الكتاب: القواعد الفقهية
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصطلحات ومفردات فقهية
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤١١
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (ع)
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (ع)
ردمك:
ملاحظات:

سلسلة القواعد الفقهية
يبحث فيها عن ثلثين قاعدة فقهية
القواعد الفقهية
المجلد الثاني
آية الله ناصر مكارم الشيرازي
1

المجلد الثاني
يبحث فيه عن 21
قاعدة فقهية
* * *
وفى المجلد الأول
تسع قواعد أخرى
الكتاب: القواعد الفقهية
المجلد: الثاني
المؤلف: سماحة آية الله ناصر مكار م الشيرازي (دام ظله)
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (ع)
الطبعة: الثالثة (رمضان المبارك 1411 ه‍ - ق)
الكمية 2000
رقم الصفحات: 416 - وزيري
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (ع)
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه
وأشرف بريته محمد صلى الله عليه وآله وآله الطاهرين
المعصومين والسلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين
9

أمور هامة يجب التنبيه عليها
وقبل ان نتناول ما تبقى من القواعد الفقهية بالبحث ينبغي الإشارة إلى أمور:
1 - لابد من تدوين علم مستقل بشأن القواعد الفقهية
القواعد الفقهية هي من أهم الأمور التي يجب على الفقيه معرفتها، ومعرفة
مواردها، وشرائطها، وما يستثنى منها، وذلك لاستيفاء كثير من المسائل الفقهية
عليها، بحيث لا يمكن الجزم بالحكم الفقهي كثيرا بدون ذلك.
وكيف يتسنى للفقيه البحث عن كثير من مسائل الفقه في أبواب العبادات
والمعاملات مع عدم احاطته بموارد جريان قاعدة لا حرج، والصحة، وضمان اليد
ولا ضرر، وعدم ضمان الأمين، وقاعدة السبق والالزام وغيرها، والفرق بين مواردها
وموقفها من سائر الأدلة من الامارات والأصول
ولكن رغم هذه الأهمية لم يبحث عنها الا نادرا وتباعا مع أنها تحتاج إلى
أبحاث مستقلة ومستوفاة.
والسبب في ذلك انها تندرج في الحقيقة لا في مسائل أصول الفقه ولا في
مسائل الفقه نفسه، إذ ليس لها في مسائل هذين العلمين مجال الا بتبع بعض مسائلهما
أو ما يكون بحثا استطراديا غير جامع ولا كافل بجميع ما يراد منها.
وما يتراءى من بحث بعضها أخيرا في بعض الكتب الأصولية أو الفقهية مستوفى
10

مثل قاعدة لا ضرر أو قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وقواعد طفيفة أخرى
لا يوجب أداء حقها جميعا مع ما فيها أيضا من نقائص ظاهرة.
وكم من مسألة اشتبه حكمها على بعض الأكابر من جراء عدم تنقيح هذه القواعد
وسيمر عليك كثير منها في طيات هذا الكتاب.
إذا فالواجب علينا الاهتمام بشأنها وأداء حقها وتدوين علم مستقل لها وان
أهملها المتقدمون رضوان الله تعالى عليهم، وكم ترك الأول للاخر.
* * *
2 - تعريف القواعد الفقهية
القاعدة الفقهية، على ما يستفاد من استقراء كلمات الأصحاب قدس الله اسرارهم
هي ما اشتملت على حكم فقهي عام لا يختص بباب معين من الفقه، بل يشمل أبواب
الفقه كلها، أو كثيرا من مسائلها المبحوثة في " كتب متعددة فقهية "، أو مسائل كثيرة
من " كتاب واحد ".
فالأول كقاعدة حجية البينة، أو خبر الواحد في الموضوعات، فإنها تعم
جميع أبواب الفقه لعموم موضوعها فهي تجري في جميع أبواب العبادات والمعاملات.
فالحجية هنا ليست كالحجية في الأدلة الأربعة مما تقع في طريق الاستنباط بل
الحجية بنفسها حكم فقهي، لأنها تتعلق بموضوع كذلك، فإذا أخبرت البينة عن
طهارة شئ أو رؤية الهلال أو غير ذلك معناها جواز استعمالها في الصلاة أو وجوب
الصوم أو الافطار فهي مشتملة على حكم عام متعلق باثبات الموضوعات في جميع
كتب الفقه.
والثاني مثل قاعدة أصالة اللزوم في المعاملات أو قاعدة ضمان اليد، فإنها
تجري في أبواب المعاملات فقط.
11

والثالث كقاعدة لا تعاد، أو قاعدة الطهارة أو قاعدة البينة على المدعي
واليمين على من أنكر الجارية في أبواب الصلاة، أو الطهارة أو القضاء لكنها مع ذلك
لا تختص بباب خاص من هذه الكتب الثلاث.
فحينئذ تفترق القاعدة الفقهية عن المسائل الأصولية بان الثاني لا يشمل على
حكم شرعي فرعي تكليفي أو وضعي بل يقع في طريق استنباط الأحكام حينما تشتمل
القواعد الفقهية على أحكام كلية عامة اثباتا، أو نفيا (كما في لا حرج ولا ضرر على
المشهور).
كما انها تفترق عن المسائل الفقهية في اشتمالها على أحكام جزئية كطهارة ماء
البئر، ونجاسة الدم، وجواز عقد المعاطاة، وحرمة الخمر، وغيرها من أشباهها.
ولهذه الخصوصية لا يمكن اعطاء نتيجة القواعد الفقهية بأيدي المقلدين فإنها
تفيد الفقيه فقط حينما تكون المسائل الفقهية قابلة لذلك.
وبالجملة القواعد الفقهية تشتمل على أمرين:
1 - اثبات حكم شرعي فرعي تكليفي أو وضعي عام (أو نفيه).
2 - اطرادها في جميع أبواب الفقه أو أبواب متعددة من كتب مختلفة فقهية
أو كتاب واحد مثل القضاء أو الصلاة أو غيرهما.
ومن هنا يظهر الوجه فيما ذكرنا من كونها ممتازة عن المسائل الأصولية والفقهية
وانها موضوع علم مستقل.
* * *
3 - عدم تدوين كتاب خاص بهذا الموضوع
هناك كتب كثيرة قيمة مسماة باسم القواعد مثل " القواعد " للعلامة و " قواعد "
الشهيد وغيرهما ولكن من الواضح ان شيئا منها لا يبحث عن القواعد بالمعنى الذي
12

عرفت كما يظهر ذلك لمن راجعها في بادئ النظر، بل هي كتب فقهية جيدة كسائر
الكتب المتداولة، سميت باسم القواعد، ولكن لا تبحث عنها بل تبحث عن مسائل
الفقه الجزئية.
نعم هناك بعض المؤلفات لأصحابنا مثل " العوائد " للنراقي قدس سره
و " العناوين " للمحق البارع السيد عبد الفتاح الحسيني المراغي من تلاميذ الشيخ
علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سره تبحث عن غير واحد من القواعد الفقهية
ولكنها أيضا غير متمحضة لهذا الامر.
ولذا لا عجب ان قلنا أول كتاب مؤلف لسرد قواعد الفقه بمعناها المصطلح
كتابنا هذا نشر أول مرة في سنة 1382 هجرية قمرية، ثم نشر كتاب آخر بهذا الاسم
من بعض أعيان المعاصرين شكر الله سعيه وجزاه عن الاسلام خير الجزاء، وإن كان
يتفاوت في كثير من أبحاثه لما في هذا الكتاب، وقد بحث عن أمور كان الأولى
تركها، وترك بعض ما كان الواجب ذكره.
وعلى كل حال هذا العلم مما ينبغي أن يكون محطا لانظار العلماء ومضمارا
لأهل التحقيق حتى تخرج عن هذه الغربة المؤسفة ويتسع نطاقه ويتضح جميع
جوانبه ونواحيه.
* * *
4 - محتوى الكتاب
كتابنا هذا يشمل على ثلاثين قاعدة فقهية هي أهم القواعد التي يحتاج إليها
في الأبحاث الفقهية، لا أقول تنحصر القواعد فيها، بل أقول هي أهمها وأوسعها
وأشملها.
وقد ذكرنا تسعا منها في " المجلد الأول " وهي:
13

قاعدة " لا ضرر "، وقاعدة " الصحة "، وقاعدة " لا حرج ".
قاعدة " التجاوز والفراغ "، قاعدة " اليد " (دلالة اليد على الملك)
وقاعدة " القرعة ".
قاعدة " التقية " وموارد حرمتها ووجوبها، وقاعدة " لا تعاد "
وقاعدة " الميسور "
* * *
وواحدة وعشرين في " الجزء الثاني " (وهو هذا المجلد) وهي:
1 - قاعدة التسلط (الناس مسلطون على أموالهم)
2 - قاعدة حجية البينة
3 - قاعدة حجية خبر الواحد في الموضوعات
4 - قاعدة حجية قول ذي اليد
5 - قاعدة الحيازة
6 - قاعدة السبق
7 - قاعدة الالزام
8 - قاعدة الجب
9 - قاعدة الاتلاف
10 - قاعدة ما يضمن ومالا يضمن
11 - قاعدة اليد (على اليد ما اخذت)
12 - قاعدة عدم ضمان الأمين
13 - قاعدة الغرور
14

14 - قاعدة الخراج
15 - قاعدة اللزوم في المعاملات
16 - قاعدة البينة واليمين
17 - قاعدة تلف المبيع قبل قبضه
18 - قاعدة تبعية العقود للقصود
19 - قاعدة التلف في زمن الخيار
20 - قاعدة الاقرار و " من ملك "
21 - قاعدة الطهارة
وبها تتم ثلاثون قاعدة
* * *
وختاما نحمد الله تعالى على توفيقه الذي لا يتم أمر الا به، ونسأله ان يجعله
ذخرا ليوم المعاد بمنه وكرمه، يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم.
كما أن من الواجب علي ان اشكر عدة من الأفاضل الذين وازروني في
هذا الامر وبذلوا جهدهم في المراجعة إلى المنابع الفقهية والحديث وغيرهما
وجمع مدارك هذه القواعد فإنها متفرقة غاية التفرق في كتب الفقه والحديث
وغيرهما.
وهم الفضلاء الكرام:
* السيد أبو محمد المرتضوي
* والسيد مهدى شمس الدين
* والسيد على الموسوي
* والشيخ محمد علي الحيدري
* والشيخ رضا بلاغت
شكر الله سعيهم وجزاهم عن الاسلام خير الجزاء.
15

ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم
ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا
(والحمد لله)
قم - الحوزة العلمية
ناصر مكارم الشيرازي
16

1 - قاعدة التسلط
(الناس مسلطون على أموالهم)
* مدرك القاعدة من كتاب الله
* مدركها من السنة
* مدركها من الاجماع
* دليل العقل وبناء العقلاء
* انحاء الملكية في الاسلام
* حدود قاعدة التسلط
* هل القاعدة مختصة بالأموال أو تشمل " الحقوق " وغيرها أيضا
* نسبة هذه القاعدة مع غيرها
* نسبة قاعدة التسلط مع الواجبات المالية
17

بسم الله الرحمن الرحيم
من القواعد المشهورة بين الفقهاء، قاعدة تسلط الناس على أموالهم، ولا
يزالون يستدلون بها في مختلف أبواب المعاملات بالمعنى الخاص، والعام، بل
لعله هو المدرك الوحيد في بعض مسائلها، وبيان " محتواها " و " مداركها " و " ما
يتفرع عليها " و " ما يستثنى منها " يتم في مقامات.
* * *
الأول: في مدرك القاعدة
يمكن الاستدلال عليها بالأدلة الأربعة:
1 - كتاب الله
اما من كتاب الله العزيز فبآيات مختلفة، وردت في موارد خاصة، يستفاد من
مجموعها ان كل انسان له سلطة على أمواله الخاصة، لا يجوز لاحد مزاحمته الا
من طرق معينة وردت في الشرع، فمما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: " يا أيها الذين
آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم
19

ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما " (1).
دل على عدم جواز اكل أموال الناس الا من طرق خاصة مشروعة، تبتنى
على رضا الطرفين، وجعل حرمته كحرمة قتل الأنفس، وكأنه إلى هذا ينظر الحديث
المعروف " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " (2).
ومثله قوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم انه كان حوبا كبيرا " (3).
وهو دليل على أن الانسان لو لم يكن قادرا على حفظ أمواله لابد ان تحفظ
من طريق من يقدر على ذلك، وان الولي يجب عليه كمال الاحتياط فيه، والا
ارتكب اثما عظيما.
ومن الجدير بالذكر ان التعبير بأموالكم وأموالهم دليل واضح على الملكية
الخاصة في هذه الأموال لا ملكية المجتمع كما قد يتوهمه من لا خبرة له بشئ من
الآثار الاسلامية والمتون الدينية.
وأيضا قوله تعالى: " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه
نفسا فكلوه هنيئا مريئا " (4).
دلت على أنه لا يجوز التصرف في شئ من أموالهم الحاصلة من طريق
الصداق، الا باذنهن ورضاهن، وأيضا قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم
تعلمون " (5).

(1) السناء - 29.
(2) مسند أحمد ج 1 ص 446.
(3) النساء - 2.
(4) النساء - 4.
(5) البقرة - 188.
20

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في أبواب الإرث والصداق والوصية
وسائر العقود، وما دل على مطلوبية الانفاق في سبيل الله، حتى ما دل حرمة
الربا وانه " ان تبتم فلكم رؤس أموالكم " (1).
وبالجملة لا يبقى شك لاحد بعد ملاحظة هذه الآيات ان كل انسان مسلط على
أمواله التي اكتسبها من طرق مشروعة، وانه لا يجوز مزاحمته فيها، ولا التصرف الا
باذنه ورضاه، ولو جمعنا هذه الآيات مع تفسيرها كان كتابا ضخما.
* * *
2 - السنة
واما من السنة فهي روايات كثيرة عامة وخاصة:
1 - الرواية المعروفة المشهورة في ألسن الفقهاء، المرسلة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
ان الناس مسلطون على أموالهم
رواها العلامة المجلسي قدس سره في الجلد الثاني من البحار عن غوالي اللئالي (2)
وهي وان كانت مرسلة لكنها مجبورة بعمل الأصحاب قديما وحديثا، واستنادهم إليها
في مختلف أبواب الفقه، وسيأتي الإشارة إلى بعضها.
قال في الرياض في مسألة تضرر الجار بتصرف المالك في ملكه ان حديث
نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدال على ثبوت السلطنة على
الاطلاق لرب الأموال وهو أيضا معمول به بين الفريقين (3)
وهناك روايات أخر لا تشتمل على هذا العنوان ولكنه تحتوي معناها ومغزاها.

(1) البقرة - 279.
(2) بحار الأنوار ج 2 ص 273 (من الطبعة الجديدة).
(3) الرياض - كتاب " احياء الموات " ج 3 ص 377.
21

2 - ما رواها سماعة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يكون له الولد
أيسعه ان يجعل ماله لقرابته؟ قال: هو ماله يصنع به ما شاء إلى أن يأتيه الموت (1)
3 - رواية أخرى عن سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام مثله، وزاد:
ان لصاحب المال ان يعمل بماله ما شاء، ما دام حيا ان شاء وهبه، وان
شاء تصدق به، وان شاء تركه إلى أن يأتيه الموت (2).
ومن الواضح ان ذكر الهبة والصدقة من باب المثال لما وقع التصريح فيها
بان له ان يصنع بماله ما شاء، وليست السلطة على المال غير هذا.
4 - مرسلة إبراهيم ابن أبي سماك عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الميت أولى
بماله ما دامت فيه الروح (3).
5 - وبمعناه رواية أخرى عن " عمار بن موسى " انه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول
صاحب المال أحق بماله ما دام فيه شئ من الروح يضعه حيث شاء (4).
6 - وروى عثمان بن سعيد عن أبي المحامد عن أبي عبد الله عليه السلام قال
الانسان أحق بماله ما دام الروح في بدنه (5).
وهناك روايات أخرى واردة في نفس هذا الباب، ومن الواضح ان اطلاق
قوله " أولى " و " أحق " يشمل أنواع التصرفات الناقلة وغير النافلة.
وتقيد روايات الوصية بالثلث كتخصيص هذه الاطلاقات بغير مرض الموت،
بناء على كون منجزات المريض من الثلث لا من الأصل، لا يضر بالمقصود، فإن الاطلاق

(1) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا - الباب 17 - الحديث 1.
(2) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا - الباب 17 - الحديث 2.
(3) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا - الباب 17 - الحديث 3.
(4) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا - الباب 17 - الحديث 4.
(5) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا - الباب 17 - الحديث 8.
22

السلطنة على المال كسائر الاطلاقات يقبل التقييد مهما ورد دليل عليه.
اما الروايات الخاصة فهي كثيرة جدا لا يمكن استقصاء جميعها، بل ولا نحتاج
إلى الاستقصاء بعدما عرفت.
* * *
3 - الاجماع
واما الاجماع فهو ظاهر كلمات القوم حيث أرسلوها ارسال المسلمات،
واستدلوا بقاعدة التسلط في أبواب مختلفة نشير إلى جملة منها.
1 - قال في " الخلاف " في كتاب البيوع في مسألة 290 في بحث اقراض
الجواري: " دليلنا ان الأصل الإباحة والحظر يحتاج إلى دليل... وأيضا روي
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الناس مسلطون على أموالهم، وقال لا يحل مال امرئ مسلم
الا بطيب نفس منه " (1).
ومنه يظهر ان حديث عدم جواز التصرف في مال كل انسان الا بطيب نفسه
يتحد معنا مع حديث التسلط.
2 - قال في " السرائر في باب حريم البئر: وان أراد الانسان ان يحفر في ملكه أو
داره بئرا، وأراد جاره ان يحفر لنفسه بئرا بقرب تلك البئر لم يمنع منه بلا خلاف في
جمع ذلك وإن كان ينقص بذلك ماء البئر الأولى لأن الناس مسلطون على املاكهم (2).
وقال في " جامع المقاصد " في أبواب الاحتكار في شرح قول العلامة (قدس
سره): " ويجبر على البيع لا التسعير " ما نصه: " أي هذا أصح لأن الناس مسلطون
على أموالهم الا ان يجحف في طلب الثمن أو يمتنع من تعيينه " (3).

(1) الخلاف ج 2 ص 278.
(2) " السرائر " كتاب المتاجر باب بيع الماء وحريم الحقوق 249.
(3) جامع المقاصد ج 1 ص 207.
23

وقال في " جامع المقاصد " أيضا: في جواز التفريق بين الطفل وأمه في المملوكة
ما نصه: " يجوز التفريق بعد سنتين في الذكر، وبعد سبع في الأنثى (في الحرة) على
المشهور بين المتأخرين فليجز ذلك في الأمة لأن حقه لا يزيد على الحرة، ولان
الناس مسلطون على أموالهم (1).
وقال هو أيضا في مسألة وطي الأمة من جانب المشتري، في مدة الخيار
المشترك أو المختص بالبايع، انه ليس له ذلك على اشكال، ثم ذكر ان منشأ الاشكال
من عموم " الناس مسلطون على أموالهم " ومن " انه ربما أفضى إلى الاستيلاد الموجب
لسقوط خيار البايع ".
وقال في مفتاح الكرامة، في أبواب الاحتكار بعد نقل كلام القواعد في نفي
التسعير: " اجماعا واخبارا متواترة كما في السرائر وبلا خلاف كما في المبسوط
وعندنا كما في التذكرة، للأصل وعموم السلطنة " (2).
وقال في جامع المقاصد أيضا في شرح مسألة تأجيج النار وارسال الماء في
ملكه " انه لما كان الناس مسلطين على أموالهم كان للانسان الانتفاع بملكه كيف
شاء " (3).
وهذا صاحب الجواهر الفقيه المتضلع استدل بهذه القاعدة وأرسله ارسال
المسلمات في أبواب البيع، والرهن، والصلح، والشركة، والمزارعة، والمساقاة،
والوديعة، والعارية، وكتاب السبق، والوصايا، والغصب، والأطعمة والأشربة،
واحياء الموات، إلى غير ذلك ما لو نقلنا كلها لطال بنا البحث ولكن نذكر شطرا منها:
1 - قال في كتاب البيع في جواز الولاية من قبل الجائر إذا كان مكرها ما نصه:

(1) جامع المقاصد ج 1 ص 224.
(2) مفتاح الكرامة ج 4 ص 111.
(3) حكاه الشيخ الأعظم في رسالة نفى الضرر في ملحقات المكاسب ص 375.
24

" لا بأس بجواز تحمل الضرر المالي في رفع الاكراه، ولعموم تسليط الناس على
أموالهم " (1).
2 - وقال في مبحث الاحتكار: " المسألة الثانية الاحتكار مكروه، وقيل حرام،
والأول أشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها الأصول وقاعدة تسلط الناس على
أموالهم " (2).
وكلامه شاهد على أن القاعدة من القواعد المسلمة في مذهبنا.
3 - وقال: في حكم التفرقة بين الأطفال وأمهاتهم قبل استغنائهم منهن بعد نقل
كلام الشرايع انه محرمة وقيل مكروهة، وهو الأظهر ما نصه: جمعا بين ما دل على
الجواز من الأصل وعموم تسلط الناس على أموالهم (3).
وقال في الشرايع في كتاب الرهن لو غصبه ثم رهنه صح ولم يزل الضمان..
ولو أسقط عنه الضمان صح وزاد في الجواهر ودعوى عدم صحة اسقاط مثل ذلك
يدفعها عموم تسلط الناس على حقوقهم وأموالهم (4).
وإضافة الحقوق في كلامه هنا من باب الغاء الخصوصية عن الأموال والا فالظاهر أنه
لم يرد هذا العنوان في النصوص.
واستدل به أيضا في أبواب الصلح في مسألة صلح الشريكين عند إرادة الفسخ
على أن يأخذ أحدهما رأس ماله والاخر الباقي، ربح أو توى، جاز.. ولعل عموم
تسلط الناس على أموالهم يقتضيه (5).
واستدل به أيضا في جواز الاعتماد على القرعة في القسمة في كتاب الشركة

(1) الجواهر ج 22 ص 168.
(2) الجواهر ج 22 ص 478.
(3) الجواهر ج 24 ص 220.
(4) الجواهر ج 25 ص 228.
(5) الجواهر ج 26 ص 221.
25

وقال: إنما الكلام في اعتبارها في القسمة كما عن ظاهر كثير أو الجميع نعم عن
الأردبيلي الاكتفاء بالرضاء من الشركاء... لعموم الناس مسلطون على أموالهم (1).
واعتمد عليه في أبواب المزارعة والمساقاة قال: في المسألة الرابعة في جواز
شركة غير المزارع (بالفتح) معه وعدم توقفه على اذن المالك بعد التمسك بعدم
الخلاف بانتقال المنفعة إليه بعقد المزارعة والناس مسلطون على أموالهم (2).
واستند إليه في كتاب السبق أيضا (3).
واستدل به أيضا في كتاب الوصية إذا أوصى بالثلث (4).
وقال: في كتاب الغصب بعد قول الشرايع " ولو ارسل في ملكه ماء فأغرق
مال غيره أو أجج نارا فيه فاحرق لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا "..
بلا خلاف أجده فيه... للأصل بعد عدم التفريط وعموم تسلط الناس على أموالهم (5).
واستدلاله هنا بقاعدة التسلط دليل على عمومها عنده، حتى إذا أوجب الضرر
على غيره، ما لم يتجاوز عن حده وعن قدر حاجته.
وقال في كتاب الأطعمة والأشربة في مسألة الاضطرار إلى اكل الميتة وإن كان
هناك من له مال حلال ولكن لا يبذله ما لفظه: " نعم يتجه ذلك (جواز أكل الميتة) إذا
لم يبذل، لعموم الناس مسلطون على أموالهم، من غير فرق بين كونه قويا أو ضعيفا (6).
وهذا دليل ان عموم السلطة على المال يشمل حتى فرض الاضطرار من بعض الجهات وهو دليل على قوة العموم فيها عندهم.

(1) الجواهر ج 26 ص 310.
(2) الجواهر ج 27 ص 141.
(3) الجواهر ج 28 ص 237.
(4) الجواهر ج 28 ص 314.
(5) الجواهر ج 37 ص 59.
(6) الجواهر ج 36 ص 439.
26

واستدل به في كتاب احياء الموات أيضا (1).
وقال في ذلك الكتاب أيضا: فيما إذا تصرف الانسان في داره بما يوجب
تضرر الجار تضررا فاحشا بعد الحكم بمنعه استنادا إلى حديث نفي الضرر والضرار
المعمول به بين الخاصة والعامة المستفيض بينهم ما نصه:
" وقد يناقش بان حديث نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدال
على ثبوت السلطنة على الاطلاق لرب المال، وهو أيضا معمول به بين الفريقين
والتعارض بينهما تعارض العموم من وجه والترجيح للثاني بعمل الأصحاب " (2).
أقول: كلامه هنا دليل واضح ان هذا الحديث المرسل بلغ من ناحية عمل
الأصحاب بحد من القوة بحيث يعارض " حديث لا ضرر " المستفيض المروى من
طرق الفريقين باسناد شتى.
* * *
وهذا شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري استدل به في كثير من المسائل الفقهية
في مكاسبه وأرسله ارسال المسلمات بحيث لا يشوبه شائبة واليك نماذج منها.
منها في مسألة:
1 - قال في بحث قبول الولاية من قبل الجاير مع وجود الضرر المالي في
تركه مما لا يضر بالحال ان تركه رخصة لا عزيمة فيجوز تحمل الضرر لأن الناس
مسلطون على أموالهم (3).
2 - وقال في مبحث المعاطاة ردا لمن استدل بقاعدة الناس مسلطون على
أموالهم على أن المعاطاة توجب الملك: " اما قوله الناس مسلطون على أموالهم فلا

(1) الجواهر ج 38 ص 123.
(2) الجواهر ج 38 ص 50.
(3) المكاسب المحرمة ص 59.
27

دلالة فيه على المدعى لأن عمومه باعتبار أنواع السلطنة، فهو إنما يجدى فيما إذا
شك في أن هذا النوع من السلطنة ثابتة للمالك وماضية شرعا في حقه أم لا " (1).
وظاهر كلامه هذا مفروغية القاعدة بين الجميع، وبحيث لا يتطرق إليه اشكال،
ولو كان هناك ايراد، فإنما هو تطبيقها على بعض الموارد التي يشك فيها.
3 - وقال إن الاستدلال على أصالة اللزوم في كل عقد شك في لزومه: " ويدل
على اللزوم مضافا إلى ما ذكر عموم قولهم الناس مسلطون على أموالهم " (2).
4 - وقال في رسالته في قاعدة نفى الضرر المطبوعة في ملحقات مكاسبه وينبغي
التنبيه على أمور: الأول ان دليل هذه القاعدة حاكم على عموم أدلة اثبات الأحكام
الشامل لصورة التضرر بموافقتها - إلى أن قال: خلافا لما يظهر من بعض من عدهما
من المتعارضين حيث إنه ذكر في مسألة تصرف الانسان في ملكه مع تضرر جاره
ان عموم نفي الضرر معارض بعموم الناس مسلطون على أموالهم.
ثم أورد عليه بحكومة قاعدة نفى الضرر على قاعدة التسلط، واستدل على
الحكومة بجريان سيرة الفقهاء في مقامات مختلفة عليه منها استدلالهم على ثبوت
خيار الغبن وبعض الخيارات الأخر بقاعدة نفى الضرر مع وجود عموم الناس مسلطون
على أموالهم (3).
ويظهر من كلامه هذا تسالم القوم على هذه القاعدة في محلها وان قدموا قاعدة
نفى الضرر عليها لحكومتها.
5 - واستدل أيضا بها في طيات مكاسبه في أبواب " ضمان المثلى والقيمي "
و " مسقطات خيار المجلس " و " أحكام الخيار " وغيرها مما يطول المقام بذكرها

(1) المكاسب - البيع ص 83.
(2) المكاسب - البيع ص 85.
(3) ملحقات المكاسب ص 373.
28

جميعا.
فتحصل من جميع ما ذكرنا انه لا ينبغي التأمل في كون القاعدة مجمعا عليها
بين فقهاء الفريقين، لاستنادهم إليها في كثير من المباحث المتخلفة، ارسالا له ارسال
المسلمات من غير رد ولا انكار، وما أوردناه هنا من أقوالهم شطر من كلماتهم
المشتملة على الحديث بعنوانه، والا فما ذكروه بغير هذا العنوان مما يعطى معناه
أكثر واظهر.
* * *
4 - دليل العقل وبناء العقلاء
هذه القاعدة قاعدة عقلائية قبل أن تكون شرعية، ولم يزل بناء العقلاء عليها
من قديم الزمان إلى عصرنا هذا، ولا فرق فيها بين أرباب الملل الإلهية وغيرهم،
حتى أن من أنكرها بلفظه لا ينكرها في عمله، وان الذين ادعوا الغائها بالمرة في
كتبهم وفي مدارسهم لم يوفقوا له في العمل، وكلهم يرون ان للانسان التصرف
في ملكه بما يراه، الا ما منعه الشرع أو نهى عنه القوانين المعتبرة عندهم، ولا يشك
في هذا أحد منهم، ومن أنكره فإنما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالايمان.
بل يمكن ان يقال إنها من القواعد الفطرية قبل أن تكون عقلائية فإن ما عند
العقلاء من القوانين لها أصولا وجذورا في أعماق فطرياتهم ما لم ينحرف عنها بأمور
قسرية.
كما أن أحكام الشرع أيضا تنطبق على الفطريات، فيطابق " التشريع "
" التكوين "، ولابد ان يتطابق، لأن كل واحد منهما من صنع الله، ولا يضار صنعه
صنعه، وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت.
29

وان شئت اختر حال من لم تشب فطرته باي شائبة، أو تقاليد اجتماعية، من الصبيان
غير العارفين بما عند آبائهم وأمهاتهم من الأحكام والقوانين، فإن كلا منهم إذا ظفر
بشئ، ورآه ماله، احتفظ به، ورد كل من يزاحمه في ما كسبه، ويرى لنفسه التسلط
عليه بجميع أنواع التسلط، الا ان يمنعه مانع من فطرته أو من الخارج.
بل قد يقال إن هذه الفطرة والسائقة النفسية لا تنحصر بالانسان، بل تشترك
فيها أنواع الحيوان، فهي تعتبر المالكية لانفسها فيما كسبت، وتسيطر عليها، ولا يرى
لغيره حقا في المزاحمة، تدافع عن وكرها، وعشها، وطعمتها، وغيرها مما يتعلق
بها كما يدافع الانسان عن أمواله، بل قد يكون عندها ما يشبه الملكية التعاونية عندنا
كما في النمل والنحل وغيرهما من أشباههما فهي تدافع جميعا عما تتعلق بشركائها
ضد الأجانب، وترى لنفسها السلطة على ما تزودها.
فإذا يكون حكم الشرع في هذه القاعدة من قبل امضاء ما عند العقلاء، لا تأسيس
قاعدة حديثة جديدة، مما ليس عندهم، كما هو كذلك في أكثر ما عند الشرع في
أبواب المعاملات أو في جميعها، وان ورد فيها شرائط خاصة، وقيود مختلفة لهذا
الامضاء، دفعا لهم عن مفاسد كثيرة لا يعلمونها، ولا يهتدى إليها عقولهم، أو ما يعلمونه
ولا يعتنون به اتباعا لأهوائهم وغفلة عما فيه صلاحهم وفسادهم.
فإذا لا يبقى شك في عموم هذه القاعدة لجميع الأموال، وجميع الناس، وإن كان
هذا العموم مشروطا بشرائط وقيود كثيرة واستثناءات مختلفه، ولا ينافي ذلك وجود
المالكية العامة في الشرع بالنسبة إلى أموال اخر.
ولا بأس بالإشارة هنا إلى نبذ مما يدل على مالكية كل انسان لما كسبه، من طرق
مشروعة، ونفوذ تصرفاته فيه، وعدم جواز مزاحمته بغير اذنه، التي تدل بالدلالة
الالتزامية البينة على ثبوت قاعدة التسلط ومضيها.
ومما يجب ذكره قبلا انه قلما يوجد في لسان أدلة الشرع تعرض صريح لأصل
30

هذا الموضوع - أي جواز المالكية الفردية - بل ذكر فيها أحكامها بعد الفراغ عن
ثبوتها، ولولا وسوسة بعض من لا خبرة له بأحكام الشرع والعقل، ممن خدعتهم
الأفكار المادية الالحادية لكنا في غنى عن مثل هذه الأمور، مما هو من الوضوح
بمكان لا يرتاب فيه ذو فضل.
* * *
واما الروايات الدالة على هذا المعنى فهي أكثر من أن تحصى نشير إلى
بعض ما هو أوضح واظهر:
1 - ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله ان حرمة مال المسلم كحرمة دمه (1).
2 - وانه لا يحل مال امرء مسلم الا بطيب نفسه (2).
بلغ احترام أموال المسلمين إلى حد يعادل دمائهم، ومن الواضح انه لا يعادل
في الشريعة الاسلامية دم المسلم شئ، الا ما يكون مهما جدا.
3 - وقال الصادق عليه السلام: من أكل مال أخيه ظلما، ولم يرد عليه، اكل
جذوة من النار يوم القيامة (3).
4 - وفي غير واحد من الروايات ان الدفاع لحفظ الأموال جائز وان بلغ
ما بلغ، وانه يجوز دفع المهاجم، وان دمه هدر، وان من قتل دون ماله فهو شهيد.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد (4).
وعنه صلى الله عليه وآله في حديث آخر من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهيد (5).
وقال الباقر عليه السلام لمن سأله ان اللص يدخل على بيتي يريد على نفسي ومالي:

(1) مستدرك الوسائل ج 3 ص 145.
(2) مستدرك الوسائل ج 3 ص 146.
(3) الوسائل ج 11 ص 342 أبواب جهاد النفس الباب 78.
(4) النسائي ج 7 ص 115.
(5) الوسائل ج 11 ص 93.
31

اقتله فاشهد الله ومن سمع ان دمه في عنقي! (1)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام إذا دخل عليك اللص المحارب فاقتله فما أصابك
فدمه في عنقي (2).
5 - وهناك روايات كثيرة دالة على كون اليد دليلا لملكية الانسان على ما في
يده، بل يجوز الشهادة على الملكية بمجرد كون شئ في يد الانسان.
فقد قال الصادق عليه السلام فيما رواه حفص بن غياث عنه: قال قال له رجل إذا
رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي ان اشهد أنه له؟ قال نعم، قال الرجل: اشهد أنه
في يده، ولا اشهد أنه له، فلعله لغيره. فقال أبو عبد الله عليه السلام أفيحل الشراء منه؟
قال نعم، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فلعله لغيره، فمن أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا
لك، ثم تقول بعد الملك هو لي، وتحلف عليه، ولا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق (3).
هذا قليل من كثير مما ورد في هذا الباب، وما يدل عليه بالالتزام هو أكثر
وأوفر، وقد ضمت أبواب التجارات والأوقاف والهبات والمهور والنفقات والإرث
والضمانات والديات والقضاء والإجارات وغيرها ما لا يحصى في هذا المعنى.
* * *
انحاء الملكية في الاسلام:
ومما ينبغي ان يذكر انه لا تنحصر الملكية في التشريع الاسلامي بالملكية
الفردية، بل المعروف انها على انحاء ثلاثة:
1 - الملكية الفردية.

(1) الوسائل ج 11 ص 92 (أبواب جهاد العدو الباب 46).
(2) الوسائل ج 11 ص 92 (أبواب جهاد العدو الباب 46).
(3) الوسائل ج 18 أبواب كيفية الحكم ص 215.
32

2 - الملكية للمسلمين جميعا.
3 - ملك الحكومة الاسلامية.
ولكن في الواقع لها شقوق اخر تنقسم هذه الأقسام إليها ربما تبلغ ستة أنحاء.
فإن الملكية الشخصية قد تكون على نحو المشاع، وهو اشتراك جماعة في
ملك على سهام متساوية، أو مختلفة، ولهذا النوع من الملكية أحكام خاصة مذكورة
في أبواب البيع، والإجارة، والشركة، والمضاربة، والمزارعة، وغيرها. أضف
إلى ذلك الوقف الخاص، فإنه أيضا قسم آخر من الملكية المشتركة، ولكن ليس
كالمشاع وله أيضا أحكام خاصة مذكورة في أبواب الوقف.
وهنا نوع آخر من الملكية في الموقوفات العامة كالمساجد والقناطر الموقوفة
والخانات وشبهها، فعلى القول بأنها من قبيل فك الملك، وانها خارجة عن ملك كل
أحد حتى المسلمين جميعا فهي خارجة عن المقسم في هذا البحث.
ولكن ذكرنا في محله ان هذا القول وان اشتهر في ألسنة المعاصرين ولكنها
لا تساعده الأدلة فإنه لا شك انه إذا خربت بعض أبنية المسجد وبقى منها أخشاب
وأبواب وأحجار، لا تنفع في تعميره وتجديد بنائه، وليس هنا مسجد آخر يستفاد
منها فيه، انه يجوز بيعها وصرف ثمنها في تعميره وتجديد بنائه، ولو كان من قبيل
فك الملك لم يصح هذا فإنه لا بيع الا في ملك.
والفرق بين ارض المسجد وبناؤها بعيد عن الصواب لعدم الدليل عليه.
فلا مناص عن قبول كونه ملكا اما لجميع المسلمين، ولكن لا كالأراضي
المفتوح عنوة، فإن لها أحكاما خاصة لا ترتبط الا بها.
أو يقال إن المساجد وأشباهها ملك تشريعي لله وإن كان هو مالك الملوك وله
ملك السماوات والأرض، لكنها مالكية تكوينية ناشية عن خلقها وتدبيرها وفقرها إليه
تعالى، فله جل شأنه ملك تشريعي وإن كان هو مالك تشريعا أيضا لجميع الاملاك لكنها
ملك طولي فوق ملك العباد.
33

ولهذا البحث صلة يذكر في مقامه إن شاء الله، والمقصود من جميع ذلك
تشعب أنواع الملكية واختلاف أحكامها.
ولكن قاعدة التسلط لا تختص بالملكية الشخصية الفردية، بل الظاهر أنها
تشمل كل ملك طلق، فإذا كان هناك ملك مشاع فلأربابه جميعا السلطة عليها بمالا يزاحم
حق كل واحد منهم للاخر.
وهذا المعنى اما داخل في عموم هذه القاعدة بعينها أو لا أقل من دخوله في
ملاكها ومناطها للعلم بعدم الخصوصية.
" تنبيهات "
وهنا أمور ينبغي التنبيه عليها:
1 - حدود قاعدة التسلط
قد ثبت من جميع ما ذكرنا ان لكل انسان سلطة على أمواله، يفعل فيها ما يشاء
ويقلبها كيف يريد، ولكن هذا المعنى لا ينافي تحديدها بحدود خاصة وقيود مختلفة
بل لا ينافي استثناءات كثيرة واردة عليها من طريق بناء العقلاء، وطبقا لأحكام الشرع.
نعم حددها الكتاب والسنة من حيث متعلقها تارة، ومن ناحية طرق كسبها
أخرى، وكيفية مصرفها ثالثة، والحقوق التي تتعلق بها رابعة، وغير ذلك.
اما من ناحية المتعلق فقد حرم الشرع كل ما فيه وجه من وجوه الفساد، مثل
الميتة والدم ولحم الخنزير ولحوم السباع والخمر وكل شئ من وجوه النجس،
وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله عز وجل، كالأصنام وكل بيع ملهو به كآلات
القمار وآلات اللهو وكل ما يقوي به الكفر والشرك مثل كتب الضلال وما أشبه ذلك،
إلى غير ذلك مما ورد في رواية تحف العقول المشهورة.
34

فإن شيئا من هذه لا يدخل في ملك أحد، ولا يصح بيعه ولا شرائه.
كما أنه لا يجوز تحصيل ما يباح ملكه من طريق معاونة الظلمة، واخذ الرشوة
والغش والخيانة، والسحر والشعبدة، والقمار، وتعليم ما يحرم تعليمه، والفحشاء
واللعب بآلات اللهو وغير ذلك مما يحرم فعله فإن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه.
اما من ناحية طرق اكتسابها، فلا شك انها مقيدة بقيود شتى كأن يكون تجارة
عن تراض من دون اكراه ولا اجبار، وصدور العقد عن البالغ العاقل المتمكن شرعا
من التصرف في أمواله، وكون البيع غير غرري ولا ربوي، وغير ذلك من شروط
البيع والشراء والهبة والمزارعة وغيرها، بل وكذا بالنسبة إلى الحيازة والاحياء
وأمثالهما مما ورد من طيات أبواب الفقه.
وكذا عدم كون التسلط على المال موجبا للضرر على المسلمين كما سيأتي
الإشارة إليه عن قريب إن شاء الله.
واما من ناحية المصرف فهو أيضا ليس مطلقا، بل لابد ان لا يكون فيه اسراف
ولا تبذير ولا ان يصرف في وجوه المعاصي وطرق الفساد، ولا الاضرار بالغير،
ولا بالنفس اجمالا.
والحاصل ان كون الانسان مسلطا على أمواله يتقلب فيه كيف يشاء لا ينافي
تقييده بقيود مختلفة من شتى الجهات، بل أحكام أبواب المعاملات على سعتها إنما
شرعت لبيان تلك القيود.
كما أن هذا العموم لا ينافي تعلق حقوق الفقراء وغيرهم بها على حسب ما ورد
في أبواب الزكاة والخمس وغيرهما، ولكن مع ذلك كله هي قاعدة عامة تؤخذ بها
ما لم يرد دليل على تخصيصه وتقييده، وهي حجة في جميع أبواب المعاملات فيما
لا يوجد هناك دليل خاص يخالفه.
* * *
35

2 - هل القاعدة مختصة بالأموال أو تشمل " الحقوق " وغيرها
قد عرفت ان ما ورد في الاخبار هو عنوان " الأموال " فقط، وان الناس مسلطون
على أموالهم، ولكن قد يضاف إليه " وعلى حقوقهم " ولكن لم نجد به رواية
عدا ما أشار إليه في الجواهر في كتاب الرهن عند الاستدلال على جواز اسقاط الضمان
في الرهن بقوله " ودعوى عدم صحة اسقاط مثل ذلك يدفعها عموم تسلط الناس على
حقوقهم وأموالهم " (1)
وقد عرفت انه لم ينقل هذا العنوان في ساير أبواب الفقه، وكأنه اخذه من
بناء العقلاء وقبولهم سلطنة كل ذي حق على حقوقه، بعد عدم ردع الشارع عنه.
أو انه تمسك في ذلك بقياس الأولوية، فإن الانسان إذا كان مسلطا على أمواله
كان مسلطا على حقوقه بطريق أولى.
واما تسلط الناس " على أنفسهم " فلم يرد في نصوص الباب. ولا كلمات
الأصحاب، في شئ من أبواب الفقه فيما تصفحناه.
فإن كان المراد تسلط الانسان على نفسه في أبواب الإجارات، فيجوز له أن تكون
أجيرا على كل أمر مشروع باي أجرة أرادها وأمثال ذلك، فلا شك في ثبوت
هذه السلطنة له، بل يمكن ان يقال إنه من قبيل الأموال لأن أفعال الانسان الحر وان
لم يكن أموالا بالفعل ولكنها أموال بالقوة، فتأمل.
وان أبيت عن ذلك فعمدة ما يدل على تسلط الانسان على أمواله من بناء العقلاء
يدل على تسلطه على نفسه من هذه الناحية.
وكذلك بالنسبة إلى عقد النكاح وأشباهه فإنه مسلط على نفسه من هذه الناحية
في كل أمر مشروع وجميع ما يدل على اشتراط الاختيار وعدم الاكراه والاجبار

(1) الجواهر ج 25 كتاب الرهن ص 228.
36

في أبواب النكاح وشبهها تدل على عموم هذه السلطنة. فتسلط الناس على أنفسهم
من هذه الجهات مما لا يرتاب فيه.
وكذلك بالنسبة إلى ارادته في طريق طاعة الله وفعل ما يجوز له فعله بحسب
حكم الشرع بل قد يعبر عن هذه السلطة بالملكية كما ورد في قوله تعالى حكاية
عن موسى عند عصيان بني إسرائيل وخروجهم عن امره " قال رب انى لا أملك الا
نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " (1).
وإن كان المراد تسلط الانسان على نفسه بان يقتل نفسه من دون اي مبرر أو
القاؤها في التهلكة في غير ما هو أهم منه بل ايراد نقص على أعضائه وضرر عظيم على
جسمه أو عقله فإن شيئا من ذلك غير جائز وهذا النوع من التسلط لم يثبت لاحد على
نفسه.
ولكن قد عرفت انه لم يثبت مثل هذا في باب الأموال أيضا فلا يجوز لاحد
اتلاف ماله بغير مبرر ولا احراقه ولا افساده فلو كان هناك دليل على عموم التسلط على
الأنفس كان قابلا للتخصيص بمثل هذه الأمور كما هو كذلك في باب الأموال والحقوق.
والحاصل ان تسلط الناس على أنفسهم - بهذا العنوان - لم يرد في آية ولا
رواية ولكن مفادها ومغزاها ثابتة بحسب بناء العقلاء فيما عرفت توضيحه.
3 - نسبة هذه القاعدة مع غيرها
وأول ما نتكلم فيه هنا نسبتها مع قاعدة لا ضرر والا فقد عرفت ان عموم قاعدة
التسلط مخصصة بكل ما ورد في أبواب المعاملات من الشرائط والقيود وكذلك كل
ما ورد في أبواب المحرمات من تحريم بعض التصرفات في الأموال من الاسراف
والتبذير وانفاقها في طرق الحرام والفساد.

(1) مائدة: 25.
37

وفي نسبته مع قاعدة لا ضرر خلاف بينهم فيظهر من بعض المحققين كونهما
من قبيل متعارضين.
قال المحقق السبزواري قدس سره صاحب الكفاية في مسألة جواز تصرف
المالك في ملكه وان تضرر الجار، بعد الاعتراف بأنه معروف بين الأصحاب، ما
هذا نصه: ويشكل جواز ذلك في ما إذا تضرر الجار تضررا فاحشا كما إذا حفر في
ملكه بالوعة فعد بها بئر الغير أو جعل حانوته في صف العطارين حانوت حداد، أو
جعل داره مدبغة أو مطبخة (انتهى).
وان اعترض عليه في الرياض بما حاصله انه لا معنى للتأمل بعد اطباق الأصحاب
عليه نقلا وتحصيلا، والخبر المعمول عليه بل المتواتر من " ان الناس مسلطون على
أموالهم "، واخبار الاضرار على ضعف بعضها وعدم تكافؤها تلك الأدلة محمولة
على ما إذا لم يكن غرض الا الاضرار، بل فيها كخبر سمرة ايماء إلى ذلك، سلمنا
لكن التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه، والترجيح للمشهور، للأصل والاجماع (1).
وظاهر كلام الرياض وغيره معلومية تقديم قاعدة التسلط على قاعدة لا ضرر،
اما من جهة حكومتها عليها، أو من جهة كونهما متعارضين بالعموم من وجه وتقديمها
عليها بحكم الأصحاب.
والانصاف انه ليس قاعدة التسلط حاكما على لا ضرر، بل ولا مقدما عليه عند
التعارض، بل ولا من قبيل المتعارضين بل الحق هنا قولا ثالث وهو القول بالتفصيل
في المسألة.
توضيحه: ان الضرر الحاصل من عموم تسلط الناس على أموالهم على انحاء:
1 - إذا لزم من ترك التصرف المالك في ملكه ضرر عليه يعتد به.
2 - إذا لم يلزم من تركه التصرف ضرر ولكن يفوت بعض منافعه.

(1) الرياض كتاب احياء الموات ج 2 ص 377.
38

3 - إذا لم يلزم شئ منهما ولكن بدا له التصرف عبثا، أو لبعض المنافع
الجزئية التي لا يعتد بها.
4 - إذا كان قصده من ذلك التصرف الاضرار بالغير فقط من دون ان ينتفع به.
لا ينبغي الاشكال في عدم جواز الأخير فإنه القدر المتيقن من عموم لا ضرر،
بل الظاهر أن مورد رواية سمرة هو بعينه هذه الصورة كما أشرنا إليه في بيان قاعدة
لا ضرر.
وما الصور الثلاثة الأخرى فظاهر المحكى عن المشهور الحكم بالجواز
فيها مطلقا، بل ادعى الاجماع عليه في الصورة الأولى.
ولكن صريح بعضهم كالمحقق، وظاهر آخرين كالعلامة في التذكرة والشهيد
في الدروس (رضوان الله عليهم) استثناء الصورة الأخيرة حيث قيد الأول منهم الجواز
بصورة دعاء الحاجة إليه، والباقي بما جرت به العادة، ومن المعلوم انه لم تكن هناك
حاجة في الصورة الأخيرة، ولا جرت به العادة، ولعل كلمات غير هؤلاء الاعلام أيضا
منصرفه عن هذه الصورة، فيبقى الكلام في الصورتين الأولتين.
وشيخنا العلامة الأنصاري (ره) حكم بتقديم جانب المالك فيهما، نظرا إلى
عموم قاعدة تسلط الناس على أموالهم، وقاعدة نفى الحرج، بعد سقوط لا ضرر من
الجانبين.
والانصاف ان قاعدة التسلط حيث إنها متخذة من بناء العقلاء بامضاء من
الشرع، في حد ذاتها قاصرة عن شمول كل تصرف.
فأي عاقل يجوز للمالك التصرف في ماله بما يوجب ضررا على جاره من
دون عود منفعة إليه أو دفع ضرر منه، بل عبثا وتشهيا؟!
بل اي عاقل يرخص للمالك ان يجعل داره مدبغة بين دور المسلمين،
وحانوته حداد في صف العطارين بما يوجب فساد أمتعتهم وبضاعتهم، وعدم قدرتهم
39

على المكث هنا؟
ومن هنا يظهر ان قاعدة التسلط بذاتها قاصرة عن شمول الصورة الرابعة من
صور المسألة. حتى مع قطع النظر عن ورود أدلة لا ضرر، فدليل لا ضرر هنا تأكيد
اخر على هذا الحكم.
والوجه في جميع ذلك أن تسلط المالك على ماله ليس الا كسائر الاعتبارات
العقلائية، لها حدود وشرائط معلومة، لا يتعدى منها، فانتفاع المالك بماله لابد أن يكون
في هذا المجال فقط.
إذا عرفت هذا يبقى الكلام فيما إذا تعارض ضرر المالك والجار، فيما لا يخرج
تصرف المالك في ملكه عن الحدود العقلائية. وكذلك إذا لزم من ترك تصرفه فوت
منفعة منه، من دون ورود ضرر عليه.
فالأول مثل ما إذا رفع جداره على جانب جدار جاره بما يتضرر منه كما إذا
أوجب انخفاض قيمة داره، مع أنه إذا لم يرفع المالك جداره تضرر من ناحيته،
أو فات بعض منافعه.
ففي الصورة الأولى الذي هو من باب تعارض الضررين تتساقط قاعدة لا ضرر
من الجانبين، لأنه من باب المنة على العباد، ولا منة في اضرار بعض المؤمنين
بنفي الضرر عن بعض آخر، وحينئذ يرجع إلى قاعدة التسلط.
واما في الصورة الثانية فتتعارض قاعدة لا ضرر مع قاعدة التسلط، ولكن
المرتكز في الأذهان، بل قد عرفت دعوى الشهرة أو الاجماع من الأصحاب، على
تقديم قاعدة التسلط والظاهر أنه ليس من باب التعبد ووصول روايات خاصة إليهم
لم تصل إلينا، بل من ناحية ان منع المالك عن التصرف في ماله إذا ينتفع به منفعة
معتدا بها خلاف المنة، فلا يدخل تحت قاعدة لا ضرر، وإذا سقطت تلك القاعدة لم يبق الا قاعدة تسلط الناس على أموالهم.
40

هذا كله إذا لم نقل بان منع المالك عن ترك الانتفاع بماله يكون دائما من
قبيل الضرر، فإن كل ما معد للانتفاع وإذا منع منه كان ضررا فتأمل.
4 - نسبة قاعدة التسلط مع الواجبات المالية
يبقى الكلام في النسبة بين هذه القاعدة وما دل على وجوب الزكاة والخمس
في أموال الناس وما دل على أن للميت حق في ثلث ماله إذا أوصى به، وكذا ما دل
على حجر المفلس بحكم الحاكم وغير ذلك من أشباهها.
لا ينبغي الشك في ورود بعض ما ذكر على قاعدة التسلط، فإن ما يدل على تشريك
الله ورسوله وذوي الحقوق الأخر في أموال الناس ينفي ملكية المالك بالنسبة إلى
هذا المقدار، وإذا انتفت الملكية انتفت السلطنة، وقال الله تعالى: واعلموا إنما
غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل (1).
وقال وفى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم (2) بناءا على كونه ناظرا
إلى الحقوق الواجبة.
وكذا ما دل على أن الله عز وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يسعهم، ولو
علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم.. " و " لو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عايشين
بخير " (3).
فإن ظاهره ان الزكاة ليست واجبا تكليفيا فقط، بل هو حكم وضعي وحق
للفقراء في أموال الأغنياء فقوله تعالى " خذ من أموالهم.. " وإن كان ظاهرا في أن
المال لهم ولكن كونهم مالكين إنما هو بحسب الظاهر وقبل فرض الزكاة، لا أقول

(1) الأنفال: 41.
(2) الذاريات: 19.
(3) الوسائل أبواب الزكاة الباب 1 الحديث 2.
41

انهم شركاء على نحو الإشاعة، بل أقول إن لأرباب الزكاة حقا وضعيا فيها، وقد
أوضحنا حال هذا الحق وآثاره في أبواب الزكاة، وانه حق لا كسائر الحقوق له
أحكام خاصة واخترنا هذا القول من بين الأقوال الثمانية الموجودة في المسألة في
كيفية تعلق حق الفقراء بأموال الأغنياء.
أما إذا لم يكن من هذا القبيل فلا شك ان أدله تعلق هذه الواجبات المالية
حاكمة على قاعدة التسلط لأنها ناظرة إليه، فلا يبقى شك في تخصيصها بها ولو لم
تكن النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا.
إلى هنا تم الكلام في " قاعدة التسلط " ويتلوه الكلام إن شاء الله في قاعدة
" حجية البينة ".
9 جمادى الأولى 1404
42

2 - قاعدة حجية البينة
* تعريفها ومعناها لغة وشرعا
* أدلة حجية البينة
* شرائطها والقيود المعتبرة فيها
* الموارد المستثناة من هذه القاعدة
* اعتبار كون البينة في الأمور المحسوسة
* كون حجية البينة عاما لكل أحد وبالنسبة إلى جميع الآثار
* نسبة البينة مع غيرها
* تعارض البينتين
43

حجية البينة
والمراد منها هنا شهادة عدلين، أو ما يقوم مقامها من شهادة المرأة، في جميع
الموضوعات، مما يترتب على حكم من أحكام الشرع، فلا يدور الكلام مدار لفظ
" البينة " فلا يهمنا البحث في أن تسمية شهادة العدلين باسم البينة هل هي حقيقة
شرعية ثابتة من لدن زمن النبي صلى الله عليه وآله أو بعد ذلك في زمن المعصومين عليهم السلام أو في
لسان الفقهاء؟
والحاصل ان المقصود هنا اثبات قاعدة كلية تقوم على حجية شهادة عدلين
في جميع أبواب الفقه، سواء في باب القضاء أو غيره من الأبواب والموضوعات.
وعدها من القواعد الفقهية - لا من المسائل الأصولية ولا المسائل الفقهية -
إنما هو من هذه الجهة، فإنه لا يبحث هنا عن ما يقع في طريق الاستنباط حتى يكون
مسألة أصولية، بل يبحث عن ما يقع في طريق اثبات الموضوعات.
كما أنه ليست من المسائل الخاصة في الفقه، لأنه يجرى في جميع الأبواب
من الطهارة إلى الديات، وعلى كل حال نتكلم في هذه القاعدة في مقامات:
1 - المقام الأول: في تعريف البينة ومعناها لغة وشرعا.
2 - المقام الثاني: في أدلة حجيتها بعنوان عام من الكتاب والسنة والاجماع
وبناء العقلاء.
45

3 - المقام الثالث: شرائطها والقيود المعتبرة فيها.
4 - المقام الرابع: الموارد المستثناة من هذه القاعدة التي يلزم فيها أربع
شهود وما يقوم شهادة المرأة مقام شهادة الرجل.
5 - المقام الخامس: في اعتبار كون البينة في الأمور المحسوسة.
6 - المقام السادس: في كون حجية البينة عاما لكل أحد وبالنسبة إلى جميع
الآثار.
7 - المقام السابع: في نسبة البينة مع غيرها.
8 - المقام الثامن: في تعارض البينتين.
المقام الأول
في تعريفها ومعناها لغة وشرعا
" البينة " مأخوذة من " بان، يبين، بيانا وتبيانا " وهي كما قال " الراغب "
في " المفردات " الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو محسوسة، وسمي الشاهدان بينة
لقوله صلى الله عليه وآله " البينة على المدعى واليمين على من أنكر " (1).
وقد استعمل في هذا المعنى (الدلالة الواضحة) في عشرات من الآيات في
القرآن الحكيم.
وقد استعمل بصورة المفرد في تسعة وعشرين موضعا من كتاب الله منها قوله تعالى
" قد جائتكم بينة من ربكم " (2).
وقوله تعالى " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة " (3).

(1) المفردات: مادة " بين ".
(2) الأعراف: 73، 85.
(3) الأنفال: 42.
46

وبصورة الجمع " البينات " في اثنين وخمسين موضعا، منها قوله تعالى
" لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " (1)
وقوله تعالى " ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها الا الفاسقون " (2).
والمراد منها في جميع هذه الآيات على كثرتها هو معناها اللغوي أي الامر
البين الواضح، سواء كان من المعجزات الباهرات، أو من الآيات القرآنية، والكلمات
الإلهية. التي نزلت على الأنبياء والرسل.
واستعمل أيضا ساير مشتقاتها من " المبينة " و " المبينات " و " المبين "
و " المستبين " وغيرها في آيات كثيرة في هذا المعنى.
ومن الجدير بالذكر انه لم يستعمل في شئ من آيات الكتاب على كثرتها
هذه الكلمة في معناها المصطلح في الفقه، بل استعمل - كما سيأتي - شهادة العدلين
أو الرجلين أو شبه ذلك.
ومن هنا وقع الكلام بينهم في أن لها حقيقة شرعية في شهادة العدلين من لدن
زمن النبي صلى الله عليه وآله أو لم تثبت له ذلك، وإنما ثبت كونها حقيقة في هذا المعنى في زمن
الصادقين عليهما السلام ومن بعدهم من الأئمة عليهم السلام، أو لم يثبت شئ من ذلك؟
الظاهر من كلمات القوم ان البينة كانت حقيقة في هذا المعنى من لدن عصره
صلى الله عليه وآله ولذا استدلوا بالحديث المشهور منه صلى الله عليه وآله " إنما اقضي بينكم بالبينات والايمان "
على حجية قول العدلين.
قال بعض المحققين: " تبادر هذا المعنى منها في لسان الشرع يرجع إلى
انصراف المفهوم الكلي إلى بعض مصاديقه، ولذلك لم يحتمل أحد من الفقهاء من

(1) الحديد: 25.
(2) البقرة: 99.
47

قوله صلى الله عليه وآله " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " (1) أو قوله صلى الله عليه وآله " إنما اقضي
بينكم بالبينات والايمان " (2) أن يكون مراده صلى الله عليه وآله غير هذا المعنى.
ولكن يمكن الخدشة فيه بان فهم الفقهاء (رضوان الله عليهم) وتبادر هذا المعنى
في أذهانهم، يمكن أن يكون مستندا إلى ما حدث في الأزمنة المتأخرة، فلا يكون
دليلا على كونها حقيقة في هذا المعنى في عصر النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده.
وقال في " تحقيق الدلائل " بان اختصاص عنوان البينة في الشريعة عند الاطلاق
على ما فوق الواحد، من الواضحات بأدنى رجوع إلى كلماتهم والاخبار، فبسببه
بعد اشتهار قوله صلى الله عليه وآله " البينة على المدعى.. " جعلت شهادة خزيمة ثابت شهادتين وسمى به حتى اشتهر بذى الشهادتين وبه اتفقت الاخبار الحاكية لقضاياهم على شهادة
اثنين (انتهى موضع الحاجة) (3).
فإن كان مراده من ذلك كونه حقيقة في هذا المعنى من لدن زمانه صلى الله عليه وآله فما
ذكره لا يثبت شيئا من ذلك، وجعل شهادة خزيمة شهادتين من قبيل بيان المصداق
ولا يدل على انحصار المفهوم فيه.
وقال النراقي في العوائد ان معناها المصطلح في الاخبار هو الشاهد المتعدد،
ويدل عليه توصيفها في رواية منصور عن الصادق عليه السلام بالجمع حيث قال " وأقام البينة
العدول " (4).
ولذا قال في التنقيح: " والذي يمكن ان يقال إن لفظ البينة لم تثبت لها حقيقة
شرعية ولا متشرعة، وإنما استعملت في الكتاب والاخبار بمعناها اللغوي، وهو ما

(1) المستدرك كتاب القضاء الباب 3 من أبواب أحكام الدعوى.
(2) الوسائل كتاب القضاء الباب 2 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
(3) تحقيق الدلائل ص 259.
(4) العوائد ص 277.
48

به البيان وما به يثبت الشئ، ومنه قوله تعالى " بالبينات والزبر " وقوله تعالى " حتى
تأتيهم البينة " وقوله تعالى " ان كنت على بينة من ربي " وغيرها من الموارد، ومن
الظاهر أنها ليست في تلك الموارد الا بمعنى الحجة وما به البيان، وكذا في ما ورد عن
النبي صلى الله عليه وآله من قوله " إنما اقضي بينكم بالبينات والايمان " اي بالايمان والحجج،
وما به يبين الشئ، ولم يثبت في شئ من هذه الموارد ان البينة بمعنى شهادة عدلين
وعرضه صلى الله عليه وآله من قوله " إنما اقضي.. " على ما نطقت به جملة من الاخبار بيان
ان النبي صلى الله عليه وآله وساير الأئمة عليهم السلام سوى خاتم الأوصياء المهدي (عج) لا يعتمدون في
المخاصمات والمرافعات على علمهم الوجداني المستند إلى النبوة والإمامة " (1).
أقول: ولكن مع ذلك كله فهناك قرائن مختلفة واردة في اخبار الباب يمكن
ان يستفاد من مجموعها ان البينة كانت حقيقة في هذا المعنى في عصر الأئمة عليهم السلام
وانتقلت من معناها اللغوي العام الشامل لكل دليل، إلى خصوص شهادة العدلين،
واليك نماذج منها:
1 - ما ورد في ذيل رواية سعدة بن صدقة الآتية، من قوله " والأشياء كلها على
هذا حتى تستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة " (2)
فإن جعل الاستنابة في مقابل قيام البينة دليل على أن البينة ليست مطلق الاستنابة
والدليل الظاهر الواضح، بل خصوص شهادة العدلين.
2 - ويدل عليه أيضا، في رواية منصور قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: " رجل في
يده شاة فجاء رجل فادعاها فأقام البينة العدول انها ولدت عنده.. وجاء الذي في
يده بالبينة مثلهم عدول أنها ولدت عنده.. ".
فإن توصيف البينة بالعدول مرتين في الرواية دليل على أن المراد منها الشهود

(1) التنقيح ج 1 ص 258.
(2) الوسائل ج 12 أبواب ما يكتسب به الباب 4 الحديث 4.
49

العدول عند اطلاقها، ولذا أطلق عنوان البينة على هذا المعنى من غير تغيير بالعدول
في نفس هذه الرواية مرارا، حيث قال الصادق عليه السلام في جوابه: " حقها للمدعي ولا
اقبل من الذي في يده بينة، لأن الله عز وجل إنما أمر ان تطلب البينة من المدعي فإن
كانت له بينة والا فيمن الذي هو في يده، هكذا أمر الله عز وجل " (1).
3 - ما ورد في رواية محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان
(أرواحنا فداه) وفيها قوله في السؤال " أقام به البينة العادلة.. وله بذلك كله بينة
عادلة " (2).
فإن توصيف البينة بالعادلة قرينة على أن المراد منها خصوص الشهود لا غير.
4 - ما ورد في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام " قال سئلت أبا عبد الله عليه السلام
عن الرجل يأتي القوم فيدعى دارا في أيديهم ويقيم البينة، ويقيم الذي في يده الدار
البينة انه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بينة يستحلف وتدفع
إليه " (3).
فإن تقييد البينة بالأكثرية دليل على أن المراد منها خصوص الشهود فتدبر.
5 - ما ورد في رواية " عبد الله بن سنان " قال سمعت " أبا عبد الله " عليه السلام يقول
أن رجلين اختصما في دابة إلى علي عليه السلام فزعم كل واحد منهما انها نتجت عنده على
مزوده، وأقام كل واحد منهما البينة سواء في العدد.. " (4).
فإن توصيف البينة بقوله سواء في العدد دليل على أن المراد منها الشهود.
6 - ما ورد في تفسير الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عن أمير المؤمنين

(1) الوسائل ج 18 كتاب القضاء الباب 12 من أبواب كيفية الحكم الحديث 14.
(2) الوسائل ج 18 كتاب القضاء الباب 16 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
(3) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 1.
(4) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 15.
50

عليه السلام قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله: " إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدعى ألك حجة؟ فإن أقام
بينة يرضاها ويعرفها انفذ الحكم على المدعى عليه، وان لم يكن له بينة حلف المدعى
عليه بالله ما لهذا قبله ذلك الذي ادعاه، ولا شئ منه، وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير
ولا شر قال للشهود أين قبائلكما فيصفان.. " الحديث (1).
فإن توصيف البينة بكونها معروفة عنده صلى الله عليه وآله ويرضاها، دليل على أن المراد
منها الشهود، ولذا ذكر في مقابله بعد تلك العبارة قوله " وإذا جاء بشهود لا يعرفهم
بخير ولا شر " فبدل البينة بالشهود فهذا دليل على أن المراد بهما واحد، فإذا عرف
الشهود ورضيها حكم به وان لم يعرفهم بعث إلى قبائلهما واستخبر حالهما.
ويتحصل من جميع ذلك أن كونها حقيقة في هذا المعنى في زمن الأئمة عليهم السلام
بحيث يفهم منها عند اطلاقها لا ينبغي انكاره، واما كونها كذلك في زمن النبي
صلى الله عليه وآله فهو قابل للتأمل، وإن كان بعض ما مر مشعرا بكونه كذلك حتى في عصره صلى الله عليه وآله
والله العالم.
المقام الثاني
في أدلة حجية البينة
ويدل عليها أمور:
الأول " كتاب الله العزيز " وفيه آيات كثيرة تدل على حجية قول العدلين
من غير التصريح بعنوان البينة.
منها ما ورد في سورة المائدة في أحكام الوصية: " يا أيها الذين آمنوا
شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو
آخران من غيركم " (2)

(1) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 6 الحديث 1.
(2) المائدة: 105.
51

ودلالتها على حجية قول العدلين واضحة، وان لم يكن موردها خصوص
الشهادة بل يحتمل كونهما مع ذلك وصيين عن الميت، فإذا قبلت قولهما في الشهادة
والوصاية فقبوله في الشهادة المجردة عن الوصاية بطريق أولى.
واما قوله تعالى: " أو آخران من غيركم " فالمراد منه على الظاهر شاهدان
آخران ثقتان من غير المسلمين إذا لم يوجد من المسلمين، ولا شك انه مختص بحال
الضرورة، والا فالايمان شرط بلا اشكال.
واحتمل بعضهم أن يكون المراد من قوله " منكم " من أقاربكم و " غيركم "
اي من الأجانب (1).
وقد يقال إن قوله " أو آخران من غيركم " منسوخ ولكن المشهور بين
الأصحاب بقائه وعدم نسخه، وتخصيصه بشهادة أهل الذمة مع تعذر شهادة المسلمين
في الوصية.
واما القيود الأخر الواردة في هذه الآية من قوله " تحسبونهما من بعد
الصلاة.. " سواء كانت واجبة أو مستحبة فهي مختصة بموردها، وما يلحق بها،
ولا ينافي ما نحن بصدده.
ومنها قوله تعالى في حكم كفارة قتل الصيد في حال الاحرام: " يا أيها الذين
آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما
قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم " (2).
دل على وجوب كون الكفارة مماثلا للحيوان الذي اصطاده، وحيث إن
المماثلة قد تخفى وتكون موردا للشك وجب أن تكون بحكم ذوي عدل، اي خبرتين
عدلين.

(1) حكاه في " كنز العرفان " عن بعض من لم يسمه (ج 2 ص 97 كتاب الوصية).
(2) المائدة: 95.
52

وهل المراد المماثلة في الكبر والصغر والنوع، أو المماثلة في القيمة؟ الظاهر
هو الأول واليه ذهب أصحابنا في ما يوجد له مماثل.
وتقييده بقوله " منكم " بعد ذكر العدالة اما من باب التأكيد لأن العدالة لا ينفك
عن الايمان والاسلام، واما من جهة ان العدالة هنا بمعنى الوثاقة التي قد تجتمع مع
الايمان وعدمه، فذكر هذا القيد لاشتراط الايمان.
نعم يرد عليه ان الآية ناظرة إلى حجية قول أهل الخبرة، مع أن كلامنا في
حجية قول الشاهدين في المحسوسات، ولكن يمكن الجواب عنه بان حجية قول
العدلين في الحدسيات دليل على حجيته في الحسيات بطريق أولى (فتأمل).
ومنها قوله تعالى في أحكام الطلاق: " فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف
أو فارقوهن بمعروف واشهدوا ذوي عدل منكم " (1)
اي إذا بلغت النساء عدتهن، والمراد ببلوغ العدة، كما قيل، مقاربتها أو
مشارفة تمامها بحيث يبقى للزوج مجال الرجوع، فاما ان يرجع إليها ويحسن معاشرتها
فيكون من قبيل الامساك بالمعروف، أو يتركها حتى يخرج عدتها فيكون من المفارقة
بالمعروف.
وهل الاشهاد بالنسبة إلى الرجوع كما قالت الشافعية، أو راجع إلى الطلاق
كما ذهب إليه أصحابنا، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام لكون الكلام في الطلاق،
لا يتفاوت فيما نحن بصدده، فإنه دليل على حجية قول العدلين اما في الطلاق أو
الرجوع وهو المطلوب.
ومنها قوله تعالى في حكم الدين: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء.. واشهدوا
إذا تبايعتم " (2)

(1) الطلاق: 2.
(2) البقرة: 282.
53

دلت الآية على الوجوب أو استحباب كتابة الديون واشهاد رجلين مسلمين
(بقرينة قوله تعالى: من رجالكم) " وان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ".
وقوله " ممن ترضون من الشهداء.. " إشارة إلى العدالة أو الوثاقة.
وقوله بعد ذلك " واشهدوا إذا تبايعتم " ظاهر في اشهاد عدلين، الذي سبق
ذكره، فالآية دالة على حجية قول العدلين في الديون وكذا في أبواب البيوع.
وكون هذا الحكم بعنوان الوجوب أو الاستحباب لا يهمنا بعد ما عرفت وقال
في كنز العرفان: " الامر هنا عند مالك للوجوب والأصح انه اما للندب أو الارشاد
إلى المصلحة " (1).
ولو لم يكن المقام مقام الارشاد أمكن القول بوجوبه لظهور الامر في الوجوب.
وتحصل مما ذكرنا حجية شهادة العدلين في الطلاق، والوصية، والدين،
والبيع، وأحكام الكفارات، وهل يمكن استفادة العموم من هذه الموارد الخاصة،
أو لابد من الاقتصار على مواردها، وعدم التعدي منها إلى غيرها؟
الانصاف ان بحسب الفهم العرفي يصطاد منها العموم بلا اشكال، لا سيما
مع مناسبة الحكم والموضوع، وقوله تعالى في أحكام الدين " ممن ترضون من
الشهداء ان تضل إحديهما فتذكر إحديهما الأخرى " (2) الذي هو من قبيل التعليل وهو
دليل على العموم ولا أقل من الاشعار.
وبالجملة لو لم يكن في المقام دليل آخر على العموم كفانا ما ورد في الكتاب
العزيز، ولكن ستعرف ان هناك أدلة كثيرة أخرى أيضا.
وقد يستدل هنا بالآيات الواردة في حكم وجوب الشهادة مثل قوله تعالى " ولا

(1) كنز العرفان كتاب الدين ج 2 ص 47.
(2) البقرة: 282.
54

تكتموا الشهادة " (1) وقوله تعالى " وأقيموا الشهادة لله " (2) وغير ذلك.
ولكن الانصاف انها بأنفسها غير دالة على المقصود الا ان ينضم إلى الاجماع
أو غيرها، بل يأتي فيها ما ذكر في الأصول في أبواب حجية خبر الواحد، من أن
وجوب الاظهار على العالم، والانذار على الفقيه، وأشباههما لا تدل على حجية
قولهم تعبدا، نعم غاية ما يمكن ان يقال في المقام انها لو لم تكن حجة لكانت لغوا
ولكن يكفي في دفع اللغوية حصول العلم منها كثيرا كما يحصل بقول العالم والفقيه.
الثاني: السنة
اما الروايات العامة فهي كثيرة واردة في باب القضاء منها:
1 - ما وراه يونس عمن رواه، قال: استخراج الحقوق بأربعة وجوه، بشهادة
رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل
ويمين المدعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه (3).
ولكنها مرسلة مضافا إلى الاضمار وعدم التصريح باسم الإمام المروي عنه فيه.
2 - ما وراه صفوان الجمال في حديث قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لقد حضر الغدير
اثنا عشر الف رجل يشهدون لعلي بن أبي طالب عليه السلام فما قدر على اخذ حقه، وان
أحدكم يكون له المال ويكون له شاهدان فيأخذ حقه (4).
3 - ما رواه محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام في ما كتب إليه في جواز مسائله:
" والعلة في شهادة أربعة في الزنا واثنتين في سائر الحقوق، لشدة حد المحصن،

(1) البقرة: 283.
(2) الطلاق: 2.
(3) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 15 الحديث 2.
(4) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 5 الحديث 3.
55

لأن فيه القتل " (1).
إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.
4 - منها ما دل على " ان البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " بنحو
عام، كالخبر المعروف المروي عن النبي صلى الله عليه وآله قال " البينة على المدعي واليمين على
المدعى عليه " (2) وهو مروي أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله " البينة
على من ادعى واليمين على من ادعي عليه " (3)
5 - ما رواه سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال في كتاب علي عليه السلام ان
نبيا من الأنبياء شكى إلى ربه فقال يا رب! كيف اقضي فيما لم أر ولم اشهد؟ قال
فأوحى الله إليه: أحكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي، فحلفهم به وقال هذا لمن
لم تقم له بينة (4).
والروايات في هذا المعنى كثيرة جدا (رواها في الوسائل في الباب الأول
والثاني والثالث من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء).
ولكن كل ذلك مبينة على أن المراد بالبينة شاهدي عدل، وقد مر كلامنا في
هذا المعنى فراجع.
ثم إن هذه الروايات وان كانت عامة في أبواب القضاء متضافرة، أو متواترة،
ولكن لا تشمل الموضوعات المختلفة في أبواب الفقه إذا لم تكن محلا للدعوى،
اللهم الا ان يتمسك بالأولوية، ويقال: إذا كان الشاهدان حجة في أبواب الحكم
والقضاء، وما فيه النزاع والدعوى، ففي ما ليس كذلك يكون حجة بطريق أولى،

(1) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 5 الحديث 2.
(2) التاج ج 3 ص 61 كتاب الامارة والقضاء باب البينة على المدعى واليمين على
من أنكر.
(3) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 1.
(4) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 1 الحديث 1.
56

وليس ببعيد.
واما الروايات العامة التي تشمل الأبواب كلها سواءا أبواب القضاء وغيرها
فلم نجد منها غير رواية " مسعدة بن صدقة " المروية عن " أبي عبد الله عليه السلام " قال
سمعته يقول: " كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك
وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو السرقة، والمملوك لك لعله حر قد
باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء
كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة " (1).
وأورد عليها تارة بضعف السند للاشكال المعروف في وثاقة " مسعدة " فإن
النجاشي والعلامة في الخلاصة والشيخ في الفهرست والكشي وغيرهم ذكروه من
غير توثيق، مضافا إلى أنه عامي تبري ولكن أجيب عنه بان عمل الأصحاب يوجب
انجبارها.
هذا ولكن وجود روايات كثيرة وآيات متعددة على حجية شهادة العدلين
يمنع عن العلم أو الظن بكون استناد الأصحاب في اثبات حجيتها إلى رواية مسعدة.
وأورد عليها من حيث الدلالة أيضا أولا بان المراد من البينة معناها اللغوي،
وهو الدليل الواضح الظاهر، ولا أقل من الشك فالرواية مجملة.
ولكن قد عرفت انها وان كانت بهذا المعنى في اللغة، والاستعمالات القرآنية
ولكن نقلت إلى المعنى الشرعي، لا سيما في زمن الصادقين عليهما السلام.
وهنا قرينة واضحة في نفس الرواية على هذا المعنى أيضا فإنه جعلت البينة
في مقابل الاستنابة العلمية، فقال " حتى تستبين أو تقوم به البينة " وهذا يدل على أن
المراد بالبينة غير ما هو معناها اللغوي، والا لم يحتج إليه بعد ذكر الاستنابة.
وثانيا ان البينة في الرواية جعلت غاية للحلية، فغاية ما يستفاد منها ان الحلية

(1) الوسائل كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به الباب 4 الحديث 4.
57

المستندة إلى أصالة الحل تنتهي بقيام البينة، واما ان البينة حجة في نفسها فلا دليل عليه.
والانصاف سقوط هذا الاشكال جدا، فإن ظاهرها - لا سيما بقرينة عطف
البينة على الاستنابة - انه إذا قام البينة، أو الدليل العلمي على الحرمة، يؤخذ بها،
لأنها حجة، فإذا لا يبقى مجال بلا اشكال على الرواية من حيث الدلالة.
وهيهنا اشكال آخر لا من هذه الناحية، بل من جهة ان الحلية في الأمثلة
المذكورة في الرواية ليست مستندة إلى أصالة الحل، بل في مسألة الثوب، والعبد
مستندة إلى حجية اليد، وفي مسألة الرضاع مستندة إلى استصحاب عدمه، فشئ من
الأمثلة غير منطبق على قاعدة الحل.
ولكن يمكن ان يجاب عنه أولا بان المراد من الاستناد إلى قاعدة الحل انه
مع قطع النظر عن اليد والاستصحاب الحكم هو الإباحة فتأمل، أو ان ذكر الأمثلة
من باب التقريب إلى الذهن.
وثانيا وجود الاشكال فيها من حيث الأمثلة وعدم العلم بمحتواها ومغزاها
من هذه الناحية، لا يمنع عن الاخذ بالكبرى الواردة فيها فتدبر.
* * *
هذا وقد ورد روايات خاصة كثيرة في مختلف أبواب الفقه لا يمكن احصاء
جميعها في هذا المختصر، ولكن يمكن اصطياد العموم من مجموعها، واستظهار
الاطلاق من ناحيتها، بحيث لا يبقى شك للناظر فيها في حجية البينة مطلقا واليك
نماذج من هذه الروايات نلقيها عليك من أبواب مختلفة من كل باب نموذجا.
منها ما ورد في أبواب النكاح، عن يونس: " قال سئلته عن رجل تزوج
امرأة في بلد من البلدان فسألها لك زوج؟ فقالت لا، فتزوجها، ثم إن رجلا أتاه
فقال هي امرأتي فأنكرت المرأة ذلك، ما يلزم على الزوج؟ فقال هي امرأته الا ان
58

يقيم البينة " (1).
ومن طرق العامة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا نكاح الا بولي وشاهدي
عدل (2).
وفي رواية أخرى المروي عن طرقنا عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال لأبي
يوسف: " ان الله أمر في كتابه بالطلاق، وأكد فيه بشاهدين، ولم يرض بهما الا
عدلين، وأمر في كتابه بالتزويج، فأهمله بلا شهود، فأثبتم شاهدين فيما أهمل،
وأبطلتم الشاهدين فيما أكد " (3)!
وفي غير واحد منها انه إنما جعلت البينة في النكاح من اجل المواريث.
وهناك روايات أخر واردة في أبواب 22 و 23 وغيرهما من كتاب النكاح في
الوسائل مما يدل على هذا المعنى.
* * *
ومنها ما ورد في أبواب الطلاق من اشتراط صحة الطلاق بوجود شاهدين
عدلين، فإن هذا ليس تعبدا محضا، بل الظاهر أن اعتبار الشهود من جهة عدم خفاء
طلاق المرأة، وامكان اثباته في المستقبل، سواءا عند القضاة أو غيرهم، فلا يرجع
هذا الحكم إلى حجية البينة في أبواب القضاء فقط.
فعن بكير بن أعين وغيره عن أبي جعفر عليه السلام: " وان طلقها للعدة بغير شاهدي
عدل فليس طلاقه بطلاق " (4).
* * *

(1) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب عقد النكاح الباب 23 الحديث 3.
(2) سنن البيهقي ج 10 ص 148 والتاج ج 2 ص 293 كتاب النكاح.
(3) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب مقدماته الباب 43 الحديث 5.
(4) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدماته الباب 10 الحديث 2 وفى معناها
الحديث 3 و 4 و 7 و 8 و 12 و 13.
59

ومنها ما ورد في أبواب رؤية الهلال من كتاب الصوم، مثل ما عن الحلبي
عن أبي عبد الله عليه السلام: " ان عليا عليه السلام كان يقول: لا أجيز في الهلال الا شهادة رجلين
عدلين " (1).
وما رواه حماد بن عثمان عنه عليه السلام أيضا قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: " لا يجوز
شهادة النساء في الهلال ولا يجوز الا شهادة رجلين عدلين " (2).
وما رواه منصور بن حازم عنه عليه السلام أيضا: أنه قال: " صم لرؤية الهلال وأفطر
لرؤيته، وان شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه " (3).
ومثله روايات كثيرة أخرى أوردها في الوسائل في أبواب الصيام.
وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا مثل ما رواه ابن عمر وابن عباس
عن رسول الله صلى الله عليه وآله قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يجيز على شهادة الافطار الا شهادة
رجلين (4).
ولكن ورد من طرقهم كفاية شهادة الرجل الواحد أيضا.
* * *
ومنها ما ورد في أبواب الأطعمة في باب الجبن عن أبي عبد الله عليه السلام حيث
شك بعض أصحابه في حليته لما وصل إليهم من وضع إنفحة الميتة، فيها قال عليه السلام:
" كل شئ لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه ميتة " (5).
وقد ذكرنا في محله ان إنفحة الميتة وان كانت طاهرة وحلالا عند الأصحاب
ولكن يمكن نجاسة ظاهرها بالملاقاة مع الرطوبة بالميتة.
* * *

(1) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 11 الحديث 1 و 3
(2) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 11 الحديث 1 و 3
(3) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 3 الحديث 8.
(4) سنن البيهقي ج 4 ص 212 (باب الشهادة على رؤية هلال رمضان).
(5) الوسائل ج 17 كتاب الأطعمة والأشربة أبواب الأطعمة المباحة الباب 16 الحديث 2.
60

ومنها ما ورد في كتاب الحدود في حكم الساحر انه سئل رسول الله صلى الله عليه وآله
عن الساحر، فقال: إذا جاء رجلان عدلان فشهدا بذلك فقد حل دمه (1).
* * *
ومنها ما ورد في باب الشهادة على الشهادة عن الصادق عليه السلام " ان شهد رجلان
عدلان على شهادة رجل فقد ثبت شهادة رجل واحد " (2).
* * *
ومنها ما ورد في أبواب الوقوف والصدقات عن أبي بصير قال: قال أبو
جعفر عليه السلام: الا أحدثك بوصية فاطمة عليها السلام - إلى أن قال - فإن مضى علي فإلى الحسن
فإن مضى الحسن فإلى الحسين، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي، تشهد
الله على ذلك والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام وكتب علي بن أبي طالب عليه السلام (3).
* * *
ومنها ما ورد في أحكام الوصايا عن علي عليه السلام قال: " من أقر لأخيه فهو شريك
في المال ولا يثبت نسبه، فإن أقر اثنان فكذلك، الا ان يكونا عدلين فيثبت نسبه،
ويضرب في الميراث معهم " (4).
هذا قليل من كثير مما ورد في هذه الأبواب مما يتجاوز حد التواتر وهي وان
كانت واردة في موضوعات خاصة، الا ان الناظر فيها يستدل بها على العموم في
أول نظرة، بحيث لا يبقى له شك في أن قبول قول الشاهدين في هذه الأبواب لا ينشأ
من خصوصيات فيها، بل هو ناش عن حجية قول العدلين على الاطلاق وفي جميع

(1) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب بقية الحدود الباب 3 الحديث 1.
(2) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 40 رقم الحديث 132.
(3) الوسائل ج 13 كتاب الوقوف والصدقات أحكام الوقوف الباب 10 الحديث 1.
(4) الوسائل ج 13 كتاب الوصايا أبواب أحكام الوصايا الباب 26 الحديث 6.
61

الأبواب.
* * *
الثالث: الاجماع
لا يخفى على الناظر في أبواب الفقه، من الطهارات إلى الديات، ان فقهائنا
(رضوان الله عليهم) يعتمدون على البينة في كل باب بحيث يعلم الناظر منها حجية
البينة عندهم بصورة عامة. نعم قد يحكى عن شرذمة قليلة عدم الاعتماد عليها في
بعض الأبواب، مثل ما نسب إلى القاضي ابن براج من انكار حجية البينة العادلة في
اثبات النجاسة، وما حكى عن ظاهر السيد (قدس سره) في الذريعة، والمحقق في
المعارج، وبعض آخر من أن الاجتهاد لا تثبت بشهادة عدلين لعدم الدليل عليه.
لكنها شاذة لا يمكن الاعتماد عليها في قبال ما عرفت.
نعم الاجماع وإن كان ثابتا الا انه لا يمكن الاستدلال بها كدليل مستقل هنا،
لما حقق في محله من أنه لا يمكن استكشاف قول المعصوم منه مع وجود أدلة أخرى
في المسألة، مع أن معيار حجيتها هو استكشاف قول المعصوم منه، وما نحن فيه
من هذا القبيل، لما عرفت من الأدلة الظاهرة الواضحة المتكاثرة من هذا الباب.
ولا بأس بالإشارة إلى أنموذج من كلمات الأصحاب في الأبواب المختلفة
مما يشهد بمعلومية حجية البينة عندهم كدليل عام، وكفاك في ذلك ما أورده شيخ
الطائفة (قدس الله نفسه الزكية) في مختلف أبواب الفقه فإنه اعتمد عليها، بل ادعى
الاجماع على اعتبارها، في أبواب " الصيام " و " الطلاق " و " الحدود " و " النكاح "
وغيرها.
قال في " الخلاف " في كتاب الصيام في المسألة (8):
" لا يقبل في رؤية هلال رمضان الا شهادة شاهدين.. دليلنا اجماع الطائفة
62

والاخبار " (1).
وقال في المسألة (61) منه: " لا يثبت هلال شعبان (شوال) ولا شئ من الشهور
الا بشهادة نفسين عدلين، وبه قال الشافعي.. دليلنا اجماع الفرقة، وأيضا قبول
شاهدين في ذلك مجمع عليه " (2).
وقال في المسألة (5) من كتاب الطلاق: " كل طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان
عدلان وان تكاملت سائر الشروط فإنه لا يقع.. دليلنا اجماع الفرقة واخبارهم (3).
ومن الواضح ان حضور الشاهدين دليل على قبول شهادتهما في هذا الموضوع
فيما يمكن ان يقع الخلاف فيه بعد ذلك.
وقال في كتاب اللعان في المسألة (18): إذا قذف زوجته بان رجلا أصابها
في دبرها حراما لزمه الحد بذلك... وله اسقاطه بالبينة (4).
وقال في كتاب القضاء في المسألة (9) في حكم الترجمة: " الترجمة: لا تثبت
الا بشهادة شاهدين لأنها شهادة " وبه قال الشافعي (5).
وقال في كتاب الشهادات في المسألة (4): لا يثبت النكاح والخلع والطلاق
والرجعة والقذف والقتل الموجب للقود والوكالة والوصية إليه والوديعة عنده والعتق
والنسب والكفالة ونحو ذلك ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه
الرجال، الا بشهادة رجلين... دليلنا ان ما اعتبرناه مجمع على ثبوت هذه الأحكام
به (6).

