الكتاب: الفوائد العلية
المؤلف: السيد علي البهبهاني
الجزء: ٢
الوفاة: ن١٣٨٠
المجموعة: مصطلحات ومفردات فقهية
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ٤ شعبان المعظم ١٤٠٥
المطبعة: العلمية - قم
الناشر: مكتبة دار العلم - أهواز
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير البرية أجمعين:
محمد والله الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم من الأولين والآخرين.
اما بعد فهذا هو الجزء الثاني من الفوائد العلية.
(فائدة - 41)
في عقد القراض والمضاربة
وينبغي التكلم فيها في مقامات:
الأول - في تحقيق حقيقته ويلحق به بيان مفهومي اللفظين ووجه انطباقهما
على حقيقته وماهيته.
والثاني - في أنه هل هو من العقود الصحيحة عرفا وشرعا أم لا.
والثالث - في أنه على فرض صحته جائز أم لازم وبيان شطر من أحكامه.
اما الأول فهو على ما عرف: " ان يدفع مال ليعمل فيه بحصة معينة من ربحه "
وهل يكون ذلك على وجه المعاوضة أو على وجه آخر يوجب الشركة في الربح
وجهان أوجههما بل الوجيه منهما هو الثاني وإن كان ظاهر التعريف وجملة من
281

كلماتهم هو الأول إذ المعاوضة لا تتم في المقام من وجوه ثلاثة:
الأول - ان الربح معدوم عند العقد وحصوله بعد العمل غير معلوم فلا يملكه
رب المال حال العقد حتى يملك العامل حصة منه عوضا عن عمله.
فان قلت: نعم تمليك الشئ فرع دخوله فيملك المملك ووقوعه تحت
سلطنته وهو فرع وجوده في الخارج إذا تعلق الملك به أصالة واما إذا كان تعلقه
به تبعا فيكفي في تحققه كون أصله الموجود في الخارج ملكا له ولذا يصح تمليك
سكنى الدار وركوب الدابة ولبس الثوب وهكذا من المنافع المعدومة في مدة
معلومة بعوض معلوم بعقد الإجارة والصلح وهكذا يصح تمليك حصة من الربح
المعدوم باعتبار انه ملك لرب المال تبعا لرأس ماله.
قلت: أولا ان مرجع تمليك المنفعة إلى تمليك العين في جهة المنفعة لا إلى
تمليك نفس المنفعة فان ملك الشئ له مراتب ودرجات.
أولها - وأقواها الملك المطلق المقتضى لنفوذ جميع التصرفات ما لم يمنع
عنه مانع وهو المعبر عنه بملك العين والرقبة.
وثانيتها - الملك المقيد بجهة من جهات العين من دون تقيد بشخص خاص
ذاتا وهو المعبر عنه بملك المنفعة المقتضى لنفوذ التصرفات الراجعة إلى الجهة
المذكورة نقلا وانتقالا ما لم يمنع عنه مانع.
وثالثتها - الملك المقيد بالشخص ذاتا في جهة المنفعة وهو المعبر عنه بملك
الانتفاع وهو أضعف المراتب فالملك متعلق بالعين في جميع المراتب غاية الأمر انه
تختلف مراتبه اطلاقا وتقييدا وشدة وضعفا لا انه يختلف متعلق الملك والتعبير بملك
المنفعة والانتفاع تنبيه على ضعف مرتبة الملك وعدم اطلاقه كما أن التعبير يملك
العين والرقبة تنبيه على اطلاقه وعدم تقييده.
وثانيا لو سلم جواز تعلق الملك بالمنفعة المعدومة تبعا لملك الأصل فهو
مقصور على المنافع التي هي اعراض غير مستقلة في الوجود وتكون من شؤون وجود
282

الأصل، واما العين المتجددة من عين أخرى فلا يتطرق فيه ذلك لاستقلال كل
منهما في الوجود الخارجي وربح المال عين متجددة من رأس المال لا منفعة له.
فان قلت: قد يجوز ذلك في عين متجددة من عين أخرى فإنه قد روى جواز
بيع ثمرة النخل قبل ظهورها عامين فصاعدا.
قلت: قد علل ذلك في الرواية بتيقن ظهورها حينئذ فهي منزلة منزلة الثمرة
الظاهرة في هذه الصورة ولا يكون حصول الربح متيقنا بالعمل في رأس المال الموجود
حتى يقال إنه منزل حينئذ منزلة الموجود.
فان قلت: يمكن ان يقال العوض عن العمل هو صحة من الربح في ذمة
رب المال فالعوض هو ما في الذمة في الحقيقة ولكن مقيدا بوفائه من ربحه المعاملة
فلا ينافي تحقق المعاوضة حينئذ مع عدم وجود العوض في الخارج، ضرورة جواز
صيرورة الكلى حينئذ طرفا للمعاوضة
قلت أولا انه لا يصح ان يلتزم الشخص الا بما يكون حصوله معلوما أو موثوقا به
ولذا لا يصح الاستيجار على اصطياد صيد بعينه لعدم الوثوق بحصوله، وحصول
الربح بالعمل لا يكون معلوما ولا موثوقا به.
وثانيا انه لو كان مرجع القراض إلى اشتغال ذمة رب المال بما يطابق
حصة من الربح مقيدا بوفائه منه لزم ان يختص الربح برب المال وأن يكون تعلق
حق العمل بحصة منه من قبيل تعلق الحق بالكلى الخارجي فيلزم حينئذ ان يحتسب
التالف من الربح على رب المال فلو حصل ربح وكان حصة العامل منه النصف
مثلا فتلف نصف منه في يد العامل من غير تعد ولا تفريط لزم ان يحتسب التالف
على رب المال ويختص النصف الباقي بالعامل كما هو مقتضى تعلق حقه بالكلى
الخارجي، واللازم باطل بالضرورة فكذا الملزوم
وثالثا انه يلزم حينئذ ان يختص ربح الربح برب المال ولا يشترك فيه العامل
فلو غصب غاصب ربح مال القراض وعمل فيه فحصل منه ربح يلزم حينئذ أن يكون
283

الربح لرب المال إذا امضى معاملات الغاصب وان لا يكون للعامل المضارب فيه
نصيب لعدم مشاركته في أصل الربح حينئذ حتى يصير شريكا في ربحه، وبطلان
اللازم واضح.
والثاني ان الربح على فرض حصوله مجهول القدر وكذا كسره فلا تصح
المعاوضة عليه للغرر سواء جعل طرفا للمعاوضة ابتداءا أم جعل قيدا لما في الذمة
والثالث انه لو كان كذلك لزم ثبوت أجرة المثل في ذمة رب المال للعامل
مع فرض عدم حصول ربح في الخارج إذ مع عدم حصوله في الخارج تفسد المعاوضة
لعدم ثبوت العوض، وكل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده فإذا لم يسلم للعامل
العوض الذي سمى له يثبت له اجرة مثل عمله من دون تفاوت بين ان يجعل عوض
عمله حصة من الربح الخارجي أوما في الذمة مقيدا بوفائه منه، والملازمة واضحة
وبطلان اللازم أوضح.
فالتحقيق ان رجوع حصة من الربح إلى العامل ومشاركته مع رب المال في
الربح باعتبار تنزيل العمل منزلة المال فرجوعه إلى العامل حينئذ باعتبار انه فائدة
عمله ونمائه لا عوضه واجره.
توضيح ذلك ان الربح حاصل من العمل والمال معا ولكل منهما دخل فيه كما
هو ظاهر غاية الأمر انه يختلف دخلهما فيه ويكون دخل المال فيه أقوى من دخل
العمل فان منزلة المال من الربح منزلة المقتضى من مقتضاه ومنزلة العمل منه منزلة
الشرط ولذا يكون الربح تابعا لرأس المال ذاتا وابتداءا الا ان استقلاله في انفراده
بالربح وعدم مشاركة العمل معه إنما هي على وجه الاقتضاء لا العلية التامة، فلا ينافي
تشريك العمل معه جعلا وتنزيلا.
والحاصل ان العمل صالح لان يتبعه الربح والنماء جعلا وتنزيلا وان لم يكن
موجبا له أولا وذاتا فلا يقرب منه تمام القرب حتى ذاتا ولا يبعد عنه كل البعد حتى
لا يتبعه جعلا، بل هو امر بين الامرين وبرزخ بين العالمين، فحاله حال
284

الظن بالنسبة إلى التنجيز والحجية حيث إنه لخروجه عن مرتبة التحير المحض
والتردد الصرف لم يكن كالشك حتى لا يقبل الحجية بالجعل ولتطرق احتمال
الخلاف فيه وعدم بلوغه مرتبة الرجحان التام لم يكن كالعلم حتى يكون حجة
بالذات، فحقيقة المضاربة عبارة عن تنزيل العمل من الربح منزلة المال منه وتقديره
بقدر المال أو نصفه أو ثلثه وهكذا، فان قدر مقدار رأس المال فالربح بينهما
انصافا، وان قدر نصف المال فهو بينهما أثلاثا وان قدر ثلث المال فهو بينهما
أرباعا، ومن هذا القبيل المزارعة والمساقاة فان مرجعهما إلى تنزيل الأرض وعمل
العامل منزلة البذر والشجرة بالنسبة إلى الغلة والثمرة فالمضاربة والمزارعة والمساقاة
متحدة في الذات والحقيقة، واختلاف الأسامي باعتبار اختلاف خصوصيات الموارد
وكذا اختلافها في بعض الأحكام كاعتبار تعيين المدة فيهما ولزومهما وعدم اعتباره
فيها وجوازها
فان قلت: إذا لم يكن العمل في عرض رأس المال ذاتا من حيث تبعية
الربح له فكيف يتصور جعله سببا عديلا لرأس المال تنزيلا.
قلت: تنزيل العمل منزلة المال كسائر الجهات الوضعية التي يعتبرها العرف
ويرتب عليها الآثار قابل للجعل وأي فرق بين جعل المبادلة بين المالين بعقد البيع وعلقة
الأزواج بين الرجل والمرأة بعقد النكاح وتنزيل شخص منزلة آخر بالتوكيل
وبين المقام، فكما ينفذ التصرفات المذكورة ويترتب عليها الآثار فكذلك تنزيل
العمل منزل المال فان مقتضى مرجعية الشخص في جهاته وأموره واستقلاله فيها
نفوذ تصرفاته وتقلباته الراجعة إلى شؤونه اقتضاءا ما لم يمنعه من هو أولى به من نفسه،
فبطلان تصرفه يحتاج إلى الدليل واما نفوذه فهو مقتضى الأصل ما لم تختل شرائطه
العرفية وكان جامعا لها.
إذا اتضح لك ما حققناه وأتقنت ما بيناه من أن مرجع القراض والمضربة
إلى تنزيل العمل منزلة المال الموجب لاشتراك الربح بين العامل ورب المال
اتضح لك أمران:
285

الأول: سر عدم جواز جعل حصة من ربح مال آخر للعامل فان دخل العمل
ليس الا في ربح المال الذي وقع فيه العمل فلا يصلح جعل ربح مال آخر نماءا
للعمل في مال القراض
الثاني: عدم كون القراض عقدا متوقفا على انشائين فان تنزيل العمل منزلة
المال وجعله دخيلا في ربحه بحيث يوجب الشركة فيه امر يرجع إلى المالك ورب
المال فيكفي فيه انشائه ولا يتوقف على انشاء من المعامل، فهي نظير الجعالة حيث
ترجع إلى الجاعل وتتحقق بانشائه ولا حاجة معه إلى انشاء من طرف المال، نعم
لعمل العامل دخل فيهما في الجملة فان العمل لم يتمحض في العنوانين بانشاء
المالك والجاعل وإنما صار العنوانان بهما من أحد وجوهه وعناوينه بعد ان
لم يكونا منه، فللعامل حينئذ ان يقصد بعمله التبرع أو المضاربة والجعالة، فاتصاف
العمل بأحد الوجهين والعنوانين يتوقف على صدوره من العامل على أحد الوجهين
ولا تأثير لقبول العامل في هذه الجهة لجواز وقوع العمل منه على وجه التبرع بعد
قبوله، وإن كان له تأثير في المقام في جهة أخرى مثل وجوب حفظ المال عليه
وهكذا، فهي شبيهة بالوكالة من هذا الوجه إذ الوكالة في العمل وصيرورة الشخص
وكيلا ومرجعا في الموكل فيه بحيث لو تصرف فيه لوقع تصرفه من قبل الموكل
تحصل بمجرد انشائه، وقبول الوكيل إنما يؤثر في صيرورته في وثاق العمل وعلى
عهدته فالمضاربة كالجعالة والوكالة لا تكون عقدا محضا حتى تتوقف في تحققها
على انشاء من الطرفين ولا ايقاعا صرفا حتى لا يكون لقبول العامل وعمله دخل فيه
بوجه من الوجوه، فهي امر بين الامرين وبرزخ بين العالمين. وهكذا الحال في
جميع العقود الجائزة بالذات من الطرفين المسماة بالعقود الإذنية، فان العقد
التحقيقي المتوقف حصوله على عمل الطرفين ووصل الحبلين وشدهما كما لا يتحصل
من عمل أحدهما فكذا لا ينحل منه أيضا، إذ لو أمكن له الحل لأمكن له الاثبات
فان نسبة القدرة إلى الوجود والعدم على حد سواء، فاللزوم من لوازم حقيقة
286

العقد التحقيقي، فالأمور الجائزة بالذات خارجة عن سلسلة العقود التحقيقية منتظمة
في سلسلة أخرى.
فان قلت: مقتضى تحقق القراض والجعالة بايجاب المالك وعدم توقفهما
على قبول العامل الحكم باستحقاق العامل الجعل في الجعالة وحصة من الربح
في القراض ولو قصد التبرع بعمله، لان المقتضى لاستحقاق العامل حينئذ هو
ايجاب المالك وقد حصل ومانعية قصد التبرع غير معلومة كما أفاده المحقق جمال
الدين (قدس سره) في حاشيته على الروضة البهية في باب الجعالة.
قلت: ايجاب المالك إنما يقتضى استحقاق العامل الجعل أو حصة من الربح
ان عمل بقصد الاستحقاق أو ما لم يقصد التبرع لا انه يقتضى استحقاقه مطلقا حتى
نشك في أن قصد التبرع مانع أم لا، ضرورة انه كما تقتضي سلطنة المالك على
نفسه وجهاته نفوذ ما اختاره وأوجبه فكذلك تقتضي سلطنة العامل على نفسه وجهاته
نفوذ ما اختاره من قصد التبرع أو الاستحقاق، فكما يكون للشخص ان يبيح ماله
لغيره أو يملكه إياه بعوض أو مجانا فكذلك له ان يبذل عمله لغير تبرعا أو بعوض
أو على وجه استحقاق حصة من الربح، فايجاب المالك إنما يقتضى استحقاق
العامل لو أراد لا استحقاقه مطلقا ولو قصد التبرع والا لزم سلطنة المالك على العامل
وسلب سلطنته على نفسه وعمله.
وإذا اتضح لك ان العقود الجائزة بالذات لا تكون عقودا تحقيقية، اتضح
لك أمران:
الأول: سر ما اشتهر بينهم من عدم اعتبار التواصل بين الايجاب والقبول
فيها فان الحاصل من الايجاب والقبول فيها ليس امرا وحدانيا بسيطا حتى يتوقف
حصوله على اجتماعهما وعدم انفصالهما، بل الحاصل من القبول فيها امر آخر
مرتب على الحاصل من ايجابه.
الثاني: سر قيام الفعل فيها مقام القبول بل قيامه مقامه في الحقيقة عبارة عن
287

استغنائها عن القبول والا لزم عدم نفوذ الفعل من قبل العقد إذ مقتضى كونه قبولا
للعقد توقف حصوله وتربته عليه، فلا يجوز نفوذ الفعل من قله ضرورة ان المحقق
للشئ لا يعقل ان يتحقق منه، فظهر لك ان توهم عدم الاكتفاء لعمل العامل بعد
ايجاب المالك واعتبار التواصل بين الايجاب والقبول في القراض والمضاربة في
غير محله لما عرفت من أنه ليس من قبيل العقود التحقيقية.
هذه جملة مما يتعلق ببيان حقيقتها. فلنذكر ما يتضح به مفهوما اللفظين ووجه
انطباقهما عليها. ففي المسالك: " هي مفاعلة من الضرب في الأرض لان العامل يضرب
فيها للسعى على التجارة وابتغاء الربح بطلب صاحب المال فكان الضرب مسبب
عنهما طردا لباب المفاعلة في طرفي الفاعل ومن ضرب كل منهما في الربح بسهم
أو لما فيه من الضرب بالمال وتقليبه ويقال للعامل: مضارب بكسر الراء لأنه الذي
يضرب به في الأرض ويقلبه ولم يشتق أهل اللغة لرب المال من المضارب اسما،
وهذه لغة أهل العراق، واما أهل الحجاز فيسمونه قراضا اما من القرض وهو القطع
ومنه المقراض لأنه يقرض به فكأن صاحب المال اقتطع له من ماله قطعة وسلمها
للعامل أو اقتطع له قطعة من الربح، أو من المقارضة وهي المساواة والموازنة يقال
" تقارض الشاعران " إذا وازن كل منهما الاخر بشعره، ومنه: " قارض الناس ما قارضوك
فان تركتهم لم يتركوك " يريد ساوهم فيما يقولون، ووجهه ان المال هنا من جهة
مالكه والعمل من جهة العامل فقد تساويا في قوام العقد بهما أو لاشتراكهما في
الربح، وتساويهما في أصل استحقاقه وان اختلفا في كميته ويقال: منه للمالك
مقارض بالكسر وللعامل مقارض بالفتح " انتهى.
والتحقيق: ان القرض له مفهوم واحد مطرد في جميع موارد استعماله
وهو القطع والفصل وتقارض الشاعرين عبارة عن قرض كل منهما الكلام مثل
ما يقرضه الاخر فان نظم الكلام وصوغه على الوجه الموزون ليس الا بفصل بعضه عن
بعض، ولذا سمى الشعر قريضا فمفاده في المقام ليس الا القطع والفصل المستفاد
288

منه في سائر الموارد، والمساواة والموازنة إنما تستفاد من هيئة التفاعل، واما
قارض الناس ما قارضوك فالمساواة فيه اما مستفادة من هيئة المفاعلة ان قلنا: بإفادتها
اشتراك الفاعل والمفعول في الفعل في المقام كما هو الحال في أغلب موارد استعمالاتها
والا فمن تركيب الكلام وهيئته التركيبية كما يستفاد ذلك من قولك: عاقب الناس
ما عاقبوك وآخذهم ما آخذوك وهكذا، فالتعبير بالقراض لا يكون لا بالاعتبار الأول.
ولكن الأولى في وجه اخذه منه ان يقال: إن تنزيل العمل منزلة المال لما
أوجب قطعه وقرضه عن محله الأصلي من كونه موجبا للأجرة لا الشركة وهو مستتبع
لقرض المال عن محله أيضا من تبعية النماء كله له فكل من المالك والعامل مقارض
للاخر في المال والعمل، ولما كان الأصل في ذلك المالك فهو مقارض والعامل
مقارض، ويمكن أن يكون التعبير بالمضاربة من هذا الباب أيضا فان المالك
لما ضرب عمل العامل منزل ماله واستتبع منه ضرب المال وتنزله منزلة غير منزلته
الأولية فكل منهما مضارب للاخر في المال والعمل باعتبار تعلقهما بهما، ولكن
التعبير بالمضارب بصيغة الفاعل عن العامل لا يلائمه وإنما الملائم له اخذه من
الضرب في الأرض كما ذكره (قدس سره).
إذا اتضح لك ذلك اتضح لك ان التعبير بالقراض الذي هو لغة أهل الحجاز
أو في بحقيقته من التعبير بالمضاربة التي هي لغة أهل العراق
واما المقام الثاني فقد اختلف فيه كلماتهم فالمحكى عن المفيد والشيخ في
النهاية و سلار وابن البراج (قدس سرهم) الحكم بعدم صحتها واستحقاق العامل أجرة المثل
لا الحصة لجهالة العوض، والمشهور صحتها بل قيل عليه اجماع المسلمين
والتحقيق ما ذهب إليه الأكثر من أنه صحيح لموافقتها مع الأصل ودلالة
الدليل عليها.
اما الأصل فلما عرفت من أن مرجعه إلى تنزيل العمل منزلة المال وهو امر
معقول ممكن الوقوع ولا ينافيه القواعد المعتبرة، فالأصل حينئذ صحته وانعقاده
289

لان الانسان البالغ مرتبة الكمال بالبلوغ والعقل والرشد مسلط على نفسه وجهاته
وشؤونه فينفذ تصرفاته وتقلباته ما لم يمنعه الشارع منها.
واما الدليل على صحتها فهي النصوص الصحيحة الواردة في باب المضاربة
المستفيضة بل المتواترة
فان قلت: بناءا على ما ذكرت يصير القراض من قبيل الشركة بين العمل
والمال وهو مخالف للأصل المسلم بين الأصحاب من انحصار الشركة الصحيحة
في شركة العنان وبطلان ما عداها من شركة الاعمال أو المركب منها ومن الأموال
وشركة الوجوه والمفاوضة.
قلت: الاشتراك في الربح بسبب تنزيل العمل منزلة رأس المال لا يتوقف
على تحقق الشركة بين العمل والمال حتى يقال إنه مخالف لما اطبقوا عليه من بطلانها
حينئذ، كما أن الاشتراك في المثمن أو الثمن لا يتوقف على تحقق الإشاعة في الثمن
أو المثمن فإنه إذا بيع متاع واحد بمالين متميزين لشخص صار المبيع مشاعا بينهما
بنسبة ماليهما مع عدم إشاعة الثمن بينهما، وإذا اشترى المشترى أمتعة متمايزة من
اشخاص متعددة كل منها بثمن معين فدفع إليهم ما يفي بأثمان الجميع صار الثمن مشاعا
بينهم بنسبة حقوقهم.
والحاصل ان الأصل المسلم إنما هو بطلان الشركة بين الاعمال أو المركب
منها ومن الأموال لا بطلان الشركة في الربح الحاصل منها، كيف وحصول الشركة
في الربح امر مسلم سواء قلنا بان المضاربة من باب المعاوضة أو من باب تنزيل العمل
منزل رأس المال أو حصة منه، مع أن الشركة المنحصرة في شركة العنان إنما
هي الشركة الحاصلة من امتزاج المالين ومن المعلوم ان الامتزاج لا يتطرق في
الاعمال أو المركب منها ومن الأموال، ومجرد البناء على الشركة من دون حصول
سببها لا يؤثر في شئ، واما الشركة المستندة إلى سبب غير الامتزاج فكما يتطرق
في الأموال فكذلك يتطرق في الاعمال والمركب منها ومن الأموال فلو نوى كل من
290

العاملين ايقاع عمل من حيازة أو احياء، أو اصطياد وهكذا عن نفيه وعن صاحبه
شاركه الاخر في عمله ويكون كل من العملين مشاعا بينهما.
وبعدما اتضح لك ان صحته مما تطابق عليه الأصل والدليل فهل يعتبر في ايجابه
اللفظ أو يكفي فيه دفع المال على وجه القراض ظاهر المحكى عن كثير من كلماتهم
الأول، ولكن التحقيق خلافه للأصل وعدم الدليل على اعتباره فان تنزيل العمل
منزلة المال جهة عرفية واقعية كما اتضح لك، والعرف يرى حصوله من اللفظ
وغيره على حد سواء، فالشك لو وقع فهو في الاعتبار الشرعي على خلاف الأصل
الأولى فمرجع الشك فيه إلى الشك في المانع لا المقتضى، ومن المعلوم ان الأصل
حينئذ هو الركون إلى المقتضى وعدم الاعتداد باحتمال المانع، فتوهم ان الأصل يقتضى
عدم حصول القراض عند الشك في اعتبار اللفظ وعدمه في غير محله، فالاكتفاء بدفع
المال بعنوان المضاربة لا يخلو عن قوة واليه يشير التعريف المعروف عنهم المتقدم ذكره
ولعله إليه يشير أيضا ما في المالك تبعا للتذكرة حيث قال: " واعلم أن من دفع
إلى غير مالا ليتجر به فلا يخلو اما ان يشترطا كون الربح بينهما أو لأحدهما أولا يشترط
شيئا، فان شرطاه بينهما فهو قراض وان شرطاه للعامل فهو قرض وان شرطا للمالك
فهو بضاعة، وان لم يشترطا شيئا فكذلك الا ان للعامل أجرة المثل " ومن هنا ظهر لك
اندفاع ما أورده عليه في الجواهر حيث قال: " وفيه منع تحقق القرض مع فرض صدور
ذلك بعنوان المضاربة إذ أقصاه كونها من القسم الفاسد لا انها من القرض المحتاج إلى
انشاء تمليك المال بعوض في الذمة، وقصد كون الربح للعامل أعم من ذلك،
وإن كان هو من اللوازم الشرعية لملك المال.
ودعوى الاكتفاء بقصد ذلك في تحقيقه لفحوى الصحيح عن أبي جعفر عن
أمير المؤمنين عليه السلام " من ضمن تاجرا فليس له الا رأس المال وليس له من الربح
شئ والموثق عن أبي جعفر عليه السلام " من ضمن مضاربة فليس له الا رأس المال
وليس له من الربح شئ " إذ كما أن التضمين من لوازم القرض فكذا الاختصاص
291

بالربح يدفعها بعد تسليم مضمونهما وعدم رجحان معارضهما عليهما الاقتصار على
ذلك فيما خالف الضوابط الشرعية انتهى " فان غرضه الدفع المجرد عن عنوان
خاص كما هو ظاهر كلامه مع أن الدفع بعنوان القراض مع اشتراط الربح للعامل
يرجع إلى القرض أيضا، غاية الأمر انه عبر عنه بالقراض ووجه عدم كونه قراضا
حينئذ على ما بنينا عليه واضح، وكذا ان قلنا بأنه معاوضة لان رجوع الربح كله
إليه موجب لرجوع فائدة عمله إلى نفسه فلا معنى لاستحقاق الاجر والعوض عليه
واما كونه قرضا فلان حقيقته عبارة عن اعطاء المال للغير والتصدق بشخصه، وارجاع
الربح كله إليه لا معنى له الا ذلك إذ لا يمكن رجوع تمام فائدة المال وربحه إلى
العامل مع بقائه على ملك مالكه.
وهكذا الامر في تضمين العامل فان تضمينه لا يكون الا بأحد وجهين انتقال
المال إليه قرضا أو صيرورة يده يد ضمان ولا يصح الثاني مع بقاء عنوان القراض
فينقلب قرضا، و الرواية ناظرة إلى هذه الجهة أي عدم مجامعة التضمين مع القراض
وهذا الوجه يجرى في اشتراط انفراد العامل بالربح لعدم مجامعته مع القراض
وتنزيلها على مجرد التعبد والاقتصار عليها في خصوص التضمين في غاية البعد إذ من
الواضح الظاهر أنه عليه السلام في مقام بيان ما تقتضيه المعاملة الواقعة بينهما.
فان قلت: تضمين العامل أو اشتراط انفراده بالربح مخالف لمقتضى العقد
وأقصى ما يقتضيه فساد العقد لا نفوذه وانقلابه قرضا.
قلت: جعل الربح للعامل أو تضمينه المال من الجهات الراجعة إلى المالك
ولامانع من وقوعه ونفوذه ابتداء كما هو ظاهر وهكذا الامر في جعله في ضمن
عقد جائز بالذات، لما عرفت من أن مرجع العقود الجائزة بالذات من الجانبين
المسماة بالعقود الإذنية إلى الايقاعات وعدم اعتبار القبول الانشائي في تحققها، فلا يكون
تقدمها مانعا عن نفوذه ووقوعه بل تأخره عنها موجب للرجوع عنها.
فان قلت: لا يتحقق الرجوع الا مع قصده واما مع عدم قصده وبقائه على
292

القصد الأول فإنما يلزم بطلان العقد لأن العقد، المشروط الذي هو المقصود لا يقبل
الوقوع ووقوع الشرط فقط مخالف للمقصود.
قلت: الرجوع عما أوجبه كما يتحقق بقصد الرجوع كذلك يتحقق بفعل
ما ينافيه، أترى ان الرجوع عن التوكيل كما يتحقق بقولك: عزلت الوكيل
كذلك يتحقق ببيع الموكل فيه سواء قصد الرجوع عن الوكالة أم لا.
فان قلت: هذا إذا لم يكن الامر المنافى من قيود العقد وتوابعه واما إذا
كان من قيود العقد واقعا في ضمنه فلا مجال للحكم بوقوع دون المقيد، لان
المقيد امر واحد لا يجوز التفكيك بينه وبين قيده في الحكم بل لو جاز التفكيك
من طرف المقيد، وقيل: بجواز وقوع المقيد دون قيده كما حكم بعضهم بعدم
فساد العقد بالشرط الفاسد لم يجز ذلك في القيد لأنه تابع للمقيد ولا يجوز الحكم
بوقوع التابع دون متبوعه.
قلت: بعدما عرفت بان العقود الجائزة بالذات من الجانبين لا يتوقف على
القبول الانشائي وإنما تحصل وتتحقق بالايجاب، والقبول معتبر في مرحلة متأخرة
عن التحقق.
ظهر لك ان القيود المتعلق بالايجاب لا تكون واقعة في ضمن العقد حتى تتبعه
في الحكم، فما تعقب الايجاب به في العقود الإذنية إن كان منافيا للايجاب
ويقبل الاستقلال بالوقوع فهو نافذ لأنه مقصود ورجوع عن الايجاب لمنافاته له،
وإنما يتم ما ذكرت في العقود اللازمة فافهم واغتنم فإنه في غاية النفاسة والدقة.
ثم إنه لو لم يحمل كلام صاحب المسالك على صورة الاطلاق والتجرد عن
عنوان خاص لا وجه لتخصيص هذه الصورة بالاشكال لجريانه في الصورتين الأخريين
فان اشتراط الربح للمالك أو عدم اشتراطه لأحدهما مناف للقراض فمع فرض صدور
الدفع بعنوان القراض ينبغي ان يحكم حينئذ بأنه قراض فاسد لا بضاعة فتسليمه
البضاعة في الصورتين مع استشكاله تحقق القرض في الصورة الأولى متهافتان
293

بقي الكلام فيما يعطيه صريح كلام صاحب المالك من الفرق بين قسمي
البضاعة في استحقاق الأجرة مع عدم اشتراط الربح وعدمه مع اشتراطه فان التحقيق
عدم الفرق بينهما من هذه الجهة، إذ الامر بالعمل استيفاء له مع اشتراط الربح وعدمه
فمقتضاه استحقاق العامل اجرة عمله في الصورتين، ضرورة ثبوت الأجرة للعمل
المستوفى على مستوفيه فهو في وثاق العمل ما لم يظهر منه قصد التبرع ولو لم يظهر
منه قصد الأجرة ولم يتبرع به العامل ولو لم ينو الرجوع بها، لان المانع من استحقاق الأجرة
هو قصد التبرع بالعمل لا عدم نية الرجوع بها، ولا فرق في ذلك بين كون
العامل من المعدين لاخذ الأجرة وغيره مع فرض كون العمل مما له اجرة في العادة
فالفرق المذكور غير ظاهر الوجه ولعل الوجه فيه عنده استظهاره (قدس سره) من اشتراط
الربح وعدم التعرض لأجرة العمل قصد التبرع، وهو في محل المنع لعدم ظهوره
فيه بمجرد ذلك نعم قد يظهر منه ذلك بملاحظة خصوصية المورد كما قد يظهر منه
خلافه فالحكم به على اطلاقه في غير محله.
ثم إنه اتضح لك بما بيناه من عدم كون القراض من العقود ان اعطاء المال
ودفعه ليعمل فيه بحصة معينة من ربحه قراض ومضارب حقيقة، لا انه مغاير له في
الحقيقة قائم مقامه في الأثر كالمعاطاة، حيث إنها معاوضة مستقلة ومبادلة فعلية لا عقدية
تقوم مقام البيع الذي هو عقد معاوضة والتزام مبادلة في بعض الآثار، ومن هنا قد يظن أنها
بيع على سبيل الحقيقة وان البيع نوعان: عقدي لازم وغير عقدي جائز.
وإذ قد اتضح لك مما حققناه ان صحة القراض ونفوذه موافقة للأصل اتضح
لك أمور.
الأول: انه لا يشترط صحته بوقوع العمل في السفر لان مقتضى الأصل
صحته مطلقا، فتضييق دائرته بجعل السفر شرطا والحضر مانعا يحتاج إلى الدليل
فمع عدم وجود دليل يدل على التقييد يحكم بالاطلاق الذي هو مقتضى الأصل،
ولا يقدح فيه ورد أكثر الروايات في مورد المضاربة والاتجار بالسفر، لان تقرير
294

الأصل في مورد ليس ابطالا له في مورد اخر، والمورد لا يكون مخصصا كما
هو ظاهر.
الثاني: ان دفع قطيعة غنم إلى الراعي ليرعاها في مدة معلومة بحصة من
نمائها من لبنها وصوفها وشعرها ووبرها كما هو المتعارف في بعض البلدان لا اشكال
فيه لجواز تنزيل عمل الراعي في مدة معلومة منزلة القطيعة في الاستنماء، وهو موافق
للأصل الذي أصلناه ولم يدل دليل على بطلانه في المقام. ومن هذا القبيل دفع دابة
إلى المكارى ليحمل عليها أو يركب بالأجرة على أن يكون الحاصل بينهما، فان
عمل المكارى له دخل في الحمل والركوب وان لم يكن دخله فيهما كدخل الدابة
فهو صالح لان ينزل منزلتها بالنسبة إليهما فتعود الأجرة حينئذ إلى الدابة وعمل المكارى
فيشترك فيها المالك والمكاري.
فان قلت: الأجرة إنما هي في مقابل الحمل والركوب وهما من منافع الدابة
فلا يجوز رجوع حصة منها إلى غير المالك.
قلت: لا منافاة بين عود حصة من الأجرة إلى المكارى باعتبار دخل عمله
في الركوب والحمل كما أنه لا منافاة بيع عود حصة من الربح إلى العامل باعتبار
دخل عمله في حصول الربح من رأس المال.
الثالث: انه كما يجوز تنزيل العمل منزلة رأس المال أو الشجرة بالنسبة إلى
الربح أو الثمرة لمكان دخل العمل، فكذلك يجوز تنزيل الآلة منزلة العمل إذا كان
العمل أصلا لوجود ملاك التنزيل وهو الدخل فلو دفع آلة الصيد كالشبكة إلى الصياد
بحصة من الصيد جاز واشترك الدافع مع الصائد في صيده لموافقته مع الأصل
وعدم دليل قائم على بطلانه.
وأكثر الأصحاب (قدس سرهم) حكموا بالبطلان وعدم حصول الشركة في
الحاصل في هذه الفروع وأمثالها ولا باس بنقل شطر من كلماتهم وبيان ما فيها.
قال المحقق قدس سره في كتاب القراض من الشرائع: " ولو دفع آلة الصيد
295

كالشبكة بحصة فاصطاد كان للصائد، وعليه اجرة الآلة ". وفى المالك: " الحكم بكون
الصيد للصائد مبنى على عدم تصور التوكيل في تملك المباح والا كان الصيد لهما
على حسب ما نواه الصائد.
وقد سبق الكلام على نظيره، ويبعد بناؤه على أن العامل لم ينو بالتملك
الا نفسه لان ظاهر الحال دخوله على الشركة، وحيث يكون الصيد لهما فعلى كل منهما
من اجرة مثل الصائد والشبكة بحسب ما اصابه من الملك، ولو كان المدفوع إليه بدل
الشبكة دابة لحمل عليها ويركب بالأجرة، والحاصل بينهما فالحاصل بأجمعه لصاحب
الدابة وعليه اجرة مثل العامل ولم تصح المعاملة أيضا لعين ما ذكر.
والفرق بين الشبكة والدابة في كون الحاصل لصاحب الدابة دون مسألة الشبكة
ان الأجرة تابعة للعمل والعمل في الدابة حاصل منها وفى الصيد من الصائد والشبكة
تبع لعمله كما أن التسبيب بحمل الدابة وعملها تابع لها فيكون الحاصل للعامل
ولا مدخل هنا للنية كما ففي مسألة الصيد " انتهى.
وقال في كتاب الشركة منها: " ولو دفع انسان دابة وآخر راوية إلى السقاء
على الاشتراك في الحاصل لم ينعقد الشركة وكان ما يحصل للسقاء وعليه اجرة مثل
الدابة والراوية " وفى المالك " بطلان هذه الشركة ظاهر مما سبق لأنها مركبة من
شركة الأبدان وشركة الأموال مع عدم مزجه فيقع باطلة، ولا يكون من صاحب الدابة
والراوية إجارة لان الأجرة غير معلومة فالحاصل من العمل للسقاء وللاخران عليه اجرة
مثل مالهما لذلك العمل، وهذا يتم مع كون الماء ملكا للسقاء أو مباحا ونوى الملك
لنفسه أو لم ينو شيئا اما لو نواه لهم جميعا كان كالوكيل.
والأقوى انهم يشتركون فيه ويكون اجرته وأجرة الراوية والدابة عليهم أثلاثا
فيسقط عن كل واحد ثلث الأجرة المنسوبة ويرجع على كل واحد بثلث، ويكون
في سقيه للماء منزلة الوكيل لإذنهم له في التصرف ان قلنا: ببقاء الاذن الضمني مع فساد
المطابقي، والا توقفت المعاوضة على الماء على اجازتهما فان أجازا أو قلنا بعدم الافتقار
296

إليها فالحاصل من العمل بينهم أثلاثا ويرجع كل واحد على الآخرين بثلث اجرة
نفسه أو ماله.
فلو فرضنا ان السقاء حصل أربعة وعشرين وكانت اجرة مثله خمسة عشر وأجرة
الدابة اثنى عشر والراوية ثلاثة فلملك واحد منهم من الحاصل ثمانية لأنه عوض مالهم بناء
على ما اخترناه من جواز التوكيل في حيازة المباح وسيأتي تحقيقه، ثم يرجع السقاء
على كل واحد منهما بخمسة ويرجع صاحب الدابة على كل واحد بأربعة وصاحب
الراوية بدرهم فيأخذان من السقاء خمسة ويعطيانه عشرة يفضل له ثلاثة عشر ويأخذان
من صاحب الدابة ستة يعطيانه ثمانية، يبقى معه عشرة، ويأخذان من صاحب الراوية
تسعة ويعطيانه درهمين يفضل له من المجموع درهم فالمجتمع معهم أربعة وعشرون
هي الحاصل من عوض الماء " انتهى.
وفى الجواهر " صاحب الراوية والدابة ان كانا قد وكلا السقاء في الحيازة لهما
وقد أمراه بذلك وقد حازه بنيتهما مع نفسه اتجه حينئذ شركة الجميع بالماء وكان
لكل منهم ثلثا الأجرة على الآخرين، فان تساوت لم يرجع أحدهم على الاخر
والا رجع بالتفاوت.
وان لم يكن ثم توكيل وقد حازه بنية الجميع ولم نقل بجريان الفضولية في
نحوه أو لم تحصل الإجازة أشكل ملكه له أيضا بناء على اعتبار نية التملك في الحيازة
ضرورة كون الفرض نية الملك للغير معه فضلا عن نية التملك بل حينئذ باق على
الإباحة الأصلية يملكه إذا تجدد النية لملكه " انتهى.
أقول: قد عرفت انه لا مانع من تنزيل آلة الصيد منزلة عمل الصياد من الصيد
وعمل المكارى منزلة الدابة من الأجرة عرفا وشرعا، ولو منعنا ذلك وقلنا: بعدم
نفوذه شرعا فالوجه ان يقال: بإشاعة الصيد بينهما أيضا لان ظاهر الحال دخول الصائد
على الشركة. والقول بعدم تطرق التوكيل في الحيازة أصلا كما يظهر من كلام
المحقق قدس سره حيث قال: " لو حاش صيدا أو احتطب أو احتش بنية انه له ولغيره
297

لم تؤثر تلك النية وكان بأجمعه له خاصة " لا وجه له، ضرورة انها ليست من الأمور التي
لا تتحقق الا بالمباشرة.
فان قلت: مجرد دخوله على الشركة لا يكفي في تحققها لعدم بقاء الاذن الضمني
مع فساد المطابقي وتأثير الإجازة اللاحقة فيها غير معلوم.
قلت: لا ينافي عدم نفوذ الشركة التي بنيا عليها مع بقاء الاذن (1) فيها، لان
البناء على الشركة كسائر العقود الإذنية للا يكون عقدا تحقيقيا متوقفا على الايجاب
والقبول حتى يكون الجهات المتعلقة بها قيودا تابعة لها وجودا وعدما فالاذن في
الشركة منضمة إلى البناء على حصولها بدفع الآلة إلى الصياد لا ينتفى بانتفاء المنضم
إليه لان الضميمة إذا لم تكن في عقد لازم بالذات لا ترجع إلى التقييد، فإذا كان
المنضم قابلا للاستقلال كما في المقام فلا مانع من وقوعه وتحققه، مع انتفاء ضميمته
ولو تنزلنا وقلنا بعدم بقاء الاذن الضمني مع فساد المطابقي في أمثال المقام
فهو فضولي يؤثر فيه الإجازة لان الإجازة متحدة مع الوكالة في الحقيقة وإنما يختلفان
في التقديم والتأخير عن العمل، فالوكالة إجازة متقدمة كما أن الإجازة وكالة متأخرة
فكلما تتطرق فيه الوكالة تتطرق فيه الإجازة الا ان يدل دليل على عدم تطرقها فيه كالطلاق
والعتق حيث يتطرق فيهما التوكيل ولا يتطرق فيهما الإجازة، وقد عرفت انه لا مانع
من تطرق التوكيل في الحيازة ولم يدلل دليل على عدم جريان الفضولية فيها.
ثم إنه لو قلنا: بعدم تطرق التوكيل في الحيازة فما ذكره المحقق (قدس
سره) من وقوع الملك للمحيز وعدم قدح نية ايقاع الملك له ولغيره في اختصاص
الملك بنفسه في محله.

(1) التحقيق خلافه لان المأذون فيه هي الشركة التي لا يرجع أحد المتشاركين
فيها على الاخر بأجرة، فالشركة التي يرجع فيها كل واحد منهما على الاخر بأجرة
عمله أو ماله لا تستند إلى الاذن المذكور الا ان يلتزم بعدم استحقاق رجوع أحدهما
على الاخر ولو باعتبار احتساب اجرة الآلة في مقابل اجرة العمل على وجه الجعالة.
298

وما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) من بقائه على الإباحة الأصلية حينئذ
لا يملكه إذا تجدد النية لملكه حينئذ في غير محله، لان نية الملك حينئذ كافية في
وقوعه لنفسه، ضرورة ان العمل الصادر عن الشخص ينصرف إليه في حد نفسه
ولا ينصرف عنه الا بصارف إذا كان قابلا للانصراف عنه والتملك بالحيازة على
فرض عدم تطرق التوكيل فيه لا يقبل الانصراف عنه حتى يقدح فيه نية وقوعه للغير
فلا يكون نية وقوعه للغير حينئذ الا لغوا.
بل لو قلنا بصلوح وقوعه للغير اما بوكالة سابقة أو بإجازة لاحقة كما
هو التحقيق وأوقعه للغير من دون وكالة سابقة ولم يلحقه إجازة يختص الملك به
أيضا لان مجرد نية الغير لا يكفي في انصراف الفعل عن الفاعل إلى غيره فمع
عدم الوكالة وعدم لحوق الإجازة يستقر الفعل لنفس الفاعل إذ لا يحتاج وقوعه
لنفسه إلى قصد، والحاصل ان وقوع الملك لنفسه ولغيره لم يكن على حد واحد
حتى يتوقف حصول كل منهما على قصد زائد بل وقوعه لنفسه ذاتي لا يحتاج إلى
نية جديدة.
فتبين بما بيناه ان الصياد ودافع الآلة يشتركان في الصيد على كلا التقديرين
اما لأجل نفوذ تنزيل الآلة منزلة عمل الصياد واما لأجل قصده الشركة بعمله، غاية الأمر
انه على التقدير الثاني يرجع كل منهما على الاخر من اجرة مثل الصائد
والشبكة بحسب ما اصابه من الملك كما نبه عليه صاحب المالك (قدس سره).
وقد تبين بما بيناه أيضا انه لو كان الماء مباحا يشترك صاحب الدابة والراوية
مع السقاء في الماء وثمنه لما عرفت من بقاء الاذن حينئذ وان ظاهر الحال دخول السقاء
على الشركة فيصير الحاصل بينهم أثلاثا ويرجع كل منهم على الاخر بثلث الأجرة من مثل عمله أو ماله كما ذكره في المالك، هذا واما ما ذكره من أنه لو كان المدفوع
إليه بدل الشبكة دابة ليحمل عليها أو يركب بالأجرة والحاصل بينهما فالحاصل
بأجمعه لصاحب الدابة وعليه اجرة مثل العامل فظاهره ان عليه اجرة مثل العامل مطلقا.
299

وفى القواعد: " لو دفع دابته إلى آخر ليحمل عليها والحاصل لهما فالشركة
باطلة فإن كان العامل قد آجره الدابة فالأجرة لمالكها وعليه اجرة مثل العامل فان
قصر الحاصل عنهما تحاصا إن كان بسؤال العامل والا فالجميع ".
وفى جامع المقاصد: " ويندرج في قوله: بسؤال العامل ما إذا كان بسؤالهما
لأنه بسؤال العامل أيضا، وفى الفرق نظر لان الفرض حصول الرضاء بذلك سواء
كان بسؤاله أو بسؤال المالك أو بسؤالهما فيستوى المسئلتان في التحاص،
واحتمل شيخنا الشهيد في بعض حواشيه وجوب أقل الأمرين من الحصة المشروطة
والحاصلة بالتحاص، اما إذا كانت المشروطة أقل لأنه قد رضى بالأقل فلا يستحق الزيادة
واما إذا كان الحاصل بالتحاص أقل فلمعارضة حق المالك ولا ترجيح.
واحتمل أيضا وجوب الأقل إن كان بسؤال العامل لأنه الزم نفسه بذلك بسؤاله.
ووجوب الأكثر إن كان بسؤال المالك لأنه إن كان الأكثر المشروط فقد رضى به
المالك وإن كان هو الحاصل بالتحاص فلفساد الشرط " انتهى.
والتحقيق انه يجوز ان يجعل الأجرة في مقابل منفعة الدابة وعمل المكارى
من تسبيب الحمل والركوب وما يتبعهما فلا اشكال في اشتراط الشركة في الأجرة
ولا في تحققها بالإجارة حينئذ ولا يكون دفع الدابة إلى المكارى على أن يكون الحاصل
بينهما مخالفا لقاعدة من القواعد الشرعية، نعم لا تحصل الشركة بمجرد الدفع بل
بعد الإجارة، فما ذكره صاحب المالك من اختصاص الأجرة بصاحب الدابة حينئذ
ورجوع العامل عليه بأجرة مثل عمله لا وجه له.
واما ما ذكره في القواعد من أنه ان قصر الحاصل عن اجرة مثل عمل المكارى
وأجرة منفعة الدابة تحاصا فيه إن كان بسؤال العامل ففي غاية الغرابة وباطل من وجوه
عديدة:
الأول: ان الرجوع إلى اجرة مثل العمل ومثل الدابة إنما هو على تقدير
فساد الشركة والإجازة معا كما هو ظاهر، ومع فسادهما لا يستحق المالك الأجرة
300

المسماة بل يستحق حينئذ اجرة مثل منفعة دابته، فالجمع بين استحقاق أجرة المثل
والأجرة المسماة والحكم بمحاصد العامل معه فيها جمع بين المتناقضين.
والثاني: ان اجرة مثل عمل العامل إنما يتعلق بذمة صاحب الدابة لا بالحاصل
فلا مجال لتحاصهما فيه لان تحاصهما فيه فرع تعلق حقهما به.
والثالث: ان التفصيل بين سؤال العامل وعدمه في الحكم مع فرض حصول
الرضاء من الجانبين في جميع الصور لا وجه له، واغرب منه ما حكى عن الشهيد قدس
سره في بعض حواشيه إذ بعد فرض فساد العقد يستحق العامل اجرة مثل عمله لقاعدة
ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، ورضاه بالعقد الفاسد وما لا يسلم له لا يؤثر انقلاب
استحقاق أجرة المثل إلى أقل أو أكثر.
تنبيه: لو دفع الدابة إلى المكارى ليحمل عليها أو يركب بالأجرة على أن يكون
الحاصل بينهما نصفين أو أثلاثا وهكذا فهو لو دفعها إليه على أن يكون الحاصل
بينهما من دون تعيين فحينئذ يقوم كل من اجرة مثل العمل وأجرة مثل منفعة الدابة
منفردا.
وينسب قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين ويأخذ كل منهما من الحاصل بنسبة
قيمة عمله أو ماله إلى مجموع القيمتين، فلو كان اجرة مثل منفعة الدابة ثلاثة دراهم
وأجرة مثل العمل درهمان فللمالك ثلاثة أخماس الحاصل وللمكارى خمساه، وليس
هذا تحاصا بل طريقا إلى معرفة حق كل منهما من الحاصل. وبما بيناه تبين لك
الحال في نظائرها من الفروع.
واما المقام الثالث - فقد اتضح حاله بما بيناه في المقام الأول من تحقيق حقيقته
وشرح ماهيته وانه جائز بالذات، لان اللزوم من لوازم العقد التحقيقي المركب من
انشائين، وقد ذكرنا ان القراض كسائر العقود الإذنية لا يتوقف تحققه على انشائين
وعملين، وقد اتفق الأصحاب قدس سرهم على أنه من العقود الجائزة من الجانبين
ويجوز لكل منهما الرجوع فيه سواء نض المال أو كان عرضا، فلو اشترط فيه الأجل
301

