الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ٦
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغني
تأليف الشيخ الإمام العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المتوفى سنة 630 ه‍
على مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي المتوفى سنة 334 ه‍
الجزء السادس
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الإجارات
الأصل في جواز الإجارة الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (فإن أرضعن لكم
فآتوهن أجورهن) وقال تعالى قالت (إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني
أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) وروى
ابن ماجة في سننه عن عتبة بن الندر قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ (طس) حتى إذا بلغ قصة موسى قال
" إن موسى عليه السلام أجر نفسه ثماني حجج أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه " وقال الله تعالى (فوجد فيها
جدارا يريد أن ينقض فاقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) وهذا يدل على جواز أخذ الأجر على اقامته
وأما السنة فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا رجلا من بني الديل هاديا خريتاه وروى البخاري
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عز وجل ثلاثة انا خصمهم يوم القيامة: رجل
2

أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فاكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره " والاخبار
في هذا كثيرة. واجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة الا ما يحكى عن عبد الرحمن بن
الأصم أنه قال لا يجوز ذلك لأنه غرر يعني انه بعقد على منافع لم تخلق وهذا غلط لا يمنع انعقاد الاجماع
الذي سبق في الاعصار. وسار في الأمصار، والعبرة أيضا دالة عليها فإن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان
فلما جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع، ولا يخفى ما بالناس من الحاجة إلى ذلك فإنه
ليس لكل أحد دار يملكها ولا يقدر كل مسافر على بعير أو دابة يملكها ولا يلزم أصحاب الاملاك إسكانهم
وحملهم تطوعا، وكذلك أصحاب الصنائع يعملون باجر ولا يمكن كل أحد عمل ذلك ولا يجد متطوعا
به فلا بد من الإجارة لذلك بل ذلك مما جعله الله طريقا للرزق حتى أن أكثر المكاسب بالصنائع، وما ذكره
من الغرر لا يلتفت إليه مع ما ذكرنا من الحاجة فإن العقد على المنافع لا يمكن بعد وجودها لأنها تتلف بمضي
الساعات فلا بد من العقد عليها قبل وجودها كالسلم في الأعيان
(فصل واشتقاق الإجارة من الاجر وهو العوض قال الله تعالى (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) ومنه
سمي الثواب أجرا لأن الله تعالى يعوض العبد به على طاعته أو صبره عن مصيبته
(فصل) وهي نوع من البيع لأنها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه فهي بيع المنافع والمنافع بمنزلة بمنزلة الأعيان
لأنه يصح تمليكها في حال الحياة وبعد الموت وتضمن باليد والاتلاف ويكون عوضها عينا ودينا، وإنما اختصت
3

باسم كما اختص بعض البيوع باسم كالصرف والسلم. إذا ثبت هذا فإنها تنعقد بلفظ الإجارة والكراء لأنهما
موضوعان لها، وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان (أحدهما) تنعقد به لأنها بيع فانعقدت بلفظه كالصرف
(والثاني) لا تنعقد به لأن فيها معنى خاصا فافتقرت إلى لفظ يدل على ذلك المعنى ولان الإجارة تضاف إلى العين
التي يضاف إليها البيع إضافة واحدة فاحتيج إلى لفظ يعرف ويفرق بينهما كالعقود المتباينة ولأنه عقد يخالف
البيع في الحكم والاسم فأشبه النكاح
(فصل) ولا تصح الا من جائز التصرف لأنها عقد تمليك في الحياة فأشبه البيع
{مسألة) قال (وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة بأجرة معلومة فقد ملك المستأجر
المنافع وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد الا أن يشترطا أجلا) هذه المسألة تدل على أحكام ستة (أحدها) أن المعقود عليه المنافع وهذا قول أكثر أهل العلم
منهم مالك وأبو حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن المعقود عليه العين لأنها الموجودة
والعقد يضاف إليها فيقول أجرتك داري كما يقول بعتكها
ولنا أن المعقود عليه هو المستوفى بالعقد وذلك هو المنافع دون الأعيان ولان الاجر في مقابلة
المنفعة ولهذا تضمن دون العين، وما كان العوض في مقابلته فهو المعقود عليه وإنما أضيف العقد إلى
4

العين لأنها محل المنفعة ومنشؤها كما يضاف عقد المساقاة إلى البستان والمعقود عليه الثمرة ولو قال أجرتك
منقعة داري جاز (الثاني) أن الإجارة إذا وقعت على مدة يجب أن تكون معلومة كشهر وسنة ولا خلاف
في هذا نعلمه ولان المدة هي الضابطة للمعقود عليه المعرفة له فوجب أن تكون معلومة كعدد المكيلات
فيما بيع بالكيل، فإن قدر المدة بسنة مطلقة حمل على سنة الأهلة لأنها المعهودة في الشرع. قال الله تعالى
(يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) فوجب أن يحمل العقد العقد عليه فإن شرط هلالية
كان تأكيدا، وان قال عددية أو سنة بالأيام كان له ثلاثمائة وستون يوما لأن الشهر العددي يكون
ثلاثين يوما، وان استأجر سنة هلالية أول الهلال عد اثني عشر شهرا بالأهلة سواء كان الشهر تاما أو
ناقصا لأن الشهر الهلالي ما بين الهلالين ينقص مرة ويزيد أخرى، وإن كان العقد في أثناء شهر عد
ما بقي من الشهر وعد بعده أحد عشر شهرا بالهلال ثم كمل الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوما لأنه تعذر
إتمامه بالهلال فتممناه بالعدد وأمكن استيفاء ما عداه بالهلال فوجب ذلك لأنه الأصل، وحكي عن أحمد
رحمه الله رواية أخرى أنه يستوفي الجميع بالعدد لأنها مدة يستوفى بعضها بالعدد فوجب استيفاء جميعها به كما لو
كانت المدة شهرا واحد، ولان الشهر الأول ينبغي أن يكمل من الشهر الذي يليه فيحصل ابتداء الشهر
الثاني في أثنائه فكذلك كل شهر يأتي بعده، ولأبي حنيفة والشافعي كالروايتين، وهكذا إن كان العقد
على أشهر دون السنة، وان جعلا المدة سنة رومية أو شمسية أو فارسية أو قبطية وكان يعلمان ذلك جاز وكان له
5

ثلاثمائة وخمسة وستون يوما فإن الشهور الرومية منها سبعة أحد وثلاثون يوما وأربعة ثلاثون يوما
وشهر واحد ثمانية وعشرون يوما، وشهور القبط كلها ثلاثون ثلاثون وزادوها خمسة أيام لتساوي سنتهم
السنة الرومية، وإن كان أحدهما يجهل ذلك لم يصح لأن المدة مجهولة في حقه، وان آجره إلى العيد
انصرف إلى الذي يليه وتعلق بأول جزء منه لأنه جعله غاية فتنتهي مدة الإجارة بأوله، وقال القاضي
لابد من تعيين العيد فطرا أو أضحى من هذه السنة أو سنة كذا، وكذلك الحكم إن علقه بشهر يقع
اسمه على شهرين كجمادى وربيع يجب على قوله أن يذكر الأول أو الثاني من سنة كذا، وإن علقه بشهر
مفرد كرجب وشعبان فلابد أن يبينه من أي سنة، وأن علقه بيوم فلابد على قوله أن يبينه من أي
أسبوع، وان علقه بعيد من أعياد الكفار صح إذا علماه وإلا لم يصح وقد مضى نحو من هذا
(فصل) ولا يشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد بل لو أجره سنة خمس وهما في سنة ثلاث
أو شهر رجب في المحرم صح وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي لا يصح الا ان يستأجرها من هي
في إجارته ففيه قولان لأنه عقد على مالا يمكن تسلميه في الحال فأشبه إجارة العين المغصوبة، قال ولا يجوز
أن يكتري بعيرا بعينه إلا عند خروجه لذلك
ولنا أن هذه مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز العقد عليها مفردة مع عموم الناس كالتي تلي
6

العقد، وإنما تشترط القدرة على التسليم عند وجوب التسليم كالمسلم فيه، ولا يشترط وجوده ولا القدرة
عليه حال العقد ولا فرق بين كونها مشغولة أو غير مشغولة لما ذكرناه وما ذكروه يبطل بما إذا أجرها
من المكتري فإنه يصح مع ما ذكروه. إذا ثبت هذا فإن الإجارة إن كانت على مدة تلي العقد لم
يحتج إلى ذكر ابتدائها من حين العقد وان كانت لا تليه فلا بد من ذكر ابتدائها لأنه أحد طرفي العقد
فاحتيج إلى معرفته كالانتهاء، وان أطلق فقال أجرتك سنة أو شهرا صح وكان ابتداؤه من حين العقد
وهذا قول مالك وأبي حنيفة، وقال الشافعي وبعض أصحابنا لا يصح حتى يسمي الشهر ويذكر أي سنة هي فإن
احمد قال في رواية إسماعيل بن سعيد إذا استأجر أجيرا شهرا فلا يجوز حتى يسمي الشهر
ولنا قول الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام (على أن تأجرني ثماني حجج) ولم يذكر ابتداءها
ولأنه تقدير بمدة ليس فيها قربة فإذا أطلقها وجب أن تلي السبب الموجب كمدة السلم والايلاء وتفارق
النذر فإنه قربة
(فصل) ولا تتقدر أكثر مدة الإجارة بل تجوز إجارة العين المدة التي تبقى فيها وإن كثرت
وهذا قول كافة أهل العلم إلا أن أصحاب الشافعي اختلفوا في مذهبه فمنهم من قال له قولان [أحدهما]
كقول سائر أهل العلم وهو الصحيح (الثاني) لا يجوز أكثر من سنة لأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر منها
ومنهم من قال له قول ثالث أنها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة لأن الغالب أن الأعيان لا نبقى أكثر
منها وتتغير الأسعار والاجر
7

ولنا قول الله تعالى اخبارا عن شعيب عليه السلام أنه قال (على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت
عشرا فمن عندك) وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه دليل، ولان ما جاز العقد عليه سنة
جاز أكثر منها كالبيع والنكاح والمساقاة والتقدير بسنة وثلاثين تحكم لا دليل عليه وليس ذلك أولى
من التقدير بزيادة عليه أو نقصان منه، وإذا استأجره سنين لم يحتج إلى تقسيط الاجر على كل سنة في
ظاهر كلام أحمد كما لو استأجر سنة لم يفتقر إلى تقسيط أجر كل شهر بالاتفاق ولو استأجر شهرا لم
يفتقر إلى تقسيط أجر كل يوم، ولان المنفعة كالأعيان في البيع ولو اشتملت الصفقة على أعيان لم يلزمه
تقدير ثمن كل عين كذلك ههنا. وقال الشافعي في أحد قوليه كقولنا وفي الآخر يفتقر إلى تقسيط
أجر كل سنة لأن المنافع تختلف باختلاف السنين فلا يأمن أن ينفسخ العقد فلا يعلم بم يرجع وهذا
يبطل بالشهور فإنه لا يفتقر إلى تقسيط الاجر عليها مع الاحتمال الذي ذكروه
(فصل) والإجارة على ضربين (أحدهما) أن يعقدها على مدة (الثاني) أن يعقدها على عمل
معلوم كبناء حائط وخياطة قميص وحمل إلى موضع معين فإذا كان المستأجر مما له عمل كالحيوان جاز فيه
الوجهان لأن له عملا تتقدر منافعه به، وإن لم يكن له عمل كالدار والأرض لم يجز إلا على مدة،
ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأن الجمع بينهما يزيدها غررا
لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما وقع عليه العقد،
8

وإن لم يعمل كان تاركا للعمل في بعض المدة وقد لا يفرغ من العمل في المدة فإن أتمه عمل في غير المدة،
وإن لم يعمله لم يأت بما وقع عليه العقد وهذا غرر أمكن التحرز عنه ولم يوجد مثله في محل الوفاق
فلم يجز العقد معه
وروي عن أحمد فيمن اكترى دابة إلى موضع على أن يدخله في ثلاث فدخله في ست فقال قد
أضربه فقيل يرجع عليه بالقيمة؟ قال لا يصالحه وهذا يدل على جواز تقديرهما جميعا وهو قول أبي
يوسف ومحمد بن الحسن لأن الإجارة معقودة على العمل والمدة مذكورة للتعجيل فلا يمتنع ذلك. فعلى
هذا إذا فرغ العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها لأنه وفى ما عليه قبل مدته فلم يلزمه شئ
آخر كما لو قضا الدين قبل أجله، وإن مضت المدة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة لأن الأجير
لم يف له بشرطه وإن رضي بالبقاء عليه لم يملك الأجير الفسخ لأن الاخلال بالشرط منه فلا يكون
ذلك وسيلة له إلى الفسخ كما لو تعذر أداء المسلم فيه في وقته لم يملك المسلم إليه الفسخ ويملكه المسلم فإن
اختار امضاء العقد طالبه بالعمل لا غير كالمسلم إذا صبر عند تعذر المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له
أكثر من المسلم فيه، وإن فسخ العقد قبل عمل شئ من العمل سقط الاجر والعمل، وإن كان بعد عمل
شئ منه فله أجر مثله لأن العقد قد انفسخ فسقط المسمى ورجع إلى أجر المثل
9

(فصل) ومن اكترى دابة إلى العشاء فآخر المدة إلى غروب الشمس، وبهذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة وأبو ثور آخرها زوال الشمس لأن العشاء آخر النهار وآخر النهار النصف الآخر من الزوال
ولذلك جاء في حديث ذي اليدين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم إحدى
صلاتي العشي يعنى الظهر أو العصر هكذا تفسيره
ولنا قول الله تعالى (من بعد صلاة العشاء) يعني العتمة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ولولا أن أشق على أمتي لاخرت العشاء إلى ثلث الليل " وإنما تعلق الحكم بغروب الشمس لأن هذه الصلاة تسمى العشاء
الآخرة فدل على أن الأولى المغرب وهو في العرف كذلك فوجب أن يتعلق الحكم به لأن المدة إذا
جعلت إلى وقت تعلقت بأوله كما لو جعلها إلى الليل، وما ذكروه لا يصح لأن لفظ العشي غير لفظ
العشاء فلا يجوز الاحتجاج بأحدهما على الآخر حتى يقوم دليل على أن معنى اللفظين واحد، ثم لو
ثبت أن معناهما واحد غير أن أهل العرف لا يعرفونه فلا يتعلق به حكم، وكذلك الحكم فيما إذا اكتراها
إلى العشي لأن أهل العرف لا يعرفون غير ما ذكرناه، وإن اكتراها إلى الليل فهو إلى أوله وكذلك إن
اكتراها إلى النهار فهو إلى أوله، ويتخرج أن يدخل الليل في المدة الأولى والنهار في الثانية لما ذكرناه
في مدة الخيار والأول أصح، وإن اكتراها نهارا فهو إلى غروب الشمس، وإن اكتراها ليلة فهي
إلى طلوع الفجر في قول الجميع لأن الله تعالى قال في ليلة القدر (سلام هي حتى مطلع الفجر) وقال
10

تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ثم قال فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الا بيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل)
(فصل) وإن اكترى فسطاطا إلى مكة ولم يقل متى أخرج فالكراء فاسد وبه قال أبو ثور وهو
قياس قول الشافعي وقال أصحاب الرأي يجوز استحسانا بخلاف القياس
ولنا أنها مدة غير معلومة الابتداء فلم يجز كما لو قال أجرتك داري من حين خرج الحاج إلى آخر
السنة وقد اعترفوا بمخالفته للدليل وما ادعوه دليلا لا نسلم كونه دليلا
(فصل) (الحكم الثالث) أنه يشترط في عوض الإجارة كونه معلوما لا نعلم في ذلك خلافا وذلك
لأنه عوض في عقد معاوضة فوجب أن يكون معلوما كالثمن في البيع، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " من استأجر أجيرا فليعلمه أجره " ويعتبر العلم بالرؤية أو بالصفة كالبيع سواء، قان كان العوض
معلوما بالمشاهدة دون العقد كالصبرة احتمل وجهين أشبههما الجواز لأنه عوض معلوم يجوز به البيع
فجازت به الإجارة كما لو علم قدره (الثاني) لا يجوز لأنه قد ينفسخ العقد بعد تلف الصبرة فلا يدري
بكم يرجع فاشترط معرفة قدره كعوض المسلم فيه والأول أولى، وظاهر كلام الخرقي أن العلم بالقدر في
عوض السلم ليس بشرط ثم الفرق بينهما أن المنفعة ههنا أجريت مجرى الأعيان لأنها متعلقة بعين حاضرة
والسلم يتعلق بمعدوم فافترقا وللشافعي نحو مما ذكرنا في هذا الفصل
11

(فصل) وكل ما جاز ثمنا في البيع جاز عوضا في الإجارة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع، فعلى هذا
يجوز أن يكون العوض عينا ومنفعة أخرى سواء كان الجنس واحدا كمنفعة دار بمنفعة أخرى أو مختلفا
كمنفعة دار بمنفعة عبد، قال أحمد لا بأس أن يكتري بطعام موصوف معلوم وبهذا كله قال الشافعي
قال الله تعالى اخبارا عن شعيب أنه قال (اني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني
ثماني حجج) فجعل
النكاح عوض الإجارة، وقال أبو حنيفة فيما حكي عنه لا تجوز إجارة دار بسكنى
أخرى ولا يجوز أن يختلف جنس المنفعة كسكنى دار بمنفعة بهيمة لأن الجنس الواحد عنده بحرم
النساء، وكره الثوري الإجارة بطعام موصوف، والصحيح جوازه وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي
وقياس قول الشافعي لأنه عوض يجوز في البيع فجاز في الإجارة كالذهب والفضة وما قاله أبو حنيفة
لا يصح لأن المنافع في الإجارة ليست في تقدير النسيئة، ولو كانت نسيئة ما جاز في جنسين لأنه
يكون بيع دين بدين
(فصل) ولو استأجر رجلا ليسلخ له بهيمة بجلدها لم يجز لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليما أو لا
وهل هو ثخين أو رقيق، ولأنه لا يجوز أن يكون ثمنا في البيع فلا يجوز أن يكون عوضا في الإجارة
كسائر المجهولات فإن سلخه بذلك فله أجر مثله، وإن استأجره لطرح ميتة بجلدها فهو أبلغ في الفساد
لأن جلد الميتة نجس لا يجوز بيعه وقد خرج بموته عن كونه ملكا وإن فعل فله أجر مثله أيضا
12

(فصل) ولو استأجر راعيا لغنم بثلث درها ونسلها وصوفها وشعرها أو نصفه أو جميعه لم يجز
نص عليه أحمد في رواية جعفر بن محمد النسائي لأن الاجر غير معلوم، ولا يصلح عوضا في البيع،
وقال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى الرجل على أن يعلفها ويتحفظها وما
ولدت من ولد بينهما فقال أكره ذلك، وبه قال أبو أيوب وأبو خيثمة ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأن
العوض مجهول معدوم ولا يدرى أيوجد أم لا والأصل عدمه، ولا يصلح أن يكون ثمنا فإن قيل فقد
جوزتم دفع الدابة إلى من يعمل عليها بنصف ربحها، قلنا إنما جاز ثم تشبيها بالمضاربة لأنها عين تنمي
بالعمل فجاز اشتراط جزء من النماء والمساقاة كالمضاربة وفي مسئلتنا لا يمكن ذلك لأن النماء الحاصل في الغنم
لا يقف حصوله على عمله فيها فلم يمكن الحاقه بذلك، وان استأجره على رعايتها مدة معلومة بنصفها أو
جزء معلوم منها صح لأن العمل والاجر والمدة معلوم فصح كما لو جعل الاجر دراهم ويكون النماء الحاصل
بينهما بحكم الملك لأنه ملك الجزء المجعول له منها في الحال فيكون له نماؤه كما لو اشتراه
(فصل) (الحكم الرابع) ان الإجارة إذا تمت وكانت على مدة ملك المستأجر المنافع العقود عليها
إلى المدة ويكون حدوثها على ملكه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة تحدث على ملك المؤجر ولا
يملكها المستأجر بالعقد لأنها معدومة فلا تكون مملوكة كالثمرة والولد
13

ولنا أن الملك عبارة عن حكم يحصل به تصرف مخصوص، وقد ثبت أن هذه المنفعة المستقبلة
كان مالك العين يتصرف فيها كتصرفه في العين فلما أجرها صار المستأجر مالكا للتصرف فيها كما
كان يملكه المؤجر فثبت أنها كانت مملوكة لمالك العين ثم انتقلت إلى المستأجر بخلاف الولد والثمرة
فإن المستأجر لا يملك التصرف فيها، وقولهم ان المنافع معدومة قلنا هي مقدرة الوجود لأنها جعلت موردا
للعقد والعقد لا يرد الا على موجود
(فصل) (الحكم الخامس) أن المؤجر يملك الأجرة بمجرد العقد إذا أطلق ولم يشترط المستأجر
أجلا كما يملك البائع الثمن بالبيع وبهذا قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة لا يملكها بالعقد فلا يستحق
المطالبة بها الا يوما بيوم الا أن يشترط تعجيلها. قال أبو حنيفة إلا أن تكون معينة كالثوب والعبد
والدار لأن الله تعالى قال (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فأمر بايتائهن بعد الارتضاع، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره " فتوعد
على الامتناع من دفع الاجر بعد العمل فدل على أنها حالة الوجوب وروي عنه عليه السلام أنه قال
" أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، رواه ابن ماجة ولأنه عوض لم يملك معوضه فلم يجب
تسليمه كالعوض في العقد الفاسد فإن المنافع معدومة لم تملك ولو ملكت فلم يتسلمها لأنه يتسلمها شيئا
فشيئا فلا يجب عليه العوض مع تعذر التسليم في العقد
14

ولنا انه عوض أطلق ذكره في عقد معاوضة فيستحق بمطلق العقد كالثمن والصداق أو تقول
عوض في عقد يتعجل بالشرط فوجب أن يتعجل بمطلق العقد كالذي ذكرنا، فاما الآية فيحتمل أنه
أراد الايتاء عند الشروع في الرضاع أو تسليم نفسها كما قال تعالى [فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم] أي إذا أردت القراءة ولان هذا تمسك بدليل الخطاب ولا يقولون به وكذلك
الحديث يحققه ان الامر بالايتاء في وقت لا يمنع وجوبه قبل كقوله [فما استمتعتم به منهن فآتوهن
أجورهن] والصداق يجب قبل الاستمتاع وهذا هو الجواب عن الحديث ويدل عليه انه إنما توعد على
ترك الايفاء بعد الفراغ من العمل، وقد قلتم تجب الاجر شيئا فشيئا ويحتمل أنه توعده على ترك الايفاء
في الوقت الذي تتوجه المطالبة فيه عادة
جواب آخر ان الآية والاخبار إنما وردت فيمن استؤجر على عمل فاما ما وقعت الإجارة فيه على
مدة فلا تعرض لها به، وأما إذا كانت الإجارة على عمل فإن الاجر يملك بالعقد أيضا لكن لا يستحق
تسليمه الا عند تسليم العمل. قال ابن أبي موسى من استؤجر لعمل معلوم استحق الاجر عند إيفاء
العمل وان استؤجر في كل يوم بأجر معلوم فله أجر كل يوم عند تمامه، وقال أبو الخطاب الاجر
يملك بالعقد ويستحق بالتسليم ويستقر بمضي المدة وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل لأنه
عوض فلا يستحق تسليمه الا مع تسليم المعوض كالصداق والثمن في المبيع، وفارق الإجارة على الأعيان
15

لأن تسليمها جرى مجرى تسليم نفعها ومتى كان على منفعة في الذمة لم يحصل تسليم المنفعة ولا ما يقوم
مقامها فتوقف استحقاق تسليم الاجر على تسليم العمل، وقولهم لم يملك المنافع قد سبق الجواب عنه
فإن قيل فإن المؤجر إذا قبض الاجر انتفع به كله بخلاف المستأجر فإنه لا يحصل له استيفاء المنفعة كلها
قلنا لا يمتنع هذا كما لو شرطا التعجيل أو كان الثمن عينا
(فصل) (الحكم السادس) أنه إذا شرط تأجيل الاجر فهو إلى أجله، وإن شرطه منجما يوما يوما
أو شهرا شهرا أو أقل من ذلك أو أكثر فهو على ما اتفقا عليه لأن إجارة العين كبيعها وبيعها يصح
بثمن حال أو مؤجل فكذلك اجارتها
(فصل) وإذا استوفى المستأجر المنافع استقر الاجر لأنه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل كما
لو قبض المبيع، وإن سلمت إليه العين التي وقعت الإجارة عليها ومضت المدة ولا حاجز له عن الانتفاع
استقر الاجر وإن لم ينتفع لأن المعقود عليه تلف تحت يده وهي حقه فاستقر عليه بدلها كثمن المبيع
إذا تلف في يد المشتري، وإن كانت الإجارة على عمل فتسلم العقود عليه ومضت مدة يمكن استيفاء
المنفعة فيها مثل أن يكتري دابة ليركبها إلى حمص فقبضها ومضت مدة يمكن ركوبها فيها فقال أصحابنا
يستقر عليه الاجر وهو مذهب الشافعي لأن المنافع تلفت تحت يده باختياره فاستقر الضمان عليه كما لو
تلفت العين في يد المشتري وكما لو كانت الإجارة على مدة فمضت، وقال أبو حنيفة لا يستقر الاجر
16

عليه حتى يستوفي المنفعة لأنه عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر بدلها قبل استيفائها كالاجر
للأجير المشترك، فإن بذل تسليم العين فلم يأخذها المستأجر حتى أنقضت المدة استقر الاجر عليه لأن
المنافع تلفت باختياره في مدة الإجارة فاستقر عليه الاجر كما لو كانت في يده، وإن بذل تسليم العين
وكانت الإجارة على عمل فقال أصحابنا إذا مضت مدة يمكن الاستيفاء فيها استقر عليه الاجر وبهذا
قال الشافعي لأن المنافع تلفت باختياره
وقال أبو حنيفة لا أجر عليه وهو أصح عندي لأنه عقد على ما في الذمة فلم يستقر عوضه ببذل التسليم
كالمسلم فيه ولأنه عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر عوضها بالبذل كالصداق إذا بذلت تسليم
نفسها وامتنع الزوج من أخذها، وإن كان هذا في إجارة فاسدة ففيما إذا عرضها على المستأجر فلم
يأخذها لا أجر عليه لأنها لم تتلف تحت يده ولا في ملكه، وإن قبضها ومضت المدة أو مدة يمكن
استيفاء المنفعة فيها أو لا يمكن فعن أحمد روايتان (إحداهما) عليه أجر المثل لمدة بقائها في يده وهو
قول الشافعي لأن المنافع تلفت تحت يده بعوض لم يسلم له فرجع إلى قيمتها كما لو استوفاها (والثانية)
لا شئ له وهو قول أبي حنيفة لأنه عقد فاسد على منافع لم يستوفها فلم يلزمه عوضها كالنكاح الفاسد،
وإن استوفى المنفعة في العقد الفاسد فعليه أجر المثل، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجب
أقل الأمرين من المسمى أو أجر المثل بناء منه على أن المنافع لا تضمن إلا بالعقد
17

ولنا ان ما ضمن بالمسمي في العقد الصحيح وجب ضمانه بجميع القيمة في الفاسد كالأعيان وما
ذكره لا نسلمه والله أعلم
{مسألة} قال (وإذا وقعت الإجارة على كل شهر بشئ معلوم لم يكن لواحد منهما
الفسخ إلا عند تقضي كل شهر)
وجملة ذلك أنه إذا قال أجرتك هذا كل شهر بدرهم فاختلف أصحابنا فذهب القاضي إلى أن
الإجارة صحيحة وهو المنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور واختيار الخرقي إلا أن الشهر الأول
تلزم الإجارة فيه باطلاق العقد لأنه معلوم يلي العقد وله أجر معلوم وما بعده من الشهور يلزم العقد فيه
بالتلبس به وهو السكني في الدار إن كانت الإجارة على دار لأنه مجهول حال العقد فإذا تلبس به تعين
بالدخول فيه فصح بالعقد الأول، وإن لم يتلبس به أو فسخ العقد عند انقضاء الأول انفسخ، وكذلك
حكم كل شهر يأتي وهذا مذهب أبي ثور وأصحاب الرأي وحكي عن مالك نحو هذا إلا أن الإجارة
لا تكون لازمة عنده لأن المنافع متقدرة بتقدير الاجر فلا يحتاج إلى ذكر المدة إلا في اللزوم، واختار
أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وأبو عبد الله بن حامد أن العقد باطل وهو قول الثوري والصحيح من
قولي الشافعي لأن كل اسم للعدد فإذا لم يقدره كان مبهما مجهولا فيكون فاسدا كما لو قال أجرتك مدة
18

أو شهرا، وحمل أبو بكر وابن حامد كلام أحمد في هذا على أن الإجارة وقعت على أشهر معينة
ووجه الأول أن عليا رضي الله عنه استقى لرجل من اليهود كل دلو بتمرة وجاء به إلى النبي
صلى الله عليه وسلم يأكل منه، قال علي كنت أدلو الدلو بتمرة وأشترطها جلدة، وعن رجل من الأنصار أنه قال ليهودي
أسقي نخلك؟ قال نعم كل دلو بتمرة واشترط الأنصاري أن لا يأخذها خدرة ولا تارزة ولا حشفة
ولا يأخذ إلا جلدة فاستقى بنحو من صاعين فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما ابن ماجة في سننه وهو
نظير مسئلتنا، ولان شروعه في كل شهر مع ما تقدم في العقد من الاتفاق على تقدير أجره والرضى ببذله
به جرى مجرى ابتداء العقد عليه وصار كالبيع بالمعاطاة إذا جرى من المساومة ما دل على التراضي بها
فعلى هذا متى ترك التلبس به في شهر لم يثبت الإجارة فيه لعدم العقد، وإن فسخ فكذلك وليس
بفسخ في الحقيقة لأن العقد في الشهر الثاني ما ثبت، فأما أبو حنيفة فذهب إلى أنهما إذا تلبسا بالشهر
الثاني فقد اتصل القبض بالعقد الفاسد وهو عذر غير صحيح لأن العقد الفاسد في الأعيان لا يلزم بالقبض
ولا يضمن بالمسمى ثم لم يحصل القبض ههنا الا فيما استوفاه، وقول مالك لا يصح لأن الإجارة من
العقود اللازمة فلا يجوز أن تكون جائزة
(فصل) إذا قال أجرتك داري عشرين شهرا كل شهر بدرهم جاز بغير خلاف نعلمه لأن المدة
معلومة وأجرها معلوم وليس لواحد منهما فسخ بحال لأنها مدة واحدة فأشبه ما لو قال آجرتك عشرين
19

شهرا بعشرين درهما، وإن قال آجرتكها شهرا بدرهم وما زاد فبحساب ذلك صح في الشهر الأول
لأنه أفرده بالعقد وبطل في الزائد لأنه مجهول، ويحتمل أن يصح في كل شهر تلبس به كما لو قال:
أجرتكها كل شهر بدرهم لأن معناهما واحد، ولو قال أجرتكها هذا الشهر بدرهم وكل شهر بعد ذلك
بدرهم أو قال بدرهمين صح في الأول وفيما بعده وجهان
(فصل) والإجارة عقد لازم من الطرفين ليس لواحد منهما فسخها وبهذا قال مالك والشافعي
وأصحاب الرأي وذلك لأنها عقد معاوضة فكان لازما كالبيع، ولأنها نوع من البيع وإنما اختصت
باسم كما اختص الصرف والسلم باسم وسواء كان له عذر أو لم يكن، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو
ثور، وقال أبو حنيفة وأصحابه يجوز للمكتري فسخها لعذر في نفسه مثل أن يكتري جملا ليحج عليه
فيمرض فلا يتمكن من الخروج أو تضيع نفقته أو يكتري دكانا للبز فيحترق متاعه وما أشبه هذا لأن
العذر يتعذر معه استيفاء المنفعة المعقود عليها فملك به الفسخ كما لو استأجر عبدا فابق
ولنا أنه عقد لا يجوز فسخه مع استيفاء المنفعة المعقود عليها لغير عذر فلم يجز لعذر في غير المعقود عليه
كالبيع، ولأنه لو جاز فسخه لعذر المكتري لجاز لعذر المكري تسوية بين المتعاقدين ودفعا للضرر عن
كل واحد من العاقدين ولم يجز ثم فلا يجوز ههنا ويفارق الإباق فإنه عذر في المعقود عليه
20

{مسألة} قال (ومن استأجر عقارا مدة بعينها فبدا له قبل تقضيها فقد لزمته الأجرة كاملة)
وجملته أن الإجارة عقد لازم يقتضي تمليك المؤجر الاجر والمستأجر المنافع فإذا فسخ المستأجر
الإجارة قبل انقضاء مدتها وترك الانتفاع اختيارا منه لم تنفسخ الإجارة والاجر لازم له ولم يزل ملكه
عن المنافع كما لو اشترى شيئا وقبضه ثم تركه، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله رجل اكترى بعيرا فلما
قدم المدينة قال له فاسخني، قال ليس ذلك له قد لزمه الكراء، قلت فإن مرض المستكري بالمدينة فلم
يجعل له فسخا، وذلك لأنه عقد لازم بين الطرفين فلم يملك أحد المتعاقدين فسخه وإن فسخه لم يسقط
العوض الواجب عليه كالبيع
(فصل) ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة إجارة العقار قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه
من أهل العلم على أن استئجار المنازل والدواب جائز ولا تجوز اجارتها إلا في مدة معينة معلومة ولا
بد من مشاهدته وتحديده فإنه لا يصير معلوما الا بذلك ولا يجوز اطلاقه ولا وصفه وبهذا قال الشافعي
وقال أبو ثور إذا ضبط بالصفة أجزأ، وقال أصحاب الرأي له خيار الرؤية كقولهم في البيع ويتخرج لنا
مثل ذلك بناء على البيع، والخلاف ههنا مبني على الخلاف في البيع ولم يكتف بالصفة لأنه لا يصير معلوما
الا بالرؤية كما لا يعلم في البيع، الا بذلك فإن كان دارا أو حكاما احتاج إلى مشاهدة البيوت لأن الغرض
21

يختلف بصغرها وكبرها ومرافقها ومشاهدة قدر الحمام ليعلم كبرها من صغرها ومعرفة ماء الحمام إما من
قناة أو بئر فإن كان من بئر احتاج إلى مشاهدتها ليعلم عمقها ومؤنة استسقاء الماء منها ومشاهدة الاتون ومطرح
الرماد وموضع الزبل ومصرف ماء الحمام، فمتى أخل بهذا أو بعضه لم تصح للجهالة بما يختلف الغرض به
(فصل) وكره احمد كراء الحمام وسئل عن كرائه فقال أخشى فقيل له إذا شرط على المكتري
أن لا يدخله أحد بغير ازار فقال ومن يضبط هذا؟ وكأنه لم يعجبه قال ابن حامد هذا على طريق
الكراهة تنزيها لا تحريما لأنه تبدو فيه عورات الناس فتحصل الإجارة على فعل محظور فكرهه لذلك
فاما العقد فصحيح وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم
ان كراء الحمام جائز إذا حدده وذكر جميع آلته شهورا مسماة وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور
وأصحاب الرأي لأن المكتري إنما يأخذ الأجر عوضا عن دخول الحمام والاغتسال بمائه وأحوال
المسلمين محمولة على السلامة وان وقع من بعضهم فعل ما لا يجوز لم يحرم الاجر المأخوذ منه كما لو اكترى
دارا ليسكنها فشرب فيها خمرا
{مسألة} قال (ولا يتصرف مالك العقار فيه الا عند تقضي المدة) وجملته أن المستأجر يملك المنافع بالعقد كما يملك المشتري المبيع بالبيع ويزول ملك المؤجر عنها كما
22

يزول ملك البائع عن المبيع فلا يجوز له التصرف فيها لأنها صارت مملوكة لغيره كما لا يملك البائع التصرف
في المبيع، فإن تصرف فيها نظرنا فإن كان ذلك في حال بدا للمستأجر قبل تقضي المدة مثل أن يكتري
دارا سنة فيسكنها شهرا ويتكرها فيسكنها المالك بقية السنة أو يؤجرها لغيره احتمل أن ينفسخ العقد
فيما استوفاه المالك لأنه يتصرف فيه قبل قبض المكتري. له فأشبه ما لو تلف المكيل قبل تسليمه وسلم
باقيه. فعلى هذا ان تصرف المالك في بعض المدة دون بعض انفسخ العقد في قدر ما تصرف فيه دون
ما لم يتصرف فيه ويكون على المستأجر ما بقي، فإن سكن المستأجر شهرا وتركها شهرا وسكن المالك عشرة
أشهر لزم المستأجر أجر شهرين وإن سكنها شهرا وسكن المالك شهرين ثم تركها فعلى المستأجر
أجر عشرة أشهر ويحتمل أن يلزم المستأجر أجر جميع المدة وله على المالك أجر المثل لما سكن أو تصرف
فيه بقسط ذلك مما على المستأجر من الاجر ويلزمه الباقي لأنه تصرف فيما ملكه المستأجر عليه بغير
إذنه فأشبه ما لو تصرف في المبيع بعد قبض المشتري له وقبض الدار ههنا قام مقام قبض المنافع بدليل
أنه يملك التصرف في المنافع بالسكنى والإجارة وغيرها، فعلى هذا لو كان أجر المثل الواجب على المالك
بقدر المسمى في العقد لم يجب على المستأجر شئ وان فضلت منه فضلة لزم المالك أداؤها إلى المستأجر
والأول أولى وهو ظاهر مذهب الشافعي، وان تصرف المالك قبل تسلم العين أو امتنع من تسليمها حتى أنقضت مدة الإجارة انفسخت الإجارة وجها واحدا لأن العاقد قد أتلف المعقود عليه قبل تسلميه
فانفسخ العقد كما لو باعه طعاما فأتلفه قبل تسليمه، وان سلمها إليه في أثناء المدة انفسخت فيها مضى ويجب
أجر الباقي بالحصة كالمبيع إذا سلم بعضه وأتلف بعضا
23

{مسألة} قال (فإن حوله المالك قبل تقضي المدة لم يكن له أجرة لما سكن) يعني إذا استأجر عقارا مدة فسكنه بعض المدة ثم أخرجه المالك ومنعه تمام السكنى فلا شئ له
من الأجرة، وقال أكثر الفقهاء له أجر ما سكن لأنه استوفى ملك غيره على سبيل المعاوضة فلزمه
عوضه كالمبيع إذا استوفى بعضه ومنعه المالك بقيته كما لو تعذر استيفاء الباقي لأمر غالب
ولنا أنه لم يسلم إليه ما عقد الإجارة عليه فلم يستحق شيئا كما لو استأجره ليحمل كتابا فحمله بعض
الطريق أو استأجره ليحفر له عشرين ذراعا فحفر له عشرا وامتنع من حفر الباقي، وقياس الإجارة على
الإجارة أولى من قياسها على البيع، ويفارق ما إذا امتنع لأمر غالب لأن له عذرا، والحكم فيمن اكترى
دابة فامتنع المكري من تسليمها في بعض المدة أو آجر نفسه أو عبده للخدمة مدة وامتنع من اتمامها
أو أجر نفسه لبناء حائط أو خياطة أو حفر بئر أو حمل شئ إلى مكان وامتنع من اتمام العمل كالحكم
في العقار يمتنع من تسلميه وأنه لا يستحق شيئا لما ذكرنا
(فصل) إذا هرب الأجير أو شردت الدابة أو أخذ المؤجر العين وهرب بها أو منعه استيفاء
المنفعة منها من غير هرب لم تنفسخ الإجارة لكن يثبت للمستأجر خيار الفسخ فإن فسخ فلا كلام وان لم
يفسخ انفسخت الإجارة بمضي المدة يوما فيوما فإن عادت العين في أثناء المدة استوفي ما بقي منها
24

فإن انقضت المدة انفسخت الإجارة لفوات المعقود عليه وان كانت الإجارة عل موصوف في الذمة
كخياطة ثوب أو بناء حائط أو حمل إلى موضع معين استؤجر من ماله من يعمله كما لو أسلم إليه في
شئ فهرب ابتيع من ماله فإن لم يمكن ثبت للمستأجر الفسخ فإن فسخ فلا كلام وان لم يفسخ وصبر
إلى أن يقدر عليه فله مطالبته بالعمل لأن ما في الذمة لا يفوت بهربه، وكل موضع امتنع الأجير من
العمل فيه أو منع المؤجر المستأجر من الانتفاع إذا كان بعد عمل البعض فلا أجر له فيه على ما سبق
الا أن يرد العين قبل انقضاء المدة أو يتم العمل ان لم يكن على مدة قبل فسخ المستأجر فيكون له
أجر ما عمل فاما ان شردت الدابة أو تعذر استيفاء المنفعة بغير فعل المؤجر فله من الاجر بقدر ما استوفى بكل حال
{مسألة} قال (فإن جاء أمر غالب يحجز المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد لزمه
من الاجر بمقدار مدة انتفاعه)
وجملته أن من استأجر عينا مدة فحيل بينه وبين الانتفاع بها لم يخل من اقسام ثلاثة (أحدها) أن تتلف العين كدابة تنفق أو عبد يموت فذلك على ثلاثة أضرب (أحدها) أن تتلف قبل قبضها
فإن الإجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه فأشبه ما لو تلف الطعام المبيع
25

قبل قبضه (الثاني) ان تتلف عقيب قبضها فإن الإجارة تنفسخ أيضا ويسقط الاجر في قول عامة
الفقهاء الا أبا ثور حكي عنه أنه قال يستقر الاجر لأن المعقود عليه أتلف بعد قبضه أشبه المبيع وهذا
غلط لأن المعقود عليه المنافع وقبضها باستيفائها أو التمكن من استيفائها ولم يحصل ذلك فأشبه تلفها قبل
قبض العين (الثالث) أن تتلف بعد مضي شئ من المدة فإن الإجارة تنفسخ فيما بقي من المدة دون
ما مضى ويكون للمؤجر من الاجر بقدر ما استوفى من المنفعة قال أحمد في رواية إبراهيم بن الحارث
إذا اكترى بعيرا بعينه فنفق البعير يعطيه بحساب ما ركب وذلك لما ذكرنا من أن المعقود عليه المنافع
وقد تلف بعضها قبل قبضه فبطل العقد فيما تلف دون ما قبض كما لو اشترى صبرتين فقبض إحداهما
وتلفت الأخرى قبل قبضها ثم ننظر فإن كان أجر المدة متساويا فعليه بقدر ما مضى إن كان قد مضى النصف
فعليه نصف الاجر وإن كان قد مضى الثلث فعليه الثلث كما يقسم الثمن على المبيع المتساوي، وإن كان مختلفا
كدار أجرها في الشتاء أكثر من أجرها في الصيف وأرض أجرها في الصيف أكثر من الشتاء أو دار لها
موسم كدور مكة رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة ويقسط الاجر المسمى على حسب قيمة المنفعة
كقسمة الثمن على الأعيان المختلفة في البيع وكذلك لو كان الاجر على قطع مسافة كبعير استأجره على
حمل شئ إلى مكان معين وكانت متساوية الاجزاء أو مختلفة وهذا ظاهر مذهب الشافعي
26

(فصل) القسم الثاني أن يحدث على العين ما يمنع نفعها كدار انهدمت وأرض غرقت أو انقطع
ماؤها فهذه ينظر فيها فإن لم يبق فيها نفع أصلا فهي كالتالفة سواء، وإن بقي فيها نفع غير ما استأجرها له
مثل أن يمكن الانتفاع بعرصة الدار والأرض لوضع حطب فيها أو نصب خيمة في الأرض التي
استأجرها للزرع أو صيد السمك من الأرض التي غرقت انفسخت الإجارة أيضا لأن المنفعة التي وقع
عليه العقد تلفت فانفسخت الإجارة كما لو استأجر دابة ليركبها فزمنت بحيث لا تصلح الا لتدور في
الرحى. وقال القاضي في الأرض التي ينقطع ماؤها لا تنفسخ الإجارة فيها وهو منصوص الشافعي لأن
المنفعة لم تبطل جملة لأنه يمكن الانتفاع بعرصة الأرض بنصب خيمة أو جمع حطب فيها فأشبه ما لو نقص نفعها
مع بقائه، فعلي هذا يخير المستأجر بين الفسخ والامضاء فإن فسخ فحكمه حكم العبد إذا مات، وإن اختار
امضاء العقد فعليه جميع الاجر لأن ذلك عيب فإذا رضي به سقط حكمه فإن لم يختر الفسخ ولا الامضاء
اما لجهله بأن له الفسخ أو لغير ذلك فله الفسخ بعد ذلك والأول أصح لأن بقاء غير المعقود عليه لا يمنع
انفساخ العقد بتلف المعقود عليه كما في البيع، ولو كان النفع الباقي في الأعيان مما لا يباح استيفاؤه
بالعقد كدابة استأجرها للركوب فصارت لا تصلح الا للحمل أو بالعكس انفسخ العقد وجها واحدا
لأن المنفعة الباقية لا يملك استيفاؤها مع سلامتها فلا يملكها مع تعيبها كبيعها، وأما ان أمكن الانتفاع
27

بالعين فيما اكتراها له على نعت من القصور مثل أن يمكنه زرع الأرض بغير ماء أو كان الماء ينحسر
عن الأرض التي غرقت على وجه يمنع بعض الزراعة أو بسوء الزرع أو كان يمكنه سكنى ساحة الدار
اما في خيمة أو غيرها لم تنفسخ الإجارة لأن المنفعة المعقود عليها لم تزل بالكلية فأشبه ما لو تعيبت
وللمستأجر خيار الفسخ على ما ذكرنا، الا في الدار إذا انهدمت فإن فيها وجهين (أحدهما) لا تنفسخ
الإجارة (والثاني) تنفسخ لأنه زال اسمها يهدمها وذهبت المنفعة التي تقصد منها ولذلك لا يستأجر
أحد عرصة دار ليسكنها، فأما إن كان الحادث في العين لا يضرها كغرق الأرض بماء ينحسر في قرب
من الزمان لا يمنع الزرع ولا يضره وانقطاع الماء عنها إذا ساق المؤجر إليها ماء من مكان آخر أو كان
انقطاعه في زمن لا يحتاج إليه فيه فليس للمستأجر الفسخ لأن هذا ليس بعيب، وإن حدث الغرق المضر
أو انقطاع الماء أو انهدم بعض العين المستأجرة فلذلك البعض حكم نفسه في الفسخ أو ثبوت الخيار
وللمكتري الخيار في تبقية العين لأن الصفقة تبعضت عليه فإن اختار الامساك أمسك بالحصة من الاجر
كما إذا تلف أحد القفيزين من الطعام في يد البائع
(فصل) القسم الثالث أن تغصب العين المستأجرة فللمستأجر الفسخ لأن فيه تأخير حقه فإن
فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ العقد بتلف العين سواء، وإن لم يفسخ حتى أنقضت مدة الإجارة فله
الخيار بين الفسخ والرجوع بالمسمى وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجر المثل لأن المعقود عليه
لم يفت مطلقا بل إلى بدل وهو القيمة فأشبه ما لو أتلف الثمرة المبيعة آدمي قبل قطعها ويتخرج انفساخ
28

العقد بكل حال على الرواية التي تقول ان منافع الغصب لا تضمن وهو قول أصحاب الرأي ولأصحاب
الشافعي في ذلك اختلاف، وإن زادت العين في أثناء المدة ولم يكن فسخ استوفى ما بقي منها ويكون
فيما مضى من المدة مخيرا كما ذكرنا، وإن كانت الإجارة على عمل كخياطة ثوب أو حمل شئ إلى موضع معين
فغصب جمله الذي يحمل عليه وعبده الذي يخيط له لم ينفسخ العقد وللمستأجر مطالبة الأجير بعوض
المغصوب وإقامة من يعمل العمل لأن العقد على ما في الذمة كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده فإن
تعذر البدل ثبت للمستأجر الخيار بين الفسخ أو الصبر إلى أن يقدر على العين المغصوبة فيستوفى منها
(فصل) (القسم الرابع) أن يتعذر استيفاء المنفعة من العين بفعل صدر منها مثل أن يأبق العبد أو
تشرد الدابة وقد ذكرنا حكم ذلك فيما قبل هذا
(فصل) (القسم الخامس) أن يحدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة
أو تحصر البلد فيمتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع ونحو ذلك فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ
لأنه أمر غالب يمنع المستأجر استيفاء المنفعة فأثبت الخيار كغصب العين، ولو استأجر دابة ليركبها أو
يحمل عليها إلى مكان معين فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس
ذلك العام من تلك الطريق فلكل واحد منهما فسخ الإجارة، وان أحب ابقاءها إلى حين امكان
29

استيفاء المنفعة جاز لأن الحق لهما لا يعدوهما، فاما إن كان الخوف خاصا بالمستأجر مثل أن يخاف
وحده لقرب أعدائه من الموضع المستأجر أو حلولهم في طريقه لم يملك الفسخ لأنه عذر يختص به
لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه وكذلك لو حبس أو مرض أو ضاعت نفقته أو تلف
متاعه لم يملك فسخ الإجارة لذلك لأنه ترك استيفاء المنافع لمعنى من جهته فلم يمنع ذلك وجوب
أجرها عليه كما لو تركها اختيارا
(فصل) وإذا اكترى عينا فوجد بها عيبا لم يكن علم به فله فسخ العقد بغير خلاف نعلمه، قال ابن
المنذر إذا اكترى دابة بعينها فوجدها جموحا أو عضوضا أو نفورا أو بها عيب غير ذلك مما يفسد
ركوبها فللمكتري الخيار ان شاء ردها وفسخ الإجارة وان شاء أخذها وهذا قول أبي ثور وأصحاب
الرأي ولأنه عيب في المعقود عليه فأثبت الخيار كالعيب في بيوع الأعيان، والعيب الذي يرد به ما تنقص
به قيمة المنفعة كتعثر الظهر في المشي والعرج الذي يتأخر به عن القافلة وربض البهيمة بالحمل وكونها
جموحة أو عضوضة أو أشباه ذلك، وفي المكترى للخدمة ضعف البصر والجنون والجذام والبرص،
وفي الدار انهدام الحائط والخوف من سقوطها وانقطاع الماء من بئرها أو تغيره بحيث يمتنع الشرب
والوضوء وأشباه ذلك من النقائص، ومتى حدث شئ من هذه العيوب بعد العقد ثبت للمكتري
30

خيار الفسخ لأن المنافع لا يحصل قبضها إلا شيئا فشيئا، فإذا حدث العيب فقد وجد مثل قبض الباقي
من المعقود عليه فأثبت الفسخ فيما بقي منها ومتى فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ العقد بتلف العين،
وان رضي المقام ولم يفسخ لزمه جميع العوض لأنه رضي به ناقصا فأشبه ما لو رضي بالمبيع معيبا، وان
اختلفا في الموجود هل هو عيب أولا؟ رجع فيه إلى أهل الخبرة فإن قالوا ليس بعيب مثل أن تكون
الدابة خشنة المشي أو انها تتعب راكبها لكونها لا تركب كثيرا فليس له فسخ، وان قالوا هو عيب
فله الفسخ هذا إذا كان العقد يتعلق بعينها فاما إن كانت موصوفة في الذمة لم ينفسخ العقد وعلى المكري
ابدالها لأن العقد لم يتعلق بعينها أشبه المسلم فيه إذا سلمه على غير صفته فإن عجز عن ابدالها أو امتنع
منه ولم يمكن إجباره عليه فللمكتري الفسخ أيضا
(فصل) وعلى المكري ما يتمكن به من الانتفاع كتسليم مفاتيح الدار والحمام لأن عليه التمكين من الانتفاع
وتسليم مفاتيحها تمكين من الانتفاع فوجب عليه، فإن ضاعت بغير تفريط من المكتري فعلى المكري بدلها لأنها
أمانة في يد المكتري فأشبه ذلك حيطان الدار وأبوابها، وعليه بناء حائط ان سقط وابدال خشبه ان انكسر،
وعليه تبليط الحمام وعمل الأبواب والبزل ومجرى الماء لأن بذلك يتمكن من الانتفاع وما كان لاستيفاء المنافع
كالحبل والدلو، البكرة فعلى المكتري وأما التحسين والتزويق فلا يلزم واحدا منهما لأن الانتفاع ممكن بدونه وأما
تنقية البالوعة والكنف فإن احتيج إلى ذلك عند الكراء فعلى المكري لأن ذلك مما يتمكن به من
31

الانتفاع، وان امتلأت بفعل المكتري فعليه تفريغها وهذا قول الشافعي وقال أبو ثور هو على رب
الدار لأن به يتمكن من الانتفاع فأشبه ما لو اكترى وهي ملأى وقال أبو حنيفة القياس أنه على المكترى
والاستحسان أنه على رب الدار لأن عادة الناس ذلك
ولنا أن ذلك حصل بفعل المكتري فكان عليه تنظيفه كما لو طرح فيها قماشا والقول في تفريغ
جبية الحمام التي هي مصرف الماء كالقول في بالوعة الدار، وان انقضت الإجارة وفي الدار زبل أو
قمامة من فعل الساكن فعليه نقله وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي
(فصل) وان شرط على مكتري الحمام، أو غيره أن مدة تعطيله عليه لم يجز لأنه لا يجوز أن يؤجر
مدة لا يمكن الانتفاع في بعضها ولا يجوز أن يشترط أنه يستوفي بقدرها بعد انقضاء مدته لأنه يؤدي
إلى أن يكون انتهاء مدة الإجارة مجهولا فإن أطلق وتعطل فهو عيب حادث والمكتري بالخيار بين
الامساك بكل الاجر وبين الفسخ، ويتخرج أن له أرش العيب قياسا على المبيع المعيب، وان لم يعلم
بالعيب حتى أنقضت مدة الإجارة فعليه الاجر كله لأنه استوفى المعقود عليه فأشبه ما لو علم العيب بعد
العقد فرضيه، ويتخرج أن له أرش العيب كما لو اشترى معيبا فلم يعلم عيبه حتى أكله أو تلف في يده
(فصل) وان شرط الانفاق على العين النفقة الواجبة على المكري كعمارة الحمام إذا شرطها على
المكتري فالشرط فاسد لأن العين ملك للمؤجر فنفقتها عليه، وإذا أنفق بناء على هذا احتسب به على
32

المكري لأنه أنفقه على ملكه بشرط العوض، فإن اختلفا في قدر ما أنفق فالقول قول المكري
لأنه منكر، فإن لم يشترط لكن أذن له في الانفاق ليحتسب له من الاجر ففعل ثم اختلفا فالقول قول
المكري أيضا، وان أنفق من غير اذنه لم يرجع بشئ لأنه أنفق على ماله بغير اذنه نفقة غير واجبة
على المالك فأشبه ما لو عمر دارا له أخرى
{مسألة} قال (ومن استؤجر لعمل شئ بعينه فمرض أقيم مقامه من يعمله والأجرة
على المريض)
وجملة ذلك أنه يجوز استئجار الآدمي بغير خلاف بين أهل العلم وقد آجر موسى عليه السلام نفسه
لرعاية الغنم واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا ليدلهما على الطريق وذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا استأجر اجراء
كل أجير بفرق من ذرة وقال " إنما مثلكم ومثل أهل الكتاب كمثل رجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي من غدوة
إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط؟
فعملت النصارى، ثم قال من يعمل لي من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ فعملتم أنتم فغضبت
اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملا وأقل أجرا فقال هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا لا قال فإنما هو
33

فضلي أوتيه من أشاء " ولأنه يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه فجازت اجارته كالدور، ثم اجارته تقع على
ضربين (أحدهما) استئجاره مدة بعينها لعمل بعينه كإجارة موسى عليه السلام نفسه ثماني حجج واستئجار
الاجراء المذكورين في الخبر (والثاني) استئجاره على عمل معين في الذمة كاستئجار النبي صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر دليلا يدلهما على الطريق واستئجار رجل لخياطة قميص أو بناء حائط، ويتنوع ذلك نوعين
(أحدهما) أن تقع الإجارة على عين كإجارة عبده لرعاية غنمه أو ولده لعمل معين (والثاني) ان تقع على
عمل في الذمة كخياطة قميص وبناء حائط فمتى كانت على عمل في ذمته فمرض وجب عليه ان يقيم
مقامه من يعمله لأنه حق وجب في ذمته فوجب عليه ايفاؤه كالمسلم فيه ولا يجب على المستأجر انظاره
لأن العقد باطلاقه يقتضي التعجيل وفي التأخير اضرار به، فأما ان كانت الإجارة على عبده في مدة أو
غيرها فمرض لم يقم غيره مقامه لأن الإجارة وقعت على عمله بعينه لا على شئ في ذمته وعمل غيره
ليس معقودا عليه وإنما وقع العقد على معين فأشبه ما لو اشترى معينا لم يجز ان يدفع إليه غيره ولا
يبدله بخلاف ما لو وقع في الذمة فإنه يجوز ابدال المعيب، ولا ينفسخ العقد بتلف ما تسلمه والمبيع
المعين بخلافه، فكذلك الإجارة، وان كانت الإجارة على عمل في الذمة لكنه لا يقوم غير الأجير مقامه
كالنسخ فإنه يختلف القصد فيه باختلاف الخطوط لم يكلف إقامة غيره مقامه ولا يلزم المستأجر قبول
ذلك أن بذله الأجير لأن الغرض لا يحصل من غير الناسخ كحصوله منه فأشبه ما لو أسلم إليه في نوع
فسلم إليه غيره وهكذا كل ما يختلف باختلاف الأعيان
34

(فصل) يجوز الاستئجار لحفر الآبار والأنهار والقني لأنها منفعة معلومة يجوز أن يتطوع بها
الرجل على غيره فجاز عقد الإجارة عليه كالخدمة، ولا بد من تقدير العمل بمدة أو عمل معين فإن قيده
بمدة نحو أن يقول استأجرتك شهرا لتحفر لي بئرا أو نهرا لم يحتج إلى معرفة القدر، وعليه أن يحفر ذلك
الشهر قليلا حفر أو كثيرا، ويحتاج إلى معرفة الأرض التي يحفر فيها، وقال بعض أصحابنا لا يحتاج إلى
معرفتها لأن الغرض يختلف بذلك، والأول أولى إن شاء الله لأن الأرض قد تكون صلبة فيكون
الحفر عليه شاقا، وقد تكون سهلة فيسهل ذلك عليه، وان قدره بالعمل فلابد من معرفة الموضع
بالمشاهدة لأن المواضع تختلف بالسهولة والصلابة ولا ينضبط ذلك بالصفة، ويعرف دور البئر وعمقها
وطول النهر وعمقه وعرضه لأن العمل يختلف بذلك فإذا حفر بئرا فعليه شيل التراب لأنه لا يمكنه الحفر
إلا بذلك فقد تضمنه العقد فإن تهور تراب من جانبيها أو سقطت فيه بهيمة أو نحو ذلك لم يلزمه شيله
وكان على صاحب البئر لأنه سقط فيها من ملكه ولم يتضمن عقد الإجارة رفعه، وان وصل إلى
صخرة أو جماد يمنع الحفر لم يلزمه حفره لأن ذلك مخالف لما شاهده من الأرض وإنما اعتبرت مشاهدة
الأرض لأنها تختلف، فإذا ظهر فيها ما يخالف المشاهدة كان له الخيار في الفسخ فإذا فسخ كان له
من الاجر بحصة ما عمل فيقسط الاجر على ما بقي وما عمل، فيقال كم أجر ما عمل؟ وكم أجر ما بقي؟
ويقسط الاجر المسمى عليهما، ولا يجوز تقسيطه على عدد الأذرع لأن أعلى البئر يسهل نقل التراب منه
وأسفله يشق ذلك فيه، وان نبع ما يمنعه من الحفر فهو بمنزلة الصخرة على ما ذكرنا
(فصل) ويجوز الاستئجار لضرب اللبن لما ذكرنا ويكون على مدة أو عمل فإن قدره بالعمل
35

احتاج إلى تبيين عدده وذكر قالبه وموضع الضرب لأن الاجر يختلف باختلافه لكون التراب في
بعض الأماكن أسهل والماء أقرب فإن كان هناك قالب معروف لا يختلف جاز كما إذا كان المكيال
معروفا وان قدره بالطول والعرض والسمك جاز ولا يكتفى بمشاهدة قالب الضرب إذا لم يكن
معروفا لأن فيه غررا وقد يتلف القالب ولا يصح كما لو أسلم في مكيال بعينه
(فصل) ويجوز الاستئجار للبناء وتقديره بالزمان أو العمل فإن قدره بالعمل فلا بد من معرفة
موضعه لأنه يختلف أيضا بقرب الماء وسهولة التراب، ولا بد من ذكر طوله وعرضه وسمكه وآلة البناء
من لبن وطين أو حجر وطين أو شيد وآجر أو غير ذلك، قال ابن أبي موسى وإذا استأجره لبناء الف
لبنة في حائطه أو استأجره يبني له فيه يوما فعمل ما استأجره عليه ثم سقط الحائط فله أجره لأنه
وفى العمل، وان قال ارفع لي هذا الحائط عشرة أذرع فرفع بعضه ثم سقط فعليه إعادة ما سقط واتمام
ما وقعت عليه الإجارة من الزرع، وهذا إذا لم يكن سقوطه في الأول لأمر من جهة العامل فاما ان فرط
أو بناه محلولا أو نحو ذلك فسقط فعليه اعادته وغرامة ما تلف منه
(فصل) ويجوز الاستئجار لتطيبن السطوح والحيطان وتجصيصها ولا يجوز على عمل معين لأن الطين يختلف
فمنه رقيق وثخين وأرض السطح تختلف فمنها العالي ومنها النازل وكذلك الحيطان فلذلك لم يجز الا على مدة
(فصل) ويجوز استئجار ناسخ لينسخ له كتب فقه أو حديث أو شعرا مباحا أو سجلات نص
36

عليه في رواية مثنى بن جامع وسأله عن كتابة الحديث بالاجر فلم يربه بأسا، ولا بد من التقدير بالمدة
أو العمل فإن قدره بالعمل ذكر عدد الأوراق وقدرها وعدد السطور في كل ورقة وقدر الحواشي
ودقة القلم وغلظه فإن عرف الخط بالمشاهدة جاز وان أمكن ضبطه بالصفة ضبطه والا فلا بد من
مشاهدته لأن الاجر يختلف باختلافه، ويجوز تقدير الاجر باجزاء الفرع ويجوز باجزاء الأصل
المنسوخ منه وان قاطعه على نسخ الأصل باجر واحد جاز وإذا أخطأ بالشئ اليسير الذي جرت
العادة به عفي عنه لأن ذلك لا يمكن التحرز منه، وان أسرف في الغلط بحيث يخرج عن العادة فهو
عيب يرد به، قال ابن عقيل وليس له محادثة غيره حالة النسخ ولا التشاغل بما يشغل سره ويوجب
غلطه ولا لغيره تحديثه وشغله وكذلك كل الأعمال التي تختل بشغل السرو القلب كالقصارة والنساجة ونحوهما
(فصل) ويجوز أن يستأجر من يكتب له مصحفا في قول أكثر أهل العلم وروي ذلك عن جابر بن
زيد ومالك بن دينار وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وقال ابن سيرين لا بأس
أن يستأجر الرجل شهرا ثم يستكتبه مصحفا، وكره علقمة كتابة المصحف بالاجر ولعله يرى أن ذلك مما يختص
فاعله بكونه من أهل القربة فكره الاجر عليه كالصلاة. ولنا أنه فعل مباح يجوز أن ينوب فيه الغير عن الغير
فجاز أخذ الأجر عليه ككتابة الحديث وقد جاء في الخير " أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله "
(فصل) ويجوز أن يستأجر لحصاد زرعه ولا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، وكان إبراهيم بن أدهم يؤجر
37

نفسه لحصاد الزرع ويجوز أن يقدره بمدة وبعمل معين مثل أن يقاطعه على حصاد زرع معين، ويجوز
أن يستأجر رجلا لسقي زرعه وتنقيته ودياسه ونقله إلى موضع معين، ويجوز أن يستأجر رجلا ليحتطب
له لأنه عمل مباح تدخله النيابة أشبه حصاد الزرع. قال احمد في رجل استأجر أجيرا على أن يحتطب
له على حمارين كل يوم فكان الرجل ينقل عليهما وعلى حمير لرجل آخر ويأخذ منه الأجرة فإن كان
يدخل عليه ضرر يرجع عليه بالقيمة فظاهر هذا ان المستأجر يرجع على الأجير بقيمة ما استضر باشتغاله
عن عمله لأنه قال: إن كان يدخل عليه ضرر يرجع عليه بالقيمة فاعتبر الضرر، وظاهر هذا انه إذا
لم يستضر لا يرجع بشئ لأنه اكتراه لعمل فوفاه على التمام فلم يلزمه شئ كما لو استأجره لعمل فكان
يقرأ القرآن في حال عمله، فإن ضر المستأجر يرجع عليه بقيمة ما فوت عليه ويحتمل انه أراد أنه يرجع عليه بقيمة
ما عمله لغيره لأنه صرف منافعه المعقود عليها إلى عمل غير المستأجر فكان عليه قيمتها كما لو عمل لنفسه
وقال القاضي معناه أنه يرجع عليه بالاجر الذي أخذه من الآخر لأن منافعه في هذه المدة مملوكة لغيره
فما حصل في مقابلتها يكون للذي استأجره
(فصل) ويجوز الاستئجار لاستيفاء القصاص في النفس فما دونهما، وبه قال مالك والشافعي
وأبو ثور وقال أبو حنيفة لا يجوز في النفس لأن عدد الضربات تختلف وموضع الضربات غير متعين
إذ يمكن أن يضرب من مما يلي الرأس ومن ما يلي الكتف فكان مجهولا
38

ولنا أنه حق يجوز التوكيل في استيفائه لا يختص فاعله بكونه من أهل القرية فجاز الاستئجار عليه
كالقصاص في الطرف، وقوله ان عدد الضربات يختلف وهو مجهول يبطل بخياطة الثوب فإن عدد
الغرزات مجهول، وقوله ان محله غير متعين قلنا هو متقارب فلا يمنع ذلك صحته كموضع الخياطة من
حاشية الثوب والاجر على المقتص منه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة ومالك هو على
المستوفي لأنه غير متعين فليس على المقتص منه الا التمكين كما لو اشترى ثمرة نخله
ولنا أنه أجر يجب لايفاء حق فكان على الموفي كأجر الكيال والوزان وما ذكروه غير صحيح
فإن القطع مستحق عليه بخلاف الثمرة بدليل أنه لو مكنه من القطع فلم يقطع وقطعه آخر لم يسقط حق
صاحب القصاص ولو كان التمكين تسليما لسقط حقه كالثمرة
(فصل) ويجوز استئجار رجل ليدله على طريق فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا عبد الله بن
أريقط هاديا خريتا وهو الماهر بالهداية ليدلهما على طريق المدينة، ويجوز استئجار كيال ووزان لعمل
معلوم أو في مدة معلومة وبهذا قال مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا،
وقد روي في حديث سويد بن قيس أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى منا رجل سراويل وثم رجل
بزن بأجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " زن وأرجح " رواه أبو داود ويجوز استئجار رجل ليلازم غريما يستحق ملازمته وسئل أحمد عن ذلك فقال لا بأس قد شغله، وقال في موضع آخر: غير هذا أعجب
39

إلي كرهه لأنه يؤول إلى الخصومة وفيه تضييق على مسلم ولا يأمن أن يكون ظالما فيساعده على ظلمه
لكنه جائز في الجملة لأن الظاهر أنه محق فإن الظاهر أن الحاكم لا يحكم الا بحق ولهذا أجزنا للموكل فعله
(فصل) ويجوز أن يستأجر سمسارا يشتري له ثيابا ورخص فيه ابن سيرين وعطاء والنخعي
وكرهه الثوري وحماد
ولنا أنها منفعة مباحة تجوز النيابة فيها فجاز الاستئجار عليها كالبناء ويجوز على مدة معلومة مثل
أن يستأجر عشرة أيام يشتري له فيها لأن المدة معلومة والعمل معلوم أشبه الخياط والقصار فإن عين
العمل دون الزمان فجعل له من كل ألف درهم شيئا معلوما صح أيضا، وان قال كلما اشتريت ثوبا فلك
درهم اجرا وكانت الثياب معلومة بصفة أو مقدرة بثمن جاز، وإن لم يكن كذلك فظاهر كلام احمد
انه لا يجوز لأن الثياب تختلف باختلاف أثمانها والاجر يختلف باختلافها فإن اشترى فله أجر مثله وهذا
قول أبي ثور وابن المنذر لأنه عمل عملا بعوض لم يسلم له فكان له أجر المثل كسائر الإجارات الفاسدة
(فصل) وإن استأجره ليبيع له ثيابا بعينها صح وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح لأن ذلك
يتعذر عليه فأشبه ضراب الفحل وحمل الحجر الكبير
ولنا أنه عمل مباح تجوز النيابة فيه وهو معلوم فجاز الاستئجار عليه كشراء الثياب ولأنه يجوز
عقد الإجارة عليه مقدرا بزمن فجاز مقدرا بالعمل كالخياطة، وقولهم إنه غير ممكن لا يصح فإن الثياب
40

لا تنفك عن راغب فيها ولذلك صحت المضاربة ولا تكون الا بالبيع والشراء بخلاف ما قاسوا عليه فإنه
متعذر، وإن استأجره على شراء ثياب معينة احتمل أن لا يصح لأن ذلك لا يكون الا من واحد وقد
لا يبيع فيتعذر تحصيل العمل بحكم الظاهر بخلاف البيع، وإن استأجره في البيع لرجل بعينه فهو كما لو
استأجره لشراء ثياب بعينها، ويحتمل أن يصح لأنه ممكن في الجملة فإن حصل من ذلك شئ استحق
الاجر والا بطلت الإجارة كما لو لم يعين البائع ولا المشتري
(فصل) ويجوز أن يستأجر لخدمته من يخدمه كل شهر بشئ معلوم وسواء كان الأجير
رجلا أو امرأة حرا أو عبدا وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور لأنه تجوز النيابة فيه ولا يختص
عامله بكونه من أهل القربة، قال احمد أجير المشاهرة يشهد الأعياد والجمعة ولا يشترط ذلك، قيل له
فيتطوع بالركعتين؟ قال ما لم يضر بصاحبه إنما أباح له ذلك لأن أوقات الصلاة مستثناة من الخدمة ولهذا
وقعت مستثناة في حق المعتكف بترك معتكفه لها، وقال ابن المبارك لا بأس أن يصلي الأجير ركعات
السنة، وقال أبو ثور وابن المنذر ليس له منعه منها، وقال أحمد يجوز للرجل أن يستأجر الأمة
والحرة للخدمة ولكن يصرف وجهه عن النظر ليست الأمة مثل الحرة ولا يخلو معها في بيت ولا ينظر
إليها متجردة ولا إلى شعرها إنما قال ذلك لأن حكم النظر بعد الإجارة كحكمه قبلها، وفرق بين الأمة
والحرة لأنهما يختلفان قبل الإجارة فكذلك بعدها
41

{مسألة} قال (وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها)
هذا قول مالك والشافعي وإسحاق والبتي وأبي ثور وابن المنذر، وقال الثوري وأصحاب الرأي
والليث تنفسخ الإجارة بموت أحدهما لأن استيفاء المنفعة يتعذر بالموت لأنه استحق بالعقد
استيفاءها على ملك المؤجر فإذا مات زال ملكه عن العين فانتقلت إلى ورثته فالمنافع تحدث على ملك
الوارث فلا يستحق المستأجر استيفاءها لأنه ما عقد مع الوارث، وإذا مات المستأجر لم يمكن
إيجاب الاجر في تركته
ولنا انه عقد لازم فلا ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه كما لو زوج أمته ثم مات وما
ذكروه لا يصح فانا قد ذكرنا أن المستأجر قد ملك المنافع وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد ثم
يلزمهم ما لو زوج أمته ثم مات ولو صح ما ذكروه لكن وجوب الاجر ههنا بسبب من المستأجر فوجب
في تركته بعد موته كما لو حفر بئرا فوقع فيها شئ بعد موته ضمنه في ماله لأن سبب ذلك كان منه في
حال الحياة كذا ههنا
(فصل) وإن مات المكتري ولم يكن له وارث يقوم مقامه في استيفاء المنفعة أو كان غائبا كمن
يموت في طريق مكة ويخلف جمله الذي اكتراه وليس له عليه شئ يحمله ولا وارث له حاضر يقوم
42

مقامه فظاهر كلام أحمد أن الإجارة تنفسخ فيما بقي من المدة لأنه قد جاء أمر غالب يمنع المستأجر
عن منفعة العين فأشبه ما لو غصبت، ولان بقاء العقد ضرر في حق المكتري والمكري لأن المكتري
يجب عليه الكراء من غير نفع والمكري يمتنع عليه التصرف في ماله مع ظهور امتناع الكراء عليه وقد
نقل عن أحمد في رجل اكترى بعيرا فمات المكتري في بعض الطريق فإن رجع البعير خاليا فعليه
بقدر ما وجب له، وإن كان عليه ثقله ووطاؤه فله الكراء إلى الموضع، وظاهر هذا أنه حكم بفسخ العقد
فيما بقي من المدة إذا مات المستأجر ولم يبق به انتفاع لأنه تعذر استيفاء المنفعة بأمر من الله تعالى
فأشبه ما لو اكترى من يقلع له ضرسه فبرأ أو انقلع قبل قلعه أو اكترى كحالا ليكحل عينيه فبرأت
أو ذهبت، ويجب أن يقدر أنه لم يكن ثم من ورثته من يقوم مقامه في الانتفاع لأن الوارث يقوم
مقام الموروث، وتأولها القاضي على أن المكري قبض البعير ومنع الورثة الانتفاع ولولا ذلك لما انفسخ
العقد لأنه لا ينفسخ بعذر في المستأجر مع سلامة المعقود عليه كما لو حبس مستأجر الدار ومنع من سكناها
ولا يصح هذا لأنه لو منع الوارث الانتفاع لما استحق شيئا من الاجر، ويفارق هذا ما لو حبس المستأجر
لأن المعقود عليه انتفاعه وهذا لا يؤيس منه بالحبس فإنه في كل وقت يمكن خروجه من الحبس وانتفاعه
ويمكن أن يستنيب من يستوفي المنفعة اما بأجر أو غيره بخلاف الميت فإنه قد فات انتفاعه بنفسه
ونائبه فأشبه ما ذكرنا من الصور
43

(فصل) إذا أجر الموقوف عليه الوقف مدة فمات في أثنائها وانتقل إلى من بعده ففيه وجهان
(أحدهما) لا تنفسخ الإجارة لأنه أجر ملكه في زمن ولايته فلم يبطل بموته كما لو أجر ملكه الطلق
(والثاني) تنفسخ الإجارة فيما بقي من المدة لأنا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره فصح في ملكه دون
ملك غيره كما لو أجر دارين أحدهما له والأخرى لغيره وذلك لأن المنافع بعد الموت حق لغيره فلا
ينفذ عقده عليها من غير ملك ولا ولاية بخلاف الطلق فإن المالك يملك من جهة الموروث فلا يملك
إلا ما خلفه وما تصرف فيه في حياته لا ينتقل إلى الوارث والمنافع التي أجرها قد خرجت عن ملكه
بالإجارة فلا تنتقل إلى الوارث والبطن الثاني في الوقف يملكون من جهة الواقف فما حدث فيها بعد
البطن الأول كان ملكا لهم فقد صادف تصرف المؤجر في ملكهم من غير اذنهم ولا ولاية له عليهم فلم
يصح، ويتخرج أن تبطل الإجارة كلها بناء على تفريق الصفقة وهذا التفصيل مذهب الشافعي، فعلى
هذا إن كان المؤجر قبض الاجر كله وقلنا تنفسخ الإجارة فلمن أنتقل إليه الوقف أخذه ويرجع
المستأجر على ورثه المؤجر بحصة الباقي من الاجر وإن قلنا لا تنفسخ رجع من أنتقل إليه الوقف
على التركة بحصته
(فصل) وإن أجر الولي الصبي أو ماله مدة فبلغ في أثنائها فقال أبو الخطاب ليس له فسخ الإجارة
لأنه عقد لازم عقده بحق الولاية فلم يبطل بالبلوغ كما لو باع داره أو زوجه ويحتمل أن تبطل الإجارة
44

فيما بعد زوال الولاية على ما ذكرنا في إجارة الوقف، ويحتمل أن يفرق بين ما إذا أجره مدة يتحقق
بلوغه في أثنائها مثل أن أجره عامين وهو ابن أربع عشره فتبطل في السادس عشر لأننا نتيقن أنه
أجره فيها بعد بلوغه، وهل تصح في الخامس عشر؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة وبين ما إذا لم
يتحقق بلوغه في أثنائها كالذي أجره في الخامس عشر وحده فبلغ في أثنائه فيكون فيه ما قد ذكرنا في
صدر الفصل لأننا لو قلنا يلزم الصبي بعقد الولي مدة يتحقق بلوغه فيها أقضى إلى أن يعقد على جميع
منافعه طول عمره، والى أن يتصرف فيه في غير زمن ولايته عليه، ولا يشبه النكاح لأنه لا يمكن تقدير
مدته فإنه إنما يعقد للأبد، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا بلغ الصبي فله الخيار لأنه عقد على
منافعه في حال لا يملك التصرف في نفسه فإذا ملك ثبت له الخيار كالأمة إذا عتقت تحت زوج
ولنا أنه عقد لازم عقد عليه قبل أن يملك التصرف فإذا ملكه لم يثبت له الخيار كالأب إذا زوج
ولده وما قاسوا عليه إنما يثبت لها الخيار إذا عتقت تحت عبد لأجل العيب لا لما ذكره، ولهذا لو عتقت
تحت حر لم يثبت لها الخيار، وإن مات الولي المؤجر للصبي أو ماله أو عزل وانتقلت الولاية إلى غيره
لم يبطل عقد لأنه تصرف وهو من أهل التصرف في محل ولايته فلم يبطل تصرفه بموته أو عزله كما
لو مات ناظر الوقف أو عزل أو مات الحاكم بعد تصرفه فيما له النظر فيه، ويفارق ما لو أجر الموقوف عليه
الوقف مدة ثم مات في أثنائها لأنه أجر ملك غيره بغير اذنه في مدة لا ولاية له فيها وههنا إنما يثبت للولي
45

الثاني الولاية في التصرف فيما لم يتصرف فيه الأول وهذا العقد قد تصرف فيه الأول فلم تثبت للثاني
ولاية على ما تناوله
(فصل) وإن أجر عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها صح العتق ولم يبطل عقد الإجارة في قياس المذهب
ولا يرجع العبد على مولاه بشئ وهذا جديد قولي الشافعي وقال في القديم يرجع على مولاه بأجر المثل
لأن المنافع تستوفى منه بسبب كان من جهة السيد فرجع به عليه كما لو أكرهه بعد عتقه على ذلك العمل.
ولنا أنها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدلها كما لو زوج أمته ثم أعتقها بعد دخول
الزوج بها فإن ما يستوفيه السيد لا يرجع به عليه، ويخالف المكره فإنه تعدى بذلك، وقال أبو حنيفة للعبد
الخيار في الفسخ أو الامضاء كالصبي إذا بلغ للمعنى الذي ذكره ثم. ولنا انه عقد لازم عقده على
ما يملكه فلا ينفسخ بالعتق ولا يزول ملكه عنه كما لو زوج أمته ثم باعها. إذا ثبت هذا فإن نفقة
العبد ان كانت مشروطة على المستأجر فهي عليه كما كانت وإن لم تكن مشروطة عليه فهي على معتقه
لأنه كالباقي على ملكه بدليل أنه يملك عوض نفعه ولان العبد لا يقدر على نفقة نفسه لأنه مشغول
بالإجارة ولا على المستأجر لأنه استحق منفعته بعوض غير نفقته لم يبق الا أنها على المولى
(فصل) إذا أجر عينا ثم باعها صح البيع نص عليه أحمد سواء باعها للمستأجر أو لغيره وبهذا
46

قال الشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر إن باعها لغير المستأجر لم يصح البيع لأن يد المستأجر حائلة
تمنع التسليم إلى المشتري فمنعت الصحة كما في بيع المغصوب
ولنا أن الإجارة عقد على المنافع فلم تمنع الصحة كما لو زوج أمته ثم باعها، وقولهم يد المستأجر
حائلة دون التسليم لا يصح لأن يد المستأجر إنما هي على المنافع والبيع على الرقبة فلا يمنع ثبوت اليد
على أحدهما تسليم الآخر كما لو باع الأمة المزوجة ولئن منعت التسليم في الحال فلا تمنع في الوقت الذي
يجب التسليم فيه وهو عند انقضاء الإجارة ويكفي القدرة على التسليم حينئذ كالمسلم فيه، وقال أبو حنيفة
البيع موقوف على إجازة المستأجر فإن أجازه جاز وبطلت الإجارة وإن رده بطل
ولنا أن البيع على غير المعقود عليه في الإجارة فلم تعتبر اجارته كبيع الأمة المزوجة. إذا ثبت هذا
فإن المشتري يملك المبيع مسلوب المنفعة إلى حين انقضاء الإجارة ولا يستحق تسليم العين إلا حينئذ
لأن تسليم العين إنما يراد لاستيفاء نفعها ونفعها إنما يستحقه إذا انقضت الإجارة فيصير هذا بمنزلة من اشترى
عينا في مكان بعيد فإنه لا يستحق تسليمها الا بعد مضي مدة يمكن احضارها فيها كالمسلم إلى وقت
لا يستحق تسلم المسلم فيه الا في وقته، فإن لم يعلم المشتري بالإجارة فله الخيار بين الفسخ وامضاء البيع
بكل الثمن لأن ذلك عيب ونقص
(فصل) فإن اشتراها المستأجر صح البيع أيضا لأنه يصح بيعها لغيره فله أولى لأن العين في يده
47

وهل تبطل الإجارة؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تبطل لأنه تملك المنفعة بعقد ثم ملك الرقبة المسلوبة بعقد
آخر فلم يتنافيا كما يملك الثمرة بعقد ثم يملك الأصل بعقد آخر، ولو أجر الموصي له بالمنفعة مالك الرقبة
صحت الإجارة فدل على أن ملك المنفعة لا ينافي العقد على الرقبة، وكذلك، لو استأجر المالك العين
المستأجرة من مستأجرها جاز فعلى هذا يكون الاجر باقيا على المشتري وعليه الثمن ويجتمعان للبائع كما
لو كان المشتري غيره (والثاني) تبطل الإجارة فيما بقي من المدة لأنه عقد على منفعة العين فبطل
ملك العاقد للعين كالنكاح فإنه لو تزوج أمة ثم اشتراها بطل نكاحه ولان ملك الرقبة يمنع ابتداء
الإجارة فمنع استدامتها كالنكاح فعلى هذا يسقط عن المشتري الاجر فيما بقي من مدة الإجارة كما لو
بطلت الإجارة بتلف العين وإن كان المؤجر قد قبض الاجار كله حسب عليه باقي الاجر من الثمن
(فصل) وإن ورث المستأجر العين المستأجرة فالحكم فيه كما لو اشتراها في بطلان الإجارة أو
بقائها إلا أنه لا فرق في الحكم بين فسخ الإجارة وبقائها فلو استأجر انسان من أبيه دارا ثم مات أبوه
وخلف ابنين أحدهما هو المستأجر فإن الدار تكون بينهما نصفين والمستأجر أحق بها لأن النصف الذي
لأخيه الإجارة باقية فيه والنصف الذي ورثه يستحقه اما بحكم الملك واما بحكم الإجارة وما عليه من
الاجر بينهما نصفين، وإن كان أبوه قد قبض الاجر لم يرجع بشئ منه على أخيه ولا تركة أبيه ويكون
ما خلفه أبوه بينهما نصفين لأنه لو رجع بشئ أفضى إلى أن يكون قد ورث النصف بمنفعته وورث أخوه
48

نصفا مسلوب المنفعة والله سبحانه قد سوى بينهما في الميراث ولأنه لو رجع بنصف أجر النصف الذي
انتقضت الإجارة فيه لوجب أن يرجع أخوه بنصف المنفعة التي انتقضت الإجارة فيها إذ لا يمكن أن
يجمع له بين المنفعة واخذ عوضها من غيره
(فصل) وإن اشترى المستأجر العين ثم وجدها معيبة فردها فإن قلنا لا تنفسخ الإجارة بالبيع
فهي باقية بعد رد العين كما كانت قبل البيع، وإن قلنا قد انفسخت فالحكم فيها كما لو انفسخت بتلف
العين، وإن كان المشتري أجنبيا فرد المستأجر الإجارة لعيب فينبغي أن تعود المنفعة إلى البائع لأنه
يستحق عوضها على المستأجر فإذا سقط العوض عاد إليه المعوض ولان المشتري ملك العين مسلوبة
المنفعة مدة الإجارة فلا يرجع إليه ما لم يملكه، وقال بعض أصحاب الشافعي يرجع إلى المشتري لأن
المنفعة تابعة للرقبة وإنما استحقت بعقد الإجارة فإذا زالت عادت إليه كما لو اشترى أمة مزوجة فطلقها
الزوج، ولا يصح هذا القياس فإن منفعة البضع قد استقر عوضها للبائع بمجرد دخول الزوج بها ولا
ينقسم العوض على المدة ولهذا لا يرجع الزوج بشئ من الصداق فيما إذا انفسخ النكاح أو وقع الطلاق
بخلاف الاجر في الإجارة فإن المؤجر يستحق الاجر في مقابلة المنفعة مقسوما على مدتها فإذا كان له عوض
المنفعة المستقبلة فزال بالفسخ رجع إليه معوضها وهو المنفعة ولان منفعة البضع لا يجوز أن تملك بغير
49

مالك الرقبة أو النكاح فلو رجعت إلى البائع لملكت بغيرهما ولأنها مما لا يجوز للزوج نقلها إلى غيره
ولا المعاوضة عنها ومنفعة البدن بخلافها
(فصل) وإذا وقعت الإجارة على عين مثل أن يستأجر عبدا للخدمة أو لرعاية الغنم أو جملا
للحمل أو للركوب فتلفت انفسخ العقد بتلفها، وإن خرجت مستحقة تبينا أن العقد باطل، وإن وجد
بها عيبا فردها انفسخ العقد ولم يملك ابدالها لأن العقد على معين فثبتت هذه الأحكام كما لو اشترى
عينا، وإن وقعت على عين موصوفة في الذمة انعكست هذه الأحكام فمتى سلم إليه عينا فتلفت لم تنفسخ
الإجارة ولزم المؤجر ابدالها، وإن خرجت مغصوبة لم يبطل العقد ولزمه بدلها، وإن وجد بها عيبا فردها
فكذلك لأن المعقود على غير هذه العين وهذه بدل عنه فلم يؤثر تلفها ولا غصبها ولا ردها بعيب في
ابطال العقد كما لو اشترى بثمن في الذمة على ما قرر في موضعه، فإن قيل فقد قلتم من اكترى جملا ليركبه جاز
أن يركبه من هو مثله ولو اكترى أرضا لزرع شئ بعينه جاز له زرع ما هو مثله أو دونه في الضرر فلم قلتم إذا
اكترى جملا بعينه لا يجوز أن يبدله؟ قلنا لأن المعقود عليه منفعة العين فلم يجز أن يدفع إليه غير المعقود علية
كما لو اشترى عينا لا يجوز أن يأخذ غيرها والراكب غير معقود عليه إنما هو مستوف للمنفعة وإنما تشترط معرفته
لتقدير المنفعة لا لكونه معقودا عليه وكذلك الزرع في الأرض فإنما يعين ليعرف به قدر المنفعة المستوفاة فيجوز
الاستيفاء بغيرها كما لو وكل المشتري غيره في استيفاء المبيع، ألا ترى أنه لو تلف البعير أو الأرض
50

انفسخت الإجارة ولو مات الراكب أو تلف البذر لم تنفسخ الإجارة وجاز أن يقوم غيره مقامه فافترقا
{مسألة} قال (ومن استأجر عقارا فله أن يسكنه غيره إذا كان يقوم مقامه)
وجملته أن من استأجر عقارا للسكنى فله أن يسكنه ويسكن فيه من شاء ممن يقوم مقامه في الضرر
أو دونه ويضع فيه ما جرت عادة الساكن به من الرحال والطعام ويخزن فيها الثياب وغيرها مما لا يضر
بها، ولا يسكنها ما يضربها مثل القصارين والحدادين لأن ذلك يضر بها، ولا يجعل فيها الدواب لأنها
تروث فيها وتفسدها ولا يجعل فيها السرجين ولا وحى ولا شيئا يضر بها، ولا يجوز أن يجعل فيها
شيئا ثقيلا فوق سقف لأنه يثقله ويكسر خشبه ولا يجعل فيها شيئا يضر بها الا أن يشترط ذلك،
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا وإنما كان كذلك لأن له استيفاء المعقود عليه
بنفسه ونائبه والذي يسكنه نائب عنه في استيفاء المعقود عليه فجاز كما لو وكل وكيلا في قبض المبيع أو دين له
ولم يملك فعل ما يضر بها لأنه فوق المعقود عليه فلم يكن له فعله كما لو اشترى شيئا لم يملك أخذ أكثر منه
فاما أن يجعل الدار مخزنا للطعام فقد قال أصحابنا يجوز ذلك لأنه يجوز أن يجعلها مخزنا لغيره ويحتمل
أن لا يجوز لأن ذلك يفضي إلى تحريق النار أرضها وحيطانها وذلك ضرر لا يرضى به صاحب الدار
(فصل) وإذا اكترى دارا جاز اطلاق العقد ولم يحتج إلى ذكر السكنى ولا صفتها وهذا قول
51

الشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور لا يجوز حتى يقول أبيت تحتها أنا وعيالي لأن السكنى تختلف
ولو اكتراها ليسكنها فتزوج امرأة لم يكن له أن يسكنها معه
ولنا أن الدار لا تكترى الا للسكنى فاستغني عن ذكره كاطلاق الثمن في بلد فيه نقد معروف به
والتفاوت في السكنى يسير فلم يحتج إلى ضبطه وما ذكره لا يصح فإن الضرر لا يكاد يختلف بكثرة من
يسكن وقلتهم ولا يمكن ضبط ذلك فاجتزئ فيه بالعرق كما في دخول الحمام وشبهه، ولو اشترط
ما ذكره لوجب أن يذكر عدد السكان وأن لا يبيت عنده ضيف ولا زائر ولا غير من ذكره ولكان
ينبغي أن يعلم صفة الساكن كما يعلم ذلك فيما إذا اكترى المركوب
(فصل) وإذا اكترى ظهرا ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف ومنه ولا يركبه من هو
أثقل منه لأن العقد اقتضى استيفاء منفعة مقدرة بذلك الراكب فله أن يستوفي ذلك بنفسه ونائبه،
وله أن يستوفي أقل منه لأنه يستوفى بعض ما يستحقه وليس له استيفاء أكثر منه لأنه لا يملك أكثر مما
عقد عليه ولا يشترط التساوي في الطول والقصر ولا المعرفة بالركوب، وقال القاضي يشترط أن يكون
مثله في هذه الأوصاف كلها لأن قلة المعرفة بالركوب تثقل على المركوب وتضربه. قال الشاعر:
لم يركبوا الخيل إلا بعد ما كبروا * فهم ثقال على أعجازها عنف
ولنا ان التفاوت في هذه الأمور بعد التساوي في الثقل يسير فعفي عنه ولهذا لا يشترط ذكره
في الإجارة ولو اعتبر ذلك لاشترطت معرفته في الإجارة كالثقل والخفة
52

(فصل) فإن شرط أن لا يستوفي في المنفعة بمثله ولا من هو دونه فقياس قول أصحابنا صحة
العقد وبطلان الشرط فإنه قال فيمن شرط أن يزرع في الأرض حنطة ولا يزرع غيرها: يبطل
الشرط ويصح العقد، ويحتمل أن يصح الشرط وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن المستأجر
يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به ولأنه قد يكون له غرض في تخصيصه باستيفاء هذه
المنفعة، وقالوا في الوجه الآخر يبطل الشرط لأنه ينافي موجب العقد إذ موجبه ملك المنفعة والتسلط
على استيفائها بنفسه وبنائبه، واستيفاء بعضها بنفسه وبعضها بنائبه والشرط ينافي ذلك فكان باطلا، وهل
يبطل به العقد؟ فيه وجهان أصحهما لا يبطله لأنه لا يؤثر في حق المؤجر نفعا ولا ضرا فألغي
وبقي العقد على مقتضاه، والآخر يبطله لأنه ينافي مقتضاه فأشبه ما لو شرط أن لا يستوفي المنافع
(فصل) ويجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها نص عليه أحمد وهو قال سعيد
ابن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة وأبي سليمان بن عبد الرحمن والنخعي والشعبي والثوري
والشافعي وأصحاب الرأي، وذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
ربح ما لم يضمن والمنافع لم تدخل في ضمانه، ولأنه عقد على ما لم يدخل في ضمانه فلم يجز كبيع المكيل
والموزون قبل قبضه، والأول أصح لأن قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يجوز التصرف
فيها فجاز العقد عليها كبيع الثمرة على الشجرة ويبطل قياس الرواية الأخرى لهذا الأصل. إذا ثبت فإنه لا تجوز
53

إجارته إلا لمن يقوم مقامه أو دونه في الضرر لما تقدم، فأما اجارتها قبل قبضها فلا تجوز من غير المؤجر
في أحد الوجهين وهذا قول أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي لأن المنافع مملوكة بعقد معاوضة فاعتبر
في جواز العقد عليها القبض كالأعيان، والآخر يجوز وهو قول بعض الشافعية لأن قبض العين لا ينتقل به
الضمان إليه فلم يقف جواز التصرف عليه، فأما إجارتها قبل القبض من المؤجر فإذا قلنا لا يجوز من غير المؤجر
كان فيها ههنا وجهان (أحدهما) لا يجوز لأنه عقد عليها قبل قبضها (والثاني) يجوز لأن القبض لا يتعذر
عليه بخلاف الأجنبي، وأصلهما بيع الطعام قبل قبضه لا يصح من غير بائعه رواية واحدة، وهل يصح من
بائعه؟ على روايتين، فاما اجارتها بعد قبضها من المؤجر فجائزة وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
لا يجوز لأن ذلك يؤدي إلى تناقض الأحكام لأن التسليم مستحق على الكراء فإذا اكتراها صار
مستحقا له فيصير مستحقا لما يستحق عليه وهذا تناقض
ولنا أن كل عقد جاز مع غير العاقد جاز مع العاقد كالبيع، وما ذكروه لا يصح لأن التسليم قد
حصل وهذا المستحق له تسليم آخر ثم يبطل بالبيع فإنه يستحق عليه تسليم العين فإذا اشتراها استحق
تسليمها، فإن قيل التسليم ههنا مستحق في جميع المدة بخلاف المبيع، قلنا المستحق تسليم العين وقد حصل
وليس عليه تسليم آخر غير أن العين من ضمان المؤجر فإذا تعذرت المنافع بتلف الدار وغصبها رجع عليه
لأنها تعذرت بسبب كان في ضمانه
54

(فصل) ويجوز للمستأجر إجازة العين بمثل الاجر وزيادة نص عليه أحمد، وروي ذلك عن
عطاء والحسن والزهري وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وعن أحمد انه ان أحدث في العين زيادة
جاز له أن يكريها بزيادة والا لم تجز الزيادة فإن فعل تصدق بالزيادة روي هذا الشعبي وبه قال الثوري
وأبو حنيفة لأنه يربح بذلك فيما لم يضمن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، ولأنه يربح فيما
لم يضمن فلم يجز كما لو ربح في الطعام قبل قبضه، ويخالف ما إذا عمل عملا فيها لأن الربح في مقابلة العمل
وعن أحمد رواية ثالثة ان أذن له المالك في الزيادة جاز وإلا لم يجز، وكره ابن المسيب وأبو سلمة وابن سيرين
ومجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي الزيادة مطلقا لدخولها في ربح ما لم يضمن
ولنا أنه عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه وكما لو أحدث عمارة لا يقابلها
جزء من الاجر، وأما الخبز فإن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه فإنها لو فاتت من غير استيفائه كانت
من ضمانه، ولا يصح القياس على بيع الطعام قبضه فإن البيع ممنوع منه بالكلية سواء ربح أولم يربح وههنا
جائز في الجملة وتعليلهم بان الربح في مقابلة عمله ملغى بما إذا كنس الدار ونظفها فإن ذلك يزيد
في أجرها في العادة
(فصل) ونقل الأثرم عن أحمد أنه سأله عن الرجل يتقبل العمل من الأعمال فيقبله بأقل من
ذلك أيجوز له الفضل؟ قال ما أدري هي مسألة فيها بعض الشئ قلت أليس كان الخياط أسهل عندك
55

إذا قطع الثوب أو غيره إذا عمل في العمل شيئا قال إذا عمل عملا فهو أسهل، قال النخعي لا بأس أن
يتقبل الخياط الثياب بأجر معلوم ثم يقبلها بعد ذلك أن يعين فيها أو يقطع أو يعطيه سلوكا أو ابرا أو يخيط
فيها شيئا فإن لم يعن فيها بشئ فلا يأخذن فضلا وهذا يحتمل أن يكون النخعي قاله مبنيا على مذهبه في
أن من استأجر شيئا لا يؤجره بزيادة وقياس المذهب جواز ذلك سواء أعان فيها بشئ أو لم يعن لأنه
إذا جاز أن يقبله بمثل الاجر الأول أو دونه جاز بزيادة عليه كالبيع وكإجارة العين
(فصل) وكل عين استأجرها لمنفعة فله أن يستوفي مثل تلك المنفعة وما دونها في الضرر قال
أحمد إذا استأجر دابة ليحمل عليها تمرا فحمل عليها حنطة أرجو أن لا يكون به بأسا إذا كان الوزن
واحدا، فإن كانت المنفعة التي يستوفيها أكثر ضررا أو مخالفة للمعقود عليها في الضرر لم يجز لأنه يستوفي
أكثر من حقه أو غير ما يستحقه، فإذا اكترى دابة ليحمل عليها حديدا لم يحمل عليها قطنا لأنه يتجافى
وتهب فيه الريح فيتعب الظهر، وإن اكتراها لحمل القطن لم يجز أن يحمل الحديد لأنه يجتمع في موضع
واحد فيثقل عليه والقطن يتفرق فيقل ضرره، وإن اكتراه ليركبه لم يجز أن يحمل عليه لأن الراكب
يعين الظهر بحركته، وإن اكتراه ليحمل عليه لم يجز أن يركبه لأن الراكب يقعد في موضع واحد فيشتد
على الظهر والمتاع يتفرق على جنبيه، وإن اكتراه ليركبه عريا لم يجز أن يركبه بسرج لأنه يحمل عليه
أكثر مما عقد عليه، وإن اكتراه ليركبه بسرج لم يجز أن يركبه عريا لأنه إذا ركب عليه من غير سرج
56

حمي ظهره فربما عقره، وإن اكتراه ليركبه بسرج لم يجز أن يركبه بأكثر منه فلو اكترى حمارا لم يجز
أن يركبه بسرج البرذون إذا كان أثقل من سرجه، وإن اكترى دابة بسرج فركبها بإكاف أثقل
منه أو أضر لم يجز، وإن كان أخف وأقل ضررا فلا بأس، ومتى فعل ما ليس له فعله كان ضامنا وعليه
الاجر وهذا كله مذهب الشافعي وأبي ثور
(فصل) وإن اكترى دابة ليركبها في مسافة معلومة أو يحمل عليها فيها فأراد العدول بها إلى ناحية
أخرى مثلها في القدر أضر منها أو تخالف ضررها بان تكون إحداهما أحسن والأخرى أخوف لم يجز وإن كان مثلها في السهولة والحزونة والامن أو التي يعدل إليها أقل ضررا فذكر القاضي أنه يجوز وهو
قول أصحاب الشافعي لأن المسافة عينت ليستوفي بها المنفعة ويعلم قدرها بها فلم تتعين كنوع المحمول
والراكب، ويقوى عندي أنا متى كان للمكري غرض في تلك الجهة المعينة لم يجز العدول إلى غيرها مثل
من يكري جماله إلى مكة فيحج معها فلا يجوز له أن يذهب بها إلى غيرها، ولو أكراها إلى بغداد
لكون أهله بها أو ببلد العراق لم يجز الذهاب بها إلى مصر، ولو اكترى جماله جملة إلى بلد لم يجز
للمستأجر التفريق بينها بالسفر ببعضها إلى جهة وبباقيها إلى جهة أخرى وذلك لأنه عين المسافة لغرض
في فواته ضرر فلم يحز تفويته كما في حق المكتري فإنه لو أراد حمله إلى غير المكان الذي اكترى إليه
لم يحز وكما لو عين طريقا سهلا أو آمنا فأراد سلوك ما يخالفه في ذلك
57

(فصل) ويجوز أن يكتري قميصا ليلبسه لأنه يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ويجوز بيعه فجازت
اجارته كالعقار ولا بد من تقدير المنفعة بالمدة، وإن كانت عادة أهل بلده نزع ثيابهم عند النوم في الليل
فعليه نزعه في ذلك لأن الاطلاق يحمل على المعتاد، وله لبسه فيما سوى ذلك، وإن نام نهارا لم يكن
عليه نزعه لأنه العرف ويلبس القميص على ما جرت العادة به ولا يجوز أن يتزر به لأنه يعتمد عليه
فيشقه وفي اللبس لا يعتمد ويجوز أن يرتدي به لأنه أخف، ومن ملك شيئا ملك ما هو أخف منه وقيل
فيه وجه آخر أنه لا يجوز لأنه استعمال لم تجر العادة به في القميص أشبه الاتزار به
(فصل) وإن استأجر أرضا صح لما تقدم ولا يصح حتى يرى الأرض لأن المنفعة تختلف باختلافها ولا
تعرف إلا بالرؤية لأنها لا تنضبط بالصفة، ولا يصح حتى يذكر له ما يكترى له من زرع أو غرس أو بناء
لأن الأرض تصلح لهذا كله وتأثيره في الأرض يختلف فوجب بيانه، فإن قال أجرتكها لتزرعها أو
تغرسها لم يصح لأنه لم يعين أحدهما فأشبه ما لو قال بعتك أحد هذين العبدين وإن قال لتزرعها ما شئت
أو تغرسها ما شئت صح وهذا منصوص الشافعي وخالفه أكثر أصحابه فقالوا لا يجوز لأنه لا يدري كم يزرع
ويغرس وقال بعضهم يصح ويزرع نصفها ويغرس نصفها
ولنا أن العقد اقتضى إباحة هذين الشيئين فصح كما لو قال لتزرعها ما شئت، ولان اختلاف الجنسين
كاختلاف النوعين، وقوله لتزرعها ما شئت اذن في نوعين وأنواع وقد صح فكذلك في الجنسين وله
58

أن يغرسها كلها، وإن أحب زرعها كلها كما لو أذن له في أنواع الزرع كله كان له زرع جميعها نوعا
واحدا وله زرعها من نوعين كذلك ههنا
وان أكراها للزرع وحده ففيه أربع مسائل (إحداهن) أكراها للزرع مطلقا أو قال لتزرعها
ما شئت فإنه يصح وله زرع ما شاء وهذا مذهب الشافعي، وحكي عن ابن سريج أنه لا يصح حتى يتبين
الزرع لأن ضرره يختلف فلم يصح بدون البيان كما لو لم يذكر ما يكترى له من زرع أو غرس أو بناء
ولنا أنه يجوز استئجارها لأكثر الزرع ضررا ويباح له جميع الأنواع لأنها دونه فإذا عمم أو
أطلق تناول الأكثر وكان له ما دونه ويخالف الأجناس المختلفة فإنه لا يدخل بعضها في بعض، فإن
قيل فلو اكترى دابة للركوب لوجب تعيين الراكب، قلنا لأن إجارة المركوب لأكثر الركاب ضررا
لا نجوز بخلاف المزروع ولان للحيوان حرمة في نفسه فلم يجز اطلاق ذلك فيه بخلاف الأرض، فإن
قيل فلو استأجر دارا للسكنى مطلقا لم يجز أن يسكنها من يضربها كالقصار والحداد فلم قلتم انه
يجوز أن يزرعها ما يضربها قلنا السكنى لا تقتضي ضررا فلذلك منع من اسكان من يضربها لأن
العقد لم يقتضيه والزرع يتقضي الضرر فإذا أطلق كان راضيا بأكثره فلهذا جاز وليس له أن يغرس في
هذه الأرض ولا يبني لأن ضرره أكثر من المعقود عليه
(المسألة الثانية) أكراها لزرع حنطة أو نوع بعينه فإن له زرع ما يعينه وما ضرره كضرره أو
59

دونه ولا يتعين ما عينه في قول عامة أهل العلم الا داود وأهل الظاهر فإنهم قالوا لا يجوز له زرع غير
ماعينه حتى لو وصف الحنطة بأنها سمراء لم يجز له أن يزرع بيضاء لأنه عينه بالعقد فلم يجز العدول
عنه كما لو عين المركوب أو عين الدراهم في الثمن
ولنا أن المعقود عليه منفعة الأرض دون القمح ولهذا يستقر عليه العوض بمضي المدة إذا تسلم
الأرض وان لم يزرعها وإنما ذكر القمح لتقدر به المنفعة فلم يتعين كما لو استأجر دارا ليسكنها كان له أن
يسكنها غيره، وفارق المركوب والدراهم في الثمن فإنهما معقود عليهما فتعينا والمعقود عليه ههنا منفعة
مقدرة وقد تعينت أيضا ولم يتعين ما قدرت به كما لا يتعين المكيال والميزان في المكيل والموزون
(المسألة الثالثة) قال ليزرعها حنطة وما ضررة كضررها أو دونه فهذه كالتي قبلها إلا أنه لا مخالف
فيها لأنه شرط ما اقتضاه الاطلاق وبين ذلك تصريح نصه فزال الاشكال
(المسألة الرابعة) قال ليزرعها حنطة ولا يزرع غيرها فذكر القاضي أن الشرط باطل لأنه ينافي
مقتضى العقد لأنه يقتضي استيفاء المنفعة كيف شاء فلم يصح الشرط كما لو شرط عليه استيفاء المبيع
بنفسه والعقد صحيح لأنه لا ضرر فيه ولا غرض لاحد المتعاقدين لأن ما ضرره مثله لا يختلف في غير
المؤجر فلم يؤثر في العقد فأشبه شرط استيفاء المبيع أو الثمن بنفسه، وقد ذكرنا فيما إذا شرط مكتري الدار
أنه لا يسكنها غيره وجها في صحة الشرط ووجها آخر في فساد العقد فيخرج ههنا مثله
60

(فصل) وإن أكراها للغراس ففيه ما ذكرنا من المسائل إلا أن له أن يزرعها لأن ضرر الزرع
أقل من ضرر الغراس وهو من جنسه لأن كل واحد منهما يضر بباطن الأرض، وليس له البناء لأن
ضرره مخالف لضرره فإنه يضر بظاهر الأرض، وان أكراها للزرع لم يكن له الغرس ولا البناء لأن
ضرر الغرس أكثر، وضرر البناء مخالف لضرره، وإن أكراها للبناء لم يكن له الغرس ولا الزرع
لأن ضررهما يخالف ضرره
(فصل) ولا تخلوا الأرض من قسمين (أحدهما) أن يكون له ماء دائم إما من نهر لم تجر العادة بانقطاعه
أولا ينقطع إلا مدة لا يؤثر في الزرع أو من عين نابعة أو بركة من مياه الأمطار يجتمع فيها ثم يسقى به
أو من بئر يقوم بكفايتها أو ما يشرب بعروقه لنداوة الأرض وقرب الماء الذي تحت الأرض فهذا
كله دائم، وصح استئجارها للغرس والزرع بغير خلاف علمناه، وكذلك الأرض التي تشرب من
مياه الأمطار ويكتفي بالمعتاد منه لأن ذلك بحكم العادة ولا ينقطع الا نادرا فهو كسائر الصور المذكورة
(الثاني) أن لا يكون لها ماء دائم وهي نوعان (أحدهما) ما يشرب من زيادة معتادة تأتي في وقت الحاجة
كأرض مصر الشاربة من زيادة النيل وما يشرب من زيادة الفرات وأشباهه، وأرض البصرة الشاربة
من المد والجزر وأرض دمشق الشاربة من زيادة بردأ وما يشرب من الأودية الجارية من ماء المطر
فهذه تصح إجارتها قبل وجود الماء الذي تسقى به وبعده وحكى ابن الصباغ ذلك مذهبا للشافعي وقال
أصحابه ان أكراها بعد الزيادة صح ولا يصح قبلها لأنها معدومة لا نعلم هل يقدر عليها أو لا
61

ولنا أن هذا معتاد الظاهر وجوده فجازت إجارة الأرض الشاربة به كالشاربة من مياه الأمطار ولان
ظن القدرة على التسليم في وقته يكفي في صحة العقد كالسلم في الفاكهة إلى أوانها
(النوع الثاني) أن يكون مجئ الماء نادرا أو غير ظاهر كالأرض التي لا يكفيها إلا المطر الشديد
الكثير الذي يندر وجوده أو يكون شربها من فيض واد مجيئه نادر أو من زيادة نادرة في نهر أو عين
غالبة فهذه ان أجرها بعد وجود ماء يسقيها به صح أيضا لأنه أمكن الانتفاع بها وزرعها فجازت إجارتها
كذات الماء الدائم، وإن أجرها قبله للغرس أو الزرع لم يصح لأنه يتعذر الزرع غالبا ويتعذر
المعقود عليه في الظاهر فلم تصح إجارتها كالآبق والمغصوب، وإن اكتراها على أنها لا ماء لها جاز لأنه
تمكن من الانتفاع بها بالنزول فيها ووضع رحله وجمع الحطب فيها، وله أن يزرعها رجاء الماء، وان حصل
له ماء قبل زرعها فله زرعها لأن ذلك من منافعها الممكن استيفاؤها وليس له أن يبني ولا يغرس لأن
ذك يراد للتأييد وتقدير الإجارة بمدة تقتضي تفريغها عند انقضائها، فإن قيل فلو استأجرها للعراس
والبنا صح مع تقدير المدة، قلنا التصريح بلا بناء والغراس صرف التقدير عن مقتضاه بظاهره في التفريغ
عند انقضاء المدة الا أن يشترط قلع ذلك عند انقضاء المدة فيصرف الغراس والبناء عما يراد له
بظاهره بخلاف مسئلتنا، وإن أطلق إجارة هذه الأرض مع العلم بحالها وعدم مائها صح لأنهما دخلا
في العقد على أنها لا ماء لها فأشبه ما لو شرطاه، وإن لم يعلم عدم نمائها أو ظن المكتري أنه يمكن تحصيل
62

ماء لها بوجه من الوجوه لم يصح العقد ولأنه ربما دخل في العقد بناء على أن المالك لها يحصل لها ماء وأنه
يكتريها للزراعة مع تعذرها، وقيل لا يصح العقد مع الاطلاق وان علم بحالها لأن اطلاق كراء الأرض
يقتضى الزراعة والأولى صحته لأن العلم بحال يقوم مقام الاشتراط كالعلم بالعيب يقوم مقام
شرطه، ومتى كان لها ماء غير دائم أو الظاهر انقطاعه، قبل الزرع أو لا يكفي الزرع فهي كالتي لا ماء لها
ومذهب الشافعي في هذا كله كما ذكرنا
(فصل) وإن اكترى أرضا غارقة بالماء لا يمكن زرعها قبل انحساره عنها وقد ينحسر ولا ينحسر فالعقد
باطل لأن الانتفاع بها في الحال غير ممكن ولا يزول المانع غالبا، وإن كان ينحسر عنها وقت الحاجة
إلى الزراعة كأرض مصر في وقت مد النيل صح العقد لأن المقصود متحقق بحكم العادة المستمرة
وإن كانت الزراعة فيها ممكنة ويخاف غرقها والعادة غرقها لم يجز اجارتها لأنها في حكم الغارقة
بحكم العادة المستمرة
(فصل) ومتى غرق الزرع أو هلك بحريق أو جراد أو برد أو غيره فلا ضمان على المؤجر ولا
خيار للمكتري نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا وهو مذهب الشافعي لأن التالف غير المعقود عليه
وإنما تلف مال المكتري فيه فأشبه من اشترى دكانا فاحترق متاعه فيه، ثم إن أمكن المكتري الانتفاع
بالأرض بغير الزرع أو بالزرع في بقية المدة فله ذلك، وإن تعذر ذلك فالاجر لازم له لأن تعذره
63

لفوات وقت الزراعة بسبب غير مضمون على المؤجر لا لمعنى في العين، وإن تعذر الزرع بسبب غرق
الأرض أو انقطاع مائها فللمستأجر الخيار لأنه لمعنى في العين، وإن تلف الزرع بذلك فليس على المؤجر
ضمانه لأنه لم يتلفه بمباشرة ولا بسبب، وإن قل الماء بحيث لا يكفي الزرع فله الفسخ لأنه عيب فإن كان
ذلك بعد الزرع فله الفسخ أيضا ويبقى الزرع في الأرض إلى أن يستحصد وعليه من المسمى بحصته إلى
حين الفسخ وأجر المثل لما بقي من المدة لأرض لها مثل ذلك الماء وكذلك أن انقطع الماء بالكلية أو
حدث بها عيب من غرق يهلك بعض الزرع أو يسوء حاله به
(فصل) وإذا استأجر أرضا للزراعة مدة فانقضت وفيها زرع لم يبلغ حصاده لم يخل من حالين
(أحدهما) أن يكون لتفريط من المستأجر مثل أن يزرع زرعا لم تجر العادة بكماله قبل انقضاء المدة
فحكمه حكم زرع الغاصب يخير المالك بعد المدة من أخذه بالقيمة أو تركه بالاجر لما زاد على المدة لأنه
أبقى زرعه في أرض غيره بعدوانه، وإن اختار المستأجر قطع زرعه في الال وتفريغ الأرض فله ذلك
لأنه يزيل الضرر ويسلم الأرض على الوجه الذي اقتضاه العقد، وذكر القاضي أن على المستأجر نقل
الزرع وتفريغ الأرض، وإن اتفقا على تركه بعوض أو غيره جاز وهذا مذهب الشافعي بناء على قوله
في الغاصب وقياس مذهبنا ما ذكرناه
(الحال الثاني) أن يكون بقاؤه بغير تفريط مثل أن يزرع زرعا ينتهي في المدة عادة فأبطأ لبرد
أو غيره فإنه يلزم المؤجر تركه إلى أن ينتهي وله المسمى وأجر المثل لما زاد وهذا أحد الوجهين لأصحاب
الشافعي أو الوجه الثاني قالوا يلزمه نقله لأن المدة ضربت لنقل الزرع فيلزم العمل بموجبه وقد وجد
منه تفريط لأنه كان يمكنه أن يستظهر في المدة فلم يفعل
64

ولنا أنه حصل الزرع في أرض غيره باذنه من غير تفريط فلزم تركه كما لو أعاره أرضا فزرعها ثم
رجع المالك قبل كمال الزرع، وقولهم إنه مفرط غير صحيح لأن هذه المدة التي جرت العادة بكمال الزرع
فيها وفي زيادة المدة تفويت زيادة الاجر بغير فائدة وتضييع زيادة متيقنة لتحصيل شئ متوهم على
خلاف العادة هو التفريد فلم يكن تركه تفريطا، ومتى أراد المستأجر زرع شئ لا يدرك مثله في الإجارة
فللمالك منعه لأنه سبب لوجود زرعه في أرضه بغير حق فملك منعه منه فإن زرع لم يملك مطالبته
بقلعه قبل المدة لأنه في أرض يملك نفعها ولأنه لا يملك ذلك بعد المدة فقبلها أولى، ومن أوجب
عليه قطعه بعد المدة قال إذا لم يكن بد من المطالبة بالنقل فليكن عند المدة التي يستحق تسليمها
إلى المؤجر فارغة
(فصل) وإذا اكترى الأرض لزرع مدة لا يكمل فيها مثل ان يكتري خمسة أشهر لزرع
لا يكمل إلا في سنة نظرنا فإن شرط تفريغها عند انقضاء المدة ونقله عنها صح لأنه لا يفضي إلى
الزيادة على مدته وقد يكون له غرض في ذلك لاخذه إياه قصيلا أو غيره ويلزمه ما التزم، وان أطلق
العقد ولم يشترط شيئا احتمل أن يصح لأن الانتفاع بالزرع في هذه المدة ممكن، واحتمل انه ان أمكن
أن ينتفع بالأرض في زرع ضرره كضرر الزرع المشروط أو دونه مثل أن يزرعها شعيرا يأخذه قصيلا
صح العقد لأن الانتفاع بها في بعض ما اقتضاه العقد ممكن، وإن لم يكن كذلك لم يصح لأنه اكترى
65

للزرع مالا ينتفع بالزرع فيه أشبه إجارة السبخة له، فإن قلنا يصح فإن انقضت المدة ففيه وجهان (أحدهما)
حكمه حكم زرع المستأجر لما لا يكمل في مدته لأنه ههنا مفرط، واحتمل أن يلزم المكري تركه بالاجر
لأن التفريط منه حيث أكراه مدة لزرع لا يكمل فيها، وان شرط تبقيته حتى يكمل فالعقد فاسد
لأنه جمع بين متضادين فإن تقدير المدة يقتضي النقل فيها وشرط التبقية يخالفه ولان مدة التبقية مجهولة
فإن زرع لم يطالب بنقله كالتي تقدمت
(فصل) إذا أجره الغراس سنة صح لأنه يمكنه تسليم منفعتها المباحة المقصودة فأشبهت سائر
المنافع وسواء شرط قلع الغراس عند انقضاء المدة أو أطلق وله أن يغرس قبل انقضاء المدة فإذا انقضت
لم يكن له أن يغرس لزوال عقده، فإذا انقضت السنة وكان قد شرط القلع عند انقضائها لزمه ذلك وفاء
بموجب شرطه، وليس على صاحب الأرض غرامة نقصه ولا على المكتري تسوية الحفر وإصلاح
الأرض لأنهما دخلا على هذا لرضاهما بالقلع واشتراطهما عليه، وان اتفقا على ابقائه بأجر أو
غيره جاز إذا شرطا مدة معلومة، وكذلك لو اكترى الأرض سنة بعد سنة كلما انقضى عقد جدد آخر
جاز، وان أطلق العقد فللمكتري القلع لأن الغرس ملكه فله أخذه كطعامه من الدار التي باعها،
وإذا قلع فعليه تسوية الحفر لأنه نقص دخل على ملك غيره بغير إذنه، وهكذا ان قلعه قبل القضاء المدة
ههنا وفي التي قبلها لأن القلع قبل الوقت لم يأذن المالك ولأنه تصرف في الأرض تصرفا نقصها لم
66

يقتضه عقد الإجارة، وان أبى القلع لم يجبر عليه إلا أن يضمن له المالك نقص غرسه فيجبر حينئذ وبهذا
قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك عليه القلع من غير ضمان النقص له لأن تقدير المدة في لاجارة يقتضي
التفريغ عند انقضائها كما لو استأجرها للزرع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق) مفهومه ان ما ليس بظالم له حق وهذا ليس بظالم ولأنه
غرس بإذن المالك ولم يشترط قلعه فلم يجبر على القلع من غير ضمان النقص كما لو استعار منه أرضا للغرس
مدة فرجع قبل انقضائها ويخالف الزرع فإنه لا يقتضي التأبيد، فإن قيل فإن كان اطلاق العقد في الغراس
يقتضي التأبيد فشرط القلع ينافي مقتضى العقد فينبغي أن يفسده، قلنا إنما اقتضى التأبيد من حيث إن
العادة في الغراس التبقية فإذا أطلقه حمل على العادة وإذا شرط خلافه جاز كما إذا باع بغير نقد البلد
أو شرط في الإجارة شرطا يخالف العادة. إذا ثبت هذا فإن رب الأرض يخير بين ثلاثة أشياء (أحدها)
أن يدفع قيمة الغراس والبناء فيملكه مع أرضه (الثاني) أن يقلع الغراس والبناء ويضمن أرش نقصه
(الثالث) أن يقر الغراس والبناء ويأخذه منه أجر المثل وبهذا قال الشافعي، وقال مالك يخير بين دفع
قيمته فيملكه وبين مطالبته بالقلع من غير ضمان وبين تركه فيكونان شريكين وليس بصحيح لأن الغراس
ملك لغارسه لم يدفع إليه عنه عوض ولا رضي بزوال ملكه عنه فلا يزول عنه كسائر الغرس، وإن
اتفقا على بيع الغراس والبناء للمالك جاز وإن باعهما صاحبهما لغير مالك الأرض جاز ومشتريهما يقوم
67

فيهما مقام البائع، وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين ليس له بيعهما لغير مالك الأرض لأن ملكه
ضعيف بدليل أن لصاحب الأرض تملكه عليه بالقيمة من غير اذنه
ولنا أنه مملوك له يجوز بيعه لمالك الأرض فجاز لغيره كشقص مشفوع وبهذا يبطل ما ذكروه فإن
للشفيع تملك الشقص وشراؤه ويجوز بيعه لغيره، فأما ان شرط في العقد تبقية الغراس فذكر القاضي
أنه صحيح وحكمه حكم ما لو أطلق العقد سواء وهو قول أصحاب، الشافعي ويحتمل أن يبطل العقد
لأنه شرط ما ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في الزرع الذي لا يكمل قبل انقضاء المدة، ولان
الشرط باطل بدليل أنه لا يجب الوفاء به وهو مؤثر فأبطله كشرط تبقية الزرع بعد مدة الإجارة
{مسألة} قال (ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته)
اختلفت الرواية عن أحمد فيمن استأجر أجيرا بطعامه وكسوته أو جعل له أجرا وشرط طعامه
وكسوته فروي عنه جواز ذلك وهو مذهب مالك وإسحاق وروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى رضي
الله عنهم أنهم استأجروا الاجراء بطعامهم وكسوتهم، وروي عنه أن ذلك جائز في الظئر دون غيرها
اختارها القاضي وهذا مذهب أبي حنيفة لأن ذلك مجهول وإنما جاز في الظئر لقول الله تعالى (وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فأوجب لهن النفقة والكسوة على الرضاع ولم يفرق بين المطلقة
وغيرها بل في الآية قرينة تدل على طلاقها لأن الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية وإن لم ترضع لأن
68

الله تعالى قال (وعلى الوارث مثل ذلك) والوارث ليس بزوج، ولان المنفعة في الحضانة والرضاع
غير معلومة فجاز أن يكون عوضها كذلك، وروي عنه رواية ثالثة لا يجوز ذلك بحال لا في الظئر ولا في
غيرها، وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وابن المنذر لأن ذلك يختلف اختلافا كثيرا متباينا
فيكون مجهولا والاجر من شرطه أن يكون معلوما
ولنا ما روى ابن ماجة عن عتبة بن المنذر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ (طس) حتى بلغ
قصة موسى قال " ان موسى آجر نفسه ثماني حجج أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه) وشرع من
قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال كنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي أحطب
لهم إذا نزلوا وأحدوا بهم إذا ركبوا، ولان من ذكرنا من الصحابة وغيرهم فعلوه فلم يظهر له نكير
فكان اجماعا، ولأنه قد ثبت في الظئر بالآية فيثبت في غيرها بالقياس عليها، ولأنه عوض منفعة
فقام العرف فيه مقام التسمية كنفقة الزوجة ولان للكسوة عرفا وهي كسوة الزوجات وللاطعام عرف
وهو الاطعام في الكفارات فجاز اطلاقه كنقد البلد ونخص أبا حنيفة بأن ما كان عوضا في الرضاع جاز
في الخدمة كالأثمان. إذا ثبت هذا فإنهما إن تشاحا في مقدار الطعام والكسوة رجع في القوت إلى
الاطعام في الكفارة وفي الكسوة إلى أقل ملبوس مثله، قال أحمد إذا تشاحا في الطعام يحكم له بمد كل
69

يوم ذهب به إلى ظاهر ما أمر الله تعالى من اطعام المساكين ففسرت ذلك السنة بأنه مد لكل مسكين
ولان الاطعام مطلق في الموضعين فما فسر به أحدهما يفسر به الآخر، وليس له اطعام الأجير إلا ما يوافقه
من الأغذية لأن عليه ضررا ولا يمكنه استيفاء الواجب له منه
(فصل) وإن شرط الأجير كسوة ونفقة معلومة موصوفة كما يوصف في السلم جاز ذلك عند الجميع
وإن لم يشترط طعاما ولا كسوة فنفقته وكسوته على نفسه وكذلك الظئر قال ابن المنذر لا أعلم عن أحد
خلافا فيما ذكرت، وإن شرط للأجير طعام غيره وكسوته موصوفا جاز لأنه معلوم أشبه ما لو شرط دراهم
معلومة ويكون ذلك للأجير إن شاء أطعمه وإن شاء تركه، وإن لم يكن موصوفا لم يجز لأن ذلك مجهول
احتمل فيما إذا شرطه للأجير للحاجة إليه وجرت العادة به فلا يلزم احتمالها مع عدم ذلك، ولو استأجر
دابة بعلفها أو بأجر مسمى وعلفها لم يجز لأنه مجهول ولا عرف له يرجع إليه ولا نعلم أحدا قال بجوازه
إلا أن يشترطه موصوفا فيجوز
(فصل) وإن استغنى الا جبر عن طعام المؤجر بطعام نفسه أو غيه أو عجز عن الاكل لمرض
أو غيره لم تسقط نفقته وكان له المطالبة بها لأنها عوض فلا تسقط بالغني عنه كالدراهم، وإن احتاج لدواء
لمرضه لم يلزم المستأجر ذلك لأنه لم بشرط له الاطعام إلا صحيحا لكن يلزمه له بقدر طعام الصحيح
يشتري له الأجير ما يصلح لأن ما زاد على طعام الصحيح لم يقع العقد عليه فلا يلزم به كالزائد في القدر
70

(فصل) إذا دفع إليه طعامه فأحب الأجير أن يستفضل بعضه لنفسه نظرت فإن كان المؤجر دفع
إليه أكثر من الواجب ليأكل قدر حاجته وبفضل الباقي أو كان في تركه لاكله كله ضرر على المؤجر بان
يضعف عن العمل أو يقل لبن الظئر منع منه لأنه في الصورة الأولى لم يملكه إياه وإنما أباحه أكل قدر
حاجته، وفي الثانية على المؤجر ضرر بتفويت بعض ماله من منفعته فمنع منه كالجمال إذا امتنع من
علف الجمال، وإن دفع إليه قدر الواجب من غير زيادة أو دفع إليه أكثر وملكه إياه ولم يكن في تفضيله
لبعضه ضرر بالمؤجر جاز لأنه حق لا ضرر على المؤجر فيه فأشبه الدراهم
(فصل) وإن قدم إليه طعاما فنهب أو تلف قبل أكله نظرت فإن كان على مائدة لا يخصه فيها
بطعامه فهو من ضمان المستأجر لأنه لم يسلمه إليه فكان تلفه من ماله، وإن خصه بذلك وسلمه إليه فهو
من ضمان الأجير لأنه تسليم عوض على وجه التمليك أشبه البيع
(فصل) إذا دفع إلى رجل ثوبا وقال بعه بكذا فما ازددت فهو لك صح نص عليه أحمد في رواية
أحمد بن سعيد وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال ابن سيرين وإسحاق وكرهه النخعي وحماد وأبو
حنيفة والثوري والشافعي وابن المنذر لأنه أجر مجهول يحتمل الوجود والعدم
ولنا ما روى عطاء عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل الرجل الثوب أو غير ذلك
فيقول بعه بكذا وكذا فما ازددت فهو لك ولا يعرف له في عصره مخالف ولأنها عين تنمي بالعمل
71

فيها أشبه دفع مال المضاربة. إذا ثبت هذا فإن باعه بزيادة فهي له لأنه جعلها أجرة، وإن باعه بالقدر
المسمى من غير زيادة فلا شئ له لأنه جعل له الزيادة ولا زيادة هنا فهو كالمضارب إذا لم يربح، وإن
باعه بنقص عنه لم يصح البيع لأنه وكيل مخالف، وإن تعذر رده ضمن النقص وقد قال أحمد يضمن
النقصان مطلقا وهذا قد مضى مثله في الوكالة، وإن باعه نسيئة لم يصح البيع لأن اطلاق البيع يقتضي
النقد لما في النسيئة من ضرر التأخير والخطر بالمال ليحصل له نفع الربح، ويفارق المضارب على رواية
حيث يجوز له البيع نساء لأنه يحصل لرب المال نفع بما يحصل من الربح في مقابلة ضرره بالنسيئة أكثر وههنا
لا فائدة لرب المال في الربح بحال، ولان مقصود المضاربة تحصيل الربح وهو في النسيئة أكثر وههنا
ليس مقصود رب المال الربح ولاحظ له فيه فلا فائدة له فيه، وقال أحمد في رواية الأثرم ليس له شئ يعني
إذ زاد على العشرة لأن الاطلاق إنما اقتضى بيعها حالا، فإذا باعها نسيئة فلم يمتثل الامر فلم يستحق شيئا
(فصل) قال أحمد رحمه الله في رواية مهنا لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج
منه وهو أحب إلي من المقاطعة إنما جاز ههنا لأنه إذا شاهده فقد علمه بالرؤية وهي أعلى طرق العلم
ومن علم شيئا علم جزأه المشاع فيكون أجرا معلوما، واختاره أحمد على المقاطعة مع أنها جائزة لأنه ربما لم
يخرج من الزرع مثل الذي قاطعه عليه وههنا يكون أقل مه ضرورة
72

{مسألة} قال (وكذلك الظئر)
يعني انه يجوز استئجارها بطعامها وكسوتها وقد ذكرنا ذلك والخلاف فيه، وأجمع أهل العلم على
جواز استئجار الظئر وهي المرضعة وهو في كتاب الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى (فإن أرضعن لكم
فآتوهن أجورهن) واسترضع النبي صلى الله عليه وسلم لولده إبراهيم، ولان الحاجة تدعو إليه فوق دعائها إلى غيره
فإن الطفل في العادة إنما يعيش بالرضاع وقد يتعذر رضاعه من أمه فجاز ذلك كالإجارة في سائر المنافع
ثم ننظر فإن استأجرها للرضاع دون الحضانة أو للحضانة دون الرضاع أو لهما جاز، وان أطلق العقد
على الرضاع فهل تدخل فيه الحضانة؟ فيه وجهان (أحدهما) لا ندخل وهو قول أبي ثور وابن المنذر
لأن العقد ما تناولها (والثاني) تدخل وهو قول أصحاب الرأي لأن العرف جار بأن المرضعة تحضن
الصبي فحمل الاطلاق على ما جرى به العرف والعادة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(والحضانة) تربية الصبي وحفظه وجعله في سريره وربطه ودهنه وكحله وتنظيفه وغسل خرقه
وأشباه ذلك واشتقاقه من الحضن وهو ما تحت الإبط وما يليه وسميت التربية حضانة تجوزا من
حضانة الطير لبيضه وفراخه لأنه يجعلها تحت جناحيه فسميت تربية الصبي بذلك أخذا من فعل الطائر
(فصل) ويشترط لهذا العقد أربعة شروط (أحدها) أن تكون مدة الرضاع معلومة لأنه لا يمكن
73

تقديره إلا بها فإن السقي والعمل فيها يختلف (الثاني) معرفة الصبي بالمشاهدة لأن الرضاع يختلف
باختلاف الصبي في كبره وصغره ونهمته وقناعته، وقال القاضي يعرف بالصفة كالراكب (الثالث)
موضع الرضاع لأنه يختلف فيشق عليها في بيته ويسهل عليها في بيتها (الرابع) معرفة العوض وكونه
معلوما كما سبق
(فصل) واختلف في المعقود عليه في الرضاع فقيل هو خدمة الصبي وحمله ووضع الثدي في فمه
تبع كالصبغ في إجارة الصباغ، وماء البئر في الدار لأن اللبن عين من الأعيان فلا يعقد عليه في الإجارة
كلبن غير الآدمي وقيل هو اللبن، قال القاضي هو أشبه لأنه المقصود دون الخدمة، ولهذا لو أرضعته
دون أن تخدمه استحقت الأجرة ولو خدمته بدون الرضاع لم تستحق شيئا ولان الله تعالى قال (فإن
أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فجعل الاجر مرتبا على الارضاع فيدا، على أنه المعقود عليه، ولان
العقد لو كان على الخدمة لما لزمها سقيه لبنها، وأما كونه عينا فإنما جاز العقد عليه في الإجارة رخصة
لأن غيره لا يقوم مقامه والضرورة تدعو إلى استيفائه وإنما جاز هذا في الآدميين دون سائر الحيوان
للضرورة إلى حفظ الآدمي والحاجة إلى ابقائه
(فصل) وعلى المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر به لبنها ويصلح وللمكتري مطالبتها بذلك لأنه
من تمام التمكين من الرضاع وفي تركه اضرار بالصبي ومتى لم ترضعه وإنما أسقته لبن الغنم أو أطعمته
74

فلا أجر لها لأنها لم توف المعقود عليه فأشبه ما لو اكتراها لخياطة ثوب فلم تخطه، وان دفعته إلى خادمتها
فأرضعته فكذلك، وبه قال أبو ثور وقال أصحاب الرأي لها أجرها لأن رضاعه حصل بفعلها
ولنا أنها لم ترضعه فأشبه ما لو سقته لبن الغنم، وإن اختلفا فقالت أرضعته فأنكر المسترضع
فالقول قولها لأنها مؤتمنة
(فصل) ويجوز للرجل أن يؤجر أمته ومدبرته وأم ولده ومن علق عتقها بصفة والمأذون لها في
التجارة للارضاع لأنه عقد على منفعتها أشبه إجارتها للخدمة، وليس لواحدة منهن إجارة نفسها لأن نفعها
لسيدها وإن كان لها ولد لم تجز إجارتها للارضاع الا أن يكون فيها فضل عن ربه لأن الحق لولدها
وليس لسيدها إلا ما فضل عنه، وان كانت مزوجة لم تجز إجارتها لذلك إلا باذنه لأنه يفوت حق الزوج
لاشتغالها عنه بارضاع الصبي وحضانته، فإن أجرها للرضاع ثم زوجها صح النكاح ولا ينفسخ عقد
الإجارة ويكون المزوج أن يستمتع بها في حال فراغها من الرضاع والحضانة. وقال مالك ليس لزوجها
وطؤها إلا برضى المستأجر لأنه ينقص اللبن وقد يقطعه
ولنا أن وطئ الزوج مستحق فلا يسقط لأمر مشكوك فيه، وليس للسيد إجارة مكاتبته لأن
منافعها إليها ولذلك لم يملك سيدها تزويجها ولا وطأها ولا إجارتها في غير الرضاع ولها أن تؤجر نفسها
لأنه من جهات الاكتساب
75

(فصل) ويجوز للرجل استئجار أمته وأخته وابنته لرضاع ولده وكذلك سائر أقاربه بغير
خلاف، وان استأجر امرأته لرضاع ولده منها جاز هذا الصحيح من مذهب أحمد وذكره الخرقي فقال
وان أرادت الام أن ترضعه بأجر مثلها فهي أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة
وقال القاضي ليس لها ذلك وتأول كلام الخرقي على أنها في حبال زوج آخر، وهذا قول أصحاب الرأي
وحكي عن الشافعي لأنه قد استحق حبسها والاستمتاع بها بعوض فلا يجوز أن يلزمه عوض آخر لذلك
ولنا أن كل عقد يصح أن تعقده مع غير الزوج يصح أن تعقده معه كالبيع ولان منافعها في الرضاع
والحضانة غير مستحقة للزوج بدليل انه لا يملك إجبارها على حضانة ولدها ويجوز لها أن تأخذ عليها
العوض من غيره فجاز لها أخذه منه كثمن مالها. وقولهم انها استحقت عوض الحبس والاستمتاع،
قلنا هذا غير الحضانة واستحقاق منفعة من وجه لا يمنع استحقاق منفعة سواها بعوض آخر كما لو
استأجرها أولا ثم تزوجها، وتأويل القاضي كلام الخرقي يخالف الظاهر من وجهين (أحدهما) ان
الألف واللام في الزوج للمعهود وهو زوجها أبو الطفل (والثاني) انها إذا كانت في حبال زوج آخر
لا تكون أحق به بل يسقط حقها من الحضانة ثم ليس لها أن ترضع الا باذن زوجها ففسد التأويل
(فصل) وتنفسخ الإجارة بموت المرضعة لفوات المنفعة بهلاك محلها، وحكي عن أبي بكر انها
لا تنفسخ ويجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت لأنه كالدين
76

