الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ٤
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغني
تأليف الشيخ الإمام العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المتوفى سنة 630 ه‍
على مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي المتوفى سنة 334 ه‍
الجزء الرابع
أعاد طبعه بنفقته وأشرف على تصحيحه
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب البيوع
البيع مبادلة المال بالمال تمليكا وتملكا واشتقاقه من الباع لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه
للاخذ والاعطاء، ويحتمل أن كل واحد منهما كان يبايع صاحبه أي يصافحه عند البيع ولذلك سمي
البيع صفقة، وقال بعض أصحابنا هو الايجاب والقبول إدا تضمن عينين للتمليك، وهو حد قاصر
لخروج بيع المعاطاة منه ودخول عقود سوى البيع فيه، والبيع جائز بالكتاب والسنة والاجماع، أما
الكتاب فقول الله تعالى (وأحل الله البيع) وقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) وقوله تعالى
(إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقوله تعالى (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)
وروى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الاسلام
تأثموا فيه فأنزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) يعني في مواسم الحج، وعن
2

الزبير نحوه، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " متفق عليه
وروى رفاعة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال " يا معشر
التجار " فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم و رفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال " ان التجار
يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من بر وصدق " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وروى أبو سعيد
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصادقين والشهداء " قال
الترمذي هذا حديث حسن - في أحاديث كثيرة سوى هذه، وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة
والحكمة تقتضيه لأن حاجة الانسان تتعلق بما في يد صاحبه وصاحبه لا يبذله بغير عوض ففي شرع
البيع وتجويزه شرع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه، ودفع حاجته
(فصل) والبيع على ضربين (أحدهما) الا يجاب والقبول فالايجاب أن يقول بعتك أو ملكتك
أو لفظ يدل عليهما، والقبول أن يقول اشتريت أو قبلت ونحوهما، فإن تقدم القبول على الايجاب
بلفظ الماضي فقال ابتعت منك فقال صح لأن لفظ الايجاب والقبول وجد منهما على وجه تحصل
منه الدلالة على تراضيهما به فصح كما لو تقدم الايجاب، وان تقدم بلفظ الطلب فقال بعني ثوبك فقال
بعتك ففيه روايتان (إحداهما) يصح كذلك هو قال مالك والشافعي (والثانية) لا يصح وهو قول
أبي حنيفة لأنه لو تأخر عن الايجاب لم يصح به البيع فلم يصح إذا تقدم كلفظ الاستفهام ولأنه عقد
عري عن القبول فلم ينعقد كما لو لم يطلب، وحكى أبو الخطاب فيما إذا تقدم بلفظ الماضي روايتين أيضا
3

فأما ان تقدم بلفظ الاستفهام مثل ان يقول أتبيعني ثوبك بكذا فيقول بعتك لم يصح بحال نص
عليه احمد، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لأن ذلك ليس بقبول ولا استدعاء
(الضرب الثاني) المعاطاة مثل أن يقول اعطني بهذا الدينار خبزا فيعطيه ما يرضيه أو يقول
خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه فهذا بيع صحيح نص عليه احمد فيمن قال لخباز كيف تبيع الخبز قال
كذا بدرهم. قال زنه وتصدق به فإذا وزنه فهو عليه. وقول مالك نحو من هذا فإنه قال: يقع
البيع بما يعتقده الناس بيعا، وقال بعض الحنفية يصح في خسائس الأشياء، وحكي عن القاضي مثل
هذا قال يصح في الأشياء اليسيرة دون الكبيرة، ومذهب الشافعي رحمه الله أن البيع لا يصح الا
بالايجاب والقبول، وذهب بعض أصحابه إلى مثل قولنا
ولنا أن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض
والاحراز والتفرق، والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولان البيع كان موجودا بينهم معلوما
عندهم، وإنما علق الشرع عليه أحكاما وبقاه على ما كان فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم، ولم ينقل عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الايجاب والقبول. ولو استعملوا ذلك
في بياعاتهم لنقل نقلا شائعا، ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله، ولم يتصور منهم اهماله والغفلة عن نقله،
ولان البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط له الايجاب والقبول لبينه صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولم يخف حكمه
4

لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرا وأكلهم المال الباطل، ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
ولا عن أحد من أصحابه فيما علمناه، ولان الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في مكل عصر، ولم ينقل
إنكاره قبل مخالفينا، فكان ذلك اجماعا، وكذلك الحكم في الايجاب والقبول في الهبة والهدية والصدقة
ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه، وقد أهدي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الحبشة وغيرها، وكان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة متفق عليه. وروى البخاري
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه " أهدية أم صدقة؟ "
فإن قيل صدقه قال لأصحابه " كلوا " ولم يأكل، وان قيل هدية ضرب بيده وأكل معهم، وفي حديث
سلمان حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر فقال: هذا شئ من الصدقة رأيتك أنت وأصحابك
أحق الناس به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " كلوا " ولم يأكل. ثم أتاه ثانية بتمر فقال
رأيتك لا تأكل الصدقة وهذا شئ أهديته لك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بسم الله " وأكل ولم
ينقل قبول ولا أمر بايجاب، وإنما سأل ليعلم هل هو صدقة أو هدية، وفي أكثر الاخبار لم ينقل
ايجاب ولا قبول وليس الا المعاطاة، والتفرق عن تراض يدل على صحته، ولو كان الايجاب والقبول
شرطا في هذه العقود لشق ذلك، ولكانت أكثر عقود المسلمين فاسدة وأكثر أموالهم محرمة ولان
الايجاب والقبول إنما يرادان للدلالة على التراضي فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام
مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه
5

{خيار المتبايعين}
أي باب خيار المتبايعين فحذف اختصارا
{مسألة} قال أبو القاسم رحمه الله (والمتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما)
في هذه المسألة ثلاثة فصول (أحدها) ان البيع يقع جائزا ولكل من المتبايعين الخيار في فسخ
البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا وهو قول أكثر أهل العلم يروى ذلك عن عمرو ابن عمر وابن عباس وأبي
هريرة وأبي برزة وبه قال سعيد بن المسيب وشريح والشعبي وعطاء وطاوس والزهري والأوزاعي
وابن أبي ذئب والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور. وقال مالك وأصحاب الرأي: يلزم العقد
بالايجاب والقبول ولا خيار لهما لأنه روي عن عمر رضي الله عنه: البيع صفقة أو خيار. ولأنه عقد معاوضة
فلزم بمجرده كالنكاح والخلع. ولنا ما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا
تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما
الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وان تفرقا بعد أن تبايعا لم يترك أحدهما البيع فقد وجب
البيع " متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " رواه الأئمة كلهم، ورواه
عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو برزة الأسلمي، واتفق على حديث ابن عمر
وحكيم. ورواه عن نافع عن ابن عمر مالك وأيوب وعبيد الله بن عمر وابن جريح والليث بن سعد ويحيى بن
سعيد وغيرهم، وهو صريح في حكم المسألة. وعاب كثير من أهل العلم على مالك مخالفته للحديث مع روايته له وثبوته
عنده. وقال الشافعي رحمه الله: لا أدري هل اتهم مالك نفسه أو نافعا؟ وأعظم أن أقول عبد الله بن عمر
وقال ابن أبي ذئب يستتاب مالك في تركه لهذا الحديث فإن قيل المراد بالتفرق ههنا التفرق بالأقوال
كما قال الله تعالى (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ستفترق أمتي
6

على ثلاث وسبعين فرقة " أي بالأقوال والاعتقادات. قلنا هذا باطل لوجوه (منها) ان اللفظ لا يحتمل
ما قالوه إذ ليس بين المتبايعين تفرق بلفظ ولا اعتقاد إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع بعد الاختلاف
فيه (الثاني) ان هذا يبطل فائدة الحديث إذ قد علم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه وإتمامه أو تركه
(الثالث) أنه قال في الحديث " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار " فجعل لهما الخيار بعد
تبايعهما وقال " وان تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " (الرابع) انه يرده
تفسير ابن عمر للحديث بفعله فإنه كان إذا بايع رجلا مشى خطوات ليلزم البيع وتفسير أبى برزة له
بقوله على مثل قولنا وهما راويا الحديث وأعلم بمعناه. وقول عمر البيع صفقة أو خيار معناه ان البيع ينقسم
إلى بيع شرط فيه الخيار وبيع لم يشترط فيه سماه صفقة لقصر مدة الخيار فيه فإنه قد روى عنه أبو إسحاق
الجوزجاني مثل مذهبنا ولو أراد ما قالوه لم يجر أن يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم فلا حجة في قول
أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عمر إذا بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم رجع عن
قوله فكيف يعارض قوله بقوله؟ على أن قول عمر ليس بحجة إذا خالفه بعض الصحابة وقد خالفه
ابنه وأبو برزة وغيرهما، ولا يصح قياس البيع على النكاح لأن النكاح لا يقع غالبا إلا بعد روية ونظر
وتمكث فلا يحتاج إلى الخيار بعده ولان في ثبوت الخيار فيه مضرة لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد
وذهاب حرمتها بالرد وإلحاقها بالسلع المبيعة فلم يثبت فيه خيار لذلك ولهذا لم يثبت فيه خيار الشرط
ولا خيار الرؤية والحكم في هذه المسألة ظاهر لظهور دليله ووهاء ما ذكره المخالف في مقابلته والله أعلم
(الفصل الثاني) ان البيع يلزم بتفرقهما لدلالة الحديث عليه ولا خلاف في لزومه بعد التفرق
والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعادتهم فيما يعدونه تفرقا لأن الشارع علق عليه حكما ولم بينه فدل
ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والاحراز، فإن كانا في فضاء واسع كالمسجد الكبير والصحراء
7

فبأن يمشي أحدهما مستدبرا لصاحبه خطوات وقيل هو أن يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذي يتكلم
به في العادة. قال أبو الحارث سئل أحمد عن تفرقة الأبدان فقال إذا أخذ هذا كذا وهذا كذا فقد
تفرقا. وروى مسلم عن نافع قال: فكان ابن عمر إذا بايع فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة ثم رجع. وان
كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت فالمفارقة أن يفارقه من بيت إلى بيت أو إلى مجلس أو صفة أو من
مجلس إلى بيت أو نحو ذلك، فإن كانا في دار صغيرة فإذا صعد أحدهما السطح أو خرج منها فقد فارقه
وان كانا في سفينة صغيرة خرج أحدهما منها ومشى وان كانت كبيرة صعد أحدهما على أعلاها ونزل
الآخر في أسفلها وهذا كله مذهب الشافعي، فإن كان المشتري هو البائع مثل أن يشتري لنفسه من
مال ولده أو اشترى لولده من مال نفسه لم يثبت فيه خيار المجلس لأنه تولى طرفي القعد فلم يثبت له
خيار كالشفيع ويحتمل أن يثبت فيه ويعتبر مفارقة مجلس العقد للزومه لأن الافتراق لا يمكن ههنا لكون
البائع هو المشتري، ومتى حصل التفرق لزم العقد قصدا ذلك أو لم يقصداه علماه أو جهلاه، لأن النبي
صلى الله عليه وسلم علق الخيار على التفرق وقد وجد ولو هرب أحدهما من صاحبه لزم العقد لأنه فارقه
باختياره ولا يقف لزوم العقد على رضاهما ولهذا كان ابن عمر يفارق صاحبه ليلزم البيع، ولو أقاما في المجلس
وسدلا بينهما سترا أو بنيا بينهما حاجزا أو ناما أو قاما فمضيا جميعا ولم يتفرقا فالخيار بحاله، وان طالت المدة
لعدم التفرق وروى أبو داود والأثرم باسنادهما عن أبي الرضى قال: غزونا غزوة لنا فنزلا فباع
صاحب لنا فرسا بغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحا من الغد وحضر الرحيل قام إلى فرسه
يسرجه فندم فاتى الرجل وأخذ ه بالبيع فأبى الرجل أن يدفعه إليه فقال بيني وبينك أبو برزة صاحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقال له هذه القصة فقال أترضيان أن
أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه سلم " البيعان بالخيار
8

ما لم يتفرقا " ما أراكما افترقتما. فإن فارق أحدهما الآخر مكرها احتمل بطلان الخيار لوجود غايته وهو
التفرق ولأنه لا يعتبر رضاه في مفارقة صاحبه له فكذلك في مفارقته لصاحبه، وقال القاضي لا ينقطع
الخيار لأنه حكم علق على التفرق فلم يثبت مع الاكراه كما لو علق عليه الطلاق، ولأصحاب الشافعي
وجهان كهذين فعلى قول من لا يرى انقطاع الخيار إن أكره أحدهما على فرقة صاحبه انقطع خسار صاحبه
كما لو هرب منه وفارقه بغير رضاه ويكون الخيار للمكره منهما في المجلس الذي يزول عنه فيه الاكراه حتى
يفارقه، وإن أكرها جميعا انقطع خيارهما لأن كل واحد منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر له فأشبه ما
لو أكره صاحبه دونه، وذكر ابن عقيل من صور الاكراه ما لو رأيا سبعا أو ظالما خشياه فهربا فزعا
منه أو حملهما سيل أو فرقت ريح بينهما
(فصل) وان خرس أحدهما قامت إشارته مقام لفظه فإن لم تفهم إشارته أو جن أو أغمي عليه
قام وليه من الأب أو وصيه أو الحاكم مقامه وهذا مذهب الشافعي. وان مات أحدهما بطل خياره لأنه
قد تعذر منه الخيار والخيار لا يورث وأما الباقي منهما فيبطل خياره أيضا لأنه يبطل بالتفرق والتفرق
بالموت أعظم، ويحتمل أن لا يبطل لأن التفرق بالأبدان لم يحصل فإن حمل الميت بطل الخيار لأن
الفرقة حصلت بالبدن والروح معا
(فصل) وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " البائع والمبتاع
بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل له ان يفارق صاحبه خشية أن يستقيله " رواه النسائي
والأثرم والترمذي وقال حديث حسن. وقوله الا أن تكون صفقة خيار يحتمل أنه أراد البيع المشروط
فيه الخيار فإنه لا يلزم بتفرقهما ولا يكون تفرقهما غاية للخيار فيه لكونه ثابتا بعد تفرقهما، ويحتمل أنه
أراد البيع الذي شرطا فيه ان لا يكون بينهما فيه خيار فيلزم بمجرد العقد من غير تفرق، وظاهر
9

الحديث تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه خشية من فسخ البيع وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية
الأثرم فإنه ذكر له فعل ابن عمرو وحديث عمرو بن شعيب فقال هذا الآن قول النبي صلى الله عليه
وسلم. وهذا اختيار أبي بكر، وذكر القاضي ان ظاهر كلام أحمد جواز ذلك لأن ابن عمر كان إذا
اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه متفق عليه، والأول أصح لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على
فعل ابن عمر والظاهر أن ابن عمر لم يبلغه هذا ولو علمه لما خالفه
(الفصل الثالث) ان ظاهر كلام الخرقي ان الخيار يمتد إلى التفرق ولا يبطل بالتخاير قبل العقد ولابعده
وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم
يتفرقا " من غير تقييد ولا تخصيص هكذا رواه حكيم بن حزام وأبو برزة وأكثر الروايات عن عبد الله بن عمر
(والرواية الثانية) أن الخيار يبطل بالتخاير اختارها الشريف ابن أبي موسى وهذا مذهب الشافعي وهو
أصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر " فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد
وجب البيع " يعني لزم وفي لفظ " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا الا أن يكون البيع كان عن خيار فإن كان
البيع عن خيار فقد وجب البيع " متفق عليه. والاخذ بالزيادة أولى والتخاير في ابتداء العقد وبعده في
المجلس واحد، فالتخاير في ابتدائه ان يقول بعتك ولا خيار بيننا ويقبل الاخر على ذلك فلا يكون لهما خيار
والتخاير بعده ان يقول كل واحد منهما بعد العقد اخترت امضاء العقد أو الزامه أو اخترت العقد أو
أسقطت خياري فيلزم العقد من الطرفين، وان اختار أحدهما دون الآخر لزم في حقه وحده كما لو
كان خيار الشرط لهما فاسقط أحدهما خياره دون الآخر. وقال أصحاب الشافعي في التخاير في ابتداء
10

العقد قولان أظهرهما لا يقطع الخيار لأنه اسقاط للحق قبل سببه فلم يجز كخيار الشفعة، فعلى هذا هل
يبطل العقد بهذا الشرط؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة
ولنا قوله عليه السلام " فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع " وقوله " الا أن
يكون البيع كان عن خيار فإن كان البيع عن خيار وجب البيع " وهذا صريح في الحكم فلا يعول على
ما خالفه ولان ما أثر في الخيار في المجلس أثر فيه مقارنا للعقد كاشتراط الخيار ولأنه أحد الخيارين في البيع فجاز
اخلاؤه عنه كخيار الشرط، وقولهم انه اسقاط للخيار قبل سببه ليس كذلك فإن سبب الخيار البيع المطلق فاما
البيع مع التخاير فليس بسبب له ثم لو ثبت أنه سبب الخيار لكن المنع مقارن له فلم يثبت حكمه. وأما الشفيع
فإنه أجنبي من العقد فلم يصح اشتراط اسقاط خياره في العقد بخلاف مسئلتنا، فإن قال أحدهما لصاحبه اختر ولم
يقل الاخر شيئا فالساكت منهما على خياره لأنه لم يوجد منه ما يبطل خياره، وأما القائل فيحتمل أن
يبطل خياره لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول
أحدهما لصاحبه اختر " رواه البخاري وأبو داود والنسائي ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه من الخيار
فسقط خياره وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ويحتمل أن لا يبطل خياره لأنه خيره فلم يختر فلم يؤثر فيه
كما لو جعل لزوجته الخيار فلم تختر شيئا، ويحمل الحديث على أنه خيره فاختار والأول أولى لظاهر
الحديث ولأنه جعل الخيار لغيره، ويفارق الزوجة لأنه ملكها مالا تملك فإذا لم تقبل سقط وههنا كل
واحد منهما يملك الخيار فلم يكن قوله تمليكا إنما كان اسقاطا فسقط
11

{مسألة} قال (فإن تلفت السلعة أو كان عبدا فأعتقه المشتري أو مات بطل الخيار)
أما إذا تلفت السلعة في مدة الخيار فلا يخلو إما أن تكون قبل القبض أو بعده فإن كان قبل القبض
وكان مكيلا أو موزونا انفسخ البيع وكان من مال البائع ولا أعلم في هذا خلافا الا أن يتلفه المشتري
فيكون من ضمانه ويبطل خياره، وفي خيار البائع روايتان، وإن كان المبيع غير المكيل والموزون ولم
يمنع البائع المشتري من قبضه فظاهر المذهب انه من ضمان المشتري ويكون كتلفه بعد القبض. وأما ان
تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار فهو من ضمان المشتري ويبطل خياره، وفي خيار البائع روايتان
(إحداهما) يبطل وهو اختيار الخرقي وأبي بكر لأنه خيار فسخ فبطل بتلف المبيع كخيار الرد بالعيب
إذا تلف المعيب (والرواية الثانية) لا يبطل وللبائع أن يفسخ ويطالب المشتري بقيمته وهذا اختيار القاضي
وابن عقيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " ولأنه خيار فسخ فلم يبطل بتلف
12

المبيع كما لو اشترى ثوبا بثوب فتلف أحدهما ووجد الآخر بالثوب عيبا فإنه يرده ويرجع بقيمة ثوبه
كذا ههنا وأما إذا أعتقه المشتري فإن خياره يبطل لأنه أتلفه وفي بطلان خيار البائع روايتان كما لو
تلف المبيع. وخيار المجلس وخيار الشرط في هذا كذا كله سواء
13

(فصل) ومتى تصرف المشتري في المبيع في مدة الخيار تصرفا يختص الملك بطل خياره كاعتاق
العبد وكتابته وبيعه وهبته ووطئ الجارية أو مباشرتها أو لمسها لشهوة ووقف المبيع وركوب الدابة
14

لحاجته أو سفر أو حمله عليها أو سكنى الدار ورمها وحصاد الزرع وقصل منه فما وجد من هذا فهو
رضاء المبيع ويبطل به خياره لأن الخيار يبطل بالتصريح بالرضاء وبدلالته ولذلك يبطل خيار المعتقة
بتمكينها الزوج من وطئها وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان وطئك فلا خيار لك) وهذا
مذهب أبي حنيفة والشافعي، فاما ركوب الدابة لينظر سيرها والطحن على الرحى ليعلم قدر طحنها وحلب
15

الشاة ليعلم قدر لبنها ونحو ذلك فليس برضا بالمبيع ولا يبطل خياره لأن ذلك هو المقصود بالخيار
وهو اختيار المبيع وذكر أبو الخطاب وجها في أن تصرف المشتري لا يبطل خياره ولا يبطل الا
16

بالتصريح بالرضا ولا يصح لأن هذا يتضمن إجازة البيع ويدل على الرضا به فبطل به الخيار كصريح
القول ولان التصريح إنما أبطل الخيار لدلالته على الرضا به فما دل على الرضا به يقوم مقامه ككنايات
17

الطلاق تقوم مقام صريحه، وان عرضه على البيع أو باعه بيعا فاسدا أو عرضه على الرهن أو غيره من
التصرفات أو وهبه فلم يقبل الموهوب له بطل خياره لأن ذلك يدل على الرضا به قال أحمد. إذا
18

اشترط الخيار فباعه قبل ذلك بربح فالربح للمبتاع لأنه وجب عليه حين عرضه، وإن استخدم المشتري
المبيع ففيه روايتان (إحداهما) لا يبطل خياره. وقال أبو الصقر: لأحمد رحل اشترى
19

جارية وله الخيار فيها يومين فانطلق بها فغسلت رأسه أو غمزت رجله أو طحنت له أو خبزت هل
يستوجبها بذلك؟ قال لا حتى يبلغ منها ما لا يحل لغيره. قلت فإن مشطتها أو خضبها أو حفها هل
يستوجبها بذلك؟ قال قد بطل خياره لأنه وضع يده عليها وذلك لأن الاستخدام لا يختص الملك
20

ويراد لتجربة المبيع فأشبه ركوب الدابة ليعلم سيرها. ونقل حرب عن أحمد أنه يبطل خياره لأنه
انتفاع بالمبيع أشبه لمسها لشهوة. ويمكن ان يقال ما قصد به من الاستخدام تجربة المبيع لا يبطل الخيار
كركوب الدابة ليعلم سيرها وما لا يقصد به ذلك يبطل كركوب الدابة لحاجته. وان قبلت الجارية
21

المشتري لم يبطل خياره وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو الخطاب يحتمل أن يبطل خياره إذا لم يمنعها
لأن اقراره لها على ذلك يجري مجرى استمتاعه بها، وقال أبو حنيفة ان قبلته لشهوة بطل خياره
22

لأنه استمتاع يختص الملك فأبطل خياره كقبلته لها، ولنا انها قبلة لاحد المتعاقدين فلم يبطل خياره كما
لو قبلت البائع ولان الخيار له لا لها فلو ألزمناه بفعلها لألزمناه بغير رضاه ولا دلالة عليه وفارق ما
23

إذا قبلها فإنه وجد منه ما يدل على الرضا بها ومتى بطل خيار المشتري بتصرفه فخيار البائع باق
بحاله لأن خياره لا يبطل برضا غيره الا أن يكون تصرف المشتري باذن البائع فإنه يبطل خيارهما
24

معا لوجود الرضا منهما بابطاله: وان تصرف البائع في المبيع يفتقر إلى الملك كان فسخا للبيع وهذا
مذهب أبي حنيفة والشافعي لما ذكرناه في المشتري ولأنه أحد المتعاقدين فتصرفه في المبيع اختيار له
25

كالمشتري وعن أحمد رواية أخرى انه لا ينفسخ البيع بذلك لأن الملك انتقل عنه فلم يكن تصرفه فيه استرجاعا له كمن وجد ماله عند مفلس فتصرف فيه
(فصل) وينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد في ظاهر المذهب ولا فرق بين
26

كون الخيار لهما أو لأحدهما أيهما كان وهذا أحد أقوال الشافعي وعن أحمد ان الملك لا ينتقل حتى
ينقضي الخيار وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي، وبه قال أبو حنيفة إذا كان الخيار لهما أو
للبائع وإن كان للمشتري خرج عن ملك البائع فلم يدخل في ملك المشتري لأن البيع الذي فيه الخيار
27

عقد قاصر فلم ينقل الملك كالهبة قبل القبض (والقول الثالث) للشافعي ان الملك موقوف مراعى فإن
امضيا البيع تبينا ان الملك للمشتري وإلا تبينا انه لم ينتقل عن البائع
28

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من باع عبدا وله مال فماله للبائع الا ان يشترطه المبتاع " رواه مسلم وقوله
" من باع نخلا بعيد أن تؤبر فثمرته للبائع الا ان يشترطه المبتاع " متفق عليه فجعله للمبتاع بمجرد اشتراطه
29

وهو عام في كل بيع ولأنه بيع صحيح فنقل الملك عقيبه كالذي لاخيار له ولان البيع تمليك بدليل
قوله ملكتك فيثبت له الملك كسائر البيع، يحققه ان التمليك يدل على نقل الملك إلى المشتري ويقتضيه
30

لفظه والشرع قد اعتبره وقضى بصحته فيجب أن يعتبره فيما يقتضيه يدل عليه لفظه، وثبوت الخيار
فيه لا ينافيه كما لو باع عرضا بعرض فوجد كل واحد منهما بما اشتراه عيبا، وقولهم انه قاصر غير صحيح
31

وجواز فسخه لا يوجب قصوره ولا يمنع نقل الملك كبيع المعيب وامتناع التصرف إنما كان لأجل حق
الغير فلا يمنع ثبوت الملك كالمرهون والمبيع قبل القبض، وقولهم إنه يخرج من ملك البائع ولا يدخل
في ملك المشتري لا يصح لأنه يفضي إلى وجود ملك لا مالك له وهو محال ويفضي أيضا إلى ثبوت
32

الملك للبائع في الثمن من غير حصول عوضه للمشتري أو إلى نقل ملكه عن المبيع من غير ثبوته في
عوضه وكون العقد معاوضة يأبى ذلك، وقول أصحاب الشافعي ان الملك موقوف ان امضيا البيع تبينا
انه انتقل وإلا فلا غير صحيح أيضا، فإن انتقال الملك إنما ينبني على سببه الناقل له وهو البيع وذلك
33

لا يختلف بامضائه وفسخه فإن امضاءه ليس من المقتضي ولا شرطا فيه إذ لو كان كذلك لما ثبت الملك
قبله والفسخ ليس بمانع فإن المنع لا يتقدم المانع كما أن الحكم لا يسبق سببه ولا شرطه ولان البيع
34

مع الخيار سبب يثبت الملك عقيبه فيما إذا لم يفسخ فوجب ان يثبته وان فسخ كبيع المعيب وهذا ظاهر إن شاء الله
(فصل) وما يحصل من غلات المبيع ونمائه المنفصل في مدة الخيار فهو للمشتري امضيا العقد
35

أو فسخاه، قال أحمد فيمن اشترى عبدا فوهب له مال قبل التفرق ثم اختار البائع العبد فالمال للمشتري
وقال الشافعي ان امضيا العقد وقلنا الملك للمشتري أو موقوف فالنماء المنفصل له وان قلنا الملك للبائع
36

فالنماء له، وان فسخا العقد وقلنا الملك للبائع أو موقوف فالنماء له وإلا فهو للمشتري ولنا قول النبي صلى الله
عليه وسلم " الخراج بالضمان " قال الترمذي هذا حديث صحيح. وهذا من ضمان المشتري فيجب أن
37

يكون خراجه له ولان الملك ينتقل بالبيع على ما ذكرنا فيجب أن يكون نماؤه له كما بعد انقضاء الخيار
ويتخرج أن يكون النماء المنفصل للبائع إذا فسخا العقد بناء على الرواية التي قلنا إن الملك لا ينتقل
فأما النماء المتصل فهو تابع للمبيع امضيا العقد أو فسخاه كما يتبعه في الرد بالعيب والمقايلة
38

(فصل) وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه ولم يكن مكيلا ولا موزونا فإن تلف أو نقص أو
حدث به عيب في مدة الخيار فهو من ضمانه لأنه ملكه وغلته له فكان من ضمانه كما بعد انقضاء الخيار
ومؤنته عليه، وإن كان عبدا فهل هلال شوال ففطرته عليه لذلك فإن اشترى حاملا فولدت عنده في
39

مدة الخيار ثم ردها على البائع لزمه رد ولدها لأنه مبيع حدثت فيه زيادة متصلة فلزمه رده بزيادته كما
لو اشترى عبدين فسمن أحدهما عنده، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يرد الولد لأن الحمل لاحكم له
40

لأنه جزء متصل بالام فلم يأخذ قسطا من الثمن كأطرافها ولنا ان كل ما يقسط عليه الثمن إذا كان منفصلا
يقسط عليه إذا كان متصلا كاللبن وما قالوه يبطل بالجزء المشاع كالثلث والربع. والحكم في الأصل
41

ممنوع ثم يفارق الحمل الأطراف لأنه يؤول إلى الانفصال وينتفع به منفصلا ويصح افراده بالعتق
والوصية به وله ويرث إن كان من أهل الميراث ويفرد بالدية ويرثها ورثته. ولا يصح قولهم انه لا حكم
للحمل لهذه الأحكام وغيرها مما ذكرنا في غير هذا الموضع
42

(فصل) وان تصرف أحد المتبايعين في مدة الخيار في المبيع تصرفا ينتقل المبيع كالمبيع والهبة
والوقف أو يشغله كالإجارة والتزويج والرهن والكتابة ونحوها لم يصح تصرفه الا العتق سواء وجد
43

من البائع أو المشتري لأن البائع تصرف في غير ملكه والمشتري يسقط حق البائع من الخيار واسترجاع
المبيع فلم يصح تصرفه فيه كالتصرف في الرهن، الا أن يكون الخيار للمشتري وحده فينفذ تصرفه ويبطل
44

خياره لأنه لا حق لغيره فيه وثبوت الخيار لا يمنع تصرفه فيه كالمعيب. قال أحمد إذا اشترط الخيار فباعه قبل
ذلك بربح فالربح للمبتاع لأنه قد وجب عليه حين عرضه يعني بطل خياره ولزمه وهذا والله أعلم فيما إذا اشترط
45

الخيار له وحده كذلك إذا قلنا إن البيع لا ينقل الملك وكان الخيار لهما أو للبائع وحده فتصرف فيه البائع
نفذ تصرفه وصح لأنه ملكه وله ابطال خيار غيره. وقال ابن أبي موسى في تصرف المشتري في المبيع
46

قبل التفرق ببيع أو هبة روايتان (إحداهما) لا يصح لأن في صحته اسقاط حق البائع من الخيار (والثانية)
هو موقوف فإن تفرقا قبل الفسخ صح وان اختار البائع الفسخ بطل بيع المشتري. قال أحمد في رواية أبي
47

طالب إذا اشترى ثوبا بشرط فباعه بربح قبل انقضاء الشرط يرده إلى صاحبه ان طلبه فإن لم يقدر على
رده فللبائع قيمة الثوب لأنه استهلك ثوبه أو يصالحه. فقوله يرده ان طلبه يدل على أن وجوب رده
48

مشروط بطلبه وقد روى البخاري عن ابن عمر أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فكان على
بكر صعب و كان يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أبوه لا يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم أحد فقال له النبي
49

صلى الله عليه وسلم " بعنيه " فقال عمر هو لك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد
الله بن عمر فاصنع به ما شئت " وهذا يدل على أن التصرف قبل تفرق جائز وذكر أصحابنا في صحة تصرف
50

المشتري بالوقف وجها آخر لأنه تصرف يبطل الشفعة فأشبه العتق والصحيح أنه لا يصح شئ من
هذه التصرفات لأن المبيع يتعلق به حق البائع يمنع جواز التصرف فمنع صحته كالرهن. ويفارق
51

الوقف العتق لأن العتق مبني على التغليب والسراية بخلاف الوقف وأما حديث ابن عمر فليس فيه
تصريح بالبيع فإن قول عمر هو لك يحتمل أنه أراد هبة وهو الظاهر فإنه لم يذكر ثمنا والهبة لا يثبت
52

فيها الخيار. وقال الشافعي تصرف البائع في المبيع بالبيع والهبة ونحوهما صحيح لأنه اما أن يكون على
ملكه فيملك بالعقد عليه واما أن يكون للمشتري والبائع يملك فسخه فجعل البيع والهبة فسخا واما
تصرف المشتري فلا يصح إذا قلنا لغيره فإذا قلنا الملك له ففي صحة تصرفه وجهان
53

ولنا على ابطال تصرف البائع أنه تصرف في ملك غيره بغيره ولاية شرعية ولا نيابة عرفية فلم
يصح كما بعد الخيار وقولهم يملك الفسخ قلنا الا ان ابتداء التصرف لم يصادف ملكه فلم يصح كتصرف
الأب فيما وهب لولده قبل استرجاعه وتصرف الشفيع في الشقص المشفوع قبل أخذه
54

(فصل) وان تصرف المشتري باذن البائع بوكالة المشترى صح التصرف وانقطع
خيارهما لأن ذلك يدل على تراضيهما بامضاء البيع فيقطع به خيارهما كما لو تخايرا ويصح تصرفهما لأن
قطع الخيار حصل بالاذن في البيع فيقع البيع بعد انقطاع الخيار (وان تصرف البائع باذن المشتري
احتمل ان يقع صحيحا لأن ذلك دليل على فسخ البيع أو استرجاع المبيع فيقع تصرفه بعد استرجاعه
55

ويحتمل أن لا يصح لأن البائع لا يحتاج إلى اذن المشتري في استرجاع المبيع فيصير كتصرفه بغير اذن
المشتري وقد ذكرنا انه لا يصح كذا ههنا. وكل موضع قلنا إن تصرف البائع لا ينفذ ولكن ينفسخ
به البيع فإنه متى أعاد ذلك التصرف أو تصرف تصرفا سواء صح لأنه بفسخ البيع عاد إليه الملك فصح تصرفه فيه
كما لو فسخ البيع بصريح قوله ثم تصرف فيه، وكذلك أن تقدم تصرفه ما ينفسخ به البيع صح تصرفه لما ذكرنا
56

(فصل) وإن تصرف أحدهما بالعتق نفذ عتق من حكمنا بالملك له، وظاهر المذهب أن الملك
للمشتري فينفذ عتقه سواء كان الخير لهما أو لأحدهما لأنه عتق من مالك جائز التصرف فنفذ كما بعد
المدة وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا عتق فيما لا يملك ابن آدم " يدل بمفهومه على أنه ينفذ في الملك وملك البائع
للفسخ لا يمنع نفوذ كما لو باع عبدا بجارية معينة فإن مشتري العبد ينفذ عتقه مع أن للبائع الفسخ
57

ولو وهب رجل ابنه عبدا فأعتقه نفذ عتقه مع ملك الأب لاسترجاعه، ولا ينفذ عتق البائع في ظاهر
المذهب، وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك ينفذ عتقه لأنه ملكه وإن كان الملك انتقل فإنه يسترجعه
بالعتق. ولنا أنه اعتاق من غير مالك فلم ينفذ كعتق الأب عبد ابنه الذي وهبه إياه، وقد دللنا على
أن الملك انتقل إلى المشتري، وان قلنا بالرواية الأخرى وان الملك لم ينتقل إلى المشتري نفذ عتق
58

البائع دون المشتري، وأن أعتق البائع والمشتري جميعا فإن تقدم عتق المشتري فالحكم على ما ذكرنا
وان تقدم عتق البائع فينبغي أن لا ينفذ عتق واحد منهما لأن البائع لم ينفذ عتقه لكونه أعتق غير
مملوكه ولكن حصل باعتاقه فسخ البيع واسترجاع العبد فلم ينفذ عتق المشتري ومتى أعاد البائع الاعتاق
مرة ثانية نفذ اعتاقه لأنه عاد البيع فأشبه ما لو استرجعه بصريح قوله، ولو اشترى من يعتق عليه
59

جرى مجرى اعتاقه بصريح قوله وقد ذكرنا حكمه. وان باع عبدا بجارية بشرط الخيار فاعتقهما نفذ عتق
الأمة دون العبد وان عتق أحدهما ثم أعتق الآخر نظرت فإن أعتق الأمة أولا نفذ عتقها وبطل
خياره ولم ينفذ عتق العبد وان أعتق العبد أولا انفسخ البيع ورجع إليه العبد ولم ينفذ اعتاقه ولا ينفذ
عتق الأمة لأنها خرجت بالفسخ عن ملكه وعادت إلى سيدها البائع لها
60

(فصل) إذا قال لعبده إذا بعتك فأنت حر ثم باعه صار حرا نص عليه أحمد، وبه قال الحسن
وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وسواء شرطا الخيار أو لم يشرطاه وقال أبو حنيفة والثوري لا يعتق
لأنه إذا تم بيعه زال ملكه عنه فلم ينفذ اعتاقه له
ولنا أن زمن انتقال الملك زمن الحرية لأن البيع سبب لنقل الملك وشرط للحرية فيجب تغليب
61

الحرية كما لو قال لعبده إذا مت فأنت حر، ولأنه علق حريته على فعله للبيع والصادر منه في البيع إنما
هو الايجاب فمتى قال للمشتري بعتك فقد وجد شرط الحرية فيعتق قبل قبول المشتري وعلله القاضي
بان الخيار ثابت في كل بيع فلا ينقطع تصرفه فيه فعلى هذا لو تخايرا ثم باعه لم يعتق ولا يصح هذا
التعليل على مذهبنا فإننا ذكرنا أن البائع لو أعتق في مدة الخيار لم ينفذ اعتاقه
62

(فصل) ولا يجوز للمشتري وطئ الجارية في مدة الخيار إذا كان الخيار لهما أو للبائع وحده لأنه
يتعلق بها حق البائع فلم يبح له وطؤها كالمرهونة ولا نعلم في هذا اختلافا، فإن وطئها فلا حد عليه لأن
الحد يدرأ بشبهة الملك فبحقيقته أولى ولا مهر لها لأنها مملوكته، وان علقت منه فالولد حر يلحقه نسبه لأنه من أمته، ولا يلزمه قيمته وتصير أم ولد له، وان فسخ البائع البيع رجع بقيمتها لأنه تعذر
63

الفسخ فيها، ولا يرجع بقيمة ولدها لأنه حدث في ملك المشتري، وان قلنا إن الملك لا ينتقل إلى
المشتري فلا حد عليه أيضا لأن له فيها شبهة لوجود سبب نقل الملك إليه واختلاف أهل العلم في
ثبوت الملك له، والحد يدرأ بالشبهات وعليه المهر وقيمة الولد يكون حكمها حكم نمائها. وان علم التحريم
وان ملكه غير ثابت فولده رقيق، وأما البائع فلا يحل له الوطئ قبل فسخ البيع، وقال بعض أصحاب
64

الشافعي له وطؤها لأن البيع ينفسخ بوطئه فإن كان الملك انتقل رجعت إليه وان لم يكن انتقل انقطع
حق المشتري منها فيكون واطئا لمملوكته التي لاحق لغيره فيها
ولنا ان الملك انتقل عنه فلم يحل له وطؤها لقول الله تعالى (الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم
فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) ولان ابتداء الوطئ يقع في غير ملكه
65

فيكون حراما، ولو انفسخ البيع قبل وطئه لم تحل له حتى يستبرئها ولا يلزمه حد، وبهذا قال أبو حنيفة
ومالك والشافعي، وقال بعض أصحابنا ان علم التحريم وان ملكه قد زال ولا ينفسخ بالوطئ فعليه
الحد وذكر ان أحمد نص عليه لأن وطأه لم يصادف ملكا ولا شبهة ملك
ولنا أن ملكه يحصل بابتداء وطئه فيحصل تمام الوطئ في ملكه مع اختلاف العلماء في كون الملك
66

له وحل الوطئ له ولا يجب الحد مع واحدة من هذه الشبهات فكيف إذا اجتمعت؟ مع أنه يحتمل أن يحصل
الفسخ بالملابسة قبل الوطئ فيكون الملك قد رجع إليه قبل وطئه، ولهذا قال أحمد في المشتري إنها قد
وجبت عليه حين وضع يده عليها فيما إذا مشطها أو خضبها أو حفها فبوضع يده عليها للجماع ولمس
فرجها بفرجه أولى فعلى هذا يكون ولده منها حرا ونسبه لا حق به ولا يلزمه قيمته ولا مهر عليه
67

وتصير الأمة أم ولده، وقال أصحابنا ان علم التحريم فولده رقيق ولا يلحقه نسبه فإن لم يعلم لحقه
النسب وولده حر وعليه قيمته يوم الولادة وعليه المهر ولا تصير الأمة أم ولده لأنه وطئها في غير ملكه
(فصل) ولا بأس بنقد الثمن وقبض المبيع في مدة الخيار وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وكرهه
مالك قال لأنه في معنى بيع وسلف إذا أقبضه الثمن ثم تفاسخا البيع صار كأنه أقرضه إياه. ولنا ان
هذا حكم منم أحكام البيع فجاز في مدة الخيار كالإجارة وما ذكره لا يصح لأننا لم نجز له التصرف فيه
68

(فصل) قول الخرقي " أو مات " الظاهر أنه أراد العبد ورد الضمير إليه وهو في معنى قوله أو
تلفت السلعة، ويحتمل أنه رد الضمير إلى المشتري وأراد إذا مات المشتري بطل الخيار لأن موت
العبد قد تناوله بقوله أو تلفت السلعة والحكم في موت البائع والمشتري واحد، والمذهب أن خيار الميت
منهما يبطل بموته ويبقى خيار الآخر بحاله إلا أن يكون الميت قد طالب بالفسخ قبل موته فيه فيكون
69

لورثته، وهو قول الثوري وأبي حنيفة، ويتخرج أن الخيار لا يبطل وينتقل إلى ورثته لأنه حق مالي فينتقل
إلى الوارث كالأجل وخيار الرد بالعيب ولأنه حق فسخ للبيع فينتقل إلى الوارث كالرد بالعيب والفسخ
بالتحالف وهذا قول مالك والشافعي. ولنا أنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة
70

{مسألة} قال (وإذا تفرقا من غير فسخ لم يكن لأحدهما رده الا بعيب أو خيار)
لا خلاف في أن البيع يلزم بعد التفرق ما لم يكن سبب يقتضي جوازه وقد دل عليه قول النبي صلى
الله عليه وسلم " وان تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " وقوله " البيعان بالخيار
حتى يتفرقا " جعل التفرق غاية للخيار وما بعد الغاية يجب أن يكون مخالفا لما قبلها ألا أن يجد بالسلعة
عيبا فيردها به أو يكون قد شرط الخيار لنفسه مدة معلومة فيملك الرد أيضا. ولا خلاف بين أهل العلم
71

في ثبوت الرد بهذين الامرين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون على شروطهم " استشهد
به البخاري وفي معنى العيب أن يدلس المبيع بما يختلف به الثمن أو يشترط في المبيع صفة يختلف بها
الثمن فيتبين بخلافه فيثبت له الخيار أيضا ويقرب منه ما لو أخبره في المرابحة في الثمن أنه حال فبان
مؤجلا ونحو هذا ونذكر هذا في مواضعه.
72

(فصل) ولو ألحقا في العقد خيارا بعد لزومه لم يلحقه، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة
وأصحابه يلحقه لأن لهما فسخ العقد فكان لهما إلحاق الخيار به كحالة المجلس، ولنا أنه عقد لازم فلم
يصر جائزا بقولهما كالنكاح وفارق حال المجلس لأنه جائز
73

(فصل) وكلام الخرقي يحتمل أن يريد به بيوع الأعيان المرئية فلا يكون فيه تعرض لبيع الغائب
ويحتمل أنه أراد كل ما يسمى خيارا فيدخل خيار الرؤية وغيره وفي بيع الغائب روايتان أظهرهما
أن الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته لا يصح بيعه. وبهذا قال الشعبي والنخعي والحسن والأوزاعي
ومالك وإسحاق وهو أحد قولي الشافعي، وفي رواية أخرى أنه يصح وهو مذهب أبي حنيفة والقول
74

الثاني للشافعي، وهل يثبت للمشتري خيار الرؤية؟ على روايتين أشهرهما ثبوته وهو قول أبي حنيفة. واحتج
من أجازه بعموم قول الله تعالى (وأحل الله البيع) وروي عن عثمان وطلحة أنهما تبايعا داريهما بالكوفة
والأخرى بالمدينة فقيل لعثمان إنك قد غبنت فقال ما أبالي لأني بعت ما لم أره، وقيل لطلحة فقال لي
الخيار لأنني اشتريت ما لم أره، فتحاكما إلى جبير فجعل الخيار لطلحة وهذا اتفاق منهم على صحة البيع
75

ولأنه عقد معاوضة فلم تفتقر صحته إلى رؤية المعقود عليه كالنكاح. ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
نهى عن بيع الغرر رواه مسلم ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له فلم يصح كبيع النوى في التمر ولأنه نوع
بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم والآية مخصوصة بالأصل الذي ذكرناه. وأما حديث عثمان
وطلحة فيحتمل أنهما تبايعا بالصفة على أنه قول صحابي وفي كونه حجة خلاف ولا يعارض به حديث
76

رسول الله صلى الله عليه وسلم والنكاح لا يقصد منه المعاوضة ولا يفسد بفساد العوض ولا بترك ذكره ولا يدخله
شئ من الخيارات، وفي اشتراط الرؤية مشقة على المخدرات واضرار بهن على أن الصفات التي تعلم
بالرؤية ليست هي المقصودة بالنكاح فلا يضر الجهل بها بخلاف البيع، فإن قيل فقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه " والخيار لا يثبت الا في عقد صحيح: قلنا
77

هذا يرويه عمر بن إبراهيم الكردي وهو متروك الحديث ويحتمل أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه.
إذا ثبت هذا فإنه يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع كداخل الثوب وشعر الجارية ونحوهما فلو باع
ثوبا مطويا أو عينا حاضرة لا يشاهد منها ما يختلف الثمن لأجله كان كبيع الغائب، وان حكمنا بالصحة
فللمشتري الخيار عند رؤية المبيع في الفسخ والامضاء ويكون على الفور فإن اختار الفسخ فله ذلك وان لم
78

يفسخ لزم العقد لأن الخيار خيار الرؤية فوجب أن يكون عندها، وقيل يتقيد بالمجلس الذي وجدت
الرؤية فيه لأنه خيار ثبت بمقتضى العقد من غير شرط فتقيد بالمجلس كخيار المجلس، وان اختار الفسخ
قبل الرؤية انفسخ لأن العقد غير لازم في حقه فملك الفسخ كحالة الرؤية وإن اختار امضاء العقد
لم يلزم لأن الخيار يتعلق بالرؤية ولأنه يؤدي إلى إلزام العقد على المجهول فيفضي إلى الضرر، وكذلك
79

لو تبايعا بشرط أن لا يثبت الخيار للمشتري لم يصح الشرط لذلك وهل يفسد البيع بهذا الشرط؟ على
وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع.
(فصل) ويعتبر لصحة العقد الرؤية من البائع والمشتري جميعا، وان قلنا بصحة البيع مع عدم
الرؤية فباع ما لم يره فله الخيار عند الرؤية وان لم يره المشتري أيضا فلكل واحد منهما الخيار وبهذا قال
80

الشافعي، وقال أبو حنيفة ليس له الخيار لحديث عثمان وطلحة ولأننا لو جعلنا له الخيار لثبت لتوهم الزيادة
والزيادة في المبيع لا تثبت الخيار، وكذلك لو باع شيئا على أنه معيب فبان غير معيب لم يثبت له الخيار
ولنا انه جاهل بصفة المعقود عليه فأشبه المشتري فأما الخبر فإنه قول جبير وطلحة وقد خالفهما عثمان
وقوله أولى لأن البيع يعتبر فيه الرضى منهما فتعتبر الرؤية التي هي مظنة الرضي منهما
81

(فصل) وإذا وصف المبيع للمشتري فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم صح بيعه في
ظاهر المذهب وهو قول أكثر أهل العلم وعن أحمد لا يصح حتى يراه لأن الصفة لا تحصل بها معرفة
المبيع فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه، ولنا أنه بيع بالصفة فصح كالسلم ولا نسلم انه لا تحصل
به معرفة المبيع فإنها تحصل بالصفات الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهرا وهذا يكفي بدليل انه
82

يكفي في السلم وانه لا يعتبر في الرؤية الاطلاع على الصفات الخفية. وأما مالا يصح السلم فيه فلا يصح
بيعه بالصفة لأنه لا يمكن ضبطه بها، إذا ثبت هذا فإنه متى وجده على الصفة لم يكن له الفسخ وبهذا قال
محمد بن سيرين وأيوب ومالك والعنبري وإسحاق وأبو ثور وابن المندر، وفال الثوري وأبو حنيفة
وأصحابه له الخيار بكل حال لأنه يسمى بيع خيار الرؤية ولان الرؤية من تمام العقد فأشبه غير
83

الموصوف، ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين، ولنا انه سلم له المعقود عليه بصفاته فلم يكن له الخيار
كالمسلم فيه ولأنه مبيع موصوف فلم يمكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال كالسلم، وقولهم انه يسمى
بيع خيار الرؤية لا نعرف صحته فإن ثبت فيحتمل ان يسميه من يرى ثبوت الخيار ولا يحتج به على
غيره، فاما ان وجده بخلاف الصفة فله الخيار ويسمى خيار الخلف في الصفة لأنه وجد الموصوف
84

بخلاف الصفة فلم يلزمه كالسلم، وان اختلفا فقال البائع لم تختلف الصفة وقال المشتري قد اختلف فالقول
قول المشتري لأن الأصل براءة ذمته من الثمن فلا يلزمه ما لم يقر به أو يثبت ببينة أو ما يقوم مقامها
(فصل) والبيع بالصفة نوعان (أحدهما) بيع عين معينة مثل ان يقول بعتك عبدي التركي ويذكر
سائر صفاته فهذا ينفسخ العقد عليه برده على البائع وتلفه قبل قبضه لكون المعقود عليه معينا فيزول العقد
بزوال محله ويجوز التفرق قبل قبض ثمنه وقبضه كبيع الحاضر
85

(الثاني) بيع موصوف غير معين مثل أن يقول بعتك عبدا تركيا ثم يستقصى صفات السلم فهذا
في معنى السلم، فمتى سلم إليه عبدا على غير ما وصف فرده أو على ما وصف فأبد له لم يفسد العقد لأن
العقد لم يقع على غير هذا فلم ينفسخ العقد برده كما لو سلم إليه في السلم غير ما وصف له فرده، ولا يجوز
التفرق عن مجلس العقد قبل قبض المبيع أو قبض ثمنه وهذا قول الشافعي لأنه بيع في الذمة فلم يجز
86

التفرق فيه قبل قبض أحد العوضين كالسلم، وقال القاضي يجوز التفرق فيه قبل القبض لأنه بيع حال
فجاز التفرق فيه قبل القبض كبيع العين
(فصل) إذا رأيا المبيع ثم عقدا البيع بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه جاز في قول أكثر أهل
العلم، وحكي عن أحمد رواية أخرى لا يجوز حتى يرياها حالة العقد وحكي ذلك عن الحكم وحماد لأن
87

ما كان شرطا! في صحة العقد يحب أن يكون موجودا حال العقد كالشهادة في النكاح. ولنا أنه معلوم
عندهما أشبه ما لو شاهداه حالة العقد والشرط إنما هو العلم، وإنما الرؤية طريق للعلم، ولهذا اكتفى بالصفة
المحصلة للعلم والشهادة في النكاح تراد لحل العقد والاستيثاق عليه فلهذا اشترطت حال العقد ويقرر
ما ذكرناه ما لو رأيا دارا ووقفا في بيت منها أو أرضا ووقفا في طريقها وتبايعاها صح بلا خلاف مع عدم
88

المشاهدة للكل في الحال، ولو كانت الرؤية المشروطة للبيع مشروطة حال العقد لاشترط رؤية جميعه
ومتى وجد المبيع بحاله لم يتغير لزم البيع وإن كان ناقصا ثبت له الخيار لأن ذلك كحدوث العيب، وإن
اختلفا في التغير فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه يلزمه الثمن فلا يلزمه ما لم يعترف به، فأما إن عقد
البيع بعد رؤية المبيع بمدة يتحقق فيها فساد المبيع لم يصح البيع لأنه مما لا يصح بيعه، وإن لم يتغير
فيها لم يصح بيعه لأنه مجهول وكذلك إن كان الظاهر تغيره، فأمال إن كان يحتمل الغير وعدمه وليس
89

الظاهر تغيره صح بيعه لأن الأصل السلامة ولم يعارضه ظاهر فصح بيعه كما لو كانت الغيبة يسيرة
وهذا ظاهر مذهب الشافعي.
(فصل) ويثبت الخيار في البيع للغبن في مواضع (أحدهما) تلقي الركبان إذا تلقاهم فاشترى منهم
وباعهم وغبنهم (الثاني) بيع النجس ويذكران في مواضعهما (الثالث) المسترسل إذا غبن غبنا يخرج عن
العادة فله الخيار بين الفسخ والامضاء، وبهذا قال مالك وقال ابن أبي موسى، وقد قيل قد لزمه البيع
90

وليس له فسخه وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن نقصان قيمة السلعة مع سلامتها لا يمنع لزوم العقد
كبيع غير المسترسل وكالغبن اليسير
ولنا انه غبن حصل لجهله بالمبيع الخيار كالغبن في تقلي الركبان، فاما غير المسترسل فإنه
دخل على بصيرة بالغبن فهو كالعالم بالعيب وكذا لو استعجل فجهل ما لو تثبت لعلمه لم يكن له خيار لأنه انبنى
على تقصيره وتفريطه. والمسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة، قال أحمد المسترسل الذي
91

لا يحسن أن يماكس، وفي لفظ الذي لا يماكس فكأنه استرسل إلى البائع فأخذ ما أعطاه من غير مماكسة ولا
معرفة بغبنه، فأما العالم بذلك والذي لو توقف لعرف إذا استعجل في الحال فغبن فلا خيار لهما. ولا
تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد. وحده أبو بكر في التنبيه وابن أبي موسى في الارشاد بالثلث وهو
قول مالك لأن الثلث كثير بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " والثلث كثير " وقيل بالسدس، وقيل مالا يتغابن
الناس به في العادة لأن مالا يرد الشرع بتحديده يرجع فيه إلى العرف
92

(فصل) وإذا وقع البيع على غير معين كقفيز من صبرة ورطل زيت من دن فمقتضى قول الخرقي
إذا تفرقا من غير فسخ لم يكن لأحدهما رده إلا بعيب أو خيار لأن البيع ههنا يلزم بالتفرق سواء تقابضا
أو لم يتقابضا، وقال القاضي البيع لا يلزم إلا بالقبض كالمكيل والموزون وهذا تصريح بأنه لا يلزم
قبل قبضه، وذكر في موضع آخر من اشترى قفيزين من صبرتين فتلفت إحداهما قبل القبض بطل العقد
في التالف دون الباقي رواية واحدة، ولا خيار للبائع. وهذا يدل على اللزوم في حق البائع قبل القبض
93

فإنه لو كان جائزا كان له الخيار سواء تلفت إحداهما أو لم تتلف، ووجه الجواز أنه مبيع لا يملك بيعه
ولا التصرف فيه فكان البيع فيه جائزا كما قبل التفرق، ولأنه لو تلف لكان من ضمان البائع. ووجه
الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " وما
ذكرناه للقول الآخر ينتقض ببيع ما تقدمت رؤيته وبيع الموصوف والسلم فإن ذلك لازم مع ما ذكرناه
وكذلك سائر المبيع على إحدى الروايتين
94

{مسألة} قال (والخيار يجوز أكثر من ثلاث)
يعني ثلاث ليال بأيامها وإنما ذكر الليالي لأن التاريخ يغلب فيه التأنيث قال الله تعالى (واعدنا
موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) وقال تعالى (يتربصن بأنفسهن أربعة
أشهر وعشرا) وفي حديث حبان " ولك الخيار ثلاثا " ويجوز اشتراط الخيار ما يتفقان عليه من المدة
95

المعلومة قلت مدته أو كثرت، وبذلك قال أبو يوسف ومحمد وابن المنذر، وحكي ذلك عن الحسن بن
صالح والعنبري وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور، وأجازه مالك فيما زاد على الثلاث بقدر الحاجة مثل
قرية لا يصل إليها في أقل من أربعة أيام لأن الخيار لحاجته فيقدر بها، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز
أكثر من ثلاث لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله صلى الله صلى الله
عليه وسلم لحبان جعل له الخيار ثلاثة أيام ان رضي أخذ وان سخط ترك. ولان الخيار ينافي مقتضى البيع
96

لأنه يمنع الملك واللزوم واطلاق التصرف، وإنما جاز لموضع الحاجة فجاز القليل منه وآخر حد القلة
ثلاث قال الله تعالى (فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام - بعد قوله - فيأخذكم عذاب قريب)
ولنا أنه حق يعتمد الشرط فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل أو نقول مدة ملحقه بالعقد
فكانت إلى تقدير المتعاقدين كالأجل ولا يثبت عندنا ما روى عن عمر رضي الله عنه وقد روي عن
أنس خلافه، وتقدير مالك بالحاجة لا يصح فإن الحاجة لا يمكن ربط الحكم بها لخفائها واختلافها
وإنما يربط بمظنتها وهو الاقدام فإنه يصلح أن يكون ضابطا وربط الحكم به فيما دون الثلاث وفي السلم
97

والأجل، وقول الآخرين إنه ينافي مقتضى البيع لا يصح فإن مقتضى البيع نقل الملك والخيار لا ينافيه
وإن سلمنا ذلك لكن متى خولف الأصل لمعنى في محل وجب تعدية الحكم لتعدي ذلك المعنى
(فصل) ويجوز شرط الخيار لكل واحد من المتعاقدين ويجوز لأحدهما دون الآخر ويجوز
أن يشرطا لأحدهما مدة وللآخر دونها لأن ذلك حقهما وإنما جوز رفقا بهما فكيفما تراضيا به جاز،
ولو اشترى شيئين وشرط الخيار في أحدهما بعينه دون الاخر صح لأن أكثر ما فيه أنه جمع بين مبيع
فيه الخيار ومبيع لاخيار فيه وذلك جائز بالقياس على شراء ما فيه شفعة ومالا شفعة فيه فإنه يصح
98

ويحصل كل واحد منهما مبيعا بقسطه من الثمن فإن فسخ البيع مما فيه الخيار رجع بقسطه من الثمن كما لو
وجد أحدهما معيبا فرده، وإن شرط الخيار في أحدهما لا بعينه أو شرط الخيار لاحد المتعاقدين
لا بعينه لم يصح لأنه مجهول فأشبه ما لو اشترى واحدا من عبدين لا بعينه، ولأنه يفضي إلى التنازع وربما
طلب كل واحد من المتعاقدين ضد ما يطلبه الآخر ويدعي أنني المستحق للخيار أو يطلب من له
الخيار رد أحد المبيعين ويقول الآخر ليس هذا الذي شرطت لك الخيار فيه، ويحتمل أن لا يصح
شرط الخيار في أحد المبيعين بعينه كما لا يصح بيعه بقسطه من الثمن وهذا الفصل كله مذهب الشافعي
99

(فصل) وإن شرط الخيار لأجنبي صح وكان اشتراطا لنفسه وتوكيلا لغيره وهذا قول أبي
حنيفة ومالك وللشافعي فيه قولان (أحدهما) لا يصح وكذلك قال القاضي إذا أطلق الخيار لفلان
أو قال لفلان دوني لم يصح لأن الخيار شرط لتحصيل الحظ لكل واحد من المتعاقدين بنظره فلا يكون
لمن لاحظ له فيه وإن جعل الأجنبي وكيلا صح
ولنا أن الخيار يعتمد شرطهما ويفوض إليهما وقد أمكن تصحيح شرطهما وتنفيذ تصرفهما على
الوجه الذي ذكرناه فلا يجوز الغاؤه مع امكان تصحيحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون على شروطهم " (1) رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة بسند صحيح والثاني عن أنس وعائشة بلفظ " عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك " وصححوه أيضا (*)
100

فعلى هذا يكون لكل واحد من المشترط ووكيله الذي شرط الخيار له الفسخ، ولو كان المبيع عبدا
فشرط الخيار له صح سواء شرطه له البائع أو المشتري لأنه بمنزلة الأجنبي، وإن كان العاقد وكيلا فشرط
الخيار لنفسه صح فإن النظر في تحصيل الحظ مفوض إليه، وإن شرطه للمالك صح لأنه هو المالك
والحظ له، وإن شرطه لأجنبي لم يصح لأنه ليس له أن يوكل غيره ويحتمل الجواز على الرواية
التي تقول للوكيل التوكيل
(فصل) ولو قال بعتك على أن استأمر فلانا وحدد ذلك بوقت معلوم فهو خيار صحيح وله الفسخ
101

قبل أن يستأمره لأنا جعلنا ذلك كناية عن الخيار وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وإن لم يضبطه
بمدة معلومة فهو خيار مجهول حكمه حكمه
(فصل) وإن شرط الخيار يوما أو ساعات معلومة اعتبر ابتداء مدة الخيار من حين العقد في أحد
الوجهين، والآخر من حين التفرق لأن الخيار ثابت في المجلس حكما فلا حاجة إلى اثباته بالشرط،
ولان حالة المجلس كحالة العقد لأن لهما فيه الزيادة ولا نقصان فكان كحالة العقد في ابتداء مدة الخيار
بعد انقضائه، والأول أصح لأنها مدة ملحقة بالعقد فكان ابتداؤها منه كالأجل، ولان الاشتراط
102

سبب ثبوت الخيار فيجب أن يتعقبه حكمه كالملك في البيع، ولأننا لو جعلنا ابتداءه من حين التفرق
أدى إلى جهالته لأننا لا نعلم متى يتفرقان فلا نعلم متى ابتداؤه ولا متى انتهاؤه ولا يمنع ثبوت الحكم
بسببين كتحريم الوطئ بالصيام والاحرام والظهار، وعلى هذا لو شرطا ابتداءه من حين التفرق لم
يصح لذلك إلا على الرواية التي تقول بصحة الخيار المجهول، وإن قلنا ابتداؤه من حين التفرق
فشرطا ثبوته من حين العقد صح لأنه معلوم الابتداء والانتهاء، ويحتمل إن لا يصح لأن الخيار في
المجلس يغني عن خيار آخر فيمنع ثبوته، والأول أولى ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كما ذكرنا
103

(فصل) وإن شرطا الخيار إلى الليل أو الغد لم يدخل الليل والغد في مدة الخيار وهذا مذهب
الشافعي، ويتخرج أن يدخل وهو مذهب أبي حنيفة لأن إلى تستعمل بمعنى مع كقوله تعالى (وأيديكم
إلى المرافق - ولا تأكلوا أموالهم إلى (1) أموالكم) والخيار ثابت بيقين فلا نزيله بالشك. ولنا
أن موضوع إلى لانتهاء الغاية فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها كقوله سبحانه (ثم أتموا الصيام إلى الليل)
وكالأجل، ولو قال أنت طالق واحدة إلى ثلاث أوله علي من درهم إلى عشرة لم يدخل الدرهم
المعاشر والطلقة الثالثة، وليس ههنا؟؟ فإن الأول حمل اللفظ على موضوعه فكأن الواضع قال متى
104

سمعتم هذه اللفظة فافهموا منها انتهاء الغاية، وفي المواضع التي استشهدوا بها حملت على معنى مع بدليل
أو لتعذر حملها على موضوعها كما تصرف سائر حروف الصلاة عن موضوعها لدليل، والأصل حملها على
موضوعها ولان الأصل لزوم العقد، وإنما خولف فيما اقتضاه الشرط فيثبت منه وما شككنا
فيه رددناه إلى الأصل.
(فصل) وإن شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو إلى غروبها صح وقال بعض أهل العلم لا يصبح
توقيته بطلوعها لأنها قد تتغيم فلا يعلم وقت طلوعها ولنا أنه تعليق للخيار بأمر ظاهر معلوم فصح
105

كتعليقه بغروبها وطلوع الشمس بروزها من الأفق كما أن غروبها سقوط القرص، ولذلك لو علق
طلاق امرأته أو عتق عبده بطلوع الشمس وقع ببروزها من الأفق، وإن عرض غيم يمنع المعرفة
بطلوعها فالخيار ثابت حتى يتيقن طلوعها كما لو علقه بغروبها فمنع الغيم المعرفة بوقته، ولو جعل الخيار
إلى طلوع الشمس من تحت السحاب أو إلى غيبتها تحته كان خيارا مجهولا لا يصح في الصحيح من المذهب
(فصل) وإذا شرطا الخيار أبدا أو متى شئنا أو قال أحدهما ولي الخيار ولم يذكر مدته أو
شرطاه إلى مدة مجهولة كقدوم زيدا أو هبوب ريح أو نزول مطر أو مشاورة انسان ونحو ذلك لم يصح في
106

الصحيح من المذهب وهذا اختيار القاضي وابن عقيل ومذهب الشافعي، وعن أحمد أنه يصح وهما على
خيارهما أبدا أو يقطعاه أو تنتهي مدته إن كان مشروطا إلى مدة وهو قول ابن شبرمة لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " المسلمون على شروطهم " وقال مالك يصح وتضرب لهما مدة يختبر المبيع في مثلها في
العادة لأن ذلك مقدر في العادة فإذا أطلقا حمل عليه، وقال أبو حنيفة ان أسقطا الشرط قبل مضي
107

الثلاث أو حذفا الزائد عليها وبينا مدته صح لأنهما حذفا المفسد قبل اتصاله بالعقد فوجب أن يصح كما لو لم يشرطاه
ولنا أنها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة كالأجل، ولان اشتراط الخيار أبدا يقتضي المنع
من التصرف على الأبد وذلك ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو قال بعتك بشرط أن لا تتصرف،
وقول مالك إنه يرد إلى العادة لا يصح فإنه لإعادة في الخيار يرجع إليها واشتراطه مع الجهالة نادر،
وقول أبي حنيفة لا يصح فإن المفسد هو الشرط وهو مقترن بالعقد، ولان العقد لا يخلو من أن يكون
صحيحا أو فاسدا فإن كان صحيحا مع الشرط لم يفسد بوجود ما شرطاه فيه وإن كان فاسدا لم ينقلب
108

صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم حذف أحدهما، وعلى قولنا الشرط فاسد هل يفسد به البيع على روايتين
(أحدهما) يفسد وهو مذهب الشافعي لأنه عقد قارنه شرط فاسد فأفسده كنكاح الشغار
والمحلل، ولان البائع إنما رضي ببذله بهذا الثمن مع الخيار في استرجاعه والمشتري إنما رضي ببذل هذا
الثمن فيه مع الخيار في فسخه فلو صححناه لازلنا ملك كل واحد منهما عنه بغير رضاه وألزمناه ما لم يرض
به، ولان الشرط يأخذ قسطا من الثمن فإذا حذفناه وجب رد ما سقط من الثمن من أجله وذلك مجهول
فيكون الثمن مجهولا فيفسد العقد
109

(والثانية) لا يفسد العقد به وهو قول ابن أبي ليلى لحديث بريرة، ولان العقد قد تم بأركانه والشرط
زائد فإذا فسد وزال سقط الفاسد وبقي العقد بركنيه كما لو لم يشترط
(فصل) وان شرطه إلى الحصاد أو الجذاذ احتمل أن يكون كتعليقه على قدوم زيد لأن ذلك
يختلف ويتقدم ويتأخر فكان مجهولا، واحتمل أن يصح لأن ذلك يتقارب في العادة ولا يكثر تفاوته
وان شرطه إلى العطاء وأراد وقت العطاء وكان معلوما صح كما لو شرطه إلى يوم معلوم، وان أراد نفس العطاء فهو مجهول لأنه يختلف
110

(فصل) وان شرط الخيار شهرا يوما يثبت ويوما لا يثبت فقال ابن عقيل يصح في اليوم الأول
لامكانه ويبطل فيما بعده لأنه إذا لزم في اليوم الثاني لم يعد إلى الجواز ويحتمل بطلان الشرط كله لأنه
شرط واحد تناول الخيار في أيام فإذا فسد في بعضه فسد جميعه كما لو شرط إلى الحصاد
(فصل) ويجوز لمن له الخيار لفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه، وبهذا قال مالك والشافعي
وأبو يوسف وزفر، وقال أبو حنيفة ليس له الفسخ الا بحضرة صاحبه لأن العقد تعلق به حق كل واحد
من المتعاقدين فلم يملك أحدهما فسخه بغير حضور صاحبه كالوديعة. ولنا أنه رفع عقد لا يفتقر إلى
111

رضا صاحبه فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق وما قالوه ينتقض بالطلاق، والوديعة لا حق للمودع فيها
ويصح فسخها مع غيبته
(فصل) وإذا انقضت مدة الخيار ولم يفسخ أحدهما بطل الخيار ولزم العقد وهذا قول أبي حنيفة
والشافعي، وقال القاضي لا يلزم بمضي المدة وهو قول مالك لأن مدة الخيار ضربت لحق له لألحق
عليه فلم يلزم الحكم بنفس مرور الزمان كمضي الاجل في حق المولي. ولنا أنها مدة ملحقة بالعقد
فبطلت بانقضائها كالأجل ولان الحكم ببقائها يفضي إلى بقاء الخيار في غير المدة التي شرطاه فيها
112

والشرط سبب الخيار فلا يجوز أن يثبت به ما لم يتناوله، ولأنه حكم مؤقت ففات بفوات وقته كسائر
المؤقتات ولان البيع يقتضي اللزوم، وإنما تخلف موجبه بالشرط ففيما لم يتناوله الشرط يجب أن يثبت
موجبه لزوال المعارض كما لو أمضوه، وأما المولى فإن المدة إنما ضربت لاستحقاق المطالبة وهي تستحق
بمضي المدة والحكم في هذه المسألة ظاهر
(فصل) فإن قال أحد المتعاقدين عند العقد لا خلابة فقال أحمد: أرى ذلك جائزا وله الخيار
إن كان خلبه وإن لم يكن خلبه فليس له خيار وذلك لأن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في
113

البيوع فقال " إذا بايعت فقل لا خلابة " متفق عليه، ولمسلم " من بايعت فقل لا خلابة " فكان إذا بايع يقول
لا خلابة ويحتمل أن لا يكون له الخيار ويكون هذا الخبر خاصا لحبان لأنه روي أنه عاش إلى زمن عثمان
رضي الله عنه فكان يبايع الناس ثم يخاصمهم فيمر بهم بعض الصحابة فيقول لمن يخاصمه ويحك إن النبي
صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار ثلاثا، وهذا يدل على اختصاصه بهذا لأنه لو كان للناس عامة لقال
لمن يخاصمه إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيار لمن قال لا خلابة، وقال بعض أصحاب الشافعي
ان كانا عالمين أن ذلك عبارة عن خيار الثلاث ثبت، وان علم أحدهما دون الآخر فعلى وجهين لأنه
114

روي أن حبان بن منقد بن عمرو كان لا يزال يغبن فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال
له " إذا أنت بايعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت أمسكت
وان سخطت فارددها على صاحبها " وما ثبت في حق واحد من الصحابة يثبت في حق سائر
الناس ما لم يقم على تخصيصه دليل
ولنا أن هذا اللفظ لا يقضي الخيار مطلقا ولا يقتضي تقييده بثلاث والأصل اعتبار اللفظ فيما
يقتضيه والخبر على الوجه الذي احتجوا به إنما رواه ابن ماجة مرسلا وهم لا يرون حجة، ثم لم
115

يقولوا بالحديث على وجهه إنما قالوا به في حق من يعلم أن مقتضاه ثبوت الخيار ثلاثا ولا يعلم ذلك
أحد لأن اللفظ لا يقتضيه فكيف يعلم أن مقتضاه ما ليس بمقتضاه، وعلى أنه إنما كان خاصا لحبان بدليل
ما رويناه ولأنه كان يثبت له الرد على من لم يعلم مقتضاه
(فصل) إذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقترض
بالثمن ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن فلا خيار فيه لأنه من الحيل ولا يحل لآخذ الثمن الانتفاع
به في مدة الخيار ولا التصرف فيه، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يشتري من الرجل
116

الشئ ويقول لك الخيار إلى كذا وكذا مثل العقار قال وهو جائز إذا لم يكن حيلة أراد أن يقرضه
فيأخذ منه العقار فيستغله ويجعل له فيه الخيار ليربح فيما أقرض بهذه الحيلة، فإن لم يكن أراد هذا فلا
بأس، قيل لأبي عبد الله فإن أراد ارفاقه أراد أن يقرضه مالا يخاف أن يذهب فاشترى منه شيئا وجعل
له الخيار ولم يرد الحيلة فقال أبو عبد الله هذا جائز الا أنه إذا مات انقطع الخيار لم يكن لورثته، وقول
أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع الذي لا ينتفع به الا باتلافه أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع
في مدة الخيار لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة
117

(فصل) فإن قال بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث أو مدة معلومة والا فلا بيع بيننا فالبيع
صحيح نص عليه، وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق ومحمد بن الحسن وبه قال أبو ثور إذا كان
الشرط إلى ثلاث، وحكي مثل قوله عن ابن عمر، وقال مالك يجوز في اليومين والثلاثة ونحوها وإن كان
عشرين ليلة فسخ البيع، وقال الشافعي وزفر البيع فاسد لأنه علق فسخ البيع على غرر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد
118

ولنا أن هذا يروى عن عمر رضي الله عنه ولأنه علق رفع العقد بأمر يحدث في مدة الخيار فجاز
كما لو شرط الخيار، ولأنه نوع بيع فجاز أن ينفسخ بتأخير القبض كالصرف، ولان هذا بمعنى شرط
الخيار لأنه كما يحتاج إلى التروي في البيع - هل يوافقه أو لا - يحتاج إلى التروي في الثمن هل يصير منقودا
أولا فهما سيان في المعنى متغايران في الصورة الا أنه في الخيار يحتاج إلى الفسخ وههنا ينفسخ إذا لم
ينقد لأنه جعله كذلك
(فصل) والعقود على أربعة أضرب (أحدها) عقد لازم يقصد منه العوض وهو البيع وما في
معناه وهو نوعان (أحدهما) يثبت فيه الخياران خيار المجلس وخيار الشرط وهو البيع فيما لا يشترط
فيه القبض في المجلس والصلح بعني البيع والهبة بعوض على إحدى الروايتين والإجارة في الذمة نحو أن
يقول استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب ونحوه فهذا يثبت فيه الخيار لأن الخيار ورد في البيع وهذا في
معناه، فأما الإجارة المعينة فإن كانت مدتها من حين العقد دخلها خيار المجلس دون خيار الشرط لأن
دخوله يفضي إلى فوت بعض المنافع المعقود عليها أو إلى استيفائها في مدة الخيار وكلاهما لا يجوز
119

وهذا مذهب الشافعي وذكر القاضي مرة مثل هذا ومرة قال يثبت فيها الخياران قياسا على البيع وقد
ذكرنا ما يقتضي الفرق بينهما، وأما الشفعة فلا خيار فيها لأن المشتري يؤخذ منه المبيع قهرا والشفيع
مستقل بانتزاع المبيع من غير رضا صاحبه فأشبه فسخ البيع بالرد بالعيب ونحوه، ويحتمل أن يثبت
للشفيع خيار المجلس لأنه قبل المبيع بثمنه فأشبه المشتري (النوع الثاني) ما يشترط فيه القبض في
المجلس كالصرف والسلم وبيع مال الربا بجنسه فلا يدخله خيار الشرط رواية واحدة لأن موضوعها على
أن لا يبقى بينهما علقة بعد التفرق بدليل اشتراط القبض وثبوت الخيار يبقي بينهما علقة ويثبت فيها
خيار المجلس في الصحيح من المذهب لعموم الخبر، ولان موضوعه للنظر في الحظ في المعاوضة وهو
موجود فيها وعنه لا يثبت فيها الخيار إلحاقا بخيار الشرط
(الضرب الثاني) لازم لا يقصد به العوض كالنكاح والخلع فلا يثبت فيهما خيار لأن الخيار إنما
120

يثبت لمعرفة الحظ في كون العوض جائزا لما يذهب من ماله والعوض ههنا ليس هو المقصود وكذلك
الوقف والهبة ولان في ثبوت الخيار في النكاح ضررا ذكرناه قبل هذا
(الضرب الثالث) لازم من أحد طرفيه دون الآخر كالرهن لازم في حق الراهن جائز في حق
المرتهن فلا يثبت فيه خيار لأن المرتهن يستغنى بالجواز في حقه عن ثبوت خيار آخر والراهن يستغنى
بثبوت الخيار له إلى أن يقبض وكذلك الضامن والكفيل لا خيار لهما لأنهما دخلا متطوعين
راضين بالغبن وكذلك المكاتب
(الضرب الرابع) عقد جائز من الطرفين كالشركة والمضاربة والجعالة والوكالة والوديعة والوصية
فهذه لا يثبت فيها خيار استغناء بجوازها والتمكن من فسخها بأصل وضعها
(الضرب الخامس) وهو متردد بين الجواز واللزوم كالمساقاة والمزارعة والظاهر أنهما جائزان
121

فلا يدخلهما خيار وقد قيل هما لازمان ففي ثبوت الخيار فيهما وجهان، والسبق والرمي والظاهر أنهما
جعالة فلا يثبت فيهما خيار وقيل هما إجارة وقد مضى ذكرها
(الضرب السادس) لازم يستقل به أحد المتعاقدين كالحوالة والاخذ بالشفعة فلا خيار فيهما لأن
من لا يعتبر رضاه لاخيار له، وإذا لم يثبت في أحد طرفيه لم يثبت في الآخر كسائر العقود ويحتمل أن
يثبت الخيار للمحيل والشفيع لأنها معاوضة يقصد فيها العوض فأشبهت سائر البيع
باب الربا والصرف
الربا في اللغة هو الزيادة قال الله تعالى (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) وقال (أن تكون
أمة هي أربى من أمة) أي أكثر عددا، يقال أربى فلان على فلان إذا زاد عليه وهو في الشرع
الزيادة في أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (وحرم
الربا) وما بعدها من الآيات
وأما السنة فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل يا رسول
الله ما هي؟ قال " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل
مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن
آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه متفق عليهما في أخبار سوى هذين كثرة. وأجمعت الأمة على أن الربا محرم
122

(فصل) والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة وأجمع أهل العلم على تحريمهما وقد كان في ربا
الفضل اختلاف بين الصحابة فحكى عن عباس وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم وابن الزبير أنهم
قالوا، إنما الربا في النسيئة لقوله عليه السلام " لا ربا إلا في النسيئة " رواه البخاري والمشهور من
ذلك قول ابن عباس ثم أنه رجع إلى قول الجماعة روى ذلك الأثرم باسناده وقاله الترمذي وابن المنذر
وغيرهم وقال سعيد باسناده عن أبي صالح قال صحبت ابن عباس حتى مات فوالله ما رجع عن الصرف
وعن سعيد ابن جبير قال سألت أبن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف فلم ير به بأسا وكان
يأمر به. والصحيح قول الجمهور لحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا
تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق الا مثلا
بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا بناجز " وروى أبو سعيد أيضا قال: جاء بلال إلى
النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " من أين هذا يا بلال؟ " قال كان
عندنا تمر ردئ فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوه
عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن إن أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به " متفق
عليهما، قال الترمذي على حديث أبي سعيد العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وغيرهم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ربا الا في النسيئة " محمول على الجنسين
{مسألة} قال أبو القاسم رحمه الله (وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا
يجوز التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا)
123

قوله من سائر الأشياء يعني من جميعها وضع سائر موضع جميع تجوزا وموضوعها الأصلي لباقي
الشئ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا أحاديث كثيرة ومن أتمها ما روى عبادة بن الصامت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل
والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد
أربى، بيعوا الذهب كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم بدا بيد، وبيعوا الشعير
بالتمر كيف شئتم يدا بيد " رواه مسلم، فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والاجماع
واختلف أهل العلم فيما سواها فحكي عن طاوس وقتادة أنهما قصرا الربا عليها وقالا لا يجري في غيرها
وبه قال داود ونفاة القياس وقالوا ما عداها على أصل الإباحة لقول الله تعالى (وأحل الله البيع)
واتفق القائلون بالقياس على أن ثبوت الربا فيها بعلة وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها، لأن القياس
دليل شرعي فيجب استخراج علة هذا الحكم واثباته في كل موضع وجدت علته فيه، وقول الله تعالى
(وحرم الربا) يقتضي تحريم كل زيادة إذ الربا في اللغة الزيادة إلا ما أجمعنا على تخصيصه (1) وهذا
يعارض ما ذكروه. ثم اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري الا في الجنس الواحد الا سعيد بن جبير فإنه
قال كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا كالحنطة بالشعير والتمر
بالزبيب والذرة بالدخن لأنهما يتقارب نفعهما فجريا مجرى نوعي جنس واحد وهذا يخالف قول النبي
صلى الله عليه وسلم " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم " فلا يعول
عليه ثم يبطل بالذهب بالفضة فإنه يجوز التفاضل فيهما مع تقاربهما، واتفق المعللون على أن علة الذهب
124

والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما فروى عن أحمد في
ذلك ثلاث روايات أشهرهن أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، وعلة الأعيان
الأربعة مكيل جنس نقلها عن أحمد الجماعة وذكرها الخرقي وابن أبي موسى وأكثر الأصحاب وهو
قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. فعلى هذه الرواية يجري الربا في كل
مكيل أو موزون بجنسه مطعوما كان أو غير مطعوم كالحبوب والأشنان والنورة والقطن والصوف
والكتان والورس والحناء والعصفر والحديد والنحاس ونحو ذلك، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا
يوزن لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم
بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فاني أخاف عليكم الرماء " وهو الربا فقام إليه رجل فقال يا رسول الله
أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة؟ بالإبل فقال " لا بأس إذا كان يدا بيد " رواه الإمام أحمد
في المسند عن ابن حبان عن أبيه عن ابن عمر
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل مثلا
بمثل إذا كان نوعا واحدا " رواه الدارقطني، ورواه عن ابن صاعد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل
عن أحمد بن محمد بن أيوب عن أبي بكر بن عياش عن الربيع عن صبيح عن الحسن عن عبادة وانس
عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال لم يروه عن أبي بكر هكذا غير محمد بن أحمد بن أيوب وخالفه غيره
فرواه بلفظ آخر، وعن عمار أنه قال العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين فما كان يدا بيد
فلا بأس به، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن، ولان قضية البيع المساواة والمؤثر في تحقيقها
الكيل والوزن والجنس فإن الوزن أو الكيل يسوي بينهما صورة والجنس يسوي بينهما معنى فكانا علة
ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة فإنه جائز إذا تساويا في الكيل
125

(والرواية الثانية) أن العلة في الأثمان الثمنية وفيما عداها كونه مطعوم جنس فيختص بالمطعومات
ويخرج منه عداها، قال أبو بكر وروي ذلك عن أحمد جماعة، ونحو هذا قال الشافعي فإنه قال العلة
الطعم والجنس شرط، والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمنية غالبا فيختص بالذهب والفضة لما روى
معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام الا مثلا بمثل. رواه مسلم،
ولان الطعم وصف شرف إذا به قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال فيقتضي التعليل
بهما، ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز اسلامهما في الموزونات لأن أحد وصفي علة ربا
الفضل يكفي في تحريم النساء (والرواية الثالثة) العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا
أو موزونا فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالتفاح والرمان والخوخ والبطيخ والكمثرى
والأترج والسفرجل والإجاص والخيار والجوز والبيض ولا فيما ليس بمطعوم كالزعفران والأشنان
والحديد والرصاص ونحوه، ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب وهو قديم قولي الشافعي لما روي عن
سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو
يشرب " أخرجه الدارقطني وقال الصحيح أنه من قول سعيد ومن رفعه فقد وهم، ولان كل واحد
من هذه الأوصاف أثرا والحكم مقرون بجميعها في المنصوص عليه فلا يجوز حذفه، ولان الكيل والوزن
والجنس لا يقضي وجوب المماثلة وإنما أثره في تحقيقها في العلة ما يقتضي ثبوت الحكم لا ما تحقق شرطه
والطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به لعدم المعيار الشرعي فيه وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي وهو الكيل
والوزن، ولهذا وجبت المساواة في المكيل وفي الموزون وزنا فوجب أن يكون الطعم معتبرا في
126

المكيل والموزون دون غيرهما والأحاديث الواردة في هذا الباب يجب الجمع بينها وتقييد كل واحد منها
بالآخر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام الا مثلا بمثل يتقيد بما فيه معيار شرعي وهو الكيل
والوزن ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه، وقال مالك العلة القوت
أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدخرات، وقال ربيعة يجري الربا تجب فيه الزكاة دون
غيره، وقال ابن سيرين الجنس الواحد علة وهذا القول لا يصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيع
الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل " لا بأس به إذا كان يدا بيد " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
ابتاع عبدا بعبدين رواه أبو داود والترمذي وقال هو حديث حسن صحيح، وقول مالك ينتقض
بالحطب والإدام يستصلح به القوت ولا ربا فيه عنده (1)
وتعليل ربيعة ينعكس بالملح والعكس لازم عند اتحاد العلة
والحاصل أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد ففيه الربا رواية واحدة كالأرز
والدخن والذرة والقطنيات والدهن والخل واللبن واللحم ونحوه وهذا قول أكثر أهل العلم، قال ابن
المنذر هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث سوى قتادة فإنه بلغني أنه شذ عن جماعة الناس
فقصر تحريم التفاضل على الستة الأشياء، وما العدم فيه الكيل والوزن والطعم واختلف جنسه فلا ربا
فيه رواية واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كالتين والنوى وألقت والماء والطين الأرمني فإنه يؤكل
دواء فيكون موزونا مأكولا فهو إذا من القسم الأول وما عداه إنما يؤكل سفها فجرى مجرى الرمل والحصا
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة " لا تأكلي الطين فإنه يصفر اللون " وما وجد
فيه الطعم وحده أو الكيل أو الوزن من جنس واحد ففيه روايتان واختلف أهل العلم فيه. والأولى
إن شاء الله تعالى حله إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به ولا معنى يقوي التمسك به وهي مع ضعفها

(1) فيه أنه أراد ما يصلح به القوت الملح والإدام والحطب ونحوه من
الوقود لم يسمه أحد مصلحا للطعام، فالحق أن قول مالك هو المعقول الموافق
لنص الحديث، فلا يقاس عل الستة الأشياء الا ماحل محلها في كونه معيارا للأثمان
والمعاملات كالنقدين أو قوتا غالبا يدخر ومجرد الطعم أو الكيل والوزن لا يصلح
علة لهذا التضييق على عباد الله ولو أرادهما الشارع لعبر بهما فأوجر واختصر
127

يعارض بعضها بعضا فوجب اطراحها أو الجمع بينها والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب
والسنة والاعتبار. ولا فرق في المطعومات بين ما يؤكل قوتا كالأرز والذرة والدخن أو أدما كالقطنيات
واللبن واللحم، أو تفكها كالثمار أو تداوى كالاهليلج والسقمونيا فإن الكل في باب الربا واحد
(فصل) وقوله ما كيل أو وزن أي ما كان جنسه مكيلا أو موزونا وإن لم يتأت فيه كيل ولا وزن
إما لقلته كالحبة والحبتين والحفنة والحفنتين وما دون الأرزة من الذهب والفضة، أو لكثرته كالزبرة
العظيمة فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل ويحرم التفاضل فيه، وبهذا قال الثوري، والشافعي
وإسحاق وابن المنذر ورخص أبو حنيفة في بيع الحفنة بالحفنتين والحبة بالحبتين وسائر المكيل الذي
لا يتأتي كيله ووافق في الموزون واحتج بأن العلة الكيل ولم يوجد في اليسير
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، من زاد أو
ازداد فقد أربى، ولان ما جرى الربا في كثيره جرى في قليله كالموزون
(فصل) ولا يجوز بيع تمرة بتمرة ولا حفنة بحفنة وهذا قول الثوري ولا أعلمه منصوصا عليه
ولكنه قياس قولهم لأن ما أصله الكيل لا تجري المماثلة في غيره
(فصل) فأما مالا وزن للصناعة فيه كمعمول الحديد والرصاص والنحاس والقطن والكتان
والصوف (1) والإبريسم فالمنصوص عن أحمد في الثياب والأكسية أنه لا يجرى فيها الربا فإنه قال لا بأس
بالثوب بالثوبين والكساء بالكساءين وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال لا يباع الفلس بالفلسين ولا
السكين بالسكينين، ولا إبرة بإبرتين أصله الوزن، ونقل القاضي حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى فجعل

(1) كثرت أنواع الموازين في عصرنا فصار كل شئ يوزن كما يشير إليه قوله تعالى (وأنبتنا فيها من كل شئ موزون) فكيف يحكمون موازينهم في أحكام الشرع العامة؟
128

فيهما جميعا روايتين (إحداهما) لا يجري في الجميع وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم
لأنه ليس بموزون ولا مكيل وهذا هو الصحيح إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة وعدم النقص
والاجماع فيه (والثانية) يجري الربا في الجميع اختارها ابن عقيل لأن أصله الوزن فلا يخرج بالصناعة
عنه كالخبز، وذكر أن اختيار القاضي أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالاسطال ففيه الربا ومالا فلا
(فصل) ويجري الربا في لحم الطير، وعن أبي يوسف لا يجري فيه لأنه يباع بغير وزن. ولنا
أنه لحم فجرى فيه الربا كسائر اللحمان وقوله لا يوزن قلنا هو من جنس ما يوزن ويقصد ثقله وتختلف
قيمته بثقله وخفته فأشبه ما يباع من الخبز بالعدد
(فصل) والجيد والردئ والتبر والمضروب والصحيح والمكور سواء في جواز البيع مع التماثل
وتحريمه مع التفاضل وهذا قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك جواز بيع
المضروب بقيمته من جنسه وأنكر أصحابه ذلك ونفوه عنه، وحكى بعض أصحابنا عن أحمد رواية
لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة، ولان للصناعة قيمة بدليل حالة الاتلاف فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة
إلى الذهب. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل "
وعن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها "
رواه أبو داود، وروى مسلم عن أبي الأشعث أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس
فبلغ عبادة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة
والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح الا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى "
129

وروى الأثرم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال
أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا الا مثلا بمثل، ثم قدم أبو الدرداء على عمر
ابن الخطاب رضي الله عنهما فذكر له ذلك فكتب عمر إلى معاوية لاتبع ذلك الا بمثل وزنا
بوزن، ولا نهما تساويا في الوزن فلا يؤثر اختلافهما في القيمة كالجيد والردئ، فأما إن قال لصائغ
صغ لي خاتما وزنه درهم وأعطيك مثل وزنه وأجرتك درهما فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين، وقال أصحابنا
للصائغ أخذ الدرهمين (أحدهما) في مقابلة الخاتم و (الثاني) أجرة له
(فصل) وكل ما حرم فيه التفاضل حرم فيه النساء بغير خلاف نعلمه ويحرم التفرق قبل القبض لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " عينا بعين " وقوله " يدا بيد " ولان تحريم النساء آكد، ولذلك جرى في الجنسين
المختلفين فإذا حرم التفاضل فالنساء أولى بالتحريم
{مسألة} قال (وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه يدا بيد ولا يجوز نسيئة)
لا خلاف في جواز التفاضل في الجنسين نعلمه الا عن سعيد بن جبير أنه قال: ما يتقارب الانتفاع
بهما لا يجوز التفاضل فيهما وهذا يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد،
وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالشعير كيف شئتم يدا بيد " وفي لفظ " إذا اختلفت
هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " رواه مسلم وأبو داود، ولأنهما جنسان فجاز التفاضل
فيهما كما لو تباعدت منافعهما ولا خلاف في إباحة التفاضل في الذهب بالفضة مع تقارب منافعهما، فأما
النساء فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلة واحدة كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون والمطعوم
بالمطعوم عند من يعلل به فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نساء بغير خلاف نعلمه وذلك لقوله عليه السلام
" فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " وفي لفظ " لا بأس ببيع الذهب بالفضة
والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئته فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد
وأما النسيئة فلا " رواه أبو داود الا أن يكون أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا فإنه يجوز النساء بينهما
بغير خلاف لأن الشرع أرخص في السلم والأصل في رأس المال الدراهم والدنانير فلو حرم النساء ههنا
لا نسد باب السلم في الموزونات في الغالب، فأما ان اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون مثل بيع اللحم
بالبر ففيهما روايتان (إحداهما) يحرم النساء فيهما وهو الذي ذكره الخرقي ههنا لأنهما مالان من أموال
الربا فحرم النساء فيهما كالمكيل بالمكيل (والثانية) يجوز النساء فيهما وهو قول النخعي لأنهما لم يجتمعا
في أحد وصفي علة ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالثياب بالحيوان
(فصل) وإذا باع شيئا من مال الربا بغير جنسه وعلة ربا الفضل فيهما واحدة لم يجز
التفرق قبل القبض، فإن فعلا بطل العقد وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يشترط التقابض فيهما
كغير أموال الربا وكبيع ذلك بأحد النقدين
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر
130

بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد " رواه مسلم وقال عليه السلام " فإذا اختلفت هذه
الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " وروى مالك بن أوس بن الحدثان أنه التمس صرفا بمائة دينار
قال فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ يقلبها في يديه ثم قال حتى يأتي خازني
من الغابة وعمر يسمع ذلك فقال لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" الذهب بالورق ربا الاهاء وهاء، والبر بالبر ربا الا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا الا هاء وهاء، والشعير
بالشعير ربا الا هاء وهاء " متفق عليه والمراد به القبض بدليل أن المراد به ذلك في الذهب والفضة
ولهذا فسره عمر به ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب
بالفضة فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما فقال أبو الخطاب يجوز التفرق
فيهما قبل القبض رواية واحدة لأن علتهما مختلفة فجاز التفرق قبل القبض كالثمن بالثمن، وبهذا
قال الشافعي إلا أنه لا يتصور عنده ذلك الا في بيع الأثمان بغيرها، ويحتمل كلام الخرقي وجوب
التقابض على كل حال لقوله " يدا بيد "
{مسألة} قال (وما كان مما لا يكال ولا يوزن فجائز التفاضل فيه يدا بيد ولا يجوز نسيئته)
اختلف الرواية في تحريم النساء في غير المكيل والموزون على أربع روايات (إحداهن) لا يحرم
النساء في شئ من ذلك سواء بيع بجنسه أو بغيره متساويا أو متفاضلا الا على قولنا ان العلة الطعم
فيحرم النساء في المطعوم ولا يحرم في غيره، وهذا مذهب الشافعي واختار القاضي هذه الرواية لما
روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت
الإبل فأمره أن يأخذه في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة. رواه أبو داود
وروى سعيد في سننه عن أبي معشر عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد أن عليا باع بعيرا له يقال
له عصيفير بأربعة أبعرة إلى أجل، ولأنهما مالان لا يجري فيهما ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالعرض بالدينار
ولأن النساء أحد نوعي الربا فلم يجز في الأموال كلها كالنوع الآخر (والرواية الثانية) يحرم النساء في
كل مال بيع بجنسه كالحيوان بالحيوان والثياب بالثياب ولا يحرم في غير ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة
وممن كره بيع الحيوان بالحيوان نساء ابن الحنفية وعبد الله بن عمير وعطاء وعكرمة بن خالد وابن
سيرين والثوري، وروي ذلك عن عمار وابن عمر لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان
بالحيوان نسيئة قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. ولان الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل فحرم
النساء كالكيل والوزن (والثالثة) لا يحرم النساء الا فيما بيع بجنسه متفاضلا فاما مع التماثل فلا لما روى
جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نساء ولا بأس به يدا بيد " قال
الترمذي هذا حديث حسن، وروى ابن عمر أن رجلا قال يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس
والنجيبة بالإبل؟ فقال " لا بأس إذا كان يدا بيد " من المسند وهذا يدل على إباحة النساء مع التماثل
بمفهومه (والرابعة) يحرم النساء في كل مال بيع بمال آخر سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، وهذا
131

ظاهر كلام الخرقي ويحتمل أنه أراد الرواية الثالثة لأنه بيع عرض بعرض فحرم النساء بينهما كالجنسين
من أموال الربا، قال القاضي فعلى هذا لو باع عرضا بعرض ومع أحدهما دراهم نقدا والدراهم
نسيئة جاز وان كانت الدراهم نقدا والعروض نسيئة لم يجز لأنه يفضي إلى النسيئة في العروض وهذه
الرواية ضعيفة جدا لأنه اثبات حكم يخالف الأصل بغير نص ولا اجماع ولا قياس صحيح فإن في
المحل المجمع عليه أو المنصوص عليه أوصافا لها أثر في تحريم الفضل فلا يجوز حذفها عن درجة الاعتبار
وما هذا سبيله لا يجوز اثبات الحكم فيه وان لم يخالف أصلا فكيف يثبت مع مخالفة الأصل في حل
البيع؟ وأصح الروايات هي الأولى لموافقتها الأصل، والأحاديث المخالفة لها قال أبو عبد الله ليس فيها
حديث يعتمد عليه ويعجبني ان يتوقاه وذكر له حديث ابن عباس وابن عمر في هذا فقال هما مرسلان
وحديث سمرة يرويه الحسن عن سمرة قال الأثرم قال أبو عبد الله لا يصحح سماع الحسن من سمرة
وحديث جابر قال أبو عبد الله هذا حجاج زاد فيه نساء وليث بن سعيد سمعه من أبي الزبير ولا يذكر
فيه نساء وحجاج هذا هو حجاج بن أرطأة قال يعقوب بن شيبة هو واهي الحديث وهو صدوق.
وإن كان أحد المبيعين مما لا ربا فيه والآخر فيه ربا كالمكيل بالمعدود ففيه روايتان (أحدهما) يحرم
النساء فيهما (والثانية) لا يحرم كما لو باع معدودا بمعدود من غير جنسه
{مسألة} قال (ولا يباع شئ من الرطب بيابس من جنسه الا العرايا)
أراد الرطب مما يجري فيه الربا كالرطب بالتمر والعنب بالزبيب واللبن بالجبن والحنطة المبلولة أو
الرطبة باليابسة أو المقلية بالنيئة ونحو ذلك، وبه قال سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب والليث
ومالك والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد، وقال ابن عبد البر جمهور علماء المسلمين على أن بيع
الرطب بالتمر لا يجوز بحال من الأحوال، وقال أبو حنيفة يجوز ذلك لأنه لا يخلوا اما أن يكون من جنسه
فيجوز لقوله عليه السلام " التمر بالتمر مثلا بمثل " أو من غير جنسه فيجوز لقوله عليه السلام " فإذا
اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم " ولنا قوله عليه السلام " لا تبيعوا التمر بالتمر " وفي لفظ
نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرية ان تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا متفق عليه وعن سعد أن
النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال " أينقص الرطب إذا يبس؟ " قالوا نعم فنهى عن
ذلك رواه مالك وأبو داود والأثرم وابن ماجة ولفظ رواية الأثرم قال (فلا اذن) نهى وعلل بأنه ينقص
إذا يبس وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة. والمزابنة بيع
الرطب بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا ولأنه جنس فيه الربا بيع بعضه ببعض على وجه ينفرد أحدهما
بالنقصان فلم يجز كبيع المقلية بالنيئة. ولا يلزم الحديث بالعتيق لأن التفاوت يسير قال الخطابي وقد تكلم بعض
الناس في اسناد حديث سعد بن أبي وقاص في بيع الرطب بالتمر وقال زيد أبو عياش راويه ضعيف وليس الامر
على ما توهمه وأبو عياش مولى بني زهرة معروف وقد ذكره مالك في الموطأ وهو لا يروي عن متروك الحديث
(فصل) فأما بيع الرطب بالرطب والعنب بالعنب ونحوه من الرطب بمثله فيجوز مع التماثيل في
قول أكثر أهل العلم، ومنع منه الشافعي فيما يبس فأما مالا ييس كالقثاء والخيار ونحوه فعلى قولين لأنه
132

لا يعلم تساويهما حالة الادخار فأشبه الرطب بالتمر، وذهب أبو حفص العكبري من أصحابنا إلى هذا
وحمل كلام الخرقي عليه لقوله في اللحم لا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا ويجوز إذا تناهى جفافه مثلا بمثل
ومفهوم كلام الخرقي ههنا إباحة ذلك لأن مفهوم نهيه عليه السلام عن بيع التمر بالتمر إباحة بيع كل
واحد منهما بمثله ولأنهما تساويا في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كبيع اللبن باللبن
والتمر بالتمر ولان قوله تعالى (وأحل الله البيع) عام خرج منه المنصوص عليه وهو بيع التمر بالتمر
وليس هذا في معناه فبقي على العموم وما ذكره لا يصح فإن التفاوت كثير وينفرد أحدهما بالنقصان
بخلاف مسئلتنا ولا بأس ببيع الحديث بالعتيق لأن التفاوت في ذلك يسير ولا يمكن ضبطه فيعفى عنه.
{مسألة} قال (ولا يباع ما أصله الكيل بشئ من جنسه وزنا ولا ما أصله الوزن كيلا)
لا خلاف بين أهل العلم في وجوب المماثلة في بيع الأموال التي يحرم التفاضل فيها وأن المساواة
المرعية هي المساواة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا، ومتى تحققت هذه المساواة لم يضر اختلافهما
فيما سواها وإن لم يوجد لم يصح البيع وإن تساويا في غيرها، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل
العلم لا نعلم أحدا خالفهم الا مالكا قال يجوز بيع الموزونات بعضها ببعض جزافا
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزنا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، والبر بالبر كيلا
بكيل، والشعير بالشعير كيلا بكيل " رواه الأثرم في حديث عبادة، ورواه أبو داود ولفظه " البر بالبر
مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد فقد أربى "
فأمر بالمساواة في الموزونات المذكورة في الوزن كما أمر بالمساواة في المكيلات في الكيل وما عدا
الذهب والفضة من الموزونات مقيس عليهما ومشبه بهما، ولأنه جنس يجري فيه الربا فلم يجز بيع
بعضه ببعض جزافا كالمكيل، ولأنه موزون من أموال الربا فأشبه الذهب والفضة ولان حقيقة الفضل
مبطلة للبيع ولا نعلم عدم ذلك الا بالوزن فوجب ذلك كما في المكيل والأثمان، إذا ثبت هذا فإنه لا
133

يجوز بيع المكيل بالمكيل وزنا، ولا بيع الموزون بالموزون كيلا لأن التماثل في الكيل مشترط في
المكيل، وفي الوزن في الموزون، فمتى باع رطلا من المكيل برطل حصل في الرطل من الخفيف أكثر
مما يحصل من الثقيل فيختلفان في الكيل وإن لم يعلم الفضل لكن يجهل التساوي فلا يصح كما لو باع
بعضه ببعض جزافا، وكذلك لو باع الموزون بالموزون بالكيل فلا يحقق التماثل في الوزن فلم
يصح كما ذكرنا في المكيل
(فصل) ولو باع بعضه ببعض جزافا أو كان جزافا من أحد الطرفين لم يجز، قال ابن المنذر
أجمع أهل العلم على أن ذلك غير جائز إذا كانا من صنف واحد وذلك لما روى مسلم عن جابر قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر، وفي
قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزنا بوزن " إلى تمام الحديث دليل على أنه لا يجوز
بيعه الا كذلك، ولان التماثل شرط والجهل به يبطل البيع كحقيقة التفاضل
(فصل) ومالا يشترط التماثل فيه كالجنسين وما لا ربا فيه بعضه ببعض كيلا ووزنا وجزافا
وهذا ظاهر كلام الخرقي لتخصيصه ما يكال بمنع بيعه بشئ من جنسه وزنا، وبما يوزن بمنع بيعه من
جنسه كيلا وهذا قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر أجمع أجمع أهل العلم على أن بيع الصبرة من الطعام
بالصبرة لا يدري كم كيل هذه ولا كيف هذه من صنف واحد غير جائز ولا بأس به من صنفين
استدلالا بقوله عليه السلام " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " وذهب جماعة من أصحابنا إلى
منع بيع المكيل بالمكيل جزافا وبيع الموزون بالموزون جزافا، وقال أحمد في رواية محمد بن الحكم
أكره ذلك. قال ابن أبي موسى لا خير فيما يكال بما يكال جزافا ولا فيما يوزن بما يوزن جزافا اتفقت
134

الأجناس أو اختلفت، ولا بأس ببيع المكيل بالموزون جزافا، وقال ذلك القاضي والشريف أبو جعفر
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام مجازفة ولأنه بيع مكيل بمكيل أشبه
الجنس الواحد ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا
بيد " ولان قول الله تعالى (وأحل الله البيع) عام خصصناه في الجنس الواحد الذي يجب التماثل فيه
ففيما عداه يجب البقاء على العموم ولأنه يجوز التفاضل فيه فجاز جزافا من الطرفين كالمكيل بالموزون.
يحققه أنه إذا كان حقيقة الفضل لا يمنع فاحتماله أولى أن لا يكون مانعا وحديثهم أراد به الجنس الواحد
ولهذا جاء في بعض ألفاظه " نهى أن تباع الصبرة لا يعلم مكيلها من التمر بالصبرة لا يعلم مكيلها من
التمر " ثم هو مخصوص بمكيل والموزون فنقيس عليه محل النزاع وما ذكر من القياس غير صحيح لأن
المكيل من جنس واحد يجب التماثل فيه فمنع من بيعه لفوات المشروطة وفي الجنسين لا
يشترط التماثل ولا يمنع حقيقة التفاضل فاحتماله أولى أن لا يكون مانعا.
(فصل) ولو قال بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة وهما من جنس واحد ولا يعلمان كيلهما لم يصح
لما ذكرنا وان علما كيلهما وتساويهما صح البيع لوجوده التماثل المشترط وان قال بعتك هذه الصبرة بهذه
الصبرة مثلا بمثل فكيلتا فكانتا سواء صح البيع والا فلا، وان باع صبرة بصبرة من غير جنسها صح عند
من يجوز بيع المكيل بالمكيل جزافا، وان قال بعتك هذه الصبرة بهذه مثلا بمثل فكيلتا فكانتا سواء صح
البيع. وان زادت إحداهما فرضي صاحب الناقصة بها مع نقصها أو رضي صاحب الزائدة برد الفضل
على صاحبه جاز وان امتنعا فسخ البيع بينهما ذكر هذا الفصل القاضي وهو مذهب الشافعي
(فصل) ويجوز قسم المكيل وزنا وقسم الموزون كيلا وقسم الثمار خرصا وقسم مالا يجوز بيع بعضه
ببعض لأن القسمة افراز حق وليست بيعا، ونقل عن ابن بطة ما يدل على أنها بيع فيثبت فيها أحكام
البيع ويمنع فيها ما ذكرناه لأن كل جزء من ذلك مشترك بينهما فإذا تعين لكل واحد منهما حق فقد
135

اشترى نصيب شريكه مما تعين له بنصيبه فيما تعين فيما تعين لشريكه وللشافعي قولان كالمذهبين، والظاهر أنها
افراز حق بدليل اعتبار تعديل السهام ودخول القرعة فيها ولزومها بها والا جبار عليها وأنها لا تفتقر
إلى لفظ بيع ولا تمليك ولا يدخلها خيار ولا تجوز الا بقدر الحقين ولا يثبت فيها شفعة وتختص
باسم، وتغاير الأحكام والأسماء دليل على اختلافهما، وروي عن ابن عباس أنه قال قسمت الصحابة
رضي الله عنهم الغنائم بالجحف وذلك كيل الأثمان بمحضر من جماعة كثيرة منهم وانتشر في بقيتهم فلم
ينكر فصار اجماعا على ما قلناه.
(فصل) في معرفة المكيل والموزون والمرجع في ذلك إلى العرف بالحجاز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وبهذا قال الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة أن الاعتبار في كل بلد بعادته، ولنا ما روي عبد الله بن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المكيال ميكال المدينة والميزان ميزان مكة " والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يحمل كلامه
على بيان الأحكام ولان ما كان مكيلا بالحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف التحريم في تفاضل الكيل إليه
فلا يجوز أن يتغير بعد ذلك وهكذا الموزون، وما لا عرف له بالحجاز يحتمل وجهين (أحدهما) يرد
إلى أقرب الأشياء شبها به بالحجاز كما أن الحوادث ترد إلى أشبه المنصوص عليه بها وهو القياس
(والثاني) يعتبر عرفه في موضعه فإن لم يكن له في الشرع حد كان المرجح فيه إلى العرف كالقبض والاحراز
والتفرق وهذا قول أبي حنيفة، وعلى هذا ان اختلفت البلاد فالاعتبار بالغالب فإن لم يكن غالب بطل
هذا الوجه وتعين الأول ومذهب الشافعي على هذين الوجهين، فالبر والشعير مكيلان منصوص عليهما
بقول النبي صلى الله عليه وسلم " البر بالبر كيلا بكيل والشعير بالشعير كيلا بكيل " وكذلك سائر الحبوب
والأبازير والأشنان والجص والنورة وما أشبهها. والتمر مكيل وهو من المنصوص عليه وكذلك سائر
تمر النخل من الرطب والبسر وغيرهما وسائر ما تجب فيه الزكاة من الثمار مثل الزبيب والفستق والبندق
والعناب والمشمش والبطم والزيتون واللوز. والملح مكيل وهو من النصوص عليه بقوله عليه السلام " الملح
بالملح مدي بمدي " والذهب والفضة موزونان ثبت ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزنا بوزن
والفضة بالفضة وزنا بوزن " وكذلك ما أشبههما من جواهر الأرض كالحديد والنحاس والصفر والرصاص
والزجاج والزئبق ومنه الإبريسم والقطن والكتان والصوف وغزل ذلك وما أشبهه ومنه الخبز
واللحم والشحم والحين والزبد والشمع وما أشبهه. وكذلك الزعفران والعصفر والورس وما أشبه ذلك
136

(فصل) والدقيق والسويق مكيلان لأن أصلهما مكيل ولم يوجد ما ينقلهما عنه ولأنهما يشبهان
ما يكال، وذكر القاضي في الدقيق أنه يجوز بيع بعضه ببعض بالوزن ولا يمتنع أن يكون أصله مكيلا
وهو موزون كالخبز ولنا ما ذكرناه ولأنه يقدر بالصاع بدليل أنه يخرج في الفطرة صاع من دقيق، وقد جاء
في الحديث والصاع إنما يقدر به المكيلات، وعلى هذا يكون الاقط مكيلا لأن في حديث صدقة الفطر صاع من أقط
(فصل) فأما اللبن وغيره من المائعات كالادهان من الزيت والشيرج والعسل والخل والدبس
ونحو ذلك فالظاهر أنها مكيلة قال القاضي في الادهان هي مكيلة، وفي اللبن يصح السلم فيه كيلا،
وقال أصحاب الشافعي لا يباع اللبن بعضه ببعض الا كيلا، وقد روي عن أحمد أنه سئل عن السلف
في اللبن فقال نعم كيلا أو وزنا وذلك لأن الماء مقدر بالصاع، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد
ويغتسل بالصاع، ويغتسل هو وبعض نسائه من الفرق، وهذه مكاييل قدر بها الماء وكذلك سائر المائعات
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما في ضروع الانعام إلا بالكيل. رواه ابن ماجة، وأما غير
المكيل والموزون فما لم يكن له أصل بالحجاز في كيل ولا وزن ولا يشبه ما جري فيه العرف بذلك
كالثياب والحيوان والمعدودات من الجوز والبيض والرمان والقثاء والخيار وسائر الخضراوات والبقول
والسفرجل والتفاح والكمثرى ونحوها فهذه المعدودات إذا اعتبرنا التماثل فيها فإنه يعتبر التماثل
في الوزن لأنه أخصر. ذكره القاضي في الفواكه الرطبة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر
قالوا يعتبر ما أمكن كيله بالكيل، ولان الأصل الأعيان الأربعة وهي مكيلة ومن شأن الفرع أن يرد
إلى أصله بحكمه والأصل حكمه تحريم التفاضل بالكيل فكذلك يكون حكم فروعها. ولنا أن الوزن
أخصر فوجب اعتباره في غير المكيل والموزون كالذي لا يمكن كيله، وإنما اعتبر الكيل في المنصوص
عليه لأنه يقدر به في العادة وهذا بخلافه.
{مسألة} قال (والتمور كلها جنس وإن اختلفت أنواعها)
الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها، والنوع الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها، وقد يكون النوع
جنسا بالنسبة إلى ما تحته نوعا بالنسبة إلى ما فوقه، والمراد هنا الجنس الأخص والنوع الأخص
فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهما جنس كأنواع التمر وأنواع الحنطة فالتمور كلها جنس واحد
لأن الاسم الخاص يجمعها وهو التمر وان كثرت أنواعه كالبرني والعقلي والإبراهيمي والخاستوي
137

وغيرها، وكل شيئين اتفقا في الجنس ثبت فيهما حكم الشرع بتحريم التفاضل وإن اختلفت الأنواع
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل " الحديث بتمامه فاعتبر المساواة
في جنس التمر بالتمر والبر بالبر، ثم قال " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم " وفي لفظ
" فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " وفي لفظ " الا ما اختلفت ألوانه " ولا خلاف بين أهل
العلم علمناه في وجوب المساواة في التمر بالتمر وسائر ما ذكر في الخبر مع اتفاق الأنواع واختلافها
(فصل) فإن كان المشتركان في الاسم الخاص من أصلين مختلفين فهما جنسان كالأدقة والأخباز
والخلول والادهان، وعصير الأشياء المختلفة كلها أجناس مختلفة باختلاف أصولها، وحكي عن أحمد أن
خل التمر وخل العنب وحكي ذلك عن مالك لأن الاسم الخاص يجمعهما، والصحيح أنهما جنسان
لأنهما من أصلين مختلفين فكانا جنسين كدقيق الحنطة ودقيق الشعير وما ذكر للرواية الأخرى منتقض
بسائر فروع الأصول التي ذكرناها، وكل نوع مبني على أصله فإذا كان شيان من أصلين فهما جنسان
فزيت الزيتون وزيت البطم وزيت الفجل أجناس، ودهن السمك والشيرج ودهن الجوز ودهن اللوز
والبزر أجناس، وعسل النحل وعسل القصب جنسان، وتمر النخل وتمر الهند جنسان. وكل شيئين
أصلهما واحد فهما جنس واحد وإن اختلفت مقاصدهما، فدهن الورد والبنفسج والزئبق ودهن الياسمين
إذا كان من دهن واحد فهي جنس واحد، وهذا الصحيح من مذهب الشافعي وله قول آخر لا يجري
الربا فيها لأنها لا تقصد للأكل، وقال أبو حنيفة هي أجناس لأن مقاصدهما مختلفة. ولنا أنها كلها شيرج
وإنما طيبت بهذه الرياحين فنسبت إليها فلم تصر أجناسا كما لو طيب سائر أنواع الأجناس، وقولهم لا تقصد
الرياحين للاكل قلنا هي صالحة للاكل وإنما تعد لما هو أعلى منه فلا تخرج عن كونها مأكولة بصلاحها لغيره
وقولهم انها أجناس لا يصح لأنها من أصل واحد ويشملها اسم واحد فكانت جنسا كأنواع التمرد والحنطة
(فصل) وقد يكون الجنس الواحد مشتملا على جنسين كالتمر يشتمل على النوى وغيره وهما
جنسان، واللبن يشتمل على المخيض والزبد وهما جنسان فما داما متصلين اتصال الخلقة فهما جنس واحد
فإذا ميز أحدهما من الآخر صارا جنسين حكمهما حكم الجنسين الأصليين
(فصل) في بيع التمر بالتمر وفروعه. يجوز بيع التمر بالتمر كيلا بكيل بغير خلاف وسواء
تساويا في الجودة والرداءة وفي كونهما ينكبسان في المكيال أو اختلفا في ذلك، قيل لأحمد صاع تمر
بصاع تمر وأحد التمرين يدخل في المكيال منه أكثر، فقال إنما هو صاع بصاع وذلك لقول النبي
138

صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مدي بمدي - ثم قال - من زاد أو ازداد فقد أربى " فإن كان في كل واحد
منهما نواه جاز بيعه متساويا بغير خلاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن التمر يكون فيه النوى وإن
نزع من كل واحد منهما نواه جاز أيضا، وقال أصحاب الشافعي لا يجوز في أحد الوجهين لأنهما لم
يتساويا في حال الكمال ولأنه يتجافى في المكيال
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مدي بمدي " ولأنهما تساويا في الحال وعلى وجه لا
ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كما لو كان في كل واحد منهما نواه ويجوز بيع النوى بالنوى كيلا لذلك، وإذا
باع تمرا منزوع النوى بتمر نواه فيه لم يجز لاشتمال أحدهما على ما ليس من جنسه دون الآخر، وان
نزع النوى ثم بلع النوى والتمر بنوى وتمر لم يجز لأنه زالت التبعية بنزعه فصار كبيع تمر وحنطة بتمر
وحنطة، وإن باع النوى بتمر منزوع النوى جاز متفاضلا ومتساويا لأنهما جنسان، وان باع النوى بتمر نواه فيه
فعلى روايتين منع منه في رواية مهنا وأحمد بن القاسم لأن في التمر نوى فيصير كمد عجوة، وكما لو باع
تمرا فيه نواه بتمر منزوع النوى وأجاز ذلك في رواية ابن منصور، ولان النوى في التمر غير مقصود
ولذلك جاز بيع التمر بالتمر في كل واحد منهما نواه وصار هذا كبيع دار مموه سقفها بالذهب فعلى
هذا يجوز بيعه متفاضلا ومتساويا لأن النوى الذي في التمر لا عبرة به فصار كبيع النوى بمنزوع النوى
(فصل) ويصنع من التمر الدبس والخل والناطف والقطارة ولا يجوز بيع التمر بشئ منها لأن مع
بعضها من غير جنسه وبعضهما مائع والتمر جامد، ولا يجوز بيع الناطف بعضه ببعض ولا بغيره من المصنوع
من التمر لأن معها شيئا مقصودا من جنسهما فينزل منزلة مد عجوة، ويجوز بيع القطارة والدبس والخل كل
نوع بعضه ببعض متساويا، قال أحمد في رواية مهنا في خل الدقل يجوز بيع بعضه ببعض متساويا وذلك لأن
الماء في كل واحد منهما غير مقصود وهو من مصلحته فلم يمنع جواز البيع كالخبز بالخبز والتمر بالتمر في كل واحد
منهما نواه، ولا يباع نوع بنوع آخر لأن في كل واحد منهما من غير جنسه يقل ويكثر فيفضي إلى التفاضل
(فصل) والعنب كالتمر في ما ذكرناه إلا أنه لا يباع خل العنب بخل الزبيب لانفراد كل واحد
منهما بما ليس من جنسه، ويجوز بيع خل الزبيب بعضه ببعض كما يجوز بيع خل التمر بعضه ببعض
{مسألة} قال (والبر والشعير جنسان)
هذا هو المذهب وبه يقول النوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، وعن أحمد
أنهما جنس واحد وحكي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وابن
139

معيقيب الدوسي والحكم وحماد ومالك والليث لما روي عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع
قمح فقال بعه ثم اشتر به شعيرا فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرا أخبره
بذلك فقال له معمر لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير قيل فإنه ليس بمثله قال إني أخاف
أن يضارع. أخرجه مسلم، ولان أحدهما يغش بالآخر فكانا كنوعي الجنس
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " بيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد " وفي لفظ " لا بأس ببيع
البر بالشعير، والشعير أكثرهما يدا بيد واما نسيئة فلا " وفي لفظ " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا
كيف شئتم " وهذا صريح صحيح لا يجوز تركه بغير معارض مثله، ولأنهما لم يشتركا في الاسم الخاص
فلم يكونا جنسا واحدا كالتمر والحنطة ولأنهما مسميان في الأصناف الستة فكانا جنسين كسائرها،
وحديث معمر لابد فيه من اضمار الجنس بدليل سائر أجناس الطعام، ويحتمل أنه أراد الطعام المعهود
عندهم وهو الشعير فإنه قال في الخبر وكان طعامنا يومئذ الشعير، ثم لو كان عاما لوجب تقديم الخاص
الصريح عليه، وفعل معمر وقوله لا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم، وقياسهم ينتقض بالذهب والفضة
(فصل) في الحنطة وفروعها. وفروعها نوعان (أحدهما) ما ليس فيه غيره كالدقيق والسويق
(والثاني) ما فيه غيره كالخبز والهريسة والفالوذج والنشاء وأشباهها. ولا يجوز بيع الحنطة بشئ من
فروعها وهي ثلاثة أقسام (أحدها) السويق فلا يجوز بيعه بالحنطة وبهذا قال الشافعي، وحكي عن مالك
وأبي ثور جواز ذلك متماثلا ومتفاضلا. ولنا أنه بيع الحنطة ببعض أجزائها متفاضلا فلم يجز كبيع مكوك
حنطة بمكوكي دقيق ولا سبيل إلى التماثل لأن النار قد أخذت من أحدهما دون الآخر فأشبهت
المقلية (القسم الثاني) ما معه غيره فلا يجوز بيعها به أيضا، وقال أصحاب أبي حنيفة يجوز ذلك
بناء على مسألة مد عجوة وسنذكر الدليل على ذلك إن شاء الله تعالى (القسم الثالث) الدقيق فلا
يجوز بيعها به في الصحيح وهو مذهب سعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والثوري وأبي حنيفة
ومكحول وهو المشهور عن الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه جائز وبهذا قال ربيعة ومالك وحكي
ذلك عن النخعي وقتادة وابن شبرمة وإسحاق وأبي ثور لأن الدقيق نفس الحنطة وإنما تكسرت أجزاؤها
فجاز بيع بعضها ببعض كالحنطة المكسرة بالصحاح، فعلى هذا إنما تباع الحنطة بالدقيق وزنا لأنها قد تفرقت
أجزؤاها بالطحن وانتشرت فتأخذ من المكيال مكانا كبيرا والحنطة تأخذ مكانا صغيرا والوزن
يسوي بينهما وبهذا قال إسحاق
140

ولنا أن بيع الحنطة بالدقيق بيع للحنطة بجنسها متفاضلا فحرم كبيع مكيلة بمكيلتين وذلك لأن الطحن
قد فرق أجزاءها فيحصل في مكيالها دون ما يحصل في مكيال الحنطة، وإن لم يتحقق التفاضل فقد جهل
التماثل والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل فيما يشترط التماثل فيه ولذلك لم يجز بيع بعضها ببعض جزافا
وتساويهما في الوزن لا يلزم منه التساوي في الكيل، والحنطة والدقيق مكيلان لأن الأصل الكيل ولم
يوجد ما ينقل عنه، ولان الدقيق يشبه المكيلات فكان مكيلا كالحنطة، ثم لو كان موزونا لم يتحقق
التساوي بين المكيل والموزون لأن المكيل لا يقدر بالوزن كما لا يقدر الموزون بالكيل
(فصل) فأما بيع بعض فروعها ببعض فيجوز بيع كل واحد من الدقيق والسويق بنوعه متساويا
وبه قال أبو حنيفة، والمشهور عن الشافعي المنع من ذلك لأنه يعتبر تساويهما حالة الكمال وهو حال
كونها حنطة وقد فات ذلك لأن أحد الدقيقين قد يكون من حنطة رزينة والآخر من حنطة خفيفة
فيستويان دقيقا ولا يستويان حنطة. ولنا أنهما تساويا حال العقد على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان
فجاز كبيع التمر بالتمر. إذا ثبت هذا فإنما يباع بعضه ببعض كيلا لأن الحنطة مكيلة ولم يوجد في الدقيق
والسويق ما ينقلهما عن ذلك ويشترط أن يتساويا في النعومة ذكره أبو بكر وغيره من أصحابنا وهو
مذهب أبي حنيفة لأنهما إذا تفاوتا في النعومة تفاوتا في ثاني الحال فيصير كبيع الحنطة بالدقيق، وذكر
القاضي أن الدقيق يباع بالدقيق وزنا ولا وجه له، وقد سلم في السويق أنه يباع بالكيل والدقيق مثله
فأما بيع الدقيق بالسويق فالصحيح أنه لا يجوز وهو مذهب الشافعي، وروي عن أحمد أنه يجوز لأن
كل واحد منهما أجزاء حنطة ليس معه غيره فأشبه الدقيق بالدقيق والسويق بالسويق.
ولنا ان النار قد أخذت من أحدهما فلم يجز بيع بعضه كالمقلية بالنيئة وروي عن مالك وأبي
يوسف ومحمد وأبي ثور أنه لا بأس ببيع الدقيق بالسويق متفاضلا لأنهما جنسان، ولنا أنهما اجزاء جنس
واحد فلم يجز التفاضل بينهما كالدقيق مع الدقيق والسويق بالسويق.
(فصل) فأما ما فيه غيره كالخبز وغيره فهو نوعان (أحدهما) أن يكون ما فيه من غيره غير مقصود
في نفسه إنما جعل فيه لمصلحته كالخبز والنشاء فيجوز بيع كل واحد منهما بنوعه إذا تساويا في النشافة
والرطوبة، ويعتبر التساوي في الوزن لأنه يقدر به في العادة ولا يمكن كيله، وقال مالك إذا تحرى
أن يكون مثلا بمثل فلا بأس به وان لم يوزن به قال الأوزاعي وأبو ثور وحكي عن أبي حنيفة لا بأس
به قرصا بقرصين، وقال الشافعي لا يجوز بيع بعضه ببعض بحال الا أن ييبس ويدق دقا ناعما ويباع
بالكيل ففيه قولان لأنه مكيل يجب التساوي فيه ولا يمكن كيله فتعذرت المساواة فيه ولان في كل واحد
منهما من غير جنسه فلم يجز بيعه به كالمغشوش من الذهب والفضة وغيرهما، ولنا على وجوب التساوي
أنه مطعوم موزون فحرم التفاضل فيهما كاللحم واللبن ومتى وجب التساوي وجبت معرفة حقيقة التساوي
141

في المعيار الشرعي كالحنطة بالحنطة والدقيق بالدقيق. ولنا على الشافعي أن معظم نفعه في حال رطوبته فجاز
بيعه به كاللبن باللبن ولا يمتنع أن يكون موزونا أصله غير موزون كاللحم والادهان، ولا يجوز بيع الرطب
باليابس لانفراد أحدهما بالنقص في ثاني الحال فأشبه الرطب بالتمر، ولا يمنع زيادة أخذ النار من أحدهما
أكثر من الآخر حال رطوبتهما إذا لم يكثر لأن ذلك يسير ولا يمكن التحرز منه أشبه بيع الحديثة
بالعتيقة ولا يلزم ما فيه من الملح والماء لأن ذلك ليس بمقصود فيه ويراد لمصلحته فهو كالملح في الشيرج
وان يبيس الخبز فدق وجعل قتيتا بيع بمثله كيلا لأنه أمكن كيله فرد إلى أصله، وقال ابن عقيل فيه وجه
آخر أنه يباع بالوزن لأنه انتقل إليه (النوع الثاني) ما فيه غيره مما هو مقصود كالهريسة والخزيرة
والفالوذج وخبز الأبازير والخشكنانج والسنبوسك ونحوه فلا يجوز بيع بعضه ببعض ولا بيع نوع
بنوع آخر لأن كل واحد منهما يشتمل على ما ليس من جنسه وهو مقصود كاللحم في الهريسة والعسل
في الفالوذج والماء والدهن في الخزيرة ويكثر التفاوت في ذلك فلا يتحقق التماثل فيه وإذا لم يكن التماثل
في النوع الواحد ففي النوعين أولى
(فصل) والحكم في الشعير وسائر الحبوب كالحكم في الحنطة ويجوز بيع الحنطة والمصنوع منها
بغيرها من الحبوب والمصنوع منها لعدم اشتراط المماثلة بينهما والله أعلم.
{مسألة} قال (وسائر اللحمان جنس واحد)
أراد جميع اللحم وجمعه - وهو اسم جنس - لاختلاف أنواعه. ظاهر كلام الخرقي أن اللحم كله
جنس واحد وذكره أبو الخطاب وابن عقيل رواية عن أحمد وهو قول أبي ثور وأحد قولي الشافعي
وأنكر القاضي أبو يعلي كون هذا رواية عن أحمد وقال الانعام والوحوش والطير ودواب الماء أجناس
يجوز التفاضل فيها رواية واحدة وإنما في اللحم روايتان (أحداهما) أنه أربعة أجناس كما ذكرنا وهو
مذهب مالك الا انه يجعل الانعام والوحش جنسا واحدا فيكون عنده ثلاثة أصناف (والثانية) أنه
أجناس باختلاف أصوله، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وهي أصح لأنها فروع أصول هي
أجناس فكانت أجناسا كالأدقة والأخباز وهذا اختيار ابن عقيل، واختار القاضي أنها أربعة أجناس وحمل
كلام الخرقي عليها، واحتج بان لحم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها والقصد إلى أكلها فكانت أجناسا
وهذا ضعيف جدا لأن كونها أجناسا لا يوجب حصرها في أربعة أجناس ولا نظير لهذا فيقاس عليه
ولا يصح حمل كلام الخرقي عليه لعدم احتمال لفظه له وتصريحه في الايمان بأنه إذا حلف لا يأكل لحما
فأكل من لحم الانعام أو الطائر أو السمك حنث فيتعين حمل كلامه في عمومه في أن جميع اللحم جنس
لأنه اشتراك في الاسم الواحد حال حدوث الربا فيه فكان جنسا واحدا كالطلع، والصحيح أنه أجناس
142

باختلاف أصوله وهذا الدليل ينتقض بالتمر الهندي والتمر البرني وعسل القصب وعسل النحل وغير ذلك
فعلى هذا لحم الإبل كله صنف بخاتيها وعرابها، والبقر عرابها وجواميسها صنف، والغنم ضأنها ومعزها
صنف ويحتمل أن يكونا صنفين لأن الله تعالى سماها في الأزواج الثمانية فقال (ثمانية أزواج من الضأن
اثنين ومن المعز اثنين) ففرق بينهما كما فرق بين الإبل والبقر فقال (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين)
والوحش أصناف بقرها صنف وغنمها صنف وظباؤها صنف وكل ماله يخصه اسم يخصه فهو صنف والطيور
أصناف كل ما انفرد باسم وصفة فهو صنف فيباع لحم صنف بلحم صنف آخر متفاضلا ومتماثلا ويباع
بصفة متماثلا ومن جعلها صنفا واحدا لم يجز عنده بيع لحم بلحم الا متماثلا
{مسألة} قال (ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا ويجوز إذا تناهى جفافه مثلا بمثل)
اختار الخرقي أنه لا يباع بعضه ببعض الا في خال جفافه وذهاب رطوبته كلها وهو مذهب الشافعي
وذهب أبو حفص في شرحه إلى هذا، قال القاضي والمذهب جواز بيعه ونص عليه، وقوله في الرطب
بالرطب بجواز البيع ينبه على إباحة بيع اللحم باللحم من حيث كان اللحم حال كماله ومعظم نفعه في
حال رطوبته دون حال يبسه فجرى مجرى اللبن بخلاف الرطب فإن حال كماله ومعظم نفعه في حال
يبسه فإذا جاز فيه البيع ففي اللحم أولى ولأنه وجد التماثل فيهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما
بالنقص فجاز كبيع اللبن باللبن، فأما بيع رطبه بيابسه أو نيئه بمطبوخه أو مشوية فغير جائز لانفراد أحدهما
بالنقص في الثاني فلم يجز كالرطب بالتمر
(فصل) قال القاضي ولا يجوز بيع بعضه ببعض الا منزوع العظام كما لا يجوز بيع العسل بالعسل الا بعد
التصفية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وكلام أحمد رحمه الله يقتضي الإباحة من غير نزع
عظامه ولا جفافه قال في رواية حنبل إذا صار إلى الوزن مثلا بمثل رطلا برطل فأطلق ولم يشترط شيئا
وذلك لأن العظم تابع للحم بأصل الخلقة فلم يشترط نزعه كالنوى في التمر وفارق العسل من حيث إن
اختلاط الشمع بالعسل من فعل النحل لا من أصل الخلقة
(فصل) واللحم والشحم جنسان والكبد صنف والطحال صنف والقلب صنف والمخ صنف
ويجوز بيع كل صنف بصنف آخر متفاضلا، وقال القاضي لا يجوز بيع اللحم بالشحم وكره مالك ذلك
الا أن يتماثلا، وظاهر المذهب إباحة البيع فيهما متماثلا ومتفاضلا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي
لأنهما جنسان فجاز فيهما كالذهب والفضة وان منع منه لكون اللحم لا يخلو من شحم لم يصح لأن
الشحم لا يظهر وإن كان فيه شئ فهو غير مقصود فلا يمنع البيع ولو منع لذلك لم يجز بيع لحم بلحم
لاشتمال كل واحد منهما على ما ليس من جنسه ثم لا يصح هذا عند القاضي لأن السمين الذي يكون
143

مع اللحم لحم عنده فلا يتصور اشتمال اللحم على الشحم، وذكر القاضي أن اللحم الأبيض الذي على
ظاهر اللحم الأحمر هو والأحمر جنس واحد وان الالية والشحم جنسان وظاهر كلام الخرقي خلاف هذا
لقوله ان اللحم لا يخلو من شحم ولو لم يكن هذا شحما لم يختلط لحم بشحم فعلى قوله كل ابيض في الحيوان يذوب
بالاذبة ويصير دهنا فهو جنس واحد وهذا أصح لقوله تعالى (حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما)
فاستثنى ما حملت الظهور من الشحم ولأنه يشبه الشحم في ذوبه ولونه ومقصده فكان شحما كالذي في البطن
(فصل) وفي اللبن روايتان (إحداهما) وهو جنس واحد لما ذكرنا في اللحم (والثانية) هو أجناس
باختلاف أصوله كاللحم وهذا مذهب الشافعي، وبه قال مالك لأن الانعام كلها جنس واحد وقال ابن
عقيل لبن البقر الأهلية والوحشية جنس واحد على الروايات كلها لأن اسم البقر يشملهما وليس
بصحيح لأن لحمهما جنسان فكان لبنها جنسين كالإبل والبقر ويجوز بيع اللبن بغير جنسه متفاضلا وكيف
شاء يدا بيد وبجنسه متماثلا كيلا، قال القاضي هو مكيل لا يباع الا بالكيل لأنه العادة فيه ولافرق
بين أن يكونا حليبين أو حامضين أو أحدهما حليب والآخر حامض لأن تغيير الصفة لا يمنع جواز
البيع كالجودة والرداءة وان شيب أحدهما بماء أو غيره لم يجز بيعه بخالص ولا بمشوب من جنسه لأن
معه من غير جنسه لغير مصلحته
(فصل) ويتفرع من اللبن قسمان ما ليس فيه غيره كالزبد والسمن والمخيض واللبأ وما فيه غيره
وكلاهما لا يجوز بيعه باللبن لأنه مستخرج من اللبن فلم يجز بيعه بأصله الذي فيه منه كالحيوان باللحم
والسمسم بالشيرج وهذا مذهب الشافعي وعن أحمد أنه يجوز بيع اللبن بالزبد إذا كان الزبد المنفرد أكثر
من الزبد الذي في اللبن، وهذا يقتضي جواز بيعه به متفاضلا ومنع جوازه متماثلا. قال القاضي وهذه
الرواية لا تخرج على المذهب لأن الشيئين إذا دخلهما الربا لم يجز بيع أحدهما بالآخر ومعه من غير
144