لم يلزم وفائدته المنع من التصرف فيما بعده.
قال المحقق قدس سره في الشرائع: " ولو اشترط فيه الأجل لم يلزم، لكن
لو قال: " ان مرت بك سنة فلا تشتر بعدها وبع صح " لان ذلك من مقتضى العقد
وليس كذلك لو قال: " على انى لا أملك فيها منعك، لان ذلك مناف لمقتضى العقد ".
وفى الجواهر: بل المشهور كما قيل بطلان العقد معه فالتحقيق حينئذ ان يقال إن
أريد باشتراط الأجل المعنى الأول صح وان أريد به المعنى الثاني بطل وأبطل
كما صرح به غير واحد بل لم أجد خلافا هنا في بطلانه.
وزاد في القواعد وجامع المقاصد اشتراط ضمان العامل المال أو الزامه بحصة
من الخسارة الا انه قد يناقش في ذلك ان أريد بها الكتابة عن اللزوم مثلا بالعارض
ولو بالشرط، لا ان المراد به ما ينافي حكمها شرعا فإنه لا اشكال في البطلان حينئذ
إنما المناقشة في الأول بمنع كونها من منافيات مقتضى العقد المراد به ما يعود
على العقد بالنقض.
ولا ريب في عدم منافاة اللزوم لعقد المضاربة إذ هو كالجواز في العقد اللازم
الذي لا اشكال في صحة اشتراطه، ومن هنا كان له شرطه أي اللزوم في العقد
الجائز بعقد لازم آخر، ولو أنه من المنافى لمقتضاه لم يصح ذلك إذ هو كاشتراط
عدم الملك في البيع ونظيره هنا عدم ملك العامل الحصة من الربح لا اشتراط
اللزوم في المضاربة
وكذا الكلام في الضمان الذي لا ينافي كون الشئ أمانة فان كثيرا من
الأمانات مضمونة كعارية الذهب والفضة والعارية المشترط فيها والمقبوض بالسوم
وغير ذلك بل ستسمع ضمان العامل في كثير من صور المضاربة بل وكذا الكلام
في اشتراط الزام العامل صحة من الخسارة فان جميع هذه الأمور من الأحكام أو
مما هو مقتضى اطلاق العقد لا انها من منافيات مقتضاه التي تعود عليه بالنقض فتأمل جيدا.
بقي شئ وهو انه قد صرح الفاضل وتبعه في جامع المقاصد بصحة شرط المالك
302

على العامل المضاربة في مال آخر أو اخذ بضاعة منه أو قرض أو خدمة في شئ
بعينه معللا له الثاني منهما بعموم قوله تعالى: " أوفوا بالعقود " وقوله: " المؤمنون
عند شروطهم " لكن عن ابن البراج الجزم بفساد العقد والشرط وكذا عن المبسوط
الا أنه قال أخيرا: لو قلنا: القراض والشرط جائز لكن لا يلزم الوفاء به كان قويا.
ثم إنه في جامع المقاصد قد حكى عن السراير عدم لزوم الوفاء به، ثم قال:
" وهو حق فان العقد جائز من الطرفين لكن لم يذكروا حكم ما إذا عمل العامل ولم يف
بالشرط فظهر ربح، والذي يقتضيه النظر ان للمالك الفسخ بفوات ما جرى عليه
التراضي فيكون للعامل أجرة المثل وللمالك الربح " - إلى أن قال - ولو شرط ذلك
من طرف العامل على المالك فالحكم كما هنا بغير تفاوت الا ان الفسخ هنا بعد
العمل إذا لم يحصل الوفاء يكون للعامل لأنه إنما رضى بالحصة القليلة مع هذا
الشرط " انتهى.
أقول: وفيما ذكره نظر من وجهين:
الأول فيما ذكره من عدم منافاة اشتراط اللزوم في العقود الجائزة بالذات
كاشتراط الجواز في العقود اللازمة لان الجواز في العقود الجائزة بالذات من
أحكام العقد ومن شؤون سلطنة الشخص على نفسه وعمله، لما عرفت من أن مرجع
العقود الجائزة بالذات المسماة بالعقود الاذنية إلى عملين مستقلين مترتبين، فيكون
حينئذ لكل واحد من المتعاقدين الرجوع عن عمله ولا يقبل الاسقاط والانقلاب إلى
اللزوم لاستحالة سلب سلطنة الشخص عن نفسه وعمله، بخلاف لزوم العقود اللازمة
بالذات فان مرجعه إلى عدم سلطنة أحد المتعاقدين على حل عمل الاخر ورفعه لما
ظهر لك من أن مرجع العقود اللازمة بالذات إلى امر وحداني بسيط في الخارج
منتزع عن عملين، فلا يستقل أحدهما في رفعه وحله كما لا يستقل في اثباته
فمرجع الجواز المجعول حينئذ إلى اثبات سلطنة لأحدهما على الاخر في حل عمله،
أو بجعل الشارع أو بجعل المتعاقدين وهو امر معقول ويكون من الحقوق فيقبل
الجعل والاسقاط.
303

وبما بيناه ظهر ان اشتراط عدم ملك المنع مطلقا مناف لمقتضى العقد سواء
أريد به لزوم العقد بالشرط أم لا، كما ظهر ان العقد الجائز لا يصير لازما ولو وقع في
ضمن عقد لازم وجعل شرطا فيه لاستحالة سلب سلطنة الشخص على نفسه وعمله،
والوكالة المشترطة في الرهن إنما تصير لازما من قبل الراهن كنفس الرهن من
جهة رجوعها إلى اثبات ولاية للمرتهن على العين في بيعها واستيفاء دينه من ثمنها،
فهي ولاية لا وكالة وان عبر عنها بالوكالة ومن المعلوم ان الولاية لازمة من طرف
من عليه السلطنة وان كانت جائزة من طرف من له السلطنة:
والثاني: ان العقد قد يكون علة تامة للايتمان كالوديعة فلا يجوز اشتراط
الضمان فيها لمنافاته لمقتضى العقد وقد يكون مقتضيا له كالعارية فيجوز اشتراطه
فيها، وقد يلتبس امره كعقد الإجارة ولذا اختلفوا في جواز اشتراط الضمان فيها،
فمنهم من جعله في حكم الوديعة ومنهم من جعله في حكم العارية.
ومن المعلوم ان لا يحكم في هذا النوع بنفوذ شرط الضمان الا بعد احراز
صلاحية العقد وقبوله، وعقد القراض لو لم يكن من قبيل الأول فهو من قبيل القسم
الثالث؟؟ فلا يحكم بنفوذ شرط الضمان فيه بمجرد ان بعض الأمانات يقبل شرط الضمان
ومما بيناه ظهر حال اشتراط الزام العامل حصة من الخسارة.
واما ما ذكره من ضمان العامل في كثير من صور المضاربة فإنما هو في صورة
التعدي أو التقصير، ومن المعلوم انه لا ينافي مع عدم قبوله الضمان بالشرط، ثم إن
ما جعله صاحب جامع المقاصد مقتضى النظر من عود الربح إلى رب المال واستحقاق
العامل الرجوع عليه بأجرة مثل عمله بعد الفسخ من جهة عدم وفاء رب المال بالشرط
لا يلائم مع الانفساخ العقد حين الفسخ لا بطلانه من رأس، ضرورة ان الفسخ إنما
يوجب زوال العقد من حين الفسخ لا بطلانه من حين وقوعه، ولعله لذا قال صاحب
الجواهر: ما جعله مقتضى النظر مما لم يمكن التزام فقيه له.
304

(فائدة - 42)
الكر المسبوق بالقلة إذا علم ملاقاته للنجاسة ولم يعلم السبق منهما حكم
بنجاسته الا في صورة واحدة وهو العلم بتاريخ الكثرة لان الأصل حينئذ عدم حدوث
الملاقاة قبل هذا التاريخ فيكون محكوما بالطهارة.
فان قلت: نعم في صورة العلم بتاريخ الملاقاة يحكم بالنجاسة استصحابا للقلة
إلى هذا التاريخ واما في صورة الجهل بتاريخهما معا فيتعارض استصحاب عدم
الملاقاة إلى زمان حدوث الكرية مع استصحاب عدم الكرية إلى زمان ملاقاة النجاسة
فيتساقطان فيجب الحكم بالطهارة حينئذ استنادا إلى أصالة الطهارة.
قلت إنما يرجع إلى أصالة الطهارة مع عدم احراز مقتضى الانفعال وهي
ملاقاة النجس، واما مع احرازه ووقوع الشك في اقترانه بالمانع يحكم بالانفعال
اخذا بالمقتضى المعلوم والغاء للمانع المشكوك وهذه قاعدة شريفة مطردة جارية
في جميع الموارد.
فان قلت: تحقق المقتضى غير معلوم، أولا لان قلة الماء من شرائط الانفعال
وهي مشكوكة غير محرزة. مع الشك في الشرط يكون المقتضى مشكوكا لان
المقصود في باب قاعدة الاقتضاء والمنع ما لوجوده دخل في التأثير سواء كان مقتضيا
أو شرطا كما أن المراد من المانع ما كان وجوده مخلا سواء كان مزاحما أو مانعا
وثانيا ان وجوب الاخذ به والركون إليه ممنوع
305

قلت: القلة عبارة عن عدم الكثرة فهو امر عدمي والعدم لا يكون مؤثرا ولا
متأثرا ولو كان مضافا فلا يجوز أن يكون شرطا للانفعال فالماء مطلقا قابل للانفعال
في حد نفسه وإنما يكون بلوغه حد الكرية دافعة للانفعال على وجه الاقتضاء، ولذا
تسقط عن التأثير إذا استولى النجس عليها وصارت مقهورة في جنب النجس الملاقى له
بسبب تغير أحد أوصافها الثلاثة به.
واما اعتبار هذه القاعدة الشريفة فقد أثبتناه في الفائدة الأولى من هذا الكتاب
وأزحنا الشبهات المتوهم في هذا الباب، بل قد تبين انه لا أصل سواء وان جميع
الأصول المعتبرة لفظية أو عملية راجعة إليها.
ومما بيناه تبين انه لا فرق في الحكم بالنجاسة مع الجهل بتاريخهما وعدم العلم
بتاريخ واحد منهما بين الكر المسبوق بالقلة والقليل المسبوق بالكرية، نعم إذا
علم تاريخ الكثرة في الصورة الأولى وجهل تاريخ الملاقاة يحكم بطهارة الماء لان
الأصل عدم حدوث الملاقاة قبل هذا التاريخ، كما أنه إذا علم تاريخ الملاقاة في
الصورة الثانية مع الجهل بتاريخ القلة يحكم بطهارة الماء أيضا استصحابا لبقاء
كثرته إلى هذا التاريخ، هذا كله إذا علم بملاقاة النجاسة اجمالا ولم يعلم المتقدم
والمتأخر من الملاقاة والكرية.
واما إذا وجد نجاسة في الكر المسبوق بالقلة واحتمل وقوعها في حال القلة
فالحكم فيه الطهارة الا إذا علم تاريخ الوقوع وجهل حدوث الكرية،
لاستصحاب القلة إلى هذا التاريخ فيحكم بالنجاسة حينئذ.
واما في صورة الجهل بتاريخهما أو الجهل بتاريخ الوقوع مع العلم بتاريخ
الكرية فيحكم بالطهارة حينئذ لأجل انحلال العلم الاجمالي ورجوعه إلى الشك
البدوي فان وجود النجاسة في الكر موجب لعلم بملاقاتها في حال الكرية تفصيلا
ووقوع الشك في ملاقاتها قبل الكرية والأصل عدم ملاقاتها قبل الكرية حينئذ لعدم
العلم بملاقاة أخرى غير الملاقاة الحاصلة حال الكرية بسبب العلم بوجود النجس
306

في الكر، كما هو المفروض بخلاف المسألة السابقة فان ملاقاة النجاسة مع الماء
معلوم اجمالا وحصولها في حال القلة أو الكثرة مجهول فلا يرجع الشك في أحد
طرفيه إلى الشك البدوي، لعدم انحلال العلم الاجمالي حينئذ.
والحاصل ان العلم التفصيلي بوجود النجس في الكر اخرج أحد طرفي
الترديد وهي الملاقاة حال الكرية عن الشبهة فتخص الشبهة حينئذ بملاقاتها قبل
الكرية ويكون الشك فيها شكا بدويا مجرى لأصالة عدم الملاقاة، بخلاف المسألة
السابقة فإنه لم يحصل العلم التفصيلي فيها بأحد الطرفين حتى تخص الشبهة بالطرف
الاخر وينحل العلم الاجمالي.
وقد اشتبه الامر في هذا المقام على كثير ممن عاصرناه فزعموا أن هذه
المسألة من فروع المسألة السابقة والحكم فيهما واحد. ولقد أجاد من لم يجعله من
متفرعات المسألة السابقة وجعله مسألة أخرى وان اشتبه عليه الامر في تشريكهما
في الحكم.
فان قلت: ملاقاة النجاسة مع الكر من حيث البقاء معلوم تفصيلا ولكن
حدوثها غير معلوم الا على وجه الاجمال وكما يحتمل أن يكون في حال كثرة الماء
فكذلك يحتمل أن يكون في حال قلته ولا مرجح في البين والكلام إنما هو في الحدوث.
قلت: إذا كانت الملاقاة مستندة إلى وجود النجس في الماء وكان وجوده
متيقنا مع الكر ولا اثر لحدوث ملاقاة النجس مع الكر غير ما يترتب على وجوده
فيه ينحل العلم الاجمالي حينئذ ويؤخذ بحكم المعلوم تفصيلا ولا يعتد باحتمال
الحدوث قبل ذلك. الا ترى انه لو رأى الشخص منيا في ثوبه وعلم بأنه احتلم ولم يعلم
بأنه احتلم في البارحة أو قبلها يقتصر على القدر ولا يعتد باحتمال حدوثه
قبل وهكذا الحال في نظائرها. والسر فيه ما بيناه من انحلال العلم الاجمالي ورجوعه
إلى الشك البدوي حينئذ.
307

(فائدة - 43)
قال المحقق (قدس سره): " في الشرائع إذا تزوج العبد بمملوكة ثم اذن له
المولى في ابتياعها فان اشترى لمولاه فالعقد باق وان اشتراها لنفسه باذنه أو ملكه إياها
بعد ابتياعها فان قلنا العبد يملك بطل العقد ".
وفى الجواهر: " كما يبطل نكاح الحر للأمة إذا اشتراها لظهور قوله تعالى:
" الا على أزواجهم " وغيره في منع الجمع بين سببي الوطي وانقطاع الشركة بينهما
فيكون كل واحد منهما مؤثرا تاما في إباحة الوطي ففي حال الاجتماع اما ان يرتفع
تأثيرهما وهو معلوم الفساد أو يكون المؤثر واحدا وليس هو الا الطاري فما في ذلك
عن المناقشة في ذلك بان علل الشرع معرفات فلا يضر اجتماعها يدفعه ما عرفته من
ظهور الأدلة هنا في كونها في الفرض كالعلل العقلية بالنسبة إلى ذلك.
نعم قد يناقش في ترجيح الطاري بعدم ما يقتضى ترجيحه بل لعل الأول أرجح
باعتبار سبق تأثير فلا يصادف الثاني موضوعا للتأثير فيتجه بطلان البيع حينئذ
لا النكاح اللهم الا ان يقال الاجماع على صحة البيع يرفع ذلك أو يقال إن السبب
نفسه أقوى في التأثير من استدامة الأول أو غير ذلك مما يتجه معه حينئذ بطلان النكاح
فيما نحن فيه " انتهى.
وفى الجميع نظر لان استظهار منع الجمع من الآية الكريمة إن كان من
جهة التعبير بأو كما يستفاد من كلام بعضهم ففيه ان التعبير بأو كما يصح في المنفصلة
308

الحقيقية وفى مانعة الجمع كذلك يصح في مانعة الخلو ولا ظهور له في أحد الوجوه
مع قطع النظر عن القرينة فلا يصح الاستدلال به على منع الجمع ولا قرينة في المقام
تدل على كون التفصيل بينهما على وجه منع الجمع بل يمكن ان يقال إن القرينة
قائمة على أن التفصيل بينهما على وجه منع الخلو فان قوله تعالى: " فمن ابتغى
وراء ذلك فأولئك هم العادون " ناظر إلى أن استباحة الوطي لا تخلو عن أحد السببين
وإن كان من جهة استفادة ان كلا من السببين كاف في استباحة الوطي وعلة تامة
لها مطلقا كما يستفاد من كلام بعضهم ولازم كون كل منهما علة تامة لاستباحة الوطي
مطلقا عدم جواز اجتماعهما على موضوع واحد إذ مع اجتماعهما على موضوع
واحد اما يبطل تأثير كل منهما فيسقطان عن صفة التمامية وكلاهما مناف لكون كل
منهما علة تامة لاستباحة الوطي على سبيل الاطلاق.
ففيه ان استباحة الوطي بكل من السببين إنما توجب أن يكون كل منهما تاما
اقتضاءا ومستقلا في التأثر في حد نفسه ولا ينافي تمامية كل منهما في حد نفسه مع عدم
استقلال كل منهما في التأثير بسبب اجتماعهما على محل واحد مع عدم التنافي بينهما
كما لا ينافي سقوطهما عن التأثير رأسا عند اجتماعهما على موضوع واحد وتنافيهما
في التأثير مع بقائهما على صفة العلية اقتضاء.
فتبين بما بيناه انه لا ضير في اجتماع العلتين سواء كانتا عقليتين أو شرعيتين
وما يظهر من صاحب المسالك من التفصيل بين العلل العقلية والشرعية في غير محله
مع أن ما ذكره واشتهر بينهم من أن العلل الشرعية معرفات في غير محله ضرورة
ان الطهارة والحدث إنما يتحصلان بأسبابهما لا ان أسبابهما معرفات وعلائم على حصولها
بلا سبب مقارنة لأسباب أو متقدمة عليها.
وهكذا الحال في سائر الأسباب الشرعية بالنسبة إلى مسبباتها.
هذا مع أنه لو سلم عدم جواز اجتماعهما على محل واحد لزم بطلان الطاري
لا السابق، ضرورة ان اثر السابق ثابت قبل طرو الطاري فلا مجال لطروه بعد ثبوت
309

اثر السابق، وما ذكره من أنه يمكن ان يقال إن الاجماع على صحة البيع يرفع التزويج
في غاية البشاعة إذ بعد فرض عدم جواز اجتماعهما في محل واحد لا يعقل صحة البيع
مع ثبوت التزويج حتى يرد صحيحا ويرفع التزويج ولا رافع له غير البيع كما هو
المفروض والاجماع لا يصحح الامر الغير المعقول.
واما ما ذكره ثانيا من أنه يجوز ان يقال إن السبب نفسه أقوى في التأثير من
استدامة الأول فأبشع: لان اقوائية أحد السببين إنما يؤثر سقوط السبب الآخر عن
التأثير إذا تنافيا في الأثر وتقارنا واما إذا لم يتنافيا في الأثر فلا يتعارضان حتى يتقدم
أقواهما على أضعفهما فان تقارنا حينئذ اشتركا في التأثير وان ترتبا ينفرد المتقدم
بالتأثير ولا اثر للمتأخر لاشتغال المحل بالمثل سواء كان أقوى من المتقدم أم لا فلا مجال
لسقوط الأضعف بالأقوى في المقام من وجهين:
الأول: عدم تقارنهما في الوجود.
والثاني عدم التنافي بينهما في الأثر بل لو فرض التنافي بينهما في المقام لا مجال
لتأثير الأقوى، منهما لان الاقوائية إنما تؤثر مع تقارنهما.
واما عدم تقارنهما فالاثر للمتقدم على كل حال ولا ينافي ما بيناه تأثير المتأخر
من سببي الطهارة والحدث في الارتفاع والانتقاض لان تأثير المتأخر منهما ليس
من جهة تعارض السببين وتقديم المتأخر منهما بل جهة اعمال السببين لعدم تعارضهما
فان ارتفاع الحدث بسبب الطهارة أو انتقاضها بسبب الحدث لا يعارضه السبب الأول
ولا ينافيه، إذ السبب الأول إنما يؤثر حدوث الحدث أو الطهارة ولا يستند إليه بقائه وإنما
يكون باقيا من جهة انه في حد نفسه قار الذات لا يزول الا بمزيل فكل من السببين يؤثر
اثره لعدم المعارض والمانع من تأثيره.
والتحقيق في وجه بطلان تزويج الأمة باشترائها الزوج ما حققناه وفصلنا الكلام
فيه في محله، واجماله ان ملك البضع الحاصل بالتزويج من قبيل ملك الانتفاع
لا المنفعة ولذا لو وطئت الزوجة شبهة أو اكراها ثبت مهر المثل على الواطي للزوجة
310

لا لزوجها ولو كان من قبيل ملك المنفعة لزم رجوع مهر المثل إلى الزوج لا الزوجة
ومن شان ملك الانتفاع زواله بتجدد ملك العين والرقبة لمالك الانتفاع فان
المستعير أو الودعي أو الوكيل إذا اشترى العين المستعارة أو المودعة أو الموكل
فيها تبطل استعارته ووديعته ووكالته إذ لا مجال لكون مالك الرقبة مالكا للانتفاع من
العين المشتراة من قبل البائع الذي انتقلت الرقبة والعين مستتبعة للمنفعة عنه، لان
مرجع ملك الانتفاع إلى الرخصة في الانتفاع لا استحقاق المنفعة فلا يتصور بقاء
الرخصة من قبل المالك الذي زال ملكه عينا ومنفعة لمن انتقل الملك إليه.
فان قلت: كما أن من شان ملك الانتفاع عدم مجامعته مع ملك الرقبة
المستتبع لملك المنفعة كذلك من شانه الجواز وعدم اللزوم ذاتا مع أن عقد التزويج
لازم.
قلت: نعم من شان ملك الانتفاع الجواز ذاتا ولكن لا ينافيه اللزوم تعبدا ولذا
لا يكون اللزوم فيه من قبيل لزوم عقد البيع وسائر عقود المعاوضات مستندا إلى نفس
العقد قابلا للاسقاط بجعل الخيار فيه، بل لزومه من قبيل لزوم الهبة المعوضة وهبة
ذي رحم حكم غير قابل للاسقاط.
311

(فائدة - 44)
في الكافي عن أبي على الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن علي بن مهزيار
قال: " كتبت إليه يعنى إلى أبى الحسن عليه السلام يا سيدي رجل نذران يصوم يوما من الجمعة
دائما ما بقي، فوافق ذلك اليوم يوم عيد فطر أو أضحى أو أيام التشريق أو سفر أو مرض
هل عليه صوم ذلك اليوم أو قضائه وكيف يصنع يا سيدي؟ فكتب إليه: " قد وضع الله
عنه الصيام في هذه الأيام كلها ويصوم يوما بدل يوم انشاء الله ".
أقول: ويستفاد من هذه الرواية الشريفة الصحيحة الساطعة منها أنوار العصمة
والإمامة انه ينعقد النذر فيما وافق هذه الأيام إذا كان النذر متعلقا بكلي يجوز انفكاكه
عنها وتكون موافقته معها اتفاقيا وان حرم صومه حينئذ ووجب الافطار، ضرورة
ان الحكم بالقضاء وصيام يوم بدل يوم فرع فوت الأصل وفوته فرع ثبوته بالنذر
وهو فرع انعقاده.
ولعلك تقول إن كان النذر منعقدا بالنسبة إلى ما وافق هذه الأيام ولا ينحل
فمقتضاه وجوب صومه لا حرمته ووجوب افطاره وان انحل ولم يكن منعقدا فيه
فمقتضاه عدم ثبوت القضاء لعدم وجوب الأصل حينئذ حتى يجب قضائه.
قلت: مستعينا برب الأرباب وامنائه الأطياب عليهم السلام ان انعقاد النذر يقتضى
وجوب المنذور عليه، واما تنجزه فهو فرع استجماع شرائط التنجز من قدرته على
اتيانه وعدم مزاحمته بأقوى منه وعدم المانع من تحقق الامتثال، فإن لم يقدر عليه
312

أو زوحم بأقوى منه أو تحقق مانع من الامتثال يصير معذورا في تركه ويجب عليه
القضاء حيث كان له قضاء
فان قلت: الموضوع الواحد لا يقبل حكمين مختلفين من وجهين حتى يقع
التزاحم بينهما ويتقدم الأقوى منهما، والموضوع واحد في المقام وهو صوم يوم معين
اجتمعت فيه جهتان كونه جمعة وعيدا وهكذا.
قلت: الموضوع في المقام متعدد وان اجتمعا في مصداق واحد لان يوم الجمعة
في حد نفسها مغاير لهذه الأيام ومنفك عنها كما انها منفكة في حد نفسها عنه، والحكم
في كل منهما متعلق بأمر كلى يجوز انفكاك كل منهما عن الاخر فلا يضر اجتماعهما
في يوم واحد و تصادقهما عليه في أصل الحكم وإنما يتزاحمان في مرحلة التنجز
فان تساويا يتخير المكلف بينهما لعدم المرجح والا يتنجز الأقوى منهما ويصير معذورا
في الاخر و يترتب عليه القضاء إن كان له قضاء
ولما كان حرمة صوم هذه الأيام أهم عند الشارع من وجوب الصوم المنذور
وتقدم الحكم بالتحريم على وجوب الوفاء بالنذر وصار الناذر معذورا في عدم
الوفاء وجب عليه الافطار والقضاء.
نعم لو تعلق النذر بيوم معين شخصي ووافق هذه الأيام كما لو نذر صوم غد،
ووافق أحد هذه الأيام لا ينعقد نذره لعدم رجحان متعلقه حينئذ.
فان قلت: إذا نذر الناذر صوم يوم الجمعة دائما فلا يخلو الامر من أحد وجوه ثلاثة
الأول جعل يوم الجمعة ظرفا للمنذور مطلقا أي سواء وافق الأيام المحرمة الصوم أو لا.
والثاني جعله مقيدا بعدم موافقته معها. والثالث اخذه مهملا ولا يجوز اخذه مهملا والا لزم
بطلان النذر حينئذ لابهام متعلقه حينئذ، ولا مطلقا والا لزم انعقاد النذر فيما إذا كان
المتعلق مرجحا وهو ما وافق الأيام المحرمة الصوم، ولجاز نذر صوم يوم العيد
بعينه حينئذ إذ لا فرق بين انعقاد نذر صومه بخصوصه أوفى ضمن المطلق الشامل له
ولغيره، وإذا لم يجز كونه مهملا ولا مطلقا فلابد من جعله مقيدا فينحل النذر حينئذ
313

بالنسبة إلى ما وافق الأيام المحرمة ولا يجب قضاء صومه كما اختاره المحقق (قدس سره)
حيث قال: والأشبه عدم وجوبه.
قلت: إذا كان الكلى راجحا في حد نفسه ولا يلازم امرا مرجوحا يصح جعله
منذورا من دون تقييد وينعقد نذره مطلقا ولا ينافيه طرو المرجوحة على افراده أحيانا
لان الفرد لا يكون متعلقا للنذر ابتداء وإنما يتعلق به النذر من جهة انطباق الكلى
عليه.
ومن المعلوم ان مرجوحية الفرد من جهة اجتماعه مع عنوان موجب للافطار
لا يوجب عروض المرجوحية على الكلى الذي هو متعلق النذر فلا يضر بقاء الكلى
على رجحانه فلا يوجب تقييد النذر بغير هذا الفرد، نعم إذا تعلق النذر بفرد بعينه
يجب أن يكون راجحا بخصوصياته المشخصة فلا ينعقد صوم يوم العيد لأنه مرجوح
بحسب خصوصياته الشخصية والنذر تعلق بشخصه ابتداء فلا ينعقد ويبطل.
والحاصل: ان الحكم العرضي المتعلق بالكلى كالحكم الأصلي المتعلق به
فكما لا ينافي تعلق وجوب صوم رمضان بالبالغ العاقل اطلاقا مع حرمة الاتيان به
في حال المرض والسفر ولا يوجب عروض المنع من الامتثال في الحالين تقييد
وجوب الصوم ولذا بجب قضائه على المريض والمسافر بعد البرء والحضور،
فكذلك الامر في الوجوب العرضي الثابت بالنذر.
فان قلت: الحكم التكليفي عبارة عن الخطاب الانشائي من إباحة الفعل أو
طلبه أو طلب تركه أو معلول عنه ولا يصلح الخطاب الانشائي الا لمن استجمع شرائط
التكليف من البلوغ والعقل والقدرة عقلا وشرعا، ضرورة انه لا يجوز طلب الفعل
والترك ممن لا يقدر على الفعل عقلا أو شرعا، وقضاء كل من المريض والمسافر
والحائض صومه لا يدل على بقاء الأمر الأول لان القضاء بأمر جديد لا بالامر الأول
فلا يمكن تعلق نذر يوم الجمعة بما وافق الأيام المحرمة لعدم جواز تعلق
314

خطاب: " فه بنذرك " الا بمن قدر عليه عقلا وشرعا، وإذا وافق يوم الجمعة
أحد الأيام المحرمة الصوم لا يقدر الناذر على وفاء النذر شرعا فكيف ينعقد نذره
حينئذ.
قلت: الحكم التكليفي سابق على الخطاب والانشاء ضرورة ان استحقاق
العقاب الذي هو من آثار مخالفة الحكم لا عن عذر مترتب على مخالفة الإرادة
النفسية الحتمية الثابتة في نفس المولى وان لم يكن في البين خطاب والانشاء
والخطاب إنما يؤثر في تنجيز الحكم من جهة كونه أحد أسباب العلم بالحكم
ورفع العذر عنه بل الحكم المولوي سابق على الإرادة النفسية الفعلية لترتب
استحقاق العقاب على مجرد تحيث الواقعة بحيثية من الحيثيات الخمسة بالنسبة
إلى نفس المولى بحيث لو سئل عنها لأراد فعلها أو تركها حتما أم ندبا أو ترخص
فيها.
فالحكم في الحقيقة عبارة عن اتقان الواقعة وخروجها عن التزلزل بالنسبة
إلى الحيثيات الخمسة في نظر المولى وإن كان غافلا عنها، فلا يدور الحكم التكليفي
مدار الإرادة الفعلية فضلا عن دورانه مدار الخطاب والانشاء، بل قد يكون الحكم
متعلقا بالمكلف مع توجه الخطاب بخلافه إليه كالمريض والمسافر فإنهما في
هذا الحال معذوران عن الصوم ممنوعان منه مخاطبان بالترك مع وجوبه عليهما
تعلقا ولذا يقضيانه.
وتوهم ان وجوب القضاء لا يدل على تعلق الحكم به لان القضاء بأمر جديد
وهم فاحش ضرورة ان القضاء فرع الفوت والفوت فرع التعلق فلا يعقل ثبوت
القضاء مع عدم التعلق، ولا ينافي ذلك مع كون القضاء بأمر جديد إذ معناه انه أولا
الامر الجديد لم يعلم أن له قضاء إذ ليس كل فائت له قضاء لا ان معناه ان القضاء
تكليف جديد مستقل بل قد يتنجز الحكم على المكلف مع عدم جواز مخاطبته به
كمن توسط أرضا مغصوبة عمرا عصيانا فان تحريم الغصب منجز عليه في هذا الحال
315

ولذا يستحق العقاب عليه ولا يكون معذورا لعجزه لان الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار مع عدم جواز صدور لا تغصب بالنسبة إليه.
وما قيل: من أن عقابه إنما هو على مخالفة الحكم الثابت قبل دخوله المغصوبة
في غير محله إذ لا يعقل استحقاق العقاب على ارتكاب امر لم يكن حراما حين ارتكابه.
وبما بيناه تبين غاية التبين ان الحكم بالافطار وثبوت القضاء موافق للأصل ومنطبق
على القواعد العامة.
ومنه يتبين ان من نذر زيارة مولانا أبى عبد الله الحسين عليهم السلام في كل عرفة
فاستطاع الحج يجب عليه تقديم لحج وقضاء زيارة يوم عرفة. توضيح الحال فيه
ان زيارة الحسين عليها السلام في عرفة راجح في حد نفسه فينعقد نذره مطلقا، وجوب الحج
ويتنجز لأهميته عند الشارع من وجوب الوفاء بالنذر فيصير معذورا فيه وعليه قضائه
لان القضاء فرع التعلق لا التنجز.
وما قيل: من عدم وجوب الحج حينئذ لانعقاد نذر زيارة يوم عرفة مطلقا
وانعقاده كذلك مانع عن تعلق وجوب الحج لعدم امكان اجتماع وجوبهما حينئذ
وقد حصل المتقدم حيث لا مانع فلا يحصل المتأخر في غير محله إذ لا مانع من ثبوت
وجوب كل منهما في حد نفسه على وجه الاطلاق اقتضاء وإنما يتزاحمان في مرحلة
التنجز فيقدم الأهم حينئذ ومن المعلوم ان وجوب حجة الاسلام أهم فيقدم ويصير
معذورا في الوفاء بالنذر.
فان قلت: وجوب حجة الاسلام فرع ثبوت الاستطاعة ومع انعقاد النذر
مطلقا لا يكون الناذر مستطيعا للحج فلا يتعلق وجوب الحج به حينئذ.
قلت: انعقاد النذر كذلك إنما يمنع الاستطاعة للحج إذا كان وجوب الوفاء
به لهم من وجوب حجة الاسلام لا مطلقا.
316

وما قيل من انحلال النذر بالنسبة إلى عام الاستطاعة لعدم جواز تعلق النذر بزيارة
قبر مولانا الحسين (ع) يوم عرفة في عام الاستطاعة في غير محله أيضا لما عرفت من
عدم وجود مانع من ثبوت الحكمين على وجه الاطلاق لتغاير موضوعيهما في حد
أنفسهما وعدم ملازمة أحدهما للاخر واجتماعهما في مصداق واحد أحيانا لا يؤثر في
رفعهما أو رفع أحدهما، وإنما يقع التزاحم في مرحلة التنجز.
وبما حققناه يظهر لك حال سائر الفروع المرتبطة بالمقام فافهم واغتنم.
317

(فائدة - 45)
اتفق القوم على أن المعنى الأسمى مستقل والمعنى الحرفي إلى غير مستقل
لكن اضطربت كلماتهم في تفسير الاستقلال وعدمه. والمعروف بينهم ما ذكره المحقق
الشريف من أن المعنى ان لوحظ قصدا وبالذات فهو معنى مستقل اسمى وان لوحظ
تبعا وآلة لتعرف حال غير فهو معنى آلى حرفي، فكل مفهوم يجرى فيه اللحاظان
كالمعاني النسبية يقبل ان يوضع بإزائه اسم باللحاظ الأول وحرف باللحاظ الثاني
كمفهوم الابتداء حيث وضع بإزائه لفظ الابتداء باللحاظ الأول ولفظة من باللحاظ
الثاني.
وفيه ان المعاني النسبية وان كانت تابعة في الوجود لوجود المنتسبين ولا
وجود لها استقلالا بل وجودها في الخارج عبارة عن خصوصية وجود المنتسبين الا
انها في مرحلة القصد مقصودة بالذات بمعانيها الحرفية، فان المقصود بالأصالة في
القضايا إنما هو إفادة الاسناد الثابت فيها ايجابا أو سلبا، وما يتبعه من القيود والموضوع
والمحمول مع أنهما مفهومان مستقلان لا يتعلق بهما القصد الا باعتبار وصف الموضوعية
والمحمولية الراجع إلى الاسناد الثابت بينهما.
وأيضا لو سلم ان قوام المعنى الأسمى بلحاظه قصدا وبالذات، وقوام المعنى
الحرفي بلحاظه تبعا وتوطئة للغير لزم أن تكون ألفاظ الكنايات حال كونها كنايات
حروفا لان معانيها الحقيقية حينئذ ملحوظة لإفادة ملزوماتها أو لوازمها.
318

وبعضهم فسر الاستقلال والالية بما فسره المحقق الشريف لكن مع القول
بخروجهما عن الموضوع له، والالتزام بهما في مرحلة الاستعمال من جهة اشتراط
الواضع حين الوضع ان لا يستعملهما الا كذلك.
وفيه مضافا إلى ما مر في كلام الشريف انه لا تأثير لاشتراط الواضع مع اطلاق
الموضوع له.
والتحقيق ان الحروف آلات وأدوات متممة لأنحاء استعمالات الأسماء ومركبة
للكلمات بعضها مع بعض، فهي موجدة لمعاني معتورة في لفظ غيرها.
توضيح ذلك ان القضية على اقسام ثلاثة: لفظية وذهنية وخارجية وكل منها
يشتمل على اجزاء ثلاثة المسند إليه والمسند به والاسناد، والاسناد اللفظي مغاير
للاسناد الذهني كما أن الاسناد الذهني مغاير للنسبة الخارجية واللفظ الحاكي عن
النسبة الخارجية لا يوجب النسبة اللفظية ولا يتم به امر القضية اللفظية وإنما يصلح القضية
اللفظية ما يوجد النسبة بين الألفاظ ويتم به امر استعمالها.
ولذا ترى ان الاسناد الاختصاصي الاستعلائي والظرفي في القضية اللفظية
لا يتحصل الا باللام وعلى وفى، ولا يتحصل بلفظ الاختصاص والاستعلاء والظرفية
وهكذا الامر في سائر الموارد، فان القضية اللفظية لا تتم الا بالحروف أو ما بمنزلتها
من الهيئة التركيبية أو الاشتقاقية، وهذا معنى ما أفاده مهبط الوحي (ع) من أن " الحرف
ما أوجد معنى في غيره " على ما رواه في العوالم ونفائس الفنون.
واما ما في بعض النسخ من أن " الحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل " فلعله
نقل بالمعنى، لان المعنى الحرفي الموجد في لفظ الاسم أو الفعل يترتب عليه الأنباء
عن النسبة الذهنية والخارجية.
وكيف كان فقد تبين بهذا البيان ان مرجع عدم استقلال المعنى الحرفي إلى كونه
وجها من وجوه استعمال لفظ غيره، كما أن مرجع استقلال المعنى الأسمى إلى كونه
مستعملا فيه بنفسه وعدم كونه وجها من وجوه استعمال لفظ آخر
319

وقد اختلط الامر على بعض المعاصرين في المقام فجمع بين ما استفدناه من
كلام مولانا أمير المؤمنين - عليه وعلى أبنائه الطاهرين سلام الله الملك الأمين -
وما ذكره المحقق الشريف بل جعل مدار الفرق على ما ذكره الشريف، فقال بعض
مقرري بحثه ان " الفرق بين المعنى الأسمى والحرفي يبتنى على أربعة أركان:
الأول: ان معاني الحروف بأجمعها ايجادية.
والثاني: ان لازم كون المعاني الحرفية ايجادية ان لا واقع لها بما هي معان
حرفية في غير التراكيب الكلامية.
الثالث: عدم الفرق بين الهيئات في الاخبار والانشاء في أن معانيها ايجادية
الرابع: ان المعنى الحرفي حاله حال الألفاظ حين استعمالاتها فكما ان
المستعمل حين الاستعمال لا يرى الا المعنى وغير ملتفت إلى الألفاظ، كذلك
المعنى الحرفي غير ملتف إليه حال الاستعمال بل الملتفت إليه هي المعاني الاسمية
الاستقلالية.
توضيح ذلك انك تارة تخبر عن نفس السير الخاص فتقول: سرت من البصرة
فالنسبة الابتدائية في هذا المقام مغفول عنها، وأخرى عن نفس النسبة فتقول النسبة
الابتدائية كذا فهي الملتفت إليها.
وهذا الركن هو الركن الركين وبانهدامه ينهدم الأركان كلها، فان المعاني
الحرفية لو كانت ملتفتا إليها لكانت اخطارية ولكان لها واقعية سوى التراكيب الكلامية
انتهى ما أردناه. وكأنه زعم أن لازم كون المعاني الحرفية الموجدة في التراكيب
وهي النسب اللفظية توطئة كاللفظ كون ما يقابلها من النسب الذهنية والخارجية
كذلك وهو غفلة واضحة، لان كون النسب اللفظية توطئة لا يلازم كون ما يقابلها
توطئة بل يستحيل ذلك في النسب النفس الامرية، إذ لا يقابلها شئ حتى يكون
توطئة له نعم يتصور ذلك في النسب الذهنية فإنها قد تلحظ توطئة لإفادة النسبة الخارجية
كما هو الشائع الغالب في القضايا الصادرة من المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة،
320

وقد تلحظ أصالة كمقام الافتاء والشهادة واظهار الحياة والفضل، بل قد
عرفت مما حققناه ان القصد والعناية إنما تتعلق بالنسب فان المقصود في القضايا إنما
هو إفادة الاسناد الثابت فيها.
واما نفس الموضوع والمحمول فمع قطع النظر عن وصف الاسناد لا يتعلق
به غرض أصلا كما هو ظاهر، ولذا خص المعنى الذي هو محل العناية والقصد
في كلام مولانا أمير المؤمنين (ع) بالحرف وما ذكره من أن النسبة الابتدائية
في قولك: سرت من البصرة مغفول عنها لأنك تخبر عن السير الخاص حينئذ
في غير محله لان الاخبار عن السير الخاص اخبار عن ثبوت السير له على وجه
مبدئية البصرة له، فالخاص بخصوصية مقصود للمتكلم فكيف تكون الخصوصية
مغفولا عنها.
نعم هناك نسبتان تامة وهي مفاد هيئة الفعل وناقصة تقييدية وهي مفاد للفظة من
في المثال المزبور والنسبة التامة مقصودة أصالة واما الناقصة فهي مقصودة تبعا لها
بمقتضى كونها قيدا للتامة لا انها مغفول عنها وتوطئة لأمر آخر.
مع أنه لو سلم كون النسب الناقصة التقييدية مغفولا عنها وان قوام المعنى
الحرفي به لزم أن تكون النسب التامة معاني اسمية، فيلزم أن تكون النسبة المستفادة
من هيئة الفعل معنى اسميا إذا كانت تامة ومعنى حرفيا إذا كانت ناقصة كان ضرب
مثلا، وأن تكون الابتداء والاختصاص والاستعلاء والظرفية في قولك سيرى من
البصرة والمال لزيد وزيد على السطح وبكر في الدار معاني اسمية في الأمثلة المزبورة
لأنها حينئذ تامة لا ناقصة، ولذا يكون المجرور بالحرف فيها خبرا عما قبله وبطلان
اللوازم بين على أنه قد يكون المعنى الحرفي الموجد في عالم اللفظ مقصودا بالأصالة
لاتحاد وجوده الخارجي مع وجوده في عالم اللفظ، كمعاني حروف النداء فان
النداء مقصود أصالة ولا يكون توطئة لنداء آخر.
321

والحاصل انه لم يحقق ما ذكره أولا ولم يتأمل في مفاد الرواية الشريفة حق
التأمل فخلط به ما قرع الاسماع، واشتهر في الأفواه من أن المعنى الحرفي ملحوظ
تبعا لا قصدا وبالذات.
لا يقال: يمكن أن يكون المراد من قوله: فالنسبة الابتدائية في هذا المقام
مغفول عنها النسبة الابتدائية المتعلقة باللفظ لا النسبة الخارجية فلا يرد ما ذكرت.
قلت: كلامه في المخبر عنه والنسبة الابتدائية فيه إنما هي النسبة الخارجية،
واما النسبة الابتدائية المتعلقة باللفظ فإنما هي متعلقة بالجملة الخبرية ولا ترتبط
بالمخبر عنه بوجه.
وبعض المتأخرين مع موافقته لما اشتهر وشاع مما فسر به الاستقلال والالية
زعم أنه لا يمكن ورودهما على معنى واحد باختلاف اللحاظ، وقال: " ان مقتضى
النظر الدقيق ان المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات لا اشتراك لهما في طبيعي
المعنى الواحد.
والبرهان على ذلك هو ان الاسم والحرف لو كانا متحدي المعنى وكان
الفرق بمجرد اللحاظ الاستقلالي والالي لكان طبيعي المعنى الواحد قابلا لان يوجد
في الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن على طورين مع أن الحرفي كأنحاء
النسب والروابط لا يوجد في الخارج الا على نحو واحد وهو الوجود لا في نفسه
ولا يعقل ان توجد النسبة في الخارج بوجود نفسي والا لم يكن ثبوت شئ لشئ
بل ثبوت أشياء ثلاثة فنحتاج إلى رابطة أخرى " انتهى.
وفيه مضافا إلى ما مر في كلام المشهور ان تحقق الاختلاف في مرحلة النظر
واللحاظ لا يتوقف على قبوله الوجود في الخارج على نحوين فان النسبة الواحدة
ترد تامة وناقصة باختلاف لحاظ المتكلم ونظره، ولا اختلاف بينهما في الخارج
بالضرورة ومن هنا اشتهر بينهم ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم
بها أوصاف.
322

والسر فيه ان النقص والتمام إنما ينتزعان من لحاظ المتكلم النسبة أصالة وتبعا
لا من صفة موجودة في الخارج حتى يجب وجود منشأهما في الخارج وهكذا الامر
في صفة الاستقلال والالية فإنهما منتزعان من لحاظ المتكلم على وجه الالية والاستقلال
على المشهور ولا ينافي ما بيناه من قبول اللحاظ الاستقلال والنقص كون النسبة
بحيث لو لوحظت في حد نفسها ولو خليت وطبعها تكون تامة غير مستقلة
والحاصل ان الامر الواحد يقبل الاتصاف بصفتين متقابلتين إذا كان منشأ
انتزاعهما اختلاف لحاظ المتكلم والاستقلال والالية بالمعنى الذي ذكروه يرجعان
اختلاف لحاظ المتكلم ونظير عروض الالية والاستقلال على المعنى الواحد عروضهما
على لفظ واحد باختلاف لحاظه استقلالا وتوطئة لارائة المعنى، غاية الأمر ان اللفظ
في حد نفسه مستقل والالية عارض عكس النسبة.
ثم استشكل على نفسه بأنه إذا لم يكن بين الاسم والحرف قدر جامع فما
المحكى عنه بلفظ الربط والنسبة والظرفية أشباهها من المعاني الاسمية.
فأجاب بأنه ليس المحكى عنه بتلك الألفاظ الا مفاهيم وعناوين لا حقيقة الربط
والنسبة وبالجملة المعاني على قسمين بالإضافة إلى ما في الخارج، فتارة من قبيل
الطبيعي وفرده والجامع بين الموجود والخارجي متحقق وأخرى من قبيل العنوان
والمعنون، والعنوان لا يتعدى عن مرحلة الذهن وهو غير المعنون ذاتا ووجودا انتهى.
وفيه أولا انه إذا لم يكن متحدا مع المعنون ذاتا ولا وجودا فكيف يكون عنوانا له
وما يتوهم من أن المراد بكونه عنوانا للمعنى الحرفي انه حاك عنه ويجوز التباين
بين الحاكي والمحكى عنه فان العلة والمعلول متباينان وكل منهما حاك عن الاخر.
ففيه أولا ان تفسير العنوان بالحاكي في غير محله.
وثانيا ان حكاية شئ عن شئ اخر، لابد أن يكون لمناسبة ذاتية أو وضعية
ولا يعقل الحكاية مع عدمها بأحد الوجهين ولا مناسبه ذاتية بين المفهومين حينئذ لعدم
العلية ولا وضعية لعدم الوضع.
323

وثانيا يلزم حينئذ أن يكون الربط والظرفية والاختصاص والاستعلاء وهكذا
من قبيل المفاهيم الممتنعة الوجود كاجتماع الضدين وارتفاع النقيضين، حيث لا تكون
موجودة الا في الذهن كسائر الممتنعات وثالثا ان يلزم عدم صحة قولك، ابتداء سيرى
من البصرة مثلا لان المحكوم عليه حينئذ إن كان نفس العنوان فهو كذب لان ما في
الذهن لا يتعلق بما في الخارج وهو السير وإن كان باعتبار المعنون الذي هو معنى
حرفي فهو باطل لان المعنى الحرفي لا يصلح وقوعه محكوما عليه بما هو معنى
حرفي وإذا كان اللفظ توطئة للعنوان والعنوان للمعنون لزم كون المعنى الحرفي
بما هو معنى حرفي محكوما عليه، وبطلان اللوازم في غاية الوضوح.
وبالجملة سخافة هذا الكلام مما لا تخفى بل لا يكاد تحصى مفاسده.
وتوهم ان لفظ العدم من هذا القبيل حيث إنه لا يحكى الا عما هو موجود في
ظرف الذهن لا عما هو عدم بالحمل الشائع وهم، فان للفظ العدم موضوع بإزاء نفس
العدم مع قطع النظر عن وجوده في الذهن لا بإزائه بقيد وجوده في الذهن حتى يصير
عنوانا لنفس العدم بزعمه، فلا يكون حاكيا الا عن نفس العدم
واعجب منه توهم ان الامر في لفظ الوجود كذلك بناءا على أصالة الوجود
لأنه ان أراد ان تصور الوجود في الذهن ليس وجودا للوجود فيه فهو صحيح ولكنه
لا ينفعه، إذ يكفي في وضع اللفظ للمفهوم تصوره في الذهن ولا يلزم وجوده فيه
بل قد بينا في محله ان تصور الشئ في الذهن ليس وجودا للمتصور حقيقة مطلقا
وان التعبير بالوجود الذهني كالتعبير بالوجود اللفظي والكتبي توسع في التعبير.
وما توهم من أنه وجود ظلي ضعيف للمتصور حقيقة والا لزم عدم صدق القضايا
الحقيقية غلط فاحش، وان أراد ان الوجود غير متصور أصلا والمتصور امر اخر وراء
الوجود وان الشخص إذا حاول تصور الوجود يقع تصوره على امر اخر لا يكون
متحدا مع الوجود ذاتا ووجودا ومع ذلك فهو عنوان للوجود فهو بديهي البطلان
وأيضا يلزم أن يكون المتصور للوجود متصورا للعدم أو الماهية لانحصار المفاهيم
في ثلاثة وليس وراء الوجود الا العدم والماهية وهو أقبح وأشنع.
324