ولنا انه ملك المعقود عليه أشبه ما لو هلكت البهيمة المستأجرة، وان مات الطفل انفسخ العقد
لأنه يتعذر استيفاء المعقود عليه لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف
اللبن باختلافهم فإنه قد يدر على أحد الولدين دون الآخر وهذا منصوص الشافعي، وإذا انفسخ العقد
عقيبه بطلت الإجارة من أصلها ورجع المستأجر بالاجر كله وإن كان في أثناء المدة رجع بحصة ما بقي
{مسألة} (ويستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو أمة كما جاء في الخبر إذا
كان المسترضع موسرا)
يعني بالخبر ما روى أبو داود باسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج بن حجاج الأسلمي
عن أبيه قال قلت يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال " الغرة العبد أو الأمة " قال الترمذي
هذا حديث حسن صحيح، قال ابن الجوزي. المذمة بكسر الذال من الذمام وبفتحها من الذم، قال
ابن عقيل إنما خص الرقبة بالمجازاة بها دون غيرها لأن فعلها في إرضاعه وحضانته سبب حياته وبقائه
وحفظ رقبته فاستحب جعل الجزاء هبتها رقبة ليناسب ما بين النعمة والشكر، ولهذا جعل الله تعالى
المرضعة أما فقال تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجزي ولد والده الا أن
يجده مملوكا فيعتقه) وان كانت المرضعة مملوكة استحب إعتاقها لأنه يحصل أخص الرقاب بها لها وتحصل
77

به المجازاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم مجازاة للوالد من النسب
{مسألة} قال (ومن اكترى دابة إلى موضع فجاوزه فعليه الأجرة المذكورة وأجرة
المثل لما جاوز وان تلفت فعليه أيضا قيمتها)
الكلام في هذه المسألة في فصلين [أحدهما] في الاجر الواجب وهو المسمى وأجر المثل للزائد
نص عليه أحمد ولا خلاف فيه بين أصحابنا، ذكر القاضي ذلك، وروى الأثرم باسناده عن أبي الزناد
انه ذكر عن فقهاء المدينة السبعة وقال ربما اختلفوا في الشئ فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا فكان
الذي وعيت عنهم على هذه الصفة: ان من اكترى دابة إلى بلد ثم جاوز ذلك إلى بلد سواه فإن الدابة ان
سلمت في ذلك كله أدى كراءها وكراء ما بعدها وان تلفت في تعديها ضمنها وأدى كراءها الذي
تكاراها به وهذا قول الحكم وابن شبرمة والشافعي
وقال الثوري وأبو حنيفة لا أجر عليه لما زاد لأن المنافع عندهما لا تضمن في الغصب، وحكي عن
مالك انه إذا تجاوز بها إلى مسافة بعيدة يخير صاحبها بين أجر المثل وبين المطالبة بقيمتها يوم التعدي
لأنه متعد بامساكها حابس لها عن أسواقها فكان لصاحبها تضمينها إياه
ولنا أن العين باقية بحالها يمكن أخذها فلم تجب قيمتها كما لو كانت المسافة قريبة وما ذكره تحكم
لا دليل عليه ولا نظير له فلا يجوز المصير إليه وقد مضى الكلام مع أبي حنيفة في الغصب
78

{الفصل الثاني في الضمان}
ظاهر كلام الخرقي وجوب قيمتها إذا تلفت به سواء تلفت في الزيادة أو بعد ردها إلى المسافة
وسواء كان صاحبها مع المكتري أولم يكن وهذا ظاهر مذهب الفقهاء السبعة إذا تلفت حال التعدي
لما حكينا عنهم وقال القاضي إن كان المكتري نزل عنها وسلمها إلى صاحبها ليمسكها أو يسقيها فتلفت فلا
ضمان على المكتري وان هلكت والمكتري راكب عليها أو حمله عليها فعليه ضمانها، وقال أبو الخطاب
ان كانت يد صاحبها عليها احتمل أن يلزم المكتري جميع قيمتها واحتمل أن يلزمه نصف قيمتها، وقال
أصحاب الشافعي ان لم يكن صاحبها معها لزم المكتري قيمتها كلها وإن كان معها فتلفت في يد صاحبها
لم يضمنها المكتري لأنها تلفت في يد صاحبها أشبه ما لو تلفت بعد مدة التعدي وان تلفت تحت
الراكب ففيه قولان (أحدهما) يلزمه نصف قيمتها لأنها تلفت بفعل مضمون وغير مضمون أشبه
ما لو تلفت بجراحته وجراحة مالكها (والثاني) تقسط القيمة على المسافتين فما قابل مسافة الإجارة
سقط ووجب الباقي ونحو هذا قول أبي حنيفة فإنه قال من اكترى جملا لحمل تسعة فحمل عشرة فتلف فعلى المكتري عشر قيمته، وموضع الخلاف في لزوم كمال القيمة إذا كان صاحبها مع راكبها أو تلفت في
يد صاحبها، فأما إذا تلفت حال التعدي ولم يكن صاحبها مع راكبها فلا خلاف في ضمانها بكمال قيمتها
79

لأنها تلفت في يد عادية فوجب ضمانها كالمغصوبة وكذلك إذا تلفت تحت الراكب أو تحت حمله وصاحبها معها
لأن اليد للراكب وصاحب الحمل بدليل انهما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل والاخر آخذ بزمامها
لكانت للراكب ولصاحب الحمل ولان الراكب متعد بالزيادة وسكوت صاحبها لا يسقط الضمان كمن جلس إلى
انسان فحرق ثيابه وهو ساكت ولأنها ان تلفت بسبب تعبها فالضمان على المتعدي كمن القى حجرا في
سفينة موقرة فغرقها، فاما ان تلفت في يد صاحبها بعد نزول الراكب عنها فينظر فإن كان تلفها بسبب تعبها
بالحمل والسير فهو كما لو تلفت تحت الحمل والراكب وان تلفت بسبب آخر من افتراس سبع أو سقوط
في هوة ونحو ذلك فلا ضمان فيها لأنها لم تتلف في يد عادية ولا بسبب عدوان وقولهم تلفت بفعل
مضمون وغير مضمون أشبه ما لو تلفت بجراحتين يبطل بما إذا قطع السارق ثم قطع آخر يده عدوانا
فمات منهما، وفارق ما إذا جرح نفسه وجرحه غيره لأن الفعلين عدوان فقسم الضمان عليهما
(فصل) ولا يسقط الضمان بردها إلى المسافة وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي. وقال
محمد يسقط كما لو تعدى في الوديعة ثم ردها
ولنا انها يد ضمانة فلا يزول الضمان عنها الا باذن جديد ولم يوجد، وما ذكروه في الوديعة
لا نسلمه الا أن يردها إلى مالكها أو يجدد له اذنا
80

{مسألة} قال (وكذلك أن اكترى لحمولة شئ فزاد عليه)
وجملة ذلك أن من اكتري لحمل شئ فزاد عليه مثل أن يكتريها لحمل قفيزين فحمل ثلاثة فحكمه حكم من اكترى
إلى موضع فجاوزه إلى سواء في وجوب الاجر المسمى وأجر المثل لما زاد ولزوم الضمان إن تلفت هذا قول الشافعي
وحكى القاضي ان قول أبي بكر في هذه المسألة وجوب أجر المثل في الجميع وأخذه من قوله فيمن استأجر أرضا
ليزرعها شعيرا فزرعها حنطة قال عليه أجر المثل للجميع لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره فأشبه ما لو
استأجر أرضا فزرع أخرى فجمع القاضي رحمه الله بين مسألة الخرقي و مسألة أبي بكر وقال ينقل قول كل واحد
من إحدى المسئلتين إلى الأخرى لتساويهما في أن الزيادة لا تتميز فيكون في المسئلتين وجهان، وليس الامر
كذلك فإن بين المسئلتين فرقا ظاهرا فإن الذي حصل التعدي فيه في الحمل متميز عن المعقود عليه وهو
القفيز الزائد بخلاف الزرع، ولأنه في مسألة الحمل استوفى المنفعة المعقود عليها وزاد وفي الزرع لم يزرع
ما وقع العقد عليه ولهذا علله أبو بكر بأنه عدل عن المعقود عليه ولا يصح هذا القول في مسألة الحمل فإنه
قد حمل المعقود عليه وزاد عليه بل إلحاق هذه المسألة بما إذا اكترى مسافة وزاد عليها أشد
وشبهها بها أشد ولأنه في مسألة الحمل متعد بالزيادة وحدها وفي مسألة الزرع متعد بالزرع كله فأشبه
الغاصب، فأما مسألة الزرع فيما إذا اكترى أرضا لزرع الشعير فزرع حنطة فقد نص أحمد في
81

رواية عبد الله فقال ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير فيعطى رب الأرض
فجعل هذه المسألة كمسئلتي الخرقي في ايجاب المسمى وأجر المثل للزائد ووجهه أنه لما عين الشعير لم
يتعين ولم يتعلق العقد بعينه كما سبق ذكره، ولهذا قلنا له زرع مثله وما هو دونه في الضرر فإذا زرع
حنطة فقد استوفى حقه وزيادة أشبه ما لو اكتراها إلى موضع فجاوزه، وقال أبو بكر له أجر المثل وعلله
بأنه عدل عن المعقود عليه فإن الحنطة ليست شعيرا وزيادة وان قلنا إنه قد استوفى المعقود عليه
وزيادة غير أن الزيادة ليست متميزة عن المعقود عليه بخلاف مسئلتي الخرقي، وقال الشافعي المكتري
يخير بين أخذ الكراء وما نقصت الأرض عما ينقصها الشعير وبين أخذ كراء مثلها للجميع لأن هذه المسألة
أخذت شبها من أصلين
(أحدهما) إذا ركب دابة فجاز بها المسافة المشروطة لكونه استوفى المعقود عليه وزيادة (والثاني)
إذا استأجر أرضا فزرع غيرها لأنه زرع متعديا فلهذا خيره بينهما، ولأنه وجد سبب يقتضي كل واحد
من الحكمين وتعذر الجمع بينهما فكان له أوفرهما وفوض اختياره إلى المستحق كقتل العمد، ومن نصر
أبا بكر قال هذا متعد بالزرع كله فكان عليه أجر المثل كالغاصب ولهذا يملك رب الأرض منعه من
زرعه ويملك أخذه بنفقته إذا زرعه، ويفارق من زاد على حقه زيادة متميزة فإنه غير متعد بالجميع إنما تعدى
بالزيادة وحدها ولهذا لا يملك المكري منعه من الجميع، ونظير هاتين المسئلتين من اكترى غرفة ليجعل
82

فيها أقفزة حنطة فترك فيها أكثر منها، ومن اكتراها ليجعل فيها قنطارا من القطن فجعل فيها قنطارا
من حديد ففي الأولى له المسمى وأجر الزيادة وفي الثانية يخرج فيها من الخلاف مثل ما قلنا في مسألة
الزرع، وحكم المستأجر الذي يزرع أضر مما اكترى له حكم الغاصب لرب الأرض منعه في الابتداء لما
يلحقه من الضرر فإن زرع فرب الأرض مخير بين ترك الزرع بالاجر وبين أخذه ودفع النفقة وان لم
يعلم حتى أخذ المستأجر زرعه فله الأجرة لا غير على ما ذكرنا في باب الغصب
(فصل) وان اكترى دابة إلى مسافة فسلك أشق منها فهي مثل مسألة الزرع يخرج فيها وجهان
قياس المنصوص عن أحمد أن له الاجر المسمى وزيادة لكون المسافة لا تتعين على قول أصحابنا وقياس
قول أبى بكر أن له أجر المثل لأن الزيادة غير متميزة ولأنه متعد بالجميع بدليل أن لرب الدابة منعه من
سلوك تلك الطريق كلها بخلاف من سلك تلك الطريق وجاوز فإنه إنما يمنعه الزيادة لا غير، وإن
اكترى لحمل قطن فحمل بوزنة حديدا أي لحمل حديد فحمل قطنا فالصحيح ان عليه أجر المثل ههنا
لأن ضرر أحدهما مخالف لضرر الأرض فلم يتحقق كون المحمول مشتملا على المستحق بعقد الإجارة
وزيادة عليه بخلاف ما قبلها من المسائل، وسائر مسائل العدوان في الإجارة يقاس على ما ذكرنا من المسائل
ما كان متميزا وما لم يكن متميزا فتلحق كل مسألة بنظيرتها والله أعلم
(فصل) إذا أكراه لحمل قفيزين فحملهما فوجدهما ثلاثة فإن كان المكتري تولى الكيل ولم يعلم
83

المكري بذلك فحكمه حكم من اكترى لحمولة شئ فزاد عليه وإن كان المكري تولى كيله وتعبيته ولم
يعلم المكتري فهو غاصب لا أجر له في حمل الزائد، وإن تلفت دابته فلا ضمان لها لأنها تلفت بعدوان
صاحبها وحكمه في ضمان الطعام حكم من غصب طعام غيره، وإن تولى ذلك أجنبي ولم يعلم المكري
والمكتري فهو متعد عليهما يلزمه لصاحب الدابة الاجر ويتعلق به الضمان ويلزمه لصاحب الطعام
ضمان طعامه وسواء كاله أحدهما ووضعه الآخر على ظهر الدابة أو كان الذي كاله وعباه وضعه على
ظهرها، وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين إذا كاله المكتري ووضعه المكري على ظهر البهيمة لا ضمان
على المكتري لأن المكري مفرط في حمله
ولنا أن التدليس ليس من المكتري إذ أخبره بكيلها على خلاف ما هو به فلزمه الضمان كما لو أمر
أجنبيا بتحميلها، فأما إن كالها المكتري ورفعها المكري على الدابة عالما بكيلها لم يضمن المكتري دابته
إذا تلفت لأنه فعل ذلك من غير تدليس ولا تغرير، وهل له أجر القفيز الزائد؟ يحتمل وجهين (أحدهما)
لا أجر له لأن المكتري لم يجعل له على ذلك أجرا (والثاني) له أجر الزائد لأنهما اتفقا على حمله على
سبيل الإجارة فجرى مجرى المعاطاة في البيع ودخول الحمام من غير تقدير أجره، وإن كاله المكري
وحمله المكتري على الدابة عالما بذلك من غير أن يأمره بحمله عليها فعليه أجر القفيز الزائد، وإن أمره
بحمله عليها ففي وجوب الاجر وجهان كما لو حمله المكري عليها لأنه إذا أمر به كان ذلك كفعله، وإن
84

كاله أحدهما وحمله أجنبي بأمره فهو كما لو حمله الذي كاله، وإن كان بأمر الآخر فهو كما لو حمله
الآخر وان حمله بغير أمرهما فهو كما لو كاله ثم حمله
{مسألة} قال (ولا يجوز أن يكتري مدة غزاته)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك قد عرف وجه
ذلك وأرجو أن يكون حقيقا. ولنا أن هذه إجارة في مدة مجهولة وعمل مجهول فلم يجز كما لو اكراها
لمدة سفره في تجارته ولان مدة الغزاة تطول وتقصر ولا حد لها تعرف به والعمل فيها يقل ويكثر
ونهاية سفرهم تقرب وتبعد فلم يجز التقدير بها كغيرها من الاسفار المجهولة فإن فعل ذلك فله أجر المثل
لأنه عقد على عوض لم يسلم له لفساد العقد فوجب أجر المثل كسائر الإجارات الفاسدة
{مسألة} قال (فإن سمى لكل يوم شيئا معلوما فجائز)
وجملته ان من اكترى فرسا مدة غزوه كل يوم بدرهم فالمنصوص عن أحمد صحته، وقال الشافعي
هذا فاسد لأن مدة الإجارة مجهولة
ولنا أن عليا رضي الله عنه أجر نفسه كل دلو بتمرة وكذلك الأنصاري ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم
ولان كل يوم معلوم مدته وأجرته فصح كما لو قال أجرتكها شهرا كل يوم بدرهم أو قال استأجرتك
85

لنقل هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، ولابد من تعيين ما يستأجر له إما لركوب أو حمل معلوم، ويستحق
الاجر المسمى لكل يوم سواء كانت مقيمة أو سائرة لأن المنافع ذهبت في مدته فأشبه ما لو اكترى دارا
فأغلقها ولم يسكنها، وان أجر نفسه لسقي نخل كل دلو بتمرة أو بفلس أو أجر معلوم جاز للأثر
الوارد فيه ولان كل عمل معلوم له عوض معلوم فجاز كما لو سمى دلاء معروفة، ولا بد من معرفة الدلو
والبئر وما يستسقى به لأن العمل يختلف به
(فصل) ونقل أبو الحارث عن أحمد في رجل استأجر دابة في عشرة أيام بعشرة دراهم فإن حبسها
أكثر من ذلك فله بكل يوم درهم فهو جائز، ونقل ابن منصور عنه فيمن اكترى دابة من مكة إلى جدة
بكذا فإن ذهب إلى عرفات بكذا فلا بأس ونقل عبد الله عنه لو قال أكريتكها بعشرة فما حبسها فعليه كل
يوم عشرة، وهذه الروايات تدل على أن مذهبه انه متى قدر لكل عمل معلوم أجرا معلوما صح.
ويتأول القاضي هذا كله على أنه يصح في الأول ويفسد في الثاني لأن مدته غير معلومة فلم يصح العقد
فيه كما لو قال استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة بدرهم وما زاد فبحساب ذلك،
والظاهر خلاف هذا فإن قوله: فهو جائز عاد إلى جميع ما ذكر قبله، وكذلك قوله لا بأس ولان لكل
عمل عوضا معلوما فصح كما لو استقى له كل دلو بتمرة وقد ثبت الأصل بالخبر الوارد فيه، ومسألة
الصبرة لا نص فيها عن الإمام وقياس نصوصه صحة الإجارة وان سلم فسادها فلان القفزان التي شرط
86

حملها غير معلومة بتعيين ولا صفة وهي مختلفة فلم يصح العقد لجهالتها بخلاف الأيام فإنها معلومة
(فصل) وان قال إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وان خطته غدا فلك نصف درهم فعن
أحمد فيه روايتان [إحداهما] لا يصح وله أجر المثل نقلها أبو الحارث عن أحمد وهذا مذهب مالك
والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور لأنه عقد واحد اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير فلم يصح
كما لو قال بعتك نقدا بدرهم أو بدرهمين نسيئة [والثانية] يصح وهو قول الحارث العكلي وأبي
يوسف ومحمد لأنه سمى لكل عمل عوضا معلوما فصح كما لو قال كل دلو بتمرة
وقال أبو حنيفة ان خاطه اليوم فله درهم وان خاطه غدا لا يزاد على درهم ولا ينقص عن نصف درهم
لأن المؤجر قد جعل له نصف درهم فلا ينقص منه وهو قد رضي في أكثر العملين بدرهم فلا يزاد عنه
وهذا لا يصح لأنه ان صح العقد فله المسمى وان فسد فوجوده كالعدم ويجب أجر المثل كسائر العقود الفاسدة
(فصل) وان قال خطته روميا فلك درهم، وان خطته فارسيا فلك نصف درهم ففيها وجهان
بناء على التي قبلها والخلاف فيها كالتي قبلها لأن أبو حنيفة وافق صاحبيه في الصحة ههنا
ولنا أنه عقد معاوضة لم يتعين فيه العوض ولا المعوض فلم يصح كما لو قال بعتك هذا بدرهم
أو هذا بدرهمين، وفارق هذا كل دلو بتمرة من وجهين (أحدهما) أن العمل الثاني ينضم إلى العمل
الأول ولكل واحد منهما عوض مقدر فأشبه ما لو قال بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وههنا الخياطة
87

واحدة شرط فيها عوضا ان وجدت على صفة وعوضا آخر ان وجدت على أخرى فأشبه ما لو باعه
بعشرة صحاح أو إحدى عشرة مكسرة (والثاني) انه وقف الإجارة على شرط بقوله ان خطته كذا
فلك كذا وان خطته كذا فلك كذا بخلاف قوله كل دلو بتمرة
(فصل) ونقل مهنا عن أحمد فيمن استأجر من حمال إلى مصر بأربعين دينارا فإن نزل دمشق
فكراؤه ثلاثون فإن نزل الرقة فكراؤه عشرون فقال إذا اكترى إلى الرقة بعشرين واكترى إلى دمشق
بعشرة واكترى إلى مصر بعشرة جاز ولم يكن الحمال أن يرجع، فظاهر هذا أنه لم يحكم بصحة العقد
الأول لأنه في معني بيعتين في بيعة لكونه خيره بين ثلاثة عقود ويخرج فيه أن يصح بناء على المسئلتين
قبل هذا ونقل البرزاطي عن أحمد في رجل استأجر رجلا يحمل له كتابا إلى الكوفة وقال إن وصلت
الكتاب يوم كذا وكذا فلك عشرون وان تأخرت بعد ذلك بيوم فلك عشرة فالإجارة فاسدة وله
أجر مثله وهذا مثل الذي قبله. ونقل عبد الله فيمن اكترى دابة وقال إن رددتها غدا فكراؤها
عشرة وان رددتها اليوم فكراؤها خمسة فلا بأس وهذه الرواية تدل على صحة الإجارة والظاهر
عن أحمد في رواية الجماعة فيما ذكرنا فساد العقد وهو قياس بيعتين في بيعه والله أعلم.
88

{فصل في مسائل الصبرة وفيها عشر مسائل}
(أحدها) قال استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة إلى مصر بعشرة فالإجارة صحيحة بغير خلاف
نعلمه لأن الصبرة معلومة بالمشاهدة التي يجوز بيعها بها فجاز الاستئجار عليها كما لو علم كيلها (الثانية)
قال استأجرتك لتحملها لي كل قفيز بدرهم فيصح أيضا وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح في قفيز
ويبطل فيما زاد ومبني الخلاف على الخلاف في بيعها وقد وذكره (الثالثة) قال لتحملها لي قفيزا بدرهم
وما زاد فبحساب ذلك فيجوز كما لو قال كل قفيز بدرهم وكذلك كل لفظ يدل على إرادة حمل جميعها
كقوله لتحمل منها قفيزا بدرهم وسائرها أو باقيها بحساب ذلك أو قال وما زاد بحساب ذلك يريد به
يافيها كله إذا فهما ذلك من اللفظ لدلالته عندهما عليه أو لقرينة صرفت إليه (الرابعة) قال لتحمل
منها قفيزا بدرهم وما زاد فبحساب ذلك يريد مهما حملت من باقيها فلا يصح ذكره القاضي وهو
مذهب الشافعي لأن المعقود عليه بعضها وهو مجهول، ويحتمل أن يصح لأنه في معنى كل دلو بتمرة (الخامسة)
قال لتنقل لي منها كل قفيز بدرهم فهي كالرابعة سواء (السادسة) قال لتحمل منها قفيزا بدرهم على أن تحمل
الباقي بحساب ذلك فلا يصح لأنه في معنى بيعتين في بيعة ويحتمل أن يصح لأن معناه لتحمل لي كل
قفيز بدرهم (السابعة) قال لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وتنقل لي صبرة أخرى في البيت بحساب
ذلك فإن كانا يعلمان الصبرة التي في البيت بالمشاهدة صح فيهما لأنهما كالصبرة الواحدة وان جهلها
89

أحدهما صح في الأولى وبطل في الثانية لأنهما عقدان أحدهما على معلوم والثاني على مجهول فصح
في المعلوم وبطل في المجهول كما لو قال بعتك عبدي هذا بعشرة وعبدي الذي في البيت بعشرة
(الثامنة) قال لتحمل لي هذه الصبرة والتي في البيت بعشرة فإن كانا يعلمان التي في البيت صح
فيهما وان جهلاها بطل فيهما لأنه عقد واحد بعوض واحد على معلوم ومجهول بخلاف التي قبلها
فإن كانا يعلمان التي في البيت لكنها مغصوبة أو امتنع تصحيح العقد فيها لمانع اختص بها بطل العقد
فيها، وفي صحته وفي صحة الأخرى وجهان بناء على تفريق الصفقة إلا أنهما ان كانت قفزانهما معلومة أو
قدر أحدهما معلوم من الأخرى فالأولى صحته لأن قسط الاجر فيها معلوم وان لم يكن كذلك فالأولى
بطلانه لجهالة العوض فيها (التاسعة) قال لتحمل لي هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة بدرهم فإن زادت
على ذلك فالزائد بحساب ذلك صح في العشرة لأنها معلومة ولم يصح في الزيادة لأنها مشكوك فيها
ولا يجوز العقد على ما يشك فيه (العاشرة) قال لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم فإن قدم لي
طعام فحملته فبحساب ذلك صح أيضا في الصبرة وفسد في الزيادة لما ذكرناه
90

{مسألة} قال (ومن اكترى إلى مكة فلم يرى الجمال الراكبين والمحامل والأغطية
والأوطئة لم يجز الكراء)
أجمع أهل العلم على إجازة كراء الإبل إلى مكة وغيرها وقد قال الله تعالى (والخيل والبغال
والحمير لتركبوها) ولم يفرق بين المملوكة والمكتراة، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى (ليس عليكم
جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) أن تحج وتكري ونحوه عن ابن عمر ولان بالناس حاجة إلى السفر وقد
فرض الله تعالى عليهم الحج وأخبر انهم يأتون رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. وليس
لكل أحد بهيمة يملكها ولا يقدر على معاناتها والقيام بها والشد عليها فدعت الحاجة إلى استئجارها فجاز
دفعا للحاجة. إذا ثبت هذا فمن شرط صحة العقد معرفة المتعاقدين ما عقدا عليه لأنه عقد معاوضة محضة
فكان من شرطه المعرفة للمعقود عليه كالبيع، فأما الجمال فيحتاج إلى معرفة الراكبين والآلة التي
يركبون فيها من محمل أو محارة وغيرها وإن كان مقتبا ذكره، وهل يكون مغطى أو مكشوفا؟ فإن كان
مغطى احتيج إلى معرفة الغطاء، ويحتاج إلى معرفة الوطاء الذي يوطأ به المحمل والمعاليق التي معه من
قربة وسطيحة وسفرة ونحوها، وذكر سائر ما يحمل معه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر الا
أن الشافعي قال يجوز اطلاق غطاء المحمل لأنه لا يختلف اختلافا متباينا، وحكي عنه في المعاليق
91

قول انه يجوز اطلاقها وتحمل على العرف، وحكي عن مالك انه يجوز اطلاق الراكبين لأن
أجسام الناس متقاربة في الغالب، وقال أبو حنيفة إذا قال في المحمل رجلان وما يصلحهما من
الوطاء والدثر جاز استحسانا لأن ذلك يتقارب في العادة فحمل على العادة كالمعاليق، وقال القاضي
في غطاء المحمل كقول الشافعي
ولنا أن هذا يختلف ويتباين كثيرا فاشترطت معرفته كالطعام الذي يحمل معه، وقولهم: ان
أجسام الناس متقاربة لا يصح فإن منهم الكبير والصغير والطويل والقصير والسمين والهزيل والذكر
والأنثى ويختلفون بذلك ويتباينون كثيرا، ويتفارقون أيضا في المعاليق فمنهم من يكثر الزاد والحوائج
ومنهم من يقنع باليسير ولا عرف له يرجع إليه فاشترطت معرفته كالمحمل والأوطئة، وكذلك غطاء
المحمل من الناس من يختار الواسع الثقيل الذي يشتد على الحمل في الهواء، ومنهم من يقنع بالضيق
الخفيف فتجب معرفته كسائر ما ذكرنا
وأما المستأجر فيحتاج إلى معرفة الدابة التي يركب عليها لأن الغرض يختلف بذلك، وتحصل بأحد
أمرين إما بالرؤية فيكتفي بها لأنها أعلى طرق العلم الا أن يكون مما يحتاج إلى معرفة صفة المسمى فيه
كالرهوال وغيره فاما أن يجربه فيعلم ذلك برؤيته وإما ان يصفه، وإما بالصفة فإذا وجدت اكتفي بها
لأنه يمكن ضبطه بالصفة فجاز العقد عليه كالبيع وإذا استأجر بالصفة للركوب احتاج إلى ذكر الجنس
92

فيقول إبل أو خيل أو بغال أو حمير، والنوع فيقول بختي أو عربي، وفي الخيل عربي أو برذون، وفي
الحمير مصري أو شامي، وإن كان في النوع ما يختلف كالمهملج من الخيل والقطوف احتيج إلى ذكره،
وذكر القاضي انه يحتاج إلى معرفة الذكورية والأنوثية وهو مذهب الشافعي لأن الغرض يختلف بذلك
فإن الأنثى أسهل والذكر أقوى، ويحتمل انه لا يحتاج إلى معرفة ذلك لأن التفاوت فيه يسير، ومتى
كان الكراء إلى مكة فالصحيح انه لا يحتاج إلى ذكر الجنس ولا النوع لأن العادة أن الذي يحمل عليه
في طريق مكة إنما هو الجمال العراب دون البخاتي
(فصل) وإذا كان الكراء إلى مكة أو طريق لا يكون السير فيه إلى اختيار المتكاريين فلا وجه
لذكر تقدير السير فيه لأن ذلك ليس إليهما ولا مقدور عليه لهما، وإن كان في طريق السير فيه إليهما
استحب ذكر قدر السير في كل يوم، فإن أطلق وللطريق منازل معروفة جاز العقد عليه مطلقا لأنه
معلوم بالعرف ومتى اختلفا في ذلك وفي ميقات السير ليلا أو نهارا أو في موضع المنزل اما في داخل
البلد أو خارج منه حملا على العرف كما لو أطلقا الثمن في بلد فيه نقد معروف، وان لم يكن للطريق عرف
وأطلقا العقد فقال القاضي لا يصح كما لو أطلقا الثمن في بلد لا عرف فيه، والأولى أن هذا ليس بشرط
لأنه لو كان شرطا لما صح العقد بدونه في الطريق المخوف ولأنه لم تجر العادة بتقدير السير في طريق،
ومتى اختلفا رجع إلى العرف في غير تلك الطريق
93

(فصل) وإن اشترط حمل زاد مقدر كمائة رطل نظرنا فإن شرط أنه يبدل منهما ما نقص بالاكل
أو غيره فله ذلك، وإن شرط أن ما نقص بالاكل لا يبد له لم يكن له أبداله فإن ذهب بغير الاكل
كسرقة أو سقوط فله ابداله لأن ذلك لم يدخل في شرطه، وإن أطلق العقد فله ابدال ما ذهب بسرقة
أو سقوط أو أكل غير معتاد بغير خلاف وإن نقص بالاكل المعتاد فله ابداله أيضا لأنه استحق حمل
مقدار معلوم فملك ابدل ما نقص منه كما لو نقص بسرقة، ويحتمل أنه لا يملك ابداله لأن العرف جار
بأن الزاد ينقص فلا يبدل فحمل العقد عند الاطلاق على العرف وصار كالمصرح به، وقال الشافعي
القياس أن له ابداله، ولو قيل ليس له ابداله كان مذهبا لأن العادة أن الزاد لا يبقى جميع المسافة ولذلك
يقل أجره عن أجر المتاع
(فصل) وإذا اكترى جملا ليحج عليه فله الركوب عليه إلى مكة ومن مكة إلى عرفة
والخروج عليه إلى منى لأنه من تمام الحج وقيل ليس له الركوب إلى منى لأنه بعد التحلل من الحج والأولى
أن له ذلك لأنه من تمام الحج وتوابعه ولذلك وجب على من وجب عليه دون غيره فدخل في قول
الله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ومن اكترى إلى مكة فقط فليس له
الركوب إلى الحج لأنها زيادة ويحتمل أن له ذلك لأن الكراء إلى مكة عبارة عن الكراء للحج لكونها
لا يكترى إليها إلا للحج غالبا فكان بمنزلة المكتري للحج
94

(فصل) فيما يلزم المكري والمكترى للركوب. يلزم المكري كل ما جرت العادة أن يوطأ به المركوب
للراكب من الحداجة للجمل والقتب والزمام الذي يقاد به البعير والبرة التي في أنف البعير إن
كانت العادة جارية بينهم بها وإن كان فرسا فاللجام والسرج، وإن كان بغلا أو حمارا فالبرذعة
والإكاف لأن هذا هو العرف فحمل الاطلاق عليه وعلى المكتري ما يزيد على ذ لك كالمحمل والمحارة
والحبل الذي يشد به بين المحملين أو المحارتين لأن ذلك من مصلحة المحمل والوطاء الذي يشد فوق
الحداجة تحت الحمل، وعلى المكري رفع المحمل على الجمل ورفع الأحمال وشدها وحطها لأن هذا هو
العرف وبه يتمكن من الركوب، ويلزمه القائد والسائق هذا إذا كان الكراء على أن يذهب مع المكتري
وإن كان على أن يتسلم الراكب البهيمة يركبها لنفسه فكل ذلك عليه لأن الذي على المكري تسليم
البهيمة وقد سلمها، فأما الدليل فهو على المكتري لأن ذلك خارج عن البهيمة المكتراة وآلتها فلم يلزمه
كالزاد، وقيل إن كان اكترى منه بهيمة بعينها فأجرة الدليل على المكتري لأن الذي عليه أن يسلم
الظهر وقد سلمه، وإن كانت على حمله إلى مكان معين في الذمة فهو على المكري لأنه من مؤنة
إيصاله إليه وتحصيله فيه
(فصل) وإذا كان الراكب ممن لا يقدر على الركوب والبعير قائم كالمرأة والشيخ والضعيف والسمين
وشبههم فعلى الجمال أن يبرك الجمل لركوبه ونزوله لأنه لا يتمكن من الركوب والنزول الا به، وإن كان
95

ممن يمكنه الركوب والنزول والبعير قائم لم يلزم الجمال أن يبرك له الجمل لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه
بدون هذا الكلفة، وإن كان قويا حال العقد فضعف في أثنائه أو ضعيفا فقوي فالاعتبار بحال الركوب
لأن العقد اقتضى ركوبه بحسب العادة، ويلزم الجمال أن يقف البعير لينزل لصلاة الفريضة وقضاء حاجة
الانسان وطهارته ويدع البعير واقفا حتى يفعل ذلك لأنه لا يمكنه فعل شئ من هذا على ظهر البعير
وما أمكنه فعلى عليه من الأكل والشرب وصلاة النافلة من السنن وغيرها لم يلزمه أن يبركه له ولا يقف عليه
من أجله، وإن أراد المكتري اتمام الصلاة وطالبه الجمال بقصرها لم يلزمه ذلك بل تكون خفيفة في تمام
ومن اكترى بعيرا لانسان يركبه لنفسه وسلمه إليه لم يلزمه سوى ذلك لأنه وفي له بما عقد عليه فلم
يلزمه شئ سواه
(فصل) وإذا اكترى ظهرا في طريق العادة فيه النزل والمشي عند اقتراب المنزل والمكتري امرأة
أو ضعيف لم يلزمه النزول لأنه اكتراه جميع الطريق ولم تجر له عادة بالمشي فلزم حمله في جميع الطريق
كالمتاع وإن كان جلدا قويا ففيه وجهان [أحدهما] لا يلزمه النزول أيضا لأنه عقد على جميع الطريق فلا
يلزمه تركه في بعضها كالضعيف [والثاني] يلزمه لأنه متعارف والمتعارف كالمشروط
(فصل) وان هرب الجمال في بعض الطريق أو قبل الدخول فيها لم يخل من حالين (أحدهما) أن
يهرب بجماله فينظر فإن لم يجد المستأجر حاكما أو وجد حاكما لم يمكن إثبات الحال عنده أو أمكن الاثبات
96

عنده ولا يحصل له ما يكتري به ما يستوفي حقه منه فللمستأجر فسخ الإجارة لأنه تعذر عليه قبض
المعقود عليه فأشبه ما لو أفلس المشتري أو انقطع المسلم فيه عند محله، فإن فسخ العقد وكان الجمال قد قبض الاجر كان دينا في ذمته وان اختار المقام على العقد وكانت الإجارة على عمل في الذمة فله ذلك
ومتى قدر على الجمال طالبه به، وإن كان العقد على مدة انقضت في هربه انفسخ العقد بذلك، وان أمكنه
اثبات الحال عند الحاكم وكان العقد على موصوف غير معين لم ينفسخ العقد ويرفع الامر إلى الحاكم ويثبت
عنده حاله فينظر الحاكم فإن وجد للجمال مالا اكترى به له وان لم يجد له مالا وأمكنه أن يقترض على
الجمال من بيت المال أو من غيره ما يكتري له به فعل، فإن دفع الحاكم المال إلى المكتري ليكتري لنفسه به
جاز في ظاهر كلام أحمد وان اقترض عليه من المكتري ما يكري به جاز وصار دينا في ذمة الجمال،
وإن كان العقد على معين لم يجز إبداله ولا اكتراء غيره لأن العقد تعلق بعينه فيتخير المكتري بين
الفسخ أو البقاء إلى أن يقدر عليه فيطالبه بالعمل
[الحال الثاني] إذا هرب الجمال فترك جماله فإن المكتري يرفع الامر إلى الحاكم فإن وجد
للجمال مالا استأجر به من يقوم مقام الجمال في الانفاق على الجمال والشد عليها وحفظها وفعل ما يلزم
الجمال فعله فإن لم يجد له غير الجمال وكان فيها فضلة عن الكراء باع بقدر ذلك وان لم يكن فيها فضل
أو لم يمكن بيعه اقترض عليه الحاكم كما قلنا، وان أدان من المكتري وأنفق جاز، وان أذن للمكتري
97

في الانفاق من ماله بالمعروف ليكون دينا على الجمال جاز لأنه موضع حاجة، وإذا رجع الجمال واختلفا
فيما أنفق نظرنا فإن كان الحاكم قدر له ما ينفق قبل قوله في قدر ذلك وما زاد لا يحتسب به وان لم يقدر
له قبل قوله في قدر النفقة بالمعروف لأنه أمين وما زاد لا يرجع به لأنه متطوع به، وإذا وصل المكتري
رفع الامر إلى الحاكم ففعل ما برى الحظ فيه من بيع الجمال فيوفى عن الجمال ما لزمه من الدين للمكتري
أو لغيره ويحفظ باقي الثمن له وان رأى بيع بعضها وحفظ باقيها والانفاق على الباقي من ثمن ما باع جاز
وان لم يجد حاكما أو عجز عن استدانة فله أن ينفق عليها ويقيم مقام الجمال فيما يلزمه فإن فعل
ذلك متبرعا لم يرجع بشئ وان نوى الرجوع وأشهد على ذلك رجع به لأنه حال ضرورة، وهذا أحد
الوجهين للشافعي وان لم يشهد ونوى الرجوع ففي الرجوع وجهان [أحدهما] يرجع به لأن ترك الجمال
مع العلم بأنها لا بد لها من نفقة إذن في الانفاق [والثاني] لا يرجع به لأنه يثبت لنفسه حقا على غيره
وكذلك أن لم يجد من يشهده فأنفق محتسبا بالرجوع وقياس المذهب ان له الرجوع لقولنا يرجع بما
أنفق على الآبق وعلى عيال الغائب وزوجاته والدابة المرهونة ولو قدر على استئذان الحاكم فأنفق
من غير استئذانه وأشهد على ذلك ففي رجوعه وجهان أيضا، وحكم موت الجمال حكم هربه، وقال
أبو بكر مذهب أحمد ان الموت لا يفسخ الإجارة وله أن يركبها ولا يسرف في علفها ولا يقصر ويرجع
بذلك في مال المتوفى فإن لم يكن في يد المستأجر ما ينفقه لم يجز أن يبيع منها شيئا لأن البيع إنما يجوز
من المالك أو من نائبه أو ممن له ولاية عليه
98

(فصل) قال أصحابنا يصح كراء العقبة وهو مذهب الشافعي ومعناها الركوب في بعض الطريق يركب شيئا ويمشي شيئا لأنه إذا جاز اكتراؤها في الجميع جاز اكتراؤها في البعض، ولا بد من كونها
معلومة إما أن يقدرها بفراسخ معلومة وإما بالزمان مثل أن يركب ليلا ويمشي نهارا ويعتبر في هذا
زمان السير دون زمان النزول، وان اتفقا على أن يركب يوما ويمشي يوما جاز. فإن اكترى عقبة
وأطلق احتمل أن يجوز ويحمل على العرف، ويحتمل أن لا يصح لأن ذلك يختلف وليس له ضابط
فيكون مجهولا. وان اتفقا على أن يركب ثلاثة أيام ويمشي ثلاثة أيام أو ما زاد ونقص جاز، وان
اختلفا لم يجبر الممتنع منهما لأن فيه ضررا على كل واحد منهما: الماشي لدوام المشي عليه، وعلى الجمل
لدوام الركوب عليه، ولأنه إذا ركب بعد شدة تعبه كان أثقل على البعير
وان اكترى اثنان جملا يركبانه عقبة وعقبة جاز ويكون كراؤهما طول الطريق والاستيفاء بينهما
على ما يتفقان عليه، وان تشاحا قسم بينهما لكل واحد منهما فراسخ معلومة أو لأحدهما الليل والآخر
النهار وإن كان لذلك عرف رجع إليه، وان اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما، ويحتمل أن لا يصح
كراؤهما إلا أن يتفقا على ركوب معلوم لكل واحد منهما لأنه عقد على مجهول بالنسبة إلى كل واحد
منهما فلم يصح كما لو اشتريا عبدين على أن لكل واحد منهما عبدا معينا منهما
99

{مسألة} قال (فإن رأى الراكبين أو وصفا له وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز)
وجملته ان المعرفة بالوصف تقوم مقام الرؤية في الراكبين إذا وصفهما بما يختلفان به في الطول والقصر
والهزال والسمن والصحة والمرض والصغر والكبر والذكورية والأنيثية والباقي يكفي فيه ذكر الوزن
وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب لا بد من معرفة الراكبين بالرؤية لأنه يختلف بثقله وخفته وسكونه
وحركته ولا ينضبط بالوصف فيجب تعيينه وهذا مذهب الشافعي، ولهم في المحمل وجه أنه
لا تكفي فيه الصفة ويجب تعيينه
ولنا أنه عقد معاوضة مضاف إلى حيوان فاكتفي فيه بالصفة كالبيع وكالمركوب في الإجارة ولأنه
لو لم يكتف فيه بالصفة لما جاز للراكب أن يقيم غيره مقامه لأنه إنما يعلم كونه مثله لتساويهما في الصفات
فما لا تأتي عليه الصفات لا يعلم التساوي فيه ولان الوصف يكتفي به في البيع فاكتفي به في الإجارة
كالرؤية والتفاوت بعد ذكر الصفات الظاهرة يسير تجري المسامحة فيه كالمسلم فيه
(فصل) ويجوز اكتراء الإبل والدواب للحمولة، قال الله تعالى [وتحمل أثقالكم إلى بلد لم
تكونوا بالغيه الا بشق الأنفس] والحمولة بالضم الأحمال والحمولة بالفتح التي يحمل عليها قال الله تعالى
100

ومن الانعام حمولة وفرشا] الحمولة الكبار والفرش الصفار، وقبل الحمولة الإبل والفرش الغنم لأنها
لا تحمل، ولا يحتاج إلى مصرفة الحمولة لأن الغرض حمل المتاع درن ما يحمله بخلاف الركوب فإن
للراكب غرضا في المركوب من سهولته وحاله وسرعته، وان اتفق وجود غرض في الحمولة مثل أن
يكون المحمول شيئا تضره كثرة الحركة كالفاكهة والزجاج أو كون الطريق مما يعسر على بعضها دون
بعض فينبغي أن يذكر في الإجارة، وأما الأحمال فلا بد من معرفتها فإن لم يعرفها لم يجز لأن ذلك
يتفاوت كثيرا ويختلف الغرض به فإن شرط أن يحمل ما شاء بطل لأن ذلك لا يمكن الوفاء به ويدخل
فيه ما يقتل البهيمة، وان قال احتمل عليها طاقتها لم يجز أيضا لأن ذلك لا ضابط له، وتحصل المعرفة
بطريقين (المشاهدة) لأنها من أعلى طرق العلم (والصفة) ويشترط في الصفة معرفة شيئين القدر والجنس لأن
الجنس يختلف تعب البهيمة باختلافه مع التساوي في القدر فإن القطن يضر بها من وجه وهو انه ينتفخ
على البهيمة فيدخل فيه الريح فيثقل ومثله من الحديد يؤذي من جهة أخرى وهو انه يجتمع على موضع من
البهيمة فربما عقرها فلا بد من بيانه، وأما الظروف فإن دخلت في الوزن لم يحتج إلى ذكرها،
وان لم توزن فإن كانت ظروفا معروفة لا تختلف كغرائر الصوف والشعر ونحوها جاز العقد عليها من غير
تعيين لأنها قلما تتفاوت تفاوتا كثيرا فتسميتها تكفي، وان كانت تختلف فلا بد من معرفتها بالتعيين أو الصفة
وذكر ابن عقيل انه إذا قال أكريتكها لتحمل عليها ثلاثمائة رطل مما شئت جاز وملك ذلك لكن لا يحمله حملا يضر
101

بالحيوان مثل ما لو أراد حمل حديد أو زئبق ينبغي أن يفرقه على ظهر الحيوان فلا يجتمع في موضع واحد
من ظهره ولا يجعله في وعاء يتموج فيه فيكد البهيمة ويتعبها، وإن اكترى ظهرا للحمل موصوفا بجنس
فأراد حمله على غير ذلك الجنس وكان الطالب لذلك المستأجر لم يقبل منه لأنه لا يملك المطالبة بما لم
يعقد عليه وإن طلبه المؤجر وكان يفوت به غرض للمستأجر مثل أن يكون غرضه الاستعجال في السير
أو أن لا ينقطع عن القافلة فيتعين الخيل أو البغال أو يكون غرضه سكون الحمولة لكون الحمولة مما يضرها
الهز أو قوتها وصبرها لطول الطريق وثقل الحمولة فيعين الإبل لم يجز العدول عنه لأنه يفوت غرض
المستأجر فلم يجز ذلك كما في المركوب، وإن لم يفوت غرضا جاز كما يجوز لمن اكترى على حمل شئ حمل
مثله أو أقل ضررا منه
(فصل) ويجوز كراء الدابة للعمل لأنها منفعة مباحة خلقت الدابة لها فجاز الكراء لها كالركوب وان
اكترى بقرا للحرث جاز لأن البقر خلقت للحرث ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " بينما رجل يسوق بقرة أراد أن
يركبها فقالت اني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث " متفق عليه. ويحتاج إلى شرطين معرفة الأرض وتقدير العمل
فأما الأرض فلا تعرف إلا بالمشاهدة ولأنها تختلف فتكون صلبة تتعب البقر والحراث وقد يكون فيها حجارة
تتعلق بالسكة وتكون رخوة سهلة يسهل حرثها ولا تأتي الصفة عليها فيحتاج إلى رؤيتها
وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين إما بالمدة كيوم ويومين وإما الأرض كهذه القطعة أو من
102

هذا المكان إلى هذا المكان أو بالمساحة كمدي أو مديين ونحو ذلك كل ذلك جائز، لأن العلم يحصل
به فإن قدره بالمدة فلا بد من معرفة البقر التي يعمل عليها لأن الغرض يختلف باختلافها في القوة
والضعف، ويجوز أن يستأجر البقر مفردة ليتولى رب الأرض الحرث بها ويجوز أن يستأجرها مع
صاحبها ليتولى الحرث بها ويجوز استئجارها بآلتها من الفدان والنير واستئجارها بدون آلتها وتكون
الآلة من عند صاحب الأرض، ويجوز استئجار البقر وغيرها لدراس الزرع لأنها منفعة مباحة مقصودة
فأشبهت الحرث، ويجوز على مدة أو زرع معين أو موصوف كما ذكرنا في الحرث، ومتى كان على مدة
احتيج إلى معرفة الحيوان الذي يعمل عليه ليعرف قوته أو ضعفه، وإن كان على عمل غير مقدر بالمدة احتاج
إلى معرفة جنس الحيوان لأن الغرض يختلف به فمنه ما روثه طاهر ومنه ما روثه نجس ولا يحتاج إلى معرفة
عين الحيوان، ويجوز أن يستأجر الحيوان بآلته وبغير آلته مع صاحبه ومنفردا عنه كما ذكرنا في الحرث
(فصل) ويجوز استئجار بهيمة لإدارة الرحى ويفتقر إلى شيئين معرفة الحجر إما بمشاهدة واما
بصفة تحصل بها معرفته لأن عمل البهيمة يختلف فيه بثقله وخفته فيحتاج صاحبها إلى معرفته وتقدير
العمل إما بالزمان فيقول يوما أو يومين، أو بالطعام فيقول قفيزا أو قفيزين ويذكر جنس المطحون
إن كان يختلف لأن منه ما يسهل طحنه ومنه ما يصعب، وكذلك إن اكتراها لإدارة دولاب فلا بد
103

من مشاهدته ومشاهدة دولابه لاختلافها وتقدير ذلك بالزمان أو ملء هذا الحوض أو هذه البركة،
وكذلك أن اكتراها للاستقاء بالغرب فلا بد من معرفته لأنه يختلف بكبره وصغره ويقدر بالزمان أو بعدد
الغروب أو بملء بركة أو حوض، ولا يجوز تقدير ذلك بسقي أرض لأن ذلك يختلف فقد تكون الأرض
عطشانة لا يرويها القليل وتكون قريبة العهد بالماء فيكفيها القليل فيكون ذلك مجهولا، وإن قدره بسقي ماشية
احتمل أن لا يجوز لذلك ويحتمل أن يجوز لأن شربها يتقارب في الغالب ويجوز استئجار دابة ليستقي عليها ماء
ولا بد من معرفة الآلة التي يستقي بها من راوية أو قرب أو جرار، ومعرفة ذلك اما بالرؤية واما بالصفة، ويقدر
العمل اما بالزمان واما بعدد المرات واما بملء شئ معين، فإن قدره بعدد المرات احتاج إلى معرفة الموضع الذي
يستقي منه والذي يذهب إليه لأن ذلك يختلف بالقرب والبعد والسهولة والحزونة، وإن قدره بملء شئ
معين احتاج إلى معرفته ومعرفة ما يستقي منه، ويجوز أن يكتري البهيمة بآلتها وبدونها مع صاحبتها
ووحدها، وإن اكتراها لبل تراب معروف جاز لأن ذلك بالعرف، وكل موضع وقع العقد على مدة فلا
بد من معرفة الظهر الذي يعمل عليه لأن الغرض يختلف باختلافها في القوة والضعف، وإن وقع على
عمل معين لم يحتج إلى معرفتها لأنه لا يختلف ويحتمل أن يحتاج إلى ذلك في استقاء الماء عليه لأن منه
ما روثه طاهر وجسمه طاهر بغير خلاف كالخيل والبقر، ومنه ما روثه نجس ويختلف في نجاسة جسمه
كالبغال والحمير فربما نجس به المستقي أو دلوه فيتنجس الماء به فيختلف الغرض بذلك فتجب معرفته
104

(فصل) وإذا اكترى حيوانا لعمل لم يخلق له مثل أن اكترى البقر للركوب والحمل عليها أو اكترى
الإبل والحمر للحرث جاز لأنها منفعة مقصودة أمكن استيفاؤها لم يرد الشرع بتحريمها فجاز كالذي
خلقت له ولان مقتضى الملك جواز التصرف بكل ما تصلح له العين المملوكة ويمكن تحصيله منها ولا
يمتنع ذلك إلا بمعارض راجح اما ورود نص بتحريمه أو قياس صحيح أو رجحان مضرته على منفعته
وليس ههنا واحد منها، وكثير من الناس من الأكراد وغيرهم يحملون على البقر ويركبونها وفي بعض
البلدان يحرث على الإبل والبغال والحمير فيكون معني خلقها للحرث إن شاء الله أن معظم الانتفاع بها
فيه ولا يمنع ذلك الانتفاع بها في شئ آخر كما أن الخيل خلقت للركوب والزينة ويباح أكلها واللؤلؤ
خلق للحلية ويجوز استعماله في الأدوية وغيرها والله أعلم
{مسألة} (وما حدث في السلعة من يد الصانع ضمن)
وجملته أن الأجير على ضربين خاص ومشترك: فالخاص هو الذي يقع العقد عليه في مدة معلومة يستحق
المستأجر نفعه في جميعها كرجل استؤجر لخدمة أو عمل في بناء أو خياطة أو رعاية يوما أو شهرا. سمي
خاصا لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس والمشترك الذي يقع العقد معه على
105

عمل معين كخياطة ثوب وبناء حائط وحمل شئ إلى مكان معين أو على عمل في مدة لا يستحق جميع
نفعه فيها كالكحال والطبيب. سمي مشتركا لأنه يتقبل أعمالا لاثنين وثلاثة وأكثر في وقت واحد
ويعمل لهم فيشتركون في منفعته واستحقاقها فسمي مشتركا لاشتراكهم في منفعته، فالأجير المشترك
هو الصانع الذي ذكره الخرقي وهو ضامن لما جنت يده فالحائك إذا أفسد حياكته ضامن لما أفسد
نص أحمد على هذه المسألة في رواية ابن منصور، والقصار ضامن لما يتخرق من دقه أو مده أو عصره
أو بسطه، والطباخ ضامن لما أفسد من طبيخه والخباز ضامن لما أفسد من خبزه والحمال
يضمن ما يسقط من حمله عن رأسه أو تلف من عثرته والجمال يضمن ما تلف بقوده وسوقه وانقطاع
حبله الذي يشد به حمله والملاح يضمن ما تلف من يده أو جذفه أو ما يعالج به السفينة، وروي ذلك عن
عمر وعلي وعبد الله بن عتبة وشريح والحسن والحكم وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي
وقال في الآخر لا يضمن ما لم يتعد. قال الربيع هذا مذهب الشافعي وان لم يبح به، وروي ذلك
عن عطاء وطاوس وزفر لأنها عين مقبوضة بعقد الإجارة فلم تصر مضمونة كالعين المستأجرة
ولنا ما روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال لا يصلح الناس
الا ذلك، وروى الشافعي في مسنده باسناده عن علي أنه كان يضمن الاجراء ويقول لا يصلح الناس الا
هذا ولان عمل الأجير المشترك مضمن عليه فما تولد منه يجب أن يكون مضمونا كالعد وان بقطع
106

عضو بخلاف الأجير الخاص. والدليل على أن عمله مضمون عليه أنه لا يستحق العوض الا بالعلم وأن الثوب
لو تلف في حرزه بعد عمله لم يكن له أجر فيما عمل فيه وكان ذهاب عمله من ضمانه بخلاف الخاص
فإنه إذا أمكن المستأجر من استعماله استحق العوض بمضي المدة وإن لم يعمل، وما عمل فيه من شئ فتلف
من حرزه لم يسقط أجره بتلفه
(فصل) ذكر القاضي أن الأجير المشترك إنما يضمن إذا كان يعمل في ملك نفسه مثل الخباز
يخبز في تنوره وملكه والقصار والخياط في دكانيهما قال ولو دعا الرجل خبازا فخبز له في داره أو خياطا
أو قصارا ليقصر ويخيط عنده لا ضمان عليه فيما أتلف ما لم يفرط لأنه سلم نفسه إلى المستأجر فيصير
كالأجير الخاص، قال ولو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة أو راكبا على الدابة فوق حمله فعطب
الحمل لا ضمان على الملاح والمكاري لأن يد صاحب المتاع لم تزل، ولو كان رب المتاع والجمال راكبين
على الحمل فتلف حمله لم يضمنه الجمال لأن رب المتاع لم يسلمه إليه ومذهب مالك والشافعي نحو هذا،
قال أصحاب الشافعي لو كان العمل في دكان الأجير والمستأجر حاضر أو اكتراه ليعمل له شيئا وهو
معه لم يضمن لأن يده عليه فلم يضمن من غير جناية ويجب له أجر عمله لأن يده عليه فكلما عمل شيئا
صار مسلما إليه فظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين كونه في ملك نفسه أو ملك مستأجره أو كان صاحب
العمل حاضرا عنده أو غائبا عنه أو كونه مع الملاح أو الجمال أولا، وكذلك قال ابن عقيل ما تلف بجناية
الملاح بجذفه أو بجناية المكاري بشدة المتاع ونحوه فهو مضمون عليه سواء كان صاحب المتاع معه أو
107

لم يكن لأن وجوب الضمان عليه لجناية يده فلا فرق بين حضور المالك وغيبته كالعدوان ولان جناية
الجمال والملاح إذا كان صاحب المتاع راكبا معه يعم المتاع وصاحبه وتفريطه يعمهما فلم يسقط ذلك
الضمان كما لو رمى انسانا متترسا فكسر ترسه وقتله، ولان الطبيب والختان إذا جنت يداهما ضمنا
مع حضور المطبب والمختون، وقد ذكر القاضي أنه لو كان ذلك يحمل على رأسه ورب المتاع معه فعثر
فسقط المتاع فتلف ضمن، وان سرق لم يضمن لأنه في العثار تلف بجنايته والسرقة ليست من جنايته
ورب المال لم يحل بينه وبينه وهذا يقتضي ان تلفه بجنايته مضمون عليه سواء حضر رب المال أو
غاب بل وجوب الضمان في محل النزاع أولى لأن الفعل في ذلك إلى الموضع مقصود لفاعليه والسقطة
من الحمال غير مقصودة له فإذا وجب الضمان ههنا فم أولى
(فصل) وذكر القاضي أنه إذا كان المستأجر على حمله عبيدا صغارا أو كبارا فلا ضمان على
المكاري فيما تلف من سوقه وقوده إذ لا يضمن بني آدم من جهة الإجارة لأنه عقد على منفعة والأولى
وجوب الضمان لأن الضمان ههنا من جهة الجناية فوجب أن يعم بني آدم وغيرهم كسائر الجنايات وما
ذكره ينتقض بجناية الطبيب والختان والله أعلم
(فصل) فأما الأجير الخاص فهو الذي يستأجره مدة فلا ضمان عليه ما لم يتعد قال أحمد في رواية
108

مهنا في رجل أمر غلامه يكيل لرجل بزرا فسقط الرطل من يده فانكسر لا ضمان عليه، فقيل أليس
هو بمنزلة القصار؟ قال لا، القصار مشترك، قيل فرجل اكترى رجلا يستقي ماء فكسر الجرة؟ فقال لا ضمان
عليه قيل له فإن اكترى رجلا يحرث له على بقرة فكسر الذي يحرث به؟ قال فلا ضمان عليه وهذا مذهب
مالك وأبي حنيفة وأصحابه وظاهر مذهب الشافعي وله قول آخر ان جميع الاجراء يضمنون وروى
في مسنده عن علي رضي الله عنه انه كان يضمن الاجراء ويقول لا يصلح الناس الا هذا
ولنا أن عمله غير مضمون عليه فلم يضمن ما تلف به كالقصاص وقطع يد السارق، وخبر علي
رضي الله عنه وكرم وجهه مرسل والصحيح فيه انه كان يضمن الصباغ والصواغ، وان روي مطلقا حمل
على هذا فإن المطلق يحمل على المقيد ولان الأجير الخاص نائب عن المالك في صرف منافعه إلى ما أمره
به فلم يضمن من غير تعد كالوكيل والمضارب، فأما ما يتلف بتعديه فيجب ضمانه مثل الخباز الذي يسرف
في الوقود أو يلزقه قبل وقته أو يتركه بعد وقته حتى يحترق لأنه تلف بتعديا فضمنه كغير الأجير
(فصل) وإذا استأجر الأجير المشترك أجيرا خاصا كالخياط في دكان يستأجر أجيرا مدة يستعمله
فيها فتقبل صاحب الدكان خياطة ثوب ودفعه إلى أجيره فخرقه أو أفسده لم يضمنه لأنه أجير خاص ويضمنه
صاحب الدكان لأنه أجير مشترك
(فصل) إذا أتلف الصانع الثوب بعد عمله فصاحبه مخير بين تضمينه إياه غير معمول ولا أجر عليه
109

وبين تضمينه إياه معمولا ويدفع إليه أجره، ولو وجب عليه ضمان المتاع المحمول فصاحبه مخير بين
تضمينه قيمته في الموضع الذي سلمه إليه ولا أجر له وبين تضمينه إياه في الموضع الذي أفسده ويعطيه
الاجر إلى ذلك المكان، وإنما كان كذلك لأنه إذا أحب تضمينه معمولا أو في المكان الذي أفسده فيه فله ذلك لأنه ملكه في ذلك الموضع على تلك الصفة فملك المطالبة بعوضه حينئذ، وإن أحب تضمينه
قبل ذلك فلان أجر العمل لا يلزمه قبل تسليمه إليه وما سلم إليه فلا يلزمه
(فصل) إذا دفع إلى حائك غزلا فقال إنسجه لي عشرة أذرع في عرض ذراع فنسجه زائدا على
ما قدر له في الطول والعرض فلا أجر له في الزيادة لأنه غير مأمور بها وعليه ضمان نقص الغزل المنسوج فيها،
فأما ما عدا الزائد فينظر فيه فإن كان جاء به زائدا في الطول وحده ولم ينقص الأصل بالزيادة فله ما سمى له
من الاجر كما لو استأجره على أن يضرب له مائة لبنة فضرب له مائتين فإن جاء به زائدا في العرض وحده أو
فيهما ففيه وجهان (أحدهما) لا أجر له لأنه مخالف لأمر المستأجر فلم يستحق شيئا كما لو استأجره على
بناء حائط عرض ذراع فبناه عرض ذراعين (والثاني) له المسمى لأنه زاد على ما أمر به فأشبه زيادة الطول، ومن
قال بالوجه الأول فرق بين الطول والعرض بأنه يمكن قطع الزائد في الطول ويبقى الثوب على ما أراد ولا يمكن ذلك
في العرض، وأما إن جاء به ناقصا في الطول والعرض أو في أحدهما ففيه أيضا وجهان (أحدهما) لا أجر له وعليه
110

ضمان نقص الغرل لأنه مخالف لما أمر به فشابه ما لو استأجره علي بناء حائط عرض ذراع فبناه عرض
نصف ذراع [والثاني] له بحصته من المسمي كمن استؤجر على ضرب لبن فضرب بعضه، ويحتمل انه
ان جاء به ناقصا في العرض فلا شئ له، وإن كان ناقصا في الطول فله بحصته من المسمى لما ذكرنا من
الفرق بين الطول والعرض، وان جاء به زائدا في أحدهما ناقصا في الآخر فلا أجر له في الزائد وهو
في الناقص على ما ذكرنا من التفصيل فيه. وقال محمد بن الحسن في الموضعين يخير صاحب الثوب بين دفع
الثوب إلى النساج ومطالبته بثمن غزله وبين أن يأخذه ويدفع إليه المسمى في الزائد أو بحصة المنسوج في
الناقص لأن غرضه لم يسلم له لأنه ينتفع بالطويل ما لا ينتفع بالقصير وينتفع بالقصير ما لا ينتفع بالطويل
فكأنه أتلف عليه غزله
ولنا أنه وجد عين ماله فلم يكن له المطالبة بعرضه كما لو جاء به زائدا في الطول وحده، فأما ان
أثرت الزيادة أو النقص في الأصل مثل أن يأمره بنسج عشرة أذرع ليكون الثوب خفيفا فنسجه خمسة
عشرة فصار صفيقا أو أمره بنسجه خمسة عشر ليكون صفيقا فنسجه عشرة فصار خفيفا فلا أجر له بحال
وعليه ضمان نقص الغزل لأنه لم يأت بشئ مما أمر به
(فصل) إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال إن كان يقطع قميصا فاقطعه فقال هو يقطع وقطعه فلم يكف
فعليه ضمانه، وإن قال انظر هذا يكفيني قميصا؟ قال نعم قال اقطعه فقطعه فلم بكفه لم يضمن بهذا قال الشافعي
وأصحاب الرأي وقال أبو ثور لا ضمان عليه في المسئلتين لأنه لو كان غره في الأولى لكان قد غره في الثانية
111

ولنا أنه إنما أذن له في الأولى بشرط كفايته فقطعه بدون شرطه وفي الثانية أذن له من غير شرط
فافترقا ولم يجب عليه الضمان في الأولى لتغريره بل لعدم الإذن في قطعه لأن اذنه مقيد شرط كفايته فلا
يكون اذنا في غير ما وجد فيه الشرط بخلاف الثانية
(فصل) فإن أمره أن يقطع الثوب قميص رجل فقطعه قميص امرأة فعليه غرم ما بين قيمته صحيحا
ومقطوعا لأن هذا قطع غير مأذون فيه فأشبه ما لو قطعه من غير اذن، وقيل يغرم ما بين قميص امرأة وقميص
رجل لأنه مأذون في قميص في الجملة، والأول أصح لأن المأذون فيه قميص موصوف بصفة فإذا قطع قميصا
غيره لم يكن فاعلا لما أذن فيه فكان متعديا بابتداء القطع ولذلك لا يستحق على القطع أجرا ولو فعل
ما أمر به لاستحق أجره
(فصل) وان اختلفا فقال أذنت لي في قطعه قميص امرأة وقال بل أذنت لك في قطعه قميص
رجل، أو قال أذنت لي في قطعه قميصا قال بل قباء أو قال الصباغ أمرتني بصبغه أحمر قال بل أسود
فالقول قول الخياط والصباغ نص عليه أحمد في رواية ابن منصور فقال القول قول الخياط والصباغ
وهذا قول ابن أبي ليلى، وقال مالك وأبو حنيفة وأبو ثور القول قول رب الثوب، واختلف أصحاب
الشافعي فمنهم من قال له قولان كالمذهبين ومنهم من قال له قول ثالث انهما يتحالفان كالمتبايعين يختلفان
في الثمن ومنهم من قال الصحيح ان القول قول رب الثوب لأنهما اختلفا في صفة اذنه والقول
قوله في أصل الاذن فكذلك في صفته ولان الأصل عدم الإذن المختلف فيه فالقول قول من ينفيه
112

ولنا انهما اتفقا في الاذن واختلفا في صفته فكان القول قول المأذون له كالمضارب إذا قال أذنت
لي في البيع نساء ولأنهما اتفقا على ملك الخياط للقطع والصباغ الصبغ والظاهر أنه فعل ما ملكه واختلفا
في لزوم الغرم له والأصل عدمه. فعلى هذا يحلف الخياط والصباغ بالله لقد أذنت لي في قطعه قباء وصبغه
أحمر ويسقط عنه الغرم ويكون له أجر مثله لأنه ثبت وجود فعله المأذون فيه بعوض ولا يستحق المسمى
لأن المسمى ثبت بقوله ودعواه فلا يحنث بيمينه ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو يعطى الناس بدعواهم
لا دعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " أخرجه مسلم فاما المسمى في العقد فإنما
يعترف رب الثوب بتسميته أجرا وقطعه قميصا وصبغه أسود، فأما من قال القول قول رب الثوب فإنه يحلف
بالله ما أذنت في قطعه قباء ولا صبغه أحمر ويسقط عنه المسمى ولا يجب للخياط والصباغ شئ لأنهما فعلا
غير ما أذن لهما فيه وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أن صاحب الثوب إذا لم يكن ممن يلبس الأقبية
والسواد فالقول قوله وعلى الصانع غرم ما نقص بالقطع وضمان ما أفسد ولا أجر له لأن قرينة حال رب المال
تدل على صدقة فترجح دعواه بهما كما لو اختلفا في حائط لأحدهما عليه عقد أو أزج رجحنا دعواه بذلك وان
اختلف الزوجان في متاع البيت رجحنا دعوى كل واحد منهما فيما يصلح له، ولو اختلف صانعان في
الآلة التي في دكانهما رجحنا قول كل واحد منهما في آلة صناعته. فعلى هذا يحلف رب الثوب ما أذنت
لك في قطعه قباء ويكفى هذا لأنه يبتغي به الاذن فيصير قاطعا لغير ما أذن فيه فإن كان القباء مخيطا
113

بخيوط لمالكه لم يملك الخياط فتقه وكان لمالكه أخذه مخيطا بلا عرض لأنه عمل في ملك غيره عملا مجردا
عن عين مملوكة له فلم يكن له إزالته كما لو نقل ملك غيره من موضع إلى موضع لم يكن له رده إذا رضى
صاحبه بتركه فيه، وإن كانت الخيوط للخياط فله نزعها لأنها عين ماله ولا يلزمه أخذ قيمتها لأنها
ملكه ولا يتلف بأخذها ماله حرمة، فإن اتفقا على تعويضه عنها جاز لأن الحق لهما، وان قال رب
الثوب أنا أشد في كل خيط خيطا حتى إذا سله عاد خيط رب الثوب في مكانه لم يلزم الخياط الإجابة إلى
ذلك لأنه انتفاع يملكه. وحكم الصباغ في قلع الصبغ إن أحبه وفي غير ذلك من أحكامه حكم صبغ
الغاصب على ما مضى في بابه. والذي يقوى عندي ان القول قول رب الثوب لما ذكرنا في دليلهم
(فصل) وكل من استؤجر على عمل في عين فلا يخلو إما أن يوقعه وهي في يد الأجير كالصباغ
يصبغ في حانوته والخياط في دكانه فلا يبرأ من العمل حتى يسلمها إلى المستأجر ولا يستحق الاجر
حتى يسلمه مفروغا منه لأن المعقود عليه في مدة فلا يبرأ منه ما لم يسلمه إلى العاقد كالمبيع من الطعام
لا يبرأ منه قبل تسليمه إلى المشتري. وأما إن كان يوقع العمل في ملك المستأجر مثل أن يحضره
المستأجر إلى داره ليخيط فيها أو يصبغ فيها فإنه يبرأ من العمل ويستحق أجره بمجرد عمله لأنه
في يد المستأجر فيصير مسلما للعمل حالا فحالا، ولو استأجر رجلا يبني له حائطا في داره أو يحفر فيها بئرا
لبرئ من العمل واستحق أجره بمجرد عمله ولو كانت البئر في الصحراء أو الحائط لم يبرأ بمجرد العمل ولو انهارت
114

عقيب الحفر أو الحائط بعد بنائه وقبل تسليمه لم يبرأ من العمل نص عليه أحمد في رواية ابن منصور
فإنه إذا قال استعمل الف لبنة في كذا وكذا فعمل ثم سقط فله الكراء، وأما الأجير الخاص فيستحق
أجره بمضي المدة سواء تلف ما عمله أو لم يتلف نص عليه احمد فقال إذا استأجره يوما فعمل وسقط
عند الليل ما عمل فله الكراء وذلك لأنه إنما يلزمه تسليم نفسه وعمل ما يستعمل فيه وقد وجد ذلك منه
بخلاف الأجير المشترك ولو استأجر أجيرا ليبني له حائطا طوله عشرة أذرع فبنى بعضه فسقط لم يستحق
شيئا حتى يتممه سواء كان في ملك المستأجر أو في غيره لأن الاستحقاق مشروط باتمامه ولم يوجد
قال أحمد إذا قيل له ارفع حائطا كذا وكذا ذراعا فعليه أن يوفيه فإن سقط فعليه التمام وكذا لو
استأجره ليحفر له بئرا عمقها عشرة أذرع فحفر منها خمسة وانهار فيها تراب من جوانبها لم يستحق
شيئا حتى يتمم حفرها
{مسألة} قال (وان تلفت من حرز فلا ضمان عليه ولا اجر له فيما عمل فيها)
اختلفت الرواية عن أحمد في الأجير المشترك إذا تلفت العين من حرزه من غير تعد منه ولا
تفريط فروي عنه لا يضمن نص عليه في رواية ابن منصور وهو قول طاوس وعطاء وأبي حنيفة وزفر
وقول الشافعي وروي عن أحمد إن كان هلاكه بما استطاع ضمنه وإن كان غرقا أو عدوا غالبا فلا
115

ضمان قال أحمد رحمة الله عليه في رواية أبي طالب إذا جنت يده أو ضاع من بين متاعه ضمنه وإن كان
عدوا أو غرقا فلا ضمان ونحو هذا قال أبو يوسف، والصحيح في المذهب الأول وهذه الرواية تحتمل أنه
إنما أوجب عليه الضمان إذا تلف من بين متاعه خاصة لأن يتهم ولهذا قال في الوديعة في رواية إنها
تضمن إذا ذهبت من بين ماله فاما غير ذلك فلا ضمان عليه لأن تخصيصه التضمين بما إذا تلف من
بين متاعه يدل على أنه لا يضمن إذا تلف مع متاعه ولأنه إذا لم يكن منه تفريط ولا عدوان فلا يجب
عليه الضمان كما لو تلفت بأمر غالب، وقال مالك وابن أبي ليلى يضمن بكل حال لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" على اليد ما أخذت حتى تؤديه " ولأنه قبض العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق فلزمه ضمانها كالمستعير
ولنا أنها عين مقبوضة بعقد الإجارة لم يتلفها بفعله فلم يضمنها كالعين المستأجرة، ولأنه قبضها باذن
مالكها لنفع يعود إليهما فلم يضمنها كالمضارب والشريك والمستأجر وكما لو تلفت بأمر غالب، ويخالف
العارية فإنه ينفرد بنفعها والخبر مخصوص بما ذكرنا من الأصول فيخص محل النزاع بالقياس عليها
إذا ثبت هذا فإنه لا اجر له فيما عمل فيها لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر فلم يستحق عوضه كالمبيع من الطعام
إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه
(فصل) وإذا حبس الصانع الثوب بعد عمله على استيفاء الاجر فتلف ضمنه لأنه لم يرهنه عنده
ولا أذن له في إمساكه فلزمه الضمان كالغاصب
116

(فصل) إذا أخطأ القصار فدفع الثوب إلى غير مالكه فعليه ضمانه لأنه فوته على مالكه. قال
أحمد يغرم القصار ولا يسع المدفوع إليه لبسه إذا علم أنه ليس ثوبه وعليه رده إلى القصار ويطالبه بثوبه،
فإن لم يعلم القابض حتى قطعه ولبسه ثم علم رده مقطوعا وضمن أرش القطع وله مطالبته بثوبه إن كان
موجودا، وان هلك عند القصار فهل يضمنه؟ فيه روايتان (إحداهما) يضمنه لأنه أمسكه بغير إذن
صاحبه بعد طلبه فضمنه كما لو علم (والثانية) لا يضمنه لأنه لم يمكنه رده فأشبه ما لو عجز عن دفعه لمرض
(فصل) والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر إن تلفت بغير تفريط لم يضمنها. قال الأثرم:
سمعت أبا عبد الله يسئل عن الذين يكرون المظل أو الخيمة إلى مكة فيذهب من المكتري بسرق أو
بذهاب هل يضمن؟ قال أرجو أن لا يضمن وكيف يضمن؟ إذا ذهب لا يضمن، ولا نعلم في هذا
خلافا وذلك لأنه قبض العين لاستيفاء منفعة يستحقها منها فكانت أمانة كما لو قبض العبد الموصى له
بخدمته سنة أو قبض الزوج امرأته الأمة، ويخالف العارية فإنه لا يستحق منفعتها، وإذا انقضت المدة
فعليه رفع يده وليس عليه الرد أومأ إليه في رواية ابن منصور، فقيل له إذا اكترى دابة أو استعار أو استودع فليس
عليه أن يحمله فقال احمد: من استعار شيئا فعليه رده من حيث أخذه فأوجب الرد في العارية ولم
يوجبه في الإجارة والوديعة، ووجهه انه عقد لا يقتضي الضمان فلا يقتضي رده ومؤنته كالوديعة.
وفارق العارية فإن ضمانها يجب فكذلك ردها، وعلى هذا متى انقضت المدة كانت العين في يده أمانة
117

كالوديعة ان تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه، وهذا قول بعض الشافعية، وقال بعضهم يضمن لأنه
بعد انقضاء الإجارة غير مأذون له في امساكها أشبه العارية المؤقتة بعد وقتها
ولنا انها أمانة أشبهت الوديعة ولأنه لو وجب ضمانها لوجب ردها وأما العارية فإنها مضمونة في
كل حال بخلاف مسئلتنا ولأنه يجب ردها، وعلى كل حال متى طلبها صاحبها وجب تسليمها إليه فإن
امتنع من ردها لغير عذر صارت مضمونة كالمغصوبة
(فصل) فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى العقد،
وهل تفسد الإجارة به؟ فيه وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع. قال أحمد فيما إذا شرط ضمان
العين: الكراء والضمان مكروه. وروى الأثرم باسناده عن ابن عمر قال لا يصلح الكراء بالضمان،
وعن فقهاء المدينة انهم كانوا يقولون لا نكتري بضمان الا انه من شرط على كري انه لا ينزل متاعه بطن
واد أو لا يسير به ليلا مع أشباه هذه الشروط فتعدى ذلك فتلف شئ مما حمل في ذلك التعدي فهو
ضامن فأما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان فيه وان شرطه لم يصح الشرط لأن ما لا يجب ضمانه لا يصيره
الشرط مضمونا، وما يجب ضمانه لا ينتفي ضمانه بشرط نفيه، وعن أحمد انه سئل عن ذلك فقال المسلمون
على شروطهم، وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه ووجوبه بشرطه لقوله صلى الله عليه وسلم " المسلمون على
شروطهم " فأما ان أكراه عينا وشرط عليه أن لا يسير بها في الليل أو وقت القائلة أو لا يتأخر بها عن
118

القافلة أو لا يجعل سيره في آخرها أو لا يسلك بها الطريق الفلانية وأشباه هذا مما له فيه غرض مخالف
ضمن لأنه متعد لشرط كريه فضمن ما تلف به كما لو شرط عليه أن لا يحمل عليها الا قفيزا فحمل اثنين
(فصل) وان كانت الإجارة فاسدة لم يضمن العين أيضا إذا تلفت بغير تفريط ولا تعد لأنه عقد
لا يقتضي الضمان صحيحه فلا يقتضيه فاسده كالوكالة والمضاربة، وحكم كل عقد فاسد في وجوب الضمان
حكم صحيحه فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده وما لم يجب في صحيحه لم يجب في فاسده
(فصل) وللمستأجر ضرب الدابة بقدر ما جرت به العادة ويكبحها باللجام للاستصلاح ويحثها
على السير ليلحق القافلة، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نخس بعير جابر وضربه وكان أبو بكر رضي الله
عنه يخرش بعيره بمحجنه وللرائض ضرب الدابة للتأديب وترتيب المشي والعدو والسير وللمعلم ضرب
الصبيان للتأديب، قال الأثرم سئل أحمد عن ضرب المعلم الصبيان قال على قدر ذنوبهم ويتوقى بجهده
الضرب وإذا كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه ومن ضرب من هؤلاء الضرب المأذون فيه لم يضمن
ما تلف وبهذا في الدابة قال مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد، وقال الثوري
وأبو حنيفة يضمن لأنه تلف بجنايته فضمنه كغير المستأجر وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبي
لأنه يمكنه تأديبه بغير الضرب
ولنا انه تلف من فعل مستحق فلم يضمن كما لو تلف تحت الحمل ولان الضرب معنى تضمنه عقد
119

الإجارة تلف منه لم يضمن كالركوب، وفارق غير المستأجر لأنه متعد، وقول الشافعي: يمكن
التأديب بغير الضرب لا يصح فإن العادة خلافه ولو أمكن التأديب بدون الضرب لما جاز الضرب
إذ فيه ضرر وإيلام مستغنى عنه. وان أسرف في هذا كله أو زاد على ما يحصل الغنى به أو ضرب من
لا عقل له من الصبيان فعليه الضمان لأنه متعد حصل التلف بعدوانه
{مسألة} قال (ولا ضمان على حجام ولا ختان ولا متطبب إذا عرف منهم حذق
الصنعة ولم تجن أيديهم)
وجملته ان هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين [أحدهما] أن يكونوا ذوي حذق في
صناعتهم ولهم بها بصارة ومعرفة لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع وإذا قطع مع هذا كان
فعلا محرما فيضمن سرايته كالقطع ابتداء [الثاني] أن لا تجني أيديهم فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع،
فإذا وجد هذان الشرطان لم يضمنوا لأنهم قطعوا قطعا مأذونا فيه فلم يضمنوا سرايته كقطع الإمام
يد السارق أو فعل فعلا مباحا مأذونا في فعله أشبه ما ذكرنا، فأما إن كان حاذقا وجنت يده مثل أن
تجاوز قطع الختان إلى الحشفة أو إلى بعضها أو قطع في غير محل القطع أو يقطع السلعة من انسان فيتجاوزها
أو يقطع بآلة كآلة يكثر ألمها أو في وقت لا يصلح القطع فيه وأشباه هذا ضمن فيه كله لأنه إتلاف لا
120

يختلف ضمانه بالعمد والخطأ فأشبه اتلاف المال ولان هذا فعل محرم فيضمن سريته كالقطع ابتداء
وكذلك الحكم في النزاع والقاطع في القصاص وقاطع يد السارق، وهذا مذهب الشافعي وأصحاب
الرأي ولا نعلم فيه خلافا
(فصل) وان ختن صبيا بغير إذن وليه أو قطع سلعة من انسان بغير اذنه أو من صبي بغير اذن
وله فسرت جنايته ضمن لأنه قطع غير مأذون فيه وان فعل ذلك الحاكم أو من له ولاية عليه أو فعله
من اذنا له لم يضمن لأنه مأذون فيه شرعا
(فصل) ويجوز الاستئجار على الختان والمداواة وقطع السلعة لا نعلم فيه خلافا ولأنه فعل يحتاج إليه
مأذون فيه شرعا فجاز الاستئجار عليه كسائر الافعال المباحة
(فصل) ويجوز أن يستأجر حجاما ليحجمه وأجره مباح وهذا اختيار أبي الخطاب وهذا قول
ابن عباس قال أنا آكله وبه قال عكرمة والقاسم وأبو جعفر ومحمد بن علي بن الحسين وربيعة ويحيي الأنصاري
ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال القاضي لا يباح أجر الحجام وذكر أن احمد نص عليه في مواضع
وقال أعطي شيئا من غير عقد ولا شرط فله أخذه وبصرفه في علف دوابه وطعمة عبيده ومؤنة صناعته
ولا يحل له أكله، وممن كره كسب الحجام عثمان وأبو هريرة والحسن والنخعي وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " كسب الحجام خبيث " رواه مسلم وقال " أطعمه ناضحك ورقيقك "
121

ولنا ما روى ابن عباس قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولو علمه حراما لم يعطه
متفق عليه. وفي لفظ لو علمه خبيثا لم يعطه، ولأنها منفعة مباحة لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة
فجاز الاستئجار عليها كالبناء والخياطة، ولان بالناس حاجة إليها ولا تجد كل أحد متبرعا بها فأجاز
الاستئجار عليها كالرضاع وقول النبي صلى الله عليه وسلم في كسب الحجام " أطعمه رقيقك " دليل على إباحة كسبه
إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله فإن الرقيق آدميون يحرم عليهم ما حرمه الله تعالى كما يحرم
على الأحرار وتخصيص ذلك بما أعطيه من غير استئجار بحكم لا دليل عليه وتسميته كسبا خبيثا لا يلزم
منه التحريم فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما
وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للحر تنزيها لدناءة هذه الصناعة وليس عن أحمد نص في تحريم كسب
الحجام ولا الاستئجار عليها، وإنما قال نحن نعطيه كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ونقول له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
لما سئل عن أكله نهاه وقال " أعلفه الناضح والرقيق " وهذا معنى كلامه في جميع الروايات وليس
هذا صريحا في تحريمه بل فيه دليل على إباحته كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله على ما بينا وان إعطاءه للحجام
دليل على إباحته إذ لا يعطيه ما يحرم عليه وهو عليه السلام يعلم الناس وينهاهم عن المحرمات فكيف يعطيهم
إياها ويمكنهم منها، وأمره باطعام الرقيق منها دليل على الإباحة فيتعين حمل نهيه عن أكلها على الكراهة
دون التحريم وكذلك قول الإمام أحمد فإنه لم يخرج عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإنما قصد اتباعه
122

صلى الله عليه وسلم وكذلك سائر من كرهه من الأئمة يتعين حمل كلامهم على هذا ولا يكون في المسألة قائل بالتحريم
وإذا ثبت هذا فإنه يكره للحر أكل كسب الحجام ويكره تعلم صناعة الحجامة وإجارة نفسه لها لما فيها
من الاخبار، ولان فيها دناءة فكره الدخول فيها كالكسح وعلى هذا يحمل قول الأئمة الذين ذكرنا
عنهم كراهتها جمعا بين الأخبار الواردة فيها وتوفيقا بين الأدلة الدالة عليه والله أعلم
(فصل) فأما استئجار الحجام لغير الحجامة كالفصد وحلق الشعر وتقصيره والختان وقطع شئ
من الجسد للحاجة إليه فجائز لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم " كسب الحجام خبيث) يعنى بالحجامة كما نهى
عن مهر البغي أي في البغاء، وكذلك لو كسب بصناعة أخرى لم يكن خبيثا بغير خلاف وهذا النهي
مخالف للقياس مختص بالمحل الذي ورد فيه ولأن هذه الأمور تدعو الحاجة إليها ولا تحريم فيها فجازت
الإجارة فيها وأخذ الأجر عليها كسائر المنافع المباحة
(فصل) ويجوز أن يستأجر كحالا ليكحل عينه لأنه عمل جائز ويمكن تسليمه ويحتاج أن يقدر
ذلك بالمدة لأن العمل غير مضبوط فيقدر به ويحتاج إلى بيان قدر ما يكحله مرة في كل يوم أو مرتين
فأما ان قدرها بالبرء فقال القاضي لا يجوز لأنه غير معلوم
وقال ابن أبي موسى لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على
البرء والصحيح إن شاء الله أن هذا يجوز لكن يكون جعالة لا إجارة فإن الإجارة لابد فيها من مدة أو
123

أو عمل معلوم فأما الجعالة فتجوز على عمل مجهول كرد اللقطة والآبق وحديث أبي سعيد في الرقية إنما
كان جعالة فيجوز ههنا مثله. إذا ثبت هذا فإن الكحل إن كان من العليل جاز لأن آلات العمل تكون
من المستأجر كاللبن في البناء والطين والآجر ونحوها، وإن شارطه على الكحل جاز وقال القاضي
يحتمل أن لا يجوز لأن الأعيان لا تملك بعقد الإجارة فلا يصح اشتراطه على العامل كلبن الحائط
ولنا أن العادة جارية ويشق على العليل تحصيله وقد يعجز عنه بالكلية فجاز ذلك كالصبغ من
الصباغ واللبن في الرضاع والحبر والأقلام من الوراق وما ذكروه ينتقض بهذه الأصول، وفارق لبن الحائط
لأن العادة تحصيل المستأجر له ولا يشق ذلك بخلاف مسئلتنا، وقال أصحاب مالك يجوز أن يستأجره
ليبنى له حائطا والآجر من عنده لأنه اشترط ما تتم به الصنعة التي عقد عليها فإذا كان مباحا معروفا جاز
كما لو استأجره ليصبغ ثوبا والصبغ من عنده
ولنا أن عقد الإجارة عقد على المنفعة لذا شرط فيه بيع العين صار كبيعتين في بيعة، ويفارق الصبغ
وما ذكرنا من الصورة التي جاز فيها ذلك من حيث إن الحاجة داعية إليه لأن تحصيل الصبغ يشق على
صاحب الثوب وقد يكون الصبغ لا يحصل الا في حيث يحتاج إلى مؤنة كثيرة لا يحتاج إليها في صبغ هذا
الثوب فجاز لمسيس الحاجة إليه بخلاف مسئلتنا
124

(فصل) وإذا استأجره مدة فكحله فيها فلم تبرأ عينه استحق الاجر وبه قال الجماعة، وحكي عن
مالك انه لا يستحق أجرا حتى تبرأ عينه ولم يحك ذلك أصحابه وهو فاسد لأن المستأجر قد وفى العمل
الذي وقع العقد عليه فوجب له الاجر وإن لم يحصل الغرض كما لو استأجره لبناء حائط يوما أو
لخياطة قميص فلم يتمه فيه، وإن برئت عينه في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة لأنه قد
تعذر العمل فأشبه ما لو حجر عنه أمر غالب وكذلك لو مات فإن امتنع من الاكتحال مع بقاء المرض
استحق الكحال الاجر بمضي المدة كما لو استأجره يوما للبناء فلم يستعمله فيه، فأما إن شارطه
على البرء فإنه يكون جعالة فلا يستحق شيئا حتى يوجد البرء سواء وجد قريبا أو بعيدا، فإنه برء
بغير كحله أو تعذر الكحل لموته أو غير ذلك من الموانع التي من جهة المستأجر فله أجر مثله كما لو
عمل العامل في الجعالة ثم فسخ العقد، وإن امتنع لأمر من جهة الكحال أو غير الجمال فلا شئ له،
وإن فسخ الجاهل الجعالة بعد عمل الكحال فعليه أجر عمله، فإن فسخ الكحال فلا شئ له لأنها
جعالة فثبت فيها ما ذكرناه
(فصل) ويجوز ان يستأجر طبيبا ليداويه، والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء إلا أنه لا يجوز
اشتراط الدواء على الطبيب لأن ذلك أنما جاز في الكحال على خلاف الأصل للحاجة إليه وجري العادة به
فلم يوجد ذلك المعنى ههنا فثبت الحكم فيه على وفق الأصل والله أعلم
125

(فصل) ويجوز أن يستأجر من يقلع ضرسه لأنها منفعة مباحة مقصودة فجاز الاستئجار على فعلها
كالختان فإن أخطأ فقلع غير ما أمر بقلعه ضمنه لأنه من جنايته، وإن برأ الضرس قبل قلعه انفسخت
الإجارة لأن قلعه لا يجوز، وإن لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه لأن اتلاف جزء من الآدمي
محرم في الأصل وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضررا وذلك مفوض إلى كل انسان في نفسه إذا كان أهلا
لذلك وصاحب الضرس أعلم بمضرته ومنفعته وقدر المدة
(فصل) ومن استؤجر على عمل موصوف في الذمة كخياطة أو بناء أو قلع ضرس فبذل الأجير
نفسه للعمل فلم يمكنه المستأجر لم تستقر الأجرة بذلك لأنه عقد على المنفعة من غير تقدير فلم يستقر
بدلها بالبذل كالصداق لا يستقر ببذل المرأة نفسها، ويفارق حبس الدابة مدة الإجارة لأن المنافع تلفت
تحت يده بخلاف مسئلتنا
{مسألة} قال (ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد)
لا نعلم خلافا في صحة استئجار الراعي وقد دل عليه قول الله تعالى مخبرا عن شعيب أنه قال (أني
أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج وقد علم أن موسى عليه السلام إنما
126

آجر نفسه لرعاية الغنم. إذا ثبت هذا فإنه لا ضمان على الراعي فيما تلف من الماشية ما لم يتعد ولا نعلم
فيه خلافا إلا عن الشعبي فإنه روي عنه أنه ضمن الراعي
ولنا أنه مؤتمن على حفظها فلم يضمن من غير تعد كالمودع ولأنها عين قبضها بحكم الإجارة فلم
يضمنها من غير تعد كالعين المستأجرة فأما ما تلف بتعديه فيمضنه بغير خلاف مثل أن ينام عن
السائمة أو يغفل عنها أو يتركها تتباعد منه أو تغيب عن نظره وحفظه أو ضربها ضربا يسرف فيه أو في
غير موضع الضرب أو من غير حاجة إليه أو سلك بها موضعا تتعرض فيه للتلف وأشياه هذا مما يعد
تفريطا وتعديا فتتلف به فعليه ضمانها لأنها تلفت بعدوانه فضمنها كالمودع إذا تعدى، وإن اختلفا في
التعدي وعدمه فالقول قول الراعي لأنه أمين، وإن فعل فعلا اختلفا في كونه تعديا رجع إلى أهل الخبرة
ولو جاء بجلد شاة وقال ماتت قبل قوله ولم يضمن وعن أحمد أنه يضمن ولا يقبل قوله، والصحيح
الأول لأن الامناء تقبل أقوالهم كالمودع ولأنه يتعذر عليه إقامة البينة في الغالب فأشبه المودع وكذلك
لو ادعى موتها من غير أن يأتي بجلدها
(فصل) ولا يصح العقد في الراعي إلا على مدة معلومة لأن العلم لا ينحصر، ويجوز العقد على رعي
ماشية معينة وعلى جنس في الذمة فإن عقد على معينة فذكر أصحابنا انه يتعلق بأعيانها كما لو استأجره لخياطة
ثوب بعينه فلا يجوز ابداله ويبطل العقد بتلفها وان تلف بعضها بطل عقد الإجارة فيه وله أجر ما بقي
127

منها بالحصة، وان ولدت سخالا لم يكن عليه رعيها لأنها زيادة لم يتناولها العقد، ويحتمل أن لا يتعلق
بأعيانها لأنها ليست المعقود عليها وإنما يستوفي المنفعة بها فأشبه ما لو استأجر ظهرا ليركبه جاز أن
يركب غيره مكانه، ولو استأجر دارا ليسكنها جاز أن يسكنها مثله، ولو استأجر أرضا ليزرعها حنطة
جاز أن يزرعها ما هو مثلها في الضرر أو أدني منها، وإنما المعقود عليه منفعة الراعي ولهذا يجب له الاجر
إذا سلم نفسه وان لم يرع، ويفارق الثوب في الخياطة لأن الثياب في مظنة الاختلاف في سهولة خياطتها
ومشقتها بخلاف الرعي. فعلى هذا له ابدالها بمثلها وان تلف بعضها لم ينفسخ العقد فيه وكان له ابداله وان
وقع العقد على موصوف في الذمة فلا بد من ذكر جنس الحيوان ونوعه إبلا أو بقرا أو غنما أو ضأنا أو
معزا وان اطلق ذكر البقر والإبل لم يتناول الجواميس والبخاتي لأن اطلاق الاسم لا يتناولها عرفا
وان وقع العقد في مكان يتناولها اطلاق الاسم احتاج إلى ذكر نوع ما يراه منها كالغنم لأن كل نوع
له أثر في اتعاب الراعي، ويذكر الكبر والصغر فيقول كبارا أو سخالا أو عجاجيل أو فصلانا إلا أن
يكون ثم قرينة أو عرف صارف إلى بعضها فيغني عن الذكر، وإذا عقد على عدد موصوف كالمائة لم يجب
عليه رعي زيادة عليها لا من سخالها ولا من غيرها، وان اطلق العقد ولم يذكر عددا لم يجز وهذا ظاهر
مذهب الشافعي، وقال القاضي يصح ويحمل على ما جرت به العادة كالمائة من الغنم ونحوها وهو قول
بعض أصحاب الشافعي والأول أصح لأن العادة في ذلك تختلف وتتباين كثيرا إذ العمل يختلف باختلافه
128

(فصل فيما تجوز إجارته) تجوز إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها بحكم الأصل
كالأرض والدار والعبد والبهيمة والثياب والفساطيط والحبال والخيام والمحامل والسرج واللجام والسيف
والرمح وأشباه ذلك وقد ذكرنا كثيرا مما تجوز إجارته في مواضعه وتجوز إجارة الحلي نص عليه
أحمد في رواية ابنه عبد الله وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وروي
عن أحمد أنه قال في إجارة الحلي ما أدري ما هو؟ قال القاضي هو محمول على إجارته بأجرة من جنسه
فاما بغير جنسه فلا باس به لتصريح أحمد بجوازه وقال مالك في إجارة الحلي والثياب ما هو من المشتبهات
ولعله يذهب إلى أن المقصود بذلك الزينة وليس ذلك من المقاصد الأصلية ومن منع ذلك بأجر من
جنسه فقد احتج له بأنها تحتك بالاستعمال فيذهب منها أجزاء وان كانت يسيرة فيحصل الاجر في مقابلتها
ومقابلة الانتفاع بها فيقضي إلى بيع ذهب بذهب وشئ آخر ولنا أنها عين ينتفع بها منفعة مباحة
مقصودة مع بقاء عينها فأشبهت سائر ما تجوز إجارته والزينة من المقاصد الأصلية فإن الله تعالى أمتن بها
علينا بقوله تعالى (لتركبوها وزينة) وقال تعالى (قال من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) وأباح الله تعالى
من التحلي واللباس للنساء ما حرمه على الرجال لحاجتهن إلى التزين للأزواج وأسقط الزكاة عن حليهن معونة لهن
على اقتنائه وما ذكروه من نقصها بالاحتكاك لا يصح لأن ذلك يسير لا يقابل بعوض ولا يكاد يظهر في
وزن ولو ظهر فالاجر في مقابلة الانتفاع لا في مقابلة الاجزاء لأن الاجر في الإجارة إنما هو عوض
129

المنفعة كما في سائر المواضع ولو كان في مقابلة الجزء الذاهب لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر لافضائه
إلى الفرق في معاوضة أحدهما بالآخر قبل القبض والله أعلم
(فصل) وتجوز إجارة الدراهم والدنانير للوزن والتحلي في مدة معلومة، وبه قال أبو حنيفة وهو
أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والوجه الآخر أنها لا تجوز اجارتها لأن هذه المنفعة ليست المقصود
منها ولذلك لا تضمن منفعتها بغصبها فأشبهت الشمع
ولنا أنها عين أمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها منفعة مباحة فأشبهت الحلي وفارق الشمع فإنه لا ينتفع
به الا بما أتلف عينه. إذا ثبت هذا فإنه إن ذكر ما يستأجره له وعينه فحسن، وإن أطلق الإجارة فقال
أبو الخطاب تصح الإجارة وينتفع بها فيما شاء منهما لأن منفعتهما في الإجارة متعينة في التحلي والوزن
وهما متقاربان فوجب أن تحمل الإجارة عند الاطلاق عليهما كاستئجار الدار مطلقا فإنه يتناول السكنى ووضع
المتاع فيها، وقال القاضي لا تصح الإجارة وتكون قرضا وهذا مذهب أبي حنيفة لأن الإجارة تقتضي الانتفاع
وانتفاع المعتاد بالدراهم والدنانير إنما هو بأعيانها فإذا أطلق لانتفاع حمل على الانتفاع المعتاد
وقال أصحاب الشافعي لا تصح الإجارة فلا تكون قرضا لأن التحلي ينقصها والوزن لا ينقصها فقد
اختلفت جهة الانتفاع فلم يجز اطلاقها ولا يجوز أن يعبر بها عن القرض لأن القرض تمليك للغير والإجارة
تقتضي الانتفاع مع بقاء العين فلم يجز التعبير بأحدهما عن الآخر، ولان التسمية والألفاظ تؤخذ نقلا
ولم يعهد في اللسان التعبير بالإجارة عن القرض وقول أبي الخطاب أصح إن شاء الله لأن العقد متى
130

أمكن حمله على الصحة كان أولى من افساده وقد أمكن حمله على اجارتها للجهة التي تجوز اجارتها فيها وقول
القاضي لا يصح لأن الإجارة إنما تقتضي انتفاعا مع بقاء العين فلا تحمل على غير ذلك وما ذكر الآخرون
من نقص العين بالاستعمال في التحلي فبعيد فإن ذلك يسير لا أثر له فوجوده كعدمه
(فصل) ويجوز أن يستأجر شجرا ونخيلا ليجفف عليها الثياب أو يبسطها عليها ليستظل بظلها
ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان لما ذكروه في الأثمان
ولنا أنها لو كانت مقطوعة لجاز استئجارها لذلك فكذلك إذا كانت نابتة وذلك لأن الانتفاع
يحصل بهما على السواء في الحالتين فما جاز في إحداهما يجوز في الأخرى ولأنها شجرة فجاز استئجارها
لذلك كالمقطوعة، ولأنها منفعة مقصودة يمكن استيفاؤها مع بقاء العين فجاز العقد عليها كما لو كانت
مقطوعة ولأنها عين يمكن استيفاء هذه المنفعة منها فجاز استئجارها لها كالحبال والخشب والشجر المقطوع
(فصل) ويجوز استئجار غنم لتدوس له طينا أو زرعا ولأصحاب الشافعي فيه وجهان لأنها منفعة
غير مقصودة من هذا الحيوان فأشبهت النخيل
ولنا أنها منفعة مباحة يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها فأشبهت استئجار البقر لدياس الزرع
(فصل) ويجوز استئجار ما يبقى من الطيب والصندل واقطاع الكافور والند لتشمه المرضى
وغيرهم مدة ثم يرده لأنها منفعة مباحة فأشبهت الوزن والتحلي مع أنه لا ينفك من أخلاق وبلى
131

(فصل) وتجوز إجارة الحائط ليضع عليها خشبا معلوما مدة معلومة، وبه قال الشافعي وقال
أبو حنيفة لا يجوز. ولنا أن هذه منفعة مقصودة مقدور على تسليمها واستيفائها فجاز عقد الإجارة
عليها كاستئجار السطح للنوم عليه.
(فصل) ويجوز استئجار دار يتخذها مسجدا يصلي فيه وبه قال مض ض والشافعي وقال أبو حنيفة
لا يصح لأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد إجارة بحال فلا تجوز الإجارة لذلك
ولنا أن هذه منفعة مباحة يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها فجاز استئبار المين لها كالسكنى
ويفارق الصلاة فإنها لا ندخلها النيابة بخلاف بناء المساجد
(فصل) وذكر ابن عقيل أنه يجوز استئجار البئر ليستقي منها أياما معلومة لأن هواء البئر وعمقها
فيه نوع انتفاع بمرور الدلو فيه وأما نفس الماء فيؤخذ على أصل الإباحة والله الموفق
(فصل) ويجوز استئجار الفهد والبازي والصقر للصيد في مدة معلومة لأن فيه نفعا مباحا تجوز
اعارته له فجازت اجارته له كالدابة وتجوز إجارة كتب العلم التي يجوز بيعها للانتفاع بها في القراءة فيها
والنسخ منها لما ذكرناه وتجوز إجارة درج فيه خط حسن يكتب عليه ويتمثل منه لذلك
(فصل) وما لا تجوز إجارته أقسام [أحدها] مالا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالمطعوم
والمشروب والشمع ليشعله، لأن الإجارة عقد على المنافع وهذه لا ينتفع بها إلا باتلاف عينها فإن
132

استأجر شمعة يسرجها ويرد بقيتها وثمن ما ذهب وأجر الباقي كان فاسدا لأنه يشمل بيعا وإجارة
وما وقع عليه البيع مجهول وإذا جهل المبيع جهل المستأجر أيضا فيفسد العقدان، ولو استأجر شمعا
ليتجمل به ويرده من غير أن يشعل منه شيئا لم يجز لأن ذلك ليس بمنفعة مرعية في الشرع فبذل المال
فيه سفه وأخذه أكل مال بالباطل فلم يجز كما لو استأجر خبزا لينظر إليه، وكذلك لو استأجر طعاما
ليتجمل به على مائدته ثم يرده لم يجز لما ذكرنا وهكذا سائر الأشياء، ولا يصح استئجار مالا يبقى من
الرياحين كالورد والبنفسج والريحان الفارسي وأشباهه لشمها لأنها تتلف عن قرب فأشبهت المطعومات
ولا يجوز استئجار الغنم ولا الإبل والبقر ليأخذ لبنها ولا ليسترضعها السخالة ونحوها ولا استئجارها
ليأخذ صوفها ولا شعرها ولا وبرها ولا استئجار شجرة ليأخذ ثمرتها أو شيئا من عينها
(فصل) ولا تجوز إجارة الفحل للضراب، وهذا ظاهر مذهب الشافعي وأصحاب الرأي
وأبي ثور وابن المنذر وخرج أبو الخطاب وجها في جوازه لأنه انتفاع مباح والحاجة تدعو إليه فجاز
كإجارة الظئر للرضاع والبئر ليستقي منها الماء ولأنها منفعة تستباح بالإعارة فتستباح بالإجارة كسائر
المنافع وهذا مذهب الحسن وابن سيرين
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل متفق عليه وفي لفظ نهى عن ضراب الجمل، ولان
المقصود الماء الذي يخلق منه الولد فيكون عقد الإجارة لاستيفاء عين غائبة فلم يجز كإجارة الغنم لاخذ لبنها
133

وهذا أولي فإن هذا الماء محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عنه كالميتة والدم وهو مجهول فأشبه اللبن
في الضرع، فأما من أجازه فينبغي أن بوقع العقد على العمل ويقدره بمرة أو مرتين أو أكثر وقيل يقع
العقد على مدة وهذا بعيد لأن من أراد إطراق فرسه مرة فقدره بمدة تزيد على قدر الفعل لم يمكن
استيعابها به وان اقتصر على مقداره فربما لا يحصل الفعل فيه ويتعذر أيضا ضبط مقدار الفعل فيتعين
التقدير بالفعل الا أن يكتري فحلا لاطراق ماشية كثيرة كفحل بتركه في إبله أو تيس في غنمه فإن
هذا إنما يكترى مدة معلومة، والمذهب انه لا تجوز إجارته فإن احتاج انسان إلى ذلك ولم يجد من
يطرق له جاز له أن يبذل الكراء وليس للمطرق أخذه، قال عطاء لا يأخذ عليه شيئا ولا بأس أن
يعطيه إذا لم يجد من يطرق له، ولان ذلك بذل مال لتحصيل منفعة مباحة تدعو الحاجة إليها فجاز كشراء
الأسير ورشوة الظالم ليدفع ظلمه، وإن أطرق انسان فحله بغير إجارة ولا شرط فأهديت له هدية أو
أكرم بكرامة لذلك فلا باس به لأنه فعل معروفا فجازت مجازاته عليه كما لو أهدي هدية (فصل) [القسم الثاني] ما منفعته محرمة كالزنا والزمر والنوح والغناء فلا يجوز الاستئجار
لفعله وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وصاحباه وأبو ثور وكره ذلك الشعبي والنخعي لأنه
محرم فلم يجز الاستئجار عليه كإجارة أمته للزنا، ولا يجوز استئجار كاتب ليكتب له غناء
ونوحا، وقال أبو حنيفة يجوز
134

ولنا انه انتفاع بمحرم فأشبه ما ذكرنا، ولا يجوز الاستئجار على كتابة شعر محرم ولا بدعة ولا
شئ محرم لذلك. ولا يجوز الاستئجار على حمل الخمر لمن يشربها ولا على حمل خنزير ولا ميتة لذلك
وبهذا قال أبو يوسف ومحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة يجوز لأن العمل لا يتعين عليه بدليل انه لو
حمله مثله جاز ولأنه لو قصد إراقته أو طرح الميتة جاز
وقد روي عن أحمد فيمن حمل خنزيرا أو ميتة أو خمرا لنصراني أكره أكل كرائه ولكن يقضى
للحمال بالكراء فإذا كان لمسلم فهو أشد. قال القاضي هذا محمول على أنه استأجره ليريقها فأما للشرب
فمحذور لا يحل أخذ الأجرة عليه وهذا التأويل بعيد لقوله أكره أكل كرائه وإذا كان لمسلم فهو أشد،
ولكن المذهب خلاف هذه الرواية لأنه استئجار لفعل محرم فلم يصح كالزنا ولان النبي صلى الله عليه وسلم لعن
حاملها والمحمولة إليه. وقوله لا يتعين يبطل باستئجار أرض ليتخذها مسجدا، وأما حمل هذه لإراقتها
والميتة لطرحها والاستئجار للكنف فجائز لأن ذلك كله مباح وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ظبية لحجمه،
وقال أحمد في رواية ابن منصور في الرجل يؤاجر نفسه لنظارة كرم النصراني يكره ذلك لأن الأصل
في ذلك راجع إلى الخمر
(فصل) ويكره أن يؤجر الرجل نفسه لكسح الكنف ويكره له أكل أجره لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " كسب الحجام خبيث " ونهى الحر عن أكله فهذا أولى، وقد روي عن ابن عباس أن رجلا
135

حج ثم أتاه فقال أني رجل أكنس فما ترى في مكسبي؟ قال أي شئ تكنس؟ قال العذرة قال ومنه
حججت ومنه تزوجت؟ قال نعم قال أنت خبيث وحجك خبيث وما تزوجت خبيث أو نحو هذا ذكره سعيد بن
منصور في سننه بمعناه ولان فيه دناءة فكره كالحجامة فاما الإجارة في الجملة فجائزة لأن الحاجة داعية إليها فلا
تندفع بدون إباحة الإجارة فوجب اباحتها كالحجامة
(فصل) ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيعة أو يتخذها لبيع الخمر أو القمار
وبه قال الجماعة، وقال أبو حنيفة إن كان بيتك في السواد فلا بأس أن تؤجره لذلك وخالفه صاحباه
واختلف أصحابه في تأويل قوله
ولنا أنه فعل محرم فلم تجز الإجارة عليه كإجارة عبده للفجور ولو اكترى ذمي من مسلم داره
فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه، وبذلك قال الثوري، وقال أصحاب الرأي إن كان بيته
في السواد والجبل فله أن يفعل ما شاء
ولنا أنه فعل محرم جاز المنع منه في المصر فجاز في السواد كقتل النفس المحرمة
(فصل) القسم الثالث ما يحرم بيعه الا الحر والوقف وأم الولد والمدبر فإنه يجوز اجارتها وان
حرم بيعها وما عدا ذلك فلا تجوز اجارته سواء كان ممن لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والجمل
الناد والبهيمة الشاردة والمغصوب من غير غاصبه أو ممن لا يقدر على انتزاعه منه فإنه لا تجوز اجارته
136

لأنه لا يمكن تسليم المعقود عليه وإن كان مما تجهل صفته فإنه لا تجوز اجارته في ظاهر المذهب أو كان
ممن لا نفع فيه كسباع البهائم، أو الطير التي لا تصلح للاصطياد، ولا تجوز إجارة الكلب ولا
الخنزير بحال ويتخرج جواز إجارة الكلب الذي يباح اقتناؤه لأن فيه نفعا مباحا تجوز له اعارته فجازت
اجارته له كغيره، ولا صحاب الشافعي وجهان كهذين، لا تجوز إجارة ما لا يقدر على تسليم منفعته
سواء جاز بيعه أو لم يجز مثل أن يغصب منفعته بأن يدعي انسان ان هذه الدار في اجارته عاما ويغلب
صاحبها عليها فإنه لا تجوز اجارتها في هذا العام إلا من غاصبها أو ممن يقدر على أخذها منه، قال
أصحابنا ولا تجوز إجارة المشاع لغير الشريك إلا أن يؤجر الشريكان معا، وهذا قول أبي حنيفة وزفر
لأنه لا يقدر على تسليمه فلم تصح إجارته كالمغصوب وذلك لأنه لا يقدر على تسليمه الا بتسليم نصيب شريكه
ولا ولاية له على مال شريكه واختار أبو حفص العكبري جواز ذلك، وقد أومأ إليه احمد وهو
قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد لأنه معلوم يجوز بيعه فجازت اجارته كالمفروز ولأنه عقد في
ملكه يجوز مع شريكه فجاز مع غيره كالبيع ولأنه يجوز إذا فعله الشريكان معا فجاز لأحدهما فعله
في نصيبه مفردا كالبيع، ومن نصر الأول فرق بين محل النزاع وبين ما إذا أجره الشريكان أو
أجره لشريكه بأنه يمكن التسليم إلى المستأجر فأشبه إجارة المغصوب من غاصبه دون غيره، وان كانت
الدار لواحد فأجر نصفها صح لأنه يمكنه تسليمه ثم إن أجر نصفها الآخر للمستأجر الأول صح فإنه
يمكنه تسليمه إليه وإن آجره لغيره ففيه وجهان بناء على المسألة التي قبلها لأنه لا يمكنه تسليم ما أجره
إليه وان أجر الدار لاثنين لكل واحد منهما نصفها فكذلك لأنه لا يمكنه تسليم نصيب كل واحد منهما إليه
137

(فصل) وفي إجارة المصحف وجهان. (أحدهما) لا تصح اجارته مبنيا على أنة لا يصح بيعه
وعلة ذلك اجلال كلام الله وكتابه عن المعارضة به وابتذاله بالثمن في البيع والاجر في الإجارة.
و (الثاني) تجوز اجارته وهو مذهب الشافعي لأنه انتفاع مباح تجوز الإعارة من أجله فجازت فيه
الإجارة كسائر الكتب فأما سائر الكتب الجائز بيعها فتجوز اجارتها، ومقتضى مذهب أبي حنيفة
أنها لا تجوز اجارتها لأنه علل منع إجارة المصحف بأنه ليس في ذلك أكثر من النظر إليه ولا تجوز
الإجارة لمثل ذلك بدليل أنه لا يجوز أن يستأجر سقفا لينظر لي عمله وتصاويره أو شمعا ليتجمل به
ولنا أنه انتفاع مباح يحتاج إليه وتجوز الإعارة له فجازت اجارته كسائر المنافع وفارق النظر إلى
السقف فإنه لا حاجة إليه ولا جرت العادة بالإعارة من أجله وفي مسئلتنا يحتاج إلى القراءة في الكتب
والتحفظ منها والنسخ والسماع منها والرواية وغير ذلك من الانتفاع المقصود المحتاج إليه
(فصل) ولا تجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته نص عليه أحمد في رواية الأثرم فقال إن أجر نفسه
من الذمي في خدمته لم يجز وإن كان في عمل شئ جاز وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر تجوز
لأنه تجوز له إجارة نفسه في غير الخدمة فجاز فيها كإجارته من المسلم
ولنا أنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر واذلاله له واستخدامه أشبه البيع يحققه أن عقد
الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة واستخدامه والبيع لا يتعين فيه ذلك فإذا منع منه فلان
138

يمنع من الإجارة أولى، فأما ان أجر نفسه منه في عمل معين في الذمة كخياطة ثوب وقصارته جاز بغير
خلاف نعلمه لأن عليا رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم
بذلك فلم ينكره وكذلك الأنصاري، ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن اذلال المسلم ولا استخدامه أشبه
مبايعته وإن أجر نفسه منه لعمل غير الخدمة مدة معلومة جاز أيضا في ظاهر كلام أحمد لقوله في رواية
الأثرم وإن كان في عمل شئ جاز
ونقل عنه أحمد بن سعيد: لا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي وهذا مطلق في نوعي الإجارة وذكر
بعض أصحابنا أن ظاهر كلام أحمد منع ذلك وأشار إلى ما رواه الأثرم واحتج بأنه عقد يتضمن حبس
المسلم أشبه البيع والصحيح ما ذكرنا وكلام أحمد إنما يدل على خلاف ما قاله فإنه خص المنع بالإجارة
للخدمة وأجاز اجارته للعمل وهذا إجارة للعمل ويفارق البيع فإن فيه اثبات الملك على المسلم ويفارق
اجارته للخدمة لتضمنها الاذلال
(فصل) نقل إبراهيم الحربي عن أحمد انه سئل عن الرجل يكتري الديك يوقظه لوقت الصلاة
لا يجوز وذلك لأن ذلك يقف على فعل لديك ولا يمكن استخراج ذلك منه بضرب ولا غيره وقد
يصيح وقد لا يصيح وربما صاح بعد الوقت
(فصل) القسم الرابع القرب التي يختص فاعلها بكونه من أهل القربة يعنى أنه يشترط كونه مسلما
139

كالإمامة والاذان والحج وتعليم القرآن نص عليه أحمد وبه قال عطاء والضحاك بن قيس وأبو حنيفة
والزهري وكره الزهري وإسحاق تعليم القرآن بأجر
وقال عبد الله بن شقيق هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت، وممن كره أجرة التعليم
مع الشرط الحسن وابن سيرين وطاوس والشعبي والنخعي. وعن أحمد رواية أخرى يجوز ذلك
حكاها أبو الخطاب
ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال التعليم أحب إلى من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين ومن أن
يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى
بأمانات الناس، التعليم أحب إلي، وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم
وممن أجاز ذلك مالك والشافعي ورخص في أجور المعلمين أبو قلابة وأبو ثور وابن المنذر لأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج رجلا بما معه من القرآن متفق عليه وإذا جاز تعليم القرآن عوضا في باب
النكاح وقام مقام المهر جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحق ما أخذتم عليه
أجرا كتاب الله " حديث صحيح، وثبت ان أبا سعيد رقى رجلا بفاتحة الكتاب على جعل فبرأ
وأخذ أصحابه الجعل فاتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبروه وسألوه فقال " لعمري لمن أكل برقية باطل
لقد أكلت برقية حق كلوا واضربوا لي معكم بسهم " وإذا جاز أخذ الجعل جاز أخذ الأجر لأنه في
140

معناه ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال فجاز أخذ الأجر عليه كبناء المساجد والقناطر ولان
الحاجة تدعو إلى ذلك فإنه يحتاج إلى الاستنابة في الحج عمن وجب عليه الحج وعجز عن فعله ولا يكاد
يوجد متبرع بذلك فيحتاج إلى بذل الاجر فيه، ووجه الرواية الأولى ما روى عثمان بن أبي العاص
قال إن آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا، قال الترمذي هذا
حديث حسن، وروى عبادة بن الصامت قال علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فاهدى
إلي رجل منهم قوسا، قال قلت قوس وليست بمال قال قلت أتقلدها في سبيل الله فذكرت ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم وقص عليه القصة، قال " إن سرك أن يقلدك الله قوسا من نار فاقبلها " وعن أبي بن كعب
انه علم رجلا سورة من القرآن فاهدى إليه خميصة أو ثوبا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " لو أنك
لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار " وعن أبي قال كنت أختلف إلى رجل مسن قد
أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له هلمى بطعام أخي
فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة فحاك في نفسي منه شئ فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " إن كان ذلك
الطعام طعامه وطعام أهله فكان منه وإن كان يتحفك به فلا تأكله " وعن عبد الرحمن بن شبل
الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اقرؤ القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا
تأكلوا به ولا تستكثروا به " روى هذه الأحاديث كلها الأثرم في سننه، ولان من شرطه صحة هذه الأفعال
كونها قربة إلى الله تعالى فلم يجز أخذ الأجر عليها، كما لو استأجر قوما يصلون خلفه الجمعة
أو التراويح، فاما الاخذ على الرقية فإن احمد اختار جوازه وقال لا باس، وذكر حديث أبي سعيد
والفرق بينه وبين ما اختلف فيه أن الرقية نوع مداواة والمأخوذ عليها جعل والمداواة يباح أخذ
141

الاجر عليها والجعالة أوسع من الإجارة، ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة، وقوله عليه السلام " أحق
ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " يعني به الجعل أيضا في الرقية، لأنه ذكر ذلك أيضا في سياق خبر الرقية
وأما جعل التعليم صداقا ففيه اختلاف وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق إنما قال " زوجتكها على
ما معك من القرآن " فيحتمل انه زوجه إياها بغير صداق اكراما له كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه،
ونقل عنه جوازه، والفرق بين المهر والاجر ان المهر ليس بعوض محض وإنما وجب نحلة ووصلة ولهذا جاز خلو
العقد عن تسميته وصح مع فساده بخلاف الاجر في غيرها فأما الرزق من بيت المال فيجوز على ما يتعدى نفعه من
هذه الأمور لأن بيت المال لمصالح المسلمين فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجا إليه كان من
المصالح وكان للاخذ له أخذ، لأنه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح بخلاف الاجر
(فصل) فإن أعطى المعلم شيئا من غير شرط فظاهر كلام احمد جوازه، قال فيما نقل عنه أيوب
ابن سافري لا يطلب ولا يشارط فإن أعطي شيئا أخذه، وقال في رواية أحمد بن سعيد:
أكره أجر المعلم إذا شرط، وقال إذا كان المعلم لا يشارط ولا يطلب من أحد شيئا إن أتاه شئ قبله
كأنه يراه أهون، وكرهه طائفة من أهل العلم لما تقدم من حديث القوس والخميصة اللتين أعطيهما أبي
وعبادة من غير شرط، ولان ذلك قربة فلم يجز أخذ العوض عنها لا بشرط ولا بغيره كالصلاة والصيام
ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا اشراف نفس فخذه وتموله
فإنه رزق ساقه الله إليك " وقد أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأبي في أكل طعام الذي كان يعمله إذا كان طعامه
وطعام أهله، ولأنه إذا كان بغير شرط كان هبة مجردة فجاز كما لو لم يعلمه شيئا، فأما حديث القوس
142

والخميصة فقضيتان في عين فيحتمل ان النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهما فعلا ذلك لله خالصا فكره أخذ العوض عنه
من غير الله تعالى ويحتمل غير ذلك، وإن أعطي المعلم أجرا على تعليم الصبي الخط وحفظه جاز نص عليه
أحمد فقال إن كان المعطي ينوي أن يعطيه لحفظ الصبي وتعليمه فأرجو إذا كان كذا ولان هذا مما
يجوز أخذ الأجر عليه مفردا فجاز مع غيره كسائر ما يجوز الاستئجار عليه، وهكذا لو كان إمام المسجد
قيما له يسرج قناديله ويكنسه ويفلق بابه ويفتحه فأخذ أجرا على خدمته أو كان النائب في الحج يخدم
المستنيب له في طريق الحج ويشد له ويرفع حمله ويحج عن أبيه فدفع له أجرا لخدمته لم يمتنع ذلك إن شاء الله تعالى
(فصل) وما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة كتعليم الخط والحساب والشعر المباح
وأشباهه وبناء المساجد والقناطر جاز أخذ الأجر عليه لأنه يقع تارة قربة وتارة غير قربة فلم يمنع من
الاستئجار لفعله كفرس الأشجار وبناء البيوت، وكذلك في تعليم الفقه والحديث وأما ما لا يتعدى
نفعه فاعله من العبادات المحضة كالصيام وصلاة الانسان لنفسه، وحجه عن نفسه وأداء زكاة نفسه
فلا يجوز أخذ الأجر عليها بغير خلاف لأن الاجر عوض لانتفاع ولم يحصل لغيره ههنا انتفاع فأشبه
إجارة الأعيان التي لا نفع فيها
(فصل) إذا اختلفا في قدر الاجر فقال أجرتنيها سنة بدينار قال بل بدينارين تحالفا ويبدأ
بيمين الآجر نص عليه أحمد وهو قول الشافعي لأن الإجارة نوع من البيع فإذا تحالفا قبل مضي
شئ من المدة فسخا العقد ورجع كل واحد منهما في ماله وان رضي أحدهما بما حلف عليه الاخر
قر العقد وإن فسخا العقد بعد المدة أو شئ منها سقط المسمى ووجب أجر المثل كما لو اختلفا في المبيع
143

بعد تلفه وهذا قول الشافعي وبه قال أبو حنيفة ان لم يكن عمل العمل، وإن كان عمله فالقول قول المستأجر
فيما بينه وبين أجر مثله وقال أبو ثور القول قول المستأجر لأنه منكر للزيادة في الاجر والقول قول المنكر
ولنا أن الإجارة نوع من البيع فيتحالفان عند اختلافهما في عوضها كالبيع وكما قبل أن يعمل
العمل عند أبي حنيفة، وقال ابن أبي موسى القول قول المالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا اختلف المتبايعان
فالقول قول البائع " وهذا يحتمل أن يريد به إذا اختلفا في المدة وأما إذا اختلفا في العوض فالصحيح
أنهما يتحالفان لما ذكرناه
(فصل) وان اختلفا في المدة فقال أجرتكها سنة بدينار قال بل سنتين بدينارين فالقول قول المالك لأنه
منكر للزيادة فكان القول قوله فيما أنكره كما لو قال بعتك هذا العبد بمائة قال بل هذين العبدين وان قال أجرتكها
سنة بدينار قال بل سنتين بدينار فههنا قد اختلفا في قدر العوض والمدة جميعا فيتخالفان لأنه لم بوجد
الاتفاق منهما على مدة بعوض فصار كما لو اختلفا في العوض مع اتفاق المدة وان قال المالك أجرتكها
سنة بدينار، فقال الساكن بل استأجر تني على حفظها بدينار فقال أحمد القول قول رب الدار الا أن تكون
للساكن بينة، وذلك لأن سكنى الدار قد وجد من الساكن واستيفاء منفعتها وهي ملك صاحبها،
والقول قوله في ملكه والأصل عدم استئجار الساكن في الحفظ فكان القول قول من بنفيه
(فصل) وان اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فالقول قول المستأجر لأنه مؤتمن عليها فأشبه
المودع ولان الأصل عدم العدوان والبراءة من الضمان. وان ادعى أن العبد أبق من يده وان الدابة
144

شردت أو نفقت وأنكر المؤجر فعن أحمد روايتان [إحداهما] أن القول قول المستأجر لما ذكرنا ولا
أجر عليه إذا حلف انه ما انتفع بها لأن الأصل عدم الانتفاع [والثانية] القول قول المؤجر لأن الأصل
السلامة، فاما ان ادعى أن العبد مرض في يده نظرنا فإن جاء به صحيحا فالقول قول المالك سواء
وافقه العبد أو خالفه نص عليه أحمد وان جاء به مريضا فالقول قول المستأجر وهذا قول أبي حنيفة
لأنه إذا جاء به صحيحا فقد ادعى ما يخالف الأصل وليس معه دليل عليه وان جاء به مريضا فقد
وجد ما يخالف الأصل يقينا فكان القول قوله في مدة المرض لأنه أعلم بذلك لكونه في يده وكذلك إن
ادعى إباقه في حال إباقه أو جاء به غير آبق
ونقل إسحاق بن منصور عن أحمد انه يقبل قوله في إباق العبد دون مرضه وبه قال الثوري
وإسحاق، قال أبو بكر وبالأول أقول لأنهما سواء في تفويت منفعته فكانا سواء في دعوى ذلك،
وان هلكت العين فاختلفا في وقت هلاكها أو أبق العبد أو مرض فاختلفا في وقت ذلك فالقول قول
المستأجر لأن الأصل عدم العمل ولان ذلك حصل في يده وهو أعلم به
(فصل) إذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليخيطه أو يقصره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض
باجر مثل أن يقول خذ هذا فاعمله وأنا أعلم أنك إنما تعمل باجر وكان الخياط والقصار منتصبين لذلك
ففعلا ذلك فلهما الاجر، وقال أصحاب الشافعي لا أجر لهما لأنهما فعلا ذلك من غير عوض جعل لهما
145

فأشبه ما لو تبرعا بعمله. ولنا أن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول فصار كنقد البلد وكما لو دخل
حماما أو جلس في سفينة مع ملاح ولان شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعريض، فاما ان لم يكونا منتصبين
لذلك لم يستحقا أجرا الا بعقد أو شرط العوض أو تعريض به لأنه لم يجر عرف يقوم مقام العقد فصار كما لو
تبرع به أو عمله بغير إذن مالكه ولو دفع ثوبا إلى رجل ليبيعه فالحكم فيه كالحكم في القصار والخياط: إن كان
منتصبا يبيع للناس باجر فله أجر مثله، نص عليه أحمد وان لم يكن كذلك فلا شئ له لما تقدم، ومتى دفع ثوبه إلى
أحد هؤلاء ولم يقاطعه على أجر فله أجر المثل لأن الثياب تختلف أجرتها ولم يعين شيئا فجرى مجرى الإجارة
الفاسدة فإن تلف الثوب من حرزه أو بغير فعله فلا ضمان عليه لأن ما لا يضمن في العقد الصحيح لا يضمن
في فاسده وان تلف من فعله بتخريقه أو دقه ضمنه لأنه إذا ضمنه بذلك في العقد الصحيح ففي الفاسد
أولى، وقال أحمد فيمن دفع ثوبا إلى قصار ليقصره ولم يقطع له أجرا بل قال أنا أعطيك كما تعطى وهلك
الثوب فإن كان بخرق أو نحوه مما لا تجنيه يده فلا ضمان عليه بين الكراء أو لم يبين والعلة في ذلك ما ذكرناه
(فصل) إذا استأجر رجلا لحمل له كتابا إلى مكة أو غيرها إلى صاحب له فحمله فوجد صاحبه
غائبا فرده استحق الاجر بحمله في الذهاب والرد لأنه حمله في الذهاب باذن صاحبه صريحا وفي الرد
تضمينا لأن تقدير كلامه وإن لم تجد صاحبه فرده إذ ليس سوى رده الا تضييعه فقد علم أنه لا يرضي
تضييعه فتعين رده والله أعلم
146

كتاب احياء الموات
الموات هو الأرض الخراب الدارسة تسمي ميتة ومواتها وموتانا بفتح الميم والواو والموتان بضم
الميم وسكون الواو الموت الذريع ورجل موتان القلب بفتح الميم وسكون الواو يعني أعمى القلب لا يفهم
والأصل في إحياء الأرض ما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحيا أرض
ميتة فهي له " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وروى سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق " قال الترمذي هذا حديث حسن، وروى مالك
في موطنه وأبو داود في سننه عن عائشة مثله قال ابن عبد البر وهو مسند صحيح متلقى بالقبول عند
فقهاء المدينة وغيرهم، وروى أبو عبيد في الأموال عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحيا
أرضا ليست لاحد فهو أحق بها " قال عروة قضي بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته
وعامة فقهاء الأمصار على أن الموات يملك بالاحياء وان اختلفوا في شروطه
{مسألة} قال أبو القاسم (ومن أحيا أرضا لم تملك فهي له)
وجملته أن الموات قسمان (أحدهما) ما لم يجر عليه ملك لاحد ولم يوجد فيه أثر عمارة فهذا
يملك بالاحياء بغير خلاف بين القائلين بالاحياء والاخبار التي رويناها متناولة له (القسم الثاني)
147

ما جرى عليه ملك مالك وهو ثلاثة أنواع (أحدها) ماله مالك معين وهو ضربان (أحدهما) ما ملك بشراء
أو عطية فهذا لا يملك بالاحياء بغير خلاف، وقال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك
غير منقطع أنه لا يجوز احياؤه لاحد غير أربابه الثاني ما ملك بالاحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتا فهو
كالذي قبله سواء، وقال مالك يملك هذا لعموم قوله " من أحيا أرضا ميتة فهي له " ولان أصل هذه
الأرض مباح فإذا تركت حتى تصير مواتا عادت إلى الإباحة كمن أخذ ماء من نهر ثم رده فيه
ولنا أن هذه أرض يعرف مالكها فم تملك بالاحياء كالتي ملكت بشراء أو عطية والخبر مقيد
بغير المملوك بقوله في الرواية الأخرى " من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد " وقوله " في غير حق مسلم "
وهذا يوجب تقييد مطلق حديثه، وقال هشام بن عروة في تفسير قوله عليه السلام " وليس لعرق ظالم
حق " الظالم أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره فيغرس فيها ذكره سعيد بن منصور في سننه
ثم الحديث مخصوص بما ملك بشراء أو عطية فنقيس عليه محل النزاع ولان سائر الأموال لا يزول
الملك عنها بالترك بدليل سائر الاملاك إذا تركت حتى تشعثت وما ذكروه يبطل بالموات إذا أحياه
انسان ثم باعه فتركه المشتري حتى عاد مواتا وباللقطة إذا ملكها ثم ضاعت منه ويخالف ماء النهر فإنه
استهلك (النوع الثاني) ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم فهذا
يملك بالاحياء لأن ذلك الملك لا حرمة له وقد روي عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " عادي الأرض
148

لله ولرسوله ثم هو بعد لكم " رواه سعيد بن منصور في سننه وأبو عبيد في الأموال وقال عادي الأرض التي
كان بها ساكن في آباد الدهر فانقرضوا فلم يبق منهم أنيس وإنما نسبها إلى عاد لأنهم كانوا مع
تقدمهم ذوي قوة وبطش وآثار كثيرة فنسب كل أثر قديم إليهم، ويحتمل أن كلما فيه أثر الملك ولم
يعلم زواله قبل الاسلام أنه لا يملك لأنه يحتمل ان المسلمين أخذوه عامرا فاستحقوه فصار موقوفا
بوقف عمر له فلم يملك كما لو علم مالكه
(النوع الثالث) ما جرى عليه الملك في الاسلام لمسلم أو ذمي غير معين فظاهر كلام الخرقي انها
لا تملك بالاحياء وهو أحد الروايتين عن أحمد فعلها عنه أبو داود وأبو الحارث ويوسف بن موسى لما
روى كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أحيا أرضا
مواتا في غير حق مسلم نهي له " فقيده بكونه في غير حق مسلم، ولأن هذه الأرض لها مالك فلم يجز
إحياؤها كما لو كان معينا فإن مالكها إن كان له ورثة فهي لهم وان لم يكن له ورثة ورثها المسلمون
(والرواية الثانية) انها تملك بالاحياء نقلها صالح وغيره وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لعموم الاخبار
ولأنها أرض موات لا حق فيها لقوم بأعيانهم أشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك، ولأنها ان كانت
في دار الاسلام فهي كلقطة دار الاسلام وان كانت في دار الكفر فهي كالركاز
(فصل) ولا فرق فيما ذكرنا بين دار الحرب ودار الاسلام لعموم الاخبار، ولان عامر دار
149

الحرب إنما يملك بالقهر والغلبة كسائر أموالهم، فأما ما عرف انه كان مملوكا ولم يعلم له مالك معين فهو
على الروايتين، فإن قيل فهذا ملك كافر غير محترم فأشبه ديار عاد وقد دل عليه قوله عليه السلام
" عادي الأرض لله ولرسوله " ولان الركاز من أموالهم ويملكه واجده فهذا أولى قلنا قوله: عادي الأرض "
يعني ما قدم ملكه ومضت عليه الأزمان وما كان كذلك فلا حكم لمالكه فاما ما قرب ملكه فيحتمل
أن له مالكا باقيا وان لم يتعين فلهذا قلنا لا يملك على أحد الروايتين وأما الركاز فإنه ينقل ويحول وهذا بخلاف
الأرض بدليل أن لقطة دار الاسلام تملك بعد التعريف بخلاف الأرض
(فصل) ولا فرق بين المسلم والذي في الاحياء نص عليه أحمد وبه قال مالك وأبو حنيفة،
وقال مالك لا يملك الذي بالاحياء في دار الاسلام قال القاضي وهو مذهب جماعة من أصحابنا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني " فجمع الموتان وجعله للمسلمين ولان موتان الدار
من حقوقها والدار للمسلمين فكان مواتها لهم كمرافق المملوك
ولنا عموم قول النبي " من أحيا أرضا ميتة فهي له: ولأن هذه جهة من جهات التمليك فاشترك فيها
المسلم والذي كسائر جهاته وحديثهم لا نعرفه إنما نعرف قوله عادي الأرض لله ولرسوله ثم هو لكم بعد،
ومن أحيا مواتا من الأرض فله رقبتها " هكذا رواه سعيد بن منصور وهو مرسل رواه طاوس عن
النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يمتنع أن يريد بقوله " هي لكم " أي لأهل دار الاسلام والذي من أهل الدار تجري
150

