الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ٥
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغني
تأليف الشيخ الإمام العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المتوفي سنة 630 ه‍
على مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي المتوفى سنة 334 ه‍
الجزء الخامس
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصلح
الصلح معاقدة يتوصل بها إلى الاصلاح بين المختلفين، ويتنوع أنواعا صلح بين المسلمين وأهل
الحرب وصلح بين أهل العدل وأهل البغي وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما قال الله
2

تعالى (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) وقال الله تعالى (وان امرأة خافت من بعلها
3

نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما ان يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) وروى أبو هريرة ان رسول
4

الله صلى الله عليه وسلم قال (الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) أخرجه الترمذي وقال
5

حديث حسن صحيح وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى بمثل ذلك، وأجمعت الأئمة على جواز
6

الصلح في هذه الأنواع التي ذكرناها ولكل واحد منها باب يفرد له ويذكر فيه أحكامه وهذا الباب
7

للصلح بين المتخاصمين في الأموال وهو نوعان صلح على اقرار وصلح على إنكار ولم يسم الخرقي
الصلح الا في الانكار خاصة
8

(مسألة) قال (والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى
عليه فيصطلحان على بعضه فإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل)
وجملة ذلك أن الصلح على الانكار صحيح وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح لأنه عاوض
على ما لم يثبت له فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره ولأنه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه
فبطل كالصلح على حد القذف. ولنا عموم قوله عليه السلام (الصلح بين المسلمين جائز) فيدخل هذا في عمومه
فإن قالوا فقد قال (الا صلحا أحل حراما)) وهذا داخل فيه لأنه لم يكن له ان يأخذ من مال المدعى عليه
فحل بالصلح قلنا لا نسلم دخوله فيه. ولا يصح حمل الحديث على ما ذكروه لوجهين (أحدهما)
أن هذا يوجد في الصلح بمعنى البيع فإنه يحل لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله وكذلك الصلح
بمعنى الهبة فإنه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه والاسقاط يحل له ترك أداء ما كان واجبا عليه (الثاني)
انه لو حل به المحرم لكان الصلح صحيحا فإن الصلح الفاسد لا يحل الحرام وإنما معناه ما يتوصل به
إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه كما لو صالحه على استرقاق حر أو احلال بضع محرم أو صالحه
بخمر أو خنزير وليس ما نحن فيه كذلك وعلى أنهم لا يقولون بهذا فإنهم يبيحون لمن له حق يجحده
غريمه أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه فإذا حل له ذلك من غير اختياره ولا علمه فلان يحل برضاه
9

وبذله أولى وكذلك إذا حل مع اعتراف الغريم فلان يحل مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقه
الا بذلك أولى، ولان المدعي ههنا يأخذ عوض حقه الثابت له والمدعى عليه يدفعه لدفع الشر عنه
وقطع الخصومة ولم يرد الشرع بتحريم ذلك في موضع ولأنه صلح يصح مع الأجنبي فصح مع الخصم
كالصلح مع الاقرار، يحققه أنه إذا صح مع الأجنبي مع غناه عنه فلان يصح مع الخصم مع حاجته إليه
أولى وقولهم انه معاوضة قلنا في حقهما أم في حق أحدهما؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وهذا لأن المدعي
يأخذ عوض حقه من المنكر لعلمه بثبوت حقه عنده فهو معاوضة في حقه والمنكر يعتقد أنه يدفع المال
لدفع الخصومة واليمين عنه ويخلصه من شر المدعي فهو أبرأ في حقه وغير ممتنع ثبوت المعاوضة في حق أحد
المتعاقدين دون الآخر كما لو اشترى عبدا شهد بحريته فإنه يصح ويكون معاوضة في حق البائع
واستنفاذا له من الرق في حق المشتري كذا ههنا. إذا ثبت هذا فلا يصح هذا الصلح الا أن يكون
المدعي معتقدا أن ما ادعاه حق والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه فيدفع إلى المدعي شيئا افتداء
ليمينه وقطعا للخصومة وصيانة لنفسه عن التبذل وحضور مجلس الحاكم فإن ذوي النفوس الشريفة
والمروءة يصعب عليهم ذلك ويرون دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم والشرع لا يمنعهم من وقاية
أنفسهم وصيانتها ودفع الشر عنهم ببذل أموالهم والمدعي يأخذ ذلك عوضا عن حقه الثابت له فلا
يمنعه الشرع من ذلك أيضا سواء كان المأخوذ من جنس حقه أو من غير جنسه بقدر حقه أو دونه
فإن أخذ من جنس حقه بقدره فهو مستوف له وان أخذ دونه فقد استوفى بعضه وترك بعضه
وان أخذ من غير جنس حقه فقد أخذ عوضه، ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقه أكثر مما ادعاه
10

لأن الزائد لا مقابل له فيكون ظالما بأخذه وان أخذ من غير جنسه جاز ويكون بيعا في حق المدعي
لاعتقاده أخذه عوضا فيلزمه حكم إقراره. فإن كان الموخوذ شقصا في دار أو عقار وجبت فيه الشفعة
وإن وجد به عيبا فله رده والرجوع في دعواه ويكون في حق المنكر بمنزلة الابراء لأنه دفع المال
افتداء ليمينه ودفعا للضرر عنه لا عوضا عن حق يعتقده فيلزمه أيضا حكم اقراره، فإن وجد بالمصالح
عنه عيبا لم يرجع به على المدعي لاعتقاده أنه ما أخذ عوضا وإن كان شقصا لم تثبت فيه الشفعة لأنه
يعتقده على ملكه لم يزل وما ملكه بالصلح، ولو دفع المدعى عليه ما ادعاه أو بعضه لم يثبت فيه حكم
البيع ولا تثبت فيه الشفعة لأن المدعى يعتقد أنه استوفى بعض حقه وأخذ عين ماله مسترجعا لها ممن
هي عنده فلم يكن بيعا كاسترجاع العين المغصوبة، فاما إن كان أحدهما كاذبا مثل أن يدعي المدعي
شيئا يعلم أنه ليس له وينكر المنكر حقا يعلم أنه عليه فالصلح باطل في الباطن لأن المدعي إذا كان
كاذبا فما يأخذه أكل مال بالباطل أخذه بشره وظلمه ودعواه الباطلة لا عوضا عن حق له فيكون
11

حراما عليه كمن خوف رجلا بالقتل حتى أخذ ماله وإن كان صادقا والمدعى عليه يعلم صدقه وثبوت
حقه فجحده لينتقص حقه أو رضيه عنه بشئ فهو هضم للحق وأكل مال بالباطل فيكون ذلك حراما
والصلح باطل ولا يحل له مال المدعي ذلك وقد ذكره الخرقي في قوله وإن كان يعلم ما عليه فجحده
فالصلح باطل يعني في الحقيقة. وأما الظاهر لنا فهو الصحة لأننا لا نعلم باطن الحال وإنما ينبني
الامر على الظواهر والظاهر من المسلم السلامة
(فصل) ولو ادعى على رجل وديعة أو قرضا أو تفريطا في وديعة أو مضاربة فأنكره واصطلحا صح لما ذكرناه
(فصل) وان صالح عن المنكر أجنبي صح سواء اعترف للمدعي بصحة دعواه أو لم يعترف وسواء
كان باذنه أو غير اذنه. وقال أصحاب الشافعي إنما يصح إذا اعترف للمدعي بصدقه وهذا مبني
على صلح المنكر وقد ذكرناه، ثم لا يخلو الصلح اما أن يكون عن دين أو عين فإن كان عن دين صح
سواء كان باذن المنكر أو بغير اذنه لأن قضاء الدين عن غيره جائز باذنه وبغير اذنه فإن عليا
وأبا قتادة رضي الله عنهما قضيا عن الميت فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان الصلح عن عين باذن المنكر
12

فهو كالصلح منه لأن الوكيل يقوم مقام الموكل وإن كان بغير اذنه فهو افتداء للمنكر من الخصومة
وابراء له من الدعوى وذلك جائز وفي الموضعين إذا صالح عنه بغير اذنه لم يرجع عليه بشئ لأنه أدى
عنه مالا يلزمه أداؤه، وخرجه القاضي وأبو الخطاب على الروايتين فيما إذا قضى دينه الثابت بغير
اذنه وليس هذا بجيد لأن هذا لم يثبت وجوبه على المنكر ولا يلزمه أداؤه إلى المدعي فكيف يلزمه
أداؤه إلى غيره؟ ولأنه أدى عنه ما لا يجب عليه فكان متبرعا كما لو تصدق عنه ومن قال برجوعه فإنه
يجعله كالمدعي في الدعوى على المنكر لا غير أما أن يجب له الرجوع بما أداه حتما فلا وجه له أصلا لأن
أكثر ما يجب لمن قضى دين غيره أن يقوم مقام صاحب الدين وصاحب الدين ههنا لم يجب له حق ولا
لزم الأداء إليه ولا يثبت له أكثر من جواز الدعوى فكذلك هذا، ويشترط في جواز الدعوى أن
يعلم صدق المدعي فأما ان لم يعلم لم يحل له دعوى بشئ لا يعلم ثبوته، وأما ما إذا صالح عنه باذنه فهو
وكيله والتوكيل في ذلك جائز ثم إن أدى عنه باذنه رجع إليه وهذا قول الشافعي وان أدى عنه بغير اذنه
متبرعا لم يرجع بشئ وان قضاه محتسبا بالرجوع خرج على الروايتين فيمن قضى دين غيره بغير
اذنه لأنه قد وجب عليه أداؤه بعقد الصلح بخلاف ما إذا صالح وقضى بغير اذنه فإنه قضى ما لا يجب
على المنكر قضاؤه
(فصل) وان صالح الأجنبي المدعي لنفسه لتكون المطالبة له فلا يخلو من أن يعترف للمدعي بصحة
دعواه أو لا يعترف له فإن لم يعترف له كان الصلح باطلا لأنه يشتري منه ما لم يثبت له ولم تتوجه إليه
خصومة يفتدي منها فأشبه ما لو اشترى منه ملك غيره وان اعترف له بصحة دعواه وكان المدعى دينا
13

لم يصح لأنه اشترى ما لا يقدر البائع على تسليمه ولأنه بيع للدين من غير من هو في ذمته، ومن أصحابنا
من قال يصح وليس بجيد لأن بيع الدين المقر به من غير من هو في ذمته لا يصح فبيع دين في ذمة
منكر معجوز عن قبضه أولى، وإن كان المدعى عينا فقال الأجنبي للمدعي أنا أعلم أنك صادق فصالحني
عنها فاني قادر على استنقاذها من المنكر فقال أصحابنا يصح الصلح وهو مذهب الشافعي لأنه اشترى
منه ملكه الذي يقدر على تسليمه ثم إن قدر على انتزاعه استقر الصلح وان عجز كان له الفسخ لأنه
لم يسلم له المعقود عليه فكان له الرجوع إلى بدله ويحتمل انه ان تبين انه لا يقدر على تسليمه تبين ان
الصلح كان فاسدا لأن الشرط الذي هو القدرة على قبضه معدوم حال العقد وكان فاسدا كما لو اشترى
عبده فتبين انه آبق أو ميت، ولو اعترف له بصحة دعواه ولا يمكنه استيفاؤه لم يصح الصلح لأنه اشترى
مالا يمكنه قبضه منه فأشبه شراء العبد الآبق والجمل الشارد فإن اشتراه وهو يظن أنه عاجز عن قبضه
فتبين ان قبضه ممكن صح البيع لأن البيع تناول ما يمكن قبضه فصح كما لو علما ذلك ويحتمل ان لا يصح
لأنه ظن عدم الشرط فأشبه ما لو باع عبدا يظن أنه حر أو انه عبد غيره فتبين انه عبده ويحتمل أن
يفرق بين من يعلم أن البيع يفسد بالعجز عن تسليم المبيع وبين من لا يعلم ذلك لأن من يعلم ذلك
يعتقد فساد البيع والشراء فكان بيعه فاسدا لكونه متلاعبا بقوله معتقدا فساده ومن لا يعلم يعتقده
صحيحا وقد تبين اجتماع شروطه فصح كما لو علمه مقدورا على تسلميه
14

(فصل) فإن قال الأجنبي للمدعي أنا وكيل المدعى عليه في مصالحتك عن هذه العين وهو مقر لك
بها وإنما يجحدها في الظاهر فظاهر كلام الخرقي ان الصلح لا يصح لأنه يجحدها في الظاهر لينتقص
المدعي بعض حقه أو يشتريه بأقل من ثمنه فهو هاضم للحق يتوصل إلى أخذ المصالح عنه بالظلم والعدوان
فهو بمنزلة ما لو شافهه بذلك فقال أنا أعلم صحة دعواك وان هذا لك ولكن لا أسلمه إليك ولا أقر لك
به عند الحاكم حتى تصالحني منه على بعضه أو عوض عنه وقال القاضي يصح وهذا مذهب الشافعي
قالوا ثم ينظر إلى المدعى عليه فإن صدقه على ذلك ملك العين ورجع على الأجنبي وعليه بما أدى عنه إن كان
أذن له في الدفع وان أنكر الاذن في الدفع فالقول قوله مع يمينه ويكون حكمه حكم قضى دينه بغير
إذنه وإن أنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه وليس للأجنبي الرجوع عليه ولا يحكم له بملكها فاما حكم
ملكها في الباطن فإن كان وكل الأجنبي في الشراء فقد ملكها لأنه اشتراها باذنه فلا يقدح انكاره في
ملكها لأن ملكه ثبت قبل انكاره وإنما هو ظالم بالانكار للأجنبي وإن كان لم يوكله لم يملكها لأنه
اشترى له عينا بغير اذنه ويحتمل أن يقف على اجازته كما قلنا فيمن اشترى لغيره شيئا بغير اذنه بثمن
في ذمته فإن اجازه لزم في حقه وان لم يجزه لزم من اشتراه، وان قال الأجنبي للمدعي قد عرف المدعى
عليه صحة دعواك وهو يسألك أن تصالحه عنه وقد وكلني في المصالحة عنه فصالحه صح وكان الحكم كما
ذكرنا لأنه ههنا لم يمتنع من أدائه بل اعترف به وصالحه عليه مع بذله له فأشبه ما لو لم يجحده
* (مسألة) * قال (ومن اعترف بحق فصالح على بعضه لم يكن ذلك صلحا لأنه هضم للحق)
وجملته ان من اعترف بحق وامتنع من أدائه حتى صولح على بعضه فالصلح باطل لأنه صالح عن
15

بعض ماله ببعض وهذا محال وسواء كان بلفظ الصلح أو بلفظ الابراء أو بلفظ الهبة المقرون بشرط مثل
أن يقول أبرأتك عن خمسمائة أو وهبت لك خمسمائة بشرط ان تعطيني ما بقي ولو لم يشترط الا
انه لم يعط بعض حقه الا باسقاطه بعضه فهو حرام أيضا لأنه هضمه حقه، قال ابن أبي إسحاق الصلح
على الاقرار هضم للحق فمتى ألزم المقر له ترك بعض حقه فتركه عن غير طيب نفسه لم يطب الاخذ
وان تطوع المقر له باسقاطه بعض حقه بطيب من نفسه جاز غير أن ذلك ليس بصلح ولا من باب الصلح
بسبيل، ولم يسم الخرقي الصلح الا في الانكار على الوجه الذي قدمنا ذكره، فأما في الاعتراف فإذا
اعترف بشئ وقضاه من جنسه فهو وفاء وان قضاه من غير جنسه فهي معاوضة، وان أبرأه من بعضه
اختيارا منه واستوفى الباقي فهو ابراء وان وهب له بعض العين وأخذ باقيها بطيب نفس فهي هبه فلا
يسمي ذلك صلحا ونحو ذلك قال ابن أبي موسى، وسماه القاضي وأصحابه صلحا وهو قول الشافعي وغيره
والخلاف في التسمية أما المعنى فمتفق عليه وهو فعل ما عدا وفاء الحق واسقاطه على وجه يصح. وذلك
ثلاثة أقسام معاوضة وابراء وهبة، فأما المعاوضة فهو ان يعترف له بعين في يده أو دين في ذمته ثم يتفقان
على تعويضه عن ذلك بما يجوز تعويضه به وهذا ثلاثة أضرب (أحدها) ان يعترف له بأحد النقدين
فيصالحه الآخر نحو ان يعترف له بمائة درهم فيصالحه منها بعشره دنانير أو يعترف له بعشرة دنانير
فيصالحه على مائة درهم فهذا صرف يشترط له شروط الصرف من التقابض في المجلس ونحوه (الثاني)
ان يعترف له بعروض فيصالحه على أثمان أو بأثمان فيصالحه على عروض فهذا بيع يثبت فيه أحكام
البيع، وان اعترف له بدين فصالحه على موصوف في الذمة لم يجز التفرق قبل القبض لأنه بيع دين بدين
(الثالث) ان يصالحه على سكنى دار أو خدمة عبد ونحوه أو على أن يعمل له عملا معلوما فيكون ذلك
إجارة لها حكم سائر الإجارات، وإذا أتلف الدار أو العبد قبل استيفاء شئ من المنفعة انفسخت الإجارة
16

ورجع بما صالح عنه وإن تلفت بعد استيفاء شئ من المنفعة انفسخت فيما بقي من المدة ورجع بقسط
ما بقي ولو صالحه على أن يزوجه جاريته وهو ممن يجوز له نكاح الإماء صح وكان المصالح عنه صداقها
فإن انفسخ النكاح قبل الدخول بأمر يسقط الصداق رجع الزوج بما صالح عنه وان طلقها قبل الدخول رجع
بنصفها، وإن كان المعترف امرأة فصالحت المدعي على أن تزوجه نفسها جاز ولو كان المعترف به عيبا في
مبيعها فصالحته على نكاحها صح فإن زال العيب رجعت بأرشه لأن ذلك صداقها فرجعت به لا بمهر
مثلها وان لم يزل العيب لكن انفسخ نكاحها بما يسقط صداقها رجع عليها بأرشه
(القسم الثاني) الابراء وهو أن يعترف له بدين في ذمته فيقول قد أبرأتك من نصفه أو جزء
معين منه فاعطني ما بقي فيصح إذا كانت البراءة معلقة من غير شرط قال احمد إذا كان للرجل على
الرجل الدين ليس عنده وفاء فوضع عنه بعض حقه وأخذ منه الباقي كان ذلك جائزا لهما ولو فعل ذلك قاض
لم يكن عليه في ذلك اثم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر ليضعوا عنه فوضعوا عنه الشطر وفي الذي
أصيب في حديقته فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو ملزوم فأشار إلى غرمائه بالنصف فأخذوه منه فإن
فعل ذلك قاض اليوم جاز إذا كان على وجه الصلح والنظر لهما، وروى يونس عن الزهري عن عبد الله بن
كعب عن أبيه أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول
الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهما ثم نادى (يا كعب) قال لبيك يا رسول الله فأشار إليه: ان ضع
الشطر من دينك. قال قد فعلت يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قم فأعطه) فإن قال على
17

أن توفيني ما بقي بطل لأنه ما أبرأه عن بعض الحق الا ليوفيه بقيته فكأنه عاوض بعض حقه ببعض
(القسم الثالث) الهبة وهو أن يكون له في يده عين فيقول قد وهبتك نصفها فاعطني بقيتها فيصح
ويعتبر له شروط الهبة وان أخرجه مخرج الشرط لم يصح وهذا مذهب الشافعي لأنه إذا شرط في الهبة
الوفاء جعل الهبة عوضا عن الوفاء به فكأنه عاوض بعض حقه ببعض، وان أبرأه من بعض الدين أو
وهب له بعض العين بلفظ الصلح مثل أن يقول صالحني بنصف دينك علي أو بنصف دارك هذه فيقول
صالحتك بذلك لم يصح ذكره القاضي وابن عقيل وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال أكثرهم
يجوز الصلح لأنه إذا لم يجز بلفظه خرج عن أن يكون صلحا ولا يبقى له تعلق به فلا يسمى صلحا
أما إذا كان بلفظ الصلح سمي صلحا لوجود اللفظ وان تخلف المعنى كالهبة بشرط الثواب، وإنما يقتضي
لفظ الصلح المعاوضة إذا كان ثم عوض أما مع عدمه فلا وإنما معنى الصلح الاتفاق والرضى وقد يحصل
هذا من غير عوض كالتمليك إذا كان بعوض سمي بيعا وان خلا عن العوض سمي هبة. ولنا ان لفظ
الصلح يقتضي المعاوضة لأنه إذا قال صالحني بهبة كذا أو على نصف هذه العين ونحو هذا فقد
أضاف إليه بالمقابلة فصار كقوله يعنى بألف، وإن أضاف إليه على جرى مجرى الشرط كقوله تعالى (فهل
نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) وكلاهما لا يجوز بدليل ما لو صرح بلفظ الشرط أو بلفظ
المعاوضة، وقولهم انه يسمى صلحا ممنوع وان سمي صلحا فمجاز لتضمنه قطع النزاع وإزالة الخصومة
وقولهم ان الصلح لا يقتضى المعاوضة قلنا لا لسلم وان سلمنا لكن المعاوضة حصلت من اقتران حرف
الباء أو على أو نحوهما به فإن لفظه الصلح تحتاج إلى حرف تعدى به وذلك يقتضي المعاوضة على ما بيناه
(فصل) وان ادعى على رجل بينا فصالحه على بعضه أو علي بناء غرفه فوقه أو على أن يسكنه
18

سنة لم يصح لأنه يصالحه في ملكه على ملكه أو منفعته وان أسكنه كان تبرعا منه متى شاء أخرجه
منها وان أعطاه بعض داره بناء على هذا فمتى شاء انتزعه منه لأنه أعطاه إياه عوضا عما لا يصلح عوضا
عنه وان فعل ذلك على سبيل المصالحة معتقدا ان ذلك وجب عليه بالصلح رجع عليه بأجر ما سكن
وأجر ما كان في يده من الدار لأنه أخذه بعقد فأسد فأشبه؟؟ المبيع؟؟ المأخوذ بعقد فاسد وسكنى الدار بإجارة
فاسدة، وان بنى فوق البيت غرفة أجبر على نقضها وإنما آجر السطح مدة مقامه في يديه وله أخذ
آلته، ولو اتفقا على أن يصالحه صاحب البيت عن بنائه بعوض جاز، وان بنى الغرفة بتراب من أرض
صاحب البيت وآلاته فليس له أخذ بنائه لأنه ملك لصاحب البيت وان أراد نقض البناء لم يكن له ذلك
إذا أبرأه المالك من ضمان ما يتلف به ويحتمل ان يملك نقضه كقولنا في الغاصب
(فصل) وإذا صالحه بخدمة عبده سنة صح وكانت إجارة، قد ذكرنا ذلك فإن باع العبد في السنة
صح البيع ويكون للمشتري مسلوب المنفعة بقية السنة وللمستأجر استيفاء منفعته إلى انقضاء مدته كما لو
زوج أمته ثم باعها وان لم يعلم المشتري بذلك فله الفسخ لأنه عيب وان أعتق العبد في أثناء المدة نفذ
عتقه لأنه مملوكه يصح بيعه فصح عتقه لغيره وللمصالح ان يستوفى؟؟؟ نفعه في المدة لأنه أعتقه بعد أن ملك
منفعته لغيره فأشبه ما لو أعتق الأمة المزوجة لحر ولا يرجع العبد على سيده بشئ لأنه ما زال ملكه
بالعتق الا عن الرقبة والمنافع حينئذ مملوكة لغيره فلم تتلف منافعه بالعتق فلم يرجع بشئ، وان أعتقه
مسلوب المنفعة فلم يرجع بشئ كما لو أعتق زمنا أو مقطوع اليدين أو أعتق أمة مزوجة، وذكر القاضي
وابن عقيل وجها آخر انه يرجع على سيده بأحر مثله وهو قول الشافعي لأن العتق اقتضى إزالة ملكه
عن الرقبة والمنفعة جميعا فلما لم تحصل المنفعة للمبد ههنا فكأنه حال بينه وبين منفعته
ولنا ان اعتاقه لم يصادف للمعتق سوى ملك الرقبة فلم يؤثر الا فيه كما لو وصى لرجل برقبة عبد
19

والآخر بنفعه فأعتق صاحب الرقبة وكما لو أعتق أمة مزوجة، وقولهم انه اقتضى زوال الملك عن المنفعة
قلنا إنما يقتضي ذلك إذا كانت مملوكة له أما إذا كانت مملوكة لغيره فلا يقتضي اعتاقه إزالة ما ليس بموجود
وان تبين ان العبد مستحق تبين بطلان الصلح لفساد العوض ورجع المدعي فيما أقر له به وان وجد
العبد معيبا عينا تنقص به المنفعة فله رده وفسخ الصلح وان صالح على العبد بعينه صح الصلح ويكون بيعا
والحكم فيما إذا خرج مستحقا أو ظهر به عيب كما ذكرنا
(فصل) إذا ادعى زرعا في يد رجل فأقر له به ثم صالحه منه على دراهم جاز على الوجه الذي يجوز
بيع الزرع وقد ذكرنا ذلك في البيع، وإن كان الزرع في يد رجلين فأقر له أحدهما بنصفه ثم صالحه
عليه قبل اشتداد حبه لم يجز لأنه ان صالحه عليه بشرط أو من غير شرط القطع لم يجز لأنه
لا يجوز بيعه كذلك وان شرط القطع لم يجز لأنه لا يمكنه قطعه الا بقطع زرع الآخر، ولو كان الزرع
لواحد فأقر للمدعي بنصفه ثم صالحه عنه بنصف الأرض ليصير الزرع كله للمقر والأرض بينهما نصفين
فإن شرط القطع جاز لأن الزرع كله للمقر فجاز شرط قطعه، ويحتمل ان لا يجوز لأن في الزرع ما ليس
بمبيع وهو النصف الذي لم يقر به، وهو في النصف الباقي له فلا يصح اشتراط قطعه كما لو شرط قطع زرع
آخر في أرض أخرى، وان صالحه منه بجميع الأرض بشرط القطع ليسلم الأرض إليه فارغة صح لأن
قطع جميع الزرع مستحق نصفه بحكم الصلح والباقي لتفريغ الأرض فأمكن القطع، وإن كان اقراره
بجميع الزرع فصالحه من نصفه على نصف الأرض ليكون الأرض والزرع بينهما نصفين وشرط القطع
في الجميع احتمل الجواز لأنهما قد شرطا قطع كل الزرع وتسليم الأرض فارغة واحتمل المنع لأن باقي
الزرع ليس بمبيع فلا يصح شرط قطعه في العقد
20

(فصل) إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره أو هواء جدار له فيه شركة أو على نفس
الجدار لزم مالك الشجرة إزالة تلك الأغصان اما بردها إلى ناحية أخرى واما بالقطع لأن الهواء ملك
لصحاب القرار فوجب الزالة يشغله من ملك غيره كالقرار، فإن امتنع المالك من ازالته لم يجبر لأنه من غير
فعله فلم يجبر على ازالته كما إذا لم يكن مالكا له وان تلف بها شئ لم يضمنه كذلك، ويحتمل أن يجبر
على ازالته ويضمن ما تلف به إذا أمر بإزالته فلم يفعل بناء على ما إذا مال حائطه إلى ملك غيره على
ما سنذكر إن شاء الله تعالى، وعلى كلا الوجهين إذا امتنع من ازالته كان لصاحب الهواء ازالته بأحد
الامرين لأنه بمنزلة البهيمة التي تدخل داره له اخراجها كذا ههنا وهذا مذهب الشافعي، فإن أمكنه
ازالتها بلا اتلاف ولا قطع من غير مشقة تلزمه ولا غرامة لم يجز له اتلافها كما أنه إذا أمكنه
اخراج البهيمة من غير اتلاف لم يجز له اتلافها فإن أتلفها في هذه الحال غرمها وان لم يمكنه ازالتها
الا بالاتلاف فله ذلك ولا شئ عليه فإنه لا يلزمه اقرار مال غيره في ملكه، فإن صالحه على
اقرارها بعوض معلوم فاختلف أصحابنا فقال ابن حامد وابن عقيل يجوز ذلك رطبا كان الغصن
أو يابسا لأن الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض فإنه
يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه ولان الحاجة داعية إلى الصلح عنه لكون ذلك يكثر في الاملاك
المتجاورة وفي القطع اتلاف وضرر والزيادة المتجددة يعفى عنها كالسمن الحادث في المستأجر
للركوب والمستأجر للغرفة يتجدد له الأولاد والغراس الذي يستأجر له الأرض يعظم ويجفو وقال
أبو الخطاب لا تصح المصالحة عنه بحال رطبا كان أو يابسا لأن الرطب يزيد ويتغير واليابس ينقص
21

وربما ذهب كله، وقال القاضي إن كان يابسا معتمدا على نفس الجدار صحت المصالحة عنه لأن الزيادة
مأمونة فيه ولا يصح الصلح على غير ذلك لأن الرطب يزيد في كل وقت، وما لا يعتمد على الجدار لا
يصح الصلح عليه لأنه تبع الهواء وهذا مذهب الشافعي واللائق بمذهب أحمد صحته لأن الجهالة في
المصالح عنه لا تمنع الصحة إذا لم يكن إلى العلم به سبيل وذلك لدعاء الحاجة إليه وكونه لا يحتاج إلى
تسليم وهذا كذلك والهواء كالقرار في كونه مملوكا لصاحبه فجاز الصلح على ما فيه كالذي في القرار
(فصل) وان صالحه على اقرارها بجزء معلوم من ثمرها أو بثمرها كله فقد نقل المروذي وإسحاق
ابن إبراهيم عن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: لا أدري فيحتمل أن يصح ونحوه قال مكحول
فإنه نقل عنه أنه قال: أيما شجرة ظللت على قوم فهم بالخيار بين قطع ما ظلل أو أكل ثمرها، ويحتمل
أن لا يصح وهو قول الأكثرين واليه ذهب الشافعي لأن العوض مجهول فإن الثمرة مجهولة وجزؤها
مجهول ومن شرط الصلح العلم بالعوض ولان المصالح عليه أيضا مجهول لأنه يزيد ويتغير على ما أسلفناه
ووجه الأول أن هذا مما يكثر في الاملاك وتدعو الحاجة إليه وفي القطع اتلاف فجاز مع الجهالة
كالصلح على مجرى مياه الأمطار والصلح على المواريث الدارسة والحقوق المجهولة التي لا سبيل إلى
علمها، ويقوى عندي أن الصلح ههنا يصح بمعني ان كل واحد منهما يبيح صاحبه ما بذل له فصاحب
الهواء يبيح صاحب الشجرة ابقاءها ويمتنع من قطعها وازالتها وصاحب الشجرة يبيحه ما بذل له
من ثمرتها ولا يكون هذا بمعنى البيع لأن البيع لا يصح بمعدوم ولا مجهول والثمرة في حال الصلح معدومة
مجهولة ولا هو لازم بل لكل واحد منهما الرجوع عما بذله والعود فيما قاله لأنه مجرد إباحة
22

من كل واحد منهما لصاحبه فجرى مجرى قول كل واحد منهما لصاحبه أسكن داري واسكن دارك
من غير تقدير مدة ولا ذكر شروط الإجارة أو قوله أبحتك الاكل من ثمرة بستاني فأبحني الاكل
من ثمرة بستانك وكذلك قوله دعني أجري في أرضك ماء ولك أن تسقي به ما شئت وتشرب منه
ونحو ذلك فهذا مثله بالأولى فإن هذا مما تدعو الحاجة إليه كثيرا وفي الزام القطع ضرر كبير واتلاف
أموال كثيرة وفي الترك من غير نفع يصل إلى صاحب الهواء ضرر عليه وفيما ذكرناه جمع بين الامرين
ونظر للفريقين وهو على وفق الأصول فكان أولى
(فصل) وكذلك الحكم في كل ما امتد من عروق شجرة انسان إلى أرض جاره سواء أثرت
ضررا مثل تأثيرها في المصانع وطي الآبار وأساس الحيطان أو منعها من ثبات شجر لصاحب الأرض
أو زرع أو لم يؤثر فإن الحكم في قطعه والصلح عليه كالحكم في الفروع الا ان العروق لا ثمر لها فإن
اتفقا على أن ما نبت من عروقها لصاحب الأرض أو جزء معلوم منه فهو كالصلح على الثمرة فيما ذكرنا
فعلى قولنا إذا اصطلحا على ذلك فمضت مدة ثم أبى صاحب الشجرة دفع نباتها إلى صاحب الأرض
فعليه أجر المثل لأنه إنما تركه في أرضه لهذا فلما لم يسلمه له رجع بأجر المثل كما لو بذلها بعوض فلم
يسلم له وكذلك الحكم فيمن مال حائطه إلى هواء ملك غيره أو ذلق من أخشابه إلى ملك غيره
فالحكم فيه على ما ذكرناه
(فصل) وإذا صالحه على المؤجل ببعضه حالا لم يجز كرهه زيد بن ثابت وابن عمر وقال نهى عمر أن
تباع العين بالدين وسعيد بن المسيب والقاسم وسالم والحسن والشعبي ومالك والشافعي والثوري وابن عيينة وهشيم
23

وأبو حنيفة وإسحاق وروي عن ابن عباس والنخعي وابن سيرين أنه لا بأس به وعن الحسن وابن سيرين
أنهما كانا لا يريان بأسا بالعروض ان يأخذها من حقه قبل محله لأنهما تبايعا العروض بما في الذمة فصح
كما لو اشتراها بثمن مثلها، ولعل ابن سيرين يحتج بأن التعجيل جائز والاسقاط وحده جائز فجاز الجمع
بينهما كما لو فعل ذلك من غير مواطأة عليه
ولنا أنه يبذل القدر الذي يحطه عوضا عن تعجيل ما في ذمته وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز كما
لا يجوز أن يعطيه عشرة حالة بعشرين مؤجلة ولأنه يبيعه عشرة بعشرين فلم يجز كما لو كانت معيبة
ويفارق ما إذا كان عن غير مواطأة ولا عقد لأن كل واحد منهما متبرع ببذل حقه من غير عوض ولا
يلزم من جواز ذلك جوازه في العقد أو مع الشركة كبيع درهم بدرهمين، ويفارق ما إذا اشترى العروض
بثمن مثلها لأنه لم يأخذ عن الحلول عوضا، فأما ان صالحه عن الف حالة بنصفها مؤجلا فإن فعل
ذلك اختيارا منه وتبرعا به صح الاسقاط ولم يلزم التأجيل لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل على ما ذكرنا
فيما مضى والاسقاط صحيح، وان فعله لمنعه من حقه بدونه أو شرط ذلك في الوفاء لم يسقط شئ
أيضا على ما ذكرنا في أول الباب وذكر أبو الخطاب في هذا روايتين أصحهما لا يصح وما ذكرنا
من التفصيل أولى إن شاء الله تعالى
(فصل) ويصح الصلح عن المجهول سواء كان عينا أو دينا إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته. قال
أحمد في الرجل يصالح على الشئ فإن علم أنه أكثر منه لم يجز الا أن يوقفه عليه الا أن يكون مجهولا
لا يدري ما هو، ونقل عنه عبد الله إذا اختلط قفيز حنطة بقفيز شعير وطحنا فإن عرف قيمة دقيق الحنطة
24

ودقيق الشعير بيع هذا وأعطي كل واحد منهما قيمة ماله الا أن يصطلحا على شئ ويتحالا وقال ابن
أبي موسى الصلح الجائز هو صلح الزوجة من صداقها الذي لا بينة لها به ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه
وكذلك الرجلان يكون بينهما المعاملة والحساب الذي قد مضى عليه الزمان الطويل لا علم لكل واحد
منهما بما عليه لصاحبه فيجوز الصلح، بينهما وكذلك من عليه حق لا علم له بقدره جاز أن يصالح عليه وسواء
كان صاحب الحق يعلم قدر حقه ولا بينة له أو لا علم له ويقول القابض إن كان لي عليك حق فأنت
في حل منه ويقول الدافع ان كنت أخذت مني أكثر من حقك فأنت منه في حل وقال الشافعي لا
يصح الصلح على مجهول لأنه فرع البيع ولا يصح البيع على مجهول
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رجلين اختصما في مواريث درست (استهما وتوخيا وليحلل
أحدكما صاحبه) وهذا صلح على المجهول ولأنه اسقاط حق فصح في المجهول كالعتاق والطلاق ولأنه
إذا صح الصلح مع العلم وامكان أداء الحق بعينه فلان يصح مع الجهل أولى وذلك لأنه إذا كان معلوما فلهما
طريق إلى التخلص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه ومع الجهل لا يمكن ذلك فلو لم يجز الصلح أفضى
إلى ضياع المال على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كل واحد منهما قدر حقه منه ولا نسلم كونه
بيعا ولا فرع بيع وإنما هو ابراء وان سلمنا كونه بيعا فإنه يصح في المجهول عند الحاجة بدليل بيع
أساسات الحيطان وطي الآبار وما مأكوله في جوفه ولو أتلف رجل صبرة طعام لا يعلم قدرها فقال
25

صاحب الطعام لمتلفه بعتك الطعام الذي في ذمتك بهذه الدراهم أو بهذا الثوب صح إذا ثبت هذا
فإن كان العوض في الصلح مما لا يحتاج إلى تسليمه ولا سبيل إلى معرفته كالمختصمين في مواريث دارسة
وحقوق سالفه أو في ارض أو عين من المال لا يعلم كل واحد منهما قدر حقه منها صح الصلح مع الجهالة
من الجانبين لما ذكرناه من الخبر والمعنى وإن كان مما يحتاج إلى تسليمه لم يجز مع الجهالة ولا بد من
كونه معلوما لأن تسليمه واجب والجهالة تمنع التسليم وتفضي إلى التنازع فلا يحصل مقصود الصلح
(فصل) فأما ما يمكنهما معرفته كتركة موجودة أو يعلمه الذي هو عليه ويجهله صاحبه فلا يصح
الصلح عليه مع الجهل قال أحمد: ان صولحت امرأة من ثمنها لم يصح واحتج بقول شريح أيما امرأة
صولحت من ثمنها لم يتبين لها ما ترك زوجها فهي الربية كلها قال وان ورث قوم مالا ودورا وغير ذلك
فقالوا لبعضهم نخرجك من الميراث بألف درهم أكره ذلك ولا يشترى منها شئ وهي لاتعلم لعلها
تظن أنه قليل وهو يعلم أنه كثير ولا يشترى حتى تعرفه وتعلم ما هو، وإنما يصالح الرجل الرجل على
الشئ لا يعرفه ولا يدرى ما هو حساب بينهما فيصالحه، وأو يكون رجل يعلم ماله على رجل والآخر
لا يعلمه فيصالحه، فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد يهضم حقه ويذهب به وذلك لأن الصلح إنما جاز مع
الجهالة للحاجة إليه لابراء الذمم وإزالة الخصام فمع امكان العلم لا حاجة إلى الصلح مع الجهالة فلم يصح كالبيع
(فصل) ويصح الصلح عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه سواء كان مما يجوز بيعه أو لا يجوز فيصح
عن دم العمد وسكنى الدار وعيب المبيع ومتى صالح عما يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقل جاز
وقد روي أن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم
سبع ديات فأبى أن يقبلها ولان المال غير متعين فلا يقع العوض في مقابلته فأما ان صالح عن قتل الخطأ
بأكثر من ديته من جنسها لم يجز وكذلك لو أتلف عبدا أو شيئا غيره فصالح عنه بأكثر من قيمته
26

من حبسها لم يجز، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجوز لأنه يأخذ عوضا عن المتلف فجاز أن
يأخذ أكثر من قيمته كما لو باعه بذلك
ولنا أن الدية والقيمة ثبتت في الذمة مقدرة فلم يجز ان يصالح عنها بأكثر منها من جنسها كالثابتة
عن قرض أو ثمن مبيع ولأنه إذا أخذ أكثر منها فقد أخذ حقه وزيادة لا مقابل لها فيكون أكل
مال بالباطل فأما ان صالحه على غير جنسها بأكثر قيمة منها جاز لأنه بيع، ويجوز أن يشتري
الشئ بأكثر من قيمته أو أقل
(فصل) ولو صالح عن المائة الثابتة في الذمة بالاتلاف بمائة مؤجلة لم يجز وكانت حالة وبهذا قال
الشافعي وعن أحمد يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنه عاوض عن المتلف بمائة مؤجلة فجاز كما لو باعه إياه
ولنا أنه إنما يستحق عليه قيمة المتلف وهو مائة حالة، الحال لا يتأجل بالتأجيل وان جعلناه بيعا فهو
بيع دين بدين وبيع الدين بالدين غير جائز
(فصل) ولو صالح عن القصاص؟؟؟ بعبد فخرج مستحقا رجع بقيمته في قولهم جميعا وان خرج حرا
فكذلك. وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة يرجع بالدية لأن الصلح فاسد فرجع ببذل ما صالح؟؟
عنه وهو الدية. ولنا أنه تعذر تسليم ما جعله عوضا فرجع في قيمته كما لو خرج مستحقا
(فصل) ولو صالح عن دار أو عبد بعوض فوجد العوض مستحقا أو حرا رجع في الدار وما صالح
عنه أو بقيمته إن كان تالفا لأن الصلح ههنا بيع في الحقيقة فإذا تبين أن العوض كان مستحقا أو حرا؟؟
كان البيع فاسدا فرجع فيما كان له بخلاف الصلح عن القصاص فإنه ليس ببيع وإنما يأخذ عوضا عن
اسقاط القصاص، ولو اشترى شيئا فوجده معيبا فصالحه عنه بعبد فبان مستحقا أو حرا رجع بأرش العيب
27

ولو كان البائع امرأة فزوجته نفسها عوضا عن أرش العيب فزال العيب رجعت بأرشه لا بمهر
المثل لأنها رضيت ذلك مهرا لها
(فصل) ولو صالحه عن القصاص بحر يعلمان حريته أو عبد يعلمان أنه مستحق أو تصالحا بذلك
عن غير القصاص رجع بالدية وبما صالح عنه لأن الصلح ههنا باطل يعلمان بطلانه فكان وجوده كعدمه
(فصل) إذا صالح رجلا على موضع قناة من أرضه تجري فيها ماء وبينا موضعها وعرضها وطولها
جاز لأن ذلك بيع موضع من أرضه ولا حاجة إلى بيان عمقه لأنه إذا ملك الموضع كان له إلى تخومه
فله أن يترك فيه ما شاء وان صالحه على اجراء الماء في ساقية من أرض رب الأرض مع بقاء ملكه
عليها فها إجارة للأرض فيشترط تقدير المدة لأن هذا شأن الإجارة فإن كانت الأرض في يد رجل
بإجارة جاز له أن يصالح رجلا على إجراء الماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تجاوز مدة اجارته وان
لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك لأنه لا يجوز احداث ساقية في أرض في يده بإجارة
فأما ان كانت الأرض في يده وقفا عليه فقال القاضي هو كالمستأجر له ان يصالح على اجراء الماء في ساقية محفورة
في مدة معلومة وليس له ان يحفر فيها ساقيه لأنه لا يملكها إنما يستوفي منفعتها كالأرض المستأجرة سواء وهذا كله
مذهب الشافعي، والأولى أنه يجوز له حفر الساقية لأن الأرض له وله التصرف فيها كيفما شاء ما لم ينقل الملك
فيها إلى غيره بخلاف المستأجر فإنه إنما يتصرف فيها بما أذن له فيه فكان الموقوف عليه بمنزلة المستأجر
إذا اذن له في الحفر فإن مات الموقوف عليه في أثناء المدة فهل لمن أنتقل إليه فسخ الصلح فيما بقي من المدة
28

على وجهين بناء على ما إذا آجره مدة فمات في أثنائها فإن قلنا له فسخ الصلح ففسخه رجع المصالح
على ورثة الذي صالحه بقسط ما بقي من المدة، وان قلنا ليس له الفسخ رجع من أنتقل إليه الوقف على الورثة
(فصل) وان صالح رجلا على اجراء ماء سطحه من المطر على سطحه أو في أرضه عن سطحه أو في
أرضه عن أرضه جاز إذا كان ما يجري ماءا معلوما إما بالمشاهدة وإما بمعرفة المساحة لأن الماء يختلف بصغر
السطح وكبره ولا يمكن ضبطه بغير ذلك ويشترط معرفة الموضع الذي يجري منه الماء إلى السطح لأن ذلك
يختلف، ولا يفتقر إلى ذكر مدة لأن الحاجة تدعو إلى هذا، ويجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة غير
مقدر كما في النكاح، ولا يملك صاحب الماء مجراه لأن هذا لا يستوفى به منافع المجرى دائما ولا في أكثر المدة
بخلاف الساقية، ويختلفان أيضا في أن الماء الذي في الساقية لا يحتاج إلى ما يقدر به لأن تقدير ذلك حصل
بتقدير الساقية، فإن لا يملك أن يجري فيها أكثر من مائها والماء الذي على السطح يحتاج إلى معرفة مقدار السطح
لأنه يجري منه القليل والكثير، وإن كان السطح الذي يجري عليه الماء مستأجرا أو عارية مع انسان لم يجز
أن يصالح على اجراء الماء عليه لأنه يتضرر بذلك ولم يؤذن له فيه فلم يكن له أن يتصرف به بخلاف الماء في
الساقية المحفورة فإن الأرض لا تتضرر به وإن كان ماء السطح يجري على أرض احتمل أن لا يجوز له الصلح على
ذلك لأنه ان احتاج إلى حفر لم يجز له ان يحفر أرض غيره ولأنه يجعل لغير صاحب الأرض رسما فربما ادعى
استحقاق ذلك على صاحبها واحتمل الجواز إذا لم يحتج إلى حفر ولم تكن فيه مضرة لأنه بمنزلة اجراء الماء
في ساقية محفورة ولا يجوز الا مدة لا تزيد على مدة اجارته كما قلنا في اجراء الماء في الساقية والله أعلم
(فصل) وإذا أراد أن يجري ماء في ارض غيره لغيره ضرورة لم يجز الا باذنه وإن كان لضرورة
مثل أن يكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق له الا أرض جاره فهل له ذلك؟ على روايتين
29

(إحداهما) لا يجوز لأنه تصرف في أرض غيره بغير اذنه فلم يجز كما لو لم تدع إليه ضرورة لأن
مثل هذه الحاجة لا يبيح مال غيره بدليل أنه لا يباح له الزرع في أرض غيره ولا البناء فيها ولا
الانتفاع بشئ من منافعها المحرمة عليه قبل هذه الحاجة
(والأخرى) يجوز لما روي أن الضحاك بن خليفة ساق خليجا من العريض فأراد أن يمر به في ارض
محمد بن مسلمة فأبى فقال له الضحاك: لم تمنعي وهو منفعة لك تشربه أولا وأخرا ولا يضرك؟ فأبى
محمد فكلم فيه الضحاك عمر فدعا عمر محمد بن مسلمة وأمره أن يخلي سبيله فال محمد: لا والله فقال له
لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تشربه أولا وآخرا؟ فقال محمد لا والله فقال عمر: والله ليمرن به
ولو على بطنك فأمره عمر أن يمر به ففعل. رواه مالك في موطئه وسعيد في سننه والأول أقيس
وقول عمر يخالفه قول محمد بن مسلمة وهو موافق للأصول فكان أولى
(فصل) وان صالح رجلا على أن يسقي أرضه من نهر الرجل يوما أو يومين أو من عينه وقدره
بشئ يعلم به فقال القاضي لا يجوز لأن الماء ليس بمملوك ولا يجوز بيعه فلا فيجوز الصلح عليه ولأنه
مجهول. قال وان صالحه على سهم من العين أو النهر كالثلث أو الربع جاز وكان بيعا؟ للقرار والماء تابع له
ويحتمل ان يجوز الصلح على السقي من نهره وقناته لأن الحاجة تدعو إلى ذلك والماء مما يجوز اخذ
العوض عنه في الجملة بدليل ما لو اخذه في قربته أو انائه ويجوز الصلح على مالا يجوز بيعه بدليل
الصلح عن دم العمد وأشباهه والصلح على المجهول
30

(فصل) ولا يصح الصلح على ما لا يجوز اخذ العوض عنه مثل ان يصالح امرأة لتقر بالزوجية
لأنه صلح يحل حراما ولأنها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز وان دفعت إليه عوضا عن هذه الدعوى
ليكف عنها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز لأن الصلح في الانكار إنما يكون في حق المنكر لاقتداء
اليمين وهذه لا يمين عليها وفي حق المدعي يأخذ العوض في مقابلة حقه الذي يدعيه وخروج البضع من
ملك الزوج لا قيمة له وإنما أجيز الخلع للحاجة إلى افتداء نفسها
(والثاني) يصح ذكره أبو الخطاب وابن عقيل لأن المدعي يأخذ عوضا عن حقة من النكاح فجاز
كعوض الخلع والمرأة تبذله لقطع خصومته وإزالة شره وربما توجهت اليمين عليها لكون الحاكم يرى
ذلك ولأنها مشروعة في حقها في إحدى الروايتين، ومتى صالحته على ذلك ثبتت الزوجية باقرارها
أو ببينة فإن قلنا الصلح باطل فالنكاح باق بحاله لأنه لم يوجد من الزوج طلاق ولا خلع، وان قلنا
هو صحيح احتمل ذلك أيضا ولذلك احتمل أن تبين منه بأخذ العوض لأنه أخذ العوض عما يستحقه من
نكاحها فكان خلعا كما لو أقرت له بالزوجية فخالعها، ولو ادعت ان زوجها طلقها ثلاثا فصالحها على مال
لتنزل عن دعوها لم يجز لأنه لا يجوز لها بذل نفسها لمطلقها بعوض ولا بغيره وان دفعت إليه مالا
ليقر بطلاقها لم يجز في أحد الوجهين وفي الآخر يجوز كما لو بذلت له عوضا ليطلقها ثلاثا
(فصل) وان ادعى على رجل أنه عبده فأنكره فصالحه على مال ليقر له بالعبودية لم يجز لأنه
يحل حراما فإن إرقاق الحر نفسه لا يحل بعوض ولا بغيره، وان دفع إليه المدعى عليه مالا صلحا عن
دعواه صح لأنه يجوز أن يعتق عبده بمال ويشرع للدافع لدفع اليمين الواجبة عليه والخصومة المتوجهة
إليه ولو ادعى على رجل ألفا فأنكره فدفع إليه شيئا ليقر له بالألف لم يصح فإن أقر لزمه ما أقر
31

به ويرد ما أخذه لأنه تبين باقراره كذبه في إنكاره وان الألف عليه فيلزمه أداؤه بغير عوض ولا
يحل له أخذ العوض عن أداء الواجب عليه وان دفع إليه المنكر مالا صلحا عن دعواه صح وقد مضى ذكره
(فصل) ولو صالح شاهدا على أن لا يشهد عليه لم يصح لأنه لا يخلو من ثلاثة أحوال
(أحدها) أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بحق تلزم الشهادة به كدين آدمي أو حق لله تعالى
لا يسقط بالشبهة كالزكاة ونحوها فلا يجوز كتمانه ولا يجوز أخذ العوض عن ذلك كما لا يجوز أخذ
العوض على شرب الخمر وترك الصلاة (الثاني) ان يصالحه على أن لا يشهد عليه بالزور فهذا يجب عليه
ترك ذلك ويحرم عليه فعله فلا يجوز أخذ العوض عنه كما لا يجوز أن يصالحه على أن لا يقتله ولا يغصب
ماله (الثالث) أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بما يوجب حدا كالزنا والسرقة فلا يجوز أخذ العوض
عنه لأن ذلك ليس بحق له فلم يجز له أخذ عوضه كسائر ما ليس بحق له ولو صالح السارق والزاني
والشارب بمال على أن لا يرفعه إلى السلطان لم يصح الصلح لذلك ولم يجز له أخذ العوض، وان صالحه
عن حد القذف لم يصح الصلح لأنه إن كان لله تعالى لم يكن له أن يأخذ عوضه لكونه ليس بحق له
فأشبه حد الزنا والسرقة وإن كان حقا له لم يجز الاعتياض عنه لكونه حقا ليس بمالي ولهذا لا يسقط
إلى بدل بخلاف القصاص ولأنه شرع لتنزيه العرض فلا يجوز أن يعتاض عن عرضه بمال وهل يسقط
الحد بالصلح فيه وجهان مبنيان على الخلاف في كونه حقا لله تعالى أو حقا لآدمي فإن كان حقا لله تعالى
32

لم يسقط بصلح الآدمي ولا إسقاطه كحد الزنا والسرقة وإن كان حقا لآدمي سقط بصلحه واسقاطه
مثل القصاص فإن صالح عن حق الشفعة لم يصح الصلح لأنه حق شرع على خلاف الأصل لدفع ضرر
الشركة فإذا رضي بالتزام الضرر سقط الحق من غير بدل كحد القذف إلا أنه يسقط ههنا وجها
واحدا لكونه حقا لآدمي.
(فصل) ولا يجوز ان يشرع إلى طريق نافذ جناحا وهو الروشن يكون على أطراف خشبة مدفونة
في الحائط وأطرافها خارجة في الطريق سواء كان ذلك يضر في العادة بالمارة أو لا يضر، ولا يجوز أن
يجعل عليها ساباطا بطريق الأولى وهو المستوفي لهواء الطريق كله على حائطين سواء كان الحائطان
ملكه أو لم يكونا وسواء أذن الإمام في ذلك أو لم يأذن، وقال ابن عقيل إن لم يكن فيه ضرر جاز
باذن الإمام لأنه نائبهم فجرى اذنه مجرى اذن المشتركين في الدرب الذي ليس بنافذ وقال أبو حنيفة
يجوز من ذلك مالا ضرر فيه وإن عارضه رجل من المسلمين وجب قلعه، وقال مالك والشافعي والأوزاعي
وإسحاق وأبو يوسف ومحمد يجوز ذلك إذا لم يضر بالمارة ولا يملك أحد منعه لأنه ارتفق بما لم يتعين
ملك أحد فيه من غير مضرة فكان جائزا كالمشي في الطريق والجلوس فيها، واختلفوا فيما لا يضر فقال
بعضهم إن كان في شارع تمر فيه الجيوش والاحمال فيكون بحيث إذا سار فيه الفارس ورمحه منصوب لا
يبلغه؟؟ وقال أكثرهم لا يقدر بذلك بل يكون بحيث لا يضر بالعماريات والمحامل
ولنا أنه بناء في ملك غيره بغير إذنه فلم يجز كبناء الدكة أو بناء ذلك في درب غير نافذ بغير اذن
33

أهله ويفارق المرور في الطريق فإنها جعلت لذلك ولا مضرة فيه والجلوس لا يدوم ولا يمكن التحرز
منه ولا نسلم أنه لا مضرة فيه فإنه يظلم الطريق ويسد الضوء وربما سقط على المارة أو سقط منه شئ
وقد تعلوا الأرض بمرور الزمان فيصدم رؤوس الناس ويمنع مرور الدواب بالاحمال ويقطع الطريق
الا على الماشي، وقد رأينا مثل هذا كثيرا وما يفضي إلى الضرر في ثاني الحال يجب المنع منه في
ابتدائه كما لو أراد بناء حائط مائل إلى الطريق يخشى وقوعه على من يمر فيها، وعلى أبي حنيفة أنه
بناء في حق مشترك لو منع منه بعض أهله لم يجز فلم يجز بغير اذنهم كما لو أخرجه إلى هواء دار
مشتركة وذلك لأن حق الآدمي لا يجوز لغيره التصرف فيه بغير إذنه، وإن كان ساكنا كما
لا يجوز إذا منع منه.
(فصل) ولا يجوز أن يبني في الطريق دكانا بغير خلاف نعلمه سواء كان الطريق واسعا أو غير
واسع سواء أذن الإمام فيه أو لم يأذن لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه ولأنه يؤذي المارة ويضيق عليهم
ويعثر به العاثر فلم يجز كما لو كان الطريق ضيقا
(فصل) ولا يجوز ان يبني دكانا ولا يخرج روشنا ولا ساباطا على درب غير نافذ الا باذن أهله
وبهذا قال الشافعي إذا لم يكن له في الدرب باب وإن كان له في الدرب باب فقد اختلف أصحابه فمنهم
من منعه أيضا ومنهم من أجاز له اخراج الجناح والساباط لأن له في الدرب استطراقا فملك ذلك
كما يملكه في الدرب النافذ.
ولنا أنه بناء في هواء ملك قوم معينين أشبه ما لو لم يكن له فيه باب ولا نسلم الأصل الذي قاسوا
عليه فاما إن أذن أهل الدرب فيه جاز لأن الحق لهم فجاز باذنهم كما لو كان المالك واحدا، وان صالح
أهل الدرب من ذلك على عوض معلوم جاز، وقال القاضي وأصحاب الشافعي لا يجوز لأنه بيع للهواء دون القرار
34

ولنا أنه يبني فيه باذنهم فجاز كما لو أذنوا له بغير عوض ولأنه ملك لهم فجاز لهم أخذ عوضه كالقرار
إذا ثبت هذا فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدار في الخروج والعلو وهكذا الحكم فيما
إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين لا يجوز بغير إذنه ويجوز باذنه بعوض وبغيره إذا كان
معلوم المقدار والله أعلم.
(فصل) ولا يجوز ان يحفر في الطريق النافذة بئرا لنفسه سواء جعلها لماء المطر أو ليستخرج منها
ما ينتفع به ولا غير ذلك لما ذكرناه من قبل، وان أراد حفرها للمسلمين ونفعهم أو لنفعه لا طريق مثل
ان يحفرها ليستقي الناس من مائها ويشرب منه المارة أو لينزل فيها ماء المطر عن الطريق نظرنا فإن
كان الطريق ضيقا أو يحفرها في ممر الناس بحيث يخاف سقوط انسان فيها أو دابة أو يضيق عليهم
ممرهم لم يجز ذلك لأن ضررها أكثر من نفعها، وان حفرها في زاوية في طريق واسع وجعل عليها ما يمنع
الوقع فيها جاز لأن ذلك نفع بلا ضرر فجاز كتمهيدها وبناء رصيف فيها فاما ما فعله في درب غير نافذ
فلا يجوز الا باذن أهله لأن هذا ملك لقوم معينين فلم يجز فعل ذلك بغير اذنهم كما لو فعله في بستان
انسان ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض جاز سواء حفرها لنفسه لينزل فيها ماء المطر عن داره
أو ليستقي منها ماء لنفسه أو حفرها للسبيل ونفع الطريق وكذلك أن فعل ذلك في ملك انسان معين
(فصل) ولا يجوز اخرج الميازيب إلى الطريق الأعظم ولا يجوز اخراجها إلى درب نافذ الا
الا باذن أهله، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يجوز اخراجه إلى الطريق الأعظم لأن عمر رضي الله
عنه اجتاز على دار العباس وقد نصب ميزابا إلى الطريق فقلعه فقال العباس تقلعه وقد نصبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم بيده؟ فقال والله لا نصبته الا على ظهري وانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه وما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلغيره فعله ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولان الحاجة تدعو إلى ذلك ولا يمكنه رد مائه
إلى الدار ولان الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الاسلام من غير نكير. ولنا ان هذا تصرف في هواء
35

مشترك بينه وبين غيره بغير اذنه فلم يجز كما لو كان الطريق غير نافذ ولأنه يضر بالطريق وأهلها فلم
يجز كبناء دكة فيها أو جناح يضر بأهلها ولا يخفى ما فيه من الضرر فإن ماءه يقع على المارة وربما جرى
فيه البول أو ماء نجس فينجسهم ويزلق الطريق ويجعل فيها الطين والحديث قضية في عين فيحتمل انه
كان في درب غير نافذ أو تجددت الطريق بعد نصبه ويحتمل ان يجوز ذلك لأن الحاجة داعية إليه
والعادة جارية به مع ما فيه من الخبر المذكور
(فصل) ولا يجوز ان يفتح في الحائط المشترك طاقا ولا بابا الا باذن شريكه لأن ذلك انتفاع
بملك غيره وتصرف فيه بما يضر به ولا يجوز ان يغرز فيه وتدا ولا يحدث عليه حائطا ولا يستره ولا
يتصرف فيه نوع تصرف لأنه تصرف في الحائط بما يضر به فلم يجز كنقضه ولا يجوز له فعل شئ من
ذلك في حائط جاره بطريق الأولى لأنه إذا لم يجز فيما له فيه حق ففيما لاحق له فيه أولى وان صالحه
عن ذلك بعوض جاز واما الاستناد إليه واسناد شئ لا يضره إليه فلا باس به لأنه لا مضرة فيه ولا يمكن
التحرز منه أشبه الاستظلال به
(فصل) فاما وضع خشبه عليه فإن كان يضر بالحائط لضعفه عن حمله لم يجز بغير خلاف نعلمه
لما ذكرنا ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وإن كان لا يضر به الا ان به غنية عن ضع
خشبه عليه لامكان وضعه على غيره فقال أكثر أصحابنا لا يجوز أيضا وهو قول الشافعي وأبي
ثور ولأنه انتفاع بملك غيره بغير اذنه من غير حاجة فلم يجز كبناء حائط عليه وأشار ابن عقيل إلى
جوازه لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يمنع أحدكم جاره ان يضع خشبه على جداره)
متفق عليه ولان ما أبيح للحاجة العامة لم يعتبر فيه حقيقة الحاجة كأخذ الشقص بالشفعة من المشتري
والفسخ بالخيار أو بالعيب أو اتخاذ الكلب للصيد وإباحة السلم ورخص السفر وغير ذلك، فاما ان دعت
36

الحاجة إلى وضعه على حائط جاره أو الحائط المشترك بحيث لا يمكنه التسقيف بدونه فإنه يجوز له
وضعه بغير اذن الشريك وبهذا قال الشافعي في القديم وقال في الجديد ليس له وضعه وهو قول أبي
حنيفة ومالك لأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة فلم يجز كزراعته
ولنا الخبر ولأنه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضربه أشبه الاستناد إليه والاستظلال به ويفارق
الزرع فإنه يضر ولم تدع إليه حاجة. إذا ثبت هذا فاشترط القاضي وأبو الخطاب للجواز أن يكون له
ثلاثة حيطان ولجاره حائط واحد وليس هذا في كلام أحمد إنما قال في رواية أبي داود لا يمنعه إذا
لم يكن ضرر وكان الحائط يبقى ولأنه قد يمتنع التسقيف على حائطين إذا كانا غير متقابلين أو كان
البيت واسعا يحتاج إلى أن يجعل عليه جسرا ثم يضع الخشب على ذلك الجسر والأولى اعتباره بما ذكرنا
من اعتبار التسقيف بدونه، ولا فرق فيما ذكرنا بين البالغ واليتيم والمجنون والعاقل لما ذكرنا والله أعلم
(فصل) فأما وضعه في جدار المسجد إذا وجد الشرطان فعن أحمد فيه روايتان (إحداهما)
الجواز لأنه إذا جاز في ملك الجار مع أن حقه مبني على الشح والضيق ففي حقوق الله تعالى المبنية
على المسامحة والمساهلة أولى (والثانية) لا يجوز نقلها أبو طالب لأن القياس يقتضي المنع في حق الكل
ترك في حق الجار للخبر الوارد فيه فوجب البقاء في غيره على مقتضى القياس وهذا اختيار أبي بكر
وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية وجها للمنع من وضع الخشب في ملك الجار لأنه إذا منع من وضع
الخشب في الجدار المشترك بين المسلمين وللواضع فيه حق فلان يمنع من الملك المختص بغيره أولى
ولأنه إذا منع في حق الله تعالى مع أن حقه على المسامحة والمساهلة لغنى الله تعالى وكرمه فلان يمنع
في حق آدمي مع شحه وضيقه أولى والمذهب الأول. فإن قيل فلم لا تجيزون فتح الطاق والباب في
الحائط بالقياس على وضع الخشب؟ قلنا لأن الخشب يمسك الحائط وينفعه بخلاف الطاق والباب فإنه
37

يضعف الحائط لأنه يبقى مفتوحا في الحائط والذي يفتحه للخشبة يسده بها ولان وضع الخشب
تدعو الحاجة إليه بخلاف غيره
(فصل) ومن ملك وضع خشبه على حائط فزال بسقوطه أو قلعه أو سقوط الحائط ثم أعيد فله
إعادة خشبه لأن السبب المجوز لوضعه مستمر فاستمر استحقاق ذلك وان زال السبب مثل أن يخشى
على الحائط من وضعه عليه أو استغنى عن وضعه لم تجز اعادته لزوال السبب المبيح وان خيف سقوط
الحائط بعد وضعه عليه أو استغنى عن وضعه لزم ازالته لأنه يضر بالمالك ويزول الخشب، وان يخف عليه لكن
استغنى عن ابقائه عليه لم يلزم ازالته لأن في ازالته ضررا بصاحبه ولا ضرر على صاحب الحائط
في ابقائه بخلاف ما لو خشي سقوطه
(فصل) ولو كان له وضع خشبه على جدار غيره لم يملك اعارته ولا اجارته لأنه إنما كان له ذلك
لحاجته الماسة إلى وضع خشبه ولا حاجة له إلى وضع خشب غيره فلم يملكه وكذلك لا يملك بيع حقه
من وضع خشبه ولا المصالحة عنه للمالك ولا لغيره لأنه أبيح له من حق غيره لحاجته فلم يجز له ذلك
فيه كطعام غيره إذا أبيح له من أجل الضرورة، ولو أراد صاحب الحائط إعارة الحائط أو اجارته على
وجه يمنع هذا المستحق من وضع خشبه لم يملك ذلك لأنه وسيلة إلى منع ذي الحق من حقه فلم
يملكه كمنعه، ولو أراد هدم الحائط لغير حاجة لم يملك ذلك لما فيه من تفويت الحق، وان احتاج
إلى هدمه للخوف من انهدامه أو لتحويله إلى مكان آخر أو لغرض صحيح ملك ذلك لأن صاحب الخشب إنما
يثبت حقه للارفاق به مشروطا بعدم الضرر بصاحب الحائط فمتى أفضى إلى الضرر زال الاستحقاق لزوال شرطه
(فصل) وإذا أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه أو وضع سترة عليه أو وضع خشبه
عليه في الموضع الذي لا يستحق وضعه جاز. فإذا فعل ما أذن له فيه صارت العارية لازمة فإذا رجع
38

المعير فيها لم يكن له ذلك ولم يلزم المستعير إزالة ما فعله لأن اذنه اقتضى البقاء والدوام وفي القلع
اضرار به فلا يملك ذلك المعير كما لو أعاره أرضا للدفن والغراس لم يملك المطالبة بنقل الميت والغراس
بغير ضمان، وان أراد هدم الحائط لغير حاجة لم يكن له ذلك لأن المستعير قد استحق تبقية الخشب
عليه ولا ضرر في تبقيته، وإن كان مستهدما فله نقضه وله على صاحب البناء والخشب ازالته وإذا أعيد
الحائط لم يملك المستعير رد بنائه وخشبه الا باذن جديد سواء بناه بآلته أو غيرها، وهكذا لو قلع
المستعير خشبا وسقط بنفسه لم يكن له رده إلا باذن مستأنف لأن المنع من القلع إنما كان لما فيه من الضرر
وههنا قد حصل القلع بغير فعله فأشبه ما لو كان في الأرض شجر فانقلع وهذا أحد الوجهين لأصحاب
الشافعي وقالوا في الآخر له ذلك لأنه قد استحق بقاء ذلك على التأبيد وليس كذلك فإنه إنما استحق
الابقاء ضرورة دفع ضرر القلع وقد حصل القلع ههنا فلا يبقى الاستحقاق، وان قلع صاحب الحائط
ذلك عدوانا كان للآخر اعادته لأنه أزيل بغير حق تعديا ممن عليه الحق فلم يسقط الحق عنه بعدوانه
وان أزاله أجنبي لم يملك صاحبه اعادته بغير اذن المالك لأنه زال بغير عدوان منه فأشبه ما لو سقط بنفسه
(فصل) وان أذن له في وضع خشبه أو البناء على جداره بعوض جاز سواء كان إجارة في مده
معلومة أو صلحا على وضعه على التأبيد ومتى زال فله اعادته سواء زال لسقوطه أو سقوط الحائط أو
غير ذلك لأنه استحق ابقاءه بعض ويحتاج إلى أن يكون البناء معلوم العرض والطول والسمك والآلات
من الطين واللبن والآجر وما أشبه ذلك لأن هذا كله يختلف فيحتاج إلى معرفته، وإذا سقط الحائط الذي
عليه البناء أو الخشب في أثناء مدة الإجارة سقوطا لا يعود انفسخت الإجارة فيما بقي ورجع من الأجرة
39

بقسط ما بقي من المدة وان أعيد رجع من الأجرة بقدر المدة التي سقط البناء والخشب عنه، وان صالحه
مالك الحائط على رفع بنائه أو خشبه بشئ معلوم جاز كما يجوز الصلح على وضعه سواء كان ما صالحه به مثل
العوض الذي صولح به على وضعه أو أقل أو أكثر لأن هذا عوض عن المنفعة المستحقة له وكذلك لو كان
له مسيل ماء في أرض غيره أو ميزاب أو غيره فصالح صاحب الأرض مستحق ذلك بعوض ليزيله عنه جاز
وإن كان الخشب أو الحائط قد سقط فصالحه بشئ على أن لا يعيده جاز لأنه لما جاز أن يبيع
ذلك منه جاز أن يصالح عنه لأن الصلح بيع
(فصل) وإذا وجد بناؤه أو خشبه على حائط مشترك أو حائط جاره ولم يعلم سببه فمتى زال فله
إعادته لأن الظاهر أن هذا الوضع بحق من صلح أو غيره فلا يزول هذا الظاهر حتى يعلم خلافه
وكذلك لو وجد مسيل مائه في أرض غيره أو مجرى ماء سطحه على سطح غيره وما أشبه هذا فهو له
لأن الظاهر أنه له بحق فجرى ذلك مجرى اليد الثابتة، وإذا اختلفا في ذلك هل هو بحق أو بعد وان
فالقول قول صاحب الشخب والبناء والمسيل مع يمينه لأن الظاهر معه
(فصل) إذا ادعى رجل دارا في يد أخو بن فأنكره أحدهما وأقر له الآخر ثم صالحه عما
أقر له بعوض صح الصلح ولأخيه الاخذ بالشفعة ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كان الانكار مطلقا
وبين ما إذا قال هذه لنا ورثناها جميعا عن أبينا أو أخينا فيقال إذا كان الانكار مطلقا كان له
الاخذ بالشفعة وان قال ورثناها عن أبينا فلا شفعة له لأن المنكر يزعم أن الملك لأخيه المقر لم يزل
وأن الصلح باطل فيؤاخذ بذلك ولا يستحق به شفعة. ووجه الأول أن الملك ثبت للمدعي حكما وقد
رجع إلى المقر بالبيع وهو معترف بأنه بيع صحيح فتثبت فيه الشفعة كما لو كان الانكار مطلقا ويجوز
أن يكون انتقل نصيب المقر إلى المدعي ببيع أو هبة أو سبب من الأسباب فلا يتنافى إنكار المنكر
وإقرار المقر كحالة اطلاق الانكار وهذا أصح
40

(مسألة) قال: (وإذا تداعى نفسان جدارا معقودا ببناء كل واحد منهما تحالفا وكان
بينهما وكذلك أن كان محلولا من بنائهما وإن كان معقودا ببناء أحدهما كان له مع يمينه).
وجملة ذلك أن الرجلين إذا تداعيا حائطا بين ملكيهما، وتساويا في كونه معقودا ببنائهما معا وهو
أن يكون متصلا بهما اتصالا لا يمكن احداثه بعد بناء الحائط مثل اتصال البناء بالطين كهذه الفطائر التي
لا يمكن احداث اتصال بعضها ببعض، أو تساويا في كونه محلولا من بنائهما أي غير متصل ببنائهما
الاتصال المذكور بل بينهما شق مستطيل كما يكون بين الحائطين اللذين ألصق أحدهما بالآخر فهما سواء
في الدعوى فإن لم يكن لواحد منهما بينة تحالفا فيحلف كل واحد منهما على نصف الحائط أنه له ويجعل
بينهما نصفين لأن كل واحد منهما يده على نصف الحائط لكون الحائط في أيديهما وان حلف كل واحد
منهما على جميع الحائط انه له وما هو لصاحبه جاز وهو بينهما وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور
وابن المنذر ولا أعلم فيه مخالفا، وذلك لأن المختلفين في العين إذا لم يكن لواحد منهما بينه فالقول قول
من هي في يده مع يمينه فإذا كانت في أيديهما كانت يد كل واحد منهما على نصفها فيكون القول قوله
في نصفها مع يمينه، وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها، وإن كان لكل واحد منهما بينة تعارضتا وصارا
كمن لا بينة لهما، فإن لم يكن لهما بينة ونكلا عن اليمين كان الحائط في أيديهما على ما كان وإن حلف
أحدهما ونكل الاخر قضي على الناكل فكان الكل للآخر، وإن كان الحائط متصلا ببناء أحدهما دون
الآخر فهو له مع يمينه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو ثور لا يرجح بالعقد ولا ينظر إليه.
ولنا ان الظاهر أن هذا البناء بنى كله بناء واحدا فإذا كان بعضه لرجل كان بقيته له والبناء
الآخر المحلول الظاهر أنه بنى وحده فإنه لو بني مع هذا كان متصلا به فالظاهر أنه لغير صاحب هذا
41

الحائط المختلف فيه فوجب أن يرجح بهذا كاليد والأزج، فإن قيل فلم لم تجعلوه له بغير يمين لذلك؟
قلنا لأن ذلك ظاهر وليس بيقين إذا يحتمل أن يكون أحدهما بنى الحائط لصاحبه تبرعا مع حائطه أو
كان له فوهبه إياه أو بناه بأجرة فشرعت اليمين من أجل الاحتمال كما شرعت في حق صاحب اليد وسائر
من وجبت عليه اليمين، فأما إن كان معقودا ببناء أحدهما عقدا يمكن إحداثه مثل البناء باللبن والآجر
فإنه يمكن أن ينزع من الحائط المبنى نصف لبنة أو آجرة أو يجعل مكانها لبنة صحيحة أو آجرة
صحيحة تعقد بين الحائطين فقال القاضي لا يرجح بهذا الاحتمال أن يكون صاحب الحائط فعل هذا
ليتملك الحائط المشترك وظاهر كلام الخرقي أنه يرجح بهذا الاتصال كما يرجح بالاتصال
الذي لا يمكن إحداثه لأن الظاهر أن صاحب الحائط لا يدع غيره يتصرف فيه بنزع آجره وتغيير بنائه
وفعل ما يدل على ملكه فوجب أن يرجح بهذا كما يرجح باليد فإنه يمكن أن تكون يدا عادية حدثت
بالغصب أو بالسرقة أو العارية أو الإجارة فلم يمنع ذلك الترجيح بها
(فصل) فإن كان لأحدهما عليه بناء كحائط مبني عليه أو عقد معتمد عليه أو قبة ونحوها فهو له
وبهذا قال الشافعي لأن وضع بنائه عليه بمنزلة اليد الثابتة عليه لكونه منتفعا به فجرى مجرى كون حمله
على البهيمة وزرعه في الأرض ولان الظاهر أن الانسان لا يترك غيره يبني على حائطه وكذلك إن
كانت له عليه سترة، ولو كان في أصل الحائط خشبة طرفها تحت حائط ينفرد به أحدهما أو له عليها
أزج معقود فالحائط المختلف فيه له لأن الظاهر أن الخشبة لمن ينفرد بوضع بنائه عليها فيكون الظاهر
أن ما عليها من البناء له.
(فصل) فإن كان لأحدهما خشب موضوع فقال أصحابنا لا ترجح دعواه بذلك وهو قول الشافعي
لأن هذا مما يسمح به الجار وقد ورد الخبر بالنهي عن المنع منه وعندنا انه حق يجب التمكين منه فلم
ترجح به الدعوى كاسناد متاعه إليه وتجصيصه وتزويقه ويحتمل أن ترجح به الدعوى وهو قول مالك
42

لأنه منتفع به بوضع ماله عليه فأشبه الباني عليه والزارع في الأرض، وورود الشرع بالنهي عن المنع
منه لا يمنع كونه دليلا على الاستحقاق بدليل انا استدللنا بوضعه على كون الوضع مستحقا على الدوام
حتى متى زال جازت اعادته، ولان كونه مستحقا تشترط له الحاجة إلى وضعه ففيما لا حاجة إليه له
منعه من وضعه وأما السماح به فإن أكثر الناس لا يتسامحون به، ولهذا لما روى أبو هريرة الحديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم طأطؤا رؤوسهم كراهة لذلك فقال مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم
وأكثر الفقهاء لا يوجبون التمكين من هذا ويحملون الحديث على كراهة المنع لا على تحريمه ولان الحائط
يبنى لذلك فيرجح به كالأزج، وقال أصحاب أبي حنيفة لا ترجح الدعوى بالجذع الواحد لأن
الحائط لا يبنى له ويرجح بالجذعين لأن الحائط يبنى لهما، ولنا أنه موضوع على الحائط فاستوى
في ترجيح الدعوى به قليله وكثيره كالبناء
(فصل) ولا ترجح الدعوى بكون الدواخل إلى أحدهما والخوارج ووجوه الآجر والحجارة ولا
كون الآجرة الصحيحة مما يلي ملك أحدهما واقطاع الآجر إلى ملك الآخر ولا بمعاقد القمط
في الخص يعني عقد الخيوط التي يشد بها الخص وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال أبو يوسف ومحمد
يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط لما روى نمر بن حارثة التميمي عن أبيه ان قوما اختصموا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خص فبعث حذيفة بن اليمان ليحكم بينهم فحكم به لمن يليه معاقد القمط ثم رجع
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال (أصبت وأحسنت) رواه ابن ماجة وروي نحوه عن علي ولان العرف جار
بان من بنى حائطا جعل وجه الحائط إليه
ولنا عموم قوله عليه السلام (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولان وجه الحائط ومعاقد
القمط إذا كانا شريكين فيه لابد من أن يكون إلى أحدهما إذا لا يمكن كونه إليهما جميعا فبطلت دلالته
كالتزويق ولأنه يراد للزينة فأشبه التزويق، وحديثهم لا يثبته أهل النقل واسناده مجهول قاله ابن المنذر
43

قال الشالنجي ذكرت هذا الحديث لأحمد فلم يقنعه وذكرته لا سحاق بن راهويه فقال ليس هذا
حديثا ولم يصححه وحديث على فيه مقال وما ذكروه من العرف ليس بصحيح فإن العادة جعل
وجه الحائط إلى خارج ليراه الناس كما يلبس الرجل أحسن أثوابه أعلاها الظاهر للناس ليروه
فيتزين به فلا دليل فيه.
(فصل) ولا ترجح الدعوى بالتزويق والتحسين ولا بكون أحدهما له على الآجر سترة غير مبنية عليه
لأنه مما يتسامح به ويمكن احداثه.
(فصل) وان تنازع صاحب العلو والسفل في حوائط البيت السفلاني فهي لصاحب السفل لأنه
المنتفع بها وهي من جملة البيت فكانت لصاحبه وإن تنازعا حوائط العلو فهي لصاحب العلو لذلك، وإن
تنازعا السقف تحالفا وكان بينهما وبهذا قال الإمام الشافعي وقال أبو حنيفة هو لصاحب السفل لأن
السقف على ملكه فكان القول قوله كما لو تنازعا سرجا على دابة أحدهما كان القول قول صاحبها
وحكي عن مالك أنه لصاحب السفل وحكي عنه أنه لصاحب العلو لأنه يجلس عليه ويتصرف فيه
ولا يمكنه السكنى إلا به ولنا أنه حاجز بين ملكيهما ينتفعان به غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان
فكان بينهما كالحائط بين الملكين وقولهم هو على ملك صاحب السفل يبطل بحيطان العلو ولا يشبه
السرج على الدابة لأنه لا ينتفع به غير صاحبها ولا يراد إلا لها فكان في يده وهذا السقف ينتفع به
كل واحد منهما لأنه سماء صاحب السفل يظله وأرض صاحب العلو تقله فاستويا فيه
(فصل) وإن تنازع صاحب العلو والسفل في الدرجة التي يصعد منها فإن لم يكن تحتها مرفق
لصاحب السفل كسلم مسمرا أو دكة فهي لصاحب العلو وحده لأن له اليد والتصرف وحده لأنها
مصعد صاحب العلو لاغير والعرضة التي عليها الدرجة له أيضا لانتفاعه بها وحده، وإن كان تحتها بيت
44

بنيت لأجله لتكون مدرجا للعلو فهي بينهما لأن يديهما عليها ولأنها سقف للسفلاتي وموطئ
للفوقاني فهي كالسقف الذي بينهما وإن كان تحتها طاق صغير لم تبن الدرجة لأجله وإنما جعل مرفقا
يجعل فيه جب الماء ونحوه فهي لصاحب العلو لأنها بنيت لأجله وحده ويحتمل أن يكون بينهما لأن
يدهما عليها وانتفاعهما حاصل بها فهي كالسقف
(فصل) ولو تنازعا مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر تحالفا وكانت بينهما لأنها حاجز بين
ملكيهما فهي كالحائط بين الملكين
(فصل) إذا كان بينهما حائط مشترك فانهدم فطلب أحدهما إعادته وأبى الآخر فهل يجبر الممتنع
على إعادته قال القاضي: فيه روايتان إحداهما يجبر نقلها ابن القاسم وحرب وسندي قال القاضي
هي أصح وقال ابن عقيل وعلى ذلك أصحابنا وبه قال مالك في إحدى روايتيه والشافعي في قديم قوليه
واختاره بعض أصحابه وصححه لأن في ترك بنائه إضرارا فيجبر عليه كما يجبر على القسمة إذا طلبها
أحدهما وعلى النقض إذا خيف سقوطه عليهما ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا إضرار) وهذا وشريكه
يتضرر ان في ترك بنائه (والرواية الثانية) لا يجبر نقل عن أحمد ما يدل على ذلك وهو أقوى دليلا ومذهب
أبي حنيفة لأنه ملك لا حرمة له في نفسه فلم يجبر مالكه على الانفاق عليه كما لو انفرد به ولأنه بناء حائط فلم يجبر عليه
كالابتداء ولأنه لا يخلو إما أن يجبر علي بنائه لحق نفسه أو لحق جاره أو لحقيهما جميعا: لا يجوز أن يجبر عليه لحق
نفسه بدليل ما لو انفرد به ولا لحق غيره كما لو انفرد به جاره فإذا لم يكن كل واحد منهما موجبا عليه
فكذلك إذا اجتمعا وفارق القسمة فإنها دفع للضرر عنهما بما لا ضرر فيه والبناء فيه مضرة لما فيه من
الغرامة وانفاق ماله ولا يلزم من إجباره على إزالة الضرر بما لا ضرر فيه إجباره على إزالته بما فيه
45

ضرر بدليل قسمة ما في قسمته ضرر، ويفارق هدم الحائط إذا خيف سقوطه لأنه يخاف سقوط
حائطه على ما يتلفه فيجبر على ما يزيل ذلك، ولهذا يجبر عليه وإن انفرد بالحائط بخلاف مسئلتنا ولا نسلم
أن في تركه اضرارا فإن الضرر إنما حصل بانهدامه وإنما ترك البناء ترك لما يحصل النفع به وهذا
لا يمنع الانسان منه بدليل حالة الابتداء وإن سلمنا أنه إضرار لكن في الاجبار اضرار ولا يزال
الضرر بالضرر وقد يكون الممتنع لا نفع له في الحائط أو يكون الضرر عليه أكثر من النفع أو يكون
معسرا ليس معه ما يبنى به فيكلف الغرامة مع عجزه عنها، فعلى هذه الرواية إذا امتنع أحدهما
لم يجبر. فإن أراد شريكه البناء فليس له منعه لأن له حقا في الحمل ورسما فلا يجوز منعه منه، وله بناؤه
بانقاضه ان شاء وبناؤه بآلة من عنده فإن بناه بآلته وانفاضه فالحائط بينهما على الشركة كما كان لأن
المنفق عليه إنما أنفق على التلف وذلك أثر لاعين يملكها وإن بناه بآلة من عنده فالحائط ملكه خاصة
وله منع شريكه من الانتفاع به ووضع خشبه ورسومه عليه لأن الحائط له. وإذا أراد نقضه فإن كان
بناه بآلته لم يملك نقضه لأنه ملكهما فلم يكن له التصرف فيه بما فيه مضرة عليهما وان بناه بآلة من عنده
فله نقضه لأنه ملكه خاصة فإن قال شريكه انا أدفع إليك نصف قيمة البناء ولا تنقضه لم يجبر لأنه
لما لم يجبر على البناء لم يجبر على الابقاء، وإن أراد غير الباني نقضه أو إجبار بانيه على نقضه لم يكن له
ذلك على الروايتين جميعا لأنه إذا لم يملك منعه من بنائه فلان لا يملك إجباره على نقضه أولى، فإن كان له
على الحائط رسم انتفاع ووضع خشب قال له اما أن تأخذ منى نصف قيمته وتمكنني من انتفاعي
46

ووضع خشبي واما أن تقلع حائطك لنعيد البناء بيننا فيلزم الآخر إجابته لأنه لا يملك ابطال رسومه
وانتفاعه ببنائه وإن لم يرد الانتفاع به فطالبه الباني بالغرامة أو القيمة لم يلزمه ذلك لأنه إذا لم يجبر
على البناء فأولى أن لا يجير على الغرامة إلا أن يكون قد أذن في البناء والانفاق فيلزمه ما أذن فيه
فأما على الرواية الأولى فمتى امتنع أجبره الحاكم على ذلك فإن لم يفعل أخذ الحاكم من ماله وأنفق
عليه وإن لم يكن له مال فأنفق عليه الشريك بإذن الحاكم أو إذن الشريك رجع عليه متى قدر وإن
أراد بناء ه لم يملك الشريك منعه، وما أنفق ان تبرع به لم يكن له الرجوع به وإن نوى الرجوع به فهل
له الرجوع بذلك؟ يحتمل وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه، وإن بناه لنفسه بآلته فهو بينهما
وإن بناه بالة من عنده فهو له خاصة فإن أراد نقضه فله ذلك إلا أن يدفع إليه شريكه نصف قيمته
فلا يكون له نقضه لأنه إذا أجبر علي بنائه فأولى أن يجبر على إبقائه.
(فصل) فإن لم يكن بين ملكيهما حائط قديم فطلب أحدهما من الاخر مباناته حائطا يحجز بين
ملكيهما فامتنع لم يجير عليه رواية واحدة وإن أراد البناء وحده لم يكن له البناء إلا في ملكه خاصة
لأنه لا يملك التصرف في ملك جاره المختص به ولا في الملك المشترك بغير ماله فيه رسم وهذا لا رسم له
ولا أعلم في هذا خلافا
(فصل) فإن كان السفل لرجل والعلو لآخر فانهدم السقف الذي بينهما فطلب أحدهما المباناة من
الآخر فامتنع فهل يجبر الممتنع على ذلك؟ على روايتين كالحائط بين البيتين وللشافعي قولان كالروايتين
وان انهدمت حيطان السفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها فعلى روايتين
47

(إحداهما) يجبر وهو قول مالك وأبي ثور وأحد قولي الشافعي فعلى هذه الرواية يجبر على البناء
وحده لأنه ملكه خاصة
(والثانية) لا يجبر وهو قول أبي حنيفة وان أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع من ذك على الروايتين
جميعا فإن بناه بآلته فهو على ما كان وان بناه بآلة من عنده فقد روي عن أحمد لا ينتفع به صاحب
السفل يعني حتى يؤدي القيمة فيحتمل أن لا يسكن وهو قول أبي حنيفة لأن البيت إنما يبنى للسكنى
فلم يملكه كغيره ويحتمل أنه أراد الانتفاع بالحيطان خاصة من طرح الخشب وسمر الوتد وفتح الطاق
ويكون له السكنى من غير تصرف في ملك غيره وهذا مذهب الشافعي لأن السكنى إنما هي اقامته في
فناء الحيطان من غير تصرف فيها فأشبه الاستظلال بها من خارج فأما ان طالب صاحب السفل بالبناء
وأبى صاحب العلو ففيه روايتان.
(إحداهما) لا يجبر علي بنائه ولا مساعدته وهو قول الشافعي لأن الحائط ملك صاحب السفل
مختص به فلم يجبر غيره علي بنائه ولا المساعدة فيه كما لو لم يكن عليه علو
(والثانية) يجبر على مساعدته والبناء معه وهو قول أبي الدرداء لأنه حائط يشتركان في الانتفاع
به أشبه الحائط بين الدارين
(فصل) فإن كان بين البيتين حائط لا حدهما فانهدم فطلب أحدهما من الآخر بناءه أو المساعدة في
بنائه فامتنع لم يجبر لأنه إن كان الممتنع مالكه لم يجبر علي بناء ملكه المختص به كحائط الآخر وإن كان
الممتنع الاخر لم يجبر علي بناء ملك غيره ولا المساعدة فيه ولا يلزم على هذا حائط السفل حيث
يجبر صاحبه علي بنائه مع اختصاصه بملكه لأن الظاهر أن صاحب العلو ملكه مستحقا لابقائه على
حيطان السفل دائما فلزم صاحب السفل تمكينه مما يستحقه وطريقه البناء فلذلك وجب بخلاف مسئلتنا
48

وان أراد صاحب الحائط بناءه أو نقضه بعد بنائه لم يكن لجاره منعه لأنه ملكه خاصة وان أراد جاره
بناءه أو نقضه أو التصرف فيه لم يملك ذلك لأنه لاحق له فيه
(فصل) ومتى هدم أحد الشريكين الحائط المشترك أو السقف الذي بينهما نظرت فإن خيف
سقوطه ووجب هدمه فلا شئ على هادمه ويكون كما لو انهدم بنفسه لأنه فعل الواجب وأزال الضرر
الحاصل بسقوطه وان هدمه لغير ذلك فعليه اعادته سواء هدمه لحاجة أو غيرها وسواء التزم اعادته
أو لم يلتزم لأن الضرر حصل بفعله فلزمه اعادته
(فصل) فإن اتفقا علي بناء الحائط المشترك بينهما نصفين وملكه بينهما الثلث والثلثان لم يصح لأنه
يصالح على بعض ملكه ببعض فلم يصح كما لو أقر له بدار فصالحه على سكناها، ولو اتفقا على أن
يحمله كل واحد منهما ما شاء لم يجز لجهالة الحمل فإنه يحمله من الأثقال مالا طاقة له بحمله وان
اتفقا على أن يكون بينهما نصفين جاز
(فصل) فإن كان بينهما نهر أو قناه أو دولاب أو ناعورة أو عين فاحتاج إلى عمارة ففي اجبار
الممتنع منهما روايتان وحكي عن أبي حنيفة أنه يجبر ههنا على الانفاق لأنه لا يتمكن شريكه من
مقاسمته فيضربه بخلاف الحائط فإنه يمكنهما قسمة العرصة والأولى التسوية لأنه في قسمة العرصة
49

اضرارا بهما والانفاق أرفق بهما فكانا سواء. والحكم في الدولاب والناعور كالحكم في الحائط على ما
ذكرناه، وأما البئر والنهر فلكل واحد منهما الانفاق عليه وإذا أنفق عليه لم يكن له منع الآخر من
نصيبه من الماء لأن الماء ينبع من ملكيهما وإنما اثر أحدهما في نقل الطين منه وليس له فيه عين مال
فأشبه الحائط إذا بناه بآلته، والحكم في الرجوع بالنفقة كحكم الرجوع في النفقة على الحائط على ما مضى
(فصل) إذا كان لرجلين بابان في زقاق غير نافذ أحدهما قريب من باب الزقاق والآخر في داخله
فللقريب من الباب نقل بابه إلى ما يلي باب الزقاق لأن له الاستطراق إلى بابه القديم فقد نقص من
استطراقه ومتى أراد رد بابه إلى موضعه الأول كان له لأنه حقه لم يسقط وان أراد نقل بابه تلقاء
صدر الزقاق لم يكن له ذلك نص عليه أحمد لأنه يقدم بابه إلى موضع لا استطراق له فيه ويحتمل
جواز ذلك لأنه كان له أن يجعل بابه في أول البناء في أي موضع شاء فتركه في موضع لا يسقط حقه كما
أن تحويله بعد فتحه لا يسقط ولان له أن يرفع حائطه كله فلا يمنع من رفع موضع الباب وحده، فأما صاحب
الباب الثاني فإن كان في داخل الدرب باب لآخر فحكمه في التقديم والتأخير حكم صاحب الباب الأول
سواء وان لم يكن له ثم باب آخر كان له تحويل بابه حيث شاء لأنه على الأول لا منازع له فيما تجاوز
الباب الأول وعلى الاحتمال الذي ذكرناه لكل واحد منهما ذلك، ولو أراد كل واحد منهما أن يفتح
في داره بابا آخر أو يجعل داره دارين يفتح لكل واحدة منهما بابا جاز إذا وضع البابين في موضع
استطراقه، وإن كان ظهر دار أحدهما إلى شارع نافذا وزقاق نافذ ففتح في حائطه بابا إليه جاز لأنه يرتفق بما
لم يتعين ملك أحد عليه، فإن قيل في هذا اضرار بأهل الدرب لأنه يجعله نافذا يستطرق إليه من الشارع
قلنا لا يصير الدرب نافذا وإنما تصير داره نافذة وليس لاحد استطراق داره، فاما إن كان بابه في الشارع
وظهر داره إلى الزقاق الذي لا ينفذ فأراد ان يفتح بابا إلى الزقاق للاستطراق لم يكن له ذلك لأنه
ليس له حق في الدرب الذي قد تعين عليه ملك أربابه ويحتمل الجواز كما ذكرنا في الوجه الذي قد
تقدم، وان أراد ان يفتح فيه بابا لغير الاستطراق أو يجعل له بابا يسمره أو شباكا جاز لأنه لما كان
له رفع الحائط بجملته فبعضه أولى، قال ابن عقيل ويحتمل عندي انه لا يجوز لأن شكل الباب مع تقادم
العهد ربما استدل به على حق الاستطراق فيضر بأهل الدرب بخلاف رفع الحائط فإنه لا يدل على شئ
50

(فصل) وإذا كان لرجل داران متلاصقتان ظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الأخرى وباب كل
واحدة منهما في زقاق غير نافذ فرفع الحاجز بينهما وجعلهما دارا واحدة جاز وان فتح من كل واحدة
منهما بابا إلى الأخرى ليتمكن من التطرق من كل واحدة منهما إلى كلا الدارين لم يجز ذكره القاضي
لأن ذلك يثبت الاستطراق في الدرب الذي لا ينفذ من دار لم يكن لها فيه طريق ولان ذلك ربما أدى
إلى اثبات الشفعة في قول من يثبتها بالطريق لكل واحدة من الدارين في زقاق الأخرى ويحتمل جواز
ذلك لأن له رفع الحاجز جميعه فبعضه أولى وهذا أشبه وما ذكرناه للمنع منتقض بما إذا رفع الحائط
جميعه وفي كل موضع قلنا ليس له فعله إذا صالحه أهل الدرب بعوض معلوم أو أذنوا له بغير عوض جاز
(فصل) إذا تنازع صاحب البابين في الدرب وتداعياه ولم يكن فيه باب لغيرهما ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) انه يحكم بالدرب من أوله إلى الباب الذي يلي أوله بينهما لأن لهما الاستطراق فيه جميعا وما
بعده إلى صدر الدرب للآخر لأن الاستطراق في ذلك له وحده فله اليد والتصرف (والوجه الثاني)
ان من أوله إلى أقصى حائط الأول بينهما لأن ما يقابل ذلك لهما التصرف فيه بناء على أن للأول ان يفتح
بابه فيما شا من حائطه وما بعد ذلك للثاني لأنه ليس بفناء للأول ولا له فيه استطراق (والثالث) يكون
بينهما لأن لهما جميعا يدا وتصرفا وهكذا الحكم فيما إذا كان لرجل علو خان ولآخر سفله ولصاحب
العلو درجة في أثناء صحن الخان فاختلفا في الصحن فما كان من الدرجة إلى باب الخان بينهما وما وراء
ذلك إلى صدر الخان على الوجهين (أحدهما) هو لصاحب السفل (والثاني) هو بينهما فإن كانت الدرجة
في صدر الصحن فالصحن بينهما لوجود اليد والتصرف منهما جميعا فعلى الوجه الذي يقول إن صدر
الدرب مختص بصاحب الباب الصدراني له ان يستبدل بما يختص به منه بان يجعله دهليزا لنفسه أو يدخله
في داره على وجه لا يضر بجاره ولا يضع على حائطه شيئا لأن ذلك ملك له ينفرد به
(فصل) وليس للرجل التصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره نحو ان يبني فيه حماما بين الدور
أو يفتح خبازا بين العطارين أو يجعله دكان قصارة يهز الحيطان ويخربها أو يحفر بئرا إلى جانب بئر جاره
يجتذب ماءها وبهذا قال بعض أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى لا يمنع وبه قال الشافعي
وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه تصرف في ملكه المختص به ولم يتعلق به حق غيره فلم يمنع منه كما لو
طبخ في داره أو خبز فيها وسلموا انه يمنع الدق الذي يهدم الحيطان وينثرها
51

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا اضرار) ولان هذا اضرار بجيرانه، فمنع منه كالدق الذي يهز
الحيطان وينثرها، وكسقي الأرض الذي يتعدى إلى هدم حيطان جاره، أو اشعال نار تتعدى إلى
احراقها قالوا ههنا تعدت النار التي أضرمها والماء الذي أرسله فكان مرسلا لذلك في ملك غيره فأشبه
ما لو أرسله إليها قصدا قلنا والدخان هو أجزاء الحريق الذي أحرقه فكان مرسلا له في ملك
جاره، فهو كاجزاء النار والماء، وأما دخان الخبز والطبيخ فإن ضرره يسير، ولا يمكن
التحرز منه وتدخله المسامحة
(فصل) وإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب الاعلى الصعود على سطحه
على وجه يشرف على سطح جاره الا أن يبني سترة تستره، وقال الشافعي لا يلزمه عمل سترة لأن
هذا حاجز بين ملكيهما فلا يجبر أحدهما عليه كالأسفل
ولنا انه اضرار بجاره فمنع منه كدق يهز الحيطان وذلك، لأنه يكشف جاره ويطلع على حرمه
فأشبه ما لو اطلع عليه من صئر بابه أو خصاصه، وقد دل على المنع من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أن
رجلا اطلع إليك فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) ويفارق الأسفل فإن تصرفه
لا يضر بالأعلى ولا يكشف داره
(فصل) إذا كانت بينهما عرصة حائط فاتفقا على قسمها طولا جاز ذلك سواء اتفقا على قسمها طولا
أو عرضا لأنها ملكهما ولا تخرج عنهما وان اختلفا فطلب أحدهما قسمها وهو ان يجعل له نصف الطول
في جميع العرض وللآخر مثله فقال أصحابنا يجبر الممتنع على القسمة وهو مذهب الشافعي لأن ذلك
لا يضر فإذا اقتسما اقترعا. فكان لكل واحد منهما ما تخرج به القرعة، فإن كان مبنيا فلا كلام وإن كان
غير مبنى كان لكل واحد منهما أن يبني في نصيبه وان أحب أن يدخل بعض عرصته في داره
فعل وإن أحب أن يزيد في حائطه من عرصته فعل ويحتمل أن لا يجبر على القسمة لأنها توجب
اختصاص كل واحد منهما ببعض الحائط المقابل لملك شريكه وزوال ملك شريكه فيتضرر لأنه لا يقدر
على حائط يستر ملكه وربما اختار أحدهما أن لا يبنى حائطه فيبقى ملك كل واحد منهما مكشوفا أو
يبنيه ويمنع جاره من وضع خشبه عليه وهذا ضرر لا يرد الشرع بالاجبار عليه، فإن قيل فإذا كان
مشتركا تمكن أيضا من منع شريكه وضع خشبه عليه قلنا إذا كان له عليه رسم وضع خشبه أو انتفاع به
52

لم يملك منعه من رسمه وههنا يملك منعه بالكلية، وأما إن طلب قسمها عرضا وهو أن يجعل لكل
واحد منهما نصف العرض في كمال الطول نظرنا فإن كانت العرصة لا تتسع لحائطين لم يجبر الممتنع من
قسمها واختلفوا واختار ابن عقيل أنه يجبر وهو ظاهر كلام الشافعي لأنها عرصة فأجبر على قسمها كعرصة
الدار ولنا أن في قسمها ضررا فلم يجبر الممتنع من قسمها عليه كالدار الصغيرة وما ذكروه ينتقض بذلك
وإن كانت تتسع لحائطين بحيث يصل لكل واحد منهما ما يبني فيه حائطا ففي إجبار الممتنع وجهان
أحدهما يجبر قاله أبو الخطاب لأنه لا ضرر في القسمة لكون كل واحد منهما يحصل له ما يندفع به
حاجته فأشبه عرصة الدار التي يحصل لكل واحد منهما ما يبنى فيه دارا. والثاني لا يجبر ذكره القاضي
لأن هذه القسمة لا تقع فيها قرعة لأننا لو أقرعنا بينهما لم نأمن أن تخرج قرعة كل واحد منهما على ما يلي
ملك جاره فلا ينتفع به فلو أجبرناه على القسمة لأجبرناه على أخذ ما يلي داره من غير قرعة وهذا لا نظير
له ولا صاحب الشافعي وجهان كهذين، ومتي اقتسما العرصة طولا فبنى كل واحد منهما لنفسه حائطا وبقيت
بينهما فرجة لم يجبر أحدهما على سدها ولم يمنع من سدها لأن ذلك يجري مجرى بناء الحائط في عرصته
(فصل) وإن كان بينهما حائط فاتفقا على قسمته طولا جاز ويعلم بين نصيبيهما بعلامة وان اتفقا
على قسمة عرضا فقال أصحابنا يجوز القسمة لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فأشبه العرصة ويحتمل أن
لا تجوز القسمة لأنها لا تكون إلا بتمييز نصيب أحدهما من الآخر بحيث يمكنه الانتفاع بنصيبه دون
نصيب صاحبه وههنا لا يتميز ولا يمكن انتفاع أحدهما بنصيبه منفردا لأنه إن وضع خشبه على أحد
جانبي الحائط كان ثقله على الحائط كله وإن فتح فيه طاقا يضعفه ضعف كله وإن وقع بعضه تضرر
النصيب الآخر، وإن طلب أحدهما قسمه وأبى الآخر فذكر القاضي أن الحكم في الحائط كالحكم في
عرصته سواء ولا يجبر على قسم الحائط إلا أن يطلب أحدهما قسمه طولا ويحتمل أن لا يجبر على
قسمه أيضا وهو أحد الوجهين لا صحاب الشافعي لأنهما إن قطعاه بينهما فقد أتلفا جزءا من الحائط
ولا يجبر الممتنع من ذلك كما لو كان بينهما ثوب فطلب أحدهما قطعه وان لم يقطع وعلما علامة على نصفه
كان انتفاع أحدهما بنصيبه انتفاعا بنصيب الاخر، ووجه الأول أنه يجبر على قسم الدار وقسم حائطها
المحيط بها وكذلك قسم البستان وحائطه ولا يجبر على القطع المضر بل يعلمه بخط بين نصيبهما ولا يلزم
من ذلك انتفاع أحدهما بنصيب الاخر وان اتصل به بدليل الحائط المتصل في دارين والله أعلم.
53

كتاب الحوالة والضمان
الحوالة ثابتة بالسنة والاجماع أما السنة فما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مطل الغني ظلم
وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع) متفق عليه وفي لفظ (من أحيل بحقه على ملئ فليحتل) وأجمع
أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة، واشتقاقها من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة، وقد قيل إنها بيع
فإن المحيل يشتري ما في ذمته بماله في ذمة المحال عليه وجاز تأخير القبض رخصة لأنه موضوع على
الرفق فيدخلها خيار؟؟ المجلس لذلك، والصحيح أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمول على غيره
لأنها لو كانت بيعا لما جازت لكونها بيع دين بدين ولما جاز التفرق قبل القبض لأنه بيع مال الربا
بجنسه ولجازت بلفظ البيع ولجازت بين جنسين كالبيع كله ولان لفظها يشعر بالتحول لا بالبيع فعلى
هذا لا يدخلها خيار وتلزم بمجرد العقد وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله. لابد فيها من محيل ومحتال
ومحال عليه، ويشترط في صحتها رضى المحيل بلا خلاف فإن الحق عليه ولا يتعين عليه جهة قضائه
وأما المحتال والمحال عليه فلا يعتبر رضاهما على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
* (مسألة) * قال (ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي فقد برئ
المحيل أبدا)
من شرط صحة الحوالة شروط أربعة (أحدها) تماثل الحقيين لأنها تحويل للحق ونقل له فينقل على
54

صفته ويعتبر تماثلهما في أمور ثلاثة (أحدها) الجنس فيحيل من عليه ذهب بذهب ومن عليه فضة
بفضة ولو أحال من عليه ذهب بفضة أو من عليه فضة بذهب لم يصح (الثاني) الصفة فلو أحال من عليه
صحاح بمكسرة، أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح
(الثالث) الحول والتأجيل ويعتبر اتفاق أجل المؤجلين فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا
أو أجل أحدهما إلى شهر والآخر إلى شهرين لم تصح الحوالة، ولو كان الحقان حالين فشرط على
المحتال ان يقبض حقه أو بعضه بعد شهر لم تصح الحوالة لأن الحال لا يتأجل ولأنه شرط ما لو كان
ثابتا في نفس الامر لم تصح الحوالة فكذلك إذا شرطه، وإذا اجتمعت هذه الأمور وصحت الحوالة
وتراضيا بان يدفع المحال عليه خيرا من حقه أو رضي المحتال بدون الصفة أو رضي من عليه المؤجل
بتعجيله أو رضي من له الحال بانظاره جاز لأن ذلك يجوز في القرض ففي الحوالة أولى، وان
مات المحيل أو المحال فالاجل بحاله، وان مات المحال عليه ففي حلول الحق روايتان مضى ذكرهما
(الشرط الثاني) أن تكون على دين مستقر، ولا يعتبر ان يحيل بدين مستقر، الا أن السلم
لا تصح الحوالة به ولا عليه، لأن دين السلم ليس بمستقر لكونه بعرض الفسخ لانقطاع المسلم فيه،
ولا تصح الحوالة به لأنها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره) ولا تصح الحوالة على المكاتب
بمال الكتابة لأنه غير مستقر فإن له ان يمتنع من أدائه ويسقط بعجزه، وتصح الحوالة عليه بدين
55

غير دين الكتابة لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات، وان أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه
صح وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة ويكون ذلك بمنزلة القبض، وان أحالت المرأة على زوجها بصداقها
قبل الدخول لم يصح لأنه غير مستقر، وان أحالها الزوج به صح لأنه له تسليمه إليها وحوالته به تقوم
مقام تسليمه، وان أحالت به بعد الدخول صح لأنه مستقر وان أحال البائع بالثمن على المشتري في
مدة الخيار لم يصح في قياس ما ذكرنا، وان أحاله المشتري به صح لأنه بمنزلة الوفاء وله الوفاء
قبل الاستقرار، وان أحال البائع بالثمن على المشتري ثم ظهر على عيب لم يتبين ان الحوالة كانت باطلة
لأن الثمن كان ثابتا مستقرا والبيع كان لازما وإنما ثبت الجواز عند العلم بالعيب بالنسبة إلى المشتري
ويحتمل ان تبطل الحوالة لأن سبب الجواز عيب المبيع وقد كان موجودا وقت الحوالة وكل موضع
أحال من عليه دين غير مستقر به ثم سقط الدين كالزوجة ينفسخ نكاحها بسبب من جهتها، أو
المشتري يفسخ البيع وبرد المبيع فإن كان ذلك قبل القبض من المحال عليه ففيه وجهان (أحدهما)
تبطل الحوالة لعدم الفائدة في بقائها ويرجع المحيل بدينه على المحال عليه (والثاني) لا تبطل لأن الحق
انتقل عن المحيل فلم يعد إليه، وثبت للمحتال فلم يزل عنه، ولان الحوالة بمنزلة القبض فكأن المحيل
أقبض المحتال دينه فيرجع عليه به ويأخذ المحتال من المحال عليه وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم
يتعذر، وإن كان بعد القبض لم يبطل وجها واحدا ويرجع المحيل على المحتال به
(فصل) وان أحال من لا دين له عليه رجلا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة بل هي
وكالة تثبت فيها أحكامها لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله ولا حق ههنا ينتقل ويتحول
56

وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في المعنى وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين
كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحيل، وان أحال من
عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة أيضا نصف عليه أحمد فلا يلزم المحال عليه الأداء،
ولا المحتال قبول ذلك، لأن الحوالة معاوضة ولا معاوضة ههنا وإنما هو اقتراض فإن قبض المحتال منه
الدين رجع على المحيل لأنه قرض، وان أبرأه ولم يقبض منه شيئا لم تصح البراءة لأنها براءة لمن لا دين
عليه، وان قبض منه الدين ثم وهبه إياه رجع المحال عليه على المحيل به لأنه قد غرم عنه وإنما عاد إليه
المال بعقد مستأنف ويحتمل ان لا يرجع عليه لكونه ما غرم عنه شيئا، وان أحال من لادين عليه فهي
وكالة في اقتراض وليست حوالة لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين، ولم يوجد واحد منهما
(فصل) الشرط الثالث أن تكون بمال معلوم لأنها ان كانت بيعا فلا تصح في مجهول وان كانت
تحول الحق فيعتبر فيها التسليم والجهالة تمنع منه فتصح بكل ما يثبت مثله في الذمة بالاتلاف من الأثمان
والحبوب والادهان، ولا تصح فيما لا يصح السلم فيه لأنه لا يثبت في الذمة ومن شرط الحوالة تساوى
الدينين فاما ما يثبت في الذمة سلما غير المثليات كالمذروع والمعدود ففي صحة الحوالة به وجهان (أحدهما) لا تصح لأن المثل فيه لا يتحرر ولهذا لا يضمنه بمثله في الاتلاف وهذا ظاهر مذهب
الشافعي (والثاني) تصح ذكره القاضي لأنه حق ثابت في الذمة فأشبه ماله مثل ويحتمل أن يخرج
هذان الوجهان على الخلاف فيما يقتضى به قرض هذه الأموال فإن كان عليه إبل من الدية وله على
57

آخر مثلها في السن فقال القاضي تصح لأنها تختص بأقل ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر
الصفات وقال أبو الخطاب لا تصح في أحد الوجهين لأنها مجهولة ولان الإبل ليست من المثليات التي
تضمن بمثلها في الاتلاف ولا تثبت في الذمة سلما في رواية، وإن كان عليه إبل من دية وله على آخر
مثلها قرضا فأحاله عليه فإن قلنا يرد في القرض قيمتها لم تصح الحوالة لاختلاف الجنس وان قلنا يرد
مثلها اقتضى قول القاضي صحة الحوالة لأنه أمكن استيفاء الحق على صفته من المحال عليه ولان الخيرة
في التسليم إلى من عليه الدين وقد رضي بتسليم ماله في ذمة المقترض وان كانت بالعكس فاحتال المقرض
بابل الدية لم تصح لأننا ان قلنا تجب القيمة في القرض فقد اختلف الجنس وان قلنا يجب المثل فللمقرض
مثل ما أقرض في صفاته وقيمته والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك
(فصل) الشرط الرابع أن يحيل برضائه لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي على
المحال عليه ولا خلاف في هذا فإذا اجتمعت شروط الحوالة وصحت برئت ذمه المحيل في قول عامة
الفقهاء الا ما يروى عن الحسن أنه كان لا يرى الحوالة براءة الا أن يبرئه، وعن زفر أنه قال لا تنقل
الحق وأجراها مجرى الضمان وليس بصحيح لأن الحوالة مشتقة من تحويل الحق بخلاف الضمان فإنه
مشتق من ضم ذمة إلى ذمة فعلق على كل واحد مقتضاه وما دل عليه لفظه. إذا ثبت أن الحق انتقل
فمتى رضي بها المحتال ولم يشترط اليسار لم يعد الحق إلى المحيل أبدا سواء أمكن استيفاء الحق أو
تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غير ذلك هذا ظاهر كلام الخرقي وبه قال الليث والشافعي وأبو عبيد
وابن المنذر وعن أحمد ما يدل على أنه إذا كان المحال عليه مفلسا ولم يعلم المحتال بذلك فله الرجوع إلا
أن يرضى بعد لعلم وبه قال جماعة من أصحابنا ونحوه قول مالك لأن الفلس عيب في المحال عليه فكان
58

له الرجوع كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة ولان المحيل غره فكان له الرجوع كما لو دلس المبيع وقال
شريح والشعبي والنخعي متى أفلس أو مات رجع على صاحبه، وقال أبو حنيفة يرجع عليه في حالين
إذا مات المحال عليه مفلسا وإذا جحده وحلف عليه عند الحاكم، وقال أبو يوسف ومحمد يرجع عليه
في هاتين الحالتين وإذا حجر عليه لفلس لأنه روي عن عثمان أن سئل عن رجل أحيل بحقه فمات
المحال عليه مفلسا فقال يرجع بحقه لا توى على مال امرئ مسلم، ولأنه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه
لاحد المتعاوضين فكان له الفسخ كما لو اعتاض بثوب فلم يسلم إليه
ولنا ان جزنا؟؟ جد سعيد بن المسيب كان له على علي رضي الله عنه دين فأحاله به فمات المحال عليه
فأخبره فقال اخترت علينا أبعدك الله فأبعده بمجرد احتياله ولم يخبره أن له الرجوع ولأنها براءة من
دين ليس فيها قبض ممن عليه ولا ممن يدفع عنه فلم يكن فيها رجوع كما لو أبرأه من الدين، وحديث
عثمان لم يصح يرويه خالد بن جعفر عن معاوية بن قرة عن عثمان ولم يصح سماعه منه وقد روي أنه
قال في حوالة أو كفالة وهذا يوجب التوقف ولا يصح ولو صلح كان قول علي مخالفا له وقولهم أنه
معاوضة لا يصح لأنه يفضي إلى بيع الدين بالدين وهو منهي عنه ويفارق المعاوضة بالثوب لأنه في ذلك
قبضا يقف استقرار العقد عليه وههنا الحوالة بمنزلة القبض والا كان بيع دين بدين
(فصل) فإن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسرا رجع على المحيل وبه قال بعض الشافعية وقال بعضهم
لا يرجع لأن الحوالة لا ترد بالاعسار إذا لم يشترط الملاءة فلا ترد به وان شرط كما لو شرط كونه
مسلما، ويفارق البيع فإن الفسخ يثبت بالاعسار فيه من غير شرط بخلاف الحوالة
59

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) ولأنه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضة
فيثبت الفسخ بفواته كما لو شرط صفة في المبيع وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت باطلاق العقد بدليل
اشتراط صفة في المبيع
(فصل) ولو لم يرض المحتال بالحوالة ثم بان المحال عليه مفلسا أو ميتا رجع على المحيل بلا خلاف
فإنه لا يلزمه الاحتيال على غير ملئ لما عليه فيه من الضرر وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبول
الحوالة إذا أحيل على ملئ ولو أحاله على ملئ فلم يقبل حتى أعسر فله الرجوع أيضا على ظاهر قول
الخرقي لكونه اشترط في براءة المحيل ابداء رضى المحتال
(مسألة) قال (ومن أحيل بحقه على ملئ فواجب عليه أن يحتال)
الملئ هو القادر على الوفاء جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله تعالى يقول:
من يقرض الملئ غير المعدم. وقال الشاعر:
تطيلين لياني وأنت مليئة * وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا
يعنى قادرة على وفائي والظاهر أن الخرقي أراد بالملئ ههنا القادر على الوفاء غير الجاحد ولا
المماطل قال احمد في تفسير الملي، كان الملئ عنده أن يكون مليا بماله وقوله وبدنه ونحو هذا فإذا أحيل
على من هذه صفته لزم المحتال والمحال عليه القبول ولم يعتبر رضاهما وقال أبو حنيفة يعتبر رضاهما لأنها
معاوضة فيعتبر الرضا من المتعاقدين. وقال مالك والشافعي يعتبر رضى المحتال لأن حقه في ذمة المحيل
60

فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه كما لا يجوز أن يجبره على أن يأخذ بالدين عرضا. فأما المحال عليه
فقال مالك لا يعتبر رضاه إلا أن يكون المحتال عدوه، وللشافعي في اعتبار رضائه قولان أحدهما يعتبر وهو
يحكى عن الزهري لأنه أحد من تتم به الحوالة فأشبه المحيل والثاني لا يعتبر لأنه اقامه في القبض مقام
نفسه فلم يفتقر إلى رضى من عليه الحق كالتوكيل.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع ولان للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه
وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض فلزم المحال القبول كما لو وكل رجلا في إبقائه
وفارق ما إذا أراد أن يعطيه عما في ذمته عرضا لأنه يعطيه غير ما وجب له فلم يلزمه قبوله.
(فصل) إذا أحال رجلا على زيد بألف فأحاله زيد بها على عمرو فالحوالة صحيحة لأن حق
الثاني ثابت مستقر في الذمة فصح أن يحيل به كالأول وهكذا لو أحال الرجل عمرا على زيد بما يثبت
له في ذمته صح أيضا لما ذكرنا وتكرر المحتال والمحيل لا يضر.
(فصل) إذا اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن ثم ظهر العبد حرا أو مستحقا فالبيع
باطل والحوالة باطلة لأننا تبينا أنه لا ثمن على المشتري وإنما تثبت حريته ببينة أو اتفاقهم، فإن اتفق
المحيل والمحال عليه على حريته وكذبهما المحتال ولا بينة بذلك لم يقبل قولهما عليه لأنهما يبطلان حقه
أشبه ما لو باع المشتري العبد ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حرا لم يقبل قولهما على المشتري الثاني
61

وإن أقاما بينة لم تسمع لأنهما كذباها بدخولهما في التبايع، وإن أقام العبد بينة بحريته قبلت وبطلت
الحوالة، وإن صدقهما المحتال وادعى أن الحوالة بغير ثمن العبد فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل
صحة الحوالة وهما يدعيان بطلانها فكانت جنبته أقوى فإن أقاما البينة أن الحوالة كانت بالثمن قبلت
لأنهما لم يكذباها، وإن اتفق المحيل والمحتال على حرية العبد وكذبهما المحال عليه لم يقبل قولهما عليه
في حرية العبد لأنه إقرار على غيرهما وتبطل الحوالة لاتفاق المرجوع عليه بالدين والراجع به على
استحقاق الرجوع والمحال عليه يعترف للمحتال بدين لا يصدقه فيه فلا يأخذ منه شيئا، وإن اعترف
المحتال والمحال عليه بحرية العبد عتق لاقرار من هو في يده بحريته وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما
ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لأن دخوله معه في الحوالة اعتراف ببراءته فلم يكن له الرجوع عليه.
(فصل) وإن اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن على آخر فقبضه من المحال عليه ثم رد
المشتري العبد بعيب أو مقايلة أو اختلاف في ثمن فقد برئ المحال عليه لأنه قبض منه باذنه ويرجع
المشتري على البايع وان رده قبل القبض فقال القاضي تبطل الحوالة ويعود المشتري إلى ذمة المحال
عليه ويبرأ البائع فلا يبقى له دين ولا عليه لأن الحوالة بالثمن وقد سقط بالفسخ فيجب ان تبطل
الحوالة لذهاب حقه من المال المحال به. وقال أبو الخطاب لا تبطل الحوالة في أحد الوجهين لأن
62

المشترى عوض البائع عما في ذمته ماله في ذمة المحال عليه ونقل حقه إليه نقلا صحيحا وبرئ من
الثمن وبرئ المحال عليه من دين المشتري فلم يبطل ذلك بفسخ العقد الأول كما لو أعطاه بالثمن ثوبا
وسلمه إليه ثم فسخ العقد لم يرجع بالثوب كذا ههنا، فإن قلنا ببطلان الحوالة رجع المحيل على المحال
عليه بدينه ولم يبق بينهما وبين البائع معاملة وإن قلنا لا تبطل رجع المشتري على البائع بالثمن ويأخذه
البائع من المحال عليه فإن عاد البائع فأحال المشتري صح بالثمن على من أحاله المشتري عليه
صح وبرئ البائع وعاد المشترى إلى غريمه، وإن كانت المسألة بحالها لكن أحال البائع أجنبيا
على المشترى ثم رد العبد المبيع ففي الحوالة وجهان (أحدهما) لا تبطل لأن ذمة المشتري، برئت
بالحوالة من حق البائع وصار الحق عليه للأجنبي المحتال فأشبه ما لو دفعه المشتري إلى المحيل، فعلى
هذا يرجع المشتري على البائع بالثمن ويسلم إلى المحتال ما أحاله به، والثاني تبطل الحوالة إن كان الرد
قبل القبض لسقوط الثمن الذي كانت الحوالة به ولأنه لا فائدة في بقاء الحوالة ههنا فيعود البائع بدينه
ويبرأ المشتري منهما كالمسألة قبلها وإذا قلنا لا تبطل فأحال المشتري المحال عليه بالثمن على البائع
صح وبرئ المشتري منهما
(فصل) إذا كان لرجل على آخر دين فأذن لآخر في قبضه ثم اختلف هو والمأذون له فقال
وكلتك في قبض ديني بلفظ التوكيل فقال بل أحلتني بلفظ الحوالة أو كانت بالعكس فقال أحلتك
63

بدينك قال بل وكلتني فالقول قول مدعي الوكالة منهما مع يمينه لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان
وينكر انتقاله والأصل معه، فإن كان لأحدهما بينة حكم بها لأن اختلافهما في اللفظ وهو مما يمكن
إقامة البينة عليه، وان اتفقا على أنه قال أحلتك بالمال الذي لي قبل زيد ثم اختلفا فقال المحيل إنما وكلتك
في القبض لي وقال الآخر بل أحلتني بديني عليك فالقول قول مدعي الحوالة في أحد الوجهين لأن
الظاهر معه فإن اللفظ حقيقة في الحوالة دون الوكالة فيجب حمل اللفظ على ظاهره، كما لو اختلفا
في دار في يد أحدهما (والثاني) القول قول المحيل لأن الأصل بقاء حق المحيل على المحال عليه والمحتال
يدعي نقله والمحيل ينكره والقول قول المنكر. فعلى الوجه الأول يحلف المحتال ويثبت حقه في ذمة
المحال عليه ويستحق مطالبته ويسقط عن المحيل، وعلى الوجه الثاني يحلف المحيل ويبقى حقه في ذمة
المحال عليه. وعلى كلا الوجهين إن كان المحتال قد قبض الحق من المحال عليه وتلف في يده فقد برئ كل
واحد منهما من صاحبه ولا ضمان عليه سواء تلف بتفريطه أو غيره لأنه ان تلف بتفريط وكان المحتال
محقا فقد أتلف ماله وإن كان مبطلا ثبت لكل واحد منهما في ذمة الآخر مثل ما في ذمته له
فيتقاصان ويسقطان، وان تلف بغير تفريط فالمحال قد قبض حقه وتلف في يده وبرئ منه المحيل
بالحوالة والمحال عليه بتسلمه والمحيل يقول قد تلف المال في يد وكيلي بغير تفريط فلا ضمان عليه
وان لم يتلف احتمل أن لا يملك المحيل طلبه لأنه معترف أن له عليه من الدين مثل ما له في يده وهو مستحق
64

لقبضه فلا فائدة في أن يقبضه منه ثم يسلمه إليه ويحتمل أن يملك أخذه منه ويملك المحتال مطالبته بدينه
وقيل يملك المحيل أخذه منه ولا يملك المحتال المطالبة بدينه لاعترافه ببراءة المحيل منه بالحوالة وليس
بصحيح لأن المحتال ان اعترف بذلك فهو يدعي أنه قبض هذا المال منه بغير حق وانه يستحق المطالبة
به فعلى كلا الحالين هو مستحق للمطالبة بمثل هذا المال المقبوض منه في قولهما جميعا فلا وجه لاسقاطه
ولا موضع للبينة في هذه المسألة لأنهما لا يختلفان في لفظ يسمع ولا فعل يرى وإنما يدعي المحيل بينة
وهذا لا تشهد به البينة نفيا ولا اثباتا
(فصل) وان كانت المسألة بالعكس فقال أحلتك بدينك فقال بل وكلتني ففيها الوجهان أيضا لما
قدمناه فإن قلنا القول قول المحيل فحلف برئ من حق المحتال وللمحتال قبض المال من المحال عليه
لنفسه لأنه يجوز له ذلك بقولهما معا فإذا قبضه كان له بحقه، وإن قلنا القول قول المحتال فحلف كان
له مطالبة المحيل بحقه ومطالبة المحتال عليه لأنه اما وكيل واما محتال فإن قبض منه قبل أخذه من
المحيل فله أخذ ما قبض لنفسه لأن المحيل يقول هو لك والمحتال يقول هو أمانة في يدي ولي مثله
على صاحبه وقد أذن له في أخذه ضمنا فإذا أخذه لنفسه حصل غرضه ولم يأخذ من المحيل
شيئا وان استوفى من المحيل رجع على المحال عليه في أحد الوجهين لأنه قد ثبتت الوكالة
بيمين المحتال وبقي الحق في ذمة المحال عليه للمحيل والثاني لا يرجع عليه لأنه يعترف أنه قد برئ
65

من حقه وإنما المحتال ظلمه بأخذ ما كان عليه قال القاضي والأول أصح وإن كان قد قبض الحوالة
فتلفت في يده بتفريط أو أتلفها سقط حقه على الوجهين لأنه إن كان محقا فقد أتلف حقه وإن كان
مبطلا فقد أتلف مثل دينه فيثبت في ذمته ويتقاصان، وان تلفت بغير تفريطه فعلى الوجه الأول يسقط
حقه أيضا لأن ماله تلف تحت يده وعلى الثاني له أن يرجع على المحيل بحقه وليس للمحيل الرجوع
على المحال عليه لأنه يعترف ببراءته
(فصل) وان اتفقا على أن المحيل قال أحلتك بدينك ثم اختلفا فقال أحدهما هي حوالة بلفظها
وقال الآخر بل هي وكالة بلفظ الحوالة فالقول قول مدعي الحوالة وجها واحدا لأن الحوالة بدينه
لا تحتمل الوكالة فلم يقبل قول مدعيها وسواء اعترف المحيل بدين المحتال أو قال لا دين لك علي لأن قوله أحلتك
بدينك اعتراف بدينه فلا يقبل جحده له بعد ذلك فاما ان لم يقل بدينك بل قال أحلتك ثم قال ليس
لك علي دين وإنما عنيت التوكيل بلفظ الحوالة أو قال أردت أن أقول وكلتك فسبق لساني فقلت أحلتك
وادعى المحتال أنها حوالة بدينه وأن دينه كان ثابتا على المحيل، فهل ذلك اعتراف بالدين أو لا؟ فيه
وجهان سبق توجيههما
66

(فصل) وإذا كان لرجل دين على آخر فطالبه به فقال قد أحلت به علي فلانا الغائب وأنكر
صاحب الدين فالقول قوله مع يمينه وإن كان لمن عليه الدين بينة بدعواه سمعت بينته لاسقاط حق
المحيل عليه، وإن ادعى رجل أن فلانا الغائب أحالني عليك فأنكر المدعى عليه فالقول قوله فإن
أقام المدعي بينة ثبتت في حقه وحق الغائب لأن البينة يقضى بها على الغائب ولزم الدفع إلى المحتال
وإن لم يكن له بينة فأنكر المدعى عليه فهل تلزمه اليمين؟ فيه وجهان بناء على ما لو اعترف له هل يلزمه الدفع؟
على وجهين (أحدهما) يلزمه الدفع إليه لأنه مقر بدينه عليه ووجوب دفعه إليه فلزمه الدفع إليه كما لو كانت
بينة والثاني لا يلزمه الدفع إليه لأنه لا يأمن من إنكار المحيل ورجوعه عليه فكان له الاحتياط
لنفسه كما لو ادعى عليه أني وكيل فلان في قبض دينه منك فصدقه وقال لا أدفعه إليك فإذا قلنا
يلزمه الدفع مع الاقرار لزمه اليمين مع الانكار فإذا حلف برئ ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل
لاعترافه ببراءته وكذلك إن قلنا لا تلزمه اليمين فليس للمحتال الرجوع على المحيل ثم ينظر في المحيل
67

فإن صدق المدعي في أنه احاله ثبتت الحوالة له لأن رضى المحال عليه لا يعتبر، وإن أنكر الحوالة حلف
وسقط حكم الحوالة، وان نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه بالنكول واستوفي الحق منه ثم إن
المحيل صدق المدعي فلا كلام وان أنكر الحوالة فالقول قوله وله ان يستوفي من المحال عليه لأنه
معترف له بالحق ويدعي ان المحتال ظلمه ويبقى دين المحتال على المحيل، وإن كان المحيل ينكر ان له عليه
دينا فالقول قوله بغير يمين لأن المحتال يقر ببراءته منه لاستيفائه من المحال عليه، وإن كان المحيل
يعترف به لم يكن للمحتال المطالبة به لأنه يقر بأنه قد برئ منه بالحوالة والمحيل يصدق المحال عليه
68

في كون المحتال قد ظلمه واستوفى منه بغير حق والمحتال يزعم أن المحيل قد اخذ منه أيضا بغير حق
وانه يجب عليه ان يرد ما اخذه منه إليه فينبغي ان يقبضها المحتال ويسلمها إلى المحال عليه أو يأذن
للمحيل في دفعها إلى المحال عليه، وان صدق المحال عليه المحتال في الحوالة ودفع إليه فأنكر المحيل الحوالة
حلف ورجع على المحال عليه والحكم في الرجوع بما على المحيل من الدين على ما ذكرنا في التي قبلها
(فصل) فإن كان عليه الف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به برئت ذمته وذمة
المضمون عنه لأن الحوالة كالتسليم ويكون الحكم ههنا كالحكم فيما لو قضى عنه الدين، فإن كان
الألف على رجلين على كل واحد منهما خمسمائة وكل واحد كفيل عن الاخر بذلك فأحاله أحدهما
بالألف برئت ذمتهما معا كما لو قضاها وان أحال صاحب الألف رجلا علي أحدهما بعينه بالألف
صحت الحوالة لأن الدين على كل واحد منهما مستقر، وإن أحال عليهما جميعا ليستوفي منهما أو من
أيهما شاء صحت الحوالة أيضا عند القاضي لأنه لا فضل ههنا في نوع ولا أجل ولا عدد وإنما هو
زيادة استيثاق فلم يمنع ذلك صحه الحوالة كحوالة المعسر على الملئ، وقال بعض أصحاب الشافعي
لا تصح الحوالة لأن الفضل قد دخلها فإن المحتال ارتفق بالتخيير بالاستيفاء منهما أو من أيهما شاء فأشبه
ما لو أحاله على رجلين له على كل واحد منهما الف ليستوفي من أيهما شاء والأول أصح، والفرق
69

بين هذه المسألة وبين ما إذا أحاله بألفين انه لا فضل بينهما في العدد ههنا وثم تفاضلا فيه ولان الحوالة
ههنا بألف معين وثم الحوالة بأحدهما من غير تعيين؟؟ وانه إذا قضاه أحدهما الألف فقد قضى جميع
الدين وثم إذا قضى أحدهما بقي ما على الاخر، ولو لم يكن كل واحد من الرجلين ضامنا عن صاحبه
فأحال عليهما صحت الحوالة بغير اشكال لأنه لما كان له ان يستوفى الألف من واحد كان له ان
يستوفي من اثنين كالوكيلين
باب الضمان
(مسألة) ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه أو قال ما أعطيته فهو علي فقد لزمه
ما صح أنه أعطاه
الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق فيثبت في ذمتهما جميعا ولصاحب
الحق مطالبة من شاء منهما واشتقاقه من الضم وقال القاضي هو مشتق من التضمين لأن ذمة الضامن
تتضمن الحق، والأصل في جوازه الكتاب والسنة والاجماع، اما الكتاب فقول الله تعالى (ولمن جاء به
حمل بعير وانا به زعيم) وقال ابن عباس الزعيم الكفيل: واما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه
70

قال (الزعيم غارم) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن، وروى البخاري عن سلمة
ابن الأكوع ان النبي صلى الله عليه وسلم اتي برجل ليصلي عليه فقال (هل عليه دين؟) قالوا نعم ديناران)
قال (؟ هل ترك لهما وفاء) قالوا: لا، فتأخر، فقيل لم لا تصل عليه فقال (ما تنفعه صلاتي وذمته
مرهونة إلا إن قام أحدكم فضمنه) فقام أبو قتادة فقال هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي صلى الله
عليه وسلم وأجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة وإنما اختلفوا في فروع نذكرها إن شاء الله
تعالى. إذا ثبت هذا فإنه يقال ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير بمعنى واحد، ولابد في الضمان
من ضامن ومضمون عنه ومضمون له ولابد من رضى الضامن فإن أكره على الضمان لم يصح ولا يعتبر
رضا المضمون عنه لا نعلم فيه خلافا لأنه لو قضى الدين عنه بغير اذنه ورضاه صح فكذلك وإذا ضمن عنه
ولا يعتبر رضى المضمون له، وقال أبو حنيفة ومحمد يعتبر لأنه إثبات مال لآدمي فلم يثبت إلا برضاه
أو رضا من ينوب عنه كالبيع والشراء. وعن أصحاب الشافعي كالمذهبين
ولنا أن أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له ولا المضمون عنه فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك روي عن علي رضي الله عنه: ولأنها وثيقة لا يعتبر فيها قبض فأشبهت الشهادة ولأنه ضمان دين
فأشبه ضمان بعض الورثة دين الميت للغائب وقد سلموه.
(فصل) ولا يعتبر أن يعرفهما الضامن، وقال القاضي يعتبر معرفتهما ليعلم هل المضمون عنه أهل
لاصطناع المعروف إليه أولا وليعرف المضمون له فيؤدي إليه
71

وذكر وجها آخر انه تعتبر معرفة المضمون له لذلك ولا تعتبر معرفة المضمون عنه لأنه لا معاملة
بينه وبينه، ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه نحو هذه، ولنا حديث علي وأبي قتادة فإنهما ضمنا لمن لم
يعرفاه عمن لم يعرفاه ولأنه تبرع بالتزام بمال فلم يعتبر معرفة من يتبرع له به كالنذر
(فصل) وقد دلت مسألة الخرقي على أحكام (منها) صحة ضمان المجهول لقوله ما أعطيته فهو علي،
وهذا مجهول فمتى قال أنا ضامن لك مالك على فلان أو ما يقضى به عليه أو ما تقوم به البينة أو ما يقر به
لك أو ما يخرج في روزمانجك صح الضمان. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الثوري والليث وابن أبي
ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح لأنه التزام مال فلم يصح مجهولا كالثمن في المبيع.
ولنا قول الله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم) وحمل البعير غير معلوم لأن حمل البعير
يختلف باختلافه، وعموم قوله عليه السلام (الزعيم غارم) ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة فصح
في المجهول كالنذر والاقرار ولأنه يصح تعليقه بضرر وخطر وهو ضمان العهدة، وإذا قال ألق متاعك في البحر
وعلي ضمانه أو قال ادفع ثيابك إلى هذا الرفاء وعلي ضمانها فصح المجهول كالعتق والطلاق (ومنها) صحة ضمان
ما لم يجب فإن معنى قوله ما أعطيته أي ما تعطيه في المستقبل بدليل أنه عطفه على من ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه
فيدل على أنه غيره ولو كان ما أعطيته في الماضي كان معنى المسئلتين سواء أو إحداهما داخلة في الأخرى.
72