(1) الخلاف ج 1 ص 341.
(2) الخلاف ج 1 ص 355.
(3) الخلاف ج 2 ص 442.
(4) الخلاف ج 3 ص 36.
(5) الخلاف ج 3 ص 312.
(6) الخلاف ج 3 ص 326.
63

وعموم كلامه وشموله واضح لا يخفى على أحد.
وهكذا كلمات غيره من أكابر المتقدمين والمتأخرين في هذا المعنى لا نطيل
المقام بذكرها بعد وضوحها.
* * *
الرابع: بناء العقلاء
لاشك ان بنائهم على قبول الثقة في اثبات الموضوعات في مقام القضاء
وغيره، وان اختلفت آرائهم في شرائطه وحدوده وقيوده وعدده، ومن الواضح ان
الشارع لم يردع عنه بل أمضاه ولكن مع شرط " العدالة " و " العدد " كما عرفت وسيأتي
إن شاء الله أيضا في طي المباحث الآتية.
المقام الثالث
شرائطها والقيود المعتبرة فيها
ولا نحتاج في هذا المقام إلى مزيد كلام بعدما عرفت من الآيات من الذكر
الحكيم، التي ورد فيها اعتبار الرجلين والعدالة، فقد نص على ذلك في سورة المائدة
في حكم الوصية، وفي سورة الطلاق في حكم الطلاق، وفي سورة البقرة في أحكام
الدين، وفي سورة المائدة في حكم أهل الخبرة بمساواة الكفارة والصيد.
كل ذلك دليل على اعتبار الأمور الثلاثة في البينة: " الذكورية " و " العدد " و " العدالة ".
وقد صرح بذلك أيضا في طيات اخبار الباب التي عرفت الإشارة إلى طوائف
منها، فقد ورد فيها التصريح بالتعدد والعدالة والذكورية.
فمما ورد التصريح فيه بجميع ذلك مرسلة الصدوق عن الصادق عليه السلام في باب
64

الشهادة على الشهادة (1).
وما رواه حماد بن عثمان عن الصادق عليه السلام في أبواب رؤية الهلال (2).
وما رواه الحلبي عنه أيضا عن أمير المؤمنين في هذا الباب (3).
وما رواه زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حكم
الساحر (4).
إلى غير ذلك مما يظهر للمتتبع.
ومما يدل على اعتبار " شاهدين عدلين " ما ورد أيضا عن محمد بن مسلم عن
أبي عبد الله عليه السلام في باب الشهادة على الهلال (5).
وما رواه بكير بن أعين وغيره عن أبي جعفر عليه السلام في باب الشهود على الطلاق (6).
وما رواه في " البحار " عن " فقه الرضا " في باب الطلاق أيضا، وانه لا يجوز الا
شهادة عدلين (7) إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.
ومن الواضح ظهور عنوان شاهدين عدلين في الشرائط الثلاثة " التعدد " و
" الذكورة " و " العدالة ".
وقد ورد في بعض اخبار الباب اعتبار كونهما رجلين عدلين مرضيين وهو يثبت
المقصود مع تأكيد، وهو ما رواه " مسمع بن عبد الملك " عن أبي عبد الله عليه السلام في
باب الشهادة على الزندقة (8).

(1) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب 44 الحديث 5.
(2) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 11 الحديث 3 و 1
(3) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 11 الحديث 3 و 1
(4) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب بقية الحدود الباب 2 الحديث 1.
(5) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 14 الحديث 1.
(6) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدماته الباب 10 الحديث 2.
(7) البحار ج 104 ص 141 باب الطلاق وأحكامه الحديث 21.
(8) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب 51 الحديث 1.
65

نعم لم يرد في بعض الروايات الا توصيف الشهادة بالعادلة، مثل ما رواه ضمرة
ابن أبي ضمرة، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين عليه السلام: " ان أحكام المسلمين
على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية، من أئمة الهدى " (1).
وفى بعضها ورد عنوان الرجولية والتعدد، من غير ذكر اشتراط العدالة مثل
ما رواه محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام في باب الشهادة على السرقة، من أن أمير
المؤمنين عليه السلام قضى في رجل شهد على رجلان بأنه سرق، فقطع يده (2).
وما ورد فيه عنوان " البينة " من غير ذكر العدد والعدالة والذكورة، وهي
ورايات كثيرة مبثوثة في أبواب الفقه.
ومن الواضح ان مقتضى القاعدة الجمع بين جميع هذه الطوائف وارجاع
مطلقاتها إلى مقيداتها، باعتبار الشروط الثلاثة، فلا يكفي غير رجلين عدلين الا
ما خرج بالدليل وسيأتي الإشارة إليه إن شاء الله.
المقام الرابع
الموارد المستثناة من هذه القاعدة
قد عرفت ان الأصل في البينة أن يكون رجلين عدلين فشهادة النساء، واخبارهم
لا تقبل الا في موارد ورد الدليل الخاص فيها وسيأتي الكلام فيها في المقام الآتي،
وكذلك لا يعتبر أكثر من الرجلين الا في موارد خاصة، وقع التصريح بها في الأدلة،
واما انه هل يمكن الاكتفاء بقول عدل واحد مطلقا في جميع الموضوعات،
أو مع اليمين في أبواب الشهادات، فهو بحث آخر سيأتي في محله إن شاء الله.
والذي قام الدليل على اعتبار الزائد من الرجلين فيها هو " الزنا " مطلقا، المحصن

(1) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 1 الحديث 6.
(2) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب 14 الحديث 1.
66

وغير المحصن، واللواط، والسحق، فإن المعتبر فيها أربع رجال، حتى أن قتل
النفوس المؤمنة مع كثرة أهميتها وشدة اهتمام الشارع بها لا يعتبر في اثباتها غير الشاهدين
فكأن الشارع المقدس أراد ستر الناس في هذين البابين مهما أمكن والاحتفاظ بأمرهم.
والذي يدل على لزوم الأربع في الزنا هو صريح الكتاب العزيز فقد قال (عز
من قائل) في كتابه العزيز: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة " (1) دل على أن حكم القذف لا يثبت الا بأربعة شهداء.
والتعبير بأربعة وكذلك " الشهداء " دليل على كونهم من الذكور.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى: " واللاتي يأتين بفاحشة من نسائكم فاستشهدوا
عليهن أربعة منكم " (2).
وقد قام الاجماع بقسميه على هذا المعنى وشهد بها السنة المعتبرة المستفيضة،
فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: " لا يجلد رجل ولا امرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود
على الايلاج والاخراج " (3).
وقال عليه السلام أيضا: " لا يرجم رجل ولا امرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على
الايلاج والاخراج " (4).
إلى غير ذلك مما جمعه في الوسائل في الباب " 12 " من أبواب حد الزنا،
وغيرها.
وورد التصريح فيها بأنه إذا كانت الشهود أقل من أربعة يجلدون حد
القذف!.

(1) النور: 4.
(2) النساء: 15.
(3) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب حد الزنا الباب 12 الحديث 11.
(4) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب حد الزنا الباب 12 الحديث 2.
67

وهكذا الحكم بالنسبة إلى اللواط فإنه أيضا مجمع عليه بين الأصحاب، وان
لم يرد فيه رواية صريحة، ولكن استدل الأصحاب هنا بما ورد في صحيحة " مالك بن
عطيه " عن ابن عبد الله عليه السلام من اعتبار اقرارات أربع وعدم كفاية اقرار واحد بل
ولا ثلاثة (1).
فإن المترائي من أحاديث الاقرار في أبواب الزنا ان كل اقرار يقوم مقام شهادة
فإذا اعتبر الاقرار أربع مرة فلابد من اعتبار أربع شهود، لا سيما مع كون الاقرار
أولى من الشهادة في هذه الأبواب كما لا يخفى، ولذا يكفي في أبواب الحقوق
الاقرار مرة واحدة، مع أن الشهادة فيها لا تكون الا باثنين، فإذا لم يثبت اللواط
بأقل من أربع اقرارات لا يثبت بأقل من أربع شهود بطريق أولى.
والحاصل ان الحكم في هذا الباب مما لا يقبل الانكار ولا كلام فيه عندهم.
وهكذا الكلام في المساحقة، فإن المعروف فيها أيضا عدم اعتبار الأقل من
أربعة شهود، بل ادعي الاجماع عليه في كشف اللثام، وذكر في الجواهر ان المسألة
مفروغ عنها، وان حكي عن المحقق الأردبيلي في مجمع البرهان من كفاية الاقرار
مرتين وشهادة العدلين ولكنه ضعيف.
لما ورد في الروايات انه هو الزناء الأكبر الذي أحدثه بنت إبليس كما أحدث
أبوها اللواط (2) بل وفيها ما دل على أنه كاللواط في الرجال (3).
وما دل على أن حدها حد الزاني (في غير المحصن مائة جلدة وفي المحصن
الرجم) (4).

(1) الوسائل ج 18 أبواب حد السرقة الباب 19 الحديث 6.
(2) الوسائل ج 18 أبواب النكاح المحرم الباب 24 الحديث 5.
(3) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب حد السحق الحديث 2.
(4) الوسائل ج 18 أبواب حد السحق الباب 1 الحديث 1.
68

ويظهر من جميعها ان طريق ثبوتها كطريق ثبوت الزنا واللواط، فلا يكتفي
فيه بأقل من أربعة وتمام الكلام فيه في محله.
واما عدم قبول شهادة النساء في الموضوعات فهو ظاهر مما عرفت من الأدلة
والأخبار الكثيرة التي صرح فيها باعتبار رجلين عدلين، أو شاهدين مرضيين، أو غير
ذلك مما يفيد هذا المعنى، فالأصل في أبواب الشهادات عدم قبول شهادتهن في غير
ما ورد فيه الدليل.
فما ذكره بعض الاعلام من أن عنوان البينة عام يشمل الرجال والنساء كما ترى
لما عرفت من أن اطلاق البينة - لو سلمنا صدقها على شهادتهن - مقيدة بما عرفت مما
يدل على اعتبار الذكروية فيها، من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة.
نعم قد ورد في أبواب الشهادات كفاية شهادتهن في بعض الموضوعات، كما
ورد كفاية شهادتهن منضمات إلى الرجال في أبواب الحدود، وتفصيل الكلام فيها
موكول إلى محلها من كتابي " الشهادة " و " الحدود ".
المقام الخامس
في اعتبار كون البينة في الأمور المحسوسة
لا ينبغي الشك في أن المعتبر في حجية البينة أن يكون في المحسوسات، واما
غيرها مما لا يحيط به الحس فهو غير داخل في أحكام البينة، وان قلنا بحجية الشهادة
فيها أيضا، فإنه داخل في عنوان الرجوع إلى أهل الخبرة، وله أحكام اخر سيأتي
الإشارة إليها إن شاء الله.
ويدل على ما ذكرنا أمور:
1 - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في هذا المعنى.
69

2 - اخذ عنوان الشهادة في هذا الباب دليل عليه، فإنها من الشهود الظاهر
في كون المشهود فيه أمرا محسوسا.
3 - الأخبار العامة والخاصة الواردة في البينة التي أشرنا إليها سابقا كلها أو جلها
ظاهرة في ما كان المخبر به أمرا حسيا، فلا يستفاد منها عموم يشمل غير المحسوسات.
4 - الروايات الخاصة الدالة على لزوم كون الشهادة عن حس دليل واضح
على المقصود مثل ما رواه علي بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " لا تشهدن بشهادة
حتى تعرفها كما تعرف كفك " (1).
وما رواه المحقق (ره) في الشرايع عن النبي صلى الله عليه وآله وقد سئل عن الشهادة، قال:
" هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع " (2).
ولا أقل من الشك في شموله لما علم من غير طريق الحس، والأصل عدم
القبول - والامر في هذا سهل - لا سيما مع بناء العقلاء أيضا في شهاداتهم على ذلك
فلا يكتفون بشهادة من علم بشئ من قرائن حدسية.
إنما الكلام في المراد من الحس هنا، فإنه لو كان المقصود كون مورد الشهادة
دائما محسوسا بأحد الحواس الخمسة (أو أكثر من الخمسة) فهذا غير صحيح قطعا،
فإن من يشهد بان زيدا ابن عمرو، أو اخوه، أو عمه، أو خاله، فهل يمكن أن يكون
هذا محسوسا له، وهل شاهد تولده منه، أو تولدهما من أم واحد؟ كلا بل رآه في بيتة
يعامل معه معاملة ابنه، يربيه ويكفله واشتهر بذلك كل الشهرة، فمن هذه الأمور يقطع
بأنه ابنه فيشهد به.
وهكذا الكلام في الشهادة على العدالة فإنها ليست من الأمور الحسية، بل
مستفادة من قرائن كثيرة حسية.
ومثلهما الشهادة على الاجتهاد والاسلام والايمان وغير ذلك، فإن هذه كلها

(1) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات الباب 20 الحديث 1 و 3.
(2) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات الباب 20 الحديث 1 و 3.
70

أمور غير محسوسة تعرف من آثارها ولكنها تعد في نظر العرف أمورا حسية.
فالحس المعتبر في هذا الباب له معنى عام، يشمل ما كان محسوسا بنفسه، أو
بآثاره التي يكون معها كالمحسوس.
وهكذا الكلام في المسببات التوليدية التي لا ترى الا أسبابها، وآثارها، فقتل
النفس وهو زهاق الروح ليس أمرا حسيا، بل المحسوس ضرب العنق بالسيف مثلا
أو الالقاء من شاهق، أو الاغراق في الماء، أو الاحراق بالنار، ثم بعد ذلك لا يرى الحس
والحركة في البدن ولا يرى آثار الحياة فيقال كان زهاق الروح مسببا منه لا محالة.
ومن هذا القبيل الشهادة بالسخاوة والشجاعة واباء النفس أو البخل والدنائة
والجبن وغير ذلك من الصفات النفسية، فإن جميعها تعرف من آثارها.
وبالجملة المحسوس هنا أعم مما يحس بنفسه، أو بأسبابه، أو بآثاره التي تكون
معها كالمحسوس بنفسه، نعم لا يمكن التعدي منها إلى غيرها.
فعلى هذا إذا علمنا من قرائن مختلفة ان زيدا قاتل عمرو.
من تلجلج لسانه عند الجواب.
ومن تغير حاله عند مشاهدة آثار هذه الجناية.
ومن أجوبته المتناقضة عند السؤال عن القتل.
ومن كونه شديد العداوة مع المقتول، وسماع الحوار بينهما في ساعة وقوع
القتل، وغير هذه الأمور مما يوجب اليقين بكونه قاتلا، فشئ من ذلك لا يجوز
الشهادة معها على القتل، ولا تكون داخلا في عنوان البينة، وإن كان القاضي قد يعمل
بها لو حصلت عنده بناءا على حجية علم القاضي، وجواز الحكم معه مطلقا، أو فيما
كان قريبا من الحس، مثل ما روي في قضايا أمير المؤمنين علي عليه السلام في رجل توفي
على عهده وخلف ابنا وعبدا، فادعى كل واحد منهما انه الابن، وان الاخر عبد له!
فأتيا أمير المؤمنين عليه السلام فتحاكما إليه، فامر ان يثقب في حائط المسجد ثقبين
71

ثم أمر كل واحد منهما ان يدخل رأسه في ثقب، ففعلا، ثم قال يا قنبر جرد السيف
وأشار إليه لا تفعل ما آمرك به، ثم قال اضرب عنق العبد فنحى العبد رأسه! فاخذه
أمير المؤمنين عليه السلام وقال للاخر أنت الابن (1).
وليس في هذا الحديث إشارة إلى اعتراف واحد منهما بعد ذلك وان ورد
في قضية أخرى مشابهة لها ولكن الظاهر أنهما قضيتان (2).
ومثله ما حكاه المفيد في الارشاد، وقال روت العامة والخاصة ان امرأتين
تنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما ولدا لها بغير بينة - وفي ذيلها -
ان عليا عليه السلام قال ايتوني بمنشار! فقالت المرأتان فما تصنع به؟ فقال اقده نصفين،
لكل واحد منهما نصفه! فسكتت إحديهما، وقالت الأخرى الله الله يا أبا الحسن! إن كان
لابد من ذلك فقد تتمحت به لها، فقال عليه السلام الله أكبر هذا ابنك دونها!
(الحديث) (3).
إلى غير ذلك مما يظفر بها المتتبع في طيات كتاب القضاء وغيره، فهذا كله
مما يجوز للقاضي الحكم به لعلمه الحاصل من هذه المقدمات القريبة من الحس،
ولكن لا يجوز للشاهد الاعتماد في شهادته على هذه الأمور وأشباهها.
المقام السادس
في كون حجية البينة عاما لكل أحد، وبالنسبة إلى جميع الآثار
لا ينبغي الشك في أن مقتضى الأدلة السابقة حجية البينة بالنسبة إلى جميع الآثار
والى كل أحد، كسائر الامارات القائمة على الموضوعات، وانه لا اختصاص لحجيتها
بمن قامت عنده البينة، بل الملاك العلم بقيامها وشهادتهما، سواء كانت عنده، أو عند

(1) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 21 الحديث 9 و 4.
(2) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 21 الحديث 9 و 4.
(3) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 21 الحديث 11.
72

غيره، ولا يحتمل بعد ملاحظة الأدلة المذكورة أن يكون لقيام البينة عند شخص
موضوعية، حتى لا تكون حجة لغيره كما هو كذلك في سائر الامارات.
بل لولا وسوسة بعض الأصحاب في ذلك، وتعرضهم للمسألة مسألة وجعلها ذات
قولين، لم نحتج إلى هذا المقدار من البحث أيضا، وأي خصوصية للبينة من بين
الامارات؟ وأي اثر لقيامها عندي أو عندك؟ بل المدار على تحققها في الخارج عند اي
شخص.
نعم في أبواب القضاء والأحكام الصادرة من القضاة يمكن ان يقال إن لقيام
البينة عند القاضي خصوصية، ولكنه أيضا قابل الكلام، وعلى كل حال لا دخل له
بحجية البينة كأمارة من الامارات القائمة على الموضوعات الخارجية، والكلام هنا
فيها فقط.
ويؤيد ما ذكرنا بل ويدل عليه ما ورد في جواز الشهادة على الشهادة، وانه حجة
مطلقا، أو إذا كان شاهد الأصل لا يمكنه الحضور، ولا ينافي ما دل على أنه لا تجوز
شهادة على شهادة على شهادة كما لا يخفى، فراجع الباب (44) من أبواب الشهادات
من الوسائل.
المقام السابع
في نسبة البينة مع غيرها
إذا تعارضت البينة مع الأصول العلمية المخالفة لها فالامر واضح، وأما إذا
تعارضت مع غيرها من الامارات كاليد وأصالة الصحة والقرعة، بناء على كونها امارة
والاقرار، وغير ذلك، مما يستند إليه في اثبات الموضوعات الخارجية، ففيه تفصيل.
وحاصله انها تقدم على قاعدة اليد وأصالة الصحة بغير كلام، والا لم يصح
الحكم به في أبواب القضاء، فإن جميع موارد البينة أو جلها في المسائل المالية تكون
73

في مقابل اليد، أو أصالة الصحة في فعل المسلم، فقوله صلى الله عليه وآله: " البينة على المدعي
واليمين على من أنكر " دليل قاطع على ما ذكرنا.
أضف إلى ذلك ورودها في خصوص مورد اليد في بعض ما مر من الاخبار،
مثل رواية مسعدة بن صدقة، فإن الأمثلة المذكورة فيها بعضها من موارد أصالة الصحة
وبعضها من مصاديق قاعدة اليد مع أنه عليه السلام حكم بان الأشياء على هذه حتى تستبين
أو تقوم به البينة.
وبالجملة لا ينبغي الشك في تقدمها عليهما، والا لم تبق لأبواب القضاء قائمة.
وأما إذا تعارض مع قاعدة " الفراغ "، بان شك مثلا بعد الفراغ عن الصلاة
انه توضأ لها أم لا، ثم قامت بينة على أنه كان محدثا حالها بان قام من النوم واقبل
على الصلاة، والظاهر أنها أيضا مقدمة على قاعدة الفراغ أيضا، سواء قلنا إنها من
الأصول أو من الامارات، لقوتها عليها، لا سيما مع تقديمها على قاعدتي اليد والصحة
اللتان لا تقلان عن قاعدة الفراغ.
وأما إذا تعارضت مع " الاقرار " كما إذا قامت البينة على أن هذا المال لزيد
ولكنه أقر نفسه بأنه ليس له، فالظاهر تقديم الاقرار عليه، لأنه أقوى حجة عند العقلاء
والظاهر أن حكم الشارع بحجيتهما إنما هو من باب امضاء بناء العقلاء بجميع شؤونهما
حتى من هذه الجهة الا ما خرج بالدليل.
والحاصل انه لا يشك أحد انه لو قامت البينة على ملكية شئ لانسان، ولكنه
أقر نفسه بعدمها، ان بناء العرف والعقلاء على تقديم اقراره وتخطئة البينة، ولم يرد
في الشرع ما يدل على خلافه.
نعم يظهر من بعض الروايات المعتبرة الواردة في أبواب القتل، انه إذا شهدت
الشهود على شخص انه قاتل، ثم أقر آخر انه هو القاتل، وان المشهود عليه برئ
من قتله، ان أولياء المقتول مخيرون بين أمور.
74

الأول: ان يقتل الذي أقر على نفسه، وحينئذ لا سبيل لهم على الاخر كما لا سبيل
لورثة الذي أقر على نفسه على المشهود عليه.
الثاني: ان يقتل الذي شهدت الشهود عليه ولا سبيل لهم على الذي أقر، ثم
يؤدي الذي أقر على نفسه إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية.
الثالث: ان يقتلوهما جميعا ولكن يجب على أولياء المقتول ان يدفعوا إلى
أولياء المشهود عليه نصف الدية خاصة دون صاحبه.
الرابع: ان يأخذوا الدية منهما نصفين (1).
وهذه الرواية وان عمل بها جمع من الأصحاب الا ان العمل بها مع مخالفتها
للقواعد والأصول التي بأيدينا من جهات شتى مشكل جدا، لا سيما في أبواب الدماء
فالاحتياط مما لا ينبغي تركه، ولو قلنا به في موردها فلا يمكن التعدي إلى غير موردها
بل الواجب العمل بالاقرار، إذا كان جامعا لشرائطه وترك البينة لما عرفت من أنه أقوى
منها.
المقام الثامن
في تعارض البينتين
هذه المسألة مذكورة في كتب القضاء، وقد ذكروا فيها أبحاثا كثيرة هناك،
الا ان الذي يهمنا هنا هو الإشارة إليها بعنوان كلي، وايكال جزئياتها إلى مباحث القضاء
وحاصله ان دليل حجية البينة كسائر الأمارات الشرعية لا تشمل المتعارضين، لأن حجية
كليهما - والمفروض انهما متعارضتان - محال، لاشتمالها على الجمع بين النقيضين
أو الضدين، كما أن شمولها لواحد معين منهما ترجيح بلا مرجح، لا يمكن المصير
إليه.

(1) الوسائل ج 19 كتاب القصاص أبواب دعوى القتل الباب 5 الحديث 1.
75

والقول بالأخذ بأحدهما مخيرا أيضا بلا دليل، لأن دليل الحجية قامت على
حجية كل واحد منهما تعيينا واما حجية واحد منهما على التخيير فلم يدل عليه دليل.
كما أن حجية أحدهما لا بعينه مما لا ينبغي التفوه به، لما ذكرنا في محله من أن
الواحد لا بعينه لا وجود له في الخارج، فما في الخارج معين دائما، وإنما يوجد
هذا المفهوم في الذهن فقط، اللهم الا ان يرجع إلى القول بالتخيير وقد عرفت حاله.
وحينئذ لا يبقى بحال الا للقول بتساقطهما بعد التعارض، والرجوع إلى أدلة
أخرى.
هذا هو مقتضى القاعدة في هذا الباب ولكن هناك روايات كثيرة، تدل بعضها
على وجوب القرعة بين البينات، أيها وقعت القرعة عليها، فعلى صاحبها اليمين،
وهو أولى بالحق (1).
وفي بعضها ان الحق لمن حلف مع بينته، وانهما ان حلفا جميعا جعل المال
بينهما نصفين، وإن كان في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة كان للحالف الذي هو في
يده (2).
وفي بعضها العمل على طبق اليد من دون يمين، وانه لو لم يكن في يده جعل
المال بينهما نصفين (3) إلى غير ذلك.
وذكر شيخ الطائفة في الخلاف انه إذا تعارضت البينتان على وجه لا ترجيح
لأحدهما على الاخر أقرع بينهما فمن خرج اسمه حلف، وأعطي الحق، هذا هو
المعول عليه عند أصحابنا، وقد روي أنه يقسم بينهما نصفين.
ثم نقل عن الشافعي فيه أربعة أقوال: الأول وهو أصحها انهما تتساقطان وبه
قال مالك.

(1) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 5 و 6.
(2) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 2 و 3.
(3) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 2 و 3.
76

الثاني يقرع بينهما كما قلناه، وهل يحلف أم لا؟ قولان.
الثالث يوقف ابدا.
الرابع يقسم بينهما نصفين، وبه قال ابن عباس والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.
ثم قال دليلنا اجماع الفرقة على أن القرعة تستعمل في كل أمر مجهول مشتبه
وهذا داخل فيه والاخبار في المسألة كثيرة أوردناها في كتب الاخبار.. (1).
هذا ولتحقيق الحق من بين هذه الأقوال محل آخر قد عرفته.

(1) الخلاف ج 3 كتاب الدعاوى والبينات المسألة 10 ص 356.
77

3 - قاعدة حجية خبر الواحد
في الموضوعات
* أقوال العلماء في المسألة
* مدرك القاعدة من الكتاب العزيز
* مدركها من السنة
* مدركها من بناء العقلاء
* سيرة الأصحاب في المسألة
* أقوى ما يرد على حجية خبر الواحد في الموضوعات وجوابه
* ملاك حجية الخبر ومعيارها
79

المقام الأول
في أقوال العلماء في المسألة
المشهور بين الأصحاب حجية خبر الواحد في الأحكام، بل قد ادعى الاجماع
عليه وهو الحق، ويدل عليه الكتاب والسنة وبناء العقلاء وسيرة الأصحاب عليه، كما
أوضحناه في محله في الأصول.
ولكن الكلام هنا في حجيته في الموضوعات، فإنها ترتبط ببحث القواعد
الفقهية، لما قد عرفت من أن مفاد القاعدة الفقهية دائما حكم شرعي كلي، يجري في
مختلف أبواب الفقه، بخلاف المسائل الأصولية فإنها تقع في طريق استنباط الأحكام
فحجية خبر الواحد في الأحكام تقع في طريق اثبات الحكم الشرعي، فتكون مسألة
أصولية واما حجيته في الموضوعات فهي حكم فقهي يستفاد منه حال موضوعات
الأحكام، ولكن لما كان كليا دخل في أبواب القواعد الفقهية.
والمعروف ان خبر الواحد لا يكون حجة في الموضوعات، ولكن ذهب جماعة
من الأصحاب، ولا سيما المتأخرون منهم إلى حجيته فيها، حكي هذا عن ظاهر التذكرة
وقواه في الحدائق (1) والمحقق الهمداني في مصباحه وغيرهم.

(1) حكاه في المستمسك في المجلد الأول في شرح المسألة 6 من مسائل ماء البئر،
ولكن الذي ذكره في التذكرة في المسألة الثامنة من كتاب الطهارة من فروع الماء القليل
هو انه: لو اخبره العبد بنجاسة الماء لم يجب القبول وهو ينافيه.
81

هذا ولكنهم إنما تعرضوا للمسألة في موارد خاصة، وقد لا يمكن استفادة العموم
منها نعم يظهر العموم من بعض متأخري الأصحاب حيث ذكر هذا الحكم على الاطلاق
واستدل عليه بدلائل يأتي الإشارة إليها إن شاء الله.
ويظهر من بعض علماء العامة ان القول بحجية خبر الواحد في الموضوعات
شايع بينهم. وان ذكروه في موارد خاصة، قال " ابن قدامة ": في " المغنى " في باب
أوقات الصلاة: " ومن اخبره ثقة عن علم به، لأنه خبر ديني، فقبل فيه قول
الواحد كالرواية " (1).
وتعليله دليل على عموم حجيته عنده.
وقال في أبواب القبلة: " وان لم يعلم عدالته وفسقه (اي المخبر بالقبلة) قبل
خبر لأن حال المسلم يبنى على العدالة ما لم يظهر خلافها ويقبل خبر سائر الناس من
المسلمين البالغين العقلاء، سواء كانوا رجالا أو نساءا، ولأنه خبر من اخبار الدين
فأشبه الرواية، ويقبل من الواحد كذلك " (2).
وقال أيضا في أبواب المياه: " وان ورد ماءا فأخبره بنجاسته صبي أو كافر أو
فاسق لم يلزمه قبول خبره... وإن كان المخبر بالغا عاقلا مسلما غير معلوم فسقه،
وعين سبب النجاسة لزم قبول خبره، سواء كان رجلا أو امرأة، حرا أو عبدا، معلوم
العدالة أو مستور الحال، لأنه خبر ديني، فأشبه الخبر بدخول وقت الصلاة، وان
لم يعين سببها قال القاضي: لا يلزم قبول خبره، لاحتمال اعتقاد نجاسة الماء بسبب
لا يعتقده المخبر " (3).
والظاهر أن اعتماده على قول مستور الحال من جهة ان الأصل عندهم على

(1) المغنى ج 1 ص 342.
(2) المغنى ج 1 ص 398.
(3) المغنى ج 1 ص 75.
82

عدالة المسلم كما أشار إليه سابقا، كما أن عدم قبول القاضي لقول من لا يخبر بالسبب
فإنما هو بسبب اختلاف الفتاوى عندهم، فالمتحصل منها حجية خبر العدل عنده على
الاطلاق.
فلنرجع إلى بيان مدرك القاعدة وما قيل أو يمكن ان يقال فيه ونقل الأدلة عليه:
المقام الثاني
في مدرك القاعدة
يدل عليها الكتاب العزيز والسنة المستفيضة، وبناء العقلاء.
الأول: كتاب الله
أقوى ما يدل عليه هو آية النبأ، قال الله تعالى:
" ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على
ما فعلتم نادمين " (1).
وقد ذكرنا في مباحث خبر الواحد من الأصول انه يمكن الاعتماد على دلالة
الآية باعتبار مفهوم الوصف في أمثال المقام، مما يكون ظاهره الاحتراز بالوصف
عن غيره، ولذا إذا عرضنا الآية على أهل العرف وقلنا إن الفاسق لا يقبل خبره يفهمون
منه ان خبر العدل مقبول.
وما قد يقال إن ذكر عنوان " الفاسق " هنا إنما هو لبيان فسق الوليد وكفى
بذلك فائدة في ذكر الوصف، فاسد جدا، مخالف لما يفهم منه عرفا.
أضف إلى ذلك أن الآية لا تقصد بيان قضية خاصة بل مفادها حكم عام وقانون
كلي بالنسبة إلى المؤمنين كلهم في جميع الموارد، ولذا يقول " يا أيها الذين آمنوا
ان جاءكم... "

(1) الحجرات: 5.
83

كما أن ذكر العلة وهي قوله تعالى " ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على
ما فعلتم نادمين " لا يدل على اعتبار العلم في العمل بالاخبار، بل الجهالة هنا بمعنى
السفاهة، وما لا يكون عقلائيا، وحيث إن الاعتماد على خبر الثقة أمر عقلائي ليس
فيه سفاهة ولا ندامة ولو تبين كونه خلاف الحق، فهو من قبيل العلم الذي هو جهل
مركب لا ندامة في العمل به من حيث الاعتماد على أمر غير عقلائي، بل من حيث
الخطأ وهو محتمل في جميع الأمارات الشرعية والعرفية وفي حق غير المعصومين.
ومما ينبغي أن يذكر ان مورد الآية وشأن نزولها من الموضوعات لا من الأحكام
وهو الخبر بارتداد قبيلة بني المصطلق، والعجب من جماعة من الأصوليين حيث
استدلوا بها على حجية خبر العدل في الأحكام، اخذا باطلاق الآية، ولم يستدلوا بها
على حجيته في الموضوعات الذي هو موردها، فهل يمكن تخصيص العموم وتقييد
الاطلاق باخراج المورد وشأن نزولها؟ كلا.
وقد يستدل هنا بآيات الشهادة (1) ولزوم اظهارها، وحرمة كتمانها، مثل قوله
تعالى " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " (2) وقوله تعالى:
" وأقيموا الشهادة لله " (3) وقوله تعالى: " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " (4)
وقوله عز من قائل: " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " (5) إلى غير ذلك.
وكأنهم استندوا في ذلك إلى دليل اللغوية، وان الاظهار لو كان واجبا لوجب
القبول، والا كان لغوا، ولكن هذا غير تام، كما ذكر في أشباهه من وجوب اظهار
العالم علمه وغيره، فإن دليل اللغوية يدل على أن في الاظهار فائدة، ولكن هذه الفائدة

(1) استدل به في العناوين.
(2) البقرة: 283.
(3) الطلاق: 2.
(4) النساء: 135.
(5) البقرة: 283.
84

هل هي القبول مطلقا، أو إذا انضم إليه شاهد آخر، ولا اطلاق لها من هذه الجهة،
فإنها ليست بصدد بيان القبول، بل بصدد بيان وجوب الاظهار، واما القبول فإنما يستفاد
من ناحية أخرى، ومن الواضح انه يكفي في عدم كونه لغوا قبولها في الجملة ولو
عند وجود شاهد آخر.
* * *
الثاني: السنة
هنا روايات كثيرة وردت في مختلف أبواب الفقه يمكن استنباط حجية خبر
الواحد في الموضوعات من مجموعها.
1 - ما ورد في أبواب رؤية الهلال عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام
قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: " إذا رأيتم الهلال فافطروا أو شهد عليه عدل من
المسلمين " (1).
دلت على كفاية شهادة العدل الواحد في ثبوت رؤية الهلال، ولكن نسخ
الرواية مختلفة ففي بعضها " واشهدوا عليه عدولا من المسلمين " وفي بعضها الاخر
" أو يشهد عليه بينة عدول من المسلمين " ومن هنا يشكل الاعتماد عليها بالخصوص.
ويؤيده ما روي عن طرق العامة عن ابن عباس قال جاء اعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله
فقال إني رأيت الهلال يعني هلال رمضان فقال أتشهد ان لا إله إلا الله قال نعم قال
أتشهد ان محمدا رسول الله؟ قال نعم قال يا بلال أذن في الناس ان يصوموا غدا (2).
2 - منها ما وردت في أبواب النكاح من رواية سماعة قال سألته عن رجل
تزوج جارية أو تمتع بها، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة وقال إن هذه امرأتي وليست

(1) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 8 الحديث 1.
(2) رواه البيهقي في سننه ج 4 ص 211 (كتاب الصيام) باب الشهادة على رؤية
الهلال وبهذا المضمون روايات عديدة أخرى في نفس الكتاب.
85

لي بينة، وقال إن كان ثقة فلا يقربها وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه (1).
والحديث ظاهر الدلالة على المقصود.
3 - ونظيرها من بعض الجهات ما عن فقه الرضا قال: " إن كان البايع (أي
البايع للأمة) ثقة وذكر انه استبرأها جاز نكاحها من وقته، وان لم يكن ثقة استبرأها
المشتري بحيضة " (2).
والأصل وإن كان يقتضي عدم الوطي فلا يحتاج إلى الاستبراء، ولكن لما كان
ذلك غالبا في الإماء كان ظاهر حالهن كونهن موطوئة، فلزم الاستبراء، الا أن يكون
البايع ثقة، بل الظاهر من الرواية ان الوطي أمر مفروغ فيها.
هذا ولكن في سند الحديث (فقه الرضا) اشكال معروف.
4 - ما ورد في " أبواب الاذان " من جواز الاعتماد على اذان المؤذن العارف
الثقة، مثل ما رواه عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال:
" المؤذن مؤتمن والإمام ضامن " (3).
إلى غير ذلك مما دل على اعتبار اذان المؤذن مطلقا المحمول على العارف
بالوقت الثقة وإن كان من المخالفين.
هذا ولكن الاعتماد على اذان العارف يمكن أن يكون من باب جواز التعويل
في دخول الوقت على الظن المطلق، وهو من أسباب الظن، فلا يدل على جواز
الاعتماد عليه في موارد يعتبر العلم، أو ما يكون بمنزلته.
واستدل " ابن قدامة " في " المغنى " في باب أوقات الصلاة بما روي عن
طرقهم عن النبي صلى الله عليه وآله: المؤذن مؤتمن، على حجية اذان الثقة العالم بالوقت (4).

(1) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب عقد النكاح الباب 23 الحديث 2.
(2) مستدرك الوسائل ج 2 ص 486.
(3) الوسائل ج 4 أبواب الأذان والإقامة الباب 3 الحديث 2.
(4) المغنى ج 1 ص 342.
86

5 - ما ورد في أبواب الوكالة عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في
رجل وكل آخر على وكالة في أمر من الأمور واشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل
فخرج لامضاء الامر، فقال اشهدوا اني قد عزلت الفلان عن الوكالة... قال نعم ان
الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض ابدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل
عن الوكالة بثقة (1).
دل على بقاء الوكالة على حكمها ونفوذ أمر الوكيل الا ان يثبت له العزل،
ومن طرق ثبوت العزل خبر الثقة.
6 - ما ورد في أبواب الوصية عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
سألته عن رجل كانت له عندي دنانير، وكان مريضا، فقال لي: ان حدث لي حدث
فاعط فلانا عشرين دينارا، واعط أخي بقية الدنانير، فمات ولم اشهد موته، فأتاني
رجل مسلم صادق فقال لي انه امرني ان أقول لك انظر الدنانير التي أمرتك ان تدفعها
إلى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير، اقسمها في المسلمين، ولم يعلم اخوه ان عندي
شيئا فقال أرى ان تصدق منها بعشرة دنانير (2).
ولكن يمكن الايراد على الاستدلال بها من جهة ان في كلام المخبر هنا بعض
القرائن الخفية التي كانت بين الموصي والوصي، ولعله يوجب العلم فيشكل الاستدلال
بها على حجية خبر الثقة إذا خلا من أمثال هذه القرائن.
هذا ويمكن الجواب عنه مضافا إلى أن مجرد هذه القرينة لا توجب القطع
بالصدق، فلعله سمع الوصية السابقة من الموصي أو غيره وأضاف الباقي من قبل
نفسه، ان تعويل السائل على عنوان الرجل المسلم الصادق دليل على أن المرتكز
في ذهنه كفاية قول المسلم الثقة في اثبات الموضوعات، فلو كان هذا باطلا لوجب

(1) الوسائل ج 13 كتاب الوكالة الباب 2 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 13 كتاب الوصايا الباب 97 الحديث 1.
87

نفيه من قبل الإمام عليه السلام فتدبر.
7 - ما روي أيضا في أبواب نكاح الإماء عن ابن أبي عمير عن حفص بن
البختري عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يشتري الأمة من رجل فيقول اني لم أطأها
فقال إن وثق به فلا بأس ان يأتيها (1).
نعم يرد عليه انه من قبيل اخبار ذي اليد وحجية خبر ذي اليد لا تدل على حجية
خبر الثقة مطلقا.
هذا ولكن من المشكل الاعتماد على اليد في أمثال المقام مما غلب عليها
الحرمة وعدم الجواز، لما قد عرفت من أن الأصل في الإماء كونها موطوئة الا من
شذ منهن، والا لوجب الاعتماد على قول ذي اليد إذا لم يكن متهما، ولا يحتاج إلى
اعتبار الوثاقة كما في غيرها من موارد حجية قول ذي اليد، فإن عدم الاتمام كاف فيها
ولا يعتبر الوثاقة بالخصوص.
فاعتبار الوثاقة هنا إنما هو من باب حجية خبر الثقة في الموضوعات ولا دخل
له بقول ذي اليد.
وقد يستدل هنا بروايات أخرى لا دلالة فيها.
منها ما ورد في أبواب النجاسات عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال
اغتسل أبي من الجنابة فقيل له قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء فقال له ما عليك
لو سكت؟ ثم مسح تلك اللمعة بيده (2).
وفيه انه قضية في واقعة، ولعله كان يحصل العلم من قول المخبر وليس في
الرواية عنوان عام، يدل على التعويل على خبر الثقة حتى يستدل باطلاقه على المقصود
هذا مضافا إلى اشتمال الحديث على بعض المسائل المنكرة، أعني غفلة الإمام عن

(1) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب نكاح العبيد والإماء الباب 6 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 2 كتاب الطهارة أبواب النجاسات الباب 47 الحديث 2.
88

غسله، وبقائه على حاله بلا غسل واتيان أعماله على تلك الحال لو لم يخبره المخبر
فتأمل.
ومنها ما ورد في أبواب " ما يكتسب به " عن معاوية بن وهب وغيره عن أبي
عبد الله عليه السلام في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك فقال بعه وبينه لمن اشتراه
ليستصبح به (1).
وفيه مضافا إلى أنه من باب حجية قول ذي اليد ولذا لم يقيد بكونه ثقة، انه
من قبيل الاخبار المحفوفة بالقرائن. لأن البايع لا يخبر بنجاسة زيته مهما أمكن، فإذا
أخبر يعلم أنه كان مقطوعا، لعدم الداعي على هذه الأكذوبة عادة، لاحد من البايعين
لما فيه من تقليل قيمة المبيع.
ومنها ما ورد في قصة إسماعيل ولد الصادق عليه السلام وانه دفع دنانير إلى رجل
شارب الخمر بضاعة، ليعامل بها، فاتلف النقود فوبخه الصادق عليه السلام فاعتذر بأنه لم
يره يشرب الخمر فقال عليه السلام: إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم (2).
نظرا إلى أن الجمع المحلى باللام هنا ليس بمعنى العام المجموعي، لندرة
اتفاق جميع المؤمنين على الشهادة على شئ، فيحمل على العام الافرادي.
وفيه انه يمكن حملها على الجمع لا بعنوان الاستغراق، وحمله على ذلك هنا
قريب، لا سيما بقرينة قول إسماعيل لأبيه في مقام الاعتذار سمعت الناس يقولون، فإن
اطلاق الناس على الواحد قليل جدا، وبالجملة الاستدلال بها على حجية خبر الواحد
الثقة مشكل.
هذا ما ظفرنا به من الاخبار في هذه المسألة في طيات كتب الحديث وقد عرفت
الاشكال في بعضها ولكن في الباقي لا سيما مع تظافرها وضم بعضها ببعض غنى

(1) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به الباب 6 الحديث 4.
(2) الوسائل ج 13 كتاب الوديعة الباب 6 الحديث 1.
89

وكفاية، لأنها وان وردت في موارد خاصة الا انه يمكن الغاء الخصوصية عنها بعد
ورودها في أبواب متفرقة.
أضف إلى ذلك أن حجية خبر الثقة في الموضوعات كان مشهورا عند العقلاء
كما سيأتي إن شاء الله.
وظاهر هذه الروايات امضاؤها، فلو كانت مختصة بموارد خاصة وجب على الإمام
التنبيه عليها، لا سيما مع ذكر هذا العنوان في كلام الراوي في بعض تلك الروايات
الذي يدل على أنه كان أمرا مركوزا في أذهان الرواة ولم يردع عنهم الأئمة عليهم السلام.
* * *
الثالث: بناء العقلاء
ويدل عليه أيضا بناء العقلاء الذي استدلوا بها على حجية خبر الواحد في
الأحكام، بل جعلوه أهم الدلائل وأقواها وعمدتها، بل ارجعوا سائر الأدلة إليه.
وحاصله انهم لا يزالون يعتمدون على اخبار الثقة، في ما يرجع إلى معاشهم،
وحيث لم يردع عنه الشارع في ما يرجع إلى معادهم فيكون حجة، من دون اي فرق
بين اخبار الثقة في الموضوعات، أو في الأحكام.
فما ورد في القرآن الكريم، أو الروايات الكثيرة التي قد عرفت جملة منها،
مما يدل على حجية خبر الواحد في الموضوعات، امضاء لهذا البناء.
وقد عرفت عند ذكر الأخبار الدالة على المقصود ان هذا المعنى كان مركوزا
في أذهان الرواة كما يدل عليه أسئلتهم، وهذا أيضا شاهد على المطلوب.
* * *
الرابع: بناء الأصحاب
ويظهر من كلمات الأصحاب وعملهم انهم يستندون إلى اخبار الآحاد في
الموضوعات كاستنادهم به في الأحكام ويدل على ذلك أمور:
90

1 - اكتفاء كثير منهم في علم الرجال بتوثيق رجل واحد وان اعتبر بعضهم قيام
البينة وتوثيق رجلين، ولكن هذا شاذ، فلو كان خبر الواحد في الموضوعات يحتاج
إلى التعدد لم يجز الاعتماد على واحد في توثيق الرجال وهو من الموضوعات.
قال المحقق المامقاني في تنقيح المقال ما نصه:
" انه قد صدر من الأصحاب الافراط والتفريط في هذا الباب فمن الأول ما عليه
جماعة منهم الشهيد الثاني من قصر الحجية على الصحيح الا على، المعدل كل من
رجاله بعدلين، نظرا إلى ادراج ذلك في البينة الشرعية، التي لا تختص حجيتها
بالمرافعات على الأقوى، لما نطق بذلك الأخبار الصحيحة... إلى أن قال - ووجه
كون هذا المسلك افراطا ان طريق الإطاعة موكول إلى العقل والعقلاء ونريهم
يعتمدون في أمور معاشهم ومعادهم على كل خبر يثقون به من أي طريق حصل لهم
الوثوق والاطمينان ".
هذا ولكن يرد عليه بان الاعتماد على قول علماء الرجال وشهادة الرواة في
تشخيص الثقات من غيرهم إنما هو في حصول ما هو الملاك في حجية خبر الواحد
في الأحكام أعني الوثوق بالرواية فإذا حصل هذا المعنى من أي طريق دخل في عنوان
الأدلة.
وبعبارة أخرى: إذا أخبر ثقة بان محمد بن مسلم ثقة مثلا لا فائدة في هذا الخبر
الا قبول اخباره، ومن المعلوم انه يكفي في قبول اخباره حصول الوثوق بروايته
ولو من طريق اخبار ثقة بوثاقته (فتأمل جيدا).
نعم لو كان الملاك في حجية خبر الواحد على خصوص آية الحجرات وكان
موضوعها العدالة تعبدا كان عمل العلماء بقول واحد في تشخيص العدالة والفسق
دليلا على المطلوب، ولكن انى لنا باثبات ذلك وقد ثبت في محله ان جميع أدلة
حجية خبر الواحد ترجع إلى بناء العقلاء الذي هو الأصل في المسألة، وبنائهم على
91

الوثوق بالرواية من أي واد حصل.
2 - انهم لا يفرقون في مسألة قبول اخبار الآحاد بين ما كان مضمونه الحكم
الشرعي فقط، أو مع الموضوع
الخارجي، فإذا أخبر محمد بن مسلم - مثلا - بأنه
دخلنا على الصادق عليه السلام في يوم الجمعة فقال هذا يوم عيد، يعملون به ويفتون بان يوم
الجمعة يوم عيد مع أن الإمام لم يخبر بهذا، بل أخبر بان هذا اليوم يوم عيد، ولكن
محمد بن مسلم أضاف إليه بان اليوم كان يوم الجمعة، فنقبل اخباره في الموضوع
كما نقبل اخباره في الحكم الشرعي.
هذا ولكن قد أورد عليه في " حقايق الأصول " لا في هذا المبحث، بل بمناسبة
أخرى في مبحث حجية قول اللغوي بما نصه:
" ان أقوى ما يستدل به على حجية قول اللغوي هو ما دل على حجية خبر الثقة
في الأحكام ودعوى ان خبر اللغوي ليس متعرضا للحكم لأنه من الخبر عن الموضوع
فاسدة لأن المراد من الخبر في الأحكام كل خبر ينتهي إلى خبر عن الحكم ولو
بالالتزام " (1). ولكن هذا الاعتذار يشكل الاعتماد عليه، وليس هذا بأولى من أن يقال حجية
خبر الواحد لا يختص بالأحكام، بل تجري في الموضوعات أيضا.
بل قد ذكرنا في مبحث حجية قول اللغوي انها مما دارت عليه كلماتهم، ولا
يزالون يستدلون بأقوالهم لتحقيق مفاهيم الكلمات المرتبطة بأمور معاشهم ومعادهم
وفي اسناد الوصايا، والأوقاف، وغيرها، حتى أن من ينكره باللسان لا يتجافى عنه
في العمل، وهذا دليل على عموم الحجية في الموضوعات والأحكام.
ومما قد يستدل به على العموم قياس الأولوية، قال في الجواهر في ذيل كلام
له في حجية خبر الواحد في الموضوعات ما هذا نصه: " بل ثبوت الأحكام الشرعية

(1) حقايق الأصول ج 2 ص 98.
92

به أكبر شاهد على ذلك " وان ذكر في آخر كلامه " ان الانصاف بقاء المسألة في حيز
الاشكال، لامكان التأمل والنظر في سائر ما تقدم من المقال بمنع بعضه، وعدم
ثبوت المطلوب بالآخر " (1).
وحاصل الكلام ان الأحكام مع كثرة أهميتها، وكليتها، إذا ثبتت بخبر الواحد
فكيف لا يمكن اثبات الموضوع الجزئي به؟!
اللهم الا ان يقال إن طرق ثبوت الأحكام محدودة، فلذا اكتفى فيه بخبر الواحد
ولكن طرق اثبات الموضوعات كثيرة متعددة، قل ما يحتاج فيها إلى خبر الواحد،
بحيث لو نفى حجيته فيها لم يحصل الاشكال، بخلاف الأحكام فإن نفي حجية خبر
الواحد فيها يوجب سد باب اثباتها غالبا.
ولا يتوهم ان هذا رجوع إلى انسداد باب العلم، لأن المقصود امكان كون
الانسداد من قبيل الحكمة لهذا الحكم، لا العلة، بخلاف الموضوعات كما ذكر
في محله من الأصول.
وبالجملة لا يمكن الركون إلى هذا الدليل مجردا عن غيره، غاية الأمر يصلح
جعله مؤيدا لما مر.
واما ما أشار إليه صاحب الجواهر (قدس سره الشريف) فيما عرفت من كلامه
فيظهر عدم تماميته من تفاصيل ما تلونا عليك في هذه المسألة. وان الدليل على الحجية
من الكتاب والسنة ثابت لا يمكن انكاره عند التحقيق.
" أقوى ما يرد على المختار "
أقوى ما يرد على ما ذكرنا من حجية خبر الواحد في الموضوعات أمران:
الأول - ما أشار إليه بعض أعاظم المعاصرين بقوله " وقد يتوهم، كما عن

(1) الجواهر ج 6 كتاب الطهارة ص 172.
93

غير واحد منهم، ان السيرة على حجية خبر الواحد في الموضوعات مردوعة، بما
ورد في ذيل رواية " مسعدة بن صدقة " من قوله " والأشياء كلها على هذا حتى يستبين
أو تقوم به البينة " (1).
حيث حصر ما يثبت به الموضوعات، في " الاستبانة " (أي العلم) و " قيام
البينة عليه " ولو كان خبر الواحد كالبينة معتبرا شرعا لبينه عليه السلام لا محالة ".
ثم أجاب عنه: " أولا بان الرواية ليست بصدد الحصر، لوضوح ان النجاسة
وغيرها كما تثبت بهما كذلك تثبت بالاستصحاب وباخبار ذي اليد.
ثانيا: ان الرواية غير صالحة للرادعية لضعفها.
ثالثا: ان عدم ذكر اخبار العادل في قبال البينة والعلم إنما هو لأجل خصوصية
في مورد الرواية، وهي ان الحلية في مفروض الرواية كانت مستندة إلى قاعدة اليد
في مسألة الثوب، ومن المعلوم انه لا اعتبار لاخبار العادل مع اليد.
ورابعا: البينة في الرواية كما تقدم بمعنى الحجة وما به البيان، وهو الذي دلت
الرواية على اعتباره في قبال العلم الوجداني " (2).
وبعض ما ذكره وإن كان لا يخلو عن اشكال مثل ما افاده أخيرا، لما مر عليك
من أن البينة في مصطلح الاخبار بمعنى شاهدي عدل، وقد أثبتنا ذلك بدليل قاطع،
ولكن في بعضها الاخر كفاية، مثل عدم اعتبار سند رواية " مسعدة " وعدم كونها في
مقام الحصر، وسيأتي إن شاء الله في الجواب عن الاشكال الثاني ما ينفعك في المقام
أيضا.
* * *
الثاني - ان خبر الواحد لو كان حجة في الموضوعات لم يبق حاجة إلى البينة

(1) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به الباب 4 الحديث 4.
(2) التنقيح ج 1 ص 319.
94

فيها وكان حجيتها نافية لحجيته.
وان شئت قلت: حجية البينة لا يختص بأبواب القضاء، بل قد عرفت انها
عامة في جميع الموضوعات وان لم يكن فيها خصومة تستدعي القضاء، وحينئذ يبقى
الكلام في أنه لم اعتبر فيها العدد مع كفاية خبر الواحد فيها؟
وبعبارة ثالثة: مفهوم العدد لا سيما في أمثال هذه المقامات ينفي جواز الركون
إلى خبر الواحد في الموضوعات.
والانصاف انه أهم اشكال يرد على حجيته، بل الظاهر أن عدم اعتراف كثير
من الأصحاب بحجية خبر الواحد فيها، أو ترديدهم في هذا الامر، أو قبولهم للحجية
تارة ونفيها أخرى، إنما نشأ من هذا الاشكال.
ولكنه مع ذلك أنه قابل للدفع، وانه يمكن الجمع بين حجيتهما بحيث لا
يكون تمانع وتنافر.
توضيحه: ان اخبار حجية البينة - كما لا يخفى على من راجعها وتدبر فيها -
ناظرة في الغالب إلى المسائل المالية والحقوقية الأخرى، والظاهر أن ذكر البينة
فيها انه وان لم تكن موردا للدعوى بالفعل ولكن قد يؤدي إلى المخاصمة، فلابد من
التمسك بحجة ينفع في محكمة القضاء أيضا في المستقبل.
مثلا ورد في كتاب الله العزيز حجية شهادة العدلين في الوصية (1) والطلاق (2)
والدين (3) والبيع (4) ومن الواضح ان هذه كلها أمور مالية أو حقوقية قد تكون فيها
المخاصمة في المستقبل، فلابد من اخذ شاهدين فيها حتى إذا انتهى الامر إلى المحكمة
يكون دليلا يمكن الاستناد إليه في اثبات في المدعى.

(1) المائدة: 105.
(2) الطلاق: 2.
(3) البقرة: 282.
(4) البقرة: 282.
95

نعم ورد في بعض ما عرفت من الآيات لزوم الاعتماد على قول العدلين في كفارة
الاحرام، وانه لابد أن يكون مماثلا للحيوان الذي اصطاده يحكم به ذوا عدل منكم (1).
ولكن لا يبعد أن يكون الوجه فيه التعدد حتى يكون بعيدا عن الخطأ.
وان شئت فانظر إلى ما دل على حجية البينة من السنة مثل خبر " مسعدة " التي
ورد في الثوب والعبد والمرأة، وكذا ما دل من رواية يونس على أن استخراج الحقوق
بوجوه أربعة، منها شهادة رجلين عدلين (2).
وما ورد في رواية صفوان الجمال فيمن يكون له المال ويكون له شاهدان
فيأخذ حقه (3).
وما ورد في أبواب النكاح والطلاق وأبواب الوقوف والصدقات إلى غير
ذلك مما قد يكون محلا للتنازع والتشاجر، فإن اعتبار العدلين في جميع ذلك إنما
هو من باب التهيأ لاثبات المدعى عند التنازع.
نعم ورد اعتبار العدلين في أبواب رؤية الهلال، ولكن الظاهر مما دل على هذا المعنى انها إنما تعتبر إذا أراد الحاكم ان يحكم بهما في حق جميع الناس،
فراجع أبواب أحكام شهر رمضان وما يثبت به الهلال.
وبالجملة لو لم ندع اليقين على هذا المعنى فلا أقل من الاعتماد عليه عند
ملاحظة مجموع ما دل على حجية خبر الواحد في الموضوعات مع ما دل على اعتبار
البينة فيها (فراجع وتدبر).
* * *

(1) المائدة: 95.
(2) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 15 الحديث 2.
(3) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 5 الحديث 3.
96

" ملاك حجية خبر الواحد "
بقي هنا شئ: وهو انه بناءا على حجية خبر الواحد في الموضوعات هل
يعتبر فيها " العدالة " أو يكفي " الوثوق " فقط؟ كما هو المختار عندنا وعند جل
المعاصرين، أو كلهم، في حجية خبر الواحد في الأحكام.
الظاهر أنه يتفاوت الحال بتفاوت الأدلة في المسألة، فإن كان الدليل هو آية النبأ
فظاهرها اعتبار العدالة لأنه المقابل للفسق.
وإن كان الدليل هو الأخبار الخاصة الواردة في الأبواب المختلفة فمقتضاها
متفاوت، ففي بعضها اعتبار العدالة مثل ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام إذا رأيتم الهلال
فافطروا أو شهد عليه عدل من المسلمين (1).
ولكن وقع التصريح بالوثاقة في كثير من رواياتها كما يظهر بالدقة فيما مر عليك
من أدلة المسألة، والجمع بينهما ممكن بحمل العدالة على الوثاقة.
وهكذا ما ورد من التعبير بالصداقة في قوله " فأتاني رجل مسلم صادق " فيما
ورد في أبواب الوصية فإنه راجع إلى الوثاقة، والمتحصل من جميعها اعتبار الوثوق،
وحينئذ يمكن الجمع بينها وبين مفهوم آية النبأ بحمل العدالة فيهما أيضا على الوثاقة
ويؤيده ما ورد من التعليل في الآية بقوله تعالى: " ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا
على ما فعلتم نادمين " فإن الإصابة بالجهالة، أو حصول الندامة إنما هو من آثار
عدم الوثوق، لا الفسق فيما لا يرتبط بالاخبار، فإذا كان انسان متحرزا عن الكذب يمكن
الوثوق بقوله، دخل في مفهوم الآية، ولا يكون العمل بقوله معرضا للندامة.
واظهر من الجميع إذا كان الدليل بناء العقلاء انه لاشك ان بنائهم على الاعتماد
بخبر الثقة، من دون ملاحظة العدالة فيما لا يرتبط بالاخبار، فإذا لا يبقى شك في كفاية

(1) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 8 الحديث 1.
97

الوثوق، وعدم اشتراط العدالة تعبدا.
وقد صرح بما ذكرنا بعض المتأخرين والمعاصرين قال في مصباح الفقيه: الأظهر
عدم اشتراط العدالة المصطلحة، وكفاية كون المخبر ثقة مأمونا محترزا عن الكذب
لاستقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على اخبار الثقات في الحسيات التي لا يتطرق فيها
احتمال الخطأ، احتمالا يعتد به، لديهم مما يتعلق بمعاشهم ومعادهم، وليست حجية
خبر الثقة لدى العقلاء الا كحجية ظواهر الألفاظ (1).
وقال في التنقيح: لا تعتبر العدالة أيضا في حجية الخبر، لأن العقلاء لا يخصصون
اعتباره بما إذا كان المخبر متجنبا عن المعاصي، وغير تارك للواجبات، إذ المدار
عندهم على كون المخبر موثوقا به، وإن كان فاسقا أو خارجا عن المذهب (2).
وقال " المحقق المامقاني " في كلام له عند بيان الحاجة إلى علم الرجال
ما نصه: ان الحق الحقيق بالقبول.. ان العمل بالاخبار إنما هو من باب الوثوق
والاطمينان العقلائي، ومن البين الذي لا مرية فيه لذي مسكة في مدخلية أحوال الرجال
في حصول الوثوق وعدمه وزواله، فالأخذ بالخبر من دون رجوع إلى أحوال رجاله
تقصير في الاجتهاد، وهو غير جائز، كما لا يجوز الفتوى قبل بذل تمام الوسع (3).
* * *
بقي هنا أمران:
أحدهما: انه هل يعتبر الوثوق الفعلي (الشخصي) أو يكفي الوثوق النوعي؟
المصرح به من غير واحد منهم في باب حجية خبر الواحد في الأحكام، ومن

(1) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 92.
(2) التنقيح في شرح العروة ج 2 ص 288 (باب اثبات النجاسة بقول خبر الثقة).
(3) تنقيح المقال ج 1 ص 174.
98

بعضهم في الموضوعات، كفاية الوثوق النوعي، وعدم الحاجة إلى الوثوق الفعلي
الشخصي.
والظاهر أن الدليل عليه هو بناء العقلاء واحتجاجهم بخبر الثقات فيما إذا
أخبروا بموضوع أو حكم، فإنهم يرونها حجة على العبيد، ومن شابههم، ولا يصغون
إلى اعتذارهم بعدم حصول الوثوق الفعلي، اللهم الا أن يكون هناك قرائن خاصة
توجب اتهام المخبر في خبره، وحينئذ لا يبعد رده، قبول العذر بوجودها.
ثانيهما: هل يكفي مجرد الوثوق بالرواية، وان لم يوثق بالراوي، بان كان
الراوي فاسقا كذابا، أو مجهول الحال، ولكن حصل من القرائن الخارجية وثوق
بنفس الرواية، فهل تكون حجة؟ وهل يحتج به أم لا؟
الظاهر أنه كذلك لجريان سيرة العقلاء أيضا عليه، فإنهم يعتمدون على اخبار
تدل القرائن على صحة مضمونها، بحيث يحصل الوثوق بها، وان لم يبلغ حد
العلم، ويحتجون بمثل هذه الأخبار.
ومن هذا الباب ما هو المعروف من المتأخرين والمعاصرين من حجية خبر
الضعيف أو المجهول إذا عمل به المشهور، فينجبر ضعفه بعملهم، وليس هذا الا من
جهة الوثوق بنفس الرواية، وإن كان الراوي غير موثوق به.
وكذلك ما قال به بعضهم من الاعتماد على الاخبار المروية في كتب المعتبرة
المعروفة، وإن كان هذه القرينة محلا للكلام بينهم من حيث الصغرى، وانها توجب
الوثوق أم لا؟
ومن هذا الباب أيضا ما يرويه وكالة الانباء في عصرنا من الاخبار المختلفة
المرتبطة بموضوعات شتى في العالم فكثيرا ما يعتمدون على اخبارهم في نقل بعض
الأمور، وان كانوا فاسقين وكذا بين، وليس ذلك الا من جهة الوثوق الحاصل بنفس
99

الخبر بالقرائن المختلفة في قرائن خاصة.
هذا تمام الكلام في حجية خبر الواحد في الموضوعات وما يرتبط بها،
(والحمد لله).
100

4 - قاعدة حجية قول ذي اليد
* ما المراد بذى اليد؟
* أقوال الفقهاء في المسألة
* دليل القاعدة من السنة
* بناء العقلاء في المسألة
* هل القاعدة من الامارات أو من الأصول؟
* هل يعتبر فيها العدالة أو الوثاقة؟
* تعارض الامارات مع قول ذي اليد
101

حجية قول ذي اليد
ما المراد بذى اليد؟
المراد من ذي اليد في هذا الباب هو من كان له سلطنة على شئ، اما من جهة
الملك، أو الأمانة أو الإجارة، أو العارية، أو غير ذلك، بل ولو كان التسلط من
ناحية التربية كسلطة الأب والام على الطفل، بالنسبة إلى اخبارهم عن طهارته ونجاسته
وغير ذلك مما يمس به، وكذلك سلطة الإمام والفقيه ومن يكون منصوبا من قبله
بالنسبة إلى ما يقع تحت حكومتهم.
وبالجملة لهذا العنوان هنا معنى وسيع، ومنه يظهر ان دائرة هذه القاعدة
أوسع بمراتب من قاعدة اليد، وانها تكون حجة على الملكية فقط، ويستفاد من
هذه القاعدة ما لا يستفاد من قاعدة اليد.
وهنا فرق آخر بين القاعدتين وهو ان اليد في قاعدة اليد بنفسها دليل على
الملكية، ولو لم يخبر بها صاحب اليد، واما ذو اليد في هذه القاعدة إنما يعتبر
اخباره بشرائطه، ومجرد كونه ذا اليد لا يكفي في اثبات شئ.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى الأقوال في المسألة:
* * *
103

" أقوال الفقهاء في مسألة حجية قول ذي اليد "
هذه القاعدة كغيره من القواعد الفقهية لما لم يبحث عنه في كلماتهم مستقلا،
وإنما تكلموا فيها تبعا واستطرادا في طي المسائل الفقهية بعنوان الاستدلال على كثير
من المسائل، وقد ذكرنا في في أول الكتاب ان المشكلة المهمة في القواعد الفقهية هي
هذا المعنى، حيث لا يرى بحث مستقل عنها لا في الفقه ولا في الأصول ولم ينعقد
لها باب الا في موارد قليلة، فحالها أشبه شئ بحال المشردين الذين لا يأوون دارا
ولا يستقرون قرارا.
وعلى كل حال، الناظر في أبواب الفقه يرى استدلالهم بهذه القاعدة في موارد
كثيرة بحيث يظهر له منها ان الحكم لا يختص بباب دون باب، بل هي عندهم قاعدة
عامة تشمل الأبواب كلها الا ما خرج بالدليل. واليك نماذج من كلماتهم (ره).
قال الشيخ قدس سره في الخلاف في كتاب " الزكاة ":
إذا قال رب المال، المال عندي وديعة أو لم يحل عليه الحول قبل منه قوله،
ولا يطالب باليمين، سواء كان خلافا للظاهر أو لم يكن، وقال الشافعي إذا اختلفا
فالقول قول رب المال فيما لا يخالف الظاهر وعليه اليمين استحبابا (1).
وقال أيضا في كتاب العارية:
إذا اختلف صاحب الدابة والراكب وقال الراكب أعرتنيها، وقال صاحب
الدابة اكريتكها، فإن القول قول الراكب مع يمينه (2).
وقال أيضا: إذا اختلف الزارع وصاحب الأرض، وقال الزارع أعرتنيها،
وقال صاحبها أكريتكها كان القول قول الزارع مع يمينه (3).

(1) الخلاف ج 1 كتاب الزكاة مسألة 27.
(2) الخلاف ج 2 كتاب العارية مسألة 3.
(3) الخلاف ج 2 كتاب العارية مسألة 4.
104

وقال أيضا: إذا اختلفا وقال صاحب الدابة غصبتها، وقال الراكب بل أعرتنيها
فالقول قول الراكب (1).
والزام ذي اليد باليمين في موارد التنازع لا ينافي حجية اخباره، كما أن حجية
اليد ودلالتها على الملكية لا تنافي اليمين عند التداعي، فإن اليمين حق المدعي على
المنكر في باب القضاء، واما في غيره فهو حجة مجردا عن اليمين.
واما عدم ذكر اليمين في المسألة الأخيرة في تنازع صاحب الدابة والراكب
فالظاهر أنه من باب الايكال على وضوحه والا فاليمين لازم في جميع هذه الأبواب.
وقال العلامة في " القواعد " في كتاب الطهارة:
" ولو أخبر الفاسق بنجاسة مائه أو طهارته قبل " (2).
وقال في باب الزكاة:
" ويصدق المالك في الاخراج من غير بينة ولا يمين " (3).
كما أنه قال في أبواب القضاء:
" وإذا كان في يده صغيرة فادعى رقيتها حكم له بذلك " (4).
وجميع ذلك دليل على قبول قول ذي اليد بالنسبة إلى ما في يده، وان وردت
في موارد خاصة.
وقال في التذكرة في كتاب الزكاة:
" إذا بعث الإمام الساعي لم يتسلط على أرباب المال، بل يطلب منهم الحق
إن كان عليهم، فإن قال المالك أخرجت الزكاة أو لم يحل على مالي الحول أو أبدلته

(1) الخلاف ج 2 كتاب العارية مسألة 5.
(2) القواعد كتاب الطهارة ص 7.
(3) القواعد كتاب الزكاة ص 59.
(4) القواعد كتاب القضاء ص 235.
105

صدقه " (1).
وعدم حلول الحول وكذا عدم تعلق الزكاة وإن كان موافقا للأصل الا ان
أداء الزكاة لا يوافق الأصل فالمرجع فيه قبول قول ذي اليد.
وقال صاحب الجواهر في كتاب الطهارة:
" وكالبينة في القبول عندنا اخبار صاحب اليد المالك بنجاسة ما في يده،
وإن كان فاسقا، كما في المنتهى والقواعد والموجز وكشف الالتباس وظاهر كشف
اللثام، بل عن الذخيرة انه المشهور بين المتأخرين، كما في الحدائق ان ظاهر
الأصحاب الاتفاق عليه... ثم استدل على ذلك بالسيرة المستمرة القاطعة واستقراء
موارد قبول اخبار ذي اليد بما هو أعظم من ذلك من الحل والحرمة (2).
وقال في الشرايع في كتاب الوكالة:
إذا ادعى الوكيل التصرف وأنكر الموكل مثل ان يقول بعت أو قبضت، قيل
القول قول الوكيل، لأنه أقر بما له ان يفعله، ولو قيل القول قول الموكل أمكن
ولكن الأول أشبه.
وأضاف في الجواهر: " بأصول المذهب وقواعده " (3).
ويمكن أن يكون المراد من أصول المذهب وقواعده قاعدة من ملك شيئا
ملك الاقرار به كما صرح به في بعض كلماته، وقاعدة حجية قول ذي اليد.
وقال في كتاب القضاء:
" الصغير المجهول النسب إذا كان في يد واحد ادعى رقيته قضى بذلك ظاهرا
وكذا لو كان في يد اثنين، بلا خلاف أجده فيه، وإن كان الأصل فيه الحرية، الا ان

(1) تذكرة الفقهاء ج 1 كتاب الزكاة ص 241.
(2) الجواهر ج 6 ص 176.
(3) الجواهر ج 27 ص 434.
106

رقيته أمر ممكن وقد ادعاه ذو اليد، ولا منازع له، فيحكم به، بل في التحرير
والمسالك لا يلتفت إلى انكاره بعد البلوغ لسبق الحكم برقيته " (1).
إلى غير ذلك مما هو كثير في كلماتهم في مختلف أبواب الفقه.
وصرح المحقق اليزدي بحجية قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة، سواء
كان يملك أو إجارة أو إعارة أو أمانة، بل أو غصب، وحجية قول الزوجة أو الخادمة
إذا أخبرتا بنجاسة ما في أيديهم من ثياب الزوج أو ظروف البيت، وغير ذلك كما
يظهر لمن راجعها.
كما صرح المحقق الهمداني " رحمه الله " في طهارته بحجية اخبار صاحب
اليد في النجاسة على المشهور، كما ادعاه بعض بل يظهر من غير واحد على ما حكى
عنهم عدم الخلاف فيه، وعمدة المستند في اعتبار قول ذي اليد هي السيرة القطعية
واستقرار طريقة العقلاء على استكشافها للأشياء، وتمييز موضوعاتها بالرجوع إلى
من كان متوليا عليها متصرفا فيها (2).
أدلة القاعدة
عمدة ما يدل على حجية قول ذي اليد أمران:
الأخبار الخاصة الواردة في مختلف أبواب الفقه، بحيث يمكن ان يصطاد
منها العموم.
و " بناء العقلاء " على ذلك في جميع أمورهم الا ما خرج بالدليل، وقد
أمضاه الشرع.
ولنرجع إلى بيان كل منهما.
* * *

(1) الجواهر ج 40 ص 476.
(2) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 610.
107

1 - الاخبار
وهي كثيرة " منها " روايات عديدة وردت في أبواب الطهارة والنجاسة مثل
ما يلي:
1 - ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر (البزنطي) قال سألته عن الرجل يأتي
السوق فيشتري جبة فراء لا يعلم أذكية أم غير ذكية؟ أيصلى فيها؟ فقال نعم ليس
عليكم المسألة (الحديث) (1).
وظاهره انه إذا سأل وأخبره صاحب اليد بأنه غير ذكية، يجب قبول قوله
ولا يصلى فيه. اللهم الا ان يقال إن ذا اليد إذا أخبر بعدم التذكية يحصل الاطمينان بقوله
لأنه بصدد اصلاح امره، وتحسين متاعه، فهو لا يخبر بوجود العيب فيه الا إذا كان
قطعيا.
نعم بناءا على وجود جمع ممن يرى طهارة الميتة بالدباغة في السوق في تلك
الأيام يمكن دفع هذا الاشكال.
واما اخباره بالتذكية فليس قبوله من باب قبول قول ذي اليد، بل من باب حجية
سوق المسلمين المصرح به في صدر الرواية، أعني ان اخباره وعدم اخباره بالتزكية
سيان إذا اشتراه من سوق المسلمين.
2 - ما رواه عبد الرحمن بن حجاج قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: اني ادخل
سوق المسلمين، أعني هذا الخلق الذين يدعون الاسلام، فاشتري منهم الفراء للتجارة
فأقول لصاحبها أليس هي ذكية؟ فيقول بلى، فهل يصلح لي ان أبيعها على أنها ذكية؟
فقال: لا، ولكن لا بأس ان تبيعها وتقول قد شرط لي الذي اشتريتها منه انها ذكية،
قلت وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة وزعموا أن دباغ جلد الميتة

(1) الوسائل ج 2 كتاب الطهارة أبواب النجاسات الباب 50 الحديث 3.
108

ذكاته (الحديث) (1).
وهذا الحديث أظهر من سابقه، واسلم من بعض الاشكالات الذي مر فيه،
لأن الاعتماد فيه على اخبار ذي اليد لا على سوق المسلمين مضافا إلى عدم كون المورد
مما يحصل اليقين فيه بالاخبار.
3 - ما رواه عبد الله بن بكير قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أعار رجلا
ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلي فيه، قال لا يعلمه، قال قلت فإن اعلمه؟ قال يعيد (2).
وذيل الحديث وإن كان معارضا بما دل على عدم وجوب الإعادة لو اخبره،
وهو رواية عيسى بن قاسم عن أبي عبد الله عليه السلام (3) ولكن هذا لا ينافي العمل بصدره
حيث دل على قبول اخبار صاحب اليد، بناءا على قبول التفكيك في الاخبار من حيث
العمل، أو يحمل بالإعادة على الاستحباب.
ومنها ما ورد في أبواب الصيد والذبائح:
مثل ما رواه محمد بن مسلم وغيره انهم سألوا أبا جعفر عليه السلام عن شراء اللحوم
من الأسواق ولا يدري ما صنع القصابون، فقال كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين
ولا تسأل عنه (4).
فإن النهي عن السؤال دليل على أنه إذا سئل وأخبر ذو اليد فقوله حجة، والا
كان السؤال وعدمه سيان، وهو خلاف ظاهر الرواية.
ومنها ما ورد في أبواب الأطعمة والأشربة:
1 - ما رواه بكر بن حبيب قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن الجبن وانه توضح

(1) الوسائل ج 2 كتاب الطهارة أبواب النجاسات الباب 61 الحديث 4.
(2) الوسائل ج 2 كتاب الطهارة أبواب النجاسات الباب 47 الحديث 3.
(3) الوسائل ج 2 كتاب الطهارة أبواب النجاسات الباب 47 الحديث 4.
(4) الوسائل ج 16 كتاب الصيد والذبائح أبواب الذبائح الباب 29 الحديث 1.
109

فيه الإنفحة من الميتة، قال لا تصلح، ثم ارسل بدرهم فقال اشتر من رجل مسلم
ولا تسأله عن شئ " (1) ودلالته على المطلوب بعين ما مر في سابقه.
2 - ما رواه حماد بن عيسى قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول كان أبي يبعث
بالدراهم إلى السوق، فيشتري بها جبنا ويسمي ويأكل ولا يسأل عنه (2).
ومنها ما ورد في أبواب الزكاة من تصديق قول رب المال في عدم تعلق
الزكاة بماله، أو أدائه بعد تعلقه.
مثل ما رواه غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: " كان علي عليه السلام إذا
بعث مصدقة قال له إذا اتيت على رب المال فقل تصدق رحمك الله مما أعطاك الله،
فإن ولى عنك تراجعه " (3) فإن التولي هنا بمنزلة جوابه بنفي تعلق الزكاة بماله أو
أدائه بعد تعلقه.
وما رواه بريد بن معاوية قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: " بعث أمير المؤمنين
عليه السلام مصدقا من الكوفة إلى باديتها فقال له:.. - إلى أن قال - فإن قال لك قائل
لا، فلا تراجعه.. والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (4).
ورواه السيد السند الرضي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام بعبارات
أخرى (5).
ومنها ما روي في أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة في باب بيع الدهن

(1) الوسائل ج 17 كتاب الأطعمة والأشربة أبواب الأطعمة المباحة الباب 61
الحديث 4.
(2) الوسائل ج 17 كتاب الأطعمة والأشربة أبواب الأطعمة المباحة الباب 61
الحديث 8.
(3) الوسائل ج 6 كتاب الزكاة أبواب المستحقين للزكاة الباب 55 الحديث 1.
(4) الوسائل ج 6 كتاب الزكاة أبواب زكاة الأنعام الباب 14 الحديث 1.
(5) نهج البلاغة أبواب رسائله الرسالة 25.
110

المتنجس.
مثل ما عن معاوية بن وهب وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام: " في جرذ مات في
زيت ما تقول في بيع ذلك فقال بعه وبينه لمن اشتراه ليستصبح به " (1).
وما عن إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله عليه السلام - إلى أن قال - اما الزيت
فلا تبعه الا لمن تبين له فيبتاع للسراج " (2).
فإنهما ظاهرتان في أن تبيين البايع واخباره حجة للمشتري، نعم يرد عليهما
ما أشرنا إليه سابقا من أن اخبار ذي اليد إذا كان فيما فيه ضرره فهو يوجب القطع
أو الاطمينان غالبا.
ومنها ما ورد في أبواب نكاح العبيد والإماء وقبول قول البايع في أنها غير
موطوئة.
مثل ما رواه زرارة قال اشتريت جارية بالبصرة من امرأة فخبرتني انه لم يطأها
أحد، فوقعت عليها ولم استبرئها فسألت عن ذلك أبا جعفر عليه السلام قال: هو ذا، قد فعلت
ذلك وما أريد ان أعود (3).
وظهور ذيله في الكراهة لعله من جهة غلبة كون الإماء موطوئة ذاك اليوم.
ولا ينافي ذلك ما ورد في هذا الباب من تقييد قبول خبر البايع بكونه صادقا،
أو مأمونا، لامكان استناده إلى ما عرفت من الغلبة وظهور الحال في الإماء، فراجع
الباب " 6 " من أبواب نكاح العبيد والإماء ترى فيها ما يدل على أن هذا القيد إنما هو
لرفع الكراهة فتأمل.
ومنها ما ورد أيضا في أبواب التجارة، في باب جواز الشراء على تصديق
البايع في الكيل من دون اعادته:

(1) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به الباب 6 الحديث 4 و 5
(2) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به الباب 6 الحديث 4 و 5
(3) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب نكاح العبيد والإماء الباب 7 الحديث 2.
111

مثل ما رواه محمد بن حمران قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام اشترينا طعاما فزعم
صاحبه انه كاله، فصدقناه وأخذناه بكيله، فقال: لا بأس. فقلت أيجوز ان أبيعه كما
اشتريته بكيل؟ قال لا، اما أنت فلا تبعه حتى تكيله (1) حيث دل على جواز الاعتماد
على اخبار صاحب اليد بأنه قد كاله، وأما عدم جواز بيعه بعد ذلك بغير كيل فلعله
من جهة ان ظاهر حال البايع انه قد كاله بنفسه أو محمول على الاستحباب.
وما رواه سماعة قال سألته عن شراء الطعام وما يكال ويوزن، هل يصلح شرائه
بغير كيل ولا وزن، فقال اما ان تأتي رجلا في طعام قد كيل ووزن تشتري منه مرابحة
فلا بأس ان اشتريته منه ولم تكله ولم تزنه، إذا كان المشتري الأول قد اخذه بكيل أو
وزن وقلت له عند البيع اني أربحك كذا وكذا وقد رضيت بكيلك ووزنك فلا بأس (2).
والكيل والوزن هنا وإن كان مفروض الوجود في الرواية، ولكن العلم على
مقداره لا يكون الا من ناحية اخبار ذي اليد والاعتماد عليه.
وما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله انه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري
الطعام، اشتريه منه بكيله وأصدقه؟ فقال لا بأس، ولكن لا تبعه حتى تكيله (3).
إلى غير ذلك مما يدل على هذا المعنى.
ومنها ما ورد في أبواب الزكاة أيضا في كفاية الاعتماد على قول المالك في
أبواب المضاربة بأنهم أدوا زكاته:
مثل ما رواه سماعة قال سألته عن الرجل يكون معه المال مضاربة هل عليه في
ذلك المال زكاة إذا كان يتجر به؟ فقال ينبغي له ان يقول لأصحاب المال زكوه، فإن
قالوا انا نزكيه، فليس عليه غير ذلك وان هم أمروا بان يزكيه فليفعل (4).

(1) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب عقد البيع وشروطه الباب 5 الحديث 4.
(2) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب عقد البيع وشروطه الباب 5 الحديث 7 و 8
(3) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب عقد البيع وشروطه الباب 5 الحديث 7 و 8
(4) الوسائل ج 6 كتاب الزكاة أبواب ما تجب فيه الزكاة الباب 15 الحديث 1.
112

نعم يمكن الايراد عليه بان اخبار ذي اليد هنا محفوف بفعل المسلم وتصرفاته
ولو بالواسطة ومقتضى حمل فعل المسلم على الصحة كون هذه التصرفات مباحة
أخبر أو لم يخبر.
فهذه ستة عشر رواية والاخبار في ذلك كثيرة جدا وهي وان وردت في موارد
خاصة الا انه يمكن استفادة العموم منها بعد الغاء الخصوصية عنها قطعا.
* * *
2 - بناء العقلاء
وهذه القاعدة مثل جل القواعد الفقهية أو كلها عقلائية قبل أن تكون شرعية،
وفي الحقيقة الشارع أمضاها لا انه أسسها.
ويظهر ذلك بالرجوع إلى أهل العرف والعقلاء، فإنهم يعتمدون على اخبار
ذي اليد، سواء كان مالكا أو وكيلا أو أجيرا أو وليا، أو غير ذلك من انحاء التسلط
على مال، أو انسان صغير، أو شبه ذلك، ويحتجون بذلك في المخاصمات ما لم
يكن ذو اليد متهما في قوله، ولا يشترطون في ذلك العدالة أو الوثاقة المعتبرة في
حجية خبر الواحد على نحو العموم، وهذا أمر ظاهر لمن راجعهم واختبر أحوالهم.
وحيث إن الشارع لم يمنع منه بل أمضاه - كما عرفته - في موارد كثيرة،
يمكن الاعتماد عليه كقاعدة شرعية ويظهر ذلك أيضا من كلمات الفقهاء التي مر عليك
ذكرها عنه نقل الأقوال في هذه المسألة.
* * *
" بقي هنا أمور "
الأول: حجية قول ذي اليد هل هي من الامارات أو من الأصول؟
قد عرفت آنفا ان هذه القاعدة من القواعد العقلائية، والشارع أمضاها، ومن
113

الواضح ان اعتماد العقلاء عليها ليس من باب التعبد المحض، لا نقول إن التعبد
في أمور العقلاء غير معقول - كما ذكره بعض محققي المتأخرين - بل نقول إن التعبد
في ما بينهم وإن كان معقولا مثل تعبدهم بالقرعة، فإنها لا كاشفية لها عن الواقع عندهم
بل قد لا يكون في موردها واقعا مجهولا، تكشف عنه القرعة كما في موارد قسمة
الأموال بين الشركاء، ولكن ما نحن فيه ليس من التعبد بل الظاهر أنهم يعتمدون
على قول ذي اليد بما انه كاشف عن الواقع وامارة عليه، لأنه اعلم واعرف بما في
يده من غيره.
والحاصل ان جميع الخصوصيات الموجودة في الامارات موجودة هنا، فإن
ذا اليد غالبا أبصر بما في يده من غيره، فيكون اخباره عنه كاشفا عن الواقع المجهول.
الثاني: هل يعتبر فيه العدالة أو الوثاقة؟
لا يخفى على الناظر في اخبار الباب ان اطلاقها ينفي اعتبار العدالة والوثاقة،
وظاهرها قبول قول ذي اليد سواء كان عادلا أو ثقة أولا، وهكذا فتاوى الأصحاب
مطلقة من هذه الجهة، حتى أن بعضهم تردد في اعتبار الاسلام فيه، واحتمل قبول
قوله وإن كان كافرا، بل أفتى بعضهم باعتباره مطلقا.
قال المحقق اليزدي في العروة: " لا فرق في اعتبار قول ذي اليد بالنجاسة
بين أن يكون فاسقا أو عادلا بل مسلما أو كافرا " (1) وقرره على ذلك كثير من المحشين
وان تأمل فيه بعضهم.
ويؤيد ما ذكرنا بل يدل عليه عدم اعتبار شئ من هذه القيود في بناء العقلاء
عليه، الذي قد عرفت انه الأصل في هذه المسألة.
نعم يستثنى من ذلك ما إذا كان ذو اليد متهما في مقالته، أو يكون هناك قرائن

(1) العروة الوثقى طريق ثبوت النجاسة المسألة 12.
114

ظنية تدل على كذبه، وان لم تبلغ حد الحجية، أو يكون ظاهر حاله مكذبا لقوله،
فإن بناء العقلاء على حجية أمثالها بعيد جدا، واخبار الباب أيضا منصرفة عنها.
مثل ما إذا كان المخبر ممن لا يبالي في اخباره، أو كان الخبر بالطهارة مثلا
في موارد استصحاب النجاسة يجلب له نفعا كثيرا، وقد علمنا كذبه في مثل هذا الخبر
في غير مورد، فإن الاعتماد على اخباره مشكل جدا بل ممنوع.
ويدل عليه ما ورد في أبواب أحكام العصير عن معاوية بن عمار قال سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج، ويقول قد طبخ
على الثلث، وانا اعرف انه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟
فقال لا تشربه، قلت فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث، ولا
يستحله على النصف، يخبرنا ان عندنا بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقى ثلثه
يشرب منه؟ قال نعم (1).
وحاصل الحديث ان البختج - وهو العصير المطبوخ - إذا أتى به من يشربه
بغير الثلثان بل بالنصف ولكن أخبر بأنه ذهب ثلثاه لا يقبل قوله، وإن كان مؤمنا عارفا
بالإمامة، لأن فعله يكذب قوله، وأما إذا أتى به من يشربه على الثلث وأخبر بذلك
يقبل قوله، وإن كان من غير أهل الايمان، لعدم تكذيب قوله فعله، فيستفاد منه عدم
الاتهام أولا وعدم اعتبار الايمان ثانيا.
وتخصيص بعضهم هذا الحديث بمورده، وعدم التعدي عنه إلى كل متهم في
اخباره، أو حمله على خصوص من يكون سبب اتهامه تكذيب فعله قوله بعيد جدا،
بعد ما عرفت في أدلة المسألة، بل الظاهر أن مورد الحديث فرع من فروع اتهام
المخبر ومصداق من مصاديقه الكثيرة.
ومن هنا يظهر ان ما ورد في غير واحد من الاخبار من اعتبار الاسلام والمعرفة

(1) الوسائل ج 17 كتاب الأطعمة والأشربة أبواب الأشربة المحرمة الباب 7 الحديث 4
115

أو الايمان والورع في من يخبر عن العصير المطبوخ على الثلث - كما في قوله فيما
رواه علي بن جعفر عن أخيه قال سألته عن الرجل يصلي إلى القبلة لا يوثق به أتى
بشراب يزعم أنه على الثلث، قال لا يصدق الا أن يكون مسلما عارفا (1) - إنما هو
ناظر إلى موارد التهمة، فإن أمر العصير كان عندهم مشوشا جدا، اختلفت آراء الفقهاء
فيه، كما اختلف اعمال الناس فيه، ففي مثل هذه الموارد لا يمكن الركون الا إلى
المؤمن الورع، لأن غيره مظنة الاتهام.
ويدل على ما ذكرنا أيضا ما رواه إسماعيل بن عيسى عن أبي الحسن عليه السلام في
جواب سؤاله عن جلود الفراء يشتريها الرجل من أسواق المسلمين يسأل عن ذكاته
إذا كان البايع غير عارف؟ قال: عليكم ان تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون
ذلك وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه (2).
فإن ظاهره كفاية اخبار المشركين عن ذكاة الجلود، والاعتماد على اخبارهم
(ما لم يكونوا متهمين).
الثالث: تعارض الامارة واخبار ذي اليد:
إذا تعارض اخبار ذي يد البينة، فهل تتساقطان، أو تقدم البينة على قول ذي
اليد؟
الظاهر تقديمها عليه لا لقصور أدلة حجية قول ذي اليد كما قيل (3) بل من جهة
كون البينة أقوى منه، ولذا تقدم البينة على نفس اليد في أبواب القضاء والدعاوي،
بل لو لم تقدم البينة على اليد لم يبق لمدعي الملكية في مقابل الغاصب دليل غالبا
فتقديمه على اخبار صاحب اليد بطريق أولى، وعليه جرت سيرة العقلاء فيما بينهم

(1) الوسائل ج 17 كتاب الأطعمة والأشربة أبواب الأشربة المحرمة الباب 7 الحديث 7.
(2) الوسائل ج 2 كتاب الطهارة أبواب النجاسات الباب 50 الحديث 7.
(3) قاله في المستمسك ج 1 في شرح المسألة 7 من ماء الحمام.
116

من حجية قول ذي اليد.
لكن هذا إذا كانت البينة مستندة إلى العلم فلو كانت مستندة إلى الأصل فلا
تكون أقوى، فيقدم قول ذي اليد عليها إذا كان قوله مستندا إلى علمه فتدبر.
وإذا تعارض قول ذي اليد مع ذي اليد الاخر كما في الشريكين المسلطين
على شئ واحد، يخبر هذا بأنه نجس والاخر بأنه طاهر، أو تعارض قول صاحب اليد
الموجودة لقول صاحب اليد الذي كان سابقا، كما إذا أخبر أخبر من بيده الدهن اليوم بأنه
طاهر، وأخبر من كان بيده أمس انه نجس.
اما الأول فلا شك في تساقطهما بعد التعارض وعدم الترجيح.
وأما إذا تعارض اخبار ذي اليد القديمة مع ذي اليد الجديدة الحالية فهل يقدم
قول الأول أو الثاني؟ الظاهر تقديم قول الثاني لأنه ذو اليد فعلا، نعم لو أخبر بان العين
كانت نجسة في الأمس مثلا حينما كان تحت يده، وكان صاحب اليد فعلا مخبرا
بطهارته بناء على عدم علمه بالنجاسة من باب أصالة الطهارة، فتقديم قول السابق غير
بعيد، كما أنه لو أخبر صاحب اليد الجديدة بأنه طهره لاشك في تقديم قوله على صاحب
اليد القديمة لعدم المنافاة بينهما.
وهذه المسألة من بعض الجهات تشبه ما ذكروه في كتاب القضاء في تداعي
شخصين على عين واحدة، أحدهما صاحب اليد فعلا، وقامت البينة بكون الاخر
صاحب اليد أمس، وإن كان تخالفه من بعض الجهات (1).