(فائدة - 46)
قد اشتهر بين الفقهاء قدس الله أسرارهم ان إجازة الأصيل العقد الفضولي
كاشفة عن صحة العقد حينه لا ناقلة من حينها وانها إنما تؤثر ما لم تسبق بالرد لأنه
يستقر في البطلان بالرد كما يستقر في الصحة بالإجازة فلا مجال لتأثير الإجازة حينئذ
بعد الرد.
وقد استشكله بعض الفضلاء المعاصرين سلمه الله تعالى، وقال، ما محصله
ان فعل الفاعل لا يمكن ان يستند إلى غيره بوجه من الوجوه لعدم صدوره الا عن فاعله
فالعقد بالمعنى المصدري الذي هو فعل المتعاقدين لا يعقل ان يستند إلى المالك وإنما
يستند إليه بإجازته معنى اسم المصدر منه وهو المعنى المنتزع من فعل المتعاقدين،
وهي المبادلة القائمة بالمالين في عقد البيع، واسناد الإجازة إلى العقد بالمعنى
المصدري تسامح بل الامر في الوكالة أيضا كذلك فإنها في الحقيقة راجعة إلى رضى
المالك بوقوع المبادلة مثلا، فالامر المتزلزل الذي يستقر بإجازة المالك إنما هو الامر
المنتزع لا منشأ الانتزاع فإنه مستقر في كونه فعلا لفاعله ولا يتطرق التزلزل فيه بوجه
وهذا المعنى الانتزاعي المتزلزل إنما يستقر في الصحة بإجازة المالك لاستناده
إليه ولا يستقر في البطلان برد المالك، لان رده لا يؤثر في بطلان فعل غيره إذ لا سلطنة
للمالك على فعل غيره حتى يجعله باطلا، على أن منشأ الانتزاع وهو الانشاء علة تامة
لحدوث الامر المنتزع، فلا يعقل تخلفه عن الانشاء كما لا يعقل انقلاب حدوث الانشاء
325

إلى اللا حدوث ومقتضى بقائه بعد رد المالك نفوذ الإجازة فيه بعد الرد كما يظهر
ذلك من صحيحة ابن قيس الواردة في باب البيع.
ومن هذا البيان يتبين أيضا ان الإجازة ناقلة لا كاشفة لأنها إنما تتعلق بالمعنى
الانتزاعي الباقي حال الإجازة فيستقر في الصحة من حين لحوق الإجازة ولا تتعلق
بمنشأ الانتزاع وهو فعل المتعاقدين حتى وجب استقرار العقد حين صدوره.
ثم اعترض على نفسه فقال: " فان قلت: ينافي ما بيناه الرواية الواردة في باب
النكاح الدالة على تنفيذ العقد الفضولي بعد موت أحد الزوجين فإنها تدل على أن
الإجازة إنما ترتبط بالعقد المصدري، ضرورة ان العلقة قائمة بالزوجين وبموت
أحدهما لا مجال لتحققها.
قلت: الزوجية قائمة بنفس الزوجين أي الجوهر المجرد المعبر عنه بالنفس
الناطقة وبعد موت الشخص لا ينعدم ولذا يحكم بثبوت العدة بعد الموت، وانه لو أحيى
الميت باحياء الله جل شانه تبقى الزوجية بحالها وانقطاع كل منهما عن الاخر بعد
العدة إنما هو لتنزيل الشارع العلقة منزلة العدم باعتبار عدم امكان جريان اثارها،
والقول بان العلقة امر اعتباري صرف ويكفى في تحققها واعتبارها ثبوت منشأ
انتزاعها حدوثا ولا دخل لبقائها ثبوت محلها وموضوعها بعيدة جدا ".
ثم صرح بأنه لا يعتبر كون المجيز مالكا حين العقد لأنه بناءا على كونها
ناقلة لا بتفاوت بن كون المجيز مالكا حين العقد أم لا انتهى كلامه.
أقول بعون الله تعالى ومشيته: ان العقد له نسبتان: نسبة إلى المتعاقدين وهي
على وجه الصدور ونسبة إلى المعقود عليه وبه وهي على وجه الوقوع ولا شبهة في أن
النسبة الثانية مستقرة غير متزلزلة ولذا اتفقت كلمات الأصحاب على بطلان العقد
إذا وقع في غير محله.
وقد اختلفت كلماتهم في النسبة الأولى وهي صدوره من غير أهله، فمنهم
326

من قال بأنها مستقرة كالنسبة الوقوعية فحكم ببطلان العقد الفضولي، واختار الأكثر
منهم انها غير مستقرة فحكموا بأنها تقع موقوفة على امضاء الأصيل ورده، فان أمضاه
يستند إليه صدوره ويصير العقد صادرا عن المجير بالتسبيب لا بالمباشرة لان صدور
العمل من الشخص على نحوين صدور بالمباشرة وصدور بالتسبيب، فحال العقد
الفضولي بعد الإجازة حال العقد الصادر عن الوكيل بعينه في استناد صدور العقد إلى
الأصيل بل الإجازة والوكالة حقيقة واحدة وإنما يختلفان في التأخر والتقدم.
فما ذكره الفاضل المعاصر من عدم جواز استناد فعل العامل إلى غيره وعدم
تطرق التزلزل فيه بوجه في غير محله ولو تم لاقتضى الحكم ببطلان العقد الفضولي
لان المنتزع كمنشأ انتزاعه فعل للفاعل غاية الأمر ان المنتزع فعل توليدي ثانوي
للفاعل، ومنشأ انتزاعه فعل ابتدائي له فلا وجه للتفكيك بينهما والقول بتأثير الإجازة
في المنتزع دون منشأه، مع أن الفرق بين معنى المصدر واسمه إنما هو باشتمال
الأول على النسبة دون الثاني فان مدلول اسم المصدر هو الحدث الصرف فلا يفارق
مدلوله عن مدلول المصدر الا في النسبة فلا مجال لجعل الإجازة مؤثرة في نفس الحدث
دون الحدث المنتسب.
فان قلت: تأثير الإجازة استناد الامر المنتزع إلى المالك ليس على وجه الصدور
بل على وجه اخر فلا يرد ما ذكرت من عدم جواز التفكيك بين المنتزع ومنشأه لكون
كل منهما فعلا للفاعل.
قلت: نسبة العقد منحصرة في الصدور والوقوع وليس له نسبة ثالثة حتى يتوهم
ان استناده إلى المجيز على وجه اخر، ومن المعلوم ان نسبة العقد إليه ليس على
وجه الوقوع فتكون على وجه الصدور.
ثم إن تأثير الإجازة في استناد الامر المنتزع إلى المالك دون منشأه محال
مناف للانتزاع، ضرورة ان الامر المنتزع على منشأ انتزاعه في الخارج ولا يعقل
327

استناد الامر المنتزع إلى شئ ابتداءا بل ينحصر استناده إلى شئ في استناد منشأه
إليه.
وبهذا البيان تبين ان القول بان الإجازة نافلة باطل من وجوه:
أحدها: ان استناد الامر المنتزع إلى الشخص لا يمكن الا بتوسط منشأه
ضرورة منافاة الانتزاع لاستناده إلى الشخص ابتداءا فلا يعقل تأثير الإجازة في استناد
الامر المنتزع إلى المجيز ابتداءا بدون منشأه واستناده إليه بتوسط منشأ الانتزاع لا يجامع
مع النقل لأنه إنما حصل قبل لا حين الإجازة.
وثانيها: انه لو أغمضنا عن ذلك وقلنا بجواز استناده إلى الشخص ابتداءا لزم
القول بالكشف لا النقل أيضا لان استناد العقد إلى المالك المجيز ليس الا على وجه الصدور
وصدور الامر المنتزع متحد مع صدور منشأه ولا يعقل التفكيك بينهما.
وثالثها ان ما يظهر من كلامه من استقرار منشأ الانتزاع وعدم تزلزله في صدوره
من غير أهله لا يجامع مع تزلزل المنتزع في صدوره حتى يقال إن الإجازة حينئذ
ناقلة أم كاشفة.
والحاصل ان الامر المنتزع تابع لمنشأ انتزاعه في تزلزله واستقراره، فإن كان
المنشأ مستقرا في الصحة يكون المنتزع كذلك وإن كان مستقرا في البطلان يكون
المنتزع كذلك أيضا وإن كان متزلزلا موقوفا يكون المنتزع موقوفا متزلزلا ولا يعقل
استقرار أحدهما مع عدم استقرار الاخر
فان قلت: العقد الواحد وإن كان له صدور واحد تحقيقا، ولكنه ينحل
إلى صدورات متعددة حسب تعدد الانات التالية له، فيجوز ان يقال حينئذ ان الإجازة
إنما تؤثر في استناد صدور العقد إلى المجيز في الان الذي وقعت فيه فلا ينافي
تأثير الإجازة صدور العقد مع القول بالنقل.
قلت: العقد الواحد لا ينحل في صدوره بالنسبة إلى الانات الصالح بقائه
فيها، ضرورة ان ظرف صدور العقد ليس الأزمان حدوثه ولا تعلق له بسائر الأزمنة
328

حتى تحليلا، بل وكذا وجوده المستمر فيها فان استمراره وبقائه فيها إنما هو باعتبار
انه قار في نفسه باق ما لم يطرء عليه المزيل، لا انه باق باعتبار تعلقه بالأزمنة التالية
بحيث إذا طرء عليه المزيل انقلب بعض ما شمله العقد عما وقع عليه أولا كما هو الظاهر،
وهذا بخلاف العقد المتعلق بأمور متعددة فإنه متعلق بكل واحد منها في ضمن
المجموع، ولذا ينحل إلى عقود متعددة حسب تعددها.
ولا ينافي ما بيناه انحلال عقد الإجارة بالنسبة إلى اجزاء زمان الإجارة لان
الزمان ليس ظرفا صرفا في عقد الإجارة بل متعلق له ومن جملة أركانه فهو متعلق
بكل جزء من اجزاء الزمان الذي اخذ قيدا ومتعلقا له فانحلاله بالنسبة إلى اجزاء
الزمان انحلال للعقد بالنسبة إلى متعلقه.
ثم إن القول بالنقل مع مخالفته لما بيناه من الوجوه مخالف للروايات منها
الرواية الواردة في باب النكاح التي أشار إليها فان الحكم بوراثة أحدهما من الاخر
بسبب الإجازة اللاحقة بعد موت المورث لا يتم الا على القول بأنها كاشف لا ناقلة إذ
التزويج اللاحق بعد الموت على فرض تصوره لا يوجب الإرث كما هو ظاهر.
ومما بيناه تبين لك انه يجب ان بكون للمجيز مرجعا للعقد في زمان صدوره
كما يجب أن يكون مرجعا له في حال الإجازة، غاية الأمر انه يكفي في المرجعية
له في زمان الصدور رجوع متعلق العقد إليه بالملكية ونحوها وان لم يكن تاما نافذ
الاقرار في هذا الحال كالصغير والسفيه والمكره وهكذا.
وإذ قد اتضح لك ما حققناه من أن العقد الفضولي متزلزل في صدوره واستناده
إلى من إليه الامر.
فاعلم أن لمن إليه الامر اخراجه عن التزلزل واقراره في أحد طرفيه من
الصحة أو البطلان بالامضاء أو الرد ولا ينافي ذلك مع كون الانشاء تاما في نفسه
ولا مع حدوث المنشأ به لان المنشأ الحادث بالانشاء إنما هو امر متزلزل واخراجه
عن تزلزله واقراره في أحد طرفيه لا ينافي مع حدوثه فالأصل بسلطته على نفسه
329

وعلى جهاته وشؤونه يجعل العقد الصادر من غير أهله مستندا إلى نفسه بالإجازة
والامضاء أو يدفعه تعن نفسه برده وابطاله، ولا مجال لان يقال: لا سلطنة للأصيل على
عمل الغير في هدمه وابطاله، إذ كماله السلطنة على جعل عمل الغير عمل نفسه باعتبار
تعلقه بما يرجع إليه فكذلك له السلطنة على دفعه عما يرجع إليه باعتبار تعلقه به ولو
كان هذا المقدار من التصرف ممنوعا لزم عدم تأثير امضائه في صيرورة عمل الغير
عمل نفسه طريق أولى لان الامضاء يقلب عمل الغير إلى عمل نفسه.
واما الرد فلا يقلبه عما هو عليه وإنما يجعله مستقرا في وقوعه عن الغير
فسلطنة من إليه الامر على امضاء عمل الغير وهدمه إنما هي باعتبار تعلقه بما يرجع إليه
لا باعتبار صدوره عن الغير، فلو لم يكن التعلق بما يرجع إليه كافيا في جواز التصرف
فيه لزم ان لا يؤثر فيه الامضاء والرد معا، ولا وجه للتفكيك بينهما، وليس مرجع
الرد إلى قلب الانشاء عن كونه انشاءا ولا إلى قلب منشأ الانتزاع عن كونه منشأ له
حق يحكم باستحالتهما بل مرجعه إلى دفع المنتزع عن التعلق بالأصيل الموجب
لاستقراره في البطلان.
والحاصل ان السلطنة على العمل تحصل بأحد أمرين اما لكونه عمل نفسه
مع تعلقه بما يرجع ايه، واما لأجل تعلقه بما يرجع إليه فكما له السلطنة على عمل
نفسه ابقاءا ورفعا، فكذلك له السلطنة على العمل المتعلق بما يرجع إليه ردا وامضاءا
بل المدار على تعلق العمل بما يرجع إليه، ولذا لا يكون للفضول هدم عمل نفسه
بحيث لا يقبل امضاء الأصيل، فما زعمه من أن مرجع الرد إلى عدم التقيد والامضاء
فقط فيقبل الامضاء بعد الرد في غير محله بل واضح الفساد. ولعله لأجل كمال
وضوح الامر فيه لم يخالف أحد من الأصحاب (قدس سرهم) في بطلانه بالرد وعدم
تأثير الامضاء بعده ولم يعتد أحد منهم بما يترائى من رواية محمد بن قيس وأولوها
بما ينطبق على القواعد.
330

(فائدة - 47)
لا شبهة في أن عتق الأمة المزوجة يوجب تخيرها في ابقاء التزويج وازالته،
كما أن بيعها من غير زوجها يوجب تخير المشترى في ابقائه ورفعه، وهل هو خيار
في حل العقد والزامه ثبت تعبدا وسلطنة على امضاء العقد ورده من جهة طرو التزلزل
على العقد وانه منطبق على القواعد العامة.
تحقيق الكلام في يتوقف على توضيح الحال في مقامين:
الأول: في أن ملك البضع الحاصل بعقد النكاح هل هو من قبيل ملك المنفعة أو الانتفاع؟
فأقول بعون الله تعالى ومشيته: لا شبهة في عدم إفادته ملك الرقبة ولا ملك
المنفعة بحيث يجوز للزوج النقل والانتقال والاسقاط، وما ورد في الخبر من أنها خير
مستام اشتراها بأغلى ثمن مبنى على ضرب من التأويل والتنزيل.
وإنما الكلام في أنه من قبيل ملك المنفعة ذاتا وعدم ترتب الآثار المذكورة
من جهة خصوصية المورد، من حيث إن الزوجية واسطة في العروض تدور الآثار
مدارها حدوثا وبقاءا فليست قابلة للنقل والانتقال والاسقاط بخلاف الإجارة، مثلا
فإنه يحدث بها استحقاق المنفعة للمستأجر وهو محل للعرض لا عنوان للحكم ولذا
يصلح للنقل والانتقال والاسقاط والصلح لولا المانع بخلاف استحقاق الاستمتاع
الدائر مدار عنوان الزوجية أو انه من قبيل ملك الانتفاع ذاتا واستقلال الزوج فيه
من قبل لزوم العقد.
331

والتحقيق انه من قبيل الثاني لا الأول، والا لزم ضمان الواطي عوض البضع
للزوج مع كون الوطي شبهة أو اكراها، مع أنه إنما يضمنه للزوجة ان كانت حرة
ولمولاها ان كانت أمة، بل يلزم حينئذ ثبوت المهر مع بغيها للزوج أيضا، لان بغيها
لا يوجب سقوط حق مالك البضع وهو الزوج حينئذ، ضرورة ان البغي إنما
يوجب سقوط عمل البغي عن الاحترام إذا كانت مالكة لبضعها باذلة له في الحرام
باختيارها.
واما إذا كان البضع مملوكا للغير فلا تأثير لبغيها في سقوط حقه، فكما ان
بغى الأمة لا يوجب سقوط المهر الرجع إلى مولاها على ما حققناه في محله،
وتدل عليه النصوص، فكذلك بغى الزوجة لا يوجب سقوط حق زوجها.
وما ورد من أنه " لا مهر لبغي " لا ينافيه حينئذ لان المهر على هذا التقدير راجع إلى الزوج
والنفي في الرواية ثبوت المهر للبغي فتختص الرواية حينئذ بغير الزوجة. فاتضح
انه من قبيل ملك الانتفاع ذاتا، والاستقلال الحاصل في المقام إنما هو من ناحية
لزوم عقد الازدواج فتعبير الأصحاب (قدس سرهم) عنه بملك الانتفاع على سبيل
التحقيق لا لمجرد مشاركته معه في بعض الآثار.
فان قلت: العقود التي ثمرتها ملك الانتفاع كالوكالة والوديعة والعارية
يكفي فيها القبول الفعلي ولا تكون لازمة بل جائزة بالذات فلو كان عقد الازدواج
من قبيل هذه العقود لزم أن يكون جائزا وان يكتفى فيه بالقبول الفعلي والتالي باطل
فكذا المقدم.
قلت: وجه عدم الاكتفاء فيه بالقبول الفعلي إنما هو من اجل توقف حل
الاستمتاع على ثبوت عنوان المزاوجة، وهي لا تتحقق الا بالقبول الانشائي بخلاف
جواز التصرف في الموكل فيه، والعين المستعارة والمودعة، فإنه يكفي فيه الرخصة
الحاصلة من قبل الموكل والمودع والمعير.
واما لزومه فتعبدي ولا يكون من قبيل لزوم العقود اللازمة بالذات كعقود
332

المعاوضات ولذا لا يجرى فيه اشتراط الخيار ولا يتطرق فيه الإقالة لان مرجع اللزوم
التعبدي إلى عدم سلطنة كل من المتعاقدين على رجوعه عن عمل نفسه بسبب المنع
الوضعي ممن هو أولى له من نفسه، فلا يؤثر فيه الاشتراط ولا يتطرق فيه التقاول،
لمنافاتهما حينئذ مع حكم الشرع، وهذا بخلاف اللزوم الذاتي الثابت بمقتضى
العقد فان مرجعه إلى عدم استحقاق كل من المتعاقدين حل عمل صاحبه فيؤثر فيه
الاشتراط على صاحبه ويتطرق فيه الإقالة، إذ باجتماعهما عليها يحل كل منهما عمل
نفسه لا عمل صاحبه.
المقام الثاني: في أن العتق والبيع ان طرءا عليهما ملك منفعته بعقد إجارة
أو صلح وهكذا من العقود الموجبة لملك المنفعة يقعان مسلوبي المنفعة من دون
فرق بين كون ملك المنفعة على وجه اللزوم أو الجواز بان اشترط في العقود المزبورة
الخيار في مدة استحقاق المنفعة وان طرءا على ما ملك انتفاعه دون منفعته يقعان تامى
المنفعة، ضرورة انه إذا بيع العبد المستعار أو المودع أو الموكل في بيعه أو أعتق
يقع تام المنفعة لبقاء منفعته على ملك البائع والمعتق حينئذ ضرورة ان مالك
الانتفاع إنما يجوز له الانتفاع من دون ان يملك المنفعة لان مرجع ملك الانتفاع
إلى رخصته في الانتفاع لا إلى استحقاقه المنفعة والا لزم رجوعه إلى ملك المنفعة
لا الانتفاع وهو خلف للفرض
وإذا اتضح لك ما حققناه اتضح لك ان العتق والبيع الطاريين على الأمة
المزوجة يقعان تامي المنفعة، ومقتضى وقوعها تامي المنفعة استقلال الأمة في بضعها
في صورة العتق واستقلال المشترى فيه في صورة البيع، ومقتضى استقلالها في
بضعها تزلزل التزويج وصيرورته موقوفا على امضائها فان امضته نفذ واستقر وان
ردته بطل كما أن مقتضى استقلال المشترى في بضعها حينئذ بطلان التزويج فيما
إذا اشتراها الزوج، إذ لا مجال للبقاء ملك الانتفاع حينئذ مع استحقاقه المنفعة فكما
لا يعقل بقاء الوديعة والعارية والوكالة مع انتقال العين المستعارة أو الموكل فيها
333

المستعير أو الودعي أو الوكيل فكذلك لا يعقل بقاء التزويج مع انتقال الأمة إلى
الزوج وتزلزله وعدم استقراره وصيرورته موقوفا على امضاء المشترى فيما إذا كان
المشترى غير الزوج، فان أمضاه نفذ واستقر وان رد بطل.
فان قلت: إذا كان بضع الأمة المزوجة باقيا على ملك مولاها يلزم ان يجوز
له وطيها حينئذ.
قلت: تزويجها مانع عن جواز وطيها لمولاها وحل الوطي موقوف على
مجامعة السبب مع الشرط وعدم المانع فلا يكفي فيه وجود السبب فقط.
فان قلت إنما يقع البيع أو العتق الطاري على ملك الانتفاع تام المنفعة موجب
لزوال ملك الانتفاع أو تزلزله إذا كان ملك الانتفاع جائزا كالعارية والوديعة وهكذا
واما مع لزومه كما في المقام فلا يقع الطاري كذلك ضرورة ان للزوم العقد السابق
ولو على وجه ملك الانتفاع مانع عن وقوع الطاري تام المنفعة بحيث ينافي مع لزومه
قلت لا يعقل تأثير لزوم ملك الانتفاع في صيرورة العتق أو البيع مسلوب
المنفعة، والا لزم انقلابه عن حقيقته وصيرورته ملك المنفعة وهو محال.
وتوهم ان لزومه مناف لتزلزله فلا يجتمعان في غير محله، إذ المنافى للزوم
العقد هو جوازه، واما تزلزل العقد وعدم استقراره في الصحة والبطلان فهو مجامع
مع اللزوم والجواز ضرورة ان الفضولي كما يجرى في العقود الجائزة يجرى
في العقود اللازمة.
فان قلت التحقيق ان الإجازة كاشفة لا ناقلة كما تبين في الفائدة السابقة
ومرجع كشفها إلى استقرار العقد المتزلزل من حينه لامن حينها الموجب لترتب
الآثار عليه كذلك، ولا تزلزل في المقام في حدوث العقد حتى يلحقه الإجازة
والتزلزل في البقاء لا يجبر بها لأنها إنما تتعلق بالعقد لا باثره، ومقتضاه تنفيذ العقد
من حين وقوعه وحدوثه وهو في المقام غير معقول لاستحالة تنفيذ النافذ، وتحصيل
الحاصل ولذا اشتهر بينهم الحكم ببطلان الإجارة بانقراض البطن الأول في أثناء
334

المدة، إذا كان المؤجر هو الناظر بالنسبة إلى البطن الأول فقط، فاللازم الحكم
ببطلان التزويج في جميع الصور حينئذ.
قلت مقتضى كون الإجازة كاشفة استقرار العقد بها من حين تزلزله ولا ينافي
ذلك تعلق الإجازة ابتداءا بمنشأ الانتزاع، وهو الايجاب والقبول، لأنهما منشأ
لانتزاع عقد الازدواج بين الأمة وزوجها على وجه الاطلاق، فإذا صدر الايجاب
من مولاها يستقر في الصحة لاستناده إلى أهله، وإذا خرجت الأمة عن ملكها بالبيع
أو العتق لا يبطل عقد التزويج لان مجرد الخروج عن الملك لا يكون مضادا للازدواج
كالطلاق والفسخ، بل يتزلزل حينئذ لعدم استناد منشأ الانتزاع إلى من وجب
استناده إليه وهو نفس الأمة ان كانت معتقة أو مشتريها ان كانت مبتاعة فمنشأ الانتزاع
حينئذ متزلزل بالنسبة إلى الأمة أو مشتريها ويقع موقوفا على امضائها أو امضاء مشتريها
فامضاء كل منهما إنما يتعلق بمنشأ الانتزاع بالنسبة إلى أحدهما لا بالنسبة إلى المولى
الأول.
فالصواب عدم بطلان إجارة العين الموقوفة بانقراض البطن الأول ووقوعها
موقوفة على امضاء البطن الثاني كما اختاره المحقق قدس سره في الشرائع، بل
المشهور هو الحكم بالصحة والوقوف على امضاء البطن الثاني، والمراد من
البطلان في عباراتهم صيرورته فضوليا كما نبه عليه في الجواهر.
فان قلت: قد مر في الفائدة السابقة انه كما يعتبر أن يكون المجيز مرجعا
للعقد في حال اجازته، يعتبر أن يكون مرجعا له في زمان صدوره، ولو جاز اختلافهما
لزم نفوذ إجازة الوارث في البيع الفضولي الصادر في زمان مورثه، واللازم
باطل بالضرورة عند القائلين بان الإجازة كاشفة لا ناقلة، والمرجع في زمان صدور
العقد هو المولى، والمرجع في زمان الإجازة هو الأمة أو مشتريها فلا يعقل تأثير
إجازة أحدهما في تنفيذ العقد على القول بالكشف.
قلت: إنما يعتبر أن يكون المجيز مرجعا للعقد في حال تزلزله كما يعتبر ان
335

يكون مرجعا له في حال اجازته، فإن كان التزلزل مقارنا لحدوث العقد يجب أن يكون
مرجعا له في حال حدوثه ولذا لا يعقل تأثير إجازة الوارث في البيع الفضولي
الواقع في حياة مورثه، وإن كان متأخرا عن حدوث العقد كما في المقام فإنما
يعتبر أن يكون مرجعا في حال تزلزله، لان تأثير الإجازة إنما هو في صيرورة
المتزلزل مستقرا في الصحة والنفوذ والمرجع في هذا الحال هو المرجع في حال
الإجازة في المقام.
فان قلت: المولوية كالأبوة والجدودة من أسباب الولاية على عقد
الزوجية،. مقتضاها نفوذ العقد من أهلها ولو بعد استقلال المولى عليه أو تبدل
المولى، الا ترى انه لا يتخير البنت والابن في امضاء العقد الصادر من وليهما ورده
بعد بلوغهما ورشدهما.
قلت: نفوذ عقد المالك على مملوكه كنفوذ سائر تقلباته فيه من شؤون
مالكيته، فولايته عليه من أطوار ملكه، بخلاف ولاية سائر الأولياء، فإنها راجعة
إلى تنزلهم منزلة المولى عليه بجعل الشرع، فتصرفهم قائم مقام تصرف الصغير، فهذا
النحو من الولاية متحدة مع الوكالة في الحقيقة غاية الأمر ان الولاية وكالة شرعية
يجب عليه القيام بها ولذا لا ينفذ تصرف سائر الأولياء الا مع ملاحظة المصلحة
والغبطة بخلاف تصرف المالك، فعقد غيره من الأولياء إنما ينفذ بعد البلوغ والرشد
لقيامه مقام عقد المولى عليه، فالولي كالوكيل هو المباشر للعقد من قبل المعقود
عليها بخلاف عقد المالك على مملوكه فإنما يباشره من قبل نفسه كما هو ظاهر.
ومما بيناه ظهر السر في نفوذ عقد الحاكم على الصغير بعد بلوغه ورشده.
ان قلنا بولايته عليه في العقد فان الحاكم بالولاية الشرعية يباشر العقد للصغير فحاله
كحال سائر الأولياء في هذه الجهة وإن كان بينهما فرق من جهات أخر.
فان قلت: لو كان الامر كما ذكرت من رجوع الخيار في المقام إلى
السلطنة على الامضاء والرد، لزم أن يكون حكما لاحقا قابلا للاسقاط ضرورة ان
336

السلطنة على الامضاء، والرد من شؤون السلطنة على غير القابلة للاسقاط، مع أن
صحيحة مالك بن عطية تدل على جواز اسقاطه قال: " سألت أبا عبد الله (ع) عن
رجل كان له أب مملوك، وكان تحت أبيه جارية مكاتبة قد أدت بعض ما عليها
فقال لها ابن العبد هل لك ان أعينك في مكاتبتك حتى تؤدى ما عليك، بشرط
ان لا يكون لك الخيار بعد ذلك على أبى إذا أنت ملكت نفسك، قالت نعم فأعطاها
في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار بعد ذلك قال (ع) لا يكون لها الخيار، والمسلمون
عند شروطهم ".
قلت الصحيحة وان كانت ظاهرة فيما ذكرت، الا انه يجب صرفها عن ظاهرها
لوجوه: الأول - ان الشرط إنما يلتزم به إذا وقع في ضمن العقد اللازم والشرط
المذكور لم يقع في ضمن العقد فلا وجه لالتزام به.
والثاني - ان اشتراط عدم الخيار قبل العتق اسقاط لما لم يحب وهو غير
معقول.
والثالث - انه لا ينفذ التزام المكاتبة قبل أداء مالك الكتابة بالاشتراط عليها مع
عدم إجازة المولى.
والرابع - ان الوجوه الدالة على أنه حكم أقوى دلالة بل تفيد القطع به
فيتعين حينئذ حمل الرواية على استحباب الوفاء بشرطها.
قال المحقق الأنصاري قدس سره: " والرواية محمولة بقرينة الاجماع على عدم
لزوم الشروط الابتدائية على صورة وقوع الاشتراط في ضمن عقد لازم أو المصالحة
على اسقاط الخيار المتحقق سببه بالمكاتبة بذلك المال " انتهى.
وفيه: ان سبب الخيار وهو العتق إنما يترتب على أداء مال الكتابة فبمجرد
عقد الكتابة لا يثبت الخيار لا بنفسه ولا بسببه فاسقاطه حينئذ بالصلح عليه أو بجعله
شرطا في ضمن عقد لازم اسقاط لما لم يجب واستحالته من أوائل البديهيات فلا مناص
337

الا بحمل الرواية على استحباب الوفاء بالشرط كما يومئ إليه قوله (ع): " والمسلمون
عند شروطهم " فان الشروط اللازمة من قبيل العقود حقوق ثابتة للمتعاقدين أو
لأحدهم مطلقا ولا يختص المسلمون بالوفاء بها.
فاتضح بما بيناه غاية الاتضاح، ان ملك المنفعة سواء كان لازما أم جائزا
لا يزول ولا يتزلزل بطرو العتق أو البيع عليه، بل يقعان مسلوبي المنفعة، وان ملك
الانتفاع سواء كان لازما أو جائزا، لا يبقى على حاله من النفوذ والمضي عند طرو
العتق أو البيع عليه بل اما يزول أو يتزلزل لأنهما يقعان حينئذ تامي المنفعة، فلا ينفذ
ملك الانتفاع لان مرجعه إلى الرخصة في الانتفاع من قبل مالك المنفعة، ولا تأثير
للرخصة، والاذن الا من قبله، فمع طرو العتق أو البيع عليه، وقيام ملك المنفعة
تبعا للعين بغير المالك الأول الذي ثبتت الرخصة من قبله في الانتفاع لابد في نفوذه
ومضى من استناده إلى من تجدد له الاستقلال في المنفعة ولاية أو ملكا ان جاز بقائه،
والا فيزول ويبطل.
وإذ قد تبين لك في المقام الأول ان عقد الازدواج إنما يفيد ملك الانتفاع
لا ملك المنفعة.
وقد اتضح لك غاية الاتضاح، ان الأمة المزوجة إذا أعتقت يقع عقدها
موقوفة متزلزلة فان أمضتها نفذ وان ردته بطل، وإذا بيعت من غير زوجها فكذلك
ولكن امضاء العقد ورده موكول إلى مشتريها، وإذا بيعت من زوجها يبطل ويزول
إذ لا يعقل بقاء ملك الانتفاع لمن ملك الرقبة والمنفعة استتباعا، ضرورة ان مرجع
ملك الانتفاع إلى الرخصة في الانتفاع ولا يعقل بقاء نفوذ رخصة البائع لزوال
ملكه عنها كما أنه لا يعقل استناد نفس الرخصة إلى المشترى إذ لا معنى لكون المالك
مرخصا من قبل نفسه في التصرف في ملكه.
وما اشتهر من أن وجه البطلان استباحة البضع بالملك حينئذ فتبطل الزوجية
لعدم جواز استباحته بالملك والزوجية، نظرا إلى التفصيل بينهما في الآية الشريفة،
338

والتفصيل يقطع الشركة في يغير محله إذ لو سلمنا ان ملك البضع بالزوجية من قبيل
ملك الانتفاع لا يحتاج إلى الاستدلال على بطلان التزويج بالتفصيل في الآية الشريفة
ولو لم نسلمه وجعلناه من قبيل ملك المنفعة لا يلزم الاشتراط حتى يكون منافيا
للتفصيل ضرورة ان مقتضى تأخر ملك الرقبة عن الزوجية حينئذ عود الأمة إلى المالك
في غير جهة البضع، كما أن مقتضى تأخر البيع عن الإجارة رجوع المبيعة إلى
المشترى مسلوب المنفعة فيختص استباحة البضع حينئذ بالزوجية مع أنه لو قلنا
بحصول الاشتراك حينئذ لا ينافيه التفصيل لاحتمال كونه على سبيل منع الخلو، لا منع
الجمع ومجرد الاحتمال يكفي في بطلان الاستدلال، بل قوله عز من قائل:
" ومن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " ظاهر في أن المنظور منع الخلو
لا منع الجمع، بل يتعين الحمل على منع خلو، والا اقتضى عدم جواز الجمع
بينهما ولو في فردين، لان التفصيل في الآية الشريفة إنما هو بين العنوانين الكليين
لا بين انطباقهما على مصداق واحد، ومن المعلوم انه يحل للمؤمنين الجمع بين
التزويج وملك اليمين. واما اجتماع العنوانين على مصداق واحد فمسكوت عنه
لأنظر إليه أصلا على أن طرو المالك على التزويج لو كان موجبا للاشتراك الممنوع
لزم بطلان الأحق لا السابق.
وبما بيناه ظهر فساد ما احتمله سيدنا الأستاذ العلامة (قدس سره) من أن المراد
بالبطلان اضمحلال الزوجية في جنب ملك اليمين اضمحلال الضعيف في جنب
القوى مع اجتماعهما فان مقتضى تقدم الزوجية على الملك، وعدم زوالها به
اختصاص استباحة البضع بها فلا تضمحل حينئذ في جنب الملك مع أن مقتضى بقائها
حقيقة ترتب الآثار عليها لو فسخ الطاري، وقد رجع عنه (قدس سره) للوجه الثاني
ووجه البطلان ثانيا بان اقدام الزوج على تملك رقبة الزوجة الذي هو أقوى وأتم من
التزويج اعراض عنه وطلاق لها وهو في غير محله أيضا، لان الاقدام على تملك
الرقبة لا يلازم الاعراض مع أنه يلزم الحكم بعدم بطلانه في صورة انتقالها إليه قهرا
بالإرث.
339

وقد تحقق لك مما حققناه ان ما يظهر من الأصحاب (قدس سرهم) من أن تخير
الأمة المزوجة إذا أعتقت أو مشتريها إذا بيعت من غير زوجها خيار في فسخ العقد
والزامه لصيرورته حينئذ جائزا بسبب العتق أو البيع الطاري تعبدا في غير محله.
إذ لو قلنا بان ملك البضع الحاصل بالتزويج من قبيل ملك الانتفاع، ويقع
العتق أو البيع الطاري تام المنفعة لا يبقى مجال للقول باستقرار العقد حينئذ حتى
يحكم بجوازه لا لزومه.
ولو قلنا بأنه من قبيل ملك المنفعة ويقع العتق أو البيع الطاري مسلوب المنفعة
يلزم رجوع البضع عند الفسخ في صورة العتق إلى المعتق وفى صورة البيع إلى
البائع إذ لا وجه لرجوع البضع حينئذ إلى الأمة أو مشتريها وعلى كل تقدير لا مجال
للقول بان الخيار في المقام من قبيل الخيار في حل العقد واقراره.
ولا ينافي ما بيناه التعبير بالاختيار أو التخير في النصوص، لان كلا منهما كما يطلق
على الخيار المعروف يطلق على الخيار في امضاء العقد ورده بل مجموع الروايات
بملاحظة انضمام بعضها ببعض ظاهرة فيما بيناه، بل مصرحة به فان قوله عليه السلام في
مرسل ابن بكير " بأنها أملك بنفسها " ظاهر في ملك الامضاء والرد لا ملك الاقرار
والحل، إذ ملك الأمة نفسها لا يوجب الاختيار في فسخ حق غيره، فاختيارها في
ابقاء التزويج وازالته من قبل انها ملكت نفسها لا يتم الا على ما بيناه من كون التزويج
من قبيل ملك الانتفاع الموجب لتزلزله، وعدم استقراره
ويصرح بما بيناه خبر الحسن ابن زياد قال: " سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل
اشترى جارية يطأها فبلغه ان لها زوجا قال: " يطأها فان بيعها طلاقها، وذلك انهما
لا يقدران على شئ من أمرهما إذا بيعا " وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام
" طلاق الأمة بيعها أو بيع زوجها " وقال في الرجل يزوج أمته رجلا حرا ثم يبيعها
قال: هو فراق ما بينهما الا ان شاء المشترى ان يدعها "، ويقرب منهما صحيح
عبد الرحمن: " سئله عن الأمة تباع ولها زوج فقال، صفقتها طلاقها " فان جعل صفقتها
340

وبيعها طلاقها وفراق ما بينهما لا يلائم الا مع زوال العقد أو تزلزله الذي هو في حكمه
من حيث عدم ترتب الأثر عليه في حد نفسه، واحتياجه في ترتب الأثر عليه إلى
امر آخر.
واما مجرد تسلط المشترى على حل العقد ببيعها فلا يوجب سقوط العقد عن
الأثر، حتى يوجب تنزل بيعها منزلة طلاقها المصحح لحمله عليه، وأوضح منه
قوله عليه السلام: " هو فراق ما بينهما الا ان شاء المشترى ان يدعها " فان كون
البيع فراقا بين المتزاوجين الا مع مشية المشترى بقاء العقد صريح في تزلزل العقد
وعدم استقراره الا بامضاء المشترى فلو كان البيع سببا لتسلط المشترى على حل
العقد واقراره لكان إزالة العقد بمشيته لابقائه. واصرح منه قوله عليه السلام " فان بيعها
طلاقها وذلك انهما لا يقدران على شئ من أمرهما إذا بيعا " فان تعليل كون بيعها
طلاقها بعدم قدرتهما على تنفيذ شئ من أمرهما لا يوجب اثبات حق وسلطنة للمشترى
على حل العقد الذي عقده المولى كما هو ظاهر فلا يتم التعليل، الا على ما بيناه من انتقال
البضع إلى المشترى وعدم كون الازدواج الا تمليك الانتفاع فلو استقر ونفذ حينئذ
من دون إجازة المشترى، وامضائه لزم استقلالهما في أمرهما لانقطاعه عن البائع
ببيعه إياها فلا مجال لنفوذه من قبله، والمفروض عدم استناده إلى المشترى فينحصر
وجه نفوذه في استقلالهما في أمرهما وهو باطل بالضرورة فكذلك النفوذ المستند إليه.
والحاصل ان نفوذ عقد الأمة حينئذ اما مستند إليها، أو إلى بائعها أو مشتريها،
والكل باطل.
اما الأول فلعدم استقلالها في أمرها.
واما الثاني: فلانقطاع العقد عنه ببيعه إياها.
واما الثالث فلعدم استناده إليه قبل امضائه، فيكون العقد متزلزلا حينئذ لا
محالة، ولا ينفذ الا بإجازة المشترى وامضائه إذا لم يكن المشترى هو الزوج،
والا يزول ويبطل لان الإجازة إنما تؤثر فيما إذا كان المحل قابلا للعقد، ومن
341

المعلوم عدم صحة عقد الأمة لمولاها ومالكها، فكما لا يصح عقدها لمولاها ابتداءا
فكذلك لا يصح استدامته له بإجازته وامضائه.
فاتضح من الروايات الشريفة الساطعة منها أنوار العصمة والإمامة أمور:
الأول: تزلزل عقد نكاح الأمة بعتقها أو بيعها من غير زوجها، وانه جهة واقعية
موافقة للأصل الأولى نبه عليها الإمام (ع) لا انه جهة تعبدية شرعية ثابتة على خلاف
الأصل، وإن كان انطباقه على الأصل في غاية الدقة بحيث لو لم يكشف عنه المعصوم
لم ينكشف لنا، بل مع كشفه وايضاحه عنه بما ينبئ عن عصمته لم ينكشف على
الأصحاب (قدس سرهم) زعموا انه من قبيل ملك الحل والاقرار
والثاني بطلانه فيما إذا ملكها الزوج.
والثالث نفوذه بالإجازة والامضاء ممن ملك الانتفاع تبعا للعين وعدم قدح
التزلزل في بقائه مع حدوثه في تأثير الإجازة والامضاء والحمد لله الذي هدانا
لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وإذا أحطت خبرا بما بيناه، فاعلم أن أغلب الفروع المتفرعة على ما بنينا عليه
وأحكمنا قوائمه تخالف الفروع المتفرعة على ما بنى عليه الأصحاب (قدس سرهم)
واختاروه.
منها: ان هذا الخيار على ما بنينا عليه حكم لاحق فلا يقبل الاسقاط والصلح عليه
ومنها: عدم استحقاق المعتقة النفقة على زوجها قبل امضائها الزوجية لتزلزلها،
وعدم استقرارها الا بامضائها، واما على ما بنوا عليه فالزوجية ثابتة مستقرة وإنما تفسخ
بردها فتستحق النفقة ما لم تفسخ.
ومنها: صحة تزويج الزوج أختها قبل تحقق الرد منها، ووقوعه موقوفا، فان
ردت المعتقة زوجيتها ينفذ تزويج الأخت وان أمضتها يبطل، وهكذا الامر في تزويج
الخامسة، واما على مبناهم فلا يجوز تزويج الأخت، والخامسة الا بعد فسخها
زوجيتها.
342

ومنها: عدم وراثة كل من الزوجين على الاخر قبل اجازتها وامضائها، فلو ماتت
ولم تجز الزوجية ولم تردها لا يرث منها زوجها، ولو مات الزوج ترث منه ان أجازت
وحلفت على أنه لا يدعو إليها اخذ المال، واما على ما بنوا عليه فيرث كل منها عن
الاخر ما لم يتحقق منها رد و
ومنها: ثبوت الخيار لها بعتق بعضها على ما بنينا عليه لان استقلالها في بعضها
ينافي نفوذ التزويج في حقها بالنسبة إلى جميعها كما هو ظاهر، والتبعيض في
التزويج بمعنى نفوذه بالنسبة إلى سهم المولى ووقوفه فيما استقلت فيه غير معقول
فتتخير في تنفيذه ورده واما على ما بنوا عليه، من أن مرجعه إلى ملك الاقرار والحل،
فهو حكم تعبدي يجب الاقتصار فيه على مورد النص وهو عتق الكل.
ومنها: ثبوت الخيار للولي ان كانت قاصرة بالصغر أو الجنون إذ كما له السلطنة
على احداث عقد التزويج لهما فكذا له السلطنة على ابقائه بل السلطنة على أحدهما
عين السلطنة على الاخر لا يعقل التفكيك بينهما.
ومنها: عدم جواز الاستمتاع منها قبل امضائها أو امضاء وليها، ضرورة عدم
ترتب اثر الصحة على العقد المتزلزل ما لم يستقر بالامضاء.
ومنها: ان الانعتاق كالعتق في ايجاب الخيار إذ المناط فيه هو استقلالها في
نفسها، وهو حاصل فيهما، واما على ما بنوا عليه فاقتصروا في الحكم على العتق
لأنه حكم تعبدي عندهم فلا يتجاوز إلى الانعتاق.
ومنها: عدم اعتبار الفورية في هذا الخيار، إذ بعد ما اتضح لك من أن مرجعه
إلى السلطنة على امضاء العقد ورده لم يبق لاعتبارها فيه مجال، إذ لا يعقل تحديد
دائرة سلطنة الشخص في التقلبات الراجعة إلى نفسه، أو الواقعة في ملكه امضاءا
وردا والأصحاب قدس سرهم لما خفى عليهم ما حققناه وزعموا أنه سلطنة على
اقرار العقد وحله لم يظهر منهم خلاف الا التردد عن بعض في اعتبار الفورية فيه حال
العلم بالعتق والخيار وفوريته، اختلفت كلماتهم في حال الجهل بواحد منها.
343

ففي الحدائق بعد نقل ظهور اتفاق الأصحاب على اعتبار الفورية والاستشكال
فيه بعدم الوقوف على دليل معتمد قال: " وكيف كان، فالظاهر كما صرح به جملة
منهم انه لو أخرت الفسخ جهلا بالعتق أو جهلا بالخيار فإنه لا يسقط خيارها فتعذر في عدم
الفورية وهل تعذر مع الجهل بالفورية احتمالان العدم لاندفاع الضرر مع العلم بالخيار
ولاشعاره بالرضا حيث علمت الخيار وأخرت، والمعذورية لاحتمال كون التأخير
لفائدة التروي ونحوه حيث لا تعلم باشتراط الفورية، والتأخير لا يكون دليلا على
الرضا الا مع العلم باشتراط الفورية والا فلا " انتهى.
وفيه انه بعد تسليم اعتبار الفورية فيه لا وجه للتأمل في سقوط الخيار في الصورة
الأخيرة إذ مرجع اعتبار الفورية فيه على فرض ثبوته إلى الوضع لا التكليف،
والا لزم ثبوته مطلقا وحرمة التأخير مع العلم فلا محل للعذر وعدمه ضرورة انهما من
توابع الأحكام التكليفية لا الوضعية وقد اشتهر اشتهار الضروريات انه لا تختلف
الوضعيات باختلاف العلم والجهل.
ومن هنا ظهر الامر في صورة نسيانها، ولا يمكن اخذ العلم بفورية الخيار
أو الالتفات إليه مأخوذ في ثبوت فوريته، لاستلزامه الدور المحال نعم يمكن اخذ
العلم بالعتق وايجابه الخيار مأخوذا في موضوع الحكم بفوريته على مختارهم، من أنه
حق، ولكنه لم يقم عليه دليل كما لم يقم دليل على اعتبارها أصلا.
ومنها: انه لو كان للمالك جارية قيمتها مأة فزوجها بمأة، وهو يملك مأة أخرى
ثم أعتقها في مرض موته أو أوصى بعتقها يكون لها رد التزويج مطلقا سواء دخل بها
زوجها أم لم يدخل بها، ولا يمنع من الرد عدم الدخول الموجب لسقوط المهر،
وعدم نفوذ العتق الا في ثلثيها لما عرفت من أن عتق البعض كعتق الكل في تزلزل
العقد، وعدم استقراره ايجاب الخيار في الرد والامضاء
فما عن القواعد وغيرها من عدم الفسخ لها قبل الدخول، والا لسقط المهر
حينئذ فتصير الجارية نصف ماله، فيبطل عتق بعضها وهو ثلثها فيبطل خيارها المعتبر
344

فيه عتقها اجمع، فيدور الفسخ إلى الفساد، ويكون مما يستلزم وجوده عدمه مبنى
على كون الخيار في المقام حقا تعبديا مترتبا على عتق الكل، وقد ظهر لك خلافه.
ومنها: ان عتق العبد كعتق الأمة موجب لتزلزل العقد، وثبوت الخيار إذ
بعد ما انكشف لك ان الموجب للخيار تزلزل العقد المسبب عن استقلال أحد
طرفيه، أو انتقاله عن المالك المزوج إلى غيره انكشف لك مساواتهما في الحكم،
وعدم الفرق بينهما. ومن هنا يختار مشترى العبد في امضاء التزويج ورده، وليس
هذا قياسا لان الحكم ليس تعبديا بل موافق للأصل الجاري في الموردين،
فالاقتصار في الخيار على عتق الأمة من جهة اختصاصه بالدليل وعدم وروده
في عتق العبد كما عن الأكثر في غير محله كما أن التفصيل بين بقاء الزوجة
على الملكية حينئذ وعدمه، أو بين اجبار العبد على التزويج واختياره له باثبات
الخيار في الصورتين الأوليين دون الأخريين في غير محله أيضا مع أن التفصيل
الثاني غير معقول في حد نفسه لان اختيار العبد لو كان موجبا لنفوذ التزويج
لكان اكراهه مانعا عنه، فكما ان اكراهه عليه لا يقدح في نفوذه، فكذا اختياره
إياه لا يؤثر فيه.
والحاصل ان رقبة العبد كما توجب سقوط أكرهه عن تأثير المنع، فكذا
توجب سقوط اختياره عن التأثير في النفوذ، ولا يجوز التفكيك بينهما لان الموجب
لسقوطهما عن التأثير عدم استقلال الشخص في نفسه، كما أن الموجب لتأثيرهما
استقلاله في نفسه فتفكيك أحدهما عن الاخر خلف، وتفكيك للشئ عن نفسه.
وقد ظهر مما بيناه انه يثبت الخيار لكل واحد من العبد والأمة، فيما إذا أعتقا معا
دفعة أو ترتيبا كما يثبت الخيار لكل من المشتريين، فيما إذا بيعا كذلك فما شاع من
تخصيص الأمة بالخيار حينئذ في غير محله، هذه جملة من الفروع المترتبة على ما
بنينا عليه المخالفة للفروع المترتبة على ما بنوا عليه، وهناك فروع اخر مترتبة على
الأصلين يختلف بعض أحكامها باختلافهما، فينبغي التنبيه عليها.
345