والخلاف في هذه المسألة ودليل القولين كالتي قبلها إلا أنهم قالوا الضمان ضم ذمة إلى ذمة
في التزام الدين فإذا لم يكن على المضمون عنه شئ فلا ضم فيه فلا يكون ضمانا قلنا قد ضم ذمته
إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه وان ما ثبت في ذمة مضمونه يثبت في ذمته، وهذا كاف.
وقد سلموا ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وسلم أصحاب
الشافعي في أحد الوجهين ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل وما وجب شئ بعد
ومنها أن الضمان إذا صح لزم الضامن أداء ما ضمنه وكان للمضمون له مطالبته، ولا نعلم في هذا خلافا
وهو فائدة الضمان. وقد دل قول النبي صلى الله عليه وسلم (والزعيم غارم) واشتقاق اللفظ (ومنها) صحة
الضمان عن كل من وجب عليه حق حيا كان أو ميتا مليئا أو مفلسا لعموم لفظه فيه، وهذا قول
أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء فإن خلف بعض الوفاء
صح ضمانه بقدر ما خلف لأنه دين ساقط فلم يصح ضمانه كما لو سقط بالابراء ولان ذمته قد خربت
خرابا لا تعمر بعده فلم يبق فيها دين والضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزامه.
ولنا حديث أبي قتادة وعلي فإنهما ضمنا دين ميت لم يخلف وفاء والنبي صلى الله عليه وسلم حضهم
على ضمانه في حديث أبي قتادة بقوله (ألا قام أحدكم فضمنه؟) وهذا صريح في المسألة ولأنه دين ثابت
73

فصح ضمانه كما لو خلف وفاء، ودليل ثبوته أنه لو تبرع رجل بقضاء دينه جاز لصاحب الدين اقتضاؤه
ولو ضمنه حيا ثم مات لم تبرأ ذمة الضامن ولو برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن. وفي
هذا انفصال عما ذكروه (ومنها) صحة الضمان في كل حق أعني من الحقوق المالية الواجبة أو التي
تؤول إلى الوجوب كثمن المبيع في مدة الخيار وبعده والأجرة والمهر قبل الدخول أو بعده لأن هذه
الحقوق لازمة وجواز سقوطها لا يمنع ضمانها كالثمن في المبيع بعد انقضاء الخيار يجوز ان يسقط برد
بعيب أو مقايلة وبهذا كله قال الشافعي
(فصل) فيما يصح ضمانه، يصح ضمان الجعل في الجعالة وفي المسابقة والمناضلة، وقال
أصحاب الشافعي في أحد الوجهين لا يصح ضمانه لأنه لا يؤول إلى اللزوم فلم يصح ضمانه كمال الكتابة
ولنا قول الله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم) ولأنه يؤول إلى اللزوم إذا عمل العمل وإنما الذي
لا يلزم العمل والمال يلزم بوجوده والضمان للمال دون العمل، ويصح أرش الجناية سواء كانت
نقودا كقيم المتلفات أو حيوانا كالديات وقال أصحاب الشافعي لا يصح ضمان الحيوان الواجب فيها
لأنه مجهول وقد مضى الدليل على صحة ضمان المجهول ولان الإبل الواجبة في الذمة معلومة الأسنان
والعدد وجهالة اللون أو غيره من الصفات الباقية لا تضر لأنه إنما يلزمه أدنى لون أو صفة فتحصل
معلومة وكذلك غيرها من الحيوان ولان جهل ذلك لم يمنع وجوبه بالاتلاف فلم يمنع وجوبه بالالتزام
74

ويصح ضمان نفقة الزوجة سواء كانت نفقة يومها أو مستقبلة لأن نفقة اليوم واجبة والمستقبلة مآلها
إلى اللزوم ويلزمه ما يلزم الزوج في قياس المذهب وقال القاضي إذا ضمن نفقة المستقبل لم تلزمه الا
نفقة المعسر لأن الزيادة على ذلك تسقط بالاعسار وهذا مذهب الشافعي على القول الذي قال فيه
يصح ضمانها. ولنا أنه يصح ضمان ما لم يجب واحتمال عدم وجوب الزيادة لا يمنع صحة ضمانها بدليل
الجعل في الجعالة والصداق قبل الدخول والمبيع في مدة الخيار فأما النفقة في الماضي فإن كانت واجبة
اما بحكم الحاكم بها أو قلنا بوجوبها بدون حكمه صح ضمانها والا فلا، ويصح ضمان مال المسلم في إحدى
الروايتين والأخرى لا يصح لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم إليه فلم يجز كالحوالة
به والأول أصح لأنه دين لازم فصح ضمانه كالأجرة وثمن المبيع، ولا يصح ضمان مال الكتابة في
إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وأكثر أهل العلم والأخرى يصح لأنه دين على المكاتب فصح
ضمانه كسائر الديون عليه، والأولى أصح لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم فإن للمكاتب تعجيز
نفسه والامتناع عن أدائه فإذا لم يلزم الأصيل فالضمين أولى، ويصح ضمان الأعيان المضمونة كالمغصوب
والعارية وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين وقال في الآخر لا يصح لأن الأعيان غير ثابتة
في الذمة وإنما يضمن ما ثبت في الذمة، ووصفنا لها بالضمان إنما معناه انه يلزمه قيمتها ان تلفت والقيمة
مجهولة ولنا انها مضمونة على من هي في يده فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة وقولهم ان الأعيان لا
تثبت في الذمة قلنا الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها والتزام تحصيلها أو قيمتها عند
75

تلفها وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع فإن ضمانها يصح وهو في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه
ان ظهر بالمبيع عيب أو خرج مستحقا، فأما الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة والشركة والمضاربة
والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح ضمانها لأنها غير مضمونة
على من هي في يده فكذلك على ضامنه وان ضمنها ان تعدى فيها فظاهر كلام أحمد رحمه الله يدل على
صحة الضمان فإنه قال في رواية الأثرم في رجل يتقبل من الناس الثياب فقال له رجل ادفع إليه ثيابك
وأنا ضامن فقال له هو ضامن لما دفعه إليه يعني إذ تعدى أو تلف بفعله، فعلى هذا ان تلف بغير تفريط
منه ولا فعله لم يلزم الضامن شئ لما ذكرنا وان تلف بفعله أو تفريط لزمه ضمانها ولزم ضامنه ذلك
لأنها مضمونة على من هي في يده فلزم ضامنه كالغصوب والعواري وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب
وقد بينا جوازه، ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشترى للبائع، فضمانه على المشتري
هو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه وان ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على
الضامن، وضمانه عن البائع للمشتري هو ان يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقا أو رد
بعيب أو أرش العيب، فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر وحقيقة
العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع ويذكر فيه الثمن فعبر به عن الثمن الذي يضمنه، وممن أجاز
ضمان العهدة في الجملة أبو حنيفة ومالك والشافعي ومنع منه بعض الشافعية لكونه ضمان ما لم يجب
وضمان مجهول وضمان عين وقد بينا جواز الضمان في ذلك كله، ولان الحاجة تدعو إلى الوثيقة على
البائع والوثائق ثلاثة الشهادة والرهن والضمان، فأما الشهادة فلا يستوفى منها الحق واما الرهن
فلا يجوز في ذلك بالاجماع لأنه يؤدي إلى أن يبقى ابدا مرهونا فلم يبق إلا الضمان ولأنه لا يضمن
إلا ما كان واجبا حال العقد لأنه إنما يتعلق بالضمان حكم إذا خرج مستحقا أو معيبا حالا العقد
76

ومتى كان كذلك فقد ضمن ما وجب حين العقد والجهالة منتفية لأنه ضمن الجملة فإذا خرج بعضه مستحقا
لزمه بعض ما ضمنه. إذا ثبت هذا فإنه يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري قبل قبض الثمن وبعده
وقال الشافعي إنما يصح بعد القبض لأنه قبل القبض لو خرج مستحقا لم يجب على البائع شئ
وهذا ينبني على ضمان ما لم يجب إذا كان مفضيا إلى الوجوب كالجعالة. وألفاظ ضمان العهدة أن يقول
ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه أو يقول للمشتري ضمنت خلاصك منه أو يقول متى خرج المبيع
مستحقا فقد ضمنت لك الثمن وحكي عن أبي يوسف أنه قال ضمنت عهدته أو ضمنت لك العهدة، والعهدة في
الحقيقة هي الصك المكتوب فيه الابتياع هكذا فسره به أهل اللغة فلا يصح ضمانه للمشتري لأنه ملكه
وليس بصحيح لأن العهدة صارت في العرف عبارة عن الدرك وضمان الثمن والكلام المطلق يحمل على
الأسماء العرفية دون اللغوية كالرواية تحمل عند اطلاقها على المزادة لا على الجمل وإن كان هو الموضوع
فاما ان ضمن له خلاف المبيع فقال أبو بكر هو باطل لأنه إذا خرج حرا أو مستحقا لا يستطيع
تخليصه ولا يحل وقد قال أحمد في رجل باع عبدا أو أمة وضمن له الخلاص فقال كيف يستطيع الخلاص
إذا خرج حرا فإن ضمن عهدة المبيع وخلاصه بطل في الخلاص وهل يصح في العهدة على وجهين بناء على
تفريق الصفقة. إذا ثبت صحة ضمان العهدة فالكلام فيما يلزم الضامن فنقول إن استحقاق رجوع
المشتري بالثمن لا يخلو اما أن يكون بسبب حادث بعد العقد أو مقارن له، فاما الحادث فمثل تلف المبيع
من المكيل والموزون في يد البائع أو بغصب من يده أو يتقايلان فإن المشترى يرجع على البائع دون الضامن
لأن هذا الاستحقاق لم يكن موجودا حال العقد وإنما ضمن الاستحقاق الموجود حال العقد ويحتمل ان يرجع
به على الضامن لأن ضمان ما لم يجب جائز وهذا منه. وأما إن كان بسبب مقارن نظرنا كان بسبب لا تفريط
من البائع فيه كأخذه بالشفعة فإن المشتري يأخذ الثمن من الشفيع ولا يرجع على البائع ولا الضامن، ومتى لم
يجب على المضمون عنه شئ لم يجب على الضامن بطريق الأولى واما ان زال ملكه عن المبيع بسبب
مقارن لتفريط من البائع باستحقاق أو حرية أو رد بعيب قديم فله الرجوع إلى الضامن وهذا ضمان
77

العهدة فإن أراد أخذ أرش العيب رجع على الضامن أيضا لأنه إذا لزمه كل الثمن لزمه بعضه إذا استحق
ذلك على المضمون عنه، وسواء ظهر كل المبيع مستحقا أو بعضه لأنه إذا ظهر بعضه مستحقا بطل العقد
في الجميع في إحدى الروايتين فقد خرجت العين كلها من يده بسبب الاستحقاق، وعلى الرواية الأخرى
يبطل العقد في الجميع ولكن استحق ردها فإن ردها كلها فالحكم كذلك وان أمسك المملوك منها
فله المطالبة بالأرش كما لو وجد بها عيبا، ولو باعه عينا أو أقرضه شيئا بشرط ان يرهن عنده عينها
فتكفل رجل بتسليم الرهن لم تصح الكفالة لأنه لا يلزم الراهن اقباضه وتسليمه فلا يلزم الكفيل
مالا يلزم الأصيل وان ضمن للمشتري قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس صح سواء ضمنه البائع
أو أجنبي فإذا بنى أو غرس واستحق المبيع رجع المشتري على الضامن بقيمة ما تلف أو نقص وبهذا
قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح لأنه ضمان مجهول وضمان ما لم يجب وقد بينا جواز ذلك
(فصل) فيمن يصح ضمانه ومن لا يصح، يصح ضمان كل جائز التصرف في ماله سواء كان رجلا أو
امرأة لأنه عقد يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع، ولا يصح من المجنون والمبرسم ولا من صبي
غير مميز بغير خلاف لأنه إيجاب مال بعقد لم يصح منهم كالنذر والاقرار ولا يصح من السفيه المحجور
عليه ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال القاضي يصح ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأن من
أصلنا ان اقراره صحيح يتبع به من بعد فك الحجر عنه صح فكذلك ضمانه والأول أولى لأنه إيجاب
مال بعقد فلم يصح منه كالبيع والشراء ولا يشبه الاقرار لأنه اخبار بحق سابق، وأما الصبي المميز فلا
يصح ضمانه في الصحيح من الوجهين وهو قول الشافعي وخرجه أصحابنا على الروايتين في صحة
اقراره وتصرفاته بإذن وليه، ولا يصح هذا الجمع لأن هذا التزام مال لا فائدة له فيه فلم يصح منه
كالتبرع والنذر بخلاف البيع وان اختلفا في وقت الضمان بعد بلوغه فقال الصبي قبل بلوغي وقال
المضمون له بعد البلوغ فقال القاضي قياس قول احمد ان القول قول المضمون له لأن معه سلامة العقد
فكان القول قوله كما لو اختلفا في شرط فاسد ويحتمل ان القول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ
78

وعدم وجوب الحق عليه وهذا قول الشافعي ولا يشبه هذا ما إذا اختلفا في شرط فاسد لأن المختلفين
ثم متفقان على أهلية التصرف والظاهر أنهما لا يتصرفان الا تصرفا صحيحا فكان قول مدعي الصحة
هو الظاهر وههنا اختلفا في أهلية التصرف وليس مع من يدعي الأهلية ظاهر يستند إليه ولا أصل
يرجع إليه فلا ترجح دعواه، والحكم فيمن عرف له حال جنون كالحكم في الصبي وان لم يعرف له حال
جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل عدمه، فاما المحجور عليه لفلس فيصح ضمانه ويتبع به بعد
فك الحجر عنه لأنه من أهل التصرف والحجر عليه في ماله لا في ذمته فأشبه الراهن فصح تصرفه
فيما عدا الرهن فهو كما لو اقترض أو أقر أو اشترى في ذمته، ولا يصح ضمان العبد بغير اذن سيده سواء
كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له وبهذا قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة ويحتمل أن
يصح ويتبع به بعد العتق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه من أهل التصرف فصح تصرفه
بما لا ضرر على السيد فيه كالاقرار بالاتلاف، ووجه الأول انه عقد تضمن إيجاب مال فلم يصح بغير
اذن كالنكاح وقال أبو ثور إن كان من جهة التجارة جاز وإن كان من غير ذلك لم يجز، فإن ضمن باذن سيده صح
لأن سيده لو أذن له في التصرف صح قال القاضي وقياس المذهب تعلق المال برقبته وقال ابن عقيل ظاهر المذهب
وقياسه أنه يتعلق بذمة السيد وقال أبو الخطاب هل يتعلق برقبته أو بذمة سيده على روايتين
كاستدانته باذن سيده وقد سبق الكلام فيها، فإن أذن له سيده في الضمان ليكون القضاء من المال الذي
في يده صح ويكون ما في ذمته متعلقا بالمال الذي في يد العبد كتعلق حق الجناية برقبة الجاني كما
لو قال الحر ضمنت لك الدين على أن تأخذ من مالي هذا صح، وأما المكاتب فلا يصح ضمانه بغير
اذن سيده كالعبد القن؟؟ لأنه تبرع بالتزام مال فأشبه نذر الصدقة بغير مال ويحتمل أن يصح ويتبع به
بعد عتقه كقولنا في العبد، وإن ضمن باذنه ففيه (وجهان) أحدهما لا يصح أيضا لأنه ربما أدى إلى
تفويت الحرية (والثاني) لا يصح لأن الحق لهما لا يخرج عنهما، فاما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو
غير مرض الموت فحكمه حكم الصحيح وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه يحسب
79

من ثلثه لأنه تبرع بالتزام مال لا يلزمه ولم يأخذ عنه عوضا فأشبه الهبة، وإذا فهمت إشارة الأخرس
صح ضمانه لأنه يصح بيعه واقراره وتبرعه فصح ضمانه كالناطق ولا يثبت الضمان بكتابة منفردة عن
إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان لأنه قد يكتب عبثا أو تجربة قلم فلم يثبت الضمان به مع الاحتمال ومن
لا تفهم إشارته لا يصح منه الضمان لأنه لا يدري بضمانه ولأنه لا يصح سائر تصرفاته فكذلك ضمانه
(فصل) إذا ضمن الدين الحال مؤجلا صح ويكون حالا على المضمون عنه مؤجلا على الضامن
يملك مطالبة المضمون عنه دون الضامن وبهذا قال الشافعي قال احمد في رجل ضمن ما على فلان أن
يؤديه في ثلاث سنين فهو عليه ويؤديه كما ضمن، ووجه ذلك ما روى ابن عباس أن رجلا لزم غريما له
بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عندي شئ أعطيكه فقال والله لا أفارقنك حتى تقضيني
أو تأتيني بحميل فجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (كم تستنظره؟) قال:
شهرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا أحمل فجاء في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (من أين أصبت هذا؟) قال من معدن (قال لا خير فيها) وقضاها عنه رواه
ابن ماجة في سننه ولأنه ضمن مالا بعقد مؤجل فكان مؤجلا كالبيع، فإن قيل فعندكم الدين الحال
لا يتأجل فكيف يتأجل على الضامن أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوصف الذي يتصف به
في ذمة المضمون عنه قلنا الحق يتأجل في ابتداء ثبوته إذا كان بعقد وهذا ابتداء ثبوته في حق
الضامن فإنه لم يكن ثابتا عليه حالا ويجوز أن يخالف ما في ذمة الضامن ما في ذمة المضمون عنه بدليل
ما لو مات المضمون عنه والدين مؤجل إذا ثبت هذا وكان الدين مؤجلا إلى شهر فضمنه إلى شهرين لم يكن له
مطالبة الضامن إلى شهرين فإن قضاه قبل الاجل فله الرجوع به في الحال على الرواية التي تقول انه إذا
قضى دينه بغير اذن رجع به لأن أكثر ما فيه ههنا انه قضى بغير اذن وعلى الرواية الأخرى لا يرجع
به قبل الاجل لأنه لم يأذن له في القضاء قبل ذلك وإن كان الدين مؤجلا فضمنه حالا لم يصر حالا
ولا يلزمه أداؤه قبل أجله لأن الضامن فرع للمضمون عنه فلا يلزمه مالا يلزم المضمون عنه ولان
80

المضمون عنه لو ألزم نفسه تعجيل هذا الدين لم يلزمه تعجيله فبأن لا يلزم الضامن أولى ولأن الضمان
التزام دين في الذمة فلا يجوز أن يلتزم مالا يلزم المضمون عنه، فعلى هذا إن قضاه حالا لم يرجع به قبل
أجله لأن ضمانه لم يغيره عن تأجيله، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن الدين الحال ثابت في الذمة
مستحق القضاء في جميع الزمان فإذا ضمنه مؤجلا فقد التزم بعض ما يجب على المضمون عنه فصح كما لو
كان الدين عشرة فضمن خمسة وأما الدين المؤجل فلا يستحق قضاؤه الا عند أجله فإذا ضمنه حالا
التزم ما لم يجب على المضمون فأشبه ما لو كان الدين عشره فضمن عشرين، وقيل يحتمل أن يصح ضمان الدين المؤجل
حالا كما يصح ضمان الحال مؤجلا قياسا لإحداهما على الأخرى وقد فرقنا بينهما بما يمنع القياس إن شاء الله تعالى
(فصل) وإذا ضمن دينا مؤجلا عن إنسان فمات أحدهما اما الضامن واما المضمون عنه فهل
يحل الدين على الميت منهما؟ على روايتين تقدم ذكرهما فإن قلنا يحل على الميت لم يحل على الآخر لأن
الدين لا يحل على شخص بموت غيره فإن كان الميت المضمون عنه لم يستحق مطالبة الضامن قبل الاجل
فإن قضاه قبل الاجل كان متبرعا بتعجيل القضاء وهل له مطالبة المضمون عنه قبل الاجل؟ يخرج على
الروايتين فيمن قضى بغير اذن من هو عليه، وإن كان الميت الضامن فاستوفى الغريم الدين من تركته
لم يكن لورثته مطالبة المضمون عنه حتى يحل الحق لأنه مؤجل عليه فلا يستحق مطالبته به قبل أجله
وهذا مذهب الشافعي، وحكي عن زفر أن لهم مطالبته لأنه أدخله في ذلك مع عمله أنه يحل بموته، ولنا
أنه دين مؤجل فلا تجوز مطالبته به قبل الاجل كما لو يمت وقوله أدخله فيه قلنا إنما ادخله في المؤجل
وحلوله بسبب من جهته فهو كما لو قضى قبل الاجل
(مسألة) قال (ولا يبرأ المضمون عنه الا بأداء الضامن)
يعني ان المضمون عنه لا يبرأ بنفس الضمان كما يبرأ المحيل بنفس الحوالة قبل القبض بل يثبت
الحق في ذمة الضامن مع بقائه في ذمة المضمون عنه ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة
81

وبعد الموت وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور الكفالة
والحوالة سواء وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن
شبرمة وداود، واحتجوا بما روى أبو سعيد الخدري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة
فلما وضعت قال (هل على صاحبكم من دين؟) قالوا نعم درهمان فقال (صلوا على صاحبكم) فقال علي هما علي
يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على علي فقال (جزاك
الله خيرا عن الاسلام وفك رهانك كما فككت رهان أخيك) فقيل يا رسول الله هذا لعلي خاصة أم
للناس عامة؟ فقال (للناس عامة) رواه الدارقطني فدل على أن المضمون عنه برئ بالضمان، وروى
الإمام أحمد في المسند عن جابر قال توفي صاحب لنا فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه
فخطا خطوة ثم قال (أعليه دين؟) قلنا ديناران فانصرف، فتحملهما أبو قتادة فقال الديناران علي فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (وجب حق الغريم وبرئ الميت منهما؟) قال نعم فصلى عليه ثم قال
بعد ذلك (ما فعل الديناران) قال إنما مات أمس قال فعاد إليه من الغد فقال قد قضيتهما فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (والآن بردت جلدته) وهذا صريح في براءة المضمون عنه لقوله (وبرئ
الميت منهما) ولأنه دين واحد فإذا صار في ذمة ثانية برئت الأولى منه كالمحال به وذلك لأن الدين
الواحد لا يحل في محلين. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى
عنه) وقوله في خبر أبي قتادة (الآن بردت جلدته) حين أخبره أنه قضى دينه ولأنها وثيقه فلا
تنقل الحق كالشهادة، وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المضمون عنه فلانه بالضمان صار له وفا
وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع من الصلاة على مدين لم يخلف وفا؟؟، وأما قوله (لعلي فك الله
رهانك كما فككت رهان أخيك) فإنه كان بحال لا يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما ضمنه فكه من
ذلك أو مما في معناه، وقوله (برئ الميت منهما) صرت أنت المطالب بهما وهذا على سبيل التأكيد لثبوت
الحق في ذمته ووجوب الأداء عليه بدليل قوله في سياق الحديث حين أخبره بالقضاء (الآن بردت
82

عليه جلدته) ويفارق الضمان الحوالة فإن الضمان مشتق من الضم فيقتضي الضم بين الذمتين في تعلق الحق
بهما وثبوته فيهما والحوالة من التحول فتقتضي تحول الحق من محله إلى ذمة المحال عليه، وقولهم ان
الدين الواحد لا يحل في محلين قلنا يجوز تعلقه بمحلين على سبيل الاستيثاق كتعلق دين الرهن به وبذمة
الراهن وقال أبو بكر عبد العزيز أما الحي فلا يبرأ بمجرد الضمان رواية واحدة واما الميت ففي براءته
بمجرد الضمان روايتان (إحداهما) يبرأ بمجرد الضمان نص عليه أحمد في رواية يوسف بن موسى
لما ذكرنا من الخبرين ولان فائدة الضمان في حقه تبرئة ذمته فينبغي أن تحصل هذه الفائدة بمجرد الضمان
بخلاف الحي فإن المقصود من الضمان في حقه الاستيثاق وثبوته في الذمتين آكد في الاستيثاق بالحق
(والثانية) لا يبرأ إلا بالأداء لما ذكرناه ولأنه ضمان فلا يبرأ به المضمون عنه كالحي
(فصل) ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه أنه لا يطالب الضامن
الا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه لأنه وثيقة فلا يستوفى الحق منها الا عند تعذر استيفائه من الأصل كالرهن
ولنا أن الحق ثابت في ذمة الضامن فملك مطالبته كالأصيل ولان الحق ثابت في ذمتهما فملك مطالبة
من شاء منهما كالضامنين إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه ولا يشبه الرهن، لأنه مال من عليه الحق
وليس بذى ذمة يطالب إنما يطالب من عليه الدين ليقضى منه أو من غيره
(فصل) وان أبرأ صاحب الدين المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا نعلم فيه خلافا لأنه تبع ولأنه
وثيقة فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن وان أبرأ الضامن لم تبرأ ذمة المضمون عنه لأنه أصل
فلا يبرأ بابراء التبع ولأنه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الأصيل كالرهن إذا انفسخ
من غير استيفائه وأيهما قضى الحق برئا جميعا من المضمون له لأنه حق واحد فإذا استوفي مرة زال
تعلقه بهما كما لو استوفي الحق الذي به رهن، وان أحال الغريم برئا جميعا لأنه حق واحد فإذا استوفي
مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفي دين الرهن، وان أحال أحدهما الغريم برئا جميعا لأن الحوالة كالقضاء
(فصل) وان ضمن الضامن ضامن آخر صح لأنه دين لازم في ذمته فصح ضمانه كسائر الديون
83

ويثبت الحق في ذمم ثلاثة أيهم قضاه برئت ذمهم كلها لأنه حق واحد فإذا قضي مرة لم يجب قضاؤه
مرة أخرى، وان أبرأ الغريم المضمون عنه برئ الضامنان لأنهما فرع، وان أبرأ الضامن الأول برئ
الضامنان كذلك ولم يبرأ المضمون عنه لما تقدم، وان أبرأ الضامن الثاني برئ وحده، ومتى حصلت
براءة الذمة بالابراء فلا يرجع فيها بحال لأن الرجوع مع الغرم وليس في الابراء غرم. والكفالة
كالضمان في هذا المعنى جميعه وتزيد بأنه إذا مات المكفول عنه برئ كفيلاه وان مات الكفيل الأول برئ
الثاني دون المكفول عنه لأن الوثيقة انحلت من غير استيفاء فأشبه الرهن وان مات الكفيل الثاني برئ وحده
(فصل) وان ضمن المضمون عنه الضامن أو تكفل المكفول عنه الكفيل لم يصح لأن الضمان
يقتضي الزامه الحق في ذمته والحق لازم له فلا يتصور الزامه ثانيا ولأنه أصل في هذا الدين فلا يجوز
أن يصير فرعا فيه، وان ضمن عنه دينا آخر أو كفل به في حق آخر جاز لعدم ما ذكرناه فيه
84

(فصل) ويجوز أن يضمن الحق عن الرجل الواحد اثنان وأكثر سواء ضمن كل واحد منهم جميعه
أو جزءا منه فإن ضمن كل واحد منهم جميعه برئ كل واحد منهم بأداء أحدهم، وان أبرأ المضمون
عنه برئ الجميع لأنهم فروع له، وان أبرئ أحد الضمان برئ وحده ولم يبرأ غيره لأنهم غير فروع
له فلم يبرؤوا ببراءته كالمضمون عنه، وان ضمن أحدهم صاحبه لم يجز لأن الحق ثبت في ذمته بضمانه الأصلي
فلا يجوز أن يثبت ثانيا ولأنه أصل فيه بالضمان فلا يجوز أن يصير فيه فرعا، ولو تكفل بالرجل الواحد
رجلان جاز ويجوز أن يتكفل كل واحد من الكفيلين صاحبه لأن الكفالة ببدنه لا بما في ذمته وأي
الكفيلين أحضر المكفول به برئ وبرئ صاحبه من الكفالة لأنه فرعه ولم يبرأ من احضار المكفول
به لأنه أصل في ذلك، وان كفل المكفول الكفيل لم يجز لأنه أصل له في الكفالة لم يجز أن يصير فرعا
له فيما كفل به وان كفل به في غير هذا الحق جاز لأنه ليس بفرع له في ذلك
85

(مسألة) قال (فمتى أدى رجع عليه سواء قال له اضمن عني أو لم يقل)
يعني إذا أدى الدين محتسبا بالرجوع على المضمون عنه فأما ان قضى الدين متبرعا به غيرنا وللرجوع
به فلا يرجع بشئ لأنه يتطوع بذلك أشبه الصدقة وسواء ضمن بأمره أو بغير أمره، فأما إذا أداه
بنية الرجوع به لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يضمن بأمر المضمون عنه ويؤدي بأمره
فإنه يرجع عليه سواء قال له اضمن عني أو أد عني أو اطلق وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وقال
أبو حنيفة ومحمد ان قال اضمن عني وانقد عني رجع عليه. وان قال انقد هذا لم يرجع الا أن يكون
مخالطا له يستقرض منه ويودع عنده لأن قوله اضمن عني وانقد عني اقرار منه بالحق وإذا أطلق ذلك
صار كأنه قال هب لهذا أو تطوع عليه، وإذا كان مخالطا له رجع استحسانا لأنه قد يأمر مخالطه بالنقد عنه
86

ولنا انه ضمن ودفع بأمره فأشبه إذا كان مخالطا له أو قال اضمن عني، وما ذكراه ليس بصحيح
لأنه إذا أمره بالضمان لا يكون الا لما هو عليه وأمره بالنقد بعد ذلك ينصرف إلى ما ضمنه بدليل المخالط
له فيجب عليه أداء ما أدى عنه كما لو صرح به.
(الحال الثاني) ضمن بأمره وقضى بغير أمره فله الرجوع أيضا وبه قال مالك والشافعي في أحد
الوجوه عنه، والوجه الثاني لا يرجع به لأنه دفع بغير أمره أشبه ما لو تبرع به. الثالث أنه ان
تعذر الرجوع على المضمون عنه فدفع ما عليه رجع والا فلا لأنه تبرع بالدفع
ولنا أنه إذا أذن في الضمان تضمن ذلك اذنه في الأداء لأن الضمان يوجب عليه الأداء فرجع
عليه كما لو أذن في الأداء صريحا (الحال الثالث) ضمن بغير أمره وقضى بأمره فله الرجوع أيضا وظاهر
87

مذهب الشافعي أنه لا يرجع لأن أمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه
ولنا أنه أدى دينه بأمره فرجع عليه كما لو لم يكن ضامنا أو كما لو ضمن بأمره وقولهم ان اذنه
في القضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه قلنا الواجب بضمانه إنما هو أداء دينه وليس هو شيئا آخر
فمتى أداه عنه باذنه لزمه اعطاؤه بدله (الحال الرابع) ضمن بغير أمره وقضى بغير أمره ففيه روايتان
(إحداهما) يرجع بما أدى وهو قول مالك وعبد الله بن الحسن وإسحاق (والثانية) لا يرجع بشئ وهو
قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر بدليل حديث علي وأبى قتادة فإنهما لو كانا يستحقان الرجوع
على الميت صار الدين لهما فكانت ذمة الميت مشغولة بدينهما كاشتغالها بدين المضمون عنه ولم يصل عليه
النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه تبرع بذلك أشبه ما لو علف دوابه وأطعم عبيده بغير أمره. ووجه الأولى أنه قضاء
مبرئ من دين واجب فكان من ضمان من هو عليه كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه فأما علي وأبو
قتادة فإنهما تبرعا بالقضاء والضمان فإنهما قضيا دينه قصدا لتبرئة ذمته ليصلي عليه صلى الله عليه وسلم مع علمهما بأنه
لم يترك وفاء والمتبرع لا يرجع بشئ وإنما الخلاف في المحتسب بالرجوع
88

(فصل) ويرجع الضامن على المضمون عنه بأقل الامرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن كان الأقل
الدين فالزائد لم يكن واجبا فهو متبرع بأدائه وإن كان كالمقضي أقل فإنما يرجع بما غرم ولهذا لو أبرأه
غريمه لم يرجع بشئ وإن دفع عن الدين عرضا رجع بأقل الامرين من قيمته أو قدر الدين لذلك
فإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع به قبل أجله لأنه لا يجب له أكثر مما كان للغريم فإن احاله كانت
الحوالة بمنزلة تقبيضه ويرجع بالأقل مما أحال به أو قدر الدين سواء قبض الغريم من المحال عليه أو
أبرأه أو تعذر عليه الاستيفاء لفلس أو مطل لأن نفس الحوالة كالاقباض
(فصل) ولو كان على رجلين مائة على كل منهما نصفها وكل واحد ضامن عن صاحبه ما عليه فضمن
آخر عن أحدهما المائة بأمره وقضاها سقط الحق عن الجميع، وله الرجوع بها على الذي ضمن عنه ولم
89

يكن له ان يرجع على الآخر بشئ في إحدى الروايتين لأنه لم يضمن عنه ولا اذن له في القضاء فإذا
رجع على الذي ضمن عنه رجع على الآخر بنصفها إن كان ضمن عنه باذنه لأنه ضمنها عنه باذنه وقضاها
ضامنه. والرواية الثانية له الرجوع على الآخر بالمائة لأنها وجبت له على من أداها عنه فملك
الرجوع بها عليه كالأصل
(فصل) إذا ضمن عن رجل باذنه فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لزمه
الأداء عنه بأمره فكانت له المطالبة بتبرئة ذمته وان لم يطالب الضامن لم يملك مطالبة المضمون عنه
لأنه لما لم يكن له الرجوع بالدين قبل غرامته لم يكن له المطالبة به قبل طلبه منه وفيه وجه آخر ان
له المطالبة لأنه شغل ذمته باذنه فكانت له المطالبة بتفريغها كما لو استعار عبدا فرهنه كان للسيد مطالبته
بفكاكه وتفريغه من الرهن والأول أولى، ويفارق الضمان العارية لأن السيد يتضرر بتعويق منافع عبده
90

المستعار فملك المطالبة بما يزيل الضرر عنه والضامن لا يبطل بالضمان شئ من منافعه، فأما ان ضمن
عنه بغير أمره لم يملك مطالبة المضمون عنه قبل الأداء بحال لأنه لاحق له يطالب به ولا شغل ذمته
بأمره فأشبه الأجنبي، وقيل إن هذا ينبني على الروايتين في رجوعه على المضمون عنه بما أدى عنه فإن
قلنا لا يرجع فلا مطالبة له بحال وان قلنا يرجع فحكمه حكم من ضمن عنه بأمره على ما مضى تفصيله
(فصل) فإن ضمن الضامن ضامن آخر فقضى أحدهم الدين برئوا جميعا فإن قضاه المضمون عنه
لم يرجع على أحد وان قضاه الضامن الأول رجع على المضمون عنه دون الضامن عنه وان قضاه الثاني
رجع على الأول ثم رجع الأول على المضمون عنه إذا كان كل واحد منهما قد أذن لضامنه، فإن لم يكن
اذن له ففي الرجوع روايتان، وان اذن الأول للثاني ولم يأذن المضمون عنه أو اذن المضمون عنه
لضامنه ولم يأذن الضامن لضامنه رجع المأذون له على من اذن له ولم يرجع الآخر على إحدى
الروايتين، فإن اذن المضمون عنه للضامن الثاني في الضمان ولم يأذن له الضامن الأول رجع على
91

المضمون عنه ولم يرجع على الضامن لأنه إنما يرجع على من اذن له دون غيره
(فصل) إذا كان له الف على رجلين على كل واحد منهما نصفه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه
فأبرأ الغريم أحدهما من الألف برئ منه وبرئ صاحبه من ضمانه وبقي عليه خمسمائة، وان قضاه
أحدهما خمسمائة أو أبرأه الغريم منها وعين القضاء بلفظه أو ببينة عن الأصل والضمان انصرف إليه
وان أطلق احتمل أن له صرفها إلى ما شاء منهما كمن اخرج زكاة نصاب وله نصابان غائب وحاضر كان له
صرفها إلى ما شاء منهما واحتمل أن يكون نصفها عن الأصل ونصفها عن الضمان لأن اطلاق القضاء
والابراء ينصرف إلى جملة ما في ذمته فيكون بينهما، والمعتبر في القضاء لفظ القاضي ونيته وفي الابراء
لفظ المبرئ ونيته ومتى اختلفوا في ذلك فالقول قول من المعتبر لفظه ونيته
(فصل) ولو ادعى ألفا على حاضر وغائب وان كل واحد منهما ضامن عن صاحبه فاعترف الحاضر
بذلك فله أخذ الألف منه فإذا قدم الغائب فاعترف رجع عليه صاحبه بنصفه وان أنكر فالقول قوله مع يمينه
وان أنكر الحاضر فالقول قوله مع يمينه، فإن قامت عليه بينة فاستوفى الألف منه لم يرجع على الغائب
بشئ لأنه بانكاره معترف أنه لا حق له عليه وإنما المدعي ظلمه، وان اعترف الغائب وعاد الحاضر عن
انكاره فله أن يستوفي منه لأنه يدعي عليه حقا يعترف له به فكان له أخذه منه وان لم يقم على
الحاضر بينة حلف وبرئ، فإذا قدم الغائب فأنكر أيضا وحلف برئ، وان اعترف لزمه دفع الألف
92

وقال بعض أصحاب الشافعي لا يلزمه الا خمس المائة الأصلية دون المضمونة لأنها سقطت عن المضمون
عنه بيمينه فتسقط عن ضامنه
ولنا أنه يعترف بها وغريمه يدعيها واليمين إنما أسقطت المطالبة عنه في الظاهر ولم تسقط عنه الحق
الذي في ذمته ولهذا لو قامت عليه بينة بعد يمينه لزمه ولزم الضامن
(فصل) وإذا ادعى الضامن أنه قضى الدين فأنكر المضمون له ولا بينة له فالقول قول المضمون
له لأنه ادعى تسليم المال إلى من لم يأمنه فكان القول قول المنكر وله مطالبة من شاء منهما فإن رجع
على المضمون عنه فهل يرجع الضامن بما قضاه عنه؟ نظرنا فإن لم يعترف له بالقضاء لم يرجع عليه وان
اعترف له بالقضاء وكان قد قضى بغير بينة في غيبة المضمون عنه لم يرجع بشئ سواء صدقه المضمون
عنه أو كذبه لأنه أذن له في قضاء مبرئ ولم يوجد وان قضاه ببينة ثبت بها الحق لكن إن كانت ميتة أو
غائبة فللضامن الرجوع على المضمون عنه لأنه معترف أنه ما قصر ولا فرط، وان قضاه ببينة مردودة
بأمر ظاهر كالكفر والفسق الظاهر لم يرجع الضامن لتفريطه لأن هذه البينة كعدمها وان ردت بأمر
خفي كالفسق الباطن أو كانت الشهادة مختلفا فيها مثل أن أشهد عبدين أو شاهدا واحدا فردت لذلك
أو كان ميتا أو غائبا احتمل أن يرجع لأنه قضى ببينة شرعية والجرح والتعديل ليس إليه، واحتمل أن لا
93

يرجع لأنه أشهد من لا يثبت الحق بشهادته، وان قضى بغير بينة بحضرة المضمون عنه ففيه وجهان (أحدهما)
يرجع وهو مذهب الشافعي لأنه إذا كان حاضرا كان الاحتياط إليه فإذا ترك التحفظ وهو حاضر فهو
المفرط دون الضامن (والثاني) لا يرجع لأنه قضى قضاء لا يبرئ فأشبه ما لو قضى في غيبته، فأما ان رجع
المضمون له على الضامن فاستوفى منه مرة ثانية رجع على المضمون عنه بما قضاه ثانيا لأنه أبرأ به
ذمته ظاهرا، قال القاضي ويحتمل أن له الرجوع بما قضاه أولا دون الثاني لأن البراءة حصلت به في
الباطن، ولأصحاب الشافعي كهذين الوجهين ووجه ثالث انه لا يرجع بشئ بحال لأن الأول ما أبرأه
ظاهر والثاني ما أبرأه باطنا
ولنا أن الضامن أدى عن المضمون عنه باذنه إذا أبرأه ظاهرا وباطنا فرجع به كما لو قامت به البينة
والوجه الأول أرجح لأن القضاء المبرئ في الباطن ما أوجب الرجوع فيجب أن يجب بالباقي المبرئ
في الظاهر، وان اعترف المضمون له بالقضاء وأنكر المضمون عنه لم يلتفت إلى إنكاره لأن ما في ذمته
حق للمضمون له فإذا اعترف فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بان الحق الذي له صار للضامن فيجب أن
يقبل اقراره لكونه اقرارا في حق نفسه ويحتمل أن لا يقبل لأن الضامن مدع لما يستحق به الرجوع على
المضمون عنه فقول المضمون له شهادة على فعل نفسه فلا يقبل، والصحيح الأول وشهادة الانسان على
فعل نفسه صحيحة كشهادة المرضعة بالرضاع وقد ثبت ذلك بخبر عقبة بن الحارث
(فصل) ولا يدخل الضمان والكفالة خيار لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ والضمين
والكفيل على بصيرة انه لاحظ لهما ولأنه عقد لا يفتقر إلى القبول فلم يدخله خيار كالنذر وبهذا قال أبو
94

حنيفة والشافعي ولا نعلم عن أحد خلافهم فإن شرط الخيار فيهما فقال القاضي عندي ان الكفالة تبطل
وهو مذهب الشافعي لأنه شرط ما ينافي مقتضاها ففسدت كما لو شرط ان لا يؤدي ما على المكفول به
وذلك لأن مقتضى الضمان والكفالة لزوم ما ضمنه أو كفل به والخيار ينافي ذلك ويحتمل أن يبطل
الشرط وتصح الكفالة كما قلنا في الشروط الفاسدة في البيع، ولو أقر بأنه كفل بشرط الخيار لزمته الكفالة
وبطل الشرط لأنه وصل باقراره ما يبطله فأشبه استثناء الكل
(فصل) وإذا ضمن رجلان رجل ألفا ضمان اشتراط فقالا ضمنا لك الألف الذي على زيد
فكل واحد منهما ضامن لنصفه وان كانوا ثلاثة فكل واحد منهم ضامن ثلثه فإن قال واحد منهم أنا
وهذان ضامنون لك الألف فسكت الآخران فعليه ثلث الألف ولا شئ عليهما، وان قال كل واحد
منهم كل واحد منا ضامن لك الألف فهذا ضمان اشتراك وانفراد وله مطالبة كل واحد منهم بالألف
كله ان شاء، وان أدى أحدهم الألف كله أو حصته لم يرجع الا على المضمون عنه لأن كل واحد
منهم ضامن أصلي وليس بضامن عن الضامن الآخر
(مسألة) قال (ومن كفل بنفس لزمه ما عليها ان لم يسلمها)
وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحه في قول أكثر أهل العلم هذا مذهب شريح ومالك والثوري
والليث وأبي حنيفة، وقال الشافعي في بعض أقواله الكفالة بالبدن ضعيفة واختلف أصحابه فمنهم من
قال هي صحيحة قولا واحدا وإنما أراد أنها ضعيفة في القياس وان كانت ثابتة بالاجماع والأثر، ومنهم
95

من قال فيها قولان (أحدهما) أنها غير صحيحة لأنها كفالة بعين فلم تصح كالكفالة بالوجه وبدن الشاهدين
ولنا قول الله تعالى (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به الا أن يحاط بكم)
ولان ما وجب تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال، إذا ثبت هذا فإنه متى تعذر على الكفيل
احضار المكفول به مع حياته أو امتنع من احضاره لزمه ما عليه وقال أكثرهم لا يغرم
ولنا عموم قوله عليه السلام (الزعيم غارم) ولأنها أحد نوعي الكفالة فوجب بها الغرم كالكفالة بالمال
(فصل) وإذا قال أنا كفيل بفلان أو بنفسه أو ببدنه أو بوجهه كان كفيلا به وان كفل برأسه
أو كبده أو جزء لا تبقى الحياة بدونه أو بجزء شائع منه كثلثه أو ربعه صحت الكفالة لأنه لا يمكنه
احضار ذلك الا باحضاره كله، وان تكفل بعضو تبقى الحياة بعد زواله كيده ورجله ففيه وجهان (أحدهما)
تصح الكفالة وهو قول أبي الخطاب وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه لا يمكنه احضار هذه
الأعضاء على صفتها الا باحضار البدن كله فأشبه الكفالة بوجهه ورأسه ولأنه حكم يتعلق بالجملة فيثبت
حكمه إذا أضيف إلى البعض كالطلاق والعتاق (والثاني) لا يصح لأنه يمكن احضاره بدون الجملة مع بقائها
وقال القاضي لا تصح الكفالة ببعض البدن ولا تصح الا في جميعه لأن ما لا يسري لا يصح إذا
خص به عضو كالبيع والإجارة
(فصل) وتصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم بدين لازم سواء كان
الدين معلوما أو مجهولا وقال بعض أصحاب الشافعية لا تصح بمن عليه دين مجهول لأنه قد يتعذر احضار
المكفول به فيلزمه الدين ولا يمكن طلبه منه لجهله. ولنا ان الكفالة بالبدن لا بالدين والبدن معلوم فلا
96

لا تبطل الكفالة لاحتمال عارض ولأنا قد بينا؟؟ ان ضمان المجهول يصح وهو التزام المال ابتداء فالكفالة
التي لا تتعلق بالمال ابتداء أولى، وتصح الكفالة بالصبي والمجنون لأنهما قد يجب احضارهما مجلس الحكم
للشهادة عليهما بالاتلاف واذن وليهما يقوم مقام اذنهما، وتصح الكفالة ببدن المحبوس والغائب وقال
أبو حنيفة لا تصح. ولنا ان كل وثيقة صحت مع الحضور صحت مع الغيبة والحبس كالرهن والضمان
ولان الحبس لا يمنع من التسليم لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم أو أمر من حبسه ثم يعيده إلى
الحبس بالحقين جميعا والغائب يمضي إليه فيحضره ان كانت الغيبة غير منقطعة وهو ان يعلم خبره فإن لم يعلم خبره
لزمه ما عليه قاله القاضي وقال في موضع آخر لا يلزمه ما عليه حتى تمضي مدة يمكنه الرد فيها فلا يفعل
(فصل) ولا تصح الكفالة ببدن من عليه حد سواء كان حقا لله تعالى كحد الزنا والسرقة أو
لآدمي كحد القذف والقصاص وهذا قول أكثر أهل العلم منهم شريح والحسن وبه قال إسحاق وأبو
عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وبه قال الشافعي في حدود الله تعالى، واختلف قوله في حدود الآدمي
فقال في موضع لا كفالة في حدود الآدمي ولا لعان وقال في موضع تجوز الكفالة بمن عليه حق أو حد لأنه
حق لآدمي فصحت الكفالة به كسائر حقوق الآدميين. ولنا ما روي عن عمر وبن شعيب عن أبيه
عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا كفالة في حد) ولأنه حد فلم تصح الكفالة فيه كحدود الله تعالى
ولان الكفالة استيثاق والحدود مبناها على الاسقاط والدرء بالشبهات فلا يدخل فيها الاستيثاق ولأنه
حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه احضار المكفول به فلم تصح الكفالة بمن
هو عليه كحد الزنا
97

(فصل) ولا تجوز الكفالة بالمكاتب من أجل دين الكتابة لأن الحضور لا يلزمه فلا تجوز
الكفالة به كدين الكتابة
(فصل) وتصح الكفالة حالة ومؤجلة كما يصح الضمان حالا ومؤجلا، وإذا أطلق كانت حالة
لأن كل عقد يدخله الحلول اقتضى اطلاقه الحلول كالثمن والضمان، فإذا تكفل حالا كان له مطالبته
باحضاره فإن احضره وهناك يد حائلة ظالمة لم يبرأ منه ولم يلزم المكفول له تسلمه لأنه لا يحصل
له غرضه وان لم تكن يد حائلة لزمه قبوله فإن قبله برئ من الكفالة، وقال ابن أبي موسى لا يبرأ
حتى يقول قد برئت إليك منه أو قد سلمته إليك أو قد أخرجت نفسي من كفالته، والصحيح الأول
لأنه عقد على عمل فبرئ منه بالعمل المعقود عليه كالإجارة، فإن امتنع من تسلمه برئ لأنه أحضر ما
يجب تسليمه عند غريمه وطلب منه تسلمه على وجه لا ضرر في قبضه فبرئ منه كالمسلم فيه، وقال بعض
أصحابنا إذا امتنع من تسلمه اشهد على امتناعه رجلين وبرئ لأنه فعل ما وقع العقد على فعله فبرئ
منه وقال القاضي يرفعه إلى الحاكم فيسلمه إليه، فإن لم يجد حاكما اشهد شاهدين على احضاره وامتناع
المكفول له من قبوله، والأول أصح فإن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى نائبه كحاكم أو غيره
وان كانت الكفالة مؤجلة لم يلزم إحضاره قبل الاجل كالدين المؤجل، فإذا حل الاجل فأحضره
وسلمه برئ وإن كان غائبا أو مرتدا لحق بدار الحرب لم يؤخذ بالحق حتى يمضي زمن يمكن المضي
إليه واعادته، وقال ابن شبرمة يحبس في الحال لأن الحق قد توجه عليه. ولنا أن الحق يعتبر في وجوب
أدائه امكان التسليم وإن كان حالا كالدين فإذا مضت مدة يمكن احضاره فيها ولم يحضره أو كانت
98

الغيبة منقطعة لا يعلم خبره أو امتنع من احضاره مع إمكانه أخذ بما عليه، وقال أصحاب الشافعي ان
كانت الغيبة منقطعة لا يعلم مكانه لم يطالب الكفيل باحضاره ولم يلزمه شئ وان امتنع من احضاره
مع امكانه حبس وقد دللنا على وجوب الغرم فيما مضى وان أحضر المكفول به قبل الاجل ولا ضرر
في تسليمه لزمه وإن كان فيه ضرر مثل أن تكون حجة الغريم غائبة أو لم يكن يوم مجلس الحاكم أو
الدين مؤجل عليه لا يمكن اقتضاؤه منه أو قد وعده بالانظار في تلك المدة لم يلزمه قبوله كما نقول
فيمن دفع الدين المؤجل قبل حلوله
(فصل) وإذا عين في الكفالة تسليمه في مكان فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة وبه قال
أبو يوسف ومحمد وقال القاضي ان احضره بمكان آخر من البلد وسلمه برئ من الكفالة وقال بعض
أصحابنا متى أحضره في أي مكان كان وفي ذلك الموضع سلطان برئ من الكفالة لكونه لا يمكنه
الامتناع من مجلس الحاكم ويمكن اثبات الحجة فيه وقيل إن كان عليه ضرر في احضاره بمكان آخر
لم يبرأ الكفيل باحضاره فيه والا برئ كقولنا فيما إذا أحضره قبل الاجل ولا صحاب الشافعي
اختلاف على نحو ما ذكرنا. ولنا أنه سلم ما شرط تسليمه في مكان في غيره فلم يبرأ كما لو أحضر المسلم فيه
في غير هذا الموضع الذي شرطه ولأنه قد سلم في موضع لا يقدر على اثبات الحجة فيه لغيبة شهوده
أو غير ذلك وقد يهرب منه ولا يقدر على امساكه، ويفارق ما إذا أحضره قبل الاجل فإنه عجل الحق
قبل أجله فزاده خيرا فإذا لم يكن فيه ضرر وجب قبوله وان وقعت الكفالة مطلقة وجب تسليمه
في مكان العقد كالسلم فإن سلمه في غيره فهو كتسليمه في غير المكان الذي عينه وإن كان المكفول به
99

محبوسا عند غير الحاكم لم يلزمه تسليه محبوسا لأن ذلك الحبس يمنعه استيفاء حقه وإن كان محبوسا
عند الحاكم فسلمه إليه محبوسا لزمه تسليمه لأن حبس الحاكم لا يمنعه استيفاء حقه وإذا طالب الحاكم
باحضاره أحضره مجلسه وحكم بينهما ثم يرده إلى الحبس وان توجه عليه حق للمكفول له حبسه
بالحق الأول أو حق المكفول له
(فصل) وان كفل إلى أجل مجهول لم تصح الكفالة وبهذا قال الشافعي لأنه ليس له وقت يستحق
مطالبته فيه وهكذا الضمان وان جعله إلى الحصاد والجزاز والعطاء خرج على الوجهين كالأجل في البيع
والأولى صحتها هنا لأنه تبرع من غير عوض جعل له أجلا لا يمنع من حصول المقصود منه فصح كالنذر
وهكذا كل مجهول لا يمنع مقصود الكفالة وقد روى منها عن أحمد في رجل كفل رجلا آخر فقال:
ان جئت به في وقت كذا والا فما عليه علي فقال لا أدري ولكن ان قال ساعة كذا لزمه. فنص على
تعيين الساعة وتوقف عن تعين الوقت ولعله أراد وقتا متسعا أو وقت شئ يحدث مثل وقت الحصاد ونحوه
فأما ان قال وقت طلوع الشمس ونحو ذلك صح وان قال إلى الغد أو شهر كذا تعلق بأوله على ما ذكرنا في السلم
(فصل) وإذا تكفل برجل إلى أجل ان جاء به فيه والا لزمه ما عليه صح وبه قال أبو حنيفة وأبو
100

يوسف وقال محمد بن الحسن والشافعي لا تصح الكفالة ولا يلزمه ما عليه لأن هذا تعليق الضمان بخطر
فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد
ولنا أن هذا موجب الكفالة ومقتضاها فصح اشتراطه كما لو قال إن جئت به في وقت كذا والا
فلك حبسي، ومبنى الخلاف ههنا على الخلاف في أن هذا مقتضى الكفالة وقد دللنا عليه، وأما ان قال إن جئت
به في وقت كذا والا فانا كفيل ببدن فلان أو فأنا ضامن لك مالك على فلان أو قال إذا جاء زيد
فأنا ضامن لك ما عليه أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل بفلان أو قال أنا كفيل بفلان شهرا فقال
القاضي لا تصح الكفالة وهو مذهب الشافعي ومحمد بن الحسن لأن ذلك خطر فلم يجز تعليق الضمان
والكفالة به كمجئ المطر وهبوب الريح ولأنه اثبات حق لآدمي معين فلم يجز تعليقه على شرط ولا
توقيته كالهبة، وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب تصح وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأنه
أضاف الضمان إلى سبب الوجود فيجب أن يصح كضمان الدرك والأول أقيس، فإن قال كفلت بفلان
ان جئت به في وقت كذا والا فأنا كفيل بفلان أو ضامن المال الذي على فلان لم يصح فيهما عند
101

القاضي لأن الأول مؤقت والثاني معلق على شرط وقال أبو الخطاب يصح فيهما فأما ان قال كفلت بأحد
هذين الرجلين لم يصح في قولهم جميعا لأنه غير معلوم في الحال ولا في المآل
(فصل) فإن قال كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل أو على أن تبرئه من الكفالة
لم يصح لأنه شرط شرطا لا يلزم الوفاء به فيكون فاسدا وتفسد الكفالة به ويحتمل أن تصح الكفالة
لأنه شرط تحويل الوثيقة التي على الكفيل إليه، فعلى هذا لا تلزمه الكفالة الا أن يبرئ المكفول له
الكفيل الأول لأنه إنما كفل بهذا الشرط فلا تثبت كفالته بدون شرطه، وان قال كفلت لك بهذا
الغريم على أن تبرئني من الكفالة بفلان أو ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين
الآخر أو على أن تبرئني من الكفالة بفلان خرج فيه الوجهان، والأولى أنه لا يصح لأنه شرط فسخ
عقد في عقد فلم يصح كالبيع بشرط فسخ بيع آخر، وكذلك لو شرط في الكفالة أو الضمان أو يتكفل
المكفول له أو المكفول به بآخر أو يضمن دينا عليه أو يبيعه شيئا عينه أو يؤجره داره لم يصح لما ذكرنا
(فصل) ولو تكفل اثنان بواحد صح وأيهم قضى الدين برئ الآخران لما ذكرنا في الضمان
102

وان سلم المكفول به نفسه برئ كفيلاه لأنه أتى بما يلزم الكفيلين وهو احضار نفسه فبرئت ذمتهما
كما لو قضى الدين وان أحضر أحد الكفيلين لم يبرأ الآخر لأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير
استيفاء فلم تنحل الأخرى كما لو أبرأ أحدهما أو انفك أحد الرهنين من غير قضاء الحق، وفارق
ما إذا سلم المكفول به نفسه لأنه أصل لهما فإذا برئ الأصل مما تكفل به عنه برئ فرعاه وكل واحد
من الكفيلين ليس بفرع للآخر فلم يبرأ ببراءته ولذلك لو أبرئ المكفول به برئ كفيلاه ولو
أبرئ أحد الكفيلين برئ وحده دون صاحبه
فصل ولو تكفل واحد لاثنين فأبرأه أحدهما أو أحضره عند أحدهما لم يبرأ من الآخر لأن عقد
الواحد من الاثنين بمنزلة العقدين فقد التزم احضاره عند كل واحد منهما فإذا أحضره عند واحد برئ
منه وبقي حق الآخر كما لو كان في عقدين وكما لو ضمن دينا لرجلين فوفى أحدهما حقه
(فصل) وتفتقر صحة الكفالة إلى رضى الكفيل لأنه لا يلزمه الحق ابتداء الا برضاه ولا يعتبر
رضى المكفول له لأنها وثيقة له لا قبض فيها فصحت من غير رضاه فيها كالشهادة ولأنها التزام حق له من
غير عوض فلم يعتبر رضاه فيها كالنذر، فأما رضاء المكفول به ففيه وجهان (أحدهما) لا يعتبر كالضمان
103

(والثاني) يعتبر وهو مذهب الشافعي لأن مقصودها احضاره وان تكفل بغير اذنه لم يلزمه الحضور معه
ولأنه يجعل لنفسه حقا عليه وهو الحضور معه من غير رضاه فلم يجز كما لو لزمه الدين، وفارق الضمان فإن الضامن
يقضي الحق ولا يحتاج إلى المضمون عنه، وعلى كلا الوجهين متى كانت الكفالة باذنه فأراد الكفيل
احضاره لزمه الحضور معه لأنه شغل ذمته من أجله باذنه فكان عليه تخليصها كما لو استعار عبده
فرهنه باذنه كان عليه تخليصه إذا طلبه سيده، وان كانت الكفالة بغير اذنه نظرنا فإن طلبه المكفول له
منه لزمه أن يحضر معه لأن حضوره حق للمكفول له وقد استناب الكفيل في طلبه وان لم يطلبه المكفول
له لم يلزمه أن يحضر معه لأنه لم يشغل ذمته وإنما الكفيل شغلها باختيار نفسه فلم يجز أن يثبت له بذلك
حق على غيره، وان قال المكفول له أحضر كفيلك كان توكيلا في احضاره ولزمه أن يحضر معه كما لو
وكل أجنبيا وان قال اخرج من كفالتك احتمل أن يكون توكيلا في احضاره كاللفظ الأول ويحتمل أن
تكون مطالبة بالدين الذي عليه فلا يكون توكيلا فلا يلزمه الحضور معه
(فصل) وإذا قال رجل لآخر اضمن عن فلان أو اكفل بفلان ففعل كان الضمان والكفالة
لازمين للمباشر دون الآمر لأنه كفل باختيار نفسه وإنما الامر ارشاد وحث على فعل خير فلم يلزمه به شئ
104

* (مسألة) * قال (فإن مات برئ المتكفل)
وجملته أنه إذا مات المكفول به سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شئ وبهذا قال شريح والشعبي
وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة والشافعي، وقال الحكم ومالك والليث يجب على الكفيل غرم ما عليه
وحكي ذلك عن ابن شريح لأن الكفيل وثيقة بحق فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفي من
الوثيقة كالرهن ولأنه تعذر إحضاره فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب
ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به فبرئ الكفيل كما لو برئ من الدين ولان ما التزمه
من أجله سقط عن الأصل فبرئ الفرع كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين أو أبرئ منه وفارق
ما إذا غاب فإن الحضور لم يسقط عنه ويفارق الرهن فإنه علق به المال فاستوفي منه
(فصل) إذا قال الكفيل قد برئ المكفول به من الدين وسقطت الكفالة أو قال لم يكن عليه
دين حين كفلته فأنكر المكفول له فالقول قوله لأن الأصل صحة الكفالة وبقاء الدين وعليه
105

اليمين فإن نكل قضي عليه ويحتمل أن لا يستحلف فيما إذا ادعى الكفيل أنه تكفل بمن لادين
عليه لأن الكفيل مكذب لنفسه فيما ادعاه فإن من كفل بشخص معترف بدينه في الظاهر والأول
أولى لأن ما ادعاه محتمل
(فصل) وإذا قال المكفول له للكفيل أبرأتك من الكفالة برئ لأنه حقه فيسقط باسقاطه
كالدين وإن قال قد برئت إلي منه أو قد رددته إلي برئ أيضا لأنه معترف بوفاء الحق فهو كما لو
اعترف بذلك في الضمان وكذلك إذا قال برئت من الدين الذي كفلت به، ويبرأ الكفيل في هذه
المواضع دون المكفول به ولا يكون اقرارا بقبض الحق وهذا قول محمد بن الحسن، وقيل يكون اقرارا بقبض
الحق فيما إذا قال برئت من الدين الذي كفلت به، والأول أصح لأنه يمكن براءته بدون قبض الحق
بابراء المستحق أو موت المكفول به، فأما ان قال للمكفول به أبرأتك عما لي قبلك من الحق أو برئت
106

من الدين الذي قبلك فإنه يبرأ من الحق وتزول الكفالة لأنه لفظ يقتضي العموم في كل ما قبله وان قال
برئت من الدين الذي كفل به فلان برئ وبرئ كفيله
(فصل) وإذا كان لذمي على ذمي خمر فكفل به ذمي آخر ثم أسلم المكفول له أو المكفول عنه
برئ الكفيل والمكفول عنه وقال أبو حنيفة إذا أسلم المكفول عنه لم يبرأ واحد منهما ويلزمهما قيمة
الخمر لأنه كان واجبا ولم يوجد اسقاط ولا استيفاء ولا وجد من المكفول له ما يسقط حقه فبقي بحاله
ولنا أن المكفول به مسلم فلم يجب عليه الخمر كما لو كان مسلما قبل الكفالة وإذا برئ المكفول به
برئ كفيله كما لو أدى الدين أو أبرأه منه ولأنه لو أسلم المكفول له برئا جميعا وكذلك إذا أسلم
المكفول به وان أسلم الكفيل وحده برئ من الكفالة لأنه لا يجوز وجوب الخمر عليه وهو مسلم
(فصل) فإذا قال أعط فلانا ألفا ففعل لم يرجع على الآمر ولم يكن له ذلك كفالة ولا ضمانا الا
أن يقول أعطه عني وقال أبو حنيفة يرجع عليه إذا كان خليطا له لأن العادة أنه يستقرض من خليطه
107

ولنا أنه لم يقل اعطه عني فلم يلزمه الضمان كما لو لم يكن خليطا ولا يلزم إذا كان له عليه مال
فقال أعطه فلانا حيث يلزمه لأنه لا يلزمه لأجل هذا القول بل لأن عليه حقا يلزمه أداؤه
(فصل) إذا كانت السفينة في البحر وفيها متاع فخيف غرقها فألقى بعض من فيها متاعه في البحر
لتخف لم يرجع به على أحد سواء ألقاه محتسبا بالرجوع أو متبرعا لأنه أتلف مال نفسه باختياره
من غير ضمان، فإن قال له بعضهم ألق متاعك فألقاه فكذلك لأنه لا يكرهه على إلقائه ولا ضمن له، وان
قال ألقه وعلي ضمانه فألقاه فعلى القائل ضمانه ذكره أبو بكر لأن ضمان ما لم يجب صحيح وإن قال ألقه
وأنا وركبان السفينة ضمناء له ففعل فقال أبو بكر يضمنه القائل وحده الا أن يتطوع بقيتهم قال
القاضي إن كان ضمان اشتراك فليس عليه الا ضمان حصته لأنه لم يضمن الجميع إنما ضمن حصته وأخبر
عن سائر ركبان السفينة بضمان سائره فلزمته حصته ولم يقبل قوله في حق الباقين، وإن كان ضمان
اشتراك وانفراد بان يقول كل واحد منا ضامن لك متاعك أو قيمته لزم القائل ضمان الجميع وسواء
قال هذا والباقون يسمعون فسكتوا أو قالوا لا نفعل أو لم يسمعوا لأن سكوتهم لا يلزمهم به حق
(فصل) قال مهنا: سألت أحمد عن رجل له على رجل ألف درهم فأقام بها كفيلين كل واحد
منهما كفيل ضامن فأيهما شاء أخذه بحقه فأحال رب المال عليه رجلا بحقه فقال يبرأ الكفيلان قلت
فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئا قال لا شئ له ويذهب الألف
108

كتاب الشركة
الشركة هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف وهي ثابتة بالكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فقول الله تعالى (فهم شركاء في الثلث) وقال الله تعالى (وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم
على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) والخلطاء هم الشركاء ومن السنة ما روي أن البراء بن
عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة؟؟؟ فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما
ان ما كان بنقد فأجيزوه وما كان نسيئة فردوه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يقول الله
أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما) رواه أبو داود
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا) وأجمع المسلمون على
جواز الشركة في الجملة وإنما اختلفوا في أنواع منها بينها إن شاء الله تعالى، والشركة على ضربين شركة
املاك وشركة عقود وهذا الباب لشركة العقود وهي أنواع خمسة شركة العنان، والأبدان، والوجوه
والمضاربة، والمفاوضة، ولا يصح شئ منها إلا من جائز التصرف لأنه عقد على التصرف في المال فلم يصح
من غير جائز التصرف في المال كالبيع
(فصل) قال احمد يشارك اليهودي والنصراني ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه
109

ويكون هو الذي يليه لأنه يعمل بالربا وبهذا قال الحسن والثوري، وكره الشافعي مشاركتهم مطلقا لأنه
روي عن عبد الله بن عباس أنه قال أكره أن يشارك المسلم اليهودي ولا يعرف له مخالف في الصحابة
ولان مال اليهودي والنصراني ليس بطيب فإنهم يبيعون الخمر ويتعاملون بالربا فكرهت معاملتهم
ولنا ما روى الخلال باسناده عن عطاء قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي
والنصراني إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم ولان العلة في كراهة ما خلوا به معاملتهم بالربا وبيع
الخمر والخنزير وهذا منتف فيما حضره المسلم أو وليه وقول ابن عباس محمول على هذا فإنه علل بكونهم
يربون كذلك رواه الأثرم عن أبي حمزة عن ابن عباس أنه قال: لا تشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا
مجوسيا لأنهم يربون وان الربا لا يحل وهو قول واحد من الصحابة لم يثبت انتشاره بينهم وهم لا يحتجون
به وقولهم ان أموالهم غير طيبة لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاملهم ورهن درعه عند يهودي
على شعير أخذه لأهله وأرسل إلى آخر يطلب منه ثوبين إلى الميسرة وأضافه يهودي بخبز وإهالة
سنخة ولا يأكل النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بطيب وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم
فثمنه حلال لاعتقادهم حله ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولو هم بيعها وخذوا أثمانها فاما
ما يشتريه أو يبيعه من الخمر بمال الشركة أو المضاربة فإنه يقع فاسدا وعليه الضمان لأن عقد الوكيل يقع
للموكل والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير فأشبه ما لو اشترى به ميتة أو عامل بالربا وما خفي أمره
110

فلم يعلم فالأصل اباحته وحله، فاما المجوسي فإن احمد كره مشاركته ومعاملته قال ما أحب مخالطته ومعاملته
لأنه يستحل مالا يستحل هذا، قال حنبل قال عمي لا تشاركه ولا تضاربه وهذا والله أعلم على سبيل
الاستحباب لترك معاملته والكراهة لمشاركته وإن فعل صح لأن تصرفه صحيح
* (مسألة) * قال (وشركة الأبدان جائزة)
معنى شركة الأبدان أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع يشتركون على أن
يعملوا في صناعاتهم فما رزق الله تعالى فهو بينهم فإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح كالحطب والحشيش
والثمار المأخوذة من الجبال والمعادن والتلصص على دار الحرب فهذا جائز نص عليه احمد في رواية
أبى طالب فقال: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وليس لهم مال مثل الصيادين والنقالين والحمالين
قد أشرك النبي صلى الله عليه وسلم بين عمار وسعد وابن مسعود فجاء سعد بأسيرين ولم يجيئا بشئ، وفسر
احمد صفة الشركة في الغنيمة فقال يشتركان فيما يصيبان من سلب المقتول لأن القاتل يختص به دون
الغانمين وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة يصح في الصناعة ولا يصح في اكتساب المباح كالاحتشاش
والاغتنام لأن الشركة مقتضاها الوكالة ولا تصح الوكالة في هذه الأشياء لأن من أخذها ملكها وقال
الشافعي شركة الأبدان كلها فاسدة لأنها شركة على غير مال فلم تصح كما لو اختلفت الصناعات
111

ولنا ما روى أبو داود والأثرم باسنادهما عن أبي عبيدة بن عبد الله قال: اشتركنا أنا وسعد وعمار
يوم بدر فلم أجئ أنا وعمار بشئ وجاء سعد بأسيرين، ومثل هذا لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقد أقرهم عليه وقال احمد أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قيل فالمغانم مشتركة بين الغانمين
بحكم الله تعالى فكيف يصح اختصاص هؤلاء بالشركة فيها وقال بعض الشافعية غنائم بدر كانت
الرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له أن يدفعها إلى من شاء فيحتمل أن يكون فعل ذلك لهذا؟
قلنا أما الأول فالجواب عنه ان غنائم بدر كانت لمن أخذها من قبل أن يشرك الله تعالى
بينهم ولهذا نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أخذ شيئا فهو له) فكان ذلك من
قبيل المباحات من سبق إلى أخذ شئ فهو له ويجوز أن يكون شرك بينهم فيما يصيبونه من
الأسلاب والنفل الا أن الأول أصح لقوله جاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشئ وأما الثاني فإن
الله تعالى إنما جعل الغنيمة لنبيه عليه السلام بعد أن غنموا واختلفوا في الغنائم فأنزل الله تعالى (يسئلونك
عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) والشركة كانت قبل ذلك، ويدل على صحة هذا أنها لو كانت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخل إما أن يكون قد أباحهم أخذها فصارت كالمباحات أو لم يبحها لهم فكيف
يشتركون في شئ لغيرهم؟ وفي هذا الخبر حجة على أبي حنيفة أيضا لأنهم اشتركوا في مباح وفيما ليس
بصناعة وهو يمنع ذلك ولان العمل أحد جهتي المضاربة فصحت الشركة عليه كالمال، وعلى أبي حنيفة
112

أنهما اشتركا في مكسب مباح فصح كما لو اشتركا في الخياطة والقصارة ولا نسلم ان الوكالة لا تصح في المباحات فإنه
يصح أن يستنيب في تحصيلها بأجرة فكذلك يصح بغير عوض إذا تبرع أحدهما بذلك كالتوكيل في بيع ماله
(فصل) وتصح شركة الأبدان مع اتفاق الصنائع فأما مع اختلافها فقال أبو الخطاب لا تصح
وهو قول مالك لأن مقتضاها أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمه ويلزم صاحبه ويطالب به كل
واحد منهما فإذا تقبل أحدهما شيئا مع اختلاف صنائعهما لم يمكن الآخر أن يقوم به فكيف يلزمه
عمله؟ أم كيف يطالب بما لا قدرة له عليه؟ وقال القاضي تصح الشركة لأنهما اشتركا في مكسب مباح فصح
كما لو اتفقت الصنائع ولان الصنائع المتفقة قد يكون أحد الرجلين أحذق فيها من الاخر فربما يتقبل
أحدهما ما لا يمكن الاخر عمله ولم يمنع ذلك صحتها فكذلك إذا اختلفت الصناعتان، وقولهم يلزم كل واحد
منهما ما يتقبله صاحبه قال القاضي يحتمل أن لا يلزمه ذلك لأنهما كالوكيلين بدليل صحتهما في المباح ولا
ضمان فيها وان قلنا يلزمه أمكنه تحصيل ذلك بالأجرة أو بمن يتبرع له بعمله، ويدل على صحة هذا أنه لو
قال أحدهما أنا أتقبل وأنت تعمل صحت الشركة وعمل كل واحد منهما غير عمل صاحبه
(فصل) وإذا قال أحدهما انا أتقبل وأنت تعمل والأجرة بيني وبينك صحت الشركة وقال زفر
لا تصح ولا يستحق العامل المسمى وإنما له أجرة المثل
113

ولنا ان الضمان يستحق به الربح بدليل شركة الأبدان وتقبل العمل يوجب الضمان على المتقبل
ويستحق به الربح فصار كتقبله المال في المضاربة والعمل يستحق به العامل الربح كعمل المضارب
فينزل منزلة المضاربة
(فصل) والربح في شركة الأبدان على ما اتفقوا عليه من مساواة أو تفاضل لأن العمل يستحق
به الربح ويجوز تفاضلهما في العمل فجاز تفاضلهما في الربح الحاصل به، ولكل واحد منهما المطالبة
بالأجرة، وللمستأجر دفعها إلى كل واحد منهما وإلى أيهما دفعها برئ منها وان تلفت في يد أحدهما
من غير تفريط فهي من ضمانهما معا لأنهما كالوكيلين في المطالبة، وما يتقبله كل واحد منهما من الأعمال
فهو من ضمانهما يطالب به كل واحد منهما ويلزمه عمله لأن هذه الشركة لا تنعقد إلا على الضمان ولا شئ
فيها تنعقد عليه الشركة حال الضمان فكأن الشركة تضمنت ضمان كل واحد منهما عن الآخر ما يلزمه
وقال القاضي يحتمل ان لا يلزم أحدهما ما لزم الاخر لما ذكرنا من قبل، وما يتلف بتعدي أحدهما أو تفريطه
أو تحت يده على وجه يوجب الضمان عليه فذلك عليه وحده، وإن أقر أحدهما بما في يده قبل عليه وعلى
شريكه لأن اليد له فيقبل إقراره بما فيها ولا يقبل إقراره بما في يد شريكه ولا بدين عليه لأنه لابد له على ذلك
(فصل) وان عمل أحدهما دون صاحبه فالكسب بينهما قال ابن عقيل نص عليه احمد في رواية
إسحاق بن هانئ وقد سئل عن الرجلين يشركان في عمل الأبدان فيأتي أحدهما بشئ ولا يأتي الاخر
114

بشئ قال نعم هذا بمنزلة حديث سعد وابن مسعود يعنى حيث اشتركوا فجاء سعد بأسيرين واخفق
الآخران ولان العمل مضمون عليهما معا وبضمانهما له وجبت الأجرة فيكون لهما كما كان الضمان عليهما
ويكون العامل عونا لصاحبه في حصته ولا يمنع ذلك استحقاقه كمن استأجر رجلا ليقصر له ثوبا فاستعان
القصار بانسان فقصر معه كانت الأجرة للقصار المستأجر كذا ههنا وسواء ترك العمل لمرض أو غيره
فإن طالب أحدهما الآخران يعمل معه أو يقيم مقامه من يعمل فله ذلك فإن امتنع فللاخر الفسخ،
ويحتمل انه متى ترك العمل من غير عذر ان لا يشارك صاحبه في اجرة ما عمله دونه لأنه إنما شاركه
ليعملا جميعا فإذا ترك أحدهما العمل فما وفى بما شرط على نفسه فلم يستحق ما جعل له في مقابلته وإنما
احتمل ذلك فيما إذا ترك أحدهما العمل لعذر لأنه لا يمكن التحرز منه
(فصل) فإن اشترك رجلان لكل واحد منهما دابة على أن يؤجراهما فما رزقهما الله من شئ
فهو بينهما صح فإذا تقبلا حمل شئ معلوم إلى مكان معلوم في ذمتهما ثم حملاه على البهيمين
أو غيرهما صح والأجرة بينهما على ما شرطاه لأن تقبلهما الحمل أثبت الضمان في ذمتهما ولهما
ان يحملا بأي ظهر كان والشركة تنعقد على الضمان كشركة الوجوه، وإن أجراهما بأعيانهما
على حمل شئ بأجرة معلومة لم تصح الشركة وكل واحد منهما اجر دابته لأنه لم يجد ضمان
الحمل في ذممهما وإنما استحق المشتري منفعة البهيمة التي استأجرها ولهذا تنفسخ الإجارة بموت الدابة
115

التي اكتراها ولان الشركة اما أن تنعقد على الضمان في ذممهما أو على عملهما وليس هذا بواحد منهما فإنه
لم يثبت في ذممهما ضمان ولا عملا بأبدانهما ما يجب الاجر في مقابلته، ولان الشركة تتضمن الوكالة والوكالة
على هذا الوجه لا تصح، ولهذا لو قال اجر عبدك وتكون اجرته بيني وبينك لم تصح كما لو قال بع
عبدك وثمنه بيننا لم يصح ويحتمل ان تصح الشركة كما لو اشتركا فيما يكتسبان من المباح بأبدانهما فإن أعان
أحدهما صاحبه في التحميل والنقل كان له اجر مثله لأنها منافع وفاها بشبهة عقد
(فصل) فإن كان لقصار أداة ولآخر بيت فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب
بينهما جاز والأجرة على ما شرطاه لأن الشركة وقعت على عملهما والعمل يستحق به الربح في الشركة
والآلة والبيت لا يستحق بهما شئ لأنهما يستعملان في العمل المشترك فصارا كالدابتين اللتين أجراهما
لحمل الشئ الذي تقبلا حمله، وان فسدت الشركة قسم ما حصل لهما قدر أجر عملهما واجر الدار والآلة
وان كانت لأحدهما آلة وليس للآخر شئ أو لأحدهما بيت؟؟ وليس للآخر شئ فاتفقا على أن يعملا
بالآلة أو في البيت والأجرة بينهما جاز لما ذكرنا
(فصل) وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو
كيفما شرطا صح نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن أبي حرب وأحمد بن سعيد ونقل
عن الأوزاعي ما يدل على هذا، وكره ذلك الحسن والنخعي وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب
116

الرأي لا يصح والربح كله لرب الدابة لأن الحمل الذي يستحق به العوض منها وللعامل أجر مثله لأن
هذا ليس من أقسام الشركة إلا أن تكون المضاربة ولا تصح المضاربة بالعروض ولان المضاربة تكون
بالتجارة في الأعيان وهذه لا يجوز بيعها ولا إخراجها عن ملك مالكها، وقال القاضي يتخرج ان
لا يصح بناء على أن المضاربة بالعروض لا تصح، فعلى هذا إن كان اجر الدابة بعينها فالاجر لمالكها وان
تقبل حمل شئ فحمله عليها أو حمل عليها شيئا مباحا فباعه فالأجرة والثمن له وعليه اجرة مثلها لمالكها
ولنا انها عين تنمي بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير وكالشجر
في المساقاة والأرض في المزارعة وقولهم إنه ليس أقسام الشركة ولا هو مضاربة قلنا: نعم لكنه
يشبه المساقاة والمزارعة فإنه دفع لعين المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها وبهذا يتبين أن
تخريجها على المضاربة بالعروض فاسد فإن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرف في رقبة المال وهذا
بخلافه، وذكر القاضي في موضع آخر فيمن استأجر دابة ليعمل عليها بنصف ما يرزقه الله تعالى أو ثلثه
جاز، ولا أرى لهذا وجها فإن الإجارة يشترط لصحتها العلم بالعوض وتقدير المدة أو العمل ولم يوجد
ولان هذا عقد غير منصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص فهو كسائر العقود الفاسدة إلا أن يريد
117

بالإجارة المعاملة على الوجه الذي تقدم وقد أشار احمد إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة فقال:
لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر
وهذا يدل على أنه قد صار في هذا ومثله إلى الجواز لشبهه بالمساقاة والمزارعة لا إلى المضاربة ولا إلى
الإجارة ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به
بأس قال إسحاق بن إبراهيم قال أبو عبد الله إذا كان على النصف والربع فهو جائز وبه قال الأوزاعي
ونقل أحمد بن سعيد عن أحمد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكسب عليه ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز، والوجه
فيه ما ذكرناه في مسألة الدابة، وان دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها وله نصف ربحها بحق عمله
جاز نص عليه في رواية حرب، وان دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه جاز نص عليه
ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشافعي شيئا من ذلك لأنه عوض مجهول وعمل مجهول وقد ذكرنا وجه
جوازه، وان جعل له مع ذلك دراهم معلومة لم يجز نص عليه، وعنه الجواز، والصحيح الأول، وقال أبو بكر
هذا قول قديم وما روي غير هذا فعليه المعتمد، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يقول لا بأس بالثوب يدفع
بالثلث والربع وسئل عن الرجل يعطي الثوب بالثلث ودرهم ودرهمين قال أكرهه لأن هذا شئ
لا يعرف والثلث إذا لم يكن معه شئ نراه جائزا لحديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر
على الشطر قيل لا بي عبد الله فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهما قال فليجعل له ثلثا
118

وعشرا ثلثا ونصف عشر وما أشبهه، وروى الأثرم عن ابن سيرين والنخعي والزهري وأيوب ويعلي بن
حكيم انهم أجازوا ذلك، وقال ابن المنذر كره هذا كله الحسن، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي هذا كله
فاسد واختاره ابن المنذر وابن عقيل وقالوا لو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين
فالصيد كله للصياد ولصاحب الشبكة أجر مثلها، وقياس ما نقل عن أحمد صحة الشركة وما رزق بينهما على
ما شرطاه لأنها عين تنمي بالعمل فيها فصح دفعها ببعض بمائها كالأرض
(فصل) قال ابن عقيل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان وهو أن يعطي الطحان أقفزة
معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها، وعلة المنع أنه جعل له بعض معموله أجرا لعمله فيصير الطحن مستحقا
له عليه وهذا الحديث لا نعرفه ولا يثبت عندنا صحته وقياس قول أحمد جوازه لما ذكرناه عنه من المسائل
(فصل) فإن كان لرجل دابة ولآخر أكاف وجوالقات فاشتركا على أن يؤجراهما والأجرة بينهما
نصفان فهو فاسد لأن هذه أعيان لا يصح الاشتراك فيها كذلك في منافعها إذ تقديره أجر دابتك
لتكون أجرتها بيننا وأؤجر جوالقاني لتكون أجرتها بيننا، وتكون الأجرة كلها لصاحب البهيمة لأنه مالك
الأصل وللآخر أجر مثله على صاحب البهيمة لأنه استوفى منافع ملكه بعقد، وهذا إذا أجرا الدابة بما
عليها من الأكاف والجوالقات في عقد واحد فأما لو أجر كل واحد منهما ملكه منفردا فلكل واحد
منهما أجر ملكه وهكذا لو قال رجل لصاحبه اجر عبدي والاجر بيننا كان الاجر لصاحبه وللآخر
أجر مثله وكذلك في جميع الأعيان
119

(فصل) فإن اشترك ثلاثة من أحدهم دابة ومن آخر راوية ومن الآخر العمل على أن ما رزق
الله تعالى فهو بينهم صح في قياس قول أحمد فإنه قد نص في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها على أن لهما
الأجرة على الصحة وهذا مثله لأنه دفع دابته إلى آخر يعمل عليها والراوية عين تنمي بالعمل عليها فهي كالبهيمة
فعلى هذا يكون ما رزق الله بينهم على ما اتفقوا عليه وهذا قول الشافعي ولأنهما وكلا العامل في كسب
مباح بآلة دفعاها إليه فأشبه ما لو دفع إليه أرضه ليزرعها، وهكذا لو اشترك أربعة من أحدهم دكان ومن
آخر رحى ومن آخر بغل ومن آخر العمل على أن يطحنوا بذلك فما رزق الله تعالى فهو بينهم صح
وكان بينهم على ما شرطوه وقال القاضي العقد فاسد في المسئلتين جميعا وهو ظاهر قول الشافعي لأن
هذا لا يجوز أن يكون مشاركة ولا مضاربة لكونهما لا يجوز أن يكون رأس مالهما العروض ولان من
شرطهما عود رأس المال سليما بمعنى أنه لا يستحق شئ من الربح حتى يستوفى رأس المال بكماله
والراوية ههنا تخلق وتنقص، ولا إجارة لأنها تفتقر إلى مدة معلومة وأجر معلوم فتكون فاسدة، فعلى
هذا يكون الاجر كله في المسألة الأولى للسقاء لأنه لما غرف الماء في الاناء ملكه فإذا باعه فثمنه له
لأنه عوض ملكه وعليه لصاحبيه اجر المثل لأنه استعمل ملكهما بعوض لم يسلم لهما فكان لهما أجر المثل
كسائر الإجارات الفاسدة، وأما في المسألة الثانية فإنهم إذا طحنوا لرجل طعاما بأجرة نظرت في عقد
120

الإجارة فإن كان من واحد منهم ولم يذكر أصحابه ولا نواهم فالاجر كله له وعليه لأصحابه أجر المثل
وان نوى أصحابه أو ذكرهم كان كما لو عقد مع كل واحد منهم منفردا أو استأجر من جميعهم فقال
استأجرتكم لتطحنوا لي هذا الطعام بكذا فالاجر بينهم أرباعا لأن كل واحد منهم قد لزمه طحن ربعه
بربع الاجر ويرجع كل واحد منهم على أصحابه بربع أجر مثله، وان قال استأجرت هذا الدكان والبغل
والرحى وهذا الرجل بكذا وكذا لطحن كذ وكذا من الطعام صح والاجر بينهم على قدر أجر مثلهم
لكل واحد من المسمى بقدر حصته في أحد الوجهين وفي الآخر يكون بينهم أرباعا بناء على ما إذا تزوج
أربعا بمهر واحد أو كاتب أربعة اعبد بعوض واحد هل يكون العوض أرباعا أو على قدر قيمتهم؟ على وجهين
* (مسألة) * قال (وان اشترك بدنان بمال أحدهما أو بدنان بمال غيرهما أو بدن ومال
أو مالان وبدن صاحب أحدهما أو بدنان بماليهما تساوى المال أو اختلف فكل ذلك جائز)
ذكر أصحابنا الشركة الجائزة أربعا وقد ذكرنا نوعا منها وهو شركة الأبدان، وبقي ثلاثة أنواع
ذكرها الخرقي في خمسة أقسام (ثلاثة منها المضاربة) وهي إذا اشترك بدنان بمال أحدهما أو بدن ومال
121

أو مالان وبدن صاحب أحدهما (وقسم منها شركة الوجوه) وهو إذا اشترك بدنان بمال غيرهما فقال القاضي
معنى هذا القسم ان يدفع واحد ماله إلى اثنين مضاربة فيكون المضاربان شريكين في الربح بمال غيرهما لأنهما إذا
اخذا المال بجاههما فلا يكونان مشتركين بمال غيرهما وهذا محتمل والذي قلنا له وجه لكونهما اشتركا فيما يأخذان
من مال غيرهما واخترنا هذا التفسير لأن كلام الخرقي بهذا التقدير يكون جامعا لأنواع الشركة الصحيحة وعلى
تفسير القاضي يكون مخلا بنوع منها وهي شركة الوجوه ويكون هذا المذكور نوعا من المضاربة، ولان الخرقي
ذكر الشركة بين اثنين وهو صحيح على تفسيرنا، وعلى تفسير القاضي تكون الشركة بين ثلاثة وهو خلاف
ظاهر قول الخرقي (والقسم الخامس) إذا اشترك بدنان بماليهما وهذه شركة العنان وهي شركة متفق عليها
فأما شركة الوجوه فهو ان يشترك اثنان فيما يشتريان بجاههما وثقه التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال،
على أن ما اشتريا بينهما نصفين أو أثلاثا أو أرباعا أو نحو ذلك ويبيعان ذلك فما قسم الله تعالى فهو بينهما فهي
جائزة سواء عين أحدهما لصحابه ما يشتريه أو قدره أو وقته أو ذكر صنف المال أو لم يعين شيئا من ذلك بل قال ما
اشتريت من شئ فهو بيننا، قال احمد في رواية ابن منصور في رجلين اشتركا بغير رؤوس أموالهما
على أن ما يشتريه كل واحد منهما بينهما فهو جائز وبهذا قال الثوري ومحمد بن الحسين وابن المنذر، وقال
أبو حنيفة لا يصح حتى يذكر الوقت أو المال أو صنفا من الثياب وقال مالك والشافعي يشترط ذكر
شرائط الوكالة لأن شرائط الوكالة معتبرة في ذلك من تعين الجنس وغيره من شرائط الوكالة
122

ولنا أنهما اشتركا في الابتياع وإذا كل واحد منهما للآخر فيه فصح وكان ما يتبايعانه بينهما كما لو
ذكر شرائط الوكالة، وقولهم ان الوكالة لا تصح حتى يذكر قدر الثمن والنوع ممنوع على رواية لنا وان
سلمنا ذلك فإنما يعتبر في الوكالة المفردة أما الوكالة الداخلية في ضمن الشركة فلا يعتبر فيها ذلك
بدليل المضاربة وشركة العنان فإن في ضمنها توكيلا ولا يعتبر فيها شئ من هذا كذا ههنا، فعلى هذا
إذا قال لرجل ما اشتريت اليوم من شئ فهو بيني وبينك نصفان أو اطلق الوقت فقال نعم أو قال
ما اشتريت انا من شئ فهو بيني وبينك نصفان جاز وكانت شركة صحيحة لأنه أذن له في التجارة على أن
يكون المبيع بينهما وهذا معنى الشركة، ويكون توكيلا له في شراء نصف المتاع بنصف الثمن فيستحق
الربح في مقابلة ملكه الحاصل في المبيع سواء خص ذلك بنوع من المتاع أو أطلق، وكذلك إذا قالا
ما اشتريناه أو ما اشتراه أحدنا من تجارة فهو بيننا فهو شركة صحيحة، وهما في تصرفاتهما وما يجب
لهما وعليهما وفي اقرارهما وخصومتهما وغير ذلك بمنزلة شريكي العنان على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
وأيهما عزل صاحبه عن التصرف انعزل لأنه وكيله، وسميت هذه شركة الوجوه لأنهما يشتركان فيما يشتريان
بجاههما والجاه والوجه واحد يقال فلان وجيه إذا كان ذا جاه قال الله تعالى في موسى عليه اللام (وكان
عند الله وجيها) وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام قال يا رب إن كان قد خلق جاهى عندك فأسئلك بحق
النبي الأمي الذي تبعثه في آخر الزمان فأوحى الله تعالى إليه: ما خلق جاهك عندي وانك عندي لوجيه.
123

(فصل) القسم الثاني ان يشترك بدنان بماليهما وهذا النوع الثالث من أنواع الشرك وهي شركة
العنان، ومعناها أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما وهي جائزة بالاجماع
ذكره ابن المنذر، وإنما اختلف في بعض شروطها واختلف في علة تسميتها شركة العنان فقيل سميت
بذلك لأنهما يتساويان في المال والتصرف كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما وتساويا في السير فإن عنانيهما
يكونان سواء، وقال الفراء هي مشتقة من عن الشئ إذا عرض يقال عنت لي حاجة إذا عرضت فسميت
الشركة بذلك لأن كل واحد منهما عن له ان يشارك صاحبه، وقيل هي مشتقة من المعانئه وهي المعارضة
يقال عاننت فلانا إذا عارضته بمثل ماله وافعاله فكل واحد من الشريكين معارض لصاحبه بماله وفعاله
وهذا يرجع إلى قول الفراء
(فصل) ولا خلاف في أنه يجوز جعل رأس المال الدراهم والدنانير فإنها قيم الأموال وأثمان البياعات
والناس يشتركون بها من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمننا من غير نكير، فاما العروض فلا تجوز الشركة فيها
في ظاهر المذهب نص عليه أحمد في رواية أبى طالب وحرب وحكاه عنه ابن المنذر، وكره ذلك ابن
سيرين ويحيى بن أبي كثير والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الشركة اما
ان تقع على أعيان العروض أو قيمتها أو أثمانها: لا يجوز وقوعها على أعيانها لأن الشركة تقتضي الرجوع
عند المفاصلة برأس المال أو بمثله وهذه لا مثل لها فيرجع إليه وقد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الآخر
124

فيستوعب بذلك جميع الربح أو جميع المال وقد تنقص قيمته فيؤدي إلى أن يشاركه الآخر في ثمن
ملكه الذي ليس بربح، ولا على قيمتها لأن القيمة غير متحققة القدر فيفضي إلى التنازع وقد يقوم
الشئ بأكثر من قيمته ولان القيمة قد تزيد في أحدهما قبل بيعه فيشاركه الاخر في العين المملوكة له،
ولا يجوز وقوعها على أثمانها لأنها معدومة حال العقد ولا يملكانها ولأنه ان أراد ثمنها الذي اشتراها
به فقد خرج عن مكانه وصار للبائع وان أراد ثمنها الذي يبيعها به فإنها تصير شركة معلقة على شرط
وهو بيع الأعيان ولا يجوز ذلك، وعن أحمد رواية أخرى ان الشركة والمضاربة تجوز بالعروض وتجعل
قيمتها وقت العقد رأس المال قال احمد إذا اشتركا في العروض يقسم الربح على ما اشترطا، وقال الأثرم
سمعت أبا عبد الله يسئل عن المضاربة بالمتاع قال جائز، فظاهر هذا صحة الشركة بها، اختار هذا أبو بكر
وأبو الخطاب وهو قول مالك وابن أبي ليلى وبه قال في المضاربة طاوس والأوزاعي وحماد بن أبي
سليمان لأن مقصود الشركة جواز تصرفهما في المالين جميعا وكون ربح المالين بينهما وهذا يحصل في
العروض كحصوله في الأثمان فيجب ان تصح الشركة والمضاربة بها كالأثمان، ويرجع كل واحد منهما عند
المفاصلة بقيمة ماله عند العقد كما أننا جعلنا نصاب زكاتها قيمتها، وقال الشافعي ان كانت العروض من ذوات
الأمثال كالحبوب والادهان جازت الشركة بها في أحد الوجهين لأنها من ذوات الأمثال اشبهت النقود
ويرجع عند المفاصلة بمثلها وان لم تكن من ذوات الأمثال لم يجز وجها واحدا لأنه يمكن الرجوع بمثلها
125

ولنا أنه نوع شركة فاستوى فيها ماله مثل من العروض ومالا مثل له كالمضاربة وقد سلم أن المضاربة
لا تجوز بشئ من العروض ولأنها ليست بنقد فلم تصح الشركة بها كالذي لا مثل له
(فصل) والحكم في النقرة كالحكم في العروض لأن قيمتها تزيد وتنقص وهي كالعروض وكذلك
الحكم في المغشوش من الأثمان قل الغش أو كثر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان الغش
أقل من النصف جاز وإن كثر لم يجز لأن الاعتبار بالغالب في كثير من الأصول
ولنا انها مغشوشة فأشبه ما لو كان الغش أكثر ولان قيمتها تزيد وتنقص أشبهت العروض وقولهم
الاعتبار بالغالب ليس بصحيح فإن الفضة إذا كانت أقل لم يسقط حكمها في الزكاة وكذلك الذهب
اللهم إلا أن يكون الغش قليلا جدا لمصلحة النقد كيسير الفضة في الدينار مثل الحبة ونحوها فلا اعتبار به
لأنه لا يمكن التحرز منه ولا يؤثر في الربا ولا في غيره
(فصل) ولا تصح الشركة بالفلوس وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم صاحب مالك
ويتخرج الجواز إذا كانت نافقة فإن احمد قال لا أرى السلم في الفلوس لأنه يشبه الصرف وهذا قول
محمد بن الحسن وأبى ثور لأنها ثمن فجازت الشركة بها كالدراهم والدنانير، ويحتمل جواز الشركة بها على
كل حال نافقة كانت أو غير نافقة بناء على جواز الشركة بالعروض، ووجه الأول أنها تنفق مرة وتكسد
أخرى فأشبهت العروض فإذا قلنا بصحة الشركة فيها فإنها إن كانت نافقة كان رأس المال مثلها وإن
كانت كاسدة كانت قيمتها كالعروض
126

(فصل) ولا يجوز أن يكون رأس مال الشركة مجهولا ولا جزافا لأنه لابد من الرجوع به عند
المفاصلة ولا يمكن مع الجهل والجزاف ولا يجوز بمال غائب ولا دين لأنه لا يمكن التصرف فيه في الحال
وهو مقصود الشركة.
(فصل) ولا يشترط لصحتها اتفاق المالين في الجنس بل يجوز أن يخرج أحدهما دراهم والآخر
دنانير نص عليه احمد وبه قال الحسن وابن سيرين وقال الشافعي لا تصح الشركة إلا أن يتفقا في مال
واحد بناء على أن خلط المالين شرط ولا يمكن إلا في المال الواحد ونحن لا نشترط ذلك، ولأنهما من جنس
الأثمان فصحت الشركة فيهما كالجنس الواحد، ومتى تفاصلا يرجع هذا بدنانيره وهذا بدراهمه ثم اقتسما
الفضل نص عليه احمد فقال يرجع هذا بدنانيره وهذا بدراهمه وقال كذا يقول محمد والحسن، وقال
القاضي إذا أرادا المفاصلة قوما المتاع بنقد البلد وقوما مال الآخر به ويكون التقويم حين صرفا الثمن فيه
ولنا أن هذه شركة صحيحة رأس المال فيها الأثمان فيكون الرجوع بجنس رأس المال كما لو كان الجنس واحدا
(فصل) ولا يشترط تساوي المالين في القدر وبه قال الحسن والشعبي والنخعي والشافعي وإسحاق
وأصحاب الرأي وقال بعض أصحاب الشافعي يشترط ذلك
ولنا أنهما مالان من جنس الأثمان فجاز عقد الشركة عليهما كما لو تساويا
127

(فصل) ولا يشترط اختلاط المالين إذا عيناهما وأحضراهما وبهذا قال أبو حنيفة ومالك إلا أن
مالكا شرط أن تكون أيديهما عليه بأن يجعلاه في حانوت لهما أو في يد وكيلهما وقال الشافعي لا يصح
حتى يخلطا المالين لأنهما إذا لم يخلطاهما فمال كل واحد منهما يتلف منه دون صاحبه أو يزيد له دون صاحبه
فلم تنعقد الشركة كما لو كان من المكيل.
ولنا أنه عقد يقصد به الربح فلم يشترط فيه خلط المال كالمضاربة ولأنه عقد على التصرف فلم يكن
من شرطه الخلط كالوكالة، وعلى مالك فلم يكن لمن شرطه أن تكون أيديهما عليه كالوكالة، وقولهم إنه
يتلف من مال صاحبه أو يزيد على ملك صاحبه ممنوع بل يتلف من مالهما وزيادته لهما لأن الشركة
اقتضت ثبوت الملك لكل واحد منهما في نصف مال صاحبه فيكون تلفه منهما وزيادته لهما وقال أبو
حنيفة متى تلف أحد المالين فهو من ضمان صاحبه
ولنا ان الوضيعة والضمان أحد موجبي الشركة فتعلق بالشريكين كالربح وكما لو اختلطا.
(فصل) ومتى وقعت الشركة فاسدة فإنهما يقتسمان الربح على قدر رأس أموالهما ويرجع كل واحد
منهما على الآخر بأجر عمله نص عليه احمد في المضاربة واختاره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي
لأن المسمى يسقط في العقد الفاسد كالبيع الفاسد إذا تلف المبيع في يد المشترى إلا أن يكون مال
كل واحد منهما مميزا وربحه معلوما فيكون له ربح ماله، ولو ربح في جزء منه ربحا متميزا وباقيه مختلط
128

كان له ما تميز من ربح ماله وله بحصته باقي ما له من الربح، واختار الشريف أبو جعفر انهما يقتسمان
الربح على ما شرطاه ولا يستحق أحدهما على الاخر أجر عمله وأجراها مجرى الصحيحة في جميع
أحكامها قال لأن احمد قال إذا اشتركا في العروض قسم الربح على ما اشترطاه واحتج بأنه عقد يصح
مع الجهالة فيثبت المسمى في فاسده كالنكاح والمذهب الأول قاله القاضي وكلام احمد محمول على الرواية
الأخرى في تصحيح المضاربة بالعروض لأن الأصل كون ربح مال كل واحد لمالكه لأنه نماؤه وإنما
ترك ذلك بالعقد الصحيح فإذا لم يكن العقد صحيحا بقي الحكم على مقتضى الأصل كما أن البيع إذا
كان فاسدا لم ينقل ملك كل واحد من المتبايعين عن ماله
(فصل) وشركة العنان مبنية على الوكالة والأمانة لأن كل واحد منهما بدفع المال إلى صاحبه امنه
وباذنه له في التصرف وكله، ومن شرط صحتها ان يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف فإن اذن
له مطلقا في جميع التجارات تصرف فيها وان عين له جنسا أو نوعا أو بلدا تصرف فيه دون غيره لأنه متصرف
بالاذن فوقف عليه كالوكيل، ويجوز لكل واحد منهما ان يبيع ويشتري مساومة ومرابحة وتولية ومواضعة
وكيف رأى المصلحة لأن هذا عادة التجار وله أن يقبض المبيع والثمن ويقبضهما يخاصم في الدين
129

ويطالب به ويحيل ويحتال ويرد بالعيب فيما وليه هو وفيما ولي صاحبه، وله أن يستأجر من رأس مال
الشركة ويؤجر لأن المنافع أجريت مجرى الأعيان فصار كالشراء والبيع، والمطالبة بالاجر لهما وعليهما
لأن حقوق العقد لا تختص العاقد.
(فصل) وليس له ان يكاتب الرقيق ولا يعتق على مال ولا غيره ولا يزوج الرقيق لأن الشركة
تنعقد على التجارة وليست هذه الأنواع تجارة سيما تزويج العبد فإنه محض ضرر، وليس له أن يفرض
ولا يحابى لأنه تبرع وليس له التبرع، وليس له أن يشارك بمال الشركة ولا يدفعه مضاربة لأن ذلك
يثبت في المال حقوقا ويستحق ربحه لغيره وليس ذلك له وليس له أن يخلط مال الشركة بماله ولا مال
غيره لأنه يتضمن ايجاب حقوق في المال وليس هو من التجارة المأذون فيها ولا يأخذ بالمال سفتجة ولا يعطي
به سفتجة لأن في ذلك خطرا لم يؤذن فيه وليس له أن يستدين على مال الشركة فإن فعل فذلك له، وله
ربحه وعليه وضيعته، قال احمد في رواية صالح فيمن استدان في المال بوجهه ألفا فهو له وربحه له والوضيعة
عليه، وقال القاضي إذا استقرض شيئا لزمهما وربحه لهما لأنه تمليك مال بمال فهو كالصرف ونص احمد
يخالف هذا ولأنه أدخل في الشركة أكثر مما رضي الشريك بالمشاركة فيه فلم يجز كما لو ضم إليها ألفا
من ماله ويفارق الصرف لأنه بيع وإبدال عين بعين فهو كبيع الثياب بالدراهم، وليس له أن يقر على
مال الشركة فإن فعل لزم في حقه دون صاحبه سواء أقر بعين أو دين لأن شريكه إنما أذن في التجارة
130

وليس الاقرار داخلا فيها، وإن أقر بعيب في عين باعها قبل إقراره، وكذلك يقبل إقرار الوكيل على موكله
بالعيب نص عليه احمد وكذلك إن أقر ببقية ثمن البيع أو بجميعه أو بأجر للمنادي أو الحمال وأشباه هذا
ينبغي أن يقبل لأن هذا من توابع التجارة فكان له ذلك كتسليم المبيع وأداء ثمنه، وإن ردت السلعة
عليه بعيب فله أن يقبلها وله أن يعطي أرش العيب أو يحط من ثمنه أو يؤخر ثمنه لا جل العيب لأن ذلك
قد يكون أحظ من الرد، وإن حط من الثمن ابتداء أو أسقط دينا لهما عن غريمهما لزم في حقه وبطل في
حق شريكه لأنه تبرع والتبرع يجوز في حق نفسه دون شريكه وإن كان لهما دين حال فأخر أحدهما
حصته من الدين جاز وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يجوز ولنا أنه أسقط حقه من المطالبة
فصح أن ينفرد أحدهما به كالابراء
(فصل) وهل لأحدهما أن يبيع نساء؟ يخرج على روايتين بناء على الوكيل والمضارب وسنذكر
ذلك، وإن اشترى نساء بنقد عنده مثله أو نقد من غير جنسه أو اشترى بشئ من ذوات الأمثال وعنده
مثله جاز لأنه إذا اشترى بجنس ما عنده فهو يؤدي مما في يديه فلا يفضي إلى الزيادة في الشركة وإن
لم يكن في يده نقد ولا مثلي من جنس ما اشترى به أو كان عنده عرض فاستدان عرضا فالشراء له خاصة
وربحه له وضمانه عليه لأنه استدانه على مال الشركة وليس له ذلك على ما أسلفناه، والأولى انه متى كان
عنده من مال الشركة ما يمكنه أداء الثمن منه ببيعه انه يجوز لأنه أمكنه أداء الثمن من مال الشركة فأشبه
ما لو كان عنده نقد ولان هذا عادة التجار ولا يمكن التحرز منه، وهل له أن يصنع أو يودع؟ على روايتين
131

(إحداهما) له ذلك لأنه عادة التجار وقد تدعوا الحاجة إلى الايداع (والثانية) لا يجوز لأنه ليس من الشركة
وفيه غرر والصحيح أن الايداع يجوز عند الحاجة إليه لأنه من ضرورة الشركة أشبه دفع المتاع إلى
الحمال، وفي التوكيل فيما يتولى مثله بنفسه وجهان بناء على الوكيل وقيل يجوز للشريك التوكيل بخلاف
الوكيل لأنه لو جاز للوكيل التوكيل لاستفاد بحكم العقد مثل العقد والشريك يستفيد بعقد الشركة ما هو
أخص منه ودونه لأن التوكيل أخص من عقد الشركة فإن وكل أحدهما ملك الآخر عزله لأن لكل
واحد منهما التصرف في حق صاحبه بالتوكيل فكذلك بالعزل، وهل لأحدهما أن يرهن بالدين الذي عليهما
أو يرهن بالدين الذي لهما؟ على وجهين (أصحهما) أن له ذلك عند الحاجة لأن الرهن يراد للايفاء والارتهان
يراد للاستيفاء وهو يملك الايفاء والاستيفاء فملك ما يراد لهما (والثاني) ليس له ذلك لأن فيه خطرا
ولافرق بين أن يكون ممن ولي العقد أو من غيره لكون القبض من حقوق العقد وحقوق العقد
لا تختص العاقد فكذلك ما يراد له، وهل له السفر بالمال؟ فيه وجهان نذكر هما في المضاربة، فاما الإقالة
فالأولى انه يملكها لأنها إن كانت بيعا فهو يملك البيع وإن كانت فسخا فهو يملك الفسخ بالرد بالعيب
إذا رأى المصلحة فيه فكذلك يملك الفسخ بالإقالة إذا كان الخط فيه فإنه قد يشتري ما يرى أنه قد
غبن فيه، ويحتمل أن لا يملكها إذا قلنا هو فسخ لأن الفسخ ليس من التجارة، وان قال له اعمل برأيك
جاز له أن يعمل كل ما يقع في التجارة من الابضاع والمضاربة بالمال والمشاركة به وخلطه بماله
132

والسفر به والايداع والبيع نساء والرهن والارتهان والإقالة ونحو ذلك لأنه فوض إليه الرأي في التصرف
الذي تقتضيه الشركة فجاز له كل ما هو من التجارة، فأما ما كان تمليكا بغير عوض كالهبة والحطيطة لغير
فائده والقرض والعتق ومكاتبة الرقيق وتزويجهم ونحوه فليس له فعله لأنه إنما فوض إليه العمل برأيه
في التجارة وليس هذا منها
(فصل) وإن أخذ أحدهما مالا مضاربة فربحه له ووضيعته عليه دون صاحبه لأنه يستحق ذلك
في مقابلة عمله وليس ذلك من المال الذي اشتركا فيه، وقد قال أصحابنا في المضاربة إذا ضارب لرجل آخر
رد ما حصل من الربح في شركة الأول إذا كان فيه ضرر على الأول فيجئ ههنا مثله
(فصل) والشركة من العقود الجائزة تبطل بموت أحد الشريكين وجنونه والحجر عليه للسفه
وبالفسخ من أحدهما لأنها عقد جائز فبطلت بذلك كالوكالة، وان عزل أحدهما صاحب انعزل المعزول
فلم يكن له أن يتصرف الا في قدر نصيبه وللعازل التصرف في الجميع لأن المعزول لم يرجع عن اذنه، هذا
إذا كان المال ناضا وإن كان عرضا فذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد أنه لا ينعزل بالعزل وله
التصرف حتى ينض المال كالمضارب إذا عزله رب المال وينبغي أن يكون له التصرف بالبيع دون المعاوضة
بسلعة أخرى أو التصرف بغير ما ينض به المال وذكر أبو الخطاب أنه يعزل مطلقا وهو مذهب الشافعي
لأنه عقد جائز فأشبه الوكالة، فعلى هذا ان اتفقا على البيع أو القسمة فعلا وان طلب أحدهما القسمة
والآخر البيع أجيب طالب القسمة دون طالب البيع، فإن قيل أليس إدا فسخ رب المال المضاربة فطلب
133

العامل البيع أجيب إليه؟ فالجواب أن حق العامل في الربح ولا يظهر الربح الا بالبيع فاستحقه
العامل لوقوف حصول حقه عليه، وفي مسئلتنا ما يحصل من الربح يستدركه كل واحد منهما في نصيبه
من المتاع فلم يجبر على البيع
(فصل) فإن مات أحد الشريكين وله وارث رشيد فله أن يقيم على الشركة ويأذن له الشريك في
التصرف وله المطالبة بالقسمة فإن كان موليا عليه قام وليه مقامه في ذلك إلا أنه لا يفعل الا ما فيه
المصلحة للمولي عليه، فإن كان الميت قد وصى بمال الشركة أو ببعضه لمعين فالموصى له كالوارث فيما
ذكرنا وان وصى به لغير معين كالفقراء لم يجز للوصي الاذن في التصرف لأنه قد وجب دفعه انبهم
فيعزل نصيبهم ويفرقه بينهم وإن كان على الميت دين تعلق بتركته فليس للوارث إمضاء الشركة حتى
يقضي دينه فإن قضاه من غير مال الشركة فله الاتمام وان قضاه منه بطلت الشركة في قدر ما قضى
(فصل) القسم الثالث أن يشترك بدن ومال وهذه المضاربة وتسمى قراضا أيضا ومعناها ان يدفع
رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشتر طانه فأهل العراق
يسمونه مضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض وهو السفر فيها للتجارة قال الله تعالى (وآخرون
يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) ويحتمل أن يكون من ضرب كل واحد منهما في الربح
134

بسهم، ويسميه أهل الحجاز القراض فقيل هو مشتق من القطع يقال قرض الفأر الثوب إذا قطعه
فكأن صاحب المال اقتطع من ماله قطعة وسلمها إلى العامل واقتطع له قطعة من الربح، وقيل اشتقاقه
من المساواة والموازنة يقال تقارض الشاعران إذا وازن كل واحد منهما الآخر بشعره وههنا من العامل
العمل ومن الاخر المال فتوازنا. وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة ذكره ابن المنذر
وروي عن حميد بن عبد الله عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في العراق
وروي مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرجا
في جيش إلى العراق فتسلفا من أبي موسى مالا وابتاعا به متاعا وقد ما به إلى المدينة فباعاه وربحا فيه
فأراه عمر أخذ رأس المال والربح؟؟ كله فقالا لو تلف كان ضمانه علينا فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل
يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا؟ قال قد جعلته واخذ منهما نصف الربح، وهذا يدل على جواز القراض
وعن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده أن عثمان قارضه وعن قتادة عن الحسن أن
عليا قال: إذا خالف المضارب فلا ضمان هما على ما شرطا وعن ابن مسعود وحكيم بن حزام أنهما
قارضا ولا مخالف لهما في الصحابة فحصل اجماعا ولان بالناس حاجة إلى المضاربة فإن الدارهم والدنانير
لا تنمي الا بالتقليب والتجارة وليس كل من يملكها يحسن التجارة ولان كل من يحسن التجارة له
رأس مال فاحتيج إليها من الجانبين فشرعها الله تعالى لدفع الحاجتين. إذا ثبت هذا فإنها تنعقد بلفظ
135

المضاربة والقراض لأنهما لفظان موضوعان لها أو بما يؤدي معناها لأن المقصود المعنى فجاز بما دل عليه
كلفظ التمليك في البيع
(فصل) وحكمها حكم شركة العنان في أن كل ما جاز للشريك عمله جاز للمضارب عمله وما منع منه
الشريك منع منه المضارب وما اختلف فيه ثم فههنا مثله وما جاز أن يكون رأس مال الشركة جاز أن
يكون رأس مال المضاربة وما لا يجوز ثم لا يجوز ههنا على ما فصلناه
(فصل) القسم الرابع ان يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما فهذا يجمع شركة ومضاربة وهو
صحيح فلو كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم لاحد هما الف وللآخر الفان فاذن صاحب الألفين لصاحب
الألف ان يتصرف فيها على أن يكون الربح بينهما نصفين صح ويكون لصاحب الألف ثلث الربح بحق
ماله والباقي وهو ثلثا الربح بينهما، لصاحب الألفين ثلاثة أرباعه وللعامل ربعه وذلك لأنه جعل له نصف
الربح فجعلناه ستة أسهم منها ثلاثة للعامل حصة ماله سهمان وسهم يستحقه بعمله في مال شريكه وحصة مال
شريكه أربعة أسهم، للعامل سهم وهو الربع، فإن قيل فكيف تجوز المضاربة ورأس المال مشاع؟ قلنا إنما تمنع
الإشاعة الجواز إذا كانت مع غير العامل لأنها تمنعه من التصرف بخلاف ما إذا كانت مع العامل فإنها
لا تمنعه من التصرف فلا تمنع من صحة المضاربة، فإن شرط للعامل ثلث الربح فقط فمال صاحبه بضاعة
في يده وليست مضاربة لأن المضاربة إنما تحصل إذا كان الربح بينهما فاما إذا قال ربح مالك لك وربح
136

مالي لي فقبل الآخر كان إبضاعا لا غير وبهذا كله قال الشافعي، وقال مالك لا يجوز ان يضم إلى
القراض شركة كما لا يجوز ان يضم إليه عقد إجارة. ولنا انهما لم يجعلا أحد العقدين شرطا للآخر فلم
نمنع من جمعهما كما لو كان المال متميزا
(فصل) إذا دفع إليه ألفا مضاربة وقال أضف إليه ألفا من عندك واتجر بها والربح بيننا لك ثلثاه
ولي ثلثه جاز وكان شركة وقراضا، وقال أصحاب الشافعي لا يصح لأن الشركة إذا وقعت على المال
كان الربح تابعا له دون العمل. ولنا أنهما تساويا في المال وانفرد أحدهما بالعمل فجاز أن ينفرد بزيادة
الربح كما لو لم يكن له مال قولهم ان الربح تابع للمال وحده ممنوع بل هو تابع لهما كما أنه حاصل بهما
فإن شرط غير العامل لنفسه ثلثي الربح لم يجز وقال القاضي يجوز بناء على جواز تفاضلهما في شركة العنان
ولنا أنه اشترط لنفسه جزءا من الربح لا مقابل له فلم يصح كما لو شرط ربح مال العامل المنفرد، وفارق
شركة العنان لأن فيها عملا منهما فجاز ان يتفاضلا في الربح لتفاضلهما في العمل بخلاف مسئلتنا وان
جعلا الربح بينهما نصفين ولم يقولا مضاربة جاز وكان ابضاعا كما تقدم وان قالا مضاربة فسد العقد
لما سنذكره انشاء الله تعالى
(فصل) القسم الخامس ان يشترك بدنان بمال أحدهما وهو أن يكون المال من أحدهما والعمل
منهما مثل ان يخرج أحدهما ألفا ويعملان فيه معا والربح بينهما فهذا جائز ونص عليه احمد في رواية أبي
137

الحارث وتكون مضاربة لأن غير صاحب المال يستحق المشروط له من الربح بعمله في مال غيره وهذا
هو حقيقة المضاربة، وقال أبو عبد الله بن حامد والقاضي وأبو الخطاب إذا شرط ان يعمل معه رب المال
لم يصح وهذا مذهب مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأبي ثور وابن المنذر، قال: ولا
تصح المضاربة حتى يسلم المال إلى العامل ويخلي بينه وبينه لأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى المضارب
فإذا شرط عليه العمل فلم يسلمه لأن يده عليه فيخالف موضوعها، وتأول القاضي كلام أحمد والخرقي على
أن رب المال عمل من غير اشتراط
ولنا أن العمل أحد ركني المضاربة فجاز أن ينفرد به أحدهما مع وجود الامرين من الآخر
كالمال وقولهم إن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى العامل ممنوع إنما تقتضي اطلاق التصرف في مال
غيره بجزء مشاع من ربحه وهذا حاصل مع اشتراكهما في العمل ولهذا لو دفع ماله إلى اثنين مضاربة
صح ولم يحصل تسليم المال إلى أحدهما
(فصل) وان شرط أن يعمل معه غلام رب المال صح وهذا ظاهر كلام الشافعي وقول أكثر
الصحابة ومنعه بعضهم وهو قول القاضي لأن يد الغلام كيد سيده وقال أبو الخطاب فيه وجهان (أحدهما)
الجواز لأن عمل الغلام مال لسيده فصح ضمه إليه كما يصح أن يضم إليه بهيمة يعمل عليها
(فصل) وأما شركة المفاوضة فنوعان (أحدهما) أن يشتركا في جميع أنواع الشركة مثل أن يجمعا
138

بين شركة العنان والوجوه والأبدان فيصح ذلك لأن كل نوع منها يصح على انفراده فصح مع
غيره (والثاني) أن يدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من
ميراث أو يجده من ركاز أو لقطة ويلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر من أرش جناية وضمان غصب
وقيمة متلف وغرامة الضمان أو كفالة فهذا فاسد وبهذا قال الشافعي، وأجازه الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة
وحكى ذلك عن مالك، وشرط أبو حنيفة لها شروطا وهي أن يكونا حرين مسلمين وأن يكون
مالهما في الشركة سواء وأن يخرجا جميع ما يملكانه من جنس الشركة وهو الدراهم والدنانير. واحتجوا
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة) ولأنها نوع شركة يختص
باسم فكان فيها صحيح كشركة العنان
ولنا انه عقد لا يصح بين الكافرين ولا بين كافر ومسلم فلم يصح بين المسلمين كسائر العقود
الفاسدة ولأنه عقد لم يرد الشرع بمثله فلم يصح كما ذكرنا ولان فيه غررا فلم يصح كبيع الغرر، وبيان
غرره أنه يلزم كل واحد ما لزم الآخر وقد يلزمه شئ لا يقدر على القيام به وقد أدخلا فيه الأكساب
النادرة، والخبر لا نعرفه ولا رواه أصحاب السنن ثم ليس فيه ما يدل على أنه أراد هذا العقد فيحتمل
أنه أراد المفاوضة في الحديث ولهذا روي فيه (ولا تجادلوا فإن المجادلة من الشيطان) وأما القياس فلا يصح
فإن اختصاصها باسم لا يقتضى الصحة كبيع المنابذة والملامسة وسائر البيوع الفاسدة وشركة العنان تصح
من الكافرين والكافر والمسلم بخلاف هذا.
139

(مسألة) قال (والربح على ما اصطلحا عليه)
يعني في جميع اقسام الشركة ولا خلاف في ذلك في المضاربة المحضة قال ابن المنذر أجمع أهل
العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك
معلوما جزءا من أجزاء ولان استحقاق المضارب الربح بعمله فجاز ما يتفقان عليه من قليل وكثير
كالأجرة في الإجارة وكالجزء من الثمرة في المساقاة والمزارعة، واما شركة العنان وهو أن يشترك
بدنان بماليهما فيجوز أن يجعلا الربح على قدر المالين ويجوز أن يتساويا مع تفاضلهما في المال وان يتفاضلا
فيه مع تساويهما في المال وبهذا قال أبو حنيفة، وقال مالك والشافعي من شرط صحتها كون الربح والخسران
على قدر المالين لأن الربح في هذه الشركة تبع للمال بدليل انه يصح عقد الشركة واطلاق الربح
فلا يجوز تغييره بالشرط كالوضيعة
ولنا أن العمل مما يستحق به الربح فجاز أن يتفاضلا في الربح مع وجود العمل منهما كالمضاربين
لرجل واحد وذلك لأن أحدهما قد يكون أبصر بالتجارة من الآخر وأقوى على العمل فجاز له أن
يشترط زيادة في الربح في مقابلة عمله كما يشترط الربح في مقابلة عمل المضارب، يحققه أن هذه الشركة
معقودة على المال والعمل جميعا ولكل واحد منهما حصة من الربح إذا كان مفردا فكذلك إذا اجتمعا
وأما حالة الاطلاق فإنه لما لم يمكن بينهما شرط يقسم الربح عليه ويتقدر به قدرناه بالمال لعدم الشرط
فإذا وجد الشرط فهو الأصل فيصير إليه كالمضاربة يصار إلى الشرط فإذا عدم وقال الربح بيننا كان
بينهما نصفين، وفارق الوضيعة فإنها لا تتعلق إلا بالمال بدليل المضاربة، واما شركة الأبدان فهي
معقودة على العمل المجرد وهما يتفاضلان فيه مرة ويتساويان أخرى
140

فجاز ما اتفقا عليه من مساواة أو تفاضل كما ذكرنا في شركة العنان بل هذه أولى لانعقادها على العمل
المجرد، واما شركة الوجوه فكلام الخرقي بعمومه يقتضي جواز ما يتفقان عليه من مساواة أو تفاضل
وهو قياس المذهب لأن سائر الشركات الربح فيها على ما يتفقان عليه فكذلك هذه ولأنها تنعقد على العمل
وغيره فجاز ما اتفقا عليه كشركة العنان، وقال القاضي الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى لأن
الربح يستحق بالضمان إذ الشركة وقعت عليه خاصة إذ لا مال عندهما فيشتركان على العمل والضمان
لا تفاضل فيه فلا يجوز التفاضل في الربح.
ولنا أنها شركة فيها عمل فجاز ما اتفقا عليه في الربح كسائر الشركات وقول القاضي لا مال لهما
يعملان فيه قلنا إنما يشتركان ليعملا في المستقبل فيما يتخذانه بجاههما كما أن سائر الشركات إنما يكون
العمل فيها فيما يأتي فكذا ههنا، وأما المضاربة التي فيها شركة وهي أن يشترك مالان وبدن صاحب
أحدهما مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفا ويأذن أحدهما للآخر في التجارة بهما فمهما شرطا للعامل
من الربح إذا زاد على النصف جاز لأنه مضارب لصاحبه في الف ولعامل المضاربة ما اتفقا عليه
بغير خلاف، وان شرطا له دون نصف الربح لم يجز لأن الربح يستحق بمال وعمل وهذا الجزء الزائد
على النصف المشروط لغير العامل لا مقابل له فبطل شرطه، وان جعلا الربح بينهما نصفين فليس هذا
141

شركة ولا مضاربة لأن شركة العنان تقتضي أن يشتركا في المال والعمل، والمضاربة تقتضي أن للعامل
نصيبا من الربح في مقابلة عمله ولم يجعلا له ههنا في مقابلة عمله شيئا وإنما جعلا الربح على قدر المالين
وعمله في نصيب صاحبه تبرع فيكون ذلك ابضاعا وهو جائز ان لم يكن ذلك عوضا عن قرض فإن كان
العامل اقترض الألف أو بعضها من صاحبه لم يجز لأنه جعل عمله في مال صاحبه عوضا عن قرضه وذلك
غير جائز وأما إذا اشترك بدنان بمال أحدهما مثل أن يخرج أحدهما ألفا ويعملان جميعا فيه فإن للعامل
الذي لا مال له من الربح ما اتفقا عليه لأنه مضارب محض فأشبه ما لو لم يعمل معه رب المال، فحصل مما ذكرنا
أن الربح بينهما على ما اصطلحا عليه في جميع أنواع الشركة سواء ما ذكرنا في المضاربة التي فيها شركة على ما شرحنا
(فصل) ومن شرط صحة المضاربة تقدير نصيب العامل لأنه يستحقه بالشرط فلم يقدر إلا به
ولو قال خذ هذا المال مضاربة ولم يسم للعامل شيئا من الربح فالربح كله لرب المال والوضيعة عليه
وللعامل أجر مثله نص عليه احمد وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي
وقال الحسن وابن سيرين والأوزاعي الربح بينهما نصفين لأنه لو قال والربح بيننا لكان بينهما نصفين
فكذلك إذا لم يذكر شيئا.
ولنا أن المضارب إنما يستحق بالشرط ولم يوجد وقوله مضاربة اقتضى أن له جزءا من الربح
مجهولا فلم تصح المضاربة به كما لو قال ولك جزء من الربح فاما إذا قال والربح بيننا فإن المضاربة تصح
142

ويكون بينهما نصفين لأنه أضافة إليهما إضافة واحدة لم يترجح فيها أحدهما على الآخر فاقتضى التسوية كما
لو قال هذه الدار بيني وبينك، وان قدر نصيب العامل فقال ولك ثلث الربح أو ربعه أو جزءا معلوما أي
جزء كان فالباقي لرب المال لأنه يستحق الربح بماله لكونه نماءه وفرعه والعامل يأخذ بالشرط فما شرط
له استحقه وما بقي فلرب المال بحكم الأصل، وإن قدر نصيب رب المال مثل أن يقول ولي ثلث الربح
ولم يذكر نصيب العامل ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح لأن العامل إنما يستحق بالشرط ولم يشرط له
شئ فتكون المضاربة فاسدة (والثاني) يصح ويكون الباقي للعامل وهذا قول أبي ثور وأصحاب
الرأي لأن الربح لهما لا يستحقه غيرهما فإذا قدر نصيب أحدهما منه فالباقي للاخر من مفهوم اللفظ
كما علم ذلك من قول الله تعالى (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) ولم يذكر نصيب الأب فعلم
أن الباقي له ولأنه لو قال أوصيت بهذه المائة لزيد وعمر ونصيب زيد منها ثلاثون كان الباقي لعمر وكذا
ههنا، وإن قال لي النصف ولك الثلث وسكت عن السدس صح وكان لرب المال لأنه لو سكت عن جميع
الباقي بعد جزء العامل كان لرب المال فكذلك إذا ذكر بعضه وترك بعضه، وان قال خذه مضاربة على
الثلث أو النصف أو قال بالثلث أو الربع صح وكان تقدير النصيب للعامل لأن الشرط يراد لا جله فإن
رب المال يستحق بماله لا بالشرط والعامل يستحق بالعمل والعمل يكثر ويقل وإنما تتقدر حصته بالشرط
فكان الشرط له، ومتى شرطا لأحدهما شيئا واختلفا في الجزء المشروط لمن هو؟ فهو للعامل قليلا كان
143

أو كثيرا لذلك وان قال خذه مضاربة ولك ثلث الربح وثلث ما بقي صح وكان له خمسة أتساع لأن
هذا معناه وان قال لك ثلث الربح وربع ما بقي فله النصف وان قال لك ربع الربح وربع ما بقي فله
ثلاثة أثمان ونصف ثمن وسواء عرفا الحساب أو جهلاه لأن ذلك أجزاء معلومة مقدرة فأشبه ما لو شرط الخمسين ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا
(فصل) وان قال خذه مضاربة ولك جزء من الربح أو شركة في الربح أو شئ من الربح أو
نصيب أو حظ لم يصح لأنه مجهول ولا تصح المضاربة الا على قدر معلوم، وان قال خذه ولك مثل ما شرط
لفلان وهما يعلمان ذلك صح لأنهما أشارا إلى معلوم عندهما وان كانا لا يعلمانه أو لا يعلمه أحدهما فسدت
المضاربة لأنه مجهول.
(فصل) وان قال خذ هذا المال فاتجر به وربحه كله لك كان قرضا لا قراضا لأن قوله خذه
فاتجر به يصلح لهما وقد قرن به حكم القرض فانصرف إليه، وان قال مع ذلك ولا ضمان عليك فهذا قرض
شرط فيه نفي الضمان فلا ينتفي بشرطه كما لو صرح به فقال خذ هذا قرضا ولا ضمان عليك، وان قال
خذه فاتجر به والربح كله لي كان ابضاعا لأنه قرن به حكم الابضاع فانصرف إليه فإن قال مع ذلك
وعليك ضمانه لم يضمنه لأن العقد يقتضي كونه أمانة غير مضمونة فلا يزول ذلك بشرطه، وان قال خذه
مضاربة والربح كله لك أو كله لي فهو عقد فاسد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قال والربح
144

كله لي كان ابضاعا صحيحا لأنه أثبت له حكم الابضاع فانصرف إليه كالتي قبلها وقال مالك يكون
مضاربة صحيحة في الصورتين لأنهما دخلا في القراض فإذا شرط لأحدهما فكأنه وهب الآخر
نصيبه فلم يمنع صحة العقد.
ولنا أن المضاربة تقتضي كون الربح بينهما فإذا شرط اختصاص أحدهما بالربح فقد شرط ما ينافي
مقتضى العقد ففسد كما لو شرط الربح كله في شركة العنان لأحدهما، ويفارق ما إذا لم يقل مضاربة لأن
اللفظ يصلح لما أثبت حكمه من الابضاع والقراض بخلاف ما إذا صرح بالمضاربة وما ذكره مالك لا يصح
لأن الهبة لا تصح قبل وجود الموهوب.
(فصل) ويجوز أن يدفع مالا إلى اثنين مضاربة في عقد واحد فإن شرط لهما جزءا من الربح بينهما
نصفين جاز وان قال لكما كذا وكذا من الربح لم يبين كيف هو كان بينهما نصفين لأن اطلاق قوله
بينهما يقتضي التسوية كما قال لعامله والربح بيننا وان شرط لأحدهما ثلث الربح وللآخر ربعه
وجعل الباقي له جاز وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا يجوز لأنهما شريكان في العمل بأبدانهما
فلا يجوز تفاضلهما في الربح كشريكي الأبدان
ولنا أن عقد الواحد مع الاثنين عقد ان فجاز أن يشترط في أحدهما أكثر من الآخر كما لو انفرد
ولأنهما يستحقان بالعمل وهما يتفاضلان فيه فجاز تفاضلهما في العوض كالأجيرين ولا نسلم وجوب التساوي
في شركة الأبدان بل هي كمسئلتنا في جواز تفاضلهما ثم الفرق بينهما ان ذلك عقد واحد وهذان عقدان
145

(فصل) وان قارض اثنان واحدا بألف لهما جاز وإذا شرطا له ربحا متساويا منهما جاز وان شرط أحدهما
له النصف والآخر الثلث جاز ويكون باقي ربح مال كل وحد منهما لصاحبه وان شرطا كون الباقي
من الربح بينهما نصفين لم يجز وهذا مذهب الشافعي وكلام القاضي يقتضي جوازه وحكي ذلك عن
أبي حنيفة وأبي ثور
ولنا أن أحدهما يبقى له من ربح ماله النصف والآخر يبقى له الثلثان فإذا اشترطا التساوي فقد
شرط أحدهما للآخر جزءا من ربح ماله بغير عمل فلم يجز كما لو شرط ربح ماله المنفرد
(فصل) وإذا شرطا جزءا من الربح لغير العامل نظرت فإن شرطاه لعبد أحدهما أو لعبديهما
صح وكان ذلك مشروطا لسيده فإذا جعلا الربح بينهما وبين عبديهما أثلاثا كان لصاحب العبد الثلثان
وللآخر الثلث، وإن شرطاه لأجنبي أو لولد أحدهما أو امرأته أو قريبه وشرطا عليه عملا مع العامل
صح وكانا عاملين، وان لم يشترطا عليه عملا لم تصح المضاربة وبهذا قال الشافعي وحكي عن أصحاب الرأي
أنه يصح والجزء المشروط له لرب المال سواء شرط لقريب العامل أو لقريب رب المال أو لأجنبي
لأن العامل لا يستحق إلا ما شرط له ورب المال يستحق الربح بحكم الأصل والأجنبي لا يستحق شيئا
لأنه إنما يستحق الربح بمال أو عمل وليس هذا واحدا منهما فما شرط لا يستحقه فيرجع إلى رب
المال كما لو ترك ذكره
ولنا أنه شرط فاسد يعود إلى الربح ففسد به العقد كما لو شرط دراهم معلومة وإن قال لك
146

الثلثان على أن تعطي امرأتك نصفه فكذلك لأنه شرط في الربح شرطا لا يلزم فكان فاسدا
والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة فيما ذكرناه
(فصل) والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة في وجوب معرفة قدر ما لكل واحد منهما من الربح
الا أنهما إذا أطلقاها ولم يذكرا الربح كان بينهما على قدر المالين، وفي شركة الوجوه يكون على قدر
ملكيهما في المشترى لأن لهما أصلا يرجعان إليه ويتقدر الربح به بخلاف المضاربة فإنه لا يمكن تقدير
الربح فيها بالمال والعمل لكون أحدهما من غير جنس الآخر فلا يعلم قدره منه، وأما شركة الأبدان
فلا مال فيها يقدر الربح به فيحتمل أن يتقدر بالعمل لأن عمل أحدهما من جنس عمل الآخر فقد
تساويا في أصل العمل فيكون ذلك أصلا يرجع إليه ويتحمل أن لا يتقدر به لأن العمل يقل ويكثر
ويتفاضل ولا يوقف على مقداره بخلاف المال فيعتبر ذكر الربح والمعرفة به كما في المضاربة والله أعلم
(مسألة) قال (والوضيعة على قدر المال)
يعني الخسران في الشركة على كل واحد منهما بقدر ماله فإن كان مالهما متساويا في القدر فالخسران
بينهما نصفين وإن كان أثلاثا فالوضعية أثلاثا لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم وبه يقول أبو حنيفة
والشافعي وغيرهما، وفي شركة الوجوه تكون الوضيعة على قدر ملكيها في المشتري سواء كان الربح
بينهما كذلك أو لم يكن وسواء كانت الوضيعة لتلف أو نقصان في الثمن عما اشتريا به أو غير ذلك
147

والوضيعة في المضاربة على المال خاصة ليس على العامل منها شئ لأن الوضيعة عبارة عن نقصان رأس
المال وهو مختص بملك ربه لا شئ للعامل فيه فيكون نقصه من ماله دون غيره وإنما يشتركان فيما يحصل
من النماء فأشبه المساقاة والمزارعة فإن رب الأرض والشجر يشارك العامل فيما يحدث من الزرع والثمر
وإن تلف الشجر أو هلك شئ من الأرض بغرق أو غيره لم يكن على العامل شئ
(مسألة) قال (ولا يجوز أن يجعل لاحد من الشركاء فضل دراهم)
وجملته أنه متى جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة أو جعل مع نصيبه دراهم مثل أن يشترط
لنفسه جزءا وعشرة دراهم بطلت الشركة قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على
إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة وممن حفظنا ذلك عنه مالك
والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، والجواب فيما لو قال لك نصف الربح إلا عشرة
دراهم أو نصف الربح وعشرة دراهم كالجواب فيما إذا شرط دراهم مفردة وإنما لم يصح ذلك لمعنيين
(أحدهما) أنه إذا شرط دراهم معلومة احتمل أن لا يربح غيرها فيحصل على جميع الربح واحتمل
أن لا يربحها فيأخذ من رأس المال جزءا وقد يربح كثيرا فيستضر من شرطت له الدراهم (والثاني)
أن حصة العامل ينبغي أن تكون معلومة بالاجزاء لما تعذر كونها معلومة بالقدر فإذا جهلت الاجزاء
148

فسدت كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلوما به ولان العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة
ربما توانى في طلب الربح لعدم فائدته فيه وحصول نفعه لغيره بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح
(فصل) وإن دفع إليه الفين مضاربة على أن كل واحد منهما ربح الف أو على أن لا حدهما ربح
أحد الثوبين أو ربح إحدى السفرتين أو ربح تجارته في شهر أو عام بعينه ونحو ذلك فسد الشرط
والمضاربة لأنه قد يربح في ذلك المعين دون غيره وقد يربح في غيره دونه فيختص أحدهما بالربح وذلك
يخالف موضوع الشركة ولا نعلم في هذا خلافا وان دفع إليه ألفا وقال لك ربح نصفه لم يجز وبهذا قال
الشافعي وقال أبو حنيفة وأبو ثور يجوز لأن نصف ربحه هو ربح نصفه فجاز شرطه كما لو عبر عنه بعبارته
الأخرى. ولنا أنه شرط لأحدهما ربح بعض المال دون بعض وكذلك جعل الاخر فلم يجز كما لو قال لك
ربح هذه الخمسمائة ولأنه يمكن ان يفرد نصف المال فيربح فيه دون النصف الآخر بخلاف نصف
الربح فإنه لا يؤدي إلى انفراده بربح شئ من المال
(مسألة) (قال والمضارب إذا باع بنسيئة بغير أمر ضمن في إحدى الروايتين
والأخرى لا يضمن)
وجملته ان المضرب وغيره من الشركاء إذا نص له على التصرف فقال نقدا أو نسيئه أو قال بنقد
149