عليه أحكامها وقولهم انها من حقوق الاسلام قلنا وهو من أهل الدار فيتملكها كما يملكها بالشراء،
ويملك مباحاتها من الحشيش والحطب والصيود والركاز والمعدن واللقطة وهي من مرافق دار الاسلام
(فصل) وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه من طرقه ومسيل مائه ومطرح قمامته وملقى ترابه
وآلاته فلا يجوز احياؤه بغير خلاف في المذهب وكذلك ما تعلق بمصالح القرية كفنائها ومرعى
ماشيتها ومحتطبها وطرقها وسيل مائها لا يملك بالاحياء ولا نعلم فيه أيضا خلافا بين أهل العلم، وكذلك
حريم البئر والنهر والعين وكل مملوك لا يجوز احياء ما تعلق بمصالحه لقوله عليه السلام " من أحيا أرضا
ميتة في غير حق مسلم فهي له " مفهومه ان ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالاحياء ولأنه تابع للمملوك،
ولو جوزنا احياءه لبطل الملك في العامر على أهله، وذكر القاضي ان هذه المرافق لا يملكها المحيي
بالاحياء لكن هو أحق بها من غيره لأن الاحياء الذي هو سبب الملك لم يوجد فيها، وقال الشافعي:
يملك بذلك وهو ظائر قول الخرقي في حريم البئر لأنه مكان استحقه بالاحياء فملكه كالمحيي، ولان
معنى الملك موجود فيه لأنه يدخل مع الدار في البيع ويختص به صاحبها، فاما ما قرب من العامر ولم
يتعلق بمصالحه ففيه روايتان (إحداهما) يجوز احياؤه، قال أحمد في رواية أبي الصقر في رجلين أحييا قطعتين
من موات وبقيت بينهما رقعة فجاء رجل ليحييها فليس لهما منعه، وقال في جبانة بين قريتين: من أحياها
فهي له، وهذا مذهب الشافعي لعموم قوله عليه السلام " من أحيا أرضا ميتة فهي له " ولان النبي
151

صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني العقيق وهو يعلم أنه بين عمارة المدينة، ولأنه موات لم يتعلق به
مصلحة العامر فجاز احياؤه كالبعيد (والرواية الثانية) لا يجوز احياؤه، وبه قال أبو حنيفة والليث
لأنه في مظنة تعلق المصلحة به فإنه يحتمل أن يحتاج إلى فتح باب في حائطه إلى فنائه ويحمله طريق أو
يخرب حائطه فيضع آلات البناء في فنائه وغير ذلك ولم يجز تفويت ذلك عليه بخلاف البعيد
إذا ثبت هذا فإنه لا حد يفصل بين القريب والبعيد سوى العرف، وقال الليث: حده غلوة
وهي خمس خمس الفرسخ. وقال أبو حنيفة: حد البعيد هو الذي إذا وقف الرحل في أدناه فصاح
بأعلى صوته لم يسمع أدنى أهل المصر إليه
ولنا أن التحديد لا يعرف الا بالتوقيف ولا يعرف بالرأي والتحكم ولم يرد من الشرع لذلك
تحديد فوجب أن يرجع في ذلك إلى العرف كالقبض والاحراز. وقول من حدد هذا تحكم بغير
دليل وليس ذلك أولى من تحديده بشئ آخر كميل ونصف ميل ونحو ذلك، وهذا التحديد الذي
ذكراه والله أعلم مختص بما قرب من المصر أو القرية ولا يجوز أن يكون حدا لكل ما قرب
من عامر لأنه يفضي إلى أن من أحيا أرضا في موات حرم احياء شئ من ذلك الموات على غيره
ما لم يخرج عن ذلك الحد
(فصل) وجميع البلاد فيما ذكرناه سواء المفتوح عنوة كأرض الشام والعراق وما أسلم أهله عليه
152

كالمدينة وما صولح أهله على أن الأرض للمسلمين كأرض خيبر إلا الذي صولح أهله على أن الأرض لهم
ولنا الخراج عنها فإن أصحابنا قالوا لو دخل فيها مسلم فأحيا فيها مواتا لم يملكه لأنهم صولحوا في بلادهم
فلا يجوز التعرض لشئ منها عامرا كان أو مواتا لأن الموات تابع للبلد فإذا لم يملك عليهم البلد لم
يملك مواته، ويفارق دار الحرب حيث يملك مواتها لأن دار الحرب على أصل الإباحة وهذه
صالحناهم على تركها لهم فحرمت علينا، ويحتمل أن يملكها من أحياها لعموم الخبر، ولأنها من
مباحات دارهم فجاز أن يملكها من وجد منه سبب تملكها كالحشيش والحطب وقد روي عن أحمد
انه ليس في السواد موات يعني سواد العراق. قال القاضي: هذا محمول على العامر، ويحتمل أن أحمد
قال ذلك لكون السواد كان معمورا كله في زمن عمر بن الخطاب وحين أخذه المسلمون من الكفار حتى
بلغنا ان رجلا منهم سأل أن يعطى خربة فلم يجدوا له خربة فقال إنما أردت أن أعلمكم كيف أخذتموها
منا، وإذا لم يكن فيها موات حين ملكها المسلمون لم يصر فيها موات بعده لأن ما دثر من املاك المسلمين
لم يصر مواتا على إحدى الروايتين
(فصل) وان تحجر مواتا وهو أن يشرع في أحيائه مثل ان أدار حول الأرض ترابا أو أحجارا
أو حاطها بحائط صغير لم يملكها بذلك لأن الملك بالاحياء وليس هذا إحياء لكن بصير أحق الناس به لأنه
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " رواه أبو داود فإن
153

نقله إلى غيره صار الثاني بمنزلته لأن صاحبه أقامه مقامه، وان مات فوارثه أحق به لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" من ترك حقا أو مالا فهو لورثته " فإن باعه لم يصح بيعه لأنه لم يملكه فلم يملك بيعه كحق الشفعة قبل
الاخذ به وكمن سبق إلى معدن أو مباح قبل أخذه قال أبو الخطاب ويحتمل جواز بيعه لأنه له فإن
سبق غيره فأحياه ففيه وجهان (أحدهما) انه يملكه لأن الاحياء يملك به والحجر لا يملك به فثبت
الملك بما يملك به دون ما لم يملك به كمن سبق إلى معدن أو مشرعة ماء فجاء غيره فأزاله وأخذه.
(والثاني) لا يملكه لأن مفهوم قوله عليه السلام " من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد وقوله في حق غير
مسلم فهي له " انها لا تكون له إذا كان لمسلم فيها حق، وكذلك قوله " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم
فهو أحق به " وروى سعيد في سننه ان عمر رضي الله عنه قال: من كانت له أرض يعني من تحجر
أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها، وهذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث
سنين لا يملكها ولان الثاني أحيا في حق غيره فلم يلكه كما لو أحيا ما تتعلق به مصالح ملك غيره ولان
حق المتحجر أسبق فكان أولى كحق الشفيع يقدر على شراء المشتري، فإن طالت المدة عليه فينبغي
أن يقول له السلطان إما أن تحييه أو تتركه ليحييه غيرك لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم
فلم يمكن من ذلك كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينتفع ولا يدع غيره ينتفع،
فإن سأل الامهال لعذر له أمهل الشهر والشهرين ونحو ذلك، فإن أحياه غيره في مدة المهلة ففيه الوجهان
154

اللذان ذكرناهما، وإن نقضت المدة ولم يعمر فلغيره أن يغمر. ويملكه لأن المدة ضربت له لينقطع
حقه بمضيها وسواء أذن له السلطان في عمارتها أر لم يأذن له، وإن لم يكن للمتحجر عذر في ترك العمارة
قيل له إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك، فإن لم يعمرها كان لغيره عمارتها فإن لم يقل له شئ واستمر
تعطيلها فقد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه ان من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها
فهم أحق بها، ومذهب الشافعي في هذا كله نحو ما ذكرنا
(فصل) وللإمام قطاع الموات لمن يحييه فيكون بمنزلة المتحجر الشارع في الاحياء لما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم اقطع بلال بن الحرث العقيق أجمع فلما كان عمر قال لبلال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك
لتحيزه عن الناس إنما أقطعك لتعمر فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي رواه أبو عبيد في الأموال
وذكر سعيد في سننه حدثنا عبد العزيز بن محمد عن ربيعة قال سمعت الحرث بن بلال بن الحرث
يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحرث العقيق، فلما ولي عمر بن الخطاب قال ما أقطعك
لتحتجنه فاقطعه الناس، وروي علقمة بن وائل عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا بحضرموت
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال سعيد حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن عمرو بن
شعيب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع ناسا من جهينة أو مزينة أرضا فعطلوها فجا قوم فأحيوها فخاصمهم
الذي أقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب فقال عمر: لو كانت قطيعة مني أو من أبي
بكر
155

لم أردها ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا أردها، ثم قال عمر رضي الله عنه: من كانت له أرض
يعني من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها
{مسألة} قال (إلا أن تكون أرض ملح أو ماء للمسلمين فيه المنفعة فلا يجوز أن
ينفرد بها الانسان)
وجملة ذلك أن المعادن الظاهرة وهي التي بوصل ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها
كالملح والماء والكبريت والقير والمومياء والنفط والكحل والبرام والياقوت ومقاطع الطين وأشباه
ذلك لا تملك بالاحياء ولا يجوز إقطاعها لاحد من الناس ولا احتجازها دون المسلمين لأن فيه ضررا
بالمسلمين وتضييقا عليهم ولان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمال معدن الملح فلما قيل له انه بمنزلة الماء
العد رده، كذا قال أحمد. وروى أبو عبيد وأبو داود والترمذي باسنادهم عن أبيض بن حمال انه
استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح بمأرب فلما ولى قيل يا رسول الله أتدري ما أقطعت له؟ إنما أقطعت له
الماء العد فرجعه منه، قال قلت يا رسول الله ما يحمى من الأراك؟ قال " ما لم تنله أخفاف الإبل "
وهو حديث غريب، وروي في لفظ عنه أنه قال " لا حمى في الأراك " ورواه سعيد فقال حدثني
بإسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس المأربي عن أبيه عن أبيض بن حمال المأربي قال استقطعت رسول الله
156

صلى الله عليه وسلم معدن الملح بمأرب فأقطعنيه، فقيل يا رسول الله انه بمنزله الماء العد يعني انه لا يقطع فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " فلا اذن " ولان هذا تتعلق به مصالح المسلمين العامة فلم يجز احياؤه ولا اقطاعه كمشارع الماء
وطرقات المسلمين، قال ابن عقيل هذا من مواد الله الكريم وفيض جوده الذي لا غناء عنه فلو ملكه
أحد بالاحتجاز ملك منعه فضاق على الناس فإن أخذ العوض عنه أغلاه فخرج عن الموضع الذي وضعه الله
من تعميم ذوي الحوائج من غير كلفة وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا
(فصل) فأما المعادن الباطنة وهي التي لا يوصل إليها إلا بالعمل والمؤنة كمعادن الذهب والفضة
والحديد والنحاس والرصاص والبلور والفيروزج فإذا كانت ظاهرة لم تملك أيضا بالاحياء لما ذكرنا
في التي قبلها، وإن لم تكن ظاهرة فحفرها انسان وأظهرها لم تملك بذلك في ظاهر المذهب وظاهر
مذهب الشافعي، ويحتمل أن يملكها بذلك وهو قول للشافعي لأنه موات لا ينتفع به إلا بالعمل
والمؤنة فملك بالاحياء كالأرض ولأنه باظهاره تهيأ للانتفاع به من غير حاجة إلى تكرار ذلك العمل
فأشبه الأرض إذا جاءها بماء أو حاطها، ووجه الأول ان الاحياء الذي يملك به هو العمارة التي
تهيأ بها المحيي للانتفاع من غير تكرار عمل وهذا حفر وتخريبه يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع
فإن قبل فلو احتفر بئرا ملكها وملك حريمها قلنا البئر تهيأت للانتفاع بها من غير تجديد حفر ولا
عمارة وهذا المعادن تحتاج عند كل انتفاع إلى عمل وعمارة فافترقا. قال أصحابنا وليس للإمام اقطاعها
157

لأنها لا تملك بالاحياء والصحيح جواز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث معادن القبلية
جلسيها وغوريها رواه أبو داود وغيره
(فصل) ومن أحيا أرضا فملكها بذلك فظهر فيها معدن ملكه ظاهرا كان أو باطنا إذا كان من
المعادن الجامدة لأنه ملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها وهذا منها ويفارق الكنز فإنه مودع فيها
وليس من أجزائها ويفارق ما إذا كان ظاهرا قبل احيائها لأنه قطع عن المسلمين نفعا كان واصلا إليهم
ومنعهم انتفاعا كان لهم وههنا لم يقطع عنهم شيئا لأنه إنما ظهر باظهاره له، ولو تحجر الأرض أو أقطعها
فظهر فيها المعدن قبل احيائها لكان له احياؤها ويملكها بما فيها لأنه صار أحق به بتحجره واقطاعه فلم
يمنع من اتمام حقه
وأما المعادن الجارية كالقار والنفط والماء فهل يملكها من ظهرت في ملكه؟ فيه روايتان (أظهرهما)
لا يملكها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الناس شركا في ثلاث: في الماء والكلأ والنهار " رواه الخلال، ولأنها
ليست من أجزاء الأرض فلم يملكه بملك الأرض كالكنز (والثانية) يملكها لأنها خارجة من أرضه
المملوكة له فأشبهت الزرع والمعادن الجامدة
(فصل) ولو شرع انسان في حفر معدن ولم يصل إلى النيل صار أحق به كالتحجر الشارع في
الاحياء فإذا وصل إلى النيل صار أحق بالأخذ منه ما دام مقيما على الاخذ منه وهل يملكه بذلك؟ فيه
158

ما قد ذكرنا من قبل، وإن حفر آخر من ناحية أخرى لم يكن له منعه، وإذا وصل إلى ذلك العرق لم
يكن له منعه سواء قلنا إن المعدن يملك بحفره أو لم نقل لأنه إن ملكه فإنما يملك المكان الذي حفره
وأما العرق الذي في الأرض فلا يملكه بذلك، ومن وصل إليه من جهة أخرى فله أخذه ولو ظهر
في ملكه معدن بحيث يخرج النيل عن أرضه فحفر انسان من خارج أرضه كان له أن يأخذ ما خرج عن أرضه
منه لأنه لم يملكه إنما ملك ما هو من اجزا ارضه وليس لأحد أن يأخذ ما كان داخلا في أرضه من أجزاء الأرض
الباطنة كما لا يملك أخذ اجزائها الظاهرة، ولو حفر كافر في دار الحرب معدنا فوصل إلى النيل ثم فتحها المسلمون
عنوة لم تصر غنيمة وكان وجود عمله وعدمه واحدا لأن عامره لم يملكه بذلك ولو ملكه فإن الأرض
كلها تصح وقفا للمسلمين وهذا ينصرف إلى مصلحة من مصالحهم فتعين لها كما لو ظهر بفعل الله تعالى
(فصل) ولو كان في الموات موضع يمكن أن يحدث فيه معدنا ظاهرا كموضع على شاطئ البحر
إذا صار فيه ماء البحر صار ملحا ملك بالاحياء وجاز للإمام اقطاعه لأنه لا يضيق على المسلمين باحداثه
بل يحدث نفعه بفعله يمنع منه كبقية الموات واحياء هذا بتهيئته لما يصلح له من حفر ترابه وتمهيده
وفتح قناة إليه تصب الماء فيه لأنه يتهيأ بهذا الانتفاع به
(فصل) ومن ملك معدنا فعمل فيه غيره بغير اذنه فما حصل منه فهو لمالكه ولا أجر للغاصب
على عمله لأنه عمل في ملك غيره بغير اذنه أشبه ما لو حصد زرع غيره، وإن قال مالكه اعمل فيه ولك
159

ما يخرج منه فله ذلك ولا شئ لصاحب المعدن فيه لأنه إباحة من مالكه فملك ما أخذه كما لو أباحه
الاخذ من داره أو بستانه، وإن قال اعمل فيه على أن ما رزق الله من نيل كان بيننا نصفين فعمل فيه
وجهان (أحدهما) يجوز وما يأخذه يكون بينهما كما لو له قال احصد هذا الزرع بنصفه أو ثلثه ولأنها
عين تنمي بالعمل عليها فصح العمل فيها ببعضه كالمضاربة في الأثمان (والثاني) لا يصح لأن ما يحصل
منه مجهول، ولأنه لا يصح أن يكون إجارة لأن العرض مجهول والعمل مجهول ولا جعالة لأن العوض
مجهول ولا مضاربة لأن المضاربة إنما تصح بالأثمان على أن يرد رأس المال وتكون له حصة من الربح
وليس ذلك ههنا وفارق حصاد الزرع بنصفه أو جزء منه لأن الزرع معلوم بالمشاهدة وما علم جميعه
علم جزؤه بخلاف هذا، وإن قال اعمل فيه كذا ولك ما يحصل منه بشرط أن تعطيني ألفا أو شيئا
معلوما لم يصح لأنه بيع لمجهول ولا يصح أن يكون معاملة كالمضاربة لما ذكرنا ولان المضاربة تكون
بجزء من النماء لا دراهم معلومة، قال أحمد إذا أخذ معدنا من قوم على أن يعمره ويعمل فيه ويعطيهم
ألفي منا وألف منا صفرا فذلك مكروه ولم يرخص فيه والله الموفق
(فصل) إذا استأجر رجلا ليحفر له عشرة أذرع في دور كذا بدينار صح لأنها إجارة معلومة
وإن ظهر عرق ذهب فقال استأجرتك لتخرجه بدينار لم يصح لأن العمل مجهول، وإن قال إن استخرجته
160

فلك دينار صح ويكون جعالة لأن الجعالة تصح على عمل مجهول إذا كان العوض معلوما
(فصل) ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر أو باطن فهو أحق بما ينال منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له " فإن أخذ قدر حاجته وأراد الإقامة فيه بحيث يمنع غيره
منع منه لأنه يضيق على الناس ما لا نفع فيه فأشبه ما لو وقف في مشرعة الماء لغير حاجة، وإن أطال
المقام والاخذ احتمل أن يمنع لأنه يصير كالمتملك له واحتمل أن لا يمنع لاطلاق الحديث، وإن استبق
إليه اثنان وضاق المكان عنهما أقرع بينهم لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه، ويحتمل أن يقسم بينهما
لأنه يمكن قسمته وقد تساويا فيه فيقسم بينهما كما لو تداعيا عينا في أيديهما ولا بينة لأحدهما بها ويحتمل
أن يقدم الإمام من يرى منهما لأن له نظرا، وذكر القاضي وجها رابعا وهو أن الإمام ينصب من
يأخذ لهما ويقسم بينهما وهذا التفصيل مذهب الشافعي
(فصل) وما نضب عنه الماء من الجزائر لم يملك بالاحياء. قال احمد في رواية العباس بن موسى
إذا نضب الماء عن جزيرة إلى فناء رجل لم بين فيها لأن فيه ضررا وهو ان الماء يرجع يعني انه يرجع إلى
ذلك المكان فإذا وجده مبنيا رجع إلى الجانب الآخر فأضر بأهله ولان الجزائر منبت الكلأ والحطب
فجرت مجرى المعادن الظاهرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا حمى في الأراك " وقال احمد في رواية حرب
يروى عن عمر أنه أباح الجزائر يعني أباح ما ينبت في الجزائر من النبات، وقال إذا نضب الفرات
161

عن شئ ثم نبت فيه نبات فجاء رجل يمنع الناس منه فليس له ذلك فاما ان غلب الماء على ملك انسان
ثم عاد فنضب عنه فله أخذه فلا يزول ملكه بغلبة الماء عليه، وإن كان ما نضب عنه الماء لا ينتفع
به أحد فعمره رجل عمارة لا ترد الماء مثل أن يجعله مزرعة فهو أحق به من غيره لأنه متحجر لما ليس
لمسلم فيه حق فأشبه التحجر في الموات
(فصل) وما كان من الشوارع والطرقات والرحاب بين العمران فليس لأحد احياؤه سواء كان
واسعا أو ضيقا وسواء ضيق على الناس أو لم يضيق لأن ذلك يشترك فيه المسلمون وتتعلق به مصلحتهم
فأشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على
أحد ولا يضر بالمارة لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على اقرار الناس على ذلك من غير انكار
ولأنه ارتفاق مباح من غير إضرار فلم يمنع منه كالاجتياز قال احمد في السابق إلى دكاكين السوق
غدوة فهو له إلى الليل وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " منى مناخ من
سبق " وله أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية وتابوت وكساء ونحوه لأن الحاجة تدعو إليه
من غير مضرة فيه وليس له البناء لا دكة ولا غيرها لأنه يضيق على الناس ويعثر به المارة بالليل
والضرير في الليل والنهار، ويبقى على الدوام فربما ادعى ملكه بسبب ذلك والسابق أحق به ما دام
162

فيه فإن قام وترك متاعه فيه لم يجز لغيره ازالته لأن يد الأول عليه، وان نقل متاعه كان لغيره
أن يقعد فيه لأن يده قد زالت، وان قعد وأطال منع من ذلك لأنه يصير كالمتملك ويختص
بنفع يساويه غيره في استحقاقه، ويحتمل أن لا يزال لأنه سبق إلى ما لم يسبق إلى إليه مسلم، وان استبق
اثنان إليه احتمل أن يقرع بينهما واحتمل أن يقدم الإمام من يرى عنهما، وإن كان الجالس يضيق
على المارة لم يحل له الجلوس فيه ولا يحل للإمام تمكينه بعوض ولا غيره. قال احمد ما كان ينبغي لنا
أن نشتري من هؤلاء الذين يبيعون على الطريق. قال القاضي هذا محمول على أن الطريق ضيق أو
يكون يؤذي المارة لما تقدم ذكرنا له وقال لا يعجبني الطحن في العروب إذا كانت في طريق الناس وهي
السفن التي يطحن فيها في الماء الجاري إنما كره ذلك لتضييقها طريق السفن المارة في الماء قال أحمد ربما
غرقت السفن فأرى للرجل أن يتوقى الشراء مما يطحن بها
(فصل) في القطائع وهي ضربان (أحدهما) اقطاع ارفاق وذلك اقطاع مقاعد السوق والطرق
الواسعة ورحاب المساجد التي ذكرنا أن للسابق إليها الجلوس فللإمام اقطاعها لمن يجلس فيها لأن له
في ذلك اجتهادا من حيث إنه لا يجوز الجلوس الا فيما لا يضر بالمارة فكان للإمام أن يجلس فيها من
لا يرى أنه يتضرر بجلوسه، ولا يملكها المقطع بذلك بل يكون أحق بالجلوس فيها من غيره بمنزلة السابق
إليه من غير اقطاع سواء الا في شئ واحد وهو أن السابق إذا نقل متاعه عنها فلغيره الجلوس فيها
لأن استحقاقه لها بسبقه إليها ومقامه فيها فإذا انتقل عنها زال استحقاقه لزوال المعنى الذي استحق
163

به وهذا استحق باقطاع الإمام فلا يزول حقه بنقل متاعه ولا يضره الجلوس فيه، وحكمه في التظليل
على نفسه بما ليس بناء ومنعه من البناء ومنعه إذا طال مقامه حكم السابق على ما أسلفناه (الثاني)
اقطاع موات من الأرض لمن يحييها فيجوز ذلك لما روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه
أرضا فأرسل معاوية أن أعطه إياه أو أعلمه إياه حديث صحيح، وأقطع بلال بن الحارث المزني وأبيض
ابن حمال المأربي، وأقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطة فقال " اعطوه من
حيث وقع السوط " رواه سعيد وأبو داود، وذكر البخاري عن أنس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأنصار ليقطع لهم بالبحرين فقالوا يا رسول الله ان فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها، وروي
أن أبا بكر أقطع طلحة بن عبيد الله أرضا، وان عثمان أقطع خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
الزبير وسعدا وابن مسعود وأسامة بن زيد وخباب بن الأرت ويروى عن نافع أبي عبد الله أنه قال
لعمر ان قبلنا أرضا بالبصرة ليست من أرض الخراج ولا تضر بأحد من المسلمين فإن رأيت أن
تقطعنيها اتخذ فيها قضيلا لخبلي فافعل قال فكتب عمر إلى أبي موسي ان كانت كما يقول فأقطعها إياه
روى هذه الآثار كلها أبو عبيد في الأموال، وروى سعيد عن سفيان عن أبي نجيح عن عمرو بن
شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم اقطع ناسا من جهينة أو مزينة ارضاء إذا ثبت هذا فإن من أقطعه الإمام شيئا
164

من الموات لم يملكه بذلك لكن يصير أحق به كالمتحجر للشارع في الاحياء بدليل ما ذكرنا من حديث
بلال بن الحارث حيث استرجع عمر منه ما عجز عن احيائه من العقيق الذي أقطعه إياه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولو ملكه لم يجز استرجاعه ورد عمر أيضا قطيعة أبي بكر لعيينة بن حصن فسأل عيينة أبا بكر
أن يجدد له كتابا فقال والله لا أجدد شيئا رده عمر رواه أبو عبيد، لكن المقطع يصير أحق به من
سائر الناس وأولى باحيائه فإن أحياه والا قال له السلطان ان أحييته والا فارفع يدك عنه كما قال عمر
لبلال بن الحارث المزني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجبه دون الناس وإنما أقطعك لتعمر
فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي، وإن طلب المهلة لعذر أمهل بقدر ذلك، وإن طلبها لغير
عذر لم يمهل على ما ذكرنا في المتحجر، وإن سبق غيره فأحياه قبل أن يقال له شئ أو في مدة المهلة
فهل يملكه؟ على وجهين
وقد روي عن عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع ناسا من جهينة أو مزينة أرضا
فعطلوها فجاء قوم فأحيوها فخاصمهم الذين أقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه فقال عمر
لو كانت قطيعة مني أو من أبي بكر لم أردها ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا أردها فدل
هذا على أنها إذا كانت قطيعة من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي لمن أحياها (والثاني) لا يملكه لأنه
تعلق به حق المقطع ومفهوم قوله عليه السلام " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " انه إذا
تعلق بها حق مسلم لم يجز احياؤها، وقد ذكرنا الوجهين في المتحجر وهذا مثله ومذهب الشافعي في
هذا الفصل كنحو ما ذكرنا
165

(فصل) وليس للإمام إقطاع ما لا يجوز احياؤه من المعادن الظاهرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استقطعه
أبيض بن حمال الملح الذي بمأرب فقيل يا رسول الله إنما أقطعته الماء العد فارجعه منه ولان في ذلك
تضييقا على المسلمين، وفي اقطاع المعادن الباطنة وجهان ذكرناهما فيما مضى
(فصل) ولا ينبغي ان يقطع الإمام أحدا من الموات الا ما يمكنه احياؤه لأن في اقطاعه أكثر
من ذلك تضييقا على الناس في حق مشترك بينهم بما لا فائدة فيه فإن فعل ثم تبين عجزه عن احيائه
استرجعه منه كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ما عجز عنه من عمارته من العقيق الذي أقطعه إياه
رسول الله صلى الله عليه وسلم
(فصل) في الحمى ومعناه ان يحمي أرضا من الموات يمنع الناس رعي ما فيها من الكلأ ليختص
بها دونهم وكانت العرب في الجاهلية تعرف ذلك فكان منهم من إذا انتجع بلدا أوفى بكلب على
نشز ثم استعواه ووقف له من كل ناحية من يسمع صوته بالعواء فحيثما انتهى صوته حماه من كل
ناحية لنفسه ويرعى مع العامة فيما سواه فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من التضييق على الناس ومنعهم
من الانتفاع بشئ لهم فيه حق
وروى الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا حمى الا لله ولرسوله " رواه
أبو داود وقال " الناس شركاء في ثلاث: في الماء والنار والكلأ " رواه الخلال. وليس لأحد من الناس
سوى الأئمة أن يحمى لما ذكرنا من الخبر والمعنى فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان له أن يحمي لنفسه وللمسلمين
166

لقوله في الخبر " لا حمى الا لله ولرسوله " لكنه لم يحم لنفسه شيئا وإنما حمى المسلمين فقد روى ابن
عمر قال: حمى النبي صلى الله عليه وسلم النقيع لخيل المسلمين. رواه أبو عبيد والنقيع بالنون موضع ينتقع فيه الماء
فيكثر فيه الخصب لمكان ما يصير فيه من الماء، وأما سائر أئمة المسلمين فليس لهم أن يحموا لأنفسهم
شيئا ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين ونعم الجزية وابل الصدقة وضوال الناس
التي يقوم الإمام بحفظها وماشية الضعيف من الناس على وجه لا يستضر به من سواه من الناس،
وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في صحيح قوليه، وقال في الآخر ليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن
يحمي لقوله " لا حمى الا لله ولرسوله "
ولنا أن عمر وعثمان حميا واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر عليهما فكان إجماعا، وروى أبو عبيد
باسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير أحسبه عن أبيه قال اتى أعرابي عمر فقال يا أمير المؤمنين بلادنا
قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الاسلام علام تحميها؟ فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه
وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ فلما رأى الاعرابي ما به جعل يردد ذلك، فقال عمر:
المال مال الله والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت شبرا من الأرض في شبر
وقال مالك بلغني انه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفا من الظهر. وعن أسلم قال سمعت عمر يقول
لهني حين استعمله على حمى الربذة يا هني اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة،
167

وادخل رب الصريمة والغنيمة ودعني من نعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن هلكت ماشيتهما
رجعا إلى نخل وزرع وان هذا المسكين ان هلكت ماشيته جاء يصرخ يا أمير المؤمنين فالكلا
أهون علي أم غرم الذهب والورق انها أرضهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الاسلام وانهم
ليرون أنا نظلمهم ولولا النعم التي يحمل عليها في سبيل الله ما حميت على الناس من بلادهم شيئا أبدا،
وهذا اجماع منهم، ولان ما كان لمصالح المسلمين قامت الأئمة فيه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما أطعم الله لنبي طعمة إلى جعلها طعمة لمن بعده) وأما الخبر فمخصوص
وأما حماه لنفسه فيفارق حمى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه لأن صلاحه يعود إلى صلاح المسلمين وماله كان
يرده في المسلمين ففارق الأئمة في ذلك وساووه فيما كان صلاحا للمسلمين وليس لهم أن يحموا الا
قدرا لا يضيق به على المسلمين ويضر بهم لأنه إنما جاز لما فيه من المصلحة لما يحمى وليس من المصلحة
ادخال الضرر على أكثر الناس
(فصل) وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه ولا تغييره مع بقاء الحاجة إليه، ومن أحيا
منه شيئا لم يملكه، وان زالت الحاجة إليه ففيه وجهان. وما حماه غيره من الأئمة فغيره هو أو غيره
من الأئمة جاز، وان أحياه انسان ملكه في أحد الوجهين لأن حمى الأئمة اجتهاد وملك الأرض
بالاحياء نص والنص يقدم على الاجتهاد (والوجه الآخر) لا يملكه لأن اجتهاد الإمام لا يجوز نقضه
168

كما لا يجوز نقض حكمه، ومذهب الشافعي في هذا على نحو ما قلنا والله أعلم
{فصل في أحكام المياه} قد ذكرنا في البيع حكم ملكها وبيعها، ونذكر ههنا حكم السقي بها فنقول
لا يخلو الماء من حالين إما أن يكون جاريا أو واقفا فإن كان جاريا فهو ضربان (أحدهما) أن يكون في
نهر غير مملوك وهو قسمان [أحدهما] أن يكون نهرا عظيما كالنيل والفرات ودجلة وما أشبهها من
الأنهار العظيمة التي لا يستضر أحد بسقيه منها فهذا لا تزاحم فيه ولكل أحد أن يسقي منها ما شاء متى
شاء كيف شاء [القسم الثاني] أن يكون نهرا صغيرا يزدحم الناس فيه ويتشاحون في مائه أو سيل
يتشاح فيه أهل الأرض الشاربة منه فإنه يبدأ بمن في أول النهر فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ إلى الكعب
ثم يرسل إلى الذي يليه فيضع كذلك وعلى هذا إلى أن تنتهي الأراضي كلها، فإن لم يفضل عن الأول
شئ أو عن الثاني أو عمن يليهم فلا شئ للباقين لأنه ليس لهم الا ما فضل فهم كالعصبة في
الميراث وهذا قول فقهاء المدينة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه مخالفا، والأصل في هذا ما روى عبد الله بن
الزبير ان رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم
" اسق يا زبير ثم ارسل الماء إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟
فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " قال الزبير
فوالله اني لأحسب هذه الآية نزلت فيه (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)
متفق عليه ورواه مالك في موطئه عن الزهري عن عروة عن عبد الله بن الزبير، وذكر عنه عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري قال نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ثم احبس الماء حتى بلغ إلى الجدر " فكان ذلك إلى الكعبين
169

قال أبو عبيد الشراج جمع شرج والشرج نهر صغير والحرة أرض ملتبسة بحجارة سود والجدر الجدار، وإنما
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير أن يسقي ثم يرسل الماء تسهيلا على غيره فلما قال الأنصاري ما قال استوعى
النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وروى مالك في الموطأ أيضا عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أنه بلغه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزوز ومذينيب يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الاعلى على الأسفل
قال ابن عبد البر هذا حديث مدني مشهور عند أهل المدينة معمول به عندهم قال عبد الملك بن حبيب
مهزوز ومذينيب واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر وتتنافس أهل الحوائط في سيلهما، وروى
أبو داود باسناده عن ثعلبة بن أبي مالك أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له سهم في
بني قريظة فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيل مهزوز والسيل الذي يقتسمون ماءه فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان الماء إلى الكعبين لا يحبس الاعلى على الأسفل ولان من أرضه قريبة من فوهة النهر أسبق إلى الماء فكان أولى به
كمن طبق إلى المشرعة فإن كانت أرض صاحب الاعلى مختلفة منها مستعلية ومنها مستفلة سقى كل واحدة منهما على
حدتها، وان استوى اثنان في القرب من أول النهر اقتسما الماء بينهما ان أمكن وان لم يسكن أقرع بينهما فقدم
من تقع له القرعة فإن كان الماء لا يفضل عن أحدهما سقى من تقع له القرعة بقدر حقه من الماء ثم تركه للآخر وليس
له أن يسقي بجميع الماء لأن الآخر يساويه في استحقاق الماء وإنما القرعة للتقديم في استيفاء الحق
لا في أصل الحق بخلاف الاعلى مع الأسفل فإنه ليس للأسفل حق إلا فيما فضل عن الاعلى، فإن كانت
170

أرض أحدهما أكثر من أرض الآخر قسم الماء بينهما على قدر الأرض لأن الزائد من أرض
أحدهما مساو في القرب فاستحق جزءا من الماء كما لو كان لشخص ثالث، وإن كان لجماعة رسم شرب
من نهر غير مملوك أو سيل وجاء إنسان ليحيي مواتا أقرب إلى رأس النهر من أرضهم لم يكن له أن
يسقي قبلهم لأنهم أسبق إلى النهر منه ولان من ملك أرضا ملكها بحقوقها ومرافقها ولا يملك غيره
إبطال حقوقها وهذا من حقوقها، وهل لهم منعه من احياء ذلك الموات؟ فيه وجهان أحدهما ليس لهم
منعه لأن حقهم في النهر لا في الموات والثاني لهم منعه لئلا يصير ذلك ذريعة إلى منعهم حقهم من
السقي لتقديمه عليهم بالقرب إذا طال الزمان وجهل الحال، فإذا قلنا ليس لهم منعه فسبق إنسان إلى
مسيل ماء أو نهر غير مملوك فأحيا في أسفله مواتا ثم أحيا آخر فوقه ثم أحيا ثالث فوق الثاني كان للأسفل
السقي أولا ثم الثاني ثم الثالث ويقدم السبق إلى الاحياء على السبق إلى أول النهر لما ذكرنا
(فصل) الضرب الثاني الماء الجاري في نهر مملوك وهو أيضا قسمان (أحدهما) أن يكون الماء مباح الأصل
مثل أن يحفر إنسان نهرا صغيرا يتصل بنهر كبير مباح فما لم يتصل الحفر لا يملكه إنما هو تحجر
وشروع في الاحياء فإذا اتصل الحفر كمل الاحياء وملكه لأن الملك بالاحياء ان تنتهي العمارة إلى
قصدها بحيث يتكرر الانتفاع بها على صورتها وهذا كذلك وسواء أجرى فيه الماء أو لم يجره لأن الاحياء
يحصل بأن يهيئه للانتفاع به دون حصول المنفعة فيصير مالكا لقرار النهر وحافتيه، وهواؤه حق له
171

وكذلك حريمه وهو ملقي الطين من كل جانب وعند القاضي أن ذلك غير مملوك لصاحب النهر وإنما
هو حق من حقوق الملك وكذلك حريم البئر وهذا مذهب الشافعي، وظاهر قول الخرقي أنه مملوك
لصاحبه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحيا أرضا لم تملك فهي له " واحياؤها ان يحوط عليها حائطا أو
يحفر فيها بئرا فيكون له خمس وعشرون ذراعا حواليها وحريم النهر يجب أن يكون كذلك. فإذا تقرر
هذا فكان النهر لجماعة فهو بينهم على حسب العمل والنفقة لأنه إنما ملك بالعمارة والعمارة بالنفقة فإن
كفى جميعهم فلا كلام وان لم يكفهم وتراضوا على قسمته بالمهايأة أو غيرها جاز لأنه حقهم لا يخرج عنهم وان
تشاحوا
في قسمته قسمه الحاكم بينهم على قدر أملاكهم لأن كل واحد منهم يملك من النهر بقدر ذلك، فتؤخذ خشبة
صلبة أو حجر مستوي الطرفين والوسط فيوضع على موضع مستو من الأرض في مقدم الماء فيه حزوز
أو ثقوب متساوية في السعة على قدر حقوقهم يخرج من كل جزء أو ثقب إلى ساقية مفردة لكل واحد
منهم فإذا حصل الماء في ساقيته انفرد به، فإن كانت أملاكهم مختلفة قسم على قدر ذلك فإذا كان لأحدهم
نصفه وللآخر ثلثه وللآخر سدسه جعل فيه ستة ثقوب لصاحب النصف ثلاثة نصب في ساقيته
ولصاحب الثلث اثنان ولصاحب السدس واحد، وإن كان لواحد الخمسان والباقي لاثنين يتساويان
فيه جعل عشرة ثقوب لصاحب الخمسين أربعة نصب في ساقيته ولكل واحد من الآخرين ثلاثة
نصب في ساقية له فإن كان النهر لعشرة لخمسة منهم أراض قريبة من أول النهر ولخمسة أراض بعيدة
172

جعل لأصحاب القريبة خمسة ثقوب لكل واحد ثقب وجعل للباقين خمسة تجري في النهر حتى تصل إلى
أرضهم ثم تقسم بينهم قسمة أخرى، وان أراد أحدهم أن يجري ماءه في ساقية غيره ليقاسمه في موضع
آخر لم يجز إلا برضاء لأنه يتصرف في ساقيته ويخرب حافتها بغير اذنه ويخلط حقه بحق غيره على
وجه لا يتميز فلم يجز ذلك، ويجئ على قولنا ان الماء لا يملك ان حكم الماء في هذا النهر حكمه في نهر
غير مملوك، وان الأسبق أحق بالسقي منه ثم الذي يليه على ما ذكرنا لأنه غير مملوك فكان الأسبق
إليه أحق به كما لو كان في نهر غير مملوك، ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على نحو مما ذكرنا والله أعلم
(فصل) وإذا حصل نصيب انسان في ساقية فله أن يسقي به ما شاء من الأرض سواء كان لها
رسم شرب من هذا النهر أو لم يكن وله أن يعطيه من يسقي به، وقال القاضي وأصحاب الشافعي ليس
له سقي أرض ليس لها رسم شرب في هذا الماء لأن ذلك دال على أن لها قسما من هذا الماء فربما جعل
سقيها منه دليلا على استحقاقها لذلك فيستضر الشركاء ويصير هذا كما لو كان له دار بابها في درب لا ينفذ
ودار بابها في درب آخر ظهرها ملاصق لظهر داره الأولى فأراد تنفيذ إحداهما إلى الأخرى لم يجز لأنه
يجعل لنفسه استطراقا من كل واحدة من الدارين
ولنا أن هذا ماء انفرد باستحقاقه فكان له أن يسقي مه ما شاء كما لو انفرد به من أصله ولا نسلم
ما ذكروه في الدارين، وان سلمنا فالفرق بينهما أن كل دار يخرج منها إلى درب آخر مشترك لأن
173

الظاهر أن لكل دار سكانا فيجعل لسكان كل واحدة منهما استطراقا إلى درب غير نافذ لم يكن لهم
حق في استطراقه وههنا إنما يسقي من ساقيته المفردة التي لا يشاركه غيره فيها فلو صار لتلك الأرض
رسم من الشرب من ساقيته لم يتضرر بذلك أحد، ولو كان يسقي من هذا النهر بدولاب فأحب أن
يسقي بذلك الماء أرضا لا رسم لها في الشرب من ذلك النهر فالحكم في ذلك على ما ذكرنا من الخلاف
في التي قبلها، وإن كان الدولاب يغرف من نهر غير مملوك جاز أن يسقي بنصيبه من الماء أرضا لا رسم لها في
الشرب منه بغير خلاف نعلمه فإن ضاق الماء قدم الأسبق فالأسبق على ما مضى
(فصل) ولكل واحد منهم أن يتصرف في ساقيته المختصة به بما أحب من اجراء غير هذا
الماء فيها أو عمل رحى عليها أو دولاب أو عبارة وهي خشبة تمد على طرفي النهر أو قطرة يعبر الماء
فيها وغير ذلك من التصرفات لأنها ملكه لا حق لغيره فيها فأما النهر المشترك فليس لواحد منهم أن
يتصرف فيه بشئ من ذلك لأنه يتصرف في النهر المشترك وفي حريمه بغير اذن شركائه، وقال القاضي
في العبارة هذا ينبني على الروايتين فيمن أراد أن يجري ماءه في أرض غيره، والصحيح أنه لا يجوز
ههنا، ولا يصح قياس هذا على اجراء الماء في أرض غيره لأن اجراء الماء في أرض ينفع صاحبها لأنه يسقى
عروق شجره ويشربه أولا وآخرا وهذا لا ينفع النهر بل ربما أفسد حافتيه ولم يسق له شيئا، ولو أراد أحد الشركاء
أن يأخذ من النهر قبل قسمه شيئا يسقي به أرضا في أول النهر أو غيره أو أراد انسان غيرهم ذلك لم يجز لأنهم صاروا
174

أحق بالماء الجاري في نهرهم من غيرهم ولان الاخذ من الماء ربما احتاج إلى تصرف في حافة النهر المملوك
لغيره أو المشترك بينه وبين غيره، ولو فاض ماء هذا النهر إلى ملك انسان فهو مباح كالطائر
يعشش في ملك انسان وهذا كله مذهب الشافعي فيه نحو مما ذكرنا
(فصل) وان قسموا ماء النهر المشترك بالمهايأة جاز إذا تراضوا به وكان حق كل واحد منهم معلوما
مثل أن يجعلوا لكل حصة يوما وليلة أو أكثر من ذلك أو أقل وان قسموا النهار فجعلوا لواحد من
طلوع الشمس إلى وقت الزوال وللآخر من الزوال إلى الغروب ونحو ذلك جاز، وان قسموه ساعات
وأمكن ضبط ذلك بشئ معلوم كطاسة مثقوبة تترك في الماء وفيها علامات إذا انتهى الماء إلى علامة
كانت ساعة وإذا انتهى إلى الأخرى كانت ساعتين أو زجاجة فيها رمل ينزل من أعلاها إلى أسفلها
في ساعة أو ساعتين ثم يقلبها فيعود الرمل إلى الموضع الذي كان فيه في مثل ذلك المقدار أو بميزان
الشمس الذي تعرف به ساعات النهار أو بمنازل القمر في الليل ونحو ذلك جاز فإذا حصل الماء لأحدهم
في نوبته فأراد أن يسقي به أرضا ليس لها رسم شرب من هذا أو يؤثر به انسانا أو يقرضه إياه على
وجه لا يتصرف في حافة النهر جاز، وعلى قول القاضي وأصحاب الشافعي ينبغي ان لا يجوز لما تقدم
في مثل ذلك، وان أراد صاحب النوبة ان يجرى مع مائه ماء له آخر يسقي به أرضه التي لها رسم شرب
175

من هذا النهر أو أرضا له أخرى أو سأله انسان أن يجري ماء له مع مائه في هذا النهر ليقاسمه إياه
في موضع آخر على وجه لا يضر بالنهر ولا بأحد جاز ذلك في قياس قول أصحابنا فإنهم قالوا فيمن
استأجر أرضا جاز أن يجري فيها ماء في نهر محفور إذا كان فيها ولأنه مستحق لنفع النهر في نوبته
باجراء الماء فأشبه ما لو استأجرها لذلك
{فصل} (القسم الثاني) أن يكون منبع الماء مملوكا مثل ان يشترك جماعة في استنباط عين واجرائها
فإنهم يملكونها أيضا لأن ذلك احياء لها ويشتركون فيها وفي ساقيتها على حسب ما أنفقوا عليها وعملوا
فيها كما ذكرنا في القسم الذي قبل هذا الا ان الماء غير مملوك ثم لأنه مباح دخل ملكه فأشبه
ما لو دخل صيد بستانه، وههنا يخرج على روايتين أصحهما أنه غير مملوك أيضا وقد ذكرنا ذلك، وعلى
كل حال فلكل أحد ان يستقي من الماء الجاري لشربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وينتفع به في
أشباه ذلك مما لا يؤثر فيه من غير اذنه إذا لم يدخل إليه في مكان محوط عليه، ولا يحل لصاحبه
المنع من ذلك لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم
ولهم عذاب اليم: رجل كان بفضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل " رواه البخاري، وعن بهيسة عن أبيها
أنه قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال " الماء " قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال
" الملح " قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال " ان تفعل الخير خير لك " رواه أبو داود ولان
176

ذلك لا يؤثر في العادة وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، فاما ما يؤثر فيه كسقي الماشية الكثيرة ونحو
ذلك فإن فضل الماء عن حاجة عن صاحبه لزمه بذله لذلك وان لم يفضل لم يلزمه وقد ذكرنا ذلك في
غير هذا الموضع.
(فصل) إذا كان النهر أو الساقية مشتركا بين جماعة فإن أرادوا إكراءه أو سد باق فيه أو اصلاح حائطه
أو شئ منه كان ذلك عليهم على حسب ملكهم فيه فإن كان بعضهم أدنى إلى أوله من بعض اشترك
الكل في اكرائه واصلاحه إلى أن يصلوا إلى الأول ثم لا شئ على الأول ويشترك الباقون حتى يصلوا
إلى الثاني ثم يشترك من بعده كذلك كلما انتهى العمل إلى موضع واحد منهم لم يكن عليه فيما بعده
شئ وبهذا قال الشافعي وحكى ذلك عن أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يشترك جميعهم في اكرائه كله
لأنهم ينتفعون بجميعه فإن ما جاوز الأول مصب لمائه وان لم يسق أرضه
ولنا أن الأول إنما ينتفع بالماء الذي في موضع شربه وما بعده إنما يختص بالانتفاع به من دونه
فلا يشاركهم في مؤنته كما لا يشاركهم في نفعه فإن كان يفضل عن جميعهم منه ما يحتاج إلى مصرف
فمؤنة ذلك المصرف على جميعهم لأنهم يشتركون في الحاجة إليه والانتفاع به فكانت مؤنته
عليهم كلهم كأوله.
177

{مسألة} قال (واحياء الأرض أن يحوط عليها حائطا)
ظاهر كلام الخرقي أن تحويط الأرض احياء لها سواء أرادها للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو
الخشب أو غير ذلك ونص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد فقال الاحياء أن يحوط عليها حائطا ويحفر.
فيها بئرا أو نهر ا ولا يعتبر في ذلك تسقيف وذلك لما روى الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " من أحاط حائطا على أرض فهي له " رواه أبو داود والإمام أحمد في مسنده، ويروى عن
جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، ولان الحائط حاجز منيع فكان احياء أشبه ما لو جعلها حظيرة للغنم ويبين
هذا أن القصد لا اعتبار به بدليل ما لو أرادها حظيرة للغنم فبناها بجص وآجر وقسمها بيوتا فإنه يملكها
وهذا لا يصنع للغنم مثله، ولا بد أن يكون الحائط منيعا يمنع ما وراءه ويكون مما جرت العادة بمثله
ويختلف باختلاف البلدان فلو كان مما جرت عادتهم بالحجارة وحدها كأهل حوران وفلسطين أو
بالطين كالفطائر لأهل غوطة دمشق أو بالخشب أو بالقصب كاهل الغور كان ذلك احياء، وإن بناه
بارفع مما جرت به عادته كان أولى، وقال القاضي في صفة الاحياء روايتان (إحداهما) ما ذكرنا
(والثانية) الاحياء ما تعارفه الناس احياء لأن الشرع ورد بتعليق الملك على الاحياء ولم يبينه ولا
ذكر كيفيته فيجب الرجوع فيه إلى ما كان احياء في العرف كما أنه لما ورد باعتبار القبض والحرز ولم
يبين كيفيته كان المرجع فيه إلى العرف، ولان الشارع لو علق الحكم على مسمى باسم لتعلق بمسماه عند
أهل اللسان فكذلك يتعلق الحكم بالمسمى احياء عند أهل العرف، ولان النبي صلى الله عليه وسلم
178

لا يعلق حكما على ما ليس إلى معرفته طريق فلما لم يبينه تعين العرف طريقا لمعرفته إذ ليس له طريق
سواه. إذا ثبت هذا فإن الأرض تحيى دارا للسكنى وحظيرة ومزرعة فاحياء كل واحدة من ذلك
بتهيئتها للانتفاع الذي أريدت له، فأما الدار فبأن يبني حيطانها بما جرت به العادة وتسقيفها لأنها
لا تكون للسكنى الا بذلك.
وأما الحظيرة فاحياؤها بحائط جرت به عادة مثلها وليس من شرطها التسقيف لأن العادة ذلك
من غير تسقيف وسواء أرادها حظيرة للماشية أو للخشب أو الحطب أو نحو ذلك، ولو خندق عليها
خندقا لم يكن احياء لأنه ليس بحائط ولا عمارة إنما هو حفر وتخريب، وإن حاطها يشوك وشبهه لم
يكن احياء وكان تحجرا لأن المسافر قد ينزل منزلا ويحوط على رحله بنحو من ذلك، ولو نزل منزلا
فنصب به بيت شعر أو خيمة لم يكن احياء، وإن أرادها للزراعة فبأن يهيئها لامكان الزرع فيها، فإن
كانت لا تزرع الا بالماء فبأن يسوق إليها ماء من نهر أو بئر وإن كانت مما لا يمكن زرعها لكثرة أحجارها
كأرض الحجاز فبأن يقلع أحجارها وينقيها حتى تصلح للزرع، وإن كانت غياضا وأشجارا كأرض
الشعرى فبأن يقلع أشجارها ويزيل عروقها التي تمنع الزرع، وإن كانت مما لا يمكن زرعه الا بحبس الماء
عنها كأرض البطائح التي يفسدها غرقها بالماء لكثرته فاحياؤها بسد الماء عنها وجعلها بحال يمكن
زرعها لأن بذلك يمكن الانتفاع بها فيما أرادها من غير حاجة إلى تكرار ذلك في كل عام فكان احياء
كسوق الماء إلى الأرض التي لا ماء لها
179

ولا يعتبر في احياء الأرض حرثها ولا زرعها لأن ذلك مما يتكر كلما أراد الانتفاع بها فلم يعتبر في
الاحياء كسقيها وكالسكنى في البيوت، ولا يحصل الاحياء بذلك إذا فعله لمجرده لما ذكرنا ولا يعتبر
في احياء الأرض للسكنى نصب الأبواب على البيوت وبهذا قال الشافعي فيما ذكرنا في الرواية الثانية الا
ان له وجها في أن حرثها وزرعها احياء لها وان ذلك معتبر في احيائها ولا يتم بدونه، وكذلك نصب
الأبواب على البيوت لأنه مما جرت العادة به فأشبه التسقيف ولا يصح هذا لما ذكرنا، ولان السكنى
ممكنة بدون نصب الأبواب فأشبه تطيين سطوحها وتبييضها
{مسألة} قال (أو يحفر فيها بئرا فيكون له خمس وعشرون ذراعا حواليها، وإن سبق
إلى بئر عادية فحريمها خمسون ذراعا)
البئر العادية بتشديد الياء القديمة منسوبة إلى عاد ولم يرد عادا بعينها لكن لما كانت عاد في الزمن
الأول وكانت لها أثار في الأرض نسب إليها كل قديم فكل من حفر بئرا في موات للتمليك فله
حريمها خمس وعشرون ذراعا من كل جانب ومن سبق إلى بئر عادية كان أحق بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب " نص احمد
على هذا في رواية حرب وعبد الله واختاره أكثر أصحابنا، وقال القاضي وأبو الخطاب ليس هذا على
طريق التحديد بل حريمها على الحقيقة ما تحتاج إليه في ترقية مائها منها فإن كان بدولاب فقدر مد الثور
180

أو غيره، وإن كان بساقية فبقدر طول البئر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " حريم البئر مد رشائها "
أخرجه ابن ماجة ولأنه المكان الذي تمشي إليه البهيمة، وإن كان يستقي منها بيده فبقدر ما يحتاج
إليه الواقف عندها، وإن كان المستخرج عينا فحريمها القدر الذي يحتاج إليه صاحبها للانتفاع بها ولا
يستضر بأخذه منها ولو على الف ذراع، وحريم البئر من جانبيه ما يحتاج إليه لطرح كرايته بحكم العرف
في ذلك لأن هذا إنما ثبت للحاجة فينبغي أن تراعى فيه الحاجة دون غيرها، وقال أبو حنيفة حريم البئر
أربعون ذراعا، وحريم العين خمسمائة ذراع لأن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " حريم البئر
أربعون ذراعا لا عطان الإبل والغنم " وعن الشعبي مثله ورواه أبو عبيد
ولنا ما روى الدارقطني والخلال باسنادهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " حريم البئر البدي خمس
وعشرون ذراعا وحريم البئر العادي خمسون ذراعا وهذا نص، وروى أبو عبيد باسناده عن يحيي
ابن سعيد الأنصاري أنه قال السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعا والبدي خمس وعشرون
ذراعا، وباسناده عن سعيد بن المسيب قال حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا من نواحيها كلها
وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها وحريم البئر العادية خمسون ذراعا من نواحيها كلها ولأنه
معنى يملك به الموات فلا يقف على قدر الحاجة كالحائط ولان الحاجة إلى البئر لا تنحصر في ترقية الماء فإنه
يحتاج إلى ما حولها عطنا لإبله وموقفا لدوابه وغنمه وموضعا يجعل فيه أحواضا يسقي منها ماشيته، وموقفا
لدابته التي يستقي عليها وأشباه ذلك فلا يختص الحريم بما يحتاج إليه لترقية الماء، وأما حديث أبي حنيفة
181

فحديثنا أصح منه ورواهما أبو هريرة فيدل على ضعفه ماذا ثبت هذا فظاهر كلام الخرقي ان هذا الحريم مملوك
لصاحب البئر، وعند الشافعي والقاضي ليس بمملوك وقد سبق ذكر هذا
(فصل) ولا بد أن يكون البئر فيها ماء، وان لم يصل إلى الماء فهل كالمتحجر الشارع في الاحياء
على ما قدمناه ويجب أن يحمل قوله في البئر العادية على البئر التي انطمت وذهب ماؤها فجدد حفرها
وعمارتها أو انقطع ماؤها فاستخرجه ليكون ذلك احياء لها، وأما البئر التي لها ماء ينتفع به المسلمون
فليس لأحد احتجاره ومنعه لأنه يكون بمنزلة المعادن الظاهرة التي يرتفق بها الناس وهكذا العيون
النابعة ليس لأحد أن يختص بها، ولو حفر رجل بئرا للمسلمين ينتفعون بها أو لينتفع هو بها مدة اقامته
عندها ثم يتركها لم يملكها وكان له الانتفاع بها فإذا تركها صارت للمسلمين كلهم كالمعادن الظاهرة وما دام
مقيما عندها فهو أحق بها لأنه سابق إليها فهو كالمتحجر الشارع في الاحياء
(فصل) وإذا كان لانسان شجرة في موات فله حريمها قدر ما تمد إليه أغصانها حواليها وفي النخلة
مد جريدها لما روى أبو داود باسناده عن أبي سعيد قال اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حريم نخلة فأمر
بجريدة من جرائدها فذرعت فكانت سبعة أذرع أو خمسة أذرع فقضى بذلك وان غرس شجرة في
موات فهي له وحريمها وان سبق إلى شجر مباح كالزيتون والخروب فسقاه وأصلحه فهو أحق به
كالمتحجر الشارع في الاحياء فإن طعمه ملكه بذلك وحريمه لأنه تهيأ للانتفاع به لما يراد منه فهو كسوق
الماء إلى الأرض الموات ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به "
182

(فصل) ومن كانت له بئر فيها ماء فحفر آخر قريبا منها بئرا ينسرق إليها ماء البئر الأولى فليس له
ذلك سواء كان محتفر الثانية في ملكه مثل رجلين متجاوزين في دارين حفر أحدهما في داره بئرا ثم
حفر الآخر بئرا أعمق منها فسرى إليها ماء الأولى أو كانتا في موات فسبق أحدهما فحفر بئرا ثم جاء
آخر فحفر قريبا منها بئرا تجتذب ماء الأولى، ووافق الشافعي في هذا الصورة الثانية لأنه ليس له ان
يبتدي، ملكه على وجه يضر بالمالك قبله، وقال في الأولى له ذلك لأنه تصرف مباح في ملكه فجاز له
فعله كتعلية داره، وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره مثل ان يجعل داره مدبغة
أو حماما يضر بعقار جارة يحيي ناره ورماده ودخانه أو يحفر في أصل حائطه حشا يتأذى جاره
برائحته وغيرها أو يجعل داره مخبزا في وسط العطارين ونحوه من ما يؤذي جيرانه فلا يحل له ذلك
وقال الشافعي له ذلك كله لأنه تصرف مباح في ملكه أشبه بناء، ونقضه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا اضرار " ولأنه احداث ضرر بجاره فلم يجز كالدق الذي
يهز الحيطان ويخربها وكالقاء السماد والتراب ونحوه في أصل حائطه على وجه يضر به ولو كان لرجل
مصنع ماء فأراد جاره غرس شجرة تين أو نحوها مما تسري عروقه فتشق حائطه مصنع جاره ويتلفه
لم يملك ذلك وكان لجاره منعه وقلعها ان غرسها، ولو كان هذا الذي يحصل منه الضرر سابقا مثل من
له في ملكه مدبغة أو مقصرة فأحيا انسان إلى جانبه مواتا وبناه دارا يتضر بذلك لم يلزم إزالة الضرر
بغير خلاف نعلمه لأنه لم يحدث ضررا والله تعالى أعلم
183

{مسألة} قال (وسواء في ذلك ما أحياه أو سبق إليه باذن الإمام أو غير اذنه)
وجملة ذلك أن احياء الموات لم يفتقر إلى اذن الإمام وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال
أبو حنيفة يفتقر إلى اذنه لأن للإمام مدخلا في النظر في ذلك بدليل ان من تحجر مواتا فلم يحيه
فإنه يطالبه بالاحياء أو الترك فافتقر إلى إذنه كمال بيت المال.
ولنا عموم قوله عليه السلام " من أحيا أرضا فهي له " ولأن هذه عين مباحة فلا يفتقر تملكها إلى
اذن الإمام كأخذ الحشيش والحطب، ونظر الإمام في ذلك لا يدل على اعتبار اذنه الا ترى ان من
وقف في مشرعة طالبه الإمام ان يأخذ حاجته وينصرف ولا يفتقر ذلك إلى اذنه، واما مال بيت
المال فإنما هو مملوك للمسلمين وللإمام ترتيب مصارفه فافتقر إلى اذنه بخلاف مسئلتنا فإن هذا مباح فمن
سبق إليه كان أحق الناس به كالحشيش والحطب والصيود والثمار المباحة في الجبال
(فصل) فأما ما سبق إليه فهو الموات إذا سبق إليه فتحجره كان أحق به، وان سبق إلى بئر عادية
فشرع فيها يعمرها كان أحق بها، ومن سبق إلى مقاعد الأسواق والطرقات أو مشارع المياه والمعادن
الظاهرة والباطنة وكل مباح مثل الحشيش والحطب والثمار المأخوذة من الجبال وما ينبذه الناس رغبة
عنه أو يضيع منهم مما لا تتبعه النفس واللقطة واللقيط وما يسقط من الثلج وسائر المباحات من سبق
إلى شئ من هذا فهو أحق به ولا يحتاج إلى اذن الإمام ولا اذن غيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من سبق
إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " والله الموفق
184

كتاب الوقوف والعطايا
الوقوف جمع وقف يقال منه وقفت وقفا ولا يقال أوقفت الا في شاذ اللغة ويقال حبست
وأحبست وبه جاء الحديث " ان شئت حبست أصلها وتصدقت بها " والعطايا جمع عطية مثل خلية وخلايا،
وبلية وبلايا والوقف مستحب ومعناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة
والأصل فيه ما روى عبد الله بن عمر قال: أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره
فيها
فقال يا رسول الله اني أصبت أرضا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس عندي منه فما تأمرني فيها؟ فقال " ان
شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث) قال فتصدق
بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وإن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها
أو يطعم صديقا بالمعروف غير متأثل فيه أو غير متمول فيه. متفق عليه
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية،
أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وأكثر
أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف. قال جابر لم يكن أحد من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة الا وقف، ولم يشرح الوقف وقال لا حبس عن فرائض الله قال أحمد وهذا مذهب
185

أهل الكوفة، وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف لا يلزم بمجرده وللواقف الرجوع فيه الا أن يوصي
به بعد موته فيلزم أو يحكم بلزومه حاكم وحكاه بعضهم عن علي وابن مسعود وابن عباس وخالفه صاحباه
فقالا كقول سائر أهل العلم
واحتج بعضهم بما روي أن عبد الله بن زيد صاحب الاذان جعل حائطه صدقة وجعله إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبواه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله لم يكن لنا عيش الا هذا الحائط فرده رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم ماتا فورثهما، رواه المحاملي في أماليه، ولأنه أخرج ماله على وجه القربة من ملكه فلا
يلزم بمجرد القول كالصدقة وهذا القول يخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجماع الصحابة
رضي الله عنهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في وقفه " لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث "
قال الترمذي رحمه الله: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لا نعلم
بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا
قال الحميدي تصدق أبو بكر رضي الله عنه بداره على ولده، وعمر بربعه عند المروة على ولده،
وعثمان برومة، وتصدق علي بأرضه بينبع، وتصدق الزبير بداره بمكة وداره بمصر وأمواله بالمدينة
على ولده، وتصدق سعد بداره بالمدينة وداره بمصر على ولده، وعمر وبن العاص بالوهط وداره
بمكة عل ولده وحكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده فذلك كله إلى اليوم
186

وقال جابر لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة الا وقف وهذا اجماع منهم فإن الذي
قدر منهم على الوقف وقف واشتهر ذلك فلم ينكره أحد فكان اجماعا، ولأنه إزالة ملك يلزم بالوصية
فإذا تجزه حال الحياة لزم من غير حكم كالعتق. وحديث عبد الله بن زيد إن ثبت فليس فيه ذكر
الوقف والظاهر أنه جعله صدقة غير موقوف استناب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى والديه أحق الناس
بصرفها إليهما ولهذا لم يردها عليه إنما دفعها إليهما ويحتمل أن الحائط كان لهما وكان هو يتصرف فيه
بحكم النيابة عنهما فتصرف بهذا التصرف بغير اذنهما فلم ينفذاه وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فرده
إليهما والقياس على الصدقة لا يصح لأنها تلزم في الحياة بغير حكم حاكم وإنما تفتقر إلى القبض والوقف
لا يفتقر إليه فافترقا.
{مسألة} قال أبو القاسم رحمة الله عليه (ومن وقف في صحة من عقله وبدنه على
قوم وأولادهم وعقبهم ثم آخره للمساكين فقد زال ملكه عنه)
في هذه المسألة فصول ثلاثة (أحدها) أن الوقف إذا صح زال به ملك الواقف عنه في الصحيح
من المذهب وهو المشهور من مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة، وعن أحمد لا يزول ملكه وهو قول
187

مالك، وحكي قولا للشافعي رضي الله عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " حبس الأصل وسيل الثمرة "
ولنا أنه سبب يزيل التصرف في المرقبة والمنفعة فأزال الملك كالعتق، ولأنه لو كان ملكه لرجعت
إليه قيمته كالملك المطلق، وأما الخبر فالمراد به أن يكون محبوسا لا يباع ولا يوهب ولا يورث وفائدة
الخلاف انا إذا حكمنا ببقاء ملكه لزمته مراعاته والخصومة فيه ويحتمل أن يلزمه أرش جنايته كما يفدي
أم الولد سيدها لما تعذر تسليمه بخلاف غير المالك
(الفصل الثاني) أن ظاهر هذا الكلام أنه يزول الملك ويلزم الوقف بمجرد اللفظ به لأن
الوقف يحصل به، وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى لا يلزم الا بالقبض واخراج الواقف له عن يده
وقال الوقف المعروف أن يخرجه من يده إلى غيره ويوكل فيه من يقوم به اختاره ابن أبي موسى وهو
قول محمد بن الحسن لأنه تبرع بمال لم يخرجه عن المالية فلم يلزم بمجرده كالهبة والوصية
ولنا ما رويناه من حديث عمره ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث فلزم بمجرده كالعتق
ويفارق الهبة فإنها تمليك مطلق والوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة فهو بالعتق أشبه فالحاقه به أولى
(الفصل الثالث) أنه لا يفتقر إلى القبول من الموقوف عليه ذكره القاضي، وقال أبو الخطاب
إن كان الوقف على غير معين كالمساكين أو من لا يتصور منه القبول كالمساجد والقناطر لم يفتقر إلى
قبول، وإن كان على آدمي معين ففي اشتراط القبول وجهان (أحدهما) اشتراطه لأنه تبرع لآدمي
188

معين فكان من شرطه القبول كالهبة والوصية يحققه أن الوصية إذا كانت لآدمي معين وقفت على قوله
وإذا كانت لغير معين أو لمسجد أو نحوه لم تفتقر إلى قبول كذا ههنا
(والوجه الثاني) لا يشترط القبول لأنه أحد نوعي الوقف فلم يشترط له القبول كالنوع الآخر،
ولأنه إزالة ملك يمنع البيع والهبة والميراث فلم يعتبر فيه القبول كالعتق وبهذا فارق الهبة والوصية
والفرق بينه وبين الهبة والوصية أن الوقف لا يختص المعين بل يتعلق به حق من يأتي من البطون في
المستقبل فيكون الوقف على جميعهم الا أنه مرتب فصار بمنزلة الوقف على الفقراء الذي لا يبطل برد
واحد منهم ولا يقف على قبوله والوصية لمعين بخلافه وهذا مذهب الشافعي فإذا قلنا لا يفتقر إلى
القبول لم يبطل برده وكان رده وقبوله وعدمهما واحدا كالعتق، وإن قلنا يفتقر إلى القبول فرده من
وقف عليه بطل في حقه وصار كالوقف المنقطع الابتداء يخرج في صحته في حق من سواه وبطلانه
وجهان بناء على تفريق الصفقة فإن قلنا بصحته فهل ينتقل في الحال إلى من بعده أو يصرف في الحال
إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن يموت الذي رده ثم ينتقل إلى من بعده؟ على وجهين وسنذكر ذلك
في الوقف المنقطع الابتداء إن شاء الله تعالى
(فصل) وينتقل الملك في الموقوف إلى الموقوف عليهم في ظاهر المذهب، قال احمد إذا وقف
داره على ولد أخيه صارت لهم وهذا يدل على أنهم ملكوه
189

وروي عن أحمد أنه لا يملك فإن جماعة نقلوا عنه فيمن وقف على ورثته في مرضه يجوز لأنه
لا يباع ولا يورث ولا يصير ملكا للورثة وإنما ينتفعون بغلتها وهذا يدل بظاهره على أنهم لا يملكون
ويحتمل أن يريد بقوله لا يملكون أي لا يملكون التصرف في الرقبة فإن فائدة الملك
وآثاره ثابتة في
الوقف وعن الشافعي من الاختلاف نحو ما حكيناه، وقال أبو حنيفة لا ينتقل الملك في الوقف اللازم
بل يكون حقا لله تعالى لأنه إزالة ملك عن العين والمنفعة على وجه القربة بتمليك المنفعة فانتقل الملك
إلى الله تعالى كالعتق
ولنا أنه سبب يزيل ملك الواقف وجد إلى من يصح تمليكه على وجه لم يخرج المال عن ماليته
فوجب أن ينقل الملك إليه كالهبة والبيع، ولأنه لو كان تمليك المنفعة المجردة لم يلزم كالعارية والسكنى ولم يزل
ملك الواقف عنه كالعارية ويفارق العتق فإنه أخرجه عن المالية وامتناع التصرف في الرقبة لا يمنع الملك كأم الولد
(فصل) وألفاظ الوقف ستة ثلاثة صريحة وثلاثة كناية: فالصريحة وقفت وحبست وسبلت
متى أتى بواحدة من هذه الثلاث صار وقفا من غير انضمام أمر زائد لأن هذه الألفاظ ثبت لها عرف
الاستعمال بين الناس وانضم إلى ذلك عرف الشرع بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " إن شئت حبست أصلها
وسبلت ثمرتها فصارت هذه الألفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق
وأما الكناية فهي تصدقت وحرمت وأبدت فليست صريحة لأن لفظة الصدقة والتحريم مشتركة
190

فإن الصدقة تستعمل في الزكاة والهبات، والتحريم يستعمل في الظهار والايمان ويكون تحريما على نفسه
وعلى غيره والتأييد يحتمل تأييد التحريم وتأييد الوقف ولم يثبت لهذه الألفاظ عرف الاستعمال فلا
يحصل الوقف بمجردها ككنايات الطلاق فيه فإن انضم إليها أحد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها (أحدها)
أن ينضم إليها لفظة أخرى تخلصها من الألفاظ الخمسة فيقول صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة
أو مؤبدة أو يقول هذه محرمة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو مؤبدة (الثاني) أن يصفها بصفات الوقف
فيقول صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث لأن هذه القرينة تزيل الاشتراك (الثالث) أن ينوي الوقف
فيكون على ما نوى الا أن النية تجعله وقفا في الباطن دون الظاهر لعدم الاطلاع على ما في الضمائر فإن
اعترف بما نواه لزم في الحكم لظهوره وان قال ما أردت الوقف فالقول قوله لأنه أعلم بما نوى
(فصل) وظاهر مذهب أحمد ان الوقف يحصل بالفعل مع القرائن الدالة عليه مثل أن يبني مسجدا
ويأذن للناس في الصلاة فيه أو مقبرة ويأذن في الدفن فيها أو سقاية ويأذن في دخولها فإنه قال في رواية
أبي داود وأبي طالب فيمن دخل بيتا في المسجد واذن فيه لم يرجع فيه وكذلك إذا اتخذ المقابر
واذن للناس والسقاية فليس له الرجوع، وهذا قول أبي حنيفة، وذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا
يصير وقفا الا بالقول وهذا مذهب الشافعي وأخذه القاضي من قول أحمد إذ سأله الأثرم عن رجل
أحاط حائطا على أرض ليجعلها مقبرة ونوى بقلبه ثم بدا له العود فقال إن كان جعلها لله فلا يرجع
191

وهذا لا ينافي الرواية الأولى فإنه أراد بقوله إن كان جعلها لله أي نوي بتحويطها جعلها لله فهذا تأكيد
للرواية الأولى وزيادة عليها إذ منعه من الرجوع بمجرد التحويط مع النية وان أراد بقوله جعلها لله
أي اقترنت بفعله قرائن دالة على إرادة ذلك من إذنه للناس في الدفن فيها فهي الرواية الأولي بعينها
وان أراد وقفا بلسانه فيدل بمفهومه على أن الوقف لا يحصل بمجرد التحويط والنية وهذا لا ينافي الرواية
الأولى لأنه في الأولى انضم إلى فعله اذنه للناس في الدفن ولم يوجد ههنا فلا تنافي بينهما ثم لم يعلم مراده
من هذه الاحتمالات فانتفت هذه الرواية وصار المذهب رواية واحدة والله أعلم واحتجوا بان هذا تحبيس
أصل على وجه القربة فوجب أن لا يصح بدون اللفظ كالوقف على الفقراء
ولنا أن العرف جار بذلك وفيه دلالة على الوقف فجاز ان يثبت به كالقول وجرى مجرى من قدم
إلى ضيفه طعاما كان اذنا في أكله ومن ملا خابية ماء على الطريق كان تسبيلا له ومن نثر على الناس نثارا
كان اذنا في التقاطه وأبيح أخذه وكذلك دخول الحمام واستعمال مائه من غير اذن مباح بدلالة الحال وقد
قدمنا في البيع أنه يصح بالمعاطاة من غير لفظ وكذلك الهبة والهدية لدلالة الحال فكذلك ههنا
وأما الوقف على المساكين فلم تجر به عادة بغير لفظ ولو كان شئ جرت به العادة أو دلت الحال
عليه كان كمسئلتنا والله أعلم.
192

{مسألة} قال (ولا يجوز ان يرجع إليه شئ من منافعه)
وجملة ذلك أن من وقف شيئا وقفا صحيحا فقد صارت منافعه جميعها للموقوف عليه وزال عن
الواقف ملكه وملك منافعه فلم يجز ان ينتفع بشئ، منها إلا أن يكون قد وقف شيئا للمسلمين فيدخل
في جملتهم مثل ان يقف مسجدا فله ان يصلي فيه أو مقبرة فله الدفن فيها أو بئرا للمسلمين فله ان يستقي
منها أو سقاية أو شيئا يعم المسلمين فيكون كأحدهم لا نعلم في هذا كله خلافا وقد روي عن عثمان بن عفان
رضي الله عنه أنه سبل بئر رومة وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين
{مسألة} قال (إلا أن يشترط أن يأكل منه فيكون له مقدار ما يشترط)
وجملته ان الواقف إذا اشترط في الوقف أن ينفق منه على نفسه صح الوقف والشرط، نص
عليه احمد. قال الأثرم قيل لأبي عبد الله يشترط في الوقف أني أنفق على نفسي وأهلي منه قال نعم
واحتج قال سمعت ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه عن حجر المدري ان في صدقة رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر، وقال القاضي يصح الوقف رواية واحدة لأن أحمد
نص عليها في رواية جماعة وبذلك قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف والزبير وابن شريح،
وقال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن لا يصح الوقف لأنه إزالة الملك فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه
193

كالبيع والهبة، وكما لو أعتق عبدا بشرط أن يخدمه ولان ما ينفقه على نفسه مجهول فلم يصح اشتراطه
كما لو باع شيئا واشترط أن ينتفع به
ولنا الخبر الذي ذكره الإمام أحمد ولان عمر رضي الله عنه لما وقف قال: ولا بأس على من
وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا غير متمول فيه وكان الوقف في يده إلى أن مات ولأنه إذا وقف
وقفا عاما كالمساجد والسقايات والرباطات والمقابر كان له الانتفاع به فكذلك ههنا، ولا فرق بين أن
يشترط لنفسه الانتفاع به مدة حياته أو مدة معلومة معينة، وسواء قدر ما يأكل منه أو أطلقه فإن عمر
رضي الله عنه لم يقدر ما يأكل الوالي ويطعم إلا بقوله: بالمعروف، وفي حديث صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
انه شرط أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر إلا أنه إذا شرط أن ينتفع به مدة معينة فمات فيها
فينبغي أن يكون ذلك لورثته كما لو باع دارا واشترط أن يسكنها سنة فمات في أثنائها والله أعلم
(فصل) وان شرط أن يأكل أهله منه صح الوقف والشرط لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في
صدقته، وان اشترط أن يأكل من وليه منه ويطعم صديقا جاز لأن عمر رضي الله عنه شرط ذلك في
صدقته التي استشار فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وليها الواقف كان له أن يأكل ويطعم صديقا لأن عمر
ولي صدقته، وان وليها أحد من أهله كان له ذلك لأن حفصة بنت عمر كانت تلي صدقته بعد موته
ثم وليها بعدها عبد الله بن عمر
194

(فصل) وان شرط أن يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه لم يصح الشرط ولا الوقف لا نعلم
فيه خلافا لأنه ينافي مقتضى الوقف ويحتمل أن يفسد الشرط ويصح الوقف بناء على الشروط الفاسدة
في البيع وان شرط الخيار في الوقف فسد، نص عليه احمد وبه قال الشافعي وقال أبو يوسف في رواية عنه
يصح لأن الوقف تمليك المنافع فجاز شرط الخيار فيه كالإجارة
ولنا أنه شرط ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ان له بيعه متى شاء ولأنه إزالة ملك لله
تعالى فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالعتق ولأنه ليس بعقد معاوضة فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالهبة
ويفارق الإجارة فإنها عقد معاوضة وهي نوع من البيع، ولان الخيار إذا دخل في العقد منع ثبوت
حكمه قبل انقضاء الخيار أو التصرف وههنا لو ثبت الخيار لثبت مع ثبوت حكم الوقف ولم يمنع
التصرف فافترقا
(فصل) وان شرط في الوقف أن يخرج من شاء من أهل الوقف ويدخل من شاء من غيرهم
لم يصح لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف فافسده كما لو شرط أن لا ينتفع، وان شرط للناظر أن يعطي من
يشاء من أهل الوقف ويحرم من يشاء جاز لأن ذلك ليس باخراج للموقوف عليه من الوقف وإنما
علق استحقاق الوقف بصفة فكأنه جعل له حقا في الوقف إذا اتصف بإرادة الوالي لعطيته ولم يجعل
له حقا إذا انتفت تلك الصفة فيه فأشبه ما لو وقف على المشتغلين من ولده فإنه يستحق منهم من
195

اشتغل به دون من لم يشتغل، فلو ترك المشتغل الاشتغال زال الاستحقاق، وإذا عاد إليه عاد
استحقاقه والله أعلم
(فصل) إذا جعل علو داره مسجدا دون سفلها أو سفلها دون علوها صح، وقال أبو حنيفة
لا يصح لأن المسجد يتبعه هواءه
ولنا أنه يصح بيعها كذلك يصح وقفه كالدار جميعها ولأنه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له
حق الاستقرار والتصرف فجاز فيما ذكرنا كالبيع
(فصل) وإن جعل وسط داره مسجدا ولم يذكر الاستطراق صح، وقال أبو حنيفة لا يصح
حتى يذكر الاستطراق
ولنا أنه عقد يبيح الانتفاع من ضرورته الاستطراق فصح وإن لم يذكر الاستطراق كما
لو أجر بيتا من داره
(فصل) إذا وقف على نفسه ثم على المساكين أو على ولده ففيه روايتان [إحداهما] لا يصح فإنه
قال في رواية أبي طالب وقد سئل عن هذا فقال لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله وفي سبيل الله فإذا
وقفه عليه حتى يموت فلا أعرفه. فعلى هذه الرواية يكون الوقف عليه باطلا وهل يبطل الوقف على من
بعده؟ على وجهين بناء على الوقف المنقطع الابتداء وهذا مذهب الشافعي لأن الوقف تمليك للرقبة
196

والمنفعة ولا يجوز أن يملك الانسان نفسه من نفسه كما لا يجوز أن يبيع نفسه مال نفسه، ولان الوقف
على نفسه إنما حاصله منع نفسه التصرف في رقبة الملك فلم يصح ذلك كما لو أفرده بأن يقول لا أبيع هذا
ولا أهبه ولا أورثه. ونقل جماعة ان الوقف صحيح اختاره ابن أبي موسى. قال ابن عقيل وهي أصح
وهو قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبي يوسف وابن شريح لما ذكرنا فيما إذا اشترط أن يرجع إليه شئ
من منافعه، ولأنه يصح أن يقف وقفا عاما فينتفع به كذلك إذا خص نفسه بانتفاعه والأول أقيس
{مسألة} قال (والباقي على من وقف عليه وأولاده الذكور والإناث من أولاد
البنين بينهم بالسوية الا أن يكون الواقف فضل بعضهم)
في هذه المسألة فصول أربعة (الأول) انه إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم ونسلهم كان
الوقف بين القوم وأولادهم ومن حدث من نسلهم على سبيل الاشتراك ان لم تقترن به قرينة تقتضي
ترتيبا لأن الواو تقتضي الاشتراك فإذا اجتمعوا اشتركوا ولم يقدم بعضهم على بعض ويشارك الآخر
الأول وإن كان من البطن العاشر، وإذا حدث حمل لم يشارك حتى ينفصل لأنه يحتمل أن لا يكون حملا
فلا يثبت له حكم الولد قبل انفصاله
197

(فصل) فإن قال وقفت على أولادي ثم على المساكين أو قال على ولدي ثم على المساكين أو على
ولد فلان ثم على المساكين فقد روي عن أحمد ما يدل على أنه يكون وقفا على أولاده وأولاد أولاده من
الأولاد البنين ما لم تكن قرينة تصرف عن ذلك، قال المروذي: قلت لأبي عبد الله ما تقول في رجل
وقف ضيعة على ولده فمات الأولاد وتركوا النسوة حوامل؟ فقال كل ما كان من أولاد الذكور بنات
كن أو بنين فالضيعة موقوفة عليهم وما كان من أولاد البنات فليس لهم فيه شئ لأنهم من رجل آخر
وقال أيضا فيمن وقف على ولد علي بن إسماعيل ولم يقل ان مات ولد علي بن إسماعيل دفع إلى ولد ولده
فمات ولد علي بن إسماعيل: دفع إلى ولده أيضا لأن هذا من ولد علي بن إسماعيل. ووجه ذلك أن الله
تعالى قال (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) فدخل فيه ولد البنين وان سفلوا، ولما
قال (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) فتناول ولد البنين وكذلك كل
موضع ذكر الله تعالى الولد دخل فيه ولد البنين فالمطلق من كلام الآدمي إذا خلا عن قرينة ينبغي أن
يحمل علي المطلق من كلام الله تعالى ويفسر بما يفسر به، ولان ولد ولده ولد له بدليل قول الله تعالى
(يا بني آدم ويا بني إسرائيل) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا؟ وقال
" نحن بنو النضر بن كنانة " والقبائل كلها تنسب إلى جدودها، ولأنه لو وقف على ولد فلان وهم قبيلة
دخل فيه ولد البنين فكذلك إذا لم يكونوا قبيلة
198

وقال القاضي وأصحابه لا يدخل فيه ولد الولد بحال سواء في ذلك ولد البنين وولد البنات لأن الولد حقيقة
وعرفا إنما هو ولده لصلبه وإنما يسمى ولد الولد ولدا مجازا ولهذا يصح نفيه فيقال ما هذا ولدي إنما هو ولد ولدي
وان قال على ولدي لصلبي فهو آكد وان قال على ولدي وولد ولدي ثم على المساكين دخل فيه البطن
الأول والثاني ولم يدخل فيه البطن الثالث وان قال على ولدي وولد ولدي وولد ولد ولدي دخل فيه
ثلاث بطون دون من بعدهم وموضع الخلاف المطلق فاما مع وجود دلالة تصرف إلى أحد المحملين
فإنه يصرف إليه بغير خلاف مثل أن يقول على ولد فلان وهم قبيلة ليس فيهم ولد من صلبه فإنه يصرف
إلى أولاد الأولاد بغير خلاف وكذلك أن قال على أولادي أو ولدي وليس له ولد من صلبه أو قال ويفضل ولد الأكبر أو الأعلم على غيرهم أو قال فإذا خلت الأرض من عقبي عاد إلى المساكين أو
قال على ولدي غير ولد البنات أو غير ولد فلان أو قال يفضل البطن الا على على الثاني أو قال الاعلى
فالأعلى وأشباه ذلك فهذا يصرف لفظه إلى جميع نسله وعاقبته وان اقترنت به قرينة تقتضي تخصيص
أولاده لصلبه بالوقف مثل أن يقول على ولدي لصلبي أو الذين يلونني ونحو هذا فإنه يختص بالبطن
الأول دون غيرهم وإذا قلنا بالتعميم فيهم إما للقرينة وإما لقولنا بان المطلق يقتضي التعميم ولم يكن
في لفظه ما يقتضي تشريكا ولا ترتيبا، احتمل أن يكون بينهم كلهم على التشريك لأنهم دخلوا في
اللفظ دخولا واحدا فوجب أن يكون بينهم مشتركا كما لو أقر لهم بدين ويحتمل أن يكون على الترتيب
199

على حسب الترتيب في الميراث وهذا ظاهر كلام أحمد لقوله فيمن وقف على ولد علي بن إسماعيل ولم يقل
إن مات ولد علي بن إسماعيل دفع إلى ولد ولده فمات ولد علي بن إسماعيل وترك ولدا فقال إن مات بعض
ولد علي بن إسماعيل دفع إلى ولده أيضا لأن هذا من ولد علي بن إسماعيل فجعله لولد من مات من ولد علي
بن إسماعيل عند موت أبيه وذلك أن ولد البنين لما دخلوا في قول الله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين) لم يستحق ولد البنين شيئا مع وجود آبائهم واستحقوا عند فقدهم كذا ههنا،
فأما ان وصى لولد فلان وهم قبيلة فلا ترتيب فيه ويستحق الاعلى والأسفل على كل حال
(فصل) وان رتب فقال وقفت هذا على ولدي وولد ولدي ما تناسلوا وتعاقبوا الاعلى فالأعلى
أو الأقرب فالأقرب أو الأول فالأول أو البطن الأول ثم البطن الثاني أو على أولادي ثم على أولاد
أولادي أو على أولادي فإن انقرضوا فعلى أولاد أولادي فكل هذا على الترتيب فيكون على ما شرط ولا
يستحق البطن الثاني شيئا حتى ينقرض البطن كله ولو بقي واحد من البطن الأول كان الجميع له لأن
الوقف ثبت بقوله فيتبع فيه مقتضى كلامه، وان قال على أولادي وأولادهم ما تعاقبوا وتناسلوا على
أنه من مات منهم عن ولد كان ما كان جاريا عليه جاريا على ولده كان ذلك دليلا على الترتيب لأنه
لو اقتضى التشريك لاقتضى التسوية، ولو جعلنا لولد الولد منهما مثل سهم أبيه ثم دفعنا إليه سهم أبيه
صار له سهمان ولغيره سهم وهذا ينافي التسوية ولأنه يفضي إلى تفضيل ولد الابن على الابن والظاهر
200

من إرادة الواقف خلاف هذا فإذا ثبت الترتيب فإنه يترتب بين كل والد وولده فإذا مات عن ولد
انتقل إلى ولده سهمه سواء بقي من البطن الأول أحد أو لم يبق
(فصل) وإن رتب بعضهم دون بعض فقال وقفت على ولدي وولد ولدي ثم على أولادهم أو
على أولادي ثم على أولاد أولادي وأولادهم ما تناسلوا وتعاقبوا، أو قال على أولادي وأولاد أولادي
ثم على أولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا فهو على ما قال يشترك من شرك بينهم بالواو المقتضية للجمع
والتشريك وترتيب من رتبه بحرف الترتيب، ففي المسألة الأولى يشترك الولد وولد الولد ثم إذا
انقرضوا صار لمن بعدهم، وفي الثانية يختص به الولد فإذا انقرضوا صار مشتركا بين من بعدهم، وفي
الثالثة يشترك فيه البطنان الأولان دون غيرهم فإذا انقرضوا اشترك فيه من بعدهم
(فصل) وإن قال وقفت على أولادي ثم على أولاد أولادي على أنه من مات من أولادي عن
ولد فنصيبه لولده أو فنصيبه لاخوته أو لولد ولده أو لولد أخيه أو لأخواته أو لولد أخواته فهو على
ما شرطه، وإن قال من مات منهم عن ولد فنصيبه لولده ومن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لأهل
الوقف وكان له ثلاثة بنين فمات أحدهم عن ابنين انتقل نصيبه إليهما ثم مات الثاني عن غير ولد فنصيبه
لأخيه وابني أخيه بالسوية لأنهم أهل الوقف، ثم إن مات أحد ابني الابن عن غير ولد انتقل نصيبه
201

إلى أخيه وعمه لأنهما أهل الوقف، ولو مات أحد البنين الثلاثة عن غير ولد وخلف أخويه وابني أخ له
فنصيبه لأخويه دون ابني أخيه لأنهما ليس من أهل الوقف ما دام أبوهما حيا فإذا مات أبوهما صار نصيبه لهما
فإذا مات الثالث كان نصيبه لابني أخيه بالسوية ان لم يخلف ولدا وإن خلف ابنا واحدا فله نصيب أبيه
وهو النصف ولا بني عمه النصف لكل واحد الربع، وإن قال من مات منهم عن غير ولد كان ما كان
جاريا عليه جاريا على من هو في درجته فإن كان الواقف مرتبا بطنا بعد بطن كان نصيب الميت عن غير ولد
لأهل البطن الذي هو منه، وإن كان مشتركا بين البطون كلها احتمل أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم
لأنهم في استحقاق الوقف سواء فكانوا في درجته من هذه الجهة ولأننا لو صرفنا نصيبه إلى بعضهم أفضي
إلى تفضيل بعضهم والتشريك يقتضي التسوية، فعلى هذا يكون وجود هذا الشرط كعدمه لأنه لو سكت
عنه كان الحكم فيه كذلك ويحتمل أن يعود نصيبه إلى سائر أهل البطن الذي هو منه لأنهم في درجته في القرب
إلي الجد الذي يجمعهم ويستوي في ذلك اخوته وبنو عمه وبنو بني عم أبيه لأنهم سواء في القرب،
ولأننا لو شركنا بين أهل الوقف كلهم في نصيبه لم يكن في هذا الشرط فائدة، والظاهر أنه قصد شيئا
يفيد، فعلى هذا ان لم يكن في درجته أحد بطل هذا الشرط وكان الحكم فيه كما لو لم يذكره، وإن كان
الوقف على البطن الأول على أنه من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، ومن مات عن غير
ولد انتقل نصيبه إلى من في درجته ففيه ثلاثة أوجه
202

(أحدها) أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم يتساوون فيه سواء كان من بطن واحد أو من
بطون وسواء تساوت أنصباؤهم في الوقف أو اختلفت لما ذكرنا من قبل
(والثاني) أن يكون لأهل بطنه سواء كانوا من أهل الوقف أو لم يكونوا مثل أن يكون البطن
الأول ثلاثة فمات أحدهم عن ابن ثم مات الثاني عن ابنين فمات أحد الابنين وترك أخاه وعمه وابن
عمه وابنا لعمه الحي فيكون نصيبه بين أخيه وابني عمه
(والثالث) أن يكون لأهل بطنه من أهل الوقف فيكون نصيبه على هذا لأخيه وابن عمه الذي
مات أبوه، فإن كان في درجته في النسب من ليس من أهل الاستحقاق بحال كرجل له أربعة بنين
وقف على ثلاثة منهم على هذا الوجه المذكور وترك الرابع فمات أحد الثلاثة عن غير ولد لم يكن للرابع
فيه شئ لأنه ليس من أهل الاستحقاق فأشبه ابن عمهم
(فصل) وان وقف علي بنيه وهم ثلاثة على أن من مات من فلان وفلان وأولادهم عن ولد
فنصيبه لولده وان مات فلان فنصيبه لأهل الوقف فهو على ما شرط، وكذلك أن كان له بنون وبنات
فقال من مات من الذكور فنصيبه لولده ومن مات من البنات فنصيبها لأهل الوقف فهو على ما قال
وإن قال على أولادي على أن يصرف إلى البنات منه الف والباقي للبنين لم يستحق البنون شيئا حتى
تستوفى البنات الألف لأنه جعل للبنات مسمى وجعل للبنين الفاضل عنه فكان الحكم فيه على ما قال
203

فجعل البنات كذوي الفروض الذين سمى الله لهم فرضا وجعل البنين كالعصبات الذين لا يستحقون
الا ما فضل عن ذوي الفروض
(فصل) فإن كان له ثلاثة بنين فقال وقفت على ولدي فلان وفلان وعلى ولد ولدي كان
الوقف على الابنين المسميين وعلى أولادهما وأولاد الثالث وليس للثالث شئ، وقال القاضي يدخل
الثالث في الوقف وذكر أن أحمد قال في رجل قال وقفت هذه الضيعة على ولدي فلان وفلان وعلى
ولد ولدي وله ولد غير هؤلاء قال يشتركون في الوقف، واحتج القاضي بان قوله ولدي يستغرق الجنس
فيعم الجميع وقوله فلان وفلان تأكيد لبعضهم فلا يوجب اخراج بقيتهم كالعطف في قوله (من كان
عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال)
ولنا أنه أبدل من اللفظ المتناول للجميع فاختص بالبعض المبدل كما لو قال على ولدي
فلان وذلك لأن بدل البعض يوجب اختصاص الحكم به كقول الله تعالى (ولله على الناس حج البيت
من استطاع إليه سبيلا) لما خص المستطيع بالذكر اختص الوجوب به ولو قال ضربت زيدا رأسه ورأيت
زيدا وجهه اختص الضرب بالرأس والرؤية بالوجه ومنه قول الله تعالى (ويجعل الخبيث بعضه على
بعض) وقول القائل طرحت الثياب بعضها فوق بعض فإن الفوقية تختص بالبعض مع عموم اللفظ الأول
كذا ههنا، وفارق العطف فإن عطف الخاص على العام يقتضي تأكيده لا تخصيصه وقول أحمد هم
204

شركاء يحتمل أن يعود إلى أولاد أولاده أي يشترك أولاد الموقوف عليهما وأولاد غيرهم لعموم لفظ
الواقف فيهم ويتعين حمل كلامه عليه لقيام الدليل عليه، ولو قال على ولدي فلان وفلان ثم على المساكين
خرج فيه من الخلاف مثل ما ذكرنا ويحتمل ان يدخل في الوقف ولد ولده لأننا قد ذكرنا من قبل
ان ظاهر كلام أحمد أن قوله وقفت على ولدي يتناول نسله وعاقبته كلها
(فصل) ومن وقف على أولاده أو أولاد غيره وفيهم حمل لم يستحق شيئا قبل انفصاله لأنه
لم نثبت له أحكام الدنيا قبل انفصاله قال أحمد في رواية جعفر بن محمد فيمن وقف نخلا على قوم
وما توالدوا ثم ولد مولود فإن كانت النخل قد أبرت فليس له فيه شئ وهو للأول وان لم تكن قد
أبرت فهو معهم وإنما قال ذلك لأنها قبل التأبير تتبع الأصل في البيع وهذا الموجود يستحق نصيبه من
الأصل فيتبعه حصته من الثمرة كما لو اشترى ذلك النصيب من الأصل وبعد التأبير لا تتبع الأصل
ويستحقها من كان له الأصل فكانت للأول لأن الأصل كان كله له فاستحق ثمرته كما لو باع هذا
النصيب منها ولم يستحق المولود منها شيئا كالمشتري وهكذا الحكم في سائر ثمر الشجر الظاهر فإن
المولود لا يستحق منه شيئا ويستحق مما ظهر بعد ولادته، وإن كان الوقف أرضا فيها زرع يستحقه
البائع فهو للأول وإن كان مما يستحقه المشتري فللمولود حصته منه لأن المولود يتجدد استحقاقه
للأصل كتجدد ملك المشتري فيه
205

(الفصل الثاني) إذا وقف على قوم وأولادهم وعاقبتهم ونسلهم دخل في الوقف ولد البنين بغير
خلاف نعلمه فاما ولد البنات فقال الخرقي لا يدخلون فيه وقد قال أحمد فيمن وقف على ولده ما كان
من ولد البنات فليس لهم فيه شئ فهذا النص يحتمل أن يعدى إلى هذه المسألة ويحتمل أن يكون
مقصورا على من وقف على ولده ولم يذكر ولد ولده وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، ومن قال لا يدخل
ولد البنات في الوقف الذي على أولاده وأولاد أولاده مالك ومحمد بن الحسن وهكذا إذا قال على
ذريتهم ونسلهم وقال أبو بكر وعبد الله بن حامد يدخل فيه ولد البنات وهو مذهب الشافعي وأبي
يوسف لأن البنات أولاده فأولادهن أولاد حقيقة فيجب أن يدخلوا في الوقف لتناول اللفظ لهم،
وقد دل على صحة هذا قول الله تعالى (ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله
وعيسى) وهو من ولد بنته فجعله من ذريته وكذلك ذكر الله تعالى قصة عيسى وإبراهيم وموسى
وإسماعيل وإدريس ثم قال (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع
نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل) وعيسى معهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم للحسن " ان ابني هذا سيد " وهو
ولد بنته ولما قال الله تعالى (وحلائل أبنائكم) دخل في التحريم حلائل أبناء البنات ولما حرم الله
تعالى البنات دخل في التحريم بناتهن
ووجه قول الخرقي ان الله تعالى قال (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) فدخل فيه
206

ولد البنين دون ولد البنات وهكذا كل موضع ذكر فيه الولد في الإرث والحجب دخل فيه ولد البنين دون
ولد البنات ولأنه لو وقف على ولد رجل وقد صاروا قبيلة دخل فيه ولد البنين دون ولد البنات بالاتفاق
وكذلك قبل أن يصيروا قبيلة ولأنه لو وقف على ولد العباس في عصرنا لم يدخل فيه ولد بناته فكذلك إذا
وقف عليهم في حياته ولان ولد البنات منسوبون إلى آبائهم دون أمهاتهم قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وقولهم انهم أولاد أولاد حقيقة قلنا الا أنهم لا ينسبون إلى الواقف عرفا ولذلك لو قال أولاد
أولادي المنتسبين إلي لم يدخل هؤلاء في الوقف، ولان ولدا الهاشمية من غير الهاشمي ليس بهاشمي
ولا ينسب إلى أبيها، واما عيسى عليه السلام فلم يكن له أب ينسب إليه فنسب إلى أمه لعدم أبيه ولذلك
يقال عيسى بن مريم، وغيره إنما ينسب أبيه كيحيى بن زكريا وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن ابني هذا سيد، تجوز
بغير خلاف بدليل قول الله تعالى (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) وهذا الخلاف فيما إذا لم يوجد
ما يدل على تعيين أحد الامرين. فأما ان وجد ما يصرف اللفظ إلى أحدهما انصرف إليه ولو قال
على أولادي وأولاد أولادي على أن لولد البنات سهما ولولد البنين سهمين أو فإذا خلت الأرض ممن
يرجع نسبه إلي من قبل أب أو أم كان المساكين أو كان البطن الأول من أولاده الموقوف عليهم كلهم
بنات وأشباه هذا مما يدل على إرادة ولد البنات بالوقف دخلوا في الوقف، وان قال على أولادي وأولاد
207

أولادي المنتسبين إلي أو غير ذوي الأرحام أو نحو ذلك لم يدخل فيه ولد البنات، وان قال على ولدي
فلان وفلانة وفلانة وأولادهم دخل فيه ولد البنات، وكذلك لو قال على أنه من مات منهم عن ولد
فنصيبه لولده، وان قال الهاشمي وقفت على أولادي وأولاد أولادي الهاشميين لم يدخل في الوقف
من أولاد بناته من كان غير هاشمي، فاما من كان هاشميا من غير أولاد بنيه فهل يدخلون؟ على وجهين
(أولاهما) أنهم يدخلون لأنهم اجتمع فيهم الصفتان جميعا كونهم من أولاد أولاد وكونهم هاشميين (والثاني)
لا يدخلون لأنهم لم يدخلوا في مطلق أولاد أولاده فأشبه ما لو لم يقل الهاشميين وان قال على أولادي
وأولاد أولادي ممن ينسب إلى قبيلتي فكذلك
(الفصل الثالث) انه إذا وقف على أولاد رجل وأولاد أولاده استوى فيه الذكر والأنثى لأنه
تشريك بينهم واطلاق التشريك يقتضي التسوية كما لو أقر لهم بشئ وكولد الام في الميراث حين
شرك الله تعالى بينهم فيه فقال (فهم شركاء في الثلث) تساووا فيه ولم يفضل بعضهم على بعض وليس كذلك
في ميراث ولد الأبوين وولد الأب فإن الله تعالى قال (فإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ
الأنثيين) ولا أعلم في هذا خلافا
(الفصل الرابع) أنه إذا فضل بعضهم على بعض فهو على ما قال فلو قال وقفت على أولادي
وأولاد أولادي على أن للذكر سهمين وللأنثى سهما أو للذكر مثل حظ الأنثيين أو على حسب ميراثهم
208

أو على حسب فرائضهم أو بالعكس من هذا أو على أن للكبير ضعف ما للصغير أو للعالم ضعف ما
للجاهل أو للعائل ضعف ما للغنى أو عكس ذلك أو عين بالتفضيل واحدا معينا أو ولده أو ما أشبه
هذا فهو على ما قال لأن ابتداء الوقف مفوض إليه فكذلك تفضيله وترتيبه، وكذلك أن شرط اخراج
بعضهم بصفة ورده بصفة مثل ان يقول من تزوج منهم فله ومن فارق فلا شئ له أو عكس ذك أو
من حفظ القرآن فله ومن نسيه فلا شئ له ومن اشتغل بالعلم فله ومن ترك فلا شئ له أو من كان
على مذهب كذا فله ومن خرج منه فلا شئ له فكل هذا صحيح على ما شرط، وقد روى هشام بن عروة
أن الزبير جعل دوره صدقة علي بنيه لا نباع ولا توهب وان المردودة من بناته أن تسكن غير مضرة
ولا مضر بها فإن استغنت بزوج فلا حق لها في الوقف وليس هذا تعليقا للوقف بصفة بل الوقف مطلق
والاستحقاق له بصفة وكل هذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا
(فصل) والمستحب أن يقسم الوقف على أولاده على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم للذكر
مثل حظ الأنثيين. وقال القاضي: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى لأن القصد القربة على وجه
الدوام وقد استووا في القرابة
209

ولنا انه إيصال للمال إليهم فينبغي أن يكون بينهم على حسب الميراث كالعطية ولان الذكر في مظنة
الحاجة أكثر من الأنثى لأن كل واحد منهما في العادة يتزوج ويكون له الولد فالذكر تجب عليه نفقة
امرأته وأولاده والمرأة ينفق عليها زوجها ولا يلزمها نفقة أولادها، وقد فضل الله الذكر على الأنثى
في الميراث على وفق هذا المعنى فيصح تعليله به ويتعدى إلى الوقف وإلى غيره من العطايا والصلات
وما ذكره القاضي لا أصل له وهو ملغي بالميراث والعطية، فإن خالف فسوى بين الذكر والأنثى أو
فضلها عليه أو فضل بعض البنين أو بعض البنات على بعض أو خص بعضهم بالوقف دون بعض فقال
أحمد في رواية محمد بن الحكم: إن كان على طريق الأثرة فأكرهه وإن كان على أن بعضهم له عيال وبه حاجة
يعني فلا بأس به. ووجه ذلك أن الزبير خص المردودة من بناته دون المستغنية منهن بصدقته، وعلى
قياس قول أحمد لو خص المشتغلين بالعلم من أولاده بوقفه تحريضا لهم على طلب العلم أو ذا الدين دون
الفساق أو المريض أو من له فضل من أجل فضيلته فلا بأس. وقد دل على صحة هذا ان أبا بكر الصديق
رضي الله عنه نجل عائشة جذاذ عشرين وسقا دون سائر ولده، وحديث عمر انه كتب: بسم الله
الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله أمير المؤمنين ان حدث به حدث ان ثمغا وصرمة بن
الأكوع والعبد الذي فيه والمائة سهم التي بخيبر ورقيقه الذي فيه الذي أطعمه محمد صلى الله على وسلم بالواد تليه حفصة
ما عاشت ثم يليه ذو الرأي من أهلها أن لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث رأى من السائل و المحروم وذوي
القربى لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه. رواه أبو داود وفيه دليل على تخصيص
حفصة دون إخوتها وأخواتها
210

{مسألة} قال (فإذا لم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين)
يعني إذا وقف على قوم ونسلهم ثم على المساكين فانقرض القوم ونسلهم فلم يبق منهم أحد رجع إلى
المساكين ولم ينتقل إليهم ما دام أحد من القوم أو من نسلهم باقيا لأنه رتبه للمساكين بعدهم، والمساكين
الذين يستحقون السهم من الزكاة، والفقراء يدخلون فيهم وكذلك لفظ الفقراء يدخل فيه المساكين لأن واحد من اللفظين يطلق عليهما، والمعنى الذي يسميان به شامل لهما وهو الحاجة والفاقة ولهذا لما
سمى الله عز وجل المساكين في مصرف كفارة اليمين وكفارة الظاهر وفدية الأذى تناولهما جميعا
وجاز الصرف إلى كل واحد منهما، ولما ذكر الفقراء في قوله (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله)
وفي قوله (وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) تناول القسمين، وكل موضع ذكر فيه أحد اللفظين تناول القسمين
الا في الصدقات لأن الله تعالى جمع بين الاسمين وميز بين المسميين فاحتجنا إلى التمييز بينهما، وفي
غير الصدقات يستحق الكل بكل واحد من الاسمين فإن جمع بين الاسمين، بالوقف أيضا فقال وقفت
هذا على الفقراء والمساكين نصفين أو ثلاثا وجب التمييز بينهما أيضا فنزلناهما منزلتهما من سهام
الصدقات، وان قال على الفقراء والمساكين فقياس المذهب جواز الاقتصار على أحد الصنفين وإباحة
الدفع إلى واحد كما قلنا في الزكاة، ويتخرج أن لا يجوز الدفع إلى أقل من ثلاثة من كل صنف بناء على
211

القول في الزكاة أيضا. ولا خلاف في أنه لا يجب تعميمهم بالعطية كما لا يجب استيعابهم بالزكاة ولا في أنه
يجوز التفضيل بين من يعطيه منهم سواء كانوا ذكورا أو إناثا أو كان الوقف ابتداء أو انتقل إليهم
عن غيرهم، وضابط هذا انه متى كان الوقف على من يمكن حصرهم واستيعابهم والتسوية بينهم وجب
استيعابهم والتسوية بينهم إذا لم يفضل الواقف بعضهم على بعض، فإن وقف على من لا يمكن حصرهم
كالمساكين أو قبيلة كبيرة كبني تميم وبني هاشم جاز الدفع إلى واحد والى أكثر منه وجاز التفضيل والتسوية
لأن وقفه عليهم مع علمه يتعذر استيعابهم دليل على أنه لم يرده ومن جاز حرمانه جاز تفضيل غيره عليه،
فإن كان الوقف في ابتدائه على من يمكن استيعابه فصار ممن لا يمكن استيعابه كرجل وقف على ولده
وولد ولده فصاروا قبيلة كبيرة تخرج عن الحصر مثل أن يقف علي رضي الله عنه على ولده ونسله فإنه
يجب تعميم من أمكن منهم والتسوية بينهم لأن التعميم كان واجبا وكذلك التسوية فإذا تعذر وجب
منه ما أمكن كالواجب الذي يعجز عن بعضه ولان الواقف أراد التعميم والتسوية لامكانه وصلاح لفظه
لذلك فيجب العمل بما أمكن منه بخلاف ما إذا كانوا حال الوقف مما لا يمكن ذلك فيهم
(فصل) وان وقف على سبيل الله أو ابن السبيل أو الرقاب أو الغارمين فهم الذين يستحقون
السهم من الصدقات لا يعدوهم إلى غيرهم لأن المطلق من كلام الآدميين محمول على المعهود في الشرع
فينظر من كان يستحق السهم من الصدقات فالوقف مصروف إليه وشرحهم يأتي في موضعه إن شاء الله
212

تعالى، وإن وقف على الأصناف الثمانية الذين يأخذون الصدقات صرف إليهم ويعطى كل واحد منهم
من الوقف مثل القدر الذي يعطي من الزكاة لا يزاد على ذلك فيعطى الفقير والمسكين ما يتم به غناؤه
والغارم قدر ما يقضي غرمه، والمكاتب قدر ما يؤدي به كتابته، وابن السبيل ما يبلغه، والغازي
ما يحتاج إليه لغزوه وإن كان غنيا، واختلف في قدر ما يحصل به الغنى فقال احمد في رواية علي بن
سعيد في الرجل يعطى من الوقف خمسين درهما فقال إن كان الواقف ذكر في كتابه المساكين فهو
مثل الزكاة، وإن كان متطوعا أعطى ما شاء وكيف شاء فقد نص احمد على إلحاقه بالزكاة فيكون الخلاف
فيه كالخلاف في الزكاة والله أعلم، وان وقف على جميع الأصناف أو على صنفين أو أكثر فهل يجوز الاقتصار
على صنف واحد أو يجب اعطاء بعض كل صنف من الموقوف عليه؟ على وجهين بناء على الزكاة
(فصل) وإذا وقف على سبيل الله وسبيل الثواب وسبيل الخير فسبيل الله هو الغزو والجهاد في
سبيل الله فيصرف ثلث الوقف إلى من يصرف إليهم السهم من الزكاة وهم الغزاة الذين لا حق لهم في
الديوان وان كانوا أغنياء، وسائر الوقف يصرف إلى كل ما فيه أجر ومثوبة وخير لأن اللفظ عام
في ذلك، وقال أصحابنا يجزأ الوقف ثلاثة أجزاء فجزء يصرف إلى الغزاة وجزء يصرف إلى أقرب
الناس إليه من الفقراء لأنهم أكثر الجهات ثوابا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صدقتك علي ذي القرابة صدقة
وصلة " والثالث يصرف إلى من يأخذ الزكاة لحاجته وهم خمسة أصناف: الفقراء والمساكين والرقاب
213

والغارمون لمصلحتهم وابن السبيل لأن هؤلاء أهل حاجة منصوص عليهم في القرآن فكان من نص الله تعالى
عليه في كتابه أولى من غيره، وان ساواه في الحاجة وهذا مذهب الشافعي
ولنا ان لفظه عام فلا يجب التخصيص بالبعض لكونه أولى كالفقراء والمساكين في الزكاة لا يجب
تخصيص أقاربه منهم بها وإن كانوا أولى، وكذلك سائر الألفاظ العامة، وإن أوصي في أبواب البر
صرف في كل ما فيه بر وقربة، وقال أصحابنا يصرف في أربعة جهات: أقاربه غير الوارثين والمساكين
والجهاد والحج قال أبو الخطاب وعنه فداء الاسراء مكان الحج ووجه القولين ما تقدم في التي قبلها
{مسألة} قال (فإن لم يجعل آخره للمساكين ولم يبق ممن وقف عليه أحد رجع إلى
ورثة الواقف في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله، والرواية الأخرى يكون وقفا
على أقرب عصبة الواقف)
وجملة ذلك أن الوقف الذي لا اختلاف في صحته ما كان معلوم الابتداء والانتهاء غير منقطع
مثل أن يجعل على المساكين أو طائفة لا يجوز بحكم العادة انقراضهم، وإن كان غير معلوم الانتهاء
مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة ولم يجعل آخره للمساكين ولا لجهة غير منقطعة فإن
الوقف يصح وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي في أحد قوليه، وقال محمد بن الحسن لا يصح.
214

وهو القول الثاني للشافعي لأن الوقف مقتضاه التأبيد فإذا كان منقطعا صار وقفا على مجهول فلم يصح
كما لو وقف على مجهول في الابتداء
ولنا انه تصرف معلوم المصرف فصح كما صرح بمصرفه المتصل ولان الاطلاق إذا كان له عرف
حمل عليه كنقد البلد وعرف المصرف وههنا هم أولى الجهات به فكأنه عينهم. إذا ثبت هذا فإنه ينصرف
عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف وبه قال الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى انه
ينصرف إلى المساكين واختاره القاضي والشريف أبو جعفر لأنه مصرف الصدقات وحقوق الله تعالى
من الكفارات ونحوها فإذا وجدت صدقة غير معينة المصرف انصرفت إليهم كما لو نذر صدقة مطلقة
وعن أحمد رواية ثالثة انه يجعل في بيت مال المسلمين لأنه مال لا مستحق له فأشبه مال من لا وارث له
وقال أبو يوسف يرجع إلى الواقف وإلى ورثته إلا أن يقول صدقة موقوفة ينفق منها على فلان وعلى فلان
فإذا انقرض المسمى كانت للفقراء والمساكين لأنه جعلها صدقة على مسمى فلا تكون على غيره ويفارق
ما إذا قال ينفق منها على فلان وفلان فإنه جعل الصدقة مطلقة
ولما أنه أزال ملكه لله تعالى فلم يجز أن يرجع إليه كما لو أعتق عبدا، والدليل على صرفه إلى
أقارب الواقف انهم أولى الناس بصدقته بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " صدقتك على غير رحمك صدقة
وصدقتك على رحمك صدقة وصلة " وقال " انك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة
215

يتكفلون الناس ولان فيه اغناؤهم وصلة أرحامهم لأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات
كذلك صدقته المنقولة. إذا ثبت هذا فإنه في ظاهر كلام الخرقي وظاهر كلام احمد يكون للفقراء منهم والأغنياء
لأن الوقف لا يختص الفقراء ولو وقف على أولاده تناول الفقراء والأغنياء كذا ههنا وفيه وجه آخر
انه يختص الفقراء منهم لأنهم أهل الصدقات دون الأغنياء ولأنا خصصناهم بالوقف لكونهم أولى
الناس بالصدقة وأولى الناس بالصدقة الفقراء دون الأغنياء واختلفت الرواية فيمن يستحق الوقف من أقرباء
الواقف ففي إحدى الروايتين يرجع إلى الورثة منهم لأنهم الذين صرف الله تعالى إليهم ماله بعد موته واستغنائه
عنه فكذلك يصرف إليهم من صدقته ما لم يذكر له مصرفا ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنك إن تترك ورثتك
أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم ويكون وقفا
عليهم نص عليه أحمد وذكره القاضي لأن الوقف يقتضي التأبيد، وإنما صرفناه إلى هؤلاء لأنهم أحق
الناس بصدقته فصرف إليهم مع بقائه صدقة، ويحتمل كلام الخرقي أن يصرف إليهم على سبيل الإرث ويبطل
الوقف فيه. فعلى هذا يكون كقول أبي يوسف (والرواية الثانية) يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف
دون بقية الورثة من أصحاب الفروض ودون البعيد من العصبات فيقدم الأقرب فالأقرب على حسب
استحقاقهم لولاء الموالي لأنهم خصوا بالعقل عنه وبميراث مواليه فخصوا بهذا أيضا، وهذا لا يقوي
عندي فإن استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس لا يكون الا بدليل من نص أو إجماع أو قياس ولا
216

نعلم فيه نصا ولا إجماعا ولا يصح قياسه على ميراث ولاء الموالي لأن علته لا تتحقق هاهنا وأقرب
الأقوال فيه صرفه إلى المساكين لأنهم مصارف مال الله تعالى وحقوقه فإن كان في أقارب الواقف
مساكين كانوا أولى به لا على سبيل الوجوب كما أنهم أولى بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم ولأننا
إذا صرفناه إلى أقاربه على سبيل التعيين فهي أيضا جهة منقطعة فلا يتحقق اتصاله إلا بصرفه إلى
المساكين، وقال الشافعي يكون وقفا على أقرب الناس إلى الواقف الذكر والأنثى فيه سواء
(فصل) فإن لم يكن للواقف أقارب أو كان له أقارب فانقرضوا صرف إلى الفقراء والمساكين
وقفا عليهم لأن القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام وإنما قدمنا الأقارب على المساكين
لكونهم أولى فإذا لم يكونوا فالمساكين أهل لذلك فصرف إليهم الا على قول من قال إنه يصرف إلى
ورثة الواقف ملكا لهم فإنه يصرف عند عدمهم إلى بيت المال لأنه بطل الوقف فيه بانقطاعه وصار
ميراثا لا وارث له فكان بيت المال به أولى.
(فصل) فإن قال وقفت هذا وسكت أو قال صدقة موقوفة ولم يذكر سبيله فلا نص فيه وقال
ابن حامد يصح الوقف قال القاضي هو قياس قوله أحمد فإنه قال في النذر المطلق ينعقد موجبا لكفارة
يمين وهذا قول مالك والشافعي في أحد قوليه لأنه إزالة ملك على وجه القربة فوجب أن يصح مطلق
كالأضحية والوصية ولو قال وصيت بثلث مالي صح وإذا صح صرف إلى مصارف الوقف المنقطع
بعد انقراض الموقوف عليه
217

(فصل) وان وقف على من يجوز الوقف عليه ثم على من لا يجوز الوقف عليه مثل أن يقف
على أولاده ثم على البيع صح الوقف أيضا ويرجع بعد انقراض من جاز الوقف عليه إلى من يصرف
إليه الوقف المنقطع لأن ذكره لمن لا يجوز الوقف عليه وعدمه واحد ويحتمل أن لا يصح الوقف لأنه
جمع بين ما يجوز وما لا يجوز فأشبه تفريق الصفقة
(فصل) وإن كان الوقف منقطع الابتداء مثل أن يقفه على من لا يجوز الوقف عليه كنفسه أو
أم ولده أو عبده أو كنيسة أو مجهول فإن لم يذكر له مآلا يجوز الوقف عليه فالوقف باطل وكذلك
ان جعل مآله مما لا يجوز الوقف عليه لأنه أخل بأحد شرطي الوقف فبطل كما لو وقف ما لا يجوز وقفه
وان جعل له مآلا يجوز الوقف عليه مثل أن يقفه على عبده ثم على المساكين ففي صحته وجهان
بناء على تفريق الصفقة وللشافعي فيه قولان كالوجهين فإذا قلنا يصح وهو قول القاضي وكان من
لا يجوز الوقف عليه ممن لا يمكن اعتبار انقراضه كالميت والمجهول والكنائس صرف في الحال إلى من
يجوز الوقف عليه لأننا لما صححنا الوقف مع ذكر ما لا يجوز الوقف عليه فقد ألغيناه فإنه يتعذر التصحيح
مع اعتباره وإن كان من لا يجوز الوقف عليه يمكن اعتبار انقراضه كأم ولده وعبد معين ففيه وجهان
(أحدهما) أنه ينصرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه كالتي قبلها ذكره أبو الخطاب (والثاني) أنه
يصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه فإذا انقرض
218

صرف إلى من يجوز وهذا الوجه الذي ذكره القاضي وابن عقيل لأن الواقف إنما جعله وقفا على
من يجوز بشرط انقراض هذا فلا يثبت بدونه وفارق ما لا يمكن اعتبار انقراضه فإنه تعذر اعتباره ولأصحاب
الشافعي وجهان كهذين:
(فصل) وإن كان الوقف صحيح الطرفين منقطع الوسط مثل ان يقف على ولده ثم على عبيده
ثم على المساكين خرج في صحة الوقف وجهان كمنقطع الانتهاء ثم ينظر فيما لا يجوز الوقف عليه فإن لم
يمكن اعتبار انقراضه ألغيناه إذا قلنا بالصحة وان أمكن اعتبار انقراضه فهل يعتبر أو يلغى؟ على وجهين
كما تقدم وإن كان منقطع الطرفين صحيح الوسط كرجل وقف على عبيده ثم على أولاده ثم على الكنيسة
خرج في صحته أيضا وجهان ومصرفه بعد من يجوز إلى مصرف الوقف المنقطع
{مسألة} قال (ومن وقف في مرضه الذي مات فيه أو قال هو وقف بعد موتي ولم
يخرج من الثلث وقف منه يقدر الثلث الا ان تجيز الورثة)
وجملته ان الوقف في مرض الموت بمنزلة الوصية في اعتباره من ثلث المال لأنه تبرع فاعتبر في
مرض الموت من الثلث كالعتق والهبة وإذا خرج من الثلث جاز من غير رضا الورثة ولزم وما زاد
219

على الثلث لزم الوقف منه في قدر الثلث ووقف الزائد على إجازة الورثة لا لعلم في هذا خلافا عند
القائلين بلزوم الوقف وذلك لأن حق الورثة تعلق بالمال بوجود المرض فمنع التبرع بزيادة على الثلث
كالعطايا والعتق فاما إذا قال هو وقف بعد موتي فظاهر كلام الخرقي أنه يصح ويعتبر من الثلث كسائر
الوصايا وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وقال القاضي لا يصح هذا لأنه تعليق للوقف على شرط وتعليق
الوقف على شرط غير جائز بدليل ما لو علقه على شرط في حياته وحمل كلام الخرقي على أنه قال قفوا
بعد موتي فيكون وصية بالوقف لا إيقافا، وقال أبو الخطاب قول الخرقي هذا يدل على جواز تعليق
الوقف على شرط.
ولنا على صحة الوقف بالمعلق بالموت ما احتج به الإمام أحمد رضي الله عنه أن عمرا وصى فكان
في وصيته: هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين ان حدث به حدث ان ثمغا صدقة وذكر بقية
الخبر وقد ذكرناه في غير هذا الموضع ورواه أبو داود بنحو من هذا وهذا نص في مسئلتنا ووقفه
هذا كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه اشتهر في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا ولان هذا تبرع معلق بالموت
فصح كالهبة والصدقة المطلقة أو نقول صدقة معلقة بالموت فأشبهت غير الوقف ويفارق هذا التعليق على
شرط في الحياة بدليل الهبة المطلقة والصدقة وغيرهما وذلك لأن هذا وصية والوصية أوسع من التصرف
في الحياة بدليل جوازها بالمجهول والمعدوم وللمجهول وللحمل وغير ذلك وبهذا يتبين فساد قياس من
قاس على هذا الشرط بقية الشروط
220

(فصل) ولا يجوز تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة مثل ان يقول إذا جاء رأس الشهر
فداري وقف أو فرسي حبيس أو إذا ولد لي ولد أو إذا قدم لي غائبي ونحو ذلك ولا نعلم في هذا
خلافا لأنه نقل للملك فيما لم يبن على التغليب والسراية فلم يجز تعليقه على شرط كالهبة وسوى
المتأخرون من أصحابنا بين تعليقه بالموت وتعليقه بشرط في الحياة ولا يصح لما ذكرنا من الفرق
بينهما فيما قبل هذا.
(فصل) وان علق انتهاؤه على شرط نحو قوله داري وقف إلى سنة أو إلى أن يقدم الحاج لم يصح
في أحد الوجهين لأنه ينافي مقتضى الوقف فإن مقتضاه التأبيد وفي الآخر يصح لأنه منقطع
الانتهاء فأشبه ما لو وقفه على منقطع الانتهاء فإن حكمنا بصحته ههنا فحكمه حكم متقطع الانتهاء
(فصل) وان قال هذا وقف على ولدي سنة ثم على المساكين صح وكذلك أن قال هذا وقف على ولدي
مدة حياتي ثم هو بعد موتي للمساكين صح لأنه وقف متصل الابتداء والانتهاء وان قال وقف على المساكين
ثم على أولادي صح ويكون وقفا على المساكين ويلغى قوله على أولادي لأن المساكين لا انقراض لهم
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في الوقف في مرضه على بعض ورثته فعنه لا يجوز ذلك فإن
فعل وقف على إجازة سائر الورثة قال احمد في رواية إسحاق بن إبراهيم فيمن أوصى لأولاد بنيه
بأرض توقف عليهم فقال: ان لم يرثوه فجائز فظاهر هذا انه لا يجوز الوقف عليهم في المرض
221

اختاره أبو حفص العكبري وابن عقيل وهو مذهب الشافعي، (والرواية الثانية) يجوز أن يقف عليهم
ثلثه كالأجانب فإنه قال في رواية جماعة منهم الميموني: يجوز للرجل أن يقف في مرضه على ورثته فقيل له
أليس تذهب انه لا وصية لوارث؟ فقال نعم والوقف غير الوصية لأنه لا يباع ولا يورث ولا يصير
ملكا للورثة ينتفعون بغلته، وقال في رواية أحمد بن الحسن فإنه صرح في مسئلته بوقف ثلثه على
بعض ورثته دون بعض فقال جائز قال الخبري وأجاز هذا الأكثرون واحتج احمد رضي الله عنه
بحديث عمر رضي الله عنه أنه قال هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين ان حدث به حدث ان
ثمغا صدقة والعبد الذي فيه والسهم الذي بخيبر ورقيقه الذي فيه والمائة وسق الذي أطعمني محمد
صلى الله على وسلم تليه حفصة ما عاشت ثم يليه ذوي الرأي من أهله لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث يرى من
السائل والمحروم وذوي القربى ولا حرج على من وليه ان أكل أو اشترى رقيقا رواه أبو داود
بنحو من هذا فالحجة انه جعل لحفصة أن تلي وقفه وتأكل منه وتشتري رقيقا قال الميموني قلت لأحمد
إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بالايقاف وليس في الحديث الوارث قال فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمره وهو ذا قد
وقفها على ورثته وحبس الأصل عليهم جميعا ولان الوقف ليس في معنى المال لأنه لا يجوز التصرف
فيه فهو كعتق الوارث
ولنا انه تخصيص لبعض الورثة بماله في مرضه فمنع منه كالهبات، ولان كل من لا تجوز له الوصية
222

بالعين لا تجوز بالمنفعة كالأجنبي فيما زاد على الثلث، وأما خبر عمر فإنه لم يخص بعض الورثة بوقفه
والنزاع إنما هو في تخصيص بعضهم، وأما جعل الولاية لحفصة فليس ذلك وقفا عليها فلا يكون ذلك
واردا في محل النزاع وكونه انتفاعا بالغلة لا يقتضي جواز التخصيص بدليل ما لو أوصى لورثته
بمنفعة عبد لم يجز، ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في رواية الجماعة على أنه وقف على جميع الورثة ليكون
على وفق حديث عمر وعلى وفق الدليل الذي ذكرنا
(فصل) فإن وقف داره وهي تخرج من الثلث بين ابنه وبنته نصفين في مرض موته فعلى رواية
الجماعة يصح الوقف ويلزم لأنه لما كان يجوز له تخصيص البنت بوقف الدار كلها فبنصفها أولى، وعلى
الرواية التي نصرناها ان أجاز الابن ذلك جاز وان لم يجزه بطل الوقف فيما زاد على نصيب البنت وهو
السدس ويرجع إلى الابن ملكا فيكون له النصف وقفا والسدس ملكا مطلقا والثلث لبنت جميعه وقفا
ويحتمل أن يبطل الوقف في نصف ما وقف على البنت وهو الربع ويبقى ثلاثة أرباع الدار وقفا ونصفها
للابن وربعها للبنت والربع الذي بطل الوقف فيه بينهما أثلاثا للابن ثلثاه وللبنت ثلثه وتصح المسألة
من اثني عشر للابن ستة أسهم وقفا وسهمان ملكا وللبنت ثلاثة أسهم وقفا وسهم ملكا، ولو وقفها على
ابنه وزوجته نصفين وهي تخرج من الثلث فرد الابن صح الوقف على الابن في نصفها وعلى المرأة في
ثمنها وللابن إبطال الوقف في ثلاثة أثمانها فترجع إليه ملكا على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني يصح الوقف
223

على الابن في نصفها وهو أربعة أسباع نصيبه ويرجع إليه باقي حصته ملكا ويصح الوقف في أربعة أسباع
الثمن الذي للمرأة وباقيه يكون لها ملكا فاضرب سبعه في ثمانية تكون ستة وخمسين، للابن ثمانية
وعشرون وقفا وأحد وعشرون ملكا وللمرأة أربعة أسهم وقفا وثلاثة ملكا، وهكذا ذكر أصحاب
الشافعي فأما ان كانت الدار جميع ملكه فوقفها كلها فعلى ما اخترناه الحكم فيها كما لو كانت تخرج من
الثلث فإن الوارث في جميع المال كالأجنبي في الزائد عن الثلث، وأما على ما رواه الجماعة فإن الوقف
يلزم في الثلث من غير اختيار الورثة وفيما زاد فلهما إبطال الوقف فيه وللابن إبطال التسوية، فإن
اختار إبطال التسوية دون إبطال الوقف خرج فيه وجهان (أحدهما) انه يبطل الوقف في التسع ويرجع
إليه ملكا فيصير له النصف وقفا والتسع ملكا ويكون للبنت السدس والتسعان وقفا لأن الابن إنما ملك
إبطال الوقف في ماله دون ما لغيره (والوجه الثاني) ان له إبطال الوقف في السدس ويصير له النصف
وقفا والتسع ملكا وللبنت الثلث وقفا ونصف التسع ملكا لئلا تزداد البنت على الابن في الوقف وتصح
المسألة في هذا الوجه من ثمانية عشر، للابن تسعة وقفا وسهمان ملكا وللبنت ستة أسهم وقفا وسهم
ملكا، وقال أبو الخطاب له إبطال الوقف في الربع كله ويصير له النصف وقفا والسدس ملكا ويكون للبنت
الربع وقفا ونصف السدس ملكا كما لو كانت الدار تخرج من الثلث وتصح من اثنى عشر
224

{مسألة} فإن (وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئا بيع واشتري بثمنه ما يرد على أهل
الوقف وجعل وقفا كالأول وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع واشتري بثمنه
ما يصلح للجهاد)
وجملة ذلك أن الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت
مواتا ولم تمكن عمارتها أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه أو ضاق بأهله
ولم يمكن توسيعه في موضعه أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه جاز بيع
بعضه لتعمر به بقيته، وان لم يمكن الانتفاع بشئ منه بيع جميعه. قال احمد في رواية أبي داود إذا
كان في المسجد خشبتان لهما قيمة جاز بيعهما وصرف ثمنهما عليه، وقال في رواية صالح يحول المسجد
خوفا من اللصوص، وإذا كان موضعه قدرا قال القاضي يعني إذا كان ذلك يمنع من الصلاة فيه ونص على
جواز بيع عرصته في رواية عبد الله وتكون الشهادة في ذلك على الإمام قال أبو بكر وقد روى علي بن سعيد
إن المساجد لا تباع وإنما تنقل آلتها قال وبالقول الأول أقول لاجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس يعني
الموقوفة على الغزو إذا كبرت فلم تصلح للغزو وأمكن الانتفاع بها في شئ آخر مثل ان تدور في الرحى أو
225

يحمل عليها تراب أو تكون الرغبة في نتاجها أو حصانا يتخذ للطراق فإنه يجوز بيعها ويشترى بثمنها ما يصلح للغزو
نص عليه احمد وقال محمد بن الحسن إذا خرب المسجد أو الوقف عاد إلى ملك واقفه لأن الوقف إنما هو تسبيل
المنفعة فإذا زالت منفعته زال حق الموقوف عليه منه فزال ملكه عنه وقال مالك والشافعي لا يجوز بيع
شئ من ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يباع أصلها ولا تبتاع ولا توهب ولا تورث) ولان مالا
يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع بقاء تعطلها كالمعتق والمسجد أشبه الأشياء بالمعتق
ولنا ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة
انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنه ان يزال في المسجد مصل وكان هذا
بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان اجماعا، ولان فيما ذكرناه استبقاء الوقف بمعناه عند تعذر
ابقائه بصورته فوجب ذلك كما لو استولد الجارية الموقوفة أو قبلها أو قبلها غيره، قال ابن عقيل الوقف
مؤبد فإذا لم يمكن تأبيده على وجه يخصصه استبقاء الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى
وإيصال الابدال جرى مجرى الأعيان وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض ويقرب هذا من
الهدي إذا عطب في السفر فإنه يذبح في الحال وإن كان يختص بموضع، فلما تعذر تحصيل الغرض
بالكلية استوفى منه ما أمكن وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره لأن مراعاته مع تعذره تفضي إلى
فوات الانتفاع بالكلية وهكذا الوقف المعطل المنافع
226

ولنا علي محمد بن الحسن أنه إزالة ملك على وجه القربة فلا يعود إلى مالكه باختلاله
وذهاب منافعه كالعتق
(فصل) وظاهر كلام الخرقي أن الوقف إذا بيع فأي شئ اشتري بثمنه مما يرد على أهل الوقف
جاز سواء كان من جنسه أو من غير جنسه لأن المقصود المنفعة لا الجنس لكن تكون المنفعة مصروفة
إلى المصلحة التي كانت الأولى تصرف فيها لأن لا يجوز تغيير المصرف مع امكان المحافظة عليه كما
لا يجوز تغيير الوقف بالبيع مع امكان الانتفاع به
(فصل) وإذا لم يف ثمن الفرس الحبيس لشراء فرس أخرى أعين به في شراء فرس حبيس يكون
بعض الثمن نص عليه أحمد لأن المقصود استبقاء منفعة الوقف الممكن استبقاؤها وصيانتها عن الضياع
ولا سبيل إلى ذلك الا بهذه الطريق
(فصل) وإن لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية لكن قلت وكان غيره أنفع منه وأكثر رد على
أهل الوقف لم يجز بيعه لأن الأصل تحريم البيع وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع
مع امكان تحصيله ومع الانتفاع وإن قل ما يضيع المقصود اللهم إلا أن يبلغ في قلة النفع إلى حد لا يعد
نفعا فيكون وجود ذلك كالعدم
227

(فصل) قال أحمد في رواية أبي داود في مسجد أراد أهله رفعه من الأرض ويجعل تحته سقاية
وحوانيت فامتنع بعضهم من ذلك: فينظر إلى قول أكثرهم واختلف أصحابنا في تأويل كلام أحمد
فذهب ابن حامد إلى أن هذا في مسجد أراد أهله انشاءه ابتداء واختلفوا كيف يعمل؟ وسماه مسجدا
قبل بنائه تجوزا لأن مآله إليه اما بعد كونه مسجدا لا يجوز جعله سقاية ولا حوانيت، وذهب القاضي
إلى ظاهر اللفظ وهو أنه كان مسجدا فأراد أهله رفعه وجعل ما تحته سقاية لحاجتهم إلى ذلك والأول
أصح وأولى، وإن خالف الظاهر فإن المسجد لا يجوز نقله وابداله وبيع ساحته وجعلها سقاية وحوانيت
الا عند تعذر الانتفاع به، والحاجة إلى سقاية وحوانيت لا تعطل نفع المسجد فلا يجوز صرفه في ذلك
ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة لجاز تخريب المسجد وجعله سقاية وحوانيت
ويجعل بدله مسجدا في موضع آخر، وقال أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه في مسجد ليس
بحصين من الكلاب وله منارة فرخص في نقضها وبناء حائط المسجد بها للمصلحة
(فصل) ولا يجوز أن يغرس في المسجد شجرة نص عليه أحمد وقال إن كانت غرست النخلة بعد
أن صار مسجدا فهذه غرست بغير حق فلا أحب الاكل منها ولو قلعها الإمام لجاز وذلك لأن المسجد
لم يبن لهذا وإنما بني لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن ولان الشجرة تؤذى المسجد وتمنع المصلين من
الصلاة في موضعها ويسقط ورقها في المسجد وثمرها وتسقط عليها العصافير والطير فتبول في المسجد
228

وربما اجتمع الصبيان في المسجد من أجلها ورموها بالحجارة ليسقط ثمرها، وأما ان كانت النخلة في
أرض فجعلها صاحبها مسجدا والنخلة فيها فلا بأس، قال أحمد في موضع لا بأس يعني أن يبيعها من
الجيران، وقال في رواية أبي طالب في النبقة لا تباع وتجعل للمسلمين وأهل الدرب يأكلونها وذلك
والله أعلم لأن صاحب الأرض لما جعلها مسجدا والنخلة فيها فقد وقف الأرض والنخلة معها ولم يعين
مصرفها فصارت كالوقف المطلق الذي لم يعين له مصرف وقد ذكرنا فيه في إحدى الروايات أنه
للمساكين فأما ان قال صاحبها هذه وقف على المسجد فينبغي أن يباع ثمرها ويصرف إليه كما لو وقفها
على المسجد وهي في غيره، قال أبو الخطاب عندي أن المسجد إذا احتاج إلى ثمن ثمرة الشجرة بيعت
وصرف ثمنها في عمارته قال وقول أحمد يأكلها الجيران محمول على أنهم يعمرونه
(فصل) وما فضل من حصر المسجد وزيته ولم يحتج إليه جاز أن يجعل في مسجد آخر أو يتصدق من ذلك على فقراء جيرانه وغيرهم وكذلك أن فضل من قصبه أو شئ من نقضه، قال أحمد في مسجد
بنى فبقي من خشبه أو قصبه أو شئ من نقضه فقال يعان به في مسجد آخر أو كما قال. وقال المروذي
سألت أبا عبد الله عن بواري المسجد إذا فضل منه الشئ أو الخشبة قال يتصدق به وأرى انه قد
احتج بكسوة البيت إذا تحرقت تصدق بها، وقال في موضع آخر قد كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة
229