(1) راجع جامع الشتات ج 2 ص 652 والجواهر ج 40 ص 452.
117

5 - قاعدة الحيازة
(من حاز ملك)
* سببية الحيازة للملك
* مدرك القاعدة من بناء العقلاء
* مدركها من السنة
* بماذا تحقق الحيازة؟
* هل يعتبر في الحيازة القصد أو لا؟
* هل يجوز التوكيل والاستيجار في الحيازة أو لا؟
* هل للحيازة حد؟
119

قاعدة الحيازة
سببية الحيازة للملك
المعروف بين العلماء ان من حاز شيئا ملكه، حتى جعلوها قاعدة مستقلة برأسها
واستدلوا بها على الملكية في موارد مختلفة، تحت عنوان " من حاز ملك " وستعرف
إن شاء الله انه لم يرد بهذا العنوان نص خاص، بل اصطادوها من نصوص مختلفة،
واردة في أبواب الفقه، ولكن لم نر من تعرض لهذه القاعدة مستقلا، بل وقعت
الإشارة منهم إليها في طيات المسائل المختلفة.
قال المحقق (قدس سره) في " كتاب الشركة " من " الشرايع ": " والأشبه
في الحيازة اختصاص كل واحد بما حازه " (1).
وقال في آخر " كتاب الشركة ": " التاسعة: إذا استأجر للاحتطاب أو الاحتشاش
أو الاصطياد مدة معينه صحت الإجارة ويملك المستأجر ما يحصل من ذلك في تلك
المدة " (2).
ولكن عد الالتقاط والاحتطاب والاحتشاش في كتاب الوكالة، مما لا تصح
النيابة فيه.
ولا يخفى التهافت بين كلاميه في كتابي الوكالة والإجارة.

(1) الشرايع كتاب الشركة ص 374 (طبع دار الهدى).
(2) الشرايع كتاب الشركة ص 380 (طبع دار الهدى).
121

وقال في " المسالك " في " كتاب الشركة ": " والأشبه في الحيازة اختصاص
كل واحد بما حازه من الحيازة " (1).
وسيأتي الكلام إن شاء الله مستقصى في معنى الحيازة، وانها هل هي مجرد
السلطة على شئ من دون الحاجة إلى النية، أو انها أمر قصدي مضافا إلى السلطة
لا يصح الا للمباشر، أو هي سلطة مع النية ولكن تقبل الوكالة والنيابة، وتصح من
المباشر وغير المباشر، أو انها تابعة لملك المنافع فمن ملك منفعة انسان بالإجارة أو
غيرها تملك ما حازه، قصد أم لا لم يقصد.
ولكن يتم هذا البحث بعد بيان مدارك القاعدة وتحقيق مؤداها فنقول
ومن الله نستمد التوفيق:
* * *
" مدرك القاعدة "
الأول: بناء العقلاء
وهذه القاعدة كغيرها من القواعد الفقهية متخذة من بناء العقلاء، أمضاها الشارع
مع قيود، أو بغير قيد، فلنرجع أولا إلى بناء العقلاء في ذلك ونقول:
ان الله خلق الانسان وأودع فيه ودايع قيمة ليعبده ويتقرب إليه، وبما انه مركب
من الجسم والروح خلق له في الأرض ما يتقوى به جسمه، فقال تعالى: " هو الذي
خلق لكم ما في الأرض جميعا " (2) فرخص له الانتفاع بمواهبها والتمتع من نعمها،
وإذا راجعنا إلى ابتداء خلق الانسان في الأرض نرى انه لم يكن مالكا لشئ ثم اختص
بأشياء ولم يكن ذلك الا من طريق الحيازة.

(1) المسالك ج 1 كتاب الشركة ص 274.
(2) البقرة: 29.
122

فكل من يسيطر على شئ ويحوزه، من منابع الأرض ومواهبها يرى لنفسه
اختصاصا بها ولها اختصاصا به ومن هنا نشأت عنوان الملكية.
وقد كان كثير من الأشياء الموجودة على الأرض لا يمكن الانتفاع بها قبل
اصلاحها واعمال عليها فكان يعمل فيها بما يصلحها ويعدها لحوائجه، فكان العمل
سببا آخر للملكية.
ومن هنا يعلم أن جميع الاملاك الموجودة للانسان ترجع إلى أحد هذين
السببين: " الحيازة " و " العمل " فلولا الحيازة أو العمل لم يكن ملك، وهذا أوضح
دليل على أن الحيازة من أسباب الملك، لأن جميعها بالمآل يرجع إليه.
ثم بعث الله الرسل وانزل الكتب السماوية لهداية الانسان إلى غاية خلقه،
وايصاله إلى كمال مطلوبه، واصلاح أمور معاشه ومعاده.
وهم قرروا لأمم على كثير من أمورهم العقلائية، ومنها الحيازة، فلم ينكر
أحد منهم سببية الحيازة للملك، وكذا سببية العمل له.
نعم ذكروا لها شروطا وقيودا اجتنابا من مفاسدها، وتكميلا لمصالحها.
إلى أن جاء نبينا محمد صلى الله عليه وآله وانزل عليه القرآن، فهو أيضا قرر أمته على ذلك
ولم يمنع منه بل أثار في نفوسهم الشوق إلى احياء الأرض، وحيازة منابعها، ومواهبها
وصرفها في المعروف وما يكون فيه رضا الرب.
وهذه السيرة العقلائية من أقوى السير، ومن أقدمها، فهي أحرى بالحجية من
غيرها.
كما أن امضاء الشرع لها أظهر من الجميع، فقد كان حيازة المباحات طول الليل
والنهار، وفي جميع أيام السنة، بمرئى من الشارع وبمسمعه، ولم ينكر على أحد
في ذلك بل أكده وجرى عمله وعمل أصحابه عليه، فإذا لا يبقى اي شك في كون
الحيازة - على اجمالها - سببا للملك.
123

2 - السنة
الحق كما صرح به بعضهم ان تعبير ب‍ " من حاز ملك " لم يوجد في شئ
من روايات العامة ولا الخاصة، وإن كان يظهر من بعض كلمات الفقيه الماهر صاحب
الجواهر (قدس سره) ان هذه العبارة من أقوال المعصومين (1) ولكن يمكن حملها
- بقرينة ما عرفت - على كون هذه القاعدة الكلية مصطادة من رواياتهم الخاصة فتأمل.
وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن هناك روايات كثيرة واردة في أبواب الحيازة و
احياء الموات، مما يدل عموما أو خصوصا على هذا الحكم الكلي.
1 - منها ما عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا قال رسول الله صلى الله عليه وآله " من
أحيى أرضا مواتا فهي له " (2).
إلى غير ذلك مما ورد في " باب احياء الأراضي الموات " وقد جمعها صاحب
الوسائل في الباب الأول من كتاب احياء الموات.
والتعبير فيها وإن كان بالاحياء، الا انه من باب ان الحيازة في الأراضي لا تكون
الا بالاحياء، أو ان الشارع أضاف الاحياء إلى الحيازة فيها، وعلى كل حال فهي تدل
على أن الحيازة مطلقا بناءا على أنها لا تكون في الأراضي الا بالاحياء، أو مقيدا بالاحياء
بناءا على كون الاحياء أخص منه، سبب للملكية.
وما قد يقال من أن الاحياء في الأراضي لا يوجب الملك، بل يوجب حق الأولوية
نظرا إلى ما ورد في بعض روايات الباب من التعبير بقوله: " فهم أحق بها " مما
لا يصغى إليه لأن الجمع بينهما يقتضي حمل الحق على الملك
هنا، وتمام الكلام في هذا المعنى في محله.

(1) راجع الجواهر ج 26 ص 291 (كتاب الشركة).
(2) الوسائل ج 17 كتاب احياء الموات الباب 1 الحديث 5 و 6.
124

2 - منها ما ورد في " أبواب اللقطة " مثل ما عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله
عليه السلام قال من أصاب مالا أو بعيرا في فلات من الأرض قد كلت وقامت وسيبها صاحبها
مما لم يتبعه، فاخذها غيره فأقام عليها، وأنفق نفقته، حتى أحياها من الكلال، ومن
الموت، فهي له، ولا سبيل له عليها، وإنما هي مثل الشئ المباح (1).
وقوله عليه السلام في ذيل الحديث: " إنما هي مثل الشئ المباح " دليل على
عدم اختصاص الحكم بالدابة المرسلة في الفلوات التي اعرض عنا صاحبها فاخذها
غيرها وأنفق عليها حتى أحياها من الموت، بل يشمل هذا الحكم كل مباح قد حازه
انسان وان الحيازة توجب الملكية مطلقا.
3 - مثله رواية أخرى عن مسمع عن أبي عبد الله عليه السلام قال إن أمير المؤمنين
عليه السلام كان يقول في الدابة إذا سرحها أهلها، أو عجزوا عن علفها أو نفقتها، فهي للذي
أحياها (2).
ولكن لم يرد في ذيلها الكبرى الكلية التي ورد في ما قبلها.
بل يظهر مما ورد في ذيل هذه الرواية وهو قوله " إن كان تركها في كلاء وماء
وأمن فهي له يأخذها متى شاء، وإن كان تركها في غير كلاء ولا ماء فهي لمن أحياها "
انه يكفي في مقام الاثبات عند التنازع والتعارض ترك الدابة في غير ماء ولا كلاء،
فهو دليل الاعراض في الظاهر، فيصير من قبيل المباحات الأصلية فهو لمن أحياه،
وعلى كل حال لا ينبغي الريب في الغاء الخصوصية من مورد الرواية.
4 - ومثله ما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام ان أمير المؤمنين عليه السلام قضى
في رجل ترك دابته من جهد، فقال إن تركها في كلاء وماء وأمن فهي له يأخذها حيث
أصابها، وان تركها في خوف وعلى غير ماء ولا كلاء فهي لمن أصابها (3).

(1) الوسائل ج 17 كتاب اللقطة الباب 13 الحديث 2.
(2) الوسائل ج 17 كتاب اللقطة الباب 13 الحديث 3.
(3) الوسائل ج 17 كتاب اللقطة الباب 13 الحديث 4.
125

5 - ومنها ما ورد في أبواب اللقطة أيضا في باب حكم صيد الطير المستوي
الجناح وغيره، مثل ما عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي
عليه السلام انه سأله عن رجل أبصر طير فتبعه حتى وقع على شجرة فجاء رجل آخر فأخذه
قال: للعين ما رأت ولليد ما أخذت! (1).
والمعنى - والله العالم - ان مجرد الابصار لا يكون مصداقا للحيازة، فحظ
العين هو الرؤية فقط، والحيازة إنما هي بالأخذ فمن اخذها فهو له، لأن الحيازة حاصلة
به فهو لاخذه.
وهذا حديث عام دال على ملكية المباحات بأخذها، والسلطة عليها وحيازتها.
6 - ومثله في خصوص الطير ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي
قال سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الرجل يصيد الطير الذي يسوى دراهم كثيرة،
وهو مستوي الجناحين، وهو يعرف صاحبه أيحل له امساكه؟ فقال إذا عرف صاحبه
رده عليه، وان لم يكن يعرفه وملك جناحه فهو له، وان جاءك طالب لا تتهمه رده إليه (2).
دل على أن الطير الذي يصيده الانسان حيا على اقسام:
تارة لا يستوي جناحاه، والظاهر أنه بمعنى قطع شئ من جناحيه، بالمقراض
حتى لا يقدر على الفرار، وهو امارة الملكية لغيره، فلا يجوز أخذه بعنوان الملكية،
ويجب على آخذه رده إلى صاحبه مهما وجده.
وأخرى يستوى جناحاه، وليس عليه امارة الملك، فيأخذه ولكن ان عرف
صاحبه فعليه أيضا رده إليه.
وثالثة يستوي جناحاه ولكن يجئ طالب يطلبه ممن لا يكون متهما في قوله
فاللازم رده إليه.

(1) الوسائل ج 17 كتاب اللقطة الباب 15 الحديث 2.
(2) الوسائل ج 17 كتاب اللقطة الباب 15 الحديث 1.
126

ورابعة لا يعرف له صاحبا وهو مالك لجناحيه ليس عليه امارة الملك فيأخذه
وهو له.
وعلى كل حال هذه الرواية تدل دلالة صريحة على أن الطير لو كان في الواقع
من المباحات الأصلية يملكه آخذه.
7 - وفي معناه روايات أخر عمل بها الأصحاب، وأفتوا بها، مثل ما عن زرارة
عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا ملك الطائر جناحه فهو لمن أخذه (1).
8 - وما عن إسماعيل بن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: الطائر يقع
على الدار فيؤخذ، أحلال هو أم حرام لمن اخذه؟ قال: يا إسماعيل! عاف أم
غير عاف؟ قلت: وما العافي؟ قال المستوي جناحاه، المالك جناحيه يذهب حيث
شاء، قال هو لمن أخذه حلال (2).
9 - وفي معناه رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام (3).
10 - ورواية أخرى لزرارة عنه عليه السلام (4).
11 - وما رواه البزنطي عن إسحاق بن عمار عنه عليه السلام أيضا (5).
وقال صاحب الجواهر في مسألة الثامنة من مسائل أحكام الصيد لم أجد خلافا
بين الأصحاب في أن الطير إذا صيد مقصوصا لم يملكه الصائد، ومفهومه حصول
الملك بالحيازة إذا لم يكن على الطائر اثر يدل على كونه ملكا لاخر كما صرح بذلك
فيما بعده (6).
وهناك طائفة أخرى من الروايات وردت في أبواب اللقطة فيمن وجد جوهرة

(1) الوسائل ج 16 كتاب الصيد والذبائح أبواب الصيد الباب 37 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 16 كتاب الصيد والذبائح أبواب الصيد الباب 37 الحديث 2.
(3) الوسائل ج 16 كتاب الصيد والذبائح أبواب الصيد الباب 37 الحديث
3 و 5 و 6.
(4) الوسائل ج 16 كتاب الصيد والذبائح أبواب الصيد الباب 37 الحديث
3 و 5 و 6.
(5) الوسائل ج 16 كتاب الصيد والذبائح أبواب الصيد الباب 37 الحديث
3 و 5 و 6.
(6) الجواهر ج 36 ص 226.
127

في جوف سمكة أو حيوان آخر وانها لمن وجدها.
12 - مثل ما عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث:
ان رجلا عابدا من بني إسرائيل كان محارفا فأخذ غزلا فاشترى به سمكة فوجد في
بطنها لؤلؤة فباعها بعشرين ألف درهم، فجاء سائل فدق الباب، فقال له الرجل ادخل
فقال له خذ أحد الكيسين، فأخذ أحدهما وانطلق، فلم يكن بأسرع من أن دق السائل
الباب، فقال له الرجل ادخل فدخل فوضع الكيس في مكانه، ثم قال كل هنيئا مريئا
أنا ملك من ملائكة ربك، إنما أراد ربك ان يبلوك فوجدك شاكرا، ثم ذهب (1).
13 و 14 و 15 - وفي معناه ما رواه حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام
والزهري عن علي بن الحسين عليه السلام وما روي مرسلا في تفسير الإمام الحسن العسكري (2).
16 - وما عن عبد الله بن جعفر الحميري قال سألته عليه السلام في كتاب، عن رجل
اشترى جزورا أو بقرة أو شاة أو غيرها للأضاحي أو غيرها فلما ذبحها وجد في جوفها
صرة فيها دراهم أو دنانير أو جواهر أو غير ذلك من المنافع لمن يكون ذلك؟ وكيف
يعمل به؟ فوقع عليه السلام عرفها البايع فإن لم يعرفها فالشئ لك، رزقك الله إياه (3).
وقد أفتى به الأصحاب بل ادعى الاجماع عليه في الجملة، ولكن إنما يكون
داخلا فيما نحن فيه بالنسبة إلى الجوهرة إذا لم يجر عليها يد انسان، وبقيت على
اباحتها الأصلية، أو شك في ذلك، واما بالنسبة إلى الدراهم والدنانير وكذا الجوهرة
التي جرت عليها يد انسان فهو داخل في أحكام اللقطة لا حيازة المباحات، وتمام
الكلام في ذلك في كتاب اللقطة، ولكنها كافية لاثبات ما نحن بصدده.
والمتحصل من جميع ذلك عدم الشك في كون الحيازة من أسباب الملك إذا

(1) الوسائل ج 17 أبواب اللقطة الباب 10 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 17 أبواب اللقطة الباب 10 الحديث 2 و 4 و 5.
(3) الوسائل ج 17 أبواب اللقطة الباب 9 الحديث 3.
128

تعلقت بالمباحات الأصلية، أو ما في حكم المباح، كالملك الذي اعرض عنه صاحبه
وجعله كالمباح الأصلي، وفتاوى الأصحاب في أبواب الصيد والذباحة، وكذا أبواب
اللقطة في موارد مختلفة شاهدة على كون الحكم مجمعا عليه بينهم.
* * *
بقي هنا أمور
الأول: بماذا تتحقق الحيازة
قد عرفت ان الحيازة أمر عقلائي قبل أن تكون شرعيا، وقد أمضاها الشارع
المقدس، فلابد من اخذ معيارها من بناء العرف والعقلاء، وهذا يختلف باختلاف
الموارد، ففي مثل الأرض الزراعي حيازتها، أحياها للزراعة، بالتقاط أحجارها،
واجراء مائها، وحفر المسناة وغير ذلك مما هو لازم في الزراعة.
وأما بالنسبة إلى ارض الدار فحيازته بناء حيطانه، وهل يعتبر فيها بناء السقف
ونصب الأبواب؟ فيه كلام معروف عندهم في كتاب احياء الموات، ليس هنا موضع
ذكره.
واما إن كان للحظيرة فالمعروف بل ادعي عدم الخلاف فيه انه يقتصر على
الحائط من دون السقف، وليس تعليق الباب شرطا له بل ادعي الاجماع عليه.
ولكن الظاهر أنه ليس شئ من هذا من الأمور التوقيفية تطلب من الاجماع
وأمثاله، بل الظاهر أنهم اعتمدوا في هذه الأمور على صدق الحيازة والاستيلاء
عليها عرفا.
وأما بالنسبة إلى الحيوان فحيازتها أخذها أو صيدها بحيث لا يقدر على الفرار
ولو لم يأخذها بعد، فلو ان صيادا رمى طائرا أو حيوانا من حيوانات البر فجرحه
بحيث لم يقدر على الفرار كان في حيازته، ولا يجوز لمن وجده اخذه، بل عليه
129

تسليمه للصياد لو اخذه، وقد عرفت ما ورد في بعض الروايات من أن " للعين ما رأت
ولليد ما اخذت ".
وأما بالنسبة إلى السمك ونحوه من صيد البحر فيكفي وقوعه في الشبكة،
لصدق الحيازة عليها عرفا، وان لم يرد هذا العنوان في روايات الباب، ولكن قد
عرفت انه مصطاد من مجموعها، فما دام السمك في الشبكة لا يجوز اخذه، نعم لو
فر منها عاد إلى المباحات الأصلية ويجوز لكل أحد صيده.
وبالنسبة إلى اللؤلؤة يكفي اخذها بعد الغوص، أو ربطها بشئ في قعر البحر
لاخراجها منه، أو جعلها في محفظة متصلة بحبل معد لاخراجها وان لم تخرج بعد.
وفي الماء اخذه من النهر أو البحر أو اخراجه منه بالمكينات إلى المخازن،
أو الأنهار، فإن ذلك كاف عند أهل العرف والعقلاء في الحيازة، وفي الطاقة الكهربائية
المأخوذة من الماء يكفي نصب المكينات عند الأنهار التي تنزل من فوق، ولا يجوز
لغيره مزاحمته فيه بعد سيطرته على المحل والموقف.
وبالجملة الحيازة في كل مورد بحسبه، ورب شئ يكون مصداقا لها في مورد
ولا يكون مصداقا لها في مورد آخر، ولها تفاصيل مذكورة في كتاب احياء الموات
وكتاب اللقطة والصيد، وهي ان لم يكن بهذا العنوان لكن يستفاد منها ما يتعلق بالمقام
والغرض هنا الإشارة إلى القواعد الكلية واما خصوصياتها فيطلب من مظانها.
قال في الجواهر: " ان الاصطياد يتحقق بأمرين: أحدهما ازهاقه بالآلة...
والثاني اثباته كما إذا صيده الرامي غير ممتنع، بان يجرحه جراحة مزهقة، أو يرميه
بما يثخنه أو يزمنه، أو يكسر جناحه، بحيث يعجز عن الطيران والعدو جميعا، أو
بان يقع في شبكته المنصوبة له ولو بان طرده طارد حتى أوقعه فيها، أو يرسل عليه
كلبا أو غيره مما له يد عليه فيثبته بعقر أو غيره، أو بان يلجأ إلى مضيق لا يقدر على
الافلات منه، كما لو ادخله إلى بيت ونحوه، وغير ذلك مما يحصل به الاستيلاء،
130

على وجه يصدق عليه انه في حوزته وقبضته وتحت يده، فمتى كان كذلك ملكه وان
لم يقبضه القبض الحسي، وحينئذ فلو اخذه غيره لم يملكه.. ووجب دفعه إلى
الأول الذي هو مالكه بالسبب الذي عرفت " (1).
ونظير ذلك من بعض الجهات ما ذكره الشهيد الثاني في المسالك في كتاب
الصيد (2).
* * *
الثاني: هل يعتبر في الحيازة القصد أو لا؟
لا ينبغي الشك في اعتبار القصد فيها في الجملة، ومجرد الاخذ بدونه غير
كاف، ومما يدل على ذلك بوضوح - مع أنه موافق لبناء العقلاء في ذلك - ما مر
من روايات وجدان اللؤلؤة في جوف السمكة وانه لمن وجده وان جرت عليه يد
الصياد قبل ذلك، ولكن لما لم يعلمه ولم يقصد حيازته لم يدخل في ملكه.
وهكذا الكلام في وجدان الكنوز فإنها وان لم تكن من المباحات الأصلية
الا انه تشبهها من بعض الجهات، فإن من الواضح انه لا يملكها كل من جرت يده
عليها بلا علم منه، وان المالك للكنز هو من وجده في داره وقصد تملكه وان جرت
على الدار أيدي ملاك قبله.
ولذلك أيضا قد ادعي عدم الخلاف في عدم حصول الملك بتوحل الصيد في
الأرض المتعلقة بانسان، ولا بتعشيشه في داره، ولا بوثوب السمكة إلى سفينته، ولا
بنحو ذلك مما لم يقصد به الاصطياد، لعدم صدق الاخذ وعدم القصد إلى الحيازة
فيبقى على اباحته الأصلية.
وليس ذلك من جهة عدم كون الوحل والسفينة من آلات الصيد المعتادة، لعدم

(1) الجواهر ج 36 كتاب الصيد والذباحة ص 78 - 79.
(2) المسالك ج 2 ص 232.
131

اعتبار الآلة المعتادة في ذلك، بل لعدم القصد إليه، فلو اخذه غيره وقصد الحيازة ملكه.
هذا ولكن قد يقال إن لصاحب الملك حق الاختصاص بالنسبة إلى أمثال ذلك
وكذا الثلج وماء المطر النازلان في ارضه وداره، فلو أراد تملكها قدم على غيره،
وليس ذلك ببعيد وإن كان لا يخلو عن الاشكال.
نعم يكفي القصد عند نصب الآلة وان لم يقصد عند وقوع الصيد فيها كما هو
متعارف في نصب الشبكات لصيد السمك في البحر، والرجوع إليها بعد يوم أو أيام
واخذ ما فيها حيا.
ويدل على ذلك مضافا إلى أنه موافق لبناء العقلاء الممضى من ناحية الشرع
غير واحد من الروايات الواردة في أبواب الذبائح.
مثل ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في رجل نصب شبكة في الماء
ثم رجع إلى بيته وتركها منصوبة، فأتاها بعد ذلك وقد وقع فيها سمك فيموتن،
فقال ما عملت يده فلا بأس بأكل ما وقع فيها (1).
وما ورد في ذيله تعليل عام يشمل جميع المقامات، وهي وان كانت بصدد
بيان حلية السمكة وكفاية هذا المقدار في الصيد الحلال الا انها تدل على المطلوب
بالملازمة فتأمل.
وهكذا ما وراه الحلبي قال سألته عن الحظيرة من القصب تجعل في الماء
للحيطان، فيدخل فيها الحيطان فيموت بعضها فيها، فقال: لا بأس به ان تلك الحظيرة
إنما جعلت ليصاد بها (2).
وفي معناه روايات أخر تدل على أن مجرد نصب الشبكة كاف في تملك الصيد (3)

(1) الوسائل ج 16 كتاب الصيد والذبائح أبواب الذبائح الباب 35 الحديث 2.
(2) الوسائل ج 16 كتاب الصيد والذبائح الباب 35 الحديث 3.
(3) راجع الباب 35 من الذبائح تجد فيها روايات عديدة في هذا المعنى.
132

ودلالتها على حلية السمك الميت في الشبكة لا يضر بالمقصود لامكان الفتوى
بها بعد صحة اسناد بعض هذه الروايات وتوفرها واستفاضتها فالحرام ما مات خارج
الشبكة.
ثم اعلم أن أخذ كل شئ بحسبه ولا يعتبر الاخذ باليد كما هو ظاهر فلو أغلق
عليه بابا ولا مخرج له، أو جعله في مضيق لا يمكنه الفرار منه ملكه، والقول باعتبار
القبض باليد أو الآلة ضعيف جدا. والعمدة في ذلك ما عرفت من أن الحكم مأخوذ
من بناء العقلاء وقد أمضاه الشرع ولا يعتبر عندهم الاخذ باليد بلا اشكال ولكن يعتبر
النية عندهم خصوصا أو عموما.
الثالث: هل يجوز التوكيل والاستيجار في الحيازة أم لا؟
قال المحقق (قدس سره) في الشرايع في آخر أبواب الشركة يجوز الاستيجار
للحيازة ولكن صرح في كتاب الوكالة بملكية المحيز وان نواها للغير، وقال في التذكرة
انه مبني على جواز التوكيل في هذه الأمور وان المسألتين متلازمتان.
وتبعه في جامع القاصد، واما الفقهاء المعاصرون فكل منهم اختار مذهبا.
والمسألة مبنية على مختارهم في حقيقة الحيازة والمتصور هنا - كما عرفت
الإشارة إليه - أمور:
1 - الحيازة من الأمور الخارجية لا القصدية، فلا اثر للقصد فيها فكل من
حاز شيئا ملكه، وعلى هذا لا يجوز فيها النيابة ولا الإجارة.
2 - هي من الأمور القصدية لمباشرها فقط، فالمالك هو الذي يقصده المباشر
وعليه تجوز فيها النيابة والإجارة.
3 - الحيازة من الأمور القصدية ولكن لا تختص بالمباشر، بل تجوز تسبيبا
أيضا فإذا قصد المسبب بأخذ الأجير الحيازة كفاه.
133

4 - هي من توابع ملك الفعل فمن ملك فعلا ملك ما يحاز به، ولازمه انه إذا
ملك منافع الأجير بالإجارة ملك ما يحوزه، حتى أن قصد الخلاف منه غير مفيد.
ولازم كل من هذه الوجود معلوم.
فلنرجع إلى مدرك المسألة فنقول، ومنه سبحانه نستمد التوفيق، قد عرفت ان
قاعدة " من حاز ملك " بهذا العنوان لم تثبت كونها رواية ولكن مستفادة من مجموع
ما ورد في أبواب الصيد والاحياء واشراء السمكة التي في جوفها اللؤلؤة وغيرها،
بل وقيل ذلك كله هي من الأمور العقلائية التي أمضاها الشارع المقدس.
فإن رجعنا إلى مبنى العقلاء فهم يرون الحيازة بالمباشرة والتسبيب جائزة
ولازمه قبول الوجه الرابع فهم لا يزالون يستخرجون المعادن واللؤلؤ من قعر البحار
ويصطادون الأسماك بغير مباشرة، وكيف يمكن استخراج كمية كبيرة من ذلك بدون
التسبيب؟ فما ورد في حديث أبي سيار انه ولي الغوص ببحرين فأصاب أربعمائة
ألف درهم (1) فأتى بخمسه للإمام عليه السلام كيف يكون كلها بالمباشرة مع أن الغالب
خلافه ولم يسأل الإمام عليه السلام عنه إلى غير ذلك.
والروايات السابقة وإن كان بعضها مقصورة على صورة المباشرة ولكن الظاهر أن
بعضها الاخر عام يشمل المباشرة والتسبيب فاذن لا اشكال في جوازها بالإجارة.
نعم إذا نوى الأجير نفسه في الواقع ملكه، وضمن اجرة مثل ما فوت على
المستأجر من الأعمال وإذا لم ينو شيئا ولكن نوى المستأجر الحيازة تسببا كفى لما
عرفت فالحق ان الحيازة تجوز بالإجارة أو الوكالة ويملكها المستأجر والموكل الا
إذا قصد الأجير والوكيل خلافه، سواء قصد لنفسه أو لثالث (والله أعلم بالصواب)
* * *

(1) الوسائل ج 6 الباب 6 من الأنفال الحديث 12.
134

الرابع: هل للحيازة حد؟
يظهر من بعض الاعلام الاحتياط في كونها محدودا بما لا يوجب الضيق والضرر
حيث قال في بحث حيازة المعادن الظاهرة ما لفظه: " ليس له على الأحوط ان يحوز
مقدارا يوجب الضيق والمضارة على الناس ".
والانصاف انه كذلك بل هو الأقوى، لعدم عموم في الأدلة الدالة على حصول
الملك بالحيازة بعد كونها منصرفة إلى ما هو المتداول بين الناس، بل إذا كان هناك
أناس كثيرون محتاجين إلى شئ وكان الموجود منه قليلا في صقع كالحطب والحشيش
المحتاج إليهما لايقاد النار، فإذا ذهب واحد وأخذ جميعها مما لا يحتاج إليه فعلا
وادخرها لنفسه للسنين المستقبلة أو لا يحتاج إليها في المستقبل أيضا وادخرها لأمور
أخر، مع حاجة الناس إليها عد ظالما معتديا، وغاصبا لحقوق غيره، ومنع من هذا
العمل أشد المنع وقد خلق الله ما في الأرض لحاجة العباد كلهم.
وهكذا بالنسبة إلى المياه والصيد والمعادن والأرضون الموات وغيرها.
لا أقول إن كل انسان يأخذ حاجته فقط، فإن ذلك مخالف اطلاق الفتاوى
والنصوص والسيرة المستمرة في جميع الأعصار، بل أقول يأخذ ما هو المتعارف
أخذه لحاجته وللتوسعة أو الاكتساب، اما ما زاد على ذلك مما لا يتداول من العقلاء
مما لا يجوز حيازته.
هذا كله مع قطع النظر عن الحكومة الشرعية الثابتة للإمام عليه السلام أو من يقوم
مقامه، واما بالنظر إليها فقد يجوز له تعيين مقدار ما يحوزه كل انسان أو زمانها أو
مكانها أو غير ذلك مما يراه مصلحة للمسلمين وقواما لأمورهم وحافظا لنظامهم،
بحيث يختل بدونه نظم أمورهم ولكن ليس له الاستبداد في ذلك بغير مراعاة المصالح
وحفظ النظام.
135

6 - قاعدة السبق
(من سبق إلى ما لم يسبقه إليه أحد فهو أحق به)
* مدركها من السنة
* مدركها من السيرة المستمرة
* الفرق بين قاعدة السبق، والحيازة والاحياء
* من شرائط السبق قصد الانتفاع
* حدود الأولوية
* هل الأولوية هنا حكم وضعي أو تكليفي
* تعارض شخصين في السبق إلى شئ
* موارد جريان القاعدة:
* المساجد
* الطرق والشوارع
* المدارس والخانات والربط
137

قاعدة السبق
ومن القواعد المشهورة في ألسنة الفقهاء قاعدة السبق، استدلوا بها في أبواب
مختلفة، في أبواب حيازة المباحات، وأحكام المساجد، وآداب التجارة، وفي
كتاب احياء الموات، وما يلحق بها من التحجير وغير ذلك.
وهذه القاعدة كأغلب القواعد الفقهية من القواعد المعروفة بين العقلاء التي
تدور عليها نظام معاشهم، وأمضاها الشارع المقدس بما قرر لها من الشرائط.
وحاصل القاعدة ان من سبق إلى شئ من المباحات الأصلية - لا يقصد التملك
حتى يكون ملكا له - أو سبق إلى شئ من المنافع المشتركة، كالطرق والمساجد
والوقوف العامة، والمساكن كذلك، أو غيرها من أشباهها، فهو أحق به من غيره
اجمالا، ولا يجوز مزاحمته في ذلك الا إذا اعرض عنه، أو حصلت فترة تزيل حقه
بما سنشير إليه إن شاء الله.
* * *
دلائل اثباتها
ويدل عليها مضافا إلى الاجماع المدعى في كلمات الأصحاب، الروايات
العامة، والخاصة، واستقراء سيرة العقلاء وأهل الشرع عليها.
* * *
139

الأول: السنة
منها روايات عامة ومنها خاصة فمن الأولى:
1 - ما عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:
سوق المسلمين كمسجدهم، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل، وكان
لا يأخذ على بيوت السوق كراءا (1).
واطلاق قوله: " فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل " يجعلها من
الأحاديث العامة الدالة على المطلوب في أبواب الأمكنة مطلقا، اللهم الا ان يقال
كون صدرها في بيان حكم المسجد يجعلها خاصة بهما.
وعلى كل حال، الحديث ناظر إلى ما كان متعارفا في تلك الأعصار من عدم
اختصاص أمكنة السوق ودكاكينها بالاشخاص، وعدم دخولها في ملك، بل كانت
الأسواق كالمساجد وسائر الأمكنة العامة ملكا لجميع المسلمين، ومباحا لهم، وكان
المتعارف عرض المتاع من البايعين كل يوم إلى الليل، ثم كانوا يجمعون أمتعتهم
وينشرونها غدا، فكان كل أحد من البياعين أحق بمكانه إلى تلك الليلة.
2 - ما عن محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام قال
قلت له: نكون بمكة أو بالمدينة أو الحيرة أو المواضع التي يرجى فيها الفصل،
فربما خرج الرجل يتوضأ فيجئ آخر فيصير مكانه، فقال عليه السلام: من سبق إلى موضع
فهو أحق به يومه وليلته (2).
والكلام فيه هو الكلام في سابقه من حيث العموم والخصوص فيها
وإن كان العموم أقوى.
3 - ومن طرق الجمهور ما رواه أسمر بن مضرس، قال أتيت النبي صلى الله عليه وآله

(1) الوسائل ج 3 كتاب الصلاة أبواب أحكام المساجد الباب 56 الحديث 2.
(2) الوسائل ج 3 كتاب الصلاة أبواب أحكام المساجد الباب 56 الحديث 1.
140

فبايعته فقال: من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له (1).
وهذه الرواية أوسع نطاقا من الجميع، وهي التي استند إليها الأصحاب في
مختلف الأبواب، فهل هو كاف لجبر سندها، أو لم تبلغ هذا المبلغ؟ لا يخلو عن
اشكال. هذا ولكن لا يبعد الغاء الخصوصية مما سبق من روايات الأصحاب وما ورد
في منابع حديثنا.
وهناك روايات أخرى واردة في موارد خاصة لا يبعد اصطياد العموم منها
والغاء الخصوصية عنا مثل ما يلي:
4 - ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال سوق
المسلمين كمسجدهم يعني إذا سبق إلى السوق كان له، مثل المسجد (2).
وقوله (يعني الخ) الظاهر أنه من كلام الراوي، فلا يمكن الاستناد إليه كرواية.
5 - ومن طرق العامة في هذا المعنى ما عن اصبغ بن نباتة، قال إن عليا عليه السلام
خرج إلى السوق فإذا دكاكين قد بنيت بالسوق، فأمر بها فخرجت فسويت، قال
ومر بدور بني البكاء، فقال هذه من سوق المسلمين، قال فأمرهم ان يتحولوا وهدمها
قال وقال علي عليه السلام من سبق إلى مكان في السوق فهو أحق به، قال فلقد رأيتنا (رأينا)
يبايع الرجل اليوم هاهنا، وغدا من ناحية أخرى (3).
وذيل الرواية يؤكد ما ذكرنا في أمر السوق في تلك الأعصار.
6 - وما رواه أبو صالح عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله إذا قام الرجل من مجلسه ثم
عاد إليه فهو أحق به، فقام رجل من مجلسه فجلست فيه ثم عاد فأقامني أبو صالح عنه (4)
7 - وما رواه نافع عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا يقيم الرجل

(1) السنن للبيهقي ج 6 ص 142 (باب من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد).
(2) الوسائل ج 12 أبواب آداب التجارة الباب 17 الحديث 2.
(3) السنن للبيهقي ج 6 ص 151.
(4) السنن للبيهقي ج 6 ص 151.
141

الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه (1).
وليس ذلك الا لسبقه إلى ذاك المكان.
ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في أبواب احياء الموات، والتحجير، وغير ذلك مما
يكون من قبيل السبق إلى ما لم يسبق إليه أحد، فإنها وان لم يدل على المطلوب فإن
الكلام في قاعدة السبق إنما هو من جهة ايجاد الحق، بمجرد السبق من دون حاجة
إلى التحجير والاحياء، واخراج المعدن وحفر البئر وغير ذلك من أشباهه، الا انها مؤكدة له.
* * *
الثاني: هو السيرة المستمرة
من أهل الشرع بل من العقلاء أجمع، فإنه لا يشك أحد في بنائهم على كون
السابق إلى شئ من المباحات أحق من غيره سواء كان من المباحات الأصلية، أو
من المنافع العامة، كالانتفاع بالمساجد والبراري والمفاوض والجبال والمياه، إذا
لم يقصد ملكيتها، بل أراد الانتفاع بها، فلا يشك أحد في كون السابق أحق، وإذا
زاحمه غيره يعد ظلما وتعديا قبيحا.
بل المعلوم استقرار سيرتهم على هذا حتى قبل ورود الشرع.
ومما يؤيد كونها قاعدة عقلائية قبل أن تكون شرعية انها مشهورة معروفة بين
من لا يعتقد بشئ من المذاهب، ولم يقبل أي قانون ديني الهي، فهو أيضا يرى
السبق إلى شئ من المباحات أو المنافع العامة، من الطرق والقناطر والخانات
وغيرها، موجبا لاستحقاق صاحبه، وعدم جواز مزاحمته، ولكن لها حدود وقيود
عندهم سيأتي الإشارة إليها إن شاء الله.

(1) السنن للبيهقي ج 6 ص 150.
142

ومن هنا يظهر ان " اجماع الفقهاء على ذلك قديما وحديثا " لا يكشف
عن تعبد خاص في المسألة، وصل إليهم ولم يصل إلينا، بل هو اما مستند إلى ما عرفت
من روايات الباب، العامة والخاصة، أو إلى بناء العقلاء الذي أمضاه الشرع، فإنه
لم يزل بمرآه ومنظره، بل قد عرفت ان هذا البناء منهم كان قبل ورود الشرع أيضا.
* * *
" بقي هنا أمور "
الأول: الفرق بين قاعدة " السبق "، و " الحيازة " و " الاحياء "
قد يختلط الامر بين قاعدة السبق، وقاعدتي الحيازة والاحياء على بعض،
مع أن مواردها مختلفة لا ربط لواحد منها بالآخر فنقول:
اما قاعدة الحيازة تختص بالمباحات، وتوجب ملكها بمجرد الحيازة مع
قصده، ولا يحتاج إلى الاحياء والتحجير وغيرها، وإن كان قد تطلق الحيازة على
الأعم مما يشمل قاعدة الاحياء أيضا كما عرفت سابقا.
واما الاحياء فهو أيضا يوجب الملك لكن لا بمجرد القصد، بل بعد الاحياء
وتختص بالأرض وما أشبهها.
واما قاعدة السبق فهي لا توجب الملك، بل مفادها هو الأولوية، وموردها
أعم من المباحات الأصلية أو المنافع العامة كالمدارس والخانات والمساجد والشوارع
وغيرها.
فتحصل من جميع ذلك أن قاعدتي الحيازة والاحياء لا تغنيان عن قاعدة السبق
شيئا لأن مفادها متباينة، وبين مواردها ومصاديقها العموم والخصوص من وجه أو
المطلق.
ففي مثل المساجد والشوارع والقناطر لا تجري قاعدتا الحيازة والاحياء، ولكن
143

تجري قاعدة السبق فقط، وفي مثل المباحات الأصلية كالأراضي الخارجة عن حريم
البلاد يتصور فيها الاحياء والسبق فمن أحياها ملك، واما من سبق إليها كما إذا نصب
فسطاطا وخياما لتوقف ساعة أو أيام من غير قصد الحيازة والاحياء فلا يجوز مزاحمته
لقاعدة السبق فقط، وفي غير الأراضي كالسمك والطير والوحش والحطب وغيرها
من المباحات الأصلية فإن قصد الملكية بالحيازة كان مصداقا لهذه القاعدة، وان نوى
مجرد الانتفاع منها من غير قصد تملكها دخل في قاعدة السبق فقط فتدبر تعرف.
* * *
الثاني: من شرائطه قصد الانتفاع
قد عرفت مما ذكرنا ان " السبق " يوجب الأولوية لمن سبق بشرط قصد الانتفاع
فلو لم ينوى الانتفاع بما سبق إليه لا دليل على أولويته وكونه أحق به من غيره، ولو شك
في ذلك يؤخذ بظاهر الحال ولو ادعي نية الانتفاع يقبل قوله لأنه مما لا يعلم الا من قبله.
* * *
الثالث: حدود الولوية
قد عرفت ان هذه القاعدة مأخوذة من سيرة أهل الشرع والسنة وبناء العقلاء
والأولوية الحاصلة منها تختلف باختلاف الموارد حسب اختلاف بنائهم، ففي مثل
المساجد يكون أولوية السابق بمقدار يأتي الإشارة إليه إن شاء الله تفصيلا، وفي
مثل المدارس بمقدار آخر، ويختلف السبق إلى الخانات معهما، والى الشوارع
والأراضي الموات بمقدار يختص به، سيأتي تفاصيلها إن شاء الله، كل ذلك لتفاوت
التعارف في ذلك واختلاف قضاء الحاجة في هذه المقامات جسدا فلا يمكن تعيين
ضابطة كلية لجميع ما ذكر، بل لكل منها ضابطة خاصة به.
والدليل على ذلك كله ما عرفت من بناء أهل العرف وامضاء الشرع له مع
144

إشارات نافعة إليها في روايات الباب.
* * *
الرابع: هل الأولوية هنا حكم وضعي أو تكليفي؟
في أن السبق هل يوجب مجرد الأولوية تكليفا بحيث لو زاحمه غيره عصى،
ولكن يصح تصرفه في المسبوق إليه شرعا، أو انه يوجب حقا ويكون من قبيل
الأحكام الوضعية؟
ومما يتفرع على ذلك ما ذكره الفقهاء في باب المسجد بأنه لو سبق انسان إلى
موضع منه، ثم دفعه آخر قهرا وعدوانا، فلا شك في عصيانه وحرمة عمله، إنما
الكلام في أنه بعد الدفع هل يصح صلاته في مكانه، أو يكون كالمكان الغصوب
يحرم الصلاة فيه على المشهور وتكون باطلة؟! فيه كلام بينهم.
ظاهر " التذكرة " هو الأول، حيث قال: لو دفعه عن مكانه أثم، وحل له
مكثه فيه، وصار أحق من غيره به.
ولكن المحكى عن المشهور هو الثاني وأنه يكون كالمغصوب.
وذكر في الجواهر في باب بطلان الصلاة في مكان المغصوب: اما حق
السبق في المشتركات كالمسجد ونحوه ففي بطلان الصلاة بغصبه وعدمه وجهان،
بل قولان أقواهما الثاني وفاقا للعلامة الطباطبائي في منظومته.
لأصالة عدم تعلق السبق للسابق على وجه يمنع الغير بعد فرض دفعه عنه، سواء
كان هو الدافع أو غيره، وان أثم بالدفع المزبور، لأولويته، إذا هي أعم من ذلك
قطعا.
وربما يؤيده عدم جواز نقله بعقد من عقود المعاوضة.
مضافا إلى ما دل على الاشتراك الذي لم يثبت ارتفاعه بالسبق المزبور، إذ
145

عدم جواز المزاحمة أعم من ذلك فتأمل (انتهى) (1).
ولكن التحقيق هو ما ذكره المشهور، وذلك لارتكاز أهل العرف الذي هو
الأصل في هذه المسألة، بعد عدم ردع الشرع عنه، فإنهم يرون للسابق حقا في المكان
قطعا بحيث يجوز له الدفاع عن حقه والعود إليه بعد دفعه منه، ولا يرون له أي اثم
في هذا، بل يعد الدافع غاصبا بل لا ينبغي الشك فيه.
وأما ما افاده في الجواهر من الأدلة الثلاث فهي ممنوعة جدا.
أما الأصل فهو ممنوع بعد ما عرفت.
وأما عدم جواز نقله بعقد من العقود فهو أول الكلام، وعلى تقدير القول به
فعدم النقل لا يدل على عدم وجود حق، فرب حق لا يجوز نقله وإن كان يجوز اسقاطه.
وأما الدليل الثالث الراجع إلى الاستصحاب فهو أيضا ممنوع بعد وجود
الدليل.
ويؤيد ما ذكرنا أيضا مرسل محمد بن إسماعيل عن أبي عبد الله عليه السلام قلت له
نكون بمكة أو بالمدينة أو الحيرة، أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، وربما
خرج الرجل يتوضأ فيجئ آخر فيصير مكانه، قال من سبق إلى موضع فهو أحق به
يومه وليلته (2).
والتعبير بكونه أحق له دلالة واضحة على ما ذكرنا، بل قد يتصدى لدفع ضعف
السنة بنقل أحمد بن محمد الذي هو ابن عيسى الثقة المشهور الذي لا يروي من
الضعفاء، وغير ذلك من القرائن فتأمل.
والايراد على الحديث بان التحديد باليوم والليلة غير ثابت لا يمنع عن الاستدلال
به بعد كون التفكيك في مفاد الأحاديث دارجا بينهم فتأمل.
* * *

(1) جواهر الكلام ج 8 ص 286.
(2) الوسائل ج 3 كتاب الصلاة أبواب أحكام المساجد الباب 56 الحديث 1.
146

الخامس: تعارض شخصين في السبق إلى شئ
إذا تعارض اثنان وردا على شئ من المنافع المشتركة في زمان واحد وتوافيا
إليه على حد سواء، فإن أمكن اجتماعهما فيه كدكة في سوق عام يحتملهما، فحق
السبق ثابت لهما.
وان لم يحتملهما كمكان واحد لمصل واحد ورد اثنان عليه، فهل يبطل حقهما
ويجوز لثالث الورود عليه، أو تجرى فيه القرعة؟
الظاهر أنه لا مجال لابطال حقهما لشمول العمومات لكل واحد منهما مع قطع
النظر عن مزاحمه، وحيث إن ملاك السبق في كليهما موجود يكون من قبيل تزاحم
الحقين لا تعارض الدليلين وحيث إن المفروض عدم امكان الجمع بينهما لابد من
القرعة لأنها لكل أمر مشتبه، ولاخفاء في شمول أدلتها للمقام.
وقد ذكرنا في مباحث القرعة من هذا الكتاب، ان موارد القرعة مختلفة، فقد
يكون فيها واقع مجهول لا طريق لكشفه الا القرعة، كما في الغنم الموطوء، وقد
لا يكون فيه واقع مجهول، بل وقع التزاحم بين مقتضيين، ولا طريق إلى التخلص
الا بالقرعة، كما في موارد افراز الأموال المشاعة، وتقسيمها، وكلاهما داخلان
تحت أدلة القرعة والمقام من هذا القبيل.
* * *
السادس: موارد جريان القاعدة
وإذ قد عرفت ما ذكرنا فلنرجع إلى جزئيات موارد السبق وأحكامها الخاصة
فنقول ومن الله التوفيق: ان السبق قد يكون إلى المسجد، وأخرى إلى الطريق أو
إلى السوق، أو المدارس، والقناطر، والمعادن، وأماكن النزهة، والميادين لتوقف
السيارات وغيرها أو غير ذلك.
147

أما المساجد:
فلا شك ان من سبق إلى مكان منه فهو أحق به ما دام باقيا فيه.
ويدل عليه الروايات العامة والخاصة مضافا إلى الاجماع والسيرة وعدم الخلاف
فيه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون للصلاة أو قراءة القرآن والدعاء وغيرها من
الأذكار، وتحصيل العلم وغير ذلك مما هو مطلوب في المسجد، بل ومن المباح
المتعارف كالجلوس لرفع التعب ومثل ذلك.
إنما الكلام في أمور:
1 - لو قام عن محله مفارقا هل يبطل حقه مطلقا، أو إذا لم ينو العود، أو إذا
وضع رحله ناويا خاصة؟ فيه كلام بينهم.
اختار الأخير المحقق في الشرايع والعلامة والشهيدان، والمحقق الكركي،
بل عن جامع المقاصد انه المشهور، وعن المبسوط نفي الخلاف فيه، بل ادعى فيه
ان في المسألة نص عن الأئمة.
هذا ولكن لا دليل عليه يعتد به مما وصل إلينا الا سيرة العقلاء وأهل الشرع
وغيره يعود إليه.
والانصاف ان سيرة أهل الشرع وبناء العقلاء مع بقاء الرحل ثابت الا إذا خرج
عن المتعارف، كمن القى رحله في المسجد طول الأسبوع أو الشهر أو السنة،
فإن الاعتبار ببقاء رحله في كونه أحق مشكل جدا، فيجوز أخذ الرحل حينئذ والجلوس
مكانه، نعم بالنسبة إلى أوقات قريبة جرت السيرة عليه هو أحق به.
أما لو قام لتجديد طهارة أو إزالة نجاسة وما أشبه ولم يكن هناك رحل فيشكل
بقاء حقه، الا إذا أوصى إلى انسان ليحتفظ بمكانه في غيبته، فمجرد النية غير كافية
كما أن مجرد وضع الرحل بلا نية غير كاف.
هذا، وقد عرفت التصريح في غير واحد من روايات الباب لبقاء حقه إلى الليل
148

ففي رواية محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام الواردة في حكم
مكة والمدينة والمواضع التي يرجى فيها الفضل، ان من سبق إلى موضع فهو أحق
به يومه وليلته.
وفي رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عن أمير المؤمنين عليه السلام سوق المسلمين
كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل، وقد مر في ذكر الأدلة.
ولكن الأول ضعيف بالارسال ورواية أحمد بن محمد الذي هو ابن عيسى
كرواية محمد بن إسماعيل الذي هو ابن بزيع غير كاف في جبران ضعفها وإن كان
مؤيدا وكذا رواية " طلحة بن زيد " لا تخلو عن اشكال في سندها، لعدم توثيق
أكثر الأصحاب من علماء الرجال له، نعم ذكر في الفهرست ان كتابه معتمد والاكتفاء
به في توثيق الرجل أو روايته لا يخلو عن اشكال.
هذا، ويمكن حمله على موارد يكون المتعارف فهيا البقاء في المسجد أو
السوق إلى الليل كحال الزوار في مكة أو المدينة في سابق الأيام، واما في الأزمنة
أو الأمكنة التي ليس المتعارف فيها البقاء في المسجد إلى الليل فالعمل بعموم الروايتين
في غيرها مشكل جدا.
ولذا اعرض الأصحاب عن العمل بهما في هذا التحديد، وإن كان الظاهر أنهم
لا ينكرون بقاء الحق إلى هذه المدة في أماكن يتعارف فيها ذلك.
وبالجملة ليس لنا أوثق وأتم من الاخذ بالسيرة المذكورة فإنها المعيار الوحيد
في المسألة.
2 - إذا زاحم حق المصلين مع غيرهم فهل يقدم الصلاة على غيرها، ولا سيما
الجماعة، أو هل تقدم الجماعة على الفرادى، أو تقدم الصلاة على غيرها، إذا لم تكن
راجحا كالجلوس لا للعبادة وتحصيل علم شرعي، أو لأمر مرجوح كالنوم؟
لم يدل على شئ من هذه الأمور دليل خاص، وإن كان قد يتمسك بظاهر
149

ما دل على إقامة صفوف الجماعة وسد فرجها على تقديمها على غيرها من الفرادى،
وما أشبهها، ولكن الانصاف ان روايات إقامة الصفوف وسد الفرج غير ناظرة إلى
هذا المعنى، ولا تكون في مقام البيان من هذه الجهة، واللازم الرجوع إلى ما جرت
عليه سيرة أهل الشرع واستقر عليه بناء العقلاء، والظاهر أن الصلاة، لا سيما الجماعة
مقدمة على غيرها إذا وقع التزاحم بين الامرين، لأن المسجد أولا وبالذات للصلاة
فلا يزاحمها شئ.
نعم إذا وقع التزاحم بين غيرها فيشكل تقديم بعضها على بعض، كما إذا وقع
التزاحم بين تحصيل العلم وقراءة القرآن وأشباهها، فيشكل دفع الجالس عن مكانه
وقيام غيره مقامه.
أما إذا زاحم العبادة مع شئ مباح كما إذا لم يجد مكانا لقرائة القرآن وتحصيل
العلم الواجب وكان المسجد مشغولا بالجالسين لمجرد رفع التعب أو للاكل والشرب
أو بالنائمين، فلا يبعد جواز دفعهم لما ذكر من الأمور، فهم أحق به من غيرهم
والدليل عليه ما عرفت.
الطرق والشوارع العامة:
وهي من كثير من الجهات كالمساجد وان كانت تختلف معها من بعض الجهات.
وحيث لم يرد دليل خاص في هذه المسألة فمقتضى العمل بالعمومات وسيرة
العقلاء وأهل الشرع منهم يقتضي هنا أمورا:
1 - الأصل في الطرق هو الانتفاع بها على وجه الاستطراق، فكل ما زاحم
هذا المقصد فهو منفي بما ذكر، ويحرم بحكم الشرع، وعلى آحاد المسلمين النهي
من هذا المنكر، وللحكومة الاسلامية الاخذ بالعنف في هذا المقام إذا لم يفد غيره
فإذا كان البيع والشراء والجلوس وايقاف السيارات، ووضع الأحجار وغيرها من
150

أدوات البناء، مانعا عن المرور بالكلية، أو موجبا للضرر والزحمة لضيق الطريق
منع منه قطعا، والدليل عليه جميع ما عرفت آنفا.
2 - يجوز الانتفاع بالطرق العامة والشوارع بغير الاستطراق، كالجلوس لرفع
التعب ووضع الأحمال، أو الجلوس لمجرد النزهة إذا لم يكن مانعا عن الاستطراق
فإنه من المنافع المشتركة، والأصل فيها الجواز ما لم يمنع منه مانع، وقد جرت
السيرة على ما ذكرنا، نعم إذا كان مانعا عن الغرض الأصلي فهو حرام ويجوز دفع
المانع عنها.
3 - هل يجوز الجلوس فيها لعمل الحرفة والبيع والشراء؟ فيه خلاف منعه
بعضهم مطلقا، لأنه انتفاع بالبقعة في غير ما أعدت له، فكان كالانتفاع بالمسجد ونحوه
من الموقوفات الخاصة في غير ما عين له من الجهة.
وذكر ثاني الشهيدين في المسالك بعد ما ذكرنا: ان الأشهر التفصيل، وهو
المنع من ذلك في الطريق المسلوك الذي لا يؤمن تأذي المارة به غالبا، وجوازه
في الرحبات المتسعة في خلاله بحيث يؤمن تأذي المارة، نظرا إلى اطراد العادة
بذلك في الاعصار، وذلك هو المسوغ لغيره من وجوه الانتفاع. (انتهى)
ولقد أجاد فيما أفاد ولكن لا يختص ما ذكره بالرحبات، بل بما جرت عليه
السيرة كما نراها في بعض الطرق غير المتسعة التي يستفاد منها لبيع بعض الأشياء
مما لا يشغل مكانا واسعا. وبالجملة المعيار الوحيد هو عدم الاضرار بالمارة، وعدم
الايذاء بهم والمنع من استطراقهم.
ومع الأسف ان كثيرا من المسلمين لا يبالون بهذه الأمور، ويرتكبون من
هذه الجهة ما قد يوجب اشتغال ذمتهم بخسارات مالية مضافة إلى الأحكام التكليفية،
ومن الواجب على المؤمنين نهيهم، وعلى الحكومة الاسلامية منعهم وزجرهم.
ومما ذكرنا يظهر حال نشر البساط أو اخذ العربات أو التسقيف للبيع في
151

الشوارع والطرق، وانها محرمة قطعا إذا منع الاستطراق أو صار سببا للزحمة، أو
ضيقا في الطريق، أو ضررا على المستطرق. نعم إذا لم يكن فيه شئ من ذلك فهو
جائز ولكن الغالب من قبيل الأول.
4 - في الموارد التي يجوز البيع والشراء أو الجلوس وغيرها فهل يبقى هذا
الحق ما دام هو جالس في المكان، ويبطل إذا ذهب ولو كان ناويا للرجوع، أو فيه
تفصيل بين بقاء رحله وعدمه، أو له حق إلى الليل، أو إلى أن يبع مناعة ويراجع
من يشتريه ولا يفوته؟
الظاهر أنه يختلف ذلك باختلاف المتعارف في الأعصار والأمصار، فقد
يكون في بعض الأمكنة، أو بعض الاعصار البقاء إلى الليل بحسب العادة، وقد يكون
أقل وأكثر من ذلك، فيؤخذ بمقتضاه في جميع ذلك، نعم الغالب انه يجوز له العود
ما دام رحله باقيا وإذا قام بينة العود من دون وضع رحل فيها يبطل حقه.
والانصاف ان السبق في الطريق أيضا مما يوجب الحق لا الأولوية المجردة
فلو دفعه انسان عما سبق إليه لا يزول حقه، ويجوز عوده ودفع المانع والمزاحم،
وقد مر دليله آنفا في أحكام المسجد.
5 - هل يجوز جعل الرواشن في الطريق أم لا؟
قد عرفت ان الأصل في الطريق هو الاستطراق، وأما المنافع الاخر فهو تابعة
له، وتجوز بحسب ما جرت به العادة والسيرة التي هي منصرف عمومات السبق في
المقام، والانصاف ان العادة هنا أيضا تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، ففي سابق
الزمان كان المتعارف الاستفادة من الطرق بجميع انحائها، حتى ببناء الساباط
والرواشن، فلو كان طرفا الطريق العام ملكا لواحد، كان يبني على الطريق ما يريد،
مما لا يزاحم المارة، بل قد كان هذا الامر مصلحة للعابرين، واما الان فهو أمر منكر
في كثير من البلاد، ولا يقبله العرف والعادة ويعد من المزاحمة وحينئذ لاشك في
152

عدم جوازه لا لتبدل الحكم، بل لتغير الموضوع.
وأما الرواشن فإذا لم تتعد إلى فضاء الطرق كثيرا فهو أمر رائج حتى في زماننا
هذا، وأما إذا تعدت كثيرا بحيث بلغت إلى الجدار المقابل أو نحو ذلك فهذا أيضا
غير متعارف في هذه الأزمنة ويعد من الأمور المزاحمة غالبا، وبالجملة المدار على
ما عرفت ولا يجوز التعدي عنه.
أما حكم السوق:
فالتحقيق ان السوق على قسمين: سوق عام، الذي هو وقف على جميع
المسلمين، لأنواع التجارات والحرف، أو لنوع خاص منها، وكذا ما بني من
بيت المال أو الزكاة فيكون كالوقف أيضا وسوق خاص الذي هو ملك لفرد أو افراد
معلومين.
أما الأول فهو من المشتركات، ومن سبق إليه كان أحق به ولكن لابد من
رعاية شرائط الوقف، أو ما أشبهه، ولا يجوز التعدي عن طورها، ولو لم يكن
هناك شرائط خاصة فاللازم الاخذ بما هو المتعارف في العرف والعادة.
والظاهر أن السوق في سابق الأيام كان من القسم الأول ولم يكن هناك دكاكين
والحجرات، بل كان المتداول نشر البساط صباحا، وجمعه مساءا، فما ورد في
روايات السوق من أن سبق إليه كان أحق به إلى الليل، ناظر إلى هذا المعنى (1)
كما أن ما ورد ان أمير المؤمنين عليه السلام هدم دورا بنيت في مكان الأسواق (2) أيضا ناظر
إليه فلا تشمل الأسواق التي هي ملك خاص لفرد أو أفراد لأن العادة تغيرت في عصرنا
وقل ما يوجد سوق يكون بتلك المكانة، ولذا تباع دكاكين السوق وتشترى،
وتستأجر، وتوهب، وتورث، ولا مانع من شئ من ذلك، ولا ينافي ما مر من

(1) نقلناه تحت الرقم 1 من أحاديث القاعدة.
(2) نقلناه تحت الرقم 5 من أحاديث القاعدة.
153

الروايات الناظرة إلى غيرها كما عرفت.
وما حكاه العلامة في التذكرة عن الجويني من العامة فيمن جلس للبيع أو
الشراء في الطريق في المواضع المتسعة كالرحاب، يجرى في الأسواق العامة، فقد
حكى منه: انه ان مضى زمان ينقطع فيه الذين ألفوا المعاملة معه، ويستفتحون
المعاملة مع غيره، بطل حقه، وإن كان دونه لم يبطل، لأن الغرض من تعيين الموضع
ان يعرف فيعامل - انتهى موضع الحاجة -.
وما ذكره هو مبنى استقرار العرف والعادة الذي هو موضوع حكم الشرع
هنا فليس مبنيا على الاستحسان ونحوه كما توهمه في الجواهر.
وهناك أسواق أسبوعية، أو شهرية، أو سنوية، تقام في أماكن معلومة،
وأسواق خاصة تقام في الموسم في مكة والمدينة، وفي جميع ذلك إذا كانت من
الأسواق العامة فحق السبق فيها ثابت، وفي مقدار بقاء هذا الحق من حيث الزمان
يتبع عرف الزمان والمكان.
والحاصل انه لا يمكن الحكم على جميع أنواع السوق بحكم واحد، ولا
تجري في جميعها أحكام السبق، بل المدار على التفصيل الذي ذكرناه، والمعيار
في الجميع هو الاخذ بعمومات السبق مع قيود قد عرفتها.
اما المدارس والخانات والربط:
فهي أيضا على قسمين: وقف عام، ووقف خاص (أو ما يشبه الوقف مما بنيت
من الزكاة من سهم سبيل الله أو من سائر وجوه بيت المال) وقلما يوجد فيها ملك خاص
لفرد أو افراد معلومين.
وحينئذ اللازم قبل كل شئ ملاحظة شرائط الواقف، فإن كان هناك شرط
فيتبع، والا فلاشك في أن الحق لمن سبق إذا كان تحت عنوان الموقوف عليهم.
154

أما مقدار المكث فيها فهو تابع للحاجة والعادة، أو اشتراط الواقف وهو
مقدم على الجميع.
فلو شرط الواقف عدم المكث لطالب العلم في المدرسة أكثر من سنة فلابد
من رعايته وان لم تتم حاجته، واما ان لم يشترط فما دام يحتاج إليه يستحق البقاء
الا إذا خرج عن حد المعروف والمعتاد.
وإذا انقضت حاجته فلابد من ازعاجه من المدرسة ولا يجوز له المكث فيها
أو اغلاق باب حجرتها أو غير دلك مما يزاحم المستحقين لها.
وكذا من سكن الخان أو الرباط يجوز له البقاء فيه، بمقدار ما يتخذه المسافر
مكانا فلا يجوز له جعله مسكنا دائميا أو رباطا كذلك.
وإذا قام من المدرسة أو انجلا من الخان والرباط سقط حقه، ولو نوى العود
إليها، الا أن يكون هناك اشتراط من ناحية الواقف، أو بقي رحله فيه ولكن لابد له
من الرجوع إليها في زمان جرت العادة عليه، فلو مضى ذاك الزمان سقط حقه،
ويجوز جمع رحله واخلاء المكان عنه.
وهناك كلام لجامع المقاصد وحاصله: " انه لو أدى طول المكث في هذه
الموقوفات إلى التباس الحال بحيث أمكن دعوى الملكية لمن سكنها يحتمل جواز
ازعاجه لأنه مضر بالوقف " وما ذكره حسن لو وجد له موضوع.
* * *
وقد تعرض بعض الأصحاب هنا لأمور يشبه مصاديق قاعدة السبق، ولكن
ليس منها في الواقع، كأحكام إمام الراتب في المسجد، أو السابق في الكلام عند
القاضي، أو السبق في الخف والحافر والنصل، أو السبق أو السبق إلى معاملة أو سوم، أو
السبق إلى التقاط شئ من اللقطة، ومجهول المالك، وغير ذلك.
وحيث إن لها أحكام خاصة مبنية على مبان أخر غير قاعدة السبق مذكورة في
155

محالها فالأحسن ايكال أمرها إلى مظانها في الفقه، إلى هنا تم الكلام في قاعدة السبق
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا. صبيحة يوم الأربعاء من العاشر من شهر شوال
سنة 1404.
156

7 - قاعدة الالزام
(الزموهم بما الزموا به أنفسهم)
* مدرك القاعدة من الاجماع والحديث
* مفاد القاعدة وشمولها لخصوص المخالفين أو غير المسلمين أيضا
* موارد شمول القاعدة من أبواب الفقه
157

قاعدة الالزام
هذه القاعدة مما اشتهر في كلماتهم التمسك بها في أبواب مختلفة، مثل النكاح
والطلاق وأبواب الميراث وغيرها ولكن لم تنقح حق التنقيح كساير القواعد الفقهية.
والكلام فيها يقع في مقامات:
1 - مدرك القاعدة.
2 - مفادها وحدودها.
3 - موارد الاستدلال بها في الفقه.
* * * 1 - مدرك قاعدة الالزام
قد يستدل لها باجماع الأصحاب المنقول في كلمات بعضهم، المؤيد بشهرة
الاستدلال بها في موارد مختلفة، لكنه على فرض ثبوته لا ينفع في مثل هذه المسألة
مما يكون لها أدلة أخرى يحتمل استناد المجمعين إليها، فلا يكشف آرائهم وفتاويهم
عن وصول شئ إليهم من ناحية المعصومين عليهم السلام مما لم يصل إلينا.
وعلى كل حال العمدة هنا الروايات المتضافرة الواردة في أبواب النكاح
والطلاق والإرث وشبهها فهي المدرك الوحيد للقاعدة، فلابد من سردها وتحقيق
اسنادها ثم البحث عن مفادها.
159

وهي على قسمين: " روايات عامة " و " روايات خاصة " وردت في موارد
معينة لا عموم فيها.
نذكر من كل واحد ما عثرنا عليه:
1 - ما رواه غير واحد عن علي بن أبي حمزة انه سأل عن أبي الحسن عليه السلام
عن المطلقة على غير السنة، أيتزوجها الرجل؟ فقال الزموهم من ذلك ما ألزموه
أنفسهم، وتزوجوهن، فلا بأس بذلك (1).
والمقصود منها ان المخالفين كانوا يطلقون في مجلس واحد ثلاث طلقات،
أو غير ذلك مما هو باطل عندنا، ثم كان بعض أصحابنا يبتلى بنكاح مثل هذه النساء
اللاتي كانت خلية وفق مذهبها، ومزوجة وفق مذهبنا، فكان يسئلون الأئمة عليهم السلام من
ذلك، وكانوا يجيبونهم بصحة طلاقهن، وجواز نكاحهن، أخذا بمقتضى مذهبهن
والزاما لهن بما الزمن به أنفسهن.
هذا ولكن قد يستشكل في عموم الرواية بان قوله " من ذلك " يوجب تقييدها
بخصوص موارد الطلاق، اللهم الا أن يقال إن الاستناد إلى الالزام دليل على أن
المعيار هو هذه القاعدة من غير خصوصية للمقام، فالغاء الخصوصية من هذه الجهة
عن مورد الرواية قريب جدا.
ولكن سند الرواية ضعيف بعلي بن أبي حمزة البطائني، وسيأتي ان ذلك
لا يوجب اشكالا في البحث فإن الروايات متكاثرة متضافرة.
2 - ما رواه في ذاك الباب بعينه جعفر بن سماعة (وفي نسخة التهذيب الحسن
ابن سماعة) انه سأل عن امرأة طلقت على غير السنة ألي أن أتزوجها؟ فقال: نعم،
فقلت له ألست تعلم أن علي بن حنظلة روى إياكم والمطلقات ثلاثا على غير السنة
فإنهن ذوات أزواج؟! فقال: يا بني رواية علي بن أبي حمزة أوسع على الناس،

(1) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدماته وشرائطه الباب 30 الحديث 5.
160

روي عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال: الزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوجوهن
فلا بأس بذلك (1).
والظاهر أن السائل هو " الحسن بن محمد " والمسؤول عنه هو " جعفر بن
سماعة " وليس فيه نقل لكلام المعصوم، نعم استدل هو في ذيل كلامه إلى ما مر من
رواية علي بن أبي حمزة، فلا يكون حديثا آخرا غير ما مر سابقا.
3 - ما رواه جعفر بن محمد بن عبد الله العلوي عن أبيه قال سألت أبا الحسن
الرضا عليه السلام عن تزويج المطلقات ثلاثا؟ فقال لي: ان طلاقكم الثلاث لا يحل لغيركم
وطلاقهم يحل لكم لأنكم لا ترون الثلاث شيئا وهم يوجبونها (2).
وظاهرها ان للقاعدة معنى وسيعا يشمل الحكم المخالف والموافق، فلو ان
المخالف عمل بمذهب أهل الحق مع اعتقاده ببطلانه لم يجز له، ولابد من نهيه
عن ذلك.
ولكن عمل الأصحاب بذلك غير معلوم، وعلى كل حال التعليل فيها دليل
على عدم اختصاصها بباب النكاح.
4 - ما رواه عبد الله بن طاوس قال قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام ان لي ابن
أخ زوجته ابنتي وهو يشرب الشراب ويكثر ذكر الطلاق، فقال إن كان من إخوانك
فلا شئ عليه وإن كان من هؤلاء فابنها منه، فإنه عنى الفراق، قال: قلت: أليس قد
روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال إياكم والمطلقات ثلاثا في مجلس؟ فإنهن ذوات
الأزواج؟ فقال ذلك من اخوانكم لا من هؤلاء، انه من دان بدين قوم لزمته
أحكامهم (3).

(1) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدماته وشرائطه الباب 30 الحديث 6.
(2) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدماته وشرائطه الباب 30 الحديث 9.
(3) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدماته وشرائطه الباب 30 الحديث 11.
161

وعموم الحديث نظرا إلى ذيله ظاهر.
5 - ما رواه علي بن محمد قال سألته عليه السلام هل نأخذ في أحكام المخالفين
ما يأخذون منا في أحكامهم؟ فكتب عليه السلام يجوز لكم ذلك إن شاء الله، إذا كان
مذهبكم فيه التقية منهم والمداراة لهم (1).
ولكن من الواضح ان الاستدلال به للقاعدة في غير مورد التقية غير جائز،
بل قد يكون معارضا لما يدل على العموم كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله.
6 - ما رواه عبد الله بن محرز عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له رجل ترك ابنته
وأخته لأبيه وأمه، قال المال كله لابنته، وليس للأخت من الأب والام شئ فقلت
انا قد احتجنا إلى هذا والرجل الميت من هؤلاء الناس، وأخته مؤمنة عارفة، قال
فخذ لها النصف، خذوا منهم ما يأخذون منكم في سنتهم وقضائهم وأحكامهم
قال فذكرت ذلك لزرارة، فقال إن على ما جاء به " ابن محرز " لنورا، خذهم بحقك
في أحكامهم وسنتهم كما يأخذون منكم فيه (2).
هذا والحديث وإن كان عاما في ناحية الحقوق المالي، ولكن لا دلالة له على
غير هذه الموارد، مثل أبواب التزويج والنكاح وما أشبهها.
وهناك روايات أخرى لم يصرح فيها بهذه القاعدة ولكن يمكن تطبيقها عليها
منها ما يلي:
7 - ما رواه عبد الرحمن البصري عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له امرأة طلقت
على غير السنة فقال تتزوج هذه المرأة لا تترك بغير الزوج (3).
فإنه لا يمكن حملها على المعتقد بالبطلان فهي محمولة على من يطلق على غير

(1) التهذيب ج 6 كتاب القضاء الحديث 27.
(2) التهذيب ج 9 أبواب ميراث الإخوة والأخوات الباب 29 الحديث 9.
(3) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدمات الطلاق الباب 30 الحديث 3.
162

السنة معتقدا صحتها، فيلزم الزوج بما التزم به من دينه، وتكون المرأة خلية فتأمل،
8 - ومثله ما رواه عبد الله بن سنان قال سألته عن رجل طلق امرأته لغير عدة،
ثم أمسك عنها حتى انقضت عدتها، هل يصلح لي ان أتزوجها؟ قال نعم، لا تترك
المرأة بغير زوج (1).
والرواية محمولة على ما كانت الطلاق على غير السنة، ولعل قوله لغير عدة خطأ،
والصحيح لغير السنة كما في رواية عبد الرحمن البصري، ويمكن حمله على نفي
العدة الرجعية، نظرا إلى كونه طلاقا بائنا عندهم.
9 - ومثله ما رواه عبد الرحمن ابن أبي عبد الله قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
امرأة طلقت على غير السنة ما تقول في تزويجها؟ قال تزوج ولا تترك (2).
والكلام فيه هو الكلام في ما سبقه.
10 - ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن الأحكام؟ قال
تجوز على كل ذوي دين ما يستحلون (3).
11 - ما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع قال سئلت الرضا عليه السلام عن ميت ترك
أمه واخوة وأخوات فقسم هؤلاء ميراثه فاعطوا الام السدس، وأعطوا الاخوة والأخوات
ما بقي، فمات الأخوات فأصابني من ميراثه فأحببت ان أسألك هل يجوز لي ان آخذ
ما أصاب لي من ميراثها على هذه القسمة أم لا؟ فقال بلى، فقلت ان أم الميت فيما
بلغني قد دخلت في هذا الامر أعني الدين فسكت قليلا ثم قال: خذه (4).
فإن اخذ الاخوة والأخوات الميراث مع أنهم من الطبقة الثانية مع وجود الام

(1) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدمات الطلاق الباب 30 الحديث 4.
(2) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدمات الطلاق الباب 31 الحديث 3.
(3) الوسائل ج 17 كتاب الميراث أبواب ميراث الإخوة الباب 4 الحديث 3.
(4) الوسائل ج 17 كتاب الميراث أبواب ميراث الإخوة الباب 4 الحديث 6.
163

وهي من الطبقة الأولى، لا يصح على مذهب الحق، وإنما يصح على مذهبهم،
وكون الام امائيا غير كاف، فإن المدار على الميت وميراثه، اللهم الا ان يقال: ان
هذا ضرر على الام مع أنه غير معتقد به ولكن الاخوة والأخوات اخذوا المال على
مذهبهم فوصل إلى الراوي من ناحيتهم لا من ناحية الام.
* * *
2 - مفاد قاعدة الالزام
لاشك انه قد تختلف الأحكام الفرعية بين المذاهب، والقاعدة ناظرة إلى هذا
الاختلاف، فقد يكون شخص بمقتضى مذهبه ملزما بأداء مال أو شئ آخر، ولكن
لا يلزم به على مذهبنا، فيأتي الكلام هنا في جواز اخذه منه أم لا؟ والمستفاد من مجموع
الأحاديث المتقدمة انه يجوز الزام المخالفين بمذهبهم وأحكامهم.
هذا ولكن هناك صور مختلفة:
الأولى: اختلاف مذهبنا مع المخالفين.
الثانية: اختلافنا مع غير المسلمين.
الثالثة: اختلاف مذاهب المخالفين بعضهم ببعض، كالحنفي بالنسبة إلى
المالكي، إذا وقع ذلك محل ابتلائنا.
الرابعة: اختلاف مذهب الكفار بعضهم ببعض كاليهودي والنصراني.
الخامسة: اختلاف المقلدين في مذهب الحق بعضهم ببعض وكذلك اختلاف
فقهائهم.
والقدر المسلم المعلوم من القاعدة هو الصورة الأولى فقط، ولكن في الروايات
السابقة اطلاقات يمكن استفادة العموم منها، مثل ما مر في رواية محمد بن مسلم من قوله:
" تجوز على كل ذوي دين ما يستحلون ". وقوله في رواية عبد الله بن طاووس: " انه
164

من دان بدين قوم لزمته أحكامهم ".
وبعض التعليلات الدالة أو المشعرة بالعموم، مثل قوله عليه السلام في رواية جعفر بن محمد
ابن عبد الله العلوي: لأنكم لا ترون الثلاث شيئا وهم يوجبونها، وكذلك قوله عليه السلام:
في رواية عبد الرحمن البصري " تتزوج هذه المرأة لا تترك بغير الزوج " فإن جميع
هذه التعابير دالة على العموم.
فالقول بشمول القاعدة لغير المسلمين أيضا ليس ببعيد، ولكن الضمير في قوله
" الزموهم " وما أشبهه، الوارد في ما سبق من الأحاديث راجع إلى المخالفين قطعا
كما لا يخفى على من له انس بروايات الإمامية، مضافا إلى ورود التصريح به في
غير واحد من روايات الباب، التي مر ذكرها آنفا.
وأما شمولها لأرباب الأديان المختلفة غير الاسلامية، فيمكن القول به أيضا
لما مر من عموم رواية " محمد بن مسلم " و " ابن طاووس " وما سبق من التعليلات
أو ما يقوم مقام التعليل.
ومنه يظهر الحال فيمن يقتدي بمذاهب المخالفين، إذا اختلف بعضهم لبعض
ولكنه لا يخلو من اشكال لاحتمال انصراف اطلاقات الأدلة من هذه الصورة.
وأما اختلاف الآراء في مذهب الحق بين المجتهدين ومقلديهم فلا ينبغي
الاشكال في عدم شمول القاعدة له، لأنه قوله " من دان بدين قوم لزمته أحكامهم "
أو غير ذلك مما مر من التعبيرات غير شامل له، ولذا ذكر المحقق في الشرايع ان
المسلم لا يرث بالسبب الفاسد، فلو تزوج محرمة لم يتوارثا سواء كان تحريمها متفقا
عليه كالأم من الرضاع أو مختلفا فيه كأم المزني بها، وذكر في الجواهر في شرح هذا
الكلام انه لو ترافع مقلدة مجتهد مثلا يرى الصحة، عند مجتهد يرى البطلان، حكم
عليهم بمقتضى مذهبه، وليس له الزامهم بما وقع منهم من التقليد قبل المرافعة (1).