البلد أو ذكر نقدا غيره جاز ولم تجز مخالفته لأنه متصرف بالاذن فلا يتصرف في غير ما اذن له فيه
كالوكيل ولان ذلك لا يمنع مقصود المضاربة وقد يطلب بذلك الفائدة في العادة، وإن اطلق فلا خلاف
في جواز البيع حالا، وفي البيع نسيئة روايتان (إحداهما) ليس له ذلك وهو قول مالك وابن أبي ليلى والشافعي
لأنه نائب في البيع فلم يجز له البيع نسيئة بغير اذن صريح فيه كالوكيل، وذلك لأن النائب لا يجوز له
التصرف الاعلى وجه الحظ والاحتياط وفي النسيئة تغرير بالمال وقرينة الحال تقيد مطلق الكلام فيصير
كأنه قال بعه حالا (والثانية) انه يجوز له البيع نساء وهو قول أبي حنيفة واختيار ابن عقيل لأن اذنه في التجارة
والمضاربة ينصرف إلى التجارة المعتادة وهذا عادة التجار ولأنه يقصد به الربح والربح في النساء أكثر
ويفارق الوكالة المطلقة فإنها لا تختص بقصد الربح وإنما المقصود تحصيل الثمن فحسب فإذا أمكن تحصيله
من غير خطر كان أولى ولان الوكالة المطلقة في البيع تدل على أن حاجة الموكل إلى الثمن ناجزة فلم
يجز تأخيره بخلاف المضاربة وان قال له اعمل برأيك فله البيع نساء وكذلك إذا قال له تصرف كيف شئت
وقال الشافعي ليس له البيع نساء في الموضعين لأن فيه غررا فلم يجز كما لو لم يقل له ذلك. ولنا انه داخل في
عموم لفظه وقرينة حاله تدل على رضائه برأيه في صفات البيع وفي أنواع التجارة وهذا منها فإذا قلنا له
البيع نساء فالبيع صحيح ومهما فات من الثمن لا يلزمه ضمانه الا ان يفرط ببيع من لا يوثق به أو من
لا يعرفه فيلزمه ضمان الثمن الذي انكسر على المشتري وان قلنا ليس له البيع نساء فالبيع باطل لأنه فعل
150

ما لم يؤذن له فيه فأشبه البيع من الأجنبي الا على الرواية التي تقول يقف بيع الأجنبي الإجازة فههنا
مثله ويحتمل قول الخرقي صحة البيع فإنه إنما ذكر الضمان ولم يذكر فساد البيع وعلى كل حال يلزم
العامل الضمان لأن ذهاب الثمن حصل بتفريطه فإن قلنا بفساد البيع ضمن المبيع بقيمته إذا تعذر عليه
استرجاعه إما لتلف المبيع أو امتناع المشتري من رده إليه، وإن قلنا بصحته احتمل ان يضمنه
بقيمته أيضا لأنه لم يفت بالبيع أكثر منها ولا ينحفظ بتركه سواها وزيادة الثمن حصلت بتفريطه
فلا يضمنها واحتمل ان يضمن الثمن لأنه وجب بالبيع وفات بتفريط البائع وإن نقص عن القيمة فقد
انتقل الوجوب إليه بدليل انه لو حصل الثمن لم يضمن شيئا
(فصل) وليس له السفر بالمال في أحد الوجهين وهو مذهب الشافعي لأن في السفر تغريرا
بالمال وخطرا وهذا يروي: ان المسافر وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله تعالى. اي هلاك ولا يجوز له
التغرير بالمال بغير إذن مالكه والوجه الثاني له السفر به إذا لم يكن مخوفا قال القاضي قياس المذهب
جوازه بناء على السفر بالوديعة وهذا قول مالك ويحكى ذلك عن أبي حنيفة لأن الاذن المطلق
ينصرف إلى ما جرت به العادة والعادة وبالتجارة سفرا وحضرا ولان المضاربة مشتقة من
الضرب في الأرض فملك ذلك بمطلقها وهذان الوجهان في المطلق. فأما إن اذن في السفر أو نهى عنه
151

أو وجدت قرينة دالة على أحد الامرين تعين ذلك وثبت ما أمر به وحرم ما نهي عنه، وليس له السفر
في موضع على الوجهين جميعا وكذلك لو اذن له في السفر مطلقا لم يكن له السفر في طريق
مخوف ولا إلى بلد مخوف فإن فعل فهو ضامن لما يتلف لأنه متعد بفعل ما ليس له فعله، وان سافر في
طريق آمن جاز ونفقته في مال نفسه وبهذا قال ابن سيرين وحماد بن أبي سليمان وهو ظاهر مذهب
الشافعي، وقال الحسن والنخعي والأوزاعي ومالك وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ينفق من المال
بالمعروف إذا شخص به عن البلد لأن سفره لأجل المال فكانت نفقته منه كأجر الحمال. ولنا ان نفقته
تخصه فكانت عليه كنفقة الحضر وأجر الطبيب وثمن الطب ولأنه دخل على أنه يستحق من الربح
الجزء المسمى فلا يكون له غيره ولأنه لو استحق النفقة افضى إلى أن يختص بالربح إذا لم يربح سوى
ما أنفقه، فاما إن اشترط له النفقة فله ذلك وله ما قدر له من ما كول وملبوس ومركوب وغيره قال احمد
في رواية الأثرم أحب إلي أن يشترط نفقة محدودة وان أطلق صح نص عليه، وله نفقته من الماء كول
ولا كسوة له قال أحمد إذا قال له نفقته فإنه ينفق قيل له فيكتسي قال لا إنما له النفقة وإن كان سفره
طويلا يحتاج إلى تجديد كسوة فظاهر كلام أحمد جوازها لأنه قيل له فلم يشترط الكسوة الا انه في بلد بعيد
وله مقام طويل يحتاج فيه إلى كسوة فقال إذا أذن له في النفقة فعل ما لم يحمل على مال الرجل ولم
يكن ذلك قصده هذا معناه وقال القاضي وأبو الخطاب إذا شرط له النفقة فله جميع نفقته من مأكول
152

أو ملبوس بالمعروف، وقال أحمد ينفق على معنى ما كان ينفق على نفسه غير متعد بالنفقة ولا مضر بالمال
ولم يذهب احمد إلى تقدير النفقة لأن الأسعار تختلف وقد تقل وقد تكثر، فإن اختلفا في قدر النفقة
فقال أبو الخطاب يرجع في القوت إلى الاطعام في الكفارة وفي الكسوة إلى أقل ملبوس مثله فإن
كان معه مال لنفسه مع مال المضاربة أو كان معه مضاربة أخرى أو بضاعة لآخر فالنفقة على قدر
المالين لأن النفقة إنما كانت لأجل السفر والسفر للمالين فيجب أن تكون النفقة مقسومة على قدرهما
الا أن يكون رب المال قد شرط له النفقة مع علمه بذلك، ولو أذن له في السفر إلى موضع معين أو غير
معين ثم لقيه رب المال في السفر اما بذلك الموضع أوفي غيره وقد نض المال فأخذ ماله فطالبه العامل
بنفقة الرجوع إلى بلده لم يكن له لأنه إنما يستحق النفقة ماداما في القراض وقد زال فزالت النفقة
ولذلك لو مات لم يجب تكفينه، وقد قيل له ذلك لأنه كان شرط له نفقة ذهابه ورجوعه وغيره بتسفيره
إلى الموضع الذي أذن له فيه معتقدا انه مستحق للنفقة ذاهبا وراجعا فإذا قطع عنه النفقة تضرر بذلك
(فصل) وحكم المضارب حكم الوكيل في أنه ليس له ان يبيع بأقل من ثمن المثل ولا يشتري
بأكثر منه مما لا يتغابن الناس بمثله فإن فعل فقد روي عن أحمد ان البيع يصح ويضمن النقص لأن
الضرر ينجبر بضمان النقص، والقياس ان البيع باطل وهو مذهب الشافعي لأنه بيع لم يؤذن له فيه فأشبه بيع الأجنبي، فعلى هذا ان تعذر رد المبيع ضمن النقص أيضا وان أمكن رده وجب رده إن كان باقيا
153

أو قيمته إن كان تالفا ولرب المال مطالبة من شاء من العامل أو المشتري فإن أخذ من المشتري قيمته
رجع المشتري على العامل بالثمن وان رجع على العامل بقيمته رجع العامل على المشتري بها ورد عليه
الثمن لأن التلف حصل في يده وأما ما يتغابن الناس بمثله فغير ممنوع منه لأنه لا يمكن التحرز منه وأما
إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل بعين المال فهو كالبيع وان اشترى في الذمة لزم العامل دون رب
المال الا أن يجيزه فيكون له هذا ظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي ان أطلق الشراء ولم يذكر رب المال
فكذلك وان صرح للبائع انني اشتريته لفلان فالبيع باطل أيضا
(فصل) وهل له ان يبيع ويشتري بغير نقد البلد؟ على روايتين (الأولى) جوازه إذا رأى المصلحة
فيه والربح حاصل به كما يجوز ان يبيع عرضا بعرض ويشتريه وبه فإن قلنا لا يملك ذلك ففعله فحكمه
حكم ما لو اشترى أو باع بغير ثمن المثل وإن قال له اعمل برأيك فله ذلك وهل له الزراعة؟ يحتمل
أن لا يملك ذلك لأن المضاربة لا يفهم من اطلاقها المزارعة وقد روي عن أحمد رحمه الله فيمن دفع
إلى رجل ألفا وقال أتجر فيها بما شئت فزرع زرعا فربح فيه فالمضاربة جائزة والربح بينهما قال القاضي
ظاهر هذا ان قوله أتجر بما شئت دخلت فيه المزارعة لأنها من الوجوه التي يبتغى بها النماء وعلى
هذا لو توى المال كله في المزارعة لم يلزمه ضمانه
(فصل) وله ان يشتري المعيب إذا رأى المصلحة فيه لأن المقصود الربح وقد يكون الربح في المعيب
154

فإن اشتراه يظنه سليما فبان معيبا فله فعل ما يرى المصلحة فيه من رده بالعيب أو امساكه وأخذ أرش
العيب فإن اختلف العامل ورب المال في الرد فطالبه أحدهما وأباه الآخر فعل ما فيه النظر والحظ
لأن المقصود تحصيل الحظ فيحتمل الامر على ما فيه الحظ وأما الشريكان إذا اختلفا في رد المعيب
فلطالب الرد رد نصيبه وللآخر امساك نصيبه الا أن يكون البائع لم يعلم أن الشراء لهما جميعا فلا يلزمه
قبول رد بعضه لأن ظاهر الحال ان العقد لمن وليه فلم يجز ادخال الضرر على البائع بتبعيض الصفقة
عليه ولو أراد الذي ولي العقد رد بعض المبيع وامساك البعض كان حكمه حكم ما لو أراد
شريكه ذلك على ما فصلناه
(فصل) وليس له أن يشتري من يعتق على رب المال بغير إذنه لأن عليه فيه ضررا فإن اشتراه
باذن رب المال صح لأنه يجوز أن يشتريه بنفسه فإذا أذن لغيره فيه جاز ويعتق عليه وتنفسخ المضاربة
في قدر ثمنه لأنه قد تلف ويكون محسوبا على رب المال فإن كان ثمنه كل المال انفسخت المضاربة
وإن كان في المال ربح رجع العامل بحصته منه وإن كان بغير إذن رب المال احتمل أن لا يصح الشراء
إذا كان الثمن عينا لأن العامل اشترى ما ليس له أن يشتريه فكان بمنزلة ما لو اشترى شيئا بأكثر من ثمنه
ولان الاذن في المضاربة إنما ينصرف إلى ما يمكن بيعه والربح فيه فلا يتناول غير ذلك وإن كان اشتراه
في الذمة وقع الشراء للعاقد وليس له دفع الثمن من مال المضاربة وان فعل ضمن وبهذا قال الشافعي
155

وأكثر الفقهاء وقال القاضي ظاهر كلام أحمد صحة الشراء لأنه مال متقوم قابل للعقود فصح شراؤه كما
لو اشترى من نذر رب المال اعتاقه ويعتق على رب المال وتنفسخ المضاربة فيه ويلزم العامل ضمانه
على ظاهر كلام أحمد علم بذلك أو جهل لأن مال المضاربة تلف بسببه ولا فرق في الاتلاف الموجب
للضمان بين العلم والجهل وفيما يضمنه وجهان (أحدهما) قيمته لأن الملك ثبت فيه ثم تلف فأشبه ما لو
أتلفه بفعله (والثاني) الثمن الذي اشتراه به لأن التفريط منه حصل بالشراء وبذل الثمن فيما يتلف
بالشراء فكان عليه ضمان ما فرط فيه ومتى ظهر في المال ربح فللعامل حصته منه وقال أبو بكر ان لم يكن
العامل عالما بأنه يعتق على رب المال لم يضمن لأن التلف حصل لمعنى في المبيع لم يعلم به المشتري فلم
يضمن كما لو اشترى معيبا لم يعلم بعيبه فتلف به قال ويتوجه أن لا يضمن وان علم
(فصل) وان اشترى امرأة رب المال صح الشراء وانفسخ النكاح فإن كان قبل الدخول فهل يلزم
الزوج نصف الصداق؟ فيه وجهان ذكرنا هما في غير هذا الموضع فإن قلنا يلزمه رجع به على العامل
لأنه سبب تقريره عليه فرجع عليه كما لو أفسدت امرأة نكاحه بالرضاع وان اشترى زوج ربة المال صح
الشراء وانفسخ النكاح لأنها ملكت زوجها وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح الشراء إذا
كان بغير اذنها لأن الاذن إنما يتناول شراء مالها فيه حظ وشراء زوجها يضربها لأنه يفسخ نكاحها
ويضربها ويسقط حقها من النفقة والكسوة فلم يصح كشراء ابنها
156

ولنا أنه اشترى ما يمكن طلب الربح فيه فجاز كما لو اشترى أجنبيا ولا ضمان على العامل فيما
يفوت من المهر ويسقط من النفقة لأن ذلك لا يعود إلى المضاربة وإنما هو بسبب آخر ولا فرق
بين شرائه في الذمة أو بعين المال
(فصل) وان اشترى المأذون له من يعتق على رب المال باذنه صح وعتق فإن كان على المأذون له
دين يستغرق قيمته وما في يده وقلنا يتعلق الدين برقبته فعليه دفع قيمة العبد الذي عتق إلى الغرماء
لأنه الذي أتلف عليهم بالعتق وإن نهاه عن الشراء فالشراء باطل لأنه يملكه بالاذن وقد زال بالنهي
وان أطلق الاذن فقال أبو الخطاب يصح شراؤه لأن من صح أن يشتريه السيد صح شراء المأذون
له كالا جنبي وهذا قول أبي حنيفة إذا اذن له في التجارة ولم يدفع إليه مالا وقال القاضي لا يصح لأن
فيه اتلافا على السيد فإن اذنه يتناول ما فيه حظ فلا يدخل فيه الاتلاف، وفارق عامل المضاربة لأنه
يضمن القيمة فيزول الضرر وللشافعي قولان كالوجهين وان اشترى امرأة رب المال أو زوج ربة المال
فهل يصح على وجهين أيضا كشراء من يعتق بالشراء
(فصل) وان اشترى المضارب من يعتق عليه صح الشراء فإن لم يكن ظهر في المال ربح لم يعتق
منه شئ وان ظهر فيه ربح ففيه وجهان مبنيان على العامل متى يملك الربح؟ فإن قلنا يملكه بالقسمة
لم يعتق منه شئ لأنه ما ملكه وان قلنا يملكه بالظهور ففيه وجهان (أحدهما) لا يعتق وهو قول أبي
157

بكر لأنه لم يتم ملكه عليه لأن الربح وقاية لرأس المال فلم يعتق لذلك (والثاني) يعتق بقدر حصته
من الربح إن كان معسرا ويقوم عليه باقيه إن كان موسرا لأنه ملكه بفعله فيعتق عليه كما لو اشتراه
بماله وهذا قول القاضي ومذهب أصحاب أبي حنيفة لكن عندهم يستسعى في بقيته إن كان معسرا
ولنا رواية كقولهم وان اشتراه ولم يظهر ربح ثم ظهر بعد ذلك والعبد باق في التجارة فهو كما لو كان
الربح ظاهرا وقت الشراء وقال الشافعي إن اشتراه بعد ظهور الربح لم يصح في أحد الوجهين لأنه يؤدي
إلى أن ينجز العامل حقه قبل رب المال
ولنا أنهما شريكان فصح شراء كل واحد منهما من يعتق عليه كشريكي العنان
(فصل) وليس له أن يشتري بأكثر من رأس المال لأن الاذن ما تناول أكثر منه فإن كان
رأس المال ألفا فاشترى عبدا بألف ثم اشترى عبدا آخر بعين الألف فالشراء فاسد لأنه اشتراه بمال
يستحق تسليمه في البيع الأول وإن اشتراه في ذمته صح الشراء والعبد له لأنه اشترى في ذمته لغيره
ما لم يأذن له في شرائه فوقع له وهل يقف على إجازة رب المال؟ على روايتين ومذهب الشافعي كنحو ما ذكرنا
(فصل) وليس للمضارب وطئ أمة من المضاربة سواء ظهر في المال ربح أو لم يظهر فإن فعل فعليه المهر
والتعزير: وإن علقت منه ولم يظهر في المال ربح فولده رقيق لأنها علقت منه في غير ملك ولا شبهة ملك
ولا تصير أم ولد له كذلك وان ظهر في المال ربح فالولد حر وتصير أم ولد له وعليه قيمتهما ونحو هذا
158

قال سفيان وإسحاق وقال القاضي ان لم يظهر ربح فعليه الحد لأنه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك
والمنصوص عن أحمد أن عليه التعزير لأن ظهور الربح ينبني على التقويم والتقويم غير متحقق لأنه يحتمل
أن السلع تساوي أكثر مما قومت به فيكون ذلك شبهة في درء الحد لأنه يدرأ بالشبهات
(فصل) وليس لرب المال وطئ الأمة أيضا لأنه ينقصها ان كانت بكرا ويعرضها للخروج من
المضاربة والتلف فإن فعل فلا حد عليه لأنها مملوكته وان علقت منه صارت أم ولده وولده حر كذلك
وتخرج من المضاربة وتحسب قيمتها ويضاف إليها بقية المال فإن كان فيه ربح فللعامل حصته منه.
(فصل) وإذا أذن رب المال للمضارب في الشراء من مال المضاربة فاشترى جارية ليتسرى بها
خرج ثمنها من المضاربة وصار قرضا في ذمته لأن استباحة البضع لا تحصل الا بملكه لقول الله تعالى
إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.
(فصل) وليس لواحد منهما تزويج الأمة لأنه ينقصها ولا مكاتبة العبد لذلك فإن اتفقا على ذلك
جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما
(فصل) وليس للمضارب دفع المال إلى آخر مضاربة نص عليه احمد في رواية الأثرم وحرب
وعبد الله قال إن أذن له رب المال وإلا فلا، وخرج القاضي وجهان في جواز ذلك بناء على توكيل
الوكيل من غير اذن الموكل ولا يصح هذا التخريج وقياسه على الوكيل ممتنع لوجهين (أحدهما) أنه إنما
159

دفع إليه المال ههنا ليضارب به وبدفعه إلى غيره مضاربة يخرج عن كونه مضاربا به بخلاف الوكيل (الثاني)
ان هذا يوجب في المال حقا لغيره ولا يجوز إيجاب حق في مال انسان بغير اذنه وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي ولا أعرف عن غيرهم خلافهم فإن فعل فلم يتلف المال ولا ظهر فيه ربح رده إلى مالكه ولا شئ له
ولا عليه وإن تلف أو ربح فيه فقال الشريف أبو جعفر هو في الضمان والتصرف كالغاصب ولرب المال
مطالبة من شاء منهما برد المال إن كان باقيا وبرد بدله إن كان تالفا أو تعذر رده، فإن طالب الأول
وضمنه قيمة التالف ولم يكن الثاني علم بالحال لم يرجع عليه بشئ لأنه دفعه إليه على وجه الأمانة وإن
علم بالحال رجع عليه لأنه قبض مال غيره على سبيل العدوان وتلف تحت يده فاستقر ضمانه عليه وإن
ضمن الثاني مع علمه بالحال لم يرجع على الأول، وإن لم يعلم فهل يرجع على الأول؟ على وجهين (أحدهما)
يرجع عليه لأنه غره فأشبه ما لو غره بحرية أمة (والثاني) لا يرجع لأن التلف كان في يده فاستقر
الضمان عليه وإن ربح في المال فالربح لمالكه ولا شئ للمضارب الأول لأنه لم يوجد منه مال ولا عمل
وهل للثاني أجر مثله؟ على روايتين (إحداهما) له ذلك لأنه عمل في مال غيره بعوض لم يسلم له فكان له
اجر مثله كالمضاربة الفاسدة والثانية لا شئ له لأنه عمل في مال غيره بغير إذنه فلم يستحق لذلك عوضا
كالغاصب، وفارق المضاربة لأنه عمل في ماله باذنه وسواء اشترى بعين المال أو في الذمة ويحتمل أنه إذا
اشترى في الذمة يكون الربح له لأنه ربح فيما اشتراه في ذمته مما لم يقع في الشراء فيه لغيره فأشبه ما لو لم ينقد
160

الثمن من مال رب المال قال الشريف أبو جعفر هذا قول أكثرهم يعنى قول مالك والشافعي وأبي حنيفة
ويحتمل انه إن كان عالما بالحال فلا شئ للعامل كالغاصب وإن جهل الحال فله أجر مثله يرجع
به على المضارب الأول لأنه غره واستعمله بعوض لم يحصل له فوجب أجره عليه كما لو
استعمله في مال نفسه وقال القاضي إن اشترى بعين المال فالشراء باطل وإن كان اشترى
في الذمة ثم فقد المال وكان قد شرط رب المال للمضارب النصف فدفعه المضارب إلى آخر على أن
يكون لرب المال النصف والنصف الآخر بينهما فهو على ما اتفقوا عليه لأن رب المال رضي بنصف الربح
فلا يدفع إليه أكثر منه والعاملان على ما اتفقا عليه وهذا قول قديم للشافعي وليس هذا موافقا
لأصول المذهب ولا لنص احمد فإن احمد قال لا يطيب الربح للمضارب ولان المضارب الأول ليس
له عمل ولا مال ولا يستحق الربح في المضاربة الا بواحد منهما والعامل الثاني عمل في مال غيره بغير
اذنه ولا شرطه فلم يستحق ما شرطه له غيره كما لو دفعه إليه الغاصب مضاربة ولأنه إذا لم يستحق
ما شرطه له رب المال في المضاربة الفاسدة فما شرطه له غيره بغير اذنه أولى
(فصل) وان أذن رب المال في دفع المال مضاربة جاز ذلك نص عليه احمد ولا نعلم فيه خلافا
ويكون العامل الأول وكيلا لرب المال في ذلك فإذا دفعه إلى آخر ولم يشرط لنفسه شيئا من الربح
كان صحيحا وان شرط لنفسه شيئا من الربح لم يصح لأنه ليس من جهته مال ولا عمل
161

والربح إنما يتسحق بواحد منهما وان قال اعمل برأيك أو بما أراك الله جاز له دفعه مضاربة نص عليه
لأنه قد يرى أن يدفعه إلى أبصر منه ويحتمل أن لا يجوز له ذلك لأن قوله اعمل برأيك يعني في
كيفية المضاربة والبيع والشراء وأنواع التجارة وهذا يخرج به عن المضاربة فلا يتناوله اذنه
(فصل) وليس له ان يخلط مال المضاربة بماله فإن فعل ولم يتميز ضمنه لأنه أمانة فهو كالوديعة
فإن قال له اعمل برأيك جاز له ذلك وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأي، وقال الشافعي ليس
له ذلك وعليه الضمان ان فعله لأن ذلك ليس من التجارة
ولنا انه قد يرى الخلط أصلح له فيدخل في قوله اعمل برأيك وهكذا القول في المشاركة به
ليس له فعلها الا أن يقول اعمل برأيك فيملكها
(فصل) وليس له ان يشتري خمرا ولا خنزيرا سواء كانا مسلمين أو كان أحدهما مسلما والاخر
ذميا فإن فعل فعليه الضمان وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان العامل ذميا صح شراؤه للخمر
وبيعه إياها لأن الملك عنده ينقل إلى الوكيل وحقوق العقد تتعلق به، قال أبو يوسف ومحمد يصح
شراؤه إياها لأن الملك فيها ينتقل إلى الوكيل ولا يصح بيعه لأنه يبيع ما ليس بملك له ولا لموكله
ولنا انه إن كان العامل مسلما فقد اشترى خمرا ولا يصح ان يشتري خمرا ولا يبيعه وإن كان ذميا
فقد اشترى للمسلم ما لا يصح ان يملكه ابتداء فلا يصح كما لو اشترى الخنزير ولان الخمر محرمة فلا
يصح شراؤها له كالخنزير والميتة لأن مالا يجوز بيعه لا يجوز شراؤه كالميتة والدم وكل ما جاز في الشركة
جاز في المضاربة وما جاز في المضاربة جاز في الشركة وما منع منه في أحدهما منع منه في الأخرى لأن
المضاربة شركة ومبنى كل واحدة منهما على الوكالة والأمانة
162

(مسألة) قال (وإذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على
الأول فإن فعل وربح رده في شركة الأول)
وجملة ذلك أنه إذا أخذ من انسان مضاربة ثم أراد أخذ مضاربة أخرى من آخر فأذن له الأول جاز
وان لم يأذن له ولم يكن عليه ضرر جاز أيضا بغير خلاف وإن كان فيه ضرر على رب المال الأول
ولم يأذن مثل أن يكون المال الثاني كثيرا يحتاج إلى أن يقطع زمانه ويشغله عن التجارة في الأول ويكون
المال الأول كثيرا متى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرفاته لم يجز له ذلك وقال أكثر الفقهاء
يجوز لأنه عقد لا يملك به منافعه كلها فلم يمنع من المضاربة كما لو لم يكن فيه ضرر وكالأجير المشترك
ولنا ان المضاربة على الحظ والنماء فإذا فعل ما تمنعه لم يكن له كما لو أراد التصرف بالعين، وفارق
مالا ضرر فيه فعلى هذا إذا فعل وربح در الربح في شركة الأول ويقتسمانه فلينظر ما ربح في المضاربة
الثانية فيدفع إلى رب المال منها نصيبه ويأخذ المضارب نصيبه من الربح فيضمه إلى ربح المضاربة
الأولى ويقاسمه لرب المضاربة الأولى لأنه استحق حصته من الربح بالمنفعة التي استحقت بالعقد
الأول فكان بينهما كربح المال الأول، فأما حصة رب المال الثاني من الربح فتدفع إليه لأن العدوان
من المضارب لا يسقط حق رب المال الثاني ولأنا لو رددنا ربح الثاني كله في الشركة الأولى لاختص
الضرر برب المال الثاني فلم يلحق المضارب شئ من الضرر والعدوان منه بل ربما انتفع إذا كان قد
قد شرط الأول النصف والثاني الثلث، ولأنه لا يخلو اما ان يحكم بفساد المضاربة الثانية أو بصحتها فإن
كانت فاسدة فالربح كله لرب المال وللمضارب أجر مثله وان حكمنا بصحتها وجب صرف حصة رب
المال إليه بمقتضى العقد وموجب الشرط، والنظر يقتضي ان لا يستحق رب المضاربة الأولى من
رب الثانية شيئا لأنه إنما يستحق بمال أو عمل وليس له في المضاربة الثانية مال ولا عمل وتعدي
163

المضارب إنما كان بترك العمل واشتغاله عن المال الأول وهذا لا يوجب عوضا كما لو اشتغل بالعمل في
مال نفسه أو آجر نفسه أو ترك التجارة للعب أو اشتغال بعلم أو غير ذلك ولو أوجب عوضا لا وجب
شيئا مقدرا لا يختلف ولا يتقدر بربحه في الثاني والله أعلم
(فصل) وان دفع إليه مضاربة واشترط النفقة فكلمه رجل في أن يأخذ له بضاعة أو مضاربة
ولا ضرر فيها فقال احمد إذا اشترط النفقة صار أجيرا له فلا يأخذ من أحد بضاعة فإنها تشغله عن المال
الذي يضارب به، قيل فإن كانت لا تشغله؟ فقال ما يعجبني أن يكون إلا باذن صاحب المضاربة فإنه لا بد
من شغل. وهذا والله أعلم على سبيل الاستحباب وان فعل فلا شئ عليه لأنه لا ضرر على رب المضاربة فيه
(فصل) وان اخذ من رجل مضاربة ثم اخذ من آخر بضاعة أو عمل في مال نفسه أو أتجر فيه فربحه
في مال البضاعة لصاحبها وفي مال نفسه لنفسه
(فصل) إذا أخذ من رجل مائة قراضا ثم أخذ من آخر مثلها واشترى بكل مائة عبدا فاختلط
العبدان ولم يتميزا فإنهما يصطلحان عليهما كما لو كانت لرجل حنطة فالثالث عليه أخرى وذكر
القاضي في ذلك وجهين (أحدهما) يكونان شريكين فيهما كما لو اشتركا في عقد البيع فيباعان ويقسم بينهما
فإن كان فيهما ربح دفع إلى العامل حصته والباقي بينهما نصفين (والثاني) يكونان للعامل وعليه أداء
رأس المال، والربح له والخسران عليه وللشافعي قولان كالوجهين والأول أولى لأن ملك كل واحد
منهما ثابت في أحد العبدين فلا يزول بالاشتباه عن جميعه ولا عن بعضه بغير رضاءه كما لو لم يكونا في
يد المضارب ولأننا لو جعلنا هما للمضارب أدى إلى أن يكون تفريطه سببا لانفراده بالربح وحرمان
المتعدى عليه وعكس ذلك أولى وان جعلناهما شريكين أدى إلى أن يأخذ أحدهما ربح مال الآخر
بغير رضاه وليس له فيه مال ولا عمل.
164

(فصل) إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئا نهي عن شرائه فهو ضامن
للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبى قلابة ونافع وإياس
والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وعن علي رضي الله عنه
لا ضمان على من شورك في الربح وروي معنى ذلك عن الحسن والزهري
ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير اذنه فلزمه الضمان كالغاصب ولا نقول بمشاركته في الربح فلا
يتناوله قول علي رضي الله عنه، ومتى اشترى ما لم يؤذن فيه فربح فيه فالربح لرب المال نص عليه احمد
وبه قال أبو قلابة ونافع، وعن أحمد أنهما يتصدقان بالربح وبه قال الشعبي والنخعي والحكم وحماد
قال القاضي قول احمد يتصدقان بالربح على سبيل الورع وهو لرب المال في القضاء وهذا قول الأوزاعي
وقال اياس بن معاوية ومالك الربح على ما شرطاه لأنه نوع تعد فلا يمنع كون الربح بينهما على ما شرطاه
كما لو لبس الثوب وركب دابة ليس له ركوبها وقالا القاضي إذا اشترى في الذمة ثم نقد المال فالربح لرب
المال وإن اشترى بعين المال فالشراء باطل في إحدى الروايتين والأخرى هو موقوف على إجازة المالك
فإن أجازه صح وإلا بطل، والمذهب الأول نص عليه احمد في رواية الأثرم وقال أبو بكر لم يرو انه يتصدق
165

بالربح إلا حنبل واحتج احمد بحديث عروة البارقي وهو ما روى أبو لبيد عن عروة بن الجعد قال:
عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني دينارا فقال (عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة) فاتيت
الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار فجئت أسوقهما أو أقودهما فلقيني رجل بالطريق فساومني
فبعت منهما شاة بالدينار فجئت بالدينار وبالشاة فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ديناركم وهذه شاتكم قال (وكيف
صنعت؟) فحدثته الحديث فقال (اللهم بارك له في صفقة يمينه) رواه الأثرم ولأنه نماء مال غيره بغير اذن
مالكه فكان لمالكه كما لو غصب حنطة فزرعها، فاما المضارب ففيه روايتان (إحداهما) لا شئ له لأنه عقد
عقدا لم يؤذن له فيه فلم يكن له شئ كالغاصب وهذا اختيار أبى بكر والثانية له أجر لأن رب المال رضي
بالبيع وأخذ الربح فاستحق العامل عوضا كما لو عقده باذن وفي قدر الاجر روايتان (إحداهما) أجر مثله
ما لم يحط بالربح لأنه عمل ما يستحق به العوض ولم يسلم له المسمى فكان له أجر مثله كالمضاربة الفاسدة
(والثانية) له الأقل من المسمى أو أجر المثل لأنه إن كان الأقل المسمى فقد رضي به فلم يستحق أكثر منه
وإن كان الأقل أجر المثل لم يستحق أكثر منه لأنه لم يعمل ما رضي به وان قصد الشراء لنفسه فلا
166

أجر له رواية واحدة وقال القاضي وأبو الخطاب ان اشترى في ذمته ثم نقد المال فلا أجر له رواية
واحدة وان اشترى بعين المال فعلى روايتين.
(فصل) وعلى العامل أن يتولى بنفسه كل ما جرت العادة أن يتولاه المضارب بنفسه من نشر
الثوب وطيه وعرضته على المشتري ومساومته وعقد البيع معه وأخذ الثمن وانتقاده وشد الكيس وختمه
واحرازه في الصندوق ونحو ذلك ولا أجر له عليه لأنه مستحق للربح في مقابلته فإن استأجر من
يفعل ذلك فالاجر عليه خاصة لأن العمل عليه، فأما ما لا يليه العامل في العادة مثل النداء على المتاع
ونقله إلى الخان فليس على العامل عمله وله أن يكتري من يعمله نص عليه أحمد لأن العمل في المضاربة
غير مشروط لمشقة اشتراطه فرجع فيه إلى العرف فإن فعل العامل مالا يلزمه فعله متبرعا فلا أجر له
وان فعله ليأخذ عليه أجرا فلا شئ له أيضا في المنصوص عن أحمد وخرج أصحابنا وجها ان له الاجر
بناء على الشريك إذا انفرد بعمل لا يلزمه هل له أجر لذلك؟ على روايتين وهذا مثله، والصحيح أنه
لا شئ له في الموضعين لأنه عمل في مال غيره عملا لم يجعل له في مقابلته شئ فلم يستحق شيئا كالأجنبي
(فصل) وإذا سرق مال المضاربة أو غصب فعلى المضارب طلبه والمخاصمة فيه في أحد الوجهين وفي
167

الآخر ليس عليه ذلك لأن المضاربة عقد على التجارة فلا تدخل فيه الخصومة والأول أولى لأنه يقتضي
حفظ المال ولا يتم ذلك الا بالخصومة والمطالبة سيما إذا كان غائبا عن رب المال إما لسفر المضارب أو
رب المال فإنه لا يطالب له الا المضارب فإن تركه ضاع، فعلى هذا ان ترك الخصومة والطلب به في
هذه الحال غرمه لأنه ضيعه وفرط فيه، وإن كان رب المال حاضرا وعلم الحال لم يلزم العامل طلبه ولا
يضمنه إذا تركه لأن رب المال أولى بذلك من وكيله
(فصل) وإذا اشترى للمضاربة عبدا فقتله عبد لغيره ولم يكن ظهر في المال ربح فالامر إلى رب
المال ان شاء اقتص وان شاء عفا على غير مال وتبطل المضاربة فيه لذهاب رأس المال وان شاء عفا
على مال فإن عفا على مال مثل رأس المال أو أقل أو أكثر فالمضاربة بحالها والربح بينهما على شرطهما
لأنه وجد بدل عن رأس المال فهو كما لو وجد بدله بالبيع وإن كان في العبد ربح فالقصاص إليهما
والمصالحة كذلك لكونهما شريكين فيه والحكم في انفساخ المضاربة وبقائها على ما تقدم
168

(مسألة) قال (وليس للمضارب ربح حتى يستوفى رأس المال)
يعني أنه لا يستحق أخذ شئ من الربح حتى يسلم رأس المال إلى ربه ومتى كان في المال خسران
وربح جبرت الوضيعة من الربح سواء كان الخسران والربح في مرة واحدة أو الخسران في صفقة والربح
في أخرى أو أحدهما في سفرة والآخر في أخرى لأن معنى الربح هو الفاضل عن رأس المال وما لم
يفضل فليس بربح ولا نعلم في هذا خلافا، وأما ملك العامل لنصيبه من الربح بمجرد الظهور قبل القسمة
فظاهر المذهب أنه يثبت هذا الذي ذكره القاضي مذهبا وبه قال أبو حنيفة، وحكى أبو الخطاب رواية
أخرى أنه لا يملكه الا بالقسمة وهو مذهب مالك وللشافعي قولان كالمذهبين واحتج من لم يملكه
بأنه لو ملكه لاختص بربحه ولو جب أن يكون شريكا لرب المال كشريكي العنان
ولنا أن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه وهو أن يكون له جزء من الربح فإذا وجد يجب أن يملكه
169

بحكم الشرط كما يملك المساقي حصته من الثمرة لظهورها وقياسا على كل شرط صحيح في عقد ولان هذا
الربح مملوك فلا بدله من مالك ورب المال ولا يملكه اتفاقا ولا تثبت أحكام الملك في حقه فلزم أن
يكون للمضارب ولأنه يملك المطالبة بالقسمة فكان مالكا كأحد شريكي العنان ولا يمنع أن يملكه
ويكون وقاية لرأس المال كنصيب رب المال من الربح وبهذا امتنع اختصاصه بربحه ولأنه لو اختص
بربح نصيبه لا استحق من الربح أكثر مما شرط له لا يثبت بالشرط ما يخالف مقتضاه ثم قال أحمد
إذا وطئ المضارب جارية من المضاربة فإن لم يكن ظهر في المال ربح لم تكن أم ولده وان ظهر فيه
ربح فهي أم ولده وهذا يدل على أنه يملك الربح بالظهور
(فصل) وإذا دفع إلى رجل مائة مضاربة فخسر عشرة ثم أخذ رب المال منها عشرة فإن الخسران
لا ينقص به رأس المال لأنه قد يربح فيجبر الخسران لكنه ينقص بما أخذه رب المال وهي العشرة
وقسطها من الخسران وهو درهم وتسع درهم ويبقى رأس المال ثمانين وثمانية دراهم وثمانية أتساع درهم
170

وإن كان أخذ نصف التسعين الباقية بقي رأس المال خمسين لأنه أخذ نصف المال فسقط نصف
الخسران وإن كان أخذ خمسين بقي أربعة وأربعون وأربعة أتساع وكذلك إذا ربح المال ثم أخذ
رب المال بعضه كان ما أخذه من الربح ورأس المال فلو كان رأس المال مائة فربح عشرين فأخذها
رب المال لبقي رأس المال ثلاثة وثمانين وثلثا لأنه أخذ سدس المال فنقص رأس المال سدسه وهو
ستة عشر وثلثان وحظها من الربح ثلاثة وثلث ولو كان أخذ ستين بقي رأس المال خمسين لأنه أخذ
نصف المال فبقي نصف المال وان أخذ خمسين بقي ثمانية وخمسين وثلثا لأنه أخذ ربع المال وسدسه
فبقي ثلثه وربعه وهو ما ذكرنا، وان أخذ منه ستين ثم خسر في الباقي فصار أربعين فردها كان له على
رب المال خمسة لأن ما اخذه رب المال انفسخت فيه المضاربة فلا يجبر بربحه خسران ما بقي في يده
لمفارقته إياه وقد اخذ من الربح عشرة لأن سدس ما اخذه ربح فكانت العشرة بينهما وان لم يرد
الأربعين كلها بل رد منها إلى رب المال عشرين بقي رأس المال خمسة وعشرين
171

(فصل) إذا اشترى رب المال من مال المضاربة شيئا لنفسه لم يصح في إحدى الروايتين وهو
قول الشافعي ويصح في الأخرى وبه قال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة لأنه قد تعلق حق المضارب
به فجاز له شراؤه وكما لو اشترى من مكاتبه أو من عبده المأذون الذي عليه دين
ولنا انه ملكه فلم يصح شراؤه له كشرائه من وكيله وعبده المأذون الذي لا دين عليه وفارق
المكاتب فإن السيد لا يملك ما في يده ولهذا لا يزكيه، وله اخذ ما فيه شفعة بها، فأما المأذون له فلا
يصح شراء سيده منه بحال ويحتمل ان يصح إذا استغرقته الديون لأن الغرماء يأخذون ما في يده
والصحيح الأول لأن ملك السيد لم يزل عنه وان استحق اخذه كمال المفلس
(فصل) وان اشترى المضارب لنفسه من مال المضاربة ولم يظهر في المال ربح صح نص عليه
أحمد وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وحكي ذلك عن أبي حنيفة وقال أبو ثور البيع باطل
لأنه شريك. ولنا أنه ملك لغيره فصح شراؤه له كما لو اشترى الوكيل من موكله وإنما يكون شريكا
172

إذا ظهر ربح لأنه إنما يشارك رب المال في الربح لا في أصل المال ومتى ظهر في المال ربح كان شراؤه
كشراء أحد الشريكين على ما سنذكره
(فصل) وإن اشترى أحد الشريكين من مال الشركة شيئا بطل في قدر حقه لأنه ملكه وهل
يصح في حصة شريكه؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة، وتتخرج الصحة في الجميع بناء على أن لرب
المال أن يشتري من مال المضاربة لنفسه، وان اشترى أحد الشريكين حصة شريكه منه جاز لأنه يشتري
ملك غيره وقال أحمد في الشريكين في الطعام يريد أحدهما بيع حصته من صاحبه: ان لم يكونا يعلمان كيله فلا
بأس وان علما كيله فلا بد من كيله يعني ان من علم مبلغ شئ لم يبعه صبرة وان باعه إياه بالكيل والوزن جاز
(فصل) ولو استأجر أحد الشريكين من صاحبه دارا ليحرز فيها مال الشركة أو غرائر جاز
نص عليه أحمد في رواية صالح، وان استأجره لنقل الطعام أو غلامه أو دابته ففيه روايتان (إحداهما)
الجواز لأن ما جاز ان يستأجر له غير الحيوان جاز ان يستأجر له الحيوان كمال الأجنبي (والأخرى)
173

لا يجوز لأن هذا لا تجب الأجرة فيه الا بالعمل ولا يمكن ايفاء العمل في المشترك لأن نصيب المستأجر
غير متميز من نصيب المؤجر فإذا لا تجب الأجرة، والدار والغرائر لا يعتبر فيهما ايقاع العمل إنما تجب بوضع
العين في الدار فيمكن تسليم المعقود عليه
(مسألة) (قال وإذا اشترى سلعتين فربح في إحداهما وخسر في الأخرى جبرت
الوضيعة من الربح).
وجملته انه إذا دفع إلى المضارب الفين فاشترى بكل ألف عبدا فربح في أحدهما وخسر في الآخر
أو تلف وجب جبر الخسران من الربح ولا يستحق المضارب شيئا الا بعد كمال الألفين وبهذا قال الشافعي
الا فيما إذا تلف أحد العبدين فإن أصحابه ذكروا فيه وجها ثانيا ان التالف من رأس المال لأنه بدل أحد
الألفين ولو تلف أحد الألفين كان رأس المال فكذلك بدله، ولنا انه تلف بعد أن دار في القراض وتصرف
174

في المال بالتجارة فكان تلفه من الربح كما لو كان رأس المال دينارا واحدا فاشترى به سلعتين ولأنهما
سلعتان تجبر خسارة إحداهما بربح الأخرى فجبر تلفها به كما لو كان رأس المال دينارا ولأنه رأس
مال واحد فلا يستحق المضارب فيه ربحا حتى يكمل رأس المال كالذي ذكرنا، فاما ان تلف أحد
الألفين قبل الشراء به والتصرف فيه أو تلف بعضه انفسخت المضاربة فيما تلف وكان رأس المال الباقي
خاصة، وقال بعض الشافعية مذهب الشافعي أن التالف من الربح ورأس المال الألفان معا لأن المال
إنما يصيره قراضا بالقبض فلا فرق بين هلاكه قبل التصرف وبعده
ولنا انه مال هلك على جهته قبل التصرف فيه فكان رأس المال الباقي كما لو تلف قبل القبض
وفارق ما بعد التصرف لأنه دار في التجارة وشرع فيما قصد بالعقد من التصرفات المؤدية إلى الربح.
(فصل) وإذا دفع إليه ألفا مضاربة ثم دفع إليه ألفا آخر مضاربة وأذن له في ضم أحدهما إلى
الآخر قبل التصرف في الأول جاز وصارا مضاربة واحدة كما لو دفعهما إليه مرة واحدة، وإن كان بعد
التصرف في الأول في شراء المتاع لم يجز لأن حكم الأول استقر فكان ربحه وخسرانه مختصا به فضم
الثاني إليه يوجب جبران خسران أحدهما بربح الآخر، فإذا شرط ذلك في الثاني فسد فإن نض
الأول جاز ضم الثاني إليه لزوال هذا المعنى وان لم يأذن له في ضم الثاني إلى الأول لم يجز له ذلك نص
عليه أحمد وقال إسحاق له ذلك قبل ان يتصرف في الأول
175

ولنا انه أفرد كل واحد بعقد فكانا عقدين لكل عقد حكم نفسه ولا تجبر وضيعة أحدهما بربح
الآخر كما لو نهاه عن ذلك
(فصل) قالا الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن المضارب يربح ويضع مرارا فقال يرد الوضيعة
على الربح الا أن يقبض المال صاحبه ثم يرده إليه فيقول اعمل به ثانية فما ربح بعد ذلك لا تجبر به
وضيعة الأول فهذا ليس في نفسي منه شئ وأما ما لم يدفع إليه فحتى يحتسبا حسابا كالقبض كما قال ابن
سيرين، قيل وكيف يكون حسابا كالقبض؟ قال يظهر المال يعني ينض ويجئ فيحتسبان عليه فإن شاء
صاحب المال قبضه، قيل له فيحتسبان على المتاع؟ فقال لا يحتسبان الاعلى الناض لأن المتاع قد ينحط سعره
ويرتفع، قال أبو طالب قيل لأحمد رجل دفع إلى رجل عشرة آلاف درهم مضاربة فوضع فبقيت ألف
فحاسبه صاحبها ثم قال له اذهب فاعمل بها فربح؟ قال يقاسمه ما فوق الألف يعني إذا كانت الألف
ناضة حاضرة انشاء صاحبها قبضها فهذا الحساب الذي كالقبض فيكون أمره بالمضاربة بها في هذه الحال
ابتداء مضاربة ثانية كما لو قبضها منه ثم ردها إليه فأما قبل ذلك فلا شئ للمضارب حتى يكمل عشرة
آلاف، ولو أن رب المال والمضارب اقتسما الربح أو أخذ أحدهما منه شيئا باذن صاحبه والمضاربة بحالها
ثم سافر المضارب به فخسر كان على المضارب رد ما أخذه من الربح لأننا تبينا انه ليس بربح ما لم تنجبر الخسارة
176

(فصل) وإذا قارض في مرضه صح لأنه عقد يبتغى به الفضل فأشبه البيع والشراء وللعامل
ما شرط له من الربح وان زاد على شرط مثله وإلا يحتسب به من ثلثه لأن ذلك غير مستحق من مال
رب المال وإنما حصل بعمل المضارب في المال فما يوجد من الربح المشروط يحدث على ملك العامل
بخلاف ما لو حابى الأجير في الاجر فإنه يحتسب بما حاباه من ثلثه لأن الاجر يؤخذ من ماله، ولو شرط
في المساقاة والمزارعة أكثر من أجر المثل احتمل ان لا يحتسب به من ثلثه لأن الثمرة تخرج على ملكيهما
كالربح في المضاربة واحتمل أن يكون من ثلثه لأن الثمرة زيادة في ملكه خارجة عن عينه والربح لا يخرج
عن يمين المال إنما يحصل بالتقليب
(فصل) وإذا مات رب المال قدمنا حصة العامل على غرمائه ولم يأخذوا شيئا من نصيبه لأنه يملك
الربح بالظهور فكان شريكا فيه وليس لرب المال شئ من نصيبه فهو كالشريك بماله ولان
حقه متعلق بعين المال دون الذمة فكان مقدما كحق الجناية ولأنه متعلق بالمال قبل الموت
فكان أسبق كحق الرهن
(فصل) وان مات المضارب ولم يعرف مال المضاربة بعينه صار دينا في ذمته ولصاحبه أسوة
الغرماء وقال الشافعي ليس على المضارب شئ لأنه لم يكن له في ذمته وهو حي شئ ولم يعلم حدوث
ذلك بالموت فإنه يحتمل أن يكون المال قد هلك
177

ولنا ان الأصل بقاء المال في يده واختلاطه بجملة التركة ولا سبيل إلى معرفة عينه فكان دينا
كالوديعة إذا لم تعرف عينها ولأنه لا سبيل إلى اسقاط حق رب المال لأن الأصل بقاؤه ولم يوجد
ما يعارض ذلك ويخالفه ولا سبيل إلى اعطائه عينا من هذا المال لأنه يحتمل أن يكون من غير
مال المضاربة فلم يبق الا تعلقه بالذمة
(مسألة) قال (وإذا تبين للمضارب ان في يده فضلا لم يكن له أخذ شئ
منه الا باذن رب المال)
وجملته ان الربح إذا ظهر في المضاربة لم يجز للمضارب اخذ شئ منه بغير إذن رب المال
لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا إنما لم يملك ذلك لأمور ثلاثة (أحدها) ان الربح وقاية لرأس المال
فلا يأمن الخسران الذي يكون هذا الربح جابرا له فيخرج بذلك عن أن يكون ربحا (الثاني) ان رب
المال شريكه فلم يكن له مقاسمة نفسه (والثالث) ان ملكه عليه غير مستقر لأنه بعرض ان يخرج عن
يده بجبران خسارة المال وان أذن رب المال في أخذ شئ جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما
(فصل) وان طلب أحدهما قسمة الربح دون رأس المال وأبى الآخر قدم قول الممتنع لأنه إن كان
رب المال فلانه لا يأمن الخسران في رأس المال فيجبره بالربح وإن كان العامل فإنه لا يأمن أن يلزمه رد
178

ما أخد في وقت لا يقدر عليه وان تراضيا على ذلك جاز لأن الحق لهما وسواء اتفقا على قسمة جميعه أو
بعضه أو على أن يأخذ كل واحد منهما شيئا معلوما ينفقه، ثم متى ظهر في المال خسران أو تلف كله
لزم العامل رد أقل الأمرين مما أخذه أو نصف خسران المال إذا اقتسما الربح نصفين وبهذا قال الثوري
والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة لا تجوز القسمة حتى يستوفي رب المال ماله، قال ابن المنذر إذا
اقتسما الربح ولم يقبض رب المال رأس ماله فأكثر أهل العلم يقولون برد العامل الربح حتى
يستوفي رب المال ماله
ولنا على جواز القسمة ان المال لهما فجاز لهما ان يقتسما بعضه كالشريكين أو نقول إنهما شريكان
فجاز لهما قسمة الربح قبل المفاصلة كشريكي العنان
(فصل) والمضاربة من العقود الجائزة تنفسخ بفسخ أحدهما أيهما كان وبموته وجنونه والحجر
عليه لسفه لأنه متصرف في مال غيره باذنه فهو كالوكيل، ولا فرق بين ما قبل التصرف وبعده فإذا انفسخت
والمال ناض لا ربح فيه أخذه ربه وإن كان فيه ربح قسما الربح على ما شرطاه، وإن انفسخت والمال
عرض فاتفقا على بيعه أو قسمه جاز لأن الحق لهما لا يعدوهما، وان طلب العامل البيع وأبى رب المال
وقد ظهر في المال ربح أجبر رب المال على البيع وهو قول إسحاق والثوري لأن حق العامل في الربح
ولا يظهر إلا بالبيع وان لم يظهر ربح لم يجبر لأنه لاحق له فيه وقد رضيه مالكه كذلك فلم يجبر على
179

بيعه وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم فيه وجه آخر انه يجبر على البيع لأنه ربما زاد فيه زائد
أو رغب فيه راغب فزاد على ثمن المثل فيكون للعامل في البيع حظ
ولنا أن المضارب إنما استحق الربح إلى حين الفسخ وذلك لا يعلم إلا بالتقويم ألا ترى أن
المستعير إذا غرس أو بنى أو المشتري كان للمعير والشفيع أن يدفعا قيمة ذلك لأنه مستحق للأرض
فههنا أولى وما ذكروه من احتمال الزيادة بزيادة مزايد أو راغب على قيمته فإنما حدث ذلك بعد فسخ
العقد فلا يستحقها العامل، وان طلب رب المال البيع وأبى العامل ففيه وجهان (أحدهما) يجبر العامل
على البيع وهو قول الشافعي لأن عليه رد المال ناضا كما أخذه (والثاني) لا يجبر إذا لم يكن في المال
ربح أو أسقط حقه من الربح لأنه بالفسخ زال تصرفه وصار أجنبيا من المال فأشبه الوكيل إذا اشترى
ما يستحق رده فزالت وكالته قبل رده، ولو كان رأس المال دنانير فصار دراهم أو دراهم فصار دنانير
فهو كما لو كان عرضا على ما شرح، وإذا نض رأس المال جميعه لم يلزم العامل أن ينض له الباقي لأنه
شركة بينهما ولا يلزم الشريك أن ينض مال شريكه ولأنه إنما لزمه أن ينض رأس المال ليرد إليه رأس
ماله على صفته ولا يوجد هذا المعنى في الربح
(فصل) وان انفسخ القراض والمال دين لزم العامل تقاضيه سواء ظهر في المال ربح أولم يظهر
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان ظهر ربح لزمه تقاضيه وان لم يظهر ربح لم يلزمه تقاضيه لأنه
لا غرض له في العمل فهو كالوكيل
180

ولنا أن المضاربة تقتضي رد رأس المال على صفته والديون لا تجري مجرى الناض فلزمه أن
ينضه كما لو ظهر في المال ربح وكما لو كان رأس المال عرضا ويفارق الوكيل فإنه لا يلزمه رد المال كما
قبضه ولهذا لا يلزمه بيع العروض، ولافرق بين كون الفسخ من العامل أو رب المال فإن اقتضى منه
قدر رأس المال أو كان الدين قدر الربح أو دونه لزم العامل تقاضيه أيضا لأنه إنما يستحق نصيبه
من الربح عند وصوله إليهما على وجه يمكن قسمته ووصول كل واحد منهما إلى حقه منه ولا يحصل
ذلك إلا بعد تقاضيه
(فصل) وأي المتقارضين مات أو جن انفسخ القراض لأنه عقد جائز فانفسخ بموت أحدهما
وجنونه كالتوكيل فإن كان الموت أو الجنون يرب المال فأراد الوارث أو وليه اتمامه والمال ناض جاز
ويكون رأس المال وحصته من الربح رأس المال وحصة العامل من الربح شركة له مشاعة وهذه الإشاعة
لا تمنع لأن الشريك هو العامل وذلك لا يمنع التصرف، فإن كان المال عرضا وأرادوا إتمامه فظاهر
كلام أحمد جوازه لأنه قال في رواية علي بن سعيد إذا مات رب المال لم يجز للعامل أن يبيع ولا يشتري
الا باذن الورثة، فظاهر هذا بقاء العامل على قراضه وهو منصوص الشافعي لأن هذا اتمام للقراض
لا ابتداء له ولان القراض إنما منع منه في العروض لأنه يحتاج عند المفاصلة إلى رد مثلها أو قيمتها
ويختلف ذلك باختلاف الأوقات وهذا غير موجود ههنا لأن رأس المال غير العروض وحكمه باق.
181

ألا ترى أن للعامل أن يبيعه ليسلم رأس المال ويقسم الباقي وذكر القاضي وجها آخر أنه لا يجوز لأن
القراض قد بطل بالموت وهذا ابتداء قراض على عروض وهذا الوجه أقيس لأن المال لو كان ناضا
كان ابتداء قراض وكانت حصة العامل من الربح شركة له يختص بها دون رب المال، وإن كان
المال ناضا بخسارة أو تلف كان رأس المال الموجود منه حال ابتداء القراض فلو جوزنا ابتداء القراض
ههنا وبناءهما على القراض لصارت حصة العامل من الربح غير مختصة وبه حصتها من الربح مشتركة بينهما وحسبت
عليه العروض بأكثر من قيمتها فيما إذا كان المال ناقصا وهذا لا يجوز في القراض بلا خلاف، وكلام أحمد يحمل
على أنه يبيع ويشتري باذن الورثة كبيعه وشرائه بعد انفساخ القراض. فأما ان مات العامل أو جن وأراد ابتداء
القراض مع وارثه أو وليه فإن كان ناضا جاز كما قلنا فيما إذا مات رب المال وإن كان عرضا لم يجز
ابتداء القراض الا على الوجه الذي يجوز ابتداء القراض على العروض بان تقوم العروض ويجعل
رأس المال قيمتها يوم العقد لأن الذي كان منه العمل قد مات أو جن وذهب عمله ولم يخلف أصلا يبني عليه
وارثه بخلاف ما إذا مات رب المال فإن المال المقارض عليه موجود ومنافعه موجودة فأمكن استدامة
العقد وبناء الوارث عليه، وإن كان المال ناضا جاز ابتداء القراض فيه إذا اختار ذلك فإن لم يبتدئاه
لم يكن للوارث شراء ولابيع لأن رب المال إنما رضي باجتهاد مورثه فإذا لم يرض ببيعه رفعه إلى الحاكم
ليبيعه فأما إن كان الميت رب المال فليس للعامل الشراء لأن القراض انفسخ فأما البيع فإن الحكم فيه
وفي التقويم واقتضاء الدين على ما ذكرناه إذا فسخت المضاربة ورب المال حي
182

(فصل) إذا تلف المال قبل الشراء انفسخت المضاربة لزوال المال الذي تعلق العقد به وما
اشتراه بعد ذلك للمضاربة فهو لازم له والثمن عليه سواء علم بتلف المال قبل نقد الثمن أو جهل ذلك وهل
يقف على إجازة رب المال، على روايتين (إحداهما) ان اجازه فالثمن عليه والمضاربة بحالها وان لم
يجزه لزم العامل (والثانية) هو للعامل على كل حال فإن اشترى للمضاربة شيئا فتلف المال قبل نقده
فالشراء للمضاربة وعقدها باق ويلزم رب المال الثمن ويصير رأس المال الثمن دون التالف لأن
الأول تلف قبل التصرف فيه وهذا قول بعض الشافعية ومنهم من قال رأس المال هذا والتلف وحكي
ذلك عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن
ولنا ان التالف تلف قبل التصرف فيه فلم يكن من رأس المال كما لو تلف قبل الشراء، ولو
اشترى عبدين بمال المضاربة فتلف أحد العبدين كان تلفه من الربح ولم ينقص رأس المال بتلفه لأنه
تلف بعد التصرف فيه، وان تلف العبدان كلاهما انفسخت المضاربة لزوال مالها كله فإن دفع إليه رب
المال بعد ذلك ألفا كان الألف رأس المال ولم يضم إلى المضاربة الأولى لأنها انفسخت لذهاب مالها
(مسألة) (قال وإذا اتفق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما
كان الربح بينهما والوضيعة على المال)
وجملته انه متى شرط على المضارب ضمان المال أو سهما من الوضيعة فالشرط باطل لا نعلم فيه خلافا
183

والعقد صحيح نص عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة ومالك وروي عن أحمد ان العقد يفسد به وحكي
ذلك عن الشافعي لأنه شرط فاسد فأفسد المضاربة كما لو شرط لأحدهما فضل دراهم والمذهب الأول
ولنا انه شرط لا يؤثر في جهالة الربح فلم يفسد به كما لو شرط لزوم المضاربة، ويفارق شرط
الدراهم لأنه إذا فسد الشرط ثبتت حصة كل واحد منهما في الربح مجهولة
(فصل) والشروط في المضاربة تنقسم قسمين صحيح وفاسد: فالصحيح مثل أن يشترط على العامل
ان لا يسافر بالمال أو ان لا يسافر به أو لا يتجر الا في بلد بعينه أو نوع بعينه أو لا يشتري الا من رجل
بعينه فهذا كله صحيح سواء كان النوع مما يعم وجوده أولا يعم والرجل ممن يكثر عنده المتاع أو يقل وبهذا
قال أبو حنيفة، وقال مالك والشافعي إذا شرط أن لا يشتري الامن رجل بعينه أو سلعة بعينها أوما لا يعم
وجوده كالياقوت الأحمر والخيل البلق لم يصح لأنه يمنع مقصود المضاربة وهو التقليب وطلب الربح
فلم يصح كما لو اشترط أن لا يبيع ويشتري الا من فلان أو أن لا يبيع الا بمثل ما اشترى به
184

ولنا انها مضاربة خاصة لا تمنع الربح بالكلية فصحت كما لو شرط ان لا يتجر الا في نوع يعم
وجوده ولأنه عقد يصح تخصيصه بنوع فصح تخصيصه في رجل بعينه وسلعة بعينها كالوكالة وقولهم انه
يمنع المقصود ممنوع وإنما يقلله وتقليله لا يمنع الصحة كتخصيصه بالنوع ويفارق ما إذا شرط ان
لا يبيع الا برأس المال فإنه يمنع الربح بالكلية وكذلك إذا قال لا تبع الا من فلان ولا تشتر الا
من فلان فإنه يمنع الربح أيضا لأنه لا يشتري ما باعه الا بدون ثمنه الذي باعه به ولهذا لو قال
لا تبع الا ممن اشتريت منه لم يصح لذلك
(فصل) ويصح تأقيت المضاربة مثل ان يقول ضاربتك على هذه الدراهم سنة فإذا انقضت فلا تبع
ولا تشتر قال مهنأ سألت أحمد عن رجل أعطى رجلا ألفا مضاربة شهرا قال إذا مضى شهر يكون قرضا
قال لا بأس به قلت فإن جاء الشهر وهي متاع؟ قال إذا باع المتاع يكون قرضا وقال أبو الخطاب في صحة
شرط التأقيت روايتان (إحداهما) هو صحيح وهو قول أبي حنيفة (والثانية) لا يصح وهو قول
الشافعي ومالك واختيار أبي حفص العكبري لثلاثة معان (أحدها) انه عقد يقع مطلقا فإذا شرط
قطعه لم يصح كالنكاح (الثاني) ان هذا ليس من مقتضى العقد ولا له فيه مصلحة فأشبه ما لو شرط
ان لا يبيع، وبيان انه ليس من مقتضى العقد انه يقتضي أن يكون رأس المال ناضا فإذا منعه البيع لم
185

ينض (الثالث) ان هذا يؤدي إلى ضرر بالعامل لأنه قد يكون الربح والحظ في تبقية المتاع وبيعه بعد
السنة فيمتنع ذلك بمضيها
ولنا انه تصرف يتوقت بنوع من المتاع فجاز توقيته في الزمان كالوكالة، والمعنى الأول الذي ذكروه
يبطل بالوكالة والوديعة، والمعنى الثاني والثالث يبطل تخصيصه بنوع من المتاع ولان لرب المال منعه من البيع والشراء
في كل وقت إذا رضي ان يأخذ بماله عرضا فإذا شرط ذلك فقد شرط ما هو من مقتضى العقد فصح كما لو
قال إذا انقضت السنة فلا تشتر شيئا وقد سلموا صحة ذلك
(فصل) وإذا اشترط المضارب نفقة نفسه صح سواء كان في الحضر أو السفر وقال الشافعي
لا يصح في الحضر، ولنا ان التجارة في الحضر إحدى حالتي المضاربة فصح اشتراط النفقة فيها كالسفر
ولأنه شرط النفقة في مقابلة عمله فصح كما لو اشترطها في الوكالة
(فصل) والشروط الفاسدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام (أحدهما) ما ينافي مقتضى العقد مثل أن يشترط لزوم
المضاربة أو لا يعزله مدة بعينها أو لا يبيع الا برأس المال أو أقل أو لا يبيع إلا ممن اشترى منه
أو شرط ألا يشتري أو لا يبيع أو أن يوليه ما يختاره من السلع أو نحو ذلك فهذه شروط فاسدة
لأنها تفوت المقصود من المضاربة وهو الربح أو تمنع الفسخ الجائز بحكم الأصل (القسم الثاني) ما يعود
186

بجهالة الربح مثل أن يشترط للمضارب جزءا من الربح مجهولا أو ربح أحد الكسبين أو أحد الألفين
أو أحد العبدين أو ربح إحدى السفرتين أو ما يربح في هذا لأشهر أو ان حق أحدهما في عبد يشتريه،
أو يشترط لأحدهما دراهم معلومة بجميع حقه أو ببعضه أو يشترط جزءا من الربح لأجنبي فهذه شروط فاسدة
لأنها تفضي إلى جهل حق كل واحد منهما من الربح أو إلى فواته بالكلية ومن شرط المضاربة كون
الربح معلوما (القسم الثالث) اشتراط ما ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه مثل أن يشترط على المضارب
المضاربة له في مال آخر أو يأخذه بضاعة أو قرضا أو ان يخدمه في شئ بعينه أو يرتفق ببعض السلع
مثل أن يلبس الثوب ويستخدم العبد ويركب الدابة، أو يشترط على المضارب ضمان المال أو سهما من
الوضيعة أو أنه متى باع السلعة فهو أحق بها بالثمن، أو شرط المضارب على رب المال شيئا من ذلك
فهذه كلها شروط فاسدة وقد ذكرنا كثيرا منها في غير هذا الموضع معللا، ومتى اشترط شرطا فاسدا
يعود بجهالة الربح فسدت المضاربة لأن الفساد لمعنى في العوض المعقود عليه فافسد العقد كما لو جعل
رأس المال خمرا أو خنزيرا ولان الجهالة تمنع من التسليم فتفضي إلى التنازع والاختلاف ولا يعلم ما
يدفعه إلى المضارب. وما عدا ذلك من الشروط الفاسدة فالمنصوص عن أحمد في أظهر الروايتين عنه أن
العقد صحيح ذكره عنه الأثرم وغيره لأنه عقد يصح على مجهول فلم تبطله الشروط الفاسدة كالنكاح
187

والعتاق والطلاق، وذكر القاضي وأبو الخطاب رواية أخرى أنها تفسد العقد لأنه شرط فاسد فأفسد
العقد كشرط دراهم معلومة أو شرط أن يأخذ له بضاعة والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة سواء
(فصل) وفي المضاربة الفاسدة فصول ثلاثة أحدها أنه إذا تصرف نفذ تصرفه لأنه أذن له فيه
فإذا بطل العقد بقي الاذن فملك به التصرف كالوكيل، فإن قيل فلو اشترى الرجل شراء فاسد ثم
تصرف فيه لم ينفذ تصرفه مع أن البائع قد أذن له في التصرف، قلنا لأن المشتري يتصرف من جهة
الملك لا بالاذن فإن أذن له البائع كان على أنه ملك المأذون له فإذا لم يملك لم يصح وههنا أذن له
رب المال في التصرف في ملك نفسه وما شرطه من الشرط الفاسد فليس بمشروط في مقابلة الاذن لأنه
أذن له في تصرف يقع له
(الفصل الثاني) أن الربح جميعه لرب المال لأنه نماء ماله إنما يستحق العامل بالشرط فإذا فسدت
المضاربة فسد الشرط فلم يستحق منه شيئا وكان له أجر مثله نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي
واختار الشريف أبو جعفر أن الربح بينهما على ما شرطاه واحتج بما روي عن أحمد أنه قال إذا
اشتركا في العروض قسم الربح على ما شرطاه قال وهذه الشركة فاسدة واحتج بأنه عقد يصح مع
الجهالة فيثبت المسمى في فاسده كالنكاح قال ولا أجر له وجعل أحكامها كلها كأحكام الصحيحة وقد ذكرنا
هذا قال القاضي أبو يعلى والمذهب ما حكينا وكلام أحمد محمول على أنه صحح الشركة بالعروض وحكي
188

عن مالك أنه يرجع إلى قراض المثل وحكي عنه ان لم يربح فلا اجر له، ومقتضى هذا انه ان ربح
فله الأقل مما شرط له أو اجر مثله ويحتمل ان يثبت عندنا مثل هذا لأنه إذا كان الأقل ما شرط له
فقد رضى به فلا يستحق أكثر منه كما لو تبرع بالعمل الزائد
ولنا ان تسمية الربح من توابع المضاربة أو ركن من أركانها فإذا فسدت فسدت أركانها وتوابعها
كالصلاة ولا نسلم في النكاح وجوب المسمى إذا كان العقد فاسدا وإذا لم يجب له المسمى وجب
اجر المثل لأنه إنما عمل ليأخذ المسمى فإذا لم يحصل له المسمى وجب رد عمله إليه وذلك متعذر
فتجب قيمته وهو اجر مثله كما لو تبايعا بيعا فاسد أو تقابضا وتلف أحد العوضين في يد القابض له وجب
رد قيمته، فعلى هذا سواء ظهر في المال ربح أو لم يظهر، فأما ان رضي المضارب بالعمل بغير عوض مثل
ان يقول قارضتك والربح كله لي فالصحيح انه لا شئ للمضارب ههنا لأنه تبرع بعمله فأشبه ما لو
اعانه في شئ أو توكل له بغير جعل أو اخذ له بضاعة
(الفصل الثالث) في الضمان ولا ضمان عليه فيما يتلف بغير تعديه وتفريطه لأن ما كان القبض في
صحيحه مضمونا كان مضمونا في فاسده وما لم يكن مضمونا في صحيحه لم يضمن في فاسده وبهذا قال
الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يضمن
ولنا أنه عقد لا يضمن ما قبضه في صحيحه فلم يضمنه في فاسده كالوكالة ولأنها إذا فسدت صارت
إجارة والأجير لا يضمن سكنى ما تلف بغير تعديه ولا فعله فكذا ههنا وأما الشركة إذا فسدت فقد ذكرناها قبل هذا
189

(مسألة) قال: (ولا يجوز أن يقال لمن عليه دين ضارب بالدين الذي عليك)
نص احمد على هذا وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه مخالفا قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ
عنه من أهل العلم أنه لا يجوز أن يجعل الرجل دينا له على رجل مضاربة وممن حفظنا ذلك عنه عطاء
والحكم وحماد ومالك والثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وبه قال الشافعي وقال بعض
أصحابنا يحتمل أن تصح المضاربة لأنه إذا اشترى شيئا للمضاربة فقد اشتراه باذن رب المال ودفع الدين
إلى من أذن له في دفعه إليه فتبرأ ذمته منه ويصير كما لو دفع إليه عرضا وقال بعه وضارب بثمنه وجعل
أصحاب الشافعي مكان هذا الاحتمال ان الشراء لرب المال وللمضارب أجر مثله لأنه علقه بشرط ولا يصح
عندهم تعليق القراض بشرط، والمذهب هو الأول لأن المال الذي في يدي من عليه الدين له وإنما يصير
لغريمه بقبضه ولم يوجد القبض ههنا وإن قال له اعزل المال الذي لي عليك وقد قارضتك عليه ففعل
واشترى بعين ذلك المال شيئا للمضاربة وقع الشراء للمشتري لأنه يشتري لغيره بمال نفسه فحصل الشراء
له فإن اشترى في ذمته فكذلك لأنه عقد القراض على مالا يملكه وعلقه على شرط لا يملك به المال
(فصل) وإن قال لرجل اقبض المال الذي على فلان واعمل به مضاربة فقبضه وعمل به جاز في قولهم
جميعا ويكون وكيلا في قبضه مؤتمنا عليه لأنه قبضه بإذن مالكه من غيره فجاز ان يجعله مضاربة كما لو قال
اقبض المال من غلامي وضارب به قال مهنأ سألت أحمد عن رجل قال أقرضني ألفا شهرا ثم هو بعد
190

الشهر مضاربة قال لا يصلح وذلك لأنه إذا أقرضه صار دينا عليه وقد ذكرنا أنه لا يجوز أن يضارب
بالدين الذي عليه ولو قال ضارب به شهرا ثم خذه قرضا جاز لما ذكرنا فيما تقدم
(فصل) ومن شرط المضاربة أن يكون رأس المال معلوم المقدار ولا يجوز أن يكون مجهولا ولا جزافا
ولو شاهداه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي يصح إذا شاهداه والقول قول العامل
مع يمينه في قدره لأنه امين رب المال والقول قوله فيما في يديه فقام ذلك مقام المعرفة به
ولنا أنه مجهول فلم تصح المضاربة به كما لو لم يشاهداه وذلك لأنه لا يدري بكم يرجع عند المفاصلة؟
ولأنه يفضي إلى المنازعة والاختلاف في مقداره فلم يصح كما لو كان في الكيس وما ذكروه يبطل
بالسلم وبما إذا لم يشاهداه.
(فصل) ولو أحضر كيسين في كل واحد منهما مال معلوم المقدار وقال قارضتك على أحدهما لم يصح
سواء تساوى ما فيهما أو اختلف لأنه عقد تمنع صحته الجهالة فلم يجز على غير معين كالبيع.
* (مسألة) * قال (وإن كان في يده وديعة جاز له أن يقول ضارب بها)
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الحسن لا يجوز حتى يقبضها منه قياسا على الدين
ولنا أن الوديعة ملك رب المال فجاز أن يضاربه عليها كما لو كانت حاضرة فقال قارضتك على هذا
191

الألف وأشار إليه في زاوية البيت، وفارق الدين فإنه لا يصير عين المال ملكا للغريم إلا بقبضه ولو كانت
الوديعة قد تلفت بتفريطه وصارت في الذمة لم يجز أن يضاربه عليها لأنها صارت دينا.
(فصل) ولو كان له في يد غيره مال مغصوب فضارب الغاصب به صح أيضا لأنه مال لرب المال
يباح له بيعه من غاصبه ومن يقدر على أخذه منه فأشبه الوديعة وإن تلف وصار في الذمة لم تجز المضاربة
به لأنه صار دينا ومتى ضاربه بالمال المغصوب زال ضمان الغصب بمجرد عقد المضاربة وبهذا قال أبو حنيفة
وقال القاضي لا يزول ضمان الغصب إلا بدفعه ثمنا وهو مذهب الشافعي لأن القراض لا ينافي
الضمان بدليل ما لو تعدى فيه. ولنا انه ممسك للمال بإذن مالكه لا يختص بنفعه ولم يتعد فيه فأشبه ما لو قبضه إياه
(فصل) والعامل أمين في مال المضاربة لأنه متصرف في مال غيره باذنه لا يختص بنفعه فكان أمينا كالوكيل
وفارق المستعير فإنه قبضه لمنفعته خاصة وههنا المنفعة بينهما، فعلى هذا القول قوله في قدر رأس المال قال
ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنهم من أهل العلم أن القول قول العامل في قدر رأس المال كذا قال الثوري وإسحاق
وأصحاب الرأي وبه نقول ولأنه يدعي عليه قبض شئ وهو ينكره والقول قول المنكر وكذلك القول
قوله فيما يدعيه من تلف المال أو خسارة فيه وما يدعى عليه من خيانة وتفريط وفيما يدعي انه اشتراه لنفسه
أو للمضاربة لأن الاختلاف هاهنا في نيته وهو أعلم بما نواه لا يطلع على ذلك أحد سواه فكان القول قوله
فيما نواه كما لو اختلف الزوجان في نية الزوج بكناية الطلاق ولأنه امين في الشراء فكان القول قوله
كالوكيل ولو اشترى عبدا فقال رب المال كنت نهيتك عن شرائه فأنكر العامل فالقول قوله لأن الأصل
عدم النهي وهذا كله لا نعلم فيه خلافا
192

(فصل) وان قال أذنت لي في البيع نسيئة وفي الشراء بعشرة قال بل أذنت لك في البيع نقدا وفي
الشراء بخمسة فالقول قول العامل نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة ويحتمل ان القول قول رب المال
وهو قول الشافعي لأن الأصل عدم الإذن ولان القول قول رب المال في أصل الاذن فكذلك في صفته
ولنا انهما اتفقا على الاذن واختلفا في صفته فكان القول قول العامل كما لو قال قد نهيتك عن شراء
عبد فأنكر النهي
(فصل) وان قال شرطت لي نصف الربح فقال بل ثلثه فعن أحمد فيه روايتان إحداهما القول قول
رب المال نص عليه في رواية ابن المنصور وسندي وبه قال الثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي
وابن المبارك وابن المنذر لأن رب المال ينكر السدس الزائد واشتراطه له والقول قول المنكر والثانية ان
العامل إذا ادعى اجر المثل وزيادة يتغابن الناس بمثلها فالقول قوله وان ادعى أكثر فالقول قوله فيما
وافق اجر المثل وقال الشافعي يتحالفان لأنهما اختلفا في عوض عقد فيتحالفان كالمتبايعين
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على المدعى عليه) ولان الاختلاف في المضاربة فلم يتحالفا كسائر
ما قدمنا اختلافهما فيه والمتبايعان يرجعان إلى رؤوس أموالهما بخلاف ما نحن فيه
(فصل) وان ادعى العامل رد المال فأنكر رب المال فالقول قول رب المال مع يمينه نص عليه أحمد
ولا صحاب الشافعي وجهان أحدهما كقولنا والآخر يقبل قوله لأنه أمين ولان معظم النفع لرب المال
فالعامل كالمودع
ولنا انه قبض المال لنفع نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير ولان رب المال منكر والقول قول
193

المنكر وفارق المودع فإن لانفع له في الوديعة وقولهم ان معظم النفع لرب المال يمنعه وإن سلم الا ان
المضارب لم يقبضه إلا لنفع نفسه ولم يأخذه لنفع رب المال
(فصل) وان قال ربحت ألفا ثم قال خسرت ذلك قبل قوله لأنه أمين يقبل قوله في التلف فقبل قوله
في الخسارة كالوكيل وان قال غلطت أو نسيت لم يقبل قوله لأنه مقر بحق لآدمي فلم يقبل قوله في الرجوع
كما لو أقر بان رأس المال الف ثم رجع، ولو أن العامل خسر فقال لرجل أقرضني ما أتمم؟؟ به رأس المال لا عرضه
على ربه فإنني أخشى ان ينزعه مني ان علم بالخسارة فاقرضه فعرضه على رب المال وقال هذا رأس مالك
فاخذه فله ذلك ولا يقبل رجوع العامل عن اقراره ان رجع ولا تقبل شهادة المقرض له لأنه يجز إلى
نفسه نفعا وليس له مطالبة رب المال لأن العامل ملكه بالقرض ثم سلمه إلى رب المال ولكن يرجع
المقرض على العامل لا غير
(فصل) وإذا دفع رجل إلى رجلين مالا قراضا على النصف فنض المال وهو ثلاثة آلاف وقال
رب المال رأس المال الفان فصدقه أحدهما وقال الآخر بل هو ألف فالقول قول المنكر مع يمينه فإذا
حلف ان رأس المال الف والربح الفان فنصيبه منهما خمسمائة يبقى ألفا وخمسمائة يأخذ رب المال ألفين
لأن الاخر يصدقه ويبقى خمسمائة ربحا بين رب المال والعامل الآخر يقتسمانها أثلاثا رب المال ثلثاها
وللعامل ثلثها مائة وستة وستون وثلثا ولرب المال ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث لأن نصيب رب المال
من الربح نصفه ونصيب هذا العامل ربعه فيقسم بينهما باقي الربح على ثلاثة وما أخذه الحالف فيما زاد على
قدر نصيبه كالتالف منهما والتالف يحسب في المضاربة من الربح وهذا قول الشافعي
194

(فصل) وان دفع إلى رجل ألفا يتجر فيه فربح فقال العامل كان قرضا لي ربحه كله وقال رب المال
كان قراضا فربحه بيننا فالقول قول رب المال لأنه ملكه فالقول قوله في صفة خروجه عن يده فإذا
حلف قسمنا الربح بينهما، ويحتمل ان يتحالفا ويكون للعامل أكثر الامرين مما شرطه له من الربح
أو أجر مثله لأنه إن كان الأكثر نصيبه من الربح فرب المال معترف له به وهو يدعي الربح كله
وإن كان أجر مثله أكثر فالقول قوله في عمله مع يمينه كما أن القول قول رب المال في ربح ماله فإذا حلف
قبل قوله في أنه ما عمل بهذا الشرط وإنما عمل لغرض لم يسلم له فيكون له أجر المثل، وان أقام كل
واحد منهما بينة بدعواه فنص أحمد في رواية مهنأ انهما يتعارضان ويقسم الربح بينهما نصفين، وان
قال رب المال كان بضاعة وقال العامل بل كان قراضا احتمل أن يكون القول قول العامل لأن عمله له
فيكون القول قوله فيه ويحتمل أن يتحالفا ويكون للعامل أقل الأمرين من نصيبه من الربح أو أجر مثله
لأنه لا يدعي أكثر من نصيبه من الربح فلا يستحق زيادة عليه وإن كان الأقل أجر مثله فلم يثبت كونه
قراضا فيكون له أجر عمله، وان قال رب المال كان بضاعة وقال العامل كان قرضا حلف كل واحد منهما
على إنكار ما ادعا؟؟ خصمه وكان له أجر عمله لا غير وان خسر المال أو تلف فقال رب المال كان قرضا
وقال العامل كان قراضا أو بضاعة فالقول قول رب المال
(فصل) وإذا اشترط المضارب النفقة ثم ادعى انه إنما أنفق من ماله وأراد الرجوع فله ذلك
سواء كان المال باقيا في يديه أو قد رجع إلى مالكه وبه قال أبو حنيفة إذا كان المال باقيا في يديه وليس
له ذلك إذا كان بعد رده
195

ولنا انه أمين فكان القول قوله في ذلك كما لو كان باقيا في يده وكالوصي إذا ادعى النفقة على اليتيم
(فصل) إذا كان عبد بين رجلين فباعه أحدهما يأمر الآخر بألف وقال لم أقبض ثمنه وادعى
المشتري انه قبضه وصدقه الذي لم يبع برئ المشتري من نصف ثمنه لاعتراف شريك البائع بقبض
وكيله حقه فبرئ المشتري منه كما لو أقر انه قبضه بنفسه وتبقى الخصومة بين البائع وشريكه والمشتري
فإن خاصمه شريكه وادعى عليه انك قبضته نصيبي من الثمن فأنكر فالقول قوله مع يمينه ان لم يكن
للمدعي بينة وان كانت له بينة قضي بها عليه ولا تقبل شهادة المشتري له لأنه يجر بها إلى نفسه نفعا
وان خاصم البائع المشتري فادعى المشتري انه دفع إليه الثمن وأنكر البائع فالقول قوله مع يمينه لأنه
منكر فإذا حلف أخذ من المشتري نصف الثمن ولا يشاركه فيه شريكه لأنه معترف انه يأخذه ظلما فلا
يستحق مشاركته فيه، وان كانت للمشتري بينة حكم بها ولا تقبل شهادة شريكه عليه لأنه يجر بها إلى نفسه
نفعا ومن شهد بشهادة تجر إلى نفسه نفعا بطلت شهادته في الكل، ولا فرق بين مخاصمة الشريك قبل
مخاصمة المشتري أو بعدها، وان ادعى المشتري ان شريك البائع قبض الثمن منه فصدقه البائع نظرت فإن
كان البائع أذن لشريكه في القبض فهي كالتي قبلها وان لم يأذن له في القبض لم تبرأ ذمة المشتري من شئ
من الثمن لأن البائع لم يوكله في القبض فقبضه له لا يلزمه ولا يبرأ المشتري منه كما لو دفعه إلى أجنبي
ولا يقبل قول المشتري على شريك البائع لأنه ينكره وللبائع المطالبة بقدر نصيبه لا غير لأنه مقر أن
شريكه قبض حقه ويلزم المشتري دفع نصيبه إليه ولا يحتاج إلى أمين لأن المشتري مقر ببقاء حقه
وان دفعه إلى شريكه لم تبرأ ذمته فإذا قبض حقه فلشريكه مشاركته فيما قبض لأن الدين لهما ثابت بسبب
واحد فما قبض منه يكون بينهما كما لو كان ميراثا وله ان لا يشاركه ويطالب المشتري بحقه كله،
ويحتمل أن لا يملك الشريك مشاركته فيما قبض لأن كل واحد منهما يستحق ثمن نصيبه الذي ينفرد
به فلم يكن لشريكه مشاركته فيما قبض من ثمنه كما لو باع كل واحد منهما نصيبه في صفقة ويخالف
196

الميراث لأن سبب استحقاق الورثة لا يتبعض فلم يكن للورثة تبعيضه وههنا يتبعض لأنه إذا كان البائع
اثنين كان بمنزلة عقدين ولان الوارث نائب عن الموروث فكان ما يقبضه للموروث يشترك فيه جميع
الورثة بخلاف مسئلتنا فإن ما يقبضه لنفسه فإن قلنا له مشاركته فيما قبض فعليه اليمين أنه لم يستوف
حقه من المشتري ويأخذ من القابض نصف ما قبضه ويطالب المشتري ببقية حقه إذا حلف له أيضا
انه ما قبض منه شيئا، وليس للمقبوض منه ان يرجع على المشتري بعوض ما أخذ منه لأنه مقر ان
المشتري قد برئت ذمته من حق شريكه وإنما أخذ منه ظلما فلا يرجع بما ظلمه هذا على غيره وان
خاصم المشتري شريك البائع فادعى عليه انه قبض الثمن منه فكانت له بينة حكم بها وتقبل شهادة البائع
له إذا كان عدلا لأنه لا يجر إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا لأنه إذا ثبت ان شريكه قبض الثمن
لم يملك مطالبته بشئ لأنه ليس بوكيل له في القبض فلا يقع قبضه له هكذا ذكره بعض أصحابنا
وعندي لا تقبل شهادته له لأنه يدفع عن نفسه ضرر مشاركة شريكه له فيما يقبضه من المشتري وإذا
لم تكن بينة فحلف أخذ من المشتري نصف الثمن وان نكل أخذ المشتري منه نصفه
(فصل) وإذا كان العبد بين اثنين فغصب رجل نصيب أحدهما بان يستولي على العبد ويمنع أحدهما
الانتفاع دون الآخر ثم إن مالك نصفه والغاصب باعا العبد صفقة واحدة صح في نصيب المالك وبطل
في نصيب الغاصب وان وكل الشريك الغاصب أو وكل الغاصب الشريك في البيع فباع العبد كله صفقة
واحدة بطل في نصيب الغاصب في الصحيح وهل يصح في نصيب الشريك؟ على روايتين بناء على تفريق
الصفقة لأن الصفقة ههنا وقعت واحدة وقد بطل البيع في بعضها فبطل في سائرها بخلاف ما إذا باع
المالك والغاصب فإنهما عقدان لأن عقد الواحد مع الاثنين عقد ان ولو أن الغاصب ذكر للمشتري انه
وكل في نصفه لصح في نصيب الآذن لكونه كالعقد المنفرد
(فصل) وإذا كان لرجلين دين بسبب واحد اما عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره فقبض أحدهما
منه شيئا فللآخر مشاركته فيه هذا ظاهر المذهب وقد روي عن أحمد ما يدل على أن لا حدهما أن يأخذ حقه
دون صاحبه ولا يشاركه الآخر فيما أخذه وهو قول أبي العالية وأبي قلابة وابن سيرين وأبي عبيد، وقيل لأحمد
بعت أنا وصاحبي متاعا بيني وبينه فأعطاني حقي وقال هذا حقك خاصة وأنا أعطي شريكك بعد؟ قال:
لا يجوز قيل له فإن أخره أو أبرأه من حقه دون صاحبه قال يجوز قيل فقد قال أبو عبيد: له ان يأخذ
197

دون صاحبه إذا كان له أن يؤخر ويبرئه دون صاحبه؟ ففكر فيها ثم قال هذا يشبه الميراث إذا
اخذ منه بعض الورثة دون بعض وقد قال ابن سيرين وأبو قلابة وأبو العالية من اخذ شيئا فهو من
نصيبه قال فرأيته قد احتج له واجازه قال أبو بكر العمل عندي على ما رواه حرب وحنبل انه لا يجوز
وهو الصحيح وقد صرح به احمد في أول هذه الرواية ولم يصرح بالرجوع عما قاله وذلك لأنه لا يجوز
أن يكون نصيب القابض ما اخذه لما في ذلك من قسمة الدين في الذمة من غير رضى الشريك فيكون
المأخوذ والباقي جميعا مشتركا ولغير القابض الرجوع على القابض بنصفه سواء كان باقيا في يده أو
أخرجه عنها برهن أو قضاء دين أو غيره وله ان يرجع على الغريم لأن الحق يثبت في ذمته لهما على وجه
سواء فليس له تسليم حق أحدهما إلى الآخر فإن اخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشئ لأن
حقه يثبت في أحد المحلين فإذا اختار أحدهما سقط حقه من الآخر، وليس للقابض منعه من الرجوع
على الغريم بأن يقول إنا أعطيك نصف ما قبضت بل الخيرة إليه من أيهما شاء قبض فإن قبض من شريكه
شيئا رجع الشريك على الغريم بمثله وإن هلك المقبوض في يد القابض تعين حقه فيه ولم يضمنه للشريك
لأنه قدر حقه فيما تعدى بالقبض وإنما كان لشريكه مشاركته لثبوته في الأصل مشتركا، وان أبرأ أحد
الشريكين من حقه برئ منه لأنه بمنزلة تلفه ولا يرجع عليه غريمه بشئ، وإن أبرأ أحدهما من عشر الدين
ثم قبضا من الدين شيئا اقتسماه على قدر حقهما في الباقي للمبرئ أربعة اتساعه ولشريكه خمسة اتساعه وإن
قبضا نصف الدين ثم أبرأ أحدهما من عشر الدين كله نفذت براءته في خمس الباقي وما بقي بينهما على
على ثمانية للمبرئ ثلاثة أثمانه وللآخر خمسة أثمانه فما قبضاه بعد ذلك اقتسماه على هذا، وان اشترى
أحدهما بنصيبه من الدين ثوبا فللآخر ابطال الشراء فإن بذل له المشتري نصف الثوب ولا يبطل البيع
لم يلزمه ذلك وان أجاز البيع ليملك نصف الثوب انبنى على بيع الفضولي هل يقف على الإجازة أو لا؟
وإن اخر أحدهما حقه من الدين جاز فإنه لو أسقط حقه جاز فتأخيره أولى فإن قبض الشريك بعد
ذلك شيئا لم يكن لشريكه الرجوع عليه بشئ ذكره القاضي، والأولى ان له الرجوع لأن الدين الحال
لا يتأجل بالتأجيل فوجود التأجيل كعدمه، فاما إن قلنا بالرواية الأخرى وان ما يقبضه أحدهما له دون صاحبه
فوجهها أن ما في الذمة لا ينتقل إلى العين إلا بتسليمه إلى غريمه أو وكيله وما قبضه أحدهما فليس لشريكه فيه
قبض ولا لوكيله فلا يثبت له فيه حق وكان لقابضه لثبوت يده عليه بحق فأشبه ما لو كان الدين بسببين وليس
هذا قسمة الدين في الذمة وإنما تعين حقه بقبضه فأشبه تعيينه بالابراء ولأنه لو كان لغير القابض حق
198

في المقبوض لم يسقط بتلفه كسائر الحقوق ولان هذا القبض لا يخلو إما أن يكون بحق أو بغير حق
فإن كان بحق لم يشاركه غيره فيه كما لو كان الدين بسببين وإن كان بغير حق لم يكن له مطالبته لأن حقه
في الذمة لا في العين فأشبه ما لو اخذ غاصب منه مالا، فعلى هذا ما قبضه القابض يختص به دون شريكه
وليس لشريكه الرجوع عليه وإن اشترى بنصيبه ثوبا صح ولم يكن لشريكه إبطال الشراء وإن قبض
أكثر من حقه بغير اذن شريكه لم يبرأ الغريم مما زاد على حقه.
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في قسمة الدين في الذمم فنقل حنبل منع ذلك وهو الصحيح
لأن الذمم لا تتكافأ ولا تتعادل والقسمة تقتضي التعديل واما القسمة من غير تعديل فهي بيع ولا
يجوز بيع الدين بالدين، فعلى هذا لو تقاسما ثم توى بعض المال رجع من توى ماله على من لم يتو وبهذا
قال ابن سرين والنخعي ونقل حرب جواز ذلك لأن الاختلاف لا يمنع القسمة كما لو اختلف الأعيان
وبه قال الحسن وإسحاق فعلى هذا لا يرجع من توى ماله على من لم يتو إذا أبرأ كل واحد صاحبه
وهذا إذا كان في ذمم فاما في ذمة واحدة فلا تمكن القسمة لأن معنى القسمة إفراز الحق ولا يتصور
ذلك في ذمة واحدة والله أعلم.
(فصول في العبد المأذون له) يجوز أن يأذن السيد لعبده في التجارة بغير خلاف نعلمه لأن
الحجر عليه إنما كان لحق سيده فجاز له التصرف باذنه وينفك عنه الحجر في قدر ما اذن له فيه
لأن تصرفه إنما جاز باذن سيده فزال الحجر في قدر ما أذن فيه كالوكيل، فإن دفع إليه مالا
يتجر به كان له أن يبيع ويشتري ويتجر فيه وان أذن له أن يشتري في ذمته جاز وإن عين له نوعا
من المال يتجر فيه جاز ولم يكن له التجارة في غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجوز
ان يتجر في غيره وينفك عنه الحجر مطلقا لأن اذنه اطلاق من الحجر وفك له والا طلاق لا
يتبعض كبلوغ الصبي
ولنا انه متصرف بالاذن من جهة الآدمي فوجب أن يختص ما اذن له فيه كالوكيل والمضارب
وما قاله ينقض بما إذا اذن له في شراء ثوب ليلبسه أو طعام ليأكله ويخالف البلوغ فإنه يزول به
المعنى الموجب للحجر فإن البلوغ مظنة كمال العقل الذي يتمكن به من التصرف على وجه المصلحة
وههنا الرق سبب الحجر وهو موجود فنظير البلوغ في الصبي العتق للعبد وإنما يتصرف العبد بالاذن
الا ترى ان الصبي يستفيد بالبلوغ قبول النكاح بخلاف العبد؟
199

(فصل) وإذا اذن له في التجارة لم يجز له ان يؤجر نفسه ولا يتوكل لانسان وبه قال الشافعي
وأباحهما أبو حنيفة لأنه يتصرف لنفسه فملك ذلك كالمكاتب
ولنا انه عقد على نفسه فلا يملكه بالاذن في التجارة كبيع نفسه وتزوجه وقولهم انه يتصرف لنفسه
ممنوع بل يتصرف لسيده وبهذا فارق المكاتب يتصرف لنفسه ولهذا كان له ان يبيع من سيده
(فصل) وإذا رأى السيد عبده يتجر فلم ينهه لم يصر مأذونا له وبهذا قال الشافعي وقال أبو
حنيفة يصير مأذونا له لأنه سكت عن حقه فكان مسقطا له كالشفيع إذا سكت عن طلب الشفعة
ولنا انه تصرف يفتقر إلى الاذن فلم يقم السكوت مقام الاذن كما لو باع الراهن الرهن والمرتهن
ساكت أو باعه المرتهن والراهن ساكت وكتصرفات الأجانب ويخالف الشفعة فإنها تسقط بمضي
الزمان إذا علم لأنها على الفور
(فصل) ولا يبطل الاذن بالإباق وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يبطل لأنه يزيل به ولاية السيد
عنه في التجارة بدليل انه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا رهنه فأشبه ما لو باعه
ولنا ان بالإباق لا يمنع ابتداء الاذن له في التجارة فلم يمنع استدامته كما لو غصبه غاصب أو حبس بدين
عليه أو على غيره وما ذكروه غير صحيح فإن سبب الولاية باق وهو الرق ويجوز بيعه واجارته ممن
يقدر عليه ويبطل بالمغصوب
(فصل) ولا يجوز للمأذون التبرع بهبة الدراهم ولا كسوة الثياب وتجوز هبته المأكول وإعارة دابته
واتخاذ الدعوة ما لم يكن اسرافا وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي لا يجوز شئ من ذلك بغير اذن سيده لأنه
تبرع بمال مولاه فلم يجز كهبة دراهمه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك وروى أبو سعيد مولى أبى أسيد أنه تزوج فحضر دعوته
أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن مسعود وحذيفة وأبو ذر فأمهم وهو يومئذ عبد، رواه
صالح في مسائله باسناده ولان العادة جارية بهذا بين التجار فجاز كما جاز للمرأة الصدقة بكسرة الخبز من بيت زوجها
200

كتاب الوكالة
وهي جائزة بالكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقول الله تعالى (إنما الصدقات للفقراء
والمساكين والعاملين عليها) فجوز العمل عليها وذلك بحكم النيابة عن المستحقين وأيضا قوله تعالى (فابعثوا
أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه) وهذه وكالة وأما السنة فروى
أبو داود والأثرم وابن ماجة عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد لمازة بن زبار عن عروة بن الجعد
قال عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني دينارا فقال يا عروة (ائت الجلب فاشتر لنا شاة) قال فأتيت
الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار فجئت أسوقهما أو أقودهما فلقيني رجل بالطريق فساومني
فبعت منه شاة بدينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار وبالشاة فقلت يا رسول الله: هذا ديناركم وهذه شاتكم قال
(وصنعت كيف؟) قال فحدثته الحديث قال (اللهم بارك له في صفقة يمينه) هذا لفظ رواية الأثرم
وروى أبو داود باسناده عن جابر بن عبد الله قال: أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت له إني أردت الخروج إلى خيبر فقال (ائت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع
يدك على ترقوته) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه وكل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة وأبا
رافع في قول نكاح ميمونة، وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة ولان الحاجة داعية إلى ذلك
فإنه لا يمكن كل واحد فعل ما يحتاج إليه فدعت الحاجة إليها
201

(فصل) وكل من صح تصرفه في شئ بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح ان يوكل فيه رجلا
أو امرأة حرا أو عبدا مسلما كان أو كافرا وأما من يتصرف بالاذن كالبعد المأذون له والوكيل
والمضارب فلا يدخلون في هذا لكن يصح من العبد التوكيل فيما يملكه دون سيده كالطلاق والخلع
وكذلك الحكم في المحجور عليه لسفه لا يوكل إلا فيما له فعله من الطلاق والخلع وطلب
القصاص ونحوه، وكل ما يصح أن يستوفيه بنفسه وتدخله النيابة صح ان يتوكل لغيره فيه الا الفاسق
فإنه يصح أن يقبل النكاح لنفسه وذكر القاضي أنه لا يصح أن يقبله لغيره وكلام أبي الخطاب يقتضي
جواز ذلك وهو القياس ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان كهذين، فاما توكيله في الايجاب فلا يجوز
إلا على الرواية التي تثبت الولاية له، وذكر أصحاب الشافعي في ذلك وجهين أحدهما يجوز توكيله لأنه
ليس بولي ووجه الوجه الآخر انه موجب للنكاح أشبه الولي ولأنه لا يجوز أن يتولى ذلك بنفسه
فلم يجز أن يتوكل فيه كالمرأة، ويصح توكيل المرأة في طلاق نفسها وطلاق غيرها ويصح توكيل العبد
في قبول النكاح لأنه ممن يجوز أن يقبله لنفسه وإنما يقف ذلك على اذن سيده ليرضى بتعلق الحقوق به
ومن لا يملك التصرف في شئ لنفسه لا يصح أن يتوكل فيه كالمرأة في عقد النكاح وقبوله والكافر
في تزويج مسلمة والطفل والمجنون في الحقوق كلها.
202

(فصل) وللمكاتب أن يوكل فيما يتصرف فيه بنفسه وله أن يتوكل بجعل لأنه من اكتساب المال
ولا يمنع المكاتب من الاكتساب، وليس له أن يتوكل لغيره بغير جعل إلا باذن سيده لأن منافعه
كاعيان ماله وليس له بذل عين ماله بغير عوض، وللعبد أن يتوكل باذن سيده وليس له التوكيل بغير اذن
سيده وإن كان مأذونا له في التجارة لأن الاذن في التجارة لا يتناول التوكيل وتصح وكالة الصبي المراهق
إذا أذن له الولي لأنه ممن يصح تصرفه.
* (مسألة) * قال (ويجوز التوكيل في الشراء والبيع ومطالبة الحقوق والعتق والطلاق
حاضرا كان الموكل أو غائبا)
لا نعلم خلافا في جواز التوكيل في البيع والشراء وقد ذكرنا الدليل عليه من الآية والخبر ولان
الحاجة داعية إلى التوكيل فيه لأنه قد يكون ممن لا يحسن البيع والشراء أو لا يمكنه الخروج إلى السوق
وقد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه وقد يحسن ولا يتفرغ وقد لا تلبق به التجارة لكونه امرأة
أو ممن يتعير بها ويحط ذلك من منزلته وأباحها الشرع دفعا للحاجة وتحصيلا لمصلحة الآدمي المخلوق
لعبادة الله سبحانه، ويجوز التوكيل في الحوالة والرهن والضمان والكفالة والشركة والوديعة والمضاربة
والجعالة والمساقاة والإجارة والقرض والصلح والوصية والهبة والوقف والصدقة والفسخ والابراء لأنها
203

في معنى البيع في الحاجة إلى التوكيل فيها فيثبت فيها حكمه ولا نعلم في شئ من ذلك اختلافا، ويجوز
التوكيل في عقد النكاح في الايجاب والقبول لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية وأبا رافع
في قبول النكاح له ولان الحاجة تدعو إليه فإنه ربما احتاج إلى التزوج من مكان بعيد لا يمكنه السفر
إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة وهي يومئذ بأرض الحبشة، ويجوز التوكيل في الطلاق
والخلع والرجعة والعتاق لأن الحاجة تدعو إليه كدعائها إلى التوكيل في البيع والنكاح، ويجوز التوكيل
في تحصيل المباحات كاحياء الموات واسقاء الماء والاصطياد والاحتشاش لأنها تملك مال بسبب لا يتعين عليه
فجاز التوكيل فيه كالابتياع والاتهاب، ويجوز التوكيل في اثبات القصاص وحد القذف واستيفائهما في
حضرة الموكل وغيبته لأنهما من حقوق الآدميين وتدعوا الحاجة إلى التوكيل فيهما لأن من له حق قد
لا يحسن الاستيفاء أو لا يحب أن يتولاه.
(فصل) ويجوز التوكيل في مطالبة الحقوق واثباتها والمحاكمة فيها حاضرا كان الموكل أو غائبا،
صحيحا أو مريضا، وبه قال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعي وقال أبو حنيفة للخصم
أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه
عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضاء خصمه كالدين عليه
ولنا انه حق تجوز النيابة فيه فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضاء خصمه كحال غيبته ومرضه
204

وكدفع المال الذي عليه ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن عليا رضي الله عنه وكل عقيلا عند
أبي بكر رضي الله عنه وقال ما قضى له فلي وما قضى عليه فعلي، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان وقال إن
للخصومة قحما وان الشيطان ليحضرها وإني لاكره أن أحضرها قال أبو زياد القحم المهالك، وهذه
قصص انتشرت لأنها في مظنة الشهرة فلم ينقل إنكارها، ولان الحاجة تدعو إلى ذلك فإنه قد يكون له
حق أو يدعى عليه ولا يحسن الخصومة أو لا يجب أن يتولاها بنفسه، ويجوز التوكيل في الاقرار ولأصحاب
الشافعي وجهان أحدهما لا يجوز التوكيل فيه لأنه اخبار بحق فلم يجز التوكيل فيه كالشهادة
ولنا انه اثبات حق في الذمة بالقول فجاز التوكيل فيه كالبيع، وفارق الشهادة فإنها لا تثبت الحق
وإنما هو إخبار بثبوته على غيره.
(فصل) ولا يصح التوكيل في الشهادة لأنها تتعلق بعين الشاهد لكونها خبرا عما رآه أو سمعه ولا
يتحقق هذا المعنى في نائبه فإن استناب فيها كان النائب شاهدا على شهادته لكونه يؤدي ما سمعه من
شاهد الأصل وليس بوكيل، ولا يصح في الايمان والنذور لأنها تتعلق بعين الحالف والناذر فأشبهت العبادات
البدنية والحدود، ولا يصح في الايلاء والقسامة واللعان لأنها أيمان، ولا في القسم بين الزوجات لأنه يتعلق
ببدن الزوج لأمر لا يوجد من غيره، ولا في الرضاع لأنه يختص بالمرضعة والمرتضع لا مر يختص بانبات لحم
المرتضع وانشاز عظمه بلبن المرضعة، ولا في الظهار لأنه قول منكر وزور فلا يجوز فعله ولا الاستنابة فيه
ولا يصح في الغصب لأنه محرم، ولا في الجنايات لذلك ولا في كل محرم لأنه لا يجوز له فعله فلم يجز لنائبه
205

(فصل) فأما حقوق الله تعالى فما كان منها حدا كحد الزنا والسرقة جاز التوكيل في استيفائه
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) فغدا عليها أنيس فاعترفت
فأمر بها فرجمت متفق عليه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم ما عر فرجموه ووكل عثمان عليا في
إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة ووكل علي الحسن في ذلك فأبى الحسن فوكل عبد الله بن جعفر
فأقامه وعلي يعد رواه مسلم، ولان الحاجة تدعوا إلى ذلك لأن الإمام لا يمكنه تولي ذلك بنفسه ويجوز
التوكيل في اثباتها وقال أبو الخطاب لا يجوز في اثباتها وهو قول الشافعي لأنها تسقط بالشبهات وقد
أمرنا بدرئها بها والتوكيل يوصل إلى الايجاب
ولنا حديث أنيس فإن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في اثباته واستيفائه جميعا فإنه قال فإن
اعترفت فارجمها وهذا يدل على أنه لم يكن ثبت وقد وكله في اثباته واستيفائه جميعا ولان الحاكم
إذا استناب دخل في ذلك الحدود فإذا دخلت في التوكيل بطريق العموم وجب أن تدخل بالتخصيص
بها أولى والوكيل يقوم مقام الموكل في درئها بالشبهات وأما العبادات فما كان منها له تلق بالمال كالزكاة
والصدقات والمنذورات والكفارات جاز التوكيل في قبضها تفريقها ويجوز للمخرج التوكيل في
اخراجها ودفعها إلى مستحقها ويجوز أن يقول لغيره اخرج زكاة مالي من مالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم
بعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن (اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من
206

أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس
بينها وبين الله حجاب) متفق عليه، ويجوز التوكيل في الحج إذا أيس المحجوج عنه من الحج بنفسه
وكذلك العمرة ويجوز أن يستناب من يحج عنه بعد الموت، وأما العبادات البدنية المحضة كالصلاة
والصيام والطهارة من الحدث فلا يجوز التوكيل فيها لأنها تتعلق ببدن من هي عليه فلا يقوم غيره
مقامه فيها الا أن الصيام المنذور يفعل عن الميت وليس ذلك بتوكيل لأنه لم يوكل في ذلك ولا وكل
عليه غيره ولا يجوز في الصلاة إلا في ركعتي الطواف تبعا للحج، وفي فعل الصلاة المنذورة وفي الاعتكاف
المنذور عن الميت روايتان، ولا تجوز الاستنابة في الطهارة الا في صب الماء وإيصال الماء للاعضاء وفي
تطهير النجاسة عن البدن والثوب وغيرهما
(فصل) وكل ما جاز التوكيل فيه جاز استيفاؤه في حضرة الموكل وغيبته ونص عليه أحمد وهذا
مذهب مالك وقال بعض أصحابنا لا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف في غيبة الموكل أومأ إليه
207

أحمد هو قول أبي حنيفة وبعض الشافعية لأنه يحتمل أن يعفو الموكل في حالة غيبته فيسقط وهذا
الاحتمال شبهة تمنع الاستيفاء ولان العفو مندوب إليه فإذا حضر احتمل أن يرحمه فيعفو والأول
ظاهر المذهب لأن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكل جاز في غيبته كالحدود وسائر الحقوق واحتمال
العفو بعيد والظاهر أنه لو عفا لبعث وأعلم وكيله بعفوه والأصل عدمه فلا يؤثر الا ترى ان قضاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحكمون في البلاد ويقيمون الحدود التي تدرأ بالشبهات مع
احتمال النسخ وكذلك لا يحتاط في استيفاء الحدود باحضار الشهود مع احتمال رجوعهم عن الشهادة
أو تغير اجتهاد الحاكم
(فصل) ولا تصح الوكالة الا بالايجاب والقبول لأنه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى
لايجاب والقبول كالبيع ويجوز الايجاب، بكل لفظ دل على الاذن نحو ان يأمره بفعل شئ أو يقول
أذنت لك في فعله فإن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عروة بن الجعد في شراء شاة بلفظ الشراء
208

وقال الله تعالى مخبرا عن أهل الكهف انهم قالوا (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها
أزكى طعاما فليأتكم برزق منه) ولأنه لفظ دال على الاذن فجرى مجرى قوله وكلتك، ويجوز القبول
بقوله قبلت وكل لفظ دل عليه، ويجوز بكل فعل دل على القبول نحو ان يفعل ما امره بفعل لأن الذين
وكلهم النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنهم سوى امتثال امره ولأنه اذن في التصرف فجاز القبول فيه
بالفعل كأكل الطعام، ويجوز القبول على الفور والتراخي نحو ان يبلغه ان رجلا وكله في بيع شئ
منذ سنة فيبيعه أو يقول قبلت أو يأمره بفعل شئ فيفعله بعد مدة طويلة لأن قبول وكلاء النبي صلى الله
عليه وسلم لوكالته كان بفعلهم وكان متراخيا عن توكيله إياهم ولأنه اذن في التصرف والاذن قائم ما لم
يرجع عنه فأشبه الإباحة وهذا كله مذهب الشافعي
209

(فصل) ويجوز تعليقها على شرط نحو قوله إذا قدم الحاج فبع هذا الطعام وإذا جاء الشتاء فاشتر لنا
فحما وإذا جاء الأضحى فاشتر لنا أضحية وإذا طلب منك أهلي شيئا فادفعه إليهم وإذا دخل رمضان
فقد وكلتك في هذا أو فأنت وكيلي وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح لكن إن تصرف صح
تصرفه لوجود الاذن، وإن كان وكيلا بجعل فسد المسمى وله أجر المثل لأنه عقد يملك به التصرف في
الحياة فأشبه البيع. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله
ابن رواحة) وهذا في معناه ولأنه عقد اعتبر في حق الوكيل حكمه وهو إباحة التصرف وصحته فكان
صحيحا كما لو قال أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاج ولأنه لو قال وكلتك في شراء كذا في وقت
كذا صح بلا خلاف ومحل النزاع في معناه، ولأنه اذن في التصرف أشبه الوصية والتأمير ولأنه عقد يصح
بغير جعل ولا يختص فاعله بكونه من أهل القربة فصح بالجعل كالتوكيل الناجز.
(فصل) ويجوز التوكيل بجعل وغير جعل فإن النبي صلى الله عليه وسلم وكل أنيسا في إقامة الحد
210

وعروة في شراء شاة وعمرا وأبا رافع في قبول النكاح بغير جعل وكان يبعث عماله لقبض الصدقات
ويجعل لهم عمالة ولهذا قال له أبناء عمه لو بعثتنا على هذه الصدقات فنؤدي إليك ما يؤدي الناس ونصيب
ما يصيبه الناس يعنيان العمالة، فإن كانت بجعل استحق الوكيل الجعل بتسليم ما وكل فيه إلى الموكل إن كان
مما يمكن تسليمه كثوب ينسجه أو يقصره أو يخيطه فمتى سلمه إلى الموكل معمولا فله الاجر وإن كان
الخياط في دار الموكل فكما عمل شيئا وقع مقبوضا فيستحق الوكيل الجعل إذا فرغ الخياط من الخياطة
وإن وكل في بيع أو شراء أو حج استحق الاجر إذا عمله وان لم يقبض الثمن في البيع وان قال إذا
بعت الثوب وقبضت ثمنه وسلمته إلي فلك الاجر لم يستحق منها شيئا حتى يسلمه إليه فإن فاته التسليم
لم يستحق شيئا لفوات الشرط
(فصل) ولا تصح الوكالة الا في تصرف معلوم فإن قال وكلتك في كل شئ أو في كل قليل وكثير
أو في كل تصرف يجوز لي أو في كل مالي التصرف فيه لم يصح وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال ابن
أبي ليلى يصح ويملك به كل ما تناوله لفظه لأنه لفظ عام فصح فيما يتناوله كما لو قال بع مالي كله
211

ولنا أن في هذا غررا عظيما وخطرا كبيرا لأنه تدخل فيه هبة ماله وطلاق نسائه واعتاق رقيقه
وتزوج نساء كثيرة ويلزمه المهور الكثيرة والأثمان العظيمة فيعظم الضرر وان قال اشتر لي ما شئت
لم يصح لأنه قد يشتري مالا يقدر على ثمنه وقد روي عن أحمد ما يدل على صحته لقوله في رجلين قال
كل واحد منهما لصاحبه ما اشتريت من شئ فهو بيننا انه جائز وأعجبه ولان الشريك والمضارب
وكيلان في شراء ما شاء، فعلى هذا ليس له أن يشتري الا بثمن المثل فما دون ولا يشتري مالا يقدر
الموكل على ثمنه ولا مالا يرى المصلحة له في شرائه، وان قال بع مالي كله واقبض ديوني كلها صح
لأنه قد يعرف ماله وديونه، وان قال بع ما شئت من مالي واقبض ما شئت من ديوني جاز لأنه إذا جاز
التوكيل في الجميع ففي بعضه أولى، وان قال اقبض ديني كله وما يتجدد في المستقبل صح، قال أصحاب
الشافعي إذا قال بع ما شئت من مالي لم يجز وان قال من عبيدي جاز لأنه محصور بالجنس
212

ولنا أن ما جاز التوكيل في جميعه جاز في بعضه كعبده، وان قال اشتر لي عبدا تركيا أو ثوبا
هرويا؟؟ صح، وان قال اشتر لي عبدا أو قال ثوبا ولم يذكر جنسه صح أيضا وقال أبو الخطاب لا يصح
وهو مذهب الشافعي لأنه مجهول. ولنا أنه توكيل في شراء عبد فلم يشترط ذكر نوعه كالقراض
ولا يشترط ذكر قدر الثمن ذكره القاضي وقال أبو الخطاب لا يصح حتى يذكر قدر الثمن وهو
أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن العبيد تتفاوت من الجنس الواحد وإنما تتميز بالثمن.
ولنا انه إذا ذكر نوعا فقد اذن في أغلاه ثمنا فيقل الغرر ولان تقدير الثمن يضر فإنه قد لا يجد
بقدر الثمن ومن اعتبر ذكر الثمن يجوز أن يذكر له أكثر الثمن وأقله.
213

(فصل) وإذا وكل وكيلين في تصرف وجعل لكل واحد الانفراد بالتصرف فله ذلك لأنه
مأذون له فيه فإن لم يجعل له ذلك فليس لأحدهما الانفراد به لأنه لم يأذن له في ذلك وإنما يجوز له
ما أذن فيه موكله وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، وان وكلهما في حفظ ماله حفظاه معا في حرز
لهما لأن قوله افعلا كذا يقتضي اجتماعهما على فعله وهو مما يمكن فتعلق بهما، وفارق هذا قوله بعتكما
حيث كان منقسما بينهما لأنه لا يمكن كون الملك لهما على الاجتماع فانقسم بينهما، فإن غاب أحد الوكيلين
لم يكن للآخر ان يتصرف ولا للحاكم ضم أمين إليه ليتصرفا لأن الموكل رشيد جائز التصرف لا ولاية
للحاكم عليه فلا يضم الحاكم وكيلا له بغير أمره، وفارق ما لو مات أحد الوصيين حيث يضيف الحاكم
إلى الوصي أمينا ليتصرف لكون الحاكم له النظر في حق الميت واليتيم ولهذا لو لم يوص إلى أحد
أقام الحاكم أمينا في النظر لليتيم، وان حضر الحاكم أحد الوكيلين والآخر غائب وادعى الوكالة لهما
وأقام بينة سمعها الحاكم وحكم بثبوت الوكالة لهما ولم يملك الحاضر التصرف وحده فإذا حضر الآخر
تصرفا معا ولا يحتاج إلى إعادة البينة لأن الحاكم سمعها لهما مرة، فإن قيل هذا حكم للغائب، قلنا يجوز
تعبا لحق الحاضر كما يجوز ان يحكم بالوقف الذي يثبت لمن لم يخلق لا جل من يستحقه في الحال كذا ههنا
وان جحد الغائب الوكالة أو عزل نفسه لم يكن للآخر ان يتصرف وبما ذكرناه قال أبو حنيفة والشافعي
ولا نعلم فيه خلافا وجميع التصرفات في هذا سواء، وقال أبو حنيفة إذا وكلهما في خصومة فلكل
واحد منهما الانفراد بها ولنا انه لم يرض بتصرف أحدهما أشبه البيع والشراء
214

(مسألة) قال (وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إلا أن يجعل ذلك إليه)
لا يخلو التوكيل من ثلاثة أحوال (أحدها) ان ينهى الموكل وكيله عن التوكيل فلا يجوز له ذلك
بغير خلاف لأن ما نهاه عنه غير داخل في إذنه فلم يجز كما لو لم يوكله (الثاني) أذن له في التوكيل
فيجوز له ذلك لأنه عقد اذن له فيه فكان له فعله كالتصرف المأذون فيه ولا نعلم في هذين خلافا وان
قال له وكلتك فاصنع ما شئت فله ان يوكل وقال أصحاب الشافعي ليس له التوكيل في أحد الوجهين
لأن التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه بنفسه وقوله اصنع ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه
ولنا ان لفظه عام فيما شاء فيدخل في عمومه التوكيل (الثالث) أطلق الوكالة فلا يخلو من أقسام ثلاثة
(أحدها) أن يكون العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس المرتفعين عن
عن فعلها في العادة أو يعجز عن عمله لكونه لا يحسنه أو غير ذلك فإنه يجوز له التوكيل فيه لأنه إذا
كان مما لا يعلمه الوكيل عادة انصرف الاذن إلى ما جرت به العادة من الاستنابة فيه
(القسم الثاني) أن يكون مما يعمله بنفسه الا انه يعجز عن عمله كله لكثرته وانتشاره فيجوز له التوكيل
في عمله أيضا لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فجاز التوكيل في فعل جميعه كما لو أذن في التوكيل بلفظه
215

وقال القاضي عندي انه إنما له التوكيل فيما زاد على ما يتمكن من عمله بنفسه لأن التوكيل إنما جاز
للحاجة فاختص ما دعت إليه الحاجة بخلاف وجود إذنه فإنه مطلقا ولا صحاب الشافعي وجهان كهذين
(القسم الثالث) ما عدا هذين القسمين وهو ما يمكنه عمله بنفسه ولا يترفع عنه فهل يجوز له التوكيل
فيه؟ على روايتين (إحداهما) لا يجوز نقلها ابن منصور وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي
لأنه لم يأذن له في التوكيل ولا تضمنه إذنه فلم يجز كما لو نهاه ولأنه استئمان فيما يمكنه النهوض فيه فلم
يكن له ان يوليه لمن لم يأمنه عليه كالوديعة والأخرى يجوز نقلها حنبل وبه قال ابن أبي ليلى إذا مرض
أو غاب لأن الوكيل له ان يتصرف بنفسه فملكه نيابة كالمالك والأول أولى ولا يشبه الوكيل المالك فإن
المالك يتصرف بنفسه في ملكه كيف شاء بخلاف الوكيل
(فصل) وكل وكيل جاز له التوكيل فليس له ان يوكل الا أمينا لأنه لا نظر للموكل في توكيل
من ليس بأمين فيقيد جواز التوكيل بما فيه الحظ والنظر كما أن الاذن في البيع يتقيد بالبيع بثمن المثل
الا ان يعين له الموكل من يوكله فيجوز توكيله وان لم يكن أمينا لأنه قطع نظره بتعيينه وان وكل
أمينا وصار خائنا فعليه عزله لأن تركه يتصرف مع الخيانة تضييع وتفريط الوكالة تقتضي استئمان
أمين وهذا ليس بأمين فوجب عزله
(فصل) والحكم في الوصي يوكل فيما أوصي به إليه وفي الحاكم يولى القضاء في ناحية يستنيب
216

غيره حكم الوكيل فيما ذكرنا من التفصيل الا ان المنصوص عن أحمد في رواية مهنا جواز ذلك وهو
قول الشافعي في الوصي لأن الوصي يتصرف بولاية بدليل انه يتصرف فيما لم ينص له على التصرف
فيه والوكيل لا يتصرف الا فيما نص له عليه والجمع بينهما أولى لأنه متصرف في مال غيره بالاذن فأشبه
الوكيل وإنما يتصرف فيما اقتضته الوصية كالوكيل إنما يتصرف فيما اقتضته الوكالة
(فصل) فأما الولي في النكاح فله التوكيل في تزويج موليته بغير اذنها أبا كان أو غيره وقال
القاضي فيمن ولايته غير ولاية الاجبار هو كالوكيل يخرج على الروايتين المنصوص عليهما في الوكيل
ولا صحاب الشافعي فيه وجهان (أحدهما) لا يملك التوكيل الا باذنها لأنه لا يملك التزويج
الا باذنها أشبه الوكيل
ولنا ان ولايته من غير جهتها فلم يعتبر إذنها في توكيله فيها كالأب بخلاف الوكيل ولأنه متصرف
بحكم الولاية الشرعية أشبه الحاكم ولان الحاكم يملك تفويض عقود الأنكحة إلى غيره بغير إذن
النساء فكذلك الولي وما ذكروه يبطل بالحاكم والذي يعتبر إذنها فيه هو غير ما يوكل فيه بدليل
ان الوكيل لا يستغني عن اذنها له في التزويج أيضا فهو كالموكل في ذلك
(فصل) إذا أذن الموكل في التوكيل فوكل كان الوكيل الثاني وكيلا للموكل لأنه لا ينعزل بموت الوكيل
الأول ولا عزله ولا يملك الأول عزل الثاني لأنه ليس بوكيله، وان أذن له ان يوكل لنفسه جاز وكان
217

وكيلا للموكل ينعزل بموته وعزله إياه، وان مات الموكل أو عزل الأول انعزلا جميعا لأنهما فرعان له لكن
أحدهما فرع للآخر فذهب حكمهما بذهاب أصلهما وان وكل من غير أن يؤذن له في التوكيل
نطقا بل وجد عرفا أو على الرواية التي أجزنا له التوكيل من غير إذن فالثاني وكيل الوكيل الأول
حكمه حكم ما لو أذن له ان يوكل لنفسه
(فصل) إذا وكل رجلا في الخصومة لم يقبل اقراره على موكله بقبض الحق ولا غيره وبه قال
مالك والشافعي وابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة ومحمد يقبل اقراره في مجلس الحكم فيما عدا الحدود
والقصاص وقال أبو يوسف يقبل اقراره في مجلس الحكم وغيره لأن الاقرار أحد جوابي الدعوى
فصح من الوكيل كالانكار
ولنا أن الاقرار معنى يقطع الخصومة وينافيها فلا يملكه الوكيل فيها كالابراء وفارق الانكار
فإنه لا يقطع الخصومة ويملكه في الحدود والقصاص وفي غير مجلس الحاكم ولان الوكيل لا يملك الانكار
على وجه يمنع الموكل من الاقرار فلو ملك الاقرار لا منع على الموكل الانكار فافترقا، ولا يملك المصالحة
عن الحق ولا الابراء منه بغير خلاف نعلمه لأن الاذن في الخصومة لا يقتضي شيئا من ذلك وإن
أذن له في تثبيت حق لم يملك قبضه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يملك قبضه لأن المقصود من
التثبيت قبضه وتحصيله
ولنا أن القبض لا يتناوله الاذن مطلقا ولا عرفا إذ ليس كل من يرضاه لتثبيت الحق يرضاه لقبضه
218

وان وكله في قبض حق فجحد من عليه الحق كان وكيلا في تثبيته عليه في أحد الوجهين وبه قال أبو
حنيفة والآخر ليس له ذلك وهو أحد الوجهين لا صحاب الشافعي لأنهما معنيان مختلفان فالوكيل في
أحدهما لا يكون وكيلا في الآخر كما لا يكون وكيلا في القبض بالتوكيل في الخصومة. ووجه الأول أنه
لا يتوصل إلى القبض الا بالتثبيت فكان اذنا فيه عرفا ولان القبض لا يتم الا به فملكه كما لو كل في
شراء شئ ملك وزن ثمنه أو في بيع شئ ملك تسليمه، ويحتمل أنه إن كان الموكل عالما بجحد من عليه
الحق أو مطله كان توكيلا في تثبيته والخصومة فيه لعلمه بوقوف القبض عليه وان لم يعلم ذلك لم
يكن توكيلا فيه لعدم علمه بتوقف القبض عليه، ولا فرق بين كون الحق عينا أو دينا وقال بعض
أصحاب أبي حنيفة ان وكله في قبض عين لم يملك تثبيتها لأنه وكيل في نقلها أشبه الوكيل في نقل الزوجة
ولنا أنه وكيل في قبض حق فأشبه الوكيل في قبض الدين وما ذكروه يبطل بالتوكيل في قبض
الدين فإنه وكيل في قبضه ونقله إليه
(فصل) وان وكله في بيع شئ ملك تسليمه لأن اطلاق التوكيل في البيع يقتضي التسليم لكونه
من تمامه ولم يملك الابراء من ثمنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يملكه
ولنا أن الابراء ليس من البيع ولا من تتمته فلا يكون التوكيل في البيع توكيلا فيه كالابراء من
غير ثمنه وأما قبض الثمن فقال القاضي وأبو الخطاب لا يمكن وهو أحد الوجهين لا صحاب الشافعي لأنه
قد يوكل في البيع من لا يأمنه على قبض الثمن، فعلى هذا ان تعذر قبض الثمن من المشتري لم يلزم
الوكيل شئ ويحتمل أن يملك قبض الثمن لأنه من موجب البيع فملكه الوكيل فيه كتسليم المبيع فعلى
هذا ليس له تسليم المبيع الا بقبض الثمن أو حضوره وان سلمه قبل قبض ثمنه ضمنه والأولى أن ينظر
219

فيه فإن دلت قرينة الحال على قبض الثمن مثل توكيله في بيع ثوب في سوق غائب عن الموكل أو
موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل له كان اذنا في قبضه، ومتى ترك قبضه كان ضامنا له لأن ظاهر
حال الموكل أنه إنما أمره بالبيع لتحصيل ثمنه فلا يرضى بتضييعه ولهذا يعد من فعل ذلك مضيعا مفرطا
وان لم تدل القرينة على ذلك لم يكن له قبضه
(فصل) وان وكله في بيع شئ أو طلب الشفعة أو قسم شئ ففيه وجهان (أحدهما) يملك
تثبيته وهو قول أبي حنيفة في القسمة وطلب الشفعة لأنه لا يتوصل إلى ما وكله فيه الا بالتثبيت
(والثاني) لا يملكه وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه يمكن أحدهما دون الآخر فلم يتضمن
الاذن في أحدهما الاذن في الآخر
(فصل) وان وكله في شراء شئ ملك تسليم ثمنه لأنه من تتمته وحقوقه فهو كتسليم المبيع في
البيع والحكم في قبض المبيع كالحكم في قبض الثمن في المبيع على ما مضى من القول فيه، فإن اشترى
عبدا ونقد ثمنه فخرج العبد مستحقا فهل يملك ان يخاصم البائع في الثمن؟ على وجهين، فإن اشترى
شيئا وقبضه وأخر تسليم الثمن لغير عذر فهلك في يده فهو ضامن له، وإن كان له عذر مثل أن ذهب
لينقده فهلك أو نحو ذلك فلا ضمان عليه نص عليه أحمد لأنه مفرط في امساكه كما في الصورة الأولى
دون الثانية فلذلك لزمه الضمان بخلاف ما إذا لم يفرط
(فصل) وإذا وكله في قبض دين من رجل فمات نظرت في لفظه فإن قال اقبض حقي من فلان
لم يكن له قبضه من وارثه لأنه لم يؤمر بذلك وان قال اقبض حقي الذي قبل فلان أو على فلان فله
220

مطالبة وارثه والقبض لأن قبضه من الوارث قبض للحق الذي على موروثه فإن قيل فلو قال اقبض حقي
من زيد فوكل زيد انسانا في الدفع إليه كان له القبض منه والوارث نائب الموروث فهو كوكيله، قلنا إن
الوكيل إذا دفع عنه باذنه جرى مجرى تسليمه لأنه أقامه مقام نفسه وليس كذلك ههنا فإن الحق
انتقل إلى الورثة فاستحقت المطالبة عليهم لا بطريق النيابة عن الموروث ولهذا لو حلف لا يفعل شيئا
حنث بفعل وكيله له ولا يحنث بفعل وارثه
(مسألة) قال (وإذا باع الوكيل ثم ادعى تلف الثمن من غير تعد فلا ضمان عليه
فإن انهم حلف)
إذا اختلف الوكيل والموكل لم يخل من ستة أحوال (أحدها) أن يختلفا في التلف فيقول الوكيل
تلف مالك في يدي أو الثمن الذي قبضته ثمن متاعك تلف في يدي فيكذبه الموكل فالقول قول الوكيل
مع يمينه لأنه أمين وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه فلا يكلف ذلك كالمودع، وكذلك كل من كان في يده
شئ لغيره على سبيل الأمانة كالأب والوصي وأمين الحاكم والمودع والشريك والمضارب والمرتهن
والمستأجر والأجير المشترك وإنما كان كذلك لأنه لو كلف ذلك مع تعذره عليه لامتنع الناس من الدخول
في الأمانات مع الحاجة إليها فيلحقهم الضرر، قال القاضي إلا أن يدعي التلف بأمر ظاهر كالحريق
والنهب وشبههما فعليه إقامة البينة على وجود هذا الامر في تلك الناحية ثم يكون القول قوله في تلفها
بذلك وهذا قول الشافعي لأن وجود الامر الظاهر مما لا يخفى فلا تتعذر إقامة البينة عليه (الحال الثانية)
221

ان يختلفا في تعدي الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر موكله مثل أن يدعي عليه انك حملت على
الدابة فوق طاقتها أو حملت عليها شيئا لنفسك أو فرطت في حفظها أو لبست الثوب أو أمرتك برد
المال فلم تفعل ونحو ذلك فالقول قول الوكيل أيضا مع يمينه لما ذكرنا في الذي قبله ولأنه منكر لما يدعى
عليه والقول قول المنكر، ومتى ثبت التلف في يده من غير تعديه إما لقبول قوله واما باقرار موكله أو
بينة فلا ضمان عليه وسواء تلف المتاع الذي أمر ببيعه أو باعه وقبض ثمنه فتلف الثمن وسواء كان بجعل
أو بغير جعل لأنه نائب المالك في اليد والتصرف فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك وجرى
مجرى المودع والمضارب وشبههما وإن تعدى أو فرط ضمن وكذلك سائر الامناء، ولو باع الوكيل سلعة
وقبض ثمنها فتلف من غير تعد واستحق المبيع رجع المشتري بالثمن على الموكل دون الوكيل لأن المبيع له
فالرجوع بالعهدة عليه كما لو باع بنفسه (الحال الثالثة) أن يختلفا في التصرف فيقول الوكيل بعت الثوب
وقبضت الثمن فتلف فيقول الموكل لم تبع ولم تقبض أو يقول بعت ولم تقبض شيئا فالقول قول الوكيل
ذكره ابن حامد وهو قول أصحاب الرأي لأنه يملك البيع والقبض فيقبل قوله فيهما كما يقبل قول
ولي المرأة المجبرة على النكاح في تزويجها ويحتمل أن لا يقبل قوله وهو أحد القولين لأصحاب الشافعي
لأنه يقر بحق لغيره على موكله فلم يقبل كما لو أقر بدين عليه، وإن وكل في شراء عبد فاشتراه واختلفا
في قدر ما اشتراه به فقال اشتريته بألف وقال بل اشتريته بخمسمائة فالقول قول الوكيل لما ذكرناه
وقال القاضي القول قول الموكل الا أن يكون عين له الشراء بما ادعاه فقال اشتر لي عبدا بألف فادعى
الوكيل انه اشتراه بذلك فالقول قول الوكيل إذا وإلا فالقول قول الموكل لأن من كان القول قوله
222

في أصل شئ كان القول قوله في صفته وللشافعي قولان كهذين الوجهين، وقال أبو حنيفة إن كان الشراء
في الذمة فالقول قول الموكل لأنه غارم مطالب بالثمن وإن اشترى بعين المال فالقول قول الوكيل لكونه
الغارم فإنه يطالبه برد ما زاد على خمس المائة
ولنا انهما اختلفا في تصرف الوكيل فكان القول قوله كما لو اختلفا في البيع ولأنه أمين في الشراء
فكان القول قوله في قدر ثمن المشترى كالمضارب وكما لو قال له اشتر بألف عند القاضي.
(الحال الرابعة) أن يختلفا في الرد فيدعيه الوكيل فينكره الموكل فإن كان بغير جعل فالقول قول
الوكيل لأنه قبض المال لنفع مالكه فكان القول قوله كالمودع وإن كان يجعل ففيه وجهان (أحدهما)
ان القول قوله لأنه وكيل فكان القول قوله كالأول (والثاني) لا يقبل قوله لأنه قبض المال لنفع نفسه
فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير وسواء اختلفا في رد العين أو رد ثمنها. وجملة الامناء على ضربين (أحدهما)
من قبض المال لنفع مالكه لا غير كالمودع والوكيل بغير جعل فيقبل قولهم في الرد لأنه لم يقبل
قولهم لامتنع الناس من قبول هذه الأمانات فيلحق الناس الضرر (الثاني) من ينتفع بقبض الأمانة كالوكيل
بجعل والمضارب والأجير المشترك والمستأجر والمرتهن ففيهم وجهان ذكرهما أبو الخطاب وقال القاضي
لا يقبل قول المرتهن والمستأجر والمضارب في الرد لأن احمد نص عليه في المضارب في رواية ابن منصور
ولان من قبض المال لنفع نفسه لا يقبل قوله في الرد، ولو أنكر الوكيل قبض المال ثم ثبت ذلك ببينة
أو اعتراف فادعى الرد أو التلف لم يقبل قوله لأن خيانته قد ثبتت بجحده، فإن أقام بينة بما ادعاه من
الرد أو التلف فهل تقبل بينته؟ على وجهين (أحدهما) لا تقبل لأنه كذبها بجحده؟؟ فإن قوله ما قبضت يتضمن
223

انه لم يرد شيئا (والثاني) تقبل لأنه يدعي الرد والتلف قبل وجود خيانته وإن كان جحوده انك
لا تستحق علي شيئا أو مالك عندي شئ سمع قوله مع يمينه لأن جوابه لا يكذب ذلك فإنه إذا كان
قد تلف أو رد فليس له عنده شئ فلا تنافي بين القولين إلا أن يدعي أنه رده أو تلف بعد قوله مالك عندي شئ
فلا يسمع قوله أيضا لثبوت كذبه وخيانته
(الحال الخامسة) إذا اختلفا في أصل الوكالة فقال وكلتني فأنكر الموكل فالقول قول الموكل
لأن الأصل عدم الوكالة فلم يثبت أنه أمينه ليقبل قوله عليه ولو قال وكلتك ودفعت إليك مالا فأنكر
الوكيل ذلك كله أو اعترف بالتوكيل وأنكر دفع المال إليه فالقول قوله لذلك، ولو قال رجل لآخر وكلتني
أن أتزوج لك فلانة بصداق كذا ففعلت وادعت المرأة ذلك فأنكر الموكل فالقول قوله نص عليه احمد
فقال إن أقام البينة وإلا لم يلزم الآخر عقد النكاح قال احمد ولا يستحلف قال القاضي لأن الوكيل
يدعي حقا لغيره، فاما ان ادعته المرأة فينبغي أن يستحلف لأنها تدعي الصداق في ذمته فإذا حلف لم يلزمه
الصداق ولم يلزم الوكيل منه شئ لأن دعوى المرأة على الموكل وحقوق العقد لا تتعلق بالوكيل، ونقل
إسحاق بن إبراهيم عن أحمد أن الوكيل يلزمه نصف الصداق لأن الوكيل في الشراء ضامن للثمن وللبائع
مطالبته به كذا ههنا والأول أولى لما ذكرناه، ويفارق الشراء لأن الثمن مقصود البائع والعادة تعجيله
وأخذه من المتولي للشراء والنكاح يخالفه في هذا كله ولكن إن كان الوكيل ضمن المهر فلها الرجوع
عليه بنصفه لأنه ضمنه عن الموكل وهو مقر بأنه في ذمته وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي
وقال محمد بن الحسن يلزم الوكيل جميع الصداق لأن التفرقة لم تقع بانكاره فيكون ثابتا في الباطن
224