جنسه كمد عجوة ودرهم بمدين، والصحيح أن هذه الرواية داله على جواز البيع في مسألة مد عجوة وكونها
مخالفة لروايات أخر لا يمنع كونها رواية كسائر الروايات المخالفة لغيرها لكنها مخالفة لظاهر المذهب
والحكم في السمن كالحكم في الزبد، وأما اللبن بالمخيض الذي فيه زبدة فلا يجوز نص عليه أحمد فقال اللبن
بالمخيض لا خير فيه. ويتخرج الجواز كالتي قبلها، وأما اللبن باللبأ فإن كان قبل أن تمسه النار جاز مماثلا
لأنه لبن بلبن وان مسته النار لم يجز، وذكر القاضي وجها أنه يجوز وليس بصحيح لأن النار عقدت
أجزأ أحدهما وذهبت ببعض رطوبته فلم يجز بيعه بما لم تمسه النار كالخبز بالعجين والمقلية بالنيئة وهذا
مذهب الشافعي، وأما بيع النوع من فروع اللبن بنوعه فما فيه خلط من غير اللبن كالكشك والكامخ
ونحوهما لا يجوز بيعه بنوعه ولا بغيره لأنه مختلط بغيره فهو كمسألة مد عجوة وما ليس فيه غيره أو فيه غيره
الا أن ذلك الغير لمصلحته فيجوز بيع كل نوع منه بعضه ببعض إذا تساويا في النشافة والرطوبة فيبيع المخيض
بالمخيض واللبأ باللبأ والجبن بالجبن والمصل بالمصل والأقط بالأقط والزبد بالزبد والسمن بالسمن متساويا،
ويعتبر التساوي بين الاقط بالأقط بالكيل لأنه قدر بالصاع في صدقة الفطر وهو يشبه المكيلات وكذلك المصل
والمخيض، ويباع الخبز بالخبز بالوزن لأنه موزون ولا يمكن كيله فأشبه الخبز (1)
وكذلك الزبد والسمن ويتخرج
ان يباع السمن بالكيل ولا يباع ناشف من ذلك برطب كما لا يباع الرطب بالتمر، ويحتمل كلام الخرقي
ان لا يباع رطب من ذلك برطب كاللحم وأما بيع ما نزع من اللبن بنوع آخر كالزبد والسمن والمخيض
فظاهر المذهب أنه يجوز بيع الزبد والسمن بالمخيض مماثلا ومتفاضلا لأنهما جنسان وذلك لأنهما شيئان من
أصل واحد أشبها اللحم بالشحم، وممن أجاز بيع الزبد بالمخيض الثوري والشافعي وإسحاق ولان اللبن
الذي في الزبد غير مقصود وهو يسير فأشبه الملح في الشيرج، وبيع السمن بالمخيض أولى بالجواز لخلو
السمن من المخيض ولا يجوز بيع الزبد بالسمن لأن في الزبد لبنا يسيرا ولا شئ في السمن فيختل
التماثل ولأنه مستخرج من الزبد فلم يجز بيعه به كالزيتون بالزيت وهذا مذهب الشافعي، وقال القاضي
عندي يجوز لأن اللبن في الزبد غير مقصود فوجوده كعدمه ولذلك جاز بيعه بالمخيض وبزبد مثله وهذا
لا يصح لأن التماثل واجب بينهما وانفراد أحدهما بوجود اللبن فيه يخل بالتماثل فلم يجز بيعه به كتمر
منزوع النوى بتمر فيه نواه ولان أحدهما ينفرد برطوبة لا توجد في الآخر فأشبه الرطب بالتمر
والعنب بالزبيب وكل رطب بيابس من جنسه، ولا يجوز بيع شئ من الزبد والسمن والمخيض
بشئ من أنواع اللبن كالجبن واللبأ ونحوهما لأن هذه الأنواع لم ينتزع منها شئ فيكون حكمها حكم
اللبن الذي فيه زبده فلم يجز بيعها بها كبيع اللبن بها، وأما بيع الجبن بالأقط فلا يجوز مع رطوبتهما

(1) (كذا في الأصل)
145

أو رطوبة أحدهما كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر، وان كانا يابسين احتمل أن لا يجوز أيضا لأن الجبن
موزون والأقط مكيل فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالخبز بالدقيق ويحتمل الجواز إذا تماثلا كبيع الخبز بالخبز
{مسألة} (قال ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان)
لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه وهو مذهب مالك والشافعي وقول
146

فقهاء المدينة السبعة وحكي عن مالك أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد للحم ويجوز بغيره، وقال
أبو حنيفة يجوز مطلقا لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه أشبه بيع اللحم بالدراهم أو بلحم من غير جنسه
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم
147

عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر هذا أحسن أسانيده وروى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه نهى أن يباع حي بميت ذكره الإمام أحمد، وروي عن ابن عباس أن جزورا نحرت فجاء رجل بعناق فقال
اعطوني جزأ بهذا العناق فقال أبو بكر لا يصلح هذا قال الشافعي لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك، وقال أبو الزناد
148

وكل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان ولان اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع
السمسم بالشيرج، وبهذا فارق ما قاسوا عليه، وأما بيع اللحم بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد والخرقي
أنه لا يجوز فإن أحمد سئل عن بيع الشاة باللحم فقال لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حي
149

بميت واختار القاضي جوازه، وللشافعي فيه قولان. واحتج من منعه بعموم الاخبار وبان اللحم كله
جنس واحد. ومن أجازه قال مال الربا بيع بغير أصله ولا جنسه فجاز كما لو باعه بالأثمان وان باعه بحيوان
غير مأكول اللحم جاز في ظاهر قول أصحابنا وهو قول عامة الفقهاء
150

فصل ولا يجوز بيع شئ من مال الربا بأصله الذي فيه منه كالسمسم بالشيرج والزيتون بالزيت
وسائر الادهان بأصولها والعصير بأصله كعصير العنب والرمان والتفاح والسفرجل وقصب السكر لا
يباع شئ منها بأصله وبه قال الشافعي وابن المنذر. وقال أبو ثور يجوز لأن الأصل مختلف والمعنى
151

مختلف. وقال أبو حنيفة يجوز إذا علم يقينا أن ما في الأصل من الدهن والعصير أقل من المنفرد وان لم يعلم لم يجز
ولنا أنه مال ربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان وقد أثبتنا ذلك بالنص
(فصل) فأما بيع شئ من هذه المعتصرات بجنسه فيجوز متماثلا ويجوز بيعه بغير جنسه متفاضلا
152

وكيف شاء لأنهما جنسان ويعتبر التساوي فيهما بالكيل لأنه يقدر به ويباع به عادة هذا مذهب الشافعي
وسواء كانا مطبوخين أو نيئين، وقال أصحاب الشافعي لا يجوز بيع المطبوخ بجنسه لأن النار تعقد
أجزاءهما فيختلف ويؤدي إلى التفاضل، ولنا أنهما متساويان في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص فأشبه
153

النئ بالنئ فأما بيع النئ بالمطبوخ من جنس واحد فلا يجوز لأن أحدهما ينفرد بالنقص في ثاني الحال
فلم يجز بيعه به كالرطب بالتمر. وان باع عصير شئ من ذلك بثقله فإن كانت فيه بقية من المستخرج منه لم
يجز بيعه به فلا يجوز بيع الشيرج بالكسب ولا الزيت بثفله الذي فيه بقية من الزيت الا على الرواية
154

التي يجوز فيها مسألة مد عجوة فإن لم يبق فيه شئ من عصيره جاز بيعه به متفاضلا ومتماثلا لأنهما جنسان
(فصل) وان باع شيئا فيه الربا بعضه ببعض ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه كمد ودرهم بمد
155

ودرهم أو بمدين أو بدرهمين، أو باع شيئا محلى بجنس حليته فهذه المسألة تسمى " مسألة مدعجوة " والمذهب
انه لا يجوز ذلك نص على ذلك أحمد في مواضع كثيرة وذكره قدماء الأصحاب قال ابن أبي موسى في السيف
المحلى والمنطقة والمراكب المحلاة بجنس ما عليها لا يجوز قولا واحدا وروي هذا عن سالم بن عبد الله
والقاسم بن محمد وشريح وابن سيرين، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور، وعن أحمد رواية أخرى تدل
على أنه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره أو يكون مع كل واحد منهما من غير
جنسه فإن مهنا نقل عن أحمد في بيع الزبد باللبن يجوز إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في
اللبن، وروى حرب قال قلت لأحمد دفعت دينارا كوفيا ودرهما وأخذت دينارا شاميا وزنهما سواء
لكن الكوفي أوضع قال لا يجوز الا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة. وكذلك روى عنه محمد بن
أبي حرب الجرجرائي وروى الميموني أنه سأله لا يشتري السيف والمنطقة حتى يفصلها؟ فقال لا يشتريها حتى
يفصلها الا ان هذا أهون من ذلك لأنه قد يشتري أحد النوعين بالآخر يفصله وفيه غير النوع الذي
يشتري به فإذا كان من فضل الثمن الا أن من ذهب إلى ظاهر القلادة لا يشتريه حتى يفصله. قيل له
فما تقول أنت؟ قال هذا موضع نظر، وقال أبو داود سمعت أحمد سئل عن الدراهم المسيبية بعضها
صفر وبعضها فضة بالدراهم؟ قال لا أقول فيه شيئا، قال أبو بكر روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خمسة
عشر نفسا كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز حتى يفصل الا الميموني ونقل مهنا كلاما آخر، وقال حماد بن
أبي سليمان وأبو حنيفة يجوز هذا كله إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره أو كان مع كل واحد
منهما من غير جنسه، وقال الحسن لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم، وبه قال الشعبي والنخعي
واحتج من أجاز ذلك بان العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد لأنه لو اشترى لحما من
قصاب جاز مع احتمال كونه ميتة ولكن وجب حمله على أنه مذكى تصحيحا للعقد، ولو اشترى من انسان
156

شيئا جاز مع احتمال كونه غير ملكه ولا اذن له في بيعه تصحيحا للعقد أيضا وقد أمكن التصحيح ههنا
بجعل الجنس في مقابلة غير الجنس أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائدة على المثل
ولنا ما روى فضالة بن عبيد قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير
أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا حتى تميز بينهما " قال فرده حتى ميز بينهما رواه أبو
داود، وفي لفظ رواه مسلم قال فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع
وحده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزنا بوزن " ولان العقد إذا جمع
عوضين مختلفي الجنس وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه فإذا اختلفت
القيمة اختلف ما يأخذه من العوض. بيانه أنه إذا اشترى عبدين قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر
بعشرة كان ثمن أحدهما ثلثي العشرة والآخر ثلثها فلو رد أحدهما بعيب رده بقسطه من الثمن ولذلك
إذا اشترى شقصا وسيفا بثمن أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، فإذا فعلنا هذا فيمن باع درهما
ومدا قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد والمد الذي مع الدرهم في مقابلة
مد وثلث فهذا إذا تفاوتت القيم، ومع التساوي يجهل ذلك لأن التقويم طن وتخمين والجهل بالتساوي
كالعلم بعدمه في باب الربا ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص، وقولهم يجب تصحيح العقد
ليس كذلك بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد ولذلك لو باع بثمن وأطلق وفي البلاد نقود بطل
ولم يحمل على نقد أقرب البلاد إليه أما إذا اشترى من انسان شيئا فإنه يصح لأن الظاهر أنه ملكه لأن
اليد دليل الملك وإذا باع لحما فالظاهر أنه مذكى لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة
157

(فصل) فاما ان باع نوعين مختلفي القيمة من جنس بنوع واحد من ذلك الجنس كدينار مغربي
ودينار سابوري بدينارين مغربيين أو دينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين أو قراضتين
أو حنطة حمراء وسمراء بيضاء أو تمر برنيا ومعقليا بابرحيمي فإنه يصح قال أبو بكر وأومأ إليه أحمد
واختار القاضي أبو يعلى أن الحكم فيها كالتي قبلها، وهو مذهب مالك الشافعي لأن العقد يقتضي انقسام
الثمن على عوضه على حسب اختلافه في قيمته كما ذكرنا، وروي عن أحمد منع ذلك في النقد
وتجويزه في الثمن نقله أحمد بن القاسم لأن الأنواع في غير الأثمان يكثر اختلاطها ويشق
تميزها فعفي عنها بخلاف الأثمان،
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل " الحديث
وهذا يدل على إباحة البيع عند وجود المماثلة المراعية وهي المماثلة في الموزون وزنا وفي المكيل كيلا
ولان الجودة ساقطة في باب الربويات فيما قوبل بجنسه فيما لو اتحد النوع في كل واحد من الطرفين
فكذلك إذا اختلفا، واختلاف القيمة ينبني على الجودة والرداء ولأنه باع ذهبا بذهب متساويا في
الوزن فصح كما لو اتفق النوع وإنما يقسم العوض على المعوض فيما يشتمل على جنسين أو في غير الربويات
بدليل ما لو باع نوعا بنوع يشتمل على جيد وردئ
(فصل) وان باع ما فيه الربا بغير جنسه ومعه من جنس ما بيع به الا أنه غير مقصود كدار مموه
سقفها بالذهب جاز، لا أعلم فيه خلافا، وكذلك لو باع دارا بدار مموه سقف كل واحدة منهما بذهب
أو فضة جاز لأن ما فيه الربا غير مقصود بالبيع فوجوده كعدمه، وكذلك لو اشترى عبدا له مال فاشترط
ماله وهو من جنس الثمن جاز إذا كان المال غير مقصود، ولو اشترى عبدا بعبد واشترط كل واحد منهما
158

مال العبد الذي اشتراه جاز إذا لم يكن له مقصودا لأنه غير مقصود بالبيع فأشبه التمويه في السقف
ولذلك لا تشرط رؤيته في صحة البيع ولا لزومه وان باع شاة ذات لبن بلبن أو عليها صوف بصوف
أو باع لبونا بلبون وذات صوف بمثلها ففيه وجهان (أحدهما) الجواز اختاره ابن حامد؟ وهو قول
أبي حنيفة وسواء كانت الشاة حية أو مذكاة لأن ما فيه الربا غير مقصود فلم يمنع كالدار المموه سقفها
(والثاني) المنع وهو مذهب الشافعي لأنه باع مال الربا بأصله الذي فيه منه أشبه الحيوان باللحم. والفرق
بينهما أن اللحم في الحيوان مقصود بخلاف اللبن، ولو كانت الشاة محلوبة اللبن جاز بيعها بمثلها وباللبن
وجها واحدا لأن اللبن لا أثر له ولا يقابله شئ من الثمن فأشبه الملح في الشيرج والخبز والجبن وحبات
الشعير في الحنطة ولا نعلم فيه أيضا خلافا وكذلك لو كان اللبن المنفرد من غير جنس لبن الشاة جاز
بكل حال ولو باع نخلة عليها تمر بتمر أو بنخلة عليها تمر ففيه أيضا وجهان (أحدهما) الجواز اختاره
أبو بكر لأن التمر غير مقصود بالبيع (والثاني) لا يجوز، ووجه الوجهين ما ذكرناه في المسألة قبلها، واختار القاضي أنه لا يجوز وفرق بينها وبين الشاة ذات اللبن بكون الثمرة يصح إفرادها بالبيع وهي معلومة
159

بخلاف اللبن في الشاة وهذا الفرق غير مؤثر فإن ما يمنع إذا جاز إفراده يمنع وان لم يجز افراده كالسيف
المحلى بجنس حليته ومالا يمنع لا يمنع وان جاز إفراده كمال العبد
(فصل) وان باع جنسا فيه الربا بجنسه ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود فذلك ينقسم
أقساما (أحدهما) أن يكون غير المقصود يسيرا لا يؤثر في كيل ولا وزن كالملح فيما يعمل فيه وحبات
الشعير في الحنطة فلا يمنع لأنه يسير لا يخل بالتماثل وكذلك لو وجد في أحدهما دون الآخر لم يمنع
لذلك، ولو باع ذلك بجنس غير المقصود الذي معه مثل أن بيع الخبز بالملح جاز لأن وجود ذلك
كعدمه (الثاني) أن يكون غير المقصود كثيرا الا أنه لمصلحة المقصود كالماء في خل التمر والزبيب
ودبس التمر فهذا يجوز بيع الشئ منه بمثله ويتنزل خلطه منزلة رطوبته لكونه من مصلحته فلا يمنع من بيعه
بما يماثله كالرطب بالرطب ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط كبيع خل العنب بخل الزبيب لافضائه إلى
التفاضل فجرى مجرى بيع التمر بالرطب. ومنع الشافعي ذلك كله الا بيع الشيرج بالشيرج لكون الماء
لا يظهر في الشيرج (الثالث) أن يكون غير مقصود كثيرا وليس من مصلحته كاللبن المشوب بالماء
والأثمان المغشوشة بغيرها فلا يجوز بيع بعضها ببعض لأن خلطه ليس من مصلحته وهو يخل بالتماثل
المقصود فيه، وان باعه بجنس غير المقصود كبيع الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم احتمل الجواز لأنه
يبيعه بجنس غير مقصود فيه فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن ويحتمل المنع بناء على الوجه الآخر في الأصل
160

وان باع دينارا مغشوشا بمثله والغش فيهما متفاوت أو غير معلوم المقدار لم يجز لأنه يخل بالتماثل
المقصود، وان علم التساوي في الذهب والغش الذي فيهما خرج على الوجهين أولاهما الجواز
لأنهما تماثلا في المقصود وفي غيره ولا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة لكون الغش غير
مقصود فكأنه لا قيمة له.
(فصل) ولو دفع إليه ردهما فقال أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم وبنصفه فلوسا أو حاجة
أخرى جاز لأنه اشترى نصفا بنصف وهما متساويان فصح كما لو دفع إليه درهمين وقال بعني بهذا الدرهم
فلوسا وأعطني بالآخر نصفين، وان قال اعطني بهذا الدرهم نصفا وفلوسا جاز أيضا لأن معناه ذلك
ولان ذلك لا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة فإن قيمة النصف الذي في الدرهم كقيمة النصف الذي
مع الفلوس يقينا وقيمة الفلوس كقيمة النصف الآخر سواء.
(فصل) وما كان مشتملا على جنسين بأصل الخلقة كالتمر الذي اشتمل على النوى وما عليه والحيوان
المشتمل على لحم وشحم وغيره وأشباه ذلك فهذا إذا قوبل بمثله جاز بيعه به ولا نظر إلى ما فيه فإن
النبي صلى الله عليه وسلم أجاز بيع التمر بالتمر والحيوان بالحيوان وقد علم اشتمالهما على ما فيهما، ولو باع ذلك بنوع غير
مقصود فيه كبيع التمر الذي فيه النوى بالنوى ففيه عن أحمد روايتان قد ذكرناهما فيما مضى، فأما العسل قبل
تصفيته فقال أصحابنا لا يجوز بيع بعضه ببعض لاشتماله على عسل وشمع وذلك بفعل النحل فأشبه السيف المحلى
161

(فصل) ويحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الاسلام، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو
يوسف والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في
مسلمين أسلما في دار الحرب لا ربا بينهما لما روي مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا ربا بين المسلمين
وأهل الحرب في دار الحرب " (1) ولان أموالهم مباحة وإنما حظرها الأمان في دار الاسلام فما لم
يكن كذلك كان مباحا، ولنا قول الله تعالى (وحرم الربا) وقوله (الذين يأكلون الربا لا يقومون

(1) الحديث مرسل غريب وهو يحتج بمرسل الثقة، والأصل في هذا عنده ان مال الحربي مباح الأصل
فالوسيلة لاخذه برضاه لا تخرجه عن أصله بخلاف مال المستأمن والذمي قالوا ولذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم
للصديق اكل القمار من بعض مشركي مكة لما راهنه على غلب الروم للفرس وصرح بعضهم بأن المباح ان
يأخذ المسلم مال الحربي دون العكس
162

الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي
من الربا) وعموم الاخبار يقتضي تحريم التفاضل وقوله " من زاد أو ازداد فقد أربى " عام وكذلك
سائر الأحاديث ولان ما كان محرما في دار الاسلام كان محرما في دار الحرب كالربا بين المسلمين وخبرهم
مرسل لا نعرف صحته ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت
به السنة وانعقد الاجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به وهو
مع ذلك مرسل محتمل، ويحتمل أن المراد بقوله " لا ربا " النهي عن الربا (1) * (كقوله (لا رفث ولا
فسوق ولا جدال في الحج) وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الاسلام فإن
ماله مباح الا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل وهو محرم بالاجماع فكذا ههنا

(1) ممنوع لذكر خبر لافي الحديث
163

{مسألة} قال (وإذا اشترى ذهبا بورق عينا بعين فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا فله
الخيار ين أن يرد أو يقبل إذا كان بصرف يومه وكان العيب يدخل عليه من غير جنسه)
معنى قوله عينا بعين هو أن يقول بعتك هذا الدينار بهذه الدارهم ويشير إليهما وهما حاضران
وبغير عينه أن يوقع العقد على موصوف غير مشار إليه فيقول بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم ناصرية
وان وقع القبض في المجلس وقد يكون أحد العوضين معينا دون الآخر وكل ذلك جائز، والمشهور في
المذهب أن النقود تتعين بالتعيين في العقود فيثبت الملك في أعيانها فعلى هذا إذا تبايعا ذهبا بفضة مع
164

التعيين فيهما ثم تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا لم يخل من قسمين (أحدهما) أن يكون العيب غشا
من غير جنس المبيع مثل أن يجد الدراهم رصاصا أو نحاسا أو فيه شئ من ذلك أو الدينار مسا فالصرف
باطل نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وذكر أبو بكر فيها ثلاث روايات (إحداهن) البيع باطل
(والثانية) البيع صحيح لأن البيع وقع على عينه وللمشتري الخيار بين الامساك أو الرد وأخذ البدل
(والثالثة) يلزمه العقد وليس له رده ولا بدله
165

ولنا أنه باعه غير ما سمى له فلم يصح كما لو قال بعتك هذه البغلة فإذا هو حمار أو هذ الثوب القز فوجده كتانا،
وأما القول بأنه يلزمه المبيع فغير صحيح فإن اشترى معيبا لم يعلم عيبه فلم يلزمه ذلك
بغير أرش كسائر المبيعات، ثم إن أبا بكر يقول فيمن دلس العيب لا يصح بيعه مع وجود ذات المسمى
في البيع فههنا مع اختلاف الذات أولى (القسم الثاني) أن يكون العيب من جنسه مثل كون الفضة
سوداء أو خشنة تتفطر عند الضرب أو سكتها مخالفة لسكة السلطان فالعقد صحيح والمشتري مخير بين
166

الامساك وبين فسخ العقد والرد، وليس له البدل لأن العقد واقع على عينه فإذا أخذ غيره أخذ ما لم يشتره
وإن قلنا إن النقد لا يتعين بالتعيين في العقد فله أخذ البدل ولا يبطل العقد لأن الذي قبضه ليس هو
المعقود عليه فأشبه السلم إذا قبضه فوجد به عيبا، وإن كان العيب في بعضه فله رد الكل أو امساكه، وهل
له رد المعيب وامساك الصحيح؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة، والحكم فيما إذا كان العوضان من
جنس واحد كالحكم في الجنسين على ما ذكرنا لكن يتخرج على قول من منع بيع النوعين بنوع واحد
167

من ذلك الجنس أنه إذا وجد بعض العوض معيبا أن يبطل العقد في الجميع لأن الذي يقابل المعيب أقل
من الذي يقابل الصحيح فيصير كمسألة مدعجوة ومذهب الشافعي مثل ما ذكرنا في هذا الفصل سواء
(فصل) ولو أراد أخذ أرش العيب والعوضان في الصرف من جنس واحد لم يجز لحصول الزيادة
في أحد العوضين وفوات المماثلة المشترطة في الجنس الواحد، وخرج القاضي وجها بجواز أخذ الأرش
في المجلس لأن الزيادة طرأت بعد العقد، وليس لهذا الوجه وجه فإن أرش العيب من العوض يجبر به
في المرابحة ويأخذ به الشفيع ويرد به إذا رد المبيع بفسخ أو إقالة ولو لم يكن من العوض فبأي شئ
استحقه المشتري فإنه ليس بهبة على أن الزيادة في المجلس لأن من العوض ولو لم يكن أرشا فالأرش أولى
وإن كان الصرف بغير جنسه فله أخذ الأرش في المجلس لأن المماثلة غير معتبرة وتخلف قبض بعض العوض
عن بعض ماداما في المجلس لا يضر فجاز كما في سائر البيع، وإن كان بعد التفرق لم يجز لأنه يفضي
إلى حصول التفرق قبل القبض لاحد العوضين الا أن يجعلا الأرش من غير جنس الثمن كأنه أخذ
أرش عيب الفضة قفيز حنطة فيجوز، وذلك الحكم في سائر أموال الربا فيما بيع بجنسه أو بغير جنسه
مما يشترط فيه القبض، فإذا كان الأرش مما لا يشترط قبضه كمن باع قفيز حنطة بقفيزي شعير فوجد أحدهما
(1) عيبا فأخذ أرشه درهما جاز وإن كان بعد التفرق لأنه لم يحصل التفرق قبل قبض ما شرط فيه القبض.
(فصل) قول الخرقي إذا كان بصرف يومه يعني الرد جائز ما لم ينقص قيمة ما أخذه من النقد عن
قيمته يوم اصطرفا فإن نقصت قيمته كأن أخذ عشرة بدينار فصارت أحد عشر فظاهر كلام أحمد
والخرقي أنه لا يملك الرد لأن المبيع تعيب في يده لنقص قيمته وان كانت قيمته قد زادت مثل أن
صارت تسعة بدينار لم يمنع الرد لأنه زيادة وليس بعيب، والصيح أن هذا لا يمنع الرد لأن تغير السعر

(1) كذا ومثله ما في الشرح كما ترى في أدنى الصحفة ولعل أصله، فوجد في أحدهما عيبا
168

ليس بعيب ولهذا لا يضمن في الغصب ولا يمنع من الرد بالعيب في القرض ولو كان عيبا فإن ظاهر المذهب
أنه إذا تعيب المبيع عند المشتري ثم ظهر على عيب قديم فله رده ورد أرش العيب الحادث عنده وأخذ الثمن.
(فصل) وان تلف العوض في الصرف بعد القبض ثم علم عيبه فسخ العقد ورد الموجود وتبقى
قيمة العيب في ذمة من تلف في يده فيرد مثلها أو عوضها ان اتفقا على ذلك سواء كان الصرف بجنسه
أو بغير جنسه ذكره ابن عقيل وهو قول الشافعي، قال ابن عقيل وقد روي عن أحمد جواز أخذ
الأرش والأول أولى أن يكونا في المجلس والعوضان من جنسين
(فصل) إذا علم المصطر فإن قدر العوضين جاز أن يتبايعا بغير وزن، وكذلك لو أخبر أحدهما
الآخر بوزن ما معه فصدقه فإذا باع دينار بدينار كذلك وافترقا فوجد أحدهما ما قبضه ناقصا بطل
الصرف لأنهما تبايعا ذهبا بذهب متفاضلا، فإن وجد أحدهما فيما قبضه زيادة على الدينار نظرت في
العقد فإن كان قال بعتك هذا الدينار بهذا فالعقد باطل لأنه باع ذهبا بذهب متفاضلا، وإن قال بعتك
دينارا بدينار ثم تقابضا كان الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه لأنه قبضه على أنه عوض ولم
يفسد العقد لأنه إنما باع دينارا بمثله وإنما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه، فإن أراد دفع عوض
الزائد جاز سواء كان من جنسه أو من غير جنسه لأنه معاوضة مبتدأة، وإن أراد أحدهما الفسخ
فله ذلك لأن آخذ الزائد وجد المبيع مختلطا بغيره معيبا بعيب الشركة ودافعه لا يلزمه أخذ عوضه إلا
أن يكونا في المجلس فيرد الزائد ويدفع بدله، ولو كان لرجل على رجل عشرة دنانير فوفاة عشرة
عددا فوجدها أحد عشر كان هذا الدينار الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه لأنه قبضه على
أنه عوض عن ماله فكان مضمونا بهذا القبض ولمالكه التصرف فيه كيف شاء
(فصل) والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في القد بمعنى أنه يثبت الملك بالعقد فيما عيناه ويتعين
عوضا فيه فلا يجوز ابداله، وإن خرج مغصوبا بطل العقد، وبهذا قال مالك والشافعي، وعن أحمد
أنها لا تتعين بالعقد فيجوز ابدالها ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبة وهذا مذهب أبي حنيفة لأنه يجوز
اطلاقها في العقد فلا تتعين بالتعيين فيه كالمكيال والصنجة. ولنا أنه عوض في عقد فيتعين بالتعيين
كسائر الأعواض، ولأنه أحد العوضين فيتعين بالتعيين كالآخر ويفارق ما ذكروه فإنه ليس بعوض
وإنما يراد لتقدير العقود عليه وتعريف قدره ولا يثبت فيها الملك بحال بخلاف مسئلتنا
{مسألة} قال (وإذا تبايعا ذلك بغير عينه فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا فله البدل إذا
كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه كالوضوح في الذهب والسواد في الفضة)
يعنى اصطرفا في الذمة نحو أن يقول بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم فيقول الآخر قبلت فيصح
169

البيع سواء كانت الدراهم والدنانير عندهما أولم يكونا إذا تقابضا قبل الافتراق بأن يستقرضا أو غير
ذلك، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك لا يجوز الصرف إلا أن تكون العينان حاضرتين
وعنه لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين وتعين، وعن زفر مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تبيعوا غائبا منها
بناجز " ولأنه إذا لم يعين أحد العوضين كان بيع دين بدين وهو غير جائز. ولنا أنهما تقابضا في
المجلس فصح كما لو كانا حاضرين والحديث يراد به أن لا يباع عاجل بآجل، أو مقبوض بغير مقبوض
بدليل ما لو عين أحدهما فإنه يصح، وإن كان الآخر غائبا والقبض في المجلس جرى مجرى القبض
حالة العقد ألا ترى إلى قوله " عينا بعين يدا بيد " والقبض يجري في المجلس كذا التعين، إذا ثبت
هذا فلا بد من تعيينهما بالتقابض في المجلس، ومتى تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا قبل التفرق
فله المطالبة بالبدل سواء كان العيب من جنسه أو من غير جنسه لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه
فله المطالبة بما وقع عليه العقد كالمسلم فيه، وان رضيه بعيبه والعيب من جنسه جاز كما لو رضي بالمسلم فيه
معيبا، وإن اختار أخذ الأرش فإن كان العوضان من جنس واحد لم يجز لافضائه إلى التفاضل فيما
يشترط فيه التماثل وإن كانا من جنسين جاز، فأما إن تقابضا وافترقا ثم وجد العيب من جنسه فله ابداله
في أحدى الروايتين اختارها الخلال والخرقي وروي ذلك عن الحسن وقتادة، وبه قال أبو يوسف
ومحمد وهو أحد قولي الشافعي لأن ما جاز ابداله قبل التفرق جاز بعده كالمسلم فيه
(والرواية الثانية) ليس له ذلك هو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي
لأنه يقبضه بعد التفرق ولا يجوز ذلك في الصرف، ومن صار إلى الرواية الأولى قال قبض الأول صح
170

به العقد، وقبض الثاني يدل على الأول ويشترط أن يأخذ البدل في مجلس الرد فإن تفرقا من غير قبض
بطل العقد، وإن وجد البعض رديئا فرده فعلى الرواية الأولى له البدل، وعلى الثانية يبطل في المردود
وهل يصح فيما لم يرد؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة، ولا فرق بين كون المبيع من جنس أو من
جنسين، وقال مالك إن وجد درهما زيفا فرضي به جاز وإن رده انتقض الصرف في دينار، ون رد
أحد عشر درهما انتقض الصرف في دينارين، وكلما زاد على دينار انتقض الصرف في دينار آخر
ولنا أن مالا عيب فيه لم يرد فلم ينتقض الصرف فيما يقابله كسائر العوض، وان اختار واجد
العيب الفسخ فعلى قولنا له البدل ليس له الفسخ إذا أبدل له لأنه يمكنه أخذ حقه غير معيب، وعلى
الرواية الأخرى له الفسخ أو الامساك في الجميع لأنه تعذر عليه الوصول إلى ما عقد عليه مع إبقاء العقد
فإن اختار أخذ أرش العيب بعد التفرق لم يكن له ذلك لأنه عوض يقبضه بعد التفرق عن الصرف
الا على الرواية الأخرى
(فصل) ومن شرط المصارفة في الذمة أن يكون العوضان معلومين إما بصفة يتميزان بها وإما
أن يكون للبلد نقد معلوم أو غالب فينصرف الاطلاق إليه، ولو قال بعتك دينارا مصريا بعشرين
درهما من نقد عشرة بدينار لم يصح الا أن لا يكون في البلد نقد عشرة بدينار الا نوع واحد فتنصرف
تلك الصفقة إليه وكذلك الحكم في البيع
(فصل) إذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر عليه دراهم فاصطرفا بما في ذمتهما لم يصح
وبهذا قال الليث والشافعي، وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة جوازه لأن الذمة الحاضرة
171

كالعين الحاضرة ولذلك جاز أن يشتري الدراهم بدنانير من غير تعيين. ولنا أنه بيع دين بدين ولا
يجوز ذلك بالاجماع، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز وقال أحمد إنما
هو اجماع، وقد روى أبو عبيد في الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ وفسره بالدين
بالدين الا أن الأثرم روى عن أحمد أنه سئل أيصح في هذا حديث؟ قال لا. وإنما صح الصرف بغير
تعيين بشرط أن يتقابضا في المجلس فجرى القبض والتعيين في المجلس مجرى وجوده حالة العقد، ولو
كان لرجل على رجل دنانير فقضاه دراهم شيئا بعد شئ نظرت، فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من
الدينار صح نص عليه أحمد، وإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعد ذلك فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز
نص عليه أيضا لأن الدنانير دين والدراهم صارت دينا فيصير بيع دين بدين، وإن قبض أحدهما من
الآخر ماله عليه ثم صارفه بعين وذمة صح، وإذا أعطاه الدراهم شيئا بعد شئ ولم يقضه ذلك وقت
دفعها إليه ثم أحضرها وقوماها فإنه يحتسب بقيمتها يوم القضاء لا يوم دفعها إليه لأنها قبل ذلك لم تصرف
في ملكه إنما هي وديعة في يده، فإن تلفت أو نقصت فهي من ضمان مالكها، ويحتل أن تكون من
ضمان القابض لها إذا قبضها بنية الاستيفاء لأنها مقبوضة على أنها عوض ووفاء والمقبوض في عقد فاسد
كالمقبوض في العقد الصحيح فيما يرجع إلى الضمان وعدمه، ولو كان لرجل عند صيرفي دنانير فأخذ
منه دراهم إدرارا لتكون هذه بهذه لم يكن كذلك، بل كل واحد منهما في ذمة من قبضه، فإذا أرادا
التصارف أحضرا أحدهما واصطرفا بعين وذمة
(فصل) ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفا بعين وذمة في قول أكثر أهل
172

العلم ومنع منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وروي ذلك عن ابن مسعود لأن
القبض شرط وقد تخلف. ولنا ما روى أبو داود والأثرم في سننهما عن ابن عمر قال: كنت أبيع
الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه
وأعطي هذه من هذه فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله رويدك
أسألك، اني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع الدراهم وآخذ الدنانير
آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا بأس أن تأخذ ها بسعر يومها
ما لم تفترقا وبينكما شئ " قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر لم يختلفوا انه يقضيه إياها بالسعر إلا
ما قال أصحاب الرأي انه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي لأنه بيع في الحال فجاز ما تراضيا عليه إذا
اختلف الجنس كما لو كان العوض عرضا. ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا بأس أن تأخذها بسعر
يومها " وروي عن ابن عمر ان بكر بن عبد الله المزني ومسروقا العجلي سألاه عن كري لهما له عليهما دراهم
وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر اعطوه بسعر السوق. ولان هذا جرى مجرى القضاء فيقيد بالمثل
كما لو قضاه من الجنس والتماثل ههنا من حيث القيمة لتعذر التماثل من حيث الصورة. قيل لأبي
عبد الله فإن أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق في الدينار وما أشبهه فقال إذا كان مما يتغابن الناس به
فسهل فيه ما لم يكن حيلة ويزاد شيئا كثيرا
(فصل) فإن كان المقضي الذي في الذمة مؤجلا فقد توقف أحمد فيه. وقال القاضي يحتمل وجهين
(أحدهما) المنع وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه فكان القبض
173

ناجزا في أحدهما والناجز يأخذ قسطا من الثمن (والآخر) الجواز وهو قول أبي حنيفة لأنه ثابت
في الذمة بمنزلة المقبوض فكأنه رضي بتعجيل المؤجل. والصحيح الجواز إذا قضاه بسعر يومها ولم
يجعل للمقضي فضلا لأجل تأجيل ما في الذمة لأنه إذا لم ينقصه عن سعرها شيئا فقد رضي بتعجيل
ما في الذمة بغير عوض فأشبه ما لو قضاه من جنس الدين ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر حين سأله
ولو افترق الحال لسأل واستفصل
(فصل) قال أحمد ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه دينارا فقال استوف حقك
منه فاستوفاه بعد يومين جاز ولو كان عليه دنانير فوكل غريمه في بيع داره واستيفاء حقه من ثمنها
فباعها بدراهم لم يجز أن يأخذ منها قدر حقه لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه ولأنه متهم، ولو باع
جارية بدنانير فأخذ بها دراهم فردت الجارية بعيب أو إقالة لم يكن للمشتري الا الدنانير لأنه الثمن
الذي وقع عليه العقد وإنما أخذ الدراهم بعقد صرف مستأنف. نص أحمد على هذه المسائل
(فصل) إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته لم يجز كرهه
زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك
والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة، وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك كلا كما قد آذن بحرب
من الله ورسوله، وروى عن ابن عباس انه لم ير به بأسا وروى ذلك عن النخعي وأبي ثور لأنه آخذ
174

لبعض حقه تارك لبعضه فجاز كما لو كان الدين حالا، وقال الخرقي لا بأس أن يعجل المكاتب لسيده
ويضع عنه بعض كتابته، ولنا أنه بيع الحلول فلم يجز كما لو زاده الذي له الدين فقال له أعطيك عشرة
دراهم وتعجيل لي المائة التي عليك، فأما المكاتب فإن معاملته مع سيده وهو يبيع بعض ماله ببعض
فدخلت المسامحة فيه ولأنه سبب العتق فسومح فيه بخلاف غيره
{مسألة} قال (فإن كان العيب دخيلا عليه من غير جنسه كان الصرف فيه فاسدا)
يعني إذا وجد أحدهما ما قبضه مغشوشا بغش من غير جنسه فينظر فيه فإن كان الصرف عينا
بعين فهو فاسد لما أسلفناه، وإن كان بغير عين وعلم ذلك في المجلس فرده وأخذ بدله فالصرف صحيح
لأنه عين المعقود عليه وان افترقا قبل رده فالصرف فيه فاسد أيضا لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود
عليه ولم يقبض ما يصلح عوضا عن المعقود عليه وهذا ظاهر كلام الخرقي. وقيل عن أحمد انه إذا أخذ
البدل في مجلس الرد لم يبطل كما لو كان العيب من جنسه. وهذا فيما إذا لم يكن مشتري المعيب عالما
بعيبه فأما ان علم بعيبه فاشتراه على ذلك والعيب من جنسه جاز ولاخيار له ولا بدل، وإن كان
من غير جنسه وكان الصرف ذهبا بذهب أو فضة بمثلها فالصرف فيه فاسد لأنه يخل بالتماثل الا أن
يبيع ذهبا أو فضة مغشوشا بمثل غشه كبيعه دينارا صوريا بمثله مع علمه بتساوي عشهما وقد ذكرنا
ان الظاهر جوازه، وان باع مغشوشا بغير مغشوش لم يجز إلا أن يكون للغش قيمة فيخرج على مسألة
مدعجوة وإن كان الصرف في جنسين كذهب بفضة انبنى على أنفاق المغشوشة
175

(فصل) وفي أنفاق المغشوش من النقود روايتان أظهرهما الجواز نقل صالح عنه في دراهم يقال
لها المسيبية عامتها نحاس الا شيئا فيها فضة فقال إذا كان شيئا اصطلحوا عليه مثل الفلوس اصطلحوا
عليها فأرجو أن لا يكون بها بأس (والثانية) التحريم نقل حنبل في دراهم يخلط فيها مس ونحاس يشتري
بها ويباع فلا يجوز أن يبتاع بها أحد، كل ما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام، وقال أصحاب
الشافعي إن كان الغش مما لا قيمة له جاز الشراء بها، وإن كان من مما له قيمة ففي جواز انفاقها وجهان
واحتج من منع انفاق المغشوشة بقول النبي صلى الله وسلم " من غشنا فليس منا " وبأن عمر رضي الله عنه نهى
عن بيع نفاية بيت المال، ولان المقصود فيه مجهول أشبه تراب الصاغة، والأولى أن يحمل كلام أحمد
في الجواز على الخصوص فيما ظهر غشه واصطلح عليه فإن المعاملة به جائزة إذ ليس فيه أكثر من
اشتماله على جنسين لا غرر فيهما فلا يمنع من بيعهما كما لو كانا متميزين، ولان هذا مستفيض في الاعصار
جار بينهم من غير نكير وفي تحريمه مشقة وضرر وليس شراؤه بها غشا للمسلمين ولا تغريرا لهم
والمقصود منها ظاهر مرئي معلوم بخلاف تراب الصاغة، ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ويقع اللبس
به فإن ذلك يفضي إلى التغرير بالمسلمين وقد أشار أحمد إلى هذا في رجل اجتمعت عنده دراهم زيوف
ما يصنع بها؟ قال يسبكها، قيل له فيبيعها بدنانير؟ قال لا. قيل يبيعها بفلوس؟ قال لا. قيل فبسلعة قال لا، اني
أخاف أن غير بها مسلما. قيل لأبي عبد الله أيتصدق بها؟ قال إني أخاف أن يغربها مسلما وقال ما ينبغي له
لأنه يغر بها المسلمين ولا أقول إنه حرام لأنه على تأويل وذلك أنما كرهته لأنه يغر بها مسلما. فقد صرح
بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين وعلى هذا يحمل منع عمر نفاية بيت المال لما فيه من التغرير
176

بالمسلمين فإن مشتريها ربما خلطها بدراهم جيدة واشترى بها ممن لا يعرف حالها ولو كانت مما اصطلح
على اتفاقه لم يكن نفاية، فإن قيل فقد روى عن عمر أنه قال من زافت عليه دراهمه فليخرج بها إلى
البقيع فليشتر بها سحق الثياب. وهذا دليل على جواز انفاق المغشوشة التي لم يصطلح عليها، قلنا
قد قال أحمد معنى زافت عليه دراهمه أي نفيت ليس أنها زيوف فيتيعن حمله على هذا جمعا بين
الروايتين عنه ويحتمل انه أراد ما ظهر غشه وبان زيفه بحيث لا يخفى على أحد ولا يحصل بها تغرير
وان تعذر تأويلها تعارضت الروايتان عنه ويرجع إلى ما ذكرنا من المعنى، ولا فرق بين ما كان غشه
ذا بقاء وثبات كالرصاص والنحاس وما لا ثبات له كالزرنيخية والاندرانية وهو زرنيخ ونورة يطلى
عليه فضة فإذا دخل النار استهلك الغش وذهب
{مسألة} قال (ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما)
الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف. قال ابن
المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا ان الصرف
فاسد، والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالورق ربا الا هاء وهاء " وقوله عليه السلام " بيعوا
الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد " ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا، ونهى أن يباع
غائب منها بناجز، كلها أحاديث صحاح، ويجزئ القبض في المجلس وان طال، ولو تماشيا مصطحبين
إلى منزل أحدهما أو إلى الصراف فتقابضا عنده جاز، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك لاخير في ذلك
لأنهما فارقا مجلسهما، ولنا أنهما لم يفترقا قبل التقابض فأشبه ما لو كانا في سفينة تسير بهما أو راكبين على
دابة واحدة تمشي بهما، وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي للذين مشيا إليه من جانب العسكر: وما
أراكما افترقتما. وان تفرقا قبل التقابض بطل الصرف لفوات شرطه، وان قبض البعض ثم افترقا بطل فيما لم
يقبض وفيما يقابله من العوض وهل يصح في المقبوض على وجهين بناء على تفريق الصفقة، ولو وكل أحدهما وكيلا
في القبض فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز وقام قبض وكيله مقام قبضه سواء فارق الوكيل المجلس قبل
القبض أولم يفارقه، وان افترقا قبل قبض الوكيل بطل لأن القبض في المجلس شرطه وقد فات، وان تخايرا قبل
القبض في المجلس لم يبطل العقد بذلك لأنهما لم يفترقا قبل القبض ويحتمل ان يبطل إذا قلنا بلزوم
177

العقد وهو مذهب الشافعي لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض أشبه ما لو افترقا، والصحيح الأول
فإن الشرط التقابض في المجلس وقد وجد واشترط التقابض قبل اللزوم تحكم بغير دليل ثم يبطل بما
إذا تخايرا قبل الصرف ثم اصطرفا فإن الصرف يقع لازما صحيحا قبل القبض ثم يشترط القبض في المجلس
فصل) ولو صارف رجلا دينارا بعشرة دراهم وليس معه الا خمسة دراهم لم يجز ان يفترقا
قبل قبض العشرة كلها فإن قبض الخمسة وافترقا بطل الصرف في نصف الدينار وهل يبطل فيما يقابل
الخمسة المقبوضة؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة، وان أرادا التخلص فسخا الصرف في النصف الذي
ليس معه عوضه أو يفسخان العقد كله ثم يشتري منه نصف الدينار بخمسة ويدفعها إليه ثم يأخذ الدينار
كله فيكون ما اشتراه منه له وما بقي أمانة في يده ثم يفترقان ثم إذا صارفه بعد ذلك بالباقي له من الدينار
أو اشترى به منه شيئا أو جعله سلما في شئ أو وهبه له جاز وكذلك أن وكله فيه. ولو اشترى فضة
بدينار ونصف ودفع إلى البائع دينارين وقال أنت وكيلي في نصف الدينار الزائد صح ولو صارفه
عشرة دراهم بدينار فأعطاه أكثر من دينار ليزن له حقه في وقت آخر جاز وإن طال ويكون الزائد
أمانة في يده لا شئ عليه في تلفه نص احمد على أكثر هذه المسائل. فإن لم يكن مع أحدهما إلا خمسة
دراهم فاشترى بها نصف دينار وقبض دينارا كاملا ودفع إليه الدراهم ثم اقترضها منه فاشترى بها النصف
الباقي أو اشترى الدينار منه بعشرة ابتداء ودفع إليه الخمسة ثم اقترضها منه ودفعها إليه عوضا عن النصف الآخر
على غير وجه الحيلة فلا بأس
(فصل) وإذا باع مدي تمر ردئ بدرهم ثم اشترى بالدرهم تمرا جنيبا أو اشترى من رجل دينارا
صحيحا بدراهم وتقابضاها ثم اشترى منه بالدراهم قراضة من غير مواطأة ولا حيلة فلا بأس به، وقال
ابن أبي موسى لا يجوز الا أن يمضي إلى غيره ليبتاع منه فلا يستقيم له فيجوز أن يرجع إلى البائع
فيبتاع منه، وقال احمد في رواية الأثرم يبيعها من غيره أحب إلي قلت له قال لم يعلمه أنه يريد أن يبيعها
منه؟ فقال يبيعها من غيره فهو أطيب لنفسه وأخرى أن يستوفي الذهب منه فإنه إذا ردها إليه لعله أن
لا يوفيه الذهب ولا يحكم الوزن ولا يستقصي يقول هي ترجع إليه قيل لأبي عبد الله فذهب ليشتري
الدراهم بالذهب الذي أخذها منه من غيره (1) فلم يجدها فرجع إليه؟ فقال إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من
غيره فنعم. فظاهر أن هذا على وجه الاستحباب لا الايجاب ولعل أحمد إنما أراد اجتناب المواطأة على
هذا ولهذا قال إذ كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم. وقال مالك ان فعل ذلك مرة جاز وان
فعله أكثر من مرة لم يجز لأنه يضارع الربا.
ولنا ما روى أبو سعيد قال جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم " من أين هذا؟ " قال بلال كان عندنا تمر ردئ فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله
عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أوه عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشترى فبع

(1) كذا في الأصل
178

التمر ببيع آخر ثم اشتر به " وروى أيضا أبو سعيد وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال " اكل تمر خيبر هكذا؟ " قال لا والله انا لنأخذ
الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تفعل بع التمر
بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا " متفق عليهما ولم يأمره أن يبيعه من غير من يشتري منه ولو كان ذلك
محرما لبينه له وعرفه إياه ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط ولا مواطأة فجاز كما لو باعه من غيره ولان
ما جاز من البياعات مرة جاز على الاطلاق كسائر البياعات، فاما ان تواطأ على ذلك لم يجز وكان حيلة
محرمة وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي يجوز ما لم يكن مشروطا في العقد ولنا أنه إذا كان
عن مواطأة كان حيلة والحيل محرمة على ما سنذكره
(فصل) والحيل كلها محرمة غير جائزة في شئ من الدين وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما
مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو اسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك
قال أيوب السختياني إنهم ليخادعون الله كأنما يخادعون صبيا لو كانوا يأتون الامر على وجهه كان أسهل
علي فمن ذلك ما لو كان مع رجل عشرة صحاح ومع الآخر خمسة عشر مكسرة فاقترض كل واحد
منهما ما مع صاحبه ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلا أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة
ثم وهبه الخمسة الزائدة أو اشترى منه بها أوقية صابون أو نحوها ما يأخذه بأقل من قيمته أو اشترى
منه بعشرة الا حبة من الصحيح مثلها من المكسرة ثم اشترى منه بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير
وهكذا لو أقرضه شيئا أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى
أخذ عوض عن القرض فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم وبهذا قال مالك، وقال
أبو حنيفة والشافعي ذلك كله وأشباهه جائز إذا لم يكن مشروطا في العقد وقال بعض أصحاب الشافعي
يكره أن يدخلا في البيع على ذلك لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره ان يدخلا عليه
179

ولنا أن الله تعالى عذب أمة
بحيلة احتالوها فمسخهم قردة وسماهم معتدين وجعل ذلك نكالا
وموعظة للمتقين ليتعظوا بهم ويمتنعوا من مثل أفعالهم. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى (وموعظة
للمتقين أي لامة محمد صلى الله عليه وسلم، فروي أنهم كانوا ينصبون شباكهم للحيتان يوم الجمعة ويتركونها
إلى يوم الأحد ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها مجاري فيفتحها يوم الجمة فإذا جاء السمك يوم
السبت جري مع الماء في المجاري فيقع في الحفائر فيدعها إلى يوم الأحد ثم يأخذها ويقول ما اصطدت
يوم السبت ولا اعتديت فيه فهذه حيلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من أدخل فرسا بين فرسين وقد
أمن أن يسبق فهو قمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار " رواه أبو
داود وغيره فجعله قمارا مع ادخاله الفرس الثالث لكونه لا يمنع معنى القمار وهو كون كل واحد من
المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذا أو مأخوذا منه وإنما دخل صورة تحيلا على إباحة المحرم وسائر الحيل مثل
ذلك، ولان الله تعالى إنما حرم المحرمات لمفسدتها والضرر الحاصل منها ولا تزول مفسدتها مع ابقاء معناها
باظهارهما صورة غير صورتها فوجب أن لا يزول التحريم كما لو سمى الخمر بغير اسمها لم يبح ذلك شربها وقد
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليستحلن قوم من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها " ومن الحيل في
غير الربا انهم يتوصلون إلى يتوصلون إلى بيع الشئ المنهي عنه أن يستأجر بياض أرض البستان بأمثال أجرته ثم
يساقيه على ثمر شجره بجزء من الف جزء للمالك وتسعمائة وتسعة وتسعون للعامل ولا يأخذ منه المالك
شيئا ولا يريد ذلك وإنما قصد بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بما سماه أجرة والعامل لا يقصد أيضا سوى
ذلك وربما لا ينتفع بالأرض التي سمى الأجرة في مقابلتها ومتى لم يخرج الثمر أو أصابته جائحة
180

جاء المستأجر يطلب الجائحة ويعتقد أنه إنما بذل ماله في مقابلة الثمرة لاغير ورب الأرض يعلم ذلك
(فصل) ولو اشترى شيئا بمكسرة لم يجز أن يعطيه صحيحا أقل منها. قال أحمد هذا هو الربا
المحض وذلك لأنه يأخذ عوض الفضة أقل منها فيحصل التفاضل بينهما، ولو اشتراه بصحيح لم يجز
أن يعطيه مكسرة أكثر منها كذلك فإن تفاسخا البيع ثم عقدا بالصحاح أو بالمكسرة جاز، ولو اشترى
ثوبا بنصف دينار لزمه نصف دينار شق فإن عاد فاشترى شيئا آخر بنصف آخر لزمه نصف شق أيضا
فإن وفاه دينارا صحيحا بطل العقد الثاني لأنه تضمن اشتراط زيادة ثمن العقد الأول، وإن كان
ذلك قبل لزوم العقد الأول بطل أيضا لأنه وجد ما يفسده قبل انبرامه، وإن كان بعد تفرقهما فلزومه
لم يؤثر ذلك فيه ولا يلزمه أكثر من ثمنه الذي عقد البيع به، ومذهب الشافعي في هذا كما ذكرنا
(فصل) إذا كان له عند رجل دينار وديعة فصارفه به وهو معلوم بقاؤه أو مظنون صح الصرف
وان ظن أنه غير موجود لم يصح الصرف لأن حكمه حكم المعدوم، وان شك فيه فقال ابن عقيل
يصح وهو قول بعض الشافعية، وقال القاضي لا يصح لأنه غير معلوم البقاء وهو منصوص والشافعي،
ووجه الأول أن الأصل بقاؤه فصح البناء عليه عند الشك فإن الشك لا يزيل اليقين، ولذلك صح
بيع الحيوان الغائب المشكوك في حياته فإن تبين انه كان تالفا حين العقد تبينا ان العقد وقع باطلا
(فصل) ولا يجوز بيع تراب الصاغة والمعدن بشئ من جنسه لأنه مال ربا بيع بجنسه على وجه
لا تعلم المماثلة بينهما فلم يصح كبيع الصبرة بالصبرة وان بيع بغير جنسه فحكى ابن المنذر عن أحمد
كراهة بيع تراب المعادن وهو قول عطاء والشافعي والشعبي والثوري والأوزاعي وإسحاق لأنه مجهول
وقال ابن أبي موسى في الارشاد يجوز ذلك وهو قول مالك وروي ذلك عن الحسن والنخعي وربيعة
والليث قالوا فإن اختلط أو أشكل فليبعه بعرض ولا يبعه بعين ولا وروق لأنه باعه بمالا ربا فيه فجاز
كما لو اشترى ثوبا بدينار ودرهم
" مسألة " قال و (العرايا التي أرخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن يوهب للانسان من
النخل ما ليس فيه خمسة أو سق فيبيعها بخرصها من التمر لمن يأكلها رطبا)
في هذه المسألة فصول خمسة (أولها) في إباحة بيع العرايا في الجملة وهو قول أكثر أهل العلم
181

منهم مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة لا
يحل بيعها لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزابنة والمزابنة بيع الثمر بالتمر متفق عليه. ولأنه يبيع الرطب
بالتمر من غير كيل في أحدهما فلم يجز كما لو كان على وجه الأرض أو فيما زاد على خمسة أو سق. ولنا
ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق
متفق عليه ورواه زيد بن ثابت وسهل بن أبي حثمة وغيرهما وخرجه أئمة الحديث في كتبهم وحديثهم في
سياقه إلا العرايا كذلك في المتفق عليه وهذه زيادة يجب الاخذ بها ولو قدر تعارض الحديثين وجب تقدم
حديثنا لخصوصه جمعا بين الحديثين وعملا بكلا النصين. وقال ابن المنذر: الذي نهى عن المزابنة هو
الذي أرخص في العرايا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى والقياس لا يصار إليه مع النص مع أن
في الحديث انه أرخص في العرايا والرخصة استباحة المحظور مع وجود السبب الحاظر فلو منع وجود
السبب من الاستباحة لم يبق لنا رخصة بحال
(الفصل الثاني) انها لا تجوز في زيادة على خمسة أوسق بغير خلاف نعلمه، وتجوز فيما دون
خمسة أوسق بغير خلاف بين القائلين بجوازها، فأما في خمسة أوسق فلا يجوز عند إمامنا رحمه الله،
وبه قال ابن المنذر والشافعي في أحد قوليه، وقال مالك والشافعي في قول يجوز ورواه إسماعيل بن سعيد
عن أحمد لأن في حديث زيد وسهل انه رخص في العرية مطلقا ثم استثنى ما زاد على الخمسة في حديث
أبي هريرة وشك في الخمسة فاستثنى اليقين وبقي المشكوك فيه على مقتضى الإباحة
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الرطب بالتمر، ثم أرخص في
العرية فيما دون خمسة أوسق وشك في الخمسة فيبقى على العموم في التحريم ولان العرية رخصة بنيت
على خلاف النص والقياس يقينا فيما دون الخمسة، والخمسة مشكوك فيها فلا تثبت إباحتها مع الشك،
وروى ابن المنذر باسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرية في الوسق والوسقين والثلاثة
والأربعة والتخصيص بهذا يدل على أنه لا تجوز الزيادة في العدد عليه كما اتفقنا على أنه لا تجوز الزيادة
على الخمسة لتخصيصه إياها بالذكر ورى مسلم عن سهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في
بيع العرية النخلة والنخلتين ولان خمسة الأوسق في حكم ما زاد عليها بدليل وجوب الزكاة فيها دون
ما نقص عنها ولأنها قدر تجب الزكاة فيه فلم يجز بيعه عرية كالزائد عليها، فأما ما قولهم أرخص في العرية مطلقا
فلم يثبت أن الرخصة المطلقة سابقة على الرخصة المقيدة ولا متأخرة عنها بل الرخصة واحدة رواها
بعضهم مطلقة وبعضهم مقيدة فيجب حمل المطلق على المقيد ويصير القيد المذكور في أحد الحديثين كأنه
مذكور في الآخر ولذلك يقيد فيما زاد على الخمسة اتفاقا
(فصل) ولا يجوز ان يشترى أكثر من خمسة أوسق فيما زاد على صفة سواء اشتراها من واحد
أو من جماعة، وقال الشافعي يجوز للانسان بيع جميع ثمر حائطه عرايا من رجل واحد ومن رجال في
عقود متكررة لعموم حديث زيد وسهل ولان كل عقد جاز مرة جاز أن يتكرر كسائر البيوع ولنا عموم
النهي عن المزابنة استثني منه العرية فيما دون خمسة أوسق فما زاد يبقى على العموم في التحريم ولان
182

مالا يجوز عليه العقد مرة إذا كان نوعا واحدا لا يجوز في عقدين كالذي على وجه الأرض وكالجمع بين
الأختين، فأما حديث سهل فإنه مقيد بالنخلة والنخلتين بدليل ما روينا فيدل على تحريم الزيادة عليهما
ثم إن المطلق يحمل على المقيد كما في العقد الواحد فاما ان باع رجل عريتين من رجلين فيهما أكثر
من خمسة أوسق جاز وقال أبو بكر والقاضي لا يجوز لما ذكرنا في المشتري.
ولنا أن المغلب في التجويز حاجة المشتري بدليل ما روى محمود بن لبيد قال قلت لزيد بن ثابت ما عراياكم
هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي
ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يتباعوا العرايا
بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونه رطبا، وإذا كان سبب الرخصة حاجة المشتري لم تعتبر حاجة
البائع إلى البيع فلا يتقيد في حقه بخمسة أوسق، ولأننا لو اعتبرنا الحاجة من المشتري وحاجة البائع
إلى البيع أفضى إلى أن لا يحصل الارفاق إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين فتسقط الرخصة. فإن قلنا
لا يجوز ذلك بطل العقد الثاني وان اشترى عريتين أو باعهما وفيهما أقل من خمسة أوسق جاز وجها واحدا
(الفصل الثالث) أنه لا يشترط في بيع العرية أن تكون موهوبة لبائعها هذا ظاهر كلام أصحابنا
وبه قال الشافعي وظاهر قول الخرقي انه شرط، وقد روى الأثرم قال: سمعت أحمد سئل عن تفسير
العرايا فقال العرايا أن يعري الرجل الجار أو القرابة للحاجة أو المسكنة فللمعرى أن يبيعها ممن شاء،
وقال مالك: بيع العرايا الجائز هو أن يعري الرجل الرجل نخلات من حائطه ثم يكره صاحب الحائط
دخول الرجل المعرى لأنه ربما كان مع أهله في الحائط فيؤذيه دخول صاحبه عليه فيجوز ان
يشتريها منه واحتجوا بان العرية في اللغة هبة ثمرة النخيل عاما قال أبو عبيد: الاعراء ان يجعل الرجل
للرجل ثمرة نخله عامها ذلك قال الشاعر الأنصاري يصف النخل
ليست بسنهاء ولا رجبية * ولكن عرايا في السنين الجوائح
يقول إنا نعريها الناس، فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه لغة ومقتضاه في العربية ما لم يوجد ما يصرفه
عن ذلك. ولنا حديث زيد بن ثابت وهو حجة على مالك في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب
ولأنه لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسة أوسق لعدم اختصاص الحاجة بها ولم يجز بيعها بالتمر
لأن الظاهر من حال صاحب الحائط الذي له النخيل الكثير يعريه الناس انه لا يعجز عن أداء ثمن
العرية وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها لأن علة الرخصة حاجة المشتري إلى اكل الرطب
ولا ثمن معه سوى التمر فمتى وجد ذلك جاز البيع، ولان اشتراط كونها موهوبة مع اشتراط حاجة
المشتري إلى أكلها رطبا ولا ثمن معه يفضي إلى سقوط الرخصة إذ لا يكاد يتفق ذلك، ولان ما جاز
بيعه إذا كان موهوبا جاز وإن لم يكن موهوبا كسائر الأموال وما جاز بيعه لواهبه جاز لغيره
كسائر الأموال وإنما سمي عرية لتعريه عن غيره وافراده بالبيع
(الفصل الرابع) انه إنما يجوز بيعها بخرصها من التمر لا أقل منه ولا أكثر ويجب أن يكون التمر
الذي يشترى به معلوما بالكيل ولا يجوز جزافا لا نعلم في هذا عند من أباح بيع العرايا اختلافا لما روى
183

زيد بن ثابت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا متفق عليه. ولمسلم أن تؤخذ
بمثل خرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا، ولان الأصل اعتبار الكيل من الطرفين سقط في أحدهما للتعذر
فيجب في الا خر بقضية الأصل، ولان ترك الكيل من الطرفين يكثر الغرر وفي تركه من أحدهما يقلل
الغرر ولا يلزم من صحته مع قلة الغرر صحته مع كثرته، ومعنى خرصها بمثلها من التمر أن يطيف الخارص
بالعرية فينظر كم يجئ منها تمرا فيشتريها المشتري بمثلها تمرا وبهذا قال الشافعي ونقل حنبل عن أحمد
أنه قال يخرصها رطبا ويعطي تمرا رخصة وهذا يحتمل الأول، ويحتمل أنه يشتريها بتمر مثل الرطب
الذي عليها لأنه بيع اشترطت المماثلة فيه فاعتبرت حال البيع كسائر البيوع، ولان الأصل اعتبار
المماثلة في الحال وأن لا يباع الرطب بالتمر خولف الأصل في بيع الرطب بالتمر فيبقى فيما عداه على قضية
الدليل وقال القاضي الأول أصح لأنه يبنى على خرص الثمار في العشر والصحيح ثم خرصه تمرا ولان
المماثلة في بيع التمر بالتمر معتبرة حالة الادخار وبيع الرطب بمثله تمرا يفضي إلى فوات ذلك، فأما
ان اشتراها بخرصها رطبا لم يجز وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي (والثاني) يجوز (والثالث)
لا يجوز مع اتفاق النوع ويجوز مع اختلافه. ووجه جوازه ما روى الجوزجاني عن أبي صالح عن الليث
عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أرخص بعد ذلك في
بيع العرية بالرطب أو التمر ولم يرخص في غير ذلك ولأنه إذا جاز بيع الرطب بالتمر مع اختصاص
أحدهما بالنقص في ثاني الحال فلان يجوز مع عدم ذلك أولى
ولنا ما روى مسلم باسناده عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في العرايا أن تؤخذ
بمثل خرصها تمرا، وعن سهل أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر وقال " ذلك
الربا تلك المزابنة " الا أنه رخص في العرية النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها
رطبا ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمرا فلم يجز بيعه بمثله رطبا كالتمر الجاف، ولان من له رطب فهو مستغن
عن شراء الرطب بأكل ما عنده وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري على ما أسلفناه وحديث ابن
عمر شك في الرطب والتمر فلا يجوز العمل به مع الشك سيما وهذه الأحاديث تبينه وتنزيل الشك
(فصل) ويشترط في بيع العرايا التقابض في المجلس وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا لأنه بيع
تمر بتمر فاعتبر فيه شروطه إلا ما استثناه الشرع مما لا يمكن اعتباره في بيع العرايا والقبض في كل واحد
منهما على حسبه ففي التمر اكتياله أو نقله وفي الثمرة التخلية، وليس من شروطه حضور التمر عند النخيل
بل لو تبايعا بعد معرفة التمر والثمرة ثم مضيا جميعا إلى النخلة فسلمها إلى مشتريها ثم مشيا إلى التمر فتسلمه
من مشتريها أو تسلم التمر ثم مضيا إلى النخلة جميعا فسلمها إلى مشتريها ثم مشيا إلى التمر
فتسلمه جاز لأن التفرق لا يحصل قبل القبض. إذا ثبت هذا فإن بيع العرية يقع على وجهين (أحدهما)
أن يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بكذا وكذا من التمر ويصفه (والثاني) أن يكيل من التمر بقدر
خرصها ثم يقول بعتك هذا بهذا أو يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بهذا التمر ونحو هذا وإن باعه بمعين
فقبضه بنقله وأخذه، وان باعه بموصوف فقبضه باكتياله
184

(الفصل الخامس) انه لا يجوز بيعها إلا لمحتاج إلى أكلها رطبا ولا يجوز بيعها لغني وهذا أحد
قولي الشافعي وأباحها في القول الآخر مطلقا لكل أحد لأن كل بيع جاز للمحتاج جاز للغني كسائر
البياعات، ولان حديث أبي هريرة وسهل مطلقان. ولنا حديث زيد بن ثابت حين سأله محمود بن لبيد:
ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الرطب يأتي ولا
نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها
من التمر يأكلونه رطبا ومتى خولف الأصل بشرط لم تجز مخالفته بدون ذلك الشرط، ولان ما أبيح
للحاجة لم يبح مع عدمها كالزكاة للمساكين والترخص في السفر، فعلى هذا متى كان صاحبها غير محتاج
إلى أكل الرطب أو كان محتاجا ومعه من الثمن ما يشتري به العرية لم يجز له شراؤها بالتمر وسواء
باعها لواهبها تحرزا من دخول صاحب العرية حائطه كمذهب مالك أو لغيره فإنه لا يجوز، وقال ابن
عقيل يباح ويحتمله كلام أحمد لأن الحاجة وجدت من الجانبين فجاز كما لو كان المشتري محتاجا إلى
أكلها. ولنا حديث زيد الذي ذكرناه والرخصة لمعنى خاص لا تثبت مع عدمه ولان في حديث زيد
وسهل " يأكلها أهلها رطبا " ولو جاز لتخليص المعري لما شرط ذلك، فيشترط إذا في بيع العرية شروط
خمسة أن يكون فيما دون خمسة أوسق، وبيعها بخرصها من التمر، وقبض ثمنها قبل التفرق، وحاجة
المشتري إلى أكل الرطب، وأن لا يكون معه ما يشتري به سوى التمر، واشترط القاضي وأبو بكر
شرطا سادسا وهو حاجة البائع إلى البيع، واشترط الخرقي كونها موهوبة لبائعها، واشترط أصحابنا
لبقاء العقد أن يأكلها أهلها رطبا فإن تركها حتى تصير تمرا بطل العقد وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
{مسألة} قال (فإن تركه المشتري حتى يتمر بطل العقد)
يعني ان لم يأخذها المشتري رطبا بطل العقد خلافا للشافعي في قوله لا يبطل، وعن أحمد مثله
لأن كل ثمرة جاز بيعها رطبا لا يبطل العقد إذا صارت تمرا كغير العرية. ولنا قول النبي صلى الله عليه
وسلم " يأكلها أهلها رطبا " ولان شراءها إنما جاز للحاجة إلى أكل الرطب فإذا أتمرت تبينا عدم
الحاجة فيبطل العقد ثم لا فرق بين تركه لغناه عنها أو مع حاجته إليها أو تركها لعذر أو لغير عذر للخبر،
ولو أخذها رطبا فتركها عنده فأتمرت أو شمسها حتى صارت تمرا جاز لأنه قد أخذها، ونقل عن أحمد
رواية أخرى فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم تركها حتى بدا صلاحها لا يبطل البيع فيخرج ههنا
مثله فإن أخذ بعضها رطبا وترك باقيها حتى أتمر فهل يبطل البيع في الباقي على وجهين
(فصل) ولا يجوز بيع العرية في غير النخيل وهو اختيار ابن حامد وقول الليث بن سعد الا
أن يكون مما ثمرته لا يجري فيها الربا فيجوز بيع رطبها بيابسها جريان الربا فيها، ويحتمل أن
185

يجوز في العنب والرطب دون غيرهما وهو قول الشافعي لأن العنب كالرطب في وجوب الزكاة فيهما،
وجواز خرصهما وتوسيقهما وكثرة تيبيسهما واقتياتهما في بعض البلدان والحاجة إلى أكل رطبهما،
والتنصيص على الشئ يوجب ثبوت الحكم في مثله ولا يجوز في غيرهما لاختلافهما في أكثر هذه
المعاني فإنه لا يمكن خرصها لتفرقها في الأغصان واستتارها بالأوراق ولا يقتات يابسها فلا يحتاج إلى
الشراء به وقال القاضي يجوز في سائر الثمار وهو قول مالك والأوزاعي قياسا على ثمرة النخيل.
ولنا ما روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه
قد أذن لهم وعن بيع العنب بالزبيب وكل ثمرة بخرصها، وهذا حديث حسن وهذا يدل على تخصيص
العرية بالتمر، وعن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص بعد ذلك في بيع العرية
بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك، وعن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن المزابنة، والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا وعن كل ثمر بخرصه، ولان
الأصل يقتضي تحريم بيع العرية، وإنما جازت في ثمرة النخيل رخصة، ولا يصح قياس غيرها عليها
لوجهين (أحدهما) ان غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها وسهولة خرصها وكون الرخصة في
الأصل لأهل المدينة وإنما كانت حاجتهم إلى الرطب دون غيره (الثاني) أن القياس لا يعمل به إذا
خالف نصا وقياسهم يخالف نصوصا غير مخصوصة، وإنما يجوز التخصيص بالقياس على المحل المخصوص
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب بالزبيب لم يدخله تخصيص فيقاس عليه وكذلك
سائر الثمار والله أعلم
باب بيع الأصول والثمار
{مسألة} قال أبو القاسم رحمه الله (ومن باع نخلا مؤبرا وهو ما قد تشقق طلعه
فالثمرة للبائع متروكة في النخل إلى الجزاز الا أن يشترطها المبتاع)
أصل الابار عند أهل العلم التلقيح قال ابن عبد البر الا انه لا يكون حتى يتشقق الطلع وتظهر
186

الثمرة فعبر به عن ظهور الثمرة للزومه منه والحكم متعلق بالظهور دون نفس التلقيح بغير اختلاف بين
العلماء يقال أبرت النخلة بالتخفيف والتشديد فهي مؤبرة ومأبورة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم
187

" خير المال سكة مأبورة " والسكة النخل المصفوف وأبرت النخلة آبرها أبرا وإبارا وأبرتها تأبيرا
وتأبرت النخلة وائتبرت، ومنه قول الشاعر: * تأبري يا خيرة الفسيل *
188

وفسر الخرقي المؤبر بما قد تشقق طلعه لتعلق الحكم بذلك دون نفس التأبير. قال القاضي:
وقد يتشقق الطلع بنفسه وقد يشقه الصعاد فيظهر وأيهما كان فهو التأبير المراد ههنا وفي هذه
المسألة فصول ثلاثة
189

(الأول) ان البيع متى وقع على نخل مثمر ولم يشترط الثمرة وكانت الثمرة مؤبرة فهي للبائع
وإن كانت غير مؤبرة فهي للمشتري وبهذا قال مالك والليث والشافعي وقال ابن أبي ليلى هي للمشتري
في الحالين لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة فكانت تابعة له كالأغصان، وقال أبو حنيفة والأوزاعي هي
للبائع في الحالين لأن هذا نماء له حد قلم يتبع أصله في البيع كالزرع في الأرض. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم
" من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها الا أن يشترط المبتاع " متفق عليه، وهذا صريح
في رد قول ابن أبي ليلى وحجة على أبي حنيفة والأوزاعي بمفهومه لأنه جعل التأبير حدا لملك البائع
للثمرة فيكون ما قبله للمشتري والا لم يكن حدا ولا كان ذكرا التأبير مفيدا، ولأنه نماء كامن لظهوره
غاية فكان تابعا لاصله قبل ظهوره وغير تابع له بعد ظهوره كالحمل في الحيوان، فأما الأغصان فإنها
تدخل في اسم النخل وليس لانفصالها غاية والزرع ليس من نماء الأرض وإنما هو مودع فيها
190

(الفصل الثاني) انه متى اشترطها أحد المتبايعين فهي له مؤبرة كانت أو غير مؤبرة البائع فيه
والمشتري سواء وقال مالك: إن اشترطها المشتري بعد التأبير جاز لأنه بمنزلة شرائها مع أصلها، وان
اشترطها البائع قبل التأبير لم يجز لأن اشتراطه لها بمنزلة شرائه لها قبل بدو صلاحها بشرط تركها
ولنا انه استثنى بعض ما وقع عليه العقد وهو معلوم فصح كما لو باع حائطا واستثنى نخلة بعينها ولان
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا الا أن تعلم ولأنه أحد المتبايعين فصح اشتراطه للثمرة كالمشتري وقد ثبت
الأصل بالاتفاق عليه وبقوله عليه السلام " الا أن يشترطها المبتاع " ولو اشترط أحدهما جزأ من الثمرة
معلوما كان ذلك كاشتراط جميعها في الجواز في قول جمهور الفقهاء وقول أشهب من أصحاب مالك وقال ابن
القاسم، لا يجوز اشتراط بعضها لأن الخبر إنما ورد باشتراط جميعها. ولنا ان ما جاز اشتراط جميعه جاز
اشتراط بعضه كمدة الخيار وكذلك القول في مال العبد إذا اشترط بعضه
(الفصل الثالث) ان الثمرة إذا بقيت للبائع فله تركها في الشجر إلى أوان الجزاز سواء استحقها
بشرطه أو بظهورها وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يلزمه قطعها وتفريغ النخل فيها لأنه مبيع
مشغول يملك البائع فلزم نقله وتفريغه كما لو باع دارا فيها طعام أو قماش له. ولنا أن النقل والتفريغ
للمبيع على حسب العرف والعادة كما لو باع دارا فيها طعام لم يجب نقله الا على حسب العادة في ذلك
وهو أن ينقله نهارا شيئا بعد شئ ولا يلزمه النقل ليلا ولا جمع دواب البلد لنقله كذلك ههنا يفرغ النخل
من الثمرة في أوان تفريغها وهو أوان جزازها وقياسه حجة لنا لما بيناه، إذ تقرر هذا فالمرجع في جزه
إلى ما جرت به العادة فإذا كان المبيع نخلا فحين تتناهي حلاوة ثمره الا أن يكون مما بسره خير من
191

رطبه أو ما جرت العادة بأخذه بسرا فإنه يجزه حين تستحكم حلاوة بسره لأن هذا هو العادة، فإذا
استحكمت حلاوته فعليه نقله وان قيل بقاؤه في شجره خير له وأبقى فعليه النقل لأن العادة في النقل
قد حصلت وليس له إبقاؤه بعد ذلك، وإن كان المبيع عنبا أو فاكهة سواه فاخذه حين يتناهى إدراكه
وتستحكم حلاوته ويجز مثله وهذا قول مالك والشافعي
(فصل) فإن أبر بعضه دون بعض فالمنصوص عن أحمد أن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري
وهو قول أبي بكر للخبر الذي عليه مبنى هذه المسألة فإن صريحه أن ما أبر للبائع ومفهومه أن ما لم
يؤبر للمشتري وقال ابن حامد الكل للبائع وهو مذهب الشافعي لأنا إذا لم نجعل للبائع أدى إلى
الاضرار باشتراك الأيدي في البستان فيجب أن يجعل ما لم يؤبر تبعا لما أبر كثمر النخلة الواحدة
فإنه لا خلاف في أن تأبير بعض النخلة يجعل جميعها للبائع، وقد يتبع الباطن الظاهر منه كأساسات
الحيطان تتبع الظاهر منه، ولان البستان إذا بدا صلاح ثمرة منه جاز بيع جميعها بغير شرط القطع
كذا ههنا، وهذا من النوع الواحد لأن الظاهر أن النوع الواحد يتقارب ويتلاحق فاما ان أبر
لم يتبعه النوع الآخر ولم يفرق أبو الخطاب بين النوع والجنس كله وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه
يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي كما في النوع الواحد. ولنا أن النوعين يتباعدان ويتميز
أحدهما من الآخر ولا يخشى اختلاطهما واشتباههما فاشبها الجنسين وما ذكره يبطل بالجنسين، ولا
يصح القياس على النوع الواحد لافتراقهما فيما ذكرناه، ولو باع حائطين قد أبر أحدهما لم يتبعه الآخر
لأنه يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي لانفراد كل واحد منهما عن صاحبه، ولو أبر
بعض الحائط فأفرد بالبيع ما لم يؤبر فللمبيع حكم نفسه ولا يتبع غيره، وخرج القاضي وجها في أنه يتبع
192

غير المبيع ويكون للبائع لأنه قد ثبت للحائط كله حكم التأبير وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي،
ولا يصح هذا لأن المبيع لم يؤبر منه شئ فوجب أن يكون للمشتري بمفهوم الخبر وكما لو كان منفردا
في بستان وحده، ولأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة ولا اختلاف الأيدي ولا إلى ضرر فبقي على حكم
الأصل فإن بيعت النخلة وقد أبرت كلها أو بعضها فأطلعت بعد ذلك فالطلع للمشتري لأنه حدث في
ملكه فكان له كما لو حدث بعد جزاز الثمرة ولان ما أطلع بعد تأبير غيره لا يكاد يشتبه به لتباعد ما بينهما
(فصل) وطلع الفحال كطلع الإناث وهو ظاهر كلام الشافعي ويحتمل أن يكون طلع الفحال
للبائع قبل ظهوره لأنه يؤخذ للاكل قبل ظهوره فهو كثمرة لا تخلق الا ظاهرة كالتين ويكون ظهور
طلعه كظهور ثمرة غيره، ولنا أنها ثمرة نخل إذا تركت ظهرت فهي كالإناث أو يدخل في عموم الخبر
وما ذكر للوجه الآخر لا يصلح فإن أكله ليس هو المقصود منه وإنما يراد للتلقيح به وهو يكون بعد
ظهوره فأشبه طلع الإناث، فإن باع نخلا فيه فحال وإناث لم يشقق منه شئ فالكل للمشتري الا على
الوجه الآخر فإن طلع الفحال يكون للبائع وإن كان قد تشقق طلع أحد النوعين دون الاخر فما تشقق
فهو للبائع وما لم يتشقق للمشتري إلا عند من سوى بين الأنواع كلها، وإن تشقق طلع بعض الإناث
أو بعض الفحال فالذي قد ظهر للبائع، وما لم يظهر على ما ذكرنا من الاختلاف فيه
(فصل) وكل عقد معاوضة يجرى البيع في أن الثمرة المؤبرة تكون لمن أنتقل عنه الأصل
وغير المؤبرة لمن أنتقل إليه مثل أن يصدق المرأة نخلا أو يخلعها به أو يجعله عوضا في إجارة أو عقد
صلح لأنه عقد معاوضة فجرى مجرى البيع، وان انتقل بغير معاوضة كالهبة والرهن أو فسخ لأجل
العيب أو فلس المشتري أو رجوع الأب في هبته لولده أو تقايلا المبيع أو كان صداقا رجع إلى الزوج
193

لفسخ المرأة النكاح أو نصفه لطلاق الزوج فإنه في الفسخ يتبع الأصل سواء أبر أو لم يؤبر لأنه نماء
متصل فأشبه السمن، وفي الهبة والرهن حكمها حكم البيع في أنه يتبع قبل التأبير ولا يتبع فيما بعده لأن
الملك زال عن الأصل بغير فسخ فكان الحكم فيه ما ذكرناه كالبيع وأما رجوع البائع لفلس المشتري أو
الزوج لانفساخ النكاح فيذكر ان في بابيهما
{مسألة} قال (وكذلك بيع الشجر إذا كان فيه ثمر باد)
وجملة ذلك أن الشجر على خمسة أضرب (أحدها) ما يكون ثمره في أكمامه ثم تنفتح الأكمام فيظهر
كالنخل الذي وردت السنة فيه وبينا حكمه وهو الأصل وما عداه مقيس عليه وملحق به، ومن هذا
الضرب القطن وما يقصد نوره كالورد والياسمين والنرجس والبنفسج فإنه تظهر أكمامه ثم تتفتح فيظهر
فهو كالطلع ان تفتح جنبذه فهو للبائع وإلا فهو للمشتري (الثاني) ما تظهر ثمرته بارزة لا قشر عليها
ولا نور كالتين والتوت والجميز فهي للبائع لأن ظهورها من شجرها بمنزلة ظهور الطلع من قشره
(الثالث) ما يظهر في قشره ثم يبقى فيه إلى حين الاكل كالرمان والموز فهو للبائع أيضا بنفس الظهور
لأن قشره من مصلحته ويبقى فيه إلى حين الاكل فهو كالتين ولان قشره ينزل منزلة أجزائه للزومه
إياه وكونه من مصلحته (الضرب الرابع) ما يظهر في قشرين كالجوز واللوز فهو للبائع أيضا بنفس
الظهور لأن قشره لا يزول عنه غالبا الا بعد جزازه فأشبه الضرب الذي قبله ولان قشر اللوز يؤكل
معه فأشبه التين وقال القاضي ان تشقق القشر الاعلى فهو للبائع وان لم يتشقق فهو للمشتري كالطلع
ولو اعتبر هذا لم يكن للبائع الا نادرا ولا يصح قياسه على الطلع لأن الطلع لا بد من تشققه وتشققه
194

من مصلحته وهذا بخلافه فإنه لا يتشقق على شجره وتشققه قبل كماله يفسده (الخامس) ما يظهر نوره
ثم يتناثر فتظهر الثمرة كالتفاح والمشمش والإجاص والخوخ فإذا تفتح نوره وظهرت الثمرة فيه فهي
للبائع وان لم تظهر فهي للمشتري وقيل ما تناثر نوره فهو للبائع ومالا فهو للمشتري لأن الثمرة لا تظهر
حتى يتناثر النور، وقال القاضي يحتمل أن تكون للبائع بظهور نوره لأن الطلع إذا تشقق كان كنور
الشجر فإن العقد التي في جوف الطلع ليست عين الثمرة وإنما هي أوعية لها تكبر الثمرة في جوفها
وتظهر فتصير العقدة في طرفها وهي قمع الرطبة، وقول الخرقي يقتضي ما قلناه لأنه علق استحقاق البائع
لها بكون الثمر باديا لا ببدو نوره ولا يبدو الثمر حتى يتفتح نوره وقد يبدو إذا كبر قبل أن ينثر النور
فتعلق ذلك بظهوره والعنب بمنزلة ماله نور لأنه يبدو في قطوفه شئ صغار كحب الدخن ثم يتفتح
ويتناثر كتناثر النور فيكون من هذا القسم والله أعلم. وهذا يفارق الطلع لأن الذي في الطلع عين الثمرة
ينمو ويتغير والنور في هذه الثمار يتساقط ويذهب وتظهر الثمرة، ومذهب الشافعي في هذا الفصل جميعه
كما ذكرنا ههنا أو قريبا منه وبينهما اختلاف على حسب ما ذكرنا من الخلاف أو قريبا منه
(فصل) فأما الأغصان والورق وسائر أجزاء الشجر فهو للمشتري بكل حال لأنه من اجزائها خلق
لمصلحتها فهو كأجزاء سائر المبيع، ويحتمل أن يكون ورق التوت الذي يقصد أخذه لتربية دود القز إن
تفتح فهو للبائع وإلا فهو للمشتري لأنه بمنزلة الجنبذ الذي يتفتح فيظهر نوره من الورد وغيره وهذا في
المواضع التي عادتهم أخذ الورق (1) وان لم تكن عادتهم ذلك فهو للمشتري كسائر ورق الشجر والله أعلم

(1) المعقول ان الحكم للعادة والعرف في كل عقد اطلق ولم يشترط البائع فيه لنفسه الثمر والحديث في النخل المؤبر مبني على أنه كان ذلك عرفهم لا أنه تعبد تعبدنا به
195

(فصل) وإذا كانت الثمرة للبائع مبقاة في شجر المشتري فاحتاجت إلى سقي لم يكن للمشتري منعه
منه لأنه يبقى به فلزمه تمكينه منه كتركه على الأصول وان أراد سقيها من غير حاجة فللمشتري منعه منه
لأنه بسقيه يتضمن التصرف في ملك غيره ولان الأصل منعه من التصرف في ملك غيره وإنما أباحته الحاجة
فإن لم توجد الحاجة يبقى على أصل المنع، فإن احتاجت إلى السقي وفيه ضرر على الشجر أو احتاج الشجر
إلى سقي يضر بالثمرة فقال القاضي أيهما طلب السقي لحاجته أجبر الآخر عليه لأنه دخل في العقد على
ذلك فإن المشتري اقتضى عقده تبقية الثمرة والسقي من تبقيتها والعقد اقتضى تمكين المشتري من حفظ
الأصول وتسليمها فلزم كل واحد منهما ما أوجبه العقد للآخر وان أضربه وإنما له أن يسقي بقدر
حاجته، فإن اختلفا في قدر الحاجة رجع إلى أهل الخبرة وأيهما التمس السقي فالمؤنة عليه لأنه لحاجته
(فصل) فإن خيف على الأصول الضرر بتبقية الثمرة عليها لعطش أو غيره والضرر يسير لم يجبر
على قطعها لأنها مستحقة للبقاء فلم يجبر على أزالتها لدفع ضرر يسير عن غيره، وإن كان كثير فخيف
على الأصول الجفاف أو نقص حملها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجبر أيضا لذلك (الثاني) يجبر على
القطع لأن الضرر يلحقها وان لم تقطع والأصول تسلم بالقطع فكان القطع أولى وللشافعي قولان كالوجهين
(فصل) وإذا باع شجرا فيه ثمر للبائع فحدثت ثمرة أخرى أو اشترى ثمرة في شجرها فحدثت
ثمرة أخرى فإن تميزتا فلكل واحد ثمرته وان لم تتميز إحداهما من الأخرى فهما شريكان فيهما كل
واحد بقدر ثمرته، فإن لم يعلم قدر كل واحدة منهما اصطلحا عليها ولا يبطل العقد لأن المبيع لم يتعذر
تسليمه وإنما اختلط بغيره فهو كما لو اشترى طعاما في مكان فانثال عليه طعام للبائع أو انثال هو على
طعام للبائع ولم يعرف قدر كل واحد منهما ويفارق هذا ما لو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها فتركها
حتى بدا صلاحها أو اشترى عرية فتركها حتى أتمرت فإن العقد يبطل في إحدى الروايتين لكون
196

اختلاط المبيع بغيره حصل بارتكاب النهي وكونه يتخذ حيلة على شراء التمرة قبل بدو صلاحها أو
شراء الرطب بالتمر من غير كيل من غير حاجة إلى أكله رطبا وههنا ما ارتكب نهيا ولا يجعل هذا
طريقا إلى فعل المحرم، وجمع أبو الخطاب بينهما فقال في الجميع روايتان (إحداهما) يبطل العقد (والأخرى)
لا يبطل، وقال القاضي ان كانت الثمرة للبائع فحدثت ثمرة أخرى قيل لكل واحد اسمح بنصيبك
لصاحبك فإن فعله أحدهما أقررنا العقد وأجبرنا الآخر على القبول لأنه يزول به النزاع وان امتنعا
فسخنا العقد لتعذر وصول كل واحد منهما إلى قدر حقه، وان اشترى ثمرة فحدثت ثمرة أخرى لم نقل
للمشتري اسمح بنصيبك لأن الثمرة كل المبيع فلا يؤمر بتخليته كله ونقول للبائع ذلك فإن سمح بنصيبه
للمشتري أجبرناه على القبول والا فسخ البيع بينهما، وهذا مذهب الشافعي، قال ابن عقيل لعل هذا
قول لبعض أصحابنا فإنني لم أجده معزيا إلى أحمد والظاهر أن هذا اختيار القاضي وليس بمذهب لأحمد
ولو اشترى حنطة فانثالت عليها أخرى لم ينفسخ البيع والحكم فيه كالحكم في الثمرة تحدث معها أخرى والله أعلم
(فصل) إذا باع الأرض وفيها زرع لا يحصد الا مرة كالحنطة والشعير والقطاني وما المقصود منه
مستتر كالجزر والفجل والبصل والثوم وأشباهها فاشترطه المشتري فهو له قصيلا كان أو ذا حب
مستترا أو ظاهرا معلوما أو مجهولا لكونه دخل في البيع للأرض فلم يضر جهله وعدم كماله كما لو اشترى
شجرة فاشترط ثمرتها بعد تأبيرها وان أطلق البيع فهو للبائع لأنه مودع في الأرض فهو كالكنز والقماش
ولأنه يراد للنقل فأشبه الثمرة المؤبرة، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم فيه مخالفا ويكون للبائع
مبقى في الأرض إلى حين الحصاد بغير أجرة لأن المنفعة حصلت مستثناة له، وعليه حصاده في أول
وقت حصاده وإن كان بقاؤه أنفع له كقولنا في الثمرة، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة عليه نقله
عقيب البيع كقوله في الثمرة وقد مضى الكلام فيها وهكذا قال الحكم في القصب الفارسي لأن له وقتا
يقطع فيه الا أن العروق تكون للمشتري لأنها تترك في الأرض للبقاء فيها والقصب نفسه كالثمرة وان
لم يظهر منه شئ فهو للمشتري وأما قصب السكر فإنه يؤخذ مرة واحدة فهو كالزرع فإن حصده قبل
الحصاد لينتفع بالأرض في غيره لم يملك الانتفاع بها لأن منفعتها إنما حصلت مستثناة عن مقتضي
العقد ضرورة بقاء الزرع فتقدر ببقائه كالثمرة على الشجرة وكما لو كان المبيع طعاما لا ينقل مثله عادة
الا في شهر لم يكلف الا ذلك فإن تكلف نقله في يوم واحد لينتفع بالدار في غيره لم يجز كذلك ههنا
ومتى حصد الزرع وبقيت له عروق تستضربها الأرض كعروق القطن والذرة فعلى البائع ازالتها
وان تحفرت الأرض فعليه تسوية حفرها لأنه استصلاح لملكه فصار كما لو باع دارا فيها خابية كبيرة
لا تخرج الا بهدم باب الدار فهدمها كان عليه الضمان، وكذلك كل نقص دخل على ملك شخص لاستصلاح
ملك الآخر من غير اذن الأول ولا فعل صدر عنه النقص واستند إليه كان الضمان على مدخل النقص
(فصل) وان باع أرضا وفيها زرع يجز مرة بعد أخرى فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند
البيع للبائع سواء كان مما يبقى سنة كالهندبا والبقول أو أكثر كالرطبة وعلى البائع قطع ما يستحقه منه في
197

الحال فإنه ليس لذلك حد ينتهى إليه ولان ذلك يطول ويخرج غير ما كان ظاهرا والزيادة من الأصول
التي هي ملك للمشتري، وكذلك أن كان الزرع مما تكرر ثمرته كالقثاء والخيار والبطيخ والباذنجان وشبهه
فهو للمشتري والثمرة الظاهرة عند البيع للبائع لأن ذلك مما تتكرر الثمرة فيه فأشبه الشجر، ولو كان مما
تؤخذ زهرته وتبقى عروقه في الأرض كالبنفسج والنرجس فالأصول للمشتري لأنه جعل في الأرض
للبقاء فيها فهو كالرطبة وكذلك أوراقه وغصونه لأنه لا يقصد أخذه فهو كورق الشجر وأغصانه، وأما
زهرته فإن كانت قد تفتحت فهي للبائع والا فهي للمشتري على ما ذكرناه فيما مضى واختار ابن عقيل
في هذا كله أن البائع ان قال بعتك هذه الأرض بحقوقها دخل فيها وان لم يقل بحقوقها فهل
يدخل؟ على وجهين كالشجر.
(فصل) وإذا اشترى أرضا فيها بذر فاستحق المشتري أصله كالرطبة والنعناع والبقول التي
تجز مرة بعد أخرى فهو له لأنه ترك في الأرض للتبقية فهو كأصول الشجر ولأنه لو كان ظاهرا كان
له فالمستتر أولى سواء عقلت عروقه في الأرض أولا فإن كان بذرا لما يستحقه البائع فهو له إلا أن يشترطه
المبتاع فيكون له، وقال الشافعي البيع باطل لأن البذر مجهول وهو مقصود
ولنا أن البذر يدخل تبعا في البيع فلم يضر جهله كما لو اشترى عبدا فاشترط ماله ويجوز في التابع
من الغرر مالا يجوز في المتبوع كبيع اللبن في الضرع مع الشاة والجمل مع الام والسقوف في الدار وأساسات
الحيطان تدخل تبعا في البيع ولا تضر جهالتها ولا تجوز مفردة، وان لم يعلم المشتري بذلك فله الخيار
في فسخ البيع وامضائه لأنه يفوت عليه منفعة الأرض عاما، فإن رضي البائع بتركه للمشتري أو قال أنا
أحوله وأمكنه ذلك في زمن يسير لا يضر بمنافع الأرض فلا خيار للمشتري لأنه أزال العيب
بالنقل أو زاده خيرا بالترك فلزمه قبوله لأن فيه تصحيحا للعقد، وهذا مذهب الشافعي، وكذلك لو
اشترى نخيلا فيه طلع فبان انه مؤبر فله الخيار لأنه يفوت المشتري ثمرة عامه ويضر بقاؤها بنخله فإن
تركها له البائع لم يكن له خيار، فإن قال أنا أقطعها الآن لم يسقط خياره بذلك لأن ثمرة العام تفوت
سواء قطعها أو تركها، وان اشترى أرضا فيها زرع للبائع أو شجرا فيه ثمر للبائع والمشتري جاهل بذلك
يظن أن الزرع والثمر له فله الخيار أيضا كما لو جهل وجوده لأنه إنما رضي ببذل ماله عوضا عن الأرض
والشجر بما فيهما فإذا بان خلاف ذلك أن يثبت له الخيار كالمشتري للمعيب يظنه صحيحا، وإن
اختلفا في جهله لذلك فالقول قول المشتري إذا كان ممن يجهل ذلك لكونه عاميا فإن هذا مما يجهله كثير
من الناس وإن كان ممن يعلم ذلك لم يقبل قوله لأن الظاهر أنه لا يجهله
(فصل) إذا باعه أرضا بحقوقها دخل ما فيها من غراس وبناء في البيع وكذلك إذا قال رهنتك
هذه الأرض بحقوقها دخل في الرهن غراسها وبناؤها وان لم يقل بحقوقها فهل يدخل الغراس والبناء
فيهما؟ على وجهين، ونص الشافعي على أنهما يدخلان في البيع دون الرهن، واختلف أصحابه في ذلك فمنهم
من قال فيهما جميعا قولان ومنهم من فرق بينهما بكون البيع أقوى فيستتبع البناء والشجر بخلاف الرهن
198

ومنهم من قال إنهما سواء لأن ما تبع في البيع تبع في الرهن كالطرق والمنافع وفيهما جميعا وجهان
(أحدهما) يدخل البناء والشجر لأنهما من حقوق الأرض ولذلك يدخلان إذا قال بحقوقها وما كان
من حقوقها يدخل فيها بالاطلاق كطرقها ومنافعها (والثاني) لا يدخلان لأنهما ليسا من حقوق الأرض فلا
يدخلان في بيعها ورهنها كالثمرة المؤبرة، ومن نصر الأول فرق بينهما بكون الثمرة تراد للنقل وليست
من حقوقها بخلاف الشجر والبناء، فإن قال بعتك هذا البستان دخل فيه الشجر لأن البستان اسم للأرض
والشجر والحائط ولذلك لا تسمى الأرض المكشوفة بستانا قال ابن عقيل ويدخل فيه البناء لأن ما
ما دخل فيه الشجر دخل فيه البناء ويحتمل أن لا يدخل
(فصل) وان باعه شجرا لم تدخل الأرض في البيع ذكره أبو إسحاق ابن شاقلا لأن الاسم لا
يتناولها ولا هي تبع للمبيع.
(فصل) وان قال بعتك هذه القرية فإن كانت في اللفظ قرينة مثل المساومة على أرضها أو ذكر
الزرع والغرس فيها وذكر حدودها أو بذل ثمن لا يصلح الا فيها وفي أرضها دخل في البيع لأن
الاسم يجوز أن يطلق عليها مع أرضها والقرينة صارفة إليه ودالة عليه فأشبه ما لو صرح به، وان لم يكن
قرينة تصرف إلى ذلك فالبيع يتناول البيوت والحصن الدائر عليها فإن القرية اسم لذلك وهو مأخوذ
من الجمع لأنه يجمع الناس وسواء قال بحقوقها أو لم يقل، وأما الغراس بين بنيانها فحكمه حكم الغراس
في الأرض ان قال بحقوقها دخل وان لم يقل فعلى وجهين.
(فصل) وان باعه دارا بحقوقها تناول البيع أرضها وبناؤها وما هو متصل بها مما هو من مصلحتها
كالأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة المسمرة والأوتاد المغروزة والحجر المنصوب من الرحا
وأشباه ذلك، ولا يدخل في البيع ما ليس من مصالحها كالكنز والأحجار المدفونة لأن ذلك مودع فيها
للنقل عنها فأشبه الفرش والستور ولا ما كان منفصلا عنها يختص بمصلحتها كالفرش والستور والطعام
والرفوف الموضوعة على الأوتار بغير تسمير ولا غرز في الحائط والدلو والبكرة والقفل وحجر الرحى
إذا لم يكن واحد منهما منصوبا والخوابي الموضوعة من غير أن يطين عليها ونحوه لأنه منفصل عنها
لا يختص بمصلحتها فأشبه الثياب، وأما ما كان من مصالحها لكنه منفصل عنها كالمفتاح والحجر
الفوقاني من الرحا إذا كان السفلاني منصوبا فيحتمل وجهين (أحدهما) يدخل في البيع لأنه لمصلحتها
فأشبه المنصوب فيها (والثاني) لا يدخل لأنه منفصل عنها فأشبه السفلاني إذا لم يكن منصوبا والقفل
والدلو ونحوهما ومذهب الشافعي في هذا كمذهبنا سواء.
(فصل) وما كان في الأرض من الحجارة المخلوقة فيها أو مبني فيها كأساسات الحيطان المتهدمة
فهي للمشتري بالبيع لأنه من اجزائها فهي كحيطانها وترابها والمعادن الجامدة والآجر كالحجارة
في هذا، وإذا كان المشتري عالما بذلك فلا خيار له وان لم يكن عالما به وكان ذلك يضر بالأرض
وينقصها كالصخر المضر بعروق الشجر فهو عيب وللمشتري الخيار بين الفسخ وأخذ الثمن أو الامساك
199

وأخذ أرش العيب كما في سائر المبيع، فأما ان كانت الحجارة أو الآجر مودعا فيها للنقل فهي للبائع
كالكنز وعليه نقلها وتسوية الأرض إذا نقلها واصلاح الحفر لأنه ضرر لحق لاستصلاح ملكه فكان عليه
إزالته وإن كان قلعها يضر بالأرض أو تتطاول مدته ولم يكن المشتري عالما فله الخيار كما ذكرنا لأنه عيب
وان لم يكن في نقلها ضرر ويمكن نقلها في أيام يسيرة كالثلاثة فما دون فلا خيار له وله مطالبة البائع
بنقلها في الحال لأنه لا عرف في تبقيتها بخلاف الزرع، وإن كان عالما بالحال فلا خيار له ولا أجرة في
الزمان الذي نقلت فيه لأنه علم بذلك ورضي فأشبه ما لو اشترى أرضا فيها زرع، وان لم يعلم واختار
امساك المبيع فهل له أجرة لزمان النقل على وجهين (أحدهما) له ذلك لأن المنافع مضمونة على المتلف
فكان عليه بدلها كالاجزاء (والثاني) لا يجب لأنه لما رضي بامساك المبيع بتلف المنفعة في زمان النقل فإن
لم يختر الامساك فقال البائع أنا أدع ذلك لك وكان مما لا ضرر في بقائه لم يكن له خيار لأن الضرر زال عنه
(فصل) فإن كان في الأرض معادن جامدة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص
ونحوها دخلت في البيع وملكت بملك الأرض التي هي فيها لأنها من أجزائها فهي كترابها وأحجارها
ولكن لا يباع معدن الذهب بذهب ولا معدن الفضة بفضة ويجوز بيعها بغير جنسها، وان ظهر في الأرض
معدن لم يعلم البائع به فله الخيار لأنه زيادة لم يعلم بها فأشبه ما لو باعه ثوبا على أنه عشرة فبان أحد عشر
هذا إذا كان قد ملك الأرض باحياء أو اقطاع، وقد روي أن ولد بلال بن الحارث باعوا عمر بن
عبد العزيز أرضا فظهر فيها معدن فقالوا إنما بعنا الأرض ولم نبع المعدن وأتوا عمر بن عبد العزيز بالكتاب
الذي فيه قطيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيهم فأخذه عمر فقبله ورد عليهم المعدن. وإن كان البائع ملك الأرض
بالبيع احتمل أن لا يكون له خيار لأن الحق لغيره وهو المالك الأول، واحتمل أن يكون له الخيار كما
لو اشترى معيبا ثم باعه ولم يعلم عيبه فإنه يستحق الرد عليه وإن كان قد باعه مثل ما اشتراه، وقد روى
أبو طالب عن أحمد انه إذا ظهر المعدن في ملكه ملكه وظاهر هذا أنه لم يجعله للبائع ولا جعل له خيارا
لأنه من أجزاء الأرض فأشبه ما لو ظهر فيها حجارة لها قيمة كبيرة
(فصل) وإذا كان في الأرض بئر أو عين مستنبطة فنفس البئر وأرض العين مملوكة لمالك الأرض
والماء الذي فيها غير مملوك لأنه يجري من تحت الأرض إلى ملكه فأشبه الما الجاري في النهر إلى ملكه
وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي (والوجه الآخر) يدخل في الملك لأنه نماء الملك، وقد روي
عن أحمد ما يدل على أنه يملك فإنه قال في رجل له أرض ولآخر ماء فيشترك صاحب الأرض وصاحب
الماء في الزرع ويكون بينهما فقال لا بأس، اختاره أبو بكر وهذا يدل على أن الماء مملوك لصاحبه، وفي
معنى الماء المعادن الجارية في الاملاك كالقار والنفط والمومياء والملح وكذلك الحكم في النابت في أرضه
من الكلأ والشوك ففي كل ذلك يخرج على الروايتين في الماء، والصحيح ان الماء لا يملك فكذلك
هذه، قال أحمد لا يعجبني بيع الماء البتة قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن قوم بينهم نهر
200

تشرب منه أرضوهم لهذا يوم ولهذا يومان يتفقون عليه بالحصص فجاء يومي ولا أحتاج إليه أكريه بدراهم؟
قال ما أدري أما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن بيع الماء قيل إنه ليس يبيعه إنما يكريه، قال إنما احتالوا بهذا
ليحسنوه فأي شئ هذا الا البيع؟ وروى الأثرم باسناده عن جابر وإياس بن عبد الله المزني أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع الماء، وروى أيضا عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلمون
شركاء في ثلاث: في الماء والنار والكلاء " رواه أبو عبيد في كتاب الأموال، فإذا قلنا لا يملك فصاحب الأرض
أحق به من غيره لكونه في ملكه فإن دخل غيره بغير اذنه فأخذه ملكه لأنه مباح في الأصل فأشبه
ما لو عشش في أرضه طائر أو دخل فيها ظبي أو نضبت عن سمك فدخل إليه داخل فأخذه، وأما ما يحوزه
من الماء في إنائه أو يأخذه من الكلاء في حبله أو يحوزه في رحله أو يأخذه من المعادن فإنه يملكه بذلك
وله بيعه بلا خلاف بين أهل العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لأن يأخذ أحدكم حبلا فيأخذ حزمة
من حطب فيبيع فيكف الله به وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطي أو منع " رواه البخاري، وروى أبو
عبيد في الأموال عن المشيخة ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه، وعلى ذلك مضت العادة
في الأمصار ببيع الماء في الروايا والحطب والكلاء من غير نكير، وليس لاحد أن يشرب منه ولا يتوضأ
ولا يأخذ الا بإذن مالكه وكذلك لو وقف على بئره أو بئر مباح فاستقى بدلوه أو بدولاب أو نحوه فما
يرقيه من الماء فهو ملكه وله بيعه لأنه ملكه يأخذه في إنائه، وقال احمد إنما نهي عن بيع فضل ماء البئر
والعيون في قراره. ويجوز بيع البئر نفسها والعين ومشتريها أحق بمائها، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله الجنة؟ " أو كما قال، فاشتراها عثمان بن عفان رضي
الله عنه من يهودي بأمر النبي صلى الله وسلم وسبلها للمسلمين وكان اليهودي يبيع ماءها، وروي أن
عثمان اشتري منه نصفها باثني عشر ألفا ثم قال لليهودي اختر إما أن تأخذها يوما وآخذها أنا يوما واما
أن تنصب لك عليها دلوا وأنصب عليها دلوا فاختار يوما ويوما، فكان الناس يستقون منها في يوم عثمان
لليومين فقال اليهودي أفسدت علي بئري فاشتر باقيها فاشتراه بثمانية آلاف، وفي هذا دليل على صحة
بيعها وتسبيلها وصحة بيع ما يستقيه منها وجواز قسمة مائها بالمهايأة وكون مالكها أحق بمائها، وجواز
قسمة ما فيه حق وليس بمملوك. فأما المياه الجارية فما كان نابعا في غير ملك كالأنهار الكبار وغيرها لم
تملك بحال ولو دخل إلى أرض رجل لم يملكه بذلك كالطير يدخل إلى أرضه ولكل أحد أخذه ولا
يملكه الا أن يجعل له في أرضه مستقرا كالبركة والقرار أو يحتفر ساقية يأخذ فيها من ماء النهر الكبير
فيكون أحق بذلك الماء من غيره كنقع البئر، وإن كان ما يستقر في البركة لا يخرج منها فالأولى أنه يملكه
بذلك على ما سنذكره في مياه الأمطار. وما كان نابعا أو مستنبطا كالقني فهو كنقع البئر وفيه من الخلاف
ما فيه، فأما المصانع المتخذة لمياه الأمطار تجمع فيها ونحوها من البرك وغيرها فالأولى أنه يملك ماءها
ويصح بيعه إذا كان معلوما لأنه مباح حصله بشئ معد له فملكه كالصيد يحصل في شبكته والسمك في
بركة معدة له ولا يجوز أخذ شئ منه إلا بإذن مالكه.
201

{مسألة} قال (وإذا اشترى الثمرة دون الأصل ولم يبد صلاحها على الترك إلى الجزاز لم يجز وان اشتراها على القطع جار)
لا يخلو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام (أحدهما) أن يشتريها بشرط التبقية فلا يصح
البيع إجماعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع، متفق عليه والنهي
يقتضي فساد المنهي عنه قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث
(القسم الثاني) أن يبيعها بشرط القطع في الحال فيصح بالاجماع لأن المنع إنما كان خوفا من تلف
الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها بدليل ما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار
حتى تزهو قال " أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " رواه البخاري وهذا مأمون فيما
يقطع فصح بيعه كما لو بدا صلاحه
(القسم الثالث) أن يبيعها مطلقا ولم يشترط قطعا ولا تبقية فالبيع باطل، وبه قال مالك والشافعي
وأجازه أبو حنيفة لأن اطلاق العقد يقتضي القطع فهو كما لو اشترطه قال ومعنى النهى أن يبيعها مدركة
قبل ادراكها بدلالة قوله " أرأيت ان منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " فلفظة المنع تدل على أن
العقد يتناول معنى هو مفقود في الحال حتى يتصور المنع ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق النهي عن بيع
الثمرة قبل بدو صلاحها فيدخل فيه محل النزاع، واستدلالهم بسياق الحديث يدل على هدم قاعدتهم
التي قرروها في أن اطلاق العقد يتقضي القطع، ويقرر ما قلنا من أن اطلاق العقد يقتضي التبقية فيصير
العقد المطلق كالذي شرطت فيه التبقية يتناولهما النهي جميعا، ويصح تعليلهما بالعلة التي علل بها النبي صلى
الله عليه وسلم من منع الثمرة وهلاكها
(فصل) وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع على ثلاثة أضرب (أحدها) ان يبيعها
مفردة لغير مالك الأصل فهذا الضرب الذي ذكرنا حكمه وبينا بطلانه (الثاني) أن يبيعها مع الأصل
فيجوز بالاجماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن
يشترط المبتاع " ولأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعا في البيع فلم يضر احتمال الغرر فيها كما احتملت
الجهالة في بيع اللبن في الضرع مع بيع الشاة والنوى في التمر مع التمر وأساسات الحيطان في بيع الدار
(الثالث) أن يبيعها مفردة لمالك الأصل نحو أن تكون للبائع ولا يشترطها المبتاع فيبيعها له بعد ذلك
أو يوصي لرجل بثمرة نخلة فيبيعها لورثة الموصي ففيه وجهان (أحدهما) يصح البيع وهو المشهور من
قول مالك وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه يجتمع الأصل والثمرة للمشتري فيصح كما لو اشتراهما
معا ولأنه إذا باعها لمالك الأصل حصل التسليم إلى المشتري على الكمال لكونه مالكا لأصولها وقرارها
فصح كبيعها مع أصلها (والثاني) لا يصح وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن العقد يتناول الثمرة
202

خاصة والغرر فيما يتناوله العقد أصلا يمنع الصحة كما لو كانت الأصول لأجنبي ولأنها تدخل في عموم النهي
بخلاف ما إذا باعهما معا فإنه مستثنى بالخبر المروي فيه ولان الغرر فيما يتناوله العقد أصلا يمنع الصحة
وفيما إذا باعهما مع تدخل الثمرة تبعا، ويجوز في التابع من الغرر ما لا يجوز في المتبوع كما يجوز بيع
اللبن في الضرع والحمل مع الشاة وغيرهما، وان باعه الثمرة بشرط القطع في الحال صح وجها واحدا
ولا يلزم المشتري الوفاء بالشرط لأن الأصل له.
(فصل) ولا يجوز بيع الزرع الأخضر في الأرض الا بشرط القطع في الحال كما ذكرنا في الثمرة على الأصول لما روى مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهي وعن بيع السنبل
حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري، قال ابن المنذر لا أعلم أحدا يعدل عن القول به وهو
قول مالك وأهل المدينة وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي فإن باعه مع الأرض جاز
كبيع الثمرة مع الأصل، وان باعه لمالك الأرض ففيه وجهان على ما ذكرنا في الثمرة تباع من مالك الأصل
وقال أبو الخطاب يجوز، وان باعه إياه بشرط القطع جاز وجها واحدا ولم يلزم المشتري الوفاء بالشرط
لأن الأصل له فهو كبيع الثمرة من مالك الأصل بشرط القطع وإذا اشتد حب الزرع جاز بيعه مطلقا وبشرط
التبقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث " حتى يبيض " فجعل ذلك غاية المنع من بيعه فيدل على
الجواز بعده وفي رواية نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد.
ولأنه إذا اشتد حبه بدا صلاحه فصار كالثمرة إذا بدا صلاحها، وإذا اشتد شئ من حبه جاز بيع
جميع ما في البستان من نوعه كالشجرة إذا بدا الصلاح في شئ منها
(فصل) ذكره القاضي في الصلح قال: وإذا اعترف لرجل بزرع ثم صالحه منه بعوض صح فيما
يصح في البيع وبطل فيما يبطل فيه، ولو ادعى اثنان زرعا في يد آخر فأقر لهما به فالزرع بينهما نصفان
فإن صالح أحدهما عن حقه منه قبل اشتداد حبه لم يجز سواء شرط القطع أو أطلق لأنه ان أطلق بطل
للنهي عن بيع المحاضرة، وان شرط القطع لم يمكنه قطع نصيبه الا بقطع الزرع كله، وان كانت الأرض
للمقر احتمل أن يصح واحتمل أن لا يصح بناء على الوجهين فيما إذا اشترى زرعا أخضر في أرض مملوكة
له، ولو كانت الأرض لرجل والزرع لآخر فقال أحدهما صالحني من نصف أرضي على نصف زرعك
فيكون الزرع والأرض بيننا نصفين فإن كان بعد اشتداد حبه جاز لأنه يجوز بيعه، وإن كان قبل
ذلك فهل يجوز على وجهين بناء على بيع الزرع من مالك الأرض وذلك لأنه يبيع نصف الزرع لمالك
الأرض ويشتري منه نصف الأرض التي له فيها الزرع، ان شرطا في البيع أن يقطعا الزرع جميعه
ويسلم الأرض فارغة ففيه وجهان أيضا (أحدهما) يصح لاشتراطهما قطع كل الزرع وتفريغ الأرض
ومنه، واحتمل أن يبطل لأن صاحب الأرض باعه نصف الأرض بشرط قطع زرع غيره ليسلم إليه
أرضه، وان قلنا يصح لم يلزم الوفاء بالشرط لأن كل واحد منهما حصل زرعه في أرضه فلم يلزم قطعه
(فصل) وإذا اشترى رجل نصف الثمرة قبل بدو صلاحها أو نصف الزرع قبل اشتداد حبه
203

مشاعا لم يجز سواء اشتراه من رجل أو من أكثر منه وسواء شرط القطع أو لم يشترطه لأنه لا يمكنه
قطعه إلا بقطع ما لا يملكه فلم يصح اشتراطه
(فصل) والقطن ضربان (أحدهما) ماله أصل يبقى في الأرض أعواما كالشجر تتكرر ثمرته فهذا
حكمه حكم الشجر في أنه يصح افراده بالبيع وإذا بيعت الأرض بحقوقها دخل في البيع وثمره كالطلع ان تفتح
فهو للبائع والا فهو للمشتري (والثاني) ما يتكرر زرعه كل عام فحكمه حكم الزرع ومتى كان جوزه ضعيفا
رطبا لم يقوما فيه لم يجز بيعه إلا بشرط القطع كالزرع الأخضر، وان قوي جوزه واشتد جاز بيعه
بشرط التبقية كالزرع الذي اشتد حبه وإذا بيعت الأرض لم يدخل في البيع الا أن يشترطه المبتاع،
والباذنجان نوعان (أحدهما) ماله شجر تبقى أصوله وتتكرر ثمرته فهو كالشجر و (الثاني) ما يتكرر زرعه كل عام فهو كالحنطة والشعير
{مسألة} قال (فإن تركها حتى يبدو صلاحها بطل البيع)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها فتركها حتى بدا صلاحها
فنقل عنه حنبل وأبو طالب ان البيع يبطل القاضي هي أصح فعلى هذا يرد المشتري الثمرة إلى البائع
ويأخذ الثمن، ونقل أحمد بن سعيد أن البيع لا يبطل وهو قول أكثر الفقهاء لأن أكثر ما فيه ان المبيع
اختلط بغيره فأشبه ما لو اشترى ثمرة فحدثت ثمرة أخرى ولم تتميز أو حنطة فانثالت عليها أخرى أو
ثوبا فاختلط بغيره، ونقل عنه أبو داود فيمين اشترى قصيلا فمرض أوتوا؟ حتى صار شعيرا قال إن أراد به
حيلة فسد البيع والا لم يفسد والظاهر أن هذه ترجع إلى ما نقله ابن سعيد فإنه يتعين حمل ما نقله أحمد بن سعيد في
صحة البيع على من لم يرد حيلة فإن أراد الحيلة وقصد بشرطه القطع الحيلة على ابقائه لم يصح بحال إذ قد ثبت من
مذهب أحمد ان الحيل كلها باطلة، ووجه الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو
صلاحها فاستثني منه ما اشتراه بشرط القطع فقطعه بالاجماع فيبقى ما عداه على أصل التحريم ولان
التبقية معنى حرم الشرع اشتراطه لحق الله تعالى فأبطل العقد وجوده كالنسيئة فيما يحرم فيه النساء وترك
التقابض فيما يشترط فيه القبض أو الفضل فيما يجب التساوي فيه ولان صحة البيع تجعل ذلك ذريعة إلى
شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وتركها حتى يبدو صلاحها ووسائل الحرام حرام كبيع العينة، ومتى حكمنا
بفساد البيع فالثمرة كلها للبائع وعنه انهما يتصدقان بالزيادة قال القاضي هذا مستحب لوقوع الخلاف
في مستحق الثمرة فاستحبت الصدقة بها والا فالحق أنها للبائع تبعا للأصل كسائر نماء المبيع المتصل إذا
رد على البائع بفسخ أو بطلان، ونقل ابن أبي موسى في الارشاد أن البائع والمشتري يكونان شريكين
في الزيادة، وأما ان حكمنا بصحة العقد فقد روي أنهما يشتركان في الزيادة لحصولها في ملكهما فإن ملك
المشتري الثمرة وملك البائع الأصل وهو سبب الزيادة وقال القاضي الزيادة للمشتري كالعبد إذا سمن
وحمل قول أحمد يشتركان على الاستحباب، والأول أظهر لما ذكرنا فإن الزيادة حصلت من أصل
204

البائع من غير استحقاق تركها فكان فيها حق له بخلاف العبد إذا سمن فإنه لا يتحقق فيه هذا المعنى
ولا يشبهه، ولا يصح حمل قول أحمد على الاستحباب فإنه لا يستحب للبائع أن يأخذ من المشتري ما
ليس بحق له بل ذلك عليه فكيف يكون مستحبا؟ وعن أحمد أنهما يتصدقان بالزيادة وهو قول
الثوري ومحمد بن الحسن لأن عين المبيع زاد بجهة محظورة قال الثوري إذا اشترى قصيلا يأخذ رأس ماله ويتصدق
بالباقي ولان الامر اشتبه في هذه الزيادة وفي مستحقها فكان الأولى الصدقة بها ويشبه أن يكون هذا استحبابا
لأن الصدقة بالشبهات مستحبة، وان أبيا الصدقة بها اشتركا فيها، والزيادة هي ما بين قيمتها حين الشراء وقيمتها
يوم أخذها. قال القاضي ويحتمل أنها ما بين قيمتها قبل بدو صلاحها وقيمتها بعده لأن الثمرة قبل بدو صلاحها
كانت للمشتري بتمامها لاحق للبائع فيها، وقال الثوري يأخذ المشتري رأس ماله ويتصدق بالباقي،
وكذلك الحكم في الرطبة إذا طالت والزرع الأخضر إذا أدجن وهذا فيما إذا لم يقصد وقت الشراء
تأخيره ولم يجعل شراءه بشرط القطع حيلة على المنهي عنه من شراء الثمرة قبل بدو صلاحها ليتركها
حتى يبدو صلاحها فاما ان قصد ذلك فالبيع باطل من أصله لأنه حيلة محرمة وعند أبي حنيفة والشافعي
لاحكم لقصده والبيع صحيح قصد أو لم يقصد وأصل هذا الخلاف في تحريم الحيل وقد سبق الكلام في هذا
{مسألة} قال (فإن اشتراها بعد أن بدا صلاحها على الترك إلى الجزاز جاز)
وجملة ذلك أنه إذا بدا الصلاح في الثمرة جاز بيعها مطلقا وبشرط التبقية إلى حال الجزاز وبشرط
القطع، وبذلك قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز بشرط التبقية الا ان محمدا قال إذا
تناهى عظمها جاز واحتجوا بان هذا شرط الانتفاع بملك البائع على وجه لا يقتضيه العقد فلم يجز كما لو شرط
تبقية الطعام في كند وجه. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها فمفهومه إباحة
بيعها بعد بدو صلاحها والمنهى عنه قبل بدو الصلاح عندهم البيع بشرط التبقية فيجب أن يكون ذلك
جائزا بعد بدو الصلاح والا لم يكن بدو الصلاح غاية ولا فائدة في ذكره، ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وتأمن العاهة، وتعليله بأمن العاهة يدل على التبقية لأن ما يقطع في
الحال لا يخاف العاهة عليه، وإذا بدا الصلاح فقد أمنت العاهة فيجب أن يجوز بيعه مبقى لزوال علة
المنع ولان النقل والتحويل يجب في المبيع بحكم العرف فإذا شرطه جاز كما لو شرط نقل الطعام من ملك
البائع حسب الامكان وفي هذا انفصال عما ذكروه
(فصل) ولا يختلف المذهب ان بدو الصلاح في بعض ثمرة النخلة أو الشجرة صلاح لجميعها أعني
انه يباح بيع جميعها بذلك ولا أعلم فيه اختلافا وهل يجوز بيع سائر ما في البستان من ذلك النوع؟ فيه
روايتان أظهرهما جوازه وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن، وعنه لا يجوز الا بيع ما بدا صلاحه لأن
ما لم يبد صلاحه داخل في عموم النهي ولأنه لم يبد صلاحه فلم يجز بيعه من غير شرط القطع كالجنس
الآخر وكالذي في البستان الآخر، ووجه الأولى أنه بدا الصلاح في نوعه من البستان الذي هو
205

فيه فجاز بيع جميعه كالشجرة الواحدة ولان اعتبار بدو الصلاح في الجمع يشق ويؤدي إلى الاشتراك
واختلاف الأيدي فوجب أن يتبع ما لم يبد صلاحه من نوعه لما بدا على ما ذكرنا فيما أبر بعضه
دون بعض، فاما نوع آخر من ذلك الجنس فقال القاضي لا يتبعه وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال محمد بن الحسن ما كان متقارب الادراك فبدو صلاح بعضه يجوز به بيع جميعه وإن كان
يتأخر ادراك البعض تأخيرا كثيرا فالبيع جائز فيما أدرك ولا يجوز في الباقي وقال أبو الخطاب:
يجوز بيع ما في البستان من ذلك الجنس وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن الجنس الواحد يضم
بعضه إلى بعض في اكمال النصاب في الزكاة فيتبعه في جواز البيع كالنوع الواحد، والأول أولى لأن
النوعين قد يتباعد إدراكهما فلم يتبع أحدهما الآخر في بدو الصلاح كالجنسين ويخالف الزكاة فإن
القصد هو الغنى من جنس ذلك المال لتقارب منفعته وقيام كل نوع مقام النوع الآخر في المقصود
والمعنى ههنا هو تقارب ادراك أحدهما من الآخر ودفع الضرر الحاصل بالاشتراك واختلاف الأيدي
ولا يحصل ذلك في النوعين فصارا في هذا كالجنسين
(فصل) فاما النوع الواحد من بستانين فلا يتبع أحدهما الآخر في جواز البيع حتى يبدو الصلاح
في أحدهما متجاورين كانا أو متباعدين وهذا مذهب الشافعي، وحكي عن أحمد رواية أخرى ان بدو
الصلاح في شجرة من القراح صلاح له ولما قاربه وبهذا قال مالك لأنهما يتقاربان في الصلاح فأشبها
القراح الواحد، ولان المقصود الامن من العاهة وقد وجد، والمذهب الأول لأنه إنما جعل ما لم يبد
صلاحه بمنزلة ما بدا وتابعا له دفعا لضرر الاشتراك واختلاف الأيدي وإلا فالأصل اعتبار كل شئ بنفسه
وما في قراح آخر لا يوجد فيه هذا الضرر فوجب أن لا يتبع الآخر كما لو تباعدا، وما ذكروه ينتقض
بما لم يجاوره من ذلك النوع، ولو بدا صلاح بعض النوع الواحد فأفرد بالبيع ما لم يبد صلاحها من بقية
النوع من ذلك البستان لم يجز لدخوله تحت عموم النهي ويقدر قياسه على الصورة المخصوصة من العموم
وهي ما إذا باعه مع ما بدا صلاحه لأنه دخل في جواز البيع تبعا دفعا لمضرة الاشتراك واختلاف
الأيدي ولا يوجد ذلك ههنا ولأنه قد يدخل في البيع تبعا ما يجوز افراده كالثمرة تباع مع الأصل
والزرع مع الأرض واللبن في الضرع مع الشاة، ويحتمل الجواز لأن الكل في حكم ما بدا صلاحه ولأنه
يجوز بيعه مع غيره فجاز بيعه مفردا كالذي بدا صلاحه
(فصل) إذا احتاجت الثمرة إلى سقي لزم البائع ذلك لأنه يجب عليه تسليم الثمرة كاملة وذلك يكون
بالسقي، فإن قيل فلم قلتم انه إذا باع الأصل وعليه ثمرة للبائع لا يلزم المشتري سقيها؟ قلنا لأن المشتري
لا يجب عليه تسليم الثمرة لأنه لم يملكها من جهته وإنما بقي ملكه عليها بخلاف مسئلتنا فإن امتنع
البائع من السقي لضرر يلحق بالأصل أجبر عليه لأنه دخل على ذلك
(فصل) ويجوز لمشتري الثمرة بيعها في شجرها روي ذلك عن الزبير بن العوام وزيد بن ثابت
206

والحسن بن أبي الحسن البصري وأبي حنيفة والشافعي وابن المنذر، وكرهه ابن عباس وعكرمة وأبو
سلمة لأنه بيع قبل قبضه فلم يجز كما لو كان على وجه الأرض فلم يقبضه. ولنا أنه يجوز له التصرف فيه
فجاز له بيعه كما لو جذه، وقولهم لم يقبضه لا يصح فإن قبض كل شئ بحسبه وهذا قبضه التخلية وقد وجدت
{مسألة} قال (فإن كانت ثمرة نخل فبدو صلاحها ان تظهر الحمرة أو الصفرة وان
كانت ثمرة كرم فصلاحها أن تتموه وصلاح ما سوى النخل والكرم أن يبدو فيها النضج)
وجملة ذلك أن ما كان من الثمرة يتغير لونه عند صلاحه كثمرة النخل والعنب الأسود والإجاص
فبدو صلاحه بذلك، وإن كان العنب أبيض فصلاحه بتموهه وهو أن يبدو فيه الماء الحلو ويلين ويصفر
لونه، وإن كان مما لا يتلون كالتفاح ونحوه فبأن يحلو أو يطيب، وإن كان بطيخا أو نحوه فبأن يبدو فيه
النضح، وإن كان مما لا يتغير لونه ويؤكل طيبا صغارا وكبارا كالقثاء والخيار فصلاحه بلوغه أن يؤكل
عادة، وقال القاضي وأصحاب الشافعي بلوغه أن يتناهي عظمه، وما قلناه أشبه بصلاحه مما قالوه فإن بدو
صلاح الشئ ابتداؤه وتناهي عظمه آخر صلاحه ولان بدو الصلاح في الثمر يسبق حال الجزاز فلا
يجوز أن يجعل بدو الصلاح فيما يقاس عليه بسبقه قطعه عادة إلا أن يريدوا بتناهي عظمه انتهاءه إلى
الحال التي جرت العادة بأخذه فيها فيكون كما ذكرنا، وما قلنا في هذا الفصل فهو قول مالك والشافعي
وكثير من أهل العلم أو مقارب له، وقال عطاء لا يباع حتى يؤكل من الثمر قليل أو كثير، وروي نحوه
عن ابن عمر وابن عباس، ولعلهم أرادوا صلاحه للاكل فيرجع معناه إلى ما قلنا فإن ابن عباس قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يأكل. متفق عليه، وان أرادوا حقيقة الاكل
كان ما ذكرنا أولى لأن ما رووه يحتمل صلاحه للاكل فيحمل على ذلك موافقة لأكثر الاخبار وهو
ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن بيع الثمرة حتى تطيب متفق عليه، ونهى أن تباع الثمرة حتى
تزهو. قيل وما تزهو؟ قال " تحمار أو تصفار " رواه البخاري، ونهى عن بيع العنب حتى يسود. رواه
الترمذي وابن ماجة والأحاديث في هذا كثيرة كلها تدل على هذا المعنى
{مسألة} قال (ولا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان وما أشبهه الا لقطة لقطة)
وجملة ذلك أنه إذا باع ثمرة شئ من هذه البقول لم يجز الا بيع الموجود منها دون المعدوم وبهذا
قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك يجوز بيع الجميع لأن ذلك يشق تمييزه فجعل ما لم يظهر تبعا لما ظهر
كما أن ما لم يبد صلاحه تبع لما بدا. ولنا أنها ثمرة لم تخلق فلم يجز بيعها كما لو باعها قبل ظهور شئ منها
والحاجة تندفع ببيع أصوله ولان ما لم يبد صلاحه يجوز افراده بالبيع بخلاف ما لم يخلق ولان ما لم يخلق
من ثمرة النخل لا يجوز بيعه تبعا لما خلق وإن كان ما لم يبد صلاحه تبعا لما بدا. إذا تقرر هذا فإن باعها
قبل بدو صلاحها لم يجز الا بشرط القطع فإن كان بعد بدو صلاحها جاز مطلقا وبشرط القطع والتبقية
على ما ذكرنا في ثمرة الأشجار وقد بينا بماذا يكون بدو صلاحه
207

(فصل) قال القاضي ويصح القاضي بيع أصول هذه البقول التي تتكرر ثمرتها من غير شرط القطع وهو
مذهب أبي حنيفة والشافعي، ولا فرق بين كون الأصول صغارا أو كبارا مثمرة أو غير مثمرة لأنه
أصل تكرر فيه الثمر فأشبه الشجر فإن باع المثمر منه فثمرته الظاهرة للبائع متروكة إلى حين بلوغها
الا ان يشترطها المبتاع فإن حدثت ثمرة أخرى فهي للمشتري فإن اختلطت بثمرة البائع ولم تتميز كان الحكم فيها كثمرة الشجرة إذا اختلطت بثمرة أخرى على ما مر حكمه
(فصل) ولا يجوز بيع ما المقصود منه مستور في الأرض كالجزر والفجل والبصل والثوم حتى يقلع
ويشاهد وهذا قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي، وأباحه مالك والأوزاعي وإسحاق لأن
الحاجة داعية إليه فأشبه بيع ما لم يبد صلاحه تبعا لما بدا، ولنا أنه مبيع مجهول لم يره ولم يوصف
له فأشبه بيع الحمل ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر رواه مسلم وهذا غرر، وأما بيع ما لم يبد
صلاحه فإنما جاز بيعه لأن الظاهر أنه يتلاحق في الصلاح ويتبع بعضه بعضا، فإن كان مما تقصد فروعه
وأصوله كالبصل المبيع أخضر والكراث والفجل أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود
منه ظاهر فأشبه الشجر والحيطان التي لها أساسات مدفونة، ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعا فلا تضر
جهالته كالحمل في البطن واللبن في الضرع مع الحيوان، وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه
في الأرض لأن الحكم للأغلب، فإن تساويا لم يجز لأن الأصل اعتبار الشرط في الجميع وإنما سقط
اعتباره فيما كان معظم المقصود منه ظاهرا تبعا ففيما عداه يبقى على الأصل
(فصل) ويجوز بيع الجوز واللوز والباقلا الأخضر في قشرته مقطوعا وفي شجره، وبيع الحب
المشتد في سنبله، وبيع الطلع قبل تشققه مقطوعا على وجه الأرض وفي شجره وبهذا قال أبو حنيفة
ومالك، وقال الشافعي لا يجوز حتى ينزع عنه قشره الاعلى الا في الطلع والسنبل في أحد القولين،
واحتج بأنه مستور بما لا يدخر عليه ولا مصلحة فيه فلم يجز بيعه كتراب الصاغة والمعادن وبيع
الحيوان المذبوح في سلخه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن
العاهة فمفهومه إباحة بيعه إذا بدا صلاحه وابيض سنبله، ولأنه مستور بحائل من أصل خلقته فجاز بيعه
كالرمان والبيض والقشر الأسفل، ولا يصح قولهم ليس من مصلحته فإنه لا قوام له في شجره الا به
والبياقلا يوكل رطبا وقشره يحفظ رطوبته ولان الباقلا يباع أسواق المسلمين من غير نكير فكان
ذلك اجماعا وكذلك الجوز واللوز في شجرهما، والحيوان المذبوح يجوز في سلخه فإنه إذا جاز
بيعه قبل ذبحه وهو يراد للذبح فكذلك إذا ذبح كما أن الرمانة إذا جاز بيعها قبل كسرها فكذلك
إذا كسرت، وأما تراب الصاغة والمعدن فلنا فيهما منع وان سلم فليس ذلك من أصل الخلقة في تراب
الصاغة ولا بقاؤه فيه من مصلحته بخلاف مسئلتنا
208

{مسألة} قال (وكذلك الرطبة كل حزة)
وجملة ذلك أن الرطبة وما أشبهها مما تثبت أصوله في الأرض ويؤخذ ما ظهر منه بالقطع دفعة بعد
دفعة كالنعناع والهندبا وشبههما لا يجوز بيعه الا ان يبيع الظاهر منه بشرط القطع في الحال وبذلك
قال الشافعي، وروي ذلك عن الحسن وعطاء، ورخص مالك في أن يشتري جزنين وثلاثا ولا يصح
لأن ما في الأرض منه مستور وما يحدث منه معدوم، فلا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع ما يحدث من الثمرة
فإذا ثبت هذا فمتى اشتراها قل لم يجز له ابقاؤها لأن ما لم يظهر منها أعيان لم يتناولها البيع فيكون ذلك
للبائع إذا ظهر فيفضي إلى اختلاط المبيع بغيره والثمرة بخلاف ذلك، فإن اخرها حتى طالت فالحكم فيها
كالثمرة إذا اشتراها قبل بدو صلاحها ثم تركها حتى بدا صلاحها
(فصل) وان اشترى قصيلا من شعير ونحوه فقطعه ثم عاد فنبت فهو لصاحب الأرض لأن
المشتري ترك الأصل على سبيل الرفض لها فسقط حقه منها كما يسقط حق صاحب الزرع من السنابل
التي يخلفها ولذلك أبيح لكل التقاطها، ولو سقط من الزرع حب ثم نبت من العام المقبل فهو لصاحب
الأرض نص احمد على هاتين المسئلتين، ومما يؤكد ما قلنا إن البائع لو أراد التصرف في أرضه بعد
فصل الزرع بما يفسد الأصول ويقلعها كان له ذلك ولم يملك المشتري منعه منه، ولو كان الباقي
مستحقا له لملك منعه منه
{مسألة} قال (والحصاد على المشتري فإن شرطه على البائع بطل البيع)
الكلام في هذه المسألة في فصلين (الأول) أن من اشترى زرعا أو جزة من الرطبة ونحوها
أو ثمرة في أصولها فإن حصاد الزرع وجذ الرطبة وجزاز الثمرة وقطعها على المشتري لأن نقل المبيع
وتفريغ ملك البائع منه على المشتري كنقل الطعام المبيع من دار البائع ويفارق الكيل والوزن فإنهما
على البائع لأنهما من مؤنة التسليم إلى المشتري والتسليم على البائع وههنا حصل التسليم بالتخلية بدون
القطع بدليل جواز بيعها والتصرف فيها وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم فيه مخالفا (الفصل
الثاني) إذا شرطه على البائع فاختلف أصحابنا فقال الخرقي يبطل البيع وقال ابن أبي موسى لا يجوز
وقيل يجوز فإن قلنا لا يجوز فهل يبطل البيع لبطلان الشرط على روايتين، وقال القاضي المذهب
جواز الشرط ذكره ابن حامد وأبو بكر ولم أحد هذا الذي ذكره الخرقي رواية في المذهب، واختلف
أصحاب الشافعي أيضا فقال بعضهم إذا شرط الحصاد على البائع فسد البيع قولا واحدا، وقال
بعضهم يكون على قولين فمن أفسد قال لا يصح لثلاثة معان (أحدهما) أنه شرط العمل في الزرع
قبل أن يملكه (والثاني) أنه شرط مالا يقتضيه القعد (والثالث) أنه شرط تأخير التسليم لأن
معنى ذلك تسليمه مقطوعا، ومن أجازه قال هذا بيع وإجارة لأنه باعه الزرع وآجره نفسه على
حصاده وكل واحد منهما يصح افراده بالعقد فإذا جمعهما جاز كالعينين وقولهم شرط العمل فيمالا يملكه
209