وروى الخلال باسناده عن علقمة عن أمه أن شيبة بن عثمان الحجبي جاء إلى عائشة رضي الله عنها
فقال يا أم المؤمنين ان ثياب الكعبة فكثر عليها فنزعها فحفر لها آبارا فندفنها فيها حتى لا تلبسها الحائض
والجنب قالت عائشة بئس ما صنعت ولم تصب، ان ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها من لبسها من
حائض أو جنب ولكن لو بعتها وجعلت ثمنها في سبيل الله والمساكين فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن
فتباع فيضع ثمنها حيث أمرته عائشة وهذه قصة مثلها ينتشر ولم ينكر فيكون اجماعا، ولأنه مال الله
تعالى لم يبق له مصرف فصرف إلى المساكين كالوقف المنقطع
(فصل) إذا جنى الوقف جناية توجب القصاص وجب سواء كانت الجناية على الموقوف عليه
أو على غيره فإن قتل بطل الوقف فيه وإن قطع كان باقيه وقفا كما لو تلف بفعل الله تعالى وإن كانت
الجناية موجبة المال لم يمكن تعلقها برقبته لأنه لا يمكن بيعها ويجب أرشها على الموقوف عليه لأنه ملكه
تعلق أرشه برقبته فكان على مالكه كأم الولد ولا يلزمه أكثر من قيمته كأم الولد، وإن قلنا الوقف
لا يملك فالأرش في كسبه لأنه تعذر تعلقه برقبته لكونها لا تباع وبالموقوف عليه لأنه لا يملكه فكان
في كسبه كالحر يكون في ماله ويحتمل أن يكون في بيت المال كأرش جناية الحر المعسر وهذا احتمال
ضعيف جدا فإن الجناية إنما تكون في بيت المال في صورة تحملها العاقلة عند عدمها وجناية العبد لا تحملها
العاقلة وإن كان الوقف على المساكين فينبغي أن يكون الأرش في كسبه لأنه ليس له مستحق معين يمكن
إيجاب الأرش عليه ولا يمكن تعلقه برقبته لتعذر بيعها فتعين في كسبه ويحتمل أن يجب في بيت المال
230

(فصل) وان جنى على الوقف جناية موجبة للمال وجب لأن ماليته لم تبطل ولو بطلت ماليته
لم يبطل أرش الجناية عليه فإن الحر يجب أرش الجناية عليه فإن قتل وجبت قيمته وليس للموقوف
عليه العفو عنها لأنه لا يختص بها ويشترى بها مثل المجني عليه يكون وقفا، وقال بعض الشافعية يختص
الموقوف عليه بالقيمة ان قلنا إنه يملك الموقوف لأنه بدل ملكه
ولنا أنه ملك لا يختص به فلم يختص ببدله كالعبد المشترك والمرهون وبيان عدم الاختصاص
ظاهر فإنه يتعلق به حق البطن الثاني فلم يجز إبطاله ولا نعلم قدر ما يستحق هذا منه فنعفوا عنه فلم يصح
العفو عن شئ منه كما لو أتلف رجل رهنا أخذت منه قيمته فجعلت رهنا، ولم يصح عفو واحد منهما
عنه، وان كانت الجناية عمدا محضا من مكافئ له فالظاهر أنه لا يجب القصاص لأنه محل لا يختص به
الموقوف عليه فلم يجز أن يقتص من قاتله كالعبد المشترك، وقال بعض أصحاب الشافعي يكون ذك
إلى الإمام فإن قطعت يد العبد أو طرف من أطرافه فالقصاص له وله استيفاؤه لأنه لا يشاركه فيه غيره
وإن كان القطع لا يوجب القصاص أو يوجبه فعفى عنه وجب نصف قيمته، فإن أمكن أن يشترى بها
عبد كامل والا اشتري بها شقص من عبد
(فصل) ويجوز تزويج الأمة الموقوفة لأنه عقد عقد على منفعتها أشبه الإجارة، ولان الموقوف
231

علية لا يملك استيفاء هذه المنفعة فلا يتضرر بتمليك غيره إياها ووليها الموقوف عليه لأنها ملكه والمهر
له لأنه بدل نفعها أشبه الاجر في الإجارة، ويحتمل أن لا يجوز تزويجها لأنه عقد على نفعها في العمر فيفضي
إلى تفويت نفعها في حق البطن الثاني ولان النكاح يتعلق به حقوق من وجوب تمكين الزوج من استمتاعها
ومبيتها عنده فتفوت خدمتها في الليل على البطن الثاني إلا أن تطلب التزويج فيتعين تزويجها لأنه حق لها
طلبته فتتعين الإجابة إليه وما فات من الحق به فات تبعا لايفائها حقها فوجب ذلك كما يجب تزويج الأمة غير
الموقوفة إذا طلبت ذلك وإذا زوجها فولدت من الزوج فولدها وقف معها لأن ولد كل ذات رحم تثبت لها
حرمة حكمه حكمها كأم الولد والمكاتبة، وان اكراهها أجنبي فوطئها أو طاوعته فعليه الحد إذا انتفت
الشبهة وعليه المهر لأهل الوقف لأنه وطئ جارية غيره أشبه الأمة المطلقة وولدها يكون وقفا معها،
وان وطئها بشبهة يعتقدها حرة فالولد حر ولو كان الواطئ عبدا وتجب قيمته لأنه كان من سبيله أن
يكون مملوكا فمنعه اعتقاد الحرية من الرق فوجبت قيمته يشتري بها عبد يكون رقيقا وتعتبر قيمته يوم
تضعه حيا لأنه لا يمكن تقويمه قبل ذلك
(فصل) وليس للموقوف عليه وطئ الأمة الموقوفة لأنا لا نأمن حبلها فتنقص أو تتلف أو تخرج
من الوقف بكونها أم ولد ولان ملكه ناقص فإن وطئ فلا حد عليه للشبهة ولا مهر عليه لأنه لو وجب
لوجب له ولا يجب للانسان شئ على نفسه والولد حر لأنه من وطئ شبهة وعليه قيمة الولد يشترى
232

بها عبد مكانه وتصير أم ولد لأنه أحبلها بحر في ملكه فإذا مات عتقت ووجبت قيمتها في تركته لأنه
أتلفها على من بعده من البطون فيشترى بها جارية تكون وقفا مكانها وان لنا ان الموقوف عليه لا يملكها
لم تصر أم ولد له لأنها غير مملوكة له
(فصل) وان أعتق العبد الموقوف لم ينفذ عتقه لأنه يتعلق به حق غيره ولان الوقف لازم فلا
يمكن ابطاله، وإن كان نصف العبد وقفا ونصفه طلقا فاعتق صاحب الطلق لم يسر عتقه إلى الوقف
لأنه إذا لم يعتق بالمباشرة فبالسراية أولى
{مسألة} قال (وإذا حصل في يد بعض أهل الوقف خمسة أوسق ففيه الزكاة وإذا
صار الوقف للمساكين فلا زكاة فيه)
وجملة ذلك أن الوقف إذا كان شجرا فأثمر أو أرضا فزرعت وكان الوقف على قوم بأعيانهم فحصل
لبعضهم من الثمرة أو الحب نصاب ففيه الزكاة وبهذا قال مالك والشافعي وروي عن طاوس ومكحول لا زكاة
فيه لأن الأرض ليست مملوكة لهم فلم تجب عليهم زكاة في الخارج منها كالمساكين
ولنا انه استغل من أرضه أو شجره نصابا فلزمته زكاته كغير الوقف يحققه ان الوقف الأصل
والثمرة طلق والملك فيها تام له التصرف فيها بجميع التصرفات وتورث عنه فتجب فيها الزكاة كالحاصلة
233

من أرض مستأجرة له، وقولهم ان الأرض غير مملوكة له ممنوع وان سلمنا ذلك فهو مالك لمنفعتها
ويكفي ذلك في وجوب الزكاة بدليل الأرض المستأجرة، أما المساكين فلا زكاة عليهم فيما بحصل في
أيديهم سواء حصل في يد بعضهم نصاب من الحبوب والثمار أو لم يحصل. ولا زكاة عليهم قبل تفريقها
وان بلغت نصبا لأن الوقف على المساكين لا يتعين لواحد منهم بدليل ان كل واحد منهم يجوز حرمانه
والدفع إلى غيره وإنما ثبت الملك فيه بالدفع والقبض لما أعطيه من غلته ملكا مستأنفا فلم تجب عليه فيه
زكاة كالذي يدفع إليه من الزكاة، وكما لو وهبه أو اشتراه وفارق الوقف على قوم بأعيانهم فإنه يعين
لكل واحد منهم حق في نفع الأرض وغلتها ولهذا يجب إعطاؤه ولا يجوز حرمانه
(فصل) ويصح الوقف على القبيلة العظيمة كقريش وبني هاشم وبني تميم وبني وائل ونحوهم،
ويجوز الوقف على المسلمين كلهم وعلى أهل إقليم ومدينة كالشام ودمشق ونحوهم، ويجوز للرجل أن
يقف على عشيرته وأهل مدينته. وقال الشافعي في أحد قوليه لا يصح الوقف على من لا يمكن استيعابهم
وحصرهم في غير المساكين وأشباههم لأن هذا تصرف في حق الآدمي فلم يصح مع الجهلة كما لو قال وقفت
على قوم، ولنا ان من صح الوقف عليه إذا كان عدده محصيا صح وان لم يكن محصيا كالفقراء والمساكين
وما ذكره يبطل بالوقف على الفقراء والمساكين ومتى كان الوقف على من لا يمكن حصرهم فلا زكاة على
واحد منهم فيما يصح له لما ذكرناه في المساكين ولا في جملة الوقف لما ذكرناه من قبل
234

{مسألة} قال (ومالا ينتفع به الا بالاتلاف مثل الذهب والورق والمأكول
والمشروب فوقفه غير جائز)
وجملته ان ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدنانير والدراهم والمطعوم والمشروب والشمع وأشباهه
لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم إلا شيئا يحكى عن مالك والأوزاعي في وقف الطعام أنه
يجوز ولم يحكه أصحاب مالك وليس بصحيح لأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة وما لا ينتفع به
الا بالاتلاف لا يصح فيه ذلك، وقيل في الدراهم والدنانير يصح وقفها على قول من أجاز إجارتها ولا
يصح لأن تلك المنفعة ليست المقصود الذي خلقت له الأثمان ولهذا لا تضمن في الغصب فلم يجز الوقف له
كوقف الشجر على نشر الثياب والغنم على دوس الطين والشمع ليتجمل به
(فصل) والمراد بالذهب والفضة ههنا الدراهم والدنانير وما ليس بحلي لأن ذلك هو الذي يتلف
بالانتفاع به، أما الحلي فيصح وقفه للبس والعارية لما روى نافع قال ابتاعت حفصة حليا بعشرين ألفا
فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته، رواه الخلال باسناده، ولأنه عين يمكن الانتفاع
بها مع بقائها دائما فصح وقفها كالعقار ولأنه يصح تحبيس أصلها وتسبيل الثمرة فصح وقفها كالعقار وبهذا
قال الشافعي وقد روي عن أحمد أنه لا يصح وقفها، وأنكر الحديث عن حفصة في وقفه وذكره ابن
235

أبي موسى الا أن القاضي تأوله على أنه لا يصح الحديث فيه، ووجه هذه الرواية ان التحلي ليس هو
المقصود الأصلي من الأثمان فلم يصح وقفها عليه كما لو وقف الدنانير والدراهم، والأول هو المذهب
لما ذكرناه والتحلي من المقاصد المهمة والعادة جارية به وقد اعتبره الشرع في إسقاط الزكاة عن متخذه
وجوز إجارته لذلك ويفارق الدراهم والدنانير فإن العادة لم تجر بالتحلي به ولا اعتبره الشرع في
إسقاط زكاته ولا ضمان نفعه في الغصب بخلاف مسئلتنا
(فصل) ولا يصح وقف الشمع لأنه يتلف بالانتفاع به فهو كالمأكول والمشروب ولا ما يسرع
إليه الفساد من المشمومات والرياحين وأشباهها لأنها تتلف على قرب من الزمان فأشبهت المطعوم. ولا
وقف ما لا يجوز بيعه كأم الولد والمرهون والكلب والخنزير وسائر سباع البهائم التي لا تصلح للصيد
وجوارح الطير التي لا يصاد بها لأنه نقل للملك فيها في الحياة فأشبه البيع ولان الوقف تحبيس الأصل
وتسبيل المنفعة وما لا منفعة فيه لا يحصل فيه تسبيل المنفعة والكلب أبيح الانتفاع به على خلاف الأصل
للضرورة فلم يجز التوسع فيها، والمرهون في وقفه إبطال حق المرتهن منه فلم يجز إبطاله، ولا يصح الوقف
فيما ليس بمعين كعبد في الذمة ودار وسلاح لأن الوقف إبطال لمعني الملك فيه فلم يصح في عبد مطلق كالعتق
(فصل) قال أحمد فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض يوقف في سبيل الله فهو على ما وقف
ووصي وإن بيع الفضة من السرج واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إلي لأن الفضة لا ينتفع بها
ولعله يشتري بتلك الفضة سرجا ولجاما فيكون أنفع للمسلمين، فقيل له تباع الفضة وتجعل في نفقته؟
236

قال لا، فأباح أن يشتري بفضة السرج واللجام سرجا ولجاما لأنه صرف لهما في جنس ما كانت عليه
حين لم ينتفع بهما فيه فأشبه الفرس الحبيس إذا عطب فلم ينتفع به في الجهاد جاز بيعه وصرف ثمنه في
مثله ولم يجز ايقافها على الفرس لأنه صرف لها إلى غير جهتها
{مسألة} قال (ويصح الوقف فيما عدا ذلك)
وجملة ذلك أن الذي يجوز وقفه ما جاز بيعه وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه وكان أصلا يبقي
بقاء متصلا كالعقار والحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه ذلك. قال أحمد في رواية الأثرم: إنما
الوقف في الدور والأرضين على ما وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيمن وقف خمس نخلات
على مسجد لا بأس به وهذا قول الشافعي، وقال أبو يوسف لا يجوز وقف الحيوان ولا الرقيق ولا
الا الكر العروض اع والسلاح والغلمان والبقر والآلة في الأرض الموقوفة تبعا لها لأن الحيوان لا يقاتل
عليه فلم يجز وقفه كما لو كان الوقف إلى مدة، وعن مالك في الكراع والسلاح روايتان
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " اما خالد فقد احتبس ادراعه واعتاده في سبيل الله " متفق عليه،
وفي رواية " وأعتده " أخرجه البخاري قال الخطابي الاعتاد ما يعده الرجل من المركوب والسلاح وآلة
الجهاد وروي أن أم معقل جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا معقل جعل ناضحة في
237

سبيل الله واني أريد الحج أفأركبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اركبيه فإن الحج والعمرة من سبيل الله "
ولأنه يحصل فيه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة فصح وقفه كالعقار والفرس الحبيس ولأنه يصح وقفه مع غيره
فصح وقفه وحده كالعقار
(فصل) قال احمد رحمه الله في رجل له دار في الربض أو قطيعة فأراد التنزه منها قال يقفها قال القطائع
ترجع إلى الأصل إذا جعلها للمساكين فظاهر هذا إباحة وقف السواد وهو في الأصل وقف ومعناه ان وقفها
يطابق الأصل لا أنها تصير بهذا القول وقفا
{مسألة} قال (ويصح وقف المشاع)
وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وقال محمد بن الحسن لا يصح وبناه على أصله في أن
القبض شرط وان القبض لا يصح في المشاع
ولنا أن في حديث عمر أنه أصاب مائة سهم من خيبر واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فيها فأمره بوقفها
وهذا صفة المشاع ولأنه عقد يجوز على بعض الجملة مفرزا فجاز عليه مشاعا كالبيع أو عرصة يجوز بيعها
فجاز وقفها كالمفرزة ولان الوقف تحبيس الأصل وتسبيل والمنفعة وهذا يحصل في المشاع كحصوله في
المفرز ولا نسلم اعتبار القبض وان سلمنا فإذا صح في البيع صح في الوقف
238

(فصل) وإن وقف داره على جهتين مختلفتين مثل أن يقفها على أولاده وعلى المساكين نصفين
أو أثلاثا أو كيفما كان جاز، وسواء جعل مآل الموقوف على أولاده وعلى المساكين أو على جهة أخرى
سواهم لأنه إذا جاز وقف الجزء مفردا جاز وقف الجزءين، وان أطلق الوقف فقال وقفت داري هذه
على أولادي وعلى المساكين فهي بينهما نصفين لأن اطلاق الإضافة إليهما تقتضي التسوية بين الجهتين
ولا تتحقق التسوية إلا بالتنصيف وان قال وقفتها على زيد وعمر والمساكين فهي بينهم أثلاثا
(فصل) فإن أريد تمييز الوقف عن المطلق بالقسمة فذلك مبني على القسمة هل هي بيع أو افراز
حق؟ والصحيح أنها افراز حق فينظر فإن لم يكن فيها رد جازت القسمة، وإن كان فيها رد من جانب
أصحاب الوقف جازت أيضا لأنه شراء لشئ من المطلق، وإن كان من صاحب المطلق لم يجز لأنه
شراء بعض الوقف وبيعه غير جائز، وإن كان المشاع وقفا على جهتين فأراد أهله قسمته انبنى على
ما ذكرنا ولم يجز فيما إذا كان فيها رد بحال ومتى جازت القسمة في الوقف وطلبها أحد الشريكين أو ولي
الوقف أجبر الآخر لأن كل قسمة جازت من غير رد ولا ضرر فهي واجبة
{مسألة} قال (وإذا لم يكن الوقف على معروف أو بر فهو باطل)
وجملة ذلك أن الوقف لا يصح إلا على من بعرف كولده وأقاربه ورجل معين أو على بر كبناء
المساجد والقناطر وكتب الفقه والعلم والقرآن والمقابر والسقايات وسبيل الله ولا يصلح على غير معين
239

كرجل وامرأة لأن الوقف تمليك للعين أو للمنفعة فلا يصح على غير معين كالبيع والإجارة ولا على
معصية كبيت النار والبيع والكنائس وكتب التوراة والإنجيل لأن ذلك معصية فإن هذه المواضع بنيت
للكفر وهذه الكتب مبدلة منسوخة ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شئ من
التوراة وقال " أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية:؟ لو كان موسى أخي حيا ما وسعه الا
اتباعي " ولولا أن ذلك معصية ما غضب منه والوقف على قناديل البيعة وفرشها ومن يخدمها ويعمرها
كالوقف عليها لأنه يراد لتعظيمها وسواء كان الواقف مسلما أو ذميا قال أحمد في نصارى وقفوا على
البيعة ضياعا كثيرة وماتوا ولهم أبناء نصارى فأسلموا والضياع بيد النصارى: فلهم أخذها وللمسلمين
عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأن مالا يصح
من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي كالوقف على غير معين فإن قيل فقد قلتم ان أهل الكتاب إذا عقدوا
عقودا
فاسدة وتقابضوا ثم أسلموا وترافعوا إلينا لم ننقض ما فعلوة فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه على كنائسهم؟
قلنا الوقف ليس بعقد معاوضة وإنما هو إزالة للملك في الموقوف على وجه القربة فإذا لم يقع صحيحا لم يزل
لذلك فيبقى بحاله كالعتق
وقد روي عن أحمد رحمه الله في نصراني أشهد في وصيته أن غلامه فلانا يخدم البيعة خمس سنين
ثم هو حر ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ما عليه؟ قال هو حر ويرجع على الغلام بأجرة خدمة مبلغ أربع
240

سنين، وروي عنه قال هو حر ساعة مات مولاه لأن هذه معصية وهذه الرواية أصح وأوفق لا صوله
ويحتمل ان قوله يرجع عليه بخدمته أربع سنين لم يكن لصحة الوصية بل لأنه إنما أعتقه بعوض يعتقدان
صحته، وإذا تعذر العوض باسلامه كان عليه ما يقوم مقامه كما لو تزوج الذمي ذمية على ذلك ثم أسلم فإنه
يحب عليه المهر كذا ههنا يجب عليه العوض والأول أولى
(فصل) ولا يصح الوقف على من لا يملك كالعبد القن وأم الولد والمدبر والميت والحمل والملك
والجن والشياطين، قال احمد فيمن وقف على مماليكه لا يصح الوقف حتى يعتقهم وذلك لأن الوقف
تمليك فلا يصح على من لا يملك فإن قيل قد جوزتم الوقف على المساجد والسقايات وأشباهها وهي
لا تملك، قلنا الوقف هناك على المسلمين الا انه عين في نفع خاص لهم، فإن قيل فينبغي أن يصح الوقف على الكنائس ويكون الوقف على أهل الذمة قلنا الجهة التي عين صرف الوقف فيها ليست نفعا بل هي
معصية محرمة يزادون بها عقابا واثما بخلاف المساجد ولا يصح الوقف على العبد، وان قلنا إنه يملك
بالتمليك لأن الوقف يقتضي تحبيس الأصل والعبد لا يملك ملكا لازما. ولا يصح الوقف على المكاتب
وإن كان يملك لأن ملكه غير مستقر، ولا على مرتد ولا حربي لأن أموالهم مباحة في الأصل ويجوز
أخذها منهم بالقهر والغلبة فما يتجدد لهم أولى والوقف لا يجوز أن يكون مباح الاخذ لأنه تحبيس الأصل
241

(فصل) ويصح الوقف على أهل الذمة لأنهم يملكون ملكا محترما ويجوز أن يتصدق عليهم فجاز
الوقف عليهم كالمسلمين. ويجوز أن يقف المسلم عليه لما روي أن صفية بنت حبي زوج النبي صلى الله عليه وسلم
وقفت على أخ لها يهودي ولان من جاز أن يقف الذمي عليه جاز أن يقف عليه المسلم كالمسلم، ولو وقف
على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين صح أيضا لأن الوقف عليهم لا على الموضع
(فصل) وينظر في الوقف من شرطه الواقف لأن عمر رضي الله عنه جعل وقفه إلى حفصة تليه
ما عاشت ثم إلى ذوي الرأي من أهلها ولان مصرف الوقف يتبع فيه شرط الواقف فكذلك الناظر
فيه فإن جعل النظر لنفسه جاز وان جعله إلى غيره فهو له فإن لم يجعله لاحد أو جعله لانسان فمات نظر فيه
الموقوف عليه لأنه ملكه ونفعه له فكان نظره إليه كملكه المطلق، ويحتمل أن ينظر فيه الحاكم اختاره ابن أبي
موسى ويحتمل أن يكون الوجهان مبنيين على أن الملك هل ينتقل فيه إلى الموقوف عليه أو إلى الله تعالى؟ فإن قلنا هو
للموقوف عليه فالنظر فيه إليه لأنه ملكه عينه ونفعه، وإن قلنا هو ولله فالحاكم ينوب فيه ويصرفه إلى مصارفه
242

لأنه مال الله فكان النظر فيه إلى حاكم المسلمين كالوقف على المساكين، وأما الوقف على المساكين
والمساجد ونحوها أو على من لا يمكن حصرهم واستيعابهم فالنظر فيه إلى الحاكم لأنه ليس له مالك متعين
ينظر فيه وله ان يستنيب فيه لأن الحاكم لا يمكنه تولي النظر بنفسه، ومتى كان النظر للموقوف عليه
اما يجعل الواقف ذلك له أو لكونه أحق بذلك عند عدم ناظر سواه وكان واحدا مكلفا رشيدا فهو
أحق بذلك رجلا كان أو امرأة عدلا كان أو فاسقا لأنه ينظر لنفسه فكان له ذلك في هذه الأحوال
كالطلق، ويحتمل ان يضم إلى الفاسق أمين حفظا لأصل الوقف عن البيع أو التضييع، وإن كان الوقف
لجماعة رشيدين فالنظر للجميع لكل انسان في نصيبه وإن كان الموقوف عليه غير رشيد اما لصغر أو
سفه أو جنون قام وليه في النظر مقامه كما يقوم مقامه في ماله المطلق، وإن كان النظر لغير الموقوف عليه
أو لبعض الموقوف عليه بتولية الواقف أو الحاكم لم يجز أن يكون الا أمينا فإن لم يكن أمينا وكانت توليته
243

من الحاكم لم تصح وأزيلت يده، وان ولاه الواقف وهو فاسق أو ولاه وهو عدل وصار فاسقا ضم
إليه أمين ينحفظ به الوقف ولم تزل يده، ولأنه أمكن الجمع بين الحقين ويحتمل أن لا تصح توليته وانه
ينعزل إذا فسق في أثناء ولايته لأنها ولاية على حق غيره فنافاها الفسق كما لو ولاه الحاكم وكما لو لم
يمكن حفظ الوقف منه مع بقاء ولايته على حق غيره فإنه متى لم يمكن حفظه منه أزيلت ولايته فإن
مراعاة حفظ الوقف أهم من ابقاء ولاية الفاسق عليه
244

(فصل) ونفقة الوقف من حيث شرط الواقف لأنه لما اتبع شرطه في سبيله وجب اتباع شرطه
في نفقته فإن لم يمكن فمن غلته لأن الوقف اقتضى تحبيس أصله وتسبيل نفعه ولا يحصل ذلك الا بالانفاق
عليه فكان ذلك من ضرورته، وإن تعطلت منافع الحيوان الموقوف فنفقته على الموقوف عليه لأنه
ملكه ويحتمل وجوبها في بيت المال ويجوز بيعه على ما سلف بيانه
245

كتاب الهبة والعطية
{مسألة} قال (ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن الا بقبضه)
وجملة ذلك أن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة وكلها تمليك في الحياة بغير عوض
واسم العطية شامل لجميعها وكذلك الهبة والصدقة والهدية متغايران فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية
ولا يأكل الصدقة وقال في اللحم الذي تصدق به على بريرة " هو عليها صدقة ولنا هدية " فالظاهر
أن من أعطى شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة، ومن دفع إلى انسان شيئا للتقرب إليه
والمحبة له فهو هدية وجميع ذلك مندوب إليه ومحثوث إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" تهادوا تحابوا " وأما الصدقة فما ورد في فضلها أكثر من أن يمكننا حصره وقد قال الله تعالى (إن
تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم) إذا ثبت
هذا فإن المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة لا بالقبض وهو قول أكثر الفقهاء منهم النخعي
والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة والشافعي وقال مالك وأبو ثور يلزم ذلك بمجرد العقد لعموم
246

قوله عليه السلام " العائد في هبته كالعائد في قيئه " ولأنه إزالة ملك بغير عوض فلزم بمجرد العقد
كالوقف والعتق وربما قالوا تبرع فلا يعتبر فيه القبض كالوصية والوقف، ولأنه عقد لازم ينقل الملك
فلم يقف لزومه على القبض كالبيع
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يعرف
لهما في الصابة مخالف فروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه نخلها جذاذ عشرين
وسقا من ماله بالعالية فلما مرض قال يا بنية ما أحد أهب إلي غنى بعدي منك ولا أحد أعز علي فقرا
منك وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا ووددت انك حزتيه أو قبضتيه وهو اليوم مال الوارث أخواك
وأختاك فاقتسموا على كتاب الله عز وجل
وروى ابن عيينة عن الزهري عن عروة عند عبد الرحمن بن عبد القارئ أن عمر بن الخطاب
قال: ما بال أقوام ينحلون أولادهم فإذا مات أحدهم قال مالي وفي يدي وإذا مات هو قال كنت نحلته
ولدي؟ لا نحلة الا نحلة يحوزها الولد دون الوالد فإن مات ورثه. وروى عثمان أن الوالد يجوز لولده
إذا كانوا صغارا. قال المروذي اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلى أن الهبة لا تجوز الا مقبوضة ولأنها
هبة غير مقبوضة فلم تلزم كما لو مات قبل أن يقبض فإن مالكا يقول لا يلزم الورثة التسليم والخبر محمول
على المقبوض ولا يصح القياس على الوقف والوصية والعتق لأن الوقف اخراج ملك إلى الله تعالى
247

فخالف التمليكات والوصية تلزم في حق الوارث والعتق اسقاط حق وليس تمليك ولان الوقف والعتق
لا يكون في محل النزاع في المكيل والموزون
(فصل) وقول الخرقي: لا يصح. يحتمل أن يريد لا يلزم ويحتمل أن يريد لا يثبت بها الملك قبل
القبض فإن الملك حكم الهبة والصحة اعتبار الشئ في حق حكمه وأما صحته بمعنى انعقاد اللفظ بحيث
إذا انضم إليه القبض اعتبر ويثبت حكمه فلا يصح حمل لفظه على نفيه لعدم الخلاف فيه، ولأنه قال
في سياق المسألة كما يصح في البيع وقد نقرر في البيع ان بيع المكيل والموزون صحيح قبل القبض وإنما
ينتفي الضمان وإطلاقه في التصرفات. وقوله ما يكال ويوزن. ظاهره العموم في كل موزون ومكيل،
وخصه أصحابنا المتأخرون بما ليس بمتعين فيه كالقفيز من صبرة والرطل من زبرة. وقد ذكرنا ذلك
في البيع ورجحنا العموم
(فصل) والواهب بالخيار قبل القبض ان شاء أقبضها وأمضاها وان شاء رجع فيها ومنعها ولا
يصح قبضها إلا باذنه فإن قبضها الموهوب له بغير اذنه لم تتم الهبة ولم يصح القبض، وحكي عن أبي حنيفة
انه إذا قبضها في المجلس صح وان لم يأذن له لأن الهبة قامت مقام الاذن في القبض لكونها دالة على رضاه
بالتمليك الذي لم يتم الا بالقبض
ولنا انه قبض الهبة بغير إذن الواهب فلم يصح كما بعد المجلس أو كما لو نهاه عن قبضها. ولان
248

التسليم غير مستحق على الواهب فلا يصح التسليم الا باذنه كما لو أخذ المشتري المبيع من البائع قبل
تسليم ثمنه ولا يصح جعل الهبة إذنا في القبض بدليل ما بعد المجلس. ولو أذن الواهب في القبض ثم رجع
عن الاذن أو رجع في الهبة صح رجوعه لأن ذلك ليس بقبض، وان رجع بعد القبض لم ينفع رجوعه لأن الهبة تمت
(فصل) وان مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض بطلت الهبة سواء كان قبل الاذن
في القبض أو بعده ذكره القاضي في موت الواهب لأنه عقد جائز فبطل بموت أحد المتعاقدين كالوكالة
والشركة. وقال أحمد في رواية أبي طالب وأبي الحارث في رجل أهدى هدية فلم تصل إلى المهدى إليه
حتى مات فإنها تعود إلى صاحبها ما لم يقبضها. وروى باسناده عن أم كلثوم بنت سلمة قالت لما تزوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها " اني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك ولا أرى النجاشي
إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة علي فإن ردت فهي لك " قالت فكان ما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم وردت عليه هديته فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك وأعطى أم سلمة بقية المسك
والحلة وان مات صاحب الهدية قبل أن تصل إلى المهدى إليه رجعت إلى ورثة المهدي وليس للرسول حملها إلى المهدى إليه الا أن يأذن له الوراث، ولو رجع المهدي في هديته قبل وصولها إلى المهدى إليه
صح رجوعه فيها والهبة كالهدية
249

وقال أبو الخطاب إذا مات الواهب قام وارثه مقامه في الاذن في القبض والفسخ وهذا يدل على
أن الهبة لا تنفسخ بموته وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه عقد مآله إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت
كالبيع المشروط فيه الخيار وكذلك يخرج فيما إذا مات الموهوب له بعد قبوله، وان مات أحدهما
قبل القبول أو ما يقوم مقامه بطلت وجها واحدا لأن العقد لم يتم فأشبه ما لو أوجب البيع فمات أحدهما
قبل القبول من المشتري. وإذا قلنا إن الهبة لا تبطل فمات أحدهما بعد الاذن في القبض بطل الاذن
وجها واحدا لأن الميت إن كان هو الواهب فقد انتقل حقه في الرجوع في الهبة إلى وارثه فلم يلزم بغير
اذنه وإن كان الموهوب له فلم يوجد الاذن لوارثه فلم يملك القبض بغير اذن
(فصل) وان وهبه شيئا في يد المتهب كوديعة أو مغصوب فظاهر كلام أحمد ان الهبة تلزم
من غير قبض ولا مضي مدة يتأتى القبض فيها فإنه قال في رواية ابن منصور: إذا وهب لامرأته شيئا
ولم تقبضه فليس بينه وبينها خيار هي معه في البيت. فظاهر هذا انه لم يعتبر قبضا ولا مضي مدة
يتأنى فيها لكونها معه في البيت فيدها على ما فيه. وقال القاضي لا بد من مضي مدة يتأتى فيها القبض. وقد
روى عن أحمد رواية أخرى انه يفتقر إلى اذن في القبض وقد مضى تعليل ذلك وتفصيله في الرهن.
ومذهب الشافعي كمذهبنا في الاختلاف في اعتبار الاذن واعتبار مضي مدة يتأتى القبض فيها
250

{مسألة} قال (ويصح في غير ذلك بغير قبض إذا قبل كما يصح في البيع)
يعني ان غير المكيل والموزون تلزم الهبة فيه بمجرد العقد ويثبت الملك في الموهوب قبل قبضه وروي
ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا الهبة جائزة إذا كانت معلومة قبضت أو لم تقبض
وهو قول مالك وأبي ثور وعن أحمد رواية أخرى لا تلزم الهبة في الجميع الا بالقبض وهو قول أكثر
أهل العلم قال المروزي اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على أن الهبة لا تجوز الا مقبوضة ويروى ذلك
عن النخعي والثوري والحسن بن صالح والعنبري والشافعي وأصحاب الرأي لما ذكرنا في المسألة
الأولى. ووجه الرواية الأولى أن الهبة أحد نوعي التمليك فكان منها ما لا يلزم قبل القبض ومنها ما يلزم
قلبه كالبيع فإن فيه ما لا يلزم قبل القبض وهو الصرف وبيع الربويات ومنه ما يلزم قبله وهو ما عدا
ذلك. فأما حديث أبي بكر فلا يلزم فإن جذاذ عشرين وسقا يحتمل أنه أراد به عشرين وسقا مجذوذة
فيكون مكيلا غير معين وهذا لابد فيه من القبض، وان أراد نخلا يجذ عشرين وسقا فهو أيضا غير
معين ولا تصح الهبة فيه قبل تعيينه فيكون معناه وعدتك بالنحلة وقول عمر أراد به النهي عن التحيل
بنحلة الوالد ولده نحلة موقوفة على الموت فيظهر اني نحلت ولدي شيئا ويمسكه في يده ويستغله فإذا
مات أخذه ولده بحكم النحلة التي أظهرها وان مات ولده أمسكه ولم يعط ورثة ولده شيئا وهذا
251

على هذا الوجه محرم فنهاهم عن هذا حتى يحوزها الولد دون والده فإن مات ورثها ورثته كسائر
ماله وإذا كان المقصود هذا اختص بهبة الولد وشبهه على أنه قد روي عن علي وابن مسعود خلاف
ذلك فتعارضت أقوالهم
(فصل) قول الخرقي إذا قبل يدل على أنه إنما يستغنى عن القبض في موضع وجد فيه الايجاب
والقبول، والايجاب أن يقول وهبتك أو أهديت إليك أو أعطيتك أو هذا لك ونحوه من الألفاظ الدالة
على هذا المعنى، والقبول أن يقول قبلت أو رضيت أو نحو هذا. وذكر القاضي وأبو الخطاب أن الهبة
والعطية لا تصح كلها الا بايجاب وقبول، ولا بد منهما سواء وجد القبض أو لم يوجد وهذا قول أكثر
أصحاب الشافعي لأنه عقد تمليك فافتقر إلى الايجاب والقبول كالنكاح، والصحيح أن المعاطاة والافعال
الدالة على الايجاب والقبول كافية ولا يحتاج إلى لفظ وهذا اختيار ابن عقيل فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدي
ويهدى إليه، ويعطي ويعطى، ويفرق الصدقات ويأمر سعاته بتفريقها وأخذها وكان أصحابه يفعلون
ذلك ولم ينقل عنهم في ذلك ايجاب ولا قبول ولا أمر به ولا تعليمه لاحد ولو كان ذلك شرطا لنقل
عنهم نقلا مشهورا، وكان ابن عمر على بعير لعمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " بعينه " فقال هو لك يا رسول
الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت " ولم ينقل قبول النبي
صلى الله عليه وسلم من عمر ولا قبول ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان شرطا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه ابن عمر
ولم يكن ليأمره أن يصنع به ما شاء قبل ان يقبله
252

وروى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قالوا صدقة قال لأصحابه كلوا
ولم يأكل، وان قالوا هدية ضرب بيده فأكل معهم، ولا خلاف بين العلماء فيما علمناه في أن تقديم
الطعام بين يدي الضيفان إذن في الاكل وانه لا يحتاج إلى قبول بقوله، ولأنه وجد ما يدل على التراضي
بنقل الملك فاكتفي به كما لو وجد الايجاب والقبول
قال ابن عقيل إنما يشترط الايجاب والقبول مع الاطلاق وعدم العرف القائم بين المعطي والمعطى
لأنه إذا لم يكن عرف يدل على الرضا فلابد من قول دال عليه، أما مع قرائن الأحوال والدلائل فلا وجه
لتوقيفه على اللفظ، ألا ترى أنا اكتفينا بالمعاطاة في البيع واكتفينا بدلالة الحال في دخول الحمام وهو إجارة
وبيع أعيان فإذا اكتفينا في المعاوضات مع تأكدها بدلالة الحال وانها تنقل الملك من الجانبين فلان
نكتفي به في الهبة أولى
(فصل) والقبض فيما لا ينقل بالتخلية بينه وبينه لا حائل دونه وفيما ينقل بالنقل وفي المشاع
بتسليم الكل إليه فإن أبى الشريك أن يسلم نصيبه قيل للمتهب وكل الشريك في قبضه لك ونقله فإن أبى
نصب الحاكم من يكون في يده لهما فينقله ليحصل القبض لأنه لا ضرر على الشريك في ذلك ويتم به عقد شريكه
(فصل) وتصح هبة المشاع وبه قال مالك والشافعي. قال الشافعي سواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن
وقال أصحاب الرأي لا تصح هبة المشاع الذي يمكن قسمته لأن القبض شرط في الهبة ووجوب القسمة
253

يمنع صحة القبض وتمامه فإن كان مما لا يمكن قسمته صحت هبته لعدم ذلك فيه، وان وهب واحد
اثنين شيئا مما ينقسم لم يجز عند أبي حنيفة وجاز عند صاحبيه وان وهب اثنان اثنين شيئا مما ينقسم
لم يصح في قياس قولهم لأن كل واحد من المتهبين قد وهب له جزء مشاع
ولنا أن وفد هوازن لما جاؤوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ما غنمه منهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) رواه البخاري وهذا هبة المشاع. وروى عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل ومعه كبة من شعر فقال أخذت
هذه من المغنم لا صلح بردعة لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك "
وروى عمرو بن سلمة الضمري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الروحاء فرأينا حمار
وحش معقورا فأردنا أخذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعوه فإنه يوشك أن يجئ صاحبه فجاء رجل من
بهز وهو الذي عقره فقال يا رسول الله شأنكم الحمار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقسمه بين الناس. رواه الإمام أحمد والنسائي، ولأنه يجوز بيعه فجازت هبته كالذي لا ينقسم ولأنه مشاع
فأشبه مالا ينقسم، وقولهم إن وجوب القسمة يمنع صحة القبض لا يصح فإنه لم يمنع صحته في البيع
فكذا ههنا، ومتى كانت الهبة لاثنين فقبضاه باذنه ثبت ملكهما فيه، وإن قبضه أحدهما ثبت الملك
في نصيبه دون نصيب صاحبه
254

(فصل) ومتى قلنا إن القبض شرط في الهبة لم تصح الهبة فيما لا يمكن تسليمه كالعبد الآبق
والجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممن لا يقدر على آخذه من غاصبه وبهذا يقول أبو حنيفة والشافعي
لأنه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح في ذلك كالبيع، وإن وهب المغصوب لغاصبه أو لم يتمكن من أخذه
منه صح لأنه ممكن قبضه وليس لغير الغاصب القبض الا باذن الواهب فإن وكل المالك الغاصب في
تقبيضه صح، وإن وكل المتهب الغاصب في القبض له فقبل ومضى زمن يمكن قبضه فيه صار مقبوضا
وملكه المتهب وبرئ الغاصب من ضمانه وان قلنا القبض ليس بشرط في الهبة فما لا يعتبر فيه القبض
من ذلك احتمل أن لا يعتبر في صحته القدرة على التسليم وهو قول أبي ثور لأنه تمليك بغير عوض
أشبه الوصية، ويحتمل أن لا تصح هبته لأنه لا يصح بيعه فلم تصح هبته كالحمل في البطن وكذلك يخرج
في هبة الطير في الهواء والسمك في الماء إذا كان مملوكا
(فصل) ولا تصح هبة الحمل في البطن واللبن في الضرع وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو
ثور لأنه مجهول معجوز عن تسليمه، وفي الصوف على الظهر وجهان بناء على صحة بيعه، ومتى أذن له في
جز الصوف وحلب الشاة كان إباحة، وإن وهب دهن سمسمه قبل عصره أو زيت زيتونه أو جفته
لم يصح وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا ولا تصح هبة المعدوم كالذي
تثمر شجرته أو تحمل أمته لأن الهبة عقد تمليك في الحياة فلم تصح في هذا كله كالبيع
255

(فصل) قال أحمد في رواية أبي داود وحرب لا تصح هبة المجهول، وقال في رواية حرب إذا
قال شاة من غنمي يعني وهبتها لك لم يجز وبه قال الشافعي، ويحتمل أن الجهل إذا كان في حق الواهب
منع الصحة لأنه غرر في حقه، وإن كان من الموهوب له لم يمنعها لأنه لا غرر في حقه فلم يعتبر في حقه
العلم بما يوهب له كالموصى له، وقال مالك تصح هبة المجهول لأنه تبرع فصح في المجهول كالنذر والوصية
ووجه الأول أنه عقد تمليك لا يصح تعليقه بالشروط فلم يصح في المجهول كالبيع بخلاف النذر والوصية
(فصل) ولا يصح تعليق الهبة بشرط لأنها تمليك لمعين في الحياة فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع
فإن علقها على شرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم لام سلمة " إن رجعت هديتنا إلى النجاشي فهي لك " كان
وعدا، وإن شرط في الهبة شروطا تنافي مقتضاها نحو أن يقول وهبتك هذا بشرط أن لا تهبه أولا تبيعه
أو بشرط أن تهبه أو تبيعه أو بشرط أن تهب فلانا شيئا لم يصح الشرط وفي صحة الهبة وجهان بناء على
الشروط الفاسدة في البيع، وان وقت الهبة فقال وهبتك هذا سنة ثم يعود إلي لم يصح لأنه عقد تمليك
لعين فلم يصح مؤقتا كالبيع
(فصل) وان وهب أمة واستثنى ما في بطنها صح في قياس قول أحمد فيمن أعتق أمة واستثنى ما في بطنها
لأنه تبرع بالام دون ما في بطنها فأشبه العتق وبه يقول في العتق النخعي وإسحاق وأبو ثور وقال أصحاب
الرأي تصح الهبة ويبطل الاستثناء، ولنا أنه لم يهب الولد فلم يملك الموهوب له كالمنفصل وكالموصى به
256

(فصل) وإذا كان له في ذمة انسان دين فوهبه له أو أبرأه منه أو أحله منه صح وبرئت ذمة
الغريم منه وان رد ذلك فلم يقبله لأنه اسقاط فلم يفتقر إلى القبول كاسقاط القصاص والشفعة وحد القذف
وكالعتق والطلاق، وان قال تصدقت به عليك صح فإن القرآن ورد في الابراء بلفظ الصدقة بقول
الله تعالى (ودية مسلمة إلى أهله الا أن يصدقوا) وان قال عفوت لك عنه صح لأن الله تعالى قال (الا
أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) يعني به الابراء من الصداق وان قال أسقطته عنك صح
لأنه أتى بحقيقة اللفظ الموضوع له، وان قال ملكتك إياه صح لأنه بمنزلة هبته إياه
(فصل) فإن وهب الدين لغير من هو في ذمته أو باعه إياه لم يصح وبه قال في البيع أبو حنيفة
والثوري وإسحاق. قال أحمد إذا كان لك على رجل طعام قرضا فبعه من الذي هو عليه بنقد
ولا تبعه من غيره بنقد ولا نسيئة وإذا أقرضت رجلا دراهم أو دنانير فلا تأخذ من غيره عرضا بمالك
عليه، وقال الشافعي إن كان الدين على معسر أو مماطل أو جاحد له لم يصح البيع لأنه معجوز عن
تسليمه، وإن كان على ملي، باذل له ففيه قولان (أحدهما) يصح لأنه ابتاع بمال ثابت في الذمة فصح
كما لو اشترى في ذمته ويشترط أن يشتريه بعين أو يتقايضان في المجلس لئلا يكون بيع دين بدين
ولنا أنه غير قادر على تسليمه فلم يصح كبيع الآبق، فاما هبته فيحتمل أن لا تصح كالبيع ويحتمل أن
تصح لأنه لا غرر فيها على المتهب ولا الواهب فصح كهبة الأعيان
(فصل) تصح البراة من المجهول إذا لم يكن لهما سبيل إلى معرفته، وقال أبو حنيفة تصح مطلقا
257

وقال الشافعي لا تصح إلا أنه إذا أراد ذلك قال أبرأتك من درهم إلى الف لأن الجهالة إنما منعت لأجل
الغرر فإذا رضي بالجملة فقد زال الغرر وصحت البراءة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجلين اختصما إليه في موارث درست " اقتسما وتوخيا الحق ثم استهما
ثم تحالا " رواه أبو داود ولأنه اسقاط فصح في المجهول كالعتاق والطلاق وكما لو قال من درهم إلى الف ولان
الحاجة داعية إلى تبرئة الذمة ولا سبيل إلى العلم بما فيها فلو وقفت صحة البراءة على العلم لكان سدا
لباب عفو الانسان عن أخيه المسلم وتبرئة ذمته فلم يجز ذلك كالمنع من العتق، وأما إن كان من عليه
الحق يعلمه ويكتمه المستحق خوفا من أنه إذا علمه لم يسمح بابرائه منه فينبغي أن لا تصح البراءة فيه
لأن فيه تغريرا بالمشتري وقد أمكن التحرز منه، وقال أصحابنا لو أبرأه من مائة وهو يعتقد أنه لا شئ
له عليه وكان له عليه مائة ففي صحة البراءة وجهان (أحدهما) صحتها لأنها صادفت ملكه فأسقطته كما لو
علمها (والثاني) لا تصح لأنه أبرأه مما لا يعتقد أنه عليه فلم يكن ذلك ابراء في الحقيقة. وأصل الوجهين
ما لو باع مالا كان لموروثه يعتقد أنه باق لموروثه وكان موروثه قد مات وانتقل ملكه إليه فهل يصح؟ فيه
وجهان وللشافعي قولان في البيع، وفي صحة الابراء وجهان
{مسألة} قال (ويقبض للطفل أبوه أو وصيه أو الحاكم أو أمينه بأمره)
وجملة ذلك أن الطفل لا يصح قبضه لنفسه ولا قبوله لأنه ليس من أهل التصرف ووليه يقوم
258

مقامه في ذلك فإن كان له أب أمين فهو وليه لأنه أشفق عليه وأقرب إليه، وإن مات أبوه الأمين وله
وصي فوليه وصيه لأن الأب أقامه مقام نفسه فجرى مجرى وكيله، وإن كان الأب غير مأمون لفسق
أو جنون أو مات عن غير وصي فأمينه الحاكم ولا يلي ماله غير هؤلاء الثلاثة وأمين الحاكم يقوم مقامه
وكذلك وكيل الأب والوصي فيقوم كل واحد منهم مقام الصبي في القبول والقبض ان احتيج إليه لأن
ذلك قبول لما للصبي فيه حظ فكان إلى الولي كالبيع والشراء، ولا يصح القبض والقبول من غير هؤلاء
قال أحمد في رواية صالح في صبي وهبت له هبة أو تصدق عليه بصدقة فقبضت الام ذلك وأبوه حاضر
فقال لا اعرف للام قبضا ولا يكون الا للأب وقال عثمان رضي الله عنه أحق من يحوز على الصبي
أبوه وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا لأن القبض إنما يكون من المتهب أو نائبه والولي نائب
بالشرع فصح قبضه له أما غيره فلا نيابة له، ويحتمل ان يصح القبض والقبول من غيرهم عند عدمهم
لأن الحاجة داعية إلى ذلك فإن الصبي قد يكون في مكان لا حاكم فيه وليس له أب ولا وصي ويكون
فقيرا لا غنى به عن الصدقات فإن لم يصح قبض غيرهم له انسد باب وصولها إليه فيضيع ويهلك ومراعاة
حفظه عن الهلاك أولى من مراعاة الولاية. فعلى هذا للام القبض له وكل من يليه من أقاربه وغيرهم
وإن كان الصبي مميزا فحكمه حكم الطفل في قيام وليه مقامه لأن الولاية لا تزول عنه قبل البلوغ
الا أنه إذا قبل لنفسه وقبض لها صح لأنه من أهل التصرف فإنه يصح بيعه وشراؤه بإذن الولي
259

فههنا أولى ولا يحتاج إلى إذن الولي ههنا لأنه محض مصلحة ولا ضرر فيه فصح من غير إذن وليه
كوصيته وكسب المباحات ويحتمل أن يقف صحة القبض منه على إذن وليه دون القبول لأن القبض
يحصل به مستوليا على المال فلا يؤمن تضييعه له وتفريطه فيه فيتعين حفظه عن ذلك بوقفه على اذن وليه
كقبضه لوديعته واما القبول فيحصل له به الملك من غير ضرر فجاز من غير اذن كاحتشاشه واصطياده
(فصل) فإن وهب الأب لابنه شيئا قام مقامه في القبض والقبول ان احتيج إليه قال ابن المنذر
أجمع كل من نحفظه عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا وهب لولده الطفل دارا بعينها أو عبدا بعينه
وقبضه له من نفسه واشهد عليه ان الهبة تامة هذا قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وروينا
معنى ذلك عن شريح وعمر بن عبد العزيز، ثم إن كان الموهوب مما يفتقر إلى قبض اكتفى بقوله
قد وهبت هذا لابني وقبضته له لأنه يغني عن القبول كما ذكرنا ولا يغني قوله قد قبلته لأن القبول
لا يغني عن القبض، وإن كان مما لا يفتقر اكتفى بقوله قد وهبت هذا لابني ولا يحتاج إلى ذكر
قبض ولا قبول قال ابن عبد البر أجمع الفقهاء على أن هبة الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى
قبض وان الاشهاد فيها يغني عن القبض وان وليها أبوه لما رواه مالك عن الزهري عن ابن المسيب
ان عثمان قال: من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يحوز نحلة فأعلن ذلك وأشهد على نفسه فهي جائزة
وان وليها أبوه، وقال القاضي لا بد في هبة الولد من أن يقول قد قبلته وهذا مذهب الشافعي لأن
الهبة عندهم لا تصح إلا بايجاب وقبول، وقد ذكرنا من قبل أن قرائن الأحوال ودلالتها تغنى عن
260

لفظ القبول ولا أدل على القبول من كون القابل هو الواهب فاعتبار لفظ لا يفيد معني من غير ورود
الشرع به تحكم لا معنى له مع مخالفته لظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وليس هذا مذهبا لأحمد فقد
قال في رواية حرب في رجل أشهد بسهم من ضيعته وهي معروفة لابنه وليس له ولد غيره فقال أحب
إلى أن يقول عند الاشهاد قد قبضته له قيل له فإن سها؟ فقال إذا كان مفرزا رجوت فقد ذكر أحمد
أنه يكتفى بقوله قد قبضته له وانه يرجو أن يكتفى مع التمييز بالاشهاد فحسب وهذا موافق للاجماع
المذكور عن سائر العلماء، وقال بعض أصحابنا يكتفى بأحد لفظين إما أن يقول قد قبلته أو قد قبضته
لأن القبول يغني عن القبض وظاهر كلام أحمد ما ذكرناه، ولا فرق بين الأثمان وغيرها فيما ذكرنا وبه
يقول أبو حنيفة والشافعي وقال مالك ان وهب له ما لا يعرف بعينه كالأثمان لم يجز إلا أن يضعها على يد
غيره لأن الأب قد يتلف ذلك ويتلف بغير سببه ولا يمكن أن يشهد على شئ بعينه فلا ينفع القبض شيئا
ولنا أن ذلك مما لا تصح هبته فإذا وهبه لابنه الصغير وقبضه له وجب أن تصح كالعروض
(فصل) وإن كان الواهب للصبي غير الأب من أوليائه فقال أصحابنا لابد من أن يوكل من
يقيل للصبي ويقبض له ليكون الايجاب منه والقبول والقبض من غيره كما في البيع بخلاف الأب فإنه
يجوز أن يوجب ويقبل ويقبض لكونه يجوز أن يبيع لنفسه، والصحيح عندي أن الأب وغيره في هذا
سواء لأنه عقد يجوز أن يصدر منه ومن وكيله فجاز له أن يتولى طرفيه كالأب، وفارق البيع فإنه لا يجوز
261

أن يوكل من يشتري له ولان البيع عقد معاوضة ومرابحة فيتهم في عقده لنفسه، والهبة محض مصلحة
لا تهمة فيها وهو ولي فيه فجاز أن يتولى طرفي العقد كالأب ولان البيع إنما منع منه لما يأخذه من العوض
لنفسه من مال الصبي وهو ههنا يعطي ولا يأخذ فلا وجه لمنعه من ذلك وتوقيفه على توكيل غيره، ولأننا
قد ذكرنا أنه يستغني بالايجاب والاشهاد إلى القبض والقبول فلا حاجة إلى التوكيل فيهما مع غناه عنهما
(فصل) فأما الهبة من الصبي لغيره فلا تصح سواء أذن فيها الولي أو لم يأذن لأنه محجور عليه
لحظ نفسه فلم يصح تبرعه كالسفيه، وأما العبد فلا يجوز أن يهب إلا باذن سيده لأنه مال لسيده وماله
مال لسيده فلا يجوز له إزالة ملك سيده عنه بغير إذنه كالأجنبي، وله أن يقبل الهبة بغير إذن سيده
نص عليه أحمد لأنه تحصيل المال للسيد فلم يعتبر إذنه فيه كالالتقاط وما وهبه لسيده لأنه من
اكتسابه فأشبه اصطياده
{مسألة} قال (وإذا فاضل بين ولده في العطية أمر برده كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم)
وجملة ذلك أنه يجب على الانسان التسوية بين أولاده في العطية إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل
فإن خص بعضهم بعطيته أو فاضل بينهم فيها اثم ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين اما رد ما فضل به البعض
وإما إتمام نصيب الآخر قال طاوس لا يجوز ذلك ولا رغيف محترق وبه قال ابن المبارك، وروي معناه عن
مجاهد وعروة وكان الحسن يكرهه ويجيزه في القضاء، وقال مالك والليث والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي ذلك جائز، وروي معنى ذلك عن شريح وجابر بن زيد والحسن بن صالح لأن أبا بكر رضي
262

الله عنه نحل عائشة ابنته جذاذ عشرين وسقا دون سائر ولده، واحتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم
في حديث النعمان بن بشير " أشهد على هذا غيري " فأمره بتأكيدها دون الرجوع فيها ولأنها عطية لزم
بموت الأب فكانت جائزة كما لو سوى بينهم
ولنا ما روى النعمان بن بشير قال: تصدق علي أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة لا أرضى
حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجا أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقته فقال " أكل ولدك
أعطيت مثله؟ " قال لا قال " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " قال فرجع أبي فرد تلك الصدقة، وفي لفظ
قال " فاردده " وفي لفظ قال " فأرجعه " وفي لفظ " لا تشهدني على جور " وفي لفظ " فاشهد على هذا غيري "
وفي لفظ " سو بينهم " وهو حديث صحيح متفق عليه وهو دليل على التحريم لأنه سماه جورا وأمر برده
وامتنع من الشهادة عليه والجور حرام والامر يقتضي الوجوب ولان تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة
والبغضاء وقطيعة الرحم فمنع منه كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها. وقول أبي بكر لا يعارض قول النبي
263

صلى الله عليه وسلم ولا يحتج به معه. ويحتمل ان أبا بكر رضي الله عنه خصها بعطيته لحاجتها وعجزها عن الكسب
والتسبب فيه مع اختصاصها بفضلها وكونها أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من فضائلها
ويحتمل أن يكون قد نحلها ونحل غيرها من ولده أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها فأدركه الموت
قبل ذلك، ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه وأقل
أحواله الكراهة والظاهر من حال أبي بكر اجتناب المكروهات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فأشهد على هذا
غيري " ليس بأمر لأن أدنى أحوال الامر الاستحباب والندب ولا خلاف في كراهة هذا، وكيف
يجوز أن يأمره بتأكيده مع أمره برده وتسميته إياه جورا، وحمل الحديث على هذا حمل الحديث
النبي صلى الله عليه وسلم على التناقض والتضاد ولو أمر النبي صلى الله عليه وسلم باشهاد غيره امتثل بشير أمره ولم يرد، وإنما
هذا تهديد له هذا فيفيد ما أفاده النهي عن إتمامه والله أعلم
264

(فصل) فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى أو كثرة
عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه
يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص
بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معناه ويحتمل ظاهر
لفظه المنع من التفضيل والتخصيص على كل حال لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيرا في عطيته،
والأول أولى إن شاء الله لحديث أبي بكر، ولان بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية فجاز أن يختص
بها كما لو اختص القرابة. وحديث بشير قضية في عين لا عموم لها، وترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستفصال
265

يجوز أن يكون لعلمه بالحال. فإن قيل لو علم بالحال لما قال " ألك ولد غيره؟ " قلنا يحتمل أن يكون
السؤال ههنا لبيان العلة كما قال عليه السلام للذي سأله عن بيع الرطب بالتمر " أينقص الرطب إذا يبس؟ "
قال نعم قال " فلا إذا " وقد علم أن الرطب ينقص لكن نبه السائل بهذا على علة المنع من البيع كذا ههنا
(فصل) ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية وكراهة التفضيل. قال إبراهيم: كانوا
يستحبون أن يسووا بينهم حتى في القبل. إذا ثبت هذا فالتسوية المستحبة أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله
تعالى الميراث فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وبهذا قال عطاء وشريح وإسحاق ومحمد بن الحسن. قال
266

شريح لرجل قسم ماله بين ولده: ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه: وقال عطاء: ما كانوا يقسمون
إلا على كتاب الله تعالى. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن المبارك: تعطي الأنثى مثل ما يعطى
الذكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد " سو بينهم " وعلل ذلك بقوله " أيسرك أن يستووا
في برك؟ " قال نعم قال " فسو بينهم " والبنت كالابن في استحقاق برها وكذلك في عطيتها. وعن
ابن عباس قال قال رسول الله " سووا بين أولادكم في العطية ولو كنت مؤثرا لآثرت النساء على
الرجال " رواه سعيد في سننه. ولأنها عطية في الحياة فاستوى فيها الذكر والأنثى كالنفقة والكسوة
ولنا أن الله تعالى قسم بينهم فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وأولى ما اقتدي بقسمة الله، ولان
العطية في الحياة أحد حالي العطية فيجعل للذكر منها مثل حظ الأنثيين كحالة الموت يعني الميراث يحققه
ان العطية استعجال لما يكون بعد الموت فينبغي أن تكون على حسبه كما أن معجل الزكاة قبل وجوبها
267

يؤديها على صفة أدائها بعد وجوبها وكذلك الكفارات المعجلة ولان الذكر أحوج من الأنثى من قيل إنهما
إذا تزوجا جميعا فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد على الذكر، والأنثى لها ذلك فكان أولى بالتفضيل
لزيادة حاجته وقد قسم الله تعالى الميراث ففضل الذكر مقرونا بهذا المعنى فتعلل به ويتعدى ذلك إلى
العطية في الحياة. وحديث بشير قضية في عين وحكاية حال لا عموم لها وإنما ثبت حكمها فيما ماثلها ولا
نعلم حال أولاد بشير هل كان فيهم أنثى أو لا؟ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أنه ليس له الا ولد ذكر ثم
تحمل التسوية على القسمة على كتاب الله تعالى ويحتمل انه أراد التسوية في أصل العطاء لا في صفته فإن
القسمة لا تقتضي التسوية من كل وجه وكذلك الحديث الآخر ودليل ذلك قول عطاء: ما كانوا
يقسمون إلا على كتاب الله تعالى وهذا خبر عن جميعهم على أن الصحيح من خبر ابن عباس انه مرسل
268

(فصل) وليس عليه التسوية بين سائر أقاربه ولا اعطاؤهم على قدر مواريثهم سواء كانوا من
جهة واحدة كاخوة وأخوات وأعمام وبني عم أو من جهات كبنات وأخوات وغيرهم، وقال أبو الخطاب
المشروع في عطية الأولاد وسائر الأقارب أن يعطيهم على قدر ميراثهم فإن خالف وفعل فعليه أن يرجع
ويعمهم بالنحلة لأنهم في معنى الأولاد فثبت فيهم مثل حكمهم
ولنا أنها عطية لغير الأولاد في صحته فلم تجب عليه التسوية كما لو كانوا غير وارثين ولان الأصل
إباحة تصرف الانسان في ماله كيف شاء وإنما وجبت التسوية بين الأولاد بالخبر وليس غيرهم في
معناهم لأنهم استووا في وجوب بر والدهم فاستووا في عطيته وبهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم حين قال " أيسرك
أن يستووا في برك؟ " قال نعم قال " فسو بينهم " ولم يوجد هذا في غيرهم ولان للوالد الرجوع فيما أعطى
ولده فيمكنه أن يسوي بينهم باسترجاع ما أعطاه لبعضهم ولا يمكن ذلك في غيرهم ولان الأولاد
269

لشدة محبة الوالد لهم وصرف ماله إليهم عادة يتنافسون في ذلك ويشتد عليهم تفضيل بعضهم ولا
يساويهم في ذلك غيرهم فلا يصح قياسه عليهم ولا نص في غيرهم ولان النبي صلى الله عليه وسلم قد علم لبشير زوجة
ولم يأمره باعطائها شيئا حين أمره بالتسوية بين أولاده ولم يسأله هل لك وارث غير ولدك؟
(فصل) والام في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اتقوا الله واعدلوا
بين أولادكم " ولأنها أحد الوالدين فمنعت التفضيل كالأب، ولان ما يحصل بتخصيص الأب بعض
ولده من الحسد والعداوة يوجد مثله في تخصيص الام بعض ولدها فثبت لها مثل حكمه في ذلك
(فصل) وقول الخرقي: أمر برده يدل على أن للأب الرجوع فيما وهب لولده وهو ظاهر مذهب
أحمد سواء قصد برجوعه التسوية بين الأولاد أو لم يرد وهذا مذهب مالك والأوزاعي والشافعي
وإسحاق وأبي ثور وعن أحمد رواية أخرى ليس له الرجوع فيها وبها قال أصحاب الرأي والثوري
270

والعنبري لقول النبي صلى الله عليه وسلم " العائد في هبته كالعائد في قيئه " متفق عليه، وعن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه قال من وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها ومن
وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته برجع فيها إذا لم يرض منها رواه مالك في الموطأ ولأنها هبة
يحصل بها الاجر من الله تعالى فلم يجز الرجوع فيها كصدقة التطوع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد " فاردده " وروي " فارجعه " رواه كذلك مالك عن الزهري
عن حميد بن عبد الرحمن عن النعمان فأمره بالرجوع في هبته، وأقل أحوال الامر الجواز، وقد امتثل
بشير بن سعد في ذلك فرجع في هبته لولده ألا تراه قال في الحديث فرجع أبي فرد تلك الصدقة وحمل
الحديث على أنه لم يكن أعطاه شيئا يخالف ظاهر الحديث لقوله تصدق علي أبي بصدقة، وقول بشير
إني نحلت ابني غلاما يدل على أنه كان قد أعطاه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فاردده " وقوله " فارجعه " وروى
271

طاوس عن ابن عمر وابن عباس يرفعان الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليس لأحد أن يعطي
عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده " رواه الترمذي وقال حديث حسن وهذا يخص عموم
ما رواه ويفسره وقياسهم منقوض بهبة الأجنبي فإن فيها أجرا وثوابا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إليها
وعندهم له الرجوع فيها والصدقة على الولد كمسئلتنا، وقد دل حديث النعمان بن بشير على الرجوع في
الصدقة لقوله تصدق على أبي بصدقة
(فصل) وظاهر كلام الخرقي أن الام كالأب في الرجوع في الهبة لأن قوله وإذا فاضل بين أولاده
يتناول كل والد ثم قال في سياقه: أمر برده فيدخل فيه الام وهذا مذهب الشافعي لأنها داخلة في قوله
إلا الوالد فيما يعطى ولده ولأنها لما دخلت في قول النبي " سووا بين أولادكم " ينبغي أن يتمكن من التسوية
والرجوع في الهبة طريق في التسوية وربما تعين طريقا فيما إذا لم يمكن اعطاء الآخر مثل عطية الأول
272

ولأنها لما دخلت في المعنى في حديث بشير بن سعيد فينبغي أن تدخل في جميع مدلوله لقوله " فاردده " وقوله
" فارجعه) ولأنها لما ساوت الأب في تحريم تفضيل بعض ولدها ينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع فيما فضله
به تخليصا لها من الاثم وإزالة للتفضيل المحرم كالأب والمنصوص عن أحمد أنه ليس لها الرجوع قال الأثرم
قلت لأبي عبد الله الرجوع للمرأة فيما أعطته ولدها كالرجل؟ قال ليس هي عندي في هذا كالرجل لأن للأب أن يأخذ
من مال ولده والام لا تأخذ، وذكر حديث عائشة: أطيب مأكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه "
أي كأنه الرجل قال أصحابنا والحديث حجة لنا فإنه خص الوالد وهو باطلاقه إنما يتناول الأب
دون الام والفرق بينهما ان للأب ولاية على ولد ويجوز جميع المال في الميراث والام بخلافه، وقال
مالك للام الرجوع في هبة ولدها ما كان أبوه حيا فإن كان ميتا فلا رجوع لها لأنها هبا ليتيم وهبة اليتيم
لازمة كصدقة التطوع ومن مذهبه أن لا يرجع في صدقة التطوع
273

(فصل) ولا فرق فيما ذكرنا بين الهبة والصدقة وهو قول الشافعي وفرق مالك وأصحاب الرأي
بينهما فلم يجيزوا الرجوع في الصدقة بحال واحتجوا بحديث عمر من وهب هبة وأراد بها صلة رحم أو
على وجه صدقة فإنه لا يرجع
ولنا حديث النعمان بن بشير فإنه قال تصدق علي أبي بصدقة وقال فرجع أبي فرد تلك الصدقة
وأيضا عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم " الا الوالد فيما يعطي ولده " وهذا يقدم على قول عمر ثم هو خاص في
الوالد وحديث عمر عام فيجب تقديم الخاص
(فصل) وللرجوع في هبة الولد شروط أربعة (أحدها) أن تكون باقية في ملك الابن فإن خرجت
عن ملكه ببيع أو هبة أو وقف أو إرث أو غير ذلك لم يكن له الرجوع فيها لأنه ابطال لملك غير الوالد
وإن عادت إليه بسبب جديد كبيع أو هبة لو وصية أو ارث ونحو ذلك لم يملك الرجوع فيها لأنها
274

عادت بملك جديد لم يستفده من قبل أبيه فلا يملك فسخه وازالته كالذي لم يكن موهوبا له، وإن عادت
إليه بفسخ البيع لعيب أو إقالة أو فلس المشتري ففيه وجهان (أحدهما) يملك الرجوع لأن السبب المزيل
ارتفع وعاد الملك بالسبب الأول فأشبه ما لو فسخ البيع بخيار المجلس أو خيار الشرط (والثاني) لا يملك
الرجوع لأن الملك عاد إليه بعد استقرار ملك من أنتقل إليه عليه فأشبه ما لو عاد إليه بهبة، فأما ان عاد
إليه للفسخ بخيار الشرط أو خيار المجلس فله الرجوع لأن الملك لم يستقر عليه
{فصل} (الثاني) أن تكون العين باقية في تصرف الولد بحيث يملك التصرف في رقبتها فإن استولد
الأمة لم يملك الأب الرجوع فيها لأن الملك فيها لا يجوز نقله إلى غير سيدها، وان رهن العين أو أفلس
وحجر عليه لم يملك الأب الرجوع فيها لأن في ذلك ابطالا الحق غير الولد فإن زال المانع من التصرف
فله الرجوع لأن ملك الابن لم يزل وإنما طرأ معني قطع التصرف مع بقاء الملك فمنع الرجوع فإذا زال
275

زال المنع والكتابة كذلك عند من لا يرى بيع المكاتب وهو مذهب الشافعي وجماعة سواه، فأما من
أجاز بيع المكاتب فحكمه حكم المستأجر والمزوج
وأما التدبير فالصحيح أنه لا يمنع البيع فلا يمنع الرجوع، وان قلنا يمنع البيع منع الرجوع وكل
تصرف لا يمنع الابن التصرف في الرقبة كالوصية والهبة قبل القبض فيما يفتقر إليه والوطئ والتزويج
والإجارة والكتابة والتدبير ان قلنا لا يمنع البيع والمزارعة عليها وجعلها مضاربة أو في عقد شركة فكل
ذلك لا يمنع الرجوع لأنه لا يمنع تصرف الابن في رقبتها وكذلك العتق المعلق على صفة، وإذا رجع
وكان التصرف لازما كالإجارة والتزويج والكتابة فهو باق بحله لأن الابن لا يملك ابطاله فكذلك من
انتقل إليه، وإن كان جائزا كالوصية والهبة قبل القبض بطل لأن الابن يملك ابطاله
وأما التدبير والعتق المعلق بصفة فلا يبقى حكمهما في حق الأب، ومتى عاد إلى الابن عاد حكمهما
276

فأما البيع الذي للابن فيه خيار اما لشرط أو عيب في الثمن أو غير ذلك فيمنع الرجوع لأن الرجوع
يتضمن فسخ ملك الابن في عضو المبيع ولم يثبت له ذلك من جهته، وان وهبه الابن لابنه لم يملك
الرجوع فيه لأن رجوعه ابطال لملك غير ابنه فإن رجع الابن في هبته احتمل أن يملك الأب الرجوع
في هبته حينئذ لأنه فسخ هبته برجوعه فعاد إليه الملك بالسبب الأول ويحتمل أن لا يملك الأب الرجوع
لأنه رجع إلى ابنه بعد استقرار ملك غيره عليه فأشبه ما لو وهبه ابن الابن لأبيه
(فصل الثلث) أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد فإن تعلقت بها رغبة لغيره مثل أن يهب ولده شيئا
فيرغب الناس في معاملته وأدانوه ديونا أو رغبوا في مناكحته فزوجوه إن كان ذكرا أو تزوجت الأنثى
277

لذلك فعن أحمد روايتان (أولاهما) ليس له الرجوع. قال أحمد في رواية أبي الحارث في الرجل يهب
لابنة مالا: فله الرجوع الا أن يكون غر به قوما فإن غر به فليس له أن يرجع فيها وهذا مذهب مالك لأنه
تعلق به حق غير الابن ففي الرجوع إبطال حقه وقد قال عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " وفي الرجوع
ضرر ولان في هذا تحيلا على إلحاق الضرر بالمسلمين ولا يجوز التحيل على ذلك (والثانية) له الرجوع
لعموم الخبر ولان حق المتزوج والغريم لم يتعلق بعين هذا المال فلم يمنع الرجوع فيه
(فصل) [الرابع] أن لا تزيد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم صنعة فإن زادت فعن أحمد
فيها روايتان (إحداهما) لا تمنع الرجوع وهو مذهب الشافعي لأنها زيادة في الموهوب فلم تمنع الرجوع
كالزيادة قبل القبض والمنفصلة (والثانية) تمنع وهو مذهب أبي حنيفة لأن الزيادة للموهوب له لكونها
نماء ملكه ولم تنتقل إليه من جهة أبيه فلم يملك الرجوع فيها كالمنفصلة وإذا امتنع الرجوع فيها امتنع
278

الرجوع في الأصل لئلا يقتضي إلى سوء المشاركة وضرر التشقيص ولأنه استرجاع للمال بفسخ عقد
لغير عيب في عوضه فمنعه الزيادة المتصلة كاسترجاع الصداق بفسخ النكاح أو نصفه بالطلاق أو
رجوع البائع في المبيع لفلس المشتري ويفارق الرد بالعيب من جهة ان الرد من المشتري وقد رضي
بذل الزيادة وان فرض الكلام فيما إذا باع عرضا بعرض فزاد أحدهما ووجد المشتري الآخر به عيبا
قلنا بائع المعيب سلط مشتريه على الفسخ بيعه المعيب فكان الفسخ وجد منه ولهذا قلنا فيما إذا فسخ الزوج
النكاح لعيب المرأة قبل الدخول لا صداق لها كما لو فسخته، وعلى هذا لا فرق بين الزيادة في العين
كالسمن والطول ونحوهما أو في المعاني كتعلم الصناعة أو الكتابة أو القرآن أو علم أو اسلام أو قضاء
دين عنه وبهذا قال محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة الزيادة بتعليم القرآن وقضاء الدين عنه لا نمنع الرجوع
ولنا انها زيادة لها مقابل من الثمن فمنعت الرجوع كالسمن وتعلم الصنعة وان زاد ببرئه من مرض
279

أو صمم منع الرجوع كسائر الزيادات وان كانت زيادة العين أو التعلم لا يزيد في قيمته شيئا أو ينقص
منها لم يمنع الرجوع لأن ذلك ليس بزيادة في المالية وأما الزيادة المنفصلة كولد البهيمة وثمرة الشجرة
وكسب العبد فلا تمنع الرجوع بغير اختلاف نعلمه والزيادة للولد لأنها حادثة في ملكه ولا تتبع في
الفسوخ فلا تتبع ههنا. وذكر القاضي وجها آخر انها للأب وهو بعيد فإن كانت الزيادة ولد أمة
لا يجوز التفريق بينه وبين أمه منع الرجوع لأنه يلزم منه التفريق بينه وبين أمه وذلك محرم الا أن
نقول إن الزيادة المنفصلة للأب فلا يمنع الرجوع لأنه يرجع فيهما جميعا أو يرجع في الام
ويتملك الولد من مال ولده
(فصل) وان قصر العين أو فصلها فلم تزد قيمتها لم تمنع الرجوع لأن العين لم تزد ولا القيمة وان
زادت قيمتها فهي زيادة متصلة هل تمنع الرجوع أو لا؟ يبنى على الروايتين في السمنة ويحتمل أن
280

تمنع هذه الزيادة الرجوع بكل حال لأنها حاصلة بفعل الابن فجرت مجرى العين الحاصلة بفعله بخلاف
السمن فإنه يحتمل أن يكون للأب فلا يمنع الرجوع لأنه نماء العين فيكون تابعا لها، وان وهبه حاملا
فولدت في يد الابن فهي زيادة متصلة في الولد ويحتمل أن يكون الولد زيادة منفصلة إذا قلنا الحمل
لا حكم له، وإن وهبه حاملا ثم رجع فيها حاملا جاز إذا لم تزد قيمتها، وان زادت قيمتها فهي زيادة
منفصلة، وإن وهبته حائلا فحملت فهي زيادة منفصلة وله الرجوع فيها دون حملها. وان قلنا إن الحمل
لا حكم له فزادت به قيمتها فهي زيادة متصلة وان لم تزد قيمتها جاز الرجوع فيها، وان وهبه نخلا فحملت
فهي قبل التأبير زيادة متصلة وبعده زيادة منفصلة
(فصل) وان تلف بعض العين أو نقصت قيمتها لم يمنع الرجوع فيها ولا ضمان على الابن فيما
تلف منها لأنها تتلف على ملكه وسواء تلف بفعل الابن أو بغير فعله، وان جنا العبد جناية تعلق
281

أرشها برقبته فهو كنقصانه بذهاب بعض أجزائه وللأب الرجوع فيه فإن رجع فيه ضمن أرش الجناية
وإن جنى على العبد فرجع الأب فيرجع الأب فيه فأرش الجناية عليه للابن لأنه بمنزلة الزيادة المنفصلة
فإن قيل فلو أراد الأب الرجوع في الرهن وعليه فكاكه لم يملك ذلك فكيف ملك الرجوع في العبد الجاني
إذا أدي أرش جنايته؟ قلنا الرهن يمنع التصرف في العين بخلاف الجناية ولان فك الرهن فسخ لعقد
عقده الموهوب له وههنا لم يتعلق الحق به من جهة العقد فافترقا
(فصل) والرجوع في الهبة أن يقول قد رجعت فيها أو ارتجعتها أو ارتددتها أو نحو ذلك من
الألفاظ الدالة على الرجوع ولا يحتاج إلى حكم حاكم وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يصح
الرجوع إلا بقضاء قاض لأن ملك الموهوب له مستقر
ولنا أنه خيار في فسخ عقد فلم يفتقر إلى قضاء كالفسخ بخيار الشرط فاما ان أخذ ما وهبه لولده
282

فإن نوى به الرجوع كان رجوعا والقول قوله في نيته، وان لم يعلم هل نوى الرجوع أو لا وكان ذلك
بعد موت الأب فإن لم توجد قرينة تدل على الرجوع لم يحكم بكونه رجوعا لأن الاخذ يحتمل الرجوع
وغيره فلا تزيل حكما يقينيا بأمر مشكوك فيه، وان اقترنت به قرائن دالة على الرجوع ففيه وجهان
(أحدهما) يكون رجوعا اختاره ابن عقيل لأننا اكتفينا في العقد بدلالة الحال ففي الفسخ أولى ولان لفظ
الرجوع إنما كان رجوعا لدلالته عليه فكذلك كما دل عليه والآخر لا يكون رجوعا وهو مذهب
الشافعي لأن الملك ثابت للموهوب له يقينا فلا يزول الا بالصريح، ويمكن أن يبنى هذا على نفس
العقد فمن أوجب الايجاب والقبول فيه لم يكتف ههنا الا بلفظ يقتضي زواله، ومن اكتفى في العقد
بالمعاطاة الدالة على الرضا به فههنا أولى، وان نوى الرجوع من غير فعل ولا قول لم يحصل الرجوع
283

وجها واحدا لأنه اثبات الملك على مال مملوك لغيره فلم يحصل بمجرد النية كسائر العقود، وان علق
الرجوع بشرط فقال إذا جاء رأس الشهر فقد رجعت في الهبة لم يصح لأن الفسخ للعقد لا يقف على
شرط كما لا يقف العقد عليه
{مسألة} (فإن مات ولم يردده فقد ثبت لمن وهب له إذا كان ذلك في صحته)
يعني إذا فاضل بين ولده في العطايا أو خص بعضهم بعطية ثم مات قبل أن يسترده ثبت ذلك
للموهوب له ولزم وليس لبقية الورثة الرجوع هذا المنصوص عن أحمد في رواية محمد بن الحكم والميموني
وهو اختيار الخلال وصاحبه أبي بكر وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر أهل العلم وفيه
رواية أخرى عن أحمد ان لسائر الورثة أن يرتجعوا ما وهبه اختاره ابن بطة وأبو حفص العكبريان وهو
284

قول عروة بن الزبير وإسحاق، وقال أحمد عروة قد روي الأحاديث الثلاثة حديث عائشة وحديث
عمر وحديث عثمان وتركها وذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم " يرد في حياة الرجل وبعد موته " وهذا قول إسحاق
إلا أنه قال إذا مات الرجل فهو ميراث بينهم لا يسع أن ينتفع أحد بما أعطي دون إخوته وأخواته لأن
النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا بقوله " لا تشهدني على جور " والجور حرام لا يحل للفاعل فعله ولا للمعطى
تناوله والموت لا يغيره عن كونه جورا حرما فيجب رده، ولان أبا بكر وعمر أمرا قيس بن سعد أن يرد
قسمة أبيه حين ولد له ولد ولم يكن علم به ولا أعطاه شيئا وكان ذلك بعد موت سعد، فروى سعيد باسناده
من طريقين ان سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده وخرج إلى الشام فمات بها ثم ولد بعد ذلك ولد
فمشى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى قيس بن سعد فقالا ان سعد أقسم ماله ولم يدر ما يكون، وانا
ترى أن ترد هذه القسمة فقال قيس لم أكن لاغير شيئا صنعه سعدا ولكن نصيبي له وهذا معنى
285

الخبر، ووجه القول الأول قول أبي بكر رضي الله عنه لعائشة لما نحلها نحلا وددت لو أنك كنت حزتيه
فدل على أنها لو كانت حازته لم يكن له الرجوع وكذلك قول عمر لا نحلة الا نحلة يجوزها الولد دون
الوالد ولأنها عطية لولده فلزمت بالموت كما لو انفرد، وقوله إذا كان ذلك في صحته يدل على أن عطيته في
مرض موته لبعض ورثته لا تنفذ لأن العطايا في مرض الموت بمنزلة الوصية في أنها تعتبر من الثلث إذا
كانت لأجنبي اجماعا فكذلك لا تنفذ في حق الوارث. قال ابن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من
أهل العلم أن حكم الهبات في المرض الذي يموت فيه الواهب حكم الوصايا هذا مذهب المديني والشافعي
والكوفي، فإن أعطى أحد بنيه في صحته ثم أعطى الآخر في مرضه فقد توقف أحمد فيه فإنه سئل عمن
زوج ابنه فأعطى عنه الصداق ثم مرض الأب وله ابن آخر هل يعطيه في مرضه كما أعطى الآخر في
صحته فقال لو كان أعطاه في صحته، فيحتمل وجهين (أحدهما) لا يصح لأن عطيته في مرضه كوصيته
286

ولو وصى له لم يصح فكذلك إذا أعطاه (والثاني) يصح لأن التسوية بينهما واجبة ولا طريق لها في هذا
الموضع الا بعطية الآخر فتكون واجبة فتصح كقضاء دينه
(فصل) قال أحمد أحب أن لا يقسم ماله ويدعه على فرائض الله تعالى لعله أن يولد له فإن
أعطى ولده ماله ثم ولد له ولد فأعجب إلي أن يرجع فيسوي بينهم يعني يرجع في الجميع أو يرجع
في بعض ما أعطى كل واحد منهم ليدفعوه إلى هذا الولد الحادث ليساوي اخوته، فإن كان هذا الولد
الحادث بعد الموت لم يكن له الرجوع على اخوته لأن العطية لزمت بموت أبيه الا على الرواية الأخرى
التي ذهب إليها أبو عبد الله بن بطة، ولا خلاف في أنه يستحب لمن أعطي أن يساوي أخاه في عطيته
ولذلك أمر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قيس بن سعد برد قسمة أبيه ليساووا المولود الحادث
بعد موت أبيه.
287

(فصل) وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه ومع عدمها
صغيرا كان الولد أو كبيرا بشرطين (أحدهما) أن لا يجحف بالابن ولا يضر به ولا يأخذ شيئا تعلقت
به حاجته (الثاني) أن لا يأخذ من مال ولده فيعطيه الآخر نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد
وذلك لأنه ممنوع من تخصيص بعض ولده بالعطية من مال نفسه فلان يمنع من تخصيصه بما أخذ من
مال ولده الآخر أولى
وقد روي أن مسروقا زوج ابنته بصداق عشرة آلاف فأخذها وأنفقها في سبيل الله وقال للزوج
جهز امرأتك، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي ليس له أن يأخذ من مال ولده الا بقدر حاجته لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا " متفق عليه
وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل أحد أحق بكسبه من والده وولده والناس أجمعين " رواه
288

سعيد في سننه وهذا نص. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفسه "
رواه الدارقطني ولان ملك الابن تام على مال نفسه فلم يجز انتزاعه منه كالذي تعلقت به حاجته
ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان أطيب ما أكلتم من كسبكم
وان أولادكم من كسبكم " أخرجه سعيد والترمذي وقال حديث حسن. وروى عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي اجتاح مالي، فقال " أنت ومالك لأبيك)
رواه الطبراني في معجمه مطولا ورواه غيره وزاد " ان أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم "
وروى محمد بن المنكدر والمطلب بن حنطب قل: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي مالا وعيالا ولأبي مال وعيال وأبي يريد أن يأخذ مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أنت ومالك لا بيك " أخرجه
سعيد في سننه. ولان الله تعالى جعل الولد موهوبا لأبيه فقال (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) وقال
289

(ووهبنا له يحيى) وقال زكريا (رب هب لي من لدنك وليا) وقال إبراهيم (الحمد لله الذي وهب
لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) وما كان موهوبا له كان له أخذ ماله كعبده وقال سفيان بن عيينة في قوله (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم) ثم ذكر
بيوت سائر القرابات الا الأولاد لم يذكرهم لأنهم دخلوا في قوله (بيوتكم) فلما كانت بيوت أولادهم
كبيوتهم لم يذكر بيوت أولادهم ولان الرجل يلي مال ولده من غير تولية فكان له التصرف فيه كمال
نفسه، وأما أحاديثهم فأحاديثنا تخصها وتفسرها فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مال الابن مالا لأبيه بقوله
" أنت ومالك لأبيك " فلا تنافي بينهما، وقوله " أحق به من ولده وولده " مرسل ثم هو يدل على ترجيح
حقه على حقه لا على نفي الحق بالكلية والولد أحق من الوالد بما تعلقت به حاجته
290

(فصل) وليس للولد مطالبة أبيه بدين عليه وبه قال الزبير بن بكار وهو مقتضى قول سفيان
ابن عيينة، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي له ذلك لأنه دين ثابت فجازت المطالبة كغيره
ولنا أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه يقتضيه دينا عليه فقال " أنت ومالك لأبيك " رواه
أبو محمد الخلال باسناده. وروى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات باسناده أن رجلا استقرض من
ابنه مالا فحبسه فأطال حبسه فاستعدي عليه الابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر قصته في شعر
فأجابه أبوه بشعر أيضا فقال علي رضي الله عنه
قد سمع القاضي ومن ربي الفهم * المال لشيخ جزاء بالنعم
يأكله برغم أنف من رغم * من قال قولا غير ذا فقد ظلم
وجار في الحكم وبئس ما جرم
291

قال الزبير: إلى هذا نذهب ولان المال أحد نوعي الحقوق فلم يملك مطالبة أبيه بها كحقوق
الأبدان ويفارق الأب غيره بما ثبت له من الحق على ولده. وان مات الابن فانتقل الدين إلى ورثته لم
يملكوا مطالبة الأب به لأن موروثهم لم يكن له المطالبة فهم أولى، وان مات الأب رجع الابن في تركته بدينه
لأن دينه لم يسقط عن الأب وإنما تأخرت المطالبة. وقد روي عن أحمد أنه قال إذا مات الأب بطل
دين الابن. وقال فيمن أخذ من مهر ابنته شيئا فأنفقه فليس عليه شئ ولا يؤخذ من بعده وما أصابت
من المهر من شئ بعينه أخذته. وتأول بعض أصحابنا كلامه على أن له ما أخذه على سبيل التمليك ويحتمل
أن يكون أخذه له وإنفاقه إياه دليلا على قصد التملك فيثبت الملك بذلك الاخذ والله أعلم
(فصل) وان تصرف الأب في مال الابن قبل تملكه لم يصح تصرفه نص عليه أحمد فقال لا يجوز
عتق الأب لعبد ابنه ما لم يقبضه، فعلى هذا لا يصح ابراؤه من دينه ولا هبته لماله ولا بيعه له وذلك
292

لأن ملك الابن تام على مال نفسه يصح تصرفه فيه ويحل له وطئ جواريه ولو كان الملك مشتركا لم
يحل له الوطئ كما لا يجوز وطئ الجارية المشتركة وإنما للأب انتزاعه منه كالعين التي وهبها إياه فقبل
انتزاعها لا يصح تصرفه لأنه يتصرف في ملك غيره بغير ولاية، وإن كان الابن صغيرا لم يصح أيضا
لأنه لا يملك التصرف بما لاحظ للصغير فيه وليس من الحظ اسقاط دينه وعتق عبده وهبة ماله
(فصل) قال أحمد بين الرجل وبين ولده ربا لما ذكرناه من أن ملك الابن على ماله تام. وقال:
لا يطأ جارية الابن الا أن يقبضها يعني يتملكها، وذلك لأنه إذا وطئها قبل تملكها فقد وطئها وليست
زوجة ولا ملك يمين وان تملكها لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها لأنه ابتداء ملك فوجب الاستبراء فيه
كما لو اشتراها وإن كان الابن قد وطئها لم تحل له بحال وان وطئها قبل تملكه كان محرما من وجهين
(أحدهما) انه وطئها قبل ملكها (والثاني) انه وطئها قبل استبرائها، وإن كان الابن وطئها حرمت
293

بوجه ثالث وهي انها صارت بمنزلة حليلة ابنه فإن فعل فلا حد عليه لشبهة الملك فإن النبي صلى الله عليه وسلم
أضاف مال الولد إلى أبيه فقال " أنت ومالك لأبيك وان ولدت منه صارت أم ولد له وولده حر
لأنه من وطئ انتفى عنه الحد للشبهة وتصير أم ولد وليس للابن مطالبته بشئ من قيمتها ولا قيمة
ولدها ولا مهرها. وهل يعزر؟ يحتمل وجهين (أحدهما) يعزر لأنه وطئ وطأ محرما أشبه ما لو وطئ
جارية مشتركة بينه وبين غيره (والثاني) لا يعزر لأنه لا يقتص منه بالجناية على ولده فلا يعزر بالتصرف في ماله
(فصل) وليس لغير الأب الاخذ من مال غيره بغير اذنه لأن الخبر ورد في الأب بقوله " أنت
ومالك لأبيك " ولا يصح قياس غير الأب عليه لأن للأب ولاية على ولده وماله إذا كان صغيرا
وله شفقة تامة وحق متأكد ولا يسقط ميراثه بحال والام لا تأخذ لأنها لا ولاية لها والجد أيضا لا يلي
على مال ولد ابنه وشفقته قاصرة عن شفقة الأب ويحجب به في الميراث وفي ولاية النكاح وغيرها
294

من الأقارب والأجانب ليس لهم الاخذ بطريق التنبيه لأنه إذا امتنع الاخذ في حق الام والجد مع
مشاركتهما للأب في بعض المعاني فغيرهما مما لا يشارك الأب في ذلك أولى
{مسألة} قال (ولا يحل لواهب أن يرجع في هبته ولا لمهد أن يرجع في هديته
وإن لم يثب عليها)
يعني وان لم يعوض عنها وأراد من عدا الأب لأنه قد ذكر ان للأب الرجوع بقوله أمر برده
فأما غيره فليس له الرجوع في هبته ولا هديته وبهذا قال الشافعي وأبو ثور. وقال النخعي والثوري
وإسحاق وأصحاب الرأي من وهب لغير ذي رحم فله الرجوع ما لم يثب عليها ومن وهب لذي رحم
فليس له الرجوع وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واحتجوا بما روى أبو هريرة قال
295

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرجل أحق بهبته ما لم يثب ما لم يثب منها " رواه ابن ماجة في سننه ويقول عمر ولأنه لم
يحصل له عنها عوض فجاز له الرجوع فيها كالعارية
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " العائد في هبته كالعائد في قيئه " وفي لفظ " كالكلب يعود في قيئه "
وفي رواية " انه ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " متفق عليه وأيضا قول النبي
صلى الله عليه وسلم " ليس لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها الا الوالد فيما يعطي ولده " وقد ذكرناه. وروى عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يرجع واهب في هبته الا الوالد فيما يعطي
ولده " ولأنه واهب لا ولاية له في المال فلم يرجع في هبته كذي الرحم المحرم. وأحاديثنا أصح من
أحاديثهم وأولى. وقول عمر قد روي عن ابنه وابن عباس خلافه وأما العارية فإنما هي هبة المنافع
ولم يحصل القبض فيها فإن قبضها باستيفائها فنظير مسئلتنا ما استوفى من منافع العارية فإنه لا يجوز الرجوع فيها
296

(فصل) فحصل الاتفاق على أن ما وهبه الانسان لذوي رحمه المحرم غير ولده، لا رجوع فيه،
وكذلك ما وهب الزوج لامرأته والخلاف فيما عدا هؤلاء فعندنا لا يرجع الا الوالد وعندهم لا يرجع
الا الأجنبي، فأما هبة المرأة لزوجها فعن أحمد فيه روايتان (إحداهما) لا رجوع لها فيها وهذا قول عمر بن
عبد العزيز والنخعي وربيعة ومالك والثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وهو قول عطاء وقتادة
(والثانية) لها الرجوع. قال الأثرم سمعت أحمد يسئل عن المرأة تهب ثم ترجع فرأيته يجعل النساء غير
الرجال ثم ذكر الحديث " إنما يرجع في المواهب النساء وشرار الأقوام " وذكر حديث عمر: ان
النساء يعطين أزواجهن رغبة ورهبة وأيما امرأة أعطت زوجها شيئا ثم أرادت أن تعتصره فهي أحق
به رواه الأثرم باسناده وهذا قول شريح والشعبي وحكاه الزهري عن القضاة، وعن أحمد رواية
أخرى ثالثة نقلها أبو طالب إذا وهبت له مهرها فإن كان سألها ذلك رده إليها رضيت أو كرهت
297

لأنها لا تهب الا مخافة غضبه أو اضرار بها بأن يتزوج عليها وان لم يكن سألها وتبرعت به فهو جائز
فظاهر هذه الرواية أنه متى كانت مع الهبة قرينة من مسألته لها أو غضبه عليها أو ما يدل على خوفها
منه فلها الرجوع لأن شاهد الحال يدل على أنها لم تطب بها نفسها وإنما أباحه الله تعالى عند طيب
نفسها بقوله تعالى (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) وظاهر كلام الخرقي الرواية
الأولى وهو اختيار أبي بكر لقول الله تعالى (الا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) وقال تعالى (فإن
طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) وعموم الأحاديث الذي قدمناها
(فصل) ولا يجوز للمتصدق الرجوع في صدقته في قولهم جميعا لأن عمر قال في حديثه.
من وهب هبة على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها مع عموم أحاديثا فاتفق دليلهم ودليلنا فلذلك
اتفق قولهم وقولنا
298

(فصل) والهبة المطلقة لا تقتضي ثوابا سواء كانت من الانسان لمثله أو دونه أو أعلى منه وبهذا قال
أبو حنيفة وقال الشافعي في الهبة لمثله أو دونه كقولنا: فإن كانت لاعلى منه ففيها قولان (أحدهما) أنها
تقتضي الثواب وهو قول مالك لقول عمر رضي الله عنه، ومن وهب هبة أراد بها الثواب فهو على
هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها
ولنا أنها عطية على وجه التبرع فم تقتض ثوابا كهبة المثل والوصية وحديث عمر قد خالفه ابنه
وابن عباس، فإن عوضه عن الهبة كانت هبة مبتدأة لا عوضا أيهما أصاب عيبا لم يكن له الرد، وان
خرجت مستحقة أخذها صاحبها ولم يرجع الموهوب له ببدلها فإن شرط في الهبة ثوابا معلوما صح نص
عليه أحمد لأنه تمليك بعوض معلوم فهو كالبيع، وحكمها حكم البيع في ضمان الدرك وثبوت الخيار والشفعة
وبهذا قال أصحاب الرأي ولأصحاب الشافعي قول أنه لا يصح لأنه شرط في الهبة ما ينافي مقتضاها،
ولنا أنه تمليك بعرض فصح كما لو قال ملكتك هذا بدرهم فإنه لو أطلق التمليك كان هبة
299

وإذا ذكر العوض صار بيعا. قال أبو الخطاب وقد روي عن أحمد ما يقتضي أن يغلب في هذا حكم
الهبة فلا نثبت فيها أحكام البيع المختصة به، فاما ان شرط ثوابا مجهولا لم يصح وفسدت الهبة وحكمها
حكم البيع الفاسد يردها الموهوب له بزيادتها المتصلة والمنفصلة لأنه نماء ملك الواهب وان كانت تالفة
رد قيمتها وهذا قول الشافعي وأبي ثور، وظاهر كلام أحمد رحمه الله أنها تصح فإذا أعطاه عنها عوضا
رضيه لزم العقد بذلك فإنه قال في رواية محمد بن الحكم إذا قال الواهب هذا لك على أن تثيبني فله
أن يرجع إذا لم يثبه لأنه شرط، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد إذا وهب له على وجه الإثابة فلا
يجوز الا أن يثيبه عنها، فعلى هذا عليه أن يعطيه حتى يرضيه فإن لم يفعل فللواهب الرجوع ويحتمل
أن يعطيه قدر قيمتها، والأول أصح لأن هذا بيع فيعتبر فيه التراضي إلا أنه بيع بالمعاطاة فإذا عوضه عوضا
رضيه حصل البيع بما حصل من المعاطاة مع التراضي بها وان لم يحصل التراضي لم تصح لعدم العقد فإنه لم
يوجد الايجاب والقبول ولا المعطاة مع التراضي، والأصل في هذا قول عمر رضي الله عنه من وهب
300

هبة أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها. وروي معنى ذلك عن علي وفضالة بن
عبيد ومالك بن أنس وهو قول الشافعي على القول الذي يرى أن الهبة المطلقة تقتضي ثوابا
وقد روى أبو هريرة أن أعرابيا وهب النبي صلى الله عليه وسلم ناقة فأعطاه ثلاثا فأبى فزاده ثلاثا فأبى فزاده ثلاثا
فلما كملت تسعا قال رضيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لقد هممت أن لا اتهب الا من قرشي
أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي " من المسند، قال أحمد إذا تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان
ولم يثبه منها فلا أرى عليه نقصان ما نقص عنده إذا رده إلى صاحبه الا أن يكون ثوبا لبسه أو
301

غلاما استعمله أو جارية استخدمها فأما غير ذلك إذا نقص فلا شئ عليه فكان عندي مثل الرهن
الزيادة والنقصان لصاحبه
{مسألة} قال (وإذا قال داري لك عمرى أو هي لك عمرك فهي له ولورثته من بعده)
العمرى والرقبى نوعان من الهبة يفتقران إلى ما يفتقر إليه سائر الهبات من الايجاب والقبول والقبض
أو ما يقوم مقام ذلك عند من اعتبره، وصورة العمرى أن يقول الرجل أعمرتك داري هذه أو هي لك
عمرى أو ما عشت أو مدة حياتك أو ما حييت أو نحو هذا، سميت عمرى لتقييدها بالعمرى والرقبى أن
302

يقول أرقبتك هذه الدار أو هي لك حياتك على أنك ان مت قبلي عادت إلي، وإن مت قبلك فهي لك
ولعقبك فكأنه يقول هي لآخرنا موتا وبذلك سميت رقبى لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه
وكلاهما جائز في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن بعضهم أنها لا تصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " لا تعمروا ولا ترقبوا "
ولنا ما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العمرى جائزة لأهلها والرقبى جائزة لأهلها "
رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن، فاما النهي فإنما ورد على سبيل الاعلام لهم انكم إن
أعمرتم أو أرقبتم يعد للمعمر والمرقب ولم يعد إليكم منه شئ. وسياق الحديث يدل عليه فإنه قال " فمن
303

أعمر عمرى فهي لمن أعمرها حيا وميتا وعقبه " ولو أريد به حقيقة النهي لم يمنع ذلك صحتها فإن النهي
إنما يمنع صحة ما يفيد المنهي عنه فائدة، أما إذا كان صحة المنهي عنه ضررا على مرتكبه لم يمنع صحته
كالطلاق في زمن الحيض وصحة العمرى ضرر على المعمر فإن ملكه يزول بغير عوض. إذا ثبت هذا
فإن العمرى تنقل الملك إلى المعمر وبهذا قال جابر بن عبد الله وابن عمر وابن عباس وشريح ومجاهد
وطاوس والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وروي ذلك عن علي
وقال مالك والليث العمرى تمليك المنافع لا تملك بها رقبة المعمر بحال ويكون للمعمر السكنى
فإذا مات عادت إلى المعمر، وان قال له ولعقبه كان سكناها لهم فإذا انقرضوا عادت إلى المعمر
304

واحتجا بما روى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت مكحولا يسأل القاسم بن
محمد عن العمرى ما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم ما أدركت الناس الا على شروطهم في أموالهم وما
أعطوا، وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي عن ابن الاعرابي لم يختلف العرب في العمرى والرقبي
والافقار والاخبال والمنحة والعرية والعارية والسكنى والاطراق انها على ملك أربابها ومنافعها
لمن جعلت له ولان التمليك لا يتأقت كما لو باعه إلى مدة فإذا كان لا يتأقت حمل قوله على تمليك
المنافع لأنه يصح توقيته
ولنا ما روى جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر
305

عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه " رواه مسلم. وفي لفظ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى
لمن وهبت له " متفق عليه. وروى ابن ماجة عن ابن عمر قان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا رقبى فمن
أرقب شيئا فهو له حياته وموته " وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العمرى للوارث
وقد روى مالك حديث العمرى في موطئه وهو صحيح رواه جابر وابن عمر وابن عباس ومعاوية
وزيد بن ثابت وأبو هريرة وقول القاسم لا يقبل في مخالقة من سمينا من الصحابة والتابعين فكيف
يقبل في مخالفة قول سيد المرسلين ولا يصح أن يدعي اجماع أهل المدينة لكثرة من قال بها منهم وقضى
بها طارق بالمدينة بأمر عبد الملك بن مروان وقول ابن الاعرابي أنها عند العرب تمليك المنافع لا يضر
306

إذا نقلها الشرع إلى تمليك الرقبة كما نقل الصلاة من الدعاء إلى الافعال المنظومة، ونقل الظهار
والايلاء من الطلاق إلى أحكام مخصوصة قولهم ان التمليك لا يتأقت قلنا فلذلك أبطل الشرع تأقيتها
وجعلها تمليكا مطلقا
(فصل) إذا شرط في العمرى أنها للمعمر وعقبه فهذا تأكيد لحكمها وتكون للمعمر وورثته وهذا قول جميع
القائلين بها وإذا أطلقها فهي للمعمر وورثته أيضا لأنها تمليك للرقبة فأشبهت الهبة فإن شرط انك إذا مت
فهي لي فعن أحمد روايتان (إحداهما) صحة العقد والشرط ومتى مات المعمر رجعت إلى المعمر وبه قال القاسم بن
محمد وزيد بن قسيط والزهري ومالك وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن أبي ذئب ومالك وأبي ثور وداود وهو أحد
307

قولي الشافعي لما روى جابر قال: إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك، فأما
إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها. متفق عليه. وروى مالك في موطئه عن جابر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها)
لأنه اعطى عطاء وقعت فيه المواريث. وقال القاسم بن محمد ما أدركت الناس الا على شروطهم في
أموالهم (والرواية الثانية) انها تكون للمعمر ولورثته ويسقط الشرط وهذا قول الشافعي الجديد
وقول أبي حنيفة وهو ظاهر المذهب نص عليه أحمد في رواية أبي طالب للأحاديث المطلقة التي
308

ذكرناها وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو له في حياته وموته " وقال مجاهد الرقبى
أن يقول هي للآخر مني ومنك موتا
وروى الإمام أحمد باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا عمرى ولا رقبى فمن أعمر شيئا أو
أرقبه فهو له حياته وموته " وهذا صريح في إبطال الشرط لأن الرقبى يشترط فيها عودها إلى المرقب
ان مات الآخر قبله. وأما حديثهم الذي احتجوا به فمن قول جابر نفسه وأما نقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم
قال " أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه "
ولأنا لو أجرنا هذا الشرط كانت هبة مؤقتة والهبة لا يجوز فيها التأقيت ولم يفسدها الشرط لأنه
309

ليس بشرط على المعمر وإنما شرط ذلك على ورثته ومتى لم يكن الشرط مع المعقود معه لم يؤثر فيه
وأما قوله في الحديث الاخر انه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فهذه الزيادة من كلام أبي سلمة بن
عبد الرحمن كذلك رواه ابن أبي ذئب وفصل هذه الزيادة فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى فيمن أعمر
عمرى له ولعقبة فهي له بتلة لا يجوز للمعطى فيها شرط ولا مثنوبة. قال أبو سلمة لأنه أعطى عطاء
وقعت فيه المواريث
(فصل) والرقبى هي أن يقول هذا لك عمرك فإن مت قبلي رجع إلي وإن مت قبلك فهو لك ومعناه
هي لآخرنا موتا وكذلك فسرها مجاهد سميت رقبى لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه، وقد
310

روي عن أحمد أنه قال: هي أن يقول هي لك حياتك فإذا مت فهي لفلان أو هي راجعة إلى والحكم
فيها على ما تقدم ذكره وانها كالعمرى إذا شرط عودها إلى المعمر، وقال علي رضي الله عنه العمرى
والرقبى سواء. وقال طاوس من أرقب شيئا فهو على سبيل الميراث، وقال الزهري الرقبى وصية
يعني أن معناها إذا مت فهذا لك، وقال الحسن ومالك وأبو حنيفة الرقبى باطلة لما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم أجاز العمرى وأبطل الرقبى ولان معناها أنها للاخر منا وهذا تمليك معلق بخطر، ولا يجوز
تعليق التمليك بالخطر
311

ولنا ما رويناه من الاخبار، وحديثهم لا نعرفه ولا نسلم أن معناها ما ذكروه بل معناها أنها لك
حياتك فإن مت رجعت إلي فتكون كالعمرى سواء إلا أنه زاد شرطها لورثه المرقب، ان مات
المرقب قبله وهذا يبين تأكيدها على العمرى
(فصل) وتصح العمرى في غير العقار من الحيوان والثياب لأنها نوع هبة فصحت في ذلك
كسائر الهبات، وقد روي عن أحمد في الرجل يعمر الجارية فلا أرى له وطأها قال القاضي لم يتوقف
أحمد عن وطئ الجارية لعدم الملك فيها لكن على طريق الورع لأن الوطئ استباحة فرج، وقد
اختلف في صحة العمرى وجعلها بعضهم تمليك المنافع فلم ير له وطأها لهذا ولو وطئها كان جائزا
312

(فصل) وان وقت الهبة إلى غير العمرى والرقبي فقال وهبتك هذا لسنة أو إلى أن يقدم الحاج
أو إلى أن يبلغ ولدي أو مدة حياة فلان ونحو هذا لم يصح لأنها تمليك للرقبة فلم تصح موقتة كالبيع
وتفارق العمرى والرقبى لأن الانسان إنما يملك الشئ عمره فإذا ملكه عمره فقد وقته بما هو موقت
به في الحقيقة فصار ذلك كالمطلق، وان شرط رجوعها إليه بعد ذلك كان شرطا على غير الموهوب له بخلاف غيره
{مسألة} قال (وان قال سكناها لك عمرك كان له أخذها أي وقت أحب لأن السكنى
ليست كالعمرى والرقبى)
أما إذا قال سكنى هذه الدار لك عمرك أو اسكنها عمرك أو نحو ذلك فليس ذلك بعقد لازم
لأنه في التحقيق هبة المنافع، والمنافع إنما تستوفى بمضي الزمان شيئا فشيئا فلا تلزم الا في قدر ما قبضه
313

منها واستوفاه بالسكنى وللمسكن الرجوع متى شاء وأيهما مات بطلت الإباحة وبهذا قال أكثر العلماء
وجماعة أهل الفتوى منهم الشعبي والنخعي والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي،
وروي معنى ذلك عن حفصة، وقال الحسن وعطاء وقتادة هي كالعمرى تكون له ولعقبه لأنها في معنى
العمرى فيثبت فيها مثل حكمها، وحكي عن الشعبي أنه إذا قال هي لك أسكن حتى تموت فهي له حياته
وموته وان قال داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها لأنه إذا قال هي لك فقد جعل له رقبتها
فتكون عمرى فإذا قال أسكن داري هذا فإنما جعل له نفعها دون رقبتها فتكون عارية
ولنا أن هذا إباحة المنافع فلم يقع لازما كالعارية وفارق العمرى فإنها هبة للرقبة فاما إذا قال هذه
314

لك اسكنها حتى تموت فإنه يحتمل لك سكناها حتى تموت وتفسيرها بذلك دليل على أنه أراد
السكنى فأشبه ما لو قال هذه لك سكناها، وإذا احتمل أن يريد به الرقبة واحتمل أن يريد السكنى
فلا نزيل ملكه بالاحتمال
(فصل) إذا وهب هبة فاسدة أو باع بيعا فاسدا ثم وهب تلك العين أو باعها بعقد صحيح مع
315

علمه بفساد الأول صح العقد الثاني لأنه تصرف في ملكه عالما بأنه ملكه، وإن كان يعتقد صحة
العقد الأول ففي صحة الثاني وجهان (أحدهما) صحته لأن تصرفه صادف ملكه وثم بشروطه فصح
كما لو علم فساد الأول (والثاني) لا يصح لأنه تصرف تصرفا يعتقد فساده ففسد كما لو صلى يعتقد أنه
محدث فبان متطهرا وهكذا لو تصرف في عين يعقد أنها لأبيه فبان أنه قد مات وملكها بالميراث
316

أو غصب عينها فباعها يعتقدها مغصوبة فبان أنها ملكه فعلى الوجهين قال القاضي أصل الوجهين من باشر
امرأة بطلاق يعتقدها أجنبية فبانت امرأته أو واجه بالعتق من يعتقدها حرة فبانت أمته ففي وقوع الطلاق
والحرية روايتان وللشافعية في هذه المسائل وجهان كما حكينا والله أعلم
317

كتاب اللقطة
وهي المال الضائع من ربه يلتقطه غيره، قال الخليل بن أحمد اللقطة بفتح القاف اسم للملتقط
لأن ما جاء على فعلة فهو اسم للفاعل كقولهم همزة ولمزة وضحكة وهزأة واللقطة بسكون القاف المال
الملقوط مثل الضحكة الذي يضحك منه والهزأة الذي يهزأ به، وقال الأصمعي وابن الاعرابي والفراء
هي بفتح القاف اسم للمال الملقوط أيضا والأصل في اللقطة ما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق فقال " اعرف وكاءها رعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف
فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه " وسأله عن ضالة الإبل فقال
" مالك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها: وسأله عن الشاة
فقال " خذها فانا هي لك أو لأخيك أو للذئب " متفق عليه، والوكاء الخيط الذي يشد به المال في
الخرقة والعفاص الوعاء الذي هي فيه من خرقة أو قرطاس أو غيره. قاله أبو عبيد والأصل في العفاص
أنه الجلد الذي يلبسه رأس القارورة قوله " معها حذاءها " يعني خفها فإنه لقوته وصلابته يجري مجرى الحذاء
وسقاؤها بطنها لأنها تأخذ فيه ماء كثيرا فيبقى معها يمنعها العطش والضلة اسم الحيوان خاصة دون
سائر اللقطة والجمع ضوال ويقال لها أيضا الهوامي والهوافي والهوامل
318

(فصل) قال إمامنا رحمه الله الأفضل ترك الالتقاط وروي معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر
وبه قال جابر وابن زيد والربيع بن خيثم وعطاء ومر شريح بدرهم فلم يعرض له واختار أبو الخطاب
إذا وجدها بمضيعة وأمن نفسه عليها فالأفضل أخذها وهذا قول الشافعي وحكي عنه قول آخر أنه يجب
أخذها لقول الله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فإذا كان وليه وجب عليه حفظ ماله وممن
رأى اخذها سعيد بن المسيب والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأخذها أبي بن كعب وسويد بن غفلة
وقال مالك إن كان شيئا له بال يأخذه أحب إلي ويعرفه لأن فيه حفظ مال المسلم عليه فكان أولى من
تضييعه وتخليصه من الغرق
ولنا قول ابن عمر وابن عباس ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة ولأنه تعريض لنفسه لاكل
الحرام وتضييع الواجب من تعريفها وأداء الأمانة فيها فكان تركه أولى وأسلم كولاية مال اليتيم وتخليل
الخمر وما ذكروه يبطل بالضوال فإنه لا يجوز أخذها مع ما ذكروه وكذلك ولاية مال الأيتام
{مسألة} قال (ومن وجد لقطة عرفها سنة في الأسواق وأبواب المساجد)
وجملته أن في التعريف ستة فصول في وجوبه وقدره وزمانه ومكانه وكيفيته ومن يتولاه، أما
وجوبه فإنه واجب على كل ملتقط سواء أراد تملكها أو حفظها لصاحبها، وقال الشافعي لا تجب على
من أراد حفظها لصاحبها
319

ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به زيد بن خالد وأبي بن كعب ولم يفرق، ولان حفظها لصاحبها إنما
يقيد باتصالها إليه وطريقه التعريف اما بقاؤها في يد الملتقط من غير وصولها إلى صاحبها فهو وهلاكها
سيان، ولان امساكها من غير تعريف تضييع لها عن صاحبها فلم يجز كردها إلى موضعها أو القائها في
غيره، ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط لأن بقاءها في مكانها إذا أقرب إلى وصولها إلى صاحبها
إما بأن يطلبها في الموضع الذي ضاعت فيه فيجدها واما بأن يجدها من يعرفها وأخذه لها يفوت الامرين
فيحرم فلما جاز الالتقاط وجب التعريف كيلا يحصل هذا الضرر، ولان التعريف واجب على من
أراد تملكها فكذلك على من أراد حفظها فإن التمليك غير واجب فلا تجب الوسيلة إليه فيلزم أن يكون
الوجوب في المحل المتفق عليه لصيانتها عن الضياع عن صاحبها وهذا موجود في محل النزاع
(الفصل الثاني) في قدر التعريف. وذلك سنة روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وبه قال
ابن المسيب والشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي. وروي عن عمر رواية أخري أنه يعرفها
ثلاثة أشهر وعنه ثلاثة أعوام لأن أبي بن كعب روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امره بتعريف مائة الدينار
ثلاثة أعوام، وقال أبو أيوب الهاشمي ما دون الخمسين درهما يعرفها ثلاثة أيام إلى سبعة أيام، وقال
الحسن بن صالح ما دون عشرة دراهم يعرفها ثلاثة أيام، وقال الثوري في الدرهم يعرفه أربعة أيام،
وقال إسحاق ما دون الدينار يعرفه جمعة أو نحوها. وروى أبو إسحاق الجوزجاني باسناده عن يعلى
320

ابن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من التقط درهما أو حبلا أو شبه ذلك فليعرفه ثلاثة أيام فإن
كان فوق ذلك فليعرفه سبعة أيام "
ولنا حديث زيد بن خالد الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بعام واحد ولان السنة لا تتأخر عنها
القوافل ويمضي فيها الزمان الذي تقصد فيه البلاد من الحر والبرد والاعتدال فصلحت قدرا كمدة
أجل العين. وأما حديث أبي فقد قال الراوي لا أدري ثلاثة أعوام أو عام واحد، قال أبو داود شك
الراوي في ذلك، وحديث يعلى لم يقل به قائل على وجهه وحديث زيد وأبي أصح منه وأولى. إذا ثبت
هذا فإنه يجب أن تكون هذه السنة تلي الالتقاط وتكون متوالية في نفسها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعريفها
حين سئله عنها والامر يقتضي الفور ولان القصد بالتعريف وصول الخبر إلى صاحبها وذلك يحصل بالتعريف
عقيب ضياعها متواليا لأن صاحبها في الغالب إنما يتوقعها ويطلبها عقيب ضياعها فيجب تخصيص التعريف به
(الفصل الثالث) في زمانه وهو النهار دون الليل لأن النهار مجمع الناس وملتقاهم دون الليل
ويكون ذلك في اليوم الذي وجدها والأسبوع أكثر لأن الطلب فيه أكثر ولا يجب فيما بعد ذلك
متواليا. وقد روى الجوزجاني باسناده عن معاوية بن عبد الله عن زيد الجهني قال نزلنا مناخ ركب
فوجدت خرقة فيها قريب من مائة دينار فجئت بها إلى عمر فقال عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد ثم
أمسكها حتى قرن السنة ولا يقد من ركب إلا نشدتها وقلت الذهب بطريق الشام ثم شأنك بها
321

(الفصل الرابع) في مكانه وهو الأسواق وأبواب المساجد والجوامع في الوقت الذي يجتمعون
فيه كأدبار الصلوات في المساجد وكذلك في مجامع الناس لأن المقصود إشاعة ذكرها واظهارها ليظهر عليها
صاحبها فيجب تحري مجامع الناس ولا ينشدها في المسجد لأن المسجد لم يبن لهذا، وقد روى أبو
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله إليك فإن
المساجد لم تبن لهذا " وأمر عمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد
(الفصل الخامس فيمن يتولاه) وللملتقط أن يتولى ذلك بنفسه وله أن يستنيب فيه، فإن وجد
متبرعا بذلك والا إن احتاج إلى أجر فهو على الملتقط وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي واختار أبو
الخطاب انه إن قصد الحفظ لصاحبها دون تملكها رجع بالاجر على مالكها، وكذلك قال ابن عقيل فيما
لا يملك بالتعريق لأنه من مؤنة إيصالها إلى صاحبها فكان على مالكها كأجر مخزنها ورعيها وتجفيفها
ولنا ان هذا أجر واجب على المعرف فكان عليه كما لو قصد تملكها ولأنه لو وليه بنفسه لم يكن له
أجر على صاحبها فكذلك إذا استأجر عليه لا يلزم صاحبها شئ ولأنه سبب لملكها فكان على الملتقط
كما لو قصد تملكها، وقال مالك إن أعطى منها شيئا لمن عرفها فلا غرم عليه كما لو دفع منها شيئا لمن
جففها، وقد ذكرنا الدليل على ذلك
322

(الفصل السادس) في كيفية التعريف وهو أن يذكر جنسها لا غير فيقول من ضاع منه ذهب
أو فضة أو دنانير أو ثياب ونحو ذلك لقول عمر رضي الله عنه لواجد الذهب بطريق الشام
ولا تصفها لأنه لو وصفها لعلم صفتها من يسمعها فلا تبقى صفتها دليلا على ملكها لمشاركة غير المالك
المالك في ذلك ولأنه لا يأمن أن يدعيها بعض من سمع صفتها ويذكر صفتها التي يجب دفعها بها فيأخذها
وهو لا يملكها فتضيع على مالكها
(فصل) لم يفرق الخرقي بين يسير اللقطة وكثيرها وهو ظاهر المذهب إلا في اليسير الذي لا نتبعه
النفس كالتمرة والكسرة والخرقة ومالا خطر له فإنه لا بأس بأخذه والانتفاع به من غير تعريف،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على واجد التمرة حيث أكلها بل قال له " لو لم تأتها لأتتك " ورأي النبي
صلى الله عليه وسلم تمرة فقال " لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها " ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في
إباحة
أخذ اليسير والانتفاع، وقد روي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة وبه قال عطاء وجابر بن
زيد وطاوس النخعي ويحيى بن أبي كثير ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وليس عن أحمد وأكثر
من ذكرنا تحديد اليسير الذي يباح، وقال مالك وأبو حنيفة لا يجب تعريف مالا يقطع به السارق وهو
ربع دينار عند مالك وعشرة دراهم عند أبي حنيفة لأن ما دون ذلك تافه فلا يجب تعريفه كالكسرة
والتمرة، والدليل على أنه تافه قول عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون في الشئ التافه، وروي عن
علي رضي الله عنه انه وجد دينارا فتصرف فيه، وروى الجوزجاني عن سلمى بنت كعب قالت:
323

وجدت خاتما من ذهب في طريق مكة فسألت عائشة عنه فقالت تمتعي به، وروى أبو داود باسناده
عن جابر قال رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به، والجبل
قد تكون قيمته دراهم وعن ابن ماجة باسناده عن سويد بن غفلة قال خرجت مع سلمان بن ربيعة وزيد
ابن صوحان حتى إذا كنا بالعذيب التقطت سوطا فقالا لي ألقه فأبيت حتى قدمنا المدينة أتيت أبي بن كعب
فذكرت ذلك له فقال أصبت قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وللشافعية ثلاثة أوجه كالمذاهب الثلاثة
ولنا على ابطال تحديده بما ذكروه ان حديث زيد بن خالد عام في كل لفظة فيجب ابقاؤه على
عمومه إلا ما خرج منه بالدليل، ولم يرد بما ذكروه نص ولا هو في معنى ما ورد النص به ولان التحديد
والتقدير لا يعرف بالقياس وإنما يؤخذ من نص أو اجماع وليس فيما ذكروه نص ولا اجماع، وأما حديث
علي فهو ضعيف رواه أبو داود وقال طرقه كلها مضطربة ثم هو مخالف لمذهبهم ولسائر المذاهب فتعين
حمله على وجه من الوجوه غير اللقطة إما لكونه مضطرا إليه أو غير ذلك، وحديث عائشة قضية في عين
لا يدرى كم قدر الخاتم ثم هو قول صحابي وكذلك حديث علي وهم لا يرون ذلك حجة، وسائر الأحاديث
ليس فيها تقدير لكن يباح أخذ ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ورخص في أخذه من السوط والعصى والحبل
وما قيمته كقيمة ذلك، وقدره الشيخ أبو الفرج في كتابه بما دون القيراط ولا يصح تحديده لما ذكرنا
(فصل) إذا أخر التعريف عن الحول الأول مع إمكانه أثم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فيه والامر
يقتضي الوجوب وقال في حديث عياض بن حمار لا تكتم ولا تغيب، ولان ذلك وسيلة إلى أن لا يعرفها
324

صاحبها فإن الظاهر أنه بعد الحول ييأس منها ويسلو عنها ويترك طلبها ويسقط التعريف بتأخيره عن
الحول الأول في المنصوص عن أحمد لأن حكمة التعريف لا تحصل بعد الحول الأول وإن تركه في بعض
الحول عرف بقيته ويتخرج أن لا يسقط التعريف لتأخره لأنه واجب فلا يسقط بتأخيره عن وقته
كالعبادات وسائر الواجبات ولان التعريف في الحول الثاني يحصل به المقصود على نوع من القصور
فيجب الاتيان به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " فعلى هذا إن أخر
التعريف بعض الحول أتى بالتعريف في بقيته وأتمه من الحول الثاني، وعلى كلا القولين لا يملكها بالتعريف
فيما عدا الحول الأول لأن شرط الملك التعريف في الحول الأول ولم يوجد، وهل له أن يتصدق بها
أو يحبسها عنده أبدا؟ على روايتين، ويحتمل أن يلزمه دفعها إلى الحاكم كقونا فيما إذا التقط فيما لا يجوز
التقاطه، ولو ترك التعريف في بعض الحول الأول لم يملكها أيضا بالتعريف فيما بعده لأن الشرط لم
يكمل وعدم بعض الشرط كعدم جميعه كما لو أخل ببعض الطهارة أو ببعض السترة في الصلاة
(فصل) وإن ترك التعريف في الحول الأول لعجزه عنه مثل أن يتركه لمرض أو حبس أو نيسان
ونحوه ففيه وجهان (أحدهما) ان حكمه حكم ما لو تركه مع امكانه لأن تعريفه في الحول سبب الملك
والحكم ينتفي لانتفاء سببه سواء انتفى لعذر أو غير عذر (والثاني) انه يعرفه في الحول الثاني ويملكه
لأنه لم يؤخر التعريف عن وقت إمكانه فأشبه ما لو عرفه في الحول الأول
325

{مسألة} قال (فإن جاء ربها وإلا كانت كسائر ماله)
وجملته انه إذا عرف اللقطة حولا فلم تعرف ملكها ملتقطها وصارت من ماله كسائر أمواله غنيا
كان الملتقط أو فقيرا، وروي نحو ذلك عن عمر وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عطاء والشافعي
وإسحاق وابن المنذر وروى ذلك عن علي وابن عباس والشعبي والنخعي وطاوس وعكرمة، وقال
مالك والحسن بن صالح والثوري وأصحاب الرأي يتصدق بها فإذا جاء صاحبها خيره بين الاجر
والغرم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل عن اللقطة فقال " عرفها حولا "
وروي " ثلاثة أحوال " فإن جاء ربها وإلا تصدق بها فإذا جاء ربها فرضي بالاجر وإلا غرمها
ولأنها مال لمعصوم لم يرض بزوال ملكه عنها ولا وجد منه سبب يقتضي ذلك فلم يزل ملكه عنه كغيرها
قالوا وليس له أن يتملكها إلا أن أبا حنيفة قال له ذلك إن كان فقيرا من غير ذري القربى لما روى
عياض بن حمار المجاشعي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من وجد لقطة فليشهد عليها ذا عدل أو ذوي عدل
ولا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليرددها عليه وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء " رواه النسائي
قالوا وما يضاف إلى الله تعالى إنما يتملكه من يستحق الصدقة، ونقل حنبل عن أحمد مثل هذا القول
وأنكره الخلال وقال ليس هذا مذهبا لأحمد
326

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد " فإن لم تعرف فاستنفقها " وفي لفظ " وإلا فهي
كسبيل مالك " وفي لفظ " ثم كلها " وفي لفظ " فانتفع بها " وفي لفظ " فشأنك بها " وفي حديث أبي
ابن كعب " فاستنفقها " وفي لفظ " فاستمتع بها " وهو حديث صحيح، ولان من ملك بالقرض ملك
باللقطة كالفقير ومن جاز له الالتقاط ملك به بعد التعريف كالفقير. وحديثهم عن أبي هريرة لم يثبت
ولا نقل في كتاب يوثق به ودعواهم في حديث عياض ان ما يضاف إلى الله لا يتملكه إلا من يستحق
الصدقة لا برهان لها ولا دليل عليها وبطلانها ظاهر فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله تعالى خلقا
وملكا قال الله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)
(فصل) وتدخل اللقطة في ملكه عند تمام التعريف حكما كالميراث هذا ظاهر كلام الخرقي لقوله
وإلا كانت كسائر ماله، وكذلك قال أحمد في رواية الجماعة إذا جاء صاحبها وإلا كانت كسائر ماله
واختار أبو الخطاب انها لا تدخل في ملكه حتى يختار واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال كقولنا
ومنهم من قال يملكها بالنية، ومنهم من قال يملكها بقوله اخترت تملكها، ومنهم من قال لا يملكها
إلا بقوله والتصرف فيها لأن هذا تمليك بعوض فلم يحصل إلا باختيار المتملك كالشراء
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا جاء صاحبها وإلا فهي كسبيل مالك " وقوله " فاستنفقها " ولو وقف
ملكها على تملكها لبينه له ولم يجوز له التصرف قبله وفي لفظ " فهي لك " وفي لفظ " كلها " وهذه
327

الألفاظ كلها تدل على ما قلنا ولان الالتقاط والتعريف سبب للتمليك فإذا تم وجب ان بثبت به الملك
حكما كالاحياء والاصطياد ولأنه سبب يملك به فلم يقف الملك بعده على قوله ولا اختياره كسائر الأسباب
وذلك لأن المكلف ليس إليه إلا مباشرة الأسباب فإذا أتى بها ثبت الحكم قهرا وجبرا من الله تعالى
غير موقوف على اختيار المكلف، وأما الاقتراض فهو السبب في نفسه فلم يثبت الملك بدونه
(فصل) فإن التقطها اثنان فعرفاها حولا ملكاها جميعا وإن قلنا بوقوف الملك على الاختيار
فاختار أحدهما دون الآخر ملك المختار نصفها دون الآخر، وإن رأياها معا فبادر أحدهما فأخذها
أو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه فأخذها فهي لآخذها لأن استحقاق اللقطة بالأخذ لا بالرؤية كالاصطياد
وإن قال أحدهما لصاحبه هاتها فأخذها نظرت في نيته فإن أخذها لنفسه فهي له دون الآمر وإن أخذها
للآمر فهي له كما لو وكله في الاصطياد له
(فصل) وتملك اللقطة ملكا مراعى يزول بمجئ صاحبها ويضمن له بدلها إن تعذر ردها والظاهر
أنه يملكها بغير عوض يثبت في ذمته وإنما يتجدد وجوب العوض بمجئ صاحبها كما يتجدد زوال
الملك عنها بمجيئه وكما يتجدد وجوب نصف الصداق للزوج أو بدله إن تعذر ثبوت الملك فيه بالطلاق
وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال أكثرهم لا يملكها إلا بعوض يثبت في ذمته لصاحبها وهذا قول
القاضي وأصحابه بدليل أن يملك المطالبة به فأشبه القرض
328

ولنا قول النبي " صلى الله عليه وسلم فإن جاء صاحبها والا فهي مال الله يؤتيه من يشاء " فجعلها من المباحات،
ولأنه لو مات لم يعزل من تركته بدلها ولا يستحق أن يأخذ من الزكاة بسبب الغرم ولا يلزمه أن
يوصي به ولا يمتنع وجوب الزكاة في ماله بسبب الدين ولا يثبت شئ من أحكام الدين في حقه وانتفاء
أحكامه دليل على انتفائه، وقال القاضي يمنع ذلك وجوب الزكاة ولأنه لو ملكها بعوض لم يزل
ملكه عنها بمجئ صاحبها، ولو وقف ملكه لها على رضاه بالمعاوضة واختياره لأحدهما كالقرض والامر
بخلاف ذلك وإنما يستحق صاحبها المطالبة بعد مجيئه بشرط تلفها فإنها لو كانت موجودة لاخذها
ولم يستحق لها بدلا، وإن كانت تالفة تجدد له ملك المطالبة ببدلها كما يتجدد له الملك فيها لو كانت
موجودة وكما يتجدد له الملك في نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول وفي بدله إن كان معدوما وهذا
أشبه بمسئلتنا وبه يبطل ما ذكروه، وأما القرض فإنه لما ثبت بدله في الذمة لم يعد الملك له في المقرض
إلا برضاء المقرض واختياره
(فصل) وكل ما جاز التقاطه ملك بالتعريف عند تمامه أثمانا كانت أو غيرها. هذا كلام الخرقي
فإن لفظه عام في كل لفظه وقد نقل ذلك عن أحمد فإن محمد بن الحكم روى عنه في الصياد يقع في
شصه الكيس أو النحاس يعرفه سنة فإن جاء صاحبه والا فهو كسائر ماله وهذا نص في النحاس.
وقال الشريف بن أبي موسى هل حكم العروض في التعريف وجواز التصرف فيها بعد ذلك حكم الأثمان؟
329

على روايتين أظهرهما انها كالأثمان ولا أعلم بين أكثر أهل العلم فرقا بين الأثمان والعروض في ذلك،
وقال أكثر أصحابنا لا تملك العروض بالتعريف. قال القاضي نص أحمد على هذا في رواية الجماعة
واختلفوا فيما يصنع بها فقال أبو بكر وابن عقيل يعرفها أبدا. وقال القاضي هو بالخيار بين أن يقيم
على تعريفها حتى يجئ صاحبها وبين دفعها إلى الحاكم ليرى رأيه فيها وهل له بيعها بعد الحول ويتصدق
بها على روايتين، وقال الخلال كل من روى عن أحمد أنه يعرفه سنة ويتصدق به والذي نقل انه
يعرف ابدا قول قديم رجع عنه، احتجوا بما روي عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود مثل قولهم
ولأنها لقطة لا تملك في الحرم فلا تملك في غيره كالإبل. ولان الخبر ورد في الأثمان وغيرها لا يساويها
لعدم الغرض المتعلق بعينها فمثلها يقوم مقامها من كل وجه بخلاف غيرها
ولنا عموم الأحاديث في اللقطة جميعها فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال " عرفها سنة ثم قال
في آخره فانتفع بها أو فشانك بها " وفي حديث عياض بن حمار " من وجد لقطة " وهو لفظ عام،
وروى الجوزجاني والأثرم في كتابيهما قالا حدثنا أبو نعيم ثنا هشام بن سعد قال حدثني عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في متاع يوجد
في الطريق الميتاء أو في قرية مسكونة؟ فقال عرفه " سنة فإن جاء صاحبه وإلا فشأنك به " ورويا أن
سفيان بن عبد الله وجد عيبة فأتى بها عمر بن الخطاب فقال عرفها سنة فإن عرفت وإلا فهي لك زاد
330

الجوزجاني فلم تعرف فلقيه العام المقبل فذكرها له فقال عمر هي لك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمرنا بذلك ورواه النسائي أيضا، وهذا نص في غير الأثمان وروى الجوزجاني باسناده عن الحر بن
الصباح قال كنت عند ابن عمر بمكة إذ جاءه رجل فقال إني وجدت هذا البرد وقد نشدته وعرفته
فلم يعرفه أحد وهذا يوم التروية ويوم يتفرق الناس فقال إن شئت قومته قيمة عدل ولبسته وكنت له
ضامنا متى جاءك صاحبه دفعت إليه ثمنه وإن لم يجئ له طالب فهو لك إن شئت، ولان ما جاز التقاطه
ملك بالتعريف كالأثمان وما حكوه عن الصحابة إن صح فقد حكينا عن عمر وابنه خلافه وقولهم
انها لقطة لا تملك في الحرم ممنوع ثم هو منقوض بالأثمان ولا يصح قياسها على الإبل لأن معها حذاءها
وسقاها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها ولا يوجد ذلك في غيرها ولان الإبل لا يجوز التقاطها
فلا تملك به وههنا يجوز التقاطها فتملك به كالأثمان، ثم لم إذا لم تملك في الحرم لا تملك في الحل؟ وذلك
لأن الحرم ميز بكون لقطته لا يلتقطها إلا منشد ولهذا لم تملك الأثمان بالتقاطها فيه فلا يلزم أن لا تملك
في موضع لم يوجد المانع فيه، وقولهم ان النص خاص في الأثمان قلنا بل هو عام في كل لقطة فيجب
العمل بعمومه، وإن ورد فيها نص خاص فقد روي خبر عام فيعمل بها ثم قد روينا نصا خاصا في
العروض فيجب العمل به كما وجب العمل بالخاص في الأثمان، ثم لو اختص الخبر بالأثمان لوجب أن
يقاس عليها ما كان في معناها كسائر النصوص التي عقل معناها ووجد في غيرها وههنا قد وجد المعنى
331

فيجب قيامه على المنصوص عليه، أو نقول إن المعنى ههنا آكد فيثبت الحكم فيه بطريق التنبيه. بيانه
ان الأثمان لا تتلف بمضي الزمان عليها وانتظار صاحبها بها أبدا والعروض تتلف بذلك ففي النداء عليها
دائما هلاكها وضياع ماليتها على صاحبهما وملتقطها وسائر الناس في إباحة الانتفاع بها وملكها بعد
التعريف حفظا لماليتها على صاحبها بدفع قيمتها إليه وتقع لغيره فيجب ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة
المال ولما فيه من المصلحة والحفظ لمال المسلم عليه وعلى أخيه ولان في إثبات الملك فيها حثا على التقاطها
وحفظها وتعريفها لكونه وسيلة إلى الملك المقصود للآدمي وفي نفي ملكها تضييع لها لما في التقاطها من
الخطر والمشقة والكلفة من غير نفع يصل إليه فيؤدي إلى أن لا يلقطها أحد لتعريفها فتضيع، وما ذكروه
في الفرق ملغي بالشاة فقد ثبت الملك فيها مع هذا الفرق، ثم يمكننا أن نقيس على الشاة فلا يحصل هذا
الفرق بين الأصل والفرع والله أعلم، ثم قلب دليلهم فنقول لقطة في الحرم فما أبيح التقاطه منها
ملك إذا كان في الحل كالإبل
(فصل) وظاهر كلام أحمد والخرقي أن لقطة الحل والحرم سواء وروي ذلك عن ابن عمر وابن
عباس وعائشة وابن المسيب وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وروي عن أحمد رواية أخرى أنه لا يجوز
التقاط لقطة الحرم للتملك وإنما يجوز حفظها لصاحبها فإن التقطها عرفها أبدا حتى يأتي صاحبها وهو
قول عبد الرحمن بن مهدي وأبي عبيد وعن الشافعي كالمذهبين، والحجة لهذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في
332