منها: انه لا فرق في ثبوت الخيار بين حدوث العتق قبل الدخول وبعده، فلو
أعتقت بعد الدخول، يثبت المهر لمولاها مطلقا سواء اختارت القيام مع زوجها
أم لا، لاستقراره بالدخول بها حال كونها في ملكه، ولو أعتقت قبله، واختارت
الفراق سقط المهر المسمى، لان فراقها عن زوجها، إنما ثبت من قبل مولاها، فهو
باعتاقه إياها فرقها عن زوجها وازال حبله عنها، ومقتضى ثبوت الحيلولة من قبله
سقوط المهر الذي سماه هو.
ولا فرق في ذلك بين اختيارها الفراق قبل الدخول بها وبعدها بان لم تعلم
بعتقها أو بحكمه حتى دخل بها زوجها، ثم علمت فاختارت الفراق، وان افترقا في
ثبوت مهر المثل في الصورة الثانية دون الأولى وان اختارت القيام ثبت المهر المسمى
من غير فرق بين اختيارها القيام قبل الدخول، وبعده ولكن المهر المسمى في هذه
الصورة، ومهر المثل في الصورة السابقة إنما يرجعان إلى المعتقة لا مولاها لانقطاعها
وانقطاع التزويج عنه بمجرد العتق ونفوذه إنما يكون من قبل امضائها، فلا وجه
لرجوع المهر المسمى المترتب على التزويج النافذ من قبلها لا قبل مولاها إليه لا إليها
كما أنه لا وجه لرجوع مهر المثل المترتب على الدخول مع انقطاعها عن مولاها
إليه أيضا.
وهذا مقتضى ما بنينا عليه، واما على ما بنوا عليه من أن الخيار في المقام
سلطنة على حل العقد النافذ واقراره، فاختاروا ثبوت المهر للسيد في صورة وقوع
العتق قبل الدخول، واختيارها المقام بناءا على ثبوته بالعقد كما هو التحقيق ولها
بناءا على ثبوته بالدخول.
واما في صورة اختيارها الفراق بعد الدخول ووقوع العتق قبله بان لم تعلم
به أو بحكمه حتى دخل بها، فمقتضى ما بنوا عليه اتحاده مع ما تقدم في الحكم أيضا
من ثبوت المسمى للسيد بناءا على وجوبه بالعقد ولها بناءا على وجوبه بالدخول
ولكن عن التحرير والمبسوط انه يثبت لها حينئذ مهر المثل لاستناد الفسخ إلى العتق
346

ولم يستقر المسمى قبله فالوطي خال عن النكاح، بل لابد أن يكون مهر المثل لها
لا للمولى، وهو لا يتم الا على الأصل الذي اصلناه، ولذا استشكله في الجواهر بناءا
على ما بنوا عليه بان الموجب للانفساخ هو الفسخ لا العتق
ومنها: ثبوت الخيار لها إذا أعتقت في العدة الرجعية بناءا على بقاء الزوجية
فيها، وعدم زوالها الا بانقضائها كما هو التحقيق، وحينئذ فان اختارت الفراق تبطل
الزوجية الباقية الغير المستقرة فتسقط الرجعة ولا تبطل العدة، ولكنها تتم عدة الحرة
لصيرورتها كذلك وان اختارت المقام تنفذ الزوجية الغير المستقرة، فتصح الرجعة
وليس لها اختيار الفراق بعد اختيارها المقام، وان قلنا بعدم بقاء الزوجية في العدة
الرجعية لا خيار لها حينئذ لا ردا ولا امضاءا، فما يظهر من بعضهم من جواز الفسخ
دون الاقرار حينئذ لا يرجع إلى محصل.
ومما بيناه ظهر عدم ثبوت الخيار لها إذا أعتقت في عدة الطلاق البائن، ولو
أعتقت ولم تختر القيام ولا الفراق لعدم العلم به أو بحكمه، ثم طلقت رجعيا أو بائنا
فمقتضى ما بنينا عليه وقوع الطلاق موقوفا، فان اختارت القيام صح الطلاق، وترتبت
عليه أقره من الرجعة أو البينونة، والا بطل ومقتضى ما بنوا عليه صحة الطلاق ونفوذه
مطلقا، وثبوت الخيار لها في الرجعي وسقوطه في البائن.
فما عن العلامة قده في القواعد، من ايقاف الطلاق البائن، فان اختارت
الفسخ بطل والا وقع إنما يتم على الأصل الذي أصلناه، إن كان المراد من قوله
" والا وقع " اختيار القيام لا عدم اختيار الفراق والا لا يتم على الأصلين.
واما ما عن المبسوط من احتمال بطلان الطلاق لأنها غير معلومة الزوجية، وعدم
وقوع الطلاق موقوفا، وانه اللائق بمذهبنا فهو صريح فيما بنينا عليه من تزلزل
الزوجية بالعتق ولكن حكمه ببطلان وقوف الطلاق في غير محله لان الممنوع منه
إنما هو فيما إذا صادف التزويج المستقر، واما وقوفه باعتبار تزلزل موضوعه وعدم
استقراره فمما لم يقم دليل على نفيه ومنعه.
347

ومنها: عدم الفرق في ثبوت الخيار لها بين كونها تحت عبد أو تحت حر.
اما على ما بنينا عليه من تزلزل العقد، وعدم استقراره بسبب العتق، وحصول
الاستقلال فلا يعقل التفصيل بينهما، واما على ما بنوا عليه من كونه حقا شرعيا
فالتفصيل معقول ولكن الروايات دلت على ثبوت الخيار في الصورتين، فإنها بين
مطلقة ومصرحة بالتسوية بينهما وواردة فيما إذا كانت تحت عبد وفيما إذا كانت
تحت حر.
اما المطلقة، فصحيح الكناني عن الصدق عليه السلام: " أيما امرأة أعتقت فأمرها بيدها
ان شائت أقامت معه، وان شائت فارقته " واما المصرحة بالتسوية فرواية محمد ابن
آدم عن الرضا (ع) " إذا أعتقت الأمة ولها زوج خيرت ان كانت تحت عبد أو حر "
ومثله خبر الشحام عن أبي عبد الله (ع).
واما الواردة فيما إذا كان الزوج عبدا فالروايات المتضمنة لقضية بريرة
المشهورة، فان زوجها على أكثر الروايات كان عبدا،
واما الواردة فيما إذا كان الزوج حرا فموثق ابن بكير عن أبي عبد الله (ع) " في
رجل حر نكح أمة مملوكة، ثم أعتقت قبل ان يطلقها قال: هي أملك بنفسها " فتفصيل
بعض الأصحاب قدس سرهم بين الصورتين وقصر الحكم على ما إذا كانت
تحت عبد استنادا إلى أصالة لزوم العقد، والاقتصار على القدر المتيقن مما خالف
الأصل في غير محله.
اما على ما بنينا عليه فواضح لعدم المجرى للأصل المزبور حينئذ
واما على ما بنوا عليه فلانقطاعه بالروايات المتقدمة، وتضعيفها في غير محله
اما على مصطلح المتأخرين، فلصحة خبر الكناني.
واما على مصطلح قدماء الأصحاب قدس سرهم من أن الصحيح ما يصح العمل به
لأجل الوثوق والاطمينان بصدوره عن المعصومين عليهم السلام فاخبار الكتب الأربعة كلها
صحيحة، وقد حققنا في محله تفصيل الكلام فيها بما لا مزيد عليه.
348

ومنها: انه لا فرق في ثبوت الخيار لها في رد عقد النكاح بين الدائم والمنقطع
لاتحاده مع الدائم في الحقيقة، وإفادة ملك الانتفاع لا المنفعة فما بيناه الدائم
منه جار في المنقطع منه بعينه، فلا يعقل التفصيل بينهما فيما نحن فيه.
فان قلت: العقد المنقطع كعقد الإجارة ولذا عبر عن المتمتعات بالمستأجرات
وعن مهورهن بالأجور ويلحقه بعض أحكامها من وجوب ذكر الاجر، والمدة وتوزيعه
عليها فيقرب حينئذ لحوقه بالإجارة في الحكم من حيث استثناء المنفعة المستأجرة
عن العتق ووقوعه مسلوب المنفعة.
قلت التعبير بالاستيجار والاجر كالتعبير بالاشتراء بأغلى ثمن في طرف الدوام
مبنى على ضرب من التأويل والتنزيل ووجوب ذكر المدة والمهر، وتوزعه عليها
لا يوجب لحوق بالإجارة فيما نحن فيه لان سبب استثناء المنفعة عن العتق بالإجارة
المتقدمة كونها من قبيل ملك المنفعة لا الانتفاع، والعقد المنقطع كالدائم من قبيل
ملك الانتفاع لا المنفعة كما هو ظاهر.
فاحتمال التفصيل بينهما في غير محله مع أن النصوص مطلقة ولا مقيد لها،
فالتفصيل بينهما ولو على مبنى الأصحاب في غير محله أيضا.
نعم قد يتأمل في توزيع المهر فيه بسبب الفسخ، والظاهر توزعه به هذه جملة
من الفروع المشتركة.
349

(فائدة - 48)
قال الشهيد قده في اللمعة: " يجوز ابتياع جزء معلوم النسبة مشاعا تساوت اجزائه
أو اختلفت، إذا كان الأصل معلوما، فيصح بيع نصف الصبرة المعلومة، ونصف
الشاة المعلومة، ولو باع شاة غير معلومة من قطيع بطل ولو باع قفيزا من صبرة صح
وان لم يعلم كمية الصبرة فان نقصت تخير المشترى بين الاخذ بالحصة وبين الفسخ "
وقال الشهيد الثاني قده في الشرح:
" واعلم أن اقسام بيع الصبرة عشرة ذكر المصنف بعضها منطوقا، وبعضها مفهوما
وجملتها انها اما أن تكون معلومة المقدار أو مجهولة فان كانت معلومة صح بيعها اجمع
وبيع جزء منها معلوم مشاع وبيع مقدار كقفيز تشتمل عليه، وبيعها كل قفيز بكذا
لا بيع كل قفيز منها، والمجهولة يبطل بيعها في جميع الأقسام الخمسة الا الثالث
وهل ينزل القدر المعلوم في الصورتين على الإشاعة، أو يكون المبيع ذلك المقدار
في الجملة وجهان، أجودهما الثاني.
وتظهر الفائدة فيما لو تلف بعضها فعلى الإشاعة يتلف من المبيع بالنسبة وعلى
الثاني يبقى المبيع ما بقي قدره ".
أقول، وفى الصحيح: " رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن في انبار
بعضه على بعض من أجمة واحدة وفى الأنبار ثلاثون الف طن، فقال البائع قد بعتك
350

من هذا القصب عشرة آلاف طن فقال المشترى: قد رضيت واشتريت فهو أعطاه
من ثمنه ألف درهم ووكل المشترى من يقبضه فأصبحوا وقد وقع في القصب نار
فاحترق منه عشرون الف طن فقال: عليه السلام الباقي للمشترى والمحترق من
البائع ".
والرواية صريحة في عدم الإشاعة، ولكن استشكل بعضهم صحة البيع حينئذ
من حيث جهالة عين المبيع فيه الموجبة للغرر المنهى عنه الموجب لفساد المعاملة
جزما.
أقول: إن كان المبيع هو الفرد الشخصي المردد بين افراد متعددة مع عدم
رجوعه إلى جزء مشاع لزم الجهالة في عين المبيع على وجه الابهام الموجب لبطلان
البيع عقلا وشرعا لا على وجه الغرر المنهى عنه شرعا، وإن كان المبيع الكلى المنحصر
افراده في جملة معينة المعبر عنه بالكلى الخارجي لا يلزم الجهالة في عين المبيع لا جهالة
الابهام ولا جهالة الغرر.
فان قلت: ما في الخارج لا يكون الا فردا، ولا يعقل أن يكون ما في الخارج
كليا باقيا على عمومه واشتراكه، فإن كان المبيع كليا لا يعقل أن يكون خارجيا،
وإن كان المبيع خارجيا لا يعقل أن يكون كليا، وتوصيف أحدهما بالاخر مناقضة
محضة.
قلت: متعلق البيع حينئذ إنما هو الكلى المقيد بوفائه من أعيان خارجية
معينة، وتوصيف الكلى بالخارجي باعتبار تقييده من حيث الوفاء بالأعيان المعينة
في الخارج، فلا يتناقضان، فالمبيع حينئذ عند التحقيق هو ما في الذمة لكن بقيد
وفائه من أعيان معينة، ولذا يلزم البيع ويبقى المبيع ما بقي مقدار يمكن وفاء المبيع
معه على هذا الفرص.
ومن جملة الثمرات المترتبة، انه على هذا الفرض يتعين المبيع بتعين البايع.
351

واما على الإشاعة فإنما يتعين بالتقسيم المتوقف على اختيار الطرفين.
ومن جملتها انه لو عابت بعض الصبرة وما بمنزلتها قبل القبض وبقى منها
مقدار المبيع غير معيب وجب على البائع الوفاء منه على هذا الفرض.
واما على الإشاعة فيقسم بينهما السالم والمعيب كل حسب حصته وإن كان
البائع ضامنا للعيب الحادث حينئذ ويتخير المشترى في فسخ البيع وعدمه، واخذ
الأرش.
352

(فائدة - 49)
قال في الشرايع: " من تيقن الحدث وشك في الطهارة أو تيقنهما، وشك في
المتأخر منهما تطهر.
أقول إنما يتم هذا إذا لم يكن تاريخ الطهارة معلوما ولم يعلم بان الحالة السابقة
على الحالتين هي الحدث واما إذا علم تاريخ الطهارة فتستصحب الطهارة حينئذ
ولا يعارضه العلم الاجمالي بحدوث الحدث لانحلاله، ورجوعه إلى الشك البدوي
ضرورة انه لا اثر للحدث ان وقع قبل تاريخ الطهارة، فالعلم بالحدث المردد بين
أن يكون قبل تاريخ الطهارة أو بعده لم يكن له اثر على كل تقدير حتى يوجب
اشتغال الذمة برفعه، فلا مجال لاستصحاب الحدث المعلوم بالاجمال لا ينقلب بالاستصحاب
عن كونه معلوما بالاجمال إلى كونه معلوما بالتفصيل، بل يبقى على ما كان عليه
من الاجمال، فلا يترتب عليه اثر لما ظهر لك من انحلال العلم الاجمالي ورجوعه
إلى الشك البدوي حينئذ، فلا ينافي استصحاب الظهارة حتى يعارضه مع أن
الاستصحاب متقوم بأمرين، اليقين بشئ والشك في بقائه وزواله ولا شك هنا في بقاء
المعلوم بالاجمال حتى يستصحب بل المعلوم بالاجمال باق على حاله ولم يتطرق فيه
شك.
353

فتبين غاية التبين فساد ما يتوهم من جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ
ومعارضته مع الاستصحاب الجاري في معلوم التاريخ.
فان قلت: انا نعلم قطعا بحدوث حدث في البين، وشككنا في بقائه وزواله من
جهة الشك في وقوعه قبل تاريخ الطهارة أو بعده، فيكون زائلا على التقدير الأول
وباقيا على التقدير الثاني فيجرى فيه الاستصحاب لتحقق ركنية وهو اليقين بالحدث
والشك في بقائه وزواله.
قلت: هذا الشك ليس شكا طاريا على العلم بالحدث بل من لوازم العلم
الاجمالي الفعلي بالحدث المردد بين وقوعه قبل تاريخ الطهارة، أو بعده ولو كان
شكا طاريا على العلم لزم عدم اجتماعه مع العلم الاجمالي الفعلي، ضرورة ان
اجتماع الشك واليقين في باب الاستصحاب ليس على وجه الفعلية بالنسبة إلى زمان
واحد بل اليقين فيه سابق على الشك ومتعلق بالزمان السابق والشك طار متعلق
بالزمان اللاحق لا يجتمع معه اليقين في حال الشك، وإنما يؤخذ باثر اليقين السابق،
ولا يعتد بالشك الطاري.
فانكشف بما بيناه غاية الانكشاف ان الاستصحاب لا يجرى في مجهولي
التاريخ لان العلم الاجمالي في كل منهما فعلى، والشك في تأخر كل منهما عن الاخر
من لوازم العلم الاجمالي، وإنما لا يترتب على العلم بكل منهما كذلك الحكم
بالطهارة أو الحدث لتصادم الاحتمالين وعدم رجحان أحدهما على الاخر لا لأجل
تعارض الاستصحابين وتساقطهما لأجل تكافؤهما كما قد يتوهم. والحكم بلزوم تحصيل
الطهارة حينئذ ليس لأجل الحكم بكونه محدثا بل لأجل ان صحة الصلاة وما بمنزلتها
تتوقف على الطهارة، فيجب عليه الوضوء لأجل احراز شرط صحة الصلاة، وما
بمنزلتها فهو لا محدث ولا متطهر.
وكيف كان فقد تبين بما بيناه ان الحكم بالتطهر مطلقا مع الشك في المتأخر
354

منهما كما أفاده المحقق (قدس سره) في غير محله.
والتحقيق انه يستصحب معلوم التاريخ إن كان كما أوضحنا الكلام فيه والا فان
علم بالحالة السابقة على الحالتين بنى على ضدها والا يتطهر، كما اختاره المحقق
الثاني وشيخ مشائخنا المحقق الطهراني (قدس الله روحهما)
ويظهر من المصنف (قدس سره) الميل إليه في المعتبر، قال فيه: " اما إذا تيقنهما
وشك في المتأخر فقد قال الثلاثة ومن تبعهم: يعيد الطهارة لعدم اليقين، وعندي في
ذلك تردد.
ووجه ما قالوا إن يقين الطهارة معارض بيقين الحدث، ولا رجحان فيجب
الطهارة لعدم اليقين بحصولها، لكن يمكن ان يقال ينظر إلى حاله قبل تصادم
الاحتمالين، فإن كان حدثا بنى على الطهارة، لأنه تيقن انتقاله عن تلك الحالة إلى
الطهارة، ولم يعلم تجدد الانتقاض وصار متيقنا في الطهارة، وشكا في الحدث "
انتهى، وما ذكره (قدس سره) جيد جدا.
فان قلت: كما علم ارتفاع الحدث السابق على الحالتين بالطهارة اللاحقة
علم حدوث حدث جديد، وشك في المتأخر منهما ولا رجحان لاحد الاحتمالين على
الاخر، فيجب التطهر حينئذ كما اختاره الأكثر تحصيلا أو احرازا لشرط صحة الصلاة
وما بمنزلتها.
قلت: المعلوم حينئذ إنما هو حدوث سبب الحدث لا الحدث نفسه إذ الامر
مردد بين عروض سبب الحدث عقيب الحدث أو الطهارة، فان فرض عروضه عقيب
الحدث فلا اثر له لاشتغال المحل بالمثل وتأثيره الحدث الجديد موقوف على عروضه
عقيب الطهارة، وهو غير معلوم فتحقق الطهارة متيقن على كل تقدير، ووجود الحدث
الجديد مشكوك فيه، ولا يعارض الشك اليقين.
والحاصل ان العلم بعروض سبب الحدث اجمالا إذا لم يكن له اثر على كل
355

تقدير ينحل ويرجع إلى الشبهة البدوية.
فان قلت: يمكن ان يقال: إن سبب الحدث موجد للحدث على كل تقدير
غاية الأمر انه إذا كان مسبوقا بالحدث يوجب اشتداد الحدث، لا انه يسقط عن
التأثير رأسا.
قلت: نعم يمكن ذلك، بل هو كذلك ولكن إذا لم يكن لاشتداد الحدث
حكم جديد، فهو في حكم العدم، فان الحدث الأصغر سواء اشتد بسبب عروض
أسباب متعددة أم لا، إنما يؤثر التكليف بالوضوء مرة واحدة، ولا يؤثر اشتداده ايجاد
تكليف آخر.
فان قلت: ما ذكرت من أن المعلوم عروض سبب الحدث لا الحدث نفسه،
مبنى على كون الحدث امرا معنويا مسببا عن الأسباب المعهودة.
واما إذا قلنا: بان الحدث هي نفس الأسباب، فعروض الحدث الجديد متيقن
كما أن حصول الطهارة متيقن.
قلت: أولا من الواضحات ان الحدث هو المسبب عن الأسباب المعهودة،
لان القابل للبقاء والارتفاع بالطهارة إنما هو المسبب لا الأسباب.
وثانيا بانا لو سلمنا ان الحدث هو نفس الأسباب، فلا يضر بما نحن بصدده،
لان الحدث عقيب الحدث لا يؤثر تكليفا جديدا، فهو في حكم العدم، ولذا ترى
انهم لا يحكمون بنجاسة الاناء الطاهر بسبب العلم بوقوع قطرة من البول مثلا في
أحد الإنائين اللذين أحدهما نجس والاخر طاهر مع التردد بين وقوعه في النجس
أو الطهر، بل يحكمون ببقاء الاناء الطاهر على طهارته وعدم وجوب الاجتناب
عنه لعدم تأثير العلم الاجمالي تكليفا جديدا، بالنسبة إلى الاناء النجس على فرض
وقوع البول فيه، فينحل العلم الاجمالي إلى الشبهة البدوية حينئذ بالنسبة إلى الاناء
الطاهر، فيجرى فيه استصحاب الطهارة.
356

فان قلت: ثبوت الحدث عند عروض سببه مقطوع به لأنه محدث حينئذ،
اما بالحدث السابق أو بالحدث الجديد، فهو متيقن حينئذ بالحدث كما أنه متيقن
بالطهارة، فيستصحب الحدث المتيقن كما يستصحب الطهارة المتيقنة، فيتعارض
الاستصحابان، ويتساقطان لتكافؤهما، فلا بد ان يتطهر حينئذ لأجل احراز شرط
صحة الصلاة وما بمنزلتها.
قلت: لا مجال لاستصحاب الحدث المردد بين كونه سابقا وحادثا لان
السابق قد زال قطعا بالطهارة اللاحقة والحادث مشكوك الحدوث، فلا متيقن حتى
يستصحب ضرورة ان الحدث السابق ارتفع بالطهارة ولا شك فيه فالشك إنما
هو في الحدث الجديد، والشك فيه إنما هو في حدوثه لا في بقائه بعد اليقين
بحدوثه، والاستصحاب إنما يجرى فيما يتيقن حدوثه، وشك في بقائه لا فيما شك
في حدوثه.
فاتضح بحمد الله غاية الاتضاح ان الحكم بوجوب التطهر مطلقا فيما إذا تيقنهما
وشك في المتأخر منهما في غير محله، وان الحق التفصيل كما بيناه وتوهم وقوع
الاجماع على وجوب التطهر مطلقا حينئذ باطل من وجهين:
الأول وجوب المخالف. والثاني تعليل الحكم به بتعارض اليقينين، وعدم
رجحان أحدهما لا بالاجماع، ويمكن حينئذ تنزيل اطلاقاتهم على ما بيناه لعدم
تعارض اليقينين الا فيما إذا لم يعلم تاريخ أحدهما، ولم يعلم الحالة السابقة على
الحالتين.
وبما بيناه تبين الحال فيما إذا علم بجنابة وغسل وشك في المتأخر منهما،
فإنه ان علم بتاريخ أحدهما اخذ به واستصحبه، وان جهل تاريخهما، فان علم بان
حالته السابقة عليهما هي الجنابة بنى على الطهارة، وان علم بان حالته السابقة عليهما
هي عدم الجنابة سواء علم بأنه متطهرا أو محدث بالحدث الأصغر بنى على الجنابة،
357

وان لم يعلم بالحالة السابقة عليهما فهو لا متطهر ولا مجنب لتعارض اليقينين، وعدم
رجحان أحدهما فيجوز له اللبث في المساجد وقراءة العزائم لعدم الحكم بكونه جنبا
ولا يجوز له الدخول في الصلاة وما بمنزلتها لعدم الحكم بكونه متطهرا، ولا يصح
له الدخول فيها الا بالغسل لعدم تأثير للوضوء على كل تقدير.
هذا كله إذا كان الغسل غسل جنابة، واما إذا علم بغسل مطلق، فلا يفيده العلم
بتاريخه بناء على المشهور من عدم كون مطلق الغسل طهارة، وحينئذ فان علم بان
حالته السابقة عليهما هي الجنابة بنى على الطهارة بناء على تداخل الأغسال قهرا.
ولو لم ينوها كما هو التحقيق عندنا، وان علم بان حالته السابقة عليهما هي عدم الجنابة
أو لم يعلم بها بنى على الجنابة للعلم لها، وعدم العلم بالمزيل.
واما بناء على ما اخترناه، وحققناه من كون مطلق الغسل طهارة واجزائه
عن الوضوء فلا فرق بين الصورتين.
وقد نسب إلى العلامة (قدس سره) انه حكم في مورد العلم بالحالة السابقة على
الحالتين بالاخذ بالحالة السابقة لا بضدها، وهو اشتباه ناش عن قلة التأمل في أطراف
كلامه، فان حكمه (قدس سره) بالبناء على الحالة السابقة إنما هو في مورد اليقين
بحدوث الحالة المطابقة للحالة السابقة والشك في رافعها.
قال في المختلف: " إذا تيقن عند الزوال انه نقض طهارة، وتوضأ عن حدث
وشك في السابق فإنه يستصحب حاله السابق على الزوال فإن كان في تلك الحال
متطهرا بنى على طهارته، لأنه تيقن انه نقض تلك الطهارة، ونقض الطهارة الثانية
مشكوك فيه، فلا يزول اليقين بالشك، وإن كان قبل الزوال محدثا فهو الان محدث،
لأنه تيقن انه انتقل عنه إلى الطهارة، ثم نقضها والطهارة بعد نقضها مشكوك فيه "
انتهى، فان المفروض في الصورة المذكورة، وهي التوضي عن حدث ونقض
طهارة اليقين بما يوافق الحالة السابقة والشك في زواله، فغرضه من استصحاب
358

الحالة السابقة استصحاب الحالة الموافقة للحالة السابقة لا عين الحالة السابقة كما
هو صريح كلامه.
وقال في القواعد: " ولو تيقنهما متحدين متعاقبين، وشك في المتأخر فإن لم يعلم
حاله قبل زمانهما تطهر والا استصحبه " انتهى، فان تعاقب الحدث والطهارة عبارة
عن وقوع كل منهما عقيب الاخر، ومن المعلوم حينئذ ان الحالة الباقية موافقة للحالة
السابقة، واستصحابها عبارة عن الاخذ بها وعدم رفع اليد عنها لا التعويل على
الأصل لان موافقة حالته لحالته السابقة حينئذ لا تكون موردا للشك مع فرض
اتحادهما وتعاقبهما ومثله ما في المعتبر حيث قال (قدس سره) فيه بعد ان اختار
البناء على ضد الحالة السابقة من دون فاصلة:
" مسألة: لو تيقن انه تطهر بعد الصبح عن حدث، وتيقن انه احدث، ولم يعلم
السابق بنى على الحال التي كان عليها قبل ذلك، لأنه إن كان قبل ذلك محدثا،
فقد تيقن الطهارة المزيلة للحدث والحدث بعدها وتأخر الطهارة مشكوك فيه، وإن كان
قبل ذلك متطهرا، فقد تيقن انه نقض تلك الطهارة بالحدث ثم توضأ لان
التقدير ان طهارته الثانية عن حدث " انتهى فان غرضه انه احدث عن طهارة، وتطهر
عن حدث كما يظهر من تعليله فحينئذ يحصل اليقين بما يوافق الحالة السابقة،
ويقع الشك في طرو الرافع عليه.
والعجب أنه لم ينسب أحد إلى المحقق (قدس سره) القول بالبناء على وفق الحالة
السابقة مع أن عبارة المعتبر كما رأيت كعبارة المختلف بل تعبير المختلف اظهر
فيما وجهناه، هذا وقد يتوهم انه اشتهر ان الأصل تأخر الحادث، ومقتضاه الحكم
بتأخر مجهول التاريخ عن معلوم التاريخ والبناء عليه دون معلوم التاريخ.
وفيه ان التأخر كالتقدم والتقارن مخالف للأصل لأنها جهات وجودية والأصل
عدمها، وما اشتهر من أن الأصل تأخر الحادث لا أصل له الا ان يراد به ان الأصل
359

تأخر الحادث عن الزمان المشكوك فيه إلى الزمان المتحقق وقوعه فيه، يعنى
الأصل الاقتصار على القدر المتيقن مثلا إذا علم بأنه احتلم اما في هذه الليلة أو الليلة
الماضية لا يحكم بوقوعه الا في هذه الليلة لان الأصل عدم وقوعه في الليلة الماضية
فيقتصر على القدر المتيقن من ثبوت الجنابة في هذه الليلة ولا قدر متيقن في المقام
لا بعد معلوم التاريخ ولا قبله، فلا يحكم بكونه بعده ولا قبله.
360

(فائدة - 50)
إذا خرج المقيم عن محل إقامته إلى ما دون المسافة وعزم على العود والإقامة
الجديدة أتم ذاهبا وآئبا وفى محل الإقامة بلا خلاف معتد به، وإذا عزم على العود
من دون إقامة ففيه خلاف، والمسألة كانت ذات قولين بين الأصحاب (قدس سرهم)
على ما ذكره في الجواهر.
أحدهما - التقصير في الا باب ومحل الإقامة والاتمام في الذهاب
والمقصد.
وثانيهما - التقصير بعد الخروج عن محل الترخص مطلقا، وإنما حدث
التفصيل في كلمات المتأخرين ومنشأ اختلاف القولين على ما ذكره هو وغيره ان
القائلين بالتقصير في الاياب زعموا ان الاياب مبدء للسفر الذي من نيته ان يسافر
ولا يقيم وجزء منه، والقائلين بالتقصير مطلقا جعلوا الذهاب والخروج عن محل
الإقامة مبدءا له وجزء منه، ولم يدعوا نصا في هذا الباب، بل قيل: إنه لم تكن
المسألة معنونة في كلام من تقدم على الشيخ (قدس سره)
وأول من تعرض لهذه المسألة الشيخ (قدس سره) في المبسوط، والتحقيق
361

كما اختاره جمع من المحققين الاتمام مطلقا ذهابا وإيابا وفى المقصد ومحل الإقامة
توضيح الحال فيه يتوقف على تقديم أمور:
الأول - في أن السفر الموضوع للقصر مفهوم عرفي أو شرعي.
والثاني - في أن قصد إقامة العشرة تتوقف على قصد مكان معين أم لا.
والثالث - في أن قصد الإقامة هل هو قاطع للسفر أو حكمه.
اما الأول - فمن المعلوم ان للسفر حقيقة عرفية واقعية يعرفها أهل العرف،
وهو الضرب في الأرض أي طي البعد بين المكانين للوصول من أحدهما إلى
الاخر، وتحديد البعد بثمانية فراسخ طولية أو تلفيقية من الذهاب والاياب المنطبق
على شغل اليوم ان لم نقل بأنه جهة واقعية كشف عنها الشارع.
وان خفى على أغلب أهل العرف لدقته وغموضه لا ينافي مع كونه مفهوما
عرفيا لان للشارع ان يتصرف في المفاهيم العرفية بالتحديد قلة أو كثرة وجعل شرط
أو مانع وهكذا كما تصرف في البيع الذي هو مفهوم عرفي بجعل القبض في
المجلس شرطا في خصوص بيع الصرف وجعل الخيار للمشترى إلى ثلاثة أيام في
بيع الحيوان وهكذا.
ومن المعلوم أيضا ان موضوع حكم القصر هو هذا المفهوم العرفي قال عز من
قائل " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة ".
واما الثاني فالتحقيق عدم توقف الإقامة على تحققها في مكان معين، حتى يعتبر
في قصدها قصد مكان معين لان الغرض من الإقامة في المقام ضد الارتحال وهو يتحقق
بالاعراض عن السفر ورفع اليد عنه، وهو لا يتوقف على الوقوف في مكان معين،
بل يكفي فيه البناء على التوقف المضاد للجد المعتبر في السفر عرفا، ومضادة الإقامة
للسفر لا تكون امرا تعبديا، وان قلنا بان تحديدها بعشرة أيام تعبد من الشارع، فلا مجال
لتوهم اعتبار قصد المكان المعين فيها.
362

واما الثالث فمن المعلوم، ان الإقامة المتحققة عن قصر قاطعة للسفر ضرورة ان
مفهوم الإقامة مضادة لمفهوم السفر والارتحال، فالبناء على الإقامة مضاد للبناء على السفر
والارتحال، فإذا قصد المسافر الإقامة زال عنه التلبس بالسفر والارتحال، مراعى
وإنما يستقر بترتيب اثر الإقامة من إقامة صلاة تامة، بل يمكن ان يقال بترتيب اثر الإقامة
مطلقا ولو باتيان نافلة الظهر مثلا.
وكيف كان فمضادة الإقامة الخارجة عن الحد المتعارف للمسافرين في توقفهم
في المنازل والمقصد للسفر امر واضح، لان السفر امر عرفي واقعي يعتبر فيه الجد
في الطي طبعا.
فإذا توقف المسافر عن السير والطي بحيث خرج عن حد الاشتغال بالسفر
عرفا صدق عليه انه مقيم لا راحل ومسافر، غاية الأمر ان الكلام في أن الحد المخرج
عن صدق السفر هل هو إقامة عشرة أيام في الواقع والشارع كشف عنه، وان خفى
على أهل العرف لدقته وغموضه أو يكون التحديد المزبور تعبدا من الشارع وكونه
تعبديا لا يوجب صيرورة إقامة عشرة أيام قاطعة للحكم لا الموضوع، وإنما يوجب
عدم صدق الإقامة المضادة للسفر على إقامة ما دون العشرة واختصاصها بإقامة العشرة
فما فوقها.
إذا اتضح لك ما بيناه اتضح لك ان خروج المقيم إلى ما دون المسافة لا يضر
بالإقامة بوجه ولا يوجب التقصير مطلقا.
توضيح الحال ان الاستشكال في خروج المقيم عن محل إقامته إلى ما دون
المسافة إن كان من جهة تقوم الإقامة بالمحل الذي نوى الإقامة فيه، وإذا خرج
عنه خرج عن كونه مقيما وزال عنه حكم التمام لارتفاع موضوعه فيعود إلى
التقصير.
ففيه ما عرفت من أن الإقامة لا تتقوم بالمحل ولا يعتبر في تحققها قصد مكان
363

معين، مع أنه لو سلمنا ذلك فلا وجه لعود حكم التقصير لانقطاع السفر بالإقامة
ولا يعود بزوال الإقامة السفر الأول حتى يعود التقصير فهو حينئذ لا مقيم ولا مسافر
وحكمه التمام لان فرض التمام لا يحتاج إلى بقاء الإقامة، بل يكفي فيه عدم كونه
مسافرا سواء صدق عليه عنوان المقيم أم لا، وليس عنوان المقيم والمسافر من قبيل
الضدين لا ثالث لهما، حتى يقال إنه لا يخلو الشخص من أحدهما.
وتوهم ان المقيم مسافر في حال الإقامة، وانها قاطعة للحكم لا الموضوع
في غاية السخافة ضرورة ان الإقامة مضادة للسفر، ولا تكون من قبيل كثرة السفر
مانعة عن الحكم وقاطعة له مع بقاء السفر.
فان قلت نعم الإقامة لا تتقوم بالمحل، ولا يعتبر فيها قصد مكان معين، ويجوز
له ان يقصد الإقامة من دون تعيين مكان كما يجوز له ان يقصدها في مكان معين،
فان قصدها من دون تعيين مكان وقعت مطلقة. وان قصدها مع تعيين مكان وقعت
مقيدة.
فإذا خرج حينئذ عن محل إقامته الذي نوى الإقامة فيه بطلت اقامته، ورجع إلى
حكم التقصير لان التمام إنما شرع لأجل الإقامة.
قلت: بعدان ظهر لك ان الإقامة المضادة للسفر عبارة عن رفع اليد عن
السفر والاعراض عنه ظهر لك انها صفة للشخص، ولا تعلق له بالمكان أصلا،
فلا يتقيد بمكان مخصوص باعتبار قصد التوقف فيها، ولو كانت الإقامة متعلقة بالمكان
لم تتحقق الا بقصد مكان معين، فمع فرض جواز تحققها من دون تعيين محل كاشف
عن عدم تعلقها به، فلا مجال للتقييد به حينئذ.
ثم إنه لو سلم تقييد الإقامة بالمحل، فلا وجه لعود حكم التقصير بسبب خروجه
عن محل إقامته، لأنه حكم السفر ولا يعود السفر بعد انقطاعه بالإقامة حتى يعود
التقصير، وليس الحكم بالتمام لأجل الإقامة بل لأجل زوال السفر بالإقامة.
364

وإن كان الاستشكال من جهة توهم ان الخروج عن محل إقامته إلى ما دون
المسافة أو الاياب عنه مبدءا للسفر الذي من قصده ان ينشأه بعد بعد وصوله إلى محل إقامته
، فهو في غير محله أيضا ضرورة ان المفروض انه لم ينشأ السفر حين الخروج
في محل إقامته إلى ما دون المسافة مع نية عوده إليه ولا حين ايابه وعوده إليه،
فكيف يصير جزا ومبدءا للسفر الذي لم ينشأه بعد.
فاتضح بما بيناه غاية الاتضاح ان التحقيق الاتمام مطلقا ذهابا وإيابا، وفى
المقصد ومحل اقامته، كما أنه اتضح أيضا عدم الفرق بين ان يبدو له الخروج
إلى ما دون المسافة بعد استقرار اقامته باتمام فريضة واحدة أو قبل استقرارها،
وبين نية الخروج في حال نية الإقامة أو بعدها. لما اتضح لك انه لا يعتبر في نية
الإقامة قصد مكان معين، وانه إنما تزول الإقامة بالسفر لا بالخروج إلى ما دون
المسافة:
فما يظهر من كلمات بعضهم ان الخروج إلى ما دون المسافة قبل استقرار
الإقامة باتمام فريضة واحدة مخل بالإقامة، وقاطع لها سواء نوى إقامة جديدة بعد
العود إلى محل الإقامة أم لا في غير محله، لان الخروج إلى ما دون المسافة ليس
مضادا للإقامة حتى تبطل به، ولا يكون مجال لاستقرارها باتمام فريضة
وكذا ما يظهر من كلمات بعضهم أيضا من التفصيل بين نية الخروج إلى
ما دون المسافة في حال الإقامة، وبعدها والحكم بوجوب القصر أو الاحتياط
بالجمع في الصورة الأولى إذا كان من نيته المبيت بليلة أو أزيد، لما تبين لك
من أن نية الخروج إلى ما دون المسافة لا تضاد الإقامة بوجه، فلا مجال للتفصيل
بين وقوعها في حال الإقامة وبعدها. وبما بيناه تبين أيضا ان لو كان مترددا في
العود وعدمه أو ذاهلا عنه، فالحكم الاتمام لتحقق الإقامة الموجبة للاتمام وعدم
مزيل لها.
365

والحاصل ان الحكم في جميع الصور التي ذكروها في هذه المسألة الاتمام،
الا إذا رجع متلبسا بالسفر في حال رجوعه، ويكون مروره على محل الإقامة من
جهة انه منزل من منازل سفره، وكذا إذا كان في حال خروجه متلبسا بالسفر،
ويكون عوده إلى محل إقامته من قبيل رجوع المسافر إلى بعض منازل سفره لقضاء
حاجة له، لكن الأحوط حينئذ الجمع في حال خروجه وفى المقصد.
366

(فائدة - 51)
في جواب ما أورده بعض أفاضل العصر، فقال (سلمه الله تعالى) ما محصله:
ان فعل الفاعل لا يمكن ان يستند إلى غيره بوجه من الوجوه، والذي يصح ان
يستند إليه هو المعنى المنتزع عن منشأ انتزاعه أي المنشأ فهو يجيز المبادلة القائمة
بالمالين، واسناد الإجازة إلى العقد بالمعنى المصدري تسامح وإنما تستند إلى العقد
بمعنى اسم المصدر والامر المنتزع المتزلزل ثابت ابدا لصدور منشأ انتزاعه،
ويخرج عن التزلزل بإجازة من له الامر وليس له الرد أي ابطال العقد واعدامه،
لان منشأ الانتزاع علة تامة للامر المنتزع ولا ينقلب منشأ الانتزاع عن الوقوع إلى
اللاوقوع وتفكيك العلة التامة عن المعلول غير معقول.
وإنما الذي للمالك هو الإجازة وعدمها وبالإجازة يتم العقد ومع عدمها
يبقى على تزلزله، والرد لا اثر له ولازم ذلك نفوذ العقد من حين الإجازة من
غير فرق بين كون المجيز مالكا حين العقد أم لا.
ثم قال: " توضيح الأمران العلة الفاعلية للعقد هي الموجب والقابل، والآلة هي
الصيغة المشتملة على الايجاب والقبول وهي علة تامة لتحقق جسد العقد مطلقا، والعلة
المادية هي المعقود عليه وبه، والأصيل إنما يرجع إليه تنفيذ جسد العقد، واتمامه
لرجوع المعقود عليه أو المعقود به إليه، ولا دخل له في فعل الفاعل بوجه حتى يؤثر
رده في ابطاله.
367

وإنما المرجع في انشاء جسد العقد هو الموجب والقابل، ولا يعقل تأثير رد
الأصيل فيما لا يكون مرجعا فيه مع أن الانشاء لا ينقلب عما وقع عليه، وهو علة تامة
لتحقق المنشأ، ولو متزلزلا فلا يعقل زواله مع عدم تطرق خلل في علته، نعم لو عقد
الأصيل لغير من عقد الفضول له أو تلف محل العقد قبل إجازة الأصيل، لا يبقى مجال
للإجازة، فيصير العقد الفضولي باطلا ".
ثم قال: " ويترتب على ما بيناه أمور:
الأول ثبوت التنفيذ للإجازة من حين تحققها لا من حين العقد.
الثاني انه لا سلطنة للأصيل على الرد، وإنما له السلطنة على الإجازة وعدمها
الثالث نفوذ العقد بالمعنى اسم المصدري بسبب إجازة الأصيل.
الرابع نفوذ العقد بالمعنى المذكور بعد الرد بإجازة من له الإجازة كما يدل
على ذلك صحيحة محمد ابن قيس الواردة في هذا المقام، وحمل الرواية على
المحامل البعيدة مبنى على ما التزموا به من بطلان العقد الفضولي بالرد، وبعد ما عرفت
يظهر لك انها منطبقة على القواعد، ولا حاجة إلى التأويل.
فان قلت: ينافي ما بيناه الرواية الواردة في باب النكاح الدالة على تنفيذ العقد
الفضولي بعد موت أحد الزوجين، فإنها تدل على أن الإجازة ترتبط بالعقد بالمعنى
المصدري، ضرورة ان العلقة قائمة بالزوجين وبموت أحدهما لا مجال لتحققها.
قلت: الزوجية قائمة بنفس الزوجين أي الجوهر المجرد المعبر عنه بالنفس
الناطقة، وبعد موت الشخص لا تنعدم ولذا يحكم بثبوت العدة، وانه لو أحيى الميت
باحياء الله جل شأنه تبقى الزوجية بحالها، وانقطاع كل منهما عن الاخر بعد العدة
إنما هو لتنزيل الشارع العلقة منزلة العدم باعتبار عدم امكان جريان آثارها " انتهى.
أقول بعون الله تعالى ومشيته: ان للعقد نسبة إلى المتعاقدين على وجه الصدور
والى المعقود عليه وبه على وجه الوقوع، ولا شبهة في نفوذه ومضيه إذا صدر من
أهله ووقع في محله، كما أنه لا شبهة في بطلانه إذا وقع في غير محله، وإنما اختلفت
368

كلماتهم فيما إذا صدر من غير أهله، فقيل يبطل مطلقا، وقيل يقع موقوفا مطلقا
على امضاء الأصيل واجازته.
وفصل بعضهم بين عقد النكاح وغيره، ولا شبهة ان القول بوقوعه موقوفا
على امضاء الأصيل مبنى على عدم استقرار العقد الصادر من غير أهله في صدوره
كذلك إذ مع فرض استقراره في صدوره من غير أهله لا مجال لنفوذه، ومضيه بامضاء
الأهل والأصيل، والقول بوقوعه موقوفا.
ومقتضى ذلك أمور:
الأول استقرار العقد الفضولي في البطلان بالرد والابطال كاستقراره في النفوذ
بالإجازة والامضاء.
والثاني كون الإجازة كاشفة لا ناقلة. والثالث عدم تأثير الامضاء في نفوذ
الا ممن كان مرجعا للعقد في زمان صدوره وامضائه.
توضيح ذلك غاية الايضاح، يتوقف على بيان أمور:
الأول: ان استناد العقد إلى الأهل لا يكون الا على وجه الصدور كما أن استناده إلى
المحل لا يكون الا على وجه الوقوع، فتأثير إجازة الأصيل وامضائه في استناد العقد
الفضولي إليه ليس الا في جعل صادرا عنه، وانقلابه عن كونه فضوليا غاية الأمر
ان الصدور من الأصيل حينئذ لا يكون بالمباشرة، بل بالتسبيب كاستناد العقد الصادر
عن الوكيل إلى موكله مع عدم صدوره عنه بالمباشرة بل الوكالة والإجازة في
الحقيقة حقيقة واحدة، وإنما يختلفان في التأخر والتقدم، فان الإجازة وكالة متأخرة
كما أن الوكالة إجازة متقدمة عند النظر الدقيق.
الثاني: ان الافعال على قسمين: ابتدائي أولى وتوليدي انتزاعي ولا يعقل
استناد الافعال الانتزاعية التوليدية إلى الشخص الا بتوسط استناد منشأ انتزاعها إليه،
إذ لو جاز استنادها إليه ابتداءا لزم عدم كونه انتزاعيا توليديا، وهو خلف محال.
الثالث: ان الأمور الانتزاعية التوليدية على قسمين. منها ما ينتزع حدوثها
369

من حدوث منشأ انتزاعها،
كالعقود والطهارة عن الحدث والخبث حيث إن العلقة
المتولدة من الايجاب والقبول إنما يتولد حدوثها من حدوثهما وهكذا الامر في الطهارة
فإنها تحدث بحدوث أسبابها. ومنها ما ينتزع وجودها من وجود منشأ انتزاعها بحيث
يدور مدار منشأ انتزاعه حدوثا وبقاءا كالفوقية والتحتية المنتزعتين من تقابل الجسمين
بحيث لو وقع أحدهما لوقع على الاخر.
والأول على قسمين أيضا:
فمنها ما يكون قارا في حد نفسه ويكون باقيا بعد حدوثه من منشأ انتزاعه ما لم يطرء
عليه مزيل كالعقود المنتزعة من الايجاب والقبول فإنها حادثة بحدوثهما وتكون باقيه
ما لم يطرء عليها رافع من جهة انها قارة في حد أنفسها ولا تكون في بقائها مسندة إلى
منشأ انتزاعها الا باعتبار حدوثها ضرورة انه لا تأثير للصيغة في بقاء العقد وعدمه وهكذا
الامر في الطهارة المنتزعة من الوضوء والغسل فإنهما إنما يوجبان حدوث الطهارة
ولا تأثير لهما في بقائها وعدمه. ومنها مالا يكون قارا في حد نفسه كالتعليم والتدريس
المنتزع من القاء الكلام نحو المستمع فإنه حادث بحدوث منشأ انتزاعه منقضيا بانقضائه.
الرابع: ان الأمور المنتزعة مطلقا متحدة مع منشأ انتزاعها في الخارج ولا وجود
لها وراء وجود منشأ انتزاعها ولا ينافي ذلك من بقاء الأمور المنتزعة القارة من حدوث
منشأها الذي لا يكون باقيا لان الانتزاع فيها إنما هو بين الحدوثين وهما متحدان في
الخارج ولا يكون بقائها منتزعا مستندا إلى المنشأ بوجه.
الخامس: ان رفع الامر لا يتوقف على رفع منشأ انتزاعه، إذا كان
حدوثه منشأ لانتزاع حدوث الامر المنتزع، ضرورة انه ينتقض الطهارة بالحدث،
ويرتفع الحدث بالطهارة من دون تطرق خلل في منشأ انتزاعهما، ولا ينافي ذلك مع
اتحاد الامر المنتزع من منشأ انتزاعه، ولا مع كونه علة تامة للانتزاع، لان الاتحاد
والعلية لا يكونان الا بين الحدوثين، ولم يتطرق بالنسبة إلى حدوث المنتزع حينئذ
خلل حتى ينافيه الاتحاد أو العلية التامة، نعم إذا كان الانتزاع في الوجود لا في الحدوث،
370