يبطل بشرط رهن المبيع على الثمن في البيع والثاني يبطل بشرط الرهن والكفيل والخيار والثالث
ليس بتأخير لأنه يمكنه تسلميه قائما ولان الشرط من المتسلم فليس ذلك بتأخير التسليم، فإذا فسدت
هذه المعاني صح لما ذكرناه، فإن قيل فالبيع يخالف حكمه حكم الإجارة لأن الضمان ينتقل في البيع
بتسليم العين بخلاف الإجارة فكيف يصح الجمع بينهما؟ قلنا كما يصح بيع الشقص والسيف وحكمهما
مختلف فإن الشعفة تثبت في الشقص دون السيف ويجوز الجميع بينهما، وقول الخرقي إن العقد ههنا يبطل
يحتمل أن يختص بهذه المسألة وشبهها مما يفضي الشرط فيه إلى التنازع فإن البائع ربما أراد قطعها من
أعلاها ليبقى له منها بقية والمشتري يريد الاستقصاء عليها ليزيد له ما يأخذه ففضي إلى التنازع وهو
مفسدة فيبطل البيع من أجله، ويحتمل أن يقاس عليه ما أشبهه من اشتراط منفعة البائع في المبيع لما ذكرنا
في صدر المسألة، والأول أولى لوجهين (أحدهما) أنه قال في موضع آخر ولا يبطل البيع بشرط واحد
(والثاني) أن المذهب أنه يصح اشتراط منفعة البائع في المبيع مثل أن يشتري ثوبا ويشترط
على بائعه خياطته قميصا أو فلعة ويشترط حذوها نعلا أو جرزة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم
نص عليه أحمد في رواية مهنا وغيره حتى قال القاضي لم أجد بما قال الخرقي رواية في أنه لا يصح
واحتج أحمد بأن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي جرزة حطب وشارطه على حملها وبه قال إسحاق
وأبو عبيد، وقال أبو حنيفة يجوز أن يشتري فلعة ويشترط على البائع تشريكها، وحكي عن أبي ثور
والثوري أنهما أبطلا العقد بهذا الشرط لأنه شرط فاسد فأشبه سائر الشروط الفاسدة، وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط
ولنا ما تقدم ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط إنما الصحيح أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن شرطين في بيع كذا ذكره الترمذي، وهذا دال بمفهومه على جواز الشرط
الواحد. قال احمد إنما النهى عن شرطين في بيع أما الشرط الواحد فلا بأس به
(فصل) ولا بد من كون المنفعة معلومة لهما ليصح اشتراطها لأننا نزلنا ذلك منزلة الإجارة فلو
اشتراط حمل الحطب إلى منزله والبائع لا يعرف منزله لم يصح ولو اشترط حذرها نعلا فلا بد من
معرفة صفتها كما لو استأجره على ذلك ابتداء قال احمد في الرجل يشتري النعل على أن يحذوها جائز
إذا أراد الشراك وان تعذر العمل بتلف المبيع قبله أو بموت البائع انفسخت الإجارة ورجع المشتري
عليه بعوض ذلك وان تعذر بمرض أقيم مقامه من يعمل العمل والأجرة عليه كقولنا في الإجارة
(فصل) ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة مثل أن يبيع دارا ويستثنى سكناها
شهرا أو جملا ويشترط ظهره إلى مكان معلوم أو عبدا ويستثني خدمته سنة نص على هذا احمد وهو قول
الأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وقال الشافعي وأصحاب الرأي لا يصح الشرط لنهي النبي
صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط ولأنه ينافي مقتضي البيع فأشبه ما لو شرط أن لا يسلمه وذلك لأنه شرط
تأخير تسليم المبيع إلى أن يستوفي البائع منفعة ولان مقتضى البيع ملك المبيع ومنافعه وهذا الشرط
210

ينافيه وقال ابن عقيل فيه رواية ثانية أنه يبطل البيع والشرط نقلها عبد الله بن محمد الفقيه في الرجل
يشتري من الرجل جارية ويشترط أن تخدمه فالبيع باطل وهذه الرواية لا تدل على محل النزاع في
هذه المسألة فإن اشتراط خدمة الجارية باطل لوجهين (أحدهما) أنها مجهولة واطلاقها يقتضي خدمتها أبدا
وهذا لا خلاف في بطلانه إنما الخلاف في اشتراط منفعة معلومة (الثاني) أن يشترط خدمتها بعد زوال
ملكه عنها فيفضي إلى الخلوة بها والخطر برؤيتها وصحبتها ولا وجد هذا في غيرها ولذلك منع إعارة الجارية
الشابة لغير محرمها، وقال مالك إذا اشترط ركوبا إلى مكان قريب جاز وإن كان إلى مكان بعيد كره
لأن اليسير تدخله المسامحة. ولنا ما روى جابر أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة
وفي لفظ قال فبعته بأوقية واستثنت حملانه إلى أهلي متفق عليه وفي لفظ قال فبعته منه بخمس أواق قال قلت على
أن لي ظهره إلى المدينة قال " ولك ظهره إلى المدينة " ورواه مسلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا الا
أن تعلم وهذه معلومة ولان المنفعة قد تقع مستثناة بالشرع على المشتري فما إذا اشترى نخلة مؤبرة أو أرضا
مزروعة أو دارا مؤجرة أو أمة مزوجة فجاز أن يستثنيها كما لو اشترط البائع الثمرة قبل التأبير، ولم يصح
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط وإنما نهى عن شرطين في بيع فمفهومه إباحة الشرط الواحد
وقياسهم ينتقض باشتراط الخيار والتأجيل في الثمن
(فصل) وإن باعه أمة واستثنى وطئها مدة معلومة لم يجز لأن الوطئ لا يباح في غير ملك أو
نكاح لقوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير
ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) وفارق اشترط وطئ المكاتبة حيث نبيحه
لأن المكاتبة مملوكة فيستباح وطؤها بالشرط في المحل المملوك، واختار ابن عقيل أنه لا يباح وطؤها
أيضا وهو قول أكثر الفقهاء.
(فصل) وان باع المشتري العين المستثناة منفعتها صح البيع وتكون في يد المشتري الثاني مستثناة أيضا
فإن كان عالما بذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له خيار كما لو اشترى معيبا يعلم عيبه فإن لم
يعلم فله خيار الفسخ لأنه عيب فهو كما لو اشترى أمة مزوجة أو دارا مؤخرة، وان أتلف المشتري العين
فعليه أجرة المثل لتفويت المنفعة المستحقة لغيره وثمن المبيع، وان تلتفت العين بتفريطه فهو كتلفها بفعله
نص عليه أحمد وقال يرجع البائع على المبتاع بأجرة المثل، قال القاضي معناه عندي القدر الذي نقصه
البائع لأجل الشرط، وظاهر كلام أحمد خلاف هذا لأنه يضمن ما فات بتفريطه فضمنه بعوضه وهو أجرة
المثل، فاما ان تلفت بغير فعله ولا بتفريطه لم يضمن. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله فعلى المشتري أن يحمله
على غيره لأنه كان له حملان قال لا إنما شرط هذا عليه بعينه ولأنه لم يملكها البائع من جهته فلم يلزمه
عوضها كما لو تلفت النخلة المؤبرة بثمرتها أو غير المؤبرة إذا اشترط البائع ثمرتها وكما لو باع حائطا واستثنى
منه شجرة بعينها فتلفت، وقال القاضي عليه ضمانها أخذا من عموم كلام أحمد وإذا تلفت العين رجع البائع
على المبتاع بأجرة المثل وهو محمول على حالة التفريط على ما ذكرنا
211

(فصل) وإذا اشترط البائع منفعة المبيع وأراد المشتري أن يعطيه ما يقوم مقام المبيع في المنفعة أو
يعوضه عنها لم يلزمه قبوله وله استيفاء المنفعة من غير لمبيع نص عليه أحمد لأن حقه تعلق بها فأشبه ما لو
استأجر عينا فبذل له الآخر مثلها ولان البائع قد يكون له غرض في استيفاء منافع تلك العين فلا يجبر على
قبول عوضها، فإن تراضيا على ذلك جاز لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما، وان أراد البائع إعارة العين أو
اجارتها لمن يقوم مقامه فله ذلك في قياس المذهب لأنها منافع مستحقة له فملك ذلك فيها كمنافع الدار المستأجرة
والموصى بمنافعها ولا يجوز اجارتها الا لمثله في الانتفاع، فإن أراد إجارتها أو اعارتها لمن يضر بالعين بانتفاعه
لم يجز ذلك كما لا يجوز له إجارة العين المستأجرة لمن لا يقوم مقامه ذكر ذلك ابن عقيل
(فصل) إذا اشترط المشتري منفعة البائع في المبيع فأقام البائع مقامه من يعمل العمل فله ذلك لأنه
ههنا بمنزلة الأجير المشترك يجوز أن يعمل العمل بنفسه وبمن يقوم مقامه، وان أراد بذل العوض عن
ذلك لم يلزم المشتري قبوله، وان أراد المشتري أخذ العوض عنه لم يلزم البائع بذله لأن المعاوضة عقد
تراض فلم يجبر عليه أحد وان تراضيا عليه احتمل الجواز لأنها منفعة يجوز أخذ العوض عنها لو لم يشترطها
فإذا ملكها المشتري جاز له أخذ العوض عنها كما لو استأجرها وكما يجوز أن يؤجر المنافع الموصى بها من
ورثة الموصي، ويحتمل أن لا يجوز لأنه مشترط بحكم العادة والاستحسان لأجل الحاجة فلم يجز أخذ
العوض عنه كالقرض فإنه يجوز أن يرد في الخبز والحمبر أقل أو أكثر، ولو أراد أن يأخذ بقدر خبزه
وكسره بقدر الزيادة الجائزة لم يجز ولأنه أخذ عوض عن مرفق معتاد جرت العادة بالعفو عنه دون
أخذ العوض فأشبه المنافع المستثناة شرعا وهو ما لو باع أرضا فيها زرع للبائع واستحق تبقيته إلى حين
الحصاد فلو أخذه قصيلا لينتفع بالأرض إلى وقت الحصاد لم يكن له ذلك.
(فصل) ولو قال بعتك هذه الدار وأجرتكها شهرا لم يصح لأنه إذا باعه فقد ملك المشتري المنافع
فإذا أجره إياها فقد شرط أن يكون له بدل في مقابلة ما ملكه المشتري فلم يصح. قال ابن عقيل
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان ومعناه أن يستأجر طحانا ليطحن له كراء بقفيز
منه فيصير كأنه شرط عمله في القفيز عوضا عن عمله في باقي الكراء المطحون، ويحتمل الجواز بناء على
اشتراط منفعة البائع في المبيع.
(فصل) وان شرط في المبيع ان هو باعه فالبائع أحق به بالثمن فروى المروذي عنه أنه قال في معنى
حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا شرطان في بيع " يعني أنه فاسد لأنه شرط أن يبيعه إياه وأن يعطيه
إياه بالثمن الأول فهما شرطان في بيع نهي عنهما، ولأنه ينافي مقتضى العقد لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره
إذا أعطاه ثمنه فهو كما لو شرط أن لا يبيعه إلا من فلان أو ان لا يبيعه أصلا، وروى عنه إسماعيل بن
سعيد البيع جائز لما روي عن ابن مسعود أنه قال ابتعت من امرأتي زينب الثقفية جارية وشرطت لها
ان بعتها فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به فذكرت ذلك لعمر فقال لا تقربها ولاحد فيها شرط قال إسماعيل
فذكرت لأحمد الحديث فقال البيع جائز ولا تقربها لأنه كان فيها شرط واحد للمرأة ولم يقل عمر في
212

ذلك البيع فاسد فحمل الحديث على ظاهره وأخذ به وقد اتفق عمر وابن مسعود على صحته والقياس
يقتضي فساده، ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في رواية المروذي على فساد الشرط وفي رواية إسماعيل
ابن سعيد على جواز البيع فيكون البيع صحيحا والشرط فاسدا كما لو اشتراها بشرط أن لا يبيعها، وقول
احمد لا تقربها قد روي مثله فيمن اشترط في الأمة ان لا يبيعها ولا يهبها أو شرط عليه ولاءها ولا
يقربها والبيع جائز واحتج بحديث عمر لا تقربها ولاحد فيها مثنوية، قال القاضي: وهذا على
الكراهة لا على التحريم، قال ابن عقيل: عندي انه إنما منع من الوطئ لمكان الخلاف في العقد لكونه
يفسد بفساد الشرط في بعض المذاهب
{مسألة} قال (وإذا باع حائطا واستثنى منه صاعا يجز وان استثنى منه نخلة أو
شجرة بعينها جاز)
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) أنه إذا باع ثمرة بستان واستثنى صاعا أو آصعا أو مدا
أو أمدادا أو باع صبرة واستثنى منها مثل ذلك لم يجز، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن
والشافعي والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي، وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه يجوز
وهو قول ابن سيرين وسالم بن عبد الله ومالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا الا أن تعلم رواه
الترمذي وقال هو حديث حسن صحيح، وهذه ثنيا معلومة ولأنه استثنى معلوما أشبه ما إذا استثنى
منها جزءا، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا رواه البخاري ولان المبيع معلوم بالمشاهدة لا بالقدر
والاستثناء يغير حكم المشاهدة لأنه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة فلم يجز ويخالف الجزء فإنه
لا يغير حكم المشاهدة ولا يمنع المعرفة بها
(فصل) وان باع شجرة أو نخلة واستثنى أرطالا معلومة فالحكم فيه كما لو باع حائطا واستثنى
آصعا وقال القاضي في شرحه يصح لأن الصحابة رضي الله عنهم أجازوا استثناء سواقط الشاة، والصحيح
ما ذكرناه وهذا أشبه بمسألة الصاع من الحائط واليها أقرب، والمعنى الذي ذكرناه فيها متحقق
ههنا فلا يصح والله أعلم.
(الفصل الثاني) أنه إذا استثنى نخلة أو شجرة بعينها جاز ولا نعلم في ذلك خلافا وذلك لأن المستثنى
معلوم ولا يؤدي إلى جهالة المستثنى منه، وان استثنى شجرة غير معينة لم يجز لأن الاستثناء غير معلوم
فصار المبيع والمستثنى مجهولين، وروي عن ابن عمر انه باع ثمرته بأربعة آلاف واستثنى طعام القيان
وهذا يحتمل أنه استثنى نخلا معينا بقدر طعام القيان لأنه لو حمل على غير ذلك كان مخالفا لنهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن الثنيا الا أن تعلم ولان المستثنى متى كان مجهولا لزم أن يكون الباقي بعده مجهولا فلا يصح
بيعه كما لو قال بعتك من هذه الثمرة طعام القيان.
(فصل) وان استثنى جزءا معلوما من الصبرة أو الحائط مشاعا كثلث أو ربع أو أجزاء كسبعين
213

أو ثلاثة أثمان صح البيع والاستثناء ذكره أصحابنا وهو مذهب الشافعي وقال أبو بكر وابن أبي موسى
لا يجوز، ولنا أنه لا يؤدي إلى جهالة المستثنى ولا المستثنى منه فصح كما لو اشترى شجرة بعينها وذلك
لأن معنى بعتك هذه الصبرة إلا ثلثها أي بعتك ثلثيها وقوله إلا ربعها معناه بعتك ثلاثة أرباعها ولو
باع حيوانا واستثنى ثلثه جاز وكان معناه بعتك ثلثيه، ومنع منه القاضي أبو يعلى قياسا على استثناء
الشحم ولا يصح لأن الشحم مجهول لا يصح افراده بالبيع وهذا معلوم ويصح افراده بالبيع فصح
استثناؤه كالشجرة المعينة وقياس المعلوم على المجهول في الفساد لا يصح فعلى هذا يصيران شريكين فيه
للمشتري ثلثاه وللبائع ثلثه.
(فصل) فإن قال بعتك قفيزا من هذه الصبرة الا مكوكا جاز لأن القفيز معلوم والمكوك معلوم فلا
يفضي إلى الجهالة، ولو قال بعتك هذه الثمرة بأربعة دراهم الا بقدر درهم صح لأن قدره معلوم من
المبيع وهو الربع فكأنه قال بعتك ثلاثة أرباع هذه الثمرة أربعة دراهم ولو قال الا ما يساوي درهما
لم يصح لأن ما يساوي الدرهم قد يكون الربع أو أكثر أو أقل فيكون مجهول فيبطل.
(فصل) وان باع قطيعا واستثنى منه شاة بعينها صح وان استثنى شاة غير معينة لم يصح نص عليه
وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال مالك يصح أن يبيع مائة شاة الا شاة يختارها أو يبيع ثمرة حائطه
ويستثني ثمرة نخلات يعدها، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا الا أن تعلم ونهى عن بيع الغرر
ولأنه مبيع مجهول والمستثنى منه مجهول فلم يصح كما لو قال الا شاة مطلقة ولأنه مبيع مجهول فلم يصح كما
لو قال بعتك شاة تختارها من القطيع، وضابط هذا الباب أنه لا يصح استثناء مالا يصح بيعه مفردا أو بيع
ما عداه منفردا من المستثنى، ونحو هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي إلا أن أصحابنا استثنوا
من هذا سواقط الشاة وجلدها للأثر الوارد فيه والحمل على رواية الجواز لفعل ابن عمر وما عدا
هذا فيبقى على الأصل.
(فصل) وان باع حيوانا مأكولا واستثنى رأسه وجلده وأطرافه وسواقطه صح نص عليه أحمد
وقال مالك يصح في السفر دون الحضر لأن المسافر لا يمكنه الانتفاع بالجلد والسواقط فجوز له شراء اللحم
دونها، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز لأنه لا يجوز افراده بالعقد فلم يجز استثناؤه كالحمل، ولنا أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن الثنيا الا أن تعلم وهذه معلومة وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ومعه
أبو بكر وعامر بن فهيرة مروا براعي غنم فذهب أبو بكر وعامر فاشتريا منه شاة وشرطا له سلبها، وروى أبو بكر في
الشافي باسناده عن جابر عن الشعبي قال قضي زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقرة باعها
رجل واشترط رأسها فقضي بالشروى يعني أن يعطي رأسا مثل رأس، ولان المستثنى والمستثنى منه معلومان فصح
كما لو باع حائطا واستثنى منه نخلة معينة، وكونه لا يجوز افراده بالبيع يبطل بالثمرة قبل التأبير لا يجوز
افرادها بالبيع بشرط التبقية ويجوز استثناؤها، والحمل مجهول ولنا فيه منع فإن امتنع المشتري من ذبحها لم يجبر عليه
ويلزمه قيمة ذلك على التقريب نص عليه لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قضى في رجل اشترى ناقة وشرط
214

ثنياها فقال اذهبوا إلى السوق فإذا بلغت أقصى ثمنها فاعطوه حساب ثنياها من ثمنها
(فصل) فإن استثنى شحم الحيوان لم يصح نص عليه احمد قال أبو بكر لا يختلفون عن أبي عبد الله
أنه لا يجوز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا الا ان تعلم ولأنه مجهول لا يصح افراده بالبيع
فلم يصح استثناؤه كفخذها، وان استثنى الحمل لم يصح استثناؤه لذلك، وهذا قول أبي حنيفة ومالك
والثوري والشافعي وقد نقل عن أحمد صحته، وبه قال الحسن والنخعي وإسحاق وأبو ثور لما روي
نافع عن ابن عمر أنه باع جارية واستثنى ما في بطنها ولأنه يصح استثناؤه في العتق فصح في البيع قياسا عليه
ولنا ما تقدم والصحيح من حديث ابن عمر أنه أعتق جارية واستثنى ما في بطنها لأن الثقاة الحفاظ
حدثوا الحديث فقالوا أعتق جارية والاسناد واحد قاله أبو بكر ولا يلزم من الصحة في العتق الصحة
في البيع لأن العتق لا تمنعه الجهالة ولا العجز عن التسليم ولا يعتبر فيه شروط البيع
(فصل) وان باع جارية حاملا بحر فقال القاضي لا يصح، وهو مذهب الشافعي لأنه لا يدخل في
البيع فكأنه مستثنى والأولى صحته لأن المبيع معلوم وجهالة الحمل لا تضر من حيث إنه ليس بمبيع ولا
مستثنى باللفظ وقد يستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه باللفظ كما لو باع أمة مزوجة صح ووقعت منفعة
البضع مستثناة بالشرع ولو استثناها باللفظ لم يجز ولو باع أرضا فيها زرع للبائع أو نخلة مؤبرة لوقعت
منفعتها مستثناة مدة بقاء الزرع والثمرة ولو استثناها بقوله لم يجز
(فصل) ولو باع دارا إلا ذراعا وهما يعلمان ذرعان الدار جاز وكان مستثنيا جزءا مشاعا منها لأنه جزء
معلوم يصح افراده بالبيع فجاز استثناؤه كثلثها وربعها، وان لم يعلما لم يجز لأنه مجهول لا يجوز افراده
بالبيع ولأنه استثنى معلوم المقدار من مبيع معلوم بالمشاهدة فلم يجز كاستثناء الصاع من ثمرة الحائط والقفيز
من الصبرة وهكذا الحكم إذا باعه ضيعة الا جريبا فمتى علما جربار الضيعة صح والا فلا
(فصل) وإذا باع سمسما واستثنى الكسب لم يجز لأنه قد باعه الشيرج في الحقيقة وهو غير معلوم
فإنه غير معين ولا موصوف ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا الا أن تعلم وكذا لو باعه قطنا واستثنى
الحب لم يجز لجهالة ذلك ولان المستثنى غير معلوم، ولو باعه السمسم واستثنى الشيرج لم يجز كذلك
(فصل) ولو باعه بدينار الا درهما أو الا قفيزا من حنطة أو شعير لم يصح البيع لأنه قصد
رفع قدر المستثنى من المستثنى منه وقدر ذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا
{مسألة} قال (وإذا اشترى لثمرة دون الأصل فتلفت بجائحة من السماء رجع بها على البائع)
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (الأول) أن ما تهلكه الجائحة من الثمار من ضمان البائع
وبهذا قال أكثر أهل المدينة منهم يحي بن سعيد الأنصاري ومالك وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث
وبه قال الشافعي في القديم، وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد هو من ضمان المشتري لما روي أن
امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسألته أن يضع عنه فتألى
215

أن لا يفعل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تألى فلان أن لا يفعل خيرا " متفق عليه ولو كان واجبا لأجبره عليه
لأن التخلية يتعلق بها جواز التصرف فتعلق بها الضمان كالنقل والتحويل ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي
كذلك لا يضمنه باتلاف غيره.
ولنا ما روي مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وعنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " ان بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا لم تأخذ مال
أخيك بغير حق؟ " رواه مسلم وأبو داود ولفظه " من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال
أخيه شيئا، على م يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم؟ " وهذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه قال الشافعي لم يثبت
عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ولو ثبت لم أعده ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها في
القليل والكثير (قلنا) الحديث ثابت رواه الأئمة منهم الإمام أحمد ويحى بن معين وعلي بن حرب وغيرهم عن
ابن عيينة عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر ورواه ملسم في صحيحه وأبو داود في سننه وابن ماجة
وغيرهم ولا حجة لهم في حديثهم فإن فعل الواجب خير فإذا تألى أن لا يفعل الواجب فقد تألى ألا يفعل
خيرا فأما الاجبار فلا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد قول المدعي من غير اقرار من البائع ولا حضور ولان
التخلية ليست بقبض تام بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم، لا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض
بدليل المنافع في الإجارة يباح التصرف فيها لو تلفت كانت من ضمان المؤجر كذلك الثمرة فإنها في
شجرها كالمنافع قبل استيفائها توجد حالا فحالا وقياسهم يبطل بالتخلية في الإجارة
(الفصل الثاني) أن الجائحة كل آفة لاصنع للآدمي فيها كالريح والبرد والجراد والعطش لما روى
الساجي باسناده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجائحة والجائحة تكون في البرد والجراد وفي
الحبق والسيل وفي الريح وهذا تفسير من الراوي لكلام النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليه، وأما ما
كان بفعل آدمي فقال القاضي المشتري بالخيار بين فسخ العقد ومطالبة البائع بالثمن وبين البقاء عليه ومطالبة
الجاني بالقيمة لأنه أمكن الرجوع ببدله بخلاف التالف بالجائحة
(الفصل الثالث) أن ظاهر المذهب أنه لافرق بين قليل الجائحة وكثيرها الا أن ما جرت العادة
بتلف مثله كالشئ اليسير الذي لا ينضبط فلا يلتفت إليه. قال أحمد اني لا أقول في عشر ثمرات ولا
عشرين ثمرة ولا أدري ما الثلث ولكن إذا كانت جائحة تعرف الثلث أو الربع أو الخمس توضع.
وفيه رواية أخرى أن ما كان يعد دون الثلث فهو من ضمان المشتري وهو مذهب مالك والشافعي
في القديم لأنه لا بد أن يأكل الطير منها وتنثر الريح ويسقط منها فلم يكن بد من ضابط وحد فاصل بين
ذلك وبين الجائحة، والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع منها الوصية وعطايا المريض،
وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث. قال الأثرم قال أحمد انهم يستعملون الثلث في
سبع عشرة مسألة ولان الثلث في حد الكثرة وما دونه في حد القلة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية
" الثلث والثلث كثير " فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة فلهذا قدر به، ووجه الأول عموم الأحاديث
216

فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح وما دون الثلث داخل فيه فيجب وضعه ولأن هذه
الثمرة لم يتم قبضها فكان ما تلف منها من مال البائع، وإن كان قليلا كالتي على وجه الأرض وما
أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة ولا يسمى جائحة فلا يدخل في الخبر ولا يمكن التحرز منه فهو
معلوم الوجود بحكم بحكم العادة فكأنه مشروط. إذا ثبت هذا فإنه إذا تلف شئ له قدر خارج عن العادة
وضع من الثمن بقدر الذاهب فإن تلف الجميع بطل العقد ويرجع المشتري بجميع الثمن، وأما على
الرواية الأخرى فإنه يعتبر ثلث المبلغ وقيل ثلث القيمة فإن تلف الجميع أو أكثر من الثلث رجع بقيمة
التالف كله من الثمن، وإذا اختلفا في الجائحة أو قدر ما أتلف فالقول قول البائع لأن الأصل السلامة ولأنه
غارم والقول في الأصول قول الغارم
(فصل) فإن بلغت الثمرة أو ان الجزاز فلم يجزها حتى اجتيحت فقال القاضي عندي لا يوضع
عنه لأنه مفرط بترك النقل في وقته مع قدرته فكان الضمان عليه، ولو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها
بشرط القطع فامكنه قطعها فلم يقطعها حتى تلفت فهي من ضمانه لأن تلفها بتفريطه، وإن تلفت قبل
امكان قطعها فهي من ضمان بائعها كالمسألة فيها
(فصل) إذا استأجر أرضا فزرعها فتلف الزرع فلا شئ على المؤجر نص عليه أحمد ولا نعلم فيه
خلافا لأن المعقود عليه منافع الأرض ولم تتلف وإنما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها
ليقصر فيها ثيابا فتلفت الثياب فيها.
{مسألة} قال (وإذا وقع البيع على مكيل أو على موزون أو معدود فتلف قبل قبضه
فهو من مال البائع)
ظاهر كلام الخرقي أن المكيل والموزون والمعدود لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه سواء
كان متعينا كالصبرة أو غير متعين كقفيز منها وهو ظاهر كلام أحمد ونحوه قول إسحاق، وروي عن
عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد بن أبي سليمان أن كل ما بيع على الكيل والوزن
لا يجوز بيعه قبل قبضه، وما ليس بمكيل ولا موزون بجوز بيعه قبل قبضه، وقال القاضي وأصحابه المراد
بالمكيل والموزون والمعدود ما ليس بمتعين منه كالقفيز من صبرة والرطل من زبرة ومكيلة زيت من دن
فأما المتعين فيدخل في ضمان المشتري كالصبرة يبيعها من غير تسمية كيل، وقد نقل عن أحمد ما يدل
على قولهم فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل اشترى طعاما فطلب من يحمله فرجع وقد احترق
الطعام فهو من مال المشتري واستدل بحديث ابن عمر: ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من مال
المشتري. وذكر الجوزجاني عنه فيمن اشترى ما في السفينة صبرة ولم يسم كيلا فلا بأس أن يشرك فيها
ويبيع ما شاء إلا أن يكن بينهما كيل فلا يولي حتى يكال عليه ونحو هذا قال مالك فإنه قال: ما بيع
217

من الطعام مكايلة أو موازنة لم يجز بيعه قبل قبضه، وما بيع مجازفة من غير الطعام مكايلة أو
موازنة جاز بيعه قبل قبضه، ووجه ذلك ما روى الأوزاعي عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن
عمر أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا من مال المبتاع.
ورواه البخاري عن ابن عمر من قوله تعليقا وقول الصحابي مضت السنة يقتضي سنة النبي صلى الله عليه
وسلم ولان المبيع المعين لا يتعلق به حق توفية فكان من مال المشتري كغير المكيل والموزون، ونقل
عن أحمد المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن وهذا يقتضي أن
الطعام خاصة لا يدخل في ضمان المشتري حتى يقبضه فإن الترمذي روي عن أحمد أنه أرخص في بيع مالا
يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه وقال الأثرم سألت أبا عبد الله عن قوله نهى عن ربح ما
لم يضمن قال هذا في الطعام وما أشبه من مأكول أو مشروب فلا يبيعه حتى يقبضه، قال ابن عبد البر الأصح
عن أحمد بن حنبل أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع الطعام قبل قبضه فمفهومه إباحة بيع ما سواه قبل قبضه، وروى ابن عمر قال: رأيت الذين يشترون
الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم وهذا نص في
بيع المعين وعموم قوله عليه السلام " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " متفق عليهما ولمسلم عن ابن
عمر قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه أن نبيعه حتى ننقله من مكانه
وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاما فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه ولو دخل في
ضمان المشتري جاز له بيعه والتصرف فيه كما بعد القبض، وهذا يدل على تعميم المنع في كل طعام مع تنصيصه
على المبيع مجازفة بالمنع وهو خلاف قول القاضي وأصحابه، ويدل بمفهومه على أن ما عدا الطعام يخالفه
في ذلك ووجه قول الخرقي أن الطعام المنهي عن بيعه قبل قبضه لا يكاد يخلو من كونه مكيلا أو موزونا
أو معدودا فتعلق الحكم بذلك كتعلق ربا الفضل به، ويحتمل أنه أراد المكيل والموزون والمعدود من
الطعام الذي ورد النص بمنع بيعه وهذا أظهر دليلا وأحسن. إذا ثبت هذا فإنه ان تلف المبيع من ذلك
قبل قبضه بآفة سماوية بطل العقد ورجع المشتري بالثمن، وان تلف بفعل المشتري استقر الثمن عليه وكان
كالقبض لأنه تصرف فيه، وان أتلفه أجنبي لم يبطل العقد على قياس قوله في الجائحة ويثبت للمشتري
الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن لأن التلف حصل في يد البائع فهو كحدوث العيب في يده وبين
البقاء على العقد ومطالبة المتلف بالمثل إن كان مثليا وبهذا قال الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا، وان أتلفه
البائع فقال أصحابنا الحكم فيه كما لو أتلفه أجنبي لأنه أتلفه من يلزمه ضمانه فأشبه ما لو أتلفه أجنبي
وقال الشافعي ينفسخ العقد ويرجع المشتري بالثمن لا غير لأنه تلف يضمنه به البائع، فكان الرجوع
عليه بالثمن كالتلف بفعل الله تعالى وفرق أصحابنا بينهما بكونه إذا تلف بفعل الله تعالى لم يوجد مقتض
للضمان سوى حكم العقد بخلاف ما إذا أتلفه فإن إتلافه يتقضي الضمان بالمثل وحكم العقد يقتضي الضمان
بالثمن فكانت الخيرة إلى المشتري في التضمين بأيهما شاء.
218

(فصل) ولو تعيب في يد البائع أو تلف بعضه بأمر سماوي فالمشتري مخير بين قبوله ناقصا ولا شئ
له وبين فسخ العقد والرجوع بالثمن لأنه ان رضيه معيبا فكأنه اشترى معيبا هو عالم بعيبه ولا يستحق
شيئا من أجل العيب، وان فسخ العقد لم يكن له أكثر من الثمن لأنه لو تلف المبيع كله لم يكن له
أكثر من الثمن فإذا تعيب أو تلف بعضه كان أولى، وان تعيب بفعل المشتري أو تلف بعضه لم يكن له
فسخ لذلك لأنه أتلف ملكه فلم يرجع على غيره، وإن كان ذلك بفعل البائع فقياس قول أصحابنا أن المشتري
مخير بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين أخذه والرجوع على البائع بعوض ما أتلف أو عيب، وقياس
قول الشافعي أن يكون بمنزلة ما لو تلف بفعل الله تعالى، وإن كان بفعل أجنبي فله الخيار بين الفسخ
والمطالبة بالثمن وبين أخذ المبيع ومطالبة التلف بعوض ما أتلف
(فصل) ولو باع شاة بشعير فأكلته قبل قبضه فإن كانت في يد المشتري فهو كما لو أتلفه، وإن
كانت في يد البائع فهو بمنزلة إتلافه له، وكذلك إن كانت في يد أجنبي فهو كاتلافه فإن لم تكن في
يد أحد انفسخ البيع لأن المبيع هلك قبل القبض بأمر لا ينسب إلى آدمي فهو كتلفه بفعل الله تعالى
(فصل) ولو اشترى شاة أو عبدا أو شقصا بطعام فقبض الشاة أو العبد أو باعهما أو أخذ
الشقص بالشفعة ثم تلف الطعام قبل قبضه انفسخ العقد الأول دون الثاني ولا يبطل الاخذ بالشفعة
لأنه كمل قبل فسخ العقد، ويرجع مشتري الطعام على مشتري الشاة والعبد والشقص بقيمة ذلك لتعذر
رده وعلى الشفيع مثل الطعام لأنه عوض الشقص
{مسألة} قال (وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض وان تلف فهو من مال المشتري)
يعني ما عدا المكيل والموزون والمعدود فإنه يدخل في ضمان المشتري قبل قبضه، وقال أبو حنيفة
كل مبيع تلف قبل قبضه من ضمان البائع الا العقار وقال الشافعي كل مبيع من ضمان البائع حتى يقبضه
المشتري، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى كقوله لأن ابن عباس قال: أرى كل شئ بمنزلة
الطعام ولان التسليم واجب على البائع لأنه في يده فإذا تعذر بتلفه انفسخ العقد كالمكيل والموزون
والمعدود. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " وهذا المبيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه،
وقول ابن عمر مضت السنة ان ما أركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع ولأنه لا يتعلق به حق
توفية وهو من ضمانه بعد قبضه فكان من ضمانه قبله كالميراث وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الطعام بالنهي
عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له
(فصل) والمبيع بصفة أو رؤية متقدمة من ضمان البائع حتى يقبضه المبتاع لأنه يتعلق به حق
توفية فجرى مجرى المكيل والموزون، قال أحمد لو اشترى من رجل عبدا بعينه فمات في يد البائع فهو من
مال المشتري الا أن يطلبه فيمنعه البائع فهو ضامن لقيمته حين عطب، ولو حبسه ببقية الثمن فهو
غاصب ولا يكون رهنا الا أن يكون قد اشترط عليه في نفس الرهن
219

(فصل) وقبض كل شئ بحسبه فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو وزنا فقبضه بكيله ووزنه
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة التخلية في ذلك قيض، وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية
أخرى أن القبض في كل شئ بالتخلية مع التمييز لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضا له
كالعقار. ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل "
رواه البخاري، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع
المشتري رواه ابن ماجة وهذا فيما بيع كيلا وإن بيع جزافا فقبضه نقله لأن ابن عمر قال كانوا
يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه وفي لفظ
كنا نبتاع الطعام جزافا فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن
نبيعه، وفي لفظ: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله
رواهن مسلم، وهذا يبين أن الكيل أنما وجب فيما بيع بالكيل، وقد دل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم
" إذا سميت الكيل فكل " رواه الأثرم. وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد، وإن كان
ثيابا فقبضها نقلها، وإن كان حيوانا فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه
التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه، وقد ذكره الخرقي في باب الرهن فقال: إن كان مما ينقل
فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل
دونه، ولان القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالاحراز والتفرق والعادة في
قبض هذه الأشياء ما ذكرنا
(فصل) وأجرة الكيال والوزان في المكيل والموزون على البائع لأن عليه تقبيض المبيع للمشتري
والقبض لا يحصل الا بذلك فكان على البائع كما أن على بائع الثمرة سقيها وكذلك أجرة الذي يعد
المعدودات، وأما نقل المنقولات وما أشبهه فهو على المشترى لأنه لا يتعلق به حق توفية نص عليه أحمد
(فصل) ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده باختيار البائع وبغير اختياره لأنه ليس للبائع
حبس المبيع على قبض الثمن ولان التسليم من مقتضيات العقد فمتى وجد بعده وقع موقعه كقبض الثمن
{مسألة} قال (ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه)
قد ذكرنا الذي لا يحتاج إلى قبض والخلاف فيه وكل ما يحتاج إلى قبض إذا اشتراه لم يجز بيعه حتى
يقبضه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " متفق عليه، ولأنه من ضمان
بائعه فلم يجز بيعه كالسلم ولم أعلم بين أهل العلم خلافا ألا ما حكي عن البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شئ
قبل قبضه، وقال ابن عبد البر وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام وأظنه لم يبلغه هذا
الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين ويروى مثل
هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق، وعن
220

أحمد رواية أخرى لا يجوز بيع شئ قبل قبضه اختارها ابن عقيل وروي ذلك عن ابن عباس، وهذا
قول أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة أجاز بيع العقار قبل قبضه واحتجوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن
بيع الطعام قبل قبضه وبما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حت يحوزها التجار إلى رحالهم، وروى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض، وروي
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال " انههم عن بيع ما لم يقبضوه وعن ربح ما لم يضمنوه "
ولأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون
ولنا ما روى ابن عمر قال: كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير، ونبيعها
بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شئ "
وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين، وروى ابن عمر انه كان على بكر صعب - يعني
لعمر - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " بعينه " فقال هو لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو لك يا
عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت " وهذا ظاهره التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه، واشترى من جابر جمله ونقده ثمنه
ثم وهبه إياه قبل قبضه، ولأنه أحد نوعي المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه كالمنافع في الإجارة
فإنه يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض المنافع، ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفية فصح بيعه كالمال
في يد مودعه أو مضاربه، فأما أحاديثهم فقد قيل لم يصح منها الا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومه
فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة ذلك فيما سواه، وقولهم لم يتم الملك
عليه ممنوع فإن السبب المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض، واليد ليست شرطا في صحة
البيع بدليل جواز بيع المال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة
(فصل) ومالا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه لعموم الخبر فيه. قال القاضي: ولو ابتاع شيئا مما
يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له مطالبته ولا أخذ بدله وان تراضيا لأنه مبيع لم يقبض، فإن
كان مما لا يحتاج إلى قبض جاز أخذ البدل عنه وإن كان في سلم لم يجز أخذ البدل عنه لأنه أيضا لا يجوز بيعه
(فصل) وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه كالذي
ذكرنا والأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز
التصرف فيه قبل قبضه كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة
المتلف لأن المطلق للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه لم
يجز بناء عقد آخر عليه تحرزا من الغرر وما لا يتوهم فيه فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه وهذا
قول أبي حنيفة والمهر كذلك عند القاضي وهو قول أبي حنيفة لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه وقال الشافعي
لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه
بالردة قبل الدخول أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو نصفه بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير
جهتها وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لا يمنع الرجوع
221

فيه قبل الدخول، وأما ما ملك بإرث أو وصية أو غنيمة وتعين ملكه فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع
وغيره قبل قبضه لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
ولا أعلم عن غيرهم خلافهم. وإن كان لانسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلا فيه
جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فجاز
بيعها كالتي في يده، وإن كان غصبا جاز بيعه ممن هو في يده لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في
يده وأما بيعه لغيره فإن كان عاجزا عن استنقاذه أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له لأنه معجوز عن
تسليمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد وان ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع لامكان
قبضه فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والامضاء لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه
ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسا فشردت قبل تسليمها أو غائبا بالصفة فعجز عن تسليمه
(فصل) وإن كان لزيد على رجل طعام من سلم وعليه لعمرو مثل ذلك الطعام سلما فقال زيد لعمرو
اذهب فاقبض الطعام الذي لي من غريمي لنفسك ففعل لم يصح لأنه لا يجوز أن يقبضه قبل أن يقبضه
وهل يصح القبض لزيد؟ على روايتين (إحداهما) يصح لأنه أذن له في القبض فأشبه قبض وكيله
(والثانية) لا يصح لأنه لم يجعله نائبا له في القبض فلم يقع له بخلاف الوكيل، فعلى الوجه الأول يصير
ملكا لزيد وعلى الثاني يكون باقيا غلى ملك المسلم إليه، ولو قال زيد لعمرو أحضر اكتيالي منه لأقبضه
لك ففعل لم يصح وهل يكون قابضا لنفسه؟ على وجهين (أولاهما) أنه يكون قابضا لنفسه لأن
قبض المسلم فيه قد وجد من مستحقه فصح القبض له كما لو نوى القبض لنفسه فعلى هذا إذا قبضه لعمرو صح وان
قال خذه بهذا الكيل الذي قد شاهدته فأخذه به صح لأنه قد شاهد كيله وعلمه فلا معنى لاعتبار كيله مرة ثانية
وعنه لا يجزئ وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان،
وهذا داخل فيه ولأنه قبضه بغير كيل أشبه ما لو قبضه جزافا، ولو قال زيد لعمرو احضرنا حتى اكتاله
لنفسي ثم تكتاله أنت وفعلا صح بغير اشكال، وان اكتاله زيد لنفسه ثم أخذه عمرو بذلك الكيل
الذي شاهده فعلي روايتين، وان تركه زيد في المكيال ودفعه إلى عمرو ليفرغه لنفسه صح، وكان ذلك
قبضا صحيحا لأن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه ولا معنى لابتداء الكيل ههنا إذ لا يحصل به زيادة علم،
وقال أصحاب الشافعي: لا يصح لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان، وهذا يمكن
القول بموجبه وقبض المشتري له في المكيال جري لصاعيه فيه، ولو دفع زيد إلى عمرو دراهم فقال اشتر لك
بها مثل الطعام الذي لك علي ففعل لم يصح لأن دراهم زيد لا يكون عوضها لعمرو فإن اشترى الطعام
بعينها أو في ذمته فهو كتصرف الفضولي على ما نبين، وان قال اشتر لي بها طعاما ثم اقبضه لنفسك
ففعل صح الشراء ولم يصح القبض لنفسه على ما تقدم في مثل هذه الصورة وان قال اقبضه لنفسك
ففعل جاز نص احمد على نظير ذلك، وهكذا جميع المسائل التي تقدمت إذا حصل الطعام في
يد عمرو لزيد فاذن له أن يقبض من نفسه، وقال أصحاب الشافعي لا يصح لأنه لا يجوز أن يكون
222

قابضا لنفسه من نفسه. ولنا أنه يجوز أن يشتري لنفسه من مال ولده ويقبض لنفسه من نفسه،
وكذلك لو وهب لولده الصغير شيئا جاز أن يقبل له من نفسه ويقبض منها فكذا ههنا
(فصل) وان اشترى اثنان طعاما فقبضاه ثم باع أحدهما للآخر نصيبه قبل أن يقتسماه احتمل
أن لا يجوز ذلك وهو قول الحسن وابن سيرين كرها ان يبيع الرجل من شريكه شيئا مما يكال أو يوزن
قبل أن يقتسماه لأنه لم يقبض نصيبه منفردا فأشبه غير المقبوض، ويحتمل الجواز لأنه مقبوض لهما
يجوز بيعه لأجنبي فجاز بيعه لشريكه كسائر الأموال فإن تقاسماه وتفرقا ثم باع أحدهما نصيبه بذلك
الكيل الذي كاله لم يجز كما لو اشترى من رجل طعاما فاكتاله وتفرقا ثم باعه إياه بذلك الكيل، وان
لم يتفرقا خرج على الروايتين اللتين تقدمتا
{مسألة} قال (والشركة فيه والتولية والحوالة به كالبيع)
وجملته ان ما يحتاج إلى القبض لا تجوز الشركة فيه ولا توليته ولا الحوالة به قبل قبضه وبهذا قال
أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يجوز هذا كله في الطعام قبل قبضه لأنها تختص بمثل الثمن الأول فجازت
قبل القبض كالإقالة. ولنا أن هذه أنواع بيع فتدخل في عموم النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفيه فإن
الشركة بيع بعض المبيع بقسطه من ثمنه، والتولية بيع جميعه بمثل ثمنه ولأنه تمليك لغير من هو في ذمته
فأشبه البيع وفارق الإقالة فإنها فسخ للبيع فأشبهت الرد بالعيب وكذلك لا تصح هبته ولا رهنه ولا
دفعه أجرة ولا ما أشبه ذلك من التصرفات المفتقرة إلى القبض لأنه غير مقبوض فلا سبيل إلى اقباضه
(فصل) وأما التولية والشركة فيما يجوز بيعه فجائز ان لأنهما نوعان من أنواع البيع، وإنما اختصا
بأسماء كما اختص بيع المرابحة والمواضعة بأسماء. فإذا اشترى شيئا فقال له رجل أشركني في نصفه بنصف
الثمن فقال أشركتك صح وصار مشتركا بينهما، وان قال ولني ما اشتريته بالثمن فقال وليتك صح
إذا كان الثمن معلوما لهما فإن جهله أحدهما لم يصح كما لو باعه بالرقم، ولو قال أشركني فيه أو قال الشركة فيه
فقال أشركتك أو قال ولني ما اشتريت ولم يذكر الثمن صح إذا كان الثمن معلوما لأن الشركة
تقتضي ابتياع جزء منه بقسطه من الثمن والتولية ابتياعه بمثل الثمن فإذا أطلق اسمه انصرف إليه كما
لو قال أقلني فقال أقلتك، وفي حديث عن زهرة بن معبد أنه كان يخرج به عبد الله بن هشام إلى
السوق فيشتري الطعام فيتلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له أشركنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لك
بالبركة فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل ذكره البخاري، ولو اشترى شيئا فقال
له رجل أشركني فأشركه انصرف إلى نصف لأنها باطلاقها تقتضي التسوية، فإن اشترى اثنان عبدا فاشتركا
فيه فقال لهما رجل أشركاني فيه فقالا أشركناك احتمل أن يكون له النصف لأن اشراكهما لو كان من كل
واحد منهما منفردا كان له النصف فكذلك حال الاجتماع، ويحتمل أن يكون له الثلث لأن الاشتراك
يفيد التساوي ولا يحصل التساوي الا بجعله بينهم أثلاثا وهذا أصح لأن اشتراك الواحد إنما اقتضى
223

النصف لحصول التسوية به وان أشركه كل واحد منهما منفردا كان له النصف ولكل واحد منهما
الربع، وان قال أشركاني فيه فأشركه أحدهما فعلى الوجه الأول يكون له نصف حصة الذي أشركه
وهو الربع وعلى الآخر له السدس لأن طلب الشركة منهما يقتضي طلب ثلث ما في يد كل واحد منهما
ليكون مساويا لهما فإذا أجابه أحدهما ثبت له الملك فيما طلب منه، وان قال له أحدهما أشركناك انبنى
على تصرف الفضولي فإن قلنا يقف على الإجازة من صاحبه فأجازه فها يثبت له الملك في نصفه أو في
ثلثه على الوجهين، ولو قال لأحدهما أشركني في نصف هذا العبد فأشركه فإن قلنا يقف على الإجازة
من صاحبه فأجازه فله نصف العبد ولهما نصفه والا فله حصة الذي أشركه، وان اشترى عبدا
فلقيه رجل فقال أشركني في هذا العبد فقال قد أشركتك فله نصفه، فإن لقيه آخر فقال أشركني في
هذا العبد وكان عالما بشركة الأول فله ربع العبد وهو نصف حصة الذي شركه لأن طلبه للاشراك رجع إلى
ما ملكه المشارك وهو النصف فيكون بينهما، وان لم يعلم بشركة الأول فهو طالب لنصف العبد لاعتقاده أن
العبد كله لهذا الذي طلب منه المشاركة فإذا قال له أشركتك فيه احتمل ثلاثة أوجه (أحدهما) ان يصير
له نصف العبد كله ولا يبقى للذي شركه شئ لأنه طلب منه نصف العبد فأجابه إلى ذلك فصار كأنه
قال بعني نصف هذا العبد فقال بعتك وهذا قول القاضي (الثاني) أن ينصرف قوله شركتك فيه
إلى نصف نصيبه ونصف نصيب شريكه فينفذ في نصف نصيبه ويقف في الزائد على إجازة صاحبه
على إحدى الروايتين لأن لفظ الشركة يقتضي بيع بعض نصيبه ومساواة المشتري له فلو باع جميع
نصيبه لم يكن شركة ولا يستحق فيه ما طلب منه (والثالث) أن لا يكون للثاني إلا الربع بكل حال لأن
الشركة إنما تثبت بقول البائع شركتك لأن ذلك هو الايجاب الناقل للملك وهو عالم انه ليس له الا
نصف العبد فينصرف إيجابه إلى نصف ملكه وعلى هذين الوجهين لطالب الشركة الخيار لأنه إنما
طلب النصف فلم يحصل له جميعه الا أن نقول بوقوفه على الإجازة في الوجه الثاني فيجيزه الآخر
ويحتمل ان لا تصح الشركة أصلا لأنه طلب شراء النصف فأجيب في الربع فصار بمنزلة ما لو قال
بعني نصف هذا العبد فقال بعتك ربعه
(فصل) ولو اشترى قفيزا من الطعام فقبض نصفه فقال له رجل بعني نصف هذا القفيز فباعه
انصرف إلى النصف المقبوض كله لأن البيع ينصرف إلى ما يجوز له بيعه وهو النصف المقبوض وان
قال أشركني في هذا القفيز بنصف الثمن ففعل لم تصح الشركة الا فيما قبض منه فيكون النصف
المقبوض بينهما لكل واحد منهما ربعه بقسطه من الثمن لأن الشركة تقتضي التسوية هكذا ذكره
القاضي، والصحيح إن شاء الله تعالى انه تنصرف الشركة إلى النصف كله فيكون تابعا لما يصح
بيعه وما لا يصح فيكون ذلك من صور تفريق الصفقة فلا يصح في الربع الذي ليس بمقبوض وهل
يصح في المقبوض؟ على وجهين
(فصل) فاما الحوالة فمعناه أن يكون على مشتري الطعام طعام من سلم أو من قرض مثل الذي
224

اشتراه فيقول لغريمه اذهب فاقبض الطعام الذي اشتريته لنفسك فلا يجوز ذلك لأنه لا يجوز أن يقبضه
قبل قبضه له، وقد ذكرنا تفريع هذا في الفصل الذي قبل هذه المسألة
(فصل) إذا كان لرجل في ذمة آخر طعام من قرض لم يجز أن يبيعه من غيره قبل قبضه لأنه غير
قادر على تسليمه، ويجوز بيعه ممن هو في ذمته في الصحيح من المذهب لحديث ابن عمر كنا نبيع
الأبعرة بالبقيع بالدراهم فنأخذ مكانها الدنانير. وهذا مذهب الشافعي، وروي أنه لا يصح كما لا
يصح في السلم والأول أولى، فإن اشتراه منه بموصوف في الذمة من غير جنسه جاز ولا يتفرقا قبل
القبض لأنه يكون بيع دين بدين فإن أعطاه معينا مما يشترط فيه التقابض مثل أن أعطاه بدل الحنطة
شعيرا جاز ولم يجز التفرق قبل القبض وان أعطاه معينا لا يشترط فيه التقابض جاز التفرق قبل
القبض كما لو قال بعتك هذا الشعير بمائة درهم في ذمتك ويحتمل ان لا يجوز لأن المبيع في الذمة فلم
يجز التفرق قبل القبض كالسلم
(فصل) وإذا قال رجل لغريمه بعني هذا على أن أقضيك دينك منه ففعل فالشرط باطل لأنه
شرط أن لا يتصرف فيه بغير القضاء وهل يبطل البيع؟ ينبني على الشروط الفاسدة في البيع هل تبطله
على الروايتين، وان قال اقضني حقي على أن أبيعك كذا وكذا فالشرط باطل والقضاء صحيح لأنه
قبضه حقه، وإن قال اقضني أجود من مالي على أن أبيعك كذا وكذا فالقضاء والشرط باطلان،
وعليه رد ما قبضه والمطالبة بماله.
{مسألة} قال (وليس كذلك الإقالة لأنها فسخ وعن أبي عبد الله الإقالة بيع)
اختلفت الرواية في الإقالة فعنه أنها فسخ وهو الصحيح، واختيار أبي بكر وهو مذهب الشافعي
(والثانية) أنها بيع وهي مذهب مالك لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة التي خرج عليها منه فلما كان
الأول بيعا كذلك الثاني، ولأنه نقل الملك بعوض على وجه التراضي فكان بيعا كالأول وحكي عن أبي
حنيفة أنها فسخ في حق المتعاقدين بيع في حق غيرهما فلا تثبت أحكام البيع في حقهما بل تجوز في السلم
وفي المبيع قبل قبضه، ويثبت حكم المبيع في حق الشفيع حتى يجوز له أخذ الشقص الذي تقايلا فيه بالشفعة
ولنا أن الإقالة هي الدفع والإزالة يقال أقالك الله عثرتك أي أزالها قال النبي صلى الله عليه وسلم " من
أقال نادما بيعته أقاله الله عثرته يوم القيامة " قال ابن المنذر وفي اجماعهم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه مع اجماعهم على أن له أن يقيل المسلم جميع السلم فيه دليل على أن
الإقالة ليست بيعا، ولأنها تجوز في المسلم فيه قبل قبضه فلم تكن بيعا كالاسقاط ولأنها تتقدر
بالثمن الأول، ولو كانت بيعا لم تتقدر به، ولأنه عاد إليه المبيع بلفظ لا ينعقد به البيع فسخا
كالرد بالعيب ويدل على أبي حنيفة بان ما كان فسخا في حق المتعاقدين كان فسخا في حق
غيرهما كالرد بالعيب والفسخ بالخيار، ولان حقيقة الفسخ لا تختلف بالنسبة إلى شخص دون شخص،
والأصل اعتبار الحقائق
225

(فصل) فإن قلنا هي فسخ جازت قبل القبض وبعده، وقال أبو بكر: لا بد فيها من كيل ثان ويقوم
الفسخ مقام البيع في إيجاب كيل ثان كقيام فسخ النكاح مقام الطلاق في العدة، ولنا أنه فسخ للبيع
فجاز قبل القبض كالرد بالعيب والتدليس والفسخ بالخيار أو اختلاف المتبايعين، وفارق العدة فإنها اعتبرت
للاستبراء والحاجة داعية إليه في كل فرقة بعد الدخول بخلاف مسئلتنا. فإن قلنا هي بيع لم يجز قبل
القبض فيما يعتبر فيه القبض لأن بيعه من بائعه قبل قبضه لا يجوز كما لا يجوز من غيره ولا يستحق بها
الشفعة ان كانت فسخا لأنها رفع للعقد وإزالة له، وليست بمعاوضة فأشبهت سائر الفسوخ ومن حلف
لا يبيع فأقال لم يحنث، ولو كانت بيعا استحقت بها الشفعة وحنث الحالف على ترك البيع بفعلها كسائر
أنواع البيع، ولا تجوز إلا بمثل الثمن سواء قلنا هي فسخ أو بيع لأنها خصت بمثل الثمن كالتولية، وفيه
وجه آخر أنها تجوز بأكثر من الثمن الأول وأقل منه إذا قلنا إنها بيع كسائر البياعات فإن قلنا
لا تجوز إلا بمثل الثمن الأول فأقال بأقل منه أو أكثر لم تصح الإقالة وكان الملك باقيا للمشتري وبهذا
قال الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة أنها تصح بالثمن الأول ويبطل الشرط لأن لفظ الإقالة اقتضى مثل
الثمن والشرط ينافيه فبطل وبقي الفسخ على مقتضاه كسائر الفسوخ، ولنا أنه شرط التفاضل فيما يعتبر
فيه التماثل فبطل كبيع درهم بدرهمين ولان القصد بالإقالة رد كل حق إلى صاحبه فإذا شرط زيادة
أو نقصانا أخرج العقد عن مقصوده فبطل كما لو باعه بشرط أن لا يسلم إليه، ويفارق سائر الفسخ
لأنه لا يعتبر فيه الرضا منهما بل يستقل به أحدهما فإذا شرط عليه شئ لم يلزمه لتمكنه من الفسخ
بدونه، وان شرط لنفسه شيئا لم يلزمه أيضا لأنه لا يستحق أكثر من الفسخ، وفي مسئلتنا لا تجوز
الإقالة الا برضاهما وإنما رضي بها أحدهما مع الزيادة أو النقص فإذا أبطلنا شرطه فات رضاه فتبطل
الإقالة لعدم رضاه بها.
{مسألة} قال (ومن اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها)
هذه المسألة تدل على حكمين (أحدهما) إباحة بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا وقد نص عليه أحمد ودل عليه قول ابن عمر: كنا
نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه متفق عليه،
ولأنه معلوم بالرؤية فصح بيعه كالثياب والحيوان، ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة فإن ذلك
يشق لكون الحب بعضه على بعض ولا يمكن بسطها حبة حبة ولان الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر
فاكتفي برؤية ظاهره بخلاف الثوب فإن نشره لا يشق ولم تختلف أجزاؤه ولا يحتاج إلى معرفة قدرها
مع المشاهدة لأنه علم ما اشترى بأبلغ الطرق وهو الرؤية وكذلك لو قال بعتك نصف هذه الصبرة أو
ثلثها أو جزءا منها معلوما جاز لأن ما جاز بيع جملته جاز بيع بعضه كالحيوان، ولان جملتها معلومة
226

بالمشاهدة فكذلك جزؤها: قال ابن عقيل ولا يصح هذا إلا أن تكون الصبرة متساوية الاجزاء فإن
كانت مختلفة مثل صبرة بقال القرية لم يصح ويحتمل أن يصح لأنه يشتري منها جزءا مشاعا فيستحق من
جيدها ورديئها بقسطه ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافا، وقال مالك لا يجوز في
الأثمان لأن لها خطرا ولا يشق وزنها ولا عددها فأشبه الرقيق والثياب
ولنا أنه معلوم بالمشاهدة فأشبه المثمنات والنقرة والحلي ويبطل بذلك ما قاله، وأما الرقيق فإنه
يجوز بيعهم إذا شاهدهم ولم يعدهم وكذلك الثياب إذا نشرها ورأي جميع اجزائها (الحكم الثاني)
أنه إذا اشترى الصبرة جزافا لم يجز له بيعها حتى ينقلها نص عليه أحمد في رواية الأثرم وعنه رواية
أخرى له بيعها قبل نقلها. اختارها القاضي وهو مذهب مالك لأنه مبيع متعين لا يحتاج إلى حق
توفية فأشبه الثوب الحاضر.
ولنا قول ابن عمر ان كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله
من مكانه. وعموم قوله عليه السلام " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه، مع ما ذكرنا من
الاخبار، وروى الأثرم باسناده عن عبيد بن حنين قال: قدم زيت من الشام فاشتريت منه أبعرة
وفرغت من شرائها فقام إلي رجل فأربحني ربحا فبسطت يدي لأبايعه فإذا رجل يأخذني من
خلفي فنظرت فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حتى تنقله إلى رحلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك
فإذا تقرر هذا فإن قبضها نقلها كما جاء في الخبر ولان القبض لو لم يعين في الشرع لوجب رده إلى العرف
كما قلنا في الاحياء والاحراز، والعادة في قبض الصبرة النقل
(فصل) ولا يحل لبائع الصبرة أن يغشها أن يجعلها على دكة أو ربوة أو حجر ينقصها أو يجعل
الردئ في باطنها أو المبلول ونحو ذلك لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة من طعام
فأدخل يده فنالت أصابعه بللا فقال " يا صاحب الطعام ما هذا؟ " قال أصابته السماء يا رسول الله قال
" أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ " ثم قال " من غشنا فليس منا " قال الترمذي هذا
حديث حسن صحيح، فإذا وجد ذلك ولم يكن المشتري علم به فله الخيار بين الفسخ وأخذ تفاوت
ما بينهما لأنه عيب، وان بان تحتها حفرة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها فلا خيار للمشتري لأنه زيادة
له، وان علم البائع ذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة به وان لم يكن علم فله الفسخ كما لو باع بعشرين
درهما فوزنها بصنجة ثم وجد الصنجة زائدة كان له الرجوع، وكذلك لو باع بمكيال ثم وجده زائدا
ويحتمل أنه لا خيار له لأن الظاهر أنه باع ما يعلم فلا يثبت له الفسخ بالاحتمال
{مسألة} قال (ومن عرف مبلغ شئ لم يبع صبرة)
نص أحمد على هذا في مواضع وكرهه عطاء وابن سيرين ومجاهد وعكرمة وبه قال مالك وإسحاق
وروي ذلك عن طاوس قال مالك: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك، وعن أحمد أن هذا مكروه غير
227

محرم فإن بكر بن محمد روى عن أبيه أنه سأله عن الرجل يبيع الطعام جزافا وقد عرف كيله وقلت
له أن مالكا يقول إذا باع الطعام ولم يعلم المشتري فإن أحب أن يرده رده قال هذا تغليظ شديد ولكن
لا يعجبني إذا عرف كيله الا أن نخبره فإن باعه فهو جائز عليه وقد أساء، ولم ير أبو حنيفة والشافعي
بذلك بأسا لأنه إذا جاز البيع مع جهلهما بمقداره فمع العلم من أحدهما أولى؟ ووجه الأول ما روى
الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من عرف مبلغ شئ فلا يبعه جزافا حتى يبينه " قال القاضي، وقد
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام مجازفة وهو يعلم كيله، والنهى يقتضي التحريم وأيضا
الاجماع الذي نقله مالك، ولان الظاهر أن البائع لا يعدل إلى البيع جزافا مع علمه بقدر الكيل إلا للتغرير
بالمشتري والغش له ولذلك أثر في عدم لزوم العقد، وقد قال عليه السلام " من غشنا فليس منا " فصار كما لو دلس
العيب فإن باع ما علم كيله صبرة فظاهر كلام احمد في رواية محمد بن الحكم أن البيع صحيح لازم، وهو
قول مالك والشافعي لأن المبيع معلوم لهما ولا تغرير من أحدهما فأشبه ما لو علما كيله أو جهلاه، ولم
يثبت ما روى من النهي فيه وإنما كرهه أحمد كراهة تنزيه لاختلاف العلماء فيه ولان استواءهما في
العلم والجهل أبعد من التغرير، وقال القاضي وأصحابه هذا بمنزلة التدليس والغش ان علم به المشتري فلا خيار
له لأنه دخل على بصيرة فهو كما لو اشترى مصراة يعلم تصريتها، وان لم يعلم أن البائع كان عالما بذلك
فله الخيار في الفسخ والامضاء وهذا قول مالك لأنه غش وغدر من البائع فصح العقد معه ويثبت
للمشتري الخيار؟ وذهب قوم من أصحابنا إلى أن البيع فاسد لأنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد
(فصل) وان أخبره البائع بكيله ثم باعه بذلك الكيل فالبيع صحيح، فإن قبضه باكتياله تم البيع
والقبض وان قبضه بغير كيل كان بمنزلة قبضه جزافا فإن كان المبيع باقيا كاله عليه فإن كان قدر حقه الذي
أخبره به فقد استوفاه وإن كان زائدا رد الفضل وإن كان ناقصا اخذ النقص وإن كان قد تلف
فالقول قول القابض في قدره مع يمينه سواء كان النقص قليلا أو كثيرا لأن الأصل عدم القبض وبقاء
الحق، وليس للمشتري التصرف في الجميع قبل كيله لأن للبائع فيه علقة فإنه لو زاد كانت الزيادة له
ولا يتصرف في أقل من حقه بغير كيل لأن ذلك يمنعه من معرفة كيله، وان تصرف فيما يتحقق أنه
مستحق له مثل أن يكون حقه قفيزا فتصرف في ذلك أو في أقل منه بالكيل ففيه وجهان (أحدهما)
له ذلك لأنه تصرف في حقه بعد قبضه فجاز كما لو كيل له (والثاني) لا يجوز لأنه لا يجوز له التصرف
في الجميع فلم يجز له التصرف في البعض كما قبل القبض، وان قبضه بالوزن فهو كما لو قبضه جزافا فاما
ان أعلمه بكيله ثم باعه إياه مجازفة على أنه له بذلك الثمن سواء كان زائدا أو ناقصا لم يجز لما روى
الأثرم باسناده عن الحكم قال: قدم طعام لعثمان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " اذهبوا بنا إلى
عثمان نعينه على طعامه " فقام إلى جنبة فقال عثمان في هذه الغرارة كذا وكذا وابتعتها بكذا وكذا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سميت الكيل فكل " قال أحمد إذا أخبره البائع ان في كل قارورة
منا فأخذ بذلك ولا يكتاله فلا يعجبني لقوله لعثمان " إذا سميت الكيل فكل " قيل له انهم يقولون
228

إذا فتح فسد قال فلم لا تفتحون واحدا وتزنون الباقي؟
(فصل) ولو كان طعاما وآخر ينطر إليه فهل لمن شاهد الكيل شراؤه بغير كيل ثان؟ على روايتين
نص عليهما (إحداهما) لا يحتاج إلى كيل لأنه شاهد كيله فأشبه ما لوكيل له (والثانية) يحتاج إلى
كيل لأنه بيع فاحتاج إلى كيل للاخبار والقياس على البيع الأول ولو كاله البائع للمشتري ثم اشتراه منه
فكذلك لما ذكرنا في التي قبلها، ولو اشترى اثنان طعاما فاكتالاه ثم ابتاع أحدهما حصة شريكه قبل
تفرقهما فقال أحمد في رواية حرب: إذا اشتريا غلة أو نحوها وحضراها جميعا وعرفا كيلها فقال أحدهما
لشريكه بعني نصيبك وأربحك فهو جائز وان لم يحضر هذا المشتري الكيل فلا يجوز إلا بكيل،
قال ابن أبي موسى وفيه رواية أخرى لابد من كيله ووجهها ما تقدم، قال القاضي ومعنى الكيل في هذه
المسائل أنه يرجع في قدره إلى قول القابض إذا كان النقص يسيرا يقع مثله في الكيل فالقول قوله مع
يمينه، وإن كان لا يقع مثله في الكيل لم يقبل قوله لأنا نتحقق كذبه بخلاف مسائل الفصل الذي قبله
لأنه لم يكل بحضرته، والظاهر أنه أراد بالكيل حقيقته دون ما ذكره القاضي، وفائدة اعتبار الكيل
ما ذكره القاضي وأنه لا يجوز للمشتري التصرف فيه الا ما ذكرنا في الفصل الذي قبله وان باعه للثاني
في هذه المواضع على أنه صبرة جاز ولم يفتقر إلى كيل ثان والقبض فيه بنقله كسائر الصبر
(فصل) قال أحمد في رجل يشتري الجوز فيعد في مكتل ألف جوزة ثم يأخذ الجوز كله على ذلك
المعيار قال لا يجوز، وقال في رجل ابتاع اعكاما كيلا وقال للبائع كل لي عكمانها واحدا واحدا ما بقي على
هذا الكيل أكره هذا حتى يكيلها كلها، وقال الثوري: كان أصحابنا يكرهون هذا، وذلك لأن ما في العكوم
يختلف فيكون في بعضها أكثر من بعض فلا يعلم ما في بعضها بكيل البعض والجوز يختلف عدده فيكون
في أحد المكتلين أكثر من الآخر فلا يصح تقديره بالكيل كمالا يصح تقدير المكيل بالوزن ولا الموزون بالكيل
{مسألة} قال (وإذا اشترى صبرة على أن كل مكيلة منها بشئ معلوم جاز)
وجملة ذلك أنه إذا قال بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم صح وإن لم يعلما مقدار ذلك حال
العقد، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة يصح في قفيز واحد ويبطل فيما
سواه لأن جملة الثمن مجهولة فلم يصح كبيع المبتاع برقمه ولنا أن المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته
إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين وهو أن تكال الصبرة ويسقط الثمن على قدر قفزانها فيعلم
مبلغه فجاز كما لو باع ما رأس ماله اثنان وسبعون مرابحة لكل ثلاثة عشر درهما درهم فإنه لا يعلم في الحال
وإنما يعلم بالحساب كذا ههنا، ولان المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم قدر ما يقابل كل جزء من المبيع فصح
كالأصل المذكور، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه آجر نفسه كل دلو بتمرة وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالتمر
(فصل) ولو قال بعتك من هذه الصبرة قفيزا أو قال عشرة أقفزة وهما يعلمان أنها أكثر من
ذلك صح، وحكي عن داود أنه لا يصح لأنه غير مشاهد ولا موصوف، ولنا أن المبيع مقدر معلوم من
229

جملة يصح بيعها أشبه إذا باع نصفها وما ذكره قياس وهو لا يحتج بالقياس ثم لا يصح فإنه إذا شاهد
الجملة فقد شاهد المبيع لأنه بعضها
(فصل) وإن قال بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح لأن من للتبعيض وكل للعدد
فيكون ذلك العدد منها مجهولا، ويحتمل أن يصح البيع كما يصح في الإجارة كل دلو بتمرة وكل شهر
بدرهم، وان قال بعتك هذه الصبرة الأخرى بعشرة دراهم على أن أزيدك قفيزا أو أنقصك قفيزا
لم يصح لأنه لا يدري أيزيده أم ينقصه، ولو قال على أن أزيدك قفيزا لم يجز لأن القفيز مجهول ولو
قال أزيدك قفيزا من هذه الصبرة الأخرى أو وصفه بصفة يعلم بها صح لأن معناه بعتك هذه وقفيزا
من هذه الأخرى بعشرة دراهم وان قال على أن أنقصك قفيزا لم يصح لأن معناه بعتك هذه الصبرة
الا قفيزا كل قفيز بدرهم وشئ مجهول، ولو قال بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على أن أزيدك
قفيزا من هذه الصبرة الأخرى لم يصح لافضائه إلى جهالة الثمن في التفصيل لأنه يصير قفيزا أو شيئا بدرهم
والشئ لا يعرفانه لعدم معرفتهما بكمية ما في الصبر ة من القفزان، ولو قصد أني أحط ثمن قفيز من الصبرة
لا أحتسب به لم يصح للجهالة التي ذكرناها، وان كانت الصبرة معلوما قدر قفزانها لهما أو قال هذه عشرة
أقفزة بعتكها كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزا من هذه الصبرة أو وصفه بصفة يعلم بها صح لأن معناه
بعتك كل قفيز وعشر قفيز بدرهم، وان لم يعلم القفيز أو جعله هبة لم يصح، وان أراد اني لا أحسب
عليك بثمن قفيز منها صح أيضا لأنهما لما علما جملة الصبرة علما ما ينقص من الثمن، ولو قال على أن
أنقصك قفيزا صح لأن معناه بعتك تسعة أقفزة بعشرة دراهم وكل قفيز بدرهم وتسع، وحكي عن
أبي بكر أنه يصح في جميع المسائل على قياس قول أحمد لأنه يجيز الشرط الواحد، ولا يصح هذا لأن المبيع
مجهول فلا يصح بيعه بخلاف الشرط الذي يفضي إلى جهالة
(فصل) ولو باع ما لا تتساوى أجزاؤه كالأرض والثوب والقطيع من الغنم ففيه نحو من مسائل الصبر
وان قال بعتك هذه الأرض أو هذه الدار أو هذا الثوب أو هذا القطيع بألف صح إذا كان مشاهدا أو
قال بعتك نصفه أو ثلثه أو ربعه بكذا صح أيضا فإن قال بعتكه كل ذراع بدرهم أو كل شاة بدرهم
صح وان لم يعلما قدر ذلك حال العقد لما ذكرنا في الصبرة، وان قال بعتك من الثوب كل ذراع بدرهم
أو من القطيع كل شاة بدرهم لم يصح لأنه مجهول، وان باعه شاة من القطيع لم يصح لأن شياه القطيع غير
متساوية القيم فيفضي ذلك إلى التنازع بخلاف القفيز من الصبرة فإنه يصح لأن أجزاءها متسارية، وان
باعه ذراعا من الدار أو عشرة أذرع منها يريدان بذلك قدرا غير مشاع لم يصح كذلك، وان أرادا مشاعا
منها وهما يعلمان عدد ذرعانها صح وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يصح لأن الذراع عبارة عن
بقعة بعينها وموضعه مجهول.
ولنا أن عشرة من مائة عشرها ولو قال بعتك عشرها صح فكذلك إذا قال بعتك عشرة من
مائة وما ذكروه غير مسلم بل هو عبارة عن قدر كما أن المكيال عبارة عن قدر فإذا أضافه إلى جملة كان
230

ذلك جزأ منها وان اتفقا على أنهما أرادا قدرا منها غير مشاع لم يصح البيع، وان كانا لا يعلمان ذرعان
الدار لم يصح لأن الجملة غير معلومة وأجزاء الأرض مختلفة فلا يمكن أن تكون معينة ولا مشاعة،
وان قال بعتك من الدار من ههنا إلى ههنا جاز لأنه معلوم وان قال عشرة أذرع ابتداؤها من ههنا
إلى ههنا إلى حيث ينتهي الذرع لم يصح لأن الذرع يختلف والموضع الذي ينتهي إليه لا يعلم حال
العقد، ولو قال بعتك نصيبي من هذه الدار ولا يعلم قدر نصيبه منها أو قال نصيبا منها أو سهما لم يصح
لأنه مجهول وان علما ذلك صح، وان قال بعتك نصف داري مما يلي دارك لم يصح نص عليه لأنه لا
يدري إلى أين ينتهي فيكون مجهولا.
(فصل) ولو باعه عبدا من عبدين أو أكثر لم يصح، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا باعه
عبدا من عبدين أو من ثلاثة بشرط الخيار له صح لأن الحاجة تدعوا إليه وان كانوا أكثر لم يصح لأنه
يكثر الغرر، ولنا أن ما تختلف اجزاؤه وقيمته لا يجوز شراء بعضه غير معين ولا مشاعا كالأربعة
ومالا يصح بغير شرط الخيار لا يصح بشرطه كالأربعة ولا حاجة إلى هذا فإن الاختيار يمكن قبل
العقد ثم ما قالوه يبطل بالأربعة.
(فصل) وحكم الثوب حكم الأرض الا أنه إذا قال بعتك من هذا الثوب من هذا الموضع إلى
هذا الموضع صح فإن كان مما لا ينقصه القطع قطعاه وإن كان مما ينقصه القطع وشرط البائع أن يقطعه له
أو رضي بقطعه هو والمشتري جاز وان تشاحا في ذلك كانا شريكين فيه كما يشتركان في الأرض، وقال
القاضي لا يصح لأنه لا يقدر على التسليم إلا بضرر فأشبه ما لو باعه نصفا معينا من الحيوان، ولنا أن
التسليم ممكن ولحوق الضرر لا يمنع التسليم إذا رضيه البائع كما لو باعه نصفا من الحيوان مشاعا وفارق
نصف الحيوان المعين فإنه لا يمكنه تسليمه مفردا الا باتلافه واخراجه عن المالية
(فصل) إذا قال بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب علي أنه عشرة أذرع فبان أحد عشر ففيه
روايتان (إحداهما) البيع باطل لأنه لا يمكن اجبار البائع على تسليم الزيادة وإنما باع عشرة ولا المشتري
على أخذ البعض وإنما اشترى الكل وعليه ضرر في الشركة أيضا (والثانية) البيع صحيح والزيادة للبائع
لأن ذلك نقص على المشتري فلا يمنع صحة البيع كالعيب ثم يخير البائع بين تسليم المبيع زائدا وبين
تسليم العشرة، فإن رضي بتسليم الجميع فلا خيار للمشتري لأنه زاده خيرا وان أبى تسليمه زائدا
فللمشتري الخيار بين الفسخ والاخذ بجميع الثمن المسمى وقسط الزائد فإن رضي بالأخذ أخذ العشرة
والبائع شريك له بالذراع وهل للبائع خيار الفسخ؟ على وجهين (أحدهما) له الفسخ لأن عليه ضررا في
المشاركة (والثاني) لاخيار له لأنه رضي ببيع الجميع بهذا الثمن فإذا وصل إليه الثمن مع بقاء جزء له
فيه كان زيادة فلا يستحق بها الفسخ ولان هذا الضرر حصل بتغريره واخباره بخلاف غيره فلا ينبغي
أن يتسلط به على فسخ عقد المشتري فإن بذلها البائع للمشتري بثمن أو طلبها المشتري بثمن لم يلزم
الآخر القبول لأنها معاوضة يعتبر فيها التراضي منهما فلا يجبر واحد منهما عليها وان تراضيا على ذلك
231

جاز، فإن بان تسعه ففيه روايتان (إحداهما) يبطل البيع لما تقدم (والثانية) البيع صحيح والمشتري
بالخيار بين الفسخ والامساك بتسعة أعشار الثمن، وقال أصحاب الشافعي ليس له امساكه الا بكل الثمن
أو الفسخ بناء على قولهم إن المعيب لمشتريه الا الفسخ أو امساكه بكل الثمن
ولنا أنه وجد المبيع ناقصا في القدر فكان له امساكه بقسطه من الثمن كالصبرة إذا اشتراها على
أنها مائة فبانت خمسين وسنبين أن المعيب له امساكه واخذ أرشه فإن أخذها بقسطها من الثمن
فللبائع الخيار بين الرضا بذلك وبين الفسخ لأنه إنما رضي ببيعها بهذا الثمن كله وإذا لم يصل إليه كان
له الفسخ فإن بذل له المشتري جميع الثمن لم يملك الفسخ لأنه وصل إليه الثمن الذي رضيه فأشبه ما لو
اشترى معيبا فرضيه بجميع الثمن.
(فصل) وان اشترى صبرة على أنها عشرة أقفزة فبانت أحد عشر رد الزائد ولا خيرا له ههنا
لأنه لا ضرر في الزيادة وان بانت تسعة أخذها بقسطها من الثمن وقد ذكرنا فيما تقدم أنه متى سمى
الكيل في الصبرة لا يكون قبضها الا بالكيل فإذا كالها فوجدها قدر حقه أخذها وان كانت زائدة رد
الزيادة وان كانت ناقصة أخذها بقسطها من الثمن وهل له الفسخ إذا وجدها ناقصة؟ على وجهين
(أحدهما) له الخيار وهو مذهب الشافعي لأنه وجد المبيع ناقصا فكان له الفسخ كغير الصبرة
وكنقصان الصفة (والثاني) لا خيار له لأن نقصان القدر ليس بعيب في الباقي من الكيل بخلاف غيره
(فصل) إذا باع الادهان في ظروفها جملة، وقد شاهدها جاز لأن أجزاءها لا تختلف فهو
كالصبرة وكذلك الحكم في العسل والدبس والحل وسائر المائعات التي لا تختلف، وان باعه كل
رطل بدرهم أو باعه رطل منها أو أرطالا معلومة يعلم أن فيها أكثر منها أو باعه جزءا مشاعا أو أجزاء
أو باعه إياه مع الظرف بعشرة دراهم أو بثمن معلوم جاز، وان باعه السمن والظرف كل رطل بدرهم
وهما يعلمان مبلغ كل واحد منهما صح لأنه قد علم المبيع والثمن فإن لم يعلما ذلك جاز أيضا لأنه قد رضي
ان يشتري الظرف كل رطل بدرهم وما فيه كذلك فأشبه ما لو اشترى ظرفين في أحدهما سمن وفي
الآخر زيت كل رطل بدرهم، وقال القاصي لا يصح لأن وزن الظرف يزيد وينقص فيدخل على غرر،
والأول أصح لأن بيع كل واحد منهما منفردا يصح لذلك فكذلك إذا جمعهما كالأرض المختلفة الاجزاء
والثياب وغيرها، وأما ان باعه كل رطل بدرهم على أن يزن الظرف فيحتسب عليه بوزنه ولا يكون
مبيعا وهما يعلمان زنة كل واحد منهما صح لأنه إذا علم أن الدهن عشرة والظرف رطلا كان معناه
بعتك عشرة أرطال باثني عشر درهما، وان كانا لا يعلمان زنة الظرف والدهن لم يصح لأنه يؤدي
إلى جهالة الثمن في الحال، وسواء جهلا زنتهما جميعها أو زنة أحدهما لذلك
(فصل) وإن وجد في ظرف السمن ربا فقال ابن المنذر قال أحمد وإسحاق: إن كان سمانا
عنده سمن أعطاه بوزنه سمنا، وان لم يكن عنده سمن أعطاه بقدر الرب من الثمن، والزمه شريح
بقدر الرب سمنا بكل حال وقال الثوري إن شاء أخذ الذي وجده ولا يكلف أن يعطيه بقدر الرب
232

سمنا. ولنا أنه وجد المبيع المكيل ناقصا فأشبه ما لو اشترى صبرة فوجد تحتها ربوة أو اشتراها على
أنها عشرة أقفزة فبانت تسعة، وقد بينا أنه يأخذ الموجود بقسطه من الثمن كذا ههنا. فعلى هذا
إنما يأخذ الموجود من السمن بقسطه من الثمن، ولا يلزم البائع أن يعطيه سمنا سواء كان موجودا
عنده أو لم يكن، فإن تراضيا اعطائه سمنا جاز والله أعلم
{باب المصراة وغير ذلك}
التصرية جمع اللبن في الضرع يقال صرى الشاة وصرى اللبن في ضرع الشاة بالتشديد والتخفيف
ويقال صرى الماء في الحوض وصرى الطعام في فيه صرى الماء في ظهره إذا ترك الجماع وأنشد أبو عبيدة
رأيت غلاما قد صرى في فقرته * ماء الشباب عنفوان شرته
وماء صري وصر إذا طال استنقاعه قال البخاري أصل التصرية حبس الماء يقال صريت الماء
ويقال للمصراة المحفلة وهو من الجمع أيضا، ومنه سميت مجامع الناس محافل والتصرية حرام إذا أراد
بذلك التدليس على المشتري لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصروا " وقوله " من غشنا فليس منا " وروى
ابن ماجة في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم " رواه ابن
عبد البر ولا يحل خلابة لمسلم
{مسألة} قال (وإذا اشترى مصراة وهو لا يعلم فهو بالخيار بين أن يقبلها أو يردها
وصاعا من تمر)
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (الأول) أن من اشترى مصراة من بهيمة الأنعام لم يعلم
تصريتها ثم علم فله الخيار في الرد والامساك روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وأنس
واليه ذهب مالك وابن أبي ليلى والشافعي وإسحاق وأبو يوسف وعامة أهل العلم، وذهب أبو حنيفة
ومحمد إلى أنه لاخيار له لأن ذلك ليس بعيب أنه لو لم تكن مصراة فوجدها أقل لبنا من أمثالها
لم يملك ردها والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار كما لو علفها فانتفخ بطنها فظن المشتري أنها حامل
ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه
بخير النظرين بعد أن يحتلبها ان شاء أمسكها وان شاء ردها وصاعا من تمر " متفق عليه، وروى ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن ردها رد معها مثل أو مثلي
لبنها قمحا " رواه أبو داود، ولان هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه فوجب به الرد كما لو كانت
شمطاء فسود شعرها، وقياسهم يبطل بتسويد الشعر فإن بياضه ليس بعيب كالكبر، وإذ دلسه ثبت له
الخيار، وأما انتفاخ البطن فقد يكون من الأكل والشرب فلا معنى لحمله على الحمل، وعلى أن هذا القياس
يخالف النص واتباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى. إذا تقرر هذا فإنما يثبت الخيار بشرط أن
233

لا يكون المشتري عالما بالتصرية فإن كان عالما لم يثبت له الخيار، وقال أصحاب الشافعي يثبت له الخيار في
وجه للخبر ولان انقطاع اللبن لم يوجد وقد يبقى على حاله فلم يجعل ذلك رضى كما لو تزوجت عنينا ثم
طلبت الفسخ ولنا أنه اشتراها عالما بالتدليس فلم يكن له خيار كما لو اشترى من سود شعرها عالما بذلك
ولأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له الرد كما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وبقاء اللبن على حاله نادر بعيد لا
يعلق عليه حكم الأصل الذي قاسوا عليه ممنوع، ولو اشترى مصراة فصار لبنها عادة واستمر على كثرته
لم يكن له الرد، وقال أصحاب الشافعي له الرد في أحد الوجهين للخبر، ولان التدليس كان موجودا
حال العقد فأثبت الرد كما لو نقص اللبن، ولنا أن الرد جعل لدفع الضرر بنقص اللبن ولم يوجد فامتنع
الرد، ولان العيب لم يوجد ولم تختلف صفة المبيع عن حالة العقد فلم يثبت التدليس، ولان الخيار
ثبت لدفع الضرر ولم يوجد ضرر
(الفصل الثاني) أنه إذا رد لزمه رد بدل اللبن، وهذا قول كل من جوز ردها وهو مقدور في الشرع
بصاع من تمر كما في الحديث الصحيح الذي أوردناه، وهذا قول الليث وإسحاق والشافعي وأبي عبيد
وأبي ثور، وذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن الواجب صاع من غالب قوت البلد لأن في بعض
الحديث " ورد معها صاعا من طعام " وفي بعضها " ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا " فجمع بين
الأحاديث وجعل تنصيصه على التمر لأنه غالب قوت البلد في المدينة، ونص على القمح لأنه غالب
قوت بلد آخر، وقال أبو يوسف: يرد قيمة اللبن لأنه ضمان متلف فكان مقدار بقيمته كسائر المتلفات
وحكي ذلك ابن ابن أبي ليلى وحكي عن زفر أنه يرد صاعا من تمر أو نصف صاع من بر بناء على
قولهم في الفطرة والكفارة
ولنا الحديث الصحيح الذي أوردناه وهو المعتمد عليه في هذه المسألة وقد نص فيه على التمر فقال
" ان شاء ردها وصاعا من تمر " وفي لفظ للبخاري " من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها
وان سخطها ففي حلبتها صاع من تمر " وفي لفظ لمسلم رواه ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم " ورد صاعا من تمر لا سمراء " وفي لفظ له " طعاما لا سمراء " يعني لا يرد قمحا والمراد
باطعام ههنا التمر لأنه مطلق في أحد الحديثين مقيد في الآخر في قضية واحدة والمطلق فيما هذا سبيله
يحمل على المقيد، وحديث ابن عمر مطرح الظاهر بالاتفاق إذ لا قائل بايجاب مثل لبنها أو مثلي لبنها
قمحا ثم قد شك فيه الرواي وخالفته الأحاديث الصحاح فلا يعول عليه، وقياس أبي يوسف مخالف للنص
فلا يلتفت إليه ولا يبعد أن يقدر الشرع بدل هذا المتلف قطعا للخصومة ودفعا للتنازع كما قدر بدل الآدمي
ودية أطرافه ولا يمكن حمل الحديث على أن الصاع كان قيمة اللبن فلذلك أو جبه لوجوه ثلاثة (أحدهما) أن
القيمة هي الأثمان لا التمر (الثاني) أنه أوجب في المصراة من الإبل والغنم جميعا صاعا من تمر مع اختلاف
لبنها (الثالث) أن لفظه للعموم فيتناول كل مصراة ولا يتفق أن تكون قيمة لبن كل مصراة صاعا وان
أمكن أن يكون كذلك فيتعين ايجاب الصاع لأنه القيمة التي عين الشارع إيجابها فلا يجوز أن يعدل عنها
234

وإذ قد ثبت هذا فإنه يجب أن يكون الصاع من التمر جيدا غير معيب لأنه واجب باطلاق الشارع
فينصرف إلى ما ذكرناه كالصاع الواجب في الفطرة ولا يجب أن يكون من الأجود بل يجوز أن يكون
من أدنى ما يقع عليه اسم الجيد، ولا فرق بين أن تكون قيمة التمر مثل قيمة الشاة أو أقل أو أكثر نص
عليه أحمد وليس هذا جمعا بين البدل والمبدل لأن التمر بدل اللبن قدره الشرع به كما قدر في يدي العبد
قيمته وفي يديه ورجليه قيمته مرتين مع بقاء العبد على ملك سيده، وان عدم التمر في موضعه فعليه قيمته
في الموضع الذي وقع عليه العقد لأنه بمثابة عين أتلفها فيجب عليه قيمتها
(فصل) وان علم بالتصرية قبل حلبها مثل أن أقر به البائع أو شهد به من تقبل شهادته فله ردها
ولا شئ معها لأن التمر إنما وجب بدلا للبن المحتلب ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اشترى غنما
مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وان سخطها ففي حلتها صاع من تمر " ولم يأخذ لها لبنا ههنا فلم
يلزمه رد شئ معها وهذا قول مالك قال ابن عبد البر هذا مالا خلاف فيه، وأما لو احتلبها وترك اللبن
بحاله ثم ردها رد لبنها ولا يلزمه أيضا شئ لأن المبيع إذا كان موجودا فرده لم يلزمه بدله فإن أبى البائع
قبوله وطلب التمر لم يكن له ذلك إذا كان بحاله لم يتغير، وقيل لا يلزمه قبوله لظاهر الخبر ولأنه قد نقص
بالحلب وكونه في الضرع أحفظ له، ولنا أنه قدر على رد المبدل فلم يلزمه البدل كسائر المبدلات مع ابدالها
والحديث المراد به رد التمر حالة عدم اللبن لقوله " ففي حلبتها صاع من تمر " ولما ذكرنا من المعنى، وقولهم ان الضرع أحفظ له لا يصح لأنه لا يمكن ابقاؤه في الضرع على الدوام وبقاؤه يضر بالحيوان، وإن كان
اللبن قد تغير ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه قبوله وهذا قول مالك للخبر ولأنه قد نص بالحموضة أشبه ما لو أتلفه (والثاني) يلزمه قبوله لأن النقص حصل باستعلام المبيع وبتغرير البائع وتسليطه على
حلبه فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة
(فصل) وإذا رضي بالتصرية فأمسكها ثم وجد بها عيبا آخر ردها به لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد
بعيب آخر كما اشترى أعرج فرضي بعيبه ثم أصاب به برصا وإذا رد لزمه صاع من تمر عوض اللبن
لأنه قد جعل عوضا له فيما إذا ردها بالتصرية فيكون عوضا له مطلقا
(فصل) ولو اشترى شاة غير مصراة فاحتلبها ثم وجد بها عيبا فله الرد ثم إن لم يكن في ضرعها
لبن حال العقد فلا شئ عليه لأن ما حدث من اللبن بعد العقد بحدث على ملك المشتري، وإن كان
فيه لبن حال العقد الا أنه شئ لا يخلو الضرع من مثله في العادة فلا شئ فيه لأن مثل هذا لا عبرة به
ولا قيمة له في العادة فهو تابع لما حدث، وإن كان كثيرا وكان قائما بحاله فهل له رده؟ يبنى على رد
لبن التصرية وقد سبق، فإن قلنا ليس له رده كان بقاؤه كتلفه، وهل له أن يرد المبيع؟ يخرج على
الروايتين فيما إذا اشترى شيئا فتلف منه جزء أو تعيب، والأشهر في المذهب أنه برده فعلى هذا يلزمه
رد مثل اللبن لأنه من ذوات الأمثال، والأصل ضمان ما كان من المثليات بمثله الا أنه خولف في لبن
التصرية بالنص ففيما عداه يبقى على الأصل ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو مما ذكرنا
235

{الفصل الثالث في الخيار} اختلف أصحابنا في مدته فقال القاضي هو مقدر بثلاثة أيام ليس
له الرد قبل مضيها ولا امساكها بعدها فإن أمسكها بعد ذلك لم يكن له الرد، قال وهو ظاهر كلام
أحمد وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن أبا هريرة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من اشترى مصراة
فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام ان شاء أمسكها وان شاء ردها ورد معها صاعا من تمر " رواه مسلم قالوا فهذه
الثلاثة قدرها الشارع لمعرفة التصرية فإنها لا تعرف قبل مضيها لأنها في اليوم الأول لبنها لبن التصرية
وفي الثاني يجوز أن يكون لبنها نقص لتغير المكان واختلاف العلف وكذلك في الثالث، فإذا مضت
الثلاثة استبانت التصرية وثبت الخيار على الفور ولا يثبت قبل انقضائها، وقال أبو الخطاب عندي
متى ثبتت التصرية جاز له الرد قبل الثلاثة وبعده لأنه تدليس يثبت الخيار فملك الرد به إذا تبينه كسائر
التدليس، وهذا قول بعض المدنيين فعلى هذا يكون فائدة التقدير في الخبر بالثلاثة لأن الظاهر أنه
لا يحصل العلم الا بها فاعتبرها لحصول العلم ظاهرا فإن حصل العلم بها أو لم يحصل بها فالاعتبار به دونها
كما في سائر التدليس، وظاهر قول ابن أبي موسى أنه متى علم. التصرية ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة
إلى تمامها وهذا قول ابن المنذر وأبي حامد من أصحاب الشافعي وحكاه عن الشافعي نصا لظاهر حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها، وعلى قول القاضي لا يثبت الخيار في
شئ منها وإنما يثبت عقبها، وقول أبي الخطاب يسوي بين الأيام الثلاثة وبين غيرها، والعمل بالخبر
أولى والقياس ما قال أبو الخطاب لأن الحكم كذلك في العيوب وسائر التدليس
{مسألة} قال (وسواء كان المشترى ناقة أو بقرة أو شاة)
جمهور أهل العلم على أنه لافرق في التصرية بين الشاة والناقة والبقرة وشذ داود فقال لا يثبت
الخيار بتصرية البقرة لأن الحديث " لا تصروا الإبل والغنم " فدل على أن ما عداهما بخلافهما ولان الحكم
ثبت فيهما بالنص والقياس لا تثبت به الأحكام. ولنا عموم قوله " من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة
أيام " وفي حديث ابن عمر " من ابتاع محفلة " ولم يفصل، ولأنه تصرية بلبن من بهيمة الأنعام أشبه
الإبل والغنم، والخبر فيه تنبيه على تصرية البقر لأن لبنها أغزر وأكثر نفعا، وقولهم إن الأحكام لا تثبت
بالقياس ممنوع ثم هو ههنا ثبت بالتنبيه وهو حجة عند الجميع
(فصل) إذا اشترى مصراتين أو أكثر في عقد واحد فردهن رد مع كل مصراة صاعا، وبهذا
قال الشافعي وبعض أصحاب مالك وقال بعضهم في الجميع صاع واحد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من
اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وان سخطها ففي حلبتها صاع من تمر " ولنا عموم قوله
" من اشترى مصراة - و - من اشترى محفلة " وهذا يتناول الواحدة ولان ما جعل عوضا عن الشئ في
صفقتين وجب إذا كان في صفقة واحدة كأرش العيب، وأما الحديث فإن الضمير يعود إلى الواحدة
(فصل) فإن اشترى مصراة من غير بهيمة الأنعام كالأمة والاتان والفرس ففيه وجهان (أحدهما)
236

يثبت له الخيار اختاره ابن عقيل وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قوله " من اشترى مصراة ومن
اشترى محفلة " ولأنه تصرية بما يختلف الثمن به فأثبت الخيار كتصرية بهيمة الأنعام وذلك أن لبن
الآدمية يراد للرضاع ويرغب فيها ظئرا ويحسن ثديها ولذلك لو اشترط كثرة لبنها فبان بخلافه ملك
الفسخ ولو لم يكن مقصودا لما ثبت باشتراطه ولا ملك الفسخ بعدمه ولان الأتان والفرس يرادان
لولدهما (والثاني) لا يثبت به الخيار لأن لبنها لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد لبن بهيمة الأنعام
والخبر ورد في بهيمة الأنعام ولا يصح القياس عليه لأن قصد لبن بهيمة الأنعام أكثر واللفظ العام
أريد به الخاص بدليل انه أمر في ردها بصاع من تمر ولا يجب في لبن غيرها ولأنه ورد عاما
وخاصا في قضية واحدة فيحمل العام على الخاص ويكون المراد بالعام في أحد الحديثين الخاص
في الحديث الآخر، وعلى الوجه الأول إذا ردها لم يلزم بدل لبنها ولا يرد معها شيئا لأن هذا اللبن
لا يباع عادة ولا يعاوض عنه.
(فصل) وكل تدليس يختلف الثمن لأجله مثل أن يسود شعر الجارية أو يجعده أو يحمر وجهها
أو يضمر الماء على الرحا ويرسله عند عرضها على المشترى يثبت الخيار لأنه تدليس بما يختلف الثمن باختلافه
فأثبت الخيار كالتصرية، وبهذا قال الشافعي ووافق أبو حنيفة في تسويد الشعر وقال في تجعيده لا يثبت
به الخيار لأنه تدليس بما ليس بعيب أشبه ما لو سود أنامل العبد ليظنه كاتبا أو حدادا
ولنا أنه تدليس بما يختلف به الثمن أشبه تسويد الشعر وأما تسويد الأنامل فليس بمختص بكونه
كاتبا لأنه يحتمل أن يكون قد ولع بالدواة أو كان غلاما لكاتب يصلح له الدواة فظنه كاتبا طمع
لا يستحق به فسخا، فإن حصل هذا من غير تدليس مثل أن اجتمع اللبن في الضرع من غير قصد
أو احمر وجه الجارية لخجل أو تعب أو تسود شعرها شئ وقع عليه فقال القاضي: له الرد أيضا
لدفع الضرر اللاحق بالمشترى والضرر واجب الدفع سواء قصدا أو لم يقصد فأشبه العيب، ويحتمل أن
لا يثبت الخيار لحمرة وجهها بخجل أو تعب لأنه يحتمل ذلك فيتعين ظنه من خلقته الأصلية طمعا
فأشبه شواد أنامل العبد.
(فصل) فإن علف الشاة فملا خواصرها وظن المشترى أنها حامل أو سود أنامل العبد أو ثوبه
يوهم أنه كاتب أو حداد أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة فظن أنها كثيرة اللبن لم يكن له خيار
لأن هذا لا يتعين للجهة التي ظنها فإن امتلاء البطن قد يكون لاكل أو شرب أو غيرهما وسواد
أنامل العبد قد يكون لولع بالدواة أو لكونه شارعا في الكتابة أو غلاما لكاتب فحمله على أنه كاتب
من باب الطمع فلا يثبت خيارا
(فصل) وإذا أراد امساك المدلس وأخذ الأرش لم يكن له أرش لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل له في
المصراة أرشا وإنما خيره في شيئين قال " ان شاء أمسك وان شاء ردها وصاعا من تمر " ولان
المدلس ليس بعيب فلم يستحق من أجله عوضا وان تعذر عليه الرد بتلف فعليه الثمن لأنه تعذر عليه
237

الرد فيما لا أرش له فأشبه غير المدلس وان تعيب عنده قبل العلم بالتدليس فله رده ورد أرش العيب
عنده وأخذ الثمن وان شاء أمسك ولا شئ له وان علم التدليس فتصرف في المبيع بطل رده كما لو تصرف في
المبيع المعيب وان أخر الرد من غير تصرف فحكمه حكم تأخر رد المعيب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
{مسألة} قال (وإذا اشترى أمة ثيبا فأصابها أو استغلها ثم ظهر على عيب كان
مخيرا بين أن يردها ويأخذ الثمن كاملا لأن الخراج بالضمان والوطئ كالخدمة وبين أن
يأخذ ما بين الصحة والعيب)
في هذه المسألة فصول خمسة: (أحدها) أن من علم بسلعته عيبا لم يجز بيعها حتى يبينه للمشتري فإن لم
يبينه فهو آثم عاص نص عليه أحمد لما روى حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما وان كذبا وكتما محق بركة بيعهما " متفق عليه وقال عليه
السلام " المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا إلا بينه له " وقال " من باع عيبا لم يبينه لم
يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه " رواهما ابن ماجة وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " من غشنا فليس منا " وقال هذا حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا الغش
وقالوا هو حرام، فإن باعه ولم يبينه فالبيع صحيح في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة
والشافعي وحكي عن أبي بكر عبد العزيز أن البيع باطل لأنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد، ولنا أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن التصرية وصحح البيع، وقد روي عن أبي بكر أنه قيل له ما تقول
في المصراة؟ فلم يذكر جوابا
(الفصل الثاني) انه متى علم بالبيع عيبا لم يكن عالما به فله الخيار بين الامساك والفسخ سواء كان
البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا واثبات النبي صلى الله عليه وسلم الخيار بالتصرية
تنبيه على ثبوته بالعيب ولان مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
اشترى مملوكا فكتب " هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء من خالد اشترى منه عبدا أو أمة لأداء
به ولا غائلة بيع المسلم المسلم " فثبت ان بيع المسلم اقتضى السلامة ولان الأصل السلامة والعيب حادث
أو مخالف للظاهر فعند الاطلاق يحمل عليها فمتى فاتت فات بعض مقتضى العقد فلم يلزمه أخذه بالعوض
وكان له الرد واخذ الثمن كاملا
(فصل) خيار الرد بالعيب على التراخي فمتى علم العيب فأخر الرد لم يبطل خياره حتى يوجد منه
ما يدل على الرضا ذكره أبو الخطاب، وذكر القاضي شيئا يدل على أن فيه روايتين (إحداهما) هو على
التراخي (والثانية) هو على الفور وهو مذهب الشافعي فمتى علم العيب فأخر رده مع امكانه بطل خياره
238

لأنه يدل على الرضا به فأسقط خياره كالتصرف فيه، ولنا انه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على التراخي
كالقصاص ولا نسلم دلالة الامساك على الرضا به
(الفصل الثالث) أنه لا يخلوا المبيع من أن يكون بحاله فإنه يرده ويأخذ رأس ماله أو يكون قد
زاد بعد العقد أو جعلت له فائدة فذلك قسمان (أحدهما) أن تكون الزيادة متصلة كالسمن والكبر
والتعلم والحمل قبل الوضع والثمرة قبل التأبير فإنه يردها بنمائها لأنه يتبع في العقود والفسوخ (القسم
الثاني) أن تكون الزيادة منفصلة وهي نوعان (أحدهما) أن تكون الزيادة من غير عين المبيع كالكسب
وهو معنى قوله أو استغلها يعني أخذ غلتها وهي منافعها الحاصلة من جهتها كالخدمة والأجرة والكسب،
وكذلك ما يوهب أو يوصى له به فكل ذلك للمشتري في مقابلة ضمانه لأن العبد لو هلك هلك من
مال المشتري وهو معنى قوله عليه السلام " الخراج بالضمان " ولا نعلم في هذا خلافا، وقد روي ابن ماجة
عن هشام بن عمار عن مسلم بن خالد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا
اشترى عبدا فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيبا فرده فقال يا رسول الله انه استغل غلامي فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " ورواه أبو داود والشافعي ورواه سعيد في سننه عن مسلم بهذا
الاسناد وقال فيه " الغلة بالضمان " وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم (النوع
الثاني) أن تكون الزيادة من عين المبيع كالولد والثمرة واللبن فهي للمشتري أيضا ويرد الأصل دونها
وبهذا قال الشافعي، وقال مالك إن كان النماء ثمرة لم يردها وإن كان ولدا رده معها لأن الرد حكم فسرى
إلى ولدها كالكتابة، وقال أبو حنيفة النماء الحادث في يد المشتري يمنع الرد لأنه لا يمكن رد الأصل
بدونه لأنه من موجبه فلا يرفع العقد مع بقاء موجبه ولا يمكن رده لأنه لم يتناوله العقد. ولنا أنه
حادث في ملك المشتري فلم يمنع الرد كما لو كان في يد البائع وكالكسب ولأنه نماء منفصل فجاز رد
الأصل بدونه كالكسب والثمرة عند مالك، وقولهم ان النماء موجب القعد غير صحيح إنما موجبه الملك
ولو كان موجبا للعقد لعاد إلى البائع بالفسخ، وقول مالك لا يصح لأن الولد ليس بمبيع فلا يمكن رده
بحكم رد الام ويبطل ما ذكره بنقل الملك بالهبة والبيع وغيرهما فإنه لا يسري إلى الولد بوجوده في الام
وإن كان قد نقص فهذا نذكر حكمه إن شاء الله تعالى
(الفصل الرابع) إن كان المبيع جارية ثيبا فوطئها المشتري قبل علمه بالعيب فله ردها وليس
معها شئ، وروي ذلك عن زيد بن ثابت وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وعثمان البتي وعن أحمد
رواية أخرى أنه يمنع الرد ويروي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الزهري والثوري وأبو حنيفة
وإسحاق لأن الوطئ يجري مجرى الجنابة لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال فوجب أن يمنع
الرد كما لو كانت بكرا، وقال شريح والشعبي والنخعي وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى يردها ومعها
أرش. واختلفوا فيه فقال شريح والنخعي نصف عشر ثمنها وقال الشعبي حكومة وقال ابن المسيب
عشرة دنانير وقال ابن أبي ليلى مهر مثلها وحكي نحو قوله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكره
239

ابن أبي موسى رواية عن أحمد لأنه إذا فسخ صار واطئا في ملك الغير لكون الفسخ رفعا للعقد من
أصله. ولنا أنه معنى لا ينقص عينها ولا قيمتها ولا يتضمن الرضا بالعيب فلا يمنع الرد كالاستخدام
وكوطئ الزوج وما قالوه يبطل بوطئ الزوج ووطئ البكر ينقص ثمنها، وقولهم يكون واطئا في ملك
الغير ليس بصحيح لأن الفسخ رفع للعقد من حينه لا من أصله بدليل أنه لا يبطل الشفعة ولا يوجب
رد الكسب فيكون وطؤه في ملكه
(فصل) ولو اشترى مزوجة فوطئها الزوج لم يمنع ذلك الرد بغير خلاف نعلمه، فإن زوجها
المشتري فوطئها الزوج ثم أراد ردها بالعيب فإن كان ذلك النكاح باقيا فهو عيب حادث وإن كان قد
زال فحكمه حكم وطئ السيد، وقد استحسن أحمد رحمه الله أنه يمنع الرد وهو محمول على الرواية
الأخرى إذ لافرق بين هذا وبين وطئ السيد، وان زنت في يد المشتري ولم يكن عرف ذلك
منها فهو عيب حادث حكمه حكم العيوب الحادثة، ويحتمل أن يكون عيبا بكل حال لأنه لزمها حكم
الزنا في يد المشتري
(الفصل الخامس) أنه إذا اختار المشتري امساك المعيب وأخذ الأرش فله ذلك وهذا قول
إسحاق، وقال أبو حنيفة والشافعي ليس له إلا الامساك أو الرد وليس له أرش الا أن يتعذر رد
المبيع لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لمشتري المصراة الخيار بين الامساك من غير أرش أو الرد ولأنه
يملك الرد فلم يملك أخذ جزء من الثمن كالذي له الخيار
ولنا أنه ظهر على عيب لم يعلم به فكان له الأرش كما لو تعيب عنده ولأنه فات عليه جزء من
المبيع فكانت له المطالبة بعوضه كما لو اشترى عشرة أقفزة فبانت تسعة أو كما لو أتلفه بعد البيع، فأما المصراة فليس فيها عيب وإنما ملك الخيار بالتدليس لا لفوات جزء ولذلك لا يستحق أرشا إذا
امتع الرد عليه. إذا ثبت هذا فمعنى أرش العيب أن يقوم المبيع صحيحا ثم يقوم معيبا فيؤخذ قسط
ما بينهما من الثمن فنسبته إلى الثمن نسبة القصان بالعيب من القيمة، مثاله أن يقوم المعيب صحيحا
بعشرة ومعيبا بتسعة والثمن خمسة عشرة فقد نقصه العيب عشر قيمته فيرجع على البائع بعشر الثمن
وهو درهم ونصف وعلة ذلك أن المبيع مضمون على المشتري بثمنه ففوات جزء منه يسقط عنه ضمان
ما قابله من الثمن أيضا ولأننا لو ضمناه نقص القيمة أفضى إلى اجتماع الثمن والمثمن للمشتري فيما إذا
اشترى شيئا بنصف قيمته فوجد به عيبا ينقصه نصف قيمته مثل أن يشتريه بعشرة وقيمته عشرون
فوجد به عيبا ينقصه عشرة فأخذها حصل له المبيع ورجع بثمنه وهذا معنى قول الخرقي أو يأخذ ما بين
الصحة والعيب وقد نص أحمد على ما ذكرناه، وذكره الحسن البصري فقال يرجع بقيمة العيب في الثمن
يوم اشتراه قال أحمد هذا أحسن ما سمعت
{مسألة} قال (وان كانت بكرا فأراد ردها كان عليه ما نقصها)
240

يعني الأمة البكر إذا وطئها المشتري ثم ظهر على عيب فردها كان عليه أن يرد معها أرش النقص
وعن أحمد في جواز ردها روايتان إحداهما لا يردها ويأخذ أرش العيب وبه قال ابن سيرين والزهري
والثوري والشافعي وأبو حنيفة وإسحاق قال ابن أبي موسى وهو الصحيح عن أحمد، والرواية الثانية
يردها ويرد معها شيئا وبه قال شريح وسعيد بن المسيب والنخعي ومالك وابن أبي ليلى وأبو ثور
والواجب رد ما نقص قيمتها بالوطئ فإذا كانت قيمتها بكرا عشرة وثيبا ثمانية رد دينارين لأنه
بفسخ العقد يصير مضمونا عليه بقيمته بخلاف أرش العيب الذي يأخذه المشتري وهذا قول مالك
وأبي ثور، وقال شريح والنخعي يرد عشر ثمنها، وقال سعيد بن المسيب يرد عشرة دنانير وما قلناه
أولى إن شاء الله تعالى، واحتج من منع ردها بأن الوطئ نقص عينها وقيمتها فلم يملك ردها كما لو اشترى
عبدا فخصاه فنقصت قيمته. ولنا أنه عيب حدث عند أحد المتبايعين لا لاستعلام فأثبت الخيار كالعيب
الحادث عند البائع قبل القبض
(فصل) وكل مبيع كان معيبا ثم حدث به عند المشتري عيب آخر قبل علمه بالأول فعن أحمد
رحمه الله فيه روايتان (إحداهما) ليس له الرد وله أرش العيب القديم وبه قال الثوري وابن شبرمة
والشافعي وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن ابن سيرين والزهري والشعبي لأن الرد ثبت لإزالة
الضرر وفي الرد على البائع اضرار به ولا يزال الضرر بالضرر (والثانية) له الرد ويرد أرش العيب
الحادث عنده ويأخذ الثمن وان شاء أمسكه وله الأرش وبهذا قال مالك وإسحاق وقال النخعي وحماد
ابن أبي سليمان يرده ونقصان العيب وقال الحكم يرده لم يذكر معه شيئا
ولنا حديث المصراة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بردها بعد حلبها ورد عوض لبنها واحتج أحمد بأن
عثمان بن عفان رضي الله عنه قضى في الثوب إذا كان به عوار برده وإن كان قد لبسه، ولأنه عيب حدث
عند المشتري فكان له الخيار بين رد المبيع وأرشه وبين أخذ أرش العيب القديم كما لو كان حدوثه لاستعلام
المبيع ولان العيبين قد استويا والبائع قد دلس به والمشتري لم يدلس فكان رعاية جانبه أولى ولان
الرد كان جائزا قبل حدوث العيب الثاني فلا يزول إلا بدليل وليس في المسألة اجماع ولا نص،
والقياس إنما يكون على أصل وليس لما ذكروه أصل فيبقى الجواز بحاله، إذا ثبت هذا فإنه يرد أرش
العيب الحادث عنده لأن المبيع بجملته مضمون عليه فكذلك أجزاؤه، وان زال العيب الحادث عند
المشتري رده ولا أرش معه على كلتا الروايتين وبه قال الشافعي لأنه زال المانع مع قيام السبب المقتضي
للرد فثبت حكمه، ولو اشترى أمة فحملت عنده ثم أصاب بها عيبا فالحمل عيب في الآدميات دون غيرهن
لأنه يمنع الوطئ ويخاف منه التلف فإن ولدت فالولد للمشتري وان نقصتها الولادة فذلك عيب أيضا
وإن لم تنقصها الولادة ومات الولد جاز ردها لأنه زال العيب، وإن كان ولدها باقيا لم يكن له ردها
دون ولدها لأن ذلك تفريق بينهما وهو محرم، وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب في مسائلهما له
الفسخ فيها دون ولدها وهو قول أكثر أصحاب الشافعي ولأنه موضع حاجة فأشبه ما لو ولدت حرا
241

فإنه يجوز بيعها دون ولدها. ولنا عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم " من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم
القيامة، ولأنه أمكن دفع الضرر بأخذ الأرش أو برد ولدها معها فلم يجز ارتكاب منهي الشرع بالتفريق
بينهما كما لو أراد الإقالة فيها دون ولدها، وقولهم ان الحاجة داعية إليه قلنا اندفعت الحاجة بأخذ الأرش
أما إذا ولدت حرا فلا سبيل إلى بيعه معها بحال، ولو كان المبيع حيوانا غير الآدمي فحدث به حمل
عند المشتري لم يمنع الرد بالعيب لأنه زيادة وان علم بالعيب بعد الوضع ولم تنقصه الولادة فله امساك
الولد ورد الام لأن التفريق بينهما جائز ولا فرق بين حملها قبل القبض أو بعده، ولو اشتراها حاملا
فولدت عنده ثم اطلع على العيب فردها رد الولد معها لأنه من جملة المبيع والزيادة فيه نماء متصل بالمبيع
فأشبه ما لو سمنت الشاة فإن تلف الولد فهو كتعيب المبيع عنده فإن قلنا له الرد فعليه قيمته ان اختار
رد الام، وعن أحمد أنه لا قيمة عليه للولد وحمله القاضي على أن البائع دلس العيب، وان نقصت الام
بالولادة فهو عيب حادث حكمه حكم العيوب الحادثة، ويمكن حمل كلام أحمد على أن الحمل لا حكم له وهذا
أحد القولين للشافعي فعلى هذا يكون الولد حينئذ للمشتري فلا يلزمه رده إن كان باقيا ولا قيمته إن كان
تالفا والأول وهو الصحيح وعليه العمل إن شاء الله تعالى
(فصل) وإن كان المبيع كاتبا أو صانعا فنسي ذلك عند المشتري ثم وجد به عيبا فذلك عيب
حادث عند المشتري حكمه حكم غيره من العيوب وعن أحمد يرده ولا يرد معه شيئا وعلله بأنه
ليس بنقص في العين ويمكن عوده بالتذكر قال: وعلى هذا لو كان سمينا فهزل والقياس ما ذكرناه
فإن الصياغة والكتابة متقومة تضمن في الغصب وتلزم بشرطها في البيع فأشبهت الأعيان والمنافع
من السمع والبصر والعقل وامكان العود منتقض بالسن والبصر والحمل ولعل ما روي عن أحمد
أراد به إذا دلس البائع العيب
(فصل) وإذ تعيب المبيع في يد البائع بعد العقد فإن كان المبيع من ضمانه فحكمه حكم العيب القديم
وإن كان من ضمان المشتري فحكمه حكم العيب الحادث بعد القبض فأما الحادث بعد القبض فهو من
ضمان المشتري ولا يثبت به خيار وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك عهدة الرقيق ثلاثة أيام
فما أصابه فيها فهو من ضمان البائع إلا في الجنون والجذام والبرص فإن ظهر إلى سنة ثبت الخيار لما روى
الحسن عن عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عهدة الرقيق ثلاثة أيام وانه اجماع أهل المدينة ولان الحيوان
يكون فيه العيب ثم يظهر. ولنا أنه ظهر في يد المشتري ويجوز أن يكون حادثا فلم يثبت به الخيار كسائر
المبيع أو ما بعد الثلاثة والسنة وحديثهم لا يثبت قال الإمام أحمد: ليس فيه حديث صحيح، وقال ابن
المنذر لا يثبت في العهدة حديث صحيح والحسن لم يلق عقبة واجماع أهل المدينة ليس بحجة والداء
الكامن لا عبرة به وإنما النقص بما ظهر لا بما كمن
242

{مسألة} قال (الا أن يكون البائع دلس العيب فيلزمه رد الثمن كاملا وكذلك سائر المبيع)
معنى دلس العيب أي كتمه عن المشترى مع علمه به أو غطاه عنه بما يوهم المشتري عدمه مشتق
من الدلسة وهي الظلمة فكان البائع يستر العيب وكتمانه جعله في ظلمة فخفي عن المشتري فلم يره ولم
يعلم به وسواء في هذا ما علم به فكتمه وما ستره فكلاهما تدليس حرام على ما بيناه فإذا فعله البائع فلم
يعلم به المشتري حتى تعيب المبيع في يده فله رد المبيع وأخذ ثمنه كاملا ولا أرش عليه سواء كان الحادث
بفعل المشتري كوطئ البكر وقطع الثوب أو بفعل آدمي آخر مثل أن يجني عليه جان أو بفعل العبد
كالسرقة والإباق أو بفعل الله تعالى بالمرض ونحوه سواء كان ناقصا للمبيع أو مذهبا لجميعه. قال أحمد
في رحل اشترى عبدا فابق من يده أو أقام البينة ان إباقه كان موجودا في يد البائع يرجع به على البائع
بجميع الثمن الذي أخذه منه لأنه غر المشتري ويتبع البائع عبده حيث كان وهذا يحكى عن الحكم
ومالك لأنه غره فيرجع عليه كما لو غره بحرية أمة وظاهر حديث المصراة يدل على أن ما حدث في
يد المشتري مضمون عليه سواء دلس البائع العيب أو لم يدلسه فإن التصرية تدليس ولم يسقط عن
المشتري ضمان اللبن بل ضمنه بصاع من التمر مع كونه قد نهى عن التصرية وقال " بيع المحفلات خلابة
ولا تحل الخلابة لمسلم " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " يدل على أن من له الخراج فعليه الضمان لكونه
جعل الضمان علة لوجوب الخراج له فلو كان ضمانه على البائع لكان الخراج له لوجود علته ولان
وجوب الضمان على البائع لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولا نعلم في هذا نصا ولا إجماعا والقياس
إنما يكون على أصل ولا نعلم لهذا أصلا ولا يشبه هذا التغرير بحرية الأمة في النكاح لأنه يرجع على
من غره وان لم يكن سيد الأمة وههنا لو كان التدليس من وكيل البائع لم يرجع عليه بشئ
(فصل) في معرفة العيوب وهي النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار لأن المبيع إنما
صار محلا للعقد باعتبار صفة المالية فما يوجب نقصا فيها يكون عيبا، والمرجع في ذلك إلى العادة في
عرف أهل هذا الشأن وهم التجار، فالعيوب في الخلقة كالجنون والجذام والبرص والعمى والعور والعرج
والعفل والقرن والعتق والرتق والقرع والصمم والطرش والخرس وسائر المرض والإصبع الزائدة
والناقصة والحول والخوص والسبل وهو زيادة في الأجفان والتخنيث وكونه خنثى والخصاء والتزوج
في الأمة والبخر فيها، وهذا كله قول أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم فيه خلافا. قال ابن المنذر أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم في الجارية تشترى ولها زوج أنه عيب وكذلك الدين في رقبة العبد إذا كان
السيد معسرا، والجناية الموجبة للقود لأن الرقبة صارت كالمستحقة لوجوب الدفع في الجناية والبيع في
الدين ومستحقة للاتلاف بالقصاص، والزنا والبخر عيب في العبد والأمة جميعا، وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة ليس ذلك بعيب في العبد لأنه لا يراد للفراش والاستمتاع به بخلاف الأمة
ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته فإنه بالزنا يتعرض لإقامة الحد عليه والتعزير ولا يأمنه سيده
243

على عائلته وحريمه والبخر يؤذي سيده ومن جالسه وخاطبه أو ساره، وأما السرقة والإباق والبول
في الفراش فهي عيوب في الكبير الذي جاوز العشر، وقال أصحاب أبي حنيفة في الذي يأكل وحده ويشرب
وحده، وقال الثوري وإسحاق ليس بعيب فيه حتى يحتلم لأن الأحكام تتعلق به من التكليف ووجوب
الحدود ببلوغه فكذلك هذا، ولنا أن الصبي العاقل يتحرز منه هذا عادة كتحرز الكبير فوجوده منه في
تلك الحال يدل على أن البول لداء في باطنه والسرقة والإباق لخبث في طبعه وحد ذلك بالعشر لأمر
النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب الصبي على ترك الصلاة عندها والتفريق بينهم في المضاجع لبلوغها فاما من دون ذلك
فتكون هذه الأمور منه لضعف عقله وعدم تثبته وكذلك أن كان العبد يشرب الخمر أو يسكر من
النبيذ نص عليه أحمد لأنه يوجب عليه الحد فهو كالزنا وكذلك الحمق الشديد والاستطالة على الناس
لأنه يحتاج إلى التأديب وربما تكرر فأفضى إلى تلفه، ولا يكون عيبا إلا في الكبير دون الصغير لأنه منسوب
إلى فعله، وعدم الختان ليس بعيب في الصغير لأنه لم يفت وقته ولا في الأمة الكبيرة وبهذا قال الشافعي،
وقال أصحاب أبي حنيفة هو عيب فيها لأنه زيادة ألم فأشبهت العبد، ولنا أنه ليس بواجب في حقها
والألم فيه يسير لا يخشى منه التلف بخلاف العبد الكبير فأما العبد الكبير فإن كان مجلوبا من الكفار فليس
ذلك بعيب فيه لأن العادة انهم لا يختتنون فصار ذلك معلوما عند المشتري فهو كدينهم وإن كان مسلما
مولدا فهو عيب لأنه يخشى عليه منه وهو خلاف العادة.
(فصل) والثيوبة ليست عيبا لأن الغالب على الجواري الثيوبة فالاطلاق لا يقتضي خلافها، وكونها
محرمة على المشتري بنسب أو رضاع ليس بعيب إذ ليس في المحل ما يوجب خللا في المالية ولا نقصا
وإنما التحريم مختص به وكذلك الاحرام والصيام لأنهما يزولان قريبا، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي
ولا نعلم لهما مخالف وكذلك عدة البائن وأما عدة الرجعية فهي عيب لأن الرجعية زوجة ولا يؤمن ارتجاعه لها
ومعرفة الغناء والحجامة ليست بعيب وحكي عن مالك في الجارية المغنية أن ذلك عيب فيها لأن
الغناء محرم، ولنا أن هذا ليس بنقص في عينها ولا قيمتها فلم يكن عيبا كالصناعة ولا نسلم ان الغناء
محرم وان سلمناه فالمحرم استعماله لا معرفته، والعسر ليس بعيب وكان شريح يرد به، ولنا أنه ليس بنقص
وعمله بإحدى يديه يقوم مقام عمله بالأخرى، والكفر ليس بعيب وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة
هو عيب لأنه نقص بدليل قول الله تعالى (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم)
ولنا أن العبيد يكون فيهم المسلم والكافر والأصل فيهم الكفر فالاطلاق لا يقتضي خلاف ذلك
وكون المؤمن خيرا من الكافر لا يقتضي كون الكافر عيبا كما أن المتقي خير من غيره قال الله تعالى
(ان أكرمكم عند الله أتقاكم) وليس عدم ذلك عيبا، وكونه ولد زنا ليس بعيب وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة هو عيب في الجارية لأنها تراد للافتراش بخلاف العبد، ولنا أن النسب في الرقيق
غير مقصود بدليل انهم يشترون مجلوبين غير معروفي النسب، وكون الجارية لا تحسن الطبخ أو الخبز
أو نحو هذا ليس بعيب لأن هذه حرفة فلم يكن فواتها عيبا كسائر الصنائع، وكونها لا تحيض ليس بعيب
244

وقال الشافعي هو عيب إذا كان لكبر لأن من لا تحيض لا تحمل، ولنا ان الاطلاق لا يقتضى الحيض
ولا عدمه فلم يكن فواته عيبا كما لو كان لغير الكبر.
(فصل) وإذا اشترط المشتري في المبيع صفة مقصودة مما لا يعد فقده عيبا صح اشترطه وصارت
مستحقة يثبت له خيار الفسخ عند عدمها مثل أن يشترط مسلما فيبين كافرا أو يشترط الأمة بكرا
أو جعدة أو طباخة أو ذات صنعة أو لبن أو انها تحيض أو يشترط في الدابة أنها هملاجة أو في الفهد أنه
صيود وما أشبه هذا فمتى بان خلاف ما اشترطه فله الخيار في الفسخ والرجوع بالثمن أو الرضا به ولا
شئ له لا نعلم بينهم في هذا خلافا لأنه شرط وصفا مرغوبا فيه فصار بالشرط مستحقا
فاما ان شرط صفة غير مقصودة فبانت بخلافها مثل أن يشترطها سبطة فبانت جعدة أو جاهلة
فبانت عالمة فلا خيار له لأنه زاده خيرا، وان شرطها كافرة فبانت مسلمة أو ثيبا فبانت بكرا فله
الخيار لأن فيه قصدا صحيحا وهو أن طالب الكافرة أكثر لصلاحيتها للمسلمين وغيرهم أو ليستريح
من تكليفها العبادات وقد يشترط الثيب لعجزه عن البكر أو ليبيعها لعاجز عن البكر فقد فات قصده
وقيل لا خيار له لأن هذين زيادة، وهو قول الشافعي في البكر واختيار القاضي واستبعد كونه يقصد
الثيوبة لعجزه عن البكر وليس هذا ببعيد فإنه ممكن والاشتراط يدل عليه فيصير بالدليل قريبا،
وان شرط الشاة لبونا صح وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح لأنه لا يجوز بيع اللبن
في الضرع فلم يجز شرطه.
ولنا أنه أمر مقصود يتحقق في الحيوان ويأخذ قسطا من الثمن فصح اشتراطه كالصناعة في
الأمة والهملجة في الدابة وإنما لم يجز بيعه مفردا للجهالة والجهالة تسقط فيما كان بيعا وكذلك لو
اشتراها بغير شرط صح بيعها معه وكذلك يصح بيع أساسات الحيطان والنوى في التمر معه وإن لم
لم يجز بيعهما مفردين وإن شرط أنها تحلب كل يوم قدرا معلوما لم يصح لتعذر الوفاء به لأن اللبن
يختلف ولا يمكن ضبطه، وان شرطها غزيرة اللبن صح لأنه يمكن الوفاء به وان شرطها حاملا
صح، وقال القاضي قياس المذهب أنه لا يصح لأن الحمل لا حكم له ولهذا لا يصح اللعان على الحمل ويحتمل أنه ريح.
ولنا أنه صفة مقصودة يمكن الوفاء بها فصح شرطه كالصناعة وكونها لبونا وقد بينا فيما قبل أن
للحمل حكما ولذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها ومنع أخذ
الحوامل في الزكاة ومنع وطئ الحبالى المسبيات وجعل الله تعالى عدة الحامل وضع حملها وأرخص لها
الفطر في رمضان إذا خافت على ولدها ومنع من الاقتصاص منها وإقامة الحد عليها من أجل حملها
وظاهر الحديث المروي في اللعان يدل على أنه لاعنها في حال حملها فانتفى عنه ولدها، وإن شرط أنها
تضع الولد في وقت بعينه لم يصح وجها واحدا لأنه لا يمكن الوفاء به، وان شرط أنها لا تحمل لم يصح
الشرط لأنه لا يمكن الوفاء به، وقال مالك لا يصح في المرتفعات ويصح في غيرهن، ولنا أنه باعها
245

بشرط البراءة من الحمل فلم يصح كالمرتفعات، وان شرطها حائلا فبانت حاملا فإن كان ذلك في الأمة فهو عيب يثبت الفسخ به وإن كان في غيرها فهو زيادة لا يستحق به فسخا ويحتمل أن يستحق لأنه
قد يريدها لسفر أو لحمل شئ لا يتمكن منه مع الحمل، وان شرط البيض في الدجاجة فقد قيل لا يصح
لأنه لا علم عليه يعرف به ولم يثبت له في الشرع حكم، والأولى أنه يصح لأنه يعرف بالعادة فأشبه اشتراط
الشاة لبونا، وان اشترط الهزار أو القمري مصوتا فقال بعض أصحابنا لا يصح وبه قال أبو حنيفة
لأن صياح الطير يجوز أن يوجد ويجوز ان لا يوجد والأولى جوازه لأن فيه مقصدا صحيحا وهو عادة
له وخلقة فيه فأشبه الهملجة في الدابة والصيد في الفهد، وان شرط في الحمام أنه يجئ من مسافة
ذكرها فقال القاضي لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأن فيه تعذيبا للحيوان والقصد منه غير صحيح
وقال أبو الخطاب يصح لأن هذه عادة مستمرة وفيه قصد صحيح لتبليغ الاخبار وحمل الكتب فجرى
مجرى الصيد في الفهد والهملجة في الدابة، وان شرط في الجارية أنها مغنية لم يصح لأن الغناء مذموم
في الشرع فلم يصح اشتراطه كالزنا، وان شرط في الكبش كونه نطاحا وفي الديك كونه مقاتلا لم
يصح الشرط لأنه منهي عنه في الشرع فجرى الغناء في الجارية، وان شرط في الديك أنه يوقظه
للصلاة لم يصح لأنه لا يمكن الوفاء به وان شرط كونه يصيح في أوقات معلومة جرى مجرى اشتراط
التصويت في القمري على ما ذكرنا
(فصل) ولا يفتقر الرد بالعيب إلى رضا البائع ولا حضوره ولا حكم حاكم قبل القبض ولا بعده
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان قبل القبض افتقر إلى حضور صاحبه دون رضاه وإن كان
بعده افتقر إلى رضا صاحبه أو حكم حاكم لأن ملكه قد تم على الثمن فلا يزول الا برضاه، ولنا أنه
رفع عقد مستحق له فلم يفتقر إلى رضا صاحبه ولا حضوره كالطلاق ولأنه مستحق الرد بالعيب فلا
يفتقر إلى رضا صاحبه كقبل القبض
{مسألة} قال (ولو باع المشتري بعضها ثم ظهر على عيب كان مخيرا بين أن يرد ملكه
منها بمقداره من الثمن أو يأخذ أرش العيب بقدر ملكه فيها)
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (منها) أنه إذا اشترى معيبا فباعه سقط رده لأنه قد زال
ملكه عنه فإن عاد إليه فأراد رده بالعيب الأول نظرنا فإن كان باعه عالما بالعيب أو وجد منه ما يدل على
رضاه به فليس له رده لأن تصرفه رضا بالعيب وان لم يكن علم بالعيب فله رده على بائعه، وبهذا قال
الشافعي وقال أبو حنيفة ليس له رده الا أن يكون المشتري فسخ بحكم الحاكم لأنه سقط حقه من الرد
ببيعه فأشبه ما لو علم بعيبه، ولنا أنه أمكنه استدراك ظلامته برده فملك ذلك كما لو فسخ الثاني بحكم
حاكم أو كما لو لم يزل ملكه عنه ولا نسلم سقوط حقه وإنما امتنع لعجزه عن رده فإذا عاد إليه زال المانع
فظهر جواز الرد كما لو امتنع الرد لغيبة البائع أو لمعنى سواه وسواء رجع إلى المشتري الأول بالعيب
246

الأول أو بإقالة أو هبة أو شراء ثان أو ميراث في ظاهر كلام القاضي، وقال أصحاب الشافعي إن
رجع بغير الفسخ بالعيب الأول ففيه وجهان (أحدهما) ليس له رده لأنه استدرك ظلامته ببيعه ولم
يزل بفسخه، ولنا أن سبب استحقاق الرد قائم وإنما امتنع لتعذره بزوال ملكه فإذا زال المانع وجب
أن يجوز الرد كما لو رد عليه بالعيب، فعلى هذا إذا باعها المشتري لبائعها الأول فوجد بها عيبا كان موجودا
حال العقد الأول فله الرد على البائع الثاني ثم للثاني رده عليه وفائدة الرد ههنا اختلاف اليمنين
فإنه قد يكون الثمن الثاني أكثر
(الفصل الثاني) انه إذا باع المعيب ثم أراد أخذ أرشه فظاهر كلام الخرقي أنه لا أرش له سواء
باعه عالما بعيبه أو غير عالم، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن امتناع الرد كان بفعله فأشبه ما
لو أتلف المبيع ولأنه قد استدرك ظلامته ببيعه فلم يكن له أرش كما لو زال العيب، وقال القاضي ان
باعه مع علمه بالعيب فلا أرش له لرضاه به معيبا، وإن باعه غير عالم بالعيب فله الأرش نص عليه أحمد
لأن البائع لم يوفه ما أوجبه له العقد ولم يوجد منه الرضا به ناقصا فكان له الرجوع عليه كما لو أعتقه
وقياس المذهب أن له الأرش بكل حال سواء باعه عالما بعيبه أو جاهلا به لأننا خيرناه ابتداء بين
رده وإمساكه وأخذ الأرش فبيعه والتصرف فيه بمنزلة امساكه ولان الأرش عوض الجزء الفائت
من المبيع فلم يسقط ببيعه ولا رضاه كما لو باعه عشرة أقفزة وسلم إليه تسعة فباعها المشتري وقولهم إنه
استدرك ظلامته لا يصح فإن ظلامته من البائع ولم يستدركها منه وإنما ظلم المشتري فلم يسقط حقه
بذلك من الظالم له وهذا هو الصحيح من قول مالك، وذكر أبو الخطاب عن أحمد في رجوع بائع
المعيب بالأرش روايتين من غير تفريق بين علم البائع بالعيب وجهله به وعلى قول من قال لا يستحق
الأرش فإذا علم به المشتري الثاني فرده به أو أخذ أرشه منه فللأول أخذ أرشه، وهو قول الشافعي
إذا امتنع على المشتري الثاني رده بعيب حدث عنده لأنه لم يستدرك ظلامته وكل واحد من المشتريين
يرجع بحصة العيب من الثمن الذي اشتراه به على ما ذكرناه فيما تقدم
(الفصل الثالث) إذا باع المشتري بعض المعيب ثم ظهر على عيب فله الأرش لما بقي في يده من
المبيع وفي الأرش لما باعه ما ذكرنا من الخلاف فيما إذا باع الجميع، و ان أراد رد الباقي بحصته من
الثمن فالذي ذكره الخرقي ههنا أن له ذلك وقد نص عليه أحمد، والصحيح أنه إن كان المبيع عينا واحدة
أو عينين ينقصهما التفريق كمصراعي باب وزوجي خف أنه لا يملك الرد لما فيه من الضرر على البائع
بنقص القيمة أو ضرر الشركة وامتناع الانتفاع بها على الكمال كإباحة الوطئ والاستخدام وبهذا
قال شريح والشعبي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقد ذكر أصحابنا في غير هذا الموضع
فيما إذا كان المبيع عينين ينقصهما التفريق انه لا يجوز رد إحداهما دون الأخرى لما فيه من الضرر،
وفيما لو اشترى معيبا فتعيب عنده انه لا يملك رده إلا أن يرد أرش العيب عنده فلا يجوز ان يرده
في مسئلتنا معيبا بعيب الشركة أو نقص القيمة بغير شئ إلا أن يكون الخرقي أراد ما إذا دلس البائع
247