مكة " لا تحل ساقطتها إلا لمنشد " متفق عليه. وقال أبو عبيد المنشد المعرف والناشد الطالب وينشد
* إصاخة الناشد للمنشد * فيكون معناه لا تحل لقطة مكة الا لمن يعرفها لأنها خصت بهذا من سائر البلدان
وروى يعقوب بن شيبة في مسنده عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة
الحاج قال ابن وهب يعني يتركها حتى يجدها صاحبها. رواه أبو داود أيضا، ووجه الرواية الأولى
عموم الأحاديث وانه أحد الحرمين فأشبه حرم المدينة ولأنها أمانة فلم يختلف حكمها بالحل والحرم
كالوديعة وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الا لمنشد) يحتمل أن يريد الا لمن عرفها عاما وتخصيصها بذلك لتأكدها
لا لتخصيصها كقوله عليه السلام " ضالة المسلم حرق النار " وضالة الذمي مقيسة عليها
(فصل) إذا التقط لقطة عازما على تملكها بغير تعريف فقد فعل محرما ولا يحل له أخذها بهذه
النية فإذا أخذها لزمه ضمانها سواء تلفت بتفريطه أو بغير تفريط ولا يملكها وان عرفها لأنه أخذ مال
غيره على وجه لا يجوزه له أخذه فأشبه الغاصب نص على هذا أحمد ويحتمل أن يملكها لأن ملكها بالتعريف
والالتقاط وقد وجد فيملكها به كالاصطياد والاحتشاش فإنه لو دخل حائطا لغيره بغير اذنه فاحتش
أو اصطاد منه صيدا ملكه وإن كان دخوله محرما كذا ههنا، ولان عموم النصف يتناول هذ الملتقط
فيثبت حكمه فيه ولأننا لو اعتبرنا نية التعريف وقت الالتقاط لا فترق الحال بين العدل والفاسق والصبي
والسفيه لأن الغالب على هؤلاء الالتقاط للتملك من غير تعريف
333

{مسألة} قال (وحفظ وكائها وعفاصها وحفظ عددها وصفتها)
الأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد " اعرف وكاءها وعفاصها، وقال في حديث أبي بن كعب
" اعرف عفاصها ووكاءها وعددها ثم عرفها سنة " وفي لفظ عن أبي بن كعب أنه قال وجدت مائة دينار فأتيت
بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال " عرفها حولا " فعرفتها حولا فلم تعرف فرجعت إليه فقال " اعرف عدتها ووعاءها ووكاءها
واخلطها بمالك فإن جاء ربها فأدها إليه " ففي هذا الحديث أنه أمره بمعرفة صفاتها بعد التعريف وفي غيره أمر
بمعرفتها حين التقاطها قبل التعريف وهو الأولى ليحصل عنده علم ذلك، فإذا جاء صاحبها فنعتها غلب على ظنه صدقه
فيجوز الدفع إليه حينئذ وان أخر معرفة ذلك إلى حين مجئ باغيها جاز لأن المقصود يحصل بمعرفتها حينئذ
وان لم يجئ طالبها فأراد التصرف فيها بعد الحول لم يجز له حتى يعرف صفاتها لأن عينها تنعدم
بالتصرف فلا يبقى له سبيل إلى معرفة صفاتها إذا جاء صاحبها، وكذلك إن خلطها بماله على وجه
لا تتميز منه فيكون أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بمعرفة صفاتها عند خلطها بماله أمر إيجاب مضيق وأمره لزيد
ابن خالد بمعرفة ذلك حين الالتقاط واجبا موسعا والله أعلم، قال القاضي ينبغي أن يعرف جنسها
دراهم أو دنانير ونوعها، وان كانت ثيابا عرف لفافتها وجنسها ويعرف قدرها بالكيل وبالوزن أو
بالعدد أو الذرع ويعرف العقد عليها هل هو عقد واحد أو أكثر أنشوطة أو غيرها ويعرف صمام
القارورة التي تدخل رأسها وعفاصها الذي تلبسه
334

(فصل) ويستحب أن يشهد عليها حين يجدها قال أحمد رحمه الله لا أحب أن يمسها حتى يشهد
عليها فظاهر هذا أنه مستحب غير واجب وأنه إن لم بشهد عليها لا ضمان عليه وبهذا قال مالك والشافعي
وقال أبو حنيفة إذا لم يشهد عليها ضمنها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو
أو ذوي عدل " وهذا أمر يقتضي الوجوب ولأنه إذا لم بشهد كان الظاهر أنه أخذها لنفسه
ولنا خبر زيد بن خالد وأبي بن كعب فإنه أمرهما بالتعريف دون الاشهاد ولا يجوز تأخير
البيان عن وقت الحاجة فلو كان واجبا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم سيما وقد سئل عن حكم اللقطة فلم يكن ليخل بذكر
الواجب فيها فيتعين حمل الامر في حديث عياض على الندب والاستحباب ولأنه أخذ أمانة فلم يفتقر
إلى الاشهاد كالوديعة، والمعني الذي ذكروه غير صحيح فإنه إذا حفظها وعرفها فلم يأخذها لنفسه
وفائدة الاشهاد صيانة نفسه عن الطمع فيها وكتمها وحفظها من ورثته ان مات ومن غرمائه ان أفلس
وإذا أشهد عليها لم يذكر للشهود صفاتها لئلا ينتشر ذلك فيدعيها من لا يستحقها ويذكر صفاتها كما قلنا
في التعريف ولكن يذكر للشهود ما يذكره في التعريف من الجنس والنوع قال أحمد في رواية صالح وقد سأله إذا
شهد عليها هل يبين كم هي؟ قال لا ولكن يقول قد أصبت لقطة، ويستحب أن يكتب صفاتها ليكون
أثبت لها مخافة أن ينساها ان اقتصر على حفظها بقلبه فإن الانسان عرضة النسيان
335

{مسألة} قال (فإن جاء ربها فوصفها له دفعت إليه بلا بينة)
يعني إذا وصفها بصفاتها المذكورة دفعها إليه سواء غلب على ظنه صدقه أو لم يغلب وبهذا قال
مالك وأبو عبيد وداود وابن المنذر وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجبر على ذلك الا ببينة ولا يجوز له
دفعها إليه إذا غلب على ظنه صدقه قال أصحاب الرأي ان شاء دفعها إليه وأخذ كفيلا بذلك لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " البينة على المدعي " ولان صفة المدعي لا يستحق بها كالمغصوب
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإن جاءك أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فادفعها إليه " قال ابن
المنذر هذا الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أقول رواه ابن القصار فإن جاء باغيها ووصف عفاصها
وعددها فادفعها إليه وفي حديث زيد الذي ذكرناه " اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف
فاستنفقها وان جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه يعني إذا ذكر صفاتها لأن ذلك هو المذكور في
صدر الحديث ولم يذكر البينة في شئ من الحديث ولو كانت شرطا للدفع لم يجز الاخلال به ولا أمر
بالدفع بدونه ولان إقامة البينة على اللقطة تتعذر لأنها إنما سقطت حال الغفلة والسهو فتوقف دفعها منع
لوصولها إلى صاحبها أبدا وهذا يفوت مقصود الالتقاط ويفضي إلى تضييع أموال الناس وما هذا سبيله
336

يسقط اعتبار البينة فيه كالانفاق على اليتيم والجمع بين هذا القول وبين تفضيل الالتقاط على تركه
متناقض جدا لأن الالتقاط حينئذ يكون تضييعا لمال المسلم يقينا واتعابا لنفسه بالتعريف الذي لا يفيد
والمخاطرة بدينه بتركه الواجب من تعريفها وما هذا سبيله يجب أن يكون حراما فكيف يكون فاضلا
وعلى هذا تقول لو لم يجب دفعها بالصفة لم يجز التقاطها لما ذكرناه وقول النبي صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي "
يعني إذا كان ثم منكر لقوله في سياقه " واليمين على من أنكر " ولا منكر هاهنا على أن البينة تختلف وقد جعل
النبي صلى الله عليه وسلم بينة مدعي اللقطة وصفها فإذا وصفها فقد أقام بينته وقياس اللقطة على المغصوب غير صحيح
فإن النزاع ثم في كونه مغصوبا والأصل عدمه وقول المنكر يعارض دعواه فاحتيج إلى البينة وههنا قد
ثبت كون هذا المال لقطة وان له صاحبا غير من هو في يده ولا مدعي له الا الواصف وقد ترجح
صدقه فينبغي أن يدفع إليه
(فصل) فإن وصفها اثنان أقرع بينهما فمن وقعت له القرعة حلف أنها له وسلمت إليه وهكذا ان
أقاما بينتين أقرع بينهما فمن وقعت له القرعة حلف ودفعت إليه ذكره القاضي وقال أبو الخطاب نقسم
بينهما لأنهما تساويا فيما يستحق به الدفع فتساويا فيها كما لو كانت في أيديهما والذي قلنا، أصح وأشبه
بأصولنا فيما إذا تداعيا عينا في يد غيرهما ولأنهما تداعيا عينا في يد غيرهما وتساويا في البينة أو في
عدمها فتكون لمن وقعت له القرعة كما لو ادعيا وديعة في يد انسان فقال هي لاحد كما لا أعرفه عينا وفارق
337

ما إذا كانت في أيديهما لأن يد كل واحد منهما على نصفه فرجح قوله فيه وان وصفها انسان فأقام آخر
البينة أنها له فهي لصاحب البينة لأنها أقوى من الوصف فإن كان الواصف قد اخذها انتزعت منه
وردت إلى صاحب البينة لأننا تبينا أنها له فإن كان قد هلكت فلصاحبها تضمين من شاء من الواصف
أو الدافع إليه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ويتخرج أن لا يلزم الملتقط شئ وهذا قول ابن القاسم
صاحب مالك وأبو عبيد لأنه فعل ما أمر به لأنه أمين غير مفرط ولا مقصر فلا يضمن كما لو دفعها
بأمر الحاكم ولان الدفع واجب عليه فصار الدفع بغير اختياره فلم يضمنها كما لو أخذها كرها
ولنا أنه دفع مال غيره إلى غير مستحقه اختيارا منه فضمه كما لو دفع الوديعة إلى غير مالكها إذا
غلب على ظنه أنه مالكها فأما ان دفعها بحكم حاكم لم يملك صاحبها مطالبة الدافع لأنها مأخوذة منه
على سبيل القهر فلم يضمنها كما لو غصبها غاصب ومتى ضمن الواصف لم يرجع على أحد لأن العدوان
منه والتلف عنده فإن ضمن الدافع رجع على الواصف لأنه كان سبب تغريمه الا أن يكون الملتقط قد
أقر للواصف أنه صاحبها ومالكها فإنه لا يرجع عليه لأنه اعترف أنه صاحبها ومستحقها وان صاحب
البينة ظلمه بتضمينه فلا يرجع به على غير من ظلمه وان كانت اللقطة قد تلفت عند الملتقط فضمنه إياها رجع
على الواصف بما غرمه وليس لمالكها تضمين الواصف لأن الذي قبضه إنما هو مال الملتقط لا مال
صاحب اللقطة بخلاف ما إذا سلم العين فأما ان وصفها انسان فأخذها ثم جاء آخر فوصفها وادعاها لم
338

يستحق شيئا لأن الأول استحقها لوصفه إياها وعدم المنازع فيها وثبتت يده عليها ولم يوجد ما يقتضي
انتزاعها منه فوجب ابقاؤها له كسائر ماله
(فصل) ولو جاء مدع للقطة فلم يصفها ولا أقام بينة أنها له لم يجز دفعها إليه سواء غلب على ظنه
صدقه أو كذبه لأنها أمانة فلم يجز دفعها إلى من لم يثبت انه صاحبها كالوديعة فإن دفعها فجاء آخر فوصفها
أو أقام بينة لزم الواصف غرامتها له لأنه فوتها على مالكها بتفريطه وله الرجوع على مدعيها لأنه أخذ مال
غيره ولصاحبها تضمين آخذها فإذا ضمنه لم يرجع على أحد وان لم يأت أحد يدعيها فللملتقط مطالبة آخذها
بها لأنه لا يأمن من مجئ صاحبها فيغرمه إياها ولأنها أمانة في يده فملك أخذها من غاصبها كالوديعة
{مسألة} (قال أو مثلها ان كانت قد استهلكت)
وجملة ذلك أن اللقطة في الحول أمانة في يد الملتقط ان تلفت بغير تفريطه أو نقصت فلا ضمان
عليه كالوديعة ومتى جاء صاحبها فوجدها أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة لأنها نماء ملكه وان أتلفها
الملتقط أو تلفت بتفريطه ضمنها بمثلها ان كانت من ذوات الأمثال وبقيمتها ان لم يكن لها مثل لا أعلم
في هذا خلافا وان تلفت بعد الحول ثبت في ذمته مثلها أو قيمتها بكل حال لأنها دخلت في ملكه
وتلفت من ماله وسواء فرط في حفظها أو لم يفرط وان وجد العين ناقصة وكان نقصها بعد الحول
339

أخذ العين وأرش نقصها لأن جميعها مضمون إذا تلفت فكذلك إذا نقصت وهذا قول أكثر العلماء
الذين حكموا بملكه لها بمضي حول التعريف وأما من قال لا يملكها حتى يتملكها لم يضمنه إياها حتى
يتملكها وحكمها قبل تملكه إياها حكمها قبل مضي حول التعريف، ومن قال لا تملك اللقطة بحال لم
يضمنه إياها وبهذا قال الحسن والنخعي وأبو مجاز والحارث العكلي ومالك وأبو يوسف قالوا لا يضمن
وإن ضاعت بعد الحول وقد ذكرنا فيما تقدم دليل دخولها في ملكها، وقال داود إذا تملك العين
وأتلفها لم يضمنها
وحكي ابن أبي موسى عن أحمد انه لوح إلى مثل هذا القول لحديث عياض بن حمار عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " فإن جاء ربها والا فهي مال الله يؤتيه من يشاء " فجعله مباحا. وقوله في حديث أبي
ابن كعب فإن جاء من يعرفها والا فهي كسبيل مالك. وفي حديث زيد " فإن جاء صاحبها والا
فشأنك بها " وروي فهي لك ولم يأمره برد بدلها
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من
الدهر فادفعها إليه " وقال الأثرم قال أحمد اذهب إلى حديث الضحاك بن عثمان جوده ولم يروه أحد
مثل ما رواه " ان جاء صاحبها بعد سنة وقد أنفقها ردها إليه " لأنها عين يلزم ردها لو كانت باقية فيلزمه
ضمانها إذا أتلفها كما قبل الحول ولأنه مال معصوم فلم يجز اسقاط حقه منه مطلقا كما لو اضطر إلى مال
340

غيره، وإن وجد العين زائدة بعد الحول زيادة متصلة أخذها بزيادتها لأنها تتبع في الرد بالعيب والا قالة
فتبعت ههنا، وإن حدث بعد الحول لها نماء منفصل فهو للملتقط لأنه نماء ملكه متميز لا يتبع في الفسوخ
فكان له كنماء المبيع إذا رد بعيب
وذكر أبو الخطاب فيه وجها آخر بناء على المفلس إذا استرجعت منه العين بعد أن زادت زيادة
متميزة والولد إذا استرجع أبوه ما وهب له بعد زيادته والصحيح أن الزيادة للملتقط لما ذكرناه وكذلك
الصحيح في الموضعين اللذين ذكرهم أن الزيادة لمن حدثت في ملكه ثم الفرق بينهما أنه في مسئلتنا يضمن
النقص فتكون له الزيادة ليكون الخراج بالضمان وثم لا ضمان عليه فأمكن أن لا يكون الخراج له والله أعلم
ومتى اختلفا في القيمة أو المثل فالقول قول الملتقط مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته مما حلف عليه
(فصل) وإن وجد العين بعد خروجها من ملك الملتقط ببيع أو هبة أو نحوهما لم يكن له الرجوع
فيها وله أخذ بدلها لأن تصرف الملتقط وقع صحيحا لكونها صارت في ملكه وإن صادفها قد رجعت
إلى الملتقط بفسخ أو شراء أو غير ذلك فله أخذها لأنه وجد عين ماله في يد ملتقطه فكان له أخذه
كالزوج إذا طلق قبل الدخول فوجد الصداق قد رجع إلى المرأة وسائر أحكام الرجوع ههنا كحكم
رجوع الزوج على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى
(فصل) إذا أخذ اللقطة ثم ردها إلى موضعها ضمنها. روي ذلك عن طاوس وبه قال الشافعي
341

وقال مالك لا ضمان عليه لما روى الأثرم عن القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار
عن ثابت بن الضحاك عن عمر أنه قال لرجل وجد بعيرا أرسله حيث وجدته، ولما روي عن جرير
ابن عبد الله أنه رأى في بقره بقرة قد لحقت بها فأمر بها فطردت حتى توارت
ولنا أنها أمانة حصلت في يده فلزمه حفظها فإذا ضيعها لزمه ضمانها كما لو ضيع الوديعة ولأنها لما
حصلت في يده لزمه حفظها وتركها تضييعها فأما حديث عمر فهو في الضالة التي لا تحل، فأما ما لا يحل
التقاطه إذا أخذه فيحتمل أن له رده إلى مكانه ولا ضمان عليه لهذه الآثار ولأنه كان واجبا عليه
تركه في مكانه ابتداء فكان له ذلك بعد أخذه ويحتمل أن لا يبرأ من ضمانه برده فإنه دخل في ضمانه
فلم يبرأ من ضمانه برده إلى مكانه كالمسروق وما يجوز التقاطه فعلى هذا لا يبرأ الا برده إلى الإمام أو
نائبه. وأما عمر فهو كان الإمام فإذا أمر برده كان كأخذه منه وحديث جرير لا حجة فيه لأنه لم يأخذ
البقرة ولا أخذها غلامه إنما لحقت بالبقر من غير فعله ولا اختياره
(فصل) وإن ضاعت اللقطة من ملتقطها بغير تفريط فلا ضمان عليه لأنها أمانة في يده فأشبهت
الوديعة فإن التقطها آخر فعرف انها ضاعت من الأول فعليه ردها إليه لأنه قد ثبت له حق التمول
وولاية التعريف والحفظ فلا يزول ذلك بالضياع فإن لم يعلم الثاني بالحال حتى عرفها حولا ملكها لأن
سبب الملك وجد منه من غير عدوان فيثبت الملك به كالأول ولا يملك الأول انتزاعها لأن الملك مقدم
342

على حق التملك وإذا جاء صاحبها فله أخذها من الثاني وليس له مطالبة الأول لأنه لم يفرط، وإن علم
الثاني بالأول فردها إليه فأبى أخذها وقال عرفها أنت فعرفها ملكها أيضا لأن الأول ترك حقه فسقط
وإن قال عرفها ويكون ملكها لي ففعل فهو مستنيب له في التعريف وبملكها الأول لأنه وكله في التعريف
فصح كما لو كانت في يد الأول، وإن قال عرفها وتكون بيننا ففعل صح أيضا وكانت بينهما لأنه أسقط
حقه من نصفها ووكله في الباقي، وإن قصد الثاني بالتعريف تملكها لنفسه دون الأول احتمل وجهين
(أحدهما) يملكها لأن سبب الملك وجد منه فملكها كما لو أذن له الأول في تعريفها لنفسه (والثاني)
لا يملكها لأن ولاية التعريف للأول أشبه ما لو غصبها من الملتقط غاصب فعرفها وكذلك الحكم إذا علم
الثاني بالأول فعرفها ولم يعلمه بها ويشبه هذا المتحجر في الموات إذا سبقه غيره إلى ما حجره فأحياه بغير
اذنه، فأما ان غصبها غاصب من الملتقط فعرفها لم يملكها وجها واحدا لأنه معتد بأخذها ولم يوجد
منه سبب تملكها فإن الالتقاط من جملة السبب ولم يوجد منه ويفارق هذا ما إذا التقطها ثان فإنه
وجد منه الالتقاط والتعريف
(فصل) ومن اصطاد سمكه فوجد فيها درة فهي الصياد لأن الدر يكون في البحر بدليل قول الله
تعالى (وتستخرجون منة حلية تلبسونها فتكون لآخذها، فإن باعها الصياد ولم يعلم فوجدها المشتري
في بطنها فهي للصياد نص عليه أحمد لأنه إذا لم يعلم ما في بطنها فلم يبعه ولم يرض بزوال ملكه عنه فلم
343

يدخل في البيع كمن باع دارا له مال مدفون فيها، وإن وجد في بطنها عنبرة أو شيئا مما يكون في البحر
فهو للصياد لما ذكرنا وحكمه حكم الجوهرة، وإن وجد دراهم أو دنانير فهي لقطة لأن ذلك لا يخلق
في البحر ولا يكون إلا لآدمي فيكون لقطة كما لو وجده في البحر، وكذلك الحكم في الدرة إذا كان
فيها أثر لآدمي مثل أن تكون مثقوبة أو متصلة بذهب أو فضة أو غيرهما فإنها تكون لقطة لا يملكها
الصياد لأنها لم تقع في البحر حتى تثبت اليد عليها فهي كالدينار، وكذلك الحكم في العنبرة إذا كانت
موصولة بذهب أو فضة أو مصنوعة كالتفاحة مثقوبة ونحو ذلك مما لا يخلق عليه في البحر فهي لقطة،
وإن وجدها الصياد فعليه تعريفها لأنه ملتقطها، وإن وجدها المشتري فالتعريف عليه لأنه واجدها
ولا حاجة إلى البداية بالبائع فإنه لا يحتمل أن تكون السمكة ابتلعت ذلك بعد اصطيادها وملك الصياد
لها فاستوى هو وغيره فأما ان اشترى شاة ووجد في بطنها درة أو عنبرة أو دنانير أو دراهم فهي
لقطة يعرفها ويبدأ بالبائع لأنه يحتمل أن تكون ابتلعتها في ملكه فيبدأ به كقولنا في مشتري الدار إذا
وجد فيها مالا مدفونا، وإن اصطاد السمكة من غير البحر كالنهر والعين فحكمها حكم الشاة في أن
ما وجد في بطنها من ذلك فهو لقطة درة كانت أو غيرها لأن ذلك لا يكون إلا في البحر بحكم العادة،
ويحتمل أن تكون الدرة للصياد لقول الله تعالى (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون
حلية تلبسونها)
344

(فصل) وإن وجد عنبرة على ساحل البحر فهي له لأنه يمكن أن يكون البحر ألقاها والأصل عدم
الملك فيها فكانت مباحة لآخذها كالصيد. وقد روى سعيد قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن معاوية
ابن عمرو العبدي قال ألقى بحر عدن عنبرة مثل البعير فأخذها ناس بعدن فكتب إلى عمر بن عبد العزيز
فكتب إلينا أن خذوا منها الخمس وادفعوا إليهم سائرها، وإن باعوكموها فاشتروها فأردنا أن نزنها
فلم نجد ميزانا يخرجها فقطعناها باثنين ووزناها فوجدناها ستمائة رطل فأخذنا خمسها ودفعنا سائرها
إليهم ثم اشتريناها بخمسة آلاف دينار وبعثا بها إلى عمر بن عبد العزيز فلم يلبث الا قليلا حتى باعها
بثلاثة وثلاثين ألف دينار
(فصل) وإن صاد غزالا فوجده مخضوبا أو في عنقه حرز أو في أذنه قرط ونحو ذلك مما يدل
على ثبوت اليد عليه فهو لقطة لأن ذلك دليل على أنه كان مملوكا، وقال أحمد فيمن القى شبكة في البحر
فوقعت فيها سمكة فجذبت الشبكة فمرت بها في البحر فصادها رجل فإن السمكة للذي حازها والشبكة
يعرفها ويدفعها إلى صاحبها فجعل الشبكة لقطة لأنها مملوكة لآدمي والسمكة لمن صادها لأنها كانت
مباحة ولم يملكها صاحب الشبكة لكون شبكته لم تثبتها فبقيت على الإباحة، وهكذا لو نصب فخا أو
شركا فوقع فيه صيد من صيود البر فاخذه وذهب به وصاده آخر فهو لمن صاده ويرد الآلة إلى صاحبها
فهي لقطة يعرفها. وقال احمد في رجل انتهى إلى شرك فيه حمار وحش أو ظبية قد شارف الموت
فخلصه وذبحه: هو لصاحب الأحبولة وما كان من الصيد في الأحبولة فهو لمن نصبها، وإن كان بازيا أو
صقرا أو عقابا، وسئل عن بازي أو صقر أو كلب معلم أو فهد ذهب عن صاحبه فدعاه فلم يجبه ومر في
345

الأرض حتى أتى لذلك أيام فأنى قرية فسقط على حائط فدعاه رجل فأجابه قال يرده على صاحبه قيل
له فإن دعاه فلم يجبه فنصب له شركا فصاده به؟ قال يرده على صاحبه فجعل هذا لصحابه لأنه قد ملكه
فلم يزل ملكه عنه بذهابه عنه والسمكة في الشبكة لم يكن ملكها ولا حازها وكذلك جعل ما وقع في
الحبولة من البازي والصقر والعقاب لصاحب الحبولة ولم يجعله ههنا لمن وقع في شركه لأن هذا فيما
علم أنه قد كان مملوكا لانسان فذهب وإنما يعلم هذا بالخبر أو بوجود ما يدل على الملك فيه مثل وجود السير
في رجله واثار التعلم مثل استجابته للذي يدعوه ونحو ذلك، ومتى لم يوجد ما يدل على أنه مملوك فهو
لمن اصطاده لأن الأصل عدم الملك فيه واباحته
(فصل) ومن أخذت ثيابه من الحمام ووجد بدلها وأخذ مداسه وترك له بدله لم يملكه بذلك قال
أبو عبد الله فيمن سرقت ثيابه ووجد غيرها: لم يأخذها فإن أخذها عرفها سنة ثم تصدق بها، إنما قال ذلك
لأن سارق الثياب لم تجر بينه وبين مالكها معاوضة تقتضي زوال ملكه عن ثيابه فإذا أخذها فقد
أخذ مال غيره ولا يعرف صاحبه فيعرفه كاللقطة، ويحتمل أن ينظر في هذا فإن كانت ثم قرينة تدل
على السرقة بأن تكون ثيابه أو مداسه خيرا من المتروكة وكانت مما لا تشتبه على الآخذ بثيابه ومداسه
فلا حاجة إلى التعريف لأن التعريف إنما جعله في المال الضائع عن ربه ليعلم به ويأخذه ونارك هذا عالم به
راض ببدله عوضا عما أخذه ولا يعترف أنه له فلا يحصل في تعريفه فائدة فإذا هو ليس بمنصوص عليه
ولا في معنى المنصوص وفيما يصنع بها ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يتصدق به على ما ذكرنا
346

(الثاني) أن يباح له أخذها لأن صاحبها في الظاهر تركها له باذلا إياها له عوضا عما أخذه فصار
كالمبيح له أخذها بلسانه فصار كمن قهر انسانا على أخذ ثوبه ودفع إليه درهما
(الثالث) أنه يرفعها إلى الحاكم ليبيعها ويرفع إليه ثمنا عوضا عن ماله. والوجه الثاني أقرب إلى
الرفق بالناس لأن فيه نفعا لمن سرقت ثيابه بحصول عوض عنها ونفعا للسارق بالتخفيف عنه من الاثم
وحفظا لهذه الثياب المتروكة من الضياع، وقد أباح بعض أهل العلم لمن له على انسان حق من دين
أو غصب أن يأخذ من مال من عليه الحق بقدر ما عليه إذا عجز عن استيفائه بغير ذلك فهنا مع رضاء
من عليه الحق بأخذه أولى، وان كانت ثم قرينة دالة على أن الآخذ للثياب إنما أخذها ظنا منه أنها
ثيابه مثل أن تكون المتروكة خيرا من المأخوذة أو مثلها وهي ما تشتبه بها فينبغي أن يعرفها ههنا لأن
صاحبها لم يتركها عمدا فهي بمنزلة الضائعة منه والظاهر أنه إذا علم بها أخذها ورد ما كان أخذه
فتصير كاللقطة في المعنى وبعد التعريف إذا لم تعرف ففيها الأوجه التي ذكرناها إلا أننا إذا قلنا
يأخذها أو يبيعها الحاكم ويدفع إليه ثمنها فأنما يأخذ بقدر قيمة ثيابه لا يزيد عليها لأن الزائد فاضل
عما يستحقه ولم يرض صاحبها بتركها عوضا عما أخذه فإنه لم يأخذ غيرها اختيارا منه لتركها ولا رضي
بالمعاوضة بها، وإذا قلنا إنه يدفعها إلى الحاكم ليبيعها ويدفع إليه ثمنها فله أن يشتريها بثمن في ذمته
ويسقط عنه من ثمنها ما قابل ثيابه ويتصدق بالباقي والله أعلم
(فصل) قال احمد فيمن عنده رهون قد أتى عليها زمان لا يعرف صاحبها يبيعها ويتصدق بثمنها
فإن جاء صاحبها غرمها له وهذا محمول على من استوفى ديونه التي رهن الرهن بها فاما من لم يستوف
347

دينه فإن كان قد أذن له في بيعها باعها واستوفى دينه من ثمنها وتصدق بالباقي وان لم يكن أذن له في
بيعها رفعها إلى الحاكم ليبيعها ويقبضه حقه من ثمنها ويتصدق بباقيه
(فصل) نقل الفضل بن زياد عن أحمد إذا تنازع صاحب الدار والساكن في دفن في الدار فقال
كل واحد منهم أنا دفنته بين كل واحد منهما ما الذي دفن فكل من أصاب الوصف فهو له وذلك لأن
ما يوجد في الأرض من الدفن مما عليه علامة المسلمين فهو لقطة واللقطة تستحق بوصفها ولان المصيب للوصف
في الظاهر هو من كان ذلك في يده فكان أحق به كما لو تنازعه أجنبيان فوصفه أحدهما
(فصل) ومن وجد لقطة في دار الحرب فإن كان في الجيش فقال أحمد يعرفها سنة في دار الاسلام
ثم يطرحها في المقسم إنما عرفها في دار الاسلام لأن أموال أهل الحرب مباحة ويجوز أن تكون لمسلم
ولأنه قد لا يمكنه المقام في دار الحرب لتعريفها ومعناه والله أعلم يتمم التعريف في دار الاسلام فأما
ابتداء التعريف فيكون في الجيش الذي هو فيه لأنه يحتمل أن تكون لأحدهم فإذا قفل أتم التعريف
في دار الاسلام فاما إن كان دخل دارهم بأمان فينبغي أن يعرفها في دارهم لأن أموالهم محرمة عليه
فإذا لم تعرف ملكها كما يملكها في دار الاسلام، وإن كان في الجيش طرحها في المقسم بعد التعريف
لأنه وصل إليها بقوة الجيش فأشبهت مباحات دار الحرب إذا أخذ منها شيئا، وان دخل إليهم متلصصا
فوجد لقطة عرفها في دار الاسلام لأن أموالهم مباحة له ثم يكون حكمها حكم غنيمته ويحتمل أن تكون غنيمة
له لا تحتاج إلى تعريف لأن الظاهر أنها من أموالهم وأموالهم غنيمة
348

{مسألة} قال (وإن كان الملتقط قد مات فصاحبها غريم بها)
وجملة ذلك أن الملتقط إذا مات واللقطة موجودة بعينها قام وارثه مقامه في اتمام تعريفها إن مات
قبل الحول ويملكها بعد إتمام التعريف، فإن مات بعد الحول ورثها الوارث كسائر أموال الميت ومتى
جاء صاحبها أخذها من الوارث كما يأخذها من الموروث فإن كانت معدومة العين فصاحبها غريم للميت
بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال أو بقيمتها ان لم تكن كذلك فيأخذ ذلك من تركته ان اتسعت
لذلك، وإن ضاقت التركة زاحم الغرماء ببدلها سواء تلفت بعد الحول بفعله أو بغير فعله لأنها قد
دخلت في ملكه بمضي الحول، وإن علم أنها تلفت قبل الحول بغى تفريطه فلا ضمان عليه ولا شئ
لصاحبها لأنها أمانة في يده تلفت بغير تفريطه فلم يضمنها كالوديعة، وكذلك أن تلفت بعد الحول
قبل تملكها من غير تفريط على رأي من رأي أنها لا تدخل في ملكه حتى يتملكها وقد مضى الكلام
في ذلك فاما ان لم يعلم تلفها ولم يجدها في تركته فظاهر كلام الخرقي أن صاحبها غريم بها سواء كان
قبل الحول أو بعده لأن الأصل بقاؤها، ويحتمل أن لا يلزم الملتقط شئ ويسقط حق صاحبها لأن
الأصل براءة ذمة الملتقط منها ويحتمل أن تكون تلفت بغير تفريط فلا نشغل ذمته بالشك، ويحتمل
أنه إن كان الموت قبل الحول فلا شئ عليه لأنها كانت أمانة عنده ولم تعلم جنايته فيها والأصل براءة ذمته منها، وإن مات بعد الحول فهي في تركته لأن الأصل بقاؤها إلى ما بعد الحول ودخولها في ملكه
ووجوب بدلها عليه فإن قيل فقد قلتم ان صاحبها لو جاء بعد بيع الملتقط لها أو هبته لم يكن له الا بدلها
فلم قلتم انها إذا انتقلت إلى الوارث بملك صاحبها أخذها؟ قلنا لأن الوراث خليفة الموروث وإنما يثبت
له الملك فيها على الوجه الذي كان ثابتا لموروثه وملك موروثه فيها كان مراعا مشروطا بعدم مجئ
صاحبها فكذلك ملك وارثه بخلاف ملك المشتري والمتهب فإنهما يملكان ملكا مستقرا
349

{مسألة} قال (وإن كان صاحبها جعل لمن وجدها شيئا معلوما فله أخذه إن كان
التقطها بعد أن بلغه الجعل)
وجملة ذلك أن الجعالة في رد الضالة والابق وغيرهما جائزة وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي
ولا نعلم فيه مخالفا والأصل في ذلك قول الله عز وجل ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم. وروى أبو
سعيد أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حيا من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ
لدغ سيد أولئك فقالوا هل فيكم راق؟ فقالوا لم تقرونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم قطيع
شياه فجعل رجل يقرأ بأم القرآن وبجمع بزاقه ويتفل فبرأ الرجل فأتوهم بالشاة فقالوا لا نأخذها حتى
نسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال " وما أدراك انها رقية؟ خذوها واضربوا لي معكم
بسهم " رواه البخاري ولان الحاجة تدعو إلي ذلك فإن العمل قد يكون مجهولا كرد الآبق والضالة
ونحو ذلك ولا تنعقد الإجارة فيه والحاجة داعية إلى ردهما وقد لا يجد من يتبرع به فدعت الحاجة إلى
إباحة بذل الجعل فيه مع جهالة العمل لأنها غير لازمة بخلاف الإجارة ألا ترى أن الإجارة لما كانت
لازمة افتقرت إلى تقدير مدة والعقود الجائزة كالشركة والوكالة لا يجب تقدير مدتها ولان الجائزة لكل
واحد منهما تركها فلا يؤدي إلى أن يلزمه مجهول عنده بخلاف اللازمة. إذا ثبت هذا فإذا قال من
رد علي ضالتي أو عبدي الآبق أو خاط لي هذا القميص أو بنى لي هذا الحائط فله كذا وكذا صح
وكان عقدا جائزا لكل واحد منهما الرجوع فيه قبل حصول العمل لكن إن رجع الجاعل قبل التلبس
350

بالعمل فلا شئ عليه، وإن رجع بعد التلبس به فعليه للعامل أجرة مثله لأنه إنما عمل يعوض فلم يسلم
له، وإن فسخ العامل قبل اتمام العمل فلا شئ له لأنه أسقط حق نفسه حيث لم يأت بما شرط عليه
العوض ويصير كعامل المضاربة وإذا فسخ قبل ظهور الربح ولا بد أن يكون العوض معلوما والفرق
بينه وبين العمل من وجهين
(أحدهما) أن الحاجة تدعو إلى كون العمل مجهولا بان لا يعلم موضع الضالة والآبق ولا حاجة
إلى جهالة العوض
(والثاني) أن العمل لا يصير لازما فلم يجب كونه معلوما والعوض يصير لازما باتمام العمل فوجب
كونه معلوما، يحتمل أن تجوز الجعالة مع جهالة العوض إذا كانت الجهالة لا تمنع التسليم نحو أن يقول
من رد عبدي الآبق فله نصفه ومن رد ضالتي فله ثلثها فإن أحمد قال إذا قال الأمير في الغزو من جاء
بعشرة رؤوس فله رأس جاز وقالوا إذا جعل جعلا لمن يدله على قلعة أو طريق سهل وكان الجعل من مال الكفار
جاز أن يكون مجهولا كجارية يعينها العامل فتخرج ههنا مثله فأما إن كانت الجهالة تمنع التسليم لم تصح الجعالة وجها
واحدا، وإن كان العمل معلوما مثل أن يقول: من رد عبدي من البصرة أو بنى لي هذا الحائط
أو خاط قميصي هذا فله كذا صح لأنه إذا صح مع الجهالة فمع العلم أولى، وان علقه بمدة معلومة فقال
من رد لي عبدي من العراق إلى شهر فله دينار، أو من خاط قميصي هذا في اليوم فله درهم صح لأن
المدة إذا جازت مجهولة فمع التقدير أولى فإن قيل الصحيح من المذهب أن مثل هذا لا يجوز في الإجارة
فكيف أجزتموه في الجعالة؟ قلنا الفرق بينهما من وجوه (أحدها) أن الجعالة يحتمل فيها الغرر وتجوز
351

جهالة العمل والمدة بخلاف الإجارة. (الثاني) أن الجعالة عقد جائز فلا يلزمه بالدخول فيها مع الغرر
ضرر بخلاف الإجارة فإنها عقد لازم فإذا دخل فيها مع الغرر لزمه ذلك. (الثالث). أن الإجارة
إذا قدرت بمدة لزمه العمل في جميعها ولا يلزمه العمل بعدها فإذا جمع بين تقدير المدة والعمل فربما
عمله قبل المدة فإن قلنا يلزمه العمل في بقية المدة فقد لزمه من العمل أكثر من المعقود عليه، وان
قلنا لا يلزمه فقد خلا بعض المدة من العمل، فإن انقضت المدة قبل عمله فأثر منها اتمام العمل فقد لزمه
العمل في غير المدة المعقود عليها، وان قلنا لا يلزمه العمل فما أنى بالمعقود عليه من العمل بخلاف
مسئلتنا فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة ان أنى به فيها استحق الجعل ولا يلزمه
شئ آخر، وان لم يف به فيها فلا شئ له إذا ثبت هذا فإنما يستحق الجعل من عمل العمل بعد أن
بلغه ذلك لأنه عوض يستحق بعمل فلا يستحقه من لم يعمل كالاجر في الإجارة
(فصل) ويجوز أن يجعل الجعل في الجعالة لواحد بعينه فيقول له ان رددت عبدي فلك دينار
فلا يستحق الجعل من يرده سواه، ويحوز أن يجعله لغير معين فيقول من رد عبدي فله دينار فمن رده
استحق الجعل ويجوز أن يجعل لواحد في رده شيئا معلوما ولآخر أكثر منه أو أقل ويجوز أن يجعل
للمتعين عوضا ولسائر الناس عوضا آخر لأنه يجوز أن يكون الاجر في الإجارة مختلفا مع التساوي في
العمل فههنا أولى فإن قال من رد لقطتي فله دينار فردها ثلاثة فلهم الدينار بينهم أثلاثا لأنهم اشتركوا
في العمل الذي يستحق به العوض فاشتركوا في العوض كالاجر في الإجارة فإن قيل أليس لو قال من
دخل هذا النقب فله دينار فدخله جماعة استحق كل واحد منهم دينار كاملا فلم لا يكون ههنا كذلك؟
352

قلنا لأن كل واحد من الداخلين دخل دخولا كاملا كدخول المنفرد فاستحق العوض كاملا وههنا
لم يرده واحد منهم كاملا إنما اشتركوا فيه فاشتركوا في عوضه فنظير مسألة الدخول ما لو قال من رد
عبدا من عبيدي فله دينار فرد كل واحد منهم عبدا ونظير مسألة الرد ما لو قال من نقب السور فله
دينار فنقب ثلاثة نقبا واحدا فإن جعل لواحد في ردها دينارا ولآخر دينارين ولثالث ثلاثة فرده
الثلاثة فلكل واحد منهم ثلث ما جعل له لأنه عمل ثلث العمل فاستحق ثلث المسمى فإن جعل لواحد
دينارا ولآخرين عوضا مجهولا فردوه معا فلصاحب الدينار ثلاثة وللآخرين أجر عملهما، وان جعل
لواحد شيئا في ردها فردها هو وآخران معه وقالا رددنا معاونة له استحق جميع الجعل ولا شئ لهما
وإن قالا رددناه لنأخذ العوض لأنفسنا فلا شئ لهما وله ثلث الجعل لأنه عمل ثلث العمل فاستحق
ثلث الجعل ولم يستحق الآخران شيئا لأنهما عملا من غير جعل وهذا كله مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا
(فصل) وان قال من رد عبدي من بلد كذا فله دينار فرده انسان من نصف طريق ذلك البلد
استحق نصف الجعل لأنه عمل نصف العمل، وكذلك لو قال من رد عبدي فله دينار فرد أحدهما فله
نصف الدينار لأنه رد نصف العبدين، وان رد العبد من غير البلد المسمى فلا شئ له لأنه لم يجعل
في رده منه شيئا فأشبه ما لو جعل في رد أحد عبديه شيئا فرد الآخر، ولو قال من رد عبدي فله دينار
فرده انسان إلى نصف الطريق فهرب منه لم يستحق شيئا لأنه شرط الجعل برده ولم يرده وكذلك
لو مات كما لو استأجر لخياطة ثوب فخاطه ولم يسلمه حتى تلف لم يستحق أجرة فإن قيل فإن كان الجاعل
قال من وجد لقطتي فله دينار فقد وجد الوجدان؟ قلنا قرينة الحال تدل على اشتراط الرد والمقصود هو
الرد لا الوجدان لمجرد وإنما اكتفى بذكر الوجدان لأنه سبب الرد فصار كأنه قال من وجد لقطتي فردها علي
353

(فصل) والجعالة تساوي الإجارة في اعتبار العلم بالعوض وما كان عوضا في الإجارة جاز أن
يكون عوضا في الجعالة ومالا فلا، وفي أن ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة من الأعمال جاز أخذه
عليه في الجعالة وما لا يجوز أخذ الأجرة عليه في الإجارة مثل الغناء والزمر وسائر المحرمات لا يجوز أخذ
الجعل عليه، وما يختص فاعله أن يكون من أهل القربة مما لا يتعدى نفعه فاعله كالصلاة والصيام لا يجوز
أخذ الجعل عليه فإن كان مما يتغدى نفعه كالاذان والإقامة والحج ففيه وجهان كالروايتين في الإجارة
ويفارق الإجارة في أنه عقد جائز وهي لازمة وانه لا يعتبر العمل بالمدة ولا بمقدار العمل ولا يعتبر وقوع العقد مع واحد معين، فعلى هذا متى شرط عوضا مجهولا كقوله إن رددت عبدي فلك ثوب أو فلك
سلبه أو شرط عوضا محرما كالخمر والحر أو غير مقدور عليه كقوله من رد عبدي فله ثلثه أو من رد عبدي
فله أحدهما فرده إنسان استحق أجر المثل لأنه عمل عملا بعوض لم يسلم له فاستحق أجره كما في الإجارة
(فصل) ومن رد لقطة أو ضالة أو عمل لغيره عملا غير رد الآبق بغير جعل لم يستحق عوضا
لا نعلم في هذا خلافا لأنه عمل يستحق به العوض مع المعاوضة فلا يستحق مع عدمها كالعمل في الإجارة
فإن اختلفا في الجعل فقال جعلت لي في رد لقطتي كذا فأنكره المالك فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل
معه، وان اتفقا على العوض واختلفا في قدره فالقول قول المالك لأن الأصل عدم الزائد المختلف فيه
ولان القول قوله في أصل العوض فكذلك في قدره كرب المال في المضاربة، ويحتمل أن يتحالفا
كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن والأجير والمستأجر إذا اختلفا في قدر الاجر، فعلى هذا إن تحالفا
فسخ العقد ووجب أجر المثل وكذلك الحكم إن اختلفا في المسافة فقال جعلت لك الجعل على ردها من
354

حلب فقال بل على ردها من حمص، وان اختلفا في عين العبد الذي جعل الجعل في رده فقال رددت
العبد الذي شرطت لي الجعل فيه قال بل شرطت لك الجعل في العبد الذي لم ترده فالقول قول المالك
لأنه أعلم بشرطه ولأنه ادعي عليه شرطا في هذا العقد فأنكره والأصل عدم الشرط
(فصل) أما العبد الآبق فإنه يستحق الجعل برده وإن لم يشرط له روي هذا عن عمر وعلي وابن
مسعود وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز ومالك وأصحاب الرأي وقد روي عن أحمد انه لم يكن يوجب
ذلك. قال ابن منصور سئل أحمد عن جعل الآبق فقال لا أدري قد تكلم الناس فيه لم يكن عنده فيه
حديث صحيح، فظاهر هذا أنه لا جعل له فيه وهو ظاهر قول الخرقي فإنه قال: وإذا أبق العبد فلمن جاء
به إلي سيده ما أنفق عليه، ولم يذكر جعلا وهذا قول النخعي والشافعي وابن المنذر لأنه عمل لغيره عملا
من غير أن يشرط له عوضا فلم يستحق شيئا كما لو رد جمله الشارد
ووجه الرواية الأولى ما روى عمر وبن دينار وابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في جعل الآبق إذا جاء
به خارجا من الحرم دينارا وأيضا فإنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم في زمنهم مخالفا فكان
إجماعا. ولان في شرط الجعل في ردهم حثا على رد الإباق وصيانة لهم عن الرجوع إلى دار الحرب
وردتهم عن دينهم وتقوية أهل الحرب بهم، فينبغي أن يكون مشروعا لهذه المصلحة، وبهذا فارق رد
الشارد فإنه لا يفضي إلى ذلك. والرواية الأخرى أقرب إلى المصلحة لأن الأصل عدم الوجوب،
355

والخبر المروي في هذا مرسل وفيه مقال ولم يثبت الاجماع فيه ولا القياس فإنه لم يثبت اعتبار الشرع
لهذه المصلحة المذكورة فيه ولا تحققت أيضا فإنه ليس الظاهر هربهم إلى دار الحرب إلا في المجلوب
منها، إذا كانت قريبة وهذا بعيد فيهم. فأما على الرواية الأولى فقد اختلفت الرواية في قدر الجعل
فروي عن أحمد انه عشرة دراهم أو دينار إن رده من المصر وان رده من خارجه ففيه روايتان
(إحداهما) يلزمه دينار أو اثني عشر درهما للخبر المروي فيه ولان ذلك يروى عن عمر وعلي رضي الله
عنهما (والثانية) له أربعون درهما إن رده من خارج المصر اختارها الخلال وهو قول ابن مسعود وشريح
فروى أبو عمرو الشيباني قال قلت لعبد الله بن مسعود: اني أصبت عبيدا أباقا فقال لك أجر وغنيمة،
فقلت هذا الاجر فما الغنيمة؟ قال من كل رأس أربعين درهما
وقال أبو إسحاق أعطيت الجعل في زمن معاوية أربعين درهما. وهذا يدل على أنه متفيض
في العصر الأول. قال الخلال: حديث ابن مسعود أصح إسنادا. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال
إذا وجده على مسيرة ثلاث فله ثلاثة دنانير. وقال أبو حنيفة إن رده من مسيرة ثلاثة أيام فله أربعون
درهما وإن كان من دون ذلك يرضخ له على قدر المكان الذي تعنى إليه. ولا فرق عند إمامنا بين أن يزيد
الجعل على قيمة العبد أو لا يزيد وبهذا قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة إن كان قليل القيمة نقص
الجعل من قيمته درهما لئلا يفوت عليه العبد جميعه
ولنا عموم الدليل ولأنه جعل يستحق في رد الآبق فاستحقه وان زاد على قيمته كما لو جعله له
صاحبه ويستحقه ان مات سيده في تركته وبهذا قال أبو حنيفة وقال أبو يوسف إن كان الذي رده
من ورثة المولى سقط الجعل
356

ولنا ان هذا عوض عن عمله فلا يسقط بالموت كالاجر في الإجارة وكما لو كان من غير ورثة،
المولى إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون من رده معروفا برد الإباق أو لم يكن وبهذا قال أصحاب الرأي
وقال مالك إن كان معروفا بذلك استحق الجعل والا فلا ولنا الخبر والأثر المذكور من غير تفريق
ولأنه رد آبقا فاستحق الجعل كالمعروف بردهم
(فصل) ويجوز اخذ الآبق لمن وجده وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه
خلافا وذلك لأن العبد لا يؤمن لحاقه بدار الحرب وارتداده واشتغاله بالفساد في سائر البلاد بخلاف
الضوال التي تحفظ نفسها فإذا اخذه فهو أمانة في يده ان تلف بغير تفريطه فلا ضمان عليه وان وجد
صاحبه دفعه إليه إذا أقام به البينة أو اعترف العبد انه سيده وان لم يجد سيده دفعه إلى الإمام أو نائبه
فيحفظه لصاحبه أو يبيعه ان رأى المصلحة في بيعه ونحو ذلك قال مالك وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه
مخالفا وليس لملتقطه بيعه ولا تملكه بعد تعريفه لأن العبد ينحفظ بنفسه فهو كضوال الإبل فإن
باعه فالبيع فاسد في قول عامة أهل العلم منهم أبو حنيفة والشافعي وان باعه الإمام لمصلحة رآها في
بيعه فجاء سيده فاعترف انه كان أعتقه قبل منه لأنه لا يجر إلى نفسه بهذا نفعا ولا يدفع عنها ضررا
ويحتمل ان لا يقبل لأنه ملك لغيره فلا يقبل اقراره في ملك غيره كما لو باعه السيد ثم أقر بعتقه فعلى هذا
ليس لسيده اخذ ثمنه لأنه يقر انه حر ولا يستحق ثمنه ولكن يؤخذ إلى بيت المال لأنه لا مستحق له فهو
كتركة من مات ولا وارث له فإن عاد السيد فأنكر العتق وطلب المال دفع إليه لأنه مال لا منازع له فيه
(فصل) وإذا ابق العبد فحصل في يد حاكم فأقام سيده ببينة عند حاكم بلد آخر ان فلانا الذي
صفته كذا وكذا واستقصى صفاته عبد فلان بن فلان ابق منه فقبل الحاكم بينته وكتب الحاكم إلى
الحاكم الذي عنده العبد ثبت عندي إباق عبد فلان الذي صفته كذا وكذا قبل كتابة وسلم إليه
357

العبد وهذا قول أبي يوسف واحد قولي الشافعي الا ان أبا يوسف قال يأخذ به كفيلا لئن البينة أثبتته
بصفاته كما ثبت في الذمة بوصفه في السلم وقال أبو حنيفة ومحمد لا يجب تسلميه لأنهم لا يشهدون على
عينه وإنما يشهدون بالصفات وقد تتفق الصفات مع اختلاف الأعيان ويفارق المسلم فيه فإن الواجب
أقل ما يوجد منه الصفة وهو غير معين
ولنا انه يقبل كتاب الحاكم إلى الحاكم على شخص غائب ويؤخذ المحكوم عليه بالحق وليس
ثم شهادة على عين وإنما يؤخذ المحكوم عليه باسمه ونسبه وصفته فكذا هاهنا إذا ثبت وجوب تسليمه
فإن الحاكم الذي يسلمه يختم في عنقه خيطا ضيقا لا يخرج من رأسه ويدفعه إلى المدعي أو وكيله ليحمله إلى
الحاكم الكاتب ليشهد الشهود على عينه فإن شهدوا بعينه سلم إلى مدعيه وان لم يشهد وأوجب رده إلي
الحاكم الأول ويكون في ضمان الذي أخذه لأنه اخذه بغير استحقاق
{مسألة} قال (وإن كان التقطها قبل ذلك فردها لعلة الجعل لم يجز له أخذه)
إنما كان كذلك لأنه إذا التقطها قبل ان يبلغه الجعل فقد التقطها بغير عوض وعمل
في مال غيره بغير جعل جعل فلا يستحق شيئا كما لو التقطها ولم يجعل ربها فيها شيئا وفارق
الملتقط بعد بلوغه الجعل فإنه إنما بذل منافعه بعوض جعل له فاستحقه كالأجير إذا عمل بعد العقد
وسواء كان التقاطه لها بعد الجعل أو قبله لما ذكرنا ولا يستحق اخذ الجعل بردها لأن الرد واجب
عليه من غير عوض فلم يجز اخذ العوض عن الواجب كسائر الواجبات، وإنما يأخذه الملتقط في موضع
يجوز له اخذه عوضا عن الالتقاط المباح إذا ثبت هذا فإن ملتقطها قبل ان يبلغه الجعل لا يستحق شيئا
سواء ردها لعلة الجعل أو لغيره لأنه إذا لم يستحقه مع قصده إياه وعمله من أجله فلان لا يستحقه مع عدم
358

ذلك أولى، وإنما ذكر الخرقي ردها لعلة الجعل إن شاء الله لينبه به على عدم استحقاقه فيما إذا ردها
لغير علته ولان الحاجة إنما تدعو إلى معرفة الكم فيمن يريد الجعل أما من تركه ولا يريده فلا يقع
التنازع فيه غالبا والله أعلم
{مسألة} قال (وإن كان الذي وجد اللقطة سفيها أو طفلا قام وليه بتعريفها فإن تمت
السنة ضمها إلى مال واجدها)
وجملة ذلك أن الصبي والمجنون والسفيه إذا التقط أحدهم لقطة ثبتت يده عليها لعموم الاخبار
ولان هذا تكسب فصح منه كالاصطياد والاحتطاب وان تلفت في يده بغير تفريط فلا ضمان عليه لأنه اخذ
ماله أخذه وان تلفت بتفريطه ضمنها في ماله وإذا علم بها وليه لزمه أخذها لأنه ليس من أهل
الحفظ والأمانة فإن تركها في يده ضمنها لأنه يلزمه حفظ ما يتعلق به حق الصبي وهذا يتعلق به حقه
فإذا تركها في يده كان مضيعا لها وإذا أخذها الولي عرفها لأن واجدها ليس من أهل التعريف فإذا
انقضت مدة التعريف دخلت في ملك واجدها لأن سبب الملك تم شرطه فيثبت الملك له كما لو اصطاد
صيدا وهذا مذهب الشافعي الا أن أصحابه قالوا إذا انقضت مدة التعريف فكان الصبي والمجنون
بحيث يستقرض لهما يتملكه لهما والا فلا وقال بعضهم يتملكه لهما بكل حال لأن الظاهر عدم ظهور
صاحبه فيكون تملكه مصلحة له
ولنا عموم الاخبار ولو جرى هذا مجرى الاقتراض لما صح التقاط صبي لا يجوز الاقتراض له لأنه
يكون تبرعا بحفظ مال غيره من غير فائدة
(فصل) قال أحمد في رواية العباس بن موسى في غلام له عشر سنين التقط لقطة ثم كبر فإن
359

وجد صاحبها دفعا إليه والا تصدق بها، قد مضى أجل التعريف فيما تقدم من السنين ولم ير عليه استقبال
أجل التعريف، قال وقد كنت سمعته قبل هذا أو بعده يقول في انقضاء أجل التعريف إذا لم يجد صاحبها
أيتصدق بمال الغير؟ وهذه المسألة قد مضى نحوها فيما إذا لم يعرف الملتقط اللقطة في حولها فإنه لا
يملكها وان عرفها فيما بعد ذلك، لأن التعريف بعده لا يفيده ظاهرا لكون صاحبها يئس منها وترك
طلبها، وهذه المسألة تدل على أنه إذا ترك التعريف لعذر كان كتركه لغير عذر لكون الصبي من أهل
العذر وقد ذكرنا في هذا وجهين فيما تقدم، وقال أحمد في غلام لم يبلغ أصاب عشرة دنانير فذهب بها
إلى منزله فضاعت فلما بلغ أراد ردها فلم يعرف صاحبها تصدق بها، وان لم يجد عشرة وكان يجحف به
تصدق قليلا قليلا، قال القاضي معنى هذا أنها تلفت بتفريط الصبي وهو أنه لم يعلم وليه حتى يقوم بتعريفها
(فصل) فإذا وجد العبد لقطة فله أخذها بغير اذن سيده ويصح التقاطه، وبهذا قال أبو حنيفة وهو
أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر لا يصح التقاطه لأن اللقطة في الحول الأول أمانة ولاية في الثاني
تملك والعبد ليس من أهل الولايات ولا الملك
ولنا عموم الخبر، ولان الالتقاط سبب يملك به الصبي ويصح منه فصح من العبد كالاحتطاب والاصطياد،
ولان من جاز له قبول الوديعة صح منه الالتقاط كالحر، وقولهم ان العبد ليس من أهل الولايات
والأمانات يبطل بالصبي والمجنون فإنهما أدنى حالا منه في هذا، وقولهم ان العبد لا يملك ممنوع وان
سلمنا فإنه يتملك لسيده كما يحصل بسائر الاكتساب ولان الالتقاط تخليص مال من الهلاك فجاز من
العبد بغير اذن سيده كانقاذ المال الغريق والمغصوب، إذا ثبت هذا فإن التقط العبد لقطة كانت أمانة في
يده ان تلفت بغير تفريط في حول التعريف لم يضمن وان تلفت بتفريطه أو اتلاف وجب ضمانها في رقبته
كسائر جناياته، وان عرفها صح تعريفه لأن له قولا صحيحا فصح تعريفه كالحر فإذا تم حول التعريف
360

ملكها سيده لأن الالتقاط كسب العبد وكسبه لسيده وان علم السيد بلقطة عبده كان له انتزاعها منه
لأنها من كسب العبد وللسيد انتزاع كسبه من يده فإذا انتزعها بعد أن عرفها العبد ملكها وإن كان لم
يعرفها عرفها سيده حولا كاملا وإن كان العبد قد عرفها بعض الحول عرفها السيد تمامه فإن اختار السيد
اقرارها في يد عبده نظرت فإن كان العبد أمينا جاز وكان السيد مستعينا بعبده في حفظها كما يستعين
به في حفظ ماله، وإن كان العبد غير أمين كان السيد مفرطا باقرارها في يده ولزمه ضمانها كما لو أخذها
من يده ثم ردها إليه لأن يد العبد كيده وما يستحق بها فهو لسيده، وان أعتق السيد عبده بعد الالتقاط
فله انتزاع اللقطة من يده لأنها من كسبه واكسابه لسيده، ومتى علم العبد أن سيده غير مأمون عليها
لزمه سترها عنه وتسليمها إلى الحاكم ليعرفها ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان فإن أعلم سيده بها فلم
يأخذها منه أو أخذها فعرفها وأدى الأمانة فيها فتلفت في الحول الأول بغير تفريطه فلا ضمان فيها
لأنها لم تتلف بتفريط من أحدهما وان لم يؤد الأمانة فيها وجب ضمانها، ويتعلق الضمان برقبة العبد وذمة
السيد جميعا لأن التفريط حصل منهما جميعا
(فصل) والمكاتب كالحر في اللقطة لأن المال له في الحال واكسابه له دون سيده واللقطة من
اكتسابه فإن عجز عاد عبدا وصار حكمه في اللقطة حكم العبد على ما مر بيانه، وأم الولد والمعلق عتقه
بصفة والمدبر كالقن، ومن نصفه حر إذا النقط شيئا ولم يكن بينه وبين سيده مهايأة فهو بينهما بعد التعريف
نصفين كسائر أكسابه وهي بينهما في حول التعريف كالحرين التقطا لقطة، وإن كان بينهما مهايأة ففيها
وجهان (أحدهما) لا تدخل في المهايأة لأنها كسب نادر لا يعلم وجوده ولا يظن فلم تدخل في المهايأة
وتكون بينهما (والثاني) تدخل في المهايأة لأنها من كسبه فأشبهت سائر أكسابه فإن وجدها في يومه
فهي له، وإن وجدها في يوم سيده فهي له، وإن كان العبد مشتركا بين اثنين فلقطته بينهما على ما ذكرنا
فيمن بعضه حر وبعضه رقيق
361

(فصل) والذمي في الالتقاط كالمسلم ومن أصحاب الشافعي من قال ليس له الالتقاط في دار
الاسلام لأنه ليس من أهل الأمانة
ولنا أنها نوع اكتساب فكان من أهلها كالحش والاحتطاب وما ذكروه يبطل بالصبي والمجنون
فإنه يصح التقاطهما مع عدم لأمانة. إذا ثبت هذا فإنه ان عرف اللقطة حولا ملكها كالمسلم، وإن علم
بها الحاكم أو السلطان أقرها في يده وضم إليه مشرفا عدلا يشرف عليه ويعرفها لأننا لا نأمن الكافر
على تعريفها ولا نأمنه أن يخل في التعريف بشئ من الواجب عليه فيه وأجر المشرف عليه فإذا تم حول
التعريف ملكها الملتقط ويحتمل أن تنزع من يد الذمي وتوضع على يد عدل لأنه غير مأمون عليها
(فصل) ويستحب لمن ليس بأمين أن لا يأخذ اللقطة لأنه يعرض نفسه للأمانة وليس هو من
أهلها فإن التقط صح التقاطه لأنها جهة من جهات الكسب وهو من أهل الكسب، ولأنه إذا صح التقاط
الكافر فالمسلم أولى فإذا التقطها فعرفها حولا ملكها كالعدل، وإن علم الحاكم أو السلطان بها أقرها في
يده وضم إليه مشرفا يشرف عليه وبتولي تعريفها كما قلنا في الذمي لأنه لا نأمنه عليها وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر ينزعها من يده وبضعها في يد عدل
ولنا أن من خلي بينه وبين الوديعة لم تزل يده عن اللقطة كالعدل والحفظ يحصل بضم المشرف
إليه وإن لم يمكن المشرف حفظها منه انتزعت من يده وتركت في يد عدل فإذا عرفها وتمت السنة
ملكها ملتقطها لأن سبب الملك وجد منه
{مسألة} قال (وإذا وجد الشاة بمصر أو بمهلكة فهي لقطة)
يعني أنه يباح أخذها والتقطاها وحكمها إذا أخذها حكم الذهب والفضة في التعريف والملك بعده
هذا الصحيح من مذهب احمد وقول أكثر أهل العلم، قال ابن عبد البر أجمعوا على أن ضالة النعم في
الموضع المخوف عليها له أكلها وكذلك الحكم في كل حيوان لا يمتنع بنفسه من صغار السباع وهي الثعلب
362

وابن آوى والذئب وولد الأسد ونحوها، فما لا يمتنع منها كفصلان الإبل وعجول البقر وافلاء الخيل والدجاج
والإوز ونحوها يجوز التقاطه ويروى عن أحمد رواية أخرى ليس لغير الإمام التقاطها. وقال الليث
ابن سعد لا أحب أن يقربها الا أن يحرزها لصاحبها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يؤوي الضالة لا ضال "
ولأنه حيوان أشبه الإبل
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الشاة " خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " متفق
عليه، ولأنه يخشى عليه التلف والضياع فأشبه لقطة غير الحيوان وحديثنا أخص من حديثهم فنخصه
به والقياس على الإبل لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل منع التقاطها بأن معها حذاءها وسقاءها وهذا معدوم
في الغنم ثم قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في خبر واحد فلا يجوز الجمع بين ما فرق الشارع بينهما ولا قياس
ما أمر بالتقاطه على ما منع ذلك منه. إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يجدها بمصر أو بمهلكة، وقال
مالك وأبو عبيد وابن المنذر في الشاة توجد في الصحراء اذبحها وكلها، وفي المصر ضمها حتى يجدها
صاحبها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هي لك أو لأخيك أو للذئب " والذئب لا يكون في المصر
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " خذها " ولم يفرق ولم يستفصل ولو افترق الحال لسأل أو استفصل
ولأنها لقطة فاستوى فيها المصر والصحراء كسائر اللقطات، وقولهم إن الذئب لا يكون الا في الصحراء
قلنا كونها للذئب في الصحراء لا يمنع كونها لغيره في المصر. إذا ثبت هذا فإنه متى عرفها حولا كاملا
ملكها وذكر القاضي وأبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى انه لا يملكها ونعلها الرواية التي منع
من التقاطها فيها.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " هي لك أو لأخيك " فأضافها إليه بلام التمليك ولأنها يباح
التقاطها فملكت بالتعريف كالأثمان ولان ذلك اجماع حكاه ابن عبد البر.
363

(فصل) ويتخير ملتقطها بين ثلاثة أشياء (اكلها في الحال) وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي
وغيرهم، قال ابن عبد البر أجمعوا على أن ضالة الغنم في المواضع المخوف عليها له أكلها، والأصل في
ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " هي لك أو لأخيك أو للذئب " فجعلها له في الحال وسوى بينه
وبين الذئب، والذئب لا يستأني بأكلها ولان في أكلها في الحال إغناء عن الانفاق عليها وحراسة
لماليتها على صاحبها إذا جاء فإنه يأخذ قيمتها بكمالها من غير نقص وفي إبقائها تضييع للمال بالانفاق
عليها والغرامة في علفها فكان أكلها أولى، ومتى أراد أكلها حفظ صفها فمتى جاء صاحبها غرمها له في قول عامة أهل العلم إلا مالكا فإنه قال كلها ولا غرم عليك لصاحبها ولا تعريف لها لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" هي لك " ولم يوجب فيها تعريفا ولا غرما وسوى بينه وبين الذئب، والذئب لا يعرف ولا يغرم، قال
ابن عبد البر لم يوافق مالكا أحد من العلماء على قوله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو
" رد على أخيك ضالته " دليل على أن الشاة على ملك صاحبها ولأنها لقطة لها قيمة وتتبعها النفس فتجب
غرامتها لصاحبها إذا جاء كغيرها ولأنها ملك لصاحبها فلم يجز تملكها عليه بغير عوض من غير رضاه
كما لو كانت بين البنيان ولأنها عين يجب ردها مع بقائها فوجب غرمها إذا أتلفها كلقطة الذهب
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " هي لك " لا يمنع وجوب غرامتها فإنه قد أذن في لقطة الذهب والورق بعد
تعريفها في أكلها وانفاقها، وقال هي كسائر مالك ثم أجمعنا على وجوب غرامتها كذلك الشاة ولا فرق
في إباحة أكلها بين وجدانها في الصحراء أو في المصر، وقال مالك وأبو عبيد وأصحاب الشافعي
وابن المنذر ليس له أكلها في المصر لأنه يمكنه بيعها بخلاف الصحراء
ولنا أن ما جاز أكله في الصحراء أبيح في المصر كسائر المأكولات ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" هي لك " ولم يفرق ولان أكلها معلل بما ذكرنا من الاستغناء عن الانفاق عليها، وهذا في المصر
364

أشد منه في الصحراء (الثاني) أن يمسكها على صاحبها وينفق عليها من ماله ولا يتملكها، وان أحب
أن ينفق عليها محتسبا بالنفقة على مالكها وأشهد على ذلك فهل له أن يرجع بالنفقة على روايتين:
(إحداهما) يرجع به نص عليه في رواية المروذي في طيرة أفرخت عند قوم فقضي أن الفراخ لصاحب
الطيرة ويرجع بالعلف إذا لم يكن متطوعا، وقضى عمر بن عبد العزيز فيمن وجد ضالة فأنفق عليها
وجاء ربها بأنه يغرم له ما أنفق وذلك لأنه أنفق على اللقطة لحفظها فكان من مال صاحبها كمؤنة
الرطب والعنب (والرواية الثانية) لا يرجع بشئ وهو قول الشعبي والشافعي ولم يعجب الشعبي
قضاء عمر بن عبد العزيز لأنه أنفق على مال غيره بغير اذنه فلم يرجع كما لو بنى داره، ويفارق العنب
والرطب فإنه ربما كان تجفيفه والانفاق عليه في ذلك أحظ لصاحبه لأن النفقة لا تتكرر والحيوان يتكرر
الانفاق عليه فربما استغرق قيمته فكان بيعه أو أكله أحظ فلذلك لم يحتسب المنفق عليها بما أنفق.
(الثالث) أن يبيعها ويحفظ ثمنها لصاحبها وله أن يتولى ذلك بنفسه وقال بعض أصحاب الشافعي
يبيعها باذن الإمام.
ولنا أنه إذا جاز له أكلها بغير اذن فبيعها أولى ولم يذكر أصحابنا لها تعريفا في هذه المواضع
وهذا قول مالك لحديث زيد بن خالد فإنه صلى الله عليه وسلم قال " خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب "
ولم يأمر بتعريفها كما أمر في لقطة الذهب والورق
ولنا أنها لقطة لها خطر فوجب تعريفها كالمطعوم الكثير وإنما ترك ذكر تعريفها لأنه ذكرها
بعد بيانه التعريف فيما سواها فاستغنى بذلك عن ذكره فيها ولا يلزم من جواز التصرف فيها في الحول
سقوط التعريف كالمطعوم.
(فصل) إذا أكلها ثبتت قيمتها في ذمته ولا يلزمه عزلها لعدم الفائدة في ذلك فإنها لا تنتقل
365

من الذمة إلى المال المعزول ولو عزل شيئا ثم أفلس كان صاحب اللقط أسوة الغرماء ولم يختص بالمال
المعزول وان باعها وحفظ ثمنها وجاء صاحبها أخذه ولم يشاركه فيه أحد من الغرماء لأنه عين ماله
لا شئ للمفلس فيه.
(فصل) وإذا التقط ما لا يبقى عاما فذلك نوعان (أحدهما) ما لا يبقى بعلاج ولا غيره كالطبيخ
والبطيخ والفاكهة التي لا تجفف والخضراوات فهو مخير بين أكله وبيعه وحفظ ثمنه ولا يجوز إبقاؤه
لأنه يتلف فإن تركه حتى تلف فهو من ضمانه لأنه فرط في حفظة فلزمه ضمانه كالوديعة، فإن أكله ثبتت
القيمة في ذمته على ما ذكرناه في لقطة الغنم وإن باعه وحفظ ثمنه جاز وهذا ظاهر مذهب الشافعي. وله
أن يتولى بيعه بنفسه، وعن أحمد له بيع اليسير وإن كان كثيرا دفعه إلى السلطان. وقال أصحاب
الشافعي ليس له بيعه إلا بإذن الحاكم فإن عجز عنه جاز البيع بنفسه لأنه حال ضرورة فأما مع القدرة
على استئذانه فلا يجوز من غير إذنه لأنه مال معصوم لا ولاية عليه فلم يجز لغير الحاكم بيعه كغير اللقطة
ولنا أنه مال أبيح للملتقط أكله فأبيح له بيعه كماله ولأنه مال أبيح له بيعه عند العجز عن الحاكم
فجاز عند القدرة عليه كماله. إذا ثبت هذا فإنه متى أراد أكله أو بيعه حفظ صفاته ثم عرفه عاما فإذا
جاء صاحبه فإن كان قد باعه وحفظ ثمنه دفعه إليه وإن كان قد أكله أو اكل ثمنه غرمه له بقيمته يوم
أكله وإن تلف الثمن بغير تفريط قبل تملكه أو نقص أو تلفت العين أو نقصت من غير تفريطه فلا
ضمان على الملتقط، وان تلفت أو نقصت أو نقص الثمن لتفريطه فعلى الملتقط ضمانه وكذلك أن تلف
الثمن بعد تملكه أو نقص ضمنه (النوع الثاني) ما يمكن ابقاؤه بالعلاج كالعنب والرطب فينظر ما فيه
الحظ لصاحبه فإن كان في التجفيف جففه ولم يكن له الا ذلك لأنه مال غيره فلزمه ما فيه الحظ لصاحبه
كولي اليتيم، وان احتاج في التجفيف إلى غرامة باع بعضه في ذلك، وإن كان الحظ في بيعه باعه
366

وحفظ ثمنه كالطعام والرطب فإن تعذر بيعه ولم يمكن تجفيفه تعين أكله كالبطيخ، وإن كان أكله
أنفع لصاحبه فله أكله أيضا لأن الحظ فيه، ويقتضي قول أصحابنا ان العروض لا تملك بالتعريف ان
هذا كله لا يجوز له أكله لكن يخير بين الصدقة به وبين بيعه، وقد قال احمد فيمن يجد في منزله طعاما
لا يعرفه يعرفه ما لم يخش فساده فإن خشي فساده تصدق به فإن جاء صاحبه غرمه وكذلك قال مالك
وأصحاب الرأي في لقطة ما لا يبقى سنة يتصدق به وقال الثوري يبيعه ويتصدق بثمنه
ولنا على جواز أكله قول النبي صلى الله عليه وسلم في ضالة الغنم " خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " وهذا
تجويز للاكل فإذا جاز فيما هو محفوظ بنفسه ففيما يفسد ببقائه أولى
{مسألة} قال (ولا يتعرض لبعير ولا لما فيه قوة يمنع عن نفسه)
وجملة ذلك أن كل حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع وورود الماء لا يجوز التقاطه ولا
التعرض له سواء كان لكبر جثته كالإبل والخيل والبقر أو لطيرانه كالطيور كلها أو لسرعته كالظباء
والصيود أو بنابه كالكلاب والفهود؟ وقال عمر رضي الله عنه من أخذ ضالة فهو ضال أي مخطئ
وبهذا قال الشافعي والأوزاعي وأبو عبيد، وقال مالك والليث في ضالة الإبل من وجدها في القرى
عرفها، ومن وجدها في الصحراء لا يقربها، ورواه المزني عن الشافعي، وكان الزهري يقول: من
وجد بدنة فليعرفها فإن لم يجد صاحبها فلينحرها قبل أن تنقضي الأيام الثلاثة، وقال أبو حنيفة في لفظ
يباح التقاطها لأنها لقطة أشبهت الغنم
ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عنها " مالك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر
حتى يجدها ربها " وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله انا نصيب هوامي الإبل قال " ضالة المسلم
367

حرق النار " وروي عن جرير بن عبد الله أنه أمر بطرد بقرة لحقت ببقره حتى توارت، وقال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يؤوي الضالة إلا ضال " رواه أبو داود بمعناه، وقياسهم يعارض
صريح النص، وكيف يجوز ترك نص النبي صلى الله عليه وسلم وصريح قوله بقياس نصه في موضع آخر؟ على أن
الإبل تفارق الغنم لضعفها وقلة صبرها عن الماء
(فصل) فإن كانت الصيود مستوحشة إذا تركت رجعت إلى الصحراء وعجز عنها صاحبها جاز
التقاطها لأن تركها أضيع لها من سائر الأموال والمقصود حفظها لصاحبها لا حفظها في نفسها ولو كان
المقصود حفظها في أنفسها لما جاز التقاط الأثمان فإن الدينار دينار حيثما كان
(فصل) والبقر كالإبل نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد، وحكي عن مالك ان
البقرة كالشاة. ولنا خبر جرير فإنه طرد البقرة ولم يأخذها، ولأنها تمتنع عن صغار السباع وتجزئ
في الأضحية والهدي عن سبعة فأشبهت الإبل وكذلك الحكم في الخيل والبغال فأما الحمر فجعلها
أصحابنا من هذا القسم الذي لا يجوز التقاطه لأن لها أجساما عظيمة فأشبهت البغال والخيل ولأنها من
الدواب فأشبهت البغال، والأولى الحاقها بالشاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإبل بان معها حذاءها
وسقاءها يريد شدة صبرها عن الماء لكثرة ما توعي في بطونها منه وقوتها على وروده وفي إباحة ضالة الغنم
بأنها معرضة لاخذ الذئب إياها بقوله " هي لك أو لأخيك أو للذئب " والحمر مساوية للشاة في علتها
فإنها لا تمتنع من الذئب، ومفارقة للإبل في علتها فإنها لا صبر لها عن الماء ولهذا يضرب المثل بقلة صبرها
عنه فيقال ما بقي من مدته إلا ظمأ حمار. وإلحاق الشئ بما ساواه في علة الحكم وفارقه في الصورة أولى
من الحاقه بما قاربه في الصورة وفارقه في العلة، فأما غير الحيوان فما كان منه ينحفظ بنفسه كأحجار
الطواحين والكبير من الخشب وقدور النحاس فهو كالإبل في تحريم أخذه بل أولى منه لأن الإبل تتعرض
368

في الجملة للتلف واما بالأسد واما بالجوع والعطش وغير ذلك وهذه بخلاف ذلك، ولأن هذه لا تكاد
تضيع عن صاحبها ولا تبرح من مكانها بخلاف الحيوان فإذا حرم أخذ الحيوان فهذه أولى
(فصل) فإن أخذ هذا الحيوان الذي لا يجوز أخذه على سبيل الالتقاط ضمنه إماما كان أو
غيره لأنه أخذ ملك غيره بغير اذنه ولا أذن الشارع له فهو كالغاصب فإن رده إلى موضعه لم يبرأ من
الضمان وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: يبرأ لأن عمر رضي الله عنه قال أرسله في الموضع الذي أصبته
فيه، وجرير طرد البقرة التي لحقت بقره
ولنا أن ما لزمه ضمانه لا يزول عنه إلا برده إلى صاحبه أو نائبه كالمسروق والمغصوب، وأما
حديث جرير فإنه لم يأخذ البقرة ولا أخذها راعيا إنما لحقت بالبقر فطردها عنها فأشبه ما لو دخلت
داره فأخرجها، فعلى هذا متى لم يأخذها بحيث ثبتت يده عليها لا يلزمه ضمانها سواء طردها أو لم
يطردها، وإن أخذها فلزمه ضمانها فدفعها إلى الإمام أو نائبه زال عنه الضمان لأن له نظرا في ضوال
الناس بدليل ان له أخذها فكان نائبا عن أصحابنا فيها
(فصل) وللإمام أو نائبه أخذ الضالة على وجه الحفظ لصاحبها لأن عمر رضي الله عنه حمى
موضعا يقال له النقيع لخيل المجاهدين والضوال. ولان للإمام نظرا في حفظ مال الغائب وفي أخذ هذه
حفظ لها عن الهلاك ولا يلزمه تعريفها لأن عمر رضي الله عنه لم يكن يعرف الضوال، ولأنه إذا
369

عرف ذلك فمن كانت له ضالة فإنه يجئ إلى موضع الضوال فإذا عرف ضالته أقام البينة عليها وأخذها
ولا يكتفى فيها بالصفة لأنها ظاهرة بين الناس فيعرف صفاتها من رآها من غير أهلها فلا تكون
الصفة لها دليلا على ملكه لها، ولان الضالة قد كانت ظاهرة بين الناس حين كانت في يد مالكها
فلا يختص هو بمعرفة صفاتها دون غيره فلم يكن ذلك دليلا ويمكنه إقامة البينة عليها لظهورها للناس
ومعرفة خلطائه وجيرانه بملكه إياها
(فصل) وان أخذها غير الإمام أو نائبه ليحفظها لصاحبها لم يجز له ذلك ولزمه ضمانها لأنه
لا ولاية له على صاحبها وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولأصحابه وجه ان له أخذها لحفظها قياسا على
الإمام، ولا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع أخذها من غير تفريق بين قاصد الحفظ وقاصد الالتقاط ولا
يصح القياس على الإمام لأن له ولاية وهذا لا ولاية له، وان وجدها في موضع يخاف عليها به مثل أن يجدها
بأرض مسبعة يغلب على الظن أن الأسد يفترسها ان تركت به أو فرسا من دار الحرب يخاف عليها من
أهلها أو بموضع يستحل أهله أموال المسلمين كواد التيم أو في برية لا ماء بها ولا مرعى فالأولى جواز
أخذها للحفظ ولا ضمان على آخذها لأن فيه انقاذها من الهلاك فأشبه تخليصها من غرق أو حريق،
فإذا حصلت في يده سلمها إلى نائب الإمام وبرئ من ضمانها ولا يملكها بالتعريف لأن الشرع لم يرد بذلك فيها
(فصل) وما يحصل عند الإمام من الضوال فإنه يشهد عليها ويضمها بأنها ضالة ثم إن كان له
حمى ترعى فيه تركها فيه إن رأى ذلك، وان رأى المصلحة في بيعها وحفظ ثمنها أو لم يكن له حمى
370

باعها بعد أن يحليها ويحفظ صفاتها ويحفظ ثمنها لصاحبها فإن ذلك أحفظ لها لأن تركها يفضي إلى أن تأكل جميع ثمنها
(فصل) ومن ترك دابة بمهلكة فأخذها انسان فأطعمها وسقاها وخلصها ملكها وبه قال الليث
والحسن بن صالح وإسحاق الا أن يكون تركها ليرجع إليها أو ضلت منه، وقال مالك هي لمالكها
الأول ويغرم ما أنفق عليها، وقال الشافعي وابن المنذر هي لمالكها والآخر متبرع بالنفقة لا يرجع
بشئ لأنه ملك غيره فلم يملكه بغير عوض من غير رضاه كما لو كانت في غير مهلكة ولا يملك الرجوع
لأنه أنفق على مال غيره بغير إذنه فلم يرجع بشئ كما لو بنى داره
ولنا ما روى الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من وجد دابة قد عجز عنها أهلها فسيبوها فأخذها
فأحياها فهي له " قال عبد الله بن عبد الرحمن فقلت يعني للشعبي من حدثك بهذا؟ قال
غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود باسناده. وفي لفظ عن الشعبي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ترك دابة بمهلكة فأحياها رجل فهي لمن أحياها " ولان في الحكم بملكها احياءها
وانقاذها من الهلاك وحفظا للمال عن الضياع ومحافظة على حرمة الحيوان وفي القول بأنها لا تملك تضييع
لذلك كله من غير مصلحة تحصل، ولأنه نبذ رغبة عنه وعجزا عن أخذه فملكه آخذه كالساقط من
السنبل وسائر ما ينبذه الناس رغبة عنه
(فصل) وإن ترك متاعا فخلصه انسان لم يملكه لأنه لا حرمة له في نفسه ولا يخشى عليه التلف
كالخشية على الحيوان فإن الحيوان يموت إذا لم يطعم ويسقى وتأكله السباع والمناع يبقى حتى يرجع
371

إليه صاحبه، وإن كان المتروك عبدا لم يملك بأخذه لأن العبد في العادة يمكنه التخلص إلى الأماكن
التي يعيش فيها بخلاف البهيمة وله أخذ العبد والمناع ليخلصه لصاحبه وله أجر مثله في تخليص المناع نص
عليه وكذلك في العبد على قياسه
قال القاضي يجب أن يحمل قوله في وجوب الاجر على أنه جعل له ذلك أو أمره به، فأما ان لم
يجعل له شيئا فلا جعل له لأنه عمل في مال غيره بغير جعل فلم يستحق شيئا كالملتقط وهذا خلاف ظاهر
كلام احمد فإنه لو جعل له جعلا لاستحقه ولم يجعل له أجر المثل ويفارق هذا الملتقط فإن الملتقط لم
يخلص اللقطة من الملاك ولو تركها أمكن أن يرجع صاحبها فيطلبها من مكانها فيجدها وههنا ان لم
يخرجه هذا ضاع وهلك ولم يرجع إليه صاحبه ففي جعل الاجر فيه حفظ للأموال من غير مضرة فجاز
ذلك كالجعل في الآبق، ولان اللقطة جعل فيها الشارع ما يحث على أخذها وهو ملكها ان لم يجئ
صاحبها فاكتفى به عن الاجر فينبغي أن يشرع في هذا ما يحث على تخليصه بطريق الأولى وليس الا
الاجر، فأما ما ألقاه ركاب البحر فيه خوفا من الغرق فلم أعلم لأصحابنا فيه قولا سوى عموم قولهم الذي
ذكرناه ويحتمل أن يملك هذا من أخذه وهو قول الليث بن سعد وبه قال الحسن فيمن أخرجه قال
وما نضب عنه الماء فهو لأهله، وقال ابن المنذر يرده على أصحابه ولا جعل له ويقتضيه قول الشافعي
والقاضي لما تقدم، ومقتضى قول الإمام أبي عبد الله أن لمن أنقذه أجر مثله لما ذكرنا ووجه ما ذكرنا
372

من الاحتمال أن هذا مال ألقاه صاحبه فيما يتلف بتركه فيه اختيارا منهم فملكه من أخذه كالذي ألقوه
رغبة عنه، ولان فيما ذكروه تحقيقا لاتلافه فلم يجز كمباشرته بالاتلاف، فأما ان انكسرت السفينة فأخرجه
قوم فقال مالك يأخذ أصحاب المتاع متاعهم ولا شئ للذي أصابوه وهذا قول الشافعي وابن المنذر
والقاضي وعلى قياس نص أحمد يكون لمستخرجه أجر المثل لأن ذلك وسيلة إلى تخليصه وحفظه
لصاحبه وصيانته عن الغرق فإن الغواص إذا علم أنه يدفع إليه الاجر بادر إلى التخليص ليخلصه، وان
علم أنه يؤخذ منه بغير شئ لم يخاطر بنفسه في استخراجه فينبغي أن يقضى له بالاجر كجعل رد الآبق
(فصل) ذكر القاضي فيما إذا التقط عبدا صغيرا أو جارية ان قياس المذهب أنه لا يملك بالتعريف
وقال الشافعي يملك العبد دون الجارية ولان التملك بالتعريف عنده افتراض والجارية عنده لا تملك بالفرض
وهذه المسألة فيها نظر فإن اللقيط محكوم بحريته، فإن كان ممن يعبر عن نفسه فأقر بأنه مملوك لم يقبل
اقراره لأن الطفل لا قول له ولو اعتبر قوله في ذلك لاعتبر في تعريفه سيده والله أعلم
373

[كتاب اللقيط]
وهو الطفل المنبوذ، واللقيط بمعنى الملقوط فعيل بمعنى مفعول كقولهم قتيل وجريح وطريح، والتقاطه
واجب لقول الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولان فيه احياء نفسه فكان واجبا كاطعامه إذا
اضطر وانجائه من الغرق، ووجوبه على الكفاية إذا قام به واحد سقط عن الباقين، فإن تركه الجماعة أثموا
كلهم إذا علموا فتركوه مع امكان أخذه. وروي عن سنين أبي جميلة (1) قال وجدت ملفوفا فأتيت به
عمر رضي الله عنه فقال عريفي يا أمير المؤمنين انه رجل صالح، فقال عمر أكذلك هو؟ قال نعم قال
فاذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته. رواه سعيد عن سفيان عن الزهري سمع سنينا أبا جميلة
بهذا وقال علينا رضاعه
{مسألة} قال (واللقيط حر)
وجملة ذلك أن اللقيط حر في قول عامة أهل العلم الا النخعي، قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم
على أن اللقيط حر. روينا هذا القول عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وبه قال عمر بن عبد العزيز والشعبي

(1) سنين أبو جميلة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وشهد عام الفتح روي
عنه الزهري وزيد بن أسلم سئل أبو زرعة عن سنين هذا في اللقيط فلم يكن ثبتا
ولم يكن بالمشهور عنده
374

والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ومن تبعهم، وقال النخعي ان
التقطه للحسبة فهو حر وإن كان أراد أن يسترقه فذلك له، وذلك قول شذ فيه عن الخلفاء والعلماء ولا
يصح في النظر فإن الأصل في الآدميين الحرية فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحرارا وإنما الرق للعارض
فإذا لم يعلم ذلك العارض فله حكم الأصل
(فصل) ولا يخلو اللقيط من أن يوجد في دار الاسلام أو في دار الكفر فأما دار الاسلام فضربان
(أحدهما) دار اختطها المسلمون كبغداد والبصرة والكوفة فلقيط هذه محكوم باسلامه، وإن كان فيها
أهل الذمة تغليبا للاسلام ولظاهر الدار ولان الاسلام يعلو ولا يعلى عليه (الثاني) دار فتحها المسلمون
كمدائن الشام فهذه إن كان فيها مسلم واحد حكم باسلام لقيطها لأنه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليبا
للاسلام وإن لم يكن فيها مسلم بل كل أهلها ذمة حكم بكفره لأن تغليب حكم الاسلام إنما يكون مع الاحتمال،
وأما بلد الكفار فضربان أيضا (أحدهما) بلد كان للمسلمين فغلب الكفار عليه كالساحل فهذا
كالقسم الذي قبله إن كان فيه مسلم واحد حكم باسلام لقيط وإن لم يكن فيه مسلم فهو كافر، وقال
القاضي يحكم باسلامه أيضا لأنه يحتمل أن يكون فيه مؤمن يكتم ايمانه بخلاف الذي قبله فإنه لا حاجة
به إلى كتم إيمانه في دار الاسلام، وإن كان في بلد كان للمسلمين ثم غلب عليه المشركون ثم ظهر عليه
المسلمون وأقروا فيه أهله بالجزية فهذا كالقسم الثاني من دار الاسلام
375

(الثاني) دار لم تكن للمسلمين أصلا كبلاد الهند والروم فإن لم يكن فيها مسلم فلقيطها كافر لأن
الدار لهم وأهلها منهم، وإن كان فيها مسلمون كالتجار وغيرهم احتمل أن يحكم باسلامه تغليبا للاسلام
واحتمل أن يحكم بكفره تغليبا للدار والأكثر وهذا التفصيل كله مذهب الشافعي، قال ابن المنذر
أجمع عوام أهل العلم على أن الطفل إذا وجد في بلاد المسلمين ميتا في أي مكان وجد أن غسله ودفنه
في مقابر المسلمين يجب وقد منعوا أن يدفن أطفال المشركين في مقابر المسلمين قال إذا وجد لقيط في
في قرية ليس فيها الا مشرك فهو على ظاهر ما حكموا به انه كافر هذا قول الشافعي وأصحاب الرأي
(فصل) وفي الموضع الذي حكمنا باسلامه إنما يثبت ذلك ظاهرا لا يقينا لأنه يحتمل أن يكون ولد
كافر فلو أقام كافر بينة انه ولده ولد علي فراشه حكمنا له به وإذا بلغ اللقيط حدا يصح فيه اسلامه
وردته فوصف الاسلام فهو مسلم سواء كان ممن حكم باسلامه أو كفره، وإن وصف الكفر وهو ممن
حكم باسلامه فهو مرتد لا يقر على كفره وبهذا قال أبو حنيفة، وذكر القاضي وجها أنه يقر على كفره
وهو منصوص الشافعي لأن قوله أقوي من ظاهر الدار وهذا وجه مظلم لأن دليل الاسلام وجد عريا
عن المعارض وثبت حكمه واستقر فلم يجر إزالة حكمه لقوله كما لو كان ابن مسلم، وقوله لا دلالة فيه أصلا
لأنه لا يعرف في الحال من كان أبوه ولا ما كان دينه وإنما يقول هذا من تلقاء نفسه. فعلى هذا إذا بلغ
استتيب ثلاثا فإن تاب والا قتل، فأما على قولهم فقال القاضي ان وصف كفرا يقر أهله عليه بالجزية
376

عقدت له الذمة فإن امتنع من التزامها أو وصف كفرا لا يقر أهله عليه الحق بمأمنه، وهذا بعيد جدا فإن
هذا اللقيط. لا يخلو من أن يكون ابن وثني حربي فهو حاصل في يد المسلمين بغير عهدة ولا عقد فيكون
لواجده ويصير مسلما باسلام سابيه أو يكون ابن ذميين أو أحدهما ذمي فلا يقر على الانتقال إلى غير
دين أهل الكتاب أو يكون ابن مسلم أو ابن مسلمين فيكون مسلما، قال احمد في أمة نصرانية ولدت
من فجور ولدها مسلم لأن أبويه يهودانه وينصرانه وهذا ليس معه الا أمه وإذا لم يكن لهذا الولد حال
يحتمل أن يقر فيها على دين لا يقر أهله عليه فكيف يرد إلى دار الحرب
(فصل) إذ جنى اللقيط جناية تحملها العاقلة فالعقل على بيت المال لأن ميراثه له ونفقته عليه وان
جنى جناية لا تحملها العاقلة فحكمه فيها غير حكم اللقيط ان كانت توجب القصاص وهو بالغ عاقل
اقتص منه وان كانت موجبة للمال وله مال استوفى منه والا كان في ذمته حتى يوسر، وإن جني عليه
في النفس جناية توجب الدية فهي لبيت المال لأنه وارثه وإن كان عمدا محضا فالإمام مخير بين استيفاء
القصاص ان رآه أحظ للملاقيط والعفو على مال وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وأبو حنيفة الا انه
يخيره بين القصاص والمصالحة وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم فالسلطان ولى من لا ولى له " وان جني عليه فيما
دون النفس جناية توجب الأرش قبل بلوغه فلوليه اخذ الأرش وان كانت عمدا موجبة للقصاص
وللقيط مال يكفيه وقف الامر على بلوغه ليقتص أو يعفو سواء كان عاقلا أو معتوها وان لم يكن له
377

مال وكان عاقلا انتظر بلوغه أيضا وإن كان معتوها فللولي العفو على مال يأخذه له لأن المعتوه ليست
له حال معلومة منتظرة فإن ذلك قد يدوم به والعاقل له حال منتظرة فافترقا وفي الحال التي ينتظر بلوغه
فإن الجاني يحبس حتى يبلغ اللقيط فيستوفي لنفسه وهذا مذهب الشافعي وقد روي عن أحمد رواية
أخرى ان للإمام استيفاء القصاص له وهو مذهب أبي حنيفة لأنه أحد نوعي القصاص فكان للإمام
استيفاؤه عن اللقيط كالقصاص في النفس
ولنا انه قصاص لم يتحتم استيفاؤه فوقف على قوله كما لو كان بالغا غائبا، وفارق القصاص في النفس
فإن القصاص ليس هو له إنما هو لوارثه والإمام المتولي له
(فصل) وان قذف اللقيط بعد بلوغه محصنا حد ثمانين لأنه حر، وان قذفه قاذف وهو محصن فعليه
الحد لأنه محكوم بحريته فإن ادعى القاذف انه عبد فصدقه اللقيط سقط الحد لاقرار المستحق بسقوط
الحد ويحب التعزير لقذفه من ليس بمحصن وان كذبه اللقيط وقال إني حر فالقول قوله لأنه محكوم
بحريته فقوله موافق للظاهر ولذلك أوجبنا عليه حد الحر إذا كان قاذفا وأوجبنا له القصاص وإن كان
الجاني حرا ويحتمل أن يكون القول قول القاذف لأنه يحتمل صحة ما قاله بان يكون ابن أمة فيكون
ذلك شبهة والحد يندرئ بالشبهات، وفارق القصاص له إذا ادعى الجاني عليه انه عبد لأن القصاص
ليس بحد وإنما وجب حقا لآدمي ولذلك جازت المصالحة عنه واخذ بدله بخلاف حد القذف، ويتخرج
378

من هذا ان اللقيط إذا كان قاذفا فادعى انه عبد ليجب عليه حد العبد قبل منه لذلك والأول أصح لأن كل
من كان محكوما بحريته لا يسقط الحد عن قاذفه باحتمال رقه بدليل مجهول النسب ولو سقط الحد لهذا
الاحتمال لسقط وان لم يدع القاذف رقه لأنه موجود وان لم يدعه
{مسألة} قال (وينفق عليه من بيت المال ان لم يوجد معه شئ ينفق عليه)
وجملته ان اللقيط إذا لم يوجد معه شئ لم يلزم الملتقط الانفاق عليه في قوله عامة أهل العلم وقال
ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن نفقة اللقيط غير واجبة على الملتقط كوجوب
نفقة الولد وذلك لأن أسباب وجوب النفقة من القرابة والزوجية والملك والولاء منتفية والالتقاط
إنما هو تخليص له من الهلاك وتبرع بحفظه فلا يوجب ذلك النفقة كما لو فعله بغير اللقيط وتجب نفقته
في بيت المال لقول عمر رضي الله عنه في حديث أبي جميلة اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته وفي
رواية من بيت المال ولان بيت المال وارثه وماله مصر وف إليه فتكون نفقته عليه كقرابته ومولاه
فإن تعذر الانفاق عليه من بيت المال لكونه لا مال فيه أو كان في مكان لا إمام فيه أو لم يعط
شيئا فعلى من علم حاله من المسلمين الانفاق عليه لقول الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولان في
ترك الانفاق عليه هلاكه، وحفظه عن ذلك واجب كانقاذه من الغرق، وهذا فرض كفاية إذا قام به
379

قوم سقط عن الباقين فإن تركه الكل أثموا ومن أنفق عليه متبرعا فلا شئ له سواء كان الملتقط أو
غيره وان لم يتبرع بالانفاق عليه فانفق عليه الملتقط أو غيره محتسبا بالرجوع عليه إذا أيسر وكان
ذلك بأمر الحاكم لزم اللقيط ذلك إذا كانت النفقة قصدا بالمعروف وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب
الرأي، وان أنفق بغير أمر الحاكم محتسبا بالرجوع عليه فقال احمد تؤدى النفقة من بيت المال وقال
شريح والنخعي يرجع عليه بالنفقة إذا اشهد عليه وقال عمر بن عبد العزيز يحلف ما أنفق احتسابا فإن
حلف استسعى وقال الشعبي ومالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي
وابن المنذر هو متبرع به
ولنا انه أدى ما وجب على غيره فكان له الرجوع على من كان الوجوب عليه كالضامن إذا قضى
عن المضمون عنه وقد ذكرنا حكم هذا الأصل في موضعه
(فصل) فاما ان وجد مع اللقيط شئ فهو له وينفق عليه منه وبهذا قال الشافعي وأصحاب
الرأي وذلك لأن الطفل يملك وله يد صحيحة بدليل أنه يرث ويورث، ويصح أن يشتري له وليه
ويبيع، ومن له ملك صحيح فله يد صحيحة كالبالغ. إذا ثبت هذا فكل ما كان متصلا به أو متعلقا
بمنفعته فهو تحت يده ويثبت بذلك ملكا له في الظاهر، فمن ذلك ما كان لابسا له أو مشدودا في ملبوسه
أو في يديه أو مجعولا فيه كالسرير والسفط وما فيه من فرش أو دراهم، والثياب التي تحته والتي
380

عليه، وإن كان مشدودا على دابة أو كانت مشدودة في ثيابه أو كان في خيمة أو في دار فهي له، وأما
المنفصل عنه فإن كان بعيدا منه فليس في يده، وإن كان قريبا منه كثوب موضوع إلى جانبه ففيه
وجهان (أحدهما) ليس هو له لأنه منفصل عنه فهو كالبعيد (والثاني) هو له وهو أصح لأن الظاهر
أنه ترك له فهو له بمنزلة ما هو تحته ولان القريب من البالغ يكون في يده ألا ترى أن الرجل يقعد في
السوق ومتاعه بقربه ويحكم بأنه في يده، والحمال إذا جلس لاستراحة ترك حمله قريبا منه، فأما المدفون
تحته فقال ابن عقيل إن كان الحفر طريا فهو له والا فلا لأن الظاهر أنه إذا كان طريا فواضع اللقيط
حفره، وإذا لم يكن طريا كان مدفونا قبل وضعه وقيل ليس هو له بحال لأنه بموضع لا يستحقه إذا لم
يكن الحفر طريا فلم يكن له إذا كان طريا كالبعيد منه، ولان الظاهر أنه لو كان له لشده واضعه في ثيابه
ليعلم به ولم يتركه في مكان لا يطلع عليه وكلما حكمنا بأنه ليس له فحكمه حكم اللقطة وما هو له أنفق عليه
منه فإن كان فيه كفايته لم تجب نفقته على أحد لأنه ذو مال فأشبه غيره من الناس. إذا ثبت هذا فإن
لملتقطه الانفاق عليه بغير إذن الحاكم ذكره أبو عبد الله بن حامد لأنه ولي له فلم يعتبر في الانفاق
عليه في حقه اذن الحاكم كوصي اليتيم، ولان هذا من الامر بالمعروف فاستوى فيه الإمام وغيره كتبديد
الخمر، وروى أبو الحارث عن أحمد في رجل أودع رجلا مالا وغاب وطالت غيبته وله ولد ولا نفقة
له هل ينفق عليهم هذا المستودع من مال الغائب؟ فقال تقوم امرأته إلى الحاكم حتى يأمره بالانفاق
381

عليهم فلم يجعل له الانفاق عليهم من غير إذن الحاكم فقال بعض أصحابنا هذا مثله، والصحيح أن
هذا مخالف له من وجهين (أحدهما) أن الملتقط له ولاية على اللقيط وعلى ماله فإن له ولاية أخذه
وحفظه (والثاني) أنه ينفق على اللقيط من ماله وهذا بخلافه ولان الانفاق على الصبي من مال أبيه
مشروط بكون الصبي محتاجا إلى ذلك لعدم ماله وعدم نفقة تركها أبوه برسمه، وذلك لا يقبل فيه
قول المودع فاحتيج إلى اثبات ذلك عند الحاكم ولا كذلك في مسئلتنا فلا يلزم من وجوب استئذان
الحاكم ثم وجوبه في اللقيط، ومتى لم يجد حاكما فله الانفاق بكل حال لأنه حال ضرورة، وقال
الشافعي ليس له أن ينفق بغير إذن الحاكم في موضع يجد حاكما، وان أنفق ضمن بمنزلة ما لو كان لأبي
الصغير ودائع عند انسان فأنفق عليه منه وذلك لأنه لا ولاية له على ماله وإنما له حق الحضانة وان لم
يجد حاكما ففي جواز الانفاق وجهان
ولنا ما ذكرناه ابتداء ولا نسلم أنه لا ولاية له على ماله فانا قد بينا أن له أخذه وحفظه وهو أولى
الناس به، وذكرنا الفرق بين اللقيط وبين ما قاسوا عليه. فإذا ثبت هذا فالمستحب أن يستأذن الحاكم
في موضع يجد حاكما لأنه أبعد من التهمة وأقطع للظنة وفيه خروج به من الخلاف وحفظ لماله من أن
يرجع عليه بما أنفق. فإذا ثبت هذا فينبغي أن ينفق عليه بالمعروف كما ذكرنا في ولى اليتيم فإن بلغ
اللقيط واختلفا في قدر ما أنفق وفي التفريط في الانفاق فالقول قول المنفق لأنه أمين فكان القول
قوله في ذلك كولي اليتيم
382

{مسألة} قال (وولاؤه لسائر المسلمين)
يعني ميراثه لهم فإن اللقيط حر الأصل ولا ولاء عليه، وإنما يرثه المسلمون لأنهم خولوا كل مال
لا مالك له ولأنهم يرثون مال من لا وارث له غير اللقيط فكذلك اللقيط، وقول الخرقي وولاؤه لسائر
المسلمين تجوز في اللفظ لاشتراك سائر المسلمين ومن له الولاء في أخذ الميراث وحيازته كله عند
عدم الوارث هذا هو الظاهر وهو قول مالك والشافعي وأكثر أهل العلم، وقال شريح وإسحاق
عليه الولاء لملتقطه لما روى واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرأة تحوز ثلاثة مواريث
عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه " أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وقال عمر
لأبي جميلة في لقطته هو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الولاء لمن أعتق " ولأنه لم يثبت عليه رق ولا على آبائه فلم يثبت
عليه ولاء كالمعروف نسبه ولأنه إن كان ابن حرين فلا ولاء عليه وإن كان ابن معتقين فلا يكون عليه
ولاء لغير معتقهما، وحديث واثلة لا يثبت قاله ابن المنذر، وخبر عمر قال ابن المنذر: أبو جميلة رجل
مجهول لا نقوم بحديثه حجة. ويحتمل أن عمر رضي الله عنه عنى بقوله: لك ولاؤه. أي لك ولايته والقيام
به وحفظه لذلك ذكره عقيب قول عريفه انه رجل صالح وهذا يقتضي تفويض الولاية إليه لكونه مأمونا عليه
383

دون الميراث. إذا ثبت هذا فإن حكم اللقيط في الميراث حكم من عرف نسبه وانقرض أهله يدفع إلى بيت المال إذا
لم يكن له وارث فإن كان له زوجة فلها الربع والباقي لبيت المال وان كانت امرأة لها زوج فله النصف والباقي لبيت
المال وان كانت له بنت أو ذو رحم كبنت بنت أخذت جميع المال لأن الرد وذا الرحم مقدم على بيت المال والله أعلم
{مسألة} قال (وان لم يكن من وجد اللقيط أمينا منع من السفر به)
وجملة ذلك أن الملتقط إن كان أمينا أقر اللقيط في يده لأن عمر رضي الله عنه أقر اللقيط في يد
أبي جميلة حين قال له عريفه انه رجل صالح ولأنه سبق إليه فكان أولى به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من
سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " وهل يجب الاشهاد عليه:؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يجب
كما لا يجب الاشهاد في اللقطة (والثاني) يجب لأن القصد بالاشهاد حفظ النسب والحرية فاختص بوجوب
الشهادة كالنكاح، وفارق اللقطة فإن المقصود منها حفظ المال فلم يجب الاشهاد فيها كالبيع، فأما إن كان
غير أمين فظاهر كلام الخرقي انه يقر في يديه ويمنع من السفر به لئلا يدعي رقه ويبيعه، ويبتغي أن
يجب الاشهاد عليه ويضم إليه من يشرف عليه لأننا إذا ضممنا إليه في اللقطة من يشرف عليه فههنا أولى،
وقال القاضي: المذهب انه ينزع من يديه وهذا قول الشافعي لأنه ليس في حفظ اللقيط الا الولاية ولا
ولاية لفاسق وفارق اللقطة من ثلاثة أوجه (أحدها) ان في اللقطة معنى الكسب وليس ههنا الا الولاية
384

(والثاني) ان اللقطة لو انتزعناها منه رددناها إليه بعد الحول فاحتطنا عليها مع بقائها في يديه وههنا
لا ترد إليه بعد الانتزاع منه بحال فكان الانتزاع أحوط [والثالث] ان المقصود ثم حفظ
الحال ويمكن الاحتياط عليه بأن يستظهر عليه في التعريف أو ينصب الحاكم من يعرفها وههنا
المقصود حفظ الحرية والنسب ولا سبيل إلى الاستظهار عليه لأنه قد يدعي رقه في بعض البلدان أو
في بعض الزمان، ولان اللقطة إنما يحتاج إلى حفظها والاحتياط عليها عاما واحدا وهذا يحتاج إلى
الاحتياط عليه في جميع زمانه. وأما على ظاهر قول الخرقي فلا ينزع منه لأنه قد ثبتت له الولاية بالتقاطه
إياه وسبقه إليه وأمكن حفظ اللقيط في يديه بالاشهاد عليه وضم أمين يشارفه إليه ويشيع أمره فيعرف
انه لقيط فينحفظ بذلك من غير زوال ولايته جمعا بين الحقين كما في اللقطة وكما لو كان الوصي خائنا،
وما ذكر من الترجيح للقطة فيمكن معارضته بأن اللقيط ظاهر مكشوف لا تخفى الخيانة فيه واللقطة
مستورة خفية تتطرق إليها الخيانة ولا يعلم بها، ولان اللقطة يمكن أخذ بعضها وتنقيصها وابدالها ولا
يتمكن من ذلك في اللقيط ولان المال محل الخيانة والنفوس إلى تناوله وأخذه داعية بخلاف النفوس،
فعلى هذا متى أراد الملتقط السفر باللقيط منع منه لأنه يبعده ممن عرف حاله فلا يؤمن أن يدعي رقه ويبيعه
(فصل) وإذا التقط اللقيط من هو مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة أقر اللقيط
في يديه لأن حكمه حكم العدل في لقطة المال والولاية في النكاح والشهادة فيه أكثر الأحكام ولان
385

الأصل في المسلم العدالة ولذلك قال عمر رضي الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض، فإن أراد
السفر بلقطته ففيه وجهان [أحدهما] لا يقر في يديه وهذا مذهب الشافعي لأنه لم يتحقق أمانته فلم
تؤمن الخيانة منه (والثاني) يقر في يديه لأنه يقر في يديه في الحضر من غير مشرف يضم إليه فأشبه
العدل ولان الظاهر الستر والصيانة، فأما من عرفت عدالته وظهرت أمانته فيقر اللقيط في يده في سفره
وحضره لأنه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة
(فصل) فإن كان سفر الأمين باللقيط إلى مكان يقيم به نظرنا فإن كان التقطه من الحضر فأراد
النقلة به إلى البادية لم يقر في يده لوجهين (أحدهما) أن مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه
وأرفه له (والثاني) انه إذا وجد في الحضر فالظاهر أنه ولد فيه فبقاؤه فيه أرجى لكشف نسبه
وظهور أهله واعترافهم به فإن أراد النقلة به إلى بلد آخر من الحضر ففيه وجهان (أحدهما) لا يقر في
يده ولان بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه فلم يقر في يد المنتقل عنه قياسا على المنتقل به إلى البادية
(والثاني) يقر في يده لأن ولايته ثابتة، والبلد الثاني كالأول في الرفاهية فيقر في يده كما لو انتقل من
أحد جانبي البلد إلى الجانب الآخر، وفارق المنتقل به إلى البادية لأنه يضر به بتفويت الرفاهية عليه
وان التقطه من البادية فله نقله إلى الحضر لأنه ينقله من أرض البؤس والشقاء إلى الرفاهية والدعة
والدين، وان أقام به في حلة يستوطنها فله ذلك، وإن كان ينتقل به إلى المواضع احتمل أن يقر في
386

يديه لأن الظاهر أنه ابن بدويين واقراره في يدي ملتقطه أرجى لكشف نسبه، ويحتمل أن يؤخذ
منه فيدفع إلى صاحب قرية لأنه أرفه له وأخف عليه وكل موضع قلنا ينزع من ملقطه فإنما يكون ذلك إذا
وجد من يدفع إليه ممن هو أولى به فإن لم يوجد من يقوم به أقر في يدي ملتقطه لأن اقراره في يديه
مع قصوره أولى من اهلاكه، وان لم يوجد إلا مثل ملتقطه فملتقطه أولى به إذ لا فائدة في نزعه
من يده ودفعه إلى مثله
(فصل) وليس للعبد التقاط الطفل المنبوذ إذا وجد من يلتقطه سواء لأن منافعه لسيده فلا
يذهبها في غير نفعه الا باذنه ولأنه لا يثبت على اللقيط إلا الولاية، ولا ولاية لعبد فإن التقطه لم يقر
في يديه الا أن يأذن له السيد فإن أذن له أقر في يديه لأنه استعان به في ذلك فصار كما لو التقطه بيده
وسلمه إليه. قال ابن عقيل إن أذن له السيد لم يكن له الرجوع بعد ذلك وصار كما لو التقطه، والحكم
في الأمة كالحكم في المكاتب، فاما ان لم يجد أحدا يلتقطه سواه وجب التقاطه لأنه تخليص له من
الهلاك فأشبه تخليصه من الغرق، والمدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة كالقن وكذلك المكاتب لأنه
ليس له التبرع بماله ولا بمنافعه إلا أن يأذن له سيده في ذلك
(فصل) وليس لكافر التقاط مسلم لأنه لا ولاية لكافر على مسلم ولأنه لا يؤمن أن يفتنه ويعلمه
الكفر بل الظاهر أنه يربيه على دينه وينشأ على ذلك كولده، فإن التقطه لم يقر في يده وإن كان الطفل
387

محكوما بكفره فله التقاطه لأن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض
(فصل) وان التقطه اثنان وتناولاه تناولا واحدا لم يخل من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون
ممن يقر في يديه كالمسلم العدل الحر والآخر ممن لا يقر في يديه كالكافر إذا كان اللقيط مسلما والفاسق
والعبد إذا لم يأذن له سيده والمكاتب فإنه يسلم إلى من يقر في يده وتكون مشاركة هؤلاء كعدمها لأنه
لو التقطه وحده لم يقر في يده فإذا شاركه من هو من أهل الالتقاط أولى (الثاني) أن يكونا جميعا مما لا يقر في
يدي واحد منهما فإنه ينزع منهما ويسلم إلى غيرهما (الثالث) أن يكون كل واحد منهما ممن يقر في يده
لو انفرد الا أن أحدهما أحظ للقيط من الآخر مثل أن يكون أحدهما موسرا والآخر معسرا
فالموسر أحق لأن ذلك أحظ للطفل، وان التقط مسلم وكافر طفلا محكوما بكفره فالمسلم أحق، وقال أصحابنا
وأصحاب الشافعي هما سواء لأن للكافر ولاية على الكافر ويقر في يده إذا انفرد بالتقاطه فساوى المسلم في ذلك
ولنا أن دفعه إلى المسلم أحظ له لأنه يصير مسلما فيسعد في الدنيا والآخرة وينجو من النار
ويتخلص من الجزية والصغار فالترجيح بهذا أولى من الترجيح باليسار الذي إنما يتعلق به توسعة
عليه في الانفاق، وقد يكون الموسر بخيلا فلا تحصل التوسعة فإن تعارض الترجيحان فكان المسلم فقيرا
والكافر موسرا فالمسلم أولى لأن النفع الحاصل له باسلامه أعظم من النفع الحاصل بيساره مع كفره،
وعلى قياس قولهم في تقديم الموسر ينبغي أن يقدم الجواد على البخيل لأن حظ الطفل عنده أكثر من
388

الجهة التي يحصل له الحظ فيها باليسار، وربما تخلق بأخلاقه وتعلم من جوده (الرابع) أن يتساويا في
كونهما مسلمين عدلين حرين مقيمين فهما سواء فيه فإن رضي أحدهما باسقاط حقه وتسليمه إلى صاحبه
جاز لأن الحق له فلا يمنع من الايثار به، وان تشاحا أقرع بينهما لقول الله تعالى (وما كنت لديهم
إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) ولأنه لا يمكن كونه عندهما لأنه لا يمكن أن يكون عندهما في حالة
واحدة، وان تهايأه فجعل عند كل واحد يوما أو أكثر من ذلك أضر بالطفل لأنه تختلف عليه الأغذية
والانس والألف ولا يمكن دفعه إلى أحدهما دون الآخر بغير قرعة لأن حقهما متساو فتعين أحدهما بالتحكم
لا يجوز فتعين الاقراع بينهما كما يقرع بين الشركاء في تعيين السهام في القسمة وبين النساء في البداية بالقسمة
وبين العبيد في الاعتاق والرجل والمرأة سواء ولا ترجح المرأة ههنا كما ترجح في حضانة ولدها على أبيه لأنها رجحت
ثم لشفقتها على ولدها وتوليها لحضانته بنفسها والأب يحضنه بأجنبية فكانت أمه أحظ له وأرفق به،
أما ههنا فإنها أجنبية من اللقيط والرجل يحضنه بأجنبية فاستويا، ومذهب الشافعي في هذا الفصل جميعه
على ما ذكرنا، فإن كان أحدهما مستور الحال والآخر ظاهر العدالة احتمل أن يرجح العدل لأن
المانع من الالتقاط منتف في حقه بغير شك والآخر مشكوك فيه فيكون الحظ للطفل في تسليمه
إليه أتم، ويحتمل أن يتساويا لأن احتمال وجود المانع لا يؤثر في المنع فلا يؤثر في الترجيح
(فصل) وان رأياه جميعا فسبق أحدهما فأخذه أو وضع يده عليه فهو أحق به لقوله عليه السلام
389

" من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " وإن رآه أحدهما قبل صاحبه فسبق إلى أخذه الآخر
فالسابق إلى أخذه أحق لأن الالتقاط هو الاخذ لا الرؤية. ولو قال أحدهما لصاحبه ناولنيه فأخذه
الآخر نظرنا إلى نيته فإن نوى أخذه لنفسه فهو أحق كما لو لم يأمره الآخر بمناولته إياه وأن نوى مناولته
فهو للآمر لأنه فعل ذلك بنية النيابة عنه فأشبه ما لو توكل له في تحصيل مباح
(فصل) فإن اختلفا فقال كل واحد منهما أنا التقطته ولا بينة لأحدهما وكان في يد أحدهما فالقول
قوله مع يمينه انه التقطه، ذكر ذلك أبو الخطاب وهذا قول الشافعي. وقال القاضي: قياس المذهب
انه لا يحلف كما في الطلاق والنكاح
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على
المدعى عليه " رواه مسلم، فإن كان في يديهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وسلم إليه، وعلى قول
القاضي لا تشرع اليمين ههنا ويسلم إليه بمجرد وقوع القرعة له، وان لم يكن في يد واحد منهما
فقال القاضي وأبو الخطاب يسلمه الحاكم إلى من يرى منهما أو من غيرهما لأنه لا حق لهما، والأولى أن
يقرع بينهما كما لو كان في أيديهما لأنهما تنازعا حقا في يد غيرهما فأشبه ما لو تنازعا وديعة عند غيرهما
فإن وصفه أحدهما مثل أن يقول في ظهره شامة أو بجسده علامة وذكر شيئا في جسده مستورا فقال
أبو الخطاب يقدم بالصفة وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي: لا يقدم بالصفة كما لو وصف المدعي
المدعى فإنه لا تقدم به دعواه
390

ولنا ان هذا نوع من اللقطة فقدم بوصفها كلقطة المال ولان ذلك يدل على قوة يده فكان مقدما
بها وقياس اللقيط على اللقطة أولى من قياسه على غيرها لأن اللقيط لقطة أيضا، وإن كان لأحدهما بينة
قدم بها وإن كان لكل واحد منهما بينة قدم أسبقهما تاريخا لأن الثاني إنما أخذ ممن قد ثبت الحق
فيه لغيره وان استوى تاريخهما أو أطلقتا معا أو أرخت أحداهما وأطلقت الأخرى فقد تعارضتا،
وهل يسقطان أو يستعملان؟ فيه وجهان (أحدهما) يسقطان فيصيران كمن لا بينة لهما (والثاني)
يستعملان ويقرع بينهما فمن قرع صاحبه كان أولى، وسنذكر ذلك في بابه إن شاء الله تعالى، وإن كان
اللقيط في يد أحدهما فهل تقدم بينته على بينة الآخر أو تقدم بينة الخارج؟ فيه وجهان مبينان على
الروايتين في دعوى المال، وإن كان أحد المتداعين ممن لا تقر يده على اللقيط أقر في يد الآخر ولم
يلتفت إلى دعوى من لا يقر في يده بحال
{مسألة} قال (وإذا ادعاه مسلم وكافر أري القامة فبأيهما ألحقوه لحق)
يعني إذا ادعي نسبه فلا تخلو دعوى نسب اللقيط من قسمين (أحدهما) أن يدعيه واحد ينفرد
بدعواه فينظر فإن كان المدعي رجلا مسلما حرا لحق نسبه به بغير خلاف بين أهل العلم إذا أمكن أن
يكون منه لأن الاقرار محض نفع للطفل لاتصال نسبه ولا مضرة على غيره فيه فقبل كما لو أقر له بمال،
391

ثم إن كان المقر به ملتقطه أقر في يديه وإن كان غيره فله أن ينتزعه من الملتقط لأنه قد ثبت انه أبوه
فيكون أحق بولده كما لو قامت به بينة، وإن كان المدعي له عبدا لحق به أيضا لأن لمائه حرمة فلحق به
نسبه كالحر، وهذا قول الشافعي وغيره غير أنه لا يثبت له حضانة لأنه مشغول بخدمة سيده ولا تجب
عليه نفقته لأنه لا مال له ولا على سيده لأن الطفل محكوم بحريته فتكون نفقته في بيت المال، وإن كان
المدعي ذميا لحق به لأنه أقوى من العبد في ثبوت الفراش فإنه يثبت له بالنكاح والوطئ في الملك،
وقال أبو ثور لا يلحق به لأنه محكوم باسلامه
ولنا انه أقر بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه وليس في اقراره اضرار بغيره
فيثبت اقراره كالمسلم، إذا ثبت هذا فإنه يلحق به من النسب لا في الدين، ولا حق له في
حضانته، وقال الشافعي في أحد قوليه: يتبعه في دينه لأن كلما لحق به نسبه لحق به في
دينه كالبينة الا أنه يحال بينه وبينه
ولنا ان هذا حكم باسلامه فلا يقبل قول الذمي في كفره كما لو كان معروف النسب ولأنها دعوى
تخالف الظاهر فلم تقبل بمجردها كدعوى رقه ولأنه لو تبعه في دينه لم يقبل اقراره بنسبه لأنه يكون
اضرارا به فلم تقبل كدعوى الرق، اما بمجرد النسب بدون اتباعه في الدين فمصلحة عارية عن الضرر
فقبل قوله فيه ولا يجوز قبوله فيما هو أعظم: الضرر والخزي في الدنيا والآخرة وان كلان المدعي امرأة
392

امرأة فاختلف عن أحمد رحمه الله فروي أن دعوتها تقبل ويلحقها نسبه لأنه أحد الأبوين فثبت النسب
بدعوتها كالأب ولأنه يمكن أن يكون منها كما يكون ولد الرجل بل أكثر لأنها تأتي به من زوج
ووطئ بشبهة ويلحقها ولدها من الزنا دون الرجل ولان في قصة داود وسليمان عليهما السلام حين
تحاكم إليهما امرأتان كان لهما ابنان فذهب الذئب بأحدهما فادعت كل واحدة منهما ان الباقي ابنها
وان الذي اخذه الذئب ابن الأخرى فحكم به داود للكبرى وحكم به سليمان للأخرى بمجرد
الدعوى منهما وهذا قول بعض أصحاب الشافعي فعلى هذه الرواية يلحق بها دون زوجها لأنه لا يجوز
ان يلحقه نسب ولد لم يقر به وكذلك إذا ادعي الرجل نسبه لم يلحق بزوجته فإن قيل الرجل يمكن
أن يكون له ولد من امرأة أخرى أو من أمته والمرأة لا يحل لها نكاح غير زوجها ولا يحل وطؤها لغيره
قلنا يمكن ان تلد من وطئ شبهة أو غيره وإن كان الولد يحتمل أن يكون موجود اقبل ان يتزوجها
هذا الزوج أمكن أن يكون من زوج آخر فإن قيل إنما قبل الاقرار بالنسب من الزوج لما فيه من المصلحة
بدفع العار عن الصبي وصيانته عن النسبة إلى كونه ولد زنا ولا يحصل هذا بالحاق نسبه بالمرأة بل
الحاقها بها دون زوجها تطرق للعار إليه واليها قلنا بل قبلنا دعواه لأنه يدعي حقا لا منازع له فيه ولا
مضرة على أحد فيه فقبل قوله فيه كدعوى المال وهذا متحقق في دعوى المرأة (والرواية الثانية) انها إن كان
لها زوج لم يثبت النسب بدعوتها لافضائه إلى الحاق النسب بزوجها بغير اقراره ولا رضاه أو إلى
393

ان امرأته وطئت بزنا أو شبهة وفي ذلك ضرر عليه فلا يقبل قولها فيما يلحق الضرر به وان لم يكن
لها زوج قبلت دعواها لعدم هذا الضرر وهذا أيضا وجه لأصحاب الشافعي (والرواية الثالثة) نقلها
الكوسنج عن أحمد في امرأة ادعت ولدا إن كان لها اخوة أو نسب معروف لا تصدق الا ببينة وان لم
يكن لها دافع لم يحل بينها وبينه لأنه إذا كان لها أهل ونسب معروف لم تخف ولادتها عليهم ويتضرون
بالحاق النسب بها لما فيه من تعييرهم بولادتها من غير زوجها وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل ويحتمل ان
لا يثبت النسب بدعوتها بحال وهذا قول الثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر أجمع
كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن النسب لا يثبت بدعوة المرأة لأنها يمكنها إقامة البينة على الولادة فلا يقبل
قولها بمجرده كما لو علق زوجها طلاقها بولادتها
ولنا انها أحد الوالدين فأشبهت الأب وإمكان البينة لا يمنع قول القول كالرجل فإنه تمكنه البينة
ان هذا ولد على فراشه وإن كان المدعي أمة فهي كالحرة الا اننا إذا قبلنا دعوتها في نسبه لم نقبل قولها في رقه
لأننا لا نقبل الدعوى فيما يضره كما لم نقبل الدعوى في كفره إذا ادعي نسبه كافر
(القسم الثاني) ان يدعي نسبه اثنان فصاعدا والكلام في ذلك في فصول (أحدها) انه إذا ادعاه
مسلم وكافر أو حر وعبد فهما سواء وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة المسلم أولى من الذمي والحر أولى
من العبد لأن على اللقيط ضررا في الحاقه بالعبد والذمي فكان الحاقه بالحر المسلم أولى كما لو تنازعوا في الحضانة
ولنا ان كل واحد لو انفرد صحت دعواه فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى كالاحرار المسلمين
394

وما ذكروه من الضرر لا يتحقق فإننا لا نحكم برقه ولا كفره ولا يشبه النسب الحضانة بدليل اننا نقدم
في الحضانة الموسر والحضري ولا نقدمهما في دعوى النسب قال بن المنذر إذا كان عبد امرأته أمة
في أيديهما صبي فادعى رجل من العرب امرأته عربية انه ابنه من امرأته فأقام العبد بينة بدعواه انه
ابنه فهو ابنه في قول أبي ثور وغيره وقال أصحاب الرأي يقضى به للعربي للعتق الذي يدخل فيه وكذلك
لو كان المدعى من الموالي عبدهم هذا غير صحيح لأن العرب وغيرهم في أحكام الله ولحوق النسب بهم سواء
(الفصل) الثاني انه إذا ادعاه اثنان فكان لأحدهما به بينة فهو ابنه وان أقاما بينتين تعارضتا
وسقطتا ولا يمكن استعمالهما ها هنا لأن استعمالهما في المال اما بقسمته بين المتداعيين ولا سبيل إليه
ها هنا واما بالاقراع بينهما والقرعة لا يثبت بها النسب فإن قبل فإن ثبوته هاهنا يكون بالبينة لا بالقرعة
وإنما القرعة مرجحة قلنا فيلزم انه إذا اشترك رجلان في وطئ امرأة فأتت بولد يقرع بينهما ويكون
لحوقه بالوطئ لا بالقرعة
(الفصل الثالث) انه إذا لم تكن به بينة أو تعارضت به بينتان وسقطتا فانا نريه القافة معهما أو مع
عصبتهما عند فقدهما فنلحقه بمن ألحقته به منهما هذا قول أنس وعطاء ويزيد بن عبد الملك والأوزاعي
والليث والشافعي وأبي ثور، وقال أصحاب الرأي لا حكم للقافة ويلحق بالمدعيين جميعا لأن الحكم بالقافة
تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين فإن الشبه يوجد بين الأجانب وينفى بين الأقارب ولهذا روي
395

عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا أتاه فقال يا رسول الله ان امرأتي ولدت غلاما أسود فقال " هل لك من
إبل؟ " قال نعم، قال " فما ألوانها؟ " قال حمر، قال " فهل فيها من أورق؟ " قال نعم، قال " أنى
أتاها ذلك؟ " قال لعل عرقا نزع قال " وهذا لعل عرقا نزع " متفق عليه، قالوا ولو كان الشبه كافيا لا كتفي
به في ولد الملاعنة وفيما إذا أقر أحد الورثة بأخ فأنكره الباقون
ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بوما مسرورا تتبرق أسارير
وجهه فقال " ألم تري ان محرزا المدلجي نظر آنفا إلى زيد وأسامة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما
فقال إن هذه الاقدام بعضها من بعض؟ " متفق عليه فلولا جواز الاعتماد على القامة لما سر به النبي
صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه، ولان عمر رضي الله عنه قضى به بحضرة الصحابة فلم ينكره منكر فكان اجماعا
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في ولد الملاعنة " انظروها فإن جاءت به حمش الساقين كأنه وحرة فلا أراه
الا قد كذب عليها، وإن جاءت به أكحل جعدا جماليا سابع الأليتين خدلج الساقين فهو للذي رميت به " فأتت به
على النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لولا الايمان لكان لي ولها شأن " فقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم للذي أشبهه
منهما، وقوله " لولا الايمان لكان لي ولها شأن " يدل على أنه لم يمنعه من العمل بالشبه الا الايمان، فإذا انتفى المانع
يجب العمل به لوجود مقتضيه وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة حين رأى به شبها بينا بعتبة بن أبي وقاص
" احتجبي منه يا سودة فعمل بالشبه في حجب سودة عنه فإن قيل فالحديثان حجة عليكم إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم
396

بالشبه فيهما بل ألحق الولد بزمعة وقال لعبد بن زمعة " هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر
الحجر " ولم يعمل لشبه ولد الملاعنة في إقامة الحد عليها لشبهه بالمقذوف قلنا إنما لم يعمل به في ابن أمة
زمعة لأن الفراش أقوى وترك العمل بالبينة لمعارضة ما هو أقوى منه لا يوجب الاعراض عنه إذا خلت
عن المعارض، وكذلك ترك إقامة الحد عليها من أجل أيمانها بدليل قوله " لولا الايمان لكان لي ولها
شأن " على أن ضعف الشبه عن إقامة الحد لا يوجب ضعفه عن إلحاق النسب فإن الحد في الزنا لا يثبت
الا بأقوى البينات وأكثرها عددا وأقوى الاقرار حتى يعتبر فيه تكراره أربع مرات ويدرأ بالشبهات
والنسب يثبت بشهادة امرأة واحدة على الولادة ويثبت بمجرد الدعوى ويثبت مع ظهور انتفائه حتى
لو أن امرأة أتت بولد وزوجها غائب عنها منذ عشرين سنة لحقه ولدها فكيف يحتج على نفيه بعدم إقامة
الحد ولأنه حكم بظن غالب، ورأي راجح ممن هو من أهل الخبرة فجاز كقول المقومين، وقولهم ان الشبه
يجوز وجوده وعدمه قلنا الظاهر وجوده ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت أم سلمة أو تري ذلك امرأة؟
قال " فمن أين يكون الشبه؟ " والحديث الذي احتجوا به حجة عليهم لأن انكار الرجل ولده لمخالفة لونه
وعزمه على نفيه لذلك يدل على أن العادة خلافه وأن في طباع الناس انكاره وان ذلك أنما يوجد نادرا
وإنما ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم به لوجود الفراش وتجوز مخالفة الظاهر لدليل ولا يجوز تركه من غير دليل
ولان ضعف الشبه عن نفي النسب لا يلزم منه ضعفه عن إثباته فإن النسب يحتاط لاثباته ويثبت بأدنى
397

دليل ويلزم من ذلك التشديد في نفيه وانه لا ينتفى إلا بأقوى الأدلة كما أن الحد لما انتفى بالشبه لم يثبت
إلا بأقوى دليل فلا يلزم حينئذ من المنع من نفيه بالشبه في الخبر المذكور أن لا يثبت به النسب في مسألتنا
فإن قيل فههنا إذا علمتم بالقيافة فقد نفيتم النسب عمن لم تلحقه القافة به، قلنا إنما انتفى النسب ههنا لعدم
دليله لأنه لم يوجد الا مجرد الدعوى وقد عارضها مثلها فسقط حكمها وكان الشبه مرجحا لأحدهما
فانتفت دلالة الأخرى فلزم انتفاء النسب لانتفاء دليله، وتقديم اللعان عليه لا يمنع العمل به عند عدمه
كاليد تقدم عليها البينة ويعمل بها
(فصل) والقافة قوم يعرفون الانسان بالشبه ولا يختص ذلك بقبيلة معينة بل من عرف منه
المعرفة بذلك وتكررت منه الإصابة فهو قائف، وقيل أكثر ما يكون في بني مدلج رهط محرز المدلجي
الذي رأى أسامة وأباه زيدا قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن هذه الاقدام بعضها من بعض،
وكان إياس بن معاوية المزني قائفا، وكذلك قيل في شريح ولا يقبل قول القائف الا أن يكون ذكرا
عدلا مجربا في الإصابة حرا لأن قوله حكم، والحكم تعتبر له هذه الشروط، قال القاضي وتعتبر معرفة
القائف بالتجربة وهو أن يترك الصبي مع عشرة من الرجال غير من يدعيه ويرى إياهم فإن ألحقه
بواحد منهم سقط قوله لأنا نتبين خطأه، وإن لم يلحقه بواحد منهم أريناه إياه مع عشرين فيهم مدعيه
فإن ألحقه به لحق، ولو اعتبر بأن يرى صبيا معروف النسب مع قوم فيهم أبوه أو أخوه فإذا ألحقه
398

بقريبه علمت اصابته، وإن ألحقه بغيره سقط قوله جاز، وهذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط
في معرفة اصابته، وإن لم نجر به في الحال بعد أن يكون مشهورا بالإصابة وصحة المعرفة في
مرات كثيرة جاز
وقد روينا أن رجلا شريفا شك في ولد له من جاريته وأبى أن يستلقحه فمر به اياس بن معاوية
في المكتب وهو لا يعرفه فقال ادع لي أباك فقال له المعلم ومن أبو هذا؟ قال فلان قال من أين علمت
أنه أبوه؟ قال هو أشبه به من الغراب بالغراب فقال المعلم مسرورا إلى أبيه فأعلمه بقول إياس فخرج
الرجل وسأل إياسا فقال من أين علمت أن هذا ولدي؟ فقال سبحان الله وهل يخفى على أحد
إنه أشبه بك من الغراب بالغراب؟ فسر الرجل واستلحق ولده وهل يقبل قول واحد أو لا يقبل إلا
قول اثنين؟ فطاهر كلام احمد أنه لا يقبل إلا قول اثنين فإن الأثرم روى عنه أنه قيل له إذا قال أحد
القافة هو لهذا، وقال الآخر هو لهذا قال لا يقبل قول واحد حتى يجتمع اثنان فيكونان شاهدين، فإذا
شهد اثنان من القافة أنه لهذا فهو لهذا لأنه قول يثبت به النسب فأشبه الشهادة، وقال القاضي يقبل
قول الواحد لأنه حكم ويقبل في الحكم قول واحد وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين فقال
إذا خالف القائف غيره تعارضا وسقطا، فإن قال اثنان قولا وخالفهما واحد فقولهما أولى لأنهما شاهدان
فقولهما أقوى من قول واحد، وإن عارض قول اثنين قول اثنين سقط قول الجميع، وإن عارض قول
399

الاثنين ثلاثة أو أكثر لم يرجح وسقط الجميع كما لو كانت إحدى البينتين اثنين والأخرى ثلاثة فأكثر،
فأما إن ألحقته القافة بواحد ثم جاءت قافة أخرى فألحقته بآخر كان لاحقا بالأول لأن القائف جرى
مجرى حكم الحاكم، ومتى حكم الحاكم حكما لم ينتقض بمخالفة غيره له، وكذلك إن ألحقته بواحد ثم
عادت فألحقته بغيره لذلك، فإن أقام الآخر بينة انه ولده حكم له به وسقط قول القائف لأنه بدل
فيسقط بوجود الأصل كالتيمم مع الماء
(فصل) وإن ألحقته القافة بكافر أو رقيق لم يحكم بكفره ولا رقه لأن الحرية والاسلام ثبتا له
بظاهر الدار فلا يزول ذلك بمجرد الشبه والظن كما لم يزل ذلك بمجرد الدعوى من المنفرد، وإنما قبلنا
قول القائف في النسب للحاجة إلى اثباته ولكونه غير مخالف للظاهر ولهذا اكتفينا فيه بمجرد الدعوى
من المنفرد ولا حاجة إلى اثبات رقه وكفره، واثباتهما يخالف الظاهر
ولو ادعى نسب اللقيط انسان فالحق نسبه به لانفراده بالدعوى ثم جاء آخر فادعاه لم يزل نسبه
عن الأول لأنه حكم له به فلا يزول بمجرد الدعوى، فإن ألحقته به القافة لحق به وانقطع عن الأول لأنها
بينة في إلحاق النسب ويزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة
(فصل) وإذا ادعاه اثنان فألحقته القافة بهما لحق بهما وكان ابنهما يرثهما ميراث ابن ويرثانه
جميعا ميراث أب واحد وهذا يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهو قول أبي ثور، وقال أصحاب
400