فيجب جميع الصداق. ولنا أنه يملك الطلاق فإذا أنكر فقد أقر بتحريمها عليه فصار بمنزلة إيقاعه
لما تحرم به قال احمد ولا تتزوج المرأة حتى يطلق لعله يكون كاذبا في إنكاره وظاهر هذا تحريم نكاحها
قبل طلاقها لأنها معترفة بأنها زوجة له فيؤخذ باقرارها، وانكاره ليس بطلاق وهل يلزم الموكل طلاقها؟
يحتمل أن لا يلزمه لأنه لم يثبت في حقه نكاح ولو ثبت لم يكلف الطلاق ويحتمل أن يكلفه لإزالة الاحتمال
وإزالة الضرر عنها بما لا ضرر عليه فيه فأشبه النكاح الفاسد، ولو ادعى أن فلانا الغائب وكله في تزوج
امرأة فتزوجها له ثم مات الغائب لم ترثه المرأة إلا أن يصدقه الورثة أو يثبت ببينة، وإن أقر الموكل
بالتوكيل في التزويج وأنكر أن يكون الوكيل تزوج له فههنا الاختلاف في تصرف الوكيل والقول قول
الوكيل فيه فيثبت التزويج ههنا وقال القاضي لا يثبت وهو قول أبي حنيفة لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه
لكونه لا ينعقد إلا بها وذكر أن احمد نص عليه وأشار إلى نصه فيما إذا أنكر الموكل الوكالة من أصلها
ولنا أنهما اختلفا في فعل الوكيل ما أمر به فكان القول قوله كما لو وكله في بيع ثوب فادعى أنه
باعه أو في شراء عبد بألف فادعى أنه اشتراه به وما ذكره القاضي من نص احمد فيما إذا أنكر الموكل
الوكالة فليس بنص ههنا لاختلاف أحكام الصورتين وتباينهما فلا يكون النص في إحداهما نصا في الأخرى
وما ذكره من المعنى لا أصل له فلا يعول عليه، ولو غاب رجل فجاء آخر إلى امرأته فذكر أن زوجها
طلقها وأبانها ووكله في تجديد نكاحها بألف فأذنت في نكاحها فعقد عليها وضمن الوكيل الألف ثم جاء
زوجها فأنكر هذا كله فالقول قوله والنكاح الأول بحاله وقياس ما ذكرناه أن المرأة ان صدقت
225

الوكيل لزمه الألف إلا أن يبينها زوجها قبل دخول الثاني بها وحكي ذلك عن مالك وزفر وحكي عن أبي حنيفة
والشافعي انه لا يلزم الضامن شئ لأنه فرع عن المضمون عنه ولم يلزم المضمون عنه شئ فكذلك فرعه.
ولنا أن الوكيل مقر بأن الحق في ذمة المضمون عنه وانه ضامن عنه فلزمه ما أقر به كما لو ادعى على
رجل انه ضمن له ألفا على أجنبي فأقر الضامن بالضمان وصحته وثبوت الحق في ذمة المضمون عنه
وكما لو ادعى شفعة على انسان في شقص اشتراه فأقر البائع بالبيع فأنكره المشتري فإن الشفيع يستحق
الشفعة في أصح الوجهين وإن لم تدع المرأة صحة ما ذكره الوكيل فلا شئ عليه ويحتمل أن من أسقط
عنه الضمان أسقطه في هذه الصورة ومن أوجبه أوجبه في الصورة الأخرى فلا يكون فيها اختلاف والله أعلم
(الحال السادس) أن يختلفا في صفة الوكالة فيقول وكلتك في بيع هذا العبد قال بل وكلتني في بيع هذه الجارية
أو قال وكلتك في البيع بألفين قال بل بألف أو قال وكلتك في بيعه نقدا قال بل نسيئة أو قال وكلتك في شراء عبد
قال بل في شراء أمة أو قال وكلتك في الشراء بخمسة قال بل بعشرة فقال القاضي القول قول الموكل وهو مذهب
الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال أبو الخطاب إذا قال أذنت لك في البيع نقدا أو في الشراء بخمسة قال
بل أذنت لي في البيع نسيئة وفي الشراء بعشرة القول قول الوكيل نص عليه احمد في المضاربة لأنه امين في
التصرف فكان القول قوله في صفته كالخياط إذا قال أذنت لي في تفصيله قباء قال بل قميصا وحكي عن مالك
226

ان أدركت السلعة فالقول قول الموكل وان فاتت فالقول قول الوكيل لأنها إذا فاتت لزم الوكيل الضمان
والأصل عدمه بخلاف ما إذا كانت موجودة، والقول الأول أصح لوجهين (أحدهما) أنهما اختلفا في
في التوكيل الذي يدعيه الوكيل والأصل عدمه فكان القول قول من ينفيه كما لو لم يقر الموكل بتوكيله
في غيره (والثاني) أنهما اختلفا في صفة قول الموكل فكان القول قوله في صفة كلامه كما لو اختلف الزوجان
في صفة الطلاق، فعلى هذا إذا قال اشتريت لك هذه الجارية باذنك قال ما أذنت لك الا في شراء غيرها
أو قال اشتريتها لك بألفين فقال ما أذنت لك في شرائها الا بألف فالقول قول الموكل وعليه اليمين فإذا
حلف برئ من الشراء ثم لا يخلو اما أن يكون الشراء بعين المال أو في الذمة فإن كان بعين المال فالبيع
باطل وترد الجارية على البائع ان اعترف بذلك وان كذبه في أن الشراء لغيره أو بمال غيره بغير إذنه
فالقول قول البائع لأن الظاهر أن ما في يد الانسان له فإن ادعى الوكيل علمه بذلك حلفه انه لا يعلم أنه
اشتراه بمال موكله لأنه يحلف على نفي فعل غيره فكانت يمينه على نفي العلم فإذا حلف أمضى البيع وعلى
الوكيل غرامة الثمن لموكله ودفع الثمن إلى البائع وتبقى الجارية في يده ولا تحل له لأنه لا يخلو من أن يكون
صادقا فتكون للموكل أو كاذبا فتكون للبائع فإذا أراد استحلالها اشتراها ممن هي له في الباطن فإن
امتنع من بيعه إياها رفع الامر إلى الحاكم ليرفق به ليبيعه إياها ليثبت الملك له ظاهرا وباطنا ويصير
ما ثبت له في ذمته ثمنا قصاصا بالذي أخذ منه الآخر ظلما فإن امتنع الآخر من البيع لم يجبر عليه
227

لأنه عقد مراضاة وان قال إن كانت الجارية لي فقد بعتكها أو قال الموكل ان كنت أذنت لك في شرائها
بألفين فقد بعتكها ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح وهو قول القاضي وبعض الشافعية لأنه بيع معلق على
شرط (والثاني) يصح لأن هذا أمر واقع يعلمان وجوده فلا يضر جعله شرطا كما لو قال إن كانت هذه
الجارية جاريتي فقد بعتكها وكذا كل شرط علما وجوده فإنه لا يوجب وقوف البيع ولا شكا فيه
فاما إن كان الوكيل اشترى في الذمة ثم نقد الثمن صح الشراء ولزم الوكيل في الظاهر فأما في الباطن
فإن كان الوكيل كاذبا في دعواه فالجارية له لأنه اشتراها في ذمته بغير أمر غيره وإن كان صادقا فالجارية
لموكله فإذا أراد إحلالها له توصل إلى شرائها منه كما ذكرنا وكل موضع كانت للموكل في الباطن فامتنع
من بيعها للوكيل فقد حصلت في يد الوكيل وهي للموكل وفي ذمته للوكيل ثمنها فأقرب الوجوه ان
يأذن للحاكم في بيعها وتوفية حقه من ثمنها فإن كانت للوكيل فقد أذن في بيعها وان كانت للموكل فقد
باعها الحاكم في ايفاء دين امتنع المدين من وفائه وقد قيل غير ما ذكرنا وهذا أقرب إن شاء الله تعالى
وإن اشتراها الوكيل من الحاكم بماله على الموكل جاز لأنه قائم مقام الموكل في هذا
فأشبه ما لو اشترى منه
(فصل) ولو وكله في بيع عبد فباعه نسيئة فقال الموكل ما أذنت في بيعه الا نقدا وصدقه الوكيل
والمشتري فسد البيع وله مطالبة من شاء منهما بالعبد إن كان باقيا أو بقيمته إن كان تالفا فإن أخذ القيمة
228

من الوكيل رجع على المشتري بها لأن التلف في يده فاستقر الضمان عليه وان أخذها من المشتري لم يرجع
على أحد وان كذباه وادعيا انه أذن في البيع نسيئة فعلى قول القاضي يحلف الموكل ويرجع في العين
ان كانت قائمة وان كانت تالفة رجع بقيمتها على من شاء منهما فإن رجع على المشتري رجع على الوكيل
بالثمن الذي أخذه منه لا غير لأنه لم يسلم له المبيع وان ضمن الوكيل لم يرجع على المشتري في الحال
لأنه يقر بصحة البيع وتأجيل الثمن وان البائع ظلمه بالرجوع عليه وأنه إنما يستحق المطالبة بالثمن بعد
الاجل فإذا حل الاجل رجع الوكيل على المشتري بأقل الامرين من القيمة أو الثمن المسمى لأن القيمة
ان كانت أقل فما غرم أكثر منها فلا يرجع بأكثر مما غرم وإن كان الثمن أقل فالوكيل معترف
للمشتري انه لا يستحق عليه أكثر منه وان الموكل ظلمه بأخذ الزائد على الثمن فلا يرجع على
المشتري بما ظلمه به الموكل وان كذبه أحدهما دون الآخر فله الرجوع على المصدق بغير يمين ويحلف
على المكذب ويرجع على حسب ما ذكرنا هذا ان اعترف المشتري بان الوكيل وكيل في البيع
وان أنكر ذلك وقال إنما بعتني ملكك فالقول قوله مع يمينه انه لا يعلم كونه وكيلا ولا يرجع عليه بشئ
(فصل) وإذا قبض الوكيل ثمن المبيع فهو أمانة في يده لا يلزمه تسليمه قبل طلبه ولا يضمنه
بتأخيره لأنه رضي بكونه في يده ولم يرجع عن ذلك فإن طلبه فأخر رده مع امكانه فتلف ضمنه وان
وعده برده ثم ادعى انني كنت رددته قبل طلبه أو انه كان تلف لم يقبل قوله لأنه مكذب لنفسه
229

بوعده برده فإن صدقه الموكل برئ وان كذبه فالقول قول الموكل فإن أقام الوكيل بينة بذلك
فهل يقبل على وجهين (أحدهما) يقبل لأنه لو صدقه الموكل برئ فكذلك إذا قامت له بينة ولان البينة
إحدى الحجتين فبرئ بها كالاقرار (والثاني) لا يقبل لأنه كذبه بوعده بالدفع أما إذا صدقه فقد أقر ببراءته فلم
يبق له منازع وان لم يعده برده لكن منعه أو مطله برده مع امكانه ثم ادعى التلف أو الرد لم يقبل قوله
لأنه ضامن بالمنع خارج عن حال الأمانة وان أقام بما ادعاه من الرد أو التلف بينة سمعت لأنه لم يكذبها
(فصل) قال أحمد في رواية أبي الحارث في رجل له على آخر دراهم فبعث إليه رسولا يقبضها
فبعث إليه مع الرسول دينارا فضاع مع الرسول فهو من مال الباعث لأنه لم يأمره بمصارفته إنما كان
من ضمان الباعث لأنه دفع إلى الرسول غير ما أمره به المرسل فإن المرسل إنما أمره بقبض ماله في
ذمته وهي الدراهم ولم يدفعها وإنما دفع دينارا عوضا عن عشرة دراهم وهذا صرف يفتقر إلى رضى
صاحب الدين وإذنه ولم يأذن فصار الرسول وكيلا للباعث في تأديته إلى صاحب الدين ومصارفته به
فإذا تلف في يد وكيله كان من ضمانه اللهم الا أن يخبر الرسول الغريم ان رب الدين أذن له
في قبض الدينار عن الدراهم فيكون حينئذ من ضمان الرسول لأنه غره وأخذ الدينار على أنه
وكيل للمرسل، وان قبض منه الدراهم التي أمر بقبضها فضاعت من الرسول فهي من ضمان صاحب
الدين لأنها تلفت من يد وكيله وقال أحمد في رواية مهنا في رجل له عند آخر دنانير وثياب فبعث
230

إليه رسولا وقال خذ دينارا وثوبا فأخذ دينارين وثوبين فضاعت فالضمان على الباعث يعني الذي أعطاه
الدينارين والثوبين ويرجع به على الرسول يعني عليه ضمان الدينار والثوب الزائدين إنما جعل عليه
الضمان لأنه دفعهما إلى من لم يؤمر بدفعهما إليه ورجع بهما على الرسول لأنه غره وحصل التلف في يده
فاستقر عليه الضمان وللموكل تضمين الوكيل لأنه تعدى بقبض ما لم يؤمر بقبضه فإذا ضمنه لم يرجع على
أحد لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه، وقال أحمد في رجل وكل وكيلا في اقتضاء دينه
وغاب فأخذ الوكيل به رهنا فتلف الرهن في يد الوكيل فقال أساء الوكيل في أخذ الرهن ولا ضمان
عليه إنما لم يضمنه لأنه رهن فاسد والقبض في العقد الفاسد كالقبض في الصحيح فما كان القبض
في صحيحه مضمونا كان مضمونا في فاسده وما كان غير مضمون في صحيحه كان غير مضمون في فاسده
ونقل البغوي عن أحمد في رجل أعطى آخر دراهم يشتري له بها شاة فخلطها مع دراهمه فضاعا فلا
شئ عليه وان ضاع أحدهما أيهما ضاع غرمه قال القاضي هذا محمول على أنه خلطها بما تميز منها ويحتمل
أنه أذن له في خلطها أما ان خلطها بما لا تتميز منه بغير اذنه ضمنها كالوديعة وإنما لزمه الضمان إذا
ضاع أحدهما لأنه لا يعلم أن الضائع دراهم الموكل والأصل بقاؤها ومعنى الضمان ههنا أنه يحسب الضائع
من دراهم نفسه فأما على المحمل الآخر وهو إذا خلطها بما تتميز منه فإذا ضاعت دراهم الموكل وحدها
فلا ضمان عليه لأنها ضاعت من غير تعد منه
231

(مسألة) قال (ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالا فادعى أنه دفعه إليه لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة)
وجملته أن الرجل إذا وكل وكيلا في قضاء دينه ودفع إليه مالا ليدفعه إليه فادعى الوكيل قضاء
الدين ودفع المال إلى الغريم لم يقبل قوله على الغريم الا ببينة لأنه ليس بأمينه فلم يقبل قوله عليه في
الدفع إليه كما لو ادعى الموكل ذلك فإذا حلف الغريم فله مطالبة الموكل لأن ذمته لا تبرأ بدفع المال
إلى وكيله فإذا دفعه فهل للموكل الرجوع على وكيله؟ ينظر فإن ادعى أنه قضى الدين بغير بينة فللموكل
الرجوع عليه إذا قضاه في غيبة الموكل قال القاضي سواء صدقه أنه قضى الحق أو كذبه وهذا قول
الشافعي لأنه أذن له في قضاء يبرئه ولم يوجد وعن أحمد رواية أخرى لا يرجع عليه شئ الا أن
يكون أمره بالاشهاد فلم يفعل، فعلى هذه الرواية ان صدقه الموكل في الدفع لم يرجع عليه بشئ وان
كذبه فالقول قول الوكيل مع يمينه وهذا قول أبي حنيفة ووجه لأصحاب الشافعي لأنه ادعى فعل
ما أمر به موكله فكان القول قوله كما لو أمره ببيع ثوبه فادعى أنه باعه، ووجه الأول أنه مفرط بترك
الاشهاد فضمن كما لو فرط في البيع بدون ثمن المثل، فإن قيل فلم يأمره بالاشهاد قلنا اطلاق الامر بالقضاء
يقتضي ذلك لأنه لا يثبت إلا به فيصير كأمره بالبيع والشراء يقتضي ذلك العرف لا العموم كذا ههنا
232

وقياس القول الآخر يمكن القول بموجبه وان قوله مقبول في القضاء لكن لزمه الضمان لتفريطه لا لرد
قوله، وعلى هذا لو كان القضاء بحضرة الموكل لم يضمن الوكيل شيئا لأن تركه الاشهاد والاحتياط رضى
منه بما فعل وكيله وكذلك لو أذن له في القضاء بغير اشهاد فلا ضمان على الوكيل لأن صريح قوله يقدم
على ما تقتضيه دلالة الحال وكذلك أن أشهد على القضاء عد ولا فماتوا أو غابوا فلا ضمان عليه لعدم تفريطه وان
أشهد من يختلف في ثبوت الحق بشهادته كشاهد واحد أو رجلا وامرأتين فهل يبرأ من الضمان يخرج على روايتين
وان اختلف الوكيل والموكل فقال قضيت الدين بحضرتك قال بل في غيبتي أو قال أذنت لي في قضائه بغير
بينة فأنكر الا ذن أو قال أشهدت على القضاء شهودا فما توا فأنكره الموكل فالقول قول الموكل لأن الأصل معه.
(فصل) وإن وكله في إيداع ماله فأودعه ولم يشهد فقال أصحابا لا يضمن إذا أنكر المودع،
وكلام الخرقي بعمومه يقتضى أن لا يقبل قوله على الآمر وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن
الوديعة لا تثبت إلا بالبينة فهي كالدين، وقال أصحابنا لا يصح القياس على الدين لأن قول المودع يقبل
في الرد والهلاك فلا فائدة في الاستيثاق بخلاف الدين فإن قال الوكيل دفعت المال إلى المودع فقال:
لم تدفعه فالقول قول الوكيل لأنهما اختلفا في تصرفه وفيما وكل فيه فكان القول قوله فيه
(فصل) وإذا كان على رجل دين وعنده وديعة فجاءه انسان فادعى انه وكيل صاحب الدين
والوديعة في قبضهما وأقام بذلك بينة وجب الدفع إليه وان لم يقم بينة لم يلزمه دفعهما إليه سواء صدقه
233

في أنه وكيله أو كذبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان صدقه لزمه وفاء الدين وفي دفع العين
إليه روايتان أشهر هما لا يجب تسليمها واحتج بأنه أقر له بحق الاستيفاء فلزمه إيفاؤه كما لو أقر له انه وارثه
ولنا أنه تسليم لا يبرئه فلا يجب كما لو كان الحق عينا وكما لو أقر بأن هذا وصي الصغير، وفارق
الاقرار بكونه وارثه لأنه يتضمن براءته فإنه أقر بأنه لا حق لسواه، فاما ان أنكر وكالته لم يستحلف
وقال أبو حنيفة يستحلف، ومبنى الخلاف على الخلاف في وجوب الدفع مع التصديق فمن أوجب عليه
الدفع مع التصديق ألزمه اليمين عند التكذيب كسائر الحقوق ومن لم يوجب عليه الدفع مع التصديق
قال لا يلزمه اليمين عند التكذيب لعدم فائدتها، فإن دفع إليه مع التصديق أو مع عدمه فحضر الموكل
وصدق الوكيل برئ الدافع وان كذبه فالقول قوله مع يمينه فإذا خلف وكان الحق عينا قائمة في يد
الوكيل فله أخذها وله مطالبة من شاء بردها لأن الدافع دفعها إلى غير مستحقها والوكيل عين ماله
في يده فإن طالب الدافع فللدافع مطالبة الوكيل بها وأخذها من يده ليسلمها إلى صاحبها، وإن تلفت
العين أو تعذر ردها فلصاحبها الرجوع ببدلها على من شاء منهما لأن الدافع ضمنها بالدفع والمدفوع إليه
قبض ما لا يستحق قبضه وأيهما ضمن لم يرجع على الآخر لأن كل واحد منهما يدعي أن ما يأخذه
المالك ظلم ويقر بأنه لم يوجد من صاحبه تعد فلا يرجع على صاحبه بظلم غيره إلا أن يكون الدافع دفعها
إلى الوكيل من غير تصديقه فيما ادعاه من الوكالة فإن ضمن رجع على الوكيل لكونه لم يقر بوكالته
234

ولا ثبتت ببينة وإن ضمن الوكيل لم يرجع عليه وان صدقه لكن الوكيل تعدى فيها أو فرط استقر
الضمان عليه فإن ضمن لم يرجع على أحد وان ضمن الدافع رجع عليه لأنه وإن كان يقر أنه قبضه قبضا
صحيحا لكن لزمه الضمان بتفريطه وتعديه فالدافع يقول ظلمني المالك بالرجوع علي وله على الوكيل
حق يعترف به الوكيل فيأخذه يستوفي حقه منه فاما إن كان المدفوع دينا لم يرجع إلا على الدافع
وحده لأن حقه في ذمة الدافع لم يبرأ منه بتسليمه إلى غير وكيل صاحب الحق والذي أخذه الوكيل
عين مال الدافع في زعم صاحب الحق والوكيل والدافع يزعمان انه صار ملكا لصاحب الحق وانه ظالم
للدافع بالأخذ منه فيرجع الدافع فيما أخذ منه الوكيل ويكون قصاصا مما أخذ منه صاحب الحق وإن
كان قد تلف في يد الوكيل لم يرجع عليه بشئ لأنه مقر بأنه أمين لا ضمان عليه إلا أن يتلف
بتعديه وتفريطه فيرجع عليه.
(فصل) فإن جاء رجل فقال إنا وارث صاحب الحق فإن أنكره لزمته اليمين انه لا يعلم صحة ما قال
لأن اليمين ههنا على نفي فعل الغير فكانت على نفي العلم لأنه لو صدقه لزمه الدفع إليه فلما لزمه الدفع
مع الاقرار لزمته اليمين مع الانكار، وان صدقه في أنه وارث صاحب الحق لا وارث له سواه لزمه الدفع
إليه بغير خلاف نعلمه لأنه مقر له بالحق وانه يبرأ بهذا الدفع فلزمه كما لو جاء صاحب الحق، فاما إن جاء
رجل فقال قد أحالني عليك صاحب الحق فصدقه ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه الدفع إليه لأن
235

الدفع إليه غير مبرئ ولاحتمال أن يجئ المحيل فينكر الحوالة أو يضمنه فأشبه المدعي للوكالة (والثاني)
يلزمه الدفع إليه لأنه معترف بان الحق له لا لغيره فأشبه الوارث فإن قلنا يلزمه الدفع مع الاقرار لزمته
اليمين مع الانكار، وان قلنا لا يلزمه الدفع مع الاقرار لم تلزمه اليمين مع الانكار لعدم الفائدة فيها
ومثل هذا مذهب الشافعي.
(فصل) ومن طلب منه حق فامتنع من دفعه حتى يشهد القابض على نفسه بالقبض نظرت فإن كان
الحق عليه بغير بينة لم يلزمه القاضي بالاشهاد لأنه لا ضرر عليه في ذلك فإنه متى ادعي الحق على الدافع بعد
ذلك قال لا يستحق علي شئ والقول قوله مع يمينه، وإن كان الحق ثبت ببينة وكان من عليه الحق يقبل
قوله في الرد كالمودع والوكيل بغير جعل فكذلك لأنه متى ادعي عليه حق أو قامت به بينة فالقول قوله
في الرد وإن كان ممن لا يقبل قوله في الرد أو يختلف في قبول قوله كالغاصب والمستعير والمرتهن لم يلزمه
تسليم ما قبله الا بالاشهاد لئلا ينكر القابض القبض ولا يقبل قول الدافع في الرد وان قال لا يستحق
علي شيئا قامت عليه البينة أو إذا أشهد على نفسه بالقبض لم يلزمه تسليم الوثيقة بالحق إلى من عليه الحق
لأن بينة القبض تسقط البينة الأولى والكتاب ملكه فلا يلزمه تسليمه إلى غيره
236

* (مسألة) * قال (وشراء الوكيل من نفسه غير جائز وكذلك الوصي)
وجملة ذلك أن من وكل في بيع شئ لم يجز له ان يشتريه من نفسه في إحدى الروايتين نقلها منها وهو
مذهب الشافعي وأصحاب الرأي وكذلك الوصي لا يجوز ان يشتري من مال اليتيم شيئا لنفسه في إحدى
الروايتين وهو مذهب الشافعي وحكي عن مالك والأوزاعي جواز ذلك فيهما (والرواية الثانية) عن أحمد يجوز
لهما ان يشتريا بشرطين (أحدهما) أن يزيدا على مبلغ ثمنه في النداء (والثاني) ان يتولى النداء غيره، قال القاضي
يحتمل أن يكون اشتراط تولي غيره النداء واجبا ويحتمل أن يكون مستحبا والأول أشبه بظاهر كلامه وقال
أبو الخطاب الشرط الثاني ان يولي من يبيع ويكون هو أحد المشترين، فإن قيل فكيف يجوز له دفعها
إلى غيره ليبيعها وهذا توكيل وليس للوكيل التوكيل؟ قلنا يجوز التوكيل فيما لا يتولى مثله بنفسه والنداء
مما لم تجر العادة ان يتولاه أكثر الناس بنفوسهم، وان وكل انسانا يشتري له وباعه هو جاز على هذه
الرواية لأنه امتثل أمر موكله في البيع وحصل غرضه من الثمن فجاز كما لو اشتراها أجنبي وقال أبو
حنيفة رضي الله عنه يجوز للوصي الشراء دون الوكيل لأن الله تعالى قال (ولا تقربوا مال اليتيم الا
بالتي هي أحسن) وإذا اشترى مال اليتيم بأكثر من ثمن مثله فقد قربه بالتي هي أحسن ولأنه نائب
237

عن الأب وذلك جائز للأب فكذلك لنائبه، ووجه الرواية الأولى ان العرف في البيع بيع الرجل من
غيره فحملت الوكالة عليه كما لو صرح به فقال بعه غيرك ولأنه تلحقه التهمة ويتنافى الغرضان في بيعه
نفسه فلم يجز كما لو نهاه والوصي كالوكيل لا يلي بيع مال غيره بتوليه فأشبه الوكيل أو متهم فأشبه
الوكيل بل التهمة في الوصي آكد من الوكيل لأن الوكيل يتهم في ترك الاستقصاء في الثمن لاغير
والوصي يتهم في ذلك وفي أنه يشتري من مال اليتيم مالا حظ لليتيم في بيعه فكان أولى بالمنع وعند ذلك
لا يكون أخذه لماله قربا له بالتي هي أحسن وقد روي عن ابن مسعود أنه قال في رجل أوصى إلى رجل
بتركته وقد ترك فرسا فقال الوصي اشتره قال لا
(فصل) والحكم في الحاكم وأمينه كالحكم في الوكيل والحكم في بيع أحد هؤلاء لوكيله أو
ولده الصغير أو الطفل يلي عليه أو لوكيله أو عبده المأذون كالحكم في بيعه لنفسه كل ذلك يخرج على
روايتين بناء على بيعه لنفسه، أما بيعه لولده الكبير أو والده أو مكاتبه فذكرهم أصحابنا أيضا في جملة
ما يخرج على روايتين ولا صحاب الشافعي فيهم وجهان، وقال أبو حنيفة يجوز بيعه لولده الكبير لأنه
امتثل أمر موكله ووافق العرف في بيع غيره فصح كما لو باعه لأخيه وفارق البيع لوكيله لأن الشراء
إنما يقع لنفسه وكذلك بيع عبده المأذون وبيع طفل يلي عليه بيع لنفسه لأنه هو المشتري له ووجه
الجمع بينهم أنه يتهم في حقهم ويميل إلى ترك الاستقصاء عليهم في الثمن كتهمته في حق نفسه وكذلك
لا تقبل شهادته، والحكم فيما أراد ان يشتري لموكله كالحكم في بيعه لماله لأنهما سواء في المعنى
238

(فصل) وان وكل رجلا يتزوج له امرأة فهل له ان يزوجه ابنته يخرج على ما ذكرنا في الوكيل
في البيع هل يبيع لولده؟ وقال أبو يوسف ومحمد يجوز ووجه القولين ما تقدم في التي قبلها وان أذنت له
وليته في تزويجها خرج في تزويجها لنفسه أو لولده وجهان بناء على ما ذكر في البيع وكذلك أن وكله
رجل في تزويج ابنته خرج فيه مثل ذلك
(فصل) وان وكله رجل في بيع عبده ووكله آخر في شراء عبد فقياس المذهب انه يجوز له ان
يشتريه له من نفسه لأنه أذن له في طرفي العقد فجاز له أن يليهما إذا كان غير متهم كالأب يشترى من
مال ولده لنفسه، ولو وكله المتداعيان في الدعوى عنهما فالقياس جوازه لأنه تمكنه الدعوى عن أحدهما
والجواب عن الآخر وإقامة حجة كل واحد منهما ولا صحاب الشافعي في المسألة وجهان
(فصل) وإذا أذن للوكيل ان يشتري من نفسه جاز له ذلك وقال أصحاب الشافعي في أحد
الوجهين لا يجوز لأنه يجتمع له في عقده غرضان الاسترخاص لنفسه والاستقصاء للموكل وهما متضادان
فتمانعا، ولنا انه وكل في التصرف لنفسه فجاز كما لو وكل المرأة في طلاق نفسها ولأن علة المنع هي من
المشتري لنفسه، في محل لا تفاق التهمة لدلالتها على عدم رضى الموكل بهذا التصرف واخراج هذا التصرف
عن عموم لفظه وإذنه وقد صرح ههنا بالاذن فيها فلا تبقى دلالة الحال مع نصه بلفظه على خلافه
وقولهم انه يتضاد مقصوده في البيع والشراء قلنا إن عين الموكل له الثمن فاشترى به فقد زال مقصود
الاستقصاء وانه لا يراد أكثر مما قد حصل وان لم يعين له الثمن تقيد البيع بثمن المثل كما لو باع
239

الأجنبي، وقد ذكر أصحابنا فيما إذا وكل عبدا يشتري له نفسه من سيده وجها انه لا يجوز فيخرج
ههنا مثله والصحيح ما قلنا إن شاء الله تعالى
(فصل) إذا وكل عبدا يشتري نفسه من سيده أو يشتري منه عبدا آخر ففعل صح وبه قال أبو
حنيفة وبعض الشافعية، وقال بعضهم لا يجوز لأن يد العبد كيد سيده فأشبه ما لو وكله في السراء؟؟؟ من نفسه
ولهذا يحكم للانسان بما في يد عبده وذكر أصحابنا وجها كذلك
ولنا أنه يجوز أن يشتري عبدا من غير مولاه فجاز أن يشتريه من مولاه كالأجنبي وإذا جاز ان يشتري
غيره جاز أن يشتري نفسه كما أن المرأة لما جاز توكيلها في طلاق غيرها جاز في طلاق نفسها والوجه الذي
ذكره أصحابنا لا يصح لأن أكثر ما يقدر ههنا جعل توكيل العبد كتوكيل سيده وقد ذكرنا صحة توكيل
السيد في الشراء والبيع من نفسه فههنا أولى، فعلى هذا إذا قال البعد اشتريت نفسي لزيد فصدقه سيده وزيد
صح ولزم زيدا الثمن، وان قال السيد ما اشتريت نفسك الا لنفسك عتق العبد بقوله واقراره على نفسه
بما يعتق به ويلزم العبد الثمن في ذمته لسيده لأن زيدا لا يلزمه الثمن لعدم حصول العبد له وكون سيده
لا يدعيه عليه فلزم العبد لأن الظاهر ممن باشر العقد انه له، وان صدقه السيد وكذبه زيد نظرت في
تكذيبه فإن كذبه في الوكالة حلف وبرئ وللسيد فسخ البيع واسترجاع عبده لتعذر ثمنه وان صدقه
في الوكالة وكذبه في أنك ما اشتريت نفسك لي فالقول قول العبد لأن الوكيل يقبل قوله في التصرف المأذون فيه
(فصل) وان وكل عبده في اعتاق نفسه أو امرأته في طلاق نفسها صح، وان وكل البعد في
اعتاق عبيده والمرأة في طلاق نسائه لم يملك العبد اعتاق نفسه ولا المرأة طلاق نفسها لأن ذلك ينصرف
240

باطلاقه إلى التصرف في غيره ويحتمل أن لهما ذلك أخذا من عموم لفظه كما يجوز للوكيل في البيع،
البيع من نفسه، في إحدى الروايتين، وان وكل غريما له في ابراء نفسه صح لأنه وكله في اسقاط
حق عن نفسه فأشبه توكيل العبد في اعتاق نفسه، وان وكله في ابراء غرمائه لم يكن له أن يبرئ نفسه
كما لو وكله في حبس غرمائه لم يملك حبس نفسه، ولو وكله في خصومتهم لم يكن وكيلا في خصومة
نفسه ويحتمل أن يملك ابراء نفسه لما ذكرنا من قبل، وان وكل المضمون عنه في ابراء الضامن فأبرأه
صح ولا يبرأ المضمون عنه، وان وكل الضامن في ابراء المضمون عنه، أو الكفيل في ابراء المكفول
عنه فأبرأه صح وبرئ الوكيل ببراءته، لأنه فرع عليه فإذا برئ الأصل برئ الفرع ببراءته
(فصل) وان وكله في اخراج صدقة على المساكين؟؟ وهو مسكين، أو أوصى إليه بتفريق ثلثه
على قوم هو منهم، أو دفع إليه مالا وأمره بتفريقه على من يريد أو دفعه إلى من شاء فالمنصوص
عن أحمد انه لا يجوز له أن يأخذ منه شيئا فإن احمد قال إذا كان في يده مال للمساكين وأبواب البر
وهو محتاج فلا يأكل منه شيئا إنما أمره بتنفيذه وذلك لأن اطلاق لفظ الموكل ينصرف إلى دفعه إلى
غيره ويحتمل أن يجوز له الاخذ إذا تناوله عموم اللفظ كالمسائل التي تقدمت ولان المعنى الذي حصل
به الاستحقاق متحقق فيه واللفظ متناول له فجاز له الاخذ كغيره ويحتمل الرجوع في ذلك إلى قرائن
الأحوال فما غلب على الظن فيه أنه أراد العموم فيه وفي غيره فله الاخذ منه وما غلب انه لم يرده فليس له الاخذ،
وما تساوى فيه الأمران احتمل وجهين وهل له أن يعطيه لولده أو والده أو امرأته؟ فيه وجهان
(أولاهما) جوازه لدخولهم في عموم لفظه ووجود المعنى المقتضى لجواز الدفع إليهم فأما من تلزمه
مؤونته غير هؤلاء فيجوز الدفع إليهم كما يجوز دفع صدقة التطوع إليهم.
241

(مسألة) قال (وشراء الرجل لنفسه من مال ولده الطفل جائز وكذلك شراؤه له من نفسه)
يعني ان الأب يجوز أن يشتري لنفسه من مال ابنه الذي في حجره ويبيع ولده من مال نفسه
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي وزادوا الجد فأباحوا له ذلك وقال زفر لا يجوز لأن
حقوق العقد تتعلق بالعاقد فلا يجوز أن يتعلق به حكمان متضادان ولأنه لا يجوز أن يكون موجبا
وقابلا في عقد واحد كما لا يجوز أن يتزوج بنت عمه من نفسه
ولنا أن هذا يلي بنفسه فجاز ان يتولى طرفي العقد كالأب يزوج ابنته عبده الصغير والسيد يزوج
عبده أمته ولا نسلم ما ذكره من تعلق حقوق العقد بالعاقد لغيره فأما الجد فلا ولاية له على ابن ابنه
على ما سنذكره في موضعه فينزل منزلة الأجنبي ولان التهمة بين الأب وولده منتفية إذ من طبعه
الشفقة عليه والميل له وترك حظ نفسه لحظه فلذلك جاز، وفارق الجد والوصي والحاكم وأمينه فإن
التهمة غير منتفية في حقهم، وأما تولي طرفي العقد فيجوز بدليل الأصل الذي ذكرناه ولا نسلم ما ذكره
فيما إذا أراد أن يتزوج ابنة عمه بل يجوز بدليل أن عبد الرحمن بن عوف قال لابنة قارظ: أتجعلين
أمرك إلي؟ قالت نعم قال قد تزوجتك ولئن سلمنا فلان التهمة غير منتفية ثم
(مسألة) قال (وما فعل الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته فباطل)
وجملته أن الوكالة عقد جائز من الطرفين فللموكل عزل وكيله متى شاء وللوكيل عزل نفسه لأنه
أذن في التصرف فكان لكل واحد منهما ابطاله كما لو أذن في أكل طعامه، وتبطل أيضا بموت أحدهما
أيهما كان وجنونه المطبق ولا خلاف في هذا كله فيما نعلم فمتى تصرف الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته
فهو باطل إذا علم ذلك فإن لم يعلم الوكيل بالعزل ولا موت الموكل فعن أحمد فيه روايتان وللشافعي
فيه قولان وظاهر كلام الخرقي هذا أنه ينعزل علم أو لم يعلم، ومتى تصرف فبان ان تصرفه بعد عزله
242

أو موت موكله فتصرفه باطل لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه فلا يفتقر إلى علمه كالطلاق
والعتاق والرواية الثانية عن أحمد لا ينعزل قبل علمه بموت الموكل وعزله نص عليه في رواية جعفر بن
محمد لأنه لو انعزل قبل علمه كان فيه ضرر لأنه قد يتصرف تصرفات فتقع باطله وربما باع الجارية فيطؤها
المشتري أو الطعام فيأكله أو غير ذلك فيتصرف فيه المشتري ويجب ضمانه ويتضرر المشتري والوكيل
ولأنه يتصرف بأمر الموكل ولا يثبت حكم الرجوع في حق المأمور قبل علمه كالفسخ، فعلى هذه الرواية
متى تصرف قبل العلم نفذ تصرفه، وعن أبي حنيفة أنه إن عزله الموكل فلا ينعزل قبل علمه لما ذكرنا وان
عزل الوكيل نفسه لم ينعزل إلا بحضرة الموكل لأنه متصرف بأمر الموكل فلا يصح رد أمره بغير حضرته
كالمودع في رد الوديعة
ولنا ما تقدم فاما الفسخ ففيه وجهان كالروايتين ثم هما مفترقان فإن أمر الشارع يتضمن المعصية بتركه
ولا يكون عاصيا من غير علمه وهذا يتضمن العزل عنه ابطال التصرف فلا يمنع منه عدم العلم
(فصل) ومتى خرج أحدهما عن كونه من أهل التصرف مثل أن يجن أو يحجر عليه لسفه فحكمه
حكم الموت لأنه لا يملك التصرف فلا يملكه غيره من جهته قال أحمد في الشركة إذا وسوس أحدهما فهو
مثل العزل، وان حجر على الوكيل لفلس فالوكالة بحالها لأنه لم يخرج عن كونه أهلا للتصرف، وان حجر
على الموكل وكانت الوكالة في أعيان ماله بطلت لانقطاع تصرفه في أعيان ماله وان كانت في الخصومة أو الشراء
في الذمة؟؟ أو الطلاق أو الخلع أو القصاص فالوكالة بحالها لأن الموكل أهل لذلك وله ان يستنيب فيه ابتداء فلا
تقطع الاستدامة وان فسق الوكيل لم ينعزل لأنه من أهل التصرف الا أن تكون الوكالة فيما ينافيه الفسق
243

كالايجاب في عقد النكاح فإنه ينعزل بفسقه أو فسق موكله بخروجه عن أهلية التصرف فإن كان وكيلا
في القبول للموكل لم ينعزل بفسق موكله لأنه لا ينافي جواز قبوله وهل ينعزل بفسق نفسه فيه وجهان
وإن كان وكيلا فيما تشترط فيه الأمانة كوكيل ولي اليتيم وولي الوقف على المساكين ونحو هذا انعزل بفسقه
وفسق موكله بخروجهما بذلك عن أهلية التصرف وإن كان وكيلا لوكيل من يتصرف في مال نفسه انعزل
بفسقه لأن الوكيل ليس له توكيل فاسق ولا ينعزل بفسق موكله لأن موكله وكيل لرب المال ولا ينافيه
الفسق ولا تبطل الوكالة بالنوم والسكر والاغماء لأن ذلك لا يخرجه عن أهلية التصرف ولا تثبت عليه ولاية
الا ان يحصل الفسق بالسكر فيكون فيه من التفصيل ما أسلفناه
(فصل) ولا تبطل الوكالة بالتعدي فيما وكل فيه مثل ان يلبس الثوب ويركب الدابة وهذا أحد الوجهين
لأصحاب الشافعي والوجه الثاني تبطل الوكالة لأنها عقد أمانة فتبطل بالتعدي كالوديعة
ولنا انه إذا تصرف فقد تصرف باذن موكله فصح كما لو لم يتعد، ويفارق الوديعة من جهة انها أمانة
مجردة فنافاها التعدي والخيانة والوكالة اذن في التصرف تضمنت الأمانة فإذا انتفت الأمانة بالتعدي بقي
الاذن بحاله، فعلى هذا لو وكله في بيع ثوب فلبسه صار ضامنا فإذا باعه صح بيعه وبرئ من ضمانه لدخوله
في ملك المشتري وضمانه فإذا قبض الثمن كان أمانة في يده غير مضمون عليه لأنه قبضه باذن الموكل ولم
يتعد فيه ولو دفع إليه مالا ووكله في شراء شئ فتعدى في الثمن صار ضامنا له فإذا اشترى به وسلمه زال
الضمان وقبضه للمبيع قبض أمانة وان وجد بالمبيع عيبا فرد عليه أو وجد هو بما اشترى عيبا فرده وقبض
الثمن كان مضمونا عليه لأن العقد المزيل للضمان زال فعاد ما زال عنه
244

(فصل) وان وكل امرأته في بيع أو شراء أو غيره ثم طلقها لم تنفسخ الوكالة لأن زوال النكاح لا يمنع
ابتداء الوكالة فلا يقطع استدامتها وان وكل عبده ثم أعتقه أو باعه لم ينعزل لذلك، ويحتمل أن ينعزل
لأن توكيل عبده ليس بتوكيل في الحقيقة إنما هو استخدام بحق الملك فيبطل بزوال الملك فإذا باعه فقد
صار إلى ملك من لم يأذن في توكيله وثبوت ملك غيره فيه يمنع ابتداء توكيله بغير اذنه فيقطع
استدامته وهكذا الوجهان فيما إذا وكل عبد غيره ثم باعه، والصحيح أن الوكالة لا تبطل
لأن سيد العبد أذن له في بيع ماله والعتق لا يبطل الاذن وهكذا ان باعه الا أن المشتري
ان رضي ببقائه على الوكالة بقي وان لم يرض بذلك بطلت الوكالة، وان وكل عبد غيره فاعتقه لم تبطل
الوكالة وجها واحد لأن هذا توكيل حقيقة والعتق غير مناف له وان اشتراه الموكل منه لم تبطل الوكالة
لأن ملكه له لا ينافي اذنه له في البيع أو الشراء
(فصل) وان وكل مسلم كافرا فيما يصح تصرفه فيه صح توكيله سواء كان ذميا أو مستأمنا أو
حربيا أو مرتدا لأن العدالة غير مشترطة فيه وكذلك الدين كالبيع وان وكل مسلما فارتد لم تبطل
الوكالة سواء لحق بدار الحرب أو أقام وقال أبو حنيفة ان لحق بدار الحرب بطلت وكالته لأنه صار منهم
ولنا أنه يصح تصرفه لنفسه فلم تبطل وكالته كما لو لم يلحق بدار الحرب ولان الردة لا تمنع
ابتداء وكالته فلم تمنع استدامتها كسائر الكفر، وان ارتد الموكل لم تبطل الوكالة فيما له التصرف فيه
فأما الوكيل في مال فينبني على تصرفه نفسه فإن قلنا يصح تصرفه لم يبطل توكيله وان قلنا هو موقوف
فوكالته موقوفة وان قلنا يبطل تصرفه بطل توكيله وان وكل في حال ردته ففيه الوجوه الثلاثة أيضا
245

(فصل) ولو وكل رجلا في نقل امرأته أو بيع عبده أو قبض داره من فلان فقامت البينة
بطلاق الزوجة وعتق العبد وانتقال الدار عن الموكل بطلت الوكالة لأنه زال تصرف الموكل فزالت وكالته
(فصل) وان تلفت العين التي وكل في التصرف فيها بطلت الوكالة لأن محلها ذهب فذهبت الوكالة
كما لو وكله في بيع عبد فمات ولو دفع إليه دينارا ووكله في الشراء به فهلك الدينار أو ضاع أو استقرضه
الوكيل وتصرف فيه بطلت الوكالة سواء وكله في الشراء بعينه أو مطلقا لأنه إن وكله في الشراء بعينه
فقد استحال الشراء بعينه بعد تلفه فبطلت الوكالة، وان وكله في الشراء مطلقا ونقد الدينار بطلت أيضا
لأنه إنما وكله في الشراء به ومعناه أن ينقده ثمن ذلك المبيع اما قبل الشراء أو بعده وقد تعذر ذلك
بتلفه ولأنه لو صح شراؤه للزم الموكل ثمن لم يلزمه ولا رضي بلزومه وإذا استقرضه الوكيل ثم عزل
دينارا عوضه واشترى به فهو كالشراء له من غير اذن لأن الوكالة بطلت والدينار الذي عزله عوضا لا
يصير للموكل حتى يقبضه فإذا اشترى للموكل به شيئا وقف على إجازة الموكل فإن أجازه صح ولزم
الثمن والا لزم الوكيل وعنه يلزم الوكيل بكل حال وقال القاضي متى اشترى بعين ماله لغيره؟؟ شيئا
فالشراء باطل لأنه لا يصح أن يشتري بعين ماله ما يملكه غيره وقال أصحاب الشافعي متى اشترى
لغيره بمال نفسه شيئا صح الشراء للوكيل سواء اشتراه بعين المال أو في الذمة لأنه اشترى له ما لم يؤذن
له في شرائه أشبه ما لو اشتراه في الذمة
246

(فصل) نقل الأثرم عن أحمد في رجل كان له على آخر دراهم فقال له إذا أمكنك قضاؤها فادفعها
إلى فلان وغاب صاحب الحق ولم يوص إلى هذا الذي أذن له في القبض لكن جعله وكيلا وتمكن من
عليه الدين من القضاء فخاف إن دفعها إلى الوكيل أن يكون الموكل قد مات ويخالف التبعة من الورثة
فقال لا يعجبني أن يدفع إليه لعله قد مات لكن يجمع بين الوكيل والورثة ويبرأ إليهما من ذلك هذا
ذكره أحمد على طريق النظر للغريم خوفا من التبعة من الورثة إن كان موروثهم قد مات فانعزل وكيله
وصار الحق لهم فيرجعون على الدافع إلى الوكيل فأما من طريق الحكم فللوكيل المطالبة وللآخر
الدفع إليه فإن أحمد قد نص في رواية حرب إذا وكله في الحد وغاب استوفاه الوكيل وهو أبلغ من
هذا لكونه يدرأ بالشبهات لكن هذا احتياط حسن وتبرئة للغريم ظاهرا وباطنا وإزالة للبعة عنه وفي
هذه الرواية دليل على أن الوكيل انعزل بموت الموكل وان لم يعلم بموته لأنه اختار أن لا يدفع إلى
الوكيل خوفا من أن يكون الموكل قد مات وانتقل إلى الورثة ويجوز أن يكون اختار هذا لئلا يكون
القاضي ممن يرى أن الوكيل ينعزل بالموت فيحكم عليه بالعزل به وفيها دليل على جواز تراخي القبول
عن الايجاب لأنه وكله في قبض الحق ولم يعلمه ولم يكن حاضرا فيقبل وفيها دليل على صحة التوكيل
بغير لفظ التوكيل وقد نقل جعفر بن محمد في رجل قال لرجل بع ثوبي ليس شئ حتى يقول قد
وكلتك وهذا سهو من الناقل وقد تقدم ذكر الدليل على جواز التوكيل بغير لفظ التوكيل وهو الذي نقله الجماعة
247

(مسألة) قال (وإذا وكله في طلاق زوجته فهو في يده حتى يفسخ أو يطأ)
وجملة ذلك أن الوكالة إذا وقعت مطلقة غير مؤقتة ملك التصرف ابدا ما لم تنفسخ الوكالة وفسخ الوكالة
أن يقول قد فسخت الوكالة أو أبطلتها أو نقضتها أو عزلتك أو صرفتك عنها وأزلتك عنها أو ينهاه عن
فعل ما أمره به أو وكله فيه وما أشبه هذا من الألفاظ المقتضية عزله أو المؤدية معناه أو يعزل الوكيل
نفسه أو يوجد ما يقتضي فسخها حكما على ما قد ذكرنا أو يزول ملكه عما قد وكله في التصرف فيه أو
يوجد ما يدل على الرجوع عن الوكالة فإذا وكله في طلاق امرأته ثم وطئها انفسخت الوكالة لأن ذلك
يدل على رغبته فيها واختياره امساكها وكذلك أن وطئها بعد طلاقها طلاقا رجعيا كان ارتجاعها لها فإذا اقتضى
رجعتها بعد طلاقها فلان يقتضي استبقاءها على نكاحها ومنع طلاقها أولى وان باشرها دون الفرج أو
قبلها أو فعل بها ما يحرم على غير الزوج فهل تفسخ الوكالة في الطلاق؟ يحتمل وجهين بناء على الخلاف
في حصول الرجعة به وإن وكله في بيع عبد ثم أعتقه أو باعه بيعا صحيحا أو كاتبه أو دبره انفسخت
الوكالة لأنه بزوال ملكه لا يبقى له إذن في التصرف فيما لا يملكه وفي الكتابة والتدبير على إحدى
الروايتين لم يبق محلا للبيع، وعلى الرواية الأخرى تصرفه فيه بذلك يدل على أنه قصد الرجوع عن بيعه
وإن باعه بيعا فاسدا لم تبطل الوكالة لأن ملكه في العبد لم يزل، ذكره ابن المنذر.
248

(مسألة) قال (ومن وكل في شراء شئ فاشترى غيره كان الآمر مخيرا في قبول الشراء
فإن لم يقبل لزم الوكيل الا أن يكون اشتراه بعين المال فيبطل الشراء) وجملته أن الوكيل في الشراء إذا خالف موكله فاشترى غير ما وكل في شرائه مثل أن يوكله في
شراء عبد فيشتري جارية لم يخل من أن يكون اشتراه في ذمته أو بعين المال فإن كان اشتراه في ذمته
ثم نقد ثمنه فالشراء صحيح، لأنه إنما اشترى بثمن في ذمته وليس ذلك ملكا لغيره وقال أصحاب الشافعي
لا يصح في أحد الوجهين لأنه عقده على أنه للموكل ولم يأذن فيه فلم يصح كما لو اشترى بعين ماله
ولنا أنه لم يتصرف في ملك غيره فصح كما لو لم ينوه لغيره، إذا ثبت هذا فعن أحمد روايتان
(إحداهما) الشراء لازم للمشتري وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه اشترى في ذمته بغير إذن
غيره فكان الشراء له كما لو لم ينو غيره (والرواية الثانية) يقف على إجازة الموكل فإن أجازه لزمه لأنه
اشترى له وقد أجازه فلزمه كما لو اشترى باذنه، وإن لم يجزه لزم الوكيل لأنه لا يجوز أن يلزم الموكل
لأنه لم يأذن في شرائه ولزم الوكيل لأن الشراء صدر منه ولم يثبت لغيره فيثبت في حقه كما لو اشتراه
لنفسه وهكذا الحكم في كل من اشترى شيئا في ذمته لغيره بغير اذنه سواء كان وكيلا للذي قصد الشراء
له أو لم يكن وكيلا له، فاما إن اشترى بعين المال مثل أن يقول بعني الجارية بهذه الدنانير أو باع مال
غيره بغير اذنه فالصحيح من المذهب أن البيع باطل وهو مذهب الشافعي وفيه رواية أخرى أنه صحيح
249

ويقف على إجازة المالك فإن لم يجزه بطل وإن أجازه صح لحديث عروة بن الجعد انه باع ما لم يؤذن له
في بيعه فأقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له ولأنه تصرف له بخير فصح ووقف على الإجازة كالوصية بالزائد
على الثلث، ووجه الرواية الأولى انه عقد على مال من لم يأذن له في العقد فلم يصح كما لو باع مال الصبي
المراهق ثم بلغ فأجازه ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام (لا تبع ما ليس عندك) يعني ما لم تملك،
وأما حديث عروة فإنه يحتمل انه كان وكيلا مطلقا بدليل أنه باع وسلم المبيع وأخذ ثمنه وليس ذلك
جائزا لمن لم يؤذن له فيه اتفاقا ومتى حكمنا ببطلان البيع فاعترف له العاقد معه ببطلان البيع أو ثبت
ذلك ببينة فعليه رد ما أخذه، وإن لم يعترف بذلك ولا قامت به بينة حلف العاقد ولم يلزمه رد شئ
لأن الأصل ان تصرف الانسان لنفسه فلا يصدق على غيره فيما يبطل عقده وإن ادعى البائع أنه باع
مال غيره بغير اذنه فالقول قول المشتري لما ذكرناه، ولو قال المشتري إنك بعت مال غيرك بغير اذنه
فأنكر البائع ذلك وقال بل بعت ملكي أو قال بعت مال موكلي باذنه فالقول قوله أيضا، وإن اتفق
البائع والمشتري على ما يبطل البيع وقال الموكل بل البيع صحيح فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه
رد ما أخذه من العوض.
(فصل) وإن وكله في أن يتزوج له امرأة فتزوج له غيرها أو تزوج له بغير اذنه فالعقد فاسد
بكل حال في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي لأن من شرط صحة النكاح ذكر الزوج فإذا كان
250

بغير إذنه لم يقع له ولا للوكيل لأن المقصود أعيان الزوجين بخلاف البيع فإنه يجوز أن يشتري له من
غير تسمية المشتري له فافترقا، والرواية الثانية يصح النكاح ويقف على إجازة المتزوج له فإن أجازه
صح وإلا بطل وهذا مذهب أبي حنيفة والقول فيه كالقول في البيع على ما تقدم
(فصل) قال القاضي إذا قال لرجل اشتر لي بديني عليك طعاما لم يصح ولو قال تسلف لي ألفا
من مالك في كر طعام ففعل لم يصح لأنه لا يجوز أن يشتري الانسان بماله ما يملكه غيره، وان قال
اشتر لي في ذمتك أو قال تسلف لي ألفا في كر طعام واقض الثمن عني من مالك أو من الدين الذي لي
عليك صح لأنه إذا اشترى في الذمة حصل الشراء للموكل والثمن عليه فإذا قضاه من الدين الذي عليه
فقد دفع الدين إلى من أمره صاحب الدين بدفعه إليه وإن قضاه من ماله عن دين السلف الذي عليه صار قرضا عليه.
(فصل) ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله من جهة النطق أو من جهة العرف لأن
تصرفه بالاذن فاختص بما اذن فيه والاذن يعرف بالنطق تارة وبالعرف أخرى، ولو وكل رجلا في التصرف في
زمن مقيد لم يملك التصرف قبله ولا بعده لأنه لم يتناوله اذنه مطلقا ولا عرفا لأنه يؤثر التصرف في زمن الحاجة
إليه دون غيره ولهذا لما عين الله تعالى لعبادته وقتا لم يجز تقديمها عليه ولا تأخيرها عنه فلو قال له بع ثوبي غدا لم يجز بيعه
اليوم ولا بعد غد وان عين له المكان وكان يتعلق به غرض مثل أن يأمره ببيع ثوبه في سوق وكان ذلك السوق
معروفا بجودة النقد أو كثرة الثمن أو حله أو بصلاح أهله أو بمودة بين الموكل وبينهم تقيد الاذن به لأنه قد
251

نص على أمر له فيه غرض فلم يجز تفويته وإن كان هو وغيره سواء في الغرض لم يتقيد الاذن به وجاز له
البيع في غيره لمساواته المنصوص عليه في الغرض فكان تنصيصه على أحدهما إذنا في الآخر كما لو استأجر
أو استعار أرضا لزراعة شئ كان إذنا في زراعة مثله فما دونه ولو اشترى عقارا كان له أن يسكنه مثله ولو نذر
صلاة أو اعتكافا في مسجد جاز الاعتكاف والصلاة في غيره، وسواء قدر له الثمن أولم يقدره وان عين له
المشتري فقال بعه فلانا لم يملك بيعه لغيره بغير خلاف علمنا سواء قدر له الثمن أو لم يقدره لأنه قد يكون
له غرض في تمليكه إياه دون غيره الا أن يعلم الوكيل بقرينة أو صريح انه لا غرض له في عين المشتري
(فصل) وان وكله في عقد فاسد لم يملكه لأن الله تعالى لم يأذن فيه لأن الموكل لا يملكه فالوكيل أولى
ولا يملك الصحيح لأن الموكل لم يأذن فيه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يملك الصحيح لأنه إذا أذن
في الفاسد فالصحيح أولى. ولنا أنه أذن له في محرم فلم يملك الحلال بهذا الاذن كما لو أذن في شراء خمر
وخنزير لم يملك شراء الخيل والغنم
(فصل) وان وكله في بيع عبد أو حيوان أو عقار ونحوه أو شرائه لم يملك العقد على بعضه لأن التوكيل
تناول جميعه وفي التبعيض اضرار بالموكل وتشقيص لملكه ولم يأذن فيه، وإن وكله في بيع عبيد أو شرائهم ملك
العقد عليهم جملة واحدة، واحدا واحدا لأن الاذن يتناول العقد عليهم جملة والعرف في بيعهم وشرائهم العقد
252

على واحد واحد ولا ضرر في جمعهم ولا افرادهم وإن قال اشتر لي عبيدا صفقة واحدة أو واحدا واحدا
أو بعهم لم تجز مخالفته لأن تنصيصه على ذلك يدل على غرضه فيه فلم يتناول اذنه سواه، وان قال اشتر لي
عبدين صفقة فاشترى عبدين لاثنين مشتركين بينهما من وكيلهما أو من أحدهما باذن الآخر جاز وإن كان
لكل واحد منهما عبد مفرد فاشتراهما من المالكين بان أوجبا له البيع فيهما وقبل ذلك منهما بلفظ واحد
فقال القاضي لا يلزم الموكل وهو مذهب الشافعي لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان ويحتمل أن يلزمه
لأن القبول هو الشراء وهو متحد والغرض لا يختلف، وان اشتراهما من وكيلهما وعين ثمن كل واحد منهما
مثل أن يقول بعتك هذين العبدين هذا بمائة وهذا بمائتين فقال قبلت احتمل أيضا وجهين وان لم يعين
ثمن كل واحد منهما لم يصح البيع في أحد الوجهين لأن ثمن كل واحد منهما مجهول، ويحتمل أن
يصح ويسقط الثمن على قدر قيمتهما
(فصل) فإن دفع إليه دراهم وقال اشتر لي بهذه عبدا كان له أن يشتريه بعينها وفي الذمة لأن الشراء يقع
على هذين الوجهين فإذا أطلق الوكالة كان له فعل ما شاء منهما وان قال اشتر بعينها فاشتراه في ذمته ثم نقدها
لم يلزم الموكل لأنه إذا تعين الثمن انفسخ العقد بتلفه أو كونه مغصوبا ولم يلزمه ثمن في ذمته وهذا غرض
للموكل فلم تجز مخالفته، ويقع الشراء للوكيل وهل يقف على إجازة الموكل؟ على روايتين وان قال اشتر لي
في ذمتك وانقد هذه الدراهم ثمنا فاشتراه بعينها فقال أصحابنا يلزم الموكل لأنه أذن له في عقد يلزمه به
الثمن مع بقاء الدراهم وتلفها فكان إذنا في عبد لا يلزمه الثمن الا مع بقائها ويحتمل أن لا يصح لأنه قد
253

يكون له غرض في الشراء بغير عينها لكونها فيها شبهة لا يحب أن يشتري بها أو يحب وقوع العقد على وجه
لا ينفسخ بتلفها ولا يبطل بتحريمها وهذا غرض صحيح فلا يجوز تفويته عليه كما لم يجز تفويت غرضه في
الصورة الأولى ومذهب الشافعي في هذا كله كنحو ما ذكرناه
(فصل) وان عين له الشراء بنقد أو حالا لم تجز مخالفته وان أذن له في النسيئة والبيع بأي نقد شاء جاز
وان أطلق لم يبع إلا حالا بنقد البلد لأن الأصل في البيع الحلول واطلاق النقد ينصرف إلى نقد البلد ولهذا
لو باع عبده بعشره دراهم وأطلق حمل على الحلول بنقد البلد وإن كان في البلد نقدان باع بأغلبهما فإن
تساويا باع بما شاء منهما وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وصاحباه له البيع نساء لأنه معتاد فأشبهه الحال
ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على الرواية في المضارب وقد ذكرناها والأول أولى لأنه لو أطلق البيع حمل على
الحول فكذلك إذا أطلق الوكالة فيه، ولا نسلم تساوي العادة فيهما فإن بيع الحال أكثر، ويفارق المضاربة
لوجهين (أحدهما) ان المقصود من المضاربة الربح لا دفع الحاجة بالثمن في الحال وقد يكون المقصود في الوكالة
دفع حاجه ناجزة تفوت بتأخير الثمن (والثاني) ان استيفاء الثمن في المضاربة على المضارب فيعود ضرر
التأخير في التقاضي عليه وههنا بخلافه فلا يرضى به الموكل ولان الضرر في توى الثمن على المضارب
لأنه يحسب من الربح لكون الربح وقاية لرأس المال وههنا يعود على الموكل فانقطع الالحاق
(فصل) إذا وكله في بيع سلعة نسيئة فباعها نقدا بدون ثمنها نسيئة أو بدون ما عينه له لم ينفذ
بيعه لأنه مخالف لموكله لأنه رضي بثمن النسيئة دون النقد، وان باعها نقدا بما تساوي نسيئة أو عين له
254

ثمنها فباعها به نقدا فقال القاضي يصح لأنه زاده خيرا فكان مأذونا فيه عرفا فأشبه ما لو وكله في بيعها
بعشرة فباعها بأكثر منها ويحتمل أن ينظر فيه فإن لم يكن له غرض في النسيئة صح وإن كان فيها غرض
نحو أن يكون الثمن مما يستضر بحفظه في الحال أو يخاف عليه من التلف أو المتغلبين أو يتغير عن حاله
إلى وقت الحلول فهو كمن لم يؤذن له لأن حكم الحول لا يتناول المسكوت عنه إلا إذا علم أنه في المصلحة
كالمنطوق أو أكثر فيكون الحكم فيه ثابتا بطريق التنبيه أو المماثلة ومتى كان في المنطوق به غرض
مختص به لم يجز تفويته ولا ثبوت الحكم في غيره وقد ذكر القاضي نحو هذا في موضع آخر
(فصل) وإن وكله في الشراء بثمن نقدا فاشتراه نسيئة بأكثر من ثمن النقد لم يقع للموكل، وإن
اشتراه نسيئة بثمنه نقدا أو بما عينه له فهي كالتي قبلها ويصح للموكل في قول القاضي، وعلى ما ذكرنا
ينظر في ذلك فإن كان فيه ضرر نحو أن يستضر ببقاء الثمن معه ونحو ذلك لم يجز كقولنا في التي قبلها
ولأصحاب الشافعي في صحة الشراء وجهان
(فصل) وليس له أن يبيع بدون ثمن المثل أو دون ما قدره له ولا يشتري بأكثر من ثمن المثل
أو أكثر مما قدر له وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة إذا أطلق الوكالة في البيع
فله البيع بأي ثمن كان لأن لفظه في الاذن مطلق فيجب حمله على اطلاقه
ولنا انه توكيل مطلق في عقد معاوضة فاقتضى ثمن المثل كالشراء فإنه وافق عليه وما ذكره ينتقض
بالشراء فإن باع بأقل من ثمن المثل أو اشترى بأكثر منه مما لا يتغابن الناس بمثله، أو باع بدون
ما قدره له أو اشترى بأكثر منه فحكمه حكم من لم يؤذن له في البيع والشراء وهذا قول الشافعي،
255

وعن أحمد أن البيع جائز دون الشراء ويضمن الوكيل النقص لأن من صح بيعه بثمن المثل صح بدونه
كالمريض، فعلى هذه الرواية يكون البيع صحيحا وعلى الوكيل ضمان النقص وفي قدره وجهان (أحدهما)
ما بين ثمن المثل وما باعه به (الثاني) ما بين ما يتغابن الناس به وما لا يتغابن الناس به لأن ما يتغابن
الناس به يصح بيعه به ولا ضمان عليه والأول أقيس لأنه لم يؤذن للوكيل في هذا البيع فأشبه بيع
الأجنبي ولو أذن له في البيع لم يكن عليه ضمان فأشبه الشراء، وكل تصرف كان الوكيل مخالفا فيه
لموكله فحكمه فيه حكم تصرف الأجنبي على ما ذكر في موضعه إن شاء الله، واما ما يتغابن الناس به عادة فمعفو
عنه إذا لم يكن الموكل قدر له الثمن لأن ما يتغابن الناس به يعد ثمن المثل ولا يمكن التحرز عنه، ولو حضر
من يزيد على ثمن المثل لم يجز أن يبيع بثمن المثل لأن عليه الاحتياط وطلب الخط لموكله وان باع بثمن
المثل فحضر من يزيد في مدة الخيار لم يلزمه فسخ العقد في الصحيح لأن الزيادة ممنوع منها منهي عنها
فلا يلزم الرجوع إليها ولان المزايد قد لا يثبت على الزيادة فلا يلزم الفسخ بالشك ويحتمل أن يلزمه
ذلك لأنها زيادة في الثمن أمكن تحصيلها فأشبه ما لو أجاز به قبل البيع والنهي يتوجه إلى الذي زاد لا إلى
الوكيل فأشبه من جاءته الزيادة قبل البيع وبعد الاتفاق عليه.
(فصل) ومن وكل في بيع عبد بمائة فباعه بأكثر منها صح سواء كان الزيادة كثيرة أو قليلة
لأنه باع بالمأذون فيه وزاد زيادة تنفعه ولا تضره وسواء كانت الزيادة من جنس الثمن المأمور به أو
من غير جنسه مثل أن يأذن في بيعه بمائة درهم فيبيعه بمائة درهم ودينار أو ثوب وقال أصحاب الشافعي
لا يصح بيعه بمائة وثوب في أحد الوجهين لأنه من غير جنس الأثمان
256

ولنا أنها زيادة تنفعه ولا تضره أشبه ما لو باعه بمائة ودينار ولان الاذن في بيعه بمائة اذن في بيعه
بزيادة عليها عرفا لأن من رضي بمائة لا يكره أن يزاد عليها ثوب ينفعه ولا يضره وإن باعه بمائة دينار
أو بتسعين درهما وعشرة دنانير وأشباه ذلك أو بمائة ثوب أو بثمانين درهما وعشرين ثوبا لم يصح،
ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه خالف موكله في الجنس فأشبه ما لو باعه بثوب يساوي
أكثر من مائة درهم ويحتمل أن يصح فيما إذا جعل مكان الدراهم دنانير أو مكان بعضها لأنه مأذون
فيه عرفا فإن من رضي بدرهم رضي مكانه بدينار فجرى مجرى بيعه بمائة درهم ودينار واما الثياب فلا يصح
بيعه بها لأنها من غير جنس الأثمان
(فصل) وان وكله في بيع عبد بمائة فباع نصفه بها أو وكله مطلقا فباع نصفه بثمن الكل جاز لأنه مأذون
فيه من جهة العرف فإن من رضي مائة ثمنا للكل رضي بها ثمنا للنصف ولأنه حصل له المائة وأبقى له
زيادة تنفعه ولا تضره وله بيع النصف الآخر لأنه مأذون في بيعه فأشبه ما لو باع العبد كله بمثلي ثمنه
ويحتمل أن لا يجوز له بيعه لأنه قد حصل للموكل غرضه من الثمن ببيع نصفه فربما لا يؤثر بيع باقيه للغنى
عن بيعه بما حصل له من ثمن نصفه وهكذا القول في توكيله في بيع عبدين بمائة إذا باع أحدهما بها صح وهل
يكون له بيع العبد الآخر؟ على وجهين، فاما إن وكله في بيع عبده بمائة فباع بعضه بأقل منها لم يصح وان وكله
مطلقا فباع بعضه بأقل من ثمن الكل لم يجز وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يجوز
فيما إذا أطلق الوكالة بناء على أصله في أن للوكيل المطلق البيع بما شاء. ولنا أن على الموكل ضررا في
تبعيضه ولم يوجد الاذن فيه نطقا ولا عرفا فلم يجز كما لو وكله في شراء عبد فاشترى نصفه
257

(فصل) وان وكله في شراء عبد بعينه بمائة فاشتراه بخمسين أو بما دون المائة صح ولزم الموكل
لأنه مأذون فيه من جهة العرف، وان قال لا تشتره بأقل من مائة فخالفه لم يجز لأنه خالف نصه وصريح
قوله مقدم على دلالة العرف فإن قال اشتراه بمائة ولا تشتره بخمسين جاز له شراؤه بما فوق الخمسين لأن
اذنه في الشراء بمائة دل عرفا على الشراء بما دونها خرج منه الخمسون بصريح النهي بقي فيما فوقها على
مقتضى الاذن، وان اشتراه بأقل من الخمسين ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لذلك ولأنه لم يخالف صريح نهيه
أشبه ما زاد على الخمسين (والثاني) لا يجوز لأنه نهاه عن الخمسين استقلالا لها فكان تنبيها على النهي عما هو أقل
منها كما أن الاذن في الشراء بمائة اذن فيما دونها فجرى ذلك مجرى صريح نهيه فإن تنبيه الكلام كنصه
وان قال اشتره بمائة دينار فاشتراه بمائة درهم فالحكم فيه كما لو قال بعه بمائة درهم فباعه بمائة دينار على
ما مضى من القول فيه، ان قال اشتر لي نصفه بمائة فاشتراه كله أو أكثر من نصفه بمائه جاز لأنه مأذون
فيه عرفا وان قال اشتر لي نصفه بمائة ولا تشتره جميعه فاشترى أكثر من النصف وأقل من الكل بمائة
صح في قياس المسألة التي قبلها لكون دلالة العرف قاضية بالاذن في شراء كل ما زاد على النصف خرج
الجميع بصريح نهيه ففيما ما عداه يبقى على مقتضى الاذن
258

(فصل) وان وكله في شراء عبد موصوف بمائة فاشتراه على الصفة بدونها جاز لأنه مأذون فيه عرفا
وان خالفه في الصفة أو اشتراه بأكثر منها لم يلزم الموكل وان قال اشتر لي عبدا بمائة فاشترى عبدا
يساوي مائة بدونها جاز لأنه لو اشتراه بمائة جاز فإذا اشتراه بدونها فقد زاده خيرا فيجوز وإن كان
لا يساوي مائة لم يجز وإن كان يساوي أكثر مما اشتراه به لأنه خالف أمره ولم يحصل غرضه
(فصل) وان وكله في شراء شاة بدينار فاشترى شاتين تساوي كل واحدة منهما أقل من دينار لم يقع
للموكل وان كانت كل واحدة منهما تساوي دينارا أو إحداهما تساوي دينار أو الأخرى أقل من دينار صح
ولزم الموكل وهذا المشهور من مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يقع للموكل إحدى الشاتين بنصف دينار
والأخرى للوكيل لأنه لم يرض إلا بالزامه عهدة شاة واحدة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة بن الجعد دينارا فقال (اشتر لنا به شاة) قال فأتيت الجلب فاشتريت
شاتين بدينار فجئت أسوقهما أو أقودهما فلقيني رجل بالطريق فساومني فبعت منه شاة بدينار فأتيت
النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار وبالشاة فقلت يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم قال (وصنعت كيف؟)
259

فحدثته الحديث قال (اللهم بارك له في صفقة يمينه) ولأنه حصل له المأذون فيه وزيادة من جنسه
تنفع ولا تضر فوقع ذلك له كما لو قال له بعه بدينار فباعه بدينارين وما ذكره يبطل بالبيع فإن باع
الوكيل إحدى الشاتين بغير أمر الموكل ففيه وجهان (أحدهما) البيع باطل لأنه باع مال موكله بغير
أمره فلم يجز كبيع الشاتين (والثاني) ان كانت الباقية تساوي دينار جازا لحديث عروة بن الجعد
البارقي ولأنه حصل له المقصود والزيادة لو كانت غير الشاة جاز فجاز له ابدالها بغيرها وظاهر كلام
أحمد صحة البيع لأنه أخذ بحديث عروة وذهب إليه، وإذا قلنا لا يجوز له بيع الشاة فباعها فهل يقع
البيع باطلا أو صحيحا موقوفا على إجازة الموكل؟ على روايتين، وهذا أصل لكل من تصرف في ملك
غيره بغير اذنه ووكيل يخالف موكله هل يقع باطلا أو يصح ويقف على إجازة المالك؟ فيه روايتان
وللشافعي في صحة البيع ههنا وجهان
(فصل) وإذا وكله في شراء سلعة موصوفة لم يجز أن يشتريها الا سليمة لأن اطلاق المبيع
يقتضي السلامة ولذلك جاز الرد بالعيب، فإن اشترى معيبا يعلم عيبه لم يلزم الموكل لأنه اشترى غير ما
أذن له فيه وان لم يعلم عيبه صح البيع لأنه أنما يلزمه شراء الصحيح في الظاهر لعجزه عن التحرز
260

عن شراء معيب لا يعلم عيبه فإذا علم عيبه ملك رده لأنه قائم في الشراء مقام الموكل وللموكل رده
أيضا لأن الملك له فإن حضر قبل رد الوكيل ورضي بالعيب لم يكن للوكيل رده لأن الحق له بخلاف
المضارب فإن له الرد وان رضي رب المال لأن له حقا فلا يسقط برضى غيره، وان لم يحضر فأراد الوكيل
الرد فقال له البائع توقف حتى يحضر الموكل فربما رضي بالعيب لم يلزمه ذلك لأنه لا يأمن فوات
الرد لهرب البائع وفوات الثمن بتلفه، وان أخره بناء على هذا القول فلم يرض به الموكل لم يسقط
رده وان قلنا الرد على الفور لأنه أخره باذن البائع فيه وان قال البائع موكلك قد علم العيب فرضيه
لم يقبل قوله إلا ببينة فإن لم يكن له بينة لم يستحلف الوكيل الا أن يدعي علمه فيحلف على نفي
العلم وبهذا قال الشافعي، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يستحلف لأنه لو حلف كان نائبا في اليمين
وليس بصحيح فإنه لا نيابة ههنا وإنما يحلف على نفي علمه وهذا لا ينوب فيه عن أحد، فإن رد الوكيل
وحضر الموكل وقال قد بلغني العيب ورضيت به وصدقه البائع أو قامت به بينة لم يقع الرد موقعه وكان
للموكل استرجاعه وللبائع رده عليه لأن رضاه به عزل الوكيل عن الرد بدليل أنه لو علمه لم يكن له
الرد إلا أن نقول إن الوكيل لا ينعزل حتى يعلم العزل، وان رضي الوكيل المعيب أو أمسكه امساكا
261

ينقطع به الرد فحضر الموكل فأراد الرد فله ذلك أن صدقه البائع ان الشراء له أو قامت به بينة وان
كذبه ولم تكن به بينة فحلفه البائع أنه لا يعلم أن الشراء له فليس له رده لأن الظاهر أن من
اشترى شيئا فهو له ويلزم الوكيل وعليه غرامة الثمن وهذا كله مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة للوكيل شراء
المعيب لأن التوكيل في البيع مطلقا يدخل المعيب في اطلاقه ولأنه أمينه في الشراء فجاز له شراء المعيب كالمضارب
ولنا أن البيع باطلاقه يقتضي الصحيح دون المعيب فكذلك الوكالة فيه ويفارق المضاربة من حيث
أن المقصود فيها الربح والربح يحصل من المعيب كحصوله من الصحيح والمقصود من الوكالة شراء ما
يقتنى أو يدفع به حاجته وقد يكون العيب مانعا من قضاء الحاجة به ومن قنيته فلا يحصل المقصود وقد
ناقض أبو حنيفة أصله فإنه قال في قوله تعالى (فتحرير رقبة) لا تجوز العمياء ولا معيبة عيبا يضر بالعمل
وقال ههنا يجوز للوكيل شراء الأعمى والمقعد ومقطوع اليدين والرجلين
(فصل) وإن أمره بشراء سلعة بعينها فاشتراها فوجدها معيبة احتمل أن له الرد لأن الامر
يقتضي السلامة فأشبه ما لو وكله في شراء موصوفة ويحتمل أن لا يملك الرد لأن الموكل قطع نظره
بالتعيين فربما رضيه على جميع صفاته، وان علم عيبه قبل شرائه فهل له شراؤه؟ يحتمل وجهين أيضا
262

مبنيين على رده إذا علم عيبه بعد شرائه وان قلنا يملك رده فليس له شراؤه لأن العيب إذا جاز به الرد
بعد العقد فلان يمنع من الشراء أولى وان قلنا لا يملك الرد ثم فله الشراء ههنا لأن تعيين الموكل قطع
نظره واجتهاده في جواز الرد فكذلك في الشراء
(فصل) وإذا اشترى الوكيل لموكله شيئا باذنه انتقل الملك من البائع إلى الموكل ولم يدخل في
ملك الوكيل وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يدخل في ملك الوكيل ثم ينتقل إلى الموكل لأن حقوق
العقد تتعلق بالوكيل بدليل أنه؟؟ لو اشتراه بأكثر من ثمنه دخل في ملكه ولم ينتقل إلى الموكل
ولنا أنه قبل عقدا لغيره صح له فوجب أن ينتقل الملك إليه كالأب والوصي وكما لو تزوج له
وقولهم ان حقوق العقد تتعلق به غير مسلم ويتفرع عن هذا أن المسلم لو وكل ذميا في شراء خمر أو
خنزير فاشتراه له لم يصح الشراء وقال أبو حنيفة يصح ويقع للذمي لأن الخمر مال لهم لأنهم يتمولونها
ويتبايعونها فصح توكيلهم فيها كسائر أموالهم
ولنا أن كل ما لا يجوز للمسلم العقد عليه لا يجوز ان يوكل فيه كتزويج المجوسية وبهذا خالف
سائر أموالهم وإذا باع الوكيل بثمن معين ثبت الملك للموكل في الثمن لأنه بمنزلة المبيع وإن كان الثمن
263

في الذمة فللوكيل والموكل المطالبة به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ليس للموكل المطالبة لأن
حقوق العقد تتعلق بالوكيل دونه ولهذا يتعلق مجلس الصرف والخيار به دون موكله فكذلك القبض
ولنا ان هذا دين للموكل يصح قبضه له فملك المطالبة به كسائر ديونه التي وكل فيها، ويفارق
مجلس العقد لأن ذلك من شروط العقد فتعلق بالعاقد كالايجاب والقبول وأما الثمن فهو حق للموكل
ومال من أمواله فكانت له المطالبة به ولا نسلم ان حقوق العقد تتعلق؟؟؟ به وإنما تتعلق بالموكل وهي تسليم الثمن
وقبض المبيع والرد بالعيب وضمان الدرك فأما ثمن ما اشتراه إذا كان في الذمة فإنه يثبت في ذمة الموكل
أصلا وفي ذمة الوكيل تبعا كالضامن وللبائع مطالبة من شاء منهما فإن أبرأ الوكيل لم يبرأ الموكل
وإذا أبرأ الموكل برئ الوكيل أيضا كالضامن والمضمون عنه سواء وإن دفع الثمن إلى البائع فوجد
به عيبا فرده على الوكيل كان أمانة في يده ان تلف فهو من ضمان الموكل، ولو وكل رجلا يتسلف له ألفا
في كر حنطة ففعل ملك الموكل ثمنها والوكيل ضامن عن موكله كما تقدم
(فصل) قال احمد في رواية مهنا إذا دفع إلى رجل ثوبا ليبيعه ففعل فوهب له المشتري منديلا
فالمنديل لصاحب الثوب إنما قال ذلك لأن هبة المنديل سببها البيع وكان المنديل زيادة في الثمن والزيادة
في مجلس العقد تلحق به
264

(فصل) في الشهادة على الوكالة إذا ادعى الوكالة وأقام شاهدا وامرأتين أو حلف مع شاهده
فقال أصحابنا فيها روايتان (إحداهما) تثبت بذلك إذا كانت الوكالة بمال فإن احمد قال في الرجل يوكل
ويشهد على نفسه رجلا وامرأتين إذا كانت المطالبة بدين فاما غير ذلك فلا (والثانية) لا تثبت الا بشاهدين
عدلين نقلها الخرقي بقوله ولا تقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال لأقل من رجلين وهذا
قول الشافعي لأن الوكالة اثبات للتصرف، ويحتمل أن يكون قول الخرقي كالرواية الأولى لأن الوكالة في
المال يقصد بها المال فتقبل فيها شهادة النساء مع الرجال كالبيع والقرض فإن شهدا بوكالته ثم قال أحدهما
قد عزله لم تثبت وكالته بذلك لأن أحدهما لم تثبت وكالته بذلك وإن كان الشاهد بالعزل رجلا غيرهما
لم يثبت العزل بشهادته وحده لأن العزل لا يثبت الا بما يثبت به التوكيل ومتى عاد أحد الشاهدين
بالتوكيل فقال قد عزله لم يحكم بشهادتهما لأنه رجوع عن الشهادة قبل الحكم بها فلا يجوز للحاكم
الحكم بما رجع عنه الشاهد، وان حكم الحاكم بشهادتهما ثم عاد أحدهما فقال قد عزله بعد ما وكله لم
يلتفت إلى قوله لأن الحكم قد نفذ بالشهادة ولم يثبت العزل فإن قالا جميعا قد كان عزله ثبت العزل
لأن الشهادة تمت في العزل كتمامها في التوكيل
265

(فصل) فإن شهد أحدهما انه وكله يوم الجمعة وشهد آخر انه وكله يوم السبت لم تتم الشهادة
لأن التوكيل يوم الجمعة غير التوكيل يوم السبت فلم تكمل شهادتهما على فعل واحد وان شهد أحدهما انه
أقر بتوكيله يوم الجمعة وشهد الآخر أنه أقر به يوم السبت تمت الشهادة لأن الاقرارين اخبار عن عقد
واحد ويشق جمع الشهود ليقر عندهم حالة واحدة فجوز له الاقرار عند كل واحد وحده، وكذلك
لو شهد أحدهما انه أقر عنده بالوكالة بالعربية وشهد الآخر انه أقربها بالعجمية ثبتت، ولو شهد أحدهما
انه وكله بالعربية وشهدا الآخر انه وكله بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن التوكيل بالعربية غير التوكيل
بالعجمية فلم تكمل الشهادة على فعل واحد وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال وكلتك وشهد الآخر أنه قال
أذنت لك في التصرف أو أنه قال جعلتك وكيلا أو شهد أنه قال جعلتك جريا لم تتم الشهادة لأن
اللفظ مختلف والجري الوكيل، ولو قال أحدهما اشهد أنه وكله وقال الآخر اشهد أنه اذن له في التصرف
تمت الشهادة لأنهما لم يحكيا لفظ الموكل وإنما عبرا عنه بلفظهما اختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق
معناه ولو قال أحدهما أشهد انه أقر عندي أنه وكله وقال الآخر أشهد أنه أقر انه جريه أو أنه
أوصى إليه بالتصرف في حياته ثبتت الوكالة بذلك، ولو شهد أحدهما انه وكله في بيع عبده وشهد
الآخر انه وكله وزيدا أو شهدا انه وكله في بيعه وقال لا تبعه حتى تستأمرني أو تستأمر فلانا لم
266

تتم الشهادة لأن الأول أثبت استقلاله بالبيع من غير شرط والثاني ينفي ذلك فكانا مختلفين، وان
شهد أحدهما انه وكله في بيع عبده وشهدا الآخر انه وكله في بيع عبده وجاريته حكم بالوكالة في
العبد لاتفاقهما عليه وزيادة الثاني لا تقدح في تصرفه في الأول فلا تضر وهكذا لو شهد أحدهما انه
وكله في بيعه لزيد وشهد الآخر انه وكله في بيعه لزيد وان شاء لعمرو
(فصل) ولا تثبت الوكالة والعزل بخبر الواحد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة تثبت الوكالة
بخبر الواحد وان لم يكن ثقة ويجوز التصرف للمخبر بذلك إذا غلب على ظنه صدق المخبر بشرط
الضمان ان أنكر الموكل ويثبت العزل بخبر الواحد إذا كان رسولا لأن اعتبار شاهدين عدلين في هذا
يشق فسقط اعتباره ولأنه اذن في التصرف ومنع منه فلم يعتبر في هذا شروط الشهادة كاستخدام غلامه
ولنا انه عقد مالي فلا يثبت بخبر الواحد كالبيع وفارق الاستخدام فإنه ليس بعقد، ولو شهد
اثنان؟؟ ان فلانا الغائب وكل فلانا الحاضر فقال الوكيل ما علمت هذا وانا أتصرف عنه ثبتت الوكالة لأن
معنى ذلك أني لم أعلم إلى الآن وقبول الوكالة يجوز متراخيا وليس من شرط التوكيل حضور الوكيل
ولا علمه فلا يضر جهله به وان قال ما أعلم صدق الشاهدين لم تثبت وكالته لقدحه في شهادتهما وان قال
ما علمت وسكت قيل له فسر فإن فسر بالأول ثبتت وكالته وان فسره بالثاني لم تثبت
(فصل) ويصح سماع البينة بالوكالة على الغائب وهو أن يدعي أن فلانا الغائب وكلني في كذا وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح بناء على أن الحكم على الغائب لا يصح
ولنا أنه يعتبر رضاه في سماع البينة فلا يعتبر حضوره كغيره وإذا قال له من عليه الحق احلف
أنك تستحق مطالبتي لم تسمع دعواه لأن ذلك طعن في الشهادة وان قال قد عزلك الموكل فاحلف
أنه ما عزلك لم يستحلف لأن الدعوى على الموكل واليمين لا تدخلها النيابة، وان قال أنت تعلم أن
موكلك قد عزلك سمعت دعواه وان طلب اليمين من الوكيل حلف أنه لا يعلم أن موكله عزله لأن
الدعوى عليه وان أقام الخصم بينة بالعزل سمعت وانعزل الوكيل
(فصل) وتقبل شهادة الوكيل على موكله لعدم التهمة فإنه لا يجر بها نفعا ولا يدفع بها ضررا
267

وتقبل شهادته له فيما لم يوكله فيه لأنه لا يجر إلى نفسه نفعا ولا تقبل شهادته له فيما هو وكيل فيه
لأنه يثبت لنفسه حقا بدليل أنه إذا وكله في قبض حق فشهد به له ثبت استحقاق قبضه ولأنه خصم
فيه بدليل أنه يملك المخاصمة فيه فإن شهد بما كان وكيلا فيه بعد عزله لم تقبل أيضا سواء كان خاصم
فيه بالوكالة أو لم يخاصم وبهذا قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إن كان لم يخاصم فيه قبلت
شهادته لأنه لا حق له فيه ولم يخاصم فيه فأشبه ما لو لم يكن وكيلا فيه وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أنه بعقد الوكالة صار خصما فيه فلم تقبل شهادته فيه كما لو خاصم فيه وفارق ما لم يكن وكيلا فيه فإنه لم يكن خصما فيه
(فصل) إذا كانت الأمة بين نفسين فشهدا أن زوجها وكل في طلاقها لم تقبل شهادتهما لأنهما
يجران إلى أنفسهما نفعا وهو زوال حق الزوج من البضع الذي هو ملكهما وان شهدا بعزل الوكيل
في الطلاق لم تقبل لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعا وهو ابقاء النفقة على الزوج ولا تقبل شهادة ابني
الرجل له بالوكالة ولا أبويه لأنهما يثبتان له حق التصرف ولا يثبت للانسان حق بشهادة ابنه ولا
أبيه ولا تقبل شهادة ابني الموكل ولا أبويه بالوكالة وقال بعض الشافعية تقبل لأن هذا حق على
الموكل يستحق به الوكيل المطالبة فقبلت فيه شهادة قرابة الموكل كالاقرار
ولنا أن هذه شهادة يثبت بها حق لأبيه أو ابنه فلم تقبل كشهادة ابني الوكيل وأبويه وذلك
268

لأنهما يثبتان لأبيهما نائبا متصرفا، له وفارق الشهادة عليه بالاقرار فإنها شهادة عليه متمحضة ولو ادعى
الوكيل الوكالة فأنكرها الموكل فشهد عليه ابناه أو أبواه ثبتت الوكالة وأمضي تصرفه لأن ذلك
شهادة عليه، وان ادعى الموكل أنه تصرف بوكالته وأنكر الوكيل فشهد عليه أبواه أو ابناه قبل أيضا
لذلك، وان ادعى وكيل لموكله الغائب حقا وطالب به فادعى الخصم أن الموكل عزله وشهد له بذلك ابنا الموكل
قبلت شهادتهما وثبت العزل بها لأنهما يشهدان على أبيهما وان لم يدع الخصم عزله لم تسمع شهادتهما
لأنهما يشهدان لمن لا يدعيها فإن قبض الوكيل فحضر الموكل وادعى أنه كان قد عزل الوكيل وان
حقه باق في ذمة الغريم وشهد له ابناه لم تقبل شهادتهما لأنهما يثبتان حقا لأبيهما ولو ادعى مكاتب
الوكالة فشهد له سيده أو ابنا سيده أو أبواه لم تقبل لأن السيد يشهد لعبده وأبناءه يشهدان لعبد
أبيهما والأبوان يشهدان لعبد ابنهما فإن عتق فأعاد الشهادة فهل تقبل؟ يحتمل وجهين
(فصل) إذا حضر رجلان عند الحاكم فأقر أحدهما أن الآخر وكيله ثم غاب الموكل وحضر
الوكيل فقدم خصما لموكله وقال أنا وكيل فلان فأنكر الخصم كونه وكيله فإن قلنا لا يحكم الحاكم
بعلمه لم تسمع دعواه حتى تقوم البينة بوكالته وان قلنا يحكم بعلمه وكان الحاكم يعرف الموكل بعينه
واسمه ونسبه صدقه ومكنه من التصرف لأن معرفته كالبينة وان عرفه بعينه دون اسمه ونسبه لم يقبل
قوله حتى تقوم البينة عنده بالوكالة لأنه يريد تثبيت نسبه عنده بقوله فلم يقبل
269

(فصل) ولو حضر عند الحاكم رجل فادعى أنه وكيل فلان الغائب في شئ عينه وأحضر بينة
تشهد له بالوكالة سمعها الحاكم ولو ادعى حقا لموكله قبل ثبوت وكالته لم يسمع الحاكم دعواه وبه قال
مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يسمعها الا أن يقدم خصما من خصماء الموكل فيدعى عليه حقا فإذا
أجاب المدعى عليه حينئذ يسمع الحاكم البينة فحصل الخلاف بيننا في حكمين (أحدهما) أن الحاكم عندنا
يسمع البينة على الوكالة من غير حضور خصم وعنده لا يسمع (والثاني) أنه لا تسمع دعواه لموكله قبل ثبوت
وكالته وعنده تسمع، وبنى أبو حنيفة على أصله في أن القضاء على الغائب لا يجوز وسماع البينة بالوكالة من غير
خصم قضاء على الغائب وان الوكالة لا تلزم الخصم ما لم يجب الوكيل عن دعوى الخصم انك لست بوكيل
ولنا أنه اثبات للوكالة فلم يفتقر إلى حضور الموكل عليه كما لو كان الموكل عليه جماعة فأحضر
واحد منهم فإن الباقين لا يفتقر إلى حضورهم كذلك ههنا، والدليل على أن الدعوى لا تسمع قبل ثبوت
الوكالة أنها لا تسمع الا من خصم يخاصم عن نفسه أو عن موكله وهذا لا يخاصم عن نفسه ولم يثبت
أنه وكيل لمن يدعي له فلا تسمع دعواه كما لو ادعى لمن لم يدع وكالته وفي هذا الأصل جواب عما ذكره
(فصل) ولو حضر رجل وادعى على غائب مالا في وجه وكيله فأنكره فأقام بينة بما ادعاه حلفه
الحاكم وحكم له بالمال فإذا حضر الموكل وجحد الوكالة أو ادعى انه كان قد عزله لم يؤثر ذلك في الحكم
لأن القضاء على الغائب لا يفتقر إلى حضور وكيله.
(فصل) إذا قال بع هذا الثوب بعشرة فما زاد عليها فهو لك صح واستحق الزيادة وقال الشافعي
لا يصح. ولنا أن ابن عباس كان لا يرى بذلك بأسا ولأنه يتصرف في ماله باذنه فصح شرط الربح
له في الثاني كالمضارب والعامل في المساقاة.
270

كتاب الاقرار بالحقوق
الاقرار هو الاعتراف، والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقوله تعالى (وإذ أخذ
الله ميثاق النبيين - إلى قوله - قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا أقررنا) وقال تعالى (وآخرون
اعترفوا بذنوبهم) وقال تعالى ألست بربكم؟ قالوا بلى) في آي كثيرة مثل هذا، واما السنة فما روي أن
ماعزا أقر بالزنا فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الغامدية وقال (واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن
اعترفت فارجمها) وأما الاجماع فإن الأئمة أجمعت على صحة الاقرار ولان الاقرار اخبار على وجه
ينفي عنه التهمة والربية فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبا يضر بها ولهذا كان آكد من الشهادة
فإن المدعى عليه إذا اعترف لا تسمع عليه الشهادة وإنما تسمع إذا أنكر ولو كذب المدعي بينته لم تسمع
وان كذب المقر ثم صدقه سمع.
(فصل) ولا يصح الاقرار إلا من عاقل مختار فاما الطفل والمجنون والمبرسم والنائم والمغمى عليه
فلا يصح اقرارهم لا نعلم في هذا خلافا وقد قال عليه السلام (رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ،
وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) فنص على الثلاثة والمبرسم والمغمى عليه في معنى المجنون
والنائم ولأنه قول من غائب العقل فلم يثبت له حكم كالبيع والطلاق، واما الصبي المميز فإن كان
271

محجورا عليه لم يصح إقراره وإن كان مأذونا له صح اقراره في قدر ما اذن له فيه. قال احمد في
رواية منها في اليتيم إذا أذن له في التجارة وهو يعقل البيع والشراء فبيعه وشراؤه جائز وان أقر انه
اقتضى شيئا من ماله جاز بقدر ما أذن له وليه فيه وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو بكر وابن أبي موسى
إنما يصح اقراره فيما أذن له في التجارة فيه في الشئ اليسير، وقال الشافعي لا يصح اقراره بحال لعموم
الخبر ولأنه غير بالغ فأشبه الطفل ولأنه لا تقبل شهادته ولا روايته فأشبه الطفل.
ولنا انه عاقل مختار يصح تصرفه فصح اقراره كالبالغ وقد دللنا على صحة تصرفه فيما مضى والخبر
محمول على رفع التكليف والاثم فإن أقر من هو مراهق غير مأذون له ثم اختلف هو والمقر له في بلوغه فالقول
قوله إلا أن تقوم بينة ببلوغه لأن الأصل الصغر ولا يحلف المقر لأننا حكمنا بعدم بلوغه الا أن يختلفا
بعد ثبوت بلوغه فعليه اليمين انه حين أقر لم يكن بالغا ومن زال عقله بسبب مباح أو معذور فيه
فهو كالمجنون لا يسمع إقراره بلا خلاف وإن كان بمعصية كالسكران ومن شرب ما يزيل عقله عامدا
لغير حاجة لم يصح إقراره ويتخرج أن يصح بناء على وقوع طلاقه وهو منصوص الشافعي لأن
أفعاله تجري مجرى الصاحي
ولنا أنه غير عاقل فلم يصح اقراره كالمجنون الذي سبب جنونه فعل محرم ولان السكران لا يوثق
بصحة ما يقول ولا تنتفي عنه التهمة فيما يخبر به فلم يوجد معنى الاقرار الموجب لقبول قوله وأما المكره
272

فلا يصح اقراره بما أكره على الاقرار به وهذا مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع
وإن أقر بغير ما أكره عليه مثل أن يكره على الاقرار لرجل فأقر لغيره أو بنوع من المال فيقر
بغيره أو على الاقرار بطلاق امرأة فأقر بطلاق أخرى أو أقر بعتق عبد صح لأنه أقر بما لم يكره عليه
فصح كما لو أقر به ابتداء، ولو أكره على أداء مال فباع شيئا من ماله ليؤدي ذلك صح بيعه نص عليه
لأنه لم يكره على البيع، ومن أقر بحق ثم ادعى أنه كان مكرها لم يقبل قوله إلا ببينة سواء أقر عند
السلطان أو عند غيره لأن الأصل عدم الاكراه إلا أن يكون هناك دلالة على الاكراه كالقيد والحبس
والتوكيل به فيكون القول قوله مع يمينه لأن هذا الحال تدل على الاكراه، ولو ادعى انه كان زائل
العقل حال اقراره لم يقبل قوله الا ببينة لأن الأصل السلامة حتى يعلم غيرها، ولو شهد الشهود باقراره
لم تفتقر صحة الشهادة إلى أن يقولوا طوعا في صحة عقله لأن الظاهر سلامة الحال وصحة الشهادة
وقد ذكرنا حكم اقرار السفيه والمفلس والمريض في أبوابه واما العبد فيصح اقراره بالحد والقصاص فيما دون
النفس لأن الحق له دون مولاه، ولا يصح اقرار المولى عليه لأن المولى لا يملك من العبد الا المال
ويحتمل أن يصح اقرار المولى عليه بما يوجب القصاص ويجب المال دون القصاص لأن المال يتعلق
برقبته وهي مال السيد فصح اقراره به كجناية الخطأ واما اقراره بما يوجب القصاص في النفس فالمنصوص
273

عن أحمد انه لا يقبل ويتبع به بعد العتق وبه قال زفر والمزني وداود وابن جرير الطبري لأنه يسقط
حق سيده باقراره فأشبه الاقرار بقتل الخطا ولأنه متهم في أنه يقر لرجل ليعفو عنه ويستحق أخذه
فيتخلص بذلك من سيده، واختار أبو الخطاب انه يصح اقراره به وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي
لأنه أحد نوعي القصاص فصح اقراره به كما دون النفس، وبهذا الأصل ينتقض دليل الأول وينبغي على
هذا القول أن لا يصح عفو ولي الجناية على مال الا باختيار سيده لئلا يفضي إلى ايجاب المال على سيده
باقرار غيره، فلا يقبل اقرار العبد بجناية الخطأ ولا شبه العمد ولا بجناية عمد يوجبها؟؟ المال كالجائفة والمأمومة
لأنه ايجاب حق في رقبته وذلك يتعلق بحق المولى، ويقبل اقرار المولى عليه لأنه ايجاب حق في ماله
وان أقر بسرقة موجبها المال لم يقبل اقراره ويقبل اقرار المولى عليه لما ذكرنا، وإن كان موجبها القطع والمال
فأقر بها العبد وجب قطعه ولم يجب المال سواء كان ما أقر بسرقته باقيا أو تالفا في يد السيد أو يد العبد
قال احمد في عبد أقر بسرقة دراهم في يده انه سرقها من رجل والرجل يدعي ذلك وسيده ويكذبه
فالدراهم لسيده ويقطع العبد ويتبع بذلك بعد العتق، وللشافعي في وجوب المال في هذه الصورة وجهان
ويحتمل أن لا يجب القطع لأن ذلك شبهة فيدرأ بها القطع لكونه حدا يدرأ بالشبهات وهذا قول أبي حنيفة
وذلك لأن العين التي يقر بسرقتها لم يثبت حكم السرقة فيها فلا يثبت حكم القطع بها، وان أقر العبد برقه لغير
من هو في يده لم يقبل اقراره بالرق لأن الاقرار بالرق اقرار بالملك والعبد لا يقبل اقراره بحال ولأننا
274

لو قبلنا اقراره أضررنا بسيده لأنه إذا شاء أقر لغير سيده فأبطل ملكه، وان أقر به السيد لرجل
وأقر هو لآخر فهو للذي أقر له السيد لأنه في يد السيد لا في يد نفسه ولان السيد لو أقر به منفردا
قبل ولو أقر العبد منفردا لم يقبل فإذا لم يقبل اقرار العبد منفردا فكيف يقبل مع معارضته لاقرار السيد؟
ولو قبل اقرار العبد لما قبل اقرار السيد كالحد وجناية العمد. وأما المكاتب فحكمه حكم الحر في صحة
اقراره، ولو أقر بجناية خطأ صح اقراره فإن عجز بيع فيها ان لم يفده سيده وقال أبو حنيفة يستسعى
في الكتابة وان عجز بطل اقراره بها سواء قضي بها أو لم يقض وعن الشافعي كقولنا وعنه انه
مراعى ان ادعى لزمه وان عجز بطل. ولنا أنه اقرار لزمه في كتابته فلا يبطل بعجزه كالاقرار بالدين
وعلى الشافعي ان المكاتب في يد نفسه فصح اقراره بالجناية كالحر.
(فصل) ويصح الاقرار لكل من يثبت له الحق فإذا أقر لعبد بنكاح أو قصاص أو تعزير القذف
صح الاقرار له صدقه المولى أو كذبه لأن الحق له دون سيده وله المطالبة بذلك والعفو عنه وليس
لسيده مطالبته به ولا عفو وان كذبه العبد لم يقبل وان أقر له بمال صح ويكون لسيده لأن يد العبد
كيد سيده، وقال أصحاب الشافعي ان قلنا يملك المال صح الاقرار له وان قلنا لا يملك كان الاقرار
لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده، وان أقر لبهيمة أو دار لم يصح إقراره لها وكان باطلا لأنها لا تملك
275

المال مطلقا ولا يد لها وان قال علي بسبب هذه البهيمة لم يكن اقرارا لاحد ولأنه لم يذكر لمن هي ومن
شرط صحة الاقرار ذكر المقر له وإن قال لمالكها أو لزيد علي بسببها الف صح الاقرار وان قال بسبب
حمل هذه البهيمة لم يصح إذ لا يمكن إيجاب شئ بسبب الحمل.
(فصل) وان أقر لحمل امرأة بمال وعزاه إلى ارث أو وصية صح وكان للحمل وان أطلق فقال
أبو عبد الله بن حامد يصح وهو أصح قولي الشافعي لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح فصح له الاقرار
المطلق كالطفل. فعلى هذا ان ولدت ذكرا وأنثى كان بينهما نصفين، وان عزاه إلى ارث أو وصية كان
بينهما على حسب استحقاقهما لذلك وقال أبو الحسن التميمي لا يصح الاقرار الا ان يعزيه إلى ارث
أو وصية وهو قول أبي ثور والقول الثاني للشافعي لأنه لا يملك بغيرهما فإن ولدت الولد ميتا وكان قد
عزى الاقرار إلى ارث أو وصية عادت إلى ورثة الموصي وموروث الطفل وان اطلق الاقرار كلف
ذكر السبب فيعمل بقوله فإن تعذر التفسير بموته أو غيره بطل اقراره كمن أقر لرجل لا يعرف من
أراد باقراره، وان عزى الاقرار إلى جهة غير صحيحة فقال لهذا الحمل علي ألف أقرضنيها أو وديعة
أخذتها منه فعلى قول التميمي الاقرار باطل، وعلى قول ابن حامد ينبغي أن يصح اقراره لأنه
وصل اقراره بما يسقطه فيسقط ما وصله به كما لو قال له علي ألف لا تلزمني وإن قال له علي الف
جعلتها له أو نحو ذلك فهي عدة لا يؤخذ بها، ولا يصح الاقرار لحمل إلا إذا تيقن انه كان موجودا
276

حال الاقرار على ما بين في موضعه، وان أقر لمسجد أو مصنع أو طريق وعزاه إلى سبب صحيح مثل
أن يقول من غلة وقفه صح وان أطلق خرج على الوجهين
(مسألة) قال (ومن أقر بشئ واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلا الا أن
يستثني عينا من ورق أو ورقا من عين)
في هذه المسألة فصلان (أولهما) أنه لا يصح الاستثناء في الاقرار من غير الجنس وبهذا قال زفر
ومحمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة ان استثنى مكيلا أو موزونا جاز واستثنى عبدا أو ثوبا من
مكيل أو موزون لم يجز، وقال مالك والشافعي يصح الاستثناء من غير الجنس مطلقا لأنه ورود في الكتاب
العزيز ولغة العرب قال الله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا إبليس كان من
الجن) وقال تعالى (لا يسمعون فيها لغوا الا سلاما) وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس
وقال آخر:
عيت جوابا وما بالربع من أحد * إلا أواري لأيا ما أبينها
ولنا أن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه وقيل هو اخراج بعض
277

ما تناوله المستثنى منه مشتق من ثنيت فلانا عن رأيه إذا صرفته عن رأي كان عازما عليه وثنيت عنان
دابتي إذا صرفتها به عن وجهتها التي كانت تذهب إليها، وغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام فإذا
ذكره فما صرف الكلام عن صوبه ولا ثناه عن وجه استرساله فلا يكون استثناء وإنما سمي استثناء تجوزا وإنما
هو في الحقيقة استدراك، والا ههنا بمعنى لكن، هكذا قال أهل العربية منهم ابن قتيبة وحكاه عن سيبويه
والاستدراك لا يأتي الا بعد الجحد ولذلك لم يأت الاستثناء في الكتاب العزيز من غير الجنس الا بعد
النفي ولا يأتي بعده الاثبات الا أن يوجد بعده جملة، وإذا تقرر هذا فلا مدخل للاستدراك في الاقرار
لأنه اثبات للمقر به فإذا ذكر الاستدراك بعده كان باطلا وان ذكره بعده جملة كأن قال له عندي مائة
درهم الا ثوبا لي عليه فيكون مقرا بشئ مدعيا لشئ سواه فيقبل اقراره وتبطل دعواه كما لو صرح
بذلك بغير لفظ الاستثناء وأما قوله تعالى (فسجدوا إلا إبليس) فإن إبليس كان من الملائكة بدليل أن
الله تعالى لم يأمر بالسجود غيرهم فلو لم يكن منهم لما كان مأمورا بالسجود ولا عاصيا بتركه ولا قال
الله تعالى في حقه (ففسق عن أمر ربه) ولا قال (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك؟) وإذا لم يكن مأمورا
فلم أنكسه الله وأهبطه ودحره؟ ولم يأمر الله تعالى بالسجود الا الملائكة، فإن قالوا بل قد تناول الامر
الملائكة ومن كان معهم فدخل إبليس في الامر لكونه معهم، قلنا قد سقط استدلالكم فإنه متى كان
278

داخلا في المستثنى منه مأمورا بالسجود فاستثناؤه من الجنس وهذا ظاهر لمن أنصف إن شاء الله
تعالى، فعلى هذا متى قال له علي ألف درهم الا ثوبا لزمه الألف وسقط الاستثناء بمنزلة ما لو قال له علي
ألف درهم لكن لي عليه ثوب
(الفصل الثاني) إذا استثنى عينا من ورق أو ورقا من عين فاختلف أصحابنا في صحته فذهب
أبو بكر عبد العزيز إلى أنه لا يصح لما ذكرنا وهو قول محمد بن الحسن، وقال ابن أبي موسى فيه روايتان
واختار الخرقي صحته لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر ويعبر بأحدهما عن الآخر فإن قوما يسمون
تسعة دراهم دينارا وآخرون يسمون ثمانية دراهم دينارا فإذا استثنى أحدهما من الآخر علم أنه أراد
التعبير بأحدهما عن الاخر فإذا قال له علي دينار الا ثلاثة دراهم في موضع يعبر فيه بالدينار عن تسعة
كان معناه له علي تسعة دراهم الا ثلاثة ومهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح لم يجز إلغاؤه وقد
أمكن بهذا الطريق فوجب تصحيحه، وقال أبو الخطاب لا فرق بين العين والورق وبين غيرهما ويلزم
من صحة استثناء أحدهما من الآخر صحة استثناء الثياب وغيرها، وقد ذكرنا الفرق ويمكن الجمع بين
الروايتين بحمل رواية الصحة على ما إذا كان أحدهما يعبر به عن الآخر أو يعلم قدره منه ورواية البطلان
على ما إذا انتفى ذلك والله أعلم
(فصل) ولو ذكر نوعا من جنس واستثنى نوعا آخر من ذلك الجنس مثل أن يقول له علي عشرة
279

آصع تمرا برنيا الا ثلاثة تمرا معقليا لم يجز لما ذكرناه من الفصل الأول ويخالف العين والورق لأن
قيمة أحد النوعين غير معلومة من الآخر ولا يعبر بأحدهما عن الآخر ويحتمل على قول الخرقي جوازه
لتقارب المقاصد من النوعين فهما كالعين والورق والأول أصح لأن العلة الصحيحة في العين والورق غير ذلك
(فصل) فأما استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه فجائز بغير خلاف علمناه فإن ذلك في كلام العرب وقد
جاء في الكتاب والسنة قال الله تعالى (فلبث فيهم ألف سنه الا خمسين عاما) وقال (فسجد الملائكة كلهم
أجمعون الا إبليس) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشهيد (يكفر عنه خطاياه كلها الا الدين) وهذا في الكتاب والسنة
كثير وفي سائر كلام العرب، فإذا أقر بشئ واستثنى منه كان مقرا بالباقي بعد الاستثناء، فإذا قال له علي مائة الا عشرة
كان مقرا بتسعين لأن الاستثناء يمنع أن يدخل في اللفظ ما لولاه لدخل فإنه لو دخل لما أمكن اخراجه ولو أقر
بالعشرة المستثناة لما قبل منه انكارها وقول الله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين عاما) اخبار بتسعمائة
وخمسين فالاستثناء بين أن الخمسين المستثناة غير مرادة كما أن التخصيص يبين أن المخصوص غير مراد باللفظ
العام وان قال إلا ثلثها أو ربعها صح، وكان مقرا بالباقي بعد المستثنى، وان قال هذه الدار لزيد إلا هذا البيت
كان مقرا بما سوى البيت منها وكذلك إن قال هذه الدار له وهذا البيت لي صح أيضا لأنه في معنى
الاستثناء لكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ الأول بكلام متصل، وان قال له هؤلاء العبيد إلا هذا
صح وكان مقرا بمن سواه منهم وان قال إلا واحدا صح لأن الاقرار يصح مجهولا فكذلك الاستثناء منه
ويرجع في تعيين المستثنى إليه لأن الحكم يتعلق بقوله وهو أعلم بمراده به، وان عين من عدا المستثنى
280

صح وكان الباقي له فإن هلك العبيد إلا واحدا فذكر انه المستثنى قبل ذكره القاضي وهو أحد الوجهين
لأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب لا يقبل في أحد الوجهين وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه
يرفع به الاقرار كله والصحيح أنه يقبل لأنه يقبل تفسيره به في حياتهم لمعنى هو موجود بعد موتهم
فقبل كحالة حياتهم وليس هذا رفعا للاقرار وإنما تعذر تسليم المقر به لتلفه لا لمعنى يرجع إلى التفسير
فأشبه ما لو عينه في حياتهم فتلف بعد تعيينه، وان قتل الجميع الا واحدا قبل تفسيره بالباقي وجها واحدا
وان قتل الجميع فله قيمة أحدهم ويرجع في التفسير، إليه وان قال غصبتك هؤلاء العبيد الا واحدا
فهلكوا الا واحدا قبل تفسيره به وجها واحدا لأن المقر له يستحق قيمة الهالكين فلا يفضي التفسير
بالباقي إلى سقوط الاقرار بخلاف التي قبلها.
(فصل) وحكم الاستثناء بسائر أدواته حكم الاستثناء بالا، فإذا قال له: علي عشرة سوى درهم،
أوليس درهما أو خلا درهما أو عدا درهما أو ما خلا أو ما عدا درهما أو لا يكون درهما أو غير درهم
بفتح الراء كان مقرا بتسعة وان قال: غير درهم، بضم رائها وهو من أهل العربية كان مقرا بعشرة
لأنها تكون صفة للعشرة المقر بها ولا يكون استثناء فإنها لو كانت استثناء كانت منصوبة وان لم يكن من
أهل العربية لزمه تسعة لأن الظاهر أنه إنما يريد الاستثناء لكنه رفعها جهلا منه بالعربية لا قصدا للصفة.
281

(فصل) ولا يصح الاستثناء الا أن يكون متصلا بالكلام فإن سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه أو
فصل بين المستثنى والمستثنى بكلام أجنبي لم يصح لأنه إذا سكت أو عدل عن اقراره إلى شئ آخر استقر حكم
ما أقر به فلم يرتفع بخلاف ما إذا كان في كلامه فإنه لا يثبت حكمه وينتظر ما يتم به كلامه ويتعلق به
حكم الاستثناء والشرط والعطف والبدل ونحوه.
(فصل) ولا يصح استثناء الكل بغير خلاف لأن الاستثناء رفع بعض ما تناوله اللفظ واستثناء الكل
رفع الكل فلو صح صار الكلام كله لغوا غير مفيد فإن قال له: علي درهم ودرهم الا درهما، أو ثلاثة
دراهم ودرهمان الا درهمين أو ثلاثة ونصف الا نصفا أو الا درهما أو خمسة وتسعون الا خمسة،
لم يصح الاستثناء، ولزمه جميع ما أقر به قبل الاستثناء، وهذا قول الشافعي وهو الذي يقتضيه مذهب
أبي حنيفة، وفيه وجه آخر انه يصح لأن الواو العاطفة تجمع بين العددين وتجعل الجملتين كالجملة الواحدة
ومن أصلنا ان الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض بالواو عاد إلى جميعها كقولنا في قول
الله تعالى (ولا تقبلوا؟؟ لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا) ان الاستثناء عاد إلى الجملتين
فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن الرجل الرجل في
سلطانه ولا يجلس على تكرمته الا باذنه) والوجه الأول أولى لأن الواو لم تخرج الكلام من أن يكون
جملتين والاستثناء يرفع إحداهما جميعها ولا نظير لهذا في كلامهم ولان صحة الاستثناء تجعل إحدى
282

الجملتين مع الاستثناء لغوا لأنه أثبت شيئا بلفظ مفرد ثم رفعه كله فلا يصح كما لو استثنى منها وهي
غير معطوفة على بعضها فاما الآية والخبر فإن الاستثناء لم يرفع إحدى الجملتين إنما أخرج من الجملتين معا
من اتصف بصفة فنظيره ما لو قال للبواب: من جاء يستأذن فائذن له واعطه درهما الا فلانا، ونظير
مسئلتنا ما لو قال: أكرم زيدا وعمرا الا عمرا، وان قال له: علي درهمان ثلاثة الا درهمين، لم يصح
أيضا لأنه يرفع الجملة الأولى كلها فأشبه ما لو قال أكرم زيدا وعمرا الا زيدا، وان قال له: علي ثلاثة
وثلاثة الا درهمين خرج فيها وجهان لأنه استثنى أكثر الجملة التي تليه واستثناء الأكثر فاسد كاستثناء الكل
(فصل) وان استثنى استثناء بعد استثناء وعطف الثاني على الأول كان مضافا إليه فإذا قال:
له علي عشرة الا ثلاثة والا درهمين كان مستثنيا لخمسة مبقيا لخمسة، وإن كان الثاني غير معطوف على
الأول كان استثناء من الاستثناء وهو جائز في اللغة، قد جاء في كلام الله تعالى في قوله (قالوا انا
أرسلنا إلى قوم مجرمين الا آل لوط انا لمنجوهم أجمعين الا امرأته قدرنا انها لمن الغابرين) فإذا كان
صدر الكلام اثباتا كان الاستثناء الأول نفيا والثاني اثباتا فإن استثنى استثناء ثالثا كان نفيا يعود
كل استثناء إلى ما يليه من الكلام فإذا قال: له عشرة الا ثلاثة الا درهما كان مقرا بثمانية لأنه أثبت
عشرة ثم نفى منها ثلاثة ثم أثبت درهما وبقي من الثلاثة المنفية درهمان مستثنيان من العشرة فيبقى منها
ثمانية وسنزيد لهذا الفصل فروعا في مسألة استثناء الأكثر.
283

(فصل) إذا قال: له هذه الدار هبة أو سكنى أو عارية كان إقرارا بما ابدل به كلامه ولم يكن اقرارا
بالدار لأنه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله فصح كما لو أقر بجملة واستثنى بعضها، وذكر القاضي في هذا
وجها أنه لا يصح لأنه استثناء من غير الجنس وليس هذا استثناء إنما هذا بدل وهو سائغ في اللغة. ويسمى
هذا النوع من البدل بدل الاشتمال وهو أن يبدل من الشئ بعض ما يشتمل عليه ذلك الشئ كقوله (يسئلونك
عن الشهر الحرام قتال فيه) فأبدل القتال من الشهر المشتمل عليه وقال تعالى اخبارا عن موسى عليه السلام
أنه قال (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) أي أنساني ذكره، وإن قال له هذه الدار ثلثها أو قال ربعها صح ويكون
مقرا بالجزء الذي أبدله وهذا بدل البعض وليس ذلك باستثناء، ومثله قوله تعالى (قم الليل إلا قليلا نصفه)
وقوله (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ولكنه في معنى الاستثناء في كونه يخرج من
الكلام بعض ما يدخل فيه لولاه ويفارقه في أنه يجوز أن يخرج أكثر من النصف وأنه يجوز ابدال
الشئ من غيره إذا كان مشتملا عليه ألا ترى أن الله تعالى أبدل المستطيع للحج من الناس وهو أقل من
نصفهم وأبدل القتال من الشهر الحرام وهو غيره؟ ومتى قال له هذه الدار سكنى أو عارية ثبت فيها حكم ذلك
وله ان لا يسكنه إياها وأن يعود فيما اعاره
284

(مسألة) قال (ومن ادعي عليه شئ وقال قد كان له علي وقضيته لم يكن ذلك اقرارا)
حكى ابن أبي موسى أن في المسألة روايتين (إحداهما) أن هذا ليس باقرار اختاره القاضي وقال لم أجد
عن أحمد رواية بغير هذا (والثانية) أنه مقر بالحق مدع لقضائه فعليه البينة بالقضاء وإلا حلف غريمه وأخذ
واختاره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر بالدين وادعى القضاء فلم تقبل دعواه كما لو ادعى القضاء
بكلام منفصل ولأنه رفع جميع ما أثبته فلم يقبل كاستثناء الكل وللشافعي قولان كالمذهبين، ووجه قول
الخرقي أنه قول متصل يمكن صحته ولا تناقض فيه فوجب ان يقبل كاستثناء البعض، وفارق المنفصل لأن
حكم الأول قد استقر بسكوته عليه فلا يمكن رفعه بعد استقراره ولذلك لا يرفع بعضه باستثناء ولا غيره
فما يأتي بعده من دعوى القضاء يكون دعوى مجردة لا تقبل الا ببينة واما استثناء الكل فمتناقض لأنه لا يمكن
أن يكون عليه الف وليس عليه شئ
(فصل) وان قال له علي مائة وقضيته منها خمسين فالكلام فيها كالكلام فيما إذا قال وقضيتها وإن قال له
إنسان لي عليك مائة فقال قضيتك منها خمسين فقال القاضي لا يكون مقرا بشئ لأن الخمسين التي ذكر
انه قضاها في كلامه ما تمنع بقاءها وهو دعوى القضاء وباقي المائة لم يذكرها وقوله منها يحتمل ان يريد بها مما
285

يدعيه ويحتمل مما علي فلا يثبت عليه شئ بكلام محتمل، ويجئ على قول من قال بالرواية الأخرى ان يلزمه الخمسون
التي ادعى قضاءها لأن في ضمن دعوى القضاء اقرارا بأنها كانت عليه فلا تقبل دعوى القضاء بغير بينة
(فصل) وإن قال كان له علي الف وسكت لزمه الألف في ظاهر كلام أصحابنا وهو قول أبي حنيفة
وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يلزمه شئ وليس هذا باقرار لأنه لم يذكر عليه شيئا في الحال
إنما أخبر بذلك فجاز في ماض فلا يثبت في الحال ولذلك لو شهدت البينة به لم يثبت، ولنا أنه أقر بالوجوب
ولم يذكر ما يرفعه فبقي على ما كان عليه ولهذا لو تنازعا دارا فأقر أحدهما للآخر أنها كانت ملكه حكم بها
له إلا أنه ههنا إن عاد فادعى القضاء أو الابراء سمعت دعواه لأنه لا تنافي بين اقراره وبين ما يدعيه
(فصل) وإن قال له علي ألف قضيته إياها لزمه الألف ولم تقبل دعوى القضاء وقال القاضي تقبل
لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلا فأشبه ما لو قال كان له علي وقضيته، وقال ابن أبي موسى ان قال
قضيت جميعه لم يقبل إلا ببينة ولزمه ما أقربه وله اليمين على المقر له ولو قال قضيت بعضه قبل منه في
إحدى الروايتين لأنه رفع بعض ما أقربه بكلام متصل فأشبه ما لو استثناه بخلاف ما إذا قال قضيت
جميعه لكونه رفع جميع ما هو ثابت فأشبه استثناء الكل. ولنا أن هذا قول متناقض إذا لا يمكن أن يكون
عليه الف قد قضاه فإن كونه عليه يقتضي بقاءه في ذمته واستحقاق مطالبته به وقضاؤه يقتضي براءة ذمته
286

منه وتحريم مطالبته به والاقرار به يقتضي ثبوته والقضاء يقتضي رفعه وهذان ضدان لا يتصور اجتماعهما
في زمن واحد بخلاف ما إذا قال كان له علي وقضيته فإنه أخبر بهما في زمانين ويمكن أن يرتفع ما كان ثابتا
ويقضى ما كان دينا وإذا لم يصح هذا في الجميع لم يصح في البعض لاستحالة بقاء ألف عليه وقد قضى
بعضه، ويفارق الاستثناء فإن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عن الباقي من المستثنى منه فقول الله تعالى
(فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاما) عبارة عن تسعمائة وخمسين أما القضاء فإنما يرفع جزءا كان ثابتا فإذا
ارتفع بالقضاء لا يجوز التعبير عنه بما يدل على البقاء
وان وصل اقراره بما يسقطه فقال له علي ألف من ثمن خمر أو خنزير أو من ثمن طعام اشتريته فهلك
قبل قبضه أو ثمن مبيع فاسد لم أقبضه أو تكفلت به على أني بالخيار لزمه الألف ولم يقبل قوله في
اسقاطه ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وذكر القاضي أنه إذا قال له علي
ألف زيوف ففسره برصاص أو نحاس لم يقبل لأنه رفع كل ما اعترف به وقال في سائر الصور التي ذكرناها
يقبل قوله لأنه عزا اقراره إلى سببه فقبل كما لو عزاه إلى سبب صحيح
ولنا أن هذا يناقض ما أقر به فلم يقبل كالصورة التي سلمها وكما لو قال له علي الف لا يلزمني أو
يقول دفع جميع ما أقر به فلم يقبل كاستثناء الكل وغير خاف تناقض كلامه فإن ثبوت ألف عليه في
هذه المواضع لا يتصور واقراره اخبار بثبوته فيتنافيان وان سلم ثبوت الألف عليه هو ما قلناه
287

(فصل) ولا يقبل رجوع المقر عن اقراره الا فيما كان حد الله تعالى يدرأ بالشبهات ويحطاط
لا سقاطه فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا يقبل
رجوعه عنها ولا نعلم في هذا خلافا فإذا قال هذه الدار لزيد لابل لعمرو أو ادعى زيد على ميت
شيئا معينا من تركته فصدقه ابنه ثم ادعاه عمرو فصدقه حكم به لزيد ووجبت عليه غرامته لعمرو وهذا
ظاهر أحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يغرم لعمرو شيئا وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر له بما
عليه الاقرار به وإما منعه الحكم من قبوله وذلك لا يوجب الضمان
ولنا أنه حال بين عمرو وبين ملكه الذي أقر له به باقراره لغيره فلزمه غرمه كما لو شهد رجلان
على آخر باعتاق عبده ثم رجعا عن الشهادة أو كما لو رمى به في البحر ثم أقر به، وان قال غصبت هذه
الدار من زيد لابل من عمر أو غصبتها من زيد وغصبها زيد من عمرو حكم بها لزيد ولزمه تسليمها إليه
ويغرمها لعمرو وبهذا قال أبو حنيفة وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال في الآخر لا يضمن لما تقدم
ولنا أنه أقر بالغصب الموجب للضمان والرد إلى المغصوب منه ثم لم يرد ما أقر بغصبه فلزمه
ضمانه كما لو تلف بفعل الله تعالى قال أحمد في رواية ابن منصور في رجل قال لرجل استودعتك هذا
الثوب قال صدقت ثم قال استودعنيه رجل آخر فالثوب للأول ويغرم قيمته للآخر ولا فرق في هذا
الفصل بين أن يكون اقراره بكلام متصل أو منفصل
288

(فصل) فإن قال غصبت هذه الدار من زيد وملكها لعمرو لزمه دفعها إلى زيد لا قراره له بأنها
كانت في يده وهذا يقتضي كونها في يده بحق وملكها لعمرو لا ينافي ذلك لأنها يجوز أن تكون في يد
زيد بإجارة أو عارية أو وصية ولا يغرم لعمرو شيئا لأنه لم يكن منه تفريط، وفارق هذا ما إذا قال
هذه الدار لزيد بل لعمرو لأنه أقر للثاني بما أقربه للأول فكان الثاني رجوعا عن الأول لتعارضهما
وههنا لا تعارض بين اقراريه وان قال ملكها لعمرو وغصبها من زيد فكذلك لا فرق بين التقديم
والتأخير والمتصل والمنفصل ذكره القاضي وقيل يلزمه دفعها إلى عمرو ويغرمها لزيد لأنه لما أقربها لعمرو
أولا لم يقبل اقراره باليد لزيد وهذا وجه حسن ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، ولو قال هذا
الألف دفعه إلي زيد وهو لعمرو أو قال هو لعمرو دفعه إلي زيد فكذلك على ما مضى من القول فيه
(فصل) وان قال غصبتها من أحدهما أو هي لأحدهما صح الاقرار لأنه يصح بالمجهول فيصح
للمجهول ويطالب بالبيان فإن عين أحدهما دفعت إليه ويحلف للآخر إن ادعاها ولا يغرم له شيئا لأنه لم
يقر له بشئ، وان قال لا اعرفه عينا فصدقاه نزعت من يده وكانا خصمين فيها وان كذباه فعليه اليمين
أنه لا يعلم وتنزع من يده فإن كان لا حدهما بينة حكم له بها وان لم تكن له بينة أقرعنا بينهما فمن قرع
صاحبه حلف وسلمت إليه وان بين الغاصب بعد ذلك مالكها قبل منه كما لو بينه ابتداء ويحتمل أنه إذا
ادعى كل واحد منهما أنه المغصوب منه توجهت عليه اليمين لكل واحد منهما أنه لم يغصبه فإن حلف
289

لأحدهما لزمه دفعها إلى الآخر لأن ذلك يجري مجرى تعيينه وان نكل عن اليمين لهما جميعا فسلمت إلى
أحدهما بقرعة أو غيرها لزمه غرمها للآخر لأنه نكل عن يمين توجهت عليه فقضي عليه كما لو ادعاها وحده
(فصل) فإن كان في يده عبدان فقال أحد هذين لزيد طولب بالبيان فإن عين أحدهما فصدقه
زيد اخذه، وان قال هذا لي والعبد الآخر فعليه اليمين في العبد الذي ينكره وان قال زيد إنما لي
العبد الاخر فالقول قول المقر مع يمينه في العبد الذي ينكره ولا يدفع إلى زيد العبد المقر به لكن
يقر في يد المقر لأنه لم يصح اقراره به في أحد الوجهين وفي الاخر ينزع من يده لاعترافه بأنه لا
يملكه ويكون في بيت المال لأنه لا مالك له معروف فأشبه ميراث من لا يعرف وارثه فإن أبى التعيين
فعينه المقر له وقال هذا عبدي طولب بالجواب فإن أنكر حلف وكان بمنزلة تعيينه للآخر وان نكل
عن اليمين يقضى عليه وان أقر له فهو كتعيينه
(فصل) ولو أقر لرجل بعبد ثم جاءه به فقال: هذا الذي أقررت به فقال ليس هو هذا إنما هو
آخر فعلى المقر اليمين انه ليس له عنده سواه ولا يلزمه تسليم هذا إلى المقر له لأنه لا يدعيه وإن قال:
هذا لي ولي عندك آخر سلم إليه هذا وحلف له على نفي الآخر وكل من أقر لرجل بملك فكذبه بطل
قراره لأنه لا يثبت للانسان ملك لا يعترف به وفي المال وجهان (أحدهما) يترك في يد المقر لأنه
كان محكوما له به فإذا بطل إقراره بقي على ما كان عليه (والثاني) يؤخذ إلى بيت المال لأنه
290

لم يثبت له مالك وقيل يؤخذ فيحفظ حتى يظهر مالكه لأنه لا يدعيه أحد ومذهب الشافعي مثل هذا،
فإن عاد أحدهما فكذب نفسه دفع إليه لأنه يدعيه ولا منازع له فيه، وان كذب كل واحد منهما نفسه
فرجع المقر عن اقراره وادعاه المقر له فإن كان باقيا في يد المقر فالقول قوله يمينه كما لو لم يقر به
لغيره (1) وإن كان معدوما بتلف أو إباق ونحوه بغير تعد من أحدهما فلا شئ فيه من يمين ولا غيرها وإن
كان بتعد من أحدهما فالقول فيه قول المقر مع يمينه كما لو كان باقيا فإذا حلف سقط عنه الضمان إن كان
تلفه بتعديه ووجب له الضمان على الآخر إن كان تلفه بتعد منه والله أعلم
(مسألة) قال (ومن أقر بعشرة دراهم ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم قال
زيوفا أو صغارا أو إلى شهر كانت عشرة جيادا وافية حالة)
وجملته أن من أقر بدراهم وأطلق اقتضى إقراره الدراهم الوافية وهي دراهم الاسلام كل عشرة
منها وزن سبعة مثاقيل وكل درهم ستة دوانق واقتضى أن تكون جيادا حالة كما لو باعه بعشرة دراهم
وأطلق فإنها تلزمه كذلك، فإذا سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه أو أخذ في كلام غير ما كان فيه
استقرت عليه كذلك، فإن عاد فقال زيوفا - يعنى رديئة - أو صغارا وهي الدراهم الناقصة مثل دراهم طبرية كان

(1) من هنا إلى آخر الفصل زيادة من بعض النسخ
291

كل درهم منها أربعة دوانيق وذلك ثلثا درهم، أو إلى شهر يعني مؤجلة لم يقبل منه لأنه يرجع عن بعض
ما أقر به ويرفعه بكلام منفصل فلم يقبل كالاستثناء المنفصل وهذا مذهب الشافعي ولافرق بين الاقرار
بها دينا أو وديعة أو غصبا، وقال أبو حنيفة يقبل قوله في الغصب والوديعة لأنه أقر بفعل في عين،
وذلك لا يقتضي سلامتها فأشبه ما لو أقر بغصب عبد ثم جاء به معيبا
ولنا أن إطلاق الاسم يقتضي الوازنة الجياد فلم يقبل تفسيره بما يخالف ذلك كالدين ويفارق العبد
فإن العيب لا يمنع اطلاق اسم العبد عليه فاما إن وصفها بذلك بكلام متصل أو سكت للتنفس أو اعترضته
سلعة أو نحو ذلك ثم وصفها بذلك أو شئ منه قبل منه وذكر أبو الخطاب أنه يحتمل أن لا يقبل منه
التأجيل وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق فلم يقبل كما لو
قال: له علي دراهم قضيته إياها وقال بعض أصحاب الشافعي لا يقبل تفسيره بالناقصة وقال القاضي
إن قال: له علي عشرة دراهم ناقصة قبل قوله وإن قال صغارا وللناس دراهم صغار قبل قوله أيضا
وان لم تكن لهم دراهم صغار لزمه وازنة كما لو قال دريهم لزمه درهم وازن وهذا قول ابن القاص
من أصحاب الشافعي.
ولنا أنه فسر كلامه بما يحتمله بكلام متصل فقبل منه كاستثناء البعض وذلك لأن الدراهم يعبر بها
عن الوازنة والناقصة والزيوف والجيدة وكونها عليه يحتمل الحلول والتأجيل فإذا وصفها بذلك تقيدت
292

به كما لو وصف الثمن به فقال: بعتك بعشرة دراهم مؤجلة ناقصة وثبوتها على غير هذه الصفة حالة الاطلاق
لا يمنع من صحة تقييدها به كالثمن وقولهم ان التأجيل يمنع استيفاءها ليس بصحيح وإنما يؤخره فأشبه
الثمن المؤجل يحققه ان الدراهم تثبت في الذمة على هذه الصفات فإذا كانت ثابتة بهذه الصفة لم تقتضي
الشريعة المطهرة سد باب الاقرار بها على صفتها، وعلى ما ذكروه لا سبيل له إلى الاقرار بها إلا على
وجه يؤاخذ بغير ما هو واجب عليه فيفسد باب الاقرار، وقول من قال إن قوله صغارا ينصرف إلى
المقدار لا يصح لأن مساحة الدراهم لا تعتبر في الشرع ولا تثبت في الذمة بمساحة مقدرة وإنما يعتبر الصغر
والكبر في الوزن فيرجع إلى تفسير المقر، فاما ان قال زيوفا وفسرها بمغشوشة أو معيبة عيبا ينقصها
قبل تفسيره وان فسرها بنحاس أو رصاص أو مالا قيمة له لم يقبل لأن تلك ليست دراهم على الحقيقة
فيكون تفسيره به رجوعا عما أقر به فلم يقبل كاستثناء الكل
(فصل) وإن أقر بدراهم وأطلق في بلد أوزانهم ناقصة كطبرية كان درهمهم أربعة دوانيق
وخوارزم كان درهمهم أربعة دوانيق ونصفها ومكة درهمهم ناقص وكذلك المغرب، أو في بلد دراهمهم مغشوشة
كمصر والموصل ففيه وجهان (أولهما) يلزمه من دراهم البلد ودنانيره لأن مطلق كلامهم يحمل على عرف
بلدهم كما في البيع والأثمان (والثاني) تلزمه الوازنة الخالصة من الغش لأن اطلاق الدراهم في الشرع ينصرف
إليها بدليل ان بها تقدير نصب الزكاة ومقادير الديات فكذلك إطلاق الشخص، وفارق البيع فإنه ايجاب
293

في الحال فاختص بدراهم الموضع الذي هما فيه والاقرار إخبار عن حق سابق فانصرف إلى دراهم الاسلام
(فصل) وإن أقر بدراهم وأطلق ثم فسرها بسكة البلد الذي أقر بها فيه قبل لأن إطلاقه ينصرف
إليه وان فسرها بسكة غير سكة البلد أجود منها قبل لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وكذلك إن كانت
مثلها لأنه لا يتهم في ذلك، وإن كانت أدنى من سكة البلد لكنها مساوية في الوزن احتمل أن لا يقبل لأن
اطلاقها يقتضي دراهم البلد ونقده فلا يقبل منه دونها كمالا يقبل في البيع ولأنها ناقصة القيمة فلم يقبل تفسيره
بها كالناقصة وزنا ويحتمل أن يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل ما فسره به وفارق الناقصة لأن
اطلاق الشرع الدراهم لا يتناولها بخلاف هذه ولهذا يتعلق بهذه مقدار النصاب في الزكاة وغيره وفارق
الثمن فإنه ايجاب في الحال وهذا إخبار عن حق سابق
(فصل) وإن قال له علي درهم كبير لزمه درهم من دراهم الاسلام لأنه كبير في العرف وإن قال
له علي دربهم فهو كما لو قال درهم لأن التصغير قد يكون لصغره في ذاته أو لقلة قدره عنده وتحقيره وقد
يكون لمحبته كما قال الشاعر
بذيالك الوادي أهيم ولم أقل * بذيالك الوادي وذياك من زهد
ولكن إذا ما حب شئ تولعت * به أحرف التصغير من شدة الوجد
294