(1) الجواهر ج 39 ص 325.
165

3 - في موارد شمول القاعدة
قد عرفت مما مر ان جل أحاديث الباب وردت في " الإرث " و " النكاح "
و " الطلاق ".
ولكن هل يختص الحكم بهذه الأبواب الثلاثة، أو يشمل أبواب الوصية
والوقف والهبة واحياء الموات والحيازة، وما أشبه ذلك، من الأحكام والحقوق.
لا نرى مانعا من شمولها لها بعد عموم الأدلة، وشمول الاطلاقات وعدم الدليل
على تخصيصها.
فلو ان أحدا من المخالفين أوصى بوصية صحيحة عنده، باطلة عندنا، تشمل
هذه الوصية أصنافا منا، فأي مانع من الاخذ بمقتضى وصيته، والانتفاع بها، بعد
عموم قوله " الزموهم بما الزموا به أنفسهم ".
وقوله " يجوز على كل ذوي دين ما يستحله " وقوله " من دان بدين قوم لزمته
أحكامهم " وقد مر ذكرها جميعا في طي روايات الباب.
وكذلك إذا وهب مالا هبة صحيحة عنده، باطلة عندنا، يجوز التصرف فيه
بعنوان الهبة.
وهكذا في أبواب المضاربة والإجارة والمزارعة والمساقاة يجوز أخذهم
بمقتضى ما يلتزمون به من أحكامهم، كما يأخذون منا بمقتضاها عند قدرتهم.
وكذلك الامر في أبواب الحيازة واحياء الموات، فلو ان أحدا منهم عمل
ما يوافق قواعد الحيازة والاحياء عندنا، ولكنه لا يراها صحيحة بحسب أحكامهم
فيتركه من هذه الجهة لا من باب الاعراض الذي يوجب الخروج من الملك مهما
كان، فلم لا يجوز الاخذ بمقتضى مذهبهم فيما يكون عليهم، كما يأخذون منا فيما
يكون لهم؟
166

ولكن الأصحاب لم يتعرضوا لهذه الفروع في كلماتهم، ولعله لعدم الابتلاء
به كثيرا في غير أبواب النكاح والطلاق والإرث، ولكن عدم التعرض لها لا يكون
دليلا على عدم قبولهم لها مع عموم الأدلة، واطلاق الفتاوى أحيانا.
ثم إن ظاهر قاعدة الالزام بمقتضى مفهوم هذه الكلمة الواردة في الروايات
وبمقتضى ذكر " على " في قوله " يجوز على كل ذوي دين ". ان موردها كل ما يكون
من الأحكام أو الحقوق بضرر الانسان، فهو ملزم بأدائه بمقتضى مذهبه، وأما إذا كان
مذهبه سببا لنفع جاز منعه منه لمن لا يرى هذا الحق له، وكذا إذا كان حكما فاسدا
سببا للتوسعة له.
هذا، ولكن الاستدلال بهذه القاعدة في أبواب الطلاق بالنسبة إلى المرأة
المؤمنة التي كانت عند مخالف فطلقها على مذهبه، وانه يجوز للمرأة التزويج، وانه
لا تترك بلا زوج، ظاهر في عموم مفاد القاعدة، فإن نكاح المرأة ليس مخالفا لمنافع
زوجها دائما، بل قد يكون موافقا لمنافعه، اللهم الا ان يقال إن المرأة ترى نفسها في
قيد زوجية زوجها، وانها متعلقة به، فهذا حق على كل حال فيجوز لها الزام زوجها
بمذهبه، والاقدام على النكاح الموجب لتفويت حق الزوج، ومثل هذا أيضا يعود
إلى الزامه بمذهبه فيما يكون بضرره من الأحكام والحقوق.
إلى هنا ينتهي الكلام في قاعدة الالزام ومالها من الآثار والأحكام.
167

8 - قاعدة الجب
(الاسلام يجب عما قبله)
* مدركها من الكتاب العزيز
* مدركها من السنة وسيرة النبي صلى الله عليه وآله
* ما المراد بالجب؟ ومن أي شئ يجب الاسلام؟
* المستثنيات من هذه القاعدة
* بناء العقلاء في هذه المسألة
169

قاعدة الجب
من القواعد المعروفة بين الأصحاب قاعدة الجب، وموردها ما إذا أسلم انسان
فكان عليه ذنوب أو حقوق من قبل، فالاسلام يجب عما قبله اجمالا، وليس مؤاخذا
بها، ولكن الكلام في شرايط القاعدة وفروعها، وسعة دائرتها وشمولها لجميع
الأحكام أو اختصاصها بدائرة خاصة.
ونتكلم فيها: أولا في مدرك القاعدة، وثانيا في مفادها، وثالثا في شرايطها
وخصوصياتها وما يتفرع عليها من الفروع فنقول ومن الله التوفيق.
* * *
1 - مدرك قاعدة الجب
يمكن الاستدلال عليها ببعض آيات الكتاب العزيز وما ورد في السنة، وما علم
من سيرة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة من بعده.
الأول: من الكتاب العزيز:
قوله تعالى: قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وان يعودوا
فقد مضت سنة الأولين (1).
فإنها ظاهرة في أن الانتهاء من الكفر يوجب غفران ما سلف، وعمومية " ما "

(1) سورة الأنفال: الآية 38.
171

الموصولية دليل على غفران جميع ما سلف في حال الكفر.
واستدل به في " كنز العرفان " في كتاب الصلاة عند البحث عن وجوب
القضاء على المرتد، انها تنفي وجوب القضاء عن الكافر الأصلي، للعموم المستفاد
من قوله " ما قد سلف " ولكن استشكل في شمولها للمرتد، لعدم دخوله تحت عنوان
" الذين كفروا " الظاهر في الكافر الأصلي، ثم نقل استدلال بعض بعموم " الاسلام
يجب ما قبله " وأورد عليه ما أورد بما هو خارج عن مهمتنا (1).
وقال في " الجواهر " في كتاب الصوم: " (والكافر) الأصلي (وان وجب عليه)
الصوم لأنه مكلف بالفروع (لكن لا يجب) عليه (القضاء) اجماعا بقسميه (الا ما أدرك
فجره مسلما) لأن الاسلام يجب ما قبله، بناء على منافاة القضاء وإن كان بفرض
جديد لجب السابق باعتبار كون المراد منه قطع ما تقدم، وتنزيله منزلة ما لم يقع،
كالمراد من قوله تعالى (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) " (2).
واستدل أيضا في كتاب الزكاة في باب سقوط الزكاة بالاسلام وإن كان
النصاب موجودا، ان الاسلام يجب ما قبله، ثم قال المنجبر سندا ودلالة بعمل
الأصحاب، الموافق لقوله تعالى " قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " (3).
وبالجملة دلالة الآية ظاهرة على المقصود، إنما الكلام في مقدار عمومها
وظاهرها شمولها جميع حقوق الله الذي تحتاج إلى غفرانه، أعم من المعاصي
والواجبات التي تحتاج إلى القضاء أو شبه ذلك.
اللهم الا ان يقال: الآية ناظرة إلى المعاصي، والمخالفة العملية والاعتقادية
للفروع والأصول، واما ما يتعلق بالقضاء والتدارك وغيرها فهي منصرفة عنها، ولعله

(1) كنز العرفان ج 1 ص 166.
(2) الجواهر ج 17 ص 210.
(3) الجواهر ج 15 ص 62.
172

لذلك لم يستدل كثير منهم بالآية لقاعدة الجب، ولكن لا ينبغي الشك في شمولها
للحدود الإلهية الجارية على من ارتكب الزنا وشرب الخمر وغيرهما من اشباههما،
فإنها مشمولة للغفران.
وممن استدل بالآية من المفسرين، لقاعدة الجب، بعض مفسري المتأخرين من
العامة حيث ذكر في تفسير الآية رواية " مسلم " من حديث " عمرو بن العاص " قال:
فلما جعل الله الاسلام في قلبي اتيت النبي صلى الله عليه وآله فقلت ابسط يدك أبايعك، فبسط
يمينه فقبضت يدي، قال مالك؟ قلت أردت ان اشترط، قال تشترط بماذا؟ قلت إن
يغفر لي، قال اما علمت يا عمرو ان الاسلام يهدم ما قبله، وان الهجرة تهدم ما قبلها،
وان الحج يهدم ما قبله؟! (1)
وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انه استدل بهذه الآية في جواب
علي بن دراج الأسدي حيث قال: اني كنت عاملا لبني أمية فأصبت مالا كثيرا
فظننت ان ذلك لا يحل لي، قال عليه السلام: فسألت عن ذلك غيري؟ قال قلت قد سألت،
فقيل لي ان أهلك ومالك وكل شي حرام، قال: ليس كما قالوا لك، قلت: جعلت
فداك فلي توبة قال نعم، توبتك في كتاب الله " قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم
ما قد سلف " (2) ولكن فيها كلام لعله سيمر عليك.
* * *
الثاني: السنة:
1 - منها الرواية المعروفة التي نقلها العامة والخاصة بعبارات مختلفة في كتب
الحديث والفقه والتفسير واللغة.
فممن نقله القمي في تفسير قوله تعالى " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر

(1) المنار ج 9 ص 664 (ذيل آية 38 من الأنفال).
(2) نور الثقلين ج 2 ص 154.
173

من الأرض ينبوعا " الآية، ان أم سلمة شفع لأخيها عند النبي صلى الله عليه وآله في قبول
اسلامه وقالت له: ألم تقل ان الاسلام يجب عما قبله؟ قال صلى الله عليه وآله نعم، ثم قبل اسلامه (1)
ورواها الطريحي في مجمع البحرين هكذا: " الاسلام يجب ما قبله، والتوبة
تجب ما قبلها، من الكفر والمعاصي والذنوب " (2).
واستدلال فقهائنا في كتب الفقه من كتاب الزكاة، والصلاة، والحج،
وغيرها، معروف بينهم، وقد استدلوا بالرواية وادعوا انجبار ضعف سندها من جهة
الارسال بالشهرة.
وممن نقله من العامة المحدث المعروف مسلم ابن الحجاج في باب كون
الاسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة، والحج، عن عمرو بن العاص أنه قال بعد
كلام طويل: لما جعل الله الاسلام في قلبي اتيت النبي صلى الله عليه وآله وقلت ابسط يمينك
لأبايعك فبسط يمينه، قال فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو؟ قال قلت: أردت ان
اشترط، قال تشترط بماذا؟ قلت: ان يغفر لي، قال اما علمت أن الاسلام يهدم ما قبله
وان الهجرة تهدم ما قبلها، وان الحج يهدم ما كان قبله (3).
وفي السيرة الحلبية: ان " عثمان " شفع في أخيه " ابن أبي سرح " قال صلى الله عليه وآله
اما بايعته وآمنته، قال بلى، ولكن يذكر ما جرى منه معك من القبيح، ويستحي قال
صلى الله عليه وآله: " الاسلام يجب ما قبله " (4).
وفي تاريخ " الخميس " و " السيرة الحلبية " و " الإصابة " لابن حجر في اسلام
" هبار " قال: يا هبار! الاسلام يجب ما كان قبله، ونحوه في الجامع الصغير للسيوطي

(1) تفسير القمي ذيل الآية 90 من سورة بني إسرائيل.
(2) مجمع البحرين مادة " جب ".
(3) صحيح المسلم ج 1 ص 192 (طبعة دار احياء التراث العربي).
(4) السيرة الحلبية ج 3 ص 105.
174

في حرف الألف.
وقد رواه جمع آخرون في كتبهم مما يطول البحث بذكرها أجمع.
وروى العلامة المجلسي (قدس سره) في " بحار الأنوار " عند ذكر قضايا
أمير المؤمنين عليه السلام عن أبي عثمان النهدي جاء رجل إلى عمر فقال إني طلقت امرأتي
في الشرك تطليقة، وفي الاسلام تطليقتين، فما ترى؟ فسكت عمر، فقال له الرجل
ما تقول؟ قال كما أنت حتى يجئ علي بن أبي طالب فجاء علي عليه السلام فقال قص عليه
قصتك فقص عليه القصة فقال علي عليه السلام: هدم الاسلام ما كان قبله، هي عندك على
واحدة (1).
وروي من طرق العامة أيضا في حكاية اسلام " مغيرة بن شعبة " انه وفد مع
جماعة من " بني مالك " على " مقوقيس " ملك مصر فلما رجعوا قتلهما المغيرة في الطريق
وفر إلى المدينة مسلما، وعرض خمس أموالهم على النبي صلى الله عليه وآله فلم يقبله، وقال
لا خير في غدر، فخاف المغيرة على نفسه، وصار يحتمل ما قرب وما بعد، فقال صلى الله عليه وآله:
الاسلام يجب ما قبله.
ونقله ابن سعد أيضا في طبقاته.
والعمدة انها حديث مشهور في كتب الفريقين واعتمد عليها فقهائهم في
المباحث المختلفة، وكفى بذلك في جبر ضعف سندها، ولذا قال المحقق الهمداني
(رضوان الله عليه) في مصباح الفقيه في كتاب الزكاة بعد ذكر الحديث ونقل تضعيفه
من صاحب المدارك، ما نصه: المناقشة في سند هذه الرواية المتسالم على العمل بها
بين الأصحاب فمما لا ينبغي الالتفات إليها وكذا في دلالتها (3).
* * *

(1) بحار الأنوار ج 40 ص 230 (نقلا من مناقب آل أبي طالب).
(2) المصباح الفقيه كتاب الزكاة ص 17.
175

2 - مفاد الحديث
الفعل الصادر من الكافر حال كفره أو الترك كذلك لا يخلو من وجوه:
1 - ما كان معصية لله كنفس الكفر، والظلم، والفساد في الأرض، وقطع
الرحم.
2 - ما كان له قضاء كالعبادات المتروكة مثل الصلاة والصيام.
3 - ما ليس له قضاء بل وجوبه دائم ولكنه زالت شرائطه كالحج إذا صار
فقيرا بعد الاستطاعة ثم أسلم.
4 - ما تعلق به حق شرعي، ثم انعدم موضوعه، ثم أسلم، كالأموال الزكوية
التي لم يؤد حقها.
5 - ما تعلق به حق شرعي وموضوعه باق كالنصاب الموجود من الزكاة بعد
حلول الحول، ولكن أسلم بعد زمان تعلق الوجوب.
6 - ماله حد شرعي كشرب الخمور والزنا وحد المحارب.
7 - ماله قصاص في الشرع وليس له فيما بين العرف والعقلاء قصاص.
8 - ماله قصاص في كل دين وطريقة كقتل النفوس الأبرياء.
9 - ماله اثر وضعي في الشرع كالتطليقات الثلاث.
10 - ماله اثر وضعي باق موضوعه كالجنابة والرضاع.
11 - الأموال المحرمة شرعا التي اكتسبها حال الكفر من طرق فاسدة في
الشرع.
12 - عقوده وايقاعاته المتداولة.
13 - ما أوجبه على نفسه بالنذر وغيره مما هو صحيح في اعتقاده، وفي الشرع.
14 - ديونه التي على عهدته، ومهر زوجته، وبدل اتلافه.
176

لاشك في أن قاعدة الجب لا تشمل جميع ذلك فلا ترتفع عقوده السابقة وكذا
ولا ترتفع ديونه بالاسلام، ولا مهر زوجته ولا غير ذلك من اشباهه بل يجب عليه
الوفاء بجميعها.
وكأنه توهم بعضهم منه العموم لجميع هذه الأصناف فتوهم ورود تخصيصات
كثيرة على القاعدة أو انه من قبيل تخصيص الأكثر، فزعم وهن عموم الحديث وعموم
القاعدة كما توهم مثل ذلك في قاعدتي " لا ضرر " و " القرعة " فاعتقدوا شمول لا ضرر للخمس والزكاة وجميع الواجبات المالية، والحج والنذر والديات والضمانات وقالوا
ان الاخذ بعمومها مشكل لورود تخصيص الأكثر عليه بهذه الأمور الضررية وأشباهها.
وكذلك بالنسبة إلى " القرعة " فزعموا شمولها لجميع ما يشك فيه مما يكون
مجرى للأصول الأربعة أو الامارات أيضا.
وقد ذكرنا في محله ان هذه كلها توهمات وتصورات غير صحيحة ناشئة عن
عدم الوصول إلى مغزى القاعدتين، ومن هنا ظهر الاشكال، واما لو وضعناهما
موضعهما، لا يرد عليهما تخصيص ابدا، أو يكون التخصيص قليلا جدا، فراجع
قاعدتي القرعة ولا ضرر في هذا الكتاب.
واما بالنسبة إلى حديث " الجب " فالدقة في فحواه ومحتواه تدل على عدم
ورود تخصيص عليه أيضا ولورود عليه تخصيص لم يكن الا قليلا.
فنقول: الظاهر اللائح من الحديث لا سيما بحكم كونه في مقام الامتنان على
جميع من يدخل في الاسلام، وكونه في مقام اعطاء الامن لمن يخاف لأجل أعماله
السابقة بعد دخوله في الاسلام، ان الأعمال والتروك التي ارتكبها حال كفره لو كان
له في الاسلام مجازاة أو كفارة أو عذاب الهي أو شبه ذلك بعد ما أسلم يرتفع عنه
جميع ذلك، والاسلام يجب عما قبله من هذه الأمور.
وهذا حكم الهي سياسي حضاري يوجب شوقا للنفوس إلى قبول الاسلام، وعدم
177

التنفر عنه، وكذا إذا ارتكب ذنبا في مقابل النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين.
توضيحه ان كثيرا من الكفار كانوا ينتبهون من نومتهم وتميل نفوسهم إلى
الاسلام بعدما ارتكبوا جرائم كثيرة، ولكن قد يمنعهم خوف المجازاة من قبول
الاسلام، وكان هذا سبب ترديدهم في قبول هذا الدين، ولكن الشارع المقدس
الاسلامي وسع عليهم بالحكمة الإلهية، وقال الاسلام يهدم ما قبله، أو يجب
ما قبله (1).
أضف إلى ذلك أنه لو كان كل انسان إذا أسلم اخذ منه زكاة أمواله طول
عمره، والزم بقضاء صلواته وصيامه كذلك، واخذ بالحدود الشرعية وأنواع التعزيرات
لتنفر الطباع عن قبول هذا الدين ولم يكن الاسلام دينا سمحا سهلا.
هذا هو معنى الحديث، وحينئذ لا يبقى مجال لتوهم شمولها لعقوده وايقاعاته
أو ديونه أو بدل اتلافاته، أو القصاص الذي ثبت عليه بحكم العقلاء، أو غير ذلك
من اشباهه، فإن هذه أمور لا ترتبط بالاسلام والكفر، حتى يجب الاسلام عنها، وليس
في الجب عنها امتنان، ولو كان منة على واحد كان خلاف المنة على آخرين ومع
ذلك لا يبقى مجال لتوهم ورود تخصيصات كثيرة عليها.
هذا خلاصة الكلام في معنى الحديث فلنرجع إلى تفاصيله.
فنقول:
اما بالنسبة إلى " العقاب الأخروي والدنيوي " فهو مما لاشك في شمول
الجب له، بل هذا هو القدر المتيقن من الحديث، والآية، فإذا أسلم الكافر رفع عنه
العقاب من ناحية أعماله في حال كفره، وكذا الحدود والتعزيرات كلها، بل الظاهر

(1) ويوافقه معنى " الجب " في اللغة، فإنه بمعنى القطع، ولذا يطلق المجبوب
على الخصي، فكان الاسلام يقطع ما بعده من عمر الانسان مما قبله، فلا يبقى عليه التبعات
وهو موافق لمعنى الهدم، الوارد في رواية أخرى.
178

ان الآية 38 من سورة الأنفال: " قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف "
مختصة به، وكذلك قياسه على التوبة والحج والهجرة في بعض الروايات، أيضا
من هذا الباب، ولكن سيأتي ان للقاعدة معنى أوسع من التوبة وأشباهها الموجبة
للغفران فقط.
فعلى هذا يرتفع آثار الفسق عن الكافر بعد ايمانه، ولا يضرب حدا ولا تعزيرا.
وأما بالنسبة إلى العبادات التي لها " قضاء " كالصلاة والصوم فهذه وان لم
تكن عقوبة بل تداركا لما فات، ولكن الانصاف ان عموم حديث الجب يشملها
أيضا، ولذا صرح غير واحد من الأصحاب بارتفاع القضاء عنه بعد الاسلام استنادا
إلى حديث الجب.
قال في الجواهر بعد كلام المحقق في الشرايع " انه لا يجب على الكافر
القضاء الا ما أدرك فجره مسلما " ما نصه: لأن الاسلام يجب ما قبله، بناء على منافاة
القضاء وإن كان بفرض جديد لجب السابق، باعتبار كون المراد منه قطع ما تقدم
وتنزيله منزلة ما لم يقع (1).
وذكر في موضع آخر منه: ويسقط القضاء بالكفر الأصلي بلا خلاف أجده
فيه، بل في المنتهى وغيره الاجماع، بل في المفاتيح نسبته إلى ضروري الدين
للنبوي " الاسلام يجب ما قبله " وبذلك يخص عموم من فاتته (2).
وفي " العناوين ": الظاهر أن الاسلام يجبها (اي حقوق الله المختصة به)
مطلقا للخبر، ولظاهر الاجماع فلا يجب عليه قضاء العبادات البدنية.
ومما يدل عليه دلالة ظاهرة السيرة المستمرة من لدن زمن النبي صلى الله عليه وآله إلى
زماننا هذا انه لا يلزم من أسلم بقضاء عباداته بالنسبة إلى السنين السابقة، ولو كان لبان

(1) الجواهر ج 17 ص 10.
(2) الجواهر ج 13 ص 56.
179

وظهر أشد الظهور.
واما بالنسبة إلى الحقوق المالية الإلهية كالخمس والزكاة فالظاهر أنها أيضا
كذلك لعمومها، وعدم المانع عنها كما صرح به الأصحاب في فتاويهم، واستندوا
إلى الحديث في بعض كلماتهم، ولذا قال في الجواهر " ومنه يستفاد ما صرح به جماعة
من سقوطها بالاسلام وإن كان النصاب موجودا، لأن " الاسلام يجب ما قبله " المنجبر
سندا ودلالة بعمل الأصحاب.. بل يمكن القطع به بملاحظة معلومية عدم أمر النبي
صلى الله عليه وآله لاحد ممن تجدد اسلامه من أهل البادية وغيرهم بزكاة إبلهم في السنين الماضية
بل ربما كان ذلك منفرا لهم عن الاسلام، كما أنه لو كان شئ منه لصاع وشاع،
كيف والشايع عند الخواص فضلا عن العوام خلافه، - ثم قال - فمن الغريب ما في
المدارك من التوقف في هذا الحكم لضعف الخبر المزبور سندا ومتنا وللصحاح
المتضمنة لحكم المخالف إذا استبصر " (1).
ويظهر من كلامه، ومما ذكرناه آنفا، ان السيرة المستمرة بين المسلمين من
لدن زمن النبي صلى الله عليه وآله على عدم اخذ الزكوات والأخماس عمن دخل في الاسلام من
أقوى الأدلة على ذلك.
واما ما ذكره في المدارك فلا يخفى ضعفه مما ذكرنا، فإن الحديث لا ضعف
له من ناحية المتن، ولا يرد عليه تخصيصات كثيرة، كما بيناه آنفا، واما سنده مجبور
بعمل الفريقين وشهرته بينهم. وقياس الكافر على المستبصر قياس مع الفارق.
ومن هنا ظهر انه لا فرق بين السنين الماضية وبين سنته إذا أسلم بعد زمن تعلق
الزكاة لعين ما مر من الأدلة.
وقال بعض الفضلاء في محاضراته: قد استدل على سقوط الجانب الوضعي
عن الزكاة عن الكافر باسلامه بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله " الاسلام يجب ما قبله " فكما

(1) الجواهر ج 15 كتاب الزكاة ص 62.
180

ان الكافر الذي أسلم لا يكلف بقضاء الصلاة والصيام الفائتين منه حال كفره كذلك
لا يكلف باعطاء الزكاة عن السنين الماضية حال كفره. هذا ما عليه المشهور بل لم
ينقل عن أحد غير صاحبي المدارك والذخيرة التوقف فيه، حيث طعنا في الاستدلال
بالحديث بضعفه. والحق انه كذلك لأنه لا سند لهذا الحديث عندنا كما أنه يمكن
المناقشة في الدلالة بان الجب هو القطع، على ما ذكره الطريحي في مجمع البحرين
ومعنى الحديث على ما ذكره: ان التوبة تجب ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب
والاسلام يجب ما قبله.
والمستفاد من ذلك أنه كما تلغى التوبة كل تبعة كانت على العاصي والمذنب
كذلك الاسلام يلغي كل تبعة على الكافر أيام كفره، فلا يعاقب على ذلك وهذا لاربط
له بالتكليف، ثم إن الحديث لو تم سنده فإنه يتضمن الامتنان نظير الامتنان في حديث
الرفع أو نفي العسر والحرج أو نفي الضرر، وهو إنما يتم إذا لم يعارض بالامتنان
في مورد آخر وفي المقام يكون الامتنان على الكافر باسقاط الزكاة عنه معارضا لحق
الأصناف الثمانية في الزكاة!.
هذا مضافا إلى اشكال عقلي وهو ان البعث سبب إلى العمل المبعوث إليه،
فإذا كان العمل المبعوث إليه مقيدا بالاسلام وكان الاسلام مسقطا للتكليف يلزم من
علية الشئ لعدم نفسه وهو مستحيل!
هذا والانصاف ان شيئا مما ذكره لا يمكن المساعدة عليه ويرد عليه:
أولا - ان سند الحديث منجبر بعمل الأصحاب بل علماء الاسلام من الأصحاب
وغيرهم.
ثانيا - ان عطفه على التوبة لا يوجب تضييق مفهومها بعد اطلاقها.
ثالثا - ان الامتنان على من تجدد اسلامه أقوى بمراتب من الامتنان على
مستحقي الزكاة، بل لا دليل على انحصارها بموارد الامتنان.
181

ورابعا - أعجب من الكل الاستدلال بعدم جواز علية الشئ لعدمه فإن مقتضى
الحديث ان الاسلام يكون علة لاثبات التكاليف عليه في المستقبل فقط لا بالنسبة
إلى الماضي.
واما بالنسبة إلى الواجبات البدنية التي انعدم شرائطها فعلا كالحج بعد زوال
الاستطاعة، والظاهر أنها أيضا مشمولة لحديث الجب، ويوافقه السيرة المستمرة،
فمن كان مستطيعا في الأزمنة البعيدة ثم أسلم بعد سنين حال كونه غير مستطيع لا يلزم
بالحج.
هذا كله مما لا ينبغي الاشكال في دخولها تحت القاعدة.
وكذا لا ينبغي الاشكال في خروج بعض ما ثبت فيه القصاص الشرعي، أو
الديات الثابتة في الشرع مما لم تكن ثابتة عند العقلاء والأديان السابقة فالظاهر أنها
أيضا مرفوعة بحكم القاعدة لما عرفت عند تفصيلها.
واما قصاص النفس وشبهه مما اشترك فيه الاسلام والكفر وجميع الأديان الإلهية
وغيرها، فالانصاف انها خارجة عن القاعدة ولا وجه لرفعها بالاسلام، فإنها ليست
أحكاما اسلامية فقط حتى ترتفع عمن لم يؤمن بها، وان هو الا كالديون المالية
الثابتة في جميع الشرايع بل وعند من لا يؤمن بأي دين.
فلو قتل انسان انسانا آخر ثم أسلم، فالقصاص ثابت وكذا الدية عند اجتماع
شرائطها.
نعم المعروف من سيرة النبي صلى الله عليه وآله انه لم يعتن بدماء الجاهلية، ولم يؤاخذ
أحدا بها، وقد اشتهرت منه صلى الله عليه وآله هذا الحديث " الا وان كل شئ من أمر الجاهلية
موضوع تحت قدمي هاتين ودماء الجاهلية موضوعة " (1).

(1) رواه ابن ماجة في السنن في المجلد الثاني ص 1023 الباب 84 من كتاب
المناسك (باب حجة رسول الله " ص ") ورواه أيضا غيره من المحدثين وأرباب السير.
182

ولكن الظاهر أن الغاء دماء الجاهلية كان بدليل خاص، وناشيا من علة أخرى
وهو انه صلى الله عليه وآله لو أراد الاخذ بدماء الجاهلية والقصاص عنها لظهر فساد كبير ولم يستقر
حجر على حجر لابتلاء كثير منهم بدماء الجاهلية فكان مأمورا من عند الله بترك
التعرض لها.
وكذا الكلام بالنسبة إلى الدماء التي أراقوها في الغزوات الاسلامية عند
محاربة الاسلام مع الكفر، فلو ان كافرا حضر في بدر واحد، وقتل من المسلمين
ما قتل، ثم أسلم فلم يكن يقتص منه، ولم نسمع ان رسول الله صلى الله عليه وآله اقتص من أحد
منهم، بل المعروف من قصة وحشي وانه عفا عنه بعد اسلامه، ان الظاهر أن قاعدة
الجب يشمل جميع هذه.
اما لو لم يكن القتل جاهليا ولا دينيا بل كان قضية خاصة بين كافر وغيره
ثم أسلم فحينئذ يشكل اسقاط القصاص أو الدية منه بالاسلام إذا كان هذا ثابتا في
مذهبه السابق.
وأظهر من هذا الأحكام المتعلقة بالعقود والايقاعات والعقود والنذور والديون
المالية، والاتلافات، بل وجميع الضمانات، فلا ترتفع بالاسلام قطعا، فلو ان كافرا
غصب مال أحد ثم أسلم، أو عقد على امرأة ثم أسلم، أو ابتاع شيئا من غيره ثم
أسلم، أو استدان دينا كذلك، فلا اشكال في بقاء هذه الأمور على حالها، والاسلام
لا يجبه ولا يقطعه مما سبق بالنسبة إلى هذه الأمور.
قال بعض المحققين: " ان الحقوق المالية القابلة للتأمل أو المنع عن كونها
مشمولة للنص إنما هي الحقوق الثابتة عليه لا بشرع الاسلام، كرد الأمانات والديون
المستقرة في ذمته، والا فقد أشرنا ان الخمس والزكاة والكفارات ونظائرها من
الحقوق المالية الناشئة من التكاليف المقررة في دين الاسلام، من أظهر موارد
183

الحديث " (1).
بل لا نجد وجها بينا لتأمله (قدس سره) في ثبوت الحقوق المالية والديون
وانها ثابتة لا ترتفع.
أما بالنسبة إلى مثل حدث الجنابة والحدث الأصغر وشبههما فأحكامها باقية
بعد الاسلام، ويجب على الكافر بعد اسلامه الطهارة عنها لصلواته، ولكن هل كان
ذلك معمولا في صدر الاسلام في زمن النبي صلى الله عليه وآله وانه كان يدعو من يدخل في
الاسلام إلى الطهارة من الجنابة التي كانت به وكذا الحدث الأصغر.
الظاهر نعم بالنسبة إلى الحدث الأصغر، فإن جديد الاسلام كان يتوضأ كما يتوضأ المسلمون لصلاتهم واما الاغتسال عن الجنابة السابقة ولو كان قبل سنين فقد
يقال إنه أيضا لازم وليس ببعيد وإن كان لا يخلو عن اشكال.
قال في مفتاح الكرامة في كتاب الصلاة عند الكلام في سقوط قضائها عن
الكافر: " واستثنى المحقق الثاني في حاشيته حكم الحدث كالجنابة وحقوق الآدميين
قال والمعلوم ان الذي يسقط ما خرج وقته، وكذلك الشهيد الثاني وفي الذخيرة ان
ذلك محل وفاق وكذا مجمع البرهان قال إن حقوق الآدميين مستثنى بالاجماع " (2).
بل يظهر من بعضهم في بحث مطهرية الاسلام لبدن الكافر ورطوباته المتصلة
به من بصاقه وعرقه ونخامته والوسخ الكائن على بدنه، من الاستدلال بحديث
الجب له، وأورد عليه في المستمسك بأنه " يختص بالآثار المستندة إلى السبب السابق
على الاسلام وبقاء النجاسة ونحوها ليس مستندا إلى ذلك " (3).
ولكن هل كان ذلك معهودا في صدر الاسلام والأزمنة المتأخرة عنه؟ وهل

(1) مصباح الفقيه للمحقق الهمداني كتاب الزكاة ص 17.
(2) مفتاح الكرامة ج 3 ص 381.
(3) المستمسك في الثامن من المطهرات.
184

أمروا الكفار بتطهير أبدانهم وثيابهم والاغتسال من الجنابة، مع أن الكافر إذا دخل
الاسلام يبقى على حالته السابقة بالنسبة إلى هذه الأمور الا ان يؤمر بخلافه؟ لا يخلو
عن اشكال.
وقال الشهيد الثاني في المسالك في باب غسل الجنابة انه يمكن أن يقال على
هذا يحكم عند الاسلام بسقوط وجوب الغسل عنه إن كان في غير عبادة مشروطة به،
لأن الوجوب من باب خطاب وضع الشرع، ثم إذا دخل وقتها أو كان حاصلا وقت
الاسلام حكم عليه بوجوب الغسل أعمالا للسبب المتقدم كما لو أجنب الصبي بالجماع
فإنه يجب عليه الغسل بعد البلوغ في وقت العبادة (1).
ويظهر من الخلاف أيضا وجوب الغسل عليه بعد اسلامه، قال في المسألة
" 70 " من كتاب الطهارة ما لفظه: " الكافر إذا تطهر أو اغتسل على جنابة ثم أسلم
لم يعتد بهما، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة انه يعتد بهما، دليلنا ما بيناه من أن
هاتين الطهارتين تحتاجان إلى نية القربة والكافر لا يصح منه نية القربة في حال كفره
لأنه غير عارف بالله تعالى فوجب ان لا يجزيه (2).
وكلامه وإن كان ناظرا إلى غير المقام ولكن يستفاد منه المقصود بطريق أولى.
وقال الفقيه الماهر قدس سره في الجواهر في كتاب الطهارة: فإذا أسلم وجب
عليه الغسل عندنا بلا خلاف أجده، ويصح منه لموافقته للشرائط جميعها، إذا الظاهر أن
المراد بكونه يجب ما قبله إنما هو بالنسبة إلى الخطابات التكليفية البحتة، لا فيما كان
الخطاب فيه وضعيا كما فيما نحن فيه، فإن كونه جنبا يحصل بأسبابه فيلحقه الوصف
وان أسلم (3).

(1) المسالك ج 1 ص 8.
(2) الخلاف ج 1 ص 25 (الطبعة الجديدة).
(3) الجواهر ج 3 ص 40.
185

وقال المحقق الهمداني في مصباحه: " لا ينبغي الاحتياط في وجوب الغسل
عليه بعد أن أسلم وان لم نقل بكونه مكلفا به حال كفره، إذ غايته أن يكون كالنائم
والمغمى عليه وغيرهما، ممن لا يكون مكلفا حين حدوث سبب الجنابة، ولكنه
يندرج في موضوع الخطاب بعد استماع شرائط التكليف فيعمه قوله تعالى " وان
كنتم جنبا فاطهروا " وقوله عليه السلام: " إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور " ولا
ينافي ذلك ما ورد من أن الاسلام يجب ما قبله لأن وجوب الغسل لصلاته بعد أن أسلم
من الأمور اللاحقة فلا يجبه الاسلام، وحدوث سببه قبله لا يجدي لأن الاسلام
يجعل الافعال والتروك الصادرة منه في زمان كفره في معصية الله تعالى كأن لم تكن،
لا ان الأشياء الصادرة منه حال كفره يرتفع آثارها الوضعية خصوصا إذا لم يكن
صدورها على وجه غير محرم، كما لو بال أو احتلم فإنه كما لا ترتفع نجاسة ثوبه وبدنه
المتلوث بهما بسبب الاسلام كذلك لا ترتفع الحالة المانعة من الصلاة الحادثة بسببهما
وكيف كان فلا مجال لتوهم ارتفاع الحدث بالاسلام كما لا يتوهم ذلك بالنسبة إلى
التوبة التي روي فيها أيضا انها تجب ما قبلها (1).
ولكن العمدة ما عرفت من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وانه هل كان يأمر من دخل الاسلام
بالاغتسال عن الجنابة (2) مع أن كلهم أو جلهم كانوا مبتلين بأسبابها، لم نر ما يدل
على ذلك، الا روايات رواها البيهقي في سننه تدل على أمر النبي صلى الله عليه وآله لمن أسلم أو
أراد الاسلام بالاغتسال في بعض الروايات، وبالاغتسال بالماء والسدر كما في روايات
أخرى، من غير تصريح فيها بعنوان غسل الجنابة، فإن قلنا بكفاية ذلك عن جميع
ما كان عليه من الأغسال، حتى غسل الحيض والنفاس بالنسبة إلى النساء اللاتي دخلن
في الاسلام، وتم اسناد هذه الأحاديث كان الامر واضحا، والا بقي الاشكال، وعلى

(1) المصباح للهمداني كتاب الطهارة مبحث الغسل.
(2) السنن الكبرى للبيهقي ج 1 كتاب الطهارة ص 171 (باب الكافر يسلم فيغتسل).
186

كل حال لاشك انه لا ينبغي ترك الاحتياط بالاغتسال لعدم ظهور شمول قاعدة الجب
له وعدم الاطمينان بوجود السيرة على خلافه.
اما الأحكام الوضعية كالرضاع والمحرمات السببية كدمومة الزوجة التي
حصلت بينها وبين غيرها قبل اسلامها فلا ينبغي الشك في اجراء أحكامها عليها لأنه
يصدق عليه بعد الاسلام الأخ الرضاعي، أو صهر البنت، أو أم الزوجة أو غير ذلك من
هذه العناوين، فلا مساس للقاعدة بهذه الأمور التي موضوعاتها باقية وليست من
العقوبات وشبهها، لما عرفت في معنى الحديث.
أما مثل " التطليقات الثلاث " التي تحقق جميعها أو بعضها قبل الاسلام ثم
أسلم فالظاهر أنه كذلك، لأنه الفراق اثر وضعي اعتباري للتطليقات، ولا دخل للاسلام
والكفر فيه، وليس من العقوبات وشبهها حتى يجب الاسلام عنه، اللهم الا أن يقال إن
مثل هذا الحكم لم يثبت من قبل، بل هو حكم اسلامي في هذا الدين، فالاسلام
يرفعه، وعليه يحمل ما رواه في البحار عن أبي عثمان النهدي قال: جاء رجل إلى
عمر فقال إني طلقت امرأتي في الشرك تطليقة وفي الاسلام تطليقتين فما ترى؟ فسكت
عمر، فقال له الرجل ما تقول؟ قال كما أنت حتى يجئ علي بن أبي طالب عليه السلام فجاء
علي عليه السلام فقال قص عليه قصتك، فقص عليه القصة فقال علي عليه السلام هدم الاسلام ما كان
قبله، هي عندك على واحدة (1).
وقد عرفت روايته من طرق أهل السنة أيضا.
ولازمه سقوط ما وقع من الطلاق في حال الكفر فيقتصر على ما وقع في حال
الاسلام فيعتبر من تطليقاته الثلاث تطليقتان وتتوقف الحرمة على تطليقة واحدة أخرى
والظاهر أن هذا هو معنى قوله " هي عندك على واحدة ".
ولكن سند الرواية ضعيف، والعمل على وفقها لا سيما مع عموم الدليل وهو

(1) بحار الأنوار ج 40 ص 230.
187

قوله " هدم الاسلام ما كان قبله " يوجب العمل بهذا في سائر الأسباب والشرائط
الشرعية ولا تظن أحدا يلتزم به، فالأولى أن يقال إن العمومات تقتضي القول باعتبار
طلاقه قبل الاسلام، وحصول التطليقات الثلاث في مفروض المسألة فتحرم عليه
المرأة، وأما الحديث لا جابر له فاللازم ايكال أمرها إلى أهلها.
ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في عدة النصرانية إذا أسلم، فقد روى زرارة في رواية
صحيحة عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن نصرانية - إلى أن قال - إذا أسلمت بعد
ما طلقها، فإن عدتها عدة المسلمة (الحديث) (1).
فإنها صريحة في صحة طلاقها من زوجها، ويبقى عليها العدة، وحيث انها
أسلمت يجب عليها الاعتداد بعدة المسلمة.
هذا تمام الكلام في مفهوم الروايات ومحتواها، وسعة دائرتها، ومقدار شمولها
وبيان ما هو خارج عنها أو داخل فيها وتحصل من جميع ذلك أن القاعدة لا ترد
عليه تخصيصات كثيرة ولو ثبت تخصيص في بعض الموارد فاللازم الاخذ به ويبقى
الباقي تحتها.
* * *
3 - بناء العقلاء هنا
ومما يدل على قاعدة الجب أو يؤكدها تأكيدا تاما ما أسلفناه عند الكلام في
السنة وانها بشكل آخر دارجة بين العقلاء وأهل العرف، ولعل الشارع أمضاها، وهو
ان القوانين عندهم لا تعطف على ما سبق، ومرادهم من ذلك أن القوانين المجعولة
عندهم لا تشمل المصاديق التي كانت سابقة على جعلها، لا سيما إذا كان من العقوبات
والداخل في دين جديد في الواقع يكون كمن سبق قانونا فلا يشمله ذلك.
وحكمه هذا الأصل بينهم ان شمول القوانين لما سبق من المصاديق كثيرا ما

(1) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب العدد الباب 45 الحديث 1:
188

يوجب الهرج والمرج واختلال النظام، ومفاسد أخرى لا تخفى على أحد.
وهذا لو لم يعد دليلا على القاعدة ولكن يمكن أن يكون سببا لانصراف
العمومات والاطلاقات الواردة في العقوبات وشبهها مما صدر في حال الكفر.
أضف إلى ذلك لزوم العسر والحرج الشديد من عدم جب الاسلام عما قبله
وهذا وان لم يكن دليلا عاما شاملا لجميع مصاديقه، ولكن يشمل كثيرا منها وكيف
لا يجب الاسلام عما قبله وقد قال الله تعالى " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين
من حرج " (1).
وقوله صلى الله عليه وآله: " بعثت إلى الشريعة السمحة السهلة " (2) وأي حرج أعظم من أن
يؤخذ بعد اسلامه بما فعله في حال الكفر؟ وأي سهولة وسماحة في دين يؤاخذ من
دخل فيه بما صدر منه قبل ذلك ولو بسنين كثيرة؟
نعم هذا الدليل كما قلنا لا يجري في جميع موارد قاعدة الجب ولكن كثير
من مصاديقها داخلة فيه فهو مؤيد لما سبق أيضا.
إلى هنا تم الكلام في قاعدة الجب بعون الله تعالى في يوم الاثنين 28 ذي الحجة
سنة 1404.

(1) سورة الحج: الآية 78.
(2) رواه في صحيح البخاري في المجلد الأول ص 16 باب الدين يسر، عنه صلى الله عليه وآله
ولكن متن الحديث هكذا: أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة وعن مسند أحمد ج 6
ص 116.
189

9 - قاعدة الاتلاف
(من أتلف مال الغير فهو له ضامن)
* معنى القاعدة
* مدركها من كتاب الله
* مدركها من السنة، وفيها عشر طوائف من الأحاديث
* بناء العقلاء هنا
* استقرار اجماع العلماء عليه
* الاتلاف بالمباشرة والتسبيب
* مسألة تعدد الأسباب
* لا فرق بين العلم والجهل في المسألة
* الفرق بين الغصب والاتلاف
191

قاعدة الاتلاف
والكلام في هذه القاعدة يقع في مقامات:
1 - معنى القاعدة اجمالا.
2 - مداركها.
3 مفادها تفصيلا.
4 - ما يتفرع عليها من الفروع.
* * *
1 - معنى القاعدة
معنى القاعدة على اجمالها ظاهر لا غبار عليه، وهو ان من أتلف مالا أو المنافع
المترتبة على مال بسبب من الأسباب، عالما أو جاهلا، مما يتعلق بالغير فهو مكلف
بأداء مثلها أو قيمتها.
وذلك إذا لم يكن باذن صاحبها بل غصبا عليه أو بغير رضى منه، وهذه القاعدة
سارية في كثير من أبواب الفقه، يستند إليها الفقهاء من العامة والخاصة، بل هي قاعدة
عقلائية قبل أن تكون شرعية كما سنتكلم فيه إن شاء الله.
والمقصود هنا بيان القاعدة على نحو كلي كما يقتضيه كيفية البحث في القواعد
الفقهية، وأما جزئياته وخصوصياته، وما قد يرد عليه من الاستثناء فهي من وظائف
193

الكتب الفقهية، لا ما يبحث عن قواعدها.
وهذه القاعدة - كما سيأتي إن شاء الله - من شؤون سلطنة المالك على ماله
فإن تلك السلطنة تقتضي جواز أخذ المتلف بما يكون عوضا للمال، أو المنفعة.
* * *
2 - مدرك قاعدة الاتلاف
المعروف في كلمات من تعرض للقاعدة هو هذا العنوان " من أتلف مال الغير
فهو له ضامن " ولكن هذه العبارة لم توجد في رواية مما ورد في كتب الفريقين،
كما اعترف به غير واحد، ومن المحتمل قويا انه قاعدة مصطادة من الروايات
الكثيرة الواردة في موارد خاصة، بحيث يعلم بالغاء الخصوصية عنها، ومن بناء
العقلاء وغيره كما سيأتي إن شاء الله.
وعلى كل حال فما يمكن ان يستدل به للقاعدة أمور:
الأول: من كتاب الله ويمكن الاستدلال لها بالآيات التالية:
1 - " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (1)
فإن اطلاقها يشمل الاعتداء في الأنفس والأموال، ومن الواضح ان ما يعطى
به قصاصا أو تقاصا وشبهه ليس من الاعتداء ولكن اطلق عليه هذا العنوان في الآية
تغليبا، كما أن من الواضح انه ليس معنى الاعتداء بالمثل أن يكسر اناء في مقابل
كسر اناء، بل إن يؤخذ قيمة اناء في مقابل كسر اناء، فهذا هو الاعتداء بالمثل في
هذه الموارد عرفا وكذلك من أحرق بيت انسان ليس له الاعتداء بمثل احراق بيته،
بل يأخذ قيمته وما يعاد له.
واما ان الآية هل تدل على ضمان المثل، أو الأعم منها؟ فهو بحث آخر لسنا
بصدده فعلا، إنما الكلام في دلالتها على المقصود اجمالا.

(1) سورة البقرة: الآية 114.
194

2 - قوله تعالى " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (1).
بناء على أن المعاقبة تشمل الأموال والأنفس فإنها في اللغة بمعنى المجازاة
والاخذ بالذنب والاقتصاص، ولكن شمولها للأموال لا يخلو عن اشكال. قال
الراغب في المفردات: " والعقوبة والمعاقبة والعقاب يختص بالعذاب كما أن العقب
والعقبى يختصان بالثواب " ويستفاد من كلامه ان اطلاق العقوبة والعقبى على
الثواب والعقاب من جهة كونهما في عقب المعصية والطاعة.
3 - قوله تعالى " وجزاء سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على
الله انه لا يحب الظالمين " (2).
بناء على اطلاق السيئة وعمومها لاتلاف الأموال والمنافع، وحينئذ جزاء
سيئة سيئة مثلها لكن لا بمعنى اتلاف مال أو منفعة في مقابله، بل بمعنى اخذه فإن
القصاص بماله من المعنى الخاص مخصوص بالأنفس لعله لا تخفى، واما في الأموال
فيحث ان اتلافها حرام لا يكون التقاص الا بأخذ مال مثله أو بقدر قيمته.
هذا ما يمكن الاستدلال به من آيات الذكر الحكيم، ولكن العمدة في هذا
المقام ليست هذه الآيات لاجمالها بل الروايات التالية.
* * *
الثاني: السنة
يمكن الاستدلال لها بروايات كثيرة وردت في أبواب مختلفة، وهي وان
كانت مختصة بمواردها، ولكن ملاحظة المجموع توجب القطع بعدم اختصاصها
بباب دون باب وهي طوائف:
الطائفة الأولى: ما ورد في أبواب الضمان.

(1) سورة النحل: الآية 126.
(2) سورة الشورى: الآية 40.
195

منها ما رواه العلاء ابن فضيل عن أبي عبد الله عليه السلام انه سئل عن رجل يسير على
طريق من طرق المسلمين على دابته فتصيب برجلها، قال: ليس عليه ما أصابت
برجلها، وعليه ما أصابت بيدها، وإذا وقف فعليه ما أصابت بيدها ورجلها، وإن كان
يسوقها فعليه ما أصابت بيدها ورجلها أيضا (1).
وهذه الرواية وأشباهها أقوى شاهد على أن أصل ايجاب الاتلاف للضمان
كان أمرا مفروغا عنه عندهم، وإنما كان السؤال والجواب يدوران حول بيان
مصداق الاتلاف، ولذا بين الإمام عليه السلام ان السائر على الطريق لابد ان يراعي يدي
دابته حتى لا تصيب بيديها، فلو أتلف بيديها شيئا فعلى راكبها، لأنه المتلف بالتسبيب
واما لو أصاب برجليها فالعهدة على من لم يلاحظ ذلك، ولكن إذا كانت الدابة
متوقفة، أو إذا كان صاحبها خلفها يسوقها فعليه ما أصابت بيدها ورجلها، لصدق
التسبيب عليه في ذلك، فلو لم يكن أصل الضمان بالاتلاف أمرا مفروغا عنه لم يقع
السؤال عن خصوصيات أسبابه ومصاديقه.
وفي هذه الرواية أيضا دلالة على عدم الفرق بين العمد والخطأ وبين المباشرة
والتسبيب.
ومنها: ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام انه سئل عن الرجل يمر على طريق
من طرق المسلمين فتصيب دابته انسانا برجلها فقال ليس عليه، ما أصابت برجلها
ولكن عليه ما أصابت بيدها، لأن رجليها خلفه ان ركب، فإن كان قاد بها فإنه يملك
بإذن الله يدها يضعها حيث يشاء (2).
وفي هذه الرواية من التعليل ما يبين المقصود، وأيضا ذيلها الوارد في مورد
القيادة التي يكون صاحب الدابة فيها مقدما عليها شاهد على المقصود.

(1) الوسائل ج 19 كتاب الديات أبواب موجبات الضمان الباب 13 الحديث 2.
(2) الوسائل ج 19 كتاب الديات أبواب موجبات الضمان الباب 13 الحديث 3.
196

وفي معناهما روايات أخر وردت في نفس هذا الباب، وإن كان بعضها تدل
على الضمان بما أصاب باليد والرجل من الدابة، ولكنها لو كانت معارضة من هذه
الناحية - وليست متعارضة كما ذكرناه في محله - لم يضر بما نحن بصدده من
الضمان بالاتلاف لأن تعارضها في تشخيص المصداق.
منها: ما ورد في باب ان صاحب البهيمة لا يضمن ما أفسدت نهارا ويضمن
ما أفسدت ليلا.
مثل ما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام قال كان علي عليه السلام
لا يضمن ما أفسدت بالبهائم نهارا ويقول على صاحب الزرع حفظ زرعه وكان ما يضمن
ما أفسدت البهائم ليلا (1).
وفي معنى هذه الرواية روايات أخر كلها بهذا المضمون، وهي أيضا شاهدة
على ما ذكرنا شهادة قوية، حيث إن أصل الضمان بالاتلاف جعل أمرا مفروغا عنه
ووقع الكلام في مصاديق الاتلاف، ففي الأماكن التي تكون المتعارف حفظ الزرع
على صاحبه طول اليوم لا يكون صاحب الدابة ضامنا عند ارسالها نهارا، واما في
الليل فعليها ان يوثق دابتها، فلو أرسلها كان ضامنا لما تتلفه.
ومن الواضح لو كان هناك أماكن يكون المتعارف فيها حفظ الدابة فيها ليلا
ونهارا فلو أرسلها صاحبها كان ضامنا لما تتلفه.
الطائفة الثانية: ما ورد في أبواب الحدود المشتمل على تعليل يمكن استفادة
العموم منه.
مثل ما رواه سدير عن أبي جعفر عليه السلام في الرجل يأتي البهيمة قال يجلد دون
الحد ويغرم قيمة البهيمة لصاحبها لأنه أفسدها عليه (الحديث) (2).

(1) الوسائل ج 19 كتاب الديات أبواب موجبات الضمان الباب 40 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 18 كتاب الحدود والتعزيرات أبواب نكاح البهائم الباب 1
الحديث 4.
197

وقوله " لأنه أفسدها عليه " في معنى من أفسد أو أتلف مال الغير فعليه غرامته،
فالرواية وان وردت في مورد خاص ولكن يمكن استفادة العموم منها بحسب تعليله.
وفي معناه رواية أخرى وردت في نفس الباب ولكنها خالية عن التعليل.
الطائفة الثالثة: ما وردت في أبواب الديات وهي كثيرة:
مثل ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال سئلته عن الشئ يوضع على
الطريق فتمر الدابة فتفر بصاحبها فتعقره فقال: كل شئ يضر بطريق المسلمين فصاحبه
ضامن لما يصيبه (1).
وصدرها وإن كان ناظرا إلى حكم دية الانسان وهو خارج عن ما نحن فيه، ولكن
عموم التعليل يشمل الخسارة الواردة على الحيوان أو غيره مما هو داخل في المقصود.
منها ما رواه داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل حمل متاعا على
رأسه فأصاب انسانا فمات أو انكسر منه فقال هو ضامن (2).
وما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله من اخرج
ميزابا أو كنيفا أو أوتد وتدا أو أوثق دابة أو حفر شيئا في طريق المسلمين فأصاب شيئا
فعطب فهو له ضامن (3).
فإن قوله أصاب شيئا يشمل الانسان والحيوان وغيرهما ولعل الأظهر في مثل
هذا التعبير غير الانسان.
الطائفة الرابعة: ما ورد في ضمان الأجير بالنسبة إلى ما يفسده وهي كثيرة جدا:
منها ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال سئل عن القصار يفسد، فقال كل أجير

(1) الوسائل ج 19 كتاب الديات أبواب موجبات الضمان الباب 9 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 19 كتاب الديات أبواب موجبات الضمان الباب 10 الحديث 1.
(3) الوسائل ج 19 كتاب الديات أبواب موجبات الضمان الباب 11 الحديث 1.
198

يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن (1).
وفي معناه روايات أخر عن الحلبي وإسماعيل ابن أبي الصباح والسكوني
وغيرهم (راجع الباب 29 و 30 من أبواب أحكام الإجارة من المجلد الثالث عشر من
الوسائل).
والتقييد الوارد في غير واحد منها بقوله يعطى الأجرة على أن يصلح لا يخل
بالمقصود وهو في مقابل من لا يعطى الأجرة ويكون اخذه للمتاع بعنوان الوديعة أو
مثلها، وعلى كل حال فهي وان لم تكن عامة ولكن بالانضمام إلى غيرها كاف في اثبات
المقصود.
الطائفة الخامسة: ما ورد في باب شاهد الزور مما يدل على ضمانه لما أتلفه
وافسده مثل ما رواه جميل عن أبي عبد الله عليه السلام في شاهد الزور قال إن كان الشئ قائما
بعينه رد على صاحبه وان لم يكن قائما ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل (2).
والتعبير الوارد في ذيله بقوله بقدر ما أتلف لا يخلو عن اشعار بالعموم.
ومثله رواية أخرى عنه وعن محمد بن مسلم ورد في ذاك الباب بعينه.
الطائفة السادسة: ما ورد في أبواب العتق في باب عتق أحد الشركاء نصيبه:
مثل ما رواه سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن المملوك يكون
بين شركاء فيعتق أحدهم نصيبه قال إن ذلك فساد على أصحابه فلا يستطيعون بيعه ولا
مواجرته، قال يقوم قيمة فيجعل على الذي أعتقه وإنما جعل ذلك لما أفسده (3).
وما رواه سماعة قال سألته عن المملوك بين شركاء فيعتق أحدهم نصيبه فقال
هذا فساد على أصحابه يقوم قيمة ويضمن الثمن الذي أعتقه، لأنه أفسده على أصحابه (4).

(1) الوسائل ج 13 كتاب الإجارة أبواب أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب 11 الحديث 2.
(3) الوسائل ج 16 أبواب العتق الباب 18 الحديث 9.
(4) الوسائل ج 16 أبواب العتق الباب 18 الحديث 5.
199

وما ورد في ذيلهما من التعليل بالافساد مما يمكن استفادة العموم منه.
الطائفة السابعة: ما ورد في أبواب الرهن.
مثل ما رواه إسحاق بن عمار قال سألت أبا إبراهيم عن الرجل يرهن الرهن بمائة
درهم وهو يساوي ثلاث مائة درهم فيهلك أعلى الرجل ان يرد على صاحبه مأتي درهم؟
قال نعم لأنه اخذ رهنا فيه فضل وضيعه (1).
والتعليل الوارد في ذيله مما يدل على العموم وان كل من ضيع شيئا فعليه ضمانه.
فلا يقدح في الاستدلال به ظهور مورده في التلف لا في الاتلاف لأن التعليل
صريح في العموم.
وفي معناه روايات أخر وردت في ذاك الباب بعينه.
الطائفة الثامنة: ما ورد في أحكام الوصية، وانه إذا وضعها في غير موضعها
فهو ضامن لها.
مثل ما رواه محمد بن وارد قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى إلى
رجل وأمره ان يعتق عنه نسمة بستة مائة درهم من ثلثه، فانطلق الوصي فأعطى
الثمانمائة درهم رجلا يحج بها عنه، فقال له أبو عبد الله عليه السلام أرى ان يغرم الوصي
ستمائة درهم من ماله ويجعلها فيما أوصى الميت في نسمة (2)
وفي معناه روايات أخر واردة في ذاك الباب بعينه كلها تدل على أن الوصي
ضامن لما أتلف ووضعه في غير موضعه، وعليه ان يغرم من ماله ويأتي بالوصية
على وجهها.
الطائفة التاسعة: ما ورد في أبواب العارية وانها إذا هلكت وكان صاحبها مأمونا
لا غرم عليه، والذي يدل بمفهومه على أنه لو لم يكن مأمونا واحتمل في حقه التفريط

(1) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الرهن الباب 7 الحديث 2.
(2) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا الباب 37 الحديث 1.
200

أو الاتلاف تعمدا فعليه الضمان.
مثل ما رواه محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام في قضايا أمير المؤمنين عليه السلام قال
قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أعار جارية فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة، فقضى
ان لا يغرمها المعار، ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة (1).
فإن في قوله ما لم يكرهها أو يبغها غائلة دلالة ظاهرة على أنه لو أتلفها كان عليه
الضمان.
وما رواه عبد الله بن سنان عن أبا عبد الله عليه السلام قال سألته عن العارية فقال لا غرم
على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا (2).
وفي معناه روايات أخر واردة في ذاك الباب بعينه.
الطائفة العاشرة: ما ورد في أبواب الزكاة وان من بعث بزكاته إلى أخيه
ليقسمها ففسدت أو تغيرت فهو ضامن لها إذا وجد لها اهلا.
مثل ما رواه زرارة قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل بعث إليه أخ له زكاته،
ليقسمها فضاعت، فقال ليس على الرسول ولا على المؤدي ضمان قلت فإنه لم يجد
لها اهلا ففسدت وتغيرت أيضمنها؟ قال لا، ولكن إذا عرف لها اهلا فعطبت أو فسدت
فهو لها ضامن حتى يخرجها (3).
فإن ابقاء الشئ الذي يقبل الفساد مع وجود المصرف له من مصاديق الاتلاف
والافساد فيدخل في قاعدة من أتلف.
فهذه طوائف عشر كلها تدل على المطلوب، مضافا إلى غير ذلك مما يجده
المتتبع في مختلف أبواب الفقه وكتبه مما يدل بوضوح على أن " ضمان من أتلف

(1) الوسائل ج 13 أبواب أحكام العارية الباب 1 الحديث 9.
(2) الوسائل ج 13 أبواب أحكام العارية الباب 1 الحديث 2.
(3) الوسائل ج 6 كتاب الزكاة أبواب المستحقين للزكاة الباب 39 الحديث 2.
201

مال غيره " كان من المسائل الواضحة عند جميع الناس، ولذا لم يقع السؤال عن
أصل المسألة، بل عن مصاديقها المشكوكة، وقد عرفت ان غير واحد منها يدل على
العموم بمقتضى التعليلات الواردة فيها، وما لا يدل على العموم يمكن الغاء الخصوصية
عنه، بعد ما عرفت من وروده في أبواب كثيره غاية الكثرة، حيث لا يحتمل أحد
اختصاص الأحكام الواردة فيها بمواردها، ولعمري ان المسألة من الوضوح بمكان
لا يرتاب فيها أحد.
* * *
3 - بناء العقلاء
هذه القاعدة كما ذكرنا قاعدة عقلائية مضافا إلى كونها شرعية كما في كثير من
القواعد الفقهية بل جلها أو كلها، ولا يزال العقلاء وأهل العرف يستندون إليها في
أمورهم، ويرون من أتلف مال الغير بدون حق ضامنا لما أتلفه من اي جنس ومن اي
نوع من المنافع ولا ينكر ذلك أحد على أحد بل يعدون كبرى القاعدة من المسلمات
التي لا كلام لهم فيها ويلتمسون صغراها ومصاديقها، فلو تمت الصغرى عندهم وثبت
موضوع الاتلاف بالنسبة إلى عين أو منفعة، كان الضمان مفروغا عنه عندهم.
ولا فرق في ذلك بين أرباب المذاهب وغيرهم، وكثيرا ما يوسعون دائرتها
أكثر مما ورد في الشرع فيحكمون بضمان منافع الحر عند اتلافها ويقولون بوجوب
التدارك المالي عند هتك الاعراض وشبهها، وبالجملة كون القاعدة عندهم من
المسلمات مما لا ينبغي الشك فيه، وحيث لم يردع عنها الشارع بل أمضاها في كثير
من كلماته فهي ثابتة في الشرع أيضا، ولعمري ان هذا من أقوى الأدلة على المسألة
نعم لها استثنائات عندهم كما هو كذلك في الشرع ولكن هذا قادحا في عمومها فيما
لم يثبت الاستثناء بدليل.
وان شئت اختبر حالهم في اصطدام السيارات فإنهم يرون السبب الأصلي
202

ضامنا ولكن لا يزالون يبحثون ويفتشون عنه، حتى أنه قد يخفى امره ويسئل أهل الخبرة
في ذلك، وأما إذا ثبت ان السبب في الاتلاف من هو، فلا يشك أحد منهم في وجوب
أداء الخسارة عليه ويتعجبون غاية العجب ممن يقر بأنه السبب في الخسارة والاتلاف
ولكن لا يعترف بوجوب جبرانها وتداركها
* * *
4 - الاجماع
ويدل على حجية القاعدة اجماع العلماء وأهل الشرع أيضا، والاجماع وان
لم يكن حجة في مثل هذه الموارد، مما يمكن فيه أدلة أخرى يمكن استناد المجمعين
إليها، ولكن يؤيد المقصود ويسدد الأدلة الأخرى.
قال شيخ الطائفة في المبسوط: الماشية إذا أفسدت زرعا لقوم فإن كانت يد
صاحبها عليها فعليه ضمان ما أتلف لأن جنايتها كجنايته، وفعلها كفعله (1).
وقال أيضا إذا كان لرجل كلب عقور فلم يحفظه فاتلف شيئا كان عليه ضمانه لأنه
مفرط في حفظه (2).
ومن الجدير بالذكر انه ارسل الحكم بالنسبة إلى ضمان المتلف ارسال
المسلمات، ولم يتعرض له بل إنما تعرض لبعض مصاديقه الذي قد يخفى على الناظر
فاكتفى بمساواة جناية الماشية أو الكلب العقور لجناية صاحبها في اثبات الضمان، فلو
لم يكن ضمان المتلف من الواضحات لم يقنع بذلك حتى أنه لم يستدل بالاجماع
لاثبات الكبرى هنا لكونها أوضح من أن يحتاج إليه.
وقال العلامة في التذكرة: المباشرة للاتلاف ضامن بلا خلاف (3).
وقال في الجواهر: الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصرا... بلا خلاف

(1) المبسوط ج 8 ص 72 كتاب الدفع عن النفس.
(2) المبسوط ج 8 ص 72 كتاب الدفع عن النفس.
(3) التذكرة ج 2 ص 374.
203

أجده في شئ من ذلك... وفي الرياض: هذا الحكم مما لم نجد خلافا فيه، في
صورة كان الطبيب قاصرا (1).
وقال أيضا في شرح قول المحقق " وهنا أسباب أخرى يجب معها الضمان..
الأول مباشرة الاتلاف " ما نصه: بلا خلاف فيه بين المسلمين فضلا عن المؤمنين
بل الاجماع بقسميه عليه ان لم يكن ضروريا (2).
والانصاف ان هذا الحكم ضروري عند المسلمين كما أشار إليه.
وقال أيضا في مسألة " لو أرسل في ملكه ماءا فأغرق مال غيره أو أجج فيه
فاحرق لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا " بلا خلاف أجده فيه، ثم قال
الا ان الانصاف عدم خلو ذلك عن النظر ضرورة المفروغية من قاعدة من أتلف التي
لهجت بها ألسنة الفقهاء في كل مقام (3).
وقال العلامة الأنصاري قدس سره في مكاسبه: إذا أتلف المبيع فإن كان مثليا
وجب مثله بلا خلاف (4).
وقال السيد الرشتي في كتابه المعروف (الغصب) عند ذكر أسباب الضمان
غير اليد وهو كثيرة الا أن مرجعها إلى شئ واحد وهو الاتلاف فنقول انه ينقسم إلى
قسمين أحدهما ما كان على وجه المباشرة وثانيهما ما كان على وجه التسبيب.
أما الأول فلا اشكال ولا كلام في موضوعه ولا في حكمه لأن مباشرة الاتلاف
أمر متضح كما أن ايجابه الضمان من الواضحات المجمع عليها (5).
إلى غير ذلك مما طفحت به آثارهم وكلماتهم في مصنفاتهم في الفقه وغيره،

(1) الجواهر ج 43 كتاب الديات ص 44.
(2) الجواهر ج 37 كتاب الغصب ص 46.
(3) الجواهر ج 37 كتاب الغصب ص 59.
(4) المكاسب ص 105.
(5) كتاب الغصب ص 29.
204

ما لو حاولنا نقله لكان كتابا ضخما، وفيما ذكرنا غنى وكفاية، فلنرجع إلى بيان
ما بقي في المسألة في القاعدة من الخصوصيات بذكر تنبيهات:
تنبيهات
الأول: - الاتلاف اما بالمباشرة أو بالتسبيب
ذكر الفقهاء رضوان الله عليهم في كلماتهم تقسيم الاتلاف على قسمين:
الاتلاف بالمباشرة وبالتسبيب وقد يقال في تعريف الأول ان ضابط المباشرة صدق
نسبة الاتلاف إليه، وفي تعريف الثاني ان ضابط السبب ما لولاه لما حصل التلف،
لكن علة التلف غيره، كحفر البئر ونصب السكين والقاء الحجر (يعني في الطريق)
فإن التلف عنده بسبب العثار (1).
وقد يقال المراد بالمباشر أعم من أن يصدر منه الفعل بلا آلة كخنقه بيده،
أو ضربه بها، أو برجله، فقتل به، أو بآلة كرميه بسهم ونحوه، أو ذبحه، أو كان
القتل منسوبا إليه بلا تأول عرفا، كالقائه في النار أو غرقه في البحر، أو القائه من
شاهق، إلى غير ذلك من الوسائط التي معها تصدق نسبة القتل إليه.
وقال العلامة في كتاب الديات من القواعد عند تعريف السبب، ان السبب
هو كل ما يحصل التلف عنده بعلة غيره، الا انه لولاه لما حصل من العلة تأثير
كالحفر مع التردي.
وقال ولده قدس سرهما في الايضاح لو حبس الشاة أو حبس المالك عن
حراسة ماشيته فاتفق تلفها، أو غصب دابة فتبعها ولدها يصدق في الأول من أنه مات
بسببه لصحة اسناده إليه عرفا، ولان السبب هو فعل ما يحصل الهلاك عنده لعلة سواه
وهذا تفسير بعض الفقهاء، وزاد آخرون ولولاه لما اثرت العلة، وهذا التفسير أولى.

(1) ذكره في الجواهر في شرح كلام المحقق ج 43 ص 43 و 95.
205

والانصاف ان كثيرا من هذه التعاريف غير نقية عن الاشكال، فإن اسناد
التلف في جميع ذلك ثابت عرفا، فمن القى حجرا في طريق مظلم فمر به انسان
فعثر وهلك أو وقع به خسارة أخرى يسند القتل والجرح إليه، وكذلك من حفر بئرا
في الطريق وأخفاه فعبر عنه عابر فوقع فيه وهلك يسند القتل إلى الحافر، فليس
الفرق بين المباشرة والتسبيب بالاسناد في الأول، وعدمه في الأخير، بل الاسناد
فيهما ثابت من دون فرق.
قال في مفتاح الكرامة في كتاب الديات ما حاصله ان الموجب للقتل أمور:
" العلة " وهي ما يسند إليه الموت، و " السبب " وهو ماله اثر في الموت ولكن
لا بالمباشرة، بل يولده ولو بوسائط وقد يتخلف الموت عنه ولا يتخلف عن العلة
كما في شهادة الزور وتقديم الطعام المسموم إلى غيره، والاكراه على شرب السم
و " الشرط " ما يقف عليه تأثير المؤثر ولا مدخل له في الفعل كحفر البئر في الطريق
إذ الوقوع فيه مستند إلى التخطي.
ثم قال كان السبب هنا أعم من فعل السبب بالمعنى المذكور هناك وفعل
الشرط انتهى ملخصا (1).
أقول: وقد اضطربت كلماتهم في هذا المقام في تعريف السبب وغيره
حين ما لم يتعرض كثير منهم لمعنى السبب هنا بل اكتفى بذكر الأمثلة الواردة في
الروايات كحفر البئر والاضرار بطريق المسلمين.
لكن المهم انه لم يرد في نصوص الباب شئ من هذه العناوين الثلاثة
(المباشرة والتسبيب وإيجاد الشرط) بل المدار على صدق عنوان الاتلاف عمدا
أو خطأ، والظاهر أن النصوص الخاصة الواردة في المقام لا تتعدى عما يصدق عليه
هذا العنوان عرفا.

(1) مفتاح الكرامة كتاب الديات ص 277.
206

ولكن يظهر من كلمات غير واحد منهم ان الحكم في مثل البئر وغيره على
خلاف القاعدة يقتصر على ما ورد في النص، أو يفهم منه بالغاء الخصوصية.
قال في الجواهر: يترتب الضمان على ما ثبت من الشرع به الضمان من هذه
المسماة بالشرائط عندهم، أو الأسباب، وليس في النصوص استقصاء لها ولكن
ذكر جملة منها ومنه يظهر وجه الحاق ما ماثلها (1).
والحق كما عرفت ان السبب أو الشرط أو اي شئ سميته داخل في اطلاقات
الاتلاف وليس فيه شئ مخالف للقواعد حتى أنه لو لم تكن عندنا النصوص الخاصة
لقلنا بضمان حافر البئر، وناصب السكين، وغير ذلك من اشباهه بالنسبة إلى النفوس
والأموال، وأحاديث الباب مؤكدة لما ذكرنا (راجع الأبواب 8 - 9 - 11 - 32
من أبواب موجبات الضمان من المجلد 19 من الوسائل).
وان شئت ان تفرق بينهما (بين المباشرة والتسبيب) فقل " المباشرة " ما يكون
من قبيل العلة و " التسبيب " ما يكون من قبيل الشرائط والمعدات، فالسبب هنا غير
السبب بمعناه المعروف في الفلسفة أو الأصول بل هو هنا أشبه شئ بالمعدات
والشرائط المصطلحة هناك ولكن على كل حال قد عرفت ان الأحكام الفقهية لا تدور
مدارها والمعيار في كل حال على الاسناد عرفا سواء كان من قبيل السبب أو المباشرة
أو غيرهما.
* * *
الثاني: في تعدد الأسباب
إذا اجتمع سببان للاتلاف على شئ واحد فقد يكون كل واحد علة مستقلة
في الاتلاف كما إذا حفر رجل بئرا ونصب آخر فيه سكينا، فعثر انسان فسقط فيه إذا
كان السقوط بنفسه علة للتلف وكان السكين أيضا علة مستقلة له.

(1) الجواهر ج 43 ص 97.
207

وأخرى لا يكون كل واحد بنفسه علة مستقلة كما إذا كان البئر قصيرا أو السكين
غير حديد، ولم يكن كل منهما مستقلا سببا للتلف بل هما معا مؤثران في ذلك.
أما في الأخير فلاشك في اشتراك الأسباب في الضمان وأما في الأول ففيه
أقوال فعن جماعة كون الضمان على السابق، وقد يقال إنه أشهر (كما في مفتاح الكرامة)
وقد يقال بالاشتراك في الضمان مطلقا، تقارنا أو تقدم أحدهما على الاخر، وهناك
احتمال ثالث وهو ان السبب الأقوى هو منشأ الضمان ففي مثال حفر البئر ونصب
السكين الضمان على ناصب السكين إذا كان قاطعا موجبا للهلاك (ذكره في مفتاح
الكرامة احتمالا ولم يذكر قائله ولكن مال هو إليه).
والمسألة غير منصوصة في روايات الباب والظاهر أن الضمان عليهما إذا كان
الاستناد إليهما كما هو كذلك إذا كان كل واحد عدوانا، من دون فرق بين المتقدم
والمتأخر، أو المتقارنين، والعمدة فيه ما عرفت من صحة الاستناد إليهما جميعا، نعم
إذا كان أحدهما عامدا والاخر غير عامد لا يبعد كون الضمان على العامد والعلة فيه ما
عرفت فتدبر.
* * *
التنبيه الثالث: لا فرق بين العلم والجهل في الاتلاف
المعروف ان الاتلاف موجب للضمان سواء صدر عن علم وعمد، أو عن
جهل وغفلة، حتى في حال النوم، لاطلاق بعض الأدلة السابقة وإن كان بعضها مختصا
بحال الاختيار، وما ذكره بعض أعاظم العصر من عدم ضمان النائم إذا انقلب واتلف
نفسا أو طرفا منها لا في ماله ولا على عاقلته (1) قول تفرد به في مقابل القائلين بالضمان
على النحو الأول أو الثاني، فكأنه ناش عن عدم شمول أدلة القتل والعمد والخطأ

(1) راجع مباني تكملة المنهاج ج 2 ص 222.
208

له ولما قصر الدليلان حكم بالبراءة.
وهذا الكلام لو سلمناه في باب النفوس لا يجري في باب الأموال، فإن بعض
أدلة ضمان المال عند الاتلاف عام شامل لجميع أقسامه بدون فرق، هذا مع أن ما
افاده غير تام في مورد النفوس أيضا، فإن النفوس والأطراف لا يمكن ذهابها بغير
شئ إذا حصل بسبب انسان.
هذا هو الذي يستفاد من مجموع أدلة أبواب الديات، ولذا ورد النص من
باب الظئر انها ضامنة على كل حال لو أتلفت طفلا وهي نائمة، ولكن ان كانت إنما
ظايرت طلب العز والفخر فالدية من مالها خاصة، وان كانت إنما ظايرت من الفقر
فإن الدية على عاقلتها (1).
وليت شعري أي فرق بين النائم والغافل فكما ان الغافل إذا قتل انسانا أو أفسد
مالا وجب تداركه فكذلك النائم.
والعمدة ان استثناء التلف في جميع هذه الموارد إلى سببه ثابت عرفا بلا ريب
ومع الاستناد، الضمان ثابت، غاية الأمر ان الحكم في أبواب الديات يختلف بين
العمد وغيره، ولكن في أبواب ضمان المال والمنافع والحقوق لا فرق بينهما أصلا.
* * *
التبيه الرابع: الفرق بين الغصب والاتلاف
النسبة بين الغصب والاتلاف ماذا؟
قد يقال - كما عن بعض - انها عموم من وجه، ولكن الانصاف ان الغصب
والاتلاف مفهومان مختلفان لا يصدق واحد على الاخر، بأي معنى عرف الغصب
سواء ما عن أهل اللغة في تفسيره، مثل ما عن الصحاح انه أخذ الشئ ظلما، وما

(1) الوسائل ج 19 الباب 29 من أبواب موجبات الضمان الحديث 21.
209

عن النهاية انه أخذ مال الغير ظلما وعدوانا، وما عن بعض الشافعية زيادة جهارا،
لتخرج السرقة ونحوهما، وفي الشرايع والقواعد وغيرهما انه الاستقلال باثبات اليد
على مال الغير عدوانا (ذكروه في كتاب الغصب).
وقريب منه ما عن بعض آخر انه الاستيلاء على مال الغير بغير حق.
ومن المعلوم ان جميع ذلك مباين للاتلاف فإن أخذ الشئ عدوانا، أو جهارا
أو الاستقلال باثبات اليد على مال الغير، أو شبه ذلك، قد يكون من مقدمات الاتلاف
وقد لا يكون، وكيف كان ليس باتلاف، فرب شئ يستولي الانسان عليه عدوانا
ولا يتلفه، وبالعكس رب شئ يتلفه الانسان ولا يستولي عليه، كما في من القى حجرا
من خارج الدار فكسر بعض ما فيه.
نعم الغصب ملازم في الغالب لاتلاف المنافع، فإن من استولى على شئ
واستوفى منافعه، أو تلف المنافع تحت يده بغير استيفاء، فغصبه ملازم لاتلاف بعض
المنافع، ولكن مع ذلك قد ينفك منه، كما إذا أخذ بزمام الدابة أو استولى على
السيارة، وكان سائقها ولكن استوفى منافعه في تلك الحالة مالكها بالركوب عليها.
وبالجملة لا تلازم بين " الغصب " و " الاتلاف " بل لكل منها مفهوم مستقل.
ولكن العمدة انه ليس عنوان الغصب مأخوذا في لسان أدلة الأحكام، الا نادرا
مثل " الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال " مع ما فيه أيضا من الكلام، كما أن الاتلاف
أيضا كذلك، لما عرفت من أن قاعدة " من أتلف مال الغير فهو له ضامن " مصطادة
مما ورد في موارد مختلفة لا بهذا اللفظ، بل بما يكون من مصاديقه أو يوافقه معنى،
فلا يهمنا البحث لا عن لفظة " الغصب "، ولا عن لفظة " الاتلاف " بعد عدم الاعتماد
عليهما في لسان أدلة الشرع.
210

10 - قاعدة ما يضمن ومالا يضمن
(كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وكل عقد لا يضمن)
(بصحيحه لا يضمن بفاسده)
* جمع ممن تعرض للقاعدة
* مفاد القاعدة ومغزاها
* مدركها من الاجماع وسيرة العقلاء، وقاعدة اليد، ولا ضرر،
وقاعدة الاقدام
* العمدة فيها قاعدة احترام الأموال
* موارد شمولها
* ما المراد بالضمان هنا؟
* هل العموم باعتبار أنواع العقود أو أصنافها واشخاصها
* شمول القاعدة للمنافع والأعمال
211

قاعدة ما يضمن
والكلام فيه يقع في مقامات:
المقام الأول: في من تعرض لها
من القواعد المعروفة في لسان المتأخرين قاعدة " ما يضمن " اثباتا ونفيا،
وهي انه كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وكل عقد لا يضمن بصحيحه
لا يضمن بفاسده.
وهذه القاعدة بهذه العبارة وان لم توجد في كلمات قدماء الأصحاب، ولا وقعت
في مقعد اجماع منهم ولا في شئ من النصوص، الا ان القول بمفادها محكى عن
الشيخ قدس سره في المبسوط، وشاع الاستدلال بها بين المتأخرين والمعاصرين،
في مختلف أبواب الفقه.
فهذا هو المحقق البارع صاحب الجواهر استدل بها في كتاب " التجارة "
و " الإجارة " و " العارية " و " الوكالة " و " الشركة " و " الرهن " وغيرها.
قال في كتاب " التجارة " عند قول المحقق: " لو قبض المشتري ما ابتاعه
بالعقد الفاسد لم يملكه وكان مضمونا عليه " ما نصه: " ومن ذلك كله ظهر لك الوجه
فيما ذكروه هنا في الاستدلال على الحكم المزبور من قاعدة كل ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده، التي قد يظهر من بعضهم الاجماع عليها..
213

نعم قد يتوقف فيما صرحوا به من مفهومها على وجه القاعدة أيضا، وهو ما
لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، كالمال في الهبة والعارية، ونحوهما إذ لا وجه
له سواء انهما قد أقدما على المجانية فلا ضمان لكنه كما ترى " (1).
وقال في كتاب " العارية ": وكذا لو تلف العين في يد المستعير ولم تكن
مضمونة عليه (أي لا يرجع إليه).. اللهم الا أن يقال إن قاعدة مالا يضمن بصحيحه
لا يضمن بفاسده تقتضي ذلك، ولعلها المدرك للمصنف وغيره في الحكم بعدم
الضمان (2).
وقال في كتاب " الإجارة " في شرح قول المصنف: " لو شرط سقوط الأجرة
ان لم يوصله فيه لم يجز وكان له أجرة المثل " ما نصه: " لقاعدة ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده " (3).
وقال في ذاك الكتاب بعينه في شرح قول المصنف: " كل موضع يبطل فيه
عقد الإجارة يجب فيه أجرة المثل مع استيفاء المنفعة.. " ما نصه: " بلا خلاف
أجده فيه في شئ من ذلك، بل يظهر من ارسالهم ذلك ارسال المسلمات انه من
القطعيات، مضافا إلى مثل ذلك بالنسبة إلى قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده
الشاملة للمقام " (4).
وقال في كتاب " الشركة ": " بقي الكلام فيما ذكره المصنف وغيره، من
قسمة الربح على المالين، بناء على البطلان - إلى أن قال - وأما الأجرة لكل منهما
عوض عمله في المال، بنقل ونحوه، فالوجه فيه احترام عمل المسلم، واقدام المتبرع

(1) الجواهر ج 22 ص 258 - 259.
(2) الجواهر ج 27 ص 166.
(3) الجواهر ج 27 ص 233.
(4) الجواهر ج 27 ص 246.
214

منهما بزعم صحة العقد. فمع فرض بطلانها لم يكن منه تبرع، لكن قد يقال بمنع
الأجرة مع ذلك لأصالة البراءة، نعم هو كذلك بالنسبة إلى من شرطت الزيادة له
باعتبار صيرورته كالقراض الفاسد، فإن العامل يستحق الأجرة فيه لأن ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده، فكذا هنا " (1).
وقال في كتاب " السبق " في شرح قول المصنف " إذا فسد عقد السبق لم يجب
بالعمل أجرة المثل " ما نصه: " لكن في القواعد وجامع المقاصد ومحكي التذكرة
ان له أجرة المثل... لقاعدة ما يضمن بصحيحه " (2).
إلى غير ذلك مما هو كثير في أبواب الفقه ولا يختص بباب دون باب.
والمقصود من ذلك كله انهم اعتمدوا على القاعدة، وأرسلوه ارسال المسلمات
بل يظهر مما عرفت من كلام بعضهم انه مجمع عليه عندهم، وإن كان الاجماع في
أمثال هذه المسائل مما لا يمكن الاعتماد عليه، بعد وجود مدارك أخرى في المسألة.
* * *
المقام الثاني: في مفاد القاعدة
وقد تصدى بعض أساطين الفن كالعلامة الأنصاري (رضوان الله عليه) لتحقيق
معنى القاعدة ومفادها وان المراد من العقد في قولنا كل عقد يضمن بصحيحه ماذا وهل
يشمل العقود الجائزة واللازمة كليهما أو ما فيه شائبة الايقاع أيضا، مثل الجعالة والخلع.
وان المراد بالعقد هل هو أنواعه أو أصنافه أو اشخاصه؟
وان المراد بالضمان هل هو ضمان المثل أو المسمى أو القدر الجامع بينهما؟
وان المراد بالباء في قولنا يضمن بصحيحه ويضمن بفاسده هل هو معنى السببية

(1) الجواهر ج 26 ص 303.
(2) الجواهر ج 28 ص 238.
215

أو الظرفية؟ إلى غير ذلك.
ولكن من المعلوم كما ذكره جمع من أعاظم المعاصرين أو ممن قارب
عصرنا انه لم يرد هذه القاعدة بهذه العبارة في شئ من النصوص، ولا في معاقد
الاجماعات، حتى يتكلم في جزئيات مفاد ألفاظها، بل اللازم في مثل ذلك الرجوع
إلى مداركها الأصلية، ثم البحث عن مقدار دلالتها وما يستفاد منها.
وبالجملة لا نحتاج إلى البحث عما تحتوي عليه هذه العبارة، كما اتعب
العلامة الأنصاري نفسه الزكية في ذلك، فلو دل الدليل على ما يخالف هذه العبارة
نأخذ به، ولو دلت العبارة على شئ لا ترشد إليه الأدلة فلا يسعنا القول به، فلا وجه
للمعاملة مع هذه العبارة كآية، أو حديث، أو معقد اجماع، بعد عدم ذكر لها في
شئ من النصوص فاللازم إلى ما ذكروه من الأدلة هنا.
ولكن الذي يراد من هذه القاعدة اجمالا في عباراتهم حتى نتكلم في خصوصياتها
بعد ذكر الأدلة، ان العقود التي يبذل فيها المال بإزاء مال ولا يكون مجانيا عند
صحتها لا يكون مجانيا في صورة الفساد، ولا يسع المشتري أو المستأجر أو غيرهما
ان يرى نفسه بريئا من الضمان استنادا إلى فساد العقد، فإن العقد الفاسد في هذه
الموارد أيضا موجب للضمان كصحيحه.
وهكذا في عكس القاعدة اي إذا كان عقد بنائه على المجانية، فلا يمكن
القول بالضمان في فرض فساده، استنادا إلى قاعدة اليد.
هذه خلاصة مضمون القاعدتين وتفاصيلها تأتي بعد ذكر أدلتها.
* * *
المقام الثالث: فيما يدل على صحة القاعدة
لابد لنا هنا أولا التفكيك بين القاعدة أصلا وعكسا والتكلم في كل واحد
216

منهما مستقلا فنقول ومن الله التوفيق والهداية:
استدلوا لأصل القاعدة بأمور كثيرة متفرقة في كلماتهم وحاصلها ما يلي:
1 - " الاجماع " المدعى في كلمات غير واحد منهم.
2 - " سيرة العقلاء " وبناء طريقهم على الضمان في العقود الفاسدة، إذا
كان صحيحا موجبا للضمان، كالبيع والإجارة الفاسدتين، وكذا عقد النكاح
والمضاربة، بل الجعالة أيضا، فمن أنكر الضمان في هذه المقامات ينكرون عليه،
وحيث إن الظاهر أن هذه السيرة تستمر إلى زمن الشارع، بل وما قبله، ولم يردع عنه
فهي حجة معتبرة.
3 - " قاعدة على اليد " فإن المقبوض بالعقد الفاسد إذا تلف في يد القابض
فهو ضامن له بمقتضى هذه القاعدة، المستفادة من النصوص الكثيرة العامة والخاصة
الواردة في أبواب مختلفة، والقول بعدم شمولها للمنافع فلا يشمل الإجارة الفاسدة
فهو ممنوع، لأن المنافع - مثل منافع الدار وغيرها - تجري عليها اليد بتبع جريانها
على العين، فمن استولى على الدار استولى على منافعه، فلو تلف المنافع وهي في
يده تكون قاعدة على اليد حجة عليه، ولذا يكون قبض المنافع في باب الإجارة
بقبض العين، نعم قاعدة على اليد لا تشمل اعمال المسلم، فإنها ليست عينا ولا منفعة
على المشهور، فلو كان الدليل على القاعدة، قاعدة اليد لم يمكن الاستناد إليها في
أبواب المضاربة الفاسدة والمزارعة والمساقاة وشبهها.
4 - " قاعدة لا ضرر " فإن عدم ضمان المشتري بالعقد الفاسد لتلف العين
يعد ضررا عظيما فيندرج تحت قاعدة لا ضرر، الا انه يأتي فيه الاشكال المعروف بان
قاعدة لا ضرر لا يثبت حكما بل ينفي الأحكام الضررية، وحيث إن المراد هنا الاستدلال
بها لاثبات حكم الضمان يشكل الاخذ بها، ولكن قد ذكرنا في محله نفي الجد عن
كون قاعدة لا ضرر مثبتا للأحكام التي لولاها يلزم منها الضرر، وتفصيل القول فيه
217

موكول إلى محله.
5 - " قاعدة الاقدام " الذي استند إليها جمع كثير منهم الشيخ في
المبسوط فيما حكي عنه وتبعه غيره في هذا الاستدلال.
6 - " قاعدة احترام مال المسلم " والمنافع المتعلقة به واعماله، بل
وغير المسلم ممن يكون أمواله محترمة.
إذا عرفت هذا فاعلم أن العمدة من هذه الأدلة على المختار هو الأخير.
توضيحه: ان الأصل في الأموال والمنافع والأعمال المتعلقة بانسان بنحو
مشروع ان لا تخرج من يده بغير اذنه، وان لا يتصرف فيها بغير رضاه، وهذا مما
استقر عليه بناء جميع العقلاء من أرباب الملل وغيرها، وممن تدين بدين أو لم يتدين،
وما ورد في الشرع من أن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، أو انه لا يحل لاحد
ان يتصرف في مال غيره بغير اذنه، أو غير ذلك من الروايات، مما يحتوي على
مضمونها، فهي كلها امضاء لبناء العقلاء واستقرار ديدنهم على احترام الأموال
والمنافع والأعمال، وليست أحكاما تأسيسية كما هو كذلك جل أبواب المعاملات.
والظاهر أن هذا المعنى أعني احترام الأموال مستفاد من حقيقة الملك وتسلط
الانسان على أمواله، بل وعلى منافعه، فإن السلطة التي تسمى ملكا للعين أو المنافع
أو تسلطه على أعماله تقتضي ذلك، فإنها تفيد عدم جواز مزاحمة غيره له بغير اذنه،
وانه إذا زاحمه واتلفها لابد له من تدارك الخسارات.
فتلخص من جميع ما ذكرنا ان القاعدة نشأت من عمق معنى الملكية وحقيقة
السلطة الموجودة فيها، فإذا كانت السلطة المسماة بلا ملكية مشروعة ممضاة عند
العقلاء والشرع فلا يحل لاحد ازالتها الا برضا مالكها، ولو أزالها لزم عليه جبرانها
وتداركها.
واما سائر الأدلة التي أقاموها على القاعدة فهي اما منظور فيها، أو ترجع
218

بالمآل إلى ما ذكرنا.
اما الاجماع فعدم جواز الاعتماد عليه في أمثال المقام ظاهر.
واما " قاعدة لا ضرر " فهي تعود إلى ما عرفت فإن الضرر ينشأ من اخذ مال
المالك وقطع سلطته بغير اذن منه.
وكذا " على اليد " فإن الضمان الحاصل عن تلف مال انسان في يد آخر إنما
هو من ناحية احترام ماله ومقتضى ملكيته.
واما " الاقدام " فلا دليل على أنه بمجرده يوجب الضمان ما لم يكن مزاحما
لسلطنة الانسان على ماله، فإن الاقدام يرجع إلى الدخول في أمر بقصد شئ، ومن
المعلوم ان مجرد قصد شئ لا يوجب الالتزام به، ما لم يندرج تحت عقد أو ايقاع
معتبر، فلو أقدم انسان على اخذ بعض المباحات الأصلية بقصد أن يكون مكلفا بأداء
مثله أو قيمته إلى شخص آخر، فمن الواضح انه لا يوجب عليه شيئا، كما أنه لو كانت
المسألة على عكس ذلك بان وضع يده على مال غيره لا بقصد الضمان، بل بأن
يكون له مجانا، فإن هذا القصد لا يؤثر شيئا بعد أن كان المال مال شخص آخر وكان
وضع يده عليه بغير اذنه.
وبالجملة الاقدام بنفسها لا يوجب الضمان لا وجودا ولا عدما بل لابد ان ينضم
إليه إزالة سلطة انسان عن ماله بغير رضاه، وإذا انضم إليه هذا المعنى لم يحتج إلى
الاقدام على الضمان.
* * *
هذا كله بالنسبة إلى أصل القاعدة واما " عكسها " وهو ان " كل عقد لا يضمن
بصحيحه لا يضمن بفاسده " فغاية ما يمكن ان يستدل عليه أمور:
أولها " الاجماع " وقد عرفت الكلام فيه.
هذا لو تم دعوى الاجماع هنا، وفيها تأمل.
219