العيب فإن ذلك عنده لا يسقط عن المشتري ضمان ما حدث عنده من العيب على ما ذكرنا فيما مضى، وإن
كان المبيع عينين لا ينقصهما التفريق فباع أحداهما ثم وجد بالأخرى عيبا أو علم أنهما كانتا معيبتين فهل
له رد الباقية في ملكه؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة، وقال القاضي المسألة مبنية على تفريق
الصفقة سواء كان المبيع عينا واحدة أو عينين والتفصيل الذي ذكرنا أولى
(فصل) وان اشترى عينين فوجد بأحدهما عيبا وكانا مما لا ينقصهما التفريق أو مما لا يجوز التفريق
بينهما كالولد مع أمه فليس له الا ردهما جميعا أو امساكهما وأخذ الأرش وان لم يكونا كذلك ففيهما
روايتان (إحداهما) ليس له الا ردهما أو أخذ الأرش مع امساكهما وهو ظاهر قول الشافعي وقول
أبي حنيفة فيما قبل القبض لأن الرد يبعض الصفقة من المشتري فلم يكن له ذلك كما لو كانا مما ينقصه
التفريق (والثانية) له رد المعيب وامساك الصحيح وهذا قول الحارث العكلي والأوزاعي وإسحاق
وهو قول أبي حنيفة فيما بعد القبض لأنه رد المعيب على وجه لا ضرر فيه على البائع فجاز كما لورد الجميع
وفارق ما ينقص بالتفريق فإن فيه ضررا، وان تلف أحد المبيعين أو تعيب أو وجد بالآخر أو بهما
عيبا فأراد رده فالحكم فيه على ما ذكرنا من التفصيل والخلاف، وإن اختلفا في قيمة التالف فالقول
قول المشتري مع يمينه لأنه منكر لما يدعيه البائع من زيادة قيمته ولأنه بمنزلة الغارم لأن قيمة التالف إذا
زادت زاد قدر ما يغرمه فهو بمنزلة المستعير والغاصب، فأما إن كان المبيعان باقيين معيبين لم يوجد في
أحدهما ما يمنع رده فأراد رد أحدهما دون الآخر فقال القاضي ليس له ذلك ولم يذكر فيه سوى المنع
من رد أحدهما والقياس أنها كالتي قبلها إذا لو كان امساك أحدهما مانعا من الرد فيما إذا كانا معيبين
لمنع منه إذا كان صحيحا
(فصل) إذا اشترى اثنان شيئا فوجداه معيبا أو اشترطا الخيار فرضي أحدهما ففيه روايتان عن أحمد
حكاهما أبو بكر وابن أبي موسى (إحداهما) لمن لم يرض الفسخ وبه قال ابن أبي ليلى والشافعي
وأبو يوسف ومحمد وهو إحدى الروايتين عن مالك (والأخرى) لا يجوز له رده وهو قول أبي حنيفة
وأبي ثور لأن المبيع خرج عن ملكه دفعة واحدة غير متشقص فإذا رده مشتركا رده ناقصا أشبه
ما لو تعيب عنده. ووجه الأولى أنه رد جميع ما ملكه بالعقد فجاز كما لو انفرد بشرائه، والشركة
إنما حصلت بايجاب البائع لأنه باع كل واحد منهما نصفها فخرجت عن ملك البائع مشقصة بخلاف العيب الحادث
(فصل) وإذا ورث اثنان عن أبيهما خيار عيب فرضي أحدهما سقط حق الآخر من الرد لأنه
لو رد وحده تشقصت السلعة على البائع فتضرر بذلك وإنما أخرجها عن ملكه إلى واحد غير مشقصة
فلا يجوز رد بعضها إليه مشقصا بخلاف المسألة التي قبلها فإن عقد الواحد مع الاثنين عقدان فكأنه باع
كل واحد منهما نصفها منفردا فرد عليه أحدهما جميع ما باعه إياه وههنا بخلافه
(فصل) ولو اشترى رجل من رجلين شيئا فوجده معيبا فله رده عليهما فإن كان أحدهما غائبا
رد على الحاضر حصته بقسطها من الثمن ويبقى نصيب الغائب في يده حتى يقدم، ولو كان أحدهما باع العين
248

كلها بوكالة الآخر فالحكم كذلك سواء أكان الحاضر الوكيل أو الموكل نص أحمد على قريب من هذا
فإن أراد رد نصيب أحدهما وامساك نصيب الآخر جاز لأنه يرد على البائع جميع ما باعه ولا يحصل
برده تشقيص لأن المبيع كان مشقصا قبل البيع
(فصل) فإن اشترى حلي فضه بوزنه دراهم فوجده معيبا فله رده وليس له أخذ الأرش لافضائه
إلى التفاضل فيما يجب التماثل فيه فإن حدث به عيب عند المشتري فعلى إحدى الروايتين يرده ويرد
أرش العيب الحادث عنده ويأخذ ثمنه، وقال القاضي لا يجوز له رده لافضائه إلى التفاضل فلا يصح لأن
الرد فسخ للعقد ورفع له فلا تبقى المعاوضة وإنما يدفع الأرش عوضا عن العيب الحادث عنده بمنزلة
ما لو جنى عليه في ملك صاحبه من غير بيع وكما لو فسخ الحاكم عليه وعلى الرواية الأخرى يفسخ الحاكم
البيع ويرد البائع الثمن ويطالب بقيمة الحلي لأنه لم يمكن اهمال العيب ولا أخذ الأرش ولأصحاب الشافعي
وجهان كهاتين الروايتين، وان تلف الحلي فإنه يفسخ العقد ويرد قيمته ويسترجع الثمن فإن تلف المبيع
لا يمنع جواز الفسخ، وعندي أن الحاكم إذا فسخ وجب رد الحلي وأرش نقصه كما قلنا فيما إذا فسخ
المشتري على الرواية الأخرى، وإنما يرجع إلى قيمته عند تعذر رده بتلف أو عجز وليس في رده ورد أرشه
تفاضل لأن المعاوضة زالت بالفسخ فلم يبق له مقابل وإنما هذا الأرش بمنزلة أرش الجناية عليه، ولان
قيمته إذا زادت على وزنه أو نقصت عنه أفضى إلى التفاضل لأن قيمته عوض عنه فلا يجوز ذلك الا أن
يأخذ قيمته من غير جنسه، ولو باع قفيزا مما فيه الربا بمثله فوجد أحدهما بما أخذه عيبا ينقص
قيمته دون كيله لم يملك أخذ أرشه لئلا يفضي إلى التفاضل، والحكم فيه على ما ذكرناه في الحلي بالدراهم
{مسألة} قال (وان ظهر على عيب بعد اعتاقه لها أو موتها في ملكه فله الأرش)
وجملته أنه إذا زال ملك المشتري عن المبيع بعتق أو وقف أو موت أو قتل أو تعذر الرد لاستيلاد
ونحوه قبل علمه بالعيب فله الأرش وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي إلا أن أبا حنيفة قال في المقتول
خاصة لا أرش له لأنه زال ملكه بفعل مضمون أشبه البيع
ولنا أنه عيب لم يرض به ولم يستدرك ظلامته فيه فكان له الأرش كما لو أعتقه، والبيع لنا فيه منع
ومع تسليمه فإنه استدرك ظلامته فيه، وأما الهبة فعن أحمد فيها روايتان (إحداهما) أنها كالبيع لأنه لم
ييئس من امكان الرد لاحتمال رجوع الموهوب إليه (والثانية) له الأرش وهي أولى ولم يذكر القاضي
غيرها لأنه ما استدرك ظلامته فأشبه ما لو وقفه، وامكان الرد ليس بمانع من أخذ الأرش عندنا بدليل
ما قبل الهبة، وان أكل الطعام أو لبس الثوب فأتلفه رجع بأرشه وبهذا قال أبو يوسف ومحمد، وقال
أبو حنيفة لا يرجع بشئ لأنه أهلك العين فأشبه ما لو قتل العبد. ولنا أنه ما استدرك ظلامته ولا رضي
بالعيب فلم يسقط حقه من الأرش كما لو تلف بفعل الله تعالى
(فصل) وان فعل شيئا مما ذكرناه بعد علمه بالعيب فمفهوم كلام الخرقي أنه لا أرش له وهو
249

مذهب أبي حنيفة والشافعي وهو قياس قول القاضي لقوله فيمن باع المعيب عالما بعيبه ليس له أرش
لأنه رضي به معيبا بتصرفه فيه مع علمه بعيبه، وقياس المذهب أن له الأرش لأن له امساك المبيع
والمطالبة بأرشه وهذا يتنزل منزلة إمساكه مع العلم بعيبه، ولان البائع لم يوفه ما أوجبه العقد فكان له
الرجوع بأرشه كما لو أعتقه قبل علمه بعيبه ولان الأرش عوض الجزء الفائت بالعيب فلم يسقط بتصرفه
فيما سواه كما لو باعه عشرة أقفزة فأقبضه تسعة فتصرف فيها
(فصل) فإن استغل المبيع أو عرضه على البيع أو تصرف فيه تصرفا دالا على الرضا به قبل علمه
بالعيب لم يسقط خياره لأن ذلك لا يدل على الرضا به معيبا وان فعله بعد علمه بعيبه بطل خياره في
قول عامة أهل العلم. قال ابن المنذر وكان الحسن وشريح وعبد الله بن الحسن وابن أبي ليلى والثوري
وأصحاب الرأي يقولون إذا اشترى سلعة فعرضها على البيع لزمته، وهذا قول الشافعي ولا أعلم فيه
خلافا فاما الأرش فقال ابن أبي موسى لا يستحقه أيضا، وقد ذكرنا أن قياس المذهب استحقاق الأرش قال أحمد أنا أقول: إذا استخدم العبد وأراد نقصان العيب فله ذلك، فأما ان احتلب اللبن
الحادث بعد العقد لم يسقط رده لأن اللبن له فملك استيفاءه من المبيع الذي يريد رده، وكذلك أن
ركب الدابة لينظر سيرها أو ليسقيها أو ليردها على بائعها، وان استخدم الأمة ليختبرها أو لبس
القميص ليعرف قدره لم يسقط خياره لأن ذلك ليس برضا بالمبيع ولهذا لا يسقط به خيار الشرط، وان
استخدمها لغير ذلك استخداما كثيرا بطل رده، فإن كانت يسيرة لا تختص الملك لم يبطل الخيار، قيل
لأحمد ان هؤلاء يقولون إذا اشترى عبدا فوجده معيبا فاستخدمه بأن يقول ناولني هذا الثوب يعني
بطل خياره فأنكر ذلك وقال من قال هذا أو من أين اخذوا هذا؟ ليس هذا برضا حتى يكون شئ
يبين، وقد نقل عنه في بطلان الخيار بالاستخدام روايتان وكذلك يخرج ههنا
(فصل) وان أبق العبد ثم علم عيبه فله اخذ أرشه فإن اخذه ثمن قدر على العبد فإن لم يكن معروف
الا باق قبل البيع فقد تعيب عند المشتري فهل يملك رده ورد أرش العيب الحادث عنده والأرش
الذي اخذه على روايتين، وإن كان آبقا فله رده ورد ما اخذه من الأرش واخذ ثمنه، وقال الثوري والشافعي
ليس للمشتري أخذ أرشه سواء قدر على رده أو عجز عنه إلا أن يهلك لأنه لم ييأس من رده فهو كما لو باعه، ولنا انه معيب لم يرض به ولم يستدرك ظلامته فيه فكان له أرشه كما لو أعتقه وفي البيع استدرك ظلامته بخلاف مسئلتنا
(فصل) وإذا اشترى عبدا فاعتقه ثم علم به عيبا فأخذ أرشه فهو له، وعن أحمد رواية أخرى
انه يجعله في الرقاب وهو قول الشافعي لأنه من جملة الرقبة التي جعلها الله فلا يرجع إليه شئ من بدلها،
ولنا ان العتق إنما صادف الرقبة المعيبة والجزء الذي اخذ بدله ما تناوله عتق ولا كان موجودا ولان
الأرش ليس بدلا عن العبد إنما هو جزء من الثمن جعل مقابلا للجزء الفائت فلما لم يحصل ذلك الجزء
من المبيع رجع بقدره من الثمن فكأنه لم يصح العقد فيه ولهذا رجع بقدره من الثمن لا من قيمة العبد
وكلام احمد في الرواية الأخرى يحمل على استحباب ذلك لا على وجوبه قال القاضي إنما الروايتان فيما
250

إذا أعتقه عن كفارته لأنه إذا أعتقه عن الكفارة لا يجوز ان يرجع إليه بشئ من بدلها كالمكاتب إذا
أدى من كتابته شيئا. ولنا انه أرش عبد أعتقه فكان له كما لو تبرع بعتقه
{مسألة} قال (فإن ظهر على عيب يمكن حدوثه قبل الشراء أو بعده حلف المشتري
وكان له الرد أو الأرش)
وجملة ذلك أن المتبايعين إذا اختلفا في العيب هل كان في المبيع قبل العقد أو حدث عند المشتري؟
لم يخل من قسمين (أحدهما) أن لا يحتمل إلا قول أحدهما كالإصبع الزائدة والشجة المندملة التي
لا يمكن حدوث مثلها والجرح الطري الذي لا يحتمل كونه قديما فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين لأننا
نعلم صدقه وكذب خصمه فلا حاجة إلى استحلافه (والثاني) أن يحتمل قول كل واحد منهما كالخرق
في الثوب والرفو ونحوهما ففيه روايتان (إحداهما) القول قول المشتري فيحلف بالله أنه اشتراه وبه
هذا العيب أو أنه ما حدث عنده ويكون له الخيار لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت واستحقاق
ما يقابله من الثمن ولزوم العقد في حقه فكان القول قول من ينفي ذلك كما لو اختلفا في قبض البيع
(والثانية) القول قول البائع مع يمينه فيحلف على حسب جوابه إن أجاب أنني بعته بريئا من العيب حلف
على ذلك، وان أجاب بأنه لا يستحق علي ما يدعيه من الرد حلف على ذلك، ويمينه على البت لا على نفي
العلم، لأن الايمان كلها على البت لا على نفي فعل الغير وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأن الأصل سلامة
المبيع وصحة العقد ولان المشتري يدعي عليه استحقاق فسخ البيع وهو ينكره والقول قول المنكر
(فصل) وإذا باع الوكيل ثم ظهر المشتري على عيب كان به فله رده على الموكل لأن المبيع يرد
بالعيب على من كان له فإن كان العيب مما يمكن حدوثه فأقر به الوكيل وأنكره الموكل فقال أبو الخطاب
يقبل اقراره على موكله بالعيب لأنه أمر يستحق به الرد فيقبل اقرار الوكيل على موكله كخيار
الشرط، وقال أصحاب أبي حنيفة والشافعي لا يقبل اقرار الوكيل بذلك وهو أصح لأنه اقرار على
الغير فلم يقبل كالأجنبي، فإذا رده المشتري على الوكيل لم يملك الوكيل رده على الموكل لأنه رده باقراره
وهو غير مقبول على غيره ذكره القاضي، فإن أنكره الوكيل فتوجهت اليمين عليه فنكل عنها فرد عليه
بنكوله فهل له رده على الموكل؟ على وجهين (أحدهما) ليس له رده لأن ذلك يجرى مجرى إقراره
(والثاني) له رده لأنه يرجع إليه بغير اختيار أشبه ما لو قامت به بينة
(فصل) ولو اشترى جارية على أنها بكر ثم قال المشتري إنما هي ثيب أريت النساء الثقات،
ويقبل قول امرأة ثقة فإن وطئها المشتري وقال ما أصبتها بكرا خرج فيه وجهان بناء على الروايتين
فيما إذا اختلفا في العيب الحادث
(فصل) وان رد المشتري السلعة بعيب فيها فأنكر البائع كونها سلعته فالقول قول البائع مع يمينه وبه
قال أبو ثور وأصحاب الرأي ونحوه قال الأوزاعي فإنه قال فيمن صرف دراهم بدنانير ثم رجع بدرهم
251

فقال الصيرفي ليس هذا درهمي يحلف الصيرفي بالله لقد وفيتكه ويبرأ لأن البائع منكر كون هذه سلعته
ومنكر لاستحقاق الفسخ والقول قول المنكر، فأما ان جاء ليرد السلعة بخيار فأنكر البائع أنها سلعته فحكى
ابن المنذر عن أحمد ان القول قول المشتري وهو قول الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي لأنهما اتفقا
على استحقاق فسخ العقد والرد بالعيب بخلافه
[مسألة] قال (وإذا اشترى شيئا مأكوله في جوفه فكسره فوجده فاسدا فإن لم
يكن لمكسوره قيمة كبيض الدجاج رجع بالثمن على البائع وإن كان لمكسوره قيمة
كجوز الهند فهو مخير في الرد وأخذ الثمن وعليه أرش الكسر أو يأخذ ما بين صحيحه ومعيبه)
وجملة ذلك أنه إذا اشترى ما لا يطلع على عيبه الا بكسره كالبطيخ والرمان والجوز والبيض
وكسره فبان عيبه ففيه روايتان (إحداهما) لا يرجع على البائع بشئ وهو مذهب مالك لأنه ليس من
البائع تدليس ولا تفريط لعدم معرفته بعيبه وكونه لا يمكنه الوقوف عليه الا بكسره فجرى مجرى
البراءة من العيوب (والثانية) يرجع عليه وهي ظاهر المذهب وقول أبي حنيفة والشافعي لأن عقد البيع
اقتضى السلامة من عيب لم يطلع عليه المشتري، فإذا بان معيبا ثبت له الخيار، ولان البائع إنما
يستحق ثمن المعيب دون الصحيح لأنه لم يملكه صحيحا فلا معنى لايجاب الثمن كله، وكونه لم يفرط
لا يقتضي أن يجب له ثمن ما لم يسلمه بدليل العيب الذي لم يعلمه في العبد. إذا ثبت هذا فإن المبيع إن
كان مما لا قيمة له مكسورا كبيض الدجاج الفاسد والرمان الأسود والجوز الخرب والبطيخ التالف رجع
بالثمن كله لأن هذا تبين به فساد العقد من أصله لكونه وقع على ما لا نفع فيه ولا يصح بيع مالا نفع فيه
كالحشرات والميتات وليس عليه أن يرد المبيع إلى البائع لأنه لا فائدة فيه (الثاني) أن يكون مما لمعيبه
قيمة كجوز الهند وبيض النعام والبطيخ الذي فيه نفع ونحوه فإذا كسره نظرت فإن كان كسرا
لا يمكن استعلام المبيع بدونه فالمشتري مخير بين رده ورد أرش الكسر وأخذ الثمن وبين اخذ أرش
عيبه وهو قسط ما بين صحيحه ومعيبه وهذا ظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي عندي لا أرش عليه
لكسره لأن ذلك حصل بطريق استعلام العيب والبائع سلطه عليه حيث علم أنه لا تعلم له صحته من فساده
بغير ذلك وهذا قول الشافعي ووجه قول الخرقي أنه نقص لم يمنع الرد فلزم رد أرشه كلبن المصراة إذا
حلبها والبكر إذا وطئها، وبهذين الأصلين يبطل ما ذكره فإنه لاستعلام العيب، والبائع سلطه عليه بل
ههنا أولى لأنه تدليس من البائع والتصرية حصلت بتدليسه، وإن كان كسرا يمكن استعلام المبيع بدونه
الا أنه لا يتلف المبيع بالكلية فالحكم فيه كالذي قبله في قول الخرقي وهو قول القاضي أيضا والمشتري
مخير بين رده وأرش الكسر وأخذ الثمن وبين أخذ أرش العيب وهو إحدى الروايتين عن أحمد،
والرواية الثانية ليس له رده وله أرش العيب وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم
252

وان كسره كسرا لا يبقي له قيمة فله أرش العيب لا غير لأنه أتلفه، وقدر أرش العيب قسط
ما بين الصحيح والمعيب من الثمن فيقوم المبيع صحيحا ثم يقوم معيبا غير مكسور فيكون للمشتري قدر
ما بينهما من الثمن على ما مضى شرحه
(فصل) ولو اشترى ثوبا فنشره فوجده معيبا فإن كان مما لا ينقصه النشر رده وإن كان ينقصه النشر
كالهسنجاني الذي يطوى طاقين ملتصقين جرى ذلك مجرى جوز الهند على التفصيل المذكور فيما إذا لم
يزد على ما يحصل به استعلام المبيع أو زاد كنشر من لا يعرف، وان أحب أخذ أرشه فله ذلك بكل حال
(فصل) إذا اشترى ثوبا فصبغه ثم ظهر على عيب فله أرشه لا غير وبهذا قال أبو حنيفة وعن أحمد
أن له رده وأخذ زيادته بالصبغ لأنها زيادة فلا تمنع الرد كالسمن والكسب والأول أولى لأن هذا
معاوضة فلا يجبر البائع على قبولها كسائر المعاوضات وفارق السمن والكسب فإنه لا يأخذ عن
السمن عوضا والكسب للمشتري لا يرده ولا يعاوض عنه، وان قال البائع أنا آخذه وأعطي قيمة الصبغ
لم يلزم المشتري ذلك، وقال الشافعي ليس للمشتري إلا رده لأنه أمكنه رده فلم يملك أخذ الأرش كما لو
سمن عبده أو كسب. ولنا أنه لا يمكنه رده الا برد شئ من ماله معه فلم يسقط حقه من الأرش بامتناعه
من رده كما لو تعيب عنده وطلب البائع أخذه مع أرش العيب الحادث والأصل لا نسلمه فإنه يستحق
أخذ الأرش إذا أراده بكل حال
(فصل) يصح بيع العبد الجاني سواء كانت الجناية عمدا أو خطأ على النفس وما دونها موجبة للقصاص
أو غير موجبة له وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر لا يصح بيعه لأنه
تعلق برقبته حق آدمي فمنع صحة بيعه كالرهن بل حق الجناية آكد لأنها تقدم على حق المرتهن
ولنا أنه حق غير مستقر في الجاني يملك أداءه من غيره فلم يمنع البيع كالزكاة أو حق يثبت بغير رضا
سيده فلم يمنع بيعه كالدين في ذمته أو تصرف في الجاني فجاز كالعتق، وإن كان الحق قصاصا فهو ترحى
سلامته ويخشى تلفه فأشبه المريض، أما الرهن فإن الحق متعين فيه لا يملك سيده ابداله ثبت الحق فيه
برضاه وثيقة للدين فلو أبطله بالبيع سقط حق الوثيقة الذي التزمه برضاه واختياره، إذا ثبت هذا فمتى
باعه وكانت الجناية موجبة للمال أو القود فعفي عنه إلى مال فعلى السيد فداؤه بأقل الامرين من قيمته
أو أرش جنايته ويزول الحق عن رقبة العبد ببيعه لأن للسيد الخيرة بين تسليمه وفدائه فإن باعه تعين
عليه فداؤه لاخراج العبد من ملكه ولا خيار للمشتري لعدم الضرر عليه إذ الرجوع على غيره، هذا
إذا كان السيد موسرا، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يلزم السيد فداؤه لأن أكثر ما فيه أنه التزم
فداءه فلا يلزمه ذلك كما لو قال الراهن أنا أقضي الدين من الرهن
ولنا أنه زال ملكه عن الجاني فلزمه فداؤه كما لو قتله بخلاف الرهن وبهذا قال أبو حنيفة، وإن كان
البائع معسرا لم يسقط حق المجني عليه من رقبة الجاني لأن البائع إنما يملك نقل حقه عن رقبته بفدائه
أو ما يقوم مقامه ولا يحصل ذلك في ذمة المعسر فيبقى الحق في رقبته بحاله مقدما على حق المشتري وللمشتري
253

خيار الفسخ إن كان غير عالم ببقاء الحق في رقبته فإن فسخ رجع بالثمن وان لم يفسخ وكانت الجناية مستوعبة
لرقبة العبد فأخذ بها رجع المشتري بالثمن أيضا لأن أرش مثل هذا جميع ثمنه وان كانت غير مستوعبة لرقبته
رجع بقدر أرشه وإن كان عالما بعيبه راضيا بتعلق الحق به لم يرجع بشئ لأنه اشترى معيبا عالما بعيبه
فإن اختار المشتري فداؤه فله ذلك والبيع بحالة لأنه يقوم مقام البائع في الخيرة بين تسليمه وفدائه
وحكمه في الرجوع بما فداه به على البائع حكم قضاء الدين عنه، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص
فللمشتري الخيار بين الرد وأخذ الأرش فإن اقتص منه تعين الأرش وهو قسط قيمة ما بينه جانيا
وغير جان ولا يبطل البيع من أصله وبهذا قال أصحاب الشافعي، وقال أبو حنيفة والشافعي يرجع بجميع
الثمن لأن تلفه كان بمعنى استحق عند البائع فجرى مجرى اتلافه إياه، ولنا أنه تلف عند المشتري
بالعيب الذي كان فيه فلم يوجب الرجوع بجميع الثمن كما لو كان مريضا فمات بدائه أو مرتدا فقتل
بردته وما ذكروه منتقض بما ذكرناه ولا يصح قياسهم على اتلافه لأنه لم يتلفه فما اشتركا في المقتضي،
ولو كانت الجناية موجبة لقطع يده فقطعت عند المشتري فقد تعيب في يده لأن استحقاق القطع دون
حقيقته فهل يمنع ذلك رده بعيبه؟ على روايتين ومتى اشتراه عالما بعيبه لم يكن له رده ولا أرش كسائر
المعيبات، وهذا قول الشافعي.
(فصل) وحكم المرتد حكم القاتل في صحة بيعه وسائر أحكامه المذكورة فيه فإن قتله غير متحتم
لاحتمال رجوعه إلى الاسلام وكذلك القاتل في المحاربة إذا تاب قبل القدرة عليه فإن لم يتب حتى
قدر عليه فقال أبو الخطاب هو كالقاتل في غير محاربة لأنه عبد قن يصح اعتاقه ويملك استخدامه
فصح بيعه كغير القاتل ولأنه يمكنه الانتفاع به إلى حال قتله ويعتقه فينجز به ولاء أولاده فجاز بيعه
كالمريض المأيوس من برئه، وقال القاضي لا يصح بيعه لأنه تحتم قتله وإتلافه وإذهاب ماليته وحرم
ابقاؤه فصار بمنزلة مالا نفع فيه من الحشرات والميتات وهذه المنفعة اليسيرة مفضية به إلى قتله لا يتمهد
بها محلا للبيع كالمنفعة الحاصلة من الميتة لسد ثبق أو اطعام كلب والأول أصح فإنه كان محلا للبيع
والأصل بقاء ذلك فيه وانحتام اتلافه لا يجعله تالفا بدليل أن أحكام الحياة من التكليف وغيره لا
تسقط عنه ولا تثبت أحكام الموتى له من ارث ماله ونفوذ وصيته وغيرها ولان خروجه عن حكم
الأصل لا يثبت الا بدليل ولا نص في هذا ولا إجماع ولا يصح قياسه على الحشرات والميتات لأن تلك
لم تكن فيها منفعة فيما مضى ولا في الحال وعلى أن هذا التحتم يمكن زواله لزوال ما ثبت به من الرجوع
عن الاقرار وإن كان ثبت به أو رجوع البينة، ولو لم يمكن زواله فأكثر ما فيه تحقق تلفه وذلك يجعله
كالمريض المأيوس من برئه وبيعه جائز
{مسألة} قال (ومن باع عبدا وله مال فماله للبائع الا أن يشترطه المبتاع إذا كان
قصده للعبد لا للمال)
254

وجملة ذلك أن السيد إذا باع عبده أو جاريته وله مال ملكه إياه مولاه أو خصه به فهو للبائع لما
روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع "
رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة ولان العبد وماله للبائع فإذا باع العبد اختص البيع به دون غيره كما لو
كان له عبدان فباع أحدهما، وان اشترطه المبتاع كان له للخبر وروى ذلك نافع عن ابن عمر عن عمر
ابن الخطاب رضي الله عنه وقضى به شريح وبه قال عطاء وطاوس ومالك والشافعي وإسحاق، قال الخرقي:
إذا كان قصده لعبد لا للمال هذا منصوص أحمد وهو قول الشافعي وأبي ثور والبتي ومعناه انه لا يقصد بالبيع
شراء مال العبد إنما يقصد بقاء المال لعبده واقراره في يده فمتى كان كذلك صح اشتراطه ودخل في
البيع به سواء كان المال معلوما أو مجهولا من جنس الثمن أو من غيره عينا كان أو دينا وسواء كان
مثل الثمن أو أقل أو أكثر، قال البتي: إذا باع عبدا بألف درهم ومعه ألف درهم فالبيع جائز إذا
كان رغبة المبتاع في العبد لافي الدراهم وذلك لأنه دخل في البيع تبعا غير مقصود فأشبه أساسات
الحيطان والتمويه بالذهب في السقوف، فأما إن كان المال مقصودا بالشراء جاز اشتراطه إذا وجدت
فيه شرائط البيع من العلم به وأن لا يكون بينه وبين الثمن ربا كما يعتبر ذلك في العينين المبيعتين لأنه
مبيع مقصود فأشبه ما لو ضم إلى العبد عينا أخرى وباعهما، وقال القاضي هذا ينبني على كون العبد يملك أو
لا يملك فإن قلنا لا يملك فاشترط المشتري ماله صار مبيعا فاشترط فيه ما يشترط في سائر المبيعات وهذا
مذهب أبي حنيفة، وان قلنا يملك احتملت فيه الجهالة وغيرها مما ذكرنا من قبل لأنه تبع في البيت
لا أصل فأشبه طي الآبار وهذا نص أحمد. وقول الخرقي لأنهما جعلا الشرط الذي يختلف
الحكم به قصد المشتري دون غيره وهو أصح إن شاء الله تعالى، واحتمال الجهالة فيه لكونه غير مقصود
كما ذكرنا وكاللبن في ضرع الشاة المبيعة والحمل في بطنها والصوف على ظهرها وأشباه ذلك فإنه مبيع،
ويحتمل فيه الجهالة وغيرها لما ذكرنا وقد قيل إن المال ليس بمبيع ههنا وإنما استبقاه المشتري على ملك
العبد لا يزول عنه إلى البائع وهو قريب من الأول
(فصل) وإذا اشترى عبدا واشترط ماله ثم رد العبد بعيب أو خيار أو إقالة رد ماله معه، وقال
داود يرد العبد دون ماله لأن ماله لم يدخل في المبيع فأشبه النماء الحادث عنده. ولنا أنه عين مال أخذها
المشتري لا تحصل بدون البيع فيردها بالفسخ كالعبد، ولان العبد إذا كان ذا مال كانت قيمته أكثر
فأخذ ماله ينقص قيمته فلم يملك رده حتى يدفع ما يزيل نقصه، فإن تلف ماله ثم أراد رده فهو بمنزلة
العيب الحادث عند المشتري هل يمنع الرد على روايتين، فإن قلنا يرده فعليه قيمة ما أتلف، قال أحمد
في رجل اشترى أمة معها قناع فاشترطه وظهر على عيب وقد تلف القناع غرم قيمته بحصته من الثمن
(فصل) وما كان على العبد أو الجارية من الحلي فهو بمنزلة ماله على ما ذكرنا، فأما الثياب فقال
أحمد ما كان يلبسه عند البائع فهو للمشتري، وان كانت ثيابا يلبسها فوق ثيابه أو شيئا يزينه به فهو
للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، يعني ان الثياب التي يلبسها عادة للخدمة والبذلة تدخل في البيع دون
255

الثياب التي يتجمل بها لأن ثياب البذلة جرت العادة ببيعها معه، ولأنها تتعلق بها مصلحته وحاجته
إذ لا غناء له عنها فجرت مجرى مفاتيح الدار بخلاف ثياب الجمال فإنها زيادة على العادة ولا تتعلق بها
حاجة العبد، وإنما يلبسها إياه لينفقه بها وهذه حاجة السيد لا حاجة العبد ولم تجر العادة بالمسامحة فيها
فجرت مجرى الستور في الدار والدابة التي يركبه عليها مع دخولها في الخبر وبقائها على الأصل.
وقال ابن عمر، من باع وليدة زينها بثياب فللذي اشتراها ما عليها إلا أن يشترطه الذي باعها، وبه
قال الحسن والنخعي. ولنا الخبر الذي رواه ابن عمر، ولان الثياب لم يتناولها لفظ البيع ولا جرت
العادة ببيعها معه أشبه سائر مال البائع، ولأنه زينة للمبيع فأشبه ما لو زين الدار ببساط أو ستر
(فصل) ولا يملك العبد شيئا إذا لم يملكه سيده في قول عامة أهل العلم، وقال أهل الظاهر يملك
لدخوله في عموم قوله تعالى (خلق لكم ما في الأرض جميعا) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من باع عبدا وله
مال " فأضاف المال إليه بلام التمليك ولنا قوله تعالى (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ)
ولان سيده يملك عينه ومنافعه فما حصل بذلك يجب أن يكون لسيده كبهيمته، فأما ان ملكه سيده
شيئا ففيه روايتان (أحداهما) لا يملكه وهو ظاهر قول الخرقي فإنه قال: والسيد يزكي عما في يد
عبده لأنه مالكه، وقال والعبد لا يرث ولا مال له فيورث عنه. وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة
والثوري وإسحاق والشافعي في الجديد لأنه مملوك فلم يملك كالبهيمة (والثانية) يملك وهي أصح عندي
وهو قول مالك والشافعي في القديم للآية والخبر، ولأنه آدمي حي فملك كالحر، ولأنه يملك في النكاح
فملك في المال كالحر، ولأنه يصح الاقرار له فأشبه الحر، وما ذكروه تعليل بالمانع ولا يثبت اعتباره
إلا أن يوجد المقتضي في الأصل ولم يوجد في البهيمة ما يقتضي ثبوت الملك لها، وإنما انتفى ملكها لعدم
المقتضي له لا لكونها مملوكة وكونها مملوكة عديم الأثر فإن سائر البهائم التي ليست مملوكة من الصيود
والوحوش لا تملك، وكذلك الجمادات، وإذا بطل كون ما ذكروه مانعا، وقد تحقق المقتضي
لزم ثبوت حكمه والله أعلم
{مسألة} قال (ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز ان يشتريها بأقل مما باعها به)
وجملة ذلك أن من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدا لم يجز في قول أكثر أهل
العلم روي ذلك عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي، وبه قال أبو الزناد
وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي وأجازه
الشافعي لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها فجاز من بائعها كما لو باعها بمثل ثمنها. ولنا ما روى غندر
عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل انها قالت: دخلت انا
وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: اني بعت
256

غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها: بئس ما شريت
وبئس ما اشتريت ابلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يتوب
رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور، والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرى مجرى روايتها ذلك عنه، ولان ذلك ذريعة إلى الربا
فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل معلوم، وكذلك روي عن ابن عباس في مثل
هذه المسألة أنه قال: أرى مائة بخمسين بينهما حريرة يعني خرقة حرير جعلاها في بيعهما والذرائع
معتبرة لما قدمناه، فأما بيعها بمثل الثمن أو أكثر فيجوز لأنه لا يكون ذريعة وهذا إذا كانت السلعة لم
تنقص عن حالة البيع، فإن نقصت مثل أن هزل العبد أو نسي صناعة، أو تخرق الثوب أو بلي جاز
له شراؤها بما شاء لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا، وإن نقص سعرها أو زاد لذلك
أو لمعنى حدث فيها لم يجز بيعها بأقل من ثمنها كما لو كانت بحالها نص أحمد على هذا كله
(فصل) وان اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول بعرض فاشتراها بنقد جاز وبه قال أبو
حنيفة ولا نعلم فيه خلافا لأن التحريم إنما كان لشبهة الربا ولا ربا بين الأثمان والعروض، فأما إن باعها
بنقد ثم اشتراها بنقد آخر مثل أن يبيعها بمائتي درهم ثم اشتراها بعشرة دنانير فقال أصحابنا يجوز لأنهما
جنسان لا يحرم التفاضل بينهما فجاز كما لو اشتراها بعرض أو بمثل الثمن، وقال أبو حنيفة لا يجوز
استحسانا لأنهما كالشئ الواحد في معنى الثمنية، ولان ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فأشبه ما لو باعها
بجنس الثمن الأول وهذا أصح إن شاء الله تعالى
(فصل) وهذه المسألة تسمى مسألة العينة. قال الشاعر:
أند ان أم نعتان أم ينبري لنا * فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه
فقوله نعتان، أي نشتري عينة مثل ما وصفنا، وقد روى أبو داود باسناده عن ابن عمر قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم
الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد روي
عن أحمد أنه قال: العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه الا بنسيئة، فإن باعه بنقد ونسيئة فلا بأس
وقال أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد، وقال ابن عقيل إنما أكره النسيئة لمضارعتها
الربا فإن الغالب ان البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل، ويجوز أن تكون العينة اسما لهذه المسألة وللبيع
بنسيئة جميعا، لكن البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقا ولا يكره إلا أن يكون له تجارة غيره
(فصل) وإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة فقال احمد في رواية حرب لا يجوز ذلك إلا أن
يغير السلعة لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا فأشبه مسألة العينة، فإن اشتراها بنقد آخر أو بسلعة
أخرى أو بأقل من ثمنها نسيئة جاز لما ذكرناه في مسألة العينة ويحتمل ان يجوز له شراؤها بجنس
الثمن بأكثر منه إلا أن يكون ذلك عن مواطأة أو حيلة فلا يجوز، وإن وقع ذلك اتفاقا من غير قصد
257

جاز لأن الأصل حل البيع، وإنما حرم في مسألة العينة بالأثر الوارد فيه وليس هذا في معناه ولان
التوسل بذلك أكثر فلا يلتحق به ما دونه والله أعلم
(فصل) وفي كل موضع قلنا لا يجوز له ان يشتري. لا يجوز ذلك لوكيله لأنه قائم مقامه ويجوز
غيره من الناس سواء كان أباه أو ابنه أو غيرهما لأنه غير البائع ويشتري لنفسه فأشبه الأجنبي
(فصل) ومن باع طعاما إلى اجل، فلما حل الاجل اخذ منه بالثمن الذي في ذمته طعاما قبل
قبضه لم يجز، روى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس وبه قال مالك وإسحاق واجازه
جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن حسين والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي، فقال علي بن
حسين إذا لم يكن لك في ذلك رأي، وروي عن محمد بن عبد الله ابن أبي مريم أنه قال: بعت تمرا
من التمارين كل سبعة آصع بدرهم ثم وجدت عند رجل منهم تمرا يبيعه أربعة آصع بدرهم فاشتريت منه
فسألت عكرمة عن ذلك فقال لا بأس أخذت أنقص مما بعت، ثم سألت سعيد بن المسيب عن ذلك
وأخبرته بقول عكرمة فقال كذب، قال عبد الله بن عباس ما بعت من شئ مما يكال بمكيال فلا تأخذ منه
شيئا مما يكال بمكيال إلا ورقا أو ذهبا فإذا أخذت ورقك فابتع ممن شئت منه أو من غيره فرجعت
فإذا عكرمة قد طلبني فقال: الذي قلت لك هو حلال هو حرام، فقلت لسعيد بن المسيب: إن فضل لي
عنده فضل؟ قال فأعطه أنت الكسر وخذ منه الدرهم. ووجه ذلك أنه ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام
نسيئة فحرم كمسألة العينة، فعلى هذا كل شيئين حرم النساء فيهما لا يجوز أن يأخذ أحدهما عوضا عن
الآخر قبل قبض ثمنه إذا كان البيع نساء نص أحمد على ما يدل على هذا، وكذلك قال سعيد بن
المسيب فيما حكينا عنه، والذي يقوي عندي جواز ذلك إذا لم يفعله حيلة ولا قصد ذلك في ابتداء
العقد كما قال علي بن الحسين فيما يروي عنه عبد الله بن زيد قال: قدمت على علي بن الحسين فقلت
له أني أجذ نخلي وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل فيقدمون بالحنطة وقد حل ذلك الاجل فيوقفونها
بالسوق فأبتاع منهم وأقاصهم؟ قال لا بأس بذلك إذا لم يكن منك على رأي، وذلك لأنه اشترى
الطعام بالدراهم التي في الذمة بعد انبرام العقد الأول ولزومه فصح كما لو كان المبيع الأول حيوانا أو
ثيابا، ولما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا فإنه لم يأخذ بالثمن طعاما ولكن اشترى من المشتري طعاما
بدراهم وسلمها إليه ثم أخذها منه وفاء أو لم يسلمها إليه لكن قاصه بها كما في حديث علي بن الحسين
{مسألة} قال (ومن باع حيوانا أو غيره بالبراءة من كل عيب لم يبرأ سواء
علم به البائع أو لم يعلم)
اختلفت الرواية عن أحمد في البراءة من العيوب فروي عنه أنه لا يبرأ إلا أن يعلم المشتري بالعيب
وهو قول الشافعي، وقال إبراهيم والحكم وحماد لا يبرأ إلا مما سمى، وقال شريح لا يبرأ إلا مما
أراه أو وضع يده عليه، وروي نحو ذلك عن عطاء والحسن وإسحاق لأنه مرفق في البيع لا يثبت
258

الا بالشرط فلا يثبت مع الجهل كالخيار (والرواية الثانية) أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ من
عيب علمه، ويروي ذلك عن عثمان ونحوه عن زيد بن ثابت وهو قول مالك وقول الشافعي في الحيوان خاصة
لما روي أن عبد الله بن عمر باع زيد بن ثابت عبدا بشرط البراءة من العيب بثمانمائة درهم فأصاب به زيد
عيبا فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله فترافعا إلى عثمان؟ فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا
العيب؟ فقال لا فرده عليه فباعه ابن عمر بألف درهم وهذه قضية اشتهرت فلم تنكر فكانت اجماعا
وروي عن أحمد أنه أجاز البراءة من المجهول فيخرج من هذا صحة البراءة من كل عيب. روي هذا
عن ابن عمر وهو قول أصحاب الرأي وقول الشافعي لما روت أم سلمة ان رجلين اختصما في مواريث
درست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استهما وتوخيا، وليحلل كل واحد منكما
صاحبه " فدل هذا على أن البراءة من المجهول جائزة، ولأنه إسقاط حق لا تسليم فيه فصح من المجهول
كالعتاق والطلاق، ولا فرق بين الحيوان وغيره فما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر، وقول عثمان
قد خالفه ابن عمر، وقول الصحابي المخالف لا يبقى حجة
(فصل) فإن قلنا لا يصح شرط البراء من العيوب فشرطه لم يفسد البيع في ظاهر المذهب وهو
وجه لأصحاب الشافعي لأن ابن عمر باع بشرط البراءة فأجمعوا على صحته ولم ينكره فعلى هذا
لا يمنع الرد بوجود الشرط ويكون وجوده كعدمه، وعن أحمد في الشروط الفاسدة روايتان (أحداهما)
أنها تفسد العقد فيدخل فيها هذا البيع لأن البائع إنما رضي بهذا الثمن عوضا عنه بهذا الشرط، فإذا
فسد الشرط فات الرضى به فيفسد البيع لعدم التراضي به
{مسألة} قال (ومن باع شيئا مرابحة فعلم أنه زاد في رأس ماله رجع عليه بالزيادة
وحطها من الربح)
معنى بيع المرابحة وهو البيع برأس المال وربح معلوم، ويشترط علمهما برأس المال فيقول رأس مالي
فيه أو هو علي بمائة بعتك بها وربح عشرة فهذا جائز لا خلاف في صحته ولا نعلم فيه عند أحد كراهة
وإن قال بعتك برأس مالي فيه وهو مائة وأربح في كل عشرة درهما أو قال ده يازده أو ده دوازده فقد
كرهه أحمد وقد رويت كراهته عن ابن عمر وابن عباس ومسروق والحسن وعكرمة وسعيد بن حبير
وعطاء بن يسار، وقال إسحاق لا يجوز لأن الثمن مجهول حال العقد فلم يجز كما لو باعه بما يخرج به في
الحساب ورخص فيه سعيد بن المسيب وابن سيرين وشريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي وابن المنذر، ولان رأس المال معلوم والربح معلوم فأشبه ما لو قال وربح عشرة دراهم، ووجه
الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه ولم نعلم لهما في الصحابة مخالفا، ولان فيه نوعا من الجهالة
والتحرز عنها أولى وهذه كراهة تنزيه والبيع صحيح لما ذكرنا والجهالة يمكن إزالتها بالحساب فلم تضر
كما لو باعه صبرة كل قفيز بدرهم، وأما ما يخرج به في الحساب فمجهول في الجملة والتفصيل
259

إذا ثبت عدنا إلى مسألة الكتاب فنقول متى باع شيئا برأس ماله وربح عشرة ثم علم بتنبيه
أو اقرار أن رأس ماله تسعون فالبيع صحيح لأنه زيادة في الثمن فلم يمنع صحة العقد كالعيب وللمشتري
الرجوع على البائع بما زاد في رأس المال وهو عشرة وحطها من الربح وهو درهم فيبقى على المشتري
بتسعة وتسعين درهما وبهذا قال الثوري وابن أبي ليلى وهو أحد قولي الشافعي، وقال أبو حنيفة وهو مخير
بين الاخذ بكل الثمن أو يترك قياسا على المعيب
ولنا انه باعه برأس ماله وما قدره من الربح، فإذا بان رأس ماله قدرا كان مبيعا به وبالزيادة التي
اتفقا عليها والمعيب كذلك عندنا فإن له أخذ الأرش ثم المعيب لم يرض به إلا بالثمن المذكور وههنا رضي
فيه برأس المال والربح المقرر وهل للمشتري خيار؟ فالمنصوص عن أحمد ان المشتري مخير بين أخذ
المبيع برأس ماله وحصته من الربح وبين تركه نقله حنبل، وحكى ذلك قولا للشافعي لأن المشتري
لا يأمن الجناية في هذا الثمن أيضا، ولأنه ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن بعينه لكونه
حالفا أو وكيلا أو غير ذلك، وظاهر كلام الخرقي انه لا خيار له لأنه لم يذكره، وحكى ذلك قولا
للشافعي لأنه رضيه بمائة وعشرة، فإذا حصل له بتسعة وتسعين فقد زاده خيرا فلم يكن له خيار كما لو
اشتراه على أنه معيب فبان صحيحا أو أمي فبان صانعا أو كاتبا أو وكل في شراء معين بمائة فاشتراه
بتسعين، وأما البائع فلا خيار له لأنه باعه برأس ماله وحصته من الربح وقد حصل له ذلك
(فصل) وإذا أراد الاخبار بثمن السلعة فإن كانت بحالها لم تتغير أخبر بثمنها، وإن حط البائع
بعض الثمن عن المشتري أو اشتراه بعد لزوم العقد لم يجزئه ويخبر بالثمن الأول لا غير، ولان ذلك هبة
من أحدهما للآخر لا يكون عوضا، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلحق بالعقد ويخبر به في
المرابحة وهذه مسألة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، وإن كان ذلك في مدة الخيار لحق بالعقد وأخبر
به في الثمن وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ولا أعلم عن غيرهم خلافهم فإن تغير سعرها دونها، فإن غلت
لم يلزمه الاخبار بذلك لأنه زيادة فيها، وإن رخصت فنص أحمد على أنه لا يلزمه الاخبار بذلك لأنه صادق
بدون الاخبار به: ويحتمل أن يلزمه الاخبار بالحال فإن المشتري لو علم ذلك لم يرضها بذلك الثمن
فكتمانه تغرير به فإن أخبر بدون ثمنها ولم يتبين الحال لم يجز لأنه يجمع بين الكذب والتغرير
(فصل) فاما إن تغيرت السلعة فذلك على ضربين (أحدهما) ان تتغير بزيادة وهي نوعان
أحدهما أن تزيد لنمائها كالسمن وتعلم صنعة أو يحصل منها نماء منفصل كالولد والثمرة والكسب فهذا إذا
أراد أن يبيعها مرابحة أخبر بالثمن من غير زيادة لأنه القدر الذي اشتراها به، وان أخذ النماء المنفصل
أو استخدم الأمة أو وطئ الثيب أخبر برأس المال ولم يلزمه تبيين الحال، وروي ابن المنذر عن أحمد
أنه يلزمه تبيين ذلك كله وهو قول إسحاق، وقال أصحاب الرأي في الغلة يأخذها لا بأس أن يبيع مرابحة
وفي الولد والثمرة لا يبيع مرابحة حتى يبين ولأنه من موجب العقد
ولنا أنه صادق فيما أخبر به من غير تغرير بالمشتري فجاز كما لو لم يزد ولان الولد والثمرة نماء منفصل
260

فلم يمنع من بيع المرابحة بدون ذكره كالغلة، وقد بينا من قبل أنه ليس من موجبات العقد (النوع الثاني)
أن يعمل فيها عملا مثل أن يقصرها أو يرفوها أو يجملها أو يخيطها فهذه متى أراد أن يبيعها مرابحة
أخبر بالحال على وجهه سواء عمل ذلك بنفسه أو استأجر من عمله هذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال يبين
ما اشتراه وما لزمه ولا يجوز أن يقول تحصلت علي بكذا وبه قال الحسن وابن سيرين وسعيد بن
المسيب وطاوس والنخعي والأوزاعي وأبو ثور، ويحتمل أن يجوز فيما استأجر عليه أن يضم الأجرة إلى
الثمن ويقول: تحصلت علي بكذا لأنه صادق وبه قال الشعبي والحكم والشافعي
ولنا أنه تغرير بالمشتري فإنه عسى ان لو علم أن بعض ما تحصلت به لأجل الصناعة لا يرغب فيه
لعدم رغبته في ذلك فأشبه ما ينقص الحيوان في مؤنته وكسوته وعلى المبتاع في خزنه (الضرب الثاني)
أن يتغير بنقص كنقصه بمرض أو جناية عليه أو تلف بعضه أو بولادة أو عيب أو يأخذ المشتري
بضعه كالصوف واللبن الموجود ونحوه فإنه يخبر بالحال على وجهه لا نعلم فيه خلافا، وان أخذ
أرش العيب أو الجناية أخبر بذلك على وجهه ذكره القاضي، وقال أبو الخطاب يحط أرش العيب من
الثمن ويخبر بالباقي لأن أرش العيب عوض ما فات به فكان ثمن الموجود وهو ما بقي وفي أرش الجناية
وجهان (أحدهما) يحطه من الثمن كأرش العيب (والثاني) لا يحطه كالنماء، وقال الشافعي يحطهما من
الثمن ويقول تقوم علي بكذا لأنه صادق فيما أخبر به فأشبه ما لو أخبر بالحال على وجهه. ولنا ان
الاخبار بالحال على وجهه أبلغ في الصدق أقرب إلى البيان ونفي التغرير بالمشتري والتدليس عليه
فلزمه ذلك كما لو اشترى شيئين بثمن واحد وقسط الثمن عليهما وقياس أرش الجناية عليه على النماء
والكسب غير صحيح لأن الأرش عوض نقصه الحاصل بالجناية عليه فهو بمنزلة ثمن جزء منه باعه
وكقيمة أحد الثوبين إذا تلف أحدهما والنماء والكسب زيادة لم ينقص بها المبيع ولا هي عوض عن
شئ منه، فأما ان جنى المبيع ففداه المشتري لم يلحق ذلك بالثمن ولم يخبر به في المرابحة بغير خلاف
نعلمه لأن هذا الأرش لم يزد به المبيع قيمة ولا ذاتا وإنما هو مزيل لنقصه بالجناية والعيب الحاصل
بتعلقها برقبته فأشبه الدواء المزيل لمرضه الحادث عند المشتري، فأما الأدوية والمؤنة والكسوة وعمله
في السلعة بنفسه أو عمل غيره له بغير أجرة فإنه لا يخبر بذلك في الثمن وجها واحدا، وان أخبر
بالحال على وجهه فحسن
(فصل) وان اشترى شيئين صفقة واحدة ثم أراد بيع أحدهما مرابحة أو اشترى اثنان شيئا
فتقاسماه وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة بالثمن الذي أداه فيه فذلك قسمان (أحدهما) أن يكون البيع
من المتقومات التي لا ينقسم الثمن عليها بالاجزاء كالثياب والحيوان والشجرة المثمرة وأشباه هذا فهذا
لا يجوز بيع بعضه مرابحة حتى يخبر بالحال على وجهه نص عليه أحمد فقال: كل بيع اشتراه جماعة ثم
اقتسموه لا يبيع أحدهم مرابحة إلا أن يقول اشتريناه جماعة ثم اقتسمناه وهذا مذهب الثوري وإسحاق
وأصحاب الرأي، وقال الشافعي يجوز بيعه بحصته من الثمن لأن الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته
261

بدليل ما لو كان المبيع شقصا وسيفا أخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن، ولو اشترى شيئين فوجد
أحدهما معيبا رده بحصته من الثمن، وذكر ابن أبي موسى فيما اشتراه اثنان فتقاسماه رواية أخرى
عن أحمد أنه يجوز بيعه مرابحة بما اشتراه لأن ذلك ثمنه فهو صادق فيما أخبر به
ولنا أن قسمة الثمن على المبيع طريقة الظن والتخمين واحتمال الخطأ فيه كثير وبيع المرابحة أمانة
فلم يجز هذا فبه فصار هذا كالخرص الحاصل بالظن لا يجوز أن يباع به ما يجب التماثل فيه وإنما أخذ الشفيع بالقيمة للحاجة الداعية إليه وكونه لا طريق له سوى التقويم وأنه لو لم يأخذ بالشفعة لاتخذه
الناس طريقا لاسقاطها فيؤدي إلى تفويتها بالكلية وههنا له طريق وهو الاخبار بالحال على وجهه أو
بيعه مساومة (القسم الثاني) أن يكون المبيع من المتماثلات التي ينقسم الثمن عليها بالاجزاء كالبر والشعير
المتساوي فيجوز بيع بعضه مرابحة بقسطه من الثمن وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه
خلافا لأن ثمن الجزء معلوم يقينا ولذلك جاز بيع قفيز من الصبرة، وان أسلم في ثوبين بصفة واحدة
فأخذهما على الصفقة وأراد بيع أحدهما مرابحة بحصته من الثمن فالقياس جوازه لأن الثمن ينقسم
عليهما نصفين لا باعتبار القيمة وكذلك لو أقاله في أحدهما أو تعذر تسليمه كان له نصف الثمن من غير
اعتبار قيمة المأخوذ منهما فكأنه أخذ كل واحد منهما منفردا ولان الثمن وقع عليهما متساويا
لتساوي صفتهما في الذمة فهما كقفيزين من صبرة، وإن حصل في أحدهما زيادة على الصفة جرت
مجرى الحادث بعد البيع
(فصل) وان اشترى شيئا بثمن مؤجل لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين ذلك وان اشتراه من أبيه أو
ابنه أو ممن لا تقبل شهادته له لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي
وأبو يوسف ومحمد يجوز من غير بيان لأنه أخبر بما اشتراه عقدا صحيحا فأشبه ما لو اشتراه من
أجنبي. ولنا أنه متهم في الشراء منهم لكونه يحابيهم ويسمح لهم فلم يجز أن يخبر بما اشتراه منهم مطلقا
كما لو اشترى من مكاتبه، وفارق الأجنبي فإنه لا يتهم في حقه، وقياسهم يبطل بالشراء من مكاتبه
فإنه لا يجوز له بيع ما اشتراه من مكاتبه مرابحة حتى يبين أمره ولا نعلم فيه خلافا، وان اشتراه من
غلام دكانه الحر فقال القاضي إذا باعه سلعة ثم اشتراها منه بأكثر من ذلك لم يجز بيعه مرابحة حتى
يبين أمره ولا نعلم فيه خلافا ولأنه متهم في حقه فأشبه من لا تقبل شهادته له، وقال أبو الخطاب إن فعل
ذلك حيلة لم يجز وظاهره الجواز إذا لم يكن حيلة وهذا أصح لأنه أجنبي لكن لا يختص هذا بغلام
دكانه بل متى فعل هذا على وجه الحيلة لم يجز وكان حراما وتدليسا على ما ذكرنا من قبل
(فصل) فإن اشترى ثوبا بعشرة ثم باعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة استحب أن يخبر بالحال
على وجهه فإن أخبر انه اشتراه بعشرة ولم يبين جاز وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد لأنه صادق فيما أخبر به وليس فيه تهمة ولا تغرير بالمشتري فأشبه ما لو لم يربح فيه، وروي عن أن ابن سيرين انه
يطرح الربح من الثمن ويخبر أن رأس ماله عليه خمسة واعجب احمد قول ابن سيرين قال فإن باعه على
262

ما اشتراه يبين امره يعني يخبر انه ربح فيه مرة ثم اشتراه وهذا محمول على الاستحباب لما ذكرناه،
وقال أبو حنيفة لا يجوز بيعه مرابحة إلا أن يبين أمره أو يخبر ان رأس ماله عليه خمسة وهذا قول القاضي
وأصحابه لأن المرابحة تضم فيها العقود فيخبر بما تقوم عليه كما تضم أجرة الخياط والقصار، وقد استفاد
بهذا العقد الثاني تقرير الربح في العقد الأول لأنه أمن أن يرده عليه ولان الربح أحد نوعي النماء فوجب
أن يخبر به في المرابحة كالولد والثمرة، فعلى هذا ينبغي أنه إذا طرح الربح من الثمن الثاني يقول تقوم علي
بخمسة ولا يجوز أن يقول اشتريته بخمسة لأن ذلك كذب والكذب حرام ويصير كما لو ضم أجرة
القصارة والخياطة إلى الثمن وأخبر به. ولنا ما ذكرناه فيما تقدم، وما ذكروه من ضم القصارة والخياطة
والولد والثمرة فشئ بنوه على أصلهم لا نسلمه، ثم لا يشبه هذا ما ذكره لأن المؤنة والنماء لزماه في هذا
البيع الذي يلي المرابحة وهذا الربح في عقد آخر قبل هذا الشراء فأشبه الخسارة فيه، وأما تقرير الربح
فغير صحيح فإن العقد الأول قد لزم ولم يظهر العيب ولم يتعلق به حكمه ثم قد ذكرنا في مثل هذه المسألة
ان للمشتري أن يرده على البائع إذا ظهر على عيب قديم وإذا لم يلزمه طرح النماء والغلة فههنا أولى،
ويجئ على هذا القول انه لو اشتراه بعشرة ثم باعه بعشرين ثم اشتراه بعشرة فإنه يخبر أنها حصلت بغير
شئ، وان اشتراها بعشرة ثم باعها بثلاثة عشر ثم اشتراها بخمسة أخبر أنها تقومت عليه بدرهمين، وان
اشتراها بخمسة عشر أخبر أنها تقومت عليه باثني عشر نص أحمد على نظير هذا، وعلى هذا يطرح الربح
من الثمن الثاني كيفما كان فإن لم يربح ولكن اشتراها ثانية بخمسة أخبر بها لأنها ثمن العقد
الذي يلي المرابحة، ولو خسر فيها مثل أن اشتراها بخمسة عشر ثم باعها بعشرة ثم اشتراها
بأي ثمن كان أخبر به ولم يجز أن يضم الخسارة إلى الثمن الثاني فيخبر به في المرابحة بغير خلاف نعلمه
وهذا يدل على صحة ما ذكرناه والله أعلم
(فصل) وكل ما قلناه انه يلزمه أن يخبر به في المرابحة وبينه فلم يفعل فإن البيع لا يفسد به ويثبت
للمشتري الخيار بين الاخذ به وبين الرد إلا في الخبر بزيادة على رأس ماله على ما قدمناه من القول فيه،
وأن اشتراه بثمن مؤجل ولم يبين أمره فعن أحمد انه مخير بين اخذه بالثمن الذي وقع عليه العقد حالا
وبين الفسخ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن البائع لم يرض بذمة المشتري وقد تكون ذمته دون
ذمة البائع فلا يلزمه الرضى بذلك، وحكى ابن المنذر عن أحمد انه إن كان المبيع قائما كان له ذلك إلى
الاجل يعني وان شاء فسخ، وإن كان قد استهلك حبس المشتري الثمن بقدر الاجل وهذا قول شريح
لأنه كذلك وقع على البائع فيجب أن يكون للمشتري أخذه بذلك على صفته كما لو أخبر بزيادة على
الثمن، وكونه لم يرض بذمة المشتري لا يمنع نفوذ البيع بذلك كما أنه إذا أخبر بزيادة لم يرض ببيعه الا بما
أخبر به ولم يلتفت إلى رضاه بل وجب الرجوع إلى ما وقع به البيع الأول كذا ههنا
(فصل) فإن ابتاعه بدنانير فأخبر انه اشتراه بدراهم أو كان بالعكس أو اشتراه بعرض فأخبر
انه اشتراه بثمن، أو بثمن فأخبر انه اشتراه بعرض وأشباه هذا فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع
263

بالثمن وبين الرضى به بالثمن الذي تبايعا به كسائر المواضع الذي ثبت فيها ذلك
(فصل) وان ابتاع اثنان ثوبا بعشرين أو بذل لهما فيه اثنان وعشرون فاشترى أحدهما نصيب
صاحبه فيه بذلك السعر فإنه يخبر في المرابحة بأحد وعشرين نص عليه أحمد وهذا قول النخعي وقال
الشعبي يبيعه على اثنين وعشرين لأن ذلك الردهم الذي كان أعطيه قد كان أحرزه ثم رجع بعد ذلك
إلى قول إبراهيم ولا نعلم أحدا خالف ذلك لأنه اشترى نصفه الأول بعشرة ثم اشترى نصفه الثاني
بأحد عشر فصار مجموعهما أحدا وعشرين
(فصل) قال أحمد ولا بأس أن يبيع بالرقم ومعناه أن يقول بعتك هذا الثوب برقمه وهو الثمن
المكتوب عليه إذا كان معلوما لهما حال العقد وهذا قول عامة الفقهاء وكرهه طاوس. ولنا انه بيع بثمن
معلوم فأشبه ما لو ذكر مقداره أو ما لو قال بعتك هذا بما اشتريته به وقد علما قدره، فإن لم يكن معلوما لهما
أو لأحدهما لم يصح لأن الثمن مجهول، قال أحمد والمساومة عندي أسهل من بيع المرابحة، وذلك لأن
بيع المرابحة تعتريه أمانة واسترسال من المشتري ويحاج فيه إلى تبيين الحال على وجهه في المواضع التي
ذكرناها ولا يؤمن هوى النفس في نوع تأويل أو غلط فيكون على خطر وغرر وتجنب ذلك أسلم وأولى
(فصل) وبيع التولية هو البيع بمثل ثمنه من غير نقص ولا زيادة وحكمه في الاخبار بثمنه وتبيين
ما يلزمه تبيينه حكم المرابحة في ذلك كله ويصح بلفظ البيع ولفظ التولية
{مسألة} قال (وإن أخبر بنقصان من رأس ماله كان على المشتري رده أو إعطاؤه
ما غلط به وله أن يحلفه أن وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها بأكثر)
وجملة ذلك أنه إذا قال في المرابحة رأس مالي فيه مائة واربح عشرة ثم عاد فقال غلطت رأس
مالي فيه مائة وعشرة لم يقبل قوله في الغلط إلا ببينة تشهد أن رأس ماله عليه ما قاله ثانيا، وذكره
ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وروى أبو طالب عن أحمد إذا كان البائع معروفا بالصدق قبل قوله،
وان لم يكن صدوقا جاز البيع قال القاضي وظاهر كلام الخرقي ان قول البائع مع يمينه لأنه لما
دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه، والقول قول الأمين مع يمينه كالوكيل والمضارب، والظاهر أن الخرقي
لم يترك ذكر ما يلزم البائع في اثبات دعواه لكونه يقبل مجرد دعواه بل لأنه عطفه على المسألة
قبلها وقد ذكر فيها فعلم أنه زاد في رأس المال، ولم يتعرض لما يحصل به العلم لكن قد علمنا أن العلم أنما
يحصل ببينة أو إقرار كذلك علم غلطه ههنا يحصل ببينة أو اقرار من المشتري وكون البائع مؤتمنا
لا يوجب قبول دعواه في الغلط كالمضارب والوكيل إذا أقرا بربح ثم قالا غلطنا أو نسينا، واليمين التي
ذكرها الخرقي ههنا إنما هي على نفي علمه بغلط نفسه وقت البيع لا على اثبات غلطه، وعن أحمد رواية
ثالثة انه لا يقبل قول البائع وان أقام به بينة حتى يصدقه المشتري وهو قول الثوري والشافعي لأنه أقر
بالثمن وتعلق به حق الغير فلا يقبل رجوعه ولا بينته لاقراره بكذبها
264

ولنا انها بينة عادلة شهدت بما يحتمل الصدق فتقبل كسائر البينات، ولا نسلم انه أقر بخلافهما،
فإن الاقرار يكون لغير المقر وحالة اخباره بثمنها لم يكن عليه حق لغيره فلم يكن اقرار، فإن لم تكن بينة
أو كانت له بينة وقلنا لا تقبل بينته فادعى ان المشتري يعلم غلطه فأنكر المشتري فالقول قوله، وإن
طلب يمينه فقال القاضي: لا يمين عليه لأنه مدع واليمين على المدعي عليه ولأنه قد أقر له فيستغني لاقرار
عن اليمين، والصحيح أن عليه اليمين انه لا يعلم ذلك لأنه ادعى عليه ما يلزمه به رد السلعة أبا وزيادة
في ثمنها فلزمته اليمين كموضع الوفاق وليس هو ههنا مدعيا إنما هو مدعى عليه العلم بمقدار الثمن الأول
ثم قال الخرقي: له أن يحلفه ان وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها أكثر وهذا صحيح فإنه فإنه لو باعها بهذا
الثمن عالما بان ثمنها عليه أكثر لزمه البيع بما عقد عليه لأنه تعاطى شيئا عالما بالحال فلزمه كمشتري المعيب
عالما بعيبه وإذا كان البيع يلزمه بالعلم فادعى عليه لزمته اليمين فإن نكل قضي عليه، وان حلف خير
المشتري بين قبوله بالثمن والزيادة التي غلط بها وحطها من الربح وبين فسخ العقد، ويحتمل انه إذا باعه
بمائة وربح عشرة ثم إنه غلط بعشرة لا يلزمه حط العشرة من الربح لأن البائع رضي بربح عشرة في
هذا المبيع فلا يكون له أكثر منها، وكذلك إن تبين له انه زاد في رأس ماله لا ينقص الربح من عشرة
لأن البائع لم يبعه الا بربح عشرة فاما ان قال وأربح في كل عشرة درهما أو قال ده يازده لزمه حط العشرة
من الربح في الغلط والزيادة على الثمن في الصورتين، وإنما أثبتنا له الخيار لأنه دخل على أن الثمن مائة
وعشرة فإذا بان أكثر كان عليه ضرر في التزامه فلم يلزمه كالمعيب، وان اختار أخذها بمائة وأحد وعشرين
لم يكن للبائع خيار لأنه قد زاده خيرا فلم يكن له خيار كبائع المعيب إذا رضيه المشتري، وان اختار
البائع اسقاط الزيادة عن المشتري فلا خيار له أيضا لأنه قد بذلها بالثمن الذي وقع عليه العقد وتراضيا به
(فصل) ويجوز بيع المواضعة وهو أن يخبر برأس ماله ثم يقول بعتك هذا به وأضع عنك كذا
فإن قال بوضيعة درهم من كل عشرة كره لما ذكرنا في المرابحة وصح ويطرح من كل عشرة درهما فإن
كان الثمن مائة لزمه تسعون ويكون الحط عشرة وقال قوم يكون الحط من كل أحد عشر درهما فيكون
ذلك تسعة دراهم وجزءا من أحد عشر جزءا من درهم وتبقى تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر
جزءا من درهم وهذا غلط لأن هذا يكون حطا من كل أحد عشر وهو غير ما قاله، فأما ان قال بوضيعة
درهم لكل عشرة كان الوضيعة من كل أحد عشر درهما ويكون الباقي تسعين وعشرة أجزاء من أحد عشر
جزءا من درهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وحكي عن أبي ثور أنه قال: الحط عشرة مثل
الأولى، وليس بصحيح فإنه إذا قال لكل عشرة درهما يكون الدرهم من غيرها فكأنه قال من كل
أحد عشرة درهما درهما، وإذا قال من كل عشرة درهما كان الدرهم من العشرة لأن من للتبعيض
فكأنه قال آخذ من العشرة تسعة وأحط منها درهما
(فصل) إذا اشترى رجل نصف سلعة بعشرة واشترى آخر نصفها بعشرين ثم باعها مساومة
بثمن واحد فهو بينهما نصفان لا نعلم فيه خلافا لأن الثمن عوض عنها فيكون بينهما على حسب ملكيهما
فيها، وان باعاها مرابحة أو مواضعة أو تولية فكذلك نص عليه احمد وهو قول ابن سيرين والحكم
265

قال الأثرم قال أبو عبد الله رحمه الله: إذا باعها فالثمن بينهما نصفان قلت أعطي أحدهما أكثر مما أعطي
الآخر فقال وإن أليس الثوب بينهما الساعة سواء، فالثمن بينهما لأن كل واحد منهما يملك مثل الذي يملك
صاحبه، وحكى أبو بكر عن أحمد رواية أخرى ان الثمن بينهما على قدر رؤوس أموالهما لأن بيع المرابحة
يقتضي أن يكون الثمن في مقابلة رأس المال فيكون مقسوما بينهما على حسب رؤوس أموالهما ولم أجد
عن أحمد رواية بما قال أبو بكر، وقيل هذا وجه خرجه أبو بكر وليس برواية والمذهب الأول لأن
الثمن عوض المبيع وملكهما متساو فيه فكان ملكهما كعوضه متساويا كما لو باعاه مساواة
(فصل) ومتى باعاه السلعة برقمها ولا يعلمانه أو جهلا رأس المال في المرابحة أو المواضعة أو التولية
أو جهل ذلك أحدهما أو جهل قدر الربح أو قدر الوضيعة فالبيع باطل لأن العلم بالثمن شرط لصحة
البيع فلا يثبت بدونه، ولو باعه بمائة ذهبا وفضة لم يصح البيع، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
يصح ويكون نصفين لأن الاطلاق يقتضي التسوية كالاقرار. ولنا ان قدر كل واحد منهما مجهول فلم
يصح كما لو قال بمائة بعضها ذهب، وقوله انه يقتضي التسوية لا يصح فإنه لو فسره بغير ذلك صح
وكذلك لو أقر له بمائة ذهبا وفضة فالقول قوله في قدر كل واحد منهما
{مسألة} قال (وإذا باع شيئا واختلفا في ثمنه تحالفا فإن شاء المشتري أخذه بعد ذلك
بما قال البائع وإلا انفسخ البيع بينهما والمبتدئ باليمين البائع)
والكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة
(أحدهما) انه إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فقال البائع بعتك بعشرين وقال المشتري بل
بعشرة ولأحدهما بينة حكم بها، وان لم يكن لهما بينة تحالفا، وبهذا قال شريح وأبو حنيفة والشافعي
ومالك في رواية، وعنه القول قول المشتري مع يمينه، وبه قال أبو ثور وزفر لأن البائع يدعي عشرة
زائدة ينكرها المشتري والقول قول المنكر وقال الشعبي: القول قول البائع أو يترادان البيع وحكاه
ابن المنذر عن إمامنا رحمه الله، وروى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا
اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع " رواه سعيد وابن ماجة
وغيرهما، والمشهور في المذهب الأول، ويحتمل أن يكون معنى القولين واحدا وأن القول قول البائع
مع يمينه فإذا حلف فرضي المشتري بذلك أخذ به، وان أبى حلف أيضا وفسخ البيع بينهما لأن في
بعض ألفاظ حديث ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة
ولا بينة لأحدهما تحالفا " ولان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه فإن البائع يدعي عقدا بعشرين
ينكره المشتري والمشتري يدعي عقدا بعشرة ينكره البائع والعقد بعشرة غير العقد بعشرين فشرعت
اليمين في حقهما وهذا الجواب عما ذكروه
(الفصل الثاني) ان المبتدئ باليمين البائع فيحلف ما بعته بعشرة وإنما بعته بعشرين فإن شاء المشتري
أخذه بما قال البائع والا يحلف ما اشتريته بعشرين وإنما اشتريته بعشرة وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
266

يبتدئ بيمين المشتري لأنه منكر واليمين في جنبته أقوى ولأنه يقضى بنكوله وينفصل الحكم وما كان
أقرب إلى فصل الخصومة كان أولى. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فالقول ما قال البائع " وفي لفظ
" فالقول ما قال البائع والمشتري بالخيار " رواه الإمام أحمد ومعناه إن شاء أخذ وان شاء حلف ولان البائع
أقوى جنبة لأنهما إذا تحالفا عاد المبيع إليه فكان أقوى كصاحب اليد، وقد بينا ان كل واحد منهما
منكر فيتساويان من هذا الوجه، والبائع إذا نكل فهو بمنزلة نكول المشتري يحلف الآخر ويقضى له فهما سواء
(الفصل الثالث) انه إذا حلف البائع فنكل المشتري عن اليمين قضي عليه، وان نكل البائع
حلف المشتري وقضي له، وان حلفا جميعا لم ينفسخ البيع بنفس التحالف لأنه عقد صحيح فتنازعهما
وتعارضهما لا يفسخه كما لو أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه لكن ان رضي أحدهما بما قال صاحبه
أقر العقد بينهما وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما الفسخ هذا ظاهر كلام احمد ويحتمل أن يقف الفسخ
على الحاكم وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن العقد صحيح وأحدهما ظالم وإنما يفسخه الحاكم لتعذر
امضائه في الحكم فأشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان وجهل السابق منهما. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم
" أو يترادان البيع " وظاهره استقلالهما بذلك، وفي القصة ان ابن مسعود رضي الله عنه باع الأشعث
بن قيس رقيقا من رقيق الامارة فقال عبد الله بعتك بعشرين ألفا. قال الأشعث اشتريت منك
بعشرة آلاف فقال عبيد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا اختلف البيعان وليس بينهما
بينة والمبيع قائم بعينه فالقول قول البائع أو يترادان البيع " قال فاني أرد البيع رواه سعيد عن هشيم
عن ابن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن القاسم عن ابن مسعود، وروى أيضا حديثا عن عبد الملك بن
عبيدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع ثم كان المشتري بالخيار إن
شاء أخذ وان شاء ترك، وهذا ظاهر في أنه يفسخ من غير حاكم لأنه جعل الخيار إليه فأشبه من له خيار
الشرط أو الرد بالعيب ولأنه فسخ لاستدراك الظلامة فأشبه الرد بالعيب ولا يشبه النكاح لأن لكل
واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق وإذا فسخ العقد فقال القاضي ظاهر كلام أحمد ان الفسخ ينفذ
ظاهرا وباطنا لأنه فسخ لاستدراك الظلامة فهو كالرد بالعيب أو فسخ عقد بالتحالف فوقع في الظاهر
والباطن كالفسخ باللعان، وقال أبو الخطاب إن كان البائع ظالما لم ينفسخ العقد في الباطن لأنه كان يمكنه
امضاء العقد واستيفاء حقه فلا ينفسخ العقد في الباطن ولا يباح له التصرف في المبيع لأنه غاصب،
فإن كان المشتري ظالما انفسخ البيع ظاهرا وباطنا لعجز البائع عن استيفاء حقه فكان له الفسخ
كما لو أفلس المشتري، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، ولهم وجه ثالث انه لا ينفسخ في الباطن
بحال، وهذا فاسد لأنه لو علم أنه لم ينفسخ في الباطن بحال لما أمكن فسخه في الظاهر فإنه لا يباح
لكل واحد منهما التصرف فيما رجع إليه بالفسخ، ومتى علم أن ذلك محرم منع منه ولان الشارع
جعل للمظلوم منهما الفسخ ظاهرا وباطنا فانفسخ بفسخه في الباطن كالرد بالعيب، ويقوى عندي
أنه ان فسخه الصادق منهما ظاهرا وباطنا لذلك، وان فسخه الكاذب عالما بكذبه لم ينفسخ
بالنسبة إليه لأنه لا يحل له الفسخ فلم يثبت حكمه بالنسبة إليه ويثبت بالنسبة إلى صاحبه فيباح له التصرف فيما
267

رجع إليه لأنه رجع إليه بحكم الشرع من غير عدوان منه فأشبه ما لورد عليه المبيع بدعوى العيب ولا عيب فيه
{مسألة} قال (فإن كانت السلعة تالفة تحالفا ورجعا إلى قيمة مثلها إلا أن يشاء المشترى
أن يعطي الثمن على ما قال البائع، فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشترى مع يمينه في الصفة)
وجملة أنهما إذا اختلفا في ثمن السلعة بعد تلفها فعن أحمد فيها روايتان (إحداهما) يتحالفان
مثل ما لو كانت قائمة وهو قول الشافعي واحدى الروايتين عن مالك (و الأخرى) القول قول المشتري
مع يمينه اختارها أبو بكر وهذا قول النخعي والثوري و الأوزاعي وأبي حنيفة لقوله عليه السلام في
الحديث " والسلعة قائمة " فمفهومه أنه لا يشرع التحالف عند تلفها ولأنهما اتفقا على نقل السلعة
إلى المشتري واستحقاق عشرة في ثمنها واختلفا في عشرة زائدة البائع يدعيها والمشتري ينكرها والقول
قول المنكر، وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة للحديث الوارد فيه ففيما عداه يبقى على القياس. ووجه
الرواية الأولى عموم قوله " إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار " وقال أحمد ولم
يقل فيه " والمبيع قائم " الا يزيد بن هارون قال أبو عبد الله وقد أخطأ رواة الحلف عن المسعودي لم يقولوا
هذه الكلمة ولكنها في حديث معن، ولان كل واحد منهما مدع ومنكر فيشرع اليمين كحال قيام السلعة
وما ذكروه من المعنى يبطل بحال قيام السلعة فإن ذلك لا يختلف بقيام السلعة وتلفها وقولهم تركناه
للحديث قلنا ليس في الحديث تحالفا وليس ذلك بثابت في شئ من الاخبار قال ابن المنذر وليس
في هذا الباب حديث يعتمد عليه وعلى أنه إذا خولف الأصل لمعنى وجب تعدية الحكم بتعدي ذلك
المعنى فنقيس عليه بل يثبت الحكم بالبينة فإن التحالف إذا ثبت مع قيام السعلة مع أنه يمكن معرفة
ثمنها للمعرفة بقيمتها فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة فمع تعذر ذلك أولى، فإذا تحالفا فإن رضي
أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ العقد لعدم الحاجة إلى فسخه، وإن لم يرضيا فكل واحد منهما
فسخه كما له ذلك في حال بقاء السلعة ويرد الثمن الذي قبضه البائع إلى المشتري ويدفع المشتري قيمة
السلعة إلى البائع فإن كانا من جنس واحد وتساويا بعد التقابض تقاصا وينبغي أن لا يشرع التحالف
ولا الفسخ فيما إذا كانت قيمة السلعة مساوية للثمن الذي ادعاه المشتري ويكون القول قول المشتري
مع يمينه لأنه لا فائدة في يمين البائع ولا فسخ البيع لأن الحاصل بذلك الرجوع إلى ما ادعاه المشتري
وإن كانت القيمة أقل فلا فائدة للبائع في الفسخ فيحتمل أن لا يشرع له اليمين ولا الفسخ لأن ذلك
ضرر عليه من غير فائدة، ويحتمل أن يشرع لتحصيل الفائدة للمشتري ومتى اختلفا في قيمة السلعة رجعا
إلى قيمة مثلها موصوفا بصفاتها فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه غارم والقول قول الغارم
(فصل) وإن تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض البائع الثمن ثم اختلفا في قدره فالقول قول
البائع لأنه منكر لما يدعيه المشتري بعد انفساخ العقد فأشبه ما لو اختلفا في القبض
268

(فصل) وان قال بعتك هذا العبد بألف فقال بل هو والعبد الآخر بألف فالقول قول البائع
مع يمينه وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي يتحالفان لأنهما اختلفا في أصل عوضي العقد فيتحالفان
كما لو اختلفا في الثمن، ولنا أن البائع ينكر بيع العبد الزائد فكان القول قوله بيمينه كما لو ادعى شراءه منفردا
(فصل) وان اختلفا في عين المبيع فقال بعتك هذا العبد قال بل بعتني هذه الجارية فالقول قول
كل واحد منهما فيما ينكره مع يمينه لأن كل واحد منهما يدعي عقدا على عين ينكرها المدعي عليه،
والقول قول المنكر فإن حلف البائع ما بعتك هذه الجارية أقرت في يده إن كانت في يده وردت عليه
إن كان مدعيها قد قبضها، وأما العبد فإن كان في يد البائع أقر في يده ولم يكن للمشتري طلبه لأنه لا
يدعيه وعلى البائع رد الثمن إليه لأنه لم يصل إليه المعقود عليه، وإن كان في يد المشتري فعليه رده إلى
البائع لأنه لم يعترف انه لم يشتره وليس للبائع طلبه إذا بذل له ثمنه لاعترافه ببيعه، وإن لم يعطه ثمنه
فله فسخ البيع واسترجاعه لأنه تعذر عليه الوصول إلى ثمنه فملك الفسخ كما لو أفلس المشتري، وإن أقام
كل واحد منهما بينة بدعواه ثبت العقدان لأنهما لا يتنافيان فأشبه ما لو ادعى أحدهما البيع فيهما جميعا
وأنكره الآخر، وان أقام أحدهما بينة بدعواه دون الآخر ثبت ما قامت عليه البينة دون ما لم تقم عليه
(فصل) فإن اختلفا في صفة الثمن رجع إلى نقد البلد نص عليه في رواية الأثرم لأن الظاهر أنهما
لا يعقدان إلا به، وإن كان في البلد نقود رجع إلى أوسطها نص عليه في رواية جماعة فيحتمل أنه أراد
إذا كان هو الأغلب والمعاملة به أكثر لأن الظاهر وقوع المعاملة به فهو كما لو كان في البلد نقد واحد
ويحتمل أنه ردهما إليه مع التساوي لأن فيه توسطا بينهما وتسوية بين حقيهما وفي العدول إلى غيره ميل
على أحدهما فكان التوسط أولى وعلى مدعى ذلك اليمين لأن ما قاله خصمه محتمل فتجب اليمين لنفي
ذلك الاحتمال كوجوبها على المنكر، وإذا لم يكن في البلد إلا نقدان متساويان فينبغي أن يتحالفا لأنهما
اختلفا في الثمن على وجه لم يترجح قول أحدهما فيتحالفان كما لو اختلفا في قدره
(فصل) وان اختلفا في أجل أو رهن أو في قدرهما أو في شرط خيار أو ضمين أو غير ذلك
من الشروط الصحيحة ففيه روايتان (إحداهما) يتحالفان وهو قول الشافعي لأنهما اختلفا في صفة
العقد فوجب أن يتحالفا قياسا على الاختلاف في الثمن (والثانية) القول قول من ينفي ذلك مع يمينه
وهو قول أبي حنيفة لأن الأصل عدمه فالقول قول من ينفيه كأصل العقد لأنه منكر والقول قول المنكر
(فصل) وان اختلفا فيما يفسد العقد أو شرط فاسد فقال بعتك بخمر أو خيار مجهول فقال بل
بعتني بنقد معلوم أو خيار ثلاث فالقول قول من يدعي الصحة مع يمينه لأن ظهور تعاطي المسلم الصحيح
أكثر من تعاطيه للفاسد، وإن قال بعتك مكرها فأنكره فالقول قول المشتري لأن الأصل عدم الاكراه
وصحه البيع، وان قال بعتك وأنا صبي فالقول قول المشتري نص عليه وهو قول الثوري وإسحاق
لأنهما اتفقا على العقد واختلفا فيما يفسده فكان القول قول من يدعي الصحة كالتي قبلها، ويحتمل
أن يقبل قول من يدعي الصغر لأنه الأصل وهو قول بعض أصحاب الشافعي، ويفارق ما إذا اختلفا
في شرط فاسد أو إكراه لوجهين (أحدهما) ان الأصل عدمه وههنا الأصل بقاؤه (والثاني) ان الظاهر
269

من المكلف انه لا يتعاطى إلا الصحيح وههنا ما ثبت انه كان مكلفا، وإن قال بعتك وأنا مجنون فإن لم
يعلم له حال جنون فالقول قول المشتري لأن الأصل عدمه وإن ثبت انه كان مجنونا فهو كالصبي،
ولو قال العبد بعتك وأنا غير مأذون لي في التجارة فالقول قول المشتري نص عليه في رواية مهنا
لأنه مكلف، والظاهر أنه لا يعقد إلا عقدا صحيحا
(فصل) وإن مات المتبايعان فورثتهما بمنزلتهما في جميع ما ذكرناه لأنهم يقومون مقامهما في أخذ
ماليهما وإرث حقوقهما فكذلك ما يلزمهما أو يصير لهما
(فصل) وان اختلفا في التسليم فقال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن وقال المشتري لا أسلم الثمن
حتى أقبض المبيع والثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن، فإن
كان عينا أو عرضا بعرض جعل بينهما عدل فيقبض منهما ثم يسلم إليهما وهذا قول الثوري وأحد قولي
الشافعي، وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على تسليم المبيع على الاطلاق وهو قول ثان للشافعي
وقال أبو حنيفة ومالك يجبر المشتري على تسليم الثمن لأن للبائع حبس المبيع على تسليم الثمن ومن
استحق ذلك لم يكن عليه التسليم قبل الاستيفاء كالمرتهن. ولنا ان تسليم المبيع يتعلق به استقرار البيع
وتمامه فكان تقديمه أولى سيما مع تعلق الحكم بعينه وتعلق حق البائع بالذمة وتقديم ما تعلق بالعين أولى
لتأكده ولذلك يقدم الدين الذي به الرهن في ثمنه على ما تعلق بالذمة، ويخالف الرهن فإنه لا تتعلق به
مصلحة عقد الرهن والتسليم ههنا يتعلق به مصلحة عقد البيع، وأما إذا كان الثمن عينا فقد تعلق الحق
بعينه أيضا كالمبيع فاستويا وقد وجب لكل واحد منهما على صاحبه حق قد استحق قبضه فأجبر كل
واحد منهما على ايفاء صاحبه حقه، ووجه الرواية الأخرى ان الذي يتعلق به استقرار البيع وتمامه
هو المبيع فوجب تقديمه ولان الثمن لا يتعين بالتعيين فأشبه غير المعين. إذا ثبت هذا وأوجبنا التسليم
على البائع فسلمه فلا يخلو المشتري من أن يكون موسرا أو معسرا، فإن كان موسرا والثمن معه
أجبر على تسليمه، وإن كان غائبا قريبا في بيته أو بلده حجر عليه في المبيع وسائر ماله حتى يسلم
الثمن خوفا من أن يتصرف في ماله تصرفا يضر بالبائع، وإن كان غائبا عن البلد في مسافة القصر
فالبائع مخير بين أن يصبر إلى أن يوجد وبين فسخ العقد لأنه قد تعذر عليه الثمن فهو كالمفلس، وإن
كان دون مسافة القصر فله الخيار في أحد الوجهين لأن فيه ضررا عليه (والثاني) لا خيار له لأن ما دون
مسافة القصر بمنزلة الحاضر، وإن كان المشتري معسرا فللبائع الفسخ في الحال والرجوع في المبيع وهذا
كله مذهب الشافعي، ويقوى عندي انه لا يجب عليه تسليم المبيع حتى يحضر الثمن ويتمكن المشتري
من تسليمه لأن البائع إنما رضي ببذل المبيع بالثمن فلا يلزمه دفعه قبل حصول عوضه ولان المتعاقدين
سواء في المعاوضة فيستويان في التسليم وإنما يؤثر ما ذكر من الترجيح في تقديم التسليم مع حضور العوض
الآخر لعدم الضرر فيه وأما مع الحظر المحوج إلى الحجر أو المحجوز للفسخ فلا ينبغي أن يثبت ولان شرع
الحجر لا يندفع به الضرر ولأنه يقف على الحاكم ويتعذر ذلك في الغالب ولان ما أثبت الحجر والفسخ
بعد التسليم فهو أولى أن يمنع التسليم لأن المنع أسهل من الرفع والمنع قبل التسليم أسهل من المنع بعده
270

ولذلك ملكت المرأة منع نفسها قبل قبض صداقها قبل تسليم نفسها ولم تملكه بعد التسليم، ولان للبائع منع
المبيع قبل قبض ثمنه أو كونه بمنزلة المقبوض لامكان تقبيضه وإلا فلا، وكل موضع قلنا له الفسخ فله ذلك
بغير حكم حاكم لأنه فسخ للبيع للاعسار بثمنه فملكه البائع كالفسخ في عين ماله إذا أفلس المشتري وكل
موضع قلنا يحجر عليه فذلك إلى الحاكم لأن ولاية الحجر إليه
(فصل) فإن هرب المشتري قبل وزن الثمن وهو معسر فللبائع الفسخ في الحال لأنه إذا ملك الفسخ
مع حضوره فمع هربه أولى، وإن كان موسرا أثبت البائع ذلك عند الحاكم ثم إن وجد الحاكم له مالا
قضاه والا باع المبيع وقضى ثمنه منه وما فضل فهو للمشتري، وان أعوز ففي ذمته، ويقوى عندي أن
للبائع الفسخ بكل حال لأننا أبحنا له الفسخ مع حضوره إذا كان الثمن بعيدا عن البلد لما عليه من ضرر التأخير فههنا مع العجز عن الاستيفاء بكل حال أولى ولا يندفع الضرر برفع الامر إلى الحاكم لعجز البائع
عن اثباته عند الحاكم، وقد يكون البيع في مكان لا حاكم فيه والغالب أنه لا يحضره من يقبل الحاكم
شهادته فإحالته على هذا تضييع لماله وهذه الفروع تقوي ما ذكرته من أن للبائع منع المشتري من قبض
المبيع قبل إحضار ثمنه لما في ذلك من الضرر
(فصل) وليس للبائع الامتناع من تسليم المبيع بعد قبض الثمن لأجل الاستبراء، وبهذا قال
أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك في القبيحة، وقال في الجميلة يضعها على يدي عدل حتى تستبرأ
لأن التهمة تلحقه فيها فمنع منها. ولنا أنه بيع عين لا خيار فيها قد قبض ثمنها فوجب تسليمها كسائر المبيعات
وما ذكروه من التهمة لا يمكنه من التسلط على منعه من قبض مملوكته كالفبيحة ولأنه إذ كان استبرأها
قبل بيعها فاحتمال وجود الحمل فيها بعيد نادر، وإن كان لم يستبرئها فهو ترك التحفظ لنفسه ولو طالب المشتري
البائع بكفيل لئلا تظهر حاملا لم يكن له ذلك لأنه ترك التحفظ لنفسه حال العقد فلم يكن له كفيل
كما لو طلب كفيلا بالثمن المؤجل
{مسألة} قال (ولا يجوز بيع الآبق)
وجملته أن بيع العبد الآبق لا يصح سواء علم مكانه أو جهله وكذلك ما في معناه من الجمل الشارد
والفرس العائر وشبههما وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي، وروي عن
ابن عمر أنه اشترى من بعض ولده بعيرا شاردا وعن ابن سيرين لا بأس ببيع الآبق إذا كان علمهما
فيه واحدا وعن شريح مثله، ولنا ما روى أبو هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة
وعن بيع الغرر رواه مسلم وهذا بيع غرر ولأنه غير مقدور على تسليمه فلم يجز بيعه كالطير في الهواء، فإن
حصل في يد إنسان جاز بيعه لامكان تسليمه
{مسألة} قال (ولا الطائر قبل أن يصاد)
271

وجملة ذلك أنه إذا باع طائرا في الهواء لم يصح مملوكا أو غير مملوك أما المملوك فلانه غير مقدور
عليه وغير المملوك لا يجوز لعلتين (إحداهما) العجز عن تسليمه (والثانية) أنه غير مملوك له، والأصل
في هذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم وعن بيع الغرر وقيل في تفسيره هو بيع الطير في الهواء والسمك في الماء ولا نعلم
في هذا خلافا ولا فرق بين كون الطائر يألف الرجوع أو لا يألفه لأنه لا يقدر على تسليمه الآن وإنما يقدر
عليه إذا عاد، فإن قيل فالغائب في مكان بعيد لا يقدر على تسليمه في الحال، قلنا الغائب يقدر على استحضاره
والطير لا يقدر صاحبه على رده الا أن يرجع هو بنفسه ولا يستقل مالكه برده فيكون عاجزا عن تسليمه
لعجزه عن الواسطة التي يحصل بها تسليمه بخلاف الغائب وان باعه الطير في البرج نظرت فإن كان البرج
مفتوحا لم يجز لأن الطير إذا قدر على الطيران لم يمكن تسليمه فإن كان مغلقا ويمكن أخذه جاز بيعه، وقال
القاضي ان لم يمكن أخذه إلا بتعب ومشقة لم يجز بيعه لعدم القدرة على تسليمه وهذا مذهب الشافعي
وهو ملغي بالبعيد الذي لا يمكن احضاره إلا بتعب ومشقة وفرقوا بينهما بان البعيد تعلم الكلفة التي
يحتاج إليها في إحضاره بالعادة وتأخير التسليم مدته معلومة ولا كذلك في إمساك الطائر، والصحيح
إن شاء الله تعالى أن تفاوت المدة في احضار البعيد واختلاف المشقة أكثر من التفاوت والاختلاف
في إمساك طائر من البرج، والعادة تكون في هذا كالعادة في ذاك فإذا صح في البعيد مع كثرة التفاوت
وشدة اختلاف المشقة فهذا أولى
{مسألة} قال (ولا السمك في الآجام)
هذا قول أكثر أهل العلم روي عن ابن مسعود أنه نهى عنه وقال إنه غرر وكره ذلك الحسن والنخعي
ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور ولا نعلم لهم مخالفا لما ذكرنا من الحديث والمعنى
لا يجوز بيعه في الماء إلا أن يجتمع ثلاثة شروط (أحدها) أن يكون مملوكا (الثاني) أن يكون الماء رقيقا
لا يمنع مشاهدته ومعرفته (الثالث) أن يمكن اصطياده وامساكه فإن اجتمعت هذه الشروط جاز بيعه
لأنه مملوك معلوم مقدور على تسليمه فجاز بيعه كالموضوع في الطست، وان اختل شرط مما ذكرنا لم
يجز بيعه لذلك، وان اختلت الثلاثة لم يجز بيعه لثلاث علل، وإن اختل اثنان منها لم يجز بيعه لعلتين،
وروي عن عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى فيمن له أجمة يحبس السمك فيها يجوز بيعه لأنه يقدر على
تسليمه ظاهرا أشبه ما يحتاج إلى مؤنة في كيله ووزنه ونقله
ولنا ما روي عن ابن عمر وابن مسعود أنهما قالا لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ولان النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الغرر وهذا منه ولأنه لا يقدر على تسليمه إلا بعد اصطياده أشبه الطير في الهواء والعبد
الآبق ولأنه مجهول فلم يصح بيعه كاللبن في الضرع والنوى في التمر ويفارق ما ذكروه لأن ذلك
من مؤنة القبض وهذا يحتاج إلى مؤنة ليمكن قبضه، فأما ان كانت له بركة فيها سمك له يمكن اصطياده
بغير كلفة والماء رقيق لا يمنع مشاهدته صح بيعه، وان لم يمكن إلا بمشقة وكلفة يسيرة بمنزلة كلفة
اصطياده الطائر من البرج فالقول فيه كالقول في بيع الطائر في البرج على ما ذكرنا فيه من الخلاف،
272

وان كانت كثيرة وتتطاول المدة فيه لم يجز بيعه للعجز عن تسليمه والجهل بوقت إمكان التسليم
(فصل) إذا أعد بركة أو مصفاة ليصطاد فيها السمك فحصل فيها سمك ملكه، لأنه آلة معدة للاصطياد
فأشبه الشبكة ولو استأجر البركة أو الشبكة أو استعارهما للاصطياد جاز وما حصل فيهما ملكه، وان
كانت البركة غير معدة للاصطياد لم يملك ما حصل فيها من السمك لأنها غير معدة له فأشبهت أرضه
إذا دخل فيها صيد أو حصل فيها سمك، ومتى نصب شبكة أو شركا أو فخا أو أحبولة ملك ما وقع فيها
من الصيد لأنه بمنزلة يده وكذلك لو نصب المناجل للصيد وسمى فقتلت صيدا حل له أكله وكان
كذبحه، ولو وقع في شبكته أو شبهها شئ كان مضمونا عليه فعلم بذلك أنه كيده، ولو أعد لمياه الأمطار
مصانع أو بركا أو أواني ليحصل فيها الماء ملكه بحصوله فيها لأنها في باب الاعداد كالشباك للاصطياد
ولو أعد سفينة للاصطياد كالتي يجعل فيها الضوء ويضرب صواني الصفر ليثب السمك فيها كان حصوله فيها
كحصوله في شبكته لكونها صارت من الآلات المعدة له ولو لم يعدها لذلك لم يملك ما وقع
فيها ومن سبق إليه فأخذه ملكه كالأرض التي لم تعد للاصطياد مثل أرض الزرع إذا دخلها ماء فيه
سمك ثم نضب عنه أو دخل فيها ظبي أو عشش فيها طائر أو سقط فيها جرادا أو حصل فيها ملح لم يملكه
صاحبها لأنه ليس من نماء الأرض ولا مما هي معدة له لكنه يكون أحق به إذ ليس لغيره التخطي في
أرضه ولا الانتفاع؟ فإن تخطى وأخذه أخطأ ملكه قال أحمد في ورشان على نخلة قوم صاد انسان
هو للصائد، وقال في طيرة لقوم أفرخت في دار جيرانهم إن الفرخ يتبع الام برد فراخها على أصحاب
الطيرة، واختار ابن عقيل في المأخوذ من أملاك الناس من صيد وكلا وشبهه أنه لا يملكه بأخذه
لأنه سبب منهي عنه فلم يفد الملك كالبيع المنهى عنه إذ السبب لا يختلف بين كونه بيعا أو غيره لقوله
عليه السلام " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " والصحيح الأول ولا نسلم أن السبب منهي عنه
فإن السبب الاخذ وليس بمنهي عنه إنما نهي عن الدخول وهو غير السبب بخلاف البيع، ولان
النهي ههنا لحق آدمي فلا يمنع الملك كبيع المصراة والمعيب وتلقي الركبان النجش وبيعه على بيع
أخيه، ولو أعد أرضه للملح فجعلها ملاحة ليحصل فيها الماء فيصير ملحا كالأرض التي على ساحل البحر
يجعل إليها طريقا للماء فإذا امتلأت قطعه عنها أو تكون أرضه سبخة يفتح إليها الماء من عين أو يجمع
فيها ماء المطر فيصير ملحا ملكه بذلك لأنها معدة له فأشبهت البركة المعدة للصيد وان لم يكن أعدها
لذلك لم يملك ما حصل فيها كما قدمنا في مثلها، فإن قيل فقد روي عن أحمد في انسان رمى طيرا ببندق
فوقع في دار قوم فهو لهم دونه، وهذا يدل على أنهم ملكوه بحصوله في دراهم قلنا هذا محمول على أنه وقع
ممتنعا فصاده أهل الدار فملكوه باصطيادهم، كذلك قال ابن عقيل ويتعين حمله على هذا لأنهم إذا
لم يملكوا ما حصل في دارهم بفعل الله تعالى فما حصل بفعل آدمي أولى، ولأنه وقع في الدار بعد الضربة
المثبتة له التي يملك بها الصيد فأشبه ما لو أطارت الريح ثوب انسان فألقته في دراهم، ولو كانت آلة
الصيد كالشبكة والشرك والمناجل غير منصوبة للصيد ولا قصد بها الاصطياد فتعلق بها صيد لم يملكه
صاحبها بذلك لأنها غير معدة للصيد في هذه الحال فأشبهت الأرض التي ليست معدة له
273

(فصل) وما حصل من الصيد في كلب انسان أو صقره أو فهده وكان استرسل بارسال صاحبه
فهو له لأنه آكد من الشبكة لأنه حيوان يحصل الصيد بفعله وقصده وارسال صاحبه فهو كسهمه ولان
الله تعالى قال (فكلوا مما أمسكن عليكم) وان استرسل بنفسه فحكمه حكم الصيد الحاصل في أرض
انسان في أنه لا يملكه وليس لغيره اخذه فإن أخذه غيره ملكه كالكلأ وكذلك ما يحصل في
بهيمة انسان من الحشيش في المرعى
{مسألة} قال (والوكيل إذا خالف فهو ضامن الا أن يرضى الآمر فيلزمه)
وجملة ذلك أن الوكيل إذا خالف موكله فاشترى غير ما أمره بشرائه أو باع ما لم يؤذن له في
بيعه أو اشترى غير ما عين له فعليه ضمان ما فوت على المالك أو تلف لأنه خرج عن حال الأمانة وصار
بمنزلة الغاصب فأما قوله إلا أن يرضي الآمر فيلزمه يعني إذا اشترى غير ما أمر بشرائه بثمن في ذمته
فإن الشراء صحيح ويقف على إجازة الموكل فإن أجازه لزمه وعليه الثمن وان لم يقبل لزم الوكيل، ويتعين
حمله على هذه الصورة لأنه قد بين في موضع آخر فقال إلا أن يكون اشتراه بعين المال فيبطل الشراء
وذكره في كتاب العتق أيضا فلذلك تعين حمل هذه المسألة على ما قلنا، وإنما صح الشراء لأنه متصرف في
ذمته لا في مال غيره وسواء نقد الثمن من مال الموكل أم لا لأن الثمن هو الذي في الذمة والذي نقده عوضه
ولذلك قلنا إنه إذا اشترى في الذمة ونقده الثمن بعد ذلك كان له البدل وان خرج مغصوبا لم يبطل العقد
وإنما وقف على إجازة الآمر لأنه قصد الشراء له فإن أجازه لزمه وعليه الثمن وان لم يقبله لزم من اشتراه
(فصل) وان اشترى بعين مال الآمر أو باع بغير إذنه أو اشترى لغير موكله شيئا بعين ماله
أو باع ماله بغير إذنه ففيه روايتان (إحداهما) البيع باطل ويجب رده وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور
وابن المنذر (والثانية) البيع والشراء صحيحان ويقف على إجازة المالك فإن أجازه نفذ ولزم البيع
وان لم يجزه بطل وهذا مذهب مالك وإسحاق وقول أبي حنيفة في البيع فأما الشراء فعنده يقع
للمشتري بكل حال، ووجه هذه الرواية ما روى عروة بن الجعد البارقي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم
أعطاه دينارا ليشتري به شاة فاشترى شاتين ثم باع إحداهما بدينار في الطريق قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم
بالدينار والشاة فأخبرته فقال " بارك الله لك في صفقة يمينك " رواه الأثرم وابن ماجة ولأنه عقد
له مجيز حال وقوعه فيجب أن يقف على إجازته كالوصية، ووجه الرواية الأولى قول النبي صلى الله عليه وسلم
لحكيم بن حزام " لا تبع ما ليس عندك " رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح يعني
ما لا تملك لأنه ذكره جوابا له حين سأله انه يبيع الشئ ثم يمضي فيشتريه ويسلمه ولاتفاقنا على صحة
بيع ماله ماله الغائب ولأنه باع ما لا يقدر على تسليمه فأشبه الطير في الهواء، والوصية يتأخر فيها القبول عن
الايجاب ولا يعتبر أن يكون لها مجيز حال وقوع العقد ويجوز فيها من الغرر ما لا يجوز في البيع، فأما
حديث عروة فنحمله على أن وكالته كانت مطلقة بدليل انه سلم وتسلم وليس ذلك لغير المالك باتفاقنا
(فصل) ولا يجوز أن يبيع عينا لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها رواية واحدة وهو قول الشافعي
274

ولا نعلم فيه مخالفا لأن حكيم بن حزام قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الرجل يأتيني فيلتمس من البيع
ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبع ما ليس عندك "
(فصل) ولو باع سلعة وصاحبها حاضر ساكت فحكمه حكم ما لو باعها من غير علمه في قول أكثر
أهل العلم منهم أبو حنيفة وأبو ثور والشافعي، وقال ابن أبي ليلى سكوته اقرار لأنه دليل على الرضى
فأشبه سكوت البكر في الاذن في نكاحها. ولنا ان السكوت محتمل فلم يكن اذنا كسكوت الثيب وفارق
سكوت البكر لوجود الحياء المانع من الكلام في حقها وليس ذلك بموجود ههنا.
(فصل) وإذا وكل رجلين في بيع سلعته فباع كل واحد منها السلعة من رجل بثمن مسمى فالبيع
للأول منهما روي هذا عن شريح وابن سيرين والشافعي وابن المنذر وحكي عن ربيعة ومالك أنهما قالا
هي للذي بدأ بالقبض
ولنا أنه قد روي في حديث " إذا باع المجيزان فهو للأول " رواة ابن ماجة ولان الوكيل الثاني
زالت وكالته بانتفاء ملك الموكل عن السعلة فصار بائعا ملك غيره بغير اذنه فلم يصح كما لو قبض الأول
أو كما لو زوج أحد الوليين بعد الأول
{مسألة} قال (وبيع الملامسة والمنابذة غير جائز)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في فساد هذين البيعين وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة
والمنابذة متفق عليه، والملامسة أن يبيعه شيئا ولا يشاهده على أنه متى لمسه وقع البيع، والمنابذة أن يقول
أي ثوب نبذته إلي فقد اشتريته بكذا هذا ظاهر كلام أحمد ونحوه قال مالك والأوزاعي وفيما روى
البخاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل
قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه، وروى مسلم في صحيحه عن
أبي هريرة في تفسيرها قال هو لمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة ان ينبذ كل واحد
ثوبه ولم ينظر كل واحد منهما إلى ثوب صاحبه وعلى ما فسرناه به لا يصح البيع فيهما لعلتين (إحداهما)
الجهالة (والثانية) كونه معلقا على شرط وهو نبذ الثوب إليه أو لمسه وان عقد البيع قبل نبذه فقال
بعتك ما تلمسه من هذه الثياب أو ما انبذه إليك فهو غير معين ولا موصوف فأشبه ما لو قال بعتك واحدا منها
(فصل) ومن البيوع المنهي عنها بيع الحصاة فإن أبا هريرة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن بيع الحصاة رواه مسلم واختلف في تفسيره فقيل هو أن يقول ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت
فهو لك بدرهم، وقيل هو أن يقول بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا
وقيل هو ان يقول بعتك هذا بكذا على أني متى رميت هذه الحصاة وجب البيع وكل هذه البيوع فاسدة
لما فيها من الغرر والجهل ولا نعلم فيه خلافا
(فصل) وروى أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة
والمنابذة أخرجه البخاري والمخاضرة بيع الزرع الأخضر والثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع،
275

والمحاقلة بيع الزرع بحب من جنسه قال جابر المحاقلة أن يبيع الزرع بمائة فرق حنطة قال الأزهري
الحقل القراح المزروع والحواقل المزارع، وفسر أبو سعيد المحاقلة باستكراء الأرض بالحنطة
{مسألة} قال (وكذلك بيع الحمل غير أمه واللبن في الضرع)
معناه بيع الحمل في البطن دون الام ولا خلاف في فساده. قال ابن المنذر وقد أجمعوا على أن
بيع الملاقيح والمضامين غير جائز، وإنما لم يجز بيع الحمل في البطن لوجهين (أحدهما) جهالته فإنه
لا تعلم صفته ولا حياته (والثاني) انه غير مقدور على تسليمه بخلاف الغائب فإنه يقدر على الشروع في
تسليمه، وقد روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين
والملاقيح قال أبو عبيد: الملاقيح ما في البطون وهو الأجنة والمضامين ما في أصلاب الفحول فكانوا
يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضربه الفحل في عامه أو في أعوام وأنشد:
ان المضامين التي في الصلب * ماء الفحول في الظهور الحدب
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المجر. قال ابن الاعرابي: المجر ما في
بطن الناقة، والمجر الربا والمجر القمار والمجر المحاقلة والمزابنة
(فصل) وقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن بيع حبل الحبلة متفق عليه
معناه نتاج النتاج قاله أبو عبيدة، وعن ابن عمر قال كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل
الحبلة. وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم، وكلا
البيعين فاسد أما الأول فلانه بيع معدوم وإذا لم يجز بيع الحمل فبيع حمله أولى وأما الثاني فلانه
بيع إلى أجل مجهول
(فصل) ولا يجوز بيع اللبن في الضرع وبه قال الشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ونهى عنه
ابن عباس وأبو هريرة وكرهه طاوس ومجاهد وحكي عن مالك أنه يجوز أياما معلومة إذا عرفا حلابها
لسقي الصبي كلبن الظئر وأجازه الحسن وسعيد بن جبير ومحمد بن مسلمة ولنا ما روى ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع رواه الخلال باسناده،
ولأنه مجهول الصفة والمقدار فأشبه الحمل لأنه بيع عين لم تخلق فلم يجز كبيع ما تحمل الناقة والعادة في
ذلك تختلف وأما لبن الظئر فإنما جاز للحضانة لأنه موضع حاجة
(فصل) واختلفت الرواية في بيع الصوف على الظهر فروي أنه لا يجوز بيعه لما ذكرنا من
الحديث ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالعقد كأعضائه وروي عنه انه يجوز بشرط جزه في الحال
لأنه معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه كالرطبة وفارق الأعضاء فإنه لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان،
والخلاف فيه كالخلاف في اللبن في الضرع فإن اشتراه بشرط القطع فتركه حتى طال فحكمه حكم الرطبة
إذا اشتراها فتركتها حتى طالت
(فصل) ولا يجوز بيع ما تجهل صفته كالمسك في الفأر وهو الوعاء الذي يكون فيه قال الشاعر:
276

إذا التاجر الهندي جاء بفأرة * من المسك راحت في مفارقهم تجري
قال فتح وشاهد ما فيه جاز بيعه وإن لم يشاهده لم يجز بيعه للجهالة وقد قال بعض الشافعية يجوز
لأن بقاءه في فأره مصلحة له فإنه يحفظ رطوبته وذكاء رائحته فأشبه ما مأكوله في جوفه. ولنا انه
يبقى خارج وعائه من غير ضرر وتبقى رائحته فلم يجز بيعه مستورا كالدر في الصدف وأما مأكوله في
جوفه فاخراجه يفضي إلى تلفه والتفصيل في بيعه مع وعائه كالتفصيل في بيع السمن في ظرفه ومن ذلك
البيض في الدجاج والنوى في التمر لا يجوز بيعهما للجهل بهما ولا نعلم في هذا خلافا نذكره
(فصل) فأما بيع الأعمى وشراؤه فإن أمكنه معرفة المبيع بالذوق إن كان مطعوما أو بالشم إن كان
مشموما صح بيعه وشراؤه، وإن لم يمكن جاز بيعه كالبصير وله خيار الخلف في الصفة، وبهذا قال
مالك وأبو حنيفة وأثبت أبو حنيفة له الخيار إلى معرفته بالمبيع إما بحسه أو ذوقه أو وصفه، وقال
عبيد الله بن الحسن شراؤه جائز وإذا أمر إنسانا بالنظر إليه لزمه، وقال الشافعي لا يجوز إلا على الوجه
الذي يجوز فيه بيع المجهول أو يكون قد رآه بصيرا ثم اشتراه قبل مضي زمن يتغير المبيع فيه لأنه مجهول
الصفة عند العاقد فلم يصح كبيع البيض في الدجاج والنوى في التمر. ولنا أنه يمكن الاطلاع على
المقصود ومعرفته فأشبه بيع البصير ولان إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه فكذلك شم الأعمى وذوقه
وأما البيض والنوى فلا يمكن الاطلاع عليه ولا وصفه بخلاف مسئلتنا
{مسألة} قال (وبيع عسب الفحل غير جائز)
عسب الفحل ضرابه وبيعه أخذ عوضه وتسمى الأجرة عسب الفحل مجازا وإجارة الفحل
للضراب حرام والعقد فاسد، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك جوازه قال ابن عقيل:
ويحتمل عندي الجواز لأنه عقد على منافع الفحل ونزوه وهذه منفعة مقصودة والماء تابع والغالب
حصوله عقيب نزوه فيكون كالعقد على الظئر ليحصل اللبن في بطن الصبي. ولنا ما روى ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع عسب الفحل رواه البخاري، وعن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن بيع ضراب الجمل رواه مسلم ولأنه مما لا يقدر على تسليمه فأشبه إجازة الآبق ولان ذلك متعلق
باختيار الفحل وشهوته ولان المقصود هو الماء وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد وهو مجهول، وإجارة الظئر
خولف فيه الأصل لمصلحة بقاء الآدمي فلا يقاس عليه ما ليس مثله، فعلى هذا إذا أعطى أجرة لعسب
الفحل فهو حرام على الآخذ لما ذكرنا ولا يحرم على المعطي لأنه بذل بذلك ماله لتحصيل مباح يحتاج إليه
ولا يمتنع هذا كما في كسب الحجام فإنه خبيث، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الذي حجمه وكذلك
أجرة الكسح، والصحابة أباحوا شراء المصاحف وكرهوا بيعها، وإن أعطى صاحب الفحل هدية أو
أكرمه من غير إجارة جاز، وبه قال الشافعي لما روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" إذا كان إكراما فلا بأس " ولأنه سبب مباح فجاز أخذ الهدية عليه كالحجامة، وقال أحمد في
رواية ابن القاسم: لا يأخذ. فقيل له ألا يكون مثل الحجام يعطي وإن كان منهيا عنه؟ فقال لم يبلغنا
277

ان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى في مثل هذا شيئا كما بلغنا في الحجام، ووجهه ان ما منع أخذ الأجرة
عليه منع قبول الهدية كمهر البغي وحلوان الكاهن، قال القاضي هذا مقتضي النظر لكن ترك مقتضاه
في الحجام فيبقى فيما عداه على مقتضى القياس والذي ذكرناه أرفق بالناس وأوفق للقياس، وكلام أحمد
يحمل على الورع لا على التحريم
{مسألة} قال (والنجش منهي عنه وهو أن يزيد في السلعة وليس هو مشتريا لها)
النجش أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليقتدي به المستام فيظن أنه لم يزد فيها هذا
القدر إلا وهي تساويه فيغتر بذلك فهذا حرام وخداع. قال البخاري الناجش آكل ربا خائن وهو
خداع باطل لا يحل، وروى ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش، وعن أبي هريرة
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا ولا يبع
حاضر لباد " متفق عليهما ولان في ذلك تغريرا بالمشتري وخديعة له وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " الخديعة
في النار " فإن اشترى مع النجش فالشراء صحيح في قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي وأصحاب الرأي،
وعن أحمد ان البيع باطل اختاره أبو بكر وهو قول مالك لأن النهي يقتضي الفساد
ولنا ان النهي عاد إلى الناجش لا إلى العاقد فلم يؤثر في البيع ولان النهي لحق الآدمي فلم يفسد
العقد كتلقي الركبان وبيع المعيب والمدلس، وفارق ما كان لحق الله تعالى لأن حق الآدمي يمكن جبره
بالخيار أو زيادة في الثمن، لكن إن كان في البيع غبن لم تجر العادة بمثله فللمشتري الخيار بين الفسخ
والامضاء كما في تلقي الركبان، وإن كان يتغابن بمثله فلا خيار له وسواء كان النجش بمواطأة من البائع
أو لم يكن. وقال أصحاب الشافعي إن لم يكن ذلك بمواطأة البائع وعلمه فلا خيار له، واختلفوا فيما
إذا كان بمواطأة منه فقال بعضهم لا خيار للمشتري لأن التفريط منه حيث اشترى ما لا يعرف قيمته.
ولنا انه تغرير بالعاقد فإذا كان مغبونا ثبت له الخيار كما في تلقي الركبان ويبطل ما ذكره بتلقي الركبان
(فصل) ولو قال البائع أعطيت بهذه السلعة كذا وكذا فصدقه المشتري واشتراها بذلك ثم بان
كاذبا فالبيع صحيح وللمشتري الخيار أيضا لأنه في معنى النجش
(فصل) وقوله عليه السلام " لا يبع بعضكم على بيع بعض " معناه ان الرجلين إذا تبايعا فجاء
آخر إلى المشتري في مدة الخيار فقال: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون هذا الثمن أو أبيعك خيرا
منها بثمنها أو دونه أو عرض عليه سلعة رغب فيها المشتري ففسخ البيع واشترى هذه فهذا غير جائز
لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه ولما فيه من الاضرار بالمسلم والافساد عليه، وكذلك ان اشترى على شراء
أخيه وهو أن يجئ إلى البائع قبل لزوم العقد فيدفع في المبيع أكثر من الثمن الذي اشتري به فهو محرم
أيضا لأنه في معنى المنهي عنه ولان الشراء يسمى بيعا فيدخل في النهي ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى ان
يخطب على خطبة أخيه وهو في معنى الخاطب فإن خالف وعقد فالبيع باطل لأنه منهي عنه والنهي
يقتضي الفساد، ويحتمل أنه صحيح لأن المحرم هو عرض سلعته على المشتري أو قوله الذي فسخ
278

البيع من أجله وذلك سابق على البيع ولأنه إذا صح الفسخ الذي حصل به الضرر فالبيع المحصل للمصلحة
أولى ولان النهي لحق آدمي فأشبه بيع النجش وهذا مذهب الشافعي
(فصل) وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يسم الرجل على سوم أخيه "
ولا يخلو من أربعة أقسام (أحدهما) أن يوجد من البائع تصريح بالرضا بالمبيع فهذا يحرم السوم على غير
ذلك المشتري وهو الذي تناوله النهي (الثاني) أن يظهر منه ما يدل على عدم الرضا فلا يحرم السوم لأن
النبي صلى الله عليه وسلم باع في من يزيد فروى أنس أن رجلا من الأنصار شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الشدة والجهد فقال له
" أما بقي لك شئ؟ " فقال بلى، قدح وحلس قال " فائتني بهما " فأتاه بهما فقال " من يبتاعهما؟ "
فقال رجل أخذتهما بدرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من يزيد على درهم من يزيد على درهم " فأعطاه رجل درهمين
فباعهما منه رواه الترمذي وقال حديث حسن، وهذا أيضا اجماع المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة
(الثالث) أن لا يوجد منه ما يدل على الرضا ولا على عدمه فلا يجوز له السوم أيضا ولا الزيادة استدلالا
بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية وأبا جهم خطباها فأمرها أن تنكح أسامة وقد
نهى عن الخطبة على خطبة أخيه كما نهى عن السوم على سوم أخيه فما أبيح في أحدهما أبيح في الآخر
(الرابع) أن يظهر منه ما يدل على الرضا من غير تصريح فقال القاضي لا تخرم المساومة وذكر ان احمد
نص عليه في الخطبة استدلالا بحديث فاطمة ولان الأصل إباحة السوم والخطبة فحرم منع ما وجد
فيه التصريح بالرضا وما عداه يبقى على الأصل، ولو قيل بالتحريم ههنا لكان وجها حسنا فإن النهي
عام خرجت منه الصور المخصوصة بأدلتها فتبقى هذه الصورة على مقتضي العموم ولأنه وجد منه دليل
الرضا أشبه ما لو صرح به ولا يضر اختلاف الدليل بعد التساوي في الدلالة وليس في حديث فاطمة
ما يدل على الرضا لأنها جاءت مستشيرة للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك دليلا على الرضا فكيف ترضى
وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " لا تفوتينا بنفسك " فلم تكن تفعل شيئا قبل مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم،
والحكم في الفساد كالحكم في البيع على بيع أخيه في الموضع الذي حكمنا بالتحريم فيه
(فصل) بيع التلجئة باطل وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة والشافعي هو صحيح لأن
البيع تم بأركانه وشروطه خاليا عن مقارنة مفسد فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عقدا البيع بغير شرط
ولنا أنهما ما قصدا البيع فلم يصح منهما كالهازلين ومعنى بيع التلجئة أن يخاف أن يأخذ السلطان
أو غيره ملكه فيواطئ رجلا على أن يظهرا أنه اشتراه منه ليحتمي بذلك ولا يريدان بيعا حقيقيا
{مسألة} قال (فإن باع حاضر لباد فالبيع باطل)
وهو أن يخرج الحضري إلى البادي وقد جلب السلعة فيعرفه السعر ويقول أنا أبيع لك فنهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " والبادي ههنا من يدخل البلدة
من غير أهلها سواء كان بدويا أو من قرية أو بلدة أخرى نهى النبي صلى الله عليه وسلم الحاضر أن يبيع له قال
ابن عباس نهى النبي صلى الله عليه أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد قال فقلت لابن عباس: ما قوله
279

" حاضر لباد؟ " قال لا يكون له سمسارا متفق عليه، وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " رواه مسلم وابن عمر وأبو هريرة
وأنس والمعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص ويسع عليهم السعر
فإذا تولى الحاضر بيعها وامتنع من بيعها الا بسعر البلد ضاق على أهل البلد وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في
تعليله إلى هذا المعنى، وممن كره بيع الحاضر للبادي طلحة بن عبيد الله وابن عمر وأبو هريرة وأنس
وعمر بن عبد العزيز ومالك والليث والشافعي ونقل أبو إسحاق بن شاقلا في جملة سماعاته ان الحسن
ابن علي المصري سأل احمد عن بيع حاضر لباد فقال لا بأس به فقال له فالخبر الذي جاء بالنهي قال
كان ذلك مرة، فظاهر هذا صحة البيع وان النهي اختص بأول الاسلام لما كان عليهم من الضيق في
ذلك وهذا قول مجاهد وأبي حنيفة وأصحابه والمذهب الأول لعموم النهي وما يثبت في حقهم يثبت في
حقنا ما لم يقم على اختصاصهم به دليل وظاهر كلام الخرقي أنه يحرم بثلاث شروط (أحدها) أن يكون
الحاضر قصد البادي ليتولى البيع له (والثاني) أن يكون البادي جاهلا بالسعر لقوله فيعرفه السعر ولا
يكون التعريف الا لجاهل وقد قال أحمد في رواية أبي طالب إذا كان البادي عارفا بالسعر لم يحرم
(الثالث) أن يكون قد جلب السلع للبيع لقوله وقد جلب السلع والجالب هو الذي يأتي بالسلع ليبيعها
وذكر القاضي شرطين آخرين (أحدهما) أن يكون مريدا لبيعها بسعر يومها (والثاني) أن يكون
بالناس حاجة إلى متاعه وضيق في تأخير بيعه، وقال أصحاب الشافعي إنما يحرم بشروط أربعة وهي
ما ذكرنا الا حاجة الناس إلى متاعه، فمتى اختل منها شرط لم يحرم البيع، وان اجتمعت هذه الشروط
فالبيع حرام وقد صرح الخرقي ببطلانه ونص عليه أحمد في روية إسماعيل بن سعيد قال سألت أحمد
عن الرجل الحضري يبيع للبدوي فقال أكره ذلك وأرد البيع في ذلك وعن أحمد رواية أخرى ان
البيع صحيح وهو مذهب الشافعي لكون النهي لمعنى في غير المنهى عنه. ولنا انه منهي عنه والنهي
يقتضي فساد المنهي عنه
(فصل) فاما الشراء لهم فيصح عند أحمد وهو قول الحسن، وكرهت طائفة الشراء لهم كما كرهت
البيع يروى عن أنس قال: كان يقال هي كلمة جامعة يقول لا تبيعن له شيئا ولا تبتاعن له شيئا،
وعن مالك في ذلك روايتان، ووجه القول الأول ان النهي غير متناول للشراء بلفظه ولا هو في معناه
فإن النهي عن البيع للرفق بأهل الحضر ليتسع عليهم السعر ويزول عنهم الضرر وليس ذلك في الشراء
لهم إذ لا يتضررون لعدم الغبن للبادين بل هو دفع الضرر عنهم والخلق في نظر الشارع على السواء
فكما شرع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضرر، وأما ان أشار الحاضر على
البادي من غير أن يباشر البيع له فقد رخص فيه طلحة بن عبيد الله والأوزاعي وابن المنذر وكرهه
مالك والليث وقول الصابي حجة ما لم يثبت خلافه
(فصل) قال ابن حامد ليس للإمام أن يسعر على الناس بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون وهذا مذهب الشافعي، وكان مالك يقول يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس به بع كما يبيع الناس
280

وإلا فاخرج عنا، واحتج له بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح التمار عن القاسم
ابن محمد عن عمر انه مر بحاطب في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما
فسعر له مدين بكل درهم فقال له عمر قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون
بسعرك فاما أن ترفع في السعر واما ان تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت، ولان في ذلك اضرارا بالناس
إذا زاد تبعه أصحاب المتاع وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع. ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن
ماجة عن أنس قال غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا.
فقال " إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، انى لأرجو ا أن القى الله تعالى وليس أحد يطلبني
بمظلمة في دم ولا مال " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وعن أبي سعيد مثله فوجه الدلالة
من وجهين (أحدهما) أنه لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه (الثاني) أنه علل بكونه
مظلمة والظلم حرام ولأنه ماله فلم يجز منعه من بيعه بما تراضي عليه المتبايعان كما اتفق الجماعة عليه قال
بعض أصحابنا التسعير سبب الغلاء لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلدا يكرهون على
بيعها فيه بغير ما يريدون ومن عنده البضاعة يمتع من بيعها ويكتمها ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا
يجدونها إلا قليلا فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها فتغلوا الأسعار ويحصل الاضرار بالجانبين جانب الملاك
في منعهم من بيع أملا كهم وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حراما، فأما حديث
عمر فقد روى فيه سعيد والشافعي أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم اتى حاطبا في داره فقال إن الذي
قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء وإنما هو شئ أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع كيف
شئت وهذا رجوع إلى ما قلنا وما ذكروه من الضرر موجود فيما إذا باع في بيته ولا يمنع منه
{مسألة} قال (ونهي عن تلقي الركبان) فإن تلقوا واشتري منهم فهم بالخيار إذا دخلوا السوق وعرفوا أنهم قد غبنوا ان أحبوا أن يفسخوا
البيع فسخوا، روي أنهم كانوا يتلقون الأجلاب فيشترون منهم الأمتعة قبل أن تهبط الأسواق فربما
غبنوهم غبنا بينا فيضرونهم وربما أضروا بأهل البلد لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم والذين يتلقونهم
لا يبيعونها سريعا ويتربصون بها السعر فهو في معنى بيع الحاضر للبادي فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك
وروى طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر
لباد " وعن أبي هريرة مثله متفق عليهما، وكرهه أكثر أهل العلم منهم عمر بن عبد العزيز ومالك والليث
والأوزاعي والشافعي وإسحاق، وحكي عن أبي حنيفة أنه لم ير بذلك بأسا وسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم أحق أن تتبع فإن خالف ويلقى الركبان واشترى منهم فالبيع صحيح في قول الجميع قاله ابن
عبد البر، وحكي عن أحمد رواية أخرى أن البيع فاسد لظاهر النهي، والأول أصح لأن أبا هريرة روى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تلقوا الجلب فمن تلقاه واشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار رواه مسلم
والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح ولان النهي لا معني في البيع بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن
281

استدراكها باثبات الخيار فأشبه بيع المصراة، وفارق بيع الحاضر للبادي فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار
إذ ليس الضرر عليه إنما هو على المسلمين، فإذا تقرر هذا فللبائع الخيار إذا علم أنه قد غبن وقال
أصحاب الرأي لا خيار له وقد روينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ولا قول لاحد مع قوله، وظاهر
المذهب أنه لا خيار له إلا مع الغبن لأنه إنما ثبت لأجل الخديعة ودفع الضرر ولا ضرر مع عدم الغبن
وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحمل اطلاق الحديث في اثبات الخيار على هذا لعلمنا بمعناه ومراده لأنه
معنى يتعلق الخيار بمثله ولان النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار إذا أتى السوق فيفهم منه أنه أشار إلى
معرفته بالغبن في السوق ولولا ذلك لكان الخيار له من حين البيع، ولم يقدر الخرقي الغبن المثبت للخيار
وينبغي أن يتقيد بما يخرج عن العادة لأن ما دون ذلك لا ينضبط، وقال أصحاب مالك إنما نهي عن
تلقي الركبان لما يفوت به من الرفق لأهل السوق لئلا يقطع عنهم ماله جلسوا من ابتغاء فضل الله تعالى.
قال ابن القاسم فإن تلقاها متلق فاشتراها عرضت على أهل السوق فيشتركون فيها. وقال الليث بن
سعد تباع في السوق، وهذا مخالف لمدلول الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيار للبائع إذا دخل
السوق ولم يجعلوا له خيارا وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيار له يدل على أن النهي عن تلقي الركبان لحقه لا لحق
غيره ولان الجالس في السوق كالمتلقي في أن كل واحد منهما مبتغ لفضل الله تعالى فلا يليق بالحكمة
فسخ عقد أحدهما والحاق الضرر به دفعا للضرر عن مثله وليس رعاية حق الجالس أولى من رعاية حق
لمتلقي ولا يمكن اشتراك أهل السوق كلهم في سلعته فلا يعرج على مثل هذا والله أعلم
(فصل) فإن تلقى الركبان فباعهم شيئا فهو بمنزلة الشراء منهم ولهم الخيار إذا غبنهم غبنا يخرج
عن العادة، وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وقالوا في الآخر النهي عن الشراء دون البيع
فلا يدخل البيع فيه وهذا مقتضى قول أصحاب مالك لأنهم عللوا ذلك بما ذكرنا عنهم ولا يتحقق ذلك
في البيع لهم، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تلقوا الركبان " والبائع داخل في هذا ولان النهي عنه لما فيه
من خديعتهم وغبنهم وهذا في البيع كهو في الشراء والحديث قد جاء مطلقا ولو كان مختصا بالشراء
لألحق به ما في معناه وهذا في معناه
(فصل) فإن خرج لغير قصد التلقي فلقي ركبا فقال القاضي ليس له الابتياع منهم ولا الشراء
وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ويحتمل أن لا يحرم عليه ذلك، وهو قول الليث بن سعد
والوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه لم يقصد التلقي فلم يتناوله النهي ووجه الأول انه إنما نهى عن
التلقي دفعا للخديعة والغبن عنهم وهذا متحقق سواء قصد التلقي أو لم يقصده فوجب المنع منه كما لو قصد
(فصل) وإن تلقى الجلب في أعلى الأسواق فلا بأس فإن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن
تتلقى السلع حتى يهبط بها الأسواق رواه البخاري ولأنه إذا صار في السوق فقد صار في محل البيع
والشراء فلم يدخل في النهي كالذي وصل إلى وسطها
(فصل) والاحتكار حرام لما روى الأثرم عن أبي أمامة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يحتكر الطعام وروى أيضا باسناده عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من
282

احتكر فهو خاطئ " وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج مع أصحابه فرأى طعاما كثيرا
قد القى على باب مكة فقال ما هذا الطعام؟ فقالوا جلب إلينا فقال بارك الله فيه وفيمن جلبه فقيل له
فإنه قد احتكر قال ومن احتكره؟ قالوا فلان مولى عثمان وفلان مولاك فأرسل إليهما فقال ما حملكما على
احتكار طعام المسلمين قالا نشتري بأموالنا ونبيع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من
احتكر على المسلمين طعامهم لم يمت حتى يضربه الله بالجذام أو الافلاس " قال الراوي فاما مولى عثمان
فباعه وقال والله لا احتكره أبدا وأما مولى عمر فلم يبعه فرأيته مجذوما، وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون "
(فصل) والاحتكار المحرم ما اجتمع فيه ثلاثة شروط (أحدهما) أن يشتري فلو جلب شيئا أو
ادخل من غلته شيئا فادخره لم يكن محتكرا روي عن الحسن ومالك وقال الأوزاعي الجالب ليس بمحتكر
لقوله " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " ولان الجالب لا يضيق على أحد ولا يضربه بل ينفع فإن
الناس إذا علموا عنده طعاما معدا للبيع كان ذلك أطيب لقلوبهم من عدمه (الثاني) أن يكون المشترى
قوتا فأما الادام والحلواء والعسل والزيت واعلاف البهائم فليس فيها احتكار محرم. قال الأثرم سمعت
أبا عبد الله يسأل عن أي شئ الاحتكار؟ قال: إذا كان من قوت الناس فهو الذي يكره وهذا قول
عبد الله بن عمرو، وكان سعيد بن المسيب وهو راوي حديث الاحتكار يحتكر الزيت قال أبو داود
كان يحتكر النوى والخبط والبزر ولأن هذه الأشياء مما لا تعم الحاجة إليها فأشبهت الثياب والحيوانات
(الثالث) أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين (أحدهما) أن يكون في بلد يضيق
بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور قال أحمد الاحتكار في مثل مكة والمدينة والثغور، فظاهر هذا أن
البلاد الواسعة الكثيرة المرافق والحلب كبغداد والبصرة ومصر لا يحرم فيها الاحتكار لأن ذلك لا يؤثر
فيها غالبا (الثاني) أن يكون في حال الضيق بان يدخل البلد قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها
ويضيقون على الناس، فأما إن اشتراها في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد فليس بمحرم
{مسألة} قال (وبيع العصير ممن يتخذه خمرا باطل)
وجملة ذلك أن بيع العصير لمن يعتقد أنه يتخذه خمرا محرم وكرهه الشافعي وذكر بعض أصحابه
أن البائع إذا اعتقد أنه يعصرها خمرا فهو محرم، وإنما يكره إذا شك فيه وحكى ابن المنذر عن الحسن
وعطاء والثوري أنه لا بأس ببيع التمر لمن يتخذه مسكرا قال الثوري بع الحلال ممن شئت واحتج لهم
بقول الله تعالى (وأحل الله البيع) ولان البيع تم بأركانه وشروطه
ولنا قول الله تعالى (ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) وهذا نهى يقتضي التحريم وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن في الخمر عشرة فروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه
جبريل فقال يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وبائعها ومبتاعها
وساقيها وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها. أخرج هذا الحديث الترمذي من حديث أنس وقال
283

قد روي هذا الحديث عن ابن عباس وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن بطة في تحريم
النبيذ باسناده عن محمد بن سيرين أن قيما كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له فأخبره عن عنب أنه
لا يصلح زبيبا ولا يصلح ان يباع الا لمن يعصره فأمر بقلعه وقال: بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر ولأنه
يعقد عليها لمن يعلم أنه يريدها للمعصية فأشبه إجارة أمته لمن يعلم أنه يستأجرها ليزني بها والآية
مخصوصة بصور كثيرة فيخص منها محل النزاع بدليلنا وقولهم تم البيع بشروطه وأركانه قلنا لكن وجد
المانع منه، إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري ذلك اما بقوله واما بقرائن
مختصة به تدل على ذلك فاما إن كان الامر محتملا مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله أو من يعمل الخل
والخمر معا ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر فالبيع جائز وإذا ثبت التحريم فالبيع باطل، ويحتمل أن
يصح وهو مذهب الشافعي لأن المحرم في ذلك اعتقاده بالعقد دونه فلم يمنع صحة العقد كما لو دلس العيب
ولنا أنه عقد على عين لمعصية الله بها فلم يصنع كإجارة الأمة للزنا والغناء وأما التدليس فهو المحرم
دون العقد ولان التحريم ههنا لحق الله تعالى فأفسد العقد كبيع درهم بدرهمين ويفارق التدليس فإنه لحق آدمي
(فصل) وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق أو
في الفتنة وبيع الأمة للغناء أو إجارتها كذلك أو إجارة داره لبيع الخمر فيها أو لتتخذ كنيسة أو بيت
نار وأشباه ذلك فهذا حرام والعقد باطل لما قدمنا. قال ابن عقيل وقد نص أحمد رحمه الله على مسائل
نبه بها على ذلك فقال في القصاب والخباز إذا علم أن من يشتري منه يدعوا عليه من يشرب المسكر لا يبيعه، ومن يخترط الاقداح لا يبيعها ممن يشرب فيها، ونهى عن بيع الديباج للرجال ولا بأس
ببيعه للنساء. وروي عنه لا يبيع الجوز من الصبيان للقمار وعلى قياسه البيض فيكون بيع ذلك كله باطلا
(فصل) قيل لأحمد رجل مات وخلف جارية مغنية وولدا يتيما وقد احتاج إلى بيعها قال يبيعها
على أنها ساذجة فقيل له فإنها تساوي ثلاثين ألف درهم فإذا بيعت ساذجة تساوي عشرين دينارا قال
لاتباع الا على أنها ساذجة، ووجه ذلك ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يجوز
بيع المغنيات ولا أثمانهن ولا كسبهن " قال الترمذي: هذا لا نعرفه إلا من حديث علي بن يزيد وقد
تكلم فيه أهل العلم ورواه ابن ماجة وهذا يحمل على بيعهن لأجل الغناء، فأما ماليتهن الحاصلة بغير
الغناء فلا تبطل كما أن العصير لا يحرم بيعه لغير الخمر لصلاحيته للخمر
(فصل) ولا يجوز بيع الخمر ولا التوكيل في بيعه ولا شراؤه، قال ابن المنذر أجمع العلم على
أن بيع الخمر غير جائز، وقال أبو حنيفة يجوز للمسلم أن يوكل ذميا في بيعها وشرائها وهو غير صحيح
فإن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " حرمت التجارة في الخمر " وعن جابر أنه سمع النبي صلى
الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول " ان الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " فقيل
يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال " لا، هو
حرام " ثم قال رسول صلى الله عليه وسلم " قاتل الله اليهود إن الله تعالى حرم عليهم شحومها فجملوه ثم باعوه
وأكلوا ثمنه " متفق عليه. ومن وكل في بيع الخمر وأكل ثمنه فقد أشبههم في ذلك ولان الخمر نجسة محرمة يحرم
284