الرأي يلحق بهما بمجرد الدعوى، وقال الشافعي لا يلحق بأكثر من واحد فإذا ألحقته بهما سقط
قولهما ولم يحكم لهما واحتج برواية عن عمر رضي الله عنه أن القافة قالت قد اشتركا فيه فقال عمر وال
أيهما شئت، ولأنه لا يتصور كونه من رجلين فإذا ألحقته القافة بهما تبينا كذبهما فسقط قولهما كما لو
ألحقته بأمين، ولان المدعيين لو اتفقا على ذلك لم يثبت، ولو ادعاه كل واحد منهما وأقام بينة سقطتا
ولو جاز أن يلحق بهما لثبت باتفاقهما وألحق بهما عند تعارض بينتهما
ولنا ما روى سعيد في سننه ثنا سفيان عن يحيى عن سعيد عن سليمان بن بسار عن عمر في امرأة وطئها رجلان
في طهر فقال القائف قد اشتركا فيه جميعا فجعله بينهما وباسناده عن الشعبي قال وعلي يقول هو ابنهما وهما أبواه
يرثهما ويرثانه، ورواه الزبير بن بكار باسناده عن عمر. وقال الإمام أحمد حديث قتادة عن سعيد عن
عمر جعله بينهما وقابوس عن أبيه عن علي جعله بينهما، وروي الأثرم باسناده عن سعيد بن المسيب في
رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلاما يشبههما فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعى
القافة فنظروا فقالوا نراه يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه، قال سعيد عصبته الباقي منهما، وما
ذكروه عن عمر لا نعلم صحته وإن صح فيحتمل انه ترك قول القافة لأمر آخر إما لعدم ثقتهما وإما لأنه
ظهر له من قولهما واختلافه ما يوجب تركه فلا ينحصر المانع من قبول قولهما في أنهما اشتركا فيه
قال أحمد إذا ألحقته القافة بهما ورثهما وورثاه، فإن مات أحدهما فهو للباقي منهما ونسبه من الأول قائم
401

لا يزيله شئ. ومعنى قوله هو للباقي منهما والله أعلم أنه يرثه ميراث أب كامل كما أن الجدة إذا انفردت
أخذت ما يأخذه الجدات والزوجة تأخذ وحدها ما يأخذه جميع الزوجات
(فصل) وإن ادعاه أكثر من اثنين فألحقته بهم القافة فنص أحمد في رواية مهنا انه يلحق بثلاثة
ومقتضي هذا انه يلحق بمن ألحقته القافة وإن كثروا. قال أبو عبد الله بن حامد لا يلحق بأكثر من
اثنين وهو قول أبي يوسف لأنا صرنا إلى ذلك للأثر فيقتصر عليه، وقال القاضي لا يلحق بأكثر من
ثلاثة وهو قول محمد بن الحسن، وروي ذلك عن أبي يوسف أيضا
ولنا أن المعنى الذي لأجله لحق باثنين موجود فيما زاد عليه فيقاس عليه وإذا جاز أن يلحق من
اثنين جاز أن يلحق من أكثر من ذلك، وقولهم إن إلحاقه بالاثنين على خلاف الأصل ممنوع وان
سلمناه لكنه ثبت لمعنى موجود في غيره فيجب تعدية الحكم به كما أن إباحة أكل الميتة عند المخمصة أبيح
على خلاف الأصل لا يمنع من أن يقاس على ذلك مال غيره والصيد الحرمي وغيرهما من المحرمات لوجود
المعنى وهو إبقاء النفس وتخليصها من الهلاك، وأما قول من قال إنه يجوز إلحاقه بثلاثة ولا يزاد على
ذلك فتحكم فإنه لم يقتصر على المنصوص عليه ولا عدى الحكم إلى كل ما وجد فيه المعنى ولا نعلم في الثلاثة
معنى خاصا يقتضي إلحاق النسب بهم فلم يجز الاقتصار عليه بالتحكم
402

(فصل) وإذا لم توجد قافة أو أشكل الامر عليها أو تعارضت أقوالها أو وجد من لا يوثق
بقوله لم يرجح أحدهما بذكر علامة في جسده لأن ذلك لا يرجح به في سائر الدعاوى سوى الالتقاط في
المال واللقيط، ويضيع نسبه، هذا قول أبي بكر وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في رجلين وقعا على امرأة
في طهر واحد إلى أن الابن يخير أيهما أحب وهو قول أبي عبد الله بن حامد قال يترك حتى يبلغ فينتسب
إلى من أحب منهما وهو قول الشافعي الجديد وقال في القديم حتى يميز لقول عمر: وال أيهما شئت ولان
الانسان يميل طبعه إلى قريبه دون غيره ولأنه مجهول نسبه أقر به من هو من أهل الاقرار وصدقه المقر
له فيثبت نسبه كما لو انفرد، وقال أصحاب الرأي يلحق بالمدعيين بمجرد الدعوى لأن كل واحد منهما
لو انفرد سمعت دعواه فإذا اجتمعا وأمكن العمل بهما وجب كما لو أقر له بمال
ولنا أن دعواهما تعارضتا ولا حجة لواحد منهما فلم تثبت كما لو ادعيا رقه، وقولهم يميل طبعه
إلى قرابته قلنا إنما يميل إلى قرابته بعد معرفته بأنها قرابته فالمعرفة بذلك سبب الميل ولا سبب قبله
ولو ثبت انه يميل إلى قرابته لكنه قد يميل إلى من أحسن إليه فإن القلوب جبلت على حب من أحسن
إليها وبغض من أساء إليها وقد يميل إليه لإساءة الآخر إليه وقد يميل إلى أحسنهما خلقا أو أعظمهما قدرا
أو جاها أو مالا فلا يبقى للميل أثر في الدلالة على النسب، وقولهم انه صدق المقر بنسبه قلنا لا يحل له
تصديقه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه وهذا لا يعلم أنه أبوه فلا
403

يأمن أن يكون ملعونا بتصديقه، ويفارق ما إذا انفرد فإن المنفرد ثبت النسب بقوله من غير
تصديق، وأما قول عمر وال من شئت فلم يثبت ولو ثبت لم يكن فيه حجة فإنه إنما أمره بالموالاة لا
بالانتساب، وعلى قول من جعل له الانتساب إلي أحدهما لو انتسب إلى أحدهما ثم عاد وانتسب إلى
إلى الآخر ونفى نسبه من الأول أو لم ينتسب إلى واحد لم يقبل منه لأنه قد ثبت نسبه فلا يقبل رجوعه
عنه كما لو ادعى منفرد نسبه ثم أنكره، ويفارق الصبي الذي يخير بين أبويه فيختار أحدهما ثم يرد
الاخر إذا اختار فإنه لا حكم لقول الصبي وإنما تبع اختياره وشهوته فأشبه ما لو اشتهى طعاما في يوم
ثم اشتهى غيره في يوم آخر وان قامت للآخر بنسبه بينة عمل بها وبطل انتسابه لأنها نبطل قول القافة الذي
هو مقدم على الانتساب فلان تبطل الانتساب أولى، وان وجدت قافة بعد انتسابه فألحقته بغير من أنتسب
إليه بطل انتسابه أيضا لأنه أقوى فبطل به الانتساب كالبينة مع قول القافة
(فصل) وان ادعت امرأتان نسب ولد فذلك مبني على قبول دعوتهما، فإن كانتا ممن
لا تقبل دعوتهما لم تسمع دعوتهما، وان كانت إحداهما ممن تسمع دعوتها دون الأخرى فهو
ابن لها كالمنفردة به، وان كانتا جميعا ممن تسمع دعوتهما فهما في اثباته بالبينة أو كونه يرى القافة مع
عدمها كالرجلين: قال احمد في رواية بكر بن محمد في يهودية ومسلمة ولدتا فادعت اليهودية
ولد المسلمة فتوقف، فقيل يرى القافة فقال ما أحسنه ولان الشبه يوجد بينها وبين ابنها
404

كوجوده بين الرجل وابنه بل أكثر لاختصاصهما بحمله وتغذيته والكافرة والمسلمة والحرة والأمة في
الدعوة واحدة كما قلنا في الرجل، وهذا قول أصحاب الشافعي على الوجه الذي يقولون فيه بقبول دعوتهما،
وان ألحقته القافة بأمين لم يلحق بهما وبطل قول القافة لأننا نعلم خطأه يقينا، وقال أصحاب الرأي يلحق
بهما بمجرد الدعوى لأن الام أحد الأبوين فجاز أن يلحق باثنين كالآباء
ولنا أن كونه منهما محال يقينا فلم يجز الحكم به كما لو كان أكبر منهما أو مثلهما وفارق الرجلين
فإن كونه منهما ممكن فإنه يجوز اجتماع النطفتين لرجلين في رحم امرأة فيمكن أن يخلق منهما ولدكما
يخلق من نطفة الرجل والمرأة ولذلك قال القائف لعمر قد اشتركا فيه ولا يلزم من الحاقه بمن يتصور
كونه منه الحاقه بمن يستحيل كونه منه كما لم يلزم من الحاقه بمن يولد مثله لمثله الحاقه بأصغر منه
(فصل) فإن ادعى نسبه رجل وامرأة فلا تنافي بينهما لأنه يمكن أن يكون منهما بنكاح كان بينهما
أو وطئ شبهة فيلحق بهما جميعا ويكون ابنهما بمجرد دعوتهما كما لو انفرد كل واحد منهما بالدعوة،
وان قال الرجل هذا ابني من زوجتي وادعت زوجته ذلك وادعته امرأة أخرى فهو ابن الرجل، وهل
ترجح زوجته على الأخرى؟ يحتمل وجهين (أحدهما) ترجح لأن زوجها أبوه فالظاهر أنها أمه، ويحتمل أن
يتساويا لأن كل واحدة منهما لو انفردت لألحق بها فإذا اجتمعتا تساويتا
(فصل) وان ولدت امرأتان ابنا وبنتا فادعت كل واحدة منهما ان الابن ولدها دون البنت
405

احتمل وجهين أحدهما أن ترى المرأتين القافة مع الولدين فيلحق كل واحد منهما بمن ألحقته به كما لو
لم يكن لهما ولد آخر (والثاني) ان نعرض لبنيهما على أهل الطب والمعرفة فإن لبن الذكر يخالف لبن
الأنثى في طبعه وزنته، وقد قيل لبن الابن ثقيل ولبن البنت خفيف فيعتبران بطباعهما ووزنهما وما يختلفان
به عند أهل المعرفة، فمن كان لبنها لبن الابن فهو ولدها والبنت للأخرى، فإن لم يوجد قافة اعتبرنا اللبن
خاصة، وان تنازعا أحد الولدين وهما جميعا ذكران أو أنثيان عرضوا على القافة كما ذكرنا فيما تقدم
(فصل) ولو ادعى اللقيط رجلان فقال أحدهما هو ابني وقال الآخر هو ابني نظرنا، فإن كان
ابنا فهو لمدعيه وان كانت بنتا فهي لمدعيها لأن كل واحد منهما لا يستحق غير ما ادعاه، وإن كان
خنثى مشكلا أري القامة معهما لأنه ليس قول واحد منهما أولى من الآخر، وان أقام كل واحد منهما
بينة بما ادعاه فالحكم فيهما كالحكم فيما لو انفرد كل واحد منهما بالدعوى لأن بينة الكاذب منهما كاذبة
وجودها كعدمها والأخرى صادقة فيتعين الحكم بها
(فصل) وإذا وطئ رجلان امرأة في طهر واحد وطئا يلحق النسب بمثله فأتت بولد يمكن أن
يكون منهما مثل أن يطأ جارية مشتركة بينهما في طهر أو يطأ رجل امرأة آخر أو أمته بشبهة في الطهر
الذي وطئها زوجها أو سيدها فيه بأن يجدها على فراشه فيظنها زوجته أو أمته أو يدعو زوجته في ظلمة
فتجيبه زوجة آخر أو جاريته أو يتزوجها كل واحد منهما تزويجا فاسدا أو يكون نكاح أحدهما صحيحا
406

والآخر فاسدا مثل أن يطلق رجل امرأته فنكحها آخر في عدتها ووطنها أو يبيع جارية فيطؤها
المشتري قبل استبرائها وتأتي بولد يمكن أن يكون منهما فإنه يرى القافة معهما فبأيهما ألحقوه لحق،
والخلاف فيه كالخلاف في اللقيط. اللقيط
(فصل) وإذا ادعى رق اللقيط مدع سمعت دعواه لأنها ممكنة، وان كانت مخالفة لظاهر
الدار فإن لم تكن له بينة فلا شئ له لأنها دعوى تخالف الظاهر وتخالف دعوى النسب من وجهين
(أحدهما) أن دعوى النسب لا تخالف الظاهر ودعوى الرق مخالفة له (والثاني) أن دعوى النسب
نثبت بها حقا للقيط ودعوى الرق نثبت حقا عليه فلم تقبل بمجردها كما لو ادعى رق غير اللقيط، فإذا
لم تكن له بينة سقطت الدعوى، وان كانت له بينة لم تخل اما أن تشهد باليد أو بالملك أو بالولادة
فإن شهدت بالملك أو باليد لم تقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وان شهدت
بالولادة قبل فيه امرأة واحدة أو رجل واحد لأنه مما لا يطلع عليه الرجال ثم فنظر فإن شهدت البينة
باليد فإن كانت للملتقط لم يثبت بها ملك لأننا عرفنا سبب يده فإن كانت لأجنبي حكم له باليد والقول
قوله مع يمينه في الملك وان شهدت بالمالك فقالت نشهد أنه عبده أو مملوكه حكم بها وان لم تذكر سبب
الملك كما لو شهدت بملك دار أو ثوب فإن شهدت بان أمته ولدته في ملكه حكم له به لأن أمته لا تلد
في ملكه الا ملكه، وان شهدت أنه ابن أمته أو ان أمته ولدته ولم تقل في ملكه احتمل أن يثبت له الملك
407

بذلك كقولها في ملكه لأن أمته ملكه فنماؤها ملكه كسمنها واحتمل أن لا يثبت الملك لأنه يجوز أن
تلده قبل ملكه لها فلا تكون له وهو ابن أمته
(فصل) وان ادعى رق اللقيط بعد بلوغه مدع كاف إجابته فإن أنكر ولا بينة للمدعي لم تقبل
دعواه وان كانت له بينة حكم له بها فإن كان اللقيط قد تصرف قبل ذلك ببيع أو شراء نقضت
تصرفاته لأنه بان أنه تصرف بغير اذن سيده وان لم تكن بينة فاقر بالرق نظرنا فإن كان اعترف لنفسه بالحرية
قبل ذلك لم يقبل اقراره بالرق لأنه اعترف بالحرية وهي حق لله تعالى فلا يقبل رجوعه في إبطاله
وان لم يكن اعترف بالحرية احتمل وجهين (أحدهما) يقبل وهو قول أصحاب الرأي لأنه مجهول الحال
أقر بالرق فيقبل كما لو قدم رجلان من دار الحرب فأقر أحدهما للآخر بالرق كما لو أقر بقصاص أو
حد فإنه يقبل وان تضمن ذلك فوات نفسه، ويحتمل أن لا يقبل وهو الصحيح لأنه يبطل به حق
الله تعالى في الحرية المحكوم بها فلم يصح كما لو أقر قبل ذلك بالحرية ولأنه محكوم بحريته فلم يقبل اقراره
بالرق كما ذكرنا ولان الطفل المنبوذ لا يعلم رق نفسه ولا حريتها ولم يتجدد له حال يعرف به رق لنفسه
لأنه في تلك الحال ممن لا يعقل ولم تجدد له رق بعد التقاطه فكان اقراره باطلا، وهذا قول القاسم
وابن المنذر وللشافعي وجهان كما ذكرنا فإن قلنا يقبل اقراره صارت أحكامه أحكام العبيد فيما عليه
دون ماله، وبهذا قال أبو حنيفة والمزني وهو أحد قولي الشافعي لأنه أقر بما يوجب حقا له وحقا عليه
408

فوجب أن يثبت ما عليه دون ماله كما لو قال لفلان علي ألف درهم ولي عنده رهن ويحتمل أن يقبل
اقراره في الجميع، وهو القول الثاني للشافعي لأنه ثبت ما عليه فيثبت ماله كالبينة ولأن هذه الأحكام
تبع للرق فإذا ثبت الأصل بقوله ثبت التبع كما لو شهدت امرأة بالولادة نثبت ويثبت النسب تبعا
لها وأما ان أقر بالرق ابتداء لرجل فصدقه فهو كما لو أقر به جوابا وان كذبه بطل اقراره ثم إن أقر به
بعد ذلك لرجل آخر جاز، وقال بعض أصحابنا يتوجه أن لا يسمع اقراره الثاني لأن اقراره الأول
تضمن الاعتراف بنفي مالك له سوى هذا المقر فإذا بطل اقراره برد المقر له بقي الاعتراف بنفي مالك
له غيره فلم يقبل اقراره بما نفاه كما لو أقر بالحرية ثم أقر بعد ذلك بالرق
ولنا أنه اقرار لم يقبله المقر له فلم يمنع اقراره ثانيا كما لو أقر له بثوب ثم أقر به لآخر بعد رد
الأول وفارق الاقرار بالحرية فإن اقراره بها لم يبطل ولم يرد
(فصل) إذا قبلنا اقراره بالرق بعد نكاحه لم يخل من أن يكون ذكرا أو أنثى فإن كان ذكرا
فإن كان قبل الدخول فسد نكاحه في حقه لأنه مقر أنه عبد تزوج بغير إذن سيده ولها عليه نصف
المهر لأنه حق عليه فلم يسقط بقوله، وإن كان بعد الدخول فسد نكاحه أيضا ولها عليه المهر جميعه لما
ذكرنا لأن الزوج يملك الطلاق فإذا أقر بما يوجب الفرقة لزمته وولده حر تابع لامه وإن كان متزوجا
بأمة فولده لسيدها ويتعلق المهر برقبته لأن ذلك من جناياته ويفديه سيده أو يسلمه وإن كان في يده
كسب استوفى المهر منه لأنه لم يثبت اقراره به لسيده بالنسبة إلى امرأته فلا ينقطع حقها منه باقراره
409

وان قلنا يقبل قوله في جميع الأحكام فالنكاح فاسد لكونه تزوج بغير إذن سيده ويفرق بينهما ولا
مهر لها عليه ان لم تكن مدخولا بها وإن كان دخل بها فلها عليه المهر المسمى جميعه في إحدى الروايتين
والأخرى خمساه وإن كان اللقيط أنثى فالنكاح صحيح في حقه وإن كان قبل الدخول فلا مهر لها
لاقرارها بفساد نكاحها وأنها أمة تزوجت بغير اذن سيدها والنكاح الفاسد لا يجب المهر فيه الا بالدخول
وإن كان دخل بها لم يسقط مهرها ولسيدها الأقل من المسمى أو مهر المثل لأن المسمى إن كان أقل
فالزوج ينكر وجوب الزيادة عليه وقولها غير مقبول في حقه وإن كان الأقل مهر المثل فهي وسيدها
يقران بفساد النكاح وأن الواجب مهر المثل فلا يجب أكثر منه الا على الرواية التي يجب فيها المسمى
في النكاح الفاسد فيجب ههنا المسمى قل أو كثر لاعتراف الزوج بوجوبه، وأما الأولاد فأحرار ولا
تجب قيمتهم لأنه لو وجب لوجب بقولها ولا يجب بقولها حق على غيرها ولا يثبت الرق في حق أولادها
باقرارها فأما بقاء النكاح فيقال للزوج قد ثبت أنها أمة ولدها رقيق لسيدها فإن اخترت المقام على ذلك
فأقم وان شئت ففارقها وسواء كان ممن يجوز له نكاح الإماء أو لم يكن لأننا لو اعتبرنا ذلك وأفسدنا نكاحه
لكان افسادا للعقد جمعيه بقولها لأن شروط نكاح الأمة لا تعتبر في استدامة العقد إنما تعتبر في ابتدائه فإن
قيل فقد قبلتم قولها في أنها أمة في المستقبل وفيه ضرر على الزوج قلنا لم يقبل قولها في ايجاب حق لم يدخل في العقد
410

عليه فأما الحكم في المستقبل فيمكن ايفاء حقه وحق من ثبت له الرق عليها بأن يطلقها فلا يلزمه ما لم يدخل عليه أو
يقم على نكاحها فلا يسقط حق سيدها فإن طلقها اعتدت عدة الحرة لأن عدة الطلاق حق للزوج بدليل أنها لا تجب
الا بالدخول وسببها النكاح السابق فلا يقبل قولها في تنقيصها وان مات اعتدت عدة الأمة لأن المغلب فيها
حق الله تعالى بدليل وجوبها قبل الدخول فقبل قولها فيها ومن قال بقبول قولها في جميع الأحكام فهذه
أمة قد تزوجت بغير اذن سيدها فنكاحها فاسد، ويفرق بينهما وإن كان قبل الدخول فلا مهر لها وإن كان
دخل بها وجب لها مهر أمة نكحت بغير اذن سيدها على ما ذكر في موضعه، وهل ذلك مهر المثل أو
المسمى؟ فيه روايتان وتعتد حيضتين لأنه وطئ في نكاح فاسد وأولاده أحرار لاعتقاده حريتها فإنه
مغرور بحريتها وعليه قيمتهم يوم الموضع وان مات عنها لم تجب عدة الوفاة
(فصل) وإن كان قد تصرف ببيع أو شراء فتصرفه صحيح وما عليه من الحقوق والأثمان يؤدى
مما في يديه وما فضل عليه ففي ذمته لأن معامله لا يعترف برقه ومن قال بقبول اقراره في جميع الأحكام
قال بفساد عقوده كلها وأوجب رد الأعيان إلى أربابها ان كانت باقية وان كانت تالفة وجبت قيمتها
في رقبته ان قلنا إنما استدان العبد بغير اذن سيده فهو في رقبته وان قلنا بان استدانة العبد في ذمته
فهذا كذلك ويتبع به بعد العتق لأنه ثبت رضى صاحبه
411

(فصل) وإن كان قد جنى جناية موجبة القصاص فعليه القود حرا كان المجني عليه أو عبدا لأن
اقراره بالرق يقتضي وجوب القود عليه فيما إذا كان المجني عليه عبدا أو حرا فقبل اقراره فيه وان
كانت الجناية خطأ تعلق أرشها برقبته لأن ذلك مضر به، فإن كان أرشها أكثر من قيمته وكان في يده
مال استوفى منه وإن كان مما تحمله العاقلة لم يقبل قوله في اسقاط الزيادة لأن ذلك يضر بالمجني عليه فلا
412

يقبل قوله فيه وقيل تجب الزيادة في بيت المال لأن ذلك كان واجبا للمجني عليه فلا يقبل قوله في اسقاطه
وان جني عليه جناية موجبة للقود وكان الجاني حرا سقط لأن الحر لا يقاد منه للعبد وقد أقر المجني
عليه بما يسقط القصاص، وان كانت موجبة لمال يقل بالرق وجب أقل الأمرين وإن كان مساويا
للواجب قبل الاقرار وجب ويدفع الواجب إلى سيده، وإن كان الواجب يكثر لكون قيمته عبدا
أكثر من ديته حرا لم يجب الا أرش الجناية على الحر ومن قبل قوله في الأحكام كلها أوجب أرش
الجناية على العبد، وإن كان الأرش تحمله العاقلة إذا كان حرا سقط عن العاقلة ولم يجب على الجاني لأن
اقراره بالرق يتضمن اقراره بالسقوط عن العاقلة ولم يقبل في ايجابه على الجاني فسقط وقيل لا يتحول
عن العاقلة ومن قال لا يقبل اقراره في الأحكام كلها أوجب الأرش على الجاني
413

[كتاب الوصايا]
الوصايا جمع وصية مثل العطايا جمع عطية، والوصية بالمال هي التبرع به بعد الموت، والأصل فيها
الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله سبحانه وتعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان
ترك خيرا الوصية) وقال الله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين) وأما السنة فروى سعد بن أبي
وقاص قال جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله
قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني الا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال " لا " قلت
فبالشطر يا رسول الله؟ قال " لا " قلت فبالثلث؟ قال " الثلث والثلث كثير انك ان تذر ورثتك
أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " وعن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما حق امرئ مسلم
له شئ يوصي به يبيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده " متفق عليهما وروى أبو إمامة قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله قد اعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث رواه سعيد " وأبو داود
والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن علي رضي الله عنه قال إنكم تقرؤن هذه الآية (من بعد
وصية يوصي بها أو دين) وان النبي صلى الله عليه وسلم قضى ان الدين قبل الوصية ورواه الترمذي وأجمع العلماء في جميع
الأمصار والاعصار على جواز الوصية
(فصل) ولا تجب الوصية لا على من عليه دين أو عند وديعة أو عليه واجب يوصي بالخروج
منه فإن الله تعالى فرض أداء الأمانات وطريقه في هذا الباب الوصية فتكون مفروضة عليه فاما الوصية بجزء
414

من ماله فليست بواجبة على أحد في قول الجمهور وبذلك قال الشعبي والنخعي والثوري ومالك
والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم، وقال ابن عبد البر اجمعوا على أن الوصية غير واجبة الا على من
عليه حقوق بغير بينة وأمانة بغير اشهاد الا طائفة شذت فأوجبتها روي عن الزهري أنه قال جعل الله
الوصية حقا مما قل أو كثر وقيل لأبي مجلز على كل ميت وصية؟ قال إن ترك خيرا وقال أبو بكر
عبد العزيز هي واجبة للأقربين الذين لا يرثون وهو قول داود وحكى ذلك عن مسروق وطاوس
وإياس وقتادة وابن جرير واحتجوا بالآية وخبر ابن عمر وقالوا نسخت الوصية للوالدين والأقربين
الوارثين وبقيت فيمن لا يرث من الأقربين
ولنا ان أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنهم وصية ولم ينقل لذلك نكير ولو كانت
واجبة لم يخلوا بذلك ولنقل عنهم نقلا ظاهرا ولأنها عطية لا تجب في الحياة فلا تجب بعد الموت كعطية
الأجانب فأما الآية فقال ابن عباس نسخها قوله سبحانه (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون)
وقال ابن عمر نسختها آية الميراث وبه قال عكرمة ومجاهد ومالك والشافعي وذهب طائفة ممن يرى
نسخ القرآن بالسنة إلى أنها نسخت بقول النبي صلى الله عليه وسلم " ان الله قد اعطى كل ذي حق حقه فلا وصية
لوارث " وحديث ابن عمر محمول على من عليه واجب أو عنده وديعة
(فصل) وتستحب الوصية بجزء من المال لمن ترك خيرا لأن الله تعالى قال (كتب عليكم إذا
حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية) فنسخ الوجوب وبقي الاستحباب في حق من لا يرث وقد
415

روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ابن آدم جعلت لك نصيبا من مالك حين اخذت بكظمك
لا طهرك وأزكيك " وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث
أموالكم " رواهما ابن ماجة وقال الشعبي من أوصى بوصية فلم يجر ولم يحف كان له من الاجر مثل
ما لو أعطاها وهو صحيح واما الفقير الذي له ورثة محتاجون فلا يستحب له ان يوصي لأن الله قال
في الوصية (ان ترك خيرا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد " انك ان تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة
يتكففون الناس " وقال " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " وقال علي رضي الله عنه لرجل أراد ان يوصي انك
لن تدع طائلا إنما تركت شيئا يسيرا فدعه لورثتك وعنه أربعمائة دينار ليس فيها فضل عن الورثة
وروي عن عائشة رضي الله عنها ان رجلا قال لا " لي ثلاثة آلاف درهم وأربعة أولاد أفأوصي؟ فقالت
اجعل الثلاثة للأربعة وعن ابن عباس قال من ترك سبعمائة درهم ليس عليه وصية وقال عروة دخل
علي على صديق له يعوده فقال الرجل اني أريد ان أوصي فقال له ان الله تعالى يقول (ان ترك خيرا) وانك
إنما تدع شيئا يسيرا فدعه لورثتك. واختلف أهل العلم في القدر الذي لا تستحب له لمالكه فروي عن أحمد إذا ترك
دون الألف لا تستحب الوصية وعن علي أربعمائة دينار وقال ابن عباس إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي
وقال من ترك ستين دينارا ما ترك خيرا وقال طاوس الخير ثمانون دينارا وقال النخعي الف وخمسمائة وقال أبو
حنيفة القليل ان يصيب أقل الورثة سهما خمسون درهما والذي يقول عندي انه متى كان المتروك لا يفضل
عن غنى الورثة فلا تستحب الوصية لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل المنع من الوصية بقوله " ان تترك ورثتك
أغنياء خير من أن تدعهم عالة " ولان اعطاء القريب المحتاج خير من اعطاء الأجنبي فمنى لم يبلغ الميراث
416

غناهم كان تركه لهم كعطيتهم إياه فيكون ذلك أفضل من الوصية به لغيرهم فعند هذا يختلف الحال باختلاف
الورثة في كثرتهم وقلتهم وغناهم وحاجتهم فلا يتقيد بقدر من المال والله أعلم وقد قال الشعبي ما من مال
أعظم اجرا من مال يتركه الرجل لولده يغنيهم به عن الناس
(فصل) والأولى ان لا يستوعب الثلث بالوصية وإن كان غنيا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " والثلث كثير "
قال ابن عباس لو أن الناس غضوا من الثلث فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الثلث كثير " متفق عليه وقال القاضي
وأبو الخطاب إن كان غنيا أستحب الوصية بالثلث
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد " والثلث كثير " مع اخباره إياه بكثرة ماله وقلة عياله فإنه قال في
الحديث ان لي مالا كثيرا ولا يرثني الا ابنتي وروي سعيد بن ثنا خالد بن عبد الله ثنا عطاء بن السائب
عن أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد بن مالك قال مرضت مرضا فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
لي " أوصيت؟ " فقلت نعم أوصيت بمالي كله للفقراء وفي سبيل الله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارض بالعشر "
فقلت يا رسول الله ان مالي كثير وورثتي أغنياء فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناقصني وأناقصه حتى قال " أوص
بالثلث والثلث كثيرا وقال أبوا عبد الرحمن لم يكن أحد منا يبلغ في وصيته الثلث متى ينقص منه شيئا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " الثلث والثلث كثير " إذا ثبت هذا فالأفضل لغني الوصية بالخمس ونحو هذا يروي عن
أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وهو ظاهر قول السلف وعلماء أهل البصرة
ويروى عن عمر رضي الله عنه انه جاءه شيخ فقال يا أمير المؤمنين انا شيخ كبير ومالي كثير ويرثني اعراب
موالي كلالة منزوح نسبهم أفاوصي بمالي كله؟ قال لا قال فلم يزل يحط حتى بلغ العشر وقال إسحاق
السنة الربع الا أن يكون رجلا يعرف في ماله حرمة شبهات أو غيرها فله استيعاب الثلث
ولنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى بالخمس وقال رضيت بما رضي الله به لنفسه يعني
417

قوله تعالى (واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) وروى أن أبا بكر وعليا رضي الله عنهما أوصيا
بالخمس وعن علي رضي الله عنه أنه قال لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع وعن إبراهيم قال كانوا
يقولون صاحب الربع أفضل من صاحب الثلث وصاحب الخمس أفضل من صاحب الربع وعن الشعبي
قال كان الخمس أحب إليهم من الثلث فهو منتهي الجامع وعن العلاء ابن زياد وقال أوصى أبي ان اسال
العلماء اي الوصية اعدل فما تتابعوا عليه فهو وصيته؟ فتتابعوا على الخمس
(فصل) والأفضل ان يجعل وصيته لا قاربه الذين لا يرثون إذا كانوا فقراء في قول عامة أهل العلم
قال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء علمت في ذلك إذا كانوا ذوي حاجة وذلك لأن الله تعالى كتب الوصية
للوالدين والأقربين فخرج منه الوارثون بقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث وبقي سائر
الأقارب لهم وأقل ذلك الاستحباب وقد قال الله تعالى (وآت ذا القربى حقه) وقال تعالى (وآتى المال على
حبه ذوي القربى) فبدأ بهم ولان الصدقة عليهم في الحياة أفضل فكذلك بعد الموت فإن أوصى لغيرهم
وتركهم صحت وصيته في قول أكثر أهل العلم منهم سالم وسليمان بن يسار وعطاء ومالك والثوري
والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وحكي عن طاوس والضحاك وعبد الملك بن يعلى
انهم قالوا ينزع عنهم وبرد إلى قرابته وعن سعيد بن المسيب والحسن وجابر بن زيد: للذي أوصي
له ثلث الثلث والباقي برد إلى قرابة الموصي لأنه لو أوصى بماله كله لجاز منه الثلث والباقي رد على الورثة
وأقاربه الذين لا يرثونه في استحقاق الوصية كالورثة في استحقاق المال كله
ولنا ما روى عمران بن حصين ان رجلا أعتق في مرضه ستة أعبد لم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك
418

النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم فجزأهم ثلاثة اجزاء ثم أقرع بينهم فاعتق اثنين وأرق أربعة فأجاز العتق في ثلثه لغير
قرابته ولأنها عطية فجازت لغير قرابته كالعطية في الحياة
{مسألة} قال (ولا وصية لوارث الا أن يجيز الورثة ذلك)
وجملة ذلك أن لانسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة لم تصح بغير خلاف بين
العلماء قال ابن المنذر وابن عبد البر أجمع أهل العلم على هذا وجاءت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بذلك فروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان الله قد أعطى كل ذي حق حقه
فلا وصية لوارث " رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي ولان النبي صلى الله عليه وسلم منع من عطية بعض ولده
وتفضيل بعضهم على بعض في حال الصحة وقوة الملك وامكان تلافى العدل بينهم باعطاء الذي لم يعطه
فيما بعد ذلك لما فيه من إيقاع العداوة والحسد بينهم ففي حال موته أو مرضه وضعف ملكه وتعلق
الحقوق به وتعذر تلافي العدل بينهم أولى وأخرى، وإن أجازها جازت في قول الجمهور من العلماء،
وقال بعض أصحابنا الوصية باطلة، وإن أجازها سائر الورثة إلا أن يعطوه عطية مبتدأة أخذا من ظاهر
قول أحمد، في رواية حنبل: لا وصية لوارث وهذا قول المزني وأهل الظاهر وهو قول للشافعي واحتجوا
بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث " وظاهر مذهب أحمد والشافعي أن الوصية صحيحة في
نفسها وهو قول جمهور العلماء لأنه تصرف صدر من أهله في محله فصح كما لو وصى لأجنبي والخبر قد
روي فيه " الا أن يجيز الورثة " والاستثناء من النفي اثبات فيكون ذلك دليلا على صحة الوصية عند الإجازة
419

ولو خلا من الاستثناء كان معناه لا وصية نافذة أو لازمة أو ما أشبه هذا أو يقدر فيه لا وصية لوارث
عند عدم الإجازة من غيره من الورثة، وفائدة الخلاف أن الوصية إذا كانت صحيحة فإجازة الورثة
تنفيذ وإجازة محضة يكفي فيها قول الوارث أجزت أو أمضيت أو نفذت فإذا قال ذلك لزمت الوصية وإن
كانت باطلة كانت الإجازة هبة مبتدأة تفتقر إلى شروط الهبة من اللفظ والقبول والقبض كالهبة المبتدأة
ولو رجع المجيز قبل القبض فما يعتبر فيه القبض صح رجوعه
(فصل) وإن أسقط عن وارثه دينا أو أوصى بقضاء دينه أو أسقطت المرأة صداقها عن زوجها
أو عفى عن جناية موجبها المال فهو كالوصية له، وإن عفى عن القصاص وقلنا الواجب القصاص عينا سقط
إلى غير بدل، وإن قلنا الواجب أحد شيئين سقط القصاص ووجب المال، وإن عفى عن حد القذف
سقط مطلقا، وإن وصى لغريم وارثه صحت الوصية وكذلك أن وهب له وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة
وقال أبو يوسف هو وصية للوارث لأن الوارث ينتفع بهذه الوصية وتستوفى ديونه منها
ولنا أنه وصى لأجنبي فصح كما لو وصى لمن عادته الاحسان إلى وارثه، وان وصى لولد وارثه
صح فإن كان يقصد بذلك نفع الوارث لم يجز فيما بينه وبين الله تعالى قال طاوس في قوله عز وجل
(فمن خاف من موص جنفا أو اثما) قال أن يوصي لولد ابنته وهو يريد ابنته. رواه سعيد قال ابن
عباس الجنف في الوصية والاضرار فيها من الكبائر
(فصل) وان وصى لكل وارث بمعين من ماله بقدر تصيبه كرجل خلف ابنا وبنتا وعبدا قيمته
420

مائة وجارية قيمتها خمسون فوصى لابنه بعبده ولابنته بأمته احتمل أن تصح الوصية لأن حق الوارث
في القدر لا في العين بدليل ما لو عاوض المريض بعض ورثته أو أجنبيا بجميع ما له صح إذا كان ذلك
بثمن المثل، وإن تضمن فوات عين المال واحتمل أن تقف على الإجازة لأن في الأعيان غرضا صحيحا
وكما لا يجوز ابطال حق الوارث في قدر حقه لا يجوز من عينه
(فصل) وإذا ملك المريض من يعتق عليه بغير عوض عتق وورث وبهذا قال مالك وبعض
أصحاب الشافعي وحكاه الخبري مذهبا للشافعي ولا خلاف بين هؤلاء في أنه إذا ملكه بالميراث انه يعتق
ويرث وقال أبو حنيفة ان حمله الثلث عتق وورث والا سعى فيما بقي عليه ولم يرث ولم يفرق بين أن
يملكه بعوض أو غيره، وقال أبو يوسف ومحمد يحتسب ميراثهم من قيمتهم فإن فضل شئ أخذه،
وإن فضل عليهم شئ سعوا فيه
ولنا أن المريض لم يضع فيهم شيئا من ماله وإنما تعاطى سبب ملكهم على وجه لم يستقر وزال
بغير إزالته فلم يحتسب عليه من ثلثه كما لو اتهب شيئا فرجع الواهب فيه قبل قبضه أو اشترى شيئا فيه
غبطة بشرط الخيار ففسخ البائع أو وجد بالثمن عيبا ففسخ البيع أو تزوجت المرأة فطلقت قبل الدخول
وإذا لم تكن وصية لم تحتسب عليه من الثلث لم يمنع الميراث كما لو ملكه بالميراث عند من سلمه أو كما لو كان ذلك في صحته
فإن ملكه بعوض كالشراء فحكى الخبري عن أحمد انه يعتق ويرث وهذا قول ابن الماجشون وأهل البصرة وقال
القاضي في المجرد ان ملكه بعوض وخرج من الثلث عتق وورث والا عتق منه بقدر الثلث وهذا قول مالك وقال
الخبري وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وحكى غيره عن الشافعي أنه لا فرق عنده بين أن يملكه بعوض
421

أو غيره وانه ان خرج من الثلث عتق والا عتق منه بقدر الثلث ولا يرث في الحالين لأنه لو ورث
لكان اعتاقه وصية لوارث فيبطل عتقه ويبطل ميراثه لبطلان عتقه فيؤدي توريثه إلى ابطال توريثه
فصححنا عتقه ولم نورثه لئلا يفضي إلى ذلك، ومذهب أبي حنيفة وصاحبيه في هذا كمذهبهم
فيما إذا ملكه بغير عوض
ولنا على اعتاقه قول النبي صلى الله عليه وسلم " من ملك ذا رحم محرم فهو حر " ولأنه ملك وجد معه ما ينافيه
فبطل كملك النكاح مع ملك الرقبة أعني فيما إذا اشترى أحد الزوجين صاحبه، وإذا أعتق ورث
لأنه وجد سبب الميراث عريا عن الموانع فورث كما لو ورثه، وقولهم ان عتقه وصية لا يصح لأن الوصية
فعله، والعتق ههنا يحصل من غير اختياره ولا ارادته، ولان رقبة العتق لا تحصل له وإنما تتلف ماليته
وتزول فيصير ذلك كتلفه بقتل بعض رقيقه أو كاتلاف بعض ماله في بناء مسجد مثال ذلك مريض
وهب له ابنه فقبله وقيمته مائة ثم مات المريض وخلف ابنا آخر ومائتين فإنه يعتق ويقاسم أخاه
المائتين في قول الأكثرين، وعند الشافعي فيما حكي عنه غير الخبري يعتق ولا يرث شيئا وعند صاحبي
أبي حنيفة يعتق وله نصف التركة يحتسب عليه بقيمته ويبقى له خمسون، وإن كان باق التركة خمسين
فعندنا يعتق وله نصف الخمسين وهو قول مالك وعند أبي حنيفة يعتق نصفه ويسعي في باقيه والخمسون
كلها لأخيه، وقال صاحباه تعتق ثلاثة أرباعه وعند الشافعي في قول غير الخبري يعتق نصفه ويرق
نصفه ونصفه الرقيق والخمسون كلها لأخيه، وإن كان باقي التركة ثلاثمائة فعندنا يعتق وله مائة
وخمسون، وعند الشافعي يعتق ولا يرث شيئا وعند صاحبي أبي حنيفة يعتق وله مائة فإن كان اشترى
422

ابنه بمائة ومات وخلف ابنا آخر ومائة أخرى فعلى الرواية الأولى يعتق ويقاسم أخاه المائة الباقية
وعلى ما حكاه القاضي يعتق منه ثلثاه ويرث أربعين ويعتق باقيه على أخيه ولا يرث بذلك الجزء شيئا
لأن عتقه حصل بعد موت أبيه، وعند الشافعي يعتق ثلثاه ولا يرث، وقال أبو حنيفة يعتق ثلثاه
ويسعى في باقيه ولا يرث، وعند صاحبيه يعتق كله ولا يرث شيئا فإن كان قد تصدق قبل ذلك بثلثه
أو حابا به لم يعتق لأن الثلث قد ذهب
(فصل) وان ملك من ورثته من لا يعتق عليه كبني عمه فأعتقهم في مرضه فعتقهم وصية لأنه
حصل بفعله واختياره وحكمهم في العتق حكم الأجانب ان خرجوا من الثلث عتقوا والا عتق منهم
بقدر الثلث، وينبغي أن يعتقوا ولا يرثوا، لأنهم لو ورثوا لكانت وصية لوارث فيبطل عتقهم ثم يبطل
ميراثهم، وقد قال أبو الخطاب في رجل ملك ابن عمه فأقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته عتق ولم يرث،
وهذا في معنى ما ذكرنا لأن اقراره لوارث غير مقبول فمنعنا ميراثه ليقبل اقراره له بالاعتاق
(فصل) مريض اشترى أباه بألف لا مال له سواه فعلى رواية الخبري يعتق كله، وعلى القول
الآخر يعتق ثلثه، على المعتق ويعتق باقيه على ابنه وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة يعتق ثلثه ويسعى للابن
في ثلثيه، وعلى قول صاحبيه يعتق سدسه ويسعى في خمسة أسداسه، وقيل على قياس قول الشافعي
يفسخ الشراء الا أن يجيز الابن عتقه وقيل يعتق ثلثه ويفسخ البيع في ثلثيه وان خلف الفين سواه عتق
وورث سدسهما وبه قال مالك وأبو حنيفة، وفي قول صاحبيه يعتق نصفه ويسعى في قيمة نصفه
423

(فصل) وإذا وهب الانسان أبوه أو وصى له به استحب له أن يقبله ولم يجب، وهذا قول الشافعي
ويحتمل أن يجب عليه قبوله لأن فيه اعتاقا لأبيه من غير التزام مال
ولنا أنه استجلاب ملك على الأب فلم يلزمه كما لو بذل له بعوض أو كما لو بذل له ابنه أو غيره من
أقاربه ولأنه يلزمه ضرر بلحوق المنة به وتلزمه نفقته وكسوته
(فصل) إذا وصى لوارثه وأجنبي بثلثه فأجاز سائر الورثة وصية الوارث فالثلث بينهما، وان
وصى لكل واحد منهما بمعين قيمتهما الثلث فأجاز سائر الورثة وصية الوارث فالثلث بينها، وان
وصى لكل واحد منهما بمعين قيمتهما الثلث فأجاز سائر الورثة وصية الوارث جازت الوصية لهما
وان ردوا بطلت وصية الوارث في المسألتين وللأجنبي السدس في الأولى والمعين الموصى له به في الثانية، وهذا
قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم، وإن كانت الوصيتان بثلثي ماله فأجاز الورثة لهما
جازت لهما، وان عينوا نصيب الوارث بالرد وحده فللأجنبي الثلث كاملا لأنهم خصوا الوارث بالابطال
فالثلث كله للأجنبي وسقطت وصية الوارث فصار كأنه لم يوص له، وان أبطلوا الزائد عن الثلث من
غير تعيين نصيب أحدهما فالثلث الباقي بين الوصيين لكل واحد منهما السدس، هذا الذي ذكره
القاضي وهو قول مالك والشافعي وذلك لأن الوارث يزاحم الأجنبي إذا أجاز الورثة الوصيتين فيكون
لكل واحد منهما الثلث فإذا أبطلوا نصفهما بالرد كان البطلان راجعا إليهما وما بقي منهما بينهما كما لو
تلف ذلك بغير الرد، واختار أبو الخطاب ان الثلث جميعه للأجنبي وحكي نحو هذا عن أبي حنيفة
لأنهم لا يقدرون على إبطال الثلث فما دون إذا كان للأجنبي، ولو جعلنا الوصية بينهما لملكوا إبطال ما زاد
على السدس، فإن صرح الورثة بذلك فقالوا أجزنا الثلث لكما ورددنا ما زاد عليه في وصيتكما أو قالوا
424

رددنا من وصية كل واحد منكما نصفها وبقينا له نصفها كان ذلك آكد في جعل السدس لكل واحد
منهما لتصريحهم به، وإن قالوا أجزنا وصية الوارث كلها ورددنا نصف وصية الأجنبي فهو على ما قالوا
لأن لهم أن يجيزوا لهما ويردوا عليهما فكان لهم أن يجيزوا لأحدهما ويردوا على الآخر، وان أجازوا
للأجنبي جميع وصيته وردوا على الوارث نصف وصيته جاز كما قلنا، وان أرادوا أن ينقصوا الأجنبي
عن نصف وصيته لم يملكوا ذلك سواء أجازوا للوارث أو ردوا عليه، فإن ردوا جميع وصية الوارث
ونصف وصية الأجنبي فعلى قول القاضي لهم ذلك لأن لهم أن يجيزوا الثلث لهما فيشتركان فيه ويكون
لكل واحد منهما نصفه ثم إذا رجعوا فيما للوارث لم يزد الأجنبي على ما كان له في حالة الإجازة للوارث
وعلى قول أبي الخطاب يتوفر الثلث كله للأجنبي لأنه إنما ينقص منه بمزاحمة الوارث فإذا زالت
المزاحمة وجب توفير الثلث لأنه قد أوصى له به، ولو خلف ابنين ووصى لهما بثلثي ماله ولأجنبي بالثلث
فردا الوصية فقال أبو الخطاب عندي للأجنبي الثلث كاملا وعند القاضي له التسع ويجئ فيه من
الفروع مثل ما ذكرنا في التي قبلها
(فصل) وان وصى بثلثه لوارث وأجنبي وقال إن ردوا وصية الوارث فالثلث كله للأجنبي كما وصى وان
أجازوا للوارث فالثلث بينهما لأن الوصية تتعلق بالشرط، ولو قال أوصيت لفلان بثلثي فإن مات قبلي فهو لفلان
صح وان قال وصيت بثلثي لفلان فإن قدم فلان الغائب فهو له صح فإن قدم الغائب قبل موت الموصي صار هو
الوصي وبطلت وصية الأول سوا عاد إلى الغيبة أو لم يعد لأنه قد وجد شرط انتقال الوصية إليه فلم ينتقل عنه بعد
ذلك، وان مات الموصي قبل قدوم الغائب فالوصية للحاضر سواء قدم الغائب بعد ذلك أو لم يقدم
425

ذكره القاضي لأن الوصية ثبتت لوجود شرطها فلم تنقل عنه كما لو لم يقدم، ويحتمل ان الغائب ان قدم
بعد الموت كانت الوصية له لأنه جعلها له بشرط قدومه وقد وجد ذلك
(فصل) وان وصى لوارث فأجاز بعض باقي الورثة الوصية دون البعض نفذ في نصيب من
أجاز دون من لم يجز، وان أجازوا بعض الوصية دون بعض نفذت فيما أجازوا دون ما لم يجيزوا،
فإن أجاز بعضهم بعض الوصية وأجاز بعضهم جميعها أو ردها فهو على ما فعلوا من ذلك، فلو خلف
ثلاثة بنين وعبدا لا يملك غيره فوصى به لأحدهم أو وهبه إياه في مرض موته واجازه له أخواه فهو
له، وان أجاز له أحدهما وحده فله ثلثاه وان أجازا له نصف العبد فله نصفه ولهما نصفه وان أجاز
أحدهما له نصف نصيبه ورد الآخر فله النصف كاملا: الثلث نصيبه والسدس من نصيب المجيز، وان
أجاز كل واحد منهما له نصف نصيبه كمل له الثلثان وان أجاز له أحدهما نصف نصيبه والاخر ثلاثة
أرباع نصيبه كمل له ثلاثة أرباع العبد، وان وصى بالعبد لاثنين منهما فللثالث أن يجيز لهما أو
يرد عليهما، أو يجيز لهما بعض وصيتهما ان شاء متساويا وان شاء متفاضلا أو يرد على أحدهما
ويجيز للآخر وصيته كلها أو بعضها أو يجيز لأحدهما جميع وصيته وللآخر بعضها فكل ذلك جائز لأن
الحق له فكيفما شاء فعل فيه
{مسألة} قال (ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث فأجاز ذلك الورثة بعد موت
الموصي جاز وان لم يجيزوا رد إلى الثلث)
426

وجملة ذلك أن الوصية لغير الوارث تلزم في الثلث من غير إجازة وما زاد على الثلث يقف على
اجازتهم فإن أجازوه جاز وإن ردوه بطل في قول جميع العلماء. والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد
حين قال أوصي بمالي كله؟ قال " لا " قال فبالثلثين؟ قال لا قال فبالنصف؟ قال لا قال فبالثلث قال " الثلث والثلث
كثير " وقوله عليه السلام " ان الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند مماتكم " يدل على أنه لا شئ له في
الزائد عليه وحديث عمران بن حصين في المملوكين الذين أعتقهم المريض ولم يكن له مال سواهم فدعا
بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة اجزاء وأقرع بينهم فاعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا يدل
أيضا على أنه لا يصح تصرفه فيما عدا الثلث إذا لم يجز الورثة ويجوز بإجازتهم لأن الحق لهم والقول في بطلان
الوصية بالزائد عن الثلث كالقول في الوصية للوارث على ما ذكرنا، وهل اجازتهم تنفيذا وعطية مبتدأة،؟
فيه اختلاف ذكرناه في الوصية للوارث، والخلاف فيه مبني على أن الوصية به أو العطية له في مرض الموت
المخوف صحيحة موقوفة على الإجازة أو باطلة فظاهر المذهب انها صحيحة وان الإجازة تنفيذ مجرد
يكفي فيه قول المجيز أجزت ذلك أو انفذته أو نحوه من الكلام ولا يفتقر إلى شروط الهبة ويتفرع
عن هذا الخلاف انه لو أعتق عبدا لا مال له سواه في مرضه أو وصى باعتاقه فاعتقوه بوصيته فقد نفذ
العتق في ثلثه ووقف عتق باقيه على إجازة الورثة فإن أجازوه عتق جميعه واختص عصبات الميت
بولائه كله إذا قلنا بصحة اعتاقه ووصيته، وان قلنا هي باطلة والإجازة عطية مبتدأة اختص عصبات
الميت بثلث ولائه وكان ثلثاه لجميع الورثة بينهم على قدر ميراثهم لأنهم باشروه بالاعتاق وكذلك
لو تبرع بثلث ماله في مرضه ثم أعتق أو وصى بالاعتاق فالحكم فيه على ما ذكرنا، ولو أوصى لابن وارثه
427

بعد تبرعه بثلث ماله أو أعطاه عطية في مرضه فأجاز أبوه وصيته وعطيته ثم أراد الرجوع فيما
اجازه فله ذلك أن قلنا هي عطية مبتدأة وليس له ذلك علي القول بأنها إجازة مجردة، ولو تزوج رجل ابنة
عمه فأوصت له بوصية أو عطية في مرض موتها ثم ماتت وخلفته وأباه فأجاز أبوه وصيته وعطيته
فالحكم فيه على ما ذكرنا، ولو وقف في مرضه على ورثته فأجازوا الوقف صح ان قلنا اجازتهم تنفيذ ولم
يصح ان قلنا هي عطية مبتدأة ولأنهم يكونون واقفين على أنفسهم، ولا فرق في الوصية بين المرض
والصحة وقد روى حنبل عن أحمد أنه قال إن أوصى في المرض فهو من الثلث وإن كان صحيحا فله ان
يوصي بما شاء يعني به العطية قاله القاضي اما لوصية فإنها عطية بعد الموت فلا يجوز منها الا الثلث على كل حال
(فصل) ولا يعتبر الرد والإجازة الا بعد موت الموصي فلو أجازوا قبل ذلك ثم ردوا أو أذنوا
لموروثهم في حياته بالوصية بجميع المال أو بالوصية لبعض ورثته ثم بدا لهم فردوا بعد وفاته فلهم
الرد سواء كانت الإجازة في صحة الموصي أو مرضه نص عليه احمد في رواية أبي طالب وروي ذلك
عن ابن مسعود وهو قول شريح وطاوس والحكم والثوري والحسن بن صالح والشافعي وأبي ثور
وابن المنذر وأبي حنيفة وأصحابه، وقال الحسن وعطاء وحماد بن أبي سليمان وعبد الملك بن يعلى
والزهري وربيعه والأوزاعي وابن أبي ليلى ذلك جائز عليهم لأن الحق للورثة فإذا رضوا بتركه سقط
حقهم كما لو رضي المشتري بالعيب وقال مالك ان أذنوا له في صحته فلهم ان يرجعوا وإن كان ذلك
في مرضه وحين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم
ولنا انهم أسقطوا حقوقهم فيما لم يملكوه فلم يلزمهم كالمرأة إذا أسقطت صداقها قبل النكاح أو
428

أسقط الشفيع حقه من الشفعة قبل البيع ولأنها حالة لا يصح فيها ردهم للوصية فلم يصح فيها إجازتهم
كما قبل الوصية
(فصل) وإذا وصى بأكثر من الثلث فأجاز الوارث الوصية وقال إنما أجزتها ظنا ان المال قليل
فبان كثيرا فإن كانت للموصي بينة تشهد باعترافه بمعرفة قدر المال أو كان المال ظاهرا لا يخفى عليه
لم يقبل قوله الا على قول من قال الإجازة هبة مبتدأة فله الرجوع فيما يجوز الرجوع في الهبة في مثله وان لم
تشهد بينة باعترافه بذلك فالقول قوله مع يمينه لأن الإجازة تنزلت منزلة الابراء فلا يصح في المجهول
والقول قوله في الجهل به مع يمينه لأن الأصل عدم العلم ويحتمل ان لا يقبل قوله لأنه أجاز عقدا له
الخيار في فسخه فبطل خياره كما لو أجاز البيع من له الخيار في فسخه بعيب أو خيار وان أوصى بمعين
كعبد أو فرس يزيد على الثلث فأجاز الوصية بها ثم قال ظننت المال كثيرا تخرج الوصية من ثلثه
فبان قليلا أو ظهر عليه دين لم اعلمه لم تبطل الوصية لأن العبد معلوم لا جهالة فيه ويحتمل ان يملك الفسخ
لأنه قد يسمح بذلك ظنا منه انه يبقى له من المال ما يكفيه فإذا بان خلاف ذلك لحقه الضرر في
الإجازة فملك الرجوع كالمسألة التي قبلها
(فصل) ولا تصح الإجازة الا من جائز التصرف، فأما الصبي والمجنون والمحجور عليه لسفه فلا
تصح الإجازة منهم لأنها تبرع بالمال فلم تصح منهم كالهبة، وأما المحجور عليه لفلس فإن قلنا الإجازة
هبة لم تصح منه لأنه ليس له هبة ماله وان قلنا هي تنفيذ صحت
429

{مسألة} قال (ومن أوصى له وهو في الظاهر وارث فلم يمت الموصي حتى صار
الموصى له غير وارث فالوصية له ثابتة لأن اعتبار الوصية بالموت)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت فلو أوصى لثلاثة اخوة له متفرقين ولا ولد
له ومات قبل أن يولد له ولد لم تصح الوصية لغير الأخ من الأب الا بالإجازة من الورثة، وإن ولد
له ابن صحت الوصية لهم جميعا من غير إجازة إذا لم تتجاوز الوصية الثلث، وإن ولدت له بنت
جازت الوصية لأخيه من أبيه وأخيه من أمه فيكون لهما ثلثا الموصى به بينهما نصفين ولا يجوز للأخ
من الأبوين لأنه وارث وبهذا يقول الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وغيرهم ولا نعلم
عن غيرهم خلافهم، ولو أوصى لهم وله ابن فمات ابنه قبل موته لم تجز الوصية لأخيه من أبويه ولا لأخيه
من أمه وجازت لأخيه من أبيه، فإن مات الأخ من الأبوين قبل موته لم تجز الوصية للأخ من الأب
أيضا لأنه صار وارثا
(فصل) ولو أوصى لامرأة أجنبية أو أوصت له ثم تزوجها لم تجز وصيتهما الا بالإجازة من الورثة
وإن أوصى أحدهما للآخر ثم طلقها جازت الوصية لأنه صار غير وارث الا أنه أن طلقها في مرض موته
فقياس المذهب أنها لا تعطى أكثر من ميراثها لأنه يتهم في أنه طلقها ليوصل إليها ماله بالوصية فلم ينفذ لها
ذلك كما لو طلقها في مرض موته أو وصى لها بأكثر مما كانت ترث
(فصل) وإن أعتق أمته في صحته ثم تزوجها في مرضه صح وورثته بغير خلاف نعلمه، وإن
430

أعتقها في مرضه ثم تزوجها وكانت تخرج من ثلثه فنقل المروذي عن أحمد أنها تعتق وترث وهذا
اختيار أصحابنا وهو قول أبي حنيفة لأنها امرأة نكاحها صحيح ولم يوجد في حقها مانع من موانع
الإرث وهي الرق والقتل واختلاف الدين فترث كما لو كان أعتقها في صحتها، وقال الشافعي تعتق ولا
ترث لأنها لو ورثت لكان اعتقاها وصية لوارث فيؤدي توريثها إلى اسقاط توريثها لأن ذلك يقتضي
ابطال عتقها فيبطل نكاحها ثم يبطل ارثها فكان ابطال الإرث وحده وتصحيح العتق والنكاح أولى
(فصل) وإن أعتق أمة لا يملك غيرها ثم تزوجها فالنكاح صحيح في الظاهر، فإن مات ولم يملك
شيئا آخر تبين أن نكاحها باطل ويسقط مهرها إن كان لم يدخل بها وهذا قول أبي حنيفة والشافعي
ويعتق منها ثلثها ويرق ثلثاها فإن كان قد دخل بها ومهرها نصف قيمتها عتق منها ثلاثة أسباعها ويرق
أربعة أسباعها. وحساب ذلك أن تقول عتق منها شئ ولها بصداقها نصف شئ وللورثة شيئان فيجمع
ذلك ويكون ثلاثة أشياء ونصف نبسطها فتكون سبعة لها منها ثلاثة ولهم أربعة ولا شئ للميت سواها
فنجعل لنفسها منها ثلاثة أسباعها يكون حرا والباقي للورثة، وإن أحب الورثة أن يدفعوا إليها حصتها من مهرها
وهو سبعاه ويعتق منها سبعاها ويسترقوا خمسة أسباعها فلهم ذلك وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة يحسب
مهرها من قيمتها ولها ثلث الباقي وتسعى فيما بقي وهو ثلث قيمتها، فإن كان يملك مع الجارية قدر نصف قيمتها ولم
يدخل بها عتق منها نصفها ورق نصفها لأن نصفها هو ثلث المال، وإن دخل بها عتق منها ثلاثة أسباعها ولها ثلاثة
أسباع مهرها وإنما قل العتق فيها لأنها لما أخذت ثلاثة أسباع مهرها نقص المال به فيعتق منها ثلث الباقي وهو ثلاثة
أسباعها. وحسابها أن تقول عتق منها شئ ولها بمهرها نصف شئ وللورثة شيئان يعدل ذلك الجارية
431

ونصف قيمتها فالشئ سبعاها وسبعا نصف قيمتها وهو ثلاثة أسباعها فهو الذي عتق منها وتأخذ نصف
ذلك من المال بمهرها وهو ثلاثة أسباعه. فإن كان يملك معها مثل قيمتها ولم يدخل بها عتق ثلثها ورق
ثلثها وبطل نكاحها، وإن كان دخل بها عتق أربعة أسباعها ولها أربعة أسباع مهرها ويبقى للورثة ثلاثة
أسباعها وخمسة أسباع قيمتها وذلك بعدل مثلي ما عتق منها. وحسابها أن تجعل السبعة الأشياء معادلة
لها ولقيمتها فيعتق منها بقدر سبعي الجميع وهو أربعة أسباعها وتستحق سبع الجميع بمهرها وهو أربعة
أسباع مهرها، وإن كان يملك معها مثلي قيمتها عتقت كلها وصح نكاحها لأنها تخرج من الثلث ان
أسقطت مهرها، وان أبت أن تسقطه لم ينفذ عتقها ويبطل نكاحها فإن كان لم يدخل بها فينبغي أن
يقضى بعتقها ونكاحها ولا مهر لها لأن ايجابه يفضي إلى إسقاطه واسقاط عتقها ونكاحها فاسقاطه وحده
أولى، وإن كان قد دخل بها عملنا فيها على ما نقدم فيعتق ستة أسباعها ولها ستة أسباع مهرها ويبطل
عتق سبعها ونكاحها، ولو أعتقها ولم يتزوجها ووطئها كان العمل فيها في هذه المواضع كما لو تزوجها وهذا
مذهب الشافعي، وذكر القاضي في مثل هذه المسألة التي قبل الأخيرة ما يقتضي صحة عتقها ونكاحها
مع وجوب مهرها فإنه قال فيمن أعتق في مرضه أمة قيمتها مائة وأصدقها مائتين لا مال له سواهما وهما
مهر مثلها يصح العتق والصداق والنكاح لأن المائتين صداق مثلها وتزويج المريض بمهر المثل صحيح
نافذ. وهذا غير جيد فإن ذلك يفضي إلى نفوذ العتق في المرض من جميع المال ولا أعلم به قائلا ولو أنه
أتلف المائتين أو أصدقهما لامرأة أجنبية ومات ولم يخلف شيئا لبطل عتق ثلثي الأمة فإذا أخذتهما
هي كان أولى في بطلانه والصحيح ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وقال أبو حنيفة فيما إذا ترك مثلي
432

قيمتها وكان مهرها نصف قيمتها تعطى مهرها وثلث الباقي بحسب ذلك من قيمتها وهو نصفها وثلثها فيعتق
ذلك وتسعى في سدسها الباقي ويبطل نكاحها فإن خلف أربعة أمثال قيمتها صح عتقها ونكاحها
وصداقها في قول الجميع لأن ذلك يخرج من الثلث وترث من الباقي في قول أصحابنا وهو قول
أبي حنيفة، وقال الشافعي لا ترث وهو مقتضى قول الخرقي لأنها لو ورثت لكان عتقها وصية
لوارث واعتبار الوصية بالموت
(فصل) ولو أن امرأة مريضة أعتقت عبدا قيمته عشرة وتزوجها بعشرة في ذمته ثم ماتت
وخلفت مائة اقتضى قول أصحابنا أن تضم العشرة التي في ذمته إلى المائة فيكون ذلك هو التركة
ويرث نصف ذلك ويبقي للورثة خمسة وخمسون وهذا مذهب أبي حنيفة وقال صاحباه تحسب عليه
قيمته أيضا وتضم إلى التركة ويبقي للورثة ستون، وقال الشافعي لا يرث شيئا وعليه أداء العشرة التي في
ذمته لئلا يكون اعتاقه وصيه لوارث وهذا مقتضى قول الخرقي إن شاء الله تعالى
(فصل) ولو تزوج المريض امرأة صداق مثلها خمسة فأصدقها عشرة لا يملك غيرها ثم مات
وورثته بطلت المحاباة لأنها وصية لوارث ولها صداقها وربع الباقي بالميراث فإن ماتت قبله صحت
المحاباة ويدخلها الدور فيقول لها مهرها وهو خمسة وشئ بالمحاباة يبقى لورثة الزوج خمسة الأشياء
ثم رجع إليهم نصف مالها وهو ديناران ونصف شئ صار لهم سبعة ونصف الا نصف شئ يعدل شيئين
أجير وقابل يتبين أن الشئ ثلاثة فيكون لورثتها أربعة ولورثته ستة وان خلفت مع ذلك دينارين عاد إلى
الزوج من ميراثها ثلاثة ونصف شئ فصار له ثمانية ونصف الا نصف شئ أجبر وقابل يخرج الشئ
ثلاثة وخمسين فصار لورثته ستة وأربعة أخماس ولورثتها خمسة وخمس
433

(فصل) وإذا أوصى بجارية لزوجها الحر فقبلها انفسخ النكاح لأن النكاح لا يجتمع مع ملك
اليمين وظاهر المذهب أن الموصى له إنما يملك بالقبول فحينئذ ينفسخ النكاح، وفيه وجه آخر أنه إذا
قبل تبينا أن الملك كان ثابتا من حين موت الموصي فتبين حينئذ ان النكاح انفسخ من حين موت
الموصي، وان أتت بولد لم تخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن تكون حاملا به حين الوصية
ويعلم ذلك بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر منذ أوصى. فالصحيح أنه يكون موصى له معها لأن للحمل
حكما، ولهذا تصح الوصية به، وإذا صحت الوصية به منفردا صحت الوصية به مع أمه فيصير كما لو كان
منفصلا فأوصى بهما جميعا وفيه وجه آخر لا حكم للحمل فلا يدخل في الوصية وإنما ثبت له الحكم عند انفصاله كأنه
حدث حينئذ فعلى هذا ان انفصل في حياة الموصي فهو له كسائر كسبها، وإن انفصل بعد موته وقبل القبول
فهو للورثة على ظاهر المذهب وإن انفصل بعده فهو للموصى له
(الحال الثاني) أن تحمل به بعد الوصية في حياة الموصي ويعلم ذلك بأن تضعه بعد ستة أشهر من
حين أوصى لأنها ولدته لمدة الحمل بعد الوصية فيحتمل انها حملته بعدها فلم يتناوله والأصل عدم الحمل
حال الوصية فلا ثبته بالشك فيكون مملوكا للموصي ان ولدته في حياته وان ولدته بعده وقلنا للحمل حكم
فكذلك وإن قلنا لا حكم له فهو للورثة إن ولدته قبل القبول ولا بينة إن وضعته بعده وكل موضع كان
الولد للموصى له فإنه يعتق عليه لأنه ابنه وعليه ولاء لأبيه لأنه عتق عليه بالقرابة وأمه أمة ينفسخ
نكاحها بالملك ولا نصير أم ولد لأنها لم تعلق منه بحر في ملكه
434

(الحال الثالث) أن تحمل بعد موت الموصي وقبل القبول ويعلم ذلك بأن تضعه لأكثر من ستة
أشهر من حين الموت فإن وضعته قبل القبول أيضا فهو للوارث في ظاهر المذهب لأن الملك إنما ثبت
للموصي له بعد القبول وعلى الوجه الآخر يكون للموصى له وان وضعته بعد القبول فكذلك
لأن الظاهر أن للحمل حكما فيكون حادثا عن ملك الوارث وعلى الوجه الآخر يكون للموصى له فعلى هذا
يكون حرا لا ولاء عليه لأنها أم ولد لكونها علقت منه بحر في ملكه فتصير كما لو حملت به بعد القبول
ومذهب الشافعي في هذا الفصل قريب مما قلناه، وقال أبو حنيفة إذا وضعته بعد موت الموصي دخل
في الوصية بكل حال لأنها تستقر بالموت وتلزم فوجب أن تسري إلى الولد كالاستيلاد
ولنا أنها زيادة منفصلة حادثة بعد عقد الوصية فلا تدخل فيها كالكسب وإذا أوصى بعتق جارية
فولدت، وتفارق الاستيلاد لأن له تغليبا وسراية وهذا التفريع فيما إذا خرجت الجارية من الثلث وإن
لم تخرج من الثلث ملك منها بقدر الثلث وانفسخ النكاح لأن ملك بعضها يفسخ النكاح كملك جميعها
وكل موضع يكون الولد فيه لابنه فإنه يكون له منه ههنا بقدر ما ملك من أمه ويسري العتق إلى باقيه
إن كان موسرا وإن كان معسرا فقد عتق منه ما ملك وحده وكل موضع قلنا تكون أم ولد فإنها تصير
أم ولد ههنا سواء كان موسرا أو معسرا على قول الخرقي كما إذا استولد الأمة المشتركة، قال القاضي
تصير منها أم ولد بقدر ما ملك منها وهذا مذهب الشافعي والله أعلم
{مسألة} قال (فإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية)
هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الزهري وحماد بن أبي سليمان
435

وربيعة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الحسن تكون لولد الموصى له، وقال عطاء إذا علم
الموصي بموت الموصى له ولم يحدث فيما أوصى به شيئا فهو لوارث الموصى له لأنه مات قبل عقد الوصية
فيقوم الوارث مقامه كما لو مات بعد موت الموصي وقبل القبول
ولنا أنها عطية صادقت المعطي ميتا فلم تصح كما لو وهب ميتا وذلك لأن الوصية عطية بعد الموت
وإذا مات قبل القبول بطلت الوصية أيضا، وإن سلمنا صحتها فإن العطية صادقت حيا بخلاف مسئلتنا
(فصل) ولا تصح الوصية لميت وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك إن علم أنه ميت فهي
جائزة وهي لورثته بعد قضاء ديونه وتنفيذ وصاياه لأن الغرض نفعه بها وبهذا يحصل له النفع
فأشبه ما لو كان حيا
ولنا أنه أوصى لمن لا تصح الوصية له إذا لم يعلم حاله فلم تصح إذا علم حاله كالبهيمة وفارق الحي
فإن الوصية تصح له في الحالين، ولأنه عقد يفتقر إلى القبول فلم يصح للميت كالهبة. إذا ثبت هذا
فإذا أوصي بثلثه أو بمائة لاثنين حي وميت فلاحي نصف الوصية سواء علم موت الميت أو جهله وهذا
قول أبي حنيفة وإسحاق والبصريين. وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد: إذا قال هذه المائة لفلان وفلان
فهي للحي منهما، وإن قال بين فلان وفلان فوافقنا الثوري في أن نصفها للحي وعن الشافعي كالمذهبين،
وقال أبو الخطاب عندي انه إذا علمه ميتا فالجميع للحي، وإن لم يعلمه ميتا فللحي النصف. وقد نقل عن أحمد
ما يدل على هذا القول فإنه قال في رواية ابن القاسم إذا أوصى لفلان وفلان بمائه فبان أحدهما ميتا
فللحي خمسون فقيل له أليس إذا قال ثلثي لفلان وللحائط أن الثلث كله لفلان؟ فقال وأي شئ يشبه
هذا الحائط له ملك؟ فعلى هذا إذا شرك بين من تصح الوصية له ومن لا نصح مثل أن يوصي
436

لفلان وللملك وللحائط أو لفلان الميت فالموصى به كله لمن تصح الوصية له إذا كان عالما بالحال لأنه
إذا شرك بينهما في هذا الحال علم أنه قصد بالوصية كلها من تصح الوصية له، وان لم يعلم الحال فلمن تصح الوصية له
نصفها لأنه قصد ايصال نصفها إليه وإلى الآخر النصف الآخر ظنا منه أن الوصية له صحيحة، فإذا بطلت الوصية في
حق أحدهما صحت في حق الآخر بقسطه كتفريق الصفقة، ووجه القول الأول أنه جعل الوصية لاثنين
فلم يستحق أحدهما جميعها كما لو كانا ممن تصح الوصية لهما فمات أحدهما، أو كما لو لم يعمل الحال، فأما
ان وصى لاثنين حيين فمات أحدهما فللآخر نصف الوصية لا نعلم في هذا خلافا، وكذلك لو بطلت
الوصية في حق أحدهما لرده لها أو لخروجه عن أن يكون من أهلها ولو قال أوصيت لكل واحد من
فلان وفلان بنصف الثلث أو بنصف المائة أو بخمسين لم يستحق أحدهما أكثر من نصف الوصية سواء كان
شريكه حيا أو ميتا لأنه عين وصيته في النصف فلم يكن له حق فيما سواه
{مسألة} قال (وان رد الموصى له الوصية بعد موت الموصي بطلت الوصية)
لا يخلوا إذا رد الوصية من أربعة أحوال (أحدها) أن يردها قبل موت الموصي فلا يصح الرد ههنا
لأن الوصية لم تقع بعد فأشبه رد المبيع قبل إيجاب البيع ولأنه ليس بمحل للقبول فلا يكون محلا للرد
كما قبل الوصية (والثانية) أن يردها بعد الموت وقبل القبول فيصح الرد وتبطل الوصية لا نعلم فيه خلافا
لأنه أسقط حقه في حال يملك قبوله وأخذه فأشبه عفو الشفيع عن الشفعة بعد البيع (الثالثة) أن يرد
بعد القبول والقبض فلا يصح الرد لأن ملكه قد استقر عليه فأشبه رده لسائر ملكه الا أن يرضى الورثة
437

بذلك فتكون هبة منه لهم تفتقر إلى شروط الهبة (الرابعة) أن يرد بعد القبول وقبل القبض فينظر فإن
كان الموصى به مكيلا أو موزونا صح الرد لأنه لا يستقر ملكه عليه قبل قبضه فأشبه رده قبل القبول
وإن كان غير ذلك لم يصح الرد لأن ملكه قد استقر عليه فهو كالمقبوض، ويحتمل أن يصح الرد
ولا فرق بين المكيل والموزون وغيرهما وهذا المنصوص عن الشافعي لأنهم لما ملكوا الرد من غير
قبول ملكوا الرد من غير قبض ولان ملك الوصي لم يستقر عليه قبل القبض فصح رده كما قبل القبول
(والثاني) لا يصح الرد لأن الملك يحصل بالقبول من غير قبض.
(فصل) وكل موضع صح الرد فيه فإن الوصية تبطل بالرد وترجع إلى التركة فتكون للوارث
جميعهم لأن الأصل ثبوت الحكم لهم وإنما خرج بالوصية فإذا بطلت الوصية رجع إلى ما كان عليه
كأن الوصية لم توجد ولو عين بالرد واحدا وقصد تخصيصه بالمردود لم يكن له ذلك وكان لجميعهم
لأن رده امتناع من تملكه فيبقى على ما كان عليه ولان لم يملك دفعه إلى أجنبي فلم يملك دفعه إلى وارث
يخصه به وكل موضع امتنع الرد لاستقرار ملكه عليه فله ان يختص به واحدا من الورثة لأنه ابتداء هبة
ويملك أن يدفعه إلى أجنبي فملك دفعه إلى وارث فلو قال رددت هذه الوصية لفلان قيل له ما أردت
بقولك فلان؟ فإن أردت تمليكه إياها وتخصيصه بها فقبلها اختص بها وان قال أردت ردها إلى جميعهم
ليرضي فلان عادت إلى جميعهم إذا قبلوها فإن قبلها بعضهم دون بعض فلمن قبل حصته منها.
(فصل) ويحصل الرد بقوله رددت الوصية وقوله لا أقبلها وما أدى هذا المعنى قال أحمد إذا قال
438

أوصيت لرجل بألف فقال لا أقبلها فهي لورثته يعني لورثة الموصي
{مسألة} قال (فإن مات قبل أن يقبل أو يرد قام وارثه في ذلك مقامه إذا كان
موته بعد موت الموصي)
اختلف أصحابنا فيما إذا مات الموصى له قبل القبول والرد بعد موت الموصي، فذهب الخرقي إلى
أن وارثه يقوم مقامه في القبول والرد لأنه حق ثبت للموروث فثبت للوارث بعد موته لقوله عليه السلام
" من ترك حقه فلورثته " وكخيار الرد بالعيب وذهب أبو عبد الله بن حامد إلي أن الوصية تبطل لأنه
عقد يفتقر إلى القبول، فإذا مات من له القبول قبله بطل العقد كالهبة قال القاضي هو قياس المذهب لأنه
خيار لا يعتاض عنه فبطل بالموت كخيار المجلس والشرط وخيار الاخذ بالشفعة، وقال أصحاب
الرأي تلزم الوصية في حق الوارث وتدخل في ملكه حكما بغير قبول لأن الوصية قد لزمت من جهة
الموصي وإنما الخيار للموصى له وإذا مات بطل خياره ودخل في ملكه كما لو اشترى شيئا على أن
الخيار له فمات قبل انقضائه.
ولنا على أن الوصية لا تبطل بموت الموصى له انها عقد لازم من أحد الطرفين فلم تبطل بموت من
له الخيار كعقد الرهن والبيع إذا شرط فيه الخيار لأحدهما، ولأنه عقد لا يبطل بموت الموجب له فلا
يبطل بموت الآخر كالذي ذكرنا، ويفارق الهبة والبيع قبل القبول من الوجهين الذين ذكرناهما وهو
انه جائز من الطرفين ويبطل بموت الموجب له ولا يصح قياسه على خيارات لأنه لم يبطل الخيار ويلزم
العقد فنظيره في مسألتنا قول أصحاب الرأي
439

ولنا على إبطال قولهم انه عقد يفتقر إلى قبول المتملك فلم يلزم قبل القبول كالبيع والهبة. إذا
ثبت هذا فإن الوارث يقوم مقام الموصى له في القبول والرد لأن كل حق مات عنه المستحق فلم يبطل
بالموت قام الوارث فيه مقامه. فعلى هذا إن رد الوارث الوصية بطلت وإن قبلها صحت وثبت
الملك بها وإن كان الوارث جماعة اعتبر القبول أو الرد من جميعهم، فإن رد بعضهم وقبل بعض ثبت
للقابل حصته وبطلت الوصية في حق من رد. فإن كان فيهم من ليس من أهل التصرف قام وليه مقامه
في القبول والرد وليس له أن يفعل إلا ما للمولى عليه الحظ فيه فإن فعل غيره لم يصح فإذا كان الحظ في
قبولها فردها لم يصح رده وكان له قبولها بعد ذلك، وإن كان الحظ في ردها فقبلها لم يصح قبوله لأن
الولي لا يملك التصرف في حق المولى عليه بغير ماله الحظ فيه، فلو أوصى لصبي بذي رحم له يعتق
بملكه له وكان على الصبي ضرر في ذلك بأن تلزمه نفقة الموصى به لكونه فقيرا لا كسب له والمولى عليه
موسر لم يكن له قبول الوصية وان لم يكن عليه ضرر لكون لا موصى به ذا كسب أو كون المولى عليه
فقيرا لا تلزمه نفقته نعين قبول الوصية لأن في ذلك نفعا للمولى عليه لعتق قرابته وتحريره من غير ضرر
يعود عليه فتعين ذلك والله أعلم
(فصل) ولا يملك الموصى له الوصية إلا بالقبول في قول جمهور الفقهاء إذا كانت لمعين يمكن
القبول منه لأنها تمليك مال لمن هو من أهل الملك متعين فاعتبر قبوله كالهبة والبيع، قال أحمد: الهبة
والوصية واحد، فأما ان كانت لغير معين كالفقراء والمساكين ومن لا يملك حصرهم كبني هاشم وتميم
440

أو على مصلحة كمسجد أو حج لم يفتقر إلى قبول ولزمت بمجرد الموت لأن اعتبار القبول من جميعهم
متعذر فيسقط اعتباره كالوقف عليهم ولا يتعين واحد منهم فكيتفى بقبوله، ولذلك لو كان فيهم ذو
رحم من الموصى به مثل أن يوصي بعبد للفقراء وأبوه فقير لم يعتق عليه ولان الملك لا يثبت للموصى
لهم بدليل ما ذكرنا من المسألة وإنما ثبت لكل واحد منهم بالقبض فيقوم قبضه مقام قبوله، أما الآدمي
المعين فيثبت له الملك فيعتبر قبوله لكن لا يتعين القبول باللفظ بل يجزئ ما قام مقامه من الاخذ والفعل
الدال على الرضا كقولنا في الهبة والبيع، ويجوز القبول على الفور والتراخي ولا يكون الا بعد موت
الموصي لأنه قبل ذلك لم يثبت له حق ولذلك لم يصح رده فإذا قبل ثبت الملك له من حين القبول
في الصحيح من المذهب وهو قول مالك وأهل العراق وروي عن الشافعي
وذكر أبو الخطاب في المسألة وجها آخر انه إذا قبل تبينا ان الملك يثبت حين موت الموصي وهو
ظاهر
ظاهر مذهب الشافعي لأن ما وجب انتقاله بالقبول وجب انتقاله من جهة الموجب عند الايجاب كالهبة
والبيع ولأنه لا يجوز أن يثبت الملك فيه للوارث لأن الله تعالى قال (من بعد وصية يوصي بها أو دين)
ولان الإرث بعد الوصية ولا يبقى للميت لأنه صار جمادا لا يملك شيئا، وللشافعي قول ثالث غير
مشهور: ان الوصية تملك بالموت ويحكم بذلك قبل القبول لما ذكرنا
ولنا انه تملك عين لمعين يفتقر إلى القبول فلم يسبق الملك القبول كسائر العقود ولان القبول من
تمام السبب والحكم لا يتقدم سببه ولان القبول لا يخلو من أن يكون شرطا أو جزءا من السبب والحكم
لا يتقدم سببه ولا شرطه، ولان الملك في الماضي لا يجوز تعليقه بشرط مستقبل، فإن قيل: فلو قال
لامرأته أنت طالق قبل موتي بشهر ثم مات تبينا وقوع الطلاق قبل موته بشهر، قلنا ليس هذا شرطا في وقوع
الطلاق، وإنما تبين به الوقت الذي يقع فيه الطلاق، ولو قال: إذا مت فأنت طالق قبله بشهر لم يصح،
441

وأما انتقاله من جهة الموجب في سائر العقود فإنه لا ينتقل الا بعد القبول فهو كمسئلتنا غير أن
ما بين الايجاب والقبول ثم يسير لا يظهر له أثر بخلاف مسئلتنا. قولهم: ان الملك لا يثبت للوارث
ممنوع، فإن الملك ينتقل إلى الوارث بحكم الأصل إلا أن يمنع منه مانع، وقول الله تعالى (من بعد
وصية يوصي بها أو دين) فلنا المراد به وصية مقبولة بدليل انه لو لم يقبل لكان ملكا للوارث
وقبل قبولها فليست مقبولة ويحتمل أن يكون المراد بقوله (فلكم الربع من بعد وصية) اي لكم ذلك
مستقر فلا يمنع هذا ثبوت الملك غير مستقر ولهذا لا يمنع الدين ثبوت الملك في التركة وهو آكد من
الوصية وان سلمنا ان الملك لا يثبت للوارث فإنه يبقى ملكا للميت كما إذا كان عليه دين وقولهم
لا يبقى له ملك ممنوع فإنه يبقى ملكه فيما يحتاج إليه من مؤنة تجهيزه ودفنه وقضاء ديونه ويجوز ان
يتجدد له ملك في ديونه إذا قبل وفيما إذا نصب شبكة فوقع فيها صيد بعد موته بحيث تقضى ديونه
وتنفذ وصاياه ويجهز إن كان قتل تجهيزه فهذا يبقى على ملكه لتعذر انتقاله إلى الوارث من أجل الوصية
وامتناع انتقاله إلى الوصي قبل تمام السبب فإن رد الموصى له أو قبل انتقل حينئذ فإن قلنا بالأول وانه
ينتقل إلى الوارث فإنه يثبت له لمالك على وجه لا يفيد إباحة التصرف كثبوته في العين المرهونة فلو
باع الموصى به أو رهنه أو أعتقه أو تصرف بغير ذلك لم ينفذ شئ من تصرفاته ولو كان الوارث ابنا للموصى
به مثل ان تملك امرأة زوجها الذي لها منه ابن فتوصي به لأجنبي فإذا ماتت انتقل الملك فيه إلى ابنه
إلى حين القبول ولا يعتق عليه والله أعلم
442

(فصل فيما يختلف من الفروع باختلاف المذهبين)
(من ذلك) انه إذا حدث للموصى به نماء منفصل بعد موت الموصي وقبل كالتمرة والنتاج والكسب
فهو للورثة وعلى الوجه الآخر يكون للموصى له ولو أوصى بأنه لزوجها فأولدها بعد موت الموصي وقبل
القبول فولده رقيق للوارث وعلى الوجه الآخر يكون حر الأصل ولا ولاء عليه وأمه أم ولد لأنها علقت
منه بحر في ملكه وان مات الموصى له قبل القبول والرد فلوارثه قبولها فإن قبلها ملك الجارية وولدها
وإن كان ممن يعتق الوالد عليه عتق ولم يرث من ابنه شيئا وعلى الوجه الآخر تكون الجارية أم ولد
ويرث الولد أباه فإن كان يحجب الوارث القابل حجبه، وقال أكثر أصحاب الشافعي لا يرث الولد
ههنا شيئا لأن توريثه يمنع كون القابل وارثا فيبطل قبوله فيفضي إلى الدور والى ابطال ميراثه فأشبه
ما لو أقر الوارث بمن يحجبه عن الميراث وقد ذكرنا في الاقرار ما يدفع هذا وان المقر به يرث فكذا
ههنا ويعتبر قبول من هو وارث في حال اعتبار القول كما يعتبر في الاقرار اقرار من هو وارث
حال الاقرار والله أعلم
(ومن ذلك) لو أوصي لرجل بأبيه فمات الموصى له قبل القبول فقبل ابنه صح وعتق عليه الجد ولم
يرث من ابنه شيئا لأن حريته إنما حدثت حين القبول بعد أن صار الميراث لغيره وعلى الوجه الآخر
نثبت حريته من حين موت الموصي ويرث من ابنه السدس، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يرث
أيضا لأنه لو ورث لا اعتبر قبوله ولا يجوز اعتبار قبوله قبل الحكم بحريته وإذا لم يجز اعتباره لم يعتق
443

فيؤدي توريثه إلى إبطال توريثه وهذا فاسد فإنه لو أقر جميع الورثة بمشارك لهم في الميراث ثبت نسبه
وورث مع أنه يخرج المقرون به عن كونهم جميع الورثة (ومن ذلك) انه لو مات الموصى له فقبل وارثه
لثبت الملك للوارث القابل ابتداء من جهة الموصي لا من جهة موروثه ولم يثبت للموصى له شئ فحينئذ لا تقضى
ديونه ولا تنفذ وصاياه ولا يعتق من يعتق عليه وإن كان فيهم من يعتق على الوارث عتق عليه وكان
ولاؤه له دون الموصى له، وعلى الوجه الاخر يتبين ان الملك كان ثابتا للموصى له وانه انتقل منه إلى
وارثه فتنعكس هذه الأحكام فتقضى ديونه وتنفذ وصاياه ويعتق من يعتق عليه وله ولاؤه يختص به
الذكور من ورثته (ومن ذلك) ان الموصى به لو كان أمة فوطئها الوارث فأولدها صارت أم ولد له وولدها
حر لأنه وطئها في ملكه وعليه قيمتها للموصى له إذا قبلها، فإن قيل كيف قضيتم بعتقها ههنا وهي
لا تعتق باعتاقها؟ قلنا الاستيلاد أقوى ولذلك يصح من المجنون والراهن والأب والشريك المعسر وان لم
ينفذ اعتاقهم، وعلى الوجه الاخر يكون ولده رقيقا والأمة باقية على الرق، وان وطئها الموصى له قيل
قبولها كان ذلك قبولا لها وثبت الملك له به لأنه لا يجوز الا في الملك فاقدامه عليه دليل على اختياره
الملك فأشبه ما لو وطئ من له الرجعة الرجعية أو وطئ من له الخيار في البيع الأمة المبيعة أو وطئ
من له خيار فسخ النكاح امرأته
(فصل) وتصح الوصية مطلقة ومقيدة فالمطلقة أن يقول إن مت فثلثي للمساكين أو لزيد،
والمقيدة أن يقول: إن مت من مرضي هذا أو في هذه البلدة أو في سفري هذا فثلثي للمساكين فإن
برأ من مرضه أو قدم من سفره أو خرج من البلدة ثم مات بطلت الوصية المقيدة وبقيت المطلقة. قال
444

احمد فيمن وصى وصية ان مات من مرضه هذا أو من سفره هذا ولم يغير وصيته ثم مات بعد ذلك
فليس له وصية، وبهذا قال الحسن والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال مالك ان
قال قولا ولم يكتب كتابا فهو كذلك، وان كتب كتابا ثم صح من مرضه وأقر الكتاب
فوصيته بحالها ما لم ينقضها
ولنا أنها وصية بشرط لم يوجد شرطها فبطلت كما لو لم يكتب كتابا أو كما لو وصى لقوم فماتوا
قبله ولأنه قيد وصيته بقيد فلا يتعداه كما ذكرنا، وان قال لاحد عبديه أنت حر بعد موتي، وقال
للآخر أنت حر ان مت في مرضي هذا فمات في مرضي فالعبد ان سواء في التدبير، وان برأ من مرضه ذلك بطل تدبير المقيد وبقي تدبير المطلق بحاله، ولو وصى لرجل بثلثه وقال إن مت قبلي فهو لعمرو صحت
وصيته على حسب ما شرطه له وكذلك في سائر الشروط فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلمون على شروطهم "
{مسألة} قال (وإذا أوصى له بسهم من ماله أعطي السدس وعن أبي عبد الله رحمه
الله رواية أخرى يعطى سهما مما تصح منه الفريضة)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيما أوصي بسهم فروي عنه ان للموصى له السدس وروي
مالك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وبه قال الحسن وإياس بن معاوية والثوري، والرواية
الثانية أنه يعطى سهما مما تصح منه الفريضة فينظر كم سهما صحت منه الفريضة ويزاد عليها مثل سهم
من سهامها للموصى له وهذا قول شريح قال ترفع السهام فيكون للموصى له سهم قال القاضي هذا ما لم يزد
445

على السدس فإن زاد السهم على السدس فله السدس لأنه متحقق. وجه ذلك أن قوله سهما ينبغي أن
ينصرف إلى سهام فريضته لأن وصيته منها فينصرف السهم إليها فكان واحدا من سهامها كما لو قال:
فريضتي كذا وكذا سهما لك منها سهم، وقال الخلال وصاحبه أقل سهما من سهام الورثة لأن احمد
قال في رواية أبي طالب والأثرم إذا أوصى له بسهم من ماله يعطى سهما من الفريضة قيل له نصيب
رجل أو نصيب امرأة؟ قال أقل ما يكون من السهام قال القاضي ما لم يزد على السدس وهذا قول أبي حنيفة
وقال صاحباه الا أن يزيد على الثلث فيكون له الثلث. ووجه هذا القول أن سهام الورثة أنصباؤهم فيكون
له أقلها لأنه اليقين فإن زاد على السدس دفع إليه السدس لأنه أقل سهم يرثه ذو قرابة، وقال أبو ثور
يعطى سهما من أربعة وعشرين لأنها أكثر أصول الفرائض فالسهم منها أقل السهام، وقال الشافعي
وابن المنذر يعطيه الورثة ما شاء ولان ذلك يقع عليه اسم السهم فأشبه ما لو أوصى له بجزء أو حظ،
وقال عطاء وعكرمة لا شئ له
ولنا ما روى ابن مسعود أن رجلا أوصى لرجل بسهم من المال فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السدس ولان
السهم في كلام العرب السدس قال اياس بن معاوية السهم في كلام العرب السدس فتنصرف الوصية
إليه كما لو لفظ به ولأنه قول علي وابن مسعود ولا مخالف لهما في الصحابة ولان السدس أقل سهم
مفروض يرثه ذو قرابة فتنصرف الوصية إليه. إذا ثبت هذا فإن السدس الذي يستحقه الموصى له يكون
بمنزلة سدس مفروض فإن كانت المسألة كاملة الفروض أعيلت به، وان كانت عائلة زاد عولها به، وان
446

كان فيها رد أو كانوا عصبة أعطي سدسا كاملا قال احمد في رواية ابن منصور وحرب إذا أوصى الرجل
بسهم من ماله يعطى السدس الا أن تعول الفريضة فيعطى سهما مع العول فكان معنى الوصية أوصيت
لك بسهم من يرث السدس فلو أوصى له بسهم في مسألة فيها زوج وأخت كان له السبع كما لو كان معهما
جدة على الروايات الثلاث، وكذلك لو كان في المسألة أم وثلاث أخوات متفرقات فإن كان معهم زوج
فالمسألة من تسعة وللموصى له العشر على الروايات الثلاث، وإن كان الورثة ثلاث أخوات متفرقات
فالموصى له السدس على الروايات الثلاث وان كانوا زوجا وأبوين وابنين فالمسألة من خمسة عشرة
وتعول بسدس آخر فتصير من سبعة عشر، وكذلك على قول الخلال لأن أقل سهام الورثة سدس،
وعلى الرواية الأخرى يكون للوصي سهم واحد يزاد على خمسة عشر فتصير ستة عشر وان كانوا
زوجة وأبوين وابنا فالفريضة من أربعة وعشرين وتعول بالسدس الموصى به إلى ثمانية وعشرين
وعلى الرواية الثانية يزاد عليها سهم واحد للموصى له فتكون من خمسة وعشرين وعلى قول الخلال
يزاد عليها مثل سهم الزوجة فتكون من سبعة وعشرين، وان كانوا خمسة بنين فللوصي السدس كاملا
وتصح من ستة على الروايات الثلاث فإن كان معهم زوجة صحت الفريضة من أربعين فنزيد عليها
سهما للوصي على إحدى الروايات تصير أحدا وأربعين وعلى قول الخلال نزيد مثل نصيب الزوجة
فتصير خمسة وأربعين وعلى الرواية الأولى نزيد عليها مثل سدسها ولا سدس لها فنضربها في ستة ثم
نزيد عليها سدسها تكن مائتين وثمانين للوصي أربعون وللزوجة ثلاثون ولكل ابن اثنان وأربعون
ولو خلف أبوين وابنين وأوصى لرجل بسدس ماله ولآخر بسهم جعلت ذا السهم كالأم وأعطيت
صاحب السدس سدسا كاملا وقسمت الباقي بين الورثة والموصى له على سبعة فتصح من اثنين وأربعين
447

لصاحب السدس سبعة ولصاحب السهم خمسة على الروايات الثلاث، ويحتمل ان يعطى ذو السهم
السبع كاملا كأنه أوصى له من غير وصية أخرى فيكون له ستة ويبقى تسعة وعشرون على سنة وعشرون على سنة لا تنقسم
فنضربها في اثنين وأربعين تكن مائتين واثنين وخمسين
(فصل) وإن أوصى بجزء أو حظ أو نصيب أو شئ من ماله أعطاه الورثة ما شاء ولا أعلم فيه خلافا
وبه قال أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر وغيرهم لأن كل شئ جزء ونصيب وحظ وشئ وكذلك
ان قال أعطوا فلانا من مالي أو ارزقوه لأن ذلك لاحد له في اللغة ولا في شرع فكان على اطلاقه
{مسألة} قال (وإذا أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه كان له مثل مالا قلهم
نصيبا كأن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته وهم ابن وأربع زوجات فتكون صحيحة من
اثنين وثلاثين سهما للزوجات الثمن وهو أربعة وما بقي فللابن فزد في سهام الفريضة مثل
حظ امرأة من نسائه فتصير الفريضة من ثلاثة وثلاثين سهما للموصى له سهم ولكل امرأة
سهم وما بقي فللابن)
وجملة ذلك أنه إذا أوصى بمثل نصيب أحد ورثته غير مسمى فإن كان الورثة يتساوون في
الميراث كالبنين فله مثل نصيب أحدهم مزادا على الفريضة ويجعل كواحد منهم زاد فيهم، وان كانوا
يتفاضلون كمسألة الخرقي فله مثل نصيب أقلهم ميراثا يزاد على فريضتهم وان أوصى بنصيب وارث
448

معين فله مثل نصيبه مزادا على الفريضة وهذا قول الجمهور وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك
وابن أبي ليلى وزفر وداود يعطى مثل نصيب المعين أو مثل نصيب أحدهم إذا كانوا يتساوون من
أصل المال غير مزيد ويقسم الباقي بين الورثة لأن نصيب الوراث قبل الوصية من أصل المال فلو أوصى
بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد فالوصية بجميع المال وإن كان له ابنان فالوصية بالنصف وان كانوا ثلاثة
فالوصية بالثلث، وقال مالك ان كانوا يتفاضلون نظر إلى عددهم فاعطي سهما من عددهم لأنه لا يمكن
اعتبار أنصبائهم لتفاضلهم فاعتبر عدد رؤوسهم
ولنا أنه جعل وارثه أصلا وقاعدة حمل عليه نصيب الموصى له وجعله مثلا له وهذا يقتضي أن
لا يزاد أحدهما على صاحبه، ومتى أعطى من أصل المال فما أعطى مثل نصيبه ولا حصلت له التسوية والعبارة
تقتضي التسوية وأنما جعل له مثل أقلهم نصيبا لأنه اليقين وما زاد فمشكوك فيه فلا يثبت مع الشك وقوله
يعطى سهما من عددهم خلاف ما يقتضيه لفظ الموصي فإن هذا ليس بنصيب لاحد ورثته ولفظه إنما
اقتضى نصيب أحدهم وتفاضلهم لا يمنع كون نصيب الأقل نصيب أحدهم فيصرفه إلى الوصي لقول
الموصي وعملا بمقتضى وصيته وذلك أولى من اختراع شئ لا يقتضيه قول الموصي أصلا، وقوله تعذر
العمل بقول الموصي غير صحيح فإنه أمكن العمل به بما قلناه ثم لو تعذر العمل به لما جاز أن يوجب
في مال حقا لم يأذن فيه ولم يأمر به، وقد مثل الخرقي في هذه المسألة بما أغني عن تمثيلها ولو قال أوصيت
بمثل نصيب أقلهم ميراثا كان كما لو أطلق وكان ذلك تأكيدا وإن قال أوصيت بمثل نصيب أكثرهم ميراثا فله ذلك
مضافا إلى المسألة فيكون له في مسألة الخرقي ثمانية وعشرون تضم إلى الفريضة فيكون الجميع ستين سهما
449

(فصل) وإن أوصى بنصيب وارث ففيها وجهان (أحدهما) تصح الوصية ويكون ذلك كالوصية بمثل
نصيبه وهذا قول مالك وأهل المدينة واللؤلؤي وأهل البصرة وابن أبي ليلى وزفر وداود. والوجه
الثاني لا تصح الوصية وهو الذي ذكره القاضي وهو قول أصحاب الشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه لأنه
أوصى بما هو حق للابن فلم يصح كما لو قال بدار ابني. أو بما يأخذه ابني. وجا الأول أنه أمكن تصحيح
وصيته بحمل لفظه على مجازه فصح كما لو طلق بلفظ الكناية أو أعنق وبيان امكان التصحيح أنه أمكن
تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي بمثل نصيب وارثي، ولأنه لو أوصى بجميع ماله
صح وإن تضمن ذلك الوصية بنصيب وراثه كلهم
(فصل) وإن قال أوصيت لك بضعف نصيب ابني فله مثلا نصيبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو
عبيد القاسم بن سلام الضعف المثل واستدل بقول الله تعالى (يضاعف لها العذاب ضعفين) أي مثلين
وقوله (فآتت أكلها ضعفين) أي مثلين وإذا كان الضعفان مثلين فالواحد مثل
ولنا أن الضعف مثلان بدليل قوله تعالى (لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) وقال (فأولئك
لهم جزاء الضعف بما عملوا وقال وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون)
ويروى عن عمر أنه أضعف الزكاة على نصارى بني تغلب فكان يأخذ من المائتين عشرة وقال لحذيفة
وعثمان بن حنيف لعلكما حملتما الأرض مالا تطيق فقال عثمان لو أضعفت عليها لا احتملت قال الأزهري
الضعف المثل فما فوقه. وأما قوله ان الضعفين المثلين فقد روى ابن الأنباري عن هشام بن معاوية
النحوي قال: العرب تتكلم بالضعف مثنى فتقول إن أعطيتني درهما ملك ضعفاه أي مثلاه وافراده
450

لا بأس به الا أن التثنية أحسن يعني أن المفرد والمثنى في هذا بمعنى واحد، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى
ضعف الشئ هو مثله وضعفاه هو مثلاه وثلاثة اضعافه ثلاثة أمثاله وعلى هذا
(فصل) وإن قال أوصيت لك بضعفي نصيب ابني فله مثلا نصيبه، وإن قال ثلاثة أضعافه فله
ثلاثة أمثاله هذا الصحيح عندي وهو قول أبي عبيد، وقال أصحابنا إن أوصى بضعفيه فله ثلاثة أمثاله
وإن وصى بثلاثة أضعافه فله أربعة أمثاله، وعلى هذا كلما زاده ضعفا زاد مرة وهذا قول الشافعي. واحتجوا
بقول أبى عبيدة وقد ذكرناه، وقال أبو ثور ضعفاه أربعة أمثاله وثلاثة أضعافه ستة أمثاله لأنه قد ثبت
أن ضعف الشئ مثلاه فتثنيته مثلا مفرده كسائر الأسماء
ولنا قول الله تعالى (فآتت أكلها ضعفين) قال عكرمة تحمل في كل عام مرتين، وقال عطاء
أثمرت في سنة مثل ثمرة غيرها سنتين ولا خلاف بين المفسرين فيما علمت في تفسير قوله تعالى يضاعف
لها العذاب ضعفين) ان المراد به مرتين، وقد دل عليه قوله تعالى (نؤتها أجرها مرتين) ومحال أن
يجعل أجرها على العمل الصالح مرتين وعذابها على العمل الفاحش ثلاث مرات فإن الله تعالى إنما يريد
تضعيف الحسنات على السيئات وهذا هو المعهود من كرمه وفضله، وأما قول أبي عبيدة فخالفه فيه
غيره وأنكروا قوله. قال ابن عرفة لا أحب قول أبي عبيدة في (يضاعف لها العذاب ضعفين) لأن الله
تعالى قال في آية أخرى (نؤتها أجرها مرتين) فأعلم أن لها من هذا حظين ومن هذا حظين
وقد نقل معاوية بن هشام النحوي عن العرب أنهم ينطقون بالضعف مثنى ومفردا بمعنى واحد
وموافقة العرب على لسانهم مع ما دل عليه كلام الله تعالى العزيز وقول المفسرين من التابعين وغيرهم
451

أولى من قول أبي عبيدة المخالف لذلك كله مع مخالفة القياس، ونسبة الخطأ إليه أولى من تخطئة ما ذكرناه
وأما قول أبي ثور فظاهر الفساد لما فيه من مخالفة الكتاب والعرب وأهل العربية ولا يجوز التمليك بمجرد
القياس المخالف للنقل فقد يشذ من العربية كلمات تؤخذ نقلا بغير قياس والله أعلم
(فصل) وإن وصى بمثل نصيب من لا نصيب له مثل أن يوصي بنصيب ابنه وهو ممن لا يرث
لكونه رقيقا أو مخالفا لدينه أو بنصيب أخيه وهو محجوب عن ميراثه فلا شئ للموصى له لأنه لا نصيب
له فمثله لا شئ له
(فصل) وإن أوصى لرجل بثلث ولآخر بربع بخمس ولآخر بمثل وصية أحدهم فله
الخمس، وإن وصى لرجل بعشرة ولآخر بستة ولآخر بأربعة ولآخر بمثل وصية أحدهم فله أربعة
لأنها اليقين، وإن قال فلان شريكهم فله خمس ما لكل واحد منهم، وإن وصى لأحدهم بمائة ولآخر
بدار ولآخر بعبد ثم قال فلان شريكهم فله نصف ما لكل واحد منهم ذكرها الخبري لأنه ههنا يشارك
كل واحد منهم منفردا والشركة تقتضي التسوية فلهذا كان له النصف بخلاف الأوليين فإنهم كلهم
مشتركون، وقال ابن القاسم له الربع في الجميع
(فصل) ولو أوصى بمثل نصيب وارث لو كان فقدر الوراث موجودا وانظر ما للموصى
له مع وجوده فهو له مع عدمه فإن خلف ابنين وأوصى بمثل نصيب ثالث فللموصى له الربع ولو
وصى بمثل نصيب خامس لو كان فللموصى له السدس وعلى هذا ابدا ولو خلفت زوجا وأوصت
452

بمثل نصيب أم لو كانت فللموصى له الخمس لأن للام الربع لو كانت فيجعل له سهما مضافا إلى أربعة
يكن خمسا فقس على هذا
{مسألة} قال (وإذا خلف ثلاثة بنين وأوصى لآخر بمثل نصيب أحدهم كان للموصى له الربع)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الشعبي والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وعند مالك
وموافقيه للموصى له الثلث والباقي بين الابنين وتصح من تسعة وقد دللنا على فساده ولو خلف ابنا
واحدا وأوصى بمثل نصيبه فللموصى له النصف في حال الإجازة والثلث في حال الرد وعند مالك للموصى
له في حال الإجازة جميع المال
(فصل) فإن خلف بنتا وأوصى بمثل نصيبها فالحكم فيها كالحكم فيما لو كان ابنا عند من برى الرد لأنها
تأخذ المال كله بالفرض والرد، ومن لا يرى الرد يقتضي قوله أن يكون له الثلث ولها نصف الباقي وما
بقي لبيت المال ويقتضي قول مالك ان للموصى له النصف في حال الإجازة ولها نصف الباقي وما بقي لبيت
المال فإن خلف ابنتين وأوصى بمثل نصيب إحداهما فهي من ثلاثة عندنا ويقتضي قول من لا يرى
الرد انها من أربعة لبيت المال الربع ولكل واحد منهم ربعه، ويقتضي قول مالك ان الثلث للموصى
له وللبنتين ثلثا ما بقي والباقي لبيت المال وتصح من تسعة، فإن خلف جدة وحدها وأوصى بمثل نصيبها
فقياس قولنا ان المال بينهما نصفين وقياس قول من لا يرى الرد أنها من سبعة لكل واحد منها السبع والباقي لبيت المال وقياس قول مالك ان للموصى له السدس وللجدة سدس ما بقي والباقي لبيت المال
(فصل) وإذا خلف ثلاثة بنين وأوصى لثلاثة بمثل انصبائهم فالمال بينهم على سنة ان أجازوا
453

وان ردوا فمن تسعة للموصى لهم الثلث ثلاثة والباقي بين البنين على ثلاثة فإن أجازوا لواحد وردوا
على اثنين فللمردود عليهما التسعان اللذان كانا لهما في حال الرد عليهم، وفي المجاز له وجهان أحدهما
له السدس الذي كان له في حال الإجازة للجميع وهذا قول أبي يوسف وابن شريح فيأخذ السدس
والتسعين من مخرجهما وهو ثمانية عشر يبقى أحد عشر بين البنين على ثلاثة لا يصح فيضرب عددهم
في ثمانية عشر تكن أربعة وخمسين للمجاز له السدس تسعة ولكل واحد من صاحبه ستة ولكل ابن
أحد عشر (والوجه الثاني) ان يضم المجاز له إلى البنين ويقسم الباقي بعد التسعين عليهم وهم أربعة لا تنقسم
فتضرب أربعة في تسعة تكن ستة وثلاثين فإن أجاز الورثة بعد ذلك للآخرين أتموا لكل واحد
منهم تمام سدس المال فيصير المال بينهم أسداسا على الوجه الأول وعلى الوجه الآخر يضمون ما حصل
لهم وهو أحد وعشرون من ستة وثلاثين إلى ما حصل لهما وهو ثمانية ويقتسمونه بينهم على خمسة ولا
يصح فتضرب خمسة في ستة وثلاثين تكن مائة وثمانين ومنها تصح، وان أجاز أحد البنين لهم ورد
الآخران عليهم فللمجيز السدس وهو ثلاثة من ثمانية عشر وللذين لم يجيزوا أربعة أتساع ثمانية تبقى سبعة
بين الموصى لهم على ثلاثة اضربها في ثمانية عشر تكن أربعة وخمسين وان أجاز واحد لواحد دفع إليه ثلث ما في
يده من الفضل وهو ثلث سهم من ثمانية عشر فاضربها في ثلاثة تكن أربعة وخمسين والله أعلم
(فصل) وإذا وصى الرجل بجزء مقدر ولآخر بمثل نصيب وارث من ورثته ففيها وجهان
(أحدهما) يعطى الجزء لصاحبه ويقسم الباقي بين الورثة والموصى له كأنه ذلك الوراث ان أجازوا وان
ردوا قسمت الثلث بين الوصيين على حسب ما كان لهما في حال الإجازة واثنتان بين الورثة (والوجه
الثاني) ان يعطى صاحب النصيب مثل نصيب الوارث كأن لا وصية سواها وهذا قول يحبى بن آدم. مثاله
454

رجل أوصى بثلث ماله لرجل ولآخر بمثل نصيب أحد بنيه وهم ثلاثة فعلى الوجه الأول للموصى له
بالثلث الثلث وما بقي بين البنين والوصي على أربعة وتصح من ستة لصاحب الثلث سهمان وللآخر
سهم فإن ردوا فالثلث بين الوصيين على ثلاثة والثلثان بين البنين على ثلاثة وتصح من تسعة وعلى الوجه
الآخر لصاحب الثلث الثلث وللآخر الربع ان أجيز لهما وان رد عليهما قسمت الثلث بينهما على سبعة
والثلثان للورثة، وتصح من ثلاثة وستين، وإن كان الجزء يزيد على الثلث مثل ان أوصى لرجل بالنصف
ولآخر بمثل نصيب أحد بنيه ففيها وجه ثالث وهو أن يجعل لصاحب النصيب نصيبه من الثلثين
وهو ربعه لأن الثلثين حق الورثة لا يؤخذ منها شئ إلا بإجازتهم ورضاهم فيكون صاحب النصيب
كواحد منهم لا ننقص من السدس شيئا إلا بإجازته، فعلى الوجه الأول لصاحب الجزء النصف
والباقي بين الآخر والبنين على أربعة، وتصح من ثمانية إن أجازوا. وان ردوا قسمت الثلث بين
الوصيين على خمسة والثلثين بين البنين على ثلاثة، وتصح من خمسة وأربعين. وعلى الوجه الثاني لصاحب
النصف النصف وللآخر الربع ويبقى الربع بين البنين، وتصح من اثني عشر وان ردوا فالثلث بين
الوصيين على ثلاثة وتصح من تسعة، وعلى الوجه الثالث لصاحب النصف النصف وللآخر السدس
ويبقى الثلث بين البنين على ثلاثة وتصح من ثمانية عشر، وان ردوا فالثلث بين الوصيين على أربعة
وتصح من ستة وثلاثين، وان أوصى لصاحب الجزء بالثلثين فعلى الوجه الأول لصاحب النصف
ربع الثلث سهم من اثنى عشر إن أجازوا وان ردوا قسمت الثلث بين الوصيين على تسعة وعلى الوجه
الثاني يكون له الربع في حال الإجازة وفي حال الرد بكون الثلث بين الوصيين على أحد عشر، وعلى
الوجه الثالث يكون له السدس في الإجازة وفي الرد يكون الثلث بين الوصيين على خمسة، وإن أوصى
455

لرجل بجميع ماله ولآخر بمثل نصيب أحد ورثته فعلى الوجه الأول لا يصح للوصي الآخر شئ في
إجازة ولا رد وعلى الثاني يقسم الوصيان المال بينهما على خمسة في الإجازة والثلث على خمسة في الرد
وعلى الثالث يقتسمان المال على سبعة في الإجازة والثلث على سبعة في الرد
(فصل) وان أوصي لرجل بمثل نصيب وارث ولآخر بجزء مما بقي من المال ففيها أيضا ثلاثة
أوجه (أحدها) أن يعطى صاحب النصف مثل نصيب الوارث إذا لم يكن ثم وصية أخرى (والثاني) أن
يعطى مثل نصيبه من ثلثي المال (والثالث) أن يعطى مثل نصيبه بعد أخذ صاحب الجزء وصيته وعلى
هذا الوجه يدخلها الدور وعليه التفريع: ومثاله رجل خلف ثلاثة بنين وصى بمثل نصيب أحدهم ولآخر
بنصف في المال فعلى الوجه الأول لصاحب النصف الربع وللآخر نصف الباقي وما بقي للبنين وتصح
من ثانية وعلي الثاني له السدس وللآخر نصف الباقي وتصح من ستة وثلاثين ولا تفريع على هذين
الوجهين لوضوحهما، وأما على الثالث فيدخلها الدور ولعملها طرق (أحدها) أن تأخذ مخرج النصف
فسقط منه سهما يبقى سهم فهو النصيب ثم تزيد على عدد البنين واحدا تصير أربعة فتضربها في المخرج
تكن ثمانية تنقصها سهما يبقى سبعة فهي المال، للموصى له بالنصيب سهم وللآخر نصف الباقي وهو
ورثة ولكل ابن سهم (طريق آخر) أن تزيد على سهام البنين نصف سهم وتضربها في المخرج تكن سبعة
(طرق ثالث) ويسمى المكرس أن تأخذ سهام البنين وهي ثلاثة فتقول هي بقية مال ذهب نصفه فإذا
أردت تكميله فزد عليه مثله ثم زد عليها مثل سهم ابن تكن سبعة (طريق رابع) أن تجعل المال سهمين
ونصيبا وتدفع النصيب إلى صاحبه والى الآخر سهما يبقى سهم للبنين يعدل ثلث فالمال كله سبعة.
456

وبالجبر تأخذ مالا فتلقي منه نصيبا يبقى مال إلا نصيبا وتدفع نصف الباقي الوصي الآخر يبقى نصف
مال الا نصف نصيب يعدل ثلاثة أنصباء فاجبره بنصف نصيب وزده على الثلاثة يبقى نصفا كاملا
يعدل ثلاثة ونصفا فالمال كله سبعة
(فصل) فإن كانت الوصية الثانية بنصف ما يبقى من الثلث أخذت مخرج النصف والثلث وهو
ستة نقصت منها واحدا يبقى خمسة فهي النصيب ثم تزيد واحدا على سهام البنين وتضربها في المخرج تكن
أربعة وعشرين تنقصها ثلاثة يبقى أحد وعشرون فهو المال فتدفع إلى صاحب النصيب خمسة يبقى من الثلث
اثنان تدفع منها سهما إلى الوصي الآخر يبقى خمسة عشر لكل ابن خمسة وبالطريق الثاني تزيد على سهام
البنين نصفا وتضربها في المخرج تكن إحدي وعشرين وبالثلث تعمل كما عملت في الأول فإذا بلغت سبعة
ضربتها في ثلاثة من أجل أن الوصية الثانية بنصف الثلث وبالرابع تجعل الثلث سهمين ونصيبا تدفع
النصيب إلى صاحبه والى الآخر سهما يبقى من المال خمسة أسهم ونصيبان تدفع نصيبين إلى ابنين
يبقى خمسة للثالث فهي النصيب فإذا بسطتها كانت إحدى وعشرين وبالجبر تأخذ مالا فتلقي منه ثلثه
نصيبا وتدفع إلى الآخر نصف باقي الثلث يبقى من المال خمسة أسداسه الا نصف نصيب أجبره
بنصف نصيب وزده على سهام البنين يصير ثلاثة ونصفا تعدل خمسة أسداس أقلب وحول يصير النصيب
خمسة وكل سهم ستة تكن إحدى وعشرين
457

(فصل) فإن أوصى لثالث بربع المال فخذ المخارج وهي اثنان وثلاثة وأربعة واضرب بعضها في
بعض تكن أربعة وعشرين وزد على عدد البنين واحدا تصر أربعة واضربها في أربعة وعشرين تكن
ستة وتسعين انقص منها ضرب نصف سهم في أربعة وعشرين وذلك اثنى عشر يبقى أربعة وثمانون
فهي المال ثم انظر الأربعة وعشرين فأنقص منها سدسها لأجل الوصية الثانية وربعها لأجل الوصية
يبقى أربعة عشر فهي النصيب فادفعها إلى الموصى له بالنصيب ثم ادفع إلى الثاني نصف ما يبقى من
الثلث وهو سبعة والى الثالث ربع المال إحدي وعشرين يبقى اثنان وأربعون لكل ابن أربعة عشر
وبالطريق الثاني تزيد على عدد البنين نصف سهم وتضرب ثلاثة ونصف في أربعة وعشرين تكن
أربعة وثمانين وبالطريق الثالث تعمل في هذه كما عملت في التي قبلها فإذا بلغت إحدى وعشرين
ضربتها في أربعة من اجل الربع تكن أربعة وثمانين وبطريق النصيب تفرض المال ستة أسهم وثلاثة
أنصباء تدفع نصيبا إلى صاحب النصيب والى الآخر سهما والى صاحب الربع سهما ونصفا وثلاثة
أرباع نصيب ويبقى من المال نصيب وربع وثلاثة أسهم ونصف للورثة يعدل ثلاثة أنصباء فأسقط
نصيبا وربعا بمثلها يبقى ثلاثة أسهم ونصف يعدل نصيبا وثلاثة أرباع فالنصيب إذا سهمان فابسط
الثلاثة الا نصيبا تكن ستة فصار المال اثني عشر ومنها يصح لصاحب النصيب سهمان وللآخر نصف
باقي الثلث سهم ولصاحب الربع ثلاثة تبقى ستة لكل ابن سهمان وهذا أخصر وأحسن وبالجبر تأخذ
مالا تدفع منه نصيبا يبقى مال إلا نصيبا تدفع نصف باقي ثلثه وهو سدس الا نصف نصيب يبقى من
المال خمسة أسداس الا نصف نصيب تدفع منها ربع المال يبقى ثلث وربعه الا نصف نصيب يعدل
458

ثلاثة أنصباء أجبر وقابل وقلب وحول يكن النصيب سبعة والمال اثنين وأربعين ثم تضربها في اثنين
ليزول الكسر يرجع إلى أربعة وثمانين
(فصل) فإن كانت الوصية الثالثة بربع ما بقي من المال بعد الوصيتين الأوليين فاعملها بطريق
النصيب كما ذكرنا يبقى معك ثلاثة أسهم وثلاثة أرباع تعدل نصيبا ونصفا أبسطهما أرباعا تكن السهام
خمسة عشر والأنصباء ستة توافقهما وتردهما إلى وفقيهما تصير خمسة أسهم تعدل نصيبين اقلب واجعل
النصيب خمسة والسهم اثنين وابسط ما معك يصير سبعة وعشرين فادفع خمسة إلى صاحب النصيب
والى الآخر نصف باقي الثلث سهمين والى الآخر ربع الباقي خمسة يبقى خمسة عشر لكل ابن خمسة
وهذا الطريق أخصر وان عملت بالطريق الثاني اخذت أربعة وعشرين فنقصت سدسها وربع الباقي
يبقى خمسة عشر فهي النصيب ثم زدت على عدد البنين سهما ونقصت نصفه وربع الباقي منه يبقى
ثلاثة أثمان ردها على سهام البنين تكن ثلاثة وثلاثة أثمان تضربها في أربعة وعشرين تكن إحدى وثمانين
ومنها تصح وبالجبر تفضي إلى ذلك أيضا
(فصل) وان خلف أما وأختا وعما وأوصى لرجل بمثل نصيب العم وسدس ما يبقى ولآخر بمثل
نصيب الام وربع ما يبقى ولآخر بمثل نصيب الأخت وثلث ما يبقى فاعملها بالمنكوس وقل أصل
المسألة ستة فابدأ بآخر الوصايا فقل هذا مال ذهب ثلثه فزد عليه نصفه ثلاثة ومثل نصيب الأخت
ثلاثة صارت اثني عشر ثم قل هذا بقية مال ذهب ربعه فزد عليه ثلثه ومثل نصيب الام ستة صار
ثمانية ثم قل هذا بقية مال ذهب سبعة فزد عليه سدسه، ونصيب العم صار اثنين وعشرين ومنه تصح
459

(فصل) في الاستثناء إذا خلف ثلاثة بنين وأوصى بمثل نصيب أحدهم الا ربع المال فخذ مخرج
الكسر أربعة وزد عليها سهما تكن خمسة، فهذا النصيب وزد على عدد البنين واحدا واضربه في مخرج الكسر
تكن ستة عشر تدفع إلى الوصي خمسة وتستثني منه أربعة يبقى لهم سهم ولكل أين خمسة، وان شئت خصصت
كل ابن بربع وقسمت الربع الباقي بينه وبينهم على أربعة فإن قال الا ربع الباقي بعد النصيب فزد على سهام البنين
سهما وربعا واضربه في أربعة تكن سبعة عشر للوصي سهمان ولكل ابن خمسة وبالجبر تأخذ مالا
وتدفع منه نصيبا إلى الموصى له وتستثني منه ربع الباقي وهو ربع مال الا ربع نصيب صار معك مال
وربع الا نصيبا وربعا يعدل أنصباء البنين وهي ثلاثة أجبر وقابل يخرج النصيب خمسة والمال سبعة
عشر فإن قال الا ربع الباقي بعد الوصية جعلت المخرج ثلاثة وزدت عليه ثلثه صار أربعة فهو النصيب
وتزيد على عدد البنين نصيبا وثلثا وتضربه في ثلاثة تكن ثلاثة عشر فهو المال وإن شئت قلت المال
كله ثلاثة أنصباء ووصية والوصية هي نصيب الأربع الباقي بعدها وذلك ثلاثة أرباع نصيب فيبقى ربع
نصيب فهو الوصية وتبين أن المال كله ثلاثة وربع أبسطها تكن ثلاثة عشر، ولهذه المسائل طرق
سوى ما ذكرنا والله أعلم
(فصل) وإن قال أوصيت لك بمثل نصيب أحد بني الا ثلث ما يبقى من الثلث فخذ مخرج الكسر
ثلث الثلث وهو تسعة وزد عليها سهما تكن عشرة فهي النصيب وزد على أنصباء البنين سهما وثلثا
واضرب ذلك في تسعة تكن تسعة وثلاثين ادفع عشرة إلى الوصي واستثنى منه ثلث بقية الثلث سهم
يبقى له تسعة ولكل ابن عشرة، وإن قال الا ثلث ما يبقى من الثلث بعد الوصية جعلت المال ستة
460

وزدت عليه سهما صارت سبعة فهذا هو النصيب وزدت على أنصباء البنين سهما ونصفا وضربته في
ستة صار سبعة وعشرين ودفعت إلى الوصي سبعة وأخذت واحدة من نصف بقية الثلث بقي معه ستة
وبقي أحد وعشرون لكل ابن سبعة وإنما كان كذلك لأن الثلث بعد الوصية هو النصف بعد النصيب
ومتى أطلق الاستثناء فلم يقل بعد النصيب ولا الوصية فعند الجمهور يحمل على ما بعد النصيب وعند محمد
ابن الحسن والبصريين يكون بعد الوصية
(فصل) فإن قال الا خمس ما يبقى من المال بعد النصيب ولآخر بثلث ما يبقى من المال بعد
وصية الأول فخذ الجميع خمسة وزد عليها خمسها تكن ستة انقص ثلثها من أجل الوصية بالثلث يبقى
أربعة فهي النصيب ثم خذ سهما وزد عليه خمسه وانقص من ذلك ثلثه يبق أربعة أخماس زدها على
أنصباء البنين واضربها في خمسة تصر تسعة عشر فهي المال ادفع إلى الأول أربعة واستثن منه خمس
الباقي ثلاثة يبق معه سهم فادفع إلى الآخر ثلث الباقي ستة يبقى اثنى عشر لكل ابن أربعة وبالجبر
خذ مالا والق منه نصيبا واسترجع منه خمس الباقي يصر معك مال وخمس الا نصيبا وخمسا الق منه
ثلث ذلك يبق أربعة أخماس مال الا أربعة أخماس نصيب تعدل ثلاثة أنصباء أجبر وقابل وابسط يكن
المال تسعة عشر والنصيب أربعة، وإن شئت قلت أنصبا البنين ثلاثة وهي بقية مال ذهب ثلثه فزد
عليه نصفه يصر أربعة أنصباء ونصفا ووصية والوصية هي نصيب الا خمس الباقي وهو نصف
نصيب وخمس نصيب وخمس وصية أسقطه من النصيب يبقى خمس نصيب وعشر نصيب
الا خمس وصية تعدل وصية أجبر وقابل وابسط تصر ثلاثة من النصيب تعدل اثني عشر سهما من
461

الوصية وهي تتفق بالأثلاث فردها على وفقها يصير سهما يعدل أربعة فالوصية سهم والنصيب أربعة
فابسطها تكن أربعة عشر فإن كان الاستثناء بعد الوصية قلت المال أربعة أسهم ونصف ووصية وهي
نصيب الا خمس الباقي وهو تسعة أعشار نصيب يبقى عشر نصيب فهو الوصية فابسط الكل أعشارا
تكن الا نصبا خمسة وأربعين والوصية مهم وإن كان استثنى خمس المال كله فالوصية عشر نصيب الا
خمس وصية أجبر يصر العشر يعدل وصية وخمسا ابسط يصير النصيب ستين والوصية خمسة والمال
كله مائتان وخمسة وسبعون الق منها ستين واسترجع منه خمس المال وهو خمسة وخمسون يبقى له
خمسة وللآخر ثلثا الباقي تسعون ويبقى مئة وثمانون لكل ابن ستون وترجع بالاختصار إلى خمسها وذلك
خمسة وخمسون للوصي الأول سهم وللثاني ثمانية عشر لكل ابن اثنتا عشر وبالجبر تأخذ مالا تلقي منه
نصيبا وتزيد على المال خمسه يصير مالا وخمسا الا نصيبا الق ثلث ذلك يبق أربعة أخماس مالا الا ثلثي نصيب
يعدل ثلاثة أجبر وقابل وابسط يكن المال ثمانية عشر وثلثا اضربها في ثلاثة ليزول الكسر يصر خمسة وخمسين
وإن كان استثني الخمس كله وأوصى بالثلث كله فخذ مخرج الكسرين خمسة عشر وزد عليها خمسا ثم انقص
ثلث المال كله يبق ثلاثة عشر فهي النصيب وزد على أنصباء البنين سهما واضربه في المال بكن ستين
وهو المال، وإن كان استثنى خمس الباقي وأوصى بثلث المال كله فالعمل كذلك الا أنك تزيد على
سهام البنين سهما وخمسا وتضربها تكن ثلاثة وستين، وإن كان استثني خمس ما بقي من الثلث زدت
على الخمسة عشر سهما واحدا فصار ستة عشر ثم نقصت ثلث المال كله بقي أحد عشر فهو النصيب
ثم زدت سهام البنين سهما وخمسا وضربتها في خمسة عشر تكن ثلاثة وستين تدفع إلى الوصي الأول
462

أحد عشر وتستثني منه خمس بقية الثلث سهمين يبقى معه تسعة وتدفع إلى صاحب الثلث إحدى
وعشرين يبقى ثلاثة وثلاثون لكل ابن أحد عشر فإن كانت الوصية الثانية بثلث باقي المال زدت
على الخمسة عشر واحدا ثم نقصت ثلث الستة عشر ولا ثلث لها فاضربها في ثلاثة فكن ثمانية وأربعين
انقص ثلثها يبقى اثنان وثلاثون فهي النصيب وخذ سهما وزد عليه خمسه ثم انقص ثلث ذلك من
أجل الوصية بثلث الباقي يبقى أربعة أخماس زدها على سهام الورثة واضربها في خمسة وأربعين تكن
مائة وإحدى وسبعين منها تصح
{فصل} فإن خلف أربعة بنين وأوصى لرجل بثلث ماله إلا نصيب أحدهم أو أوصى له بتكملة
الثلث على نصيب أحدهم فله التسع وحسابها أن تدفع إلى الوصي وابن ثلث المال يبقى ثلثاه لثلاثة
بنين لكل واحد تسعان فعلمت أن نصيب الابن من الثلث تسعان يبقى تسع للوصي وان وصى
لآخر بخمس ما يبقى من المال بعد الوصية الأولى عزلت ثلث المال ثم أخذت منه نصيبا ورددته على
الثلثين ودفعت إلى الوصي الثاني خمس ذلك يبقى من المال ثلثه وخمسه وأربعة أخماس نصيب
للورثة فاسقط أربعة أخماس نصيب بمثلها يبقى له ثلاثة وخمس تعدل ثلثا وخمسا فنصف المال إذا يعدل
ثلاثة أنصباء والمال كله ستة للوصيين والبنين لكل واحد منهم
{طريق آخر} سهام البنين أربعة وهي بقية مال ذهب خمسه فرد عليه ربعه للوصي الثاني صارت
خمسة ثم زد على سهم ابن ما يكمل به الثلث وهو سهم آخر فصارت ستة، وان شئت فرضت المال
خمسة أسهم وتكملة ودفعت التكملة إلى صاحبها وخمس الباقي إلى صاحبه ويبقى لكل ابن سهم، وقد
463

علمت أن سهم ابن مع التكملة ثلث المال وان الباقي بعدهما الثلثان وهي أربعة أسهم فقابل بهما نصف
الأربعة وهي سهمان فتبين أن التكملة سهم
{فصل} وان أوصى لرجل بمثل نصيب أحد بنيه وهو ثلاثة ولآخر بثلث ما يبقى من الثلث
ولآخر بدرهم فاجعل المال تسعة دراهم وثلاثة أيضا فادفع إلى الوصي الأول نصيبا وإلى الثاني والثالث
درهمين بقي سبعة ونصيبان ادفع نصيبين إلى ابنين يبقى سبعة للابن الثالث فالنصيب سبعة والمال
ثلاثون فإن كانت الوصية الثالثة بدرهمين فالنصيب ستة والمال سبعة وعشرون
{فصل} وان ترك ستمائة ووصى لأجنبي بمائة ولآخر بتمام الثلث فلكل واحد منها مائة فإن
رد الأول وصيته فللآخر مائة، وان وصى للأول بمائتين وللآخر بباقي الثلث فلا شئ للثاني
سواء رد الأول وصيته وأجازها، وهذا قياس قول الشافعي وأهل البصرة، وقال أهل العراق ان
رد الأول فللثاني مائتان في المسألتين
ولنا أن المائتين ليست باقي الثلث ولا تتمته فلا يكون موصى بها للثاني كما لو قبل الأول، ولو
وصى لوارث بثلثه ولآخر بتمام الثلث فلا شئ للثاني وعلى قول أهل العراق له الثلث كاملا
{فصل} وان أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بمائة ولثالث بتمام الثلث على المائة ولم يزد الثلث
على مائة بطلت وصية التمام، وإن زاد على مائة وأجاز الورثة أمضيت وصاياهم على ما أوصى لهم به
وان ردوا ففيه وجهان (أحدهما) يرد كل واحد منهما إلى نصف وصيته لأن الوصايا رجعت إلى
نصفها فيدخل النقص على كل واحد بقدر ماله في الوصية كسائر الوصايا (والثاني) لا شئ لصاحب
464

التمام حتى تكمل المائة لصاحبها ثم يكون الثلث بين الوصية الآخرين نصفين ويزاحم صاحب المائة
صاحب التمام ولا يعطيه شيئا لأنه إنما يستحق بعد تمام المائة لصاحبها وما تمت له ويجوز أن يزاحم به ولا
يعطيه كالأخ من الأبوين يزاحم الجد بالأخ من الأب ولا يعطيه شيئا
{مسألة} قال {وإذا أوصي لزيد بنصف ماله ولعمرو بربع ماله ولم يجز ذلك الورثة
فالثلث بينهما على ثلاثة أسهم: لعمرو سهم ولزيد سهمان}
وجملته انه إذا أوصى بأجزاء من المال أخذتها من مخرجها وقسمت الباقي على الورثة، وان لم
يجيزوا قسمت الثلث بين الأوصياء على قدر سهامهم في حال الإجازة وقسمت الثلثين على الورثة، ولا
فرق بين أن يكون الموصى لهم من تجاوز وصيته الثلث أو لا. هذا قول الجمهور منهم الحسن والنخعي
ومالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي وإسحاق وأبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة وأبو ثور وابن
المنذر: لا يضرب الموصى له في حال الرد بأكثر من الثلث لأن ما جاوز الثلث باطل فكيف يضرب به؟
ولنا انه فاضل بينهما في الوصية فلم تجز التسوية كما لو وصى بثلث وربع أو بمائة ومائتين وماله
أربعمائة وهذا يبطل ما ذكروه، ولأنها وصية صحيحة ضاق عنها الثلث فتقسم بينهم على قدر الوصايا
كالثلث والربع وليس الامر على ما قالوه في بطلان الوصية فإن الوصية صحيحة على ما ذكرناه فيما مضى،
فعلى هذا إذا أوصى لزيد بنصف ماله ولعمرو بربعه فللموصى لهما ثلاثة أرباع المال ان أجاز الورثة
ويبقى لهم الربع، وان ردوا فالثلث بين الوصيين على ثلاثة والمسألة كلها من تسعة، وإن أجازوا
465

لأحدهما دون صاحبه ضربت مسألة الرد في مسألة الإجازة وأعطيت المجاز له سهمه من مسألة الإجازة
في مسألة الرد والمردود عليه سهمه من مسألة الرد مضروبا في مسألة الإجازة، وان أجاز بعض الورثة
لهما ورد الباقون عليهما أعطيت المجيز سهمه من مسألة الإجازة في مسألة الرد ومن لم يجز سهمه من مسألة
الرد مضروبا في مسألة الإجازة وقسمت الباقي بين الوصيين على ثلاثة، وان اتفقت المسئلتان ضربت
وفق إحداهما في الأخرى ومن له سهم من إحدى المسئلتين مضروب في وفق الأخرى، وان دخلت
إحدي المسئلتين في لاخرى اجتزأت بأكثرهما ففي مسألة الخرقي هذه إذا كان الورثة أما وثلاث
أخوات متفرقات فأجزوا فالمسألة من أربعة: للوصيين ثلاثة يبقى سهم على ستة تضربها في أربعة تكن
أربعة وعشرين، وان ردوا فللوصيين الثلث ثلاثة ويبقى ستة على المسألة وهي ستة وتصح من
تسعة وان أجازوا لصاحب النصف وحده ضربت وفق التسعة في أربعة وعشرين تكن اثنين وسبعين
لصاحب النصف اثنا عشر في ثلاثة ستة وثلاثون وللآخر سهم في ثمانية ثمانية يبقى ثمانية وعشرون للورثة
وإن أجازت الام لهما ورد الباقون عليها أعطيت الام سهما في ثلاثة والباقين خمسة أسهم في ثمانية
صار الجميع ثلاثة وأربعين يبقى تسعة وعشرون بين الوصيين على ثلاثة، وان أجازت الأخت من
الأبوين وحدها فلها تسعة والباقي الورثة أربعة وعشرون ويبقى تسعة وثلاثون لهما على ثلاثة لصاحب
النصف ستة وعشرون وللآخر ثلاثة عشر
(فصل) إذا جاوزت الوصايا المال فاقسم المال بينهم على قدر وصاياهم مثل العول واجعل وصاياهم
كالفروض التي فرضها الله تعالى للورثة إذا زادت على المال، وان ردوا قسمت الثلث بينهم على تلك
466