وإن قال له علي عشرة دراهم عددا لزمته عشرة معدودة وازنة لأن إطلاق الدراهم يقتضي وازنة
وذكر العدد لا ينافيها فوجب الجمع بينهما فإن كان في بلد يتعاملون بها عددا من غير وزن فحكمه حكم ما لو
أقربها في بلد أوزانهم ناقصة أو دراهمهم مغشوشة على ما فصل فيه
(فصل) وإذا أقر بدرهم ثم أقر بدرهم لزمه درهم واحد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
يلزمه درهمان كما لو قال له علي درهم ودرهم، ولا فرق بين أن يكون الاقرار في وقت واحد أو في أوقات
أو في مجلس واحد أو مجالس. ولنا انه يجوز أن يكون قد كرر الخبر عن الأول كما كرر الله تعالى الخبر عن
إرساله نوحا وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا وإبراهيم وموسى وعيسى ولم يكن المذكور في قصة غير
المذكور في أخرى كذا ههنا، فإن وصف أحدهما وأطلق الآخر فكذلك لأنه لا يجوز أن يكون المطلق هو
الموصوف أطلقه في حال ووصفه في حال، وإن وصفه بصفة واحدة في المرتين كان تأكيدا لما ذكرنا
وان وصفه في إحدى المرتين بغير ما وصفه في الأخرى فقال درهم من ثمن مبيع ثم قال له علي درهم
من قرض أو درهم من ثمن ثوب ثم قال درهم من ثمن عبد أو قال درهم أبيض ثم قال درهم أسود فهما
درهمان لأنهما متغايران
(فصل) وإن قال له علي درهم ودرهم أو درهم فدرهم أو درهم ثم درهم لزمه درهمان وبهذا
قال أبو حنيفة وأصحابه، وذكر القاضي وجها فيما إذا قال درهم فدرهم وقال أردت درهم فدرهم لازم لي
295

أنه يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل الصفة. ولنا أن الفاء أحد حروف العطف الثلاثة فأشبهت الواو
ثم ولأنه عطف شيئا على شئ بالفاء فاقتضى ثبوتهما كما لو قال أنت طالق فطالق وقد سلمه الشافعي وما
ذكروه من احتمال الصفة بعيد لا يفهم حالة الاطلاق فلا يقبل تفسيره به كما لو فسر الدراهم المطلقة بأنها
زيوف أو صغار أز مؤجلة وإن قال له علي درهم ودرهمان لزمته ثلاثة وإن قال له على درهم ودينار
أو فدينار أو قفيز حنطة، ونحو ذلك لزمه ذلك كله وإن قال له علي درهم ودرهم ودرهم لزمته ثلاثة وحكى
ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه إذا قال أردت بالثالث تأكيد الثاني وبيانه أنه يقبل وهو قول بعض
أصحاب الشافعي لأن الثالث في لفظ الثاني فظاهر مذهبه انه تلزمه الثلاثة لأن الواو للعطف والعطف
يقتضي المغايرة فوجب أن يكون الثالث غير الثاني كما كان الثاني غير الأول والاقرار لا يقتضي تأكيدا
فوجب حمله على العدد وكذلك الحكم إذا قال له على درهم فدرهم فدرهم أو درهم ثم درهم ثم درهم
وان قال له علي درهم ودرهم ثم درهم أو درهم فدرهم ثم درهم أو درهم ثم درهم فدرهم لزمته
الثلاثة وجها واحدا لأن الثالث مغاير للثاني لاختلاف حرفي العطف الداخلين عليهما فلم يحتمل التأكيد
(فصل) وإن قال له علي درهم بل درهمان أو درهم لكن درهمان لزمه درهمان وبه قال الشافعي
وقال زفر وداود تلزمه ثلاثة لأن بل للاضراب لأنه لما أقر بدرهم وأضرب عنه لزمه لأنه لا يقبل
رجوعه عما أقربه ولزمه الدرهمان اللذان أقربهما. ولنا انه إنما نفى الاقتصار على وحد وأثبت الزيادة عليه
296

فأشبه ما لو قال له علي درهم بل أكثر فإنه لا يلزمه أكثر من اثنين، وان قال له علي درهم بل درهم أو لكن
درهم ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه درهم واحد لأن احمد قال فيمن قال لامرأته أنت طالق لابل أنت
طالق انها لا تطلق الا واحدة وهذا في معناه وهذا مذهب الشافعي لأنه أقر بدرهم مرتين فلم يلزمه
أكثر من درهم كما لو أقر بدرهم ثم أنكره ثم قال بل علي درهم، ولكن للاستدراك فهي في معنى بل الا
ان الصحيح انها لا تستعمل الابعد الجحد الا ان يذكر بعدها جملة (والوجه الثاني) يلزمه درهمان ذكره ابن أبي
موسى وأبو بكر عبد العزيز ونقيضه قول زفر وداود لأن ما بعد الاضراب يغاير ما قبله فيجب أن
يكون الدرهم الذي أضرب عنه غير الدرهم الذي أقر به بعده فيجب الاثنان كما لو قال له علي درهم بل
دينار ولان بل من حروف العطف والمعطوف غير المعطوف عليه فوجبا جميعا كما لو قال له علي درهم
ودرهم ولأنا لو لم نوجب عليه الا درهما جعلنا كلامه لغوا واضرابه عنه غير مفيد والأصل في كلام العاقل
أن يكون مفيدا، ولو كان الذي أضرب عنه لا يمكن أن يكون المذكور بعده ولا بعضه مثل أن يقول له
علي درهم بل دينار أو ديناران أو له علي قفيز حنطة بل قفيز شعير أو هذا الدرهم بل هذان لزمه
الجميع بغير خلاف علمناه لأن الأول لا يمكن أن يكون الثاني ولا بعضه فكان مقرا بهما ولا يقبل رجوعه
عن شئ منهما وكذلك كل جملتين أقر بإحداهما ثم رجع إلى الأخرى لزماه، وان قال له علي درهمان
بل درهم أو عشرة بل تسعة لزمه الأكثر لأنه أضرب عنه واحد ونفاه بعد اقراره به فلم يقبل نفيه
297

له بخلاف الاستثناء فإنه لا ينفي شيئا أقر به وإنما هو عبارة عن الباقي بعد الاستثناء فإذا قال له عشرة
إلا درهما كان معناه تسعة
(فصل) وان قال له علي درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان وان قال قبله درهم وبعده
درهم لزمه ثلاثة لأن قبل وبعد تستعمل للتقديم والتأخير في الوجوب، وان قال له علي درهم فوق درهم
أو تحت درهم أو مع درهم فقال القاضي يلزمه درهم وهو أحد قولي الشافعي لأنه يحتمل فوق درهم
في الجودة أو فوق درهم لي وكذلك تحت درهم وقوله معه درهم يحتمل معه درهم لي وكذلك مع
درهم فلم يجب الزائد بالاحتمال وقال أبو الخطاب يلزمه درهمان وهو القول الثاني للشافعي لأن هذا
اللفظ يجري مجرى العطف لكونه يقتضي ضم درهم آخر إليه وقد ذكر ذلك في سياق الاقرار فالظاهر أنه
اقرار ولان قوله علي يقتضي في ذمتي وليس للمقر في ذمة نفسه درهم مع درهم المقر له ولا فوقه ولا
تحته فإنه لا يثبت للانسان في ذمة نفسه شئ، وقال أبو حنيفة وأصحابه ان قال فوق درهم لزمه
درهمان لأن فوق تقتضي في الظاهر الزيادة وان قال تحت درهم لزمه درهم واحد لأن تحت تقتضي النقص
ولنا أن حمل كلامه على معنى العطف فلا فرق بينهما وان حمل على الصفة للدرهم المقر به وجب أن
يكون المقر به درهما واحد سواء ذكره بما يقتضي زيادة الجودة أو نقصها وان قال له علي درهم قبله دينار
أو بعده أو قفيز حنطة أو معه أو فوقه أو تحته أو مع ذلك فالقول في ذلك كالقول في الدرهم سواء
298

(فصل) وان قال له علي ما بين درهم وعشرة لزمته ثمانية لأن ذلك ما بينهما وان قال من درهم
لعشرة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) تلزمه تسعة وهذا يحكى عن أبي حنيفة لأن من لابتداء الغاية
وأول الغاية منها والى لانتهائها فلا يدخل فيها كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) (والثاني) تلزمه
ثمانية لأن الأول والعاشر حدان فلا يدخلان في الاقرار ولزمه ما بينهما كالتي قبلها (والثالث) تلزمه
عشرة لأن العاشر أحد الطرفين فيدخل فيها كالأول وكما لو قال قرأت القرآن من أوله إلى آخره
فإن قال أردت بقولي من واحد إلى عشرة مجموع الاعداد كلها أي الواحد والاثنان وكذلك إلى العشرة
لزمه خمسة وخمسون درهما واختصار حسابه أن تزيد أول العدد وهو الواحد على العشرة فيصير أحد
عشرة ثم تضربها في نصف العشرة فما بلغ فهو الجواب
(فصل) وان قال له علي دراهم لزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع وان قال له علي دراهم كثيرة أو
وافرة أو عظيمة لزمه ثلاثة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقبل تفسيره بدون العشرة لأنها
أقل جمع الكثرة وقال أبو يوسف ومحمد لا يقبل أقل من مائتين لأن بها يحصل الغنى وتجب الزكاة
ولنا ان الكثرة والعظمة لا حد لها شرعا ولا لغة ولا عرفا وتختلف بالإضافات وأحوال الناس
فالثلاثة أكثر مما دونها وأقل مما فوقها ومن الناس من يستعظم اليسير ومنهم من لا يستعظم الكثير
ويحتمل ان المقر أراد كثيرة بالنسبة إلى ما دونها أو كثيرة في نفسه فلا تجب الزيادة بالاحتمال
299

(فصل) وان قال له علي درهمان في عشرة وقال أردت الحساب لزمه عشرون وان قال أردت
درهمين مع عشرة ولم يكن يعرف الحساب قبل منه ولزمه اثنا عشرة لأن كثيرا من العامة يريدون
بهذا اللفظ هذا المعنى وإن كان من أهل الحساب احتمل ان لا يقبل لأن الظاهر من الحساب
استعمال ألفاظه لمعانيها في اصطلاحهم ويحتمل ان يقبل لأنه لا يمنع ان يستعمل اصطلاح العامة وان
قال أردت درهمين في عشرة لي لزمه درهمان لأنه يحتمل ما يقول وان قال درهمان في دينار لم يحتمل
الحساب وسئل عن مراده، فإن قال أردت العطف أو معنى مع لزمه الدرهمان والدينار وان قال أسلمتهما
في دينار فصدقه المقر له بطل اقراره لأن سلم أحد النقدين في الآخر لا يصح وان كذبه فالقول قول المقر له
لأن المقر وصل اقراره بما يسقطه فلزمه ما أقربه وبطل قوله في دينار وكذلك أن قال له علي درهمان في ثوب
وفسره بالسلم أو قال في ثوب اشتريته منه إلى سنة فصدقه بطل إقراره لأنه إن كان بعد التفرق بطل
السلم وسقط الثمن وإن كان قبل التفرق فالمقر بالخيار بين الفسخ والامضاء وإن كذبه المقر له فالقول
قوله مع يمينه وله الدرهمان.
(فصل) وإن قال: له عندي درهم في ثوب أو في كيس أو زيت في جرة أو تبن في غرارة أو
تمر في جراب أو سكين في قراب أو فص في خاتم أو كيس في صندوق، أو قال غصبت منه ثوبا في
منديل أو زيتا في زق ففيه وجهان (أحدهما) يكون مقرا بالمظروف دون الظرف هذا اختيار ابن حامد
300

ومذهب مالك والشافعي لأن إقراره لم تناول الظرف فيحتمل أن يكون في ظرف للمقر فلم يلزمه،
(والثاني) يلزمه الجميع لأنه ذكر ذلك في سياق الاقرار ويصلح أن يكون مقرا به فلزمه كما لو قال
له عندي عبد عليه عمامة وقال أبو حنيفة في الغصب يلزمه ولا يلزمه في بقية الصور لأن المنديل يكون
ظرفا للثوب فالظاهر أنه ظرف له في حال الغصب صار كأنه قال غصبت ثوبا ومنديلا
ولنا انه يحتمل أن يكون المنديل للغاصب وهو ظرف للثوب فيقول: غصبت ثوبا في منديل لي ولو
قال: هذا لم يكن مقرا بغصبه فإذا أطلق كان محتملا له فلم يكن مقرا بغصبه كما لو قال غصبت دابة في
اصطبلها، أو له علي ثوب في منديل، وإن قال: له عندي جرة فيها زيت أو جراب فيه تمر، أو قراب
فيه سكين فعلى وجهين، وإن قال له علي خاتم فيه فص فكذلك ويحتمل أن يكون مقرا به بفصه وجها
واحدا لأن الفص جزء من أجزاء الخاتم فأشبه ما لو قال له علي ثوب فيه علم ولو قال: له عندي خاتم
وأطلق لزمه الخاتم بفصه لأن اسم الخاتم يجمعهما وان قال: له علي ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه
(فصل) وإن قال: له عندي دار مفروشة أو دابة مسرجة، أو عبد عليه عمامة ففيه أيضا
وجهان، وقال أصحاب الشافعي تلزمه عمامة العبد دون الفرش أو السرج لأن العبد يده على عمامته
ويده كيد سيده ولا يد للدابة والدار
ولنا أن الظاهر أن سرج الدابة لصاحبها وكذلك لو ننازع رجلان سرجا على دابة أحدهما
301

كان لصاحبها فصار كعمامة العبد فاما ان قال له عندي دابة بسرجها أو دار بفرشها أو سفينة بطعامها
كان مقرا بهما بغير خلاف لأن الباء تعلق الثاني بالأول.
(فصل) وإن قال: له علي درهم أو دينار أو اما درهم وإما دينار كان مقرا بأحدهما يرجع في تفسيره
إليه لأن أو وإما في الخبر كالشك وتقتضي أحد المذكورين لا جميعهما، وإن قال: له علي إما درهم وإما درهمان
كان مقرا بدرهم والثاني مشكوك فيه فلا يلزمه بالشك.
(مسألة) قال (ومن أقر بشئ واستثنى منه الكثير وهو أكثر من النصف اخذ
بالكل وكان استثناؤه باطلا)
لا يختلف المذهب انه لا يجوز استثناء ما زاد على النصف ويحكى ذلك عن ابن درستويه النحوي
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم يصح ما لم يستثن الكل فلو قال: له علي مائه إلا تسعة
وتسعين لم يلزمه إلا واحد بدليل قوله تعالى قال (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين)
وقوله تعالى (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) فاستثنى في موضع الغاوين من
العباد وفي موضع العباد من الغاوين وأيهما كان الأكثر فقد دل على استثناء الأكثر وأنشدوا
أدوا التي نقصت تسعين من مائة * ثم ابعثوا حكما بالحق قواما
فاستثنى تسعين من مائة لأنه في معنى الاستثناء ومشبه به ولأنه استثنى البعض فجاز كاستثناء الأقل،
302

ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ فجاز في الأكثر كالتخصيص والبدل.
ولنا انه لم يرد في لسان العرب الاستثناء إلا في الأقل وقد أنكروا استثناء الأكثر فقال
أبو إسحاق الزجاج لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير ولو قال قائل مائة الا تسعة وتسعين
لم يكن متكلما بالعربية وكان عيا من الكلام ولكنة، قال القتيبي يقال صمت الشهر إلا يوما ولا يقال
صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يوما، ويقال لقيت القوم جميعهم إلا واحدا أو اثنين ولا يجوز أن يقول
لقيت القوم إلا أكثرهم، وإذا لم يكن صحيحا في الكلام لم يرتفع به ما أقر به كاستثناء الكل وكما لو
قال: له علي عشرة بل خمسة فاما ما احتجوا به من التنزيل فإنه في الآية الأولى استثنى المخلصين من
بني آدم وهم الأقل، كما قال تعالى (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) وفي الأخرى استثنى
الغاوين من العباد وهم الأقل فإن الملائكة من العباد وهم غير غاوين، قال الله تعالى (بل عباد مكرمون)
وقيل الاستثناء في هذه الآية منقطع بمعني الاستدراك فيكون قوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)
مبقى على عمومه لم يستثن منه شئ ثم استأنف (. إلا من اتبعك من الغاوين) أي لكن من اتبعك
من الغاوين فإنهم غووا باتباعك، وقد دل على صحة هذا قوله في الآية الأخرى لاتباعه (وما كان
لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) وعلى هذا لا يكون لهم فيها حجة
واما البيت فقال ابن فضال النحوي هو بيت مصنوع لم يثبت عن العرب على أن هذا
303

ليس باستثناء فإن الاستثناء له كلمات مخصوصة ليس ههنا شئ منها والقياس لا يجوز في اللغة ثم نعارضه
بأنه استثنى أكثر من النصف فلم يجز كاستثناء الكل، والفرق بين استثناء الأكثر والأقل ان العرب
استعملته في الأقل وحسنته ونفته في الأكثر وقبحته فلم يجز قياس ما قبحوه على ما حسنوه وجوزوه
(فصل) وفي استثناء النصف وجهان (أحدهما) يجوز وهو ظاهر كلام الخرقي لتخصيصه الابطال
بما زاد على النصف لأنه ليس بأكثر فجاز كالأقل (والثاني) لا يجوز ذكره أبو بكر لأنه لم يرد في
كلامهم إلا القليل من الكثير والنصف ليس بقليل.
(فصل) وإن قال: له علي عشرة إلا سبعة إلا خمسة إلا درهمين صح وكان مقرا بستة وذلك
لأنه إذا استثنى الكل أو الأكثر سقط ان وقف عليه وان وصله باستثناء آخر استعملناه لأن الاستثناء
مع المستثنى منه عبارة عما بقي فإن خمسة الا درهمين عبارة عن ثلاثة استثناها من سبعة بقي أربعة
مستثناة من عشر بقي منها ستة وان قال: له علي ثمانية الا أربعة الا درهمين إلا درهما بطل الاستثناء
على قول أبى بكر لأنه استثنى النصف وصح على الوجه الآخر فلزمه خمسة، وإن قال: علي عشرة
إلا خمسة الا ثلاثة إلا درهمين إلا درهما بطل الاستثناء كله على أحد الوجهين وصح في الآخر فيكون مقرا
بسبعة، ولو قال عشرة إلا ستة إلا أربعة إلا درهمين فهو على الوجه الذي يصح فيه الاستثناء مقر بستة، ولو قال
ثلاثة إلا درهمين إلا درهما كان مقرا بثلاثة فاما ان قال: له علي ثلاثة الا ثلاثة الا درهمين بطل الاستثناء
304

كله لأن استثناء درهمين من ثلاثة استثناء الأكثر وهو موقوف عليه فبطل فإذا بطل الثاني بطل
الأول لأنه استثناء الكل ولأصحاب الشافعي في هذا ثلاثة أوجه (أحدها) يبطل الاستثناء لأن
الأول بطل لكونه استثناء الكل فبطل الثاني لأنه فرعه (والثاني) يصح ويلزمه درهم لأن الاستثناء
الأول لما بطل جعلنا الاستثناء الثاني من الاقرار لأنه وليه لبطلان ما بينهما (والثالث) يصح ويكون
مقرا بدرهمين لأنه استثني درهمين من ثلاثة فيبقى منها درهم مستثنى من الاقرار واستثناء الأكثر
عندهم لا يصح ووافقهم القاضي في هذا الوجه، وان قال ثلاثة الا ثلاثة إلا درهما بطل الاستثناء كله
ويجئ على قول أصحاب الشافعي فيه مثل ما في التي قبلها.
(فصل) وان قال: له علي ألف درهم إلا خمسين فالمستثنى دراهم لأن العرب لا تستثني في الاثبات
إلا من الجنس وإن قال: له علي ألف درهم إلا خمسين دراهما فالجميع دراهم كذلك وهذا اختيار ابن حامد
والقاضي وهو قول أبي ثور وقال أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب يكون الألف مبهما يرجع في تفسيره
إليه وهذا قول مالك والشافعي لأن الاستثناء عندهما يصح من غير الجنس ولان لفظه في الألف مبهم
والدراهم لم تذكر تفسيرا له فيبقى على إبهامه
ولنا أنه لم يرد عن العرب الاستثناء في الاثبات الامن الجنس فمتى علم أحد الطرفين علم أن الآخر
305

من جنسه كما لو علم المستثنى منه وقد سلموه وعلته تلازم المستثنى والمستثنى منه في الجنس فما ثبت في
أحدهما ثبت في الآخر فعلى قول التميمي يسئل عن المستثنى منه فإن فسره بغير الجنس بطل الاستثناء
وعلى قول غيرهما ينظر في المستثنى إن كان مثل المستثنى منه أو أكثر بطل وإلا صح.
(فصل) وان قال: له علي تسعة وتسعون درهما فالجميع دراهم لا أعلم فيه خلافا وان قال مائة
وخمسون درهما فكذلك، وخرج بعض أصحابنا وجها انه لا يكون تفسيرا إلا لما يليه وهو قول بعض
أصحاب الشافعي وكذلك أن قال الف وثلاثة دراهم أو خمسون درهما وألف درهم أو الف ومائة درهم
أو مائة وألف درهم والصحيح ما ذكرنا فإن الدرهم المفسر يكون تفسيرا لجميع ما قبله من الجمل
المبهمة وجنس العدد قال الله تعالى مخبرا عن أحد الخصمين أنه قال (إن هذا أخي له تسع وتسعون
نعجة) وفي الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنه وتوفي أبو بكر وهو ابن
ثلاث وستين سنة وتوفي عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقال عنترة
فيها اثنتان وأربعون حلوبة * سودا كخافية الغراب الأسحم
ولان الدرهم ذكر تفسيرا ولهذا لا تجب به زيادة على العدد المذكور فكان تفسيرا لجميع ما قبله
لأنها تحتاج إلى تفسير وهو صالح لتفسيرها فوجب حمله على ذلك وهذا المعنى موجود في قوله الف وثلاثة
دراهم وسائر الصور المذكورة، فعلى قول من لا يجعل المجمل من جنس المفسر أو قال: بعتك هذا
بمائة وخمسين درهما، أو بخمسة وعشرين درهما، لا يصح وهو قول شاذ ضعيف لا يعول عليه.
306

(فصل) وإن قال: له علي الف ودرهم أو الف وثوب أو قفيز حنطة فالمجمل من جنس المفسر
أيضا وكذلك لو قال ألف درهم وعشرة أو الف ثوب وعشرون وهذا قول القاضي وابن حامد
وأبي ثور وقال التميمي وأبو الخطاب يرجع في تفسير المجمل إليه لأن الشئ يعطف على غير جنسه
قال الله تعالى (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) ولان الألف مبهم فرجع في تفسيره إلى المقر كما لو
لم يعطف عليها، وقال أبو حنيفة ان عطف على المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا له وان عطف مذروعا أو
معدودا لم يكن تفسيرا لأن علي للايجاب في الذمة فإذا عطف عليه ما يثبت في الذمة بنفسه كان تفسيرا كقوله
مائة وخمسون درهما. ولنا أن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الجملة الأخرى قال الله تعالى
(ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازداد واتسعا) وقال الله تعالى (عن اليمين وعن الشمال قعيد) ولأنه
ذكر مبهما مع مفسر لم يقم الدليل على أنه من غير جنسه فكان المبهم من جنس المفسر كما لو قال مائة وخمسون
درهما أو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا يحققه أن المبهم يحتاج إلى التفسير وذكر التفسير في الجملة المقارنة له
يصلح أن يفسره فوجب حمل الامر على ذلك، أما قوله (أربعة أشهر وعشرا) فإنه امتنع أن يكون العشر
أشهر الوجهين (أحدهما) أن العشر بغير هاء عدد للمؤنث والأشهر مذكرة فلا يجوز أن تعد بغيرها (الثاني)
أنها لو كانت أشهرا لقال أربعة عشر شهرا بالتركيب لا بالعطف كما قال (عليها تسعة عشر) وقولهم إن الألف
مبهم قلنا قد قرن به ما يدل على تفسيره فأشبه ما لو قال مائة وخمسون درهما أو مائة ودرهم عند أبي حنيفة
فإن قيل إذا قال مائة وخمسون درهما فالدرهم ذكر للتفسير ولهذا لا يزداد به العدد فصلح تفسيرا لجميع
307

ما قبله بخلاف قوله مائة درهم فإنه ذكر الدرهم للايجاب لا للتفسير بدليل أنه زاد به العدد قلنا هو صالح
للايجاب والتفسير معا والحاجة داعية إلى التفسير فوجب حمل الامر على ذلك صيانة لكلام المقر عن
الالباس والابهام وصرفا له إلى البيان والافهام، وقول أصحاب أبي حنيفة ان علي للايجاب قلنا فمتى عطف
ما يجب بها على ما يجب وكان أحدهما مبهما والآخر مفسرا وأمكن تفسيره به وجب أن يكون المبهم من
جنس المفسر فاما ان لم يكن مثل أن يعطف عدد المذكر على المؤنث أو بالعكس ونحو ذلك فلا يكون أحدهما
من جنس الآخر ويبقى المبهم على إبهامه كما لو قال له علي أربعة دراهم وعشر
(مسألة) قال (وإذا قال له عندي عشرة دراهم ثم قال وديعة كان القول قوله)
وجملته أن من أقر بهذا اللفظ فقال له عندي دراهم ثم فسر اقراره بأنها وديعة قبل تفسيره لا نعلم
فيه اختلافا بين أهل العلم سواء فسره بكلام متصل أو منفصل لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل كما لو قال
له علي دراهم وفسرها بدين عليه فعند ذلك تثبت فيها أحكام الوديعة شيث؟؟ لو ادعى تلفها بعد ذلك
أو ردها كان القول قوله، وان فسرها بدين عليه قبل أيضا لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال له عندي
وديعة رددتها إليه أو تلفت لزمه ضمانها ولم يقبل قوله وبهذا قال الشافعي لما فيه من مناقضة الاقرار والرجوع
عما أقر به فإن الألف المردود والتالف ليست عنده أصلا ولا هي وديعة وكل كلام يناقض الاقرار ويحيله
308

يجب أن يكون مردودا وقال القاضي يقبل قوله لأن أحمد قال في رواية ابن منصور إذا قال لك عندي
وديعة دفعتها إليك صدق لأنه ادعى تلف الوديعة أوردها فقبل كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل وان قال
كانت عندي وظننت أنها باقية ثم عرفت أنها كانت قد هلكت فالحكم فيها كالتي قبلها
(مسألة) قال (ولو قال له علي الف ثم قال وديعة لم يقبل قوله)
وجملة ذلك أنه إذا أقر بدراهم بقوله علي كذا ثم فسره بالوديعة لم يقبل قوله فلو ادعى بعد هذا تلفها
لم يقبل قوله وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقيل عن الشافعي يقبل قوله أنها وديعة وإذا ادعى بعد ذلك
تلفها قبل منه وقال القاضي ما يدل على هذا أيضا لأن الوديعة عليه حفظها وردها فإذا قال علي وفسرها بذلك
احتمل صدقه فقبل منه كما لو وصله بكلامه فقال علي الف وديعة ولان حروف الصفات يخلف بعضها
بعضا فيجوز ان يستعمل علي بمعنى عندي كما قال الله تعالى اخبارا عن موسى عليه السلام أنه قال (ولهم علي
ذنب) أي عندي. ولنا ان علي للايجاب وذلك يقتضي كونها في ذمته وكذلك لو قال ما على فلان علي كان ضامنا
له والوديعة ليست في ذمته ولاهي عليه إنما هي عنده وما ذكروه مجاز طريقه حذف المضاف وإقامة
المضاف إليه مقامه أو إقامة حرف مقام حرف والاقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ بدليل انه لو قال له علي
دراهم لزمته ثلاثة دراهم وان جاز التعبير بلفظ الجمع عن اثنين وعن واحد كقول الله تعالى (فإن كان له
اخوة فلأمه السدس) ومواضع كثيرة في القرآن، ولو قال له علي درهم وقال أردت نصف درهم
309

فحذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه لم يقبل منه، ولو قال لك من مالي الف قال صدقت ثم قال أردت ان
عليك من مالي ألفا وأقمت اللام مقام على كقول الله تعالى (وان أسأتم فلها) لم يقبل منه ولو قبل في الاقرار مطلق
الاحتمال لسقط ولقبل تفسير الدراهم بالناقصة والزائفة والمؤجلة، وأما إذا قال لك علي الف ثم قال كان وديعة
فتلف لم يقبل قوله لأنه متناقض وقد سبق نحو من هذا
(فصل) وان قال لك علي مائة درهم ثم احضرها وقال هذه التي أقررت بها وهي وديعة كانت لك
عندي فقال المقر له هذه وديعة والتي أقررت؟؟ بها غيرها وهي دين عليك فقول الخرقي يقتضى ان القول قول المقر له
وهو قول أبي حنيفة وقال القاضي القول قول المقر مع يمينه وللشافعي قولان كالوجهين وتعليلها ما تقدم
وإن كان قال في اقراره لك علي مائة في ذمتي فإن القاضي وافق ههنا في أنه لا يقبل قول المقر لأن الوديعة
عين لا تكون في الذمة قال وقد قيل يقبل لأنه يحتمل في ذمتي أداؤها ولأنه يجوز أن يكون عنده وديعة تعدى
فيها فكان ضمانها عليه في ذمته ولا صحاب الشافعي في هذه وجهان، فأما ان وصل ذلك بكلامه فقال لك علي مائة
وديعة قبل لأنه وصل كلامه بما يحتمله فصح كما لو قال له علي دراهم ناقصة وان قال له علي مائة وديعة دينا
أو مضاربة دينا صح ولزمه ضمانها لأنها قد يتعدى فيها فتكون دينا وان قال أردت أنه شرط علي ضمانها لم يقبل
لأنها تصير بذلك دينا وان قال عنده مائه وديعة شرط علي ضمانها لم يلزمه ضمانها لأن الوديعة لا تصير بالشرط
مضمونة، وان قال علي وعندي مائة درهم عارية لزمته وكانت مضمونة عليه سواء حكما بصحة العارية في الدراهم
أو بفسادها لأن ما ضمن في العقد الصحيح ضمن في الفاسد، وان قال أودعني مائة فلم أقبضها أو أقرضني
مائة فلم آخذها قبل قوله متصلا ولم يقبل إذا كان منفصلا وهكذا إذا قال نقدني مائة فلم أقبضها وهذا قول الشافعي
310

(فصل) فإن قال له في هذا العبد الف أو له من هذا العبد ألف طولب بالبيان فإن قال نقد عني ألفا في ثمنه
كان قرضا، وان قال نقد في ثمنه ألفا قلنا بين كم ثمن العبد وكيف كان الشراء فإن قال بايجاب واحد
وزن ألفا ووزنت ألفا كان مقرا بنصف العبد وان قال وزنت الفين كان مقرا بثلثه والقول قوله مع
يمينه سواء كانت القيمة قدر ما ذكره أو أقل لأنه قد يغبن وقد يغبن، وان قال اشتريناه بايجابين قيل فكم
اشترى منه فإن قال نصفا أو ثلثا أو أقل أو أكثر قبل منه مع يمينه وافق القيمة أو خالفها وان قال
وصي له بألف من ثمنه بيع وصرف إليه من ثمنه الف وان أراد أن يعطيه ألفا من ماله من غير ثمن
العبد لم يلزمه قبوله لأن الموصى له يتعين حقه في ثمنه، وان فسر ذلك بألف من جناية جناها العبد
فتعلقت برقبته قبل ذلك وله بيع العبد ودفع الألف من ثمنه، وان قال أردت أنه رهن عنده بألف ففيه
وجهان (أحدهما) لا يقبل لأن حق المرتهن في الذمة (والثاني) يقبل لأن الدين يتعلق بالرهن فصح تفسيره
به كالجناية ومذهب الشافعي كما ذكرنا في الفصل جميعه
(فصل) وان قال له في مالي هذا الف أو من مالي الف وفسره بدين أو وديعة أو وصية فيه قبل
وقال بعض أصحاب الشافعي لا يقبل اقراره لأن ماله ليس هو لغيره
ولنا أنه أقر بألف فقبل كما لو قال في مالي ويجوز أن يضيف إليه مالا بعضه لغيره ويجوز أن يضيف
مال غيره إليه لاختصاص له به أو يد له عليه أو ولاية قال الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
311

التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) وقال سبحانه في النساء
(لا تخرجوهن من بيوتهن) وقال لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقرن في بيوتكن) فلا يبطل
اقراره مع احتمال صحته وان قال أردت هبة قبل منه لأنه محتمل وان امتنع من تقبيضها لم يجبر عليه
لأن الهبة فيها لا تلزم قبل القبض، وكذلك يخرج فيها إذا قال لفلان في داري هذه نصفها أو من داري
بعضها، وقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين قال في رواية مهنا فيمن قال نصف عبدي هذا لفلان
لم يجز الا أن يقول قد وهبته، وان قال نصف مالي هذا لفلان لا أعرف هذا ونقل ابن منصور إذا
قال فرسي هذه لفلان فاقراره جائز، فظاهر هذا صحة الاقرار فإن قال له في هذا المال نصفه أوله
نصف هذه الدار فهو اقرار صحيح وإن قال له في هذا المال الف صح وان قال له في ميراث أبي الف
فهو اقرار بدين على التركة وان قال في ميراثي من أبي وقال أردت هبة قبل منه ولأنه إذا أضاف الميراث
إلى أبيه فمقتضاه ما خلفه فيقتضي وجوب المقربه فيه، وإذا أضاف الميراث إلى نفسه فمعناه ما ورثته وانتقل
إلي فلا يحمل على الوجوب وإذا أضاف إليه منه جزءا فالظاهر أنه جعل له جزءا من ماله
(فصل) وان قال له في هذا العبد شركة صح اقراره وله تفسيره بأي قدر كان منه وقال أبو يوسف
يكون مقرا بنصفه لقوله تعالى (فهم شركاء في الثلث) فاقتضى ذلك التسوية بينهم كذا ههنا
312

ولنا أن أي جزء كان له منه فله فيه شركة فكان له تفسيره بما شاء كالنصف وليس اطلاق لفظ
الشركة على ما دون النصف مجازا ولا مخالفا للظاهر والآية تثبت التسوية فيها بدليل وكذلك الحكم
إذا قال هذا العبد شركة بيننا
(فصل في الاقرار بالمجهول)
وإذا قال لفلان علي شئ أو كذا صح اقراره ولزمه تفسيره وهذا لا خلاف فيه ويفارق الدعوى
حيث لا تصح مجهولة لكون الدعوى له والاقرار عليه فلزمه ما عليه مع الجهالة دون ماله
ولان المدعي إذا لم يصحح دعواه فله داع إلى تحريرها والمقر لا داعي له إلى التحرير ولا يؤمن
رجوعه عن إقراره فيضيع حق المقر له فألزمناه إياه مع الجهالة فإن امتنع من تفسيره حبس حتى
يفسر وقال القاضي يجعل ناكلا ويؤمر المقر له بالبيان فإن بين شيئا فصدقه المقر ثبت وإن كذبه وامتنع
من البيان قيل له إن بينت وإلا جعلناك ناكلا وقضينا عليك وهذا قول أصحاب الشافعي، إلا أنهم
قالوا إن بينت وإلا حلفنا المقر له على ما يدعيه وأوجبناه عليك فإن فعل وإلا أحلفنا المقر له وأوجبناه
على المقر، ووجه الأول انه ممتنع من حق عليه فيحبس به كما لو عينه وامتنع من أدائه ومع ذلك متى
عينه المدعي وادعاه فنكل المقر فهو على ما ذكروه وإن مات من عليه الحق أخذ ورثته بمثل ذلك
313

لأن الحق ثبت على موروثهم فيتعلق بتركته وقد صارت إلى الورثة فيلزمهم ما لزم موروثهم كما لو كان
الحق معينا وإن لم يخلف الميت تركة فلا شئ على الورثة، ومتى فسر إقراره بما يتمول في العادة قبل
تفسيره وثبت إلا أن يكذبه المقر له ويدعي جنسا أخر أو لا يدعي شيئا فيبطل إقراره وإن فسره
بما لا يتمول عادة كقشرة جوزة أو قشرة باذنجانة لم يقبل إقراره لأن إقراره اعترف بحق عليه
ثابت في ذمته وهذا لا يثبت في الذمة، وكذلك أن فسره بما ليس بمال في الشرع كالخمر والخنزير
والميتة لم يقبل وإن فسره بكلب لا يجوز اقتناؤه فكذلك وان فسره بكلب يجوز اقتناؤه أو جلد ميتة
غير مدبوغ ففيه وجهان (أحدهما) يقبل لأنه شئ يجب رده عليه وتسليمه إليه فالايجاب يتناوله،
(والثاني) لا يقبل لأن الاقرار إخبار عما يجب ضمانه وهذا لا يجب ضمانه، وإن فسره بحبة حنطة
أو شعير ونحوها لم يقبل لأن هذا لا يتمول عادة على انفراده وإن فسره بحد قذف قبل لأنه حق يجب
عليه ويحتمل أن لا يقبل لأنه لا يؤول إلى مال والأول أصح لأن ما ثبت في الذمة صح أن يقال هو علي،
وان فسره بحق شفعة قبل لأنه حق واجب ويؤل إلى المال، وان فسره برد السلام أو تشميت
العاطس ونحوه لم يقبل لأنه يسقط بفواته فلا يثبت في الذمة، وهذا الاقرار يدل على ثبوت الحق في
الذمة ويحتمل أن يقبل تفسيره به إذا أراد ان حقا: علي رد سلامه إذا سلم وتشميته إذا عطس لما روي
في الخبر (للمسلم على المسلم ثلاثون حقا يرد سلامه ويشمت عطسته ويجيب دعوته) وذكر الحديث وان
قال غصبته شيئا وفسره بما ليس بمال قبل لأن اسم الغصب يقع عليه، وان قال غصبته نفسه لم يقبل لأن
314

الغصب لا يثبت عليه وهذا الفصل أكثره مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة انه لا يقبل تفسير
اقراره بغير المكيل والموزن لأن غيرهما لا يثبت في الذمة بنفسه
ولنا أنه مملوك يدخل تحت العقد فجاز ان يفسر به الشئ في الاقرار كالمكيل والموزن ولأنه يثبت
في الذمة في الجملة فصح التفسير كالمكيل ولا عبرة بسبب ثبوته في الاقرار به والاخبار عنه.
(فصل) وان أقر بمال قبل تفسيره بقليل المال وكثيره وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
لا يقبل تفسيره بغير المال الزكوي لقول الله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) وقوله (وفي أموالهم
حق) وحكى بعض أصحاب مالك عنه ثلاثة أوجه (أحدها) كقولنا (والثاني) لا يقبل الا أول
نصاب من نصب الزكاة من نوع أموالهم (والثالث) ما يقطع به السارق ويصح مهرا لقول الله
تعالى (أن تبتغوا بأموالكم)
ولنا أن غير ما ذكروه يقع عليه اسم المال حقيقة وعرفا ويتمول عادة فيقبل تفسيره به كالذي
وافقوا عليه، وأما آيات الزكاة فهي عامة دخلها التخصيص وقوله تعالى (وفي أموالهم حق) لم يرد به الزكاة
بدليل انها نزلت بمكة قبل فرض الزكاة فلا حجة لهم فيها ثم يرد قولهم قوله تعالى (أن تبتغوا بأموالكم) والتزويج
جائز بأي نوع كان من المال وبما دون النصاب، وان قال: له علي مال عظيم أو كثير أو جليل أو خطير
جاز تفسيره بالقليل والكثير كما لو قال: مال لم يزد عليه وهذا قول الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة
لا يقبل تفسيره بأقل من عشرة دراهم لأنه يقطع به السارق ويكون صداقا عنده، وعنه لا يقبل بأقل
315

من مائتي درهم وبه قال صاحباه لأنه الذي تجب فيه الزكاة وقال بعض أصحاب مالك كقولهم في المال
ومنهم من قال يزيد على ذلك أقل زيادة ومنهم من قال قدر الدية وقال الليث بن سعيد اثنان وسبعون
لأن الله تعالى قال لقد نصركم الله في مواطن كثيرة وكانت عزواته وسراياه اثنتين وسبعين قالوا ولان
الحبة لا تسمى مالا عظيما ولا كثيرا
ولنا أن ما فسر به المال به العظيم كالذي سلموه ولان العظيم والكثير لاحد له في الشرع
ولا في اللغة ولا العرف ويختلف الناس فيه فمنهم من يستعظم القليل ومنهم من يستعظم الكثير ومنهم من
يحتقر الكثير فلم يثبت في ذلك حد يرجع إلى تفسيره به ولأنه ما من مال الا وهو عظيم كثير بالنسبة
إلى ما دونه ويحتمل انه أراد عظيما عنده لفقر نفسه ودناءتها وما ذكروه فليس فيه تحديد للكثير
وكون ما ذكروه كثيرا لا يمنع الكثرة فيما دونه وقد قال الله تعالى (اذكروا الله كثيرا) فلم ينصرف
إلى ذلك وقال (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) فلم يحمل على ذلك والحكم فيما إذا قال عظيم جدا
أو عظيم عظيم كما لو لم يقله لما قررناه.
(فصل) وان قال: له علي أكثر من مال فلان ففسره بأكثر منه عددا أو قدرا لزمه أكثر
منه وتفسر الزيادة بأي شئ أراد ولو حبة أو أقل، وان قال ما علمت لفلان أكثر من كذا أو كذا
وقامت البينة بأكثر منه لم يلزمه أكثر مما اعترف به لأن مبلغ المال حقيقة لا يعرف في الأكثر
وقد يكون ظاهرا وباطنا فيملك مالا يعرفه المقر فكان المرجع إلى ما اعتقده المقر مع يمينه إذا ادعى
316

عليه أكثر منه، وإن فسره بأقل من ماله مع علمه بماله لم يقبل وقال أصحابنا يقبل تفسيره بالقليل
والكثير وهو مذهب الشافعي سواء علم مال فلان أو جهله أو ذكر قدره أولم يذكره أو قاله عقيب
الشهادة بقدره أولا لأنه يحتمل أنه أكثر منه بقاء أو منفعة أو بركة لكونه من الحلال أو لأنه في
الذمة، قال القاضي ولو قال لي عليك ألف دينار فقال لك علي أكثر من ذلك لم يلزمه أكثر منها لأن
لفظة أكثر مبهمة لاحتمالها ما ذكرنا ويحتمل انه أراد أكثر منه فلوسا أو حب حنطة أو شعير أو
دخن فرجع في تفسيرها إليه وهذا بعيد فإن لفظه أكثر إنما تستعمل حقيقة في العدد أو في القدر
وتنصرف إلى جنس ما أضيف أكثر إليه لا يفهم في الاطلاق غير ذلك قال الله تعالى (كانوا أكثر
منهم) وأخبر عن الذي قال (أنا أكثر منك مالا - وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا) والاقرار
يؤخذ فيه بالظاهر دون مطلق الاحتمال ولهذا لو أقر بدراهم لزمه أقل الجمع جيادا صحاحا وازنة حالة
ولو قال: له علي دراهم لم يقبل تفسيرها بالوديعة ولو رجع إلى مطلق الاحتمال لسقط الاقرار، واحتمال
ما ذكروه أبعد من هذه الاحتمالات التي لم يقبلوا تفسيره بها فلا يعول على هذا
(فصل) ولو قال: له علي الف الا شيئا قبل تفسيره بأكثر من خمسمائة لأن الشئ يحتمل
القليل والكثير لكن لا يجوز استثناء الأكثر فتعين حمله على ما دون النصف وكذلك أن قال إلا قليلا
لأنه مبهم فأشبه قوله إلا شيئا وان قال له على معظم الف أوجل الف أو قريب من الف لزمه أكثر
من نصف الألف ويحلف على الزيادة أن ادعيت عليه.
317

(فصل) وان قال له علي كذا ففيه ثلاث مسائل (أحدها) أن يقول كذا بغير تكرير ولا عطف.
(الثانية) أن يكرر بغير عطف (الثالثة) أن يعطف فيقول كذا وكذا
فأما الأولى فإذا قال له كذا درهم لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يقول له علي كذا درهم
بالرفع فيلزمه درهم وتقديره شئ هو درهم فجعل الدرهم بدلا من كذا (الثاني) أن يقول درهم بالجر
فيلزمه جزء درهم يرجع في تفسيره إليه والتقدير جزء درهم أو بعض درهم ويكون كذا كناية عنه
(الثالث) أن يقول درهما بالنصب فيلزمه درهم ويكون منصوبا على التفسير وهو التمييز وقال بعض النحويين
هو منصوب على القطع كأنه قطع ما ابتدأ به وأقر بدرهم وهذا على قول نحاة الكوفة (الرابع) أن
يذكره بالوقف فيقبل تفسيره بجزء درهم أيضا لأنه لا يجوز أن يكون أسقط حركة الجر للوقف وهذا
مذهب الشافعي، وقال القاضي يلزمه درهم في الحالات كلها وهو قول بعض أصحاب الشافعي، ولنا ان
كذا اسم مبهم فصح تفسيره بجزء درهم في حال الجر والوقف.
(المسألة الثانية) إذا قال كذا كذا بغير عطف فالحكم فيها كالحكم في كذا بغير تكرار سواء
لا يتغير الحكم ولا يقتضي تكريره الزيادة كأنه قال شئ شئ ولأنه إذا قاله بالجر احتمل أن يكون
قد أضاف جزءا إلى جزء ثم أضاف الجزء الآخر إلى الدرهم فقال نصف تسع درهم وهكذا لو قال كذا
كذا كذا لأنه يحتمل أن يريد ثلث خمس سبع درهم ونحوه.
318

(المسألة الثالثة) إذا عطف فقال كذا وكذا درهم بالرفع لزمه درهم واحد لأنه ذكر شيئين ثم ابدل
منهما درهما فصار كأنه قال هما درهم، وان قال درهما بالنصب ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه درهم
واحد وهو قول أبي عبد الله بن حامد والقاضي لأن كذا يحتمل أقل من درهم فإذا عطف عليه مثله
ثم فسرهما بدرهم واحد جاز وكان كلاما صحيحا وهذا يحكى قولا للشافعي (والوجه الثاني) يلزمه درهمان
وهو اختيار أبي الحسن التميمي لأنه ذكر جملتين فإذا فسر ذلك بدرهم عاد التفسير إلى كل واحدة
منهما كقوله عشرون درهما بعود التفسير إلى العشرين وكذا ههنا وهذا يحكى قولا ثانيا للشافعي (والوجه
الثالث) يلزمه أكثر من درهم ولعله ذهب إلى أن الدرهم تفسير للجملة التي تليه فيلزمه بها درهم
والأولى باقية على ابهامها فيرجع في تفسيرها إليه وهذا يشبه مذهب التميمي، وقال محمد بن الحسن إذا
قال كذا درهما لزمه عشرون درهما لأنه أقل عدد يفسر بالواحد المنصوب وان قال كذا كذا درهما
لزمه أحد عشر درهما لأنه أقل عدد مركب يفسر بالواحد المنصوب، وان قال كذا وكذا درهما لزمه أحد
وعشرون لأنه أقل عدد عطف بعضه على بعض يفسر بذلك، وان قال كذا درهم بالجر لزمه مائة درهم لأنه أقل
عدد يضاف إلى الواحد، وحكي عن أبي يوسف أنه قال كذا كذا أو كذا وكذا يلزمه بهما أحد عشر درهما
ولنا أنه يحتمل ما قلنا ويحتمل ما قالوه فوجب المصير إلى ما قلنا لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه
فلا يجب بالشك كما لو قال له علي دراهم لم يلزمه الا أقل الجمع ولا يلزم كثرة الاستعمال فإن اللفظ إذا
كان حقيقة في الامرين جاز التفسير بكل واحد منهما، وعلى ما ذكره محمد يكون اللفظ المفرد موجبا
319

لأكثر من المكرر فإنه يجب بالمفرد عشرون وبالمركب إحدى عشر ولا نعرف لفظا مفردا متناولا
لعدد صحيح يلزم به أكثر مما يلزم بمكرره
(فصل) ولو قال غصبتك أو غبنتك لم يلزمه شئ لأنه قد يغصبه نفسه ويغبنه في غير المال وان
قال غصبتك شيئا وفسره بغصب نفسه لم يقبل لأنه جعل له مفعولين فجعله المفعول الأول وشيئا
المفعول الثاني ويجب أن يكون الثاني غير الأول، وان فسره بمال قبل وان قل وان فسره بكلب أو جلد
ميتة أو سرجين ينتفع به قبل لأنه قد يقهره فيأخذه منه وان فسره بما لا نفع فيه أو لا يباح الانتفاع
به لم يقبل لأن أخذ ذلك ليس بغصب
(فصل) وتقبل الشهادة على الاقرار بالمجهول لأن الاقرار به صحيح وما كان صحيحا في نفسه
صحت الشهادة به كالمعلوم
(مسألة) قال (ولو قال له عندي رهن فقال المالك وديعة كان القول قول المالك)
إنما قدم قول المالك لأن العين ثبتت له بالاقرار وادعى المقر دينا لا يعترف له به والقول قول
المنكر ولأنه أقر بمال لغيره وادعى أن له به تعلقا فلم يقبل كما لو ادعاه بكلام منفصل وكذلك لو أقر
له بدار وقال استأجرتها أو بثوب وادعى أنه قصره أو خاطه بأجر يلزم المقر له لم يقبل لأنه
مدع على غيره حقا فلا يقبل قوله الا ببينة وكذلك لو قال هذه الدار له ولي سكناها سنة
320

(فصل) وان قال لك علي الف من ثمن مبيع لم أقبضه فقال المدعى عليه بل لي عليك الف ولا
شئ لك عندي فقال أبو الخطاب فيه وجهان (أحدهما) القول قول المقر له لأنه اعترف له بالألف
وادعى عليه مبيعا فأشبه ما إذا قال هذا رهن فقال المالك وديعة أول له علي الف ولي عنده مبيع لم
اقبضه (والثاني) القول قول المقر قال القاضي هو قياس المذهب وهو قول الشافعي وأبي يوسف
لأنه أقر بحق في مقابلة حق له لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا لم يسلم له ماله لم يسلم للمقر له ما عليه كما لو قال
لرجل بعتك هذا العبد بألف قال بل ملكتنيه بغير شئ، وفارق ما لو قال له عندي رهن فقال المالك
بل وديعة لأن الدين ينفك عن الرهن، ولو قال السيد لعبده بعتك نفسك بألف فأنكر العبد عتق
ولا شئ للمقر لأن العتق ينفك عن الثمن، ولا فرق بين أن يقول لم أقبضه منفصلا أو متصلا فلو قال
له علي الف من ثمن مبيع ثم سكت ثم قال لم أقبضه فيقبل قوله كما لو كان متصلا لأن اقراره تعلق
بالمبيع والأصل عدم القبض فقبل قوله فيه فأما إن قال علي الف ثم سكت ثم قال من ثمن مبيع لم يقبل
لأنه فسرا قراره بما يسقط وجوب تسليمه بكلام منفصل فلم يقبل كما لم يقبل لو قال له علي الف ثم سكت ثم قال مؤجل
(فصل) وإذا قال بعتك جاريتي هذه قال بل زوجتنيها فلا يخلو اما أن يكون اختلافهما قبل نقد
الثمن أو بعده وقبل الاستيلاد أو بعده فإن كان بعد اعتراف البائع بقبض الثمن فهو مقر بها لمدعي الزوجية
لأنه يدعي عليه شيئا والزوج ينكر أنها ملكه ويدعي حلها له بالزوجية فيثبت الحل لاتفاقهما عليه
321

ولا ترد إلى البائع لاتفاقهما على أنه لا يستحق أخذها وإن كان قبل قبض الثمن وبعد الاستيلاد فالبائع
يقر أنها صارت أم ولد وولدها حر وأنه لا مهر له ويدعي الثمن والمشتري ينكر ذلك كله فيحكم بحرية
الولد لا قرار من ينسب إليه ملكه بحريته ولا ولاء عليه لاعترافه بأنه حر الأصل ولا ترد الأمة إلى
البائع لا قراره بأنها أم ولد لا يجوز نقل الملك فيها ويحلف المشتري أنه ما اشتراها ويسقط عنه ثمنها الا
قدر المهر فإنه يجب لاتفاقهما على وجوبه وان اختلفا في سببه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال
بعضهم يتحالفان ولا يجب مهر ولا ثمن وهو قول القاضي الا أنه لا يجعل على البائع يمينا لأنه لا يرى
اليمين في إنكار النكاح، ونفقة الولد على أبيه لأنه حر ونفقة الأمة على زوجها لأنه اما زوج واما سيد
وكلاهما سبب لوجوب النفقة وقال القاضي نفقتها في كسبها فإن كان فيه فضل فهي موقوفة لأننا أزلنا
عنها ملك السيد وأثبتنا لها حكم الاستيلاد، فإن ماتت وتركت مالا فللبائع قدر ثمنها لأنه اما أن يكون
صادقا فهو يستحق على المشتري ثمنها وتركتها للمشتري والمشتري مقر للبائع بها فيأخذ منها قدر ما
يدعيه وإن كان كاذبا فهي ملكه وتركتها كلها له فيأخذ منها قدر ما يدعيه وبقيته موقوفة وان
ماتت بعد الوطئ فقد ماتت حرة فميراثها لولدها وورثتها فإن لم يكن لها وارث فميراثها
موقوف لأن أحدا لا يدعيه، وليس للسيد ان يأخذ منه قدر الثمن لأنه يدعي الثمن على الواطي وليس
ميراثها له لأنه قد مات قبلها، وإن كان اختلافهما قبل الاستيلاد فعندي أنها تقر في يد الزوج لاتفاقهما
322

على حلها له واستحقاقه إمساكها وإنما اختلفا في السبب، ولا ترد إلى السيد لاتفاقهما على تحريمها عليه
وللبائع أقل الأمرين من الثمن أو المهر لاتفاقهما على استحقاقه لذلك، والامر في الباطن على ذلك فإن
السيدان كان صادقا فالأمة حلال لزوجها بالبيع وإن كان كاذبا فهي حلال له بالزوجية والقدر الذي اتفقا
عليه إن كان السيد صادقا فهو يستحقه ثمنا وإن كان كاذبا فهو يستحقه مهرا وقال القاضي يحلف الزوج
أنه ما اشتراها لأنه منكر ويسقط عنه الثمن ولا يحتاج السيد إلى اليمين على نفي الزوجية لأنه لا يستحلف
فيه وعند الشافعي يتحالفان معا ويسقط الثمن عن الزوج لأن عقد البيع ما ثبت ولا يجب المهر لأن السيد
لا يدعيه وترد الجارية إلى سيدها وفي كيفية رجوعها وجهان (أحدهما) ترجع إليه فيملكها ظاهرا وباطنا كما يرجع
البائع في السلعة عند فلس المشتري بالثمن لأن الثمن ههنا قد تعذر فيحتاج السيد أن يقول فسخت
البيع وتعود إليه ملكا (والثاني) ترجع إليه في الظاهر دون الباطن لأن المشتري امتنع من أداء الثمن مع
امكانه، فعلى هذا يبيعها الحاكم ويوفيه ثمنها فإن كان وفق حقه فحسن وإن كان دونه أخذه وان زاد فالزيادة
لا يدعيها أحد لأن المشتري يقر بها للبائع والبائع لا يدعي أكثر من الثمن الأول فهل تقر في يد المشتري
أو ترجع إلى بيت المال؟ يحتمل وجهين، فإن رجع البائع وقال صدق خصمي ما بعته إياها بل زوجته لم
يقبل في اسقاط حرية الولد ولا في استرجاعها ان صارت أم ولد وقبل في اسقاط الثمن واستحقاق المهر
وأخذ زيادة الثمن واستحقاق ميراثها وميراث ولدها وان رجع الزوج ثبتت الحرية ووجب عليه الثمن
323

(فصل) ولو أقر رجل بحرية عبد ثم اشتراه أو شهد رجلان بحرية عبد لغيرهما فردت شهادتهما
ثم اشتراه أحدهما من سيده عتق في الحال لاعترافه بأن الذي اشتراه حر ويكون البيع صحيحا بالنسبة إلى
البائع لأنه محكوم له برقه وفي حق المشتري استنقاذا واستخلاصا فإذا صار في يديه حكم بحريته لاقراره
السابق ويصير كما لو شهد رجلان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا فرد الحاكم شهادتهما فدفعا إلى
الزوج عوضا ليخلعها صح وكان في حقه خلعا صحيحا وفي حقهما استخلاصا ويكون ولاؤه موقوفا لأن
أحدا لا يدعيه فإن البائع يقول ما أعتقته والمشتري يقول ما أعتقه الا البائع وأنا استخلصته فإن مات وخلف
مالا فرجع أحدهما عن قوله فالمال له لأن أحد لا يدعيه سواه لأن الراجع إن كان البائع فقال
صدق المشتري كنت أعتقته فالولاء له ويلزمه رد الثمن إلى المشتري لا قراره ببطلان البيع وإن كان
الراجع المشتري قبل في المال لأن أحدا لا يدعيه سواه ولا يقبل قوله في نفى الحرية لأنها حق لغيره
وان رجعا معا فيحتمل أن يوقف حتى يصطلحا عليه لأنه لأحدهما ولا يعرف عينه ويحتمل أن من هو في
يده يحلف ويأخذه لأنه منكر وان لم يرجع واحد منهما ففيه وجهان (أحدهما) يقر في يد من هو في يده
فإن لم يكن في يد أحدهما فهو لبيت المال لأن أحدا لا يدعيه ويحتمل أن يكون لبيت المال على كل حال لذلك
(فصل) ولو أقر لرجل بعبد أو غيره ثم جاءه به وقال هذا الذي أقررت لك به قال بل هو غيره
لم يلزمه تسليمه إلى المقر له لأنه لا يدعيه ويحلف المقر أنه ليس له عنده عبد سواه فإن رجع المقر له
324

فادعاه لزمه دفعه إليه لأنه لا منازع له فيه، وإن قال المقر له صدقت هذا لي والذي أقررت به آخر لي
عندك لزمه تسليم هذا ويحلف على نفي الآخر
(مسألة) قال (ولو مات فخلف ولدين فاقر أحدهما بأخ أو أخت لزمه أن يعطي الفضل
الذي في يديه لمن أقر له به)
وجملة ذلك أن أحد الوارثين إذا أقر بوارث ثالثا مشارك لهما في الميراث لم يثبت النسب بالاجماع
لأن النسب لا يتبعض فلا يمكن إثباته في حق المقر دون المنكر ولا يمكن إثباته في حقهما لأن أحدهما منكر
ولم توجد شهادة يثبت بها النسب ولكنه يشارك المقر في الميراث في قول أكثر أهل العلم وقال الشافعي
لا يشاركه وحكي ذلك عن ابن سيرين وقال إبراهيم ليس بشئ حتى يقروا جميعا لأنه لم يثبت نسبه فلا
يرث كما لو أقر بنسب معروف النسب. ولنا أنه أقر بسبب مال لم يحكم ببطلانه فلزمه المال كما لو أقر ببيع
أو أقر بدين فأنكر الآخر، وفارق ما إذا أقر بنسب معروف النسب فإنه محكوم ببطلانه ولأنه يقر
له بمال يدعيه المقر له ويجوز أن يكون له فوجب الحكم له به كما لو أقر بدين على أبيه أو أقر له بوصية
فأنكر سائر الورثة إذا ثبت هذا فإن الواجب له فضل ما في يد المقر عن ميراثه وبهذا قال ابن أبي ليلى
ومالك والثوري والحسن بن صالح وشريك ويحيي بن آدم وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وقال أبو حنيفة
إذا كان اثنان فأقر أحدهما بأخ لزمه دفع نصف ما في يده وان أقر بأخت لزمه ثلث ما في يده لأنه
أخذ مالا يستحقه من التركة فصار كالغاصب فيكون الباقي بينهما كما لو غصب بعض التركة أجنبي ولان الميراث يتعلق
325

ببعض التركة كما يتعلق بجميعها فإذا هلك بعضها أو غصب تعلق الحق بباقيها والذي في يد المنكر كالمغصوب
فيقتسمان الباقي بالسوية كما لو غصبه أجنبي.
ولنا أن التركة بينهم أثلاثا فلا يستحق مما في يده إلا الثلث كما لو ثبت نسبه ببينة، ولأنه إقرار
بحق يتعلق بحصته وحصة أخيه فلا يلزمه أكثر مما يخصه، كالاقرار بالوصية وكاقرار أحد الشريكين،
على مال الشركة بدين ولأنه لو شهد معه بالنسب أجنبي ثبت، ولو لزمه أكثر من حصته لم تقبل
شهادته لكونه يجربها نفعا لكونه يسقط عن نفسه بعض ما يستحقه عليه ولأنه حق لو ثبت ببينة
لم يلزمه إلا قدر حصته فإذا ثبت بالاقرار لم يلزمه أكثر من ذلك كالوصية، وفارق ما إذا غصب بعض
التركة وهما اثنان لأن كل واحد منهما يستحق النصف من كل جزء من التركة، وههنا يستحق الثلث
من كل جزء من التركة ولأصحاب الشافعي فيما إذا كان المقر صادقا فيما بينه وبين الله تعالى هل
يلزمه أن يدفع إلى المقر له نصيبه؟ على وجهين (أحدهما) يلزمه وهو الأصح، وهل يلزمه أن
يدفع إليه نصف ما في يده أو ثلثه؟ على وجهين.
(فصل) وان أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الميراث ثبت نسبه سواء كان الورثة
واحدا أو جماعة ذكرا أو أنثى وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف وحكاه عن أبي حنيفة لأن الوارث يقوم
مقام الميت في ميراثه وديونه والديون التي عليه وبيناته ودعاويه والايمان التي له وعليه وكذلك في النسب
326

وقد روت عائشة أن سعد بن أبي وقاص اختصم هو وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة فقال سعد أوصاني
أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه، فقال عبد بن زمعة أخي وابن
وليدة أبى ولد على فراشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هو لك يا عبد بن زمعة وللعاهر الحجر) فقضى به
لعبد بن زمعة وقال (احتجبي منه يا سودة) والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يثبت الا باقرار رجلين أو
رجل وامرأتين، وقال مالك لا يثبت إلا باقرار اثنين لأنه يحمل النسب على غيره فاعتبر فيه العدد
كالشهادة. ولنا أنه حق يثبت بالاقرار فلم يعتبر فيه العدد كالدين ولأنه قول لا يعتبر فيه العدالة فلم يعتبر
فيه العدد كاقرار الموروث واعتباره بالشهادة لا يصح لأنه لا يعتبر فيه اللفظ ولا العدالة ويبطل بالاقرار بالدين
(فصل في شروط الاقرار بالنسب)
لا يخلوا اما أن يقر على نفسه خاصة، أو عليه وعلى غيره، فإن أقر على نفسه مثل أن يقر بولد
اعتبر في ثبوت نسبه أربعة شروط (أحدها) أن يكون المقر به مجهول النسب فإن كان معروف
النسب لم يصح لأنه يقطع نسبه الثابت من غيره، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من أنتسب إلى غير أبيه أو
تولى غير مواليه (الثاني) أن لا ينازعه فيه منازع لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارضا فلم يكن الحاقه
بأحدهما أولى من الآخر (الثالث) أن يمكن صدقه بأن يكون المقر به يحتمل أن يولد لمثله
(الرابع) أن يكون ممن لا قول له كالصغير والمجنون أو يصدق المقر إن كان ذا قول وهو المكلف
327

فإن كان غير مكلف لم يعتبر تصديقه فإن كبر وعقل فأنكر لم يسمع إنكاره لأن نسبه ثابت وجرى
ذلك مجرى من ادعى ملك عبد صغير في يده وثبت بذلك ملكه فلما كبر جحد ذلك ولو طلب احلافه
على ذلك لم يستحلف لأن الأب لو عاد فجحد النسب لم يقبل منه وان اعترف انسان بأن هذا أبوه
فهو كاعترافه بأنه ابنه، فاما إن كان اقرارا عليه وعلى غيره كاقرار بأخ اعتبر فيه الشروط الأربعة
وشرط خامس وهو كون المقر جميع الورثة فإن كان المقر زوجا أو زوجة لا وارث معهما لم يثبت النسب
باقرارهما لأن المقر لا يرث المال كله، وان اعترف به الإمام معه ثبت النسب لأنه قائم مقام المسلمين
في مشاركة الوارث وأخذ الباقي، وإن كان الوارث بنتا أو أختا أو أما أو ذا فرض يرث جميع المال بالفرض
الرد وثبت النسب بقوله كالابن لأنه يرث المال وعند الشافعي لا يثبت بقوله النسب لأنه لا يرى
الرد ويجعل الباقي لبيت المال، ولهم فيما إذا وافقه الإمام في الاقرار وجهان وهذا من فروع الرد ويذكر
في موضعه وإن كانت بنت وأخت أو أخت وزوج ثبت النسب بقولهما لأنهما يأخذان المال كله، وإذا أقر بابن
ابنه وابنه ميت اعتبرت فيه الشروط التي تعتبر في الاقرار بالأخ وكذلك أن أقر بعم وهو ابن
جده فعلى ما ذكرناه.
(فصل) وإن كان أحد الولدين غير وارث لكونه رقيقا أو مخالفا لدين مورثه أو قائلا فلا
عبرة به وثبت النسب بقول الآخر وحده لأنه يجوز جميع الميراث ثم إن كان المقر به يرث شارك المقر
328

في الميراث وإن كان غير وارث لوجود أحد الموانع فيه ثبت نسبه ولم يرث وسواء كان المقر مسلما أو كافرا.
(فصل) وإن كان أحد الوارثين غير مكلف كالصبي والمجنون فأقر المكلف بأخ ثالث لم يثبت
النسب باقراره لأنه لا يجوز الميراث كله فإن بلغ الصبي أو أفاق المجنون فأقر به أيضا ثبت نسبه لا تفاق
جميع الورثة عليه وان أنكرا لم يثبت النسب وان ماتا قبل ان يصيرا مكلفين ثبت نسب المقر به لأنه
وجد الاقرار من جميع الورثة فإن المقر به صار جميع الورثة، ولو كان الوارثان بالغين عاقلين فأقر به
أحدهما وأنكر الآخر ثم مات المنكر وورثه المقر ثبت نسب المقر به لأن المقر به صار جميع الورثة
فأشبه ما لو أقر به ابتداء بعد موت أخيه وكما لو كان شريكه في الميراث غير مكلف وفيه
وجه آخر انه لا يثبت النسب لأنه أنكره بعض الورثة فلم يثبت نسبه كما لو لم يمت بخلاف
ما إذا كان شريكه غير مكلف فإنه لم ينكره وارث وهذا فيما إذا كان المقر يحوز جميع
الميراث بعد الميت فإن كان للميت وارث سواه أو من يشاركه في الميراث لم يثبت النسب بقول الباقي
منهما وجها واحدا لأنه ليس كل الورثة ويقوم وارث الميت الثاني مقامه فإذا وافق المقر في اقراره
ثبت النسب وان خالفه لم يثبت كالموروث وان خلف ولدين فاقر أحدهما بأخ وأنكره الآخر ثم
مات المنكر وخلف ابنا فأقر بالذي أنكره أبوه ثبت نسبه لاقرار جميع الورثة به ويحتمل ان لا
يثبت لانكار الميت له
329

(فصل) وإذا أقر الوارث بمن يحجبه كأخ أقر بابن؟؟ للميت واخ من أب أقر بأخ من أبوين وابن ابن
أقر بابن للميت ثبت نسب المقر به وورث وسقط المقر وهذا اختيار ابن حامد والقاضي وقول أبي
العباس ابن سريج، وقال أكثر أصحاب الشافعي يثبت نسب المقر به ولا يرث لأن توريثه يفضي إلى اسقاط
توريثه فسقط بيانه انه لو ورث لخرج المقربه عن كونه وارثا فيبطل اقراره ويسقط نسب المقر به
وتوريثه فيؤدي توريثه إلى اسقاط نسبه وتوريثه فأثبتنا النسب دون الميراث
ولنا انه ابن ثابت النسب لم يوجد في حقه أحد موانع الإرث فيدخل في عموم قوله تعالى (يوصيكم
الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) أو فيرث كما لو ثبت نسبه ببينة ولان ثبوت النسب سبب
للميراث فلا يجوز قطع حكمه عنه ولا يورث محجوب به مع وجوده وسلامته من الموانع وما احتجوا
به لا يصح لأننا إنما نعتبر كون المقر وارثا على تقدير عدم المقر به وخروجه بالاقرار عن الإرث
لا يمنع صحته بدليل أن الابن إذا أقر بأخ فإنه يرث مع كونه يخرج باقراره عن أن يكون جميع
الورثة، فإن قيل إنما يقبل إقراره إذا صدقه المقر به فصار اقرارا من جميع الورثة، وإن كان المقر به
طفلا أو مجنونا لم يعتبر قوله فقد أقر كل من يعتبر قوله، قلنا ومثله ههنا فإنه إن كان المقربه كبيرا
فلا بد من تصديقه فقد أقربه كل من يعتبر اقراره وإن كان صغيرا غير معتبر القول لم يثبت النسب
330

بقول الآخر كما لو كانا ابنين أحدهما صغيرا فأقر البالغ بأخ لم يقبل ولم يقولوا انه لا تعتبر موافقته
كذا ههنا ولأنه لو كان في يدي انسان عبد محكوم له بملكه فأقر به لغيره ثبت للمقر له وإن كان
المقر يخرج بالاقرار عن كونه مالكا كذا ههنا
(فصل) فإن خلف ابنا فأقر بأخ ثبت نسبه ثم إن أقر بثالث ثبت نسبه أيضا لأنه اقرار من
جميع الورثة فإن قال الثالث الثاني ليس بأخ لنا فقال القاضي يسقط نسب الثاني لأن الثالث وارث منكر
لنسب الثاني فأشبه ما لو كان نسبه ثابتا قبل الثاني وفيه وجه آخر لا يسقط نسبه ولا ميراثه لأن نسبه
ثبت بقول الأول وثبت ميراثه فلا يسقط بعد ثبوته ولأنه أقر به من هو كل الورثة حين الاقرار وثبت ميراثه
فلا يسقط بعد ثبوته ولان الثاني لو أنكر الثالث لم يثبت نسبه وإنما ثبت نسبه باقراره فلا يجوز له
اسقاط نسب من يثبت نسبه بقوله كالأول ولان ذلك يؤدي إلى اسقاط الأصل بالفرع الذي يثبت به
(فصل) وان أقر الابن بأخوين دفعة واحدة فصدق كل واحد منهما صاحبه ثبت نسبهما وان
تكاذبا ففيهما وجهان (أحدهما) لا يثبت نسبهما وهو مذهب الشافعي لأن كل واحد منهما لم يقر به
كل الورثة (والثاني) يثبت نسبهما لأن كل واحد منهما وجد الاقرار به من ثابت النسب هو كل
الورثة حين الاقرار فلم يعتبر موافقة غيره كما لو كانا صغيرين فإن كان أحدهما يصدق صاحبه دون
الآخر ثبت نسب المتفق عليه منهما وفي الاخر وجهان وان كانا توأمين ثبت نسبهما ولم يلتفت إلى
331

انكار المنكر منهما سواء تجاحدا معا أو جحد أحدهما صاحبه لأننا نعلم كذبهما فإنهما لا يفترقان
ولو أقر الوارث بنسب أحدهما ثبت نسب الآخر لأنهما لا يفترقا في النسب، وان أقر بنسب صغيرين
دفعة واحدة ثبت نسبهما على الوجه الذي يثبت فيه نسب الكبيرين المتجاحدين، وهل يثبت على
الوجه الآخر؟ يحتمل أن يثبت لأنه أقر به كل الورثة حين الاقرار ولم يجحده أحد فأشبه ما لو
انفرد ويحتمل أن لا يثبت لأن أحدهما وارث ولم يقر بصاحبه فلم يجتمع كل الورثة على الاقرار به ويدفع
المقر إلى كل واحد منهما ثلث الميراث سواء قلنا بثبوت النسب أو لم نقل لأنه مقربه
(فصل) إذا خلف امرأة وأخا فأقرت المرأة بابن للميت وأنكر الأخ لم يثبت نسبه ودفعت إليه
ثمن الميراث وهو الفضلة التي في يد الزوجة عن ميراثها وان أقر به الأخ وحده لم يثبت نسبه
ودفع إليه جميع ما في يده وهو ثلاثة أرباع المال، فإن خلف اثنين فأقر أحدهما بامرأة لأبيه وأنكر
الآخر لم تثبت الزوجية ويدفع إليها نصف ثمن الميراث ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة كقولنا
لأن الزوجية زالت بالموت وإنما المقر به حقها من الميراث ولهم وجه آخر لا شئ لها، وإن كان للميت
امرأة أخرى فلا شئ للمقر لها لأن الفضل الذي تستحقه في يد غير المقر وكذلك ما كان مثل هذا
مثل أن يخلف أخا من أب وأخا من أم فيقر الأخ من الام بأخ للميت فلا شئ للمقر به سواء أقر بأخ من أبوين
أو من أب أو من أم لأن ميراثه في يد غير المقر، وان أقر بأخوين من أم دفع إليهما ثلث ما في يده
332

لأنه يقر انهم شركاء في الثلث لكل واحد منهما تسع وفي يده سدس وهو تسع ونصف تسع فيفضل
في يده نصف تسع وهو ثلث ما في يده
(فصل) وإذا شهد من الورثة رجلان عدلان بنسب مشارك لهم في الميراث ثبت نسبه إذا لم يكونا
متهمين وكذلك أن شهدا على اقرار الميت به وان كانا متهمين كأخوين من أم يشهدان بأخ من أبوين
في مسألة فيها زوج وأختان من أبوين لم تقبل شهادتهما لأن ثبوت نسبه يسقط العول فيتوفر عليهما
الثلث وكذلك لو شهدا بأخ من أب في مسألة معهما أم وأخت من أبوين وأخت من أب لم تقبل شهادتهما لأن
ثبوت نسبه يسقط أخته فيذهب العول من المسألة فإن لم يكونا وارثين أو لم يكن للميت تركة قبلت شهادتهما
وثبت النسب لعدم التهمة
(فصل) وان أقر رجلان عدلان بنسب مشارك لهما في الميراث وثم وارث غيرهما لم يثبت النسب
الا أن يشهدا به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يثبت لأنهما بينة. ولنا أنه أقرار من بعض الورثة
فلم يثبت به النسب كالواحد وفارق الشهادة لأنه تعتبر فيها العدالة والذكورية والاقرار بخلافه
(فصل) إذا أقر بنسب ميت صغير أو مجنون ثبت نسبه وورثه وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن
يثبت نسبه دون ميراثه لأنه متهم في قصد أخذ ميراثه وقال أبو حنيفة لا يثبت نسبه ولا ارثه لذلك. ولنا أن
333

علة ثبوت نسبه في حياته الاقرار به وهو موجود بعد الموت فيثبت به كحالة الحياة وما ذكروه يبطل ما إذا
كان المقربه حيا موسرا أو المقر فقيرا فإنه يثبت نسبه ويملك المقر التصرف في ماله وانفاقه منه على
نفسه وإن كان المقربه كبيرا عاقلا فكذلك في قول القاضي وظاهر مذهب الشافعي لأنه لاقول له
أشبه الصغير وفيه وجه آخر أنه لا يثبت نسبه لأن نسب المكلف لا يثبت الا بتصديقه ولم يوجد ويجاب
عن هذا بأنه غير مكلف فإن ادعى نسب المكلف في حياته فلم يصدقه حتى مات المقر ثم صدقه ثبت
نسبه لأنه وجد الاقرار والتصديق من المقر به فأشبه ما لو صدقه في حياته، وقال أبو الخطاب وإذا
أقر رجل بزوجية امرأة أو أقرت أن فلانا زوجها فلم يصدقه المقر به الا بعد موته ورثه لأنه وجد
الاقرار والتصديق معا
(فصل) وإذا خلف رجل امرأة وابنا من غيرها فاقر الابن بأخ له لم يثبت نسبه لأنه لم يقربه
كل الورثة وهل يتوارثان؟ فيه وجهان (أحدهما) يتوارثان لأن كل واحد منهما يقر أنه لا وارث له سوى
صاحبه ولا منازع لهما (والثاني) لا يتوارثان لأن النسب بينهما لم يثبت لمن كان لكل واحد منهما وارث
غير صاحبه لم يرثه لأنه منازع في الميراث ولم يثبت نسبه
(فصل) وإذا ثبت النسب بالاقرار ثم أنكر المقر لم يقبل انكاره لأنه نسب ثبت بحجة شرعية
فلم يزل بانكاره كما لو ثبت بينة أو بالفراش وسواء كان المقر به غير مكلف أو مكلفا فصدق المقر ويحتمل
334

أن يسقط نسب المكلف باتفاقهما على الرجوع عنه لأنه ثبت باتفاقهما فزال برجوعهما كالمال والأول
أصح لأنه نسب ثبت بالاقرار فأشبه نسب الصغير والمجنون وفارق المال لأن النسب يحتاط لا ثباته
(فصل) وان أقرت المرأة بولد ولم تكن ذات زوج ولا نسب قبل اقرارها وان كانت ذات زوج
فهل يقبل اقرارها على روايتين إحداهما لا يقبل لأن فيه حملا لنسب الولد على زوجها ولم يقر به أو الحاقا
للعار به بولادة امرأته من غيره (والثانية) يقبل لأنها شخص أقر بولد يحتمل أن يكون منه فقبل كالرجل
وقال احمد في رواية ابن منصور في امرأة ادعت ولدا فإن كان لها اخوة أو نسب معروف فلا بد من أن
يثبت انه ابنها فإن لم يكن لها دافع فمن يحول بينها وبينه وهذا لأنها متى كانت ذات أهل فالظاهر أنه
لا تخفى عليهم ولادتها فمتى ادعت ولدا لا يعرفونه فالظاهر كذبها ويحتمل ان تقبل دعواها مطلقا لأن
النسب يحتاط له فأشبهت الرجل
(فصل) ولو قدمت امرأة من بلد الروم معها طفل فأقر به رجل لحقه لوجود الامكان وعدم
المنازع لأنه يحتمل أن يكون دخل أرضهم أو دخلت هي دار الاسلام ووطئها والنسب يحتاط لا ثباته
ولهذا لو ولدت امرأة رجل وهو غائب عنها بعد عشرين سنة من غيبته لحقه وان لم يعرف له قدوم إليها
ولاعرف لها خروج من بلدها
(فصل) وان أقر بنسب صغير لم يكن مقرا بزوجية أمه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا
335

كانت مشهورة بالحرية كان مقرا بزوجيتها لأن أنساب المسلمين وأحوالهم يجب حملها على الصحة
وذلك أن تكون ولدته منه في نكاح صحيح. ولنا أن الزوجية ليست مقتضى لفظه ولا مضمونه فلم يكن
مقرا بها كما لو لم تكن معروفة بالحرية وما ذكروه لا يصح فإن النسب محمول على الصحة وقد يلحق بالوطئ
في النكاح الفاسد والشبهة فلا يلزمه بحكم اقراره ما لم يتضمنه لفظه ولم يوجبه
(فصل) وإذا كان له أمة لها ثلاثة أولاد لازوج لها ولا أقر بوطئها فقال أحد هؤلاء ولدي فاقراره
صحيح ويطالب بالبيان فإن عين أحدهم ثبت نسبه وحريته ثم يسئل عن كيفية الاستيلاد فإن قال كان بنكاح
فعلى الوالد الولاء لأنه قد مسه رق والام وولداها الآخران رقيق قن وان قال استولدتها في ملكي فالمقربه
حر الأصل لا ولاء عليه والأمة أم ولد، ثم إن كان المقر به الأكبر فأخواه أبناء أم ولد حكمهما حكمها
في العتق بموت سيدها وإن كان الأوسط فالا كبر قن والأصغر له حكم أمه، وان عين الأصغر
فأخواه رقيق قن لأنها ولدتهما قبل الحكم بكونها أم ولد، وإن قال هو من وطئ شبهة فالولد حر الأصل
وأخواه مملوكان، وإن مات قبل أن يبين أخذ ورثته بالبيان ويقوم بيانهم مقام بيانه فإن بينوا النسب
ولم يبينوا الاستيلاد ثبت النسب وحرية الولد ولم يثبت للام ولا لو لديها حكم الاستيلاد لأنه يحتمل أن
يكون من نكاح أو وطئ شبهة، وان لم يبنوا النسب وقالوا لا نعرف ذلك ولا الاستيلاد فانا نريه
القافة فإن ألحقوا به واحدا منهم ألحقناه ولا يثبت حكم الاستيلاد لغيره فإن لم تكن قافة أقرع بينهم فمن
وقعت له القرعة عتق وورث وبهذا قال الشافعي إلا أنه لا يورثه بالقرعة
336

ولنا أنه حر استندت حريته إلى إقرار أبيه فورث كما لو عينه في اقراره.
(فصل) وإذا كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد فقال أحد هذين ولدي من أمتي نظرت فإن
كان لكل واحدة منهما زوج يمكن الحاق الولد به لم يصح اقراره ولحق الولدان بالزوجين، وإن كان
لإحداهما زوج دون الأخرى انصرف الاقرار إلى ولد الأخرى لأنه الذي يمكن الحاقه به وان
لم يكن لواحدة منهما زوج ولكن أقر السيد بوطئهما صارتا فراشا ولحق ولداهما به إذا أمكن أن يولد
بعد وطئه وان أمكن في إحداهما دون الأخرى انصرف الاقرار إلى من أمكن لأنه ولده حكما،
وان لم يكن أقر بوطئ واحدة منهما صح اقراره وتثبت حرية المقر به لأنه أقر بنسب صغير مجهول
النسب مع الامكان لا منازع له فيه فلحقه نسبه، ثم يكلف البيان كما لو طلق إحدى نسائه فإذا بين قبل
بيانه لأن المرجع في ذلك إليه، ثم يطالب ببيان كيفية الولادة فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حر
الأصل لا ولاء عليه وأمه أم ولد وان قال في نكاح فعلى الولد الولاء لأنه مسه رق والأمة قن لأنها
علقت بمملوك وان قال بوطئ شبهة فالولد حر الأصل والأمة قن لأنها علقت به في غير ملك، وان ادعت
الأخرى انها التي استولدها فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الاستيلاد فأشبه ما لو ادعت ذلك
من غير اقراره بشئ فإذا حلف رقت ورق ولدها وإذا مات ورثه ولده المقربه، وإن كانت أمه قد
صارت أم ولد عتقت أيضا وإن لم تصر أم ولد عتقت على ولدها إن كان هو الوارث وحده وإن كان معه غيره
337

عتق منها بقدر ما ملك فإن مات قبل ان يبين قام وارثه مقامه في البيان لأنه يقوم مقامه في الحاق
النسب وغيره فإذا بين كان كما لو بين الموروث، وان لم يعلم الوارث كيفية الاستيلاد ففي الأمة وجهان:
(أحدهما) يكون رقيقا لأن الرق الأصل فلا يزول بالاحتمال (والثاني) يعتق لأن الظاهر أنها ولدته
في ملكه لأنه أقر بولدها وهي في ملكه وهذا منصوص الشافعي فإن لم يكن وارث أو كان وارث فلم يعين عرض
على القافة فإن ألحقت به أحدهما ثبت نسبه وكان حكمه كما لو عين الوارث فإن لم تكن قافة أو كانت فلم تعرف
أقرع بين الولدين فيعتق أحدهما بالقرعة لأن للقرعة مدخلا في اثبات الحرية، وقياس المذهب ثبوت
نسبه وميراثه على ما ذكرنا في التي قبلها، وقال الشافعي لا يثبت نسب ولا ميراث، واختلفوا في الميراث
فقال المزني يوقف نصيب ابن لأننا تيقنا ابنا وارثا ولهم وجه آخر لا يوقف شئ لأنه لا يرجى انكشافه
وقال أبو حنيفة يعتق من كل واحد نصفه ويستسعى في باقيه ولا يرثان، وقال ابن أبي ليلى مثل ذلك
الا انه يجعل الميراث بينهما نصفين ويدفعانه في سعايتهما والكلام على قسمة الحرية والسعاية يأتي
في العتق إن شاء الله تعالى.
(مسألة) قال (وكذلك أن أقر بدين على أبيه لزمه من الدين بقدر ميراثه)
وجملة ذلك أن الوارث إذا أقر بدين على موروثه قبل اقراره بغير خلاف نعلمه ويتعلق ذلك بتركة
338

الميت كما لو أقر به الميت قبل موته فإن لم يخلف تركة لم يلزم الوارث بشئ لأنه لا يلزمه أداء دينه
إذا كان حيا مفلسا فكذلك إذا كان ميتا وان خلف تركة تعلق الدين بها فإن أحب الوارث تسليمها
في الدين لم يلزمه الا ذلك وان أحب استخلاصها وايفاء الدين من ماله فله ذلك ويلزمه أقل الأمرين
من قيمتها أو قدر الدين بمنزلة الجاني، وإن كان الوارث واحدا فحكمه ما ذكرنا وان كانا اثنين أو أكثر
وثبت الدين باقرار الميت أو ببينة أو اقرار جميع الورثة فكذلك، وإذا اختار الورثة أخذ التركة وقضاء الدين
من أموالهم فعلى كل واحد منهم من الدين بقدر ميراثه وإن أقر أحدهم لزمه من الدين بقدر ميراثه
والخيرة إليه في تسليم نصيبه في الدين أو استخلاصه وإذا قدره من الدين فإن كانا اثنين لزمه النصف
وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وبهذا قال النخغي والحسن والحكم وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور والشافعي
في أحد قوليه، وقال أصحاب الرأي يلزمه جميع الدين أو جميع ميراثه وهذا آخر قولي الشافعي رجع إليه
بعد قوله كقولنا لأن الدين يتعلق بتركته فلا يستحق الوارث منها إلا ما فضل من الدين لقول الله تعالى (
من بعد وصية يوصي بها أو دين) ولأنه يقول ما أخذه المنكر أخذه بغير استحقاق فكان غاصبا فتعلق
الدين بما يقي من التركة كما لو غصبه أجنبي، ولنا أنه لا يستحق أكثر من نصف الميراث فلا يلزمه أكثر
من نصف الدين كما لو أقر أخوه ولأنه إقرار يتعلق بحصته وحصة أخيه فلا يجب عليه إلا ما يخصه
كالاقرار بالوصية وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة ولأنه حق لو ثبت ببينة أو قول الميت أو إقرار
339

الوارثين لم يلزمه إلا نصفه فلم يلزمه باقراره أكثر من نصفه كالوصية ولان شهادته بالدين مع غيره تقبل
ولو لزمه أكثر من حصته لم تقبل شهادته لأنه يجربها إلى نفسه نفعا
(فصل) إذا ادعى رجلان دارا بينهما ملكاها بسبب يوجب الاشتراك مثل أن يقولا ورثناها
أو ابتعناها معا فاقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما فذلك لهما جميعا لأنهما اعترفا أن الدار لهما مشاعة فإذا غصب
غاصب نصفها كان منهما والباقي بينهما وإن لم يكونا ادعيا شيئا يقتضي الاشتراك بل ادعى كل واحد منهما نصفها
فأقر لأحدهما بما ادعاه لم يشاركه الآخر وكان على خصومته لأنهما لم يعترفا بالاشتراك فإن أقر لأحدهما بالكل
وكان المقر له يعترف للآخر بالنصف سلمه إليه وكذلك إن كان قد تقدم إقراره بذلك وجب تسليم النصف إليه
لأن الذي هي في يده قد اعترف له بها فصار بمنزلته فيثبت لمن يقر له، وإن لم يكن اعترف للآخر وادعى
جميعها أو ادعى أكثر من النصف فهو له، فإن قيل فكيف يملك جميعها ولم يدع إلا نصفها قلنا ليس من شرط صحة
الاقرار تقدم الدعوى بل متى أقر الانسان بشئ فصدقه المقر له ثبت وقد وجد التصديق ههنا في النصف الذي لم
يسبق دعواه ويجوز أن يكون اقتصر على دعوى الف لأن له حجة به أو لأن النصف الآخر قد اعترف
له به فادعى النصف الذي لم يعترف به، فإن لم يصدقه في إقراره بالنصف الذي لم يدعه ولم يعترف به
للآخر ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يبطل الاقرار به لأنه أقربه لمن لا يدعيه (الثاني) ينزعه الحاكم من يده
حتى يثبت لمدعيه ويؤجره ويحفظ أجرته لمالكه (والثالث) يدفع إلى مدعيه لعدم المنازع فيه ومذهب
الشافعي في هذا الفصل كله كنحو ما ذكرنا
340

(مسألة) قال (وكل من قلت القول قوله فلخصمه عليه اليمين)
يعنى في هذا الباب وفيما أشبهه مثل أن يقول عندي الف ثم قال وديعة أو قال علي ثم قال وديعة أو قال
له عندي رهن فقال المالك وديعة، ومثل الشريك والمضارب والمنكر للدعوى، وإذا اختلفا في قيمة الرهن
أو قدره أو قدر الدين الذي الرهن به وأشباه هذا فكل من قلنا القول قوله فعليه لخصمه اليمين لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه
مسلم ولان اليمين يشرع في حق من ظهر صدقه وقوي جانبه تقوية لقوله واستظهارا والذي جعل القول
قوله كذلك فيجب أن تشرع اليمين في حقه
(فصل) إذا أقر أنه وهب وأقبض الهبة أو رهن وأقبض أو أنه قبض المبيع أو أجر المستأجر ثم
أنكر ذلك وسال احلاف خصمه ففيه روايتان (إحداهما) لا يستحلف وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأن
دعواه تكذيب لاقراره فلا تسمع كما لو أقر المضارب أنه ربح ألفا ثم قال غلطت ولان الاقرار أقوى
من البينة، ولو شهدت البينة فقال احلفوه لي مع بينته لم يستخلف كذا ههنا (والثانية) يستحلف وهو قول
الشافعي وأبي يوسف لأن العادة جارية بالاقرار قبل القبض فيحتمل صحة ما قاله فينبغي أن يستحلف
خصمه لنفى الاحتمال، ويفارق الاقرار البينة لوجهين (أحدهما) ان العادة جارية بالاقرار بالقبض ولم تجر
341

العادة بالشهادة على القبض قبله لأنها تكون شهادة زور (والثاني) ان انكاره مع الشهادة طعن في البينة
وتكذيب لها وفي الاقرار بخلافه ولم يذكر القاضي في المجرد غير هذا الوجه، وكذلك لو أقر انه
اقترض منه ألفا وقبضها أو قال له علي الف ثم قال ما كنت قبضتها وإنما أقررت لأقبضها فالحكم كذلك
ولأنه يمكن أن يكون قد أقر بقبض ذلك بناء على قول وكيله وظنه والشهادة لا تجوز إلا على اليقين، فأما
ان أقر أنه وهبه طعاما ثم قال ما أقبضتكه وقال المتهب بل أقبضتنيه فالقول قول الواهب لأن الأصل
عدم القبض، وان كانت في يد المتهب فقال أقبضتنيها فقال بل اخذتها منى بغير اذني فالقول قول الواهب
أيضا لأن الأصل عدم الإذن وان كانت حين الهبة في يد المتهب لم يعتبر اذن الواهب وإنما يعتبر مضي
مدة يتأتى القبض فيها وعلى من قلنا القول قوله منهما اليمين لما ذكرنا
(مسألة) قال (والا قرار بدين في مرض موته كالاقرار في الصحة إذا كان لغير وارث)
هذا ظاهر المذهب وهو قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم
على أن اقرار المريض في مرضه لغير الوارث جائز وحكى أصحابنا رواية أخرى انه لا يقبل لأنه اقرار
في مرض الموت أشبه الاقرار لوارث، وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى انه لا يقبل اقراره بزيادة
على الثلث لأنه ممنوع من عطية ذلك للأجنبي كما هو ممنوع من عطية الوارث فلا يصح اقراره بما لا يملك
342

عطيته بخلاف الثلث فما دون. ولنا انه إقرار غير متهم فيه فقبل كالاقرار في الصحة يحققه ان حالة المرض
أقرب إلى الاحتياط لنفسه وابراء ذمته وتحري الصدق فكان أولى بالقبول، وفارق الاقرار للوارث لأنه
متهم فيه على ما سنذكره
(فصل) فإن أقر لأجنبي بدين في مرضه وعليه دين ثبت ببينة أو قرار في صحته وفي المال سعة
لهما فهما سواء وان ضاق عن قضائهما فظاهر كلام الخرقي انهما سواء وهو اختيار التميمي وبه قال مالك
والشافعي وأبو ثور وذكر أبو عبيد أنه قول أكثر أهل المدينة لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال لم
يختص أحدهما برهن فاستويا كما لو ثبتا ببينة، وقال أبو الخطاب لا يحاص غرماء الصحة وقال القاضي هو
قياس المذهب لنص احمد في المفلس انه إذا أقر وعليه دين ببينة يبدأ بالدين الذي بالبينة وبهذا قال
النخعي والثوري وأصحاب الرأي لأنه أقر بعد تعلق الحق بتركته فوجب ان لا يشارك المقر له من
ثبت دينه ببينة كغريم المفلس الذي أقر له بعد الحجر عليه، والدليل على تعلق الحق بماله منعه من التبرع
ومن الاقرار لوارث ولأنه محجور عليه ولهذا لا تنفذ هباته وتبرعاته فلم يشارك من أقر له قبل الحجر
ومن ثبت دينه ببينة كالذي أقر له المفلس، وإن أقر لهما جميعا في المرض تساويا ولم يقدم السابق منهما لأنهما
استويا في الحال فأشبها غريمي الصحة
343

(مسألة) (قال وإن أقر لوارث لم يلزم باقي الورثة قبوله إلا ببينة)
وبهذا قال شريح وأبو هاشم وابن أذينة والنخعي ويحيى الأنصاري وأبو حنيفة وأصحابه وروي
ذلك عن القاسم وسالم وقال عطاء والحسن وإسحاق وأبو ثور يقبل لأن من صح الاقرار له في الصحة
صح في المرض كالأجنبي وللشافعي قولان كالمذهبين وقال مالك يصح إلا إذا لم يتهم ويبطل إن اتهم كمن له
بنت وابن عم فاقر لابنته لم يقبل وإن أقر لابن عمه قبل لأنه لا يتهم في أنه يزوي ابنته ويوصل المال إلى ابن
عمه وعلة منع الاقرار التهمة فاختص المنع بموضعها، ولنا أنه ايصال ماله إلى وارثه بقوله في مرض
موته فلم يصح بغير رضى بقية ورثته كهبته ولأنه محجور عليه في حقه فلم يصح إقراره له كالصبي في حق
جميع الناس وفارق الأجنبي فإن هبته له تصح وما ذكره مالك لا يصح فإن التهمة لا يمكن اعتبارها بنفسها فوجب
اعتبارها بمظنتها وهو الإرث وكذلك اعتبر في الوصية والتبرع وغيرهما
(فصل) وان أقر لامرأته بمهر مثلها أو دونه صح في قولهم جميعا لا نعلم فيه مخالفا إلا الشعبي قال لا يجوز
إقراره لها لأنه إقرار لوارث، ولنا أنه إقرار بما تحقق سببه وعلم وجوده ولم تعلم البراءة منه فأشبه
ما لو كان عليه دين ببينة فأقر بأنه لم يوفه وكذلك أن اشترى من وارثه شيئا فأقر له بثمن مثله لأن
القول قول المقر له في أنه لم يقبض ثمنه، وإن أقر لامرأته بدين سوى الصداق لم يقبل وإن أقر لها
344

ثم أبانها ثم رجع تزوجها ومات في مرضه لم يقبل إقراره لها وقال محمد بن الحسن يقبل لأنها صارت إلى
حال لا يتهم فيها فأشبه ما لو أقر المريض ثم برأ، ولنا أنه إقرار لوارث في مرض الموت أشبه ما لو لم يبنها، وفارق
ما إذا صح من مرضه لأنه لا يكون مرض الموت
(فصل) وإن أقر لوارث فصار غير وارث كرجل أقر لأخيه ولا ولد له ثم ولد له ابن لم يصح
إقراره له وإن أقر لغير وارث ثم صار وارثا صح إقراره له نص عليه أحمد في رواية ابن منصور إذا
أقر لامرأة بدين في المرض ثم تزوجها جاز إقراره لأنه غير متهم وحكي له قول سفيان في رجل له
ابنان فأقر لأحدهما بدين في مرضه ثم مات الابن وترك ابنا والأب حي ثم مات بعد ذلك جاز إقراره
فقال أحمد لا يجوز وبهذا قال عثمان البتي وذكر أبو الخطاب رواية أخرى في الصورتين مخالفة لما قلنا
وهو قول سفيان الثوري والشافعي لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث فكان الاعتبار فيه بحالة الموت
كالوصية، ولنا أنه قول تعتبر فيه التهمة فاعتبرت حال وجوده دون غيره كالشهادة ولأنه إذا أقر لغير
345

وارث ثبت الاقرار وصح لوجوده من أهله خاليا عن تهمة فيثبت الحق به ولم يوجد مسقط له فلا يسقط
وإذا أقر لوارث وقع باطلا لاقتران التهمة به فلا يصح بعد ذلك ولأنه اقرار لوارث فلم يصح كما لو
استمر الميراث وان أقر لغير وارث صح واستمر كما لو استمر عدم الإرث أما الوصية فإنها عطية بعد الموت
فاعتبرت فيها حالة الموت بخلاف مسئلتنا
(فصل) وان أقر لوارث وأجنبي بطل في حق الوارث وصح في حق الأجنبي ويحتمل أن
لا يصح في حق الأجنبي كما لو شهد بشهادة يجر إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل وكما لو شهد
لابنه وأجنبي، وقال أبو حنيفة ان أقر لهما بدين من الشركة فاعترف الأجنبي بالشركة صح الاقرار
لهما وان جحدها صح له دون الوارث، ولنا أنه أقر لوارث وأجنبي فيصح للأجنبي دون الوارث كما
لو أقر بلفظين أو كما لو جحد الأجنبي الشركة، ويفارق الاقرار الشهادة لقوة الا قرار ولذلك لا تعتبر فيه
العدالة، ولو أقر بشئ له فيه نفع كالاقرار بنسب موسر قبل ولو أقر بشئ يتضمن دعوى على غيره
346

قبل فيما عليه دون ماله كما لو قال لامرأته خلعتك على الف بانت باقراره والقول قولها في نفي العوض
وإن قال لعبده اشتريت نفسك مني بألف فكذلك.
(فصل) ويصح إقرار المريض بوارث في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه إقرار لوارث
فأشبه الاقرار له بمال والأول أصح لأنه عند الاقرار غير وارث فصح كما لو لم يصر وارثا ويمكن بناء
هذه المسألة على ما إذا أقر لغير وارث ثم صار وارثا فمن صحح الاقرار ثم صححه ههنا ومن أبطله
أبطله، وإن ملك ابن عمه فأقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته عتق ولم يرثه لأن
توريثه يوجب إبطال الاقرار بحريته وإذا بطلت الحرية سقط الإرث فصار توريثه سببا إلى إسقاط
توريثه فأسقطنا التوريث وحده، ويحتمل أن يرث لأنه حين الاقرار غير وارث فصح إقراره له كالمسألة قبلها.
(فصل) ويصح الاقرار من المريض باحبال الأمة لأنه يملك ذلك فملك الاقرار به وكذلك كل
ما ملكه ملك الاقرار به فإذا أقر بذلك ثم مات فإن بين انه استولدها في ملكه فولده حر الأصل وأمه
347

أم ولد تعتق من رأس المال وان قال من نكاح أو وطئ شبهة لم تصر الأمة أم ولد وعتق الولد فإن
كان من نكاح فعليه الولاء لأنه مسه رق وان قال من وطئ شبهة لم تصر الأمة أم ولد وان لم يتبين
السبب فالأمة مملوكة لأن الأصل الرق ولم يثبت سبب الحرية ويحتمل ان تصير أم ولد لأن الظاهر استيلادها
في ملكه من قبل انها مملوكته والولادة موجودة ولا ولاء على الولد لأن الأصل عدمه فلا يثبت الا بدليل.
(فصل) في الألفاظ التي يثبت بها الاقرار إذا قال: له علي الف، أو قال: له لي عليك الف،
فقال نعم أو أجل أو صدقت أو لعمري أو أنا مقر به أو بما ادعيت أو بدعواك، كان مقرا في جميع
ذلك لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق قال الله تعالى (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قالوا نعم)
وان قال أليس لي عندك الف؟ قال بلى، كان اقرارا صحيحا، لأن بلى جواب للسؤال بحرف النفي
قال الله تعالى (ألست بربكم قالوا بلى) وان قال لك علي الف في علمي أو فيما أعلم كان مقرا به لأن ما في
علمه لا يحتمل الا الوجوب وان قال اقضني الألف الذي لي عليك قال نعم، كان مقرا به لأنه تصديق
348

لما ادعاه، وان قال اشتر عبدي هذا أو اعطني عبدي هذا فقال نعم كان اقرارا لما ذكرنا، وإن قال لك
علي الف إن شاء الله تعالى كان مقرا به نص عليه احمد وقال أصحاب الشافعي ليس باقرار لأنه علق
إقراره على شرط فلم يصح كما لو علقه على مشيئة زيد ولان ما علق مشيئة الله تعالى لا سبيل إلى معرفته.
ولنا انه وصل إقراره بما يرفعه كله ولا يصرفه إلى غير الاقرار فلزمه ما أقربه وبطل ما وصله
به كما لو قال له علي الف إلا ألفا ولأنه عقب الاقرار بما لا يفيد حكما آخر ولا يقتضي رفع الحكم
أشبه ما لو قال: له علي الف في مشيئة الله تعالى، وإن قال: له علي الف إلا أن يشاء الله صح الاقرار
لأنه أقر ثم علق رفع الاقرار على أمر لا يعلم فلم يرتفع وإن قال: لك علي الف ان شئت أو ان شاء
زيد لم يصح الاقرار، وقال القاضي يصح لأنه عقبه بما يرفعه فصح الاقرار دون ما يرفعه كاستثناء الكل
وكما لو قال إن شاء الله.
ولنا انه علقه على شرط يمكن علمه فلم يصح كما لو قال: له علي الف ان شهد بها فلان وذلك لأن
349

الاقرار اخبار بحق سابق فلا يتعلق على شرط مستقبل، ويفارق التعليق على مشيئة الله تعالى فإن مشيئة
الله تعالى تذكر في الكلام تبركا وصلة وتفويضا إلى الله تعالى لا للاشتراط كقول الله تعالى (لتدخلن
المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم) وقد علم الله أنهم سيد خلون بغير شك ويقول الناس
صلينا إن شاء الله تعالى مع تيقنهم صلاتهم، بخلاف مشيئة الآدمي (الثاني) ان مشيئة الله تعالى لاتعلم إلا
بوقوع الامر فلا يمكن وقف الامر على وجودها، ومشيئة الآدمي يمكن العلم بها فيمكن جعلها شرطا
بتوقف الامر على وجودها، والماضي لا يمكن وقفه فيتعين حمل الامر ههنا على المستقبل فيكون
وعدا لا إقرارا، وان قال بعتك إن شاء الله تعالى أو زوجتك إن شاء الله تعالى فقال أبو إسحاق بن
شاقلا لا أعلم خلافا عنه في أنه إذا قيل له قبلت هذا النكاح؟ فقال نعم إن شاء الله تعالى ان النكاح
وقع به قال أبو حنيفة ولو قال بعتك بألف إن شئت فقال قد شئت وقبلت صح لأن هذا الشرط من
موجب العقد ومقتضاه فإن الايجاب إذا وجد من البائع كان القبول إلى مشيئة المشتري واختياره وان
350

قال: له علي الفان ان قدم فلان لم يلزمه لأنه لم يقربها في الحال ومالا يلزمه في الحال لا يصير واجبا
عند وجود الشرط، وإن قال: إن شهد فلان علي لك بألف صدقته لم يكن إقرارا لأنه يجوز ان
يصدق الكاذب، وان قال إن شهد بها فلان فهو صادق احتمل أن لا يكون إقرارا لأنه علقه على شرط
فأشبهت التي قبلها واحتمل أن يكون إقرارا في الحال لأنه يتصور صدقه إذا شهد بها إلا أن تكون
ثابتة في الحال وقد أقر بصدقه وإن قال له علي الف إن شهد بها فلان لم يكن إقرارا لأنه معلق على شرط.
(فصل) وان قال: لي عليك الف فقال أنا أقر لم يكن إقرارا لأنه وعد بالاقرار في المستقبل
وان قال لا أنكر لم يكن اقرارا لأنه لا يلزم من عدم الانكار الاقرار فإن بينهما قسما آخر وهو السكوت
عنهما وان قال لا أنكر أن تكون محقا لم يكن اقرارا لذلك وان قال أنا مقر ولم يزد احتمل أن يكون
مقرا لأن ذلك عقيب الدعوى فينصرف إليها وكذلك أن قال أقررت قال الله تعالى (قال أقررتم وأخذتم
على ذلكم إصري؟ قالوا أقررنا) ولم يقولوا أقررنا بذلك ولا زادوا عليه فكان منهم اقرارا واحتمل
351

أن لا يكون مقرار لأنه يحتمل أن يريد غير ذلك مثل أن يريد أنا مقر بالشهادة أو ببطلان دعواك
وان قال لعل أو عسى لم يكن مقرا لأنهما للترجي، وان قال أظن أو أحب أو أقدر لم يكن اقرارا
لأن هذه الألفاظ تستعمل للشك، وان قال خذ أو اتزن لم يكن مقرا لأنه يحتمل خذا الجواب أو اتزن
شيئا آخر، وان قال خذها أو أتزنها أو هي صحاح ففيه وجهان (أحدهما) ليس باقرار لأن الصفة
ترجع إلى المدعى ولم يقر بوجوبه ولأنه يجوز أن يعطيه ما يدعيه من غير أن يكون واجبا عليه فأمره
352

بأخذها أولى أن لا يلزم منه الوجوب (والثاني) يكون اقرارا لأن الضمير يعود إلى ما تقدم
وان قال له علي الف إذا جاء رأس الشهر أو إذا جاء رأس الشهر فله علي الف فقال أصحابنا الأول
اقرار والثاني ليس باقرار وهذا منصوص الشافعي لأنه في الأول بدأ بالاقرار والثاني ليس باقرار
ثم عقبه بما لا يقتضي رفعه لأن قوله إذا جاء رأس الشهر يحتمل أنه أراد المحل فلا يبطل الاقرار بأمر
محتمل وفي الثاني بدأ بالشرط فعلق عليه لفظا يصلح للاقرار ويصلح للوعد فلا يكون اقرارا مع
الاحتمال ويحتمل أنه لا فرق بينهما لأن تقديم الشرط وتأخيره سواء فيكون فيهما جميعا وجهان
353

كتاب العارية
(مسألة) قال (والعارية مضمونة وان لم يتعد فيها المستعير)
العارية إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال مشتقة من عار الشئ إذا ذهب وجاء ومنه قيل
للبطال عيار لتردده في بطالته، والعرب تقول اعاره وعاره مثل أطاعه وطاعة، والأصل فيها الكتاب
والسنة والاجماع: أما الكتاب فقول الله تعالى (ويمنعون الماعون) روي عن ابن عباس وابن مسعود
أنهما قالا العواري وفسرها ابن مسعود فقال القدر والميزان والدلو، وأما السنة فما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة عام حجة الوداع (العارية مؤداة والدين مقضي والمنحة مردودة والزعيم
غارم) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وروي صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه
أدراعا يوم حنين فقال اغصبا يا محمد؟ قال (بل عارية مضمونة) رواه أبو داود،
واجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها، ولأنه لما جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع ولذلك
صحت الوصية بالأعيان والمنافع جميعا. إذا ثبت هذا فإن العارية مندوب إليها وليست واجبة في قول أكثر
أهل العلم، وقيل هي واجبة للآية ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من صاحب إبل
لا يؤدي حقها) الحديث قيل يا رسول الله وما حقها؟ قال (إعارة دلوها وإطراق فحلها ومنحة لبنها يوم
وردها) فذم الله تعالى مانع العارية وتوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكر في خبره
354

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) رواه ابن المنذر وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس في المال حق سوى الزكاة) وفي حديث الاعرابي الذي سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما ذا فرض الله علي من الصدقة؟ قال (الزكاة) فقال هل علي غيرها؟ قال (لا الا ان تطوع
شيئا) أو كما قال، والآية فسرها ابن عمر والحسن البصري بالزكاة وكذلك زيد بن أسلم وقال
عكرمة إذا جمع ثلاثتها فله الويل إذا سها عن الصلاة وراءى ومنع الماعون. ويجب رد العارية ان كانت
باقية بغير خلاف، ويجب ضمانها ان كانت تالفة تعدى فيها المستعير أو لم يتعد روي ذلك عن ابن عباس
وأبي هريرة واليه ذهب عطاء والشافعي وإسحاق، وقال الحسن والنخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز
والثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي وابن شبرمة هي أمانة لا يجب ضمانها الا بالتعدي لما روى
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على المستعير غير المغل ضمان) ولأنه
قبضها باذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة) قالوا وقول النبي صلى الله عليه وسلم (العارية مؤداة) يدل على أنها
أمانة لقول الله تعالى (ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان (بل عارية مضمونة) وروى الحسن عن سمرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (على اليد ما اخذت حتى تؤديه) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
غريب ولأنه اخذ ملك غيره لنفع نفسه منفردا بنفعه من غير استحقاق ولا اذن في الاتلاف
355

فكان مضمونا كالغاصب والمأخوذ على وجه السوم وحديثهم يرويه عمر بن عبد الجبار
عن عبيد بن حسان عن عمرو بن شعيب، وعمر وعبيد ضعيفان قال الدارقطني ويحتمل انه أراد ضمان
المنافع والاجزاء وقياسهم منقوض بالمقبوض على وجه السوم.
(فصل) وإن شرط نفي الضمان لم يسقط وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حفص العكبري يسقط،
قال أبو الخطاب أومأ إليه احمد وهو قول قتادة والعنبري لأنه لو أذن في إتلافها لم يجب ضمانها فكذلك
إذا أسقط عنه ضمانها وقيل بل مذهب قتادة والعنبري انها لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها فيجب لقول النبي
صلى الله عليه وسلم لصفوان (بل عارية مضمونة)
ولنا أن كل عقد اقتضى الضمان لم يغيره الشرط كالمقبوض بيع صحيح أو فاسد وما اقتضى الأمانة
فكذلك كالوديعة والشركة والمضاربة والذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم اخبار بصفة العارية وحكمها، وفارق
ما إذا أذن في الاتلاف فإن الاتلاف فعل يصح الاذن فيه ويسقط حكمه إذ لا ينعقد موجبا للضمان
مع الاذن فيه، وإسقاط الضمان ههنا نفي للحكم مع وجود سببه وليس ذلك للمالك ولا يملك الاذن فيه.
(فصل) وإذا انتفع بها وردها على صفتها فلا شئ عليه لأن المنافع مأذون في إتلافها فلا يجب
عوضها، وان تلف شئ من أجزائها التي لا تذهب بالاستعمال فعليه ضمانها لأن ما ضمن جملته ضمنت أجزاؤه
كالمغصوب، وأما أجزاؤها التي تذهب بالاستعمال كخمل المنشفة والقطيفة وخف الثوب بلبسه ففيه
356

وجهان (أحدهما) يجب ضمانه لأنها أجزاء عين مضمونة فكانت مضمونة كما لو كانت مغصوبة ولأنها
أجزاء يجب ضمانها لو تلفت العين قبل استعمالها فتضمن إذا تلفت وحدها كسائر الاجزاء (والثاني)
لا يضمنها وهو قول الشافعي لأن الاذن في الاستعمال تضمنه فلا يجب ضمانه كالمنافع وكما لو أذن في
اتلافها صريحا، وفارق ما إذا تلفت العين قبل استعمالها لأنه لا يمكن تمييزها من العين ولأنه إنما اذن في
اتلافها على وجه الانتفاع فإذا تلفت العين قبل ذلك فقد فأنت؟؟ على غير الوجه الذي أذن فيه فضمنها
كما لو أجر العين المستعارة فإنه يضمن منافعها، فإذا قلنا لا يضمن الاجزاء فتلفت العين بعد ذهابها
بالاستعمال فإنها تقوم حال التلف لأن الاجزاء التالفة تلفت غير مضمونة لكونها مأذونا في اتلافها
فلا يجوز تقويمها عليه وإن قلنا يجب ضمان الاجزاء قومت العين قبل تلف أجزائها، وان تلفت العين
قبل ذهاب أجزائها ضمنها كلها باجزائها، وكذلك لو تلفت الاجزاء باستعمال غير مأذون فيه مثل أن
يعيره ثوبا ليلبسه فحمل فيه ترابا فإنه يضمن نقصه ومنافعه لأنه تلف بتعديه وإن تلف بغير تعد منه
ولا استعمال كتلفها لطول الزمان عليها ووقوع نار عليها فينبغي أن يضمن ما تلف منها بالنار ونحوها
لأنه تلف لم يتضمنه الاستعمال المأذون فيه فأشبه تلفها بفعل غير مأذون فيه، وما تلف بمرور الزمان
عليه يكون حكمه حكم ما تلف بالاستعمال لأنه تلف بالامساك المأذون فيه فأشبه تلفه بالفعل المأذون فيه.
(فصل) فأما ولد العارية فلا يجب ضمانه في أحد الوجهين لأنه لم يدخل في الإعارة فلم يدخل
357

في الضمان ولا فائدة للمستعير فيه فأشبه الوديعة، ويضمنه في الآخر لأنه ولد عين مضمونة فيضمن
كولد المغصوبة والأول أصح فإن ولد المغصوبة لا يضمن إذا لم يكن مغصوبا وكذلك ولد العارية
إذا لم يوجد مع أمه وإنما يضمن ولد المغصوبة إذا كان مغصوبا فلا أثر لكونه ولدا لها.
(فصل) ويجب ضمان العين بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال فإن لم تكن مثلية ضمنها بقيمتها
يوم تلفها الا على الوجه الذي يجب فيه ضمان الاجزاء التالفة بالانتفاع المأذون فيه فإنه يضمنها بقيمتها
قبل تلف أجزائها ان كانت قيمتها حينئذ أكثر وإن كانت أقل ضمنها بقيمتها يوم تلفها على الوجهين جميعا
(فصل) وان كانت العين باقية فعلى المستعير ردها إلى المعير أو وكيله في قبضها ويبرأ بذلك من
ضمانها وان ردها إلى المكان الذي أخذها منه أو إلى ملك صاحبها لم يبرأ من ضمانها وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة يبرأ لأنها صارت كالمقبوضة فإن رد العواري في العادة يكون إلى أملاك أربابها فيكون
مأذونا فيه من طريق العادة.
ولنا أنه لم يردها إلى مالكها ولا نائبه فيها فلم يبرأ منها كما لو دفعها إلى أجنبي وما ذكره يبطل
بالسارق إذا رد المسروق إلى الحرز ولا تعرف العادة التي ذكرها، وان ردها إلى من جرت عادته
بجريان ذلك على يديه كزوجته المتصرفة في ماله ورد الدابة إلى سائسها فقياس المذهب انه يبرأ قاله
القاضي لأن احمد قال في الوديعة إذا سلمها المودع إلى امرأته لم يضمنها ولأنه مأذون في ذلك عرفا
أشبه ما لو أذن فيه نطقا، ومؤنة الرد على المستعير لقول النبي صلى الله عليه وسلم (العارية مؤداة) وقوله (على اليد
358

ما أخذت حتى تؤديه) وعليه ردها إلى الموضع الذي أخذها منه الا ان يتفقا على ردها إلى غيره لأن
ما وجب رده لزم رده إلى موضعه كالمغصوب.
(فصل) ولا تصح العارية الا من جائز التصرف لأنه تصرف في المال فأشبه التصرف بالبيع وتعقد
بكل فعل أو لفظ يدل عليها مثل قوله أعرتك هذا أو يدفع إليه شيئا ويقول أبحتك الانتفاع به أو خذ
هذا فانتفع به أو يقول أعرني هذا أو أعطنيه أركبه أو احمل عليه ويسلمه إليه وأشباه هذا لأنه إباحة
للتصرف فصح بالقول والفعل الدال عليه كإباحة الطعام بقوله وتقديمه إلى الضيف
(فصل) وتجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها على الدوام كالدور والعقار والعبيد
والجواري والدواب والثياب والحلي للبس والفحل للضراب والكلب للصيد وغير ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم
استعار أدراعا؟؟ وذكر إعارة دلوها وفحلها وذكر ابن مسعود عارية القدر والميزان فيثبت الحكم في هذه
الأشياء وما عداها مقيس عليها إذا كان في معناها ولان ما جاز للمالك استيفاؤه من المنافع ملك إباحته
إذا لم يمنع منه مانع كالثياب ولأنها أعيان تجوز اجارتها فجازت اعارتها كالثياب ويجوز استعارة الدراهم
والدنانير ليزن بها، فإن استعارها لينفقها فهذا قرض وهذا قول أصحاب الرأي وقيل ليس هذا
جائزا ولا تكون العارية في الدنانير وليس له ان يشتري بها شيئا، ولنا أن هذا معنى القرض فانعقد
القرض به كما لو صرح به
359

(فصل) ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر لأنه لا يجوز تمكينه من استخدامه فلم تجز اعارته لذلك
ولا إعارة الصيد لمحرم لأنه لا يجوز له امساكه ولا إعارة المرأة الجميلة لرجل غير محرمها إن كان يخلو بها
أو ينظر إليها لأنه لا يؤمن عليها، وتجوز اعارتها لامرأة ولذي محرمها، ولا تجوز إعارة العين لنفع محرم كاعارة
الدار لمن يشرب فيها الخمر أو يبيعه فيها أو يعصي الله تعالى فيها ولا إعارة عبده للزمر أو ليسقيه الخمر أو يحملها
له أو يعصرها أو نحو ذلك، ويكره أن يستعير والديه لخدمته لأنه يكره له استخدامهما فكره استعارتهما لذلك
(فصل) وتجوز الإعارة مطلقا ومقيدا لأنها إباحة فجاز فيها ذلك كإباحة الطعام ولان الجهالة إنما تؤثر
في العقود اللازمة فإذا أعاره شيئا مطلقا أبيح له الانتفاع به في كل ما هو مستعد له من الانتفاع به فإذا
أعاره أرضا مطلقا فله أن يزرع فيها ويغرس ويبني ويفعل فيها كل ما هي معدة له من الانتفاع لأن الاذن
مطلق، وان أعاره للغراس أو للبناء فله أن يزرع فيها ما شاء لأن ضرره دون ضررهما فكأنه استوفى بعض
ما أذن له فيه، وان استعارها للزرع لم يغرس ولم يبن لأن ضررهما أكثر فلم يكن الاذن في القليل
اذنا في الكثير وان استعارها للغراس أو للبناء ملك المأذون فيه منهما دون الآخر لأن ضررهما مختلف
فإن ضرر الغراس في باطن الأرض لانتشار العروق فيها وضرر البناء في ظاهرها فلم يكن الاذن في
أحدهما اذنا في الآخر، وان استعارها لزرع الحنطة فله زرعها وزرع ما هو أقل ضررا منها كالشعير
والباقلا والعدس، وله زرع ما ضرره كضرر الحنطة لأن الرضى بزراعة شئ رضى بضرره وما هو دونه
360

وليس له زرع ما هو أكثر ضررا منه كالذرة والدخن والقطن لأن ضرره أكثر وحكم إباحة الانتفاع
في العارية كحكم الانتفاع في الإجارة فيما له أن يستوفيه وما يمنع منه وسنذكر في الإجارة تفصيل ذلك
إن شاء الله تعالى. وإن أذن له في زرع مرة لم يكن له أن يزرع أكثر منها وان أذن له في غرس شجرة
فانقلعت لم يكن له غرس أخرى وكذلك أن اذن له في وضع خشبة على حائط فانكسرت لم يملك وضع
أخرى لأن الاذن إذا اختص بشئ لم يتجاوزه
(فصل) وان استعار شيئا فله استيفاء منفعته بنفسه وبوكيله لأن وكيله نائب عنه ويده كيده وليس
له أن يؤجره لأنه لم يملك المنافع فلا يصح أن يملكها ولا نعلم في هذا خلافا، ولا خلاف بينهم أن المستعير
لا يملك العين، وأجمعوا على أن للمستعير استعمال المعار فيما أذن له فيه وليس له أن يعيره غيره وهذا
أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقالوا في الآخر له ذلك وهو قول أبي حنيفة لأنه يملكه على حسب
ما ملكه فجاز كما للمستأجر أن يؤجر، قال أصحاب الرأي إذا استعار ثوبا ليلبسه هو فأعطاه غيره
فلبسه فهو ضامن وإن لم يسم من يلبسه فلا ضمان عليه، وقال مالك إذا لم يعمل بها الا الذي كان
يعمل بها الذي أعيرها فلا ضمان عليه، ولنا أن العارية إباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها غيره كإباحة الطعام
وفارق الإجارة لأنه ملك الانتفاع على كل وجه فملك أن يملكها وفي العارية لم يملكها إنما ملك استيفاءها
على وجه ما أذن له فأشبه من أبيح له أكل الطعام، فعلى هذا ان أعار فللمالك الرجوع بأجر المثل وله
361

أن يطالب من شاء منهما لأن الأول سلطه غيره على أخذ مال غيره بغير اذنه والثاني استوفاه بغير اذنه
فإن ضمن الأول رجع على الثاني لأن الاستيفاء حصل منه فاستقر الضمان عليه وان ضمن الثاني لم
يرجع على الأول الا أن يكون الثاني لم يعلم بحقيقة الحال فيحتمل ان يستقر الضمان على الأول لأنه غر
الثاني ودفع إليه العين على أنه يستوفي منافعها بغير عوض وان تلفت العين في يد الثاني استقر الضمان
عليه بكل حال لأنه قبضها على أن تكون مضمونة عليه فإن رجع على الأول رجع الأول على الثاني
وان رجع على الثاني لم يرجع على أحد
(فصل) وان اعاره شيئا واذن له في اجارته مدة معلومة أو في إعارته مطلقا أو مدة جاز لأن الحق
لمالكه فجاز ما اذن فيه وليس له الرجوع بعد عقد الإجارة حتى ينقضي لأن عقد الإجارة لازم
وتكون العين مضمونة على المستعير غير مضمونة على المستأجر لأن عقد الإجارة لا يوجب ضمانا وان
أجره بغير اذن لم تصح الإجارة ويكون على المستأجر الضمان وللمالك تضمين من شاء منهما على ما
ذكرنا في العارية
(فصل) ويجوز أن يستعير عبدا يرهنه قال ابن المنذر أجمعوا على أن الرجل إذا استعار من الرجل
شيئا يرهنه عند رجل على شئ معلوم إلى وقت معلوم فرهن ذلك على ما أذن له فيه أن ذلك جائز
وذلك لأنه استعاره ليقضي به حاجته فصح كسائر العواري ولا يعتبر العلم بقدر الدين وجنسه لأن
362

العارية لا يعتبر فيها العلم وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي، وقال الشافعي يعتبر ذلك لأن الضرر يختلف
بذلك. ولنا أنها عارية لجنس من النفع فلم تعتبر معرفة قدره كعارية الأرض للزرع، ولا يصير المعير
ضامنا للدين وقال الشافعي في أحد قوليه يصير ضامنا له في رقبة عبده لأن العارية ما يستحق به منفعة
العين والمنفعة ههنا للمالك فدل على أنه ضمان
ولنا أنه أعاره ليقضي منه حاجته فلم يكن ضامنا كسائر العواري وإنما يستحق بالعارية النفع المأذون
فيه وما عداه من النفع فهو لمالك العين، وان عين المعير قدر الدين الذي يرهنه به وجنسه أو محلا تعين
لأن العارية تتعين بالتعيين فإن خالفه في الجنس لم يصح لأنه عقد لم يأذن له فيه أشبه ما لو لم يأذن في رهنه
وكذلك إذا أذن له في محل فخالفه فيه لأنه إذا أذن له في رهنه بدين مؤجل فرهنه بحال فقد لا يجد
ما يفكه به في الحال، وان أذن في رهنه بحال فرهنه بمؤجل فلم يرض أن يحال بينه وبين عبده إلى
أجل لم يصح، وان رهنه بأكثر مما قدره له لم يصح لأن من رضي بقدر من الدين لم يلزم أن يرضى بأكثر منه وان رهنه بأنقص منه جاز لأن من رضي بعشرة رضي بما دونها عرفا فأشبه من أمر بشراء
شئ بثمن فاشتراه بدونه وللمعير مطالبة الراهن بفكاك الرهن في الحال سواء كان بدين حال أو مؤجل
لأن للمعير الرجوع في العارية متى شاء وان حل الدين فلم يفكه الراهن جاز بيعه في الدين لأن ذلك
مقتضى الرهن فإذا بيع في الدين أو تلف رجع السيد على الراهن بقيمته لأن العارية تضمن بقيمتها
363

وان تلف بغير تفريط فلا شئ على المرتهن لأن الرهن لا يضمن من غير تعد، وان استعار عبدا
من رجلين فرهنه بمائة ثم قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما لم تخرج لأنه رهنه بجميع الدين
في صفقة فلا ينفك بعضه بقضاء بعض الدين كما لو كان العبد لواحد
(فصل) وتجوز العارية مطلقة ومؤقتة لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام وللمعير الرجوع في
العارية أي وقت شاء سواء كانت مطلقة أو مؤقتة ما لم يأذن في شغله بشئ يتضرر بالرجوع فيه
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك ان كانت مؤقتة فليس له الرجوع قبل الوقت وان لم
تؤقت له مدة لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها لأن المعير قد ملكه المنفعة في مدة وصارت العين في يده
بعقد مباح فلم يملك الرجوع فيها بغير اختيار المالك كالعبد الموصى بخدمته والمستأجر.
ولنا أن المنافع المستقبلة لم تحصل في يده فلم يملكها بالإعارة كما لو لم تحصل العين في يده، وأما العبد
الموصى بخدمته فللموصي الرجوع ولم يملك الورثة الرجوع لأن التبرع من غيرهم وأما المستأجر فإنه
مملوك بعقد معاوضة فيلزم بخلاف مسئلتنا، ويجوز للمستعير الرد متى شاء بغير خلاف نعلمه لأنه إباحة
فكان لمن أبيح له تركه كإباحة الطعام.
(فصل) وإذا أطلق؟؟ المدة في العارية فله أن ينتفع بها ما لم يرجع وإن وقتها فله أن ينتفع ما لم رجع
أو ينقضي الوقت لأنه استباح ذلك بالاذن ففيما عدا محل الاذن يبقى على أصل التحريم، فإن كان
364

المعار أرضا لم يكن له أن يغرس ولا يبني ولا يزرع بعد الوقت أو الرجوع فإن فعل شيئا من ذلك لزمه
قلع غرسه وبنائه وحكمه حكم الغاصب في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) وعليه أجر
ما استوفاه من نفع الأرض على وجه العدوان ويلزمه القلع وتسوية الحفر ونقص الأرض وسائر
أحكام الغصب لأنه عدوان.
(فصل) فإن أعاره شيئا لينتفع به انتفاعا يلزم من الرجوع في العارية في أثنائه ضرر بالمستعير
لم يجز له الرجوع لأن الرجوع يضر بالمستعير فلم يجز له الاضرار به مثل أن يعيره لوحا يرقع به
سفينته فرقعها به ولجح بها في البحر لم يجز الرجوع ما دامت في البحر وله الرجوع قبل دخولها في
البحر وبعد الخروج منه لعدم الضرر فيه، وإن أعاره أرضا ليدفن فيها فله الرجوع ما لم يدفن فيها
فإذا دفن لم يكن له الرجوع ما لم يبل الميت، وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه جاز كما تجوز
إعارة الأرض للبناء والغراس وله الرجوع ما لم يضعه وبعد وضعه ما لم يبن عليه لأنه لا ضرر فيه، فإن
بنى عليه لم يجز الرجوع لما في ذلك من هدم البناء، وإن قال أنا أدفع إليك أرش ما نقص بالقلع لم يلزم
المستعير ذلك لأنه إذا قلعه انقلع ما في ملك المستعير منه ولا يجب على المستعير قلع شئ من ملكه بضمان
القيمة وإن انهدم الحائط وزال الخشب عنه أو أزاله المستعير باختياره لم يملك إعادته سواء بنى الحائط
365

بآلته أو بغيرها لأن العارية لا تلزم وإنما امتنع الرجوع قبل انهدامه لما فيه من الضرر بالمستعير بإزالة
المأذون في وضعه وقد زال ذلك وكذلك إذا سقط الخشب؟؟ والحائط بحاله، وإن أعاره أرضا لزراعة
شئ فله الرجوع ما لم يزرع فإذا زرع لم يملك الرجوع فيها إلى أن ينتهي الزرع فإن بذل له قيمة
الزرع ليملكه لم يكن له ذلك نص عليه احمد لأن له وقتا ينتهي إليه فإن كان مما يحصد قصيلا فله الرجوع
في وقت امكان حصاده لعدم الضرر فيه وإن لم يكن كذلك لم يكن له الرجوع حتى ينتهي، وإن أذن له
في البناء والغراس فيها فله الرجوع قبل قلعه فإذا غرس وبنى فللمالك الرجوع فيما بين الغراس والبناء
لأنه لم يتعلق به ملك المستعير ولا ضرر عليه في الرجوع منها فأشبه ما لو لم يبن في الأرض شيئا ولم يغرس
فيها ثم إن اختار المستعير أخذ بنائه وغراسه فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله ولا يلزمه تسوية الحفر،
ذكره القاضي، لأن المستعير رضي بذلك حيث أعاره مع علمه بان له قلع غرسه، ويحتمل أن عليه
تسوية الحفر لأن القلع باختياره فإنه لو امتنع منه لم يجبر عليه فلزمه تسوية الحفر كما لو خرب أرضه
التي لم يستعرها، وإن أبى القلع فبذل له المعير ما ينقص بالقلع أو قيمة غراسه وبنائه قائما ليأخذه المعير
أجبر المستعير عليه لأنه رجوع في العارية من غير اضرار، وإن قال المستعير أنا أدفع قيمة الأرض
لتصير لي لم يكن له لأن الغراس تابع والأرض أصل ولذلك يتبعها الغراس والبناء في البيع ولا تتبعهما
وبهذا كله قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يطالب المستعير بالقلع من غير ضمان إلا أن يكون أعاره
مدة معلومة فرجع فيها قبل انقضائها لأن المعير لم يعره فكان عليه القلع كما لو شرطه عليه
366

ولنا أنه بنى وغرس باذن المعير من غير شرط القلع فلم يلزمه القلع من غير ضمان كما لو طالبه قبل
انقضاء الوقت وقولهم لم يعره ممنوع فإن الغراس والبناء يراد للتبقية وتقدير المدة ينصرف إلى ابتدائه
كأنه قال له: لا تغرس بعد هذه المدة فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النقص وامتنع المستعير
من القلع ودفع الأجرة لم يقلع لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان والاذن فيما يبقى على
الدوام وتضر إزالته رضا بالابقاء وقول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) يدل بمفهومه
على أن العرق الذي ليس بظالم له حق فعند ذلك أن اتفقا على البيع بيعت الأرض بغراسها ودفع
إلى كل واحد منهما قدر حقه فيقال كم قيمة الأرض غير مغروسة ولا مبنية فإذا قيل عشرة قلنا وكم تساوي
مغروسة ومبنية؟ فإن قالوا خمسة عشر قلنا فللمعير ثلثا الثمن وللمستعير ثلثه وان امتنعا عن البيع بقيا على حالهما
وللمعير دخول أرضه كيف شاء والانتفاع بها بمالا يضر الغراس والبناء ولا ينتفع بهما وليس لصاحب
الغراس والبناء الدخول إلا لحاجة مثل السقي واصلاح الثمرة لأن الاذن في الغراس اذن فيما يعود
بصلاحه وأخذ ثماره وسقيه وليس له دخولها للتفرج لأنه قد رجع في الاذن له ولكل واحد منهما بيع
ما يختص به من الملك منفردا فيكون للمشتري مثل ما كان لبائعه وقال بعض أصحاب الشافعي ليس
للمستعير بيع الشجر لأن ملكه فيه غير مستقر بدليل أن للمعير أخذه متى شاء بقيمته قلنا عدم استقراره
لا يمنع بيعه بدليل الشقص المشفوع والصداق قبل الدخول، وفي جميع هذه المسائل متى كان المعير
367

شرط على المستعير القلع عند رجوعه ورد العارية غير مشغولة لزمه ذلك، لأن المسلمين على شروطهم
ولان العارية مقيدة غير مطلقة فلم تتناول ما عدا المقيد لأن المستعير دخل في العارية راضيا بالتزام
الضرر الداخل عليه بالقلع وليس على صاحب الأرض ضمان نقصه ولا نعلم في هذا خلافا، واما تسوية
الحفر الحاصلة بالقلع فإن كانت مشروطة عليه لزمه لما ذكرنا وإلا لم يلزم لأنه رضي بضرر القلع من
الحفر ونحوه حيث اشترط القلع ولم يذكر أصحابنا على المستعير أجرا في شئ من هذه المسائل إلا
فيما إذا استعار أرضا للزرع فزرعها ثم رجع المعير فيها قبل كمال الزرع فإن عليه أجر مثله من حين
رجع المعير لأن الأصل جواز الرجوع وإنما منع من القلع لما فيه من الضرر ففي دفع الاجر جمع بين
الحقين فيخرج في سائر المسائل مثل هذا لوجود هذا المعنى فيه ويحتمل أن لا يجب الاجر في شئ من
المواضع لأن حكم العارية باق فيه لكونها صارت لازمة للضرر اللاحق بفسخها والإعارة تقتضي
الانتفاع بغير عوض.
(فصل) وإذا استعار دابة ليركبها جاز لأن اجارتها لذلك جائزة والإعارة أوسع لجوازها فيما
لا تجوز اجارته مثل إعارة الكلب للصيد فإن استعارها إلى موضع فجاوزه فقد تعدى وعليه الأجرة
للزيادة خاصة فإذا استعارها إلى طبرية فتجاوز إلى القدس فعليه أجر ما بين طبرية والقدس خاصة
368

وان اختلفا فقال المالك أعرتكها إلى طبرية وقال المستعير أعرتنيها إلى القدس فالقول قول المالك
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك إن كان يشبه ما قال المستعير فالقول قوله وعليه الضمان
ولنا أن المالك مدعى عليه فكان القول قوله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لكن اليمين على المدعى عليه)
(فصل) ومن استعار شيئا فانتفع به ثم ظهر مستحقا فلمالكه أجر مثله يطالب به من شاء منهما
فإن ضمن المستعير رجع على المعير بما غرم لأنه غره بذلك وغرمه لأنه دخل على أن لا أجر له وإن
رجع على المعير لم يرجع على أحد فإن الضمان استقر عليه، قال أحمد في قصار دفع ثوبا إلى غير صاحبه
فلبسه فالضمان على القصار دون اللابس وان تلف فالقيمة تستقر على المستعير لأنه دخل على أن العين
مضمونة عليه فإن ضمن المعير رجع على المستعير وان ضمن المستعير لم يرجع على أحد لأن الضمان استقر
عليه، وان نقصت العين بالاستعمال انبني على ضمان النقص فإن قلنا هو على المستعير فحكمه حكم القيمة وان
قلنا هو على المعير فهو كالاجر على ما بيناه
(فصل) إذا حمل السيل بذر رجل من أرض إلى أرض غيره فنبت فيها لم يجبر على قلعه وقال
أصحاب الشافعي في أحد الوجهين يجبر على ذلك إذا طالبه رب الأرض به لأن ملكه حصل في ملك
غيره بغير اذنه فأشبه ما لو انتشرت أغصان شجرته في هواء ملك جاره. ولنا أن قلعه اتلاف للمال على مالكه
ولم يوجد منه تفريط ولا يدوم ضرره فلا يجبر على ذلك كما لو حصلت دابته في دار غيره على وجه
لا يمكن خروجها الا بقلع الباب أو قتلها فإننا لا نجبره على قتلها، ويفارق أغصان الشجرة فإنه يدوم ضرره
369