فإن كان الانتزاع على وجه العلية التامة كانتزاع الفوقية والتحتية من تقابل الجسمين
يتوقف رفع الامر المنتزع حينئذ على رفع منشأه والا فلا، بل يتحقق بفقد شرط أو
وجود مانع أو مزاحم أقوى أو مماثل.
السادس: انه إذا كان الامر المنتزع متزلزلا مراعى موقوفا غير مستقر، فإن كان
حدوثه منتزعا من حدوث منشأ انتزاعه فهو متزلزل موقوف في حدوثه، وإذا استقر
استقر فيه صحة أو بطلانا، ولا يعقل ان يستقر في بقائه مع عدم استقراره في حدوثه،
لأنه مع تزلزله في حدوثه لم يحدث، حتى يحكم عليه بالبقاء مستقرا.
السابع: ان العقد الواحد لا ينحل في صدوره ولا في وجوده إلى عقود متعددة
بالنسبة إلى اجزاء الزمان الذي يصلح بقائه فيها، كما ينحل العقد الواحد المتعلق
بأشياء متعددة إلى عقود متعددة حسب تعددها، ضرورة ان ظرف صدور العقد ليس
الا زمان حدوثه، ولا تعلق له بسائر الأزمنة حتى تحليلا، وكذا وجوده، فان العقد
إنما يبقى في الأزمنة التالية باعتبار انه قار في نفسه فهو باق ما لم يطرء عليه رافع،
لا انه يبقى باعتبار تعلقه بالأزمنة التالية بحيث إذا طرء عليه المزيل انقلب بعض ما شمله
العقد عما وقع عليه أولا، كما هو ظاهر، بخلاف العقد المتعلق بأشياء متعددة، فإنه
متعلق بكل واحد منها في ضمن المجموع، ولذا ينحل إلى عقود متعددة حسب
تعددها، نعم ينحل عقد الإجازة ونحوه باعتبار الأزمنة المتعددة، حيث كان الزمان
ركنا فيه ومتعلقا له.
إذا اتضحت لك هذه الأمور فاعلم أنه لا يعقل استناد فعل الفاعل إلى غيره على
وجه المباشرة بالضرورة، سواء كان الفعل ابتدائيا أم توليديا، واما استناده إلى
غيره على وجه التسبيب، فكما يجرى في الفعل التوليدي كذلك يجرى في الفعل
الابتدائي، والتفكيك بينهما بالقول باستحالة الاستناد في الفعل الابتدائي، وتطرق
الاستناد في الفعل التوليدي باطل جدا.
ثم إن جعل العقد بالمعنى المصدري منشأ للانتزاع، وبالمعنى اسم المصدري
371

منتزعا منه في غير محله، فان معنى المادة فيهما واحد، وهو الحدث السازج،
ولا اختلاف بينهما من حيث المادة لفظا ومعنى، وإنما يختلفان في الهيئة فهيئة
المصدر تدل على النسبة الناقصة إلى الفاعل أو المفعول، ولذا قد يرد المصدر مبنيا
للفاعل وقد يرد مبنيا للمفعول، وهيئة اسم المصدر لا تدل على شئ، وإنما هي وقاية
للمادة.
ومن المعلوم انه لا وجه لانتزاع اسم المصدر حينئذ، ضرورة ان الحدث
الواحد لا ينتزع من نفسه، ولا من نسبته إلى الفاعل أو المفعول، فإن كان العقد
بالمعنى المصدري فعلا ابتدائيا، فهو بمعنى اسم المصدري كذلك، فما ذكره من
استحالة الاستناد إلى غير الفاعل على فرض تماميته جار فيهما.
ثم إن ما ذكره في وجه استحالة تأثير الرد في ابطال المعنى المتزلزل الحاصل
بانشاء الفضول - من أن الانشاء علة تامة له، ولا يعقل انقلاب الانشاء عما وقع عليه،
ولا انتفاء المعلول الحاصل منه لاستحالة انفكاك المعلول عن علته التامة - قد عرفت
ضعفه، لان المعلول من الانشاء إنما هو حدوث المنشأ لا وجوده، وابطال المنشأ بعد
حدوثه لا يوجب انقلاب الانشاء عما وقع عليه.
ولا تفكيك المعلول عن العلة، أترى ان حل عقد البيع بالإقالة أو الفسخ بالخيار
بوجب خللا في الايجاب والقبول؟ أو انفكاك المعلول عن العلة؟ مع أن تأثير الرد
في ابطال العقد المتزلزل ليس بحله واعدامه بعد حدوثه، بل بجعله مستقرا في
صدوره من غير أهله، ولازم استقراره في صدوره من غير أهله بطلانه وصيرورته
بحكم العدم.
توضيح ذلك: انه كما ثبت لذي الخيار باعتبار خياره وسلطنته على عمل
نفسه، وعمل طرفه السلطنة على حل العقد واقراره، بحيث إذا أقره ليس له حله،
وإذا حله لم يكن مجال لاقراره، فكذلك للأصيل ومن الآية الامر باعتبار سلطنته على
نفسه وجهاته وشؤونه انفاذ التقلب الواقع في ماله، بحيث إذا رده بطل واستقر في
372

البطلان، وإذا امضاء استقر في الصحة والنفوذ، ولا ينافي ذلك مع كون الانشاء تاما في
نفسه ولا مع حدوث المنشأ به، لان الحادث به إنما هو امر متزلزل ولا ينافي خروجه
عن التزلزل واستقراره في الصحة أو البطلان بامضاء الأصيل، أو رده.
ولا مجال لان يقال إنه لا سلطنة للأصيل على عمل الغير في هدمه وابطاله،
إذ كما له السلطنة على اسناد عمل الغير إلى نفسه، وجعله صادرا عن نفسه تسبيبا
باعتبار تعلقه بما يملكه فكذلك له السلطنة على دفعه عما يرجع إليه باعتبار تعلقه به،
ولو كان هذا القدر من التصرف ممنوعا لزم عدم تأثير امضائه في صيرورة عمل
الغير عمل نفسه بطريق أولى، لان الامضاء يقلب عمل الغير إلى عمل نفسه.
واما الرد فلا يقلبه عما هو عليه وإنما يجعله مستقرا في صدوره عن الغير،
فسلطنة من إليه الامر على امضاء عمل الغير وعدمه إنما هو باعتبار تعلقه بما يرجع
إليه، لا باعتبار صدوره عن الغير، فلو لم يكون التعلق بما يرجع إليه كافيا في جواز
التصرف فيه لزم ان لا يؤثر فيه الامضاء، والرد معا، ولا وجه للتفليك بينهما، وليس مرجع
الرد إلى قلب الانشاء عن كونه انشاءا ولا إلى قلب منشأ الانتزاع عن كونه منشأ له
حتى يحكم باستحالتهما، بل مرجعه إلى دفع المنتزع عن التعلق بالأصيل الموجب
لاستقراره في البطلان.
والحاصل ان السلطنة على العمل تحصل بأحد أمرين، اما لكونه عمل نفسه
مع تعلقه بما يرجع إليه، واما لأجل تعلقه بما يرجع إليه، فكما له السلطنة على
عمل نفسه ابقاءا ورفعا، فكذلك له السلطنة على العمل المتعلق بما يرجع إليه ردا
وامضاءا، بل مدار السلطنة على تعلق العمل بما يرجع إليه، ولذا لم يكن للفضول
هدم عمل نفسه، وهذا في غاية الوضوح ولأجل كمال وضوحه لم يخالف أحد من
الأصحاب (قدس سرهم) في بطلانه بالرد، وعدم تأثير الامضاء بعده، ولم يعتد أحد
منهم بما يترائى من رواية محمد بن قيس، وأولوها بما ينطبق على القواعد.
وبما بيناه تبين ان الإجازة كاشفة لا ناقلة، إذ بعد ما ظهر لك انه لا نسبة للعقد إلى
373

الأصيل الا صدوره منه، وان إجازة الأصل إنما تؤثر في نسبة صدور العقد إليه، وجعل
العقد الصادر عن الفضول صادرا " من الأصيل يظهر لك انه لا مجال للقول بالنقل،
لأن العقد له صدور واحد، ولا تعلق له الا بزمان وقوع العقد.
وتوهم انحلال صدور العقد إلى صدورات متعددة باعتبار تعدد الأزمنة
التالية قد عرفت فساده، وأيضا استناد الامر المنتزع في الصدور إلى الأصيل من
دون استناد منشأه إليه غير معقول، ومناف للانتزاع والتوليد، فاستناد الامر
المنتزع في الصدور أو الوجود إنما يكون باستناد منشأه إليه، ولا استناد لمنشأ
الانتزاع بزمان الامضاء حتى تصير الإجازة ناقلة.
ومنه يظهر لك انه يجب أن يكون المجيز مرجعا للعقد في زمان صدوره،
كما يجب أن يكون مرجعا له في حال الإجازة، غاية الأمر انه يكفي في المرجعية
في زمان الصدور رجوع متعلق العقد إليه بالملكية ونحوها وان لم يكن تاما نافذ
الاقرار في هذا الحال كالصغير والسفيه والمكره وهكذا.
فان قلت: ما ذكرت من أن الإجازة كاشفة لا ناقلة، وان المجيز يجب أن يكون
مرجعا للعقد في زمان صدوره، وامضائه ينافي مع ما اخترته من أن مرجع خيار مشترى
الأمة المزوجة في حل التزويج وتقريره إلى السلطنة على امضاء العقد ورده، وكذا
خيار الأمة المزوجة بعد عتقها، إذ لا يكون كل منهما مرجعا للعقد الصادر من المولى
في زمان صدوره، ولا تكون اجازته كاشفة عن استقراره عقد التزويج في زمان صدوره.
قلت: لا منافاة بينهما لان عقد التزويج إنما يصير فضوليا، أو في حكم الفضولي
بعد عتق الأمة أو اشترائها من مولاها، وكل منها مرجع للعقد بعد العتق أو الاشتراء
وتكون اجازته كاشفة عن استقرار العقد بعد تزلزله، واما حال صدوره من المولى
فهو نافذ تام، ولا يكون متزلزلا حتى يتطرق فيه ما يوجب استقراره في النفوذ أو البطلان
فان قلت قد ذكرت ان العقد لا ينحل إلى عقود متعددة باعتبار اجزاء الزمان
الا إذا كان الزمان ركنا فيه، ومتعلقا له كعقد الإجارة، وعقد التزويج لا تعلق له
374

بالزمان والدوام فيه اقتضائي، ولا يكون قيدا زائدا فلا ينحل باعتبار تعدد اجزاء الزمان
ويكون امرا واحدا تحقيقا وتحليلا، فلا يعقل ان يقبل النفوذ والتزلزل، مع بقائه على
وحدته وعدم انحلاله إلى متعدد.
قلت: اتصافه بالنفوذ والتزلزل على وجه التعاقب باعتبار اختلاف الطرف،
كاتصافه باللزوم والجواز كذلك لا يتفرع على أوله إلى متعدد وانحلاله إليه، وإنما
لا يقبل اتصافه بهما في زمان واحد لاوله إلى التناقض.
فان قلت: الإجازة كما ذكرت إنما تتعلق بصدور العقد، لأنها تجعل العقد
الصادر من الفضول صادرا من الأصيل، فلا مجال لتحققها في المقام لأنه صادر من
الأصيل، ولا ينحل صدوره إلى صدورات متعددة حتى يتطرق النفوذ والتزلزل معا
باعتبار تعدده تحليلا.
قلت: الصادر الواحد مع بقائه على وحدته، وعدم انحلاله إلى متعدد إذا
تعلق بمرجعين، ولو ترتيبا لا يمتنع ان يتطرق فيه النفوذ بالنسبة إلى أحد المرجعين،
والتزلزل بالنسبة إلى الاخر فينفذ بإجازته بالنسبة إليه أيضا، فكما ان تزويج الأمة
المشاعة بين موليين باذن أحدهما مع وحدته، وعدم تطرق التعدد فيه، ولو بالكسر
نافذ في صدوره بالنسبة إلى الاذن منهما ومتزلزل فيه بالنسبة إلى الاخر، ولا امتناع
في اجتماع النفوذ والتزلزل فيه، باعتبار اختلاف الطرف فكذلك في المقام،
فان قلت: الامر في المقام ليس كذلك، لنفوذه في صدوره وعدم التزلزل فيه
بوجه، وإنما تزلزل في بقائه فلا سبيل لتعلق الامضاء بالصدور حينئذ.
قلت مقتضى تزلزل عقد التزويج في بقائه عند تعلقه بالمرجع الثاني صيرورته
محلا لامضائه ورده، فبالامضاء يصير صادرا من حين تزلزله من المرجع الثاني على
وجه التسبيب لا المباشرة فافهم واغتنم، فإنه في غاية الدقة والنفاسة.
فان قلت: إذا كان الامر كذلك، فلم لا يجوز تنفيذ عقد البيع من حين الإجازة
إذا كان مرجعا له حينها، ولو لم يكن مرجعا له حين وقوعه.
375

قلت: الوجه في عدم جواز كون الإجازة ناقلة من حينها لا من حين العقد،
إذا كان مرجعا له حينه انه يلزم حينئذ تزلزل العقد في حال حدوثه واستقراره في
بقائه، وهو محال لان البقاء فرع الحدوث، فإذا كان متزلزلا في حدوثه ولم يستقر
فيه، فكيف يستقر في ببقائه، ضرورة انه إذا لم يثبت الحدوث،، فكيف يثبت البقاء
واما إذا لم يكن مرجعا له من حينه، ثم صار مرجعا له بسبب انتقال المبيع
أو الثمن إليه، فالوجه فيه استقرار العقد في البطلان حينئذ لأن العقد حين وقوعه من
جهات المنتقل عنه، وشؤونه، فإذا لم يمضه المنتقل عنه حتى خرج المبيع أو الثمن
عن ملكه استقر العقد في البطلان، وإذا بطل العقد في حدوثه بالنسبة إلى المنتقل عنه
فلا مجال للبقاء حينئذ بالنسبة إلى المنتقل إليه، حتى يتطرق فيه الامضاء فلو نفذ العقد حينئذ
بإجازة من انتقل إليه من حين انتقاله إليه، أو من حين امضائه لزم تأثير الامضاء في
انقلاب زمان الصدور وجعل العقد الصادر في زمان صدوره صادرا من حين انتقال
المبيع أو الثمن إليه أو من حين اجازته وهو محال.
تنبيهان:
الأول - انك قد عرفت ان عقد الإجارة ينحل إلى عقود متعددة باعتبار اجزاء
الزمان لكونه ركنا فيه ومتعلقا له، فلو آجر البطن الأول العين الموقوفة في مدة معينة،
وانقرضوا في أثنائها فلا ينبغي الاشكال في صيرورته فضوليا بالنسبة إلى البطن الثاني
في بقية المدة، ما لم يكن المؤجر ناظرا على البطن الثاني، فالقول ببطلان عقد
الإجارة حينئذ باعتبار انه لا محل لامضائه على القول بالكشف لعدم تزلزله حال
صدوره في غير محله، لانحلاله إلى عقدين، باعتبار زمان استحقاق البطن الأول،
وزمان استحقاق البطن الثاني واختلافهما، فاحد العقدين اللذين ينحل إليهما العقد
الواحد المتعلق بالزمانين، متزلزل في حدوثه وصدوره، فيستقر في الصحة والنفوذ
بامضاء أهله وهو البطن الثاني، كما يستقر البطلان بردهم.
376

والثاني - انه ليس المراد من كون الإجازة كاشفة لا ناقلة، انها تكشف عن أن
العقد حال وقوعه، وقع نافذا ولم نعلم به والإجازة كشفت عنه، إذ من المعلوم ان
العقد الصادر عن الفضول قبل لحوق الإجازة والرد متزلزل واقعا لا انه مستقر واقعا
اما في الصحة أو البطلان، ولحوق الإجازة أو الرد كاشف عنه، ضرورة ان الإجازة
إنما توجب تتميم السبب من حيث تأثيرها في استناده إلى الأصيل، فيؤثر من حين
وقوعه، كما أن الرد يوجب بطلان السبب من جهة استقراره في صدوره عن الفضول
فلا يؤثر من حين وقوعه، وهذا المعنى دقيق جدا.
وقد خفى وجهه على أكثر من تأخر حتى زعم بعضهم ان الكشف بالمعنى الذي
بيناه غير معقول، وجمع بين الضدين، من حيث إن تأثير الإجازة في استقرار العقد
وخروجه عن التزلزل يوجب الحكم بترتب الأثر من حين وقوعها والحكم بترتيب
الأثر من حين وقوعه يوجب الحكم بسبق الاستقرار عليها الموجب للحكم بعد تأثيرها
فيه، وهما ضدان لا يجتمعان، فاختار الكشف التعبدي بمعنى انها ناقلة تحقيقا والشارع
حكم بترتيب الأثر من حين وقوع العقد تعبدا.
وفيه ان مقتضى حدوث السبب وزواله، وصيرورته نافذا تاما بالإجازة اللاحقة
ترتب الأثر على السبب الزائل من حين حدوثه، ولا يعقل ترتب الأثر من حينها
لعدم وجود سبب في هذا الحال حتى يؤثر، فالقول بكونها ناقلة باطل جدا،
والامر دائر بين أمرين اما القول ببطلان العقد الفضولي، واما القول بصحته موقوفا،
وتأثير الإجازة فيه على وجه الكشف بالمعنى الذي بيناه.
واما الكشف التعبدي فغير معقول لأنه فرع القول بالنقل تحقيقا، والالتزام
بترتيب الأثر من حين العقد تعبدا. وقد ظهر لك ان القول بالنقل غير متصور،
فما دل من الروايات على صحة العقد الفضولي، وان الإجازة كاشفة إنما تدل على
الكشف تحقيقا، فحملها على الكشف التعبدي بزعم ان الكشف التحقيقي غير متصور
في غير محله.
377

والعجب من الفاضل المعاصر، انه أنكر دلالة الرواية الواردة في باب
النكاح على كون الإجازة كاشفة، فقال: ولا ينافي الرواية الدالة على تأثير
الإجازة بعد موت أحد الزوجين مع كونها ناقلة، لان الزوجية قائمة بنفس الزوجين
القائمة بعد الموت، فان عدم جواز حدوث الزوجية بعد الموت من البديهيات
الأولية، نعم لا مانع من بقائها بعد الموت، وفرق بين بين بقائها بعد الموت وحدوثها
بعده، مع أنه لو سلم جواز حدوثها بعده، فلا يترتب عليها الوراثة.
ضرورة ان الإرث إنما يترتب على السبب الحاصل عند الموت فالرواية
الشريفة الدالة على تأثير الإجازة بعد موت أحدهما، ووراثة الحي منه بعد الإجازة
منافية لكونها ناقلة من وجهين، بل ما ورد في الرواية - من احلافها بالله ما دعاها
إلى اخذ الميراث إلى رضاها بالتزويج ثم يدفع إليها الميراث ونصف المهر -
يدل أيضا على أنها كاشفة، إذ لو كانت الإجازة ناقلة، وكان الإرث مترتبا على
الزوجية ولو حدثت بعد الموت لم يكن لاحلافها حينئذ وجه، فالرواية الشريفة تدل
على أنها كاشفة لا ناقلة من وجوه ثلاثة.
ثم اعلم أن الرواية الشريفة تدل على أن موت الزوج قبل الدخول منصف
للمهر، بل يستفاد منها أيضا ان الرد مبطل للعقد، إذ لو لم يكن مبطلا له. وكان
باقيا على تزلزله لكان الحكم بالعزل بعد الرد إلى أن يعرض ما يبطله، فالرواية
الشريفة تدل على أحكام ثلاثة: كون الإجازة كاشفة، والرد مبطلا، وموت الزوج
قبل الدخول منصفا للمهر.
378

(فائدة - 52)
قد اشتهر بين الأصحاب (قدس سرهم) اعتبار بلوغ المتعاقدين في صحة العقد،
وانه لا اعتبار بعبارة الصبي، وانه مسلوب العبارة كالبهائم.
في المسالك في باب النكاح: " لا فرق في ذلك بين الصبي المميز وغيره،
ولا بين قوله ذلك لنفسه ولغيره، فان الشارع سلب عبارته بالأصل، وفى باب البيع
لا فرق في الصبي بين المميز وغيره، ولا بين كون المال له أو للولي أو لغيرهم اذن
مالكه أو لا، فلا يصح التصرف فيما صار إليه وإن كان مالكه قد اذن، لأنه بيع فاسد
فيلزمه الحكم السابق في الرجوع على القابض.
نعم ليس له الرجوع على الصبي بعوض ماله لو تلف أو اتلفه، لأنه فرط
فيه بتسليطه عليه مع عدم أهليته، ولو امره وليه بالدفع إليه، فدفع فإن كان مال
الولي برئ من ضمانه، وكان هو المفرط وإن كان مال الصبي لم يبرء من ضمانه،
ولو كان عوض ما ابتاعه من الصبي أو باعه فالمال للدافع وهو المضيع فلا عبرة
بإذن الولي في ضمانه ولا ضمان الصبي ".
وفى المقابيس، في كتاب البيع - بعد ان نسب عدم صحة عقد الصبي مطلقا
إلى الأكثر - قال: " وهذا هو الأصح، وتمسك له بالأصل السالم من المعارض،
وبكونه أحد الثالثة الذين رفع عنهم القلم كما روى في النبوي المشهور.
وبما رواه الكليني (قده) مستندا عن أبي جعفر عليه السلام في حديث أنه قال " ان
379

الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها
وجاز أمرها في البيع والشراء - إلى أن قال - والغلام لا يجوز امره في الشراء
والبيع ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم أو يشعر أو ينبت
قبل ذلك " وبما رواه الصدوق (قدس سره) في الفقيه مرسلا عن أبي عبد الله (ع)
أنه قال " إذا بلغت الجارية تسع سنين دفع إليها مالها وجاز أمرها في مالها " وبروايات
آخر متحدة مع الروايتين في المضمون أو قريبة منهما " انتهى.
وفيه ان الأصل صحة العقد وانعقاده، لان الكلام في كلام الصبي العارف
بالوضع القاصد للانشاء وعبارته حينئذ معتبرة ذاتا، ومحصلة للعقد، لأن العقود
كسائر المفاهيم الانشائية من الطلب والتمني والترجى والاستفهام، وهكذا افعال
توليدية وأمور اعتبارية، وجهات انتزاعية تحصل بمجرد وجود منشأ انتزاعها
في الخارج، ولا تكون من قبيل الأحكام الشرعية التكليفية ولا الوضعية حتى يتوقف
الحكم بالثبوت على ورود النص.
كشف الحال فيه: ان انتزاع فعل من فعل وتولده منه على نحوين. فقد يكون
جهة واقعية وامرا عرفيا يعرفه العقل وأهل العرف من دون مراجعة إلى الشرع،
كانتزاع علقة المجاورة والرفاقة والشركة وهكذا، حيث تنتزع من منشأها مع قطع
النظر عن جعل الشرع، نعم للشارع هدم هذا الانتزاع وابطاله كما أبطل التوليد
الحاصل من السفاح. وقد يكون مجعولا بحيث لا يترتب عليه واقعا كانتزاع الحدث
والطهارة من أسبابهما، فان المترتب على الغسل والوضوء، واقعا هي النظافة الظاهرية
كما أن المترتب على البول والجناية كذلك هي الخباثة الظاهرية، وانتزاع النظافة
والخباثة النفسيتين منها إنما هو بجعل الشرع وانتزاع العقود من الانشاءات من
قبيل الأول.
ضرورة ان الانشاء كالاخبار امر عرفي وجهة واقعية، فكما ان ترتب كشف
المفهوم على الجملة الخبرية امر واقعي عرفي لا يكون مجعولا لاحد، فكذا ترتب
380

حدوث مفهوم على الانشاء وهذا ظاهر جدا، فما يظهر من بعض ان العقد حكم شرعي
لا يحكم به الا بعد قيام الدليل عليه بمكان من الوهن، نعم العقد موضوع للحكم
الشرعي من التقرير أو الابطال، وكأنه اختلط عليه امر الموضوع بالمحمول.
وإذا اتضح لك ان العقود أمور واقعية و افعال غير مجعولة تتولد من الايجاب
والقبول ذاتا، اتضح لك ان الأصل في العقد الصادر من الصبي الصحة ما لم يعلم
ابطاله من الشارع، فمع الشك في أنه مسلوب العبارة الأصل فيه الصحة، لأن الشك
إنما هو في تصرف الشارع وجعله مسلوب العبارة تنزيلا ومع عدم الدليل على الابطال
الأصل فيه العدم اخذا بالمقتضى المعلوم والغاءا للمانع المحتمل، فتوهم ان الأصل
عدم العقد حينئذ، والاخذ بالقدر المحقق منه في غير محله.
واما حديث رفع القلم فيختص بالحكم التكليفي، لان القابل للوضع على
الشخص والرفع عنه إنما هي الأحكام التكليفية المتعلقة به مرة والمرتفعة عنه أخرى
واما الأحكام الوضعية فلا تكون طرفا للشخص حتى يوضع عليه مرة ويرفع عنه تارة
ولو سلم جواز تعميم رفع القلم إليهما فلا دلالة له على المطلوب أيضا، لما عرفت
من أن العقود أمور واقعية وافعال توليدية غير مجعولة، فلا تكون من قبيل الأحكام الوضعية
حتى تندرج في حديث رفع القلم على فرض شموله لها.
واما سائر الروايات فإنما تدل على عدم جواز امر الصبي ونفوذه ما لم يبلغ
لا على بطلان تعبيره وعدم تأثيره أصلا بحيث يكون كلامه كأصوات البهائم.
ثم قال (قدس سره) - بعد حكمه ببطلان عقده مطلقا -: " وقد وقع الخلاف
والاشكال في مواضع.
الأول: بيع من بلغ عشرا أو شرائه، فحكى فيه قول بالجواز، وعزاه بعضهم
إلى الشيخ، وذكر العلامة في التذكرة وجها لأصحابنا ويظهر من ظاهر الشرائع
وصريح المسالك، ان ذلك فيما إذا بلغ عشرا عاقلا، وعزى في المفاتيح إلى الشيخ
قال صاحب المسالك - بعد حكاية القول بذلك -: والمراد بالعقل هنا الرشد فغير
381

الرشيد لا يصح بيعه وإن كان عاقلا اتفاقا، وفصل الكلام فيه إلى أن قال.
" الموضع الثاني: بيع المميز مطلقا، أو إذا اذن له الولي أو أجاز بيعه، وكذلك
شرائه، والخلاف في ذلك منقول في الخلاف عن أبي حنيفة، حيث قال: " إن كان
بإذن الولي صح، وإن كان بغير اذنه وقف على اجازته " وحكم الشيخ بالمنع،
وحكاه عن الشافعي، وحكى ابن زهرة اجماع الأصحاب على البطلان، وهو الذي
يظهر من كنز العرفان أيضا كما يأتي " إلى أن قال وقال العلامة في حجر القواعد
" هل يصح بيع المميز وشرائه مع اذان الولي نظر " وقال ولده في الشرح: الأقوى
عندي الصحة ".
ثم قال " وقد استدل فخر الاسلام وغيره على الجواز بان العقد إذا وقع بإذن الولي
كان كما لو صدر منه فيكون صحيحا واحتج والده في التذكرة لأبي حنيفة
بقوله تعالى: " وابتلوا اليتامى " فان الابتلاء والاختبار إنما يتحقق بتفويض التصرف
إليهم، فيلزم صحة العقد الصادر منهم بإذن الولي، وبان المقتضى لصحة العقد
موجود وهو العقل والتمييز، والمانع وهو الحجر يرتفع بالاذن فيكون صحيحا
ونقل عن المقدس الأردبيلي (قدس سره) الميل إلى جواز بيعه وشرائه مع الرشد
واذن الولي مستدلا بالآية المتقدمة، وعموم الآيات والاخبار والأصل، مع منع
الاجماع وعدم دليل صريح في المنع " ثم قال: " وقال المحقق الكركي: لا يبعد بناء
المسألة على أن افعال الصبي وأقواله شرعية أم لا وحكم بأنها غير شرعية، وان الأصح
بطلان العقد " ثم أطال الكلام في النقض والابرام إلى أن قال:
" الموضع الثالث: بيعه وشرائه إذا اذن له الولي في مقام الاختبار " إلى أن قال
" الموضع الرابع: بيع المميز وشرائه وكالة، والخلاف فيه مبنى على جواز
توكيله وعدمه، والظاهر من أصحابنا اتفاقهم على المنع وعدم خلاف في ذلك
يعتد به وهو المنقول عن الشافعية إلى أن قال:
" الموضع الخامس: بيعه وشرائه فيما جرت العادة منه به الشئ اليسير على
382

وجه الاستقلال، وظاهر الأصحاب عدم الفرق بينه وبين الخطير، ويشهد به أيضا
ما سبق عنهم في الاختبار، مع أن الغالب وقوعه في أول الأمر في الشئ اليسير،
فإذا لم يصح العقد منه في ذلك مع اذن الولي ووقوعه في محل الحاجة فبدون
الاذن أولى بالمنع " إلى أن قال وقال صاحب المفاتيح: " الأظهر جواز بيعه
وشرائه فيما جرت العادة به منه نفى الشئ الدون دفعا للحرج في بعض الأحيان "
إلى أن قال:
" الموضع السادس: بيعه وشرائه فيما كان فيه بمنزلة الآلة لمن له
الأهلية، وظاهر الأصحاب بطلانه أيضا في هذه الصورة، حتى أنهم لم يجوزوا
له في مقام الاختبار الا السوم والمماكسة، ولم يجوزوا له اجراء الصيغة، واختار
صاحب المفاتيح الجواز كما في المسألة السابقة، وتبعه بعض مشائخنا المعاصرين "
انتهى ما أردناه من كلامه (قدس سره).
أقول يمكن رجوع هذه التفاصيل إلى نفوذ العقد، وعدمه لا إلى صحة الصيغة
وعدمها، وشاع التعبير عن النافذ بالصحيح، وعن غير النافذ بالباطل بل الظاهر
ذلك، فان القائلين بصحة بيع المميز وشرائه، مع اذن الولي أو اجازته مطلقا أو
في خصوص مقام الاختبار، ومع وكالته وفيما جرت العادة منه وفيما كان فيه
بمنزلة الآلة لمن له الأهلية إنما يحكمون بصحة بيعه وشرائه ونفوذهما، كما أن
القائلين بصحة بيع من بلغ عشرا إذا كان عاقلا، إنما يحكمون أيضا بنفوذ بيعه
في هذه الصورة.
ولذا فسر الشهيد الثاني العقل هنا بالرشد تمسكا بعدم صحة بيع غير الرشيد
اتفاقا فان الاتفاق إنما هو على عدم نفوذ بيع غير الرشيد، لا على بطلان صيغته
فالمفصلون جميعا حاكمون بصحة صيغته مطلقا، ضرورة انه لا يعقل تأثير اذن الولي
أو اجازته أو توكيل الغير، أو جريان العادة، أو الالية في صحة الصيغة، وإنما يؤثر
هذه الأمور في نفوذ العقد، ومضيه بعد صحة الصيغة.
383

نعم يمكن التفصيل بين صحة الصيغة وبطلانها في البالغ عشرا وغيره،
ولكن اعتبارهم العقل والرشد في الصحة دليل على تفصيلهم في النفوذ وعدمه،
فالصحيح جعل المسألة ذات قولين القول باعتبار البلوغ في صحة الصيغة مطلقا،
والقول بعدمه كذلك.
وإذا وقفت على كلماتهم فاعلم أن التحقيق عدم اعتبار البلوغ في صحة الصيغة
لاستصحاب المقتضى وعدم قيام الدليل على خلافه، كما نبه عليه العلامة في التذكرة وولده
فخر الاسلام والمقدس الأردبيلي ومن تبعهم (قدس سرهم) وقد خفى وجه الأصل
على صاحب المقابيس، فزعم أن الأصل عدم ترتب الأثر وقد ظهر لك ضعفه وفساده.
واما ما ذكره المحقق الكركي (قدس سره) من ابتناء المسألة على أن افعال
الصبي وأقواله هل هي شرعية أم لا، ففيه ان ترتب وجود المنشأ على الانشاء كترتب
كشف المدلول على الاخبار امر عرفي لا يرجع إلى الشرع ابتداء، وإنما للشارع
التصرف فيه تقريرا وابطالا، وثانيا ان التحقيق ان أفعاله وأقواله شرعية كما أوضحنا
الكلام فيه في محله، ومن الغريب توهم قيام الاجماع على اعتبار البلوغ في صحة
الصيغة، مع ذهاب جماعة كثيرة من الأجلة إلى خلافه واغرب منه ادعاء صاحب
الجواهر الضرورة فيه.
وإذ قد اتضح لك ما حققناه، فقد اتضح لك غاية الاتضاح ان صيغته صحيحة
في حد نفسها، ولا يمنع من صحتها عدم بلوغه، كما أنه اتضح لك عدم الاشكال
في نفوذ عقده مطلقا، فيما يرجع إليه مع اذن الولي أو اجازته ولا وجه لاختصاصه
بمقام الاختبار، أو بالشئ اليسير أو بما كان فيه بمنزلة الآلة لمن له الأهلية، كما أنه
لا اشكال في نفوذ عقده، فيما يرجع إلى غيره وليا كان أم لا مع اذن من إليه
الامر في اجراء الصيغة أو اجازته مطلقا، ولا اختصاص له بإحدى الصورتين الأخيرتين،
بل لا يبعد استقلاله فيما جرت العادة منه للشئ اليسير، كما اختاره صاحب
المفاتيح، بل يمكن القول باستقلاله إذا بلغ عشرا عاقلا رشيدا مطلقا.
384

فان قلت: اذن غير الولي له في اجراء الصيغة يرجع إلى توكيله فيه، وهو
لا يتحقق الا بايجاب الموكل وقبول الوكيل، ولا عبرة بقبول الصبي مع عدم اذن
الولي له، فلا ينفذ عقده حينئذ كغيره، ضرورة ان الصبي لا يملك نفسه فلا تتم
الوكالة بقبوله مع عدم اذن الولي له، فلا يقع عقده عن الوكالة حينئذ.
قلت: الوكالة لا تكون عقدا متوقفا في تحققه على الايجاب والقبول، لان
الموكل فيه من شؤون الموكل وجهاته ويكفى في وقوعه عن قبله اذنه فيه، ولا يحتاج
إلى اعمال سلطنة من طرف الوكيل، والقبول إنما يعتبر في تعهد الوكيل الوكالة
وصيرورته في وثاقها لا في تحققها، وعده من قبيل العقود إنما هو باعتبار دخل القبول
فيها في الجملة.
ولذا اتفق الأصحاب (قدس سره) على الاكتفاء باتيان الموكل فيه عن القبول
وعدم احتياجها إلى انشاء القبول، والتعبير عنه بالقبول الفعلي إنما هو من جهة
الاكتفاء به عن القبول، لأنه قبول تحقيقا، إذ لو كان كذلك لزم أن يكون جزءا
محققا للوكالة كالايجاب، فيلزم حينئذ عدم وقوعه عن وكالة، ضرورة انه لا يعقل
أن يكون المحقق للشئ متحققا منه.
ولو سلم ان الوكالة عقد تحقيقي متوقف على الايجاب والقبول فتوقف
نفوذ المأذون فيه على تحقق الوكالة ممنوع، بل يكفي فيه تحقق الاذن فقط، لان
الموجب لنفوذ العمل استناده إلى من إليه الامر ويكفى فيه اذنه وترخيصه.
385

(فائدة - 53)
ومما يعتبر في نفوذ العقد ومضيه اختيار المتعاقدين، حيث لا يكون الاكراه
بحق، ووجه اعتباره في نفوذ العقد ظاهر، ضرورة ان العقد من جملة الأفعال الاختيارية
للمتعاقدين فلا يتحقق الالتزام به الا باختيارهما وطيب نفسهما به، نعم إذا
كان الاكراه بحق لا يعتبر فيه الاختيار، لأن العقد حينئذ لازم عليه شرعا ولا يكون
مخيرا في فعله وتركه حتى يعتبر فيه الاختيار وطيب النفس به.
وكيف كان فاعتباره إنما هو في نفوذ العقد لا في صحته وعليه يتفرع ما اشتهر
بينهم من الحكم بنفوذ عقد المكره لو رضى به بعد زوال الاكراه، وإن كان الظاهر
من جملة من كلماتهم انه من شروط الصحة عندهم الا ان تصريحهم بنفوذ عقد
المكره بحصول الرضاء بعد زوال العذر، صريح في أنه كالعقد الفضولي موقوف
على حصول الرضاء وزوال العذر كما أن تعليلهم بعبارة المكره دون غيره صريح
في تمامية عقد المكره في مرحلة الصحة، وان قصوره إنما هو في مرحلة النفوذ،
وأيضا استثناء الاكراه بحق يشهد بما بيناه، إذ لو كان الاكراه مانعا عن الصحة مطلقا
ورافعا للقصد إلى المعنى - كما يظهر من بعضهم - لكان مانعا عن الصحة مطلقا
ولوجبت مباشرة اجراء الصيغة ممن تصح مباشرته نيابة عن المكره بحق أو ولاية
عليه، بل لا تصح النيابة حينئذ الا لمن الولاية عليه، وحيث اشتبه الامر على بعضهم
386

وزعم أن المكره كالهازل فاقد لما به قوام صحة العقد من قصد المعنى وجب توضيح
الكلام فيما به يتقوم صحة العقد حتى يتضح فصل الكلام في المقام.
فأقول بعون الله تعالى ومشيته: ان منشأ انتزاع العقد اقتضاءا هو اللفظ
المستعمل في مفهومه في مقام الانشاء وايجاد المفهوم أو ما بمنزلته من إشارة الأخرس
فان جامع الشرط مع قابلية المحل وفقد المانع والمزاحم ترتب عليه المنتزع والا
فلا، فصحة الصيغة المترتب عليها النفوذ تتقوم عرفا بأمور أربعة يتقوم بها منشأ
الانتزاع.
فلو لم يكن في البين لفظ أو ما بمنزلته، أو كان ولم يستعمل في مفهومه بل
صدر ذهولا أو سهوا أو هزلا أو عبثا ولغوا، أو استعمل في مفهومه ولم يكن في مقام
الانشاء بل في مقام الاخبار، أو كان في مقام الانشاء ولم يكن في مقام ايجاد المفهوم
بل في مقام الاستفهام التمني أو الترجي وهكذا من وجوه الانشاء، لا تتم الصيغة
ولا تصح ولا يعقل النفوذ حينئذ، وإذا اجتمعت الأمور الأربعة صحت الصيغة وكانت
محلا للنفوذ وعدمه بسبب اجتماع ماله دخل فيه وعدمه.
إذا تحقق لك ما حققناه فاعلم أن المراد من الاختيار هو طيب النفس والرضاء
بالعقد، كما أن المراد من الاكراه هو عدم طيب النفس والرضاء به، لا ان المراد
من الاختيار قصد العقد ومن الاكراه عدمه، ضرورة ان مجرد قصد العقد لا يكون
كافيا في النفوذ، فلو كان المراد من الاختيار قصد العقد لزم ذكر الرضاء أيضا في
جملة الشروط، فاستكمال العقد عندهم ببلوغ العاقد وعقله واختياره دليل على أن
المراد منه الرضاء وطيب النفس، وأيضا لو كان المراد به قصد المدلول كما يوهمه
ظاهر كلام بعض الأساطين لم يكن لاعتباره بعد اعتبار قصد العقد وجه.
فتبين لك ان الهازل حيث لا يكون في مقام الإفادة والاستفادة: واستعمال
اللفظ لا يكون تامة الصيغة بخلاف المكره فإنه في مقام الإفادة، غاية الأمر انه لا يطيب
نفسه بما أفاده، واليه يرجع ما ذكره الأساطين من الوثوق بعبارته، فتوهم ان المكره
387

كالهازل في عدم قصد المعنى في غير محله.
وقد تبين لك مما بيناه ان تأثير الاختيار والاكراه إنما هو بالنسبة إلى من إليه
الامر لا المباشر، ضرورة ان تأثيرهما إنما هو في النفوذ وعدمه: وهما إنما يعتبران
في من إليه الامر، ويكفى في المباشر صحة صيغته سواء كانت نافذة أم موقوفة
كالعقد الفضولي، فتقسيم الاكراه إلى اقسام ثلاثة: اكراه من إليه الامر، واكراه
المباشر، واكرههما معا، في غير محله، ضرورة عدم تأثير اكراه المباشر في عدم
صحة الصيغة ولا في نفوذ العقد.
نعم قد يتأمل في نفوذ العقد والايقاع حينئذ من جهة ان استناد العقد إلى من
إليه الامر حينئذ إنما هو من جهة صدوره عن وكيله، ومع اكراه المباشر على
المباشرة لا يكون وكيلا، لتوقف عقد الوكالة على قبوله إياها اختيارا، ومع
تحقق وكالته عمن إليه الامر لأجل اكراهه على القبول لا يقع عقده عن وكالة،
فلا يستند إلى من إليه الامر حتى يصير نافذا.
وفيه ان الوكالة إنما تتحقق بايجاب الموكل - كما أشرنا إليه وسنحققه
تفصيلا - انشاء الله تعالى - وقبول الوكيل إنما يؤثر تعهده الوكالة لا تحققها، مع أن
الاستناد إلى من إليه الامر يتحقق باذنه وترخيصه ولا يتوقف على تحقق الوكالة.
وقد تبين لك بما بيناه ان القدرة على التورية، لا تنافى تحقق الاكراه في
المقام، وانه لا تجب التورية على المكره مع قدرته عليها، لأن عدم طيب النفس
والرضاء بالعقد كاف في عدم النفوذ، فلا حاجة إلى التوصل بالتورية وابطال الانشاء
وتوهم ان المكروه إنما يكره على ايجاد اللفظ لا قصد الانشاء فهو مختار في قصده
وعدمه، فقصده إياه لا يكون الا عن اختياره، فينفذ العقد حينئذ مع قصد الانشاء، في
غير محله، لان مجرد الاختيار في استعمال اللفظ في مدلوله لا يكفي في النفوذ مع عدم
طيب نفسه بوقوعه.
وكان المتوهم فسر الاختيار والاكراه في المقام بالقدرة على الفعل والترك
388

وعدم القدرة عليهما، وغفل عن أن المراد من الاختيار والاكراه في المقام طيب النفس
والرضاء بالعقد وعدمه، وبما بيناه تستغنى عن القول بان القادر على التورية في
حكم المكره شرعا وان لم يكن مكرها حقيقة بل القدرة عليها لا تنافى تحقق الاكراه
بمعنى الاجبار في التكلم بكلمات الكفر ونحوها، لان التكلم بما يحكى عن الكفر
إنما يكون كفرا إذا صدر عن الاختيار، واما إذا صدر لا عن الاختيار فلا يجب
إرادة معنى آخر من اللفظ حينئذ.
توضيح الحال ان حقيقة الكفر هو الادبار الراجع إلى التردد أو الانكار،
وهو لا يكون الا بالقلب، واللفظ إنما يكون كفرا وانكارا إذا كان اللافظ في مقام
الإفادة والاخبار عما في الضمير، ومع الاكراه والاجبار لا كشف عما في الضمير
فلا كفر ولا انكار حينئذ، فلا يكون صدور الكلام الحاكي عن الكفر في مقام الاكراه
وقلبه مطمئن بالايمان كفرا حتى يجب عليه الفرار منه بالتورية.
وببيان أوضح للفظ دلالتان تصورية وتصديقية، والأولى تترتب عليه بالوضع
مطلقا صدر من اللافظ سهوا، أم عمدا اكراها أم اختيارا، لغوا أو في مقام الإفادة،
وهي في الحقيقة لا تكون دلالة بل حكاية كما حققناه في محله، واما الثانية فبالتركيب
الصادر عن العارف بالوضع في مقام الإفادة والاخبار عما في ضميره، وهو
إنما يكون في مقام الاختيار لا الاجبار، والكفر والانكار كالايمان والاقرار والشهادة
وهكذا من العناوين إنما تترب على اللفظ باعتبار الدلالة التصديقية لا التصورية
الخارجة عن الاختيار المترتبة عليه قهرا كما هو ظاهر، والا لكان نقل الكفر كفرا
ولكان التكلم بكلام الكفر سهوا كفرا، فمع انتفاء الكشف التصديقي الذي هو
مدار الايمان والكفر في صورة الاجبار لا يترتب على اللفظ عنوان الكفر والانكار
باعتبار الدلالة التصورية حتى يجب الفرار منه بالتورية.
فان قلت لو كان ترتب عنوان الكفر والانكار والاقرار والشهادة والاخبار
وهكذا من العناوين على اللفظ موقوفا على الاختيار لكان ترتب الاسلام على كلمتي
389

الشهادة موقوفا على الاختيار أيضا، وكذا ترتب عنوان الانشاء على اللفظ مع أن
الاسلام يتحقق بالتكلم بكلمتي الشهادة اجبارا بالاتفاق بل بالضرورة، وكذا
يترتب عنوان الانشاء على اللفظ اكراها والا لزم بطلان عقد المكره رأسا، وهو
مناف لما اعترفت به من صحته ونفوذه بالرضاء بعد زوال العذر تبعا لما أفتى به
أكثر الأصحاب (قدس سرهم).
قلت: ايجاد القضية اللفظية في الخارج إن كان على سبيل الاختيار، فالباعث
عليه هي احدى الصفات الثلاثة النفسية: من العلم والإرادة والكراهة، فان كانت
خبرا فالباعث على ايجادها العلم بمضمونها، وان كانت انشاء فالباعث على ايجادها
إرادة مضمونها أو كراهته، وإن كان على سبيل الاجبار والاكراه فالباعث عليه
إنما هو دفع المكروه والمحذور.
والعناوين المترتبة على الاختيار وثبوت احدى الصفات المذكورة في النفس
كالاقرار والشهادة والاخبار عما في الضمير والايمان والكفر والانكار وهكذا لا
تترتب على اللفظ الا في حال الاختيار.
واما العناوين المشتركة بين الاختيار والاكراه فتترتب على اللفظ في الصورتين،
ومنها الاسلام والانشاء.
فان الاسلام هو التسليم لدين الاسلام والالتزام به والبناء على الاخذ به دينا،
ولا ينافيه التردد في حقيته بل القطع بخلافه، قال عز من قائل " قالت الاعراب آمنا
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم " فان الباعث على
التسليم والالتزام قد يكون العلم بحقيته فيجامع الايمان ويترتب عليه الآثار الدنيوية
والأخروية معا.
وقد يكون حقن دمه وحفظ ماله أو رجاء الوصول إلى الرياسة وغيرها من الفوائد
الدنيوية فيفارقه ولا يترتب عليه الا الآثار الدنيوية من طهارة البدن وحل الذبيحة
وجواز النكاح والإرث من المسلم وهكذا، وليس هذا نفاقا وان شاركه في الحرمان
390

من فوائد الايمان لان المنافق بنائه على الموافقة في ظاهره وعلانيته والمخالفة في
باطنه، وسره بخلاف المسلم فان بنائه على الموافقة في الظاهر والباطن ولو خوفا
أو طمعا.
واما الانشاء فهو جعل الكلام لا في وزان الواقع بل في مقام ايجاد المفهوم
أو طلبه أو الاستعلام عنه وهكذا من وجوه الانشاء ومن المعلوم انه قد ينبعث من
الإرادة النفسية وقد ينبعث من الاكراه والاجبار، ولا تجمع الكراهة والإرادة في
محل واحد لتضادهما فالمكره على العقد كاره له لا يريده.
ولا ينافي ذلك ما ذكرته آنفا من ثبوت قصد المعنى في حال الاكراه لان
ثبوت القصد الاستعمالي المتقوم به الانشاء لا ينافي انفكاكه عن الإرادة النفسية
الباعثة على صدوره عن طيب نفسه به واختياره له، ولعله مراد بعض الأساطين من
خلو المكره عن قصد المدلول والا فعدم خلو الانشاء عن القصد الاستعمالي في غاية
الوضوح.
فان قلت كما أن جعل الكلام لا في وزان الواقع ينبعث تارة من الإرادة وبالاختيار
ومرة مع الكراهة والاكراه فكذلك في وزان الواقع ينبعث مرة من ثبوته المخبرية
في الضمير وتارة بالاكراه مع عدم ثبوته في ضميره فالاخبار كالانشاء من العناوين
المشتركة فكيف حكمت بان الاخبار لا يترتب على اللفظ الا في حال الاختيار؟
قلت نعم اتصاف القضية بالخبر والانشاء باعتبار جعلها في وزان الواقع ولا في
وزانه لا تختص بحال الاختيار ولكن دلالتها على ما في الضمير مع العلم والإرادة
والكراهة بالدلالة الآنية تختص به كما هو ظاهر والمقصود من ترتب عنوان الاخبار
على الاختيار ترتب كشف اللفظ عما في الضمير عليه لا عنوان الخبر المتحقق بمجرد
جعل القضية في وزان الواقع في مرحلة الاستعمال.
والحاصل ان المقصود من القضية الخبرية وهو الاخبار والكشف عما في الضمير
أصالة - كمقام الاقرار والشهادة والايمان والكفر وهكذا - أو توطئته للخارج كما
391

هو الغالب الشائع في القضايا لا يتحقق الا في حال الاختيار، ضرورة عدم ثبوت المخبر
به في الضمير حال الاكراه فلا يتحقق الكشف عنه ولا عن الخارج حينئذ.
تنبيه:
قد استفيد مما بيناه ان زوال الاكراه وحصول الرضاء بمضمون العقد كاف
في نفوذه ومضيه من دون حاجة إلى انشاء الامضاء، وهو مفارق عن العقد الفضولي
في هذه الجهة حيث إنه لا يتم ولا ينفذ الا بالامضاء، ولا يكفي فيه ثبوت الرضاء باطنا
بمضمون العقد مع عدم امضائه، والسر فيه ان العقد الصادر عن الفضول لا بد في نفوذه
من اسناده إلى الأصيل ولا يستند إليه الا بامضائه إياه واما العقد الصادر عن المكره
فهو صادر عن الأصيل ومستند إليه بصدوره عنه، وإنما لا يتم بواسطة فقد الاختيار
وطيب النفس به، فإذا حصل الرضاء وطيب النفس به تحقق الاختيار وتم العقد
ونفذ ولم يتوقف على شئ آخر حتى يصير متزلزلا موقوفا على حصوله.
392