السهام، وهذا قول النخعي ومالك والشافعي، قال سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية ثنا عاصم الثقفي
قال قال لي إبراهيم النخعي ما تقول في رجل أوصى بنصف ماله وثلث ماله وربع ماله؟ قلت لا يجوز قال
فإنهم قد أجازوا قلت لا أدري؟ قال أمسك اثني عشر فأخرج نصفها ستة وثلثها أربعة وربعها ثلاثة
فاقسم المال على ثلاثة عشر فلصاحب النصف ستة ولصاحب الثلث أربعة ولصاحب الربع ثلاثة،
وكان أبو حنيفة يقول: يأخذ أكثرهم وصية مما يفضل به على من دونه ثم يقتسمون الباقي ان
أجازوا وفي الرد لا يضرب لأحدهم بأكثر من الثلث وان نقص بعضهم عن الثلث أخذ أكثرهم
ما يفضل به على من دونه، ومثال ذلك رجل أوصى بثلثي ماله ونصفه وثلثه فالمال بينهم على تسعة
في الإجازة والثلث بينهم كذلك في الرد كمسألة فيها زوج وأختان لأب وأختان لام،
وقال أبو حنيفة: صاحب الثلثين يفضلهما بسدس فيأخذه وهو وصاحب النصف يفضلان
صاحب الثلث بسدس فيأخذانه بينهما نصفين ويقتسمون الباقي بينهم أثلاثا، وتصح من
ستة وثلاثين: لصاحب الثلثين سبعة عشر ولصاحب النصف أحد عشر، ولصاحب
الثلث ثمانية، وإن ردوا قسم بينهم على ثلاثة، ولو أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بثلثه فالمال
بينهما على أربعة إن أجازوا والثلث بينهما كذلك في حال الرد وعند أبي حنيفة إن أجازوا فلصاحب
المال الثلثان يتفرد بهما ويقاسم صاحب الثلث فيحصل له خمسة أسداس ولصاحب الثلث السدس
وإن ردوا اقتسما الثلث نصفين فلا يحصل لصاحب الثلث الا السدس في الإجازة والرد جميعا، ولو
جعل مكان الثلث سدسا لكان لصاحب المال خمسة أسداسه في الإجازة ويقاسم صاحب السدس
467

فيأخذ نصفه ويبقى لصاحب السدس نصفه سهم من اثني عشر وفي الرد يقتسمان الثلث بينهما أثلاثا
فيجعل لصاحب السدس التسع سهم من تسعة وذلك أكثر مما حصل له في الإجازة وهذا دليل على
فساد هذا القول لزيادة سهم الموصي له في الرد على حالة الإجازة ومتى كان للموصي له حق في حال
الرد لا ينبغي أن يتمكن الوارث من تغييره ولا تنقيصه ولا أخذه منه ولا صرفه إلى غيره مع أن ما ذهب
إليه الجمهور نظيره مسائل العول في الفرائض والديون على المفلس وما ذكروه لا نظير له مع أن فرض
الله تعالى للوارث آكد من فرض الموصي ووصيته ثم إن صاحب الفضل في الفرض المفروض لا ينفرد
بفضله فكذا في الوصايا
(فصل) وإذا خلف ابنين وأوصى لرجل بماله كله ولآخر بنصفه فالمال بين الوصيين على ثلاثة
ان أجازا، لأنك إذا بسطت المال من جنس الكسر كان نصفين فإذا ضممت النصف الآخر صارت
ثلاثة فيقسم المال على ثلاثة ويصير النصف ثلثا كمسألة فيها زوج وأم وثلاث أخوات متفرقات فإذا
ردوا فالثلث بينهما على ثلاثة، وان أجازوا لصاحب النصف وحده فلصاحب المال التسعان ولصاحب
النصف النصف في أحد الوجهين لأنه موصى له به وإنما منعه اخذه في حال الإجازة لهما مزاحمة
صاحبه فإذا زالت مزاحمته اخذ جميع وصيته (والثاني) ليس له الا الثلث الذي كان له في حال الإجازة
لهما لأن ما زاد على ذلك أنما كان حقا لصاحب المال أخذه الورثة منه بالرد عليه فأخذه الوارثان وان
468

أجاز لصاحب الكل وحده فله ثمانية أتساع على الوجه الأول والتسع للآخر، وعلى الوجه الثاني ليس
له الا الثلثان اللذان كانا له حال الإجازة لهما والتسعان للورثة فإن أجاز أحد الابنين لهما دون الاخر
فلا شئ للمجيز وللآخر الثلث والثلثان بين الوصيين على أربعة وان أجاز أحدهما لصاحب المال وحده
فللاخر التسع وللابن الاخر الثلث والباقي لصاحب المال في أحد الوجهين وفي الآخر له أربعة أتساع
والتسع الباقي للمجيز وان أجاز لصاحب النصف وحده دفع إليه نصف ما يتم به النصف وهو تسع
ونصف سدس في أحد الوجهين وفي الاخر يدفع إليه التسع فيصير له تسعان ولصاحب المال تسعان وللمجيز
تسعان والثلث للذي لم يجز وتصح من تسعة وعلى الوجه الأول تصح من ستة وثلاثين للذي لم يجز اثنا عشر
وللمجيز خمسه ولصاحب النصف أحد عشر ولصاحب المال ثمانية وذلك لأن مسألة الرد من تسعة لصاحب النصف منها سهم، فلو أجاز له الابنان كان له تمام النصف ثلاثة ونصف فإذا أجاز له أحدهما لزمه نصف ذلك وهو سهم وثلاثة أرباع سهم فيضرب مخرج الربع في تسعة يكن ستة وثلاثين
{مسألة} قال (وإذا أوصى لولد فلان فهو للذكر والأنثى بالسوية وان قال لبنيه فهو
للذكور دون الإناث)
أما إذا أوصى لولده أو لولد فلان فإنه للذكور والأثاث والخناثى، لا خلاف في ذلك لأن الاسم
يشمل الجميع قال الله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وقال تعالى (ما اتخذ
الله من ولد) نفى الذكر والأنثى جميعا، وإن قال لبني أو بني فلان فهو للذكور دون الإناث والخناثى
هذا قول الجمهور وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وقال الحسن وإسحاق وأبو ثور هو للذكر والأنثى
جميعا لأنه لو أوصى لبني فلان وهم قبيلة دخل فيه الذكر والأنثى، وقال الثوري إن كانوا ذكورا وإناثا
فهو بينهم وإن كن بنات لا ذكر معهن فلا شئ لهن لأنه متى اجتمع الذكور والإناث غلب لفظ التذكير
ودخل فيه الإناث كلفظ المسلمين والمشركين
469

ولنا ان لقظ البنين يختص الذكور قال الله تعالى (اصطفى البنات على البنين؟) وقال تعالى (أم اتخذ مما
يخلق بنات وأصفاكم بالبنين؟) وقال (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين) وقال (المال والبنون
زينة الحياة الدنيا) وقد أخبر انهم لا يشتهون البنات فقال (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون
وإذا بشر أحدهم بالأنثى) الآية وإنما دخلوا في الاسلام إذا صاروا قبيلة لأن الاسم نقل فيهم عن الحقيقة
إلى العرف ولهذا تقول المرأة انا من بني فلان إذا انتسبت إلى القبيلة ولا تقول ذلك إذا انتسبت
إلي أبيها
(فصل) وان أوصي لبنات فلان دخل فيه الإناث دون غيرهن لا نعلم فيه خلافا ولا يدخل
فيهن الخنثى المشكل لأنا لا نعلم كونه أنثى
(فصل) وان أوصى لولد فلان أو لبني فلان ولم يكونوا قبيلة فهو لولده لصلبه واما أولاد أولاده
فإن كانت قرية تدل على دخولهم مثل ان يوصي لولد فلان وليس له الا أولاد أولاده أو قال ولا
يعطى ولد البنات شيئا أو قال الا ولد فلان أو فضلوا ولد فلان علي غيرهم ونحو ذلك دخلوا لأن اللفظ يحتملهم
والقرينة صارفة له إليهم فصار كالتصريح بهم وان دلت القرينة على اخراجهم فلا شئ لهم وان انتفت
القرائن لم يدخلوا في الوصية لأن اسم الولد حقيقة عبارة عن ولد الصلب فإن قيل فقد دخلوا في قول
الله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) قلنا إنما دخلوا فيه إذا لم يكن ثم ابن من ولد
الصلب ودخلوا مع الإناث علي انهم إنما يرثون ما فضل عن البنات على ما ذكر تفصيله في الفرائض
ولا يمكن ذلك هاهنا فانتفي دخولهم ويحتمل ان يدخل ولد البنين في الوصية إذا لم تكن قرية تخرجهم
لأنهم دخلوا في اسم الولد في كل موضع ذكره الله تعالى من الإرث والحجب وغيره
(فصل) وان وصى لولد فلان أو بني فلان وهم قبيلة كبني هاشم وبني تميم دخل فيهم الذكر
والأنثى والخنثى ويدخل ولد الرجل معه ولا يدخل فيه ولد بناتهم لأن ذلك اسم للقبيلة ذكرها
وأنثاها قال الله تعالى (يا بني آدم - ولقد كرمنا بني آدم) يريد الجميع وقال (ولقد آتينا بني إسرائيل
الكتاب) وروي أن جواري من الأنصار قلن شعر
نحن جوار من بني النجار * يا حبذا محمد من جار
470

ويقال امرأة من بني هاشم، ولا يدخل ولد البنات فيهم لأنهم لا ينتسبون إلى القبيلة
(فصل) وان أوصى لاخوانه فهو للإناث خاصة وان أوصى لاخوته دخل فيه الذكر والأنثى
جميعا لأن الله تعالى قال (وان كانوا إخوة رجالا ونساء) وقال (فإن كان له إخوة فلأمه السدس)
وأجمع العلماء على حجبها بالذكر والأنثى، وان قال لعمومته فالظاهر أنه مثل الاخوة يشمل الذكر
والأنثى لأنهم اخوة أبيه، وان قال لبني اخوته أو لنبي عمه فهو للذكور دون الإناث إذا لم يكونوا
قبيلة، والفرق بينهما ان الاخوة والعمومة ليس لهما لفظ موضوع يشمل الذكر والأنثى سوى هذا
اللفظ وبنوا الاخوة والعم لهم لفظ يشمل الجميع وهو لفظ الأولاد، فإذا عدل عن اللفظ العام إلى لفظ
البنين دل على إرادة الذكور، ولان لفظ العمومة أشبه بلفظ الاخوة ولفظ بني الاخوة والعم يشبه بني
فلان وقد دللنا عليهما والحكم في تناول اللفظ للبعيد من العمومة وبني العم والاخوة حكم ما ذكرنا في
ولد الولد مع القرينة وعدمها
(فصل) وألفاظ الجموع على أربعة اضرب (أحدها) ما يشمل الذكر والأنثى بوضعه كالأولاد
والذرية والعالمين وشبهه (والثاني) موضع للذكور ويدخل فيه الإناث إذا اجتمعوا كلفظ المسلمين والمؤمنين
والقانتين والصابرين والصادقين واللذين والمشركين والفاسقين ونحوه وكذلك ضمير المذكر كالواو في
قاموا والتاء والميم في قمتم وهم مفردة وموصولة والكاف والميم في لكم وعليكم ونحوه فهذا متى اجتمع الذكور
وعليه الإناث وغلب لفظ التذكير فيه ودخل فيه الذكر والأنثى (الثالث) ضرب يختص الذكور
كالبنين والذكور والرجال والغلمان فلا يدخل فيه الا الذكور (الرابع) لفظ يختص النساء كالنساء
والنبات والمؤمنات والصادقات والضمائر الموضوعة لهن فلا يتناول غير الإناث
(فصل) وان وصى للأرامل فهو للنساء اللاتي فارقهن أزواجهن يموت أو غيره. قال احمد في
رواية حرب، وقد سئل عن رجل أوصى لأرامل بني فلان فقال قد اختلف الناس فيها فقال قوم هو
471

للرجال والنساء والذي يعرف في كلام الناس أن الأرامل النساء، وقال الشعبي وإسحاق هو للرجال
والنساء. وأنشد أحدهما
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها * فمن لا حاجة هذا الأرمل الذكر؟
وقال الآخر
أحب أن أصطاد ظبيا سخبلا * رعى الربيع والشتاء أرملا
ولنا أن المعروف في كلام الناس أنه النساء فلا يحمل لفظ الموصي إلا عليه ولان الأرامل جمع
أرملة فلا يكون جمعا للمذكر لأن ما يختلف لفظ الذكر والأنثى في واحده يختلف في جمعه وقد
أنكر ابن الأنباري على قائل القول الآخر وخطأه فيه والشعر الذي احتج به حجة عليه فإنه لو
كان لفظ الأرامل يشمل الذكر والأنثى لقال حاجتهم إذ لا خلاف بين أهل اللسان في أن اللفظ
متى كان للذكر والأنثى ثم رد عليه ضمير غلب فيه لفظ التذكير وضميره فلما رد الضمير على الإناث
علم أنه موضع لهن على الانفراد وسمي نفسه أرملا تجوزا تشبيها بهن ولذلك وصف نفسه بأنه ذكر
ويدل على إرادة المجاز أن اللفظ عند إطلاقه لا يفهم منه إلا النساء ولا يسمى به في العرف غيرهن
وهذا دليل على أنه لم يوضع لغيرهن ثم لو ثبت أنه في الحقيقة للرجال والنساء لكن قد خص به أهل
العرف النساء وهجرت به الحقيقة حتى صارت مغمورة لا تفهم من لفظ المتكلم ولا يتعلق بها حكم
كسائر الألفاظ العرفية.
(فصل) فأما لفظ الأيامى فهو كالأرامل لأنه لكل امرأة لا زوج لها قال الله تعالى (وانكحوا
الأيامى منكم) وفي بعض الحديث " أعوذ بالله من بوار الأيم " وقال أصحابنا هو للرجال والنساء الذين
لا أزواج لهم لما روي عن سعيد ابن المسيب قال آمت حفصة بنت عمر من زوجها، وآم عثمان
من رقية وقال الشاعر
فإن تنكحي انكح وان تتأيمي * وإن كنت أمتي منكم أتأيم
472

ولنا أن العرف يخص النساء بهذا الاسم والحكم للاسم العرفي وقول النبي صلى الله عليه وسلم " أعوذ بالله
من بوار لايم " إنما أراد به المرأة فإنها التي توصف بهذا وبضر بوارها
(فصل) والعزاب هم الذين لا أزواج لهم من الرجال
(فصل) والعزب لهم من الرجال والنساء يقال رجل عزب وامرأة عزبة
وإنما سمي عزبا لانفراده وكل شئ انفرد فهو عزب. قال ذو الرمة يصف ثورا من الوحش انفرد
يجلوا البوازق عن مجلمز لهق * كأنه متقبي يلمق عزب
ويحتمل أن يختص العزب بالرجال لأنه في العرف كذلك والثيب والبكر يشترك فيه الرجل
والمرأة قال النبي صلى الله عليه وسلم " البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب الجلد والرجم " والعانس
من الرجال والنساء الذي كبر ولم يتزوج، قال قيس بن رفاعة الواقفي:
فينا الذي هو ما إن طر شاربه * والعانسون وفينا المرد والشيب
والكهول الذين جاوزوا الثلاثين قال الله تعالى (ويكلم الناس في المهد وكهلا) قال المفسرون
ابن ثلاثين مأخوذ من قولهم اكتهل النبات إذا تم وقوي ثم لا يزال كهلا حتى يبلغ خمسين ثم يشيخ
ثم لا يزال شيخا حتى يموت
(فصل) وإذا أوصى لجماعة لا يمكن حصرهم واستيعابهم كالقبيلة العظيمة والفقراء والمساكين صح
وأجزأ الدفع إلى واحد منهم وبه قال الشافعي في أحد الوجهين الا أنه قال يدفع إلى ثلاثة منهم لأنه
أقل الجمع وقال أبو حنيفة لا تصح الوصية للقبيلة التي لا يمكن حصرها لأنها يدخل فيها الأغنياء والفقراء
وإذا وقعت للأغنياء لم تكن قربة وإنما تكون حقا لآدمي وحقوق الآدميين إذا دخلت فيها الجهالة
لم تصح كما لو أقر لمجهول
473

ولنا أن كل وصية صحت لجماعة محصورين صحت لهم وان لم يكونوا محصورين كالفقراء، وما ذكروه
غير صحيح فإن الوصية للأغنياء قربة وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهدية وإن كانت لغني وأما جواز
الدفع إلى واحد فمبني على الدفع في الزكاة وقد مضى الكلام فيه هناك
{مسألة} قال (والوصية بالحمل وللحمل جائزة إذا أتت به لأقل من ستة
أشهر منذ تكلم بالوصية)
أما الوصية بالحمل فتصح إذا كان مملوكا بأن يكون رقيقا أو حمل بهيمة مملوكة له لأن الغرر و الخطر
لا يمنع صحة الوصية فجرى مجرى إعتاق الحمل فإن انفصل ميتا بطلت الوصية وان انفصل حيا وعلمنا
وجوده حال الوصية أو حكمنا بوجوده صحت الوصية وان لم يكن كذلك لم تصح لجواز حدوثه، ولو
قال أوصيت لك بما تحمل جاريتي هذه أو ناقتي هذه أو نخلتي هذه جاز لما ذكرنا من صحتها مع الغرر، وأما الوصية
للحمل فصحيحة أيضا لا نعلم فيه خلافا وبذلك قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب
الرأي وذلك لأن الوصية جرت مجرى الميراث من حيث كونها انتقال المال من الانسان بعد موته إلى
الموصى له بغير عوض كانتقاله إلى وارثه، وقد سمى الله تعالى الميراث وصية بقوله سبحانه (يوصيكم الله
474

في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقال سبحانه (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من
بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله) والحمل يرث فتصح الوصية له ولان الوصية
أوسع من الميراث فإنها تصح للمخالف في الدين والعبد بخلاف الميراث فإذا ورث الحمل فالوصية له
أولى ولان الوصية تتعلق بخطر وغرر فتصح للحمل كالعتق فإن انفصل الحمل ميتا بطلت الوصية لأنه
لا يرث ولأنه يحتمل أن لا يكون حيا حين الوصية فلا تثبت له الوصية والميراث بالشك وسواء مات
لعارض من ضرب البطن أو ضرب دواء أو غيره لما بينا من أنه لا يرث، وان وضعته حيا صحت
الوصية له إذا حكمنا بوجوده حال الوصية نقل الخرقي إذا أتت به لأقل من ستة أشهر، وليس ذلك
شرطا في كل حال لكن ان كانت المرأة فراشا لزوج أو سيد يطؤها فاتت به لستة أشهر فما دون علمنا
وجوده حين الوصية وان أتت به لأكثر منها لم تصح الوصية له لاحتمال حدوثه بعد الوصية، وان كانت
بائنا فأتت به لأكثر من أربع سنين من حين الفرقة وأكثر من ستة أشهر من حين الوصية لم تصح الوصية
له وان أتت به لأقل من ذلك صحت الوصية له لأن الولد يعلم وجوده إذا كان لستة أشهر ويحكم بوجوده
إذا أتت به لأقل من أربع سنين من حين الفرقة، وهذا مذهب الشافعي، وان وصى لحمل امرأة من
زوجها أو سيدها صحت الوصية له مع اشتراط الحاقه به وإن كان منتفيا باللعان أو دعوى الاستبراء
لم تصح الوصية له لعدم نسبه المشروط في الوصية فأما ان كانت المرأة فراشا لزوج أو سيد الا أنه
لا يطؤها لكونه غائبا في بلد بعيد أو مريضا مريضا يمنع الوطئ أو كان أسيرا أو محبوسا أو علم الورثة أنه
لم يطأها وأقروا بذلك فإن أصحابنا لم يفرقوا بين هذه الصور وبين ما إذا كان يطؤها لأنهما لم يفترقا
475

في لحوق النسب بالزوج والسيد فكانت في حكم من يطؤها، ويحتمل أنه متى أتت به في هذه الحال
لوقت يغلب على الظن أنه كان موجودا حال الوصية مثل أن تضعه لأقل من غالب مدة الحمل أو
تكون أمارات الحمل ظاهرة أو أتت به على وجه يغلب على الظن أنه كان موجودا بامارات الحمل بحيث
يحكم لها بكونها حاملا صحت الوصية له لأنه يثبت له أحكام الحمل بمن غير هذا الحكم وقد انتفت
أسباب حدوثه ظاهرا فينبغي ان يثبت له الوصية والحكم بالحاقه بالزوج والسيد في هذه الصور إنما
كان احتياطا للنسب فإنه يلحق بمجرد الاحتمال وإن كان بعيدا ولا يلزم من اثبات السبب بمطلق الاحتمال
نفي استحقاق الوصية فإنه لا يحتاط لابطال الوصية كما يحتاط لاثبات السبب فلا يلزم الحاق ما لا يحتاط
له بما يحتاط مع ظهور ما يثبته ويصححه
(فصل) وان وصى بالحمل الموجود اعتبر وجوده في حمل الأمة بما يعتبر وجود الحمل الموصى له
وإن كان حمل بهيمة اعتبر وجوده بما يثبت به وجوده في سائر الأحكام
(فصل) وإذا أوصى لما تحمل هذه المرأة لم يصح وقال بعض أصحاب الشافعي يصح كما تصح
الوصية بما تحمل هذه الجارية.
ولنا أن الوصية تمليك فلا تصح للمعدوم بخلاف الموصى به فإنه يملك فلم يعتبر وجوده ولان
الوصية أجريت مجرى الميراث ولو مات انسان لم يرثه من الحمل الا من كان موجودا كذلك الوصية
ولو تجدد للميت مال بعد موته بان يسقط في شبكته صيد لورثه ورثته ولذلك قضينا بثبوت الإرث
في ديته وهي تتجدد بعد موته فجاز ان تملك بالوصية، فإن قيل فلو وقف على من يحدث من ولده أو
476

ولد فلان صح فالوصية أولى لأنها تصح بالمعدوم والمجهول بخلاف الوقف، قلنا الوصية أجريت
مجرى الميراث ولا يحصل الميراث إلا لموجود فكذا الوصية والوقف يراد للدوام فمن ضرورته اثباته للمعدوم
(فصل) وإذا أوصي لحمل امرأة فولدت ذكرا وأنثى فالوصية لهما بالسوية لأن ذلك عطية وهبة
فأشبه ما لو وهبهما شيئا بعد ولادتهما، وان فاضل بينهما فهو على ما قال كالوقف، وان قال إن كان في
بطنها غلام فله ديناران وإن كان فيه جارية فلها دينار فولدت غلاما وجارية فلكل واحد منهما ما وصى
له به لأن الشرط وجد فيه وان ولدت أحدهما منفردا فله وصيته، ولو قال إن كان حملها أو إن كان ما في
بطنها غلاما فله ديناران وان كانت جارية فلها دينار فولدت أحدهما منفردا فله وصيته وان ولدت
غلاما وجارية فلا شئ لهما لأن أحدهما ليس هو جميع الحمل ولا كل ما في البطن وبهذا قال أصحاب
الرأي وأصحاب الشافعي وأبو ثور
(فصل) وان أوصى بثمرة شجرة أو بستان أو غلة دار أو خدمة عبد صح سواء وصى بذلك في
مدة معلومة أو بجميع الثمرة والمنفعة في الزمان كله هذا قول الجمهور منهم مالك والثوري والشافعي
وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى لا تصح الوصية بالمنفعة لأنها معدومة
ولنا أنه يصح تمليكها بعقد المعاوضة فتصح الوصية بها كالا عيان ويعتبر خروج ذلك من ثلث
المال نص عليه احمد في سكني الدار وهو قول كل من قال بصحة الوصية بها فإن لم تخرج من الثلث
أجيز منها بقدر الثلث وبهذا قال الشافعي، وقال مالك إذا أوصى بخدمة عبده سنة فلم يخرج من
الثلث فالورثة بالخيار بين تسليم خدمته سنة وبين تسليم ثلث المال، وقال أصحاب الرأي وأبو ثور
477

إذا أوصى بخدمة عبده سنة فإن العبد يخدم الموصى له يوما والورثة يومين حتى يستكمل الموصى له سنة
فإن أراد الورثة بيع العبد بيع على هذا
ولنا أنها وصية صحيحة فوجب تنفيذها على صفتها ان خرجت من الثلث أو بقدر ما يخرج من
الثلث منها كسائر الوصايا أو كالأعيان. إذا ثبت هذا فمتى أريد تقويمها فإن كانت الوصية مقيدة بمدة
قوم الموصى بمنفعته مسلوب المنفعة فلك المدة ثم تقوم المنفعة في تلك المدة فينظر كم قيمتها، وان كانت
الوصية مطلقة في الزمان كله فقد قيل تقوم الرقبة بمنفعتها جميعا ويعتبر خروجهما من الثلث لأن عبدا
لا منفعة له وشجرا لا ثمر له لا قيمة له غالبا، وقيل تقوم الرقبة على الورثة، والمنفعة على الموصى له وصفة ذلك أن يقوم العبد بمنفعة فإذا قيل قيمته مائة قيل كم قيمة لا منفعة فيه؟ فإذا قيل عشرة
علمنا أن قيمة المنفعة تسعون
(فصل) وان أراد الموصى له إجارة العبد أو الدار في المدة التي أوصى له بنفعها جاز وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لا يجوز إجارة المنفعة المستحقة بالوصية لأنه إنما أوصى له باستيفائه
ولنا أنها منفعة يملكها ملكا تاما فملك أخذ العوض عنها بالأعيان كما لو ملكها بالإجارة
وان أراد الموصى له إخراج العبد عن البلد فله ذلك وبه قال أبو ثور، وقال أصحاب الرأي لا يخرجه
الا أن يكون أهله في غير البلد فيخرجه إلى أهله. ولنا أنه مالك لنفعه فملك اخراجه كالمستأجر
(فصل) وإذا أوصي له بثمرة شجرة مدة أو بما يثمر أبدا لم يملك واحد من الموصى له
478

والوارث اجبار الآخر على سقبها لأنه لا يجبر على سقي ملكه ولا سقي ملك غيره، وان أراد أحدهما
سقيها على وجه لا يضر بصاحبه لم يملك الآخر منعه، وذا يبست الشجرة كان حطبها للوارث وان
وصى له بثمرتها سنة بعينها فلم تحمل تلك السنة فلا شئ للموصى له، وإن قال لك ثمرتها أول عام
تثمر صح وله ثمرتها أول تمام لثمر وكذلك إذا أوصى له بما تحمل جاريته أو شانته، وإن وصى لرجل بشجرة
ولآخر بثمرتها صح وكان صاحب الرقبة قائما مقام الوارث وله ماله، وان وصى له بلبن شاة وصوفها صح كما
تصح الوصية بثمرة الشجرة وان وصي بلبنها خاصة أو صوفها خاصة صح ويقوم الموصى به دون العين
(فصل) فاما نفقة العبد الموصي بخدمته وسائر الحيوانات الموصى بنفعها فيحتمل أن تجب على
صاحب الرقبة هذا الذي ذكره الشريف أبو جعفر مذهبا لأحمد وهو قول أبي ثور وظاهر مذهب
الشافعي لأن النفقة على الرقبة فكانت على صاحبها كالعبد المستأجر وكما لو لم يكن له منفعة. قال الشريف
ولان الفطرة تلزمه والفطرة تتبع النفقة ووجوب التابع على انسان دليل على وجوب المتبوع عليه،
ويحتمل أن يجب على صاحب المنفعة وهو قول أصحاب الرأي والاصطخري وهو أصح إن شاء الله
لأنه يملك نفعه على التأبيد فكانت النفقة عليه كالزوج ولان نفعه له فكان عليه ضره كالمالك لهما
جميعا يحققه أن إيجاب النفقة على من لا نفع له ضرر مجرد فيصير معنى الوصية أو صيت لك بنفع عبدي
وأبقيت على ورثتي ضره وان وصى بنفعه لانسان ولآخر برقبته كان معناه أوصيت لهذا بنفعه ولهذا
بضره والشرع ينفي هذا بقوله لا ضرر ولا ضرار " ولذلك جعل الخراج بالضمان ليكون ضره على من له
479

نفعه، وفارق المستأجر فإن نفعه في الحقيقة للمؤجر لأنه يأخذ الأجر عوضا عن منافعه وقيل تجب نفقته في
كسبه وهذا راجع إلى إيجابها على صاحب المنفعة لأن كسبه من منافعه فإذا صرف في نفقته فقد صرف المنفعة
الموصى بها إلى النفقة فصار كما لو صرف إليه شئ من ماله سواه
(فصل) وإذا أعتق الورثة العبد عتق ومنفعته باقية الموصى له بها ولا يرجع على المعتق بشئ وان
أعتقه صاحب المنفعة لم يعتق لأن العتق للرقبة وهو لا يملكها وان وهب صاحب المنفعة منافعه للعبد وأسقطها عنه
فللورثة الانتفاع به لأن ما يوهب للعبد يكون لسيده وان أراد صاحب الرقبة بيع العبد فله ذلك ويباع
مسلوب المنفعة ويقوم المشتري مقام البائع فيما له وعليه وقيل لا يجوز بيعه من مالك منفعته دون غيره
لأن ما لا منفعة فيه لا يصح بيعه كالحشرات والميتات وقيل يجوز بيعه من مالك منفعته دون غيره لأن
مالك منفعته يجتمع له الرقبة والمنفعة فينتفع بذلك بخلاف غيره ولذلك جاز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
لصاحب الشجرة دون غيره وكذلك بيع الزرع لصاحب الأرض
ولنا انه عبد مملوك تصح الوصية به فصح بيعه كغيره ولأنه يمكنه اعتاقه وتحصيل ولائه وجر ولاء
من ينجر ولاؤه بعتقه بخلاف الحشرات. وان وصى لرجل برقبة عبد والآخر بنفعه صح وقام الموصى
له بالقبة مقام الوارث فيما ذكرنا وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
(فصل) وإذا أوصى لرجل بمنفعة أمته فأتت بولد من زوج أو منه فهو مملوك حكمه حكم أمه لأن
الولد يتبع الام في حكمها كولد المكاتبة والمدبرة ويحتمل أن يكون لمالك الرقبة لأن ذلك ليس من
النفع الموصى به ولا هو من الرقبة الموصى بنفعها وان وطئت بشبهة فأوجب المهر على الواطئ لصاحب
480

المنفعة عند أصحابنا وعندي انه لصاحب الرقبة لأن منافع البضع لا نصح الوصية بها منفردة ولا مع غيرها
ولا يجوز نقلها مفردة عن الرقبة بغير التزويج وإنما هي تابعة للرقبة فتكون لصاحبها ولا يستحق صاحب
المنفعة اخذ بدلها وان أتت بولد فهو حر وتجب قيمته يوم وضعه لصاحب الرقبة في أحد الوجهين وفي
الآخر يشترى بها عبد يقوم مقامه وليس للوارث ولا لصاحب المنفعة وطؤها لأن صاحب المنفعة لا يملك
رقبتها ولا هو زوج لها ولا يباح الوطئ بغيرهما لقول الله عز وجل (الا على أزواجهم أو ما ملكت
ايمانهم) وصاحب الرقبة لا يملكها ملكا تاما ولا يأمن أن تحبل منه فربما افضى إلى اهلاكها وأيهما وطئها
فلا حد عليه لأنه وطئ بشبهة لوجود الملك لكل واحد منهما فيها وولده حر لأنه من وطئ شبهة
فإن كان الواطئ مالك المنفعة لم تصر أم ولد له لأنه لا يملكها وعليه قيمة ولدها يوم وضعه، وحكمها على
ما ذكرنا فيما إذا وطئها غيرهما بشبهة، وإن كان الواطئ مالك الرقبة صارت أم ولد له لأنها علقت منه بحر
في ملكه وفي وجوب قيمته عليه الوجهان، واما المهر فعندي انه إن كان الواطئ مالكا للرقبة فلا مهر
عليه وله المهر على صاحب المنفعة إذا كان هو الواطئ، وعند أصحابنا وأصحاب الشافعي بعكس ذلك
فيها وقد تقدم تعليل ذلك؟ يحتمل ان يجب الحد على صاحب المنفعة إذا وطئ لأنه لا يملك الا المنفعة
فلزمه الحد كالمستأجر فعلى هذا يكون ولده مملوكا
(فصل) وليس لواحد منهما تزويجها لأن مالك المنفعة لا يملك رقبتها ومالك الرقبة لا يملك تزويجها لما فيه
من ضرر صاحب المنفعة بتزويجها فإن طلبت ذلك لزم تزويجها لأنه لحقها وحقها في ذلك مقدم عليها بدليل
انها لو طلبته من سيدها الذي يملك رقبتها ونفعها أجبر عليه وقدم حقها على حقه وكذلك أن اتفقا على
481

تزويجها قبل طلبها جاز ووليها في الموضعين مالك رقبتها لأنه مالكها والكلام في مهرها وولدها على
ما تقدم في الفصل الذي قبله
(فصل) وان قتل العبد الموصى بنفعه وجبت قيمته يشترى بها ما يقوم مقام الموصى به لأن كل
حق تعلق بالعين تعلق ببدلها إذا لم يبطل سبب استحقاقها، ويفارق الزوجة والعين المستأجرة لأن سبب
الاستحقاق يبطل بتلفهما ويحتمل ان تجب القيمة للوراث أو مالك الرقبة وتبطل الوصية لأن القيمة بدل
الرقبة فتكون لصاحبها وتبطل الوصية بالمنفعة كما تبطل بالإجارة
(فصل) وإذا أوصى لرجل بحب زرعه ولآخر بنيته صح والنفقة بينهما لأن كل واحد منهما
تعلق حقه بالزرع فإن امتنع أحدهما من الانفاق فهما بمنزلة الشريكين في أصل الزرع إذا امتنع أحدهما
من سقيه والانفاق عليه فيخرج في ذلك وجهان (أحدهما) يجبر على الانفاق عليه هذا قول أبي بكر لأن
في ترك الانفاق ضررا عليهما وإضاعة المال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا اضرار، ونهى عن إضاعة
المال (والوجه الآخر) لا يجبر لأنه لا يجبر على الانفاق على مال نفسه ولا مال غيره إذا كان كل واحد منهما منفردا
فكذلك إذا اجتمعا. واصل الوجهين إذا استهدم الحائط المشترك فدعا أحد الشريكين الآخر إلى
مباناته فامتنع وينبغي أن تكون النفقة بينهما على قدر قيمة حق كل واحد منهما كما لو كانا مشتركين
في أصل الزرع
(فصل) وإن أوصى له بخاتم ولآخر بفصه صح وليس لواحد منهما الانتفاع به الا باذن صاحبه وأيهما
طلب قلع الفص من الخاتم أجيب إليه وأجبر الآخر عليه وإن أعتقا على بيعه أو اصطلحا على لبسه
جاز لأن الحق لهما لا يعدوهما
482

(فصل) وإن أوصى لرجل بدينار من غلة داره وغلتها ديناران صح فإن أراد الورثة بيع نصفها
وترك النصف الذي اجره دينار فله منعهم منه لأنه يجوز أن ينقص أجره عن الدينار، وإن كانت الدار
لا تخرج من الثلث فلهم بيع ما زاد عليه وعليهم ترك الثلث فإن كانت غلته دينارا أو أقل فهو للموصى
له وإن كانت أكثر فله دينار والباقي للورثة
(فصل) وتصح الوصية بما لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والجمل الشارد والطير في الهواء
والسمك في الماء لأن الوصية إذا صحت بالمعدوم فبذلك أولى ولان الوصية أجريت مجرى الميراث
وهذا يورث فيوصى به فإن قدر عليه أخذه وسلمه إذا خرج من الثلث وللوصي السعي في تحصيله فإن
قدر عليه أخذه إذا خرج من الثلث
{مسألة} قال (وإذا أوصى بجارية لبشر ثم أوصى بها لبكر فهي بينهما)
وجملة ذلك أنه إذا أوصى لرجل بمعين من ماله ثم وصى به لآخر أو وصى له بثلثه ثم وصى
لآخر بثلثه أو وصى بجميع ماله لرجل ثم وصى به لآخر فهو بينهما ولا يكون ذلك رجوعا في الوصية
الأولى وبهذا قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وقال جابر
ابن زيد والحسن وعطاء وطاوس وداود وصيته للآخر منهما لأنه وصى للثاني بما وصى به للأول فكان
رجوعا كما لو قال ما وصيت به لبشر فهو لبكر ولان الثانية تنافي الأولى فإذا أنى بها كان رجوعا كما
لو قال هذا لورثتي
483

ولنا أنه وصى لهما بها فاستويا فيها كما لو قال لهما وصيت لكما بالجارية وما قاموا عليه صرح فيه بالرجوع
عن وصيته لبشر وفي مسئلتنا يحتمل أنه قصد التشريك فلم تبطل وصية الآخر بالشك
(فصل) وإن وصى بعبد لرجل ثم وصى لآخر بثلثه فهو بينهما أرباعا وعلى قول الآخرين ينبغي
أن يكون الثاني ثلثه كاملا وإن وصى بعبده لاثنين فرد أحدهما وصيته فللآخر نصفه وإن وصى لاثنين
بثلثي ماله فرد الورثة ذلك ورد أحد الوصيين وصيته فللآخر الثلث كاملا لأنه وصى له به منفردا
وزالت المزاحمة فكمل له كما لو انفرد به
(فصل) إذا أقر الوارث أن أباه وصى بالثلث لبشر وأقام آخر شاهدين أنه وصى له بالثلث فرد
الوراث الوصيتين وكان الوراث رجلا عاقلا عدلا وشهد بالوصية حلف معه الموصي له واشتركا في
الثلث وبهذا قال أبو ثور وهو قياس قول الشافعي، وقال أصحاب الرأي لا يشاركه المقر له بناء منهم على
أن الشاهد واليمين ليس بحجة شرعية، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين رواه مسلم،
وإن كان المقر ليس بعدل أو كان امرأة فالثلث لمن ثبتت له البينة لأن وصيته ثابته ولم تثبت وصية
الآخر وإن لم يكن لواحد منهما بينة فأقر الوراث أنه أقر لفلان بالثلث أو بهذا العبد وأقر لفلان به
بكلام متصل فالمقر به بينهما وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا، وإن أقر به لواحد
ثم أقر به لآخر في مجلس آخر لم يقبل اقراره لأنه يثبت للأول باقراره فلا يقبل قوله فيما ينقص بالحق
الأول الا أن يكون عدلا فيشهد بذلك ويحلف معه المقر له فيشركه كما لو ثبت للأول بينة وإن أقر
للثاني في المجلس بكلام متصل ففيه وجهان
484

(أحدهما) لا يقبل لأن حق الأول ثبت في الجميع فأشبه ما لو أقر له في مجلس آخر (والثاني)
يقبل لأن المجلس الواحد كالحال الواحدة فإن الخرقي قال وإذا خلف ابنا وألف درهم فأقر بها لرجل
ثم أقر بألف لآخر فإن كان في مجلس واحد فالألف بينهما وإن كان في مجلسين فهي للأول ولا شئ
للثاني والأول أقيس لأن حق الأول ثبت في الثلث كاملا لاقراره به منفردا فأشبه ما لو كان في مجلسين
وكما لو أقر بدراهم ثم سكت ثم قال زيوفا أو صغارا أو إلى شهر أو كما لو استثنى مما أقر به بكلام
منفصل في المجلس
{مسألة} (وان قال ما أوصيت به لبشر فهو لبكر كانت لبكر)
هذا قولهم جميعا وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وهو أيضا على مذهب الحسن وعطاء
وطاوس ولا نعلم فيه مخالفا لأنه صرح بالرجوع عن الأول بذكره ان ما أوصى به مردود إلى الثاني
فأشبه ما لو قال رجعت عن وصيتي لبشر وأوصيت بها لبكر بخلاف ما إذا أوصى بشئ واحد لرجلين
أحدهما بعد الآخر فإنه يحتمل انه قصد التشريك بينهما وقد ثبتت وصية الأول يقينا فلا تزول بالشك
(فصل) وان قال ما أوصيت به لفلان فنصفه لفلان أو ثلثه كان رجوعا في القدر الذي وصى به
للثاني خاصة وباقيه للأول
(فصل) وأجمع أهل العلم على أن للوصي أن يرجع في جميع ما أوصى به وفي بعضه إلا الوصية بالاعتاق
والأكثرون على جواز الرجوع في الوصية به أيضا. روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال يغير الرجل
485

ما شاء من وصيته وبه قال عطاء وجابر بن زيد والزهري وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق
وأبو ثور، وقال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي يغير منها ما شاء الا العتق لأنه اعتاق
بعد الموت فلم يملك تغييره كالتدبير
ولنا انها وصية فملك الرجوع عنها كغير العتق ولأنها عطية تنجز بالموت فجاز له الرجوع عنها
قبل تنجيزها كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه، وفارق التدبير فإنه تعليق على شرط فلم يملك
تغييره كتعليقه على صفة في الحياة
(فصل) ويحصل الرجوع بقوله رجعت في وصيتي أو أبطلتها أو غيرتها أو ما أوصيت به لفلان
فهو لفلان أو فهو لورثتي أو في ميراثي، وان أكله أو أطعمه أو أتلفه أو وهبه أو تصدق به أو باعه أو
كان ثوبا غير مفصل ففصله ولبسه أو جارية فأحبلها أو ما أشبه هذا فهو رجوع، قال ابن المنذر أجمع
كل من أحفظ عنه من أهل العلم أنه إذا أوصى لرجل بطعام فأكله أو بشئ فأتلفه أو تصدق به أو وهبه
أو بجارية فأحبلها أو أولدها أنه يكون رجوعا، وحكي عن أصحاب الرأي ان بيعه ليس برجوع
لأنه أخذ بدله بخلاف الهبة
ولنا انه أزال ملكه عنه فكان رجوعا كما لو وهبه، وان عرضه على البيع أو وصي ببيعه أو أوجب
الهبة فلم يقبلها الموهوب له أو كاتبه أو وصى باعتاقه أو دبره كان رجوعا لأنه يدل على اختياره للرجوع
بعرضه على البيع وايجابه للهبة ووصيته ببيعه أو اعتاقه لكونه وصى بما ينافي الوصية الأولى والكتابة بيع
والتدبير أقوى من الوصية لأنه ينجز بالموت فيسبق أخذ الموصى له، وان رهنه كان رجوعا لأنه علق به
486

حقا يجوز بيعه فكان أعظم من عرضه على البيع، وفيه وجه آخر انه ليس برجوع وهو وجه لأصحاب الشافعي لأنه لا يزيل الملك فأشبه اجارته وكذلك الحكم في الكتابة
(فصل) وان وصى بحب ثم طحنه أو بدقيق فعجنه أو بعجين فخبزه أو بخبز ففته أو جعله فتيتا
كان رجوعا لأنه أزال اسمه وعوضه للاستعمال فدل على رجوعه وبهذا قال الشافعي، وان وصى بكتان
أو قطن فغزله أو بغزل فنسخه أو بثوب فقطعه أو بنقرة فضربها أو شاة فذبحها كان رجوعا، وبهذا
قال أصحاب الرأي والشافعي في ظاهر مذهبه واختار أبو الخطاب انه ليس برجوع وهو قول أبي ثور
لأنه لا يزيل الاسم. ولنا انه عرضه للاستعمال فكان رجوعا كالتي قبلها ولا يصح قوله انه لا يزيل
الاسم فإن الثوب لا يسمى غزلا والغزل لا يسمى كتانا
(فصل) وان وصى بشئ معين ثم خلطه بغيره على وجه لا يتميز منه كان رجوعا لأنه يتعذر
بذلك تسليمه فيدل على رجوعه، فإن خلطه بما يتميز منه لم يكن رجوعا لأنه يمكن تسليمه، وان وصى
بقفيز قمح من صبرة ثم خلطها بغيرها لم يكن رجوعا سواء خلطها بمثلها أو بخير منها أو دونها لأنه كان
مشاعا وبقي مشاعا. وقيل إن خلطه بخير منه كان رجوعا لأنه لا يمكنه تسليم الموصى به الا بتسليم خير
منه ولا يجب على الوراث تسليم خير منه فصار متعذر التسليم بخلاف ما إذا خلطه بمثله أو دونه
(فصل) وإذا حدث بالموصى به ما يزيل اسمه من غير فعل الموصي مثل ان سقط الحب في
الأرض فصار زرعا أو انهدمت الدار فصارت فضاء في حياة الموصي بطلت الوصية بها لأن الباقي
لا يتناوله الاسم، وإن كان انهدام الدار لا يزيل اسمها سلمت إليه دون ما انفصل منها لأن الاسم حين
الاستحقاق يقع على المتصل دون المنفصل، ويتبع الدار في الوصية ما يتبعها في البيع
487

(فصل) وان جحد الوصية لم يكن رجوعا في أحد الوجهين، وهو قول أبي حنيفة في
إحدى الروايتين ولأنه عقد فلا يبطل بالجحود كسائر العقود (والثاني) يكون رجوعا
لأنه يدل على أنه لا يريد ايصاله إلى الموصي له، وان غسل الثوب أو لبسه أو جصص
الدار أو سكنها أو أجر الأمة أو زوجها أو علمها أو وطئها لم يكن رجوعا لأن ذلك لا يزيل الملك ولا
الاسم ولا يدل على الرجوع ويحتمل أن وطئ الأمة رجوع لأنه يعوضها للخروج عن جواز النقل
والأول أولى لأنه انتفاع لا يزيل الملك في الحال ولا يفضي إليه يقينا فأشبه لبس الثوب فإنه ربما
أتلفه وليس برجوع
(فصل) نقل الحسن بن ثواب عن أحمد في رجل قال هذا ثلثي لفلان ويعطي فلان منه مائة في
كل شهر إلى أن يموت فهو للآخر منهما ويعطى هذا مائة في كل شهر فإن مات وفضل شئ رد إلى صاحب
الثلث فحكم الوصية وانفاذها على ما أمر به الموصي
{مسألة} قال (ومن كتب وصية ولم يشهد فيها حكم بها ما لم يعلم رجوعه عنها)
نص أحمد على هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم فقال من مات فوجدت وصيته مكتوبة عند رأسه
ولم يشهد فيها وعرف خطه وكان مشهور الخط يقبل ما فيها. وروي عن أحمد أنه لا يقبل الخط في الوصية ولا
يشهد على الوصية المختومة حتى يسمعها الشهود منه أو تقرأ عليه فيقر بما فيها وبهذا قال الحسن وأبو
قلابة والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الحكم لا يجوز برؤية خط الشاهد بالشهادة بالاجماع فكذا ههنا
488

وأبلغ من هذا أن الحاكم لو رأى حكمه بخطه تحنه ختمه ولم يذكر أنه حكم به أو رأى الشاهد شهادته
بخطه ولم يذكر الشهادة لم يجز للحاكم انفاذ الحكم بما وجده ولا للشاهد الشهادة بما رأى خطه به فههنا
أولى، وقد نص أحمد على هذا في الشهادة، ووجه قول الخرقي قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما من امرئ مسلم له
شئ يوصي فيه يبيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده " ولم يذكر شهادته وما ذكرنا ه في الفصل الأول
الذي يلي هذا، ولان الوصية يتسامح فيها ولهذا صح تعليقها على الخطر والغرر وصحت للحمل به وبما
لا يقدر على تسليمه وبالمعدوم والمجهول فجاز أن يتسامح فيها بقبول الخط كرواية الحديث
(فصل) وإن كتب وصيته وقال اشهدوا علي بما في هذه الورقة أو قال هذه وصيتي فاشهدوا علي
بها فقد حكي عن أحمد أن الرجل إذا كتب وصيته وختم عليها وقال للشهود اشهدوا علي بما في هذا
الكتاب لا يجوز حتى يسمعوا منه ما فيه أو يقرأ عليه فيقر بما فيه وهو قول من سمينا في المسألة الأولى
ويحتمل كلام الخرقي جوازه لأنه إذا قبل خطه المجرد فهذا أولى، وممن قال ذلك عبد الملك بن يعلى
ومكحول ونمير بن إبراهيم ومالك والليث والأوزاعي ومحمد بن مسلمة وأبو عبيد وإسحاق
واحتج أو عبيد بكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عماله وأمرائه في أمر ولايته وأحكامه وسننه ثم
ما عملت به الخلفاء الراشدون المهديون بعده من كتبهم إلى ولاتهم بالأحكام التي فيها الدماء والفروج
والأموال يبعثون بها مختومة لا يعلم حاملها ما فيها وأمضوها على وجوهها وذكر استخلاف سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز بكتاب كتبه وختم عليه ولا نعلم أحدا أنكر ذلك مع شهرته وانتشاره في علماء العصر
فكان اجماعا ووجه الأول انه كتاب لا يعلم الشاهد ما فيه فلم يجز أن يشهد عليه ككتاب القاضي إلى
489

القاضي، فأما ما ثبت من الوصية بشهادة أو اقرار الورثة به فإنه يثبت حكمه ويعمل به ما لم يعلم رجوعه
عنه وإن طالت مدته وتغيرت أحوال الموصى به مثل أن يوصي في مرض فيبرأ منه ثم يموت بعد أو يقتل
لأن الأصل بقاؤه فلا يزول حكمه بمجرد الاحتمال والشك كسائر الأحكام
(فصل) ويستحب أن يكتب الموصي وصيته ويشهد عليها لأنه أحفظ لها وأحوط لما فيها وقد
صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده "
وروي عن أنس أنه قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا ما أوصى به
فلان أنه يشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله (وان الساعة آتية لا ريب
فيها وأن الله ببعث من في القبور) وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا
الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب (يا بني ان الله اصطفى لكم
الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) أخرجه سعيد عن فضيل بن عياض عن هشام بن حسان عن
ابن سيرين عن أنس
وروي عن ابن مسعود انه كتب (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا ذكر ما أوصي به عبد الله بن
مسعود ان حدث بي حادث الموت من مرضي هذا ان مرجع وصيتي إلى الله والى رسوله ثم إلى الزبير
ابن العوام وابنه عبد الله وانهما في حل وبل فيما وليا وقضيا وانه لا تزوج امرأة من بنات عبد الله الا
باذنهما وروي ابن عبد البر قال كان في وصية أبي الدرداء (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا ما أوصى به أبو
الدرداء انه يشهد ان لا إله إلا الله وحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وان الجنة حق وان
490

النار حق وان الله يبعث من في القبور وانه يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت على ذلك يحيا ويموت إن شاء الله
وأوصى فيما رزقه الله تعالى بكذا وكذا وان هذه وصيته ان لم يغيرها
{مسألة} (قال وما أعطى في مرضه الذي ماث فيه فهو من الثلث)
وجملة ذلك أن التبرعات المنجرة كالعتق والمحاباة والهبة المقبوضة والصدقة والوقف والابراء
من الدين والعفو عن الجناية الموجبة للمال إذا كانت في الصحة فهي من رأس المال لا نعلم في هذا خلافا
وان كانت في مرض مخوف اتصل به الموت فهي من ثلث المال في قول جمهور العلما، وحكي عن أهل
الظاهر في الهبة المقبوضة انها من رأس المال وليس بصحيح لما روي أبو هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم "
رواه ابن ماجة وهذا يدل بمفهومه على أنه ليس له أكثر من الثلث وروى عمران بن حصين ان
رجلا من الأنصار أعتق ستة أعبد له في مرضه لا مال له غيرهم فاستدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة
أجزاء وأقرع بينهم فاعتق اثنين وأرق أربعة متفق عليه وإذا لم ينفذ العتق مع سرايته فغيره أولى ولأن هذه
الحال الظاهر منها الموت فكانت عطية فيها في حق ورثته لا تتجاوز الثلث كالوصية
(فصل) وحكم العطايا في مرض الموت المخوف حكم الوصية في خمسة أشياء (أحدها) ان يقف
نفوذها على خروجها من الثلث أو إجازة الورثة (الثاني) انها لا تصح لوارث الا بإجازة بقية الورثة (الثالث)
491

ان فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة في الصحة ولان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة قال " ان
تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا
ولفلان كذا وقد كان لفلان " متفق عليه ولفظه قال: قال رجل يا رسول الله اي الصدقة أفضل؟ (الرابع) انه
يزاحم بها الوصايا في الثلث (الخامس) ان خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ولا بعده ويفارق الوصية في
ستة أشياء (أحدها) انها لازمة في حق المعطي ليس له الرجوع فيها وان كثرت ولان المنع على الزيادة من
الثلث إنما كان لحق الورثة لا لحقه فلم يملك اجازتها ولا ردها وإنما كان له الرجوع في الوصية لأن التبرع بها
مشروط بالموت فلم يملك اجازتها ولا ردها وإنما كان له الرجوع في الوصية لأن التبرع مشروط بالموت
ففيما قبل الموت لم يوجد التبرع ولا العطية بخلاف العطية في المرض فإنه قد وجدت العطية منه
والقبول من المعطى والقبض فلزمت كالوصية إذا قبلت بعد الموت وقبضت (الثاني) ان قبولها على الفور
في حال حياة المعطي وكذلك ردها، والوصايا لا حكم لقبولها ولا ردها الا بعد الموت لما ذكرنا من أن العطية
تصرف في الحال فتعتبر شروطه وقت وجوده والوصية تبرع بعد. الموت فتعتبر شروطه بعد الموت
(الثالث) ان العطية تفتقر إلى شروطها المشروطة لها في الصحة من العلم وكونها لا يصح تعليقها على شرط
وغرر في غير العتق والوصية بخلافه (الرابع) انها تقدم على الوصية وهذا قول الشافعي وجمهور العلما وبه
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر الا في العتق فإنه حكي عنهم تقديمه لأن العتق بتعلق به حق الله
تعالى ويسري وقفه وينفذ في ملك الغير فيجب تقديمه
ولنا ان العطية لازمة في حق المريض فقدمت على الوصية كعطية الصحة وكما لو تساوى الحقان
(الخامس) ان العطايا إذا عجر العتق عن جميعها بدئ بالأول فالأول سواء كان الأول عتيقا أو غيره وبهذا
492

قال الشافعي وقال أبو حنيفة الجميع سواء إذا كانت من جنس واحد، وان وكانت من أجناس وكانت المحاباة
متقدمة قدمت وان تأخرت سوي بينها وبين العتق، وإنما كان كذلك لأن المحاباة حق آدمي على وجه المعاوضة
فقدمت إذا تقدمت كقضاء الدين وإذا تساوى جنسها سوي بينها لأنها عطايا من جنس واحد تعتبر من
الثلث فسوي بينها كالوصية وقال أبو يوسف ومحمد يقدم العتق تقدم أو تأخر
ولنا أنهما عطيتان منجزتان فكانت أولاهما أولى كما لو كانت الأولى محاباة عند أبي حنية أو
عتقا عند صاحبيه ولان العطية المنجزة لازمة في حق المعطي فإذا كانت خارجة من الثلث لزمت في حق
الورثة فلو شاركتها الثانية لمنع ذلك لزومها في حق المعطي لأنه يملك الرجوع عن بعضها بعطية أخرى
بخلاف الوصايا فإنها غير لازمة في حقه وإنما تلزم بالموت في حال واحدة فاستويا لاستوائهما في حال
لزومهما بخلاف المنجزتين وما قاله في المحاباة غير صحيح فإنها بمنزلة الهبة ولو كانت بمنزلة المعاوضة أو
الدين لما كانت من الثلث فاما ان وقعت دفعة واحدة كأن وكل جماعة في هذه التبرعات فأوقعوها
دفعة واحدة فإن كانت كلها عتقا أقرعنا بينهما فكملنا العتق كله في بعضهم، وان كانت كلها من غير
العتق قسمنا الثلث بينهم على قدر عطاياهم لأنهم تساووا في الاستحقاق فقسم بينهم على قدر حقوقهم
كغرماء المفلس وإنما خولف هذا الأصل في العتق لحديث عمران بن حصين ولان القصد بالعتق يكمل
الأحكام ولا تكمل الأحكام الا بتكميل العتق بخلاف غيره ولان في قسمة العتق عليهم إضرارا بالورثة
والميت والعبيد على ما يذكر في موضعه، وان وقعت دفعة واحدة وفيها عتق وغيره ففيه روايتان (إحداهما)
يقدم العتق لتأكيده (والثانية) بسوى بين الكل لأنها حقوق تساوت في استحقاقها فتساوت في تنفيذها
كما لو كانت من جنس واحد وذلك لأن استحقاقها حصل في حالة واحدة
(السادس) أن الواهب إذا مات قبل تقبيضه الهبة المنجزة كانت الخيرة للورثة: إن شاءوا قبضوا
وإن شاءوا منعوا والوصية تلزم بالقول بعد الموت بغير رضاهم
493

(فصل) إذا قال المريض إذا أعتقت سعدا فسعيد حر ثم أعتق سعدا عتق سعيد أيضا ان خرجا
من الثلث وإن لم يخرج من الثلث إلا أحدهما عتق سعد وحده ولم يقرع بينهما لوجهين (أحدهما)
ان سعدا سبق بالعتق (والثاني) ان عتقه شرط لعتق سعيد فلو رق بعضه لفات إعتاق سعيد أيضا
لفوات شرطه وإن بقي من الثلث ما يعتق به بعض سعيد عتق تمام الثلث منه، وإن قال إن أعتقت
سعدا فسعيد وعمرو حران ثم أعتق سعدا ولم يخرج من الثلث إلا أحدهم عتق سعد وحده لما ذكرنا
وإن خرج من الثلث اثنان أو واحد وبعض آخر عتق سعد وأقرع بين سعيد وعمرو فيما بقي من
الثلث لأن عتقهما في حال واحدة وليس عتق أحدهما شرطا في عتق الآخر، ولو خرج من الثلث
اثنان وبعض الثالث أقرعنا بينهما لتكميل الحرية في أحدهما وحصول التشقيص في الاخر، وإن قال إن
أعتقت سعدا فسعيد حر أو فسعيد وعمرو حران في حال اعتاقي سعدا فالحكم سواء لا يختلف لأن
عتق سعد شرط لعتقهما فلو رق بعضه لفات شرط عتقهما فوجب تقديمه، وإن كان الشرط في الصحة
والاعتاق في المرض فالحكم على ما ذكرنا
(فل) وان قال إن تزوجت فعبدي حر فتزوج في مرضه بأكثر من مهر المثل فالزيادة محاباة
معتبرة من الثلث، وإن لم تخرج من الثلث إلا المحاباة أو العبد فالمحاباة أولى لأنها وجبت قبل العتق
لكون التزويج شرطا في عتقه فقد سبقت عتقه ويحتمل أن يتساويا لأن التزويج سبب لثبوت المحاباة
وشرط للعتق فلا يسبق وجود أحدهما صاحبه فيكونان سواء ثم هل يقدم العتق على المحاباة؟ على روايتين
وهذا فيما إذا ثبتت المحاباة بأن لا ترث المرأة الزوج اما لوجود مانع من الإرث أو لمفارقته إياها في
494

حياته اما بموتها أو طلاقها أو نحوه فاما ان ورثنه تبينا أنها غير ثابتة لها إلا بإجازة الورثة فينبغي أن
يقدم العتق عليها لأنه لازم غير موقوف على الإجازة فيكون متقدما، وإن قال أنت حر في حال تزويجي
فتزوج وأصدق أكثر من مهر المثل فعلى القول الأول يتساويان لأن التزويج جعل جعالة لايقاع العتق
كما في عتق سعد وسعيد وبطلان المحاباة لا يبطل التزويج ولا يؤثر فيه وعلى الاحتمال الذي ذكرته يكون
العتق سابقا لأن المحاباة إنما ثبتت بتمام التزويج والعتق قبل تمامه فيكون سابقا على المحاباة فيتقدم لهذا
المعنى سيما إذا تأكد بقوته وكونه لغير وارث
(فصل) إذا أعتق المريض شقصا من عبد ثم أعتق شقصا من آخر ولم يخرج من الثلث الا العبد
الأول عتق وحده لأنه يعتق حين يلفظ باعتاق شقصه وان خرج الأول وبعض الثاني عتق ذلك وان
أعتق الشقصين دفعة واحدة فلم يخرج من الثلث الا الشقصان عتقا ورقي باق العبدين وان لم يخرج
الا أحدهما أقرع بينهما، وان خرج عتق الشقصان وباقي أحد العبدين ففيه وجهان (والثاني) يقسم ما بقي من
الثلث بينهما بغير قرعة لأنه أوقع عتقا مشقصا فلم يكلمه بخلاف ما إذا أعتق العبدين ولهذا إذا لم يخرج
من الثلث الا الشقصان أعتقناهما ولم يقرع بينهما ولم يكمله من أحدهما، ولو أوصى باعتاق النصيبين
وان يكمل عتقهما من ثلثه ولم يخرج من الثلث الا النصيبان وقيمة باقي أحدهما أقرعنا بينهما فمن خرجت
قرعته كمل العتق فيه لأن الموصي أوصى بتكميل العتق فجرى مجرى اعتاقهما بخلاف التي قبلها
(فصل) وإذا ملك المريض من يعتق عليه بغير عوض كالهبة والميراث عتق وورث المريض إذا
495

مات وبهذا قال مالك وأكثر أصحاب الشافعي وقال بعضهم يعتق ولا يرث لأن عتقه وصية فلا يجتمع
مع الميراث وهذا لا يصح لأنه لو كان وصية لاعتبر من الثلث كما لو اشتراه وجعل أهل العراق عتق
المرهون وصية يعتبر خروجه من الثلث فإن خرج من الثلث عتق وورث وان لم يخرج من الثلث يسعى
في قيمة باقيه ولم يرث في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يحتسب بقيمته من ميراثه فإن فضل
من قيمته شئ سعى فيه
ولنا ان الوصية هي التبرع بما له بعطية أو اتلاف أو التسبب إلي ذلك ولم يوجد واحد منهما لأن
العتق ليس من فعله ولا يقف على اختياره وقبول الهبة ليس بعطية ولا اتلاف لماله وإنما هو تحصيل شئ
يتلف بتحصيله فأشبه قبوله لشئ لا يمكنه حفظه أو لما يتلف ببقائه في وقت لا يمكنه التصرف فيه وفارق
الشراء فإنه تضيع لماله في ثمنه وقال القاضي هذا الذي ذكرناه قياس قول أحمد لأنه قال في مواضع إذا وقف
في مرضه على ورثته صح ولم يكن وصية لأن الوقف ليس بمال لأنه لا يباع ولا يورث، قال الخبري
هذا قول أحمد وابن الماجشون وأهل البصرة ولم يذكر فيه عن أحمد خلافا فأما ان اشترى من يعتق
عليه فقال القاضي ان حمله الثلث عتق وورثه وهذا قول مالك وأبي حنيفة وان لم يخرج من الثلث عتق
منه بقدر الثلث ويرث بقدر ما فيه من الحرية وباقيه على الرق فإن كان الوارث ممن يعتق عليه إذا ملكه
عتق عليه إذا ورثه وقال أبو يوسف ومحمد لا وصية لوارث ويحتسب بقيمته من ميراثه فإن فضل من
قيمته شئ سعة فيه، وقال بعض أصحاب مالك يعتق من رأس المال ويرث كالموهوب والموروث
وهو قياس قوله لكونه لم يجعل الوقف وصية وإجازة للوارث فهذا أولى لأن العبد لا يملك رقبته فيجعل
496

ذلك وصية له ولا يجوز ان يجعل الثمن وصية له لأنه لم يصل إليه ولا وصية للبائع لأنه قد عاوض عنه
وإنما هو كبناء مسجد وقنطرة في أنه ليس بوصية لمن ينتفع به فلا يمنعه ذلك لميراث واختلف أصحاب
الشافعي في قياس قوله فقال بعضهم إذا حمله الثلث عتق وروث لأن عتقه ليس بوصية له على ما ذكرنا
وقيل يعتق ولا يرث لأنه لو ورث لصارت وصية لوارث فتبطل وصيته ويبطل عتقه وإرثه فيفضي توريثه
إلى ابطال توريثه فكان ابطال توريثه أولى وقيل على مذهبه شراؤه باطل لأن ثمنه وصية والوصية
تقف على خروجها من الثلث أو إجازة الورثة والبيع عنده لا يجوز أن يكون موقوفا، ومن مسائل
ذلك مريض وهب له ابنه فقبله وقيمته مائة وخلف مائتي درهم وابنا آخر فإنه يعتق وله مائة ولأخيه مائة
وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وقيل على قول الشافعي لا يرث والمائتان كلها للابن الحر وقال أبو يوسف
ومحمد يرث نصف نفسه ونصف المائتين ويحتسب بقيمة نصف الباقي من ميراثه وإن كان قيمته مائتين وبقية
التركة مائة عتق من رأس المال والمائة بينه وبين أخيه وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يعتق منه نصفه لأنه
قدر ثلث التركة ويسعى في قيمة باقيه ولا يرث لأن المستسعى عنده كالعبد لا يرث الا في أربعة مواضع (الرجل)
يعتق أمته على أن تتزوجه (والمرأة) تعتق عبدها على أن يتزوجها فيأبيان ذلك (والعبد المرهون يعتقه سيده)
والمشتري للعبد يعتقه قبل قبضه وهما معسران ففي هذه المواضع يسعى كل واحد في قيمته وهو حر
يرث، وقال أبو يوسف ومحمد يرث نصف التركة وذلك ثلاثة أرباع رقبته ويسعى في ربع قيمته لأخيه
وان وهب له ثلاث أخوات متفرقات لا مال له سواهن ولا وارث عتقن من رأس المال وهذا قول
مالك، وإن كان اشتراهن فكذلك فيما ذكره الخبري عن أحمد وهو قول ابن الماجشون وأهل البصرة
497

وبعض أصحاب مالك. وعلى قول القاضي يعتق ثلثهن في أحد الوجهين وهو قول مالك، وفي الاخر
يعتقن كلهن لكون وصية من لا وارث له جائزه في جميع ماله في أصح الروايتين، وان ترك مالا يخرجن
من ثلثه عتقن وورثن، وقال أبو حنيفة إذا اشتراهن أو وهبن له ولا مال له سواهن ولا وارث عتقن
وتسعى كل واحد من الأخت للأب والأخت للام في نصف قيمتها للأخت من الأب والام وإنما لم
يرثا لأنهما لو ورثا لكان لهما خمسا الرقاب وذلك رقبة وخمس بينهما نصفين فكان يبقى عليهما سعاية
وإذا بقيت عليهما سعاية لم يرثا وكانت لهما الوصية وهي رقبة بينهما نصفين، وأما الأخت للأبوين
فإذا ورثت عتقت لأن لها ثلاثة أخماس الرقاب وذلك أكثر من قيمتها فورثت وبطلت وصيتها، وقال
أبو يوسف ومحمد تبعض وتسعى كل واحدة من الأخت للأب والأخت من الام للأخت من الأبوين
في خمسي قيمتها لأن كل واحدة ترث ثلاثة أخماس رقبة وعلى قول الشافعي يعتقن
(فصل) وان اشترى المريض أباه بألف لا مال له سواه ثم مات وخلف ابنا فعلى القول الذي
حكاه الخبري يعتق كله على المريض وله ولاؤه، وعلى قول القاضي يعتق ثلثه بالوصية وبعتق باقيه على
الابن لأنه جده ويكون ثلث ولائه للمشتري وثلثاه لابنه وهذا قول مالك وقيل هو مذهب للشافعي
وقال أبو حنيفة يعتق ثلثه بالوصية ويسعى للابن في قيمة ثلثيه
وقال أبو يوسف ومحمد يعتق سدسه لأنه ورثه ويسعى في خمسة أسداس قيمته للابن ولا وصية
له وقيل على قول الشافعي يفسخ البيع الا أن يجيز الابن عتقه، وقيل يفسخ في ثلثيه ويعتق في ثلثه
وللبائع الخيار لتفرق الصفقة عليه وقيل لا خيار له لأنه متلف فإن ترك ألفين سواه عتق كله وورث
سدس الألفين والباقي للابن، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وقيل نحوه على قول الشافعي وقيل على قوله
يعتق ولا يرث، وقيل شراؤه مفسوخ
وقال أبو يوسف ومحمد يرث الأب سدس التركة وهو خمسمائة يحتسب بها من رقبته ويسعى
في نصف قيمته ولا وصية له، وان اشترى ابنه بألف لا يملك غيره ومات وخلف أباه عتق كله بالشراء
498

في الوجه الأول، وفي الثاني يعتق ثلثه بالوصية وثلثاه على جده عند الموت وولاؤه بينهما أثلاثا،
وبهذا قال مالك وقول الشافعي فيه على ما ذكرنا في مسألة الأب. وقال أبو حنيفة: يعتق ثلثه بالوصية
ويسعى في قيمة ثلثيه للأب ولا يرث
وقال أبو يوسف ومحمد يرث خمسة أسداسه ويسعى في قيمة سدسه، وان ترك ألفين سواه عتق
كله وورث خمسة أسداس الألفين وللأب السدس، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال أبو يوسف
ومحمد: للأب سدس التركة خمسمائة وباقيها للابن يعتق منها ويأخذ ألفا وخمسمائة، وان خلف
مالا يخرج المبيع من ثلثه فعلى الوجه الأول يعتق كله ويرث منه كأنه حر الأصل، وعلى الوجه الثاني
يعتق منه بقدر ثلث التركة ويرث بقدر ما فيه من الحرية فإن لم يخلف المشتري أبا حرا ولكن خلف
أخا حرا ولم يترك مالا عتق من رأس المال على الوجه الأول ويعتق ثلثه على الثاني ويرث الأخ ثلثيه
ثم يعتق عليه. وقال أبو حنيفة يعتق ثلثه ويسعى لعمه في قيمة ثلثيه. وقال أبو يوسف ومحمد يعتق كله
ولا سعاية وان خلف الفين سواه عتق وورث الألفين ولا شئ للأخ في الأقوال كلها الا ما قيل
على قول الشافعي انه يعتق ولا يرث وقيل شراؤه باطل فإن اشترى ابنيه بألف لا يملك غيره
وقيمته ثلثا الف وخلف ابنا آخر فعلى الوجه الأول يعتق من رأس المال ويستقر ملك البائع على
قدر قيمته من الثمن وله ثلث الباقي لأن المشتري حاباه به ولم يبق من التركة سواه فيكون له ثلثه
وهو تسع ألف ويرد التسعين فتكون بين الابنين وعلى الوجه الثاني يعتق ثلثه ويرث أخوه ثلثه فيعتق
عليه وللبائع ثلث المحاباة ويرد ثلثيها فيكون ميراثا
499

وقال أبو حنيفة الثلث للبائع ويسعى المشتري في قيمته لأخيه وقال أبو يوسف ومحمد يسعى في
نصف رقبته ويرث نصفها، وقال الشافعي المحاباة مقدمة لتقديمها ويرث الابن الحر أخاه فيملكه وقيل
يفسخ البيع في ثلثيه ويعتق ثلثه ولا تقدم المحاباة لأن في تقديمها تقرير ملك الأب على ولده، وقيل
يفسخ البيع في جميعه فإن كانت قيمته ثلث الألف فعلى الوجه الأول يعتق من رأس المال وتنفذ المحاباة في
ثلث الباقي وهو تسعا ألف ويرد البائع أربعة أتساع ألف فتكون بين الابنين وعلى الوجه الآخر يحتمل وجهين
(أحدهما) تقديم العتق على المحاباة فيعتق جميعه ويرد البائع ثلثي الألف فيكون بينهما (والثاني)
أن يعتق ثلثه ويكون للبائع تسعا ألف ويرد أربعة أتساعها كما قلنا في الوجه الأول، وقال أبو حنيفة
للبائع بالمحاباة الثلث ويرد الثلث ويسعى الابن في قيمته لأخيه وفي قول أبي يوسف ومحمد يرد البائع ثلث
الألف فيكون للابن الحر ويعتق الآخر بنصيبه من الميراث وقيل على قول الشافعي يرد البائع ثلث
الألف فيكون ذلك مع الابن المشتري للحر وقيل غير ذلك، وإن اشتراه بألف لا يملك غيره وقيمته
ثلاثة آلاف فمن أعتقه من رأس المال جعله حرا ومن جعل ذلك وصية له أعتق ثلثه بالشراء ويعتق
باقيه على أخيه الا في قول الشافعي ومن وافقه فإن الحر يملك بقية أخذه فيملك من رقبته قدر ثلثي الثمن
500

وذلك تسعا رقبة لأنه يجعل ثمنه من الثلث دون قيمته وقيل يفسخ البيع في ثلثيه وقيل في جميعه، وقال
أبو حنيفة يسعى لأخيه في قيمة ثلثيه
وقال أبو يوسف ومحمد يسعى له في نصف قيمته فإن ترك ألفين سواه عتق كله لأن التركة هي
الثمن مع الألفين والثمن يخرج من الثلث فيعتق ويرث نصف الألفين وهو قول الشافعي وقيل يعتق ولا
يرث وعند أبي حنيفة وأصحابه التركة قيمته مع الألفين وذلك خمسة آلاف فعلى قول أبي حنيفة يعتق منه قدر
ثلث ذلك وهو ألف وثلثا ألف ويسعى لأخيه في الألف وثلث ألف وفي قول صاحبيه يعتق منه نصف
ذلك وهو خمسة أسداسه ويسعى لأخيه في خمسمائة والألفان لأخيه في قولهم جميعا، ولو اشترى المريض
ابني عم له بألف لا يملك غيره وقيمة كل واحد منهما ألف فأعتق أحدهما ثم وهبه أخاه ثم مات وخلفهما
وخلف مولاة فإن قياس قول القاضي إن شاء الله أن يعتق ثلثا المعتق إلا أن يجيز المولي عتق جميعه ثم
يرث بثلثيه ثلثي بقية التركة فيعتق منه ثمانية أتساعه ويبقى تسعة وثلث أخيه للمولى ويحتمل أن يعتق
كله ويرث أخاه فيعتقان جميعا لأنه يصير بالاعتاق وارثا لثلثي التركة فتنفذ اجازته في اعتاق باقيه
فتكمل له الحرية ثم يكمل الميراث له وفي قياس قول أبي الخطاب يعتق ثلثاه ولا يرث لأنه لو ورث
501

لكان اعتاقه وصية له فيبطل اعتاقه ثم يبطل ارثه فيؤدي توريثه إلى ابطال توريثه وهذا قول للشافعي
ويبقى ثلثه وابن العم الآخر للمولى وقال أبو حنيفة يعتق ثلثا المعتق ويسعي في قيمة ثلثه ولا يرث
وقال أبو يوسف ومحمد يعتق كله ويعتق عليه اخوه بالهبة ويكونان أحق بالميراث من المولى فإن كان للميت
مال سواهما اخذا ذلك المال بالميراث ويغرم بالمعتق لأخيه الموهوب نصف قيمته ونصف قيمة أخيه
لأن عتق الأول وصية له ولا وصية لوارث وقد صار وارث مع أخيه فورث نصف قيمة نفسه ونصف
قيمة أخيه وورث اخوه الباقي وكان اخوه الموهوب له هبة من المريض فعتق بقرابته منه ولم يعتق
من المريض فلم يكن عتقه وصية بل استهلكها بالعتق الذي جرى فيها فيغرم الأول نصف قيمته ونصف
قيمة أخيه لأخيه واما قول أبو حنيفة فإن كان الميت لم يدع وارثا غيرهما عتقا وغرم الأول لأخيه نصف
قيمته أخيه ولم يغرم له نصف قيمه نفسه لأنه إذا لم يدع وارثا جازت وصيته لأنهما لا يرثان ولا يعتقان
حتى تجوز وصية الأول لأنه متي بقيت عليه سعاية لم يرث واحد منهما ولم يعتق فلابد من أن ينفذ للمعتق
وصية ليصير حرا فيعتق اخوه بعنقه وقد جازت له الوصية في جميع رقبته لأن الميت لأنه يقول قد صرت انا
وأنت وارثين فلا تأخذ من الميراث شيئا دوني وقد كانت رقبتي لك وصية وعتقت من قبلك فاضمن
لي نصف رقبتي فإن كان معسر أو هناك مال غيرهما اخذ الثاني نصفه ثم أخذ من النصف الثاني نصف قيمة
نفسه وكان ما بقي ميراثا لأخيه الأول
502

(فصل) وإذا كان للمريض ثلاثة آلاف فتبرع بألف ثم اشترى أباه مما بقي وله ابن فعلى قول
من قال ليس الشراء بوصية يعتق الأب وينفذ من التبرع قدر ثلث المال حال الموت وما بقي فللأب
سدسه وباقيه للابن، على قول القاضي ومن جعله وصية لا يعتق أب لأن تبرع المريض إنما ينفذ في
الثلث ويقدم الأول فالأول وإذا قدم التبرع لم يبق من الثلث شئ ويرثه الابن فيعتق عليه ولا يرث
لأنه إنما عتق بعد الموت، وان وهب له أبوه عتق وورث لأن الهبة ليست بوصية وكذلك أن ورثه
وان اشترى أباه ثم أعتقه لم يعتق على قول القاضي لأنه إذا لم يعتق بالملك وهو أقوى من الاعتاق بالقول
بدليل نفوذه في حق الصبي والمجنون فأولى أن لا ينفذ بالقول
(فصل) وإن ملك المريض من يرثه ممن لا يعتق عليه كان عمه فأعتقه في مرضه كان اعتاقه وصية
معتبرة من الثلث بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين العبيد الذين أعتقهم مالكهم عند موته ولم يكن
له مال سواهم فاعتبر عتقهم من الثلث، فعلى هذا يعتبر خروج المعتق من الثلث فإن خرج من الثلث
عتق ولم يرث ذكره أبو الخطاب في مريض ملك ابن عمه في مرضه فأقر بأنه كان أعتقه في صحته عتق
ولم يرث لأنه لو ورث لكان اقراره لوارث فلا يقبل فيؤدي توريثه إلى ابطال عتقه ثم يبطل ميراثه
503

فكان اعتاقه من غير توريث أولي ومقتضى قول القاضي أنه يعتق ويرث لأنه حر حين موت موروثه ليس
بقاتل ولا مخالف لدينه ويرث كما لو ورثه وان لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث ولا يرث على
القول الأول وعلى قول القاضي ينبغي أن يرث بقدر ما فيه من الحرية على ما يذكر في المعتق بعضه
(فصل) وما لزم المريض في مرضه من حق لا يمكنه دفعه واسقاطه كأرش الجناية وجناية عبده
وما عاوض عليه بثمن المثل، وما يتغابن الناس بمثله فهو من رأس المال لا نعلم فيه خلافا وهذا عند
الشافعي وأصحاب الرأي وكذلك النكاح بمهر المثل جائز من رأس المال لأنه صرف لما له في حاجة
نفسه فيقدم بذلك على وارثه، وكذلك لو اشترى جارية يستمتع بها كثيرة الثمن بثمن مثلها أو اشترى
من الأطمعة التي لا يأكل مثله منها جاز وصح شراؤه لأنه صرف لماله في حاجته وإن كان عليه دين أو
مات وعليه دين قدم بذلك على وارثه لقول الله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين)
(فصل) فاما ان قضي المريض بعض غرمائه ووفت تركته بسائر الديون صح قضاؤه ولم يكن
لسائر الغرماء الاعتراض عليه، وان لم يف بها ففيه وجهان (أحدهما) أن لسائر الغرماء الرجوع
عليه ومشاركته فيما أخذه وهو قول أبي حنيفة لأن حقوقهم تعلقت بماله بمرضه فمنعت تصرفه فيه بما
ينقص ديونهم كتبرعه ولأنه لو وصى بقضاء بعض ديونه لم يجز فكذلك إذا قضاها (والثاني) أنهم
لا يملكون الاعتراض عليه ولا مشاركته وهو قياس قول احمد ومنصوص الشافعي لأنه أدي واجبا
عليه فصح كما لو اشترى شيئا فأدى ثمنه أو باع بعض ماله وسلمه ويفارق الوصية فإنه لو اشترى ثيابا مثمنة صح
504

ولو وصى بتكفينه في ثياب مثمنة لم يصح يحقق هذا أن إيفاء ثمن المبيع قضاء لبعض غرمائه وقد صح عقيب
البيع فكذلك إذا تراخى إذ لا أثر لتراخيه
(فصل) وإذا تبرع المريض أو أعتق ثم أقر بدين لم يبطل تبرعه نص عليه احمد فيمن أعتق
عبده في مرضه ثم أقر بدين عتق العبد ولم يرد إلى الرق وهذا لأن الحق يثبت بالتبرع في الظاهر فلم
يقبل إقراره فيما يبطل به حق غيره
(فصل) ويعتبر في المريض الذي هذه أحكامه شرطان (أحدهما) أن يتصل بمرضه الموت ولو صح
في مرضه الذي أعطى فيه ثم مات بعد ذلك فحكم عطيته حكم عطية الصحيح لأنه ليس بمرض
الموت (الثاني) أن يكون مخوفا والأمراض على أربعة أقسام (غير مخوف) مثل وجع العين والضرس والصداع
اليسير وحمى ساعة فهذا حكم صاحبه حكم الصحيح لأنه لا يخاف منه في العادة
[الضرب الثاني] الأمراض الممتدة كالجذام وحمى الربع والفالج في انتهائه والسل في ابتدائه والحمى
الغب، فهذا الضرب ان أضنى صاحبها على فراشه فهي مخوفة وإن لم يكن صاحب فراش بل كان يذهب
ويجئ فعطاياه من جميع المال. قال القاضي: هذا تحقيق المذهب فيه، وقد روى حرب عن أحمد في
وصية المجذوم والمفلوج من الثلث وهو محمول على أنهما صارا صاحبي فراش وبه يقول الأوزاعي والثوري
505

ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور، وذكر أبو بكر وجهان في صاحب الأمراض الممتدة ان عطيته
من صلب المال وهو مذهب الشافعي لأنه لا يخاف تعجيل الموت فيه وإن كان لا يبرأ فهو كالهرم
ولنا انه مريض صاحب فراش يخشى التلف فأشبه صاحب الحمى الدائمة، وأما الهرم فإن صار
صاحب فراش فهو كمسئلتنا
[الضرب الثالث] من تحقق تعجيل موته فينظر فيه فإن كان عقله فقد اختل مثل من ذبح أو أبينت
حشوته فهذا لا حكم لكلامه ولا لعطيته لأنه لا يبقى له عقل ثابت وإن كان ثابت العقل كمن خرقت
حشوته أو اشتد مرضه ولم يتغير عقله صح تصرفه وتبرعه وكان تبرعه من الثلث فإن عمر رضي الله عنه
خرقت حشوته فقبلت وصيته ولم يختلف في ذلك، وعلي رضي الله عنه بعد ضرب ابن ملجم أوصى
وأمر ونهى فلم يحكم ببطلان قوله
(الضرب الرابع) مرض مخوف لا يتعجل موت صاحبه يقينا لكنه يخاف ذلك كالبرسام وهو
بخار يرقى إلى الرأس ويؤثر في الدماغ فيختل العقل والحمى الصالب والرعاف الدائم لأنه يصفي الدم
فيذهب القوة، وذات الجنب وهو قرح بباطن الجنب، ووجع القلب والرئة فإنها لا تسكن حركتها فلا
يندمل جرحها، والقولنج وهو أن ينعقد الطعام في بعض الأمعاء ولا ينزل عنه، فهذه كلها مخوفة سواء
كان معها حمى أولم يكن وهي مع الحمى أشد خوفا، فإن ثاوره الدم واجتمع في عضو كان مخوفا لأنه من
506

الحرارة المفرطة، وان هاجت به الصفراء فهي مخوفة لأنها تورث يبوسة وكذلك البلغم إذا هاج لأنه
من شدة البرودة وقد تغلب على الحرارة الغريزية فتطفئها، والطاعون مخوف لأنه من شدة الحرارة الا
أنه يكون في جميع البدن، وأما الاسهال فإن كان منخرقا لا يمكنه منعه ولا إمساكه فهو مخوف وإن كان ساعة
لأن من لحقه ذلك أسرع في هلاكه، وان لم يكن منخرقا لكنه يكون تارة وينقطع أخرى فإن كان يوما
أو يومين فليس بمخوف لأن ذلك قد يكون من فضلة الطعام إلا أن يكون معه زحير وتقطيع كأن
يخرج متقطعا فإنه يكون مخوفا لأن ذلك يضعف، وان دام الاسهال فهو مخوف سواء كان معه زحير
أو لم يكن، وما أشكل أمره من الأمراض رجع فيه إلى قول أهل المعرفة وهم الأطباء لأنهم أهل الخبرة
بذلك والتجربة والمعرفة ولا يقبل لا قول طبيبين مسلمين ثقتين بالغين لأن ذلك يتعلق به حق الوارث
وأهل العطايا فلم يقبل فيه إلا ذلك، وقياس قول الخرقي انه يقبل قول الطبيب العدل إذا لم يقدر
على طبيبين كما ذكرنا في باب الدعاوى، فهذا الضرب وما أشبهه عطاياه صحيحة لما ذكرناه من قصة عمر
رضي الله عنه فإنه لما جرح سقاه الطبيب لبنا فخرج من جرحه فقال له الطبيب: عهد إلى الناس، فعهد
إليهم ووصى فاتفق الصحابة على قبول عهده ووصيته، وأبو بكر لما اشتد مرضه عهد إلى عمر فنفذ عهده
507

{مسألة} قال (وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر)
يعني عطيتها من الثلث وهذا قول مالك وقال إسحاق إذا أثقلت لا يجوز لها الا الثلث ولم يحد
وحكاه ابن المنذر عن أحمد. وقال سعيد بن المسيب وعطاء وقتادة: عطية الحامل من الثلث. وقال
أبو الخطاب عطية الحامل من رأس المال ما لم يضربها المخاض فإذا ضربها المخاض فعطيتها من الثلث
وبهذا قال النخعي ومكحول ويحيى الأنصاري والأوزاعي والثوري والعنبري وابن المنذر، وهو
ظاهر مذهب الشافعي لأنه قبل ضرب المخاض لا تخاف الموت ولأنها إنما تخاف الموت إذا ضربها الطلق
فأشبهت صاحب الأمراض الممتدة قبل أن يصير صاحب فراش، وقال الحسن والزهري: عطيتها
كعطية الصحيح وهو القول الثاني للشافعي لأن الغالب سلامتها، ووجه قول الخرقي ان ستة الأشهر
وقت يمكن الولادة فيه وهي من أسباب التلف، والصحيح إن شاء الله أنها إذا ضربها الطلق كان مخوفا
لأنه ألم شديد يخاف منه التلف فأشبهت صاحب سائر الأمراض المخوفة، وأما قبل ذلك فلا ألم بها
واحتمال وجوده خلاف العادة فلا يثبت الحكم باحتماله البعيد مع عدمه كالصحيح فأما بعد الولادة فإن
بقيت المشيمة معها فهو مخوف، وإن مات الولد معها فهو مخوف لأنه يصعب خروجه وإن وضعت الولد
وخرجت المشيمة وحصل ثم ورم أو ضربان شديد فهو مخوف وإن لم يكن شئ من ذلك فقد روي
508

عن أحمد في النفساء ان كانت ترى الدم فعطيتها من الثلث ويحتمل أنه أراد بذلك إذا معه ألم للزومه
لذلك في الغالب ويحتمل أن يحمل على ظاهره فإنها إذا كانت ترى الدم كانت كالمريض وحكمها بعد
السقط كحكمها بعد وضع الولد التام، وإن أسقطت مضغة أو علقة فلا حكم له الا أن يكون ثم مرض
أو ألم وهذا كله مذهب الشافعي إلا أن مجرد الدم عنده ليس بمخوف
(فصل) ويحصل الخوف بغير ما ذكرناه في مواضع خمسة تقوم مقام المرض (أحدها) إذا التحم
الحرب واختلطت الطائفتان للقتال وكانت كل طائفة مكافئة للأخرى أو مقهورة، فأما القاهرة منهما
بعد ظهورها فليست خائفة، وكذلك إذا لم يختلطوا بل كانت كل واحدة منهما متميزة سواء كان
بينهما رمي بالسهام أو لم يكن فليست حالة خوف، ولا فرق بين كون الطائفتين متفقتين في الدين أو
مفترقتين وبه قال مالك والأوزاعي والثوري ونحوه عن مكحول وعن الشافعي قولان (أحدهما) كقول
الجماعة (والثاني) ليس بمخوف لأنه ليس بمريض
ولنا أن توقع التلف ههنا كتوقع المرض أو أكثر فوجب أن يلحق به ولان المرض إنما جعل
مخوفا لخوف صاحبه التلف وهذا كذلك، قال أحمد إذا حضر القتال كان عتقه من الثلث وعنه إذا
التحم الحرب فوصيته من المال كله فيحتمل أن يجعل هذا رواية ثانية وتسمى العطية وصية تجوزا لكونها
في حكم الوصية ولكونها عند الموت ويحتمل أن يحمل على حقيقته في صحة الوصية من المال كله لكن
509

يقف الزائد على الثلث على إجازة الورثة فإن حكم وصية الصحيح وخائف التلف واحد (الثانية) إذا
قدم ليقتل فهي حالة خوف سواء أريد قتله للقصاص أو لغيره وللشافعي فيه قولان (أحدهما) أنه مخوف
(والثاني) ان جرح فهو مخوف وإلا فلا لأنه صحيح البدن والظاهر العفو عنه
ولنا أن التهديد بالقتل جعل اكراها يمنع وقوع الطلاق وصحة البيع ويبيح كثيرا من المحرمات
ولولا الخرف لم ثبت هذه الأحكام وإذا حكم للمرض وحاضر الحرب بالخوف مع ظهور السلامة وبعد وجود
التلف فمع ظهور التلف وقربه أولى ولا عبرة بصحة البدن فإن المرض لم يكن مثبتا لهذا الحكم لعينه بل
لخوف افضائه إلى التلف فثبت الحكم ههنا بطريق التنبيه لظهور التلف
(الثالثة) إذا ركب البحر فإن كان ساكنا فليس بمخوف وإن تموج واضطرب وهبت الريح
العاصف فهو مخوف فإن الله تعالى وصفهم بشدة الخوف بقوله سبحانه (هو الذي يسيركم في البر والبحر
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل
مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين)
(الرابعة) الأسير والمحبوس إذا كان من عادته القتل فهو خائف عطيته من الثلث وإلا فلا وهذا
قول أبي حنيفة ومالك وابن أبي ليلى وأحد قولي الشافعي، وقال الحسن لما حبس الحجاج إياس بن
معاوية: ليس له من ماله لا الثلث، وقال أبو بكر عطية الأسير من الثلث ولم يفرق وبه قال الزهري
510

والثوري وإسحاق وحكاه ابن المنذر عن أحمد، وتأول القاضي ما روي عن أحمد في هذا على ما ذكرناه
من التفصيل ابتداء، وقال الشعبي ومالك الغازي عطيته من الثلث، وقال مسروق إذا وضع رجله في
الغرز، وقال الأوزاعي المحصور في سبيل الله والمحبوس ينتظر القتل أو تفقا عيناه هو في ثلثه والصحيح
إن شاء الله ما ذكرنا من التفصيل لأن مجرد الحبس والأسر من غير خوف القتل ليس بمرض ولا
هو في معنى المرض في الخوف فلم يجز إلحاقه به، وإذا كان المريض الذي لا يخاف التلف عطيته من
رأس ماله فغيره أولى
(الخامسة) إذا وقع الطاعون بلدة فعن أحمد أنه مخوف ويحتمل أنه ليس بمخوف فإنه ليس بمرض
وإنما يخالف المرض والله أعلم
(فصل) ويعتبر خروج العطية من الثلث حال الموت فمهما خرج من الثلث تبينا ان العطية صحت
فيه حال العطية فإن نما المعطى أو كسب شيئا قسم بين الورثة وبين صاحبه على قدر مالهما
فيه فربما افضى إلى الدور فمن ذلك إذا أعتق عبدا لا مال له سواه فكسب مثل قيمته في حياة سيده فللعبد
من كسبه بقدر ما عتق منه وباقية لسيده فيزداد به مال السيد وتزداد الحرية لذلك ويزداد حقه من كسبه
فينقص به حق السيد من الكسب وينقص بذلك قدر المعتق منه، فيستخرج ذلك بالجبر فيقال عتق من
العبد شئ وله من كسبه شئ لأن كسبه مثله وللورثة من العبد وكسبه شيئان لأن لهم مثلي ما عتق
منه وقد عتق منه شئ ولا يحسب على العبد ما حصل له من كسبه لأنه استحقه يجزئه الحر لامن جهة سيده
511

فصار للعبد شيئان وللورثة شيئان من العبد وكسبه فيقسم العبد وكسبه نصفين يعتق منه نصفه وله نصف
كسبه وللورثة نصفهما، وان كسب مثلي قيمته فله من كسبه شيئان صار له ثلاثة أشياء ولهم شيئان
فيقسم العبد وكسبه أخماسا يعتق منه ثلاثة أخماسه وله ثلاثة أخماس كسبه وللورثة خمساه وخمسا
كسبه، وان كسب ثلاثة أمثال قيمته فله ثلاثة أشياء من كسبه مع ما عتق منه ولهم شيئان فيعتق منه ثلثاه
وله ثلثا كسبه ولهم الثلث منهما وان كسب نصف قيمته عتق منه شئ وله نصف شئ ولهم شيئان فالجميع
ثلاثة أشياء ونصف إذا بسطتها انصافا صارت سبعة، له ثلاثة أسباعها فيعتق ثلاثة أسباعه وله ثلاثة
أسباع كسبه والباقي لهم فإن كانت قيمته مائة فكسب تسعة فاجعل له من كل دينار شيئا فقل عتق
منه مائة شئ وله من كسبه تسعة أشياء ولهم مائتا شئ ويعتق منه مائة جزء وتسعة اجزاء من ثلاثمائة
وتسعة وله من كسبه مثل ذلك ولهم مائتا جزء من نفسه ومائتان من كسبه، وإن كان على السيد دين
يستغرق قيمته وقيمة كسبه صرفا في الدين ولم يعتق منه شئ لأن الدين مقدم على التبرع وان لم يستغرق
قيمته وقيمة كسبه صرف من العبد وكسبه ما يقضى به الدين وما بقي منهما يقسم على ما يعمل في العبد الكامل
وكسبه. فلو كان على السيد دين كقيمته صرف فيه نصف العبد ونصف كسبه وقسم النصف الباقي بين
الورثة والعتق نصفين وكذلك بقية الكسب وان كسب العبد مثل قيمته وللسيد مال مثل قيمته قسمت
العبد ومثلي قيمته على الأشياء الأربعة فلكل شئ ثلاثة أرباع فيعتق من العبد ثلاثة أرباعه وله ثلاثة
أرباع كسبه ولو أعتق عبدا قيمته عشرون تم أعتق عبدا قيمته عشرة فكسب كل واحد منهما مثل قيمته
512

لكملت الحرية في العبد الأول فيعتق منه شئ وللورثة شيئان ويقسم العبدان
وكسبهما على الأشياء الأربعة فيكون لكل شئ خمسة عشر فيعتق منه بقدر ذلك وهو ثلاثة أرباعه
وله ثلاثة أرباع كسبه والباقي لهم وان بدأ بعتق الادني عتق كله وأخذ كسبه ويستحق الورثة من العبد
الآخر وكسبه مثلي العبد الذي عتق وهو نصفه ونصف كسبه ويبقي نصفه ونصف كسبه بينهما
نصفين فيعتق ربعه وله ربع كسبه ويرق ثلاثة أرباعه ويتبعه ثلاثة أرباع كسبه وذلك مثلا ما أعتق
منهما وان أعتق العبدين دفعه واحدة قرعنا بينهما فمن خرجت له قرعة الحرية فحكمه كما لو بدأ باعتاقه
(فصل) وان أعتق ثلاثة اعبد قيمتهم سواء وعليه دين بقدر قيمة أحدهم وكسب أحدهم مثل
قيمته أقرعنا بينهم لاخراج الدين (1) فإن وقعت على غير المكتسب عتق كله والمكتسب وماله للورثة
وان وقعت قرعة الحرية على المكتسب عتق منه ثلاثة أرباعه وله ثلاثة أرباع كسبه وباقية وباقي
كسبه والعبد الآخر للورثة كما قلنا فيما إذا كان للسيد مال بقدر قيمته ولو وقعت قرعة الدين ابتداء
على المكتسب لقضينا الدين بنصفه ونصف كسبة ثم أقرعنا بين باقية وبين العبدين الآخرين في
الحرية فإن وقعت على غيره عتق كله وللورثة ما بقي وان وقعت على المكتسب عتق باقية واخذ باقي
كسبه ثم نقرع بين العبدين لا تمام الثلث فمن وقعت عليه القرعة عتق ثلثه وبقي ثناه والعبد الآخر للورثة
ولو كان العبد موهوبا لانسان كان له من العبد وكسبه مثل ما للعبد من كسبه ونفسه في هذه المسائل كلها
(فصل) وإن أعتق عبدين متساويي القيمة بكلمة واحدة ولا مال له غيرهما فمات أحدهما قرع

(1) قوله أقرعنا بينهم لاخراج الدين فيه نظر لأن القرعة لا مدخل لها في تعيين
الدين لتعلق الدين بكل جزء من اجزاء التركة بخلاف العتق فإنه يتعين بها فلذلك يجب أن يقرع للعتق أولا ثم قوله ولو وقعت قرعة الدين ابتداء على المكتسب لقضينا الدين بنصفه ونصف
كسبه تحكم لا وجه له ويحتاج إلى جعل العتق في عبدين لذلك وهو خلاف للأصول إذ
كان يمكنه جعل العتق بكماله في واحد والله أعلم
513

بين الحي والميت فإن وقعت على الميت فالحي رقيق وتبين أن نصفه حر لأن مع الورثة مثلي نصفه
وإن وقعت على الحي عتق ثلثه ولا يحسب الميت على الورثة لأنه لم يصل إليهم
(فصل) رجل أعتق عبدا لا مال له سواء قيمته عشرة فمات قبل سيده وخلف عشرين فهي لسيده
بالولاء وتبين أنه مات حرا وكذلك إن خلف أربعين وبنتا وإن خلف عشرة عتق منه شئ وله من
كسبه شئ يكون ولسيده شيئان وقد حصل في يد سيده عشرة تعدل شيئين فتبين أن نصفه حر ونصفه رقيق
والعشرة يستحقها السيد نصفها بحكم الرق ونصفها بالولاء فإن خلف العبد ابنا فله من رقبته شئ ومن
كسبه شئ يكون لأبيه بالميراث ولسيده شيئان فتقسم العشرة على ثلاثة للابن ثلثها وللسيد ثلثاها وتبين
أنه عتق من العبد ثلثه، وإن خلف بنتا فلها نصف شئ وللسيد شيئان فصارت العشرة على خمسة
للبنت خمسها وللسيد أربعة أخماسها تعدل شيئين فتبين أن خمسي العبد مات حرا، وإن خلف العبد
عشرين وابنا فله من كسبه شيئان يكونان لابنه ولسيده شيئان فصارت العشرون بين السيد وبين ابنه نصفين
وتبين أنه عتق منه نصفه فإن مات الابن قبل موت السيد وكان ابن معتقه ورثه السيد لأنا تبينا أن
أباه مات حرا لكون السيد ملك عشرين وهي مثلا قيمته فعتق وجر ولاء ابنه إلى سيده فورثه وإن لم يكن
ابن معتقه لم ينجر ولاؤه ولم يرثه سيد أبيه، وكذلك الحكم لو خلف هذا الابن عشرين ولم يخلف أبوه
514

شيئا أو ملك السيد عشرين من أي جهة كانت، وإن لم يملك عشرين لم ينجر ولاء الابن إليه لأن أباه لم
يعتق وإن عتق بعضه جر من ولاء ابنه بقدره فلو خلف الابن عشرة وملك السيد خمسة فإنك تقول
عتق من العبد شئ ويجر من ولاء أبيه مثل ذلك ويحصل له من ميراثه شئ مع خمسته وهما يعدلان
شيئين واقي العشرة لمولى أمه فيقسم بين السيد ومولى الام نصفين وتبين أنه قد عتق من العبد نصفه
وحصل للسيد خمسه من ميراث ابنه وكانت له خمسة وذلك مثلا ما عتق من العبد فإن مات الابن في
حياة أبيه قبل موت سيده وخلف مالا وحكمنا بعتق الأب أو عتق بعضه ورث مال ابنه إن كان حرا
أو بقدر ما فيه من الحرية إن كان بعضه حرا ولم يرث سيده منه شيئا وفي هذه المسائل خلاف تركت
ذكره كراهة التطويل
(فصل) في المحاباة في المرض وهي أن يعارض بماله ويسمح لمن عاوضه ببعض عوضه وهي على
أقسام (أحدها) المحاباة في البيع والشراء ولا يمنع ذلك صحة العقد في قول الجمهور. وقال أهل
الظاهر العقد باطل.
ولنا عموم قول الله تعالى (وأحل الله البيع) ولأنه تصرف صدر من أهله في محله فصح كغير
المريض فلو باع في مرضه عبدا لا يملك غيره قيمته ثلاثون بعشرة فقد حابا المشتري بثلثي ماله وليس
له المحاباة بأكثر من الثلث فإن أجاز الورثة ذلك لزم البيع وإن لم يجيزوا فاختار المشتري فسخ البيع
فله ذلك لأن الصفقة تبعضت عليه، وإن اختار امضاء البيع فالصحيح عندي أنه يأخذ نصف المبيع
515

بنصف الثمن ويفسخ البيع في الباقي وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والوجه الثاني أنه يأخذ
ثلثي المبيع بالثمن كله. إلى هذا أشار القاضي في نحو هذه المسألة لأنه يستحق الثلث بالمحاباة والثلث
الآخر بالثمن. وقال أهل العراق يقال له إن شئت أديت عشرة أخرى وأخذت المبيع، وإن شئت
فسخت ولا شئ لك، وعند مالك له أن يفسخ ويأخذ ثلث المبيع بالمحاباة ويسميه أصحابه خلع الثلث
ولنا أن فيما ذكرناه مقابلة بعض المبيع بقسطه من الثمن عند تعذر أخذ جميعه بجميعه فصح ذلك كما لو
أشترى سلعتين بثمن فانفسخ البيع في إحداهما لعيب أو غيره أو كما لو اشترى شقصا وسيفا فأخذ
الشفيع الشقص أو كالشفعاء يأخذ كل واحد منهم جزءا من المبيع بقسطه أو كما لو اشترى قفيزا يساوي
ثلاثين بقفيز قيمته عشرة وأما الوجه الذي اختاره القاضي فلا يصح لأنه أوجب له المبيع بثمن فيأخذ
بعضه بالثمن كله فلا يصح كما لو قال بعتك هذا بمائة فقال قبلت نصفه بها ولأنه إذا فسخ البيع في بعضه
وجب أن يفسخ في قدره من ثمنه ولا يجوز فسخ البيع فيه مع بقاء ثمنه كما لا يجوز فسخ البيع في
الجميع مع بقاء ثمنه
وأما قول أهل العراق فإن فيه اجبار الورثة على المعارضة على غير هذا الوجه الذي عاوض مورثهم وإذا فسخ
البيع لم يستحق شيئا لأن الوصية إنما حصلت في ضمن البيع فإذا بطل البيع زالت الوصية كما لو وصى لرجل
بعينه أن يحج عنه بمائة وأجر مثله خمسون فطلب الخمسين الفاضلة بدون الحج، وان اشترى عبدا
516

يساوي عشرة بثلاثين فإنه يأخذ نصفه بنصف الثمن، وإن باع العبد الذي يساوي ثلاثين بخمسه عشر
جاز والبيع في ثلثه بثلثي الثمن، وعلى قول القاضي للمشتري خمسة أسداسه بكل الثمن وطريق هذا
أن تنسب الثمن وثلث المبيع إلى قيمته فيصح البيع في قدر تلك النسبة وهو خمسة أسداسه وعلى الوجه
الأول يسقط الثمن من قيمة المبيع وينسب الثلث إلى الباقي فيصح البيع في قدر تلك النسبة وهو ثلثاه
بثلثي الثمن، فإن خلف البائع عشرة أخرى فعلى الوجه الأول يصح البيع في ثمانية أتساعه بثمانية أتساع
الثمن. وعلى الوجه الثاني يأخذ المشتري نصفه وأربعة أتساعه بجميع الثمن ويرد نصف تسعه وان باع
قفيز حنطة يساوي ثلاثين بقفيز يساوي عشرة أو بقفيز يساوي خمسة عشر تعين الوجه الذي اخترناه
في قول القاضي ومن وافقه لأن المساواة ههنا شرط في صحة البيع ولا تحصل بغير هذا الوجه وطريق
حسابها بالجبر فيما إذا باعه بما يساوي ثلث قيمته ان نقول يجوز البيع في شئ من الا رفع بشئ من
الأدون وقيمته ثلث شئ فتكون المحابة بثلثي شئ ألقهما من الارفع يبق قفيز الا ثلثي شئ يعدل
مثلي المحاباة وذلك شئ وثلث شئ فإذا جبر به عدل شيئين فالشئ نصف القفيز
(فصل) [القسم الثاني] المحاباة في التزويج إذا تزوج في مرضه امرأة صداق مثلها خمسة فأصدقها
عشرة لا يملك سواها ثم مات فإن ورثته بطلت المحاباة الا أن يجيزها سائر الورثة وان لم ترثه لكونها
517

مخالفة له في الدين أو غيره ذلك فلها مهرها وثلث ما حاباها به وان ماتت قبله فورثها ولم تخلف مالا
سوى ما أصدقها دخلها الدور فتصح المحاباة في شئ فيكون له خمسة بالصداق وشئ بالمحاباة ويبقى
لورثة الزوج خمسة الأشياء ثم رجع إليهم بالميراث نصف مالها وهو اثنان ونصف ونصف شئ صار
لهم سبعة ونصف الا نصف شئ يعدل شيئين أجبر وقابل يخرج الشئ ثلاثة فكان لها ثمانية رجع
إلى ورثة الزوج نصفها أربعة صار لهم ستة ولورثتها أربعة فإن ترك الزوج خمسة أخرى قلت يبقى مع
ورثة الزوج اثنا عشر ونصف الا نصف شئ يعدل شيئين فالشئ خمسة فجازت لها المحاباة جميعها
ورجع جميع ما حاباها به إلى ورثة الزوج وبقي لورثتها صداق مثلها. وإن كان للمرأة خمسة ولم يكن
للزوج شئ قلت يبقى مع ورثة الزوج عشرة الا نصف شئ يعدل شيئين فالشئ أربعة فيكون لها
بالصداق تسعة مع خمسها أربعة عشر رجع إلى ورثة الزوج نصفها مع الدينار الذي بقي لهم صار لهم
ثمانية ولورثتها سبعة وإن كان عليها دين ثلاثة قلت يبقي مع ورثة الزوج ستة الا نصف شئ يعدل
شيئين فالشئ ديناران وخمسان والباب في هذا ان ننظر ما يبقى في يد ورثة الزوج فخمساه هو الشئ
الذي صحت المحاباة فيه وذلك لأنه بعد الجبر يعدل شيئين ونصفا والشئ هو خمسا شيئين ونصف
وان شئت أسقطت خمسة وأخذت نصف ما بقي
(فصل) [القسم الثالث] أن يخالعها في مرضها بأكثر من مهرها فمذهب أحمد أن لورثتها أن
518

لا يعطوه أكثر من ميراثه منها يكون له الأقل من العوض أو ميراثه منها وبهذا قال أبو حنيفة: إن
خالعها بعد دخوله بها وماتت قبل انقضاء عدتها لأنها متهمة في أنها قصدت ايصال أكثر من ميراثه
إليه وعند مالك ان زاد على مهر المثل فالزيادة مردودة وعن مالك ان خلع المريضة باطل. وقال الشافعي
الزيادة على مهر المثل محاباة تعتبر من الثلث
وقال أبو حنيفة ان خالعها قبل دخوله بها أو مات بعد انقضاء عدتها فالعوض من الثلث، ومثال ذلك
امرأة اختلعت من زوجها بثلاثين لا مال لها سواها وصداق مثلها اثنا عشر فله خمسة عشر سواء قل صداقها
أو كثر لأنها قدر ميراثه وعند الشافعي له ثمانية عشر اثنا عشر لأنها قدر صداقها وثلث باقي المال بالمحاباة
وهو ستة، وإن كان صداقها ستة فله أربعة عشر لأن ثلث الباقي ثانية. مريض تزوج امرأة
على مائة لا يملك غيرها ومهر مثلها عشرة ثم مرضت فاختلعت منه بالمائة ولا مال لها سواها
فلها مهر مثلها ولها شئ بالمحاباة والباقي له ثم رجع إليه نصف مالها بالمحاباة وهو خمسة ونصف شئ صار
مع ورثته خمسة وتسعون الا نصف شئ يعدل شيئين بعد الجبر يخرج الشئ ثمانية وثلاثين فقد
صح لها بالصداق والمحاباة ثمانية وأربعون وبقي مع ورثته اثنان وخمسون فرجع إليهم بالخلع أربعة
وعشرون فصار معهم ستة وسبعون وبقي للمرأة أربعة وعشرون، وعند الشافعي يرجع إليهم صداق
المثل وثلث شئ بالمحاباة فصار بأيديهم مائة الا ثلثي شئ يعدل شيئين فالشئ ثلاثة أثمانها وهو
519

سبعة وثلاثون ونصف فصار لها ذلك ومهر المثل رجع إليه مهر المثل وثلث الباقي اثنا عشر ونصف
فيصير بأيدي ورثته خمسة وسبعون وهو مثلا محاباتها وعند أبي حنيفة يرجع إليهم ثلث العشرة وثلث
الشئ فصار معهم ثلاثة وتسعون وثلث إلا ثلثي شئ فالشئ ثلاثة أثنتها وهو خمسة وثلاثون مع
العشرة صار لها خمسة وأربعون رجع إلى الزوج ثلثها صار لورثتها ثلاثون ولورثته سبعون هذا
إذا ماتت بعد انقضاء عدتها، وإن تركت المرأة مائة أخرى فعلى قولنا يبقى مع ورثة الزوج مائة
وخمسة وأربعون إلا نصف شئ يعدل شيئين فالشئ خمسا ذلك وهو ثمانية وخمسون وهو الذي صحت
المحاباة فيه فلها ذلك. وعشرة بالمثل صار لها مائة وثمانية وستون رجع إلى الزوج نصفها أربعة وثمانون
وكان الباقي معه اثنان وثلاثون صار له مائة وستة عشر ولورثتها أربعة وثلاثون
فصل في الهبة
رجل وهب أخاه مائة لا يملك غيرها فقبضها ثم مات وخلف بنتا قد صحت الهبة في شئ والباقي
للواهب ورجع إليه بالميراث نصف الشئ الذي جازت الهبة فيه صار معه مائة الا نصف شئ يعدل
شيئين فالشئ خمسا ذلك أربعون رجع إلى الواهب نصفها عشرون صار معه ثلاثون وبقي لورثة أخي
الواهب عشرون وطريقها بالباب أن تأخذ عددا لثلثه نصف وهو ستة فتأخذ ثلاثة اثنين وتلقى نصفه
520

سهما يبقى سهم فهو للموهوب له ويبقى للواهب أربعة فتقسم المائة سهم على خمسة والسهم الذي
أسقطه لا يذكر لأنه يرجع على جميع السهام الباقية بالسوية فيجب اطراحه كالسهام الفاضلة عن الفروض
في مسألة الرد، وشبه هذه المسألة من مسائل الرد أم وأختان فللأختين أربعة وللأم سهم يسقط ذكر
السهم السادس، ولو كان ترك اثنتين ضربت ثلاثة في ثلاثة صارت تسعة وأسقطت منها سهما يبقى
سهمان فهي التي تبقى لورثة الموهوب له ويبقى ستة للواهب وهي مثلا ما جازت الهبة فيه، وإن خلف
امرأة وبنتا فمسئلتها من ثمانية تضربها في ثلاثة تكن أربعة وعشرين تسقط منها الثلاثة التي ورثها
الواهب يبقى أحد وعشرون فهي المال وتأخذ ثلث الأربعة والعشرين وهي ثمانية تلقى منها الثلاثة يبقى
خمسة فهي الباقية لورثة الموهوب له والباقي للواهب فتقسم المائة على هذه السهام
(فصل) فإن وهب مريض مريضا مائة لا يملك سواها ثم عاد الموهوب له فوهبها للأول،
ولا يملك سواها فبالباب نضرب ثلاثة في ثلاثة ونسقط منها سهما يبقى ثمانية فاقسم المائة عليها لكل سهم
521

خمسة وعشرون ثم خذ ثلثها ثلاثة أسقط منها سهما يبقى سهمان فهو للموهوب الأول وذلك هو الربع
وبالجبر قد صحت الهبة في شئ ثم صحت الهبة الثانية في ثلثه بقي للموهوب الأول ثلثا شئ وللواهب
مائة الا ثلثي شئ يعدل شيئين أجبر وقابل يخرج الشئ سبعة وثلاثين ونصفا رجع إلى الواهب ثلثها
اثنا عشر ونصف وبقي للموهوب له خمسة وعشرون فإن خلف الواهب مائة أخرى فقد بقي مع
الواهب مائتان إلا ثلثي شئ تعدل شيئين فالشئ ثلاثة أثمانها وذلك خمسة وسبعون رجع إلى الواهب
ثلثها بقي مع ورثته خمسون
(فصل) فإن وهب رجل رجلا جارية فقبضها الموهوب له ووطئها ومهرها ثلث قيمتها ثم مات
الواهب ولا شئ له سواها وقيمتها ثلاثون ومهرها عشرة فقد صحت الهية في شئ وسقط عنه من
مهرها ثلث شئ وبقي للواهب أربعون إلا شيئا وثلثا يعدل شيئين أجبر وقابل يخرج الشئ خمس
522

ذلك وعشره وهو اثنا عشر وذلك خمسا الجارية فقد صحت الهبة فيه ويبقى للواهب ثلاثة أخماسها
وله على الموهوب له ثلاثة أخماس مهرها ستة، ولو وطئها أجنبي فكذلك ويكن عليه مهرها ثلاثة أخماسه
للواهب وخمساه للموهوب له إلا أن نفوذ الهبة فيما زاد على الثلث منهما موقوف على حصول المهر
من الواطئ فإن لم يحصل منه شئ لم تزد الهبة على ثلثها وكلما حصل منه شئ نفذت الهبة في الزيادة
بقدر ثلثه، وإن وطئها الواهب فعليه من عقرها بقدر ما جازت الهبة فيه وهو ثلث شئ يبقى معه
ثلاثون الا شيئا يعدل شيئين فالشئ تسعة وهو خمس الجارية وعشرها وسبعة أعشارها لورثة الواطئ
وعليهم عقر الذي جازت الهبة فيه فإن أخذ من الجارية بقدرها صار له خمساها
(فصل) وإن وهب مريض رجلا عبدا لا يملك غيره فقتل العبد الواهب قيل للموهوب له اما
أن تفديه واما أن تسلمه فإن اختار تسليمه سلمه كله نصفه بالجنابة ونصفه لانتقاص الهبة فيه وذلك
لأن العبد كله قد صار إلى ورثة الواهب وهو مثلا نصفه فتبين أن الهبة جازت في نصفه وإن اختار
فداءه ففيه روايتان.
(إحداهما) يفديه بأقل الامرين من قيمة نصيبه منه أو أرش جنايته (والأخرى) يفديه بقدر ذلك
من أرش جنايته بالغة ما بلغت، فإن كانت قيمته دية فإنك تقول صحت الهبة في شئ وتدفع إليهم نصف
العبد وقيمة نصف وذلك يعدل شيئين فتبين ان الشئ نصف العبد وان كانت قيمته ديتين واختار
523

دفعه فإن الهبة تجوز في شئ وتدفع إليهم نصفه يبقى معهم عبد الا نصف شئ يعدل شيئين فالشئ
خمساه وبرد إليهم ثلاثة أخماسه لانتقاص الهبة وخمسا من اجل جنايته فيصير لهم أربعة أخماسه وذلك
مثلا ما جازل الهبة فيه وان اختار فداءه فداء بخمسي الدية ويبقى لهم ثلاثة أخماسه وخمسا الدية وهي بمنزلة
خمس منه ويبقى له خمسا. وان كانت قيمته نصف الدية أو أقل وقلنا نفديه بأرش جنايته نفذت
الهبة في جميعه لأن أرشها أكثر مثلي قيمته أو مثليها، وان كانت قيمته ثلاثة أخماس الدية فاختار فداءه
بالدية فقد صحت الهبة في شئ ويفديه بشئ، وثلثين فصار مع الورثة عبد وثلثا شئ يعدل شيئين فالشئ
ثلاثة أرباع فتصح الهبة في ثلاثة أرباع العبد ويرجع إلى الواهب ربعه مائة وخمسون وثلاثة أرباع الدية
سبعمائة وخمسون صار الجميع تسعمائة وهو مثلا ما صحت الهبة فيه، فإن ترك الواهب مائة دينار فاضممها
إلى قيمة العبد فإن اختار دفع العبد دفع ثلثه وربعه وذلك قدر نصف جميع المال بالجناية وباقية لانتقاص
الهبة فيصير العبد والمائة وذلك مثلا ما جازت الهبة فيه وان اختار الفداء فقد علمت أنه يفدي ثلاثة أرباعه
إذا لم يترك شيئا فزد على ذلك ثلاثة أرباع المائة يصير ذلك سبعة أثمان العبد فيفديه بسبعة أثمان الدية
(فصل) مريض أعتق عبدا لا مال له سواه قيمته مائة فقطع إصبع سيده خطأ فإنه يعتق نصفه
وعليه نصف قيمته ويصير للسيد نصفه ونصف قيمته وذلك مثلا ما عتق منه وأوجبنا نصف قيمته عليه
524

لأن عليه من أرش جنايته بقدر ما عتق منه وحسابها ان تقول عتق منه شئ وعليه شئ للسيد فصار
مع السيد عبد الأشياء وشئ يعدل شيئين فاسقط شيئا بشئ بقي ما معه من العبد يعدل شيئا مثل ما عتق منه
ولو كانت قيمة العبد مائتين عتق خمساه لأنه يعتق منه شئ وعليه نصف شئ للسيد فصار للسيد نصف
الشئ وبقية العبد يعدل شيئين فيكون بقية العبد يعدل شيئا ونصفا وهو ثلاثة أخماسه والشئ الذي
عتق خمساه وان كانت قيمته خمسين أو أقل عتق كله لأنه يلزمه مائة وهي مثلاه أو أكثر وان كانت
قيمته ستين قلنا عتق منه شئ وثلثا شئ للسيد مع بقية العبد يعدل شيئين فبقية العبد
إذا ثلث شئ فيعتق منه ثلاثة أرباعه، وعلى هذا القياس إلا أن ما زاد في العتق على الثلث ينبغي أن
يقف على أداء ما يقابله من القيمة كما إذا دبر عبدا وله دين في ذمة غريم له فكلما اقتضى من القيمة شيئا عتق
من الموقوف بقدر ثلثه
(فصل) فإن أعتق عبدين دفعة واحدة قيمة أحدهما مائة والآخر مائة وخمسون فجنى الأدنى
على الا رفع جناية نقصته ثلث قيمته وأرشها كذلك في حياة سيدهما ثم مات أقرعنا بين العبدين فإن
وقعت على الجاني عتق منه أربعة أخماسه وعليه أربعة أخماس أرش جنايته وبقي لورثة سيده خمسه
وأرش جنايته والعبد الآخر وذلك مائة وستون وهو مثلا ما عتق منه. وحسابها أن تقول عبد عتق منه
شئ وعليه نصف شئ لأن جنايته بقدر نصف قيمته بقي للسيد نصف شئ وبقية العبدين تعدل
شيئين فعلمت أن بقية العبدين شئ ونصف فإذا أضفت إلى ذلك الشئ لذي عتق صارا جميعا يعدلان
525

شيئين ونصفا فالشئ الكامل خمساهما وذلك أربعة أخماس أحدهما. وان وقعت قرعة الحرية على
المجني عليه عتق ثلثه وله ثلث أرش جنايته يتعلق برقبة الجاني وذلك تسع الدية لأن الجناية على من
ثلثه حر تضمن بقدر ما فيه من الحرية والرق والواجب له من الأرش يستغرق قيمة الجاني فيستحقه
بها ولا يبقى لسيده مال سواه فيعتق ثلثه ويرق ثلثا، وإن أعتق عبدين قيمة أحدهما خمسون
وقيمة الاخر ثلاثون فجنى الأدنى على الا رفع فنقصه حتى صارت قيمته أربعين أقرعنا بينهما فإن
خرجت القرعة للأدنى عتق منه شئ وعليه ثلث شئ فبعد الجبر تبين أن العبدين شيئان وثلثان فالشئ
ثلاثة أثمانهما وقيمتهما سبعون فثلاثة أثمانها سبعة وعشرون وربع (1) وهي من الأدنى نصفه وخمساه ونصف
سدس عشره، وان وقعت على الآخر عتق ثلثه وحقه من الجناية أكثر من قيمة الجاني فيأخذه بها
أو يفديه المعتق، وقد بقيت فروع كثيرة وفيما ذكرنا ما يستدل به على غيره إن شاء الله تعالى
وكل موضع زاد العتق على ثلث العبدين من أجل وجوب الأرش للسيد تكون الزيادة موقوفة على أداء
الأرش كما ذكرنا من قبل والله أعلم
{مسألة} قال (ومن جاوز العشر سنين فوصيته جائزة إذا وافق الحق)
هذا المنصوص عن أحمد فإنه قال في رواية صالح وحنبل تجوز وصيته إذا بلغ عشر سنين قال

(1) صوابه ستة وعشرون وربع وهي من الأدنى نصفه وربعه وثمنه
526

أبو بكر لا يختلف المذهب أن من له عشر سنين تصح وصيته ومن له دون السبع لا تصح وصيته وما
بين السبع والعشر فعلى روايتين، وقال ابن أبي موسي لا تصح وصية الغلام لدون العشر ولا الجارية
قولا واحدا وما زاد على العشر فتصح على المنصوص، وفيه وجه آخر لا تصح حتى يبلغ، وقال القاضي
وأبو الخطاب تصح وصية الصبي إذا عقل، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أجاز وصية الصبي وهو
قول عمر بن عبد العزيز وشريح وعطاء والزهري وإياس وعبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي ومالك
وإسحاق، قال إسحاق إذا بلغ اثنتي عشرة وحكاه ابن المنذر عن أحمد وعن ابن عباس لا تصح وصيته
حتى يبلغ وبه قال الحسن ومجاهد وأصحاب الرأي وللشافعي قولان كالمذهبين. واحتجوا بأنه تبرع
بالمال فلا يصح من الصبي كالهبة والعتق ولأنه لا يقبل اقراره فلا تصح وصيته كالطفل
ولنا ما روي أن صبيا من غسان له عشر سنين أوصى لأخوال له فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه فأجاز وصيته رواه سعيد، وروى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه ان عمر وبن
سليم أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب ان ههنا غلاما يافعا لم يحتلم وورثته بالشام وهو ذو مال وليس له ههنا الا ابنة
عم له فقال عمر فليوص لها فأوصى لها بمال يقال له بئر حشم قال عمرو بن سليم فبعت ذلك المال بثلاثين ألفا وابنة
عمه التي أوصى لها هي أم عمرو بن سليم، قال أبو بكر وكان الغلام ابن عشرة أو اثنتي عشرة سنة وهذه قصة انتشرت
فلم تنكر ولأنه تصرف تمحض نفعا للصبي فصح منه كالاسلام والصلاة وذلك لأن الوصية صدقة يحصل ثوابها له بعد
527

غناء عن ملكه وماله فلا يلحقه ضرر في عاجل دنياه ولا أخراه بخلاف الهبة والعتق المنجز فإنه يفوت من ماله
ما يحتاج إليه وإذا ردت رجعت إليه وهنا لا يرجع إليه بالرد والطفل لا عقل له ولا يصح اسلامه ولا عباداته،
وقوله إذا وافق الحق يعني إذا وصى بوصية يصح مثلها من البالغ صحت منه وإلا فلا، قال شريح
وعبد الله بن عتبة وهما قاضيان من أصاب الحق أجزنا وصيته
(فصل) فأما الطفل وهو من له دون السبع والمجنون والبرسيم فلا وصية لهم وهذا قول أكثر
أهل العلم منهم حميد بن عبد الرحمن ومالك والأوزاعي والشافعي رضي الله عنهم وأصحاب الرأي ومن
تبعهم ولا نعلم أحدا خالفهم إلا إياس بن معاوية قال في الصبي والمجنون إذا وافقت وصيتهم الحق
جازت وليس بصحيح فإنه لا حكم لكلامهما ولا تصح عبادتهما، ولا شئ من تصرفاتهما فكذا الوصية
بل أولى فإنه إذا لم يصح اسلامه وصلاته التي هي محض نفع لا ضرر فيها فلان لا يصح بذله لمال يتضرر
به وارثه أولى ولأنها تصرف يفتقر إلى إيجاب وقبول فلا يصح منهما كالبيع والهبة
(فصل) فأما المحجور عليه لسفه فإن وصيته تصح في قياس قول أحمد قال الخبري وهو قول
الأكثرين، وقال أبو الخطاب في وصيته وجهان
ولنا أنه عاقل تصح وصيته كالصبي العاقل ولان وصيته تمحضت نفعا له من غير ضرر فصحت
كعباداته، وأما الذي يجن أحيانا ويفيق أحيانا فإن وصى حال جنونه لم تصح، وإن وصى في حال
528

عقله صحت وصيته لأنه بمنزلة العقلاء في شهادته ووجوب العبادة عليه فكذلك في وصيته وتصرفاته
ولا تصح وصية السكران، وقال أبو بكر فيه قولان يعني وجهين
ولنا أنه ليس بعاقل فلا تصح وصيته كالمجنون، وأما إيقاع طلاقه فإنما أوقعه من أوقعه تغليظا
عليه لارتكابه المعصية فلا يتعدى هذا إلى وصيته فإنه لا ضرر عليه فيها إنما الضرر على وارثه، وأما
الضعيف في عقله فإن منع ذلك رشده في ماله فهو كالسفيه والا فهو كالعاقل
(فصل) وتصح وصية الأخرس إذا فهمت إشارته لأنها أقيمت مقام نطقه في طلاقه ولعانه وغيرهما
فإن لم تفهم إشارته فلا حكم لها وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، فأما الناطق إذا اعتقل لسانه
فعرضت عليه وصيته فأشار بها وفهمت إشارته لم تصح وصيته ذكره القاضي وابن عقيل وبه قال الثوري
والأوزاعي وأبو حنيفة، وقال الشافعي وابن المنذر تصح وصيته لأنه غير قادر على الكلام أشبه الأخرس
واحتج ابن المذر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وهو قاعد فأشار إليهم فقعدوا. رواه البخاري وخرجه
ابن عقيل وجها إذا اتصل باعتقال لسانه الموت
ولنا أنه غير مأيوس من نطفه فلم تصح وصيته بإشارته كالقادر على الكلام والخبر لا يلزم فإن النبي
صلى الله عليه وسلم كان قادرا على الكلام ولا خلاف في أن إشارة القادر لا تصح بها وصية ولا اقرار ففارق
الأخرس لأنه مأيوس من نطقه
529

(فصل) وإن وصى عبد أو مكاتب أو مدبر أو أم ولد وصية ثم ماتوا على الرق فلا وصية لهم
لأنه لا مال لهم، وإن أعتقوهم ثم ماتوا ولم يغيروا وصيتهم صحت لأن لهم قولا صحيحا وأهلية تامة
وإنما فارقوا الحر بأنهم لا مال لهم والوصية تصح مع عدم المال كما لو وصى الفقير الذي لا شئ له ثم
استغنى، وإن قال أحدهم متى عتقت ثم مت فثلثي لفلان وصية فعتق ومات صحت وصيته وبه قال أبو
يوسف ومحمد وأبو ثور ولا أعلم عن غيرهم خلافهم
(فصل) وتصح وصية المسلم للذمي والذمي للمسلم والذمي للذمي، روي إجازة المسلم للذمي عن شريح
والشعبي والثوري والشافعي رضي الله عنه وإسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وقال
محمد بن الحنفية وعطاء وقتادة في قوله تعالى (إلا أن تفعلوا إلا أوليائكم معروفا) هو وصية المسلم
لليهودي والنصراني. وقال سعيد حدثنا سفيان عن أيوب عن عكرمة أن صفية بنت حيي باعت حجرتها
من معاوية بمائة ألف وكان لها أخ يهودي فعرضت عليه أن يسلم فيرث فأبى فأوصت له بثلث المائة
الف ولأنه تصح له الهبة فصحت الوصية له كالمسلم وانها صحت وصية المسلم للذمي فوصية الذمي للمسلم
والذمي للذمي أولى ولا تصح إلا بما تصح به وصية المسلم للمسلم ولو أوصى لوارثه أو لأجنبي بأكثر من ثلثه
وقف على إجازة الورثة كالمسلم سواء
(فصل) وتصح الوصية للحربي في دار الحرب نص عليه أحمد وهو قول مالك
وأكثر أصحاب الشافعي رضي الله عنه، وقال بعضهم لا تصح وهو قول أبي حنيفة لأن الله
530

تعالى قال (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا
إليهم إلى قوله إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) الآية فيدل ذلك على أن من
قاتلنا لا يحل بره
ولنا انه تصح هبته فصحت الوصية له كالذمي، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر حلة من
حرير فقال يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت فقال " اني لم أعطكها لتلبسها فكساها عمر
أخا مشركا له بمكة. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت أتتني أمي وهي راغبة تعنى عن الاسلام فسألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أتتني أمي وهي راغبة أفأصلها؟ قال " نعم " وهذان فيهما صلة أهل
الحرب وبرهم، والآية حجة لنا فيمن لم يقاتل فأما المقاتل فإنه نهي عن توليه لا عن بره والوصية له،
وان احتج بالمفهوم فهو لا يراه حجة ثم قد حصل الجماع على جواز الهبة والوصية في معناها، فأما المرتد
فقال أبو الخطاب تصح الوصية له كما تصح هبته. وقال ابن أبي موسى لا تصح لأن ملكه غير مستقر ولا يرث
ولا يورث فهو كالميت ولان ملكه يزول عن ماله بردته في قول أبى بكر وجماعة فلا يثبت له الملك بالوصية
(فصل) ولا تصح الوصية لكافر بمصحف ولا عبد مسلم لأنه لا يجوز هبتهما له ولا بيعهما منه.
وإن أوصى له بعبد كافر فأسلم قبل موت الموصي بطلت الوصية، وان أسلم بعد الموت وقبل القبول
بطلت عند من يري ان الملك لا يثبت إلا بالقبول لأنه لا يجوز أن يبتدئ الملك على مسلم ومن قال يثبت
531

الملك بالموت قبل القبول قال الوصية صحيحة لأننا نتبين أن الملك يثبت بالموت لأنه أسلم بعد أن ملكه
ويحتمل أن لا يصح أيضا لأنه يأتي بسبب لولاه لم يثبت الملك فمنع منه كابتداء الملك
(فصل) ولا تصح الوصية بمعصية وفعل مسلما كان الموصي أو ذميا فلو وصى ببناء كنيسة
أو بيت نار أو عمارتهما أو الانفاق عليهما كان باطلا وبهذا قال الشافعي رضي الله عنه وأبو ثور. وقال
أصحاب الرأي يصح فأجاز أبو حنيفة الوصية بأرضه تبنى كنيسة وخالفه صاحبا، وأجاز أصحاب
الرأي أن يوصي بشراء خمر أو خنازير ويتصدق بها على أهل الذمة وهذه وصايا باطلة وأفعال محرمة
لأنها معصية فلم تصح الوصية بها كما لو وصى بعبده أو أمته للفجور، وان وصى لكتب التوراة والإنجيل
لم تصح لأنها كتب منسوخة وفيها تبديل والاشتغال بها غير جائز وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى
مع عمر شيئا مكتوبا من التوراة، وذكر القاضي انه لو أوصى لحصر البيع وقناديلها وما شاكل ذلك
ولم يقصد إعظامها بذلك صحت الوصية لأن الوصية لأهل الذمة فإن النفع يعود إليهم والوصية لهم
صحيحه، والصحيح ان هذا مما لا تصح الوصية به لأن ذلك أنما هو إعانة لهم على معصيتهم وتعظيم
لكنائسهم. ونقل عن أحمد كلام يدل لصحه الوصية من الذمي بخدمة الكنيسة والأول أولى وأصح،
وان وصى ببناء بيت يسكنه المجتازون من أهل الذمة وأهل الحرب صح لأن بناء مساكنهم ليس بمعصية
532

{مسألة} قال (ومن أوصى لأهل قرية لم يعط من فيها من الكفار الا أن يذكرهم)
يعني به المسلم إذا أوصى لأهل قريته أو لقرابته بلفظ عام يدخل فيه مسلمون وكفار فهي للمسلمين
خاصة ولا شئ للكفار. وقال الشافعي رضي الله عنه يدخل فيه الكفار لأن اللفظ يتناولهم بعمومه،
ولان الكافر لو أوصى لأهل قريته أو قرابته دخل فيه المسلم والكافر فكذلك المسلم
ولنا أن الله تعالى قال (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) فلم يدخل فيه الكفار
إذا كان الميت مسلما، وإذا لم يدخلوا في وصية الله تعالى مع عموم اللفظ فكذلك في وصية المسلم، ولان
ظاهر حاله انه لا يريد الكفار لما بينه وبينهم من عداوة الدين وعدم الوصلة المانع من الميراث ووجوب
النفقة على فقيرهم ولذلك خرجوا من عموم اللفظ في الأولاد والاخوة والأزواج وسائر الألفاظ العامة
في الميراث فكذا ههنا لأن الوصية أجريت مجرى الميراث، وان صرح بهم دخلوا في الوصية لأن
صريح المقال لا يعارض بقرينة الحال، وان وصى لهم وأهل القرية كلهم كفار أو وصى لقرابته وكلهم
كفار دخلوا في الوصية لأنه لا يمكن تخصيصهم إذ في إخراجهم رفع اللفظ بالكلية وإن كان فيها مسلم واحد
والباقي كفار دخلوا في الوصية لأن اخراجهم بالتخصيص ههنا بعيد وفيه مخالفة الظاهر من وجهين (أحدهما)
مخالفة لفظ العموم (والثاني) حمل الفظ الدال على الجمع على المفرد، وإن كان أكثر أهلها كفارا فظاهر كلام
533

الخرقي انه للمسلمين لأنه أمكن حمل اللفظ عليهم وصرفه إليهم والتخصيص يصح وإن كان باخراج الأكثر
ويحتمل أن يدخل الكفار في الوصية لأن التخصيص في مثل هذا بعيد فإن تخصيص الصورة النادرة قريب
وتخصيص الأكثر بعيد يحتاج فيه إلى دليل قوي والحكم في سائر ألفاظ العموم مثل ان يوصي لا خوته أو عمومته
أو بني عمه أو لليتامى أو للمساكين كالحكم في ماذا أوصى لأهل قريته فاما ان أوصى بذلك كافر فإن وصيته
تتناول أهل دينه لأن لفظه يتناولهم وقرينة حاله ارادتهم فأشبه وصية المسلم التي يدخل فيها أهل دينه
وهل يدخل في وصيته المسلمون؟ نظرنا فإن وجدت قرينة دالة على دخولهم مثل ان لا يكون في القرية
الا مسلمون دخلوا في الوصية وكذلك أن لم يكن فيها الا كافر واحد وسائر أهلها مسلمون وان انتفت
القرائن ففي دخولهم وجهان (أحدهما) لا يدخلون كما لم يدخل الكفار في وصية المسلم (والثاني) يدخلون لأن
عموم اللفظ يتناولهم وهم أحق بوصيته من غيرهم فلا يصرف اللفظ عن مقتضاه ومن هو أحق بحكمه
إلى غيره وإن كان في القرية كافر من غير أهل دين الموصي لم يدخل في وصيته لأن قرينة حال الموصي
تخرجه ولم يوجد فيه ما وجد في المسلم من الأولوية فبقي خارجا بحاله ويحتمل ان لا يخرج بناء على توريث
الكفار بعضهم من بعض على اختلاف دينهم
534

{مسألة} قال (ومن أوصى بكل ماله ولا عصبة له ولا مولى له فجائز وقد روي هن
أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى لا يجوز الا الثلث)
اختلف الرواية عن أحمد رحمه الله في من لم يخلف من وراثه عصبة ولاذا فرض فروي عنه ان وصيته
جائزة بكل ماله ثبت هذا عن ابن مسعود وبه قال عبيدة السلماني ومسروق وإسحاق وأهل العراق
والرواية الأخرى لا يجوز الا الثلث وبه قال مالك والأوزاعي وابن شبرمة والشافعي والعنبري لأن له
من يعقل عنه فلم تنفذ وصيته في أكثر من ثلثه كما لو ترك وارثا
ولنا ان المنع من الزيادة على الثلث إنما كان لتعلق حق الورثة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " انك ان تدع
ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " وهاهنا لا وارث له يتعلق حق بماله فأشبه حال
الصحة ولأنه لم يتعلق بماله حق وارث ولا غريم أشبه حال الصحة أو أشبه الثلث
(فصل) وان خلف ذا فرض لا يرث المال كله كبنت أو أم لم يكن له الوصية بأكثر من الثلث لأن سعدا
قال للنبي صلى الله عليه وسلم لا يرثني الا ابنتي فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من الزيادة على الثلث ولأنها تستحق جميع المال بالفرض
فأشبهت العصبة، وإن كان لها زوج أو للرجل امرأة فكذلك لأن الوصية تنقص حقه لأنه إنما يستحق
فرضه بعد الوصية لقوله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين فأما ذو الأرحام فظاهر كلام الخرقي
535