ولا يعرف قدر ما يشغل من الهواء فيؤدي أجره. إذا ثبت هذا فإنه يقر في الأرض إلى حين حصاده
باجر مثله وقال القاضي ليس عليه أجر لأنه حصل في أرض غيره بغير تفريطه فأشبه ما لو باتت دابته
في أرض انسان بغير تفريطه وهذا بعيد لأن الزامه تبقية زرع ما أذن فيه في أرضه بغير أجر
ولا انتفاع إضرار به وشغل لملكه بغير اختياره من غير عوض فلم يجز كما لو أراد ابقاء بهيمته في دار
غيره عاما، ويفارق مبيتها لأن ذلك لا يجبر المالك عليه ولا يمنع من اخراجها فإذا تركها اختيارا منه
كان راضيا به بخلاف مسئلتنا، ويكون الزرع لمالك البذر لأنه من عين ماله يحتمل أن يكون حكم
هذا الزرع حكم زرع الغاصب على ما سنذكره لأنه حصل في أرضه بغير اذنه فأشبه ما لو زرعه مالكه
والأول أولى لأن هذا بغير عدوان وقد أمكن جبر حق مالك الأرض بدفع الاجر إليه، وان أحب
مالكه قلعه فله ذلك وعليه تسوية الحفر وما نقصت الأرض لأنه أدخل النقص على ملك غيره لاستصلاح
ملكه فأشبه المستعير، وأما إن كان السيل حمل نوى فنبت شجرا في أرض غيره كالزيتون والنخيل ونحوه
فهو لمالك النوى لأنه من نماء ملكه فهو كالزرع ويجبر على قلعه ههنا لأن ضرره يدوم فأجبر على ازالته
كأغصان الشجرة المنتشرة في هواء ملك غير مالكها وان حمل السيل أرضا بشجرها فنبت في أرض
آخر كما كانت فهي لمالكها يجبر على ازالتها كما ذكرنا، وفي كل ذلك إذا ترك صاحب الأرض المنتقلة
أو الشجر أو الزرع ذلك لصاحب الأرض التي انتقل إليها لم يلزمه نقله ولا اجر ولا غير ذلك لأنه حصل
بغير تفريطه ولا عدوانه وكانت الخيرة إلى صاحب الأرض المشغولة به ان شاء اخذه لنفسه وان شاء قلعه
370

(فصل) وإذا اختلف رب الدابة وراكبها فقال الراكب هي عارية وقال المالك بل اكتريتها
فإن كانت الدابة باقية لم تنقص لم يخل من أن يكون الاختلاف عقيب العقد أو بعد مضي مدة لمثلها اجر
فإن كان عقيب العقد فالقول قول الراكب لأن الأصل عدم عقد الإجارة وبراءة ذمة الراكب منها
فيحلف ويرد الدابة إلى مالكها لأنها عارية وكذلك أن ادعى المالك انها عارية وقال الراكب بل اكتريتها
فالقول قول المالك مع يمينه لما ذكرنا، وإن كان الاختلاف بعد مضي مدة لمثلها اجر فادعى المالك
الإجارة فالقول قوله مع يمينه وحكي ذلك عن مالك وقال أصحاب الرأي القول قول الراكب وهو
منصوص الشافعي لأنهما اتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب وادعى المالك عوضا لها والأصل عدم
وجوبه وبراءة ذمة الراكب منه فكان القول قوله. ولنا أنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك
الراكب فكان القول قول المالك كما لو اختلفا في عين فقال المالك بعتكها وقال الآخر وهبتنيها ولان المنافع تجرى
مجرى الأعيان في الملك والعقد عليها ولو اختلفا في الأعيان كان القول قول المالك كذا ههنا وما ذكره يبطل
بهذه المسألة ولأنهما اتفقا على أن المنافع لا تنتقل إلى الراكب الا بنقل المالك لها فيكون القول قوله في
كيفية الانتقال كالأعيان فيحلف المالك ويستحق الاجر وفي قدره وجهان (أحدهما) أجر المثل لأنهما
لو اتفقا على وجوبه واختلفا في قدره وجب أجر المثل فمع الاختلاف في أصله أولى (والثاني) المسمى
لأنه وجب بقول المالك ويمينه فوجب ما حلف عليه كالأصل، وإن كان اختلافهما في أثناء المدة فالقول
قول الراكب فيما مضى منها والقول قول المستعير فيما بقي لأن ما بقي بمنزلة ما لو اختلفا عقيب العقد وان
ادعى المالك في هذه الصورة انها عارية وادعى الراكب انها بأجر فالراكب يدعي استحقاق المنافع
371

ويعترف بالاجر للمالك والمالك ينكر ذلك كله فالقول قوله مع يمينه فيحلف ويأخذ بهيمته، وان اختلفا
في ذلك بعد تلف البهيمة قبل مضي مدة لمثلها أجر فالقول قول المالك سواء ادعى الإجارة أو الإعارة
لأنه ان ادعى الإجارة فهو معترف للراكب ببراءة ذمته من ضمانها فيقبل اقراره على نفسه وان
ادعى الإعارة فهو يدعي قيمتها فالقول قوله لأنهما اختلفا في صفة القبض والأصل فيما يقبضه الانسان
من مال غيره الضمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فإذا حلف المالك استحق القيمة
والقول في قدرها قول الراكب مع يمينه لأنه ينكر الزيادة المختلف فيها والأصل عدمها، وان اختلفا في
ذلك بعد مضي مدة لمثلها أجر وتلف البهيمة وكان الاجر بقدر قيمتها أو كان ما يدعيه المالك منهما أقل
مما يعترف به الراكب فالقول قول المالك بغير يمين سواء ادعى الإجارة أو الإعارة إذ لا فائدة في اليمين
على شئ يعترف له به ويحتمل ان لا يأخذه الا بيمين لأنه يدعي شيئا لا يصدق فيه ويعترف له الراكب
بما لا يدعيه فيحلف على ما يدعيه، وإن كان ما يدعيه المالك أكثر مثل ان كانت قيمة البهيمة أكثر من
أجرها فادعى المالك أنها عارية لتجب له القيمة وأنكر استحقاق الأجرة وادعى الراكب أنها مكتراة
أو كان الكراء أكثر من قيمتها فادعى المالك أنه أجرها ليجب له الكراء وادعى الراكب أنها عارية
فالقول قول المالك في الصورتين لما قدمنا فإذا حلف استحق ما حلف عليه ومذهب الشافعي في
هذا كله نحو ما ذكرنا.
(فصل) وان قال المالك غصبتها وقال الراكب بل أعرتنيها فإن كان الاختلاف عقيب العقد والدابة
قائمة لم يتلف منها شئ فلا معنى للاختلاف ويأخذ المالك بهيمته وكذلك أن كانت الدابة تالفة لأن
372

القيمة تجب على المستعير كوجوبها على الغاصب، وإن كان الاختلاف بعد مضي مدة لمثلها أجر
فالاختلاف في وجوبه والقول قول المالك وهذا ظاهر قول الشافعي ونقل المزني عنه أن القول
قول الراكب لأن المالك يدعي عليه عوضا الأصل براءة ذمته منه ولان الظاهر من اليد أنها بحق
فكان القول قول صاحبها
ولنا ما قدمنا في الفصل الذي قبل هذا بل هذا أولى لأنهما ثم اتفقا على أن المنافع ملك للراكب
وههنا لم يتفقا على ذلك فإن المالك ينكر انتقال الملك فيها إلى الراكب والراكب يدعيه والقول قول
المنكر لأن الأصل عدم الانتقال فيحلف ويستحق الاجر، وان قال المالك غصبتها وقال الراكب
أجرتنيها فالاختلاف ههنا في وجوب القيمة لأن الاجر يجب في الموضعين الا ان يختلف المسمى وأجر
المثل والقول قول المالك مع يمينه فإن كانت الدابة تالفة عقيب أخذها حلف وأخذ قيمتها وان كانت قد
بقيت مدة لمثلها أجر والمسمى بقدر أجر المثل أخذه المالك لاتفاقهما على استحقاقه وكذلك
إن كان أجر المثل دون المسمى وفي اليمين وجهان وإن كان زائدا على المسمى لم يستحقه الا بيمين وجها واحدا
373

كتاب الغصب
الغصب هو الاستيلاء على مال غيره بغير حق، وهو محرم بالكتاب والسنة والاجماع: أما الكتاب فقول
الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم)
وقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس
بالاثم وأنتم تعلمون) وقوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا) والسرقة نوع
من الغصب، وأما السنة فروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر (إن دماءكم
وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) رواه مسلم وغيره وعن سعيد بن
زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه من سبع
أرضين) متفق عليه وروى أبو حرة الرقاشي عن عمه وعمرو بن يثربي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أبو إسحاق الجوزجاني. وأجمع المسلمون
على تحريم الغصب في الجملة وإنما اختلفوا في فروع منه. إذا ثبت هذا فمن غصب شيئا لزمه رده
ما كان باقيا بغير خلاف نعلمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ولان حق
374

المغصوب منه معلق بعين ماله وماليته ولا يتحقق ذلك إلا برده فإن تلف في يده لزمه بدله لقول
الله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد
ما يقوم مقامها في المالية، ثم ينظر فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب والادهان وجب
مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وهو مماثل له من طريق الصورة والمشاهدة والمعنى، والقيمة مماثلة من
طريق الظن والاجتهاد فكان ما طريقه المشاهدة مقدما كما يقدم النص على القياس لكون النص طريقه
الادراك بالسماع والقياس طريقة الظن والاجتهاد، وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل
والموزون وجبت قيمته في قول الجماعة وحكي عن العنبري يجب في كل شئ مثله لما روت جسرة بنت
دجاجة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما رأيت صانعا مثل حفصة صنعت طعاما فبعثت به إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فأخذني إلا فكل فكسرت الاناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ فقال " اناء
مثل الاناء وطعام مثل الطعام " رواه أبو داود، وعن أنس أن إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم
كسرت قصعة الأخرى فدفع النبي صلى الله عليه وسلم قصعة الكاسرة إلى رسول صاحبة المكسورة
375

وجلس المكسورة في بيته، رواه أبو داود مطولا، ورواه الترمذي نحوه وقال حديث حسن صحيح
ولان النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بعيرا ورد مثله
ولنا ما روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شركا له في عبد قوم عليه
قيمة العدل متفق عليه فأمر بالتقويم في حصة الشريك لأنها متلفة بالعتق ولم يأمر بالمثل ولأن هذه
الأشياء لا تتساوى أجزاؤها وتتباين صفاتها فالقيمة فيها اعدل وأقرب إليها فكانت أولى واما الخبر فمحمول
على أنه جوز ذلك بالتراضي وقد علم أنها ترضي بذلك
(فصل) وما تتماثل أجزاؤه وتتقارب صفاته كالدراهم والدنانير والحبوب والادهان ضمن بمثله
بغير خلاف قال ابن عبد البر كل مطعوم من مأكول أو مشروب فمجمع على أنه يجب على مستهلكه
مثله لا قيمته وأما سائر المكيل والموزون فظاهر كلام احمد انه يضمن بمثله أيضا فإنه قال في رواية
حرب وإبراهيم بن هاني ما كان من الدراهم والدنانير وما يكال ويوزن فعليه مثله دون القيمة فظاهر
هذا وجوب المثل في كل مكيل وموزن الا أن يكون مما فيه صناعة كمعمول الحديد والنحاس والرصاص
من الأواني والآلات ونحوها والحلي من الذهب والفضة وشبهه والمنسوج من الحرير والتكان والقطن
376

والصوف والشعر والمغزول من ذلك فإنه يضمن بقيمته لأن الصناعة تؤثر في قيمته وهي مختلفة
فالقيمة فيه أحصر فأشبه غير المكيل والموزون وذكر القاضي أن النقرة والسبيكة من الأثمان والعنب
والرطب والكمثرى يضمن بقيمته وظاهر كلام احمد يدل على ما قلنا وإنما خرج منه ما فيه الصناعة لما ذكرنا
ويحتمل أن يضمن النقرة بقيمتها لتعذر وجود مثلها إلا بتكسير الدراهم المضروبة وسبكها وفيه إتلاف
فعلى هذا إن كان المضمون بقيمته من جنس الأثمان وجبت قيمته من غالب نقد البلد فإن كانت من غير جنسه
وجبت بكل حال وان كانت من جنسه فكانت موزونة وجبت قيمته وان كانت أقل أو أكثر قوم بغير جنسه
لئلا يؤدي إلى الربا، وقال القاضي ان كانت فيه صناعة مباحة فزادت قيمته من أجلها جاز تقويمه بجنسه لأن
ذلك قيمته والصناعة لها قيمة وكذلك لو كسر الحلي وجب أرش كسره ويخالف البيع لأن الصناعة لا يقابلها
العوض في العقود ويقابلها في الاتلاف ألا ترى أنها لا تنفرد بالعقد وتنفرد بضمانها بالاتلاف قال بعض أصحاب
الشافعي هذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم مثل القول الأول وهو الذي ذكره أبو الخطاب لأن القيمة
مأخوذة على سبيل العوض فالزيادة فيه ربا كالبيع وكالنقص وقد قال أحمد في رواية ابن منصور إذا
كسر الحلي يصلحه أحب إلي قال القاضي وهذا محمول على أنهما تراضيا بذلك لا أنه على طريق الوجوب
وهذا فيما إذا كانت الصناعة مباحة فإن كانت محرمة كالأواني وحلي الرجال لم يجز ضمانه بأكثر من
وزنه وجها واحدا لأن الصناعة لا قيمة لها شرعا فهي كالمعدومة.
377

(مسألة) قال (ومن غصب أرضا فغرسها أخذ بقلع غرسه وأجرتها إلى وقت
تسليمها ومقدار نقصانها إن كان نقصها الغرس)
الكلام في هذه المسألة في فصول (أحدها) انه يتصور غصب العقار من الأراضي والدور ويجب
ضمانها على غاصبها هذا ظاهر مذهب احمد وهو المنصوص عن أصحابه وبه قال مالك والشافعي ومحمد
ابن الحسن وروى ابن منصور عن أحمد فيمن غصب أرضا فزرعها ثم أصابها غرق من الغاصب غرم قيمة
الأرض وإن كان شيئا من السماء لم يكن عليه شئ، وظاهر هذا انها لا تضمن بالغصب وقال أبو حنيفة وأبو يوسف
لا يتصور غصبها ولا تضمن بالغصب وان أتلفها ضمنها بالاتلاف لأنه لا يوجد فيها النقل والتحريم فلم يضمنها كما لو
حال بينه وبين متاعه فتلف المتاع ولأن الغصب اثبات اليد على المال عدوانا على وجه تزول به يد المالك ولا يمكن
ذلك في العقار ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)
رواه البخاري عن عائشة وفي لفظ (من غصب شبرا من الأرض) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه
يغصب ويظلم فيه ولان ما ضمن في البيع وجب ضمانه في الغصب كالمنقول ولأنه يمكن الاستيلاء عليه
على وجه يحول بينه وبين مالكه مثل أن يسكن الدار ويمنع مالكها من دخولها فأشبه ما لو أخذ الدابة
والمتاع، وأما إذا حال بينه وبين متاعه فما استولى على ماله فنظيره ههنا أن يحبس المالك ولا يستولي
378

على داره وأما ما تلف من الأرض بفعله أو سبب فعله كهدم حيطانها وتغريقها وكشط ترابها والقاء الحجارة
فيها أو نقص يحصل بغرسه أو بنائه فيضمنه بغير اختلاف في المذهب ولا بين العلماء لأن هذا اتلاف
والعقار يضمن بالاتلاف من غير اختلاف، ولا يحصل الغصب من غير استيلاء فلو دخل أرض إنسان أو
داره لم يضمنها بدخوله سواء دخلها باذنه أو غير اذنه وسواء كان صاحبها فيها أو لم يكن، وقال بعض
أصحاب الشافعي إن دخلها بغير اذنه ولم يكن صاحبها فيها ضمنها سواء قصد ذلك أو ظن أنها داره أو دار
أذن له في دخولها لأن يد الداخل ثبتت عليها بذلك فيصير غاصبا فإن الغصب اثبات اليد العادية وهذا
قد ثبتت يده بدليل أنهما لو تنازعا في الدار ولا بينة لهما حكم بها لمن هو فيها دون الخارج منها. ولنا أنه
غير مستول عليها فلم يضمنها كما لو دخلها باذنه أو دخل صحراه ولأنه إنما يضمن بالغصب ما يضمنه في
العارية وهذا لا تثبت به العارية ولا يجب به الضمان فيها فكذلك لا يثبت به الغصب إذا كان بغير إذن
(الفصل الثاني) أنه إذا غرس في أرض غيره بغير اذنه أو بنى فيها فطلب صاحب الأرض قلع غراسه
أو بنائه لزم الغاصب ذلك ولا نعلم فيه خلافا لما روى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (ليس لعرق ظالم حق) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وروى أبو داود وأبو
عبيد في الحديث أنه قال فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلا غرس في أرض رجل من
379

الأنصار من بني بياضة فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للرجل بأرضه وقضى للآخر أن
ينزع؟؟ نخله قال فلقد رأيتها تضرب في أصولها بالفؤس وإنها لنخل عم (1) ولأنه شغل ملك غيره بملكه الذي
لا حرمة له في نفسه بغير اذنه فلزمه تفريغه كما لو جعل فيه قماشا وإذا قلعها لزمه تسوية الحفر ورد الأرض
إلى ما كانت عليه لأنه ضرر حصل بفعله في ملك غيره فلزمته ازالته، وان أراد صاحب الأرض أخذ
الشجر والبناء بغير عوض لم يكن له ذلك لأنه عين مال الغاصب فلم يملك صاحب الأرض أخذه
كما لو وضع فيها أثاثا أو حيوانا وان طلب أخذه بقيمته وأبى مالكه الا القلع فله القلع لأنه ملكه
فملك نقله ولا يجبر على أخذ القيمة لأنها معاوضة فلم يجبر عليها وان اتفق على تعويضه عنه بالقيمة أو غيرها
جاز لأن الحق لهما فجاز ما اتفقا عليه وان وهب الغاصب الغراس والبناء لمالك الأرض ليتخلص من قلعه
وقبله المالك جاز وان أبى قبوله وكان في قلعه غرض صحيح لم يجبر على قبوله لما تقدم وان لم يكن
في قلعه غرض صحيح احتمل أن يجبر على قبوله لأن فيه رفع الخصومة من غير غرض يفوت ويحتمل
أن لا يجبر لأن فيه اجبارا على عقد يعتبر الرضى فيه، وان غصب أرضا وغراسا من رجل واحد فغرسه
فيه فالكل لمالك الأرض فإن طالبه المالك بقلعه وفي قلعه غرض أجبر على قلعه لأنه فوت عليه غرضا
مقصودا بالأرض فأخذ بإعادتها إلى ما كانت، وعليه تسوية الأرض ونقصها ونقص الغراس لما ذكرنا
380

وإن لم يكن في قلعه غرض لم يجبر على قلعه لأنه سفه فلا يجبر على السفه وقيل يجبر لأن المالك محكم
في ملكه والغاصب غير محكم فإن أراد الغاصب قلعه ومنعه الحاكم لم يملك قلعه لأن الجميع ملك للمغصوب
منه فلم يملك غيره التصرف فيه بغير اذنه
(فصل) والحكم فيما إذا بنى في الأرض كالحكم فيما إذا غرس فيها في هذا التفصيل جميعه الا أنه
يتخرج انه إذا بذل مالك الأرض القيمة لصاحب البناء أجبر على قبولها إذا لم يكن في النقض غرض
صحيح لأن النقض سفه والأول أصح لما روى الخلال باسناده عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بنى في رباع قوم باذنهم فله القيمة ومن بنى بغير اذنهم
فله النقض) ولان ذلك معاوضة فلا يجبر عليها وإذا كانت الآلة من تراب الأرض وأحجارها فليس
للغاصب النقض على ما ذكرنا في الغرس
(فصل) وان غصب دارا فجصصها وزوقها وطالبه ربها بإزالته وفي ازالته غرض لزمه ازالته وأرش نقصها
ان نقصت وان لم يكن فيه غرض فوهبه الغاصب لمالكها أجبر على قبوله لأن ذلك صفة في الدار فأشبه قصارة الثوب
ويحتمل أن لا يجبر لأنها أعيان متميزة فصارت بمنزلة القماش وان طلب الغاصب قلعه ومنعه المالك وكان
له قيمة بعد الكشط فللغاصب قلعه كما يملك قلع غراسه سواء بذل له المالك قيمته أو لم يبذل وان
381

لم يكن له قيمة ففيه وجهان (أحدهما) يملك قلعه لأنه عين ماله (والثاني) لا يملك لأنه سفه يضر
ولا ينفع فلم يجبر عليه وان بذل المالك له قيمته ليتركه
(فصل) وان غصب أرضا وكشط ترابها لزمه رده وفرشه على ما كان ان طلبه المالك وكان فيه
غرض صحيح وان لم يكن فيه غرض فهل يجبر على فرشه؟ يحتمل وجهين، وان منعه المالك فرشه
أو رده وطلب الغاصب ذلك وكان في رده غرض من إزالة ضرر أو ضمان فله فرشه ورده وعليه
أجر مثلها مدة شغلها وأجر نقصها، وان أخذ تراب أرض فضرب به لبناء رده ولا شئ له الا أن يكون
قد جعل فيه تبنا له فيكون له أن يحله ويأخذ تبنه وإن كان لا يحصل منه شئ ففيه وجهان بناء على
كشط التزويق إذا لم يكن له قيمة وان طالبه المالك بحله لزمه ذلك إذا كان فيه غرض وان لم يكن
فيه غرض فعلى وجهين، وان جعله آجرا أو فخارا لزمه رده ولا أجر له لعمله وليس له كسره ولا
للمالك اجباره عليه لأن ذلك سفه لا يفيد واتلاف للمال وإضاعة له وقد نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن إضاعة المال.
(فصل) وان غصب أرضا فحفر فيها بئرا فطالبه المالك بطمها لزمه ذلك لأنه يضر بالأرض ولان
التراب ملكه نقله من موضعه فلزمه رده كتراب الأرض وكذلك أن حفر فيها نهرا أو حفر بئرا في
382

ملك رجل بغير أذنه وان أراد الغاصب طمها فمنعه المالك نظرنا فإن كان له غرض في طمها بان يسقط
عنه ضمان ما يقع فيها أو يكون قد نقل ترابها إلى ملك نفسه أو ملك غيره أو طريق يحتاج إلى تفريغه
فله الرد لما فيه من الغرض وبهذا قال الشافعي، وان لم يكن له غرض في طم البئر مثل أن يكون قد وضع
التراب في ملك المغصوب منه وأبرأه المغصوب منه مما حفر واذن فيه لم يكن له طمها في أحد الوجهين
لأنه اتلاف لا نفع فيه فلم يكن له فعله كما لو غصب نقرة فطبعها دراهم ثم أراد جعلها نقرة وبهذا قال
أبو حنيفة والمزني وبعض الشافعية، وقال بعضهم له طمها وهو الوجه الثاني لنا لأنه لا يبرأ من الضمان بابراء
المالك لأنه ابراء مما لم يجب بعد وهو أيضا ابراء من حق غيره وهو الواقع فيها
ولنا أن الضمان إنما لزمه لوجود التعدي فإذا رضي صاحب الأرض زال التعدي فزال الضمان
وليس هذا ابراء مما لم يجب وإنما هو اسقاط التعدي برضائه به وهكذا ينبغي أن يكون إذا لم يتلفظ
بالابراء ولكن منعه من طمها لأنه يتضمن رضاه بذلك.
(الفصل الثالث) ان على الغاصب أجر الأرض منذ غصبها إلى وقت تسليمها وهكذا كل ما له أجر
فعلى الغاصب أجر مثله سواء استوفى المنافع أو تركها حتى ذهبت لأنها تلفت في يده العادية فكان
عليه عوضها كالأعيان، وان غصب أرضا فبناها دارا فإن كانت آلات بنائها من مال الغاصب فعليه اجر
383

الأرض دون بنائها لأنه إنما غصب الأرض والبناء له فلم يلزمه اجر ماله، وان بناها بتراب منها
وآلات للمغصوب منه فعليه اجرها مبنيه لأن الدار كلها ملك للمغصوب منه وإنما للغاصب فيها اثر
الفعل فلا يكون في مقابلته اجر لأنه وقع عدوانا، وان غصب دارا فنقضها ولم يبنها فعليه اجر دار
إلى حين نقضها وأجرها مهدومة من حين نقضها إلى حين ردها لأن البناء انهدم وتلف فلم يجب اجره
مع تلفها، وان نقضها ثم بناها بآلة من عنده فالحكم فيها كذلك وان بناها بآلتها أو آلة من ترابها
أو ملك المغصوب منه فعليه اجرها عرصة منذ نقضها إلى أن بناها وأجرها دارا فيما قبل ذلك وبعده
لأن البناء للمالك، وحكمها في نقض بنائها الذي بناه الغاصب حكم ما لو غصبها عرصة فبناها وإن كان
الغاصب باعها فبناها المشتري أو نقضها ثم بناها فالحكم لا يختلف لكن للمالك مطالبة من شاء منهما
والرجوع عليه فإن رجع على الغاصب رجع الغاصب على المشتري بقيمة ما تلف من الأعيان لأن
المشتري دخل على أنه مضمون عليه بالعوض فاستقر ضمانه عليه وان رجع المالك على المشتري رجع
المشتري على الغاصب بنقص التالف ولم يرجع بقيمة ما تلف، وهل يرجع كل واحد منهما على صاحبه
بالاجر؟ على روايتين، وليس له مطالبة المشتري بشئ من الاجر الا بأجر مدة مقامها في يديه
لأن يده إنما ثبتت عليها حينئذ.
384

(الفصل الرابع) ان على الغاصب ضمان نقص الأرض إن كان نقصها الغرس أو نقصت بغيره
وهكذا كل عين مغصوبة على الغاصب ضمان نقصها إذا كان نقصا مستقرا كثوب تخرق واناء تكسر وطعام
سوس وبناء خرب ونحوه فإنه يردها وأرش النقص لأنه نقص حصل في يد الغاصب فوجب ضمانه
كالقفيز من الطعام والذراع من الثوب وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا شق رجل لرجل ثوبا
شقا قليلا أخذ أرشه وإن كان كثيرا فصاحبه بالخيار بين تسليمه وأخذ قيمته وبين امساكه وأخذ
أرشه، وقد روي عن أحمد كلام يحتمل هذا فإنه قال في رواية موسى بن سعيد في الثوب إن شاء
شق الثوب وإن شاء مثله يعني والله أعلم ان شاء أخذ أرش الشق ووجهه ان هذه جناية أتلفت معظم
منفعته فكانت له المطالبة بقيمته كما لو قتل شاة له، وحكى أصحاب مالك عنه انه إذا جنى على عين
فأتلف غرض صاحبها فيما كان المجني عليه بالخيار ان شاء رجع بما نقصت وان شاء سلمها واخذ قيمتها
ولعل ما يحكى عنه من قطع ذنب حمار القاضي ينبني على ذلك لأنه أتلف غرضه به فإنه لا يركبه في
العادة وحجتهم انه أتلف المنفعة المقصودة من السلعة فلزمته قيمتها كما لو أتلف جميعها
385

ولنا انها جناية على مال أرشها دون قيمته فلم يملك المطالبة بجميع قيمته كما لو كان الشق يسيرا
ولأنها جناية تنقص بها القيمة فأشبه ما لو لم يتلف غرض صاحبها وفي الشاة تلف جميعها لأن الاعتبار في
الاتلاف بالمجني عليه لا بغرض صاحبه لأن هذا ان لم يصلح لهذا صلح لغيره.
(فصل) وقدر الأرش قدر نقص القيمة في جميع الأعيان وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية
أخرى ان عين الدابة تضمن بربع قيمتها فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل فقأ عين دابة لرجل
عليه ربع قيمتها قيل له فقأ العينين؟ فقال إذا كانت واحدة فقال عمر ربع القيمة واما العينان فما سمعت
فيهما شيئا، قيل له فإن كان بعيرا أو بقرة أو شاة فقال هذا غير الدابة هذا ينتفع بلحمه ننظر ما نقصها
وهذا يدل على أن احمد إنما أوجب مقدرا في العين الواحدة من الدابة وهي الفرس والبغل والحمار
خاصة للأثر الوارد فيه وما عدا هذا يرجع إلى القياس، واحتج أصحابنا لهذه الرواية بما روى زيد بن
ثابت ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى في عين الدابة بربع قيمتها وقد روي عن عمر رضي الله عنه انه
كتب إلى شريح لما كتب إليه يسأله عن عين الدابة انا كنا ننزلها منزلة الآدمي إلا أنه أجمع
386

رأينا أن قيمتها ربع الثمن وهذا إجماع يقدم على القياس ذكر هذين أبو الخطاب في رؤوس المسائل وقال
أبو حنيفة إذا قلع عيني بهيمة تنتفع بها من وجهين كالدابة والبعير والبقرة وجب نصف قيمتها وفي إحداهما
ربع قيمتها لقول عمر رضي الله عنه أجمع رأينا علي أن قيمتها ربع الثمن، وروي عن أحمد في العبد أنه يضمن
في الغصب بما يضمن به في الجناية ففي يده نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وهذا قول بعض
أصحاب الشافعي لأنه ضمان لابعاض العبد فكان مقدرا من قيمته كأرش الجناية. ولنا أنه ضمان مال
من غير جناية فكان الواجب ما نقص كالثوب وذلك لأن القصد بالضمان جبر حق المالك بايجاب قدر
المفوت عليه وقدر النقص هو الجابر ولأنه لو فات الجميع لوجبت قيمته فإذا فات منه شئ وجب قدره من
القيمة كغير الحيوان، وأما حديث زيد بن ثابت فلا أصل له ولو كان صحيحا لما احتج أحمد وغيره بحديث
عمر وتركوه فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن يحتج به، وأما قول عمر فمحمول على أن ذلك كان
قدر نقصها كما روي عنه أنه قضى في العين القائمة بخمسين دينارا ولو كان تقديرا لوجب في العين نصف
القيمة كعين الآدمي، وأما ضمان الجناية على أطراف العبد فمعدول به عن القياس للالحاق بالجناية على الحر
والواجب ههنا ضمان اليد ولا تثبت اليد على الحر فوجب البقاء فيه على موجب الأصل والحاقه بسائر
الأموال المغصوبة، وقول أبي حنيفة ان هذا في بهيمة الأنعام والدابة لا يصح لأن هذا القول مبني على قول
عمر وقول عمر إنما هو في الدابة والدابة في العرف ما يعد للركوب دون بهيمة الأنعام
387

(فصل) وان غصب عبدا فجني عليه جناية مقدرة الدية فعلى قولنا ضمان الغصب ضمان الجناية الواجب أرش
الجناية كما لو جني عليه من غير غصب فنقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر، وان قلنا ضمان الغصب غير
ضمان الجناية وهو الصحيح فعليه أكثر الامرين من أرش النقص أو دية ذلك العضو لأن
ضمان كل واحد منهما وجد فوجب أكثرهما ودخل الآخر فيه فإن الجناية واليد وجدا جميعا، فإن غصب
عبدا يساوي ألفا فزادت قيمته فصار يساوي الفين ثم قطع يده فنقص ألفا لزمه الف ورد العبد لأن سبب
زيادة السوق مع تلف العين مضمونة ويد العبد كنصفه فكأنه بقطع يده فوت نصفه وإن نقص ألفا
وخمسمائة وقلنا الواجب ما نقص فعليه الف وخمسمائة ويرد العبد وإن قلنا ضمان الجناية فعليه الف ورد العبد
فحسب وإن نقص خمسمائة فعليه رد العبد وهل يلزمه الف أو خمسمائة؟ على وجهين.
(فصل) وإن غصب عبدا فقطع آخر يده فللمالك تضمين أيهما شاء لأن الجاني قطع يده والغاصب
حصل النقص في يده فإن ضمن الجاني فله تضمينه صف قيمته لا غير ولا يرجع على أحد لأنه لم يضمنه
أكثر مما وجب عليه ويضمن الغاصب ما زاد على نصف القيمة إن نقص أكثر من النصف ولا يرجع على
أحد، وإن قلنا إن ضمان الغصب ضمان الجناية أو لم ينقص أكثر من نصف قيمته لم يضمن الغاصب
ههنا شيئا، وإن اختار تضمين الغاصب وقلنا إن ضمان الغصب كضمان الجناية ضمنه نصف القيمة ورجع بها الغاصب
على الجاني لأن التلف حصل بفعله فاستقر الضمان عليه، وان قلنا إن ضمان الغصب بما نقص فلرب العبد
تضمينه بأكثر الامرين لأن ما وجد في يده فهو في حكم الموجود منه ثم يرجع الغاصب على الجاني
بنصف القيمة لأنها أرش جناية فلا يجب عليه أكثر منها.
388

(فصل) وان غصب عبدا فقطع أذنيه أو يديه أو ذكره أو أنفه أو لسانه أو خصييه لزمته
قيمته كلها ورد العبد نص عليه احمد وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة والثوري يخير المالك بين ان
يصبر ولا شئ له وبين أخذ قيمته ويملكه الجاني لأنه ضمان مال فلا يبقى ملك صاحبه عليه مع
ضمانه له كسائر الأموال.
ولنا أن المتلف البعض فلا يقف ضمانه على زوال الملك عن جملته كقطع ذكر المدبر وكقطع
إحدى يديه أو أذنيه ولان المضمون هو المفوت فلا يزول الملك عن غيره بضمانه كما لو قطع تسع أصابع
وبهذا ينفصل عما ذكروه فإن الضمان في مقابلة المتلف لا في مقابلة الجملة، فاما ان ذهبت هذه الأعضاء
بغير جناية فهل يضمنها ضمان الاتلاف أو بما نقص؟ على روايتين سبق ذكرهما.
(فصل) وإن جنى العبد المغصوب فجنايته مضمونة على الغاصب لأنه نقص في العبد الجاني لكون
أرش الجناية يتعلق برقبته فكان مضمونا على الغاصب كسائر نقصه وسواء في ذلك ما يوجب
القصاص أو المال ولا يلزمه أكثر من النقص الذي لحق العبد، وإن جنى على سيده فجنايته مضمونة
على الغاصب أيضا لأنها من جملة جناياته فكان مضمونا على الغاصب كالجناية على الأجنبي.
(فصل) إذا نقصت عين المغصوب دون قيمته فذلك على ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون
الذاهب جزءا مقدر البدل كعبد خصاه وزيت أغلاه ونقرره ضربها دراهم فنقصت عينها دون قيمتها
389

فإنه يجب ضمان النقص فيضمن نقص العبد بقيمته ونقص الزيت والنقرة بمثلهما مع رد الباقي منهما لأن
الناقص من العين له بدل مقدر فلزمه ما تقدر به كما لو أذهب الجميع (الثاني) أن لا يكون مقدرا مثل
ان غصب عبدا ذا سمن مفرط فخف جسمه ولم تنقص قيمته فلا شئ فيه سوى رده لأن الشرع إنما
أوجب في هذا ما نقص من القيمة ولم يقدر بدله ولم تنقص القيمة فلم يجب شئ بخلاف الصورة الأولى
فإن الذاهب مقدر البدل فلم يسقط بدله (الثالث) أن يكون النقص في مقدر البدل لكن الذاهب
منه أجزاء غير مقصودة كعصير أغلاه فذهبت مائيته وانعقدت اجزاؤه فنقصت عينه دون قيمته ففيه وجهان
(أحدهما) لا شئ عليه سوى رده لأن النار إنما أذهبت مائيته التي بقصد ذهابها ولهذا تزداد حلاوته وتكثر
قيمته فلم يجب ضمانها كسمن العبد الذي ينقص قيمته (والثاني) يجب ضمانه لأنه مقدر البدل فأشبه
الزيت إذا أغلاه وان نقصت العين والقيمة جميعا وجب في الزيت وشبهه ضمان النقصين جميعا لأن كل
واحد منهما مضمون منفردا فكذلك إذا اجتمعا وذلك مثل أن يكون رطل زيت قيمته درهم
فأغلاه فنقص ثلثه فصار قيمة الباقي درهم فعليه ثلث رطل وسدس درهم، وإن
كانت قيمة الباقي ثلثي درهم فليس عليه أكثر من ثلث رطل لأن قيمة الباقي لم تنقص
وان خصى العبد فنقصت قيمته فليس عليه أكثر من ضمان خصييه؟؟ لأن ذلك بمنزلة ما لو فقأ عينيه وهل يجب
في العصير ما نقص من القيمة أو يكون كالزيت؟ على وجهين
(فصل) وان غصب عبدا فسمن سمنا نقصت به قيمته أو كان شابا فصار شيخا أو كانت الجارية
390

ناهدا فسقط ثدياها وجب أرش النقص لا نعلم فيه خلافا، فإن كان العبد أمرد فنبتت لحيته فنقصت
قيمته وجب ضمان نقصه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب ضمانه لأن الفائت لا يقصد قصدا
صحيحا فأشبه الصناعة المحرمة، ولنا أنه نقص في القيمة بتغير صفته فيضمنه كبقية الصور
(فصل) وان نقص المغصوب نقصا غير مستقر كطعام ابتل وخيف فساده أو عفن وخشي تلفه
فعليه ضمان نقصه وهذا منصوص الشافعي وله قول آخر أنه لا يضمن نقصه وقال القاضي لا يلزمه بدله
لأنه لا يعلم قدر نقصه وكلما نقص شيئا ضمنه لأنه يستند إلى السبب الموجود في يد الغاصب فكان كالموجود
في يده وقال أبو الخطاب يتخير صاحبه بين أخذ بدله وبين تركه حتى يستقر فساده ويأخذ أرش نقصه
وقال أبو حنيفة يتخير بين امساكه ولا شئ له أو تسليمه إلى الغاصب ويأخذ من قيمته لأنه لو ضمن
النقص لحصل له مثل كيله وزيادة وهذا لا يجوز كما لو باع قفيزا جيدا بقفيز ردئ ودرهم
ولنا أن عين ماله باقية وإنما حدث فيه نقص فوجب فيه ما نقص كما لو باع عبدا فمرض، وقد وافق
بعض أصحاب الشافعي على هذا في العفن وقال لا يضمن ما نقص قولا واحدا ولا يضمن ما تولد منه
لأنه ليس من فعله، وهذا الفرق لا يصح لأن البلل قد يكون من غير فعله أيضا وقد يكون الفن بسبب
منه، ثم إن ما وجد في يد الغاصب فهو مضمون عليه لوجوده في يده فلا فرق وقول أبي حنيفة لا يصح
لأن هذا الطعام عين ماله وليس ببدل عنه وقول أبي الخطاب لا بأس به
391

(مسألة) قال (وإن كان زرعها فأدركها ربها والزرع قائم كان الزرع لصاحب الأرض
وعليه النفقة وان استحقت بعد أخذ الغاصب الزرع فعليه أجرة الأرض)
قوله فأدركها ربها يعني استرجعها من الغاصب أو قدر على أخذها منه وهو معنى قوله استحقت
يعني أخذها مستحقها فمتى كان هذا بعد حصاد الغاصب الزرع فإنه للغاصب لا نعلم فيه خلافا وذلك لأنه
نماء ماله وعليه الأجرة إلى وقت التسليم وضمان النقص ولو لم يزرعها فنقصت لترك الزراعة كأراضي
البصرة أو نقصت لغير ذلك ضمن نقصها أيضا لما قدمنا في المسألة التي قبل هذه، فأما ان أخذها
صاحبها والزرع قائم فيها لم يملك اجبار الغاصب على قلعه وخير المالك بين أن يقر الزرع في الأرض
إلى الحصاد ويأخذ من الغاصب أجر الأرض وأرش نقصها وبين أن يدفع إليه نفقته ويكون الزرع له
وبهذا قال أبو عبيد وقال أكثر الفقهاء يملك اجبار الغاصب على قلعه، والحكم فيه كالغرس سواء لقوله
عليه السلام (ليس لعرق ظالم حق) ولأنه زرع في أرض غيره ظلما أشبه الغراس
ولنا ما روى نافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من زرع في أرض قوم بغير
اذنهم فليس له من الزرع شئ وعليه نفقته رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن فيه دليل
على أن الغاصب لا يجبر على قلعه لأنه ملك للمغصوب منه وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زرعا
392

في أرض طهير فأعجبه فقال (ما أحسن زرع طهير) فقال إنه ليس لطهير ولكنه لفلان قال (فخذوا
زرعكم وردوا عليه نفقته) قال رافع فأخذنا زرعنا ورددنا عليه نفقته ولأنه أمكن رد المغصوب إلى
مالكه من غير اتلاف مال الغاصب على قرب من الزمان فلم يجز اتلافه كما لو غصب سفينة فحمل
فيها ماله وادخلها البحر أو غصب لوحا فرقع به سفينة فإنه لا يجبر على رد المغصوب في اللجة وينتظر
حتى ترسي صيانة للمال عن التلف كذا ههنا ولأنه زرع حصل في ملك غيره فلم يجبر على قلعه على
وجه يضر به كما لو كانت الأرض مستعارة أو مشفوعة، وفارق الشجر والنخل لأن مدته تتطاول ولا يعلم متى
ينقطع من الأرض فانتظاره يؤدي إلى ترك رد الأصل بالكلية وحديثهم ورد في الغرس وحديثنا في
الزرع فيجمع بين الحديثين ويعمل بكل واحد منهما في موضعه وذلك أولى من ابطال أحدهما. إذا ثبت هذا
فمتى رضي المالك بترك الزرع للغاصب ويأخذ منه اجر الأرض فله ذلك لأنه شغل المغصوب بماله فملك صاحبه
اخذا اجره كما لو ترك في الدار طعاما أو احجارا يحتاج في نقله إلى مدة، وان أحب اخذ الزرع فله ذلك
كما يستحق الشفيع اخذ شجر المشتري بقيمته، وفيما يرد على الغاصب روايتان (إحداهما) قيمة الزرع لأنه
بدل عن الزرع فيقدر بقيمته كما لو أتلفه ولان الزرع للغاصب إلى حين انتزاع المالك له منه بدليل انه لو
اخذه قبل انتزاع المالك له كان ملكا له ولو لم يكن ملكا له لما ملكه بأخذه فيكون اخذ المالك له تملكا
له إلا أن يعوضه فيجب أن يكون بقيمته كما لو اخذ الشقص المشفوع ويجب على الغاصب اجر الأرض إلى حين
393

تسليم الزرع لأن الزرع كان محكوما ماله به وقد شمل به ارض غيره (والرواية الثانية) انه يرد على الغاصب
ما أنفق من البذر ومؤنة الزرع في الحرث والسقي وغيره وهذا الذي ذكره القاضي وهذا ظاهر كلام
الخرقي وظاهر الحديث لقوله عليه السلام (عليه نفقته) وقيمة الشئ لا تسمى نفقة له والحديث مبني على هذه
المسألة فإن احمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحسانا على خلاف القياس فإن القياس ان الزرع لصاحب البذر
لأنه نماء عين ماله فأشبه ما لو غصب دجاجة فحضنت بيضا له أو طعاما فعلفه دواب له كان النماء له وقد صرح
به احمد فقال هذا شئ لا يوافق القياس أستحسن ان يدفع إليه نفقته للأثر ولذلك جعلناه للغاصب
إذا استحقت الأرض بعد اخذ الغاصب له وإذا كان العمل بالحديث فيجب ان يتبع مدلوله
(فصل) فإن كان الزرع مما يبقى أصوله في الأرض ويجز مرة بعد أخرى كالرطبة والنعناع احتمل
أن يكون حكمه ما ذكرنا لدخوله في عموم الزرع لأنه ليس له فرع قوي فأشبه الحنطة والشعير واحتمل أن يكون
حكمه حكم الغرس لبقاء أصوله وتكرر اخذه ولان القياس يقتضي ان يثبت لكل زرع مثل حكم الغرس
وإنما ترك فيما تقل مدته للأثر ففيما عداه يبقى على قضية القياس
(فصل) وان غصب أرضا فغرسها فأثمرت فأدركها ربها بعد اخذ الغاصب ثمرتها فهي له وان أدركها
والثمرة فيها فكذلك لأنها ثمرة شجره فكانت له كما لو كانت في ارضه ولأنها نماء أصل محكوم به للغاصب فكان
له كأغصانها وورقها ولبن الشاة وولدها، وقال القاضي هي لمالك الأرض ان أدركها في الغراس لأن احمد
394

قال في رواية علي بن سعيد إذا غصب أرضا فغرسها فالنماء لمالك الأرض قال القاضي وعليه من النفقة ما أنفقه
الغارس من مؤنة الثمرة لأن الثمرة في معنى الزرع فكان لصاحب الأرض إذا أدركه قائما فيها كالزرع، والأول
أصح لأن احمد قد صرح بأن اخذ رب الأرض الزرع شئ لا يوافق القياس وإنما صار إليه للأثر فيختص الحكم
به ولا يعدى إلى غيره ولان الثمرة تفارق الزرع من وجهين (أحدهما) ان الزرع نماء الأرض فكان لصاحبها
والثمر نماء الشجر فكان لصاحبه (الثاني) انه يرد عوض الزرع الذي اخذه مثل البذر الذي نبت منه الزرع
مع ما أنفق عليه ولا يمكنه مثل ذلك في الثمر
(فصل) وان غصب شجرا فأثمر فالثمر لصاحب الشجر بغير خلاف نعلمه لأنه نماء ملكه ولان الشجر
عين ملكه نمى وزاد فأشبه ما لو طالت أغصانه، وعليه رد الثمر إن كان باقيا وإن كان تالفا فعليه بدله وإن كان
رطبا فصار تمرا أو عنبا فصار زبيبا فعليه رده وأرش نقصه ان نقص وليس له شئ بعمله فيه وليس
للشجر أجرة لأن أجرتها لا تجوز في العقود فكذلك في الغصب ولان نفع الشجر تربية الثمر واخراجه
وقد عادت هذه المنافع إلى المالك، ولو كانت ماشية فعليه ضمان ولدها ان ولدت عنده ويضمن لبنها بمثله لأنه
من ذوات الأمثال ويضمن أوبارها وأشعارها بمثله كالقطن
(فصل) وإذا غصب أرضا فحكمها في جواز دخول غيره إليها حكمها قبل الغصب فإن كانت
محوطة كالدار والبستان المحوط لم يجز لغير مالكها دخولها لأن ملك مالكها لم يزل عنها فلم يجز دخولها بغير اذنه
كما لو كانت في يده قال أحمد في الضيعة تصير غيضة فيها سمك لا يصيد فيها أحد الا باذنهم وان كانت صحراء جاز
395

الدخول فيها ورعي حشيشها قال أحمد لا بأس برعي الكلأ في الأرض المغصوبة وذلك لأن الكلأ
لا يملك بملك الأرض، ويتخرج في كل واحدة من الصورتين مثل حكم الأخرى قياسا لها عليها ونقل
عنه المروذي في رجل والداه في دار طوابيقها غصب لا يدخل على والديه وذلك لأن دخوله عليهما
تصرف في الطوابيق المغصوبة ونقل عنه الفضل بن عبد الصمد في رجل له اخوة في أرض غصب
يزورهم ويراودهم على الخروج فإن أجابوه والا لم يقم معهم ولا يدع زيارتهم يعني يزورهم بحيث يأتي
باب دراهم ويتعرف اخبارهم ويسلم عليهم ويكلمهم ولا يدخل إليهم، ونقل المروذي عنه أكره المشي على
العبارة (1) التي يجري فيها الماء وذلك لأن العبارة وضعت لعبور الماء لا للمشي عليها وربما كان المشي عليها
يضربها، وقال أحمد لا يدفن في الأرض المغصوبة لما في ذلك من التصرف في أرضهم بغير اذنهم،
وقال أحمد فيمن ابتاع طعاما من موضع غصب ثم علم رجع إلى الموضع الذي أخذه منه فرده وروي
عنه أنه قال: يطرحه يعني على من ابتاعه منه وذلك لأن قعوده فيه حرام منهي عنه فكان البيع فيه
محرما ولأن الشراء ممن يقعد في الموضع المحرم يحملهم على العقود والبيع فيه وترك الشراء منهم
يمنع القعود وقال لا يبتاع من الخانات التي في الطرق الا أن لا يجد غيره كأنه بمنزلة المضطر، وقال
في السلطان إذا بنى دارا وجمع الناس إليها أكره الشراء منها وهذا إن شاء الله تعالى على سبيل الورع
لما فيه من الإعانة على الفعل المحرم والظاهر صحة البيع لأنه إذا صحت الصلاة في الدار المغصوبة في
رواية وهي عبادة فما ليس بعبادة أولى، وقال فيمن غصب ضيعة وغصبت من الغاصب فأراد الثاني
ردها جمع بينهما يعني بين مالكها والغاصب الأول وان مات بعضهم جمع ورثته إنما قال هذا احتياطا خوف
396

التبعة من الغاصب الأول لأنه ربما طالب بها وادعاها ملكا باليد وإلا فالواجب ردها على مالكها وقد
صرح بهذا في رواية عبد الله في رجل استودع رجلا ألفا فجاز رجل إلى المستودع فقال إن فلانا
غصبني الألف الذي أستودعكه وصح ذلك عند المستودع فإن لم يخف التبعة وهو أن يرجعوا به
عليه دفعه إليه
(مسألة) قال (ومن غصب عبدا أو أمة وقيمته مائة فزاد في بدنه أو بتعلم حتى صارت
قيمته مائتين ثم نقص بنقصان بدنه أو نسيان ما علم حتى صارت قيمته مائة أخذه السيد
وأخذ من الغاصب مائة)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب عليه عوض الزيادة الا أن يطالب بردها زائدة
فلا يردها لأنه رد العين كما أخذها فلم يضمن نقص قيمتها كنقص سعرها
ولنا أنها زيادة في نفس المغصوب فلزم الغاصب ضمانها كما لو طالبه بردها فلم يفعل وفارق زيادة السعر
فإنها لو كانت موجودة حال الغصب لم يضمنها والصناعة ان لم تكن من عين المغصوب فهي صفة فيه
ولذلك يضمنها إذا طولب برد العين وهي موجودة فلم يردها وأجريناها هي والتعلم مجرى السمن
الذي هو عين لأنها صفة تتبع العين وأجرينا الزيادة الحادثة في يد الغاصب مجرى الزيادة الموجودة حال
397

الغصب لأنها زيادة في العين المملوكة للمغصوب منه فتكون مملوكة له أيضا لأنها تابعة للعين، فأما ان غصب
العين سمينة أو ذات صناعة أو تعلم القرآن ونحوه فهزلت ونسيت فنقصت قيمتها فعليه ضمانه نقصها لا
نعلم فيه خلافا لأنها نقصت عن حال غصبها نقصا اثر في قيمتها فوجب ضمانها كما لو اذهب عضوا من أعضائها
(فصل) إذا غصبها وقيمتها مائة فسمنت فبلغت قيمتها ألفا ثم تعلمت صناعة فبلغت الفين ثم هزلت
ونسيت فعادت قيمتها إلى مائة ردها ورد ألفا وتسعمائة وان بلغت بالسمن ألفا ثم هزلت فبلغت
مائة ثم تعلمت فبلغت ألفا ثم نسيت فعادت إلى مائة ردها ورد ألفا وثمانمائة لأنها نقصت بالهزال
تسعمائة وبالنسيان تسعمائة، وان سمنت فبلغت ألفا ثم هزلت فعادت إلى مائة ثم تعلمت فعادت إلى الف
ردها وتسعمائة لأن زوال الزيادة الأولى أوجب الضمان ثم حدث زيادة أخرى من وجه آخر على
ملك المغصوب منه فلا ينجبر ملك الانسان بملكه، وأما إذا بلغت بالسمن ألفا ثم هزلت فعادت إلى مائة
ثم سمنت فعادت إلى الف ففيه وجهان (أحدهما) يردها زائدة ويضمن نقص الزيادة
الأولى كما لو كانا من جنسين فإن ملك الانسان لا ينجير بملكه لأن الزيادة الثانية غير
الأولى فعلى هذا ان هزلت مرة ثانية فعادت إلى مائة ضمن النقصين بألف وثمانمائة (والوجه الثاني)
انه إذا ردها سمينة فلا شئ عليه لأنه عاد ما ذهب فأشبه ما لو مرضت فنقصت ثم عوفيت أو نسيت
صناعة ثم تعلمتها أو أبق العبد ثم عاد، وفارق ما إذا زادت من جهة أخرى فإنه لم يعد ما ذهب وهذا
398

الوجه أقيس لما ذكرنا من شواهده، فعلى هذا لو سمنت بعد الهزال ولم تبلغ قيمتها إلى ما بلغت في
السمن الأول أو زادت عليه ضمن أكثر الزيادتين وتدخل الأخرى فيها وعلى الوجه الأول يضمنهما
جميعا فأما ان زادت بالتعليم أو الصناعة ثم نسيت ثم تعلمت ما نسيته فعادت القيمة الأولى لم يضمن النقص
الأول لأن العلم الثاني هو الأول فقد عاد ما ذهب وان تعلمت علما آخر أو صناعة أخرى فهو كعود
السمن فيه وجهان ذكر هذا القاضي وهو مذهب الشافعي، وقال أبو الخطاب متى زادت ثم نقصت ثم
زادت مثل الزيادة الأولى ففي ذلك وجهان سواء كانا من جنس كالسمن مرتين أو من جنسين
كالسمن والتعليم والأول أولى.
(فصل) وان مرض المغصوب ثم برأ أو ابيضت عينه ثم ذهب بياضها أو غصب جارية حسناء
فسمنت سمنا نقصها ثم خف سمنها فعاد حسنها وقيمتها ردها ولا ضمان عليه لأنه لم يذهب ماله قيمة
والعيب الذي أو جب الضمان زال في يديه وكذلك لو حملت فنقصت ثم وضعت فزال نقصها لم يضمن
شيئا فإن رد المغصوب ناقصا بمرض أو عيب أو سمن مفرط أو حمل فعليه أرش نقصه فإن زال
عيبه في يدي مالكه لم يلزمه رد ما أخذ من أرشه لأنه استقر ضمانه برد المغصوب وكذلك إن اخذ
المغصوب دون أرشه ثم زال العيب قبل أخذ أرشه لم يسقط ضمانه لذلك
(فصل) زوائد الغصب في يد الغاصب مضمونة ضمان الغصب مثل السمن وتعلم الصناعة وغيرها
399

وثمرة الشجرة وولد الحيوان متى تلف شئ منه في يد الغاصب ضمنه سواء تلف منفردا أو تلف مع
أصله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب ضمان زوائد الغصب إلا أن يطالب بها فيمتنع
من أدائها لأنها غير مغصوبة فلا يجب ضمانها كالوديعة ودليل عدم الغصب انه فعل محرم وثبوت يده
على هذه الزوائد ليس من فعله لأنه انبنى على وجود الزوائد في يده ووجودها ليس بفعل محرم منه.
ولنا انه مال المغصوب منه حصل في يده بالغصب فيضمنه بالتلف كالأصل وقولهم ان اثبات
يده ليس من فعله لا يصح لأنه بامساك الام تسبب إلى إثبات يده على هذه الزوائد وإثبات يده
على الام محظور.
(فصل) وليس على الغاصب ضمان نقص القيمة الحاصل بتغير الأسعار نص عليه احمد هو قول
جمهور العلماء وحكي عن أبي ثور أنه يضمنه لأنه يضمنه إذا تلفت العين فيلزمه إذا ردها كالسمن.
ولنا انه رد العين بحالها لم ينقص منها عين ولا صفة فلم يلزمه شئ كما لو لم تنقص ولا نسلم أنه
يضمنها مع تلف العين وان سلمنا فلانه وجبت قيمة العين أكثر ما كانت قيمتها فدخلت في التقويم
بخلاف ما إذا ردها فإن القيمة لا تجب ويخالف السمن فإنه من عين المغصوب والعلم بالصناعة صفة فيها وههنا
لم تذهب عين ولا صفة ولأنه لاحق للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين وإنما حقه في العين وهي
باقية كلها كما كانت ولان الغاصب يضمن ما غصب والقيمة لا تدخل في الغصب بخلاف زيادة العين
فإنها مغصوبة وقد ذهبت
400

(فصل) ولو غصب شيئا فشقه نصفين وكان ثوبا ينقصه القطع رده وأرش نقصه فإن تلف أحد
النصفين رد الباقي وقيمة التالف وأرش النقص وان لم ينقصه القطع رد الباقي وقيمة التلف لاغير
وان كانا باقيين ردهما ولا شئ عليه سوى ذلك وان غصب شيئين ينقصهما التفريق كزوجي خف
ومصراعي باب فتلف أحدهما رد الباقي وقيمة التالف وأرش نقصهما فإذا كانت قيمتهما ستة دراهم فتلف
أحدهما فصارت قيمة الباقي درهمين رد الباقي وأربعة دراهم وفيه وجه آخر لا يلزمه إلا قيمة التلف مع رد الباقي وهو
أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه لم يتلف غيره ولان نقص الباقي نقص قيمة فلا يضمنه كالنقص بتغير
الأسعار، والصحيح الأول لأنه نقص حصل بجنايته فلزمه ضمانه كشق الثوب الذي ينقصه الشق إذا تلف أحد
شقيه بخلاف نقص السعر فإنه لم يذهب من المغصوب عين ولا معنى وههنا فوت معنى وهو إمكان الانتفاع به
وهذا هو الموجب لنقص قيمته وهو حاصل من جهة الغاصب فينبغي أن يضمنه كما لو فوت بصره أو سمعه
أو عقله أو فك تركيب باب ونحوه
(فصل) وان غصب ثوبا فلبسه فأبلاه فنقص نصف قيمته ثم غلت الثياب فعادت لذلك قيمته كما
كانت لزمه رده وأرش فنقصه، فلو غصب ثوبا قيمته عشرة فنقصه لبسه حتى صارت قيمته خمسة ثم زادت
قيمته فصارت عشرة رده ورد خمسة لأن ما تلف قبل غلاء الثوب ثبتت قيمته في الذمة خمسة فلا يعتبر
ذلك بغلاء الثوب ولا رخصه وكذلك لو رخصت الثياب فصارت قيمتها ثلاثة لم يلزم الغاصب إلا خمسة
401

مع رد الثوب ولو تلف الثوب كله وقيمته عشرة ثم غلت الثياب فصارت قيمة الثوب عشرين لم يضمن الا
عشرة لأنها ثبتت في الذمة عشرة فلا تزداد بغلاء الثياب ولا تنقص برخصها
(فصل) وان غصب ثوبا أو زليا فذهب بعض أجزائه كخمل المنشفة وزئبرة الثوب فعليه أرش نقصه
وإن أقام عنده مدة لمثلها أجرة لزمه أجره سواء استعمله أو تركه، ان اجتمعا مثل أن أقام عنده مدة
فذهب بعض أجزائه فعليه ضمانهما معا الاجر وأرش النقص سواء كان ذهاب الاجزاء بالاستعمال أو بغيره
وقال بعض أصحاب الشافعي ان نقص بغير الاستعمال كثوب ينقصه النشر فنقص بنشره وبقي عنده مدة
ضمن الاجر والنقص، وإن كان النقص من جهة الاستعمال كثوب لبسه وأبلاه ففيه وجهان (أحدهما) يضمنهما
معا (والثاني) يجب أكثر الامرين من الاجر وأرش النقص لأن ما نقص من الاجزاء في مقابلة الاجر
ولذلك لا يضمن المستأجر تلك الأجزاء، ويتخرج لنا مثل ذلك. ولنا أن كل واحد منهما ينفرد بالايجاب
عن صاحبه فإذا اجتمعا وجبا كما لو أقام في يده مدة ثم تلف والأجرة تجب في مقابلة ما يفوت من المنافع
لافي مقابلة الاجزاء ولذلك يجب الاجر وان لم تلفت الاجزاء وان لم يكن للمغصوب اجر كثوب غير
مخيط فلا اجر على الغاصب وعليه ضمان نقصه لاغير
(فصل) إذا نقص المغصوب عند الغاصب ثم باعه فتلف عند المشتري فله ان يضمن من شاء منهما
فإن ضمن الغاصب ضمنه قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف لأنه في ضمانه من حين
402

غصبه إلى يوم تلف وان ضمن المشتري ضمنه قيمته أكثر ما كانت من حين قبضه إلى حين تلفه لأن
ما قبل القبض لم يدخل في ضمانه، وإن كان له اجرة فله الرجوع على الغاصب بجميعها وان شاء رجع
على المشتري بأجر مقامه في يده وبالباقي على الغاصب والكلام في رجوع كل واحد منهما على صاحبه
نذكره فيما بعد أن شاء الله تعالى
(فصل) وإذا غصب حنطة فطحنها أو شاة فذبحها وشواها أو حديدا فعمله سكاكين وأواني أو خشبة
فنجرها بابا أو تابوتا أو ثوبا فقطعه وخاطه لم يزل ملك صاحبه عنه ويأخذه وأرش نقصه ان نقص ولا شئ
للغاصب في زيادته في الصحيح من المذهب وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة في هذه المسائل كلها ينقطع
حق صاحبها عنها إلا أن الغاصب لا يجوز له التصرف فيها إلا بالصدقة إلا أن يدفع قيمتها فيملكها ويتصرف
فيها كيف شاء، وروى محمد بن الحكم عن أحمد ما يدل على أن الغاصب يملكها بالقيمة إلا أنه قول قديم
رجع عنه فإن محمدا مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنه، واحتجوا بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم زار
قوما من الأنصار في دارهم فقدموا إليه شاة مشوبة فتناول منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها فقال (إن
هذه الشاة لتخبرني أنها أخذت بغير حق) فقالوا نعم يا رسول الله طلبنا في السوق فلم نجد فأخذنا شاة
لبعض الأنصار جيراننا؟؟ ونحن نرضيهم من ثمنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أطعموها الاسرى) رواه أبو داود بنحو من
هذا وهذا يدل على أن حق أصحابها انقطع عنها لولا ذلك لأمر بردها عليهم. ولنا أن عين مال المغصوب
منه قائمة فلزم ردها إليه كما لو ذبح الشاة ولم يشوها ولأنه لو فعله بملكه لم يزل عنه فإذا فعله بملك غيره
403

لم يزل عنه كما لو ذبح الشاة أو ضرب النقرة دراهم ولأنه لا يزيل الملك إذا كان بغير فعل آدمي فلم يزله
إذا فعله آدمي كالذي ذكرناه فأما الخبر فليس بمعروف كما رووه وليس في رواية أبي داود ونحن نرضيهم
عنها، فإذا ثبت هذا فإنه لا شئ للغاصب بعمله سواء زادت العين أو لم تزد وهذا مذهب الشافعي وذكر
أبو الخطاب ان الغاصب يشارك المالك بالزيادة لأنها حصلت بمنافعه ومنافعه أجريت مجرى الأعيان فأشبه
ما لو غصب ثوبا فصنعه والمذهب الأول ذكره أبو بكر والقاضي لأن الغاصب عمل في ملك غيره بغير
اذنه فلم يستحق لذلك عوضا كما لو أغلى زينا فزادت قيمته أو بنى حائطا لغيره أو زرع حنطة انسان
في أرضه وسائر عمل الغاصب، فاما صبغ الثوب فإن الصبغ عين مال لا يزول ملك صاحبه عنه بجعله مع
ملك غيره وهذا حجة عليه لأنه إذا لم يزل ملكه عن صبغه بجعله في ملك غيره وجعله كالصفة فلان لا يزول
ملك غيره بعمله فيه أولى، فإن احتج بان من زرع في أرض غيره يرد عليه نفقته قلنا الزرع ملك للغاصب
لأنه عين ماله ونفقته عليه تزداد به قيمته فإذا أخذه مالك الأرض احتسب له بما أنفق على ملكه وفي
مسئلتنا عمله في ملك المغصوب منه بغير اذنه فكان لاغيا، على أننا نقول إنما تجب قيمة الزرع على إحدى
الروايتين فاما ان نقصت العين دون القيمة رد الموجود وقيمة النقص وإن نقصت العين والقيمة ضمنهما
معا كالزيت إذا غلاه، وهكذا القول في كل ما تصرف فيه مثل نقرة ضربها دراهم أو حليا أو طينا جعله
لبنا أو غزلا نسجه أو ثوبا قصره، وان جعل فيه شيئا من عين ماله مثل ان سمر الرفوف بمسامير من
404

عنده فله قلعها ويضمن ما نقصت الرفوف وإن كانت المسامير من الخشبة المغصوبة أو مال المغصوب منه
فلا شئ للغاصب وليس له قلعها إلا أن يأمره المالك بذلك فيلزمه وإن كانت المسامير للغاصب فوهبها للمالك
فهل يجبر على قبول الهبة؟ على وجهين، وإن استأجر الغاصب على عمل شئ من هذا الذي ذكرناه
فالاجر عليه والحكم في زيادته ونقصه كما لو ولي ذلك بنفسه إلا أن للمالك أن يضمن النقص من
شاء منهما فلو استأجر قصابا فذبح شاة فللمالك أخذها وأرش نقصها ويغرم من شاء منهما فإن غرم الغاصب
لم يرجع على أحد إذا لم يعلم القصاب الحال وان ضمن القصاب رجع على الغاصب لأنه غره وإن علم
القصاب أنها مغصوبة فغرمه لم يرجع على أحد لأنه أتلف مال غيره بغير اذنه عالما بالحال وإن
ضمن الغاصب رجع على القصاب لأن التلف حصل منه فاستقر الضمان عليه، وإن استعار من
ذبح له فهو كما لو استأجره.
(فصل) وان غصب حبا فزرعه فصار زرعا أو نوى فصار شجرا أو بيضا فحضنه فصار فرخا فهو
للمغصوب منه لأنه عين ماله نمى فأشبه ما تقدم، ويتخرج ان يملكه الغاصب بناء على الرواية المذكورة
في الفصل السابق، وان غصب دجاجة فباضت عنده ثم حضنت بيضها فصار فراخا فهم لمالكها ولا شئ
للغاصب في علفها قال احمد في طيرة جاءت إلى دار قوم فأفرخت عندهم يرد فروخها إلى أصحاب الطيرة
ولا شئ للغاصب فيما عمل، وان غصب شاة فأنزى عليها فحلا فالولد لصاحب الشاة لأنه من نمائها وان
غصب فحلا فأنزاه على شاته فالولد لصاحب الشاة لأنه يتبع الام ولا أجرة له لأن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن عسب الفحل وإن نقصه الضراب ضر نقصه
405

(فصل) وان غصب دنانير أو دراهم من رجل وخلطها بمثلها لآخر فلم يتميزا صارا شريكين وقال
أبو حنيفة يملكها الغاصب وعليه غرامة مثلها لهما وان خلطها بمثلها من ماله ملكها لأنه تعذر تسليمها
بعينها فأشبه ما لو تلفت.
ولنا أنه فعل في المغصوب على وجه التعدي لم يذهب بماليته فلم يزل ملك صاحبه عنه كذبح الشاة
(فصل) وان غصب عبدا فصاد صيدا أو كسب شيئا فهو لسيده وإن غصب جارحا كالفهد
والبازي فصاد به فالصيد لمالكه لأنه من كسب ماله فأشبه صيد العبد ويحتمل أنه للغاصب لأنه الصائد
والجارحة آلة له ولهذا يكتفى بتسميته عند ارساله الجارح، وان غصب قوسا أو سهما أو شبكة فصاد به
ففيه وجهان (أحدهما) أنه لصاحب القوس والسهم والشبكة لأنه حاصل به فأشبه نماء ملكه وكسب
عبده (والثاني) للغاصب لأن الصيد حصل بفعله وهذه آلات فأشبه ما لو ذبح بسكين غيره فإن
قلنا هو للغاصب فعليه أجر ذلك كله مدة مقامه في يديه إن كان له أجر وإن قلنا هو للمالك
لم يكن له أجر في مدة اصطياده في أحد الوجهين لأن الاجر في مقابلة منافعه ومنافعه في هذه المدة عائدة
إلى مالكه فلم يستحق عوضها على غيره كما لو زرع أرض إنسان فأخذ المالك الزرع بنفقته والثاني عليه
أجر مثله لأنه استوفى منافعه أشبه ما لو لم يصد شيئا
406

(مسألة) قال (ومن غصب جارية فوطئها وأولدها لزمه الحد وأخذها سيدها وأولادها
ومهر مثلها)
وجملة ذلك أن الغاصب إذا وطئ الجارية المغصوبة فهو زان لأنها ليست زوجة له ولا ملك يمين فإن
كان عالما بالتحريم فعليه حد الزنا لأنه لا ملك له ولا شبهة ملك، وعليه مهر مثلها سواء كانت مكرهة أو مطاوعة
وقال الشافعي لامهر للمطاوعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي. ولنا أن هذا حق للسيد فلا يسقط
بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع يدها ولأنه حق يجب للسيد مع اكراهها فيجب مع مطاوعتها كأجر منافعها
والخبر محمول على الحرة، ويجب أرش بكارتها لأنه بدل جزء منها ويحتمل أن لا يجب لأن مهر البكر
يدخل فيه أرش البكارة ولهذا يزيد على مهر الثيب عادة لأجل ما يتضمنه من تفويت البكارة، وان حملت
فالولد مملوك لسيدها لأنه من نمائها وأجزائها ولا يلحق نسبه بالواطئ لأنه من زنا فإن وضعته حيا
وجب رده معها وان أسقطته ميتا لم يضمن لأننا لا نعلم حياته قبل هذا (1) هذا قول القاضي وهو الظاهر من
مذهب الشافعي عند أصحابه وقال القاضي أبو الحسين يجب ضمانه بقيمته لو كان حيا نص عليه الشافعي
لأنه يضمنه لو سقط بضربته وما ضمن بالاتلاف ضمنه الغاصب بالتلف في يده كاجر العين والأولى
إن شاء الله تعالى أن يضمنه بعشر قيمة أمه لأنه الذي يضمنه به بالجناية فيضمنه به في التلف كالاجزاء، وان

(1) من هنا إلى قوله وان وضعته حيا زيادة من بعض النسخ
407

وضعته حيا حصل مضمونا في يد الغاصب كالأم فإن مات بعد ذلك ضمنه بقيمته وان نقصت الام
بالولادة ضمن نقصها ولم ينجبر بالولد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ينجبر نقصها بولدها
ولنا أن ولدها ملك للمغصوب منه فلا ينجبر به نقص حصل بجناية الغاصب كالنقص الحاصل بغير
الولادة، وان ضرب الغاصب بطنها فألقت الجنين ميتا فعليه عشر قيمة أمه، وان ضرب بطنها أجنبي ففيه مثل
ذلك، وللمالك تضمين أيهما شاء فإن ضمن الغاصب رجع على الضارب وان ضمن الضارب لم يرجع على أحد
لأن الاتلاف وجد منه فاستقر الضمان عليه، وان ماتت الجارية فعليه قيمتها أكثر ما كانت ويدخل في
ذلك أرش بكارتها ونقص ولادتها، ولا يدخل فيه ضمان ولدها ولا مهر مثلها، وسواء في هذه الأحكام
كلها حالة الاكراه أو المطاوعة لأنها حقوق لسيدها فلا تسقط بمطاوعتها وأما حقوق الله تعالى كالحد عليها
والتعزيز في موضع يجب فإن كانت مطاوعة على الوطئ عالمة بالتحريم فعليها الحد إذا كانت من أهله
والاثم وإلا فلا
(فصل) وإن كان الغاصب جاهلا بتحريم ذلك لقرب عهده بالاسلام أو ناشئا ببادية بعيدة يخفى
عليه مثل هذا فاعتقد حل وطئها أو اعتقد أنها جاريته فأخذها ثم تبين أنها غيرها فلا حد عليه لأن الحد
يدرأ بالشبهات وعليه المهر وأرش البكارة، وان حملت فالولد حر لاعتقاده انها ملكه ويلحقه النسب
لموضع الشبهة وإن وضعته ميتا لم يضمنه لأنه لم يعلم حياته ولأنه لم يحل بينه وبينه وإنما وجب تقويمه لا جل
408

الحيلولة وان وضعته حيا فعليه قيمته يوم انفصاله لأنه فوت عليه رقه باعتقاده ولا يمكن تقويمه حملا فقوم
عليه أول انفصاله لأنه أول حال امكان تقويمه ولان ذلك وقت الحيلولة بينه وبين سيده، وان ضرب
الغاصب بطنها فألقت جنينا ميتا فعليه غرة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه لا يرث
الضارب منها شيئا لأنه أتلف جنينا حرا وعليه للسيد عشر قيمة أمه لأن الاسقاط لما اعتقب الضرب
فالظاهر حصوله به وضمانه للسيد ضمان المماليك ولهذا لو وضعته حيا قومناه مملوكا، وإن كان الضارب أجنبيا
فعليه غرة دية الجنين الحر لأنه محكوم بحريته وتكون مورثة عنه وعلى الغاصب للسيد عشر قيمة أمه لأنه يضمنه ضمان
المماليك وقد فوت رقه على السيد وحصل التلف في يديه، والحكم في المهر والأرش والاجر ونقص الولادة وقيمتها
على ما مضى إذا كانا عالمين لأن هذه حقوق الآدميين فلا تسقط بالجهل والخطأ كالدية
(مسألة) قال (وإن كان الغاصب باعها فوطئها المشتري وأولدها وهو لا يعلم ردت
الجارية إلى سيدها ومهر مثلها وفدى أولاده بمثلهم وهم أحرار، ورجع بذلك كله على الغاصب)
وجملة ذلك أن الغاصب إذا باع الجارية فبيعه فاسد لأنه يبيع مال غيره بغير اذنه، وفيه رواية
أخرى انه يصح ويقف على إجازة المالك وقد ذكرنا ذلك في البيع، وفيه رواية ثالثة ان البيع يصح
409

وينفذ لأن الغصب في الظاهر تتطاول مدته فلو لم يصح تصرف الغاصب أفضى إلى الضرر بالمالك والمشتري
لأن المالك لا يملك ثمنها والمشتري لا يملكها والتفريع على الرواية الأولى، والحكم في وطئ المشتري
كالحكم في وطئ الغاصب الا أن المشتري إذا ادعى الجهالة قبل منه بخلاف الغاصب فإنه لا يقبل منه
الا بشرط ذكرناه، ويجب رد الجارية إلى سيدها وللمالك مطالبة أيهما شاء بردها لأن الغاصب أخذها
بغير حق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وللمشتري أخذ مال غيره بغير حق
أيضا فيدخل في عموم الخبر ولان مال غيره في يده وهذا لا خلاف فيه بحمد الله تعالى ويلزم المشتري
المهر لأنه وطئ جارية غيره بغير نكاح وعليه أرش البكارة ونقص الولادة وإن ولدت منه فالولد
حر لاعتقاده انه يطأ مملوكته فمنع ذلك انحلاق الولد رقيقا ويلحقه نسبه وعليه فداؤهم لأنه فوت رقهم
على سيدهم باعتقاده حل الوطئ هذا الصحيح في المذهب وعليه الأصحاب وقد نقل ابن منصور عن أحمد
ان المشتري لا يلزمه فداء أولاده وليس للسيد بدلهم لأنهم كانوا في حال العلوق أحرارا ولم يكن
لهم قيمة حينئذ قال الحلال أحسبه قولا لأبي عبد الله أول والذي أذهب إليه أنه يفديهم وقد نقله
ابن منصور أيضا وجعفر بن محمد وهو قول أبي حنيفة والشافعي ويفديهم ببدلهم يوم الوضع وبهذا قال
الشافعي وقال أبو حنيفة يجب يوم المطالبة لأن ولد المغصوبة لا يضمنه عند إلا بالمنع وقبل المطالبة
لم يحصل منع فلم يجب، وقد ذكرنا فيما مضي أنه يحدث مضمونا فيقوم يوم وضعه لأنه أول حال أمكن
410

تقويمه واختلف أصحابنا فيما يفديهم به فنقل الخرقي ههنا أن يفديهم بمثلهم والظاهر أنه أراد بمثلهم
في السن والصفات والجنس والذكورية والأنوثية وقد نص عليه احمد، وقال أبو بكر عبد العزيز يفديهم
بمثلهم في القيمة، وعن أحمد رواية ثالثة أنه يفديهم بقيمتهم وهو قول أبي حنيفة والشافعي وهو أصح
إن شاء الله تعالى لأن الحيوان ليس بمثلي فيضمن بقيمته كسائر المتقومات ولأنه لو أتلفه ضمنه بقيمته
وقد ذكرنا وجه هذه الأقوال في غير هذا الموضع. وقول الخرقي رجع بذلك كله على الغاصب يعني
بالمهر وما فدى به الأولاد لأن المشتري دخل على أن يسلم له الأولاد وأن يتمكن من الوطئ بغير عوض
فإذا لم يسلم له ذلك فقد غره البائع فرجع به عليه فاما الجارية إذا ردها لم يرجع ببدلها لأنها يملك
المغصوب منه رجعت إليه لكنه يرجع على الغاصب بالثمن الذي أخذه منه، وإن كانت قد أقامت عنده
مدة لمثلها أجر في تلك المدة فعليه أجرها، وإن اغتصبها بكرا فعليه أرش بكارتها وإن نقصتها الولادة
أو غيرها فعليه أرش نقصها، وإن تلفت في يده فعليه قيمتها. وكل ضمان يجب على المشتري فللمغصوب منه
ان يرجع به على من شاء منهما لأن يد الغاصب سبب يد المشتري، وما وجب على الغاصب من أجر
المدة التي كانت في يده أو نقص حدث عنده فإنه يرجع به على الغاصب وحده لأن ذلك كان قبل يد
المشتري، فإذا طالب المالك المشتري بما وجب في يده وأخذه منه فأراد المشتري الرجوع به على الغاصب
نظرت فإن كان المشتري حين الشراء علم أنها غير مغصوبة لم يرجع بشئ لأن موجب الضمان وجد في يده
411

من غير تغرير، وان لم يعلم فذلك على ثلاثة أضرب: ضرب لا يرجع به وهو قيمتها إن تلفت في يده
وأرش بكارتها وبدل جزء من أجزائها لأنه دخل مع البائع على أنه يكون ضامنا لذلك بالثمن فإذا
ضمنه لم يرجع به، وضرب يرجع به وهو بدل الولد إذا ولدت منه لأنه دخل معه في العقد على أن
لا يكون الولد مضمونا عليه ولم يحصل من جهته اتلاف وإنما الشرع أتلفه بحكم بيع الغاصب منه
وكذلك نقص الولادة، وضرب اختلف فيه وهو مهر مثلها وأجر نفعها فهل يرجع به على الغاصب؟
فيه روايتان (إحداهما) يرجع به وهو قول الخرقي لأنه دخل في العقد على أن يتلفه بغير عوض فإذا
غرم عوضه رجع به كبدل الولد ونقص الولادة وهذا أحد قولي الشافعي.
(والثانية) لا يرجع به وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه غرم ما استوفى بدله فلا يرجع به
كقيمة الجارية وبدل أجزائها وهذا القول الثاني للشافعي وان رجع بذلك كله على الغاصب. فكل ما لو
رجع به على المشتري لا يرجع به على الغاصب إذا رجع به على الغاصب رجع به الغاصب على المشتري، وكل
ما لو رجع به على المشتري رجع به المشتري على الغاصب إذا غرمه الغاصب لم يرجع به على المشتري، ومتى
ردها حاملا فماتت من الوضع فإنها مضمونة على الواطئ لأن التلف بسبب من جهته
(فصل) ومن استكره امرأة على الزنا فعليه الحد دونها لأنها معذورة وعليه مهرها حرة كانت
أو أمة فإن كانت حرة كان المهر لها وان كانت أمة كان لسيدها وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة
412

لا يجب المهر لأنه وطئ يتعلق به وجوب أحد فلم يجب به المهر كما لو طاوعته. ولنا أنه وطئ في غير
ملك سقط فيه الحد من الموطوءة فإذا كان الواطئ من أهل الضمان في مقها وجب عليه مهرها كما لو
وطئها بشبهة، وأما المطاوعة فإن كانت أمة وجب مهرها لأنه حق لسيدها فلا يسقط برضاها وإن كانت
حرة لم يجب لها المهر لأن رضاءها اقترن بالسبب الموجب فلم يوجب كما لو أذنته في قطع يدها
أو اتلاف جزء منها، وروي عن أحمد رواية أخرى أن الثيب لامهر لها وان أكرهت نقلها ابن منصور وهو
اختيار أبي بكر، والصحيح الأول لأنها مكرهة على الوطئ الحرام فوجب لها المهر كالبكر ويجب أرش
البكارة مع المهر كما لو قد منا
(فصل) إذا أجر الغاصب المغصوب فالإجارة باطلة على إحدى الروايات كالبيع ولمالكه تضمين
أيهما شاء أجر مثلها فإن ضمن المستأجر لم يرجع بذلك لأنه دخل في العقد على أنه يضمن المنفعة
إلا أن يزيد أجر المثل على المسمى في العقد فيرجع بالزيادة ويسقط عنه المسمى في العقد، وإن
كان دفعه إلى الغاصب رجع وبه، وإن تلفت العين في يد المستأجر فلمالكها تغريم من شاء منهما
قيمتها فإن غرم المستأجر فله الرجوع بذلك على الغاصب لأنه دخل معه على أنه لا يضمن العين ولم
يحصل له بدل في مقابلة ما غرم، هذا إذا لم يعلم بالنصب وان علم لم يرجع على أحد لأنه دخل على
بصيرة وحصل التلف في يده فاستقر الضمان عليه فإن غرم الغاصب الاجر والقيمة رجع بالاجر على
المستأجر على كل حال ويرجع بالقيمة إن كان المستأجر عالما بالغصب والا فلا وهذا قول الشافعي ومحمد
413

ابن الحسن في الفصل كله، وحكي عن أبي حنيفة أن الاجر للغاصب دون صاحب الدار وهذا فاسد لأن
الاجر عوض المنافع المملوكة لرب الدار فلم يملكها الغاصب كعوض الاجزاء
(فصل) وإن أودع المغصوب أو وكل رجلا في بيعه ودفعه إليه فتلف في يده فللمالك تضمين
أيهما شاء أما الغاصب فلانه حال بين المالك وبين ملكه وأثبت اليد العادية عليه والمستودع والوكيل
لا ثباتهما أيديهما على ملك معصوم بغير حق، فإن غرم الغاصب وكانا غير عالمين بالغصب استقر الضمان
عليه ولم يرجع على أحد وان غرمهما رجعا على الغاصب بما غرما من القيمة والاجر لأنهما دخلا على أن
لا يضمنا شيئا من ذلك ولم يحصل لهما بدل عما ضمنا وإن علم أنها مغصوبة استقر الضمان لأن التلف
حصل تحت أيديهما من غير تغرير بهما فاستقر الضمان عليهما فإن غرما شيئا لم يرجعا به وإن غرم
الغاصب رجع عليهما لأن التلف حصل في أيديهما، وإن جرحها الغاصب ثم أودعها أو ردها إلى مالكها
فتلفت بالجرح استقر المضان على الغاصب بكل حال لأنه هو المتلف فكان الضمان عليه كما لو باشرها
بالاتلاف في يده
(فصل) وإن أعار العين المغصوبة فتلفت عند المستعير فللمالك تضمين أيهما شاء أجرها وقيمتها فإن
غرم المستعير مع علمه بالغصب لم يرجع على أحد وإن غرم الغاصب رجع على المستعير وإن لم يكن علم
بالغصب فغرمه لم يرجع بقيمة العين لأنه قبضها على أن تكون مضمونة عليه، وهل يرجع بما غرم من
414

الاجر؟ فيه وجهان (أحدهما) يرجع لأنه دخل على أن المنافع له غير مضمونة عليه (والثاني) لا يرجع
لأنه انتفع بها فقد استوفى بدل ما غرم، وكذلك الحكم فيما تلف من الاجزاء بالاستعمال، وإذا كانت العين
وقت القبض أكثر قيمة من يوم التلف فضمن الأكثر فينبغي أن يرجع بما بين القيمتين لأنه دخل على أنه لا يضمنه
ولم يستوف بدله، فإن ردها المستعير على الغاصب فللمالك أن يضمنه أيضا لأنه فوت الملك على مالكه
بتسليمه إلى غير مستحقه، ويستقر الضمان على الغاصب ان حصل التلف في يديه وكذلك الحكم
في المودع وغيره.
(فصل) وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب استقر الضمان على المتهب فمهما غرم من قيمة العين
أو أجزائها لم يرجع به على أحد لأن التلف حصل في يديه ولم يغره أحد وكذلك أحر مدة
مقامه في يديه وأرش نقص ان حصل، وإن لم يعلم فلصاحبها تضمين أيهما شاء فإن ضمن المتهب رجع
على الواهب بقيمة العين والاجراء لأنه غره وقال أبو حنيفة أيهما ضمن لم يرجع على الآخر
ولنا أن المتهب دخل على أن تسلم له العين فيجب أن يرجع بما غرم من قيمتها كقيمة الأولاد
فإنه وافقنا على الرجوع بضمانه، فاما الأجرة والمهر وأرش البكارة فهل يرجع به المتهب على الواهب؟
فيه وجهان، وان ضمنه الواهب فهل يرجع به على المتهب؟ فيه وجهان.
(فصل) وتصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي على ما ذكرنا من الروايتين (إحداهما) بطلانها
415

(والثانية) صحتها ووقوفها على إجازة المالك، وذكر أبو الخطاب أن في تصرفات الغاصب الحكمية رواية
انها تقع صحيحة وسواء في ذلك العبادات كالطهارة والصلاة والزكاة والحج أو العقود كالبيع والإجارة
والنكاح، وهذا ينبغي أن يتقيد في العقود بما لم يبطله المالك فأما ما احتار المالك ابطاله وأخذ المعقود عليه
فلم نعلم فيه خلافا واما ما لم يدركه المالك فوجه التصحيح فيه ان الغاصب تطول مدته وتكثر تصرفاته
ففي القضاء ببطلانها ضرر كثير وربما عاد الضرر على المالك فإن الحكم بصحتها يقتضي كون الربح للمالك
والعوض بنمائه وزيادته له والحكم ببطلانه يمنع ذلك.
(فصل) وإذا غصب أثمانا فاتجر بها أو عروضا فباعها واتجر بثمنها فقال أصحابنا الربح للمالك
والسلع المشتراة له وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب إن كان الشراء بعين المال فالربح للمالك قال
الشريف وعن أحمد انه يتصدق به، وان اشترى في ذمته ثم نقد الأثمان؟؟ فقال أبو الخطاب يحتمل أن
يكون الربح للغاصب وهو قول أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه لأنه اشترى لنفسه في ذمته فكان
الشراء له والربح له وعليه بدل المغصوب وهذا قياس قول الخرقي ويحتمل أن يكون الربح للمغصوب
منه لأنه نماء ملكه فكان له كما لو اشترى بعين المال وهذا ظاهر المذهب، وإن حصل خسران فهو على
الغاصب لأنه نقص حصل في المغصوب، وان دفع المال إلى من يضارب به فالحكم في الربح على
ما ذكرنا وليس على المالك من أجر العامل شئ لأنه لم يأذن له في العمل في ماله، وأما الغاصب فإن
416

كان المضارب عالما بالغصب فلا أجر له لأنه متعد بالعمل ولم يغره أحد وإن لم يعلم بالغصب فعلى الغاصب
أجر مثله لأنه استعمله عملا بعوض لم يحصل له فلزمه أجره كالعقد الفاسد.
(مسألة) قال (ومن غصب شيئا ولم يقدر على رده لزمت الغاصب القيمة فإن قدر
عليه رده وأخذ القيمة)
وجملته أن من غصب شيئا يعجز عن رده كعبد أبق أو دابة شردت فللمغصوب منه المطالبة ببدله
فإذا أخذه ملكه ولم يملك الغاصب العين المغصوبة بل متى قدر عليها لزمه ردها ويسترد قيمتها التي
أداها وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك يخير المالك بين الصبر إلى إمكان ردها فيستردها
وبين تضمينه إياها فيزول ملكه عنها وتصير ملكا للغاصب لا يلزمه ردها الا أن يكون دفع دون قيمتها
بقوله مع يمينه لأن المالك ملك البدل فلا يبقى ملكه على المبدل كالبيع ولأنه تضمين فيما ينقل الملك
فيه فنقله كما لو خلط زيته بزيته
ولنا ان المغصوب لا يصح تملكه بالبيع فلا يصح بالتضمين كالتالف ولأنه غرم ما تعذر عليه رده
بخروجه عن يده فلا يملكه بذلك كما لو كان المغصوب مدبرا وليس هذا جمعا بين البدل والمبدل لأنه
ملك القيمة لأجل الحيلولة لا على سبيل العوض ولهذا إذا رد المغصوب إليه رد القيمة عليه ولا يشبه
417

الزيت لأنه يجوز بيعه ولان حق صاحبه انقطع عنه لتعذر رده أبدا. إذا ثبت هذا فإنه متى قدر على
المغصوب رده ونماه المنفصل والمتصل وأجر مثله إلى حين دفع بدله، وهل يلزمه أجره من حين دفع
بدله إلى رده؟ فيه وجهان أصحهما لا يلزمه لأنه استحق الانتفاع ببدله الذي أقيم مقامه فلم يستحق
الانتفاع به وبما قام مقامه كسائر ما عداه (والثاني) له اجر لأن العين باقية على ملكه والمنفعة
له ويجب على المالك رد ما أخذه بدلا عنه إلى الغاصب لأنه أخذه بالحيلولة وقد زالت فيجب رد ما أخذ
من أجلها إن كان باقيا بعينه ورد زيادته المتصلة كالسمن ونحوه لأنها تتبع في الفسوخ وهذا فسخ
ولا يلزم رد زيادته المنفصلة لأنها وجدت في ملكه ولا تتبع في الفسوخ فأشبهت زيادة المبيع المردود
بعيب وإن كان البدل تالفا رد مثله أو قيمته ان لم يكن من ذوات الأمثال.
(فصل) وان غصب عصيرا فصار خمرا فعليه مثل العصير لأنه تلف في يديه فإن صار خلا وجب
رده وما نقص من قيمة العصير ويسترجع ما أداه من بدله وقال بعض أصحاب الشافعي يرد الخل
ولا يسترجع القيمة لأن العصير تلف بتخمره فوجب ضمانه وان عاد خلا كما لو هزلت الجارية السمينة
ثم عاد سمنها فإنه يردها وأرش نقصها
ولنا ان الخل عين العصير تغيرت صفته وقد رده فكان له استرجاع ما أداه بدلا عنه كما لو غصبه
فغصبه منه غاصب ثم رده عليه وكما لو غصب حملا فصار كبشا، وأما السمن الأول فلنا فيه منع وان سلمناه
فالثاني غير الأول بخلاف مسئلتنا
418

(فصل) وإذا غصب شيئا ببلد فلقيه ببلد آخر فطالبه به نظرت فإن كان أثمانا لزمه دفعها إليه لأن
الأثمان قيم الأشياء فلا يضر اختلاف قيمتها وان كانت غيرها وكانت من المثليات وقيمته في البلدين
واحدة أو كانت قيمته في بلد الغصب أكثر لزمه أداء مثله لأنه لا ضرر عليه وكذلك أن كانت قيمته
مختلفة الا أنه لا مؤونة لحمله فله المطالبة بمثله لأنه أمكنه رد المثل من غير ضرر يلحقه، وإن كان لحمله
مؤنة وقيمته في البلد الذي غصبه فيه أقل فليس عليه رده، ولا رد مثله لأننا لا نكلفه مؤنة النقل
إلى بلد لا يستحق تسليمه فيه وللمغصوب منه الخيرة بين الصبر إلى أن يستوفيه في بلده وبين المطالبة
في الحال بقيمته في البلد الذي غصبه فيه لأنه تعذر رده ورد مثله، وإن كان من المتقومات فله المطالبة
بقيمته في البلد الذي غصبه فيه ومتى قدر على رد العين المغصوبة ردها واسترجع بدلها على ما ذكرناه
في المسألة قبل هذا.
(مسألة) قال (ولو غصبها حاملا فولدت في يده ثم مات الولد أخذها سيدها
وقيمة ولدها أكثر ما كانت قيمته)
الكلام في هذه المسألة في أمرين (أحدهما) انه إذا غصب حاملا من الحيوان أمه أو غيرها
فالولد مضمون وكذلك لو غصب حائلا فحملت عنده وولدت ضمن ولدها وبهذا قال الشافعي وقال
419

أبو حنيفة ومالك لا يجب ضمان الولد في الصورتين لأنه ليس بمغصوب إذا الغصب فعل محظور ولم يوجد
فإن الموجود ثبوت اليد عليه وليس ذلك من فعله لأنه انبنى على وجود الولد ولا صنع له فيه
ولنا أن ما ضمن خارج الوعاء ضمن ما فيه كالدرة في الصدفة والجوز واللوز ولأنه مغصوب فيضمن
كالأم فإن الولد إما أن يكون مودوعا في الام كالدرة في الحقة واما أن يكون كأجزائها وفي كلا
الموضعين الاستيلاء على الظرف والاستيلاء على الجملة استيلاء على الجزء المظروف فإن أسقطته ميتا
لم يضمنه لأنه لا تعلم حياته ولكن يجب ما نقصت الام عن كونها حاملا وأما إذا حدث الحمل فقد سبق
الكلام فيه (الأمر الثاني) انه يلزمه رد الموجود من المغصوب وقيمة التالف فإن كانت قيمة التالف لا
تختلف من حين الغصب إلى حين الرد ردها، وان كانت تختلف نظرنا فإن كان اختلافهما لمعنى فيه من
كبر وصغر وسمن وهزال وتعلم ونسيان ونحو ذلك من المعاني التي تزيد بها القيمة وتنقص
فالواجب القيمة أكثر ما كانت لأنها مغصوبة في الحال التي زادت فيها والزيادة لمالكها مضمونة على
الغاصب على ما قررناه فيما مضى، فإن كانت زائدة حين تلفها لزمته قيمتها حينئذ لأنه كان يلزمه ردها
زائدة فلزمته قيمتها كذلك، وان كانت زائدة قبل تلفها ثم نقصت عند تلفها لزمه قيمتها حين كانت
زائدة لأنه لو ردها ناقصة للزمه أرش نقصها وهو بدل الزيادة فإذا ضمن الزيادة مع ردها ضمنها عند
تلفها فإن كان اختلافها لتغير الأسعار لم يضمن الزيادة لأن نقصان القيمة لذلك لا يضمن مع رد العين
420

فلا يضمن عند تلفها، وحمل القاضي قول الخرقي على ما إذا اختلفت القيمة لتغير الأسعار وهو مذهب
الشافعي لأن أكثر القيمتين فيه للمغصوب منه فإذا تعذر ردها ضمنها كقيمة يوم التلف وإنما سقطت
القيمة مع رد العين والمذهب الأول لما ذكرنا، وتفارق هذه الزيادة زيادة المعاني لأن تلك تضمن مع
رد العين فكذلك مع تلفها وهذه لا تضمن مع رد العين فكذلك مع تلفها، وقولهم انها سقطت برد العين
لا يصح لأنها لو وجبت لما سقطت بالرد كزيادة السمن والتعلم، قال القاضي ولم أجد عن أحمد رواية بأنها تضمن
بأكثر القيمتين لتغير الأسعار، فعلى هذا تضمن بقيمتها يوم التلف رواه الجماعة عن أحمد، وعنه انها تضمن بقيمتها
يوم الغصب وهو قول أبي حنيفة ومالك لأنه الوقت الذي أزال يده عنه فيلزمه القيمة حينئذ كما لو أتلفه
ولنا أن القيمة إنما تثبت في الذمة حين التلف لأن قبل ذلك كان الواجب رد العين دون قيمتها
فاعتبرت تلك الحالة كما لو لم تختلف قيمته وما ذكروه لا يصح لأن امساك المغصوب غصب فإنه فعل
يجب عليه تركه في كل حال وما روي عن أحمد من اعتبار القيمة بيوم الغصب فقال الخلال حين أحمد عنه
كأنه رجع إلى قوله الأول
(فصل) وإن كان المغصوب من المثليات فتلف وجب رد مثله فإن فقد المثل وجبت قيمته يوم
انقطاع المثل وقال القاضي تجب قيمته يوم قبض البدل لأن الواجب المثل إلى حين قبض البدل بدليل
أنه لو وجد المثل بعد فقده لكان الواجب هو دون القيمة وقال أبو حنيفة ومالك وأكثر أصحاب
421

الشافعي تجب قيمته يوم المحاكمة لأن القيمة لم تنقل إلى ذمته الا حين حكم بها الحاكم
ولنا أن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل فاعتبرت القيمة حينئذ كتلف المتقوم ودليل
وجوبها حينئذ أنه يستحق طلبها واستيفاءها ويجب على الغاصب أداؤها ولا ينفي وجوب المثل لأنه
معجوز عنه والتكليف يستدعى الوسع ولأنه لا يستحق طلب المثل ولا استيفاءه ولا يجب على الآخر
داؤه فلم يكن واجبا كحالة المحاكمة، وأما إذا قدر على المثل بعد فقده فإنه يعود وجوبه لأنه الأصل
قدر عليه قبل أداء البدل فأشبه القدرة على الماء بعد التيمم ولهذا لو قدر عليه بعد المحاكمة وقبل الاستيفاء
لاستحق المالك طلبه وأخذه وقد روي عن أحمد في رجل أخذ من رجل أرطالا من كذا
وكذا أعطاه على السعر يوم أخذه لا يوم يحاسبه وكذلك روي عنه في حوائج البقال عليه القيمة يوم
الاخذ، وهذا يدل على أن القيمة تعتبر يوم الغصب وقد ذكرنا ذلك في الفصل قبل هذا ويمكن التفريق
بين هذا وبين الغصب من قبل أن ما أخذه ههنا بإذن مالكه ملكه وحل له التصرف فيه فتثبت
قيمته يوم ملكه، ولم يتغير ما ثبت في ذمته بتغير قيمة ما أخذه لأنه ملكه والمغصوب ملك للمغصوب
منه والواجب رده لا قيمته وإنما تثبت قيمته في الذمة يوم تلفه أو انقطاع مثله فاعتبرت القيمة حينئذ
وتغيرت بتغيره قبل ذلك فأما إن كان المغصوب باقيا وتعذر رده فأوجبنا رد قيمته فإنه يطالبه بقيمته
يوم قبضها لأن القيمة لم تثبت في الذمة قبل ذلك ولهذا يتخير بين أخذها والمطالبة بها وبين الصبر
422

إلى وقت امكان الرد ومطالبة الغاصب بالسعي في رده وإنما يأخذ القيمة لأجل الحيلولة بينه وبينه
فيعتبر ما يقوم مقامه ولان ملكه لم يزل عنه بخلاف غيره
(مسألة) قال (وإذا كانت للمغصوب أجرة فعلى الغاصب رده وأجر مثله مدة
مقامه في يديه)
هذه المسألة تشتمل على حكمين (أحدهما) وجوب رد المغصوب (والثاني) رد أجرته: أما الأول
فإن المغصوب متى كان باقيا وجب رده لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى ترده) رواه
أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وروى عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبا جادا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها)
رواه أبو داود، يعنى أنه يقصد المزح مع صاحبه بأخذ متاعه وهو جاد في ادخال الغم والغيظ عليه ولأنه
أزال يد المالك عن ملكه بغير حق فلزمه اعادتها، وأجمع العلماء على وجوب رد المغصوب إذا كان باقيا
بحاله لم يتغير ولم يشتغل بغيره، فإن غصب شيئا فبعده لزم رده وان غرم عليه أضعاف قيمته لأنه جنى
بتبعيده فكان ضرر ذلك عليه، فإن قال الغاصب خذ مني أجر رده وتسلمه مني ههنا أو بذل له أكثر من
قيمته ولا يسترده لم يلزم المالك قبول ذلك لأنها معاوضة فلا يجبر عليها كالبيع، وان قال المالك دعه لي
423

في مكانه الذي نقلته إليه لم يملك الغاصب رده لأنه أسقط عنه حقا فسقط وان لم يقبله كما لو أبرأه من
دينه وان قال رده لي إلى بعض الطريق لزمه ذلك لأنه يلزمه جميع المسافة فلزمه بعضها المطلوب وسقط
عنه ما أسقطه، وان طلب منه حمله إلى مكان آخر في غير طريق الرد لم يلزم الغاصب ذلك سواء كان أقرب
من المكان الذي يلزمه رده إليه أو لم يكن لأنه معاوضة، وان قال دعه في مكانه وأعطني أجر رده لم
يجبر على إجابته لذلك ومهما اتفقا عليه من ذلك جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما
(فصل) وان غصب شيئا فشغله بملكه كخيط خاط به ثوبا أو نحوه أو حجرا بنى عليه نظرنا فإن بلي الخيط
أو انكسر الحجر أو كان مكانه خشبة فتلفت لم يؤخذ برده ووجبت قيمته لأنه صار هالكا فوجبت قيمته، وإن كان
باقيا بحاله لزمه رده وإن انتقض البناء وتفصل الثوب، وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب
رد الخشبة والحجر لأنه صار تابعا لملكه يستضر بقلعه فلم يلزم رده كما لو غصب خيطا فخاط به جرح عبده
ولنا أنه مغصوب أمكن رده ويجوز له فوجب كما لو بعد العين ولا يشبه الخيط الذي يخاف على
العبد من قلعه لأنه لا يجوز له رده لما في ضمنه من تلف الآدمي ولان حاجته إلى ذلك تبيح؟؟ أخذه
ابتداء بخلاف البناء، وان خاط بالخيط جرح حيوان فذلك على أقسام ثلاثة (أحدها) أن يخيط به جرح
حيوان لا حرمة له كالمرتد والخنزير والكلب العقور فيجب نزعه ورده لأنه لا يتضمن تفويت ذي حرمة
فأشبه ما لو خاط به ثوبا (والثاني) أن يخيط به جرح حيوان محترم لا يحل أكله كالآدمي، فإن خيف
424

من نزعه الهلاك أو ابطاء برئه فلا يجب نزعه لأن الحيوان آكد حرمة من عين المال ولهذا يجوز
له أخذ مال غيره ليحفظ حياته واتلاف المال لتبقيته وهو ما يأكله وكذلك الدواب التي لا يؤكل
لحمها كالبغل والحمار الأهلي (الثالث) أن يخيط به جرح حيوان مأكول فإن كان ملكا لغير الغاصب
وخيف تلفه بقلعه لم يقطع لأن فيه اضرارا بصاحبه ولا يزال الضرر بالضرر ولا يجب اتلاف مال من
لم يجن صيانة لمال آخر، وإن كان الحيوان للغاصب فقال القاضي لا يجب رده لأنه يمكن ذبح الحيوان
والانتفاع بلحمه وذلك جائز، وان حصل فيه نقص على الغاصب فليس ذلك بمانع من وجوب رد
المغصوب كنقص البناء لرد الحجر المغصوب، وقال أبو الخطاب فيه وجهان (أحدهما) هذا (والثاني)
لا يجب قلعه لأن للحيوان حرمة في نفسه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير أكله ولأصحاب
الشافعي وجهان كهذين، ويحتمل ان يفرق بين ما يعد للاكل من الحيوان كبهيمة الأنعام والدجاج
وأكثر الطير وبين ما لا يعد له كالخيل والطير المقصود صوته فالأول يجب ذبحه إذا توقف رد المغصوب
عليه (والثاني) لا يجب لأن ذبحه اتلاف له فجرى مجرى ما لا يؤكل لحمه ومتى أمكن رد الخيط من غير تلف
الحيوان أو تلف بعض أعضائه أو ضرر كثير وجب رده
(فصل) وان غصب فصيلا فادخله داره فكبر ولم يخرج من الباب أو خشبة وأدخلها داره ثم بنى
الباب ضيقا لا يخرج منه لا بنقضه وجب نقضه ورد الفصيل والخشبة كما ينقض البناء لرد الساجة فإن
425

كان حصوله في الدار بغير تفريط من صاحب الدار نقض الباب وضمانه على صاحب الفصيل لأنه لتخليص
ماله من غير تفريط من صاحب الدار. وأما الخشبة فإن كان كسرها أكثر ضررا من نقض الباب
فهي كالفصيل وإن كان أقل كسرت، ويحتمل في الفصيل مثل هذا فإنه متى كان ذبحه أقل ضررا ذبح
وأخرج لحمه لأنه في معنى الخشبة، وإن كان حصوله في الدار بعدوان من صاحبه كرجل غصب دارا
فأدخلها فصيلا أو خشبة أو تعدى على انسان فأدخل داره فرسا ونحوها كسرت الخشبة وذبح الحيوان
وان زاد ضرره على نقض البناء لأن سبب هذا الضرر عدوانه فيجمل؟؟ عليه دون غيره ولو باع دارا
فيها خوابي لا يخرج الا بنقض الباب أو خزائن أو حيوان وكان نقض الباب أقل ضررا من بقاء ذلك
ن في الدار أو تفصيله أو ذبح الحيوان نقض وكان اصلاحه على البائع لأنه لتخليص ماله وإن كان أكثر ضررا
لم ينقض لأنه لا فائدة فيه ويصطلحان على ذلك اما بأن يشتريه مشتري الدار أو غير ذلك
(فصل) وإن غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة. فقال أصحابنا: حكمها حكم الخيط الذي خاط به
جرحها ويحتمل أن الجوهرة متى كانت أكثر من قيمة الحيوان ذبح الحيوان وردت إلى
مالكها وضمان الحيوان على الغاصب الا أن يكون الحيوان آدميا، وفارق الخيط لأنه في الغالب
أقل قيمة من الحيوان والجوهرة أكثر قيمة ففي ذبح الحيوان رعاية حق المالك برد عين ماله إليه
ورعاية حق الغاصب بتقليل الضمان عليه، وان ابتلعت شاة رجل جوهرة آخر غير مغصوبة ولم يمكن
426

اخراجها الا بذبح الشاة ذبحت إذا كان ضرر ذبحها أقل وكان ضمان نقصها على صاحب الجوهرة لأنه لتخليص
ماله الا أن يكون التفريط من صاحب الشاة بكون؟؟ يده عليها فلا شئ لصاحب الجوهرة لأن التفريط من صاحب
الشاة فالضرر عليه، وان أدخلت رأسها في قمقم فلم يمكن اخراجه الا بذبحها وكان الضرر في ذبحها أقل ذبحت
وإن كان الضرر في كسر القمقم أقل كسر القمقم، وإن كان التفريط من صاحب الشاة فالضمان عليه وإن كان
التفريط من صاحب القمقم بأن وضعه في الطريق فالضمان عليه، وان لم يكن منهما تفريط فالضمان
على صاحب الشاة ان كسر القمقم لأنه كسر لتخليص شاته، وان ذبحت الشاة فالضمان على صاحب القمقم
لأنه لتخليص قمقمه فإن قال من عليه الضمان منهما أنا أتلف مالي ولا أغرم شيئا للآخر فله ذلك
لأن اتلاف مال الآخر إنما كان لحقه وسلامة ماله وتخليصه فإذا رضي بتلفه لم يجز اتلاف غيره، وان
قال لا أتلف مالي ولا أغرم شيئا لم نمكنه من اتلاف مال صاحبه لكن صاحب القمقم لا يجبر على
شئ لأن القمقم لا حرمة له فلا يجبر صاحبه على تخليصه، وأما صاحب الشاة فلا يحل له تركها لما فيه
من تعذيب الحيوان فيقال له إما ان تذبح الشاة لتريحها من العذاب واما ان تغرم القمقم لصحابه إذا كان
كسره أقل ضررا ويخلصها لأن ذلك من ضرورة ابقائها أو تخليصها من العذاب فلزمه كعلفها، وإن كان
الحيوان غير مأكول احتمل أن يكون حكمه حكم المأكول فيما ذكرنا واحتمل أن يكسر القمقم
وهو قول أصحابنا لأنه لا نفع في ذبحه ولا هو مشروع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير أكله
ويحتمل ان يجري مجرى المأكول في أنه متى كان قتله أقل ضررا وكانت الجناية من صاحبه قتل لأن حرمته
427

معارضة لحرمة الآدمي الذي يتلف ماله والنهي عن ذبحه معارض بالنهي عن إضاعة المال وفي كسر
القمقم مع كثرة قيمته إضاعة للمال والله أعلم
(فصل) وان غصب دينارا فوقع في محبرته أو أخذ دينار غيره فسها فوقع في محبرته كسرت ورد
الدينار كما ينقض البناء لرد الساجة وكذلك أن كان درهما أو أقل منه، وان وقع من غير فعله كسرت لرد الدينار
ان أحب صاحبه والضمان عليه لأنه لتخليص ماله، وان غصب دينارا فوقع في محبرة آخر بفعل الغاصب أو غير
فعله كسرت لرده وعلى الغاصب ضمان المحبرة لأنه السبب في كسرها، وإن كان كسرها أكثر ضررا من
تبقية الواقع فيها ضمنه الغاصب ولم تكسر، وان رمى انسان ديناره في محبرة غيره عدوانا فأبى صاحب المحبرة
كسرها لم يجبر عليه لأن صاحبه تعدى برميه فيها فلم يجبر صاحبها على اتلاف ماله لإزالة ضرر عدوانه
عن نفسه وعلى الغاصب نقص المحبرة بوقوع الدينار فيها ويحتمل أن يجبر على كسرها لرد عين
مال الغاصب ويضمن الغاصب قيمتها كما لو غرس في أرض غيره ملك حفر الأرض بغير اذن المالك
لاخذ غرسه ويضمن نقصها بالحفر وعلى كلا الوجهين لو كسرها الغاصب قهرا لم يلزمه أكثر من قيمتها
(فصل) وان غصب لوحا فرقع به سفينة فإن كانت على الساحل لزم قلعه ورده وان كانت في لجهة
البحر واللوح في أعلاها بحيث لا تغرق بقلعه لزم قلعه وان خيف غرقها بقلعه لم يقطع حتى تخرج
إلى الساحل ولصاحب اللوح طلب قيمته فإذا أمكن رد اللوح استرجعه ورد القيمة كما لو غصب عبدا
428

فأبق وقال أبو الخطاب إن كان فيها حيوان له حرمة أو مال لغير الغاصب لم يقلع كالخيط وإن كان
فيها مال للغاصب أولا مال فيها ففيها وجهان (حدهما) لا يقلع (والثاني) يقلع في الحال لأنه أمكن رد
المغصوب فلزم وان أدى إلى تلف المال كرد الساجة المبني عليها ولا صحاب الشافعي وجهان كهذين
ولنا أنه أمكن رد المغصوب من غير اتلاف فلم يجز الاتلاف كما لو كان فيها مال غيره وفارق الساجة
في البناء فإنه لا يمكن ردها من غير إتلاف
(فصل) وإذا غصب شيئا فخلطه بما يمكن تمييزه منه كحنطة بشعير أو سمسم أو صغار الحب بكبار
أو زبيب أسود بأحمر لزمه تمييزه ورده وأجر المميز عليه وإن لم يمكن تمييز جميعه وجب تمييزه ما أمكن
وإن لم يمكن تمييزه فهو على خمسة أضرب:
(أحدها) أن يخلطه بمثله من جنسه كزيت بزيت أو حنطة بمثلها أو دقيق بمثله أو دنانير أو
دراهم بمثلها فقال ابن حامد يلزمه مثل المغصوب منه وهو ظاهر كلام احمد لأنه نص على أنه يكون
شريكا به إذا خلطه بغير الجنس فيكون تنبيها على ما إذا خلطه بجنسه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي
إلا في الدقيق فإنه تجب قيمته لأنه عندهم ليس بمثلي وقال القاضي قياس المذهب أنه يلزمه مثله ان
شاء منه وإن شاء من غيره، لأنه تعذر عليه رد عين ماله بالخلط فأشبه ما لو تلف لأنه لا يتميز
له شئ من ماله
429

ولنا أنه قدر على دفع بعض ماله إليه مع رد المثل في الباقي فلم ينتقل إلى المثل في الجميع كما
لو غصب صاعا فتلف نصفه، وذلك لأنه إذا دع إليه منه فقد دفع إليه بعض ماله وبدل الباقي فكان
أولى من دفعه من غيره.
(الضرب الثاني والثالث والرابع) أن يخلطه بخير منه أو دونه أو بغير جنسه فظاهر كلام احمد
أنهما شريكان يباع الجميع ويدفع إلى كل واحد منهما قدر حقه لأنه قال في رواية أبي الحارث في
رجل له رطل زيت وآخر له رطل شيرج اختلطا يباع الدهن كله ويعطى كل واحد منهما قدر حصته
وذلك لأننا إذا فعلنا ذلك أو صلنا إلى كل واحد منهما عين ماله وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال لم يرجع
إلى البدل وإن نقص المغصوب عن قيمته منفردا فعلى الغاصب ضمان النقص لأنه حصل بفعله وقال
القاضي قياس المذهب أنه يلزم الغاصب مثله لأنه صار بالخلط مستهلكا وكذلك لو اشترى زيتا فخلطه
بزيته ثم أفلس صار البائع كأسوة الغرماء ولأنه تعذر عليه الوصول إلى عين ماله فكان له بدله كما لو
كان تالفا ويحتمل أن يحمل كلام احمد على ما إذا اختلطا من غير غصب فاما المغصوب فقد وجد من
الغاصب ما منع المالك من أخذ حقه من المثليات مميزا فلزمه مثله كما لو أتلفه إلا أنه إن خلطه بخير منه
وبذل لصاحبه مثل حقه منه لزمه قبوله لأنه أوصل إليه بعض حقه بعينه وتبرع بالزيادة في مثل الباقي
وإن خلطه بأدون منه فرضي المالك بأخذ قدر حقه منه لزم الغاصب بذله لأنه أمكنه رد بعض المغصوب
430

ورد مثل الباقي من غير ضرر وقيل لا يلزم الغاصب ذلك لأن حقه انتقل إلى الذمة فلم يجبر على غير
مال وإن بذله للمغصوب منه فأباه لم يجبر على قبوله لأنه دون حقه وإن تراضيا بذلك جار وكان المالك
متبرعا بترك بعض حقه وإن اتفقا على أن يأخذ أكثر من حقه من الردئ أو دون حقه من الجيد
لم يجز لأنه ربا لأنه يأخذ الزائد في القدر عوضا عن الجودة وإن كان بالعكس فرضي دون حقه من
الردئ أو سمح الغاصب فدفع أكثر من حقه من الجيد جاز لأنه لا مقابل للزيادة وإنما هي تبرع
مجرد وإن خلطه بغير جنسه فتراضيا على أن يأخذ أكثر من قدر حقه أو أقل جاز لأنه بدله من
غير جنسه فلا تحرم الزيادة بينهما.
(الضرب الخامس) أن يخلطه بما لا قيمة له كزيت خلطه بماء أو لبن شابه بماء فإن أمكن تخليصه
خلصه ورد نقصه وإن لم يمكن تخليصه أو كان ذلك يفسده رجع عليه بمثله لأنه صار كالهالك وإن
لم يفسده رده ورد نقصه وإن احتيج في تخليصه إلى غرامة لزم الغاصب ذلك لأنه بسببه ولا صحاب
الشافعي في هذا الفصل نحو ما ذكرنا.
(فصل) وإن غصب ثوبا فصبغه لم يخل من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يصبغه بصبغ له (الثاني)
أن يصبغه بصبغ للمغصوب منه (الثالث) أن يصبغه بصبغ لغيرهما، والأول لا يخلو من ثلاثة أحوال
(أحدها) أن يكون الثوب والصبغ بحالهما لم تزد قيمتهما ولم تنقص مثل ان كانت قيمة كل واحد
431

منهما خمسة فصارت قيمتهما بعد الصبغ عشرة فهما شريكان لأن الصبغ عين مال له قيمة فإن تراضيا بتركه
لها جاز وان باعه فثمنه بينهما نصفين.
(الحال الثاني) إذا زادت قيمتهما فصارا يساويان عشرين نظرت فإن كان ذلك لزيادة الثياب في السوق
كانت الزيادة لصاحب الثوب وإن كانت لزيادة الصبغ في السوق فالزيادة لصاحبه وان كانت لزيادتهما
معا فهي بينهما على حسب زيادة كل واحد منهما فإن تساويا في الزيادة في السوق تساوى صاحبهما فيهما
وان زاد أحدهما ثمانية والآخر اثنين فهي بينهما كذلك وان زادا بالعمل فالزيادة بينهما لأن عمل الغاصب
زاد به في الثوب والصبغ وما عمله في المغصوب للمغصوب منه إذا كان أثرا وزيادة مال الغاصب له وان
نقصت القيمة لتغير الأسعار لم يضمنه الغاصب لما تقدم، وان نقص لأجل العمل فهو على الغاصب لأنه بتعديه
فإذا صار قيمة الثوب مصبوغا خمسة فهو كله لمالكه ولا شئ للغاصب لأن النقص حصل بعد وانه فكان عليه
وان صارت قيمته سبعة صار الثوب بينهما لصاحبه خمسة أسباعه ولصاحب الصبغ سبعاه، وان زادت قيمة الثوب
في السوق فصار يساوى سبعة ونقص الصبغ فصار يساوي ثلاثة وكانت قيمة الثوب مصبوغا عشرة فهو بينهما
لصاحب الثوب سبعة ولصاحب الصبغ ثلاثة وإن ساوى اثني عشر قسمت بينهما لصاحب الثوب نصفها وخمسها
وللغاصب خمسها وعشرها وان انعكس الحال فصار الثوب يساوي في السوق ثلاثة والصبغ سبعة انعكست القيمة
فصار لصاحب الصبغ ههنا ما كان لصاحب الثوب في التي قبلها ولصاحب الثوب ما كان لصاحب الصبغ لأن زيادة
السعر لا تضمن فإن أراد الغاصب قلع الصبغ فقال أصحابنا له ذلك سواء أضر بالثوب أو لم يضر ويضمن نقص
الثوب ان نقص وبهذا قال الشافعي لأنه عين ماله فملك أخذه كما لو غرس في أرض غيره ولم يفرق أصحابنا
432

بين ما يهلك صبغه بالقلع وبين ما لا يهلك وينبغي أن يقال ما يهلك بالقلع لا يملك قلعه لأنه سفه وظاهر
كلام الخرقي أنه لا يمكن من قلعه إذا تضرر الثوب بقلعه لأنه قال في المشتري إذا بنى أو غرس في
الأرض المشفوعة فله أخذه إذا لم يكن في أخذه ضرر وقال أبو حنيفة ليس له أخذه لأن فيه اضرارا
بالثوب المغصوب فلم يمكن منه كقطع خرقة منه، وفارق قلع الغرس لأنه الضرر قليل يحصل به نفع قلع
العروق من الأرض. وان اختار المغصوب منه قلع الصبغ ففيه وجهان (أحدها) يملك اجبار الغاصب
عليه كما يملك اجباره على قلع شجره من أرضه وذلك لأنه شغل ملكه بملكه على وجه أمكن تخليصه
فلزمه تخليصه وان استضر الغاصب كقلع الشجر، وعلى الغاصب ضمان نقص الثوب وأجر القلع كما
يضمن ذلك في الأرض (والثاني) لا يملك اجباره ولا يمكن من قلعه لأن الصبغ يهلك بالاستخراج
وقد أمكن وصول الحق إلى مستحقه بدونه بالبيع فلم يجبر على قلعه كقلع الزرع من الأرض، وفارق
الشجر فإنه لا يتلف بالقلع، قال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد ولعله أخذ ذلك من قول أحمد في الزرع
وهذا مخالف للزرع لأن له غاية ينتهي إليها ولصاحب الأرض أخذه بنفقته فلا يمتنع عليه استرجاع
أرضه في الحال بخلاف الصبغ فإنه لا نهاية له إلا تلف الثوب فهو أشبه بالشجر في الأرض، ويختص
وجوب القلع في الشجر بما لا يتلف فإنه يجبر على قلع ما يتلف وما لا يتلف ولأصحاب الشافعي وجهان
كهذين، وان بذل رب الثوب قيمة الصبغ للغاصب ليملكه لم يجبر على قبوله لأنه اجبار على بيع ماله
433

فلم يجبر عليه كما لو بذل له قيمة الغراس ويحتمل أن يجبر على ذلك إذا لم يقلعه قياسا على الشجر والبناء
في الأرض المشفوعة والعارية وفي الأرض المغصوبة إذا لم يقلعه الغاصب ولأنه أمر يرتفع به النزاع ويتخلص
به أحدهما من صاحبه من غير ضرر فأجبر عليه كما ذكرنا، وان بذل الغاصب قيمة الثوب لصاحبه ليملكه
لم يجبر على ذلك كما لو بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لمالكها في هذه المواضع، وان وهب الغاصب
الصبغ لمالك الثوب فهل يلزمه قبوله؟ على وجهين (أحدهما) يلزمه لأن الصبغ صار من صفات العين
فهو كزيادة الصفة في المسلم فيه (الثاني) لا يجبر لأن الصبغ عين يمكن افرادها فلم يجبر على قبولها
وظاهر كلام الخرقي أنه يجبر لأنه قال في الصداق إذا كان ثوبا فغصبه فبذلت له نصفه مصبوغا لزمه
قبوله وان أراد المالك بيع الثوب وأبى الغاصب فله بيعه لأنه ملكه فلا يملك الغاصب منعه من بيع
ملكه بعد وانه وان أراد الغاصب بيعه لم يجبر المالك على بيعه لأنه متعد فلم يستحق إزالة ملك صاحب
الثوب عنه بعدوانه ويحتمل أن يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه
(القسم الثاني) أن يغصب ثوبا وصبغا من واحد فيصبغه به فإن لم تزد قيمتهما ولم تنقص ردهما
ولا شئ عليه وإن زادت القيمة فهي للمالك ولا شئ للغاصب ولأنه إنما له في الصبغ أثر لاعين وان
نقصت بالصبغ فعلى الغاصب ضمان النقص لأنه بتعديه وان نقص لتغير الأسعار لم يضمنه
(القسم الثلث) أن يغصب ثوب رجل وصبغ آخر فيصبغه به فإن كانت القيمتان بحالهما فهما شريكان
434

بقدر مالهما وإن زادت فالزيادة لهما وإن نقصت بالصبغ فالضمان على الغاصب ويكون النقص من صاحب الصبغ
لأنه تبدد في الثوب ويرجع به على الغاصب، وان نقص لنقص سعر الثياب أو سعر الصبغ أو لنقص
سعرهما لم يضمنه الغاصب وكان نقص مال كل واحد منهما من صاحبه وإن أراد صاحب الصبغ قلعه
أو أراد ذلك صاحب الثوب فحكمهما حكم ما لو صبغه الغاصب بصبغ من عنده على ما مر بيانه، وان
غصب عسلا ونشاء وعقده حلواء فحكمه حكم ما لو غصب ثوبا فصبغه على ما ذكر فيه
(الحكم الثاني) انه متى كان للمغصوب أجر فعلى الغاصب أجر مثله مدة مقامه في يديه سواء استوفى
المنافع أو تركها تذهب، هذا هو المعروف في المذهب نص عليه احمد في رواية الأثرم، وبه قال الشافعي،
وقال أبو حنيفة لا يضمن المنافع وهو الذي نصره أصحاب مالك. وقد روى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن
غصب دارا فسكنها عشرين سنة لا أجترئ أن أقول عليه سكنى ما سكن، وهذا يدل على توقفه عن
إيجاب الاجر إلا أن أبا بكر قال هذا قول قديم لأن محمد بن الحكم مات قبل أبي عبد الله بعشرين
سنة واحتج من لم يوجب الاجر بقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخراج بالضمان) وضمانها على الغاصب ولأنه استوفى
منفعة بغير عقد ولا شبهة ملك فلم يضمنها كما لو زنا بامرأة مطاوعة
ولنا أن كل ما ضمنه بالاتلاف في العقد الفاسد جاز أن يضمنه بمجرد الاتلاف كالأعيان ولأنه أتلف
متقوما فوجب ضمانه كالأعيان أو نقول مال متقوم مغصوب فوجب ضمانه كالعين فاما الخبر فوارد في البيع
435

ولا يدخل فيه الغاصب لأنه لا يجوز له الانتفاع بالمغصوب بالاجماع، ولا يشبه الزنا لأنها رضيت باتلاف
منافعها بغير عوض ولا عقد يقتضي العوض فكان بمنزلة من أعاره داره، ولو أكرهها عليه لزمه مهرها،
والخلاف فيما له منافع تستباح بعقد الإجارة كالعقار والثياب والدواب ونحوها فأما الغنم والشجر والطير
ونحوها فلا شئ فيها لأنه لا منافع لها يستحق بها عوض، ولو غصب جارية ولم يطأها ومضت عليها مدة
تمكن الوطئ فيها لم يضمن مهرها لأن منافع البضع لا تتلف الا بالاستيفاء بخلاف غيرها ولأنها تقدر
بزمن فيكون مضي الزمان يتلفها بخلاف المنفعة
(فصل) إذا غصب طعاما فأطعمه غيره فللمالك تضمين أيهما شاء لأن الغاصب حال بينه وبين ماله
والآكل أتلف مال غيره بغير اذنه وقبضه عن يد ضامنه بغير اذنه مالكه، فإن كان الآكل عالما بالغصب
استقر الضمان عليه لكونه أتلف مال غيره بغير اذن عالما من غير تغرير فإذا ضمن الغاصب رجع عليه
وإن ضمن الآكل لم يرجع على أحد وان لم يعلم الآكل بالغصب نظرنا فإن كان الغاصب قال له كله فإنه
طعامي استقر الضمان عليه لاعترافه بأن الضمان باق عليه وانه لا يلزم الآكل شئ. وان لم يقل ذلك
ففيه روايتان (إحداهما) يستقر الضمان على الآكل وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد لأنه
ضمن ما أتلف فلم يرجع به على أحد (والثانية) يستقر الضمان على الغاصب لأنه غر الآكل وأطعمه
على أنه لا يضمنه وهذا ظاهر كلام الخرقي لقوله في المشتري للأمة يرجع بالمهر وكل ما غرم على
436

الغاصب، وأيهما استقر عليه الضمان فغرمه لم يرجع على أحد فإن غرمه صاحبه رجع عليه، وان أطعم
المغصوب لمالكه فأكله عالما أنه طعامه برئ الغاصب وان لم يعلم وقال له الغاصب كله فإنه طعامي استقر
الضمان على الغاصب لما ذكرنا وان كانت له بينة بأنه طعام المغصوب منه، وان لم يقل ذلك بل قدمه
إليه وقال كله أو قال قد وهبتك إياه أو سكت فظاهر كلام أحمد أنه لا يبرأ لأنه قال في رواية الأثرم
في رجل له قبل رجل تبعة فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو هدية فلم يعلم فقال كيف هذا؟ هذا يرى
أنه هدية يقول له هذا لك عندي، وهذا يدل على أنه لا يبرأ ههنا بأكل المالك طعامه بطريق الأولى
لأنه ثم رد إليه يده وسلطانه وههنا بالتقديم إليه لم تعد إليه اليد والسلطان فإنه لا يتمكن من التصرف
فيه بكل ما يريد من أخذه وبيعه والصدقة به فلم يبرأ الغاصب كما لو علفه لدوابه ويتخرج ان
يبرأ بناء على ما مضى إذا أطعمه لغير مالكه فإنه يستقر الضمان على الآكل في إحدى الروايتين فيبرأ
ههنا بطريق الأولى وهذا مذهب أبي حنيفة، وان وهب المغصوب لمالكه أو أهداه
إليه فالصحيح أنه يبرأ لأنه قد سلمه إليه تسليما صحيحا تاما وزالت يد الغاصب وكلام أحمد في رواية
الأثرم وارد فيما إذا أعطاه عوض حقه على سبيل الهدية فأخذه المالك على هذا الوجه لا على سبيل
العوض فلم تثبت المعاوضة ومسئلتنا فيما إذا رد إليه عن ماله وأعاد يده التي أزالها، وان باعه إياه وسلمه
إليه برئ من الضمان لأنه قبضه بالابتياع والابتياع يوجب الضمان، وإن أقرضه إياه برئ أيضا لذلك
437

وان أعاره إياه برئ أيضا لأن العارية توجب الضمان، وان أودعه إياه أو آجره إياه أو رهنه أو أسلمه عنده
ليقصره أو يعلمه لم يبرأ من الضمان إلا أن يكون عالما بالحال لأنه لم يعد إليه سلطانه إنما قبضه على أنه أمانة
وقال بعض أصحابنا يبرأ لأنه عاد إلى يده وسلطانه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والأول أولى
فإنه لو أباحه إياه فأكله لم ير فههنا أولى
(فصل) إذا اختلف المالك والغاصب في قيمة المغصوب ولا بينة لأحدهما فالقول قول الغاصب لأن
الأصل براءة ذمته فلا يلزمه ما لم يقم عليه به حجه كما لو ادعى عليه دينا فأقر ببعضه وكذلك إن قال
المالك كان كاتبا أوله صناعة فأنكر الغاصب فالقول قوله كذلك فإن شهدت له البينة بالصفة
ثبتت، وإن قال الغاصب كانت فيه سلعة أو أصبع زائدة أو عيب فأنكر المالك فالقول قوله لأن
الأصل عدم ذلك ذلك والقول قول الغاصب في قيمته على كل حال، وان اختلفا بعد زيادة قيمة المغصوب في
وقت زيادته فقال المالك زادت قبل تلفه وقال الغاصب إنما زادت قيمة المتاع بعد تلفه فالقول قول
الغاصب لأن الأصل براءة ذمته، وان شاهدنا العبد معيبا فقال الغاصب كان معيبا قبل غصبه وقال المالك
تعيب عندك فالقول قول الغاصب لأنه غارم ولان الظاهر أن صفة العبد لم تتغير، وان غصبه خمرا ثم
قال صاحبه تخلل عندك وأنكر الغاصب فالقول قوله لأن الأصل بقاؤه على ما كان وبراءة الذمة، وان
اختلفا في رد المغصوب أورد مثله أو قيمته فالقول قول المالك لأن الأصل عدم ذلك واشتغال الذمة به
438

وان اختلفا في تلفه فادعاه الغاصب وأنكره المالك فالقول قول الغاصب لأنه أعلم بذلك وتتعذر إقامة
البينة عليه فإذا حلف فللمالك المطالبة ببدله لأنه تعذر رد العين فلزم بدلها كما لو غصب عبدا فأبق وقيل
ليس له المطالبة بالبدل لأنه لا يدعيه وإن قال غصبت مني حديثا فقال بل عتيقا فالقول قول الغاصب لأن
الأصل عدم وجوب الحديث وللمالك المطالبة بالعتيق لأنه دون حقه
(فصل) وإذا باع عبدا فادعى انسان على البائع أنه غصبه العبد وأقام بذلك بينة انتقض البيع ورجع
المشتري على البائع بثمنه وان لم تكن بينة فأقر البائع والمشتري بذلك فهو كما لو قامت به بينة وان أقر البائع
وحده لم يقبل في حق المشتري لأنه لا يقبل اقراره في حق غيره ولزمت البائع قيمته لأنه حال بينه
وبين ملكه ويقر العبد في يد المشتري لأنه ملكه في الظاهر وللبائع احلافه ثم إن كان البائع لم يقبض
الثمن فليس له مطالبة المشتري به لأنه لا يدعيه ويحتمل أن يملك مطالبته بأقل الامرين من الثمن أو قيمة
العبد لأنه يدعي القيمة على المشتري والمشتري يقر له بالثمن فقد اتفقا على استحقاق أقل الأمرين
فوجب ولا يضر اختلافهما في السبب بعد اتفاقهما على حكمه كما لو قال لي عليك الف من ثمن مبيع فقال بل
الف من قرض، وإن كان قد قبض الثمن فليس للمشتري استرجاعه لأنه لا يدعيه ومتى عاد العبد إلى البائع
بفسخ أو غيره وجب عليه رده على مدعيه وله استرجاع ما أخذ منه وإن كان اقرار البائع في مدة الخيار
له انفسخ البيع لأنه يملك فسخه فقبل اقراره بما يفسخه، وان أقر المشتري وحده لزمه رد العبد ولم يقبل اقراره
439

على البائع ولا يملك الرجوع عليه بالثمن أن كان قبضه ويلزمه دفعه عليه إن كان لم يقبضه، وان أقام المشتري بينة
بما أقر به قبلت وله الرجوع بالثمن، وان أقام البائع بينة إذا كان هو المقر نظرنا فإن كان في حال البيع
قال بعتك عبدي هذا أو ملكي لم تقبل بينته لأنه يكذبها وتكذبه وان لم يكن قال ذلك قبلت لأنه يبيع
ملكه وغير ملكه، وأن أقام المدعي البينة سمعت ولا تقبل شهادة البائع له لأنه يجبر بها إلى نفسه نفعا وان أنكراه
جميعا فله احلافهما ان لم تكن له بينة قال أحمد في رجل يجد سرقته بعينها عند انسان قال هو ملكه
يأخذه اذهب إلى حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به ويتبع
المبتاع من باعه) رواه هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة عن الحسن عن سمرة وموسى بن السائب ثقة
(فصل) وإن كان المشتري أعتق العبد فأقرا جميعا لم يقبل ذلك وكان العبد حرا لأنه قد تعلق
به حق لغيرهما فإن وافقهما العبد فقال القاضي لا يقبل أيضا لأن الحرية يتعلق بها حق الله تعالى ولهذا
لو شهد شاهدان بالعتق مع اتفاق السيد والعبد على الرق سمعت شهادتهما، ولو قال رجل أنا حر ثم
أقر بالرق لم يقبل اقراره وهذا مذهب الشافعي ويحتمل أن يبطل العتق إذا اتفقوا كلهم ويعود العبد
إلى المدعي لأنه مجهول النسب أقر بالرق لمن يدعيه فصح كما لو لم يعتقه المشتري، ومتى حكمنا بالحرية
فللمالك تضمين أيهما شاء قيمته يوم عتقه ثم إن ضمن البائع رجع على المشتري لأنه أتلفه وان
رجع على المشتري لم يرجع على البائع الا بالثمن لأن التلف حصل منه فاستقر الضمان عليه، وان مات العبد
440

وخلف مالا فهو للمدعي لاتفاقهم على أنه له وإنما منعنا رد العبد إليه لتعلق حق الحرية به الا أن يخلف
وارثا فيأخذه ولا يثبت الولاء عليه لاحد لأنه لا يدعيه أحد وان صدق المشتري البائع وحده رجع
عليه بقيمته ولم يرجع المشتري بالثمن وبقية الأقسام على ما مضى
(فصل) وإذا باع عبدا أو وهبه ثم ادعى اني فعلت ذلك قبل أن أملكه وقد ملكته الآن بميراث
أو هبة من مالكه فيلزمك رده علي لأن البيع الأول والهبة باطلان وان أقام بذلك بينة نظرت فإن كان
قال حين البيع والهبة هذا ملكي أو بعتك ملكي هذا وكان في ضمنه اقرار بأنه ملكه نحو أن يقول
قبضت ثمن ملكي أو أقبضته ملكي ونحو ذلك لم يقبل البينة لأنه مكذب لها وهي تكذبه وان لم يكن
كذلك قبلت الشهادة لأن الانسان يبيع ويهب ملكه وغير ملكه
(فصل) إذا جنى العبد المغصوب جناية أوجبت القصاص فاقتص منه فضمانه على الغاصب لأنه قد
تلف في يديه فإن عفي عنه على مال تعلق ذلك برقبته وضمان ذلك على الغاصب لأنه نقص حدث في
يده فلزمه ضمانه لأن ضمان العبد ونقصه على سيده، ويضمنه بأقل الامرين من قيمته أو أرش جنايته كما
يفديه سيده، وان جنى على ما دون النفس مثل أن قطع يدا فقطعت يده قصاصا فعلى الغاصب ما نقص
العبد بذلك دون أرش اليد لأن اليد ذهبت بسبب غير مضمون فأشبه ما لو سقطت وان عفي عنه على
مال تعلق أرش اليد برقبته وعلى الغاصب أقل الأمرين من قيمته أو أرش اليد فإن زادت جناية العبد
على قيمته ثم إنه مات فعلى الغاصب قيمته يدفعها إلى سيده فإذا أخذها تعلق أرش الجناية بها لأنها
441