ثانيها " الأولوية " التي استدل بها الشيخ في المبسوط كما حكي عنه بالنسبة
إلى الرهن، وحاصلها ان العقد الصحيح مثل الإجارة والعارية والهبة إذا لم يقتض
الضمان مع أن الشارع أمضاها، فالفاسد الذي بمنزلة العدم لا يؤثر في الضمان، لأن الضمان
اما من ناحية الاقدام عليه، والمفروض عدمه، واما من ناحية حكم الشارع
بالضمان، بواسطة المعاملة الفاسدة، والمفروض انها لا تؤثر شيئا، ولو كان العقد
صحيحا أمكن ان يقال إن الضمان من مقتضيات الصحيح، ولكن في الفاسد الذي
بمنزلة اللغو فلا معنى للقول به.
ولكن يرد عليه ان الامر بالعكس فإنه يمكن ان يقال إن الصحيح لا يوجب
الضمان لأن الشارع أمضاه، وامضى ما يتضمن عليه من التسليط الاماتي، وبه يخرج
عن قاعدة احترام مال المسلم وضمان اليد، وأما إذا لم يمضها الشارع فيبقى قاعدة
الاحترام وضمان اليد بحالها، ولا مخرج عن الضمان، فلا يمكن الاعتماد على الأولوية
في اثبات عكس المسألة.
وثالثها " قاعدة الأمانة " وحاصله ان من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن
وهذه قاعدة مستفادة من بناء العقلاء والنصوص الكثيرة الواردة في أبواب الضمانات
والإجارات، وغيرها.
وهذه القاعدة كما تقتضي عدم الضمان في صورة صحة العقد كذلك يقتضي
عدمه في صورة الفساد.
اللهم الا ان يقال استيمان المالك كان على فرض صحة العقد، واما على فرض
فساده فلا استيمان، وبعبارة أخرى إنما سلط المالك غيره على ماله، وجعله أمانة
في يده مثل إجارة الدار، وأشباهه، بناءا على صحة العقد وكون ذلك من حقوق
المستأجر، اما لأجل الجهل بفساد العقد، أو مع العلم به وعدم الاعتناء بحكم الشرع
والبناء على حكم العقلاء فقط، ومن المعلوم ان هذا الاستيمان المبني على هذا البناء
220

لا يقتضي كون المال أمانة في يد القابض.
وبعبارة أخرى لم تجد دليلا عاما على ما ذكره الشيخ وهو ان " من استأمنه
المالك على ملكه غير ضامن " بل الذي يستفاد من أبواب الإجارات والأمانات انه
إذا كان أمانة صحيحة من قبل المالك في يد القابض فهو ليس بضامن، وأما إذا حكم
بفساد هذه الأمانة أو كانت من توابع عقد فاسد كالإجارة فكيف يمكن القول بعدم
الضمان، بمجرد تسليط المالك المبني على صحة العقد، وكيف يخرج عن قاعدة
احترام مال المسلم وضمان اليد بمجرد هذا.
فالانصاف ان هذا أيضا لا يتم دليلا على عكس القاعدة.
نعم يمكن ان يقال إن ملاك الضمان في التلف هو اليد العادية، وليس المقام
من مصاديقها، فإن المالك هو الذي سلط غيره على ماله، سواء علم بفساد العقد في
الشرع أم لم يعلم، إذا كان غير مكترث بحكم الشرع وكان عمله على وفق حكم
العقلاء أو كان غير معتن بحكم العقلاء أيضا، وكان عمله على وفق ما يعتقده صحيحا
في نفسه وإن كان فاسدا عند الكل.
ففي كل ذلك لم يتسلط غير المالك على الملك عدوانا بل تلقاه من مالكه،
ومن المعلوم ان هذا اليد لا تعد يدا عادية، فلا توجب الضمان.
نعم إذا كان المالك يعتقد الصحة شرعا، بحيث لو علم بفساده لما سلط الغير
على ماله، وعلم الغير ذلك أيضا مع علمه بفساد المعاملة، فحينئذ لا يجوز له أخذ المال
وتحسب يده عادية، وتدخل تحت أدلة الضمان.
فتحصل من جميع ذلك أن ضمان اليد منتف في جميع الصور ما عدا الصورة
الأخيرة، ولعل كلام الأصحاب أيضا غير ناظر إليها، ولكن هذا كله إنما يتم بالنسبة إلى
التلف وهل يمكن اجراء هذا الحكم بالنسبة إلى الاتلاف أو يختص بالتلف؟ لا يبعد
العموم فإنه إذا فرض رضى المالك بالاتلاف في مثل الهبة الفاسدة، لعدم اعتنائه بحكم
221

الشرع واكتفائه بحكم العقلاء، أو ما يراه صحيحا بنفسه فهل يكون هذا المقدار من
الرضا كافيا في عدم الضمان بالاتلاف، ولو كان مبنيا على صحة العقد؟ لا يبعد ذلك.
نعم الاستثناء الذي مر في حكم الاتلاف جار هنا، وهو ما إذا رضى المالك
لعلمه بصحة المعاملة بحيث لو علم بالفساد لما رضى به، وكان الموهوب له مثلا
عالما بهذا المعنى فإن عدم ضمانه في هذه الصورة مشكل جدا.
هنا تنبيهات
الأول - في مقدار شمول قاعدة ما يضمن
هل القاعدة أصلا وعكسا تشمل جميع العقود، أو ما يشبه الايقاع، بل الايقاعات
أيضا، أو يختص ببعضها؟
قد يقال إن مفاد القاعدة لو كان " كل عقد " يضمن بصحيحه الخ لا يشمل
ما لا يصدق عليه عنوان العقد، وإن كان ما يضمن بصحيحه - الخ - يشمل غير العقود
أيضا.
ولكنك قد عرفت ان هذه العبارة لم ترد في نص، ولا في معقد اجماع، وانه
لا تدور الأحكام مدارها، فشمول هذه العبارة أو قصورها لا يدل على عموم الحكم
وعدمه، بل المدار على الدليل الذي استندنا إليه في اثبات القاعدة أصلا وعكسا.
ولما كانت العمدة في اثبات " أصل القاعدة " هو " قاعدة احترام مال المسلم،
والمنافع المتعلقة بأمواله، بل واعماله " فالحكم يدور مدار هذا العنوان، فكل من
استولى على أموال الغير ومنافعه باي عنوان كان، كان ضامنا له إذا تلف في يده،
أو أتلفه، الا أن يكون المالك هو الذي سلطه على ماله بغير عوض، سواء علم بفساد
العقد، أو لم يعلم ولكن كان غير مبال بأحكام الشرع من جهة الصحة والفساد، نعم
إذا سلطه جاهلا بفساده حتى أنه لو علم به لما سلطه وكان الاخذ عالما بذلك فتسليطه
222

عليه لا يكون رافعا للضمان.
وبناء على ما ذكر لا تختص القاعدة بباب دون باب، وتجري في جميع الموارد
حتى في الايقاعات، كمن أعتق عبده بعتق فاسد في الشرع وخلى سبيل العبد، وكان
غير مبال بالصحة والفساد في الشرع، فإذا عمل العبد أعمالا استوفى منافعا من منافع
نفسه فالظاهر أنه غير ضامن، لأنه إنما أتلف المنافع برضا مولاه، وإن كان بانيا على
صحة العتق، لأن المفروض انه غير مبال لحكم الشرع ورضاه لا يدور مداره.
* * *
الثاني: المراد بالضمان هنا
ما المراد بالضمان هنا؟ فهل المراد معناه المعروف، اي كون تدارك شئ
إذا تلف على عهدة انسان؟
فإن كان هذا هو المراد بالضمان فليس في الصحيح ضمان بهذا المعنى، لأن
البيع الصحيح مثلا يتضمن مبادلة مال بمال، ولا ينتقل إلى الذمة الا إذا كان البيع كليا
أو من قبيل النسبة، واما في البيع الشخصي الحاضر فينتقل الثمن إلى ملك البايع كما
ينتقل المثمن إلى ملك المشتري، ولا مجال فيه للانتقال إلى الذمة.
نعم بالنسبة إلى الفاسد لاشك ان الضمان فيه بمعناه المعروف اي إذا تلف يكون
تداركه في ذمته اما بمثله أو بقيمته.
فليس للضمان في الصحيح وجه لو كان المراد منه معناه المعروف، نعم لو
كان المراد منه تحقق الخسارة في مال الشخص سواء انتقل إلى ذمته أو لم ينتقل، كان
هذا معقولا في الصحيح والفاسد كليهما، ولعل مراد شيخنا العلامة الأنصاري من قوله:
" والمراد بالضمان في الجملتين هو كون درك المضمون عليه بمعنى كون خسارته
ودركه في ماله الأصلي " هو ما ذكرنا.
ولكن التعبير بالدرك والتدارك لا يوافق ما أشرنا إليه، فإن البيع إذا كان صحيحا
223

انتقل المثمن إلى ملك المشتري ولو تلف تلف من ماله، ولا معنى للتدارك هنا، بل
قد ينافي ما ذكرنا بعض كلماته بعد التفسير السابق، لأنه قال:
" ثم تداركه من ماله تارة يكون بأداء عوضه الجعلي الذي تراضى هو والمالك
على كونه عوضا، وأمضاه الشارع، كما في المضمون بسبب العقد الصحيح، وأخرى
بأداء عوضه الواقعي وهو المثل أو القيمة وان لم يتراضيا عليه... "
فإن من الواضح ان أداء المسمى في البيع الصحيح لا يتوقف على تلف المثمن
بل هو مقتضى المبادلة سواء تلف واحد منهما بعدد ذلك أو لم يتلف.
واما ما هو المعروف من أن الضمان في الفاسد يكون بالمثل أو القيمة دائما
أيضا قابل للنقض والابرام، فإذا كان المسمى أقل من قيمة المثل فكيف يمكن القول
بكون المشتري مثلا ضامنا للمثل، مع أن البايع سلطه على ماله ورخص له اتلافه
في مقابل شئ أقل منه، لا سيما إذا كان عالما بالفساد شرعا، فكما ان الاخذ غير ضامن
في مثل الهبة بدليل تسليط المالك له عليه مجانا، فكذلك هنا سلطه على ماله بعوض
أقل من عوضه الواقعي، فكأنه رخص له في الاتلاف بهذا المقدار مجانا، ولعله إليه
يرجع ما حكى عن بعض من وجوب أداء أقل الأمرين، من العوض الواقعي والجعلي
في بعض المقامات، مثل تلف الموهوب بشرط التعويض قبل دفع العوض.
* * *
الثالث: هل العموم باعتبار أنواع العقود أو أصنافه أو اشخاصه؟
اختلفوا في أن عموم قاعدة ما يضمن أصلا وعكسا هل هو باعتبار أنواع العقود
أو أصنافه، أو اشخاصه، فلو كان عقد كالبيع بحسب نوعه موجبا للضمان (لوجود
العوض فيها) لصحيحه لضمن لفاسده، ولو كان شخص البيع لا يوجب ضمانا كالبيع
بلا ثمن.
224

وكذلك العارية فإنها بنوعها لا يوجب الضمان، ولكن صنف منها وهي العارية
المضمونة أي المشروطة بالضمان، أو عارية الذهب والفضة فإنها موجبة للضمان
على المشهور، فهل يكفي وجود الضمان أو عدمه في نوع البيع ونوع العارية، أو
الامر يدور مدار الصنف أو اشخاص المعاملات؟
قال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره): " ان العموم في العقود ليس باعتبار
خصوص الأنواع ليكون افراده مثل البيع والصلح والإجارة لجواز كون نوع
لا يقتضي بنوعه الضمان، وإنما المقتضى له بعض أصنافه فالفرد الفاسد من ذلك الصنف يضمن به دون الفرد الفاسد من غير ذلك الصنف، مثلا الصلح بنفسه لا يوجب الضمان
لأنه قد لا يفيد الا فائدة الهبة غير المعوضة، أو الابراء، فالموجب للضمان هو المشتمل
على المعاوضة، فالفرد الفاسد من هذا القسم موجب للضمان أيضا (انتهى محل
الحاجة).
ولكنه قده لم يذكر دليلا على هذا المدعى، ولذا خالفه بعض من تأخر عنه،
وقال بان المعيار اشخاص العقود وهذا هو الأقوى.
بيانه: انا أبناء الدليل نحذو حذوه ونقتفي اثره، وقد عرفت ان العمدة
في أصل القاعدة هو احترام الأموال والمنافع وعدم جواز السلطة عليها بغير اذن
صاحبها.
وحينئذ لا محيص لنا الا من ملاحظة شخص العقد فلو باع رجل داره بلا ثمن
وعلم أن البيع بلا ثمن فاسد شرعا، ولكنه اعطى الدار للمشتري بانيا على صحة هذه
المعاملة بحكم العرف وغير مبال بحكم الشرع فالمشتري غير ضامن لا لأصل الدار،
ولا لمنافعه، لأن صاحبه هو الذي سلطه على ماله بلا ثمن، نعم لو كان الاقباض بتوهم
صحة البيع شرعا، ولم يرتض بتسليط الغير على ماله لولا الصحة، وكان جاهلا
بالحال كان الاخذ ضامنا.
225

وكذلك إذا اقبض غيره العارية، وشرط فيها العوض بتوهم الصحة، فإن
الاخذ يضمنها وان كانت العارية بذاتها لا توجب الضمان، ولم تكن العارية معوضة.
وبالجملة المدار في أصل القاعدة على " احترام مال المسلم "، وفي عكسها
على " التسليط المجاني " وهما يدوران مدار اشخاص العقود وافراده، لا أنواعه
وأصنافه.
* * *
الرابع: هل هنا فرق بين علم الدافع والقابض وجهلهما أم لا؟
قد يقال بعدم الفرق لاطلاق النص والفتوى.
والمراد بالنص هو " عموم من أتلف " وبالفتوى اطلاق كلمات القوم في
أبواب المختلفة من العقود أو عند ذكر القاعدة مطلقة.
هذا ولكنك بعد ما عرفت من الدليل الذي بنينا عليه في هذا الباب تعلم الفرق
الواضح بين صورتي العلم والجهل، فإنه إذا كان الدافع عالما بان الهبة الفلانية مثلا
غير صحيح شرعا، ومع ذلك لم يعتن بحكم الشرع، واقبض الموهوب له بانيا
على صحتها عند نفسه، فمن الواضح انه لا ضمان للقابض هنا، لأن المالك هو الذي
دفع المال إليه عالما عامدا، وسلطه عليه مجانا، وكذلك الامر إذا باعه بغير ثمن
عالما بفساده، وسلط المشتري عليه.
كما أن الامر في عكسه كذلك، فلو أعطاه المشتري عارية معوضة بتوهم صحة
العارية المعوضة وكان المشتري عالما بالفساد فإنه لا يصح له أخذها، ولو أخذها كان
ضامنا، لقاعدة احترام مال المسلم، وعدم جواز أخذه واتلافه بغير اذن صاحبه،
والاذن هنا مبني على مبنى فاسد وهو توهم الصحة خلاف ما لو كان عالما بالفساد
غير مكترث بحكم الشرع، بل بانيا على الصحة من قبل نفسه، وبالجملة المسألة
226

واضحة بعد ما عرفت من مبانيها.
* * *
الخامس: هل يعتبر القبض في الضمان؟
هلا اللازم في الضمان القبض أو يكتفى بمجرد الصيغة؟ فلو ان عقدا أوجب
الضمان بصحيحه بلا حاجة إلى القبض والاقباض كما هو كذلك في أكثر العقود
الصحيحة فإنه ينتقل الثمن إلى ملك البايع كما ينتقل المثمن إلى ملك المشتري بمجرد
العقد، وإن كان درك المبيع على البايع قبل الاقباض وكذلك الثمن بالنسبة إلى
المشتري فهل الضمان في فاسده كذلك؟
لا ينبغي الشك في أن الضمان في الفاسد يتوقف على القبض لأن الأدلة السابقة
كلها تدور مدار القبض والاقباض، ولا سيما ما اخترناه من قاعدة احترام مال المسلم
وكذا الكلام في عكس القاعدة، فإن التسليط المجاني لا يحصل الا بالقبض.
* * *
السادس: في شمول القاعدة للمنافع والأعمال
قد يقال إن هذه القاعدة مبنية على قاعدة اليد، وهي وان كانت صحيحة بحسب
الدلالة ومنجبرة سندا بعمل الأصحاب، لكنها لا تشمل المنافع، ولا الأعمال،
فالمأخوذ بالإجارة الفاسدة خارجة عن عنوان القاعدة، سواء في إجارة الأعيان، أو
إجارة الأنفس.
ولكن بعد ما عرفت من أن عمدة الدليل عليها هو قاعدة احترام مال المسلم
تعلم بأنه لا فرق فيها بين الأعيان والمنافع والأعمال.
اما بالنسبة إلى المنافع فلان المنافع المتعلقة بالأعيان مملوكة لمالكها ومحترمة
كاحترامها، لا يجوز اخذها ولا اتلافها الا برضا مالكها، ومقتضى هذا الاحترام ثبوت
227

الضمان على من أتلفها بغير اذنه، وبدون رضاه، مضافا إلى صدق الاخذ في المنافع
يتبع العين، فمن اخذ العين فقد اخذ منافعها.
واما في الأعمال - اعمال الحر - التي لا تكون مملوكة ولا يصدق عليها المال
قبل وجودها، فالقاعدة أيضا تشملها، فإن اعمال الحر أيضا محترمة، ولذا لو أمر
شخص رجلا بعمل ولم يكن هناك قرينة على التبرع فلا شك انه ضامن لاجرته، كما
هو المتعارف بالنسبة إلى كثير من أرباب الحرف، يؤمرون بأمور ولا يتكلم عن
مقدار الأجرة فإذا تمت الأعمال اخذوا اجرة مثل أعمالهم، ولا يتصور أن يكون
فقيه قائلا بعدم لزوم أجرة المثل على الامر في أمثال المقام.
نعم لو كان هناك قرائن على التبرع كمن يطلب معاونا على اخذ شئ سقط
من يده أو شبه ذلك مما هو مبني على المجانية فلا شك انه حينئذ ليس ضامنا لأجرة المثل.
ولو لم يكن هناك قرينة لا على التبرع، ولا على الإجارة، كان أيضا ضامنا
لأن الأصل في الأعمال هو احترام حال صاحبها فالتبرع يحتاج إلى دليل (وقد وقع
الفراغ منه في 4 صفر المظفر 1405).
228

11 - قاعدة اليد
(على اليد ما اخذت حتى تؤديه)
* مدركها من السنة
* مدركها من قاعدة احترام الأموال
* مفاد القاعدة
* لا فرق في الضمان بين صورتي العلم والجهل
* لا فرق بين ضمان العين والمنافع
* حكم " المثلى " و " القيمي "
* ملاك الفرق بين " المثلى " و " القيمي "
229

اعلم أن هناك قاعدتان " قاعدة ضمان اليد " و " قاعدة حجية اليد ".
والمراد من الثاني ان اليد دليل على الملك الا ان يثبت خلافه، وقد مر الكلام
فيها مستوفيا في المجلد الثاني من هذا الكتاب، وهي القاعدة الخامسة من القواعد التي
تكلمنا فيها.
واما قاعدة ضمان اليد الذي نبحث الان عنها فهي عبارة عن كون اليد الغاصبة
سببا لضمان صاحبها وان وقع التلف لمتلف سماوي أو ورد على المال نقص أو عيب
وهكذا اليد الأمينة إذا خرجت عن الأمانة بالتعدي أو بالتفريط، فهي أيضا ضامنة.
والكلام فيها تارة عن ما يدل على ثبوتها وأخرى عن محتواها، وثالثة عما يتفرع
عليها.
* * *
المقام الأول: في مدرك القاعدة
ويدل عليها أمور:
1 - من السنة الرواية العامة المعروفة المستدل بها في كلمات علماء الفريقين
وجميع الكتب الفقهية، التي يبحث فيها عن مسائل الضمان، وهي قوله صلى الله عليه وآله:
" على اليد ما اخذت حتى تؤديه ".
ولكن لا توجد هذه الرواية في منابع الحديث وكتب الفقه من أصحابنا
الا مرسلا.
231

وممن رواه كذلك المحدث النوري في المستدرك في كتاب الغصب عن أبي
الفتوح الرازي في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: " على اليد ما اخذت حتى
تؤديه " (1).
وروي عن غوالي اللئالي مثلها (2).
ولكن الجمهور رووها مسندا في غير واحد من كتبهم عن " سمرة ".
فقد روى ابن ماجة، في سننه في كتاب الصدقات في باب العارية، عن إبراهيم
ابن المستمر ومحمد بن عبد الله ويحيى بن حكيم وابن أبي عدي جميعا عن سعيد عن
قتادة عن الحسن عن سمرة ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال " على اليد ما اخذت حتى تؤديه " (3).
ورواه أحمد في مسنده بسنده عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب،
عن النبي صلى الله عليه وآله قال: " على اليد ما اخذت حتى تؤديه " (4).
ورواه أيضا في موضع آخر من كتابه عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله
ثم ذكر مثله، فقال ثم نسي الحسن قال لا يضمن (5)!.
وراه البيهقي أيضا في السنن الكبرى بسنده عن قتادة عن الحسن عن سمرة
عن النبي صلى الله عليه وآله قال: " على اليد ما اخذت حتى تؤديه " ثم إن الحسن نسي حديثه فقال
هو أمينك لا ضمان عليه (6).
ورواه غيره أيضا من محدثيهم.
وهل المراد من نسيان الحسن الحديث هو نسيانه واقعا، أو رغبته عنه لضعفه؟

(1) مستدرك ج 3 كتاب الغصب ص 145.
(2) مستدرك ج 3 كتاب الغصب ص 146.
(3) سنن ابن ماجة ج 2 ص 802.
(4) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 8.
(5) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 13.
(6) السنن للبيهقي ج 6 ص 90.
232

لهم كلام ذكره ابن تركماني في الجوهر النقي الذي طبع بهامش السنن الكبرى (1).
وكان الحسن توهم شمول الحديث لموارد الأمانة من العارية وغيرها (وقد رواه
غير واحد منهم في باب العارية) ولكنه توهم فاسد كاسد كما سيأتي انشاء الله تعالى.
وضعف اسنادهم غالبا عندنا، وخصوص هذا الحديث لرواية سمرة بن جندب
الذي هو من أفسق الناس وروايته مشهورة في مخالفة النبي صلى الله عليه وآله مذكورة في بحث
لا ضرر، وموقفه من معاوية وجعل الأحاديث، وحضوره مع قتلة الحسين عليه السلام في
كربلاء وشبه ذلك معروف.
ولكن شهرتها تغني عن البحث عن سندها، والاستدلال بها في كتب الفريقين
وارسال الفقهاء له ارسال المسلمات وموافقته للسيرة العقلائية وغير ذلك مؤيدة لها.
فقد استدل " شيخ الطائفة " قدس سره به في كتاب الغصب في المسألة 22
من الخلاف في من غصب ساجة فبنى عليها، ثم ذكر حديث سمرة، ثم قال وهذه
يد قد اخذت ساجة فعليها ان تؤديها والاستدلال بها في الكتب الفقهية والاستدلالية
كثيرة مشهورة؟
وفي معناه ما روي عن طرقهم أيضا مسندا عن عبد الله بن سائب ابن يزيد عن
أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله قال لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا، فإذا
اخذ أحدكم عصا أخيه فليردها إليه (2).
دل على أن اخذ مال الغير سواء كان عن لعب أوجد يوجب رده إلى صاحبه.
* * *
2 - ويدل عليه أيضا الروايات الخاصة الواردة في أبواب العارية والإجارة
والمضاربة والرهن وغير ذلك، مما يدل على أن المستعير أو المستأجر أو العامل أو المرتهن

(1) السنن للبيهقي ج 6 ص 90.
(2) السنن للبيهقي ج 6 ص 100.
233

إذا حصل منه التعدي أو التفريط فهو ضامن لتلف العين وليس ذلك الا لأن يده تنقلب
إلى يد غير أمينة، فلا يشمله حكم براءة الأمين عن الضمان، فينطبق على ما نحن
فيه وهو كون الضمان على صاحب اليد الا ان يؤديه إلى مالكه.
وهذه الروايات كثيرة جدا وحيث نبسط القول فيها عند الكلام في القاعدة
الآتية ونذكر ان هناك طوائف كثيرة من الروايات ونذكر نموذجا من كل طائفة وهي
قاعدة عدم ضمان الأمين فنصرف النظر عن ذكرها الان ونوكل أمرها إلى تلك
القاعدة.
وهذه الروايات وان وردت في موارد خاصة الا انه يمكن استفادة العموم
منها بلا اشكال بعد الغاء الخصوصية منها قطعا.
أضف إلى ذلك أن فيها تعليلات أو ما يشبه التعليل الذي يستفاد منها ان حكم
الضمان وعدم الضمان يدور مدار الأمانة والغصب فإذا كانت الأيدي غير أمينة كانت
ضامنة حتى تؤديه.
والحاصل ان جميع ما سيأتي انشاء الله في القاعدة التالية من عدم ضمان الأمين
يدل بمفهومها على أن غير الأمين ضامن.
فإذا لا يختص الدليل على قاعدة على اليد بخصوص الرواية المرسلة المشهورة
النبوية، بل الدليل عليه كثير وما أكثره، ولكنها متفرقة في مختلف أبواب الفقه
لو جمعت كان كتابا مستقلا.
* * *
3 - مما يدل قويا على قاعدة " احترام مال المسلم " بما عرفت
له من المعنى في مبحث قاعدة " ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده " فإن الأصل فيها
وفي قاعدة اليد وغيرهما من اشباههما هو ان مقتضى السلطنة على المال عدم جواز
تصرف غيره فيه من دون اذنه، فلو تصرف فيه وتسلط عليه فتلف كان ضامنا، والا
234

انتهكت الحرمة للمال.
وبالجملة حرمة مال المسلم بل وغير المسلم الملحق به، كحرمة دمه،
ولا يكون هذا مجرد حرمة تكليفية كما ذكره بعض الأكابر، بل حرمة وضعية أيضا،
وكيف يكون المال محترما ولا يجب تداركه عند التلف في غير يد مالكه بغير اذنه،
وبالجملة التدارك للفائت من شؤون احترام المال وبدونه لا يعد محترما قطعا وتمام
الكلام في هذا ذكرناه في مبحث قاعدة ما يضمن فراجع.
* * *
4 - ويدل عليه أيضا بناء العقلاء فإنهم لا يزالون يحكمون بضمان من استولى
على شئ بغير حق ثم تلف عنده ولو لم يكن عن تعد أو تفريط، فإذا غصب غاصب
حيوانا فهلك، أو دراهم أو دنانير فسرق، أو البسة فخرقت، أو غنما فاكله الذئب، فإن
الحكم بالضمان في جميع ذلك مفروغ عنه عندهم، وحيث إن الشارع لم يردع
عنه بل أمضاه عملا وقولا فهو ثابت في الشرع أيضا.
نعم هنا بعض أنواع التلف مما يكون بعلة عامة، يخفى الضمان فيها عند العقلاء
مثل ما إذا غصب غاصب دارا فوقعت الزلزلة في كل البلد فانهدمت جميع دوره
أو كثير منها وانهدم هذا الدار المغصوب في ضمنها، لا سيما إذا كان الدار قبل ذلك
في يد المتصرف فيه باذن منه كالإجارة والعارية ثم مضى وقته وقصر في رده إلى
صاحبه فوقعت الزلزلة، أو اصابه مطر شديد وجرت السيول فانهدم بها أو ما أشبه
ذلك مما لا يختص بهذا الدار ولا تفاوت فيه بين أن يكون بيد المالك أو غيره.
وأوضح منه ما إذا لم يكن التصرف حراما عليه بسبب الجهل كمن اخذ مال
غيره جاهلا فتلف في يده بسبب عام من غير تعد ولا تفريط، فإن الحكم بالضمان
في جميع ذلك عند العقلاء غير ثابت وإن كان بعض هذه المصاديق أوضح من بعض.
ولم نجد إلى الان تصريحا بهذا في كلماتهم، وهل اطلاق فتاواهم واطلاقات
235

أدلة الضمان تشمل مثل هذا أو لا يشمل؟ بل هي منصرفة عنه، لا سيما إذا لم يكن
التصرف فيه محرما عليه لجهله أو نسيانه أو غير ذلك؟ لا يخلو عن تأمل.
ولعله قد يتوهم دلالة ما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال كان أمير
المؤمنين عليه السلام يضمن الصباغ والقصار والصائغ احتياطا على أمتعة الناس، وكان
لا يضمن من الغرق والحرق والشئ الغالب (1) على المطلوب.
ولكنه أجنبي عما نحن فيه فإن هذه الاجراء امناء، ولكن إذا شك في مقام
الاثبات ولم يعلم صدق دعواهم في التلف بغير تفريط لابد من قيام قرينة عليه فإن
كانوا ثقات فهو قرينة على ذلك، وكذا إذا أقاموا بينة عادلة، وان وقع غرق أو حرق
أو شئ غالب واخذ العين المستأجرة في خلال أموالهم وأموال غيرهم فهو أيضا
قرينة على المطلوب، وسيأتي الكلام فيه مستوفى انشاء الله في القاعدة التالية وهي
قاعدة عدم ضمان الأمين، فلا يمكن الاستدلال به على ما هو كل الكلام فتأمل.
* * *
المقام الثاني: مفاد القاعدة
وقبل كل شئ لابد من تحليل الرواية المرسلة المشهورة: " على اليد ما اخذت
حتى تؤديه " لما عرفت من انجبار ضعف سندها بعمل المشهور من الفريقين فنقول
ومنه سبحانه التوفيق:
الموصل في قوله " ما اخذت " عام يشمل كل شئ كما أن اليد عامة تشمل
اليد الأمينة والخائنة، ولكن سيأتي استثناء اليد الأمينة منها إذا لم يحصل منها تعد
أو تفريط.
ومن الواضح ان اليد هنا كناية عن السلطة على شئ لا الجارحة المعروفة،

(1) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 6.
236

فإنها لما كانت سببا للسلطة على الأشياء غالبا صارت كناية عن هذا المعنى فلو حصلت
السلطة بغير اليد فلا شك انه داخل في القاعدة.
كما أن " الاخذ " ليس المراد به الاخذ الخارجي باليد أو غيرها، بل التسلط
على شئ ولو لم يكن بأخذه.
ومن هنا يعلم أن كلمة " على اليد " خبر مقدم و " ما اخذت " مبتدأ مؤخر،
وان الجار والمجرور متعلقان بفعل مقدر وهو " يستقر " أو ما يشبهه وهو ظرف مستقر.
واما لفظة " على " فهي للاستعلاء كما هو الأصل فيها، فكأن الأشياء المأخوذة
تستقر على يد آخذها، ويكون ثقلها عليها ما لم تؤدها إلى صاحبها، فهذا الثقل باق عليه
الا ان يردها، ومعنى كون ثقلها عليها هو ضمانها فهو كناية لطيف عن الضمان.
كما قد يقال: " ان هذا على عنقي، أو على عاتقي فكأنه حمل حمله على عنقه
أو على عاتقه، وثقله عليه. حتى يخرج من ضمانها، حتى أنه إذا تلف لا يرتفع ثقلها
عنه بل يبقى في عالم الاعتبار حتى يؤدي مثلها أو قيمتها، فإنه أيضا نوع أداء للعين
عند تلفه، لقيام المثل أو القيمة مقامه.
وقد يقال إنه " في ذمتي، أو على ذمتي " فتارة تفرض الذمة كوعاء ويستقر
العين فيه، وربما تتصور كمحمول يحمل عليه العين وعلى كل تقدير كل هذه كنايات
عن الضمان.
* * *
بقي هنا أمور
الأول: لا فرق في مسألة الضمان هنا بين العلم والجهل فلو لم يكن مأذونا من
قبل المالك وتلف في يده كان ضامنا، وذلك لاطلاق قوله صلى الله عليه وآله " على اليد ما اخذت
... " لعدم وجود قيد فيه من هذه الجهة، هذا " أولا ".
237

و " ثانيا " اطلاق سائر الأدلة والروايات الواردة في المسألة أيضا دليل على
المقصود.
و " ثالثا " قاعدة احترام المال أيضا تقتضي ذلك من دون اي فرق.
و " رابعا " لا فرق في السيرة العقلائية بين الصورتين.
أضف إلى ذلك كله ما ورد في بعض الروايات الخاصة التي يلوح منها عدم
الفرق بين الجاهل والعالم، مثل ما رواه علي بن مزيد (علي بن فرقد) صاحب السابري
قال أوصى إلي رجل بتركته فأمرني ان أحج بها عنه فنظرت في ذلك فإذا هي شئ
يسير لا يكفي للحج، فسألت أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة فقالوا تصدق بها عنه
- إلى أن قال - فلقيت جعفر بن محمد عليه السلام في الحجر فقلت له رجل مات وأوصى
إلي بتركته ان أحج بها عنه فنظرت في ذلك فلم يكف للحج، فسالت من عندنا من
الفقهاء فقالوا تصدق بها، فقال ما صنعت قلت تصدقت بها، قال: ضمنت! الا ان
لا يكون يبلغ ما يحج به من مكة فإن كان لا يبلغ ما يحج به من مكة فليس عليك ضمان
وإن كان يبلغ ما يحج به من مكة فأنت ضامن (1).
وفي معناه روايات أخرى وردت في نفس ذاك الباب.
وهي وان كانت واردة في مورد الاتلاف، الا ان الظاهر عدم الفرق بينه وبين
التلف من هذه الجهة، فلو كان تصرفه فيه بغير اذن مالكه جهلا منه بذلك سواء كان
عن تقصير أو قصور، فتلف عنده فهو له ضامن (فتأمل).
* * *
الثاني: لاشك في الضمان إذا كان التلف مستندا إلى كونه في يده واستيلائه
عليه، بحيث لو كان عند مالكه بما اصابه هذه المصيبة والتلف السماوي، فهو وان
لم يكن متلفا له ولكن كان يده عليه من معداته، وكذا إذا لم يعلم كون التلف مستندا

(1) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الوصايا الباب 37 الحديث 2.
238

إلى هذا أو إلى سبب عام لا تفاوت فيه بين استيلاء المالك عليه واستيلاء الغاصب.
اما لو كان السبب من الأسباب العامة الظاهرة على كل أحد كوقوع زلزلة أو
إصابة صاعقة، أو غرق أو حرق عام، لا يتفاوت فيه الحال بين أبناء البلد، فذهب بأموال
المالك وأموال الغاصب كليهما ومن جملتهما هذا المال الموجود في يد الغاصب بحيث
لا يكون استيلاء الغاصب اية مدخلية في التلف ولا سيما إذا لم يصدق عليه عنوان
الغاصب، وإن كان غير مأذون كالجاهل فظاهر اطلاقات كلماتهم وفتاواهم هنا شمول
على اليد له أيضا لأنا لم نجد من فرق بينهما وان لم نجد من صرح بالاطلاق أيضا.
وقد مر الكلام فيه وانه لم نجد لهم كلاما فيه.
نعم يظهر التفصيل من بعض كلمات لا بالنسبة إلى نفس العين ولا منافعه
المستوفاة، بل بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة فإنه قال:
نعم هذه القاعدة (قاعدة التفويت) لا تجري بالنسبة إلى جميع اقسام المنافع
غير المستوفاة وتكون مخصوصة بما إذا كان عدم الاستيفاء مستندا إلى تفريطه، لا
إلى آفة سماوية، فلو غصب بستانا مثلا أو دابة كذلك، وكان عدم استيفاء الغاصب
لمنفعة ذلك البستان، أو تلك الدابة لوصول آفة سماوية إليهما، لا لحبس الغاصب
لما على مالكهما، فلا تجري هذه القاعدة ولا يمكن القول بالضمان لأجل قاعدة التفويت
انتهى (1).
وكلامه وإن كان في قاعدة التفويت (اي تفويت منافع الملك) ولكن الظاهر أنه
لو تم كلامه فيها فلابد من القول به في العين أيضا وفي قاعدة على اليد لعدم الفرق
بينهما في هذه الجهة والدليل فيها هو الدليل في المنافع.
والظاهر أن بناء العقلاء الذي هو الأصل في هذه القواعد على ذلك أيضا
أعني الفرق بين الصورتين، فإذا يمكن التفصيل في المسألة بين الآفات العامة وغيرها.

(1) العلامة البجنوردي في قواعده ج 4 ص 56.
239

ولكن الجرأة على هذا الحكم مع اطلاق الرويات والفتاوى، وعدم تعرض
أحد من الأصحاب فيما رأينا للتفصيل مشكل جدا وإن كان الحكم بالاطلاق أيضا لا يخلو
عن اشكال، والمسألة تحتاج إلى مزيد تأمل وتحقيق والله الهادي إلى سواء الطريق.
* * *
الثالث: لا فرق بين ضمان العين والمنافع سواء كان مستوفاة أو غير مستوفاة.
اما المنافع المستوفاة فالمعروف بينهم ضمانها ولا ينبغي الشك فيها، فلو غصب
دارا وسكنها فعليه اجرة مثل منافعه التي استوفاها أو غصب دابة فركبها.
ويدل على ذلك جميع ما دل على ضمان نفس العين، بل المنافع داخلة في
قوله " على اليد ما اخذت " فإن الاخذ صادق بالنسبة إلى المنافع أيضا ولو بتبع اخذ
العين، كما أن التسليم للمنافع في باب الإجارة إنما هو بتسليم العين المستأجرة،
وتوهم ان قوله " حتى تؤديه " لا يشملها باطل لأن أداء المنافع إنما هو بأداء العين.
وكذلك قاعدة احترام مال المسلم شاملة لها لأن المنافع المستوفاة أيضا من
الأموال.
وهكذا لا فرق في السيرة العقلائية بين العين والمنفعة.
أضف إلى ذلك كله وقوع التصريح به في بعض نصوص الباب كما في صحيحة
أبي ولاد عن الصادق عليه السلام فإنه ذكر في جواب أبي ولاد الحناط الذي اكترى بغلا
ثم جاوز به عن الشرط، فذهب به من الكوفة إلى النيل، ومن النيل إلى بغداد، ومن
بغداد إلى الكوفة، فقال: " أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل
ومثل كراء بغل راكبا من النيل إلى بغداد، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة، توفيه
إياه " (1).
ومثله ما ورد عنه عليه السلام بطرق عديدة في نفس ذاك الباب (2).

(1) الوسائل ج 13 أبواب أحكام الإجارة الباب 17 الحديث 1.
(2) راجع كتاب الإجارة الباب 17 الحديث 2 و 4.
240

فهذا كله دليل على ضمان المنافع المستوفاة بلا ريب.
واما المنافع غير المستوفاة فالمحكى عن المشهور أيضا الضمان فيها، وهو
الموافق لقاعدة احترام مال المسلم، فمن غصب دارا من غيره ولم يسكنه فقد أتلف
منافعه على مالكه، وحرمة هذه المنافع تقتضي تداركها بأجرة مثلها، وكذلك من
غصب مركبا أو لباسا أو غير ذلك.
ويدل عليه أيضا سيرة العقلاء، فإنهم لا يشكون في وجوب أجرة المثل على
الغاصب للدار وان لم يسكنه، وكذا غيره من اشباهه، وحيث لم يمنع منها الشارع
فهو إجازة لهذا البناء المستمر.
بل يمكن القول بدلالة قوله صلى الله عليه وآله " على اليد ما اخذت حتى تؤديه " عليه،
فإن المنافع ولو كانت بالقوة يكون اخذها بتبع اخذ العين، وإذا مضى وقتها ولم
يستوفها يصدق انه أتلفها فتأمل.
وبالجملة لا ينبغي الشك في ضمان المنافع بكلا قسميها.
إنما الكلام في أنه إذا كان للعين منافع مختلفة تتفاوت بحسب القيمة، مثل السيارة
أو المراكب الأخرى، تارة تحمل عليها الأثقال والاحمال، وأخرى يركبها الانسان
وقد يكون كرائها في الثاني أكثر من الأول أو بالعكس، فإذا كان هناك سيارة قابلة
لكلتا المنفعتين فغصبها غاصب ولم يستوف منافعها، فهل هو ضامن لأكثر الامرين؟
أو لأقلهما؟ أو يكون المالك بالخيار؟
الظاهر هو الأول لأن جميع ما عرفت من الأدلة الدالة على ضمان المنافع غير
المستوفاة تدل على أكثر الامرين، لصدق تفويت الأكثر عليه، ولكون الأكثر مأخوذا
بتبع العين، ولقاعدة احترام مال المسلم، ومن أمواله منافعه، المفروض ان العين
هنا قابل للمنفعة التي هي أكثر.
* * *
241

الرابع: لو تلف المال وكان مثليا وجب مثله كما أنه لو كان قيميا وجب قيمة.
وهذا الحكم هو المشهور بين فقهائنا حتى ادعي الاجماع عليه.
والعمدة فيه ان الواجب على الغاصب أداء العين، فإذا لم يمكن أداء العين
فالواجب عليه الأقرب فالأقرب، ومن الواضح ان المثل في المثلى أقرب إلى العين
من كل شئ، لاشتماله على مالية العين مع كثير من أوصافه، فمهما أمكن التدارك
بالمثل كان واجبا، وهذا هو المستفاد من قوله " على اليد ما اخذت حتى تؤديه ".
وكذلك هذا هو مقتضى قاعدة احترام مال المسلم - إلى غير ذلك من الأدلة
التي مرت عليك -.
نعم إذا لم يوجد له مثل أو كان متعسرا لم يجب عليه الا أداء ماليته، لأنه الأقرب
إليه من كل شئ، والظاهر أن هذا هو الذي جرت عليه سيرة العقلاء الممضاة من
قبل الشارع المقدس.
هذا ولكن المهم تعيين ضابطة الفرق بين المثلي والقيمي، ولهم هنا تعاريف
كثيرة لا يهمنا بيان جميعها والبحث عما يرد عليها.
والحق ان يقال: انه لم يرد هذان العنوانان في لسان دليل شرعي، عدا ما
يتوهم من دلالة قوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (1)
ولكن الظاهر أن الآية أجنبية عن المقام، بل هي ناظرة إلى مسألة القتال في الأشهر
الحرم، والى قصاص النفس، ولذا عبر فيها بالتعدي في الجانبين، ومن الواضح
ان مسألة الضمان بالتلف ليس من هذا القبيل، ويظهر ما ذكرنا لمن راجعها ولاحظ
ما قبلها وما بعدها من الآيات.
وكذا لم يرد في معقد اجماع وان ادعاه شيخنا العلامة الأنصاري في مكاسبه، ولو
سلمنا الاجماع على ذلك فالظاهر أنه ليس اجماعا تعبديا بل هو مأخوذ من بناء العقلاء

(1) سورة البقرة: الآية 194.
242

في أبواب الضمانات كما مر وسيأتي الا شارة إليه أيضا.
نعم ورد التعبير بالمثل في صحيحة أبي ولاد المشهورة، حيث قال الصادق
عليه السلام " أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل، ومثل كراء بغل راكبا
من النيل إلى بغداد، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفيه إياه " (1).
ولكن من الواضح انها أيضا أجنبية عن المقام بل هي ناظرة إلى أجرة المثل
كما هو واضح.
وحينئذ لا يبقى مجال للبحث عن تعريف المثلي تارة بأنه " ما تماثلت اجزاؤه
وتقاربت صفاته " (كما عن التحرير)
أو انه " ما تتساوى اجزائه في الحقيقة النوعية " (كما عن غاية المراد)
أو انه " المتساوي الاجزاء والمنفعة المتقارب الصفات " (كما عن الدروس)
أو " ما يجوز بيعه سلما " (كما عن بعض العامة)
أو " ما قدر بالكيل والوزن " (كما عن بعض آخر منه) إلى غير ذلك، ثم
البحث عن ما يرد عليها نقضا وعكسا وكذا الكلام بالنسبة إلى القيمي الذي هو مقابله.
وذلك لما عرفت من أنه فرع ورود هذا العنوان في لسان دليل شرعي أو معقد
اجماع معتبر.
ومن الجدير بالذكر ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره لما لم يجد لشئ
من هذه التعاريف ملاكا واضحا التجأ إلى الاخذ بالقدر المتيقن بعد ما اعتقد بورود
العنوانين في معتقد اجماع معتبر فقال:
" كلما ثبت كونه مثليا بالاجماع كان مضمونا بالمثل، وكلما كان قيميا
كذلك كان مضمونا بالقيمة " ثم تكلم في موارد الشك مثل الذهب والفضة المسكوكين
والحديد وما أشبهه من الفلزات، والعنب والرطب وغيرها، وان مقتضى الأصل

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 17 الحديث 1.
243

كونها قيميا أو مثليا أو تخيير الضامن أو تخيير المالك.
ولكن الانصاف انه ليس لنا هنا معيار أوضح من الرجوع إلى بناء العقلاء
في أمثال المقام، ويظهر من الرجوع إليهم ان كلما يوجد له مثل متقارب الصفات
بسهولة ولا يكون من الشواذ التي لا تصل الأيدي إليه نادرا فحينئذ يحكمون بوجوب
تحصيل المثل على الضامن الا ان لا يكون المطلوب فيها الا المالية كالنقود الرائجة
ولم ينكر الشرع هذا البناء.
والحاصل ان الأعيان على ثلاثة أقسام:
قسم لا يطلب منها الا المالية، كالأوراق التي تستعمل بعنوان النقد الرائج
في زماننا فلو تلف شئ منها عند الضامن أو أتلفه فليس عليه الا أداء ما يعادله بحسب
المالية فيجوز اعطاء عشرة في مقابل واحد إذا كان مجموعها يعادله، كعشرة دنانير
في مقابل ورقة تعادل عشرة.
وقسم منها يطلب منها المالية والصفات أيضا وهو على قسمين:
ما يوجد له مثل غالبا يشتمل على أكثر صفاته، وبنائهم فيه على أداء المثل.
وقسم منها قل ما يوجد له مثل يشتمل على أغلب صفاته ففيه يكون الضامن
مكلفا بأداء القيمة فقط.
ومن هنا يظهر بسهولة انهما يختلفان باختلاف الأمكنة والأزمنة فرب شئ يكون
مثليا في مكان وقيميا في مكان آخر، أو مثليا في زمان وقيميا في زمان آخر.
والظاهر أنه ليس المدار على الاشخاص، بل المدار على نوع المكلفين
ونوع الأجناس، فلو وجد للقيمي مثل أحيانا أشكل الزام الضامن بأدائه، كما أنه لو
اختار الضامن المثل حينئذ يشكل الزام المالك بقبوله، فإن هذه الأحكام لا تدور مدار
الافراد.
ولكن مع ذلك كله لا ينبغي الشك انه قد تقع الشبهة في تشخيص مصاديقهما
244

ويكون لها مصاديق مشكوكة كما هو الحال في جميع المفاهيم العرفية والشرعية فإن
هناك مصاديق معلومة الدخول، ومصاديق معلومة الخروج، ومصاديق مشكوكة في
كل عنوان.
ولا يبعد تخيير المالك في جميع ذلك، لأن الأصل اشتغال الذمة ولا تحصل
البراءة الا به، ولكن هنا أقوال أو احتمالات أخر تعرضوا لها في الكتب الفقهية
والأولى ايكال البحث عنها إلى محلها.
وكذلك بالنسبة إلى صورة تعذر المثل في المثلي، أو إذا لم يوجد المثل الا
بأكثر من ثمن المثل، أو غير ذلك من أحكام " بدل الحيلولة " وغيرها لأنها محررة
في كتاب البيع من الفقه.
وهكذا الكلام بالنسبة إلى القيمة في القيمي وان المدار فيه على قيمة يوم الضمان
أو يوم التلف، أو يوم الأداء، أو أعلى القيم، أو يوم اعواز المثل، فيما إذا كان
المثل موجودا من قبل ثم أعوز أو غير ذلك.
تم الكلام في قاعدة ضمان اليد يوم الثلاثاء 3 / الربيع الأول من سنة 1405
245

12 - قاعدة عدم ضمان الأمين
(ليس على الأمين الا اليمن)
* أدلة القاعدة من الاجماع
* الطوائف السبع من الروايات الدالة عليها
* الرويات المعارضة، وعلاجها
* بناء العقلاء في المسألة
* ما المراد بالأمانة هنا؟
* هل يجوز اشتراط ضمان الأمين؟
* ما المراد من التعدي والتفريط؟
* ضمان وصف الصحة
247

قاعدة عدم ضمان الأمين
هذه القاعدة مما استند إليه الفقهاء في أبواب مختلفة، وهي من أشهر القواعد
الفقهية وأوسعها دليلا، وأكثرها فرعا، وحاصلها ان من أخذ مال غيره بعنوان الأمانة
سواء كان في عقد إجارة، أو عارية، أو مضاربة، أو مزارعة، أو مساقاة، أو وديعة،
أو وكالة، أو رهن، أو ولاية على الصغار، أو جعالة، أو وصاية، أو غير ذلك من
اشباهه، فهو غير ضامن لها إذا تلف من غير تعد ولا تفريط في حفظها، ولم يخالف
فيها على اجمالها أحد ممن نعلم، وان وقع البحث والكلام في خصوصياتها.
* * *
ولكن قبل الشروع في ذكر أدلتها على كثرتها لابد من التنبيه على أمرين:
1 - ان الكلام في هذه القاعدة قد يكون من جهة مقام الثبوت بان يعلم أن
الأمانة الفلانية لم يقع فيها تعد ولا تفريط، وهلك بغير ذلك، ثم نتكلم في عدم
ضمانه.
وأخرى يقع الكلام في مقام الاثبات، وهو ما إذا علم بالتلف ولكن شك
في استناده إلى التعدي والتفريط، فهل يحكم بضمان من تلف في يده أم لا؟
وقد وقع الخلط في كلمات بعض الاعلام بين المقامين، وحصل منه اشتباه
في أحكام المسألة.
249

وليعلم ان الروايات الواردة في هذه القاعدة أيضا مختلفة، بعضها ناظرة إلى
المقام الأول، وهو مقام الثبوت، وبعضها ناظرة إلى المقام الثاني، وهو مقام الاثبات
ولابد من اعطاء كل حقه كي لا يختلط الأحكام في فروع القاعدة، وما يستنتج منها.
* * *
2 - الأمانة في هذه الأبواب يطلق على معنيين:
الأول ما يكون في مقابل الغصب فالأمين هو الذي ليس بغاصب، وعلى هذا
المعنى المستأجر والوكيل والعامل في المضاربة والمستعير ونظائرهم امناء، وان لم
يكونوا ثقات لأن المفروض انهم اخذوا المال من مالكها برضاه فليسوا بغاصبين.
الثاني: ما يكون في مقابل الخيانة، وبعبارة أخرى يكون فيها معنى الوثاقة،
فالأمين هو الذي يثق الانسان بقوله واخباره، فلو شهد مثلا ان المال تلف بغير تفريط
منه يعتمد على كلامه.
وروايات الباب بعضها ناظرة إلى المعنى الأول، وبعضها إلى المعنى الثاني،
ولابد في كل مقام من التمسك بالقرائن الحالية أو المقالية.
وقد يشتبه الحال ولا يعلم أن الأمانة في الرواية بالمعنى الأول أو الثاني؟
فمن الأول ما عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام ان أمير المؤمنين عليه السلام
أتى بصاحب حمام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمنه، وقال إنما هو أمين (1).
ومن الثاني ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال كان أمير المؤمنين عليه السلام
يضمن القصار والصائغ احتياطا للناس، وكان أبي يتطوع عليه إذا كان مأمونا (2).
فإن القصار والصائغ مأمونان بالمعنى الأول فقوله إذا كان مأمونا فهو للمعنى
الثاني، وكم لهما من نظير في أبواب الضمانات.

(1) الوسائل ج 13 كتاب الإجارة الباب 28 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 13 كتاب الإجارة الباب 29 الحديث 4.
250

ومن الجدير بالذكر ان الأمانة بالمعنى الأول يناسب مقام الثبوت، وبالمعنى
الثاني يناسب البحث عن مقام الاثبات، وكن من هذا على بصيرة فإنه ينفعنا في جميع
أبحاث المسألة.
* * *
وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى البحث عن مدارك القاعدة " أولا " وعن
محتواها " ثانيا "، وعما يتفرع عليها " ثالثا ".
1 - في أدلة القاعدة
يمكن الاستدلال عليها بعد الاجماع اللائح من كلمات القوم، وعدم ظهور
المخالف فيها، بالكتاب والسنة وبناء العقلاء.
اما من كتاب الله فقد استدل بقوله تعالى " ما على المحسنين من سبيل " (1)
وكون الأمين محسنا واضح.
كما أن الضمان سبيل فينفي عنه بمقتضى الآية.
والآية وان وردت في مورد الجهاد واستثناء المرضى والضعفاء وأشباههم عن
حكمه إذا نصحوا لله ورسوله، ولكن التعليل فيها عام يشمل المورد وغيره.
هذا والاستدلال به لا يخلو عن اشكال فإن صدق المحسن بالنسبة إلى الودعي
ومن يتبرع بحفظ متاع كأخذ اللقطة ليجد صاحبها، وشبه ذلك ظاهر ولكن صدقه
بالنسبة إلى الأجير والمستعير والعامل في المضاربة ونظائرهم ممن يأخذ المال من
مالكه لمنفعة نفسه مشكل جدا، فإذا لا تندرج تحت الآية الا موارد يسيرة من القاعدة
ويخرج منها أكثرها.
وأما من السنة: فهي طوائف كثيرة من الاخبار:

(1) سورة التوبة: الآية 91.
251

الطائفة الأولى: ما يدل على هذه القاعدة عموما وهي روايات:
منها ما رواه في دعائم الاسلام عن علي عليه السلام " ليس على المؤتمن ضمان " (1).
إن كان المراد بالمؤتمن هنا الودعي كان خاصا بباب الوديعة ولكن إن كان
بمعناه العام يشمل كل امين، وكذا لو قلنا بان تعليق الحكم على الوصف دليل على
العلية كان بمنزلة العموم.
ومنها ما روي عن طرق الجمهور عن النبي صلى الله عليه وآله قال " على اليد ما اخذت
حتى تؤدي " ثم إن الحسن نسي حديثه فقال " هو أمينك لا ضمان عليه " (2).
وكان ظاهره انه إذا تلف المال من غير تفريط وعلم فلا ضمان عليه.
* * *
الطائفة الثانية: ما علل فيه عدم الضمان بكون صاحبه أمينا الذي هو من قبيل
القياس منصوص العلة، فيستفاد منها عدم الضمان في سائر موارد الأمانة أيضا، وهي
روايات كثيرة:
1 - منها ما عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام ان أمير المؤمنين عليه السلام
اتى بصاحب حمام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمنه وقال إنما هو امين (3).
فقوله " إنما هو امين " بيان للصغرى، ودليل على أن عدم ضمان الأمين
كان أمرا مفروغا عنه، لا يحتاج إلى البيان.
نعم في غير واحد من الروايات تعليل عدم ضمان صاحب الحمام بأنه إنما
يأخذ الاجر على الحمام ولا يأخذ اجرا على الثياب (4) ولكن لا منافاة بين التعليلين

(1) المستدرك ج 2 ص 506 كتاب الوديعة.
(2) السنن الكبرى للبيهقي ج 6 كتاب العارية ص 90.
(3) الوسائل ج 13 كتاب الإجارة الباب 28 الحديث 1.
(4) الوسائل ج 13 كتاب الإجارة الباب 28 الحديث 2 و 3.
252

كما سيأتي إن شاء الله، فإن كل واحد منهما جزء من العلة الواقعية.
2 - ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس على مستعير عارية ضمان
وصاحب العارية والوديعة مؤتمن (1).
فإن قوله عليه السلام " صاحب العارية والوديعة مؤتمن " في مقام التعليل.
3 - ما رواه في دعائم الاسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام صاحب الوديعة
والبضاعة مؤتمنان (2).
4 - ما عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل استأجر ظئرا فغابت
بولده سنين، ثم إنها جاءت به فأنكرته أمه، وزعم أهلها انهم لا يعرفونه، قال عليه السلام
ليس عليها شئ الظئر مأمونة (3).
فإن اطلاق الحكم بان الظئر مأمونة دليل على أن المراد منه الأمانة في مقابل
الغصب، وعدم ذكر الكبرى فيها دليل على كونها قطعية.
5 - وما رواه أبان بن عثمان عمن حدثه عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال:
وسألته الذي يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان؟ فقال ليس عليه
غرم بعد أن يكون الرجل أمينا (4).
فإن قوله " بعد أن يكون الرجل أمينا " فإن قوله " بعد أن يكون الرجل أمينا " في مقام التعليل، فيستفاد منه العموم
اما لو كان من قبيل الشرط والتقييد دخل في الأحاديث الناطقة عن الحكم في مقام
الاثبات، ولكنه خلاف الظاهر.
6 - وما رواه حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال في رجل استأجر أجيرا

(1) الوسائل ج 13 كتاب العارية الباب 1 الحديث 6.
(2) المستدرك ج 2 كتاب الوديعة ص 506.
(3) الوسائل ج 19 كتاب الديات أبواب موجبات الضمان الباب 29 الحديث 2.
(4) الوسائل ج 13 كتاب الوديعة الباب 4 الحديث 5.
253

فأقعده على متاعه فسرقه قال: هو مؤتمن (1).
والظاهر أن قوله فسرقه اي فسرقه سارق فلم يضمنه لكونه مؤتمنا.
7 - ومن طريق الجمهور ما رواه " الدارمي " في كتاب الوصايا عن النبي صلى الله عليه وآله
" الوصي امين فيما أوصى إليه به " (2).
إلى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.
* * *
الطائفة الثالثة " ما دل على عدم ضمان الأمين في موارد خاصة " بحيث يمكن
اصطياد العموم من ملاحظة مجموعها بحيث لا يبقى شك في أنه حكم عام في جميع
الأبواب.
1 - منها ما ورد في باب الوديعة مثل ما أرسله في المقنع سئل الصادق
عليه السلام عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال: نعم ولا يمين عليه (3).
وهو وإن كان ناظرا إلى مقام الاثبات، الا ان عدم اعتبار الوثاقة فيه، يدل
على عدم الضمان في مقام الثبوت على كل حال.
2 - منها ما ورد في أبواب العارية، مثل ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: " إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه، الا أن يكون اشترط عليه " (4)
ومنها ما رواه العامة والخاصة في القضية المعروفة ان رسول الله صلى الله عليه وآله جاء إلى
صفوان بن أمية فسأله سلاحا، ثمانين درعا، فقال له صفوان: عارية مضمونة أو غصبا؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: بل عارية مضمونة (5).

(1) الوسائل ج 13 كتاب الوديعة الباب 4 الحديث 2.
(2) الدارمي كتاب الوصايا ص 9 (نقله في المعجم المفهرس في مادة امن).
(3) الوسائل ج 13 كتاب الوديعة الباب 4 الحديث 7.
(4) الوسائل ج 13 كتاب العارية الباب 1 الحديث 1.
(5) الوسائل ج 13 كتاب العارية الباب 1 الحديث 5 وروى أبو داود هذه الرواية
بطرق مختلفة وعبارات شتى في سننه ج 3 الباب 54.
254

دل على أن العارية بطبيعتها لا توجب الضمان الا ان يشترط.
وفي رواية أخرى قال في ذيلها: فجرت السنة في العارية إذا شرط فيها أن تكون
مؤداة (1).
3 - منها ما ورد في كتاب الرهن مثل ما رواه أبان بن عثمان عمن اخبره عن
أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: في الرهن إذا ضاع من عند المرتهن من غير أن يستهلكه،
رجع في حقه على الرهن فاخذه، فإن استهلكه ترادا الفضل بينهما (2).
دل على أنه إذا تلف الرهن عند المرتهن من دون تقصير ليس بضامن، وإذا
أتلفه كان ضامنا، ولذا لا يأخذ مما أعطاه الا الفضل.
وما رواه سليمان بن خالد في الرهن أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام إذا رهنت عبدا
أو دابة فمات فلا شئ عليك، وان هلكت الدابة أو ابق الغلام فأنت له ضامن (3).
والفرق بين الصورتين ان في الأولى تلف بغير تفريط، وفي الثانية تفريط
منه، يشهد له قرينة المقابلة.
إلى غير ذلك مما ورد في أبواب الرهن، وهو كثير.
4 - ومنها ما ورد في أبواب المضاربة مثل ما رواه محمد بن قيس عن أبي
جعفر عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: من أتجر مالا واشترط الربح ليس
عليه ضمان (4).
إلى غير ذلك مما ورد في " أبواب المضاربة ".
5 - ومنها ما ورد في أبواب الإجارة مثل ما رواه محمد بن قيس عن أبي
جعفر عليه السلام قال قال أمير المؤمنين (في حديث) ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم

(1) الوسائل ج 13 كتاب العارية الباب 2 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 13 كتاب الرهن الباب 5 الحديث 7.
(3) الوسائل ج 13 كتاب الرهن الباب 5 الحديث 8.
(4) الوسائل ج 13 كتاب المضاربة الباب 3 الحديث 2.
255

يكرهها أو يبغها غائلة (1).
دل على عدم الضمان ما لم يتعد أو يفرط - هذا في إجارة العين واما إجارة
النفس:
مثل ما رواه علي بن محمد القاساني قال كتبت إليه يعني أبا الحسن عليه السلام:
رجل أمر رجلا يشتري له متاعا أو غير ذلك، فاشتراه فسرق منه، أو قطع عليه الطريق
من مال من ذهب المتاع؟ من مال الامر أو من مال المأمور؟ فكتب عليه السلام من مال الامر (2).
وهو صريح في عدم ضمان الأجير عند عدم التعدي، فإنه القدر المتيقن منه.
إلى غير ذلك مما ورد في هذا الباب.
نعم هناك روايات تدل على تضمين الصائغ والقصار والحائك وغيرهم،
ومن يكون أجيرا مشتركا على الاطلاق، وروايات دالة على خلافها، سيأتي الكلام
فيها إن شاء الله وانها من قبيل الاستثناء من حكم عدم ضمان الأجير أو لها محامل اخر.
6 - ومنها ورد في أبواب الوصية مثل ما رواه محمد بن مسلم قال قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: رجل بعث بزكاة ماله لتقسم، فضاعت، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟
فقال: إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن، إلى أن قال - وكذلك الوصي
الذي يوصى إليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه إليه، فإن لم
يجد فليس عليه ضمان (3).
وهو يدل على المقصود من جهتين: من جهة عدم كون الأمين في حفظ الزكاة
ضامنا، وكذا من جهة الوصي.
* * *

(1) الوسائل ج 13 كتاب الإجارة الباب 32 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 13 كتاب الإجارة الباب 30 الحديث 15.
(3) الوسائل ج 13 كتاب الوصايا الباب 36 الحديث 1.
256

وهناك روايات أخر مروية من طرق الجمهور تدل على المقصود.
منها ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من
أودع وديعة فلا ضمان عليه (1).
وروى البيهقي عن شعيب مثله عنه صلى الله عليه وآله الا أنه قال من استودع وديعة فلا
ضمان عليه (2).
ومنها ما رواه مصعب بن ثابت قال سمعت عطا يحدث ان رجلا رهن فرسا
فنفق في يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للمرتهن: ذهب حقه (3).
والظاهر أن الضمير عائد إلى الراهن وذهاب حقه بمعنى عدم ضمان المرتهن
للعين المرهونة، وهذا مما ورد في أبواب الرهن.
ومنها ما رواه سعيد بن المسيب ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لا يغلق الرهن من
صاحبه، له غنمه وعليه غرمه (4).
هذا أيضا مما ورد في أبواب الرهن.
وقد مر آنفا ان هناك روايات تدل الضمان في بعض أبواب الإجارة،
والوديعة، رويت في كتب الفريقين، وسيأتي الكلام فيها إن شاء الله وانها لا تعارض
القاعدة المسلمة، وهي عدم ضمان الأمين.
* * *
الطائفة الرابعة:
ما يدل على أن الضمان مشروط باشتراطه، الذي يدل بمفهومه على أنه لولا

(1) سنن ابن ماجة ج 2 باب الوديعة ص 802 الحديث 2401.
(2) السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 289.
(3) السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 41.
(4) السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 39.
257

الاشتراط، لما كان هناك ضمان، أو ان الضمان ثابت إذا خالف الشرط الذي اشترط
عليه صاحبه في ماله.
منها ما ورد في أبواب المضاربة مثل ما رواه محمد بن عيسى في نوادره عن
أبيه قال قال أبو عبد الله عليه السلام كان للعباس مال المضاربة، فكان يشترط ان لا يركب
بحرا، ولا ينزل واديا فإن فعلتم فأنتم له ضامنون، فابلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فأجاز
شرطه عليهم (1).
إلى غير ذلك مما ورد في هذا الباب.
ومنها ما ورد في أبواب الإجارة مثل ما رواه الحلبي قال سئلت أبا عبد الله
عليه السلام عن رجل (خ - ما تقول في رجل) تكارى دابة إلى مكان معلوم، فنفقت الدابة
قال إن كان جاز الشرط فهو ضامن (2).
ومنها ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في الرجل يعطى المال،
فيقول له إيت ارض كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها، قال فإن جاوزها وهلك المال
فهو ضامن (3) إلى غير ذلك مما ورد في هذا الباب.
* * *
الطائفة الخامسة: ما يدل على أن الضمان متوقف على التعدي والتفريط الذي يدل بمفهومه على
عدم الضمان عند عدمهما.
منها ما ورد في أبواب المضاربة من أن العامل إذا خالف الشرط كان ضامنا
ومن الواضح ان مخالفة الشرط من مصاديق التعدي، مثل ما رواه محمد بن مسلم

(1) الوسائل ج 13 أبواب المضاربة الباب 1 الحديث 12.
(2) الوسائل ج 13 أبواب الإجارة الباب 17 الحديث 3.
(3) الوسائل ج 13 أبواب المضاربة الباب 1 الحديث 2.
258

عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن الرجل يعطى المال مضاربة وينهى ان يخرج به،
فخرج، قال يضمن المال والربح بينهما (1).
وفي معناه روايات كثيرة أخرى وردت في نفس الباب (2).
ومنها ما ورد في أبواب الإجارة وانه لو خالف المستأجر الشرط كان ضامنا.
مثل الرواية المعتبرة المعروفة لأبي ولاد الخياط التي لا يزال يستدل بها القوم
في أبواب الضمانات، والرواية طويلة حاصلها انه اكترى بغلا لطلب غريم له، ولما
لم يجده خالف شرط الإجارة، وذهب به إلى أمكنة أخرى فسئل أبا عبد الله عليه السلام عن
حكمه بعدما اتى صاحب البغل عند أبي حنيفة وقال في جملة كلام له: " قلت له
(اي للصادق عليه السلام) أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني؟ قال: نعم، قيمة
بغل يوم خالفته " (2).
والرويات في هذا الباب أيضا كثيرة رواها في الوسائل في نفس ذاك الباب (4).
ومنها ما ورد في أبواب الإجارة أيضا من أن المستأجر إذا فرط في حفظ الدابة
فعيبت أو هلكت فعليه ضمانها، مثل ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى
ابن جعفر عليه السلام قال سألته عن رجل استأجر دابة فوقعت في بئر، فانكسرت ما عليه؟
قال: هو ضامن، إن كان لم يستوثق منها، الحديث (5).
وفي معناها روايات أخرى في نفس الباب (6).
إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.

(1) الوسائل ج 13 أحكام المضاربة الباب 1 ح 1.
(2) روى جميعها في الوسائل في الباب الأول من أبواب أحكام المضاربة.
(3) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 17 ح 1.
(4) رواها في الوسائل في الباب 17 من أبواب أحكام الإجارة وفى الباب 16 أيضا
(5) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 32 الحديث 4.
(6) رواها في الوسائل في الباب 32 من أبواب أحكام الإجارة.
259

الطائفة السادسة:
ما دل على أن عدم الضمان مشروط بالأمانة والوثاقة.
وهذه الطائفة وان وردت في مقام الاثبات ولكنها دليل على أنه لو لم يتعد ولم
يفرط في مقام الثبوت فليس بضامن، والروايات في هذا المعنى كثيرة واليك نموذج
منها.
منها ما رواه عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العارية، فقال
لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا (1).
ومنها ما رواه ابان عن أبي جعفر عليه السلام قال وسألته عن الذي يستبضع المال
فيهلك أو يسرق، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا (2)
بناءا على أن يكون قوله " بعد أن يكون الرجل أمينا " بمنزلة الشرط لا في مقام التعليل.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة في مختلف أبواب المعاملات.
* * *
الطائفة السابعة:
ما دل على أن صاحب اليد ان أقام بينة على عدم التعدي والتفريط لم يكن
ضامنا، والا فهو ضامن، وهذه الطائفة وان وردت في مقام الاثبات أيضا لكنها دليل
على أنه إذا لم يتعد ولم يفرط الأمين واقعا فليس بضامن وهي أيضا كثيرة إليك بعضها:
منها ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في حمال يحمل معه الزيت فيقول:
قد ذهب، أو اهرق، أو قطع عليه الطريق، فإن جاء ببينة عادلة انه قطع عليه، أو
ذهب، فليس عليه شئ والا ضمن (3).

(1) الوسائل ج 13 أحكام العارية الباب 1 ح 3.
(2) الوسائل ج 13 أحكام العارية الباب 1 ح 7.
(3) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 30 ح 16.
260

والأحاديث في هذا الباب أيضا كثيرة رواه في الوسائل في ذاك الباب أو أبواب
اخر.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا على أن هناك عشرات أو مئات من الروايات تبلغ
حد التواتر تدل بعمومها أو خصوصها على أن الأمين غير ضامن اجمالا، وإن كان
فيها شرائط أو خصوصيات اخر سيأتي الكلام فيها إن شاء الله في التنبيهات.
وبالجملة هذه المسألة من ناحية الأدلة النقلية من الوضوح بمكان لا يرتاب
فيها من كان له أدنى إحاطة بكتب الاخبار، وروايات النبي صلى الله عليه وآله وآله الأطهار عليهم السلام.
* * *
الروايات المعارضة:
ولكن مع ذلك هناك روايات يبدو منها في ابتداء النظر انها معارضة لما مر،
ويظهر منها ضمان الأمين، لابد من التعرض لها وبيان طريق الجمع فيها.
وهي أيضا طوائف:
1 - ما ورد بطرق المختلفة ان أمير المؤمنين عليه السلام كان يضمن الصباغ والقصار
والصائغ احتياطا على أمتعة الناس، وكان لا يضمن من الغرق والحرق والشئ
الغالب (1).
ولكن لا يبعد أن يكون هذا من قبيل الأحكام السلطانية التي أمرها بيد حاكم
الشرع، فقد يرى المصلحة في حفظ نظام المجتمع على أن يضمن أرباب الحرف
بالنسبة إلى أموال الناس، بعد ما رأى منهم قلة المبالاة في حفظ أمتعة الناس، ووقوع
الفوضى من هذه الناحية.
ولذا ورد في روايات أخرى على أن الرضا عليه السلام وكذا أبي جعفر الباقر عليه السلام

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 ح 4 و 6 و 12 و 22.
261

لم يضمناهم، (اما تطولا عليهم، واما لملاحظة احتياطهم في أموال الناس في عصرهما).
* * *
2 - ما دل على أن كل أجير يعطى الأجرة على اصلاح شئ فيفسده فهو ضامن
له، مثل ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن القصار يفسد فقال: كل
أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن (1).
وما رواه إسماعيل بن أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن الثوب
ادفعه إلى القصار فيخرقه، قال: أغرمه، فإنك إنما دفعته إليه ليصلحه ولم تدفع إليه
ليفسده (2).
ومثله بهذه العبارة أو ما يقرب منه عن الحلبي فيمن يعطي الثوب للصباغ (3).
وكذا مرسلة الصدوق في المقنع، قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمن القصار
والصائغ وكل من اخذ شيئا ليصلحه فافسده (4).
ويمكن الجواب عن هذه الطائفة من طرق عديده:
الأول - انه من شؤون قاعدة " من له الغنم فعليه الغرم " قال هذه القاعدة
بعمومها وان لم تثبت عندنا، ولكنها ممضاة في بعض الموارد، ويمكن أن يكون
المورد منها، فحينئذ تكون هذه القاعدة حاكمة على قاعدة عدم ضمان الأمين أو
مخصصة لها.
الثاني - يمكن أن يكون من باب ولاية الحاكم وتضمينه لأرباب الحرف
احتياطا على أموال الناس فيما إذا رأى منهم قلة المبالاة فيها كما مر في سابقه.

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 ح 1.
(2) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 ح 8.
(3) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 19.
(4) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 23.
262

الثالث - هذه الروايات ناظرة إلى باب الاتلاف، وهو أجنبي عما نحن فيه،
فإن الكلام في عدم الضمان الأمين إنما هو في التلف فقط، ومن الواضح ان كل من
أتلف مال الغير فهو له ضامن ولا معنى للتعدي وعدمه فيه ولا للعلم والجهل، ولكن
قوله: كل أجير يعطى الأجرة ينافي هذا المعنى فإن هذا القيد في مقام الاحتراز،
ومفهومه عدم الضمان بالاتلاف لو لم يعطى الأجرة.
ولكن يمكن حل هذه العويصة بأنه إذا دخل الانسان في عمل تبرعا باذن
صاحبه ولم يتعد ولم يفرط لا يبعد عدم كونه ضامنا لما يتلفه إذا كان الاتلاف من
اللوازم القهرية لعمله، ولو بعض الموارد، ولكن هذا المعنى لا يجري في حق من
يأخذ الاجر على اصلاح شئ فيفسده، ولو لم يكن عن تعد ولا تفريط فتأمل.
الرابع - مع قطع النظر عن جميع ذلك تكون النسبة بين هذه الروايات
وعموم عدم ضمان الأمين نسبة الخصوص والعموم المطلق فيختص بها في خصوص
هذا المورد، وتبقى القاعدة سليمة عن المعارض في غير هذا الباب.
وبالجملة روايات تضمين أرباب الحرف الذين يأخذون الاجر على أعمالهم
فيفسدون أموال الناس أحيانا، مع أنها معارضة بما ورد من عدم ضمانهم بالخصوص
كما يظهر على من راجع أبواب الإجارة (1) أخص مما نحن بصدده، ولها محامل
اخر غير التخصيص كما عرفت فلا تنافي قاعدة عدم ضمان الأمين.
* * *
3 - ما دل على الأجير المشارك والظاهر أنه هو الذي يكون له حرفة يراجعه
الناس، فهو بعلمه مشارك لهم، ولا يختص بواحد منهم، مثل ما رواه مسمع بن
عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام الأجير المشارك هو ضامن

(1) لا سيما الباب 29 و 30 من أحكام الإجارة.
263

الا من سبع أو من غرق أو حرق أو لص مكابر (1).
وهي وان كانت أعم من سابقها لعدم تقييدها بالاتلاف، بل تشمل بعمومها
للتلف والاتلاف معا، ولكن الجواب منها هو الجواب عن الطائفة السابقة، من امكان
حملها على قاعدة " من له الغنم " أو على " ولاية الحاكم " وان أبيت عن جميع
ذلك فهي تخصيص في قاعدة عدم ضمان الأمين لا مضاد لها بعمومها.
* * *
4 - الروايات الكثيرة الدالة على ضمان عارية الدرهم والذهب والفضة مثل
ما رواه عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله عليه السلام لا تضمن العارية، الا أن يكون قد
اشترط فيها ضمان، الا الدنانير، فإنها مضمونة وان لم يشترط فيها ضمانا (2).
وفي معناها روايات أخر في نفس ذاك الباب صرح في بعضها بعنوان الدراهم
أو الدنانير وبعضها الاخر بعنوان الذهب والفضة.
ولكن الامر فيها أيضا سهل، لأن تخصيص قاعدة " عدم ضمان الأمين " في
بعض مواردها أدله خاصة لا ينافي عمومها في غير تلك الموارد، فقد تكون مصلحة
في التخصيص في مثل الذهب والفضة مما يحتاج إلى التحفظ الشديد، بحيث لو لم
يكن المستعير ضامنا لا يتحفظ عليه كل التحفظ، فالشارع رأى المصلحة في تضمينه
في خصوص هذا المورد، ولا يمكن التعدي إلى غيره.
هذا كله إذا لم نقل بان اطلاق الذهب والفضة في هذه الروايات محمول على
الدرهم والدينار، وعاريتهما كناية عن الاقتراض، لعدم كون العارية في الدرهم والدينار معمولا بين الناس، وحينئذ يخرج هذا العنوان عن محل الكلام بالتخصص
لا بالتخصيص، وتمام الكلام فيه في محله.

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 30 الحديث 4.
(2) الوسائل ج 13 أحكام العارية الباب 3 الحديث 1.
264

5 - ما ورد في باب المضاربة بمال اليتيم وان العامل ضامن على كل حال،
مع أنه امين مثل ما رواه بكر بن حبيب قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجل دفع إليه
مال اليتيم بمضاربة قال فإن كان ربح فلليتيم، وإن كان وضيعة فالذي اعطى ضامن (1).
ومثله ما ورد في أبواب الوصية عن إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي
الحسن الرضا عليه السلام قال سألته عن مال اليتيم هل للوصي ان يعينه أو يتجر فيه قال إن
فعل فهو ضامن (2).
إلى غير ذلك مما ورد في هذه الأبواب، ولا سيما في أبواب الزكاة، وانه
من أتجر بمال اليتيم فالربح لليتيم وان وضع فعلى الذي يتجر به (3).
ولكن يمكن الجواب عن جميع ذلك بان الضمان في هذه الموارد من جهة
التصرف فيما لا يجوز له التصرف فيه، وهو موجب للضمان، واما كون الربح لليتيم
فإنه كالفضولي الذي اجازه مالكه، أو من بيده ولاية الامر، فالشارع أذن التجارة
الرابحة في مال اليتيم، غبطة له، فالربح يكون في ماله، واما التجارة الخاسرة
وضمانها على تاجرها بغير اذن من الشارع.
* * *
6 - ما دل على ضمان الوصي للزكاة أو لمال الغرماء والذي في يده، فإنه
ضامن مع أنه امين مثل ما رواه سليمان بن عبد الله الهاشمي عن أبيه قال سألت أبا جعفر
عليه السلام عن رجل أوصى إلى رجل فأعطاه ألف درهم زكاة ماله، فذهبت من الوصي، قال
هو ضامن، ولا يرجع على الورثة، وما رواه ابان عن رجل قال سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن رجل أوصى إلى رجل ان عليه دينا فقال: يقضي الرجل ما عليه من دينه،

(1) الوسائل ج 13 أحكام المضاربة الباب 10 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 13 أحكام الوصايا الباب 36 الحديث 5.
(3) الوسائل ج 6 أبواب من تجب عليه الزكاة الباب 2 الحديث 2.
265

ويقسم ما بقي بين الورثة، قلت: فسرق ما أوصى به من الدين، ممن يؤخذ الدين؟
امن الورثة، أو من الوصي؟ قال لا يؤخذ من الورثة ولكن الوصي ضامن لها (1).
إلى غير ذلك مما في معناه.
ويمكن الجواب عن الجميع بحملها على ما إذا وجد مستحق الزكاة،
أو صاحب الدين وتوانى في دفعها إليه، كما يشهد له صحيحة محمد بن مسلم قال قلت
لأبي عبد الله عليه السلام رجل بعث بزكاة ماله لتقسم فضاعت، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟
فقال إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن - إلى أن قال - وكذلك الوصي
الذي يوصى إليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه إليه، فإن
لم يجد فليس عليه ضمان (2).
وبالجملة لا تنثلم قاعدة " عدم ضمان الأمين " بشئ من هذه، غاية الأمر يكون
تخصيصا لها في بعض مصاديقها وقد عرفت ان لها محامل اخر غير التخصيص فتدبر
جيدا.
* * *
7 - ما وردت في أبواب اللقطة وانه إذا تلفت فالواجد ضامن له، مثل ما رواه
عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد بسنده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر
عليه السلام قال: وسألته عن الرجل يصيب اللقطة دراهم أو ثوبا أو دابة كيف يصنع؟ قال
يعرفها سنة فإن لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله، حتى يجئ طالبها، فيعطيها
إياه، وان مات أوصى بها فإن أصابها شئ فهو ضامن (3).
ولكن يمكن حملها على صورة التعدي أو التفريط في حفظها أو على من نوى

(1) الوسائل ج 13 أحكام الوصايا الباب 36 الحديث 3 و 4.
(2) الوسائل ج 13 أحكام الوصايا الباب 36 الحديث 1.
(3) الوسائل ج 17 كتاب اللقطة الباب 2 الحديث 13.
266

اخذ الجعل لوجدانها بقرينة ما رواه عن حسين بن زيد عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال
كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول في الضالة يجدها الرجل فينوي ان يأخذ لها جعلا
فتنفق (1) قال عليه السلام هو ضامن فإن لم ينو ان يأخذ لها جعلا ونفقت فلا ضمان عليه (2).
والرواية وإن كان غير نقي الاسناد ولكن يصلح قرينة وتأييدا للجمع، ولو
أغمضنا عن جميع ذلك فهو تخصيص في مورد خاص ولا ينافي أصل قاعدة نفي
الضمان على الأمين.
* * *
الثالث بناء العقلاء:
ومما يدل على هذه القاعدة بعمومها بناء العقلاء من أرباب الملل وغيرهم حتى
من لا ينتمي إلى دين، فإنهم لا يزالون يحكمون بعدم ضمان من ائتمنوه على شئ إذا
علم عدم تعديه وتفريطه، فهل ترى أحدا منهم يحكم بضمان الأجير إذا حفظ العين
المستأجرة كأحد أمواله ولكن تلفت بمتلف سماوي لا دخل له فيه.
وكذا المستعير إذا حفظ العين المستعارة فتلفت لقضاء اجلها أو بوقوع غرق
أو صاعقة عليها مما لا دخل للمستعير فيه، لا سيما إذا لم يتفاوت الامر فيه بين ما إذا كان
في يد المستعير أو المالك، الا إذا كان هناك شرط أو قرينة تقوم مقام الشرط.
وأوضح من ذلك الودعي فإذا حفظ الوديعة كأحد أمواله من دون اي تفريط،
ولكن سرقها سارق من بيته في جملة أمواله، فلاشك انه لا يعد ضامنا عند العقلاء
وأهل العرف.
نعم إذا وقع الاشتباه في مقام الاثبات ولم يعلم أنه خان في الأمانة أو لم يخن
تعدى في العين المستعارة أو لم يتعد، فرط في العين المستأجرة أو لم يفرط، فهل

(1) أي تهلك.
(2) الوسائل ج 17 كتاب اللقطة الباب 19 الحديث 19.
267

يقبل قوله في مقام الاثبات أو يحتاج إلى دليل، ولا أقل من كونه مأمونا ثقة؟ فهذا
أمر آخر أجنبي عما نحن بصدده، وسنتكلم فيه انشاء الله في أول تنبيهات المسألة.
ولو شك في بعض مصاديق القاعدة فلا أقل من أنه على اجمالها مما لا كلام فيه
عندهم، ولا سيما في الاعذار العامة كخرابه بوقوع الزلزلة، أو الغرق أو الحرق،
أو الآفات السماوية أو الأرضية وحيث إن هذا البناء منهم كان مستمرا حتى قبل ورود
الشرع وكان بمرئى من الشارع المقدس وسمعه ولم يردع عنه فيعلم انه رضى به.
والظاهر أن الروايات الكثيرة السابقة الدالة على عدم ضمان الأمين أيضا امضاء
لهذا البناء، ولكن لا يبعد أن يكون هذه القاعدة أوسع نطاقا في الشرع مما عند العقلاء
فإن عمومها في الشرع واضحة حينما ليس كذلك عند العقلاء، فقد يقع الخلاف بينهم
في بعض مصاديقه، وكل يتبع ما لديه من العرف والعادة أو القوانين المجعولة عندهم
فالشارع المقدس في الاسلام شيد بنيان هذه القاعدة، وبناها على مستوى عال، ودائرة
واسعة، لا يعتريها شك ولا يشوبها ريب.
* * *
كما أن الظاهر أن اجماع الفقهاء رضوان الله عليهم أيضا يرجع إلى ما عرفت
من الروايات العامة، والخاصة، وبناء العقلاء، فيرسلونها ارسال المسلمات ويستندون
إليها في مختلف أبواب الفقه.
تنبيهات
الأول: في معنى الأمانة في المقام
قد مر في صدر البحث ان الأمانة تستعمل هنا في معنيين: الأمانة في مقابل
الغصب، والأمانة بمعنى الوثاقة.
كما عرفت ان الكلام في القاعدة أولا وبالذات في المعنى الأول، ولكن قد
268

وقع الخلط في كثير من كلماتهم من المعنيين، نظرا إلى وقوع هذا التعبير بعينه في
روايات القاعدة تارة في المعنى الأول، وأخرى في المعنى الثاني، وقد ذكرنا ان
المعنى الأول راجع إلى " مقام الثبوت " والثاني إلى " مقام الاثبات "، وحيث إن
البحث تم مستوفى في المقام الأول فنتكلم الان في المقام الثاني.
وحاصله: انه لاشك ان الأمانة بمعنى عدم الغصب كافية في نفي الضمان،
فلو كان التسلط على مال أو منفعة باذن من المالك، أو بإجازة من الشارع، ولم يحصل
من الانسان تعد وتفريط في حفظه لم يكن ضامنا، سواء كان ثقة مأمونا أو فاسقا كذابا.
ولكن إذا حصل الشك في أنه خان في الأمانة أو لم يخن، وتعدى فيها أو لم
يتعد، وفرط أو لم يفرط فهل يقبل قوله مطلقا؟ أو إذا كان له بينة؟ أو يكفي اخباره إذا
كان ثقة، وهذا أمر آخر يرجع إلى الشك في المصداق، وانه داخل في عموم
القاعدة أو خارج عنها، وبعبارة أخرى هذا من قبيل الشبهة المصداقية للمخصص.
واللازم ان يتكلم فيه أولا بحسب القواعد وثانيا نبحث عن النصوص الواردة
في هذا المعنى في الأبواب المختلفة فنقول ومن الله التوفيق والهداية.
انه قد يتوهم الرجوع إلى أصالة البراءة عن الضمان هنا بعد عدم جواز التمسك
بعموم العام بالشبهات المصداقية للمخصص.
كما أنه قد يتوهم ان مقتضى الاستصحاب، وأصالة عدم التعدي والتفريط عدم
الضمان، لكن يشكل الأول بان المقام ليس مقام البراءة، بل الأصل في الأموال كما
عرفت كونها محترمة الا باذن مالكها أو الشارع الذي هو مالك الملوك، وحيث لا نعلم أن
التلف كان بتعد وتفريط أو لم يكن، فعلى الاخذ اثبات كونه مأذونا غير متعد
ولا مفرط.
ولذا لا نجد أحدا من العقلاء يكتفي بقول الأجير ان متاعك الذي كان عندي
ضاع، أو سرق من غير إقامة دليل عليه، ولو أمكن ذلك كان لكل أجير ومضارب
269

ومستعير ووكيل دعوى حصول التلف ولزم منه الهرج والمرج والفوضى بين الناس
ولم يستقر حجر على حجر، وانفتح باب الخيانة إمام الناس ولم يعتمد أحد على أحد.
والحاصل ان احترام الأموال يوجب الضمان في موارد الشك الا ان يأتي الاخذ
بدليل، أو كان ثقة مأمونا، فلذا لا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة.
ومن هنا تعرف الكلام في الاستصحاب وانه على فرض اجرائه محكوم بقاعدة
احترام الأموال مضافا إلى أن الاستصحاب قد يدل على الضمان كما إذا استصحب
عدم الحفظ لها وعدم العناية باحتفاظها فتأمل، والحاصل انه ليس المقام مما يرجع
فيه إلى الأصول العملية بعد وجود الدليل الخاص.
* * *
واما الروايات فهناك طوائف تدل على الضمان عند الشك.
الطائفة الأولى ما دل على ضمانهم الا ان يقيموا البينة:
1 - منها - ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قصار دفعت
إليه الثوب، فزعم أنه سرق من بين متاعه قال فعليه ان يقيم البينة انه سرق من بين
متاعه، وليس عليه شئ، فإن سرق متاعه كله فليس عليه شئ (1).
2 - ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في حمال يحمل معه الزيت فيقول
قد ذهب أو أحرق أو قطع عليه الطريق، فإن جاء ببينة عادلة انه قطع عليه، أو ذهب
فليس عليه شئ، والا ضمن (2).
3 - وما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال سألته
عن رجل استأجر دابة فوقعت في بئر فانكسرت، ما عليه؟ قال: هو ضامن إن كان لم
يستوثق منها فإن أقام البينة انه ربطها فاستوثق منها فليس عليه شئ (3).