بيعها والتوكيل في بيعها كالميتة والخنزير ولأنه يحرم عليه بيعه فحرم عليه التوكيل في بيعه كالخنزير
{مسألة} قال (ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان ولا يبطله شرط واحد)
ثبت عن أحمد رحمه الله أنه قال: الشرط الواحد لا بأس به إنما نهي عن الشرطين في البيع، ذهب
أحمد إلى ما روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع
ولا تبع ما ليس عندك " أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. قال الأثرم قيل لأبي
عبد الله إن هؤلاء يكرهون الشرط في البيع فنفض يده وقال الشرط الواحد لا بأس به في البيع إنما نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في البيع وحديث جابر يدل على إباحة الشرط حين باعه جمله وشرط ظهره إلى
المدينة، واختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما فروي عن أحمد انهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد
فحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبا واشترط على البائع خياطته وقصارته أو طعاما واشترط طحنه
وحمله ان اشترط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز وان اشترط شرطين فالبيع باطل، وكذلك فسر القاضي في
شرحه الشرطين المبطلين بنحو من هذا التفسير، وروى الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين أن يشتريها
على أنه لا يبيعها من أحد وأنه لا يطؤها ففسره بشرطين فاسدين، وروى عنه إسماعيل بن سعيد في
الشرطين في البيع أن يقول إذا بعتكها فأنا أحق بها بالثمن وان تخدمني سنة، وظاهر كلام أحمد أن
الشرطين المنهي عنهما ما كان من هذا النحو فأما ان شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو
مصلحته مثل أن يبيعه بشرط الخيار والتأجيل والرهن والضمين أو بشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن
فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر، وقال القاضي في المجرد ظاهر كلام أحمد انه متى شرط في العقد شرطين
بطل سواء كانا صحيحين أو فاسدين لمصلحة العقد أو لغير مصلحته أخذا من ظاهر الحديث وعملا
بعمومه، ولم يفرق الشافعي وأصحاب الرأي بين الشرط والشرطين، ورووا ان النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع وشرط ولأن الصحيح لا يؤثر في المبيع وإن كثر والفاسد يؤثر فيه وإن اتحد، والحديث
الذي رويناه يدل عل الفرق ولان الغرر اليسير إذا احتمل في العقد لا يلزم منه احتمال الكثير وحديثهم
لم يصح وليس له أصل وقد أنكره أحمد ولا نعرفه مرويا في مسند ولا يعول عليه، وقول القاضي إن
النهي يبقى على عمومه في كل شرطين بعيد أيضا فإن شرط ما يقتضيه العقد لا يؤثر فيه بغير خلاف
وشرط ما هو من مصلحة العقد كالأجل والخيار والرهن والضمين وشرط صفة في المبيع كالكتابة والصناعة
فيه مصلحة العقد فلا ينبغي أن يؤثر أيضا في بطلانه قلت أو كثرت، ولم يذكر أحمد في هذه
المسألة شيئا من هذا القسم فالظاهر أنه غير مراد له
(فصل) والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام (أحدهما) ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم
وخيار المجلس والتقابض في الحال فهذا وجوده كعدمه لا يفيد حكما ولا يؤثر في العقد (الثاني) تتعلق
به مصلحة العاقدين كالأجل والخيار والرهن والضمين والشهادة أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع
285

كالصناعة والكتابة ونحوها فهذا شرط جائز يلزم الوفاء به ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافا
(الثالث) ما ليس من مقتضاه ولا من مصلحته ولا ينافي مقتضاه وهو نوعان (أحدهما) اشتراط منفعة
البائع في المبيع فهذا قد مضى ذكره (الثاني) أن يشترط عقدا في عقد نحو أن يبيعه شيئا بشرط أن يبيعه
شيئا آخر يشتري منه أو يؤجره أو يزوجه أو يسلفه أو يصرف له الثمن أو غيره فهذا شرط فاسد يفسد
به البيع سواء اشترطه البائع أو المشتري وسنذكره إن شاء الله تعالى (الرابع) اشتراط ما ينافي مقتضى
البيع وهو على ضربين (أحدهما) اشتراط ما بني على التغليب والسراية مثل أن يشترط البائع على المشتري
عتق العبد فهل يصح على روايتين (إحداهما) يصح وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي لأن
عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وشرط أهلها عليها عتقها وولاءها فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم شرط
الولاء دون العتق (والثانية) الشرط فاسد وهو مذهب أبي حنيفة لأنه شرط ينافي مقتضي العقد أشبه إذا
شرط أن لا يبعه لأنه شرط عليه إزالة ملكه عنه أشبه ما لو شرط أن يبيعه، وليس في حديث
عائشة انها شرطت لهم العتق وإنما أخبرتهم بإرادتها لذلك من غير شرط فاشترطوا الولاء، فإذا
حكمنا بفساده فحكمه حكم سائر الشروط الفاسدة التي يأتي ذكرها، وإن حكمنا بصحته فأعتقه المشتري
فقد وفى بما شرط عليه وإن لم يعتقه ففيه وجهان (أحدهما) يجبر لأن شرط العتق إذا صح تعلق بعينه
فيجبر عليه كما لو نذر عتقه (والثاني) لا يجبر لأن الشرط لا يوجب فعل المشروط بدليل ما لو شرط الرهن
والضمين، فعلى هذا يثبت للبائع خيار الفسخ لأنه لم يسلم له ما شرطه له أشبه ما لو شرط عليه رهنا، وان
تعب المبيع أو كان أمة فأحبلها أعتقه وأجزأه لأن الرق باق فيه، وإن استغله أو أخذ من كسبه شيئا
فهو له، وإن مات المبيع رجع البائع على المشتري بما نقصه شرط العتق فيقال كم قيمته لو بيع مطلقا، وكم يساوي
إذا بيع بشرط العتق؟ فيرجع بقسط ذلك من ثمنه في أحد الوجهين وفي الآخر يضمن ما نقص من قيمته
(الضرب الثاني) أن يشترط غير العتق مثل أن يشترط أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق ولا يطأ
أو يشترط عليه أن يبيعه أو يقفه أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو إن غصبه غاصب رجع عليه بالثمن، وان
أعتقه فالولاء له فهذه وما أشبهها شروط فاسدة وهل يفسد بها البيع؟ على روايتين. قال القاضي المنصوص
عن أحمد ان البيع صحيح وهو ظاهر كلام الخرقي ههنا وهو قول الحسن والشعبي والنخعي والحكم وابن
أبي ليلى وأبي ثور (والثانية) البيع فاسد وهو مذهب أبو حنيفة والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط
ولأنه شرط فاسد فأفسد البيع كما لو شرط فيه عقدا آخر ولان الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه
الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا ولان البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه
والمشتري كذلك إذا كان الشرط له فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه والبيع من شرطه التراضي
ولنا ماروت عائشة قالت جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي غلى تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني
فقلت أن أحب أهلك ان أعدها لهم عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت
لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت إني عرضت عليهم فأبوا الا أن
يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال " خذيها
286

واشترطي الولاء فإنما الولاء لمن أعتق " ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " أما بعد: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من
شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء
لمن أعتق " متفق عليه فأبطل الشرط ولم يبطل العقد قال ابن المنذر خبر بريرة ثابت ولا نعلم خبرا
يعارضه فالقول به يجب، فإن قيل المراد بقوله اشترطي لهم الولاء أي عليهم بدليل أنه أمرها به ولا
يأمرها بفاسد، قلنا لا يصح هذا التأويل لوجهين (أحدهما) أن الولاء لها باعتاقها فلا حاجة إلى اشتراطه
(الثاني) انهم أبوا البيع إلا أن يشترط الولاء لهم فكيف يأمرها بما يعلم أنهم لا يقبلونه منها؟ واما امره
بذلك فليس هو أمرا على الحقيقة وإنما هو صيغة الامر بمعنى التسوية بين الاشتراط وتركه كقوله تعالى
(استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) وقوله (اصبروا أو لا تصبروا) والتقدير واشترطي لهم الولاء
أو لا تشترطي ولهذا قال عقيبه فإنما الولاء لمن أعتق وحديثهم لا أصل له على ما ذكرنا، وما ذكروه من
المعنى في مقابلة النص غير مقبول
(فصل) فإن حكمنا بصحة البيع فللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن ذكره القاضي
وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط لأن البائع إنما سمح ببيعها بهذا الثمن لما يحصل له من
الغرض بالشرط، والمشتري إنما سمح بزيادة الثمن من أجل شرطه فإذا لم يحصل غرضه ينبغي ان
يرجع بما سمح به كما لو وجده معيبا
(فصل) فإن حكمنا بفساد العقد لم يحصل به ملك سواء اتصل به القبض أو لم يتصل ولا ينفذ
تصرف المشتري فيه ببيع ولا هبة ولا عتق ولا غيره وبهذا قال الشافعي، وذهب أبو حنيفة إلى أن
الملك يثبت فيه إذا اتصل به القبض وللبائع الرجوع فيه فيأخذه مع الزيادة المنفصلة الا ان يتصرف
فيه المشتري تصرفا يمنع الرجوع فيه فيأخذ قيمته واحتج بحديث بريرة فإن عائشة اشترته بشرط
الولاء فأعتقتها فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم العتق، والبيع فاسد ولان المشتري على صفة يملك المبيع
ابتداء بعقد وقد حصل عليه الضمان للبدل عن عقد فيه تسليط فوجب ان يملكه كما لو كان العقد صحيحا
ولنا انه مقبوض بعقد فاسد فلم يملكه كما لو كان الثمن ميتة أو دما فاما حديث بريرة فإنما يدل على
صحة العقد لا على ما ذكروه وليس في الحديث ان عائشة اشترتها بهذا الشرط بل الظاهر أن أهل بريرة
حين بلغهم انكار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرط تركوه، ويحتمل ان الشرط كان سابقا للعقد فلم يؤثر فيه
(فصل) وعليه رد المبيع مع نمائه المتصل والمنفصل واجرة مثله مدة بقائه في يده وان نقص
ضمن نقصه لأنها جملة مضمونة فأجزاؤها تكون مضمونة أيضا فإن تلف المبيع في يد المشتري فعليه
ضمانه بقيمته يوم التلف قال القاضي ولان احمد نص عليه في الغصب ولأنه قبضه بإذن مالكه فأشبه
العارية، وذكر الخرقي في الغصب انه يلزمه قيمته أكثر ما كانت فيخرج ههنا كذلك وهو أولى لأن
العين كانت على ملك صاحبها في حال زيادتها وعليه ضمان نقصها مع زيادتها فكذلك في حال تلفها كما
لو أتلفها بالجناية، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
287

(فصل) فإن كان المبيع أمة فوطئها المشتري فلا حد عليه لاعتقاده انها ملكه ولان في الملك
اختلافا وعليه مهر مثلها لأن الحد إذا سقط للشبهة وجب المهر، ولان الوطئ في ملك الغير يوجب المهر
وعليه أرش البكارة إن كانت بكرا، فإن قيل أليس إذا تزوج امرأة تزويجا فاسدا فوطئها فأزال بكارتها
لا يضمن البكارة؟ قلنا لأن النكاح تضمن الاذن في الوطئ المذهب للبكارة لأنه معقود على الوطئ ولا
كذلك البيع فإنه ليس بمعقود على الوطئ بدليل أنه يجوز شراء من لا يحل وطؤها ولا يحل نكاحها، فإن
قيل فإذا أوجبتم مهر بكر فكيف توجبون ضمان البكارة وقد دخل ضمانها في المهر؟ وإذا أوجبتم ضمان
البكارة فكيف توجبون مهر بكر وقد أدى عوض البكارة بضمانه لها فجرى مجرى من أزال بكارتها بإصبعه
ثم وطئها؟ قلنا لأن مهر البكر ضمان المنفعة وأرش البكارة ضمان جزء فلذلك اجتمعا، واما الثاني فإنه
إذا وطئها بكرا فقد استوفى نفع هذا الجزء فوجبت قيمته بما استوفى من نفعه فإذا أتلفه وجب ضمان
عينه، ولا يجوز ان تضمن العين ويسقط ضمان المنفعة كما لو غصب عينا ذات منفعة فاستوفى منفعتها ثم
أتلفها أو غصب ثوبا فلبسه حتى أبلاه وأتلفه فإنه يضمن القيمة والمنفعة كذا ههنا
(فصل) وإن ولدت كان ولدها حرا لأنه وطئها بشبهة ويلحق به النسب لذلك ولا ولاء عليه لأنه
حر الأصل وعلى الواطئ قيمته يوم وضعه لأنه يوم الحيلولة بينه وبين صاحبه فإن سقط ميتا لم يضمن
لأنه إنما يضمنه حين وضعه ولا قيمة له حينئذ، فإن قيل فلو ضرب بطنها فألقت جنينا ميتا وجب
ضمانه، قلنا الضارب يجب عليه غرة وههنا يضمنه بقيمته ولا قيمة له، ولان الجاني أتلفه وقطع نماءه
وههنا يضمنه بالحيلولة بينه وبين سيده، ووقت الحيلولة وقت السقوط وكان ميتا فلم يجب ضمانه وعليه
ضمان نقص الولادة، وان ضرب بطنها أجنبي فألقت جنينا ميتا فعلى الضارب غرة عبد أو أمة للسيد
منها أقل الأمرين من أرش الجنين أو قيمته يوم سقط لأن ضمان الضارب له قام مقام خروجه حيا ولذلك
ضمنه البائع. وإنما كان للسيد أقل الأمرين لأن الغرة ان كانت أكثر من القيمة فالباقي منها لورثته لأنه
حصل بالحرية فلا يستحق السيد منها شيئا، وإن كانت أقل لم يكن على الضارب أكثر منها لأنه بسبب
ذلك ضمن، وإن ضرب الواطئ بطنها فألقت الجنين ميتا فعليه الغرة أيضا ولا يرث منها شيئا وللسيد أقل الأمرين
كما ذكرنا وإن سلم الجارية المبيعة إلى البائع حاملا فولدت عنده ضمن نقص الولادة وإن تلفت
بذلك ضمنها لأن تلفها بسبب منه، وان ملكها الواطئ لم تصر بذلك أم ولد على الصحيح من المذهب
لأنها علقت منه في غير ملكه فأشبه الزوجة، وهكذا كل موضع حبلت في ملك غيره ولا تصير له أم ولد بهذا
(فصل) إذا باع المشتري المبيع الفاسد لم يصح لأنه باع ملك غيره بغير اذنه وعلى المشتري رده
على البائع الأول لأنه مالك ولبائعه أخذه حيث وجده ويرجع المشتري الثاني بالثمن على الذي باعه
ويرجع الأول على بائعه فإن تلف في يد الثاني فللبائع مطالبة من شاء منهما لأن الأول ضامن والثاني
قبضه من يد ضامنه بغير إذن صاحبه فكان ضامنا، فإن كانت قيمته أكثر من ثمنه فضمن الثاني لم يرجع
بالفضل على الأول لأن التلف في يده فاستقر الضمان عليه، فإن ضمن الأول رجع بالفضل على الثاني
(فصل) وان زاد المبيع في يد المشتري بسمن أو نحوه ثم نقص حتى عاد إلى ما كان عليه أو ولدت
288

الأمة في يد المشتري ثم مات ولدها احتمل أن يضمن تلك الزيادة لأنها زيادة في عين مضمونة أشبهت
الزيادة في المغصوب، واحتمل أن لا يضمنها لأنه دخل على أن لا يكون في مقابلة الزيادة عوض فعلى هذا
تكون الزيادة أمانة في يده، فإن تلفت بتفريطه أو عدوانه ضمنها والا فلا، وان تلفت العين بعد زيادتها
أسقط تلك الزيادة من القيمة وضمنها بما بقي من القيمة حين أتلف. قال القاضي: وهذا ظاهر كلام أحمد
(فصل) إذا باع بيعا فاسدا وتقابضا ثم أتلف البائع الثمن ثم أفلس فله الرجوع في المبيع وللمشتري
أسوة الغرماء، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة المشتري أحق بالمبيع من سائر الغرماء لأنه في يده
فكان أحق به كالمرتهن ولنا أنه لم يقبضه وثيقة فلم يكن أحق به كما لو كان وديعة عنده بخلاف
المرتهن فإنه قبضه على أنه وثيقة بحقه
(فصل) إذا قال بع عبدك من فلان على أن علي خمسمأة فباعه بهذا الشرط فالبيع فاسد لأن
الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح لأنه لا يملك المنع
والثمن على غيره، ولا يشبه هذا ما لو قال أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة لكون هذا عوضا
في مقابلة فك الزوجية ورقبة العبد، ولذلك لم يجز في النكاح، أما في مسئلتنا فإنه معاوضة في مقابلة
نقل الملك فلا يثبت لمن العوض على غيره، وإن كان هذا القول على وجه الضمان صح البيع ولزم الضمان
(فصل) والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه ان
أخذ السلعة احتسب به من الثمن وان لم يأخذها فذلك للبائع، يقال عربون وأربون وعربان واربان،
قال أحمد لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر انه أجازه، وقال ابن سيرين لا بأس به،
وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا وقال أحمد هذا
في معناه واختار أبو الخطاب انه لا يصح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن
ابن عباس والحسن لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون، ورواه ابن ماجة، ولأنه شرط للبائع شيئا
بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط ان له رد المبيع من
غير ذكر مدة فلم يصح كما لو قال ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما، وهذا هو القياس
وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث انه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية
فإن رضي عمر والا فله كذا وكذا. قال الأثرم قلت لأحمد تذهب إليه؟ قال اي شئ أقول؟ هذا
عمر رضي الله عنه وضعف الحديث المروي، وروى هذه القصة الأثرم باسناده، فأما ان دفع إليه قبل
البيع درهما وقال لا تبع هذه السلعة لغيري وان لم أشترها منك فهذا الدرهم لك ثم اشتراها منه بعد
ذلك بعقد مبتدئ وحسب الدرهم من الثمن صح لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل ان الشراء
الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه جمعا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس والأئمة
القائلين بفساد العربون، وان لم يشتري السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم لأنه يأخذه بغير
عوض ولصاحبه الرجوع فيه ولا يصح جعله عوضا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله لأنه لو كان عوضا
عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء ولان الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جازت
289

لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة
{مسألة} قال (وإذا قال بعتك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا لم ينعقد البيع
وكذلك أن باعه بذهب على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه)
وجملته أن البيع بهذه الصفة باطل لأنه شرط في العقد أن يصارفه بالثمن الذي وقع العقد به والمصارفة
عقد بيع فيكون بيعتان في بيعة قال أحمد هذا معناه، وقد روى أبو هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن بيعتين في بيعة، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو
عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل ما كان في معنى هذا مثل أن يقول بعتك داري هذه
على أن أبيعك داري الأخرى بكذا أو على أن تبيعني دارك أو على أن أؤجرك أو على أن
تؤجرني كذا أو على تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي ونحو هذا فهذا كله لا يصح، قال
ابن مسعود الصفقتان في صفقة ربا وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء وجوزه مالك
وقال لا ألتفت إلى اللفظ الفاسد إذا كان معلوما حلالا فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه
يأخذها بالدنانير. ولنا الخبر وان النهي يقتضي الفساد ولان العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في
الذمة فيسقط فيفسد العقد لأن البائع لم يرض به الا بذلك الشرط فإذا فات فات الرضى به، ولأنه
شرط عقدا في عقد لم يصح كنكاح الشغار، وقوله لا ألتفت إلى اللفظ لا يصح لأن البيع هو اللفظ
فإذا كان فاسدا فكيف يكون صحيحا؟ ويتخرج أن يصح البيع ويفسد الشرط بناء على ما لو شرط
ما ينافي مقتضى العقد كما سبق والله أعلم
(فصل) وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر وهو أن يقول بعتك هذا العبد بعشرة
نقدا أو بخمسة عشر نسيئه أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحا هكذا فسره مالك والثوري وإسحاق
وهو أيضا باطل وهو قول الجمهور لأنه لم يجزم له ببيع واحد فأشبه ما لو قال بعتك هذا أو هذا ولان الثمن
مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول ولان أحد العوضين غير معين ولا معلوم فلم يصح كما لو قال بعتك
أحد عبيدي، وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا لا بأس أن يقول أبيعك بالنقد بكذا
وبالنسيئة بكذا فيذهب على أحدهما وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعد ما يجرى في العقد فكأن
المشتري قال أنا آخذه بالنسية بكذا فقال خذه أو قد رضيت ونحو ذلك فيكون عقدا كافيا، وان لم
يوجد ما يقوم مقام الايجاب أو يدل عليه فلم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابا لما
ذكرناه، وقد روي عن أحمد فيمن قال إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غدا فلك نصف درهم انه يصح
فيحتمل أن يلحق به هذا البيع فيخرج وجها في الصحة ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث أن العقد ثم
يمكن أن يصح لكونه جعالة يحتمل فيها الجهالة بخلاف البيع ولان العمل الذي يستحق به الأجرة لا يمكن وقوعه
إلا على أحدي الصفقتين فتتعين الأجرة المسماة عوضا له فلا يفضي إلى التنازع وههنا بخلافه
(فصل) ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه أو شرط المشتري ذلك عليه فهو محرم والبيع باطل
290

وهذا مذهب مالك والشافعي ولا أعلم فيه خلافا الا ان مالكا قال إن ترك مشترط السلف السلف صح
البيع. ولنا ما روى عبد الله بن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض،
وعن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف، أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث
حسن صحيح، وفي لفظ " لا يحل بيع وسلف " ولأنه اشترط عقدا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة ولأنه
إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوصا عن القرض وربحا له وذلك ربا
محرم ففسد كما لو صرح به ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما
(فصل) وإذا جمع بين عقدين مختلفي القيمة بعوض واحد كالصرف وبيع ما يجوز التفرق فيه قبل
القبض والبيع والنكاح أو الإجارة نحو أن يقول بعتك هذا الدينار وهذا الثواب بعشرين درهما، أو بعتك
هذه الدار وأجرتك الأخرى بألف أو باعه سيفا محلى بالذهب بفضة أو زوجتك ابنتي وبعتك عبدها بألف
صح العقد فيهما لأنهما عينان يجوز أخذ العوض عن كل واحدة منهما منفردة فجاز أخذ العوض عنهما
مجتمعتين كالعبدين وهذا أحد قولي الشافعي، وقال أبو الخطاب في ذلك وجه آخر أنه لا يصح وهو القول الثاني
للشافعي لأن حكمهما مختلف فإن المبيع يضمن بمجرد البيع والإجارة بخلافه والأول أصح وما ذكروه يبطل
بما إذا باع شقصا وسيفا فإنه يصح مع اختلاف حكمهما بوجوب الشفعة في أحدهما دون الآخر فاما ان
جمع بين الكتابة والبيع فقال كاتبتك وبعتك عبدي هذا بألف في كل شهر مائة لم يصح لأن المكاتب
قبل تمام الكتابة عبد قن فلا يصح أن يشتري من سيده شيئا ولا يثبت لسيده في ذمته ثمن، وإذا
بطل البيع فهل يصح في الكتابة بقسطها؟ فيه روايتان نذكرهما في تفريق الصفقة، وسوى أبو الخطاب
بين هذه الصورة وبين الصور التي قبلها فقال في الكل وجهان والذي ذكرناه إن شاء الله تعالى أولى
(فصل) في تفريق الصفقة ومعناه أن يبيع ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه صفقة واحدة بثمن واحد
وهو على ثلاثة أقسام (أحدها) أن يبيع معلوما ومجهولا كقوله بعتك هذه الفرس وما في بطن هذه
الفرس الأخرى بألف فهذا البيع باطل بكل حال ولا أعلم في بطلانه خلافا لأن المجهول لا يصح بيعه
لجهالته والمعلوم مجهول الثمن ولا سبيل إلى معرفته لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما والمجهول
لا يمكن تقويمه فيتعذر التقسيط
(الثاني) أن يكون المبيعان مما ينقسم الثمن عليهما بالاجزاء كعبد مشترك بينه وبين غيره باعه كله
بغير اذن شريكه وكقفيزين من صبرة واحدة باعهما من لا يملك الا بعضهما ففيه وجهان (أحدهما)
يصح في ملكه بقسطه من الثمن ويفسد فيما لا يملكه (والثاني) لا يصح فيهما وأصل الوجهين ان أحمد
نص فيمن تزوج حرة وأمة على روايتين (إحداهما) يفسد فيهما (والثانية) يصح في الحرة والأولى
أنه يصح فيما يملكه وهو قول مالك وأبي حنيفة وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يصح وهو
قول أبي ثور لأن الصفقة جمعت حلالا وحراما فغلب التحريم ولان الصفقة إذا لم يمكن تصحيحها في
جميع المعقود عليه بطلت في الكل كالجمع بين الأختين وبيع درهم بدرهمين
ولنا أن كل واحد منهما له حكم لو كان منفردا فإذا جمع بينهما ثبت لكل واحد منهما حكمه
291

كما لو باع شقصا وسيفا ولان ما يجوز له بيعه قد صدر فيه البيع من أهله في محله بشرطه فصح كما لو
انفرد، ولان البيع سبب اقتضى الحكم في محلين وامتنع حكمه في أحد المحلين لنبوته عن قبوله فيصح
في الآخر كما لو أوصى بشئ لآدمي وبهيمة، وأما الدرهمان والأختان فليس واحد منهما أولى بالفساد
من الآخر فلذلك فسد فيهما وههنا بخلافه
(القسم الثالث) أن يكون المبيعان معلومين مما لا ينقسم عليهما الثمن بالاجزاء كعبد وحر وخل
وخمر وعبده وعبد غيره وعبد حاضر وآبق فهذا يبطل البيع فيما لا يصح بيعه وفي الآخر روايتان نقل صالح
عن أبيه فيمن اشترى عبدين فوجد أحدهما حرا رجع بقيمته من الثمن، ونقل عنه مهنا فيمن تزوج
امرأة على عبدين فوجد أحدهما حرا فلها قيمة العبدين فأبطل الصداق فيهما جميعا، وللشافعي قولان
كالروايتين وأبطل مالك العقد فيهما الا أن يبيع ملكه وملك غيره فيصح في ملكه ويقف في ملك
غيره على الإجازة، ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال إن كان أحدهما لا يصح بيعه بنص أو اجماع كالحر
والخمر لم يصح العقد فيهما، وان لم يثبت بذلك كملكه وملك غيره صح فيما يملكه لأن ما اختلف فيه
يمكن أن يلحقه حكم الإجازة بحكم حاكم بصحة بيعه، وقال أبو ثور لا يصح بيعه لما تقدم في القسم
الثاني ولان الثمن مجهول لأنه إنما يتبين بالتقسيط للثمن على القيمة وذلك مجهول في الحال فلم يصح البيع
به كما لو قال بعتك هذه السلعة برقمها أو بحصة من رأس المال ولأنه لو صرح به فقال بعتك هذا بقسطه
من الثمن لم يصح فكذلك إذا لم يصرح، وقال من نصر الرواية الأولى انه متى سمى ثمنا في مبيع يسقط
بعضه لا يوجب ذلك جهالة تمنع الصحة كما لو وجد المبيع معيبا فأخذ أرشه، والقول بالفساد في هذا
القسم إن شاء الله أظهر والحكم في الرهن والهبة وسائر العقود إذا جمعت ما يجوز ومالا يجوز كالحكم في
البيع الا ان الظاهر فيها الصحة لأنها ليست عقود معاوضة فلا توجد جهالة العوض فيها
(فصل) وان وقع العقد على مكيل أو موزون فتلف بعضه قبل قبضه لم ينفسخ العقد في الباقي
رواية واحدة ويأخذ المشتري الباقي بحصته من الثمن لأن العقد وقع صحيحا فذهاب بعضه لا يفسخه كما
بعد القبض وكما لو وجد أحد المبيعين معيبا فرده أو أقال أحد المتبايعين الآخر في بعض المبيع
(فصل) وإن كان لرجلين عبدان لكل واحد عبد فباعاهما صفقة واحدة بثمن واحد أو وكل
أحدهما صاحبه فباعهما بثمن واحد ففيه وجهان (أحدهما) يصح فيهما ويتقسط العوض على قدر قيمتهما
وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأن جملة الثمن معلومة فصح كما لو كانا لرجل واحد
وكما لو باعا عبدا واحدا لهما أو قفيزين من صبرة واحدة (والثاني) لا يصح لأن كل واحد منهما مبيع
بقسطه من الثمن وهو مجهول على ما قدمنا وفارق ما إذا كان لرجل واحد فإن جملة المبيع مقابلة بجملة
الثمن من غير تقسيط والعبد المشترك والقفيزان ينقسم الثمن عليهما بالاجزاء فلا جهالة فيه
(فصل) ومتى حكمنا بالصحة في تفريق الصفقة وكان المشتري عالما بالحال فلا خيار له لأنه دخل
على بصيرة وان لم يعلم مثل أن اشترى عبدا يظنه كله للبائع فبان أنه لا يملك الا نصفه أو عبدين فتبين
أنه لا يملك الا أحدهما فله الخيار بين الفسخ والامساك لأن الصفقة تبعضت عليه، وأما البائع فلا خيار
292

له لأنه رضي بزوال ملكه عما يجوز بيعه بقسطه ولو وقع العقد على شيئين يفتقر إلى القبض فيهما
فتلف أحدهما قبل قبضه فقال القاضي للمشتري الخيار بين امساك الباقي بحصته وبين الفسخ لأن
حكم ما قبل القبض في كون المبيع من ضمان البائع حكم ما قبل العقد بدليل أنه لو تعيب قبل قبضه
لملك المشتري الفسخ به
{مسألة} قال (ويتجر الوصي بمال اليتيم ولا ضمان عليه والربح كله لليتيم فإن أعطاه
لمن يضارب له به فللمضارب من الربح ما وافقه الوصي عليه)
وجملته ان لولي اليتيم أن يضارب بماله وان يدفعه إلى من يضارب له به ويجعل له نصيبا من الربح
أبا كان أو وصيا أو حاكما أو أمين حاكم وهو أولى من تركه وممن رأى ذلك ابن عمر والنخعي والحسن
بن صالح ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ويروى إباحة التجارة به عن عمر وعائشة والضحاك
ولا نعلم أحدا كرهه الا ما روي عن الحسن ولعله أراد اجتناب المخاطرة به ولان خزنه أحفظ له، والذي
عليه الجمهور أولى لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ولي يتيما
له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو
أصح من المرفوع ولان ذلك أحظ للمولي عليه لتكون نفقته من فاضله وربحه كما يفعله البالغون في
أموالهم وأموال من يعز عليهم من أولادهم الا أنه لا يتجر الا في المواضع الآمنة ولا يدفعه الا لأمين
ولا يغرر بماله، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها انها أبضعت مال محمد بن أبي بكر في البحر
فيحتمل أنه كان في موضع مأمون قريب من الساحل ويحتمل أنها جعلته من ضمانه عليها ان هلك غرمته
فمتى أتجر في المال بنفسه فالربح كله لليتيم، وأجاز الحسن بن صالح وإسحاق أن يأخذه الوصي مضاربة
لنفسه لأنه جاز أن يدفعه بذلك إلى غيره فجاز أن يأخذ ذلك لنفسه والصحيح ما قلنا لأن الربح نماء
مال اليتيم فلا يستحقه غيره الا بعقد ولا يجوز ان يعقد الولي المضاربة مع نفسه فاما إن دفعه إلى غيره
فللمضارب ما جعله له الولي ووافقه عليه أي اتفقا عليه في قولهم جميعا لأن الوصي نائب عن اليتيم
فيما فيه مصلحته وهذا فيه مصلحته فصار تصرفه فيه كتصرف المالك في ماله
(فصل) ويجوز لولي اليتيم ابضاع ماله ومعناه دفعه إلى من يتجر به والربح كله لليتيم، وقد
روي عن عائشة رضي الله عنها انها أبضعت مال محمد بن أبي بكر ولأنه إذا جاز دفعه بجزء من ربحه
فدفعه إلى من يوفر الربح أولى ويجوز أن يشتري له العقار لأنه مصلحة له فإنه يحصل منه الفضل
ويبقى الأصل والغرر فيه أقل من التجارة لأن أصله محفوظ ويجوز أن يبني له عقارا لأنه في معنى
الشراء الا أن يكون الشراء أحظ وهو ممكن فيتعين تقديمه وإذا أراد البناء بناه بما يرى الخط في
البناء به، وقال أصحابنا يبنيه بالآجر والطين ولا يبني باللبن لأنه إذا هدم لا مرجوع له ولا بجص
لأنه يلتصق بالآجر فلا يتخلص منه فإذا هدم فسد الآجر لأن تخليصه منه يفضي إلى كسره، وهذا
مذهب الشافعي، والذي قلناه أولى إن شاء الله تعالى فإنه إذا كان الحظ له في البناء بغيره فتركه ضيع
293

حظه وماله ولا يجوز تضييع الحظ العاجل وتحمل الضرر الناجز المتيقن لتوهم مصلحة بقاء الآجر عند
هدم البناء ولعل ذلك لا يكون في حياته ولا يحتاج إليه مع أن كثيرا من البلدان لا يوجد فيها الآجر
وكثير منها لم تجر عادتهم بالبناء به فلو كلفوا البناء به لاحتاجوا إلى غرامة كثيرة لا يحصل منها طائل
وقول أصحابنا يختص من عادتهم البناء بالآجر كالعراق ونحوها فلا يصح في حق غيرهم
(فصل) ولا يجوز بيع عقاره لغير حاجة لأننا نأمره بالشراء لما فيه من الحظ فيكون بيعه تفويتا
للحظ فإن احتيج إلى بيعه جاز نقل أبو داود عن أحمد يجوز للوصي بيع الدور على الصغار إذا كان
نظرا لهم وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وإسحاق قالوا يبيع إذا رأى الصلاح. قال القاضي
لا يجوز الا في موضعين (أحدهما) أن يكون به ضرورة إلى كسوة أو نفقة أو قضاء دين أو مالا بد منه
وليس له ما تندفع به حاجته (الثاني) أن يكون في بيعه غبطة وهو أن يدفع فيه زيادة كثيرة على ثمن
المثل قال أبو الخطاب كالثلث ونحوه أو يخاف عليه الهلاك بغرق أو خراب أو نحوه: وهذا مذهب
الشافعي، وكلام أحمد يقتضي إباحة البيع في كل موضع يكون نظرا لهم ولا يختص بما ذكروه، وقد يرى
الولي الحظ في غير هذا مثل أن يكون في مكان لا ينتفع به أو نفعه قليل فيبيعه ويشتري له في مكان
يكثر نفعه أو يرى شيئا في شرائه غبطة ولا يمكنه شراؤه الا ببيع عقاره وقد تكون داره في مكان
يتضرر الغلام بالمقام فيه لسوء الجوار أو غيره فيبيعها ويشتري له بثمنها دارا يصلح له المقام بها وأشباه
هذا مما لا ينحصر وقد لا يكون له حظ في بيع عقاره وان دفع فيه مثلا ثمنه إما لحاجته إليه وإما لأنه
لا يمكن صرف ثمنه في مثله فيضيع الثمن ولا يبارك فيه فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " من باع دارا
أو عقارا ولم يصرف ثمنه في مثله لم يبارك له فيه " فلا يجوز بيعه إذا فلا معنى لتقييده بما ذكروه في
الجواز ولا في المنع بل متى كان بيعه أحظ له جاز بيعه وإلا فلا
(فصل) ويجوز لولي اليتيم كتابة رقيق اليتيم واعتاقه على مال إذا كان الحظ فيه مثل أن تكون
قيمته ألفا فيكاتبه بألفين أو يعتقه بألفين فإن لم يكن فيها حظ لم يصح، وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز
إعتاقه لأن الاعتاق بمال تعليق له على شرط فلم يملكه ولي اليتيم كالتعليق على دخول الدار، وقال
الشافعي لا تجوز كتابته ولا اعتاقه لأن المقصود منهما العتق دون المعاوضة فلم تجز كالاعتاق بغير عوض
ولنا انها معاوضة لليتيم فيها حظ فملكها وليه كبيعه ولا عبرة بنفع العبد ولا يضره كونه تعليقا فإنه إذا
حصل الحظ لليتيم لا يضره نفع غيره ولا كون العتق حصل بالتعليق وفارق ما قاسوا عليه فإنه لا نفع
فيه فمنع منه لعدم الحظ وانتفاء المقتضي لا لما ذكروه ولو قدر أن يكون في العتق بغير مال نفع كان
نادرا، ويتوجه أن يصح قال أبو بكر يتوجه العتق بغير عوض للحظ مثل أن يكون لليتيم جارية وابنتها
يساويان مائة مجتمعين ولو أفردت إحداهما ساوت مائتين ولا يمكن افرادها بالبيع فيعتق الأخرى لتكثر
قيمة الباقية فتصير ضعف قيمتها
(فصل) قال أحمد ويجوز للوصي أن يشتري لليتيم أضحية إذا كان له مال يعني مالا كثيرا لا
يتضرر بشراء الأضحية فيكون ذلك على وجه التوسعة في النفقة في هذا اليوم الذي هو عيد ويوم فرح
294

وفيه جبر قلبه وتطييبه والحاقه بمن له أب فينزل منزلة الثياب الحسنة وشراء اللحم سيما مع استحباب التوسعة
في هذا اليوم وجري العادة بها بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل "
رواه مسلم ومتى كان خلط مال اليتيم أرفق به وألين في الخبز وأمكن في حصول الادم فهو أولى وإن كان
افراده أرفق به أفرده لقول الله تعالى (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وان تخالطوهم
فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم ان الله عزيز حكيم) أي ضيق عليكم وشدد
من قولهم أعنت فلان فلانا إذا ضيق عليه وشدد وعنتت الرجل إذا ضلعت، ويجوز للوصي ترك
الصبي في المكتب بغير إذن الحاكم وحكي لأحمد قول سفيان لا يسلم الوصي الصبي الا بإذن الحاكم
فأنكر ذلك وذلك لأن المكتب من مصالحه فجرى مجرى نفقته لمأكوله ومشروبه وملبوسه وكذلك
يجوز له اسلامه في صناعة إذا كانت مصلحته في ذلك لما ذكرناه
(فصل) وإذا كان الولي موسرا فلا يأكل من مال اليتيم شيئا إذا لم يكن أبا لقوله تعالى (ومن كان غنيا فليستعفف) وإن كان فقيرا فله أقل الأمرين من أجرته أو قدر كفايته لأنه يستحقه بالعمل
والحاجة جميعا فلم يجز أن يأخذ الا ما وجدا فيه فإذا اكل منه ذلك القدر ثم أيسر فإن كان أبا لم يلزمه
عوضه رواية واحدة لأن للأب ان يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة وعدمها وإن كان غير الأب
فهل يلزمه عوض ذلك؟ على روايتين (إحداهما) لا يلزمه وهو قول الحسن والنخعي وأحد قولي الشافعي
لأن الله تعالى أمر بالاكل من غير ذكر عوض فأشبه سائر ما أمر بأكله ولأنه عوض من عمله فلم يلزمه
بدله كالأجير والمضارب (والثانية) يلزمه عوضه، وهو قول عبيدة السلماني وعطاء ومجاهد وسعيد بن
جبير وأبي العالية لأنه استباحه بالحاجة من مال غيره فلزمه قضاؤه كالمضطر إلى طعام غيره والأول
أصح لأنه لو وجب عليه إذا أيسر لكان وأجابا في الذمة قبل اليسار فإن اليسار ليس بسبب للوجوب
فإذا لم يجب بالسبب الذي هو الاكل لم يجب بعده وفارق المضطر فإن العوض واجب عليه في ذمته
ولأنه لم يأكله عوضا عن شئ وهذا بخلافه
(فصل) فأما قرض مال اليتيم فإذا لم يكن فيه حظ له لم يجز قرضه، فمتى أمكن الولي التجارة
به أو تحصيل عقار له فيه الحظ لم يقرضه لأن ذلك يفوت الحظ على اليتيم وان لم يمكن ذلك وكان قرضه
حظا لليتيم جاز. قال احمد: لا يقرض مال اليتيم لاحد يريد مكافأته ومودته ويقرض على النظر
والشفقة كما صنع ابن عمر، وقيل لأحمد ان عمر استقرض مال اليتيم قال إنما استقرض نظرا لليتيم واحتياطا
إن أصابه بشئ غرمه، قال القاضي ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مال في بلد فيريد نقله إلى بلد آخر
فيقرضه من رجل في ذلك البلد ليقضيه بدله في بلده يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله أو يخاف
عليه الهلاك من نهب أو غرق أو نحوهما، أو يكون مما يتلف بتطاول مدته أو حديثه خير من قديمه
كالحنطة ونحوها فيقرضه خوفا أن يسوس أو تنقص قيمته وأشباه هذا فيجوز القرض لأنه مما لليتيم فيه
الحظ فجاز كالتجارة به، وان لم يكن فيه حظ وإنما قصد ارفاق المقترض وقضاء حاجته فهذا غير جائز
لأنه تبرع بمال اليتيم فلم يجز كهبته، وان أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله، وقرضه لثقة أمين
295

أولى من ايداعه لأن الوديعة لا تضمن إذا تلفت، فإن لم يجد من يستقرضه على هذه الصفة فله إيداعه
لأنه موضع حاجة ولو أودعه مع امكان قرضه جاز ولا ضمان عليه فإنه ربما رأى الايداع أحظ له
من القرض فلا يكون مفرطا وكل موضع قلنا له قرضه فلا يجوز الا لملئ أمين ليأمن جحوده وتعذر
الايفاء وينبغي أن يأخذ رهنا ان أمكنه، وان تعذر عليه أخذ الرهن جاز تركه في ظاهر كلام أحمد
لأن الظاهر ممن يستقرضه من أجل حظ اليتيم أنه لا يبذل رهنا فاشتراط الرهن يفوت هذا الحظ،
وقال أبو الخطاب يقرضه إذا أخذ بالقرض رهنا، فظاهر هذا أنه لا يقرضه الا برهن لأن فيه احتياطا
للمال وحفظا له عن الجحد والمطل، وان أمكنه أخذ الرهن فالأولى له أخذه احتياطا على المال وحفظا
له، فإن تركه احتمل أن يضمن أن ضاع المال لتفريطه، واحتمل أن لا يضمن لأن الظاهر سلامته
وهذا ظاهر كلام أحمد لكونه لم يذكر الرهن
(فصل) قال أبو بكر: وهل يجوز للوصي أن يستنيب فيما يتولى مثله بنفسه على روايتين لأنه
متصرف بالاذن في مال غيره فأشبه الوكيل، وقال القاضي يجوز ذلك للوصي وفي الوكيل روايتان
وفرق بينهما بأن الوكيل يمكنه الاستئذان والوصي بخلافه
(فصل) وإذا ادعى الولي الانفاق على الصبي أو على ماله أو عقاره بالمعروف من ماله أو ادعى
أنه باع عقاره لحظه أو بناه لمصلحته أو أنه تلف قبل قوله، وقال أصحاب الشافعي لا يمضي الحاكم
بيع الأمين والوصي حتى يثبت عنده الحظ ببينة ولا يقبل قولهما في ذلك ويقبل قول الأب والجد.
ولنا أن من جاز له بيع العقار وشراؤه لليتيم يجب أن يقبل قوله في الحظ كالأب والجد، ولأنه يقبل
قوله في عدم التفريط فيما تصرف فيه من غير العقار فيقبل قوله في العقار كالأب، وإذا بلغ الصبي
فادعى أنه لاحظ له في البيع لم يقبل الا ببينة، فإن لم تكن بينة فالقول قول الولي مع يمينه، وإن
قال الولي أنفقت عليك منذ ثلاث سنين، وقال الغلام ما مات أبي الا منذ سنتين فالقول قول الغلام
ذكره القاضي لأن الأصل حياة والده واختلافهما في أمر ليس الوصي أمينا فيه فكان القول قول
من يوافق قوله الأصل
(فصل) قال أحمد: يجوز للوصي البيع على الغائب البالغ إذا كان من طريق النظر، وقال أصحابنا
يجوز للوصي البيع على الصغار والكبار إذا كانت حقوقهم مشتركة في عقار في قسمه اضرار وبالصغار
حاجة إلى البيع إما لقضاء دين أو مؤنة لهم. وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى: يجوز البيع على الصغار
والكبار فيما لا بد منه ولعلهما أرادا هذه الصورة لأن في ذلك نظرا للصغار واحتياطا للميت في قضاء دينه
وقال الشافعي لا يصح بيعه على الكبار لأنه تصرف في مال غيره من غير وكالة ولا ولاية فلم يصح كبيع
ماله المفرز أو مالا تضر قسمته وهذا هو الصحيح وما ذكروه لا أصل له يقاس عليه ويعارضه أن فيه
ضررا على الكيار ببيع مالهم بغير اذنهم، ولأنه لا يجوز له بيع غير العقار فلم يجز له بيع العقار كالأجنبي
(فصل) ويصح تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي فيه في أحدى الروايتين وهو
قول أبي حنيفة (والثانية) لا يصح حتى يبلغ وهو قول الشافعي لأنه غير مكلف أشبه غير المميز، ولان
296

العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصلح به التصرف لخفائه وتزايده تزايدا خفي التدريج فجعل
الشارع له ضابطا وهو البلوغ فلا يثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة. ولنا قول الله تعالى (وابتلوا
اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) ومعناه اختبروهم لتعلموا
رشدهم، وإنما يتحقق اختبارهم بتفويض التصرف إليهم من البيع والشراء وليعلم هل يغبن أولا، ولأنه
عاقل مميز محجور عليه فصح تصرفه بإذن وليه كالعبد وفارق غير المميز فإنه لا تحصل المصحلة بتصرفه
لعدم تمييزه ومعرفته ولا حاجة إلى اختباره لأنه قد علم حاله، وقولهم ان العقل لا يمكن الاطلاع عليه
قلنا يعلم ذلك بآثاره وجريان تصرفاته على وفق المصلحة كما يعلم في حق البائع فإن معرفة رشده شرط
دفع ماله إليه وصحة تصرفه كذا ههنا، فأما إن تصرف بغير اذن وليه لم يصح تصرفه ويحتمل أن
يصح ويقف على إجازة الولي وهو قول أبي حنيفة، ومبنى ذلك على ما إذا تصرف في مال غيره بغير
اذنه وقد ذكرناها فيما مضى، وأما غير المميز فلا يصح تصرفه وإن أذن له الولي فيه إلا في الشئ اليسير
كما روي عن أبي الدرداء أنه اشترى من صبي عصفورا فأرسله ذكره ابن أبي موسى
{مسألة} قال (وما استدان العبد فهو في رقبته يفديه سيده أو يسلمه، فأن جاوز ما استدان قيمته
لم يكن على سيده أكثر من قيمته إلا أن يكون مأذونا له في التجارة فيلزم مولاه جميع ما استدان)
في هذه المسألة أربعة فصول (أحدهما) في استدانة العبد، يعني أخذه بالدين يقال أدان
واستدان وتدين. قال الشاعر: يؤنبني في الدين قومي وإنما * تدينت فيما سوف يكسبهم حمدا
والعبيد قسمان: محجور عليه فما لزمه من الدين بغير رضى سيده مثل أن يقترض أو يشتري شيئا
في ذمته ففيه روايتان (إحداهما) يتعلق برقبته اختارها الخرقي وأبو بكر لأنه دين لزمه بغير اذن سيده
فتعلق برقبته كأرش جنايته (والثانية) يتعلق بذمته يتبعه الغريم به إذا عتق وأيسر وهذا مذهب الشافعي
لأنه متصرف في ذمته بغير اذن سيده فتعلق بذمته كعوض الخلع من الأمة وكالحر
(القسم الثاني) المأذون له في التصرف أو في الاستدانة فما يلزمه من الدين هل يتعلق بذمة السيد
أو برقبته؟ على روايتين، وقال مالك والشافعي إن كان في يده مال قضيت ديونه منه وإن لم يكن في يده شئ
تعلق بذمته يتبع به إذا عتق وأيسر لأنه دين ثبت برضى من له الدين أشبه غير المأذون أو فوجب أن
لا يتعلق برقبته كما لو استقرض بغير اذن سيده، وقال أبو حنيفة يباع إذا طالب الغرماء ببيعه وهذا
معناه أنه تعلق برقبته لأنه دين ثبت برضى من له الدين فيباع فيه كما لو رهنه. ولنا أنه إذا أذن له في
التجارة فقد أغرى الناس بمعاملته وأذن فيها فصار ضامنا كما لو قال لهم داينوه أو أذن في استدانة تزيد
على قيمته ولا فرق بين الدين الذي لزمه في التجارة المأذون فيها أو فيما لم يؤذن فيه مثل أن أذن له
في التجارة في البر فاتجر في غيره فإنه لا ينفك عن التغرير إذ يظن الناس أنه مأذون له في ذلك أيضا
(الفصل الثاني) فيما لزمه من الدين من أروش جناياته أو قيم متلفاته، فهذا يتعلق برقبة العبد على
297

كل حال مأذونا أو غير مأذون رواية واحدة وبه يقول أبو حنيفة والشافعي، وكل ما يتعلق برقبته فإن
السيد يتخير بين تسلميه للبيع وبين فدائه، فإن سلمه فبيع وكان ثمنه أقل من أرش جنايته فليس
للمجني عليه الا ذلك لأن العبد هو الجاني فلا يجب على غيره شئ، وإن كان ثمنه أكثر فالفضل
لسيده، وذكر القاضي أن ظاهر كلام احمد ان السيد لا يرجع بالفضل ولعله يذهب إلى أنه دفعه إليه
عوضا عن الجناية فلم يبق لسيده فيه شئ كما لو ملكه إياها عوضا عن الجناية وهذا ليس بصحيح فإن
المجني عليه لا يستحق أكثر من قدر أرش الجناية عليه كما لو جنى عليه حر، والجاني لا يجب عليه أكثر
من قدر جنايته ولان الحق تعلق بعينه فكان الفضل من ثمنه لسيده كالرهن ولا يصح قولهم إنه دفعه
عوضا لأنه لو كال عوضا لملكه المجني عليه ولم يبع في الجناية وإنما دفعه ليباع فيؤخذ منه عوض الجناية
ويرد إليه الباقي ولذلك لو أتلف درهما لم يبطل حق سيده منه بذلك لعجزه عن أداء الدرهم من غير
ثمنه، وان اختار السيد فداءه لزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته لأن أرش الجناية إن كان
أكثر فلا يتعلق بغير العبد الجاني لعدم الجناية من غيره وإنما تجب قيمته، وإن كان أقل فلم يجب
بالجناية الا هو وعن أحمد رواية أخرى انه يلزمه أرش جنايته بالغا ما بلغ لأنه يجوز ان يرغب فيه
راغب فيشتريه بأكثر من ثمنه فإذا منع بيعه لزمه جميع الأرش لتفويته ذلك وللشافعي قولان كالروايتين
(الفصل الثالث) في تصرفاته أما غير المأذون فلا يصح بيعه ولا شراؤه بعين المال لأنه تصرف
من المحجور فيما حجر عليه فيه فأشبه المفلس ولأنه تصرف في ملك غيره بغير اذنه فهو كتصرف الفضولي
ويتخرج ان يصح ويقف على إجازة السيد كذلك، واما شراؤه بثمن في ذمته واقتراضه فيحتمل أن
لا يصح لأنه محجور عليه أشبه السفيه، ويحتمل ان يصح لأن الحجر لحق غيره أشبه المفلس والمريض
ويتفرع عن هذين الوجهين ان التصرف وإن كان فاسدا فللبائع والمقرض اخذ ماله إن كان باقيا سواء
كان في يد العبد أو السيد، وإن كان تالفا فله قيمته أو مثله إن كان مثليا فإن تلف في يد السيد رجع
بذلك عليه لأن عين ماله تلف في يده، وان شاء كان ذلك متعلقا برقبة العبد لأنه الذي أخذه منه،
وان تلف في يد العبد فالرجوع عليه، وهل يتعلق برقبته أو ذمته؟ على روايتين وان قلنا التصرف
صحيح والمبيع في يد العبد فللبائع فسخ البيع وللمقرض الرجوع فيما أقرض لأنه قد تحقق إعسار
المشتري والمقترض فهو أسوأ حالا من الحر المعسر، وإن كان السيد قد انتزعه من يد العبد ملكه
بذلك وله ذلك لأنه أخذ من عبده مالا في يده بحق فهو كالصيد فإذا ملكه السيد كان كهلاكه في
يد العبد ولا يملك البائع والمقرض انتزاعه من السيد بحال، وإن كان قد تلف استقر ثمنه في رقبة العبد
أو في ذمته سواء تلف في يد العبد أو السيد، وأما العبد المأذون له فيصح تصرفه في قدر ما أذن له فيه
لا نعلم فيه خلافا ولا يصح فيما زاد نص عليه أحمد وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا أذن له في نوع انفك
الحجر عنه وجاز له التصرف مطلقا لأن الحجر لا يتجزأ فإذا زال بعضه زال كله
ولنا أنه متصرف بالاذن فاختص تصرفه بمحل الاذن كالوكيل وقولهم ان الحجر لا يتجزأ
لا يصح فإنه لو صرح بالاذن له في بيع عين ونهيه عن بيع أخرى صح وكذلك في الشراء كالوكيل
298

وان أذن له السيد في ضمان أو كفالة ففعل صح وهل يتعلق بذمة السيد أو رقبة العبد؟ على وجهين وان
رأى السيد عبده يتجر فلم ينهه لم يصر بذلك مأذونا له
(الفصل الرابع) في تصرفاته إن كان مأذونا له في التجارة قبل اقراره في قدر ما أذن له ولم يقبل
فيما زاد ولا يقبل اقرار غير المأذون له بالمال فإن أقر بعين في يده أو دين يتعلق برقبته لم يقبل على
سيده لأنه يقر بحق على غيره فلم يقبل كما لو أقر أن سيده باعه ويثبت ذلك في ذمته يتبع به بعد العتق
وان أقر بجناية استوى في ذلك المأذون له وغيره، وينقسم ذلك أقساما أربعة
(أحدها) جناية موجبها المال كاتلافه أو جناية خطأ أو أشبه عمدا وجناية عمد فيما لا قصاص فيه
كالجائفة ونحوها فلا يقبل اقراره بها لأنه اقرار بالمال فلم يقبل كما لو أقر بدارهم أو دنانير
(القسم الثاني) جناية موجبها حد سوى السرقة أو قصاص فيما دون النفس فيقبل اقراره بذلك
وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، وقال زفر وداود والمزني وجرير لا يقبل لأنه يسقط به حق السيد
فلا يقبل كالاقرار بجناية الخطأ
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه انه قطع يد عبد باقراره السرقة وجلد عبدا أقر عنده بالزنا نصف
الحد ولا مخالف له في الصحابة فكان اجماعا ولان ما لا يقبل اقرار السيد فيه على العبد يقبل فيه اقرار
العبد كالطلاق ولان العبد غير متهم فيه لأن ضرره بهذا أخص وهو بألمه أمس فقبل اقراره كما لو أقرت
به الزوجة وخرج على هذين المعنيين جناية الخطأ فإن اقرار السيد بها مقبول ولا يتضرر العبد بها
(القسم الثالث) اقراره بالسرقة يقبل في الحد فيقطع، ولا يقبل في المال سواء كانت العين تالفة
أو باقية في يد السيد أو في يد العبد وبهذا قال الشافعي، ويحتمل ان لا يقطع إذا أقر بسرقة عين موجودة
في يده وبهذا قال أبو حنيفة لأن العين محكوم بها لسيده فلا يقطع بسرقة عين لسيده ولان المطالبة
بالمسروق شرط في القطع وهذه لا يملك غير السيد المطالبة بها ولان هذا شبهة والحدود تدرأ بالشبهات
ولنا خبر علي رضي الله عنه ولأنه مقر بسرقة عين تبلغ نصابا فوجب قطعه كما لو أقر حر بسرقة عين
في يد غيره، وما ذكروه يبطل بهذه الصورة وإنما لم ترد العين إلى المسروق منه لحق السيد واما في حق
العبد فقد يثبت للمقر له ولهذا لو عتق وعادت العين إلى يده لزمه ردها إلى المقر له
(القسم الرابع) الاقرار بما يوجب القصاص في النفس فروي عن أحمد أنه لا يقبل وعموم قول
الخرقي ان أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا أو طلق زوجته لزمه ذلك يقتضي قبول اقراره
وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأنه أقر بما يوجب قصاصا فقبل كاقراره بقطع اليد، ولأنه أحد
نوعي القصاص فقبل إقراره به كالآخر ولأنه لا يقبل إقرار سيده عليه به فقبل إقراره به كالحد، واحتج
أصحابنا بأن مقتضى القياس أن لا يقبل إقراره بالقصاص أصلا لأنه إقرار على مال سيده ولأنه متهم
إذ يحتمل أن يكون عن مواطأة بينهما ليعفو على مال فيستحق رقبة العبد ولذلك لم تحمل العاقلة اعترافا
فتركنا موجب القياس لخبر علي رضي الله عنه ففيما عداه يبقى على موجب القياس، ويفارق القصاص
في النفس القصاص في الطرف لأنه قد يحتمل أنه أراد التخلص من سيده ولو بفوات نفسه، وكل
299

موضع حكمنا بقبول إقراره بالقصاص فحكمه حكم الثابت بالبينة فلولي الجناية العفو والاستيفاء والعفو
على مال فإن عفى تعلق الأرش برقبة العبد على ما مر بيانه، ويحتمل أن لا يملك العفو على مال لئلا
يتخذ ذلك وسيلة إلى الاقرار بمال
{مسألة} قال (وبيع الكلب باطل إن كان معلما)
لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل أي كلب كان، وبه قال الحسن وربيعة وحماد والأوزاعي
والشافعي وداود وكره أبو هريرة ثمن الكلب، ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر بن عبد الله
وعطاء والنخعي، وجوز أبو حنيفة بيع الكلاب كلها وأخذ أثمانها، وعنه رواية في الكلب العقور
أنه لا يجوز بيعه، واختلف أصحاب مالك فمنهم من قال لا يجوز ومنهم من قال الكلب المأذون
في إمساكه يجوز بيعه ويكره، واحتج من أجاز بيعه ما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد، ولأنه يباح الانتفاع به ويصح نقل اليد فيه والوصية
به فصح بيعه كالحمار.
ولنا ما روى أبو مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان
الكاهن متفق عليه، وعن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثمن الكلب خبيث ومهر
البغي خبيث وكسب الحجام خبيث " متفق عليهما وروي عن ابن عباس أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ثمن الكلب فإن جاء يطلبه فاملؤا كفه ترابا رواه أبو داود. ولأنه حيوان نهي عن اقتنائه في غير
حال الحاجة إليه أشبه الخنزير أو حيوان نجس العين أشبه الخنزير. فأما حديثهم فقال أحمد هذا من
الحسن أبي جعفر وهو ضعيف، وقال الدارقطني الصحيح أنه موقوف على جابر وقال الترمذي لا يصح
إسناد هذا الحديث وقد روي عن أبي هريرة ولا يصح أيضا، ويحتمل أنه أراد ولا كلب صيد، وقد
جاءت اللغة بمثل ذلك. قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه * لعمرو أبيك الا الفرقدان
أي والفرقدان ثم هذا الحديث حجة على من أباح بيع غير كلب الصيد
(فصل) ولا تجوز اجارته نص عليه أحمد وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم يجوز
لأنها منفعة مباحة فجازت المعاوضة عنها كنفع الحمير. ولنا أنه حيوان يحرم بيعه لخبثه فحرمت اجارته كالخنزير
وقياسهم ينتقض بضراب الفحل فإنها منفعة مباحة ولا يجوز إجارتها ولان إباحة الانتفاع لم تبح بيعه فكذلك
اجارته ولان منفعته لا تضمن في الغصب فإنه لو غصبه غاصب مدة لم يلزمه لذلك عوض فلم يجز أخذ العوض
عنها في الإجارة كنفع الخنزير.
(فصل) وتصح الوصية بالكلب الذي يباح اقتناؤه لأنها نقل لليد فيه من غير عوص وتصح هبته
لذلك وقال القاضي لا تصح لأنها تمليك في الحياة أشبهت البيع والأول أصح ويفارق البيع لأنه يؤخذ عوضه
وهو محرم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
300

{مسألة} قال (ومن قتله وهو معلم فقد أساء ولا غرم عليه)
أما قتل المعلم فحرام وفاعله مسئ ظالم وكذلك كل كلب مباح امساكه لأنه محل منتفع به يباح اقتناؤه
فحرم اتلافه كالشاة ولا نعلم في هذا خلافا ولا غرم على قاتله وبهذا قال الشافعي وقال مالك وعطاء عليه
الغرم لما ذكرنا في تحريم اتلافه، ولنا انه محل يحرم أخذ عوضه لخبثه فلم يجب غرمه باتلافه كالخنزير،
وإنما يحرم اتلافه لما فيه من الاضرار وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الضرر والاضرار
(فصل) فأما قتل ما لا يباح إمساكه فإن الكلب الأسود البهيم يباح قتله لأنه شيطان، قال
عبد الله بن الصامت سألت أبا ذر فقلت ما بال الأسود من الأحمر من الأبيض؟ فقال سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال " الكلب الأسود شيطان " رواه مسلم وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل اسود بهيم " ويباح
قتل الكلب العقور لما روت عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من
الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور "
متفق عليه، ويقتل كل واحد من هذين وإن كان معلما للخبرين وعلى قياس الكلب العقور كل ما
آذى الناس وضرهم في أنفسهم وأموالهم يباح قتله لأنه يؤذي بلا نفع أشبه الذئب، ومالا مضرة فيه
لا يباح قتله لما ذكرنا من الخبر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه أمر بقتل الكلاب حتى أن
المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله ثم نهى عن قتلها وقال " عليكم بالأسود البهيم ذي الطفيتين فإنه
شيطان " رواه مسلم
(فصل) ولا يجوز اقتناء الكلب إلا كلب الصيد أو كلب ماشية أو حرث لما روي عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من اتخذ كلبا الا كلب صيد أو ماشية أو زرع نقص من أجره كل
يوم قيراط " وعن ابن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من اقتنى كلبا الا كلب صيد أو ماشية
فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان، قال سالم وكان أبو هريرة يقول " أو كلب حرث " متفق
عليه، وان اقتناه لحفظ البيوت لم يجز للخبر، ويحتمل الا باحة وهو قول أصحاب الشافعي لأنه في
معنى الثلاثة فيقاس عليها والأول أصح لأن قياس غير الثلاثة عليها يبيح ما يتناول الخبر تحريمه قال القاضي
وليس هو في معناها فقد يحتال اللص لا خراجه بشئ يطعمه إياه ثم يسرق المتاع، وأما الذئب
فلا يحتمل هذا في حقه ولان اقتناءه في البيوت يؤذي المارة بخلاف الصحراء
(فصل) فاما تربية الجرو الصغير لاحد الأمور الثلاثة فيجوز في أقوى الوجهين لأنه قصده لذلك
فيأخذ حكمه كما يجوز بيع العبد الصغير والجحش الصغير الذي لا نفع فيه في لحال لما له إلى الانتفاع، ولأنه
لو لم يتخذ الصغير ما أمكن جعل الكلب للصيد إذ لا يصير معلما الا بالتعليم ولا يمكن تعليمه إلا بتربيته
واقتنائه مدة يعلمه فيها، قال الله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) ولا
يوجد كلب معلم بغير تعليم (والوجه الثاني) لا يجوز لأنه ليس من الثلاثة
301

(فصل) ومن اقتنى كلبا لصيد ثم ترك الصيد مدة وهو يريد العود إليه لم يحرم اقتناؤه في مدة
تركه لأن ذلك لا يمكن التحرز منه، وكذلك لو حصد صاحب الزرع زرعه أبيح له أمسك الكلب
إلى أن يزرع زرعا آخر، ولو هلكت ماشيته فأراد شراء غيرها فله امساك كلبها لينتفع به في التي يشتريها
فاما ان اقتنى كلب الصيد من لا يصيد به احتمل الجواز لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى كلب الصيد مطلقا
واحتمل المنع لأنه اقتناه لغير حاجة أشبه غيره من الكلاب، ومعنى كلب الصيد اي كلب يصيد به وهكذا
الاحتمالان فيمن اقتنى كلبا ليحفظ له حرثا أو ماشية إن حصلت أو يصيد به ان احتاج إلى الصيد
وليس له في الحال حرث ولا ماشية يحتمل الجواز لقصده ذلك كما لو حصد الزرع وأراد أن يزرع غيره
(فصل) ولا يجوز بيع الخنزير ولا الميتة ولا الدم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول
به وأجمعوا على تحريم الميتة والخمر وعلى أن بيع الخنزير وشراءه حرام، وذلك لما روى جابر قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقول " ان الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام "
متفق عليه. ولا يجوز بيع مالا منفعة فيه كالحشرات كلها وسباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد كالأسد
والذئب وما لا يؤكل ولا يصاد به من الطير كالرخم والحدأة والغراب الأبقع وغراب البين وبيضها
فكل هذا لا يجوز بيعه لأنه لا نفع فيه فأخذ ثمنه أكل مال بالباطل
(فصل) ولا يجوز بيع السرجين النجس، وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يجوز لأن
أهل الأمصار يتبايعونه لزروعهم من غير نكير فكان اجماعا. ولنا انه مجمع علي نجاسته فلم يجز بيعه
كالميتة وما ذكروه فليس باجماع، فإن الاجماع اتفاق أهل العلم ولم يوجد، ولأنه رجيع نجس فلم
يجز بيعه كرجيع الآدمي
(فصل) ولا يجوز بيع الحر ولا ما ليس بمملوك كالمباحات قبل حيازتها وملكها ولا نعلم في ذلك
خلافا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة. رجل أعطي
بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره " رواه البخاري
{مسألة} قال (وبيع الفهد والصقر المعلم جائز وكذلك بيع الهر وكل ما فيه المنفعة)
وجملة ذلك أن كل مملوك أبيح الانتفاع به يجوز بيعه إلا ما استثناه الشرع من الكلب وأم الولد
والوقف وفي المدبر والمكاتب والزيت النجس اختلاف نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى لأن الملك سبب
لاطلاق التصرف والمنفعة المباحة يباح له استيفاؤها فجاز له أخذ عوضها وأبيح لغيره بذل ماله فيها
توصلا إليها ودفعا لحاجته بها كسائر ما أبيح بيعه وسواء في هذا ما كان طاهرا كالثياب والعقار وبهيمة
الانعام والخيل والصيود، أو مختلفا في نجاسته كالبغل والحمار وسباع البهائم وجوارح الطير التي تصلح
للصيد كالفهد والصقر والبازي والشاهين والعقاب والطير المقصود صوته كالهزار والبلبل والببغا وأشباه
ذلك فكله يجوز بيعه، وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر عبد العزيز وابن أبي موسى لا يجوز بيع الفهد
والصقر ونحوهما لأنها نجسة فلم يجز بيعها كالكلب. ولنا أنه حيوان أبيح اقتناؤه وفيه نفع مباح من غير
302

وعيد في حبسه فأبيح بيعه كالبغل وما ذكراه يبطل بالبغل والحمار فإنه لا خلاف في إباحة بيعهما وحكمهما
حكم سباع البهائم في الطهارة والنجاسة وإباحة الاقتناء والانتفاع، وأما الكلب فإن الشرع توعد على
اقتنائه وحرمه الا في حال الحاجة فصارت اباحته ثابتة بطريق الضرورة بخلاف غيره، ولان الأصل
الإباحة بدليل قول الله تعالى (وأحل الله البيع) ولما ذكرنا من المعنى خرج منه ما استثناه الشرع لمعان
غير موجودة في هذا فبقي على أصل الإباحة، وأما الهر فقال الخرقي يجوز بيعها، وبه قال ابن عباس
والحسن وابن سيرين والحكم وحماد والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وعن أحمد
أنه كره ثمنها، وروي ذلك عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد واختاره أبو بكر لما روى
مسلم عن جابر أنه سئل عن ثمن السنور فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وفي لفظ
رواه أبو داود عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور. قال الترمذي هذا حديث
حسن وفي اسناده اضطراب. ولنا ما ذكرنا فيما يصاد به من السباع ويحمل الحديث على غير المملوك منها
أو ما لا نفع فيه منها بدليل ما ذكرنا، ولان البيع شرع طريقا للتوصل إلى قضاء الحاجة واستيفاء المنفعة
المباحة ليصل كل واحد إلى الانتفاع بما في يد صاحبه مما يباح الانتفاع به فينبغي ان يشرع ذلك فيه ليصل
كل واحد إلى الانتفاع بما في يد صاحبه فما يباح الانتفاع به ينبغي أن يجوز بيعه
(فصل) فإن كان الفهد والصقر ونحوهما مما ليس بمعلم ولا يقبل التعليم لم يجز بيعه لعدم النفع به وإن
كان مما يمكن تعليمه جاز بيعه لأن مآله إلى الانتفاع فأشبه الجحش الصغير
(فصل) فأما ما يصاد عليه كالبومة التي يجعلها شباشا لتجتمع الطير إليها فيصيده الصياد فيحتمل
جواز بيعها للنفع الحاصل منها، ويحتمل المنع لأن ذلك مكروه لما فيه من تعذيب الحيوان وكذلك اللقلق ونحوه
(فصل) فأما بيض مالا يؤكل لحمه من الطير فإن كان مما لا نفع فيه لم يجز بيعه طاهرا كان أو
نجسا، وإن كان ينتفع به بأن يصير فرخا وكان طاهرا جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به أشبه أصله،
وإن كان نجسا كبيض البازي والصقر ونحوه فحكمه حكم فرخه، وقال القاضي لا يجوز بيعه لأنه نجس
لا ينتفع به في الحال وهذا ملغي بفرخه وبالجحش الصغير
(فصل) قال احمد أكره بيع القرد قال ابن عقيل هذا محمول على بيعه للإطافة به واللعب فأما
بيعه لمن ينتفع به كحفظ المتاع والدكان ونحوه فيجوز لأنه كالصقر والبازي وهذا مذهب الشافعي وقياس
قول أبي بكر وابن أبي موسى المنع من بيعه مطلقا
(فصل) وفي بيع العلق التي ينتفع بها مثل التي تعلق على وجه صاحب الكلف فتمص الدم
والديدان التي تترك في الشص فيصاد بها السمك وجهان (أصحهما) جواز بيعها لحصول نفعها فهي
كالسمك (والثاني) لا يجوز لأنها لا ينتفع بها الا نادرا فأشبهت ما لا نفع فيه
(فصل) ويجوز بيع دود القز وبزره، وقال أبو حنيفة في رواية عنه إن كان مع دود القز قز
جاز بيعه وإلا فلا لأنه لا ينتفع بعينه فهو كالحشرات وقيل لا يجوز بيع بزره
ولنا ان الدود حيوان طاهر يجوز اقتناؤه لتملك ما يخرج منه أشبه البهائم ولان الدود وبزره طاهر
303

منتفع به فجاز بيعه كالثوب وقوله لا ينتفع بعينه يبطل بالبهائم التي لا يحصل منها نفع سوى النتاج ويفارق
الحشرات التي لا نفع فيها أصلا، فإن نفع هذه كثير لأن الحرير الذي هو أشرف ملابس الدنيا إنما يحصل منها
(فصل) ويجوز بيع النحل إذا شاهدها محبوسة بحيث لا يمكنها أن تمتنع، وقال أبو حنيفة لا يجوز
بيعها منفردة لما ذكر في دود القز. ولنا أنه حيوان طاهر يخرج من بطونها شراب فيه منافع للناس
فجاز بيعه كبهيمة الأنعام واختلف أصحابنا في بيعها في كواراتها فقال القاضي لا يجوز لأنه لا يمكن
مشاهدة جميعها ولأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعها معها وهو مجهول، وقال أبو الخطاب يجوز بيعها
في كواراتها ومنفردة عنها فإنه يمكن مشاهداتها في كواراتها إذا فتح رأسها ويعرف كثرته من قلته
وخفاء بعضه لا يمنع صحة بيعه كالصبرة وكما لو كان في وعاء فإن بعضه يكون على بعض فلا يشاهد الا
ظاهره والعسل يدخل في البيع تبعا فلا تضر جهالته كأساسات الحيطان فإن لم يمكن مشاهدة النحل
لكونه مستورا باقراصه ولم يعرف لم يجز بيعه لجهالته
(فصل) ذلك الخرقي أن الترياق لا يؤكل لأنه يقع فيه لحوم الحيات فعلى هذا لا يجوز بيعه لأن
نفعه إنما يحصل بالاكل وهو محرم فخلا من نفع مباح فلم يجز بيعه كالميتة، ولا يجوز التداوي به ولا بسم
الأفاعي (1) فاما السم من الحشائش والنبات فإن كان لا ينتفع به أو كان يقتل قليله لم يجز بيعه لعدم نفعه
وان انتفع به وأمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به أشبه بقية المأكولات
(فصل) ولا يجوز بيع جلد الميتة قبل الدبغ قولا واحدا قاله ابن أبي موسى، وفي بيعه بعد
الدبغ عنه خلاف، وقد روى حرب عن أحمد أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وأما غير
ذلك نحو ريش الطير التي لها مخلب أو بعض جلود السباع التي لها أنياب فإن بيعها أسهل لأن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن أكل لحومها والصحيح عنه أنه لا يجوز وهذا ينبني على الحكم بنجاسة جلود الميتة
وانها لا تطهر بالدباغ وقد ذكرنا ذلك في بابه
(فصل) فاما بيع لبن الآدميات فقال أحمد أكرهه. واختلف أصحابنا في جوازه فظاهر كلام
الخرقي جوازه لقوله وكل ما فيه المنفعة وهذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي، وذهب جماعة من
أصحابنا إلى تحريم بيعه وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لأنه مائع خارج من آدمية فلم يجز بيعه كالعرق
ولأنه من آدمي فأشبه سائر أجزائه، والأول أصح لأنه لبن طاهر منتفع به فجاز بيعه كلبن الشاة،
ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر فأشبه المنافع ويفارق العرق فإنه لا نفع فيه ولذلك لا يباع
عرق الشاة ويباع لبنها وسائر اجزاء الآدمي يجوز بيعها فإنه يجوز بيع العبد والأمة وإنما حرم بيع
الحر لأنه ليس بمملوك وحرم بيع العضو المقطوع لأنه لا نفع فيه (2)
(فصل) واختلفت الرواية في بيع رباع مكة وإجارة دورها فروي أن ذلك غير جائز وهو قول
أبي حنيفة ومالك والثوري وأبي عبيد وكرهه إسحاق لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة " لا تباع رباعها ولا تكدري بيوتها " رواه الأثرم باسناده وعن مجاهد
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " مكة حرام بيع رباعها حرام إجارتها " وهذا نص رواه سعيد بن منصور

(1) اكل الحيات غير محرم اجماعا بل أباحه مالك وغيره فما ثبت عند الأطباء من نفع الترياق أو غيره من الأدوية التي يدخل فيها سمها فهو مباح على أن المحرم لذاته يباح للضرورة والمحرم لسد الذريعة يباح للحجة كما في أعلام الموقعين للمحقق ابن القيم
(2) مفهومه انه يجوز بيعه إذا انتفع به وهذا حاصل في عصرنا في الجلد تسلخ قطعة منه ويرقع بها البدن وفي غير ذلك
304

في سننه وروي أنها كانت تدعي السوائب على عهد رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم ذكره مسدد في مسنده ولأنها
فتحت عنوة ولم تقسم فكانت موقوفة فلم يجز بيعها كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة ولم يقسموها
والدليل على أنها فتحت عنوة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله
والمؤمنين، وانها لم تحل لاحد قبلي ولا تحل لاحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار " متفق عليه وروت
أم هانئ قالت أجرت حموين لي فأراد علي أخي قتلهما فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله اني
أجرت حموين لي فزعم ابن أمي علي أنه قاتلهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قد أجرنا من أجرت أو أمنا من أمنت
يا أم هانئ " متفق عليه ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أربعة فقتل منهم ابن خطل ومقيس بن صبابة وهذا
يدل على أنها فتحت عنوة (والرواية الثانية) أنه يجوز بيع رباعها وإجارة بيوتها، وروي ذلك عن طاوس
وعمرو بن دينار وهذا قول الشافعي وابن المنذر وهو أظهر في الحجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له أين
تنزل غدا؟ قال " وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ " متفق عليه يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب لأنه
ورثه دون اخوته لكونه كان على دينه دونهما ولو كانت غير مملوكة لما أثر بيع عقيل شيئا ولان أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم دور بمكة لأبي بكر والزبير وحكيم بن حزام وأبي سفيان وسائر أهل مكة فمنهم
من باع ومنهم من ترك داره فهي في يد أعقابهم وقد باع حكيم بن حزام دار الندوة فقال ابن الزبير بعت
مكرمة قريش فقال يا ابن أخي ذهبت المكارم إلا التقوى أو كما قال واشترى معاوية دارين واشترى عمر
دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرفه الملاك
بالبيع وغيره ولم ينكره منكر فكان اجماعا، وقد قرره النبي صلى الله عليه وسلم بنسبة دورهم إليهم فقال " من دخل
دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن " وأقرهم في دورهم ورباعهم، ولم ينقل أحدا
عن داره ولا وجد منه ما يدل على زوال أملاكهم وكذلك من بعده من الخلفاء حتى إن عمر رضي الله
عنه مع شدته في الحق لما احتاج على زوال أملاكهم وكذلك من بعده من الخلفاء حتى إن عمر رضي الله
عنه مع شدته في الحق لما احتاج إلى دار السجن لم يأخذها إلا بالبيع، ولأنها أرض حية لم يرد
عليها صدقة محرمة فجاز بيعها كسائر الأرض، وما روي من الأحاديث في خلاف هذا فهو ضعيف،
وأما كونها فتحت عنوة فهو الصحيح الذي لا يمكن دفعه الا ان النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها فيها على أملاكهم
ورباعهم فيدل ذلك على أنه تركها لهم كما ترك لهوازن نساءهم وأبنائهم وعلى القول الأول من كان ساكن
دار أو منزل فهو أحق به يسكنه ويسكنه وليس له بيعه ولا أخذ أجرته، ومن احتاج إلى مسكن فله
بذل الأجرة فيه، وإن احتاج إلى الشراء فله ذلك كما فعل عمر رضي الله عنه وكان أبو عبد الله إذا سكن
أعطاهم أجرتها فإن سكن بأجرة فامكنه أن لا يدفع إليهم الأجرة جاز له ذلك لأنهم لا يستحقونها، وقد
روي أن سفيان سكن في بعض رباع مكة وهرب ولم يعطهم أجرة فأدركوه فأخذوها منه وذكر لأحمد
فعل سفيان فتبسم فظاهر هذا أنه أعجبه قال ابن عقيل والخلاف في غير مواضع المناسك أما بقاع المناسك
كموضع السعي والرمي فحكمه حكم المساجد بغير خلاف
(فصل) ومن بنى بناء بمكة بآلة مجلوبة من غير أرض مكة جاز بيعها كما يجوز بيع أبنية الوقوف
وانقاضها، وان كانت من تراب الحرم وحجارته انبنى جواز بيعها على الروايتين في بيع رباع مكة لأنها
تابعة لمكة وهكذا تراب كل وقف وانقاضه قال أحمد وأما البناء بمكة فاني أكرهه، قال إسحاق البناء
305

بمكة على وجه الاستخلاص لنفسه لا يحل وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له ألا تبني لك بمنى بيتا؟
فقال " منى مناخ لمن سبق "
(فصل) قال أحمد لا أعلم في بيع المصاحف رخصة ورخص في شرائها وقال الشراء أهون وكره
بيعها ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وسعيد بن جبير وإسحاق وقال ابن عمر وددت أن الأيدي
تقطع في بيعها وقال أبو الخطاب يجوز بيع المصحف مع الكراهة وهل يكره شراؤه وابداله؟ على
روايتين، ورخص في بيعها الحسن والحكم وعكرمة والشافعي وأصحاب الرأي لأن البيع يقع على الجلد
والورق وبيع ذلك مباح، ولنا قول الصحابة رضي الله عنهم ولم نعلم مخالفا في عصرهم، ولأنه يشتمل
على كلام الله تعالى فتجب صيانته عن البيع والابتذال، وأما الشراء فهو أسهل لأنه استنقاذ للمصحف
وبذل لما له فيه فجاز كما أجاز شراء رباع مكة واستئجار دورها من لا يرى بيعها ولا أخذ أجرتها وكذلك
أرض السواد ونحوها وكذلك دفع الأجرة إلى الحجام لا يكره مع كراهة كسبه، وان اشترى الكافر
مصحفا فالبيع باطل وبه قال الشافعي وأجازه أصحاب الرأي وقالوا يجبر على بيعه لأنه أهل للشراء
والمصحف محل له ولنا أنه يمنع من استدامة الملك عليه فمنع من ابتدائه كسائر ما يحرم بيعه وقد نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم فلا يجوز تمكينهم
من التوصل إلى نيل أيديهم إياه
(فصل) ولا يصح شراء الكافر مسلما وهذا قول مالك في أحدى الروايتين عنه والشافعي في
أحد القولين، وقال أبو حنيفة يصح ويجبر على إزالة ملكه لأنه يملك المسلم بالإرث ويبقى ملكه عليه
إذا أسلم في يده فصح شراؤه له كالمسلم، ولنا أنه يمنع استدامة ملكه عليه فمنع ابتداءه كالنكاح ولأنه
عقد يثبت الملك على المسلم للكافر فلم يصح كالنكاح، والملك بالإرث والاستدامة أقوى من ابتداء الملك
بالفعل والاختيار بدليل ثبوته للمحرم في الصيد مع منعه من ابتدائه فلا يلزم من ثبوت الأقوى
ثبوت ما دونه مع أننا نقطع الاستدامة عليه بمنعه منها واجباره على إزالتها
(فصل) ولو وكل كافر مسلما في شراء مسلم لم يصح الشراء لأن الملك يقع للموكل ولان الموكل
ليس بأهل لشرائه فلم يصح أن يشتري له كما لو وكل مسلم ذميما في شراء خمر؟ وان وكل المسلم كافرا
يشتري له مسلما فاشتراه ففيه وجهان (أحدهما) يصح لأن المنع منه إنما كان لما فيه من ثبوت ملك
الكافر على المسلم والملك يثبت للمسلم ههنا فلم يتحقق المانع (والثاني) لا يصح لأن ما منع من
شرائه منع التوكيل فيه كالمحرم في شراء الصيد والكافر في نكاح المسلمة، والمسلم لا يجوز أن يكون
وكيلا لذمي في شراء خمر
(فصل) وان اشترى الكافر مسلما يعتق عليه بالقرابة كأبيه وأخيه صح الشراء وعتق عليه في قول
بعض أصحابنا وحكى فيه أبو الخطاب روايتان (أحدهما) لا يصح وهو قول بعض الأصحاب لأنه شراء
يملك به المسلم فلم يصح كالذي لا يعتق عليه ولان ما منع من شرائه لم يبح له شراؤه وان زال ملكه عقيب
الشراء كشراء المحرم الصيد (والثانية) يصح شراؤه لأن المنع إنما ثبت لما فيه من إهانة المسلم بملك
الكافر له والملك ههنا يزول عقيب الشراء بالكلية ويحصل من نفع الحرية أضعاف ما حصل من الإهانة
306

بالملك في لحظة يسيرة ويفارق من لا يعتق عليه فإن ملكه لا يزول إلا بإزالته وكذلك شراء المحرم
للصيد فإنه لو ملكه لثبت ملكه عليه ولم يزل، ولو قال كافر لمسلم أعتق عبدك عنى وعلى ثمنه ففعل صح لأن
اعتاقه ليس بتمليك وإنما هو ابطال للرق فيه وإنما حصل الملك فيه حكما فجاز كما يملكه بالإرث حكما
ولان ما يحصل له بالحرية من النفع ينغمر فيه ما يحصل من الضرر بالملك فيصير كالمعدوم وفيه وجه آخر
أنه لا يصح بناء على شراء قريبه المسلم
(فصل) ولو أجر مسلم نفسه لذمي لعمل في ذمته صح لأن عليا رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي
يستقي له كل دلو بتمرة وأتى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأكله وفعل ذلك رجل من الأنصار وأتى به النبي
صلى الله عليه وسلم فلم ينكره ولأنه لا صغار عليه في ذلك وان استأجره في مدة كيوم أو شهر ففيه وجهان
(أحدهما) لا يصح لأن فيه استيلاء عليه وصغارا أشبه الشراء (والثاني) يصح هو أولى لأن ذلك عمل
في مقابلة عوض أشبه العمل في ذمته ولا يشبه الملك لأن الملك يقتضي سلطانا واستدامة وتصرفا بأنواع
التصرفات في رقبته بخلاف الإجارة
(فصل) ولا يجوز أن يفرق في البيع بين كل ذي رحم محرم وبه قال أبو حنيفة وقال: مالك لا يحرم
التفريق إلا بين الام وولدها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله
بينه وبين أحبته يوم القيامة " رواه الترمذي وقال حديث حسن وقال " لا توله والدة عن ولدها " فخصها
بذلك فدل على الإباحة فيما سواه وقال الشافعي يحرم بين الوالدين والمولودين وان سفلوا ولا يحرم بين
من عداهم لأن القرابة التي بينهم لا تمنع القصاص ولا شهادة بعضهم لبعض فلم تمنع التفريق في البيع كابني
العم ولنا ما روى أحمد في المسند ثنا غندر ثنا سعيد بن أبي غروبة عن الحكم عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى
عن علي رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما
ففرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما الا جميعا " وروى عن أبي
موسى أن النبي قال " لعن الله من فرق بين الوالدة وولدها والأخ وأخيه " ولان بينهما رحما محرما
فلم يجز التفريق بينهما كالوالد مع أمه ويفارق ابني العم فإنه ليس بينهما رحم محرم
(فصل) فإن فرق بينهما قبل البلوغ فالبيع باطل، وبه قال الشافعي فيما دون السبع، وقال أبو حنيفة
البيع صحيح لأن النهي لمعنى في غير البيع وهو الضرر اللاحق بالتفريق فلم يمنع صحة البيع كالبيع في وقت
النداء. ولنا حديث علي وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بردهما ولو لزم البيع لما أمكن ردهما، وروى أبو داود
في سننه أن عليا فرق بين الام وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم فرد المبيع، ولأنه بيع محرم لمعنى فيه ففسد
كبيع الخمر ولا يصح ما قاله فإن ضرر التفريق حاصل بالبيع فكان لمعنى فيه، فأما تحديده بالسبع فإن
عموم اللفظ يمنع ذلك ولا يجوز تخصيصه بغير دليل، وإن كان فرق بينهما بعد البلوغ جاز، وقال أبو الخطاب
فيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لعموم النهي (والثانية) يجوز وهي الصحيحة لما روي أن سلمة بن
الأكوع أتى أبا بكر بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبها له وأهدى إلى
النبي صلى الله عليه وسلم مارية وأختها سيرين فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم سيرين لحسان بن ثابت وترك مارية له، ولأنه
307

بعد البلوغ يصير مستقلا بنفسه والعادة التفريق بين الأحرار فإن المرأة تزوج ابنتها ويفرق بين الحرة
وولدها إذا افترق الأبوان
(فصل) وإذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال كالسلطان الظالم والمرابي، فإن علم أن المبيع من
حلال ماله فهو حلال وان علم أنه حرام فهو حرام ولا يقبل قول المشتري عليه في الحكم لأن الظاهر
أن ما في يد الانسان ملكه فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه لاحتمال التحريم فيه ولم يبطل البيع لامكان
الحلال قل الحرام أو كثر وهذا هو الشبهة وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون كثرة الشبهة وقلتها، قال
أحمد: لا يعجبني أن يأكل منه لما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الحلال بين والحرام بين
وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع
في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وان لكل ملك حمى وحمى الله
محارمه " متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم، وفي لفظ رواية البخاري " فمن ترك ما اشتبه عليه كان
لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من المأثم أو شك أن يواقع ما استبان " وروى الحسن
ابن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " دع ما يريبك إلى مالا يريبك " وهذا مذهب الشافعي
(فصل) والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب ما أصله الحظر كالذبيحة في بلد فيها مجوس وعبدة أوثان
يذبحون فلا يجوز شراؤها، وإن أمكن أن يكون ذابحها مسلما لأن الأصل التحريم فلا يزول الا بيقين
أو ظاهر، وكذلك أن كان فيها أخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك. والأصل فيه
حديث عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا أرسلت كلبك فخالط كلبا لم يسم عليها فلا
تأكل فإنك لا تدري أيها قتله " متفق عليه، فأما إن كان ذلك في بلد الاسلام فالظاهر إباحتها لأن
المسلمين لا يقرون في بلدهم بيع ما لا يحل بيعه ظاهرا (والثاني) ما أصله الإباحة كالماء يجده متغيرا
لا يعلم أبنجاسة تغير أم بغيرها فهو طاهر في الحكم لأن الأصل الطهارة فلا نزول عنها الا بيقين أو
ظاهر ولم يوجد واحد منهما. والأصل في ذلك حديث عبد الله بن زيد قال: شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم
الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه يجد الشئ قال " لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " متفق عليه.
(الثالث) مالا يعرف له أصل كرجل في ماله حلال وحرام فهذا هو الشبهة التي الأولى تركها على
ما ذكرنا وعملا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وجد تمرة ساقطة فقال " لولا أني أخشى أنها
من الصدقة لأكلتها " وهو من باب الورع
(فصل) وكان أحمد رحمه الله لا يقبل جوائز السلطان وينكر على ولده وعمه قبولها ويشدد في ذلك،
وممن كان لا يقبلها سعيد بن المسيب والقاسم وبشر بن سعيد ومحمد بن واسع والثوري وابن المبارك وكان
هذا منهم عل سبيل الورع والتوقي لا على أنها حرام، فإن احمد قال: جوائز السلطان أحب إلي
من الصدقة وقال ليس أحد من المسلمين الا وله في هذه الدراهم نصب فكيف أقول إنها سحت،
وممن كان يقبل جوائزهم ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة مثل الحسن والحسين وعبد الله
ابن جعفر، ورخص فيه الحسن البصري ومكحول والزهري والشافعي واحتج بعضهم بأن النبي
صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ومات ودرعه مرهونة عنده وأجاب يهوديا دعاه واكل من طعامه
308

وقد أخبر الله تعالى أنهم أكالون سحت، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا بأس بجوائز
السلطان فإن ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام وقال لا تسأل السلطان شيئا وان اعطى
فخذ، فإن ما في بيت المال من الحلال أكثر مما فيه من الحرام
قال احمد رحمه الله فيمن معه ثلاثة دراهم فيها حرام يتصدق بالثلاثة، وإن كان معه مائتا درهم
فيها عشرة حرام يتصدق بالعشرة لأن هذا كثير وذاك قليل فقيل له قال سفيان: ما كان دون العشرة
يتصدق به، وما كان أكثر يخرج قال نعم لا يجحف به، قال القاضي وليس هذا على سبيل التحديد
وإنما هو على طريق الاختيار لأنه كلما كثر الحلال بعد تناول الحرام وشق التورع عن الجميع بخلاف
القليل فإنه يسهل اخراج الكل، والواجب في الموضعين اخراج قدر الحرام والباقي مباح له وهذا لأن
تحريمه لم يكن لتحريم عينه وإنما حرم لتعلق حق غيره به، فإذا أخرج عوضه زال التحريم عنه كما لو
كان صاحبه حاضرا فرضي بعوضه وسواء كان قليلا أو كثيرا، والورع اخراج ما يتيقن به اخراج عين
الحرام ولا يحصل ذلك الا باخراج الجميع، لكن لما شق ذلك في الكثير ترك لأجل المشقة فيه واقتصر على
الواجب، ثم يختلف هذا باختلاف الناس فمنهم من لا يكون له الا الدارهم اليسيرة فيشق اخراجها لحاجته
إليها ومنهم من يكون له مال كثير فيستغني عنها فيسهل اخراجها
(فصل) قد ذكرنا ان الظاهر من المذهب لا يجوز بيع كل ماء عد كمياه العيون. ونقع البئر
في أماكنه قبل احرازه في إنائه ولا الكلأ في مواضعه قبل حيازته فعلى هذا متى باع الأرض وفيها
كلا أو ماء فلا حق للبائع فيه وقد ذكرنا رواية أخرى أن ذلك مملوك وأنه يجوز بيعه فعلى هذه الرواية
إن باع الأرض فذكر الماء والكلأ في البيع دخل فيه وان لم يذكره كان الماء الموجود والكلأ للبائع
لأنه بمنزلة الزرع في الأرض والماء أصل بنفسه فهو كالطعام في الدار فما يتجدد بعد البيع فهو للمشتري
وعلى هذه الرواية إذا باع من هذا الماء آصعا معلومة جاز لأنه كالصبرة، وان باع كل ماء البئر لم يجز
لأنه يختلط بغيره، ولو باع من النهر الجاري آصعا لم يجز لأن ذلك الماء يذهب ويأتي غيره
(فصل) وعلى كلتا الروايتين متى كان الماء النابع في ملكه أو الكلأ أو المعادن وفق كفايته لشربه
وشرب ماشيته لم يجب عليه بذله نص عليه لأنه في ملكه، فإذا تساوى هو وغيره في الحاجة كان أحق
به كالطعام، وإنما توعد النبي صلى الله عليه وسلم على منع فضل الماء ولا فضل في هذا ولان عليه في بذله ضررا
ولا يلزمه نفع غيره بمضرة نفسه وإن كان فيه فضل عن شربه وشرب ماشيته وزرعه واحتاجت إليه
ماشية غيره لزمه بذله بغير عوض ولكل واحد أن يتقدم إلى الماء ويشرب ويسقى ماشيته وليس لصاحبه
المنع من ذلك لما روى أياس بن عبد الله المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من منع فضل الماء
ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته "
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تسأل المرأة طلاق أختها ونهى أن
يمنع الماء مخافة ان يرعى الكلأ، يعني إذا كان في مكان كلا وليس يمكنه الإقامة لرعيه الا بالسقي من
هذا الماء فيمنعهم السقي ليتوفر الكلأ عليه، وروى أبو عبيدة باسناده عن عمر أنه قال ابن السبيل
أحق بالماء من الباني عليه، وعن أبي هريرة قال: ابن السبيل أول شارب، وعن بهيسة قالت: قال
309

أبى يا رسول الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال " الماء " قال يا رسول الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟
قال " الملح " وليس عليه بذل آلة البئر من الحبل والدلو والبكرة لأنه يخلق ولا يستخلف غيره بخلاف
الماء وهذا كله هو الظاهر من مذهب الشافعي ولا فرق فيما ذكرنا بين البنيان والصحاري، وعن أحمد
أنه قال: إنما هذا في الصحاري والبرية دون البنيان، يعني ان البنيان إذا كان فيه الماء فليس لأحد
الدخول إليه إلا باذن صحابه
(فصل) وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره فيه روايتان (إحداهما) لا يلزمه وهو مذهب
الشافعي لأن الزرع لا حرمة له في نفسه، ولهذا لا يجب على صاحبه سقيه بخلاف الماشية (والثانية)
يلزمه بذله لذلك لما روي عن عبد الله بن عمرو أن قيم أرضه بالوهط كتب إليه يخبره انه قد سقى ارضه وفضل له من الماء فضل يطلب بثلاثين ألفا فكتب إليه عبد الله بن عمرو أقم قلدك ثم اسق الأدنى
فالأدنى فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع فضل الماء، قال أبو عبيد القلد يوم الشرب وفي المسند
ثنا حسن قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
فضل الماء، وروى إياس بن عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يمنع فضل الماء. رواه
الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وفي لفظ نهى عن بيع الماء، ولان في منعه فضل الماء اهلاكه
فحرم منعه كالماشية، وقولهم لا حرمة له قلنا فلصاحبه حرمة فلا يجوز التسبب إلى اهلاك ماله، ويحتمل
أن يمنع نفى الحرمة عنه فإن إضاعة المال منهي عنها واتلافه محرم وذلك دليل على حرمته
(فصل) وإذا اشترى عبدا بمائة فقضاها عنه غيره صح سواء قضاه بأمره أو غير أمره فإن بان
العبد مستحقا لزم رد المائة إلى دافعها لأنا تبينا أنه قبض غير مستحق فكأن المائة لم تخرج من يد
دافعها وان بان العبد معيبا فرده بالعيب أو بإقالة أو أصدق امرأة إنسان شيئا فطلقها الزوج قبل دخوله
بها أو ارتدت فهل يلزم رد المائة إلى دافعها أو على المشتري والزوج؟ يحتمل وجهين (أحدهما) على الدافع
لأن القبض حصل منه فالرد عليه كالتي قبلها (والثاني) على الزوج والمشتري لأن قضاءه بمنزلة الهبة
لهما بدليل براءة ذمتها منه والهبة المقبوضة لا يجوز الرجوع فيها، وإن كان باذن المشتري والزوج
احتمل أن يكون الحكم فيه كما لو قضاه بغير اذنه إذا كان فعل ذلك على سبيل التبرع عليه واحتمل أن
يكون رده على الزوج والمشتري إذا كان عقدهما صحيحا بكل حال لأن اذنهما في تسليمه إلى من له
الدين عليهما إذا اتصل به القبض جرى مجرى قبوله وقبضه بخلاف ما إذا لم يأذن، وان أذنا في دفع
ذلك عنهما قرضا فإن الرد يكون عليهما والمقرض يرجع عليهما بعوضه
(فصل) إذا قال العبد لرجل ابتعني من سيدي ففعل فبان العبد معتقا فالضمان على السيد نص عليه
أحمد وبه قال أبو حنيفة إن كان السيد حاضرا حين غره العبد وإن كان غائبا فالضمان على العبد لأن
الغرور منه. ولنا أن السيد قبض الثمن بغير استحقاق وضمن العهدة فكان الضمان عليه كما لو كان
حاضرا وان بان العبد مغصوبا أو به عيب فرده فالضمان على السيد لما ذكرنا
(فصل) وان اشترى اثنان عبدا فغاب أحدهما وجاء الآخر يطلب نصيبه منه فله ذلك وقال
أبو حنيفة ليس له ذلك لأنه لا يمكنه تسليمه الا بتسليم تصيب الغائب وليس له تسليمه بغير اذنه.
310

ولنا أنه طلب حصته فكان له ذلك كما لو أوجب لكل واحد منهما منفردا وما ذكروه يبطل بهذه الصورة
وان قال الحاضر أنا أدفع جميع الثمن ويدفع إلي جميع العبد لم يكن له ذلك، وقال أبو حنيفة له ذلك
ولنا أن شريكه لم يأذن للحاضر في قبض نصيبه ولا للبائع في دفعه إليه فلم يكن لهما ذلك كما لو
كانا حاضرين فإن سلم إليه فتلف العبد فللغائب تضمين أيهما شاء لأن الدافع فرط بدفع ماله بغير اذنه
والشريك قبض مال غيره بغير اذنه فإن ضمن الشريك لم يرجع على أحد لأن التلف حصل في يده
فاستقر الضمان عليه، وان ضمن الدافع رجع على القابض لذلك، ويقوى عندي أنه إذا لم يمكن تسليم
نصيب أحد المشتريين إليه الا بتسليم نصيب صاحبه أنه لا يجوز التسليم إليه لما ذكرنا ههنا
(فصل) ويستحب الاشهاد في البيع لقول الله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) وأقل أحول الامر
الاستحباب ولأنه أقطع للنزاع وأبعد من التجاحد فكان أولى، ويختص ذلك بماله خطر فاما الأشياء
القليلة الخطر كحوائج البقال والعطار وشبههما فلا يستحب ذلك فيها لأن العقود فيها تكثر فيشق
الاشهاد عليها وتقبح إقامة البينة عليها والترافع إلى الحاكم من أجلها بخلاف الكثير وليس الاشهاد
بواجب في واحد منهما ولا شرطا له روي ذلك عن أبي سعيد الخدري وهو قول الشافعي وأصحاب
الرأي وإسحاق وأبي أيوب، وقالت طائفة ذلك فرض لا يجوز تركه. روي ذلك عن ابن عباس
وممن رأى الاشهاد على البيع عطاء وجابر بن زيد والنخعي لظاهر الامر، ولأنه عقد معاوضة
فيجب الاشهاد عليه كالنكاح
ولنا قول الله تعالى (فإن امن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) قال أبو سعيد صار الامر إلى
الأمانة (1)
وتلا هذه الآية ولان النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعه واشترى
من رجل سراويل ومن اعرابي فرسا فجحده الاعرابي حتى شهد له خزيمة بن ثابت ولم ينقل انه شهد
في شئ من ذلك، وكان الصحابة يتبايعون في عصره في الأسواق فلم يأمرهم بالاشهاد ولا نقل عنهم فعله
ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانوا يشهدون في كل بياعاتهم لما أخل بنقله، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم
عروة بن الجعد ان يشتري له أضحية ولم يأمره بالاشهاد وأخبره عروة انه اشترى شاتين فباع إحداهما ولم
ينكر عليه ترك الاشهاد، ولان المبايعة تكثر بين الناس في أسواقهم وغيرها فلو وجب الاشهاد في كل
ما يتبايعونه افضى إلى الحرج المحطوط عنا بقوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) والآية
المراد بها الارشاد إلى حفظ الأموال والتعليم كما أمر بالرهن والكاتب وليس ذلك بواجب وهذا ظاهر
(فصل) ويكره البيع والشراء في المسجد، وبه قال إسحاق لما روى أبو هريرة ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم
من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب، ولان
المساجد لم تبن لهذا ورأي عمران القصير رجلا يبيع في المسجد فقال هذه سوق الآخرة فإن أردت
التجارة فاخرج إلى سوق الدنيا فإن باع فالبيع صحيح لأن البيع ثم بأركانه وشروطه ولم يثبت وجود
مفسد له وكراهة ذلك لا توجب الفساد كالغش في البيع والتدليس والتصرية وفي قول النبي صلى الله
عليه وسلم قولوا " لا أربح الله تجارتك " من غير اخبار بفساد البيع دليل على صحته والله أعلم.

(1) الآية لا حجة فيها على ما أراد
311

باب السلم
وهو أن يسلم عوضا حاضرا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، ويسمى سلما وسلفا يقال أسلم
وأسلف وسلف وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع وبلفظ السلم والسلف ويعتبر فيه من الشروط
ما يعتبر في البيع، وهو جائز بالكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله. تعالى (يا أيها الذين آمنوا
إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) وروى سعيد باسناده عن ابن عباس أنه قال أشهد ان السلف
المضمون إلى اجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ هذه الآية ولان هذا اللفظ يصلح
للسلم ويشمله بعمومه، وأما السنة فروى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قدم المدينة وهم يسلفون
في الثمار السنتين والثلاث فقال " من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل
معلوم " متفق عليه، وروى البخاري عن محمد بن أبي المجالد قال أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد
إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف فقالا كنا نصيب المغانم مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب، فقلت أكان لهم
زرع أم لم يكن لهم زرع؟ قال ما كنا نسألهم عن ذلك، واما الاجماع فقال ابن المنذر أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز ولان المثمن في البيع أحد عوضي العقد فجاز ان يثبت في
الذمة كالثمن ولان بالناس حاجة إليه لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أن
فسهم وعليها لتكمل وقد تعوزهم النفقة فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص
312

{مسألة} قال أبو القاسم رحمه الله (وكل ما ضبط بصفة فالسلم فيه جائز)
وجملة ذلك أن السلم لا يصح الا بشروط ستة
(أحدهما) أن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرا فيصح في
الحبوب والثمار والدقيق والثياب والإبريسم والقطن والكتان والصوف والشعر والكاغد والحديد
والرصاص والصفر والنحاس والأدوية والطيب والخلول والادهان والشحوم والألبان والزئبق والشب
والكبريت والكحل وكل مكيل أو موزون أو مزروع، وقد جاء الحديث في الثمار وحديث ابن أبي
أوفى في الحنطة والشعير والزبيب والزيت، وأجمع أهل العلم على أن السلم في الطعام جائز قاله ابن المنذر
وأجمعوا على جواز السلم في الثياب، ولا يصح السلم فيما لا ينضبط بالصفة كالجوهر من اللؤلؤ والياقوت
والفيروذج والزبرجد والعقيق والبلور لأن أثمانها تختلف اختلافا متباينا بالصغر والكبر وحسن التدوير
وزيادة ضوئها وصفائها، ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور ونحوه لأن ذلك يختلف ولا بشئ معين لأن
ذلك يتلف، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي، وحكى عن مالك صحة السلم فيها إذا اشترط منها شيئا
معلوما وإن كان وزنا فبوزن معروف، والذي قلناه أولى لما ذكرنا ولا يصح فيما يجمع اخلاطا مقصودة
غير متميزة كالغالية والند والمعاجين التي يتداوى بها للجهل بها، ولا في الحوامل من الحيوان لأن الولد
مجهول غير متحقق، ولا في الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط لأن الصفة لا تأتي عليه وفيه وجه آخر
أنه يصح السلم فيه إذا ضبط بارتفاع حائطه ودور أعلاه وأسفله لأن التفاوت في ذلك يسير، ولا يصح
في القسي المشتملة على الخشب والقرن والعضب والتوز إذ لا يمكن ضبط مقادير ذلك وتمييز ما فيه منها
وقيل يجوز السلم فيها، والأولى ما ذكرنا، قال القاضي والذي يجمع أخلاطا على أربعة أضرب (أحدها) مختلط مقصود متميز كالثياب المنسوجة من قطن وكتان أو قطن وإبريسم فيصح السلم فيها لأن ضبطها
ممكن (الثاني) ما خلطه لمصلحته وليس بمقصود في نفسه كالإنفحة في الجبن والملح في العجين والخبز والماء
في خل التمر والزبيب فيصح السلم فيه. لأنه يسير لمصلحته (الثالث) أخلاط مقصودة غير متميزة كالغالية
والند والمعاجين فلا يصح السلم فيها لأن الصفة لا تأتي عليها (الرابع) ما خلطه غير مقصود ولا مصلحة
فيه كاللبن المشوب بالماء فلا يصح السلم فيه.
313

(فصل) ويصح السلم في الخبز واللبأ وما أمكن ضبطه مما مسته النار، وقال الشافعي لا يصح السلم في
كل معمول بالنار لأن النار تختلف ويختلف عملها ويختلف الثمن بذلك، ولنا قوله عليه السلام " من
أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم " فظاهر هذا إباحة السلم في كل مكيل وموزون ومعدود
ولان عمل النار فيه معلوم بالعادة ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة فصح السلم فيه كالمجفف بالشمس
فاما اللحم المطبوخ والشواء فقال القاضي لا يصح السلم فيه، وهو مذهب الشافعي لأن ذلك يتفاوت
كثيرا وعادات الناس فيه مختلفة فلم يمكن ضبطه وقال بعض أصحابنا يصح السلم فيه لما ذكرنا في الخبز واللبأ.
(فصل) ويصح السلم في النشاب والنبل، وقال القاضي لا يصح السلم فيهما وهو مذهب الشافعي لأنه
يجمع أخلاطا من خشب وعقب وريش ونصل فجرى مجرى أخلاط الصيادلة ولان فيه ريشا نجسا
لأن ريشه من جوارح الطير، ولنا أنه مما يصح بيعه ويمكن ضبطه بالصفات التي لا يتفاوت الثمن معها
غالبا فصح السلم فيه كالخشب والقصب وما فيه من غيره متميز يمكن ضبطه والإحاطة به ولا يتفاوت
كثيرا فلا يمنع كالثياب المنسوجة من جنسين وقد يكون الريش طاهرا وإن كان نجسا لكن يصح بيعه
فلم يمنع السلم فيه كنجاسة البغل والحمار
(فصل) واختلفت الرواية في السلم في الحيوان فروي لا يصح فيه، وهو قول الثوري وأصحاب
الرأي، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن جبير والشعبي والجوزجاني لما روي
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال إن من الربا أبوابا لا تخفى وان منها السلم في السن ولان
الحيوان يختلف اختلافا متباينا فلا يمكن ضبطه، وان استقصى صفاته التي يختلف بها الثمن - مثل أزج
الحاجبين أكحل العينين أقنى الانف أشم العرنين أهدب الأشفار ألمى الشفة بديع الصفة تعذر تسليمه
لندرة وجوده على تلك الصفة، وظاهر المذهب صحة السلم فيه نص عليه في رواية الأثرم. قال ابن
المنذر وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوان ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وسعيد بن
المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والزهري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وحكاه الجوزجاني
314

عن عطاء والحكم لأن أبا رافع قال استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا رواه مسلم وروى عبد الله
ابن عمرو بن العاص قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابتاع البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجئ
الصدقة، وقد ذكرنا هذا الحديث في باب الربا ولأنه ثبت في الذمة صداقا فثبت في السلم كالثياب
فأما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف ثم هو محمول على أنهم يشترطون من ضراب فحل بني
فلان قال الشعبي إنما كره ابن مسعود السلف في الحيوان لأنهم اشترطوا نتاج فحل معلوم رواه سعيد
وقد روي عن علي أنه باع جملا له يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل ولو ثبت قول عمر في تحريم
السلم في الحيوان فقد عارضة قول من سمينا ممن وافقنا
(فصل) واختلفت الرواية في غير الحيوان مما لا يكال ولا يوزن ولا يزوع فنقل إسحاق
ابن إبراهيم عن أحمد أنه قال: لا أرى السلم إلا فيما يكال أو يوزن أو يوقف عليه قال أبو الخطاب
معناه يوقف عليه بحد معلوم لا يختلف كالزرع فأما الرمان والبيض فلا أرى السلم فيه، وحكى ابن المنذر
عنه وعن إسحاق أنه لا خير في السلم في الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء والخيار لأنه لا يكال ولا
يوزن ومنه الصغير والكبير، فعلى هذه الرواية لا يصح السلم في كل معدود مختلف كالذي سميناه وكالبقول
لأنه يختلف ولا يمكن تقدير البقل بالحزم لأن الحزم يمكن في الصغير والكبير فلم يصح السلم فيه كالجواهر
ونقل إسماعيل بن سعيد وابن منصور جواز السلم في الفواكه والسفرجل والرمان والموز والخضراوات
ونحوها لأن كثيرا من ذلك مما يتقارب وينضبط بالصغر والكبر وما لا يتقارب ينضبط بالوزن كالبقول
ونحوها فصح السلم فيه كالمزروع وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وحكى ابن المنذر عن
الشافعي المنع من السلم في البيض والجوز ولعل هذا قول آخر فيكون له في ذلك قولان.
(فصل) فأما السلم في الرؤوس والأطراف فيخرج في صحة السلم فيها الخلاف الذي ذكرنا،
وللشافعي فيها قولان أيضا كالروايتين (أحدهما) يجوز وهو قول مالك والأوزاعي وأبي ثور لأنه
لحم فيه عظم يجوز شراؤه فجاز السلم فيه كبقية اللحم (والآخر) لا يجوز وهو قول أبي حنيفة لأن أكثره
العظام والمشافر واللحم فيه قليل وليس بموزون بخلاف اللحم، فإن كان مطبوخا أو مشويا فقال الشافعي
لا يصح السلم فيه وهو قياس قول القاضي لأنه يتناثر ويختلف وعلى قول غير القاضي من أصحابنا حكم
315

ما مسته النار من ذلك حكم غيره وبه قال مالك والأوزاعي وأبو ثور، والعقد يقتضيه سليما من التأثر
والعادة في طبخه تتفاوت فأشبه غيره
(فصل) وفي الجلود من الخلاف مثل ما في الرؤوس والأطراف، وقال الشافعي لا يصح السلم
فيها لأنها تختلف فالورك ثخين قوي والصدر ثخين رخو والبطن رقيق ضعيف والظهر أقوى فيحتاج إلى
وصف كل موضع منه ولا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه
ولنا ان التفاوت في ذلك معلوم فلم يمنع صحة السلم فيه كالحيوان فإنه يشتمل على الرأس والجلد
والأطراف واللحم والشحم وما في البطن وكذلك الرأس يشتمل على لحم الخدين والأذنين والعينين
ويختلف ذلك ولم يمنع صحة السلم فيه كذا ههنا
(فصل) ويصح السلم في اللحم وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز لأنه يختلف. ولنا
قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم " وظاهره إباحة السلم في
كل موزون ولأننا قد بينا جواز السلم في الحيوان فاللحم أولى
316

(الشرط الثاني) أن يضبطه بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهرا فإن المسلم فيه عوض في الذمة
فلا بد من كونه معلوما بالوصف كالثمن ولان العلم شرط في المبيع، وطريقه اما الرؤية واما الوصف،
والرؤية ممتنعة ههنا فيتعين الوصف، والأوصاف على ضربين متفق على اشتراطها ومختلف فيها فالمتفق
عليها ثلاثة أوصاف الجنس والنوع والجودة والرداءة فهذه لا بد منها في كل مسلم فيه ولا نعلم بيه أهل
العلم خلافا في اشتراطها وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي
(الضرب الثاني) ما يختلف الثمن باختلافه مما عدا هذه الثلاثة الأوصاف وهذه تختلف باختلاف
المسلم فيه ونذكرها عند ذكره وذكرها وشرط في السلم عند إمامنا والشافعي، وقال أبو حنيفة يكفي ذكر
الأوصاف الثلاثة لأنها تشتمل على ما وراءها من الصفات، ولنا أنه يبقى من الأوصاف من اللون والبلد
ونحوهما ما يختلف الثمن والغرض لأجله فوجب ذكره كالنوع
ولا يجب استقصاء كل الصفات لأن ذلك يتعذر وقد ينتهي الحال فيها إلى أمر يتعذر تسليم المسلم
فيه إذ يبعد وجود المسلم فيه عند المحل بتلك الصفات كلها فيجب الاكتفاء بالأوصاف الظاهرة التي يختلف
317

الثمن بها ظاهرا. ولو استقصى الصفات حتى انتهى إلى حال يندر وجود المسلم فيه بتلك الأوصاف بطل
السلم لأن من شرط السلم أن يكون المسلم فيه عام الوجود عند المحل واستقصاء الصفات يمنع منه ولو شرط الأجود لم
يصح أيضا لأنه لا يقدر على الأجود، وان قدر عليه كان نادرا وان شرط الأردأ احتمل أن لا يصح لذلك واحتمل
أن يصح لأنه يقدر على تسليم ما هو خير منه فإنه لا يسلم شيئا إلا كان خيرا مما شرطه فلا يعجز إذا
عن تسليم ما يجب قبوله بخلاف التي قبلها، ولو أسلم في جارية وابنتها لم يضح لأنه لا بد أن يضبط كل
واحدة منهما بصفات وتعذر وجود تلك الصفات في جارية وابنتها وكذلك أن أسلم في جارية وأختها
أو عمتها أو خالتها أو ابنة عمها لما ذكرنا، ولو أسلم في ثوب على صفة خرقة أحضرها لم يجز لجواز أن
تهلك الخرقة وهذا غرر ولا حاجة منه فمنع الصحة كما لو شرط مكيالا بعينه أو صنجة بعينها
(فصل) والجنس والجودة أو ما يقوم مقامهما شرطان في كل مسلم فيه فلا حاجة إلى تكرير ذكرهما
318

في كل مسلم فيه ويذكر ما سواهما فيصف التمر بأربعة أوصاف النوع برني أو معقلي والبلد إن كان يختلف
فيقول بغدادي أو بصري فإن البغدادي أحلى وأقل بقاء لعذوبة الماء والبصري بخلاف ذلك والقدر كبار
أو صغار وحديث أو عتيق فإن أطلق العتيق فأي عتيق أعطي جاز ما لم يكن مسوسا ولا حشفا ولا متغيرا
وان قال عتيق عام أو عامين فهو على ما قال، فأما اللون فإن كان النوع الواحد مختلفا كالطبرز يكون
أحمر ويكون أسود ذكره والا فلا، والرطب كالتمر في هذه الأوصاف الا الحديث والعتيق، ولا
يأخذ من الرطب إلا ما أرطب كله ولا يأخذ منه مشدخا ولا قديما قارب أن يتمر، وهكذا
ما جرى مجراه من العنب والفواكه
(فصل) ويصف البر بأربعة أوصاف النوع فيقول سبيلة أو سلموني والبلد فيقول حوراني أو
بلقاوي أو سمالي، وصغار الحب أو كباره وحديث أو عتيق، وإن كان النوع الواحد يختلف لونه ذكره
ولا يسلم فيه الا مصفى وكذلك الحكم في الشعير والقطنيات وسائر الحبوب
(فصل) ويصف العسل بثلاثة أوصاف البلد فيجئ أو نحوه ويجزئ ذلك عن النوع، والزمان
ربيعي أو خريفي أو صيفي، واللون أبيض أو أحمر وليس له إلا مصفى من الشمع
(فصل) ولا بد في الحيوان كله من ذكر النوع والسن والذكورية والأنوثية ويذكر اللون إن كان
النوع الواحد يختلف ويرجع في سن الغلام إليه إن كان بالغا وإن كان صغيرا فالقول قول سيده،
وان لم يعلم رجع في قوله إلى أهل الخبرة على ما يغلب على ظنونهم تقريبا وإذا ذكر النوع في الرقيق
وكان مختلفا مثل التركي منهم الجكلي والخزري فهل يحتاج إلى ذكره أو يكفي ذكر النوع؟ يحتمل
وجهين، ولا يحتاج في الجارية إلى ذكر البكارة والثيوبة ولا الجعودة والسبوطة لأن ذلك لا يختلف به الثمن
319

اختلافا بينا، ومثل ذلك لا يراعى كما صفات الحسن والملاحة فإن ذكر شيئا من ذلك لزمه، ويذكر الثيوبة
والبكارة لأن الثمن يختلف بذلك ويتعلق به الغرض، ويذكر القد خماسي أو سداسي يعني خمسة أشبار
أو ستة أشبار قال أحمد يقول خماسي سداسي أسود أبيض أعجمي أو فصيح، فأما الإبل فيضبطها بأربعة
أوصاف فيقول من نتاج بني فلان والسن بنت مخاض أو بنت لبون واللون بيضاء أو حمراء أو ورقاء وذكر
أو أنثى، فإن كان النتاج يختلف فيه مهرية وأرحبية فهل يحتاج إلى ضبط ذلك؟ يحتمل وجهين وما زاد
على هذه الأوصاف لا يفتقر إلى ذكره، وان ذكر بعضه كان تأكيدا ولزمه، وأوصاف الخيل كأوصاف
الإبل وأما البغال والحمير فلا نتاج لها فيجعل مكان ذلك نسبتها إلى بلدها، وأما البقر والغنم فإن
عرف لها نتاج فهي كالإبل وإلا فهي كالحمر ولا بد من ذكر النوع في هذه الحيوانات فيقول في الإبل
بختية أو عرابية وفي الخيل عربية أو هجين أو برذون، وفي الغنم ضأن أو معز الا الحمر والبغال فلا نوع فيهما
(فصل) ويذكر في اللحم السن والذكورية والأنوثية والسمن والهزال وراعيا أو معلوفا ونوع
الحيوان وموضع اللحم منه ويزيد في الذكر فحلا أو خصيا، وإن كان من صيد لم يحتج إلى ذكر العلف
والخصاء ويذكر الآلة التي يصاد بها من جارحة أو أحبولة، وفي الجارحة يذكر صيد فهد أو كلب أو
صقر فإن الاحبولة يؤخذ الصيد منها سليما وصيد الكلب خير من صيد الفهد لكون الكلب أطيب الحيوان
نكهة قيل لكونه مفتوح الفم في أكثر الأوقات، والصحيح إن شاء الله ان هذا ليس بشرط لأن
التفاوت فيه يسير ولا يكاد الثمن يتباين باختلافه ولا يعرفه إلا القليل من الناس وإذا لم يحتج في الرقيق
إلى ذكره البكارة والثيوبة والسمن والهزال وأشباهها مما يتباين بها الثمن وتختلف الرغبات بها ويعرفها
320

الناس فهذا أولى، ويلزم قبول اللحم بعظامه لأنه هكذا يقطع فهو كالنوى في التمر، وإن كان السلم
في لحم طير لم يحتج إلى ذكر الذكورية والأنوثية إلا أن يختلف بذلك كلحم الدجاج ولا إلى ذكر موضع
اللحم الا أن يكون كثيرا يأخذ منه بعضه ولا يلزمه قبول الرأس والساقين لأنه لا لحم عليها وفي السمك
يذكر النوع بردي أو غيره والكبر والصغر والسمن والهزال والطري والملح ولا يقبل الرأس
والذنب وله ما بينهما، وإن كان كثيرا يأخذ بعضه ذكر موضع اللحم منه
(فصل) ويضبط السمن بالنوع من ضأن أو معز أو بقر واللون أبيض أو أصر قال القاضي
ويذكر المرعى ولا يحتاج إلى ذكر حديث أو عتيق لأن اطلاقه يقتضي الحديث ولا يصح السلم في
عتيقة لأنه عيب ولا ينتهي إلى حد يضبط به، ويصف الزبد بأوصاف السمن ويزيد زبد يومه أو أمسه
ولا يلزمه قبول متغير في السمن أو الزبد ولا رقيق الا أن تكون رقته للحر، ويصف اللبن بالنوع
والمرعى ولا يحتاج إلى اللون ولا حلبة يومه لأن اطلاقه يقتضي ذلك ولا يلزمه قبول متغير،
قال أحمد ويصح السلم في المخيض، وقال الشافعي لا يصح السلم فيه لأن فيه ما ليس من مصلحته وهو
الماء فصار المقصود مجهولا
ولنا أن الماء يسير يترك لأجل المصلحة جرت العادة به فلم يمنع صحة السلم فيه كالماء في الشيرج
والملح والإنفحة في الجبن والماء في خل التمر، ويصف الجبن بالنوع والمرعى ورطب أو يابس، ويصف
اللبأ بصفات اللبن ويزيد اللون ويذكر الطبخ أوليس بمطبوخ
(فصل) وتضبط الثياب بستة أوصاف النوع كتان أو قطن والبلد والطول والعرض والصفاقة
321

والرقة والغلظ والدقة والنعومة والخشونة ولا يذكر الوزن فإن ذكره لم يصح لتعذر الجمع بين صفاته
المشترطة وكونه على وزن معلوم فيكون فيه تغرير لتعذر اتفاقه (1)
وذكر خاما أو مقصورا فله ما شرط
وإن لم يذكره جاز وله خام لأنه الأصل وان ذكر مغسولا أو لبيسا لم يجز لأن اللبس يختلف ولا ينضبط
فإن أسلم في مصبوغ وكان مما يصبغ غزله جاز لأن ذلك من جملة صفات الثوب، وإن كان مما يصبغ بعد
نسجه لم يجز لأن صبغ الثوب يمنع الوقوف على نعومته وخشونته ولان الصبغ غير معلوم، وان أسلم في
ثوب مختلف الغزول كقطن وإبريسم أو قطن وكتان أو صوف وكانت الغزول مضبوطة بان يقول:
السدى إبريسم واللحمة كتان أو نحوه جاز ولهذا جاز السلم في الخز وهو من غزلين مختلفين، وان أسلم في
ثوب موشى وكان الوشي من تمام نسجه جاز وإن كان زيادة لم يجز لأنه لا ينضبط (2)
(فصل) ويصف غزل القطن والكتان بالبلد واللون والغلظ والدقة والنعومة والخشونة ويصف
القطن بذلك ويجعل مكان الغلظ والدقة الطول والقصر، وإن شرط في القطن منزوع الحب جاز وان
أطلق كان له بحبه كالتمر بنواه، ويصف الإبريسم بالبلد واللون والغلظ والدقة، ويصف الصوف بالبلد
واللون والطول والقصر والزمان خريفي أو ربيعي لأن صوف الخريف أنظف. قال القاضي: ويصفه
بالذكورية والأنوثية لأن صوف الإناث أنعم، ويحتمل أن لا يحتاج إلى هذه الصفة لأن التفاوت في
هذا يسير، وعليه تسليمه نقيا من الشوك والبعر وان لم يشترطه، وان شرطه جاز وكان تأكيدا
والشعر والوبر كالصوف، ويصح السلم في الكاغد لأنه يمكن ضبطه ويصفه بالطول والعرض والدقة
والغلظ واستواء الصنعة وما يختلف به الثمن

(1) كان ذلك المعروف حتى زمن المؤلف وأما الآن فلا يتعذر بل هو موجود
(2) يمكن ضبطه
322

(فصل) ويضبط النحاس والرصاص والحديد بالنوع فيقول في الرصاص قلعي أو أسرب والعنومة
والخشونة واللون إن كان يختلف ويزيد في الحديد ذكرا أو أنثى فإن الذكر أحد وأمضي، وإن أسلم في
الأواني التي يمكن ضبط قدرها وطولها وسمكها ودورها كالاسطال القائمة الحيطان والطسوت جاز
ويضبطها بذلك كله، وان أسلم في قصاع وأقداح من الخشب جاز، ويذكر نوع خشبها من جوز أو
توت وقدرها في الصغر والكبر والعمق والضيق والثخانة والرقة وأي عمل؟ وان أسلم في سيف ضبطه
بنوع حديده وطوله وعرضه ورقته وغلظه وبلده وقديم الطبع أو محدث ماض أو غيره ويصف قبضته وجفنه
(فصل) والخشب على أضرب منعه ما يراد للبناء فيذكر نوعه ويبسه ورطوبته وطوله ودوره أو
سمكه وعرضه، ويلزمه أن يدفع إليه من طرفه إلى طرفه بذلك العرض والدور فإن كان أحد طرفيه
أغلظ مما وصف فقد زاده خيرا، وإن كان أدق لم يلزمه قبوله، وان ذكر الوزن أو سمحا جاز
وان لم يذكره جاز وله سمح خال من العقد لأن ذلك عيب، وإن كان للقسي ذكر هذه الأوصاف
وزاد سهليا أو جبليا أو خوطا أو فلقة فإن الجبلي أقوى من السهلي والخوط أقوى من الفلقة، ويذكر
فيما للوقود الغلظة واليبس والرطوبة والوزن، ويذكر فيما للنصب النوع والغلظ وسائر ما يحتاج إلى معرفته ويخرجه
من الجهالة، وان أسلم في النشاب والنبل ضبطه بنوع جنسه وطوله وقصره ودقته وغلظه ولونه ونصله وريشه
(فصل) والحجارة منها ما هو للأرحية فيضبطها بالدور والثخانة والبلد والنوع إن كان يختلف،
ومنها ما هو للبناء فيذكر النوع واللون والقدر والوزن ويذكر في حجارة الآنية اللون والنوع والقدر
323

واللين والوزن ويصف البلور بأوصافه ويصف الآجر واللبن بموضع التربة واللون والدور والثخانة،
وان أسلم في الجص والنورة ذكر اللون والوزن ولا يقبل ما أصابه الماء فجف ولا ما قدم قدما يؤثر فيه
ويضبط التراب بمثل ذلك ويقبل الطين الذي قد جف إن كان لا يتأثر بذلك
(فصل) ويضبط العنبر بلونه والبلد وان شرط قطعة أو قطعتين جاز وان لم يشترط فله أن يعطيه
صغارا أو كبارا، وقد قيل إن العنبر نبات يخلقه الله تعالى في جنبات البحر، ويضبط العود الهندي ببلده
وما يعرف به ويضبط المصطكا واللبان والغراء العربي وصمغ الشجر والمسك وسائر ما يجوز السلم فيه بما يختلف له
{مسألة} قال (إذا كان بكيل معلوم أو وزن معلوم أو عدد معلوم)
هذا الشرط الثالث وهو معرفة مقدار المسلم فيه بالكيل إن كان مكيلا وبالوزن إن كان موزونا
وبالعدد إن كان معدودا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم
324

إلى أجل معلوم " ولأنه عوض غير مشاهد يثبت في الذمة فاشترط معرفة قدره كالثمن، ولا نعلم في
اعتبار معرفة المقدار خلافا ويجب أن يقدره بمكيال أو أرطال معلومة عند العامة فإن قدره باناء معلوم
أو صنجة معينة غير معلومة لم يصح لأنه يهلك فيتعذر معرفة قدر المسلم فيه وهذا غرر لا يحتاج إليه العقد قال ابن
المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم في الطعام لا يجوز بقفيز لا يعلم عياره ولا في ثوب
بذرع فلان لأن المعيار لو تلف أو مات فلان بطل السلم منهم الثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور،
وان عين مكيال رجل أو ميزانه وكانا معروفين عند العامة جاز ولم يختص بهما وان لم يعرفا لم يجز.
(فصل) وان أسلم فيما يكال وزنا أو فيما يوزن كيلا قنقل الأثرم انه سأل احمد عن السلم في التمر
وزنا فقال: لا إلا كيلا. قلت إن الناس ههنا لا يعرفون الكيل قال وان كانوا لا يعرفون الكيل،
فيحتمل هذا أنه لا يجوز في المكيل إلا كيلا ولا في الموزون إلا وزنا وهكذا ذكره القاضي وابن أبي
موسى لأنه مبيع يشترط معرفة قدره فلم يجز بغير ما هو مقدر به في الأصل كبيع الربويات بعضها ببعض ولأنه
قدر المسلم بغير ما هو مقدر به في الأصل فلم يجز كما لو أسلم في المذروع وزنا، ونقل المروذي عن أحمد
325

انه يجوز السلم في اللبن إذا كان كيلا أو وزنا وهذا يدل على إباحة السلم في المكيل وزنا وفي الموزون
كيلا لأن اللبن لا يخلوا من كونه مكيلا أو موزونا وقد أجاز السلم فيه بكل واحد منهما وهكذا
قول الشافعي وابن المنذر، وقال مالك ذلك جائز إذا كان الناس يتبايعون التمر وزنا وهذا أصح إن شاء الله
تعالى لأن الغرض معرفة قدره وخروجه من الجهالة وامكان تسليمه من غير تنازع فبأي قدر
قدره جاز. ويفارق بيع الربويات فإن التماثل فيها في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا شرط ولا نعلم هذا
الشرط إذا قدرها بغير مقدارها الأصلي. إذا ثبت هذا فإن الحبوب كلها مكيلة وكذلك التمر والزبيب
والفستق والبندق والملح، قال القاضي وكذلك الادهان وقال في السمن واللبن والزبد يجوز السلم فيها
كيلا ووزنا ولا يسلم في اللبأ الا وزنا لأنه يجمد عقيب حلبه فلا يتحقق الكيل فيه
(فصل) فإن كان المسلم فيه مما لا يمكن وزنه بالميزان لثقله كالأرحية والحجارة الكبار يوزن
بالسفينة فتترك السفينة في الماء ثم يترك ذلك فيها فينظر إلى أي موضع تغوص فيعلمه ثم يرفع ويترك
مكانه رمل أو حجارة صغار إلى أن يبلغ الماء الموضع الذي كان بلغه ثم يوزن بميزان فما بلغ فهو زنة
ذلك الشئ الذي أريد معرفة وزنه (1)
(فصل) ولا بد من تقدير المذروع بالذرع بغير خلاف نعلمه، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ
عنه من أهل العلم على أن السلم جائز في الثياب بذرع معلوم
(فصل) وما عدا المكيل والموزون والحيوان والمذروع فعلى ضربين معدود وغيره فالمعدود نوعان

(1) في هذا العصر من الموازين ما يوزن فيه ما هو أعظم مما ذكره بدقة لا يتأتي مثلها بوزن السفينة
326

(أحدهما) لا يتباين كثيرا كالجوز والبيض ونحوهما فيسلم فيه عددا، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي
وقال الشافعي يسلم فيهما كيلا أو وزنا ولا يجوز عددا لأن ذلك يتباين ويختلف فلم يجز عددا كالبطيخ
ولنا ان التفاوت يسير ويذهب ذلك باشتراط الكبر أو الصغر أو الوسط فيذهب التفاوت وان بقي
شئ يسير عفي عنه كسائر التفاوت في المكيل والموزون المعفو عنه ويفارق البطيخ فإنه ليس بمعدود
والتفاوت فيه كثير لا ينضبط (النوع الثاني) ما يتفاوت كالرمان والسفرجل والقثاء والخيار فهذا حكمه
حكم ما ليس بمعدود من البطيخ والبقول ففيه وجهان (أحدهما) يسلم فيه عددا ويضبطه بالصغر والكبر
لأنه يباع هكذا (الثاني) لا يسلم فيه الا وزنا، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأنه لا يمكن تقديره
بالعدد لأنه يختلف كثيرا ويتباين جدا ولا بالكيل لأنه يتجافى في المكيال. ولا يمكن تقدير البقول
بالحزم لأنه يختلف ويمكن حزم الكبيرة والصغيرة فلم يمكن تقديره بغير الوزن فتعين تقديره به.
{مسألة} قال (إلى أجل معلوم بالأهلة)
وهذا الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجلا أجلا معلوما وفي هذه المسألة فصول ثلاثة
327

(أحدها) أنه يشترط لصحة السلم كونه مؤجلا ولا يصح السلم الحال قال أحمد في رواية المروذي
لا يصح حتى يشترط الاجل، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وقال الشافعي وأبو ثور وابن
المنذر يجوز السلم حالا لأنه عقد يصح مؤجلا فصح حالا كبيوع الأعيان ولأنه إذا جاز مؤجلا فحالا
أجوز ومن الغرر أبعد، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم
إلى أجل معلوم " فامر بالأجل وأمره يقتضي الوجوب ولأنه أمر بهذه الأمور تبيينا لشروط السلم
ومنعا منه بدونها وكذلك لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن فكذلك الاجل ولان السلم إنما جاز رخصة
للرفق ولا يحصل الرفق الا بالأجل فإذا انتفى الاجل انتفى الرفق فلا يصح كالكتابة ولان الحلول
يخرجه عن اسمه ومعناه أما الاسم فلانه يسمى سلما وسلفا لتعجل أحد العوضين وتأخر الآخر ومعناه
ما ذكرناه في أول الباب من أن الشارع أرخص فيه للحاجة الداعية إليه ومع حضور ما يبعه حالا لا حاجة
إلى السلم فلا يثبت ويفارق تنوع الأعيان فإنها لم تثبت على خلاف الأصل لمعنى يختص بالتأجيل وما
ذكروه من التنبيه غير صحيح لأن ذلك إنما يجزئ فيما إذا كان المعنى المقتضي موجودا في الفرع بصفة
التأكيد وليس كذلك ههنا فإن البعد من الضرر ليس هو المقتضي لصحة السلم المؤجل وإنما المصحح
328

له شئ آخر لم نذكر اجتماعهما فيه وقد بينا افتراقهما، إذا ثبت هذا فإنه ان باعه ما يصح السلم فيه حالا
في الذمة صح ومعناه معنى السلم وإنما افترقا في اللفظ.
(الفصل الثاني) أنه لا بد من كون الاجل معلوما لقوله تعالى (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إلى أجل معلوم " ولا نعلم في اشتراط العلم في الجملة اختلافا فاما كيفيته فإنه يحتاج
أن يعلمه بزمان بعينه لا يختلف ولا يصح أن يؤجله بالحصاد والجزاز وما أشبهه؟ وكذلك قال ابن
عباس وأبو حنيفة والشافعي وابن المنذر، وعن أحمد رواية أخرى أنه قال أرجو أن لا يكون به
بأس، وبه قال مالك وأبو ثور وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء، وبه قال ابن أبي ليلى وقال
أحمد إن كان شئ يعرف فأرجو وكذلك أن قال إلى قدوم الغزاة، وهذا محمول على أنه أراد وقت
العطاء لأن ذلك معلوم فاما نفس العطاء فهو في نفسه مجهول يختلف ويتقدم ويتأخر ويحتمل أنه أراد
نفس العطاء لكونه يتفاوت أيضا فأشبه الحصاد واحتج من أجاز ذلك بأنه أجل يتعلق بوقت من
الزمن يعرف في العادة لا يتفاوت فيه تفاوتا كثيرا فأشبه إذا قال إلى رأس السنة
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس ولا تتبايعوا الا إلى شهر
معلوم ولان ذلك يختلف ويقرب ويبعد فلا يجوز أن يكون أجلا كقدوم زيد. فإن قيل فقد روي عن
عائشة أنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي " ان ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة " قلنا قال
ابن المنذر رواه حرمي بن عمارة قال احمد فيه غفلة وهو صدوق قال ابن المنذر فأخاف أن يكون من
غفلاته إذا لم يتابع عليه، ثم لا خلاف في أنه لو جعل الاجل إلى الميسرة لم يصح
(فصل) إذا جعل الاجل إلى شهر تعلق بأوله وان جعل الاجل اسما يتناول شيئين كجمادى
وربيع ويوم النفر تعلق بأولهما وان قال إلى ثلاثة أشهر كان إلى انقضائها لأنه إذا ذكر ثلاثة أشهر مبهمة
وجب أن يكون ابتداؤها من حين لفظه بها وكذلك لو قال إلى شهر كان إلى آخره وينصرف ذلك
إلى الأشهر الهلالية بدليل قوله تعالى (ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم
329

خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) وأراد الهلالية وإن كان في أثناء شهر كملنا شهرين بالهلال
وشهرا بالعدد ثلاثين يوما وقيل تكون كلها عددية، وقد ذكرنا هذا في غير هذا الموضع،
وان قال محله شهر كذا أو يوم كذا صح وتعلق بأوله وقيل لا يصح لأنه جعل ذلك ظرفا فيحتمل
أوله وآخره. والصحيح الأول فإنه لو قال لامرأته أنت طالق في شهر كذا تعلق بأوله وهو نظير
مسئلتنا، فإن قيل الطلاق يتعلق بالاخطار والاغرار ويجوز تعليقه على مجهول كنزول المطر وقدوم
زيد بخلاف مسئلتنا، قلنا إلا أنه إذا جعل محله في شهر تعلق بأوله فلا يكون مجهولا وكذا السلم.
(فصل) ومن شرط الاجل أن يكون مدة لها وقع في الثمن كالشهر وما قاربه، وقال أصحاب
أبي حنيفة لو قذره بنصف يوم جاز. وقدره بعضهم بثلاثة أيام، وهو قول الأوزاعي لأنها مدة يجوز
فيها خيار الشرط ولأنها آخر حد القلة ويتعلق بها عندهم إباحة رخص السفر، وقال الآخرون
إنما اعتبر التأجيل لأن المسلم فيه معدوم في الأصل لكون السلم إنما ثبت رخصة في حق المفاليس فلا بد
من الاجل ليحصل ويسلم وهذا يتحقق بأقل مدة يتصور تحصيله فيها، ولنا أن الاجل إنما اعتبر
ليتحقق المرفق الذي شرع من اجله السلم ولا يحصل ذلك بالمدة التي لا وقع لها في الثمن ولا يصح
اعتباره بمدة الخيار لأن الخيار يجوز ساعة وهذا لا يجوز والأجل يجوز أن يكون أعواما وهم لا يجيزون
الخيار أكثر من ثلاث وكونها آخر حد القلة لا يقتضي التقدير بها، وقولهم ان المقصود يحصل بأقل
مدة غير صحيح فإن السلم إنما يكون لحاجة المفاليس الذين لهم ثمار أو زروع أو تجارات ينتظرون حصولها
ولا تحصل هذه في المدة اليسيرة
(الفصل الثالث) في كون الاجل معلوما بالأهلة وهو أن يسلم إلى وقت يعلم بالهلال نحو أول
الشهر أو أوسطه أو آخره أو يوم معلوم منه لقول الله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت
للناس والحج) ولا خلاف في صحة التأجيل بذلك، ولو أسلم إلى عيد الفطر أو النحر أو يوم عرفة
أو عاشوراء أو نحوها جاز لأنه معلوم بالأهلة، وان جعل الاجل مقدرا بغير الشهور الهلالية فذلك قسمان
330

(أحدهما) ما يعرفه المسلمون وهو بينهم مشهور ككانون وشباط أو عيد لا يختلف كالنيروز والمهرجان
عند من يعرفهما فظاهر كلام الخرقي وابن أبي موسى أنه لا يصح لأنه أسلم إلى غير المشهور الهلالية أشبه
إذا أسلم إلى الشعانين وعيد الفطير ولأن هذه لا يعرفها كثير من المسلمين أشبه ما ذكرنا، وقال
القاضي يصح، وهو قول الأوزاعي والشافعي قال الأوزاعي إذا أسلم إلى فصح النصارى وصومهم
جاز لأنه معلوم لا يختلف أشبه أعياد المسلمين وفارق ما يختلف فإنه لا يعلمه المسلمون (القسم الثاني)
ما لا يعرفه المسلمون كعيد الشعانين وعيد الفطير ونحوهما فهذا لا يجوز السلم إليه لأن المسلمين لا
يعرفونه ولا يجوز تقليد أهل الذمة فيه لأن قولهم غير مقبول ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب
لهم لا يعرفه المسلمون، وان أسلم إلى ما لا يختلف مثل كانون الأول ولا يعرفه المتعاقدان أو أحدهما لم يصح لأنه مجهول عنده. (1)

(1) فإن عرفوا كل ذلك كاهل البلاد التي تنشر فيها التقاويم المبينة لذلك صح
331

{مسألة} قال (موجودا عند محله) هذا الشرط الخامس وهو كون المسلم فيه عام الوجود في محله ولا نعلم فيه
خلافا وذلك لأنه إذا
كان كذلك أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه وإذا لم يكن عام الوجود لم يكن موجودا عند المحل بحكم
الظاهر فلم يمكن تسليمه فلم يصح بيعه كبيع الآبق بل أولى فإن السلم احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة
فلا يحتمل فيه غرر آخر لئلا يكثر الغرر فيه فلا يجوز أن يسلم في العنب والرطب إلى شباط أو اذار ولا إلى
محل لا يعلم وجوده فيه كزمان أول العنب أو آخره الذي لا يوجد فيه إلا نادرا فلا يؤمن انقطاعه
(فصل) ولا يجوز أن يسلم في ثمرة بستان بعينه ولا قرية صغيرة لكونه لا يؤمن تلفه وانقطاعه
قال ابن المنذر ابطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالاجماع من أهل العلم وممن حفظنا عنه ذلك
الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وإسحاق قال وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف
إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى فقال اليهودي من تمر حائط بني فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اما
من حائط بني فلان فلا ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى " رواه ابن ماجة وغيره ورواه أبو إسحاق
الجوزجاني في المترجم، وقال أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع ولأنه إذا أسلم في ثمرة بستان
بعينه لم يؤمن انقطاعه وتلفه فلم يصح كما لو أسلم في شئ قدره بمكيال معين أو صنجة معينة أو أحضر
خرقة وقال أسلمت إليك في مثل هذه
(فصل) ولا يشترط كون المسلم فيه موجودا حال السلم بل يجوز أن يسلم في الرطب في أوان
332

الشتاء وفى كل يوم معدوم إذا كان موجودا في المحل وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر،
وقال الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي لا يجوز حتى يكون جنسه موجودا حال العقد إلى حين المحل
لأن كل زمن يجوز أن يكون محلا للمسلم فيه لموت المسلم إليه فاعتبر وجوده فيه كالمحل
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال " من أسلف فليسلف
في كيل معلوم أو وزن معلوم وأجل معلوم " ولم يذكر الوجود ولو كان شرطا لذكره ولنهاهم عن السلف
سنتين لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة ولأنه يثبت في الذمة ويوجد في محله غالبا فجاز السلم
فيه كالموجود ولا نسلم أن الدين يحل بالموت وان سلمنا فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود إذ لو لزم أفضى
إلى أن تكون آجال السلم مجهولة والمحل ما جعله المتعاقدان محلا وههنا لم يجعلاه
(فصل) إذا تعذر تسليم المسلم فيه عند المحل إما لغيبة المسلم إليه أو عجزه عن التسليم حتى عدم
المسلم فيه أو لم تحمل الثمار تلك السنة فالمسلم بالخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد فيطالب به وبين أن
يفسخ العقد ويرجع بالثمن إن كان موجودا أو بمثله إن كان مثليا وإلا قيمته وبه قال الشافعي وإسحاق
وابن المنذر، وفيه وجه آخر أنه ينفسح العقد بنفس التعذر لكون المسلم فيه من ثمرة العام بدليل وجوب
التسليم منها فإذا هلكت انفسح العقد كما لو باعه قفيزا من صبرة فهلكت، والأول الصحيح فإن العقد
قد صح وإنما تعذر التسليم فهو كما لو اشترى عبدا فأبق قبل القبض ولا يصح دعوى التعيين في هذا
العام فإنهما لو تراضيا على دفع المسلم فيه من غيرها جاز وإنما أجبر على دفعه من ثمرة العام لتمكنه من
دفع ما هو بصفة حقه ولذلك يجب عليه الدفع من ثمرة نفسه إذا وجدها ولم يجد غيرها وليست متعينة
333

وإن تعذر البعض فللمشتري الخيار بين الفسخ في الكل والرجوع بالثمن وبين أن يصبر إلى حين
الامكان ويطالب بحقه، فإن أحب الفسخ في المفقود دون الموجود فله ذلك لأن الفساد طرأ بعد
صحة عقد فلا يوجب الفساد في الكل كما لو باعه صبرتين فتلفت إحداهما، وفيه وجه آخر ليس له الفسخ
إلا في الكل أو يصبر على ما ذكرنا من الخلاف في الإقالة في بعض المسلم فيه، وإن قلنا إن الفسخ يثبت
بنفس التعذر انفسخ في المفقود دون الموجود لما ذكرنا من أن الفساد الطارئ على بعض المعقود عليه
لا يوجب فساد الجميع ويثبت للمشتري خيار الفسخ في الموجود كما ذكرنا في الوجه الأول
(فصل) إذا أسلم نصراني إلى نصراني في خمر ثم أسلم أحدهما فقال ابن المنذر أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسلم يأخذ دراهمه كذلك قال الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي
وبه نقول لأنه إن كان المسلم المسلم فليس له استيفاء الخمر فقد تعذر استيفاء المعقود عليه وإن كان المسلم
اله فقد تعذر عليه ايفاءها فصار الامر إلى رأس ماله
{مسألة} قال (ويقبض الثمن كاملا وقت السلم قبل التفرق)
هذا الشرط السادس وهو أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد فإن تفرقا قبل ذلك بطل
العقد وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك يجوز أن يتأخر قبضه يومين وثلاثة وأكثر ما لم
يكن ذلك شرطا لأنه معاوضة لا يخرج بتأخير قبضه من أن يكون سلما فأشبه ما لو تأخر إلى آخر المجلس
ولنا أنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض
كالصرف ويفارق المجلس ما بعده بدليل الصرف، وإن قبض بعده ثم تفرقا فكلام الخرقي يقتضي
334

أن لا يصح لقوله كاملا وحكي ذلك عن ابن شبرمة والثوري، قال أبو الخطاب هل يصح في غير المقبوض؟
على وجهين بناء على تفريق الصفقة وهذا الذي يقتضيه مذهب الشافعي، وقد نص أحمد في رواية ابن
منصور: إذا أسلم ثلاثمائة درهم في أصناف شتى مائة في حنطة ومائة في شعير ومائة في شئ آخر فخرج فيها
زيوف رد على الأصناف الثلاثة على كل صنف بقدر ما وجد من الزيوف فصح العقد في الباقي بحصته
من الثمن وقال الشريف أبو جعفر فيمن أسلم ألفا إلى رجل فقبضه نصفه وأحاله بنصفه أو كان له دين
على المسلم إليه بقدر نصفه فحسبه عليه من الألف فإنه يصح السلم في النصف المقبوض ويبطل في الباقي
فأبطل السلم فيما لم يقبض وصححه فيما قبض، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال يبطل في الحوالة في الكل
وفى المسألة الأخرى يبطل فيما لو يقبض ويصح فيما قبض بقسطه بناء على تفريق الصفقة
(فصل) وان قبض الثمن فوجده رديئا فرده والثمن معين بطل العقد برده ويبتدئان عقدا آخر
إن أحبا وإن كان في الذمة فله إبداله في المجلس ولا يبطل العقد برده لأن العقد إنما وقع على ثمن
سليم فإذا دفع إليه ما ليس بسليم كان له المطالبة بالسليم، ولا يؤثر قبض المعيب في العقد، وإن تفرقا
ثم علم عيبه فرده ففيه وجهان (أحدهما) يبطل العقد برده لوقوع القبض بعد التفرق ولا يجوز ذلك في
السلم (والثاني) لا يبطل لأن القبض الأول كان صحيحا بدليل ما لو أمسكه ولم يرده وهذا يدل على
المقبوض وهذا قول أبي يوسف ومحمد وهو أحد قولي الشافعي واختيار المزني لكن من شرطه أن
يقبض البدل في مجلس الرد، فإن تفرقا عن مجلس الرد قبل قبض البدل لم يصح وجها واحدا لخلو
335

العقد عن قبض الثمن بعد تفرقهما، وإن وجد بعض الثمن رديئا فرده ففي المردود التفصيل الذي ذكرناه
وهل يصح في غير الردئ إذا قلنا بفساده في الردئ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة
(فصل) وان خرجت الدراهم مستحقة والثمن معين لم يصح العقد قال أحمد: إذا خرجت الدراهم
مسروقة فليس بينهما بيع. وذلك لأن الثمن إذا كان معينا فقد اشترى بعين مال غيره بغير إذنه وإن
كان غير معين فله المطالبة ببدله في المجلس، وان قبضه ثم تفرقا بطل العقد لأن المقبوض لا يصلح
عوضا فقد تفرقا قبل أخذ الثمن إلا على الرواية التي تقول بصحة تصرف الفضولي، وإن وجد بعضه
مستحقا بطل في ذلك البعض، وفي الباقي وجهان بناء على تفريق الصفقة
(فصل) إذا كان له في ذمة رجل دينار فجعله سلما في طعام إلى أجل لم يصح قال ابن المنذر أجمع
على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم منهم مالك والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب
الرأي والشافعي، وعن ابن عمر أنه قال: لا يصح ذلك وذلك لأن المسلم فيه دين فإذا جعل الثمن دينا
كان بيع دين بدين ولا يصح ذلك بالاجماع، ولو قال أسلمت إليك مائة درهم في كر طعام وشرط أن
يجعل له منها خمسين وخمسين إلى أجل لم يصح العقد في الكل على قول الخرقي ويخرج في صحته في
قدر المقبوض وجهان بناء على تفريق الصفقة (أحدهما) يصح وهو قول أبي حنيفة (والثاني) لا يصح
وهو قول الشافعي وهو أصح لأن للمعجل فضلا على المؤجل فيقتضي أن يكون في مقابلته أكثر مما
في مقابلة المؤجل والزيادة مجهولة فلا يصح
{مسألة} قال (ومتى عدم شئ من هذه الأوصاف بطل)
336

وجملة ذلك أن هذه الأوصاف الستة التي ذكرناها لا يصح السلم إلا بها وقد دللنا على ذلك واختلفت
الرواية في شرطين آخرين (أحدهما) معرفة صفة الثمن المعين ولا خلاف في اشتراط معرفة صفته إذا
كان في الذمة لأنه أحد عوضي السلم فإذا لم يكن معينا اشترط معرفة صفته كالمسلم فيه إلا أنه إذا أطلق
وفي البلد نقد معين انصرف الاطلاق إليه وقام مقام وصفه. فأما إن كان الثمن معينا فقال القاضي
وأبو الخطاب لا بد من معرفة وصفه واحتجا بقول احمد يقول أسلمت إليك كذا وكذا درهما ويصف
الثمن فاعتبر ضبط صفته وهذا قول مالك وأبي حنيفة لأنه عقد لا يملك اتمامه في الحال ولا تسليم
المعقود عليه ولا يؤمن انفساخه فوجب معرفة رأس المسلم فيه ليرد بدله كالقرض والشركة ولأنه لا يؤمن
أن يظهر بعض الثمن مستحقا فينفسخ العقد في قدره فلا يدري في كم بقي وكم انفسخ. فإن قيل هذا
موهوم والموهومات لا تعتبر. قلنا التوهم معتبر ههنا لأن الأصل عدم الجواز وإنما جوز إذا وقع الامن
من الغرر ولم يوجد ههنا بدليل ما إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه أو قدر المسلم فيه بصنجة أو مكيال معين
فإنه لا يصح وظاهر كلام الخرقي انه لا يشترط لأنه ذكر شرائط السلم ولم يذكره وهو أحد قولي
الشافعي لأنه عوض مشاهد فلم يحتج إلى معرفة قدره كبيوع الأعيان وكلام احمد إنما تناول غير العين
ولا خلاف في اعتبار أوصافه. ودليلهم ينتقص بعقد الإجارة وانه ينفسخ بتلف العين المستأجرة ولا
يحتاج مع اليقين إلى معرفة الأوصاف. ولان رد مثل الثمن أنما يستحق عند فسخ العقد لا من جهة عقده
وجهالة ذلك لا تؤثر كما لو باع المكيل أو الموزون ولان العقد تمت شرائطه فلا يبطل بأمر موهوم فعلى القول
الذي يعتبر صفاته لا يجوز أن يجعل رأس مال السلم مالا يمكن ضبط صفاته كالجواهر وسائر ما لا يجوز
السلم فيه فإن جعلاه سلما بطل العقد، ويجب رده إن كان موجودا وقيمته ان عرفت إذا كان معدوما
337

فإن اختلفا فالقول قول المسلم إليه لأنه غارم وهكذا ان حكمنا بصحة العقد ثم انفسخ، وان اختلفا
في المسلم فيه فقال أحدهما في مائة مدي حنطة، وقال الآخر في مائة مدي شعير تحالفا وتفاسخا به
قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي كما لو اختلفا في ثمن المبيع
(فصل) وكل ما لين حرم النساء فيهما لا يجوز اسلام أحدهما في الآخر لأن السلم من شرطه النساء
والتأجيل والخرقي منع بيع العروض بعضها ببعض نساء فعلى قوله لا يجوز اسلام بعضها في بعض، وقال ابن
أبي موسى لا يجوز أن يكون رأس مال السلم الا عينا أو ورقا، وقال القاضي وهو ظاهر كلام احمد ههنا قال
ابن المنذر قيل لأحمد يسلم ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن؟ فلم يعجبه وعلى هذا لا يجوز أن يكون
المسلم فيه ثمنا، وهو قول أبي حنيفة لأنها لا تثبت في الذمة الا ثمنا فلا تكون مثمنة، وعلى الرواية
التي تقول يجوز النساء في العروض يجوز أن يكون رأس مال السلم عرضا كالثمن سواء ويجوز اسلامها
في الأثمان قال الشريف أبو جعفر يجوز السلم في الدراهم والدنانير، وهذا مذهب مالك والشافعي لأنها
تثبت في الذمة صداقا فتثبت سلما كالعروض ولأنه لا ربا بينهما من حيث التفاضل ولا النساء فصح اسلام
أحدهما في الآخر كالعرض في العرض ولا يصح ما قاله أبو حنيفة فإنه لو باع دراهم بدنانير صح
ولا بد أن يكون أحدهما مثمنا. فعلى هذا إذا أسلم عرضا في عرض موصوف بصفاته فجاءه عند
الحلول بذلك العرض بعينه لزمه قبوله على أحد الوجهين لأنه أتاه بالمسلم فيه على صفته فلزمه قبوله
كما لو كان غيره (والثاني) لا يلزمه لأنه يفضي إلى كون الثمن هو المثمن، ومن نصر الأول قال هذا لا يصح
لأن الثمن أنما هو في الذمة وهذا عوض عنه، وهكذا لو أسلم جارية صغيرة في كبيرة فحل المحل وهي
338

على صفة المسلم فيه فأحضرها فعلى احتمالين أيضا (أحدهما) لا يصح لما ذكرنا ولأنه يفضي إلى أن
يكون قد استمتع بها وردها خالية عن عقر (والثاني) يجوز لأنه أحضر المسلم فيه على صفته ويبطل الأول
بما إذا وجد بها عيبا فردها واختلف أصحاب الشافعي في هاتين المسألتين على هذين الوجهين، وان
فعل ذلك حيلة لينتفع بالعين أو ليطأ الجارية ثم يردها بغير عوض لم يجز وجها واحدا لأن الحيل كلها باطلة
(الشرط الثاني) المختلف فيه تعيين مكان الايفاء قال القاضي ليس بشرط وحكاه ابن المنذر عن
أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث، وبه قال أبو يوسف ومحمد وهو أحد قولي الشافعي لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم " ولم يذكر مكان الايفاء
فدل على أنه لا يشترط، وفي الحديث الذي فيه أن اليهودي أسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى
الله عليه وسلم " أما من حائط بني فلان فلا ولكن كيل مسمى أحل مسمى " ولم يذكر مكان الايفاء ولأنه عقد
معاوضة فلا يشترط فيه ذكر مكان الايفاء كبيوع الأعيان، وقال الثوري يشترط ذكر مكان الايفاء وهو القول الثاني
للشافعي، وقال الأوزاعي هو مكروه لأن القبض يجب بحلوله ولا يعلم موضعه حينئذ فيجب شرطه لئلا يكون
مجهولا، وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي إن كان لحمله مؤنة وجب شرطه والا فلا يجب لأنه إذا كان
لحمله مؤنة اختلف فيه الغرض بخلاف مالا مؤنة فيه، وقال ابن أبي موسى ان مكانا في برية لزم ذكر مكان
الايفاء وان لم يكونا في برية فذكر مكان الايفاء حسن وان لم يذكراه كان الايفاء في مكان العقد
لأنه متى كانا في برية لم يمكن التسليم في مكان العقد فإذا ترك ذكره كان مجهولا وان لم يكونا في برية
339

اقتضى العقد التسليم في مكانه فاكتفى بذلك عن ذكره فإن ذكره كان تأكيدا فكان حسنا فإن شرط الايفاء
في مكان سواء صح لأنه عقد بيع فصح شرط ذكر الايفاء في غير مكانه كبيوع الأعيان ولأنه شرط
ذكر مكان الايفاء فصح كما لو ذكره في مكان العقد، وذكر ابن أبي موسى رواية أخرى انه لا يصح
لأنه شرط خلاف ما اقتضاه العقد لأن العقد يقتضي الايفاء في مكانه، وقال القاضي وأبو الخطاب
متى ذكر مكان الايفاء ففيه روايتان سواء شرطه في مكان العقد أو في غيره لأن فيه غررا لأنه ربما
تعذر تسليمه في ذلك المكان فأشبه تعيين المكيال واختاره أبو بكر، وهذا لا يصح فإن في تعيين المكان
غرضا ومصلحة لهما فأشبه تعيين الزمان وما ذكروه من احتمال تعذر التسليم فيه يبطل بتعيين الزمان
ثم لا يخلوا اما أن يكون مقتضى العقد التسليم في مكانه فإذا شرط مقتضى القد أو لا يكون
ذلك مقتضى العقد فيتعين ذكر مكان الايفاء نفيا للجهالة عنه وقطعا للتنازع فالغرر في تركه لافي ذكره،
وفارق تعيين المكيال فإنه لا حاجة إليه ويفوت به علم المقدار المشترط لصحة العقد ويفضي إلى التنازع
340

وفي مسألتنا لا يفوت به شرط ويقطع التنازع فالمعنى المانع من التقدير بمكيال بعينه مجهول هو المقتضي
لشرط مكان الايفاء فكيف يصح قياسهم عليه؟
{مسألة} قال (وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد وكذلك الشركة
فيه والتولية والحوالة به طعاما كان أو غيره)
أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام
قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه. وأما
الشركة فيه والتولية فلا تجوز أيضا لأنهما بيع على ما ذكرنا من قبل، وبهذا قال أكثر أهل العلم وحكي
عن مالك جواز الشركة والتولية لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه
وأرخص في الشركة والتولية
ولنا انها معاوضة في المسلم فيه قبل القبض فلم يجز كما لو كانت بلفظ البيع ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا
في السلم قبل قبضه كالنوع الآخر والخبر لا نعرفه وهو حجة لنا لأنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه
341

والشركة والتولية بيع فيدخلان في النهي ويحمل قوله وأرخص في الشركة والتولية على أنه أرخص
فيهما في الجملة لا في هذا الموضع، واما الإقالة فإنها فسخ وليست بيعا، واما الحوالة به فغير جائزة لأن
الحوالة إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على
غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض
أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم فلا يجوز، وان أحال المسلم إليه
المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع، واما بيع المسلم
فيه من بائعه فهو ان يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا
أو معدوما سواء كان العرض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي،
وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل فرضي المسلم بأخذ الشعير
مكان البر جاز ولم يجز أكثر من ذلك وهذا يحمل على الرواية التي فيها ان البر والشعير جنس واحد
والصحيح في المذهب خلافه وقال مالك يجوز ان يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره الا الطعام
342

قال ابن المنذر وقد ثبت ان ابن عباس قال إذا أسلم في شئ إلى أجل فإن اخذت ما أسلفت فيه وإلا
فخذ عوضا انقص منه ولا تربح مرتين، رواه سعيد في سننه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود وابن ماجة،
ولان اخذ العوض عن المسلم فيه بيع فلم يجز كبيعه من غيره، فاما ان أعطاه من جنس ما أسلم فيه
خيرا منه أو دونه في الصفات جاز لأن ذلك ليس ببيع إنما هو قضاء للحق مع تفضل من أحدهما.
(فصل) فاما الإقالة في المسلم فيه فجائزة لأنها فسخ، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه
من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة، لأن الإقالة فسخ للعقد ورفع له من أصله وليست
بيعا. قال القاضي ولو قال لي عندك هذا الطعام صالحني منه على ثمنه جاز وكانت إقالة صحيحة فاما الإقالة
في بعض المسلم فيه فاختلف عن أحمد فيها فروي عنه انها لا تجوز ورويت كراهتها عن ابن عمر وسعيد
ابن المسيب والحسن وابن سيرين والنخعي وسعيد بن جبير وربيعة وابن أبي ليلى وإسحاق، وروى
حنبل عن أحمد أنه قال لا بأس بها وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وطاوس ومحمد بن علي وحميد بن
عبد الرحمن وعمرو بن دينار والحكم والثوري والشافعي والنعمان وأصحابه وابن المنذر ولان الإقالة
مندوب إليها وكل معروف جاز في الجميع جاز في البعض كالابراء والانظار، ووجه الرواية الأولى
ان السلف في الغالب يزاد فيه في الثمن من أجل التأجيل فإذا أقاله في البعض بقي البعض بالباقي من
الثمن وبمنفعة الجزء الذي حصلت الإقالة فيه فلم يجز كما لو اشترط ذلك في ابتداء العقد ويخرج عليه
الابراء والانظار فإنه لا يتعلق به شئ من ذلك
343

(فصل) إذا أقاله رد الثمن إن كان باقيا أو مثله إن كان مثليا أو قيمته ان لم يكن مثليا فإن أراد
أن يعطيه عوضا عنه فقال الشريف أبو جعفر ليس له صرف ذلك الثمن في عقد آخر حتى يقبضه وبه
قال أبو حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره " ولان هذا مضمون على
المسلم إليه بعقد السلم فلم يجز التصرف فيه قبل قبضه كما لو كان في يد المشتري، وقال القاضي أبو يعلى
يجوز اخذ العوض عنه وهو قول الشافعي لأنه عوض مستقر في الذمة فجاز اخذ العوض عنه كما لو كان
قرضا، ولأنه مال عاد إليه بفسخ العقد فجاز اخذ العوض. عنه كالثمن في المبيع إذا فسخ والمسلم فيه
مضمون بالعقد وهذا مضمون بعد فسخه والخبر أراد به المسلم فيه فلم يتناول هذا فإن قلنا بهذا فحكمه
حكم ما لو كان قرضا أو ثمنا في بيوع الأعيان لا يجوز جعله سلما في شئ آخر لأنه يكون بيع دين بدين،
ويجوز فيه ما يجوز في القرض وأثمان البياعات إذا فسخت
{مسألة} قال (وإذا أسلم في جنسين ثمنا واحدا لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس)
صورة ذلك أن يسلم دينارا واحدا في قفيز حنطة وقفيز شعير ولا يبين ثمن الحنطة من الدينار
ولا ثمن الشعير فلا يصح ذلك وجوزه مالك، وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بان كل عقد جاز
على جنسين في عقدين جاز عليهما في عقد واحد كبيوع الأعيان وكما لو بين ثمن أحدهما. ولنا ان
ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يصح كما لو عقد عليه مفردا بثمن مجهول ولان فيه غررا لأننا
لا نأمن الفسخ بتعذر أحدهما فلا يعرف بم يرجع وهذا غرر اثر مثله في السلم. وبمثل هذا عللنا معرفة
صفة الثمن وقدره. وقد ذكرنا ثم وجها آخر انه لا يشترط فيخرج ههنا مثله لأنه في معناه ولأنه لما جاز ان
344

يسلم في شئ واحد إلى أجلين ولا يبين ثمن كل واحد منهما كذا ههنا، قال ابن أبي موسى ولا يجوز
ان يسلم خمسة دنانير وخمسين درهما في كر حنطة حتى يبين حصة ما لكل واحد منهما من الثمن،
والأولى صحة هذا لأنه إذا تعذر بعض المسلم فيه رجع بقسطه منهما ان تعذر النصف رجع بنصفهما،
وإن تعذر الخمس رجع بدينار وعشرة دراهم
{مسألة} قال (وإذا أسلم في شئ واحد على أن يقبضه في أوقات متفرقة أجزاء معلومة فجائز)
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله: الرجل يدفع إلى الرجل الدراهم في الشئ يؤكل فيأخذ منه كل
يوم من تلك السلعة شيئا فقال على معنى السلم إذا؟ فقلت نعم قال لا بأس ثم قال مثل الرجل القصاب
يعطيه الدينار على أن يأخذ منه كل يوم رطلا من لحم قد وصفه. وبهذا قال مالك، وقال الشافعي إذا
أسلم في جنس واحد إلى أجلين فيه قولان (أحدهما) لا يصح لأن ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل
الآخر وذلك مجهول فلم يجز، ولنا ان كل بيع جاز في أجل واحد جاز في أجلين وآجال كبيوع
الأعيان فإذا قبض البعض وتعذر قبض الباقي ففسخ العقد رجع بقسطه من الثمن ولا يجعل للباقي فضلا
عن المقبوض لأنه مبيع واحد متماثل الاجزاء فيقسط الثمن على اجزائه بالسوية كما لو اتفق أجله
{مسألة} قال (وإذا لم يكن السلم فيه كالحديد والرصاص ومالا يفسد ولا يختلف قديمه)
وحديثه لم يكن عليه قبضه قبل محله)
بعني بالسلم المسلم فيه سمي باسم المصدر كما يسمى المسروق سرقة والمرهون رهنا، قال إبراهيم خذ
سلمك أو دون سلمك ولا تأخذ فوق سلمك، ومتى أحضر المسلم فيه على الصفة المشروطة لم يخل
من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يحضره في محله فيلزمه قبوله لأنه أتاه بحقه في محله فلزمه قبوله كالمبيع
المعين وسواء كان عليه في قبضه ضرر أو لم يكن فإن أبى قيل له إما أن تقبض حقك وأما ان تبرئ
منه فإن امتنع قبضه الحاكم من المسلم إليه للمسلم وبرئت ذمته منه لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع بولايته
وليس له أن يبرئ لأنه لا يملك الابراء
345

(الحال الثاني) أن يأتي به قبل محله فينظر فيه فإن كان مما في قبضه قبل محله ضرر اما لكونه مما
يتغير كالفاكهة والأطعمة كلها أو كان قديمه دون حديثه كالحبوب ونحوها لم يلزم المسلم قبوله لأن له
غرضا في تأخيره بأن يحتاج إلى أكله أو اطعامه في ذلك الوقت، وكذلك الحيوان لأنه لا يامن تلفه
ويحتاج إلى الانفاق عليه إلى ذلك الوقت وربما يحتاج إليه في ذلك الوقت دون ما قبله وهكذا إن كان
مما يحتاج في حفظه إلى مؤنة كالقطن ونحوه أو كان الوقت مخونا يخشى نهب ما يقبضه فلا يلزمه الاخذ
في هذه الأحوال كلها لأن عليه ضررا في قبضه ولم يأت محل استحقاقه له فجرى مجرى نقص
صفة فيه، وإن كان مما لا ضرر في قبضه بأن يكون لا يتغير كالحديد والرصاص والنحاس فإنه يستوي
قديمه وحديثه ونحو ذلك الزيت والعسل ولا في قبضه ضرر الخوف ولا تحمل مؤنة فعليه قبضه لأن
غرضه حاصل مع زيادة تعجل المنفعة فجرى مجرى زيادة الصفة وتعجيل الدين المؤجل (الحال الثالث)
أن يحضره بعد محل الوجوب فحكمه حكم ما لو أحضر المبيع بعد تفرقهما
(فصل) ولا يخلو اما أن يحضر المسلم فيه على صفته أو دونها أو أجود منها فإن أحضره على صفته
لزم قبوله لأنه حقه وان اتى به دون صفته لم يلزمه قبوله لأن فيه اسقاط حقه فإن تراضيا على ذلك
وكان من جنسه جاز وإن كان من غير جنسه لم يجز لما تقدم، وان اتفقا على أن يعطيه دون حقه
ويزيده شيئا لم يجز لأنه أفرد صفة الجودة بالبيع وذلك لا يجوز ولان بيع المسلم فيه قبل قبضه غير
جائز فبيع وصفه أولى (الثالث) أن يحضره أجود من الموصوف فينظر فيه فإن أتاه به من نوعه لزمه
قبوله لأنه أتى بما تناوله العقد وزيادة تابعة له فينفعه ولا يضره إذ لا يفوته غرض فإن أتى به من نوع
آخر لم يلزمه قبوله لأن العقد تناول ما وصفاه على الصفة التي شرطاها وقد فات بعض الصفات فإن
النوع صفة وقد فات فأشبهه ما لو فات غيره من الصفات، وقال القاضي يلزمه قبوله لأنهما جنس واحد
يضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فأشبه الزيادة في الصفة مع اتفاق النوع. والأول أجود لأن أحدهما
يصلح لما لا يصلح له الآخر فإذا فوته عليه فوت عليه الغرض المتعلق به فلم يلزمه قبوله كما لو فوت عليه صفة
346

الجودة وهذا مذهب الشافعي. فإن تراضيا على اخذ النوع بدلا عن النوع الآخر جاز لأنهما جنس
واحد لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ويضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فجاز اخذ أحدهما عن
الآخر كالنوع الواحد، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يجوز له اخذه للمعنى الذي منع لزوم اخذه،
وقال إبراهيم لا تأخذ فوق سلمك في كيل ولا صفة. ولنا انهما تراضيا على دفع المسلم فيه من جنسه فجاز
كما لو تراضيا على دفع الردئ مكان أو الجيد مكان الردئ وبهذا ينتقض ما ذكروه فإنه لا يلزم
أخذ الردئ ويجوز اخذه ولان المسلم أسقط حقه من النوع فلم يبق بينهما الا صفة الجودة
وقد سمح بها صاحبها
(فصل) إذا جاءه بالأجود فقال خذه وزدني درهما لم يصح. وقال أبو حنيفة يصح كما لو أسلم
في عشرة فجاءه بأحد عشر، ولنا أن الجودة صفة فلا يجوز إفرادها بالعقد كما لو كان مكيلا أو موزونا
فإن جاءه بزيادة في القدر فقال خذه وزدني درهما ففعلا صح لأن الزيادة ههنا يجوز افرادها بالعقد
(فصل) وليس له إلا أقل ما تقع عليه الصفة لأنه إذا أسلم إليه ذلك فقد سلم إليه ما تناوله العقد
فبرئت ذمته منه، وعليه ان يسلم إليه الحنطة نقية من التبن والقصل والشعير ونحوه ممالا يتناوله اسم الحنطة
وإن كان فيه تراب كثير يأخذ موضعا من المكيال لم يجز وإن كان يسيرا لا يؤثر في المكيال ولا
يعيبها لزمه أخذه. ولا يلزمه أخذ التمر الا جافا ولا يلزم أن يتناهى جفافه لأنه يقع عليه الاسم، ولا
يلزمه أن يقبل معيبا بحال. ومتى قبض المسلم فيه فوجده معيبا فله المطالبة بالبدل أو الأرش كالمبيع سواء
(فصل) ولا يقبض المكيل الا بالكيل ولا الموزون الا لوزن ولا يقبضه جزافا، ولا بغير
ما يقدر به لأن الكيل والوزن يختلفان فإن قبضه بذلك فهو كقبضه جزافا فيقدره بما أسلم فيه ويأخذ
قدر حقه ويرد الباقي ويطالب بالعوض وهل له أن يتصرف في قدر حقه منه قبل أن يعتبره؟ على وجهين
مضى ذكرهما في بيوع الأعيان، وان اختلفا في قدره فالقول قول القابض مع يمينه قال القاضي ويسلم
إليه ملء المكيال وما يحمله ولا يكون ممسوحا ولا يدق ولا يهز لأن قوله أسلمت إليك في قفيز يقتضي
ما يسعه المكيال وما يحمله وهو ما ذكرنا
{مسألة} قال (ولا يجوز أن يأخذ رهنا ولا كفيلا من المسلم إليه)
347

اختلفت الرواية في الرهن والضمين في السلم فروى المروذي وابن القاسم وأبو طالب منع ذلك وهو
اختيار الخرقي وأبي بكر، ورويت كراهة ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس والحسن وسعيد بن
جبير والأوزاعي، وروى حنبل جوازه ورخص فيه عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والحكم ومالك
والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم
بدين) إلى قوله (فرهان مقبوضة) وقد روي عن ابن عباس وابن عمر أن المراد به السلم ولان اللفظ
عام فيدخل السلم في عمومه ولأنه أحد نوعي البيع فجاز أخذ الرهن بما في الذمة منه كبيوع الأعيان،
ووجه الأول ان الرهن والضمين ان أخذا برأس مال السلم فقد أخذا بما ليس بواجب ولا مآلة إلى
الوجوب لأن ذلك قد ملكه المسلم إليه، وان أخذا بالمسلم فيه فالرهن إنما يجوز بشئ يمكن استيفاؤه
من ثمن الرهن، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من الرهن ولا من ذمة الضامن ولأنه لا يأمن هلاك الرهن
في يده بعدوان فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم في شئ فلا
يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن مقام ما في ذمة المضمون عنه فيكون
في حكم أخذ العوض والبدل عنه وهذا لا يجوز
(فصل) فإن أخذ رهنا أو ضمينا بالمسلم فيه ثم تقايلا السلم أو فسخ العقد لتعذر المسلم فيه بطل
الرهن لزوال الدين الذي به الرهن وبرئ الضامن، وعلى المسلم إليه رد رأس مال السلم في الحال ولا
يشترط قبضه في المجلس لأنه ليس بعوض. ولو أقرضه ألفا وأخذ به رهنا ثم صالحه من الألف على
طعام معلوم في ذمته صح وزال الرهن لزوال دينه من الذمة وبقي الطعام في الذمة، ويشترط قبضه في
348

المجلس كيلا يكون بيع دين بدين، فإن تفرقا قبل القبض بطل الصلح ورجع الألف إلى ذمته برهنه
لأنه يعود على ما كان عليه كالعصير إذا تخمر ثم عاد خلا وهكذا لو صالحه عن الدراهم بدنانير في
ذمته فالحكم مثل ما بينا في هذه المسألة
(فصل) وإذا حكمنا بصحة ضمان السلم فلصاحب الحق مطالبة من شاء منهما وأيهما قضاه برئت
ذمتهما منه فإن سلم المسلم إليه المسلم فيه إلى الضامن ليدفعه إلى المسلم جاز وكان وكيلا. وان قال خذه
عن الذي ضمنت عني لم يصح وكان قبضا فاسدا مضمونا عليه لأنه إنما استحق الاخذ بعد الوفاء،
فإن أوصله إلى المسلم برئ بذلك لأنه سلم إليه ما سلطه المسلم إليه في التصرف فيه وان أتلفه فعليه ضمانه
لأنه قبضه على ذلك، وان صالح المسلم الضامن عن المسلم فيه بثمنه لم يصح لأن هذا إقالة فلا يصح من
غير المسلم إليه، وان صالحه المسلم بثمنه صح وبرئت ذمته وذمة الضامن لأن هذا إقالة، وان صالحه
على غير ثمنه لم يصح لأنه بيع المسلم فيه قبل القبض
(فصل) والذي يصح أخذ الرهن به كل دين ثابت في الذمة يصح استيفاؤه من الرهن كأثمان
البياعات والأجرة في الإجارات والمهر وعوض الخلع والقرض وأرش الجنايات وقيم المتلفات، ولا
يجوز أخذ الرهن بما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب كالدية على العاقلة قبل الحول لأنها لم تجب
بعد ولا يعلم افضاؤها إلى الوجوب فإنهم لو جنوا أو افتقروا أو ماتوا لم تجب عليهم فلا يصح أخذ
الرهن بها، فأما بعد الحول فيجوز أخذ الرهن بها لأنها قد استقرت في ذمتهم، ويحتمل جواز أخذ
الرهن بها قبل الحول لأن الأصل بقاء الحياة واليسار والعقل، ولا يجوز أخذ الرهن بالجعل في الجعالة
349

قبل العمل لأنه لم يجب ولا يعلم إفضاؤه إلى الوجوب، وقال القاضي يحتمل أخذ الرهن به لأن مآله إلى
الوجوب واللزوم فأشبهت أثمان البياعات، والأولى أولى لأن افضاءها إلى الوجوب محتمل فأشبهت
الدية قبل الحول ويجوز أخذ الرهن به بعد العمل لأنه قد وجب، ولا يجوز أخذ الرهن بمال الكتابة
لأنه غير لازم فإن للعبد تعجيز نفسه ولا يمكن استيفاء دينه من الرهن لأنه لو عجز صار الرهن للسيد
لأنه من جملة مال المكاتب، وقال أبو حنيفة يجوز
ولنا أنها وثيقة لا يمكن استيفاء الحق منها فلم يصح كضمان الخمر ولا يجوز أخذ الرهن بعوض
المسابقة لأنها جعالة ولم يعلم إفضاؤها إلى الوجوب لأن الوجوب إنما يثبت بسبق غير المخرج وهذا
غير معلوم ولا مظنون، وقال بعض أصحابنا فيها وجهان هل هي إجارة أو جعالة؟ فإن قلنا هي إجارة
جاز أخذ الرهن بعوضها. وقال القاضي ان لم يكن فيها محلل فهي جعالة وإن كان فيها محلل فعلى وجهين
وهذا كله بعيد لأن الجعل ليس هو في مقابلة العمل بدليل أنه لا يستحقه إذا كان مسبوقا وقد عمل
العمل وإنما هو عوض عن السبق ولا تعلم القدرة عليه ولأنه لا فائدة للجاعل فيه ولا هو مراد له،
وإذا لم تكن إجارة مع عدم المحلل فمع وجوده أولى لأن مستحق الجعل هو السابق وهو غير معين
ولا يجوز استئجار رجل غير معين. ثم لو كانت إجارة لكان عوضها غير واجب في الحال ولا يعلم إفضاؤه
إلى الوجوب ولا يظن فلم يجز أخذ الرهن به كالجعل في رد الآبق واللقطة، ولا يجوز أخذ الرهن بعوض
غير ثابت في الذمة كالثمن المعين والأجرة المعينة في الإجارة والمعقود عليه في الإجارة إذا كان منافع
معينة مثل إجارة الدار والعبد المعين والجمل المعين مدة معلومة أو لحمل شئ معين إلى مكان معلوم لأن
350

هذا حق تعلق بالعين لا بالذمة ولا يمكن استيفاؤه أحق من الرهن لأن منفعة العين لا يمكن استيفاؤها من
غيرها وتبطل الإجارة بتلف العين، وان وقعت الإجارة على منفعة في الذمة كخياطة ثوب وبناء دار
جاز أخذ الرهن به لأنه ثابت في الذمة ويمكن استيفاؤه من الرهن بأن يستأجر من ثمنه من يعمل ذلك
العمل فجاز أخذ الرهن به كالدين ومذهب الشافعي في هذا كله كما قلنا
(فصل) فأما الأعيان المضمونة كالغصوب والعواري والمقبوض ببيع فاسد والمقبوض عل وجه
السوم ففيها وجهان (أحدهما) لا يصح الرهن بها وهو مذهب الشافعي لأن الحق غير ثابت في الذمة
فأشبه ما ذكرنا ولأنه ان رهنه على قيمتها إذا تلفت فهو رهن على ما ليس بواجب ولا يعلم إفضاؤه
إلى الوجوب، وان أخذ الرهن على عينها لم يصح لأنه لا يمكن استيفاء عينها من الرهن فأشبه أثمان
البياعات المتعينة (والثاني) يصح أخذ الرهن بها وهو مذهب أبي حنيفة وقال: كل عين كانت مضمونه
بنفسها جاز أخذ الرهن بها يريد ما يضمن بمثله أو قيمته كالمبيع يجوز أخذ الرهن به لأنه مضمون بفساد
العقد لأن مقصود الرهن الوثيقة بالحق وهذا حاصل فإن الرهن بهذه الأعيان يحمل الراهن على أدائها
وان تعذر أداؤها استوفى بدلها من ثمن الرهن فأشبهت الدين في الذمة
(فصل) قال القاضي كل ما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به وما لم يجز الرهن به لم يجز أخذ
الضمين به إلا ثلاثة أشياء. عهدة المبيع يصح ضمانها ولا يصح الرهن بها. والكتابة لا يصح الرهن بدينها
وفي ضمانها روايتان. وما لم يجب لا يصح الرهن به ويصح ضمانه والفرق بينهما من وجهين (أحدهما)
أن الرهن بهذه الأشياء يبطل الارفاق فإنه إذا باع عبده بألف ودفع رهنا يساوي ألفا فكأنه ما قبض
351

الثمن ولا ارتفق به والمكاتب إذا دفع ما يساوي كتابته فما ارتفق بالأجل لأنه كان يمكنه بيع الرهن
أو بقاء الكتابة ويستريح من تعطيل منافع عبده والضمان بخلاف هذا (الثاني) أن ضرر الرهن يعم
لأنه يدوم بقاؤه عند المشتري فيمنع البائع التصرف فيه والضمان بخلافه
(فصل) إذا اختلف المسلم والمسلم إليه في حلول الأجل فالقول قول المسلم إليه لأنه منكر، وان اختلفا
في أداء المسلم فيه فالقول قول المسلم لذلك، وان اختلفا في قبض الثمن فالقول قول المسلم إليه لذلك، وان
اتفقا عليه وقال أحدهما كان في المجلس قبل التفرق وقال الآخر بعده فالقول قول من يدعي القبض في المجلس
لأن معه سلامة العقد وان أقام كل واحد منهما بينة بموجب دعواه قدمت أيضا بينته لاثها مثبتة والأخرى نافية
باب القرض
والقرض نوع من السلف وهو جائز بالسنة والاجماع أما السنة فروى أبو رافع ان النبي صلى الله عليه وسلم
استسلف من رجل بكرا فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره
فرجع إليه أبو رافع فقال يا رسول الله لم أجد فيها الا خيارا رباعيا فقال " أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاء "
رواه مسلم، وعن ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " مامن مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين
الا كان كصدقة مرة " وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة
مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟
352

قال لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض الا من حاجة " رواهما ابن ماجة، واجمع
المسلمون على جواز القرض
(فصل) والقرض مندوب إليه في حق المقرض مباح للمقترض لما روينا من الأحاديث ولما روى
أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من
كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " وعن أبي الدرداء أنه قال لأن أقرض
دينارين ثم يردان ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما. ولان فيه تفريجا عن أخيه المسلم وقضاء
لحاجته وعونا له فكان مندوبا إليه كالصدقة عليه وليس بواجب قال أحمد لا إثم على من سئل القرض
فلم يقرض وذلك لأنه من المعروف فأشبه صدقة التطوع وليس بمكروه في حق المقرض قال أحمد: ليس
القرض من المسألة يعني ليس بمكروه وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقرض بدليل حديث أبي رافع
ولو كان مكروها كان أبعد الناس منه، ولأنه إنما يأخذه بعوضه فأشبه الشراء بدين في ذمته قال ابن أبي
موسى لا أحب أن يتحمل بأمانته ما ليس عنده يعني ما لا يقدر على وفائه، ومن أراد أن يستقرض
فليعلم من يسأله القرض بحاله ولا يغره من نفسه إلا أن يكون الشئ اليسير الذي لا يتعذر رد مثله
قال أحمد. إذا اقترض لغيره ولم يعلمه بحاله لم يعجبني، وقال: ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه
قال القاضي يعنى إذا كان من يقترض له غير معروف بالوفاء لكونه تغريرا بمال المقرض واضرارا به
أما إذا كان معروفا بالوفاء لم يكره لكونه إعانة له وتفريجا لكربته
(فصل) ولا يصح إلا من جائز التصرف لأنه عقد على المال فلم يصح إلا من جائز التصرف
كالبيع وحكمه في الايجاب والقبول حكم البيع على ما مضى، ويصح بلفظ السلف والقرض لورود
353

الشرع بهما، وبكل لفظ يؤدي معناهما مثل أن يقول ملكتك هذا على أن ترد علي بدله أو توجد
قرينة دالة على إرادة القرض فإن قال ملكتك ولم يذكر البدل ولا وجد ما يدل عليه فهو هبة فإن
اختلفا فالقول قول الموهوب له لأن الظاهر معه لأن التمليك من غير عوض هبة
(فصل) ولا يثبت فيه خيار مالان المقرض دخل على بصيرة ان الحظ لغيره فأشبه الهبة والمقترض
متى شاء رده فيستغني بذلك عن ثبوت الخيار له، ويثبت الملك في القرض بالقبض وهو عقد لازم
في حق المقرض جائز في حق المقترض فلو أراد المقرض الرجوع في عين ماله لم يملك ذلك، وقال
الشافعي له ذلك لأن كل ما يملك المطالبة بمثله ملك أخذه إذا كان موجودا كالمغصوب والعارية
ولنا أنه أزال ملكه بعوض من غير خيار فلم يكن له الرجوع فيه كالمبيع، ويفارق المغصوب والعارية
فإنه لم يزل ملكه عنهما ولأنه لا يملك المطالبة بمثلهما مع وجودهما، وفى مسئلتنا بخلافه، فأما المقترض
فله رد ما اقترضه على المقرض إذا كان على صفته لم ينقص ولم يحدث به عيب لأنه على صفة حقه
فلزمه قبوله كالمسلم فيه وكما لو أعطاه غيره، ويحتمل ان لا يلزم المقرض قبول ما ليس بمثلي لأن القرض
فيه يوجب رد القيمة على أحد الوجهين فإذا رده بعينه لم يرد الواجب عليه فلم يجب قبوله كالمبيع
(فصل) وللمقرض المطالبة ببدله في الحال لأنه سبب يوجب رد المثل في المثليات فأوجبه حالا
كالاتلاف، ولو اقرضه تفاريق ثم طالبه بها جملة فله ذلك لأن الجميع حال فأشبه ما لو باعه بيوعا حالة
ثم طالبه بثمنها جملة، وان أجل القرض لم يتأجل وكان حالا وكل دين حل أجله لم يصر مؤجلا
بتأجيله وبهذا قال الحارث العكلي والأوزاعي وابن المنذر والشافعي وقال مالك والليث يتأجل
الجميع بالتأجيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " ولان المتعاقدين يملكان التصرف
في هذا العقد بالإقالة والامضاء فملكا الزيادة فيه كخيار المجلس وقال أبو حنيفة في القرض وبدل المتلف
كقولنا، وفي ثمن المبيع والأجرة والصداق وعوض الخلع كقولهما لأن الاجل يقتضي جزءا من العوض
والقرض لا يحتمل الزيادة والنقص في عوضه وبدل المتلف الواجب فيه المثل من غير زيادة ولا
نقص فلذلك لم يتأجل وبقية الأعواض تجوز الزيادة فيها فجاز تأجيلها. ولنا ان الحق يثبت حالا
والتأجيل تبرع منه ووعد فلا يلزم الوفاء به كما لو اعاره شيئا، وهذا لا يقع عليه اسم الشرط، ولو
سمي فالخبر مخصوص بالعارية فيلحق به مما اختلفا فيه لأنه مثله. ولنا على أبي حنيفة انها زيادة بعد
استقرار العقد فأشبه القرض، وأما الإقالة فهي فسخ وابتداء عقد آخر بخلاف مسئلتنا، وأما خيار
المجلس فهو بمنزلة ابتداء العقد بدليل انه يجزئ فيه القبض لما يشترط قبضه والتعين لما في الذمة
354

(فصل) ويجوز قرض المكيل والموزون بغير خلاف قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل
العلم على أن استقراض ماله مثل من المكيل والموزون والأطعمة جائز، ويجوز قرض كل ما يثبت في
الذمة سلما سوى بني آدم، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة لا يجوز قرض غير المكيل والموزون لأنه
لا مثل له أشبه الجواهر. ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا وليس بمكيل ولا موزون ولا ما يثبت
سلما يملك بالبيع ويضبط بالوصف فجاز قرضه كالمكيل والموزون، وقولهم لا مثل له خلاف أصلهم
فإن عند أبي حنيفة لو أتلف على رجل ثوبا ثبت في ذمته مثله ويجوز الصلح عنه بأكثر من قيمته
فأما ما لا يثبت في الذمة سلما كالجواهر وشبهها فقال القاضي يجوز قرضها ويرد المستقرض القيمة لأن
مالا مثل له يضمن بالقيمة والجواهر كغيرها في القيم، وقال أبو الخطاب لا يجوز قرضها لأن القرض
يقتضي رد المثل وهذه لا مثل لها، ولأنه لم ينقل قرضها ولا هي في معنى ما نقل القرض فيه لكونها
ليست من المرافق، ولا يثبت في الذمة سلما فوجب ابقاؤها على المنع ويمكن بناء هذا الخلاف على
الوجهين في الواجب في بدل غير المكيل والموزون، فإذا قلنا الواجب رد المثل لم يجز قرض الجواهر
ومالا يثبت في الذمة سلما لتعذر رد مثلها، وان قلنا الواجب رد القيمة جاز قرضه لامكان رد القيمة،
ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(فصل) فأما بنو آدم فقال أحمد أكره قرضهم فيحتمل كراهية تنزيه، ويصح قرضهم وهو قول
ابن حريج والمزني لأنه مال يثبت في الذمة سلما فصح قرضه كسائر الحيوان، ويحتمل أنه أراد كراهة
التحريم فلا يصح قرضهم. اختاره القاضي لأنه لم ينقل قرضهم ولا هو من المرافق ويحتمل صحة قرض
العبيد دون الإماء وهو قول مالك والشافعي إلا أن يقرضهن من ذوي محارمهن لأن الملك بالقرض
ضعيف فإنه لا يمنعه من ردها على المقرض فلا يستباح به الوطئ كالملك في مدة الخيار، وإذا لم يبح
355

الوطئ لم يصح القرض لعدم القائل بالفرق، ولان الابضاع مما يحتاط لها، ولو أبحنا قرضهن أفضى
إلى أن الرجل يستقرض أمة فيطؤها ثم يردها من يومه، ومتى احتاج إلى وطئها استقرضها فوطئها
ثم ردها كما يستعير المتاع فينتفع به ثم يرده. ولنا انه عقد ناقل للملك فاستوى فيه العبيد والإماء كسائر
العقود ولا نسلم ضعف الملك فإنه مطلق لسائر التصرفات بخلاف الملك في مدة الخيار، وقولهم متى
شاء المقترض ردها ممنوع فإننا إذا قلنا الواجب رد القيمة لم يملك المقترض رد الأمة وإنما ير قيمتها،
وان سلمنا ذلك لكن متى قصد المقترض هذا لم يحل له فعله ولا يصح اقتراضه كما لو اشترى أمة
ليطأها ثم يردها بالمقايلة أو بعيب فيها، وان وقع هذا بحكم الاتفاق لم يمنع الصحة كما لو وقع ذلك في
البيع، وكما لو أسلم جارية في أخرى موصوفة بصفاتها ثم ردها بعينها عند حلول الأجل، ولو ثبت
أن القرض ضعيف لا يبيح الوطئ لم يمنع منه في الجواري كالبيع في مدة الخيار وعدم الفائل بالفرق
ليس بشئ على ما عرف في مواضعه وعدم نقله ليس بحجة فإن أكثر الحيوانات لم ينقل قرضها وهو جائز
(فصل) وإذا اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن لم يجز لأن القرض فيها يوجب رد
المثل فإذا لم يعرف المثل لم يمكن القضاء، وكذلك لو اقترض مكيلا أو موزونا جزافا لم يجز لذلك ولو
قدره بمكيال بعينه أو صنجة بعينها غير معروفين عند العامة لم يجز لأنه لا يأمن تلف ذلك فيتعذر رد
المثل فأشبه السلم في مثل ذلك، وقال الإمام أحمد في ماء بين قوم لهم نوب في أيام مسماة فاحتاج بعضهم
إلى أن يستقي في غير نوبته فاستقرض من نوبة غيره ليرد عليه بدله في يوم نوبته فلا بأس وإن كان
غير محدود كرهته، فكرهه إذا لم يكن محدودا لأنه لا يمكنه رد مثله، وان كانت الدراهم يتعامل بها عددا
356

فاستقرض عددا رد عددا وان استقرض وزنا رد وزنا وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي،
واستقرض أيوب من حماد بن زيد دراهم بمكة عددا وأعطاه بالبصرة عددا لأنه وفاه مثل ما اقترض
فيما يتعامل به الناس فأشبه ما لو كانوا يتعاملون بها وزنا فرد وزنا
(فصل) ويجب رد المثل في المكيل والموزون لا نعلم فيه خلافا، قال ابن المنذر: أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أسلف سلفا مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله ان ذلك جائز
وان للمسلف أخذ ذلك ولان المكيل والموزون يضمن في الغصب والاتلاف بمثله فكذا ههنا، فأما غير
المكيل والموزون ففيه وجهان (أحدهما) يجب رد قيمته يوم القرض لأنه لا مثل له فيضمنه بقيمته كحال
357

الاتلاف والغصب (والثاني) يجب رد مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله.
ويخالف الاتلاف فإنه لا مسامحة فيه فوجبت القيمة لأنها أحصر والقرض أسهل ولهذا جازت النسيئة
فيه فيما فيه الربا ويعتبر مثل صفاته تقريبا فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل والموزون فإن تعذر
المثل فعليه قيمته يوم تعذر المثل لأن القيمة ثبتت في ذمته حينئذ، وإذا قلنا تجب القيمة وجبت حين
القرض لأنها حينئذ ثبتت في ذمته
358

(فصل) ويجوز قرض الخبز ورخص فيه أبو قلابة ومالك ومنع منه أبو حنيفة. ولنا أنه موزون
فجاز قرضه كسائر الموزونات، وإذا اقرضه بالوزن ورد مثله بالوزن جاز وان أخذه عددا فرده عددا
فقال الشريف أبو جعفر فيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لأنه موزون أشبه سائر الموزونات (والثانية)
يجوز. قال ابن أبي موسى إذا كان يتحرى أن يكون مثلا بمثل فلا يحتاج إلى الوزن والوزن أحب إلي.
ووجه الجواز ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله إن الجيران يستقرضون الخبز
والخمير ويردون زيادة ونقصانا فقال " لا بأس ان ذلك من مرافق الناس لا يراد به الفضل " ذكره
أبو بكر في الشافي باسناده وفيه أيضا باسناده عن معاذ بن جبل أنه سئل عن استقراض الخبز والخمير
فقال سبحان الله إنما هذا من مكارم الأخلاق فخذ الكبير واعط الصغير وخذ الصغير واعط الكبير
خيركم أحسنكم قضاء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ولان هذا مما تدعو الحاجة إليه
ويشق اعتبار الوزن فيه وتدخله المسامحة فجاز كدخول الحمام من غير تقدير أجرة والركوب في
سفينة الملاح وأشباه هذا، فإن شرط أن يعطيه أكثر مما أقرضه أو أجود أو أعطاه مثل ما أخذ
وزاده كسرة كان ذلك حراما وكذلك إن أقرضه صغيرا قصد أن يعطيه كبيرا لأن الأصل تحريم ذلك
وإنما أبيح لمشقة إمكان التحرز منه فإذا قصد أو شرط أو أفردت الزيادة فقد أمكن التحرز منه فحرم
بحكم الأصل كما لو فعل ذلك في غيره
359

(فصل) وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف. قال إن المنذر: أجمعوا على
أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا
وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولأنه عقد ارفاق
وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولافرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة مثل أن
يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحا أو نقدا ليعطيه خيرا منه وان شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر وكان
لحمله مؤنة لم يجز لأنه زيادة وان لم يكن لحمله مؤنة جاز وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن
ابن علي وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وأيوب السختياني والثوري وأحمد وإسحاق
وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك والأوزاعي والشافعي
لأنه قد يكون في ذلك زيادة وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم
يجز، ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر، وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعا، وقال
عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأسا، وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل
عن مثل هذا فلم ير به بأسا، وممن لم ير به بأسا ابن سيرين والنخعي، رواه كله سعيد، وذكر
القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد ليوفيه في بلد أخرى ليربح خطر الطريق، والصحيح
جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها
بل بمشروعيتها، ولان هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة
وإن شرط في القرض أن يؤجر داره أو يبيعه شيئا أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز لأن
360

النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف ولأنه شرط عقدا فلم يجز كما لو باعه داره
بشرط أن يبيعه الآخر داره، وان شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها أو على أن يستأجر دار
المقرض بأكثر من أجرتها أو على أن يهدي له هدية أو يعمل له عملا كان أبلغ في التحريم وإن
فعل ذلك من غير شرط قبل الوفاء لم يقبله ولم يجز قبوله الا أن يكافئه أو يحسبه من دينه إلا أن يكون
شيئا جرت العادة به بينهما قبل القرض لما روى الأثرم أن رجلا كان له على سماك عشرون درهما
فجعل يهدي إليه السمك ويقومه حتى بلغ ثلاثة عشر درهما فسأل ابن عباس فقال أعطه سبعة دراهم
وعن ابن سيرين أن عمر أسلف أبي بن كعب عشرة آلاف درهم فأهدى إليه أبي بن كعب من ثمرة
أرضه فردها عليه ولم يقبلها فأتاه أبي فقال لقد علم أهل المدينة أني من أطيبهم ثمرة وانه لا حاجة لنا فبم
منعت هديتنا؟ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل، وعن زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب إني أريد
أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق فقال: انك تأتي أرضا فاش فيها الربا فإن أقرضت رجلا قرضا
فأتاك بقرضك ليؤدي إليك قرضك ومعه هدية فاقبض قرضك واردد عليه هديته رواهما الأثرم،
وروى البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام وذكر
حديثا وفيه ثم قال لي إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل دين فأهدى إليك حمل تبن
أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا، قال ابن أبي موسى ولو أقرضه قرضا ثم استعمله عملا لم
يكن ليستعمله مثله قبل القرض كان قرضا جر منفعة. ولو استضاف غريمه ولم تكن العادة جرت بينهما
بذلك حسب له ما أكله لما روى ابن ماجة في سننه عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقرض
أحدكم قرضا فأهدي إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جري بينه وبينه قبل ذلك "
وهذا كله في مدة القرض، فأما بعد الوفاء فهو كالزيادة من غير شرط على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
(فصل) فإن أقرضه مطلقا من غير شرط فقضاه خيرا منه في القدر أو الصفة أو دونه برضاهما
جاز وكذلك إن كتب له بها سفتجة أو قضاه في بلد آخر جاز ورخص في ذلك ابن عمر وسعيد بن
361

المسيب والحسن والنخعي والشعبي والزهري ومكحول وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق، وقال
أبو الخطاب إن قضاه خيرا منه أو زاده زيادة بعد الوفاء من غير مواطأة فعلى روايتين، وروي
عن أبي بن كعب وابن عباس وابن عمر أنه يأخذ مثل قرضه ولا يأخذ فضلا لأنه إذا أخذ
فضلا كان قرضا جر منفعة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا فرد خيرا منه وقال " خيركم أحسنكم قضاء " متفق عليه
وللبخاري " أفضلكم أحسنكم قضاء " ولأنه لم يجعل تلك، الزيادة عوضا في القرض ولا وسيلة إليه ولا
إلى استيفاء دينه فحلت كما لو لم يكن قرض قال ابن أبي موسى إذا زاده بعد الوفاء فعاد المستقرض بعد
ذلك يلتمس منه قرضا ثانيا ففعل لم يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه فإن أخذ زيادة أو أجود مما أعطاه كان
حراما قولا واحدا، وإن كان الرجل معروفا بحسن القضاء لم يكره اقراضه، وقال القاضي فيه وجه
آخر أنه يكره لأنه يطمع في حسن عادته وهذا غير صحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفا بحسن القضاء
فهل يسوغ لاحد أن يقول إن إقراضه مكروه ولان المعروف بحسن القضاء خير الناس وأفضلهم وهو
أولى الناس بقضاء حاجته وإجابة مسئلته وتفريج كربته فلا يجوز أن يكون ذلك مكروها وإنما يمنع من
الزيادة المشروطة، ولو أقرضه مكسرة فجاءه مكانها بصحاح بغير شرط جاز، وإن جاءه بصحاح أقل
منها فأخذها بجميع حقه لم يجز قولا واحدا لأن ذلك معاوضة للنقد بأقل منه فكان ربا
362

(فصل) وان شرط في القرض أن يوفيه أنقص مما أقرضه وكان ذلك مما يجري فيه الربا لم يجز
لافضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه، وإن كان في غيره لم يجز أيضا وهو أحد الوجهين لأصحاب
الشافعي، وفي الوجه الآخر يجوز لأن القرض جعل للرفق بالمستقرض، وشرط النقصان لا يخرجه عن
موضوعه بخلاف الزيادة. ولنا أن القرض يتقضي المثل فشرط النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز كشرط الزيادة
(فصل) ولو اقترض من رجل نصف دينار فدفع إليه دينارا صحيحا وقال نصفه قضاء ونصفه
وديعة عندك أو سلما في شئ صح، وان امتنع المقرض من قبوله فله ذلك لأن عليه في الشركة ضررا
ولو اشترى بالنصف الثاني من الدينار سلعة جاز إلا أن يكون ذلك عن مشارطة فقال أقضيك صحيحا
بشرط أني آخذ منك بنصفه الباقي قميصا فإنه لا يجوز لأنه لم يدفع إليه صحيحا إلا ليعطيه بالنصف
الباقي فضل ما بين الصحيح والمكسور من النصف المقتضي ولو لم يكن شرطا جاز فإن ترك النصف
الآخر عنده وديعة جاز وكانا شريكين فيه وان اتفقا على كسره كسراه فإن اختلفا لم يجبر أحدهما
على كسره لأنه ينقص قيمته
(فصل) ولو أفلس غريمه فأقرضه ألفا ليوفيه كل شهر شيئا معلوما جاز لأنه إنما انتفع باستيفاء
ما هو مستحق له ولو كان له عليه حنطة فأقرضه ما يشتري به حنطة يوفيه إياها لم يكن محرما لذلك. ولو
363

أراد رجل ان يبعث إلى عياله نفقة فأقرضها رجلا على أن يدفعها إلى عياله فلا بأس إذا لم يأخذ عليها شيئا
ولو اقرض اكاره ما يشتري به بقرا يعمل عليها في أرضه أو بذرا يبذره فيها فإن شرط ذلك في القرض
لم يجز لأنه شرط ما ينتفع به فأشبه شرط الزيادة وان لم يكن شرطا فقال ابن أبي موسى لا يجوز لأنه
قرض جر منفعة. قال ولو قال أقرضني ألفا وادفع إلي ارضك ازرعها بالثلث كان خبيثا. والأولى جواز
ذلك إذا لم يكن مشروطا لأن الحاجة داعية إليه والمستقرض إنما يقصد نفع نفسه وإنما يحصل انتفاع
المقرض ضمنا فأشبه اخذ السفتجة به وايفاءه في بلد آخر ولأنه مصلحة لهما جميعا فأشبه ما ذكرنا
(فصل) قال احمد فيمن اقترض من رجل دراهم وابتاع بها منه شيئا فخرجت زيوفا فالبيع جائز
ولا يرجع عليه بشئ يعني لا يرجع البائع على المشتري ببدل الثمن لأنها دراهمه فعيبها عليه وإنما له على
المشتري بدل ما اقرضه إياه بصفته زيوفا وهذا يحتمل انه أراد فيما إذا باعه السلعة بها وهو يعلم عيبها فاما
ان باعه في ذمته بدارهم ثم قبض هذه بدلا عنها غير عالم بها فينبغي ان يجب له دراهم خالية من العيب
ويرد هذه عليه وللمشتري ردها على البائع وفاء عن القرض ويبقى الثمن في ذمته، وان حسبها على
البائع وفاء عن القرض ووفاه الثمن جيدا جاز، قال ولو اقرض رجلا دراهم وقال إذا مت فأنت في حل
كانت وصية، وان قال إن مت فأنت في حل لم يصح وذلك لأن هذا ابراء معلق على شرط ولا يصح
تعليقه على الشروط والأول وصية لأنه علق ذلك على موت نفسه والوصية جائزة، قال ولو اقرضه
تسعين دينارا بمائة عددا والوزن واحد وكانت لا تنفق في مكان إلا بالوزن جاز، وإن كانت تنفق
برؤوسها فلا وذلك لأنها إذا كانت تنفق في مكان برؤوسها كان ذلك زيادة لأن التسعين من الماءة تقوم
364

مقام التسعين التي اقرضه إياها ويستفضل عشرة ولا يجوز اشتراط الزيادة وإذا كانت لا تنفق إلا بالوزن
فلا زيادة فيها وإن كثر عددها. قال ولو قال اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة فلا بأس، ولو
قال اكفل عني ولك الف لم يجز وذلك لأن قول اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح فجازت
كما لو قال ابن لي هذا الحائط ولك عشرة واما الكفالة فإن الكفيل يلزمه الدين فإذا أداه وجب
له على المكفول عنه فصار كالقرض فإذا اخذ عوضا صار القرض جارا للمنفعة فلم يجز
(فصل) قد ذكرنا ان المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله
ولو كان ما اقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير،
وإن حدث به عيب لم يلزمه قبوله، وإن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة
بها كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها لأنها تعيبت في ملكه
نص عليه احمد في الدراهم المكسرة وقال يقومها كم تساوي يوم اخذها ثم يعطيه وسواء نقصت قيمتها
قليلا أو كثيرا قال القاضي هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما ان تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها
لزمه اخذها، وقال مالك والليث بن سعد والشافعي ليس له إلا مثل ما اقرضه لأن ذلك ليس بعيب
حدث فيها فجرى مجرى نقص سعرها: ولنا ان تحريم السلطان لها منع انفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها
أو تلف اجزائها واما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا مثل ان كانت عشرة بدانق فصارت
عشرين بدانق أو قليلا لأنه لم يحدث فيها شئ إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت
(فصل) وإذا أقرضه ما لحمله مؤنة ثم طالبه بمثله ببلد آخر لم يلزمه لأنه لا يلزمه حمله له إلى ذلك
البلد فإن طالبه بالقيمة لزمه لأنه لا مؤنة لحملها فإن تبرع المستقرض بدفع المثل وأبى المقرض قبوله فله
ذلك لأن عليه ضررا في قبضه لأنه ربما احتاج إلى حمله إلى المكان الذي أقرضه وله المطالبة بقيمة
ذلك في البلد الذي أقرضه فيه لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه وإن كان القرض أثمانا أو مالا مؤنة
في حمله وطالبه بها وهما ببلد آخر لزمه دفعه إليه لأن تسليمه إليه في هذا البلد وغيره واحد
365

(فصل) وان أقرض ذمي ذميا خمرا ثم أسلما أو أحدهما بطل القرض ولم يجب على المقترض
شئ سواء كان هو المسلم أو الآخر لأنه إذا أسلم لم يجز ان يجب عليه خمر لعدم ماليتها ولا يجب بدلها
لأنها لا قيمة لها ولذلك لا يضمنها إذا أتلفها وإن كان المسلم الآخر لم يجب له شئ لذلك
كتاب الرهن
الرهن في اللغة الثبوت والدوام يقال ماء راهن أي راكد ونعمة راهنة أي ثابتة دائمة، وقيل
هو من الحبس قال الله تعالى (كل امرئ بما كسب رهين) وقال (كل نفس بما كسبت رهينة) وقال الشاعر.
وفارقتك برهن لا فكاك له * يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلقا
شبه لزوم قلبه لها واحتباسه عندها لشدة وجده بها بالرهن الذي يلزمه المرتهن فيبقيه عنده ولا
يفارقه. وغلق الرهن استحقاق المرتهن إياه لعجز الراهن عن فكاكه، والرهن في الشرع المال الذي
يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه. وهو جائز بالكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فقول الله تعالى (وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة) وتقرأ (فرهان)
والرهان جمع رهن والرهن جمع الجمع قاله الفراء، وقال الزجاج: يحتمل أن يكون جمع رهن مثل سقف
وسقف، وأما السنة فروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشترى من يهودي طعاما ورهنه
درعه متفق عليه، وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الظهر يركب
بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة "
366

رواه البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن "
وأما الاجماع فاجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة
(فصل) ويجوز الرهن في الحضر كما يجوز في السفر قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف في
ذلك الا مجاهدا قال ليس الرهن الا في السفر لأن الله تعالى شرط السفر في الرهن بقوله تعالى (وان
كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة). ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما
ورهنه درعه وكانا بالمدينة ولأنها وثيقة تجوز في السفر فجازت في الحضر كالضمان، فاما ذكر السفر فإنه
خرج مخرج الغالب لكون الكاتب يعدم في السفر غالبا ولهذا لم يشترط عدم الكاتب وهو مذكور معه أيضا
(فصل) والرهن غير واجب لا نعلم فيه مخالفا لأنه وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان والكتابة،
وقول الله تعالى (فرهان مقبوضة) إرشاد لنا لا إيجاب علينا بدليل قول الله تعالى (فإن أمن بعضكم
بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) ولأنه أمر به عند اعواز الكتابة والكتابة غير واجبة فكذلك بدلها
(فصل) ولا يخلوا الرهن من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يقع بعد الحق فيصح بالاجماع لأنه دين
ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به فجاز أخذها به كالضمان ولان الله تعالى قال (وان كنتم على
سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) فجعله بدلا عن الكتابة فيكون في محلها ومحلها بعد وجوب
الحق، وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) فجعله
جزاء للمداينة مذكورا بعدها بفاء التعقيب (الحال الثاني) أن يقع الرهن مع العقد الموجب للدين
367

فيقول بعتك ثوبي هذا بعشرة إلى شهر ترهنني بها عبدك سعدا فيقول قبلت ذلك فيصح أيضا، وبه
قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن الحاجة داعية إلى ثبوته فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق
ويشترطه فيه لم يتمكن من الزام المشتري عقده وكانت الخيرة إلى المشتري والظاهر أنه لا يبذله فتفوت
الوثيقة بالحق (الحال الثالث) أن يرهنه قبل الحق فيقول رهنتك عبدي هذا بعشرة تقرضنيها فلا
يصح في ظاهره المذهب وهو اختيار أبي بكر والقاضي وذكر القاضي ان أحمد نص عليه في رواية ابن
منصور وهو مذهب الشافعي واختار أبو الخطاب انه يصح فمتى قال رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضنيها
غدا وسلمه إليه ثم أقرضه الدراهم لزم الرهن وهو مذهب مالك وأبي حنيفة لأنه وثيقة بحق فجاز
عقدها قبل وجوبه كالضمان أو فجاز انعقادها على شئ يحدث في المستقبل كضمان الدرك
ولنا أنه وثيقة بحق لا يلزم قبله فلم تصح قبله كالشهادة ولان الرهن تابع للحق فلا يسبقه كالشهادة
والثمن لا يتقدم البيع، وأما الضمان فيحتمل أن يمنع صحته، وان سلمنا فالفرق بينهما ان الضمان التزام
مال تبرعا بالقول فجاز من غير حق ثابت كالنذر بخلاف الرهن
{مسألة} قال (ولا يصح الرهن الا أن يكون مقبوضا من جائز الامر)
يعني لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال بعض أصحابنا: ما كان
مكيلا أو موزونا لا يلزم رهنه إلا بالقبض وفيما عداهما روايتان (إحداهما) لا يلزم إلا بالقبض
(والأخرى) يلزم بمجرد العقد كالبيع، وقد نص أحمد على هذا في رواية الميموني وحمل القاضي كلام
الخرقي على المكيل والموزون خاصة وليس بصحيح فإن كلام الخرقي مع عمومه قد اتبعه بما يدل على
368

إرادة التعميم وهو قوله: فإن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل
كالدور والأرضين فقبضه بتخلية راهنه بينه وبينه. وقال أحمد في الدار والجارية إذا ردها إلى الراهن
لم يكن رهنا في الحال وهذا كقول الخرقي وقال مالك يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض لأنه عقد
يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع. ولنا قول الله تعالى (فرهن مقبوضة) وصفها بكونها مقبوضة ولأنه
عقد ارفاق إلى القبول فافتقر إلى القبض كالقرض ولأنه رهن لم يقبض فلا يلزم اقباضه كما لو
مات الراهن ولا يشبه البيع فإنه معاوضة وليس بارفاق وقول الخرقي: من جائز الامر. يعني ان
الراهن الذي يرهن ويقبض يكون جائز التصرف في ماله وهو الحر المكلف الرشيد، ولا يكون محجورا
عليه لصغر أو جنون أو سفه أو فلس، ويعتبر ذلك في حال رهنه واقبضاه لأن العقد والتسليم ليس
بواجب وإنما هو إلى اختيار الراهن فإذا لم يكن له اختيار صحيح لم يصح، ولأنه نوع تصرف في
المال فلم يصح من المحجور عليه من غير اذن كالبيع فإن جن أحد المتراهنين قبل القبض أو مات لم
يبطل الرهن لأنه عقد يؤل إلى اللزوم فلم يبطل بجنون أحد المتعاقدين أو موته كالبيع الذي فيه الخيار
ويقوم ولي المجنون مقامه. فإن كان المجنون الراهن وكان الحظ في التقبيض مثل أن يكون شرطا في
بيع يستضر بفسخه ونحوه أقبضه، وإن كان الحظ في تركه لم يجز له تقبيضه، وإن كان المجنون المرتهن
قبضه وليه إن اختار الراهن، وان امتنع لم يجبر وإذا مات قام وارثه مقامه في القبض فإن مات الراهن
لم يلزم ورثته تقبيضه لأنهم يقومون مقام الراهن ولم يلزمه ذلك: فإن لم يكن على الميت دين سوى
هذا الدين فأحب الورثة تقبيض الرهن جاز، وإن كان عليه دين سواه فظاهر المذهب أنه ليس
للوارث تخصيص المرتهن بالرهن نص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد وهو مذهب الشافعي، وذكر
القاضي فيه رواية أخرى ان لهم ذلك أخذا مما نقل ابن منصور وأبو طالب عن أحمد أنه قال إذا
مات الراهن أو أفلس فالمرتهن أحق به من الغرماء ولم يعتبر وجود القبض بعد الموت أو قبله، وهذا
لا يعارض ما نقله علي بن سعيد لأنه خاص وهذا عام والاستدلال به على هذه الصورة يضعف جدا
لندرتها فكيف يعارض به الخاص لكن يجوز أن يكون هذا الحكم مبنيا على الرواية التي لا يعتبر فيها
القبض في غير المكيل والموزون فيكون الرهن قد لزم قبل القبض ووجب تقبيضه على الراهن فكذلك
على وراثه، ويختص هذا بما عدا المكيل والموزون، وأما ما لم يلزم الرهن فيه فليس للورثة تقبيضه
لأن الغرماء تعلقت ديونهم بالتركة قبل لزوم حقه في الرهن فلم يجز تخصيصه به بغير رضاهم كما لو أفلس
369

الراهن الا إذا قلنا إن للورثة التصرف في التركة ووفاء الدين من امولهم. فإن قيل فما الفائدة
في القول بصحة الرهن إذا لم يختص به المرتهن؟ قلنا فائدته أنه يحتمل ان يرضى الغرماء بتسليمه
إليه فيتم الرهن ولا فرق في جميع ما ذكرناه بين ما قبل الاذن في القبض وما بعده لكون الاذن
يبطل بالجنون والموت والاغماء والحجر
(فصل) ولو حجر على الراهن لفلس قبل التسليم لم يكن له تسليمه لأن فيه تخصيصا للمرتهن
بثمنه وليس له تخصيص بعض غرمائه، وان حجر عليه لسفه فحكمه حكم ما لو زال عقله بجنون على
ما أسلفناه، وان أغمي عليه لم يكن للمرتهن قبض الرهن وليس لاحد تقبيضه لأن المغمى عليه لا ولاية
عليه، وان أغمي على المرتهن لم يكن لاحد ان يقوم مقامه في قبض الرهن أيضا وانتظر إفاقته،
وان خرس وكانت له كتابة مفهومة أو إشارة معلومة فحكمه حكم المتكلمين ان اذن في القبض جاز
والا فلا، وان لم تفهم إشارته ولا كتابته لم يجز القبض، وإن كان أحد هؤلاء قد اذن في القبض
فحكمه حكم من لم يأذن لأن اذنهم يبطل بما عرض لهم وجميع هذا تناوله قول الخرقي من جائز الامر
وليس أحد من هؤلاء جائز الامر
(فصل) إذا تصرف الراهن في الرهن قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق أو جعله صداقا أو رهنه
ثانيا بطل الراهن الأول سواء اقبض الهبة والمبيع والرهن الثاني أو لم يقبضه لأنه أخرجه عن امكان
استيفاء الدين من ثمنه أو فعل ما يدل على قصده ذلك، وان دبر العبد أو أجره أو زوج الأمة لم
يبطل الرهن لأن هذا التصرف لا يمنع البيع فلا يمنع صحة الرهن ولأنه لا يمنع ابتداء الرهن فلا يقطع
استدامته كاستخدامه، وان كاتب العبد انبنى على صحة رهن المكاتب فإن قلنا يجوز رهنه لم يبطل رهنه
وان قلنا لا يجوز رهنه بطل رهنه كما لو أعتقه
(فصل) واستدامة القبض شرط للزوم الرهن فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره زال لزوم
الرهن وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو ايداع أو غير ذلك فإذا
عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق. قال أحمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن دارا ثم
اكراها صاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهنا. وقال فيمن رهن جارية ثم سأل
المرتهن ان يبعثها إليه لتخبز لهم فبعث بها فوطئها انتقلت من الرهن فإن لم يكن وطئها فلا شئ،
قال أبو بكر لا يكون رهنا في تلك الحال فإذا ردها رجعت إلى الرهن، وممن أوجب استدامة القبض
مالك وأبو حنيفة وهذا على القول الصحيح، فأما على قول من قال ابتداء القبض ليس بشرط فأولى
370

أن يقول الاستدامة غير مشترطة لأن كل شرط يعتبر في الاستدامة يعتبر في الابتداء، وقد يعتبر في
الابتداء مالا يعتبر في الاستدامة. قال أبو الخطاب: إذا قلنا القبض شرط في الابتداء كان شرطا في
الاستدامة وقال الشافعي استدامة القبض ليست شرطا لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه فلم يشترط
استدامته كالهبة، ولنا قول الله تعالى (فرهن مقبوضة) لأنها إحدى حالتي الرهن فكان القبض فيها
شرطا كالابتداء ويفارق الهبة لأن القبض في ابتدائها يثبت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا
والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه واستيفاء دينه من ثمنه فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه ولم
تحصل وثيقة وان أزيلت يد المرتهن لغير حق كغصب أو سرقة أو إباق العبد أو ضياع المتاع ونحو
ذلك لم يزل لزوم الرهن لأن يده ثابتة حكما فكأنها لم تزل
(فصل) وليس للمرتهن قبض الرهن الا باذن الراهن لأنه لا يلزمه تقبيضه فاعتبر اذنه في قبضه
كالواهب، فإن تعدى المرتهن فقبضه بغير اذن لم يثبت حكمه وكان بمنزلة من لم يقبض وان اذن الراهن
في القبض ثم رجع عن الاذن قبله زال حكم الاذن وان رجع عن الاذن بعد قبضه لم يؤثر رجوعه لأن
الرهن قد لزم لاتصال القبض به، وكل موضع زال لزوم الرهن لزوال القبض اعتبر الاذن في القبض
الثاني لأنه قبض يلزم به الرهن أشبه الأول. ويقوم ما يدل على الاذن مقامه مثل ارساله العبد إلى
مرتهنة ورده لما أخذه من المرتهن إلى يده ونحو ذلك لأن ذلك دليل على الاذن فاكتفى به كدعاء
الناس إلى الطعام وتقديمه بين أيديهم يجري مجرى الاذن في أكله
{مسألة} قال (والقبض فيه من وجهين فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه إياه من
راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل كالدور والأرضين فقبضه تخلية راهنه بينه وبين
مرتهنه لا حائل دونه
وجملة ذلك أن القبض في الرهن كالقبض في البيع والهبة فإن كان منقولا فقبضه نقله أو تناوله
وإن كان أثمانا أو شيئا خفيفا يمكن قبضه باليد فقبضه تناوله بها، وإن كان مكيلا رهنه بالكيل أو
موزونا رهنه بالوزن فقبضه اكتياله أو اتزانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سميت الكيل فكل " وان ارتهن
الصبرة جزافا أو كان ثيابا أو حيوانا فقبضه نقله لقول ابن عمر كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا النبي
صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه، متفق عليه. وإن كان الرهن غير منقول كالعقار والثمرة على الشجرة
371

فقبضه التخلية بين مرتهنه وبينه من غير حائل بان يفتح له باب الدار أو يسلم إليه مفتاحها، وان خلى بينه
وبينها وفيها قماش للراهن صح التسليم لأن اتصالها بملك الراهن لا يمنع صحة التسليم كالثمرة في الشجرة،
وكذلك لو رهنه دابة عليها حمل للراهن فسلمها إليه صح التسليم، ولو رهن الحمل وهو على الدابة
وسلمها إليه بحملها صح القبض لأن القبض حصل فيهما جميعا فيكون موجودا في الرهن منهما
(فصل) وان رهنه سهما مشاعا مما لا ينقل خلى بينه وبينه سواء حضر الشريك أو لم يحضر
وإن كان منقولا كالجوهرة يرهن نصفها فقبضها تناولها ولا يمكن تناولها الا برضا الشريك فإن رضي
الشريك تناولها وان امتنع الشريك فرضي المرتهن والراهن بكونها في يد الشريك جاز وناب عنه في
القبض، وان تنازع الشريك والمرتهن نصب الحاكم عدلا تكون في يده لهما، وان ناولها الراهن للمرتهن
بغير رضاء الشريك فتناولها فإن قلنا استدامة القبض شرط لم يكفه ذلك التناول، وان قلنا ليس بشرط
فقد حصل القبض لأن الرهن حصل في يده مع التعدي في غيره فأشبه ما لو رهنه ثوبا فسلمه إليه
مع ثوب لغيره فتناولهما معا، ولو رهنه ثوبا فاشتبه عليه بغيره فسلم إليه أحدهما لم يثبت القبض لأنه
لا يعلم أنه أقبضه الرهن فإن تبين أنه الرهن تبين صحة التسليم، وان سلم إليه الثوبين معا حصل القبض
لأنه قد تسلم الرهن يقينا
(فصل) ولو رهنه دارا فخلى بينه وبينها وهما فيها ثم خرج الراهن صح القبض، وبهذا قال
الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها لأنه ما كان في الدار فيده عليها
فما حصلت التخلية. ولنا ان التخلية تصح بقوله مع التمكين منها وعدم المانع فأشبه ما لو كانا خارجين عنها
ولا يصح ما ذكره ألا ترى ان خروج المرتهن منها لا يزيل يده عنها ودخوله إلى دار غيره لا يثبت
يده عليها، ولأنه بخروجه عنها محقق لقوله فلا معنى لإعادة التخلية
(فصل) وان رهنه مالا له في يد المرتهن عارية أو وديعة أو غصبا أو نحوه صح الرهن لأنه مالك
له يمكن قبضه فصح رهنه كما لو كان في يده، وظاهر كلام أحمد لزوم الرهن بنفس العقد من غير احتياج
إلى أمر زائد فإنه قال إذا حصلت الوديعة في يده بعد الرهن فهو رهن فلم يعتبر أمرا زائدا وذلك
لأن اليد ثابتة والقبض حاصل وإنما يتغير الحكم لا غير. ويمكن تغير الحكم مع استدامة القبض كما
لو طولب بالوديعة فجحدها لتغير الحكم وصارت مضمونة عليه من غير أمر زائد. ولو عاد الجاحد فأقر
بها وقال لصاحبها خذ وديعتك فقال دعها عندك وديعة كما كانت ولا ضمان عليك فيها لتغير الحكم
من غير حدوث أمر زائد. وقال القاضي وأصحاب الشافعي لا يصير رهنا حتى تمضي مدة يتأتى قبضه
372

فيها فإن كان منقولا فبمضي مدة يمكن نقله فيها وإن كان مكيلا فبمضي مدة يمكن اكتياله فيها، وإن كان
غير منقول فبمضي مدة النخيلة وإن كان غائبا عن المرتهن لم يصر مقبوضا حتى يوافيه هو أو وكيله ثم تمضي
مدة يمكن قبضه فيها لأن العقد يفتقر إلى القبض والقبض إنما يحصل بفعله أو بامكانه ويكفي ذلك ولا
يحتاج إلى وجود حقيقة القبض لأنه مقبوض حقيقة، فإن تلف قبل مضي مدة يتأتى قبضه فيها فهو
كتلف الرهن قبل قبضه ثم هل يفتقر إلى الاذن من الراهن في القبض؟ يحتمل وجهين (أحدهما) يفتقر
لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم فلم يحصل بغير إذن كما لو كان في يد الراهن وإقراره في يده لا يكفي
كما لو أقر المغصوب في يد غاصبه مع إمكان أخذه منه (والثاني) لا يفتقر إلى إذن في القبض لأن اقراره
له في يده بمنزلة إذنه في القبض فإن أذن له في القبض ثم رجع عنه قبل مضي مدة يتأتى القبض فيها لم
يلزم الرهن حتى يعود فيأذن ثم تمضي مدة يقبضه في مثلها
(فصل) فإذا رهنه المضمون كالمغصوب والعارية والمقبوض في بيع فاسد أو على وجه السوم
صح وزال الضمان وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي لا يزول الضمان ويثبت فيه حكم الرهن
والحكم الذي كان ثابتا فيه يبقى بحاله لأنه لا تنافي بينهما بدليل أنه لو تعدى في الرهن صار مضمونا
ضمان الغصب وهو رهن كما كان فكذلك ابتداؤه لأنه أحد حالتي الرهن
ولنا انه مأذون له في امساكه رهنا لم يتجدد منه فيه عدوان فلم يضمنه كما لو قبضه منه ثم أقبضه
إياه أو أبرأه من ضمانه. وقولهم لا تنافي بينهما ممنوع فإن الغصب يده عادية يجب عليه ازالتها ويد
المرتهن محقة جعلها الشرع له ويد المرتهن يد أمانة ويد الغاصب والمستعير ونحوهما يد ضامنة وهذان
متنافيان ولان السبب المقتضي للضمان زال فزال الضمان لزواله كما لو رده إلى مالكه وذلك لأن سبب
الضمان الغصب والعارية ونحوهما وهذا لم يبق غاصبا ولا مستعيرا ولا يبقى الحكم مع زوال سببه
وحدوث سبب يخالف حكمه حكمه. وأما إذا تعدى في الرهن فإنه يلزمه الضمان لعدوانه لا لكونه
غاصبا ولا مستعيرا وههنا قد زال سبب الضمان ولم يحدث ما يوجبه فلم يثبت
(فصل) ويجوز أن يوكل في قبض الرهن ويقوم قبض وكيله مقام قبضه في لزوم الرهن وسائر
أحكامه، وان وكل المرتهن الراهن في قبض الرهن له من نفسه لم يصح ولم يكن ذلك قبضا لأن الرهن
وثيقة ليستوفى الحق منه عند تعذر استيفائه من الراهن فإذا كان في يد الراهن لم يحصل معنى
الوثيقة وقد ذكرنا في البيع ان المشتري لو دفع إلى البائع غرارة وقال: كل حقي في هذه ففعل كان
ذلك قبضا فيخرج ههنا كذلك
373

(فصل) وإذا أقر الراهن بتقبيض الرهن أو أقر المرتهن بقبضه كان ذلك مقبولا فيما يمكن
صدقهما فيه، وان أقر الراهن بالتقبيض ثم أنكره وقال: أقررت بذلك ولم أكن قبضت شيئا أو أقر
المرتهن بالقبض ثم أنكر فالقول قول المقر له فإن طلب المنكر يمينه ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه يمين
لأن الاقرار أقوى من البينة، ولو قامت البينة بذلك وطلب المشهود عليه يمين خصمه لم يقبل منه
فكذلك الاقرار (والثاني) يلزمه اليمين وهو قول الشافعي في منصوصه لأن العادة جارية بان الانسان
يشهد على نفسه بالقبض قبله فتسمع دعواه ويلزم خصمه اليمين لما ذكرنا من حكم العادة وهذا أجود
ويفارق البينة فإنها لا تشهد بالحق قبله ولو فعلت ذلك لم تكن بينة عادلة، وقال القاضي إن كان المقر
غائبا فقال أقررت لأن وكيلي كتب إلي بذلك ثم بان لي خلافه سمعنا قوله وأحلفنا خصمه، وان
أقر أنه باشر ذلك بنفسه ثم عاد فأكذب نفسه لم يحلف خصمه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي،
فأما ان اختلفا في القبض فقال المرتهن قبضته وأنكر الراهن فالقول قول من هو في يده لأنه إن كان
في يد الراهن فالأصل معه وهو عدم الاقباض ولم يوجد ما يدل على خلافه وإن كان في يد المرتهن
فقد وجد القبض لكونه لا يحصل في يده الا بعد قبضه. وان اختلفا في الاذن فقال الراهن أخذته
بغير اذني قال بل باذنك وهو في يد المرتهن فالقول قوله لأن الظاهر معه فإن العقد قد وجد ويده
تدل على أنه بحق. ويحتمل أن يكون القول قول الراهن لأن الأصل عدم الإذن وهذا مذهب
الشافعي وذكر القاضي هذين الوجهين
(فصل) وإذا رهنه عينين فتلفت إحداهما قبل قبضها انفسخ العقد فيها دون الباقية لأن العقد
كان صحيحا فيهما وإنما طرأ انفساخ العقد في إحداهما فلم يؤثر كما لو اشترى شيئين ثم رد أحدهما بعيب
أو خيار أو إقالة والراهن مخير بين اقباض الباقية وبين منعها، وإن كان التلف بعد قبض الأخرى
فقد لزم الرهن فيها فإن كان الرهن مشروطا في بيع ثبت للبائع الخيار لتعذر الرهن بكماله. فإن رضي
لم يكن له المطالبة ببدل التالفة لأن الرهن لم يلزم فيها وتكون المقبوضة رهنا بجميع الثمن، ولو
تلفت إحدى العينين بعد القبض فلا خيار للبائع لأن الرهن لو تلف كله لم يكن له خيار فإذا تلف
بعضه أولى، ثم إن كان تلفها بعد قبض العين الأخرى فقد لزم الرهن فيها وإن كان قبل قبض الأخرى
فالراهن مخير بين اقباضها وبين تركه فإن امتنع من تقبيضها ثبت للبائع الخيار كما لو لم تتلف الأخرى
(فصل) وان رهنه دارا فانهدمت قبل قبضها لم ينفسخ عقد الرهن لأن ماليتها لم تذهب بالكلية
فإن عرصتها وأنقاضها باقية ويثبت للمرتهن الخيار إن كان الرهن مشروطا في بيع لأنها تعيبت ونقصت
374

قيمتها، فإن قيل فلم لا ينفسخ عقد الرهن كما تنفسخ الإجارة؟ قلنا الإجارة عقد على منفعة السكنى وقد
تعذرت وعدمت فبطل العقد لعدم المعقود عليه، والرهن عقد استيثاق يتعلق بالأعيان التي فيها المالية
وهي باقية فعلى هذا تكون العرصة والانقاض من الأخشاب والأحجار ونحوها من الرهن لأن العقد
ورد على جميع الأعيان والانقاض منها وما دخل في العقد استقر بالقبض
(فصل) وكل عين جاز بيعها جاز رهنها لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين للتوصل إلى استيفائه
من ثمن الرهن ان تعذر استيفاؤه من ذمة الراهن وهذا يتحقق في كل عين جاز بيعها ولان
ما كان محلا للبيع كان محلا لحكمة الرهن ومحل الشئ محل لحكمته الا أن يمنع مانع من ثبوته أو
يفوت شرط فينتفي الحكم لانتفائه فيصح رهن المشاع لذلك وبه قال ابن أبي ليلى ومالك والبتي والأوزاعي
وسوار والعنبري والشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب الرأي لا يصح رهنه الا أن يرهنه من شريكه
أو يرهنها الشريكان من رجل واحد، أو يرهن رجلا داره من رجلين فيقبضانها معا لأنه عقد تخلف
عنه مقصوده لمعنى اتصل به فلم يصح كما لو تزوج أخته من الرضاع. بيانه ان مقصوده الحبس الدائم
والمشاع لا يمكن المرتهن حبسه لأن شريكه ينتزعه يوم نوبته ولان استدامة القبض شرط وهذا
يستحق زوال اليد عنه لمعنى قارن العقد فلم يصح رهنه كالغصب. ولنا انها عين يجوز بيعها في محل الحق
فيصح رهنها كالمفرزة ولا نسلم ان مقصوده الحبس بل مقصوده استيفاء الدين من ثمنه عند تعذره من
غيره والمشاع قابل لذلك، ثم يبطل ما ذكروه برهن القاتل والمرتد والمغصوب ورهن ملك غيره بغير
اذنه من غير ولاية فإنه يصح عندهم
(فصل) ويصح أن يرهن بعض نصيبه من المشاع كما يصح أن يرهن جميعه سواء رهنه مشاعا
في نصيبه مثل أن يرهن نصف نصيبه أو يرهن نصيبه من معين مثل أن يكون له نصف دار فيرهن
نصيبه من بيت منها بعينه وقال القاضي: يحتمل أن لا يصح رهن حصته من معين من شئ تمكن قسمته
لاحتمال أن يقتسم الشريكان فيحصل الرهن في حصة شريكه، ولنا أنه يصح بيعه فصح رهنه كغيره
وما ذكره لا يصح لأن الراهن ممنوع من التصرف في الرهن بما يضر بالمرتهن فيمنع من القسمة المضرة
كما يمنع من بيعه.
375

(فصل) ويصح رهن المرتد والقاتل في المحاربة والجاني سواء كانت جنايته عمدا أو خطأ على
النفس وما دونها، وقال القاضي لا يصح رهن القاتل في المحاربة واختار أبو بكر أنه لا يصح رهن الجاني
وهو مذهب الشافعي، ومبنى الخلاف في هذا على الخلاف في بيعه وقد سبق الكلام فيه في موضعه، ثم إن
كان المرتهن عالما بحالة فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فأشبه المشتري إذا علم العيب، وان لم يكن
عالما ثم علم بعد اسلام المرتد ونداء الجاني فكذلك لأن العيب زال فهو كما لو زال عيب المبيع، وان
علم قبل ذلك فله رده وفسخ البيع إن كان مشروطا في عقد بيع لأن الشرط اقتضاه سليما، فإذا سلم إليه
معيبا ملك الفسخ كالبيع وان اختار امساكه فليس له أرش ولا شئ لأن الرهن بجملته لو تلف قبل
قبضه لم يملك بدله فبعضه أولى، وكذلك لو لم يعلم حتى قتل العبد بالردة أو القصاص أو أخذ في
الجناية فلا أرش للمرتهن، وذكر القاضي أن قياس المذهب ان له الأرش في هذه المواضع قياسا
على البيع، وليس الامر كذلك فإن المبيع عوض عن الثمن فإذا فات بعضه رجع بما يقابله من الثمن
ولو فات كله مثل أن يتلف المبيع قبل قبضه رجع بالثمن كله والرهن ليس بعوض، ولو تلف كله قبل القبض
لما استحق الرجوع بشئ فكيف يستحق الرجوع ببدل عيبه أو فوات بعضه؟ وان امتنع السيد من فداء الجاني
لم يجبر ويباع في الجناية لأن حق المجني عليه مقدم على الرهن فأشبه ما لو حدثت الجناية بعد الرهن، فعلى هذا
ان استغرق الأرش قيمته بيع وبطل الرهن، وان لم يستغرقها بيع منه بقدر الأرش والباقي رهن
(فصل) ويصح رهن المدبر في ظاهر المذهب بناء على جواز بيعه ومنع منه أبو حنيفة والشافعي
لأنه علق عتقه بصفة أشبه ما لو علق عتقه بصفة توجد قبل حلول الحق
376

ولنا أنه عقد يقصد منه استيفاء الحق من العين أشبه الإجارة ولأنه علق عتقه بصفة لا تمنع استيفاء
الحق أشبه ما لو علقه بصفة توجد بعد حلول الحق. وما ذكروه ينتقض بهذا الأصل، ويفارق التدبير
التعليق بصفة تحل قبل حلول الدين لأن الرهن لا يمنع عتقه بالصفة فإذا عتق تعذر استيفاء الدين منه فلا
يحصل المقصود والدين في المدبر يمنع عتقه بالتدبير ويقدم عليه فلا يمنع حصول المقصود، والحكم فيما
إذا علم التدبير أو لم يعلم كالحكم في العبد الجاني على ما فصل فيه. ومتى مات السيد قبل الوفاء فعتق
المدبر بطل الرهن، وإن عتق بضعه بقي الرهن فيما بقي وان لم يكن للسيد مال يفضل عن وفاء الدين
بيع المدبر في الدين وبطل التدبير لأن الدين مقدم على التدبير ولا يبطل الرهن، وإن كان الدين لا
يستغرقه بيع منه بقدر الدين وعتق منه ثلث الباقي وما بقي للورثة
(فصل) فاما المكاتب فالصحيح أنه لا يصح رهنه وهو مذهب الشافعي لأن استدامة القبض
في الرهن شرط في الصحيح ولا يمكن ذلك في المكاتب، وقال القاضي قياس المذهب صحة رهنه وهو
مذهب مالك لأنه يجوز بيعه وإيفاء الدين من ثمنه. فعلى هذا يكون ما يؤديه من نجوم كتابته
رهنا معه فإن عجز ثبت الرهن فيه وفي اكتسابه، وإن عتق كان ما أداه من نجومه رهنا بمنزلة ما لو
كسب العبد القن ثم مات
(فصل) وأما من علق عتقه بصفة تحل قبل حلول الحق كمن علق عتقه بهلال رمضان ومحل
الحق آخره لم يصح رهنه لكونه لا يمكن بيعه عند حلول الحق ولا استيفاء الدين من ثمنه، وإن كان
الدين يحل قبلها مثل أن يعلق عتقه آخر رمضان والحق يحل في أوله صح رهنه لامكان استيفاء الدين
من ثمنه. فإن كانت تحتمل الامرين كقدوم زيد فقياس المذهب صحة رهنه لأنه في الحال محل للرهن
يمكن أن يبقى حتى يستوفي الدين من ثمنه فصح رهنه كالمريض والمدبر وهذا مذهب أبي حنيفة رضي
377

الله عنه، ويحتمل أن لا يصح رهنه لأن فيه غررا إذ يحتمل أن يعتق قبل حلول الحق ولأصحاب
الشافعي فيه اختلاف على نحو ما ذكرنا
(فصل) ويجوز رهن الجارية دون ولدها ورهن ولدها دونها لأن الرهن لا يزيل الملك فلا
يحصل بذلك تفرقة ولأنه يمكن تسليم الولد مع أمه والام مع ولدها. فإن دعت الحاجة إلى بيعها في الدين
بيع ولدها معها لأن الجمع في العقد ممكن والتفريق بينهما حرام فوجب بيعه معها. فإذا بيعا معا تعلق
حق المرتهن من ذلك بقدر قيمة الجارية من الثمن فإذا كانت قيمتها مائة مع أنها ذات ولد وقيمة الولد
خمسون فحصتها ثلثا الثمن، وان لم يعلم المرتهن بالولد ثم علم فله الخيار في الرد والامساك لأن الولد عيب
فيها لكونه لا يمكن بيعها بدونه فإن أمسك فهو كما لو علم حال العقد ولا شئ له غيرها وان ردها فله
فسخ البيع ان كانت مشروطة فيه
(فصل) ويصح رهن ما يسرع إليه الفساد سواء كان مما يمكن اصلاحه بالتجفيف كالعنب والرطب
أو لا يمكن كالبطيخ والطبيخ ثم إن كان مما يجفف فعلى الراهن تجفيفه لأنه من مؤنة حفظه وتبقيته
فيلزم الراهن كنفقة الحيوان، وإن كان مما لا يجفف فإنه يباع ويقضى الدين من ثمنه إن كان حالا أو
يحل قبل فساده، وإن كان لا يحل قبل فساده جعل ثمنه مكانه رهنا سواء شرط في الرهن بيعه أو أطلق
وقال أصحاب الشافعي: إن كان مما يفسد قبل محل الدين فشرط المرتهن على الراهن بيعه وجعل ثمنه
مكانه صح، وان أطلق فعلى قولين (أحدهما) لا يصح لأن بيع الرهن قبل حلول الحق لا يقتضيه
عقد الرهن فلم يجب ولم يصح رهنه كما لو شرط أن لا يبيعه. وذكر القاضي فيه وجهين كالقولين
ولنا ان العرف يقتضي ذلك لأن المالك لا يعرض ملكه للتلف والهلاك فإذا تعين حفظه في بيعه
حمل عليه مطلق العقد كتجفيف ما يجف والانفاق على الحيوان وحرز ما يحتاج إلى حرز، وأما إذا
شرط أن لا يباع فلا يصح لأنه شرط ما يتضمن فساده وفوات المقصود فأشبه ما لو شرط أن لا يجفف
ما يجف أو لا ينفق على الحيوان. وإذا ثبت ما ذكرناه فإنه ان شرط للمرتهن بيعه أو أذن له في
378

بيعه بعد العقد أو اتفقا على أن يبعه الراهن أو غيره باعه، وان لم يكن ذلك باعه الحاكم وجعل
ثمنه رهنا ولا يقضي الدين من ثمنه لأنه ليس له تعجيل وفاء الدين قبل حلوله، وكذلك الحكم ان رهنه
ثيابا فخاف تلفها أو حيوانا وخاف موته. قال أحمد فيمن رهن ثيابا يخاف فسادها كالصوف أتى
السلطان فأمره ببيعها
(فصل) ويجوز رهن العصير لأنه يجوز بيعه وتعرضه للخروج عن المالية لا يمنع صحة رهنه كالمريض
والجاني. ثم إن استحال إلى حال لا يخرج فيها عن المالية كالخل فالرهن بحاله، وان صار خمرا زال
لزوم العقد ووجبت اراقته فإن أريق بطل العقد فيه ولا خيار للمرتهن لأن التلف حصل في يده وإن
عاد خلا عاد اللزوم بحكم العقد السابق كما لو زالت يد المرتهن عن الرهن ثم عادت إليه، وان استحال
خمرا قبل قبض المرتهن له بطل الرهن ولم يعد بعوده خلا لأنه عقد ضعيف لعدم القبض فيه فأشبه
اسلام أحد الزوجين قبل الدخول. وذكر القاضي أن العصير إذا استحال خمرا بعد القبض بطل
الرهن ثم إذا عاد خلا عاد ملكا لصاحبه مرهونا بالعقد السابق لأنه يعود مملوكا بحكم الملك الأول فيعود
حكم الرهن أيضا لأنه زال بزوال الملك فيعود بعوده وهذا مذهب الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة هو
رهن بحاله لأنه كانت له قيمة حالة كونه عصيرا، ويجوز أن يصير له قيمة فلا يجوز أن يزول الملك عنه
كما لو ارتد الجاني ولان اليد لم تزل عنه حكما ولهذا لو غصبه غاصب فتخلل في يده كان ملكا للمغصوب
منه، ولو زالت يده لكان ملكا للغاصب كما لو أراقه فجمعه إنسان فتخلل في يده كان له دون من أراقه
وهذا القول هو قولنا الأول في المعنى إلا أن يقولوا ببقاء اللزوم فيه حال كونه خمرا ولم يظهر لي فائدة
الخلاف بعد اتفاقهم على عوده رهنا باستحالته خلا، وأرى القول ببقائه رهنا أقرب إلى الصحة لأن العقد
لو بطل لما عاد صحيحا من غير ابتداء عقد فإن قالوا يمكن عوده صحيحا لعود المعنى الذي بطل بزواله كما أن
زوجة الكافر إذا أسلمت خرجت من حكم العقد لاختلاف دينهما فإذا أسلم الزوج في العدة عادت الزوجية
بالعقد الأول لزوال الاختلاف في الدين. قلنا هنا ما زالت الزوجية ولا بطل العقد ولو بطل بانقضاء
العدة لما عاد إلا بعقد جديد، وإنما العقد كان موقوفا مراعى، فإذا أسلم في العدة تبينا أنه لم يبطل، وان لم
يسلم تبينا أنه كان قد بطل وههنا قد جزمتم ببطلانه
379

(فصل) وهل يصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع أو الزرع الأخضر؟ فيه وجهان
(أحدهما) يجوز وهو اختيار القاضي لأن الغرر يقل فيه فإن الثمرة متى تلفت عاد إلى حقه في ذمة
الراهن، ولأنه يجوز بيعه فجاز رهنه، ومتى حل الحق بيع، وان اختار المرتهن تأخير بيعه فله ذلك
(والثاني) لا يصح وهو منصوص الشافعي لأنه لا يجوز بيعه فلا يصح رهنه كسائر مالا يجوز بيعه، وذكر
القاضي أنه يجوز رهن المبيع الذي يشترط قبضه كالمكيل والموزون قبل قبضه لأن قبضه مستحق فيمكن
المشتري قبضه ثم يقبضه. أما البيع فإنه يفضي إلى أن يربح فيما لم يضمن وهو منهي عنه، ويحتمل أن
لا يصح رهنه لأنه لا يصح بيعه
(فصل) وفي رهن المصحف روايتان (إحداهما) لا يصح رهنه نقل الجماعة عنه لا أرخص
في رهن المصحف وذلك لأن المقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه ولا يحصل ذلك إلا
ببيعه وبيعه غير جائز (والثانية) يصح رهنه فإنه قال: إذا رهن مصحفا لا يقرأ فيه إلا باذنه
فظاهر هذا صحة رهنه وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي بناء على أنه يصح
بيعه فصح رهنه كغيره
(فصل) ويجوز أن يستعير شيئا برهنه. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم
على أن الرجل إذا استعار من الرجل شيئا برهنه على دنانير معلومة عند رجل سماه إلى وقت معلوم
ففعل ان ذلك جائز، وينبغي أن يذكر المرتهن والقدر الذي يرهنه به وجنسه ومدة الرهن لأن الضرر
يختلف بذلك فاحتيج إلى ذكره كأصل الرهن، ومتى شرط شيئا من ذلك فخالف ورهنه بغيره لم
يصح الرهن لأنه لم يؤذن له في هذا الرهن فأشبه من لم يأذن في أصل الرهن، قال ابن المنذر أجمع
أهل العلم على ذلك وإن أذن له في رهنه بقدر من المال فنقص عنه مثل أن يأذن له في رهنه بمائة
380

فيرهنه بخمسين صح لأن من أذن في مائة فقد أذن في خمسين، وان رهنه بأكثر مثل أن رهنه
بمائة وخمسين احتمل أن يبطل في الكل لأنه خالف المنصوص عليه فبطل كما لو قال ارهنه بدنانير
فرهنه بدراهم أو بحال فرهنه بمؤجل أو بمؤجل فرهنه بحال فإنه لا يصح كذلك ههنا وهذا منصوص
الشافعي (والوجه الثاني) أنه يصح في المائة ويبطل في الزائد عليها لأن العقد تناول ما يجوز وما لا
يجوز فجاز فيما يجوز دون غيره كتفريق الصفقة ويفارق ما ذكرنا من الأصول فإن العقد لم يتناول
مأذونا فيه بحال، وكل واحد من هذه الأمور يتعلق به غرض لا يوجد في الآخر فإن الراهن قد
يقدر على فكاكه في الحال ولا يقدر على ذلك عند الاجل وبالعكس، وقد يقدر على فكاكه بأحد
النقدين دون الآخر فيفوت الغرض بالمخالفة، وفي مسئلتنا إذا صح في المائة المأذون فيها لم يختلف
الغرض فإن أطلق الرهن في الاذن من غير تعيين فقال القاضي يصح وله رهنه بما شاء وهو قول أصحاب
الرأي وأحد قولي الشافعي (والآخر) لا يجوز حتى يبين قدر الذي يرهنه به وصفته وحلوله وتأجيله
لأن هذا بمنزلة الضمان لأن منفعة العبد لسيده والعارية ما أفادت المنفعة، إنما حصلت له نفعا بكون
الرهن وثيقة عنه فهو بمنزلة الضمان في ذمته وضمان المجهول لا يصح. ولنا انها عارية فلم يشترط لصحتها
ذكر ذلك كالعارية لغير الرهن، والدليل على أنه عارية انه قبض ملك غيره لمنفعة نفسه منفردا بها
من غير عوض فكان عارية كقبضه للخدمة، وقولهم انه ضمان غير صحيح لأن الضمان يثبت في الذمة
وهذا ثبت في الرقبة، ولأن الضمان لازم في حق الضامن وهذا له رجوع في العبد قبل الرهن وإلزام
المستعير بفكاكه بعده، وقولهم ان المنافع للسيد. قلنا المنافع مختلفة فيجوز أن يستعيره لتحصيل
منفعة واحدة وسائر المنافع للسيد كما لو استعاره لحفظ متاع وهو مع ذلك يخيط لسيده أو يعمل له
شيئا أو استعاره ليخيط له ويحفظ المتاع لسيده، فإن قيل لو كان عارية لما صح رهنه لأن العارية
لا تلزم والرهن لازم. قلنا العارية غير لازمة من جهة المستعير فإن لصاحب العبد المطالبة بفكاكه قبل
حلول الدين، ولان العارية قد تكون لازمة بدليل ما لو أعاره حائطا ليبني عليه أو أرضا ليدفن فيها
أو ليزرع فيها مالا يحصد قصيلا. إذا ثبت هذا فإنه يصح رهنه بما شاء إلى أي وقت شاء ممن شاء
لأن الاذن يتناول الكل باطلاقه وللسيد مطالبة الراهن بفكاك الرهن حالا كان أو مؤجلا في محل
الحق وقبل محله لأن العارية لا تلزم، ومتى حل الحق فلم يقبضه فللمرتهن بيع الرهن واستيفاء الدين
من ثمنه ويرجع المعير على الراهن بالضمان وهو قيمة العين المستعارة أو مثلها إن كانت من ذوات
الأمثال، ولا يرجع بما بيعت به سواء بيعت بأقل من القيمة أو أكثر في أحد الوجهين، والصحيح
أنها إن بيعت بأقل من قيمتها رجع بالقيمة لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها، وان بيعت بأكثر
رجع بما بيعت به لأن العبد ملك للمعير فيكون ثمنه كله له، وكذلك لو أسقط المرتهن حقه عن الراهن
رجع الثمن كله إلى صاحبه، فإذا قضى به دين الراهن رجع به عليه، ولا يلزم من وجوب ضمان النقص
أن لا تكون الزيادة لصاحب العبد كما لو كان باقيا بعينه، وإن تلف الرهن ضمنه الراهن بقيمته سواء
تلف بتفريط أو غير تفريط نص على هذا أحمد وذلك لأن العارية مضمونة
381

(فصل) وإن فك المعير الرهن فأدى الدين الذي عله باذن الراهن رجع عليه، وإن قضاه
متبرعا لم يرجع بشئ وإن قضاه بغير إذنه محتسبا بالرجوع بغير إذنه فهل يرجع؟ على روايتين بناء
على ما إذا قضى دينه بغير إذنه ويترجح الرجوع ههنا لأن له المطالبة بفكاك عبده وأداء دينه فكاكه
وان اختلفا في الاذن فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر، وإن شهد المرتهن للمعير قبلت شهادته
لأنه لا يجر بها نفعا ولا يدفع بها ضررا، وإن قال أذنت لي في رهنه بعشرة قال بل بخمسة فالقول قول
المالك لأنه منكر للزيادة وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وإن كان الدين مؤجلا
فقضاه حالا باذنه رجع به حالا، وان قضاه بغير اذنه فقال القاضي يرجع به حالا أيضا لأنه له
المطالبة بفكاك عبده في الحال
(فصل) ولو استعار من رجل عبدا ليرهنه بمائة فرهنه عند رجلين صح لأن تعيين ما يرهن به
ليس بشرط فكذلك من يرهن عنده ولان رهنه من رجلين أقل ضررا من رهنه عند واحد لأنه
ينفك منه بعضه بقضاء بعض الدين بخلاف ما لو كان رهنا عند واحد، فعلى هذا إذا قضى أحدهما
ما عليه من الدين خرج نصيبه من الرهن لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان في الحقيقة، ولو استعار
عبدا من رجلين فرهنه عند واحد بمائة فقضاه نصفها عن أحد النصيبين ففيه وجهان (أحدهما) لا ينفك
من الرهن شئ لأنه عقد واحد من راهن واحد مع مرتهن واحد فأشبه ما لو كان العبد لواحد (والثاني)
ينفك نصف العبد لأن كل واحد منهما إنما أذن في رهن نصيبه بخمسين فلا يكون رهنا بأكثر منها كما
لو صرح له بذلك فقال ارهن نصيبي بخمسين لا تزد عليها فعلى هذا الوجه إن كان المرتهن عالما بذلك
فلا خيار له وان لم يكن عالما بذلك، والرهن مشروط في بيع احتمل أن يكون له الخيار لأنه دخل
على أن كل جزء من الرهن وثيقة بجميع الدين وقد فاته ذلك ولو كان رهن هذا العبد عند رجلين فقضى
أحدهما انفك نصيب كل واحد من المعيرين من نصفه وان قضى نصف دين أحدهما انفك في نصيب
أحدهما على أحد الوجهين وفي الآخر ينفك نصف نصيب كل واحد منهما والله أعلم
(فصل) ولو كان لرجلين عبدان فأذن كل واحد منهما لشريكه في رهن نصيبه من أحد العبدين
فرهناهما عند رجل مطلقا صح فإن شرط أحدهما انني متى قضيت ما علي من الدين انفك الرهن في
العبد الذي رهنته وفي العبد الآخر وفي قدر نصيبي من العبد الآخر فهذا شرط فاسد لأنه شرط أن
ينفك بقضاء الدين رهن على دين آخر ويفسد الرهن لأن في هذا الشرط نقصا على المرتهن. وكل
شرط فاسد ينقص حق المرتهن يفسد الرهن فأما ان شرط أنه لا ينفك شئ من العبد حتى يقضى
جميع الدين فهو فاسد أيضا لأنه شرط ان يبقى الرهن محبوسا بغير الدين الذي هو رهن به لكنه لا ينقص
حق المرتهن فهل يفسد الرهن بذلك؟ على وجهين
(فصل) ولا يصح رهن ما لا يصح بيعه كأم الولد والوقف والعين المرهونة لأن مقصود الرهن
استيفاء الدين من ثمنه ومالا يجوز بيعه لا يمكن ذلك فيه ولو رهن العين المرهونة عند المرتهن لم يجز
فلو قال الراهن للمرتهن زدني مالا يكون الرهن الذي عندك رهنا به وبالدين الأول لم يجز وبهذا قال
382

أبو حنيفة ومحمد وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك وأبو يوسف وأبو ثور والمزني وابن المنذر
يجوز ذلك لأنه لو زاده رهنا جاز فكذلك إذا زاد في دين الرهن ولأنه لو فدى المرتهن العبد الجاني
باذن الراهن ليكون رهنا بالمال الأول وبما فداه به جاز فكذلك ههنا ولأنها وثيقة محضة فجازت
الزيادة فيها كالضمان
ولنا أنها عين مرهونة فلم يجز رهنها بدين آخر كما لو رهنها عند غير المرتهن، فاما الزيادة في
الرهن فيجوز لأنه زيادة استيثاق بخلاف مسئلتنا، واما العبد الجاني فيصح فداؤه ليكون رهنا بالفداء
والمال الأول لكون الرهن لا يمنع تعلق الأرش بالجاني لكون الجناية أقوى ولان لولي الجناية المطالبة
ببيع الرهن واخراجه من الرهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه ويجوز ان يزيده في الرهن الجائز
حقا قبل لزومه فكذلك إذا صار جائزا بالجناية ويفارق الرهن الضمان فإنه يجوز أن يضمن لغيره،
إذ ثبت هذا فرهنه بحق ثان كان رهنا بالأول خاصة فإن شهد بذلك شاهدان يعتقدان فساده لم يكن
لهما أن يشهدا به، وإن اعتقدا صحته لم يكن لهما أن يشهدا أنه رهنه بالحقين مطلقا بل يشهدان بكيفية
الحال ليرى الحاكم فيه رأيه
(فصل) وأما رهن سواد العراق والأرض الموقوفة على المسلمين فالصحيح في المذهب أنه
لا يجوز بيعها فكذلك رهنها وهذا منصوص الشافعي وما كان فيها من بنائها فحكمه حكمها، وما كان
فيها من غير ترابها أو الشجر المجدد فيها إن أفرده بالبيع والرهن فهل يصح؟ على روايتين نص عليهما
في البيع (إحداهما) يصح لأنه طلق (والثانية) لا يجوز لأنه تابع لما لا يجوز بيعه ولا رهنه فهو كأساسات
الحيطان، وإن رهنه مع الأرض بطل في الأرض، وهل يجوز في الأشجار والبناء على الرواية
التي يجوز رهنها منفردة؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
(فصل) ولا يصح رهن المجهول لأنه لا يصح بيعه فلو قال رهنتك هذا الجراب أو البيت أو
الخريطة بما فيها لا يصح لأنه مجهول، وان لم يقل بما فيها صح رهنها للعلم بها الا أن يكون ذلك مما لا
قيمة له كالجراب الخلق ونحوه. ولو قال رهنتك أحد هذين العبدين لم يصح لعدم التعيين، وفي الجملة
383

أنه يعتبر للعلم في الرهن ما يعتبر في البيع وكذلك القدرة على التسليم فلا يصح رهن الآبق ولا الجمل
الشارد ولا غير مملوك
(فصل) ولو رهن عبدا أو باعه يعتقده مغصوبا فبان ملكه مثل ان رهن عبد أبيه فبان أن أباه
قد مات وصار العبد ملكه بالميراث أو وكل انسانا يشتري له عبدا من سيده ثم إن الموكل باع العبد أو
رهنه يعتقده لسيده الأول فبان ان تصرفه بعد شراء الوكيل له ونحو ذلك صح تصرفه لأنه تصرف صدر
من أهله وصادف ملكه فصح كما لو علم ويحتمل ان لا يصح لأنه اعتقده باطلا
(فصل) ولو رهن المبيع في مدة الخيار لم يصح إلا أن يرهنه المشتري والخيار له وحده فيصح
تصرفه ويبطل خياره ذكره أبو بكر وهو مذهب الشافعي وكذلك بيعه وتصرفاته. ولو أفلس المشتري
فرهن البائع عين ماله التي له الرجوع فيها لم يصح لأنه رهن مالا يملكه وكذلك لو رهن الأب العين
التي وهبها لابنه قبل رجوعه فيها لم يصح لما ذكرناه وللشافعي في ذلك وجهان (أحدهما) يصح لأن له
استرجاع العين فتصرفه فيها يدل على رجوعه فيها. ولنا أنه رهن مالا يملكه بغير اذن المالك ولا ولاية
عليه فلم يصح كما لو رهن الزوج نصف الصداق قبل الدخول
(فصل) ولو رهن ثمرة شجر يحمل في السنة حملين لا يتميز أحدهما من الآخر فرهن الثمرة الأولى
إلى محل تحدث الثانية على وجه لا يتميز فالرهن باطل لأنه مجهول حين حلول الحق فلا يمكن استيفاء
الدين منه فلم يصح كما لو كان مجهولا حين العقد وكما لو رهنه إياها بعد اشتباهها، فإن شرط قطع الأولى
إذا خيف اختلاطها بالثانية صح، فإن كان الحمل المرهون بحق حال وكانت الثمرة الثانية تتميز من
384

الأولى إذا حدثت فالرهن صحيح، فإن وقع التواني في قطع الأولى حتى اختلطت بالثانية وتعذر التمييز
لم يبطل الرهن لأنه وقع صحيحا، وقد اختلط بغيره على وجه لا يمكن فصله. فعلى هذا إن سمح الراهن
بكون الثمرة رهنا أو اتفقا على قدر المرهون منهما فحسن، وان اختلفا فالقول قول الراهن مع يمينه
في قدر الراهن لأنه منكر للقدر الزائد والقول قول المنكر
(فصل) ولو رهنه منافع داره شهرا لم يصح لأن مقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه والمنافع
تهلك إلى حلول الحق، وإن رهنه أجرة داره شهرا لم يصح لأنها مجهولة وغير مملوكة
(فصل) ولو رهن المكاتب من يعتق عليه لم يصح لأنه لا يملك بيعه وأجازه أبو حنيفة لأنهم
لا يدخلون معه في الكتابة، ولو رهن العبد المأذون من يعتق على السيد لم يصح لأن ما في يده ملك
لسيده فقد صار حرا بشرائه إياه
(فصل) ولو رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت صح في أحد الوجهين، وقال أصحاب
الشافعي لا يصح إذا كان على الميت دين يستغرق التركة لأنه تعلق به حق آدمي فلم يصح رهنه كالمرهون
385

ولنا أنه تصرف صادف ملكه ولم يعلق به حقا فصح كما لو رهن المرتد وفارق المرهون لأن الحق
تعلق به باختياره فأما في مسئلتنا فالحق تعلق به بغير اختياره فلم يمنع تصرفه وهكذا كل حق ثبت من
غير اثباته كالزكاة والجناية فلا يمنع رهنه فإذا رهنه ثم قضى الحق من غيره فالرهن بحاله. وان لم يقض
الحق فللغرماء انتزاعه لأن حقهم أسبق والحكم فيه كالحكم في الجاني وهكذا الحكم لو تصرف في التركة
ثم رد عليه مبيع باعه الميت بعيب ظهر فيه أو حق تجدد تعلقه بالتركة مثل أن وقع انسان أو بهيمة في
بئر حفره في غير ملكه بعد موته فالحكم واحد وهو أن تصرفه صحيح غير نافذ فإن قضى الحق من
غيره نفذ وإلا فسخ البيع والرهن
(فصل) قال القاضي لا يصح رهن العبد المسلم لكافر، واختار أبو الخطاب صحة رهنه إذا شرطا
كونه على يد مسلم ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه وهذا أولى لأن مقصود الرهن يحصل من غير ضرر
{مسألة} قال (وإذا قبض الرهن من تشارطا أن يكون على يديه صار مقبوضا)
وجملته أن المتراهنين إذا شرطا كون الرهن على يدي رجل رضيا به واتفقا عليه جاز وكان
386

وكيلا للمرتهن نائبا عنه في القبض فمتى قبضه صح قبضه في قول جماعة الفقهاء منهم عطاء وعمرو بن دينار
والثوري وابن المبارك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال الحكم والحارث العكلي
وقتادة وابن أبي ليلى لا يكون مقبوضا بذلك لأن القبض من تمام العقد فتعلق بأحد المتعاقدين كالايجاب
والقبول. ولنا أنه قبض في عقد فجاز فيه التوكيل كسائر القبوض، وفارق القبول لأن الايجاب
إذا كان لشخص كان القبول منه لأنه يخاطب به ولو وكل في الايجاب والقبول قبل أن يوجب له صح
أيضا وما ذكروه ينتقض بالقبض في البيع فيما يعتبر القبض فيه، إذا ثبت هذا فإنه يجوز أن يجعلا الرهن
على يدي من يجوز توكيله وهو الجائز التصرف مسلما كان أو كافرا عدلا أو فاسقا ذكرا أو أنثى ولا
يجوز أن يكون صبيا لأنه غير جائز التصرف مطلقا فإن فعلا كان قبضه وعدم القبض واحدا، ولا عبدا
بغير إذن سيده لأن منافع العبد لسيده فلا يجوز تضييعها في الحفظ بغير إذن فإن أذن له السيد جاز
وأما المكاتب فإن كان بجعل جاز لأن له الكسب وبذل منافعه بغير إذن السيد وإن كان بغير جعل لم
يجز لأنه ليس له التبرع بمنافعه
(فصل) فإن جعلا الرهن في يد عدلين جاز ولهما إمساكه ولا يجوز لا حدهما الانفراد بحفظه.
387

وإن سلمه أحدهما إلى الآخر فعليه ضمان النصف لأنه القدر الذي تعدى فيه وهذا أحد الوجهين
لأصحاب الشافعي. وفي الآخر إذا رضي أحدهما بامساك الآخر جاز، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد،
وقال أبو حنيفة إن كان مما ينقسم اقتسماه والا فلكل واحد منهما امساك جميعه لأن اجتماعهما على حفظه
يشق عليهما فحمل الامر على أن لكل واحد منهما الحفظ، ولنا أن المتراهنين لم يرضيا الا بحفظهما
فلم يجز لأحدهما الانفراد بذلك كالوصيين لا ينفرد أحدهما بالتصرف. وقولهم ان الاجتماع على الحفظ
يشق ليس كذلك فإنه يمكن جعله في مخزن لكل واحد منهما عليه قفل
(فصل) وما دام العدل بحاله لم يتغير عن الأمانة ولا حدثت بينه وبين أحدهما عداوة فليس
لأحدهما ولا للحاكم نقل الرهن عن يده لأنهما رضيا به في الابتداء وان اتفقا على نقله جاز لأن الحق
لهما لم يعدهما. وكذلك لو كان الرهن في يد المرتهن فلم يتغير حاله لم يكن للراهن ولا للحاكم نقله عن
يده، وان تغيرت حال العدل بفسق أو ضعف عن الحفظ أو حدثت عداوة بينه وبينهما أو بين أحدهما
فلمن طلب نقله عن يده ذلك ويضعانه في يد من يتفقان عليه فإن اختلفا وضعه الحاكم على يد عدل
وإن اختلفا في تغير حاله بحث الحاكم وعمل بما يظهر له، وهكذا لو كان في ير المرتهن فتغيرت حاله في
الثقة والحفظ فللراهن رفعه عن يده إلى الحاكم ليضعه في يد عدل. وإذا ادعى الراهن تغير حال المرتهن
388

فأنكر بحث الحاكم عن ذلك وعمل بما بان له. وان مات العدل أو المرتهن لم يكن لورثتهما امساكه الا
بتراضيهما فإن اتفقا على ذلك جاز وان اتفقا على عدل يضعانه على يده فلهما ذلك لأن الحق لهما فيفوض
أمره إليهما. فإن اختلف الراهن والمرتهن عند موت العدل أو اختلف الراهن وورثة المرتهن رفعا
الامر إلى الحاكم ليضعه على يد عدل وإن كان الرهن في يد اثنين فمات أحدهما أو تغيرت حاله بفسق
أو ضعف عن الحفظ أو عداوة بين أحد المتراهنين أقيم مقامه عدل ينضم إلى العدل الآخر فيحفظان معا
(فصل) ولو أراد العدل رده عليهما فله ذلك وعليهما قبوله، وبهذا قال الشافعي لأنه أمين متطوع
بالحفظ فلا يلزمه المقام عليه فإن امتنعا أجبرهما الحاكم فإن تغيبا نصب الحاكم أمينا يقبضه لهما لأن للحاكم
ولاية على الممتنع من الحق الذي عليه، ولو دفعه إلى الأمين من غير امتناعهما ضمن وضمن الحاكم
لأنه لا ولاية له على غير الممتنع وكذا لو تركه العدل عند آخر مع وجودهما ضمن وضمن القابض
وان امتنعا ولم يجد حاكما فتركه عند عدل آخر لم يضمن. وان امتنع أحدهما لم يكن له دفعه إلى
الآخر فإن فعل ضمن. والفرق بينهما أن أحدهما يمسكه لنفسه والعدل يمكسه لهما، وهذا فيما إذا كانا
حاضرين فأما إذا كانا غائبين نظرت فإن كان للعدل عذر من مرض أو سفر أو نحوه رفعه إلى الحاكم
389

فقبضه منه أو نصب له عدلا يقبضه لهما فإن لم يجد حاكما أودعه عند نفسه وليس له دفعه إلى ثقة يودعه
عنده مع وجود الحاكم فإن فعل ضمن فإن لم يكن له عذر وكان الغببة بعيدة إلى مسافة القصر قبضه
الحاكم منه فإن لم يجد حاكما دفعه إلى عدل وان كانت الغيبة دون مسافة القصر فهو كما لو كانا
حاضرين لأن ما دون مسافة القصر في حكم الإقامة وإن كان أحدهما حاضرا والآخر غائبا فحكمهما
حكم الغائبين وليس له دفعه إلى الحاضر منهما وفي جميع هذه الأقسام متى دفعه إلى أحدهما لزمه
رده إلى يده وان لم يفعل فعليه ضمان حق الآخر
(فصل) إذا كان الرهن على يدي عدل وشرطا له أن يبيعه عند حلول الحق صح ويصح بيعه،
وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي فإن عزل الراهن العدل عن البيع صح عزله ولم يملك البيع، وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا ينعزل لأن وكالته صارت من حقوق الرهن فلم يكن للراهن اسقاطه
كسائر حقوقه، وقال ابن أبي موسى ويتوجه لنا مثل ذلك فإن أحمد قد منع الحيلة في غير موضع من
كتبه وهذا يفتح باب الحيلة للراهن فإنه يشترط ذلك للمرتهن ليجيبه إليه ثم عزله والأول هو المنصوص
عنه لأن الوكالة عقد جائز فلم يلزم المقام عليها كسائر الوكالات وكونه من حقوق الراهن لا يمنع من
390

جوازه كما لو شرطا الرهن في البيع فإنه لا يصير لازما وكذلك لو مات الراهن بعد الاذن انفسخت
الوكالة وقياس المذهب أنه متى عزله عن البيع فللمرتهن فسخ البيع الذي حصل الرهن بثمنه كما لو امتنع
الراهن من تسليم الرهن المشروط في البيع، فأما إن عزله المرتهن فلا ينعزل لأن العدل وكيل الراهن
إذ الرهن ملكه ولو انفرد بتوكيله صح فلم ينعزل بعزل غيره لكن لا يجوز بيعه بغير إذنه وهكذا لو لم
يعزلاه فحل الحق لم يبعه حتى يستأذن المرتهن لأن البيع لحقه فلم يجز حتى يأذن فيه ولا يحتاج إلى
تجديد إذن من الراهن في ظاهر كلام أحمد لأن الاذن قد وجد مرة فيكفي كما في الوكالة في سائر
الحقوق، وذكر القاضي وجها آخر أنه يحتاج إلى تجديد إذن لأنه يكون له غرض في قضاء الحق من
غيره والأول أولى فإن الاذن كاف ما لم يغير والغرض لا اعتبار به مع صريح الاذن بخلافه بدليل ما لو
جدد الاذن له، بخلاف المرتهن فإن المبيع يفتقر إلى مطالبته بالحق ومذهب الشافعي نحو من هذا
(فصل) ولو أتلف الرهن في يد العدل أجنبي فعلى الجاني قيمته يكون رهنا في يده وله المطالبة
بها لأنها بدل الرهن وقائمة مقامه وله إمساك الرهن وحفظه فإن كان المتراهنان أذنا له في بيع الرهن
فقال القاضي قياس المذهب أن له بيع قيمته لأن له بيع نماء الرهن تبعا للأصل فالقيمة أولى. وقال
391