كانت متعلقة بالعبد فتعلقت ببدله كما أن الرهن إذا أتلفه متلف وجبت قيمته وتعلق الدين بها، فإذا أخذ
ولي الجناية القيمة من المالك رجع المالك على الغاصب بقيمة أخرى لأنه القيمة التي أخذها استحقت
بسبب كان في يد الغاصب فكانت من ضمانه، ولو كان العبد وديعة فجنى جناية استغرقت قيمته ثم إن المودع
قتله بعد ذلك وجبت عليه قيمته وتعلق بها أرش الجناية فإذا أخذها ولي الجناية لم يرجع على المودع
لأنه جنى وهو غير مضمون عليه ولو أن العبد جنى في يد سيده جناية تستغرق قيمته ثم غصبه غاصب
فجنى في يده جناية تستغرق قيمته بيع في الجنايتين وقسم ثمنه بينهما ورجع صاحب العبد على الغاصب
بما اخذه الثاني منهما لأن الجناية كانت في يده وكان للمجني عليه أولا أن يأخذه دون الثاني لأن
الذي يأخذه المالك من الغاصب هو عوض ما أخذه المجني عليه ثانيا فلا يتعلق به حقه ويتعلق به حق
الأول لأنه بدل عن قيمة الجاني لا يزاحم فيه فإن مات هذا العبد في يد الغاصب فعليه قيمته تقسم بينهما
ويرجع المالك على الغاصب نصف القيمة لأنه ضامن للجناية الثانية ويكون للمجني عليه أولا
أن يأخذه لما ذكرناه
(مسألة) قال (من أتلف لذمي خمرا أو خنزيرا فلا غرم عليه وينهى عن التعرض
لهم فيما لا يظهرونه)
442

وجملة ذلك أنه لا يجب ضمان الخمر والخنزير سواء كان متلفه مسلما أو ذميا لمسلم أو ذمي نص عليه
احمد في رواية أبي الحارث في الرجل يهريق مسكرا لمسلم أو لذمي خمرا فلا ضمان عليه، وبهذا قال
الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك يجب ضمانهما إذا أتلفهما على ذمي قال أبو حنيفة إن كان مسلما بالقيمة
وإن كان ذميا بالمثل لأن عقد الذمة إذا عصم عينا قومها كنفس الآدمي وقد عصم خمر الذمي بدليل أن
المسلم يمنع من إتلافها فيجب أن يقومها ولأنها مال لهم يتمولونها بدليل ما روي عن عمر رضي الله عنه
أن عامله كتب إليه إن أهل الذمة يمرون بالعاشر ومعهم الخمور فكتب إليه عمر: ولو هم بيعها وخذوا منهم
عشر ثمنها، وإذا كانت مالا وجب ضمانها كسائر أموالهم
ولنا أن جابر روي أن النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)
متفق على صحته وما حرم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته كالميتة، ولان ما لم يكن مضمونا في حق المسلم لم يكن
مضمونا في حق الذمي كالمرتد ولأنها غير متقومة فلا تضمن كالميتة، ودليل أنها غير متقومة أنها غير متقومة
في حق المسلم فكذلك في حق الذمي فإن تحريمها ثبت في حقهما وخطاب النواهي يتوجه إليهما فما ثبت
في حق أحدهما ثبت في حق الآخر، ولا نسلم أنها معصومة بل متى أظهر حلت إراقتها ثم لو عصمها
ما لزم تقويمها فإن نساء أهل الحرب وصبيانهم معصومين غير متقومين، وقولهم انها مال عندهم ينتقض
بالعبد المرتد فإنه مال عندهم، وأما حديث عمر فمحمول على أنه أراد ترك التعرض لهم وإنما أمر بأخذ
443

عشر أثمانها لأنهم إذا تبايعوا وتقابضوا حكمنا لهم بالملك ولم ننقضه وتسميتها أثمانا مجاز كما سمى الله تعالى
ثمن يوسف ثمنا فقال (وشروه بثمن بخس) وأما قول الخرقي وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه فلان
كل ما اعتقدوا حله في دينهم مما لا أذى للمسلمين فيه من الكفر وشرب الخمر واتخاذه ونكاح ذوات
المحارم لا يجوز لنا التعرض لهم فيه إذا لم يظهروه لأننا التزمنا إقرارهم عليه في دارنا فلا نعرض لهم
فيما التزمنا تركه، وما أظهروه من ذلك تعين إنكاره عليهم فإن كان خمرا جازت إراقته، وإن أظهروا
صليبا أو طنبورا جاز كسره، وإن أظهروا كفرهم أدبوا على ذلك، ويمنعون من إظهار
ما يحرم على المسلمين.
(فصل) وان غصب من ذمي خمرا لزمه ردها لأنه يقر على شربها وإن غصبها من مسلم لم يلزم
ردها ووجبت إراقتها لأن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فأمره بإراقتها، وإن
أتلفها أو تلفت عنده لم يلزمه ضمانها لأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن
الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ولان ما حرم الانتفاع به لم يجب ضمانه كالميتة والدم، فإن أمسكها في يده حتى
صارت خلا لزم ردها على صاحبها لأنها صارت خلا على حكم ملكه فلزم ردها إليه فإن تلفت ضمنها له
لأنها مال للمغصوب منه تلف في يد الغاصب وإن أراقها فجمعها انسان فتخللت عنده لم يلزمه رد الخل
لأنه أخذها بعد إتلافها وزوال اليد عنها.
444

(فصل) وإن غصب كلبا يجوز اقتناؤه وجب رده لأنه يجوز الانتفاع به واقتناؤه فأشبه المال
وان أتلفه لم يغرمه وان حبسه مده لم يلزم أجر لأنه لا تجوز اجارته، وان غصب جلد ميتة فهل يجب
رده؟ على وجهين بناء على الروايتين في طهارته بالدبغ فمن قال بطهارته أوجب رده لأنه يمكن اصلاحه
فهو كالثوب النجس، ومن قال لا يطهر لم يوجب رده لأنه لا سبيل إلى اصلاحه فإن أتلفه أو أتلف ميتة
بجلدها لم يضمنه لأنه لا قيمة له بدليل أنه لا يحل بيعه، وان دبغه الغاصب لزم رده ان قلنا بطهارته
لأنه كالخمر إذا تخللت، ويحتمل أن لا يجب رده لأنه صار مالا بفعله بخلاف الخمر وان قلنا لا يطهر
لم يجب رده لأنه لا يباح الانتفاع به ويحتمل أن يجب رده إذا قلنا يباح الانتفاع به في اليابسات لأنه
نجس يباح الانتفاع به أشبه الكلب وكذلك قبل الدبغ.
(فصل) وان كسر صليبا أو مزمارا أو طنبورا أو صنما لم يضمنه وقال الشافعي أن كان ذلك إذا
فصل يصلح لنفع مباح وإذا كسر لم يصلح لنفع مباح لزمه ما بين قيمته مفصلا ومكسورا لأنه أتلف
بالكسر ما له قيمة وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه وقال أبو حنيفة يضمن
445

ولنا أنه لا يحل بيعه فلم يضمنه كالميتة، والدليل على أنه لا يحل بيعه قول النبي صلى الله عليه وسلم
(ان الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) متفق عليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت
بمحق القينات والمعازف)
(فصل) وان كسر آنية من ذهب أو فضة لم يضمنها لأن اتخاذها محرم وحكى أبو الخطاب رواية
أخرى عن أحمد أنه يضمن فإن مهنا نقل عنه فيمن هشم على غيره إبريقا فضة عليه قيمته يصوغه كما
كان، قيل له أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها؟ فسكت، والصحيح أنه لا ضمان عليه نص عليه احمد
في رواية المروذي فيمن كسر إبريق فضة لا ضمان عليه لأنه أتلف ما ليس بمباح فلم يضمنه كالميتة،
ورواية مهنا تدل على أنه رجع عن قوله ذلك لكونه سكت حين ذكر السائل تحريمه ولان في هذه
الرواية أنه قال يصوغه ولا يحل له صناعته فكيف يجب ذلك.
(فصل) وان كسر آنية الخمر ففيها روايتان (إحداهما) يضمنها لأنه مال يمكن الانتفاع به ويحل
446

بيعه فيضمنها كما لو لم يكن فيها خمر ولان جعل الخمر فيها لا يقتضي سقوط ضمانها كالبيت الذي جعل مخزنا
للخمر (والثانية) لا تضمن لما روى الإمام أحمد في مسنده (حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة
ابن حبيب قال: قال عبد الله بن عمر أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة
فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال (اغد علي بها) ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة
وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته كلها
وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها
زق خمر الا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا الا شققته. وروي عن أنس قال كنت أسقي أبا طلحة
وأبي بن كعب وأبا عبيدة شرابا من فضيخ فأتانا آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس
إلى هذه الدنان فاكسرها. وهذا يدل على سقوط حرمتها وإباحة اتلافها فلا يضمنها كسائر المباحات
447

(فصل) ولا يثبت الغصب فيما ليس بمال كالحر فإنه لا يضمن بالغصب إنما يضمن بالاتلاف وان
أخذ حرا فحبسه فمات عنده لم يضمنه لأنه ليس بمال، وان استعمله مكرها لزمه أجر مثله لأنه استوفى
منافعه وهي متقومة فلزمه ضمانها كمنافع العبد وان حبسه مدة لمثلها أجر ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه
أجر تلك المدة لأنه فوت منفعته وهي مال يجوز أخذ العوض عنها فضمنت بالغصب كمنافع العبد،
(والثاني) لا يلزمه لأنها تابعة لما لا يصح غصبه فأشبهت ثيابه إذا بليت عليه وأطرافه ولأنها تلفت
تحت يديه فلم يجب ضمانها كما ذكرنا، ولو منعه العلم من غير حبس لم يضمن منافعه وجهان واحدا لأنه
لو فعل ذلك بالعبد لم يضمن منافعه فالحر أولى ولو حبس الحر وعليه ثياب لم يلزمه ضمانها لأنها تابعة
لما لم تثبت اليد عليه في الغصب وسواء كان كبيرا أو صغيرا وهذا كله مذهب أبي حنيفة والشافعي
448

(فصل) وأم الولد مضمونة بالغصب وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة
لا تضمن لأن أم الولد لا تجري مجرى المال بدليل انه لا يتعلق بها حق الغرماء فأشبهت الحر
ولنا ان ما يضمن بالقيمة يضمن بالغصب كالقن ولأنها مملوكة فأشبهت المدبرة وفارقت الحرة فإنها
ليست مملوكة ولا تضمن بالقيمة
(فصل) وإذا فتح قفصا على طائر فطار، أو حل دابته فذهبت ضمنها وبه قال مالك وقال
أبو حنيفة والشافعي لا ضمان عليه الا أن يكون أهاجهما حتى ذهبا، وقال أصحاب الشافعي ان وقفا
بعد الحل والفتح ثم ذهبا لم يضمنهما وان ذهبا عقيب ذلك ففيه قولان واحتجا بأن لهما اختيارا وقد
وجدت منهما المباشرة ومن الفاتح سبب غير ملجئ فإذا اجتمعا لم يتعلق الضمان بالسبب كما لو حفر بئرا
فجاء عبد لانسان فرمى نفسه فيها
449

ولنا أنه ذهب بسبب فعله فلزمه الضمان كما لو نفره أو ذهب عقيب فتحه وحله والمباشرة إنما حصلت
ممن لا يمكن إحالة الحكم عليه فيسقط كما لو نفر الطائر واهاج الدابة أو أشلى كلبا على صبي فقتله أو
اطلق نارا في متاع انسان فإن للنار فعلا لكن لما لم يمكن إحالة الحكم عليها كان وجوده كعدمه ولان
الطائر وسائر الصيد من طبعه النفور وإنما يبقى بالمانع فإذا أزيل المانع ذهب بطبعه فكان ضمانه على من أزال
المانع كمن قطع علاقة قنديل فوقع فانكسر وهكذا لو حل قيد عبد فذهب أو أسير فأفلت وان فتح
القفص وحل الفرس فبقيا واقفين فجاء انسان فنفرهما فذهبا فالضمان على منفرهما لأن سببه أخص
فاختص المضان به كالدافع مع الحافر، وان وقع طائر انسان على جدار فنفره انسان فطار لم يضمنه
450

لأن تنفيره لم يكن سبب فواته فإنه كان ممتنعا قبل ذلك وان رماه فقتله ضمنه وإن كان في داره لأنه كان
يمكنه تنفيره بغير قتله وكذلك لو مر الطائر في هواء داره فرماه فقتله ضمنه لأنه لا يملك منع الطائر
من هواء داره فهو كما لو رماه في هواء دار غيره
(فصل) ولو حل زقا فيه مائع فاندفق ضمنه سواء خرج في الحال أو خرج قليلا قليلا أو خرج
منه شئ بل أسفله فسقط أو ثقل أحد جانبيه فلم يزل يميل قليلا قليلا حتى سقط أو سقط بريح أو
بزلزلة الأرض أو كان جامدا فذاب بشمس لأنه تلف بسبب فعله وقال القاضي لا يضمن إذا سقط
بريح أو زلزلة ويضمن فيما سوى ذلك وهو قول أصحاب الشافعي ولهم فيما إذا ذاب بالشمس وجهان
واحتجوا بأن فعله غير ملجئ والمعنى الحادث مباشرة فلم يتعلق الضمان بفعله كما لو دفعه انسان
ولنا أن فعله سبب تلفه ولم يتخلل بينهما ما يمكن إحالة الحكم عليه فوجب عليه الضمان كما لو خرج
عقيب فعله أو مال قليلا قيلا وكما لو جرح انسانا فأصابه الحر أو البرد فسرت الجناية فإنه يضمن، وأما
451

ان دفعه انسان فإن المتخلل بينهما مباشرة يمكن الإحالة عليها بخلاف مسئلتنا ولو كان جامدا فأدنى منه
آخر نارا فأذابه فسال فالضمان على من أذابه لأن سببه أخص لكون التلف يعقبه فأشبه المنفر
مع فاتح القفص وقال بعض الشافعية لا ضمان على واحد منهما كسارقين نقب أحدهما وأخرج آخر المتاع
وهذا فاسد لأن مدني النار ألجأه إلى الخروج فضمنه كما لو كان واقفا فدفقه والمسألة حجة عليه فإن الضمان
على مخرج المتاع من الحرز والقطع حد لا يجب الا بهتك الحرز واخذ المال جميعا ثم إن الحد يدرأ بالشبهات
بخلاف الضمان، ولو أذابه أحدهما أولا ثم فتح الثاني رأسه فاندفق فالضمان على الثاني لأن التلف تعقبه
وان فتح زقا مستعلي الرأس فخرج بعض ما فيه واستمر خروجه قليلا قليلا فجاء آخر فكنسه فاندفق
فضمان ما خرج بعد التنكيس على المنكس وما قبله على الفاتح لأن فعل الثاني أخص كالجارح والذابح
(فصل) وان حل رباط سفينة فذهبت أو غرقت فعليه قيمتها سواء تعقب فعله أو تراخى والخلاف
فيها كالخلاف في الطائر في القفص
452

(فصل) إذا أو قد في ملكه نارا أو في موات فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها أو سقى أرضه فنزل
الماء إلى ارض جاره فغرقها لم يضمن إذا كان فعل ما جرت به العادة من غير تفريط لأنه غير متعد ولأنها
سراية فعل مباح فلم يضمن كسراية القود، وفارق من حل زقا فاندفق لأنه متعد بحله ولان الغالب خروج
المائع من الزق المفتوح وليس الغالب سراية هذا الفعل المعتاد إلى تلف مال غيره وإن كان ذلك بتفريط منه
بأن أجج نارا تسري في العادة لكثرتها أو في ريح شديدة تحملها أو فتح ماء كثيرا يتعدى أو فتح الماء
في أرض غيره أو أو قد في دار غيره ضمن ما تلف به وان سرى إلى غير الدار التي أو قد فيها والأرض التي الماء
فيها لأنها سراية عدوان أشبهت سراية الجرح الذي تعدى به، وان أوقد نارا فأيبست أغصان شجرة
غيره ضمنها لأن ذلك لا يكون الا من نار كثيرة الا أن تكون الأغصان في هوائه فلا يضمنها لأن دخولها
عليه غير مستحق فلا يمنع من التصرف في داره لحرمتها وهذا الفصل مذهب الشافعي كما ذكرنا سواء
(فصل) وان ألقت الريح إلى داره ثوب غيره لزمه حفظه لأنه أمانة حصلت تحت يده فلزمه
453

حفظه كاللقطة وان لم يعرف صاحبه فهو لقطة تثبت فيه أحكامها وان عرف صاحبه لزمه اعلامه فإن لم
يفعل ضمنه لأنه أمسك مال غيره بغير اذنه من غير تعريف فصار كالغاصب، وان سقط طائر في داره لم
يلزمه حفظه ولا اعلام صاحبه لأنه محفوظ بنفسه وان دخل برجه فاغلق عليه الباب ناويا امساكه
لنفسه ضمنه لأنه أمسك مال غيره لنفسه فهو كالغاصب والا فلا ضمان عليه لأنه يتصرف في برجه كيف
شاء فلا يضمن مال غيره بتلفه ضمنا لتصرفه الذي لم يتعد فيه
454

(فصل) إذا أكلت بهيمة حشيش قوم ويد صاحبها عليها لكونه معها ضمن وان لم يكن معها لم
يضمن ما أكلته، وإذا استعار من رجل بهيمته فأتلفت شيئا وهي في يد المستعير فضمانه على المستعير
سواء أتلفت شيئا لمالكها أو لغيره لأن ضمانه يجب باليد واليد للمستعير وان كانت البهيمة في يد الراعي
455

فأتلفت زرعا فالضمان على الراعي دون صاحبها لأن اتلافها للزرع في النهار لا يضمن الا بثبوت اليد
عليها واليد للراعي دون المالك فكان الضمان عليه كالمستعير، وإن كان الزرع للمالك فإن كان ليلا ضمن
أيضا لأن ضمان اليد أقوى بدليل أنه يضمن به في الليل والنهار جميعا
456

(فصل) إذا شهد بالغصب شاهدان فشهد إحداهما انه غصبه يوم الخميس وشهد آخر أنه غصبه يوم
الجمعة لم تتم البينة وله أن يحلف مع أحدهما، وان شهد أحدهما انه أقر بالغصب يوم الخميس وشهد
457

الآخر انه أقر ببعضه يوم الجمعة ثبتت البينة لأن الاقرار وان اختلف رجع إلى أمر واحد، وان شهد انه
أقر انه غصبه يوم الخميس وشهد الآخر انه غصبه يوم الجمعة لم تثبت البينة أيضا، وان شهد له واحد
458

وحلف معه ثبت الغصب فلو كان الغاصب حلف بالطلاق انه لم يغصبه لم نوقع طلاقه لأن الشاهد
واليمين بينة في المال لا في الطلاق والله أعلم
كتاب الشفعة
وهي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه من يد من انتقلت إليه، وهي ثابتة بالسنة والاجماع
اما السنة فما روي عن جابر رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت
459

الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. متفق عليه ولمسلم قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في
كل شرك يقسم ربعة أو حائط لا يحل له ان يبيع حتى يستأذن شريكه فإن شاء أخذ وان شاء ترك
فإن باع ولم يستأذنه فهو أحق به. وللبخاري: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم
فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. واما الاجماع فقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على اثبات
الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من ارض أو دار أو حائط. والمعنى في ذلك أن أحد الشريكين
إذا أراد ان يبيع نصيبه وتمكن من بيعه لشريكه وتخليصه مما كان بصدده من توقع الخلاص والاستخلاص
فالذي يقتضيه حسن العشرة ان يبيعه منه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص شريكه من الضرر
فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه ولا نعلم أحدا خالف
هذا الا الأصم فإنه قال لا تثبت الشفعة لأن في ذلك اضرار بأرباب الاملاك فإن المشتري إذا علم أنه
يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعة ويتقاعد الشريك عن الشراء فيستضر المالك وهذا ليس بشئ لمخالفته الآثار الثابتة
والاجماع المنعقد قبله، والجواب عما ذكره من وجهين (أحدهما) انا نشاهد الشركاء يبيعون ولا يعدم من
يشتري منهم غير شركائهم ولم يمنعهم استحقاق الشفعة من الشراء (الثاني) انه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة
ان يقاسم فيسقط استحقاق الشفعة، واشتقاق الشفعة من الشفع وهو الزوج فإن الشفيع كان نصيبه
منفردا في ملكه فبالشفعة يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به وقيل اشتقاقها من الزيادة لأن الشفيع
يزيد المبيع في ملكه
460

(مسألة) قال أبو القاسم (ولا يجب الشفعة إلا للشريك المقاسم فإذا وقعت الحدود
وصرفت الطرق فلا شفعة)
وجملة ذلك أن الشفعة تثبت على خلاف الأصل إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضاء منه واجبار
له على المعاوضة مع ما ذكره الأصم لكن أثبتها الشرع لمصلحة راجحة فلا تثبت الا بشروط أربعة
(أحدها) أن يكون الملك مشاعا غير مقسوم فاما الجار فلا شفعة له وبه قال عمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز
وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري ويحيي الأنصاري وأبو الزناد وربيعة والمغيرة بن عبد الرحمن
ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال ابن شبرمة والثوري وابن أبي ليلى
وأصحاب الرأي الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق ثم بالجوار، وقال أبو حنيفة يقدم الشريك فإن
لم يكن وكان الطريق مشتركا كدرب لا ينفذ تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب
فإن لم يأخذوا ثبتت للملاصق من درب آخر خاصة، وقال العنبري وسوار تثبت بالشركة في المال
وبالشركة في الطريق، واحتجوا بما روى أبو رافع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
الجار أحق بصقبه (1)) رواه البخاري وأبو داود وروى الحسن عن سمرة ان النبي صلى الله عليه وسلم

(1) كذا في الأصل بالصاد وفي صحيح البخاري بالسين ومعناه القرب يعنى ان
الجار بسبب قربه أحق بالشفعة
461

قال (جار الدار أحق بالدار) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الترمذي في حديث جابر
(الجار أحق بداره ينتظر به إذا كان غائبا إذا كان طريقهما واحد) وقال حديث حسن ولأنه اتصال
ملك يدوم ويتأبد فتثبت الشفعة به كالشركة. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم
فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وروى ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب -
أو عن أبي سلمة أو عنهما - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة
فيها) رواه أبو داود ولا الشفعة ثبتت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع
فلا تثبت فيه، وبيان انتفاء المعنى هو ان الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجة إلى
مقاسمته أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى احداثه
من المرافق وهذا لا يوجد في المقسوم فأما حديث أبي رافع فليس بصريح في الشفعة فإن الصقب
القرب يقال بالسين والصاد قال الشاعر
كوفية نازح محلتها * لا أمم دارها ولا صقب
فيحتمل أنه أراد باحسان جاره وصلته وعيادته ونحو ذلك وخبرنا صريح صحيح فيقدم، وبقية
الأحاديث في أسانيدها مقال فحديث سمرة يرويه عنه الحسن ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة قاله أصحاب
الحديث. قال ابن المنذر: الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جابر الذي رويناه وما عداه من
462

الأحاديث فيها مقال على أنه يحتمل أنه أراد بالجار الشريك فإنه جار أيضا ويسمى كل واحد من
الزوجين جارا قال الشاعر
أجارتنا بيني فإنك طالقه * كذاك أمور الناس غاد وطارقه
قال الأعشى وتسمى الضرتان جارتين لاشتراكهما في الزوج قال حمل بن مالك كنت بين جارتين
لي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، وهذا يمكن في تأويل حديث أبي رافع أيضا
إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون الطريق مفردة أو مشتركة قال أحمد في رواية ابن القاسم في رجل
له أرض تشرب هي وأرض غيره من نهر واحد فلا شفعة له من أجل الشرب إذا وقعت الحدود فلا شفعة، وقال
في رواية أبي طالب وعبد الله ومثنى فيمن لا يرى الشفعة بالجوار وقدم إلى الحاكم فأنكر لم يحلف إنما
هو اختيار وقد اختلف الناس فيه قال القاضي إنما هذا لأن يمين المنكر ههنا على القطع والبت ومسائل
الاجتهاد مظنونة فلا يقطع ببطلان مذهب المخالف ويمكن أن يحمل كلام أحمد ههنا على الورع لاعلى
التحريم لأنه يحكم ببطلان مذهب المخالف ويجوز للمشتري الامتناع به من تسليم المبيع فيما بينه وبين الله تعالى
(فصل) الشرط الثاني أن يكون المبيع أرضا لأنها التي تبقى على الدوام ويدوم ضررها، وأما غيرها
فينقسم قسمين (أحدهما) تثبت فيه الشفعة تبعا للأرض وهو البناء والغراس يباع مع الأرض فإنه يؤخذ
بالشفعة تبعا للأرض بغير خلاف في المذهب ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافا وقد دل عليه
463

قول النبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط وهذا يدخل فيه البناء
والأشجار (القسم الثاني) مالا تثبت فيه الشفعة تبعا ولا مفردا وهو الزرع والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض
فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يؤخذ ذلك بالشفعة مع
أصوله لأنه متصل بما فيه الشفعة فيثبت فيه الشفعة تبعا كالبناء والغراس ولنا أنه لا يدخل في البيع تبعا فلا
يؤخذ بالشفعة كقماش الدار وعكسه البناء والغراس، وتحقيقه أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع
جعل له سلطان الاخذ بغير رضى المشتري فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع غير المؤبر دخل
في الشفعة لأنها تتبع في البيع فأشبهت الغراس في الأرض وأما ما بيع مفردا من الأرض فلا شفعة فيه
سواء كان مما ينقل كالحيوان والثياب والسفن والحجارة والزرع والثمار أو لا ينقل كالبناء والغراس إذا
بيع مفردا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وروي عن الحسن والثوري والأوزاعي والعنبري وقتادة
وربيعة وإسحاق لا شفعة في المنقولات واختلف عن مالك وعطاء فقالا مرة كذلك ومرة قالا الشفعة
في كل شئ حتى في الثوب، وقال ابن أبي موسى وقد روي عن أبي عبد الله رواية أخرى أن الشفعة
واجبة فيما لا ينقسم كالحجارة والسيف والحيوان وما في معني ذلك، قال أبو الخطاب وعن أحمد رواية
أخرى ان الشفعة تجب في البناء والغراس وان بيع مفردا وهو قول مالك لعموم قوله عليه السلام
464

(الشفعة فيما لم يقسم) ولان الشفعة وضعت لدفع الضرر وحصول الضرر بالشركة فيما لا ينقسم أبلغ منه فيما
ينقسم ولان ابن أبي مليكة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الشفعة في كل شئ)
ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) لا يتناول
الا ما ذكرناه وإنما أراد ما لا ينقسم من الأرض بدليل قوله (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق) ولان
هذا مما لا يتباقى على الدوام فلا تجب فيه الشفعة كصبرة الطعام، وحديث ابن أبي مليكة مرسل لم يرو
في الكتب الموثوق بها، والحكم في الغراف (1) والدولاب والناعورة كالحكم في البناء فأما ان بيعت الشجرة
مع قرارها من الأرض مفردة عما يتخللها من الأرض فحكمها حكم مالا ينقسم من العقار ولان هذا
مما لا ينقسم على ما سنذكره ويحتمل أن لا تجب الشفعة فيها بحال لأن القرار تابع لها فإذا لم تجب الشفعة
فيها مفردة لم تجب فيه تبعها، وان بيعت حصة من علو دار مشترك نظرت فإن كان السقف الذي تحته
لصاحب السفل فلا شفعة في العلو لأنه بناء مفرد وإن كان لصاحب العلو فكذلك لأنه بناء منفرد لكونه
لا أرض له فهو كما لو لم يكن السقف له ويحتمل ثبوت الشفعة لأن له قرارا فهو كالسفل
(فصل) (الشرط الثالث) أن يكون المبيع مما يمكن قسمته فأما ما لا يمكن قسمته من العقار كالحمام
الصغير والرحى الصغيرة والعضادة والطريق الضيقة والعراص الضيقة فعن أحمد فيها روايتان (إحداهما)
لا شفعة فيه وبه قال يحيي بن سعيد وربيعة والشافعي (والثانية) فيها الشفعة وهو قول أبي حنيفة

(1) بتشديد الراء
465

والثوري وابن سريج وعن مالك كالروايتين، ووجه هذا عموم قوله عليه السلام (الشفعة فيما يقسم) وسائر
الألفاظ العامة، ولان الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره
والأول ظاهر المذهب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة) والمنقبة الطريق
الضيق، رواه أبو الخطاب في رؤوس المسائل وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر ولا فحل
ولان اثبات الشفعة في هذا يضربا لبائع لأنه لا يمكنه أن يتخلص من اثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة وقد يمتنع
المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع وقد يمتنع؟؟ البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها ويمكن أن يقال
إن الشفعة إنما تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج إليه من احداث المرافق الخاصة ولا يوجد
هذا فيما لا ينقسم، وقولهم ان الضرر ههنا أكثر لتأبده، قلنا الا أن الضرر في محل الوفاق من غير جنس
هذا الضرر وهو ضرر الحاجة إلى احداث المرافق الخاصة فلا يمكن التعدية وفي الشفعة ههنا ضرر غير
موجود في محل الوفاق وهو ما ذكرناه فتعذر الالحاق. فأما ما أمكن قسمته مما ذكرنا كالحمام الكبير
الواسع البيوت بحيث إذا قسم لم يستضر بالقسمة وأمكن الانتفاع به حماما فإن الشفعة تجب؟؟ فيه، وكذلك
البئر والدور والعضائد متى أمكن أن يحصل من ذلك شيئان كالبئر ينقسم بئرين يرتقي الماء منهما وجبت
الشفعة وكذلك أن كان مع البئر بياض أرض بحيث يحصل البئر في أحد النصيبين وجبت الشفعة أيضا
لأنه تمكن القسمة وهكذا الرحى إن كان لها حصن يمكن قسمته بحيث يحصل الحجر في أحد
466

القسمين أو كان فيها أربعة أحجار دائرة يمكن أن ينفرد كل واحد منهما بحجرين وجبت الشفعة وان لم يمكن الا بأن
يحصل لكل واحد منهما ما لم يتمكن من إبقائها رحى لم تجب الشفعة. فأما الطريق فإن الدار إذا بيعت ولها طريق في
شارع أو درب نافذ فلا شفعة في تلك الدار ولا في الطريق لأنه لا شركة لاحد في ذلك، وإن كان الطريق في درب
غير نافذ ولا طريق للدار سوى تلك الطريق فلا شفعة أيضا لأن اثبات ذلك يضر بالمشتري لأن الدار تبقى لا طريق
لها، وإن كان للدار باب آخر يستطرق منه أو كان لها موضع يفتح منه باب لها إلى طريق نافذ نظرنا في الطريق المبيع
مع الدار فإن كان ممرا لا تمكن قسمته فلا شفعة فيه وإن كان تمكن قسمته وجبت الشفعة فيه لأنه أرض مشتركة
تحتمل القسمة فوجبت فيه الشفعة كغير الطريق ويحتمل أن لا تجب الشفعة فيها بحال لأن الضرر يلحق المشتري
بتحويل الطريق إلى مكان آخر مع ما في الاخذ بالشفعة من تفويت صفقة المشتري وأخذ بعض المبيع
من العقار دون بعض فلم يجز كما لو كان الشريك في الطريق شريكا في الدار فأراد أخذ الطريق وحدها
والقول في دهليز الجار وصحنه كالقول في الطريق المملوك، وإن كان نصيب المشتري من الطريق أكثر
من حاجته فذكر القاضي أن الشفعة تجب في الزائد بكل حال لوجود المقتضي وعدم المانع والصحيح
أنه لا شفعة فيه لأن في ثبوتها تبعيض صفقة المشترى ولا يخلو من الضرر
(فصل) (الشرط الرابع) أن يكون شقصا منتقلا بعوض وأما المنتقل بغير عوض كالهبة بغير ثواب والصدقة
والوصية والإرث فلا شفعة فيه في قول عامة أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وحكي عن
467

مالك رواية أخرى في المنتقل بهبة أو صدقة أن فيه الشفعة ويأخذه الشفيع بقيمته وحكي ذلك عن ابن
أبي ليلى لأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر الشركة وهذا موجود في الشركة كيفما كان والضرر اللاحق
بالمتهب؟؟ دون ضرر المشتري لأن اقدام المشتري على شراء الشقص وبذله ماله فيه دليل حاجته إليه فانتزاعه
منه أعظم ضررا من اخذه ممن لم يوجد منه دليل الحاجة إليه. ولنا انه انتقل بغير عوض أشبه الميراث
ولان محل الوفاق هو البيع والخبر ورد فيه وليس غيره في معناه لأن الشفيع يأخذه من المشتري بمثل
السبب الذي انتقل به إليه ولا يمكن هذا في غيره ولان الشفيع يأخذ الشقص بثمنه لا بقيمته وفي غيره
يأخذه بقيمته فافترقا. فاما المنتقل بعوض فينقسم قسمين (أحدهما) ما عوضه المال كالبيع فهذا فيه الشفعة
بغير خلاف وهو في حديث جابر فإن باع ولم يؤذنه فلو أحق به وكذلك كل عقد جرى مجرى البيع
كالصلح بمعنى البيع والصلح عن الجنايات الموجبة للمال والهبة المشروط فيها الثواب المعلوم لأن ذلك
بيع ثبتت فيه أحكام البيع وهذا منها وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي الا أن أبا حنيفة
وأصحابه قالوا لا تثبت الشفعة في الهبة المشروط فيها ثواب حتى يتقابضا لأن الهبة لا تثبت إلا بالقبض فأشبهت
البيع بشرط الخيار
ولنا أنه يملكها بعوض هو مال فلم يفتقر إلى القبض في استحقاق الشفعة كالبيع ولا يصح ما قالوه
من اعتبار لفظ الهبة لأن العوض صرف اللفظ عن مقتضاه وجعله عبارة عن البيع خاصة عندهم فإنه
468

ينعقد بها النكاح الذي لا تصح الهبة فيه بالاتفاق (القسم الثاني) ما انتقل بعوض غير المال نحو أن يجعل
الشقص مهرا أو عوضا في الخلع أو في الصلح عن دم العمد فظاهر كلام الخرقي أنه لا شفعة فيه لأنه
لم يتعرض في جميع مسائله لغير البيع وهذا قول أبي بكر وبه قال الحسن والشعبي وأبو ثور وأصحاب
الرأي حكاه عنهم ابن المنذر واختاره، وقال ابن حامد تجب فيه الشفعة وبه قال ابن شبرمة والحارث
العكلي ومالك وابن أبي ليلى والشافعي. ثم اختلف بم يأخذه فقال ابن شبرمة وابن أبي ليلى يأخذ الشقص
بقيمته قال القاضي هو قياس قول ابن حامد لأننا لو أوجبنا مهر المثل لقومنا البضع على الأجانب وأضررنا
بالشفيع لأن مهر المثل يتفاوت مع المسمى لتسامح الناس فيه في العادة بخلاف البيع وقال الشريف
أبو جعفر قال ابن حامد إن كان الشقص صداقا أو عوضا في خلع أو متعة في طلاق أخذه الشفيع بمهر
المرأة وهو قول العكلي والشافعي لأنه ملك الشقص ببدل ليس له مثل فيجب الرجوع إلى قيمة البدل في
الاخذ بالشفعة كما لو باعه بعرض، واحتجوا على أخذه بالشفعة بأنه عقار مملوك بعقد معاوضة فأشبه البيع
ولنا أنه مملوك بغير مال أشبه الموهوب والموروث ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل لما ذكره مالك
وبالقيمة لأنها ليست عوض الشقص فلا يجوز الاخذ بها كالموروث فيتعذر أخذه، ولأنه ليس له عوض
يمكن الاخذ به فأشبه الموهوب والموروث، وفارق البيع فإنه أمكن الاخذ بعوضه فإن قلنا إنه يؤخذ
بالشفعة وطلق الزوج قبل الدخول بعد عفو الشفيع رجع بنصف ما أصدقها لأنه موجود في يدها بصفته
469

وان طلقها بعد أخذ الشفيع رجع بنصف قيمته لأن ملكها زال عنه فهو كما لو باعته، وان طلق قبل علم
الشفيع ثم علم ففيه وجهان (أحدهما) حق الشفيع مقدم لأن حقه أسبق لأنه يثبت بالبيع وحق الزوج
بالطلاق (والثاني) حق الزوج أولى لأنه ثبت بالنص والاجماع والشفعة ههنا لا نص فيها ولا اجماع
فأما ان عفا الشفيع ثم طلق الزوج فرجع في نصف الشقص لم يستحق الشفيع الاخذ منه وكذلك
ان جاء الفسخ من قبل المرأة فرجع الشقص كله إلى الزوج لم يستحق الشفيع أخذه لأنه عاد إلى المالك
لزوال العقد فلم يستحق به الشفيع كالرد بالعيب وكذلك كل فسخ يرجع به الشقص إلى العاقد كرده بعيب
أو مقايلة أو اختلاف المتبايعين أو رده لغبن وقد ذكرنا في الاقاله رواية أخرى أنها بيع فتثبت فيها
الشفعة وهو قول أبي حنيفة، فعلى هذا لو لم يعلم الشفيع حتى تقايلا فله أن يأخذ من أيهما شاء وان
عفا عن الشفعة في البيع ثم تقايلا فله الاخذ بها
(فصل) وإذا جنى جنايتين عمدا وخطأ فصالحه منهما على شقص فالشفعة في نصف الشقص دون
باقيه وبه قال أبو يوسف ومحمد وهذا على الرواية التي نقول فيها إن موجب العمد القصاص عينا
وان قلنا موجبه أحد شيئين وجبت الشفعة في الجميع وقال أبو حنيفة لا شفعة في الجميع لأن في الاخذ
بها تبعيض الصفقة على المشتري
ولنا أن ما قابل الخطأ عوض عن مال فوجبت فيه الشفعة كما لو انفرد ولان الصفقة جمعت ما تجب
فيه الشفعة وما لا تجب فيه فوجبت فيما تجب فيه دون الآخر كما لو اشترى شقصا وسيفا وبهذا الأصل
470

يبطل ما ذكره، وقول أبي حنيفة أقيس لأن في الشفعة تبعيض الشقص على المشتري وربما لا يبقى منه
الا مالا نفع فيه فأشبه ما لو أراد أحد الشفيعين أخذ بعضه مع عفو صاحبه بخلاف مسألة الشقص
والسيف، وأما إذا قلنا إن الواجب أحد شيئين فباختياره الصلح سقط القصاص وتعينت الدية فكان
الجميع عوضا عن المال
(فصل) ولا تثبت الشفعة في بيع الخيار قبل انقضائه سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما وحده أيهما
كان وقال أبو الخطاب يتخرج أن تثبت الشفعة لأن الملك انتقل فتثبت الشفعة في مدة الخيار كما بعد
انقضائه وقال أبو حنيفة إن كان الخيار للبائع أولهما لم تثبت الشفعة حتى ينقضي لأن في الاخذ بها
اسقاط حق البائع من الفسخ والزام البيع في حقه بغير رضائه ولان الشفيع إنما يأخذ من المشتري
ولم ينتقل الملك إليه وإن كان الخيار للمشتري فقد انتقل الملك إليه ولا حق لغيره فيه والشفيع يملك
أخذه بعد لزوم البيع واستقرار الملك فلان يملك ذلك قبل لزومه أولى وعامة ما يقدر ثبوت الخيار له
وذلك لا يمنع الاخذ بالشفعة كما لو وجد به عيبا وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أنه مبيع فيه الخيار فلم تثبت فيه الشفعة كما لو كان للبائع وذلك لأن الاخذ بالشفعة يلزم
المشتري بالعقد بغير رضائه ويوجب العهدة عليه ويفوت حقه من الرجوع في عين الثمن فلم يجز كما لو كان
الخيار للبائع فإننا إنما منعنا من الشفعة لما فيه من ابطال خيار البائع وتفويت حق الرجوع عليه في
471

عين مالهما وهما في نظر الشرع على السواء، وفارق الرد بالعيب فإنه ثبت لاستدراك الظلامة وذلك
يزول بأخذ الشفيع فإن باع الشفيع حصته في مدة الخيار عالما بيع الأول سقطت شفعته وثبتت
الشفعة فيما باعه للمشتري الأول في الصحيح من المذهب، وفي وجه آخر انه يثبت للبائع بناء على الملك
في مدة الخيار لمن هو منهما وان باعه قبل علمه بالبيع فكذلك وهو مذهب الشافعي لأن ملكه زال
قبل ثبوت الشفعة، ويتوجه على تخريج أبي الخطاب ان لا تسقط شفعته فيكون له على هذا أخذ
الشقص من المشتري الأول وللمشتري الأول أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه لأنه
كان شريكا للشفيع حين بيعه
(فصل) وبيع المريض كبيع الصحيح في الصحة وثبوت الشفعة وسائر الأحكام إذا باع بثمن
المثل سواء كان لوارث أو غير وارث وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يصح
بيع المريض مرض الموت لوارثه لأنه محجور عليه في حقه فلم يصح بيعه كالصبي
ولنا أنه إنما حجر عليه في التبرع في حقه فلم يمنع فيما سواه كالأجنبي إذا لم يزد على التبرع بالثلث
وذلك لأن الحجر في شئ لا يمنع صحة غيره كما أن الحجر على المرتهن في الرهن لا يمنع التصرف في
غيره والحجر على المفلس في ماله لا يمنع التصرف في ذمته، فاما بيعه بالمحاباة فلا يخلو اما أن يكون لوارث
أو لغيره فإن كان لوارث بطلت المحاباة لأنها في المرض بمنزلة الوصية والوصية لوارث لا تجوز ويبطل البيع في قدر
المحاباة من المبيع، وهل يصح فيما عداه؟ على ثلاثة أوجه (أحدها) لا يصح لأن المشتري بذل الثمن في كل المبيع
472

فلم يصح في بيعه كما لو قال بعتك هذا الثوب بعشرة فقال قبلت البيع في نصفه أو قال قبلته بخمسة أو قال قبلت
نصفه بخمسة، ولأنه لم يكن تصحيح البيع على الوجه الذي تواجبا عليه فلم يصح كتفريق الصفقة الثاني أنه يبطل
البيع في قدر المحاباة ويصح فيما يقابل الثمن المسمى وللمشتري الخيار بين الاخذ والفسخ لأن الصفقة تفرقت
عليه وللشفيع أخذ ما صح البيع فيه وإنما قلنا بالصحة لأن البطلان إنما جاء من المحاباة فاختص بما يقابلها
(الثالث) أنه يصح في الجميع ويقف على إجازة الورثة لأن الوصية للوارث صحيحة في أصح الروايتين
وتقف على إجازة الورثة فكذلك المحاباة له فإن أجازوا المحاباة صح البيع في الجميع ولا خيار للمشتري
ويملك الشفيع الاخذ به لأنه به لأنه يأخذ بالثمن وان ردوا بطل البيع في قدر المحاباة وصح فيما بقي ولا
يملك الشفيع الاخذ قبل إجازة الورثة وردهم لأن حقهم متعلق بالمبيع فلم يملك إبطاله وله أخذ ما صح
البيع فيه وان اختار المشتري الرد في هذه الصورة وفي التي قبلها واختار الشفيع الاخذ بالشفعة قدم
الشفيع لأنه لا ضرر على المشتري وجرى مجرى المعيب إذا رضيه الشفيع بعيبه (القسم الثاني) إذا كان
المشتري أجنبيا والشفيع أجنبي فإن لم تزد المحاباة على الثلث صح البيع وللشفيع الاخذ بها بذلك الثمن
لأن البيع حصل به فلا يمنع منها كون المبيع مسترخصا وان زادت على الثلث فالحكم فيه حكم أصل
المحاباة في حق الوارث وإن كان الشفيع وارثا ففيه وجهان (أحدهما) له الاخذ بالشفعة لأن المحاباة
وقعت لغيره فلم يمنع منها تمكن الوراث من أخذها كما لو وهب غريم وارثه مالا فأخذه الوارث (والثاني)
473

يصح البيع ولا تجب الشفعة وهو قول أصحاب أبي حنيفة لأننا لو أثبتناها جعلنا للموروث سبيلا إلى
إلى اثبات حتى لوارثه في المحاباة ويفارق الهبة لغريم الوارث لأن استحقاق الوارث الاخذ بدينه لا
من جهة الهبة وهذا استحقاقه بالبيع الحاصل من موروثه فافترقا، ولأصحاب الشافعي في هذا خمسة
أوجه وجهان كهذين والثالث) أن البيع باطل من أصله لافضائه إلى إيصال المحاباة إلى الوارث وهذا
فاسد لأن الشفعة فرع للبيع ولا يبطل الأصل ببطلان فرع له، وعلى الوجه الأول ما حصلت للوارث
المحاباة إنما حصلت لغيره ووصلت إليه بجهة الاخذ من المشتري فأشبه هبة غريم الوارث (الوجه الرابع)
ان للشفيع أن يأخذ بقدر ما عدا المحاباة بقدره من الثمن بمنزلة هبة المقابل للمحاباة لأن المحاباة بالنصف
مثلا هبة للنصف وهذا لا يصح لأنه لو كان بمنزلة هبة النصف ما كان للشفيع الأجنبي أخذ الكل لأن
الموهوب لا شفعة فيه (الخامس) ان البيع يبطل في قدر المحاباة وهذا فاسد لأنا محاباة لأجنبي بما دون
الثلث فلا تبطل كما لو لم يكن الشقص مشفوعا؟؟
(فصل) ويملك الشفيع الشقص بأخذه بكل لفظ يدل على أخذه بأن يقول قد أخذته بالثمن
أو تملكته بالثمن أو نحو ذلك إذا كان الثمن والشقص معلومين ولا يفتقر إلى حكم حاكم وبهذا قال
الشافعي وقال القاضي وأبو الخطاب يملكه بالمطالبة لأن البيع السابق سبب فإذا انضمت اله المطالبة
كان كالايجاب في البيع انضم إليه القبول وقال أبو حنيفة يحصل بحكم الحاكم لأنه نقل للملك عن
474

مالكه إلى غيره قهرا فافتقر إلى حكم الحاكم كأخذ دينه
ولنا أنه حق ثبت بالنص والاجماع فلم يفتقر إلى حاكم كالرد بالعيب وما ذكروه ينتقض بهذا
الأصل ويأخذ الزوج نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ولأنه مال يتملكه قهرا فملكه بالأخذ
كالغنائم والمباحات وباللفظ الدال على الاخذ لأنه بيع في الحقيقة لكن الشفيع يستقل به فانتقل باللفظ
الدال عليه، وقولهم يملك بالمطالبة بمجردها لا يصح لأنه لو ملك بها لما سقطت الشفعة بالعفو بعد
المطالبة ولوجب أنه إذا كان له شفيعان فطلبا الشفعة ثم ترك أحدهما أن يكون للآخر أخذ قدر
نصيبه ولا يملك أخذ نصيب صاحبه. إذا ثبت هذا فإنه إذا قال قد أخذت الشقص بالثمن الذي تم عليه
العقد وهو عالم بقدره وبالمبيع صح الاخذ وملك الشقص ولا خيار له لا للمشتري لأن الشقص يؤخذ قهرا
والمقهور لا خيار له والآخذ قهرا لا خيار له أيضا كمسترجع المبيع لعيب في ثمنه أو الثمن لعيب في المبيع
وإن كان الثمن مجهولا أو الشقص لم يملكه بذلك لأنه بيع في الحقيقة فيعتبر العلم بالعوضين كسائر
البيوع وله المطالبة بالشفعة ثم يتعرف مقدار الثمن من المشتري أو من غيره والمبيع فيأخذه بثمنه ويحتمل
أن له الاخذ مع جهالة الشقص بناء على بيع الغائب
(فصل) وإذا أراد الشفيع أخذ الشقص وكان في يد المشتري أخذه منه وإن كان في يد البائع
أخذه منه وكان كأخذه من المشتري هذا قياس المذهب وهو قول أبي حنيفة لأن العقد يلزم في بيع
475

العقار قبل قبضه ويدخل المبيع في ملك المشتري وضمانه ويجوز له التصرف فيه بنفس العقد فصار
كما لو قبضه المشتري وقال القاضي ليس له أخذه من البائع ويجبر الحاكم المشتري على قبضه ثم يأخذه
الشفيع منه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الشفيع يشتري الشقص من المشتري فلا
يأخذه من غيره، وبنوا ذلك على أن البيع لا يتم الا بالقبض فإذا فات القبض بطل العقد وسقطت الشفعة
(فصل) إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري ففيه وجهان (أحدهما) للشفيع الاخذ بالشفعة وهو
قول أبي حنيفة والمزني (والثاني) ليس له الاخذ بها ونصره الشريف أبو جعفر في مسائله وهو قول
مالك وابن شريح لأن الشفعة فرع للبيع ولم يثبت فلا يثبت فرعه ولان الشفيع إنما يأخذ الشقص
من المشتري وإذا أنكر البيع لم يمكن الاخذ منه ووجه الأول أن البائع أقر بحقين حق للشفيع وحق
للمشتري فإذا سقط حق المشتري بانكاره ثبت حق الشفيع كما لو أقر بدار لرجلين فأنكر أحدهما
ولأنه أقر للشفيع أنه مستحق لاخذ هذه الدار والشفيع يدعي ذلك فيوجب قبوله كما لو أقر أنها ملكه
فعلى هذا يقبض الشفيع من البائع ويسلم إليه الثمن ويكون درك الشفيع على البائع لأن القبض منه ولم يثبت الشراء
في حق المشتري وليس للشفيع ولا للبائع محاكمة المشتري ليثبت البيع في حقه وتكون العهدة عليه لأن مقصود
البائع الثمن وقد حصل من الشفيع ومقصود الشفيع أخذ النقص وضمان العهدة وقد حصل من البائع فلا
فائدة في المحاكمة، فإن قيل أليس لو ادعى على رجل دينا فقال آخر أنا ادفع إليك الدين الذي تدعيه ولا
تخاصمه لا يلزمه قبوله فهل لا قلتم ههنا كذلك؟ قلنا في الدين عليه منة في قبوله من غير غريمه وههنا
476

بخلافه ولان البائع يدعي أن الثمن إلي يدفعه الشفيع حق للمشتري عوضا عن هذا المبيع فصار
كالنائب عن المشتري في دفع الثمن والبائع كالنائب عنه في دفع الشقص بخلاف الدين فإن كان البائع
مقرا بقبض الثمن من المشتري بقي الثمن الذي على الشفيع لا يدعيه أحد لأن البائع يقول هو للمشتري
والمشتري يقول لا استحقه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن يقال للمشتري اما أن تقبضه واما أن تبرئ
منه (والثاني) يأخذه الحاكم عنده (والثالث) يبقى في ذمة الشفيع وفي جميع ذلك متى ادعاه البائع
أو المشتري دفع إليه لأنه لأحدهما وان تداعياه جميعا فأقر المشتري بالبيع وأنكر البائع أنه لم يقبض
منه شيئا فهو للمشتري لأن البائع قد أقر له به ولان البائع إذا أنكر القبض لم يكن مدعيا هذا
الثمن لأن البائع لا يستحق على الشفيع ثمنا إنما يستحقه على المشتري وقد أقر بالقبض منه وأما المشتري
فإنه يدعيه وقد أقر له باستحقاقه فوجب دفعه إليه
(مسألة) (قال ومن لم يطالب بالشفعة في وقت علمه بالبيع فلا شفعة له)
الصحيح في المذهب أن حق الشفعة على الفور إن طالب بها ساعة يعلم بالبيع والا بطلت نص
عليه أحمد في رواية أبي طالب فقال الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم وهذا قول ابن شبرمة والبتي والأوزاعي
وأبي حنيفة والعنبري والشافعي في أحد قوليه وحكي عن أحمد رواية ثانية ان الشفعة على التراخي
477

لا تسقط ما لم يوجد منه ما يدل على الرضى من عفو أو مطالبة بقسمة ونحو ذلك وهذا قول مالك
وقول الشافعي الا أن مالكا قال تنقطع بمضي سنة وعنه بمضي مدة يعلم أنه تارك لها لأن هذا الخيار
لا ضرر في تراخيه فلم يسقط بالتأخير كحق القصاص وبيان عدم الضرر أن النفع للمشتري باستغلال
المبيع وان أحدث فيه عمارة من غراس أو بناء فله قيمته وحكي عن ابن أبي ليلى والثوري أن الخيار مقدر
بثلاثة أيام وهو قول الشافعي لأن الثلاث حد بها خيار الشرط فصلحت حدا لهذا الخيار والله أعلم
ولنا ما روى ابن السلماني عن أبيه عن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الشفعة كحل العقال - وفي
لفظ أنه قال - الشفعة كنشطة العقال إن قيدت ثبتت وان تركت فاللوم على من تركها) وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (الشفعة لمن واثبها) رواه الفقهاء في كتبهم لأنه خيار لدفع الضرر عن المال فكان على
الفور كخيار الرد بالعيب ولان إثباته على التراخي يضر المشتري لكونه لا يستقر ملكه على المبيع ويمنعه
من التصرف بعمارة خشية أخذه منه ولا يندفع عنه الضرر بدفع قيمته لأن خسارتها في الغالب أكثر
من قيمتها مع تعب قلبه وبدنه فيها والتحديد بثلاثة أيام تحكم لا دليل عليه، والأصل المقيس عليه ممنوع
ثم هو باطل بخيار الرد بالعيب، وإذا تقرر هذا فقال ابن حامد يتقدر الخيار بالمجلس وهو قول أبي حنيفة
فمتى طالب في مجلس العلم ثبتت الشفعة وإن طال لأن المجلس كله في حكم حالة العقد بدليل ان القبض
فيه لما يشترط فيه القبض كالقبض حالة العقد. وظاهر كلام الخرقي انه لا يتقدر بالمجلس بل متى بادر
478

فطالب عقيب علمه وإلا بطلت شفعته، وهذا ظاهر كلام أحمد وقول للشافعي لما ذكرنا من الخبر والمعنى.
وما ذكروه يبطل بخيار الرد بالعيب، فعلى هذا متى أخر المطالبة عن وقت العلم لغير عذر بطلت شفعته،
وان أخرها لعذر مثل أن يعلم ليلا فيؤخره إلى الصحيح أو لشدة جوع أو عطش حتى يأكل ويشرب،
أو لطهارة أو اغلاق باب أو ليخرج من الحمام أو ليؤذن ويقيم ويأتي بالصلاة وسنتها أو ليشهدها في
جماعة يخاف فوتها لم تبطل شفعته لأن العادة تقديم هذه الحوائج على غيرها فلا يكون الاشتغال بها رضى
بترك الشفعة الا أن يكون المشتري حاضرا عنده في هذه الأحوال فيمكنه أن يطالبه من غير اشتغاله
عن أشغاله فإن شفعته تبطل بتركه المطالبة لأن هذا لا يشغله عنها ولا تشغله المطالبة عنه، فأما مع غيبته
فلا لأن العادة تقديم هذه الحوائج فلم يلزمه تأخيرها كما لو أمكنه أن يسرع في مشيه أو يحرك دابته فلم
يفعل ومضى على حسب عادته لم يسقط شفعته لأنه طلب بحكم العادة. وإذا فرغ من حوائجه مضى على
حسب عادته إلى المشتري فإذا لقيه بدأ بالسلام لأن ذلك السنة وقد جاء في حديث (من بدأ بالكلام
قبل السلام فلا تجيبوه) ثم يطالب وان قال بعد السلام بارك الله لك في صفقة يمينك أو دعا له بالمغفرة ونحو
ذلك لم تبطل شفعته لأن ذلك يتصل بالسلام فيكون من جملته والدعاء له بالبركة في الصفقة دعاء لنفسه
لأن الشقص يرجع إليه فلا يكون ذلك رضى وان اشتغل بكلام آخر أو سكت لغير حاجة بطلت شفعته لما قدمنا
(فصل) فإن أجبره بالبيع مخبر فصدقه ولم يطالب بالشفعة بطلت شفعته سواء كان المخبر ممن يقبل
479

خبره أو لا يقبل لأن العلم قد يحصل بخبر من لا يقبل خبره لقرائن دالة على صدقه. وان قال لم أصدقه
وكان المخبر ممن يحكم بشهادته كرجلين عدلين بطلت شفعته لأن قولهما حجة تثبت بها الحقوق. وإن كان
ممن لا يعمل بقوله كالفاسق والصبي لم تبطل شفعته. وحكي عن أبي يوسف انها تسقط لأنه خبر
يعمل به في الشرع في الاذن في دخول الدار وشبهه فسقطت به الشفعة كخبر العدل
ولنا أنه خبر لا يقبل في الشرع فأشبه قول الطفل والمجنون وان أخبره رجل عدل أو مستور
الحال سقطت شفعته ويحتمل أن لا تسقط ويروى هذا عن أبي حنيفة وزفر لأن الواحد لا
تقوم به البينة.
ولنا أنه خبر لا تعبر فيه الشهادة فقبل من العدل كالرواية والفتيا وسائر الأخبار الدينية. وفارق
الشهادة فإنه يحتاط لها باللفظ والمجلس وحضور المدعى عليه وانكاره ولان الشهادة يعارضها إنكار
المنكر وتوجب الحق عليه بخلاف هذا الخبر والمرأة في ذلك كالرجل والعبد كالحر وقال القاضي هما
كالفاسق والصبي وهذا مذهب الشافعي لأن قولهما لا يثبت به حق
ولنا أن هذا خبر وليس بشهادة فاستوى فيه الرجل والمرأة والعبد والحر كالرواية والاخبار الدينية
والعبد من أهل الشهادة فيما عدا والحدود والقصاص وهذا مما عداها فأشبه الحر
(فصل) إذا أظهر المشتري أن الثمن أكثر مما وقع العقد به فترك الشفيع الشفعة لم تسقط الشفعة بذلك
480

وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي ومالك إلا أنه قال بعد أن يحلف ما سلمت الشفعة الا لمكان الثمن
الكثير وقال ابن أبي ليلى لا شفعة له لأنه سلم ورضي
ولنا أنه تركها للعذر فإنه لا يرضاه بالثمن الكثير ويرضاه بالقليل وقد لا يكون معه الكثير فلم
تسقط بذلك كما لو تركها لعدم العلم، وكذلك أن أظهر أن المبيع سهام قليلة فبانت كثيرة أو أظهر أنهما
تبايعا بدنانير فبان أنها دراهم أو بدراهم فبانت دنانير وبهذا قال الشافعي وزفر وقال أبو حنيفة
وصاحباه ان كانت قيمتهما سواء سقطت الشفعة لأنهما كالجنس الواحد
ولنا أنهما جنسان فاشبها الثياب والحيوان ولأنه قد تملك بالنقد الذي وقع به البيع دون ما أظهره
فيتركه لعدم ملكه له، وكذلك أن أظهر أنه اشتراه بنقد فبان أنه اشتراه بعرض أو بعرض فبان أنه بنقد أو بنوع
من العرض فبان أنه بغيره أو اشتراه مشتر فبان أنه اشتراه لغيره أو أظهر أنه اشتراه لغيره فبان أنه
اشتراه له أو أنه اشتراه لانسان فبان أنه اشتراه لغيره لأنه قد يرضى شركة إنسان دون غيره وقد يحابي
إنسانا أو يخافه فيترك لذلك، وكذلك أن أظهر أنه اشترى الكل بثمن فبان أنه اشترى نصفه بنصفه
أو انه اشترى نصفه بثمن فبان أنه اشترى جميعه بضعفه أو أنه اشترى الشقص وحده فبان انه اشتراه هو
أو غيره أو أنه اشتراه هو وغيره فبان أنه اشتراه وحده لم تسقط النفعة في جميع ذلك لأنه قد يكون له غرض
فيما أبطنه دون ما أظهر فيترك لذلك فلم تسقط شفعته كما لو أظهر أنه اشتراه بثمن فبان أقل منه، فاما أن أظهر
أنه اشتراه بثمن فبان أنه اشتراه بأكثر أو انه اشترى الكل بثمن فبان أنه اشترى به بعضه سقطت
481

شفعته لأن الضرر فيما أبطنه أكثر فإذا لم يرض به بالثمن القليل مع قلة ضرره فالكثير أولى
(فصل) وان لقيه الشفيع في غير بلده فلم يطالبه وقال إنما تركت المطالبة لأطالبه في البلد الذي
فيه البيع أو المبيع أو لاخذ الشقص في موضع الشفعة سقطت شفعته لأن ذلك ليس بعذر في ترك
المطالبة فإنها لا تقف على تسليم الشقص ولا على حضور البلد الذي فيه، وان قال نسيت فلم أذكر المطالبة
أو نسيت البيع سقطت شفعته لأنها خيار على الفور فإذا أخره نسيانا بطل كالرد بالعيب وكما لو أمكنت
المعتقة وزوجها من وطئها نسيانا ويحتمل أن لا تسقط المطالبة لأنه تركها لعذر فأشبه ما لو تركها
لعدم علمه بها وان تركها جهلا باستحقاقه لها بطلت كالرد بالعيب
(فصل) وإذا قال الشفيع للمشتري بعني ما اشتريت أو قاسمني بطلت شفعته لأنه يدل على رضاه
بشرائه وتركه للشفعة وان قال صالحني على مال سقطت أيضا وقال القاضي لا تسقط لأنه لم يرض
باسقاطها وإنما رضي بالمعاوضة عنها ولم تثبت المعاوضة فبقيت الشفعة
ولنا أنه رضي بتركها وطلب عوضها فيثبت الترك المرضي به ولم يثبت العوض كما لو قال بعني فلم
يبعه ولان ترك المطالبة بها كاف في سقوطها فمع طلب عوضها أولى ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فإن صالحه عنها بعوض لم يصح وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يصح لأنه عوض عن إزالة
ملك فجاز أخذ العوض عنه كتمليك امرأة أمرها
482

ولنا أنه خيار لا يسقط إلى مال فلم يجز أخذ العوض عنه كخيار الشرط ويبطل ما قاله بخيار
الشرط وأما الخلع فهو معاوضة عما ما ملكه بعوض وههنا بخلافه
(فصل) وان قال آخذ نصف الشقص سقطت شفعته وبهذا قال محمد بن الحسن وبعض أصحاب
الشافعي وقال أبو يوسف لا تسقط لأن طلبه ببعضها طلب بجميعها لكونها لا تتبعض ولا يجوز أخذ بعضها
ولنا انه تارك لطلب بعضها فيسقط ويسقط باقيها لأنها لا تتبعض ولا يصح ما ذكره فإن طلب
بعضها ليس بطلب لجميعها وما لا يتبعض لا يثبت حتى يثبت السبب في جميعه كالنكاح، ويخالف السقوط
فإن الجميع يسقط بوجود السبب في بعضه كالطلاق والعتاق
(فصل) وان أخذ الشقص بثمن مغصوب ففيه وجهان (أحدهما) لا تسقط شفعته لأنه بالعقد استحق
الشقص بمثل ثمنه في الذمة فإذا عينه فيما لا يملكه سقط التعيين وبقي الاستحقاق في الذمة فأشبه ما لو
أخر الثمن أو كما لو اشترى شيئا آخر ونقد فيه ثمنا مغصوبا (والثاني) تسقط شفعته لأن أخذه للشقص
بما لا يصح أخذه به ترك له واعراض عنه فتسقط الشفعة كما لو ترك الطلب بها
(فصل) ومن وجبت له الشفعة فباع نصيبه عالما بذلك سقطت شفعته لأنه لم يبق له ملك يستحق
به ولان الشفعة ثبتت له لإزالة الضرر الحاصل بالشركة عنه وقد زال ذلك ببيعه، وإن باع بعضه
ففيه وجهان (أحدهما) تسقط أيضا لأنها استحقت بجميعه فإذا باع بعضه سقط ما تعلق بذلك من استحقاق
483

الشفعة فيسقط باقيها لأنها لا تتبعض فيسقط جميعها بسقوط بعضها كالنكاح والرق وكما لو عفي عن بعضها
(والثاني) لا تسقط لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع لو انفرد فكذلك إذا
بقي وللمشتري الأول الشفعة على المشترى الثاني في المسألة الأولى وفي الثانية إذا قلنا تسقط شفعة البائع
الأول لأنه شريك في المبيع وان قلنا لا تسقط شفعة البائع فله أخذ الشقص من المشترى الأول، وهل
للمشترى الأول شفعة على المشترى الثاني؟ فيه وجهان (أحدهما) له الشفعة لأنه شريك فإن الملك ثابت
له يملك التصرف فيه بجميع التصرفات ويستحق نماءه وفوائده واستحقاق الشعفة به من فوائده (والثاني)
لا شفعة له لأن ملكه يوجد بها فلا تؤخذ الشفعة به ولان ملكه متزلزل ضعيف فلا يستحق الشفعة
به لضعفه والأول أقيس فإن استحقاق أخذه منه لا يمنع أن يستحق به الشفعة كالصداق قبل الدخول
والشقص الموهوب للولد. فعلى هذا للمشترى الأول الشفعة على المشترى الثاني سواء أخذ منه المبيع بالشفعة
أو لم يؤخذ، وللبائع الثاني إذا باع بعض الشقص الاخذ من المشتري الأول في أحد الوجهين، فأما ان باع
الشفيع ملكه قبل علمه بالبيع الأول فقال القاضي تسقط شفعته أيضا لما ذكرناه ولأنه زال السبب الذي
يستحق به الشفعة وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه فصار كمن اشترى معيبا فم يعلم عيبه حتى زال أو حتى باعه
فعلى هذا حكمه حكم ما لو باع مع علمه سواء فيما إذا باع جميعه أو بعضه، وقال أبو الخطاب لا تسقط شفعته
484

لأنها ثبتت له ولم يوجد منه رضى بتركها ولا ما يدل على اسقاطها والأصل بقاؤها فتبقى، وفارق ما إذا
علم فإن بيعه دليل على رضاه بتركها، فعلى هذا للبائع الثاني أخذ الشقص من المشتري الأول فإن
عفي عنه فللمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري الثاني وان أخذ منه فهل للمشترى الأول
الاخذ من الثاني؟ على وجهين
(مسألة) قال (ومن كان غائبا وعلم بالبيع في وقت قدومه فله الشفعة وان طالت غيبته)
وجملة ذلك أن الغائب له شفعة في قول أكثر أهل العلم روى ذلك عن شريح والحسن وعطاء
وبه قال مالك والليث والثوري والأوزاعي والشافعي والعنبري وأصحاب الرأي، وروى عن النخي ليس
للغائب شفعة وبه قال الحارث العكلي والبتي الا للغائب القريب لأن اثبات الشفعة له يضر بالمشترى
ويمنع من استقرار ملكه وتصرفه على حسب اختياره خوفا من أخذه فلم يثبت ذلك كثبوته للحاضر
على التراخي. ولنا عموم قوله عليه السلام (الشفعة فيما لم يقسم) وسائر الأحاديث ولان الشفعة
حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب فيثبت له كالإرث ولأنه شريك لم يعلم بالبيع فتثبت له الشفعة
عند علمه كالحاضر إذا كتم عنه البيع والغائب غيبة قريبة وضرر المشترى يندفع بايجاب القيمة له كما
في الصور المذكورة. إذا ثبت هذا فإنه إذا لم يعلم بالبيع الا وقت قدومه فله المطالبة وان طالت غيبته
لأن هذا الخيار يثبت لإزالة الضرر عن المال فتراخي الزمان قبل العلم به لا يسقطه كالرد بالعيب
485

ومتى علم فحكمه في المطالبة حكم الحاضر في أنه ان طالب على الفور استحق والا بطلت شفعته وحكم
المريض والمحبوس وسائر من لم يعلم البيع لعذر حكم الغائب لما ذكرنا
(مسألة) قال (وان علم وهو في السفر فلم يشهد على مطالبته فلا شفعة له)
ظاهر هذا أنه متى علم الغائب بالبيع وقدر على الاشهاد وعلى المطالبة فلم يفعل أن شفعته تسقط سواء
قدر على التوكيل أو عجز عنه أو سار عقيب العلم أو أقام وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب في
الغائب له الشفعة إذا بلغه أشهد وإلا فليس له شئ وهو وجه للشافعي والوجه الآخر لا يحتاج إلى الاشهاد
لأنه إذا ثبت عذره فالظاهر أنه ترك الشفعة لذلك فقبل قوله فيه
ولنا أنه قد يترك الطلب للعذر وقد يترك لغير وقد يسير لطلب الشفعة وقد يسير لغيره وقد
قدر أن يبين ذلك بالاشهاد فإذا لم يفعل سقطت شفعته كتارك الطلب مع حضوره، وقال القاضي ان سار
عقيب علمه إلى البلد الذي فيه المشتري من غير اشهاد احتمل أن لا تبطل شفعته لأن ظاهر سيره أنه
الطلب؟؟ وهو قول أصحاب الرأي والعنبري وقول للشافعي، وقال أصحاب الرأي له من الاجل بعد العلم
قدر السير فإن مضى الاجل قبل أن يبعث أو يطلب بطلت شفعته وقال العنبري له مسافة الطريق
ذاهبا وجائيا لأن عذره في ترك الطلب ظاهر فلم يحتج معه إلى الشهادة، وقد ذكرنا وجه قول الخرقي ولا خلاف
في أنه إذا عجز عن الاشهاد في سفره أن شفعته لا تسقط لأنه معذور في تركه فأشبه ما لو ترك الطلب
486

لعذره أو لعدم العلم ومتى قدر على الاشهاد فأخره كان كتأخير الطلب للشفعة إن كان لعذر لم تسقط الشفعة
وإن كان لغير عذر سقطت لأن الاشهاد قائم مقام الطلب ونائب عنه فيعتبر له ما يعتبر للطلب، ومن لم يقدر
الا على اشهاد من لا تقبل شهادته كالصبي والمرأة والفاسق فترك الاشهاد لم تسقط شفعته بتركه لأن
قولهم غير معتبر فلم يلزم اشهادهم كالأطفال والمجانين، وان لم يجد من يشهده الا من لا يقدم معه إلى
موضع المطالبة فلم يشهد فالأولى أن شفعته لا تبطل لأن اشهاده لا يفيد فأشبه اشهاد من لا تقبل
شهادته فإن لم يجد الا مستوري الحال فلم يشهدهما احتمل أن تبطل شفعته لأن شهادتهما يمكن اثباتها بالتزكية
فأشبها العدلين ويحتمل أن لا تبطل لأنه يحتاج في اثبات شهادتهما إلى كلفة كثيرة وقد لا يقدر على
ذلك فلا تقبل شهادتهما وان أشهدهما لم تبطل شفعته سواء قبلت شهادتهما أو لم تقبل لأنه لم يمكنه
أكثر من ذلك فأشبه العاجز عن الاشهاد وكذلك أن لم يقدر الا على اشهاد واحد فأشهده أو ترك اشهاده
أكثر من ذلك فأشبه العاجز عن الاشهاد وكذلك أن لم يقدر الا على اشهاد واحد فأشهده أو ترك اشهاده
(فصل) إذا أشهد على المطالبة ثم أخر القدوم مع امكانه فظاهر كلام الخرقي أن الشفعة بحالها
وقال القاضي تبطل شفعته وان لم يقدر على المسير وقدر على التوكيل في طلبها فلم يفعل بطلت أيضا
لأنه تارك للطلب بها مع قدرته عليه فسقطت كالحاضر أو كما لو لم يشهد وهذا مذهب الشافعي إلا أن
لهم فيما إذا قدر على التوكيل فلم يفعل وجهين (أحدهما) لا تسقطت شفعته لأن له غرضا بأن يطالب
لنفسه لكونه أقوم بذلك أو يخاف الضرر من جهة وكيله بأن يقر عليه برشوة أو غير ذلك فيلزمه
اقراره فكان معذورا
487

ولنا أن عليه في السفر ضررا لالتزامه كلفته وقد يكون له حوائج وتجارة ينقطع عنها وتضيع بغيبته
والتوكيل إن كان بجعل لزمه غرم وإن كان بغير جعل لزمته منة ويخاف الضرر من جهته فاكتفى
بالاشهاد. فأما ان ترك السفر لعجزه عنه أو لضرر يلحقه فيه لم تبطل شفعته وجها واحد لأنه معذور
فأشبه من لم يعلم وان لم يقدر على الاشهاد وأمكنه السفر أو التوكيل فلم يفعل بطلت شفعته لأنه تارك
للطلب بها مع امكانه من غير وجود ما يقوم مقام الطلب فسقطت كما لو كان حاضرا
(فصل) ومن كان مريضا مرضا لا يمنع المطالبة كالصداع اليسير والألم القليل فهو كالصحيح وإن كان
مرضا يمنع المطالبة كالحمى وأشباهها فهو كالغائب في الاشهاد والتوكيل وأما المحبوس فإن كان
محبوسا ظلما أو بدين لا يمكنه أداؤه فهو كالمريض فإن كان محبوسا بحق يلزمه أداؤه وهو قادر عليه فهو
كالمطلق ان لم يبادر إلى المطالبة ولم يوكل فيها بطلت شفعته لأنه تركها مع القدرة عليها
(مسألة) قال (فإن لم يعلم حتى تبايع ذلك ثلاثة أو أكثر كان له أن يطالب بالشفعة
من شاء منهم فإن طالب الأول رجع الثاني بالثمن الذي أخذ منه والثالث على الثاني)
وجملة ذلك أن المشتري إذا تصرف في المبيع قبل أخذ الشفيع أو قبل علمه فتصرفه صحيح لأنه
ملكه وصح قبضه له ولم يبق الا أن الشفيع ملك أن يتملكه عليه وذلك لا يمنع من تصرفه كما لو
488

كان أحد العوضين في البيع معيبا لم يمنع التصرف في الآخر والموهوب له يجوز له التصرف في الهبة
وإن كان الواهب ممن له الرجوع فيه، فمتى تصرف فيه تصرف فيه تصرفا صحيحا تجب به الشفعة مثل أن باعه فالشفيع
بالخيار ان شاء فسخ البيع الثاني وأخذه بالبيع الأول بثمنه لأن الشفعة وجبت له قبل تصرف المشتري
وان شاء أمضى تصرفه وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني لأنه شفيع في العقدين فكان له الاخذ بما
شاء منهما، وان تبايع ذلك ثلاثة فله أن يأخذ المبيع بالبيع الأول وينفسخ العقدان الأخيران وله أن
يأخذه بالثاني وينفسخ الثالث وحده وله أن يأخذه بالثالث ولا ينفسخ شئ من العقود، فإذا أخذه من
الثالث دفع إليه الثمن الذي اشترى به ولم يرجع على أحد لأنه وصل إليه الثمن الذي اشترى به وان
أخذ من الثاني الثمن دفع إليه الذي اشترى به ورجع الثالث عليه بما أعطاه لأنه قد انفسخ عقده وأخذ
الشقص منه فيرجع بثمنه على الثاني لأنه أخذه منه، وان أخذ بالبيع الأول دفع إلى المشتري الأول
الثمن الذي اشترى به وانفسخ عقد عقد الآخرين ورجع الثالث على الثاني بما أعطاه ورجع الثاني
على الأول بما أعطاه، فإذا كان الأول اشتراه بعشرة ثم اشتراه الثاني بعشرين ثم اشتراه الثالث
بثلاثين فأخذه بالبيع الأول دفع إلى الأول عشرة وأخذ الثاني من الأول عشرين وأخذ الثالث من
الثاني ثلاثين لأن الشقص إنما يؤخذ من الثالث لكونه في يده وقد انفسخ عقده فيرجع بثمنه الذي
ورثه ولا نعلم في هذا خلافا وبه يقول مالك والشافعي والعنبري وأصحاب الرأي، وما كان في معنى
489

البيع مما تجب به الشفعة فهو كالبيع فيما ذكرنا، وإن كان مما لا تجب به الشفعة فهو كالهبة والوقف
على ما سنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) وان تصرف المشتري في الشقص بما لا تجب به الشفعة كالوقف والهبة والرهن وجعله
مسجدا فقال أبو بكر للشفيع فسخ ذلك التصرف ويأخذه بالثمن الذي وقع البيع وبه وهو قول مالك
والشافعي وأصحاب الرأي لأن الشفيع ملك فسخ البيع الثاني والثالث مع امكان الاخذ بهما فبأن
يملك فسخ عقد لا يمكنه الاخذ به أولى، ولان حق الشفيع أسبق وجنبته أقوى فلم يملك المشتري أن
يتصرف تصرفا يبطل حقه، ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حق الغير كما لو وقف المريض أملاكه
وعليه دين فإنه إذا مات رد الوقف إلى الغرماء والورثة فيما زاد على ثلثه بل لهم إبطال العتق فالوقف
أولى، وقال القاضي المنصوص عن أحمد في رواية علي بن سعيد وبكر بن محمد اسقاط الشفعة فيما إذا
تصرف بالوقف والهبة، وحكي ذلك عن الماسرجسي في الوقف لأن الشفعة إنما تثبت في المملوك وقد
خرج هذا عن كونه مملوكا، وقال ابن أبي موسى من اشترى دارا فجعلها مسجدا فقد استهلكها ولا
شفعة فيها ولان في الشفعة ههنا إضرارا بالموهوب له والموقوف عليه لأن ملكه يزول عنه بغير عوض
ولا يزال الضرر بالضرر بخلاف البيع فإنه إذا فسخ البيع الثاني رجع المشتري الثاني بالثمن الذي أخذ
منه فلا يلحقه ضرر، ولان ثبوت الشفعة ههنا يوجب رد العوض إلى غير مالك وسلبه عن المالك فإذا
490

قلنا بسقوط الشفعة فلا كلام وان قلنا بثبوتها فإن الشفيع يأخذ الشقص ممن هو في يده ويفسخ؟؟ عقده
ويدفع الثمن إلى المشتري وحكي عن مالك أنه يكون للموهوب له لأنه يأخذ ملكه
ولنا أن الشفيع يبطل الهبة ويأخذ الشقص بحكم العقد الأول ولو لم يكن وهب كان الثمن له
كذلك بعد الهبة المفسوخة
(فصل) فإن جعله صداقا أو عوضا في خلع أو صلح عن دم عمدا نبني ذلك على الوجهين في
الاخذ بالشفعة، فإن قايل البائع المشتري أو رده عليه بعيب فللشفيع فسخ الإقالة والرد والاخذ بالشفعة
لأن حقه سابق عليهما ولا يمكنه الاخذ معهما، وان تحالفا على الثمن وفسخا البيع فللشفيع أن يأخذ
الشقص بما حلف عليه البائع لأن البائع مقر بالبيع بالثمن الذي حلف عليه ومقر للشفيع باستحقاق
الشفعة بذلك فإذا بطل حق المشتري بانكاره لم يبطل حق الشفيع بذلك وله أن يبطل فسخهما
ويأخذ لأن حقه أسبق
(فصل) وان اشترى شقصا بعبد ثم وجد بائع الشقص بالعبد عيبا فله رد العبد واسترجاع الشقص
ويقدم على حق الشفيع لأن في تقديم حق الشفيع اضرارا بالبائع باسقاط حقه من الفسخ الذي
استحقه والشفعة لا تثبت لإزالة الضرر فلا تثبت على وجه يحصل بها الضرر فإن الضرر لا يزال بالضرر
491

وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين يقدم حق الشفيع لأن حقه أسبق فوجب تقديمه كما لو وجد
المشتري بالشقص عيبا فرده
ولنا أن في الشفعة إبطال حق البائع وحقه أسبق لأنه استند إلى وجود العيب وهو موجود حال
البيع والشفعة ثبتت بالبيع فكان حق البائع سابقا وفي الشفعة ابطاله فلم تثبت، ويفارق ما إذا كان
الشقص معيبا فإن حق المشتري إنما هو في استرجاع الثمن وقد حصل له من الشفيع فلا
فائدة في الرد، وفي مسئلتنا حق البائع في استرجاع الشقص ولا يحصل ذلك مع الاخذ بالشفعة
فافترقا، فإن لم يرد البائع العبد المعيب حتى أخذ الشفيع كان له رد العبد ولم يملك استرجاع المبيع لأن
الشفيع ملكه بالأخذ فلم يملك البائع إبطال ملكه كما لو باعه المشترى لأجنبي فإن الشفعة بيع في
الحقيقة ولكن يرجع بقيمة الشقص لأنه بمنزلة التالف، والمشتري قد أخذ من الشفيع قيمة العبد فهل
يتراجعان؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يتراجعان لأن الشفيع أخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد وهو قيمة العبد
صحيحا لا عيب فيه بدليل ان البائع إذا علم بالعيب ملك رده ويحتمل أن يأخذه بقيمته معيبا لأنه إنما
أعطى عبدا معيبا فلا يأخذ قيمة غير ما أعطى (والثاني) يتراجعان لأن الشفيع إنما يأخذ بالثمن الذي
استقر عليه العقد والذي استقر عليه العقد قيمة الشقص فإذا قلنا يتراجعان فأيهما كان ما دفعه أكثر رجع
بالفضل على صاحبه، وان لم يرد البائع العبد ولكن أخذ أرشه لم يرجع المشترى على الشفيع بشئ
492

لأنه إنما دفع إليه قيمة العبد غير معيب، وان أدى قيمته معيبا رجع المشترى عليه بما أدى من أرشه وان
عفا عنه ولم يأخذ أرشا لم يرجع الشفيع عليه بشئ لأن البيع لازم من جهة المشترى لا يملك فسخه
فأشبه ما لو حط عنه بعض الثمن بعد لزوم العقد، وان عاد الشقص إلى المشترى ببيع أو هبة أو ارث
أو غيره فليس للبائع أخذه بالبيع الأول لأن ملك المشتري زال عنه وانقطع حقه منه وانتقل حقه
إلى القيمة فإذا أخذها لم يبق له حق بخلاف ما لو غصب شيئا لم يقدر على رده فادى قيمته ثم قدر عليه
فإنه يرده لأن ملك المغصوب لم يزل عنه
(فصل) ولو كان ثمن الشقص مكيلا أو موزونا فتلف قبل قبضه بطل البيع وبطلت الشفعة لأنه
تعذر التسليم فتعذر امضاء العقد فلم تثبت الشفعة كما لو فسخ البيع في مدة الخيار بخلاف الإقالة والرد
بالعيب وإن كان الشفيع قد أخذ الشقص فهو كما لو أخذه في المسألة التي قبلها لأن لمشتري الشقص
التصرف فيه قبل تقبيض ثمنه فأشبه ما لو اشتراه منه أجنبي
(فصل) وان اشترى شقصا بعبد أو ثمن معين فخرج مستحقا فالبيع باطل ولا شفعة فيه لأنها
إنما تثبت في عقد ينقل الملك إلى المشتري وهو العقد الصحيح فأما الباطل فوجوده كعدمه، فإن كان
الشفيع قد أخذ بالشفعة لزمه رد ما أخذ على البائع ولا يثبت ذلك الا ببينة أو اقرار من الشفيع
والمتبايعين، فإن أقر المتبايعان وأنكر الشفيع لم يقبل قولهما عليه وله الاخذ بالشفعة ويرد العبد على
493

صاحبه ويرجع البائع على المشتري بقيمة الشقص، وان أقر الشفيع والمشتري دون البائع لم تثبت الشفعة
ووجب على المشتري رد قيمة العبد على صاحبه ويبقى الشقص معه يزعم أنه للبائع والبائع ينكره
ويدعي عليه وجوب رد العبد والبائع ينكره فيشتري الشقص منه ويتبارآن، وان أقر الشفيع والبائع
وأنكر المشتري وجب على البائع رد العبد على صاحبه ولم تثبت الشفعة ولم يملك البائع مطالبة المشتري
بشئ لأن البيع صحيح في الظاهر وقد أدى ثمنه الذي هو ملكه في الظاهر، وان أقر الشفيع وحده
لم تثبت الشفعة ولا يثبت شئ من أحكام البطلان في حق المتبايعين، فاما ان اشترى الشقص بثمن في
الذمة ثم نقد الثمن فبان مستحقا كانت الشفعة واجبة لأن البيع صحيح فإن تعذر قبض الثمن من
المشتري لاعساره أو غيره فللبائع فسخ البيع ويقدم حق الشفيع لأن الاخذ بها يحصل للمشتري ما يوفيه
ثمنا فتزول عسرته ويحصل الجمع بين الحقين فكان أولى
(فصل) وإذا وجبت الشفعة وقضى القاضي بها والشقص في يد البائع ودفع الثمن إلى المشتري
فقال البائع للشفيع أقلني فأقاله لم تصح الإقالة لأنها تصح بين المتبايعين وليس بين الشفيع والبائع بيع
وإنما هو مشتر من المشتري فإن باعه إياه صح البيع لأن العقار يجوز التصرف فيه قبل قبضه
494

(مسألة) قال (وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة)
وجملة ذلك أنه إذا بيع في شركة الصغير شقص ثبتت له الشفعة في قول عامة الفقهاء منهم الحسن
وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وسوار والعنبري وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى لا شفعة له
وروي ذلك عن النخعي والحارث العكلي لأن الصبي لا يمكنه الاخذ ولا يمكن انتظاره حتى يبلغ لما فيه من الاضرار
بالمشتري وليس للولي الاخذ لأن من لا يملك العفو لا يملك الاخذ. ولنا عموم الأحاديث ولأنه خيار جعل
لإزالة الضرر عن المال فيثبت في حق الصبي كخيار الرد بالعيب، قولهم لا يمكن الاخذ غير صحيح فإن الولي
يأخذ بها كما يرد المعيب، قولهم لا يمكنه العفو يبطل بالوكيل فيها وبالرد بالعيب فإن ولي الصبي لا يمكنه العفو ويمكنه الرد
ولان في الاخذ تحصيلا للملك للصبي ونظرا له وفي العفو تضييع وتفريط في حقه ولا يلزم من ملك
ما فيه الحظ ملك ما فيه تضييع، ولان العفو اسقاط لحقه والاخذ استيفاء له ولا يلزم من ملك الولي استيفاء
حق المولي عليه ملك اسقاطه بدليل سائر حقوقه وديونه، وان لم يأخذ الولي انتظر بلوغ الصبي كما ينتظر
قدوم الغائب وما ذكروه من الضرر في الانتظار يبطل بالغائب. إذا ثبت هذا فإن ظاهر قول الخرقي أن
للصغير إذا كبر الاخذ بها سواء عفا عنها الولي أو لم يعف وسواء كان الحظ في الاخذ بها أو في تركها وهو
ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور له الشفعة إذا بلغ فاختار ولم يفرق وهذا قول الأوزاعي وزفر
ومحمد بن الحسن وحكاه بعض أصحاب الشافعي عنه لأن المستحق للشفعة يملك الاخذ بها سواء كان له
495

الحظ فيها أو لم يكن فلم يسقط بترك غيره كالغائب إذا ترك وكيله الاخذ بها، وقال أبو عبد الله بن حامد
ان تركها الولي لحظ الصبي أو لأنه ليس للصبي ما يأخذها به سقطت وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأن
الولي فعل ما له فعله فلم يجز للصبي نقضه كالرد بالعيب ولأنه فعل ما فيه الحظ للصبي فصح كالاخذ مع الحظ
وان تركها لغير ذلك لم تسقط، وقال أبو حنيفة تسقط بعفو الولي عنها في الحالين لأن من ملك الاخذ بها ملك
العفو عنها كالمالك، وخالفه صاحباه في هذا لأنه أسقط حقا للمولي عليه لاحظ له في اسقاطه فلم يصح
كالابراء واسقاط خيار الرد بالعيب، ولا يصح قياس الولي على المالك لأن للمالك التبرع والابراء ومن؟؟
لاحظ له فيه بخلاف الولي
(فصل) فاما الولي فإن كان للصبي حظ في الاخذ بها مثل أن يكون الشراء رخيصا أو بثمن المثل
وللصبي مال لشراء العقار لزم وليه الاخذ بالشفعة لأن عليه الاحتياط له والاخذ بما فيه الحظ فإذا أخذ
بها ثبت الملك للصبي ولم يملك نقضه بعد البلوغ في قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب
الرأي، وقال الأوزاعي ليس للولي الاخذ بها لأنه لا يملك العفو عنها فلا يملك الاخذ بها كالأجنبي وإنما
يأخذ بها الصبي إذا كبر، ولا يصح هذا لأنه خيار جعل لإزالة الضرر عن المال فملكه الولي في حق
الصبي كالرد بالعيب، وقد ذكرنا فساد قياسه فيما مضى، فإن تركها الولي مع الحظ فللصبي الاخذ بها إذا كبر
ولا يلزم الولي لذلك غرم لأنه لم يفوت شيئا من ماله وانا ترك تحصيل ماله الحظ فيه فأشبه ما لو ترك
496

شراء العقار مع الحظ في شرائه وإن كان الحظ في تركها مثل أن يكون المشتري قد غبن أو كان في الاخذ
بها يحتاج إلى أن يستقرض ويرهن مال الصبي فليس له الاخذ لأنه لا يملك فعل ما لاحظ للصبي فيه فإن
أخذ فهل يصح؟ على روايتين (إحداهما) لا يصح ويكون باقيا على ملك المشتري لأنه اشترى له مالا يملك شراءه
فلم يصح كما لو اشترى بزيادة كثيرة على ثمن المثل أو اشترى معيبا يعلم عيب، ولا يملك الولي المبيع لأن الشفعة
تؤخذ بحق الشركة ولا شركة للولي ولذلك لو أراد الاخذ لنفسه لم يصح فأشبه ما لو تزوج لغيره بغير
اذنه فإنه يقع باطلا ولا يصح لواحد منهما كذا ههنا وهذا مذهب الشافعي (والرواية الثانية) يصح الاخذ
للصبي لأنه يشترى له ما يندفع عنه الضرر به فصح كما لو اشترى؟؟ معيبا لا يعلم عيبه والحظ يختلف ويخفى
فقد يكون له حظ في الاخذ بأكثر من ثمن المثل لزيادة قيمة ملكه والشقص الذي يشتريه بزوال
الشركة أو لأن الضرر الذي يندفع بأخذه كثير فلا يمكن اعتبار الحظ بنفسه لخفائه ولا بكثرة الثمن لما
ذكرناه فسقط اعتباره وصح البيع
(فصل) وإذا باع وصي الأيتام فباع لأحدهم نصيبا في شركة آخر كان له الاخذ للآخر بالشفعة
لأنه كالشراء له وإن كان الوصي شريكا لمن باع عليه لم يكن له الاخذ لأنه متهم في بيعه ولأنه بمنزلة
من يشتري لنفسه من مال يتيمه ولو باع الوصي نصيبه كان له الاخذ لليتيم بالشفعة إذا كان له الحظ
فيها لأن التهمة منتفية فإنه لا يقدر على الزيادة في ثمنه لكون المشتري لا يوافقه ولان الثمن حاصل له
من المشتري كحصوله من اليتيم بخلاف بيعه مال اليتيم فإنه يمكنه تقليل الثمن ليأخذ الشقص به فإذا
497

رفع الامر إلى الحاكم فباع عليه فللوصي الاخذ حينئذ لعدم التهمة، وإن كان كان الوصي أب فباع
شقص الصبي فله أن يأخذه بالشفعة لأن له أن يشترى من نفسه مال ولده لعدم التهمة وان بيع شقص
في شركة حمل لم يكن لوليه أن يأخذ له بالشفعة لأنه لا يمكن تمليكه بغير الوصية وإذا ولد الحمل ثم كبر
فله الاخذ بالشفعة كالصبي إذا كبر
(فصل) وإذا عفا ولي الصبي عن شفعته التي له فيها حظ ثم أراد الاخذ بها فله ذلك في قياس
المذهب لأنها لم تسقط باسقاطه ولذلك ملك الصبي الاخذ بها إذا كبر ولو سقطت لم يملك الاخذ بها
ويحتمل أن لا يملك الاخذ بها لأن ذلك يؤدي إلى ثبوت حق الشفعة على التراخي وذلك على خلاف
الخبر والمعنى ويخالف أخذ الصبي بها إذا كبر لأن الحق يتجدد له عند كبره فلا يملك تأخيره حينئذ
وكذلك أخذ الغائب بها إذا قدم فاما ان تركها لعدم الحظ فيها ثم أراد الاخذ بها والامر على ما كان
لم يملك ذلك كما لم يملكه ابتداء وان صار فيها حظ أو كان معسرا عند البيع فأيسر بعد ذلك انبنى
ذلك على سقوطها بذلك فإن قلنا لا تسقط وللصبي الاخذ بها إذا كبر فحكمها حكم ما فيه الحظ وان
قلنا تسقط فليس فله الاخذ بها بحال لأنها قد سقطت على الاطلاق فأشبه ما لو عفا الكبير عن شفعته
(فصل) والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصبي سواء لأنه محجور عليه لحظه وكذلك
السفيه لذلك، وأما المغمى عليه فلا ولاية عليه وحكمه حكم الغائب والمجنون ينتظر افاقته، وأما المفلس
498

فله الاخذ بالشفعة والعفو عنها وليس لغرمائه الاخذ بها لأن الملك لم يثبت لهم في أملاكه قبل قسمتها
ولا اجباره على الاخذ بها لأنها معاوضة فلا يجبر عليها كسائر المعاوضات وليس لهم اجباره على العفو
لأنه اسقاط حق فلا يجبر عليه وسواء كان له حظ في الاخذ بها أو لم يكن لأنه يأخذ في ذمته وليس
بمحجور عليه في ذمته لكن لهم منعه من دفع ماله في ثمنها لتعلق حقوقهم بماله فأشبه ما لو اشترى
في ذمته شقصا غير هذا ومتى ملك الشقص المأخوذ بالشفعة تعلقت حقوق الغرماء به سواء أخذه برضاهم
أو بغيره لأنه مال له فأشبه ما لو اكتسبه، وأما المكاتب فله الاخذ والترك وليس لسيده الاعتراض
عليه لأن التصرف يقع له دون سيده فأما المأذون له في التجارة من العبيد فله الاخذ بالشفعة لأنه
مأذون له في الشراء وان عفا عنها لم ينفذ عفوه لأن الملك لسيده ولم يأذن له في إبطال حقوقه،
وان أسقطها السيد سقطت ولم يكن للعبد ان يأخذ لأن للسيد الحجر عليه، ولان الحق قد أسقطه
مستحقه فيسقط باسقاطه
(فصل) وإذا بيع شقص في شركة مال المضاربة فللعامل الاخذ بها إذا كان الحظ فيها فإن تركها
فلرب المال الاخذ لأن مال المضاربة ملكه ولا ينفذ عفو العامل لأن الملك لغيره فلم ينفذ عفوه كالمأذون
له وان اشترى المضارب بمال المضاربة شقصا في شركة رب المال فهل لرب المال فيه شفعة على وجهين
مبنيين على شراء رب المال من مال المضاربة وقد ذكرناهما، وإن كان المضارب شفيعه ولا ربح في المال
فله الاخذ بها لأن الملك لغيره وإن كان فيه ربح وقلنا لا يملك بالظهور فكذلك وان قلنا يملك بالظهور
ففيه وجهان كرب المال ومذهب الشافعي في هذا كله على ما ذكرنا فإن باع المضارب شقصا في شركته
لم يكن له أخذه بالشفعة لأنه متهم فأشبه شراءه من نفسه
499

(فصل) ولا شفعة بشركة الوقف ذكره القاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى وهو ظاهر مذهب
الشافعي لأنه لا يؤخذ بالشفعة فلا تجب فيه كالمجاور وغير المنقسم، ولأننا ان قلنا هو غير مملوك فالموقوف
عليه غير مالك وان قلنا هو مملوك فملكه غير تام لأنه لا يفيد إباحة التصرف في الرقبة فلا يملك به ملكا
تاما وقال أبو الخطاب ان قلنا هو مملوك وجبت به الشفعة لأنه مملوك بيع في شركته شقص فوجبت
به الشفعة كالطلق ولان الضرر يندفع عنه بالشفعة كالطلق فوجبت فيه كوجوبها في الطلق وإنما لم يستحق
بالشفعة لأن الاخذ بها بيع وهو مما لا يجوز بيعه
(مسألة) قال (وإذا بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه الا أن يشاء المشتري أن
يأخذ بناءه فله ذلك إذا لم يكن في أخذه ضرر)
وجملته أنه يتصور بناء المشتري وغرسه في الشقص المشفوع على وجه مباح في مسائل (منها) أن
يظهر المشترى أنه وهب له أو أنه اشتراه بأكثر من ثمنه أو غير ذلك مما يمنع الشفيع من الاخذ بها
فيتركها ويقاسمه ثم يبنى المشترى ويغرس فيه (ومنها) أن يكون غائبا فيقاسمه وكيله أو صغيرا فيقاسمه وليه
ونحو ذلك ثم يقدم الغائب أو يبلغ الصغير فيأخذ بالشفعة وكذلك أن كان غائبا أو صغيرا فطالب المشترى
الحاكم بالقسمة فقاسم ثم قدم الغائب وبلغ الصغير فأخذه بالشفعة بعد غرس المشترى وبنائه فإن
500

للمشترى قلع غرسه وبنائه ان اختار ذلك لأنه ملكه فإذا قلعه فليس عليه تسوية الحفر ولا نقص
الأرض ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه غرس وبنى في ملكه وما حدث من النقص إنما حدث
في ملكه وذلك مما لا يقابله ثمن، وظاهر كلام الخرقي أن عليه ضمان النقص الحاصل بالقلع لأنه اشترط
في قلع الغرس والبناء عدم الضرر وذلك لأنه نقص دخل على ملك غيره لأجل تخليص ملكه فلزمه
ضمانه كما لو كسر محبرة غيره لاخراج ديناره منها، وقولهم ان النقص حصل في ملكه ليس كذلك فإن
النقص الحاصل بالقلع إنما هو في ملك الشفيع فاما نقص الأرض الحاصل بالغرس والبناء فلا يضمنه لما
ذكروه فإن لم يختر المشتري القلع فالشفيع بالخيار بين ثلاثة أشياء ترك الشفعة وبين دفع قيمة
الغراس والبناء فيملكه مع الأرض وبين قلع الغرس والبناء ويضمن له ما نقص بالقلع وبهذا قال الشعبي والأوزاعي وابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي والبتي وسوار وإسحاق، وقال حماد بن أبي سليمان
والثوري وأصحاب الرأي يكلف المشتري القلع ولا شئ له لأنه بنى فيما استحق غيره أخذه فأشبه
الغاصب ولأنه بنى في حق غيره بغير إذنه فأشبه ما لو بانت مستحقة.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) ولا يزول الضرر عنهما الا بذلك ولأنه بنى في ملكه
الذي تملك بيعه فلم يكلف قلعه مع الاضرار كما لو لم يكن مشفوعا، وفارق ما قاسوا عليه فإنه بنى في
ملك غيره ولأنه عرق ظالم وليس لعرق ظالم حق بخلاف مسئلتنا فإنه غير ظالم فيكون له حق
إذا ثبت هذا فإنه لا يمكن ايجاب قيمته مستحقا للبقاء في الأرض لأنه لا يستحق ذلك، ولا قيمته
501

مقلوعا لأنه لو وجبت قيمته مقلوعا لملك قلعه ولم يضمن شيئا ولأنه قد يكون مما لا قيمة له إذا قلعه ولم
يذكر أصحابنا كيفية وجوب القيمة فالظاهر أن الأرض تقوم وفيها الغراس والبناء ثم تقوم خالية منهما
فيكون ما بينهما قيمة الغرس والبناء فيدفعه الشفيع إلى المشتري إن أحب أو ما نقص منه ان اختار القلع
لأن ذلك هو الذي زاد بالغرس والبناء، ويحتمل أن يقوم الغرس والبناء مستحقا للترك بالأجرة أو
لاخذه بالقيمة إذا امتنعا من قلعه فإن كان للغرس وقت يقلع فيه فيكون له قيمة وإن قلع قبله لم يكن
له قيمة أو تكون قيمته قليلة فاختار الشفيع قلعه قبل وقته فله ذلك لأنه يضمن النقص فيجبر به ضرر
المشتري سواء كثر النقص أو قل ويعود ضرر كثرة النقص على الشفيع وقد رضي باحتماله، وإن غرس
أو بنى مع الشفيع أو وكيله في المشاع ثم أخذه الشفيع فالحكم في أخذ نصيبه من ذلك كالحكم في أخذ
جميعه بعد المقاسمة
(فصل) وان زرع في الأرض فللشفيع الاخذ بالشفعة ويبقى زرع المشتري إلى أوان الحصاد
لأن ضرره لا يتباقى ولا أجره عليه لأنه زرعه في ملكه، ولان الشفيع اشترى الأرض وفيها زرع
للبائع فكان له مبقى إلى الحصاد بلا أجرة كغير المشفوع، وإن كان في الشجر ثمر ظاهر أثمر في ملك
المشتري فهو له مبقى إلى الجذاذ كالزرع
(فصل) وإذا نمى المبيع في يد المشتري لم يخل من حالين (أحدهما) أن يكون نماء متصلا كالشجر
502

إذا كثر أو ثمرة غير ظاهرة فإن الشفيع يأخذه بزيادته لأن هذه زيادة غير متميزة فتبعت الأصل كما
لو رد بعيب أو خيار أو إقالة فإن قيل فلم لا يرجع الزوج في نصفه زائدا إذا طلق قبل الدخول؟ قلنا
لأن الزوج يقدر على؟؟ الرجوع بالقيمة إذا فاته الرجوع بالعين وفي مسئلتنا إذا لم يرجع في الشقص سقط
حقه من الشفعة فلم يسقط حقه من الأصل لأجل ما حدث من البائع، وإذا أخذ الأصل تبعه نماؤه
المتصل كما ذكرنا في الفسوخ كلها
(الحال الثاني) أن تكون الزيادة منفصلة كالغلة والأجرة والطلع المؤبر والثمرة الظاهرة فهي للمشتري
لاحق للشفيع فيها لأنها حدثت في ملكه وتكون للمشتري مبقاة في رؤس النخل إلى الجذاذ لأن أخذ
الشفيع من المشتري شراء ثان فيكون حكمه حكم ما لو اشترى برضاه، فإن اشتراه وفيه طلع غير مؤبر فأبره ثم
أخذه الشفيع أخذ الأصل دون الثمرة، ويأخذ الأرض والنخيل بحصتهما من الثمن كما لو كان المبيع شقصا وسيفا
(فصل) وإن تلف الشقص أو بعضه في يد المشتري فهو من ضمانه لأنه ملكه تلف
في يده ثم إن أراد الشفيع الاخذ بعد تلف بعضه أخذ الموجود بحصته من الثمن سواء كان التلف
بفعل الله تعالى أو بفعل آدمي، وسواء تلف باختيار المشتري كنقصه للبناء أو بغير اختياره مثل
أن انهدم، ثم إن كانت الانقاض موجودة أخذها مع العرصة بالحصة وان كانت معدومة أخذ
العرصة وما بقي من البناء، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن القاسم وهذا قول الثوري والعنبري
503

وأبي يوسف وقول للشافعي، وقال أبو عبد الله بن حامد إن كان التلف بفعل آدمي كما ذكرنا، وإن
كان بفعل الله تعالى كانهدام البناء بنفسه أو حريق أو غرق فليس للشفيع أخذ الباقي الا بكل الثمن
أو يترك وهذا قول أبي حنيفة وقول الشافعي لأنه متى كان النقص بفعل آدمي رجع بدله إلى المشتري
فلا يتضرر ومتى كان بغير ذلك لم يرجع إليه شئ فيكون الاخذ منه اضرارا به والضرر يزال بالضرر
ولنا أنه تعذر على الشفيع أخذ الجميع وقدر على أخذ البعض فكان له بالحصة من الثمن كما لو تلف
بفعل آدمي سواه أو كما لو كان له شفيع آخر، أو نقول أخذ بعض ما دخل معه في العقد فأخذه بالحصة كما
لو كان معه سيف، وأما الضرر فإنما حصل بالتلف ولا صنع للشفيع فيه والذي يأخذه الشفيع يؤدي
ثمنه فلا يتضرر المشتري بأخذه، وإنما قلنا يأخذ الانقاض وان كانت منفصلة لأن استحقاقه للشفعة
كان حال عقد البيع وفي تلك الحال كان متصلا اتصالا ليس مآله إلى الانفصال وانفصاله بعد ذلك
لا يسقط حق الشفعة، ويفارق الثمرة غير المؤبرة إذا تأرت فإن مآلها إلى الانفصال والظهور فإذا ظهرت
فقد انفصلت فلم تدخل في الشفعة، وإن نقصت القيمة مع بقاء صورة المبيع مثل أن انشق الحائط
واستهدم البناء وشعث الشجر وبارت الأرض فليس له الا الاخذ بجميع الثمن أو الترك لأن هذه المعاني
لا يقابلها الثمن بخلاف الأعيان، ولهذا قلنا لو بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه، ولو زاد المبيع زيادة
متصلة دخلت في الشفعة
504

(مسألة) قال (وإن كان الشراء وقع بعين أو ورق أعطاه الشفيع مثل ذلك، وإن
كان عرضا أعطاه قيمته)
وجملته أن الشفيع يأخذ الشقص من المشتري بالثمن الذي استقر عليه العقد لما روي في حديث
جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (هو أحق بالثمن) رواه أبو إسحاق الجوزجاني في كتابه، ولان الشفيع إنما
استحق الشقص بالبيع فكان مستحقا له بالثمن كالمشتري فإن قيل إن الشفيع استحق أخذه بغير رضى مالكه
فينبغي أن يأخذه بقيمته كالمضطر يأخذ وعدم غيره، قلنا المضطر استحق أخذه بسبب حاجة خاصة
فكان المرجع في بدله إلى قيمته والشفيع استحقه لأجل البيع ولهذا لو انتقل بهبة أو ميراث لم يستحق
الشفعة، وإذا استحق ذلك بالبيع وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع. إذا ثبت هذا فانا ننظر
في الثمن فإن كان دنانير أو دراهم أعطاه الشفيع مثله، وإن كان مما لا مثل له كالثياب والحيوان فإن
الشفيع يستحق الشقص بقيمة الثمن وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول أصحاب الرأي والشافعي،
وحكي عن الحسن وسوار أن الشفعة لا تجب ههنا لأنها تجب بمثل الثمن وهذا لامثل له فتعذر الاخذ
فلم يجب كما لو جهل الثمن
ولنا أنه أحد نوعي الثمن فجاز أن تثبت به الشفعة في المبيع كالمثلي وما ذكروه لا يصح لأن المثل
505

يكون من طريق الصورة ومن طريق القيمة كبدل المتلف، فأما إن كان الثمن من المثليات غير الأثمان
كالحبوب والادهان فقال أصحابنا يأخذه الشفيع بمثله لأنه من ذوات الأمثال فهو كالأثمان وبه يقول
أصحاب الرأي وأصحاب الشافعي ولان هذا مثل من طريق الصورة والقيمة فكان أولى من المماثل في
إحداهما ولان الواجب بدل الثمن فكان مثله كبدل القرض والمتلف
(فصل) ويستحق الشفيع الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد فلو تبايعا بقدر ثم غيراه في زمن
الخيار بزيادة أو نقص ثبت ذلك التغيير في حق الشفيع لأن حق الشفيع إنما يثبت إذا تم العقد وإنما
يستحق بالثمن الذي هو ثابت حال استحقاقه ولان زمن الخيار بمنزلة حالة العقد، والتغيير يلحق بالعقد
فيه لأنهما على اختيارهما فيه كما لو كانا في حال العقد، فاما إذا انقضى الخيار وانبرم العقد فزادا أو
نقصا لم يلحق بالعقد لأن الزيادة بعده هبة يعتبر لها شروط الهبة والنقص ابراء مبتدأ ولا يثبت ذلك
في حق الشفيع وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يثبت النقص في حق الشفيع دون الزيادة، وان
كانا عنده يلحقان بالعقد لأن الزيادة تضر الشفيع فلم يملكها بخلاف النقص وقال مالك ان بقي
ما يكون ثمنا أخذ به، وان حط الأكثر أخذه بجميع الثمن الأول
ولنا أن ذلك يعتبر بعد استقرار العقد فلم يثبت في حق الشفيع كالزيادة ولا الشفيع استحق
الاخذ بالثمن الأول قبل التغيير فلم يؤثر التغيير بعد ذلك فيه كالزيادة وما ذكروه من العذر غير صحيح
506

لأن ذلك لو لحق العقد لزم الشفيع، وان أضربه كالزيادة، في مدة الخيار ولأنه حط بعد لزوم العقد
فأشبه حط الجميع أو الأكثر عند مالك
(فصل) وإن كان الثمن مما تجب قيمته فإنها تعتبر وقت البيع لأنه وقت الاستحقاق ولا اعتبار
بعد ذلك بالزيادة والنقص، وإن كان فيه خيار اعتبرت القيمة حين انقضاء الخيار واستقرار العقد
لأنه حين استحقاق الشفعة وبهذا قال الشافعي، وحكي عن مالك أنه يأخذه بقيمته يوم المحاكمة وليس
بصحيح لأن وقت الاستحقاق وقت العقد وما زاد بعد ذلك حصل في ملك البائع فلا يقوم للمشتري
وما نقص فمن مال البائع فلا ينقص به حق المشتري
(فصل) وإذا كان الثمن مؤجلا أخذ الشفيع بذلك الاجل إن كان مليئا وإلا أقام ضمينا مليئا
وأخذه وبه قال مالك وعبد الملك وإسحاق، وقال الثوري لا يأخذها إلا بالنقد حالا، وقال
أبو حنيفة لا يأخذها إلا بثمن حال أو ينتظر مضي الاجل ثم يأخذ، وعن الشافعي كمذهبنا ومذهب
أبي حنيفة لأنه لا يمكنه الاخذ بالمؤجل لأنه يفضي إلى أن يلزم المشتري قبول ذمة الشفيع والذمم لا تتماثل
وإنما يأخذ بمثله ولا يلزمه أن يأخذ بمثله حالا لئلا يلزمه أكثر مما يلزم المشتري ولا بسلعة بمثل الثمن إلى
الاجل لأنه إنما يأخذه بمثل الثمن أو القيمة والسلعة ليست واحدة منهما فلم يبق إلا التخيير
507

ولنا أن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته والتأجيل من صفاته ولان في الحلول زيادة
على التأجيل فلم يلزم الشفيع كزيادة القدر، وما ذكروه من اختلاف الذمم فإننا لا نوجبها حتى توجد
الملاءة في الشفيع أو في ضمينه بحيث ينحفظ المال فلا يضر اختلافهما فيما وراء ذلك كما لو اشترى
الشقص بسلعة وجبت قيمتها ولا يضر اختلافهما، ومتى أخذه الشفيع بالأجل فمات الشفيع أو
المشتري وقلنا يحل الدين بالموت حل الدين على الميت منهما دون صاحبه لأن سبب حلوله الموت
فاختص بمن وجد في حقه
(فصل) وإذا باع شقصا مشفوعا ومعه مالا شفعة فيه كالسيف والثوب في عقد واحد ثبتت
الشفعة في الشقص بحصته من الثمن دون ما معه فيقوم كل واحد منهما ويقسم الثمن على قدر قيمتهما فما
يخص الشقص يأخذه الشفيع وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ويحتمل أن لا تجب الشفعة لئلا تتبعض
صفقة المشتري وفي ذلك اضرار به فأشبه ما لو أراد الشفيع أخذ بعض الشقص، وقال مالك
تثبت الشفعة فيما لذلك
ولنا أن السيف لا شفعة فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة فلم يؤخذ بالشفعة كما لو أفرده وما يلحق المشتري
من الضرر فهو ألحقه بنفسه بجمعه في العقد بين ما تثبت فيه الشفعة ومالا تثبت ولان في أخذ الكل ضررا بالمشتري
أيضا لأنه ربما كان غرضه في ابقاء السيف له ففي أخذه منه إضرار به من غير سبب يقتضيه
508

(فصل) وإذا باع شقصين من أرضين صفقة واحدة لرجل واحد والشريك في أحدهما غير
الشريك في الآخر فلهما أن يأخذا ويقتسما الثمن على قدر القيمتين. وإن أخذ أحدهما دون الآخر
جاز ويأخذ الشقص الذي في شركته بحصته من الثمن، ويتخرج انه لا شفعة له كالمسألة التي قبلها
وليس له أخذهما معا لأن أحدهما لا شركة له فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة فجرى مجرى الشقص
والسيف، وإن كان الشريك فيهما واحدا فله أخذهما وتركهما لأنه شريك فيهما، وان أحب أخذ أحدهما
دون الآخر فله ذلك، وهذا منصوص الشافعي، ويحتمل انه لا يملك ذلك، ومتى اختاره سقطت
الشفعة فيهما لأنه أمكنه أخذ المبيع كله فلم يملك أخذ بعضه كما لو كان شقصا واحدا، ذكره
أبو الخطاب وبعض أصحاب الشافعي
ولنا أنه يستحق كل واحد منهما بسبب غير الآخر فجرى مجرى الشريكين، ولأنه لو
جرى مجرى الشقص الواحد لوجب - إذا كانا شريكين فترك أحدهما شفعته - أن يكون للآخر
أخذ الكل والامر بخلافه
(فصل) ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على الثمن لأن في أخذه بدون دفع الثمن إضرارا بالمشتري
ولا يزال الضرر بالضرر، فإن أحضر رهنا أو ضمينا لم يلزم المشتري قبوله لأن في تأخير الثمن ضررا
فلم يلزم المشتري ذلك كما لو أراد تأخير ثمن حال، فإن بذل عوضا عن الثمن لم يلزمه قبوله لأنها معاوضة
509

لم يجبر عليها، وإذا أخذ بالشفعة لم يلزم المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن فإن كان موجودا
سلمه وان تعذر في الحال قال أحمد في رواية حرب ينظر الشفيع يوما أو يومين بقدر ما يرى الحاكم،
فإذا كان أكثر فلا، وهذا قول مالك
وقال ابن شبرمة وأصحاب الشافعي: ينظر ثلاثا لأنها آخر حد القلة فإن أحضر الثمن وإلا فسخ
عليه وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يأخذ بالشفعة ولا يقضي القاضي بها حتى يحضر الثمن لأن الشفيع يأخذ
الشقص بغير اختيار المشتري فلا يستحق ذلك إلا لا حضار عوضه كتسليم المبيع
ولنا انه تملك للمبيع بعوض فلا يقف على احضار العوض كالبيع، وأما التسليم في البيع فالتسليم
في الشفعة مثله، وكون الاخذ بغير اختيار المشتري يدل على قوته فلا يمنع من اعتباره في الصحة فإذا
أجلناه مدة فأحضر الثمن فيها وإلا فسخ الحاكم الاخذ ورده إلى المشتري، وهكذا لو هرب الشفيع
بعد الاخذ، والأولى أن للمشتري الفسخ من غير حاكم لأنه فات شرط الاخذ ولأنه تعذر على البائع
الوصول إلى الثمن فملك الفسخ كغير من أخذت الشفعة منه، وكما لو أفلس الشفيع، ولان الاخذ بالشفعة
لا يقف على حكم الحاكم فلا يقف فسخ الاخذ بها على الحاكم كفسخ غيرها من البيوع وكالرد بالعيب،
ولان وقف ذلك على الحاكم يفضي إلى الضرر بالمشتري لأنه قد يتعذر عليه اثبات ما يدعيه وقد يصعب
510

عليه حضور مجلس الحاكم لبعده أو غير ذلك فلا يشرع فيها ما يفضي إلى الضرر، ولأنه لو وقف الامر
على الحاكم لم يملك الاخذ الابعد احضار الثمن لئلا يفضي إلى هذا الضرر، وان أفلس الشفيع خير
المشتري بين الفسخ وبين أن يضرب مع الغرماء بالثمن كالبائع إذا أفلس المشتري
(فصل) لا يحل الاحتيال لاسقاط الشفعة وان فعل لم تسقط، قال أحمد في رواية إسماعيل
ابن سعيد وقد سألته عن الحيلة في إبطال الشفعة فقال لا يجوز شي من الحيل في ذلك ولا في إبطال حق
مسلم وبهذا قال أبو أيوب وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوز جاني، وقال عبد الله بن عمر
من يخدع الله يخدعه وقال أيوب السختياني انهم ليخادعون الله ما يخادعون صبيا لو كانوا يأتون
الامر على وجهه كان أسهل علي
ومعنى الحيلة ان يظهر وا في البيع شيئا لا يؤخذ بالشفعة معه ويتواطؤن في الباطن على خلافه: مثل أن
يشتري شقصا يساوي عشرة دنانير بألف درهم ثم يقضيه عنها عشرة دنانير، أو يشتريه بمائة دينار
ويقضيه عنها مائة درهم، أو يشتري البائع من المشتري عبدا قيمته مائة بألف في ذمته ثم يبيعه الشقص
بالألف، أو يشتري شقصا بألف ثم يبرئه البائع من تسعمائة، أو يشتري جزءا من الشقص بمائة ثم يهب
له البائع باقيه، أو يهب الشقص للمشتري ويهب المشتري له الثمن أو بعقد البيع بثمن مجهول المقدار كحفنة
511

قراضة أو جوهرة معينة أو سلعة معينة غير موصوفة أو بمائة درهم ولؤلؤة وأشباه هذا، فهذا كله إذا وقع
من غير تحيل سقطت الشفعة، وان تحيلا به على اسقاط الشفعة لم تسقط ويأخذ الشفيع الشقص في
الصورة الأولى بعشرة دنانير أو قيمتها من الدراهم وفي الثانية بمائة درهم أو قيمتها ذهبا، وفي الثالثة
بقيمة العبد المبيع وفي الرابعة بالباقي بعد الابراء وهو المائة المقبوضة، وفي الخامسة يأخذ الجزء المبيع
من الشقص بقسطه من الثمن ويحتمل أن يأخذ الشقص، كله بجميع الثمن لأنه إنما وهبه بقية الشقص
عوضا عن الثمن الذي اشترى به جزءا من الشقص، وفي السادسة يأخذ بالثمن الموهوب، وفي سائر
الصور المجهول ثمنها يأخذه بمثل الثمن أو بقيمته ان لم يكن مثلها إذا كان الثمن موجودا وان لم يوجد
عينه دفع إليه قيمة الشقص لأن الأغلب وقوع العقد على الأشياء بقيمتها، وقال أصحاب الرأي
والشافعي يجوز ذلك كله وتسقط به الشفعة لأنه لم يأخذ بما وقع البيع به فلم يجز كما لو لم يكن حيلة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أدخل فرسا بين فرسين ولم يأمن أن يسبق فليس بقمار، وان أمن
أن يسبق فهو قمار) رواه أبو داود وغيره، فجعل ادخال الفرس المحلل قمارا في الموضع الذي يقصد به
إباحة اخراج كل واحد من المتسابقين جعلا مع عدم معنى المحلل فيه وهو كونه بحال يحتمل أن يأخذ
سبقيهما، وهذا يدل على ابطال كل حيلة لم يقصد بها إلا إباحة المحرم مع عدم المعنى فيها
واستدل أصحابنا بما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تركبوا ما ارتكبت
512

اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله اليهود ان الله لما حرم عليهم
شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه) متفق عليه ولان الله تعالى ذم المخادعين له بقوله (يخادعون الله
والذين آمنوا وما يخدعون الا أنفسهم وما يشعرون) والحيل مخادعة، وقد مسخ الله تعالى الذين
اعتدوا في السبت قردة بحيلتهم فإنه رأي انهم كانوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة ومنهم من يحفر جبابا
ويرسل الماء إليها يوم الجمعة فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وقعت في الشباك والجباب فيدعونها إلى
ليلة الأحد فيأخذونها ويقولون ما اصطدنا يوم السبت شيئا فمسخهم الله تعالى بحيلتهم، وقال تعالى
(فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها موعظة للمتقين) قيل يعني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم أي لتتعظ
بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيجتنبوا مثل ما فعل المعتدون، ولان الحيلة خديعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
(لا تحل الخديعة لمسلم) ولان الشفعة وضعت لدفع الضرر فلو سقطت بالتحيل للحق الضرر فلم تسقط
كما لو أسقطها المشتري بالبيع والوقف، وفارق ما لم يقصد به التحيل لأنه لا خداع فيه ولا قصد
به إبطال حق والأعمال بالنيات، فإن اختلفا هل وقع شئ من هذا حيلة أولا؟ فالقول قول
المشتري مع يمينه لأنه أعلم بنيته وحاله
إذا ثبت هذا فإن الغرر في الصورتين الأوليين على المشتري لشرائه ما يساوي عشرة بمائة وما
513

يساوي مائة درهم بمائه دينار وأشهد على نفسه ان عليه ألفا فربما طالبه بذلك فلزمه في ظاهر الحكم
وفي الثالثة الغور على البائع لأنه اشترى عبدا يساوي مائة بألف، وفي الرابعة على المشتري لأنه اشترى
شقصا قيمته مائة بألف وكذلك في الخامسة لأنه اشترى بعض الشقص بثمن جميعه، وفي السادسة على
البادي منهما بالهبة لأنه قد لا يهب له الآخر شيئا، فإن خالف أحدهما ما تواطآ عليه فطالب صاحبه بما
أظهراه لزمه في ظاهر الحكم لأنه عقد البيع مع صاحبه بذلك مختارا، فاما فيما بينه وبين الله تعالى فلا يحل لمن
غر صاحبه الاخذ بخلاف ما تواطآ عليه لأن صاحبه إنما رضي بالعقد للتواطؤ فمع فواته لا يتحقق الرضى به
(مسألة) قال (وان اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري الا أن يكون للشفيع بينة)
وجملته أن الشفيع والمشتري إذا اختلفا في الثمن فقال المشتري اشتريته بمائة فقال الشفيع بل
بخمسين فالقول قول المشتري لأنه العاقد فهو أعرف بالثمن ولان الشقص ملكه فلا ينزع من يده
بالدعوى بغير بينة وبهذا قال الشافعي، فإن قبل فهلا قلتم القول قول الشفيع لأنه غارم ومنكر للزيادة فهو
كالغاصب والمتلف والضامن لنصيب شريكه إذا أعتق؟ قلنا الشفيع ليس بغارم لأنه لا شئ عليه وإنما
يريد أن يملك الشقص بثمنه بخلاف الغاصب والمتلف والمعتق، فأما إن كان للشفيع بينة حكم بها
وكذلك إن كان للمشتري بينة حكم بها واستغنى عن يمينه ويثبت ذلك بشاهد ويمين وشهادة رجل
514

وامرأتين ولا تقبل شهادة البائع لأنه إذا شهد للشفيع كان متهما لأنه يطلب تقليل الثمن خوفا من
الدرك عليه، وان أقام كل واحد منهما بينة احتمل تعارضهما لأنهما يتنازعان فيما وقع عليه العقد
فيصيران كمن لا بينة لهما، وذكر الشريف أن البينة بينة الشفيع ويقتضيه مذهب الخرقي لأن بينة
الخارج عنده مقدمة على بينة الداخل والشفيع هو الخارج وهذا قول أبي حنيفة، وقال صاحباه البينة
بينة المشتري لأنها تترجح بقول المشتري فإنه مقدم على قول الشفيع، ويخالف الخارج الداخل لأن بينة الداخل
يجوز أن تكون مستندة إلى يده، وفي مسئلتنا البينة تشهد على نفس العقد كشهادة بينة الشفيع
ولنا أنهما بينتان تعارضتا فقدمت بينة من لا يقبل قوله عند عدمها كالداخل والخارج ويحتمل ان يقرع
بينهما لأنهما يتنازعان في العقد ولا يدلهما عليه فصارا كالمتنازعين عينا في يد غيرهما
(فصل) وان قال المشتري لا أعلم مبلغ الثمن فالقول قوله لأن ما يدعيه ممكن لجواز أن يكون
اشتراه جزافا أو بثمن نسي مبلغه ويحلف فإذا حلف سقطت الشفعة لأنها لا تستحق بغير بذل
ولا يمكن أن يدفع إليه مالا يدعيه، فإن ادعى أنك فعلت ذلك تحيلا على اسقاط الشفعة فعليه
اليمين على نفي ذلك
(فصل) فإن اشترى شقصا بعرض واختلفا في قيمته فإن كان موجودا عرضاه على المقومين،
وان تعذر إحضاره فالقول قول المشتري كما لو اختلفا في قدر الثمن، وان ادعى جهل قيمته فهو على ما ذكرنا
515

فيما إذا ادعى جهل ثمنه، وان اختلفا في الغراس والبناء في الشقص فقال المشتري أنا أحدثته وأنكر الشفيع
فالقول قول المشتري لأنه ملكه والشفيع يريد تملكه عليه فالقول قول المالك
(فصل) إذا ادعى الشفيع على بعض الشركاء أنك اشتريت نصيبك فلي أخذه بالشفعة فإنه
يحتاج إلى تحرير دعواه فيحدد المكان الذي فيه الشقص ويذكر قدر الشقص والثمن ويدعي الشفعة
فيه فإذا فعل ذلك سئل المدعى عليه فإن أقر لزمه، وان أنكر وقال إنما اتهتبه أو ورثته فلا شفعة لك فيه
فالقول قول من ينفيه كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة فإن حلف برئ وان نكل قضي عليه وان
قال لا نستحق علي شفعة فالقول قوله مع يمينه ويكون يمينه على حسب قوله في الانكار، وإذا نكل
وقضي عليه بالشفعة عرض عليه الثمن فإن أخذه دفع إليه، وان قال لا أستحقه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها)
يقر في يد الشفيع إلى أن يدعيه المشتري فيدفع إليه كما لو أقر له بدار فأنكرها والثاني) أن يأخذه الحاكم
فيحفظه لصاحبه إلى أن يدعيه المشتري ومتى ادعاه دفع إليه (والثالث) يقال له إما أن نقبضه واما أن
تبرئ منه كسيد المكاتب إذا جاءه المكاتب بمال المكاتبة فادعى أنه حرام اختار هذا القاضي وهذا
مفارق للمكاتب لأن سيده يطالبه بالوفاء من غير هذا الذي أتاه به فلا يلزمه ذلك بمجرد دعوى
سيده تحريم ما أتاه به وهذا لا يطلب الشفيع بشئ فلا ينبغي أن يكلف ابراء مما لا يدعيه والوجه
الأول أولى إن شاء الله تعالى
516

(فصل) وان قال اشتريته لفلان وكان حاضرا استدعاه الحاكم وسأله فإن صدقه كان الشراء
له والشفعة عليه، وان قال هذا ملكي ولم اشتره انتقلت الخصومة إليه وان كذبه حكم بالشراء لمن اشتراه
واخذ منه بالشفعة، وإن كان المقر له غائبا أخذه الحاكم ودفعه إلى الشفيع وكان الغائب على حجته إذا
قدم لأننا لو وقفنا الامر في الشفعة إلى حضور المقر له لكان في ذلك اسقاط الشفعة لأن كل مشتر
يدعي انه لغائب. وان قال اشتريته لا بني الطفل أو لهذا الطفل وله عليه ولاية ففيه وجهان:
(أحدهما) لا تثبت الشفعة لأن الملك ثبت للطفل ولا تجب الشفعة باقرار الولي عليه لأنه ايجاب
حق في مال صغير باقرار وليه
(الثاني) تثبت لأنه يملك الشراء له فصح اقراره فيه كما يصح اقراره بعيب في مبيعه، فأما ان
ادعى عليه شفعة في شقص فقال هذا لفلان الغائب أو لفلان الطفل ثم أقر بشرائه له لم تثبت فيه
الشفعة إلا أن تثبت ببينة أو يقدم الغائب وببلوغ الطفل فيطالبهما بها لأن الملك يثبت لهما باقراره به
فاقراره بالشراء بعد ذلك اقرار في ملك غيره فلا يقبل بخلاف ما إذا قر بالشراء ابتداء لأن الملك
ثبت لهما بذلك الاقرار المثبت للشفعة فثبتا جميعا، وان لم يذكر سبب الملك لم يسأله الحاكم عنه ولم
يطالب ببيانه لأنه لو صرح بالشراء لم تثبت به شفعة فلا فائدة في الكشف عنه ومذهب الشافعي
في هذا الفصل كله كمذهبنا
517

(فصل) وإذا كانت دار بين حاضر وغائب فادعى الحاضر على من في يده نصيب الغائب انه
اشتراه منه وأنه يستحقه بالشفعة فصدقه فللشفيع أخذه بالشفعة لأن من في يده العين يصدق في
تصرفه فيما في يديه وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه ولا صحاب الشافعي في ذلك وجهان (أحدهما)
ليس له أخذه لأن هذا اقرار على غيره
ولنا انه أقر بما في يده فقبل اقراره كما لو أقر بأصل ملكه وهكذا لو ادعى عليه انك بعت
نصيب الغائب باذنه وأقر له الوكيل كان كاقرار البائع بالبيع فإذا قدم الغائب فأنكر البيع أو الاذن
في البيع فالقول قوله مع يمينه وينتزع الشقص ويطالب بأجره من شاء منهما ويستقر الضمان على الشفيع
لأن المنافع تلفت تحت يده فإن طالب الوكيل رجع على الشفيع وان طالب الشفيع لم يرجع على أحد
وان ادعى على الوكيل انك اشتريت الشقص الذي في يدك فأنكر وقال إنما أنا وكيل فيه أو مستودع
له فالقول قوله مع يمينه فإن كان للمدعي بينة حكم بها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي مع أن أبا حنيفة
لا يرى القضاء على الغائب لأن القضاء ههنا على الحاضر بوجوب الشفعة عليه واستحقاق انتزاع الشقص
من يده وحصل القضاء على الغائب ضمنا، فإن لم تكن بينة وطلب الشفيع يمينه فنكل عنها احتمل أن
يقضى عليه لأنه لو أقر لقضي عليه فكذلك إذا نكل واحتمل أن لا يقضى عليه لأنه قضاء على الغائب
بغير بينة ولا اقرار من الشقص في يده
518

(فصل) وإذا ادعى على رجل شفعة في شقص اشتراه فقال ليس له ملك في شركتي فعلى
الشفيع إقامة البينة انه شريك وبه قال أبو حنيفة ومحمد والشافعي وقال أبو يوسف إذا كان في يده
استحق به الشفعة لذلك لأن الظاهر من اليد الملك
ولنا أن الملك لا يثبت بمجرد اليد وإذا لم يثبت الملك الذي يستحق به الشفعة لم تثبت
ومجرد الظاهر لا يكفي كما لو ادعى ولد أمة في يده، فإن ادعى أن المدعي يعلم أنه شريك فعلى المشتري
اليمين انه لا يعلم ذلك لأنها يمين على نفى فعل الغير فكان على العلم كاليمين على نفى دين الميت
فإذا حلف سقطت دعواه وان نكل قضى عليه
(فصل) إذا ادعى على شريكه انك اشتريت نصيبك من عمر وفلي شفعته فصدقه عمرو فأنكر
الشريك وقال بل ورثته من أبي فأقام المدعي بينة انه كان ملك عمرو لم تثبت الشفعة بذلك، وقال
محمد تثبت ويقال له اما أن تدفعه وتأخذ الثمن وإما أن ترده إلى البائع فيأخذه الشفيع منهما لأنهما
شهدا بالملك لعمرو فكأنهما شهدا بالبيع
ولنا أنهما لم يشهدا بالبيع واقرار عمر وعلى المنكر بالبيع لا يقبل لأنه اقرار على غيره فلا يقبل في
حقه ولا تقبل شهادته عليه وليست الشفعة من حقوق العقد فيقبل فيها قول البائع فصار بمنزلة ما لو
519

حلف اني ما اشتريت الدار فقال من كانت الدار ملكا له: أنا بعته إياها لم يقبل عليه في الحنث ولا
يلزم إذا أقر البائع بالبيع والشقص في يده فأنكر المشتري الشراء لأن الذي في يده الدار مقربها
للشفيع ولا منازع له فيها سواه وههنا من الدار في يده يدعيها لنفسه والمقر بالبيع لا شئ في يده ولا
يقدر على تسليم الشقص فافترقا
(فصل) وإذا كانت دار بين رجلين فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يستحق ما في يديه
بالشفعة سألناهما متى ملكتماها فإن قالا ملكناها دفعة واحدة فلا شفعة لأحدهما على الآخر لأن الشفعة
إنما تثبت بملك سابق في ملك متجدد بعده، وإن قال كل واحد منهما ملكي سابق ولأحدهما بينة
بما ادعاه قضي له، وإن كان لكل واحد منهما بينة قدمنا أسبقهما تاريخا، وإن شهدت بين كل واحد
منهما بسبق ملكه وتجدد ملك صاحبه تعارضتا، وإن لم تكن لواحد منهما بينة نظرنا إلى السابق بالدعوى
فقد منا دعواه وسألنا خصمه فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر فإن حلف سقطت دعوى الأول
ثم تسمع دعوى الثاني على الأول فإن أنكر وحلف سقطت دعواهما جميعا، وان ادعى الأول فنكل
الثاني عن اليمين قضينا عليه ولم نسمع دعواه لأن خصمه قد استحق ملكه، وإن حلف الثاني
ونكل الأول قضينا عليه
(فصل) إذا اختلف المتبايعان في الثمن فادعى البائع أن الثمن ألفان وقال المشتري هو ألف فأقام
520

البائع بينة أن الثمن ألفان أخذهما المشتري وللشفيع أخذه بالألف لأن المشتري مقر له باستحقاقه بألف
ويدعي أن البائع ظلمه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان حكم الحاكم عليه بألفين أخذه الشفيع بهما
لأن الحاكم إذا حكم عليه بالبينة بطل قوله وثبت ما حكم به الحاكم
ولنا أن المشتري مقر بأن هذه البينة كاذبة وأنه ظلمه بألف فلم يحكم له به وإنما حكم بها للبائع لأنه
لا يكذبها، فإن قال المشتري صدقت البينة وكنت أنا كاذبا أو ناسيا ففيه وجهان (أحدهما) لا يقبل
رجوعه لأنه رجوع عن اقرار تعين به حق آدمي غيره فأشبه ما لو أقر له بدين (والثاني) يقبل قوله
وقال القاضي هو قياس المذهب عندي كما لو أخبر في المرابحة بثمن ثم قال غلطت والثمن أكثر قبل
قوله مع يمينه بل ههنا أولى لأنه قد قامت البينة بكذبه وحكم الحاكم بخلاف قوله فقبل رجوعه عن
الكذب، وإن لم تكن للبائع بينة فتحالفا فللشفيع أخذه بما حلف عليه البائع، وان أراد أخذه بما حلف
عليه المشتري لم يكن له ذلك لأن للبائع فسخ البيع وأخذه بما قال المشتري يمنع ذلك ولأنه يفضي إلى
الزام العقد بما حلف عليه المشتري ولا يملك ذلك فإن رضي المشتري بأخذه بما قال البائع جاز وملك
الشفيع أخذه بالثمن الذي حلف عليه المشتري لأن حق البائع من الفسخ قد زال، فإن عاد المشتري
فصدق البائع وقال الثمن ألفان وكنت غالطا فهل للشفيع أخذه بالثمن الذي حلف عليه؟ فيه وجهان
كما لو قامت به بينة
521

(فصل) وإن اشترى شقصا له شفيعان فادعى على أحد الشفيعين انه عفا عن الشفعة وشهد
له بذلك الشفيع الآخر قبل عفوه عن شفعته لم تقبل شهادته لأنه يجر إلى نفسه نفعا وهو توفر الشفعة
عليه فإذا ردت شهادته ثم عفا عن الشفعة ثم أعاد تلك الشهادة لم تقبل لأنها ردت للتهمة فلم تقبل بعد
زوالها كشهادة الفاسق إذا ردت ثم تاب وأعادها لم تقبل، ولو لم يشهد حتى عفا قبلت شهادته لعدم التهمة
ويحلف المشتري مع شهادته، ولو لم تكن بينة فالقول قول المنكر مع يمنيه، وان كانت الدعوى على الشفيعين
معا فحلفا ثبتت الشفعة، وان حلف أحدهما ونكل الآخر نظرنا في الحالف فإن صدق شريكه في الشفعة
في أنه لم يعف لم يحتج إلى يمين وكانت الشفعة، وبينهما لأن الحق له فإن الشفعة تتوفر عليه إذا سقطت
شفعة شريكه، وان ادعى أنه عفا فنكل قضي له بالشفعة كلها وسواء ورثا الشفعة أو كانا شريكين، وان شهد أجنبي
بعفو أحد الشفيعين واحتيج إلى يمين معه قبل عفو الآخر حلف وأخذ الكل بالشفعة وإن كان بعده حلف
المشتري وسقطت الشفعة، وان كانوا ثلاثة شفعاء فشهد اثنان منهم على الثالث بالعفو بعد عفوهما قبلت
وان شهدا قبله ردت وإن شهدا بعد عفو أحدهما وقبل عفو الآخر ردت شهادة غير العافي وقبلت
شهادة العافي، وإن شهد البائع بعفو الشفيع بعد قبض الثمن قبلت شهادته، وإن كان قبله ففيه وجهان (أحدهما)
تقبل لأنهما سواء عنده (والثاني) لا تقبل لأنه يحتمل أن يكون قصد ذلك ليسهل استيفاء الثمن لأن المشتري
يأخذه من الشفيع فيسهل عليه وفاؤه أو يتعذر على المشتري الوفاء لفلسه فيستحق استرجاع المبيع، وان شهد
522