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 5.
(2) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 30 الحديث 19.
(3) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 32 الحديث 4.
270

4 - وما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال سئل عن رجل حمال استكرى
منه إبلا (إبل) وبعث معه بزيت إلى ارض وزعم أن بعض زقاق الزيت انخرق فاهراق
ما فيه فقال: انه ان شاء اخذ الزيت، وقال إنه انخرق ولكنه لا يصدق الا ببينة عادلة (1).
ومن بين هذه الروايات روايات صحاح معتمد عليها، بحسب السند، ويستفاد
من مجموعها ان دعوى الحمال ومثله التلف لا تقبل بدون البينة والأصل كونه ضامنا.
* * *
الطائفة الثانية: ما دل على عدم ضمانهم إذا كانوا ثقات وهي روايات كثيرة
نكتفي بذكر شطر منها:
مثل ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في الحمال يكسر الذي يحمل أو
يهريقه؟ قال: إن كان مأمونا فليس عليه شئ، وإن كان غير مأمون فهو له ضامن (2).
ومن الواضح انه ليس المراد منه صورة العلم باتلافه، لعدم دخالة الأمانة
والوثاقة في مسألة الاتلاف وإنما المراد منها بقرينة ذيلها صورة الشك في صحة دعواه.
وما سأله خالد بن الحجاج، أبا عبد الله عليه السلام عن الملاح أحمله الطعام ثم اقبضه
منه، فينقصه، قال إن كان مأمونا فلا تضمنه (3).
وما رواه حذيفة بن منصور قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يحمل المتاع
بالاجر فيضيع المتاع، فتطيب نفسه أن يغرمه لأهله، أيأخذونه؟ قال فقال لي امين
هو؟ قلت نعم، قال: فلا يأخذ منه شيئا (4).
وما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أيما رجل تكارى دابة فاخذته الذئبة

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 30 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 30 الحديث 7.
(3) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 30 الحديث 3.
(4) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 30 الحديث 12.
271

فشقت كرشها فنفقت فهو ضامن الا أن يكون مسلما عدلا (1).
وكيفية الاستدلال بها كالرواية الأولى، فإن المفروض الشك في صدق دعوى
الأجير والا لو علم بصدقه في دعواه لم يكن وجه لضمانه.
وما ورد في أبواب العارية عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
العارية فقال لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا (2).
وما ورد في أبواب الوديعة أرسله الكليني في الكافي قال في حديث آخر إذا
كان مسلما عدلا فليس عليه ضمان (3).
إلى غير ذلك مما ورد في أبواب مختلفة.
* * *
الطائفة الثالثة: ما دل على جواز استخدامه إذا كان متهما، وان لم يكن
متهما فليس عليه شئ، مثل ما رواه بكر بن حبيب قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام أعطيت
جبة إلى القصار فذهبت بزعمه قال إن اتهمته فاستحلفه وان لم تتهمه فليس عليه شئ ء (4).
وما رواه جعفر بن عثمان قال حمل أبي متاعا إلى الشام مع جمال فذكر ان
حملا منه ضاع فذكرت ذلك لأبي عبد الله عليه السلام فقال أتتهمه؟ قلت لا، قال فلا تضمنه (5).
* * *
إذا عرفت هذا فاعلم أنه وقع الكلام بين فقهائنا في أبواب الإجارة في أن
الأجير مثل الصانع أو الملاح أو المكاري إذا ادعى هلاك المتاع من غير تعد ولا
تفريط وأنكر المالك هل يقبل قوله بغير البينة أم لا؟ حكى عن المشهور كما عن

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 32 الحديث 3.
(2) الوسائل ج 13 أبواب العارية الباب 1 الحديث 3.
(3) الوسائل ج 13 أحكام الوديعة الباب 4 الحديث 3.
(4) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 16.
(5) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 30 الحديث 6.
272

المسالك ضمانه بغير البينة، بل ادعي الاجماع عليه، ولكن اختار جماعة قبول قولهم
مع اليمين، لأنهم امناء بل ادعى المحقق في الشرايع انه أشهر الروايتين، وحكى
هذا القول عن الشيخ في غير واحد من كتبه والمراسم والكافي والسرائر والتذكرة
والقواعد وايضاحها، وايضاح النافع وجامع المقاصد والرياض وغيرها.
واستدل عليه بما قد عرفت من رواية بكر بن حبيب في الطائفة الثالثة، وبما
رواه معاوية بن عمار في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن الصباغ والقصار
فقال ليس يضمنان (1).
وما رواه أبو بصير المرادي عن الصادق عليه السلام أيضا قال: لا يضمن الصائغ
ولا القصار ولا الحائك الا أن يكونوا متهمين فيخوف بالبينة، ويستحلف ولعله
يستخرج منه شيئا (2).
ولكن من المعلوم ان الدقة في الطوائف الثلث من الروايات التي مرت عليك
تدل دلالة واضحة على القول الأول وان أرباب الحرف وغيرهم ضامنون لما يعطون
إذا شك في صدق دعواهم في التلف والحرق أو الغرق، وان الذي ينفي ضمانهم
أحد أمرين: إقامة البينة على صدق دعواهم، وكونهم امناء، والمراد بالأمين هنا
ليس الأمين في مقابل الغاصب بل الأمين بمعنى الثقة ومن لا يكون متهما في قوله
كما صرح به الروايات السابقة.
وبالجملة لا يبقى أي شك لمن راجعها وفسر بعضها ببعض، وقيد اطلاق
بعضها ببعض آخر ان المراد من الجميع شئ ء واحد، وهو نفي الضمان إذا لم يكن
هناك قرائن التهمة، بل لو لم يكن هناك بينة ولا وثوق ولكن قامت امارات من الخارج
على عدم اتهامهم مثل ما إذا سرق جميع أمواله، أو وقع حريق وذهب أمواله أجمع

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 14.
(2) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 11.
273

ومن بينها أموال الناس، وحينئذ لا يضمن كما وقع التصريح به بعنوان الشئ الغالب
(كالغرق والحرق) في رواية أمير المؤمنين عليه السلام (1) ومثله ما ورد في حديث أبي بصير
انه ان سرق متاعه كله فليس عليه شئ (2).
وقد عرفت ان مدار العمل بين العقلاء أيضا على ذلك، فلا تقبل دعوى التلف
من المستعير والأجير والودعي وغيرهم، ولو قبل ذلك لم يستقر حجر على حجر،
نعم إذا كانوا غير متهمين أو كان هناك قرائن خارجية على عدم الاتهام يقبل قولهم.
والحاصل ان المسألة أوضح من أن يحتاج إلى بحث كثير، ولعل وقوع
الخلط بين الأمانة بالمعين في كلماتهم صار منشأ لكثير من الأقوال المخالفة (والله
العالم).
ومما ذكرنا يعلم أنه لا يمكن الاعتماد على ما رواه في المقنع من عدم الضمان
ولو كان غير ثقة مع ضعف الحديث بالارسال (3).
نعم يظهر من بعض روايات الباب انه يستحب التطول عليهم بعدم أخذ المال
منهم عند الشك في صدق كلامهم إذا لم يكونوا امناء (4) ولا بأس بالعمل به.
* * *
التنبيه الثاني: هل يجوز اشتراط ضمان الأمين؟
قد عرفت ان الأمين غير ضامن بطبيعة الحال، ولكن الكلام في أنه هل يجوز
تضمينه بمقتضى الشرط؟ بان يشترط المؤجر ضمان العين المستأجرة ولو لم يتعد
ولم يفرط، وكذلك بالنسبة إلى العامل في المضاربة، إلى غير ذلك من اشباهه.

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 6.
(2) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 5.
(3) الوسائل ج 13 كتاب الوديعة الباب 4 الحديث 7.
(4) راجع رواية 20 من الباب 29 من أبواب الإجارة.
274

لاشك في جواز ذلك في بعض مواردها لورود التصريح بالجواز في نصوصها
كما في العارية، فإن النص ناطق بجواز الاشتراط فيها، وأفتى الأصحاب به أيضا
بل حكى الاجماع عليه (راجع الباب الأول من أحكام العارية من المجلد 13 من
الوسائل الرواية الأولى والرابعة والخامسة).
ولكن وقع النزاع في موارد أخر، مثل الإجارة، فإن جماعة من القدماء
والمتأخرين افتوا بعدم جواز شرط الضمان فيها ولكن الأقوى جوازه.
والعمدة فيها وفيما لم يرد فيه نص على الجواز والمنع اطلاقات أدلة الشروط
نعم قد يتوهم ان هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد فإن طبيعته عدم الضمان كما عرفت
أو لمقتضى حكم الشرع فإنه حكم بعدم الضمان ولكنه توهم فاسد، لأن العقد لا يقتضي
الضمان عند الاطلاق، واما عند الاشتراط فلم يدل دليل على منعه، وبعبارة أخرى
الضمان مخالف لاطلاق العقد، لا العقد مطلقا ولو مع الشرط.
كما أنه قد يتوهم انه غير جائز لأنه من قبيل شرط النتيجة ولكن يمكن الجواب
عنه بامكان جعله من قبيل شرط الفعل مضافا إلى أن الأقوى صحة شرط النتيجة فيما
لا يتوقف على الانشاء بصيغة خاصة كما حرر في محله.
ومن أقوى الدليل على صحته ورود جواز اشتراط الضمان في باب العارية
وغيرها، مما يشترك مع ما هو من محل الكلام بحسب الملاك.
مثل ما رواه يعقوب بن شعيب قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يبيع للقوم
بالاجر، وعليه ضمان مالهم قال إنما كره ذلك من اجل اني اخشى ان يغرموه أكثر
مما يصيب عليهم، فإذا طابت نفسه فلا بأس (1).
نعم هناك موارد خاصة لا يجوز هذا الشرط فيها، اما لمنافاته لمقتضى العقد
أو للنصوص الخاصة.

(1) الوسائل ج 13 أحكام الإجارة الباب 29 الحديث 15.
275

اما الأول: مثل المضاربة فإن اشتراط الضمان فيها يوجب انقلابها قرضا كما
صرح به الأصحاب فإن رأس المال إذا اعطى لغير المالك ليتجر به على أن يكون
الربح بينهما فهي مضاربة، وان اعطى على أن يكون جميع الخسارة عليه فهو قرض،
فالربح له أيضا بتمامه، وان اعطى على أن يكون تمام الربح للمالك وهي المسماة
باسم البضاعة عندهم.
والعمدة في ذلك مضافا إلى ما ذكر صحيحة محمد بن قيس فقد روى أن من
ضمن تاجرا فليس له الا رأس ماله وليس له من الربح شئ (1).
وما قد يقال من أنه مخالف للقواعد، لأن ما قصده لم يقع وما وقع لم يقصد
فإنه لم يقصد عنوان القرض، ولكن يجاب عنه بان القرض ليس الا اعطاء مال
وتضمين الخسارة، وبعبارة أخرى التمليك مع الضمان وهو هنا حاصل.
وكذلك الحال في الوديعة فقد ذكر الشيخ (ره) في الخلاف: إذا شرط في
الوديعة أن تكون مضمونة كان الشرط باطلا، ولا تكون مضمونة بالشرط، وبه قال
جميع الفقهاء الا عبيد الله بن الحسن العنبري فإنه قال تكون مضمونة، دليلنا اجماع
الفرقة، بل اجماع الأمة، لأن خلاف العنبري قد انقرض، وروى عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وآله قال: ليس على المستودع ضمان - ولم يفصل (2).
ويظهر من ذيل كلامه قدس سره ان اسناده هذا القول إلى الأصحاب لعله كان
من باب اطلاق كلامه لعدم الضمان، لا التصريح بفساد الشرط، ومن هنا يشكل
دعوى الاجماع في المسألة، ولقائل ان يقول إن عدم الضمان في الوديعة هو مقتضى
اطلاق العقد، ولا ينافي الضمان بالاشتراط، كيف وقد روى زرارة في الصحيح قال
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن وديعة الذهب والفضة قال: فقال كل ما كان من وديعة ولم

(1) الوسائل ج 13 أحكام المضاربة الباب 4 الحديث 1.
(2) الخلاف كتاب الوديعة ج 2 ص 324.
276

تكن مضمونة لا تلزم (1).
ومن هنا يعرف الاشكال فيما يمكن أن يقال إن حقيقة الوديعة هي استنابة في
الحفظ، ومن المعلوم ان عمل النائب هو عمل المنوب عنه، فكما لا يجوز للانسان
ان يضمن نفسه، فلا يجوز تضمين الودعي أيضا.
ولكنه توهم فاسد، لأن تشبيه الودعي بالمالك ليس من جميع الجهات، بل
إنما هو من بعض الجهات، فلذا لو تعدى المالك في حفظ مال نفسه لم يكن معنى
لضمانه، مع أن الودعي إذا تعدى أو فرط كان ضامنا بلا اشكال.
ومنه يظهر الحال في الوكالة، فقد يقال ببطلان اشتراط الضمان فيها أيضا،
اما لمخالفته لمقتضى العقد فإن الوكيل نائب عن المالك، وكما لا معنى لتضمين
المالك نفسه فكذا لا معنى لتضمين وكيله.
وقد عرفت الجواب عنه، وان كونه بمنزلة المالك إنما هو من بعض الجهات
لا من جميع جهاته، ولذا لو تعدى أو فرط كان ضامنا بلا كلام.
فقد تلخص من جميع ما ذكرنا ان العقود التي مقتضاها الأمانة، تنقسم إلى
ثلاثة أقسام من حيث صحة اشتراط الضمان فيها وعدمها.
قسم منها يصح الاشتراط فيها وهو أكثر العقود، وقسم لا يصح كالمضاربة
وقسم يكون محلا للكلام كالوديعة والوكالة وان لم نجد دليلا قاطعا على الفساد
فيهما أيضا.
* * *
الثالث: ما المراد من التعدي والتفريط؟
قد عرفت ان الأمين ليس بضامن الا إذا تعدى أو فرط فحينئذ يأتي الكلام

(1) الوسائل ج 13 أحكام الوديعة الباب 4 الحديث 4.
277

في معنى التعدي والتفريط، وفسره في المسالك بان التعدي فعل ما لا يجوز فعله، واما
التفريط فامر عدمي وهو ترك ما يجب فعله من الحفظ.
وقد مثل للأول المحقق في الشرايع بأمور مثل ان يلبس الثوب الذي عنده
بعنوان الوديعة، أو يركب الدابة أو يخرجها من حرزها لينتفع بها.
ومثل للثاني بما إذا جعلها في ما ليس بحرز، أو ترك سقي الدابة أو علفها،
أو نشر الثوب الذي يفتقر إلى النشر أو يودعها من غير ضرورة، ولا اذن صاحبه أو
يسافر بها كذلك مع خوف الطريق، بل ومع امنه ولكن مع ذلك لم يفسرهما بما
يكون جامعا في هذا الباب، وإنما اكتفى غالبا بذكر الأمثلة.
هذا والضمان معهما قطعي مجمع عليه، ولكن من الجدير بالذكر انهما
بهذين العنوانين لم يردا في نصوص هذه الأبواب، وإنما ورد فيها عناوين أخر من
الاستهلاك والضياع، أو خالف الشرط وضاع، أو دفعه إلى غيره، وما ورد في صحيحة
أبي ولاد المعروفة من عنوان المخالفة، وعنوان التجاوز عن الشرط الوارد في غير
واحد من روايات أبواب الإجارة، أو التجاوز عن الموضع الذي تكارى إليه، إلى
غير ذلك الذي يمكن استفادة العنوانين واصطيادهما منها.
أضف إلى ذلك ما قد عرفت من أن هذه القاعدة من القواعد العقلائية قبل أن تكون
شرعية، ومن الواضح انها مخصصة عند العقلاء بالتعدي والتفريط وقد أمضاها
الشرع بما عندهم، غير أنه زاد عليه أشياء أو نقص، وليس هذا منها.
ومن هنا تعرف انه لا يهمنا البحث عن هذين العنوانين بخصوصها ومقدار
شمول لفظهما وان الأول يختص بالأمور الوجودية وفعل ما لا ينبغي فعله، والثاني
بالأمور العدمية، وهي ترك ما ينبغي فعله وايجاده.
نعم كلما يوجب خروج الأمين عن الأمانة ويجعله غاصبا غير مأذون في التصرف
فهو موجب للضمان بمقتضى قاعدة احترام مال المسلم، فكل تصرف خارج عن
278

إجازة المالك فهو داخل في عنوان التعدي موجب للضمان ودليله صيرورة الأمين
خائنا والمأذون غاصبا.
وكذلك كلما يجب على الأمين فعله من الحفظ من جهة الحرز والنشر والسقي
والعلف وغير ذلك إذا قصر فيها، فإنه وان لم يصدق عليه عنوان الغاصب ولكنه
مستثنى عن حكم عدم الضمان قطعا فهو ضامن.
وبعبارة أخرى التعدي يوجب خروجه عن الاذن وصيرورته غاصبا، ولكن
التفريط لا يوجب خروجه عن هذا العنوان ولكن يوجب خروجه عن حكم البراءة،
فإن عدم الضمان مشروط بشرط وهو قيامه بوظائف الحفظ فإذا لم يقم بها كان ضامنا
لا لصدق الغاصب عليه أو الخيانة بل لعدم وجود شرط البراءة فيه فتدبر جيدا.
* * *
التنبيه الرابع: في حكم ما لو لم يتلف العين ولكن تعيب
إذا لم يهلك المتاع ولكن نقص منه شئ أو وصف، أو تعيب بعيب، والظاهر أن
حكمه حكم التلف في عدم الضمان إذا لم يكن خائنا وفي ضمانه إذا كان كذلك
أو لم يقم بوظائف الأمانة.
ويدل عليه قياس الأولوية في بعض شقوق المسألة، أعني عدم الضمان إذا كان
أمينا، فإن التلف إذا لم يكن مضمونا لم يكن النقص والعيب مضمونين بطريق أولى.
أضف إلى ذلك جريان السيرة العقلائية عليه، وعدم ردع الشارع عنه.
مضافا إلى كون الحكم اجماعيا على الظاهر.
وأوضح من جميع ذلك ورود التصريح به في بعض روايات الضمان كصحيحة
أبي ولاد (1) المصرحة بأنه لو أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز فعلى المستأجر قيمة

(1) الوسائل ج 13 أبواب الإجارة الباب 17 الحديث 1.
279

ما بين الصحة والعيب.
وما دل على ضمان القصار والصباغ والصائغ فإنه مطلق يشمل التلف والعيب
كليهما (1).
وما ورد في ضمان الملاح نقص الطعام إذا لم يكن مأمونا (2).
بناءا على أن النقص مفهوم عام فتأمل.
وكذلك ما دل على أن من استعار عبدا مملوكا لقوم فعيب فهو ضامن (3).
إلى غير ذلك من اشباهه.
إلى هنا تم الكلام في قاعدة عدم ضمان الأمين وما يتفرع عليه من الفروع
الكلية والحمد لله / 27 صفر المظفر 1405

(1) راجع الباب 29 من أبواب الإجارة من المجلد 13 الوسائل.
(2) راجع الباب 30 من أبواب الإجارة من المجلد 13 الوسائل.
(3) الوسائل ج 12 أحكام العارية الباب 1 الحديث 11.
280

13 - قاعدة الغرور
(المغرور يرجع إلى من غره)
* مدرك القاعدة من الروايات
* مدركها من بناء العقلاء
* معنى الغرور
* معنى التسبيب
* عمومية القاعدة لجميع أبواب الفقه وشطر من كلمات الأصحاب
281

قاعدة الغرور
من القواعد المعروفة الفقهية قاعدة الغرور التي استند إليها الفقهاء في مختلف
أبواب الفقه. والمستفاد من أدلتها كما سيأتي إن شاء الله انها وردت في موارد اغتر
انسان بقول أو فعل من ناحية انسان آخر، فخسر وتضرر به، فحينئذ يرجع إلى من
غره، ويأخذ خسارته أو ما ضمنه لغيره منه.
وقد اشتهر بينهم في عنوان هذه القاعدة " ان المغرور يرجع إلى من غره "
ولكن هذه العبارة، كما ذكره غير واحد، لم ترد في آية ولا نص حديث، وإن كان
يظهر من بعض كلمات الفقيه الماهر صاحب الجواهر قدس الله سره في باب الغصب انه
قول معصوم، حيث قال في بحث " من أطعم طعاما مغصوبا لغيره مع عدم علمه ":
" ان الأصح ان المباشر ضامن، ولكن يرجع إلى الغاصب وينجبر غروره برجوعه
على الغار، بل لعل قوله عليه السلام [المغرور يرجع إلى من غره] ظاهر في ذلك " (1).
لكن صرح بعضهم في هامش الجواهر بأنها لم نعثر على هذا النص من أحد
المعصومين عليهم السلام وان حكى عن المحقق الثاني رحمه الله في حاشية الارشاد انه نسب
ذلك إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والظاهر أنه قاعدة فقهية مستفادة من عدة روايات ورد
بعضها في التدليس (2).

(1) الجواهر ج 37 كتاب الغصب ص 145.
(2) نفس المصدر.
283

وعلى كل حال لابد من الكلام: أولا في مدرك القاعدة، ثم فيما يتفرع عليها
من الأحكام، فنقول ومنه جل شانه التوفيق والهداية:
* * *
1 - مدرك القاعدة من السنة
العمدة فيها الروايات الخاصة الواردة في مختلف الأبواب أولا وبناء العقلاء
الممضى من ناحية الشرع ثانيا وقد عرفت ان هذه العبارة " المغرور يرجع إلى من
غره " (أو على من غره) لم ترد في شئ من منابع الحديث سواء العامة والخاصة،
كما صرح به كثير منهم وإن كان فيما عرفت من عبارة الجواهر اسناده إلى المعصوم
وكذلك ما مرت الإشارة إليه من كلام المحقق الثاني في حاشية الارشاد.
ولكن من الظاهر أن هذا المقدار لا يكفي في عده حديثا مرسلا، حتى يقال
بانجباره بعمل الأصحاب.
وكيف يحتمل عثور صاحب الجواهر أو المحقق الثاني على حديث لم نعثر
نحن ولا غيرنا عليه مع قرب العهد، نعم لو كان ذلك في كلام بعض الأقدمين من
أصحاب الفقه والحديث أمكن هذا الاحتمال في حقهم.
وعلى هذا لا يهمنا البحث عن مفاد هذه العبارة بعد عدم ثبوت كونه حديثا
مسندا بل ولا مرسلا، فاللازم الرجوع إلى الروايات الخاصة، فنقول ومن الله سبحانه
نستمد التوفيق والهداية هناك روايات كثيرة دالة على هذا المعنى بثبوته في أبواب
مختلفة:
منها ما ورد في " كتاب النكاح " في " أبواب العيوب والتدليس " وهي عدة
روايات:
1 - ما رواه أبو عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال في رجل تزوج امرأة من وليها
فوجد بها عيبا بعد ما دخل بها، قال فقال: إذا دلست العفلاء والبرصاء والمجنونة.
284

والمفضاة ومن كان بها زمانة ظاهرة فإنها ترد على أهلها من غير طلاق ويأخذ الزوج
المهر من وليها الذي كان دلسها (1).
وقوله " الذي كان دلسها " وصف مشعر بالعلية ولعله يستفاد منه العموم.
2 - ما رواه " رفاعة بن موسى " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن البرصاء فقال:
قضى أمير المؤمنين عليه السلام في امرأة زوجها وليها وهي برصاء، ان لها المهر بما استحل
من فرجها، وان المهر على الذي زوجها وإنما صار عليه المهر لأنه دلسها (2).
ودلالته أظهر من سابقه لأن قوله " لأنه دلسها " من قبيل منصوص العلة فيتعدى
منه إلى غيرها ولكن سنده لا يخلو من ضعف، لوجود سهل بن زياد فيها، ولكن رواه
ابن إدريس في آخر السرائر من كتاب نوادر البزنطي عن الحلبي وهذا طريق يمكن
الاعتماد عليه.
3 - وما رواه في دعائم الاسلام عن علي عليه السلام أنه قال: ترد المرأة من القرن
والجذام والجنون والبرص وإن كان دخل بها فعليه المهر، وان شاء أمسك وان شاء
فارق، ويرجع بالمهر على من غره بها، وان كانت هي التي غرته رجع به عليها،
وترك لها أدنى شئ مما يستحل به الفرج (3).
وقوله " يرجع بالمهر على من غره " أيضا من قبيل التعليق على الوصف الذي
يشعر أو يدل في أمثال هذه المقامات بالعلية والعموم.
4 - ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال إنما يرد النكاح من
البرص والجذام والجنون والعفل، قلت أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟
قال: المهر لها بما استحل من فرجها ويغرم وليها الذي انكحها مثل ما ساق إليها (4).

(1) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب العيوب والتدليس الباب 2 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب العيوب والتدليس الباب 2 الحديث 2.
(3) مستدرك الوسائل كتاب النكاح أبواب العيوب الباب 1 الحديث 6.
(4) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب العيوب والتدليس الباب 2 الحديث 5.
285

5 - وفي معناه ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: في كتاب علي
عليه السلام: من زوج امرأة فيها عيب دلسه ولم يبين ذلك لزوجها فإنه يكون لها الصداق
بما استحل من فرجها ويكون الذي ساق الرجل إليها على الذي زوجها ولم يبين (1).
وقوله " يكون الذي ساق الرجل إليها على الذي زوجها ولم يبين "
أيضا من قبيل التعليق على الوصف، فإن عدم التبيين من مصاديق الغرور فيستفاد منه
اجمالا ان المغرور يرجع إلى من غره.
إلى غير ذلك مما في هذا المعنى وردت في أبواب التدليس.
6 - ومما ورد في هذا المعنى من طرق الجمهور ما رووه عن علي عليه السلام في أخوين
تزوجا أختين فأهديت كل واحدة منهما إلى أخي زوجها فأصابها فقضى علي عليه السلام على
كل واحد منهما بصداق وجعله يرجع به على الذي غره (2).
والتعليق على الوصف هنا أوضح.
7 - وما رواه الشافعي في القديم عن علي عليه السلام أيضا في المغرور يرجع بالمهر
على من غره (3).
ودلالته كسابقه.
وقد يستدل هنا بما رواه إسماعيل بن جابر في هذا الباب قال سالت عن أبا عبد
الله عليه السلام عن رجل نظر إلى امرأة فأعجبته فسأل عنها فقيل هي ابنة فلان فاتى أباها
فقال زوجني ابنتك فزوجه غيرها، فولدت منه فعلم بها بعد انها غير ابنته، وانها أمة
قال:
ترد الوليدة على مواليها، والولد للرجل، وعلى الذي زوجه قيمة ثمن الولد
يؤتيه موالي الوليدة كما غر الرجل وخدعه (4).

(1) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب العيوب والتدليس الباب 2 الحديث 7.
(2) السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 219 (باب من قال يرجع المغرور بالمهر
على الذي غره).
(3) السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 219 (باب من قال يرجع المغرور بالمهر
على الذي غره).
(4) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب العيوب والتدليس الباب 7 الحديث 1.
286

وقوله " كما غر الرجل وخدعه " وإن كان في مقام التعليل ولكن الاشكال انه
ليس في هذه الرواية من ضمان المغرور عين ولا اثر بل ظاهره رجوع الموالي إلى
الغار بلا واسطة، وهو غير ما نحن بصدده، وغير ما هو المعروف من فقهنا، فلابد من
توجيهه، وعلى كل حال لا يمكن الاستدلال به في المقام.
* * *
ومنها ما ورد في أبواب نكاح الأمة مثل ما يلي:
8 - ما رواه جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يشتري الجارية
من السوق فيولدها ثم يجئ مستحق الجارية قال يأخذ الجارية المستحق ويدفع إليه
المبتاع قيمة الولد، ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي اخذت
منه (1).
وهي وان لم تشتمل على تعليل أو وصف مشعر بالعلية لكنها من مصاديق
القاعدة.
9 - ما رواه وليد بن صبيح عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل تزوج امرأة حرة
فوجدها أمة قد دلست نفسها له، قال: إن كان الذي زوجها إياه من غير مواليها فالنكاح
فاسدة، قلت فكيف يصنع بالمهر الذي اخذت منه، قال إن وجد مما أعطاها شيئا فليأخذه
وان لم يجد شيئا فلا شئ له وإن كان زوجها إياه ولي لها ارتجع إلى وليها بما اخذت
منه (2).
* * *
ومنها ما ورد في أبواب الشهادات في " شهادة الزور " مثل ما يلي:
10 - ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام في شاهد الزور ما توبته؟

(1) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب نكاح الإماء الباب 88 الحديث 5.
(2) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب نكاح الإماء الباب 67 الحديث 1.
287

قال يؤدي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله، إن كان النصف أو الثلث
إن كان شهد هذا وآخر معه (1).
11 - وماراه جميل عن أبي عبد الله عليه السلام في شاهد الزور قال إن كان الشئ
قائما بعينه رد على صاحبه، وان لم يكن قائما ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل (2).
12 - وما رواه أيضا جميل عن أبي عبد الله عليه السلام في شهادة الزور إن كان قائما
والا ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل (3).
13 - وما رواه ابن محبوب عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام في أربعة
شهدوا على رجل محصن بالزنا ثم رجع أحدهم بعد ما قتل الرجل، قال إن قال الرابع
(الراجع) أوهمت، ضرب الحد واغرم الدية، وان قال تعمدت قتل (4).
إلى غير ذلك مما ورد في أبواب شاهد الزور في مورد الزنا والسرقة.
ولكن يرد على الجميع انه غير داخل في موضوع الغرور بل هي كلها من
قبيل الاتلاف فإن القاضي أو من اجرى حكمه وإن كان مباشرا للقطع أو القتل أو اخذ
المال، ولكن من الواضح ان السبب وهو شاهد الزور هنا أقوى فاسناد الفعل إليه،
فيدخل في باب الاتلاف، حتى فيما إذا كان الشاهد مشتبها في امره غير عالم بكذبه فيما
يقول، فإنه أيضا هو السبب في تلف الأموال والنفوس، وهذا العنوان صادق عليه.
نعم لو كان القاضي أو من اجرى حكمه ضامنا أو لا ثم يرجع إلى شاهد الزور
كانت المسألة من مصاديق قاعدة الغرور، ولكن الظاهر أنه لم يقل أحد بضمانهما،
وظاهر روايات الباب أيضا الرجوع بلا واسطة إلى شاهد الزور، وحينئذ تخرج جميع
هذه الروايات عن محل الكلام وتدخل في قاعدة السبب والمباشر ومسائل الاتلاف.
* * *

(1) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات الباب 11 الحديث 1 و 2 و 3.
(2) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات الباب 11 الحديث 1 و 2 و 3.
(3) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات الباب 11 الحديث 1 و 2 و 3.
(4) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات الباب 12 الحديث 1.
288

ومنها ما ورد في باب شاهد الزور أيضا بالنسبة إلى " الطلاق والنكاح " مثل
ما يلي:
14 - ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في امرأة شهد عندها شاهدان بان
زوجها مات فتزوجت ثم جاء زوجها الأول، قال لها المهر بما استحل من فرجها
الأخير، ويضرب الشاهدان الحد ويضمنان المهر بما غرا لها الرجل ثم تعتد وترجع
إلى زوجها الأول (1).
15 - وما رواه إبراهيم بن عبد الحميد في شاهدين شهدا على امرأة بان زوجها
طلقها، فتزوجت ثم جاء زوجها فأنكر الطلاق، قال يضربان الحد، ويضمنان الصداق
للزوج ثم تعتد ثم ترجع إلى زوجها الأول (2).
والاستدلال بهما وما في معناهما متوقف على وجوب المهر للمرأة على الرجل
ثم يرجع الرجل فيأخذه عن شاهدي الزور بما غراه كما هو ظاهر الحديث الثاني بل
الأول أيضا.
وما ورد في رواية أبي بصير من ضرب الحد للشاهدين فهو محمول على التعزير
لعدم وجوب الحد على شاهد الزور، واطلاق الحد على التعزير غير نادر.
* * *
2 - الاستدلال لها ببناء العقلاء
هذه القاعدة أيضا مما جرت عليه سيرة العقلاء في جميع الأعصار والأمصار
فهم يرون الغار ضامنا للخسارة الواردة على المغرور في أمواله وغيرها، فمن وهب
ملك غيره لشخص ثالث وهو جاهل بالحال، أو اهدى إليه هدية من مال غيره، أو

(1) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات الباب 13 الحديث 2.
(2) الكافي ج 7 كتاب الشهادات (باب من شهد ثم رجع عن شهادته) الحديث 7
ص 384.
289

اضافه بضيافة وأنفق عليه من أموال غيره، أو دلس عليه تدليسا ذهب ماله بسببه، أو
غير ذلك، فالمباشر وإن كان ضامنا الا انه لا يشك أحد في رجوعه إلى الغار.
وحيث إن الشارع لم يمنع عن هذه السيرة العقلائية فهو دليل على رضاه بذلك
وامضاؤه له، بل الروايات الخاصة التي مرت عليك يمكن أن تكون امضاءا لهذه
السيرة العقلائية.
ولكن في بعض الموارد لعلهم لا يرون المباشر ضامنا بل يراجعون السبب.
ويرونه ضامنا بالأصالة ومن دون أي واسطة، ولكن الظاهر أنه ليس كقاعدة عامة في
جميع أبواب الغرور.
* * *
ويدل على هذه القاعدة مضافا إلى ما ذكر اجماع العلماء عليها، وارسالها
ارسال المسلمات، واستنادهم إليها في مختلف الأبواب كما سيأتي الإشارة إلى بعضها.
ولكن الانصاف ان الاجماع في هذه المقامات - كما مر مرارا - لا يعد دليلا
مستقلا، لامكان استناد المجمعين إلى ما عرفت، من الروايات الخاصة التي يستفاد
منها العموم، بل النص على العلة في بعضها ولجريان بناء العقلاء وسيرتهم على ذلك.
قال العلامة في القواعد: " ومهما أتلف الاخذ من الغاصب فقرار الضمان عليه
الا مع الغرور كما لو اضافه به ".
وقال في مفتاح الكرامة في شرح هذه العبارة: " فالضمان على الغاصب
بلا خلاف منا فيما أجد، فيما إذا قال كله فهذا ملكي وطعامي، أو قدمه إليه ضيافة حتى
اكله، ولم يقل انه مالي وطعامي، أو لم يذكر شيئا، وفي التذكرة انه الذي يقتضيه
مذهبنا.
ثم قال: قلت: لمكان الاعتماد على اليد الدالة على الملك والامارة الدالة على
الإباحة..
290

وظاهر جماعة وصريح آخرين ان المالك يتخير في تضمين كل واحد من
الاكل والغاصب، ويستقر الضمان على الغاصب، ونقل في الشرايع قولا بأنه يضمن
الغاصب من أول الأمر من غير أن يشاركه الاكل، لضعف المباشرة بالغرور فاختص
السبب لقوته..
ثم قال: لم نجد القول الثاني لاحد من أصحابنا بعد التتبع، وإنما هو قول
الشافعي في القديم وبعض كتب الجديد، قال إنه ليس للمالك الرجوع على الاكل
لأنه غره حيث قدم إليه الطعام وأوهمه ان لا تبعة فيه عليه، والمشهور عند الشافعي
الأول " (1).
وظاهر هذه العبارة اتفاق الكل على كون الغاصب والاكل كليهما ضامنين،
ولكن يستقر الضمان على الغاصب لغروره صاحبه، وان القول بالرجوع إلى الغاصب
فقط دون المغرور ليس قولا لأصحابنا، بل المشهور بين أهل الخلاف أيضا لعله
القول بالرجوع إلى اي واحد منهما شاء.
وسيأتي الكلام إن شاء الله في تنبيهات المسألة.
* * *
" بقي هنا أمور "
الأول في معنى الغرور:
قد عرفت ان ما هو المعروف بين الفقهاء وأهل العلم " ان المغرور يرجع
إلى من غره " وان لم يرد في متن حديث، ولكن قد عرفت ان عنوان الغرور ورد
بشكل آخر في بعض أحاديث الخاصة والعامة، فقد روى الجمهور عن علي عليه السلام

(1) مفتاح الكرامة ج 6 ص 230.
291

" ان المغرور يرجع بالمهر على من غره " (1) الذي يختص بباب الغرور في المهر فقط
كما ورد عنوان " التدليس " في رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في أبواب العيوب
والتدليس (2) وما رواه رفاعة بن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام في هذا المعنى (3) وما
رواه في دعائم الاسلام عن علي عليه السلام في المغرور في أبواب المهور وانه يرجع على
من غره (4) فاللازم كشف معنى " الغرور " و " التدليس " أولا ثم الاخذ بما
في غير هذه الأحاديث من العناوين الأخر.
فنقول ومن الله التوفيق والهداية: اما " الغرور " فقد قال الراغب في المفردات:
يقال: غررت فلانا، أصبت غرته ونلت منه ما أريد، والغرة غفلة في اليقظة، واصل
ذلك من الغر، وهو الأصل الظاهر من الشئ، ومنه غرة الفرس والغرور (بفتح الغين)
كل ما يغر الانسان من مال وجاه وشهوة وشيطان والغرر الخطر.
وقال في الصحاح: " الغرة " (بالضم) بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم،
والغرة (بالكسر) الغفلة والغرور (بالضم) ما اغتر به من متاع الدنيا وغره يغره غرورا
خدعه.
وقال ابن الأثير في النهاية: الغرة الغفلة، وفي الحديث انه نهى عن بيع
الغرر، ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول.
وقال الطريحي في مجمع البحرين: قوله تعالى ما غرك بربك الكريم.
أي: أي شئ غرك بخالقك وخدعك وسول لك الباطل حتى عصيته وخالفته..
والغرور بالفتح الشيطان سمي الشيطان غرورا لأنه يحمل الانسان على محابه، ووراء
ذلك ما يسوئه.
ثم نقل عن ابن السكيت الغرور أيضا ما رأيت له ظاهرا تحبه، وفيه باطن

(1) السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 219.
(2) نقلناه تحت أرقام 1 - 2 - 3 في طي الأحاديث السابقة.
(3) نقلناه تحت أرقام 1 - 2 - 3 في طي الأحاديث السابقة.
(4) نقلناه تحت أرقام 1 - 2 - 3 في طي الأحاديث السابقة.
292

مكروه ومجهول.
ويظهر من جميع ذلك، ومن غيرها من كلماتهم، ومن موارد استعمال هذه
اللفظة انها بمعنى الخدعة بماله ظاهر يخالف باطنه، فالمغرور هو المخدوع والذي
حمله على شئ له ظاهر وليس باطنه كذلك هو الغار.
واما " التدليس " فهو كما قال في الصحاح: التدليس في البيع كتمان عيب
السلعة على المشتري.
وقال في مجمع البحرين كذلك (التدليس كتمان عيب السلعة على المشتري)
والدلسة (على وزن اللقمة) الخديعة.
وقال ابن منظور في " لسان العرب " الدلس بالتحريك الظلمة، وفلان لا يدالس
ولا يوالس، أي لا يخادع ولا يغدر، والمدالسة المخادعة، وفلان لا يدالسك ولا
يخادعك، ولا يخفى عليك الشئ، فكأنه يأتيك به في الظلام، ثم ذكر ان التدليس
في البيع كتمان عيب السلعة عن المشتري.
ويظهر من جميع ذلك وموارد استعمال هذه الكلمة انها والخدعة والغرور
قريب المعنى إذا عرفت ذلك فهل يعتبر في عنوان الغرور علم الغار وجهل المغرور
أو يكفي جهل المغرور وإن كان الغار أيضا جاهلا ولكن تضرر بقوله، الظاهر الأول
ولا أقل من الشك في شمول الثاني.
قال في العناوين:
كل غرامة وردت على جاهل بالواقع منشأها شخص آخر بحيث كان تدليسه
سببا لذلك وهو ضامن لها، وان لم يكن الغار أثبت يده على ذلك المال ونحوه،
ولم يصدق عليه عنوان كونه متلفا، ومن هنا علم أن المغرور يعتبر فيه الجهل بالواقع
حتى يكون مغرورا واما الغار لو كان عالما بالواقع وقصد التدليس والتغرير وحصل
غرور المغرور بواسطته بحيث كان ذلك علة في اعتقاده واقدامه فلا بحث في كونه
293

غارا، واما لو كان عامدا ولكن لم يؤثر ذلك في علم المغرور واعتقاده بان كان
معتقدا ذلك المعنى سواء غره ذلك أم لا كمن دفع مال غيره إلى ثالث بعنوان انه مال
الدافع وكان الاخذ معتقدا ذلك من خارج بحيث لم يؤثر فيه تدليس الغار ففي كون
ذلك غارا وجهان (انتهى محل الحاجة) (1).
وظاهره المفروغية عن اعتبار علم الغار.
ثم اعلم أن هنا صور لابد من بيان أحكامها:
1 - أن يكون الغار عالما والمغرور جاهلا، وكان فعل الغار تسبيبا لفعل
المغرور، ومثاله من قدم طعاما إلى غيره فاكله وكان المقدم عالما بكونه غصبا والمقدم
إليه جاهلا.
2 - ما إذا كان الغار عالما والمغرور جاهلا ولم يكن هناك عنوان التسبيب
كمن أقدم على ترغيب رجل بنكاح امرأة وعرفها له حتى أقدم هو بنفسه على نكاحها
ولم تكن المرأة كما ذكره بان كانت معيوبة أو مجنونة، أو عرفها امرأة وأنكحها
غيرها، ففي جميع ذلك يتضرر الزوج بمهر المرأة ولكن لا يصدق على الغار عنوان
السبب بماله من المعنى المعروف في أبواب الضمانات والديات بل هو داخل تحت
عنوان الغرور والتدليس فقط.
3 - ما إذا كان الغار عالما والمغرور جاهلا ولكن لم يكن لفعل الغار اثر
والمغرور كان يعلم بذلك من قبل كمن اعتقد ان المال الفلاني لزيد ولم يكن الامر
كما اعتقده ثم قدمه زيد له فتقديم زيد ليس سببا لغروره بل كان مغرورا ومخدوعا
من قبل، فهل يجرى أحكام الغرر هنا.
4 - ما إذا كان الغار والمغرور كلاهما جاهلين.
أما إذا كان كلاهما عالمين، أو الأول جاهلا والثاني عالما فلا دخل لهما

(1) العناوين ص 323 و 324.
294

بالمسألة بل هما خارجان عن عنوان الغرور وان ذكرهما بعض عند ذكر الأقسام هنا
إذا عرفت هذا فاعلم:
اما الصورة الأولى فلا شك في دخولها في القاعدة، بل وفي قاعدة التسبيب
فالغار فيها ضامن لما تضرر المغرور به، لصدق عنوان عليه أولا، واسناد
الاتلاف إليه ثانيا.
ولكن هل المالك يرجع إلى الغار بلا واسطة، أو يرجع إلى المغرور ثم
المغرور يرجع إلى من غره؟ فلو قلنا بالأول فالمسألة في الواقع خارجة عن باب
الغرور لعدم وجود الضمان بالنسبة إلى غير الغار، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.
واما الصورة الثانية فهي القدر المتيقن من قاعدة الغرور، بل هي المصداق
المصرح به في روايات الباب لا سيما التدليس في النكاح، فكلما كان الغار سببا
لتضرر المغرور وكان الأول عالما والثاني جاهلا فللمغرور ان يرجع إلى من غره
ويأخذ ما تضرر منه.
واما الصورة الثالثة ففيه وجهان: من جهة ان فعله لم يكن سببا لغروره بل كان
مغرورا من قبل، ومن انه من قبيل توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد يمكن
استناد المعلول إلى كل منهما، والثاني لو لم يكن أقوى، لا أقل من أنه أحوط.
واما الصورة الرابعة فالظاهر عدم صدق عنوان الغرور بما عرفت له من المعنى
اللغوي والعرفي. وبما يظهر من موارد استعماله، عليه، ولكن لا يبعد شموله له
ملاكا وان لم يشمله عنوانا.
هذا كله إذا لم يكن مصداقا للتسبيب كمن قدم طعاما جاهلا بغصبيته إلى غيره
فأكله لصدق عنوان الاتلاف عليه هنا وان لم يصدق عليه عنوان الغرور.
* * *
295

الأمر الثاني: معنى التسبيب
قد صرح بعض الأصحاب في بحث موجبات الضمان على نحو التسبيب بان
الضابط في السبب ما لولاه لما حصل التلف لكن علة التلف غيره.
ذكره المحقق في الشرايع في كتاب الديات.
ولكن قال في كتاب الغصب: التسبيب هو كل فعل يحصل التلف بسببه.
وهذان التعريفان وان لم يخلو من بعض الاشكالات - ولسنا هنا بصدده -
ولكن يستفاد منهما ان التسبيب من أسباب الضمان.
بل قد صرحوا تلو ذلك بأنه إذا اجتمع السبب والمباشر قدم المباشر الا أن يكون
السبب أقوى.
فالأول كمن حفر بئرا في ملك غيره عدوانا فدفع غيره فيها انسانا، فضمان
ما يجنيه على الدافع وللثاني إذا أكره انسان غيره على اتلاف مال فالمكره (بالفتح)
لا يضمن وان باشر الاتلاف والضمان على من أكرهه لأن المباشر ضعيف مع الاكراه
فكان ذوا السبب هنا أقوى.
ولو ناقشنا في مثال الاكراه ولكن لا مناقشة في أصل المسألة، وهو ما إذا
كان السبب أقوى من المباشر فإن ظاهرهم ضمان السبب دون ضمان المباشر، لا ان
المباشر ضامن ولكنه يرجع إلى السبب.
وحينئذ يأتي الكلام في المسألة المعروفة في باب الغصب في غاصب قدم
طعاما مغصوبا إلى غيره فاكله جاهلا فإن المشهور بينهم ان المالك يغرم أيهما شاء،
لكن ان أغرم الغاصب لم يرجع على الاكل الذي هو مغرور له، وان أغرم الاكل
رجع الاكل على الغاصب لغروره الذي صار به مباشرته ضعيفة بالنسبة للسبب،
فيكون قرار الضمان عليه.
296

هكذا ذكره صاحب الجواهر في شرح قول المحقق في كتاب الغصب (1).
ثم أضاف: " وقيل - وان كنا لم نتحقق قائله منا - بل يضمن الغاصب من
رأس، ولا ضمان على الاكل أصلا لأن فعل المباشر ضعيف عن التضمين بمظانة
الاغترار فكان السبب أقوى ".
ثم رد عليه في ذيل كلامه بقوله " ان ضعف المباشر لا يبلغ حدا ينتفي به الرجوع
عليه مع كونه متصرفا في مال الغير ومتلفا له على وجه يندرج في قاعدة من أتلف مال
غيره فهو له ضامن، ولكن ينجبر غروره برجوعه على الغار، بل لعل قوله عليه السلام " المغرور
يرجع على من غره " ظاهر في ذلك (2).
ولازم هذا الكلام ان ضمان المباشر هنا لكونه متلفا، والغاصب لكونه غارا
فإذا انتفى كونه غارا بان يكونا جاهلين فلابد من كون المباشر ضامنا فقط، مع أن
الذوق الفقهي لا يقتضي ضمانه دون السبب.
وبعبارة أخرى ملاك الضمان اما التسبيب واما الغرور.
فلو كان الملاك التسبيب صح في صورة العلم والجهل ولكن لازمه عدم الرجوع
إلى المباشر مطلقا، لأن الفعل مستند إلى السبب.
وإن كان الملاك هو الغرور فلا يشمل صورة الجهل الدافع.
وعلى كل حال لا يبعد كون السبب هنا أقوى وكون الضمان متوجها إليه فقط
دون المباشر، فحينئذ تختص قاعدة الغرور بما إذا لم يكن تسبيب كما في مسألة المهر
التي مرت عليك سابقا، فتأمل جيدا فانا لم نجد لهم كلاما صريحا منقحا في هذا
الباب وما يوضح حال السبب والغرور والنسبة بينهما في المقام والمسألة بعد محتاجة
إلى مزيد تأمل، وإن كان ما ذكرنا من توجه الضمان إلى السبب هنا فقط هو الأرجح
في النظر.

(1) الجواهر ج 37 ص 145.
(2) الجواهر ج 37 ص 145.
297

الأمر الثالث: في عمومية القاعدة
الظاهر أن هذه القاعدة بما عرفت لها من الأدلة لا تنحصر موردها بباب من
أبواب الفقه دون باب، بل تجري في مختلف الأبواب:
في أبواب المتاجر لا سيما البيع الفضولي.
وكذا أبواب الهبات والعارية ونحوها.
وأبواب النكاح والمهور وغيرها.
ولذا استدل بها الأصحاب في كثير من هذه الأبواب من دون حصرها بها.
واليك شطر ممن استندوا إليه من هذه الأبواب بهذه القاعدة مما يدل على
عدم اختصاصها بمورد خاص:
1 - استدل بها كثير منهم في " أبواب الغصب " بل هي العمدة في هذه القاعدة
بعد أبواب المهور:
قال في القواعد: " ومهما أتلف الاخذ من الغاصب فقرار الضمان عليه الا مع
الغرور، كما لو اضافه به، ولو كان الغرور للمالك فالضمان على الغار، وكذا لو أودعه
المالك أو آجره إياه، ولو وهبه الغاصب من آخر فرجع المالك عليه احتمل رجوعه
على الغاصب لغروره وعدمه لأن الهبة لا تستعقب الضمان ".
وذكر في مفتاح الكرامة في شرح ما استدل به في ذيل كلامه " على عدم
الضمان " بما نصه: اي لأن الهبة لا تقتضي ضمان الواهب العين للمتهب، لأنه اخذها
على أنها إذا تلفت يكون تلفها منه وهو أصح القولين عند الشافعية (1).
ثم أجاب عنه بقوله: " وفيه انه وإن كان اخذها على أن تلفها منه لكنه لم يأخذها
على أنها عليه فكان الغرور باقيا فيعمل بمقتضاه " (2).

(1) مفتاح الكرامة ج 6 ص 230 و 231.
(2) مفتاح الكرامة ج 6 ص 230 و 231.
298

وفيه أيضا - مضافا إلى ما ذكر - ان عدم اقتضاء ضمان الواهب العين إنما هو
فيما إذا كان الهبة صحيحة والمفروض انها باطلة، وليت شعري ما الفرق بين تقديم
الغاصب طعاما إلى غيره فاكله، أو هبته له طعاما فذهب إلى بيته فاكله؟ والانصاف
انه لا يرى أدنى تفاوت بين الصورتين ومن قال بالفرق فعليه الدليل، وأدلة الغرور عامة،
والعجب ممن فرق بينهما.
وذكر الشهيد الثاني في المسالك هذا المعنى في كتاب الغصب بصورة واضحة
قال: " اما على تقدير الاتلاف (اتلاف المغصوب) فالقرار على المتلف مطلقا، لأن
الاتلاف أقوى من اثبات اليد العادية عليه، الا إذا كان مغرورا كما إذا قدمه ضيافة فاكله
فإن ضمانه على الغاصب، لأنه غره حيث قدم الطعام إليه، وأوهمه لا تبعة فيه " (1).
وقال " المحقق الثاني " في " جامع المقاصد " مثل هذا المعنى، وأضاف إليه الهبة
حيث قال: " ومهما أتلف الاخذ من الغاصب فقرار الضمان عليه الا مع الغرور كما لو
اضافه به، ولو كان الغرور للمالك (يعنى قدم طعاما مغصوبا إلى مالكه فاكله لا بعنوان
انه ملكه) فالضمان على الغار وكذا لو أودعه المالك أو آجره إياه، ولو وهبه الغاصب
من آخر فرجع المالك عليه، احتمل رجوعه على الغاصب لغروره وعدمه " (2).
لكن يرد على ما ذكره أخيرا من احتمال عدم الرجوع الايرادان المتقدمان.
2 - استدلالهم بها في " أبواب الضمان ":
قال في الجواهر في شرح قول المحقق " الثاني (من أسباب الضمان) التسبيب
وهو كل فعل يحصل التلف بسببه، كحفر البئر في غير الملك، وطرح المعاثر في
المسالك " بلا خلاف أجده في أصل الضمان به، ثم استدل على ما ذكره بنصوص
كثيرة، ثم قال: ومنها ما دل على رجوع المغرور (3).

(1) المسالك ج 2 ص 255.
(2) جامع المقاصد ج 2 كتاب الغصب ص 79.
(3) الجواهر ج 37 ص 46 - 47.
299

3 - واستدل بها أيضا في " أبواب التدليس في النكاح ":
قال المحقق في الشرايع: " ولو دلست نفسها كان عوض البضع لمولاها ورجع
الزوج به عليها إذا أعتقت " واستدل له في الجواهر عقيب ذلك بقوله: لقاعدة
الغرور (1).
وذكر المحقق في موضع آخر ما نصه: " نعم لو فسخ بعده (اي بعد الدخول)
كان لها المهر، ويرجع به على المدلس (اي يرجع الزوج عليه) أبا كان أو غيره "
واستدل له في الجواهر أيضا بقوله: لقاعدة الغرور (2).
4 - واستدل به أيضا في " أبواب المتاجر " فيما إذا باع الغاصب شيئا وكان
المشتري جاهلا، فإن للمالك الرجوع إليه بالنسبة إلى العين، وكذا بالنسبة إلى
منافعه، اما العين فلو تلف أو أتلفه فلابد عليه من أداء قيمته، واما المنافع المستوفاة
فإنه يغرم قيمتها ولكن له الرجوع إلى الغاصب.
قال في الشرايع: " ولو أولدها المشتري كان حرا، وغرم قيمة الولد، ويرجع
بها على البايع، وقيل في هذه، له مطالبة أيهما شاء لكن لو طالب المشتري (أضاف
إليه في الجواهر: المغرور) رجع بها على البايع (أضاف إليها في الجواهر: الغاصب
الغار).
ثم قال: اما ما حصل للمشتري في مقابله نفع كسكنى الدار، وثمرة الشجرة،
والصوف، واللبن، فقد قيل يضمنه الغاصب لا غير لأنه سبب الاتلاف، ومباشرة
المشتري مع الغرور ضعيفة فيكون السبب أقوى كما لو غصب طعاما واطعمه المالك " (3).
وهذا الكلام منه يؤيد ما قويناه سابقا من كون الضمان في هذه الموارد على

(1) الجواهر ج 30 ص 370.
(2) الجواهر ج 30 ص 374.
(3) الجواهر ج 37 ص 181 - 182.
300

السبب وان قاعدة الغرور ناظرة إلى غير هذا المقام.
وقال شيخنا العلامة الأنصاري في مكاسبه:
واما الثاني وهو ما غرمه (اي ما غرمه المشتري للمالك فيما إذا اشترى شيئا
مغصوبا جاهلا) في مقابل النفع الواصل إليه من المنافع والنماء، ففي الرجوع بها
خلاف، أقواها الرجوع وفاقا للمحكي عن المبسوط، والمحقق، والعلامة في
التجارة، والشهيدين، والمحقق الثاني، وغيرهم، وعن التنقيح ان عليه الفتوى،
لقاعدة الغرور المتفق عليها ظاهرا فيمن قدم مال الغير إلى غيره الجاهل فاكله ويؤيده
قاعدة نفي الضرر (1).
وما استدل به قدس سره على محل كلامه بقاعدة لا ضرر دليل عام يشمل جميع
موارد قاعدة الغرور الا ان فيه اشكالا يتبنى على ما هو المعروف في قاعدة لا ضرر من أنها
لا تثبت حكما بل تنفي الأحكام الضررية، ولكن على القول بعمومها وشمولها
لنفي الأحكام واثباتها في موارد الضرر، كما هو المختار، فهو استدلال جيد يجري
في جميع موارد قاعدة الغرور.
ولو قيل إن ضرر المغرور معارض بضرر الغار، أجيب عنه بان الغار أقدم على
ضرر نفسه فلا تشمله قاعدة نفي الضرر.

(1) المكاسب كتاب البيع ص 174.
301

14 - قاعدة الخراج
(الخراج بالضمان)
* المراد من القاعدة
* مداركها من الروايات من طرق الأصحاب وغيرهم
* معنى " الخراج " ومعنى " الضمان " ونقد ما ذكروه في هذا الباب
303

قاعدة الخراج
هذه القاعدة (قاعدة الخراج بالضمان) من القواعد المعروفة عند العامة، ولم
يعتمد عليها من الخاصة، الا قليل منهم في موارد معينة، ولكن على كل حال لابد
من تحقيق مدركها عندهم، وعندنا لو كان، ثم الكلام عن محتواها وما يتفرع عليها
من الفروع.
والمراد منها - على سبيل الاجمال ان نبحث عن تفاصيله - انه إذا ضمن
الانسان شيئا بحكم الشرع، بحيث لو تلف، تلف من ماله، ثم انتفع منه بمنافع،
ثم أراد رد المال إلى صاحبها فيرد الأصل دون منافعه، لأنه كان ضامنا للمال فالمنافع
والخراج له في مقابل ضمانه، فكما ان الغرم عليه الغنم له.
مثال ذلك ما لو اشترى شيئا وانتفع من ثمرته أو منافعه الأخرى ثم وجد بها
عيبا فأراد فسخ البيع ورد العين، فهل يرد المنافع الحاصلة منها أيضا أولا؟ قد يستند
إلى هذه القاعدة لكونها له فإنه لو تلف قبل ذلك كان من ملكه على كلام فيه.
والذي يظهر من بعض كلمات فقهاء الجمهور انها لا تختص بباب البيوع
عندهم، بل تجري في غيره أيضا، كالفتوى المعروف عن أبي حنيفة الذي ورد في
رواية أبي ولاد فيمن اكترى حيوانا ثم جاوز به عن الشرط، وبعد ما أراد رده إلى
صاحبه، طلب منه الكراء بالنسبة إلى ما انتفع منه زائدا على الشرط، فاختلفا ورضيا
305

بأبي حنيفة وأفتى بأنه لا يرى عليه شيئا لأن ضمانه في هذه المدة كان على المستأجر
فخراجه ومنافعه له! (1).
استنادا إلى ما رووه من طرقهم من أن النبي صلى الله عليه وآله قضى في بعض قضاياه بان
" الخراج بالضمان ".
لكن الذي يترائى من كلمات بعض الأصحاب في الاستناد بهذه القاعدة انهم
يقتصرون فيها بأبواب البيوع وما أشبهها واليك شطر من كلماتهم:
* * *
1 - قال شيخ الطائفة في " الخلاف ": إذا حصل من البيع فائدة من نتاج
أو ثمرة قبل القبض ثم ظهر به عيب كان ذلك قبل العقد كان ذلك للمشتري، وبه قال
الشافعي، وقال المالك: الولد يرده مع الام ولا يرد الثمر مع الأصول، وقال أبو
حنيفة: يسقط رد الأصل بالعيب.
ثم قال: دليلنا اجماع الفرقة وروت عايشة ان النبي صلى الله عليه وآله قضى ان الخراج
بالضمان، ولم يفرق بين الكسب والولد والثمرة فهو على عمومه (2).
أقول: اما قول أبي حنيفة بسقوط رد الأصل بالعيب لا ينافي ما حكى عنه من
قوله بعموم الخراج بالضمان كما لا يخفى.
وقال في المسألة 176: إذا اشترى جارية حاملا فولدت في ملك المشتري
عبدا مملوكا ثم وجد بالام عيبا فإنه يرد الام دون الولد، وللشافعي فيه قولان أحدهما
مثل ما قلناه، والثاني: له ان يردهما معا لأنه لا يجوز ان يفرق بين الام وولدها فيما
دون سبع سنين والأول أصح عندهم، دليلنا عموم قوله " الخراج بالضمان " (3).

(1) راجع الحديث 1 من باب 17 من أبواب الإجارة من المجلد 13 من الوسائل.
(2) كتاب الخلاف البيوع المسألة 174 ج 2 ص 47.
(3) كتاب الخلاف البيوع المسألة 176 ج 2 ص 47.
306

وقال في " المبسوط ": فصل في أن الخراج بالضمان، ثم ذكر تحت هذا
العنوان ما يلي:
إذا كان لرجل مال فيه عيب فأراد بيعه وجب عليه ان يبين للمشتري عيبه ولا
يكتمه أو يتبرء إليه من العيوب، والأول أحوط فإن لم يبينه واشتراه انسان فوجد به
عيبا كان المشتري بالخيار، ان شاء رضى به، وان شاء رد بالعيب، واسترجع الثمن
فإن اختار فسخ البيع ورد المبيع نظر فإن لم يكن حصل من جهة المبيع نماء رده،
واسترجع ثمنه وإن كان حصل نماء وفائدة فلا يخلو من أن يكون كسبا من جهته أو
نتاجا وثمرة، فإن كان كسبا مثل ان يكتسب بعلمه أو تجارته أو يوهب له شئ، أو
يصطاد شيئا أو يحتطب أو يحتش فإنه يرد المبيع، ولا يرد الكسب بلا خلاف،
لقوله صلى الله عليه وآله: " الخراج بالضمان " فالخراج اسم للغلة والفائدة التي يحصل من جهة
المبيع، ويقال للعبد الذي ضرب عليه مقدار من الكسب في كل يوم أو في كل شهر
" عبد مخارج " وقوله: " الخراج بالضمان " معناه ان الخراج لمن يكون المال يتلف
من ملكه. (انتهى موضع الحاجة من كلامه) (1).
ووافق شيخ الطائفة في هذا المعنى " ابن حمزة " في الوسيلة قال فيما حكى
عنه في فصل عقده للبيع الفاسد ما هذا نصه: " فإذا باع أحد بيعا فاسدا وانتفع به
المبتاع ولم يعلما بفاسده، ثم عرفا واسترد البايع المبيع، لم يكن له استرداد ثمن
ما انتفع به أو استرداد الولد ان حملت الام عنده وولدت، لأنه لو تلف لكان من ماله
و " الخراج بالضمان " (انتهى محل الحاجة).
وقد تعرض للقاعدة غير واحد من المعاصرين، وردوا الاستدلال بها، ولكن
أكثر الأصحاب أهملوا ذكرها ولم يعتمدوا عليها في كتبهم.
ولعل بعض من استند إلى هذه القاعدة رآها موافقة لأدلة أخرى كما في أبواب

(1) المبسوط ج 2 كتاب البيوع ص 126.
307

العيب على ما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله، ولكن لما أرادوا المشي على مذهب
المخالفين استندوا إلى ما هو المقبول عندهم من رواية " الخراج بالضمان " وهذا
المعنى يجري فيما نقلناه عن شيخ الطائفة في أبواب العيوب، وإن كان لا يجري فيما
حكى عن ابن حمزة في الوسيلة فإنه استند إليها في البيع الفاسد.
وعلى كل حال ليست هذه القاعدة مما اشتهرت بين أصحابنا وسيأتي انها
ليست مما اشتهر بين العقلاء وأهل العرف أيضا الا في موارد خاصة بملاكات أخرى
ستأتي الإشارة إليها.
* * *
مدارك القاعدة
عمدة ما استدل به لقاعدة " الخراج بالضمان " هي ما ورد من طرق " العامة "
وهي عدة روايات رووها عن عايشة كما يلي:
1 - ما رواه عروة بن زبير عن عايشة ان رسول الله صلى الله عليه وآله قضى ان خراج
العبد بضمانه (1).
2 - وهناك رواية أخرى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عايشة ان رجلا اشترى
عبدا فاستغله ثم وجد به عيبا فرده فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله انه قد استغل غلامي فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله الخراج بالضمان (2).
والظاهر أنهما حكاية عن واقعة واحدة حكيت ملخصة تارة ومفصلة أخرى،
والمراد من استغلال العبد انتفاعه بخدمته.
3 - ما رواه أيضا عروة عن عايشة ان النبي صلى الله عليه وآله قال الخراج بالضمان (3).
وهذا الحديث عام لا يختص بالعبد ولا بخيار العيب.

(1) السنن لابن ماجة ج 2 كتاب التجارات الباب 43 ح 2243 و 2242 ص 754.
(2) السنن لابن ماجة ج 2 كتاب التجارات الباب 43 ح 2243 و 2242 ص 754.
(3) مسند أحمد بن حنبل ج 6 ص 49.
308

ورواه بعينه في محل آخر من كتابه (1).
ورواه بعينه عن عروة عن عايشة النسائي في سننه (2).
4 - ما رواه " مخلد بن خفاف " قال اتبعت غلاما فاستغللته ثم ظهرت منه
علي عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي برده، وقضى علي برد
غلته، فاتيت " عروة " فأخبرته، فقال أروح إليه العشية فأخبره ان عايشة أخبرتني ان
رسول الله صلى الله عليه وآله قضى في مثل هذا ان الخراج بالضمان فعجلت إلى عمر فأخبرته
ما أخبرني عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عمر فما أيسر علي من قضاء
قضيته الله يعلم اني لم أرد فيه الا الحق فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله فارد قضاء
عمر، وانفد سنة رسول الله صلى الله عليه وآله فراح إليه عروة فقضى لي ان آخذ الخراج من
الذي قضى به علي له (3).
ورواه البيهقي في سننه بطرق أخرى كلها تنتهي إلى عايشة وفي طريقها عروة
وفي بعضها ثم رواه عن شريح غير مستند إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بهذه العبارة " ولك
الغلة بالضمان " (4).
والظاهر أنها بأجمعها حكاية لقضية واحدة، ويستفاد من ضم بعضها إلى بعض
انها وردت في خصوص أبواب البيع، ولكن بعض الرواة نقلوها تارة بدون ذكر
المورد، فيتوهم منه العموم، وأخرى بذكر المورد.
ومن هنا يعلم أن الاستناد إليها في غير أبواب العيوب مشكل جدا.
لا يقال كون المورد خاصا لا ينافي كون القاعدة عامة على ما يلوح من قوله
" الخراج بالضمان ".

(1) مسند أحمد بن حنبل ج 6 ص 237 من طبعة دار الصادر.
(2) سنن النسائي ج 7 ص 254 وعقد له بابا بهذا العنوان (الخراج بالضمان).
(3) السنن للبيهقي ج 5 ص 321.
(4) السنن للبيهقي ج 5 ص 322 و 321.
309

لأنا نقول هذا إذا كان الألف واللام في قوله " الخراج " و " الضمان " للجنس
واما إن كان للعهد، يعني خراج الغلام المعيوب في مقابل ضمانه، لا يمكن التعدي
منه إلى غير أبواب العيوب، واختصاص المورد بالعبد غير ضائر بعد أن كان الغاء
الخصوصية منه وشموله لجميع موارد بيع المعيوب.
هذا كله مع قطع النظر عن اسنادها والا فهي ضعيفة على مختار الأصحاب،
فلا يصح الاستناد إليها لاثبات هذه القاعدة كما هو ظاهر.
* * *
واما من طرق الأصحاب فلم يرد هذا المعنى الا في رواية مرسلة رواها ابن
أبي جمهور في " غوالي اللئالي " قال: وروى عنه صلى الله عليه وآله انه قضى بان الخراج
بالضمان (1).
وهي أيضا كما ترى.
ولكن ورد بهذا المعنى روايات في موارد خاصة غير مشتملة على هذا العنوان
ولكن يوافقه بحسب المعنى واليك ما عثرنا عليه:
1 - ما رواه إسحاق بن عمار قال حدثني من سمع أبا عبد الله عليه السلام وسأله رجل
وانا عنده، فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال أبيعك داري
هذه وتكون لك أحب إلي من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي ان انا جئتك بثمنها
إلى سنة ان ترد علي فقال: لا باس بهذا ان جاء بثمنها إلى سنة ردها عليه، قلت فإنها
كانت فيها غلة كثيرة فاخذ الغلة لمن تكون الغلة؟ فقال: الغلة للمشتري، ألا ترى انه
لو احترقت لكانت من ماله (2).
2 - ما رواه معاوية بن ميسرة قال سمعت أبا الجارود يسال أبا عبد الله عليه السلام عن

(1) المستدرك ج 2 أبواب الخيار الباب 7 ص 473.
(2) الوسائل ج 12 أبواب الخيار الباب 8 الحديث 1.
310

رجل باع دارا له من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاضر
فشرط انك ان اتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فاتى بماله، قال: له
شرطه، قال أبو الجارود: فإن ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين
قال: هو ماله وقال أبو عبد الله عليه السلام: أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من كانت؟
تكون الدار دار المشتري (1).
3 - ما رواه في دعائم الاسلام عن أبي عبد الله عليه السلام انه سئل عن رجل باع داره
على شرط انه ان جاء بثمنها إلى سنة ان يرد عليه، قال: لا باس بهذا وهو على شرطه
قيل فغلتها لمن تكون؟ قال: للمشتري، لأنها لو احترقت لكانت من ماله (2).
* * *
ويستفاد من جميع ما ذكرنا انه لا دليل على اعتبار هذه القاعدة بعنوان عام، حتى
يجوز الاستدلال بها في الأبواب المختلفة من الفقه، لضعف ما روي من طرق المخالفين
سندا، بل قصور دلالتها واختصاصها بمورد خيار العيب، وما ورد مطلقا في هذا الباب
أيضا ناظر إلى هذا المورد كما لا يخفى على من تأمله.
ولو استفيد من اطلاقه العموم فالظاهر أن العموم في خصوص موارد يشابه مورد
خيار العيب، بان يكون ضمن شيئا بعقد صحيح ضمانا اختياريا، وانتفع بالمعقود
عليه منفعة مستوفاة، فحينئذ يكون خراجه في مقابل ضمانه.
واما الروايات الخاصة التي عرفتها آنفا فهي ناظرة إلى مسألة بيع الشرط
أو الرهن وسيأتي الكلام إن شاء الله فيها وانه موافق لقواعد اخر، ولا دخل لها بقاعدة
" الخراج بالضمان ".
واما بناء العقلاء فقد عرفت عدم استقراره على هذه القاعدة، بل بناؤهم

(1) الوسائل ج 12 أبواب الخيار الباب 8 الحديث 3.
(2) المستدرك ج 2 كتاب التجارة أبواب الخيار الباب 6 و 7 ص 473.
311

مستقر على خلافها في أبواب الغصب، فمن غصب دارا أو حيوانا أو شيئا آخر وانتفع
بها يكون ضامنا لهذه المنافع أجمع عندهم بلا ريب.
إذا عرفت ذلك فلنعد إلى تفسير القاعدة.
* * *
معنى " الخراج " ومعنى " الضمان ":
قد وقع الكلام بينهم في المراد من هذين اللفظين الواردين في متن القاعدة
(على القول بثبوتها) وذكر فيه احتمالات أو أقوال، أهمها ما يلي:
1 - ان المراد من " الخراج " ما هو المعروف في باب الخراج والأراضي
الخراجية، والمراد من " الضمان " هو ضمان هذه الأراضي بسبب الإجارة والتقبل!
وقد جعله بعضهم أقرب الاحتمالات في الحديث وعليه لا مصاص له بما نحن
بصدده (1).
2 - وقرب منه ما قيل إنه يحتمل أن يكون المراد من الخراج هو الخراج
المضروب على الأراضي أو الرؤس ومن الضمان ضمان والي المسلمين تدبير أمورهم
وسد حاجاتهم، وجميع ما على الوالي في صلاح دوله الاسلام وحال المسلمين،
فالمراد ان الخراج المعهود من الأراضي وغيرها بإزاء ما على الوالي من الوظائف
على إدارة الأمور (2).
فالخراج في كلا الاحتمالين بمعنى واحد ولكن الضمان في الأول بمعنى إجارة
الأرض وتقبلها، وفي الثاني بمعنى ولاية أمور المسلمين وتعهد أمورهم.
هذا ولكن قلما يستعمل الضمان في هذا المعنى كما سيأتي إن شاء الله.

(1) مصباح الفقاهة ج 3 ص 133.
(2) كتاب البيع ج 1 ص 318.
312

3 - ان المراد من الخراج مطلق المنافع، والمراد بالضمان مطلق العهدة،
سواء كان أمرا اختياريا مترتبا على العقود الصحيحة أو الفاسدة، أو كان أمرا غير اختياري
مترتبا على الغصب.
وهذا ينطبق على ما روي عن أبي حنيفة من عدم تضمين الغاصب بالمنافع
المستوفاة نظرا إلى ضمانه، وماعن " ابن حمزة " من قدماء فقهاء أصحابنا، وإن كان
في السنبة إليه كلام.
4 - أن يكون المراد من الخراج خصوص المنافع المستوفاة، والمراد بالضمان
ما يكون في خصوص العقود الصحيحة، فحينئذ يكون المنافع المستوفاة في العقود
الصحيحة في مقابل ضمان العين بالضمان الاختياري الناشئ عن عقد صحيح.
5 - المراد من الخراج خصوص المنافع المستوفاة كما في سابقه، ولكن
المراد بالضمان هو الضمان الاختياري، الأعم مما يحصل من العقود الصحيحة أو
الفاسدة، من دون شمول مثل الغصب الذي حكمه الضمان قهرا.
* * *
إذا عرفت ذلك فاعلم أن اللازم الرجوع إلى معنى اللفظتين في اللغة والعرف
أولا ثم ملاحظة مورد الأحاديث ثانيا.
والانصاف ان شيئا من هذه المعاني لا يناسب مورد الرواية ومصدرها ما عدا
القول الرابع.
توضيح ذلك: ان الرواية كما عرفت لم ترد من طرق أهل البيت وإنما وردت
في طرق الجمهور ومنابعهم المعروفة، واشتهر بينهم اشتهارا تاما، ولكنها أجمع
تنتهي إلى عروة بن الزبير وهو يرويها عن عايشة تارة مصدرة بمسألة استغلال العبد
المعيب الذي اشتراه بظن السلامة ثم وجد به عيبا، وقد ذكرت مع هذا المتن في كثير
من كتبهم وقد أشرنا إليها سابقا، وأخرى من دون ذكر موردها من بيع المعيب.
313

والظاهر لكل ناظر فيها قضية واحدة ومن البعيد أن يكون الراوي سمعها تارة
مع صدرها، وأخرى مطلقة، لأنها وردت عقيب سؤال واحد، سلمنا ولكن احتمال
ذلك كاف في عدم امكان الاستدلال بكل واحد كرواية مستقلة الا أن يكون ظاهر كلام
الراوي صدورها مستقلة عن النبي صلى الله عليه وآله ومع ما عرفت ممن كيفية نقل الرواية لا ظهور
فيها من هذه الناحية، وبالجملة لم يثبت لنا تعدد الرواية ولا ظهور لها فيه حسب متفاهم
العرف.
وعندئذ يكون موردها قرينة على تفسير لفظتي " الضمان " و " الخراج " فالخراج
هو المنافع المستوفاة كاستغلال العبد، والانتفاع بغلته، والمراد بالضمان هو الضمان
بالعقد الصحيح، لا العقد الفاسد، ولا الضمان القهري كالغصب.
واعجب من ذلك كله احتمال كون الخراج بمعناه المعروف في باب الأراضي
الخراجية، فإنه وإن كان كذلك في تلك الأبواب ولكن ليس كذلك في محل الكلام
قطعا.
واعجب منه جعل الضمان بمعنى ضمان الحكومة لرعاية الرعية والذب عنهم
وتدبير أمورهم! فإن اطلاق الضمان على هذا المعنى بعيد جدا وقلما يستعمل هذه
اللفظة في هذا المعنى في كلمات العرب.
بل المراد ان الضمان هنا هو ضمان العين الحاصل في العقود الصحيحة
المعاوضية، فإنها إذا تلفت تلفت من ملك من انتقل إليه بذاك العقد في مقابل الثمن
الذي أداه إلى المالك.
فكأنه صلى الله عليه وآله يقول أرأيت لو تلفت العين المعيبة تلفت من ملك المشتري؟ فكذلك
إذا كان له منافع مستوفاة فهي له، بل هذا نتيجة انتقال العين إليه كما لا يخفى.
نعم لازم ذلك كون فسخ البيع فيما إذا كان معيبا من حينه، لا من أصله، كما أن
لازمه عدم سقوط خيار العيب بمثل هذه التصرفات.
314

وورود مسألة الرد في كلام السائل كما في الرواية الثانية لا ينافي ما ذكرناه بعد
امضاء النبي صلى الله عليه وآله له على فرض صدور هذه الرواية.
نعم لا يبعد التعدي من مورد الروايات إلى مطلق الخيار، فإذا جاز الرد بالخيار
فانتفع منه منافع، وقلنا بعدم منع الانتفاع من الرد بالخيار، فمقتضى الرواية عدم
ضمان هذه المنافع؟ وكون خراجه بضمانه، بناءا على كون الضمان على المشتري
والمنتقل إليه المال في أمثال المقام فتأمل.
هذا بحسب مورد الرواية واما بحسب معناهما في اللغة، فقد قال الجوهري
في الصحاح: الخرج والخراج والإتاوة (1) والخرج أيضا ضد الدخل، وقال في معنى
الضمان: ضمن الشئ بالكسر كفل به، فهو ضامن وضمين، وضمنه الشئ تضمينا
وتضمينه عنه مثل غرمه.
وقال الراغب في المفردات: والخراج يختص في الغالب بالضريبة على الأرض
وقيل العبد يؤدي خرجه إلى غلته... وقيل الخراج بالضمان اي ما يخرج من مال
البايع فهو ما سقط بإزائه عنه من ضمان المبيع.
وقال الطريحي في مجمع البحرين " الخراج " بفتح المعجمة ما يحصل من
غلة الأرض، وقيل يقع اسم الخراج على الضريبة والفئ والجزية والغلة.
وقال: ضمنت المال التزمته ويتعدى بالتضعيف فيقال ضمنته المال، اي التزمته
إياه، وما عن بعض الاعلام: " الضمان " مأخوذ من الفم، غلط من جهة الاشتقاق
لأن نونه أصلية، والفم لا نون فيه إلى غير ذلك مما ورد في كتب أهل اللغة.
والمناسب من بين هذه المعاني بحسب مورد الرواية هو ما عرفت لا غير،
أعني كون الضمان هو ضمان الحاصل من العقود الصحيحة بالثمن المعلوم والخراج
هو المنافع المستوفاة.

(1) الإتاوة من " اتو " بمعنى " الخراج ".
315

وعندئذ ينطبق مفاد الرواية المعروفة على ما ورد في طرقنا بغير لفظ الضمان
والخراج مثل ما مر من روايات عديدة وردت في مورد بيع الشرط، وانه إذا باع
رجل داره، مثلا وشرط على المشتري انه لو جاء بثمنه إلى سنة فالدار له، وله فسخ
البيع، وانه لو كان للدار غلة كثيرة كان للمشتري في مقابل انه لو تلفت العين في أثناء
هذه المدة في يده كان من ملكه.
وان شئت قلت ما ورد من طرق العامة تحت عنوان الخراج بالضمان ينطبق
على ما ورد من طرقنا في أبواب بيع الشرط ولا يستفاد من شئ منهما قاعدة كلية.
نعم هي أوسع نطاقا مما ورد في رواياتنا لأنه يشمل جميع المنافع المستوفاة في
موارد يجوز رد العين، ولو بعد الانتفاع، من دون اختصاص بباب العيب أو خيار الشرط
أو غيره، ولكن ما ورد من طريق الأصحاب خاص لمورد خيار الشرط، اللهم الا ان
يؤخذ بعموم التعليل الوارد في كلام الإمام عليه السلام بأنه كلما كان تلف المبيع من المشتري
فالمنافع المستوفاة له أيضا فيتطابقان ولا يكون فيها شئ جديد ما عدا ما هو مقتضى
البيع الصحيح فإن لازم صحة البيع كون المنافع للمشتري كما أن تلف العين عليه.
* * *
ثم إنه هل تختص القاعدة بضمان المثمن ومنافعها، أو تعم ضمان الثمن ومنافعها
أيضا؟ فبناء على صدور هذه الجملة مستقلا عنه صلى الله عليه وآله لاشك في كونها عامة لجميع
موارد الضمان والخراج، ولكن لما عرفت انها على فرض صحة الاسناد واردة ذيل
بيع المعيب وضمانه ومنافعه المستوفاة يشكل الاخذ بعمومها، نعم الغاء الخصوصية
عن المثمن وشمولها بالنسبة إلى الثمن غير بعيد.
ومن هنا يظهر ان ما أورد عليها من النقض بمسألة العارية المضمونة فإن ضمانها
على المستعير من دون أن يكون منافعها ملكا له، بل هي من قبيل إباحة المنافع دون
التمليك، غير وارد بعد ما عرفت وكذلك غيرها من أشباهها، وحيث إن أصل القاعدة
غير ثابتة فلا يهمنا البحث عن هذه الفروع.
316

15 - قاعدة اللزوم
(الأصل في المعاملات اللزوم)
* محل الكلام فيها
* مداركها من كتاب الله
* مداركها من السنة
* الاستدلال بالاستصحاب ونقده
* بناء العقلاء هنا
317

قاعدة اللزوم
من القواعد المعروفة المستدل بها في أبواب المعاملات بالمعنى الأعم من
البيع والإجارة والنكاح وغيرها، قاعدة اللزوم في العقود إذا شك في لزوم عقد
وجوازه.
وليعلم ان البحث تارة يكون في الشبهات الحكمية كما إذا شككنا في أن عقد
المعاطاة جائزة أو لازمة، أو ان الهبة في بعض مصاديقها جائزة أو لازمة.
وأخرى يكون من قبيل الشبهات الموضوعية بان نعلم أن البيع بالصيغة لازم
وبيع المعاطاة تكون جائزة مثلا، ثم شككنا في أن العقد الواقع في الخارج كان من
قبيل البيع بالصيغة أو المعاطاة.
ثم إن الشك قد يكون في ابتداء العقد بان شك في أن عقد المعاطاة من أول أمرها
لازمة أو جائزة، وأخرى يكون بعد عرض الجواز له كما إذا قلنا بان خيار العين إنما
يكون بعد ظهوره، وقبله يكون البيع لازما، وكذلك بالنسبة إلى خيار الرؤية، وخيار
الشرط، إذا جعل الخيار في زمان منفصل عن العقد وقلنا بجواز ذلك، وحينئذ ينقلب
العقد اللازم جائزا، ثم لو شككنا بعد ذلك في صيرورته لازما أو بقائه على الجواز
سواء من ناحية الشبهة الحكمية أو الموضوعية فهل الأصل هنا أيضا اللزوم أو الجواز؟
319

ولابد من البحث عن القاعدة أولا بعنوان كلي، ثم نتكلم في فروعها وخصوصياتها
فنقول، ومن الله سبحانه التوفيق والهداية: ان المعروف بين من تعرض لهذه القاعدة
ثبوت اللزوم في جميع العقود الا ما خرج بالدليل، ولكن لم يتعرض لها بعنوان كلي
كثير من الأصحاب، وان تعرضوا لها بعنوان جزئي في بعض العقود كعقد الإجارة
والمساقاة وغيرهما.
واليك بعض كلماتهم في المقامين:
اما المقام الأول:
قال العلامة الأنصاري في مكاسبه: لا اشكال في أصالة اللزوم في كل عقد شك
في لزومه شرعا، وكذا لو شك في أن الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو الجائز،
كالصلح من دون عوض والهبة (1).
وقال الشهيد (ره) في القواعد: " الأصل في البيع اللزوم، وكذا في سائر العقود
ويخرج عن الأصل في مواضع لعلل خارجة " (2).
وقال الشهيد الثاني في " المسالك ": في شرح قول المحقق " والإجارة عقد
لازم " ما نصه: " لزوم عقد الإجارة موضع وفاق وعموم الامر بالوفاء بالعقود يتناوله
...، واما الأسباب المقتضية في الفسخ فستأتي مفصلة إن شاء الله (3).
وذكر الشيخ في " الخلاف " في باب الإجارة: انها من العقود اللازمة، متى
حصل لم يكن لأحدهما فسخ الإجارة، دليلنا ان العقد قد ثبت... وأيضا قوله تعالى:
أوفوا بالعقود، فامر بالوفاء بالعقود والإجارة عقد، فوجب الوفاء به (4).