(فائدة - 54)
قد ورد عن سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وعليهم أنه قال " ما عرفناك حق معرفتك "
وعن سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليهم السلام أنه قال " لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا " قال السيد
الجزائري في حاشيته على شرح الجامي " وما يترائى ظاهرا من لزوم كون معرفة الامام
أزيد من معرفة الرسول صلى الله عليه وآله فيندفع، اما بحمل طلب النبي صلى الله عليه وآله لزيادة المعرفة على
أكملية قبول المادة، يعنى لما كان مادة النبي صلى الله عليه وآله أكمل من مادة الامام فهي قابلة
اذن لزيادة المعرفة.
واما مادة الامام فقد كمل كمالها، أو بحمل طلب الزيادة على أيام الحياة وقبل
استكمال المعرفة التي لا يتصور فوقها بالنسبة إلى مراتب البشر، لان درجات معرفته
بربه كانت تزيد يوما بعد يوم إلى أن قبضه إليه وأكمل له المعرفة اللائقة بجنابه،
وهو قد دفع تلك العلوم بأسرها إلى الامام، فهو (ع) بذلك العلم الكامل قال هذا
القول هذا، والأول مسلكي في حل هذا الخبر، وثانيه مسلك العلامة الحلي ولا يخفى
ما فيه " انتهى.
أقول: ولا يخفى ما فيهما:
اما الأول فلما ثبت بالكتاب والسنة انه عليه السلام نفس الرسول واخوه في الدنيا
والآخرة، وهو قاض بمساواتهما في القابلية والكمال بالضرورة.
واما الثاني فلان اخبار النورانية تدل على أنهما صلى الله عليهما وعلى آلهما
كانا في عالم الأرواح والأشباح كاملين عالمين بالعلم كله. والصواب في الجواب
393

انه لا منافاة بين الروايتين بوجه، لان العرفان إنما يرجع إلى ذات الشئ وحقيقته
ولا يتصور للممكن الإحاطة بمعرفة ذات الواجب تعالى شانه وكنهه، وكل ما يتصوره
المخلوق ويميزه بوهمه بادق معانيه مخلوق مثله مردود إليه، فالكل متحير في معرفة
كنه الباري تعالى وتقدس وإنما يعرف تعالى شانه بالوجه والآثار، وتختلف معرفة
طبقات الناس في هذه المرحلة بمراتب شتى
واما اليقين فهو متعلق بوجود الباري تعالى شانه ووجود القيمة والحساب والجنة
والنار وعالم البرزخ وكيفياته وهكذا مما غاب عن الابصار واستتر عن الانظار،
والوصول إلى أعلى مرتبة اليقين بحيث لا يتصور مرتبة فوقها لا ينافي مع عدم معرفة
الذات حق المعرفة، فلا منافاة بين الروايتين بوجه، وتوهم المنافاة إنما نشأ من عدم
التدبر في معنى المعرفة و اليقين.
هذا، وقد اقتضى منى بعض الاخوان الكشف عما روى في مصباح الشريعة
عن مولانا الصادق عليه السلام من أنه قال " العبودية جوهرة كنهها الربوبية فما فقد من العبودية
وجد في الربوبية وما خفى من الربوبية أصيب في العبودية ".
فأقول: حمل الجوهرة على العبودية على وجه الاستعارة ان قلنا بان الجوهر
يختص لغة بالعين ولا يعم الأعيان والاعراض، ضرورة ان العبودية من الاعراض
لا الجواهر، والتعبير بالكنه حينئذ أيضا على وجه الاستعارة، إذ كنه الشئ حقيقة عبارة
عن الحقيقة والذات التي لا تكون الا في الجواهر.
وكيف كان لما كانت العبودية تنتهى إلى درجة تحصل معها حكم الربوبية
كما في الحديث القدسي " عبدي أطعني حتى أجعلك مثلي، إذا قلت للشئ كن فيكون "
جعلت الربوبية كنهها فكما ان الشئ ينتهى في مقام التحديد إلى حقيقته وكنهه ليس
وراء الحقيقة شئ ظاهر فكذلك العبودية ترتقى وتنتهى في مرحلة الكمال إلى الربوبية
فما فقد من الكمال في أوائل العبودية أصيب في الربوبية التي هي منتهى درجة العبودية
وما خفى عن الربوبية من كمال التذلل والتخضع أصيب في العبودية.
هذا ما ظهر لي في معنى الرواية على فرض صحة سندها.
394

(فائدة - 55)
اعلم أن القضية مشتملة على عقدين: عقد الوضع وهو اتصاف ذات الموضوع
بوصفه، وعقد الحمل وهو اتصافها بوصف المحمول، وقد اتفق أهل المنطق على أن
العقد الثاني الصالح لجهات متعددة فقد يكون الاتصاف بوصف المحمول بالامكان
عاما أو خاصا، وقد يكون بالضرورة وقد يكون بالدوام وهكذا.
واختلفت كلماتهم في العقد الأول، فنسب إلى أبى نصر الفارابي انه بالامكان
والى الشيخ الرئيس انه بالفعل، فمن اختار الثاني حكم لأنه لا عكس للممكنتين قالوا
إذ لا يلزم من صدق الأصل صدق العكس - مثلا إذا فرض ان مركوب زيد بالفعل
منحصر في الفرس صدق كل حمار مركوب زيد بالامكان ولم يصدق عكسه، وهو ان
بعض مركوب زيد بالفعل حمار بالامكان - ومن اختار الأول حكم بثبوت العكس
لهما إذ يصدق حينئذ بعض مركوب زيد بالامكان حمار بالامكان.
أقول التحقيق انه لا وجه للتفصيل بين العقد لأنه ان أريد انه يجب أن يكون
اتصاف الموضوع بوصفه أن يكون بالفعل ولا يجوز أن يكون بالامكان
فهو خلاف الضرورة، إذ كما يجوز تقييد الاتصاف بالمحمول تارة بالامكان،
وتارة بالفعل وهكذا يجوز تقييد الاتصاف بوصف الموضوع تارة بالامكان.
فيقال كل كاتب بالامكان متحرك الأصابع بالامكان، وتارة بالفعل فيقال كل
كاتب بالفعل متحرك الأصابع بالفعل، وان أريد ان الظاهر من القضية عند اطلاقها
395

هو اتصاف ذات الموضوع بوصفه بالفعل فهو صحيح، ولكنه لا يوجب التفكيك
بين العقدين لان عقد المحمول عند الاطلاق وعدم التقييد أيضا ظاهر في أنه بالفعل.
فما ذكره التفتازاني في تهذيبه من أنه لا عكس للممكنتين فاسد جدا، لأنه ان
أريد ان المحمول إذا جعل موضوعا في عكس القضية يجب أن يكون اتصاف ذات
الموضوع به بالفعل وإن كان اتصافها في الأصل بالامكان، فهو خلاف الضرورة
كما عرفت. وان أريد ان اتصاف الموضوع بوصفه ظاهر في أنه بالفعل عند الاطلاق
فهو لا ينتج ما حكم به من عدم ثبوت العكس لهما حينئذ، إذ القضية ليست مطلقة
حينئذ إذ المفروض تقييد القضية بالامكان.
فيجب ان يجعل المحمول المقييد بقيد الامكان موضوعا في العكس. فما ذكره
بعض المحشين من أنه لما اختار مذهب الشيخ، لأنه المتبادر في العرف واللغة حكم
بأنه لا عكس للممكنتين عليل جدا إذ لا ينافي التبادر مع التقييد بخلافه كما هو المفروض
396

(فائدة - 56)
اعلم أن القضية تشتمل على اجزاء ثلاثة: النسبة التامة وطرفاها وهما الموضوع
والمحمول، وتنقسم إلى اقسام ثلاثة: لفظية، ومعقولة وواقعية أي النفس الامرية، وينقسم
كل منها إلى موجبة وسالبة ولا بد من وجود الموضوع فيهما في اللفظية والمعقولة
إذ كما لا تتحقق الموجبة اللفظية أو المعقولة الا بعد تحقق وجود موضوعها في عالم
اللفظ أو الذهن فكذلك السالبة اللفظية أو المعقولة لا تحقق الا بعد وجود موضوعها
كذلك، فالسالبة عن الموجبة في القضية النفس الامرية، إذ تعتبر في
سالبتها وجود موضوعها إذ كما تصدق السالبة بانتفاء المحمول كذلك تصدق بانتفاء
الموضوع، واما الموجبة منها فلا بد من وجود الموضوع فيها، لان الحكم فيها بثبوت
شئ لشئ وثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له.
ثم إن ملاك الموجبة عند أهل النظر كون النسبة ايجابية في القضية اللفظية
ولو لم يكن ثبوت في نفس الامر، اما لأجل امتناع وجود موضوعه في الخارج
كاجتماع الضدين محال، وشريك الباري ممتنع، واما لأجل عدم وجوده في
الخارج اتفاقا.
واما لأجل كون محمولها امرا عدميا فالتجأوا إلى جعل الوجود المعتبر فيها
أعم من الوجود الخارجي والذهني والخارجي أعم من التحقيقي والتقديري، فان
397

كان الموضوع فيها من الممتنعات اخذوا الوجود المعتبر فيه ذهنيا.
وإن كان ممكنا ولم يوجد اخذوا وجوده تقديريا، وإن كان الحكم فيها على
الافراد المحققة في الخارج اخذوا وجوده تحقيقا.
قال التفتازاني في تهذيبه: " ولا بد في الموجبة من وجود الموضوع اما محققا
وهي الخارجية، أو مقدرا فالحقيقة، أو ذهنا فالذهنية " قال بعض شراح كلامه:
" القضايا الموجبة لها ثلاثة أقسام، لان الحكم فيها اما على الموضوع الموجود في
الخارج محققا نحو كل انسان حيوان بمعنى ان كل انسان موجود في الخارج
حيوان في الخارج.
واما على الموضوع الموجود في الخارج مقدرا نحو كل انسان حيوان
بمعنى ان كل ما لو وجد في الخارج كان انسانا فهو على تقدير وجوده في الخارج
حيوان وهذا الموجود المقدر إنما اعتبروه في الافراد الممكنة لا الممتنعة، واما على
الموضوع الموجود في الذهن كقولنا شريك الباري ممتنع بمعنى ان كل ما يوجد
في العقل ويفرضه العقل شريك الباري فهو موصوف في الذهن بالامتناع في الخارج
وهذا إنما اعتبروه في الموضوعات التي ليست لها افراد ممكنة التحقق في الخارج "
انتهى.
أقول: ايجاب القضية في عالم اللفظ لا يكون تابعا لايجاب القضية النفس
الامرية وكاشفا عنه حتى نلتزم بأنه لابد من وجود الموضوع في القضايا اللفظية
الموجبة، ونحكم بعموم الوجود للذهني والخارجي للتحقيقي والتقديري، فان
القضايا الموجبة في عالم اللفظ على اقسام ثلاثة:
الأول: ما تكون سالبة في نفس الامر وهي القضايا التي حكم فيها بامتناع وجود
موضوعاتها في الخارج، فان مرجع الحكم باستحالة اجتماع الضدين والنقيضين
وامتناع شريك الباري ونظائرها إلى أن موضوع هذه القضايا لا يقبل الوجود، فهذا
القسم من القضايا الحقيقية سالبة وان كانت في الصورة موجبة.
398

وهكذا الامر إذا كان المحمول في القضية اللفظية عدما كقولك الانصاف
معدوم في هذا الزمان، أو عدميا كقولك زيد لا بصير، فان القضية اللفظية وان كانت
موجبة في الصورتين الا ان القضية النفس الامرية المحكية بهما سالبة، فان مضمون
القضيتين عدم الانصاف في هذا الزمان وعدم البصر لزيد.
ولا يختلف مضمونهما باختلاف التعبير ايجابا وسلبا، ضرورة انه لا تختلف
القضية النفس الامرية سلبا وايجابا باختلاف قولك ليس الانصاف بموجود في هذا
الزمان، وقولك الانصاف معدوم في هذا الزمان، وقولك ليس زيد بصيرا وقولك
زيد لا بصير، وما ذكره السبزواري في منظومته من أن سالبة المحمول موجبة
يلزمها وجود الموضوع إذ ربط سلب ليس سلب ربط فاسد جدا، لان ربط سلب
إنما يوجب ايجاب القضية اللفظية لا النفس الامرية فلا يلزمها وجود الموضوع.
ثم إن ما يظهر من كلامه من أن القضية السالبة هي التي سلب الربط فيها في
غير محله، فان سلب الربط إنما هو في الأسماء المعدودة والقضية السالبة مشتملة
على الربط السلبي، فان الربط على نحوين ايجابي وسلبي، والسلب والايجاب
إنما يتعلقان بالمحمول لا بالربط.
والثاني: مالا تكون قضية في نفس الامر حتى تكون موجبة أو سالبة، وهي
القضية المشتملة على حد الشئ فإنها وان كانت في الصورة قضية تامة مشتملة على
الموضوع والمحمول والنسبة التامة الا انها لا تكون قضية في الحقيقة فان الحد
عبارة عن حقيقة الشئ وكنهه، ولا تكون امرا زائدا عليه حتى يكون موضوعا،
والحد محمولا عليه.
فلا وجه لاعتبار الوجود في المحدود الذي هو صورة موضوع في القضية
اللفظية، بل وهكذا الامر في حمل الجنس أو الفصل على النوع، بل على افراده
ومصاديقه نحو قولك الانسان حيوان أو ناطق، وكل انسان حيوان أو ناطق، لان
الجنس والفصل لا يكونان أمرين زائدين على النوع أو مصاديقه، بل هما داخلان
399

في حقيقته فلا يحملان عليه أو على مصاديقه وافراده.
والثالث: ما تكون موجبة في نفس الامر وهي على قسمين:
الأول: ما يكون ثبوت المحمول للموضوع فيه ربطيا غير أصيل نحو قولك:
الأربعة زوج، والانسان كلى، وبحر من الزيبق بارد بالطبع، وهكذا من القضايا
التي لا يتوقف صدقها على وجود موضوعاتها في الخارج، فان ثبوت المحمولات
للموضوعات في أمثال هذه القضايا ثبوت ربطي غير أصيل، والثبوت الربطي
لا يقتضى ثبوت طرفيه لا ذهنا ولا خارجا، ضرورة ان الثبوت الربطي في أمثال هذه
القضايا كثبوت احدى النسب الأربع بين كل كليين ذاتي للمفهومين، فلا يتوقف
على وجودهما والا لزم خلف الفرض.
والثاني: ما يكون ثبوت المحمول للموضوع أصيلا نحو قولك جاء زيد
وقام عمرو وقتل من في العسكر وانهدمت دور البلد وهكذا، وهذا القسم من القضايا
الموجبة لابد فيها من وجود الموضوع في الخارج، لان ثبوت شئ لشئ فرع
ثبوت المثبت له، فالقضية الفرعية تختص بهذا القسم من الموجبة ولا تجرى في
غير هذا القسم من الموجبات.
وبما بيناه تبين لك ان ما اشتهر بين أرباب النظر والحكمة من القول
بالوجود الذهني للأشياء، والاستدلال عليه بانا نحكم حكما ايجابيا على مالا وجود
له في الخارج كقولنا بحر من زيبق بارد بالطبع، واجتماع النقيضين مغائر لاجتماع
الضدين، وثبوت شئ للشئ فرع ثبوت المثبت له، وإذ ليس المثبت له هنا في
الخارج ففي الذهن في غاية السخافة، لما عرفت من أن المحمولات في أمثال هذه
القضايا اما راجعة إلى سلب الوجود عن الموضوعات.
واما عوارض للماهيات وصفات وحالات لها، وثبوت صفات الماهيات لها
ليس ثبوتا أصيلا بل ثبوتا ربطيا، وليس الثبوت الربطي فرعا لثبوت المثبت له،
ضرورة ان كل مفهوم له نسبة إلى مفهوم آخر مع قطع النظر عن وجودهما في
400

الخارج أو الذهن، لو توقفت ثبوت صفات الماهيات لها على تصورها في الذهن
كما زعموه لزم أن تكون الماهيات عارية عن صفاتها وحالاتها ما لم يتصورها متصور
أترى ان الأربعة لا تكون زوجا، واجتماع النقيضين ليس مغايرا لاجتماع الضدين
والحجر ليس مباينا للانسان قبل تصورها في الذهن، وحدثت هذه الصفات فيها بعد
تصورها كلا ثم كلا.
وبالجملة سخافة ما توهموه مما لا ينبغي ان يختفى على من له أدنى دربة.
وإذا تبين لك فساد ما توهموه من توقف ثبوت عوارض الماهيات على وجودها
تبين لك ان تقسيم العرض إلى عرض الماهية وعرض الوجود على سبيل الحقيقة،
ولما خفى الامر على أكثرهم ولم يهتدوا إلى ما حققناه فسروا عرض الماهية بعرض
الوجود أعم من الذهني والخارجي وعرض الوجود بعرض خصوص الوجود
الخارجي أو الذهني، ومثلوا للأول بزوجية الأربعة، وللثاني باحراق النار، وللثالث
بكلية المفاهيم الكلية، فجعلوا الاقسام ثلاثة وهو باطل جدا.
نعم عرض الماهية على قسمين: مالا ينافيه الوجود في الخارج كزوجية الأربعة
فإنها متصفة بالزوجية وجدت في الخارج أم لم توجد وما ينافيه الوجود في الخارج
كالكلية العارضة على الماهيات فإنها منافية مع وجودها في الخارج، فإنها بعد
وجودها في الخارج تصير جزئية.
وقد تبين بما بيناه أيضا فساد تقسيم القضايا الموجبة باعتبار موضوعها إلى
اقسام ثلاثة: ما يعتبر وجود موضوعها ذهنا، وما يعتبر وجود موضوعها مقدرا وما يعتبر
وجود موضوعها محققا، فان القسمين الأولين مما لا يعتبر وجود موضوعهما لان
المحمول فيهما من عوارض الماهية.
401

(فائدة - 57)
اعلم أنه لا شبهة في أن التوليد مطلقا سواء حصل من قبل النكاح أو السفاح
يقتضى انتساب أطرافه ببعض واقعا، كما أنه لا شبهة في أن الشارع قد اسقط
الحاصل من السفاح من الاعتبار مطلقا، أو في الجملة، فينبغي التكلم حينئذ في أطراف
الأول في أنه هل جعل الشارع النكاح شرطا في ترتب الانتساب على التوليد؟ أو
جعل السفاح مانعا عنه؟ والثاني في أن السفاح ساقط عن الاعتبار مطلقا، أو بالنسبة
إلى الأب فقط؟ والثالث في أنه هل يكون في البين أصل شرعي أو واقعي يوجب الحاق
الولد بالنكاح في صورة احتمال الطرفين أم لا؟
فأقول بعون الله تعالى ومشيته:
اما الأول فالتحقيق فيه ان السفاح مانع لترتب آثار الانتساب على التوليد
الحاصل من قبل الشبهة بجميع أنحائها ولو كان النكاح شرطا لم يترتب الآثار على
الشبهة، وأيضا ظاهر الروايات من الحكم بكون ولد الزنا لغية لا يورث سقوط الزنا
عن الاعتبار لا اعتبار النكاح كما هو ظاهر، مع أن الأصل عند الشك وتردد الامر
بينهما وعدم قيام دليل على اشتراط النكاح ترتيب آثار المنع لأنه المتيقن.
فان عدم ترتب الأثر على التوليد الحاصل من قبل السفاح ثابت على
التقديرين، والشك إنما هو في التوليد الحاصل من شبهة هل هو ساقط من اجل
ان النكاح شرط أو باق على اقتضائه الأصلي من جهة ان السفاح مانع فالمقتضى
402

معلوم والشك إنما هو في المانع وهو اشتراط النكاح، فيترتب اثر المقتضى حينئذ
للعلم بثبوته وعدم العلم بالمانع.
واما الطرف الثاني فالتحقيق فيه سقوط السفاح عن الاعتبار مطلقا، وانقطاع
نسبة الولد من الطرفين - كما ذهب إليه أكثر الأصحاب (قدس سرهم).
الأولى: رواية على ابن مهزيار عن محمد بن الحسن القمي قال: " كتب بعض
أصحابنا على يدي إلى أبى جعفر عليه السلام جعلت فداك ما تقول في رجل فجر
بامرأة فحملت ثم إنه تزوجها بعد الحمل فجاءت بولد وهو أشبه خلق الله به؟ فكتب
بخطه وخاتمه " الولد لغية لا يورث " فان حمل اللغية المشتقة من اللغو على الولد وجعله
ساقطا عن الاعتبار لا يتم الا بانقطاع نسبته من طرفيه، إذ انقطاع نسبة الولد من أحد
طرفيه لا يوجب صيرورة الولد لغوا ولغية، ولذا لا يصح ان تقول ولد الملاعنة لغية
من جهة انقطاعه عن أبيه.
ومن هنا تبين لك فساد ما قد يتوهم من أن الرواية مهملة من هذه الجهة أو ناظرة
إلى انقطاعه عن أبيه بقرينة سوق السؤال. ويدل على ما بيناه أيضا عدوله عليه السلام
عن الفعل المعلوم إلى المجهول الناظر إلى نفس الولد من دون نظر إلى خصوص
أحد طرفيه، ولو كان ناظرا إلى خصوص الأب لوجب ان يقال " لا يرثه "
الثانية صحيحة عبد الله ابن سنان عن الصادق عليه السلام: " قال قلت فإنه مات يشير
إلى ولد الزنا وله مال من يرثه قال: الإمام عليه السلام ".
لا يقال لا يرجع ارث ولد الزنا إلى الإمام عليه السلام الا بعد فقد الولد والزوجة وضامن
الجريرة، فكيف يصح الحكم على الاطلاق برجوع ارثه إلى الامام فدلالته على
المقصود موهومة.
لأنا نقول: أولا ان تقييد المطلق كتخصيص العام شائع ولا يوجب وهنا في دلالته،
وثانيا ان الزنا إنما يتعلق بأطراف التوليد كما هو ظاهر فالسؤال عن امر الزنا إنما يقع
عن أطرافه.
فالجواب حينئذ برجوع ارث الولد إلى الإمام عليه السلام لا تقييد فيه بوجه فلا مجال
403

للطعن في الرواية بوجه.
الثالثة صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال: " أيما رجل وقع على وليدة قوم
حراما ثم اشتراها فادعى ولدها فإنه لا يورث منه شئ، فان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: الولد
للفراش وللعاهر الحجر، ولا يورث ولد الزنا الا رجل يدعى ابن وليدته " وجه الدلالة
انه عليه السلام نفى ارث ولد الزنا الا لرجل يدعيه ابن وليدته فحصر ارثه فيه يدل
على انقطاع نسبته من أبيه وأمه، وأوضح منه ان الاستثناء المذكور منقطع، ضرورة
ان الولد المذكور في صورة ادعائه ابنا لوليدته لم يكن ولد زنا، فاستثناء هذه
الصورة مع عدم كونها من افراد المستثنى منه كالصريح فيما بيناه.
وقد رويت الرواية بأسانيد مختلفة معتبرة هذا.
واما مستند مثبتى النسب بالنسبة إلى الام فامران، قال في المسالك:
" وقال ابن الجنيد وأبو الصلاح ترثه أمه لرواية إسحاق ابن عمار عن الصادق (ع)
" ان عليا (ع) كان يقول ولد الزنا وابن الملاعنة ترثه أمه واخوته لامه أو عصبتها ".
ورواية يونس قال " ميراث ولد الزنا على نحو ميراث ابن الملاعنة " انتهى
ويمكن ان يحتج لهم بالأصل أيضا فان الأصل في صورة الشك في انقطاع نسبته
عن الام وعدمه بقائها وعدم انقطاعها في الشرع، ولكن الوجوه كلها في غير محله
اما الأصل فلارتفاعه بالروايات المتقدمة فان الأصل دليل حيث لا دليل عليه
واما رواية يونس فموقوفة غير مسندة إلى أحد من الأئمة عليهم السلام، ويمكن أن يكون
فتوى منه لا رواية فلا حجية فيها، ولعله استنبطه من الرواية المتقدمة، فينحصر
الامر حينئذ فيها، وهي مع شذوذها وضعف سندها محتملة للتقية لموافقتها للعامة،
مع أنه لا تصريح فيها بكونه زنا من الطرفين، فيحتمل الزنا فيه من طرف الأب
فقط، على أن مقتضى قواعد العربية ان يقال: يرثهما أمهما واخوتهما لامهما،
وافراد الضمير في المواضع الأربعة في جميع النسخ ينبئى عن رجوعه إلى الأخير
فقط، فيحتمل قريبا أن يكون في الرواية سقط وكان الأصل هكذا: كان يقول
404

ولد الزنا لا يورث وابن الملاعنة ترثه أمه واخوته لامه، والشاهد عليه افراد الضمير
في المواضع كلها.
وكيف كان فلا تقاوم هذه الرواية الروايات المتقدمة الصحيحة، فلا سبيل
للاخذ بها مع وجود الروايات الصحيحة المعارضة لها.
ثم إن هناك روايتين تنافيان الروايات جميعا، عن حنان عن أبي عبد الله عليه السلام:
" قال سألته عن رجل فجر بنصرانية فولدت منه غلاما فأقربه ثم مات فلم يترك غيره
أيرثه؟ قال نعم ".
عنه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام: " قال سألته عن رجل مسلم فجر بامرأة يهودية
فأولدها ثم مات ولم يدع وارثا؟ قال: فقال يسلم لولده الميراث من
اليهودية قلت فرجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأولدها غلاما ثم مات النصراني
وترك مالا لمن يكون ميراثه؟ قال يكون ميراثه لابنه من المسلمة " وحيث إن
الروايتين منافيان للروايات المذكورة، والروايات الواردة في باب أولاد الإماء - من
لحوقها بالمالك وصيرورتها أرقاء إذا كانت من السفاح، إذ لو لم تنقطع النسبة عن
الأب بالزنا لزم صيرورتها أحرارا - بل ضرورة المذهب فلا بد من صرفهما عن ظاهرهما
فأقول يمكن أن يكون امره عليه السلام بتسليم الميراث إلى الابن تبرع منه عليه السلام إذ الميراث
في مفروض السؤال راجع إلى الإمام عليه السلام ولعله لعدم بسط يده صلى الله عليه وآله لم يمكنه
ارجاعه إلى نفسه، مع أنه يحتمل أن يكون الغرض من الاقرار في الروايات الأولى
اقراره بالولد مع عدم ثبوت فجوره شرعا.
وكيف كان فلا مجال للتأمل في أصل الحكم.
بقي الكلام في الطرف الثالث، فأقول - بعون الله تعالى ومشيته: انه اتفق
الأصحاب بل قاطبة أهل الاسلام على لحوق الولد بالناكح عند احتمال لحوقه به
والتردد في انتسابه إليه والى الزاني، واحتجوا عليه بقول رسول الله صلى الله عليه وآله " الولد
للفراش وللعاهر الحجر " وقد استفاضت الرواية الشريفة من طريق الفريقين بل كادت
405

أن تكون متواترة فلا شبهة في صحة سندها: فالمهم تفسيرها وبيان كيفية انطباقها
على ما راموه.
فاعلم أن (الفراش) بكسر الفاء، وهو عنوان ينطبق على الزوجة أو ما بمنزلتها
اتفاقا، قال عز من قائل " وفرش مرفوعة " أي نساء مرتفعة الاقدار، وعن المصباح
المنير انه يطبق على الزوج أيضا
وفى المجمع: وفى الحديث: " الولد للفراش " أي للزوج فان كل واحد من
الزوجين يسمى فراشا للاخر، كما يسمى كل واحد منهما لباسا للاخر.
وكيف كان فصدق عنوان الفراش دائر مدار التزويج أو ما بمنزلته، واطلاقه
على المرأة مزوجة كانت أم لا مما لم يعهد في العرف ولا في اللغة. فما توهم من أن
المراد بالفراش في الرواية الشريفة مطلق المرأة وانها تدل على مختار ابن الجنيد
وأبى الصلاح من ثبوت نسب الولد للام في مورد السفاح وعدم انقطاعه الا بالنسبة
إلى الأب في غاية السخافة.
إذا اتضح لك ما بيناه فاعلم أن الرواية الشريفة مع قطع النظر عن موردها تحتمل
وجوها:
الأول: أن يكون المقصود تبعية الولد للفراش وثبوت النسب به لا بالفجور
من دون نظر إلى صورة الشك.
والثاني: أن يكون المقصود تبعية الولد للمرأة المزوجة ولحوقه بها عند
احتمال كونه من النكاح أو السفاح من دون أن يكون ملحقا بالزوج، فالرواية الشريفة
حينئذ ناظرة إلى أصل واقعي ومقررة له، لما عرفت من أن الزنا مانع لا ان النكاح
شرط، فعند احتمال الزنا وعدم ثبوته يدفع المانع بالأصل ويرتب اثر المقتضى.
والثالث: أن يكون المقصود تبعية الولد للفراش عند احتمال كونه من قبله
أو من قبل الزنا بمعنى لحوقه بالمتزاوجين فهي حينئذ أصل شرعي مضروب لبيان
حكم الشك في كون الولد من الناكح والعاهر هذا كله ان قلنا باختصاص الزوجة
بالفراش
406

واما ان قلنا بانطباقه على الطرفين كانطباق اللباس عليهما كما في المصباح
والمجمع فيسقط الوجه الثاني وينحصر الامر في الآخرين، وكيف كان فالظاهر
من الرواية الشريفة مع قطع النظر عن موردها هو الوجه الأخير، فان الظاهر من العبارة
انه مع تحقق نكاح وفجور واحتمال تكون الولد من ماء الزاني وماء الزوج يلحق
الولد بالفراش لا بالفاجر، كما أن الظاهر من اسناد الولد إلى الفراش استتباع النسبة
إلى الزوج أيضا فان اثبات الولد للزوجة بعنوان انها زوجة وفراش كما هو الظاهر
بل الصريح لا ينفك عن ثبوته للزوج، بل لحقوق الولد بالزوجة بعنوان انها زوجة
عين لحوقه بالزوج وهل هو الا كالحاق النماء بالملك الذي هو عين اثباته للمالك.
وتوهم الافتراق بينهما من جهة عدم تصور لحوق النماء بالملك مع عدم
ثبوته للمالك، بخلاف المقام لتصور ثبوت الولد للزوجة مع عدم ثبوته للزوج في
غير محله، لان الانفكاك إنما يتصور إذا لم يكن رجوع الولد إلى الزوجة بعنوان
انها زوجة، واما إذا كان كذلك كما هو المفروض فان اثبات الولد للفراش ونفيه
عن العاهر تصريح بدوران لحوق الولد مداره وكونه عنوانا للحكم فلا مجال للتفكيك
فتبين لك غاية التبين ان نسبة الولد إلى الفراش مع اطلاقه عل الزوجة
يوجب الانتساب إلى الزوج من دون حاجة إلى تقدير مضاف من الصاحب وما في
معناه، هذا كله بناءا على اختصاص الزوجة بالفراش، واما ان قلنا بانطباقه على
الطرفين كما في المصباح والمجمع فالامر فيه اظهر، ويؤيد اطلاقه على الزوج في
المقام مقابلته بالعاهر.
وإذ قد اتضح لك ظهور الرواية في الوجه الأخير مع قطع النظر عن مواردها
فاعلم أنها مع ملاحظتها صريحة فيه، عن سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه السلام: " قال قلت
له الرجل يتزوج المرأة ليست بمأمونة تدعى الحمل؟ قال ليصبر لقول رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر " فإنه من المعلوم ان المقصود
السؤال عن امر الولد بالنسبة إلى الزوج من حيث اتهام المرأة، واحتمال كون حملها
407

من غير زوجها، (عليه السلام) بالصبر وعدم نفى الولد، وتعليله بقول رسول الله (ص)
صريح فيما بيناه، وستمر عليك اخبار متظافرة في لحوق ولد الأمة بمولاها عند
احتمال الفجور، أو تحققه معللا بالرواية الشريفة، فلا شبهة في انطباقها على مرام
الأصحاب (قدس سره).
وإنما الكلام في أنه هل يختص الفراش بالمعقودة بالعقد الدائم أو يعم المعقودة
مطلقا والمملوكة والمحللة بل الموطوئة بالشبهة، والظاهر منهم اختصاصه بالأولى
بل قد ادعى الاتفاق على عدم تحققه بمجرد الملك والتحليل وعقد المتعة.
وان الخلاف إنما وقع في تحققه بالوطي الحاصل من قبل الأمور المذكورة
ففي الشرائع في باب اللعان: " ولا تصير الأمة فراشا بالملك، وهل تصير فراشا بالوطي
فيه روايتان اظهر هما انها ليست فرشا ولا يلتحق ولدها الا باقراره، ولو اعترف بوطيها
ولو نفاه لم يفتقر إلى لعان " وفى اللمعة في باب اللعان: " ولا يلحق ولد المملوكة بمالكها
الا بالاقرار به، ولو اعترف بوطيها ولو نفاه انتفى بغير لعان ".
وفي الجواهر في ذيل قول المحقق (قدس سرهما): " ولا تصير الأمة فراشا
بالملك بلا خلاف أجده فيه وان خلت به وخلا بها وأمكن تكونه منه بل في المسالك
الاجماع عليه، قال: بخلاف النكاح الذي يلحق به الولد بمجرد الامكان، لان
المقصود منه الاستمتاع والولد، وملك اليمين قد يقصد به ذلك وقد يقصد به التجارة
والاستخدام. ولذا لا يتزوج من لا تحل له. ويملك بملك اليمين من لا تحل له ".
ثم قال بعد ذلك: " إذا كان الفراش زوجة دائمة تحقق فراشها من حين العقد
وامكان وصوله إليها، ثم لها بالنسبة إلى الولد حكمان: أحدهما في ظاهر الامر،
وهو انه يحكم بالحاق الولد الذي تلده بعد العقد وامكان الوصول إليها فيما بين
أقل الحمل وأكثره بالزوج وان لم يعترف به ولم يعلم وطؤه لها، سواء كان من
أهل الاعتراف كالبالغ العاقل، أولا كالمجنون والصبي الذي يمكن تولده منه قبل
ان يحكم ببلوغه على ما سبق ".
408

ثم إنه - بعد ان ذكر ان الأمة كالحرة بعد الوطي في لحوق الولد - قال:
" لكنه يفارق ولد الزوجة في أمرين:
أحدهما انه لا يحكم بلحوقه به الا مع ثبوت وطيه لها اما باقراره أو بالبينة بخلاف
ولد الزوجة فإنه يكفي فيه امكان الوطي، والوجه فيه ان المعتبر فيهما ثبوت الفراش
ولما كان في الزوجة متحققا بالعقد وامكان وصوله الها كان المعتبر ثبوت ذلك.
ولما كان فراش الأمة لا يتحقق الا بالوطي اعتبر ثبوته، فمرجع الامر فيهما إلى
شئ واحد وهو ثبوت الفراش الا انه في الزوجة يظهر غالبا بغير الزوج بحضور
العقد والعلم بامكان وصوله إليها، وفى الأمة لا يظهر غالبا الا منه لان الوطي من
الأمور الخفية فاعتبر اقراره به ان لم يتفق الاطلاع عليه بالبينة نادرا - إلى غير
ذلك من كلماته في هذا الشرح الذي اطنب فيه وتبعه عليه في كشف اللثام - لكن
قد يناقش بأنه مناف لما ذكروه في حكم الحاق الأولاد من اعتبار تحقق الدخول
بالزوجة في لحوق الولد بالزوج " انتهى -
والتحقيق ان اعتبار الدخول في لحوق الولد بالزوج كاعتبار مضى ستة أشهر
من حين الوطي وعدم تجاوز أقصى الحمل إنما هو من جهة تحصيل الاحتمال،
وثبوت المورد للرواية الشريفة فان مضمونها ان الفراش في نظر الشارع مقتض
للحوق الولد به عند الشك والتردد في تكون الولد من النكاح أو الفجور، ومن
المعلوم انه يؤخذ بالمقتضى عند عدم العلم بالمانع، فمع العلم بانتفاء الولد عن
الفراش بسبب العلم بعدم الدخول من قبل الزوج، أو بعدم مضى ستة أشهر من الوطي
أو بتجاوز التولد عن أقصى الحمل لا وجه لالحاقه بالفراش من جهة الرواية الشريفة
فيعتبر حينئذ امكان الدخول ولا يلزم حصول العلم بالدخول - كما ذكره في المسالك -
فجعل الدخول حينئذ شرطا في غير محله، وان لم يكن فيه ضير بعد وضوح
الامر، ولكن يرد عليهم اشكال عظيم لا محيص عن دفعه من جهة اقتصارهم على
الدخول والتقييد بغيبوبة الحشفة أو مقدارها، و التعميم بالنسبة إلى القبل والدبر
409

والانزال وعدمه، وتوضيحه يتوقف على ذكر شطر كلماتهم.
ففي الروضة: " والمراد به - على ما يظهر من اطلاقهم وصرح به المصنف
في قواعده - غيبوبة الحشفة قبلا أو دبرا وان لم ينزل، ولا يخلو ذلك من اشكال
ان
لم يكن مجمعا عليه للقطع بانتفاء التولد عنه عادة في كثير من موارده، ولم أقف
على شئ ينافي ما نقلناه ويعتمد عليه " ويقرب منه ما في المسالك.
وفي الجواهر: " الدخول بغيبوبة الحشفة أو مقدارها قبلا أو دبرا بل في كشف
اللثام، وغيره انزل أم لا، لاطلاق الفتاوى، ونحو قول الباقر (ع) لأبي مريم
الأنصاري " إذا اتاها فقد طلب ولدها " ثم ذكر كلام الروضة - إلى أن قال:
" وتبعه في الرياض فقال ولد الزوجة الدائمة التام خلقة يلحق بالزوج الذي
يمكن التولد عنه عادة، ولو احتمالا مع شروط ثلاثة: أحدها الدخول منه بها
دخولا يحتمل فيه ذلك ولو احتمالا بعيدا قبلا كان أو دبرا اجماعا، وفى غيره اشكال
وان حكى الاطلاق عن الأصحاب واحتمل الاجماع، مع أن المحكى عن ئر، وير
عدم العبرة بالوطي دبرا، واستوجهه من المتأخرين جماعة وهو حسن الا مع الامناء
واحتمال السبق وعدم الشعور به لا مطلقا.
قلت: مع فرض امكان سبق المنى وعدم الشعور به لا سبيل حينئذ للقطع
بنفي الاحتمال ولو بعيدا مع تحقق مسمى الدخول، على أنه يمكن التولد من الرجل
بالدخول وان لم ينزل، ولعله لتحرك نطفة المرأة واكتسابها العلوق من نطفة الرجل
في محلها أو غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها الإرب العزة، ولذا أطلق ان
الولد للفراش - المراد به الافتراش فعلا، لا ما يقوله العامة من الافتراش شرعا
بمعنى انه يحل له وطيها، فلو ولدت وان لم يفترشها فعلا الحق به الولد إذ هو مع
ما فيه من فتح باب الفساد للنساء أشبهه شئ بالخرافات.
وربما يومئ إلى بعض ما قلنا خبر أبي البختري المروى عن قرب الإسناد
عن جعفر ابن محمد عن علي عليهم السلام قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال كنت
410

اعزل عن جارية لي فجاءت بولد فقال " الوكاء قد ينفلت " والحق به الولد.
وفحوى التوقيع المروى عن اكمال الدين و اتمام النعمة - في جملة مسائل منها -
استحللت بجارية وشرطت عليها ان لا اطلب ولدها ولم ألزمها منزلي فلما اتى لذلك
مدة قالت قد حبلت، ثم أتت بولد لم أنكره - إلى أن قال: فخرج جوابها عن صاحب
الزمان صلوات الله عليه " واما الرجل الذي استحل بالجارية وشرط عليها ان لا يطلب
ولدها فسبحان من لا شريك له في قدرته شرطه على الجارية شرط على الله تعالى،
هذا مالا يؤمن أن يكون وحيث عرض له في هذا شك وليس يعرف الوقت الذي
اتاها فليس ذلك يوجب البراءة من ولده " انتهى.
وبعد ما ظهر لك من صدق عنوان الفراش على المرأة المزوجة بالعقد الدائم
وعدم اعتبار الدخول في صدقه عليها كما يظهر من كلماتهم الاتفاق عليه ظهر لك
ان اعتبارهم دخول الزوج بها في لحوق الولد به ليس الا لأجل حصول احتمال
الحمل منه وثبوت المجرى للقاعدة المضروبة لحكم الشك، ومن المعلوم ان
الاحتمال كما يتحقق بالدخول يتحقق بالانزال على الفرج من دون دخول،
فلا وجه للاقتصار على الدخول حينئذ.
ويدل على ما بيناه مع وضوحه ما في الوسائل عن قرب الإسناد عن أبي
البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهم السلام: " ان رجلا اتى على ابن أبي طالب (ع)
فقال إن امرأتي هذه حامل وهي جارية حدثة وهي عذراء وهي حامل في تسعة أشهر
ولا اعلم الا خيرا، وانا شيخ كبير ما افترعتها وانها لعلى حالها فقال له علي (ع)
" نشدتك الله هل كنت تهريق على فرجها؟ " قال: نعم فقال علي (ع) " ان لكل فرج
ثقبين: ثقب يدخل فيه ماء الرجل وثقب يخرج منه البول وان أفواه الرحم تحت
الثقب الذي يدخل فيه ماء الرجل، فإذا دخل في فم واحد من أفواه الرحم حملت
المرأة بولد، وإذا دخلت من اثنين حملت باثنين وإذا دخلت من ثلاثة حملت بثلاثة،
وإذا دخل من أربعة حملت بأربعة وليس هناك غير ذلك، وقد ألحقت بك ولدها "
411

فشق عنها القوابل وجائت بغلام فعاش ".
وعن محمد ابن محمد المفيد في الارشاد قال: " روى نقلة الآثار من العامة
والخاصة ان امرأة نكحها شيخ كبير فحملت، وزعم الشيخ انه لم يصل إليها وانكر حملها
فالتبس الامر على عثمان وسئل المرأة هل افتضك الشيخ؟ وكانت بكرا فقالت:
لا، فقال عثمان: أقيموا عليها الحد، فقال أمير المؤمنين ع " ان للمرأة سمين:
سم البول وسم المحيض، فلعل الشيخ كان ينال منها فسال مائه في سم المحيض
فحملت منه، فاسألوا الرجل عن ذلك " فسئل فقال: قد كنت انزل الماء في قبل من
غير وصول إليها بالافتضاض فقال أمير المؤمنين ع " الحمل حمله والولد ولده وارى
عقوبة على الانكار له " فصار عثمان إلى قضائه.
أقول: إذا كان انزال الماء على فرج البكر موجبا للحمل فانزاله على فرج
الثيب يوجبه بطريق أولى، فمع احتمال الحمل من دون دخول وصدق الفراش قبله،
وتصريح الروايتين بلحوق الولد بالزوج حينئذ لا وجه لاعتبار خصوص الدخول
في الحاق الولد، كما أنه لا وجه لتفسيره في المقام بغيبوبة الحشفة أو مقدارها،
ضرورة ان احتمال الحمل كما يحصل به يحصل بما دونه، مع انا قد بينا في محله
ان المناط في الجنابة والحد وغيرهما مسمى الدخول أيضا لا المقدار المخصوص.
وكيف كان فما اشتهر في المقام في غير محله، واعجب منه التعميم إلى
صورة الانزال وعدمه ضرورة عدم احتمال الحمل مع عدم الانزال نعم مع احتمال
الانزال وعدم الشعور به لا سبيل إلى نفى الولد.
وما ذكر في الجواهر من أنه مع تحقق مسمى الدخول لا سبيل للقطع بنفي
احتماله في غير محله، ان الانزال لا يكون الا عن كمال الشهوة، واستشهاده
بلحوق الولد به في صورة العزل في غير محله أيضا لغلبة السبق في حال
العزل كما هو ظاهر، فالرواية الشريفة ناظرة إلى عدم حصول اليقين للشخص
بعدم السبق في هذا الحال، واغرب منه الاستشهاد بالتوقيع المذكور لعدم ارتباطه
412

بالمقام كما هو واضح.
واما ما ذكره من امكان تولد الولد من الرجل مع دخوله وعدم انزاله من
جهة تحرك نطفة المرأة واكتسابها العلوق من نطفة الرجل في محلها ففي غاية الغرابة
والمهانة، ضرورة عدم خلقة الولد بحسب مجاري العادات الا بعد امتزاج المائين
واختلاطهما، قال عز من قائل " انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج " والروايات في
هذا الباب كثيرة جدا، نعم يمكن خلق الولد من المرأة فقط أو على الوجه المذكور
على سبيل الاعجاز ولكنه غير نافع للمقام.
ثم إن ما ذكره من أن المراد من الفراش الافتراش الفعلي فمع انه مخالف
لظاهر الرواية بل اتفاق الأصحاب (قدس سرهم) - لما ظهر لك من ظهور اتفاقهم على
تحقق الفراش قبل الدخول - لا يفيده ضرورة ان مفاد الرواية المذكورة ليس الا الأصل،
وهو إنما يتقوم بالاحتمال والشك ومع عدم الانزال لا احتمال ولا شك.
ومن هنا ظهر لك ان ما نقله من العامة من لحوق الولد بالفراش مع عدم
الدخول وعدم انزال الماء على الفرج من الخرافات المضحكة لا انه أشبه شئ بها
بداهة ان الفراش ليس من أسباب الأنساب حتى بوجب لحوق ولد غير الزوج به،
وإنما هو أصل شرعي يؤخذ به في مورد الشك والاحتمال، فالعامة ان تفوهوا بهذه
المقالة القبيحة فهو لجهلهم لمورد الرواية الشريفة وانها أصل مضروب لحكم
الشك، لا من جهة اشتباههم في تفسير الفراش، لما عرفت من اشتراك أصحابنا
(قدس سرهم) معهم في هذا التفسير.
فاتضح لك بما بيناه غاية الاتضاح ان المناط في المقام انزال الماء من الزوج
سواء كان مع الدخول أو مع اهراقه على الفرج، وسواء كان في القبل أو الدبر،
فان الماء في الدبر قد يسرى إلى الرحم فيحتمل منه الحمل فجعل الدخول المفسر
بغيبوبة الحشفة أو مقدارها مناطا مع التعميم للانزال وعدمه في غاية الغرابة
والظاهر أن قدماء الأصحاب إنما عبروا بالدخول من باب الغلبة،
413

وقد التبس الامر على غيرهم فزعموا أنهم إنما عنوا به خصوص الدخول فاقتصروا
عليه، وعمموه مجامعة للانزال وعدمه بزعم الاطلاق وغفلوا عن أن ذكره في مقام
احتمال الحمل ينافيه.
وكيف كان فلا وجه للاقتصار على الدخول فضلا عن تقييده بغيبوبة الحشفة
أو مقدارها، وتوهم انعقاد الاجماع على اعتبار خصوص الدخول في غير محله،
بعد ما عرفت من اتفاقهم على تحقق الفراش قبل الدخول وعدم اعتباره في صدقه
وتحققه.
ثم إنه ظهر مما بيناه من تحقق الفراش في الزوجة قبل الدخول، وانه إنما
اعتبر لأجل تحقق الاحتمال وثبوت المجرى للأصل عدم لزوم العلم بالدخول
وكفاية احتماله وامكان وقوعه، ضرورة ان احتمال الحمل من الزوج كما يتحقق
بالعلم بدخوله يتحقق من احتماله وجواز وقوعه.
ومن هنا صرح في المسالك بلحوق الولد بالزوج بعد تحقق عقد الزوجة
وامكان وصول الزوج إليها، ولكنه لابد من كون الاحتمال متعارفا عاديا فلا يكفي
فيه الاحتمال العقلي الصرف، ومن هنا لا يلحق ولد الزوجة بزوجها الغائب عنها
باحتمال قدومه سرا ووصوله إليها.
في الوسائل عن يونس: " في المرأة يغيب عنها زوجها فتجئ بولد انه لا يلحق
الولد بالرجل ولا تصدق انه قدم فأحبلها إذا كانت غيبته معروفة بذلك " ويمكن أن يكون
الوجه فيه ان الغيبة مانعة عن الوصول، ومع الشك في انقلابها بالحضور
يستصحب فيحكم في مرحلة الظاهر بعدم امكان الوصول فلا تجرى قاعدة الفراش
لاستصحاب الغيبة المانعة عن الوصول.
ومن هنا ظهر انه لو أتت الزوجة بولد قبل التصرف والزفاف لا يلحق بزوجها
باحتمال وصوله إليها سرا لان الزوج قبل الزفاف لا يمكنه الوصول إلى زوجته عرفا
وان أمكنه عقلا، فاحتمال الدخول منفى حينئذ في مرحلة الظاهر فلا تجرى قاعدة
الفراش لترتبها عليه.
414

بل يمكن أن يكون الامر في المقام اظهر من غيبة الزوج، لما قد يقال من عدم
تحقق الافتراش قبل الزفاف وهذا المعنى وإن كان مخالفا لظاهر كلمات الأكثر على ما
يظهر من كلام صاحب المسالك الا انه ليس بعيدا عن التحقيق، فان الافتراش الاستحقاقي
وان تحقق بالعقد الا انه لم يتم ما لم يتصرفها الزوج ولم يقبضها، والفراش ينصرف
إلى ما اتصف بالفراشية على وجه التمام، وبعد تحقق الزفاف يكفي في لحوق
الولد بالزوج احتمال الدخول، ولا يجب العلم بالدخول.
415

" فائدة - 58 "
إذا تزوج الحرامة بدون اذن المالك فوطئها كذلك كان زانيا وعليه الحدان
لم يجز المولى، وهل لها المهر إذا كانت عالمة مطاوعة فيه قولان:
أحدهما عدمه لما ورد من أنه لا مهر لبغي.
والثاني ثبوته للمولى لان بضعها منفعة ملكه فلا يؤثر بغيها في سقوط حقه،
والأقوى هو الثاني.
توضيح الحال يتوقف على تحقيق حقيقة المال وما يتقوم به وما يوجب سقوطه
عقلا وشرعا.
فأقول مستعينا بالله تعالى: ان المال ما يكون له منفعة يعتد بها في نظر العرف
ولا يكون مبذولا بحيث لا يكون مجال لاختصاص بعض دون بعض، فما لا منفعة له
أصلا كرطوبات بدن الانسان والأخلاط وهكذا لا يكون مالا، وإذا لا يصح بيعها
وبذل المال بإزائها وما قلت فائدته بحيث تكون في حكم العدم في نظر العرف
لا تعد مالا ولذا لا يضمن من اتلفها كما أن ما يكون مبذولا في الغاية كذلك ولذا
لا يضمن من اهرق ماء غيره عند النهر وان اثم، وما يحرم منافعه المقصود في حكم
ما لا منفعة له أصلا في عدم المالية ضرورة انه إذا لم يكن سبيل إلى الانتفاع به شرعا
فهو كعادم المنفعة أصلا ويكفى في سقوط المالية عن الخمر وآلات اللهو والقمار
وأمثالها حرمة المنافع المقصود منها، ولا يتوقف اثبات عدم المالية لها إلى دليل
416