أصحاب الشافعي ليس له ذلك لأنه متصرف بالاذن فلا يملك بيع ما لم يؤذن له في بيعه والمأذون
في بيعه قد تلف وقيمته غيره وللقاضي أن يقول إنه قد أذن له في بيع الرهن والقيمة رهن يثبت لها
حكم الأصل من كونه يملك المطالبة بها وإمساكها واستيفاء دينه من ثمنها فكذلك بيعها فإن كانت
القمية من جنس الدين وقد أذن له في وفائه من ثمن الرهن ملك ايفاءه من القيمة لأنها بدل الرهن
من جنس الدين فأشبهت ثمن المبيع
(فصل) وإذا أذنا للعدل في البيع وعينا له نقدا لم يجز له أن يخالفهما، وإن اختلفا فقال أحدهما
بعه بدراهم وقال الآخر بدنانير لم يقبل قول واحد منهما لأن كل واحد منهما فيه حقا للراهن
ملك اليمين وللمرتهن حق الوثيقة واستيفاء حقه ويرفع الامر إلى الحاكم فيأمر من يبيعه بنقد البلد
سواء كان من جنس الحق أو من غير جنسه وافق قول أحدهما أو لم يوافق لأن الحظ في ذلك
والأولى أن يبيعه بما يرى الحظ فيه، فإن كان في البلد نقدان باعه بأغلبهما فإن تساويا فقال القاضي
يبيع بما يؤديه اجتهاده إليه وهو قول الشافعي لأنه الاحظ والغرض تحصيل الحظ فإن تساويا باع بجنس
392

الدين فإن لم يكن فيها جنس الدين عين له الحاكم ما يبيعه به وحكمه حكم الوكيل في وجوب الاحتياط
والمنع من البيع بدون ثمن المثل ومن البيع نساء متى خالف لزمه ما يلزم الوكيل المخالف، وذكر في
البيع نساء رواية أخرى أنه يجوز بناء على الوكيل ولا يصح لأن البيع ههنا لايفاء دين حال يجب تعجيله
والبيع نساء يمنع ذلك وكذا نقول في الوكيل متى وجدت في حقه قرينة دالة على منع البيع نساء
لم يجز له ذلك وإنما الروايتان فيه عند انتفاء القرائن وكل موضع حكمنا بأن البيع باطل وجب رد
المبيع إن كان باقيا فإن تعذر فللمرتهن تضمين من شاء من العدل والمشتري بأقل الامرين من قيمة
الرهن أو قدر الدين لأنه يقبض قيمة الرهن مستوفيا لحقه لا رهنا فلذلك لم يكن له أن يقبض أكثر
من دينه وما بقي من قيمة الرهن للراهن يرجع به على من شاء منهما، وإن استوفى دينه من الرهن رجع
الراهن بقيمته على من شاء منهما ومتى ضمن المشتري لم يرجع على أحد لأن العين تلفت في يده،
وإن ضمن العدل رجع على المشتري
(فصل) ومتى قدرا له ثمنا لم يجز له بيعه بدونه وإن أطلقا فله بيعه بثمن مثله أو زيادة عليه، وبهذا
قال الشافعي، وقال أبو حنيفة له بيعه ولو بدراهم والكلام معه في الوكالة فإن أطلقا فباع بأقل من ثمن المثل
393

مما يتغابن الناس به صح ولا ضمان عليه لأن ذلك لا يضبط غالبا وإن كان النقص مما لا يتغابن الناس به
أو باع بأنقص مما قررا له صح البيع وضمن النقص كله ذكره أصحابنا، والأولى أنه لا يصح البيع لأنه
بيع لم يؤذن له فيه فأشبه ما لو خالف في النقد
(فصل) وإذا باع العدل الرهن باذنهما وقبض الثمن فتلف في يده من غير تعد فلا ضمان عليه لأنه
امين فهو كالوكيل ولا نعلم في هذا خلافا ويكون من ضمان الراهن وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
ومالك من ضمان المرتهن لأن البيع لأجله
ولنا أنه وكيل الراهن في البيع والثمن ملكه وهو أمين له في قبضه فإذا تلف كان من ضمان موكله
كسائر الامناء وإن ادعى التلف فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين ويتعذر عليه إقامة البينة على ذلك
وإن كلفناه البينة شق عليه وربما أدى إلى أن لا يدخل الناس في الأمانات فإن خالفاه في قبض الثمن
فقالا ما قبضه من المشتري وادعى ذلك ففيه وجهان (أحدهما) القول قوله لأنه أمين والآخر لا يقبل
لأن هذا إبراء للمشتري من الثمن فلا يقبل قوله فيه كما لو أبرأه من غير الثمن، وان خرج المبيع مستحقا
فالعهدة على الراهن دون العدل إذا كان قد أعلم المشتري أنه وكيل وكذلك كل وكيل باع مال غيره
وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة العهدة على الوكيل والكلام معه في الوكالة، فإن علم المشتري
394

بعد تلف الثمن في يد العدل رجع على الراهن ولا شئ على العدل، فإن قيل فلم لا يرجع المشتري
على العدل لأنه قبض الثمن بغير حق؟ قلنا لأنه سلمه إليه على أنه أمين في قبضه يسلمه إلى المرتهن فلذلك
لم يجب الضمان عليه، فأما المرتهن فقد بان له أن عقد الرهن كان فاسدا فإن كان مشروطا في بيع
ثبت له الخيار فيه والا سقط حقه. فإن كان الراهن مفلسا حيا أو ميتا كان المرتهن والمشتري أسوة
الغرماء لأنهم متساوون في ثبوت حقهم في الذمة فاستووا في قسمة ماله بينهم، فاما ان خرج مستحقا
بعد ما دفع الثمن إلى المرتهن رجع المشتري على المرتهن وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يرجع على
العدل ويرجع العدل على أيهما شاء من الراهن والمرتهن
ولنا أن عين ماله صار إلى المرتهن بغير حق فكان رجوعه عليه كما لو قبضه منه فاما إن كان
المشتري رده بعيب لم يرجع على المرتهن لأنه قبض الثمن بحق ولا على العدل لأنه أمين وكيل ويرجع
على الراهن. وإن كان العدل حين باعه لم يعلم المشتري أنه وكيل كان للمشتري الرجوع عليه ويرجع
هو على الراهن إن أقر بذلك أو قامت به بينة وان أنكر ذلك فالقول قول العدل مع يمينه فإن نكل عن
اليمين فقضى عليه بالنكول أو ردت اليمين على المشتري فحلف ورجع على العدل لم يرجع العدل على
الراهن لأنه يقر أنه ظلمه، وعلى قول الخرقي القول في حدوث العيب قول المشتري مع يمينه وهو إحدى
الروايتين عن أحمد. فإذا حلف المشتري رجع على العدل ورجع العدل على الراهن وان تلف العبد
395

المبيع في يد المشتري ثم بان مستحقا قبل وزن ثمنه فللمغصوب منه تضميد من شاء من الغاصب والعدل
والمرتهن ويستقر الضمان على المشتري لأن التلف في يده هذا إذا علم بالغصب وان لم يكن عالما فهل
يستقر الضمان عليه أو على الغاصب؟ على روايتين
(فصل) فإن ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن فأنكر فقال القاضي وأبو الخطاب يقبل قوله في
حق الراهن ولا يقبل في حق المرتهن وهو مذهب الشافعي لأن العدل وكيل الراهن في دفع الدين إلى
المرتهن وليس بوكيل للمرتهن في ذلك إنما هو وكيله في الحفظ فقط فلم يقبل قوله عليه فيما ليس بوكيل
له فيه كما لو وكل رجلا في قضاء دين فادعى أنه سلمه إلى صاحب الدين، وقال الشريف أبو جعفر
وأبو الخطاب في رؤوس مسائلهما يقبل قوله على المرتهن في اسقاط الضمان عن نفسه ولا يقبل في إيجاب
الضمان على غيره وهذا مذهب أبي حنيفة لأنه أمين فقبل قوله في إسقاط الضمان عن نفسه، كالمودع يدعي
رد الوديعة فعلى هذا إذا حلف العدل سقط الضمان عنه ولم يثبت عن المرتهن أنه قبضه، وعلى القول
الأول يحلف المرتهن ويرجع على من شاء منهما، فإن رجع على العدل لم يرجع العدل على الراهن لأنه
يقول ظلمني وأخذ منى بغير حق فلم يرجع على الراهن كما لو غصبه مالا آخر. فإن رجع على الراهن
فهل يرجع الراهن على العدل؟ نظرت فإن كان دفعه إلى المرتهن بحضرة الراهن أو ببينة فماتت أو غابت
لم يرجع عليه لأنه أمين ولم يفرط في القضاء، وان دفعه إليه بغير بينة في غيبة الراهن ففيه روايتان
(إحداهما) يرجع الراهن عليه لأنه مفرط في القضاء بغير بينه فلزمه الضمان كما لو تلف الرهن بتفريطه،
396

ويحتمل أن يكون هذا معنى قول الخرقي. ومن أمر رجلا أن يدفع إلى رجل مالا وادعى أنه دفعه إليه
لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة (والرواية الثانية) لا يرجع الراهن عليه لأنه أمين في حقه سواء
صدقه في القضاء أو كذبه الا أنه ان كذبه فله عليه اليمين
(فصل) إذا غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه زال عنه الضمان، ولو كان الرهن في
يد المرتهن فتعدى فيه ثم أزال التعدي أو سافر به ثم رده لم يزل عنه الضمان لأن استئمانه زال بذلك
فلم يفسد بفعله مع بقائه في يده بخلاف التي قبلها فإنه رده إلى يد نائب مالكها فأشبه ما لو ردها إلى مالكها
(فصل) وإذا استقرض ذمي من مسلم مالا ورهنه خمرا لم يصح سواء جعله على يد ذمي أو غيره
فإن باعها الراهن أو نائبه الذمي وجاء المقرض بثمنها لزمه قبوله فإن أبى قيل له اما أن تقبض واما ان
تبرئ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرت مجرى الصحيحة قال عمر رضي الله عنه
في أهل الذمة معهم الخمر ولوهم بيعها وخذوا من أثمانها. وان جعلها على يد مسلم فباعها لم يجبر المرتهن
على قبول الثمن لأن ذلك البيع فاسد لا يقران عليه ولا حكم له
{مسألة} قال (ولا يرهن مال من أوصى إليه بحفظ ماله الا من ثقة)
وجملته ان ولي اليتيم ليس له رهن ماله الا عند ثقة يودع ماله عنده لئلا يجحده أو يفرط فيه
فيضيع. قال القاضي ليس لوليه رهن ماله الا بشرطين (أحدهما) أن يكون عند ثقة (الثاني) أن يكون
له فيه حظ وهو أن يكون به حاجة إلى نفقة أو كسوة أو انفاق على عقاره المتهدم أو أرضه أو بهائمه
ونحو ذلك وماله غائب يتوقع وروده أو ثمرة ينتظرها أو له دين مؤجل يحل أو متاع كاسد يرجو نفاقه
397

فيجوز لوليه الاقتراض ورهن ماله، وإن لم يكن له شئ ينتظره فلا حظ له في الاقتراض فيبيع شيئا
من أصول ماله وبصرفه في نفقته، وإن لم يجد من يقرضه ووجد من يبيعه نسيئة وكان أحظ من بيع
أصوله جاز أن يشتريه نسيئة ويرهن به شيئا من ماله والوصي والحاكم وأمينه في هذا سواء وكذلك
الأب الا أن للأب أن يرهن من نفسه لولده ولنفسه من ولده، ومن عداه بخلافه على إحدى الروايتين
(فصل) فاما أخذ الرهن بمال اليتيم فيكون في بيع أو قرض، وقد ذكرنا القرض في باب المصراة
وفي البيع ثلاث مسائل (إحداهن) أن يبيع ما يساوي مائة نقدا بمائة أو دونهما نسيئة ويأخذ بها رهنا
فهذا بيع فاسدا لأن بيعه نقدا أحوط وكذلك لو جعل بعض الثمن نسيئة (الثانية) أن يبيعه بمائة نقدا
وعشرين نسيئة يأخذ بها رهنا فهذا جائز لأنه لو باعه بمائة نقدا جاز فإذا زاد عليها فقد زاده خيرا
سواء قلت الزيادة أو كثرت (الثالثة) باعه بمائة وعشرين نسيئة وأخذ بها رهنا فهذا جائز أيضا ذكره
القاضي وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم لا يجوز لأنه تغرير بماله وبيع النقد أحوط له
ولنا أن هذا عادة التجار وقد أمرناه بالتجارة وطلب الربح وهذا من جهاته والتغرير يزول بالرهن
(فصل) وحكم المكاتب فيما ذكرنا حكم ولي اليتيم لأن له أن يتصرف فيما في يديه فيما له فيه الحظ
فأما المأذون فإن دفع له سيده مالا يتجر فيه أو لم يدفع فقال القاضي ليس له التصرف بالنسيئة
لأن ديونه تتعلق بذمة السيد فيتضرر بذلك لأن الدين غرر بخلاف المكاتب
(فصل) ولو كان مال اليتيم رهنا فاستعاده الوصي لليتيم جاز، وان استعاده لنفسه لم يجز لأنه لا
يملك التصرف في مال اليتيم لنفسه وعليه الضمان لأنه قبضه عل وجه ليس له قبضه، وإن فكه بمال
اليتيم وأطلق فهو لليتيم وان فكه بمال نفسه وأطلق فالظاهر أنه استعاده لنفسه فإن قال استعدته لليتيم
قبل قوله، وان تلف قبل ذلك ضمنه وان قال استعدته لليتيم بعد هلاكه أو هلك بعضه لم يقبل قوله
لأننا حكمنا بالضمان ظاهرا فلا يزول بقوله والأولى ان يقبل قوله لأنه أمين وهو اعلم بنيته فيقبل
قوله فيها كما قبل التلف
398

(فصل) ولو رهن الوصي أو الحاكم مال اليتيم عند مكاتبه أو ولده الكبير صح لأنه لا ولاية له عليهما
(فصل) ولو أوصى إلى رجل بقضاء دينه فرهن شيئا من تركته عند الغريم أو غيره ضمن لأنه لم
يؤذن له في رهنها فضمن كما لو لم يوص إليه بقضاء دينه
{مسألة} قال (وإذا قضاه بعض الحق كان الرهن بحالة على ما بقي)
وجملة ذلك أن حق الوثيقة يتعلق بالرهن جميعه فيصير محبوسا بكل الحق وبكل جزء منه لا
ينفك منه شئ حتى يقضى جميع الدين سواء كان مما يمكن قسمته أو لا يمكن. قال ابن المنذر: أجمع
كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من رهن شيئا بمال فأدى بعض المال وأراد اخراج بعض
الرهن ان ذلك ليس له ولا يخرج شئ حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه من ذلك كذلك قال مالك
والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الرهن وثيقة بحق فلا يزول الا بزوال
جميعه كالضمان والشهادة
{مسألة} قال (وإذا أعتق الراهن عبده المرهون فقد صار حرا. ويؤخذ إن كان له
مال بقيمة المعتق فيكون رهنا)
وجملة ذلك أنه ليس للراهن عتق الرهن لأنه يبطل حق المرتهن من الوثيقة فإن أعتق نفذ عتقه
موسرا كان أو معسرا نص عليه أحمد وبه قال شريك والحسن بن صالح وأصحاب الرأي والشافعي
في أحد أقواله الا أن أبا حنيفة قال يستسعى العبد في قيمته إن كان المعتق معسرا، وعن أحمد رواية
أخرى لا ينفذ عتق المعسر ذكرها الشريف أبو جعفر وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي لأن
عتقه يسقط حق المرتهن من الوثيقة من عين الرهن وبدلها فلم ينفذ لما فيه من الاضرار بالمرتهن ولأنه
399

عتق يبطل حق غير المالك فنفذ من الموسر دون المعسر كعتق شرك له من عبد، وقال عطاء والبتي وأبو
ثور لا ينفذ عتق الراهن موسرا كان أو معسرا وهو القول الثالث للشافعي لأنه معنى يبطل حد الوثيقة
من الرهن فلم ينفذ كالبيع
ولنا انه اعتاق من مالك جائز التصرف تام الملك فنفذ كعتق المستأجر ولان الرهن عين محبوسة
لاستيفاء الحق فنفذ فيها عتق المالك كالمبيع في يد البائع، والعتق يخالف البيع فإنه مبني على التغليب والسراية
وينفذ في ملك الغير ويجوز عتق المبيع قبل قبضه والآبق والمجهول وما لا يقدر على تسليمه ويجوز تعليقه
على الشروط بخلاف البيع، إذا ثبت هذا فإنه إن كان موسرا أخذت منه قيمته فجعلت مكانه رهنا لأنه
أبطل حق الوثيقة بغير اذن المرتهن فلزمته قيمته كما لو أبطلها أجنبي أو كما لو أتلفه وتكون القيمة رهنا
لأنها نائبة عن العين وبدل عنها، وإن كان معسرا فالقيمة في ذمته فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت
منه القيمة فجعلت رهنا الا ان يختار تعجيل الحق فيقضيه ولا يحتاج إلى رهن وان أيسر بعد حلول الحق
طولب بالدين خاصة لأن ذمته تبرأ به من الحقين معا، والاعتبار بقيمة العبد حال العتاق لأنه حال
الاتلاف وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة في المعسر يستسعى العبد في قيمته ثم يرجع على الراهن
وفيه ايجاب الكسب على العبد ولا صنع له ولا جناية منه والزام الغرم لمن وجد منه الاتلاف أولى كحال
اليسار وكسائر الاتلاف
(فصل) وان أعتقه بإذن المرتهن فلا نعلم خلافا في نفوذ عتقه على كل حال لأن المنع كان لحق
المرتهن وقد اذن فيسقط حقه من الوثيقة موسرا كان المعتق أو معسرا لأنه اذن فيما ينافي حقه فإذ
400

وجد زال حقه وقد رضي به لرضاه بما ينافيه واذنه فيه فلم يكن له بدل: فإن رجع عن الاذن قبل
العتق وعلم الراهن برجوعه كان كمن لم يأذن وان لم يعلم الراهن برجوعه فأعتق ففيه وجهان بناء على
عزل الوكيل بدون علمه. وان رجع بعد العتق لم ينفع رجوعه والقول قول المرتهن مع يمينه لأن
الأصل عدم الإذن، ولو اختلف الراهن وورثة المرتهن فالقول قول ورثة المرتهن أيضا الا أن أيمانهم
على نفي العلم لأنها على فعل الغير، وان اختلف المرتهن وورثة الراهن فالقول قول المرتهن مع يمينه،
وان لم يحلف قضي عليه بالنكول
(فصل) وان تصرف الراهن بغير العتق كالبيع والإجارة والهبة والوقف والرهن وغيره فتصرفه
باطل لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبنى على التغليب والسراية فلم يصح بغير إذن
المرتهن كفسخ الرهن فإن أذن فيه المرتهن صح وبطل الرهن لأنه أذن فيما ينافي حقه فيبطل بفعله
كالعتق، وان زوج الام المرهونة لم يصح وهذا اختيار أبي الخطاب وقول مالك والشافعي، وقال
القاضي وجماعة من أصحابنا يصح، وللمرتهن منع الزوج من وطئها ومهرها رهن معها وهذا مذهب
أبي حنيفة لأن محل النكاح غير محل عقد الرهن ولذلك صح رهن الأمة المزوجة ولان الرهن لا يزيل
الملك فلا يمنع التزويج كالإجارة. ولنا أنه تصرف في الرهن بما ينقص ثمنه ويستغل بعض منافعه فلم
يملكه الراهن بغير رضا المرتهن كالإجارة ولا يخفى تنقيصه لثمنها فإنه يعطل منافع بعضها ويمنع مشتريها
من وطئها وحلها ويوجب عليه تمكين زوجها من استمتاعها في الليل ويعرضها بوطئه للحمل الذي يخاف
منه تلفها ويشغلها عن خدمته بتربية ولدها فتذهب الرغبة فيها وتنقص نقصا كثيرا وربما منع بيعها بالكلية. وقولهم ان محل عقد النكاح غير محل الرهن غير صحيح فإن محل الرهن محل البيع والبيع
401

يتناول جملتها ولهذا يباح لمشتريها استمتاعها وإنما صح رهن المزوجة لبقاء معظم المنفعة فيها وبقائها
محلا للبيع كما يصح رهن المستأجرة. ويفارق الرهن الإجارة فإن التزويج لا يؤثر في مقصود الإجارة
ولا يمنع المستأجر من استيفاء المنافع المستحقة له ويؤثر في مقصود الرهن وهو استيفاء الدين من ثمنها
فإن تزويجها يمنع بيعها أو ينقص ثمنها فلا يمكن استيفاء الدين بكماله
(فصل) ولا يجوز للراهن وطئ أمته المرهونة في قول أكثر أهل العلم. وقال بعض أصحاب
الشافعي رضي الله عنه له وطئ الآيسة والصغيرة لأنه لا ضرر فيه فإن علة المنع الخوف من الحمل مخافة
أن تلد منه فتخرج بذلك عن الرهن أو تتعرض للتلف وهذا معدوم فيهما. وأهل العلم على خلاف هذا
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطئ أمته المرهونة ولان سائر من
يحرم وطؤها لا فرق فيه بين الآيسة والصغيرة وغيرهما كالمعتدة والمستبرأة والأجنبية، ولان الذي تحبل
فيه يختلف ولا ينحزر فمنع من الوطئ جملة كما حرم الخمر للسكر وحرم منه اليسير الذي لا يسكر لكون
السكر يختلف، وان وطئ فلا حد عليه لأنها ملكه وإنما حرمت عليه لعارض كالمحرمة والصائمة ولا
مهر عليه لأن المرتهن لا حق له في منفعتها ووطؤها لا ينقص قيمتها فأشبه ما لو استخدمها. وان تلف جزء
منها أو نقصها مثل أن افتض البكر أو أفضاها فعليه قيمة ما أتلف فإن شاء جعله رهنا معها وان شاء
جعله قضاء من الحق ان لم يكن حل. فإن كان الحق قد حل جعله قضاء لاغير فإنه لا فائدة في جعله رهنا
ولا فرق بين الكبيرة والصغيرة فيما ذكرناه
402

{مسألة} قال (وان كانت جارية فأولدها الراهن خرجت أيضا من الرهن وأخذ
منه قيمتها فتكون رهنا)
وجملته ان الراهن إذا وطئ أمته المرهونة فأولدها خرجت من الرهن وعليه قيمتها حين أحبلها
كما لو جرح العبد كانت عليه قيمته حين جرحه ولا فرق بين الموسر والمعسر الا أن الموسر يؤخذ منه
قيمتها والمعسر يكون في ذمته قيمتها على حسب ما ذكرنا في العتق وهذا قول أصحاب الرأي وقول
الشافعي ههنا كقوله في العتق الا أنه إذا قال له لا ينفذ الاحبال فإنما هو في حق المرتهن فأما في حق الراهن
فهو ثابت لا يجوز له أن يهبها للمرتهن، ولو حل الحق وهي حامل لم يجز بيعها لأنها حامل بحر فإذا ولدت
لم يجز بيعها حتى تسقي ولدها اللبأ، فإن وجد من يرضعه بيعت والا تركت حتى ترضعه ثم يباع منها
بقدر الدين خاصة ويثبت للباقي حكم الاستيلاد فإذا مات الراهن عتق وان رجع هذا المبيع إلى الراهن
بإرث أو بيع أو هبة أو غير ذلك أو بيع جميعها ثم رجعت إليه ثبت لها حكم الاستيلاد، ومالك:
ان كانت الأمة تخرج إلى الراهن وتأتيه خرجت من الرهن وان تسور عليها أخذ ولدها وبيعت.
ولنا ان هذه أم ولد فلم يثبت فيها حكم الرهن كما لو كان الوطئ سابقا على الرهن أو نقول معنى
ينافي الرهن في ابتدائه فنافاه في دوامه كالحرية
(فصل) فإن كان الوطئ بإذن المرتهن خرجت من الرهن ولا شئ للمرتهن لأنه أذن في سبب ما
ينافي حقه فكان إذنا فيه ولا نعلم في هذا خلافا وإن لم تحبل فهي رهن بحالها فإن قيل إنما أذن في
الوطئ ولم يأذن في الاحبال قلنا: الوطئ هو المفضي إلى الاحبال ولا يقف ذلك على اختياره فالاذن
في سببه إذن فإن أذن ثم رجع فهو كمن لم يأذن. وان اختلفا في الاذن فالقول قول من ينكره،
403

وان أقر المرتهن بالاذن وأنكر كون الولد من الوطء المأذون فيه أو قال هو من زوج أو زنا فالقول
قول الراهن بأربع شروط (أحدها) أن يعترف المرتهن بالاذن (والثاني) أن يعترف بالوطئ (الثالث)
أن يعترف بالولادة (والرابع) أن يعترف بمضي مدة بعد الوطئ يمكن أن تلد فيها فحينئذ لا يلتفت
إلى إنكاره ويكون القول قول الراهن بغير يمين لأننا لم نلحقه به بدعواه بل بالشرع فإن أنكر شرطا
من هذه الشروط فقال لم آذن أو قال أذنت فما وطئت أو قال لم تمض مدة تضع فيها الحمل منذ وطئت
أو قال ليس هذا ولدها وإنما استعارته فالقول قوله لأن الأصل عدم ذلك كله وبقاء الوثيقة صحيحة
حتى تقوم البينة وهذا مذهب الشافعي
(فصل) ولو أذن في ضربها فضربها فتلفت فلا ضمان عليه لأن ذلك تولد من المأذون فيه
كتولد الاحبال من الوطي
(فصل) إذا أقر الراهن بالوطئ لم يخل من ثلاثة أخوال (أحدها) أن يقر به حال العقد أو
قبل لزومه فحكم هذين واحد ولا يمنع ذلك صحة العقد لأن الأصل عدم الحمل فإن بانت حائلا أو حاملا
بولد لا يلحق بالراهن فالرهن بحاله وكذلك أن كان يلحق به لكن لا تصير به أم ولد مثل ان وطئها
404

وهي زوجته ثم ملكها ورهنها، وان بانت حاملا بولد تصير به أم ولد بطل الرهن ولا خيار للمرتهن
وإن كان مشروطا في بيع لأنه دخل مع العلم بأنها قد لا تكون رهنا فإذا خرجت من الرهن بذلك
السبب الذي علمه لم يكن له خيار كالمريض إذا مات والجاني إذا اقتص منه وهذا قول أكثر أصحاب
الشافعي، وقال بعضهم له الخيار لأن الوطئ نفسه لا يثبت الخيار فلم يكن رضاه به رضى بالحمل الذي
يحدث منه بخلاف الجناية والمرض. ولنا أن إذنه في الوطئ إذن فيما يؤول إليه كذلك رضاه به رضى
بما يؤول إليه (الحال الثالث) أقر بالوطئ بعد لزوم الرهن فإنه يقبل في حقه ولا يقبل في حق المرتهن
لأنه أقر بما يفسخ عقدا لازما لغيره فلم يقبل كما لو أقر بذلك بعد بيعها. ويحتمل ان يقبل لأنه أقر في
ملكه بما لا تهمة فيه لأنه يستضر بذلك أكثر من نفعه بخروجها من الرهن. والأول أصح لأن اقرار
الانسان على غيره لا يقبل وهكذا الحكم فيما إذا أقر بأنه غصبها أو انها كانت جنت جناية تعلق أرشها
برقبتها وللشافعي في ذلك قولان، وان أقر انه أعتقها صح إقراره وخرجت من الرهن، وبهذا قال
أبو حنيفة، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يقبل بناء على أنه لا يصح اعتاقه للرهن. ولنا انه لو أعتقه
لنفذ عتقه فقبل إقراره بعتقه كغير الرهن، ولان إقراره بعتقه يجري مجرى عتقه فأشبه ما لو قال
405

أنت حر. ويتخرج ان لا ينفذ إقرار المعسر بناء على أنه لا ينفذ إعتاقه، وكل موضع قلنا القول قول
الراهن فقال القاضي ذلك مع يمينه لأن كذبه محتمل، ويحتمل ان لا يستحلف لأنه لو رجع عن إقراره
لم يقبل فلا فائدة في استحلافه، واختلف أصحاب الشافعي في استحلافه على نحو الوجهين. والصحيح
عندي انه إذا أقر العتق لم يستحلف لأن ذلك جرى مجرى قوله أنت حر فلم يحتج إلى يمين كما لو
صرح به، وإن أقر بالغصب والجناية فإنه إن لم يدع ذلك المغصوب منه والمجني عليه لم يلتفت إلى
قول الراهن وجها واحدا، وان ادعياه فاليمين عليهما لأن الحق لهما ورجوعهما عنه مقبول فكانت
اليمين عليهما كسائر الدعاوى، وإن أقر باستيلاد أمته فعليه اليمين لأن نفعها عائد إليه من حل استمتاعها
وملك خدمتها فكانت اليمين عليه بخلاف ما قبلها. وإن قلنا القول قول المرتهن فعليه اليمين بكل
حال لأنه لو اعترف ثبت الحق في الرهن ويمينه على نفى العلم لأنها على نفى فعل الغير فإذا حلف
سقطت الدعوى بالنسبة إليه وبقي حكمها في حق الراهن بحيث لو عاد إليه الرهن ظهر فيه حكم إقراره
وإن أراد المجني عليه أو المغصوب منه أن يغرماه في الحال فلهما ذلك لأنه منع من استيفاء الجناية
بتصرفه فلزمه أرشها كما لو قتله
406

(فصل) ولا يحل للمرتهن وطئ الجارية المرهونة إجماعا لقول الله تعالى (إلا على أزواجهم أو
ما ملكت أيمانهم) وليست هذه زوجة ولا ملك يمين، فإن وطئها عالما بالتحريم فعليه الحد لأنه لا شبهة
له فيه فإن الرهن استيثاق بالدين ولا مدخل لذلك في إباحة الوطئ ولان وطئ المستأجرة يوجب الحد
مع ملكه لنفعها فالرهن أولى، فإن ادعى الجهل بالتحريم واحتمل صدقه لكونه ممن نشأ ببادية
أو حديث عهد بالاسلام فلا حد عليه وولده حر لأنه وطئها معتقدا إباحة وطئها فهو كما لو وطئها يظنها
أمته وعليه قيمة ولدها يوم الولادة لأن اعتقاده الحل منع انخلاق الولد رقيقا ففوت رق الولد على
سيدها فلزمته قيمته كالمغرور بحرية أمة، وإن لم يحتمل صدقه كالناشئ ببلاد الاسلام مختلطا بهم من
أهل العلم لم تقبل دعواه لأنه لا يخلو ممن يسمع منه ما يعلم به تحريم ذلك فيكون كمن لم يدع الجهل، وولده
407

رقيق للراهن لأنه من زنا. ولا فرق في جميع ما ذكرنا بين أن يكون الوطئ باذن الراهن أو بغير إذنه
وهذا المنصوص عن الشافعي. ويحتمل أن لا تجب قيمة الولد مع الاذن في الوطئ وهو قول بعض
أصحاب الشافعي لأن الاذن في الوطئ إذن فيما يحدث منه بدليل أنه لو أذن المرتهن للراهن في الوطئ
فحملت منه سقط حقه من الرهن. ولو أذن في قطع أصبع فسرت إلى أخرى لم يضمنها، ووجه الأول
أن وجوب الضمان يمنع انخلاق الولد رقيقا وسببه اعتقاد الحل وما حصل ذلك باذنه بخلاف الوطئ
فإن خروجها من الرهن بالحمل الذي الوطئ المأذون فيه سبب له، وأما المهر فإن كان الوطئ بأذن
الراهن فلا مهر له، وقال أبو حنيفة يجب لأنه يجب لها ابتداء فلا يسقط باذن غيرها، وعن الشافعي
كالمذهبين. ولنا أنه أذن في سببه وهو حقه فلم يجب كما لو أذن في قتلها ولان المالك أذن في استيفاء
المنفعة فلم يجب عوضها كالحرة المطاوعة وإن كان بغير إذنه فالمهر واجب سواء أكرهها أو طاوعته
408

وقال الشافعي لا يجب المهر مع المطاوعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي ولان الحد إذا وجب على
الموطوءة لم يجب المهر كالحرة
ولنا أن المهر يجب للسيد فلا يسقط بمطاوعة الأمة واذنها كما لو أذنت في قطع يدها ولأنه استوفى
هذه المنفعة المملوكة للسيد بغير إذنه فكان عليه عوضها كما لو أكرهها وكأرش بكارتها لو كانت بكرا
والحديث مخصوص بالمكرهة على البغاء فإن الله تعالى سماها بذلك مع كونها مكرهة عليه فقال (ولا
تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) وقولهم لا يجب الحد والمهر قلنا لا يجب والمهر وفي مسئلتنا
لا يجب لها وإنما يجب لسيدها ويفارق الحرة فإن المهر لو وجب لوجب لها وقد أسقطت حقها باذنها
وههنا المستحق لم يأذن ولان الوجوب في حق الحرة باكراهها وسقوطه بمطاوعتها فكذلك السيد ههنا
لما تعلق السقوط باذنه ينبغي ان يثبت عند عدمه وسواء وطئها معتقدا للحل أو غير معتقد له أو ادعى
409

شبهة أو لم يدعها لأن المهر حق آدمي فلا يسقط بالشبهات ولا تصير هذه الأمة أم ولد للمرتهن بحال
سواء ملكها بعد الوضع أو قبله وسواء حكمنا برق الولد أو حريته لأنه احبلها في غير ملكه
{مسألة} قال (وإذا جنى العبد المرهون فالمجني عليه أحق برقبته من مرتهنه حتى
يستوفي حقه فإن اختار سيده أن يفديه وفعل فهو رهن بحاله)
وجملته ان العبد المرهون إذا جنى على إنسان أو على ماله تعلقت الجناية برقبته فكانت مقدمة
على حق المرتهن لا نعلم في هذا خلافا. وذلك لأن الجناية مقدمة على حق المالك والملك أقوى من
الرهن فأولى أن يقدم على الرهن. فإن قيل فحق المرتهن أيضا يقدم على حق المالك. قلنا حق المرتهن
ثبت من جهة المالك بعقده وحق الجناية ثبت بغير اختياره مقدما على حقه فيقدم على ما ثبت بعقده
ولان حق الجناية مختص بالعين يسقط بفواتها وحق المرتهن لا يسقط بفوات العين ولا يختص بها
فكان تعلقه بها أحق وأولى فإن كانت جنايته موجبة للقصاص فلولي الجناية استيفاؤه، فإن اقتص سقط
410

الرهن كما لو تلف وإن عفا على مال تعلق برقبة العبد وصار كالجناية الموجبة للمال فيقال للسيد أنت
مخير بين فدائه وبين تسليمه للبيع، فإن اختار فداؤه فبكم يفديه؟ على روايتين (إحداهما) بأقل الامرين
من قيمته أو أرش جنايته لأنه إن كان الأرش أقل فالمجني عليه لا يستحق أكثر من أرش جنايته،
وإن كانت القيمة أقل فلا يلزمه أكثر منها لأن ما يدفعه عوض عن العبد فلا يلزم أكثر من قيمته كما
لو أتلفه (والثانية) يفديه بأرش جنايته بالغا ما بلغ لأنه ربما يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من
قيمته فإذا فداه فهو رهن بحاله لأن حق المرتهن قائم لوجود سببه وإنما قدم حق المجني عليه لقوته
فإذا زال ظهر حكم الرهن كحق من لارهن له مع حق المرتهن في تركة مفلس إذا أسقط المرتهن حقه
ظهر حكم الآخر، فإن امتنع قيل للمرتهن أنت مخير بين فدائه وبين تسلميه فإن اختار فداءه فبكم
يفديه؟ على الروايتين فإن فداه باذن الراهن رجع به عليه لأنه أدى الحق عنه باذنه فرجع به كما لو
411

قضى دينه باذنه وإن فداه متبرعا لم يرجع بشئ وإن نوى الرجوع فهل يرجع بذلك؟ على وجهين بناء
على ما لو قضى دينه بغير إذنه، وإن زاد في الفداء على الواجب لم يرجع به وجها واحدا، ومذهب
الشافعي كما ذكرنا في هذا الفصل إلا أنه لا يرجع بما فداه به بغير إذنه قولا واحدا، وإن شرط له الراهن
الرجوع رجع قولا واحدا وإن قضاه باذنه من غير شرط الرجوع ففيه وجهان وهذا أصل يذكر في
غير هذا الموضع فإن فداه وشرط أن يكون رهنا بالفداء مع الدين الأول فقال القاضي يجوز ذلك لأن
المجني عليه يملك بيع العبد وإبطال الرهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه، والزيادة في دين
الرهن قبل لزومه جائزة ولان أرش الجناية متعلق به وإنما ينتقل من الجناية إلى الرهن، ويحتمل أن
لا يصح لأن العبد رهن بدين فلا يجوز رهنه ثانيا بدين سواه كما لو رهنه بدين سوى هذا وذهب
أبو حنيفة إلى أن ضمان جناية الرهن على المرتهن فإن فداه لم يرجع بالفداء وإن فداه الراهن أو بيع
412

في الجناية سقط دين الرهن إن كان بقدر الفداء وبناء على أصله في أن الرهن من ضمان المرتهن وهذا
يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وإذا لم يفد الجاني فبيع في الجناية التي تستغرق قيمته بطل الرهن
وإن لم تستغرقها بيع منه بقدر أرش الجناية وباقيه رهن إلا أن يتعذر بيع بعضه فيباع الكل ويجعل
بقية الثمن رهنا، وقال أبو الخطاب هل يباع منه بقدر الجناية أم يباع جميعه ويكون الفاضل من ثمنه
عن أرش جنايته رهنا على وجهين
(فصل) وان كانت الجناية على سيد العبد فلا يخلو من حالين (أحدهما) أن تكون الجناية غير
موجبة للقود كجناية الخطأ أو شبه العمد أو اتلاف مال فيكون هدرا لأن العبد مال لسيده فلا يثبت
له مال في ماله (الثاني) أن تكون موجبة للقود فلا تخلو من أن تكون على النفس أو على ما دونها فإن
كانت على ما دون النفس فالحق للسيد فإن عفا على مال سقط القصاص ولم يجب المال لما ذكرنا وكذلك
413

ان عفا على غير مال، وان أحب ان يقتص فله ذلك لأن السيد لا يملك الجناية على عبده فيثبت له
ذلك بجنايته عليه ولان القصاص يجب المزجر والحاجة تدعو إلى زجره عن سيده فإن اقتص فعليه قيمته
تكون رهنا مكانه وقضاء عن الدين لأنه يخرجه عن كونه رهنا باختياره فكان عليه بدله كما لو أعتقه،
وان كانت الجناية على النفس فللورثة استيفاء القصاص وليس لهم العفو على مال وذكر القاضي وجها آخر
ان لهم ذلك لأن الجناية حصلت في ملك غيرهم فكان لهم العفو على مال كما لو جنى على أجنبي،
وللشافعي قولان كالمذهبين فإن عفا بعض الورثة سقط القصاص وهل يثبت لغير العافي نصيبه من الدية؟
على الوجهين ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على نحو ما ذكرناه
(فصل) وان جنى العبد المرهون على عبد لسيده لم يخل من حالين (أحدهما) ان لا يكون مرهونا
فحكمه حكم الجناية على طرف سيده له القصاص ان كانت جنايته موجبة له وان عفا على مال أو غيره
414

أو كانت الجناية لا توجب القصاص ذهبت هدرا وسواء كان المجني عليه قنا أو مدبرا أو أم ولد
(الحال الثاني) أن يكون رهنا فلا يخلو إما أن يكون رهنا عند مرتهن القاتل أو عند غيره فإن كان عند
مرتهن القاتل والجناية موجبة للقصاص فلسيده القصاص فإن اقتص بطل الرهن في المجني عليه وعليه
قيمته للمقتص منه فإن عفا على مال أو كانت الجنابة موجبة للمال وكانا رهنا بحق واحد فجنايته هدر
لأن الحق يتعلق بكل واحد منهما فإذا قتل أحدهما بقي الحق متعلقا بالآخر، وإن كان كل واحد
منهما مرهونا بحق مفرد ففيه أربع مسائل (أحداهما) أن يكون الحقان سواء وقيمتهما سواء فتكون
الجناية هدرا سواء كان الحقان من جنسين مثل أن يكون أحدهما بمائة دينا والآخر بألف درهم
قيمتها مائة دينار أو من جنس واحد لأنه لا فائدة في اعتبار الجناية (المسألة الثانية) أن يختلف الحقان
وتتفق القيمتان مثل أن يكون دين أحدهما مائة ودين الآخر مائتين وقيمة كل واحد منهما مائة. فإن
415

كان دين القاتل أكثر لم ينقل إلى دين المقتول لعدم الغرض فيه وإن كان دين المقتول أكثر نقل إلى
القاتل لأن للمرتهن غرضا في ذلك، وهل يباع القاتل وتجعل قيمته رهنا مكان المقتول أو ينقل بحاله؟
على وجهين (أحدهما) لا يباع لأنه لا فائدة فيه (والثاني) يباع لأنه ربما زاد فيه مزايد فبلغه أكثر
من ثمنه فإن عرض للبيع فلم يزد فيه لم يبع لعدم ذلك (المسألة الثالثة) أن يتفق الدينان وتختلف
القيمتان بأن يكون دين كل واحد منهما مائة أحدهما مائة والآخر مائتين، فإن كانت قيمة
المقتول أكثر فلا غرض في النقل فيبقى بحاله، وإن كانت قيمة الجاني أكثر بيع منه بقدر جنايته يكون
رهنا بدين المجني عليه والباقي رهن بدينه. وإن اتفقا على تبقيته ونقل الدين إليه صار مرهونا بهما،
فإن حل أحد الدينين بيع بكل حال لأنه إن كان دينه المعجل بيع ليستوفى من ثمنه وما بقي منه رهن
بالدين الآخر فإن كان المعجل الآخر بيع ليستوفى منه بقدره والباقي رهن بدينه (المسألة الرابعة)
416

أن يختلف الدينان والقيمتان مثل أن يكون أحد الدينين خمسين والآخر ثمانين وقيمة أحدهما مائة
والآخر مائتين فإن كان دين المقتول أكثر نقل إليه وإلا فلا، وأما إن كان المجني عليه رهنا عند غير
مرتهن القاتل فللسيد القصاص لأنه مقدم على حق المرتهن بدليل أن الجناية الموجبة للمال مقدمة عليه
فالقصاص أولى فإن اقتص بطل الرهن في المجني عليه لأن الجناية عليه لم توجب مالا يجعل رهنا مكانه
وعليه قيمة المقتص منه تكون رهنا لأنه أبطل حق الوثيقة فيه باختياره. وللسيد العفو على مال فتصير
الجناية كالجناية الموجبة للمال فيثبت المال في رقبة العبد لأن السيد لو جنى على العبد لوجب أرش جنايته
لحق المرتهن فبأن يثبت على عبده أولى، فإن كان الأرش لا يستغرق قيمته بعنا منه بقدر أرش الجناية
يكون رهنا عند مرتهن المجني عليه وباقيه باق عند مرتهنه، وإن لم يمكن بيع بعضه بيع جميعه وقسم
ثمنه بينهما على حسب ذلك رهنا، وان كانت الجناية تستغرق قيمته نقل الجاني فجعل رهنا عند الآخر
417

ويحتمل أن يباع لاحتمال أن يرغب فيه راغب بأكثر من ثمنه فيفضل من قيمته شئ يكون رهنا عند
مرتهنه وهذا كله قول الشافعي
(فصل) فإن كانت الجناية على موروث سيده فيما دون النفس كأطرافه أو ماله فهي كالجناية على
أجنبي وله القصاص ان كانت موجبة له والعفو على مال وغيره، وان كانت موجبة للمال ابتداء ثبت
فإن انتقل ذلك إلى السيد بموت المستحق فله ما لموروثه من القصاص والعفو على مال لأن الاستدامة
أقوى من الابتداء فجاز أن يثبت بها مالا يثبت في الابتداء. وان كانت الجناية على نفسه بالقتل ثبت
الحكم لسيده وله ان يقتص فيما يوجب القصاص، وان عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال
ابتداء فهل يثبت للسيد؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الجناية
على غيره فأشبهت الجناية على ما دون النفس (والثاني) لا يثبت له مال في عبده ولا له العفو عليه وهو
418

قول أبي ثور لأنه حق يثبت للسيد ابتداء فلم يكن له ذلك كما لو كانت الجناية عليه، وأصل الوجهين
وجوب الحق في ابتدائه هل يثبت للقتيل ثم ينتقل إلى وارثه أو يثبت للوارث ابتداء؟ على وجهين،
وكل موضع يثبت له المال في رقبة عبده فإنه يقدم على الرهن لأنه يثبت للموروث كذلك فينتقل إلى
وارثه كذلك، وان اقتص في هذه الصورة لم يلزمه بدل الرهن لأنه إذا قدم المال على حق المرتهن
فالقصاص أولى ولان القصاص يثبت للموروث مقدما على حق المرتهن فكذلك في حق وارثه
(فصل) وان كانت الجناية على مكاتب السيد فهي كالجناية على ولده وتعجيزه كموت ولده
فيما ذكرنا والله أعلم
(فصل) فإن جنى العبد المرهون باذن سيده وكان ممن يعلم تحريم الجناية وانه لا يجب عليه قبول
ذلك من سيده فهي كالجناية بغير اذنه، وإن كان أعجميا أو صبيا لا يعلم ذلك فالسيد هو القاتل
419

والقصاص والدية متعلقان به لا يباع العبد فيها موسرا كان السيد أو معسرا كما لو باشر السيد القتل
وذكر القاضي وجها آخر أن العبد يباع إذا كان السيد معسرا لأنه باشر الجناية، والصحيح الأول
لأن العبد آلة فلو تعلقت الجناية به بيع فيها وإن كان السيد موسرا، وحكم اقرار العبد بالجناية حكم
إقرار العبد غير المرهون على ما مضي بيانه في موضعه
{مسألة} قال (وان جرح العبد المرهون أو قتل فالخصم في ذلك سيده وما قبض
بسبب ذلك من شئ فهو رهن)
وجملته أنه إذا جني على الرهن فالخصم في ذلك سيده لأنه مالكه، والأرش الواجب بالجناية
ملكه وإنما للمرتهن فيه حق الوثيقة فصار كالعبد المستأجر والمودع وبهذا قال الشافعي وغيره فإن ترك المطالبة
420

أو أخرها أو كان غائبا أوله عذر يمنعه منها فللمرتهن المطالبة بها لأن حقه متعلق بموجبها فكان له الطلب
به كما لو كان الجاني سيده، ثم إن كانت الجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص لأنه حق له وإنما يثبت
ليستوفي، فإن اقتص أخذت منه قيمة أقلهما قيمة فجعلت مكانه رهنا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور
وهذا قول إسحاق ويتخرج أن لا يجب عليه شئ وهو مذهب الشافعي لأنه لم يجب بالجناية مال ولا
استحق بحال وليس على الراهن أن يسعى للمرتهن في اكتساب مال
ولنا أنه أتلف مالا استحق بسبب اتلاف الرهن فغرم قيمته كما لو كانت الجناية موجبة للمال
وهكذا الحكم فيما إذا ثبت القصاص للسيد في عبده المرهون وإنما أوجبنا أقل القيمتين لأن حق
المرتهن إنما يتعلق بالمالية والواجب من المال وهو أقل القيمتين لأن الرهن إن كان أقل لم يجب أكثر
من قيمته وإن كان الجاني أقل لم يجب أكثر من قيمته وان عفا على مال صح عفوه ووجب أقل القيمتين
421

لما ذكرنا هذا إذا كان القصاص قتلا، وإن كان جرحا أو قلع سن ونحوه فالواجب بالعفو أقل الأمرين
من أرش الجرح أو قيمة الجاني، وان عفا مطلقا أو على غير مال انبنى ذلك على موجب العمد ما هو؟
فإن قلنا موجبه أحد شيئين ثبت المال وان قلنا موجبه القصاص عينا فحكمه حكم ما لو اقتص، ان قلنا
ثم تجب قيمته على الراهن وجب ههنا وهو اختيار أبي الخطاب لأنه فوت بدل الرهن بفعله أشبه ما لو اقتص،
وان قلنا لا يجب على الراهن شئ ثم لم يجب ههنا شئ وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنه اكتساب
مال فلا يجبر عليه، واما ان كانت الجناية موجبة للمال أو ثبت المال بالعفو عن الجناية الموجبة للقصاص فإنه يتعلق به حق الراهن والمرتهن ويكون من غالب نقد البلد كقيم المتلفات فلو أراد الراهن أن
يصالح عنها أو يأخذ حيوانا عنها لم يجز الا بإذن المرتهن فإن أذن فيه جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما
وما قبض من شئ فهو رهن بدلا عن الأول نائبا عنه وقائما مقامه فإن عفا الراهن عن المال فقال القاضي
422

يسقط حق الراهن دون حق المرتهن فتؤخذ القيمة تكون رهنا فإذا زال الرهن رجع الأرش إلى الجاني
كما لو أقر أن الرهن مغصوب أو جان، وان استوفى الدين من الأرش احتمل أن يرجع الجاني على
العافي لأن ماله ذهب في قضاء ديونه فلزمته غرامته كما لو غصبه أو استعاره فرهنه واحتمل أن لا يرجع
عليه لأنه لم يوجد منه في حق الجاني ما يقتضي وجوب الضمان وإنما استوفى بسبب كان منه حال ملكه
فأشبه ما لو جنى انسان على عبده ثم وهبه لغيره فتلف بالجناية السابقة، وقال أبو الخطاب يصح العفو
مطلقا ويؤخذ من الراهن قيمته تكون رهنا لأنه أسقط دينه عن غريمه فصح كسائر ديونه قال ولا يمكن
كونه رهنا مع عدم حق الراهن فيه فلزمته القيمة لتفويته حق المرتهن فأشبه ما لو تلف بدل الرهن،
وقال الشافعي لا يصح العفو أصلا لأن حق المرتهن متعلق به فلم يصح عفو الراهن عنه كالرهن نفسه
وكما لو وهب الرهن أو غصب فعفى عن غاصبه وهذا أصح في النظر، وان قال المرتهن أسقطت حقي
من ذلك سقط لأنه ينفع الراهن ولا يضره، وان قال أسقطت الأرش أو أبرأت منه لم يسقط لأنه ملك
للراهن فلا يسقط باسقاط غيره وهل يسقط حقه؟ فيه وجهان (أحدهما) يسقط وهو قول القاضي لأن ذلك
يتضمن اسقاط حقه، فإذا لم يسقط حق غيره سقط حقه كما لو قال أسقطت حقي وحق الراهن (والثاني)
لا يسقط لأن العفو والابراء منه لا يصح فلم يصح ما تضمنه
(فصل) وإذا أقر رجل بالجناية على الرهن فكذباه فلا شئ لهما، وان كذبه المرتهن وصدقه الراهن
فله الأرش ولا حق للمرتهن فيه، فإن صدقه المرتهن وحده تعلق حقه بالأرش وله قبضه، فإذا قضى
الراهن الحق أو أبرأه المرتهن رجع الأرش إلى الجاني ولا شئ للراهن فيه، وان استوفى حقه من
الأرش لم يملك الجاني مطالبة الراهن بشئ لأنه مقر له باستحقاقه
(فصل) ولو كان الرهن أمة حاملا فضرب بطنها أجنبي فألقت جنينا ميتا ففيه عشر قيمة أمه، وإن
ألقته حيا ثم مات لوقت يعيش مثله ففيه قيمته ولا يجب ضمان نقص الولادة لأنه لا يتميز نقصها عما وجب
ضمانه من ولدها. ويحتمل ان يضمن نقصها بالولادة لأنه حصل بفعله فلزمه ضمانه كما لو غصبها ثم جنى
423

عليها. ويحتمل أن يجب أكثر الامرين من نقصها أو ضمان جنينها لأن سبب ضمانها وجد فإذا لم يجتمع
ضمانها وجب ضمان أكثرهما، وان ضرب بطن بهيمة فألقت ولدها ميتا ففيه ما نقصتها الجناية لا غير وما
وجب من ذلك كله فهو رهن مع الام. وقال الشافعي ما وجب لنقص الام أو لنقص البهيمة فهو رهن معها
وكذلك ما وجب في ولدها وما وجب في جنين الأمة فليس برهن لأن نماء الرهن ليس برهن. ولنا ان هذا
ضمان يجب بسبب الجناية على الرهن فكان من الرهن كالواجب لنقص الولادة وضمان ولد البهيمة، وقولهم
ان نماء الرهن لا يدخل في الرهن غير مسلم
{مسألة} قال (وإذا اشترى منه سلعة على أن يرهنه بها شيئا من ماله يعرفانه أو على
أن يعطيه بالثمن حميلا يعرفانه فالبيع جائز، فإن أبى تسليم الرهن أو أبى الحميل أن يتحمل
فالبائع مخير في فسخ البيع وفي اقامته بلا رهن ولا حميل)
الحميل الضمين وهو فعيل بمعنى فاعل يقال ضمين وحميل وقبيل وكفيل وزعيم وصبير بمعنى واحد
وجملة ذلك أن البيع بشرط الرهن أو الضمين صحيح والشرط صحيح أيضا لأنه من مصلحة العقد
غير مناف لمقتضاه ولا نعلم في صحته خلافا إذا كان معلوما ولذلك قال الخرقي يعرفانه في الرهن والضمين
معا. ومعرفة الرهن تحصل بأحد شيئين المشاهدة أو الصفة التي يعلم بها الموصوف كما في السلم ويتعين
بالقبض، وأما الضمين فيعلم بالإشارة إليه أو تعريفه بالاسم والنسب ولا يصح بالصفة بأن يقول رجل
غني من غير تعيين لأن الصفة لا تأتي عليه، ولو قال بشرط رهن أو ضمين كان فاسدا لأن ذلك
يختلف وليس له عرف ينصرف إليه باطلاق، ولو قال بشرط رهن أحد هذين العبدين أو يضمنني
أحد هذين الرجلين لم يصح لأن الغرض يختلف فلم يصح مع عدم التعيين كالبيع وهذا مذهب
الشافعي، وحكي عن مالك وأبي ثور أنه يصح شرط الرهن المجهول ويلزمه أن يدفع إليه رهنا بقدر
الدين لأنه وثيقة فجاز شرطها مطلقا كالشهادة، وقال أبو حنيفة إذا قال على أن أرهنك أحد هذين
العبدين جاز لأن بيعه جائز عنده
424

ولنا انه شرط رهنا مجهولا فلم يصح كما لو شرط رهن ما في كمه ولأنه عقد يختلف فيه المعقود عليه
فلم يصح مع الجهل كالبيع، وفارق الشهادة فإن لها عرفا في الشرع حملت عليه، والكلام مع أبي حنيفة
قد مضى في البيع فإن الخلاف فيهما واحد، إذا ثبت هذا فإن المشتري ان وفى بالشرط فسلم
الرهن أو حمل عنه الحميل لزم البيع وان أبى تسليم الرهن أو أبى الحميل أن يتحمل عنه فللبائع الخيار
بين فسخ البيع وبين امضائه والرضا به بلا رهن ولا حميل فإن رضي به لزمه البيع وهذا قول الشافعي
وأصحاب الرأي ولا يلزم المشتري تسليم الرهن، وقال مالك وأبو ثور يلزم الرهن إذا كان مشروطا
في عقد البيع ويجبر عليه المشتري وان وجده الحاكم دفعه إلى البائع لأن عقد البيع وقع عليه فأشبه
الخيار، وقال القاضي ما عدا المكيل والموزون يلزم فيه الرهن بمجرد العقد، وقد مضى الكلام معهم
في أول الباب ولأنه رهن فلم يلزم قبل القبض كما لو لم يكن مشروطا في البيع أو كغير المكيل والموزون
وإنما لزم الخيار والأجل بالشرط لأنه من توابع البيع لا ينفرد بنفسه، والرهن عقد منفرد بنفسه ليس
من التوابع ولان الخيار والأجل يثبت بالقول ولا يفتقر إلى تسليم فاكتفي في ثبوته بمجرد القول بخلاف
الرهن فاما الضمين فلا خلاف في أنه لا يلزمه الضمان إذ لا يلزمه شغل ذمته وأداء دين غيره باشتراط
غيره. ولو وعده بأنه يضمن ثم لم يفعل لم يلزم في الحكم كما لو وعده أنه يبيعه ثم أبى ذلك، ومتى
لم يف المشتري للبائع بشرطه كان له الفسخ كما لو شرط صفة في الثمن فلم يف بها ولأنه أحد المتعاقدين
فإذا لم يف بما شرط في العقد ثبت الخيار لصاحبه كالبائع إذا شرط المبيع على صفة فبان بخلافها
(فصل) ولو شرط رهنا أو ضمينا معينا فجاء بغيرهما لم يلزم البائع قبوله وإن كان ما أتى به خيرا
425

من المشروط مثل أن يأتي بأكثر قيمة من المشروط وحميل أوثق من المعين لأنه عقد على معين فلم يلزمه قبول
غيره كالبيع. ولان الغرض يختلف بالأعيان فمنها ما يسهل بيعه والاستيفاء من ثمنه ومنها ما هو أقل مؤنة
وأسهل حفظا وبعض الذمم أملا من بعض وأسهل ايفاء فلا يلزمه قبول غير ما عينه كسائر العقود
(فصل) وان تعيب الرهن أو استحال العصير خمرا قبل قبضه فللبائع الخيار بين قبضه معيبا
ورضاه بلا رهن فيما إذا تخمر العصير وبين فسخ البيع ورد الرهن، وإن علم بالعيب بعد قبضه
فكذلك وليس له مع امساكه أرش من أجل العيب لأن الرهن إنما لزم فيما حصل قبضه وهو الموجود
والجزء الفائت لم يلزم تسليمه فلم يلزم الأرش بدلا عنه بخلاف المبيع، وان تلف أو تعيب بعد القبض
فلا خيار للبائع. وإن اختلف في زمن حدوث العيب وهو مما لا يحتمل الا قول أحدهما فالقول قوله من
غير يمين لأن اليمين إنما تراد لدفع الاحتمال وهذا لا يحتمل، وان احتمل قوليهما معا انبنى على اختلاف
المتبايعين في حدوث العيب في المبيع وفيه روايتان فيكون فيه ههنا وجهان (أحدهما) القول قول
الراهن وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن الأصل صحة العقد ولزومه (والآخر) القول قول المرتهن
وهو قياس قول الخرقي لقوله مثل ذلك في البيع لأنهما اختلفا في قبض المرتهن للجزء الفائت فكان
القول قوله كما لو اختلفا في قبض جزء منفصل منه، وإن اختلفا في زمن التلف فقال الراهن بعد القبض
وقال المرتهن قبله فالقول قوله لأنه منكر للقبض، وإن كان الرهن عصيرا فاستحال خمرا واختلفا في
زمن استحالته فالقول قول الراهن نص عليه أحمد، وقال القاضي يخرج فيه رواية أخرى أن القول
426

قول المرتهن كالاختلاف في البيع وهو قول أبي حنيفة لأن الأصل عدم القبض كما لو اختلفا في زمن
التلف. ولنا أنهما اتفقا على العقد والقبض واختلفا فيما يفسد به فكان القول قول من ينفيه كما لو
اختلفا في شرط فاسد، ويفارق اختلافهما في حدوث العيب من وجهين (أحدهما) أنهما اتفقا على
القبض ههنا وثم اختلفا في قبض الجزء الفائت (الثاني) أنهما اختلفا هنا فيما يفسد العقد والعيب بخلافه
(فصل) ولو وجد بالرهن عيبا بعد أن حدث عنده عيب آخر فله رده وفسخ البيع لأن العيب
الحادث في ملك الراهن لا يلزم المرتهن ضمانه بخلاف المبيع. وخرجه القاضي على روايتين بناء على
البيع فعلى قوله لا يملك الرد لا يملك الفسخ والصحيح ما ذكرناه، وان هلك الرهن في يد المرتهن ثم
علم أنه كان معيبا لم يملك فسخ البيع لأنه تعذر عليه رده. فإن قيل فالرهن غير مضمون ولهذا لا يمتنع
رده بحدوث العيب فيه. قلنا إنما تضمن قيمته لأن العقد لم يقع ملكه وإنما وقع على الوثيقة فهو
مضمون بالوثيقة. أما إذا تعيب فقد رده فيستحق بدل ما رده وههنا لم يرد شيئا فلو أوجبنا له بدله
لأوجبنا على الراهن غير ما شرط على نفسه
(فصل) ولو لم يشترطا رهنا في البيع فتطوع المشتري برهن وقبضه البائع كان حكمه حكم الرهن
المشروط في البيع ولا ينفك شئ منه حتى يقضي جميع الدين ولا يملك الراهن انتزاعه ولا التصرف
فيه الا بإذن المرتهن إلا أنه إذا رده بعيب أو غيره لم يملك فسخ البيع
(فصل) وإذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنا على ثمنه لم يصح قاله ابن حامد وهو قول
الشافعي لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكا له وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه أو شرط رهنه
قبل قبضه، وروي عن أحمد أنه قال إذا حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهنا الا أن يكون
427

شرطا عليه في نفس البيع وهذا يدل على صحة الشرط لأنه يجوز بيعه فجاز رهنه، وقال القاضي معنى
هذه الرواية انه شرط عليه في نفس البيع رهنا غير المبيع فيكون حبس المبيع حتى يقبض الرهن
وان لم يف به فسخ البيع، فأما شرط رهن المبيع بعينه على ثمنه فلا يصح لوجوه. منها انه غير
مملوك له. ومنها ان البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع والرهن يقتضي الوفاء منه، ومنها ان البيع
يقتضي تسليم المبيع أولا ورهن المبيع يقتضي ان لا يسلمه حتى يقبض الثمن، ومنها ان البيع يقتضي
أن يكون امساك المبيع مضمونا والرهن يقتضي ان لا يكون مضمونا وهذا يوجب تناقص أحكامهما،
وظاهر الرواية صحة رهنه. وقولهم انه غير مملوك قلنا إنما شرط رهنه بعد هلكه. وقولهم البيع يقتضي
ايفاء الثمن من غير المبيع غير صحيح إنما يقتضي وفاء الثمن مطلقا، ولو تعذر وفاء الثمن من غير المبيع
لاستوفي من ثمنه. وقولهم البيع يقتضي تسليم المبيع قبيل تسليم الثمن ممنوع وإن سلم فلا يمتنع أن يثبت
بالشرط خلافه كما أن مقتضى البيع حلول الثمن ووجوب تسليمه في الحال ولو شرط التأجيل جاز وكذلك
مقتضى البيع ثبوت الملك في المبيع والتمكين من التصرف فيه وينتفي بشرط الخيار وهذا هو الجواب
عن الوجه الثالث والرابع. فأما ان لم يشترط ذلك في البيع لكنه رهنه عنده بعد البيع فإن كان بعد
لزوم البيع فالأولى صحته لأنه يصح رهنه عند غيره فصح عنده كغيره ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه
فصح رهنه على ثمنه، وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز التصرف في المبيع ففي كل موضع جاز
التصرف فيه جاز رهنه وما لا فلا لأنه نوع تصرف فأشبه بيعه
(فصل) وإذا شرط في البيع رهنا فاسدا كالمحرم والمجهول والمعدوم ومالا يقدر على تسليمه أو
غير المعين أو شرط رهن المبيع على ثمنه ففي فساد البيع روايتان مضى توجيههما في الشروط الفاسدة في
البيع واختار أبو الخطاب ههنا فساد البيع. وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقد مضى ذكر ذلك
(فصل) والشروط في الرهن تنقسم قسمين صحيحا وفاسدا فالصحيح مثل أن يشترط كونه
على يد عدل عينه أو عدلين أو أكثر أو أن يبيعه العدل عند حلول الحق ولا نعلم في صحة هذا خلافا
وان شرط أن يبيعه المرتهن صح وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي لا يصح لأنه توكيل فيما يتنافى
فيه الغرضان فلم يصح كما لو وكله في بيعه من نفسه، ووجه التنافي أن الراهن يريد الصبر على المبيع
والاحتياط في توفير الثمن والمرتهن يريد تعجيل الحق وانجاز البيع
ولنا ان ما جاز توكيل غير المرتهن فيه جاز توكيل المرتهن فيه كبيع عين أخرى ولان من جاز
428

أن يشترط له الامساك جاز اشتراط البيع له كالعدل ولا يضر اختلاف الغرضين إذا كان غرض
المرتهن مستحقا له وهو استيفاء الثمن عند حلول الحق وانجاز البيع، وعلى أن الراهن إذا وكله مع العلم
بغرضه فقد سمح له بذلك والحق له فلا يمنع من السماحة به كما لو وكل فاسقا في بيع ماله وقبض ثمنه ولا
نسلم أنه لا يجوز توكيله في بيع شي من نفسه وان سلمنا فلان الشخص الواحد يكون بائعا مشتريا
وموجبا قابلا وقابضا من نفسه لنفسه بخلاف مسئلتنا
(فصل) وإذا رهنه أمة فشرطا كونها عند امرأة أو ذي محرم لها أو كونها في يد المرتهن أو
أجنبي على وجه لا يفضي إلى الخلوة بها مثل أن يكون لهما زوجات أو سراري أو نساء من محارمهما
معهما في دارهما جاز لأنه لا يفضي إلى محرم وان لم يكن كذلك فسد الشرط لأنه يفضي إلى الخولة المحرمة
ولا يؤمن عليها ولا يفسد الرهن لأنه لا يعود إلى نقص ولا ضرر في حق المتعاقدين ويكون الحكم
فيه كما لو رهنها من غير شرط يصح الرهن ويجعلها الحاكم على يد من يجوز أن تكون عنده وإن كان
الرهن عبدا فشرط موضعه جاز وان لم يشترط موضعه صح أيضا كالأمة، ويحتمل ان لا يصح لأن للأمة
عرفا بخلاف العبد والأول أصح فإن الأمة إذا كان المرتهن ممن يجوز وضعها عنده كالعبد وإذا كان
مرتهن العبد امرأة لا زوج لها فشرطت كونه عندها على وجه يفضي إلى خلوته بها لم يجز أيضا فاستويا.
(فصل) والقسم الثاني الشروط الفاسدة مثل ان يشترط ما ينافي مقتضى الرهن نحو ان يشترط
ان لا يباع الرهن عند حلول الحق أو لا يستوفى الدين من ثمنه أو لا يباع ما خيف تلفه أو بيع الرهن
بأي ثمن كان أو ان لا يبيعه الا بما يرضيه فهذه شروط فاسدة لمنافاتها مقتضى العقد فإن المقصود مع
الوفاء بهذه الشروط مفقود وكذلك أن شرطا الخيار للراهن أو ان لا يكون العقد لازما في حقه أو
توقيت الرهن أو أن يكون رهنا يوما ويوما لا أو كون الرهن في يد الراهن أو أن ينتفع به أو ينتفع
به المرتهن أو كونه مضمونا على المرتهن أو العدل، فهذه كلها فاسدة لأن منها ما ينافي مقتضى العقد ومنها
مالا يقتضيه العقد ولا هو من مصلحته، وان شرطا شيئا منها في عقد الرهن فقال القاضي يحتمل أن
يفسد الرهن بها بكل حال لأن العاقد إنما بذل ملكه بهذا الشرط فإذا لم يسلم له لم يصح العقد لعدم الرضى
به بدونه وقيل إن شرط الرهن مؤقتا أو رهنه يوما ويوما لا فسد الرهن وهل يفسد بسائرها؟ على وجهين
بناء على الشروط الفاسدة في البيع، ونصر أبو الخطاب في رؤوس المسائل صحته وبه قال أبو حنيفة لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن " وهو مشروط فيه شرط فاسد ولم يحكم بفساده، وقيل ما ينقص حق
المرتهن يبطله وجها واحدا وما لا فعلى وجهين وهذا مذهب الشافعي لأن المرتهن شرطت له زيادة
لم تصح له فإذا فسدت الزيادة لم يبطل أصل الرهن
429

(فصل) وان شرط انه متى حل الحق ولم يوفني فالرهن لي بالدين أو فهو مبيع لي بالدين الذي
عليك فهو شرط فاسد روي ذلك عن ابن عمر وشريح والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم. والأصل في ذلك ما روى معاوية بن عبد الله بن جعفر قال. قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " رواه الأثرم. قال الأثرم قلت لأحمد ما معنى قوله " لا يغلق الرهن "؟
قال لا يدفع رهنا إلى رجل ويقول إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك قال ابن المنذر
هذا معنى قوله " لا يغلق الرهن " عند مالك والثوري وأحمد، وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر
ان رجلا رهن دارا بالمدينة إلى أجل مسمى فمضى الاجل فقال الذي ارتهن منزلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم "
لا يغلق الرهن " ولأنه علق البيع على شرط فإنه جعله مبيعا بشرط أن لا يوفيه الحق في محله والبيع
المعلق بشرط لا يصح وإذا شرط هذا الشرط فسد الرهن. ويتخرج أن لا يفسد لما ذكرنا في سائر
الشروط الفاسدة وهذا ظاهر قول أبي الخطاب في رؤوس المسائل واحتج بقوله النبي صلى الله عليه وسلم " لا يغلق
الرهن " فنفى غلقه دون أصله فيدل على صحته ولان الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط فمع بطلانه
أولى أن يرضى به. ولنا أنه رهن بشرط فاسد فكان فاسدا كما لو شرط توفيته وليس في الخبر أنه
شرط ذلك في ابتداء العقد فلا يكون فيه حجة
(فصل) ولو قال الغريم رهنتك عبدي هذا على أن تزيدني في الاجل كان باطلا لأن الاجل لا يثبت
في الدين الا أن يكون مشروطا في عقد وجب به فإذا لم يثبت الاجل لم يصح الرهن لأنه جعله في
مقابلته ولان ذلك يضاهى ربا الجاهلية كانوا يزيدون في الدين ليزدادوا في الاجل
(فصل) إذا كان له على رجل الف فقال أقرضني ألفا بشرط أن أرهنك عبدي هذا بالألفين
فنقل حنبل عن أحمد ان القرض باطل وهو مذهب الشافعي لأنه قرض يجر منفعة وهو الاستيثاق بالألف
الأول وإذا بطل القرض بطل الرهن. فإذا قيل أليس لو شرط أنه يعطيه رهنا بما يقترضه جاز؟ قلنا
ليس هذا قرضا جر منفعة لأن غاية ما حصل له تأكيد الاستيفاء لبدل ما أقرضه وهو مثله والقرض
يقتضي وجوب الوفاء وفي مسئلتنا شرط في هذا القرض الاستيثاق لدينه الأول فقد شرط استيثاقا
لغير موجب القرض. ونقل مهنا ان القرض صحيح، ولعل أحمد حكم بصحة القرض مع فساد الشرط
كيلا يفضي إلى جر المنفعة بالقرض أو حكم بفساد الرهن في الألف الأول وحده وصححه فيما عداه
ولو كان مكان القرض بيع فقال بعني عبدك هذا بألف على أن أرهنك عبدي به وبالألف الآخر
الذي علي فالبيع باطل رواية واحدة لأن الثمن مجهول فإنه جعل الثمن ألفا ومنفعة هي وثيقة بالألف
430

الأول وتلك المنفعة مجهولة، ولأنه شرط عقد الرهن بالألف الأول فلم يصح كما لو أفرده أو كما لو
باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره
(فصل) وإذا فسد الرهن وقبضه المرتهن لم يكن عليه ضمانه لأنه قبضه بحكم انه رهن وكل عقد
كان صحيحه غير مضمون أو مضمونا ففاسده كذلك فإن كان مؤقتا أو شرط أنه يصير للمرتهن بعد
انقضاء مدته صار بعد ذلك مضمونا لأنه مقبوض بحكم بيع فاسد وحكم الفاسد من العقود حكم
الصحيح في الضمان. فإن كان أرضا فغرسها قبل انقضاء الأجل فهو كغرس الغاصب لأنه غرس بغير اذن،
وإن غرس بعد الاجل وكان قد شرط ان الرهن يصير له فقد غرس باذن لأن البيع وإن كان فاسدا
فقد تضمن الاذن في التصرف فيكون الراهن مخيرا بين ثلاثة أشياء بين أن يقر غرسه له وبين أخذه
بقيمته وبين أن يجبره على قلعه ويضمن له ما نقص
{مسألة} قال (ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشئ الا ما كان مركوبا أو محلوبا
فيركب ويحلب بقدر العلف)
الكلام في هذه المسألة في حالين (أحدهما) مالا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز
للمرتهن الانتفاع به بغير اذن الراهن بحال.
لا نعلم في هذا خلافا لأن الرهن ملك الراهن فكذلك
نماؤه ومنافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه، فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان
دين الرهن من قرض لم يجز لأنه يحصل قرضا يجر منفعة وذلك حرام. قال أحمد أكره قرض
الدور وهو الربا المحض يعني إذا كانت الدار رهنا في قرض ينتفع بها المرتهن وإن كان الرهن
بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك روي ذلك عن
الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق. فاما إن كان الانتفاع بعوض مثل أن استأجر المرتهن الدار من
الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة وإن
حاباه في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض ويجوز في غيره. ومتى استأجرها
المرتهن أو استعارها فظاهر كلام احمد انها تخرج عن كونها رهنا فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد
الرهن بحاله. قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب عن أحمد إذا كان الرهن دارا فقال المرتهن
اسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي ينتقل فيصير دينا ويتحول عن الرهن وكذلك إن أكراها للراهن
قال أحمد في رواية ابن منصور إذا ارتهن دارا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت
431

إليه صارت رهنا، والأولى أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها لأن القبض
مستدام ولا تنافي بين العقدين وكلام احمد في رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في
سكناها كما في رواية ابن منصور لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا
سكنها المرتهن ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونا عليه وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة لا ضمان
عليه، ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة وعنده غير مضمونة
(فصل) فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى الرهن. وعن
أحمد أنه يجوز في المبيع قال القاضي معناه أن يقول بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك
يخدمني شهرا فيكون بيعا وإجارة فهو صحيح، وان أطلق فالشرط باطل لجهالة ثمنه، وقال مالك لا بأس
أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين وكرهه في الحيوان والثياب وكرهه في
القرض. ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرطه في القرض
(فصل) الحال الثاني ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به بعوض أو بغير عوض
باذن الراهن كالقسم الذي قبله، وان اذن له في الانفاق والانتفاع بقدره جاز لأنه نوع معاوضة. واما مع
عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين محلوبا ومركوبا وغيرهما. فاما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن
ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريا للعدل في ذلك نص عليه احمد في رواية محمد بن الحكم وأحمد ابن
القاسم واختاره الخرقي وهو قول إسحاق، وسواء أنفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبته أو امتناعه
من الانفاق أو مع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه، وعن أحمد رواية أخرى لا يحتسب
له بما أنفق وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشئ وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ولا
الانفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن
ولنا ما روى البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
432

صلى الله عليه وسلم " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا " وعلى الذي
يركب ويشرب النفقة فجعل منفعته بنفقته وهذا محل النزاع، فإن قيل المراد به أن الراهن ينفق وينتفع
قلنا لا يصح لوجهين (أحدهما) أنه قد روي في بعض الألفاظ إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن
علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب ويركب نفقته فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع (والثاني)
أن قوله بنفقته يشير إلى أن الانتفاع عوض النفقة وإنما ذلك حق المرتهن أما الراهن فانفاقه وانتفاعه
لا بطريق المعاوضة لأحدهما بالآخر ولان نفقة الحيوان واجبة وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء
حقه من نماء الرهن والنيابة عن المالك فيما وجب عليه واستيفاء ذلك من منافعه فجاز ذلك كما يجوز
للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة عنه في الانفاق عليها والحديث نقول
به والنماء للراهن ولكن للمرتهن ولاية صرفها إلى نفقته لثبوت يده عليه وولايته وهذا فيمن أنفق
محتسبا بالرجوع فاما ان أنفق متبرعا بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة
(فصل) وأما غير المحلوب والمركوب فيتنوع نوعين حيوان وغيره، فامر الحيوان كالعبد والأمة
ونحوهما فهل للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته؟ ظاهر المذهب أنه لا يجوز ذكره الخرقي
ونص عليه أحمد في رواية الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه
فقال الرهن لا ينتفع منه بشئ الا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف. قلت له
فإن كان اللبن والركوب أكثر قال لا إلا بقدر. ونقل حنبل عن أحمد ان له استخدام العبد أيضا
وبه قال أبو ثور إذا امتنع المالك من الانفاق عليه. قال أبو بكر خالف حنبل الجماعة والعمل على أنه
لا ينتفع من الرهن بشئ إلا ما خصه الشرع به فإن القياس يقتضي ان لا ينتفع بشي منه تركناه في
المركوب والمحلوب للأثر ففيما عداه يبقى على مقتضى القياس
433

(النوع الثاني) غير الحيوان كدار استهدمت فعمرها المرتهن لم يرجع بشئ رواية واحدة. وليس
له الانتفاع بها بقدر نفقته فإن عمارتها غير واجبة على الراهن فليس لغيره ان ينوب عنه فيما لا يلزمه
فإن فعل كان متبرعا بخلاف الحيوان فإنه يجب على مالكه الانفاق عليه لحرمته في نفسه
(فصل) فأما الحيوان إذا أنفق عليه متبرعا لم يرجع بشئ لأنه تصدق به فلم يرجع بعوضه كما لو
تصدق على مسكين. وان نوى الرجوع على مالكه وكان ذلك بإذن المالك رجع عليه لأنه ناب عنه
في الانفاق باذنه فكانت النفقة على المالك كما لو وكله في ذلك. وإن كان بغير إذنه فهل يرجع عليه؟
يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير اذنه لأنه ناب عنه فيما يلزمه، وقال أبو الخطاب
ان قدر على استئذانه فلم يستأذنه فهو متبرع لا يرجع بشئ، وان عجز عن استئذانه فعلى روايتين وكذلك
الحكم فيما إذا مات العبد المرهون فكفنه. والأول أقيس في المذهب إذ لا يعتبر في قضاء الدين
العجز عن استئذان الغريم
(فصل) وإذا انتفع المرتهن بالرهن باستخدام أو ركوب أو لبس أو استرضاع أو استغلال أو
سكنى أو غيره حسب من دينه بقدر ذلك. قال أحمد: يوضع عن الراهن بقدر ذلك لأن المنافع
ملك الراهن فإذا استوفاها فعليه قيمتها في ذمته للراهن فيتقاص القيمة وقدرها من الدين ويتساقطان
{مسألة} قال (وغلة الدار وخدمة العبد وحمل الشاة وغيرها وثمرة الشجرة
المرهونة من الرهن)
أراد بغلة الدار أجرها وكذلك خدمة العبد. وجملة ذلك أن نماء الرهن جميعه وغلاته تكون رهنا
في يد من الرهن في يده كالأصل وإذا احتيج إلى بيعه في وفاء الدين بيع مع الأصل سواء في ذلك
434

المتصل كالسمن والتعليم المنفصل كالكسب والأجرة والولد والثمرة واللبن والصوف والشعر وبنحو
هذا قال النخعي والشعبي. وقال الثوري وأصحاب الرأي في النماء يتبع. وفي الكسب لا يتبع لأن
الكسب في حكم الكتابة والاستيلاد التدبير فلا يتبع في الرهن كاعيان مال الراهن، وقال مالك يتبع
الولد في الرهن خاصة دون سائر النماء لأن الولد يتبع الأصل في الحقوق الثابتة كولد أم الولد، وقال
الشافعي وأبو ثور وابن المنذر لا يدخل في الرهن شئ من النماء المنفصل ولا من الكسب لأنه حق
تعلق بالأصل يستوفى من ثمنه فلا يسري إلى غيره كحق الجناية، قال الشافعي ولو رهنه ماشية مخاضا
فنتجت فالنتاج خارج من الرهن وخالفه أبو ثور وابن المنذر ومن حجتهم أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم
" الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " والنماء غنم فيكون للراهن ولأنها عين من أعيان ملك الراهن
لم يعقد عليها عقد رهن فلم تكن رهنا كسائر ماله، ولنا أنه حكم يثبت في العين بعقد المالك فيدخل فيه
النماء والمنافع كالملك بالبيع وغيره ولان النماء نماء حادث من عين الرهن فيدخل فيه كالمتصل ولأنه
حق مستقر في الام ثبت برضى المالك فيسري إلى الولد كالتدبير والاستيلاد.
ولنا على مالك أنه نماء حادث من عين الرهن فسرى إليه حكم الرهن كالولد وعلى أبي حنيفة
أنه عقد يستتبع النماء فاستتبع الكسب كالشراء. فأما الحديث فنقول به وان غنمه ونماءه وكسبه للراهن
لكن يتعلق به حق الرهن كالأصل فإنه للراهن والحق متعلق به. والفرق بينه وبين سائر مال الراهن
أنه تبع فثبت له حكم أصله. وأما حق الجناية فإنه ثبت بغير رضى المالك فلم يتعد ما ثبت فيه ولأنه
جزاء عدوان فاختص الجاني كالقصاص ولان السراية في الرهن لا تفضي إلى استيفاء أكثر من
دينه فلا يكثر الضرر فيه. (فصل) وإذا ارتهن أرضا أو دارا أو غيرهما تبعه في الرهن ما يتبع في البيع فإن كان في الأرض
435

شجر فقال رهنتك هذه الأرض بحقوقها أو ذكر ما يدل على أن الشجر في الرهن دخل فيه. وان لم
يذكر ذلك فهل يدخل الشجر في الرهن؟ على وجهين بناء على دخوله في البيع. وان رهنه شجرا مثمرا
وفيه ثمرة ظاهرة لم تدخل في الرهن كما لا تدخل في البيع وان لم تكن ظاهرة دخلت، وقال الشافعي
لا تدخل الثمرة في الرهن بحال، وقال أبو حنيفة تدخل بكل حال لأن الرهن عنده لا يصح على الأصول
دون الثمرة وقد قصد إلى عقد صحيح فتدخل الثمرة ضرورة الصحة
ولنا أن الثمرة المؤبرة لا تدخل في البيع مع قوته وازالته لملك البائع فالرهن مع ضعفه أولى. وعلى
الشافعي أنه عقد على الشجرة فاستتبع الثمرة غير المؤبرة كالبيع. ويدخل في الرهن الصوف واللبن
الموجودان كما يدخل في البيع وكذلك الحمل وسائر ما بيع في البيع لأنه عقد وارد على العين فدخلت
فيه هذه التوابع كالبيع. ولو كان الرهن دارا فخربت كانت أنقاضها رهنا لأنها من أجزائها وقد كانت
مرهونة قبل خرابها. ولو رهنه أرضا فنبت فيها شجر فهو من الرهن سواء نبت بفعل الراهن أو
بفعل غيره لأنه من نمائها
(فصل) وليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدام ولا وطئ ولا سكنى ولا غير ذلك ولا
يملك التصرف فيه بإجارة ولا إعارة ولا غيرهما بغير رضى المرتهن وبهذا قال الثوري وأصحاب
الرأي، وقال مالك وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر للراهن إجارته وإعارته مدة لا يتأخر انقضاؤها
عن حلول الدين وهل له أن يسكن ينفسه؟ على اختلاف بينهم فيه، وإن كان الرهن عبدا فله استيفاء
منافعه بغيره وهل له ذلك بنفسه؟ على الخلاف، وليس له إجارة الثوب ولا ما ينقص بالانتفاع وبنوه
على أن المنافع للراهن لا تدخل في الرهن ولا يتعلق بها حقه وقد سبق الكلام في هذا. ولأنها عين
محبوسة فلم يكن للمالك الانتفاع بها كالمبيع المحبوس عند البائع على استيفاء ثمنه. أو نقول نوع انتفع
436

فلا يملكه الراهن كالذي ينقص قيمة الرهن إذا ثبت هذا فإن المتراهنين إذا لم يتفقا على الانتفاع
بها لم يجز الانتفاع بها وكانت منافعها معطلة. فإن كانت دارا أغلقت وإن كان عبدا أو غيره تعطلت
منافعه حتى يفك الرهن، وان اتفقا على إجارة الرهن أو إعارته جاز ذلك هذا ظاهر كلام الخرقي
لأنه جعل غلة الدار وخدمة العبد رهنا، ولو عطلت منافعهما لم يكن لهما غلة، وقال ابن أبي موسى
إن أذن الراهن للمرتهن في إعارته أو إجارته جاز والأجرة رهن، وان أجره الراهن بإذن المرتهن
خرج من الرهن في أحد الوجهين والآخر لا يخرج كما لو أجره المرتهن، وقال أبو الخطاب في المشاع
يؤجره الحاكم لهما، وذكر أبو بكر في الخلاف أن منافع الرهن تعطل مطلقا ولا يؤجراه وهذا قول
الثوري وأصاب الرأي. وقالوا إذا أجر الراهن الرهن بإذن المرتهن كان إخراجا من الرهن لأن
الرهن يقتضي حبسه عند المرتهن أو نائبه على الدوام فمتى وجد عقد يستحق به زوال الحبس زال الرهن
ولنا ان مقصود الرهن الاستيثاق بالدين واستيفاؤه من ثمنه عند تعذر استيفائه من ذمة الراهن
وهذا لا ينافي الانتفاع به ولا إجارته ولا إعارته فجاز اجتماعهما كانتفاع المرتهن به ولان تعطيل منفعته
تضييع للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولأنه عين تعلق بها حق الوثيقة فلم يمنع إجارتها
كالعبد إذا ضمن باذن سيده ولا نسلم أن مقتضى الرهن الحبس وإنما مقتضاه تعلق الحق به على وجه
تحصل به الوثيقة وذلك غير مناف للانتفاع به. ولو سلمنا أن مقتضاه الحبس فلا يمنع أن يكون المستأجر
نائبا عنه في إمساكه وتحبسه ومستوفيا لمنفعته لنفسه
(فصل) ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه ومداواته ان احتاج إليها فإذا
كان الرهن ماشية فاحتاجت إلى إطراق الفحل فللراهن ذلك لأن فيه مصلحة للرهن وزيادته
وذلك زيادة في حق المرتهن من غير ضرر، وان كانت فحولا لم يكن للراهن إطراقها بغير رضى
437

المرتهن لأنه انتفاع لا مصلحة للرهن فيه فهو كالاستخدام الا أن يصير إلى حال يتضرر بترك
الاطراق فيجوز لأنه كالمداواة له
{مسألة} قال (ومؤنة الرهن على الراهن فإن كان عبدا فمات فعليه كفنه، وإن كان
مما يخزن فعليه كراء مخزنه)
وجملته أن مؤنة الرهن من طعامه وكسوته ومسكنه وحافظه وحرزه ومخزنه وغير ذلك على الراهن
وبهذا قال مالك والشافعي والعنبري وإسحاق، وقال أبو حنيفة أجرة المسكن والحافظ على المرتهن
لأنه من مؤنة إمساكه وارتهانه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " ولأنه نوع إنفاق فكان على
الراهن كالطعام ولان الرهن ملك للراهن فكان عليه مسكنه وحافظه كغير الرهن، وان أبق العبد
فأجرة من يرده على الراهن، وقال أبو حنيفة يكون بقدر الأمانة على الراهن وبقدر الضمان على المرتهن
وان احتيج إلى مداواته لمرض أو جرح فذلك على الراهن. وعند أبي حنيفة هو كأجر من يرده
من إباقه وبنى ذلك على أصله في أن يد المرتهن يد ضمان بقدر دينه فيه وما زاد فهو أمانة عنده
والكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وان مات العبد كانت مؤنته كتجهيزه وتكفينه ودفنه عليه
كسائر العبيد والإماء والأقارب من الأحرار
(فصل) وإن كان الرهن ثمرة فاحتاجت إلى سقي وتسوية وجذاذ فذلك على الراهن، وإن
احتاجت إلى تجفيف والحق مؤجل فعليه التجفيف لأنه يحتاج إلى أن يستبقيها رهنا حتى يحل الحق
وإن كان حالا بيعت ولم يحتج إلى تجفيفها، وإن اتفقا على بيعها وجعل ثمنها رهنا بالحق المؤجل جاز
وإن اختلفا في ذلك قدم قول من يستبقيها بعينها لأن العقد يقتضي ذلك. إلا أن يكون مما تقل قيمته
بالتجفيف وقد جرت العادة ببيعه رطبا فإنه يباع ويجعل ثمنه مكانه. وان اتفقا على قطع الثمرة في وقت
438

فلهما ذلك سواء كان الحق حالا أو مؤجلا وسواء كان الأصلح القطع أو الترك لأن الحق لا يخرج
عنهما، وإن اختلفا قدمنا قول من طلب الأصلح إن كان ذلك قبل حلول الحق. وإن كان الحق حالا
قدم قول من طلب القطع لأنه إن كان المترهن فهو طالب لاستيفاء حقه الحال فلزم إجابته، وإن كان
الراهن فهو يطلب تبرئة ذمته وتخليص عين ملكه من الرهن والقطع أحوط من جهة أن في تبقيته
غررا ذكر القاضي هذا في المفلس وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وهذا في معناه ويحتمل أن ينظر
في الثمرة فإن كانت تنقص بالقطع نقصا كثيرا لم يجبر الممتنع من قطعها عليه لأن ذلك إتلاف فلا يجبر
عليه كما لا يجبر على نقض داره ليبيع أنقاضها ولا على ذبح فرسه ليبيع لحمها، وان كانت الثمرة مما لا ينتفع
بها قبل كمالها لم يجز قطعها قبله ولم يجبر عليه بحال
(فصل) وإن كان الرهن ماشية تحتاج إلى اطراق الفحل لم يجبر الراهن عليه لأنه ليس عليه
ما يتضمن زيادة في الرهن وليس ذلك مما يحتاج إليه لبقائها ولا يمنع من ذلك لكونها زيادة لهما لا ضرر
على المرتهن فيه، وان احتاجت إلى رعي فعلى الراهن أن يقيم لها راعيا لأن ذلك يجرى مجرى علفها
وان أراد الراهن السفر بها ليرعاها في مكان آخر وكان لها في مكانها مرعى تتماسك به فللمرتهن
منعه من ذلك لأن في السفر بها اخراجها عن نظره ويده، وان أجدب مكانها فلم يجد ما تتماسك به فللراهن
السفر بها لأنه موضع ضرورة لأنها موضع ضرورة لأنها تهلك إذا لم يسافر بها الا أنها تكون في يد عدل يرضيان به أو ينصبه الحاكم
ولا ينفرد الراهن بها فإن امتنع الراهن من السفر بها فللمرتهن نقلها لأن في بقائها هلاكها وضياع حقه من الرهن.
فأن أرادا جميعا السفر بها واختلفا في مكانها قدمنا قول من يعين الأصلح فإن استويا قدمنا قول المرتهن،
وقال الشافعي يقدم قول الراهن وإن كان الأصلح غيره لأنه أملك بها إلا أنه يكون مأواها إلى يد عدل
439

ولنا أن اليد للمرتهن فكان أولى كما لو كانا في بلد واحد وأيهما أراد نقلها عن البلد مع خصبه
لم يكن له سواء أراد نقلها إلى مثله أو أخصب منه إذ لا معني للمسافرة بالرهن مع امكان ترك السفر به
وان اتفقا على نقلها جاز أيضا سواء كان أنفع لها أولا لأن الحق لهما لا يخرج عنهما
(فصل) وإن كان عبدا يحتاج إلى ختان والدين حال أو أجله قبل برئه منع منه لأنه ينقص
ثمنه وفيه ضرر، وإن كان يبرأ قبل محل الحق والزمان معتدل لا يخاف عليه فيه فله ذلك لأنه من
الواجبات ويزيد به الثمن ولا يضر المرتهن ومؤنته على الراهن. فأن مرض فاحتاج إلى دواء لم يجبر
الراهن عليه لأنه لا يتحقق أنه سبب لبقائه وقد يبرأ بغير علاج بخلاف النفقة، وان أراد الراهن
مداواته بما لا ضرر فيه لم يمنع منه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما. وإن كان الدواء مما يخاف
غائلته كالسموم فللمرتهن منعه منه لأنه لا يأمن تلفه. وان احتاج إلى فصد أو احتاجت الدابة إلى توديج
ومعناه فتح الودجين حتى يسيل الدم وهما عرقان عريضان غليظان من جانبي ثغرة النحر أو تبزيغ
وهو فتح الرهصة فللراهن فعل ذلك ما لم يخف منه ضررا، وان احتيج إلى قطع شئ من بدنه بدواء
لا يخاف منه جاز وان خيف منه فأيهما امتنع منه لم يجبر. وإن كانت به آكلة كان له قطعها لأنه يخاف
من تركها لا من قطعها. لأنه لا يحس بلحم ميت، وان كانت به خبيثة فقال أهل الخبرة الأحوط قطعها
وهو أنفع من بقائها فللراهن ذلك والا فليس له فعله، وان تساوى الخوف عليه في الحالين لم يكن له
قطعها لأنه يحدث جرحا فيه لم يترجح احداثه، وان كانت به سلعة أو أصبع زائدة لم يملك الراهن
قطعها لأن قطعها يخاف منه وتركها لا يخاف منه، وان كانت الماشية جربة فأراد الراهن دهنها بما يرجى
440

نفعه ولا يخاف ضرره كالقطران والزيت اليسير لم يمنع وان خيف ضرره كالكثير فللمرتهن
منعه، وقال القاضي له ذلك بغير اذن المرتهن لأن له معالجة ملكه وان امتنع من ذلك لم يجبر عليه،
ولو أراد المرتهن مداواتها بما ينفعها ولا يخشى ضرره لم يمنع لأن فيه اصلاح حقه بما لا يضر بغيره وان
خيف منه الضرر لم يمكن منه لأن فيه خطرا بحق غيره
(فصل) فإن كان الرهن نخلا فاحتاج إلى تأبير فهو على الراهن وليس للمرتهن منعه منه لأن
فيه مصلحة بغير مضرة وما يسقط من ليف أو سعف أو عراجين فهو من الرهن لأنه من أجزائه أو
من نمائه، وقال أصحاب الشافعي ليس من الرهن بناء منهم على أن النماء ليس منه ولا يصح ذلك
ههنا لأن السعف من جملة الأعيان التي ورد عليها عقد الرهن فكانت منه كالأصول وانقاض الدار،
وإن كان الرهن كرما فله زباره لأنه لمصلحته ولا ضرر فيه والزرجون من الرهن، ولو كان
الشجر مزدحما وفي قطع بعضه صلاح لما يبقي فله ذلك. وإن أراد تحويله كله لم يملك ذلك وان
قيل هو الأولى لأنه قد لا يعلق فيفوت الرهن، وان امتنع الراهن من فعل هذا كله لم يجبر عليه لأنه
لا يلزمه فعل ما فيه زيادة الرهن
(فصل) وكل زيادة تلزم الراهن إذا امتنع أجبره الحاكم عليها وان لم يفعل اكترى له الحاكم من
ماله فإن لم يكن له مال اكترى من الرهن فإن بذلها المرتهن متطوعا لم يرجع بشئ وان أنفق باذن
الراهن أو إذن الحاكم عند تعذر اذن الراهن محتسبا رجع به وان تعذر اذنهما أشهد على أنه أنفق
ليرجع بالنفقة وله الرجوع بها. وان أنفق من غير استئذان الحاكم مع امكانه أو من غير اشهاد بالرجوع
441

عند تعذر استئذانه ليرجع به فهل يرجع؟ على روايتين. وان أنفق باذن الراهن ليكون الرهن رهنا
بالنفقة والدين الأول لم يصح ولم يصر رهنا بالنفقة لما ذكرنا، وان قال الراهن أنفقت متبرعا وقال
المرتهن بل أنفقت محتسبا بالرجوع فالقول قول المرتهن لأن الخلاف في نيته وهو أعلم بها ولا اطلاع
لغيره من الناس عليها وعليه اليمين لأن ما قاله الراهن محتمل. وكل مؤنة لا تلزم الراهن كنفقة المداواة
والتأبير وأشباههما لا يرجع بها المرتهن إذا أنفقها سواء أنفقها محتسبا أو متبرعا
{مسألة} قال (والرهن إذا تلف بغير جناية من المترهن رجع المرتهن بحقه عند محله
وكانت المصيبة فيه من راهنه وإن كان بتعدي المرتهن أو لم يحرزه ضمن)
أما إذا تعدي المرتهن في الرهن أو فرط في الحفظ للرهن الذي عنده حتى تلف فإنه يضمن
لا نعلم في وجوب الضمان عليه خلافا ولأنه أمانة في يده فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه أو تفريطه
كالوديعة، وأما ان تلف من غير تعد منه ولا تفريط فلا ضمان عليه وهو من مال الراهن يروى ذلك
عن علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء والزهري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر. ويروى
عن شريح والنخعي والحسن أن الرهن يضمن بجميع الدين وإن كان أكثر من قيمته لأنه روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الرهن بما فيه " وقال مالك إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحريق فمن ضمان
الراهن وان ادعي تلفه بأمر خفي لم يقبل قوله وضمن، وقال الثوري وأصحاب الرأي يضمنه المرتهن
بأقل الامرين من قيمته أو قدر الدين، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واحتجوا
442

بما روى عطاء أن رجلا رهن فرسا فنفق عند المرتهن فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال
" ذهب حقك " ولأنها عين مقبوضة للاستيفاء فيضمنها من قبضها لذلك أو من قبضها نائبه كحقيقة
المستوفى ولأنه محبوس بدين فكان مضمونا كالمبيع إذا حبس لاستيفاء ثمنه
ولنا ما روى ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق
الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه " رواه الأثرم عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن ابن أبي ذئب ورواه
الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب ولفظه " الرهن من صاحبه الذي رهنه " وباقيه سواء قال
ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه من حديث أبي أنيسة ولأنه وثيقة
بالدين فلا يضمن كالزيادة على قدر الدين وكالكفيل والشاهد ولأنه مقبوض بعقد واحد بعضه أمانة
فكان جميعه أمانة كالوديعة وعند مالك أن مالا يضمن به العقار لا يضمن به الذهب كالوديعة. فاما حديث عطاء
فهو مرسل وقول عطاء يخالفه. قال الدارقطني: يرويه إسماعيل بن أمية وكان كذابا وقيل يرويه مصعب
ابن ثابت وكان ضعيفا، ويحتمل أنه أراد ذهب حقك من الوثيقة بدليل أنه لم يسأل عن قدر الدين
وقيمة الفرس. وحديث أنس ان صح فيحتمل أنه محبوس بما فيه، وأما المستوفى فإنه صار ملكا للمستوفي
وله نماؤه وغنمه فكان عليه ضمانه وغرمه بخلاف الرهن والبيع قبل القبض ممنوع.
(فصل) وإذا قضاه جميع الحق أو أبراه من الدين بقي الرهن أمانة في يده، وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة إذا قضاه كان مضمونا وإذا أبرأه أو وهبه لم يكن مضمونا استحسانا وهذا مناقضة
لأن القبض المضمون منه لم يزل ولم يبرئه منه. وعندنا أنه كان أمانة وبقي على ما كان عليه وليس عليه
443

رده لأنه أمسكه بإذن مالكه ولا يختص بنفعه فهو كالوديعة بخلاف العارية فإنه يختص بنفعها وبخلاف
ما لو أطارت الربح إلى داره ثوبا لزمه رده إلى مالكه لأن مالكه لم يأذن في إمساكه، فأما ان سأل
مالكه في هذه الحال دفعه إليه لزم من هو في يده من المرتهن أو العدل دفعه إليه إذا أمكنه فإن لم
يفعل صار ضامنا كالمودع إذا امتنع من رد الوديعة عند طلبها. وإن كان امتناعه لعذر مثل أن يكون
بينه وبينه طريق مخيف أو باب مغلق لا يمكنه فتحه أو كان يخاف فوت جمعة أو جماعة أو فوت صلاة أو به
مرض أو جوع شديد وما أشبهه فأخر التسليم لذلك فتلف فلا ضمان عليه لأنه لا تفريط منه فأشبه المودع
(فصل) وإذا قبض المرتهن الرهن فوجده مستحقا لزمه رده على مالكه والرهن باطل من أصله
فإن أمسكه مع علمه بالغصب حتى تلف في يده استقر عليه الضمان وللمالك تضمين أيهما شاء فإن
ضمن المرتهن لم يرجع على أحد لذلك وان ضمن الراهن رجع عليه، وان لم يعلم بالغصب حتى تلف
بتفريطه فالحكم كذلك لأن الضمان يستقر عليه وان تلف بغير تفريطه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها)
يضمن ويستقر الضمان عليه لأن مال غيره تلف تحت يده العادية فاستقر الضمان عليه كما لو علم (والثاني)
لا ضمان عليه لأنه قبضه على أنه أمانة من غير علمه فلم يضمنه كالوديعة. فعلى هذا يرجع المالك على الغاصب
لاغير (والوجه الثالث) أن للمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الغاصب فإن ضمن الغاصب
لم يرجع على أحد وان ضمن المرتهن رجع على الغصب لأنه غره فرجع عليه كالمغرور بحرية أمة.
444

{مسألة} قال (وان اختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه، وان اختلفا في قدر
الحق فالقول قول الراهن مع يمينه إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة)
يعنى إذا اختلفا في قيمة الراهن إذا تلف في الحال التي يلزم المرتهن ضمانه وهي إذا تعدي أو لم
يحرز فالقول قول المرتهن مع يمينه لأنه غارم ولأنه منكر لوجوب الزيادة على ما أقر به والقول قول المنكر
وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا، وان اختلفا في قدر الحق نحو أن يقول الراهن رهنتك عبدي
هذا بألف فقال المرتهن بل بألفين فالقول قول الراهن، وبهذا قال النخعي والثوري والشافعي والبتي
وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن الحسن وقتادة أن القول قول المرتهن ما لم يجاوز ثمن الرهن أو
قيمته ونحوه قول مالك لأن الظاهر أن الرهن يكون بقدر الحق
ولنا أن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن والقول قول المنكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو
يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " رواه مسلم ولان
الأصل براءة الذمة من هذه الألف فالقول قول من ينفيها كما لو اختلفا في أصل الدين، وما ذكره
من الظاهر غير مسلم فإن العادة رهن الشئ بأقل من قيمته، إذا ثبت هذا فإن القول قول الراهن في
قدر ما رهنه به سواء اتفقا على أنه رهنه بجميع الدين أو اختلفا، فلو اتفقا على أن الدين الفان وقال
الراهن إنما رهنتك بأحد الألفين، وقال المرتهن: بل رهنته بهما فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه
ينكر تعلق حق المرتهن في أحد الألفين بعبده والقول قول المنكر، وان اتفقا على أنه رهن بأحد الألفين
445

وقال الراهن هو رهن بالمؤجل وقال المرتهن بل بالحال فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر ولان
القول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته وهذا إذا لم يكن بينة فإن كان لأحدهما بينة حكم بها
بغير خلاف في جميع هذه المسائل
(فصل) وان اختلفا في قدر الرهن فقال رهنتك هذا العبد فقال بل هو والعبد الآخر فالقول
قول الراهن لأنه منكر ولا نعلم في هذا خلافا. وان قال رهنتك هذا العبد قال بل هذه الجارية خرج
العبد من الرهن لاعتراف المرتهن بأنه لم يرهنه وحلف الراهن على أنه ما رهنه الجارية وخرجت من
الرهن أيضا. وإن اختلفا في رد الرهن إلى الراهن فالقول قوله أيضا لأنه منكر والأصل معه. وكذلك
الحكم في المستأجر إذا ادعى رد العين المستأجرة، وقال أبو الخطاب يتخرج فيهما وجه آخر أن
القول قول المرتهن والمستأجر في الرد بناء على المضارب والوكيل بجعل إذا ادعيا الرد فإن فيهما
وجهين والفرق بينهما وبين المرتهن ان المرتهن قبض العين لينتفع بها وكذلك المستأجر والوكيل
قبض العين لينتفع بالجعل لا بالعين والمضارب قبضها لينتفع بربحها لا بها، وان اختلفا في تلف العين
فالقول قول المرتهن مع يمينه لأن يده يد أمانة ويتعذر عليه إقامة البينة على التلف فقبل
قوله فيه كالمودع
(فصل) فإن قال بعتك هذا الثوب على أن ترهنني بثمنه عبديك هذين قال بل على أن أرهنك
هذا وحده ففيها روايتان حكاهما القاضي (إحداهما) يتحالفان لأنه اختلاف في البيع فهو كالاختلاف
في الثمن (والثانية) القول قول الراهن لأنه منكر لشرط رهن العبد الذي اختلفا فيه والقول
قول المنكر وهذا أصح.
446

(فصل) وان قال أرسلت وكيلك فرهنني عبدك على عشرين قبضها قال ما أمرته برهنه الا
بعشرة ولا قبضت الا عشرة سئل الرسول فإن صدق الراهن فعليه اليمين أنه ما رهنه الا بعشرة
ولا قبض الا عشرة ولا يمين على الراهن لأن الدعوى على غيره، فإذا حلف الوكيل برئا جميعا وان
نكل فعليه العشرة المختلف فيها ولا يرجع بها على أحد لأنه يصدق الراهن في أنه ما أخذها ولا أمره
بأخذها وإنما المرتهن ظلمه، وان صدق الوكيل المرتهن وادعى أنه سلم العشرين إلى الراهن
فالقول قول الراهن مع يمينه فإن نكل قضي عليه بالعشرة ويدفع إلى المرتهن وان حلف برئ
وعلى الرسول غرامة العشرة للمرتهن لأنه يزعم أنها حق له وإنما الراهن ظلمه، وان عدم الرسول أو تعذر احلافه
فعلى الراهن اليمين أنه ما أذن في رهنه الا بعشرة ولا قبض أكثر منها ويبقى الرهن بالعشرة الأخرى
(فصل) إذا كان على رجل الفان أحدهما برهن والآخر بغير رهن فقضى ألفا وقال قضيت
دين الرهن وقال المرتهن بل قضيت الدين الآخر فالقول قول الراهن مع يمينه سواء اختلفا في نية
الراهن بذلك أو في لفظه لأنه أعلم بنيته وصفة دفعه ولأنه يقول إن الدين الباقي بلا رهن والقول قوله
في أصل الرهن فكذلك في صفته. وان اطلق القضاء ولم ينو شيئا فقال أبو بكر له صرفها إلى أيهما
شاء كما لو كان له مال حاضر وغائب فأدى قدر ذكاة أحدهما كان له ان يعين عن أي المالين شاء
وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم يقع الدفع عن الدينين معا عن كل واحد منهما نصفه
447

لأنهما تساويا في القضاء فتساويا في وقوعه عنهما، فأما ان أبرأه المرتهن من أحد الدينين واختلفا فالقول
قول المرتهن على التفصيل الذي ذكرناه في الراهن ذكره أبو بكر
(فصل) وإذا اتفق المتراهنان على قبض العدل للرهن لزم الرهن في حقهما ولم يضر انكاره
لأن الحق لهما، وإن قال أحدهما قبضه العدل فأنكر الآخر فالقول قول المنكر كما لو اختلفا في قبض
المرتهن له ولو شهد العدل بالقبض لم تقبل شهادته لأنها شهادة الوكيل لموكله
(فصل) إذا كان في يد رجل عبد فقال رهنتني عبدك هذا بألف فقال بل غصبته أو استعرته
فالقول قول السيد سواء اعترف بالدين أو جحده لأن الأصل عدم الرهن، وان قال السيد بعتك عبدي هذا
بألف قال بل رهنته عندي بها فالقول قول كل واحد منهما في العقد الذي ينكره ويأخذ السيد عبده
وهكذا لو قال رهنتكه بألف أقرضتنيه قال بل بعتنيه بألف قبضته مني ثمنا فكذلك ويرد صاحب
العبد الألف ويأخذ عبده
(فصل) وإذا ادعى على رجلين فقال رهنتماني عبد كما بديني عليكما فأنكراه فالقول قولهما فإن
شهد كل واحد منهما على صاحبه قبلت شهادته إذا كان عدلا وللمرتهن ان يحلف مع كل واحد منهما
ويصير جميعه رهنا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصيب الآخر رهنا وان أقر أحدهما ثبت في حقه وحده،
وان شهد المقر على المنكر قبلت شهادته إن كان عدلا لأنه لا يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا
وبهذا قال أصحاب الشافعي وقال بعضهم إذا أنكرا جميعا ففي شهادتهما نظر لأن المشهود له يدعي ان
كل واحد منهما ظالم له بجحوده حقه من الرهن فإذا طعن المشهود له في شهوده لم تقبل شهادتهم
448

له. قلنا لا يصح هذا فإن انكار الدعوى لا يثبت به فسق المدعى عليه وإن كان الحق عليه لجواز ان
ينسى أو تلحقه شبهة فيما يدعيه أو ينكره، وكذلك لو تداعى رجلان شيئا وتخاصما فيه ثم شهدا عند
الحاكم بشئ لم ترد شهادتهما وإن كان أحدهما كاذبا في مخالفته لصاحبه ولو ثبت الفسق بذلك لم
يجز قبول شهادتهما جميعا مع تحقق الجرح في أحدهما
(فصل) وإذا رهن عينا عند رجلين فنصفها رهن عند كل واحد منهما بدينه ومتى وفى أحدهما
خرجت حصته من الرهن لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة عقدين فكأنه رهن كل واحد منهما النصف
مفردا، فإن أراد مقاسمة المرتهن واخذ نصيب من وفاه وكان الرهن مما لا ننقصه القسمة كالمكيل
والموزون لزم ذلك وإن كان مما تنقصه القسمة لم تجب قسمته لأن على المرتهن ضررا في قسمته ويقر
في يد المرتهن نصفه رهن ونصفه وديعة، وان رهن اثنان عبدهما عند رجل فوفاه أحدهما انفك الرهن
في نصيبه. وقد قال احمد في رواية مهنا في رجلين رهنا دارا لهما عند رجل على الف فقضاه أحدهما ولم
يقض الآخر فالدار رهن على ما بقي، وقال أبو الخطاب في رجل رهن عبده عند رجلين فوفى أحدهما
فجميعه رهن عند الآخر حتى يوفيه وهذا من كلام احمد وأبي الخطاب محمول على أنه ليس للراهن
مقاسمة المرتهن لما عليه من الضرر لا بمعنى أن العين كلها تكون رهنا إذ لا يجوز أن يقال إنه رهن نصف
العبد عند رجل فصار جميعه رهنا، ولو رهن اثنان عبدا لهما عند اثنين بألف فهذه أربعة عقود
ويصير كل ربع من العبد رهنا بمائتين وخمسين فمتى قضاها من هي عليه انفك من الرهن ذلك
الفدر قاله القاضي وهو الصحيح
449

(فصل) ولو ادعى رجلان على رجل أنه رهنهما عبده وقال كل واحد منهما رهنه عندي دون
صاحبي فأنكرهما جميعا فالقول قوله مع يمينه، وان أنكر أحدهما وصدق الآخر سلم إلى من صدقه
وحلف الآخر وان قال لا أعلم عين المرتهن منهما حلف على ذلك والقول قول من هو في يده منهما
مع يمينه. وإن كان في أيديهما حلف كل واحد منهما على نصفه وصار رهنا عنده، وإن كان في يد غيرهما
أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذه كما لو ادعيا ملكه، ولو قال رهنته عند أحدهما ثم رهنته
للآخر ولا أعلم السابق منهما فكذلك، وان قال هذا هو السابق بالعقد والقبض سلم إليه وحلف
للآخر وان نكل والعبد في يد الأول أو يد غيره فعليه قيمته للثاني كما لو قال هذا العبد لزيد وغصبته
من عمرو فإنه يسلم إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو. وان نكل والعبد في يد الثاني أقر في يده وغرم قيمته
للأول لأنه أقر له بعد ما فعل ما حال بينه وبين من أقر له فلزمته قيمته كما قلنا، وقال القاضي إذا اعترف
به لغير من هو في يده فهل يرجح صاحب اليد أو المقر له؟ على وجهين. ولو اعترف لأحدهما وهو في يديهما
ثبتت يد المقر له وفى النصف الآخر وجهان
(فصل) إذا أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن بعد حلول الحق جاز وتعلق حقه بثمنه، وان
أذن له قبل حلوله مطلقا فباعه بطل الرهن ولم يكن عليه عوضه لأنه أذن له فيما ينافي حقه فأشبه ما لو
أذن في عتقه وللمالك أخذ ثمنه وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومحمد يكون الثمن رهنا لأن الراهن باع
الرهن بإذن المرتهن فوجب أن يثبت حقه فيه كما لو حل الدين. قال الطحاوي حق المرتهن متعلق
بعين الرهن والثمن بدله فوجب أن يتعلق به كما لو أتلفه متلف. ولنا أنه تصرف يبطل حق المرتهن
450

من عين الرهن لا يملكه المرتهن فإذا أذن فيه أسقط حقه كالعتق، ويخالف ما بعد الخلول لأن المرتهن
يستحق البيع، ويخالف الاتلاف لأنه غير مأذون فيه من جهة المرتهن، فإن قال إنما أردت باطلاق الاذن
أن يكون ثمنه رهنا لم يلتفت إلى دعواه لأن اطلاق الاذن يقتضي بيعا يفسخ الرهن وبهذا قال الشافعي
وان أذن فيه بشرط أن يجعل ثمنه مكانه رهنا أو يعجل له دينه من ثمنه جاز ولزم ذلك، وان اختلفا
في الاذن فالقول قول المرتهن لأنه منكر، وان أذن في البيع واختلفا في شرط جعل ثمنه رهنا أو
تعجيل دينه منه فالقول قول الراهن لأن الأصل عدم الشرط، ويحتمل أن يكون القول قول المرتهن
لأن الأصل بقاء الوثيقة، وان أذن الراهن في البيع ثم رجع قبل البيع فباعه المرتهن بعد العلم بالرجوع
لم يصح بيعه، وان باعه بعد الرجوع وقبل العلم احتمل وجهين بناء على عزل الوكيل قبل علمه، فإن
اختلفا في الرجوع قبل البيع فقال القاضي القول قول المرتهن أيضا لأن الأصل عدم الرجوع وعدم
البيع قبل الرجوع فتعارض الأصلان وبقيت العين رهنا على ما كانت وبهذا كله قال الشافعي وهذا فيما
لا يحتاج إلى بيعه، فاما ما دعت الحاجة إلى بيعه كالذي خيف تلفه إذا أذن في بيعه مطلقا تعلق الحق
بثمنه لأن بيعه مستحق فأشبه ما بيع بعد حلول الدين
(فصل) إذا حل الحق لزم الراهن الايفاء لأنه دين حال فلزم ايفاؤه كالذي لا رهن به فإن لم
يوف وكان قد أذن للمرتهن أو للعدل في بيع الرهن باعه ووفى الحق من ثمنه وما فضل من ثمنه فلمالكه
وإن فضل من الدين شئ فعلى الراهن. وان لم يكن أذن لهما في بيعه أو كان قد أذن لهما ثم عزلهما
طولب بالوفاء وبيع الرهن فإن فعل والا فعل الحاكم ما يرى من حبسه وتعزيره ليبيعه أو يبيعه بنفسه أو
أمينه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يبيعه الحاكم لأن ولاية الحاكم على من عليه الحق لاعلى ماله
451

فلم ينفذ بيعه بغير اذنه. ولنا أنه حق تعين عليه فإذا امتنع من أدائه قام الحاكم مقامه في أدائه كالايفاء
من جنس الدين وان وفى الدين من غير الرهن انفك الرهن
{مسألة} قال (والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه
حيا كان الراهن أو ميتا)
وجملته انه إذا ضاق مال الراهن عن ديونه وطالب الغرماء بديونهم أو حجر عليه لفلسه وأريد
قسمة ماله بين غرمائه فأول من يقدم من له أرش حناية يتعلق برقبة بعض عبيد المفلس لما ذكرنا من
قبل، ثم من له رهن فإنه يخص بثمنه عن سائر الغرماء لأن حقه متعلق بعين الرهن وذمة الراهن
معا وسائرهم يتعلق حقه بالذمة دون العين فكان حقه أقوى، وهذا من أكثر فوائد الرهن وهو
تقديمه بحقه عند فرض مزاحمة الغرماء، ولا نعلم في هذا خلافا، وهو مذهب الشافعي
وأصحاب الرأي وغيرهم، فيباع الرهن فإن كان ثمنه وفق حقه أخذه، وإن كان فيه فضل عن دينه
رد الباقي على الغرماء، وان فضل من دينه شئ أخذ ثمنه وضرب مع الغرماء ببقية دينه،
ثم من بعد ذلك من وجد عين ماله فهو أحق بها ثم يقسم الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم ولو كان
فيهم من دينه ثابت بجناية المفلس لم يقدم وكان أسوة الغرماء لأن أرش جنايته يتعلق بذمته دون ماله
فهو كبقية الديون بخلاف أرش جناية العبد فإنها تتعلق برقبة العبد فلذلك كان أحق به ممن تعلق
حقه بمجرد الذمة، ولا فرق في استحقاق ثمن الرهن والاختصاص به بين كون الرهن حيا أو ميتا
لأن تقديم حقه من حيث كان حقه متعلقا بعين المال وهذا المعنى لا يختلف بالحياة والموت فكذلك
ما ثبت به كأرش الجناية.
(فصل) ولو باع شيئا أو باعه وكيله وقبض الثمن أو باع العدل الرهن وقبض الثمن فتلف وتعذر
رده وخرجت السلعة مستحقة ساوى المشتري الغرماء لأن حقه لم يتعلق بعين المال فهو بمنزلة أرش
452

جناية المفلس، وذكر القاضي احتمالا آخر أنه يقدم على الغرماء لأنه لم يرض بمجرد الذمة فكان أولى
كالمرتهن ولأنه لو لم يقدم على الغرماء لامتنع الناس عن شراء مال المفلس خوفا من ضياع أموالهم فتقل
الرغبات فيه ويقل ثمنه فكان تقديم المشتري بذلك على الغرماء أنفع لهم وهذا وجه لأصحاب الشافعي،
ولنا أن هذا حق لم يتعلق بعين المال فلم يقدم كالذي جنى عليه المفلس وفارق المرتهن فأن حقه
تعلق بالعين وما ذكروه من المعنى الأول منتقض بأرش جناية المفلس والثاني مصلحة
لا أصل لها فلا يثبت الحكم بها، فأما إن كان الثمن موجودا يمكن رده وجب رده وينفرد به
صاحبه لأنه عين ماله لم يتعلق به حق أحد من الناس وكذلك صاحب السلعة المستحقة يأخذها
ومتى باع العدل مال المفلس أو باع الرهن وخرجت السلعة مستحقة فالعهدة على المفلس فلا شئ على
العدل لأنه أمين.
(فصل) ومن أستأجر دارا أو بعيرا بعينه أو شيئا غيرهما بعينه ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أحق
بالعين التي استأجرها من الغرماء حتى يستوفي حقه لأن حقه متعلق بعين المال والمنفعة مملوكة له في
هذه المدة فكان أحق بها كما لو اشترى منه شيئا، فإن هلك البعير أو انهدمت الدار قبل انقضاء المدة
انفسخت الإجارة ويضرب مع الغرماء ببقية الأجرة، وان استأجر جملا في الذمة أو غيره ثم أفلس
المؤجر فالمستأجر أسوة الغرماء لأن حقه لم يتعلق بالعين، وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا،
فإن آجر دارا ثم أفلس فاتفق الغرماء والمفلس على البيع قبل انقضاء مدة الإجارة فلهم ذلك ويبيعونها
مستأجرة، وان اختلفوا قدم قول من طلب البيع في الحال لأنه أحوط من التأخير فإذا استوفى المستأجر
يسلم المشتري، وان اتفقوا على تأخير البيع حتى تنقضي مدة الإجارة فلهم ذلك لأن الحق
لهم لا يخرج عنهم
453

(فصل) ولو باع سلعة ثم أفلس قبل تقبيضها فالمشتري أحق بها من الغرماء سواء كانت من
المكيل والموزون أو غيرهما لأن المشتري قد ملكها وثبت ملكه فيها فكان أحق بها كما لو قبضها ولا
فرق بين ما قبل قبض الثمن وما بعده، وإن كان عليه سلم فوجد المسلم الثمن قائما فهو أحق به لأنه
وجد عين ماله وان لم يجده فله أسوة الغرماء لأنه لم يتعلق حقه بعين مال ولا ثبت ملكه فيه ويضرب
مع الغرماء بالمسلم فيه الذي يستحقه دون الثمن فيعزل له قدر حقه فإن كان في المال جنس حقه أخذ
منه بقدر ما يستحقه وان لم يكن فيه جنس حقه عزل له بقدر حقه فيشتري به المسلم فيه فيأخذه وليس
له أن يأخذ المعزول بعينه لئلا يكون بدلا عما في الذمة من المسلم فيه ولا يجوز أخذ البدل عن
المسلم فيه، وان أمكن ان يشتري بالمعزول أكثر مما قدر له لرخص المسلم فيه اشتري له بقدر حقه
ورد الباقي على الغرماء
مثاله رجل أفلس وله دينار وعليه لرجل دينار ولآخر قفيز حنطة من سلم قيمته دينار فإنه يقسم
دينار المفلس نصفين لصاحب الدينار نصفه ويعزل نصفه للمسلم، فإن رخصت الحنطة فصار قيمة القفيز
نصف دينار تبينا ان حقه مثل نصف حق صاحب الدينار فلا يستحق من دينار المفلس الا ثلثه
يشتري له به ثلثا قفيز فيدفع إليه ويرد سدس الدينار على الغريم الآخر، فإن غلا المسلم فيه فصار قيمة
القفيز دينارين تبينا انه يستحق مثلي ما يستحقه صاحب الدينار فيكون له من دينار المفلس ثلثاه فيشترى
له بالنصف المعزول ويرجع على الغريم بسدس دينار يشترى له به أيضا لأن المعزول ملك المفلس وإنما
للمسلم قدر حقه فإن زاد فللمفلس وان نقص فعليه
(فصل) قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن رجل عنده رهون كثيرة لا يعرف أصحابها ولا من
رهن عنده قال إذا أيست من معرفتهم ومعرفة ورثتهم فأرى أن تباع ويتصدق بثمنها فإن عرف بعد
أربابها خيرهم بين الاجر أو يغرم لهم، هذا الذي أذهب إليه، وقال أبو الحارث عن أحمد في الرهن
يكون عنده السنين الكثيرة ييأس من صاحبه يبيعه ويتصدق بالفضل، فظاهر هذا أنه يستوفي حقه
ونقل أبو طالب لا يستوفي حقه من ثمنه ولكن ان جاء صاحبها فطلبه أعطاه إياه وطلب منه حقه، واما
ان رفع أمره إلى الحاكم فباعه ووفاه منه حقه جاز ذلك
454

كتاب المفلس
المفلس هو الذي لامال له ولا ما يدفع به حاجته ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " أتدرون
من المفلس؟ " قالوا يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال " ليس ذلك المفلس، ولكن
المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد ظلم هذا ولطم هذا وأخذ من عرض هذا
فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن بقي عليه شئ أخذ من سيئاتهم فرد عليه ثم صك له
صك إلى النار " أخرجه مسلم بمعناه فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس وقول النبي صلى الله عليه
وسلم " ليس ذلك المفلس " تجوز لم يرد به نفي الحقيقة بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم بحيث
يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغني ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم " ليس الشديد بالصرعة
ولكن الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب " وقوله " ليس السابق من سبق بعيره وأنما السابق من
غفر له " وقوله " ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس " ومنه قول الشاعر
ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الاحياء
وإنما سمي هذا مفلسا لأنه لامال له الا الفلوس وهي أدنى أنواع المال، والمفلس في عرف الفقهاء
455

من دينه أكثر من ماله وخرجه أكثر من دخله، وسموه مفلسا وإن كان ذا مال لأن ماله مستحق الصرف
في جهة دينه فكأنه معدوم، وقد دل عليه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم مفلس الآخرة فإنه أخبر ان
له حسنات أمثال الجبال لكنها كانت دون ما عليه فقسمت بين الغرماء وبقي لا شئ له ويجوز أن
يكون سمي بذلك لما يؤول إليه من عدم ماله بعد وفاء دينه، ويجوز أن يكون سمي بذلك لأنه يمنع
من التصرف في ماله الا الشئ التافه الذي لا يعيش الا به كالفلوس ونحوها
(فصل) ومتى لزم الانسان ديون حالة لا يفي ماله بها فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته
إجابتهم، ويستحب أن يظهر الحجر عليه لتجتنب معاملته فإذا حجر عليه ثبت بذلك أربعة أحكام
(أحدها) تعلق حقوق الغرماء بعين ماله (والثاني) منع تصرفه في عين ماله (الثالث) ان من وجد
عين ماله عنده فهو أحق بها من سائر الغرماء إذا وجدت الشروط (الرابع) ان للحاكم بيع ماله وايفاء
الغرماء، والأصل في هذا ما روى كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ بن
جبل وباع ماله رواه الخلال باسناده، وعن عبد الرحمن بن كعب قال كان معاذ بن جبل من أفضل
شباب قومه ولم يكن يمسك شيئا فلم يزل يدان حق أغرق ماله في الدين فكلم النبي صلى الله عليه وسلم
غرماؤه، فلو ترك أحد من اجل أحد لتركوا معاذا من اجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع لهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله حتى قام معاذ بغير شئ، قال بعض أهل العلم أنما لم يترك الغرماء
لمعاذ حين كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يهودا
{مسألة} قال (وإذا فلس الحاكم رجلا فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به
إلا أن يشاء تركه ويكون أسوة الغرماء)
وجملته ان المفلس متى حجر عليه فوجد بعض غرمائه سلعته التي باعه إياها بعينها بالشروط التي
456

يذكرها ملك فسخ البيع وأخذ سلعته، روي ذلك عن عثمان وعلي وأبي هريرة وبه قال عروة ومالك
والأوزاعي والشافعي والعنبري وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال الحسن والنخعي وبن شبرمة
وأبو حنيفة هو أسوة الغرماء لأن البائع كان له حق الامساك لقبض الثمن فلما سلمه أسقط حقه من
الامساك فلم يكن له ان يرجع في ذلك بالافلاس كالمرتهن إذا سلم الرهن إلى الراهن، ولأنه ساوى
الغرماء في سبب الاستحقاق فيساويهم في الاستحقاق كسائرهم
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أدرك متاعه بعينه عند انسان قد
أفلس فهو أحق به " متفق عليه، قال أحمد لو أن حاكما حكم انه أسوة الغرماء ثم رفع إلى رجل يرى
العمل بالحديث جاز له نقض حكمه، ولان هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فيه الفسخ لتعذر العوض
كالمسلم فيه إذا تعذر ولأنه إذا شرط في البيع رهنا فعجز عن تسليمه استحق الفسخ وهو وثيقة بالثمن
فالعجز عن تسليم الثمن بنفسه أولى، ويفارق المبيع الرهن فإن امساك الرهن امساك مجرد على سبيل
الوثيقة وليس ببدل والثمن ههنا بدل عن العين فإذا تعذر استيفاؤه رجه إلى المبدل، وقولهم تساووا
في سبب الاستحقاق قلنا لكن اختلفوا في الشرط فإن بقاء العين شرط لملك الفسخ وهي موجودة في
حق من وجد متاعه دون من لم يجده. إذا ثبت هذا فإن البائع بالخيار ان شاء رجع في السلعة
وان شاء لم يرجع وكان أسوة الغرماء، وسواء كانت السلعة مساوية لثمنها أو أقل أو أكثر لأن الاعسار
سبب جواز الفسخ فلا يوجبه كالعيب والخيار، ولا يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم لأنه فسخ ثبت بالنص
فلم يفتقر إلى حكم حاكم كفسخ النكاح لعتق الأمة
(فصل) وهل خيار الرجوع على الفور أو على التراخي؟ على وجهين بناء على خيار الرد بالعيب
وفي ذلك روايتان (إحداهما) هو على التراخي لأنه حق رجوع يسقط إلى عوض فكان على التراخي
كالرجوع في الهبة (والثاني) هو على الفور لأنه خيار يثبت في البيع لنقص في العوض فكان على
الفور كالرد بالعيب ولأن جواز تأخيره يفضي إلى الضرر بالغرماء لافضائه إلى تأخير حقوقهم فأشبه
خيار الاخذ بالشفعة ونصر القاضي هذا الوجه ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
457

(فصل فإن بذل الغرماء الثمن لصاحب السلعة ليتركها لم يلزمه قبوله نص عليه احمد، وبه قال
الشافعي، وقال مالك ليس له الرجوع لأن الرجوع إنما يجوز لدفع ما يلحقه من النقص في الثمن فإذا
بذل له بكماله لم يكن له الرجوع كما لو زال العيب من المعيب، ولنا الخبر الذي رويناه ولأنه تبرع بدفع
الحق من غير من هو عليه فلم يجبر صاحب الحق على قبضه كما لو أعسر الزوج بالنفقة فبذلها غيره أو
عجز المكاتب فبذل غيره ما عليه لسيده، وبهذا ينتقض ما ذكروه وسواء بذلوه من أموالهم أو خصوه
بثمنه من التركة، وفي هذا القسم ضرر آخر لأنه لا يأمن تجدد ثبوت دين آخر فيرجع عليه، وإن
دفعوا إلى المفلس الثمن فبذله للبائع لم يكن له الفسخ لأنه زال العجز عن تسليم الثمن فزال ملك الفسخ
كما لو أسقط سائر الغرماء حقوقهم عنه فملك أداء الثمن، ولو أسقط الغرماء حقوقهم عنه فتمكن من
الأداء أو وهب له مال فأمكنه الأداء منه أو غلت أعيان ماله فصارت قيمتها وافية بحقوق الغرماء
بحيث يمكنه أداء الثمن كله لم يكن للبائع الفسخ لزوال سببه ولأنه أمكنه الوصول إلى ثمن سلعته من
المشتري فلم يكن له الفسخ كما لو لم يفلس
(فصل) فإن اشترى المفلس من انسان سلعة بعد ثبوت الحجر عليه في ذمته لم يكن له الفسخ
لتعذر الاستيفاء سواء علم أو لم يعلم ولأنه لا يستحق المطالبة بثمنها فلا يستحق الفسخ لتعذره كما لو كان
ثمنها مؤجلا ولان العالم بالعيب دخل على بصيرة بخراب الذمة فأشبه من اشترى معيبا يعلم عيبه، وفيه
وجه آخر أن له الخيار لعموم الخبر ولأنه عقد عليه وقت الفسخ فلم يسقط حقه من الفسخ كما لو تزوجت
امرأة فقيرا معسرا بنفقتها، وفيه وجه ثالث ان باعه عالما بفلسه فلا فسخ له وان لم يعلم فله الفسخ
458

كمشتري المعيب، ويفارق المعسر بالنفقة لكون النفقة يتجدد وجوبها كل يوم فالرضي بالمعسر بها
رضى بعيب ما لم يجب بخلاف مسئلتنا وإنما يشبه هذا إذا تزوجته معسرا بالصداق وسلمت نفسها إليه
ثم أرادت الفسخ
(فصل) ومن استأجر أرضا ليزرعها فأفلس قبل مضي شئ من المدة فللمؤجر فسخ الإجارة
لأنه وجذ عين ماله، وإن كان بعد انقضاء المدة فهو غريم بالأجرة وإن كان بعد مضي بعضها لم يملك
الفسخ في قياس قولنا في المبيع إذا تلف بعضه فإن المدة ههنا كالمبيع ومضي بعضها كتلف بعضه
لكن يعتبر مضي مدة لمثلها اجرة لأنه لا يمكن التحرز عن مضي جزء منها بحال، وقال القاضي في موضع
آخر من اكترى أرضا فزرعها ثم أفلس ففسخ صاحب الأرض فعليه تبقية زرع المفلس إلى حين الحصاد
بأجر مثله لأن المعقود عليه المنفعة فإذا فسخ العقد فسخه فيما ملك عليه بالعقد وقد تعذر ردها عليه
فكان عليه عوضها كما لو فسخ البيع بعد أن أتلف المبيع فله قيمته ويضرب بذلك مع الغرماء كذا ههنا
ويضرب مع الغرماء بأجر المثل دون المسمى، وهذا مذهب الشافعي، وهذا لا يقتضيه مذهبنا ولا يشهد
لصحته الخبر ولا يصح في النظر. أما الخبر فلان النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال " من أدرك متاعه بعينه عند رجل
قد أفلس فهو أحق به " وهذا ما أدرك متاعه بعينه ولا هو أحق به بالاجماع فإنهم وافقوا على وجوب
تبقيتها وعدم الرجوع في عينها ولان معنى قوله " من أدرك متاعه بعينه " أي على وجه يمكنه أخذه
لا بتعلق حقه بعينه وليس هذ كذلك، وأما النظر فلان البائع إنما كان أحق بعين ماله لتعلق حقه
بالعين وإمكان رد ماله إليه بعينه فيرجع على من تعلق حقه بمجرد الذمة وهذا لم يتعلق حقه بالعين
459

ولا أمكن ردها إليه، وإنما صار فائدة الرجوع الضرب بالقيمة دون المسمى وليس هذا هو المقتضي
في محل النص ولا هو في معناه فاثبات الحكم به تحكم بغير دليل، ولو اكترى رجلا يحمل له متاعا
إلى بلد ثم أفلس المكتري قبل حمل شئ فللمكتري الفسخ، وان حمل البعض أو بعض المسافة فقياس
المذهب ليس له الفسخ وقياس قول القاضي له ذلك فإذا فسخ سقط عنه حمل ما بقي وضرب مع الغرماء
بقسط ما حمل من الاجر المسمى، وعلى قياس قول القاضي ينفسخ العقد في الجميع ويضرب بقسط ما حمل
من أجر المثل لما ذكرنا من قوله في المسألة التي حكينا قوله فيها
(فصل) فإن أقرض رجلا مالا ثم أفلس المقترض وعين المال قائم فله الرجوع فيها لقوله عليه
السلام " من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " ولأنه غريم وجد عين ماله فكان
له أخذها كالبائع، وان أصدق امرأة له عينا ثم انفسخ نكاحها بسبب من جهتها يسقط صداقها
أو طلقها قبل دخوله بها فاستحق الرجوع في نصفه وقد أفلست ووجد عين ماله فهو أحق بها لما ذكرنا
{مسألة} قال (فإن كانت السلعة قد تلف بعضها أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها أو
نقد بعض ثمنها كان البائع فيها كأسوة الغرماء)
وجملة ذلك أن البائع إنما يتسحق الرجوع في السلعة بخمس شرائط (أحدها) أن تكون السلعة
باقية بعينها لم يتلف بعضها فإن تلف جزء منها كبعض أطراف العبد أو ذهبت عينه، أو تلف بعض
الثوب أو انهدم بعض الدار أو اشترى شجرا مثمرا لم تظهر ثمرته فتلفت الثمرة أو نحو هذا لم يكن
460

للبائع الرجوع وكان أسوة الغرماء وبهذا قال إسحاق، وقال مالك والأوزاعي والشافعي والعنبري
له الرجوع في الباقي ويضرب مع الغرماء بحصة التالف لأنها عين يملك الرجوع في جميعها فملك الرجوع
في بعضها كالذي له الخيار وكالأب فيما وهب لولده، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك
متاعه بعينه عند انسان قد أفلس فهو أحق به " فشرط ان يجده بعينه ولم يجده بعينه ولأنه إذا أدركه
بعينه حصل له بالرجوع فصل الخصومة وانقطاع ما بينهما من المعاملة بخلاف ما إذا وجد بعضه، ولا
فرق بين أن يرضى بالموجود بجميع الثمن أو يأخذه بقسطه من الثمن لأنه فات شرط الرجوع، وإن كان
المبيع عينين كعبدين أو ثوبين تلف أحدهما ع أو بعض أحدهما ففي جواز الرجوع في الباقي منهما
روايتان (إحداهما) لا يرجع نقلها أبو طالب عن أحمد قال لا يرجع ببقية العين ويكون أسوة الغرماء
لأنه لم يجد المبيع بعينه فأشبه ما لو كان عينا واحدة، ولان بعض المبيع تالف فلم يملك الرجوع كما لو
قطعت يد العبد ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد إن كان ثوبا واحدا فتلف بعضه فهو أسوة الغرماء،
وإن كان رزما فتلف بعضها فإنه يأخذ بقيمتها إذا كان بعينه لأن السالم من المبيع وجده البائع بعينه
فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به "
ولأنه مبيع وجده بعينه فكان للبائع الرجوع فيه كما لو كان جميع المبيع
(فصل) وان باع بعض المبيع أو وهبه أو وقفه فهو بمنزلة تلفه لأن البائع ما أدرك ماله بعينه
(فصل) وان نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه كعبد هزل أو نسي صناعة أو كتابة
أو كبر أو مرض أو تغير عقله، أو كان ثوبا فخلق لم يمنع الرجوع لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه
461