(1) المكاسب ص 85.
(2) القواعد والفوائد ج 2 ص 242.
(3) المسالك ج 1 ص 320.
(4) الخلاف ج 2 كتاب الإجارة مسألة 2 ص 206.
320

وقال في " مفتاح الكرامة " في كتاب " المزارعة " بعد قول الماتن " وهو
عقد لازم من الطرفين " ما نصه: " اجماعا كما في جامع المقاصد والمسالك ومجمع
البرهان... وكأنه اجماع، لأن الأصل في العقود اللزوم، الا ما أخرجه الدليل،
للامر بالوفاء بالعقود في قوله تعالى " أوفوا بالعقود " (1).
وبالجملة لا يخفى على الناظر في كلمات الأصحاب في العقود المختلفة ان
الأصل عندهم في كل عقد اللزوم، الا ما خرج بالدليل، ومن الواضح ان الاجماع
في أمثال هذه المسائل وإن كان مؤيدا للمطلوب ومرجحا له، لكنه ليس شيئا يركن
إليه ودليلا مستقلا بنفسه بعد امكان استناد المجمعين إلى الأدلة الأخرى التي ستمر
عليك إن شاء الله.
* * *
مدارك قاعدة اللزوم
1 - استدل له من كتاب الله بمامر ذكره من قوله تعالى " يا أيها الذين
آمنوا أوفوا بالعقود " (2).
وتقريب الاستدلال بها ظاهر، لأن جميع المعاملات بالمعنى الأعم داخلة في
عنوان العقود، وهو جمع محلى باللام يفيد العموم، مضافا إلى كونها في مقام الاطلاق
مع عدم ورد قيد عليه، والعقد بأي معنى فسر شامل لها، والامر بالوفاء دليل على
وجوب العمل على طبق العقد، لازمه عدم تأثير الفسخ، فإن الامر وإن كان دليلا
على الوجوب التكليفي الا انه يدل على الحكم الوضعي في أبواب المعاملات
واجزاء العبادات وشرائطها إذا تعلق الامر أو النهي بعنوان المعاملة، أو اجزاء العبادة
لا بعنوان آخر ينطبق عليه كما حقق في محله وان شئت قلت، الامر بالوفاء بالعقد

(1) مفتاح الكرامة ج 7 ص 300.
(2) سورة المائدة: الآية 1.
321

دليل على تأثيره، فالوفاء من آثاره، لا انه واجب مستقل تكليفي، وحينئذ يدل على
الحكم الوضعي دلالة واضحة.
وما قد يتوهم ان لازمه تخصيص الأكثر لخروج العقود الجائزة كلها والعقود
اللازمة بأنواع الخيارات، مدفوع، بأن كون المعاملات الجائزة من العقود حقيقة
لا يخلو عن تأمل، لأنها تدور غالبا مدار الاذن الحاصل من المالك وشبهه، وهذا
أمر وراء العقد، وان شئت قلت " العقد " عبارة عن التزام في مقابل التزام، وليس
في غالب العقود الجائزة الا التزام من طرف واحد، وبعبارة أوضح هي إجازة
ورضى من طرف واحد كما ذكر في محله.
واما الخيارات فليست مستوعبة لأكثر العقود بحسب أزمانها بل استثنائات
جزئيه من هذه الجهة والا فأكثرها في أكثر الأزمنة لازمة باقية، وحينئذ لا يلزم
التخصيص المستهجن ابدا.
وقوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة
عن تراض منكم (1).
دل على حرمة اكل المال بالباطل، ومن الواضح انه إذا انتقل عين إلى ملك
آخر فصار المال ماله لا يجوز اخراجه عن يده بغير رضاه، فلو فسخ البيع أو شبهه
بدون اذنه واخذ المال فقد اكله بالباطل.
هذا وقد يورد عليه بان الآية ناظرة إلى الأسباب لا شرائط العوضين، وبعبارة
أخرى: ناظرة إلى ما كان من قبيل رضى المتعاملين في مقابل القهر والغصب والرشوة
والغش وغيرها من طرق السيطرة على مال الغير بالباطل.
ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون " (2).

(1) سورة النساء: الآية 29.
(2) سورة البقرة: الآية 188.
322

فإن الادلاء بها إلى الحكام لاكل أموال الناس إنما هو من باب الأسباب،
ويؤيده أيضا " الباء " في قوله " بالباطل "، فالاستدلال بالآية لغير ذلك غير جائز.
وفيه أولا ان كون هذه الأمور من الباطل مما لا ريب فيه، ولكن لا دليل لنا
على حصر الآية في خصوص الأسباب، وآية البقرة لا تنفي ما سواها، وكون الباء
للسببية أيضا غير مانع، فمن اكل مال الغير في مقابل الخمر وآلات القمار مثلا فقد
اكله بسبب باطل، وكذلك في مقابل الحشرات والأشياء التي لا مالية لها عند العقلاء
وأهل الشرع.
سلمنا ذلك ولكن ما نحن فيه أي الفسخ من جانب المشتري أو البايع من دون
موافقة الطرف الآخر من الأسباب الباطلة وعلى كل حال شمول الآية لما نحن بصدده
مما لا ينبغي الريب فيه.
ومن الآيات قوله تعالى: " أحل الله البيع " (1).
وجه الاستدلال به على أصالة اللزوم ما ذكره الشيخ الأعظم: ان حلية البيع
التي لا يراد منها الا حلية جميع التصرفات المترتبة عليه، التي منها ما يقع بعد فسخ
أحد المتبايعين بغير رضى الاخر مستلزمة لعدم تأثير ذلك الفسخ، وكونه لغوا غير
مؤثر (انتهى).
وحاصله ان اطلاق الحلية الدالة على تأثير البيع يشمل ما بعد زمان الفسخ
من الجانب الآخر، ولازمه عدم تأثير الفسخ أصلا.
وفيه انه إنما ورد في جواب الكفار والمخالفين لتحريم الربا، وقولهم " إنما
البيع مثل الربا " فقد قال الله تعالى في جوابهم: ليس البيع مثل الربا، الربا
حرام والبيع حلال، فلا يجوز قياس أحدهما على الاخر، ومن البعيد أن يكون مثل
هذا الكلام ناظرا إلى حكم الفسخ، وفي مقام البيان من هذه الجهة، بل المقصود

(1) سورة البقرة: الآية 275.
323

منه بيان حرمة الربا من أصله، وبيان حلية البيع كذلك، من دون النظر إلى جميع
خصوصياته.
هذا، مضافا إلى امكان القول بان التمسك باطلاقه بعد الفسخ من قبيل التمسك
بعموم العام في الشبهات المصداقية، فإن بقاء البيع وآثاره مشكوك بعد الفسخ،
على ما هو المفروض، والتمسك بالاستصحاب هنا رجوع إليه لا إلى عموم قوله:
أحل الله البيع.
كما أن القول بان حلية البيع توجب الملكية، ومن آثاره عدم جواز سلطة
الغير عليه بدون رضا صاحبه أيضا رجوع إلى الأدلة الآتية مثل قوله: " الناس مسلطون
على أموالهم "، و " لا يحل مال امرء الا من طيب نفسه ".
ولنعم ما قال المحقق اليزدي في حواشيه على المكاسب حيث قال: الانصاف
ان هذه الآية لا دلالة لها الا على مجرد حلية البيع بمعنى التمليك والتملك، ولا تعرض
فيها لحلية التصرفات بعد البيع، حتى تشمل باطلاقها ما كان بعد الفسخ (1).
وقد عرفت ان هذا أحد الايرادات الواردة على الاستدلال بالآية الشريفة.
2 - يدل على أصالة اللزوم من السنة عدة روايات:
(1) المؤمنون عند شروطهم
وهذه الرواية رواها جمع من العامة والخاصة في كتبهم واستدلوا بها في موارد
مختلفة، ومنها استدلال غير واحد منهم بها على لزوم العقود.
فقد رواها في " دعائم الاسلام " عن النبي صلى الله عليه وآله بهذه العبارة، أنه قال:
" المسلمون عند شروطهم، الاكل شرط خالف كتاب الله " (2) وتارة عن علي عليه السلام
بهذه العبارة قال: " المسلمون عند شروطهم الا شرطا في معصية " (3).

(1) تعليقات السيد على المكاسب أبواب الخيارات ص 4.
(2) المستدرك ج 2 كتاب التجارة أبواب الخيار ح 1 و 3 الباب 4 ص 473.
(3) المستدرك ج 2 كتاب التجارة أبواب الخيار ح 1 و 3 الباب 4 ص 473.
324

ورواها في الوسائل عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المسلمون
عند شروطهم الاكل شرط خالف كتاب الله عز وجل فلا يجوز (1).
وما رواه أيضا عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: من
اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه،
والمسلمون عند شروطهم مما ووافق كتاب الله عز وجل (2).
ورواها أيضا عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليه السلام ان علي بن أبي طالب
عليه السلام كان يقول من شرط لامرأته شرطا فليف لها به، فإن المسلمين عند شروطهم الا
شرطا حرم حلالا أو أحل حراما (3).
ومن طرق الجمهور ما رواه البخاري في صحيحه بعنوان " المسلمون عند
شروطهم " عن النبي صلى الله عليه وآله (4).
ورواه الترمذي أيضا في صحيحه في أبواب الأحكام بهذه العبارة: " والمسلمون
على شروطهم الا شرطا حرم حلالا " (5).
وقد رواه الأصحاب في أبواب المكاتبة أيضا.
مثل ما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في مكاتب شرط عليه ان عجز
أن يرد في الرق قال: " المسلمون عند شروطهم " (6).
وفي معناه ما عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (7) في ذاك الباب بعينه.
وما رواه سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل كان له

(1) الوسائل ج 12 أبواب الخيار الباب 6 الحديث 2.
(2) الوسائل ج 12 أبواب الخيار الباب 6 الحديث 2.
(3) الوسائل ج 12 أبواب الخيار الباب 6 الحديث 5.
(4) صحيح البخاري ج 3 ص 119 كتاب التجارة الباب 14 باب اجرة الثمرة.
(5) رواه المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ج 3 ص 99.
(6) الوسائل ج 16 أبواب المكاتبة الباب 4 الحديث 3.
(7) الوسائل ج 16 أبواب المكاتبة الباب 4 الحديث 5.
325

أب مملوك وكانت لأبيه امرأة مكاتبة قد أدت بعض ما عليها، فقال لها العبد: هل لك
ان أعينك في مكاتبك حتى تؤدي ما عليك بشرط ان لا يكون لك الخيار على أبي
إذا أنت ملكت نفسك؟ قالت: نعم فأتاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار
بعد ذلك، قال: لا يكون لها الخيار " المسلمون عند شروطهم " (1).
فعلى ذلك، الرواية مشهورة بين الفريقين ورويت من طرقنا بطرق كثيرة بعضها
صحيحة وإن كان بعضها غير صحيحة فإذا لا مجال للاشكال من جهة السنة.
واما من ناحية الدلالة فهو مبني على شمول الشرط لكل عقد، ومن الواضح
ان وقوف المؤمن أو المسلم عند شرطه بمعنى عدم مفارقته عنه وهو كناية عن الالتزام
والوفاء به.
ولكن أورد عليه " تارة " من ناحية الصغرى بان الشرط يطلق على التزام كان
مرتبطا بغيره فلا يشمل الالتزام الابتدائي، ولا أقل من الشك في ذلك، وفي القاموس
الشرط الزام الشئ والتزامه في البيع ونحوه.
وأخرى من ناحية الكبرى بأنها لا تدل على أزيد من الرجحان لتعليقه على
الايمان وان هو الا نظير قوله " المؤمن إذا وعد وفى ".
ولكن كل ذلك ممنوع اما الأول فلانا لو سلمنا اختصاص الشرط بالالتزام
الذي هو في ضمن التزام آخر ومرتبط به، فلا أقل من الاخذ بالفحوى، فإذا وجب
العمل بالشرط الذي هو تابع لعقد فيجب العمل بنفس العقد بطريق أولى، فإنه الأصل
وهذا هو الفرع.
واما الثانية: فلان ظاهر الرواية الوجوب، وقد علق في غير واحد من طرقه
من العامة والخاصة على الاسلام، لا على الايمان، ومما يدل على الوجوب دلالة
واضحة انه استدل في الروايات بهذه الفقرة على وجوب بما في مواردها من الشروط.

(1) الوسائل ج 16 أبواب المكاتبة الباب 11 الحديث 1.
326

وبالجملة الاشكال في هذه الرواية ضعيف جدا.
* * *
(2) قوله: لا يحل مال امرء مسلم الا من طيب نفسه
رواها سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من
كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرء مسلم، ولا ماله
الا بطيب نفس منه (1).
ورواها في الكافي بطريق آخر عن أبي عبد الله عليه السلام أيضا.
ورواها أيضا في تحف العقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال في خطبة الوداع:
" أيها الناس، إنما المؤمنون اخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه الا عن طيب نفس
منه " (2).
ورواها الصدوق في اكمال الدين فيما ورد على الشيخ أبي جعفر محمد بن
عثمان العمري قدس سره في جواب مسائل محمد بن جعفر الأسدي إلى صاحب
الدار - إلى أن قال - فلا يحل لاحد ان يتصرف في مال غيره بغير اذنه (3).
ومن طرق الجمهور ما رواه أبو هريرة الرقاشي عن عمه ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
لا يحل مال امرء مسلم الا بطيب نفس منه (4).
ورواه أحمد بن حنبل في مسنده (5).
وفي معناها روايات أخر مروية من طرق الأصحاب والمخالفين تدل على

(1) الوسائل ج 3 كتاب الصلاة أبواب مكان المصلي الباب 3 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 3 كتاب الصلاة أبواب مكان المصلي الباب 3 الحديث 3.
(3) الوسائل ج 6 كتاب الخمس الباب 3 من أبواب الأنفال الحديث 6.
(4) السنن للبيهقي ج 6 كتاب الغصب ص 100.
(5) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 72.
327

احترام أموال المسلمين كدمائهم.
وبالجملة الحديث متظافرة مشهورة بين الأصحاب وهذا كاف في اثبات صحتها
من حيث السنة.
واما تقريب دلالتها فلان المال إذا انتقل إلى شخص بأي سبب كان من العقود
وغيرها كان المال ماله فلا يجوز اخذه منه بدون رضاه، بمجرد الفسخ وغيره، فهذا
دليل على عدم تأثير الفسخ.
وتوهم كون التمسك بعمومها بعد اجراء صيغة الفسخ من قبيل التمسك بعموم
العام في الشبهات المصداقية، فاسد جدا، لأن عمومها دليل على عدم تأثير الفسخ،
فلا يكون شبهة في المصداق.
وبعبارة أخرى شمول الرواية لكل ملك مانع عن تأثير الفسخ فما كان ملكا
في الرتبة المتقدمة لا يمكن اخراجها عن يد مالكها بغير رضى منه في الرتبة المتأخرة.
فهذه الرواية دليل على اللزوم في جميع العقود والايقاعات المستلزمة لخروج
الملك عن يد صاحبها وصيرورتها ملكا لاخر.
* * *
(3) قوله صلى الله عليه وآله: الناس مسلطون على أموالهم
وهذه الرواية أيضا مشهورة في ألسنة الفقهاء وهي وان كانت مرسلة لكنها
مجبورة بعمل الأصحاب قديما وحديثا لاستنادهم إليها في مختلف أبواب الفقه.
وهناك روايات أخرى لا تشتمل على هذا العنوان ولكن تحتوي معناها ومغزاها
وقد أشرنا إليها مشروحة في قاعدة التسلط من هذه القواعد (فراجع القاعدة الأولى
من هذا المجلد).
فهي أيضا معتبرة من حيث السند.
328

واما من ناحية الدلالة فمقتضى السلطة على المال هو عدم جواز اخراجه من
يد مالكه بغير رضاه، فمجرد الفسخ من المالك السابق لو اثر في اخراجه عن ملكه
كان منافيا لحقيقة السلطنة على المال.
وتوهم كونه من الشبهة المصداقية للملك بعد اجراء صيغة الفسخ، توهم فاسد
قد عرفت جوابه آنفا، وحاصله ان الملكية الحاصلة قبل اجراء الفسخ يمنع
عن تأثيره فهي مسقطة له عن التأثير قطعا.
* * *
4 - قوله صلى الله عليه وآله: البيعان بالخيار ما لم يفترقا
وقد رواه عدة من أصحابنا منهم محمد بن مسلم وزرارة عن الصادق عليه السلام
عنه صلى الله عليه وآله (1).
وأخرى عن الصادق عليه السلام نفسه مثل ما رواه فضيل والحلبي عنه عليه السلام (2).
وثالثة عن أبي الحسن الرضا عليه السلام مثل ما رواه علي بن أسباط عنه عليه السلام (3).
ورابعة عن علي عليه السلام مثل ما رواه غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمد عليه السلام
عن أبيه عن علي عليه السلام (4).
وهي وان وردت بعبارات شتى الا ان مفاد الجميع واحد، وهو ان البايع
والمشتري بالخيار ماداما في مجلس البيع، فإذا حصل الافتراق وجب البيع من جميع
جهاته، فلا يؤثر الفسخ الا ان يدل عليه دليل خاص فيؤخذ بمفاده في مورده.
وهذه الروايات كثيرة مستفيضة، وفيها صحيح الاسناد، وقد ذكر شيخنا العلامة

(1) الوسائل ج 12 أحكام الخيار الباب 1 ح 1 و 2.
(2) الوسائل ج 12 أحكام الخيار الباب 1 ح 3 و 4.
(3) الوسائل ج 12 أحكام الخيار الباب 1 ح 5.
(4) الوسائل ج 12 أحكام الخيار الباب 1 ح 7.
329

الأنصاري في بعض كلماته انها مستفيضة وفي بعضها الاخر انها متواترة (1). والتواتر
المصطلح وان لم يكن موجودا هنا الا ان الاستفاضة مما لا ريب فيه.
وقد رواها العامة أيضا في كتبهم بطرق متعددة في صحاحهم المعتبرة عندهم،
وقد عقد له ابن ماجة في سننه له بابا روى فيه عدة روايات ولا يبعد دعوى التواتر بعد
ذلك (2).
وما قد يتوهم انها ناظرة إلى خيار المجلس فقط نفيا واثباتا، ولا دلالة فيها على
لزوم البيع بعد الافتراق من ناحية سائر أسباب الخيار، كما حكي عن المحقق
الخراساني في حواشيه على المكاسب، فهو مما لا يمكن المساعدة عليه، بل اطلاق
قوله فإذا افترقا وجب البيع يدل على اللزوم بعد الافتراق من جميع الجهات، فأدلة
خيار العيب والعين والحيوان والشرط وغير ذلك مخصصة لها، ولا مانع من ورود
هذه التخصيصات عليه بعد كون ما يبقى تحته أكثر وأوفر.
هذا ولكن الاشكال العمدة في الاستدلال بهذه الرواية انها أخص من المدعى
فإنها مختصة بأبواب البيع مع أن المقصود اثبات اللزوم في جميع المعاملات بالمعنى
الأعم بيعا كان أو غيره.
* * *
3 - الاستدلال بالاستصحاب
ومما استدل به على أصالة اللزوم في المعاملات بالمعنى الأعم الاستصحاب
فإنه إذا شك بعد اجراء الفسخ في تأثيره في انفساخ المعاملة يستصحب بقاء آثارها،
من الملكية للعين، أو المنافع، أو غيرهما من الآثار كعقد الزوجية وشبهها.
ولكن يورد عليه أمور:

(1) المكاسب ص 216.
(2) السنن لابن ماجة ج 2 ص 736.
330

الأول: عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية على ما هو المختار.
نعم هذا الاشكال مندفع عند من يلتزم بحجية الاستصحاب مطلقا، في الشبهات
الحكمية والموضوعية.
أضف إلى ذلك أن الشك في لزوم المعاملة وإن كان ينشأ غالبا من الشك في
حكم الشارع ولكن قد يكون منشأ الشك الأمور الخارجية فيكون من قبيل الشبهات
المصداقية كما إذا شك ان الموهوب له ذو رحم أو غيره، أو ان الهبة كانت معوضة أو
غير معوضة، فحينئذ يشك في لزوم المعاملة لا من ناحية حكم الشرع، بل من ناحية
الموضوع الخارجي، فيتمسك فيه باستصحاب بقاء آثاره بعد اجراء الفسخ فتأمل.
الثاني: قد يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب بقاء علقة المالك على
ملكه، ومن المعلوم ان استصحاب بقاء هذه العلقة حاكم على استصحاب بقاء الآثار
عند الشك فإن الثاني مسبب عن الأول.
ولكن يمكن الجواب عنه بان معنى جواز العقد بالذات أو الخيارات العارضة
عليه ليس بقاء علقة المالك على ملكه، بل الجواز أو الخيار حكم مستقل شرعي،
أو حق حادث بعد العقد، وحينئذ لا معنى لاستصحاب بقاء علقة المالك على ملكه.
وان شئت قلت: ليس الملك اللازم والجائز نوعان أو صنفان من الملكية، بل
الملكية أمر واحد، وإنما التفاوت في أحكامها فالملك الجائز هو الذي يجوز الفسخ
فيه، والملك اللازم هو الذي لا يؤثر فيه الفسخ، هذا مضافا إلى ما قد يقال من أن
التسبب هنا ليس شرعيا فالحكومة باطلة فتأمل.
الثالث: وقد يعارض هذا الاستصحاب في خصوص البيع باستصحاب بقاء
الجواز الحاصل من خيار المجلس فيقال: نعلم بان الملك كان جائزا قابلا للفسخ عند
كونهما في المجلس، وبعد افتراقهما ليشك في بقاء هذه الحالة فيستصحب بقاء الجواز.
وفيه أولا ان خيار المجلس يرتفع بصريح روايات الباب بعد افتراقهما،
331

وثانيا: عند الافتراق ينقلب الموضوع إلى موضوع آخر، والاستصحاب مع عدم بقاء
الموضوع باطل قطعا.
وان أريد الاستصحاب بنحو استصحاب الكلي من القسم الثالث بان يقال إن
خيار المجلس قد ارتفع قطعا ولكن يحتمل حدوث حكم آخر بالجواز عند ارتفاع
أو مقارنا له، ولكن المحقق في محله عدم حجية استصحاب الكلي من القسم الثالث.
هذا كله مضافا إلى أن خيار المجلس ينحصر بالبيع، ولا يجري في سائر العقود
مع أن أصالة اللزوم عام في جميعها بل وقد يكون البيع خاليا عن خيار المجلس
لاشتراط سقوطه من أول الأمر، أو غير ذلك. فهذا الدليل لو فرض صحته لكان أخص
من المدعى.
* * *
4 - بناء العقلاء على اللزوم
ومما يمكن الاستدلال به على أصالة اللزوم في المعاملات هو بناء العقلاء الذي
أمضاه الشارع بسكوته وتقريره، لا بل بامضائه بما عرفت من الآيات والروايات.
فإن بنائهم قد استقر على الحكم ببقاء آثار كل عقد الا ان يثبت حق الفسخ
لاحد الطرفين، فلا يجوز عندهم فسخ البيع ولا النكاح ولا الإجارة ولا غيرها ما لم
يثبت حق لاحد الطرفين على الفسخ، وبعبارة أخرى بقاء آثار المعاملات عندهم
لا يحتاج إلى دليل، بل هو مقتضى طبيعتها، والذي يحتاج إلى الدليل هو نفي آثارها
والغائها وما لم يكن هناك دليل، بقيت الآثار على حالها.
332

16 - قاعدة البينة واليمين
(البينة على المدعى واليمين على من أنكر)
* مدارك القاعدة من عموم السنة وخصوصها
* معيار معرفة " المدعى " من " المنكر "
* ما استثنى من القاعدة من مسألة الدماء
* شرائط سماع الدعوى من المدعى
* عدم اشتراط الخلطة
* هل المدار في معرفة المدعى والمنكر على مصب الدعوى أو نتيجتها؟
333

قاعدة البينة واليمين
ومن القواعد المشهورة بين جميع علماء الاسلام قديما وحديثا قاعدة " البينة
على المدعى واليمين على من أنكر " التي استدلوا بها في أبواب القضاء كلها بل
هي الأصل الوحيد قبل كل شئ في القضاء الشرعي الاسلامي، وهي التي استقر
عليه عمل رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته والأئمة المعصومين عليهم السلام بعد وفاته صلى الله عليه وآله وقضاة
الشرع في أجواء العالم الاسلامي طي القرون والاعصار في كل مكان.
وهذه العبارة (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) وان ترد بعينها في
لسان الأدلة الا قليلا ولكن معناها ورد في روايات كثيرة نبوية، وغيرها، والعمدة
بهذه العبارة " البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه ".
واللازم التكلم هنا في مقامات:
1 - في مدرك هذه القاعدة.
2 - في معنى المدعي والمنكر وملاكهما.
3 - في ما يتفرع عليها ويستثنى منها أحيانا.
الأول: في مدرك هذه القاعدة
هذه القاعدة وإن كان مجمعا عيله بين الخاصة والعامة بل هي كالضروريات في
الفقه الاسلامي، ولكن العمدة في مدركها هي الروايات العامة التي تدل بعمومها
335

على هذه القاعدة، والأحاديث الخاصة الواردة في أبواب معينة التي يمكن اصطياد
العموم من ملاحظة مجموعها.
اما الأول فهي عدة روايات وردت من طرقنا وطرق المخالفين.
ومما وردت من طرقنا هي عدة روايات:
1 - ما رواه جميل وهشام عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
" البينة على من ادعى واليمين على من ادعى عليه " (1).
2 - ما رواه بريد بن معاوية عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن القسامة فقال:
" الحقوق كلها البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه الا في الدم خاصة " (2).
وسيأتي الكلام إن شاء الله في استثناء حكم الدماء عن هذه القاعدة وشرائطه.
3 - ما أرسله الصدوق قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " البينة على المدعي واليمين
على المدعى عليه. والصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " (3)
4 - ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " ان الله حكم في دمائكم بغير
ما حكم فيه في أموالكم، حكم في أموالكم ان البينة على المدعي واليمين على
المدعى عليه، وحكم في دمائكم ان البينة على من ادعى عليه واليمين على من ادعى
لئلا يبطل دم امرئ مسلم " (4).
5 - ما رواه منصور عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث تعارض البينتين في شاة
في يد رجل، قال قال أبو عبد الله عليه السلام: " حقها للمدعي ولا اقبل من الذي في يده
بينة، لأن الله عز وجل إنما أمر ان تطلب البينة من المدعي فإن كانت له بينة، والا

(1) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 2.
(3) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 5.
(4) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 3.
336

فيمن الذي هو في يده هكذا أمر الله عز وجل " (1).
6 - وما رواه محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتب إليه من جواب مسائله
في العلل: " والعلة في أن البينة في جميع الحقوق على المدعي واليمين على المدعى
عليه ما خلا الدم، لأن المدعى عليه جاحد ولا يمكنه إقامة البينة على الجحود لأنه
مجهول (الحديث) (2).
7 - ويشهد له ما دل على أن النبي صلى الله عليه وآله كان يطلب البينة من المدعي في أول الأمر
، فإن لم يكن له بينة طلب اليمين من المدعى عليه، مثل ما رواه علي بن عدي
عن أبيه قال اختصم امرئ القيس، ورجل من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في
ارض فقال ألك بينة؟ قال لا، قال: فيمنه، قال اذن والله ذهب بأرضي قال إن ذهب
بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيمة، ولا يزكيه، وله عذاب اليم، قال ففزع
الرجل وردها إليه (3).
8 - ما رواه عثمان بن عيسى، وحماد بن عثمان، جميعا عن أبي عبد الله عليه السلام
في حديث فدك ان أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: " اتحكم فينا بخلاف حكم الله
في المسلمين؟ قال: لا، قال فإن كان في يد المسلمين شئ يملكونه ادعيت انا فيه،
من تسئل البينة؟! قال إياك كنت اسئل البينة، على ما تدعيه على المسلمين، قال فإذا
كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون تسئلني البينة على ما في يدي وقد ملكته في
حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده؟ ولم تسئل المؤمنين البينة على ما ادعوا علي كما سئلتني
البينة على ما أدعيت عليهم؟ - إلى أن قال - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: البينة على من
ادعى واليمين على من أنكر " (4).

(1) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 4.
(2) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 6.
(3) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 7.
(4) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 25 الحديث 3.
337

9 - ما رواه في دعائم الاسلام عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير
المؤمنين عليه السلام ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " البينة في الأموال على المدعي واليمين
على المدعى عليه " قال أمير المؤمنين عليه السلام: " والبينة في الدماء على من أنكر براءة
مما ادعى عليه واليمين على من ادعى " (1).
وهي وان كانت مختصة بالأموال ولكن الظاهر أن المراد منها مطلق الحقوق
ما عدا الدم الذي له حكم خاص في مسألة القضاء سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله عن
قريب.
10 - وما رواه في الغوالي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: البينة على المدعي واليمين
على من أنكر (2).
إلى غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع.
* * *
واما من طرق العامة فهي أيضا عدة روايات:
1 - ما رواه أحمد في مسنده عن ابن عباس ان رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله
فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله المدعي البينة، فلم يكن له بينة فاستحلف المطلوب (الحديث) (3).
2 - ما رواه ابن ماجة في سننه عن الأشعث بن قيس قال كان بيني وبين رجل
من اليهود ارض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله هل لك
بينة؟ قلت: لا، قال لليهودي: احلف (الحديث) (4).

(1) مستدرك الوسائل ج 3 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 1.
(2) مستدرك الوسائل ج 3 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 4.
(3) مسند أحمد ج 2 ص 70 (طبعة دار صادر).
(4) السنن لابن ماجة ج 2 ص 778 (باب البينة على المدعى واليمين على المدعى
عليه).
338

3 - ما رواه البخاري في صحيحه عن الأشعث بن قيس قال لفي والله أنزلت
" قوله تعالى: ان الذين يشترون بعهد الله ايمانهم ثمنا قليلا... " كانت
بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
شاهدك أو يمنه - الحديث - (1).
دل على أن المعتبر في القضاء، الشاهد ولو لم يكن فيمين المدعى عليه.
4 - ما رواه البخاري مرسلا في باب " اليمين على المدعى عليه في الأموال
والحدود " قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: شاهداك أو يمينه (2).
5 - ما رواه في التاج عن الترمذي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله قال:
البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (3).
6 - ما رواه البيهقي عن ابن عباس قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لو يعطى
الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على الطالب واليمين
على المطلوب (4).
7 - ما رواه البيهقي عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لو يعطى الناس
بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودمائهم ولكن البينة على المدعي واليمين على
من أنكر (5).
وفي معناه رواية أخرى عنه في نفس الباب.
8 - وما رواه أحمد أيضا عن وائل بن حجر قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله فاتاه
رجلان يختصمان في ارض فقال أحدهما ان هذا انتزى على أرضي يا رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) صحيح البخاري ج 3 ص 188 (باب في اختلاف الراهن والمرتهن).
(2) صحيح البخاري ج 3 ص 232.
(3) التاج الجامع للأصول ج 3 ص 61.
(4) السنن للبيهقي ج 10 ص 252 كتاب الدعوى والبينات.
(5) السنن للبيهقي ج 10 ص 252 كتاب الدعوى والبينات.
339

في الجاهلية، وهو امرؤ القيس ابن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن عبدان، فقال
له: بينتك؟ قال: ليس لي بينة، قال: يمينه (1).
إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع.
أضف إلى ذلك كله الروايات الخاصة الكثيرة الواردة في موارد معينة يمكن
اصطياد العموم من مجموعها:
مثل ما ورد في أبواب الرهن عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام - إلى أن
قال - البينة على الذي عنده الرهن انه بكذا وكذا، فإن لم تكن له بينة، فعلى الذي له
الرهن اليمين (2).
وفي معناه روايات كثيرة أخرى مروية في ذاك الباب بعينه أو ما يليه من الباب
(17) و (20).
ويؤيد جميع ذلك ما روي بالطرق المتعددة عن أبي عبد الله عن كتاب علي عليه السلام
ان نبيا من الأنبياء شكى إلى ربه فقال يا رب كيف اقضي فيما لم أر ولم اشهد؟ قال
فأوحى الله إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلفهم به، وقال هذا لمن
لم تقم له بينة (3).
وفي معناه غيره، بل الظاهر أن قوله " هذا لمن لم تقم له بينة " من كلام أمير
المؤمنين علي أو الصادق عليهما السلام فيكون دليلا على المطلوب.
والانصاف ان هذه الروايات المروية بأسانيد مختلفة في أصول الشيعة والسنة
ربما تكون متواترة ويثبت بها المطلوب بدون اي شك.

(1) مسند أحمد ج 4 ص 317 (في أحاديث وائل بن حجر).
(2) الوسائل ج 13 كتاب الرهن الباب 16 الحديث 1.
(3) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 1 الحديث 1.
340

(2) من المدعى ومن المنكر؟
قد عرفت ان هذه القاعدة حاكمة على جميع أبواب المنازعات لا تختص بباب
دون باب ولكن الكلام بعد في المراد من " المدعي " و " المنكر " (كما في قليل من
النصوص) أو " المدعي " و " المدعى عليه " (كما في أكثرها) وهو المهم في هذا
الباب ويتفرع عليه فروع كثيرة.
واختلف الأصحاب في تفسيرهما وقد ذكروا في تعريف المدعي، الذي يستفاد
منه مقابله، أمورا:
1 - ما هو المحكي عن المشهور ان المدعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة
- ذكره المحقق في الشرايع والعلامة في القواعد وغيرهما.
2 - " المدعي " هو الذي يدعي خلاف الظاهر، فمن ادعى ان المال الذي
في يد الآخر ماله لابد عليه من إقامة البينة، لأن قوله مخالف لظاهر اليد، وكذلك
من يدعي إرادة المجاز من لفظ عقد أو وصية أو غيرهما، ويطلب بذلك شيئا، فعليه
إقامة البينة.
ذكر هذا التعريف في القواعد، وظاهر كلامه انه موافق للتعريف الأول في
المعنى والنتيجة.
3 - المدعي من يكون قوله مخالفا للأصل، كمن يدعي اشتغال ذمة شخص
بشئ، مع أن الأصل برائته - ذكره ذلك أيضا في القواعد والشرايع.
4 - المدعي هو الذي يدعي أمرا خفيا وهذا أخص من كثير من التعاريف
السابقة - ذكر هذا التعريف أيضا في الشرايع - أو أمرا خفيا يخالف الظاهر - كما هو
المحكى عن الجمهور.
5 - وعن الدروس المدعي هو الذي يخلى وسكوته، أو يخالف الأصل، أو
الظاهر.
341

والظاهر كما ذكره جمع من المحققين انه ليس لهذا اللفظ حقيقة شرعية، بل
ليس فيه مظنة ذلك، فاللازم ان يحمل على معناه اللغوي والعرفي، وايكال امره إلى
العرف، ولعل التعاريف السابقة أيضا ناظرة إلى تنقيح معناه العرفي، ولذا قد يرى
في بعض كلماتهم الجمع بين تعريفين أو تعاريف متعددة كما في الشرايع والقواعد
مع أن بينهما فرقا ربما تتفاوت سعة وضيقا.
نعم ظاهر كلام المحقق في تعريفه ان المدعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة
وقيل هو الذي يدعي خلاف الأصل أو أمرا خفيا، اختلاف الأقوال في المسألة، وقد يقال إن
المنشأ في اختلاف القولين اختلاف قول الشافعي كما حكى عن الروضة للرافعي:
" في معرفة المدعي والمدعى عليه قولان مستنبطان من اختلاف قول الشافعي
في مسألة اسلام الزوجين، أظهرهما عند الجمهور ان المدعي من يدعي أمرا خفيا يخالف
الظاهر والثاني من لو سكت خلي وسكوته ولم يطالب بشئ... إلى أن قال:
ولا يختلف موجبهما غالبا، وقد يختلف كما إذا أسلم زوجان قبل الدخول،
فقال الزوج أسلمنا معا فالنكاح باق، وقالت بل على التعاقب ولا نكاح، فإن قلنا إن
المدعي من لو سكت ترك فالمرأة مدعية فيحلف ويستمر النكاح (اي يحلف الرجل)
وان قلنا بالأظهر فالزوج مدع لأن ما يزعمه خلاف الظاهر (اي تقارن الاسلامين)
وهي مدعى عليها فتحلف (المرأة) ويرتفع النكاح - انتهى - " (1).
ولكن مع ذلك نرى الجمع بين التعاريف الثلاث في بعض كلمات العلامة
حيث قال: المدعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة، أو الذي يدعي خلاف الظاهر،
أو خلاف الأصل (2).
وظاهر هذه العبارة عدم الاختلاف بين مفاد هذه التعاريف.

(1) الجواهر 40 ص 374.
(2) مفتاح الكرامة كتاب القضاء ص 61.
342

والانصاف رجوع الجميع إلى معنى واحد في الغالب كما ذكره السبزواري
في الكفاية (1) والمحقق القمي في جامع الشتات (2). إنما الكلام في موارد تظهر
النتيجة بين هذه الأقوال كما ذكروه في مسألة اسلام الزوجين قبل الدخول ودعوى
الزوج التقارن في الاسلام يبقي الزوجية، والزوجة التعاقب لينفسخ، فالتقارن موافق
للأصل، والتعاقب مخالف له، لأن أصالة تأخر الحادث تقتضي ذلك ولكن التعاقب هو
الظاهر لندرة وقوع التقارن فيختلف مورد التعريفين.
والانصاف انه لا يهمنا وجود القولين في المسألة كما يظهر من بعضهم أو ثلاثة
أقوال كما يظهر من بعض آخر أو رجوع الأقوال إلى واحد كما عرفت من بعضهم بعد
عدم ورود دليل تعبدي في المسألة، ولزوم حمل الروايات المتضافرة أو المتواترة
الواردة في لزوم البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، على ما يستفاد من معنى
هاتين اللفظتين عرفا.
والحاصل ان المدعى هو الذي يدعى شيئا من الاخر ويطلب منه، ويلزمه
إقامة حجة على مدعاه، بحيث إذا لم يقم حجة لا يقبل قوله، فهذا هو الذي يستفاد
من محتوى هذا اللفظ في العرف واللغة، ولعل التفاوت بين التعاريف كان أول الأمر
من قبيل اختلاف التعبير، ثم حسبوا لزوم الجمود على هذه التعابير ومن هنا نشأ
القولان أو ثلاثة أقوال أو أكثر. ولكن الامر بحمد الله ظاهر لا سترة عليه.
وعلى كل حال المنكر أو المدعى عليه هو مقابل هذا وهو الذي لا يطلب منه
حجة ولا يؤخذ منه شئ بدون إقامة البينة، نعم اليمين حق المدعى عليه إذا لم يكن
بينة.

(1) كفاية الأحكام للسبزواري ص 274.
(2) جامع الشتات ج 2 ص 683 كتاب القضاء.
343

تنبيهات
الأول - ما استثنى عن هذه القاعدة:
هناك موارد مستثناة من " قاعدة البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه "
لا يطالب فيها البينة من المدعي بل قد تطلب من المنكر، ويكفي اليمين من المدعي
وعمدته مسألة الدماء فإن المشهور بين الأصحاب، بل حكى الاجماع عليه، انه إذا كان
هناك لوث في الدم (اي قرائن توجب الظن بارتكاب القتل من ناحية شخص أو اشخاص
وفي هذا المقام تطلب من المدعى عليه إقامة البينة على عدم القتل فإن لم يقمها فعلى
المدعي الاتيان بقسامة خمسين رجلا لاثبات مقصوده، وان لم يفعل ذلك طولب المدعى
عليه القسامة كذلك، فإن اتى بها سقطت الدعوى عنه، والا لزمه الدم.
وهذه المسألة على اجمالها مقبولة عند الأصحاب، وإن كان في بعض
خصوصياتها اختلاف وكلام والعمدة في ذلك الروايات المتضافرة الدالة على أن
الحكم في الدماء على خلاف الحكم في الأموال احتياطا على دماء الناس.
1 - مثل ما رواه بريد بن معاوية، عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن القسامة فقال
الحقوق كلها البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، الا في الدم خاصة، فإن
رسول الله صلى الله عليه وآله بينما هو يخبر إذ فقدت الأنصار رجلا منهم وجدوه قتيلا فقالت الأنصار
ان فلان اليهودي قتل صاحبنا.
إلى أن قال - قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما حقن دماء المسلمين بالقسامة لكي إذا رأى الفاجر
فرصة حجزه مخافة القسامة ان يقتل به، فكف عن قتله والا حلف المدعى عليه قسامة
خمسين رجلا ما قتلنا، ولا علمنا قاتلا (الحديث) (1).
2 - ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان الله حكم في دمائكم بغير

(1) الوسائل ج 19 كتاب القصاص أبواب دعوى القتل الباب 9 الحديث 3.
344

ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم ان البينة على المدعي، واليمين على
المدعى عليه، وحكم في دمائكم " ان البينة على المدعى عليه واليمين على من ادعى "
لئلا يبطل دم امرئ مسلم (1).
3 - ما رواه زرارة إنما جعلت القسامة احتياطا للناس، لكيما إذا أراد الفاسق
ان يقتل رجلا أو يغتال رجلا حيث لا يراه أحد، خاف ذلك فامتنع من القتل (2).
إلى غير ذلك مما ورد في هذا الباب، وهو مستفيض، فيها روايات معتبرة
معمول بها بين الأصحاب كما عرفت.
والظاهر أن هذا الحكم ليس معمولا بين العقلاء من أهل العرف، فلا يحكمون
للمدعي بمجرد القسامة وشبهها، وإنما المدار عندهم على البينات والشهود، والطرق
القطعية أو الظنية المعتبرة عندهم، والسر في ذلك أن الشارع المقدس له عناية خاصة
بحفظ دماء المسلمين، وليس عنده أمر أهم - بعد الاسلام - من حفظ النفوس
والدماء - وقد مر عليك انه لو لزمت البينة حتى في الدماء ولم تقبل قسامة تبطل دماء
كثيرة، ولا يبقى مجال للقصاص عمن قتل غيلة، فيكثر القتل اغتيالا، لأنه ليس هناك
مشاهد وبينة تدل على جناية القاتل، فيجترئ الفساق دماء الأبرياء، كما يرى مصاديقه
في العصر الحاضر.
ومن هنا حكم الشارع المقدس بان المتهم بالقتل إذا كان هناك لوث أي امارات
على اتهامه مثل ما إذا كان القتيل على باب داره وكان بينهما خصومة، وشهد صبي
مثلا على ارتكابه ذلك، أو ما أشبهه من امارات التهمة، فعليه إقامة البينة على برائته،
وان لم يكن له بينة تقبل القسامة خمسون رجلا يقسمون على وقوع القتل منه،
ومن المعلوم ان قيام القسامة على القتل أيضا مشكل، ولكن بابه مفتوح وكفى بذلك
تحذيرا للفاسق الفاجر عن قتل الأبرياء غيلة.

(1) الوسائل ج 19 كتاب القصاص أبواب دعوى القتل الباب 9 الحديث 4 و 11.
(2) الوسائل ج 19 كتاب القصاص أبواب دعوى القتل الباب 9 الحديث 4 و 11.
345

هذا وللحكم بما ذكرنا شرائط كثيرة مذكورة في أبواب القصاص من الفقه
فيما يثبت به القتل، وعلى كل حال هذا تعبدي يقتصر على القدر المتيقن من مورده
ولا يتجاوز منه على غيره.
* * *
نعم هناك اشكال جدير بالذكر وهو انه ان كانت القسامة خمسون رجلا
يقسمون على أمر معلوم عندهم، فهذا يعود إلى الشهادة، وفي الشهادة يكفي اثنان من
دون حاجة إلى أكثر منهما، فهل يفرض الكلام فيما إذا كانوا جميعا من الفساق؟
وهذا أمر بعيد جدا لا سيما مع ملاحظة روايات الباب، وانه ليس من هذا فيها عين
ولا اثر، وقع ما يتراءى من كون العدالة أمرا سهلا في أحكام الشرع تثبت بحسن
الظاهر.
والذي اخترناه لحل هذه المشكلة في " مباحث اللوث والقسامة " ان
الحلف فيها وإن كان اللازم أن يكون عن علم، ولا يكفي مجرد الظن، الا ان منشأ
القطع فيه يمكن أن يكون مبادئ حدسية التي لا تكفي في الشهادة فلذا أوجب
الشارع فيها خمسين نفرا.
والدقة في اخبار القسامة أيضا يؤيد هذا النظر، وانها في مورد لم يكن هناك
شهود برأي العين وكان القتل غيلة، وشبهها، فعلى هذا تنحل العويصة ولا تضاد
أحكام القسامة أحكام الشهادة.
هذا مجمل الكلام في المسألة وتمامه في محله.
* * *
2 - شرائط سماع الدعوى عن المدعى.
قد ذكروا السماع الدعوى عن المدعي شرائط كثيرة، أنحاها بعضهم إلى
346

عشرة أو أكثر: منها كونه واجدا لشرائط التكليف مثل البلوغ والعقل.
ومنها اعتبار الرشد فيه على اشكال.
ومنها أن يكون ما يدعيه خصمه لنفسه أو لموكله أو لمن له الولاية عليه
بأحد أنواع الولاية أو يكون حاكما في الحسبيات.
ومنها أن يكون ما يدعيه أمرا ممكنا عقلا وعادة وجائزا شرعا.
ومنها أن يكون مورد الدعوى غير مجهول ولا مبهم بل معلوما بالنوع والوصف
والقدر.
ومنها أن تكون الدعوى صريحة في استحقاق المدعي شيئا.
ومنها أن يكون في مقابلة خصم ينكر ما يدعيه.
ومنها أن يكون دعواه عن بت وجزم.
ومنها انه لابد من تعيين المدعى عليه بشخصه... إلى غير ذلك مما ذكروه.
ولكن الانصاف ان جل هذه الأمور ليست من قبيل الشرائط الزائدة على
ماهية الدعوى وصيرورة المدعي مدعيا، بل أمور مستفادة من هذا المفهوم وتحليل
مغزاه بعينه، فمثل صراحة الدعوى (أو ظهوره) وكذلك كونه عن بت وجزم، لا
عن احتمال وظن، معتبر في مفهوم الدعوى، فإنها بدونه لا يعد دعوى، وكذلك إذا
كان ما يدعيه أمرا غير ممكن عقلا فلا يعد عند العقلاء دعوى وكذا إذا لم يكن في
مقابله خصم.
وهكذا إذا لم يكن الدعوى لنفسه أو لمن إليه امره، بل كان غير مرتبط به
فإن هذا أيضا لا يعد دعوى عند العقلاء، وهكذا غيره من اشباهه. فإذا ادعى رجل
حق رجل مظلوم وأقام الدعوى له يقال له هذا أمر لا يعنيك حتى تدعي، وإعانة
المظلوم وإن كان حقا ولكن في مسألة إقامة الدعوى لابد أن يكون من ناحية صاحبه
أو وكيله أو الولي الفقيه أو القاضي المنصوب عموما أو خصوصا من قبله، نعم إذا
347

لم يكن هناك الحاكم الشرعي فيتصدى لذلك عدول المؤمنين.
هذا ولكن بعضها يمكن اعتبارها شرطا كالبلوغ، فيقال ان غير البالغ لا تجوز
له إقامة الدعوى بل المتصدي له وليه، وكذا الرشد في الأمور المالية إذا كان مورد
الدعوى أمرا ماليا على القول باعتباره بعض الشرائط الأخر مما يكون امره ظاهرا
ودليله واضحا لا يحتاج إلى مزيد تفصيل.
* * *
3 - هل تشترط الخلطة أم لا؟
قد عرفت ان مدلول الأدلة لزوم البينة على المدعي اي شخص كان، واليمين
على من ادعى عليه كذلك، ولم يرد في شئ من الأدلة اعتبار وجود الخلطة بينهما
حتى تحتاج في إقامة الدعوى إلى استفسار حالهما وانه هل يكون بينهما خلطة أم لا؟
وخالف في ذلك بعض فقهاء المالكية، وهو شاذ ضعيف، يرده اجماع أهل العلم
وتضافر الروايات على عدم هذا القيد بحكم الاطلاق فيها.
ولنعلم ما قال الشهيد (قدس الله سره) في القواعد والفوائد حيث قال: " كل
من ادعي على غيره سمعت دعواه وطولب باليمين مع عدم البينة، سواء علم بينهما
خلطة أم لا، لعموم قوله صلى الله عليه وآله " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " وقوله
عليه السلام " شاهداك أو يمينه " ولامكان ثبوت الحقوق بدون الخلطة، فاشتراطها يرد
إلى ضياعها، لأنها واقعة تعم بها البلوى فلو كانت الخلطة شرطا لعلمت ونقلت
(انتهى) (1).
واحتج مشترط الخلطة (2) بأدلة ضعيفة جدا.
منها ايراد الحديث المعروف هكذا " البينة على المدعي واليمين على من

(1) القواعد والفوائد ج 2 ص 194 (القاعدة 218).
(2) وهو " سحنون عبد السلام بن سعيد " الفقيه المالكي وغيره.
348

أنكر إذا كان بينهما خلطة "!
وفيه ان هذا حديث شاذ، مخالف لما رواه المحدثون من الخاصة والعامة
في كتبهم، وقد عرفت ايراد الحديث بطرق متواترة أو كالمتواتر ليس في شئ
منها هذا القيد، ولو كان لبان، وظهر ظهورا تاما لكثرة الابتلاء به.
واستدلوا أيضا بأنه لولا هذا الشرط لاجترأ السفهاء على ذوي المروات فادعوا
عليهم بدعاوي فاضحات فإن أجابوا افتضحوا، وان صالحوا على مال ذهب مالهم.
وهذا أضعف من سابقه فإنه معارض بأنه لو اشترط الخلطة لضاعت حقوق
كثيرة لأنه كثيرا ما تكون الحقوق في غير ذوي لخلطة.
هذا، مضافا إلى ما نرى في الخارج من العمل بالروايات المعروفة مع عدم
وجود ما ذكره من المحذور، ولو فرض وقوع ذلك نادرا لا يكون مانعا عن الاخذ
بالقواعد الكلية، فكم من قاعدة كلية يرد عليها في مثل هذه النقوض في موارد جزئية.
وبالجملة هذا الشرط ضعيف في الغاية، ولذا التجأ بعضهم بالاستثناء من
اعتبار الخلطة مواضع مثل الصانع والمتهم بالسرقة، والوديعة، والعارية، وغير
ذلك.
* * *
4 - هل المدار في المدعي والمنكر مصب الدعوى أو نتيجتها وغايتها؟
وقلما وقع البحث عنه في كلماتهم مع أنه من الأمور المبتلى بها في القضاء،
وله أمثلة كثيرة منها ما إذا تنازعا في أن العقد الواقع منهما كان بيعا أو هبة، فالمالك
للمثمن يدعي كونه هبة، وغرضه امكان الرجوع فيه، لأن الهبة جائزة، والاخذ
يدعي كونه بيعا حتى يكون لازما.
فإن كان الملاك هو مصب الدعوى فلا شك انه من قبيل التداعي لأن كل
واحد منهما يدعي أمرا مخالفا للأصل فكل منها مدع لأمر ومنكر لما يدعيه الاخر
349

فرجع الامر إلى التحالف وشبهه، من أحكام التداعي، واما إن كان بالنظر إلى النتيجة
والغرض، فالمدعي للزوم العقد قوله موافق للأصل لأن الأصل في العقود اللزوم،
فيكون في الواقع منكرا، واما المدعي لكونه هبة فهو مدع لأن قوله مخالف للأصل.
هذا إذا لم يكن نزاع في العوض، واما لو كان المدعي للهبة ناظرا إلى نفي
الثمن عن ذمته فقوله موافق لأصالة براءة ذمته فيكون منكرا واما مدعي البيع فهو
يدعي شيئا في ذمة الطرف فهو مدع.
إلى غير ذلك من الأمثلة.
والحق ان يقال إن المدار على مصب الدعوى لما عرفت من أن المعيار صدق
عنوان المدعي والمنكر، أو المدعي والمدعى عليه، ومن المعلوم انه في المثال كل
واحد منهما مدع، ولا يعتنى إلى مآل هذه الدعوى ونتيجتها، أو غرض طرفي الدعوى
فليس على القاضي الا ملاحظة الصدق العرفي بما عرفت من معنى المدعي والمنكر
بحسب ظاهر اللفظ وظاهر الحال وما يفهمه العرف من لفظهما، واما الأغراض فهي
أمور خارجة لا دخل لهما بهذا الامر (والله العالم بحقايق الأمور).
350

17 - قاعدة تلف المبيع قبل قبضه
(إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بايعه)
* مستند القاعدة من الاجماع والأحاديث وبناء العقلاء
* حكم النماءات الحاصلة بعد العقد وقبل التلف
* إذا حصل التلف بفعل البايع أو المشتري
* الحاق تلف الثمن بتلف المبيع وعدمه
* هل القاعدة تختص بباب البيع أو تجرى في جميع المعاوضات
351

قاعدة تلف المبيع قبل قبضه
من القواعد المشهورة في أبواب المعاملات قاعدة كل مبيع تلف قبل قبضه فهو
من مال بايعه ومعناه كما سيأتي انشاء الله انفساخ البيع عند تلف المبيع قبل اقباض
البايع للمشتري ووجوب رد الثمن إليه والكلام فيها في مقامات.
* * *
1 - مستند القاعدة
ويدل عليها أمور
الأول اتفاق أصحابنا عليه كما ادعاه العلامة في التذكرة حيث قال:
" ولا خلاف عندنا في الضمان على البايع قبل القبض مطلقا، فلو تلف حينئذ
انفسخ العقد وسقط الثمن، وبه قال الشافعي، واحمد في رواية وهو محكي عن
الشعبي وربيعة، ولأنه قبض مستحق بالعقد، فإذا تعذر انفسخ البيع، كما لو تفرقا
قبل القبض في الصرف، وقال أبو حنيفة كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من ضمان
البايع الا العقار، وقال مالك إذا هلك المبيع قبل القبض لا يبطل البيع، ويكون من
ضمان المشتري، الا ان يطالبه به، فلا يسلمه فيجب عليه قيمته للمشتري، وبه قال
احمد واسحق لقوله عليه السلام " الخراج بالضمان " ونمائه للمشتري فضمانه عليه " (1).

(1) تذكرة الفقهاء المجلد الأول ص 473.
353

وقال شيخ الطائفة في الخلاف في المسألة 243 من كتاب البيوع: " إذا
تلف المبيع قبل القبض للسلعة بطل العقد، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك
لا يبطل، دليلنا: انه إذا باع فإنه يستحق الثمن إذا قبض المبيع، فإذا تلف تعذر عليه
التسليم فلا يستحق العوض " (1).
ولا تهافت بين الكلامين، فيما نقل عن أبي حنيفة من استثناء العقار في أحدهما
دون الاخر، لأن هذه من فروع المسألة.
وادعاه جماعة آخرون حتى ادعي في " الرياض " تواتر نقل الاجماع على
المسألة حيث قال: فإن تلف المبيع بعد ثبوته بانقضاء الثلاثة كان من مال البايع
اجماعا تواترا نقله جدا (2).
وقال في " مفتاح الكرامة " وإذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بايعه
اجماعا، كما عن السرائر وكشف الرموز وجامع المقاصد والروضة ويتناوله اجماع
الغنية (3).
وحكى الاجماع أو دعوى عدم الخلاف في موضع آخر عن جماعة آخرين.
وبالجملة المسألة غير خلافية عندنا، وان خالف فيه بعض فقهاء العامة كما
عرفت، وإن كان مجرد الاجماع في أمثال هذه المسائل التي توجد فيها دلائل أخر
غير كاف في اثبات المطلوب، ولكن مثل هذه الاجماعات يؤكد المقصود تأكيدا
تاما.
نعم قد يظهر من بعض ما حكى من المحقق الأردبيلي نوع ترديد في المسألة
لولا الاجماع، حيث قال بعد كلام له في المسألة مماشاة للجماعة ما نصه: " فتأمل

(1) الخلاف ج 2 ص 68.
(2) الرياض ج 1 ص 526.
(3) مفتاح الكرامة ج 4 ص 596.
354

فإن الامر مشكل لكون الملك للمشتري مثلا قبل القبض في زمن الخيار على ما مر،
وبعده، والبايع غير مقصر والقاعدة تقتضي كونه من ماله " (1).
ولكن مثل هذا لا يعد خلافا في المسألة كما هو ظاهر.
* * *
2 - السنة
العمدة في دليل المسألة هي عدة روايات مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وأئمة أهل البيت
عليهم السلام.
1 - منها: الرواية المعروفة عنه صلى الله عليه وآله " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من
مال بايعه ".
وهذه الرواية وان كانت مرسلة، ولم توجد في أكثر كتب الحديث منا ومن
غيرنا، ولكنها مشهورة معروفة.
نعم أخرجها في المستدرك عن غوالي اللئالي (2) ومن هنا قال في مفتاح الكرامة
وضعف السند منجبر بعمل الكل، فقد طفحت عباراتهم بذلك في المقام وفي خيار
التأخير (3).
وقال الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدس سره) في المقام: للنبوي المنجبر
بعمل الأصحاب كافة " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه " (4).
ومن هنا يظهر ما في كلام صاحب الحدائق (قدس سره) في بعض حواشيه على
كتاب الحدائق في المسألة حيث قال بعد نقل الرواية عن العلامة في التذكرة ما نصه:

(1) حكى في الحدائق عنه في ج 19 ص 77.
(2) المستدرك ج 2 ص 473 (أبواب الخيار الباب 9).
(3) مفتاح الكرامة ج 4 ص 596.
(4) الجواهر ج 23 ص 83.
355

" وهذا الخبر لم نقف عليه فيما وصل إلينا من كتب الاخبار، ووجه الايهام فيه قوله
" من مال بايعه "، فإنه دال على خروج ذلك عن ملكه بالبيع، فليس معنى قوله " من
ماله " الا باعتبار ضمانه مثله أو قيمته (1).
وسيأتي الكلام فيما أشار إليه من وجه الايهام في الحديث.
2 - منها: ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل اشترى متاعا
من رجل وأوجبه غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه قال آتيك غدا إن شاء الله،
فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال من صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض
المتاع، ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله
إليه (2).
والرواية وان كانت ضعيفة لجهالة " عقبة بن خالد " وكذا الراوي عنه " محمد
ابن عبد الله بن هلال " ولكن الذي يسهل الخطب عمل المشهور بها، بل قد عرفت
ان مضمونها مما قد ادعى تواتر الاجماع عليه، ولذا قال في الرياض مشيرا إليه والى
الرواية السابقة: " وقصورهما سندا منجبر بعمل الكل جدا، فهما بعد الاجماع
مخرجان للحكم هنا عن مقتضى القاعدة المتقدمة القائلة بحصول الملكية بمجرد
العقد المستلزم لكون التلف من المشتري " (3).
وقال في مفتاح الكرامة مشيرا إليهما وضعف السند فيهما منجبر بعمل الكل
فقد طفحت عباراتهم بذلك في المقام ومبحث خيار التأخير (4).
3 - ومنها ما رواه علي بن يقطين انه سأل أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يبيع البيع

(1) الحدائق ج 19 ص 76.
(2) الوسائل ج 12 أبواب الخيار الباب 10 ح 1 ص 358.
(3) الرياض ج 1 ص 528.
(4) مفتاح الكرامة ج 4 ص 596.
356

ولا يقبضه صاحبه ولا يقبض الثمن، قال فإن الاجل بينهما ثلاثة أيام، فإن قبض بيعه،
والا فلا بيع بينهما (1).
واستدل به السبزواري في الكفاية في كتاب البيع حيث قال: ولو تلف المبيع كان من مال البايع بعد الثلاثة بلا خلاف اعرفه، وقبل الثلاثة على الأشهر الأقرب
لظاهر " صحيحة علي بن يقطين "، مؤيدا برواية عقبة بن خالد، وذهب المفيد
والمرتضى وسلار ومن تبعهم إلى أن تلفه من المشتري نظرا إلى ثبوت الناقل من غير
خيار (2).
هذا والرواية وان كانت قوي السند ولكن الظاهر أنه لا دلالة لها على ما نحن
بصدده، فإنه لا نرى فيها ما يدل على حكم التلف في ثلاثة أيام، بل السؤال والجواب
عن حكم البيع عند عدم القبض والاقباض، من دون تعرض لحكم التلف، فإذا
لا يبقى من الروايات الا الأوليات اللتان أشرنا إليهما آنفا.
* * *
بقي هنا شئ وهو ان ظاهر الخبرين الذين هما الأصل في المسألة: النبوي،
ورواية عقبة بن خالد، ان التلف يتحقق في مال البايع، مع أن المالك ملك المشتري
بحسب البيع الصحيح السابق، فمعنى هذا الكلام انه ينفسخ العقد آنا ما قبل التلف
وينتقل المبيع إلى ملك البايع، والثمن إلى ملك المشتري، فيكون تلف المبيع من
مال بايعه، واما ان الفسخ هل هو من حينه، أو من الأصل الذي تظهر ثمرته في النمائات
المتخللة فهو أمر آخر، سيأتي الكلام فيه، ولا دخل له بما نحن بصدده فعلا، وإن كان
يظهر من كلمات بعضهم انه وقع الخلط بينهما عنده.
قال في مفتاح الكرامة: ومعنى كونه من مال بايعه انه ينفسخ العقد بتلفه من

(1) الوسائل ج 12 أبواب الخيار الباب 9 ح 3 ص 357.
(2) كفاية الأحكام ص 92.
357

حينه، ويرجع الثمن إلى ملك المشتري، كما قد تشعر به رواية عقبة، وبه صرح
في المبسوط وما تأخر عنه مما تعرض له فيه، فلو كان قد تجدد له نماء بعد العقد وقبل
التلف فهو للمشتري - إلى أن قال - وحينئذ فيقدر دخوله في ملك البايع قبل التلف
آنا ما ويكون التلف كاشفا عنه (1).
وقال في " التذكرة ": إذا انفسخ العقد كان المبيع تالفا على ملك البايع فلو
كان عبدا كان مؤنة تجهيزه عليه، وبه قال الشافعي، وهل يقدر انه ينتقل الملك إليه
قبيل التلف، أو يبطل العقد من أصله؟ فيه احتمالان، وأصح وجهي الشافعية الأول (2).
وقد عرفت ان كون الفسخ من أصله أو من حينه لا ربط له بما نحن بصدده،
والمقصود هنا انه يقع الفسخ على كل حال قبل التلف آنا ما، اما من أصله أو من حينه
فينتقل المال إلى البايع فيكون التلف في ملكه، وهل يترتب عليه سائر آثار الملك مثل
ما ذكره العلامة في عبارته السابقة عن التذكرة من كون مؤنة تجهيز العبد التالف على
مالكه أو يكون ثمرة انتقال المال إلى البايع كون تلفه من ماله لا غير، فيه وجهان والقدر
المتيقن الثاني وظاهر اطلاق الحديث الأول فتأمل.
إلى غير ذلك مما ورد في كلماتهم في هذا المجال، ونختم هذا البحث بما
ذكره الشهيد الثاني في المسالك حيث قال: " المراد انه ينفسخ العقد بتلفه من حينه
ويرجع الثمن إلى ملك المشتري، فلو كان قد تجدد له نماء بعد العقد وقبل التلف
فهو للمشتري، وليس للمشتري مطالبة البايع بالمثل أو القيمة، وإن كان الحكم بكونه
من مال البايع يوهم ذلك، وإنما عبروا بذلك تبعا للنص، والمراد منه ما ذكرناه
وحينئذ يقدر دخوله في ملك البايع قبل التلف آنا ما، فيكون التلف كاشفا عنه " (3).

(1) مفتاح الكرامة ج 4 ص 596.
(2) التذكرة ج 1 ص 474.
(3) المسالك ج 1 ص 181.
358

وكلامه جيد بالنسبة إلى ما هو المقصود، أعني معنى كون التلف من مال البايع
ولكن يرد عليه أولا ان مسألة كون الفسخ من حينه أو من أصله لا دخل له بما نحن فيه
والخلط بين المسئلتين غير جايز، وثانيا قوله ان النص يوهم جواز مطالبة البايع
بالمثل أو القيمة غير صحيح، بل ظاهر هذا التعبير هو انفساخ البيع فتدبر.
* * *
3 - بناء العقلاء في القاعدة
قد يدعى ان هذه القاعدة مقبولة عند العقلاء، وان بنائهم على انفساخ العقد
لو وقع التلف قبل القبض، وانه يرجع الثمن إلى المشتري، وان الوجه فيه ان قوام
المعاملة عندهم بالقبض والاقباض، وإن كان انشاء العقد والمبادلة بين المالين قبل
ذلك كثيرا، فإذا سقط المثمن عن قابلية القبض والاقباض وكونه بدلا عن الثمن،
فتنفسخ المعاملة قهرا، فيذهب من كيس صاحبه قبل المعاوضة.
هذا ولكن كون بنائهم عليه غير ثابت، والاستدلال الذي ذكر غير كاف
في اثبات المقصود، وان شئت اختبر المسألة فيما إذا أدى المشتري الثمن ولم يقبض
المتاع بتأخير من البايع، (مع كون البيع شخصيا) لبعض الموانع، ثم ارتفع قيمة
المتاع بعد ذلك فتلف عنده من دون أن يكون العين أمانة عنده، فكون البايع ضامنا
للثمن فقط دون المتاع الذي ارتفعت قيمته أول الكلام.
وبالجملة لو ثبت بناؤهم على ذلك في بعض الموارد فهو غير ثابت في الجميع
بل يمكن أن يكون بناؤهم في بعض الموارد من باب عدم تفاوت قيمة المتاع عن الثمن
الذي أعطاه.
فالعمدة في المسألة ما عرفت من روايات الباب المؤيدة باجماع الأصحاب.
359

تنبيهات القاعدة
الأول: في حكم النماءات الحاصلة بعد العقد وقبل التلف
قال في الجواهر: " كيف كان فالنماء بعد العقد قبل التلف للمشتري، كما في
المسالك وغيرها، بل قيل إنه يظهر منه دعوى الوفاق عليه، لأنه نماء ملكه فالقاعدة
واستصحاب الحالة السابقة يقضيان بان الفسخ من حينه، فاحتمال كون الفسخ من
الأصل كما عن التذكرة ضعيف، لكن في الرياض انه ينافي الفسخ من حينه ظاهر
النص وفتوى الجماعة فيحتاج إلى تقدير دخوله في ملك البايع آنا ما ويكون التلف
كاشفا ".
ثم قال: " قلت: قد لا يحتاج إلى هذا التقدير ويكون المراد من النص
والفتوى ان حكم هذا التالف حكم ما لو كان مالا للبايع أي لا يستحق بالعقد ثمنا
على المشتري " (1).
وقال في مفتاح الكرامة: " ومعنى كونه من مال بايعه انه ينفسخ بتلفه
من حينه ويرجع الثمن إلى ملك المشتري كما قد تشعر به رواية عقبة، وبه صرح في
المبسوط، وما تأخر عنه، مما تعرض له فيه، فلو كان قد تجدد له نماء بعد العقد وقبل
التلف فهو للمشتري، كما هو مقتضى القاعدة واستصحاب الحالة السابقة، وظاهرهم
انه لا خلاف فيه وإن كان ظاهر النص والفتوى قد ينافيه لكنهم تأولوهما بما تسمعه (2).
والمسألة مبنية على ما عرفت من كون الفسخ من حين التلف أو من أصله، فلو
كان من حين التلف فلا شك في أن النماءات ملك للمشتري، لأن المفروض بقاء
المتاع على ملكه إلى حين التلف والا كان للمالك.

(1) الجواهر ج 23 ص 84.
(2) مفتاح الكرامة ج 4 ص 596.
360

ويقرب منه ما ذكره في الرياض: " هل النماء بعد العقد قبل التلف بالآفة
للمشتري أو البايع وجهان مبنيان على أن التلف هل هو امارة الفسخ للعقد من حينه
أو من أصله؟ ظاهر المسالك وغيره الأول مشعرا بدعوى الوفاق عليه، وهو مقتضى
القاعدة واستصحاب الحالة السابقة، لكن ينافيه ظاهر النص والعبارة كعبارات الجماعة
فيحتاج إلى تقدير دخوله في ملك البايع آنا ما ويكون التلف كاشفا عنه (1).
وقال السبزواري في الكفاية: " إذا حصل للمبيع النماء كالنتاج وثمرة النخل
كان ذلك للمشتري، قالوا فإن تلف الأصل سقط الثمن عن المشتري، وله النماء،
وهذا مبني على أن التلف إنما يبطل البيع من حينه " (2).
وحيث قد عرفت انه لا طريق لنا إلى الحكم في المسألة الا من طريق روايات
الباب، فاللازم ملاحظة مفادها، نعم لو وصل الامر إلى الشك فالقاعدة تقتضي كونها
للمشتري لأن الملك كان ملكه، بمقتضى العقد فالنماءات له، فما لم يقم دليل على
خلافه فاللازم الحاق المنافع به.
فنقول: اما قوله صلى الله عليه وآله " كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه " فلا دلالة
فيه على شئ من الامرين، وكونه من مال البايع لا دلالة على أن الفسخ من أصله،
بل لعله بمعنى انه بحكم مال البايع، أو انه يقع الفسخ قبل التلف آنا ما، فيعود
الملك إلى البايع ويكون التلف من ملكه، فلا دلالة لها على شئ.
وكذلك قول الصادق عليه السلام في رواية عقبة بن خالد بعد السؤال من أن المتاع
إذا سرق من مال من يكون؟ قال: " من صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض
المتاع ".
وبالجملة لا يظهر من روايات المسألة بالنسبة إلى النماءات شئ وقد عرفت

(1) الرياض ج 1 ص 528.
(2) الكفاية ص 96.
361

ان القاعدة تقتضي كونها للمشتري.
نعم لو دلت رواية " علي بن يقطين " على القاعدة كان قوله " والا فلا بيع
بينهما " ظاهرا في الفسخ من أصله ولكن قد عرفت عدم دلالتها على المطلوب.
* * *
الثاني: إذا حصل التلف بفعل البايع أو المشتري
ظاهر كلام غير واحد منهم في عنوان المسألة من تقييده بتلف سماوي ان هذا
الحكم لا يجري إذا حصل الاتلاف من البايع أو المشتري أو أجنبي، وهو كذلك
لقصور النص عن شمول مسألة الاتلاف، لأن العنوان فيه هو التلف، فاللازم الرجوع
إلى مقتضى القاعدة، ومن الواضح ان مقتضاها كون المتلف ضامنا للمثل أو القيمة،
إذا كان المتلف البايع أو الأجنبي، لأن المبيع دخل في ملك المشتري بمجرد انشاء
البيع، ولا يكون القبض والاقباض شرطا هنا.
واما لو كان الاتلاف من المشتري فالظاهر أنه بحكم قبض المتاع، لأنه هو
الذي أخرجه من قابلية القبض والاقباض، وقد ادعى عدم الخلاف في ذلك لأنه قد
ضمن ماله باتلافه.
* * *
الثالث: الحاق تلف الثمن قبل قبضه بتلف المبيع
وقع الكلام بينهم في اختصاص هذه القاعدة بالمبيع أو لشمولها للثمن أيضا.
ظاهر كلام غير واحد منهم العموم، بل قد يدعى عدم الخلاف فيه، بل قد
يشعر بعض كلماتهم بالاجماع.
قال في مفتاح الكرامة:
" ثم إن ظاهر العبارات في البابين ومقتضى الأصل وظاهر النبوي ان تلف
362

ثمن المعين قبل قبضه يكون من مال البايع، لأنه صار ماله بالعقد على عينه، لكن
ظاهر مجمع البرهان انه كالمبيع وانه لا خلاف فيه، قلت: قد صرحوا بذلك في
باب الشفعة، بل ظاهرهم هناك الاتفاق على ذلك من دون تأمل ولا اشكال، وقال في
مجمع البرهان ان في خبر عقبة ايماء إلى التعميم في البايع والمشتري ويمكن إرادة
المشتري من البايع في النبوي فإنه لغة يطلق عليهما ولا يضر عدم صحة السند لعدم
الخلاف في العمل والقبول على الظاهر " انتهى (1).
وقال في الرياض:
" ان مقتضى الأصل واختصاص ظاهر الفتاوى والنص بالبيع كون الحكم
في تلف الثمن تلفه من مال البايع لأنه صار بالعقد ماله، فيجب أن يكون التلف منه،
الا ان ظاهر بعض الأصحاب الحاقه بالأول، مشعرا بدعوى الوفاق عليه، وعلى
ارادته من المبيع، وإرادة المشتري من البايع، التفافا إلى صدقهما عليهما لغة " (2).
هذا ولكن لا ينبغي الاشكال في أن مقتضى انتقال الثمن بمجرد العقد إلى
ملك البايع انه إذا تلف تلف من ملكه، ومن يدعي كونه من ملك المشتري لابد
له من إقامة الدليل على انفساخ العقد آنا ما من حينه أو من أصله، وبدون إقامة
الدليل لا يمكن المصير إليه.
وغاية ما يستدل به للعموم، فيما عرفت من كلماتهم وغيرها أمور:
1 - شمول النبوي " كل بيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه " للبايع
والمشتري والثمن والمثمن بناءا على صدق هذا العنوان على كليهما كما أشار إليه
غير واحد منهم.
ولكن الانصاف انه مخالف للظاهر جدا، لا يمكن المصير إليه من دون قرينة.

(1) مفتاح الكرامة ج 4 ص 597.
(2) الرياض ج 1 ص 528.
363

2 - شمول رواية " عقبة بن خالد " له فإن قوله عليه السلام في ذيل الرواية " فإذا
أخرجه من بيته (اي اقبض البايع المتاع) فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله إليه "
ان المشتري ضامن للثمن بعد قبض المثمن.
وأورد عليه بأمور: أحدهما - ان الرواية " عقبة " إنما تدل بعد القبض.
ثانيها - انه يمكن حملها على كون الثمن كليا كما هو الغالب، والضمان
أعم من الانفساخ الحاصل بتلف المبيع.
ثالثها - انه لا جابر لهذه الرواية الضعيفة بالنسبة إلى ذلك (وان تمت دلالتها
بالنسبة إلى المبيع لانجبارها كما عرفت) " انتهى " (1).
هذا ولكن العمدة من اشكالاته هو الاشكال الأول لأن كون الثمن كليا
خلاف ظاهر الحديث جدا، لأنه لا معنى حينئذ لضمان المشتري لحق البايع حتى
يرد ماله إليه، فإن هذا كالصريح في كون الثمن شخصيا، بل لا يتصور التلف في
الثمن الكلي، وكذا التفكيك في العمل بين الفقرتين مشكل بل قد يظهر منهم العمل
بهما كما عرفت.
ولكن هنا " اشكال آخر " يرد على الاستدلال بالرواية وهو ان كون المشتري
ضامنا لحق البايع حتى يرد ماله إليه لا يدل على كون تلف الثمن من ماله، ليكون
ملازما للفسخ من حينه أو من الأصل، بل لعل الضمان هنا إنما هو بالمثل أو القيمة،
والوجه فيه عدم العذر للمشتري بعد قبض المتاع في تأخير أداء الثمن.
فالاستدلال بهذه الرواية أيضا ضعيف.
3 - " الغاء الخصوصية " عن حكم المثمن وتنقيح المناط فيه، بان يقال: ان
العلة لانفساخ البيع إنما هو عدم استحكامه قبل القبض، وهذا أمر مشترك بين الثمن
والمثمن، والانصاف ان هذا أيضا تخرص على الغيب، وقول بلا دليل.

(1) جواهر الكلام ج 23 ص 85.
364

نعم قد يقال إن المسألة عقلائية ولا فرق عندهم بين الثمن والمثمن في ذلك
ولكن قد عرفت عدم ثبوت هذه الدعوى، فإذا لا يسعنا الحاق الثمن بالمثمن، فيبقى
الحكم على الأصل، وهو كون تلفه من مال البايع إذا لم يكن من ناحية المشتري
تقصير، والا فهو ضامن له بمثله أو قيمته (والله العالم).
* * *
4 - هل القاعدة تختص بباب البيع أو تشمل ساير المعاوضات أيضا؟
لم نر في كلماتهم ذكرا له الا نادرا وأدلة المسألة أيضا خاصة بالبيع من دون
فرق بين النبوي المشهور وما رواه عقبة بن خالد، والاجماع.
نعم ذكر شيخنا الأعظم في مكاسبه: انهم ذكروا في الإجارة والصداق
وعوض الخلع ضمانها لو تلف قبل القبض، لكن ثبوت الحكم عموما مسكوت في
كلماتهم، الا انه يظهر من بعض مواضع التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات.
وعلى كل حال لا دليل على التعميم وما قد يقال إن مدرك المسألة هو بناء العقلاء
وهو عام قد عرفت ما فيه.
نعم بالنسبة إلى العقود القائمة بالمنافع (مثل الإجارة) إذا تلف العين المستأجرة
فلا شك في بطلان الإجارة وكذا إذا كانت العين باقية، ولكن تلف المنافع قبل قبضها
لمانع حصل من القبض، كوقوع العين في معركة القتال، أو في وسط السيل، أو
غير ذلك، فلا يبعد الحكم بالانفساخ لبناء العقلاء عليه في خصوص هذه الموارد،
ولكن مع ذلك لا يمكن استفادة الحكم منها كليا فتأمل.
365

18 - قاعدة تبعية العقود للقصود
(العقود تابعة للقصود)
* محتوى القاعدة
* ما ذكر في مدركها مما لا يعتمد عليه
* العمدة في مستند القاعدة
* القصد إنما يعتبر في موضوع العقد لا في حكمه
* التبعية إنما هي في الحدوث لا في البقاء
* التبعية إنما هي في مقام الثبوت لا الاثبات
* النقوض التي أوردت على القاعدة والجواب عن جميعها
367

من القواعد المعروفة المتداولة بين أصحابنا رضوان الله عليهم هو قاعدة تبعية
العقود للقصود.
وهذه القاعدة على اجمالها مجمع عليها بين الأصحاب، بل بين علماء
الاسلام جميعا، بل وغيرهم من العقلاء في كل عرف وزمان، فهم بأجمعهم قائلون
بتبعية العقود، بل الايقاعات أيضا، لما يقصده العاقدون، فلا اشكال في شئ من
ذلك، وإنما الكلام في بعض خصوصيات المسألة وما يتصور انه كالاستثناء بالنسبة
إليها فهو العمدة والمقصود في هذا الباب.
* * *
والكلام هنا يقع في مقامات:
الأول في محتوى القاعدة
ذكر " في العناوين ": " ان هذه القاعدة محتملة لامرين ليس بينهما منع
جمع:
أحدهما: ان العقد تابع للقصد، بمعنى انه لا يتحقق الا بالقصد، كما ذكره
الفقهاء في شرائط العقود، مع الشرائط الأخر، بمعنى انه لا عبرة بعقد الغافل والنائم
والناسي والغالط والهازل والسكران، فيكون معنى التبعية عدم تحققه بدونه إذ لا وجود
للتابع بدون متبوعه.
369

ثانيهما: ان العقد تابع للقصد بمعنى ان العقد يحتاج إلى موجب وقابل،
وعوض ومعوض، وبعد حصول هذه الأركان لكل عقد اثر خاص " (انتهى).
ولكن الظاهر أن المراد من هذه القاعدة معنى ثالث، وحاصله انه بعد الفراغ
عن لزوم القصد في العقود بما ذكر في محله من الدليل، ان ما يتحقق في الخارج
من حيث نوع العقد وكمه، وكيفه، وشرائطه، وغير ذلك من خصوصياته، تابع
للقصد فلو قصد النكاح وقع نكاحا، ولو قصد العارية وقعت عارية، ولو قصد هبة
كانت هبة، كما أنه لو قصد على امرأة معينة بصداق معين وأجل وشروط وغير ذلك
كل هذه الأمور تابعة لقصد الموجب والقابل، فهذا هو المراد بتبعية العقود للقصود
واما مسألة اعتبار القصد في مقابل الهازل والغالط وغيرهما فهو أمر آخر.
وبعبارة أخرى حاجة العقد في تحققه إلى القصد أمر وتبعيته في أصوله وفروعه
للقصد أمر آخر، كما يعرف بمراجعة كلام الأصحاب عند الاستدلال بهذه القاعدة
وتنبه له صاحب العناوين وغيره أيضا في سائر كلماتهم في المقام.
ومن هنا يعلم أنه لا يتفاوت فيه بين البيع والنكاح والعقود اللازمة والجائرة،
بل الايقاعات أيضا كذلك، فلو طلق امرأة خاصة أو وقف شيئا (بناء على كون
الوقف من الايقاعات) كان تابعا لقصد الموقع من جهة خصوصياتها.
بل الظاهر أن هذه القاعدة لها مفهوم ومنطوق فكل ما قصده يقع، وكل ما لم
يقصده فهو غير واقع، ومن هنا اشتهر بينهم في موارد الحكم بابطال عقد لم يتحقق
مضمونه، بل تحقق غيره بدعوى الخصم، " ان ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد،
فهذه القضية صحيحة من الجانبين، فمقتضى القاعدة ان ما يقصده المتعاقدان يقع في
الخارج كما أن مقتضى القاعدة انه لا يقع ما لم يقصداه فلو ادعى مدع خلافهما كان
محجوجا بالقاعدة.
* * *
370

الثاني - مدرك قاعدة تبعية العقود للقصود
قد يتمسك لها بالاجماع، وبأن الأصل في العقود الفساد، الا ما خرج بالدليل
ويظهر الاستناد إلى هذين من المحقق النراقي في عوائده، وصاحب العناوين في
عناوينه، وبعض من تأخر عنهما، وان استدلوا أيضا ببعض ما سنتكلم فيه إن شاء الله.
ولكن الانصاف ان شيئا منهما غير تام لأن دعوى الاجماع في هذه المسائل
التي فيه مدارك اخر معتبرة يمكن استناد المجمعين إليها غير مفيد كما عرفت مرارا.
بل هذه القاعدة لا زالت معروفة حتى قبل الاسلام، ولما جاء الاسلام أمضاها
فليست قضية تعبدية متخذة من النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام.
بل لا حاجة إلى الأصل هنا، لأنه في مورد الشك، ومن المعلوم انه لا شك
في تبعية العقد للقصد، فإذا كان في المسألة دليلا عمليا قطعيا لا معنى للرجوع إلى
الأصول.
كما أن الاستدلال عليها بان " الأعمال بالنيات " و " لا عمل الا بالنية " كما عن
بعضهم أيضا فاسد.
قال في العناوين: " ويمكن ان يتمسك في هذه المقام بمثل قول لا عمل الا بالنية
وإنما الأعمال بالنيات، فإن ظاهر الروايتين ان ماهية العمل من دون نية غير متحققة
فاما ان يحمل على معناه الحقيقي الظاهر، وتكون الأعمال التي تتحقق بغير قصد
خارجة عن العموم، واما ان يحمل على نفي الصحة، لأنه أقرب المجازات، فيكون
المراد عدم الصحة الا بالنية، ولا ريب ان عموم الأعمال يشمل العقود والايقاعات
أيضا، فيدل على أنها لا تصح بدون القصد (انتهى موضع الحاجة).
ويرد عليه ان الأعمال في هذه الأحاديث عام لا تختص بالأمور القصدية، بل
تشمل العبادات بالمعنى الأخص والأعم، وكما تشمل الصلاة والزكاة كذلك الجهاد
وسائر الواجبات والمستحبات، بل سيأتي ان بعض هذه الأحاديث ورد في مورد
371

الجهاد وإن كان مفهومه عاما.
وحينئذ الظاهر أن المراد منها هو تبعية ثواب العمل بنية القربة والاخلاص،
فلو أخلص نيته كان عمله لابتغاء وجه ربه كان له اجره، ولو عمل لا لابتغاء وجه الله
كان العمل تابعا لنيته لا يترتب عليه اي اجر الهي.
ويشهد لذلك ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث قال: " إنما الأعمال
بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن غزى ابتغاء ما عند الله فقد وقع اجره على الله
عز وجل، ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له الا ما نوى " (1)!
وروى في المجالس صدر هذا الحديث هكذا: ان رسول الله صلى الله عليه وآله أغزى
عليا عليه السلام في سرية فقال علي عليه السلام لعلنا نصيب خادما أو دابة أو شيئا يتبلغ به فبلغ النبي
صلى الله عليه وآله قوله فقال: إنما الأعمال بالنيات (2)..
ويشهد له أيضا ما رواه أبو عثمان العبدي عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام:
" قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا قول الا بعمل ونية، ولا قول وعمل الا بنية (3).
وكذا ما رواه انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله لا يقبل قول الا بالعمل، ولا يقبل
قول وعمل الا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية الا بإصابة السنة (4).
فإن التعبير بعدم القبول ظاهر فيما ذكرنا من عدم الاجر.
وبالجملة أحاديث النية التي مرت الإشارة إليها إنما هي ناظرة إلى القبول
الإلهي، وترتب الثواب، ومسألة الاخلاص ولا دخل لها بتبعية المعاملات للقصود.
وتلخص ان شيئا من ذلك لا دخل له بهذه القاعدة، بل العمدة فيها بعد بناء
العقلاء بأجمعهم عليه أمر آخر وهي:

(1) الوسائل ج 1 أبواب مقدمات العبادات الباب 5 الحديث 10.
(2) الوسائل ج 1 أبواب مقدمات العبادات الباب 5 الحديث 10.
(3) الوسائل ج 1 أبواب مقدمات العبادات الباب 5 الحديث 4.
(4) المستدرك ج 1 أبواب مقدمة العبادات الباب 5 الحديث 3.
372

ان العقود والايقاعات أمور قصدية، بل القصد قوامها، وداخل في هويتها،
وبعبارة أوضح حقيقة العقود والايقاعات أمور اعتبارية انشائية، ومن الواضح ان الانشاء
والاعتبار قائم بقصد المعتبر، وهو كالايجاد في عالم التكوين، فكما ان الخالق
تعالى شأنه يوجد الأشياء بإرادته، وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فكذلك
المعتبر في عالم الاعتبار، فهو بحول الله وقوته يعتبر الأمور الاعتبارية وينشأها فلولا
القصد لم يكن منها عين ولا اثر.
أضف إلى ذلك أن العقد، هو " الالزام " و " الالتزام " وماهية الالتزام هو قبول
شئ وجعله في عهدته وهل يمكن قبول شئ بلا قصد؟
فقد ظهر مما ذكرنا انا لا نحتاج في هذه المسألة إلى التمسك بالأصل، لأن
الأصل إنما يحتاج إليه في موارد الشك وليس هناك شك لأنه لا يتصور وجود العقد
بدون القصد، وكذلك كيفيتها وأركانها وشرائطها تتبع القصود، لأن شيئا يكون قوامه
بالقصد جميع خصوصياته أيضا تنشأ منه لا محالة، فتمسك بعض الأعيان بأصالة الفساد
هنا لم يظهر له وجه.
كما قد ظهر أيضا انه لا يمكن التمسك في هذه المسألة بالاجماع، لأنه ليست
قضية متخذة من الأئمة الطاهرين عليهم السلام بل هو مبني على بناء العقلاء بل مقتضى حكم
العقل الممضاة من قبل الشارع المقدس.
كما أن الاستدلال عليه بان الأعمال بالنيات أيضا أجنبي عن موضوع البحث
لما أشرنا إليه آنفا.
وبالجملة هذه المسألة أوضح من أن تحتاج إلى مزيد بحث بعد وضوح قيام
العقود في وجودها وهويتها وذاتها بالقصد.
373

تنبيهات:
الأول: الحاجة إلى القصد إنما هو في موضوع العقد لا في حكمه
قد ظهر مما ذكرنا ان العقود تتبع القصود في تحقق موضوعها، لا في أصل
العقد فقط، بل في جميع أركانها وشرائطها وخصوصياتها، فالبيع يتبع القصد في
أصله، وفي المتعاقدين، والثمن والمثمن، وما يتبعها من الشروط، وكما أن وقوع عقد
بعنوان البيع أو الهبة يتبع القصد فكذلك وقوعها لزيد أو لعمرو، وعلى هذا العين أو ذاك
العين، ومع هذا الشرط أو غيره، من الشرائط كلها تتبع القصود لعين ما مر من الدليل.
ولكن إذا تحقق الموضوع تترتب أحكامه عليه سواءا قصدها، أم لم يقصدها
مثلا حكم الشرع بخيار المجلس والعيب والحيوان وغيرها، وكذلك حكمه بلزوم الأرش في بعض الموارد، وكون ضمان المثمن على البايع قبل اقباضه وغير ذلك
من الأحكام لا تترتب على قصد المتبايعين لها، بل لو كانوا جاهلين بهذه الأحكام أو
عالمين بخلافها تترتب عليها بلا ريب.
وكذلك إذا لم يعلم الزوج أحكام النفقة، والزوجة مثلا بعدم جواز خروجها
عن بيتها من دون اذن زوجها وكذا أحكام الإرث وغيرها لزمهما هذه الأحكام من دون
حاجة إلى قصدها.
والسر في جميع ذلك أن الحاجة إلى القصد إنما هو في قوام العقد وتحققه،
واما الأحكام فهي أمور أخر ترتبط بالشارع وارادته، ولا دخل لقصد العاقد فيها ابدا
والامر واضح.
* * *
2 - العقود إنما تتبع القصود حدوثا لا بقاءا
قد عرفت ان العمدة في قاعدة تبعية العقود للقصود إنما هو من ناحية تقومها
374