آخر هذا إذا كانت المنفعة المقصودة محرمة.
واما إذا كانت المنفعة المقصودة من العين محللة في حد نفسها ولكن يمكن
استعمالها في الحرام أيضا فلا يؤثر تطرق الانتفاع بها في الحرام في سقوط المالية
عن العين.
نعم تسقط المنفعة عن المالية إذا يذلها مالكها في الحرام فإذا بذل المالك
دابته في خصوص حمل الخمر وآلات القمار واللهو ونحوها من الأعمال المحرمة
لا يستحق شيئا على المبذول له إذ لا مالية لها حينئذ ولذا تبطل إجارة الدابة في الاعمال
المذكور.
واما إذا لم يبذل المالك ما ملكه في العمل المحرم وإنما استعمله المتصرف
في الحرام يستحق اجرة ما استوفاه المتصرف من المنفعة إذ لا يسقط احترام مال المالك
لأجل صرفه إياه في الحرام.
فاتضح بما بيناه اختصاص سقوط المهر بالبغي بالحرة لأنها إذا بذلت بضعها
في الحرام من دون اكراه واجبار أسقطها عن الاحترام باختيارها للحرام واما الأمة
فلا تملك بضعها فلا يؤثر اختيارها الحرام في سقوط حق المالك فما ورد من أنه
لا مهر لبغي يختص بالحرة مع أن المهر ظاهر في مهر الحرة فلا يقال لعوض
بضع الأمة المهر الا مجازا وإنما يطلق عليه اسم العقر أو العشر أو نصفه ومن ثم
يطلق على الحرة المهيرة.
فان قلت: مقتضى ما ذكرت سقوط المهر بالنسبة إلى البغي التي لم تكن
تحت حبالة غيره لان من كان تحت حبالة غيره بضعها مملوك له فيلزم ثبوت المهر
لمالك البضع وهو الزوج:
قلت: قد أوضحنا في بعض الفوائد السابقة ان ملك البضع لا يكون من قبيل
ملك المنفعة بل من قبيل ملك الانتفاع ولذا لو وطئت الزوجة شبهة أو اكراها يرجع
مهر مثلها إليها لا إلى زوجها ولزوم عقد التزويج لا ينافي مع كونه من قبيل ملك
417

الانتفاع كما بيناه سابقا وإذا ثبت ان الزوج لا يملك بضعها الا في جهة الانتفاع
فمالك منفعة البضع إنما هي الزوجة فيؤثر بغيها في سقوط احترام بضعها
ثم إنه بعد ما تبين ان بغى الأمة لا يوجب سقوط مهرها فهل للمولى مهر مثلها
أو العشر ان كانت بكرا ونصفه ان كانت ثيبا؟ الظاهر من الروايات هو الثاني،
وهو مهر المثل الذي يقدر المهر بقدره، وهو مطابق لمهر السنة في الابكار من
الأحرار فان مهر السنة فيها خمسمأة درهم وهو عشر ديتها فان دية المرأة خمسة
آلاف درهم نصف دية الرجل التي هي عشرة آلاف درهم.
ومن هنا يمكن استنباط مهر السنة في الثيبات من الأحرار أيضا وانه نصف
عشر ديتها وهو مأتان وخمسون درهما فتفطن.
ثم إن الظاهر دخول أرش الجناية وذهاب البكارة في العشر وان نصفه
للانتفاع بالوطي المشترك فيه البكر والثيب، وان نصفه أرش الجناية وذهاب البكارة
فلو كان المتزوج بالأمة عبدا بدون اذن مولاه يتعلق نصفه برقبته، لأنه أرش جنايته
فتباع رقبته فيها ويتعلق نصفه بذمته يتبع به بعد عتقه، ولو أتت بولد كان الولد رقا
لمولاها وعلله في الجواهر بأنه نماء ملكه والفرض عدم العقد المقتضى لثبوت
النسب فهو كولدها منه زنا، هذا إذا كان الزوج عالما بالحرمة.
واما إذا كان جاهلا بالتحريم أو كان شبهة فلا حد قطعا ووجب المهر
وكان الولد حرا ويلزمه قيمته لمولى الأمة لكونه كالمتلف مال غيره بغير اذنه،
لكونه نماء للجارية وتابعا لها هكذا ذكروه.
أقول: مقتضى ما ذكروه من تنصيف الولد بين الأبوين الا في مورد الزنا
المسقط للنسب غرامة نصف قيمة الولد لا تمامها فغرامة تمام القيمة لا يتم الا على
مبنى أبى الصلاح (قدس سره): من تبعية الولد للام في الانسان كسائر الحيوانات
أو على مبنى آخر استظهرناه من الروايات وسيأتي لك بيانه في الفائدة اللاحقة
انشاء الله تعالى.
418

" فائدة - 59 "
إذا عقد الحر على أمة لدعواها الحرية فمولاها العشر ان كانت بكرا ونصفه
ان كانت ثيبا واختلفوا في الولد لو أتت به فقيل إنه رق ويجب على الزوج
فكه بالقيمة وعلى المولى دفعه إليه وقيل إنه حر ويجب على أبيه غرامة القيمة لمولاها
وفى المسالك " واظهر فائدة القولين مع اتفاقهما على وجوه دفع القيمة وحريته
بدفعها فيما لو لم يدفعها لفقر أو غيره فعلى القول بحريته تبقى دينا في ذمته والولد
حر، وعلى القول الآخر تتوقف على دفعها.
واما الحكم باستسعاء الأب في القيمة فمبنى على رواية سماعة وسندها ضعيف
به، وهو من جملة الديون ولا يجب الاستسعاء فيها بل ينظر إلى اليسار " انتهى، وعلى
كل حال فان أبى السعي فهل يجب ان يفديه الإمام عليه السلام؟ قيل نعم تعويلا على رواية
وقيل لا يجب لان القيمة لازمة للأب لأنه سبب الحيلولة، ولو قيل بوجوب
الفدية على الإمام عليه السلام فمن أي شئ يفديه؟ قيل من سهم الرقاب، ومنهم من أطلق
ومنشأ الاختلاف اختلاف الروايات في نظرهم.
أقول مستعينا بالله تعالى انه لا اختلاف في روايات الباب وانه يفسر بعضها
بعضا فلا بد لنا من ذكر روايات الباب أولا ثم توضيح ما فيها حتى يتضح عدم اختلافها
ففي صحيح الوليد ابن صبيح عن الصادق عليه السلام " في رجل تزوج امرأة حرة
فوجدها أمة دلست نفسها له؟ قال إن كان الذي زوجها إياه من غير مواليها فالنكاح
419

فاسد قال قلت كيف يصنع بالمهر الذي اخذت منه؟ قال إن وجد ما أعطاها
فيأخذه وان لم يجد شيئا فلا شئ له عليها، وإن كان زوجها إياه ولى لها ارتجع
على وليها بما اخذت منه ولموليها عشر قيمتها ان كانت بكرا وان كانت غير بكرا
فنصف عشر قيمتها بما استحل من فرجها وتعتد منه عدة الأمة قلت فان جاءت
منه بولد؟ قال أولادها منه أحرارا إذا كان النكاح بغير اذن المولى ".
وفى صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام " في رجل تزوج جارية رجل
على أنها حرة ثم جاء رجل آخر فأقام البينة على أنها جاريته؟ قال يأخذها ويأخذ
قيمة ولدها ".
وفى موثق سماعة " سئلت أبا عبد الله عليه السلام عن مملوكة أتت قوما وزعموا انها
حرة فتزوجها رجل منهم وأولدها ولدا ثم إن مولاها اتاهم فأقام عندهم البينة انها
مملوكة وأقرت الجارية بذلك؟ فقال تدفع إلى مولاه هي وولدها، وعلى مولاها
ان يدفع ولدها إلى أبيه بقيمته اليوم يصير إليه قلت فإن لم يكن لأبيه ما يأخذ به ابنه؟
قال يسعى أبوه في ثمنه حتى يؤديه ويأخذ ولده قلت فان أبى الأب ان يسعى في
ثمنه ابنه؟ قال فعلى الإمام عليه السلام ان يفديه ولا يملك ولد حر ".
وفى حسن زرارة: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أمة أبقت من موليها فاتت قبيلة
غير قبيلتها فادعت انها حرة فوثب عليها رجل فتزوجها فظفر بها مولاها بعد ذلك وقد
ولدت أولادا؟ فقال " ان أقام الزوج البينة على أنه تزوجها على أنها حرة أعتق ولدها
وذهب القوم بأمتهم، وان لم يقم البينة أوجع ظهره واسترق ولده ". وفى موثق سماعة الاخر: " سئله عن مملوكة أتت قبيلة غير قبيلتها فأخبرتهم انها
حرة فتزوجها رجل منهم فولدت له؟ قال ولده مماليك الا ان يقيم البينة انه شهد
لها شاهدان انها حرة فلا يملك ولده ويكونون أحرارا ".
وفى موثق محمد أين قيس الاخر عن أبي جعفر عليه السلام " قضى علي عليه السلام في امرأة
أتت قوما فأخبرتهم انها حرة فتزوجها أحدهم وأصدقها صداق الحرة ثم جاء سيدها
420

فقال ترد عليه وولدها عبيد ".
هذه روايات الباب، والمستفاد من مجموعها ان الولد يتبع المملوك من
أبويه وان جنبة رقية أحد الأصلين غالبة على جنبة أحدهما بالنسبة إلى الولد
اقتضاءا، إذ لو لم تكن جنبة الرقية غالبة على جنبة الحرية لم يكن للحكم برقية الولد
أو حريته مع غرامة قيمته وجه لان مقتضى عدم غلبة احدى الجنبتين على الأخرى
رقية نصف الولد أو غرامة نصف القيمة كما أن مقتضى غلبة الحرية على الرقية الحكم
بحرية الولد مع عدم غرامة القيمة فالحكم برقية الولد بتمامه أو غرامة تمام القيمة
يكشف عما بيناه: من غلبة جنبة الرقية.
ولكن الحكم بتبعية الولد للرق من أبويه لما كان على وجه الاقتضاء فقد يصير
الحكم برقية الولد حينئذ فعليا لأجل وجود المقتضى وعدم المانع والمزاحم الأقوى
وقد يصير حرا لأجل مزاحم أقوى مع غرامة القيمة وقد يصير حرا مع عدم غرامة
القيمة.
توضيح الكلام فيه انه اجتماع وصفى الحرية والرقية في الأبوين يقتضى
اجتماع الوصفين في الولد تبعا لأبويه وصيرورة نصفه حرا والنصف الآخر رقا
ولكن الشارع أبطل اشتراكه في الوصفين وإذا أبطل اشتراكه فيهما تزاحم المقتضيان
في الولد وغلبت الحرية على الرقية في صورة واحدة وهي وقوع التزويج بإذن المولى
مع علمه بحرية الطرف فان الولد يلحق بالحر في الصورة المذكورة من
دون غرامة حسب الأخبار المستفيضة.
ولعل السر فيه ان اقدام المالك على التزويج عبده أو أمته بالحر اقدام على
حرية الولد واسقاط لحقه من النماء فلا يتبعه الغرامة وفى غير هذه الصورة تكون
الغلبة للرقية على الحرية ولكنه ينقسم إلى قسمين.
الأول: ما لم تستقر في رقيته ووجب فكه من الرقية، وهو ما إذا كان الزوج
حرا والزوجة أمة مدلسة أو مدعية للحرية وحصلت الشبهة للزوج فتزوجها بعنوان
421

انها حرة، وولدت منه ولدا فإنه يجب على أبيه فكه من الرقية بأداء قيمته يوم سقوطه
حيا إلى مولاها، كما دلت عليه الأخبار المتقدمة.
والثاني: ما تستقر في رقيته، وهو ما إذا كان الزوج حرا والزوجة أمة،
ولم يكن للزوج بينة على أنها ادعت الحرية - كما دلت عليه الأخبار المتقدمة أيضا -
أو كان الزوج عبدا مدلسا أو مدعيا للحرية والزوجة حرة - كما تدل عليه رواية
العلاء ابن رزين - وحكم به المفيد (قدس سره) وتبعه صاحب الحدائق.
العلاء ابن رزين عن مولانا الصادق (ع): " في رجل دبر غلاما فابق الغلام فمضى
إلى قوم فتزوج منهم ولم يعلمهم انه عبد فولد له أولاد، وكسب مالا ومات مولاه الذي
دبر فجائه ورثة الميت الذي دبر العبد فطلبو العبد فما ترى؟ قال العبد وولده لورثة
الميت قلت: أليس قد دبر العبد؟ قال إنه لما ابق هدم تدبيره ورجع رقا ".
وأكثر الأصحاب (قدس سرهم) حكموا بأن الزوجة الحرة إذا كانت جاهلة
بكون الزوج عبدا، أو بحرمة ذلك عليها أولادها أحرار ولا يجب عليها دفع قيمتها
إلى مولى العبد.
أقول: رواية العلا ظاهرة قريبة من الصريحة في جهل الزوجة بكون الزوج
عبدا، وحمل جهل الزوجة بكون الزوج عبدا على جهل الزوج بكون الزوجة أمة،
والحكم باتحاد الصورتين في صيرورة الأولاد أحرارا تبعا للحر من أبويهما قياس
لاختلاف الموضوعين مع أن حمل إحديهما على الأخرى يوجب الحكم بوجوب دفع
قيمة أولادها منه عليها إلى مولى العبد، وهم حاكمون بالحرية مع عدم غرامة
القيمة في هذه الصورة.
فان قلت: إذا كان لحوق الولد بالحر من أبويه من جهة غلبة جنبة الحرية
على جنبة الرقية يلزم اتحاد الصورتين في الحكم، لان ملاك اللحوق بالحر وهي
غلبة جنبة الحرية موجود فيهما.
قلت: غلبة جنبة حرية الولد على رقيته في غير صورة علم المولى بكون الطرف
422

حرا لا أصل له أصلا، وحرية ولد الحر مع غرامة قيمة الولد فيما إذا كان الزوج حرا
والزوجة أمة مدلسة أو مدعية للحرمة لا تكشف عن غلبة جنبة الحرية، والا لم تكن
لغرامة قيمة الولد ولا للتعبير بالعتق - كما وقع في حسن زرارة - وجه.
ولعل الوجه في حرية الولد حينئذ مع غرامة القيمة ان نسبة الولد إلى أبيه أقوى
من نسبته إلى أمه، قال عز من قائل " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف "
فالأب مع مشاركته للام في كون كل منهما منشأ لولادة الولد ينفرد عنها بمزيد
اختصاص وهو كونه مولودا له، فكما تجب على الأب نفقة ولده يجب عليه فك
رقبته بغرامة قيمته لمولى الأمة، وكما لا تجب على الام نفقة الولد لا يجب عليها فك
رقبته بغرامة القيمة لمولى العبد، فمرجع غنم الولد وغرمه إنما هو الأب، والولد
رقيق في الصورتين وإنما تجب فك رقبته في احدى الصورتين دون الأخرى، فلا
مجال لجعله حرا مع عدم غرامة القيمة في هذه الصورة كما ذكروه.
فاتضح بما بيناه ان الحرية بغرامة القيمة فك لرقبة الولد وعتق له فلا تنافي
الروايات الدالة على أن الولد رقيق حينئذ، ضرورة عدم المنافاة بين ثبوت
الرقية ووجوب فك رقبته من الرقية، ولو كان المراد بحرية الولد، حينئذ ان
التشبث بحرية العبد مقتضيا لحرية الولد ويكون أقوى من المقتضى لرقيته،
وهو كونه نماءا لملك المولى وموجبا لعدم ترتب الأثر عليه ودافعا للرقية
الاقتضائية، لزم عدم غرامة قيمة الولد على الأب، إذ المفروض حينئذ عدم رجوع
الولد إلى مولى الأمة وعدم دخوله في ملكه حتى يكون الأب متلفا لما له وحائلا
بينه وبين ملكه، وإنما اللازم حينئذ غرامة اجرة مدة حملها بولده، فغرامة قيمة
الولد كاشفة عن ترتب الرقية على مقتضيها وعدم مزاحمة التشبث بالحرمة معها،
فحرية الولد حينئذ عتق قهري بتعهد قيمته - كما يدل عليه حسن زرارة - وحيث إن
وجوب فك رقبة الولد على الأب لأجل انه مولود له لا يقتضى في حد نفسه
اجبار المولى على قبول القيمة وفك رقبته فالحكم بأخذ القيمة وفك الرقبة وعدم
423

استقرار الرقية قهرا حكومة شرعية، فالحكم المزبور مركب من ولايتين: ولاية
الأب على ولده، والولاية الشرعية.
ومما بيناه يتضح لك سر الأحكام التي تضمنتها رواية سماعة الساطعة منها
أنوار الإمامة والولاية:
الأول دفع الولد إلى مولى الأمة حتى يدفع الأب قيمته.
والثاني: دفع قيمة الولد يوم يصير إليه.
والثالث، استسعاء الأب في ثمن الولد.
والرابع: وجوب الافداء على الإمام عليه السلام مع اباء الأب عن الاستسعاء، فان الولد
ليس حرا قبل دفع قيمته حتى لا يجوز حبسه في قيمته، بل هو رق محكوم بالحرية
بدفع قيمته فيجوز حبسه في ثمنه وقيمته، فحريته إنما تستقر بعد دفع قيمته.
فظهر سر اعتبار القيمة يوم صيرورته إلى الأب، مع أنه يمكن أن يكون
المراد من يوم يصير إليه يوم الصيرورة الاستحقاقية المتحد مع يوم سقوطه،
لا الصيرورة الفعلية المتأخرة عنه أحيانا.
واما استسعاء الأب في ثمن الولد فهو مقتضى الولاية الموجبة لوجوب الفك
الغير المستقر الا بدفع القيمة.
واما وجوب الافداء على الإمام عليه السلام فلعله لأجل اعمال الولاية الشرعية من
الحكم بعدم استقرار الولد في ملك المولى، فمع حكمه (ع) بعتقه عليه قهرا
بالولاية الشرعية رعاية لولى الولد يكون جبرانه عليه مع اباء الولي عن السعي أو
عدم تمكنه منع، مع أن المراد من وجوب الافداء على الإمام (ع) دفع الفدية من
بيت المال فهي حينئذ مؤادة من سهم الرقاب.
فاتضح بما بيناه غاية الاتضاح ان المستنبط من الروايات حرية الولد بمعنى
عدم استقراره في الرقية المترتب عليها المجامع لها، كما ينبئ عنه قوله عليه السلام
" فعلى الامام ان يفديه ".
424

ومن الغريب ما في الجواهر حيث قال - بعد ذكر موثق سماعة -: " فإنه صريح
في كون الولد حرا على ما في جامع المقاصد: من أنه ضبطه المحققون بالوصف
لا الإضافة، فيكون المراد حينئذ انه ولد حر، والولد الحر لا يكون مملوكا فيجب
على الأب أو الامام فدائه.
ومنه يعلم حينئذ ان دفع القيمة ودفع الولد لمولى الجارية لا لكونه مملوكا
بل لاستحقاقه القيمة على الأب " انتهى، فان افداء الولد صريح في رقيته، وقوله:
لا يملك ولد حر، لكونه في مقام التعليل لوجوب الافداء صريح في الإضافة
لا التوصيف، وان المراد عدم استقراره في الملكية.
وليت شعري كيف يتفرع وجوب الافداء على الحرية! وكيف يجوز حبس
الحر في دين الأب! مع أن استحقاق القيمة على الأب لا وجه له الا رقية الولد.
فظهر ان القول بحرية الولد بمعنى كونه حرا ابتداءا في غير محله، كما أن
القول برقيته وتوقف زوالها على دفع القيمة من الأب - بحيث لو لم يدفعها لفقر أو
غيره استقر في الرقية - في غير محله أيضا، لأنه غير مستقر فيها اما بافداء الأب
أو الإمام (ع) فهو على كل حال يصير حرا ولا يبقى على الرقية، وحيث خفى ما
حققناه على كثير منهم - من أن الحرية في المقام عبارة عن عدم استقرار الرقية -
خفى عليهم اسرار الأحكام التي تضمنتها رواية سماعة واضطربت كلماتهم فيها.
ففي الجواهر: " وعلى كل حال فالخبر المذكور بعد البناء على الحرية لابد
من طرح هذه الأحكام فيه أو تأويلها بما يرجع إلى القواعد الشرعية والا فإنه من
الشواذ كما هو واضح " انتهى، وقد اتضح لك بحمد الله تعالى انها منطبقة على الموازين
ولا حاجة إلى التأويل والرمي إلى الشذوذ.
وبعد ما اتضح لك ان المستنبط من روايات غلبة الرقية على الحرية مع عدم
اذن المولى واجازته في تزويج أمته أو عبده اتضح انه لا فرق بين افراد الشبهة في
كون الولد رقا، فالتفصيل بين موارد الشبهة بجعل الولد حرا مع غرامة القيمة -
425

إذا كان الزوج جاهلا بالحرمة، أو كان هناك شبهة - وبجعله رقا مع وجوب فكه
بدفع القيمة إذا عقد عليها لدعواها الحرية، وبجعله حرا مع عدم غرامة القيمة إذا
تزوجت الحرة بعبد؟؟ جاهلة بكونه عبدا أو بحرمة ذلك عليه.
نعم افترقت الصورة الأخيرة عن الصورتين الأوليين في استقرار الرقية فيها
دونهما كما أوضحنا الكلام فيها غاية الايضاح، ومن الغريب انهم حكموا بحرمة
الولد فيها مع عدم الغرامة.
ثم إنه إذا علم بان الزوج كان جاهلا بالحرمة أو كان هناك شبهة أو عقد عليها
لدعواها الحرية فهو، واما إذا لم يعلم ذلك فهل يسمع دعوى الزوج الجهل أو
الشبهة أو وقوع العقد عليها لدعواها الحرية؟ الظاهر من الروايات انه لا يسمع
قوله الا مع قيام البينة على حريتها، أو على تزويجها بعنوان انها حرة.
فان قلت: الشبهة مطابقة للأصل لان الأصل عدم علم الزوج بأنها أمة أو
بحرمتها عليه، وكذا الأصل سماع قوله في فعله الذي هو المرجع فيه.
قلت: مطابقة الشبهة للأصل إنما هي بالنسبة إلى حكم نفس الزوج.
واما بالنسبة إلى حق الغير فلا، ولذا يرتفع عنه الحد باحتمال الشبهة ولا يحكم
بزوال تبعية الولد للمملوك من أبويه الثابتة اقتضاءا بمجرد احتمال الشبهة.
وببيان أوضح الحد مرتب على الزنا فمع احتمال الشبهة والشك في تحقق
الزنا الأصل عدمه، فيرتفع الحد الذي هو حكمه وهكذا الامر في سائر الحدود
الشرعية المترتبة على السرقة واللواط وأمثالهما من العناوين التي الأصل عدمها عند
الشك فيها، وهذا هو السر فيما اشتهر من أن الحدود تدرء بالشبهات.
واما حرية ولد الأمة من الحر فهي حكم تزويجها على أنها حرة والأصل عدمه
في صورة الشك، ومجرد ان الأصل عدم علم الزوج بكونها أمة لا يكفي في الحكم
بوقوع التزويج على أنها حرة الا من باب الأصل المثبت، وعدم اعتباره من
الواضحات كما حققناه في محله، وسماع قوله في فعله إنما هو فيما يرجع إلى نفسه
426

لا فيما يرجع إلى غيره، فإنه بالنسبة إليه ادعاء لا يثبت الا بالبينة.
وبما بيناه اتضح ان الحكم باستقرار الرقية فيما إذا لم يقم بينة على أنه شهد
لها شاهدان على أنها حرة أو انه زوجها على أنها حرة حكم ظاهري موافق للأصل
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: ان الشبهة المتحقق معها النسب شرعا لا تكفى في وجوب فك الولد
عن الرقية ودفع قيمته إلى مولى الأمة، لما عرفت من أن الشبهة المتحقق معها النسب
المترتب عليه الإرث وسائر آثاره الشرعية امر عدمي يكفي في تحققه عدم تحقق
المانع وهو الزنا.
واما الشبهة الموجبة لوجوب فك الولد عن الرقية فهي امر وجودي منتزع
من وقوع العقد عليها على أنها حرة أو ما بمنزلته، ولذا لا يصير الولد حرا مع عدم
قيام البينة على وقوع العقد على أنها حرة أوما بمنزلته بل يستقر على رقيته حينئذ.
الثاني: انه لو ادعت المرأة بأنها حرة وتزوجها رجل على أنها حرة، ثم
ادعى مدع انها أمته فأقرت بذلك لا يسمع اقرارها لمولاها في ابطال التزويج الا ان
يقيم بينة على أنها أمته، ولو لم تدع المرأة الحرية وتزوجها رجل بزعم انها حرة
فأتاها مولاها وادعى انها أمته فأقرت المرأة بذلك، فهل يسمع اقرارها لمولاها
حينئذ - كما يظهر من موثق سماعة - أو يكون محمولا على ظهور صدقها من الخارج
الظاهر أن اقرارها حينئذ مسموع بعدم دعوى منها قبل التزويج على خلاف اقرارها.
الثالث: اشتهر عندهم انه إذا تزوج عبد بأمة غير مولاه فان اذن الموليان
فالولد لهما، وان لم يأذنا فكذلك، ولو اذن أحدهما كان الولد لمن لم يأذن، ولو زنى
بأمة غير مولاه كان الولد لمولى الأمة.
وفى الجواهر ما محصله فان زنى الحر بأمة كان الولد رقا لعدم العقد المقتضى
للتشريك في قاعدة النماء في الام، ولو اشتبه العبد والأمة بلا نكاح فحصل الولد
بينهما فالظاهر التشريك اجراءا للشبهة مجرى الصحيح، ولو كانت مشتبهة والعبد
427

زانيا فالولد لمولى الأمة قطعا لقاعدة النماء والشبهة، اما العكس فيحتمل التنصيف
اعمالا للشبهة المقتضى للملك للمشتبه وللنمائية المقتضية للملك لمولى الأمة، فيثبت
التنصيف جمعا بين السببين، ولو اشتبه العبد فوطئ حرة مشتبهة أيضا كان الولد حرا
قطعا، اما لو كانت زانية فالولد لمولى العبد " انتهى.
أقول: تحقيق المقام يتوقف على بيان ان الزنا هل يمنع من لحوق الولد
بمولى الزاني في الملك؟ فأقول: لا شبهة في انقطاع نسب الولد عن الزاني شرعا
وانه لغية لا يورث وفى انقطاعه عن الزانية خلاف، والأظهر انقطاعه عنها كما
بيناه سابقا، فحينئذ نقول: إن كان عده نماءا فرع عدم انقطاعه شرعا يلزم عدم
لحوق الولد في صورة زنا العبد والأمة بواحد من الموليين ملكا - كما لا يلحق بأبويهما
ولادة شرعا - وان لم يكن النماء تابعا لتحقق النسب شرعا يلزم لحوقه بالموليين.
والتحقيق عدم تفرع النماء على النسب الشرعي بل فرع تكونه منهما، والملكية
من متفرعات النماء فلا يسقطها الزنا، وأيضا زنا الأمة وبغيها كما لا يسقط المهر الراجع
إلى المولى فكذلك لا يوجب سقوط حق المولى من نماء ملكه عبدا كان أو أمة، مع أن
الزنا إنما يسقط النسب في مورد الإرث والنفقة والولاية لا مطلقا، ولذا يحرم
على الزاني بنته من الزنا وعلى الزانية ابنها من الزنا بل يحرم الأخت من الزنا على
أخيها وهكذا.
والحاصل ان السبب من الزنا بمنزلة النسب الصحيح في محرمات النكاح،
فانقطاع النسب بالزنا لم يكن بالنسبة إلى تمام الأحكام مع أن منع الزنا عن الملكية
إن كان باعتبار منعه عن تحقق النسب لزم عدم الفرق بين العبد والأمة في لحوق
الولد وعدمه.
إذا اتضح لك ما بيناه، فاعلم أنه ان تحقق الزنا بين العبد والأمة فمقتضى ما بيناه
لحوق الولد بمولاهما الا على مختار أبى الصلاح من تبعيته للام، وان اشتبها يلحق
الولد كذلك، وان اشتبه أحدهما دون الاخر فكذلك أيضا، ولو اشتبه العبد فوطئ
428

حرة مشتبهة أيضا فالولد ملحق بالعبد ويكون رقا لمالك العبد، لما بيناه من غلبة
الرقية على الحرية، والتشبت بها لا يؤثر في حرية الولد في المقام لعدم اقدام المولى
على اختيار عبده للنكاح، وعدم ولاية الحرة على الولد المقتضية لفكه، ولو اشتبه
دون الحرة فلحوق الولد بالعبد واضح.
ولو اشتبه الحرة دون العبد فالظاهر أيضا رقية الولد ورجوعه إلى مالك العبد
وان انقطع نسبه عن العبد، ولو لم يشتبها فالولد لمالك العبد، ولو اشتبه الحر فوطئ،
أمة مشتبهة فالولد رق لمالك الأمة وعلى أبيه فكه بالقيمة - كما فصلناه - ولو اشتبه
الحر دون الأمة فكذلك.
ولو اشتبهت الأمة دون الحر فالولد رق ولا فك هنا لعدم الولاية لانقطاع النسب
شرعا، ولو زنى الحر أمة فالولد رق لمالكها وان انقطع نسبه عن أبويه شرعا.
وما بيناه مقتضى القواعد، فان قام الاجماع على خلافه في بعض الفروع
فهو المعتمد والا فلا مجال للعدول عما بيناه، وقد تبين مما بيناه ان تزويج العبد
بالأمة مع اذن المالكين وعدم اذنهما واذن أحدهما متحد في الحكم والتفصيل
لا مدرك له.
429

(فائدة - 60)
قال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في متاجره في القسم الخامس من
المكاسب المحرمة - واعلم أن موضوع هذه المسألة ما إذا كان للواجب على العامل
منفعة تعود إلى من يبذل بإزائه، كما لو كان كفائيا وأراد سقوطه منه فاستأجر غيره،
أو كان عينيا على العامل ورجع نفعه منه إلى باذل المال كالقضاء للمدعى - الخ.
أقول: مقتضى الإجارة رجوع العمل إلى الباذل وصيرورته ملكا له في قبال
ما بذله وحقا من حقوقه لا عود منفعته إليه، الا ترى انه تصح الإجارة على تعمير دار غيره
وعلى العبادة عن الميت مع عدم عود منفعتها إلى الباذل، نعم إذا اختص العامل
بمنفعة عمله لا يصح ايجاره من جهة عدم امكان القبض، فان العمل الذي لا يمكن
بذله لغيره لا يمكن اقباضه إياه، فملاك الصحة عدم اختصاص العامل بمنفعة عمله سواء
عادت إلى الباذل أم إلى غيره.
إذا تبين لك ما بيناه فاعلم أن الوجوب مطلقا تعبديا أم توصليا عينيا أم كفائيا
تعيينيا أم تخييريا مانع عن الإجارة والجعالة، لان تمليك العمل وارجاعه إلى غيره
بحيث يصير مالكا ومستحقا له موقوف على اجتماع أمور أربعة:
الأول: كون العمل مملوكا للعامل.
والثاني: كون ملكه تاما بحيث يجوز له انحاء التقلبات فيه.
والثالث: كونه مما يمكن بذله واقباضه لغيره.
430

والرابع: كونه مما يقبل ان يتملكه باذل الأجرة ويستحقه، فخرج بالقيد
الأول: عمل العامل الذي استحقه غيره وعمل العبد بنآه على أنه لا يملك شيئا وبالثاني:
عمل الصغير ونحوه حيث لا يجوز له التقلب فيه لعدم تماميته في ملكه وعمله
وبالثالث: عمل العامل إذا اختص به منفعته لما عرفت وبالرابع: مالا يقبل ان يصير
حقا من حقوق المستأجر.
إذا اتضح لك ذلك فاعلم أنه لا اختيار للشخص فيما وجب عليه، بل يتعين
عليه ايجاد فلا يكون مالكا تاما له حتى يصح تقلباته فيه، بل هو مملوك في عمله
وذمته مشغولة به، فعمله وان لم يكن مملوكا للشارع بمعنى الجده، حيث إنه منزه
عن قيام الملك به بمعنى الجده وصيرورته محلا للحوادث، الا ان وجوبه عليه
من أطوار المولوية التي هي أقوى من الملك بمعنى الجده، فحبل العمل مشدود
بحبل المولوية المانع من نفوذ تقلبات العبد فيه.
ولعله يرجع إلى ما بيناه ما ذكره بعض الأساطين في شرحه على عد: من أن
التنافي بين صفة الوجوب والتملك ذاتي لان المملوك المستحق لا يملك
ولا يستحق ثانيا.
توضيحه: ان الذي يقابل المال لابد أن يكون كنفس المال مما يملكه المؤجر
حتى يملكه المستأجر في مقابل تمليكه المال إياه، فإذا فرض العمل واجبا لله ليس للمكلف
تركه، فيصير نظير العمل المملوك للغير، الا ترى انه إذا آجر نفسه لدفن الميت لشخص
لم يجز ان يوجر نفسه ثانيا من شخص آخر لذلك العمل، وليس الا لان الفعل صار مستحقا
للأول ومملوكا له فلا معنى لتمليكه ثانيا للاخر مع فرض بقائه على ملك الأول،
وهذا المعنى موجود فيما أوجبه الله تعالى خصوصا فيما يرجع إلى حقوق الغير،
حيث إن حاصل الايجاب هنا جعل الغير مستحقا لذلك العمل من هذا العامل، كأحكام
تجهيز الميت التي جعل الشارع الميت مستحقا لها على الحي فلا يستحقها غيره
ثانيا " انتهى.
431

فان المترائي من كلامه وإن كان انتفاء أصل الملكية بالايجاب فيرد عليه
ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره): من أن الاستحقاق المنتزع من ايجاب الفعل
ليس من قبيل الاستحقاق، التملكي حتى يصير الفعل بالايجاب خارجا عن تحت
تملكه، انه يمكن ارجاعه إلى ما بيناه كما لا يخفى.
ثم قال شيخنا (قدس سره): بعد تزييف ما ذكروه: والذي ينساق إليه النظر
ان مقتضى القاعدة في كل عمل له منفعة محللة مقصودة جواز اخذ الأجرة والجعل
عليه وإن كان داخلا في العنوان الذي أوجبه الله على المكلف، ثم إن صلح ذلك
المقابل بالأجرة، لامتثال الايجاب المذكور أو اسقاطه به أو عنده سقط الوجوب
مع استحقاق الأجرة، وان لم يصلح استحق الأجرة وبقى الواجب في ذمته لو بقي
وقته والا عوقب على تركه.
واما مانعية مجرد الوجوب من صحة المعاوضة على الفعل فلم يثبت على
الاطلاق بل اللازم التفصيل، فإن كان واجبا عينيا تعيينيا لم يجز اخذ الأجرة لان
اخذ الأجرة عليه مع كونه واجبا مقهورا من قبل الشارع على فعله اكل للمال
بالباطل، لان عمله هذا لا يكون محترما لان استيفائه منه لا يتوقف على طيب نفس،
لأنه يقهر عليها مع عدم طيب النفس والامتناع.
ومما يشهد بما ذكرنا انه لو فرض ان المولى امر بعض عبيده بفعل لغرض
وكان مما يرجع نفعه أو بعض نفعه إلى غيره، فاخذ العبد العوض من ذلك الغير على
ذلك العمل عد اكلا للمال مجانا بلا عوض
ثم إنه لا ينافي ما ذكرنا حكم الشارع بجواز اخذ الأجرة على العمل بعد
ايقاعه، كما أجاز للوصي اخذ أجرة المثل أو مقدار الكفاية، لان هذا حكم شرعي لامن
باب المعاوضة.
ثم لا فرق فيما ذكرنا بين التعبدي من الواجب والتوصلي مضافا في التعبدي
إلى ما تقدم من منافاة اخذ الأجرة على العمل للاخلاص - كما نبهنا عليه سابقا -
432

وتقدم عن الفخر (ره) وقرره عليه بعض من تأخر عنه، ومنه يظهر عدم جواز اخذ
الأجرة على المندوب إذا كان عبادة يعتبر فيها التقرب.
واما الواجب التخييري فإن كان توصليا فلا أجد مانعا من جواز اخذ الأجرة
على أحد فرديه بالخصوص بعد فرض كونه مشتملا على نفع محلل للمستأجر،
والمفروض انه محترم لا يقهر المكلف عليه فجاز اخذ الأجرة بإزائه، فإذا تعين
دفن الميت على شخص وتردد الامر بين حفر أحد موضعين، فاختار الولي أحدهما
بالخصوص لصلابته أو لغرض آخر، فاستأجر ذلك لحفر ذلك الموضع بالخصوص
لم يمنع من ذلك كون مطلق الحفر واجبا عليه مقدمة للدفن.
وإن كان تعبديا فان قلنا بكفاية الاخلاص بالقدر المشترك وإن كان ايجاد
خصوص بعض الافراد لداع غير الاخلاص فهو كالتوصلي.
وان قلنا بان اتحاد وجود القدر المشترك مع الخصوصية مانع عن التفكيك
بينهما في القصد كان حكمه كالتعييني.
واما الكفائي فإن كان توصليا أمكن اخذ الأجرة على اتيانه لأجل باذل الأجرة
فهو العامل في الحقيقة.
وإن كان تعبديا لم يجز الامتثال به واخذ الأجرة عليه، نعم يجوز النيابة،
إن كان مما يقبل النيابة، لكنه يخرج عن محل الكلام لان محل الكلام اخذ الأجرة
على ما هو واجب على الأجير لا على النيابة فيما هو واجب على المستأجر فافهم
انتهى.
وفيه ان مالية العمل تتقوم بالمنفعة المحللة المقصودة، ومن المعلوم ان مجرد
تحقق المالية لا يكفي في جواز الإجارة، بل يتوقف على اجتماع أمور أربعة -
كما بيناه - وما ذكره من عدم مانعية الوجوب على سبيل الاطلاق في غير محله،
لان وجوب العمل مطلقا عينيا أم كفائيا تعيينيا أم تخييريا يوجب نقص سلطنة العامل
على عمله ومنع نفوذ التقلبات فيه.
توضيحه: ان الفعل بالوجوب مطلقا يتعين ويتمحض في الايجاد.
433

اما العيني التعييني فالامر فيه واضح.
واما الكفائي فالعمل فيه أيضا متعين للايجاد، وان لم يتعين مكلف معين له
ولا تنافى بينهما.
واما التخييري فاحد البدلين فيه بعينه، وان لم يتعين على المكلف ايجاده
الا انه يتعين كل منهما على وجه التخيير، فبأيهما اتى في الخارج يكون مجزيا
متمحضا في وقوعه على صفة الوجوب، فملاك نقص الملك والسلطنة وهو تعين
العلم للايجاد وتمحضه فيه المانع على نفوذ التقلبات فيه موجود في الجميع.
فان قلت تعين الفعل للايجاد وتمحضه فيه إنما يمنع ما ينافيه من التقلبات
لا مطلقا، والايجار في الواجب وجعله حقا راجعا إلى المستأجر إنما ينافي الوجوب
التعبدي المعتبر فيه الاخلاص وارجاع العمل إليه تعالى خالصا، واما التوصلي
المقصود منه الايجاد كيف اتفق، فلا ينافيه استحقاق المستأجر ايجاده على المكلف
بل يوافقه ويؤكده.
قلت: الواجب تعبديا أم توصليا يكون حقا من حقوق المولى على العبد على
وجه أتم و أقوى من الاستحقاق التملكي، فينافي استحقاق الغير إياه وصيرورته
حقا من حقوقه فان الاستحقاقين، وان لم يكونا من سنخ واحد الا ان الأول لقوته
لا يجامع مع الاخر.
هذا واما ما ذكره من أن اخذ الأجرة على الواجب العيني التعييني اكل للمال
بالباطل، لأنه مقهور من قبل الشارع على ايجاده فلا احترام لعمله، محل نظر مع قطع
النظر عما بيناه، لان مجرد المقهورية على ايجاد العمل بمعنى وجوبه عليه شرعا
لا يوجب سلب الاحترام عن عمله، وعلى فرض تسلمه يختص بالواجب المضيق
إذ لا قهر بالنسبة إلى الواجب الموسع لأنه مخير في اختيار كل فرد من افراده حال
كونه موسعا.
ثم إن ما ذكره أولا من جواز اخذ الأجرة على ماله منفعة محللة مقصودة وان
434

كان واجبا، وقوله: باستحقاق الأجرة على كل تقدير سواء صلح فعله لاسقاط الواجب
أم لم يصلح، مناف للتفصيل الذي ذكره بعد إذ مقتضى تفصيله دوران استحقاق الأجرة
مدار صحة عمله وعدم استحقاقها مع فساد عمله.
وأيضا ما ذكر أخيرا - من جواز اخذ الأجرة على اتيان الكفائي التوصلي
لأجل باذل الأجرة فهو العامل في الحقيقة - في غير محله، لأنه ان رجع اتيانه
لأجل باذل العلم إلى اتيانه بالواجب الكفائي نيابة عنه فهو خارج عن محل الكلام.
وان لم يرجع إلى نيابته عنه بل هو آت حينئذ بما وجب على نفسه وبما هو وظيفته
وإن كان الداعي على اتيانه بوظيفته بذل الأجرة فلا يرجع عمل حينئذ إلى باذل
الأجرة حتى يستحق عليه الاجر.
وبما بيناه تبين حال ما ذكره في اتيانه بأحد فردي الوجب المخير بخصوصه،
فإنه ان اتى به بعنوان النيابة عن باذل الأجرة فهو خارج عن محل الكلام، وان اتى به
بعنوان انه واجب على نفسه ووظيفته لا يرجع عمله إلى الباذل حتى يستحق عليه الاجر.
ثم إن الاتيان بقصد النيابة عن الباذل لا يختص بصورة اختيار فرد بخصوصه،
كما أنه لا يختص قصد الاتيان بوظيفة نفسه بصورة عدم اختيار فرد بخصوصه.
وكيف كان فقد تحصل مما بيناه ان المانع عن اخذ الأجرة على الواجب
مطلقا عينيا أم كفائيا تعيينيا أم تخييريا أمران:
الأول: قصور سلطنة العامل في مرجعيته فيما وجب عليه.
والثاني: عدم قابلية الباذل لاستحقاقة، ضرورة ان الشخص إنما يستحق.
مما يصلح ان يصير من جهاته وشؤونه، والواجب المأتى به بعنوان انه وظيفته
إنما يقع عمن اتى به فلا يرجع إلى الباذل بوجه، وجواز اخذ الأجرة على الوجب
مع قصد النيابة عن باذلها خارج عن محل الكلام، مع أن في صحة النيابة عن
الباذل مع وجوب العمل على العامل تأملا.
ثم اعلم أن هيهنا اشكالين مشهورين ينبغي التنبيه عليهما وعلى دفعهما.
435

الأول: ان الصناعات التي يتوقف النظام عليها تجب كفاية لوجوب إقامة
النظام، بل قد يتعين بعضها على بعض المكلفين عند انحصار المكلف القادر فيه،
مع أن جواز اخذ الأجرة عليها مما لا كلام لهم فيه، وكذا يلزم ان يحرم على الطبيب
اخذ الأجرة على الطبابة لوجوبها عليه كفاية أو عينا كالفقاهة.
والثاني: انه لا شبهة في جواز استيجار الشخص للعبادة عن الميت واخذ الأجرة
على التعبد بها عنه وهو مناف للاخلاص المعتبر في صحة العبادة، ضرورة انه
لا اخلاص في اتيان العبادة بالأجرة.
وقد أجيب عن الاشكالين بوجوه متعددة لا يخلو كثير منها عن النظر.
والتحقيق في الجواب عن الأول: ان العقل إنما يحكم بوجوب بذل الصناعة
في مقابل العوض لان حفظ النظام إنما يكون ببذل الصناعة في مقابل المال الموجب
لانتظام امر الطرفين، واما ايجابها تبرعا فهو موجب لاختلال النظام.
والحاصل ان العقل إنما يحكم بوجوب بذل الصنعة بالمعاملة عليها ايجارا
أو جعالة أو صلحا وهكذا، فموضوع الوجوب هو المعاملة عليها لا نفس الصناعة
حتى يحرم المعاملة واخذ الأجرة عليها وهكذا الامر في الطبابة، دون الفقاهة لأنها
وظيفة شرعية ولا يجوز اخذ الأجرة على إقامة الوظائف الشرعية وإنما يرتزق من
بيت المال.
وعن الثاني بان الأجرة في العبادة عن الميت إنما هو على نيابته عنه في العبادة،
وهو لا ينافي الاخلاص المعتبر فيها.
توضيحه ان العبادة لها طرفان العابد والمعبود، والاخلاص في العبادة إنما
يعتبر في ارتباط العبادة بالمعبود. والنيابة في العبادة لا توجب مشاركة المنوب عنه
مع المعبود حتى تنافى الاخلاص من العبادة، وهي مؤثرة في طرف الارتباط
بالفاعل، فإنها تجعل المنوب عنه فاعلا للعبادة فاخذ الأجرة عليها إنما هو على جعل
نفسه نائبا عن الميت في اتيان العبادة متقربا إلى الله تعالى.
436

تنبيه: الحق ان أحكام الموتى من الغسل والتكفين والصلاة والدفن واجبة بالوجوب
العيني على أولياء الميت، ولذا لا يصح التصدي للأعمال المذكورة من
غيرهم الا باذنهم، فعلى هذا يجوز للأجانب اخذ الأجرة من أولياء الميت للأعمال
المذكورة، والمشهور انه تجب الاعمال المذكورة على عامة المكلفين كفاية وان
اشتراط اذن أولياء الميت في صحة الاعمال المذكورة من غيرهم - كاشتراط صحة
الصلاة بالطهارة واستقبال القبلة - لا ينافي مع تحقق الوجوب قبل وجود الشرط.
وفيه أولا: ان شرط صحة العمل لا وجوبه لا بدان يكون من الأفعال الاختيارية
التي يمكن تحصيلها، واذن ولى الميت لا يكون تحت اختيار غيره فلا يعقل ان يقع
شرطا في صحة عمله.
وثانيا: ان اذن ولى الميت إنما يؤثر في جواز تجهيزه لغيره إذا كان مرجعا
فيه، ولا يكون مرجعا فيه بحيث لا يجوز العمل الا باذنه الا باختصاص وجوبه به،
إذ لا مجال لجعله مرجعا فيه مع مساواته لغيره ومشاركة الجميع في تعلق وجوب العمل
والحاصل ان مرجعيته في جواز العمل وصحته كاشفة عن ولايته على الميت
واختصاص وجوب تجهيزه به، وان لم يكن للميت ولى يجب على الحاكم تجهيزه
من بيت المال ومع عدم بيت المال أو عدم امكان الرجوع إلى الحاكم يجب على
كافة المسلمين حسبة.
437

(فائدة - 61)
في الشرائع في كتاب الحج: " مسائل أربع:
الأولى: إذا استقر الحج في ذمته ثم مات قضى عنه من أصل تركته، فإن كان
عليه دين وضاقت التركة قسمت على الدين وأجرة المثل بالحصص ".
وفى الحدائق " ويجب ان يلحق بهذه المسألة فوائد:
الأولى: قد صرح الأصحاب بأنه إنما يقضى الحج من أصل التركة متى
استقر في الذمة بشرط ان لا يكون عله دين وتضيق التركة عن قسمتها على الدين
وأجرة المثل ".
قال في (ك) بعد ذكر المصنف ذلك: " واما انه مع ضيق التركة يجب قسمتها
على الدين وأجرة المثل بالحصص فواضح لاشتراك الجميع في الثبوت وانتفاء
الأولوية ثم إن قامت حصة الحج من التوزيع أو من جميع التركة مع انتفاء الدين
بأجرة الحج فواضح ولو قصرت عن الحج والعمرة من أقرب المواقيت ووسعت
لأحدهما فقد أطلق جمع من الأصحاب وجوبه، ولو تعارضا احتمل التخيير لعدم
الأولوية، وتقديم الحج لأنه أهم في نظر الشارع، ويحتمل قويا سقوط الفرض مع
القصور عن الحج والعمرة إن كان الفرض التمتع لدخول العمرة في التمتع - على
ما سيجئ بيانه - ولو قصر نصيب الحج عن أحد الامرين وجب صرفه في الدين
إن كان معه والا عاد ميراثا " انتهى.
438