لمكاتبه بعفو شفعة أو شهد بشراء شئ لمكاتبه فيه شفعة لم تقبل لأن المكاتب عبده فلا تقبل شهادته
له كمدبره ولان ما يحصل للمكاتب ينتفع به السيد لأنه ان عجز صار له وان لم يعجز سهل عليه الوفاء
له، وان شهد على مكاتبه بشئ من ذلك قبلت شهادته لأنه غير متهم فأشبه الشهادة على ولده
(مسألة) قال (وإن كانت دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر ثلثها وللآخر
سدسها فباع أحدهم كانت الشفعة بين النفسين على قدر سهامهما)
الصحيح في المذهب أن الشقص المشفوع إذا أخذه الشفعاء قسم بينهم على قدر املاكهم اختاره
أبو بكر وروي ذلك عن الحسن وابن سيرين وعطاء وبه قال مالك وسوار والعنبري وإسحاق وأبو
عبيد وهو أحد قولي الشافعي، وعن أحمد رواية ثانية أنه يقسم بينهم على عدد رؤوسهم اختارها ابن
عقيل وروي ذلك عن النخعي والشعبي وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري وأصحاب الرأي
لأن كل واحد منهم لو انفرد لاستحق الجميع فإذا اجتمعوا تساووا كالبنين في الميراث وكالمعتقين
في سراية العتق
ولنا أنه حق يستفاد بسبب الملك فكان على قدر الاملاك كالغلة ودليلهم ينتقض بالابن والأب
أو الجد وبالجد مع الاخوة وبالفرسان مع الرجالة في الغنيمة وبأصحاب الديون والوصايا إذا نقص ماله
523

عن دين أحدهم أو الثلث عن وصية أحدهم، وفارق الأعيان لأنه اتلاف والاتلاف يستوي فيه القليل
والكثير كالنجاسة تلقى في مائع، وأما البنون فإنهم تساووا في التسبب وهو البنوة فتساووا في الإرث
بها فنظيره في مسئلتنا تساوي الشفعاء في سهامهم، فعلى هذا ننظر مخرج سهام الشركاء كلهم فنأخذ منها
سهام الشفعاء فإذا علمت عدتها قسمت السهم المشفوع عليها ويصير العقار بين الشفعاء على تلك العدة
كما يفعل في مسائل الرد سواء، ففي هذه المسألة التي ذكر الخرقي مخرج سهام الشركاء ستة فإن باع صاحب النصف
فسهام الشفعاء ثلاثة لصاحب الثلث سهمان وللآخر سهم فالشفعة بينهم على ثلاثة ويصير العقار بينهم
أثلاثا لصاحب الثلث ثلثاه وللآخر ثلثه، وإن باع صاحب الثلث كانت بين الآخرين أرباعا لصاحب
النصف ثلاثة أرباعه وللآخر ربعه، وإن باع صاحب السدس كانت بين الآخرين أخماسا لصاحب
النصف ثلاثة أخماسه وللآخر خمساه وعلى الرواية الأخرى يقسم الشقص المشفوع بين الآخرين نصفين
على كل حال، فإن باع صاحب النصف قسم النصف بين شريكيه لكل واحد الربع فيصير لصاحب
الثلث ثلث وربع وللآخر ربع وسدس، وإن باع صاحب الثلث صار لصاحب النصف الثلثان
وللآخر الثلث، وإن باع صاحب السدس فلصاحب الثلث نصف وربع ولصاحب الثلث ربع
وسدس والله أعلم.
(فصل) ولو ورث اخوان دارا أو اشترياها بينهما نصفين أو غير ذلك فمات أحدهما عن ابنين
524

فباع أحدهما نصيبه فالشفعة بين أخيه وعمه وبهذا قال أبو حنيفة والمزني والشافعي في الجديد وقال في
القديم ان أخاه أحق بالشفعة وبه قال مالك لأن أخاه أخص بشركته من العم لاشتراكهما في سبب الملك
ولنا أنهما شريكان حال ثبوت الشفعة فكانت بينهما كما لو ملكوا كلهم بسبب واحد، ولان الشفعة
تثبت لدفع ضرر الشريك الداخل على شركائه بسبب شركته وهذا يوجد في حق الكل، يوجد ما ذكروه
لا أصل له ولم يثبت اعتبار الشرع له في موضع والاعتبار بالشركة لا بسببها، وهل تقسم بين العم وابن
أخيه نصفين أو على قدر ملكيهما؟ على روايتين، وهكذا لو اشترى رجل نصف دار ثم اشترى ابناه
نصفها الآخر أو ورثاه أو اتهباه أو وصل إليهما بسبب من أسباب الملك فباع أحدهما نصيبه، أو لو
ورث ثلاثة دارا فباع أحدهم نصيبه من اثنين ثم باع أحد المشتريين نصيبه فالشفعة بين جميع الشركاء
وكذلك لو مات رجل وخلف ابنتين وأختين فباعت إحدى الأختين نصيبها أو إحدى الابنتين فالشفعة
بين جميع الشركاء، ولو مات رجل وخلف ثلاثة بنين وأرضا فمات أحدهم عن ابنين فباع أحد العمين
نصيبه فالشفعة بين أخيه وابني أخيه، ولو خلف ابنين وأوصى بثلثه لاثنين فباع أحد الوصيين أو أحد
الابنين فالشفعة بين شركائه كلهم، ولمخالفينا في هذه المسائل اختلاف يطول ذكره
(فصل) وإن كان المشتري شريكا فللشفيع الآخر أن يأخذ بقدر نصيبه وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وحكي عن الحسن والشعبي والبتي لا شفعة للآخر لأنها تثبت لدفع ضرر الشريك الداخل وهذا
525

شركته متقدمة فلا ضرر في شرائه، وحكى ابن الصباغ عن هؤلاء أن الشفعة كلها لغير المشتري ولا
شئ للمشتري فيها لأنها تستحق عليه فلا يستحقها على نفسه
ولنا أنهما تساويا في الشركة فتساويا في الشفعة كما لو اشترى أجنبي بل المشتري أولى لأنه قد
ملك الشقص المشفوع، وما ذكرناه للقول الأول لا يصح لأن الضرر يحصل بشراء هذا السهم المشفوع
من غير نظر إلى المشتري وقد حصل شراؤه والثاني لا يصح أيضا لأننا نقول إنه يأخذ من نفسه
بالشفعة وإنما يمنع الشريك أن يأخذ قدر حقه بالشفعة فيبقى على ملكه، ثم لا يمتنع أن يستحق الانسان
على نفسه لا جل تقلق حق الغير به، ألا ترى أن العبد المرهون إذا جنى على عبد آخر لسيده ثبت للسيد
على عبده أرش الجناية لأجل تعلق حق المرتهن به ولو لم يكن رهنا ما تعلق به. إذا ثبت هذا فإن لشريك
المشتري أخذ قدر نصيبه لاغير أو العفو، وإن قال له المشتري قد أسقطت شفعتي فخذ الكل أو اترك
لم يلزمه ذلك ولم يصح اسقاط المشتري لأن ملكه استقر على قدر حقه فجرى مجرى الشفيعين إذا أخذا
بالشفعة ثم عفا أحدهما عن حقه، وكذلك إذا حضر أحد الشفيعين فاخذ جميع الشقص بالشفعة ثم حضر
الآخر فله أخذ النصف من ذلك فإن قال الأول خذ الكل أو دع فاني قد أسقطت شفعتي لم يكن له
ذلك، فإن قيل هذا تبعيض للصفقة على المشتري قلنا هذا التبعيض اقتضاه دخوله في العقد فصار كالرضى
منه به كما قلنا في الشفيع الحاضر إذا أخذ جميع الشقص وكما لو اشترى شقصا وسيفا
526

(مسألة) قال (فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر أن يأخذ الا الكل أو يترك)
وجملته أنه إذا كان الشقص بين شفعاء فترك بعضهم فليس للباقين الا أخذ الجميع أو ترك الجميع
وليس لهم أخذ البعض، قال ابن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على هذا، وهذا قول
مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولان في أخذ البعض اضرار بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه والضرر
لا يزال بالضرر لأن الشفعة إنما تثبت على خلاف الأصل دفعا لضرر الشريك الداخل خوفا من
سوء المشاركة ومؤنة القسمة فإذا أخذ بعض الشقص لم يندفع عنه الضرر فلم يتحقق المعنى المجوز
لمخالفة الأصل فلا تثبت ولو كان الشفيع واحدا لم يجز له أخذ بعض المبيع لذلك فإن فعل سقطت
شفعته لأنها لا تتبعض فإذا سقط بعضها سقط جميعها كالقصاص، وإن وهب بعض الشركاء نصيبه
من الشفعة بعض شركائه أو غيره لم يصح لأن ذلك عفو وليس بهبة فلم يصح لغير من هو عليه
كالعفو عن القصاص
(فصل) فإن كان الشفعاء غائبين لم تقسط الشفعة لموضع العذر فإذا قدم أحدهم فليس له أن يأخذ
الا الكل أو يترك لا نالا نعلم اليوم مطالبا سواء ولان في أخذه البعض تبعيضا لصفقة المشتري فلم يجز ذلك
كما لو لم يكن معه غيره ولا يمكن تأخير حقه إلى أن يقدم شركاؤه لأن في التأخير إضرارا بالمشتري فإذا
أخذ الجميع ثم حضر آخر قاسمه ان شاء أو عفى فيبقى للأول لأن المطالبة إنما وجدت منهما فإن قاسمه
527

ثم حضر الثالث قاسمهما ان أحب أو عفا فيبقى للأولين فإن نمى الشقص في يد الأول نماء منفصلا
لم يشاركه فيه واحد منهما لأنه انفصل في ملكه فأشبه ما لو انفصل في يد المشتري قبل الاخذ
بالشفعة، وكذلك إذا أخذ الثاني فنمى في يده نماء منفصلا لم يشاركه الثالث فيه، وان خرج الشقص
مستحقا فالعهدة على المشتري يرجع الثلاثة عليه ولا يرجع أحدهم على الآخر فإن الاخذ وإن كان من
الأول فهو بمنزلة النائب عن المشتري في الدفع إليهما والنائب عنهما في دفع الثمن إليه لأن الشفعة
مستحقة عليه لهم وهذا ظاهر مذهب الشافعي، وان امتنع الأول من المطالبة حتى يحضر صاحباه أو
قال آخذ قدر حقي ففيه وجهان (أحدهما) يبطل حقه لأنه قدر على أخذ الكل وتركه فأشبه المنفرد
(والثاني) لا يبطل لأنه تركه لعذر وهو خوف قدوم الغائب فينتزعه منه، والترك لعذر لا يسقط الشفعة
بدليل ما لو أظهر المشتري ثمنا كثيرا فترك لذلك ثم بان بخلافه، فإن ترك الأول شفعته توفرت الشفعة
على صاحبيه فإذا قدم الأول منهما فله أخذ الجميع على ما ذكرنا في الأول فإن أخذ الأول بها ثم رد
ما أخذه بعيب فكذلك وبهذا قال الشافعي، وحكي عن محمد بن الحسن أنها لا تتوفر عليهما وليس لهما أخذ
نصيب الأول لأنه لم يعف وإنما رد نصيبه لأجل العيب فأشبه ما لو رجع إلى المشتري ببيع أو هبة
ولنا أن الشفيع فسخ ملكه ورجع إلى المشتري بالسبب الأول فكان لشريكه أخذه كما لو عفا،
ويفارق عوده بسبب آخر لأنه عاد غير الملك الأول الذي تعلقت به الشفعة
528

(فصل) وإذا حضر الثاني بعد أخذ الأول فأخذ نصف الشقص منه واقتسما ثم قدم الثالث
فطالب بالشفعة وأخذ بها بطلت القسمة لأن هذا الثالث إذا أخذ بالشفعة كان كأنه مشارك في حال
القسمة لثبوت حقه، ولهذا لو باع المشتري ثم قدم الشفيع كان له ابطال البيع، فإن قيل فكيف تصح
القسمة وشريكهما الثالث غائب؟ قلنا يحتمل أن يكون وكل في القسمة قبل البيع أو قبل علمه أو يكون
الشريكان رفعا ذلك إلى الحاكم وطالباه بالقسمة عن الغائب فقا سمهما وبقي الغائب على شفعته، فإن قيل
فكيف تصح مقاسمتهما للشقص وحق الثالث ثابت فيه؟ قلنا ثبوت حق الشفعة لا يمنع التصرف بدليل
أنه يصح بيعه وهبته وغيرهما ويملك الشفيع ابطاله كذا ههنا، إذا ثبت هذا فإن الثالث إذا قدم فوجد
أحد شريكيه غائبا أخذ من الحاضر ثلث ما في يده لأنه قدر ما يستحقه ثم إن قضى له القاضي على الغائب
أخذ ثلث ما في يده أيضا، وان لم يقض له انتظر الغائب حتى يقدم لأنه موضع عذر
(فصل) إذا اخذ الأول الشقص كله بالشفعة فقدم الثاني فقال لا آخذ منك نصفه بل اقتصر
على قد نصيبي وهو الثلث فله ذلك لأنه اقتصر على بعض حقه وليس فيه تبعيض الصفقة على المشتري
فجاز كترك الكل فإذا قدم الثالث فله أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده فيضيفه إلى ما في يد الأول
ويقتسمانه نصفين فتصح قسمة الشقص من ثمانية عشر سهما لأن الثلث أخذ حقه من الثاني ثلث الثلث
ومخرجه تسعة فضمه إلى الثلثين وهي ستة صارت سبعة ثم قسما السبعة نصفين لا تنقسم فاضرب اثنين
529

في تسعة تكن ثمانية عشر للثاني أربعة أسهم ولكل واحد من شريكيه سبعة، وإنما كان كذلك لأن
الثاني ترك سدسا كان له أخذه وحقه منه ثلثاه وهو التسع فتوفر ذلك على شريكه في الشفعة فللأول
والثالث أن يقولا نحن سواء في الاستحقاق ولم يترك واحد منا شيئا من حقه فنجمع ما معنا فنقسمه فيكون
على ما ذكرنا، وان قال الثاني أنا آخذ الربع فله ذلك لما ذكرنا في التي قبلها فإذا قدم الثالث أخذ منه نصف
سدس وهو ثلث ما في يده فضمه إلى ثلاثة الأرباع وهي تسعة يصير؟؟ الجميع عشرة فيقتسمانها لكل واحد
منهما خمسة وللثاني سهمان وتصح من اثني عشر
(فصل) إذا اشترى رجل من رجلين شقصا فللشفيع أخذ نصيب أحدهما دون الآخر، وبهذا
قال الشافعي، وحكي عن القاضي انه لا يملك ذلك وهو قول أبي حنيفة ومالك لئلا تتبعض صفقة
المشتري. ولنا ان عقد الاثنين مع واحد عقدان لأنه مشتر من كل واحد منهما ملكه بثمن مفرد
فكان للشفيع أخذه كما لو أفرده بعقد وبهذا ينفصل عما ذكروه، وان اشترى اثنان نصيب واحد
فللشفيع أخذ نصيب أحد المشتريين، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه، وقال في
الأخرى يجوز له ذلك بعد القبض ولا يجوز قبله لأنه قبل القبض تتبعض صفقة البائع
ولنا انهما مشتريان فجاز للشفيع أخذ نصيب أحدهما كما بعد القبض، وما ذكره لا نسلمه على أن
المشتري الآخر يأخذ نصيبه فلا يكون تبعيضا، فإن باع اثنان من اثنين فهي أربعة عقود وللشفيع
أخذ الكل أو ما شاء منهما
530

(فصل) فإذا باع شقصا لثلاثة دفعة واحدة فلشريكه أن يأخذ من الثلاثة وله أن يأخذ من
أحدهم وله أن يأخذ من اثنين دون الثالث لأن عقد كل منهما منفرد فلا يتوقف الاخذ به على الاخذ
بما في العقد الآخر كما لو كانت متفرقة، فإذا أخذ نصيب واحد لم يكن للآخرين مشاركته في الشفعة
لأن ملكهما لم يسبق ملك من أخذه نصيبه ولا يستحق الشفعة إلا بملك سابق، فأما إن باع نصيبه لثلاثة
في ثلاثة عقود متفرقة ثم علم الشفيع فله أيضا أن يأخذ الثلاثة وله أن يأخذ ما شاء منها، وإن أخذ نصيب
الأول لم يكن للآخرين مشاركته في شفعته لأنهما لم يكن لهما ملك حين بيعه، وإن أخذ نصيب الثاني
وحده لم يملك الثالث مشاركته لذلك ويشاركه الأول في شفعته لأن ملكه سابق لشراء الثاني فهو
شريك حال شرائه. ويحتمل أن لا يشاركه لأن ملكه حال شراء الثاني يستحق أخذه بالشفعة فلا
يكون سببا في استحقاقها. وان أخذ من الثالث وعفا عن الأولين ففي مشاركتهما له وجهان، وان أخذ
من الثلاثة ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يشاركه أحد منهم لأن أملاكهم قد استحقها بالشفعة فلا
يستحق عليه بها شفعة (والثاني) يشاركه الثاني في شفعة الثالث وهذا قول أبي حنيفة وبعض أصحاب
الشافعي لأنه كان مالكا ملكا صحيحا حال شراء الثالث ولذلك استحق مشاركته إذا عفا من شفعته
فكذلك إذا لم يعف لأنه إنما استحق الشفعة بالملك الذي صار به شريكا لا بالعفو عنه، ولذلك قلنا
في الشفيع إذا لم يعلم بالشفعة حتى باع نصيبه فله أخذ نصيب المشتري الأول وللمشتري الأول أخذ
531

نصيب المشتري الثاني، وعلى هذا يشاركه الأول في شفعة الثاني والثالث جميعا، فعلى هذا إذا كانت
دار بين اثنين نصفين فباع أحدهما نصيبه لثلاثة في ثلاثة عقود في كل عقد سدسا فللشفيع السدس الأول
وثلاثة أرباع الثاني وثلاثة أخماس الثالث وللمشتري الأول ربع السدس الثاني وخمس الثالث،
وللمشتري الثاني خمس الثالث فتصح المسألة من مائة وعشرين سهما للشفيع الأول مائة وسبعة أسهم
وللثاني تسعة وللثالث أربعة، وان قلنا إن الشفعة على عدد الرؤوس فللمشتري الأول نصف السدس
الثاني وثلث الثالث وللثاني ثلث الثالث وهو نصف التسع فتصح من ستة وثلاثين للشفيع تسعة وعشرون
وللثاني خمسة وللثالث سهمان
(فصل) دار بين أربعة أرباعا باع ثلاثة منهم في عقود متفرقة ولم يعلم شريكهم ولا بعضهم
ببعض فللذي لم يبع الشفعة في الجميع، وهل يستحق البائع الثاني والثالث الشفعة فيما باعه البائع الأول والثاني؟
على وجهين، وكذلك هل يستحق الثالث الشفعة فيما باعه الأول والثاني؟ على وجهين، وهل يستحق
مشتري الربع الأول الشفعة فيما باعه الثاني والثالث؟ أو هل يستحق الثاني شفعة الثالث؟ على ثلاثة أوجه
(أحدها) يستحقان لأنهما مالكان حال البيع (والثاني) لاحق لهما لأن ملكهما متزلزل يستحق
أخذه بالشفعة فلا تثبت به (والثالث) ان عفا عنهما أخذا وإلا فلا، فإذا قلنا يشترك الجميع فللذي لم
يبع ثلث كل ربع لأن له شريكين فصار له الربع مضموما إلى ملكه فكل له النصف وللبائع
والمشتري الأول الثلث لكل واحد منهما السدس لأنه شريك في شفعة بيع واحد وتصح من اثنى عشر
532

(فصل) وان باع الشريك نصف الشقص لرجل ثم باعه بقيته في صفقة أخرى ثم علم الشفيع فله
أخذ المبيع الأول والثاني وله أخذ أحدهما دون الثاني لأن لكل عقد حكم نفسه فإن أخذ الأول
لم يشاركه في شفعته أحد وان أخذ الثاني فهل يشاركه المشتري في شفعته بنصيبه الأول؟ فيه ثلاثة أوجه
(أحدها) يشاركه فيها وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأنه شريك وقت البيع
الثاني يملكه الذي اشتراه أولا (والثاني) لا يشاركه لأن ملكه على الأول لم يستقر لكون الشفيع يملك
أخذه (والثالث) ان عفا الشفيع عن الأول شاركه في الثاني وان أخذ بهما جميعا لم يشاركه وهذا
مذهب الشافعي لأنه إذا عفا عنه استقر ملكه فشارك به بخلاف ما إذا أخذ فإن قلنا يشارك في الشفعة ففي قدر
ما يستحق وجهان (أحدهما) ثلثه (والثاني) نصفه بناء على الروايتين في قسمة الشفعة على قدر الاملاك
أو عدد الرؤوس فإذا قلنا يشاركه فعفا له عن الأول صار له ثلث العقار في أحد الوجهين وفي الاخر
ثلاثة أثمانه وباقيه لشريكه، وان لم يعف عن الأول فله نصف سدسه في أحد الوجهين وفي الآخر ثمنه
والباقي لشريكه. وان باعه الشريك الشقص في ثلاث صفقات متساوية فحكمه حكم ما لو باعه لثلاثة
أنفس على ما شرحناه ويستحق ما يستحقون وللشفيع ههنا مثل ماله مع الثلاثة والله أعلم
(فصل) وإذا كانت دار بين ثلاثة فوكل أحدهم شريكه في بيع نصيبه مع نصيبه فباعهما لرجل
واحد فلشريكهما الشفعة فيهما، وهل له أخذ أحد النصيبين دون الآخر؟ فيه وجهان (أحدهما) له ذلك
533

لأن المالك اثنان فهما بيعان فكان له أخذ نصيب أحدهما كما لو تو ليا العقد (والثاني) ليس له ذلك لأن الصفقة
واحدة وفي أخذا أحدهما تبعيض الصفقة على المشتري فلم يجز كما لو كانا لرجل واحد، وان وكل رجل رجلا في
شراء نصف نصيب أحد الشركاء فاشترى الشقص كله لنفسه ولموكله فلشريكه أخذ نصيب أحدهما
لأنهما مشتريان فأشبه ما لو وليا العقد، والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها ان أخذ أحد النصيبين
لا يفضي إلى تبعيض صفقة المشتري ولأنه قد يرضى شركة أحد المشتريين دون الآخر بخلاف التي
قبلها فإن المشتري واحد
(مسألة) قال (وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع)
يعني أن الشفيع إذا أخذ الشقص فظهر مستحقا فرجوعه بالثمن على المشتري ويرجع المشتري على
البائع وان وجده معيبا فله رده على المشتري أو أخذ أرشه منه والمشتري يرد على البائع أو يأخذ
الأرش منه سواء قبض الشقص من المشتري أو من البائع وبهذا قال الشافعي، وقال ابن أبي ليلى
وعثمان البتي عهدة الشفيع على البائع لأن الحق ثبت له بايجاب البائع فكان رجوعه عليه كالمشتري، وقال
أبو حنيفة ان أخذه من المشتري فالعهدة عليه وان أخذه من البائع فالعهدة عليه لأن الشفيع إذا أخذه
من البائع تعذر قبض المشتري فينفسخ البيع بين البائع والمشتري فكان الشفيع آخذا من البائع مالكا
من جهته فكانت عهدته عليه
534

ولنا أن الشفعة مستحقة بعد الشراء وحصول الملك للمشتري ثم يزول الملك من المشتري إلى
الشفيع بالثمن فكانت العهدة عليه كما لو أخذه منه ببيع ولأنه ملكه من جهة المشتري بالثمن فملك رده
عليه بالعيب كالمشتري في البيع الأول، وقياسه على المشتري في جعل عهدته على البائع لا يصح لأن
المشتري ملكه من البائع بخلاف الشفيع، وأما إذا أخذه من البائع فالبائع نائب عن المشتري في التسليم
المستحق عليه، ولو انفسخ العقد بين المشتري والبائع بطلت الشفعة لأنها استحقت به
(فصل) وحكم الشفيع في الرد بالعيب حكم المشتري من المشتري وان علم المشتري بالعيب ولم يعلم
الشفيع فللشفيع رده على المشتري أو أخذ أرشه منه وليس للمشتري شئ، ويحتمل أن لا يملك الشفيع
أخذ الأرش لأن الشفيع يأخذ بالثمن الذي استقر عليه العقد فإذا أخذ الأرش فما أخذه بالثمن الذي
استقر على المشتري، وان علم الشفيع دون المشتري فليس لواحد منهما رد ولا أرش لأن الشفيع أخذه
عالما بعيبه فلم يثبت له رد ولا أرش كالمشتري إذا علم العيب والمشتري قد استغنى عن الرد لزوال
ملكه عن المبيع وحصول الثمن له من الشفيع ولم يملك الأرش لأنه استدرك ظلامته ورجع إليه جميع
ثمنه فأشبه ما لورده على البائع ويحتمل أن يملك أخذ الأرش لأنه عوض عن الجزء الفائت من المبيع
فلم يسقط بزوال ملكه عن المبيع كما لو اشترى قفيزين فتلف أحدهما وأخذ الآخر، فعلى هذا ما يأخذه
من الأرش يسقط عن الشفيع من الثمن بقدره لأن الشقص يجب عليه بالثمن الذي استقر عليه العقد
535

فأشبه ما لو أخذ الأرش قبل أخذ الشفيع منه، وان علما جميعا فليس لواحد منهما رد ولا أرش لأن كل
واحد منهما دخل على بصيرة ورضي ببذل الثمن فيه بهذه الصفة، وان لم يعلما فللشفيع رده على المشتري
وللمشتري رده على البائع فإن لم يرده الشفيع فلا يرد المشتري لما ذكرنا أو لا، وان أخذ الشفيع أرشه
عن المشتري فللمشتري أخذه من البائع، وان لم يأخذ منه شيئا فلا شئ للمشتري، ويحتمل أن يملك
أخذه على الوجه الذي ذكرناه فإذا أخذه فإن كان الشفيع لم يسقطه عن المشتري سقط عنه من الثمن
بقدره لأنه الثمن الذي استقر عليه البيع وسكوته لا يسقط حقه، وان أسقطه عن المشتري توفر عليه كما
لو زاده على الثمن باختياره، فاما ان اشتراه بالبراءة من كل عيب فالصحيح من المذهب أن لا يبرأ فيكون
كأنه لم يبرأ إليه من شئ، وفيه رواية أخرى أنه يبرأ إلا أن يكون البائع علم بالعيب فدلسه واشترط البراءة
فعلى هذه الرواية ان علم الشفيع باشتراط البراءة فحكمه حكم المشتري لأنه دخل على شرائه فصار كمشتر
ثان اشترط البراءة، وان لم يعلم ذلك فحكمه حكم ما لو علمه المشتري دون الشفيع
(مسألة) قال (والشفعة لا تورث الا أن يكون الميت طالب بها)
وجملة ذلك أن الشفيع إذا مات قبل الاخذ بها لم يخل من حالين (أحدهما) أن يموت قبل الطلب
بها فتسقط ولا تنتقل إلى الورثة. قال أحمد الموت يبطل به ثلاثة أشياء: الشفعة، والحد إذا مات
المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار لم يكن للورثة، وهذه الثلاثة الأشياء إنما هي بالطلب
536

فإذا لم يطلب فليس تجب إلا أن يشهد أني على حقي من كذا وكذا وأني قد طلبته فإن مات بعده
كان لوارثه الطلب به، وروي سقوطه بالموت عن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وبه قال الثوري
وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال مالك والشافعي والعنبري يورث قال أبو الخطاب ويتخرج لنا مثل ذلك لأنه
خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فيورث كخيار الرد بالعيب
ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث كالرجوع في الهبة ولأنه نوع خيار جعل
للتمليك أشبه خيار القبول، فأما خيار الرد بالعيب فإنه لاستدراك جزء فات من المبيع (الحال الثاني)
إذا طالب بالشفعة ثم مات فإن حق الشفعة ينتقل إلى الورثة قولا واحدا ذكره أبو الخطاب، وقد
ذكرنا نص أحمد عليه لأن الحق يتقرر بالطلب ولذلك لا يسقط بتأخير الاخذ بعده وقبله يسقط،
وقال القاضي يصير الشقص ملكا للشفيع بنفس المطالبة، وقد ذكرنا أن الصحيح غير هذا فإنه
لو صار ملكا للشفيع لم يصح العفو عن الشفعة بعد طلبها كما لا يصح العفو عنها بعد الاخذ بها، فإذا ثبت
هذا فإن الحق ينتقل إلى جميع الورثة على حسب مواريثهم لأنه حق مالي موروث فينتقل إلى جميعهم
كسائر الحقوق المالية، وسواء قلنا الشفعة على قدر الاملاك أو على عدد الرؤوس لأن هذا ينتقل إليهم
من موروثهم، فإن ترك بعض الورثة حقه توفر الحق على سائر الورثة ولم يكن لهم أن يأخذوا إلا الكل
أو يتركوا كالشفعاء إذا عفا بعضهم عن شفعته لأنا لو جوزنا أخذ بعض الشقص المبيع تبعضت الصفقة
على المشتري وهذا ضرر في حقه
537

(فصل) وان أشهد الشفيع على مطالبته بها للعذر ثم مات لم تبطل وكان للورثة المطالبة بها، نص
عليه أحمد لأن الاشهاد على الطلب عند العجز عنه يقوم مقامه فلم تسقط الشفعة بالموت بعد كنفس الطلب
(فصل) وإذا بيع شقص له شفيعان فعفا أحدهما عنها وطالب الاخر بها ثم مات المطالب فورثه
العافي فله أخذ الشقص بها لأنه وارث لشفيع مطالب بالشفعة فملك الاخذ بها كالأجنبي، وكذلك
لو قذف رجل أمهما وهي ميتة فعفا أحدهما فطالب الاخر ثم مات الطالب فورثه العافي ثبت له استيفاؤه
بالنيابة عن أخيه الميت إذا قلنا بوجوب الحد بقذفها
(فصل) ولو مات مفلس وله شقص فباع شريكه كان لورثته الشفعة وهذا مذهب الشافعي،
وقال أبو حنيفة: لا شفعة لهم لأن الحق انتقل إلى الغرماء
ولنا أنه بيع في شركة ما خلفه موروثهم شقص فكان لهم المطالبة بشفعته كغير المفلس، ولا نسلم
ان التركة انتقلت إلى الغرماء بل هي للورثة بدليل انها لو نمت أو زاد ثمنها لحسب على الغرماء في قضاء
ديونهم، وإنما تعلق حقهم به فلم يمنع ذلك من الشفعة كما لو كان لرجل شقص مرهون فباع شريكه فإنه
يستحق الشفعة به، ولو كان للميت دار فبيع بعضها في قضاء دينه لم يكن للورثة شفعة لأن البيع يقع
لهم فلا يستحقون الشفعة على أنفسهم، ولو كان الوارث شريكا للموروث فبيع نصيب الموروث في
538

دينه فلا شفعة أيضا لأن نصيب الموروث انتقل بموته إلى الوراث فإذا بيع فقد بيع ملكه فلا
يستحق الشفعة على نفسه
(فصل) ولو اشترى شقصا مشفوعا ووصى به ثم مات فللشفيع أخذه بالشفعة لأن حقه أسبق
من حق الموصى له فإذا أخذه دفع الثمن إلى الورثة وبطلت الوصية لأن الموصى به ذهب فبطلت
الوصية له كما لو تلف ولا يستحق الموصى له بدله لأنه لم يوص له الا بالشقص وقد فات بأخذه
ولو وصى رجل لانسان بشقص ثم مات فبيع في تركته شقص قبل قبول الموصى له فالشفعة للورثة
في الصحيح لأن الموصى به لا يصير للوصي إلا بعد القبول ولم يوجد فيكون باقيا على ملك الورثة،
ويحتمل أن يكون للوصي إذا قلنا إن الملك ينتقل إليه بمجرد الموت، فإذا قبل الوصية استحق المطالبة
لأننا تبينا أن الملك كان له فكان المبيع في شركته، ولا يستحق المطالبة قبل القبول لأنا لا نعلم أن الملك
له قبل القبول وإنما يتبين ذلك بقبوله فإن قبل تبينا انه كان له وان رد تبينا انه كان للورثة، ولا تستحق
الورثة المطالبة أيضا لذلك، ويحتمل ان لهم المطالبة لأن الأصل عدم القبول وبقاء الحق لهم، ويفارق
الموصى له من وجهين (أحدهما) ان الأصل عدم القبول منه (والثاني) انه يمكنه ان يقبل ثم يطالب
بخلاف الوارث فإنه لا سبيل له إلى فعل ما يعلم به ثبوت الملك له أو لغيره فإذا طالبوا ثم قبل الوصي الوصية
كانت الشفعة له ويفتقر إلى الطلب منه لأن الطلب الأول يتبين انه من غير المستحق، وان قلنا
539

بالرواية الأولى فطالب الورثة بالشفعة فلهم الاخذ بها، وإذا قبل الوصي أخذ الشقص الموصى به
دون الشقص المشفوع لأن الشقص الموصى به إنما انتقل إليه بعد الاخذ بشفعته فأشبه ما لو أخذ بها
الموصي في حياته، وإن لم يطالبوا بالشفعة حتى قبل الموصى به فلا شفعة للموصى له لأن البيع وقع قبل
ثبوت الملك به وحصول شركته، وفي ثبوتها للورثة وجهان بناء على ما لو باع الشفيع نصيبه قبل علمه ببيع شريكه
(فصل) ولو اشترى رجل شقصا ثم ارتد فقتل أو مات فللشفيع أخذه بالشفعة لأنها وجبت
بالشراء وانتقاله إلى المسلمين بقتله أو موته لا يمنع الشفعة كما لو مات على الاسلام فورثه ورثته أو صار
مال بيت المال لعدم ورثته والمطالب بالشفعة وكيل بيت المال
(فصل) وإذا اشترى المرتد شقصا فتصرفه موقوف، فإن قتل على ردته أو مات عليها تبينا ان
شراءه باطل ولا شفعة فيه، وان أسلم تبينا صحته وثبوت الشفعة فيه، وقال أبو بكر تصرفه غير صحيح
في الحالين لأن ملكه يزول بردته فإذا أسلم عاد إليه تمليكا مستأنفا
وقال الشافعي وأبو يوسف تصرفه صحيح في الحالين وتجب الشفعة فيه، ومبني الشفعة ههنا
على صحة تصرف المرتد، ويذكر في غير هذا الموضع، وان بيع شقص في شركة المرتد وكان المشتري
كافرا فأخذ بالشفعة انبنى على ذلك أيضا لأن أخذه بالشفعة شراء للشقص من المشتري فأشبه
شراءه لغيره، وان ارتد الشفيع المسلم وقتل بالردة أو مات عليها انتقل ماله إلى المسلمين، فإن كان
540

طالب بالشفعة انتقلت أيضا إلى المسلمين ينظر فيها الإمام أو نائبه. وان قتل أو مات قبل طلبها بطلت
شفعته كما لو مات على إسلامه، ولو مات الشفيع المسلم ولم يخلف وارثا سوى بيت المال انتقل نصيبه
إلى المسلمين ان مات بعد الطلب وإلا فلا
(مسألة) قال (وان اذن الشريك في البيع ثم طالب بالشفعة بعد وقوع البيع فله ذلك)
وجملة ذلك أن الشفيع إذا عفا عن الشفعة قبل البيع فقال قد أذنت في البيع أو أسقطت شفعتي
أو ما أشبه ذلك لم تسقط وله المطالبة بها متى وجد البيع، هذا ظاهر المذهب وهو مذهب مالك
والشافعي والبتي وأصحاب الرأي، وروي عن أحمد ما يدل على أن الشفعة تسقط بذلك فإن إسماعيل
ابن سعيد قال قلت لأحمد ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان بينه وبين أخيه ربعة فأراد بيعها فليرضها
عليه) وقد جاء في بعض الحديث (ولا يحل له إلا أن يعرضها عليه) إذا كانت الشفعة ثابتة له؟ فقال:
ما هو ببعيد من أن يكون على ذلك وأن لا تكون له الشفعة. وهذا قول الحكم والثوري وأبي عبيد وأبي
خيثمة وطائفة من أهل الحديث
قال ابن المنذر: وقد اختلف فيه عن أحمد فقال مرة تبطل شفعته وقال مرة لا تبطل، واحتجوا
بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان له شركة في أرض ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يستأذن
541

شريكه فإن شاء أخذ وان شاء ترك) ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم (من شاء ترك) فلا يكون لتركه
معنى، ومفهوم قوله فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به أنه إذا باعه باذنه لاحق له، ولان الشفعة ثبتت في موضع
الاتفاق على خلاف الأصل لكونه يأخذ ملك المشتري من غير رضائه ويجبره على المعاوضة به لدخوله مع
البائع في العقد الذي أساء فيه بادخاله الضرر على شريكه وتركه الاحسان إليه في عرضه عليه وهذا المعنى
معدوم ههنا فإنه قد عرضه عليه وامتناعه من أخذه دليل على عدم الضرر في حقه يبيعه؟؟ وإن كان فيه ضرر
فهو أدخله على نفسه فلا يستحق الشفعة كما لو أخر المطالبة بعد البيع
ووجه الأول انه اسقاط حق قبل وجوبه فلم يصح كما لو أبرأه مما يجب له أو أسقطت المرأة صداقها
قبل التزويج، وأما الخبر فيحتمل أنه أراد العرض عليه ليبتاع ذلك أن أراد فتخف عليه المؤنة ويكتفي
أخذ المشتري الشقص لا إسقاط حقه من شفعته
(فصل) إذا توكل الشفيع في البيع لم تسقط شفعته بذلك سواء كان وكيل البائع أو المشتري ذكره الشريف
وأبو الخطاب وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال القاضي وبعض الشافعية إن كان وكيل البائع فلا شفعة
له لأنه تلحقه التهمة في البيع لكونه يقصد تقليل الثمن ليأخذ به بخلاف وكيل المشتري، وقال أصحاب
الرأي لا شفعة لو كيل المشتري بناء على أصلهم أن الملك ينتقل إلى الوكيل فلا يستحق على نفسه
ولنا انه وكيل فلا تسقط شفعته كالاخر ولا نسلم أن الملك ينتقل إلى الوكيل إنما ينتقل إلى الموكل ثم لو انتقل إلى
542

الوكيل لما ثبتت في ملكه إنما ينتقل في الحال إلى الموكل فلا يكون الاخذ من نفسه ولا الاستحقاق
عليها، وأما التهمة فلا تؤثر لأن الموكل وكله مع علمه بثبوت شفعته راضيا بتصرفه مع ذلك فلا يؤثر كما
لو أذن لوكيل في الشراء من نفسه. فعلى هذا لو قال لشريكه بع نصف نصيبي مع نصف نصيبك ففعل
ثبتت الشفعة لكل واحد منهما في المبيع من نصيب صاحبه وعند القاضي تثبت في نصيب الوكيل
دون نصيب الموكل
(فصل) وان ضمن الشفيع العهدة للمشتري أو سرط له الخيار فاختار امضاء العقد لم تسقط
شفعته وبهذا قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي تسقط لأن العقد تم به فأشبه البائع إذا باع بعض نصيب
نفسه. ولنا أن هذا سبب سبق وجوب الشفعة فلم تسقط به الشفعة كالاذن في البيع والعفو عن الشفعة
قبل تمام البيع، وما ذكروه لا يصح فإن البيع لا يقف على الضمان ويبطل بما إذا كان المشتري شريكا
فإن البيع قد تم به وتثبت له الشفعة بقدر نصيبه
(فصل) وإذا كانت دار بين ثلاثة فقارض واحد منهم أحد شريكيه بألف فاشترى به نصف نصيب
الثلث لم تثبت فيه شفعة في أحد الوجهين لأن أحد الشريكين رب المال والاخر العامل فهما كالشريكين
في المتاع فلا يستحق أحدهما على الآخر شفعة، وان باع الثالث باقي نصيبه لا جنبي كانت الشفعة مستحقة
بينهم أخماسا لرب المال خمساها وللعامل خمساها ولمال المضاربة خمسها بالسدس الذي له فيجعل مال
543

المضاربة كشريك آخر لأن حكمه متميز عن مال كل واحد منهما
(فصل) فإن كانت الدار بين ثلاثة أثلاثا فاشترى أجنبي نصيب أحدهم فطالبه أحد الشريكين
بالشفعة فقال إنما اشتريته لشريكك لم تؤثر هذه الدعوى في قدر ما يستحق من الشفعة فإن الشفعة
بين الشريكين نصفين سواء اشتراها الأجنبي لنفسه أو للشريك الآخر، وان ترك المطالب بالشفعة
حقه منها بناء على هذا القول ثم تبين كذبه لم تسقط شفعته، وان أخذ نصف المبيع لذلك ثم تبين
كذب المشتري وعفا الشريك عن شفعته فله أخذ نصيبه من الشفعة لأن اقتصاره على أخذ النصف
بني على خبر المشتري فلم يؤثر في اسقاط الشفعة واستحق أخذ الباقي لعفو شريكه عنه وان امتنع من
أخذ الباقي سقطت شفعته كلها لأنه لا يملك تبعيض صفقة المشتري، ويحتمل أن لا يسقط حقه من
النصف الذي أخذه ولا يبطل أخذه له لأن المشتري أقر بما تضمن استحقاقه لذلك فلا يبطل برجوعه
عن اقراره، وان أنكر الشريك كون الشراء له وعفا من شفعته وأصر المشتري على الاقرار للشريك
به فللشفيع أخذ الكل لأنه لا منازع له في استحقاقه وله الاقتصار على النصف لاقرار المشتري
له باستحقاق ذلك
(فصل) وان قال أحد الشفيعين للمشتري شراؤك باطل وقال الآخر هو صحيح فالشفعة كلها
للمعترف بالصحة وكذلك أن قال ما اشتريته إنما انهبته وصدقه الآخر انه اشتراه فالشفعة للمصدق
544

بالشراء لأن شريكه مسقط لحقه باعترافه أنه لا بيع صحيح ولو احتال المشتري على إسقاط الشفعة
بحيلة لا تسقطها فقال أحد الشفيعين قد سقطت الشفعة توفرت على الآخر لاعتراف صاحبه بسقوطها
ولو توكل أحد الشفيعين في البيع أو الشراء أو ضمن عهدة المبيع أو عفا عن الشفعة قبل البيع وقال
لا شفعة لي لذلك توفرت على الآخر، وان اعتقد أن له شفعة وطالب بها فارتفع إلى حاكم فحكم بأنه لا شفعة له
توفرت على الآخر لأنها سقطت بحكم الحاكم فأشبه ما لو سقطت باسقاط المستحق
(فصل) إذا ادعى رجل على آخر ثلث داره فأنكر ثم صالحه عن دعواه بثلث دار أخرى صح
ووجبت الشفعة في الثلث المصالح به لأن المدعي يزعم أنه محق في دعواه وان ما أخذه عوض عن
الثلث الذي ادعاه فلزمه حكم دعواه ووجبت الشفعة ولا شفعة على المنكر في الثلث المصالح عنه لأنه
يزعم أنه على ملكه لم يزل وإنما دفع ثلث داره إلى المدعي اكتفاء لشره ودفعا لضرر الخصومة واليمين
عن نفسه فلم تلزمه فيه شفعة وان قال المنكر للمدعي خذا الثلث الذي تدعيه بثلث دارك ففعل فلا
شفعة على المدعي فيما أخذه وعلى المنكر الشفعة في الثلث الذي أخذه لأنه يزعم أنه أخذه عوضا عن
ملكه الثابت له وقال أصحاب الشافعي تجب الشفعة في الثلث الذي أخذه المدعي أيضا لأنها معاوضة
من الجانبين بشقصين فوجبت الشفعة كما لو كانت بين مقرين
ولنا أن المدعي يزعم أن ما أخذه، كان ملكا له قبل الصلح ولم يتجدد له عليه ملك وإنما استنقذه
بصلحه فلم تجب فيه شفعة كما لو أقر له به
545

(فصل) إذا كانت دار بين ثلاثة أثلاثا فاشترى أحدهم نصيب أحد شريكيه ثم باعه لا جنبي ثم
علم شريكه فله أن يأخذ بالعقدين وله الاخذ بأحدهما لأنه شريك فيهما فإن أخذ بالعقد الثاني أخذ
جميع ما في يد مشتريه لأنه لا شريك له في شفعته، وإن أخذ بالعقد الأول ولم يأخذ بالثاني أخذ نصف
المبيع وهو السدس لأن المشتري شريكه في شفعته ويأخذ نصفه من المشتري الأول ونصفه من المشتري
الثاني لأن شريكه لما اشترى الثلث كان بينهما نصفين لكل واحد منهما السدس فإذا باع الثلث من
جميع ما في يده وفي يده ثلثان فقد باع نصف ما في يده والشفيع يستحق ربع ما في يده وهو السدس
فصار منقسما في يديهما نصفين فيأخذ من كل واحد منهما نصفه وهو نصف السدس ويدفع ثمنه إلى
الأول، ويرجع المشتري الثاني على الأول بربع الثمن الذي اشترى به وتكون المسألة من اثنى عشر ثم
ترجع إلى أربعة للشفيع نصف الدار ولكل واحد من الآخرين الربع، وإن أخذ بالعقدين أخذ جميع
ما في يد الثاني وربع ما في يد الأول فصار له ثلاثة أرباع الدار ولشريكه الربع ويدفع إلى الأول نصف
الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثلاثة أرباع الثاني ويرجع الثاني على الأول بربع الثمن الثاني لأن يأخذ نصف
ما اشتراه الأول وهو السدس فيدفع إليه نصف الثمن لذلك وقد صار نصف هذا النصف في يد الثاني
وهو ربع ما في يده فيأخذه منه ويرجع الثاني على الأول بثمنه وبقي المأخوذ من الثاني ثلاثة أرباع ما اشتراه
فأخذها منه ودفع إليه ثلاثة أرباع الثمن، وإن كان المشتري الثاني هو البائع الأول فالحكم على ما ذكرنا
546

لا يختلف، وإن كانت الدار بين الثلاثة أرباعا لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها بينهما فاشترى صاحب
النصف من أحد شريكيه ربعه ثم باع ربعا مما في يده لأجنبي ثم علم شريكه فأخذه بالبيع الثاني أخذ
جميعه ودفع إلى المشتري ثمنه، وإن أخذ بالبيع الأول وحده أخذ ثلث المبيع وهو نصف سدس لأن
المبيع كله ربع فثلثه نصف سدس يأخذ ثلثه من المشتري الأول وثلثه من الثاني، ومخرج ذلك من ستة
وثلاثين النصف ثمانية عشر ولكل واحد منهما تسعة فلما اشترى صاحب النصف تسعة كانت شفعتها
بينه وبين شريكه الذي لم يبع أثلاثا لشريكه ثلثها ثلاثة، فلما باع صاحب النصف ثلث ما في يده حصل
في المبيع من الثلاثة ثلثها وهو سهم بقي في يد البائع منها سهمان فترد الثلاثة إلى الشريك ويصير في يده
اثنا عشر وهي الثلث ويبقى في يد المشتري الثاني ثمانية وهي تسعان وفي يد صاحب النصف ستة عشر
وهي أربعة أتساع ويدفع الشريك الثمن إلى المشترى الأول ويرجع المشترى الثاني عليه بتسع الثمن الذي
اشترى به لأنه قد أخذ منه تسع مبيعه وإن أخذ بالعقدين أخذ من الثاني جميع ما في يده وأخذ من
الأول نصف التسع وهو سهمان من ستة وثلاثين فيصير في يده عشرون سهما وهي خمسة أتساع ويبقى
في يد الأول ستة عشر سهما وهي أربعة أتساع ويدفع إليه ثلث الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثمانية أتساع
الثمن الثاني ويرجع الثاني على الأول بتسع الثمن الثاني
(فصل) إذا كانت دار بين ثلاثة لزيد نصفها ولعمرو ثلثها ولبكر سدسها فاشترى بكر من زيد
547

ثلث الدار ثم باع عمرا سدسها ولم يعلم عمرو بشراء الثلث ثم علم فله المطالبة بحقه من شفعة الثلث وهو
ثلثاه وذلك تسعا الدار فيأخذ من بكر ثلثي ذلك وقد حصل ثلثه الباقي في يده بشرائه للسدس فيفسخ
بيعه فيه ويأخذه بشفعة البيع الأول ويبقى من مبيعه خمسة أتساعه لزيد ثلث شفعته فيقسم بينهما أثلاثا
وتصح المسألة من مائة واثنين وستين سهما الثلث المبيع أربعة وخمسون سهما لعمرو ثلثاها بشفعته ستة وثلاثون
سهما يأخذ ثلثيها من بكر وهي أربعة وعشرون سهما وثلثها في يده اثنا عشر سهما والسدس الذي اشتراه
سبعة وعشرون سهما قد أخذ منها اثنى عشر بالشفعة بقي منها خمسة عشر له ثلثاها عشرة ويأخذ
منها زيد خمسة فحصل لزيد اثنان وثلاثون سهما ولبكر ثلاثون سهما ولعمرو مائة سهم وذلك نصف
الدار وتسعها ونصف تسع تسعها ويدفع عمرو إلى بكر ثلثي الثمن في البيع الأول وعليه وعلى زيد خمسة اتساع
الثمن الباقي بينهما أثلاثا، وان عفا عمرو عن شفعة الثلث فشفعة السدس الذي اشتراه بينه وبين زيد
أثلاثا ويحصل لعمرو أربعة اتساع الدار لزيد تسعاها ولبكر ثلثها وتصح من تسعة وان باع بكر
السدس لا جنبي فهو كبيعه إياه لعمرو الا أن لعمرو العفو عن شفعته في السدس بخلاف ما إذا كان هو
المشتري فإنه لا يصح عفوه عن نصيبه منها، وان باع بكر الثلث لأجنبي فلعمرو ثلثا شفعة المبيع الأول
وهو التسعان يأخذ ثلثهما من بكر وثلثهما من المشتري الثاني وذلك تسع وثلث تسع يبقى في يد
548

الثاني سدس وسدس تسع وهو عشرة من أربعة وخمسين بين عمرو وزيد أثلاثا وتصح أيضا من مائة
واثنين وستين ويدفع عمرو إلى بكر ثلثي ثمن مبيعه ويدفع هو وزيد إلى المشتري الثاني ثمن خمسة
أسباع مبيعه بينهما أثلاثا ويرجع المشتري الثاني على بكر بثمن أربعة أتساع مبيعه، وان لم يعلم عمرو
حتى باع مما في يده سدسا لم تبطل شفعته في أحد الوجوه وله أن يأخذ بها كما لو لم يبع شيئا (الثاني)
تبطل شفعته كلها (الثالث) تبطل في قدر ما باع وتبقى فيما لم يبع، وقد ذكرنا توجيه هذه الوجوه فاما
شفعة ما باعه ففيها ثلاثة أوجه أحدها) أنها بين المشتري الثاني وزيد وبكر أرباعا للمشتري نصفها ولكل
واحد منهما ربعها على أملاكهم حين بيعه (والثاني) أنها بين زيد وبكر على أربعة عشر سهما لزيد تسعة
ولبكر خمسة لأن لزيد السدس ولبكر سدس يستحق منه. أربعة أتساعه بالشفعة فيبقى معه خمسة أتساع
السدس ملكه مستقر عليها فأضفناه إلى سدس زيد وقسمنا الشفعة على ذلك ولم نعط المشتري الثاني
ولا بكرا بالسهام المستحقة بالشفعة شيئا لأن الملك عليها غير مستقر (والثالث) ان عفا لهم عن الشفعة
استحقوا بها وان أخذت بالشفعة لم يستحقوا بها شيئا وان عفا عن بعضهم دون بعض استحق المعفو عنه
بسهامه دون غير المعفو عنه، وما بطلت الشفعة فيه ببيع عمرو فهو بمنزلة المعفو عنه فيخرج في قدره وجهان ولو
استقصينا فروع هذه المسألة على سبيل البسط لطال، وخرج إلى الاملال
549

(فصل) وإذا كانت دار بين أربعة أرباعا فاشترى اثنان منهم نصيب أحدهم استحق الرابع
الشفعة عليهما واستحق كل واحد من المشتريين الشفعة على صاحبه، فإن طالب كل واحد منهم بشفعته
قسم المبيع بينهم أثلاثا وصارت الدار بينهم كذلك، وان عفا الرابع وحده قسم المبيع بين المشتريين
نصفين وكذلك أن عفا الجميع عن شفعتهم فيصير لهما ثلاثة أرباع الدار وللرابع الربع بحاله، وان طالب
الرابع وحده أخذ منهما نصف المبيع لأن كل واحد منهما له من الملك مثل ما للمطالب فشفعة مبيعه
بينه وبين شفيعه نصفين فيحصل للرابع ثلاثة أثمان الدار وباقيها بينهما نصفين وتصح من ستة عشر،
وان طالب الرابع وحده أحدهما دون الآخر قاسمه الثمن نصفين فيحصل للمعفو عنه ثلاثة أثمان،
والباقي بين الرابع والآخر نصفين وتصح من ستة عشر، وان عفا أحد المشتريين ولم يعف الآخر
ولا الرابع قسم مبيع المعفو عنه بينه وبين الرابع نصفين ومبيع الآخر بينهم أثلاثا فيحصل للذي لم
يعفو عنه ربع وثلث ثمن وذلك سدس وثمن الباقي بين الآخرين نصفين وتصح من ثمانية وأربعين
وان عفا الرابع عن أحدهما ولم يعف أحدهما عن صاحبه أخذ ممن لم يعفو عنه ثلث الثمن والباقي
بينهما نصفين ويكون الرابع كالعافي في التي قبلها، ويصح أيضا من ثمانية وأربعين، وان عفا الرابع وأحدهما
عن الآخر ولم يعف الآخر فلغير العافي ربع وسدس والباقي بين العافيين نصفين لكل واحد منهما سدس
ثمن وتصح من أربعة وعشرين ما يفرع من المسائل فهو على مساق ما ذكرنا
550

(مسألة) قال (ولا شفعة لكافر على مسلم)
وجملة ذلك أن الذمي إذا باع شريكه شقصا لمسلم فلا شفعة له عليه روي ذلك عن الحسن والشعبي
وروي عن شريح وعمر بن عبد العزيز أن له الشفعة وبه قال النخعي وإياس بن معاوية وحماد بن أبي
سليمان والثوري ومالك والشافعي والعنبري وأصحاب الرأي لعموم قوله عليه السلام (لا يحل له أن يبيع
حتى يستأذن شريكه وان باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى
فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب
ولنا ما روى الدارقطني في كتاب العلل باسناده عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا شفعة لنصراني)
وهذا يخص عموم ما احتجوا به ولأنه معنى يملك به يترتب على وجود ملك مخصوص فلم يجب للذمي على
المسلم كالزكاة ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان يحققه أن الشفعة إنما ثبتت للمسلم دفعا للضرر
عن ملكه فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم
تقديم دفع ضرر الذمي فإن حق المسلم أرجح ورعايته أولى، ولان ثبوت الشفعة في محل الاجماع على
551

خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم، وليس الذمي في معنى المسلم فيبقى فيه على مقتضى الأصل
وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي لعموم الأدلة الموجبة، ولأنها إذا ثبتت في حق المسلم على المسلم مع عظم
حرمته ورعاية حقه فلان تثبت على الذمي مع دناءته أولى وأخرى
(فصل) وتثبت للذمي على الذمي لعموم الاخبار ولأنهما تساويا في الدين والحرمة فتثبت لأحدهما
على الآخر كالمسلم على المسلم، ولا نعلم في هذا خلافا، وان تبايعوا بخمر أو خنزير وأخذ الشفيع بذلك
لم ينقض ما فعلوه، وإن كان التقابض جرى بين المتبايعين دون الشفيع وترافعوا إلينا لم نحكم له بالشفعة،
وبهذا قال الشافعي، وقال أبو الخطاب ان تبايعوا بخمر وقلنا هي مال لهم حكمنا لهم بالشفعة
وقال أبو حنيفة تثبت الشفعة إذا كان الثمن خمرا لأنها مال لهم فأشبه ما لو تبايعوا بدراهم لكن
إن كان الشفيع ذميا أخذه بمثله وإن كان مسلما أخذه بقيمة الخمر
ولنا انه بيع عقد بخمر فلم تثبت فيه الشفعة كما لو كان بين مسلمين، ولأنه عقد بثمن محرم أشبه البيع
بالخنزير والميتة، ولا نسلم ان الخمر مال لهم فإن الله تعالى حرمه كما حرم الخنزير، واعتقادهم حله لا يجعله
مالا كالخنزير، وإنما لم ينقض عقدهم إذا تقابضوا لأننا لا نتعرض لما فعلوه مما يعتقدونه في دينهم ما لم
يتحاكموا إلينا قبل تمامه ولو تحاكموا إلينا قبل التقابض لفسخناه
(فصل) فأما أهل البدع فمن حكم باسلامه فله الشفعة لأنه مسلم فتثبت له الشفعة كالفاسق بالافعال
ولان عموم الأدلة يقتضي ثبوتها لكل شريك فيدخل فيها
552

وقد روى حرب ان أحمد سئل عن أصحاب البدع هل لهم شفعة؟ ويروى عن ابن إدريس أنه قال
ليس للرافضة شفعة فضحك وقال أراد أن يخرجهم من الاسلام، فظاهر هذا انه أثبت لهم الشفعة،
وهذا محمول على غير الغلاة منهم وأما من غلا كالمعتقد ان جبريل غلط في الرسالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما أرسل إلى علي ونحوه ومن حكم بكفره من الدعاة إلى القول بخلق القرآن فلا شفعة له لأن الشفعة
إذا لم تثبت للذمي الذي يقر على كفره فغيره أولى
(فصل) وتثبت الشفعة للبدوي على القروي وللقروي على البدوي في قول أكثر أهل العلم، وقال
الشعبي والبتي لا شفعة لمن لم يسكن المصر
ولنا عموم الأدلة واشتراكهما في المعنى المقتضي لوجوب الشفعة
(فصل) قال أحمد في رواية حنبل لا نرى في أرض السواد شفعة وذلك لأن أرض السواد موقوفة
وقفها عمر رضي الله عنه على المسلمين ولا يصح بيعها والشفعة إنما تكون في البيع، وكذلك الحكم في
553

سائر الأرض التي وقفها عمر رضي الله عنه وهي التي فتحت عنوة في زمنه ولم يقسمها كأرض الشام
وأرض مصر وكذلك كل أرض فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين الا أن يحكم ببيع ذلك حاكم
أو يفعله الإمام أو نائبه، فإن فعل ذلك ثبتت فيه الشفعة لأنه فصل مختلف فيه، ومتى حكم الحاكم في
المختلف فيه بشئ نفذ حكمه والله أعلم
كتاب المساقاة
المساقاة أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من
ثمره، وإنما سميت مساقاة لأنها مفاعلة من السقي لأن أهل الحجاز أكثر حاجة شجرهم إلى السقي
لأنهم يستقون من الآبار فسميت بذلك، والأصل في جوازها السنة والاجماع، أما السنة فما روى
عبد الله بن عمر (رض) قال عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع حديث
صحيح متفق عليه، وأما الاجماع فقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه وعن آبائه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم
إلى اليوم يعطون الثلث والربع، وهذا عمل به الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم واشتهر ذلك
فلم ينكره منكر فكان اجماعا، فإن قيل لا نسلم انه لم ينكره منكر فإن عبد الله بن عمر راوي
554

حديث معاملة أهل خيبر قد رجع عنه وقال كنا يخابر أربعين سنة حتى حدثنا رافع بن
خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة وهذا يمنع انعقاد الاجماع ويدل على نسخ حديث ابن عمر
لرجوعه عن العمل به إلى حديث رافع، قلنا لا يجوز حمل حديث رافع على ما يخالف الاجماع ولا حديث
ان عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يعامل أهل خيبر حتى مات ثم عمل به الخلفاء بعده ثم من بعدهم فكيف
يتصور نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ ثم يخالفه؟ أم كيف يعمل بذلك في عصر الخلفاء ولم يخبر هم من سمع
النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاضر معهم وعالم بفعلهم فلم يخبر هم فلو صح خبر رافع لوجب حمله على ما يوافق السنة
والاجماع، وعلى أنه قد روي في تفسير خبر رافع عنه ما يدل على صحة قولنا فروى البخاري باسناده
قال. كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض وربما تصاب
الأرض ويسلم ذلك فنهينا، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ، وروي تفسيره أيضا بشئ غير هذا من
أنواع الفساد وهو مضطرب جدا، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن حديث رافع بن خديج
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة فقال رافع روي عنه في هذا ضروب كأنه يريد أن اختلاف
الروايات عنه يرهن حديثه، وقال طاوس ان أعلمهم يعنى ابن عباس أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه
عنه ولكن قال (لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجا معلوما) رواه البخاري
ومسلم وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع عليه وكيف يجوز نسخ أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات وهو
555

يفعله ثم أجمع عليه خلفاؤه وأصحابه بعده بخبر لا يجوز العمل به ولو لم يخالفه غيره؟ ورجوع ابن عمر
إليه يحتمل أنه رجع عن شئ من المعاملات الفاسدة التي فسرها رافع في حديثه، وأما غير ابن عمر نقد
أنكر على رافع ولم يقبل حديثه وحمله على أنه غلط في روايته والمعنى يدل على ذلك فإن كثيرا من
أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه ولا يمكنهم الاستئجار عليه، وكثير من الناس
لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر ففي تجويز المساقاة دفع للحاجتين وتحصيل لمصلحة الفئتين فجاز ذلك
كالمضاربة بالأثمان
(مسألة) قال أبو القاسم (وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم بجزء معلوم
يجعل للعامل من الثمر)
وجملة ذلك أن المساقاة جائزة في جميع الشجر المثمر هذا قول الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
وبه قال سعيد بن المسيب وسالم ومالك والثوري والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وإسحاق وأبو ثور
وقال داود لا يجوز الا في النخيل لأن الخبر إنما ورد بها فيه، وقال الشافعي لا يجوز إلا في النخيل
والكرم لأن الزكاة تجب في ثمرتهما، وفي سائر الشجر قولان (أحدهما) لا تجوز فيه لأن الزكاة لا تجب في
نمائه فأشبه مالا ثمرة له، وقال أبو حنيفة وزفر لا تجوز بحال لأنها إجارة بثمرة لم تخلق أو إجارة بثمرة
مجهولة أشبه إجارة نفسه بثمرة غير الشجر الذي يسقيه
556

ولنا السنة والاجماع ولا يجوز التعويل على ما خالفهما، وقولهم انها إجارة غير صحيح إنما هو عقد
على العمل في المال ببعض نمائه فهو كالمضاربة، وينكسر ما ذكروه بالمضاربة فإنه يعمل في المال بنمائه وهو
معدوم مجهول وقد جاز بالاجماع وهذا في معناه، ثم قد جوز الشارع العقد في الإجارة على المنافع المعدومة
للحاجة فلم لا يجوز على الثمرة المعدومة للحاجة مع أن القياس إنما يكون في الحاق المسكوت عنه بالمنصوص
عليه أو المجمع عليه؟ فأما في ابطال نص وخرق اجماع بقياس نص آخر فلا سبيل إليه، وأما تخصيص
ذلك بالنخيل أو به وبالكرم فيخالف عموم قوله عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج
منها من زرع أو ثمر وهذا عام في كل ثمر ولا تكاد بلدة ذات أشجار تخلو من شجر غير النخيل، وقد جاء
في لفظ بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخل والشجر، ولأنه شجر
يثمر كل حول فأشبه النخيل والكرم، ولان الحاجة تدعو إلى المساقاة عليه كالنخل وأكثر لكثرته فجازت
المساقاة عليه كالنخل، ووجوب الزكاة ليس من العلة المجوزة للمساقاة ولا أثر له فيها وإنما العلة ما ذكرناه
(فصل) فاما مالا ثمر له من الشجر كالصفصاف والجوز ونحوهما أو له ثمر غير مقصود كالصنوبر
والأرز فلا تجوز المساقاة عليه وبه قال مالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأنه ليس بمنصوص عليه ولا
في معي المنصوص، ولان المساقاة إنما تكون بجزء من الثمرة وهذا لا ثمرة له الا أن يكون مما يقصد ورقه
كالتوت والورد فالقياس يقتضي جواز المساقاة عليه لأنه في معنى الثمر لأنه نماء يتكرر كل عام ويمكن أخذه
والمساقاة عليه بجزء منه فيثبت له مثل حكمه
557

(فصل) وان ساقاه على ثمرة موجودة فذكر أبو الخطاب فيها روايتين (إحداهما) تجوز وهو اختيار
أبي بكر وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور وأحد قولي الشافعي لأنها إذا جازت في المعدومة مع
كثرة الغرر فيها فمع وجودها وقلة الغرر فيها أولى، وإنما تصح إذا بقي من العمل ما يستزاد به الثمرة
كالتأبير والسقي واصلاح الثمرة، فإن بقي ما لا تزيد به الثمرة كالجذاذ ونحوه لم يجز بغير خلاف
(والثانية) لا تجوز وهو القول الثاني للشافعي لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص فإن
النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر أو زرع، ولان هذا يفضي إلى أن يستحق
بالعقد عوضا موجودا ينتقل الملك فيه عن رب المال إلى المساقي فلم يصح كما لو بدا صلاح الثمرة، ولأنه
عقد على العمل في المال ببعض نمائه فلم يجز بعد ظهور النماء كالمضاربة، ولان هذا جعل العقد إجارة
بمعلوم ومجهول فلم يصح كما لو استأجره على العمل بذلك
وقولهم انه أقل غررا قلنا قلة الغرر ليست منن المقتضي للجواز، ولا كثرته الموجودة في محل النص
مانعة فلا تؤثر قلته شيئا، والشرع ورد به على وجه لا يستحق العامل فيه عوضا موجودا ولا ينتقل
إليه من ملك رب المال شئ وإنما يحدث النماء الموجود على ملكهما على ما شرطاه فلم تجز مخالفة هذا
الموضوع ولا إثبات عقد ليس في معناه إلحاقا به كما لو بدا صلاح الثمرة كالمضاربة بعد ظهور الربح
(فصل) فأما قول الخرقي (بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر) فيدل على شيئين (أحدهما) ان
558

المساقاة لا تصح إلا على جزء معلوم من الثمرة مشاع كالنصف والثلث لحديث ابن عمر عامل أهل خيبر
بشطر ما يخرج منها وسواء قل الجزء أو كثر، فلو شرط للعامل جزءا من مائة جزء وجعل جزءا منها
لنفسه والباقي للعامل جاز ما لم يفعل ذلك حيلة، وكذلك إن عقده على أجزاء معلومة كالخمسين وثلاثة
أثمان أو سدس ونصف سبع ونحو ذلك جاز، وإن عقد على جزء مبهم كالسهم والجزء والنصيب والحظ
ونحوه لم تجز لأنه إذا لم يكن معلوما لم تمكن القسمة بينهما، ولو ساقاه على آصع معلومة أو جعل مع الجزء
المعلوم آصعا لم تجز لأنه ربما لم يحصل ذلك أو لم يحصل غيره فيستضر رب الشجر أو ربما كثر الحاصل
فيستضر العامل، وان شرط له ثمر نخلات بعينها لم تجز لأنها قد لا تحمل فتكون الثمرة كلها لرب المال
وقد لا تحمل غيرها فتكون الثمرة كلها للعامل، ولهذه العلة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزارعة التي يجعل
فيها لرب الأرض مكانا معينا وللعامل مكانا معينا
قال رافع كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا
عن ذلك، فأما الذهب والورق فلم ينهنا. متفق عليه، فمتى شرط شيئا من هذه الشروط الفاسدة
فسدت المساقاة، والثمرة كلها لرب المال لأنها نماء ملكه وللعامل أجر مثله كالمضاربة الفاسدة (الثاني) ان الشرط للعامل لأنه إنما يأخذ بالشرط فالشرط يراد لأجله ورب المال يأخذ بماله لا بالشرط، فإذا
قال ساقيتك على أن لك ثلث الثمرة صح وكان الباقي لرب المال، وان قال على أن لي ثلث الثمرة فقال ابن
559

حامد يصح والباقي للعامل، وقيل لا يصح وقد ذكرنا تعليل ذلك في المضاربة، وان اختلفا في الجزء المشروط
لمن هو منهما فهو للعامل لأن الشرط يراد لأجله كما ذكرنا
(فصل) إذا كان في البستان شجر من أجناس كالتين والزيتون والكرم والرمان فشرط للعامل
من كل جنس قدرا كنصف ثمر التين وثلث الزيتون وربع الكرم وخمس الرمان، أو كان فيه أنواع
من جنس فشرط من كل نوع قدرا وهما يعلمان قدر كل نوع صح لأن ذلك كأربعة بساتين ساقاه على
كل بستان قدر مخالف للقدر المشروط من الآخر، وان لم يعلما قدره أو لم يعلم أحدهما لم يجز لأنه قد
يكون أكثر ما في البستان من النوع الذي شرط فيه القليل أو أكثره مما شرط فيه الكثير، ولو قال:
ساقيتك على هذين البستانين بالنصف من هذا والثلث ومن هذا صح لأنها صفقة واحدة جمعت عوضين
فصار كأنه قال بعتك داري هاتين هذه بألف وهذه بمائة، وان قال بالنصف من أحدهما والثلث من
الآخر لم يصح لأنه مجهول لا يدرى أيهما الذي يستحق نصفه ولا الذي يستحق ثلثه، ولو ساقاه على
بستان واحد نصفه هذا بالنصف ونصفه هذا الثلث وهما متميزان صح لأنهما كبستانين
(فصل) وإن كان البستان لاثنين فساقيا عاملا واحدا على أن له نصف نصيب أحدهما وثلث
نصيب الآخر والعامل عالم بنصيب كل واحد منهما جاز لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان، ولو أفرد
كل واحد منهما بعقد كان له أن يشرط ما اتفقا عليه وان جهل نصيب كل واحد منهما لم يجز لأنه غرر
560

فإنه قد يقل نصيب من شرط النصف فيقل حظه وقد يكثر فيتوفر حظه فاما ان شرطا قدرا واحدا
من مالهما جاز وان لم يعلم قدر ما لكل واحد منهما لأنها جهالة لا غرر فيها ولا ضرر فصار كما لو قالا
بعناك دارنا هذه بألف ولم يعلم نصيب كل واحد منهما جاز لأنه أي نصيب كان فقد علم عوضه وعلم
جملة المبيع فصح كذلك ههنا، ولو ساقى واحد اثنين جاز يجوز أن يشرط لهما التساوي في النصيب
ويجوز أن يشرط لأحدهما أكثر من الآخر
(فصل) ولو ساقاه ثلاث سنين على أن له في الأولى النصف وفي الثانية الثلث وفي الثالثة الربع
جاز لأنه قدر ماله في كل سنة معلوم فصح كما لو شرط له من كل نوع قدرا
(فصل) ولو دفع إلى رجل بستانا فقال ما زرعت فيه من حنطة فلي ربعه وما زرعت من شعير
فلي ثلثه وما زرعت من باقلا فلي نصفه لم يصح لأن ما يزرعه من كل واحد من هذه الأصناف
مجهول القدر فجرى مجرى ما لو شرط له في المساقاة ثلث هذا النوع ونصف هذا النوع الآخر وهو جاهل
بما فيه منهما، وان قال إن زرعتها حنطة فلي ربعها وان زرعتها شعيرا فلي ثلثه وان زرعتها باقلا فلي نصفه لم
يصح أيضا لأنه لا يدري ما يزرعه فأشبه ما لو قال بعتك بعشرة صحاح أو أحد عشرة مكسرة
وفيه وجه آخر انه يصح بناء على قوله في الإجارة ان خطته روميا فلك درهم وان خطته فارسيا فلك
نصف درهم فإنه يصح في المنصوص عنه فيخرج ههنا مثله وان قال ما زرعتها من شئ فلي نصفه صح
561

لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ولو جعل له في المزارعة ثلث
الحنطة ونصف الشعير وثلثي الباقلا وبينا قدر ما يزرع من كل واحد من هذه الأنواع اما بتقدير البذر
واما بتقدير المكان وتعيينه أو بمساحته مثل ان قام تزرع هذا المكان حنطة وهذا شعيرا وتزرع مدين
حنطة ومدين شعيرا أو تزرع قفيزا حنطة وقفيزين شعيرا جاز لأن كل واحد من هذه طريق
إلى العلم فاكتفى به
(فصل) وان ساقاه على أنه ان سقى سيحا فله الثلث وان سقى بكلفة فله النصف لم يصح لأن
العمل مجهول والنصيب مجهول وهو في معنى بيعتين في بيعة، ويتخرج ان يصح قياسا على مسألة الإجارة
ولو قال لك الخمسان ان كانت عليك خسارة وان لم يكن عليك خسارة فلك الربع لم يصح نص عليه
احمد وقال هذا شرطان في شرط وكرهه، وهذا في معنى المسألة التي قبلها ويخرج فيها مثل ما خرج
فيها، ولو ساقاه في هذا الحائط بالثلث على أن يساقيه في الحائط الآخر بجزء معلوم لم يصح لأنه شرط
عقدا في عقد فصار في معنى بيعتين في بيعة كقوله بعتك ثوبي على أن تبيعني ثوبك وإنما فسد لمعنيين
(أحدهما) انه شرط في العقد عقدا آخر والنفع الحاصل بذلك مجهول فكأنه شرط العوض في مقابلة
معلوم ومجهول (الثاني) ان العقد الآخر لا يلزمه بالشرط فيسقط الشرط وإذا سقط وجب رد الجزء
الذي تركه من العوض لأجله وذلك مجهول فيصير الكل مجهولا
562

(فصل) وان ساقى أحد الشريكين شريكه وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه مثل أن يكون
الأصل بينهما نصفين فجعل له الثلثين من الثمرة صح وكان السدس حصته من المساقاة فصار كأنه قال
ساقيتك على نصيبي بالثلث، وان ساقاه على أن تكون الثمرة بينهما نصفين أو على أن يكون للعامل الثلث
فهي مساقاة فاسدة لأن العامل يستحق نصفها بملكه ولم يجعل له في مقابلة عمله شيئا، وإذا شرط
له الثلث فقد شرط ان غير العامل يأخذ من نصيب العامل ثلثه ويستعمله بلا عوض
فلا يصح، فإذا عمل في الشجر بناء على هذا كانت الثمرة بينهما نصفين بحكم الملك
ولا يستحق العامل بعمله شيئا لأنه تبرع به لرضاء بالعمل بغير عوض فأشبه ما لو قال له
أنا أعمل فيه بغير شئ وذكر أصحابنا وجها آخر انه يستحق أجر مثله لأن المساقاة تقتضي عوضا فلا
تسقط برضاه باسقاطه كالنكاح ولم يسلم له العوض فيكون له أجر مثله
ولنا أنه عمل في مال غيره متبرعا فلم يستحق عوضا كما لو لم يعقد المساقاة، ويفارق النكاح لوجهين
(أحدهما) ان عقد النكاح صحيح فوجب به العوض لصحته وهذا فاسد لا يوجب شيئا (والثاني)
أن الابضاع لا تستباح بالبذل والإباحة والعمل ههنا يستباح بذلك ولان المهر في النكاح لا يخلو من أن
يكون واجبا بالعقد أو بالإصابة أو بهما فإن وجب بالعقد لم يصح قياس هذا عليه لوجهين (أحدهما) أن النكاح
صحيح وهذا فاسد (والثاني) أن العقد ههنا لا يوجب ولو أوجب لا وجب قبل العمل ولا خلاف
563

ان هذا لا يوجب قبل العمل شيئا، وان وجب بالإصابة لم يصح القياس عليها لوجهين (أحدهما) أن
الإصابة لا تستباح بالإباحة والبذل بخلاف العمل (والثاني) أن الإصابة لو خلت عن العقد لاوجبت
وهذا بخلافه وان وجب بهما امتنع القياس لهذه الوجوه كلها. فاما إن ساقي أحدهما شريكه على أن
يعملا معا فالمساقاة فاسدة والثمرة بينهما على قدر ملكيهما ويتقاصان العمل ان تساويا فيه، وإن كان
لأحدهما فضل نظرت فإن كان قد شرط له فضل ما في مقابلة عمله استحق ما فضل له من أجر المثل وان لم
يشترط له شئ فلا شئ له إلا على الوجه الذي ذكره أصحابنا وتكلمنا عليه
(فصل) وتصح المساقاة على البعل من الشجر كما تجوز فيما يحتاج إلى سقي وبهذا قال مالك ولا
نعلم فيه خلافا عند من يجوز المساقاة لأن الحاجة تدعو إلى المعاملة في ذلك كدعائها إلى المعاملة في
غيره فيقاس عليه وكذلك الحكم في المزارعة
(فصل) ولا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم بالرؤية أو بالصفة التي لا يختلف معها كالبيع فإن
ساقاه على بستان بغير رؤية ولا صفة لم يصح لأنه عقد على مجهول فلم يصح كالبيع وان ساقاه على أحد هذين
الحائطين لم يصح لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان فلم يجز على غير معين كالبيع
(فصل) وتصح المساقاة بلفظ المساقاة وما يؤدي معناها من الألفاظ نحو عاملتك وفالحتك واعمل في
بستاني هذا حتى تكمل ثمرته وما أشبه هذا لأن القصد المعنى فإذا أتى به بأي لفظ دل عليه صح كالبيع، وان
564

قال استأجرتك لتعمل لي في هذا الحائط حتى تكمل ثمرته بنصف ثمرته ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح
ذكره أبو الخطاب، لأن الإجارة يشترط لها كون العوض معلوما والعمل معلوما، وتكون لازمة والمساقاة
بخلافه (والثاني) يصح وهو أقيس لأنه مود للمعنى فصح به العقد كسائر الألفاظ المتفق عليها
وقد ذكر أبو الخطاب أن معنى قول احمد تجوز إجارة الأرض ببعض الخارج منها المزارعة على
أن البذر والعمل من العامل وما ذكر من شروط الإجارة إنما يعتبر في الإجارة الحقيقية أما إذا أريد
بالإجارة المزارعة فلا يشترط لها غير شرط المزارعة
(فصل) ويلزم العامل باطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها مثل حرث الأرض
تحت الشجر والبقر التي تحرث وآلة الحرث وسقى الشجر واستقاء الماء واصلاح طرق الماء وتنقيتها
وقطع الحشيش المضر والشوك وقطع الشجر اليابس وزبار الكرم وقطع ما يحتاج إلى قطعه وتسوية
الثمرة واصلاح الأجاجين وهي الحفر التي يجتمع فيها الماء على أصول النخل وإدارة الدولاب، والحفظ
للثمر في الشجر وبعده حتى يقسم، وإن كان مما يشمس فعليه تشميسه، وعلى رب المال ما فيه حفظ
الأصل كسد الحيطان وانشاء الأنهار وعمل الدولاب وحفر بئره وشراء ما يلقح به، وعبر بعض أهل
العلم عن هذا بعبارة أخرى فقال كل ما يتكرر كل عام فهو على العامل ومالا يتكرر فهو على رب المال
وهذا صحيح في العمل، فأما شراء ما يلقح به فهو على رب المال وان تكرر لأن هذا ليس من العمل
565

فاما البقرة التي تدير الدولاب فقال أصحابنا هي على رب المال لأنها ليست من العمل فأشبهت
ما يلقح به، والأولى انها عل العامل لأنها تراد للعمل فأشبهت بقر الحرث ولان استقاء الماء على العامل
إذا لم يحتج إلى بهيمة فكان عليه وان احتاج إلى بهيمة كغيره من الأعمال
وقال بعض أصحاب الشافعي ما يتعلق بصلاح الأصول والثمرة معا كالكسح للنهر والثور هو على
من شرط عليه منهما وإن أهمل شرط ذلك على أحدهما لم تصح المساقاة، وقد ذكرنا ما يدل على أنه
على العامل، فأما تسميد الأرض بالزبل ان احتاجت إليه فشراء ذلك على رب المال لأنه ليس من العمل
فجرى مجرى ما يلقح به وتفريق ذلك في الأرض على العامل كالتلقيح، وإن أطلقا العقد ولم يبينا ما على
كل واحد منهما فعلى كل واحد منهما ما ذكرنا أنه عليه وإن شرطا ذلك كان تأكيدا، وإن شرطا على
أحدهما شيئا مما يلزم الآخر فقال القاضي وأبو الخطاب لا يجوز ذلك، فعلى هذا تفسد المساقاة وهو
مذهب الشافعي لأنه شرط يخالف مقتضى العقد فافسده كالمضاربة إذا شرط العمل فيها على رب المال
وقد روي عن أحمد ما يدل على صحة ذلك فإنه ذكر أن الجذاذ عليهما فإن شرطه على العامل
جاز وهذا مقتضى كلام الخرقي في المضاربة، لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد ولا مفسدة فيه فصح
كتأجيل الثمن في المبيع وشرط الرهن والضمين والخيار فيه، لكن يشترط أن يكون ما يلزم كل واحد
من العمل معلوما لئلا يفضي إلى التنازع والتواكل فيختل العمل، وأن لا يكون ما على رب المال أكثر
566

العمل لأن العامل يستحق بعمله فإذا لم يعمل أكثر العمل كان وجود عمله كعدمه فلا يستحق شيئا
(فصل) فاما الجذاذ والحصاد واللقاط فهو على العامل نص أحمد عليه في الحصاد وهو مذهب
الشافعي لأنه من العمل فكان على العامل كالتشميس، وروي عن أحمد في الجذاذ أنه إذا شرط على
العامل فجائز لأن العمل عليه وإن لم يشرطه فعلى رب المال بحصته ما يصير إليه فظاهر هذا أنه جعل
الجذاذ عليهما وأجاز اشتراطه على العامل وهو قول بعض الشافعية، وقال محمد بن الحسن تفسد المساقاة
بشرطه على العامل لأنه شرط ينافي مقتضى العقد واحتج من جعله عليهما بأنه يكون بعد تكامل الثمرة
وانقضاء المعاملة فأشبه نقله إلى منزله
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى يهود على أن يعملوها من أموالهم، ولان هذا من العمل فيكون
عليه كالتشميس وما ذكروه يبطل بالتشميس، ويفارق النقل إلى المنزل فإنه يكون بعد القسمة وزوال
العقد فأشبه المخزن
(فصل) وإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فهو كشرط عمل رب المال لأن عملهم كعمله
فإن يد الغلام كيد مولاه، وقال أبو الخطاب فيه وجهان (أحدهما) كما ذكرنا (والثاني) يجوز لأن
غلمانه ماله فجاز أن تعمل تبعا لماله كثور الدولاب وكما يجوز في القراض أن يدفع إلى العامل بهيمة يحمل
عليها، وأما رب المال لا يجوز جعله تبعا وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن فإذا شرط غلمانا
567

يعملون معه فنفقتهم على ما يشترطان عليه فإن أطلقا ولم يذكرا نفقتهم فهي على رب المال، وبهذا قال
الشافعي وقال مالك نفقتهم على المساقي، ولا ينبغي أن يشرطها على رب المال لأن العمل على المساقى
فمؤنة من يعمله عليه كمؤنة غلمانه
ولنا أنه مملوك رب المال فكانت نفقته عليه عند الاطلاق كما لو أجره فإن شرطها على العامل جاز
ولا يشترط تقديرها، وبه قال الشافعي وقال محمد بن الحسن يشترط تقدير ها لأنه اشترط عليه مالا
يلزمه فوجب أن يكون معلوما كسائر الشروط
ولنا أنه لو وجب تقديرها لوجب ذكر صفاتها ولا يجب ذكر صفاتها فلم يجب تقديرها ولا بد من
معرفة الغلمان المشترط عملهم برؤية أو صفة تحصل بها معرفتهم كما في عقد الإجارة
(فصل) وإن شرط العامل أن أجر الاجراء الذين يحتاج إلى الاستعانة بهم من الثمرة وقدر
الأجرة لم يصح لأن العمل عليه فإذا شرط أجره من المال لم يصح كما لو شرط لنفسه أجر عمله وإن لم
يقدره فسد لذلك ولأنه مجهول، ويفارق هذا ما إذا اشترط المضارب أجر ما يحتاج إليهم من الحمالين ونحوهم
لأن ذلك لا يلزم العامل فكان على المال ولو شرط أجر ما يلزمه عمله بنفسه لم يصح كمسئلتنا
(فصل) ظاهر كلام أحمد أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة أو ماء إليه في رواية الأثرم،
وسئل عن الاكار يخرج نفسه من غير أن يخرجه صاحب الضيعة فم يمنعه من ذلك ذكره الشيخ أبو
568

عبد الله بن حامد وهو قول بعض أصحاب الحديث، وقال بعض أصحابنا هو عقد لازم وهو قول
أكثر الفقهاء لأنه عقد معاوضة فكان لازما كالإجارة، ولأنه لو كان جائزا جاز لرب المال فسخه إذا
أدركت الثمرة فيسقط حق العامل فيستضر
ولنا ما روى مسلم باسناده عن ابن عمر أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بخيبر على أن
يعملوها ويكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نقركم
على ذلك ما شئنا) ولو كان لازما ما لم يجز بغير تقدير مدة ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم ولان
النبي صلى الله عليه وسلم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة ولو قدر لم يترك نقله لأن هذا مما يحتاج إليه فلا يجوز الاخلال
بتقله وعمر رضي الله عنه أجلاهم من الأرض وأخرجهم من خيبر ولو كانت لهم مدة مقدرة لم يجز إخراجهم
فيها ولأنه عقد على جزء من نماء المال فكان جائزا كالمضاربة أو عقد على المال بجزء من نمائه أشبه المضاربة
وفارق الإجارة لأنها بيع فكانت لازمة كبيع الأعيان ولان عوضها مقدر معلوم فأشبهت البيع وقياسهم
ينتقض بالمضاربة وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة فقياسها عليها أولى وقولهم إنه يفضي إلى أن رب المال
يفسخ بعد ادراك الثمرة قلنا إذا ظهرت الثمرة، فهي تظهر على ملكهما فلا يسقط حق العامل منها بفسخ
ولاغيره كما لو فسخ المضاربة بعد ظهور الربح فعلى هذا لا يفتقر إلى ضرب مدة ولذلك لم يضرب النبي
صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه رضي الله عنهم لأهل خيبر مدة معلومة حين عاملوهم ولأنه عقد جائز فلم يفتقر إلى
569

ضرب مدة كالمضاربة وسائر العقود الجائزة، ومتى فسخ أحدهما بعد ظهور الثمرة فهي بينهما على ما شرطاه
وعلى العامل تمام العمل كما يلزم المضارب بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد ظهور الربح، وان فسخ
العامل قبل ذلك فلا شئ له لأنه رضي باسقاط حقه فصار كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح وعامل
الجعالة إذا فسخ قبل اتمام عمله، وان فسخ رب المال قبل ظهور الثمرة فعليه أجر المثل للعامل لأنه منعه اتمام عمله
الذي يستحق به العوض فأشبه ما لو فسخ الجاعل قبل اتمام عمل الجعالة، وفارق رب المال في المضاربة إذا فسخها
قبل ظهور الربح لأن عمل هذا مفض إلى ظهور الثمرة غالبا فلولا الفسخ لظهرت الثمرة فملك نصيبه منها وقد
قطع ذلك بفسخه فأشبه فسخ الجعالة بخلاف المضاربة فإنه لا يعلم إفضاؤها إلى الربح ولان الثمرة إذا
ظهرت في الشجر كان العمل عليها في الابتداء من أسباب ظهورها والربح إذا ظهر في المضاربة قد لا يكون
للعمل الأول فيه أثر أصلا، فأما ان قلنا إنه عقد لازم فلا يصح الا على مدة معلومة وبهذا قال الشافعي وقال
أبو ثور يصح من غير ذكر مدة ويقع على سنة واحدة، وأجازه بعض أهل الكوفة استحسانا لأنه لما شرط له جزء
من الثمرة كان ذلك دليلا على أنه أراد مدة تحصل الثمرة فيها، ولنا أنه عقد لازم فوجب تقديره بمدة كالإجارة
ولان المساقاة أشبه بالإجارة لأنها تقتضي العمل على العين مع بقائها ولأنها إذا وقعت مطلقة لم يمكن حملها
على إطلاقها مع لزومها لأنه يفضي إلى أن العامل يستبد بالشجر كل مدته فيصير كالمالك ولا يمكن تقديره
570

بالسنة لأنه تحكم وقد تكمل الثمرة في أقل من السنة، فعلى هذا لا تتقدر أكثر المدة بل يجوز ما يتفقان
عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها وان طالت، وقد قيل لا يجوز أكثر من ثلاثين سنة وهذا تحكم وتوقيت
لا يصار إليه الا بنص أو اجماع، فأما أقل المدة فيتقدر بمدة تكمل الثمرة فيها فلا يجوز على أقل منها لأن
المقصود أن يشتركا في الثمرة ولا يوجد في أقل من هذه المدة، فإن ساقاه على مدة لا تكمل فيها الثمرة
فالمساقاة فاسدة فإذا عمل فيها فظهرت الثمرة ولم تكمل فله أجر مثله في أحد الوجهين وفي الآخر لا شئ
له لأنه رضي بالعمل بغير عوض فهو كالمتبرع، والأول أصح لأن هذا لم يرض الا بعوض وهو جزء من
الثمرة وذلك الجزء موجود غير أنه لا يمكن تسليمه إليه فلما تعذر دفع العوض الذي اتفقا عليه إليه كان
أجر مثله كما في الإجارة الفاسدة، وفارق المتبرع فإنه رضي بغير شئ وان لم تظهر الثمرة فلا شئ له في أصح
الوجهين لأنه رضي بالعمل بغير عوض، وان ساقاه إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالبا فلم يحمل تلك السنة
فلا شئ للعامل لأنه عقد صحيح لم يظهر فيه النماء الذي اشترط جزؤه فأشبه المضاربة إذا لم يربح فيها
وان ظهرت الثمرة ولم تكمل فله نصيبه منها وعليه اتمام العمل فيها كما لو انفسخت قبل كمالها. وان ساقاه
إلى مدة يحتمل أن يكون للشجر ثمرة ويحتمل أن لا يكون ففي صحة المساقاة وجهان (أحدهما) تصح لأن
الشجر يحتمل أن يحمل ويحتمل أن لا يحمل والمساقاة جائزة فيه (والثاني) لا يصح لأنه عقد على معدوم
ليس الغالب وجوده فلم تصح كالسلم في مثل ذلك ولان ذلك غرر أمكن التحرز عنه فلم يجز العقد معه كما
571

لو شرط ثمر نخلة بعينها، وفارق ما إذا شرط مدة تكمل فيها الثمرة فإن الغالب أن الشجر يحمل واحتمال
أن لا يحمل نادر لم يمكن التحرز عنه فإن قلنا العقد صحيح فله حصته من الثمر فإن لم يحمل فلا شئ
له وان قلنا هو فاسد استحق أجر المثل سواء حمل أولم يحمل لأنه لم يرض بغير عوض ولم يسلم له العوض
فكان له العوض وجها واحدا بخلاف ما لو جعل الاجل إلى مدة لا يحمل في مثلها غالبا ومتى خرجت
الثمرة قبل انقضاء الأجل فله حقه منها إذا قلنا بصحة العقد وان خرجت بعده فلا حق له فيها ومذهب
الشافعي في هذا قريب مما ذكرنا
(فصل) ولا يثبت في المساقاة خيار الشرط لأنهما ان كانت جائزة فالجائز مستغن بنفسه عن
الخيار فيه، وان كانت لازمة فإذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه وهو العمل فيها، وأما خيار المجلس
فلا يثبت ان كانت جائزة لما تقدم وان كانت لازمة فعلى وجهين (أحدهما) لا يثبت لأنها عقد لا يشترط
فيه قبض العوض ولا يثبت فيه خيار الشرط فلا يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح (والثاني) يثبت لأنه
عقد لازم يقصد به المال أشبه البيع
(فصل) ومتى قلنا بجوازها لم يفتقر إلى ضرب مدة لأن ابقاءها إليهما وفسخها جائز لكل واحد
منهما متى شاء فلم تحتج إلى مدة كالمضاربة، وان قدرها بمدة جاز لأنه لا ضرر في التقدير وقد تبينا
جواز ذلك في المضاربة والمساقاة مثلها، وتنفسخ بموت كل واحد منهما وجنونه والحجر عليه لسفه كقولنا
572

في المضاربة فإذا مات العامل أو رب المال انفسخت المساقاة فكان الحكم فيها كما لو فسخها أحدهما
على ما أسلفناه، وان قلنا بلزومها لم ينفسخ العقد ويقوم الوارث مقام الميت منهما لأنه عقد لازم فأشبه
الإجارة، لكن إن كان الميت العامل فأبي وارثه القيام مقامه لم يجبر لأن الوارث لا يلزمه من الحقوق
التي على موروثه الا ما أمكن دفعه من تركته والعمل ليس مما يمكن ذلك فيه، فعلى هذا يستأجر الحاكم
من التركة من يعمل العمل فإن لم تكن له تركة أو تعذر الاستئجار منها فلرب المال الفسخ لأنه تعذر
استيفاء المعقود عليه فيثبت الفسخ كما لو تعذر ثمن المبيع قبل قبضه. ثم إن كانت الثمرة قد ظهرت بيع
من نصيب العامل ما يحتاج إليه لاجر ما بقي من العمل واستؤجر من يعمل ذلك، وان احتيج إلى بيع
الجميع بيع، ثم لا يخلو اما أن تكون الثمرة قد بدا صلاحها أو لم يبد فإن كانت قد بدا صلاحها خير المالك
بين البيع والشراء فإن اشترى نصيب العامل جاز وان اختار بيع نصيبه أيضا باعه وباع الحاكم نصيب
العامل وان أبي البيع والشراء باع الحكم نصيب العامل وحده وما بقي على العامل من العمل يكتري
عليه من يعمله وما فضل لورثته، وإن كان لم يبد صلاحها خير المالك أيضا فإن بيع لأجنبي لم يجز الا
بشرط القطع ولا يجوز بيع نصيب العامل وحده لأنه لا يمكنه قطعه الا بقطع نصيب المالك فيقف
امكان قطعه على قطع ملك غيره، وهل يجوز شراء المالك لها؟ على وجهين، وهكذا الحكم إذا انفسخت
المساقاة بموت العامل لقولنا بجوازها وأبى الورث العمل، وان اختار رب المال البقاء على المساقاة
573

لم تنفسخ إذا قلنا بلزومها ويستأذن الحاكم في الانفاق على الثمرة ويرجع بما أنفق، فإن عجز عن استئذان
الحاكم فأنفق محتسبا بالرجوع وأشهد على الانفاق بشرط الرجوع رجع بما أنفق وهذا أحد الوجهين
لأصحاب الشافعي لأنه مضطر، وان أمكنه استئذان الحاكم فأنفق بنية الرجوع من غير استئذانه
فهل يرجع بذلك؟ على وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير اذنه، وان تبرع بالانفاق لم يرجع بشئ
كما لو تبرع بالصدقة، والحكم فيما إذا أنفق على الثمرة بعد فسخ العقد إذا تعذر بيعها كالحكم ههنا سواء
(فصل) وان هرب العامل فلرب المال الفسخ لأنه عقد جائز، وان قلنا بلزومه فحكمه حكم ما لو
مات وأبى وارثه أن يقوم مقامه الا أنه ان لم يجد الحاكم له مالا وأمكنه الاقتراض عليه من بيت المال
أو غيره فعل، وان لم يمكنه ووجد من يعمل بأجرة مؤجلة إلى وقت ادراك الثمرة فعل فإن لم يجد فلرب المال
الفسخ أما الميت فلا يقترض عليه لأنه لا ذمة له
(فصل) والعامل أمين والقول قوله فيما يدعيه من هلاك وما يدعى عليه من خيانة لأن رب المال
ائتمنه بدفع ماله إليه فهو كالمضارب فإن اتهم حلف فإن ثبتت خيانته باقرار أو بينة أو نكوله ضم إليه من يشرف
عليه فإن لم يمكن حفظه استؤجر من ماله من يعمل عمله وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب مالك لا يقام غيره مقامه بل
يحفظ منه لأن فسقه لا يمنع استيفاء المنافع المقصودة منه فأشبه ما لو فسق بغير الخيانة
ولنا أنه تعذر استيفاء المنافع المقصودة منه فاستوفيت بغيره كما لو هرب، ولا نسلم امكان استيفاء
574

المنافع منه لأنه لا يؤمن من تركها ولا يوثق منه بفعلها ولا نقول إن له فسخ المساقاة، وإنما لم يمكن حفظها
من خيانتك أقم غيرك يعمل ذلك وارفع يدك عنها لأن الأمانة قد تعذرت في حقك فلا يلزم رب المال ائتمانك
وفارق فسخه بغير الخيانة فإنه لا ضرر على رب المال وههنا يفوت ماله
(فصل) فإن عجز عن العمل لضعفه مع أمانته ضم إليه غيره ولا ينزع من يده لأن العمل مستحق
عليه ولا ضرر في بقاء يده عليه، وان عجز بالكلية أقام مقامه من يعمل والأجرة عليه في الموضعين لأن
عليه توفية العمل وهذا من توفيته
(فصل) وان اختلفا في الجزء المشروط للعامل فالقول قول رب المال ذكره ابن حامد وقال مالك القول
قول العامل إذا ادعى ما يشبه لأنه أقوى سببا لتسلمه للحائط والعمل، وقال الشافعي يتحالفان وكذلك أن
اختلفا فيما تناولته المساقاة من الشجر
ولنا أن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل فيكون القول قوله لقوله عليه السلام (البينة على
المدعي واليمين على المدعى عليه) فإن كان مع أحدهما بينة حكم بها وإن كان مع كل واحد منهما بينة
ففي أيهما تقدم بينته؟ وجهان بناء على بينة الداخل والخارج، فإن كان الشجر لا ثنين فصدق أحدهما العامل
وكذبه لآخر أخذ نصيبه من مال المصدق فإن شهد على المنكر قبلت شهادته إذا كان عدلا لأنه لا يجر إلى نفسه
نفعا ولا يدفع ضررا ويحلف مع شاهده وان لم يكن عدلا كانت شهادته كعدمها، ولو كان العامل اثنين ورب المال
واحدا فشهدا أحدهما على صاحبه قبلت شهادته أيضا لما ذكرنا
575

(فصل) ويملك العامل حصته من الثمرة بظهورها فلو أتلفت كلها الا واحدة كانت بينهما وهذا أحد
قولي الشافعي والثاني يملكه بالمقاسمة كالقراض
ولنا أن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه كسائر الشروط الصحيحة، ومقتضاه كون الثمرة بينهما على كل
حال لأنه لو لم يملكها قبل القسمة لما وجبت القسمة ولا ملكها كالأصول، وأما القراض فإنه يملك الربح فيه بالظهور
كمسئلتنا ثم الفرق بينهما أن الربح وقاية لرأس المال فلم يملك حتى يسلم رأس المال لربه وهذا ليس بوقاية
لشئ ولذلك لو تلفت الأصول كلها كانت الثمرة بينهما. فإذا ثبت هذا فإنه يلزم كل واحد منهما زكاة نصيبه
إذا بلغت حصته نصابا نص عليه أحمد في المزارعة وان لم تبلغ النصاب الا بجمعهما لم تجب لأن الخلطة لا تؤثر
في غير المواشي في الصحيح وعنه أنها تؤثر فتؤثر ههنا فيبدأ باخراج الزكاة ثم يقسمان ما بقي، وان كانت
حصة أحدهما تبلغ نصابا دون الآخر فعلى من بلغت حصته نصابا الزكاة دون الآخر يخرجها بعد المقاسمة
الا أن يكون لمن لم تبلغ حصته نصابا ما يتم به النصاب من مواضع أخر فتجب عليهما جميعا الزكاة وكذلك
إن كان لأحدهما ثمر من جنس حصته يبلغان بمجموعهما نصابا فعليه الزكاة في حصته، وإن كان أحد الشريكين
ممن لا زكاة عليه كالمكاتب والذمي فعلى الآخر زكاة حصته ان بلغت نصابا وبهذا كله قال مالك والشافعي،
وقال الليث إن كان شريكه نصرانيا أعلمه أن الزكاة مؤداة في الحائط ثم يقاسمه بغد الزكاة ما بقي
ولنا أن النصراني لا زكاة عليه فلا يخرج من حصته شئ كما لو انفرد بها، وقد روى أبو داود
576

في السنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص
النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ثم يخير يهود خيبر أيأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم
بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق. قال جابر خرصها ابن رواحة أربعين الف
وسق وزعم أن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا التمر وعليهم عشرون الف وسق
(فصل) وان ساقاه على أرض خراجية فالخراج على رب المال لأنه يجب على الرقبة بدليل أنه
يجب سواء أثمرت الشجرة أو لم تثمر ولان الخراج يجب أجرة للأرض فكان على رب الأرض كما لو
استأجر أرضا وزارع غيره فيها وبهذا قال الشافعي، وقد نقل عن أحمد في الذي يتقبل الأرض البيضاء
ليعمل عليها وهي من أرض السواد يتقبلها من السلطان فعلى من يقبلها أن يؤدي وظيفة عمر رضي الله
عنه ويؤدي العشر بعد وظيفة عمر، وهذا معناه والله أعلم: إذا دفع السلطان أرض الخراج إلى رجل يعملها
ويؤدي خراجها فإنه يبدأ فيؤدي خراجها ثم يزكي ما بقي كما ذكره الخرقي في باب الزكاة ولا تنافي بين ذلك
وبين ما ذكرنا ههنا إن شاء الله تعالى
* (مسألة) * قال (ولا يجوز ان يجعل له فضل دراهم)
يعني إذا شرط جزءا معلوما من الثمرة ودراهم معلومة كعشرة ونحوها لم يجز بغير خلاف لأنه
577

ربما لم يحدث من النماء ما يساوي تلك لدراهم فيتضرر رب المال ولذلك منعنا من اشتراط أقفزة
معلومة ولو شرط له دراهم منفردة عن الجزء لم يجز لذلك ولو جعل له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه
فيها أو ثمر شجر غير الشجر الذي ساقاه عليه أو شرط عليه عملا في غير الشجر الذي ساقاه عليه
أو عملا في غير السنة فسد العقد سواء جعل ذلك كل حقه أو بعضه أو جميع العمل أو بعضه لأنه يخالف
موضوع المساقاة إذ موضوعها ان يعمل في شجر معين بجزء مشاع من ثمرته في ذلك الوقت الذي
يستحق عليه فيه العمل
(فصل) وإذا ساقى رجلا أو زارعه فعامل العامل غيره على الأرض والشجر لم يجز ذلك،
وبهذا قال أبو يوسف وأبو ثور وأجازه مالك إذا جاء برجل أمين. ولنا انه عامل في المال بجزء من
نمائه فلم يجر أن يعامل غيره فيه المضارب ولأنه إنما أذن له في العمل فيه فلم يجز أن يأذن لغيره كالوكيل
فأما ان استأجر أرضا فله أن يزارع غيره فيها لأنها صارت منافعها مستحقة له فملك المزارعة فيها
كالمالك والأجرة على المستأجر دون المزارع كما ذكرنا في الخراج، وكذلك يجوز لمن في يده أرض خراجية
ان يزارع فيها لأنه بمنزلة المستأجر لها، وللموقوف عليه أن يزارع في الوقف ويساقي على شجره لأنه
إما مالك لرقبة ذلك أو بمنزلة المالك ولا نعلم في هذا خلافا عند من أجاز المساقاة والمزارعة والله أعلم
(فصل) وإذا ساقاه على ودي النخل أو صغار الشجر إلى مدة يحمل فيها غالبا ويكون له فيها
578

جزء من الثمرة معلوم صح لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر ونصيبه يقل وهذا لا يمنع صحتها كما
لو جعل له سهما من الف سهم، وفيه الأقسام التي ذكرنا في كبار النخل والشجر وهي اننا ان قلنا المساقاة
عقد جائز لم نحتج إلى ذكر مدة، وان قلنا هو لازم ففيه ثلاثة أقسام (أحدها) أن يجعل المدة زمنا يحمل
فيه غالبا فيصح فإن حمل فيها فله ما شرط له وان لم يحمل فها فلا شئ له (الثاني) أن يجعلها إلى زمن
لا يحمل فيه غالبا فلا يصح وان عمل فيها فهل يستحق الاجر؟ على وجهين، وان حمل في المدة لم يستحق
ما جعل له لأن العقد وقع فاسدا فلم يستحق ما شرط فيه (والثالث) أن يجعل المدة زمنا يحتمل أن
يحمل فيها ويحتمل أن لا يحمل فهل يصح؟ على وجهين فإن قلنا لا يصح استحق الاجر وان قلنا يصح
فحمل في المدة استحق ما شرط له وان لم يحمل فيها لم يستحق شيئا، وان شرط نصف الثمرة ونصف
الأصل لم يصح لأن موضوع المساقاة ان يشتركا في النماء والفائدة فإذا شرط اشتراكهما في الأصل
لم يجز كما لو شرط في المضاربة اشتراكهما في رأس المال، فعلى هذا يكون له أجر مثله وكذلك لو جعل
له جزءا من ثمرتها مدة بقائها لم يجز وان جعل له ثمرة عام بعد مدة المساقاة لم يجز لأنه
يخالف موضوع المساقاة
(فصل) وان ساقاه على شجر يغرسه ويعمل فيه حتى يحمل ويكون له جزء من الثمرة معلوم صح
أيضا والحكم فيه كما لو ساقاه على صغار الشجر على ما بيناه
579

وقد قال أحمد في رواية المروذي في رجل قال لرجل اغرس في أرضي هذه شجرا أو نخلا فما كان
من غلة فلك بعمل كذا وكذا سهما من كذا وكذا، فاجازه واحتج بحديث خيبر في الزرع والنخيل لكن
بشرط أن يكون الغرس من رب الأرض كما يشترط في المزارعة كون البذر من رب الأرض فإن كان
من العامل خرج على الروايتين فيما إذا اشترط البذر في المزارعة من العامل، وقال القاضي المعاملة باطلة
وصاحب الأرض بالخيار بين تكليفه قلعها ويضمن له أرش نقصها وبين اقرارها في أرضه ويدفع إليه
قيمتها كالمشتري إذا غرس في الأرض التي اشتراها ثم جاء الشفيع فأخذها، وإن اختار العامل قلع
شجره فله ذلك سواء بذل له القيمة أو لم يبذلها لأنه ملكه فلم يمنع تحويله، وإن اتفقا على ابقاء الغراس
ودفع أجر الأرض جاز، ولو دفع أرضه إلى رجل يغرسها على أن الشجر بينهما لم يجز على ما سبق
ويحتمل الجواز بناء على المزارعة فإن المزارع يبذر في الأرض فيكون الزرع بينه وبين صاحب الأرض
580

وهذا نظيره، وإن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما فالمعاملة فاسدة وجها واحدا، وبهذا قال مالك
والشافعي وأبو يوسف ومحمد ولا نعلم فيه مخالفا لأنه شرط اشتراكهما في الأصل ففسد كما لو دفع إليه
الشجر والنخيل ليكون الأصل والثمرة بينهما أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما
(فصل) وإن ساقاه على شجر فبان مستحقا بعد العمل أخذه ربه وثمرته لأنه عين ماله ولاحق
للعامل في ثمرته لأنه عمل فيها بغير اذن مالكها ولا أجر له عليه لذلك وله أجر مثله على الغاصب لأنه
غره واستعمله فلزمه الاجر كما لو غصب نقرة فاستأجر من ضربها دراهم، وان شمس الثمرة فلم تنقص
أخذها ربها وإن نقصت فلربها أرش نقصها ويرجع به على من شاء منهما ويستقر ذلك على الغاصب،
وإن استحقت بعد أن اقتسماها وأكلاها فلربها تضمين من شاء منهما فإن ضمن الغاصب فله تضمينه
الكل وله تضمينه قدر نصيبه ويضمن العامل قدر نصيبه لأن الغاصب سبب يد العامل فلزمه ضمان
الجميع فإن ضمنه الكل رجع على العامل بقدر نصيبه لأن التلف وجد في يده فاستقر الضمان عليه ويرجع
العامل على الغاصب بأجر مثله، ويحتمل أن لا يرجع الغاصب على العامل بشئ لأنه غره فلم يرجع عليه
كما لو أطعم انسانا شيئا وقال له كله فإنه طعامي ثم تبين أنه مغصوب، وإن ضمن العامل احتمل انه
لا يضمنه إلا نصيبه خاصة لأنه ما قبض الثمرة كلها وإنما كان مراعيا لها وحافظا فلا يلزمه ضمانها ما لم
يقبضها ويحتمل أن يضمنه الكل لأن يده ثبتت على الكل مشاهدة بغير حق فإن ضمنه الكل رجع
العامل على الغاصب ببدل نصيبه منها وأجر مثله، وإن ضمن كل واحد منهما ما صار إليه رجع العامل على
الغاصب بأجر مثله لاغير، وإن تلفت الثمرة في شجرها أو بعد الجذاذ قبل القسمة فمن جعل العامل قابضا
لها بثبوت يده على حائطها قال يلزمه ضمانها ومن لا يكون قابضا إلا بأخذ نصيبه منها، قال لا يلزمه
الضمان ويكون على الغاصب
* (باب المزارعة) *
(مسألة) قال (وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض)
معنى المزارعة دفع الأرض إلى من يزرعها أو يعمل عليها والزرع بينهما وهي جائزة في قول كثير
من أهل العلم. قال البخاري قال أبو جعفر ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع، وزارع
581

علي وسعد وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل على وابن سيرين،
وممن رأى ذلك سعيد بن المسيب وطاوس وعبد الرحمن بن الأسود وموسى بن طلحة والزهري
وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابنه وأبو يوسف ومحمد، وروي ذلك عن معاذ والحسن وعبد الرحمن بن
يزيد، قال البخاري وعامل عمر الناس على أنه ان جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا
بالبذر فلهم كذا وكرهها عكرمة ومجاهد والنخعي وأبو حنيفة
وروي عن ابن عباس الأمران جميعا وأجازها الشافعي في الأرض بين النخيل إذا كان بياض
الأرض أقل فإن كان أكثر فعلى وجهين ومنعها في الأرض البيضاء لما روى رافع بن خديج قال: كنا نخاير
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا، وطواعية
582

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع قال قلنا ما ذاك؟ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض فليزرعها
ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى) وعن ابن عمر قال ما كنا نرى بالمزارعة بأسا حتى سمعنا
رافع بن خديج يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وقال جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة. وهذه
كلها أحاديث صحاح متفق عليها،
والمخابرة المزارعة واشتقاقها من الخبار وهي الأرض اللينة والخبير الاكار، وقيل المخابرة معاملة أهل
خيبر، وقد جاء حديث جابر مفسرا فروى البخاري عن جابر قال كانوا يزرعونها بالثلث والربع
والنصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن لم يفعل فليمسك أرضه)
وروي تفسيرها عن زيد بن ثابت فروى أبو داود باسناده عن زيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
المخابرة، قلت وما المخابرة؟ قال (أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع)
ولنا ما روى ابن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو
ثمر متفق عليه. وقد روى ذلك ابن عباس وجابر بن عبد الله
وقال أبو جعفر عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر ثم عمر وعثمان وعلي ثم
أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع، وهذا أمر صحيح مشهور عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات
ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبق بالمدينة أهل بيت إلا عمل به، وعمل به
583

أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده فروى البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر
ما يخرج منها من زرع أو ثمر فكان يعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسقا تمرا وعشرون وسقا شعيرا
فقسم عمر خيبر فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الأرض والماء أو يمضي لهن الأوسق فمنهن
من اختار الأرض ومنهن من اختار الأوسق فكانت عائشة اختارت الأرض. ومثل هذا لا يجوز أن
ينسخ لأن النسخ إنما يكون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما شئ عمل به إلى أن مات ثم عمل به
خلفاؤه بعده وأجمعت الصحابة رضوان الله عليهم عليه وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد فكيف يجوز
نسخه ومتى كان نسخه؟ فإن كان نسخ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف عمل به بعد نسخه وكيف خفي نسخه
فلم يبلغ خلفاءه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها؟ فأين كان راوي النسخ حتى لم يذكره ولم يخبرهم به؟
فأما ما احتجوا به فالجواب عن حديث رافع من أربعة أوجه (أحدها) انه قد فسر المنهي عنه في
حديثه بما لا يختلف في فساده فإنه قال كنا من أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه
ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك، فأما بالذهب والورق فلم ينهنا، متفق عليه
وفي لفظ فأما شئ معلوم مضمون فلا بأس وهذا خارج عن محل الخلاف فلا دليل فيه عليه ولا تعارض
بين الحديثين (الثاني) ان خبره ورد في الكراء بثلث أو ربع والنزاع في المزارعة ولم يدل حديثه عليها
584

أصلا وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضا لأن القصة واحدة رويت بألفاظ مختلفة
فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر
(الثالث) ان أحاديث رافع مضطربة جدا مختلفة اختلافا كثيرا يوجب ترك العمل بها لو
انفردت فكيف يقدم على مثل حديثنا؟
قال الإمام أحمد حديث رافع ألوان وقال أيضا حديث رافع ضروب، وقال ابن المنذر قد
جاءت الاخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لذلك منهما الذي ذكرنا ومنها خمس أخرى،
وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة زيد بن ثابت وان عباس، قال زيد بن ثابت أنا أعلم بذلك منه،
وإنما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين قد اقتتلا فقال (إن كان هذا شأنكم فلا نكروا المزارع) رواه أبو داود
والأثرم، وروى البخاري عن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، قال إن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني ان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها
ولكن قال، ان يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجا معلوما)
ثم إن أحاديث رافع منها ما يخالف الاجماع وهو النهي عن كراء المزارع على الاطلاق، ومنها
ما لا يختلف في فساده كما قد بينا وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعه وتارة عن ظهير
585

ابن رافع وإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب اخراجها واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر
الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها وقد عمل بها الخلفاء الراشدون وغيرهم فلا معني لتركها
بمثل هذه الأحاديث الواهية (الجواب الرابع) انه لو قدر صحة خبر رافع وامتنع تأويله وتعذر
الجمع لوجب حمله على أنه منسوخ لأنه لابد من نسخ أحد الخبرين، ويستحيل القول بنسخ حديث
خيبر لكونه معمولا به من جهة النبي صلى الله عليه وسلم إلى حين موته ثم من بعده إلى عصر التابعين، فمتى كان
نسخه؟ وأما حديث جابر في النهي عن المخابرة فيجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر رافع
فإنه قد روى حديث خيبر أيضا فيجب الجمع بين حديثيه مهما أمكن ثم لو حمل على المزارعة لكان
منسوخا بقصة خيبر لاستحالة نسخها كما ذكرنا، وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت. فإن قال
أصحاب الشافعي تحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل وأحاديث النهي عن الأرض البيضاء
جمعا بينهما قلنا هذا بعيد لوجوه خمسة (أحدها) انه يبعد أن تكون بلدة كبيرة يأتي منها أربعون الف
وسق ليس فيها أرض بيضاء ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض فينقل الرواة كلهم
القصة على العموم من غير تفصيل مع الحاجة إليه (الثاني) ان ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه
وما ذكرناه دل عليه بعض الروايات وفسره الراوي له بما ذكرناه، وليس معهم سوى الجمع بين
الأحاديث والجمع بينهما بحمل بعضها على ما فسره رواية به أولى من التحكم بما لا دليل عليه (الثالث)
586

ان قولهم يفضي إلى تقييد كل واحد من الحديثين، وما ذكرناه حمل لأحدهما وحده (الرابع) ان فيما
ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين وأهليهم وفقهاء الصحابة وهم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسنته ومعانيها وهو أولى من قول من خالفهم (الخامس) ان ما ذهبنا إليه مجمع عليه، فإن أبا جعفر
روى ذلك عن كل أهل بيت بالمدينة، وعن الخلفاء لا ربعة وأهليهم وفقهاء الصحابة واستمرار ذلك وهذا مما لا يجوز خفاؤه ولم ينكره من الصحابة منكر فكان اجماعا، وما روي في مخالفته فقد بينا
فساده فيكون هذا إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم لا يسوغ لاحد خلافه والقياس يقتضيه، فإن
الأرض عين تنمي بالعمل فيها فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها كالأثمان في المضاربة والنخل في المساقاة
أو نقول أرض فجازت المزارعة عليها كالأرض بين النخيل ولان الحاجة داعية إلى المزارعة لأن
أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها والعمل عليها والأكرة يحتاجون إلى الزرع ولا أرض لهم
فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة كما قلنا في المضاربة والمساقاة بل الحاجة ههنا آكد لأن الحاجة
إلى الزرع آكد منها إلى غيره لكونه مقتاتا ولكون الأرض لا ينتفع بها الا بالعمل عليها بخلاف المال
ويدل على ذلك قول راوي حديثهم نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا والشارع لا ينهى
عن المنافع وإنما ينهى عن المضار والمفاسد فيدل ذلك على غلط الرواي في المنهي عنه وحصول المنفعة
587

فيما ظنه منها عنه. إذا ثبت هذا فإن حكم المزارعة حكم المساقاة في أنها إنما تجوز بجزء للعامل من الزرع
وفي جوازها ولزومها وما يلزم العامل ورب الأرض وغير ذلك من أحكامها
(فصل) وإذا كان في الأرض شجر وبينه بياض أرض فساقاه على الشجر وزارعه الأرض التي
بين الشجر جاز سواء قل بياض الأرض أو كثر نص عليه أحمد، وقال قد دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر
على هذا وبهذا قال كل من أجاز المزارعة في الأرض المفردة فإذا قال ساقيتك على الشجر وزار عتك على
الأرض بالنصف جاز، وان قال عاملتك على الأرض والشجر على النصف جاز لأن المعاملة تشملهما، وان
قال زارعتك الأرض بالنصف وساقيتك على الشجر بالربع جاز كما يجوز أن يساقيه على أنواع من
الشجر ويجعل له في كل نوع قدرا، وان قال ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف جاز لأن المزارعة
مساقاة من حيث إنها تحتاج إلى السقي فيها لحاجة الشجر إليه، وقال أصحاب الشافعي لا يصح لأن
المساقاة لا تتناول الأرض وتصح في النخل وحده وقيل ينبني على تفريق الصفقة
ولنا أنه عبر عن عقد بلفظ عقد يشاركه في المعني المشهور به في الاشتقاق فصح كما لو عبر بلفظ
البيع في السلم لأن المقصود المعنى وقد علم بقرائن أحواله، وهكذا ان قال في الأرض البيضاء ساقيتك على
هذه الأرض بنصف ما يزرع فيها، فأما إن قال ساقيتك على الشجر بالنصف ولم يذكر الأرض لم تدخل
في العقد وليس للعامل أن يزرع وبهذا قال الشافعي، وقال مالك وأبو يوسف للداخل زرع البياض فإن
588

تشارطا أن ذلك بينهما فهو جائز، وإن اشترط صاحب الأرض أنه يزرع البياض لم يصلح لأن الداخل
يسقي لرب الأرض فتلك زيادة ازدادها عليه
ولنا أن هذا لم يتناوله العقد فلم يدخل فيه كما لو كانت أرضا منفردة
(فصل) وإن زارعه أرضا فيها شجرات يسيرة لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها وبهذا قال الشافعي
وابن المنذر وأجازه مالك إذا كان الشجر بقدر الثلث أو أقل لأنه يسير فيدخل تبعا ولنا أنه اشترط
الثمرة كلها فلم يجز كما لو كان الشجر أكثر من الثلث
(فصل) وإن أجره بياض أرض وساقاه على الشجر الذي فيها جاز لأنهما عقدان يجوز افراد
كل واحد منهما فجاز الجمع بينهما كالبيع والإجارة، ويحتمل أن لا يجوز بناء على الوجه الذي لا يجوز
الجمع بينهما في الأصل والأول أولى إلا أن يفعلا ذلك حيلة على شراء الثمرة قبل وجودها أو قبل بدو
صلاحها فلا يجوز سواء جمعا بين العقدين أو عقدا أحدهما بعد الآخر لما ذكرنا في ابطال الحيل
(مسألة) قال (إذا كان البذر من رب الأرض)
ظاهر المذهب أن المزارعة إنما تصح إذا كان البذر من رب الأرض والعمل من العامل نص عليه أحمد
في رواية جماعة واختاره عامة الأصحاب وهو مذهب ابن سيرين والشافعي وإسحاق لأنه عقد يشترك
العامل ورب المال في نمائه فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة
589

وقد روي عن أحمد ما يدل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل فإنه قال في رواية مهنا في
الرجل يكون له الأرض فيها نخل وشجر يدفعها إلى قوم يزرعون الأرض ويقومون على الشجر على أن
له النصف ولهم النصف فلا بأس بذلك وقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا، فأجاز دفع الأرض لزرعها
من غير ذكر البذر. فعلى هذا أيهما أخرج البذر جاز، وروي نحو ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه وهو قول أبي يوسف وطائفة من أهل الحديث وهو الصحيح إن شاء الله تعالى
وروي عن سعد وابن مسعود وابن عمر أن البذر من العامل ولعلهم أرادوا أنه يجوز أن يكون
من العامل فيكون كقول عمر ولا يكون قولا ثالثا. والدليل على صحة ما ذكرنا قول ابن عمر دفع رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولرسول صلى الله
عليه وسلم شطر ثمرتها
وفي لفظ على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها. أخرجهما البخاري فجعل عملها
من أموالهم وزرعها عليهم ولم يذكر شيئا آخر، وظاهره أن البذر من أهل خيبر، والأصل المعول عليه في
المزارعة قصة خيبر ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن البذر على المسلمين ولو كان شرطا لما أخل بذكره ولو فعله
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لنقل ولم يجز الاخلال بنقله، ولان عمر رضي الله عنه فعل الامرين جميعا فإن البخاري
590

روى عنه أنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا
فظاهر هذا أن ذلك اشتهر فلم ينكر فكان اجماعا، فما قيل هذا بمنزلة بيعتين في بيعة فكيف يفعله عمر
رضي الله عنه؟ قلنا يحتمل أنه قال ذلك ليخيرهم في أي العقدين شاءوا فمن اختار عقدا عقده معه معينا
كما لو قال في البيع ان شئت بعتكه بعشرة صحاح، وإن شئت بأحد عشر مكسورة فاختار أحدهما
فعقد البيع معه عليه معينا، ويجوز أن يكون مجيئه بالبذر أو شروعه في العمل بغير بذر مع اقرار عموله
على ذلك وعلمه به جرى مجرى العقد ولهذا روي عن أحمد رحمه الله صحة الإجارة فيما إذا قال إن خطته
روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم، وما ذكره أصحابنا من القياس يخالف ظاهر النص
والاجماع الذين ذكرناهما فكيف يعمل به؟ ثم هو منتقض بما إذا اشترك مالان وبدن صاحب أحدهما
(فصل) فإن كان البذر منهما نصفين وشرطا أن الزرع بينهما نصفان فهو بينهما، سواء قلنا بصحة المزارعة
أو فسادها لأنها ان كانت صحيحة فالزرع بينهما على ما شرطاه وان كانت فاسدة فلكل واحد منهما
بقدر بذره، لكن إن حكمنا بصحتها لم يرجع أحدهما على صاحبه بشئ، وإن قلنا من شرط صحتها إخراج
رب المال البذر فهي فاسدة فعلى العامل نصف أجر الأرض وله على رب الأرض نصف أجر عمله فيتقاصان
بقدر الأقل منهما ويرجع أحدهما على صاحبه بالفضل. وان شرطا التفاضل في الزرع وقلنا بصحتها فالزرع
بينهما على ما شرطاه ولا تراجع بينهما، وان قلنا بفسادها فالزرع بينهما على قدر بذرهما ويتراجعان كما ذكرنا
وكذلك أن تفاضلا في البذر وشرطا التساوي في الزرع أو شرطا لأحدهما أكثر من قدر بذره أو أقل
591

(فصل) فإن قال صاحب الأرض أجرتك نصف أرضي هذه بنصف بذرك ونصف منفعتك
ومنفعة بقرك وآلتك وأخرج المزارع البذر كله لم يصح لأن المنفعة غير معلومة، وكذلك لو جعلها أجرة
لأرض أخرى أو دار لم يجز ويكون الزرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض، وان أمكن علم
المنفعة وضبطها بما لا تختلف معه ومعرفة البذر جاز وكان الزرع بينهما، ويحتمل أن لا يصح لأن البذر
عوض في الإجارة فيشترط قبضه كما لو كان مبيعا وما حصل فيه قبض، وان قال أجرتك نصف أرضي
بنصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرجا البذر فهي كالتي قبلها الا أن الزرع يكون بينهما على كل حال
(مسألة) قال (فإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز)
وكانت للمزارع أجرة مثله وكذلك يبطل إن أخرج المزارع البذر ويصير الزرع للمزارع وعليه
أجرة الأرض، أما إذا اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره فلا يصح لأنه كأنه اشترط لنفسه
قفزانا معلومة وذلك شرط فاسد تفسد به المزارعة لأن الأرض ربما لا يخرج منها إلا تلك القفزان
فيختص رب المال بها وربما لا تخرجها الأرض، وأما إذا أخرج المزارع البذر فهو مبني على الروايتين
في صحة هذا الشرط
وقد ذكر الخرقي أنه فاسد فإذا أخرج المزارع البذر فسدت كما لو أخرج العامل في المضاربة رأس
592

المال من عنده ومتى فسدت المزارعة فالزرع لصاحب البذر لأنه عين ماله ينقلب من حال إلى حال
وينمو فصار كصغار الشجر إذا غرس فطال والبيضة إذا حصنت فصارت فرخا، والبذر ههنا من المزارع
فكان الزرع له وعليه أجر الأرض لأن ربها إنما بذلها له بعوض لم يسلم له فرجع إلى عوض منافعها
النابتة بزرعها على صاحب الزرع، ولو فسدت البذر من رب الأرض كان الزرع له وعليه أجر مثل
العامل لذلك وإن كان البذر منهما فالزرع بينهما ويتراجعان بما يفضل لأحدهما على صاحبه من أجر مثل
الأرض التي فيها نصيب العامل وأجر العامل بقدر عمله في نصيب صاحب الأرض
(فصل) وإن زارعه على أن لرب الأرض زرعا بعينه وللعامل زرعا بعينه مثل أن يشترط
لأحدهما زرع ناحية وللآخر زرع أخرى أو يشترط أحدهما ما على السواقي والجد أول إما منفردا
أو مع نصيبه فهو فاسد باجماع العلماء لأن الخبر صحيح في النهي عنه غير معارض ولا منسوخ ولأنه
يودى إلى تلف ما عين لأحدهما دون الآخر فينفرد أحدهما بالغلة دون صاحبه
(فصل) والشروط الفاسدة في المساقاة والمزارعة تنقسم قسمين (أحدهما) ما يعود بجهالة نصيب
كل واحد منهما مثل ما ذكرنا ههنا أو أن يشترط أحدهما نصيبا مجهولا أو دراهم معلومة أو أقفزة معينة
أو أنه إن سقى سيحا فله كذا وإن سقى بكلفة فله كذا، فهذا يفسدها لأنه يعود إلى جهالة المعقود عليه
فأشبه البيع بثمن مجهول والمضاربة مع جهالة نصيب أحدهما، وإن شرط البذر من العامل فالمنصوص
593

عن أحمد فساد العقد لأن الشرط إذا فسد لزم كون الزرع لرب البذر لكونه نماء ماله فلا يحصل لرب
الأرض شئ منه ويستحق الاجر وهذا معنى الفساد، فأما إن شرط مالا يفضي إلى جهالة الربح
كعمل رب المال معه أو عمل العامل في شئ آخر فهل تفسد المساقاة والمزارعة؟ يخرج على روايتين بناء
على الشرط الفاسد في البيع والمضاربة
(فصل) وان دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ليزرعه في أرضه ويكون ما يخرج بينهما فهو
فاسد أيضا لأن البذر ليس من رب الأرض ولا من العامل ويكون الزرع لصاحب البذر وعليه أجر
الأرض والعمل، وان قال صاحب الأرض لرجل أنا ازرع الأرض ببذري وعواملي ويكون سقيها من
مائك والزرع بيننا ففيها روايتان (إحداهما) لا يصح اختارها القاضي لأن موضع المزارعة على أن
يكون من أحدهما الأرض، ومن الآخر العمل وليس من صاحب الماء أرض ولا عمل ولا بذر ولأن
الماء لا يباع ويستأجر فيكف تصح المزارعة به؟ (والثانية) يصح اختارها أبو بكر ونقلها عن أحمد يعقوب بن
بختان وحرب لأن الماء أحد ما يحتاج إليه في الزرع فجاز أن يكون من أحدهما كالأرض والعمل والأول أصح
لأن هذا ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص لما ذكرناه
(فصل) وان اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على
أن ما رزق الله بينهم فعملوا فهذا عقد فاسد نص عليه في رواية أبي داود ومهنا وأحمد بن القاسم، وذكر
حديث مجاهد في أربعة اشتركوا في زرع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم علي الفدان وقال
594

الآخر قبلي الأرض وقال الآخر قبلي البذر وقال الآخر قبلي العمل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الزرع
لصاحب البذر والغى صاحب الأرض وجعل لصاحب العمل كل يوم درهما ولصاحب الفدان شيئا
معلوما فقال أحمد لا يصح والعمل على غيره، وذكر هذا الحديث سعيد بن منصور عن الوليد بن مسلم
عن الأوزاعي، وعن واصل بن أبي جميل عن مجاهد وقال في آخره فحدثت به مكحولا فقال ما يسرني
بهذا الحديث وصيفا. وحكم هذه المسألة حكم المسألة التي ذكرناها في صدر الفصل وهما فاسدان لأن
موضوع المزارعة على أن البذر من رب الأرض أو من العامل وليس هو ههنا من واحد منهما، وليست
شركة لأن الشركة تكون بالأثمان، وان كانت بالعروض اعتبر كونها معلومة ولم يوجد شئ من
ذلك ههنا، وليست إجارة لأن الإجارة تفتقر إلى مدة معلومة وعوض معلوم وبهذا قال مالك والشافعي
وأصحاب الرأي. فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله ولصاحبيه عليه أجر مثلهما لأنهما
دخلا على أن يسلم لهما المسمى فإذا لم يسلم عاد إلى بدله وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب
الرأي يتصدق بالفضل، والصحيح أن النماء لصاحب البذر ولا تلزمه الصدقة به كسائر ماله. ولو كانت
الأرض لثلاثة فاشتركوا على أن يزرعوها ببذرهم ودوابهم على أن ما أخرج الله
بينهم على قدر مالهم فهو جائز وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا
لأن أحدهم لا يفضل صاحبيه بشئ
(فصل) وإذا زارع رجلا وآجره أرضه فزرعها وسقط من الحب شئ فنبت في تلك الأرض
595

عاما آخر فهو لصاحب الأرض نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومحمد بن الحارث وقال الشافعي هو
لصاحب الحب لأنه عين ماله فهو كما لو بذره قصدا
ولنا أن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف وزال ملكه عنه لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه
ولهذا أبيح التقاطه ورعيه، ولا نعلم خلافا في إباحة التقاط ما خلفه الحصادون من سنبل وحب وغيرهما فجرى ذلك
مجرى نبذه على سبيل الترك له وصار كالشئ التافه يسقط منه كالثمرة واللقمة ونحوهما والنوى لو التقطه انسان
فغرسه كان له دون من سقط منه كذا ههنا
(فصل) في إجارة الأرض تجوز إجارتها بالورق والذهب وسائر العروض سوى المطعوم في قول
أكثر أهل العلم قال أحمد فلما اختلفوا في الذهب والورق، وقال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم
على أن اكتراء الأرض وقتا معلوما ما جائز بالذهب والفضة روينا هذا القول عن سعيد ورافع بن
خديج وابن عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة والقاسم وسالم وعبد الله بن الحارث
ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، وروي عن طاوس والحسن كراهة
ذلك لما روى رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع متفق عليه
ولنا أن رافعا قال اما بالذهب والورق فلم ينهنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه ولمسلم (أما بشئ معلوم
مضمون فلا بأس) وعن حنظلة بن قيس أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض قال فقلت بالذهب والفضة؟ قال إنما نهى عنها ببعض ما يخرج منها اما بالذهب
والفضة فلا بأس متفق عليه، وعن سعد قال كنا نكري الأرض بما على السواقي وما سعد بالماء منها فنهانا رسول
596

الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة رواه أبو داود، ولأنها عين يمكن استيفاء المنفعة
المباحة منها مع بقائها فجازت إجارتها بالأثمان، ونحوها كالدور والحكم في العروض كالحكم في الأثمان، وأما
حديثهم فقد فسره الراوي بما ذكرنا عنه فلا يجوز الاحتجاج به على غيره وحديثنا مفسر لحديثهم فإن
راويهما واحد وقد رواه عاما وخاصا فيحمل العام على الخاص مع موافقة الخاص لسائر الأحاديث
والقياس وقول أكثر أهل العلم
فاما اجارتها بطعام فتنقسم ثلاثة أقسام (أحدها) أن يؤجرها بمطعوم غير الخارج منها معلوم
فيجوز نص عليه أحمد في رواية الحسن بن ثواب وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن جبير وعكرمة
والنخعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، ومنع منه مالك حتى منع اجارتها باللبن والعسل،
وقد روي عن أحمد أنه قال ربما تهيبته قال القاضي هذا من أحمد على سبيل الورع ومذهبه الجواز.
والحجة لمالك ما روى رافع بن خديج عن بعض عمومته قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض
فلا يكريها بطعام مسمى) رواه أبو داود وابن ماجة، وروى ظهير بن رافع قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال (ما تصنعون بمحاقلكم؟) قلت نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال، لا تفعلوا
ازرعوها أو امسكوها) متفق عليه، وروى أبو سعيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمحاقلة
استكراء الأرض بالحنطة
ولنا قول رافع فاما بشئ معلوم مضمون فلا بأس به، ولأنه عوض معلوم مضمون لا يتخذ وسيلة
إلى الربا فجازت اجارتها به كالأثمان، وحديث ظهير بن رافع قد سبق الكلام عليه في المزارعة على
أنه يحتمل النهي عن اجارتها بذلك إذا كان خارجا منها ويحتمل النهي عنه إذا آجرها بالربع والأوسق
وحديث أبي سعيد يحتمل المنع من كرائها بالحنطة إذا اكتراها لزرع الحنطة
597

(القسم الثاني) اجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها كاجارتها بقفزان حنطة لزرعها فقال
أبو الخطاب فيها روايتان (إحداهما) المنع وهي التي ذكرها القاضي مذهبا وهي قول مالك لما تقدم من
الأحاديث ولأنها ذريعة إلى المزارعة عليها بشئ معلوم من الخارج منها لأنه يجعل مكان قول قوله زارعتك آجرتك
فتصير مزارعة بلفظ الإجارة والذرائع معتبرة (والثانية) جواز ذلك اختارها أبو الخطاب وهو قول
أبي حنيفة والشافعي لما ذكرنا في القسم الأول ولان ما جازت اجارته بغير المطعوم جازت به كالدور
(القسم الثالث) اجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها كنصف وثلث وربع فالمنصوص عن أحمد
جوازه وهو قول أكثر الأصحاب واختار أبو الخطاب أنها لا تصح وهو قول أبي حنيفة والشافعي
وهو الصحيح إن شاء الله لما تقدم من الأحاديث في النهي من غير معارض لها، ولأنها إجارة بعوض
مجهول فلم تصح كاجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى، ولأنها إجارة لعين بعض نمائها فلم تجز كسائر
الأعيان، ولأنه لا نص في جوازها ولا يمكن قياسها على المنصوص فإن النصوص إنما وردت بالنهي عن
اجارتها بذلك ولا نعلم في تجويزها نصا، والمنصوص على جوازه اجارتها بذهب أو فضة أو شئ مضمون
معلوم وليست هذه كذلك، فأما نص احمد في الجواز فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة فيكون حكمها
حكم المزارعة في جوازها ولزومها وفيما يلزم العامل ورب الأرض وسائر أحكامها والله أعلم
(تم بحمد الله وعونه الجزء الخامس..)
598