بالاعتبار والانشاء والقصد، ومن الواضح ان قوامها بها إنما هو في حدوثها، فإذا
تحقق الانشاء والاعتبار، وجد العقد بخصوصياته في عالم الاعتبار، فكان له وجود
اعتباري في هذا الوعاء، كوجود الأشياء الخارجية بعد تحققها.
ولكن بينهما فرق ظاهر فإن الأشياء في عالم التكوين كما تحتاج إلى خالقها
وباريها حدوثا، تحتاج إليها بقاءا، على ما هو التحقيق في محله من حاجة الممكن إلى
الواجب في جميع شراشر وجوده، وفي جميع عمره، لأنها بذاتها وجودات ربطية
ومتدليات بذاته تعالى، فلو انقطع فيض الوجود فيها آنا ما انعدمت بأجمعها، ولكن
الأمور الاعتبارية إذا حدثت من ناحية المتعاقدين غير محتاجة إليهما في بقائها، بل
لو قصدا الخلاف بقاءا لم يؤثر شيئا الا في موارد لهما حق الفسخ والخيار.
وان شئت قلت حدوثها بيد المتعاقدين وبقائها إنما هو باعتبار العقلاء، فإنهم
يعتبرون بقائها وان قصدا المتعاقدان خلافه. وهذا أيضا مما لا يحتاج إلى مزيد بحث.
* * *
الثالث - تبعية العقود للقصود إنما هو في مقام الثبوت لا الاثبات
مقتضى ما عرفت من الدليل في هذا الباب ان التبعية إنما هي تبعية ثبوتية، لأن
تقوم العقد بالقصد والاعتبار إنما هو بحسب نفس الامر والواقع، واما لو ادعى البايع
أو المشتري أو غيرهما انه قصد كذا وكذا لا يقبل منهما الا ما وافق ظاهر اللفظ، فلو
كان ظاهر اللفظ أو صريحه، أو مقتضى اطلاقه بمقدمات الحكمة، أو ما ينصرف إليه
شيئا، وادعى أحدهما غيره، لا يقبل منه، لأن طريق الوصول إلى القصود في مقام
الاثبات إنما هو ظواهر الألفاظ المعتبرة عند أهل العرف والعقلاء، التي أمضاها
الشرع، فمن ادعى خلافها فعليه الاثبات وإقامة الدليل، ولو لم يأت بشئ يؤخذ بظاهر
لفظه، ويكون حجة عليه شرعا، فالطريق الوحيد للوصول إلى المقاصد عند وقوع
375

الخلاف فيها إنما هو هذه الظواهر لا غير.
نعم إذا كان المعنى مما لا يعلم الا من قبل القاصد له فلا محيص عن قبول قوله
كما إذا كان وكيلا عن شخصين في بيع أو شراء أو نكاح أو إجارة أو غيرها، ثم أنشأ
العقد على شئ فادعى انه قصد هذا الموكل أو ذاك، فلا شك في قبول قوله، لأنه من
قبيل ما لا يعلم الا من قبله فلا يعتنى بدعوى أحد الوكيلين بأنه كان مقصودا بالمعاملة
أو كان غيره مقصودا، بل المدار على قول الوكيل.
* * *
الرابع - النقوض التي أوردت على هذه القاعدة:
وقد يورد على القاعدة نقوض كثيرة لابد من التأمل فيها وانها استثنائات من
القاعدة - فإن باب الاستثناء والتخصيص واسع، ولا يمتنع في الشرع أو العقل الزام
انسان بشئ لم يقصده لمصالح خاصة - أو انها بظاهرها استثنائات ولكنها في الواقع
من قبيل التخصص والخروج موضوعا أو أصل النقض باطل والقاعدة باقية على عموما؟
وهي أمور:
1 - بيع الغاصب لنفسه - فإن المشهور كما حكى عنهم صحته ووقوع المعاملة
للمالك بعد اجازته مع أنه قصد البيع لنفسه، فما قصده لم يقع وما وقع لم يقصد.
قال في " العناوين " قد ذكر بعض الفقهاء منهم المحقق، انه لو دفع المشتري
عين مال لغيره ثمنا عن مبيع وقصد الشراء لنفسه، أو دفع البايع عين مبيع لغيره وقصد
البيع وتملك الثمن لنفسه... فإنه يصير المعاوضة على مالكي العوضين، دون ذلك
الغير المقصود.
ثم قال: وعلله المحقق الثاني بان قاعدة المعاوضة انتقال كل من العوضين إلى
مالك عوض الاخر، لا إلى غيره، والا فخرج عن كونه معاوضة.
376

ثم أجاب هو نفسه عن هذا الاشكال بوجوه خمسة جلها أو كلها مما لا يروى
الغليل (1).
والعمدة في الجواب ان يقال: لا شك ان حقيقة المعاوضة دخول كل من العوضين
في ملك مالك الاخر، والغاصب إنما يقصد ملك العوض لنفسه بعد دعوى كونه مالكا
للمعوض، فبالملكية الادعائية الحاصلة من سلطته على العين غصبا يرى نفسه مالكا،
ثم يقصد المبيع لنفسه، ففي الحقيقة انه يقصد وقوع البيع لمالك العين، ولكن
حيث يرى نفسه مصداقا للمالك، يقصد البيع لنفسه فهو من بعض الجهات يشبه الخطأ
في التطبيق.
ومن هنا يظهر انه ليس هذا نقضا على القاعدة ولا استثناءا منها.
ولمسألة بيع الغاصب الفضولي جهات أخر من البحث ليس هنا موضع ذكرها
* * *
2 - وقد نوقضت أيضا بعقد المكره بعد لحوق الرضا فإن المشهور بين
المتأخرين انه لو رضى المكره بما فعله صح العقد، بل عن الرياض تبعا للحدائق ان
عليه اتفاقهم، مع أن المكره غير قاصد لمضمون العقد والرضا اللاحق ليس عقدا
جديدا، فما وقع لم يقصده.
وبعبارة أخرى المكره كالهازل قاصد للفظ دون المعنى، فكيف يصح عقده
بلحوق الرضا، مع أنه لا يصح عقد الهازل وان رضي بعد ذلك وأجاز.
والعمدة في الجواب عنه كما ذكره غير واحد من المحققين: ان عقد المكره
لا يخلو عن القصد، بل هو قاصد للفظ والمعنى كليهما، وإن كان عقده خاليا عن
الرضا، وبالجملة يعتبر في صحة العقد أمران: الانشاء الجدي، والرضا بمفاده، وهما
ما ذكره تعالى في قوله " تجارة عن تراض " والركن الأول موجود في عقد المكره،

(1) العناوين ص 196.
377

وإنما المفقود هو الثاني فإذا تحقق تم الأمران، وحيث لا يعتبر التقارن بين الانشاء
والرضا يكفي لحوق الرضا لعقد المكره، ولكن عقد الهازل ليس كذلك بل المفقود
فيه كلا الركنين، وبالرضا اللاحق يتم أحدهما ولكن انشاء العقد لم يحصل بعد.
* * *
3 - وقد أورد عليها أيضا بالمعاطاة على القول بالإباحة أيضا لأن
المتعاطين قصدا الملك، فما قصداه لم يقع وما وقع لم يقصداه.
قال شيخنا الأعظم: ذكر بعض الأساطين في شرحه على القواعد في مقام
الاستبعاد ان القول بالإباحة المجردة مع قصد المتعاطين التمليك والبيع مستلزم
لتأسيس قواعد جديدة، منها ان العقود وما قام مقامها لا تتبع القصود (انتهى) (1).
وأجاب الشيخ قدس سره بما حاصله: ان حكاية تبعية العقود وما قام مقامها
للقصود ففيها ان المعاطاة ليست عند القائل بالإباحة من العقود ولا من القائم مقامها
شرعا، فإن تبعية العقد للقصد وعدم انفكاكه عنه إنما هو لأجل دليل صحة ذلك العقد
بمعنى ترتب الأثر المقصود عليه، فلا يعقل حينئذ الحكم بالصحة مع عدم ترتب الأثر
المقصود عليه، اما المعاملات الفعلية التي لم يدل على صحتها دليل فلا يحكم بترتب
الأثر المقصود عليها، نعم إذا دل الدليل على ترتب الأثر عليه حكم به وان لم يكن
مقصودا (2).
وحاصل ما ذكره ان المعاطاة على هذا القول ليس عقدا والإباحة ليست إباحة
مالكية بل إباحة شرعية بدليل خاص.
هذا ولكن ما ذكره لا يخلو عن بعد، وكيف يمكن القول بان المالكين لم
يقصدا إباحة، ولكن الشارع ألزمهما بها رغما لأنفسهما؟!
ولم لا يقال على هذا القول: بان المالك يقصد في المعاطاة أمرين: التمليك

(1) المكاسب ص 84.
(2) المكاسب ص 84.
378

والإباحة، فإذا لم يتحقق التمليك لمنع شرعي تتحقق الإباحة، والإباحة وان كانت
متفرعة على الملك، ولكن السيرة اقتضت باستقلالها هنا ولو خلت عن التمليك،
فإن الغرض في المعاطاة نهائيا تسلط كل واحد من المالكين على ملك الاخر والانتفاع به.
هذا غاية ما يمكن ان يقال في تصحيح هذا القول ولكن الامر سهل بعد فساد
هذا القول من أصله (أعني القول بكون المعاطاة موجبة للإباحة) بل الحق في المعاطاة
الملكية بل اللزوم أيضا!.
* * *
4 - وأورد عليها أيضا بالنقض بقاعدة ضمان تلف المبيع قبل قبضه،
فإنه على بايعه بمعنى ان المعاملة قبل تلف المبيع آنا ما تنفسخ من حينه أو من الأصل
ويعود كل من الثمن والمثمن إلى ملك صاحبه، فيكون تلف المبيع من ملك البايع
وهذا أمر لم يقصداه.
وفيه اشكال واضح وهو انك قد عرفت ان القصد إنما يعتبر في أركان المعاملة
وشرائطها، وما فيها من القيود، واما الأحكام فلا تأثير للقصد وعدمه فيها، وكون
تلف المبيع قبل قبضه من مال بايعه وكذا مسألة الفسخ آنا ما قبل التلف كلها أحكام
شرعية لا دخل للقصد فيها ابدا، وقد عرفت انه لو لم يعلما ببعض أحكام المعاملة
مثل خيار المجلس والحيوان وغيرهما بل وان علم بخلافها فإنه تترتب عليها من دون
اشكال، ولا يكون أمثال هذه نقضا على القاعدة بل هي أجنبية عنها.
* * *
5 - وأورد عليها أيضا بصحة العقد مع فساد الشرط، بناءا على أن فساد
الشرط لا يوجب فساد العقد كما عليه أكثر القدماء فيما حكي عنهم، فإن المتعاقدين
قصدا المعاملة مع الشرط، فوقوعها بدون الشرط أمر لم يقصداه، فما وقع لم يقصد
وما قصد لم يقع.
379

وقد يجاب عنه بان هذا من قبيل الأحكام وقد عرفت ان الحكم لا يتبع قصد
المتعاملين.
وفيه ان الشرط من خصوصيات المعاملة، بل قد يكون له قسط من الثمن في
المعنى، وان لم يقابل به في الظاهر، وقد يرضى انسان بالعقد مع شرط خاص
ولا يرضى بدونه ابدا، فهذا داخل في موضوع المعاملة فكيف يصح الحكم بتبعية
العقود للقصود مع الانفكاك بين الشرط والمشروط؟ وبالجملة وقع الخلط في هذا
الجواب بين الموضوع والحكم.
والحق في الجواب ان يقال: ان قضية الشروط ليست كقضية الثمن
والمثمن، أو الزوج والزوجة في النكاح، بل هي أمور تعتبر في المعاملة بعنوان
تعدد المطلوب، فتخلفها لا يوجب فسادا في العقد، وإنما هو تخلف في بعض المطلوب
منه فيوجب الخيار فقط.
وان شئت قلت للعقد أركان وتوابع، فإذا تخلف أركانها فسدت، واما عند
تخلف التوابع لا يفسد، بل يكون فيه الخيار، نظير تخلف الوصف أو وجود عيب
في المتاع، فإنه لا يوجب فسادا في العقد قطعا، مع أن وصف الصحة ربما يكون
قيدا قي قصد المتبايعين بلا اشكال فلماذا لا يوجب تخلفه فساده، والوجه ظاهر وهو
ان أصل المعاملة مطلوب، ووصف الصحة مطلوب آخر، وهذا بخلاف ما إذا باع
الفرس فبان حمارا، أو باع الحديد فبان نحاسا، فإنه تخلف في أركان المعاملة.
وبالجملة الفرق بين المقدمات والتوابع، وكون الأول من قبيل
الركن، والثاني من قبيل تعدد المطلوب أصل مهم يتبنى عليه حل كثير من
المشكلات في أبواب المعاملات فلا تغفل.
ان قلت: قد يكون تمام مقصود المتبايعين ذاك الوصف أو الشرط، وحيث
لا يرضى واحد منهما بدونه بل لا يكون عندهما فرق بين الركن والتابع، بل التابع
قد يكون ركنا عندهما.
380

قلنا: ليس المدار في المعاملات على الدواعي الشخصية، بل الملاك على
الدواعي النوعية، فبحسب النوع، الشرط تابع، واصل المتاع مقوم، وهذا هو معيار
تعدد المطلوب عند العقلاء، ولذا لا يفرقون في مباحث خيار العيب بين من يكون
وصف الصحة مقوما عنده شخصيا، ومن لا يكون كذلك.
والحاصل ان قواعد الشرط وبناء العقلاء لا تدور مدار الدواعي الخاصة
لا في مقامنا هذا ولا في غيره وإنما تدور مدارها نوعيا.
ومن هنا يظهران ما افاده " المحقق النراقي " في " عوائده " ما لفظه:
" لا يخفى ان ما ذكروه ان العقود تابعة للقصود فإنما هو على سبيل الأصل
والقاعدة على ما عرفت، ويمكن ان يتخلف في بعض المواضع، لدليل خارجي،
كان يحكم الشارع بصحة عقد مع فساد شرطه، فيقال ان ذلك خارج عن القاعدة
بالدليل " (1).
منظور فيه، لما عرفت من أن هذا ليس تخصيصا في القاعدة، ولا يكون خارجا
عنها بدليل.
ومنه يظهر الحال في تخلف وصف الصحة ومسألة خيار العيب فلا نحتاج إلى
مزيد بحث فيه.
هذا كله بناء على كون الشرط الفاسد غير مفسد واما بناءا على الافساد فلا
كلام.
* * *
6 - وقد يورد عليها أيضا بما إذا باع ما يملك على ما لا يملك (مبنيا
على المعلوم) أو باع ما يملك على مالا يملك (مبنيا على المجهول) فإن المتعاقدين
قصدا المعاملة في مجموع المبيع والثمن، واما المبادلة بين بعض الثمن والمثمن

(1) العوائد ص 54.
381

فشئ لم يقصداه، فلو صحت بالنسبة إلى ما يملك، وبطل فيما لا يملك، عد جزء
من الثمن، " فما قصداه لم يقع، وما وقع لم يقصداه " ولذا قال العلامة الأنصاري
(قدس سره الشريف) بخروجه عن تلك القاعدة بالنص والاجماع (1).
والانصاف انه يمكن تطبيقه أيضا على القواعد، بحيث لا يكون استثناءا في
قاعدة التبعية بما عرفته من البيان في الشرط الفاسد، من أن العقد فيه " أركان "
و " توابع " وتخلف الأركان يوجب الفساد قطعا، واما تخلف التوابع لا يوجبه، بل
قد يوجب الخيار، وما نحن فيه من هذا القبيل.
فإن نوع المتاع وإن كان ركنا في المعاملة كالفرس والحمار والحديد
والنحاس، ولكن مقداره وكميته ليس ركنا في الغالب عند العقلاء، بل من قبيل
تعدد المطلوب فمن اشترى عشرين منا من الحنطة بعشرين درهما، ثم ظهر نصفه
مما لا يملكه، فالمعاملة تتجزى في هذه الاجزاء وتصح في العشرة في مقابل العشرة،
لما عرفت من أن المقدار من قبيل تعدد المطلوب، ولكن وقوع هذا التخلف يوجب
خيار تبعض الصفقة.
وقد عرفت ان المدار في هذه المقامات على الدواعي النوعية لا الشخصية.
نعم إذا كان الربط بين ما يملك ومالا يملك بحيث لا تتعلق بواحد منهما الدواعي
النوعية كما في النعلين ومصراعي الباب فلا يبعد الحكم بالفساد حينئذ فتدبر.
* * *
7 - ومما أورد على عمومية القاعدة أيضا مسألة المتعة إذا لم يذكر فيها
الاجل فإنها تنقلب دائما عند المشهور كما ذكره في المسالك، حتى عند قصدهما
الاجل، قال ما لفظه:
" ولو قصدا المتعة واخلا بذكر الاجل، فالمشهور بين الأصحاب انه ينعقد

(1) راجع المكاسب كتاب البيع (بيع ما يملك وما لا يملك) ص 151.
382

دائما " ثم المستدل عليه بان لفظ الايجاب صالح لهما، وإنما يتمحض للمتعة بذكر
الاجل، وللدوام بعدمه، فإذا انتفى الأول ثبت الثاني.
ولان الأصل في العقد الصحة، والفساد على خلاف الأصل.
ولموثقة عبد الله بن بكير عن الصادق عليه السلام قال إن سمي الاجل فهو متعة،
وان لم يسم الاجل فهو نكاح ثابت.
ثم أورد على الجميع بقوله: " وفيه نظر لأن المقصود إنما هو المتعة، إذ
هو الغرض، والأجل شرط فيها وفوات الشرط يستلزم فوات المشروط، وصلاحية
العبارة غير كافية، مع كون المقصود خلاف ما يصلح له اللفظ، والمعتبر اتفاق
اللفظ والقصد على معنى واحد، وهو غير حاصل هنا - إلى أن قال:
والخبر مع قطع النظر عن سنده ليس فيه دلالة على أن من قصد المتعة ولم
يذكر الاجل يكون دائما بل إنما دل على أن الدوام لا يذكر فيه الاجل، وهو
كذلك لكنه غير المدعى.
ثم استنتج من جميع ذلك أن القول بالبطلان أقوى (1).
وقال السبزواري في " الكفاية " في كتاب النكاح: " لو لم يذكر الاجل وقصد
المتعة قيل ينعقد دائما، وقيل يبطل مطلقا، وقيل إن كان الايجاب بلفظ التزويج
والنكاح انقلب دائما وإن كان بلفظ التمتع بطل العقد، وقيل إن الاخلال بالأجل
ان وقع على وجه النسيان والجهل بطل، وان وقع عمدا انقلب دائما والقول الأول
مذهب الأكثر - ثم استدل له بمثل ما ذكره الشهيد الثاني، وأورد عليه بما يشبهه
- ثم قال - والمسألة محل اشكال (2).
هذا ولكن ذهاب المشهور إلى هذا الحكم غير ثابت، بل يمكن أن يكون

(1) المسالك ج 1 ص 503.
(2) كفاية الأحكام ص 170.
383

من قبيل ما ذكره الشيخ (قدس سره) في " الخلاف " حيث قال:
النكاح المتعة عندنا مباح جائز، وصورته ان يعقد عليها مدة معلومة بمهر
معلوم فإن لم يذكر المدة كان النكاح دائما " (1).
والظاهر أن مراده من هذه العبارة ما إذا لم ينو الاجل بل نوى معنى اللفظ على
اطلاقه، ولا أقل من الاجمال.
ويشهد له ما استدل لمذهب المشهور - كما في الرياض - بصلاحية العقد
لكل منهما، وإنما يتمحض للمتعة بذكر الاجل وللدوام بعدمه، فمع انتفاء الأول
يثبت الثاني لأن الأصل في العقد الصحة (2).
فإن من المعلوم ان مجرد صلاحية اللفظ عند قصد خلاف معناه غير كاف في
صحة العقد، بل الصلاحية إنما تنفع مع القصد.
وعلى كل حال لا دليل على أصل هذه المسألة، لا من القواعد العامة والعمومات
ولا من الروايات الخاصة، فحينئذ لا يكون نقضا على عموم هذه القاعدة، أي قاعدة
تبعية العقود للقصود.
وقد تخلص من جميع ما ذكرنا ان شيئا مما أورد على هذه القاعدة بعنوان
النقض لا يكون نقضا عليها بل هو بين ما لم يثبت وما يكون ثابتا وليس نقضا.
ومن هنا يظهر النظر فيما ذكره العلامة الأنصاري (قده) في بعض كلماته
في مبحث المعاطاة وانه لو قلنا بان نتيجتها الإباحة يلزم انثلام قاعدة تبعية العقود،
وما قام مقامها، للقصود، بقوله: " ان تخلف العقد عن مقصود المتبايعين كثير - ثم
ذكر تأثير العقد الفاسد في الضمان (ضمان المثل أو القيمة) ثم قال: - وكذا
الشرط الفاسد لم يقصد المعاملة الا مقرونة به غير مفسد عند أكثر القدماء، وبيع

(1) الخلاف ج 2 ص 394 (كتاب النكاح مسألة 119).
(2) رياض الأحكام ج 2 ص 115.
384

ما يملك ومالا يملك صحيح عند الكل، وبيع الغاصب لنفسه يقع للمالك مع اجازته
على قول كثير، وترك ذكر الاجل في العقد المقصود به الانقطاع يجعله دائما على
قول نسبه في المسالك وكشف اللثام إلى المشهور " (2).
وقد عرفت ان شيئا مما افاده (قده) لا يكون نقضا على القاعدة.

(1) المكاسب ص 84.
385

19 - قاعدة التلف في زمن الخيار
(التلف في زمن الخيار ممن لاخيار له)
* ما استدل به للقاعدة من السنة وعدم تماميتها
* الاستدلال لها بحكم العقل واقتضاء الأصل وعدم تماميتها
* في عمومية القاعدة لجميع الخيارات وعدمها
* هل الحكم في المبيع خاصة أم يشمل الثمن أيضا؟
* هل الضمان هو الضمان المعاملي أو الواقعي؟
387

قاعدة تلف في زمن الخيار
ومما اشتهر بين الأصحاب حتى ادعى عليها الاجماع ان التلف في زمان الخيار
ممن لا خيار له.
قال في " مفتاح الكرامة ": " انه حكم العلامة في القواعد وفي التذكرة والمحقق
الثاني والفاضل الميسي أنه يكون التلف من المشتري إن كان الخيار للبايع، أو لهما
أو لأجنبي، وانه إن كان للمشتري خاصة فمن البايع، وهو فيما عدا الأجنبي وما عدا ما
إذا كان الخيار لهما على ما ستعرف الحال فيه موافق لما في السرائر، وجامع الشرايع
والارشاد، وشرحه، ومجمع البرهان، من أن التلف إن كان في مدة الخيار فهو ممن
لا خيار له.
ثم قال: وهو معنى ما في الشرايع والتحرير والتذكرة والمسالك والمفاتيح
من أنه إن كان الخيار للبايع فالتلف من المشتري، وإن كان للمشتري فالتلف من
البايع.
ثم قال ولا أجد في شئ من ذلك خلاف " (1).
ويظهر من هذا الكلام ان أصل المسألة مما لا خلاف فيه بينهم وان وقع الكلام
في جزئياته وخصوصياته.

(1) مفتاح الكرامة ج 4 كتاب المتاجر ص 598.
389

ثم إنه لا ينبغي الشك في أن مقتضى الأصل كون تلف كل مال من مال مالكه،
فإذا تم البيع وانتقل المبيع إلى ملك المشتري والثمن إلى ملك البايع فتلف كل
واحد منهما من مال مالكه الفعلي، ما لم يقع تعد أو تفريط أو اتلاف من ناحية الاخر،
ولا اثر لوجود الخيار وعدمه في هذا الأصل.
ويظهر من ذلك أن الحكم بكون التلف ممن لا خيار له مخالف للقاعدة،
خرج منها بدليل، وليس وجود الخيار مانعا عن تأثير البيع وانتقال كل من العوضين
إلى الاخر، بل الخيار مجوز لفسخ البيع فقط.
نعم لا يبعد أن يكون الحكم في خيار الحيوان على القاعدة فإن حكمه هذا
الخيار بل علته إنما هو جهالة حال الحيوان من حيث استقرار حياته وعدمه، وصحته
عن المرض وعدمها، فإنه قد يكون حيوان في معرض التلف وصاحبه يعلم ذلك وليست
هذه الحالة ظاهرة في الحيوان فقد يبيعه حتى يكون التلف في ملك المشتري، ويأخذ
ثمنه، ففي مثل ذلك حكم الشرع بوجود الخيار بل وصرح بأنه لو تلف في زمن الخيار
فهو من البايع.
والظاهر أن الحكم عند العقلاء أيضا كذلك، وإن كان تعيين الخيار في ثلاثة أيام
غير معروف عندهم.
وكذلك إذا كان البايع في شك من هذا المبيع وشرط الخيار لنفسه وانه لو تلف
المبيع في مدة كذا كان من ماله، فهو مأخوذ بمقتضى هذا الشرط.
والحاصل ان القاعدة في غير الحيوان وخيار الشرط (المراد اشتراط كون
التلف على من لا خيار له في مدة معينة) مخالف للأصل لابد في اثباتها من دليل تعبدي.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان مدركها فنقول ومن الله سبحانه التوفيق
والهداية:
390

مدرك هذه القاعدة
والعمدة في المقام " هي روايات كثيرة " وردت في أبواب خيار الحيوان
وغيرها:
1 - منها ما رواه عبد الرحمان ابن أبي عبد الله قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
رجل اشترى أمة بشرط من رجل يوما أو يومين فماتت عنده، وقد قطع الثمن، على
من يكون الضمان؟ فقال ليس على الذي اشترى ضمان حتى يمضى شرطه (1).
ولعل المراد بقطع الثمن هو قطعه عن المشتري واعطائه للبايع، ويحتمل
بعيدا أن يكون القطع هنا بمعنى المنع.
وعلى كل حال، الظاهر من اشتراط الخيار هنا - بقرينة كونه أمة - اشتراط
خيار الفسخ واشتراط كون التلف على البايع أيضا ولو بعنوان الداعي لخيار الشرط
فالحكم فيها على وفق القاعدة كما لا يخفى.
2 - ما رواه عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري الدابة
أو العبد ويشترط إلى يوم أو يومين فيموت العبد والدابة أو يحدث فيه حدث، على من
ضمان ذلك؟ فقال: على البايع حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري (2).
وروى مثل هذا الحديث الحسن بن محبوب عن ابن سنان الا أنه قال ويصير
المبيع للمشتري، شرط البايع أو لم يشترطه.
3 - ما رواه عبد الله بن الحسين عن أبيه عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله في رجل اشترى عبدا بشرط ثلاثة أيام فمات العبد في الشرط قال يستحلف
بالله ما رضيه، ثم هو برئ من الضمان (3).

(1) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب الخيار الباب 5 الحديث 1.
(2) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب الخيار الباب 5 الحديث 2.
(3) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب الخيار الباب 5 الحديث 4.
391

والظاهر أن المراد استحلافه بأنه لم يسقط خيار الحيوان وما رضى استقرار
البيع ولزومه.
4 - ما رواه حسن بن علي بن رباط عمن رواه عن أبي عبد الله عليه السلام قال إن حدث
بالحيوان قبل ثلاثة أيام فهو من مال البايع (1).
والعمدة في الاستدلال على هذه القاعدة ما عرفت من الروايات الأربع أو
الخمس.
وقد يستدل لها أيضا بما ورد في حكم التلف في خيار الشرط.
مثل ما رواه إسحاق بن عمار قال حدثني عن مسمع أبا عبد الله عليه السلام وسأله رجل
وانا عنده فقال رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال أبيعك داري هذه
وتكون لك أحب إلي من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي ان انا جئتك بثمنها
إلى سنة ان ترد علي، فقال لا بأس بهذا، ان جاء بثمنها إلى سنة ردها عليه، قلت فإنها
كانت فيها غلة كثيرة فاخذ الغلة لمن تكون الغلة؟ فقال: للمشتري، ألا ترى انه لو
احترقت لكانت من ماله (2).
وما رواه معاوية بن ميسرة قال سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
باع دارا له من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر فشرط
انك ان اتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك فأتاه بماله قال له شرطه، قال
أبو الجارود: فإن ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين، قال هو
ماله، وقال أبو عبد الله عليه السلام أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار
دار المشتري (3).

(1) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب الخيار الباب 5 الحديث 5.
(2) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب الخيار الباب 8 الحديث 1.
(3) الوسائل ج 12 كتاب التجارة أبواب الخيار الباب 8 الحديث 2.
392

والعجب من استدلال جماعة من أعاظم الأصحاب بهاتين الروايتين كما يظهر
من " مفتاح الكرامة " و " جامع الشتات " للمحقق القمي و " غيرهما " مع أن الظاهر أنه
لامساس لهما بما نحن بصدده، لعدم ورود هذا التعبير " ان التلف ممن لا خيار له "
أو ما يشبهه في متن الروايتين بل الحكم فيهما في ضمان المشتري للدار إنما هو من
باب القاعدة فإن الملك ملكه فكما ان الغلة له، التلف أيضا عليه، سواء كان للبايع
خيار أم لا، ولحن الحديثين دليل على ما ذكرناه، فإنه استدل على ملكية المشتري
للغلة، بكون تلف العين أيضا من ملكه ومآلهما إلى شئ واحد وهو كون المتاع
ملكا للمشتري بعد البيع من غير تأثير لوجود خيار البايع بعده.
ولو استدل بهما على قاعدة الخراج بالضمان كان أولى من الاستدلال بهما لما
نحن بصدده وإن كان قد عرفت عدم دلالتها عليها أيضا.
وبالجملة ليس فيهما ما يستشم منه كون ضمان المشتري باعتبار وجود الخيار
للبايع، ومن الواضح ان مجرد وجود هذه الخصوصية في المورد لا يمكن أن يكون
دليلا على الطلوب، وقد مر بعض الكلام في ذلك في قاعدة الخراج بالضمان.
* * *
الاستدلال عليها بحكم العقل واقتضاء الأصل
وقد يستدل على القاعدة بحكم العقل وموافقتها للأصل بما حاصله:
ان من له الخيار يقدر على الفسخ في كل زمان، ومع الفسخ تنتقل العين إلى
ملك مالكه الأول، فيكون التلف من ملكه قهرا، فبهذا الاعتبار لابد ان يحسب تلف
العين على المالك الأول وهو من لا خيار له، فيكون التلف من ملكه.
ولكنه ضعيف جدا لا ينبغي التفوه به، لأنه مبني على حكم فرضي، وهو انه
لو فرض اقدام صاحب الخيار على الفسخ لكان التلف من ملك المالك الأول، ولكن
من المعلوم انه فرض غير واقع، فإنه لم يفسخ، ولم يرد العين إلى مالكه الأول، بل
393

هو موجود بعد في ملك صاحب الخيار، فكيف يكون التلف من غيره؟!
وبالجملة: هذا الحكم مخالف للقواعد والأصول كما عرفت سابقا لا ينبغي
المسير إليه الا بدليل تعبدي.
وقد عرفت ان الاستدلال بالروايات الخاصة التي هي المدرك الوحيد في المسألة
مشكل جدا، الا في مورد خيار الحيوان، والشرط الناظر إلى حكم التلف، وهما أيضا
موافقان للأصل للبيان الذي مر آنفا، فلا يجوز تسرية الحكم إلى غيرهما.
وقد يتوهم ان كون هذه القاعدة على خلاف مقتضى الأصول إنما هو على القول
غير المشهور في باب الخيار، من أن العين لا ينتقل إلى الطرف الا بعد مضي زمان
خيارها، وقبل مضي زمانه تكون العين باقية على ملك مالكها ومقتضى ذلك كون تلفها منه.
هذا ولكنه أيضا ضعيف حتى على مبنى غير المشهور، فإن عدم انتقال العين
على هذا المبنى غير مختص بما فيه الخيار، بل يشمله وما يقابله، والا يلزم منه الجمع
بين العوض والمعوض، فمن ليس له الخيار لا يملك شيئا من العوضين فإن الثمن
انتقل من ملكه مثلا، والمثمن لم ينتقل إلى ملكه، واما من له الخيار فهو مالك لهما
جميعا، وهذا مما لا يظن الالتزام به وان حكى عن الشيخ في بعض كلماته الا انه غير
ثابت، ولابد من تأويله على فرض ثبوته.
وبالجملة: لو قلنا بان الملك لا ينتقل في زمن الخيار فلازمه كون تلف كل من
الثمن والمثمن من مال مالكه الأصلي، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما، وسواء
كان ذو الخيار هو البايع أو المشتري.
تنبيهات
الأول: في عمومية هذه القاعدة وعدمها
اختلف آرائهم في هذه المسألة وفيه وجوه أو أقوال:
394

1 - اختصاص هذا الحكم بخيار الحيوان والشرط إذا كان مورد الشرط بيع
الحيوان.
2 - اختصاصه بخيار الحيوان، والشرط مطلقا سواء كان مورده حيوانا أو دارا
أو غيرهما.
3 - جريان القاعدة فيهما وفي خيار المجلس بملاك ان جميعها مشتمل على
الزمان.
4 - جريانها في الخيارات الزمانية وغيرها من دون اي تفاوت، الا إذا حدث
الخيار بعد العقد.
يظهر الأول من بعض الأعاظم في كتاب البيع.
والثاني من صاحب الجواهر.
والثالث فيما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم الأنصاري.
والرابع هو مختار السيد المحقق اليزدي في حاشيته على المكاسب.
هذا والمختار هو القول الأول لما عرفت سابقا من أن القاعدة على خلاف
مقتضى الأصول، ولم يدل عليها الا اخبار خاصة واردة في خيار الحيوان، وخيار
الشرط إذا كان المبيع حيوانا، واما ما ورد في خيار الشرط مما ليس موردها حيوانا
فقد عرفت انه أجنبي عما نحن بصدده.
بل قد عرفت ان جريان هذه القاعدة في مورد الحيوان (سواء كان خيار الحيوان
أو الشرط) من قبيل شرط ضمني، فإن جعل الخيار في هذين الموردين إنما هو
لاستكشاف حال الحيوان فقد يكون مشرفا على الموت ويبيعه المالك مع حفظ ظاهره
فلو كان تلفه من ملك المشتري كان ضررا عظيما.
وان شئت قلت: إذا تلف في الثلاثة يستكشف ان الحيوان لم يكن مستقر
الحياة غالبا وانه لم يكن مالا يبذل بإزائه المال، فيبطل البيع ويعود الثمن إلى ملك
395

المشتري.
واستدل المحقق اليزدي على مختاره من التعميم بقوله: " ويصير البيع
للمشتري " الوارد في صحيحة ابن سنان التي مر ذكرها آنفا.
هذا ولكن الانصاف انه لا يكون فوق حد الاشعار وليس داخلا تحت عنوان
القياس المنصوص العلة كما يظهر لمن تأملها.
* * *
الثاني: هل الحكم مختص بالمبيع أو يشمل الثمن أيضا
قد يقال إن الحكم عام للثمن والمثمن فيكون تلف الثمن في مدة خيار البايع
المختص به من مال المشتري، ولكن قال في مفتاح الكرامة:
" أما إذا تلف الثمن بعد قبضه والخيار للبايع فهذا محل اشكال، لأن الأصل
بمعنى القاعدة يقتضي بان التلف من البايع لا من المشتري ولم يتعرض أحد لحال
هذا الأصل، والمقدس الأردبيلي إنما تعرض لحال الثمن قبل القبض، والاخبار
إنما وردت في المبيع، وخبر " عقبة " وإن كان يشم منه التعميم، الا انه صريح فيما
قبل القبض، الا ان نقول اطلاق ان التلف ممن لا خيار له ونحوه يتناوله " (1).
وقال السيد المحقق اليزدي في حاشيته للمكاسب:
" الحق عدم شمول الحكم لتلف الثمن لعدم الدليل، وكون الحكم على
خلاف القاعدة " (2).
واختار العلامة الأنصاري (ره) العموم نظرا إلى المناط، مضافا إلى ضمان
المشتري له الثابت قبل القبض (3).

(1) مفتاح الكرامة ج 4 ص 600.
(2) تعليقة السيد على المكاسب ص 169.
(3) المكاسب ص 301.
396

هذا جملة من كلمات من تعرض للمسألة وغاية ما يستفاد منهم أو من غيرهم ان
الدليل على التعميم أمور:
الأول: استصحاب بقاء الضمان أي ضمان الثمن قبل القبض من ناحية المشتري.
ويرد عليه مضافا إلى عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية عندنا، ان
الموضوع قد تغير قطعا وملاك الضمان قبل القبض قد انتفى، مضافا إلى أن الاستصحاب
لا يقاوم القاعدة المسلمة من كون تلف كل ملك من مال مالكه إذا لم يكون هناك دليل
على ضمان غيره.
الثاني: شمول عنوان القاعدة الذي هو معقد الاجماع له، فإن قولهم " التلف
في زمن الخيار ممن لا خيار له " عام شامل للثمن والمثمن.
وفيه مضافا إلى عدم ثبوت الاجماع على هذا العنوان، انه لو ثبت لم يكن
حجة بعد وجود أدلة أخرى في المسألة.
الثالث: ما يستفاد من العلة للحكم من صحيحة " ابن سنان " فإن قوله " الضمان
على البايع حتى ينقضي الشرط ويصير المبيع للمشتري " بمنزلة قوله انه ما لم ينقض
مدة الخيار لا يرتفع الضمان.
وفيه اشكال ظاهر: فإن اشعاره بالمقصود قابل للمناقشة فكيف بالدلالة،
بعد ورود الحديث في خيار الحيوان لخصوص المشتري.
ولقد أجاز صاحب الجواهر قدس سره حيث إنه بعد ما ذكر كلام بعض الاعلام
في عمومية القاعدة للثمن والمثمن، وما استدل به، " انه من غرائب الكلام، ضرورة
كون النص والفتوى في خصوص المبيع دون الثمن، فمن العجيب دعوى ان النص
والفتوى على كون الثمن من المشتري إذا كان الخيار للبايع خاصة " (1).
هذا كله إذا قلنا بعمومية القاعدة للخيارات في جانب المشتري، وقد عرفت

(1) الجواهر ج 23 ص 88.
397

ان الحكم فيه أيضا محل اشكال، وان هذه القاعدة من أصلها مما لا دليل عليها ما عدا
الصور التي يستفاد من دليل الخيار كون مشروعيته لأجل وضوح حال الحيوان من
السلامة وبقاء الحياة وعدمه.
* * *
الثالث: في المراد من الضمان في القاعدة
هل المراد من الضمان هو الضمان المعاملي، بمعنى انه لو تلف العين في زمن
الخيار بعد قبضه ينفسخ البيع وينتقل كل من الثمن والمثمن إلى ملك مالكه آنا ما
قبل الفسخ ثم ينفسخ ثم يكون التلف من ملك مالكه، الذي لا خيار له، مثلا إذا كان
الخيار خيار الحيوان فتلف في الثلاثة ينتقل الحيوان إلى البايع آنا ما قبل التلف ثم
يتلف من ملكه، وإن كان الحيوان في يد المشتري وحينئذ فعلى البايع رد الثمن إلى
المشتري من غير أن يأخذ منه شئ.
أو ان الضمان هو الضمان الواقعي يعني ان البيع لا ينفسخ بمجرد التلف،
بل يبقى بحاله ولكن على البايع في مثال الفوق ان يؤدي إلى المشتري قيمة الحيوان
الذي تلف في زمن الخيار.
لا شك ان ظاهر الضمان هو الضمان الواقعي، ولكن هنا قرائن تصرفه عن
ظاهره، ويكون بمعنى الضمان المعاملي، وهو الضمان بالمسمى.
منها - ظاهر الروايات الواردة في هذه القاعدة، مثل ما ورد في ذيل صحيحة
عبد الله بن سنان، في جواب السؤال عن دابة تلفت في زمان الشرط على من ضمان
ذلك؟ فقال: على البايع ينقضي الشرط ثلاثة أيام، ويصير المبيع للمشتري (1).
فإن قوله حتى ينقضي الشرط ظاهر في إدامة الخيار الذي ثابت قبل القبض،

(1) الوسائل ج 12 أبواب الخيار الباب 2 الحديث 5.
398

ويؤكده قوله ويصير المبيع للمشتري فإن ظاهره عدم استقرار المبيع ما لم ينقض
ثلاثة أيام، ولازمه الانفساخ بالتلف، فيعود المشتري إلى ثمنه، وبعبارة أخرى: ليس
في كلام الإمام عليه السلام اثر من ضمان المبيع ببدله، بل ظاهر كلامه كون المبيع
متزلزلا في زمن الخيار، والاستناد إلى ذلك لازمه انفساخ هذا البيع المتزلزل بتلف
المبيع.
ومنها - ما هو أوضح من ذلك وهو قوله في مرسلة " ابن رباط " عن أبي
عبد الله عليه السلام: ان حدث بالحيوان قبل ثلاثة أيام فهو من مال البايع (1).
فإن التعبير بكونه من مال البايع لا يستقيم الا بانفساخه آنا ما قبل التلف، حتى
يعود كل منهما إلى ملك مالكه، فيكون تلف المبيع من ملك البايع.
ومنها - وحدة التعبير في هذه القاعدة، وقاعدة " تلف المبيع قبل قبضه فهو
من مال بايعه " بعد كون المراد من الضمان في تلك القاعدة هو الضمان بالمسمى
قطعا فيكون المراد منه في محل الكلام هذا المعنى أيضا فتأمل.
وأوضح من ذلك كله ما عرفت في بيان مفاد هذه القاعدة ومدركها، بعد
اختصاصها بالحيوان وشبهه، من أنه قد يكون حياة الحيوان متزلزلا وحينئذ لامالية
له واقعا، وإن كان في نظر من لا يعلم ذلك بل يظن استقرار حياته مالا، وان الشارع
المقدس جعل هذا الخيار ليتبين الحال، فلو تلف كانت المعاملة واقعة على شئ
لا مالية له في الواقع، فلا بد من رجوع الثمن إلى المشتري فراجع وتأمل ما تلوناه
عليك سابقا تجده وافيا باثبات المطلوب.
ومن هنا تعرف النظر في كلام العلامة في التذكرة حيث قال:
" مسألة ": لو تلف المبيع بآفة سماوية في زمن الخيار فإن كان قبل القبض
انفسخ البيع قطعا، وإن كان بعده لم يبطل خيار المشتري ولا البايع، وتجب القيمة

(1) الوسائل ج 12 أبواب الخيار الباب 5 الحديث 5.
399

على ما تقدم، وقال الشافعي ان تلف بعد القبض، وقلنا الملك للبايع انفسخ البيع،
لأنا نحكم بالانفساخ عند بقاء يده، فعند بقاء ملكه أولى، فيسترد الثمن، ويغرم البايع
القيمة، وان قلنا الملك للمشتري أو موقوف فوجهان، أو قولان: أحدهما انه
ينفسخ أيضا لوصول الهلاك قبل استقرار العبد، وأصحهما انه لا ينفسخ لدخوله في
ضمان المشتري بالقبض (1).
والعمدة ان الذي يظهر من الأصحاب ان هذا الضمان كبقاء الضمان الموجود
قبل القبض فيكون من جنسه.
قال العلامة الأنصاري في مكاسبه: " ان ظاهر كلام الأصحاب وصريح جماعة
منهم كالمحقق والشهيدين الثانيين، ان المراد بضمان من لا خيار له لما انتقل إلى غيره
هو بقاء الضمان الثابت قبل قبضه، وانفساخ العقد آنا ما قبل التلف، وهو الظاهر
أيضا من قول الشهيد في الدروس وبالقبض ينتقل الضمان إلى القابض ما لم يكن له
خيار حيث إن مفهومه انه مع خيار القابض لا ينتقل الضمان إليه بل يبقى على حاله
الثابت قبل القبض (انتهى).
فهذا الضمان ضمان معاملي لا غير.

(1) تذكرة الفقهاء ج 1 أحكام الخيارات ص 535.
400

20 - قاعدة " الاقرار " و " من ملك "
(اقرار العقلاء على أنفسهم جائز)
(ومن ملك شيئا ملك الاقرار به)
* مدارك قاعدة الاقرار من الروايات العامة والخاصة
* لابد أن يكون الاقرار على النفس
* الموارد التي يشك فيها انها على النفس أو على غيرها
* هل الاقرار امارة مطلقا؟
* اشتراط عدم المعارضة باقرار مخالف
* قاعدة من ملك ومحتواها
* الأدلة الستة التي استدل بها للقاعدة وأحسنها
401

قاعدة الاقرار
هنا قاعدتان ترتبطان بمسألة الاقرار قاعدة " اقرار العقلاء على أنفسهم جائز "
وقاعدة " من ملك شيئا ملك الاقرار به " فذكرهما معا لما بينهما من الصلة، وإن كان
كل منهما يشير إلى معنى مستقل.
اما مفاد الأولى ظاهر، وهو انه إذا اعترف الانسان بشئ يضاد منافعه،
وينافي مصالحه، يؤخذ باقراره سواء كان الاقرار بمال، أو دين، أو حق، أو نسب
أو جناية عمد، أو خطأ، أو غير ذلك، مما يلزمه بحق أو مجازاة، فهو مأخوذ بجميع
ذلك بمقتضى اقراره.
وهذه القاعدة من القواعد المسلمة الجمع عليها من علماء الاسلام.
قال " العلامة النراقي " في " عوائده " (أجمعت الخاصة والعامة على نفوذ اقرار
كل عاقل على نفسه، بل هو ضروري جميع الأديان والملل).
ويدل عليه مضافا إلى ذلك، والى استقرار سيرة العقلاء في كل زمان ومكان
على قبول اقرار كل أحد على نفسه، الروايات العامة والخاصة الواردة فيها.
فمن الروايات العامة ما رواه جماعة من علمائنا في كتبهم الاستدلالية عن
النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " اقرار العقلاء على أنفسهم جائز " (1).

(1) الوسائل ج 16 كتاب الاقرار الباب 3 الحديث 2.
403

ولكن لم نر أحدا من العامة والخاصة رواها في كتب الحديث، ما عدا ابن
أبي جمهور في درر اللئالي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال " اقرار العقلاء على أنفسهم
جائز " (1).
حتى أن صاحب الوسائل لم ينقله من أي منبع روائي، بل اكتفى فيه براوية
جماعة من العلماء في كتب الاستدلال.
ومنها ما رواه الجراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: لا اقبل شهادة
الفاسق الا على نفسه (2).
ومنها مرسلة محمد بن الحسن العطار عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمنا عليه (3).
ولكن دلالته كسنده لا يخلو عن اشكال، لأنه يمكن أن يكون من قبيل كذب
سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة، قال لك قولا فصدقه
وكذبهم، الوارد في رواية محمد بن فضيل عن أبي الحسن موسى عليه السلام (4).
* * *
هذا ما عثرنا عليه من روايات العامة الشاملة لجميع الأبواب، واما الروايات
الخاصة الواردة في أبواب الوصايا والديون والحدود والديات وغير ذلك، وهي
كثيرة غاية الكثرة كما لا يخفى على من راجعها ويصطاد من جميعها عموم الحكم
وعدم اختصاصه بباب دون باب، وحيث إن المسألة من الوضوح بمكان لا يحتاج
إلى نقلها أغمضنا عن ذكرها على نحو مبسوط.

(1) مستدرك الوسائل ج 2 ص 485 أبواب بيع الحيوان الباب 3 الحديث 3.
(2) الوسائل ج 16 كتاب الاقرار الباب 6 الحديث 1.
(3) الوسائل ج 16 كتاب الاقرار الباب 3 الحديث 1.
(4) الوسائل ج 8 كتاب الحج أحكام العشرة الباب 157 الحديث 4.
404

والعمدة ان هذه القاعدة قاعدة عقلائية في جميع الأعصار والأمصار من أرباب
الأديان وغيرهم وقد أمضاها الشارع المقدس.
والوجه فيه عند العقلاء ان كل انسان اعرف بنفسه من غيره، ولا يعرف
بما ينافي منافعه، الا إذا كان واضحا عنده غاية الوضوح، وعالما به علما بينا، نعم
يمكن أن يكون اقراره في بعض الموارد الشاذة خطأ أو كذبا بعنوان التوطئة للوصول
إلى أمر غير مشهور، اما هذه كله نادر جدا لا يعتنى به.
نعم لا يبعد استثناء موارد اتهام المقر وعدم قبول اقراره عند العقلاء والشرع
كما إذا وقع قتل وكان المعروف بين الناس ان القاتل فلان ولكن أراد جمع من
أصدقائه حمايته من بعض الجهات فأقروا جميعا عند الحاكم باشتراكهم في القتل،
وكان هناك قرائن تدل على هذه التوطئة، فقبول اقرار هؤلاء المتهمين في اقرارهم
لا يخلو عن اشكال، وإن كان ثبوت الحكم على الشخص المظنون يحتاج إلى بينة
عادلة على كل حال، وحينئذ يكون موارد النقض على القاعدة قليلا جدا.
وبالجملة وضوح هذه القاعدة بمكان تغنينا عن البحث في بيان مدركها أزيد
من هذا، كما أن البحث في مفاد القاعدة، وان معنى الاقرار ماذا؟ ومعنى كونه
على نفس، أو كونه جائزا ماذا؟ غير مهم بعد وضوح معناها عرفا ولغة كوضوح
ما يرتبط بها.
* * *
والذي يهمنا ان نبحث عن أمور:
الأول: وهو العمدة: ان الاقرار إنما يقبل إذا كان على النفس لا له فإن كان
ذلك أمرا بينا فلا كلام، مثل ان يقر انسان بدين عليه لغيره، أو يقر بالجناية أو القتل
أو شبه ذلك، فهذا اقرار على النفس بلا كلام.
بل وكذلك إذا أقر بأمر مشترك بينه وبين غيره مما يمكن التفكيك فيه، مثل
405

ان يعترف بأنه وشريكه وهبا دارهما المشترك لزيد، فإنه لا اشكال في قبول اقراره
بالنسبة إلى سهمه من الدار، واما بالنسبة إلى سهم شريكه فلا يقبل، ولا مانع من
التفكيك بين المسألتين كما هو ظاهر ولكن هنا بعض الموارد مما فيه خفاء ستأتي
الإشارة إليها إن شاء الله.
* * *
الثاني: إذا أقر بما يدور بين اثنين، ويقوم بهما من الأمور الوحدانية ذات
الإضافة إلى طرفين، كاقراره بان فلانا ولد له، أو ان فلانة زوجته، فإن الزوجية، أو
الأبوة، والبنوة، أمر قائم بشخصين فهل يقبل قوله فيما يكون عليه، مع أن الطرف الآخر
لا يعترف بهذا؟ وكيف يمكن أن يكون هذا زوجا مع أن الطرف المقابل
ليست زوجة ولو بحسب الظاهر أو يكون هو أبا ولا يكون في مقابله ابنا أي لا يحكم
ظاهرا ببنوته.
* * *
الثالث: إذا كان هناك أمر واحد ذا جهتين: جهة الضرر وجهة النفع كأن
يقول هذا عبدي، فهل يجب عليه نفقته مع عدم استحقاقه لخدمته، وكيف يمكن
التفكيك بين الامرين؟
* * *
الرابع: إذا كان المقر به عقدا فيه جهة النفع والضرر كما إذا قال لزيد علي
ألف درهم قيمة فرس اشتريته منه، فهل يقبل اقراره بالنسبة إلى أصل اشتغال ذمته
بألف درهم ولا يقبل مالكيته للفرس، فكيف يمكن التفرقة بين الامرين؟
المعروف المحكى عن الفقهاء الاخذ بالاقرار مهما أمكن والتجزئة في مفاده
فيؤخذ بما يكون عليه ويطرح ما يكون له مع أنه في الواقع الخارجي هذا التفرقة
أمر غير ممكن.
406

وقد تصدى المحقق النراقي في عوائده للجواب عن هذا الاشكال بمقدمات
كثيرة طويلة والانصاف ان حل أمثال هذه الشبهات بعد حل مشكلة الجمع بين الحكم
الظاهري والواقعي في أصولنا الحديث بسيط جدا نعم في الأزمنة السابقة التي لم
تنقح أصول الفقه فيها بمثل ما نقح في أعصارنا ببركة جهد علمائنا الراسخين رضوان
الله تعالى عليهم كان حل هذه المشكلات صعبا ولكن الان سهل جدا.
وحاصل الكلام فيها ان ملازمة حكمين شرعيين في الواقع لا يكون دليلا
على التلازم بينهما في الحكم الظاهري بل يجوز التفرقة بينهما في هذا المجال وأي
مانع من حكم الشرع في الظاهر بوجوب نفقة من أقر بعبوديته له عليه مع عدم جواز
استخدامه وكذا بالنسبة إلى من اعترف بزوجيتها اللهم الا أن يكون داخلا تحت
عنوان النشوز وهذا أمر آخر وبالجملة الملازمة في الحكم الواقعي لا تكون دليلا
على الملازمة في الحكم الظاهري وكم له نظير في الفقه.
مثلا إذا غسل الثوب النجس بماء كر يشك في أنه مضاف أو مطلق وليس له
حالة سابقة فاللازم الحكم ببقاء نجاسة الثوب وطهارة الماء مع أنه في الواقع غير
ممكن لأن الماء إن كان مضافا فقد تنجس وإن كان مطلقا فقد طهر الثوب فكيف يمكن
الجمع بين الحكم بنجاسة الثوب وطهارة الماء إلى غير ذلك من اشباهه.
وقد فرغنا عن هذا البحث في محله من الأصول.
* * *
الخامس: هل الاقرار امارة لاثبات المقر به أو مخصوص بما إذا كان في
مقابل من يدعى ما أقر به الظاهر أنه امارة مطلقا لاطلاق الأدلة ولما عرفت في الوجه
في حجيته عند العقلاء.
* * *
السادس: يشترط في نفوذ اقرار العاقل على نفسه ان لا يكون معارضا باقرار
407

مخالف له فإذا قال لزيد علي كذا ولكن زيدا أنكر الطلب منه فإنه لا يقبل والوجه
فيه ظاهر فإنه يتساقط الاقراران عن الاعتبار ولا يكون شئ منهما حجة.
قاعدة من ملك
واما القاعدة الثانية أعني قاعدة " من ملك شيئا ملك الاقرار به "،
وهي العمدة في المقام، وقلما يبحث عنها في كلماتهم، مسلطا على عقد أو ايقاع،
أو غير ذلك من الافعال، وكان ذلك جائزا له، ممضى في حقه لو فعله، فإذا أقر
بأنه فعله يقبل اقراره منه، من دون اي فرق، بين أن يكون له أو عليه، أو لم يكن لا له
ولا عليه، كما إذا أقر الوكيل ببيع أو شراء لموكله مع شرط كذا وثمن كذا.
وفي الحقيقة نسبة بين مفاد القاعدتين هي التباين، والنسبة بين مواردهما هي
العموم من وجه، ومادة الاجتماع هو ما إذا كان مالكا لأمر يكون نتيجته عليه كملك
الانسان للوصية بماله، أو الوقف أو الهبة، فإذا أقر بأنه وهب ماله لفلان فهذا يدخل
في القاعدتين: قاعدة اقرار العقلاء على أنفسهم وقاعدة من ملك، اما الأول فواضح
واما الثاني فلانه مالك ومسلط على هبة أمواله فيقبل اقراره إذا أقر.
واما مادة الافتراق من ناحية قاعدة اقرار العقلاء فكما إذا أقر بقتل شخص،
أو ضربه، عمدا أو خطأ، وهو داخل في القاعدة الأولى، لا في الثانية فإنه ليس هنا
مالكا ومسلطا على هذا الفعل.
ومادة الافتراق من ناحية الثانية ما إذا أقر الوكيل عن شخص بتجارة له أو عليه
فإنه لا يدخل في قاعدة اقرار العقلاء على أنفسهم ولكنه داخل في قاعدة من ملك.
ومن هنا يعلم من أن ما توهمه غير واحد من جواز الاستدلال على الثانية بأدلة
الأولى بل ربما توهموهما قاعدة واحدة بعضها من بعض ليس في محله.
بل مثل ذلك شاهد على عدم الدقة اللازمة في محتوى قاعدة من ملك.
408

إذا عرفت هذا فنعود إلى بيان، محتوى هذه القاعدة وأدلتها فنقول ومن الله
التوفيق والهداية:
* * *
محتوى قاعدة من ملك
اما محتواها على التفصيل لا يظهر الا بعد المراجعة إلى كلمات الأصحاب
في أبواب الفقه، وما استدلوا له بهذه القاعدة أو يستشم منهم ذلك.
هذا وقد عرفت انهم قلما وقع البحث عن هذه القاعدة في كلماتهم نعم يظهر
منهم الاستدلال بها في موارد كثيرة في طيات الفقه بل ربما أرسلوها ارسال
المسلمات لا باس بالإشارة إلى بعضها كي يعلم المراد منها ومحتواها:
1 - منها ما ذكروه في باب الاقرار من نفوذ اقرار غير المهجور في كل ما يقدر
على انشائه كما قال العلامة في القواعد.
المطلق (اي غير المهجور) ينفذ اقراره بكل ما يقدر على انشائه وقال في مفتاح
الكرامة في شرح هذه العبارة ما نصه:
هذا معنى قولهم كل من ملك شيئا ملك الاقرار به، وهي قاعدة مسلمة لا كلام
فيها، وقد طفحت بها عباراتهم (1).
وصرح العلامة في القواعد بعد قليل بنفس القاعدة وقال: " كل من ملك شيئا
ملك الاقرار به " وأرسله ارسال المسلمات (2).
2 - ما ذكروه في باب العبد المأذون في التجارة (في كتاب الاقرار) قال
في الشرايع:
لو كان - اي العبد - مأذونا في التجارة فاقر بما يتعلق بها قبل، لأنه يملك

(1) مفتاح الكرامة ج 9 كتاب الاقرار ص 225.
(2) مفتاح الكرامة ج 9 ص 226.
409

التصرف، فيملك الاقرار.
وقال في الجواهر، في شرح هذه العبارة، بعد قوله على المشهور: " نقلا
ان لم يكن تحصيلا " لما عرفت من أنه من ملك شيئا ملك الاقرار به لكن في التذكرة
استشكله (1).
وقال السبزواري في الكفاية: انه لو كان مأذونا في التجارة فاقر بما يتعلق
بها فالمشهور انه ينفذ فيما في يده واستشكله العلامة في التذكرة والأقرب النفوذ
فيما هو من لوازم التجارة طرفا إذ دل الاذن في التجارة على الاذن فيما يتعلق به تضمنا
أو التزاما قال بعض الأصحاب لو قلنا إنه مطلقا أو على بعض الوجوه نفذ اقراره
بما حكم له به وهو حسن (2).
وقال الشهيد الثاني في نفس هذه المسألة:
انه إنما قبل اقرار المأذون في التجارة لأن تصرفه نافذ فيما اذن له فيه منها،
فينفذ اقراره بما يتعلق بها، لأن " ملك شيئا ملك الاقرار به " ولأنه لولاه لزم
الاضرار وانصراف الناس عن ملاينة العبيد، فيختل نظام التجارة، وفي التذكرة
استشكل هذا القول وعذره، واضح لعموم الهجر على المملوك (3).
3 - منها ما ذكروه في باب الاقرار بالوصية انه لو أقر بماله ان يفعله كالوصية
صح.
قال في الجواهر في كتاب الاقرار (على ما صرح به غير واحد " لقاعدة من
ملك شيئا ملك الاقرار به " التي طفحت بها عباراتهم بل صريح بعضهم انه لا خلاف
فيها عندهم).

(1) الجواهر ج 35 كتاب الاقرار كتاب الاقرار ص 110.
(2) كفاية الأحكام ص 231.
(3) المسالك ج 2 ص 174.
410

ثم أضاف إليه: " وإن كان لنا فيها اشكال فيما زاد على مقتضى قوله صلى الله عليه وآله:
اقرار العقلاء على أنفسهم جائز ونحوه، مما سمعته في محله، ومنه ما نحن فيه،
ضرورة عدم التلازم بين جواز وصيته بذلك وجواز اقرار به، ولعله لذا قال الكركي
في حاشيته لا يصح " (1).
أقول: قد وقع الخلط في كلامه قدس سره بين القاعدتين وقد عرفت انهما
قاعدتان مختلفتان وناظرتان إلى معنيين مختلفين لا ينبغي خلط إحداهما بالأخرى، وهذا
الخلط في كلامه وكلام غيره من مهرة الفن عجيب.
4 - ما ذكروه في باب الجهاد كما عن " العلامة " في " التذكرة " من أن المسلم
يسمع دعواه في أنه أمن الحربي في زمان يملك أمانه مدعيا عليه الاجماع، ونحوه
المحقق في الشرايع، تبعا للمبسوط، من دون دعوى الاجماع (2).
قال المحقق في الشرايع انه لو أقر المسلم انه أذمه (اي امن وأعطي الذمام) فإن
كان في وقت يصح منه انشاء الأمان قبل.
وقال في الجواهر في شرح هذه العبارة: اجماعا كما في المنتهى لقاعدة من
ملك شيئا ملك الاقرار به، والا فلا بان كان اقراره بعد الأسر لم يصح، لأنه لا يملكه
حينئذ، حتى يملك الاقرار به (3).
5 - ما ذكروه في باب الاقرار بالرجوع فيمن يصح له الرجوع في الزوجية
وان أشكل فيه بعض، قال بعضهم يقبل وقال بعضهم لا يقبل (4).
هذه جملة مما استدل فيها بالقاعدة أو يستشم أن يكون هي الدليل فيها.

(1) جواهر الكلام ج 35 كتاب الاقرار ص 104.
(2) نقله الشيخ الأعظم الأنصاري في رسالته الشريفة المعمولة في القاعدة في
ملحقات مكاسبه ص 368.
(3) جواهر الكلام ج 21 كتاب الجهاد ص 100.
(4) نقله الشيخ الأعظم الأنصاري في رسالته الشريفة المعمولة في القاعدة في
ملحقات مكاسبه ص 368.
411

إذا عرفت هذه تعلم أن المراد من القاعدة عندهم انه إذا كان الانسان بحكم
الشرع قادرا على انشاء عقد أو ايقاع أو شبه ذلك قبل اقراره في فعل ذلك ويحكم بوقوع
ذاك العقد أو الايقاع أو شبهه لمكان هذه القاعدة.
مدرك القاعدة من ملك
اعلم أنه لم يرد فيها اية رواية من معصوم عليه السلام بل ولم يدعه أحد.
وما استدل أو يمكن الاستدلال به عليها بعد عدم ورود رواية خاصة فيها أمور:
الأول - الاجماع الذي صرح به غير واحد منهم فيما مر عليك من كلماتهم
ويؤيده ارسال غيرهم للقاعدة ارسال المسلمات.
ولكن يرد عليه أولا انه لا يمكن الاستدلال بمثله في مثل هذه المسألة التي فيها
مدارك اخر يمكن استناد المجمعين إليها، مضافا إلى ما قد عرفت من الاشكال فيه
في بعض الموارد من التذكرة وصاحب الجواهر (قدس سره).
نعم قد يستدل بالقدر المتيقن منها مما لا خلاف فيه بينهم، ولكنه وان سلم
من الاشكال الأخير لكنه لا يسلم من الاشكال الأول وعلى كل حال الانصاف ان دعوى
الاجماع وظهور التسالم مؤيد قوي للأدلة الآتية وان لم يكن بنفسه دليلا،
* * *
الثاني - سيرة أهل الشرع
قال العلامة الأنصاري (قدس سره) في رسالته المعمولة في المسألة، ويؤيده
(اي الاجماع) استقرار السيرة على معاملة الأولياء بل مطلق الوكلاء معاملة الأصل
في اقرارهم كتصرفاتهم (انتهى) (1).
والحق ان السيرة بنفسها دليل على المطلوب، لا انها مؤيدة للاجماع، ولكن

(1) ملحقات المكاسب ص 371.
412

سيأتي إن شاء الله ان منشأ السيرة أمر آخر وهو العمدة في المسألة.
* * *
الثالث: وقد يستدل لها بقاعدة " اقرار العقلاء على أنفسهم جائز " الثابتة
بالاجماع وسيرة العقلاء والروايات الخاصة المعتبرة كما عرفت فيما مر.
هذا ولكن مر آنفا انهما قاعدتان مستقلتان لا دخل لأحدهما بالآخر، وإنما
وقع الخلط بينهما من غير واحد من فقهائنا (رضوان الله عليهم) وهو بمعزل عن التحقيق
بل المهم في قاعدة من ملك موارد افتراقها عن قاعدة الاقرار فلو كان الدليل عليها هو
قاعدة الاقرار لا نحصر بمواردها.
* * *
الرابع - وقد يتمسك لها بأدلة قاعدة الأمانة وان من ائتمنه المالك على ملكه
أو اذن له الشارع بأمر لا يجوز اتهامه.
وهو وإن كان جيدا في الجملة ولكن لا يشمل جميع موارد قاعدة من ملك، لأنه
قد لا يدخل في عنوان الاذن من المالك أو الشارع بالتصرف في شئ، وبعبارة أخرى
قاعدة الايتمان تختص بموارد الأمانات مع أن قاعدة من ملك تجري في غيرها
أيضا كما في مسألة اعطاء الأمان للكافر، ومسألة الرجوع في الطلاق الرجعي.
* * *
الخامس - قد يتوهم ان القاعدة مستندة إلى قاعدة قبول قول من لا يعلم الامر
الا من قبله ولكن يرده ان بعض مواردها وإن كان من هذا القبيل ولكنه أخص من
المدعى كما لا يخفى على الخبير.
* * *
السادس - وهو العمدة: استقرار بناء العقلاء عليه، والظاهر أنه من باب
الدلالة الالتزامية الحاصلة من التسلط على أمر.
توضيح ذلك: إذا ملك الانسان أمرا وكان مسلطا عليه بحيث يجوز له التصرف
413

في اي زمان أراد فلازم ذلك أن يقبل قوله في اعمال هذه السلطنة، وكيف لا يقبل،
وكيف يطلب منه البينة على اعمال سلطنته مع أنه قادر عليه في كل زمان، وأمره بيده
فهل يمكن ان يقال للزوج باي دليل رجعت إلى زوجتك المطلقة في عدتها؟ أوليس
يقول إن أمر الرجوع بيدي وتحت اختياري وانا قادر عليه في كل زمان من غير حاجة
إلى شئ آخر.
وبالجملة لازم هذه السلطة قبول قوله في أعماله، والملازمة بينهما وان لم يكن
عقليا الا انها ملازمة عرفية ظاهرة لكل أحد.
ولذا لا يشك أحد في قبول قول الوكيل المأذون في البيع والشراء، أو النكاح
والطلاق، فيما فعله، وليس ذلك الا من جهة كون السلطة على هذه الأمور ملازمة
لقبول قوله عرفا.
وما وقع من بعضهم من الاشكال في قبول اقرار عبد المأذون (كما عرفته سابقا
عند نقل الأقوال) فالظاهر أنه من جهة كون محل كلامهم العبد، واما لو كان المأذون
حرا فالظاهر قبول قوله فيما يملك امره، كما أن الظاهر أن استقرار سيرة أهل الشرع
على هذا المعنى ناش من هنا لا من دليل تعبدي وصل إليهم لم يصل إلينا.
وبالجملة لا ينبغي الريب في عموم القاعدة وشمولها لجميع موارد السلطنة،
الا ان يدل دليل خاص على خروج بعض هذه الموارد.
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا ان المراد بالملك هنا ليس " ملكية الأموال "
بل هو عبارة عن السلطة على شئ سواء كانت في الأموال والنفوس والحقوق،
وغيرها، وهذا أمر ظاهر لا يحتاج إلى مزيد بيان بعدما عرفت.
كما أن الظاهر مما عرفت اشتراط كونها فعليا فلو كان السلطة بالقوة على امره
لم ينفذ اقراره فيه.
هذا تمام الكلام فيما أردنا شرحه من قاعدة من ملك وقد وقع الفراغ منه في
6 رجب سنة 1405 والحمد لله رب العالمين.
414

21 - قاعدة الطهارة
(كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر)
* مدارك القاعدة من السنة
* جريانها في الشبهات الموضوعية والحكمية
* الطهارة والنجاسة حكمان واقعيان لا علميان
* محاكمة مع صحاب الحدائق (رضوان الله عليه)
415

قاعدة الطهارة
من القواعد المشهورة أيضا قاعدة الطهارة التي يتمسك بها الأصحاب في
أبواب الطهارات كلها، وحاصلها الحكم بطهارة كل شئ ما لم يثبت نجاسته.
وهذا الحكم على اجماله مجمع عليه بين الأصحاب كما قال صاحب الحدائق
في مقدمات حدائقه في المقدمة الحادية عشرة: " ان أصل الحكم المذكور مما لا
خلاف فيه ولا شبهة تعتريه " (1).
وان وقع الخلاف فيها في مواضع تأتي الإشارة إليها إن شاء الله.
فلنذكر أولا ما عثرنا عليه من الروايات الدالة على هذا الحكم، ثم لنتكلم
في موارد الخلاف فيها، وهي عدة روايات:
1 - موثقة عمار بن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: " كل شئ نظيف حتى
تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك " (2).
2 - ما رواه حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام قال: " ما أبالي
أبول أصابني أو ماء إذا لم اعلم "؟! (3) 3 - ما أرسله الصدوق في المقنع: " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " (4).

(1) الحدائق ج 1 ص 134.
(2) الوسائل ج 2 أبواب النجاسات الباب 37 الحديث 4 و 5.
(3) الوسائل ج 2 أبواب النجاسات الباب 37 الحديث 4 و 5.
(4) المستدرك ج 1 ص 164 ح 1 من الباب 29 من أبواب النجاسات.
417

والظاهر أنها متحدة مع ما سبق ولا دليل على كونها رواية أخرى.
ويستفاد عموم هذا الحكم من عدة روايات في خصوص أبواب المياه أيضا.
منها ما رواه حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " الماء كله طاهر حتى
تعلم أنه قذر " (1).
وما أرسله المحقق في المعتبر قال قال عليه السلام: " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه
شئ، الا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه " (2).
وما رواه داود بن فرقد من أبي عبد الله عليه السلام قال:... " وجعل لكم الماء
طهورا " (اقتفاءا لما يظهر من آيات الذكر الحكيم من كون الماء طهورا) (3).
إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.
ولكن العمدة من ذلك هو " موثقة عمار " لأن غيرها وردت في موارد خاصة
لا يمكن الاستناد إليه في هذه القاعدة الكلية، ولكن كفى بها دليلا على المطلوب
بعد العمل بها، من ناحية الأصحاب رضوان الله عليهم مع اعتبار سندها في نفسه.
إذا عرفت ذلك فاعلم: انه قد يشك في كون شئ طاهرا أو نجسا من ناحية
الشبهة الموضوعية، كما إذا شك في غليان العصير بناء على نجاسته بالغليان، أو في
صيرورة العنب خمرا بناءا على ما هو المشهور من نجاسة الخمر، أو في كون انسان
كافرا أو مسلما إذا لم يكن له حالة سابقة، بناء على ما هو المعروف من نجاسة الكفار
وكذا إذا شك في تغير الماء بأحد أوصافه الثلاثة، أو إصابة الثوب واللباس شئ
من النجاسات. أو في البلل المشتبه بالبول والمني فشك انه بلل طاهر أو نجس، أو
غير ذلك مما لا يحصى.

(1) الوسائل ج 1 أبواب الماء المطلق الحديث 5.
(2) الوسائل ج 1 أبواب الماء المطلق الحديث 9.
(3) الوسائل ج 1 أبواب الماء المطلق الحديث 4.
418

ففي كل هذه الموارد إذا علم بالحالة السابقة فلا يشك في أنه يؤخذ بها بمقتضى
الاستصحاب، وان لم يكن له حالة سابقة فيحكم بطهارتها بمقتضى هذه القاعدة،
أعني قاعدة الطهارة، فيجوز استعمالها في كل ما يشترط فيه الطهارة.
هذا كله مما لا ريب فيه ولم ينقل خلاف فيها من أحد من الأصحاب.
نعم لا اشكال في رجحان الاحتياط في جميع هذه المقالات بالأدلة العامة
الواردة في استحباب الاحتياط في أمور الدين.
هذا ولكن الأولى الاقتصار في الاحتياط فيها بما يكون الشبهة فيه قوية كشرب
سؤر من لا يبالي في الدين، أو يكون متهما جدا، واما الاحتياط في كل ما يؤخذ
من سوق المسلمين، وأيدي أهل الدين، بمجرد احتمال النجاسة، الموجودة في
جميع الأشياء، فلم يثبت في الشرع رجحانه وإن كان قد يتراءى العمل به من بعض
أهل العلم والتقوى، بل الظاهر أنه مخالف للاحتياط، لترتب مفاسد كثيرة عليها،
من ايذاء المؤمنين، واتلاف الوقت والمال، وكونه مظنة للوسواس المرغوب
عنها أو مثل ذلك.
بل الظاهر أنه مخالف لسيرة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام وأصحابهم
لأنهم كانوا يزاولون الناس، ويأكلون ويشربون معهم، ويدخلون الحمامات،
ويشترون الألبسة والأطعمة من سوق المسلمين، ويلبسونها، أو يأكلون منها من غير
غسلها، مع ما كانت الأسواق والحمامات لا سيما في تلك الأزمنة مشكوكة من حيث
الطهارة والنجاسة لدخول غير المسلمين فيها، واعتقاد بعض فرق المسلمين بطهارة
الميتة بالدباغة، أو طهارة العصير العنبي المغلي، أو حكمهم بطهارة النبيذ، أو طهارة
الأشياء النجسة بزوال عين النجاسة، إلى غير ذلك، مما يستفاد من الاخبار وفتاواهم
في أبواب مختلفة، من أبواب الطهارات والنجاسات.
فلو كان الاحتياط أمرا مرغوبا فيه في باب الطهارة والنجاسة بمجرد الاحتمال
419

لما خالفه المعصومون المطهرون (عليهم آلاف الصلاة والتحية) فالأولى ترك هذه
الاحتياطات الا في موارد الاتهام الشديد، وترجيح الاخذ بسيرة المسلمين وأئمة
الطاهرين عليهم السلام والحكم بطهارة الأشياء مما لم يعلم نجاستها.
* * *
وأخرى يكون من جهة " الشبهة الحكمية " كما إذا تولد حيوان من طاهر
ونجس، ولم يصدق عليه شئ من عناوين الحيوانات الموجودة، وشك في طهارته
ونجاسته، وكذا إذا شك في بعض اجزاء الحيوان كبول الطائر الذي لا يؤكل لحمه
وغير ذلك مما ليس له حالة سابقة، حتى يتمسك فيه بالاستصحاب ففيه قولان:
المحكى عن جملة من المتأخرين الحكم بالطهارة بمقتضى هذه القاعدة، وعن
المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب العوائد المدنية، هو العدم، حكاهما صاحب
الحدائق في حدائقه (1).
وقد يقال بان القدر المتيقن من الأخبار السابقة، وعمدتها موثقة عمار، هو ما
وقع الاتفاق عليه من الشبهات الموضوعية، لأن المراد من هذا الخبر وأمثاله إنما
هو دفع الوساوس الشيطانية، والشكوك النفسانية، بالنسبة إلى حالة الجهل بملاقاة
النجاسة، وبيان سعة الحنيفية السمحة السهلة، بالنسبة إلى اشتباه بعض الافراد غير
المحصورة ببعض، فيحكم بطهارة الجميع حتى يعلم الفرد النجس بعينه، واما
اجراء ذلك الجهل بالحكم الشرعي فلا يخلو من الاشكال، المانع من الجرئة
على الحكم به في هذا المجال (2).
ويمكن الاستدلال على ما ذكره من اختصاص الخبر بالشبهات الموضوعية
هو تقييده بقوله " حتى تعلم "، لأن هذا التعبير إنما هو في الأحكام الظاهرية المناسبة
للشبهات الموضوعية، واما الأحكام الواقعية فهي غير مغياة بالعلم والجهل.

(1) الحدائق ج 1 ص 135.
(2) الحدائق ج 1 ص 135.
420

اللهم الا ان يقال: ان الرواية ناظرة إلى الحكم الظاهري في الشبهات الموضوعية
والحكمية معا، أو ان صدرها عام بالنسبة إلى الحكم الواقعي والظاهري، وإن كان
ذيلها خاصا في الحكم الظاهري.
ولكن كل ذلك بعيد، ولا أقل من الشك فالحكم بالعموم مشكل.
وهنا بيان آخر لاثبات هذه القاعدة في الشبهات الحكمية شبيه ما ذكروه في
بحث البراءة، بالنسبة إلى الأحكام التكليفية، وحاصله ان النجاسات أمور محدودة
معدودة، والأصل الأولى في الأشياء هو الطهارة، فلو كان شئ قذرا شرعا مما لا يستقذره
العرف، فعليه البيان، فلو لم ينبه عليه يعامل معها معاملة الطهارة، فكما ان الحرام هو
الذي يحتاج إلى البيان وكذا الواجب، واما المباح فغير محتاج إليه في عرف
العقلاء وفي عرف الشرع، فكذلك بالنسبة إلى الأحكام الوضعية مثل النجاسة وشبهها
وهكذا الكلام بالنسبة إلى النساء المحرمات، فإنهن اللواتي لابد من بيان حرمتهن
فلو لم يبين الشارع حرمة أخت الزوجة جاز نكاحها، لا بعنوان الحكم التكليفي والبراءة
بل بعنوان الحكم الوضعي لأن جواز النكاح وضعا لا يحتاج إلى البيان بل الحرمة
تحتاج إليه.
ولعله لذا حكم غير واحد من الأصحاب بطهارة المتولد من الكلب والخنزير
إذا لم يتبعهما في الاسم ولم يماثله حيوان، أو ان المتولد من أحدهما وغيره طاهر
كذلك.
وان شئت قلت: ان النجاسة وان كانت حكما وضعيا على الأقوى، ولكن تنشأ
منها أحكام تكليفية التزامية، ويمكن التمسك بالبراءة بالنسبة إلى آثارها التكليفية،
كالأكل والشرب وتلويث المسجد به، وغير دلك، ولكن هذا لا ينفع في مثل الوضوء
بما لا دليل على طهارته ونجاسته بحسب الحكم الشرعي، لأن استصحاب الحدث
باق فتأمل.
421

فالعمدة ما عرفت من القاعدة العقلائية في أمثال المقام، وان الحرمة والنجاسة
الوضعيين، وشبههما تحتاج إلى البيان فلو لم يبين الشارع يحكم بالحلية والطهارة.
ومما ذكرنا ظهر الاشكال فيما افاده في " التنقيح في شرح العروة الوثقى "
فيما ذكره بقوله: طهارة ما يشك في طهارته ونجاسته من الوضوح بمكان، ولم يقع
فيها خلاف، لا في الشبهات الموضوعية، ولا في الشبهات الحكمية، ومن جملة
أدلتها قوله في موثقة عمار " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر الخ... " (1).
وقد عرفت المخالفة في الحكم من صاحب الحدائق والمحدث الأسترآبادي
في " الفوائد المدنية " وسكوت جمع من الأصحاب منه، كما انك عرفت قوة اختصاص
الموثقة بالشبهات الموضوعية، وان طريق اثبات الحكم في الشبهات الحكمية طريق
آخر غير الحديث.
* * *
تنبيه
هل الطهارة والنجاسة حكمان واقعيان أو علميان
ظاهر جميع الأصحاب هو الأول ولكن صاحب الحدائق اختار الثاني.
قال في مقدمات حدائقه:
" ظاهر الخبر المذكور (موثقة عمار) انه لا تثبت النجاسة للأشياء ولا تتصف
بها الا بالنظر إلى علم المكلف، لقوله عليه السلام " فإذا علمت فقد قذر " بمعنى انه ليس
التنجيس عبارة عما لاقته عين النجاسة واقعا خاصة، بل ما كان كذلك وعلم به
المكلف، وكذلك ثبوت النجاسة لشئ إنما هو عبارة عن حكم الشارع بأنه نجس
وعلم المكلف بذلك، وهو خلاف ما عليه جمهور أصحابنا (ره) فإنهم حكموا بأن

(1) التنقيح ج 3 ص 158.
422

النجس إنما هو عبارة عما لاقته النجاسة واقعا، وان لم يعلم به المكلف، وفرعوا
عليه بطلان صلاة المصلي في النجاسة جاهلا، وان سقط الخطاب عنه ظاهرا...
وأنت خبير بما فيه من العسر والحرج، ومخالفة ظواهر الأخبار الواردة عن
العترة الأبرار ".
ثم استدل على ما اختاره باستلزام قول المشهور التكليف بما لا يطاق، وما دل
على أن من رأى في ثوب أخيه دما وهو يصلي لا يؤذنه حتى ينصرف (1) وغير ذلك.
واستدل أيضا بما حكاه عن الشهيد الثاني: " ان ذلك يكاد يوجب فساد جميع
العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسات في نفس الامر، وان لم يحكم الشارع
ظاهرا بفسادها، فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة، وان استحق اجر الذاكر
المطيع بحركاته وسكناته، ان لم يتفضل الله تعالى بجوده " (2).
* * *
ولكن ما ذكره قدس سره الشريف من أعجب ما يمكن ان يتفوه به، فإنه يرد
عليه أمور:
الأول: ان النجاسة هي القذارة، والطهارة عدمها، وهما أمران عرفيان قبل
ان يكونا شرعيين، فالطهارة والنجاسة ليستا من اختراعات الشرع، بل كان من أول
زمن وجود الانسان، بل وقبل وجوده، فلذا يجتنب أهل العرف عن كثير من الأشياء
لأنها قذارات، ويطلب أشياء اخر لأنها طاهرات.
نعم الشارع المقدس زاد على ما عند العرف ونقص في بعض الأحيان واشترط
فيهما شرائط وبين لها أحكاما ولكنها أشبه شئ بما ورد عنه في أبواب العقود
والايقاعات والمعاملات.

(1) الوسائل ج 2 أبواب النجاسات الباب 40 الحديث 1.
(2) الحدائق ج 1 ص 136.
423

وبالجملة لا ينبغي الريب في كونها أمرين واقعيين عند العرف وقد أمضاهما
الشرع مع قيود وشرائط، بل هما أمران تكوينيان لا اعتباريان كما توهمه بعض وإن كان
هذا المعنى لا يؤثر فيما نحن بصدده، فإذا كانتا عند العرف بعنوان أمرين واقعيين
وأمضاهما الشرع كذلك تكونا أمرين واقعيين.
* * *
الثاني: ارتكاز المتشرعة، فإنه لاشك عندهم في كون النجس كالطاهر
أمرا واقعيا، علمنا به أو لم نعلم، وهم قد اخذوا ذلك من لسان الشرع، ومن البعيد
جدا رميهم بالغفلة عن محتوى كلام الشارع ومغزاها في هذا الباب وجهلهم جميعا،
مع كثرة الأحاديث الواردة في أبواب الطهارة والنجاسة.
* * *
الثالث: ما ذكره مخالف لظاهر جميع ما ورد في أبواب الأعيان النجسة
والطاهرة فإن قوله عليه السلام في الكلب " انه نجس " (1) وكذا الحكم بالنجاسة وما يفيد
معناه بالنسبة إلى العناوين الأخر وكذا " حكمه بطهارة الماء " وغيره فهذه كلها
ظاهرة في تعلق الحكم بعناوينها الواقعية، مع قطع النظر عن العلم والجهل، فإن
الكلب، أو الدم، أو المني، أو الماء، عناوين خارجية، علمناها أو لم نعلم بها.
* * *
الرابع: لازم ما ذكره أن تكون النجاسة أمرا نسبيا فثوب واحد نجس بالنسبة
إلى من يعلم وطاهر بالنسبة إلى من لا يعلم وهذا أمر عجيب لا يقبله ذوق الفقه وارتكاز
أهل الشرع وأحاديث الباب.
* * *
الخامس: لازم ما ذكره كون الطهارة أيضا أمرا عمليا فإذا لم نعلم بطهارة

(1) الوسائل ج 2 أبواب النجاسات الباب 12 الحديث 6.
424

شئ لا يكون طاهرا، ومن البعيد ان يلتزم به، وحينئذ يلزم التفكيك بين الطهارة
والنجاسة مع أنهما أمران متقابلان.
وبالجملة اي داع على ارتكاب هذه التكلفات مع وضوح الأدلة وظهورها
في كونهما أمرين واقعيين، فمثل قوله عليه السلام في السؤال عن أبي حنيفة: " أيما أنجس
البول أو الجنابة فقال البول؟... " (1) وقوله في حديث أبي بصير " إذا دخلت
يدك في الاناء قبل ان تغسلها فلا بأس الا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة " (2)
وغير ذلك مما يعثر عليه المتتبع وهو كثير كلها دليل على ما ذكرنا، ولا داعي على
حملها على خلاف ظاهرها.
واما ما تشبث به (قده) في هذا المجال فليس مما يركن إليه:
اما استدلاله بقوله " فإذا علمت فقد قذر " الظاهر في حصول القذارة بمجرد
العلم يدفعها، ما ورد في صدر الحديث من قوله عليه السلام " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه
قذر " فإنه ظاهر أو صريح في أن القذارة أمر واقعي حاصل قبل العلم، وان العلم
يحصل بعدها، وهو قرينة على تفسير الذيل، وانه إذا علم بالقذارة يتنجز الحكم في
الظاهر والواقع، وما لم يعلم فهي حكم واقعي غير منجز كما هو مشروح في باب
الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في الأصول.
وان شئت قلت العلم هنا طريقي كما هو الأصل فيه لا موضوعي.
واما بعض الأخبار الدالة على عدم اخبار الغير بكون الدم في ثوبه في حال
الصلاة فقد فرغنا عنه بما ذكر في محله من أن الشرط على قسمين الشرائط الواقعية
والشرائط العملية، فالنجاسة وان كانت أمرا واقعيا ولكن اشتراط الصلاة بعدمها
شرط علمي يختص بظرف العلم، ومن فرغ عن هذا البحث أعني تقسيم الشرائط

(1) الوسائل ج 18 أبواب صفات القاضي الباب 6 الحديث 27.
(2) الوسائل ج 1 أبواب الماء المطلق الباب 8 الحديث 4.
425

إلى الشرائط العلمية والواقعية فليس يصعب عليه هذه الرواية ومثلها ابدا.
ومن هنا يعلم الجواب أيضا عما نقله عن الشهيد الثاني فإن كثرة النجاسات
في نفس الامر لا تمنع عن صحة الصلاة بعد كون اشتراط الصلاة بعدمها من الشروط
العلمية لا الواقعية.
نعم يبقى الكلام في مثل ماء الوضوء والغسل بما يظهر منهم كونها شرطا
واقعيا في موردها ولكن الالتزام بكونها شرطا علميا فيهما أيضا غير بعيد ووجوب
الإعادة بعد الاطلاق على نجاسة الماء يمكن أن يكون من باب الشرط المتأخر فتأمل
جيدا.
إلى هنا تم الكلام على قاعدة الطهارة وقع الفراغ منه
يوم الخميس 30 / ج 1 / 1405
والحمد لله رب العالمين
وللمؤلف تعليقات استدلالية بأسلوب جديد على
العروة الوثقى في مجلدين، المجلد الأول من أول كتاب
الطهارة إلى اخر الخمس، والمجلد الثاني من كتاب الحج
إلى آخر الوصية
426