انه لا يمنع الوصية بجميع المال لقوله ولا عصبة له ولا مولى له وذلك لأن ذا الرحم ارثه كالفضلة والصلة
ولذلك لا يصرف إليه شئ الا عند عدم الرد والمولى لا تجب نفقته ويحتمل ان لا تنفذ وصيته بأكثر
من ثلثه لأن له وارثا فيدخل في معنى قوله عليه السلام " انك ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم
عالة يتكففون الناس " ولأنهم ورثة يستحقون ماله بعد موته وصلته لهم في حياته فاشبهوا ذوي الفروض
والعصبات وتقديم غيرهم عليهم لا يمنع مساواتهم لهم في مسئلتنا كذوي الفروض الذين يحجب بعضهم
بعضا والعصبات
(فصل) فإن خلف ذا فرض لا يرث المال كله وقال أوصيت لفلان بثلثي على أنه لا ينقص ذا الفرض
شيئا من فرضه أو خلف امرأة وقال أوصيت لك بما فضل من المال عن فرضها صح في المسألة الأولى
لأن ذا الفرض يرث المال كله لولا الوصية فلا فرق في الوصية بين ان يجعلها من رأس المال أو من
الزائد على الفرض واما (المسألة الثانية) فتنبني على الوصية بجميع المال فإن قلنا تصح ثم صحت هاهنا
لأن الباقي عن فرض الزوجة مال لا وراث له فصحت الوصية به كما لو تكن زوجة وان قلنا لا تصح
ثم فهاهنا مثله لأن بيت المال جعل كوارث فصار كأنه ذو ورثة يستغرقون المال إذا عين الوصية من
نصيب العصبة منهم فعلى هذا يعطى الموصى له الثلث من رأس المال ويسقط تخصيصه
536

{مسألة} قال (ومن أوصى لعبده بثلث ماله فإن كان العبد يخرج من الثلث عتق
وما فضل من الثلث بعد عتقه فهو له، وان لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث الا
ان يجيز الورثة)
وجملة ذلك أنه إذا أوصى لعبده بجزء شائع من ماله كثلث أو ربع أو سدس صحت الوصية
فإن خرج العبد من الوصية عتق واستحق باقيها وان لم يخرج عتق منه بقدر الوصية وبهذا قال الحسن
وابن سيرين وأبو حنيفة الا أنهم قالوا إن لم يخرج من الثلث سعى في قيمة باقيه وقال الشافعي
رضي الله عنه الوصية باطلة الا ان بوصي بعتقه لأنه أوصى بمال بصير للورثة فلم يصح كما لو وصى له بمعين
ولنا ان الجزء الشائع يتناول نفسه أو بعضها لأنه من جملة الثلث الشائع والوصية له بنفسه تصح
ويعتق وما فضل يستحقه لأنه يصير حرا فيملك الوصية فيصير كأنه قال أعتقوا عبدي من ثلثي وأعطوه
ما فضل منه، وفارق ما إذا أوصى بمعين لأنه لا يتناول شيئا منه
537

(فصل) فإن وصى له بمعين من ماله كثوب أو دار أو بمائة درهم فالوصية باطلة في قول الأكثرين
وبه يقول الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، وذكر ابن أبي موسى رواية أخرى عن أحمد أنها تصح
وهو قول مالك وأبي ثور وقال الحسن وابن سيرين إن شاء الورثة أجازوا وان شاءوا ردوا
ولنا أن العبد يصير ملكا للورثة فما وصى به له فهو لهم فكأنه أوصى لورثته بما يرثونه فلا فائدة
فيه وفارق ما إذا أوصى له بمشاع لما ذكرناه
(فصل) وإن وصى له برقبته فهو تدبير يعتق ان حمله الثلث وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي
وقال أبو ثور الوصية باطلة لأنه لا يملك رقبته
ولنا أنه أوصى له بمن لا يملكه على الدوام فصح كما لو وصى بأبيه ولان معنى الوصية له برقبته
عتقه لعلمه بأنه لا يملك رقبته فصارت الوصية به كناية عن اعتاقه بعد موته، وإن وصى له ببعض
رقبته فهو تدبير لذلك الجزء وهل يعتق جميعه إذا حمله الثلث؟ على روايتين ذكرهما الخرقي فيما إذا
دبر بعض عبده وهو مالك لكله، وقال أصحاب الرأي بسعي في قيمة باقية وهذا شئ يأتي في باب
العتق إن شاء الله تعالى
(فصل) وإن وصى لمكاتبه أو مكاتب وارثه أو مكاتب أجنبي صح سواء أوصى له بجزء شائع
أو معين لأن ورثته لا يستحقون المكاتب ولا يملكون ماله، وإن وصى لام ولده صحت الوصية لأنها
538

حرة حين لزوم الوصية، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه وصى لأمهات أولاده بأربعة آلاف
أربعة آلاف. رواه سعيد وروي ذلك عن عمران بن الحصين وبه قال ميمون بن مهران والزهري
ويحيى الأنصاري ومالك والشافعي وإسحاق، وإن وصى لمدبره صح لأنه يصير حرا حين لزوم الوصية
فصحت الوصية له كأم الولد، وإن لم يخرج من الثلث هو والوصية جميعا قدم عتقه على الوصية لأنه أنفع،
وقال القاضي بعتق بعضه ويملك من الوصية بقدر ما عتق منه، ولنا انه وصى لعبده وصية صحيحة فيقدم
عتقه على ما يحصل له من المال كما لو وصى لعبده القن بمشاع من ماله
(فصل) وان أوصى لعبد غيره صح وتكون الوصية والقبول في ذلك إلى العبد لأن العقد مضاف
إليه فأشبه ما لو وهبه شيئا فإذا قبل ثبت لسيده لأنه من كسب عبده وكسب العبد لسيده ولا تفتقر
في القبول إلى اذن السيد لأنه كسب فصح من غير اذن سيده كالاحتطاب، وهذا قول أهل العراق
والشافعي، ولأصحابه وجه أن القبول يفتقر إلى اذن السيد لأنه تصرف من العبد فأشبه بيعه وشراءه
ولنا أنه تحصيل مال بغير عوض فلم يفتقر إلى اذنه كقبول الهبة وتحصيل المباح، وان وصى لعبد
وارثه فهي كالوصية لوارثه يقف على إجازة الورثة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وقال مالك إن كان
يسيرا جاز لأن العبد يملك وإنما لسيده أخذه من يده، فإذا وصى له بشئ يسير علم أنه قصد
بذلك العبد دون سيده
ولنا أنها وصية لعبد وارثه فأشبهت الوصية بالكثير وما ذكروه من ملك العبد ممنوع ولا اعتبار
به فإنه مع هذا القصد يستحق سيده أخذه فهو كالكثير
539

(فصل) وإذا أوصى بعتق أمته على أن لا تتزوج ثم مات فقالت لا أتزوج عتقت فإن تزوجت بعد
ذلك لم يبطل عتقها وهذا مذهب الأوزاعي والليث وأبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وذلك لأن
العتق إذا وقع لا يمكن رفعه، وإن وصى لام ولده بألف على أن لا تتزوج أو على أن تثبت مع ولده
ففعلت وأخذت الألف ثم تزوجت وتركت ولده ففيها وجهان (أحدهما) تبطل وصيتها لأنه فات الشرط
ففاتت الوصية، وفارق العتق فإنه لا يمكن رفعه (والثاني) لا تبطل وصيتها وهو قول أصحاب الرأي لأن
وصيتها صحت فلم تبطل بمخالفة ما شرط عليها كالأولى
(فصل) واختلف أصحابنا في الوصية للقاتل على ثلاثة أوجه فقال ابن حامد تجوز الوصية له، واحتج
بقول أحمد فيمن جرح رجلا خطأ فعفا المجروح فقال احمد يعتبر من ثلثه قال وهذه وصية لقاتل وهذا
قول مالك وأبي ثور وابن المنذر وأظهر قولي الشافعي رضي الله عنه لأن الهبة له تصح فصحت الوصية
له كالذمي وقال أبو بكر لا تصح الوصية له فإن أحمد قد نص على أن المدبر إذا قتل سيده بطل تدبيره
والتدبير وصية وهذا قول الثوري وأصحاب الرأي لأن القتل يمنع الميراث الذي هو آكد من الوصية
فالوصية أولى ولان الوصية أجريت مجرى الميراث فيمنعها ما يمنعه
وقال أبو الخطاب إن وصى له بعد جرحه صح وإن وصى له قبله ثم طرأ القتل على الوصية أبطلها
جمعا بين نصي أحمد في الموضعين وهو قول الحسن بن صالح وهذا قول حسن لأن الوصية بعد الجرح
540

صدرت من أهلها في محلها ولم يطرأ عليها ما يبطلها بخلاف ما إذا تقدمت فإن القتل طرا عليها بأبطلها
لأنه ببطل ما هو أكد منها، يحققه أن القتل إنما منع الميراث بالقتل استعجل الميراث الذي انعقد
سببه فعورض بنقيض قصده وهو منع الميراث دفعا لمفسدة قتل الموروثين ولذلك بطل التدبير بالقتل
الطارئ عليه أيضا، وهذا المعنى متحقق في القتل الطارئ على الوصية فإنه ربما استعجلها بقتله. وفارق
القتل قبل الوصية فإنه لم يقصد به استعجال مال لعدم انعقاد سببه والموصي راض بالوصية له بعد
صدور ما صدر منه في حقه، ولا فرق بين العمد والخطأ في هذا كما لا يفترق الحال بذلك في الميراث وعلى
هذا متى دبر عبده بعد جرح إباه صح تدبيره
{مسألة} قال (وإذا قال أحد عبدي حرأ قرع بينهما فمن تقع عليه القرعة فهو حر إذ اخرج من الثلث
وجملة ذلك أنه إذا أعتق عبدا غير معين فإنه يقرع بينهما فيخرج الحر بالقرعة وقال أبو حنيفة والشافعي
رضي الله عنه له تعيين أحدهما بغير قرعة لأنه عتق مستحق في غير معين فكان التعيين إلى المعتق كالعتق
في الكفارة وكما لو قال لورثته أعتقوا عني عبدا
ولنا أنه عتق استحقه واحد من جماعة معينين فكان اخراجه بالقرعة كما لو أعتقهما فلم يخرج من ثلثه إلا
أحدهما ودليل الحكم في الأصل حديث عمران بن حصين فأما العتق في الكفارة فإنه لم يستحقه أحد إنما استحق
على المكفر التكفير وأما إذا قال أعتقوا عني عبدا فإن لم يضفه إلى عبيده ولا إلى جماعة سواهم فهو كالمعتق في الكفارة
وان قال أعتقوا أحد عبيدي احتمل أن نقول باخراجه بالقرعة كمسئلتنا واحتمل أن يرجع فيه إلى اختيار الورثة. وأصل الوجهين ما لو وصى لرجل بعبد من عبيده هل يعطى أحدهم بالقرعة أو يرجع إلى اختيار الورثة
وسيأتي الكلام عليها والفرق بين مسألتنا وبين هذه المسألة على هذا الوجه انه جعل الا مر إلى الورثة حيث
أمرهم بالاعتاق فكانت الخيرة إليهم وفي مسئلتنا لم يجعل لهم من الامر شيئا فلا يكون لهم خيرة
541

(فصل) ونقل صالح عن أبيه فيمن له غلامان اسمهما واحد فقال فلان حر بعد موتى وله مائتا درهم ولم يعينه
يقرع بينهما فيعتق من خرجت له القرعة وليس له من المائتين شئ. ووجه ذلك والله أعلم أن الوصية بالمائتين
وقعت لغير معين ولا تصح الوصية لا لمعين، وقال القاضي يجب أن تصح هذه الوصية لأن مستحقها حر في حال
استحقاقها ونقل عن أحمد فيمن قال أعتقوا رقبة عني فلا يعتق عنه الا مسلم وذلك لأن المطلق في كلام الآدمي
يحمل على المطلق من كلام الله تعالى ولما أمر الله تعالى بتحرير رقبة لم يتناول إلا المسلم فكذلك الآدمي
{مسألة} قال (وإذا أوصى أن يشترى عبد زيد بخمسمائة فيعتق فلم يبعه سيده
فالخمسمائة للورثة وان اشتروه بأقل فما فضل فهو للورثة)
أما إذا تعذر شراؤه اما لامتناع سيده من بيعه بالخمسمائة واما لموته أو لعجز الثلث عن ثمنه
فالثمن للورثة لأن الوصية بطلت لتعذر العمر بها فأشبه ما لو وصى لرجل فمات قبل موت الموصي أو
بعده ولم يدع وارثا ولا يلزمهم شراء عبد آخر لأن الوصية لمعين فلا تصرف إلى غيره وأما ان اشتروه
بأقل فالباقي للورثة وقال الثوري يدفع جميع الثمن إلى سيد العبد لأنه قصد ارفاقه بالثمن ومحاباته به
فأشبه ما لو قال بيعوه عبدي بخمسمائة وقيمته أكثر منها وكما لو أوصى أن يحج عنه فلان حجة بخمسمائة
وقال إسحاق يجعل بقية الثمن في العتق كما لو أوصى أن يحج عنه بخمسمائة رد ما فضل في الحج
542

ولنا أنه أمر بشرائه بخمسمائة فكان ما فضل من الثمن راجعا إليه كما وكل في شرائه في حياته
وفارق ما إذا أوصى أن يحج عنه رجل بخمسمائة لأن القصد ثم ارفاق الذي يحج بالفضلة وفي مسئلتنا
المقصود العتق ويفارق ما إذا أوصى أن يحج عنه بخمسمائة لغير معين لأن الوصية ثم للحج مطلقا فصرف
جميعا فيه وههنا لمعين فلا تتعداه وقوله انه قصد ارفاق زيد بالثمن ومحاباته به فنقول الصحيح أنه
ان كانت ثم قرينة تدل على ذلك اما لكون البائع صديقا له أو ذا حاجة أو من أهل الفضل الذين
يقصدون بهذا أو عين هذا الثمن وهو يعلم حصول العبد بدونه لقلة قيمته فإنه يدفع جميع الثمن إلى زيد
كما لو صرح بذلك فقال وادفعوا إليه جميعا وان بذله بدونها وان انعدمت هذه القرائن فالظاهر أنه إنما
قصد العتق وقد حصل فكان الفاضل عائدا إليه كما لو أمره بالشراء في حياته.
(فصل) وان وصى أن يشترى عبد بألف فيعتق عنه فلم يخرج من ثلثه اشتري عبد بما يخرج
من الثلث وبه قال الشافعي رضي الله عنه وقال أبو حنيفة تبطل الوصية لأنه أمر بشراء عبد بألف
فلا يجوز للمأمور الشراء بدونه كالوكيل
ولنا أنها وصية يجب تنفيذها إذا احتملها الثلث فإذا لم يحتملها وجب تنفيذها فيما حمله كما لو وصى
بعتق عبده يحمله الثلث وفارق الوكالة فإنه لو وكله في اعتاق عبد لم يملك اعتاق بعضه ولو أوصى
باعتاق عبد لأعتق منه ما يحتمله الثلث فاما ان حمله الثلث فاشتراه وأعتقه، ثم ظهر على الميت دين يستغرق
543

المال فالوصية باطلة ويرد العبد إلى الرق إن كان اشتراه بعين المال المال لأننا تبينا أن الشراء باطل بكونه اشترى
بمال مستحق للغرماء بغير اذنهم وإن كان الشراء في الذمة صح الشرا ونفذ العتق وعلى المشتري غرامة
ثمنه ولا يرجع به على أحد لأن البائع ما غره إنما غره الموصي ولا تركة له فيرجع عليها وهذا مذهب
الشافعي ويحتمل أن يشارك الغرماء في التركة ويضرب معهم بقدر دينه لأن الدين لزمه بتغرير الموصى
فيرجع به عليه فإذا كان ميتا لزمه في تركته كأرش جنايته
(فصل) وان وصى بشراء عبد وأطلق أو وصى يبيع عبده وأطلق فالوصية باطلة لأن الوصية لابد
لها من مستحق ولا مستحق ههنا وان وصى يبيعه بشرط العتق صحت الوصية وبيع كذلك لأن في البيع ههنا
نفعا للعبد بالعتق فإن لم يوجد من يشتريه كذلك بطلت الوصية لتعذرها كما لو وصى بشراء عبد ليعتق فلم يبعه
سيده وان وصى ببيعه لرجل بعينه بثمن معلوم بيع به لأنه قد قصد ارفاقه بذلك في الغالب وان لم يسم ثمنا بيع
بقيمته وتصح الوصية لكونه قصد إيصال العبد بعينه إلى رجل بعينه فيحتمل أن يتعلق الغرض بارفاق العبد
بايصاله إلى من هو معروف بحسن الملكة واعتاق الرقاب ويحتمل أن يريد ارفاق المشتري لمعنى يحصل له من
العبد فإن تعذر بيعه لذلك الرجل أو أبى أن يشتريه بالثمن أو بقيمته ان لم يعين الثمن بطلت الوصية لما ذكرنا
544

{مسألة} قال (وإذا أوصى لرجل بعبد لا يملك غيره وقيمته مائة ولآخر بثلث ماله
وملكه غير العبد مائنا درهم فأجاز الورثة ذلك فلمن أوصى له بالثلث ثلث المائتين وربع العبد ولمن
أوصي له بالعبد ثلاثة أرباعه، وان لم يجز الورثة ذلك فلمن أوصى له بالثلث سدس المائتين وسدس
العبد لأن وصيته في الجميع ولمن أوصى له بالعبد نصفه لأن وصيته في العبد)
وجملته انه إذا أوصى لرجل بمعين من ماله ولآخر بجزء مشاع منه كثلث المال وربعه فأجيز لهما
انفرد صاحب المشاع بوصيته من غير المعين ثم شارك صاحب المعين فيه فيقتسمانه بينهما على قدر حقيهما
فيه ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر ماله في الوصية كمسائل العول وكما لو أوصى لرجل بماله
ولآخر بجزء منه فأما في حال الرد قان كانت وصيتهما لا تجاوز الثلث مثل أن يوصى لرجل بسدس
ماله ولآخر بمعين قيمته سدس المال فهي كحال الإجازة سواء إذ لا أثر للرد وان جاوزت ثلثه رددنا
وصيتهما إلى الثلث وقسمناه بينهما على قدر وصيتهما الا أن صاحب المعين يأخذ نصيبه من المعين
والآخر يأخذ حقه من جميع المال، هذا هو قول الخرقي وسائر الأصحاب ويقرى عندي انهما في حال
الرد يقتسمان الثلث على حسب ما لهما في الإجازة وهذا قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة ومالك في الرد
545

يأخذ صاحب المعين نصيبه منه ويضم الآخر سهامه إلى سهام الورثة ويقتسمون الباقي على خمسة في
مثل مسألة الخرقي لأن له السدس وللورثة أربعة أسداس وهو مثل قول الخرقي الا أن الخرقي يعطيه
السدس من جميع المال وعندهما انه يأخذ خمس المائتين وعشر العبد واتفقوا على أن كل واحد من
من الوصيين يرجع إلى نصف وصيته لأن كل واحد منهما قد أوصي له بثلث المال وقد رجعت
الوصيتان إلى الثلث وهو نصف الوصيتين فيرجع كل واحد إلى نصف وصيته ويدخل النقص على كل
واحد منهما بقدر ماله في الوصية وفي قول الخرقي رحمة الله عليه يأخذ كل واحد منهما نصف وصيته
من المحل الذي وصي له منه وصاحب الثلث يأخذ سدس الجميع لأنه وصي له بثلث الجميع وأما على
قولنا فإن وصية صاحب العبد دون وصية صاحب الثلث لأنه وصى له بشئ شرك معه غيره فيه كله
وصاحب الثلث أفرده بشئ لم يشاركه فيه غيره فوجب أن يقسم بينهما الثلث حالة الرد على حسب
مالهما في حال الإجازة كما في سائر الوصايا ففي مسئلتنا هذه لصاحب الثلث ثلث المائتين ستة وستون
وثلثان لا يزاحمه الآخر فيها ويشتركان في العبد لهقا ثلثه وللآخر جميعه فابسطه من جنس الكسر
وهو الثلث يصير العبد ثلاثة واضمم إليها الثلث الذي للآخر يصير أربعة ثم أقسم العبد على أربعة أسهم
يصير الثلث ربعا كما في مسائل العول وفي حال الرد ترد وصيتهما إلى ثلث المال وهو نصف وصيتهما فيرجع
كل واحد إلى نصف وصيته فيرجع صاحب الثلث إلى سدس الجميع ويرجع صاحب العبد إلى نصفه
546

وفي قولنا يضرب مخرج الثلث في مخرج الربع يكن اثنا عشر ثم في ثلاثة تكن ستة وثلاثين فلصاحب الثلث
ثلث المائتين وهو ثمانية من أربعين وربع العبد وهو ثلاثة أسهم صار له أحد عشر ولصاحب العبد ثلاثة أرباعه
وذلك تسعة أسهم فيضمها إلى سهام صاحب الثلث صار الجميع عشرين سهما ففي حال الرد تجمل الثلث
عشرين سهما والمال كله ستون فلصاحب العبد تسعة من العبد وهو ربعه وخمسه ولصاحب الثلث ثمانية من
الأربعين وهي خمسها وثلاثة من العبد وذلك عشره ونصف عشره وان كانت وصية صاحب المشاع
بالنصف فله في حال الإجازة مائة وثلث العبد ولصاحب العبد ثلثاه وفي الرد لصاحب المشاع خمس
المائتين وخمس العبد ولصاحب العبد خمسا. وعلى الوجه الآخر لصاحب المشاع ربع المائتين وسدس
العبد ولصاحب العبد ثلثه وطريقها ان تنسب الثلث إلى ما حصل لهما في الإجازة ثم تعطي كل واحد
مما حصل له في الإجازة مثل تلك النسبة وعلي الوجه الأول تنسب الثلث إلى وصيتهما ثم تعطي كل
واحد في الرد مثل الخارج بالنسبة وبيانه في هذه المسألة ان نسبة الثلث إلى وصيتهما بالخمسين
لأن النصف والثلث خمسة من ستة فالثلث خمساها فلصاحب العبد خمسا العبد لأنه وصيته
ولصاحب النصف الخمس لأنه خمسا وصيته وعلى الوجه الآخر قد حصل لهما في الإجازة الثلثان
ونسبة الثلث إليهما بالنصف فلكل واحد منها مما حصل له في الإجازة نصفه وقد كان لصاحب المشاع
من المائتين نصفها فله ربعها وكان له من العبد ثلثه فصار له سدسه وكان لصاحب العبد ثلثاه فصار له
547

ثلثه وان كانت المسألة بحالها وملكه غير العبد ثلاثمائة ففي الإجازة لصاحب المشاع مائة وخمسون
وثلث العبد ولصاحب العبد ثلثاه وفي الرد لصاحب المشاع تسعا المال كله ولصاحب العبد أربعة
أتساعه على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني لصاحب العبد أربعة (1) وسدسه وللآخر ثمنه ونصف سدسه
ومن المال ثمانون وهي ربعها وسدس عشرها. وان وصى لرجل بجميع ماله ولآخر بالعبد ففي الإجازة
لصاحب العبد نصفه والباقي كله للآخر وفي الرد يقسم الثلث بينهما على خمسة لصاحب العبد خمسه
وهو ربع العبد وسدس عشره وللآخر أربعة أخماسه فله من العبد مثل ما حصل لصاحبه ومن كل مائة
مثل ذلك وهو ثمانون دينارا ولو خلف عبدا قيمته مائة ومائتين ووصى لرجل بمائة وبالعبد كله
ووصى بالعبد لآخر ففي حال الإجازة يقسم العبد بينهما نصفين وينفرد صاحب الثلث بثلث (2) الباقي
وفي الرد للموصى له بالعبد ثلثه وللآخر ثلثه وثلث المائة وعلى الوجه الاخر لصاحب العبد ربعه
وللآخر ربعه ونصف المائة يرجع كل واحد منهما إلى نصف وصيته فإن لم تزد الوصيتان على الثلث
كرجل خلف خمسمائة وعبدا قيمته مائة ووصى لرجل بسدس ماله ولآخر بالعبد فلا أثر للرد ههنا
ويأخذ صاحب المشاع سدس المال وسبع العبد والاخر ستة أسباعه وان وصى لصاحب المشاع بخمس
المال فله مائة وسدس العبد ولصاحب العبد خمسه أسداسه ولا أثر للرد أيضا لأن الوصيتين لم يخرج
بهما من المال أكثر من ثلثه

(1) صوابه ثلثه وخمس تسعه وللآخر تسعه وثلث خمسه (2) صوابه بنصف
الباقي
548

{مسألة} قال (ومن أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى بالسوية ولا يجاوز بها أربعة
آباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشم بسهم ذي القربى
وجملته ان الرجل إذا أوصى لقرابته أو لقرابة فلان كانت الوصية لأولاده وأولاد أبيه وأولاد
جده وأولاد جد أبيه ويستوي فيه الذكر والأنثى ولا يعطى من هو أبعد منهم شيئا، فلو وصى لقرابة
النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أولاده وأولاد عبد المطلى وأولاد هاشم ولم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل شيئا لأن
الله تعالى لما قال (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى) يعني أقرباء النبي
صلى الله عليه وسلم أعطي النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين ذكرناهم ولم يعط من هو أبعد منهم كبني عبد شمس ونوفل
شيئا إلا أنه أعطى بني المطلب وعلل عطيتهم بأنهم لم يفارقوا بني هاشم في جاهلية ولا إسلام ولم يعط قرابة
أمه وهم بنو زهرة شيئا ولم يعط منهم إلا مسلما فحمل مطلق كلام الموصي على ما حمل عليه المطلق من كلام
الله تعالى وفسر بما فسر به، ويسوي بين قريبهم وبعيدهم وذكرهم وأنثاهم لأن الوصية لهم سواء ويدخل
في الوصية الكبير والصغير والغني والفقير ولا يدخل الكفار لأنهم لم يدخلوا في المستحق من قربى النبي
صلى الله عليه وسلم وقد نقل عبد الله وصالح عن أبيهما رواية أخرى انه يصرف إلى قرابه أمه إن كان يصلهم في
حياته كأخواله وخالاته واخوته من أمه، وإن كان لا يصلهم لم يعطوا شيئا لأن عطيته لهم في حياته قرينة دالة على
549

صلته لهم بعد مماته والا فلا وعنه رواية أخرى انه يجاوز بها أربعة آباء، ذكرها ابن أبي موسى في الارشاد
وهذه الرواية تدل على أن لفظه لا يتقيد بالقيد الذي ذكرناه فعلى هذا يعطي كل من يعرف بقرابته من قبل أبه
وأمه الذين ينسبون إلى الأب الأدنى ينسب إليه وهذا مذهب الشافعي لأنهم قرابة فيتناولهم الاسم
ويدخلون في عمومه وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض قرابته تخصيص لا يمنع من العموم في غير ذلك الموضع
وقد قال أبو حنيفة: قرابته كل ذي رحم محرم فيعطى من أدناهم اثنان فصاعدا فإذا كان له عمان وخالان
فالوصية لعميه وإن كان له عم وخالان فلعمه النصف ولخاليه النصف وقال قتادة: للأعمام الثلثان
وللأخوال الثلث وبه قال الحسن قال ويزاد الأقرب بعض الزيادة وقال مالك يقسم على الأقرب
فالأقرب بالاجتهاد ولنا ان هذا الاسم له عرف في الشرع وهو ما ذكرناه فيجب حمله عليه وتقديمه
على العرف اللغوي كالوضوء والصلاة والصوم والحج ولا وجه لتخصيصه بذي الرحم المحرم فإن
اسم القرابة يقع على غيرهم عرفا وشرعا وقد تحرم على الرجل ربيبته وأمهات نسائه وحلائل
آبائه وأبنائه ولا قرابة لهم وتحل له ابنة عمه وعمته وابنة خاله وخالته وهم من أقاربه وما ذكره من
التفصيل لا يقتضيه اللفظ ولا يدل عليه دليل فالمصير إليه تحكم فأما إن كان في لفظه ما يدل على إرادة
قرابة أمه كقوله وتفضل قرابتي من جهة أبي على قرابتي من جهة أمي أو قوله الا ابن خالفي فلانا أو نحو
ذلك أو قرينة تخرج بعضهم عمل بما دلت عليه القرينة لأنها تصرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره
550

(فصل) فإن وصى لأقرب أقاربه أو أقرب الناس إليه أو أقربهم به رحما لم يدفع إلى الا بعد مع
وجود الأقرب فيقدم الأب على كل من أدلى به من الأجداد والاخوة والأعمام والابن مقدم عليهم
وعلى كل من أدلى به ويستوى الأب والابن لأن كل واحد منهما يدلي بنفسه من غير واسطة ويحتمل
أن يقدم الابن لأنه يسقط تعصيب الأب والأول أولى لأن اسقاط تعصيبه لا يمنع مساواته في القرب
ولا كونه أقرب منه بدليل أن ابن الابن يسقط تعصيبه مع بعده ويقدم الابن على الجد والأب على
ابن الابن وقال أصحاب الشافعي رضي الله عنه يقدم ابن الابن على الأب في أحد الوجهين لأنه يسقط تعصيبه
ولنا أن الأب يدلي بنفسه ويلي ابنه من غير حاجز ولا يسقط ميراثه بحال بخلاف ابن الابن
والأب والام سواء وكذلك الابن والبنت والجد أبو الأب وأبو الأم وأم الأب وأم الام كلهم سواء
ثم من بعد الأولاد أولاد البنين وإن سفلوا الأقرب فالأقرب الذكور والإناث وفي أولاد البنات وجهان
بناء على دخولهم في الوقف ثم من بعد الولد الأجداد الأقرب منهم فالأقرب لأنهم العمود الثاني ثم الاخوة
والأخوات لأنهم ولد الأب أو من ولد الام ثم ولدهم وإن سفلوا ولا شئ لولد لأخوات إذا قلنا
لا يدخل ولد البنات وإذا تساوت درجتهم فأولاهم ولد الأبوين ويسوى بين ولد الأب وولد الام
لأنهما على درجة واحدة وكذلك ولداهما والأخ للأب أولى من ابن الأخ من الأبوين كما في الميراث
ثم بعدهم الأعمام ثم بنوهم وإن سفلوا ويستوي العم من الأب والعم من الام وكذلك أبناؤهما وعلى
551

هذا الترتيب ذكره القاضي وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه الا أنه يرى دخول ولد البنات والأخوات
والأخوال والخالات وهذا القول إنما يخرج في مذهب أحمد على الرواية الثالثة التي تجعل القرابة فيها
كل من يقع عليهم اسم القرابة فأما على الرواية التي اختارها الخرقي وأن القرابة اسم لمن كان من
أولاد الآباء فلا يدخل فيه الام ولا أقاربها لأن من لم يكن من القرابة لم يكن أقرب القرابة
فعلى هذا تتناول الوصية من كان أقرب من أولاد الموصي وأولاد أبائه إلى أربعة آباء ولا
يعدوهم ذلك وإن وصى لجماعة من أقرب الناس إليه أعطي لثلاثة من أقرب الناس إليه وإن وجد
أكثر من ثلاثة في درجة واحدة كالاخوة فالوصية لجميعهم لأن بعضهم ليس بأولى من بعض والاسم
يشملهم وإن لم يوجد ثلاثة في درجة واحدة كملت من الثانية وإن كانت في الدرجة الثانية جماعة
سوى بينهم لما ذكرنا في الدرجة الأولى وإن لم يكمل من الثانية فمن الثالثة فإذا وجد ابن وأخ وعم
فالوصية بينهم أثلاثا، وكذلك إن كان ابن وأخوان وإن كان ابن وثلاثة أخوة دخل جميعهم في
الوصية وينبغي أن يكون للابن ثلث الوصية ولهم ثلثاها فإن كان الابن وارثا سقط حقه من الوصية إن
لم يجز له والباقي للاخوة، وإن وصى لعصبته فهو لمن يرثه بالتعصيب في الجملة سواء كانوا ممن يرث في الحال أو
لم يكن ويسوى بين قريبهم وبعيدهم لشمول اللفظ لهم ولا خلاف في أنهم لا يكونون من جهة الام بحال
552

{مسألة} قال (وإن قال لأهل بيتي أعطي من قبل أبيه وأمه)
يعني تعطى أمه وأقاربها الأخوال والخالات وآباء أمه وأولادهم وكل من يعرف بقرابته والمنصوص عن
أحمد فيما وقفنا عليه التسوية بين هذا اللفظ القرابة فإنه قال في رواية عبد الله إذا أوصى بثلث
ماله لأهل بيته هو بيته هو بمثابة قوله لقرابتي وحكاه ابن المنذر عن أحمد وقال أحمد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحل
الصدقة لي ولأهل بيتي " فجعل سهم ذي القربى لهم عوضا عن الصدقة النبي حرمت عليهم فكان ذوو القربى
الذين سماهم الله تعالى هم أهل بيته الذين حرمت عليهم الصدقة. وذكر حديث زيد بن أرقم أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " أذكر كم الله في أهل بيتي " قال قلنا من أهل بيته نساؤه؟ قال لا أصله وعشيرته الذين حرمت
عليهم الصدقة: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس وقال القاضي: قال ثعلب أهل البيت عند
العرب آباء الرجل وأولادهم كالأجداد والأعمام وأولادهم ويستوي فيه الذكور والإناث. وذكر
القاضي أن أولاد الرجل لا يدخلون في اسم القرابة ولا أهل بيته وليس هذا بشئ فإن ولد النبي صلى الله عليه وسلم
من أهل بيته وأقاربه الذين حرموا الصدقة وأعطوا من سهم ذي القربى وهم من أقرب أقاربه فكيف
لا يكونون من أقاربه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة وولديها وزوجها " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب منهم الرجس
وطهرهم تطهيرا " ولو وقف على أقارب رجل أو أوصى لأقاربه دخل فيه ولده بغير خلاف علمته،
553

والخرقي عدهم في القرابة بقوله يجاوز بها أربعة آباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشم بسهم ذي
القربى فجعل هاشما الأب الرابع ولا يكون رابعا إلا أن يعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا لأن هاشما إنما هو رابع النبي صلى الله عليه وسلم
(فصل) وان وصى لآله فهو مثل قرابته فإن في بعض ألفاظ زيد بن أرقم من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أصله وعشيرته الذين حرموا الصدقة بعده: آل علي وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل والأصل
في آل أهل فقلبت الهاء همزة كما قالوا أهرقت الماء وأرقته، ومدت لئلا تجتمع همزتان
وان وصى لعترته فقد توقف أحمد في ذلك وهو في عرف الناس عشيرته الأدنون وولده الذكور
والإناث وإن سفلوا فتصرف الوصية إليهم وبذلك فسره ابن قتيبة قال: ويدل على ذلك قول
أبي بكر رضي الله عنه نحن عترة النبي صلى الله عليه وسلم وبيضته التي اتفقت عنه، وقال ثعلب وابن الاعرابي:
العترة الأولاد وأولاد الأولاد ولم يدخلا في ذلك العشيرة، والأول أصح أشهر في عرف الناس مع أنه
قد دل على صحته قول أبي بكر رضي الله عنه في محفل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره أحد وهم أهل
اللسان فلا يعول على ما خالفه
وان وصى لقومه أو لنسبائه فقال أبو بكر هذا بمثابة أهل بيته وقال القاضي إذا قال لرحمي أو
لأرحامي أو لأنسابي أو لمناسبي صرف إلى قرابته من قبل أبيه وأمه ويتعدى ولد الأب الخامس فعلى
هذا يصرف إلى كل من يرث بفرض أو تعصيب أو بالرحم في حال من الأحوال وقول أبي بكر في
554

المناسبين أولى من قول القاضي لأن ذلك في العرف يطلق على من كان من العشيرة التي ينتسبان إليها
وإذا كان كل واحد منهما ينتسب إلى قبيلة غير قبيلة صاحبه فليس بمناسب له
(فصل) فإن وصى لمواليه وله موال من فوق وهم معتقوه فالوصية لهم لأن الاسم يتناولهم وقد
تعينوا بوجودهم دون غيرهم وان لم يكن له إلا موال من أسفل فهو لهم كذلك وان اجتمعوا فالوصية لهم
جميعا يستوون فيها لأن الاسم يشمل جميعهم وقال أصحاب الرأي الوصية باطلة لأنها لغير معين،
وقال أبو ثور يقرع بينهما لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر وقال ابن القاسم هي للمولى من أسفل
ولأصحاب الشافعي أربعة أوجه كقولنا وقول أصحاب الرأي (والثالث هي للموالي من فوق لأنهم أقوى
بدليل انهم عصبة ويرثونه بخلاف عتقائه (والرابع) يقف الامر حتى يصطلحوا
ولنا أن الاسم يتناول الجميع حقيقة وعرفا فدخلوا في الوصية كما لو وصى لاخوته وقولهم غير
معين غير صحيح فإن من التعميم يحصل التعيين ولذلك لو حلف لا كلمت موالي حنث بكلام أيهم
كان، وقولهم ان المولى من فوق أقوى قلنا مع شمول الاسم لهم يدخل فيه الأقوى والأضعف كإخوته
ولا شئ لابن العم ولا للناصر ولا لغير من ذكرنا لأن الاسم ان لم يتناولهم حقيقة لم يتناولهم عرفا
والأسماء العرفية تقدم على الحقيقية ولا يستحق مولى ابنه مع وجود مواليه، وقال زفر يستحق ولا يصح
لأن مولى ابنه ليس بمولى له حقيقة إذا كان له مولى سواه فإن يكن له مولى فقال الشريف أبو جعفر
555

يكون لموالي أبيه وقال أبو يوسف ومحمد لا شئ له لأنه ليس بمولى واحتج الشريف بأن الاسم يتناول موالي
أبيه مجازا فإذا تعذرت الحقيقة وجب صرف الاسم إلى مجازه والعمل به تصحيحا لكلام المكلف عند
إمكان تصحيحه ولان الظاهر ارادته المجاز لكونه محملا صحيحا وإرادة الصحيح أغلب من إرادة الفاسد، فإن
كان له موالي وموالي أب حين الوصية ثم انقرض مواليه قبل الموت لم يكن لموالي الأب شئ على مقتضى
ما ذكرناه لأن الوصية كانت لغيرهم فلا تعود إليهم إلا بعقد ولم يوجد. ولا يشبه هذا قوله
أوصيت لأقرب الناس إلي وله ابن وابن ابن فمات الابن حيث يستحق ابن الابن وإن كان لا يستحق مع حياة
الابن شيئا لأن الوصية ههنا لموصوف بصفة وجدت في ابن الابن كوجودها في الابن حقيقة وفي المولى
يقع الاسم على مولى نفسه حقيقة وعلى مولى أبيه مجازا فمع وجدهم جميعا لا يحمل اللفظ إلا على الحقيقة
وهذه الصفة توجد في مولى أبيه قال الشريف ويدخل في الوصية للموالي مدبره وأم ولده لأن الوصية
إنما تستحق بعد الموت وهم حينئذ موالي في الحقيقة
(فصل) وإن وصى لجيرانه فهم أهل أربعين دارا من كل جانب نص عليه أحمد وبه قال الأوزاعي
والشافعي وقال أبو حنيفة الجار الملاصق لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الجار أحق بصقبه " يعني الشفعة وإنما
تثبت للملاصق ولان الجار مشتق من المجاورة وقال قتادة: الجار الدار والداران
وروي عن علي رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " قال
من سمع النداء وقال سعيد بن عمرو بن جعدة من سمع الإقامة، وقال أبو يوسف الجيران أهل المحلة
556

في مسجدين صغيرين متقاربين فالجميع جيران أن كانا عظيمين فكل أهل مسجد جيران وأما
الأمصار التي فيها القبائل فالجوار على الافخاذ
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الجار أربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا "
وهذا نص لا يجوز العدول عنه إن صح وإن لم يثبت الخبر فالجار هو المقارب ويرجع في ذلك إلى العرف
(فصل) وإن وصى لأهل دربه أو سكته فهم أهل المحلة الذين طريقهم في دربه
(فصل) وإن وصى لأصناف الزكاة المذكورين في القرآن فهم الذين يستحقون من الزكاة وينبغي
أن يجعل لكل صنف ثمن الوصية كما لو وصى لثمان قبائل. والفرق بين هذا وبين الزكاة حيث يجوز
الاقتصار على صنف واحد أن آية الزكاة أريد بها بيان من يجوز الدفع إليه والوصية أريد بها بيان من
يجب الدفع إليه ويجوز الاقتصار من كل صنف على واحد لأنه لا يمكن استيعابهم. وحكي هذا عن
أصحاب الرأي وعن محمد بن الحسن أنه قال: لا يجوز الدفع إلى أقل من اثنين
وحكى أبو الخطاب رواية ثانية عن أحمد أنه لا يجوز الدفع إلى أقل من ثلاثة من كل صنف وهو
مذهب الشافعي. وأصل هذا الاختلاف في الزكاة وقد ذكرناه، ولا يجوز الصرف إلا إلى المستحق من
أهل بلده، وإن وصى للفقراء وحدهم دخل فيه المساكين، وإن أوصى للمساكين دخل فيه الفقراء
557

لأنهم صنف واحد فيما عدا الزكاة إلا أن يذكر الصنفين جميعا فيدل على ذلك أنه أراد المغايرة
بينهما ويستحب تعميم من أمكن منهم والدفع إليهم على قدر الحاجة والبداية بأقارب الموصي على
ما ذكرنا في باب الزكاة
(فصل) وإن أوصى بشئ لزيد وللمساكين فلزيد نصف الوصية وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد وعن
محمد لزيد ثلثه وللمساكين ثلثاه لأن أقل الجمع اثنان وقال الشافعي يكون كأحدهم إن عمهم أعطاه
كواحد منهم وإن قسم على ثلاثة منهم جعله كأحدهم وحكى أصحابه وجهين آخرين أحدهما كمذهبنا
والثاني له ربع الوصية لأن أقل الجمع ثلاثة فإذا انضم إليهم صاروا أربعة
ولنا أنه جعل الوصية لجهتين فوجب أن يقسم بينهما كما لو قال لزيد وعمرو ولأنه لو وصى لقريش
وتميم لم يشرك بينهم على قدر عددهم ولا على قدر من يعطى منهم بل يقسم بينهم نصفين كذلك ههنا
وإن كان زيد مسكينا لم يدفع إليه من سهم المساكين شئ وبه قال الحسن وإسحاق لأن عطفهم عليه
يدل على المغايرة بينهما إذا الظاهر المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ولان تجويز ذلك يفضي إلى
تجويز دفع الجميع إليه ولفظه يقتضي خلاف ذلك، فأما ان كانت الوصية لقوم يمكن استيعابهم وحصرهم
مثل أن يقول هذا لزيد واخوته فيحتمل أنه يكون كأحدهم لأنه شرك بينه وبينهم على وجه لا يجوز الاخلال
ببعضهم فتساووا فيه كما لو قال هذا لكم ويحتمل أن يكون كالتي قبلها
(فصل) وإن قال اشتروا بثلثي رقابا فاعتقوهم لم يجز صرفه إلى المكاتبين لأنه وصى بالشراء لا بالدفع إليهم
فإن اتسع الثلث لثلاثة لم يجز أن يشترى أقل منها لأنها أقل الجمع وإن قدرت على أن تشترى أكثر من ثلاثة بثمن
ثلاثة غالبة كان أولى وأفصل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أعتق امرأ مسلما أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من
النار " ولأنه يفرج عن نفس زائدة فكان أفضل من عدم ذلك، وإن أمكن شراء ثلاثة رخيصة
وحصة من الرابعة بثمن ثلاثة غالية فالثلاثة أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الرقاب قال " أغلاها
558

ثمنا وأنفسها عند أهلها " والقصد من العتق تكميل الأحكام من الولاية والجمعة والحج والجهاد وسائر الأحكام
التي تختلف بالرق والحرية ولا يحصل ذلك إلا باعتاق جميعه، وهذا التفضيل والله أعلم من
النبي صلى الله عليه وسلم للغالية إنما يكون مع التساوي في المصلحة فأما ان ترجح بعضهم بدين وعفة وصلاح
ومصلحة له في العتق بأن يكون مضرورا بالرق فله صلاح في العتق وغيره له مصلحة في الرق ولا
مصلحة له في العتق وربما تضرر به من فوات نفقته وكفالته ومصالحه وعجزه بعد العتق عن الكسب
وخروجه عن الصيانة والحفظ فإن اعتاق من كثرت المصلحة في اعتاقه أفضل وأولى وان قلت قيمته
ولا يسوغ اعتاق من في اعتاقه مفسدة لأن مقصود الموصي تحصيل الثواب والاجر ولا أجر في اعتاق
هذا، ولا يجوز أن يعتق الا رقبة مسلمة لأن الله تعالى لما قال (فتحرير رقبة) لم يتناول الا المسلمة
ومطلق كلام الآدمي محمول على مطلق كلام الله تعالى، ولا يجوز اعتاق معيبة عيبا يمنع الاجزاء
في الكفارة لما ذكرنا والله أعلم
(فصل) ونقل المروذي عن أحمد فيمن أوصى بثلثه في أبواب البر يجزأ ثلاثة أجزاء جزأ في الجهاد
وجزأ يتصدق به في قرابته وجزأ في الحج، وقال في رواية أبي داود الغزو يبدأ به، وحكي عنه انه جعل جزأ
في فداء الاسرى، وهذا والله أعلم ليس على سبيل اللزوم والتحديد بل يجوز صرفه في جهات البر كلها
لأن اللفظ للعموم فيجب حمله على عمومه ولا يجوز تخصيص العموم بغير دليل وربما كان غير هذه
الجهات أحوج من بعضها وأحق وقد تدعو الحاجة إلى تكفين ميت وإصلاح طريق وفك أسير وإعتاق
رقبة وقضاء دين وإغاثة ملهوف أكثر من دعائها إلى حج من لا يجب عليه الحج فيكلف وجوب ما لم يكن عليه
واجبا وتعبا كان الله قد أراحه منه من غيره مصلحة تعود على أحد من خلق الله فتقديم هذا على ما مصلحته
ظاهرة والحاجة إليه داعية بغير دليل تحكم لا معنى له
559

وإذا قال ضع ثلثي حيث ير بك الله فله صرفه في أي جهة من جهات القرب رأى وضعه فيها عملا بمقتضى وصيته
وذكر القاضي أنه يجب صرفه إلى الفقراء والمساكين، والأفضل صرفه إلى فقراء أقاربه فإن لم يجد فإلى
محارمه من الرضاع، فإن لم يكن فإلى جيرانه. وقال أصحاب الشافعي: يجب ذلك لأنه رده إلى
اجتهاده فيما فيه الحظ وهذا أحظ
ولنا انه قد يرى غير هذا أعم منه وأصلح فلا يجوز تقييده بالتحكم. ونقل أبو داود عن أحمد انه
سئل عز وجل أوصى بثلثه في المساكين وله أقارب محاويج لم يوص لهم بشئ ولم يرثوا فإنه يبدأ بهم فإنهم
أحق، قال وسئل عن النصراني يوصي بثلثه للفقراء من المسلمين أيعطى اخوته وهم فقراء؟ قال
نعم هم أحق يعطون خمسون درهما لا يزادون على ذلك، يعني لا يزاد كل واحد منهم على ذلك لأنه
القدر الذي يحصل به الغنى
{مسألة} قال (وإذا وصى أن يحج يمنه بخمسمائة فما فضل رد في الحج
وجملته انه إذا أوصى أن يحج بمنه بقدر من المال وجب صرف جميع ذلك في الحج إذا حمله الثلث لأنه وصى
بجميعه في جهة قربة فوجب صرفه فيها كما لو وصى به في سبيل الله، وليس للولي أن يصرف إلى من يحج أكثر من نفقة
أمثل لأنه أطلق له التصرف في المعاوضة فاقتضى ذلك عوض المثل كالوكيل في البيع ثم لا يخلو اما أن يكون بقدر
نفقة المثل لحجة واحدة فيصرف فيها أو ناقصا عنها فيحج به من حيث يبلغ في ظاهر منصوص أحمد، فإنه قال في
رواية حنبل في رجل أوصى أن يحج عنه ولا تبلغ النفقة فقال يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من أهل
مدينته، وهذا قول العنبري
وقال القاضي يعازبه في الحج وهو قول سوار القاضي حكاه عنه العنبري، وعن أحمد انه مخير في
ذلك، قال في رواية أبي داود في امرأة أوصت بحج لا يجب عليها أرى أن يؤخذ ثلث مالها فيعان به
في الحج أو يحج من حيث يبلغ (الحال الثالث) أن يفضل عن الحجة فيدفع في حجة ثانية ثم في ثالثه
560

إلى أن ينفذ أو يبقى مالا يبلغ حجة فيحج عنه من حيث يبلغ على ما ذكرنا من الخلاف فيه ولا يستنيب
في الحج مع الامكان الا من بلد المحجوج عنه لأنه نائب عن الميت وقائم مقامه فينوب عنه من موضع
لو حج المنوب عنه لحج منه فإن كان الموصى به لا يحمله الثلث لم يخل من أن يكون الحج فرضا أو تطوعا
فإن كان فرضا أخذ أكثر الامرين من الثلث أو القدر الكافي لحج الفرض فإن كان الثلث أكثر
أخذ ثم يصرف منه في الفرض قدر ما يكفيه ثم يحج بالباقي تطوعا حتى ينفذ كما ذكرنا من قبل، وإن كان
الثلث أقل تمم قدر ما يكفي الحج من رأس المال وبهذا قال عطا وطاوس والحسن وسعيد بن المسيب
والزهري والشافعي وإسحاق قال سعيد بن المسيب والحسن كل واجب من رأس المال، وقال ابن
سيرين والنخعي والشعبي وحماد بن أبي سليمان والثوري وأبو حنيفة وداود بن أبي هند. ان وصى
بالحج فمن ثلثه والا فليس على ورثته شئ فعلى قولهم إن لم يف الثلث بالموصى به والا لم يزد على
الثلث لأن الحج عبادة فلا تلزم الوارث كالصلاة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه؟ " قال نعم قال " فدين الله أحق أن يقضى "
والدين بن رأس المال فما هو أحق منه أولى ولأنه واجب فكان من رأس المال كدين الآدمي، وإن كان
تطوعا أخذ الثلث لا غير إذا لم يجز الورثة ويحج به على ما ذكرنا فيما مضى
(فصل) وإذا أوصى بحج واجب أو غيره من الواجبات كقضاء دين وزكاة واخراج كفارة
لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يوصي بذلك من صاحب ماله فهذا تأكيد لما وجب بالشرع
ويحج عنه من بلده، وان لم يف ماله بذلك أخذ ماله كله يدفع في الواجب كما لو يوص (الثاني)
أن يوصي بأداء الواجب من ثلث ماله فيصح أيضا، فإن لم تكن له وصية غير هذه لم تفد شيئا ويؤدي
من المال كله كما لو لم يوص، وإن كان قد أوصى بتبرع لجهة أخرى قدم الواجب، وان فضل من
561

الثلث شئ فهو للتبرع، وان لم يفضل شئ سقطت وان لم يف الثلث بالواجب أثم من رأس المال
هكذا ذكر القاضي، وقال أبو الخطاب يزاحم بالواجب أصحاب الوصايا فيحتمل أنه أراد مثل ما ذكر
القاضي ويحتمل انه أراد أن الثلث يقسم بين الوصايا كلها الواجب والتبرع بالحصص فما حصل للواجب
أتم من رأس المال فيدخله الدور وتعمل بالجبر فنقول في رجل أوصى بحجة واجبة كفايتها عشرة من
ثلثه ووصى بصدقة تطوع عشرة ومات فلم يخلف إلا ثلاثين فاعزل تتمة الواجب من المال وهي شئ
مجهول وخذ ثلث الباقي عشرة الا ثلث شئ واقسمه بين الوصيين لكل واحد خمسة الا سدس
شئ اضمم الشئ الذي عزلته إلى ما حصل للحجة فصار شيئا وخمسة الا سدس شئ يعدل عشرة وخذ من الشئ
سدسه فاجبر به بعض الخمسة يبقى خمسة أسداس شئ يعدل خمسة فالشئ إذا ستة ومتى أخذت ستة من ثلاثين
بقي أربعة وعشرون ثلثها ثمانية لصاحب الصدقة نصفها أربعة وللواجب أربعة مع الستة صار الجميع عشرة فإن كان
عليه أيضا دين خمسة عزلت تتمة الحج شيئا وتتمة الدين نصف شئ بقي ثلث المال عشرة الا نصف شئ
واقسمه بين الوصايا فيحصل للحج أربعة الا خمس شئ اضمم إليها تتمته يصر شيئا وأربعة الا خمس شئ يعدل
عشرة وبعد الجبر يصير أربعة أخماس شئ تعدل سنة فرد على الستة ربعها تصر سبعة ونصفها يعدل شيئا فالشئ
سبعة ونصف ونصف الشئ ثلاثة ونصف وربع وبقية المال ثمانية عشر وثلاثة أرباع ثلثها ستة وربع، للدين
خمسها واحد وربع إذا ضممت إليه تتمته كمل خمسة وللحج اثنان ونصف تكمل به تتمة وللصدقة
اثنان ونصف، وفي عملها طريق آخر وهو أن يقسم الثلث بكماله بين الوصايا بالقسط ثم ما بقي من
الواجب أخذه من الورثة وصاحب التبرع بالقسط، ففي المسألة الأولى يحصل للواجب خمسة يبقى له
خمسة يأخذ من صاحب التبرع دينارا ومن الورثة أربعة، وفي المسألة الثانية حصل للحج أربعة وبقي
له ستة وحصل للدين ديناران وبقي له ثلاثة فيأخذان ما بقي لهما من الورثة ثلاثة ومن صاحب التبرع
ثلاثة فيأخذ صاحب الحجة من الورثة أربعة ومن صاحب التبرع دينارين ويأخذ صاحب لدين دينارين
562

من الورثة ودينارا من صاحب التبرع (الثالث) ان يوصي بالواجب ويطلق فهو من رأس المال فيبدأ
باخراجه قبل التبرعات والميراث فإن كان ثم وصية تبرع فلصاحبها ثلث الباقي وهذا قول أكثر أصحاب
الشافعي، وذهب بعضهم إلى أن الواجب من الثلث كالقسم الذي قبله لأنه إنما يملك الوصية بالثلث
ولنا أن الحج كان واجبا من رأس المال وليس في وصيته ما يقتضي تغييره فيبقى على ما كان عليه
كما لو لم يوص به، وقولهم لا تملك الوصية إلا بالثلث قلنا في التبرع فأما في الواجبات فلا تنحصر في
الثلث ولا تتقيد به (القسم الرابع) أن يوصي بالواجب ويقرن الوصية بالتبرع مثل أن يقول حجوا
عني وأدوا ديني وتصدقوا عنى ففيه وجهان (أصحهما) أن الواجب من رأس المال لأن الاقتران في اللفظ
لا يدل على الاقتران في الحكم ولا في كيفيته ولذلك قال الله تعالى (كلوا من ثمره إذا أثمر وأتوا حقه
يوم حصاده) والاكل غير واجب والايتاء واجب ولأنه ههنا قد عطف غير الواجب عليه فكما لم
يستويا في الواجب لا يلزم استواؤهما في محل الاخراج (والثاني) أنه من الثلث لأنه قرن به
ما يخرجه من الثلث
{مسألة} قال (وان قال حجة بخمسمائة فما فضل فهو لمن يحج)
وجملته أنه إذا أوصى أن يحج عنه بقدر من المال حجة واحدة وكان فيه فضل عن قدر ما يحج
به فهو لمن يحج لأنه قصد ارفاقه بذلك فكأنه صرح، فإن قال حجوا عنى حجة واحدة بخمسمائة وما
فضل منها فهو لمن يحج ثم إن عين من يحج عنه فقال يحج عني فلان بخمسمائة صرف ذلك إليه وإن لم
يعين أحدا فللوصي صرفها إلى من شاء لأنه فوض إليه الاجتهاد إلا أنه لا يملك صرفها إلى وارث إذا
كان فيها فضل الا باذن الورثة، وإن لم يكن فيها فضل جاز لأنها لا محاباة فيها نم ينظر فإن كان الحج
للموصي به تطوعا فجميع القدر الموصى به من الثلث، وإن كان واجبا فالزائد عن نفقة المثل معتبر من
563

الثلث، وإن لم يف الموصى به بالحج الواجب أتم من رأس المال، وإن كان تطوعا فإنه يحج به من
حيث يبلغ على ما مضى
(فصل) وإن عين رجلا أن يحج فأبى ان يحج بطل التعيين ويحج عنه بأقل ما يكن انسان ثقة
سواه ويصرف الباقي إلى الورثة، ولو قال المعين اصرفوا الحجة إلى من يحج وادفعوا الفضل إلي
لأنه موصى به لي لم يصرف إليه شئ لأنه إنما أوصي له بالزيادة بشرط أن يحج فإذا لم يفعل لم يوجد
الشرط ولم يستحق شيئا
{مسألة) قال (وان قال حجوا عنى حجة فما فضل رد إلى الورثة)
أما إذا أوصى بحجة ولم يذكر قدرا من المال فإنه لا يدفع إلى من يحج الا قدر نفقة المثل لما
ذكرناه وإن فضل فضل عن ذلك فهو للورثة وهذا ينبنى على أن الحج لا يجوز الاستئجار عليه إنما
ينوب عنه فيه نائب فما ينفق عليه فيما يحتاج إليه فهو من مال الموصي وما بقي رده على ورثته، وإن
تلف المال في الطريق فهو من مال الموصي وليس على النائب اتمام المضي إلى الحج عنه وعلى الرواية
الأخرى يجوز الاستئجار عليه فلا يستأجر الا ثقة بأقل ما يمكن وما فضل فهو لمن يحج لأنه ملك ما أعطى
بعقد الإجارة، وإن تلف المال في الطريق بعد قبض الأجير له فهو من ماله ويلزمه اتمام الحج، وإن
قال حجوا عنى ولم يقل حجة واحدة لم يحج عنه الا حجة واحدة لأنه أقل ما يقع عليه الأصم فإن عين
مع هذا من يحج عنه فقال يحج عني فلان فإنه يدفع إليه قدر نفقته من بلده إذا خرج من الثلث، فإن
أبى الحج إلا بزيادة نصرف إليه فينبغي أن يصرف إليه أقل قدر يمكن أن يحج به غيره، وإن أبى الحج
وكان واجبا استنيب غيره بأقل ما يمكن استنابته به، وإن كان تطوعا احتمل بطلان الوصية لأنه عين
لها جهة فإذا لم تقبلها بطلت الوصية كما لو قال بيعوا عبدي لفلان بمائة فأبى شراءه ويحتمل أن لا تبطل
564

ويستناب غيره لأنه قصد القربة والتعيين فإذا بطل التعيين لم تبطل القربة كما لو قال بيعوا عبدي لفلان
وتصدقوا بثمنه فلم يقبل فلان فإنه يباع لغيره ويتصدق به
(فصل) وإذا أوصى لرجل أن يخرج عنه حجة لم يكن للوصي الحج بنفسه نص عليه أحمد كما لو
قال تصدق علي لم يجز أن يتصدق على نفسه، وإن قال حج عنى بما شئت صح وله ما شاء إلا أن
لا يجيز الورثة فله الثلث
(فصل) إذا أوصى أن يحج عنه زيد بمائة ولعمرو بتمام الثلث ولسعد بثلث ماله فأجاز الورثة أمضيت
على ما قال الموصي وان لم يفضل عن المائة شئ فلا شئ لعمرو لأنه إنما أوصى له بالفضل ولا فضل
وان رد الورثة قسم الثلث بينهم نصفين لسعد السدس ولزيد مائة وما فضل من الثلث فلعمرو فإن لم
يفضل شئ فلا شئ لعمرو لأنه إنما أوصى له بالزيادة ولا تمنع المزاحمة به ولا يعطى شيئا
كولد الأب مع الأخ من الأبوين في مزاحمة الجد ويحتمل أنه متى كان في الثلث فضل عن المائة أن يرد
كل واحد منهم إلى نصف وصيته لأن زيدا إنما استحق المائة بالإجازة فمع الرد يجب أن يدخل عليه
من النقص بقدر وصيته كسائر الوصايا وقد ذكرنا نظير هذه المسألة فيما تقدم فإن امتنع زيد من الحج
وكانت الحجة واجبة استنيب ثقة غيره في الحج بأقل ما يمكن وتمام المائة للورثة ولعمرو ما فضل فإن
كانت الحجة تطوعا ففي بطلان الوصية بهما وجهان ذكرناهما فيما مضي
(فصل) وان أوصى لزيد بعبد بعينه ولعمرو ببقية الثلث قوم العبد يوم موت الموصي لأنه حال
نفوذ الوصية ودفع إلى زيد ودفع بقية الثلث إلى عمرو فإن لم يبق من الثلث شئ بطلت وصية عمرو
وان مات العبد بعد موت الموصى أو رد زيد وصيته بطلت ولم تبطل وصية عمرو وهكذا ان مات
زيد قبل الموصي أو بعده وان مات العبد قبل موت الموصي قومنا التركة حال موت الموصي بدون
565

العبد ثم يقوم العبد لو كان حيا فإن بقي من للثلث بعد قيمته شئ فهو لعمرو والا بطلت وصيته ولو قال
لاحد عبديه أنت مدبر ثم قال لآخر أنت مدبر في زيادة الثلث عن قيمة الأول ثم بطل تدبير الأول لرجوعه
فيه أو خروجه مستحقا أو غير ذلك فهي كالتي قبلها على ما ذكرنا
{مسألة} قال (ومن أوصى بثلث ماله لرجل فقتل عمدا أو خطأ وأخذت الدية فلمن
أوصى له بالثلث ثلث الدية في إحدى الروايتين والأخرى ليس لمن أوصى له بالثلث
من الدية شئ)
اختلف الرواية عن أحمد فيمن أوصى بثلث ماله أو جزء منه مشاع فقتل الموصي وأخذت ديته
هل للوصي منها شئ أو لا؟ فنقل مهنا عن أحمد أنه يستحق منها وروي ذلك عن علي رضي الله عنه
في دية الخطأ وهو قول الحسن ومالك ونقل ابن منصور عن أحمد لا يدخل الدية في وصيته، وروي
ذلك عن مكحول وشريك وأبي ثور وداود وهو قول إسحاق وقال مالك في دية العمد لأن الدية إنما
تجب للورثة بعد موت الموصي بدليل ان سببها الموت فلا يجوز وجوبها قبله لأن الحكم لا يتقدم سببه
ولا يجوز ان تجب للميت بعد موته لأنه بالموت تزول أملاكه الثابتة له فكيف يتجدد له ملك؟ فلا يدخل
في الوصية لأن الميت إنما يوصي بجزء من ماله لا بمال ورثته ووجه الرواية الأولى أن الدية تجب للميت
لأنها بدل نفسه ونفسه له فكذلك بدلها ولان بدل أطرافه في حال حياته له فكذلك بدلها بعد موته ولهذا
تقضي منها ديونه ويجهز منها إن كان قبل تجهيزه وإنما يزول من أملاكه ما استغني عنه فأما ما تعلقت به
حاجته فلا ولأنه يجوز أن يتجدد له ملك بعد الموت كمن نصب شبكة فسقط فيها صيد بعد موته
فإنه يملك بحيث تقضي ديونه منه ويجهز فكذلك ديته لأن تنفيذ وصيته من حاجته فأشبهت قضاء دينه
566

(فصل) فإن كانت الوصية بمعين فعلى الرواية الأولى يعتبر خروجه من ثلث ماله وديته وعلى
الأخرى يعتبر خروجه من أصل ماله دون ديته لأنها له ليست من ماله
(فصل) وان أوصى ثم استفاد مالا قبل الموت فأكثر أهل العلم يقولون إن الوصية تعتبر من جميع
ما يخلفه من التلاد والمستفاد ويعتبر ثلث الجميع هذا قول النخعي والأوزاعي ومالك والشافعي وأبى ثور
وأصحاب الرأي وسواء علم أولم يعلم وحكي عن أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز وربيعة ومالك:
لا يدخل في وصيته الا ما علم الا المدبر فإنه يدخل في كل شئ:
ولنا أنه من ماله فدخل في وصية كالمعلوم {مسألة} قال (وإذا وصى إلى رجل ثم أوصى بعده إلى آخر فهما وصيان الا ان يقول
قد أخرجت الأول)
معنى أوصى إلى أي رجل أي جعل له التصرف بعد موته فيما كان له التصرف فيه من قضاء ديونه
واقتضائها ورد الودائع واستردادها وتفريق وصيته والولاية على أولاده الذين له الولاية عليهم من
الصبيان والمجانين ومن لم يؤنس رشده والنظر لهم في أموالهم بحفظها والتصرف فيها بما لهم الحظ فيه
فأما من لا ولاية له عليهم كالعقلاء الراشدين وغير أولاده من الاخوة والأعمام وسائر من عدا الأولاد
فلا تصح الوصية عليهم لأنه لا ولاية للموصي عليهم في الحياة فلا يكون ذلك لنائبه بعد الممات، ولا نعلم في هذا كله خلافا وبه يقول مالك وأبو حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة والشافعي قالا للجد ولاية
علي بن ابنه وان سفل لأن له ولادة وتعصيبا فأشبه الأب ولأصحاب الشافعي في الام عند عدم
الأب والجد وجهان (أحدهما) ان لها ولاية لأنها أحد الأبوين فأشبهت الأب
567

ولنا أن الجد يدلي بواسطة فأشبه الأخ والعم وفارق الأب فإنه يدلي بنفسه ويحجب الجد
ويخالفه في ميراثه وحجبه فلا يصح الحاقه به ولا قياسه عليه، وأما المرأة فلا تلي لأنها قاصرة لا تلي
النكاح بحال فلا تلي مال غيرها كالعبد ولأنها لا تلي بولاية القضاء فكذلك بالنسب
إذا ثبت هذا فإنه إذا أوصى إلى رجل ثم أوصى إلى آخر فهما وصيان الا أن يقول قد أخرجت
الأول أو قد عزلته لما ذكرنا فيما إذا أوصى بجارية لبشر ثم أوصى بها لبكر ولأنه قد وجدت الوصية
إليهما من غير عزل واحد منهما فكانا وصيين كما لو أوصى إليهما دفعة واحدة فأما ان أخرج الأول العزل
وكان الثاني هو الوصي كما لو عزله بعد الوصية إلى الثاني
(فصل) ويجوز أن يوصي إلى رجل بشئ دون شئ مثل أن يوصي إلى انسان بتفريق وصيته
دون غيرها أو بقضاء ديونه أو بالنظر في أمر أطفاله حسب فلا يكون له غير ما جعل إليه ويجوز أن
يوصي إلى انسان بتفريق وصيته وإلى آخر بقضاء ديونه وإلى آخر بالنظر في أمر أطفاله فيكون لكل
واحد منهم ما جعل إليه دون غيره. ومتى أوصي إليه بشئ لم يصر وصيا في غيره وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة يصير وصيا في كل ما يملكه الوصي لأن هذه ولاية تنتقل من الأب بموته فلا تتبعض
كولاية الجد. ولنا انه استفاد التصرف بالاذن من جهة الآدمي فكان مقصورا على ما أذن فيه
كالوكيل، وولاية الجد ممنوعة، ثم تلك ولاية استفادها بقرابته وهي لا تتبعض والاذن يتبعض فافترقا
(فصل) ويجوز أن يوصي إلى رجلين معا في شئ واحد ويجعل لكل واحد منهما التصرف
منفردا فيقول أوصيت إلى كل واحد منكما أن ينفرد بالتصرف لأنه جعل كل واحد منهما وصيا
منفردا وهذا يقتضي تصرفه على الانفراد وله أن يوصي إليهما ليتصرفا مجتمعين وليس لواحد منهما
الانفراد بالتصرف ولأنه لم يجعل ذلك إليه ولم برض بنظره وحده، وهاتان الصورتان لا أعلم فيهما
568

خلافا، وان أطلق فقال أوصيت اليكما في كذا فليس لأحدهما الانفراد بالتصرف وبه قال مالك
والشافعي، وقال أبو يوسف له ذلك لأن الوصية والولاية لا تتبعض فملك كل واحد منهما الانفراد بها
كالأخوين في تزويج أختهما
وقال أبو حنيفة ومحمد يستحسن على خلاف القياس فيبيح أن ينفرد كل واحد منهما بسبعة أشياء:
كفن الميت وقضاء دينه وانفاذ وصيته ورد الوديعة بعينها وشراء ما لابد للصغير منه من الكسوة
والطعام وقبول الهبة له والخصومة عن الميت فيما يدعى له أو عليه لأن هذه يشق الاجتماع عليها ويضر
تأخيرها فجاز الانفراد بها
ولنا انه شرك بينهما في النظر فلم يكن لأحدهما الانفراد كالوكيلين، وما قاله أبو يوسف نقول به
فإنه جعل الولاية إليهما باجتماعهما فليست متبعضة كما لو وكل وكيلين أو صرح للوصيين بأن لا يتصرفا
الا مجتمعين ثم يبطل ما قاله بهاتين الصورتين ويبطل ما قاله أبو حنيفة بهما أيضا، وإذا تعذر اجتماعهما
أقام الحاكم أمينا مقام العائب
(فصل فيمن تصح الوصية إليه ومن لا تصح)
تصح الوصية إلى الرجل العاقل المسلم الحر العدل اجماعا، ولا تصح إلى مجنون ولا طفل ولا
وصية مسلم إلى كافر بغير خلاف نعلمه لأن المجنون والطفل ليسا من أهل التصرف في
أموالهما فلا يليان على غيرهما، والكافر ليس من أهل الولاية على مسلم، تصح الوصية إلى
المرأة في قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن شريح، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي
569

والحسن بن صالح وإسحاق والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولم يجزه عطاء لأنها لا تكون قاضية
فلا تكون وصية كالمجنون
ولنا ما روي أن عمر رضي الله عنه أوصي إلى حفصة، ولأنها من أهل الشهادة فأشبهت الرجل
وتخالف القضاء فإنه يعتبر له الكمال في الخلفة والاجتهاد بخلاف الوصية، وتصح الوصية إلى الأعمى
وقال أصحاب الشافعي فيه وجه أنه لا تصح الوصية إليه بناء منهم على أنه لا يصح بيعه ولا شراؤه فلا
يوجد فيه معنى الولاية وهذا لا يسلم لهم مع أنه يمكنه التوكيل في ذلك وهو من أهل الشهادة والولاية
في النكاح والولاية على أولاده الصغار فصحت الوصية إليه كالبصير، وأما الصبي العاقل فلا أعلم فيه
نصا عن أحمد فيحتمل أنه لا تصح الوصية إليه لأنه ليس من أهل الشهادة والاقرار ولا يصح تصرفه
الا باذن فلم يكن من أهل الولاية بطريق الأولى ولأنه مولى عليه فلا يكون واليا كالطفل والمجنون وهذا
مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله، وقال القاضي قياس المذهب صحة الوصية إليه لأن احمد
قد نص على صحة وكالته وعلى هذا يعتبر أن يكون قد جاوز العشر، وأما الكافر فلا تصح وصية مسلم
إليه لأنه لا بلي على مسلم ولأنه ليس من أهل الشهادة ولا العدالة فلم تصح الوصية إليه كالمجنون والفاسق
وأما وصية الكافر إليه فإن لم يكن عدلا في دينه لم تصح الوصية إليه لأن عدم العدالة في المسلم يمنع صحة
الوصية إليه فمع الكفر أولى، وإن كان عدلا في دينه ففيه وجهان (أحدهما) تصح الوصية إليه وهو
قول أصحاب الرأي لأنه بلي بالنسب فيلي الوصية كالمسلم (والثاني) لا تصح وهو قول أبي ثور لأنه
فاسق فلم تصح الوصية إليه كفاسق المسلمين، ولا صحاب الشافعي وجهان كهذين، وأما وصية الكافر
إلى المسلم فتصح إلا أن تكون تركته خمرا أو خنزيرا، وأما العبد فقال أبو عبد الله بن حامد تصح
الوصية إليه سواء كان عبد نفسه أو عبد غيره وبه قال مالك، وقال النخعي والأوزاعي وابن شبرمة
570

تصح الوصية إلى عبد نفسه ولا تصح إلى عبد غيره، وقال أبو حنيفة تصح الوصية إلى عبد نفسه إذا لم
يكن في ورثته رشيد وقال أبو يوسف ومحمد الشافعي لا تصح الوصية إلى عبد بحال لأنه لا يكون وليا على
ابنه بالنسب فلا يجوز أن يلي الوصية كالمجنون
ولنا أنه يصح استنابته في الحياة فصح أن يوصى إليه كالحر وقياسهم يبطل بالمرأة والخلاف في
المكاتب والمدبر والمعتق بعضه كالخلاف في العبد القن، وقد نص الخرقي على أن الوصية إلى أم ولده
جائزة، وقد نص عليه احمد أيضا لأنها تكون حرة عند نفوذ الوصية من أصل المال، وأما الفاسق
فقد روي عن أحمد ما يدل على أن الوصية إليه لا تصح وهو قول مالك والشافعي، وعن أحمد ما يدل
على صحة الوصية إليه فإنه قال في رواية ابن منصور إذا كان متهما لم تخرج من يده، وقال الخرقي
إذا كان الوصي خائنا ضم إليه أمين وهذا يدل على صحة الوصية إليه ويضم الحاكم إليه أمينا، وقال
أبو حنيفة تصح الوصية إليه وينفذ تصرفه، وعلى الحاكم عزله لأنه بالغ عاقل فصحت الوصية إليه
كالعدل ووجه الأولى أنه لا يجوز افراده بالوصية فلم تجز الوصية إليه كالمجنون وعلى أبي حنيفة لا يجوز
اقراره على الوصية فأشبه ما ذكرنا
(فصل) ويعتبر وجود هذه الشروط في الوصي حال العقد والموت في أحد الوجهين وفي الآخر
يعتبر حال الموت حسب كالوصية له وهو قول بعض أصحاب الشافعي
ولنا أنها شروط لعقد فتعتبر حال وجوده كسائر العقود، فأما الوصية له فهي صحيحة وإن كان
وارثا وإنما يعتبر عدم الإرث وخروجها من الثلث للنفوذ واللزوم فاعتبرت حالة اللزوم بخلاف مسئلتنا
فإنها شروط لصحة العقد فاعتبرت حالة العقد ولا ينفع وجودها بعده وعلى الوجه الثاني لو كانت الشروط
كلها منتفية أو بعضها حال العقد ثم وجدت حالة الموت لصحت الوصية إليه
571

(فصل) وإذا قال أوصيت إلى زيد فإن مات فقد أوصيت إلى عمرو صح ذلك رواية واحدة
ويكون كل واحد منهما وصيا الا أن عمرا وصي بعد زيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جيش مؤتة " أميركم
زيد فإن قتل فأميركم جعفر فإن قتل فأميركم عبد الله بن رواحة " والوصية في معنى التأمير وان قال
أوصيت إليك فإذا كبر ابني كان وصيي صح لذلك فإذا كبر ابنه صار وصيه وعلى هذا لو قال وصيت لك
فإن تاب ابني عن فسقه أو قدم من غيبته أو صح من مرضه أو اشتغل بالعلم أو صالح أمه أو رشد فهو
وصيي صحت الوصية إليه ويصير وصيا عند وجود هذه الشروط
{مسألة} قال (وإذا كان الوصي خائنا جعل معه أمين)
ظاهر هذا صحة الوصية إلى الفاسق ويضم إليه أمين وكذلك إن كان عدلا فتغيرت حاله إلى
الخيانة لم يخرج منها ويضم إليه أمين. ونقل ابن منصور عن أحمد نحو ذلك، قال إذا كان الوصي
متهما لم يخرج من يده. ونقل المروذي عن أحمد فيمن أوصي إلى رجلين ليس أحدهما بموضع للوصية
فقال للآخر اعطني لا يعطيه شيئا ليس هذا بموضع للوصية فقيل له أليس المريض قد رضي به؟ فقال
وإن رضي به فظاهر هذا ابطال الوصية إليه، وحمل القاضي كلام الخرقي وكلام أحمد في ابقائه في الوصية
على أن خيانته طرأت بعد الموت، فأما إن كانت خيانته موجودة حال الوصية إليه لم تصح لأنه لا يجوز تولية الخائن على يتيم في حياته فكذالك بعد موته ولان الوصية ولاية وأمانة والفاسق ليس من أهلهما
فعلى هذا إذا كان الوصي فاسقا فحكمه حكم من لا وصي له وينظر في ماله الحاكم، وإن طرأ فسقه بعد
الوصية زالت ولايته وأقام الحاكم مقامه أمينا هذا اختيار القاضي وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق
وعلى قول الخرقي لا تزول ولايته ويضم إليه أمين ينظر معه. وروي ذلك عن الحسن وابن سيرين
572

لأنه أمكن حفظ المال بالأمين وتحصيل نظر الوصي بابقائه في الوصية فيكون جمعا بين الحقين وان لم
يمكن حفظ المال بالأمين تعين إزالة يد الفاسق الخائن وقطع تصرفه لأن حفظ المال على اليتيم أولى من
رعاية قول الموصي الفاسد
وأما التفريق بين الفسق الطارئ وبين المقارن فبعيد فإن الشروط تعتبر في الدوام كاعتبارها في
الابتداء سيما إذا كانت لمعنى يحتاج إليه في الدوام ولو لم يكن بد من التفريق لكان اعتبار العدالة في
الدوام أولى من قبل أن الفسق إذا كان موجودا حال الوصية فقد رضى به الموصي مع علمه بحاله وأوصى
إليه راضيا بتصرفه مع فسقه فيشعر ذلك بأنه علم أن عنده ومن الشفقة على اليتيم ما يمنعه من التفريط فيه
وخيانته في ماله بخلاف ما إذا طرأ الفسق فإنه لم يرض به على تلك الحال والاعتبار برضاه ألا ترى أنه
لو أوصى إلى واحد جاز له التصرف وحده، ولو وصى إلى اثنين لم يجز للواحد التصرف
(فصل) وأما العدل الذي يعجز عن النظر لعلة أو ضعف فإن الوصية تصح إليه وبضم إليه الحاكم
أمينا ولا يزيل يده عن المال ولا نظره لأن الضعيف أهل للولاية والأمانة فصحت الوصية إليه وهكذا
إن كان قويا فحدث فيه ضعف أو علة ضمن الحاكم إليه يدا أخرى ويكون الأول هو الوصي دون الثاني
وهذا معاون لأن ولاية الحاكم إنما تكون عند عدم الوصي وهذا قول الشافعي وأبي يوسف ولا
أعلم لهما مخالفا.
(فصل) وإذا تغيرت حال الوصي بجنون أو كفر أو سفه زالت ولايته وصار كأنه لم يوص
إليه ويرجع الامر إلى الحاكم فيقيم أمينا ناظرا للميت في أمره وأمر أولاده من بعده كما لو لم يخلف
وصيا، وان تغيرت حاله بعد الوصية وقبل الموت ثم عاد فكان عند الموت جامعا لشروط الوصية
صحت الوصية إليه لأن الشروط موجودة حال العقد والموت فصحت الوصية كما لو لم تتغير حاله ويحتمل
573

أن تبطل لأن كل حالة منها حالة للقبول والرد فاعتبرت الشروط فيها، فأما ان زالت بعد الموت وانعزل
ثم عاد فكمل الشروط لم تعد وصيته لأنها زالت فلا تعود الا بعقد جديد
(فصل) ويصح قبول الوصية وردها في حياة الموصي لأنها إذن في التصرف فصح قبوله بعد
العقد كالوكيل بخلاف الوصية له فإنها تمليك في وقت فلم يصح القبول قبل الوقت ويجوز تأخير القبول
إلى ما بعد الموت لأنها نوع وصية فصح قبولها بعد الموت كالوصية له ومتى قبل صار وصيا وله عزل نفسه
متى شاء مع القدرة والعجز في حياة الموصي وبعد موته بمشهد منه وفي غيبته وبهذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة لا يجوز له ذلك بعد الموت بحال ولا يجوز في حياته الا بحضرته لأنه غره بالتزام وصيته ومنعه
بذلك الايصاء إلى غيره. وذكر ابن أبي موسى في الارشاد رواية عن أحمد ليس له عزل نفسه بعد الموت
لذلك. ولنا أنه متصرف بالاذن فكان له عزل نفسه كالوكيل
(فصل) ويجوز أن يجعل للوصي جعلا لأنها بمنزلة الوكالة والوكالة تجوز بجعل فكذلك الوصية وقد
نقل إسحاق بن إبراهيم في الرجل يوصى إلى الرجل ويجعل له دراهم مسماة فلا بأس ومقاسمة الوصي
الموصى له جائزة على الورثة لأنه نائب عنهم ومقاسمته للورثة على الموصى له لا تجوز لأنه ليس بنائب عنه
(فصل) وإذا أوصى إلى رجل واذن له أن يوصي إلى من يشاء نحو ان يقول أذنت لك أن توصى
إلى من شئت أو كل من أوصيت إليه فقد أوصيت إليه أو فهو وصيي صح وله ان يوصي إلى من شاء
لأنه رضي باجتهاده واجتهاد من يراه فسخ كما لو وصى إليهما معا وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن
الشافعي أنه قال في أحد القولين ليس له ان يوصي لأنه يلي بتوليه فلا يصح أن يوصي كالوكيل
ولنا أنه مأذون له في الاذن في التصرف فجاز له ان يأذن لغيره كالوكيل إذا أمر بالتوكيل
والوكيل حجة عليه من الوجه الذي ذكرناه فاما ان أوصى إليه وأطلق ولم يأذن له في الايصاء ولا نهاه
574

عنه ففيه روايتان (إحداهما) له ان يوصى إلى غيره وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري وأبي يوسف
لأن الأب أقامه مقام نفسه فكان له الوصية كالأب (والثانية) ليس له ذلك وهو اختيار أبي بكر ومذهب
الشافعي وإسحاق وهو الظاهر من مذهب الخرقي لقوله ذلك في الوكيل لأنه يتصرف بتولية فلم يكن له
التفويض كالوكيل ويخالف الأب لأنه بلي بغير تولية
{مسألة} قال (وان كانا وصيين فمات أحدهما أقيم مقام الميت أمين)
وجملة ذلك أنه يجوز للرجل الوصية إلى اثنين فمتى أوصي إليهما مطلقا لم يجز لواحد منهما الانفراد
بالتصرف فإن مات أحدهما أو جن أو وجد منه ما يوجب عزله أقام الحاكم مقامه أمينا لأن الموصي
لم يرض بنظر هذا الباقي منهما وحده، فإن أراد الحاكم رد النظر إلى الباقي منهما لم يكن له ذلك،
وذكر أصحاب الشافعي وجها في جوازه لأن النظر لو كان له لموت الموصي عن غير وصية كان له رده إلى
واحد كذلك ههنا فيكون ناظرا بالوصية من الموصي والأمانة من جهة الحاكم
ولنا أن الموصي لم يرض بتصرف هذا وحده فوجب ضم غيره إليه لأن الوصية مقدمة على نظر
الحاكم واجتهاده، وان تغيرت حالهما جميعا بموت أو غيره فللحاكم أن ينصب مكانهما، وهل له نصب
واحد؟ فيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأنه لما عدم الوصيان صار الامر إلى الحاكم بمنزلة ما لم يوص،
ولو لم يوص لا كتفي بواحد كذا ههنا، ويفارق ما إذا كان أحدهما حيا لأن الموصي بين انه لا يرضى
بهذا وحده بخلاف ما إذا ماتا معا (والثاني) لا يجوز أن ينصب الا اثنين لأن الموصي لم يرض بواحد
فلم يقتنع به كما لو كان أحدهما حيا، فأما ان جعل لكل واحد منهما التصرف منفردا فمات أحدهما أو
خرج من الوصية لم يكن للحاكم أن يقيم مقامه أمينا لأن الباقي منهما له النظر بالوصية فلا حاجة إلى غيره
575

وان ماتا معا أو خرجا عن الوصية فللحاكم أن يقيم واحدا يتصرف وان تغيرت حال أحد الوصيين
تغييرا لا يزيله عن الوصية كالعجز عنها لضعف أو علة ونحو ذلك وكانا ممن لكل واحد منهما التصرف منفردا فليس للحاكم أن يضم إليهما أمينا لأن الباقي منهما يكفي الا أن يكون الباقي منهما يعجز عن
التصرف وحده لكثرة العمل ونحوه فله ان يقيم أمينا، وان كانا ممن ليس لأحدهما التصرف على
الانفراد فعلى الحاكم ان يقيم مقام من ضعف عنها أمينا يتصرف معه على كل حال فيصيرون ثلاثة:
الوصيان والأمين معهما ولكل (1) واحد منهم التصرف وحده
(فصل) وإذا اختلف الوصيان عند من يجعل المال منهما لم يجعل عند واحد منهما ولم يقسم
بينهما وجعل في مكان تحت أيديهما جميعا لأن الموصي لم يأمن أحدهما على حفظه ولا التصرف فيه
وقال مالك يجعل عند أعدلهما، وقال أصحاب الرأي يقسم بينهما وهو المنصوص عن الشافعي
الا أن أصحابه اختلفوا في مراده بكلامه فقال بعضهم إنما أراد إذا كان كل واحد منهما موصى إليه على
الانفراد وقال بعضهم بل هو عام فيهما
ولنا أن حفظ المال من جملة الموصى به فلم يجز لأحدهما الانفراد به كالتصرف ولأنه لو جاز
لكل واحد منهما أن ينفرد بحفظ بعضه لجاز له أن ينفرد بالتصرف في بعضه
(فصل) لا بأس بالدخول في الوصية فإن الصحابة رضي الله عنهم كان بعضهم يوصي إلى بعض
فيقبلون الوصية فروي عن أبي عبيدة أنه لما عبر الفرات أوصى إلى عمر، وأوصى إلى الزبير ستة من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وابن مسعود والمقداد وعبد الرحمن بن عوف ومطيع بن الأسود
وآخر وروي عن ابن عمر أنه كان وصيا لرجل، وفي وصية ابن مسعود ان حدث بي حادث الموت من
مرضي هذا أن مرجع وصيتي إلى الله سبحانه ثم إلى الزبير بن العوام وابنه عبد الله ولأنها وكالة وأمانة

(1) صوابه وليس لكل واحد منهم
576

فأشبهت الوديعة والوكالة في الحياة وقياس مذهب أحمد أن ترك الدخول فيها أولى لما فيها من الخطر
وهو لا يعدل بالسلامة شيئا، ولذلك كان يرى ترك الالتقاط وترك الاحرام قبل الميقات أفضل تحريا
للسلامة واجتنابا للخطر وقد روي حديث يدل على ذلك وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر
" اني أراك ضعيفا واني أحب لك ما أحب لنفسي فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم " أخرجه مسلم.
(فصل) فإن مات رجل لا وصي له ولا حاكم في بلده فظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه يجوز لرجل
من المسلمين أن يتولى أمره ويبيع ما دعت الحاجة إلى بيعه، فإن صالحا نقل عنه في رجل بأرض غربة
لا قاضي بها مات وخلف جواري ومالا أترى لرجل من المسلمين بيع ذلك فقال أما المنافع والحيوان
فإن اضطروا إلى بيعه ولم يكن قاض فلا بأس وأما الجواري فأحب إلي ان يتولى بيعهن حاكم من الحكام
وإنما توقف عن بيع الإماء على طريق الاختيار احتياطا لأن بيعهن يتضمن إباحة فرج وأجاز بيع ذلك
لأنه موضع ضرورة.
(فصل) وإذا أوصى إليه بتفريق مال لم يكن له أخذ شئ منه نص عليه أحمد فقال إذا كان في يده
مال للمساكين وأبواب البر وهو يحتاج إليه فلا يأكل منه شيئا إنما أمر بتنفيذه وبهذا قال مالك والشافعي
وقال أبو ثور وأصحاب الرأي إذا قال الموصي جعلت لك ان تضع ثلثي حيث شئت أو حيث رأيت
فله أخذه لنفسه وولده ويحتمل أن يجوز ذلك عندنا لأنه يتناوله لفظ الموصي، ويحتمل أن ينظر إلى
قرائن الأحوال فإن دلت على أنه أراد أخذه منه مثل أن يكون من جملة المستحقين الذين يصرف إليهم
ذلك أو عادته الاخذ من مثله فله الاخذ منه والا فلا ويحتمل أن له اعطاء ولده وسائر أقاربه إذا كانوا
مستحقين دون نفسه لأنه مأمور بالتفريق وقد فرق فيمن يستحق فأشبه ما لو دفع إلى أجنبي
577

ولنا أنه تمليك ملكه بالاذن فلا يجوز أن يكون قابلا كما لو وكله في بيع سلعة لم يجز له بيعها من نفسه
(فصل) وان وصى إليه بتفريق ثلثه فأبى الورثة اخراج ثلث ما في أيديهم فعنه روايتان (إحداهما)
يخرج الثلث كله مما في يده نقلها أبو طالب لأن حق الموصى له متعلق بأجزاء التركة فجاز أن يدفع
إليه مما في يده كما يدفع إلى بعض الورثة (والأخرى) يدفع إليه ثلث ما في يده ولا يعطيهم شيئا مما في
يده حتى يخرجوا ثلث ما في أيديهم نقلها أبو الحارث لأن صاحب الدين إذا كان للمدين في يديه مال
لم يملك استيفاءه مما في يديه كذا ههنا، ويمكن حمل الروايتين على اختلاف حالين فالرواية الأولى محمولة
على ما إذا كان المال جنسا واحدا فللموصي أن يخرج الثلث كله مما في يديه لأنه لا فائدة في انتظار
اخراجهم مما في أيديهم مع اتحاد الجنس والرواية الثانية محمولة على ما إذا كان المال أجناسا فإن
الوصية تتعلق بثلث كل جنس فليس له ان يخرج عوضا عن ثلث ما في أيديهم مما في يده لأنه معاوضة
لا تجوز الا برضاهم والله أعلم.
(فصل) إذا علم الوصي ان على الميت دينا اما بوصية الميت أو غيرها فقال أحمد لا يقضيه الا ببينة
قيل له فإن كان ابن الميت يصدقه؟ قال يكون ذلك في حصة من أقر بقدر حصته وقال فيمن استودع
رجلا ألف درهم وقال إن أنا مت فادفعها إلى ابني الكبير وله ابنان أو قال ادفعها إلى أجنبي فقال إن
دفعها إلى أحد الابنين ضمن للآخر قد حصته وان دفعها إلى الآخر ضمن، ولعل هذا من أحمد فيما
إذا لم يصدق الورثة الوصي ولم يقروا فلا يقبل قوله عليهم وليس له الدفع بغير اذنهم لأن قوله أقر
عندي واذن لي اثبات ولاية فلا يقبل قوله فيه ولا شهادته لأنه يشهد لنفسه بالولاية وقد نقل أبو داود
في رجل أوصى ان لفلان علي كذا ينبغي للوصي أن ينفذه ولا يحل له ان لم ينفذ فهذه المسألة محمولة على
أن الورثة يصدقون الوصي أو المدعي أو له بينة بذلك جمعا بين الروايتين وموافقة للدليل قيل لأحمد فإن
578

علم الموصى إليه لرجل حقا على الميت فجاء الغريم يطالب الوصي وقدمه إلى القاضي ليستحلفه ان مالي في
يديك حق. فقال لا يحلف ويعلم القاضي بالقضية فإن أعطاه القاضي فهو أعلم فإن ادعى رجل
دينا على الميت وأقام به بينة فهل يجوز للوصي قبولها وقضاء الدين بها من غير حضور
حاكم فكلام أحمد يدل على روايتين
(إحداهما) قال لا يجوز لدفع إليه بدعواه الا أن تقوم البينة فظاهر هذا أنه جوز الدفع بالبينة
من غير حكم حاكم لأن البينة له حجة، وقال في موضع آخر الا أن يثبت ببينة عند الحاكم بذلك فأما
إن صدقهم الورثة على ذلك قبل لأنه اقرار منهم على أنفسهم
{مسألة} قال (ومن أعتق في مرضه أو بعد موته عبدين لا يملك غيرهما وقيمة أحدهما
مائتان والآخر ثلاثمائة فلم يجز الورثة أقرع بينهما، فإن وقعت القرعة على الذي قيمته
مائتان عتق منه خمسة أسداسه وهو ثلث الجميع، وان وقعت على الآخر عتق منه خمسة
أتساعه لأن جميع ملك الميت خمسمائة درهم وهو قيمة العبدين فضرب في ثلاثة فأخذ ثلثه
خمسمائة، فلما ان وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان ضربناه في ثلاثة فصيرناه ستمائة
فصار العتق منه خمسة أسداسه، وكذلك يفعل في الآخر إذا وقعت عليه القرعة وكل شئ
يأتي من هذا الباب فسبيله أن يضرب في ثلاثة ليخرج بلا كسر)
هذه المسألة دالة على أحكام أربعة (منها) أن حكم العتق في مرض الموت حكم الوصية لا يجوز منه
579

الا ثلث المال إلا أن يجيزه الورثة وهذا قول جمهور الفقهاء، وحكي عن مسروق فيمن أعتق عبده في
مرض موته ولا مال له: غيره أجيزه برمته شئ جعله لله لا أرده. وهذا قول شاذ يخالف الأثر والنظر
فإنه قد صح عن عمران بن حصين أن رجلا من الأنصار أعتق ستة أعبد عند موته لم يكن له مال غيرهم
فدعا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا. رواه مسلم وأبو
داود، ولأنه تبرع في مرض موته فأشبه سائر العطايا والصدقات
(الثاني) أن العتق إذا كان في أكثر من واحد فلم يحملهم الثلث كملنا الثلث في واحد بالقرعة وإن
كانوا جماعة كملنا العتق في بعضهم بالقرعة بدليل حديث عمران بن حصين المذكور
(الثالث) أنه إذا لم يخرج من الثلث الا جزء من عبد عتق ذلك الجزء خاصة ورق باقيه على
ما سنذكره في العتق إن شاء الله تعالى
(الرابع) اثبات القرعة ومشروعيتها بدليل حديث عمران وفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأعبد الذين
أقرع بينهم. فأما كيفية تكميل العتق فإن العبيد إن تساوت قيمتهم وكان لهم ثلث صحيح كستة أعبد
قيمة كل اثنين منهم ثلث المال جعلنا كل اثنين منهم ثلثا وأقرعنا بينهم بسهم حرية وسهمي رق كما
فعل النبي صلى الله عليه وسلم فاللذان يقع لهما سهم الحرية يعتقان وبرق الآخرون، وإن كان فيهم كسر كمسألة الخرقي
أقرعت بين العبدين فأيهما وقعت عليه قرعة الحرية ضربت قيمته في ثلاثة أسهم فما بلغ نسبت إليه قيمة
العبدين جميعا فمهما خرج بالنسبة فهو القدر الذي يعتق منه ففي هذه المسألة إذا وقعت القرعة على الذي
قيمته مائتان ضربتهما في ثلاثة صارت ستمائة ونسبت منها قيمة العبدين معا وهي خمسمائة تجدها خمسة
أسداسها فيعتق منه خمسة أسداسه، وان وقعت على الآخر عتق خمسة أتساعه وتمام شرح ذلك يأتي
في باب العتق إن شاء الله
580

{مسألة} قال (وإذا أوصى بعبد من عبيده لرجل ولم يسم العبد كان له أحدهم بالقرعة
إذا كان يخرج من الثلث والا ملك منه بقدر الثلث)
وجملة ذلك أن الوصية بغير معين كعبد من عبيده وشاة من غنمه تصح وقد ذكرنا أن الوصية
بالمجهول تصح فيما مضى وبه يقول مالك والشافعي وإسحاق، واختلفت الرواية فيما يستحقه الموصى له
فروي أنه يستحق أحدهم بالقرعة ويشبه أن يكون قول إسحاق. ونقل ابن منصور أنه يعطى أحسنهم
يعنى يعطيه الورثة ما أحبوا من العبيد وهو قول الشافعي، وقال مالك قولا يقتضى أنه إذا أوصى بعبد
وله ثلاثة أعبد فله ثلثهم، وإن كانوا أربعة فله ربعهم فإنه قال إذا أوصى بعشر من إبله وهي مائة يعطى
عشرها والنخل والرقيق والدواب على ذلك. والصحيح أنه يعطى عشرة بالعدد لأنه الذي تناوله لفظه
ولفظه هو المقتضى فلا يعدل عنه ولكن يعطى واحدا بالقرعة لأنه يستحق واحدا غير معين فليس
واحد بأولى من واحد فوجب المصير إلى القرعة كما لو أعتق واحدا منهم، وعلى ما يقل ابن منصور يعطيه الورثة
من عبيده، ماشا وامن صحيح أو معيب جيد أو ردئ لأنه يتناوله اسم العبد فأجزأ كما لو وصى له بعبد ولم يضفه إلى
عبيده وإن لم يكن له إلا عبد واحد تعينت الوصية فيه وكذلك إن كان له عبيد فماتوا كلهم إلا واحدا تعينت الوصية
فيه لتعذر تسليم الباقي، وإن تلف رقيقه جميعهم قبل موت الموصي أو قتلوا بطلت الوصية لأنها إنما تلزم بالموت ولا
رقيق له حينئذ وان تلفوا بعد موته بغير تفريط من الورثة بطلت الوصية لأن التركة عند الورثة غير مضمونة
لأنها
حصلت في أيديهم بغير فعلهم وإن قتلهم قاتل فللموصى له قيمة أحدهم مبنيا على الروايتين فيمن يستحقه منهم في
الحياة، ولو قال أوصيت لك بعبد من عيدي ولا عبيد له لم تصح الوصية لأنه أوصى له بلا شئ فهو كما لو قال أوصيت
لك بما في كيسي ولا شئ فيه أو بداري ولا دار له فإن اشترى قبل موته عبيدا احتمل أن لا تصح الوصية لأنها
581

وقعت باطلة فلم تصح، كما لو قال أوصيت لك بما في كيسي ولا شئ فيه ثم جعل في كيسه شيئا ولان الوصية
تقتضي عبدا من الموجودين له حال الوصية: ويحتمل أن تصح كما لو وصى له بألف لا يملكه ثم ملكه
أو وصى له بثلث عبيده ثم ملك عبيدا آخرين
وقد روى ابن منصور عن أحمد في رجل قال في مرضه أعطوا فلانا من كيسي مائة درهم فلم يوجد
في كيسه شئ يعطى مائة درهم فلم تبطل الوصية لأنه قصد إعطاءه مائة درهم وظنها في الكيس فإذا لم
تكن في الكيس أعطي من غيره فكذلك يخرج في الوصية بعبد من عبيده إذا لم يكن له عبيد أن يشترى
له من تركته عبد ويعطى إياه
(فصل) وان وصى لرجل بعبد صحت الوصية ويشترى له عبد أي عبد كان وإن كان له عبيد
أعطاه الورثة ما شاؤوا ولا قرعة ههنا لأنه لم يضعف الرقيق إلى نفسه ولا جعله واحدا من عدد محصور
فلم يستحق الموصى له أكثر من أقل من يسمى عبدا كما لو أقر له بعبد. قال القاضي: ولهم أن يعطوه
ما شاؤوا من ذكر أو أنثى، والصحيح عندي انه لا يستحق الا ذكرا فإن الله تعالى فرق بين العبيد والإماء
بقوله تعالي (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) والمعطوف يغار المعطوف عليه
ظاهرا، ولأنه في العرف كذلك فإنه لا يفهم من إطلاق اسم العبد إلا الذكر. ولو وكله في شراء عبد
لم يكن له شراء أمة فلا تنصرف وصيته الا إلى الذكر، وان وصي له بأمة أو جارية لم يكن له إلا
أنثى وليس له أن يعطيه خنثى مشكلا لأنه لا يعلم كونه ذكرا ولا أنثى، وان وصى له بواحد من رقيقه
أو برأس مما ملكت يمينه دخل في وصيته الذكر والأنثى والخنثى
(فصل) وان وصى له بشاة من غنمه فالحكم فبها كالحكم في الوصية بعبد من عبيده ويقع هذا
الاسم على الضأن والمعز. قال أصحابنا ويتناول الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى لأن الشاة اسم
582

يتناول جميع ذلك بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " في أربعين شاة شاة " يريد الذكور والإناث والصغار
والكبار. وعندي انه لا يتناول الا أنثى كبيرة الا أن يكون في بلد عرفهم يتناول ذلك، فأما من لا يتناول
عرفهم الا الإناث فإن وصيته لا تناول الا ما يسمى في عرفهم لأن ظاهر حاله إرادة ما يتعارفونه، وان
وصي بكبش لم يتناول الا الذكر الكبير من الضأن، والتيس لا يقع الا على الذكر الكبير من المعز، وان
وصي بعشرة من الغنم يتناول عشرة من الذكور والإناث والصغار والكبار
(فصل) وان وصي بجمل لم يكن الا ذكرا وان وصي بناقة لم تكن الا أنثى، وان قال عشرة
من ابلي وقع على الذكر والأنثى جميعا، ويحتمل انه ان قال عشرة بالها فهو للذكور وان قال عشر فهو
للإناث وكذلك في الغنم لأن العدد في العشرة إلى الثلاثة للمذكر بالهاء وللمؤنث بغيرها قال الله تعالى
(فسخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام) وان قال اعطوه بعيرا ففيه وجهان (أحدهما) هو للذكر وحده
لأنه في العرف اسم له وحده (والثاني) هو للذكر والأنثى لأنه في لسان العرب يتناولهما جميعا،
تقول العرب حلبت البعير تربد الناقة فالجمل في لسانهم كالرجل من بني آدم والناقة كالمرأة والبكرة كالفتاة
وكذلك القلوص والبعير كالانسان
(فصل) وان وصي له بثور فهو ذكر وان وصي ببقرة فهي أنثى. وان وصي بدابة فهي واحدة
من الخيل والبغال والحمير يتناول الذكر والأنثى لأن الاسم في العرف يقع على جميع ذلك، وان قرن به
ما يصرفه إلى أحدهما مثل ان قال دابة يقاتل عليها أو يسهم لها انصرف إلى الخيل وان قال دابة ينتفع
بظهرها ونسلها خرج منه البغال لأنه لا نسل لها وخرج منه الذكور كذلك، وان وصي له بحمار فهو
ذكر وان وصي باتان فهي أنثى فإن وصي بحصان فهو ذكر وان وصي بفرس تناول الذكر والأنثى وفي جميع
ذلك إذا كان له أعداد من جنس ما وصي له به فعلى قولي الخرقي بكون له ذلك بالقرعة وعلى رواية ابن منصور
يعطيه الورثة ما شاؤوا ولا يستحق للدابة سرجا ولا للبعير رحلا الا أن يذكره في الوصية
583

(فصل) وان وصى بكلب يباح اقتناؤه صحت الوصية لأن فيه نفعا مباحا وتقر اليد عليه والوصية
تبرع فتصح في المال وفي غير المال من الحقوق ولأنه تصح هبته فتصح الوصية به كالمال، وإن كان مما
لا يباح اقتناؤه لم تصح الوصية به سواء قال كلبا من كلابي أو قال من مالي لأنه لا يصح ابتياع الكلب
لأنه لا قيمة له بخلاف الشاة، فإن كان له كلب ولا مال له سواه فله ثلثه، وإن كان له مال سواء فقد
قيل للموصى له جميع الكلب وان قل المال لأن قليل المال خير من الكلب لكونه لا قيمة له، وقيل
للموصى له به ثلثه وان كثر المال لأن موضوع الوصية على أن يسلم ثلثا التركة للورثة وليس في
التركة شئ من جنس الموصى به، وان وصى لرجل بكلابه ولآخر بثلث ماله فللموصى له بالثلث الثلث
وللموصى له بالكلاب ثلثها وجها واحدا لأن ما حصل للورثة من ثلثي المال قد جازت الوصية فيما
يقابله من حق الموصى له وهو الثلث فلا يحسب عليهم في حق الكلاب ولو وصى بثلث ماله ولم يوص
بالكلاب دفع إليه ثلث المال ولم يحتسب بالكلاب على الورثة لأنها ليست بمال، وإذا قسمت الكلاب
بين الوارث والموصى له أو بين اثنين موصي لهما بها قسمت على عددها لأنها لا قيمة لها فإن تشاحوا في
بعضها فينبغي أن يقرع بينهم فيه، وان وصي له بكلب وللموصي كلاب يباح اتخاذها ككلاب الصيد
والماشية والحرث فله واحد منها بالقرعة أن ما أحب الورثة على الرواية الأخرى، وإن كان له كلب
يباح وكلب للهراش فله الكلب المباح ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كنحو مما ذكرنا الا
أنه يجعل للموصي له بكلب ما أحب الورثة دفعه إليه، ولا تصح الوصية بكلب الهراش ولا كلب
غير الكلاب الثلاثة، وفي الوصية بالجر والصغير وجهان بناء على جواز تربيته للصيد أو للماشية وقد سبق
ذكر ذلك، ولا تصح الوصية بخنزير ولا بشئ من السباع التي لا تصلح للاصطياد كالأسد والتمر والذئب
لأنها لا منفعة فيها ولا تصح الوصية بشئ لا منفعة فيه من غيرها
584

(فصل) وان وصى له بطبل حرب صحت الوصية به لأن فيه منفعة مباحة، وإن كان بطبل لهو
لم تصح لعدم المنفعة المباحة به، وإن كان مع ذلك إذا فصل صلح للحرب لم تصح الوصية به أيضا لأن
منفعته في الحال معدومة فإن كان يصلح لهما جميعا صحت الوصية به لأن المنفعة قائمة به، وان وصى له
بطبل وأطلق وله طبلان تصح الوصية بأحدهما دون الآخر انصرفت الوصية إلى ما تصح الوصية به
وإن كان له طبول تصح الوصية بجميعها فله أخذها بالقرعة أو ما شاء الورثة على اختلاف الروايتين وان
وصى بدف صحت الوصية به لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف " ولا تصح الوصية
بمزمار ولا طنبور ولا عود من عيدان اللهو لأنها محرمة وسواء كانت فيه الأوتار أو لم تكن لأنه مهيأ
لفعل المعصية دون غيرها فأشبه ما لو كانت فيه الأوتار
(فصل) ولو أوصي له بقوس صحت الوصية فإن فيه منفعة مباحة سواء كان قوس نشاب وهو
الفارسي أو نبل وهو العربي أو قوس يمجري أو قوس زنبور أو جرخ أو ندف أو بندق فإن لم يكن له الا
قوس واحد من هذه القسي تعينت الوصية فيه وان كانت له هذه جميعها وكان في لفظه أو حاله قرينة
تصرف إلى أحدها انصرف إليه مثل أن يقول قوسا يندف به أو يتعيش به أو ما أشبه ذلك فهذا يصرفه
إلى قوس الندف، وان قال بغزوبه خرج منه قوس الندف والبندق، وإن كان الموصى له ندا فالإعادة
له بالرمي أو بند قانيا لا عادة له بالرمي بشئ سواه أو يرمي بقوس غيره لا يرمي بسواه انصرفت الوصية
إلى القوس الذي يستعمله محادة لأن ظاهر حال الموصي انه قصد نفعه بما جرت عادته بالانتفاع به،
وان انتفت القرائن فاختار أبو الخطاب أن له واحدا من جميعها بالقرعة أو ما يختار الورثة لأن اللفظ
يتناول جميعها والصحيح أن وصيته لا تتناول قوس الندف ولا البندق ولا العربية في بلد لا عادة لهم
بالرمي بها وهذا مذهب الشافعي الا انه لا بذكر العربية ويكون له واحد مما عدا هذه لأن هذه لا يطلق عليها
585

اسم القوس في العادة بين غير أهلها حتى يصفها فيقول: قوس القطن أو الندف أو قوس البندق، وأما
العربية فلا يتعارفها غير طائفة من العرب فلا يخطر ببال الموصي غالبا ويعطي القوس معمولة بها لأنها
لا تسمى قوسا الا كذلك ولا يستحق وترها لأن الاسم بقع عليها دونه وفيه وجه آخر أنه يعطاها بوترها
لأنها لا ينتفع بها الا به فكان كجزء من أجزائها
(فصل) وان وصى له بعود وله عود لهو وغيره لم تصح الوصية لأن اطلاقها ينصرف إلى عود
اللهو ولا تصلح الوصية به لعدم النفع المباح فيه وان لم يكن له إلا عيدان قسي أو عود يتبحر به أو
غيره من العيدان المباحة صحت الوصية وانصرفت إليها لعدم غيرها وتعينها مع إباحتها وان وصى له
بجرة فيها خمر صحت الوصية بالجرة وبطلت في الخمر لأن في الجرة نفعا مباحا والخمر لا نفع فيه مباح
فصحت الوصية بما فيه المنفعة المباحة كما لو وصى له بخمر وخل وان وصى له بخمر في جرة لم تصح
لأن الذي أضاف الوصية إليه الخمر ولا تصح الوصية به
{مسألة} (قال وإذا أوصى له بشئ بعينه فتلف بعد موصى الموصي لم يكن للموصى
له شئ وان تلف المال كله الا الموصى به فهو للموصى له
أجمع أهل العلم ممن علمنا قوله على أن الموصى به إذا تلف قبل موت الموصي أو بعده فلا شئ
للموصى له كذلك حكاه ابن المنذر فقال أجمع من الحفظ عنه من أهل عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا أوصى
له بشئ إن لا شئ له في سائر مال الميت وذلك لأن الموصى له إنما يستحق بالوصية
لا غير وقد تعلقت بمعين وقد ذهب فذهب حقه كما لو تلف في يده والتركة في يد الورثة غير مضمونة
عليهم لأنها حصلت في أيديهم بغير فعلهم ولا تفريطهم فلم يضمنوا شيئا، وان تلف المال كله سواه فهو
للموصى له لأن حق الورثة لم يتعلق به لتعيينه للموصى له وذلك يملك اخذه بغير رضاهم واذنهم فكان
586

حقه فيه دون سائر المال وحقوقهم في سائر المال دونه فأيهما تلف حقه لم يشارك الآخر في حقه كما لو
كان التلف بعد أن اخذه الموصى له وقبضه وكالورثة إذا اقتسموا ثم تلف نصيب أحدهم قال أحمد
فيمن خلف مائتي دينار وعبدا قيمته مائة ووصى لرجل بالعبد فسرقت الدنانير بعد الموت
فالعبد للموصي له به.
(فصل) وإن وصى له بمعين فاستحق بعضه أو هلك فله ما بقي منه ان حمله الثلث وان وصى له
بثلث عبد أو ثلث دار فاستحق الثلثان منه فالثلث الباقي للموصى له وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي
لأن الباقي كله موصى به وقد خرج من الثلث فاستحقه الموصى له كما لو كان شيئا معينا، وإن وصى
له ثلاثة أبعد فهلك عبدان أو استحقا فليس له إلا ثلث الباقي وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي لأنه
لم يوص له من الباقي بأكثر من ثلاثة وقد شرك بينه وبين ورثته في استحقاقه
{مسألة} (قال ومن أوصى له بشئ فلم يأخذه زمانا قوم وقت الموت لا وقت الاخذ)
وجملته ان الاعتبار في قيمة الموصى به وخروجها من الثلث أو عدم خروجها بحالة الموت لأنها
حال لزوم الوصية فتعتبر قيمة المال فيها وهو قول الشافعي وصاحب الرأي ولا اعلم فيه خلافا فينظر
فإن كان الموصى به وقت الموت ثلث التركة أو دونه نفذت الوصية واستحقه الموصى له كله فإن
زادت قيمته حتى صار معادلا لسائر المال أو أكثر منه أو هلك المال كله سواه فهو للموصى له لا شئ
الورثة فيه فإن كان حين الموت زائدا عن الثلث فللموصى له منه قد ثلث المال فإن نصف المال
فللموصى له ثلثاه وإن كان ثلثيه فللموصى له نصفه وإن كان نصف المال وبثلثه فللموصي له خمساه
فإن نقص بعد ذلك أو زاد أو نقص سائر المال أو زاد فليس للموصى له سوى ما كان له حين الموت
فلو وصى بعبد قيمته مائة وله مائتان فزادت قيمته بعد الموت حتى صار يساوي مائتين فهو للموصى
587

له كله، وإن كانت قيمته حين الموت مائتين فللموصى له ثلثا لأنهما ثلث المال فإن نقصت قيمته بعد الموت
حتى صار يساوي مائة لم يزد حق الموصى له عن ثلاثة شيئا إلا أن يجيز الورثة، وإن كانت قيمته
أربعمائة فللموصى له نصفه لا يزاد حقه عن ذلك سواء نقص العبد أو زاد أو نقص المال أو زاد
(فصل) والعطايا في مرضه يعتبر خروجها من الثلث حين الموت نقل صالح بن أحمد عن أبيه
فيمن له ألف درهم وعبد قيمته ألف فأعتق العبد في مرض موته وأنفق الدراهم عتق من العبد ثلاثة
فاعتبر ماله حين الموت من العبد لا فيما قبله فلما لم يكن له حين الموت إلا العبد لم يعتق منه إلا ثلثه
ولو لم يتلف الألف لعتق منه ثلثاه، ولو زاد ماله قبل موته حتى بلغ ألفين لعتق العبد كله لخروجه
من الثلث وإن كسب العبد شيئا كان كسبه بينه وبين الورثة على قدر ما فيه من الحرية والرق ويدخله
الدور وقد ذكرنا ذلك فيما مضي وان تلف من التركة شئ بفعل مضمون على الورثة حسب عليهم من التركة
(فصل) وإن وصى بمعين حاضر وسائر ماله دين أو غائب فليس للوصي أخذ المعين قبل قدوم
الغائب أو استيفاء الدين لأنه ربما تلف فلا تنفذ الوصية في المعين كله وظاهر كلام الخرقي أن للوصي
ثلث المعين ذكره في المدبر وقيل لا يدفع إليه شئ لأن الورثة شركاؤه في التركة فلا يحصل له شئ
ما لم يحصل للورثة مثله ولم يحصل لهم شئ وهذا وجه لأصحاب الشافعي والصحيح أن له الثلث لأن
حقه فيه مستقر فوجب تسليمه إليه لعدم الفائدة في وقفه كما لو لم يخلف غير المعين ولأنه لو تلف سائر
المال لوجب تسليم ثلث المعين إلى الوصي وليس تلف المال سببا لاستحقاق الوصية وتسليمها ولا يمنع
نفوذ الوصية في الثلث المستقر وإن لم ينتفع الورثة بشئ كما لو أبرأ معسرا من دين عليه وقال مالك
يخير الورثة بين دفع العين الموصى بها وبين جعل وصيته بثلث المال لأن الموصي كان له أن يوصي
بثلث ماله فعدل إلى المعين وليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن يأخذ الموصى له المعين فينفرد بالتركة
588

على تقدير تلف الباقي قبل وصوله إلى الورثة فيقال للورثة ان رضيم بذلك وإلا فعودوا إلى ما كان
له أن يوصي به وهو الثلث
ولنا أنه أوصى بما لا يزد على الثلث لأجنبي فوقع لازما كما لو وصى له بمشاع وما قاله لا يصح
لأن جعل حقه في قدر الثلث إشاعة وإبطال لما عينه فلا يجوز اسقاط ما عينه الموصي للموصى له ونقل
حقه إلى ما لم يوص به كما لو وصى له بمشاع لم يجز نقله إلى معين وكما لو كان المال كله حاضرا أو غائبا
إذا ثبت هذا فإن للموصى له ثلث المعين الحاضر وكلما اقتضى من دينه شئ أو حضر من الغائب شئ
فللموصى له بقدر ثلثه من الموصى به كذلك حتى يكمل للموصى له الثلث أو يأخذ المعين كله، فلو
خلف تسعة عينا وعشرين دينا وابنا ووصى بالتسعة لرجل فللوصي ثلثها ثلاثة وكلما اقتضى من الدين شئ
فللوصي ثلثه فإذا اقتضى ثلثه فله من التسعة واحد حتى يقتضي ثمانية عشر فيكمل له التسعة، وإن
جحد الغريم أو مات أو يئس من استيفاء الدين أخذ الورثة الستة الباقية من العين ولو كان الدين
تسعة فإن الابن يأخذ ثلاث العين ويأخذ الوصي ثلثها ويبقى ثلثها ويبقى ثلثها موقوفا كلما استوفي من الدين شئ
فللوصي من العين قدر ثلثه فإذا استوفى الدين كله كمل للموصى له ستة وهي ثلث الجميع وإن كانت
الوصية بنصف العين أخذ الوصي ثلثها وأخذ الابن نصفها وبقي سدسها موقوفا فمتى اقتضى من الدين
مثليه كملت الوصية.
(فصل) فإن كان الدين مثل العين فوصى لرجل بثلثه فلا شئ له قبل استيفاء الوصية فكلما اقتضى
منه شئ فله ثلثه وللابن ثلثاه وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الاخر هو أحق بما يخرج من الدين
حتى يستوفي وصيته وهذا قول أهل العراق لأن ذلك يخرج من ثلث المال الحاضر
ولنا أن الورثة شركاؤه في الدين وليس معهم شركة في العين فلا يختص بما خرج منه دونهم كما
589

لو كان شريكه في الدين وصيا آخر أو كما لو وصى لرجل بالعين وله ولآخر بالدين فإن المنفرد بوصية
الدين لا يختص بما خرج منه له دون صاحبه كذا ههنا.
(فصل) ولو وصى لرجل بثلث ماله وله مائتان دينا وعبد يساوي مائة ووصى لآخر بثلث العبد
اقتسما ثلث العبد نصفين وكلما اقتضي من الدين شئ فللموصى له بثلث المال ربعه وله وللآخر من
العبد بقدر ربع ما استوفي بينهما نصفين فإذا استوفى الدين كله كمل للوصيين نصف العبد ولصاحب
الثلث ربع المائتين وذلك هو ثلث المال وإن استوفي الدين قبل القسمة قسمنا بينهما كذلك للموصى له بالثلث
ربع المائتين وربع العبد وللموصى له بثلث العبد ربعه لأن الوصيتين أربعة أتساع المال والجائز منهما
ثلث المال وهو ثلاثة اتساع وذلك ثلاثة أرباع وصيتهما فرددنا كل واحد منهما إلى ثلاثة أرباع
وصيته وهي ربع المال كله لصاحب ثلثه وربع العبد لصاحب ثلثه وفي المسألة أقوال سوى ما قلناه
تركناها لطولها وهذا أسدها إن شاء الله لا اننا أدخلنا النقص على كل واحد منهما بقدر ماله في الوصية
وكملنا لهما الثلث وإن أجيز لهما أخذ كل واحد منهما ما بقي من وصيته وهو ربعها فيكمل ثلث المال
لصاحبه وثلث العبد للآخر
(فصل) وان خلف ابنين وترك عشرة عينا وعشرة دينا على أحد ابنيه وهو معسر ووصى لأجنبي
بثلث ماله فإن الوصي والابن الذي لا دين عليه يقتسمان العشرة العين نصفين ويسقط عن المدين ثلثا دينه
ويبقى لهما عليه ثلثه فإن كانت الوصية بالربع قسمت العشرة العين بينهما أخماسا للموصي خمساها أربعة وللابن
ستة وسقط عن المدين ثلاثة أرباع دينه وبقى عليه ربعه فإذا استوفي قسم بينهما أخماسا كما قسم العين لأن
الوصية بالربع وهو ثمنان ويبقى ستة أثمان لكل ابن ثلاثة أثمان فصار نصيب الوصي والابن الذي لادين
590

عليه خمسة أثمان للابن ثلاثة وللوصي سهمان فلذلك قسمنا العين وما حصل لهما من الدين بينهما أخماسا
وسقط عن المدين ثلاثة أرباع ما عليه لأنه له ثلاثة أثمان وهي ثلاثة أرباع النصف الذي عليه
(فصل) ونماء العين الموصى بها إن كان متصلا كالسمن وتعليم صنعة فهو تابع للعين ويكون للموصى
له إذا أحتمله الثلث، وإن كان منفصلا كالولد والثمرة في حياة الموصي فهو له يصير إلى ورثته لأنه ملكه
وما حدث بعد الموت وقبل القبول فينبني على الملك في الموصي له والصحيح إنه للورثة والآخر هو للموصى
له فيكون النماء لمن الملك له والله أعلم بالصواب
{مسألة} قال (وإذا أوصى بوصايا فيها عتاقه فلم يف الثلث بالكل تحاصوا في الثلث
وأدخل النقص على كل واحد منهم بقدر ماله في الوصية)
أما إذا خلت الوصايا من العتق وتجاوزت الثلث ورد الورثة الزيادة فإن الثلث يقسم بين الموصى
لهم على قدر وصاياهم ويدخل النقص على كل واحد بقدر ماله من الوصية على مثال مسائل العول إذا زادت
الفروض عن المال فلو وصى لرجل بثلث ماله ولآخر بمائة ولآخر بمعين قيمته خمسون ووصى بفداء
أسير بثلاثين ولعمارة مسجد بعشرين وثلث ماله ومائة جمعت الوصايا كلها فوجدتها ثلاثمائة ونسبت منها
الثلث فتجده ثلثها فتعطى كل واحد منهم ثلث وصيته فلصاحب الثلث ثلث المائة وكذلك لصاحب المائة
ويرجع صاحب الخمسين إلى ثلثها ولفداء الأسير عشرة ولعمارة المسجد ستة وثلثان فأما إن كان فيها عتق
فعن أحمد فيها روايتان (إحداهما) أن يقسم الثلث بين جميع الوصايا بالعتق وغيره سواء ويقسم بينهم على
ما ذكرنا وهذا قول ابن سيرين والشعبي وأبى ثور لأنهم تساووا في سبب الاستحقاق فتساووا فيه كسائر
الوصايا والرواية الثانية يقدم العتق ويبدأ به فإن فضل منه شئ قسم بين سائر أهل الوصايا على قد وصاياهم
591

وروي هذا عن عمر وبه يقول شريح ومسروق وعطاء الخراساني وقتادة والزهري ومالك والثوري
وإسحاق لأن فيه حقا لله تعالى وحقا لآدمي فكان آكد ولأنه لا يلحقه فسخ ويلحق غيره ذلك ولأنه
أقوى بدليل سرايته ونفوذه من الراهن والمفلس وروي عن الحسن والشافعي كالروايتين
(فصل) والعطايا المعلقة بالموت كقوله إذا مت فاعطوا فلانا كذا أو أعتقوا فلانا ونحوه وصايا حكمها
حكم غيرها من الوصايا في التسوية بين مقدمها ومؤخرها والخلاف في تقديم العتق منها بخلاف العطايا المنجزة
فإنه يقدم الأول منها فالأول لأنها تلزم بالفعل والمؤخرة تلزم بالموت فتتساوى كلها
(فصل) وإذا أوصى بعتق عبده لزم الوارث اعتاقه فإن أبى أجبره الحاكم عليه لأنه حق وجب
عليه فأجبر عليه كتنفيذ الوصية بالعطية فإن أعتقه الوارث أو الحاكم فهو حر من حين أعتقه لأنه حينئذ
عتق وولاؤه للموصي لأنه السبب وهؤلاء نواب عنه ولهذا لزمهم اعتاقه كرها وان كانت الوصية بعتقه
إلى غير الوارث كان الاعتاق إليه لأنه نائب الموصي في اعتاقه فلم يملك ذلك غيره إذا لم يمتنع منه كالوكيل في الحياة
{مسألة} قال (ومن أوصى بفرس في سبيل الله وألف درهم تنفق عليه فمات الفرس
كانت الألف للورثة وان أنفق بعضها رد الباقي إلى الورثة)
إنما كان كذلك لأنه عين للوصية جهة فإذا فاتت عاد الموصى به إلى الورثة كما لو أوصي بشراء
عبد زيد يعتق فمات العبد أولم يبعه سيده، وان أنفق بعض الدراهم ثم مات الفرس بطلت الوصية في الباقي
كما لو وصى بشراء عبدين فمات أحدهما قبل شرائه قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل أوصى
بألف درهم في السبيل أيجعل في الحج منها شئ؟ فقال لا إنما يعرف الناس السبيل الغزو
(فصل) وإذا قال يخدم عبدي فلانا سنة ثم هو حر صحت الوصية فإن قال الموصى له بالخدمة
592

لا اقبل الوصية أو قال قد وهبت الخدمة له لم يعتق في الحال وبهذا قال الشافعي، وقال مالك ان وهب
الخدمة للعبد عتق في الحال
ولنا أنه أوقع العتق بعد مضي السنة فلم يقع قبله كما لو رد الوصية.
(فصل) وإذا أوصى لعمه بثلث ماله ولخاله بعشره فردت وصيتهما فتحاصا في الثلث فأصاب الخال
ستة فأضرب الذي أصابه في وصيته وذلك ستة في عشرة تكن ستين واقسمه على الفاضل بينهما يخرج
بالقسم خمسة عشر فهي الثلث، وان شئت قلت قد أصاب الخال ثلاثة أخماس وصيته يبقى من الثلث
خمساه وهي تعدل ما أصاب الخال فزد على ما أصاب الخال مثل نصفه وهو ثلثه يصر تسعة فهي للذي أصاب
العم، وإن قال أصاب العم الربع فقد أصابه ثلاثة أرباع وصيته وبقي من الثلث نصف سدس يعدل ثلاثة أرباع
وصية الخال وذلك سبعة ونصف وللعم ثلاثة أمثالها اثنان وعشرون نصف والمال كله تسعون، وان قال أصاب
الخال خمس المال فقد بقي من الثلث خمساه للعم فيكون الحاصل للخال خمسا وصيته أيضا وذلك أربعة دنانير
ووصية العم مثل ثلثيها ديناران وثلثان والثلث كله ستة وثلثان والمال كله عشرون فإن كان معهما وصية بسدس
المال وأصاب الخال ستة فهي ثلاثة أخماس وصيته فلكل واحد من الآخرين ثلاثة أخماس وصيته وذلك تسعة
أعشار الثلث يبقى منه عشره تعدل ما حصل للعم وهو ستة فالثلث ستون، وان أصاب صاحب السدس عشر
المال فقد أصاب صاحب الثلث خمسه يبقى من الثلث أيضا عشره فهو وصية الخال وذلك ثلاثة أخماس
وصيته ستة فيكون الثلث ستين كما ذكرنا. نوع آخر خلف ثلاثة بنين ووصي لعمه بمثل نصيب أحدهم
الا ثلث وصية خاله ولخاله بمثل نصيب أحدهم الأربع وصية عمه فاضرب مخرج الثلث في مخرج
الربع يكن اثني عشر أنقصها سهما يبقى أحد عشر فهي نصيب ابن أنقصها سهمين يبقى تسعة فهي
593

وصية الخال وإن نقصتها ثلاثة بقي ثمانية فهي وصية العم وبالجبر تحصل مع العم أربعة دراهم ومع الخال
ثلاثة دنانير ثم تزيد على الدراهم دينارا وعلى الدنانير درهما يبلغ كل واحد منهما نصيبا أجبر وقابل
وأسقط المشترك يبقى معك ديناران تعدل ثلاثة دراهم فاقلب وحول تصر الدراهم ثمانية والدنانير
تسعة كما قلنا: وان أوصى لعمه بعشرة الا ربع وصية خاله ولخاله بعشرة الا خمس وصية عمه فاضرب
مخرج الربع في مخرج الخمس يكن عشرين أنقصها سهما تكن تسعة عشر فهي المقسوم عليه ثم اجعل مع
الخال أربعة وأنقصها سهما يبقى ثلاثة اضربها في العشرة ثم فيما مع العم وهو خمسة يكن مائة وخمسين
اقسمها على تسعة عشر يخرج سبعة وسبعة عشر جزءا من تسعة عشر فهي وصية عمه واجعل مع
العم خمسة وأنقصها سهما واضربها في عشرة ثم في أربعة تكن مائة وستين وأقسمها تكن ثمانية وثمانية
أجزاء فهي وصية خاله
{طريق آخر} تنقص من العشرة ربعها وتضرب الباقي في العشرين ثم تقسمها على تسعة عشر
وتنقص منها خمسها وتضرب الباقي في عشرين وتقسمها وبالجبر تجعل وصية الخال ستا ووصية العم
عشرة الأربع شئ فخذ خمسها فزده على الشئ وهو سهمان لا نصف عشر شئ يعدل عشرة فأسقط
المشترك من الجانبين تصر ثمانية وثمانية أجزاء من تسعة عشر إذا أسقطت ربعها من العشرة بقيت سبعة
وسبعة عشر جزءا، وان وصى لعمه بعشرة إلا نصف وصية خاله ولخاله بعشرة الا ثلث وصية جده ولجده بعشرة
الأربع وصية عمه فوصية عمه سته وخمسان ووصية خاله سبعة وخمس ووصية جده ثمانية وخمسان
وبابها ان تضرب المخارج بعضها في بعض فتضرب اثنين في ثلاثة في أربعة تكن أربعة وعشرين
تزيدها واحدا تكن خمسة وعشرين فهذا هو المقسوم عليه ثم تنقص من الاثنين واحدا وتضرب واحدا
في ثلاثة ثم تزيدها واحدا وتضربها في أربعة تكن ستة عشر ثم اضربها في عشرة تكن مائة وستين
594

واقسمها على خمسة وعشرين يخرج بالقسم ستة وخمسان فهي وصية العم وأنقص الثلاثة واحد يبقى
اثنان أضربها في الأربعة تكن ثمانية زدها واحدا واضربها في اثنين ثم في عشرة تكن مائة وثمانين
واقسمها على خمسة وعشرين ثم انقص من الأربعة واحدا واضرب ثلاثة في اثنين ثم زدها واحدا تكن سبعة
أضربها في ثلاثة ثم في عشرة تكن مائتين وعشرة مقسومة على خمسة وعشرين
{طريق آخر} تجعل مع العم أربعة أشياء ومع الخال دينارين ومع الجد ثلاثة دراهم
ثم تضم إلى ما مع العم دينارا أو إلى ما مع الخال درهما وتقابل ما مع أحدهما بما مع الآخر وتسقط
المشترك فيصير أربعة أشياء تعدل دينارا ودرهما فاسقط لفظة الأشياء واجعل مكانها دينارا أو درهما
ثم قابل ما مع الخال بما مع الجد بعد الزيادة وهو ديناران ودرهم مع الخال ثلاثة دراهم وربع درهم
وربع دينار مع الجد فإذا أسقطت المشترك بقي درهما وربع معادلة للدينار وثلاثة أرباع فابسط
الكل أرباعا تصر سبعة أرباع من الدينار تعدل تسعة من الدراهم فاقلب واجعل الدراهم سبعة
والدينار تسعة ثم ارجع إلى ما فرضت فتجد مع العم درهما ودينارا بستة عشر ومع الخال ثمانية عشر
ومع الجد أحدو عشرون والعشرة الكاملة خمس وعشرون والستة عشر منها ستة وخمسان والثمانية عشر سبعة
وخمس والاحد وعشرون ثمانية وخمسان فإن كان معهم أخ ووصية الجد عشرة الأربع ما مع الأخ ووصية
الأخ عشرة إلا خمس ما مع العم فبهذه الطريق تجعل مع العم خمسه أشياء ومع الخال دينارين ومع الجد
ثلاثة دراهم ومع الأخ أربعة أفلس ثم تقابل ما مع العم بما مع الخال كما ذكرنا وتجعل الأشياء دينارا ودهما
ثم تقابل ما مع الخال بما مع الجد فتجعل الدينارين درهمين وفلسا ثم تقابل ما مع الجسد بما مع الأخ
فتخرج الفلس ستة وعشرين والدرهم أحدا وثلاثين والدينار أربعة وأربعين فتبين أن مع العم خمسة وسبعين
ومع الخال ثمانية وثمانين ومع الجد ثلاثة وتسعون ومع الأخ مائة وأربعة، إذا زدت على ما مع كل
واحد ما استثنيته منه صار معه مائة وتسع عشرة وهي العشرة الكاملة فصارت وصية العم ستة وستة
595

وثلاثين جزءا ووصية سبعة وسبعة وأربعين جزءا ووصية الجد سبعة وسبعة وتسعين جزءا ووصية
الأخ ثمانية وثمانية وثمانين وبطريق الباب تضرب المخارج بعضها في بعض تكون مائة وعشرين
تنقصها واحدا يبقى مائة وتسعة عشر فهذا المقسوم عليه ثم تنقص الاثنين واحدا وتضربه في ثلاثة ثم
تزيدها واحدا وتضربها في أربعة تكن ستة عشر تنقصها واحدا وتضربها في خمسه تكن خمسة وسبعين
فهذه وصية العم تضربها في عشرة ثم تقسمها على تسعة عشر تكن ستة وثلاثين جزءا ثم تنقص الثلاثة واحدا
وتضربها في أربعة وتزيدها واحدا وتضربها في خمسة تكن خمسة وأربعين تنقصها واحدا وتضربها
في اثنين تكن ثمانية وثمانين فهذه وصية الخال ثم تنقص الأربعة واحدا وتضربها في خمسة تكن خمسة عشر
وتزيدها واحدا وتضربها في اثنين تكن اثنين وثلاثين تنقصها واحدا وتضربها في ثلاثة تكن ثلاثة وتسعين
فهذه وصية الجد ثم تنقص الخمسة واحدا وتضربها في اثنين تكن ثمانية تزيدها واحدا وتضرها في ثلاثة
تكن سبعة وعشرين تنقصها واحدا وتضربها في أربعة تكن مائة وأربعة فهي وصية الأخ وفي ذلك
تضرب العدد الذي مع كل واحد منهم وتقسمه على تسعة عشر فالخارج بالقسم هو وصيته ولو وصى
لعمه بعشرة ونصف وصية خاله ولخاله بعشرة وثلث وصية عمه كانت وصية العم ثمانية عشر ووصية الخال
596

ستة عشر وبابها أن تضرب أحد المخرجين في الآخر وأنقصه واحدا فهو المقسوم عليه ثم تزيد مخرج
النصف واحدا وتضربه في مخرج الثلث ثم في عشرة تكن تسعين مقسومة على خمسة عشر تكن ثمانية
عشر ثم تزيد مخرج الثلث واحدا وتضربه في مخرج النصف ثم في عشرة تكن ثمانين مقسومة على
خمسة فإن كان معهما آخر ووصى للخال بعشرة وربع وصيته ووصي له بعشرة وربع وصية العم ضربت
المخارج ونقصتها واحدا تكن ثلاثة وعشرين فهي المقسوم عليه ثم تزيد الاثنين واحدا وتضربها في ثلاثة
تكن تسعة فزدها واحدا واضربها في أربعة تكن أربعين في عشرة ثم اقسمها تخرج سبعة عشر وتسعة
أجزاء فهي وصية العم ثم تصنع في الباقين كما ذكرنا فتكون وصية الخال أربعة عشر وثمانية عشر جزءا
ووصية الثالث أربعة عشر وثمانية أجزاء وان شئت بعد ما عملت وصية العم فاضرب الزائد من وصيته
في اثنين فهو وصية الخال واضرب الزائد عن العشرة من وصية الخال في ثلاثة فهي وصية العم ومتى
عرفت ما مع واحد منهم أمكنك معرفة ما مع الآخرين والله أعلم وهذا القدر من هذا الفن يكفي فإن
الحاجة إليه قليلة وفروعه كثيرة طويلة وغيرها أهم منها والله تعالى يوفقنا لما يرضيه انه على ما يشاء قدير.
{تم بحمد الله وعونه الجزء السادس من كتابي المغني والشرح الكبير}
597