عين ماله لكنه يتخير بين أخذه ناقصا بجميع حقه وبين ان يضرب مع الغرماء بكمال ثمنه لأن الثمن
لا يتقسط على صفة السلعة من سمن أو هزال أو علم أو نحوه فيصير كنقصه لتغير الأسعار، ولو كان
المبيع أمة ثيبا فوطئها المشتري ولم تحمل فله الرجوع فيها لما ذكرنا فإنها لم تنقص في ذات ولا في
صفات، وان كانت بكرا فقال القاضي: له الرجوع لأنه فقد صفة فإنه لم يذهب منها جزء منها جزء وإنما
هو كالجراح وقال أبو بكر: ليس له الرجوع لأنه اذهب منها جزءا فأشبه ما لو فقأ عينها، وان وجد
الوطئ من غير المفلس كوطئ المفلس فيما ذكرنا
(فصل) وان جرح العبد أو شج فعلى قول أبي بكر لا يرجع لأنه ذهب جزء ينقص به الثمن
فأشبه ما لو فقئت عين العبد لأنه ذهب من العين جزء له بدل فمنع الرجوع كما لو قطعت يد العبد
ولأنه لو نقص صفة مجردة لم يكن للبائع مع الرجوع فيها شئ سواه كما ذكرنا في هزال العبد ونسيان
الصنعة وههنا بخلافه، ولان الرجوع في المحل المنصوص عليه بقطع النزاع ويزيل المعاملة بينهما فلا
يثبت في محل لا يحصل به هذا المقصود. وقال القاضي: قياس المذهب ان له الرجوع لأنه فقد صفة
فأشبه نسيان الصنعة واستخلاق الثوب، فإذا رجع نظرنا في الجرح فإن كان مما لا أرش له كالحاصل بفعل
الله تعالى أو فعل بهيمة أو جناية المفلس أو جناية عبده أو جناية العبد على نفسه فليس له مع الرجوع
أرش، وإن كان الجرح موجبا لأرش كجناية الأجنبي فللبائع إذا رجع ان يضرب مع الغرماء بحصة
ما نقص من الثمن فينظر كم نقص من قيمته فيرجع بقسط ذلك من الثمن لأنه مضمون على المشتري
للبائع بالثمن، فإن قيل فهلا جعلتم له الأرش الذي وجب على الأجنبي لأنه لو لم يجب به أرش لم
462

يرجع بشئ فلا يجوز أن يرجع بأكثر من الأرش؟ قلنا لما أتلفه الأجنبي صار مضمونا باتلافه للمفلس
فكان الأرش له وهو مضمون على المفلس للبائع بالثمن فلا يجوز أن يضمنه بالأرش، وإذا لم يتلفه
أجنبي فلم يكن مضمونا فلم يجب بفواته شئ، فإن قيل: فهلا كان هذ الأرش للمشتري ككسبه
لا يضمنه للبائع؟ قلنا الكسب بدل منافعه ومنافعه مملوكة للمشتري بغير عوض وهذا بدل جزء من العين
والعين جميعها مضمونة بالعوض فلهذا ضمن ذلك للمشتري
(فصل) فإن اشترى زيتا فخلطه بزيت آخر أو قمحا فخلطه بما لا يمكن تمييزه منه سقط حق الرجوع؟
وقال مالك: يأخذ زيته، وقال الشافعي: ان خلطه بمثله أو دونه لم يسقط الرجوع وله أن يأخذ
متاعه بالكيل أو الوزن. وان خلطه بأجود منه ففيه قولان (أحدهما) يسقط حقه من العين، قال
الشافعي وبه أقول واحتجوا بأن عين ماله موجودة من طريق الحكم فكان له الرجوع كما لو كانت منفردة
ولأنه ليس فيه أكثر من اختلاط ماله بغيره فلم يمنع الرجوع كما لو اشترى ثوبا فصبغه أو سويقا فلته
ولنا انه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلفت ولان ما يأخذه من غير عين ماله إنما
يأخذه عوضا عن ماله فلم يختص به دون الغرماء كما لو تلف ماله وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من
أدرك متاعه بعينه " اي من قدر عليه وتمكن من أخذه من المفلس بدليل ما لو وجده بعد زوال ملك
المفلس أو كانت مسامير قد سمر بها بابا أو حجرا قد بنى عليه أو خشبا في سقفه أو أمة استولدها
وهذا إذا اخذ كيله أو قيمته إنما يأخذ عوض ماله فهو كالثمن والقيمة وفارق المصبوغ فإن عينه يمكنه
اخذها والسويق كذلك فاختلفا.
463

(فصل) وان اشترى حنطة فطحنها أو زرعها أو دقيقا فخبزه أو زيتا فعمله صابونا أو ثوبا فقطعه
قميصا أو غزلا فنسجه ثوبا أو خشبا فنجره أبوابا أو شريطا فعمله ابرا أو شيئا فعمل به ما أزال اسمه
سقط حق الرجوع، وقال الشافعي فيه قولان أحدهما به أقول يأخذ عين ماله ويعطي قيمة عمل المفلس
فيها لأن عين ماله موجودة وإنما تغير اسمها فأشبه ما لو كان المبيع حملا فصار كبشا أو وديا فصار نخلا
ولنا أنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له الرجوع كما لو تلف ولأنه غير اسمه وصفته فلم يملك الرجوع كما
لو كان نوى فنبت شجرا. والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع وان سلم فإنه لم يتغير اسمه بخلاف مسئلتنا
(فصل) وإن كان حبا فصار زرعا أو زرعا فصار حبا أو نوى فنبت شجرا أو بيضا فصار فراخا
سقط حق الرجوع، وقال القاضي لا يسقط وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي المنصوص عليه منهما
لأن الزرع نفس الحب والفرخ نفس البيضة، ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يرجع كما لو أتلفه متلف
فاخذ قيمته ولان الحب أعيان ابتدأها الله تعالى لم تكن موجودة عند البيع وكذلك أعيان الزرع والفرخ
464

ولو استأجر أرضا واشترى بذرا وماء فزرع وسقى واستحصد وأفلس فالمؤجر وبائع البذر والماء
غرماء لاحق لهم في الرجوع لأنهم لم يجدوا أعيان أموالهم وعلى قول من قال له الرجوع في الزرع
يكون عليه غرامة الأجرة وثمن الماء أو قيمة ذلك
(فصل) وان اشترى ثوبا فصبغه أو سويقا فلته بزيت فقال أصحابنا لبائع الثوب والسويق
الرجوع في أعيان أموالهما، وهو مذهب الشافعي لأن عين مالهما قائمة مشاهدة ما تغير اسمها ويكون
المفلس شريكا لصاحب الثوب والسويق بما زاد عن قيمتهما فإن حصل زيادة فهي له وان حصل نقص
فعليه وإن نقصت قيمة الثوب أو السويق فإن شاء البائع أخذهما ناقصين ولا شئ له وان شاء تركهما
وله أسوة الغرماء لأن هذا نقص صفة فهو كالهزال، ويحتمل ان لا يكون له الرجوع إذا زادت القيمة
لأنه اتصل بالمبيع زيادة للمفلس فمنعت الرجوع كما لو سمن العبد ولان الرجوع ههنا لا يتخلص به
البائع من المفلس ولا يحصل به المقصود من قطع المنازعة وإزالة المعاملة بل يحصل به ضرر الشركة فلم
يكن في معنى المنصوص عليه فلا يمكن الحاقه به
(فصل) وإن اشترى صبغا فصبغ به ثوبا أو زيتا فلت به سويقا فبائعهما أسوة الغرماء، وقال
أصحاب الشافعي له الرجوع لأنه وجد عين ماله، قالوا ولو اشترى ثوبا وصبغا وصبغ الثوب بالصبغ
465

رجع بائع كل شئ في عين ماله وكان بائع الصبغ شريكا لبائع الثوب وان حصل نقص فهو من صاحب
الصبغ لأنه الذي يتفرق وينقص والثوب بحاله فإذا كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ خمسة فصارت
قيمتهما اثنا عشر كان لصاحب الثوب خمسة أسداسه وللآخر سدسه ويضرب مع الغرماء بما نقص
وذلك ثلاثة دراهم، وذكر القاضي مثل هذا في موضع.
ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلف ولان المشترى شغله بغيره على وجه النبع
فلم يملك بائعه الرجوع فيه كما لو كان حجرا بني عليه أو مسامير سمر بها بابا، ولو اشترى ثوبا وصبغا من
واحد فصبغه به فقال أصحابنا لا فرق بين ذلك وبين كون الصبغ من غير بائع الثوب فعلى قولهم يرجع
في الثوب وحده ويكون المفلس شريكا له بزيادة الصبغ ويضرب مع الغرماء بثمن الصبغ. ويحتمل ان
يرجع فيهما ههنا لأنه وجد عين ماله متميزا عن غيره فكان له الرجوع فيه للخبر ولان المعنى في المحل
الذي يثبت فيه الرجوع موجود ههنا فيملك الرجوع به كما يملكه ثم ولو أنه اشترى رفوفا ومسامير
من رجل واحد فسمرها بها رجع بائعهما فيهما كذلك وكذلك ما أشبهه
(فصل) إذا اشترى ثوبا فقصره لم يخل من حالين (أحدهما) أن لا تزيد قيمته ذلك فللبائع
الرجوع فيه لأن عين ماله قائمة لم يزل اسمها ولم يتلف بعضها ولا اتصلت بغيرها فكان له الرجوع
فيها كما لو علم العبد صناعة لم تزد قيمته بها وسواء نقصت قيمته بذلك أو لم تنقص لأن ذلك النقص
نقص صفة فلا يمنع الرجوع كنسيان صناعة وهزال العبد ولا شئ له مع الرجوع (الثاني) أن تزيد
قيمته بذلك فليس للبائع الرجوع على قياس قول الخرقي لأن الثوب زاد زيادة لا تتميز فلم يملك
466

البائع الرجوع فيه كما لو سمن العبد ولأنه لم يجد عين ماله متميزة عن غيرها فلم يملك الرجوع كبائع الصبغ
إذا صبغ به والزيت إذا لت به سويق، وقال القاضي وأصحابه له الرجوع فيها لأنه أدرك متاعه بعينه
ولأنه وجد عين ماله لم يتغير اسمها لا ذهبت عينها فملك الرجوع فيها كما لو صبغها، فعلى قولهم ان
كانت القصارة بعمل المفلس أو بأجرة وفاها فهما شريكان في الثوب فإذا كانت قيمة الثوب خمسة
فصار يساوي ستة فللمفلس سدسه ولبائعه خمسة أسداسه فإن اختار البائع دفع قيمة الزيادة إلى المفلس
لزمه قبولها لأنه يتخاص بذلك من ضرر الشركة من غير مضرة تلحقه فأشبه ما لو دفع الشفيع قيمة
البناء إلى المشتري وان لم يختر بيع الثوب وأخذ كل واحد منهما بقدر حقه وإن كان العمل من صانع لم
يستوف أجره فله حبس الثوب على استيفاء أجره فإن كانت الزيادة بقدر الاجر دفعت إليه وإن كانت
أقل فله حبس الثوب على استيفاء قدر الزيادة ويضرب مع الغرماء بما بقي وان كانت أكثر مثل أن تكون
الزيادة درهمين والاجر درهم فله قدر أجره وما فضل للغرماء
(فصل) الشرط الثاني أن لا يكون المبيع زاد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم الصناعة أو الكتابة
أو القرآن ونحو ذلك، واختلف المذهب في هذا فذهب الخرقي إلى أنها تمنع الرجوع، وروى الميموني
عن أحمد انها لا تمنع وهو مذهب مالك والشافعي الا أن مالكا يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها
به،. احتجوا بالخبر وبأنه فسخ لا تمنع منه الزيادة المنفصلة فلا تمنعه المتصلة كالرد بالعيب وفارق الطلاق فإنه ليس
بفسخ ولان الزوج يمكنه الرجوع في قيمة العين فيصل إلى حقه تاما وههنا لا يمكنه الرجوع في الثمن.
ولنا أنه فسخ بسبب حادث فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائدة زيادة متصلة كفسخ النكاح
بالاعسار أو الرضاع ولأنها زيادة في ملك المفلس فلم يستحق البائع اخذها كالمنفصلة وكالحاصلة بفعله
ولان النماء لم يصل إليه من البائع فلم يستحق أخذه منه كغيره من أمواله، وفارق الرد بالعيب لوجهين
(أحدهما) أن الفسخ فيه من المشتري فهو راض باسقاط حقه من الزيادة وتركها للبائع بخلاف مسئلتنا
(والثاني) ان الفسخ ثم لمعنى قارن العقد وهو العيب القديم والفسخ ههنا لسبب حادث فهو أشبه بفسخ
467

النكاح الذي لا يستحق به استرجاع العين الزائدة، وقولهم: إن الزوج إنما لم يرجع في العين لكونه
يندفع عنه الضرر بالقيمة - لا يصح فإن اندفاع الضرر عنه بطريق آخر لا يمنعه من أخذ حقه من العين
ولو كان مستحقا للزيادة لم يسقط حقه منها بالقدرة على أخذ القيمة كمشتري المعيب. ثم كان ينبغي أن
يأخذ قيمة العين زائدة لكون الزيادة مستحقة فلما لم يكن كذلك علم أن المانع من الرجوع كون
الزيادة للمرأة وأنه لا يمكن فصلها فكذلك ههنا بل أولى فإن الزيادة يتعلق بها حق المفلس والغرماء فمنع
المشتري من أخذ زيادة ليست له أولى من تفويتها على الغرماء الذين لم يصلوا إلى تمام ديونهم والمفلس
المحتاج إلى تبرئة ذمته عند اشتداد حاجته
(فصل) وأما الخبر فمحمول على من وجد متاعه على صفته ليس بزائد ولم يتعلق به حق آخر وههنا
قد تعلقت به حقوق الغرماء لما فيه من الزيادة لما ذكرنا من الدليل. يحققه أنه إذا كان تلف بعض المبيع
مانعا من الرجوع من غير ضرر يلحق بالمفلس ولا بالغرماء فلان يمنع الزيادة فيه مع تفويتها بالرجوع عليهم
أولى ولأنه إذا رجع في الناقص فما رجع الا فيما باعه وخرج منه وإذا رجع في الزائد أخذ ما لم يبعه
واسترجع ما لم يخرج عنه فكان بالمنع أحق
(فصل) فأما الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب فلا تمنع الرجوع بغير خلاف بين أصحابنا
وهو قول مالك والشافعي وسواء نقص بها المبيع أو لم ينقص إذا كان نقص صفة والزيادة
للمفلس، هذا ظاهر كلام الخرقي لأنه منع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس فالمنفصلة أولى،
وهذا قول ابن حامد والقاضي ومذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، وقال أبو بكر
الزيادة للبائع وهو مذهب مالك، ونقل حنبل عن أحمد في ولد الجارية ونتاج الدابة هو للبائع لأنها
زيادة فكانت للبائع كالمتصلة.
468

ولنا أنها زيادة انفصلت في ملك المشتري فكانت له كما لو رده بعيب ولأنه فسخ استحق به استرجاع
العين فلم يستحق أخذ الزيادة المنفصلة كفسخ البيع بالعيب أو الخيار أو الإقالة وفسخ النكاح بسبب من
أسباب الفسخ وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " يدل على أن النماء والغلة للمشتري لكون الضمان
عليه، وأما الزيادة المتصلة فقد دللنا على أنها للمفلس أيضا وفي ذلك تنبيه على كون المنفصلة له ثم لو سلمنا
ثم فالفرق ظاهر فإن المتصلة تتبع في الفسوخ والرد بالعيب بخلاف المنفصلة ولا ينبغي أن يقع في هذا
اختلاف لظهوره، وكلام احمد في رواية حنبل يحمل على أنه باعهما في حلا حملها فيكونان مبيعين
ولهذا خص هذين بالذكر دون بقية النماء
(فصل) ولو اشترى أمة حاملا ثم أفلس وهي حامل فله الرجوع فيها الا أن يكون الحمل قد زاد
بكبره وكثرت قيمتها من اجله فيكون من قبيل الزائد زيادة متصلة على ما مضى، وإن أفلس بعد
وضعها فقال القاضي له الرجوع فيهما بكل حال من غير تفصيل، والصحيح أننا ان قلنا إن الحمل لا حكم
له فالولد زيادة منفصلة فعلى قول أبي بكر لا يمنع الرجوع فيهما وعلى قول غيره يكون الولد للمفلس
فيحتمل أن يمنع الرجوع في الام لئلا يفضي إلى التفريق بين الام وولدها ويحتمل أن يرجع في الام
ويدفع قيمة الولد ليكونا جميعا له وان لم يفعل بيعت الام وولدها جميعا وقسم الثمن على قدر قيمتهما
فما خص الام فهو للبائع وما خص الولد كان للمفلس، وان قلنا إن للولد حكما وهو الصحيح لما ذكرناه
فيما تقدم فإن كانت الام والولد قد زادا بالوضع فحكمهما حكم المبيع الزائد زيادة متصلة وان لم يزيدا
جاز الرجوع فيهما وإن زاد أحدهما دون الآخر خرج على الروايتين فيما إذا كان المبيع عينين
فتلف بعض أحدهما فهل يمنع ذلك الرجوع في الأخرى كذلك؟ يخرج ههنا وجهان (أحدهما)
انه له الرجوع فيما لم يزد دون ما زاد فيكون حكمه كحكم الرجوع في الام دون الولد على ما فصلناه
(والثاني) ليس له الرجوع في شئ منهما لأنه لم يجد المبيع الا زائدا فامتنع عليه الرجوع كالعين
الواحدة، وإن كان البيع حيوانا غير الأمة فحكمه حكمها الا في أن التفريق بينها وبين ولدها
جائز، والأمة بخلاف ذلك.
469

(فصل) وان اشترى حائلا فحملت ثم أفلس وهي حامل فزادت قيمتها به فهي زيادة متصلة
تمنع الرجوع على قول الخرقي ولا تمنعه على رواية الميموني، وان أفلس بعد وضعها فهي زيادة منفصلة
فتكون للمفلس على الصحيح، ويمتنع الرجوع في الام دون ولدها لما فيه من التفريق بينهما وهذا أحد
قولي الشافعي، ويحتمل أن يرجع في الام على ما ذكرنا في التي قبلها، وعلى قول أبي بكر الزيادة للبائع
فيكون له الرجوع فيهما، وقال القاضي: إذا وجدها حاملا انبنى على أن الحمل هل له حكم أو لا؟
فإن قلنا لاحكم له جرى مجرى الزيادة المتصلة. وإن قلنا له حكم فالولد في حكم المنفصل
يتربص به حتى تضع ويكون الحكم فيه كما لو وجده بعد وضعه، وإن كان الحمل في غير الآدمية
جاز التفريق بينهما كما تقدم
(فصل) إذا كان المبيع نخلا أو شجرا فأفلس المشتري لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن
يفلس وهي بحالها لم تزد ولم تثمر ولم يتلف بعضها فله الرجوع فيها (الثاني) أن يكون فيها ثمر ظاهر
أو طلع مؤبر ويشترطه المشتري فيأكله أو يتصرف فيه أو يذهب بجائحة ثم يفلس فهذا في حكم ما لو
اشترى عينين فتلفت إحداهما ثم أفلس فهل للبائع الرجوع في الأصول ويضرب مع الغرماء بحصة التالف
من الثم؟ على روايتين. وإن تلف بعضها فهو كتلف جميعها. وإن زادت أو بدا صلاحها فهذه زيادة
متصلة في إحدى العينين وقد ذكرنا بيان حكمها (الحال الثالث) أن بيعه نخلا قد أطلعت ولم
تؤبر أو شجرا فيها ثمرة لم تظهر فهذه الثمرة تدخل في البيع المطلق فإن أفلس بعد تلف الثمرة أو
تلف بعضها أو الزيادة فيها أو بدو صلاح فحكم ذلك حكم تلف بعض المبيع وزيادته المتصلة لأن
المبيع كان بمنزلة العين الواحدة ولهذا دخل الثمر في مطلق البيع بخلاف التي قبلها (الحال الرابع) باعه
نخلا حائلا فأطلعت أو شجرا فأثمر فذلك على أربعة أضرب (أحدها) أن يفلس قبل تأبيرها فالطلع
زيادة متصلة تمنع الرجوع على قول الخرقي كالسمن والكبر، ويحتمل أن يرجع في النخل دون الطلع
لأنه يمكن فصله ويصح إفراده بالبيع فهو كالمؤبر بخلاف السمن والكبر وهذا قول ابن حامد، وعلى
رواية الميموني لا يمنع بل يرجع ويكون الطلع للبائع كما لو فسخ بعيب وهو أحد قولي الشافعي والقول
الثاني يرجع في الأصل دون الطلع وكذلك عندهم الرد بالعيب والاخذ بالشفعة (الضرب الثاني)
أفلس بعد التأبير وظهور الثمرة فلا يمنع الرجوع بغير خلاف والطلع للمشتري إلا على قول أبي بكر
470

والصحيح الأول لأن الثمرة لا تتبع في البيع الذي ثبت بتراضيهما ففي الفسخ الحاصل بغير رضى المشترى
أولى. ولو باعه أرضا فارغة فزرعها المشتري ثم أفلس فإنه يرجع في الأرض دون الزرع وجها واحدا
لأن ذلك من فعل المشتري (الضرب الثالث) أفلس والطلع غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر لم يكن له
الرجوع كما لو أفلس بعد تأبيرها لأن العين لا تنتقل إلا باختياره لها وهذا لم يخترها إلا بعد تأبيرها
فإن ادعى البائع الرجوع قبل التأبير وأنكره المفلس فالقول قول المفلس مع يمينه لأن الأصل بقاء ملكه وعدم
زواله. وإن قال له البائع بعت بعد التأبير وقال المفلس بل قبله فالقول قول البائع لهذه العلة فإن شهد
الغرماء للمفلس لم تسمع شهادتهم لأنهم يجرون إلى أنفسهم نفعا، وان شهدوا للبائع وهم عدول
قبلت شهادتهم لعدم التهمة (الضرب الرابع) أفلس بعد أخذ الثمرة أو ذهبت بجائحة أو غيرها
رجع البائع في الأصل والثمرة للمشتري إلا على قول أبي بكر وكل موضع لا يتبع الثمر الشجر إذا رجع
البائع فيه فليس له مطالبة المفلس بقطع الثمرة قبل أوان الجزاز، وكذلك إذا رجع في الأرض وفيها
زرع للمفلس فليس له المطالبة بأخذه قبل أوان الحصاد لأن المشتري زرع في ارضه بحق وطلعه على
الشجر بحق فلم يلزمه اخذه قبل كماله كما لو باع الأصل وعليه الثمرة أو الزرع وليس على صاحب
الزرع اجر لأنه زرع في ارضه زرعا تجب تبقيته فكأنه استوفى منفعة الأرض فلم يكن عليه ضمان
ذلك. إذا ثبت هذا فإن اتفق المفلس والغرماء على التبقية أو القطع فلهم ذلك، وان اختلفوا فطلب
بعضهم قطعه وبعضهم تبقيته نظرنا فإن كان مما لا قيمة له مقطوعا أو قيمته يسيرة لم يقطع لأن قطعه سفه
وتضييع للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته وان كانت قيمته كثيرة ففيه وجهان (أحدهما) يقدم
قول من طلب القطع لأنه أحوط فإن في تبقيته غررا ولان طالب القطع إن كان المفلس فهو يقصد
تبرئة ذمته وإن كان الغرماء فهم يطلبون تعجيل حقوقهم وذلك حق لهم وهذا قول القاضي وأكثر
أصحاب الشافعي (والثاني) ينظر إلى ما فيه الحظ فيعمل به لأن ذلك أنفع لجميعهم والظاهر سلامته
ولهذا يجوز ان يزرع للمولي عليه، وفيه وجه آخر انه إن كان الطالب للقطع الغرماء وجبت اجابتهم
لأن حقوقهم حالة فلا يلزمهم تأخيرها مع إمكان ايفائها وإن كان الطالب له المفلس دونهم وكان
التأخير أحظ له لم يقطع لأنهم رضوا بتأخير حقوقهم لحظ يحصل لهم وللمفلس والمفلس يطلب ما فيه
ضرر بنفسه ومنع للغرماء من استيفاء القدر الذي يحصل من الزيادة بالتأخير فلا يلزم الغرماء اجابته إلى ذلك
471

(فصل) إذا أقر الغرماء بان الزرع أو الطلع للبائع ولم يشهدوا به أو شهدوا به ولم يكونوا عدولا
أو لم يحكم بشهادتهم حلف المفلس وثبت الطلع له ينفرد به دونهم لأنهم يقرون انهم لاحق لهم فيه
فإن أراد دفعه إلى أحدهم وتخصيصه بثمنه فله ذلك لاقرار باقيهم بعدم حقهم فيه فإن امتنع ذلك الغريم
من قبوله أجبر على قبوله أو الابراء من قدره من دينه فيقال له إما أن تقبضه وإما أن تبرئ من قدر
ذلك من دينك وهذا مذهب الشافعي لأنه محكوم به للمفلس فكان له ان يقضي دينه منه كما لو أدى
المكاتب إلى سيده نجوم كتابته فقال سيده هذا حرام وأنكر المكاتب، وان أراد قسمته على الغرماء
لزمهم قبوله أو الابراء لذلك، فإن قبضوا الثمرة بعينها لزمهم رد ما حصل لهم إلى البائع لأنهم يقرون
له بها فلزمهم دفعها إليه كما لو أقروا بعتق عبد في ملك غيرهم ثم اشتروه منه. وان باع الثمرة وفرق ثمنها
فيهم أو دفعه إلى بعضهم لم يلزمهم رد ما أخذوا من ثمنها لأنهم إنما اعترفوا بالعين لا بثمنها، وان شهد
بعض الغرماء دون بعض أو أقر بعضهم دون بعض لزم الشاهد أو المقر الحكم الذي ذكرناه دون
غيره، وان عرض عليهم المفلس الثمرة بعينها فأبوا أخذها لم يلزمهم ذلك لأنه إنما يلزمهم الاستيفاء
من جنس ديونهم الا أن يكون فيهم من له جنس من الثمر أو الزرع كالمقرض أو المسلم فيلزمه أخذ ما
عرض عليه إذا كان بصفة حقه، ولو أقر الغرماء بان المفلس أعتق عبدا له قبل فلسه فأنكر ذلك لم
يقبل قولهم الا أن يشهد منهم عدلان ويكون حكمهم في قبض العبد أو اخذ ثمنه ان عرضه عليهم حكم
472

ما لو أقروا بالثمن للبائع، وكذلك أن أقروا بعين مما في يديه انها غصب أو عارية أو نحو ذلك فالحكم
كما ذكرنا سواء، وان أقروا بأنه أعتق عبده بعد فلسه انبنى ذلك على صحة عتق المفلس، فإن قلنا
لا يصح عتقه فلا أثر لاقرارهم، وان قلنا بصحته فهو كاقرارهم بعتقه قبل فلسه، وان حكم الحاكم بصحته
أو بفساده نفذ حكمه على كل حال لأنه فصل مجتهد فيه، فيلزم ما حكم به الحاكم، ولا يجوز نقضه ولا تغييره
(فصل) وان صدق المفلس البائع في لا رجوع قبل التأبير وكذبه الغرماء لم يقبل اقراره لأن
حقوقهم تعلقت بالثمرة ظاهرا فلم يقبل اقراره كما لو أقر بالنخيل، وعلى الغرماء اليمين انهم لا يعلمون
ان البائع رجع قبل التأبير، ولأن هذه اليمين لا ينوبون فيها عن المفلس بل هي ثابتة في حقهم ابتداء
بخلاف ما لو ادعى حقا وأقام شاهدا فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه لأن اليمين ثم على المفلس
فلو حلفوا حلفوا ليثبتوا حقا لغيرهم ولا يحلف الانسان ليثبت لغيره حقا، ولا يجوز أن يكون نائبا فيها لأن
الايمان لا تدخلها النيابة، وفي مسئلتنا الأصل ان هذا الطلع قد تعلقت حقوقهم به لكونه في يد غريمهم ومتصل بنخله والبائع يدعي ما يزيل حقوقهم عنه فأشبه سائر أعيان ماله، ويحلفون على نفي العلم لأنه
يمين على نفي الدين عن الميت، ولو أقر المفلس بعين من أعيان ماله لأجنبي أو لبعض غرمائه فأنكره
الغرماء فالقول قولهم وعليهم اليمين انهم لا يعلمون ذلك، وكذلك لو أقر بغريم آخر يستحق مشاركتهم
فأنكروه فعليهم اليمين أيضا، ويكون على نفي العلم لذلك وإن أقر أنه أعتق عبده انبنى ذلك على
473

صحة عتق المفلس فإن قلنا يصح عتقه صح اقراره وعتق لأن من ملك شيئا ملك الاقرار به، ولان
الاقرار بالعتق يحصل به العتق فكأنه أعتقه في الحال، وان قلنا لا يصح عتقه لم يقبل اقراره وكان
على الغرماء اليمين انهم لا يعلمون ذلك، وكل موضع قلنا على الغرماء اليمين فهو على جميعهم فإن حلفوا
أخذوا، وان نكلوا قضي للمدعي بما ادعاه إلا أن نقول برد اليمين فترد على المدعي فيحلف ويستحق
وان حلف بعضهم دون بعض أخذ الحالف نصيبه وحكم الناكل ما ذكرناه
(فصل) وان أقر المفلس انه أعتق عبده منذ شهر وكان العبد قد اكتسب بعد ذلك مالا
وأنكر الغرماء فإن قلنا لا يقبل اقراره حلفوا واستحقوا العبد وكسبه وان قلنا يقبل اقراره لم يقبل
في كسبه وكان للغرماء أن يحلفوا أنهم لا يعلمون أنه أعتقه قبل الكسب ويأخذون كسبه لأن اقراره
إنما قبل في العتق دون غيره لصحته منه ولبنائه على التغليب والسراية فلا يقبل في المال لعدم ذلك
فيه ولأننا نزلنا إقراره منزلة اعتاقه في الحال فلا تثبت له الحرية فيما مضى فيكون كسبه محكوما به
لسيده كما لو أقر بعتقه ثم أقر له بعين في يده
(فصل) فإن كان المبيع أرضا فبناها المشتري أو غرسها ثم أفلس فأراد البائع الرجوع في الأرض
نظرت فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس والبناء فلهم ذلك لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا
قلعوه فللبائع الرجوع في أرضه لأنه وجد متاعه بعينه قال أصحابنا ويستحق الرجوع قبل القلع وهو
474

مذهب الشافعي، ويحتمل ان لا يستحقه حتى يوجد القلع لأنه قبل القلع لم يدرك متاعه الا مشغولا
بملك المشتري فأشبه ما لو كانت مسامير في باب المشتري، فإن قلنا له الرجوع قبل القلع فقلعوه لزمهم تسوية
الأرض من الحفر وأرش نقص الأرض الحاصل به لأن ذلك نقص حصل لتخليص ملك المفلس فكان
عليه كما لو دخل فصيله دار انسان وكبر فأراد صاحبه اخراجه فلم يمكن الا بهدم بابها فإن الباب
يهدم ليخرج ويضمن صاحبه ما نقص بخلاف ما إذا وجد البائع عين ماله ناقصة فرجع فيها فإنه لا يرجع
في النقص لأن النقص كان في ملك المفلس وههنا حدث بعد رجوعه في العين فلهذا ضمنوه ويضرب
بالنقص مع الغرماء، وان قلنا ليس له الرجوع قبل القلع لم يلزمهم تسوية الحفر ولا أرش النقص لأنهم
فعلوا ذلك في ارض المفلس قبل رجوع البائع فيها فلم يضمنوا النقص كما لو قلعه المفلس قبل فلسه
فأما ان امتنع المفلس والغرماء من القلع فلهم ذلك ولا يجبرون عليه لأنه غرس بحق، ومفهوم قوله عليه
السلام " ليس لعرق ظالم حق " انه إذا لم يكن ظالما فله حق، فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء
ليكون له الكل أو قال أنا أقلع وأضمن ما نقص فإن قلنا له الرجوع قبل القلع فله ذلك لأن البناء
والغراس حصل في ملكه لغيره بحق فكان له أخذه بقيمته أو قلعه وضمان نقصه كالشفيع إذا أخذ الأرض
وفيها غراس وبناء للمشتري والمعير إذا رجع في أرضه بعد غرس المستعير. وان قلنا ليس له الرجوع
قبل القلع لم يكن له ذلك لأن بناء المفلس وغرسه في ملكه فلم يجبر على بيعه لهذا البائع ولا على قلعه كما
475

لو لم يرجع في الأرض، فاما ان امتنع البائع من بذل ذلك سقط حق الرجوع، وهذا قول ابن حامد
وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وقال القاضي يحتمل ان له الرجوع، وهو القول الثاني للشافعي
لأنه أدرك متاعه بعينه وفيه مال المشتري على وجه التبع فلم يمنعه ذلك الرجوع كالثوب إذا صبغه المشتري
ولنا أنه لم يدرك متاعه على وجه يمكنه أخذه منفردا عن غيره فلم يكن له اخذه كالحجر في البناء والمسامير
في الباب ولان في ذلك ضررا على المشتري والغرماء ولا يزال الضرر بالضرر ولأنه لا يحصل بالرجوع
ههنا انقطاع النزاع والخصومة بخلاف ما إذا وجدها غير مشغولة بشئ، واما الثوب إذا صبغه فلا
نسلم ان له الرجوع فهو كمسئلتنا وان سلمنا فالفرق بينهما من وجهين (أحدهما) أن الصبغ تفرق في
الثوب فصار كالصفة فيه بخلاف البناء والغرس فإنه أعيان متميزة وأصل في نفسه (والثاني) ان الثوب
لا يراد للبقاء بخلاف الأرض فإذا قلنا لا يرجع فلا كلام وان قلنا يرجع فرجع واتفق الجميع
على بيعهما بيعا لهما واخذ كل واحد بقدر حقه وان امتنع أحدهما من البيع احتمل ان يجبر عليه كما لو
كان المبيع ثوبا فصبغه المشتري فإن الثوب يباع لهما كذا ههنا، ويحتمل ان لا يجبر لأنه أمكن طالب
البيع ان يبيع ملكه مفردا بخلاف الثوب المصبوغ. فإن بيعا لهما قسما الثمن على قدر القيمتين فتقوم
الأرض غير ذات شجر ولا بناء ثم تقوم وهما فيها فما كان قيمة الأرض بغير غراس ولا بناء فللبائع
قسطه من الثمن وما زاد فهو للمفلس والغرماء، وان قلنا لا يجبر الممتنع على البيع أو لم يطلب أحدهما البيع
476

فاتفقا على كيفية كونهما بينهما جاز ما اتفقا عليه وان اختلفا كانت الأرض للبائع والغراس والبناء للمفلس والغرماء
ولهم دخول الأرض لسقي الشجر وأخذ الثمرة وليس لهم دخولها للتفرج ولغير حاجة، وللبائع دخولها
للزرع ولما شاء لأن الأرض له وملكه، وان باعوا الشجر والبناء لانسان فحكمه في ذلك حكمهم ولو
بذل المفلس والغرماء أو المشتري منهم قيمة الأرض للبائع ليدفعها لهم لم يلزمه ذلك لأن الأرض أصل
فلا يجبر على بيعها بخلاف ما فيها من الغرس والبناء
(فصل) إذا اشترى غراسا فغرسه في أرضه ثم أفلس ولم يزد الغراس فله الرجوع فيه لأنه
أدرك متاعه بعينه وإذا أخذه فعليه تسوية الأرض وأرش نقصها الحاصل بقلعه لأنه نقص حصل
لتخليص ملكه من ملك غيره. وإن بذل المفلس والغرماء له قيمته ليملكوه بذلك لم يجبر على قبولها
لأنه إذا اختار أخذ ماله وتفريغ ملكهم وإزالة ضرره عنهم لم يكن لهم منعه كالمشتري إذا غرس
في الأرض المشفوعة، وان امتنع من القلع فبذلوا له القيمة ليملكه المفلس أو أرادوا قلعه وضمان النقص
فلهم ذلك، وكذلك إذا أرادوا قلعه من غير ضمان النقص لأن المفلس إنما ابتاعه مقلوعا فلم يجب عليه
ابقاؤه في أرضه، وقيل ليس لهم قلعه من غير ضمان النقص لأنه غرس بحق فأشبه غرس المفلس في
الأرض التي ابتاعها إذا رجع بائعها فيها، والفرق بينهما ظاهر فإن ابقاء الغراس في هذه الصورة
حق عليه فلم يجب عليه بفعله وفي التي قبلها ابقاؤه حق له فوجب له بغراسه في ملكه فإن اختار بعضهم
477

القلع وبعضهم التبقية قدم قول من طلب القلع سواء كان المفلس أو الغرماء أو بعض الغرماء لأن الابقاء
ضرر غير واجب فلم يلزم الممتنع منه الإجابة إليه، وان زاد الغراس في الأرض فهي زيادة متصلة تمنع
الرجوع على قول الخرقي ولا تمنعه على رواية الميموني
(فصل) وان اشترى أرضا من رجل وغراسا من آخر فغرسه فيها ثم أفلس ولم يزد الشجر
فلكل واحد منهما الرجوع في عين ماله ولصاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان نقصه بالقلع على
ما ذكرنا لأن البائع إنما باعه مقلوعا فلا يستحقه إلا كذلك، وان أراد بائعه قلعه من الأرض فقلعه
فعليه تسوية الحفر وضمان نقصها الحاصل به لما تقدم، وإن بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لصاحبها
لتملكها لم يجبر على ذلك لأن الأرض أصل فلا يجبر على بيعها تبعا، وان بذل صاحب الأرض قيمة
الغراس ليملكه إذا امتنع من القلع فله ذلك لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه غرس المفلس
في أرض البائع، ويحتمل أن لا يملك ذلك لأنه لا يجبر على ابقائه إذا امتنع من دفع قيمته أو أرش
نقصه فلا يكون له أن يتملكه بالقيمة بخلاف التي قبلها والأول أولى وهذا ينتقض بغرس الغاصب
(فصل) الشرط الثالث أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئا فإن كان قد قبض بعض ثمنها سقط
حق الرجوع وبهذا قال إسحاق والشافعي في القديم، وقال في الجديد له أن يرجع في قدر ما بقي
من الثمن لأنه سبب ترجع به العين كلها إلى العاقد فجاز أن يرجع به بعضها كالفرقة قبل الدخول في النكاح.
478

وقال مالك هو مخير ان شاء رد ما قبضه ورجع في جميع العين وان شاء حاص الغرماء ولم يرجع، ولنا
ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أيما رجل باع سلعة فأدرك
سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئا فهي له وإن كان قد قبض من ثمنها شيئا فهو
أسوة الغرماء " رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني ولان في الرجوع في قسط ما بقي تبعيضا للصفقة
على المشتري وإضرارا به وليس ذلك للبائع، فإن قيل لا ضرر عليه في ذلك لأن ماله يباع ولا يبقى له
فيزول عنه الضرر. قلنا لا يندفع الضرر بالبيع فإن قيمته تنقص بالتشقيص ولا يرغب فيه مشقصا فيتضرر
المفلس والغرماء بنقص القيمة ولأنه سبب يفسخ به البيع فلم يجز تشقيصه كالرد بالعيب والخيار، وقياس
البيع على البيع أولى من قياسه على النكاح، ولا فرق بين كون المبيع عينا واحدا أو عينين لما ذكرنا
من الحديث والمعنى. فإن قيل حديثكم يرويه أبو بكر بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ولا
حجة في المراسيل: قلنا قد رواه مالك وموسى بن عقبة عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن
عن أبي هريرة كذلك ذكره ابن عبد البر وأخرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني في سننهم
متصلا فلا يضر ارسل من أسله فإن راوي المسند معه زيادة لا يعارضها ترك مرسل الحديث لها وعلى
أن المرسل حجة فلا يضر إرساله
(فصل) الشرط الرابع أن لا يكون تعلق بها حق الغير فإن رهنها المشتري ثم أفلس أو وهبها لم
479

يملك البائع الرجوع كما لو باعها أو أعتقها، ولان في الرجوع إضرار بالمرتهن ولا يزال الضرر بالضرر
ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " وهذا لم يجده عند
المفلس ولا نعلم في هذا خلافا، فإن كان دين المرتهن دون قيمة الرهن بيع كله فقضي منه دين المرتهن
والباقي يرد على سائر مال المفلس ويشترك الغرماء فيه، وإن بيع بعضه فباقيه بينهم يباع لهم أيضا ولا
يرجع به البائع. وقال القاضي له الرجوع به وهو مذهب الشافعي لأنه عين ماله لم يتعلق به حق غيره
ولنا أنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له أخذه كما لو كان الدين مستغرقا له وما ذكره القاضي لا يخرج
على المذهب لأن تلف بعض المبيع يمنع الرجوع فكذلك ذهاب بعضها بالبيع. ولو رهن بعض العبد لم
يكن للبائع الرجوع في باقيه لما ذكرنا، وإن كان المبيع عينين فرهن إحداهما فهل يملك البائع الرجوع
في الأخرى؟ على وجهين بناء على الروايتين فيما إذا تلفت إحدى العينين. وإن فك الرهن قبل فلس
المشتري أو أبرأ من دينه فللبائع الرجوع لأنه أدرك متاعه بعينه عند المشتري وان أفلس وهو رهن
فأبرأ المرتهن المشتري من دينه أو قضى الدين من غيره فللبائع الرجوع أيضا كذلك
(فصل) وإن كان عبدا فأفلس المشتري بعد تعلق أرش الجناية برقبته ففيه وجهان (أحدهما)
ليس للبائع الرجوع لأن تعلق الرهن به يمنع الرجوع وأرش الجناية يقدم على حق المرتهن فأولى
أن لا يرجع ذكره أبو الخطاب (والثاني) لا يمنع الرجوع فيه لأنه حق لا يمنع تصرف المشتري فيه
فلم يمنع الرجوع كالدين في ذمته وفارق الرهن فإنه يمنع تصرف المشتري فيه، فإن قلنا لا يرجع
480

فحكمه حكم الرهن، وان قلنا له الرجوع فهو مخيرا ان شاء رجع فيه ناقصا بأرش الجناية وان شاء
ضرب بثمنه مع الغرماء وان أبرأ الغريم من الجناية فللبائع الرجوع فيه لأنه وجد متاعه بعينه
خاليا من تعلق حق غيره به
(فصل) وان أفلس بعد خروج المبيع من ملكه ببيع أو هبة أو وقف أو عتق أو غير ذلك لم
يكن للبائع الرجوع لأنه لم يدرك متاعه بعينه عند المفلس سواء كان المشتري يمكنه استرجاعه بخيار
له أو عيب في ثمنه أو رجوعه في هبة ولده أو غير ذلك لما ذكرنا وخروج بعضه كخروج جميعه لما تقدم
فإن أفلس بعد رجوع ذلك إلى ملكه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) له الرجوع للخبر ولأنه وجد عين
ماله خاليا عن حق غيره أشبه ما لو لم يبعه (والثاني) لا يرجع لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك
فسخه ذكر أصحابنا هذين الوجهين ولأصحاب الشافعي مثل ذلك (والثالث) إن عاد إليه بسبب جديد
كبيع أو هبة أو ارث أو وصية أو نحو ذلك لم يكن للبائع الرجوع لأنه لم يصر إليه من جهته وان عاد
إليه بفسخ كالإقالة والرد بعيب أو خيار ونحو ذلك فللبائع الرجوع لأن هذا الملك استند إلى السبب
الأول فإن فسخ العقد الثاني لا يقتضي ثبوت الملك وإنما أزال السبب المزيل لملك البائع فثبت الملك بالسبب
الأول فملك استرجاع ما ثبت الملك فيه ببيعه
481

(فصل) وإن كان المبيع شقصا مشفوعا ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) البائع أحق به. هذا قول
ابن حامد للخبر ولأنه إذا رجع فيه عاد الشقص إليه فزال الضرر عن الشفيع لأنه عاد كما كان قبل البيع
ولم تتجدد شركة غيره (والثاني) أن الشفيع أحق ذكره أبو الخطاب لأن حقه أسبق فكان أولى، بيانه
ان حق البائع ثبت بالحجر وحق الشفيع ثبت بالبيع ولان حقه آكد لأنه يستحق انتزاع الشقص من
المشتري وممن نقله إليه وحق البائع إنما يتعلق بالعين ما دامت في يد المشتري ولا يزول الضرر عنه برده
إلى البائع بدليل ما لو باعه المشتري لبائعه أو وهبه إياه أو أقاله لم يسقط حق الشفيع ولان البائع إنما يستحق
الرجوع في عين لم يتعلق بها حق الغير وهذه قد تعلق بها حق الشفيع
(الوجه الثالث) أن الشفيع إن كان طالب بالشفعة فهو أحق لأن حقه تأكد هنا بالمطالبة وإن كان
لم يطالب بها فالبائع أولى ولأصحاب الشافعي وجهان كالأولين، ولهم وجه ثالث أن الثمن يؤخذ من
الشفيع فيختص به البائع جمعا بين الحقين فإن غرض الشفيع في عين الشقص المشفوع وغرض البائع
في ثمنه فيحصل ذلك بما ذكرنا وليس هذا جيدا لأن حق البائع إنما ثبت في العين فإذا صار الامر إلى
وجوب الثمن تعلق بذمته فساوى الغرماء فيه
(فصل) وإن كان المبيع صيدا فأفلس المشتري والبائع محرم لم يرجع فيه لأنه تملك للصيد فلم يجز
مع الاحرام كشراء الصيد، وإن كان البائع حلالا في الحرم والصيد في الحل فأفلس المشتري فللبائع
482

الرجوع فيه لأن الحرم إنما يحرم الصيد الذي فيه وهذا ليس من صيده فلا يحرم، ولو أفلس المحرم وفي
ملكه صيد بائعه حلال فله أخذه لأن المانع غير موجود في حقه
(فصل) وإذا أفلس وفي يده عين مال دين بائعها مؤجل وقلنا لا يحل الدين بالفلس فقال احمد
في رواية الحسن بن ثواب يكون ماله موقوفا إلى أن يحل دينه فيختار البائع الفسخ أو الترك، وهذا قول
بعض أصحاب الشافعي. والمنصوص عن الشافعي أنه يباع في الديون الحالة ويتخرج لنا مثل ذلك لأنها
حقوق حالة فقدمت على الدين المؤجل كدين من لم يجد عين ماله وللأول الخبر ولان حق هذا البائع
تعلق بالعين فقدم على غيره وإن كان مؤجلا كالمرتهن والمجني عليه
(فصل) قال أحمد في رجل ابتاع طعاما نسيئة ونظر إليه وقلبه وقال اقبضه غدا فمات البائع وعليه
دين فالطعام للمشتري ويتبعه الغرماء في الثمن وإن كان رخيصا وكذلك قال الثوري وإسحاق لأن
الملك ثبت للمشتري فيه بالشراء وزال ملك البائع عنه فلم يشاركه غرماء البائع فيه كما لو قبضه
(الشرط الخامس) أن يكون المفلس حيا ويأتي شرح ذلك في آخر الباب إن شاء الله تعالى
(فصل) ورجوع البائع في المبيع فسخ للبيع لا يحتاج إلى معرفة المبيع ولا القدرة على تسليمه ولا
اشتباه المبيع بغيره فلو رجع في المبيع الغائب بعد مضي مدة يتغير فيها ثم وجده على حاله لم يتلف
شئ منه صح رجوعه وإن رجع في العبد بعد إباقه أو الجمل بعد شروده أو الفرس العاثر صح
483

وصار ذلك له فإن قدر عليه أخذه وان ذهب كان من ماله، وان تبين انه كان تالفا حين استرجاعه
لم يصح استرجاعه وكان له ان يضرب مع الغرماء في الموجود من ماله وان رجع في المبيع واشتبه
بغيره فقال البائع هذا هو المبيع وقال المفلس بل هذا فالقول قول المفلس لأنه منكر لاستحقاق ما
ادعاه البائع والأصل معه.
{مسألة} قال (ومن وجب له حق بشاهد فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا
معه ويستحقوا)
وجملة ذلك أن المفلس في الدعوى كغيره فإذا ادعى حقا له به شاهد عدل وحلف مع شاهده
ثبت المال وتعلقت به حقوق الغرماء. وان امتنع لم يجبر لأننا لا نعلم صدق الشاهد، ولو ثبت الحق
بشهادته لم يحتج إلى يمين معه فلا يجبر على الحلف على مالا يعلم صدقه كغيره، فإن قال الغرماء نحن
نحلف مع الشاهد لم يكن لهم ذلك، وبهذا قال الشافعي في الجديد وقال في القديم يحلفون معه لأن
حقوقهم تعلقت بالمال فكان لهم أن يحلفوا كالورثة يحلفون على مال موروثهم
ولنا انهم يثبتون ملكا لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز لهم ذلك كالمرأة تحلف لاثبات
ملك لزوجها لتعلق نفقتها به وكالورثة قبل موت موروثهم وفارق ما بعد الموت فإن المال انتقل إليهم
وهم يثبتون بأيمانهم ملكا لأنفسهم
484

{مسألة} قال (وإذا كان على المفلس دين مؤجل لم يحل بالتفليس وكذلك في الدين
الذي على الميت إذا وثق الورثة)
وجملته ان الدين المؤجل لا يحل بفلس من هو عليه رواية واحدة. قاله القاضي، وذكر أبو الخطاب
فيه رواية أخرى أنه يحل وبه قال مالك وعن الشافعي كالمذهبين واحتجوا بان الافلاس يتعلق به
الدين بالمال فأسقط الاجل كالموت.
ولنا أن الاجل حق للمفلس فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ولأنه لا يوجب حلول ماله فلا يوجب حلول
ما عليه كالجنون والاغماء. ولأنه دين مؤجل على حي فلم يحل قبل أجله كغير المفلس ولا نسلم أن الدين يحل
بالموت
فهو كمسئلتنا وان سلمنا فالفرق بينهما ان ذمته خربت وبطلت بخلاف المفلس، إذا ثبت هذا فإنه إذا
حجر على المفلس فقال أصحابنا لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة غرماء الديون الحالة بل يقسم المال
الموجود بين أصحاب الديون الحالة ويبقي المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله، فإن لم يقتسم الغرماء حتى
حل الدين شارك الغرماء كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته، وان أدرك بعض المال قبل قسمه شاركهم
فيه ويضرب فيه بجميع دينه ويضرب سائر الغرماء ببقية ديونهم، وان قلنا إن الدين يحل فإنه يضرب
مع الغرماء بدينه كغيره من أرباب الديون الحالة، فاما ان مات وعليه ديون مؤجلة فهل تحل بالموت
فيه روايتان (إحداهما) لا تحل إذا وثق الورثة، وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق
485

وأبي عبيد، وقال طاوس وأبو بكر بن محمد والزهري وسعيد بن إبراهيم الدين إلى اجله، وحكي ذلك
عن الحسن (والرواية الأخرى) انه يحل بالموت وبه قال الشعبي والنخعي وسار ومالك والثوري
والشافعي وأصحاب الرأي لأنه لا يخلوا إما ان يبقى في ذمة الميت أو الورثة أو يتعلق بالمال، لا يجوز
بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها. ولا ذمة الورثة لأنهم لم يلتزموها ولا رضي صاحب
الدين بذممهم وهي مختلفة متباينة. ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين
ولا نفع للورثة فيه. اما الميت فلان النبي صلى الله عليه وسلم قال " الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه " واما صاحبه
فيتأخر حقه وقد تتلف العين فيسقط حقه، واما الورثة فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها
وان حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم.
ولنا ما ذكرنا في المفلس ولان الموت ما جعل مبطلا للحقوق وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة
على الوراثة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك حقا أو مالا فلورثته " وما ذكروه اثبات حكم بالمصلحة
المرسلة ولا يشهد لها شاهد الشرع باعتبار ولا خلاف في فساد هذا، فعلى هذا يبقى الدين في ذمة الميت
كما كان ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه فإن أحب الورثة أداء
الدين والتزامه للغريم ويتصرفون في المال لم يكن لهم ذلك الا أن يرضى الغريم أو يوثقوا الحق بضمين
ملئ أو رهن يثق به لوفاء حقه فإنهم قد لا يكونوا أملياء ولم يرض بهم الغريم فيؤدي إلى فوات الحق
وذكر القاضي ان الحق ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورثهم من غير أن يشترط التزامهم له ولا ينبغي
486

أن يلزم الانسان دين لم يلتزمه ولم يتعاط سببه ولو لزمهم ذلك لموت موروثهم للزمهم وان لم يخلف
وفاء، وان قلنا إن الدين يحل بالموت فأحب الورثة القضاء من غير التركة واستخلاص التركة فلهم
ذلك، وان قضوا منها فلهم ذلك، وان امتنعوا من القضاء باع الحاكم من التركة ما يقضى به الدين،
وان مات مفلس وله غرماء بعض ديونهم مؤجل وبعضها حال وقلنا المؤجل يحل بالموت تساووا في
التركة فاقتسموها على قدر ديونهم، وان قلنا لا يحل بالموت نظرنا فإن وثق الورثة لصاحب المؤجل
اختص أصحاب الحال بالتركة وان امتنع الورثة من التوثيق حل دينه وشارك أصحاب الحال لئلا
يفضي إلى اسقاط دينه بالكلية
(فصل) حكى بعض أصحابنا فيمن مات وعليه دين هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة؟
روايتين (إحداهما) لا يمنعه للخبر ولان تعلق الدين بالمال لا يزيل الملك في حق الجاني والراهن
والمفلس فلم يمنع نقله فإن تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره صح تصرفهم ولزمهم أداء الدين
فإن تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم كما لو باع السيد عبده الجاني أو النصاب الذي وجبت فيه الزكاة
(والرواية الثانية) يمنع نقل التركة إليهم لقول الله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين) فجعل
التركة للوارث من بعد الدين والوصية فلا يثبت لهم الملك قبلهما فعلى هذا لو تصرف الورثة
لم يصح تصرفهم لأنهم تصرفوا في غير ملكهم الا أن يأذن الغرماء لهم وان تصرف الغرماء لم
يصح إلا باذن الورثة
487

" مسألة " قال (وكل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يقفه الحاكم فجائز)
يعني قبل أن يحجر عليه الحاكم فنبدأ بذكر سبب الحجر فنقول: إذا رفع إلى الحاكم رجل عليه
دين فسأل غرماؤه الحاكم الحجر لم يجبهم حتى نثبت ديونهم باعترافه أو ببينة، فإذا ثبتت نظر في
ماله فإن كان وافيا بدينه لم يحجر عليه وأمره بقضاء دينه فإن أبى حبسه فإن لم يقضه وصبر على الحبس
قضى الحاكم دينه من ماله وان احتاج إلى بيع ماله في قضاء دينه باعه وإن كان ماله دون دينه وديونه
مؤجلة لم يحجر عليه لأنه لا تستحق مطالبته بها فلا يحجر عليه من أجلها، وإن كان بعضها مؤجلا وبعضها
حالا وماله يفي بالحال لم يحجر عليه أيضا كذلك. وقال بعض أصحاب الشافعي ان ظهرت أمارات
الفلس لكون ماله بإزاء دينه ولا نفقة له إلا من ماله ففيه وجهان (أحدهما) يحجر عليه لأن الظاهر أن
ماله يعجز عن ديونه فهو كما لو كان ماله ناقصا. ولنا ان ماله واف بما يلزمه أداؤه فلم يحجر عليه
كما لو لم تظهر أمارات الفلس ولا الغرماء لا يمكنهم طلب حقوقهم في الحال فلا حاجة إلى الحجر، وأما إن
كانت ديونه حالة يعجز ماله عن أدائها فسأل غرماؤه الحجر عليه لزمته إجابتهم، ولا يجوز الحجر
عليه بغير سؤال غرمائه لأنه لا ولاية له في ذلك وإنما يفعله لحق الغرماء فاعتبر رضاهم به. وان اختلفوا فطلب
بعضهم دون بعض أجيب من طلب لأنه حق له وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: ليس للحاكم
الحجر عليه فإذا أدى اجتهاده إلى الحجر عليه ثبت لأنه فصل مجتهد فيه، وليس له التصرف في ماله
لأنه لا ولاية عليه الا ان الحاكم يجبره على البيع إذا لم يمكن الايفاء بدونه فإن امتنع لم يبعه وكذلك
إن امتنع الموسر من وفاء الدين لا يبيع ماله وإنما يحبسه ليبيع بنفسه الا أن يكون عليه أحد النقدين
488

وماله من النقد الآخر فيدفع الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم لأنه رشيد لا ولاية عليه فلم يجز
للحاكم بيع ماله بغير أذنه كالذي لا دين عليه وخالفه صاحباه في ذلك، ولنا ما روى كعب بن مالك ان
النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله في دينه رواه الخلال باسناده. وروي عن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه انه خطب الناس وقال: ألا ان أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج
فأدان معرضا فأصبح وقد رين به فمن كان له عليه مال فليحضر غدا فانا بائعوا ماله وقاسموه بين غرمائه
ولأنه محجور عليه محتاج إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله بغير رضاه كالصغير والسفيه ولأنه نوع مال فجاز
بيعه في قضاء دينه كالأثمان وقياسهم يبطل ببيع الدراهم بالدنانير. إذا ثبت هذا عدنا إلى مسألة الكتاب
فنقول: ما فعله المفلس قبل حجر الحاكم عليه من بيع أو هبة أو اقرار أو قضاء بعض الغرماء أو
غير ذلك فهو جائز نافذ: وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم أحدا خالفهم ولأنه رشيد
غير محجور عليه فنفذ تصرفه كغيره ولان سبب المنع الحجر فلا يتقدم سببه ولأنه من أهل التصرف
ولم يحجر عليه فأشبه الملئ وان اكرى جملا بعينه أو دارا لم تنفسخ اجارته بالفلس وكان المكتري
أحق به حتى تنقضي مدته.
(فصل) ومتى حجر عليه لم ينفذ تصرفه في شئ من ماله فإن تصرف ببيع أو هبة أو وقف أو
أصدق امرأة مالا له أو نحو ذلك لم يصح وبهذا قال مالك والشافعي في قول، وقال في آخر يقف
تصرفه فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء نفذ والا بطل، ولنا انه محجور عليه بحكم حاكم فلم
يصح تصرفه كالسفيه. ولان حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله فلم يصح تصرفه فيها كالمرهونة. فاما ان
تصرف في ذمته فاشترى أو اقترض أو تكفل صح تصرفه لأنه أهل للتصرف وإنما وجد في حقه
الحجر والحجر إنما يتعلق بماله لا بذمته ولكن لا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء لأنهم رضوا بذلك
489

إذ علموا انه مفلس وعاملوه ومن لم يعلم فقد فرط في ذلك فإن هذا في مظنة الشهرة ويتبع بها بعد فك
الحجر عنه، وان أقر بدين لزمه بعد فك الحجر عنه نص عليه أحمد وهو قول مالك ومحمد بن الحسن
والثوري والشافعي في قول، وقال في الآخر يشاركهم واختاره ابن المنذر لأنه دين ثابت مضاف إلى
ما قبل الحجر فيشارك صاحبه الغرماء كما لو ثبت ببينة. ولنا أنه محجور عليه فلم يصح اقراره فيما حجر
عليه فيه كالسفيه أو كالراهن يقر على الرهن ولأنه اقرار يبطل ثبوته حق غير المقر فلم يقبل أو
اقرار على الغرماء فلم يقبل كاقرار الراهن، ولأنه متهم في اقراره فهو كالاقرار على غيره،
وفارق البينة فإنه لا تهمة في حقها، ولو كان المفلس صانعا كالقصار والحائك في يديه متاع فأقر
به لأربابه لم يقبل اقراره، والقول فيها كالتي قبلها وتباع العين التي في يديه وتقسم بين الغرماء
وتكون قيمتها واجبة على المفلس إذا قدر عليها لأنها صرفت في دينه بسبب من جهته فكانت
قيمتها عليه كما لو أذن في ذلك، وان توجهت على المفلس يمين فنكل عنها فقضي عليه فحكمه حكم
اقراره يلزم في حقه ولا يحاص الغرماء
(فصل) وان أعتق المفلس بعض رقيقة فهل يصح؟ على روايتين (إحداهما) يصح وينفذ وهو قول
أبي يوسف وإسحاق لأنه عتق من مالك رشيد فنفذ كما قبل الحجر ويفارق سائر التصرفات لأن للعتق
تغليبا وسراية ولهذا يسري إلى ملك الغير ويسري واقفه بخلاف غيره (والرواية الأخرى) لا ينفذ
عتقه وبهذا قال مالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي واختاره أبو الخطاب في رؤوس المسائل لأنه
ممنوع من التبرع لحق الغرماء فلم ينفذ عتقه كالمريض الذي يستغرق دينه ماله ولان المفلس محجور
عليه فلم ينفذ عتقه كالسفيه وفارق المطلق واما سرايته إلى ملك الغير فمن شرطه أن يكون موسرا يؤخذ
منه قيمة نصيب شريكه فلا يتضرر ولو كان معسرا لم ينفذ عتقه الا فيما يملك صيانة لحق الغير وحفظا
له عن الضياع كذا ههنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى
490

(فصل) ويستحب اظهار الحجر عليه لتجتنب معاملته كيلا يستضر الناس بضياع أموالهم عليه
والاشهاد عليه لينتشر ذلك عنه وربما عزل الحاكم أو مات فيثبت الحجر عند الآخر فيمضيه ولا يحتاج
إلى ابتداء حجر ثان
(فصل) وان ثبت عليه حق ببينة شارك صاحبه الغرماء لأنه دين ثابت قبل الحجر عليه فأشبه ما لو
قامت البينة به قبل الحجر و لو جنى المفلس بعد الحجر جناية أوجبت مالا شارك المجني عليه الغرماء لأن
حق المجني عليه ثبت بغير اختياره ولو كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا صاحبها عنها إلى مال أو صالحه
المفلس على مال شارك الغرماء لأن سببه ثبت بغير اختيار صاحبه فأشبه ما لو أوجبت المال، فإن قيل ألا
قدمتم حقه على الغرماء كما قدمتم حق من حنى عليه بعض عبيد المفلس؟ قلنا لأن الحق في العبد الجاني
تعلق بعينه فقدم لذلك وحق هذا تعلق بالذمة كغيره من الديون فاستويا
(فصل) ولو قسم الحاكم ماله بين غرمائه ثم ظهر غريم آخر رجع على الغرماء بقسطه وبهذا قال
الشافعي وحكي ذلك عن مالك وحكي عنه لا يحاصهم لأنه نقض لحكم الحاكم، ولنا انه غريم لو كان
حاضرا قاسمهم فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم كغريم الميت يظهر بعد قسم ماله. وليس قسم الحاكم ماله
حكما أنما هو قسمة بان الخطأ فيها فأشبه ما لو قسم مال الميت بن غرمائه ثم ظهر غريم آخر أو قسم
أرضا بين شركاء ثم ظهر شريك آخر أو قسم الميراث بين ورثة ثم ظهر وارث سواه أو وصية
ثم ظهر موصى له آخر.
(فصل) ولو أفلس وله دار مستأجرة فانهدمت بعد قبض المفلس الأجرة انفسخت الإجارة
فيما بقي من المدة وسقط من الأجرة بقدر ذلك، ثم إن وجد عين ماله أخذ بقدر ذلك وان لم يجده
ضرب مع الغرماء بقدره وإن كان ذلك بعد قسم ماله رجع على الغرماء بحصته لأنه سبب وجوبه
قبل الحجر ولذلك يشاركهم إذا وجب قبل القسمة، ولو باع سلعة وقبض ثمنها ثم أفلس فوجد بها
المشتري عيبا فردها به أوردها بخيار أو اختلاف في الثمن ونحوه ووجد عين ماله اخذها لأن البيع
491

لما انفسخ زال ملك المفلس عن الثمن كزوال ملك المشتري عن المبيع وإن كان بعد تصرفه فيه
شارك المشتري الغرماء.
{مسألة} قال (وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته بالمعروف من ماله إلى أن
يفرغ من قسمته بين غرمائه)
وجملة ذلك أنه إذا حجر على المفلس وكان ذا كسب يقي بنفقته ونفقة من تلزمه نفقته فنفقته في
كسبه فإنه لا حاجة إلى اخراج ماله مع غناه بكسبه فلم يجز أخذ ماله كالزيادة على النفقة، وإن كان
كسبه دون نفقته كملناها من ماله وان لم يكن ذا كسب أنفق عليه من ماله مدة الحجر وان طالت لأن ملكه
باق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " ومعلوم أن فيمن يعوله من تجب نفقته عليه
ويكون دينا عليه وهي الزوجة فإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة فكذلك على حق الغرماء ولان الحي
آكد حرمة من الميت لأنه مضمون بالاتلاف وتقديم تجهيز الميت ومؤنة دفنه على دينه متفق عليه فنفقته
أولى، وتقدم أيضا نفقة من تلزمه نفقته من أقاربه مثل الوالدين والمولودين وغيرهم ممن تجب نفقتهم
لأنهم يجرون مجرى نفسه لأن ذوي رحمه منهم يعتقون إذا ملكهم كما يعتق إذا ملك نفسه فكانت
نفقتهم كنفقته وكذلك زوجته تقدم نفقتها لأن نفقتها آكد من نفقة الأقارب لأنها تجب من طريق المعاوضة
وفيها معنى الاحياء كما في الأقارب، وممن أوجب الانفاق على المفلس وزوجته وأولاده الصغار من
492

ماله أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم أحدا خالفهم وتجب كسوتهم أيضا لأن ذلك مما لابد منه ولا
تقوم النفس بدونه والواجب من النفقة والكسوة أدنى ما ينفق على مثله بالمعروف وأدنى ما يكتسي
مثله إن كان من جنس الطعام أو متوسطة وكذلك كسوته من جنس ما يكتسيه مثله وكسوة امرأته
ونفقتها مثل ما يقترض على مثله، وأقل ما يكفيه من اللباس قميص وسراويل وشئ يلبسه على رأسه
إما. عمامة أو قلنسوة أو غيرهما مما جرت به عادته ولرجله حذاء إن كان يعتاده وان احتاج إلى جبة
أو فروة لدفع البرد دفع إليه ذلك وان كانت له ثياب لا يلبس مثله مثلها بيعت واشترى له كسوة مثلها
ورد الفضل على الغرماء فإن كانت إذا بيعت واشتري له كسوة لا يفضل منها شئ تركت فإنه
لا فائدة في بيعها
(فصل) وان مات المفلس كفن من ماله لأن نفقته كانت واجبة من ماله في حال حياته فوجب
تجهيزه منه بعد الموت كغيره وكذلك يجب كفن من يمونه لأنهم بمنزلته ولا يلزم تكفين الزوجة لأن
النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع وقد فات بالموت فسقطت النفقة. ويفارق الأقارب لأن قرابتهم باقية،
وان مات من عبيده أحد وجب تكفينه وتجهيزه لأن نفقته ليست في مقابلة الانتفاع به ولذلك تجب
نفقة الصغير والمبيع قبل التسليم. ويكفن في ثلاثة أثواب كما كان يلبس في حياته ثلاثة، ويحتمل أن
يكفن في ثوب واحد يستره لأن ذلك يكفيه فلا حاجة إلى الزيادة وفارق حالة الحياة لأنه لابد له
من تغطية رأسه وكشف ذلك يؤذيه بخلاف الميت، ويمتد الانفاق على المفلس إلى حين فراغه من القسمة
بين الغرماء لأنه لا يزول ملكه إلا بذلك، ومذهب الشافعي في هذا الفصل قريب مما ذكرنا.
493

" مسألة " قال (ولا تباع دراه التي لا غنى له عن سكناها)
وجملته ان المفلس إذا حجر عليه باع الحاكم ماله ويستحق ان يحضر الفلس البيع لمعان أربعة
(أحدهما) ليحصي ثمنه ويضبطه (الثاني) انه اعرف بثمن متاعه وجيده ورديئه فإذا حضر تكلم عليه
وعرف الغبن من غيره (الثالث) ان تكثر الرغبة فيه فإن شراءه من صاحبه أحب إلى المشتري
(الرابع) ان ذلك أطيب لنفسه واسكن لقلبه، ويسحب إحضار الغرماء أيضا لأمور أربعة (أحدها)
انه يباع لهم (الثاني) انهم ربما رغبوا في شراء شئ منه فزادوا في ثمنه فيكون أصلح لهم وللمفلس (الثالث)
أنه أطيب لقلوبهم وابعد من التهمة (الرابع) انه ربما كان فيهم من يجد عين ماله فيأخذها فإن لم يفعل
وباعه من غير حضورهم كلهم جاز لأن ذلك موكول إليه ومفوض إلى اجتهاده وربما أداء اجتهاده إلى
خلاف ذلك وبانت له المصلحة في المبادرة إلى البيع قبل احضارهم، ويأمرهم الحاكم ان يقيموا مناديا
ينادي لهم على المتاع فإن تراضوا برجل ثقة أمضاه الحاكم وان اتفقوا على غير ثقة رده، فإن قيل فلم يرده
وأصحاب الحق قد اتفقوا عليه فأشبه ما لو اتفق الراهن والمرتهن على أن يبيع الرهن غير ثقة لم يكن
للحاكم الاعتراض؟ قلنا لأن للحاكم ههنا نظرا واجتهادا فإنه قد يظهر غريم آخر فيتعلق حقه به فلهذا
نظر فيه بخلاف الرهن فإنه لأنظر للحاكم فيه، فإن اختار المفلس رجلا واختار الغرماء آخر أقر الحاكم
الثقة منهما. فإن كانا ثقتين قدم المتطوع منهما لأنه أوفر. فإن كانا متطوعين ضم أحدهما إلى الآخر
وان كانا بجعل قدم أعرفهما وأوثقهما فإن تساويا قدم من يرى منهما، فإن وجد متطوعا بالنداء والا
494

دفعت الأجرة من مال المفلس لأن البيع حق عليه لكونه طريق وفاء دينه. وقيل يدفع من بيت المال
لأنه من المصالح وكذلك الحكم في اجر من يحفظ المتاع والثمن وأجر الحمالين ونحوهم، ويستحب بيع
كل شئ في سوقه البز في البزازين والكتب في سوقها ونحو ذلك لأنه أحوط وأكثر لطلابه ومعرفة
قيمته فإن باع في غير سوقه بثمن مثله جاز لأن الغرض تحصيل الثمن وربما أدى الاجتهاد إلى أن ذلك أصلح
ولذلك لو قال بع ثوبي في سوق كذا بكذا فباعه بذلك في سوق آخر جاز، ويبيع بنقد البلد لأنه أوفر
فإن كان في البلد نقود باع بغالبها فإن تساوت باع بجنس الدين، وان زاد في السلعة زائد في مدة الخيار
لزم الأمين الفسخ لأنه أمكنه بيعه بثمن فلم يجز بيعه بدونه كما لو زيد فيه قبل العقد. وان زاد بعد
لزوم العقد استحب للأمين سؤال المشتري الإقالة واستحب للمشتري الإجابة إلى ذلك لتعلقه بمصلحة
المفلس وقضاء دينه، فيبدأ ببيع العبد الجاني فيدفع إلى المجني عليه أقل الأمرين من ثمنه أو أرش جنايته
وما فضل منه رده إلى الغرماء، ثم ببيع الرهن فيدفع إلى المرتهن قدر دينه وما فضل من ثمنه رده إلى
الغرماء وان بقيت من دينه بقية ضرب بها مع الغرماء، ثم يبيع ما يسرع إليه الفساد من الطعام الرطب
لأن بقاءه يتلفه بيقين، ثم ببيع الحيوان لأنه معرض للاتلاف ويحتاج إلى مؤنة في بقائه ثم ببيع السلع
والأثاث لأنه يخاف عليه وتناله الأيدي ثم العقار آخرا لأنه لا يخاف تلفه وبقاؤه أشهر له وأكثر لطلابه
ومتى باع شيئا من ماله وكان الدين لواحد وحده دفعه إليه لأنه لا حاجة إلى تأخيره وإن كان له
غرماء فأمكن قسمته عليهم قسم ولم يؤخر وان لم يمكن قسمته أودع عند ثقة إلى أن يجتمع ويمكن
قسمته فيقسم وان احتاج في حفظه إلى غرامة دفع ذلك إلى من يحفظه، إذا ثبت هذا عدنا إلى مسألة
495

الكتاب فنقول لا تباع داره التي لاغنى له عن سكناها، وبهذا قال أبو حنيفة وإسحاق، وقال شريح
ومالك والشافعي تباع ويكترى له بدلها واختاره ابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي أصيب في
ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال لغرمائه " خذوا ما وجدتم " هذا مما وجدوه ولأنه عين مال المفلس
فوجب صرفه في دينه كسائر ماله
ولنا أن هذا مما لا غنى للمفلس عنه فلم يصرف في دينه كثيابه وقوته والحديث قضية في عين
ويحتمل أنه لم يكن له عقار ولا خادم، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خذوا ما وجدتم " مما تصدق
به عليه فإن المذكور قبل ذلك كذلك روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تصدقوا عليه " فتصدقوا عليه فلم
يبلغ ذلك وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا ما وجدتم " أي مما تصدق به عليه والظاهر أنه لم يتصدق
عليه بدار وهو محتاج إلى سكناها ولا خادم وهو محتاج إلى خدمته ولان الحديث مخصوص بثياب
المفلس وقوته فنقيس عليه محل النزاع وقياسهم منتقض بذلك أيضا وبأجر المسكن وسائر ماله يستغنى
عنه بخلاف مسئلتنا
(فصل) وإن كان له داران يستغني بسكنى إحداهما بيعت الأخرى لأن به غنى عن سكناها وإن كان
مسكنه واسعا لا يسكن مثله في مثله بيع واشتري له مسكن مثله ورد الفضل على الغرماء كالثياب
التي له إذا كانت رفيعة لا يلبس مثله مثلها، ولو كان المسكن والخادم اللذين لا يستغني عنهما عين مال
بعض الغرماء أو كان جميع ماله أعيان أموال أفلس بأثمانها ووجدها أصحابها فلهم اخذها بالشرائط
التي ذكرناها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به "
496

ولان حقه تعلق بالعين فكان أقوى سببا من المفلس ولان الاعسار بالثمن سبب يستحق به الفسخ فلم
يمنعه منه تعلق حاجة المشتري كما قبل القبض وكالعيب والخيار ولان منعهم من اخذ أعيان أموالهم يفتح
باب الحيل بأن يجئ من لا مال له فيشتري في ذمته ثيابا يلبسها ودارا يسكنها وخادما يخدمه وفرسا
يركبها وطعاما له ولعائلته ويمتنع على أربابها اخذها لتعلق حاجته بها فتضيع أموالهم ويستغني هو بها
فعلى هذا يؤخذ ذلك ولا يترك له شئ منه لأنه أعيان أموال الناس فكانوا أحق بها منه كما لو كانت
في أيديهم أو أخذها منهم غصبا.
(فصل) ولو كان المفلس ذا صنعة يكسب ما يمونه ويمون من تلزمه مؤنته أو كان يقدر على أن يكسب
ذلك بأن يؤجر نفسه أو يتوكل لانسان أو يكتسب من المباحات ما يكفيه لم يترك له من ماله شئ
وان لم يقدر على شئ مما ذكرناه ترك له من ماله قدر ما يكفيه. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى
في رواية أبي داود ويترك له قوت يتقوت به وإن كان له عيال ترك له قوام. قال في رواية الميموني
يترك له قدر ما يقوم به معاشه ويباع الباقي، وهذا في حق الشيخ الكبير وذوي الهيئات الذين
لا يمكنهم التصرف بأبدانهم، وينبغي ان يجعل ذلك مما لا يتعلق به حق بعضهم بعينه لأن من تعلق
حقه بالعين أقوى سببا من غيره.
(فصل) وإذا تلف شئ من مال المفلس تحت يد الأمين أو بيع شئ من ماله وأودع ثمنه
فتلف عند المودع فهو من ضمان المفلس وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: العروض من ماله والدراهم
497

والدنانير من مال الغرماء. وقال المغيرة الدنانير من مال أصحاب الدنانير والدراهم من مال أصحاب
الدراهم، ولنا انه من مال المفلس ونماؤه له فكان تلفه في ماله كالعروض
(فصل) وإذا اجتمع مال المفلس قسم بين غرمائه فإن كانت ديونهم من جنس الأثمان أخذوها
وإن كان فيهم من دينه من غير جنس الأثمان كالقرض بغير الأثمان فرضي أن يأخذ عوض حقه من
الأثمان جاز وان امتنع وطلب جنس حقه ابتيع له بحصة من جنس دينه ولو أراد الغريم الاخذ من
المال المجموع وقال المفلس لا أوفيك الا من جنس دينك قدم قوله لأن هذا على سبيل المعاوضة فلا
يجوز الا بتراضيهما عليه، وإن كان فيهم من له دين من سلم لم يجز أن يأخذ الا من جنس حقه وان
تراضيا على دفع عوضه لأن ما في الذمة من السلم لا يجوز أخذ البدل عنه لقوله صلى الله عليه وسلم " من
أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره "
(فصل) وإذا فرق مال المفلس وبقيت عليه بقية وله صنعة فهل يجبره الحاكم على ايجار نفسه
ليقضي دينه؟ على روايتين (إحداهما) لا يجبره وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى (وإن كان
ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولما روى أبو سعيد أن رجلا أصيب في ثمار ابتاعها وكثر دينه فقال النبي
صلى الله عليه وسلم " تصدقوا عليه " فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" خذوا ما وجدتم وليس لكم الا ذلك " رواه مسلم ولان هذا تكسب للمال فلم يجبره عليه كقبول الهبة
والصدقة، وكما لا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر (والثانية) يجبر على الكسب وهو قول عمر بن
498

عبد العزيز وسوار والعنبري وإسحاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع سرقا في دينه وكان سرق
رجلا دخل المدينة وذكر ان وراءه مالا فداينه الناس فركبته ديون ولم يكن وراءه مال فسماه سرقا
وباعه بخمسة أبعرة والحر لا يباع ثبت أنه باع منافعه ولان المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة
العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة وثبوت الغنى بها فكذلك في وفاء الدين منها، ولان الإجارة عقد
معاوضة فجاز اجباره عليها كبيع ماله في وفاء الدين منها ولأنها إجارة لما يملك اجارته فيجبر عليها في
وفاء دينه كإجارة أم ولده ولأنه قادر على وفاء دينه فلزمه كمالك ما يقدر على الوفاء منه، فإن قيل
حديث سرق منسوخ بدليل أن الحر لا يباع والبيع وقع على رقبته بدليل ان في الحديث أن الغرماء
قالوا لمشتريه ما تصنع به؟ قال أعتقه قالوا لسنا بأزهد منك في اعتاقه فأعتقوه قلنا هذا اثبات النسخ
بالاحتمال ولا يجوز ولم يثبت أن بيع الحر كان جائزا في شريعتنا، وحمل لفظ بيعه على بيع منافعه
أسهل من حمله على بيع رقبته المحرم فإن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه سائغ كثير في
القرآن وفي كلام العرب كقوله تعالى (وأشربوا في قلوبهم العجل) (ولكن البر من آمن بالله)
(واسأل القرية) وغير ذلك وكذلك قوله أعتقه اي من حقي عليه وكذلك قال فاعتقوه يعني الغرماء
وهم لا يملكون الا الدين الذي عليه. وأما قوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)
فيتوجه منع كونه داخلا تحت عمومها فإن هذا في حكم الأغنياء في حرمان الزكاة وسقوط نفقته عن
قريبه ووجوب نفقة قريبه عليه، وحديثهم قضية عين لا يثبت حكمها الا في مثلها ولم يثبت ان لذلك
الغريم كسبا يفضل عن قدر نفقته، وأما قبول الهبة والصدقة ففيه منة ومعرة تأباها قلوب ذوي
499

المروءات بخلاف مسئلتنا. إذا ثبت هذا فلا يجبر على الكسب الا من في كسبه فضلة عن نفقته ونفقة
من يمونه على ما تقدم ذكره.
(فصل) ولا يجبر على قبول هدية ولا صدقة ولا وصية ولا قرض ولا تجبر المرأة على التزويج
ليأخذ مهرها لأن في ذلك ضررا للحوق المنة في الهدية والصدقة والوصية والعوض في
القرض وملك الزوج للمرأة في النكاح ووجوب حقوقه عليها، ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس
فالخيار بحاله، ولا يجبر على ما فيه الحظ من الرد والامضاء لأن الفلس يمنعه من احداث عقد
أما من امضائه وتنفيذ عقوده فلا، وإن جني على المفلس جناية توجب المال ثبت المال وتعلقت
حقوق الغرماء به، ولا يصح منه العفو عنه وان كانت موجبة للقصاص فهو مخير بين القصاص والعفو
ولا يجبر على العفو على مال لأن ذلك يفوت القصاص الذي يجب لمصلحته فإن اقتص لم يجب للغرماء
شئ، وان عفا على مال ثبت وتعلقت حقوق الغرماء به، وان عفا مطلقا انبنى على الروايتين في موجب
العمد ان قلنا القصاص خاصة لم يثبت شئ وسقط القصاص، وان قلنا أحد أمرين ثبتت له الدية وتعلقت
بها حقوق الغرماء، وان عفا على غير مال فعلى الروايتين أيضا فإن قلنا القصاص عينا لم يثبت شئ وان
قلنا أحد الامرين تثبت الدية ولم يصح اسقاطه لأن عفوه عن القصاص يثبت له الدية ولا يصح
اسقاطها، وان وهب هبة يشترط الثواب ثم أفلس فبذل له الثواب لزمه قبوله ولم يكن له اسقاطه لأنه
أخذه على سبيل العوض عن الموهوب فلزمه قبوله كالثمن في البيع وليس له اسقاط شئ من ثمن مبيع
500

أو أجرة في إجارة ولا قبضه رديئا ولا قبض المسلم فيه دون صفاته إلا باذن غرمائه ومذهب الشافعي
في هذا الفصل كله كمذهبنا
(فصل) إذا فرق مال المفلس فهل ينفك عنه الحجر بذلك أو يحتاج إلى فك الحجر عنه؟ فيه
وجهان (أحدهما) يزول بقسمة ماله لأنه حجر عليه لأجله فإذا زال ملكه عنه زال سبب الحجر فزال
الحجر كزوال حجر المجنون لزوال جنونه (والثاني) لا يزول الا بحكم الحاكم لأنه ثبت بحكمه فلا يزول
الا بحكمه كالمحجور عليه لسفه وفارق الجنون فإنه يثبت بنفسه فزال بزواله ولان فراغ ماله يحتاج إلى
معرفة وبحث فوقف ذلك على الحاكم بخلاف الجنون
(فصل) ومتى ثبت اعساره عند الحاكم لم يكن لاحد مطالبته ولا ملازمته وبهذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة: لغرمائه ملازمته من غير أن يمنعوه من الكسب فإذا رجع إلى بيته فأذن لهم في الدخول دخلوا
معه والا منعوه من الدخول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لصاحب الحق اليد واللسان " ولنا ان من ليس
لصاحب الحق مطالبته لم يكن له ملازمته كما لو كان دينه مؤجلا وقول الله تعالى (فنظرة إلى ميسرة)
ومن وجب انظاره حرمت ملازمته كمن دينه مؤجل والحديث فيه مقال قاله ابن المنذر ثم نحمله على
الموسر بدليل ما ذكرنا فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه
" خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " رواه مسلم والترمذي وان فك الحجر عنه لم يكن لاحد مطالبته
ولا ملازمته حتى يملك مالا فإن جاء الغرماء عقيب فك الحجر عنه فادعوا ان له مالا لم يلتفت إلى قولهم
حتى يثبتوا سببه فإن جاءوا بعد مدة فادعوا ان في يده مالا أو ادعوا ذلك عقيب فك الحجر وبينوا
501

سببه أحضره الحاكم وسأله فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه ما فك الحجر عنه حتى لم يبق له شئ
وان أقر وقال هو لفلان وأنا وكيله أو مضاربه وكان المقر له حاضرا سأله الحاكم فإن صدقه فهو له
ويستحلفه الحاكم لجواز أن يكونا تواطأ على ذلك ليدفع المطالبة عن المفلس، وان قال ما هو لي عرفنا
كذب المفلس فيصير كأنه قال المال لي فيعاد الحجر عليه ان طلب الغرماء ذلك. وان أقر لغائب أقر
في يديه حتى يحضر الغائب ثم يسأل كما حكمنا في الحاضر، ومتى أعيد الحجر عليه لديون تجددت عليه
شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني الا ان الأولين يضربون ببقية ديونهم والآخرين يضربون
بجميعها وبهذا قال الشافعي، وقال مالك لا يدخل غرماء الحجر الأول على هؤلاء الذين تجددت
حقوقهم حتى يستوفوا إلا أن تكون له فائدة من ميراث أو يجنى عليه جناية فيتحاص الغرماء فيه. ولنا
انهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته فتساووا في الاستحقاق كالذين تثبت حقوقهم في حجر واحد
وكتساويهم في الميراث وأرش الجناية ولان مكسبه مال له فتساووا فيه كالميراث
{مسألة} قال (ومن وجب عليه حق فذكر انه معسر به حبس إلى أن يأتي
ببينة تشهد بعسرته)
وجملته أن من وجب عليه دين حال فطولب به ولم يؤده نظر الحاكم فإن كان في يده مال ظاهر
أمره بالقضاء فإن ذكر أنه لغيره فقد ذكرنا حكمه في الفصل الذي قبل هذا وان لم يجد له مالا ظاهرا
فادعى الاعسار فصدقه غريمه لم يحبس ووجب انظاره ولم تجز ملازمته لقول الله تعالى (وإن كان
ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي كثر دينه " خذوا ما وجدتم وليس
لكم الا ذلك " ولان الحبس إما أن يكون لاثبات عسرته أو لقضاء دينه وعسرته ثابتة والقضاء متعذر
502

فلا فائدة في الحبس، وان كذبه غريمه فلا يخلو إما أن يكون عرف له مال أو لم يعرف فإن عرف له
مال لكون الدين ثبت عن معاوضة كالقرض والبيع أو عرف له أصل مال سوى هذا فالقول قول غريمه
مع يمينه فإذا حلف انه ذو مال حبس حتى تشهد البينة باعساره. قال ابن المنذر أكثر من نحفظ عنه من
علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين منهم مالك والشافعي وأبو عبيد والنعمان وسوار وعبيد الله
ابن الحسن، وروي عن شريح والشعبي وكان عمر بن عبد العزيز يقول يقسم ماله بين الغرماء ولا
يحبس، وبه قال عبد الله بن جعفر والليث بن سعد، ولنا ان الظاهر قول الغريم فكان القول قوله
كسائر الدعاوى فإن شهدت البينة بتلف ماله قبلت شهادتهم سواء كانت من أهل الخبرة الباطنة أو
لم تكن لأن التلف يطلع عليه أهل الخبرة وغيرهم وان طلب الغريم احلافه على ذلك لم يجب إليه لأن
ذلك تكذيب للبينة وان شهدت مع ذلك بالاعسار اكتفي بشهادتها وثبتت عسرته، وان لم تشهد
بعسرته وإنما شهدت بالتلف لا غير وطلب الغريم يمينه على عسره وأنه ليس له مال آخر استحلف
على ذلك لأنه غير ما شهدت به البينة، وان لم تشهد بالتلف وإنما شهدت بالاعسار لم تقبل الشهادة
الا من ذي خبرة باطنة ومعرفة متقادمة لأن هذا من الأمور الباطنة لا يطلع عليه في الغالب الا أهل
الخبرة والمخالطة وهذا مذهب الشافعي، وحكي عن مالك أنه قال لا تسمع البينة على الاعسار لأنها
شهادة على النفي فلم تسمع كالشهادة على أنه لا دين عليه
ولنا ما روى قبيصة بن المخارق ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له " يا قبيصة ان المسألة لا تحل
الا لاحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل اصابته جائحة فاجتاحت
503

ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال - سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى
يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من
عيش - أو قال - سدادا من عيش " رواه مسلم وأبو داود وقولهم ان الشهادة على النفي لا تقبل
قلنا لا ترد مطلقا فإنه لو شهدت البينة ان هذا وارث الميت لا وارث له سواه قبلت ولأن هذه وان
كانت تتضمن النفي فهي تثبت حالة تظهر ويوقف عليها بالمشاهدة بخلاف ما إذا شهدت أنه لا حق
له فإن هذا مما لا يوقف عليه ولا يشهد به حال يتوصل بها إلى معرفته به بخلاف مسئلتنا وتسمع البينة
في الحال، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تسمع في الحال ويحبس شهرا، وروي ثلاثة أشهر
وروي أربعة أشهر حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لاظهره. ولنا ان كل بينة جاز
سماعها بعد مدة جاز سماعها في الحال كسائر البينات، وما ذكروه لو كان صحيحا لاغنى عن البينة.
فإن قال الغريم احلفوه لي مع يمينه أنه لا مال له لم يستحلف في ظاهر كلام احمد لأنه قال في رواية
إسحاق ابن إبراهيم في رجل جاء بشهود على حق فقال الغريم استحلفوه لا يستحلف لأن ظاهر
الحديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر. قال القاضي: سواء شهدت البينة بتلف المال أو
بالاعسار وهذا أحد قولي الشافعي لأنها بينة مقبولة فلم يستحلف معها كما لو شهدت بأن هذا عبده أو
هذه داره ويحتمل ان يستحلف، وهذا القول الثاني للشافعي لأنه يحتمل ان له مالا خفي على البينة
ويصح عندي الزامه اليمين على الاعسار فيما إذا شهدت البينة بتلف المال وسقوطها عنه فيما إذا شهدت
بالاعسار لأنها إذا شهدت بالتلف صار كمن لم يثبت له أصل مال أو بمنزلة من أقر له غريمه بتلف
504

ذلك المال وادعى أن له مالا سواه أو انه استحدث مالا بعد تلفه ولو لم تقم البينة وأقر له غريمه بتلف
ماله وادعى ان له مالا سواه لزمته اليمين فكذلك إذا قامت به البينة فإنها لا تزيد على الاقرار، وإن كان
الحق يثبت عليه في غير مقابلة مال اخذه كأرش جناية وقيمة متلف ومهر أو ضمان أو كفالة
أو عوض خلع إن كان امرأة وان لم يعرف له مال حلف انه لا مال له وخلي سبيله ولم يحبس
وهذا قول الشافعي وابن المنذر فإن شهدت البينة باعساره قبلت ولم يستحلف معها لما تقدم، وان
شهدت أنه كان له مال فتلف لم يستغن بذلك عن يمينه لما ذكرناه وكذلك لو أقر له به غريمه وإنما
اكتفينا بيمينه لأن الأصل عدم المال لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحبة وسواء ابني خلد بن سواء
" لا تيئسا من الرزق ما اهتزت رؤوسكما فإن ابن آدم يخلق وليس له الا قشرتاه ثم يرزقه الله تعالى "
قال ابن المنذر الحبس عقوبة ولا نعلم له ذنبا يعاقب به والأصل عدم ماله بخلاف المسألة الأولى
فإن الأصل ثبوت ماله فيحبس حتى يعلم ذهابه والخرقي لم يفرق بين الحالين لكنه يحمل كلامه
على ما ذكرنا لقيام الدليل على الفرق
(فصل) إذا امتنع الموسر من قضاء الدين فلغريمه ملازمته ومطالبته والاغلاظ له بالقول فيقول
يا ظالم يا متعدي ونحو ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه "
فعقوبته حبسه وعرضه أي يحل القول في عرضه بالأغلاظ وقال النبي صلى الله عليه وسلم " مطل الغني
ظلم " وقال " إن لصاحب الحق مقالا "
{مسألة} قال (وإذا مات فتبين أنه كان مفلسا لم يكن لاحد من الغرماء أن
يأخذ عين ماله)
هذا الشرط الخامس لاستحقاق استرجاع عين المال من المفلس وهو أن يكون حيا فإن مات
فالبائع أسوة الغرماء سواء علم بفلسه قبل الموت فحجر عليه ثم مات أو مات فتبين فلسه وبهذا قال مالك
وإسحاق، وقال الشافعي له الفسخ واسترجاع العين لما روى ابن خلدة الزرقي قاضي المدينة قال:
أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال أبو هريرة هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه
505

وسلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه، رواه أبو داود وابن
ماجة واحتجوا بعموم قوله عليه السلام " من أدرك متاعه بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو
أحق به " ولان هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فسخه لتعذر العوض كما لو تعذر المسلم فيه،
ولان الفلس سبب لاستحقاق الفسخ فجاز الفسخ به بعد الموت كالعيب
ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم في حديث المفلس " فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء " رواه أبو داود. وروى أبو اليمان
عن الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما
امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه اقتضى من ثمنه شيئا أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء " رواه ابن
ماجة، ولأنه تعلق به حق غير المفلس والغرماء وهم الورثة فأشبه المرهون. وحديثهم مجهول الاسناد
قاله ابن المنذر، قال ابن عبد البر: يرويه أبو المعتمر عن الزرقي وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم
ثم هو غير معمول به اجماعا فإنه جعل المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري من غير شرط فلسه ولا تعذر
وفائه ولا عدم قبض ثمنه والامر بخلاف ذلك عند جميع العلماء الا ما حكي عن الإصطخري من أصحاب
الشافعي أنه قال: لصاحب السلعة أن يرجع فيها إذا مات المشتري وان خلف وفاء وهذا شذوذ عن
أقوال أهل العلم وخلاف للسنة لا يعرج على مثله، وأما الحديث الآخر فنقول به وان صاحب
المتاع أحق به إذا وجده عند المفلس وما وجده في مسئلتنا عنده إنما وجده عند ورثته فلا يتناوله
الخبر وإنما يدل بمفهومه على أنه لا يستحق الرجوع فيه ثم هو مطلق وحديثنا يقيده وفيه زيادة والزيادة
من الثقة مقبولة ويفارق حالة الحياة حال الموت لامرين (أحدهما) أن الملك في الحياة للمفلس وههنا
لغيره (والثاني) ان ذمة المفلس خربت ههنا خرابا لا يعود فاختصاص هذا بالعين يستضر به الغرماء
كثيرا بخلاف حالة الحياة
{مسألة} قال (ومن أراد سفرا وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب
الحق منعه)
وجملة ذلك أن من عليه الدين إذا أراد السفر وأراد غريمه منعه نظرنا فإن كان محل الدين قبل
506

محل قدومه من السفر مثل أن يكون سفره إلى الحج لا يقدم الا في صفر ودينه يحل في المحرم أوذي
الحجة فله منعه من السفر لأن عليه ضررا في تأخير حقه عن محله فإن أقام ضمينا مليئا أو دفع رهنا
يفي بالدين عند المحل فله السفر لأن الضرر يزول بذلك، وأما إن كان الدين لا يحل الا بعد محل
السفر مثل أن يكون محله في ربيع وقدومه في صفر نظرنا فإن كان سفره إلى الجهاد فله منعه الا بضمين أو
رهن لأنه سفر يتعرض فيه للشهادة وذهاب النفس فلا يأمن فوات الحق، وإن كان السفر لغير الجهاد
فظاهر كلام الخرقي أنه ليس له منعه وهو أحد الروايتين عن أحمد لأن هذا السفر ليس بامارة على
منع الحق في محله فلم يملك منعه منه كالسفر القصير وكالسعي إلى الجمعة، وقال الشافعي ليس له منعه من السفر
ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلا بحال سواء كان الدين يحل قبل محل سفره أو بعده أو إلى الجهاد
أو إلى غيره لأنه لا يملك المطالبة بالدين فلم يملك منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل كالسفر الآمن القصير،
ولنا أنه سفر يمنع استيفاء الدين في محله فملك منعه منه ان لم يوثقه بكفيل أو رهن كالسفر بعد حلول
الحق، ولأنه لا يملك تأخير الدين عن محله، وفي السفر المختلف فيه تأخيره عن محله فلم يملكه كجحده
507

كتاب الحجر
الحجر في اللغة المنع والتضييق ومنه سمي الحرام حجرا قال الله تعالى (ويقولون حجرا محجورا)
أي حراما محرما ويسمى العقل حجرا قال الله تعالى (هل في ذلك قسم لذي حجر؟) أي عقل سمي
حجرا لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته وهو في الشريعة منع الانسان من التصرف في
ماله والحجر على ضربين: حجر على الانسان لحق نفسه وحجر عليه لحق غيره، فالحجر عليه لحق
غيره كالحجر على المفلس لحق غرمائه وعلى المريض في التبرع بزيادة على الثلث أو التبرع بشئ لوارث
لحق ورثته وعلى المكاتب والعبد لحق سيدهما والراهن يحجر عليه في الرهن لحق المرتهن ولهؤلاء أبواب
يذكرون فيها. وأما المحجور عليه لحق نفسه فثلاثة الصبي والمجنون والسفيه وهذا الباب مختص
508

بهؤلاء الثلاثة والحجر عليهم حجر عام لأنهم يمنعون التصرف في أموالهم وذممهم والأصل في الحجر
عليهم قول الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) والآية التي بعدها، قال
سعيد بن جبير وعكرمة هو مال اليتيم عندك لا تؤته إياه وأنفق عليه وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء
وهي لغيرهم لأنهم قوامها ومدبروها، وقوله تعالى (وابتلوا اليتامى) يعنى اختبروهم في حفظهم لأموالهم
(حتى إذا بلغوا النكاح) أي مبلغ الرجال والنساء (فإن آنستم منهم رشدا) أي أبصرتم وعلمتم منهم
حفظا لأموالهم وصلاحا في تدبير معايشهم
{مسألة} قال أبو القاسم رحمه الله (ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ)
509

الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (أحدها) في وجوب دفع المال إلى المحجور عليه إذا رشد
وبلغ وليس فيه اختلاف بحمد الله تعالى، قال ابن المنذر اتفقوا على ذلك وقد أمر الله تعالى به في
نص كتابه قوله سبحانه (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم
أموالهم) ولان الحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظا لما له عليه
وبهذين المعنيين يقدر على التصرف ويحفظ ماله فيزول الحجر لزوال سببه، ولا يعتبر في زوال الحجر
عن المجنون إذا عقل حكم حاكم بغير خلاف ولا يعتبر ذلك في الصبي إذا رشد وبلغ وبهذا قال الشافعي
وقال مالك لا يزول الا بحاكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه موضع اجتهاد ونظر فإنه يحتاج
في معرفة البلوغ والرشد إلى اجتهاد فيوقف ذلك على حكم الحاكم كزوال الحجر عن السفيه، ولنا ان
الله تعالى أمر بدفع أموالهم إليهم عند البلوغ وايناس الرشد فاشتراط حكم الحاكم زيادة تمنع الدفع عند
وجوب ذلك بدون حكم الحاكم وهذا خلاف النص ولأنه حجر بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه
كالحجر على المجنون وبهذا فارق السفيه، وقد ذكر أبو الخطاب ان الحجر على السفيه يزول بزوال
السفه والأول أولى فصار الحجر منقسما إلى ثلاثة أقسام: قسم يزول بغير حكم حاكم وهو حجر المجنون
وقسم لا يزول الا بحاكم وهو حجر السفيه وقسم فيه الخلاف وهو حجر الصبي
510

(الفصل الثاني) أنه لا يدفع إليه ماله قبل وجود الامرين البلوغ والرشد ولو صار شيخا وهذا
قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر يرون
الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيرا وهذا قول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وبه
قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وروى الجوزجاني في كتابه قال كان القاسم بن محمد يلي أمر
شيخ من قريش ذي أهل ومال فلا يجوز له أمر في ماله دونه لضعف عقله قال ابن إسحاق رأيته
شيخا يخضب وقد جاء إلى القاسم بن محمد فقال يا أبا محمد ادفع إلى مالي فإنه لا يولى على مثلي فقال إنك
فاسد. فقال امرأته طالق البتة وكل مملوك له حر ان لم تدفع إلي مالي. فقال له القاسم بن محمد وما يحل
لنا أن ندفع إليك مالك على حالك هذه فبعث إلى امرأته وقال هي حرة مسلمة وما كنت لأحبسها
عليك وقد فهت بطلاقها فأرسل إليها فأخبرها ذلك وقال أما رقيقك فلا عتق لك ولا كرامة فحبس رقيقه.
قال ابن إسحاق ما كان يعاب على رجل الا سفهه، وقال أبو حنيفة لا يدفع ماله إليه قبل خمس
وعشرين سنة وان تصرف نفذ تصرفه فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة فك عنه الحجر ودفع إليه ماله
511

لقول الله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) وهذا قد بلغ أشده
ويصلح أن يكون جدا ولأنه حر بالغ عاقل مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد
ولنا قول الله تعالى، وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم
أموالهم) علق الدفع على شرطين والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما وقال الله تعالى (ولا تؤتوا
السفهاء أموالكم) يعني أموالهم وقول الله تعالى (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع
أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) فأثبت الولاية على السفيه ولأنه مبذر لماله فلا يجوز دفعه إليه كمن له
دون ذلك، وأما الآية التي احتج بها فإنما تدل بدليل خطابها وهو لا يقول به ثم هي مخصصة فيما قبل
خمس وعشرين سنة بالاجماع لعلة السفه وهو موجود بعد خمس وعشرين فيجب أن تخص به أيضا كما
انها لما خصصت في حق المجنون لأجل جنونه قبل خمس وعشرين خصت أيضا بعد خمس وعشرين وما
ذكرناه من المنطوق أولى مما استدل به من المفهوم المخصص وما ذكروه من كونه جدا ليس تحته معنى
يقتضي الحكم ولا له أصل يشهد له في الشرع فهو اثبات للحكم بالتحكم ثم هو متصور فيمن له دون
هذا السن فإن المرأة تكون جدة لاحدى وعشرين سنة وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين
سنة وما أوجب الحجر قبل خمس وعشرين يوجبه بعدها، إذا ثبت هذا فإنه لا يصح تصرفه ولا اقراره،
512

وقال أبو حنيفة يصح بيعه واقراره وإنما لا يسلم إليه ماله لأن البالغ عنده لا يحجر عليه وإنما منع تسليم
ماله إليه للآية، وقال أصحابنا في اقراره يلزمه بعد فك الحجر عنه إذا كان بالغا. ولنا أنه لا يدفع
إليه ماله لعدم رشده فلا يصح تصرفه واقراره كالصبي والمجنون، ولأنه إذا نفذ تصرفه واقراره
تلف ماله ولم يفد منعه من ماله شيئا ولان تصرفه لو كان نافذا لسلم إليه ماله كالرشيد فإنه إنما يمنع
ماله حفظا له فإذا لم يتحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الأصل
(الفصل الثالث في البلوغ) ويحصل في حق الغلام والجارية بأحد ثلاثة أشياء وفي حق الجارية
بشيئين يختصان بها. أما الثلاثة المشتركة بين الذكر والأنثى فاولها خروج المني من قبله وهو الماء
الدافق الذي يخلق منه الولد فكيفما خرج في يقظة أو منام بجماع أو احتلام أو غير ذلك حصل به
البلوغ لا نعلم في ذلك اختلافا لقول الله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا - وقوله -
ولا الذين لم يبلغوا الحلم منكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم "
وقوله عليه السلام لمعاذ " خذ من كل حالم دينارا " رواهما أبو داود. قال ابن المنذر وأجمعوا على أن
الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل وعلى المرأة بظهور الحيض منها. وأما الانبات فهو أن
ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو فرج المرأة الذي استحق أخذه بالموسى. وأما الزغب الضعيف
فلا اعتبار به فإنه يثبت في حق الصغير، وبهذا قال مالك والشافعي في قول وقال في الآخر وهو بلوغ
في حق المشركين وهل هو بلوغ في حق المسلمين؟ فيه قولان، وقال أبو حنيفة لا اعتبار به لأنه نبات
513

شعر فأشبه نبات شعر سائر البدن. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة
حكم بان تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وأمر أن يكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن
لم ينبت ألحقوه بالذرية وقال عطية القرظي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا
في فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلي هل أنبت بعد؟ فنظروا إلي فلم يجدوني أنبت بعد
فالحقوني بالذرية متفق على معناه. وكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله أن لا تأخذ الجزية إلا ممن جرت
عليه المواسي، وروى محمد بن يحي بن حبان ان غلاما من الأنصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر
فلم يجده أنبت فقال لو أنبت الشعر لحددتك، ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا ويستوي فيه الذكر والأنثى
فكان علما على البلوغ كالاحتلام ولان الخارج ضربان متصل ومنفصل فلما كان من المنفصل ما يثبت
به البلوغ كذلك المتصل وما كان بلوغا في حق المشركين كان بلوغا في حق المسلمين كالاحتلام والسن
وأما السن فإن البلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وأبو
يوسف ومحمد وقال دواد لاحد للبلوغ من السن لقوله عليه السلام " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي
حتى يحتلم " واثبات البلوغ بغيره يخالف الخبر وهذا قول مالك، وقال أصحابه سبع عشرة أو ثماني
عشرة، وروي عن أبي حنيفة في الغلام روايتان (إحداهما) سبع عشرة (والثانية) ثماني عشرة،
والجارية سبع عشرة بكل حال لأن الحد لا يثبت إلا بتوقيف أو اتفاق ولا توقيف في هذا ولا اتفاق
ولتا ان ابن عمر قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يحزني
في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني. متفق عليه. وفي لفظ عرضت عليه يوم أحد
وأنا ابن أربع عشرة فردني ولم يرني بلغت، وعرضت عليه عام الخندق وانا ابن خمس عشرة فأجازني
514

فأخبر بهذا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة رواه الشافعي
في مسنده ورواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وروي عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا
استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأخذت منه الحدود " ولان السن معنى يحصل
به البلوغ يشترك فيه الغلام والجارية فاستويا فيه كالانزال وما ذكره أصحاب أبي حنيفة فمما رويناه
جواب عنه وما احتج به داود لا يمنع اثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل ولهذا كان انبات
الشعر علما عليه، وأما الحيض فهو علم على البلوغ لا نعلم فيه خلافا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل
الله صلاة حائض الا بخمار " رواه الترمذي وقال حديث حسن، وأما الحمل فهو علم على البلوغ لأن
الله تعالى أجرى العادة ان الولد لا يخلق الا من ماء الرجل وماء المرأة. قال الله تعالى (فلينظر
الانسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج (1) من بين الصلب والترائب) وأخبر النبي صلى الله
عليه وسلم بذلك في الأحاديث فمتى حملت حكم ببلوغها في الوقت الذي حملت فيه
(فصل) وإذا وجد خروج المني من ذكر الخنثى المشكل فهو علم على بلوغه وكونه رجلا وان خرج
من فرجه أو حاض فهو علم على بلوغه وكونه امرأة، وقال القاضي ليس واحد منهما علما على البلوغ
فإن اجتمعا فقد بلغ، وهذا مذهب الشافعي لجواز أن يكون الفرج الذي خرج منه ذلك خلقة زائدة
ولنا أن خروج البول من أحد الفرجين دليل على كونه رجلا أو امرأة فخروج المني والحيض
أولى وإذا ثبت كونه رجلا خرج المني من ذكره أو امرأة خرج الحيض من فرجها لزم وجود البلوغ

(1) المشهور أن الضمير في يخرج للماء الدافق وأن المراد صلب
الرجل وترائب المرأة وفيه إشكال للأطباء وأجيب عنه بأجوبة منها قول
شيخنا إنهما كناية عن اجتماع الرجل والمرأة الاجتماع الخاص الذي يكون سببا
لخروجه من بينهما ووقوعه في الرحم. لو قيل إن الضمير للانسان وما بين الصلب
والترائب بطن الام لزال الاشكال من أصله
515

ولان خروج مني الرجل من المرأة والحيض من الرجل مستحيل فكان دليلا على التعيين فإذا ثبت
التعيين لزم كونه دليلا على البلوغ كما لو تعين قبل خروجه ولأنه مني خارج من ذكر أو حيض خارج
من فرج فكان علما على البلوغ كالمني الخارج من الغلام والحيض الخارج من الجارية ولأنهم سلموا أن
خروجهما معا دليل على البلوغ فخروج أحدهما منفردا أولى لأن خروجهما معا يقتضي تعارضهما واسقاط
دلالتهما إذ لا يتصور أن يجتمع حيض صحيح ومني رجل فيلزم أن يكون أحدهما فضلة خارجة من
غير محلها وليس أحدهما بذلك أولى من الآخر فتبطل دلالتهما كالبينتين إذا تعارضتا وكالبول. إذا
خرج من المخرجين جميعا بخلاف ما إذا وجد أحدهما منفردا فإن الله تعالى أجرى العادة بان الحيض
يخرج من فرج المرأة عند بلوغها ومني الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه فإذا وجد ذلك من غير
معارض وجب أن يثبت حكمه ويقضي بثبوت دلالته كالحكم بكونه رجلا بخروج البول من ذكره
وبكونه امرأة بخروجه من فرجها والحكم للغلام بالبلوغ بخروج المني من ذكره وللجارية بخروج
الحيض من فرجها فعلى هذا ان خرجا معا لم يثبت كونه رجلا ولا امرأة لأن الدليلين تعارضا فأشبه
ما لو خرج البول من الفرجين وهل يثبت البلوغ بذلك؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت، وهو اختيار
القاضي ومذهب الشافعي لأنه إن كان رجلا فقد خرج المني من ذكره وإن كان امرأة فقد حاضت
(والثاني) لا يثبت لأنه يجوز أن لا يكون هذا حيضا ولا منيا فلا يكون فيه دلالة وقد دل تعارضهما
على ذلك فانتفت دلالتهما على البلوغ كانتفاء دلالتهما على الذكورية والأنوثية والله أعلم.
516

{مسألة} قال (وكذلك الجارية وان لم تنكح)
يعني أن الجارية إذا بلغت وأونس رشدها بعد بلوغها دفع إليها مالها وزال الحجر عنها وان لم
تتزوج، وبهذا قال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ونقل أبو طالب عن
أحمد لا يدفع إلى الجارية مالها بعد بلوغها حنى تتزوج وتلد أو يمضي عليها سنة في بيت الزوج، روي
ذلك عن عمر وبه قال شريح والشعبي وإسحاق لما روي عن شريح أنه قال عهد إلي عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد ولدا رواه سعيد في سننه
ولا يعرف له مخالف فصار اجماعا، وقال مالك لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج ويدخل عليها زوجها
لأن كل حالة جاز للأب تزويجها من غير اذنها لم ينفك عنها الحجر كالصغيرة
ولنا عموم قوله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم
أموالهم) ولأنها يتيم بلغ وأونس منه الرشد فيدفع إليه ماله كالرجل ولأنها بالغة رشيدة فجاز لها التصرف
في مالها كالتي دخل بها الزوج وحديث عمر ان صح فلم يعلم انتشاره في الصحابة ولا يترك به الكتاب
والقياس، على أن حديث عمر مختص بمنع العطية فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر
التصرفات ومالك لم يعمل به وإنما اعتمد على اجبار الأب لها على النكاح، ولنا ان نمنع ذلك وان سلمناه
517

فإنما أجبرها على النكاح لأن اختبارها للنكاح ومصالحه لا يعلم الا بمباشرته والبيع والشراء والمعاملات
ممكنة قبل النكاح، وعلى هذه الرواية إذا لم تتزوج أصلا احتمل أن يدوم الحجر عليها عملا بعموم حديث
عمر ولأنه لم يوجد شرط دفع مالها إليها فلم يجز دفعه إليها كما لو ترشد، وقال القاضي عندي أنه يدفع
إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال يعنى كبرت
(فصل) وظاهر كلام الخرقي أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة وهذا
إحدى الروايتين عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر، وعن أحمد رواية أخرى
ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض الا باذن زوجها، وبه قال مالك وحكي عنه
في امرأة حلفت أن تعتق جارية لها ليس لها غيرها فحنثت ولها زوج فرد ذلك عليها زوجها قال له أن
يرد عليها وليس لها عتق لما روي أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي صلى الله عليه وسلم بحلي لها فقال لها النبي
صلى الله عليه وسلم " ولا يجوز للمرأة عطية حتى يأذن زوجها فهل استأذنت كعبا؟ " فقالت نعم فبعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى كعب فقال " هل أذنت لها أن تتصدق بحليها؟ " قال نعم فقبله رسول الله صلى الله
عليه وسلم رواه ابن ماجة، وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال في خطبة خطبها " لا يجوز لامرأة عطية في مالها الا باذن زوجها إذ هو مالك عصمتها "
رواه أبو داود ولفظه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يجوز لامرأة
518

عطية الا باذن زوجها " ولان حق الزوج متعلق بمالها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تنكح المرأة
لمالها وجمالها ودينها " والعادة أن الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها ويتبسط فيه وينتفع به
فإذا أعسر بالنفقة أنظرته فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال المريض.
ولنا قوله تعالى (فإن آنستم منه رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) وهو ظاهر في فك الحجر عنهم
واطلاقهم في التصرف وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن "
وانهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل وأتته زينب امرأة عبد الله وامرأة أخرى اسمها
زينب فسألته عن الصدقة هل يجزيهن أن يتصدقن على أزواجهن وأيتام لهن؟ فقال " نعم " ولم يذكر
لهن هذا الشرط ولان من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير أذن كالغلام ولأن المرأة
من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه كأختها
وحديثهم ضعيف وشعيب لم يدرك عبد الله بن عمرو فهو مرسل وعلى أنه محمول على أنه لا يجوز عطيتها
لماله بغير أذنه بدليل أنه يجوز عطيتها ما دون الثلث من مالها وليس معهم حديث يدل على تحديد
المنع بالثلث فالتحديد بذلك تحكم ليس فيه توقيف ولا عليه دليل وقياسهم على المريض غير صحيح
لوجوه (أحدها) أن المرض سبب يفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث والزوجية إنما تجعله من أهل
الميراث فهي أحد وصفي العلة فلا يثبت الحكم بمجردها كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر
519

الوارث بدون المرض (الثاني) ان تبرع المريض موقوف فإن برئ من مرضه صح تبرعه وههنا
أبطلوه على كل حال والفرع لا يزيد على أصله (الثالث) أن ما ذكروه منتقض بالمرأة فإنها تنتفع
بمال زوجها وتتبسط فيه عادة ولها النفقة منه وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بما لها وليس لها الحجر
عليه وعلى أن هذا المعنى ليس بموجود في الأصل ومن شرط صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم
في الأصل والفرع جميعا
(فصل) وهل يجوز للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشئ اليسير بغير أذنه؟ على روايتين (إحداهما)
الجواز لأن عائشة قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير
مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم
شئ " ولم يذكر إذنا وعن أسماء أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ليس لي
شئ ألا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح ان أرضخ مما يدخل علي فقال " ارضخي ما استطعت
ولا توعي فيوعى عليك " متفق عليهما وروي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول
الله إنا كل على أزواجنا وآبائنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال " الرطب تأكلينه وتهدينه " ولان العادة
السماح بذلك وطيب النفس فجرى مجرى صريح الاذن كما أن تقديم الطعام بين يدي الاكلة قام
مقام صريح الاذن في أكله (والرواية الثانية) لا يجوز لما روى أبو أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله
520

صلى الله عليه وسلم يقول " لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا باذن زوجها " قيل يا رسول الله ولا الطعام؟
قال " ذاك أفضل أموالنا " رواه سعيد في سننه وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل مال امرء مسلم
الا عن طيب نفس منه " وقال " إن الله حرم بينكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في شهركم
هذا في بلدكم هذا " ولأنه تبرع بمال غيره بغير إذنه فلم يجز كغير الزوجة، والأول أصح لأن
الأحاديث فيها خاصة صحيحة والخاص يقدم على العام ويبينه ويعرف أن المراد بالعام غير هذه الصورة
المخصوصة والحديث الخاص لهذه الرواية ضعيف ولا يصح قياس المرأة على غيرها لأنها بحكم العادة
تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه وتتصدق منه لحضورها وغيبته والاذن العرفي يقوم مقام الاذن
الحقيقي فصار كأنه قال لها افعلي هذا، فإن منعها ذلك وقال لا تتصدقي بشئ ولا تتبرعي من مالي
بقليل ولا كثير لم يجز لها ذلك لأن المنع الصريح نفى للاذن العرفي ولو كان في بيت الرجل من يقوم
مقام امرأته كجاريته أو أخته أو غلامه المتصرف في بيت سيده وطعامه جرى مجرى الزوجة فيما
ذكرنا لوجود المعنى فيه، ولو كانت امرأته ممنوعة من التصرف في بيت زوجها كالتي يطعمها بالفرض ولا
يمكنها من طعامه ولا من التصرف في شئ من ماله لم يجز لها الصدقة بشئ من ماله لعدم المعنى فيه والله أعلم
521

{مسألة} قال (والرشد الصلاح في المال)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة وقال الحسن والشافعي وابن المنذر الرشد صلاحه
في دينه وماله لأن الفاسق غير رشيد ولان افساده لدينه يمنع الثقة به في حفظ ماله كما يمنع قبول قوله
وثبوت الولاية على غيره وان لم يعرف منه كذب ولا تبذير
ولنا قول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) قال ابن عباس يعني صلاحا
في أموالهم وقال مجاهد إذا كان عاقلا ولان هذا اثبات في نكرة ومن كان مصلحا لماله فقد وجد منه
رشد ولان العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا ولان هذا مصلح
لماله فأشبه العدل يحققه أن الحجر عليه إنما كان لحفظ ماله عليه فالمؤثر فيه ما أثر في تضييع المال أو
حفظه وقولهم ان الفاسق غير رشيد قلنا: هو غير رشيد في دينه اما في ماله وحفظه فهو رشيد ثم هو
منتقض بالكافر فإنه غير رشيد ولم يحجر عليه من أجله ولو كانت العدالة شرطا في الرشد لزال بزوالها
كحفظ المال ولا يلزم من منع قبول القول منع دفع ماله إليه فإن من يعرف بكثرة الغلط والغفلة
والنسيان أو من يأكل في السوق ويمد رجليه في مجامع الناس وأشباههم لا تقبل شهادتهم وتدفع إليهم
522

أموالهم. إذا ثبت هذا فإن الفاسق إن كان ينفق ماله في المعاصي كشراء الخمر وآلات اللهو أو يتوصل
به إلى الفساد فهو غير رشيد لتبذيره لماله وتضييعه إياه في غير فائدة، وإن كان فسقه لغير ذلك
كالكذب ومنع الزكاة وإضاعة الصلاة مع حفظه لماله دفع ماله إليه لأن المقصود بالحجر حفظ
المال وماله محفوظ بدون الحجر فلا حاجة إليه ولذلك لو طرأ الفسق بعد دفع ماله إليه لم ينزع منه
(فصل) وإنما يعرف رشده باختباره لقول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح)
يعني اختبروهم كقوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملا؟) أي يختبركم، واختباره بتفويض التصرفات
التي يتصرف فيها أمثاله فإن كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء فإذا تكررت منه فلم يغبن
ولم يضيع ما في يديه فهو رشيد، وإن كان من أولاد الدهاقين والكبراء الذين يصان أمثالهم عن
الأسواق دفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحه فإن كان قيما بذلك يصرفها في مواقعها ويستوفي على
وكيله ويستقصى عليه فهو رشيد. والمرأة يفوض إليها ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات
وتوكيلها في شراء الكتان وأشباه ذلك، فإن وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها فهي
رشيدة ووقت الاختبار قبل البلوغ في إحدى الروايتين وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الله
تعالى قال (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فظاهر
الآية ان ابتلاءهم قبل البلوغ لوجهين (أحدهما) انه سماهم يتامى: وإنما يكونون يتامى قبل البلوغ
523

(والثاني) انه مد اختبارهم إلى البلوغ بلفظة حتى فدل على أن الاختبار قبله، ولان تأخير الاختبار إلى
البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد لأن الحجر يمتد إلى أن يختبر ويعلم رشده واختباره قبل البلوغ
يمنع ذلك فكان أولى، لكن لا يختبر الا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء والمصلحة من
المفسدة، ومتى أذن له وليه فتصرف صح تصرفه على ما ذكرنا فيما مضى. وقد أومأ أحمد في موضع
إلى أن اختباره بعد البلوغ لأن تصرفه قبل ذلك تصرف ممن لم يوجد فيه مظنة العقل، وقد اختلف
أصحاب الشافعي في وقت الاختبار على نحو مما ذكرنا فيما مضى من الروايتين
{مسألة} قال (فإن عاود السفه حجر عليه)
وجملته ان المحجور عليه إذا فك عنه الحجر لرشده وبلوغه ودفع إليه ماله ثم عاد إلى السفه أعيد عليه الحجر وبهذا قال القاسم بن محمد ومالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو يوسف
ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل وتصرفه نافذ وروي ذلك عن ابن سيرين
والنخعي لأنه حر مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد. ولنا اجماع الصحابة وروى عروة بن الزبير ان عبد الله
ابن جعفر ابتاع بيعا فقال علي رضي الله عنه لآتين عثمان ليحجر عليك فأتى عبد الله بن جعفر الزبير
فقال قد ابتعت بيعا وان عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر علي فقال الزبير أنا شريكك
في البيع، فأتى علي عثمان فقال إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه فقال الزبير أنا شريكه في
524

البيع فقال عثمان كيف أحجر على رجل شريكه الزبير؟ قال أحمد لم أسمع هذا الا من أبي يوسف
القاضي، وهذه قصة يشتهر مثلها ولم يخالفها أحد في عصرهم فتكون اجماعا ولان هذا سفيه فيحجر عليه
كما لو بلغ سفيها فإن العلة التي اقتضت الحجر عليه إذا بلغ سفيها سفهه وهو موجود، ولان السفه لو
قارن البلوغ منع دفع ماله إليه فإذا حدث أوجب انتزاع المال كالجنون، وفارق الرشيد فإن رشده لو
قارن البلوغ لم يمنع دفع ماله إليه
(فصل) ولا يحجر عليه الا الحاكم، وبهذا قال الشافعي وقال محمد يصير محجورا عليه بمجرد
تبذيره لأن ذلك سبب الحجر فأشبه الجنون: ولنا أن التبذير يختلف ويختلف فيه ويحتاج إلى الاجتهاد
فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد لم يثبت الا بحكم الحاكم كابتداء مدة العنة ولأنه حجر مختلف فيه فلم
يثبت الا بحكم الحاكم كالحجر على المفلس وفارق الجنون فإنه لا يفتقر إلى الاجتهاد ولا خلاف فيه،
ومتى حجر عليه ثم عاد فرشد فك الحجر عنه. ولا يزول الا بحكم الحاكم، وبه قال الشافعي وقال أبو
الخطاب: يزول السفه لأنه سبب الحجر فيزول بزواله كما في حق الصبي والمجنون
ولنا أنه حجر ثبت بحكم الحاكم فلا يزول الا به كحجر المفلس ولان الرشد يحتاج إلى تأمل
واجتهاد في معرفته وزوال تبذيره فكان كابتداء الحجر عليه، وفارق الصبي والمجنون فإن الحجر عليهما
بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه، ولأننا لو وقفنا تصرف الناس على الحاكم كان أكثر الناس محجورا
عليه. قال أحمد: والشيخ الكبير ينكر عقله يحجر عليه يعني إذا كبر واختل عقله حجر عليه بمنزلة
525

المجنون لأنه يعجز بذلك عن التصرف في ماله على وجه المصلحة وحفظه فأشبه الصبي والسفيه
{مسألة} قال (فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله)
وجملته ان الحاكم إذا حجر على السفيه استحب ان يشهد عليه ليظهر أمره فتجتنب معاملته،
وان رأى أن يأمر مناديا ينادي بذلك ليعرفه الناس فعل ولا يشترط الاشهاد عليه لأنه قد ينتشر
أمره بشهرته وحديث الناس به فإذا حجر عليه فباع واشترى كان ذلك فاسدا واسترجع الحاكم ما
باع من ماله ورد الثمن إن كان باقيا، وإن أتلفه السفيه أو تلف في يده فهو من ضمان المشتري ولا
شئ على السفيه، وكذلك ما أخذ من أموال الناس برضا أصحابها كالذي يأخذه بقرض أو شراء
أو غير ذلك رده الحاكم إن كان باقيا، وإن كان تالفا فهو من ضمان صاحبه علم بالحجر عليه أو لم يعلم
لأنه ان علم فقد فرط بدفع ماله إلى من حجر عليه، وان لم يعلم فهو مفرط إذ كان في مظنة الشهرة هذا
إذا كان صاحبه قد سلطه عليه فاما ان حصل في يده باختيار صاحبه من غير تسليط كالوديعة والعارية
فاختار القاضي أنه يلزمه الضمان ان أتلفه أو تلف بتفريطه لأنه أتلفه بغير اختيار صاحبه فأشبه ما لو
كان القبض بغير اختياره، ويحتمل أنه لا يضمن لأنه عرضها لاتلافه وسلطه عليها فأشبه المبيع،
وأما ما أخذه بغير اختيار صاحبه أو أتلفه كالغصب والجناية فعليه ضمانه لأنه لا تفريط من المالك،
ولان الصبي والمجنون لو فعلا ذلك لزمهما الضمان فالسفيه أولى ومذهب الشافعي في هذا كله كذلك
(فصل) والحكم في الصبي والمجنون كالحكم في السفيه في وجوب الضمان عليهما فيما أتلفاه من
مال غيرهما بغير إذنه أو غصباه فتلف في أيديهما وانتفاء الضمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار
صاحبه وتسليطه كالثمن والمبيع والقرض والاستدانة، وأما الوديعة والعارية فلا ضمان عليهما فيما تلف
بتفريطهما وان أتلفاه ففي ضمانه وجهان
(فصل) ولا ينظر في مال الصبي والمجنون ما داما في الحجر الا الأب أو وصيه بعده أو الحاكم
عند عدمهما، وأما السفيه فإن كان محجورا عليه صغيرا واستديم الحجر عليه لسفهه فالولي فيه من
526

ذكرناه، وإن جدد الحجر عليه بعد بلوغه لم ينظر في ماله الا الحاكم لأن الحجر يفتقر إلى حكم
حاكم وزواله يفتقر إلى ذلك فكذلك النظر في ماله
{مسألة} قال (وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا أو طلق زوجته لزمه ذلك)
وجملته ان المحجور عليه لفلس أو سفه إذا أقر بما يوجب حدا أو قصاصا كالزنا والسرقة والشرب
والقذف والقتل العمد أو قطع اليد وما أشبهها فإن ذلك مقبول ويلزمه حكم ذلك في الحال لا نعلم في
هذا خلافا. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن اقرار المحجور عليه على
نفسه جائز إذا كان اقراره بزنا أو سرقة أو شرب خمرا أو قذف أو قتل وان الحدود تقام عليه وهذا
قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا أحفط عن غيرهم خلافهم، وذلك لأنه غير متهم في حق
نفسه والحجر إنما تعلق بماله فقبل اقراره على نفسه بما لا يتعلق بالمال، وان طلق زوجته نفذ طلاقه
في قول أكثر أهل العلم، وقال ابن أبي ليلى لا يقع طلاقه لأن البضع يجري مجرى المال بدليل
انه يملكه بمال ويصح أن يزول ملكه عنه بمال فلم يملك التصرف فيه كالمال. ولنا ان الطلاق ليس
بتصرف في المال ولا يجري مجراه فلا يمنع منه كالاقرار بالحد والقصاص ودليل انه لا يجري مجرى
المال انه يصح من العبد بغير إذن سيده مع منعه من التصرف في المال ولا يملك بالميراث ولأنه مكلف
طلق امرأته مختارا فوقع طلاقه كالعبد والمكاتب
(فصل) إذا أقر بما يوجب القصاص فعفا المقر له على مال احتمل أن يجب المال لأنه عفو عن
قصاص ثابت فصح كما لو ثبت بالبينة، واحتمل أن لا يصح لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الاقرار بالمال
بان يتواطأ المحجور عليه والمقر له على الاقرار بالقصاص والعفو عنه على مال ولأنه وجوب مال مستنده
اقراره فلم يثبت كالاقرار به ابتداء، فعلى هذا القول يسقط وجوب القصاص ولا يجب المال في الحال
(فصل) وان خالع صح خلعه لأنه إذا صح الطلاق ولا يحصل منه شئ فالخلع الذي يحصل
527

به المال أولى الا ان العوض لا يدفع إليه، وان دفع إليه لم يصح قبضه، وان أتلفه لم يضمنه ولم تبرأ
المرأة بدفعه إليه وهو من ضمانها ان أتلفه أو تلف في يده لأنها سلطته على اتلافه
(فصل) وإن أعتق لم يصح عتقه وهذا قول القاسم بن محمد والشافعي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد
رواية أخرى انه يصح لأنه عتق من مكلف مالك تام الملك فصح كعتق الراهن والمفلس
ولنا انه تصرف في ماله فلم يصح كسائر تصرفاته ولأنه تبرع فأشبه هبته ووقفه ولأنه محجور
عليه لحفظ ماله عليه فلم يصح عتقه كالصبي والمجنون وفارق المفلس والراهن فإن الحجر عليهما لحق غيرهما
(فصل) وان تزوج صح النكاح بأذن وليه وبغير إذنه وبهذا قال أبو حنيفة، وقال أبو الخطاب
لا يصح بغير إذن وليه وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه تصرف يجب به مال فلم يصح بغير اذن وليه
كالشراء. ولنا انه عقد غير مالي فصح منه كخلعه وطلاقه وان لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن
فلا يمنع من العقد كما لو لزم ذلك من الطلاق
(فصل) ويصح تدبيره ووصيته لأن ذلك محض مصلحته لأنه تقرب إلى الله تعالى بماله بعد
غناه عنه، ويصح استيلاده وتعتق الأمة المستولدة بموته لأنه إذا صح ذلك من المجنون فمن السفيه
528

أولى، وله المطالبة بالقصاص لأنه موضوع للتشفي والانتقام، وهو من أهله وله العفو على مال لأنه تحصيل
للمال لا تضيع له، وان عفا على غير مال نظرت فإن قلنا الواجب القصاص عينا صح عفوه لأنه لم يتضمن
تضييع المال، وإن قلنا أحد الشيئين لم يصح عفوه عن المال ووجب المال كما لو سقط القصاص بعفو
أحد الشريكين، وان أحرم بالحج صح إحرامه لأنه مكلف أحرم بالحج أشبه غيره، ولان ذلك
عبادة فصحت منه كسائر عباداته ثم إن كان أحرم بفرض دفع إليه النفقة من ماله ليسقط الفرض عن
نفسه، وإن كان تطوعا فكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر دفعت إليه لأنه لا ضرر في إحرامه
وان كانت نفقة السفر أكثر فقال أنا أكتسب تمام نفقتي دفعت إليه أيضا لأنه لا يضر بماله، وان لم
يكن له كسب فلوليه تحليله لما فيه من تضييع ماله ويتحلل بالصيام كالمعسر لأنه ممنوع من التصرف
في ماله ويحتمل أن لا يملك وليه تحليله بناء على العبد إذا أحرم بغير اذن سيده، وان حنث في
يمينه أو عاد في ظهاره أو لزمته كفارة بالقتل أو الوطئ في نهار رمضان كفر بالصيام لذلك، وان
529

أعتق أو أطعم عن ذلك لم يجزه؟ وبهذا قال الشافعي لأنه ممنوع من ماله أشبه المفلس ويتخرج
أن يجزئه العتق بناء على قولنا بصحته منه، وان نذر عبادة بدنية لزمه فعلها لأنه غير محجور عليه في
بدنه، وان نذر صدقة المال لم يصح منه وكفر بالصيام. وإن فك الحجر عنه قبل تكفيره في هذه
المواضع كلها لزمه العتق ان قدر عليه ومقتضى قول أصحابنا انه يلزمه الوفاء بنذره بناء على قولهم
فيمن أقر قبل فك الحجر عنه ثم فك عنه فإنه يلزمه أداؤه وان فك بعد تكفيره لم يلزمه شئ كما
لو كفر عن يمينه بالصيام ثم فك الحجر عنه
(فصل) وان أقر بنسب ولد قبل منه لأنه ليس باقرار بمال ولا تصرف فيه فقبل كاقراره بالحد
والطلاق، وإذا ثبت النسب لزمته أحكامه من النفقة وغيرها لأن ذلك حصل ضمنا لما صح منه
فأشبه نفقة الزوجة
{مسألة} قال (وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره)
وجملته ان السفيه إذا أقر بمال كالدين أو بما يوجبه كجناية الخطأ وشبه العمد واتلاف المال وغصبه
530

وسرقته لم يقبل اقراره به لأنه محجور عليه لحظه فلم يصح اقراره بالمال كالصبي والمجنون ولأنا لو قبلنا
اقراره في ماله لزال معنى الحجر لأنه يتصرف في ماله ثم يقر به فيأخذه المقر له ولأنه أقر بما هو ممنوع
من التصرف فيه كاقرار الراهن على الرهن والمفلس على المال، ومقتضى قول الخرقي انه يلزمه ما أقر
531

به بعد فك الحجر عنه وهو الظاهر من قول أصحابنا وقول أبي ثور لأنه مكلف أقر بما لا يلزمه في
الحال فلزمه بعد فك الحجر كالعبد يقر بدين والراهن على الرهن والمفلس على المال، ويحتمل أن
532

لا يصح اقراره ولا يؤخذ به في الحكم بحال وهذا مذهب الشافعي لأنه محجور عليه لعدم رشده فلم
يلزمه حكم اقراره بعد فك الحجر عنه كالصبي والمجنون ولان المنع من نفوذ اقراره في الحال إنما
ثبت لحفظ ماله عليه ودفع الضرر عنه فلو نفذ بعد فك الحجر لم يفد الا تأخير الضرر عليه إلى أكمل
حالتيه وفارق المحجور عليه لحق غيره فإن المانع تعلق حق الغير بماله فيزول المانع بزوال الحق عن
533

ماله فيثبت مقتضى اقراره وفي مسئلتنا انتفى الحكم لخلل في الاقرار فلم يثبت كونه سببا وبزوال
الحجر لم يكمل السبب فلا يثبت الحكم مع اختلال السبب كما لم يثبت قبل فك الحجر ولان الحجر
لحق الغير لم يمنع تصرفهم في ذممهم فأمكن تصحيح اقرارهم في ذممهم على وجه لا يضر بغيرهم بان
534

يلزمهم بعد زوال حق غيره والحجر ههنا لحظ نفسه من أجل ضعف عقله وسوء تصرفه ولا يندفع
الضرر الا بابطال اقراره بالكلية كالصبي والمجنون، وأما صحته فيما بينه وبين الله تعالى فإن علم صحة
ما أقر به كدين لزمه من جناية أو دين لزمه قبل الحجر عليه فعليه أداؤه لأنه علم أن عليه حقا فلزمه
535

أداؤه كما لو لم يقر به، وان علم فساد اقراره مثل انه علم أقر بدين ولا دين عليه أو بجناية لم توجد
منه أو أقر بما لا يلزمه مثل ان أتلف مال من دفعه إليه بقرض أو بيع لم يلزمه أداؤه لأنه يعلم أنه
لا دين عليه فلم يلزمه شئ كما لو لم يقر به
536

(فصل) إذا اذن ولي السفيه له في البيع والشراء فهل يصح منه؟ على وجهين (أحدهما) يصح
لأنه عقد معاوضة فملكه بالاذن كالنكاح ولأنه عاقل محجور عليه فصح تصرفه بالاذن فيه كالصبي
يحقق هذا ان الحجر على الصبي أعلى من الحجر عليه ثم يصح تصرفه بالاذن فههنا أولى ولأنا لو منعنا
تصرفه بالاذن لم يكن لنا طريق إلى معرفة رشده واختباره (والثاني) لا يصح لأن الحجر عليه لتبذيره
وسوء تصرفه فإذا اذن له فقد اذن فيما لا مصلحة فيه فلم يصح كما لو اذن في بيع ما يساوي عشرة
بخمسة وللشافعي وجهان كهذين والله أعلم
(تم طبع الجزء الرابع بعون الله ويليه الجزء الخامس بمشيئته وأوله (كتاب الصلح)
537