أقول: لا يخفى انه قد تقدمت صحيحة معاوية ابن عمار أو حسنته دالة على أن
من عليه خمس مأة درهم من الزكاة وعليه حجة الاسلام ولم يترك الا ثلاثمائة درهم،
فإنه يقدم الحج أولا من أقرب الأماكن ويصرف الباقي في الزكاة، ومثلها ما رواه
الشيخ في التهذيب عنه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام " في رجل مات وترك ثلاثمائة درهم
وعليه من الزكاة ستمأة درهم، وأوصى ان يحج عنه؟ قال " يحج عنه من أقرب
المواضع ويجعل ما بقي في الزكاة " وظاهر الخبرين المذكورين بل صريحهما انه
يجب أولا الحج عنه من أقرب الأماكن، ثم يصرف الباقي في الزكاة كائنا ما كان
وانه لا تحاصص بينهما.
ولا يخفى ما في ذلك من الدلالة على بطلان ما ذكروه من التفصيل، وبيان ذلك
من وجوه - وبين وجوها ثلاثة، إلى أن قال - ولا ريب انهم بنوا في هذه المسألة
على مسألة تزاحم الديون وان الحكم فيها التوزيع بالحصص والحج دين، والنص
ظاهر في اخرج دين الحج من هذه القاعدة التي بنوا عليها، وهذا مما يؤيد ما قدمناه
في أصل المسألة: من أنه لا يكفي في اثبات الحكم الشرعي مثل هذه الأدلة، لجواز
خروج موضوع البحث عنها، وهو مؤيد لما حققناه في غير موضع من توقف الفتوى
في المسألة والحكم على النص الصريح الواضح الدلالة، فان الناظر في كلامهم
هنا في الموضعين لا يكاد يختلجه الريب في صحة ما ذكروه بناء على القاعدتين
المذكورتين، والنصوص كما ترى في الموضعين على خلاف ذلك انتهى.
أقول: ان أراد خروج دين الحج عن هذه القاعدة خروجه عن تزاحم الديون
وتقدمه على سائر الديون مطلقا، ففيه ان الروايتين الشريفتين لا تدلان على ذلك،
وإنما تدلان على تقدمه على دين الزكاة. وان أراد خروجه عن هذه القاعدة بالنسبة
إلى دين الزكاة بمعنى دلالتهما على أهمية دين الحج بالنسبة إلى دين الزكاة فنعم،
بل يمكن ان يقال دين الحج بالنسبة إلى دين الزكاة لا يتزاحمان، فان من جملة
مصارف الزكاة صرفها في سبيل الله وقضاء الحج من جملة سبيل الله فقضاء الحج
439

من الوجه المزبور جمع بين الحقين لا تقديم لدين الحج على دين الزكاة.
فان قلت: لو جاز اتيان الحج عن الميت من دين الزكاة التي وجبت عليه
لجاز اتيان الحي ما وجبت عليه من حجة الاسلام من الزكاة التي تعلقت به، مع أن
عدم جوازه من البديهيات.
قلت: الملازمة ممنوعة لان الحقين بالموت يتعلقان بالتركة لان كال منهما
حق مالي، فمع عدم المزاحمة بينهما لابد من اعمالها والجمع بينهما.
وقد عرفت بما بيناه طريق الجمع بينهما فحينئذ لا يجوز صرف الزكاة في
غير الحج من سائر المصارف الا ما زاد عن مصرف الحج واما في حال الحياة فكل
من الحقين متعلق بذمة الحي فلا اجتماع لهما في محل واحد حتى يجب الجمع
بينهما مع الامكان، فلا مجال لصرف الزكاة التي تعلقت بذمته في الحج عن نفسه،
مع أن عدم جواز صرف زكاته المتعلقة به في حج نفسه مع عدم التمكن من اتيان
الحج من غير الوجه المذكور ممنوع.
والحاصل ان تقديم صرف التركة في الحج على صرفها في سائر مصارف
الزكاة لا ينافي القاعدة المقررة في تزاحم الحقوق، اما من جهة ان صرفها لا ينافي
مع كونها زكاة، كما بيناه ولعله هو الظاهر، واما من جهة ان الحج أهم من الزكاة
في نظر الشارع وتقديم الأهم على المهم حكم عقلي مطرد في جميع الموارد، والحكم
بالتوزيع إنما هو مع تساوى الحقوق.
ثم إن ما ذكره من أنه لا يكفي في اثبات الحكم الشرعي مثل هذه الأدلة إلى
آخره.
ان أراد منه انه لا يكفي في الحكم الشرعي بمجرده من دون مراجعة إلى الأدلة
الشرعية فهو حق متين، إذ يمكن أن يكون في كلام الشارع ما يدل على تقديم أحدهما
على الاخر لأهميته في نظر الشارع، وان أراد منه انه لا يكفي في اثبات الحكم ولو بعد
المراجعة وعدم الظفر على ما يدل على تقديم أحدهما على الاخر مع احتماله وخفائه
440

عليه فهو عليل، إذ بعد المراجعة التامة من أهلها وعدم الظفر على ما يدل على أهمية
أحدهما من الاخر فالأصل هو التساوي وعدم أهمية أحدهما من الاخر.
والحاصل ان الحكم حينئذ هو التوزيع، سواء علم بتساوي الحقوق أو
احتمله ولم يظهر عليه خلافه، غاية الأمر ان الحكم بالتوزيع في الصورة الأولى
حكم واقعي وفى الصورة الثانية حكم ظاهري فلا يتوقف في الحكم حينئذ لأجل
عدم وجود النص على التوزيع، وعلى تقديم إحداهما على الاخر.
441

(فائدة - 62)
قال المحقق القمي في كتاب القوانين - في ذيل مبحث ان الامر بالامر امر -:
" واما الامر بالعلم بالشئ فهل يستلزم حصول ذلك الشئ في تلك الحالة أم لا؟ الأظهر
لا، فان الامر طلب ماهية في المستقبل فقد يوجد وقد لا يوجد، فقول القائل: اعلم
انى طلقت زوجتي لا يوجب الاقرار بالطلاق بالنظر إلى القاعدة، ولكن المتفاهم في
العرف في مثله الاقرار وان لم يتم على تلك القاعدة فافهم " انتهى.
أقول: ان أراد منه ان الامر بالعلم بالشئ لا يستلزم حصول ذلك الشئ
أي المعلوم فهو صحيح في الجملة، لان العلم كما يتعلق بأمر موجود حاصل في
الخارج كذلك قد يتعلق بأمر غير حاصل في الخارج، فإنه كما يصح ان تقول اعلم
انى تزوجت هندا، كذلك يصح ان تقول اعلم انى سأتزوج هندا فمجرد تعلق العلم
بشئ لا يستلزم حصوله في الخارج، فيختلف الموارد باختلاف متعلق العلم.
فإن كان متعلق العلم امرا مستقبلا لا يستلزم حصوله والا يستلزمه، فإذا تعلق
العلم بوقوع الطلاق في الزمان الماضي استلزمه وكان اقرارا به، فالمثال المزبور
اقرار بالطلاق بالنظر إلى القاعدة والعرف.
وتوهم انه ليس اقرار بالطلاق وتعليله بان الامر طلب ماهية في المستقبل
فقد يوجد وقد لا يوجد عليل جدا، لان المطلوب في المستقبل هو العلم بوقوع
الطلاق وحصول العلم في المستقبل لا ينافي تحقق المعلوم في الماضي، كما أن
442

عدم حصول العلم للمخاطب بمضمون القضية لا ينافي مع ثبوت اقرار المتكلم
بمضمونه.
وان أراد منه ان الامر بالعلم بالشئ لا يستلزم حصول العلم للمخاطب به
أي بمضمون القضية، ففيه انه ان أراد انه لا يستلزم حصول العلم للمخاطب بوقوع
مضمون القضية في الخارج فهو مسلم لعدم الملازمة بينهما، ولكنه لا ينافي ثبوت
اقرار المتكلم به.
وان أراد انه لا يستلزم حصول العلم بمراد المتكلم حتى يثبت الاقرار بمضمونه
فهو باطل جدا، لان الكلام الصادر عن المتكلم العارف بالوضع في مقام الإفادة
والاستفادة منبعث عن ارادته مضمون كلامه وكاشف عنها كشف المعلوم عن علته،
وكشفه عن ارادته في المقام يوجب اقراره بمضمونه، فكما ان قولك: طلقت زوجتي،
اقرار بوقوع الطلاق من جهة كشفه عن إرادة المتكلم مضمونه.
فكذلك قولك: اعلم انى طلقت زوجتي، اقرار بوقوع الطلاق، ولا فرق
بين القضيتين من هذه الجهة، بل القضية الثانية تأكيد للقضية الأولى فإنها تفيد الاخبار
والاعلام بمضمونها بتوسط الهيئة التركيبية التي تفيد مفادها بالنظر الالى كالحروف،
بخلاف القضية الثانية الناظرة إلى إفادة العلم للمخاطب بالنظر الاستقلالي بتوسط
مادة الفعل.
وبالجملة صدور مثل هذا الكلام من مثله في غاية الغرابة.
443

(فائدة - 63)
إذا باع شخص مال غيره وكان راضيا به في نفس الامر، بحيث لو عرض
البيع عليه حينئذ لأجازه وأمضاه، فهل يكفي رضاه بالبيع في نفوذه ومضيه؟ وهل
له ان يرده بعد رضاه به؟.
التحقيق انه لا يكفي وله رده، لأن العقد إنما ينفذ إذا استند إلى أهله واستناده
إلى أهله إنما يكون بأحد أمرين: اما بوكالة متقدمة، أو بإجازة لاحقة، ومجرد طيب
النفس والرضا بالبيع لا يوجب استناد فعل الفضول إليه فلا يكفي نفوذه ومضيه
كما أن الكراهة المقابلة للرضاء وطيب النفس لا توجب البطلان وعدم الصحة، ولو
كان الرضاء بالبيع كافيا في نفوذه لكانت الكراهة موجبة لبطلانه، لان حكمي المتقابلين
في المقام متقابلان.
والحاصل انه لو كان حكم الرضاء حكم الإجازة والامضاء لكان حكم الكراهة
حكم الرد، مع أن بيع المكره موقوف متزلزل كالبيع الفضولي.
فان قلت: لو لم يكن الرضاء وطيب النفس كافيا في النفوذ والمضي لكان
بيع المكره موقوفا على الإجازة والامضاء مع أن كلماتهم صريحة في نفوذه برضائه
وطيب نفسه وزوال كراهته.
قلت: بيع المكره صادر من أهله وإنما المانع من نفوذه كون صدوره منه على
444

وجه الاكراه، فيزول المانع حينئذ بزول الاكراه بسبب حصول الرضاء وطيب
النفس به، بخلاف المقام فان المانع من نفوذه صدوره من غير أهله فلا ينفذ حينئذ
الا باستناده إلى أهله.
ولا يتحقق الاستناد إلى أهله الا بوكالة متقدمة أو إجازة لاحقة منه، وهذا امر
واضح لا شبهة تعتريه.
445

(فائدة - 64)
اعلم أنه لا شبهة في أن الأجل شرط في عقد المتعة، وانه لا ينعقد مع الاخلال
بذكر الأجل، ولكن الكلام في أنه لو أخل به عمدا أو نسيانا، أو جهلا باعتباره فيه
ينقلب دائما أو يبطل رأسا.
وفصل القول في المقام يتوقف على بيان ان تقابل الدوام والانقطاع هل هو من
قبيل تقابل التضاد؟ أو من قبيل تقابل التناقض.
فان قلنا: بان تقابلهما من قبيل تقابل التضاد يبطل رأسا، إذ كما يتوقف حينئذ
تخصص عقد الازدواج بالانقطاع على ذكر الأجل وقصده، كذلك يتوقف تخصصه
بالدوام على قصده بل على ذكره أيضا، لان كلا منهما حينئذ امر وجودي زائد
على أصل العقد فلا يعقل تحقق أحدهما من دون قيد وقصد، ومجرد انتفاء قصد الأجل
لا يكفي في تحقق قصد الدوام حينئذ.
وان قلنا: بان تقابلهما من قبيل تقابل التناقض ويكون مرجع الدوام إلى
اطلاق العقد وعدم كونه مؤجلا، يصح عقد الازدواج ويقع دائما، لان الدوام
حينئذ ليس امرا زائدا على نفس العقد حتى يحتاج إلى القصد.
والتحقيق ان تقابلهما من قبيل تقابل التناقض، ضرورة ان مرجع دوام عقد
الازدواج إلى عدم تقييده بأجل ومدة، فهو منتزع من اطلاق العقد وعدم تقييده،
فلا يكون امرا زائدا على نفس العقد والا وجب ذكر الدوام في العقد الدائم كما
وجب ذكر الأجل في العقد المنقطع، فاختلافهما ليس في الحقيقة والماهية بل في
446

كيفية الايجاد مع اتحاد الحقيقة والماهية النوعية.
فان أوجد عقد الازدواج على وجه الاطلاق فهو دائم.
وان أوجد مؤجلا بأجل معين فهو منقطع.
فما توهمه بعض من أن العقد الدائم والمنقطع حقيقتان مختلفتان لاختلاف
أحكامهما من ثبوت التوارث والنفقة في الدائم دون المنقطع في غير محله، لان
اختلاف الأحكام كما يجوز استناده إلى اختلاف الحقيقة كذلك يجوز استناده إلى
اختلاف كيفية الايجاد اطلاقا وتقييدا، ولا دلالة للأعم على الأخص.
وبما بيناه تبين ان وقوع العقد على وجه الدوام في الصور المذكورة مطابق
للأصل، وقد قرره الشارع ففي موثق ابن بكير عن الصادق عليه السلام " ان سمى الأجل
فهو متعة، وان لم يسم الأجل فهو نكاح ثابت " فإنه باطلاقه يشمل الصور الثلاثة.
وفى خبر ابان ابن تغلب قال له - لما علمه كيفية عقد المتعة -: " انى استحيى
ان اذكر شرط الأيام فقال: هو أضر عليك قلت وكيف؟ قال إنك ان لم تشترط
كان تزويج دوام ولزمتك النفقة والعدة وكانت وارثا ولم تقدر على أن تطلقها الاطلاق
السنة ".
وفى خبر هشام ابن سالم: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام أتزوج المرأة متعة مرة مبهمة؟
قال فقال ذاك أشد عليك ترثها وترثك ولا يجوز لك ان تطلقها الا على طهر وشاهدين
قلت أصلحك الله فكيف أتزوجها؟ قال أياما معدودة بشئ مسمى، إلى اخره ".
وهاتان الروايتان وان اختصتا بصورة التعمد في ترك الأجل مع قصد المتعة
الا انهما تدلان على الانقلاب إلى الدائم في صورة نسيان الأجل بطريق أولى، فان
الانقلاب إلى الدائم مع قصد المتعة والاخلال بالأجل نسيانا أهون من الانقلاب إليه
مع قصد المتعة والاخلال بالأجل عمدا، وأولى منه الانقلاب إليه مع قصد التزويج
و الغفلة عن المتعة والدوام.
ولا ينافيها مضمر سماعة " سئلته عن رجل ادخل جارية يتمتع بها ثم إنه نسي ان
447

يشترط حتى واقعها يجب عليه حد الزاني؟ قال: لا ولكن يتمتع بها بعد النكاح،
ويستغفر الله مما اتى " لاحتمال ان يراد من نسيان الاشتراط نسيان عقد المتعة لا نسيان
الأجل، بل يمكن ان يقال إنه هو الظاهر من قوله يتمتع بها بعد النكاح.
ان قلت: العقود تابعة للقصود لأنها افعال اختيارية والفعل الاختياري بما هو اختياري
تابع للقصد بالضرورة، فلا يعقل انعقاد العقد دائما مع قصد المتعة، كما أنه لا يعقل
انعقاده كذلك مع قصد التزويج من دون قصد دوام وانقطاع، والروايات الدالة على
انعقاده دائما مع قصد المتعة، أولا مع قصدها والدوام، ضعيفة الاسناد فلا يجوز
العمل بها أولا لضعفها، وثانيا لمعارضتها مع القاعدة المسلمة الضرورية.
قلت قد عرفت مما بيناه ان الدوام ليس امرا زائدا على العقد حتى يحتاج
إلى قصد زائد على قصد العقد فمع قصد التزويج من دون قصد دوام وانقطاع يقع
دائما لأنه مقتضى اطلاقه و عدم تقييده، كما أنه مع قصد المتعة وعدم الاتيان بمقتضاه
من التقييد بالأجل يقع دائما أيضا، لان مرجع قصد المتعة إلى قصد التزويج مقيدا
بأجل معين فقصد أصل التزويج ثابت وقصد تقييده بأجل معين مع عدم الاتيان به
عمدا أو نسيانا يقع لغوا ولا يخل بقصد أصل التزويج فيقع مطلقا دائما.
والحاصل ان الاتيان بما يقتضى الدوام باطلاقه عن قصد وقصد تقييده بأجل
محدود مع عدم الاتيان به لا يخل بالمقتضى، بل يقع قصد التقييد لغوا لعدم الوفاء
به، فحال دوام عقد التزويج المنتزع عن اطلاقه، وعدم تقييده بأجل حال لزوم
عقد البيع المنتزع عن اطلاقه، فكما انه إذا قصد ايقاع عقد البيع على أن يكون له
الخيار في مدة معينة وغفل حال العقد عن الاتيان بالشرط أو تركه عمدا يقع العقد لازما
ولا يخل به قصده ايقاعه مشروطا بالخيار في مدة معينة قبل اجراء صيغة العقد
فكذلك الامر في المقام، وبيان آخر انه إذا نسي ذكر الأجل فهو قاصدا للتحديد والقصد
السابق على اجراء الصيغة لا اثر له، وإذا تركه عمدا فهو قادم باختياره على اجراء
448

العقد مطلقا فيؤخذ بمقتضى اطلاقه لقدومه عليه باختياره.
فاتضح بما بيناه غاية الاتضاح انه لا ينافي وقوع العقد على وجه الدوام في
الصور الثلاثة مع قضية " العقود تابعة للقصود ".
واما ما ذكر من أن الروايات ضعيفة الاسناد ففيه ان ضعفها منجبر بالشهرة،
مع أن الأولى منها من قبيل الموثق على أنها مقررة للأصل فلا يقدح حينئذ فيها
ضعف الاسناد مع عدم معارضتها بما ينافي الأصل فلا مجال للقول بالبطلان مطلقا
كما عن المسالك ولا التفصيل بأنه إن كان الايجاب بلفظ؟؟ التزويج والنكاح انقلب
دائما. وإن كان بالتمتع بطل العقد، لأجل ان اللفظين الأولين صالحان لهما بخلاف
الثالث فإنه مختص بالمتعة، كما عن ابن إدريس لان لفظ التمتع يصلح للتزويج
الدائم أيضا، وإن كان أغلب استعماله في المنقطع.
449

" فائدة - 65 "
إذا أقر المريض في مرض موته بدين لوارث أو أجنبي هل يسمع اقراره من
الأصل أو الثلث مطلقا أو فيه تفصيل؟
قد حكى فيه أقوال متشتتة ومنشأ اختلاف الأقوال اختلاف الروايات فلا
بدلنا من ذكر الروايات الواردة في الباب، وبيان ما يستفاد منها، ففي خبر منصور
ابن حازم " سئلت أبا عبد الله (ع) عن رجل أوصى لبعض ورثته ان له عليه دينا
فقال إن كان الميت مرضيا فاعطه الذي أوصى له " ونحوه خبر أبي أيوب عنه أيضا،
وفى خبر العلا بياع السابري " سئلت أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة استودعت
رجلا مالا فلما حضرها الموت قالت له ان المال الذي دفعته إليك لفلانة وماتت
المرأة فاتى أولياؤها للرجل فقالوا له انه كان مال ولا نراه الا عندك فاحلف لنا
مالها قبلك شئ أفيحلف لهم؟ فقال إن كانت مأمونه عنده فيحلف لهم وان كانت
متهمة فلا يحلف لهم ويضع الامر على ما كان فإنما لها من مالها ثلثه "
وفى خبر أبي بصير " سئلت أبا عبد الله (ع) عن رجل معه مال مضاربة فمات وعليه
دين وأوصى ان هذا الذي ترك لأهل المضاربة أيجوز ذلك؟ قال نعم إذا كان
مصدقا " وفى صحيح الحلبي " قلت لأبي عبد الله (ع) الرجل يقر لوارث بدين؟
فقال " يجوز إذا كان مليا " وخبره الاخر انه " سئل أبا عبد الله (ع) عن رجل أقر
450

لوارث الدين في مرضه أيجوز ذلك؟ قال نعم إذا كان مليا ".
وفى مكاتبة محمد ابن عبد الجبار إلى العسكري (ع) " عن امرأة أوصت إلى
رجل وأقرت له بدين ثمانية آلاف درهم، وكذلك ما كان لها من متاع البيت من
صوف وشعر وشبه وصفر ونحاس وكل مالها أقرت به للموصى له وشهدت على
وصيتها، وأوصت ان يحج عنها من هذه التركة حجة ويعطى مولاة لها أربعمأة درهم
وماتت المرأة وتركت زوجها، فلم ندر كيف الخروج من هذا واشتبه علينا
الامر، وذكر كاتب ان المرأة استشارته فسئلته ان يكتب لها ما يصح لهذا الوصي؟
فقال لها لا تصح تركتك لهذا الوصي الا باقرارك له بدين يحيط بتركتك بشهادة
الشهود وتأمر به بعد ان ينفذ من توصيه به، فكتب له بالوصية على هذا وأقرت
للوصي بهذا الدين فرأيك أدام الله عزك في مسألة الفقهاء قبلك عن هذا، وتعرفنا
ذلك لنعمل به انشاء الله؟ فكتب (ع) بخطه إن كان الدين صحيحا معروفا مفهوما
فيخرج الدين من رأس المال انشاء الله، وان لم يكن الدين حقا انفذ لها ما أوصت
به من ثلثها كفى أو لم يكف ".
وفى خبر إسماعيل ابن جابر " سئلت أبا عبد الله (ع) عن رجل أقر لوارث له
وهو مريض بدين له عليه؟ قال " يجوز إذا أقر به دون ثلث " وخبر سماعة " سئلته عمن
أقر لوارث له بدين عليه وهو مريض؟ قال " يجوز عليه ما أقر به إذا كان قليلا "
وخبر أبي ولاد " سئلت أبا عبد الله (ع) عن رجل مريض أقر عند الموت لوارث بدين
له عليه؟ قال يجوز ذلك قلت فان أوصى لوارث بشئ قال جائز "
وخبر القاسم ابن سليمان سئلت أبا عبد الله (ع) عن رجل اعترف لوارث له
بدين في مرضه؟ فقال " لا تجوز وصية لوارث ولا اعتراف له بدين " وخبر السكوني " قال
أمير المؤمنين في رجل أقر عند موته لفلان وفلان لأحدهما عندي ألف درهم ثم مات
على تلك الحال " أيهما أقام البينة فله المال فإن لم يقم واحد منهما البينة فالمال بينهما
نصفان ".
451

وخبر سعد ابن سعد عن الرضا عليه السلام قال " سئلته عن رجل مسافر حضره
الموت فدفع مالا إلى رجل من التجار فقال له ان هذا المال لفلان ابن فلان ليس لي
فيه قليل ولا كثير فادفعه إليه يصرفه حيث شاء فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعله
له بأمر ولا يدرى صاحبه ما الذي حمله على ذلك كيف يصنع حينئذ؟ قال يضعه
حيث شاء ".
أقول بعون الله تعالى ومشيته: ان الذي يستفاد من مجموع الروايات الشريفة
انه ان ثبت الدين باقراره اما بواسطة كون المقر مرضيا مأمونا مصدقا كما تدل عليه
الروايات الستة المتقدمة فان الملي في رواية الحلبي راجع إلى كونه مصدقا مأمونا،
بناء على ما في الصحاح من أنه ملا الرجل صار مليا أي ثقة، أو على أن الملائة كناية
عن رفع التهمة، واما بواسطة قرائن خارجية كما تدل عليه المكاتبة المذكورة حيث
علق فيها النفوذ من الأصل على كون الدين صحيحا معروفا مفهوما، وهو باطلاقه
شامل لصحته من الخارج وان لم يثبت به لاتهام المقر وعدم ثبوته من الخارج نفذ
من الثلث.
توضيح الامر غاية الايضاح ان الاقرار فيه جنبتان جنبة الموضوعية وجنبة
الكشف، ونفوذه إنما هو من جهة جنبة الموضوعية - كما ينبئ عنه قضية اقرار
العقلاء على أنفسهم جائز، ومن ملك شيئا ملك الاقرار به (فان نفوذ اقرار العاقل
على نفسه واقرار المالك فيما يتعلق بمحل سلطنته وملكه لا يتوقف على احراز صدق
اقراره فيما أقر به.
واما جهة كشفه فهي ناقصة فلا يكون مثبتا لما أقر به الا بضميمة كونه
موثوقا به مصدقا أو بضميمة قرائن خارجية، فإذا ثبت المقر به من طرف كون
المقر مصدقا أو من الخارج نفذ من أصل التركة لان الدين مقدم على الإرث ومع
ثبوته لا مجال لمزاحمة الورثة، وإذا لم يثبت به لاتهام المقر وعدم ثبوت المقر به
من الخارج لم يبق الا جنبة الموضوعية، وهي لا تقتضي نفوذه الا من الثلث لأنه في
452

مرض موته لا اختيار له الا من ثلث ماله، لتثبت حق الورثة بثلثي ماله حينئذ ولو لم
تكن الورثة متشبثة بثلثي ماله حينئذ لم يكن وجه لالغاء اقراره في ثلثي ماله وقصر
نفوذه على ثلثه، كما هو ظاهر.
وتبين مما بيناه ان المراد بكونه متهما في اقراره عدم كونه مرضيا مصدقا لا امرا
زائدا عليه فلا واسطة بينهما، فما لم يحرز كونه مرضيا يكون متهما لا ينفذ اقراره
الا في ثلثه، كما تبين انه لا فرق بين الاقرار بدين أو عين ولا بين اقراره لوارث
أو أجنبي لان ملاك النفوذ في الجميع وعدمه نفوذه الا في الثلث إنما هو كونه
مرضيا ومتهما فلا يختلف الحكم باختلاف المقر به أو المقر له.
فما حكى عن بعض من التفصيل بين الدين والعين، وعن بعض من التفصيل
بين الوارث والأجنبي - مع تصريح الروايات باستواء الدين والعين والوارث و
الأجنبي في الحكم وعدم اختلافه الا باختلاف حال المقر من حيث الاتهام وعدمه
في غاية التعجب.
ثم إنه قد تبين مما بيناه ان سبب عدم نفوذ اقرار المريض في مرض موته مع
التهمة الا في ثلث ماله تشبث حق الورثة بثلثي ماله حينئذ إذ لو كان المريض تاما
في امره بالنسبة إلى جميع ماله كالصحيح نفذ اقراره في الجميع، ضرورة ان من
ملك شيئا ملك الاقرار له، فمرجع التهمة حينئذ إلى احتمال جعل الاقرار - باعتبار
كشفه عن حق ثابت - وسيلة إلى منع الوارث عن حقه في ثلثي الدين الا فيما ملك امره
وهو ثلث ماله.
ومنه يظهر ان تبرعات المريض المنجرة في مرض موته لا ينفذ الا في ثلث
ماله، ولا مجال للتفصيل هنا بين كونه مأمونا ومتهما، إذ لا يتطرق فيها الكشف عن
حق ثابت سابق حتى يتطرق فيها التهمة وعدمه.
ومن الغريب ما احتمله في الجواهر من جريان التفصيل بين التهمة وعدمها
في سائر المنجزات.
453

فتبين مما بيناه ان عدم نفوذ اقرار المريض بالدين في مرض موته مع التهمة
الا في الثلث ما له دليل قاطع على عدم نفوذ تبرعاته المنجزة الا في ثلث ماله من دون
احتمال تفصيل.
واغرب منه ما توهمه بعض من أن المتجه مع التهمة اخراج ثلث ما أقر به من
الدين من ثلثه والامضاء في ثلث العين المقر بهما من دون غرامة قيمة الباقي من ثلثه،
لان الدين بعد الموت يتعلق بمجموع التركة، ولذا لو أقر الوارث نفذ في حصته
بالنسبة، ولان تعلق حق الورثة يمنع من نفوذ الاقرار في الزائد على الثلث فلا تقصير
منه يوجب الضمان للمالك، كما أنه لا مقتضى لغرامته للوارث من ثلثه لو اخذها المقر
له بالاقرار ". انتهى.
وفيه انه مع التهمة لا يثبت الدين حتى يتعلق بمجموع التركة ويوزع على
الجميع وإنما يغرم المريض ما أقر به من قبل اقراره به فان العاقل مأخوذ باقراره وليس
له حينئذ الا ثلث ماله فيخرج ما أقر به من ثلث ماله كفى أو لم يكف، ومقايسة
ما نحن فيه باقرار الوارث بدين مورثه في غاية البشاعة، لان اقرار الوارث بدين
مورثه اقرار على نفسه وعلى غيره فلا ينفذ تمام ما أقر به على نفسه، بل يوزع عليهما
فينفذ في حقه بالنسبة إلى سهمه ولا ينفذ بالنسبة إلى سائر الورثة لعدم نفوذ الاقرار
على غيره، بخلاف المقام فإنه اقرار على نفسه فيجب عليه دفع تمام ما أقر به للمقر
له وليس له حينئذ الا ثلث ماله فيخرج تمام أقربه من ثلثه ولا يتطرق فيه التوزيع.
إذا اتضح لك ما بيناه فقد تلخص لك أمور:
الأول: ان المدار في نفوذ الاقرار من الأصل وعدم نفوذه الا في الثلث على
ثبوت المقر به باقراره وعدم ثبوته به، والتفصيل في النفوذ من الأصل وعدمه
باختلاف حال المقر في كونه مأمونا ومتهما إنما هو بهذا الاعتبار لا بذاته فلا واسطة
بينهما لعدم تصور الثالث حينئذ، فما يظهر من الجواهر من ثبوت الواسطة بينهما و
نفوذ الاقرار من الأصل حينئذ في غير محله.
454

والثاني: ان التفصيل في نفوذه من الأصل والثلث باختلاف المقر به دينا و
عينا أو باختلاف حال المقر له من حيث كونه وارثا أو أجنبيا في غير محله.
والثالث: ان مجرد اقرار المريض في مرض موته بدين أو عين إنما يقتضى
نفوذه من الثلث، وتنفيذه من الأصل يحتاج إلى امر زائد وهو كون المقر مرضيا
مصدقا مأمونا.
والرابع: ان وجه عدم نفوذ اقراره مع التهمة الا في الثلث تعلق حق الورثة
بثلثي ماله حينئذ.
ومنه يتبين حينئذ عدم نفوذ تبرعاته المنجزة الا في الثلث من دون تفصيل.
والخامس: ان ما قد يتوهم من أن مقتضى تعلق حق الورثة بثلثي ماله نفوذ
اقراره في ثلث ما أقربه من ثلثه في غاية السخافة لما ظهر لك من أن اقراره بالدين
اقرار على نفسه فينفذ جميع ما أقربه فيخرج من ثلثه إذ لا يملك حينئذ سواء.
تنبيه:
خبر القاسم بن سليمان الدال على عدم جواز وصية المريض واعترافه بدين
لوارث مطلقا وخبر أبي ولاد الدال على جواز وصية واعترافه بدين لوارث مطلقا
وخبر سعد بن سعد الدال على جواز اعترافه بمال لأجنبي تتقيد بالاخبار المفصلة
لوجوب حمل المطلق على المقيد، فلا منافاة حينئذ بين الأخبار المطلقة، ولا بينها
وبين الاخبار المفصلة المقيدة.
واما خبر السكوني فلا اطلاق له لأنه اخبار عن قضاء مولانا أمير المؤمنين (ع)
في مورد خاص، والعمل المقر به كان دون الثلث أو المقر كان مرضيا ثم إن
قضائه (ع) بتنصيف المقر به بينهما إذا لم يقم أحدهما البينة هو من باب قاعدة
العدل والانصاف، وهذا أحد المواضيع المنصوصة من هذه القاعدة الشريفة التي
أوضحنا الكلام فيها في الجزء الأول.
455

" فائدة - 66 "
اعلم أنه لا شبهة في أن الوكالة من العقود الإذنية الجائزة بالذات من الجانبين،
فيجوز للموكل الرجوع عن توكيله كما يجوز للوكيل الرجوع عن قبوله، ولكن
اشترطوا في رجوع الموكل اعلامه الوكيل بعزله عن الوكالة، فما لم يعلمه بعزله
لم ينعزل، ولم يشترطوا ذلك في رجوع الوكيل بل حكموا بتحقق رجوعه عن قبول
الوكالة اعلم الموكل برجوعه أم لا، وحكى عن جماعة من الفقهاء (قدس سرهم)
انه ان تعذر اعلام الموكل وكيله بالعزل فاشهد عليه ينعزل الوكيل بالاشهاد، والا
فلا ينعزل الا باعلامه إياه بعزله، والروايات تدل على عدم انعزاله الا باعلام.
ففي صحيح ابني وهب ويزيد عن الصادق (ع) " من وكل رجلا على امضاء
امر من الأمور فالوكالة ثابتة ابدا حتى يعلمه بالخروج منها كما اعلمه بالدخول فيها "
وصحيح ابن سالم عنه (ع) أيضا " في رجل وكل آخر على وكالة في امر من
الأمور واشهد له بذلك شاهدين فقام الوكيل فخرج لامضاء الامر فقال اشهدوا انى قد
عزلت فلانا عن الوكالة فقال إن كان الوكيل امضى الامر الذي وكل فيه قبل العزل، فان
الامر ماض على ما أمضاه الوكيل كره الموكل أم رضى قلت فان الوكيل قد امضى الامر
الذي قد وكل فيه قبل ان يعلم بالعزل أو يبلغه انه قد عزل عن الوكالة فالامر على
ما أمضاه؟ قال نعم قلت فان بلغه العزل قبل ان يمضى ثم ذهب حتى أمضاه لم يكن
456

ذلك بشئ؟ قال نعم ان الوكيل إذا ولك ثم قام عن المجلس فأمره ماض ابدا،
والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة ".
وصحيح العلا ابن سيابة عن الصادق (ع) المتضمن للانكار على من فرق
في هذا الحكم بين النكاح وغيره ينعزل في الأول بالاشهاد، بخلاف الثاني
فلا ينعزل الا بالعلم والاستدلال عليهم بقضاء أمير المؤمنين عليه السلام في الامرأة
التي استعدته وقد وكلت أخاها فقال يا أمير المؤمنين عليه السلام انها وكلتني
ولم تعلمني انها عزلتني عن الوكالة حتى زوجتها كما أمرتني فقال لها ما تقولين؟
قالت قد أعلمته يا أمير المؤمنين عليه السلام فقال له ألك بينة بذلك فقالت هؤلاء
شهودي يشهدون فقال لهم " ما تقولون " قالوا نشهد انها قالت اشهدوا انى قد
عزلت أخي فلانا عن الوكالة بتزويجي فلانا وانى مالكة لأمري قبلا ان زوجني
فقال " أشهدتكم على ذلك بعلم منه ومحضره " فقالوا لا فقال " تشهدون انها أعلمته
العزل كما أعلمته الوكالة " قالوا لا، قال " أرى الوكالة ثابتة والنكاح واقعا أين الزوج "
فجاء فقال " خذ بيدها بارك الله لك فيها " فقالت يا أمير المؤمنين احلفه انى لم اعلمه العزل
ولم يعلم بعزلي إياه قبل النكاح، قال " وتحلف " قال نعم يا أمير المؤمنين (ع) فحلف
وأثبت وكالته وأجاز النكاح.
فلا مجال للتأمل في هذا الحكم بعد هذه الروايات الصحيحة الصريحة.
وإنما الكلام في أنه حكم تعبدي على خلاف الأصل، أو انه حكم واقعي
موافق للأصل كشف عنه الشارع وان لم يكن مكشوفا لنا قبل كشفه إياه لدقته؟
وقد ذهب سيدنا الأستاذ العلامة (قدس سره) إلى أنه حكم واقعي فقال إن التعبير
بان الوكالة ثابتة ابدا حتى يعلمه بالخروج منه كما اعلمه بالدخول فيها، وان الوكالة
ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة وانى أرى الوكالة ثابتة، ظاهر في أن الحكم على
طبق الموازين الواقعية الأولية، فقال (قدس سره) في توضيحه " ان الموكل باعلامه
الوكيل بالتوكيل نصبه على الوكالة ولا يرتفع النصب الا بطرو ضده وهو العزل.
457

ولا يتحقق العزل الا باعلامه الرجوع عنها، كما لا يتحقق النصب الا بالأعلام
بتوكيله إياه وقبوله لها، ولا ينافي هذا جواز الوكالة وعدم لزومها، فان مقتضى
جوازها استقلال الموكل في ازالتها ولا ينافي توقف ازالتها ورفعها على الاعلام
بالرجوع عنها مع استقلاله في رفعها، ولعله إلى هذا المعنى يشير قوله (ع) " حتى
يعلمه بالخروج عنها كما اعلمه بالدخول فيها ".
وببيان آخر ان هنا مفهومين مختلفين ثبوت الوكالة ونصبه عليها ومقابل ثبوتها
الرجوع عنها، ومقابل نصبه عليها عزله عنها، فمع ثبوت الوكالة من دون نصبه عليها كما
إذا وكله ولم يعلمهم بتوكيله إياه، تزول الوكالة بمجرد الرجوع عنها، واما مع نصبه
عليها كما إذا اعلمه بتوكيله إياه لا تزول الوكالة المنصوب عليها الا بعزله عنها،
ولا يتحقق العزل الا باعلامه الرجوع عنها فافهم واغتنم فإنه دقيق نفيس جدا.
458

قال المحقق (قدس سره) في كتاب الوقف من الشرائع: " القسم الرابع في شرائط
الوقف وهي أربعة: الدوام، والتنجيز، والاقباض واخراجه عن نفسه، فلو قرنه بمدة
بطل وكذا لو علقه بصفة متوقعة، كذا لو جعله لمن ينقرض غالبا كان يقفه على زيد
ويقتصر أو يسوقه إلى بطون تنقرض غلابا أو يطلقه في عقبه ولا يذكر ما يصنع به بعد
الانقراض، ولو فعل ذلك قيل يبطل الوقف وقيل يجب ارجائه حتى ينقرض المسمون
وهو الأشبه فإذا انقرضوا رجع إلى ورثة الواقف وقيل إلى ورثة الموقوف عليهم
والأول أظهر " وفى المسالك " هنا مسئلتان ":
إحديهما: ان يقرن الوقف بمدة كسنة مثلا وقد قطع المصنف ببطلانه لان
الوقف شرطه التأبيد فإذا لم يحصل الشرط يبطل، وقيل إنما يبطل الوقف ولكن
يصير حبسا كالثانية لوجود المقتضى وهو الصيغة الصالحة للحبس لاشتراك الوقف
والحبس في المعنى فيمكن إقامة كل واحد مقام الاخر.
فإذا قرن الوقف بعدم التأبيد كان قرينة إرادة الحبس كما لو قرن الحبس
بالتأبيد فإنه يكون وقفا كما مر وهذا هو الأقوى ولكن هذا إنما يتم مع قصد
الحبس فلو قصد الوقف الحقيقي وجب القطع بالبطلان لفقد الشرط
والثانية: ان يجعله لمن ينقرض غالبا ولم يذكر المصرف بعده كما لو وقف
على أولاده واقتصر على بطون تنقرض غالبا، وفى صحته وقفا أو حبسا أو بطلانه من
459

رأس أقوال، أشار إليها المصنف واختار أولها، ويمكن أن يكون اختار الثاني لان
وجوب اجرائه حتى ينقرض المسمون يشمله.
ووجه الأول ان الوقف نوع تمليك أو صدقة فيتبع اختيار المملك في التخصيص
وغيره، ولأصالة الصحة ولعموم الامر بالوفاء بالعقد، ولان تمليك الأخير لو كان
شرطا في تمليك الأول لزم تقدم المعلول، ولرواية أبي بصير عن الباقر (ع) " ان
فاطمة عليها السلام أوصت بحوائطها السبعة إلى علي (ع) ثم إلى الحسن (ع) ثم الحسين (ع)
ثم إلى الأكبر من ولدها، ولعموم ما سلف من توقيع العسكري (ع) " الوقوف حسب
ما يوقفها أهلها ".
وأجيب عن الأول بان التمليك لم يعقل موقتا وكذا الصدقة، وأصالة الصحة
متوقفة على اجتماع شرائطها وهو عين المتنازع، لان الخصم يجعل منها التأبيد
والامر بالوفاء بالعقد موقوف على تحقق العقد وهو موضع النزاع، وكون تمليك
الأخير شرطا غير لازم وإنما الشرط بيان المصرف الأخير ليتحقق معنى الوقف
وفعل فاطمة عليها السلام لا حجة فيه من حيث إنها لم تصرح بالوقف بل بالوصية
ولا اشكال فيها ولو سلم ارادتها الوقف فجاز علمها عليه السلام بتأبيد ولدها للنص على
الأئمة عليهم السلام وانهم باقون ببقاء الدنيا وقوله عليه السلام " حبلان متصلان لم يفترقا حتى يردا
على الحوض ".
وقول العسكري عليه السلام متوقف على تحقق الوقف وهو المتنازع.
وفيه نظر لان التمليك الموقت متحقق في الحبس وأخويه وهذا منه واشتراط
التأبيد متنازع مشكوك فيه، فيجوز التمسك بالأصل وعموم الامر بالوفاء بالعقد إذ
لا شبهة في كونه عقدا غايته النزاع في بعض شروطه والاستدلال بعدم افتراق
الحبلين إلى أن يردا الحوض على بقاء الذرية إلى آخر الزمان، فيه ان افتراقهما
لازم بعد الموت إلى البعث فعدم الافتراق اما كناية عن الاجتماع باعتبار بقاء النفوس
الناطقة أو على ضرب من المجاز ومعهما لا يفيد المطلوب والقول بالصحة حسن.
460

ولكن لا يظهر الرفق بين كونه وقفا أو حبسا بدون القصد فالأولى الرجوع
إليه فيه، ولا يقدح في الحبس استعماله فيه على وجه المجاز اما لأنه شائع في
هذا الاستعمال أو لمنع اختصاص كل بصيغة خاصة، بل لما أفاده وهو حاصل والقول
باستلزام الصحة انتقال الملك عن الواقف والا فهو الحبس فيجب ان لا يعود عين
النزاع وبالجملة فالقول بالصحة في الجملة متجه " انتهى.
وفصل الكلام في المقام يتوقف على تحقيق حقيقة الوقف وانه يعتبر فيه
التأبيد أم لا؟ وانه على فرض اعتباره فيه عرفي قرره الشارع أم مجعول له
فالكلام يقع في مقامين:
الأول: في تحقيق حقيقة الوقف: فأقول مستمدا برب الأرباب وامنائه
الأطياب - عليهم صلوات الله الملك الوهاب - ان للوقف حقيقة واحدة ولا تختلف
حقيقة الشئ باختلاف الموارد فالقول بان حقيقة الوقف هي تمليك رقبة الموقوفة للموقوف
عليه بحيث لا تباع ولا توهب ولا تورث في غير محله، لعدم اطراده في الوقف على
المصالح بل الأوقات العامة مطلقا لان المصالح والأمور العامة لا تقبل التملك، بل
لا يطرد في الوقف على المنقطع الاخر بناءا على كونه وقفا.
كما أن القول بأنه اخراج المال عن الملك على وجه مخصوص في غير محله أيضا
لأنه ان أريد بان حقيقته هي الاخراج عن الملك كالاعراض والتحرير لزم
أن يكون الوقف كالابراء والعتق ايقاعا لا عقدا: فيلزم حينئذ عدم نفوذ الاشتراط
والتقييد فيه لان الشرط إنما ينفذ في العقد لا في الايقاع، ونفوذ عتق العبد مشترطا
عليه الخدمة في مدة معينة لا ينافي ما بيناه، لان مرجعه إلى استثناء منفعة العبد في مدة
معينة عن العتق لا إلى اشتراط شئ على المعتق في اعتاقه.
وان أريد ان حقيقته هي ما يترتب عليه الخروج عن الملك ففيه أو لا انه
لا يكون حقيقته حينئذ هي الاخراج عن الملك وثانيا انه لا يجرى في الوقف على
461

المنقطع الاخر وعوده إلى الواقف أو ورثته بعد انقطاعه وانقراضه، وثالثا انه يرجع
إلى القول الأول لان الذي يترتب عليه اخراج الرقبة عن الملك إنما هو تمليك
الرقبة.
وتوهم انه لا ينافي انقطاع الاخر وانقراضه مع تمليك الرقبة أو اخراجها عن
الملك وعودها إلى الواقف أو ورثته بعد انقطاعه وانقراضه - كما يظهر من صاحب
الجواهر (قدس سره) حيث قال ردا على القائل بان التمليك لم يعقل موقتا: " بأنه
كالاجتهاد في مقابل النص والفتوى " وأطال الكلام - إلى أن قال - " ان الناقل عن
مقتضى الملك إنما نقل هذا المقدار وليس هذا من التوقيت في الملك أو الوقف الذي
قد حكينا الاجماع على عدم جوازه، ضرورة كون ذلك قد اخذت فيه المدة
غاية الا ما إذا جاءت تبعا لانقراض الموقوف عليه، فالعود إلى الملك بانتهاء سبب
النقل كالعود بسبب الفسخ بالإقالة والخيار اللذين ليسا بسبب ملك جديد للمال
الذي خرج عن ملك الواقف " انتهى في غاية الضعف.
ضرورة ان ملك العين والرقبة لا يقبل التوقيت أصلا ولو تبعا لانقراض الموقوف عليه
وما ذكر من أن العود بسبب الفسخ بالإقالة أو الخيار في غاية البشاعة لان سبب النقل إنما
هي الصيغة المركبة من الايجاب والقبول وهي زائلة بمجرد حدوثها ولا بقاء لها حتى
تقبل الانتهاء، والفسخ بالإقالة والخيار لا يتعلق بها لعدم بقائها وإنما يتعلق بالعلقة
الباقية المتولدة من حدوثها وتعلقه بها عبارة عن ازالتها وحلها فلا يوجب انتهاء
النقل وسببه لان النقل الذي هو ملك العين قار ثابت على وجه الاطلاق وهو
يقتضى الدوام والفسخ بالإقالة والخيار لا ينافي الثبوت على وجه الاطلاق ولا يوجب
تحديد النقل وتوقيته، ضرورة ان الرفع والإزالة لا ينافي الثبوت على وجه الاطلاق
بل يتوقف عليه إذ لو كان محدودا لكان مرتفعا بنفسه بسبب انتهاء حده ولا يتطرق
فيه الرفع والإزالة واما الوقف بانقراض الموقوف عليه وعود الموقوفة إلى
462

الواقف أو وارثه فهو من قبيل انتفاء المقيد بانتفاء قيده، ولا يكون من قبيل فسخ
العقد وحله فجعلهما من قبيل واحد في غير محله.
إذا اتضح لك ما بيناه فقد اتضح لك ان التوقيت في الوقف كما يحصل
بتقييده بامد معدود كذلك يحصل بتقييده بالمنقطع الاخر.
فان قلت: لو كان انقطاع الموقوف عليه لتوقيته وعدم تأبيده لزم أن يكون
البيع وسائر العقود الناقلة للعين موقتة لأجل ان المنتقل إليه فيها لا يكون الا
منقطع الاخر.
قلت: مجرد تعلق العقد بمنقطع الاخر لا يوجب توقيته وإنما يوجبه تقييده به،
وفرق بين بين التعلق والتقييد.
توضيح الكلام فيه ان البيع وسائر العقود الناقلة للعين إنما تتعلق بالمنتقل
إليه بمعنى صيرورتها ملكا طلقا له، ولا تكون مقيدة به، ولذا يجوز له نقل العين
إلى غيره كيف شاء وتورث بخلاف الوقف فإنه مقيد بالموقوف عليه ولا يكون
طلقا، ولذا لا يجوز له بيع الموقوفة وهبتها وسائر التصرفات الناقلة للعين ولا تورث
والموجب للتوقيت إنما هو التعلق على وجه التقييد الموجب لانتفاء المقيد عند انتفاء
قيده لا التعلق فقط.
وقد تبين؟؟ ما بيناه ان التوقيت في الوقف يحصل بأحد أمرين اخذ المدة فيه
غاية أو تقييده بمنقطع الاخر،
واما في البيع وسائر العقود الناقلة للعين فلا يحصل الا باخذه المدة غاية
فدوام عقد البيع وما بمنزلته من العقود منتزع من اطلاقه وعدم تقييده بمدة وفى
الوقف منتزع منه ومن التقييد بأمر دائم غير منقرض آخره.
إذا اتضح لك ما بيناه فأقول: ان الذي يطرد معه الوقف في جميع موارده
ولا ينفك عنه ويناسبه التعبير بالوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة وليس
المراد من تحبيس الأصل المنع من التصرفات الناقلة للعين، لان المنع من التصرف
463

قسمان تكليفي ووضعي، والأول ليس مرادا قطعا، والثاني من آثار حقيقة الوقف
المتحققة بالتحبيس والتسبيل معا كما هو ظاهر فلا يعقل ان يصير جنسا للوقف.
وأيضا المنع من التصرفات الناقلة للعين قد يستند إلى عدم المقتضى وقد
يستند إلى وجود المانع فهو من الأمور المترتبة واللوازم المستتبعة ولا يكون
من المفاهيم الأولية القابلة للانشاء ابتداءا فالمراد منه تقرير الأصل وقصره على
امر خاص أو عام بحيث لا يخرج عنه إلى غيره ولا ينفك عنه ما دام موجودا مسبلا ثمرته
إلى المحبوس عليه فتحبيس الأصل بمنزلة الجنس وتسبيل ثمرته بمنزلة الفصل،
فان تحبيس العين على وجهين:
الأول: تحبيسها في استيفاء الدين ابتداءا كما في الرهن أو تبعا كما في
التفليس ولا يترتب عليهما تحبيس الثمرة ولا تسبيلها فيما حبس فيه العين وهو الدين
والثاني: تحبيسها بمعنى ارجاعها إلى طرف وتخصيصها به مقيدا به بحيث
يترتب عليه تسبيل ثمرتها إليه كما هو المقصود في المقام.
ثم إن التحبيس المترتب عليه تسبيل ثمرة الأصل يجامع مع دوام الطرف
وعدمه كما يجامع مع اطلاقه من حيث المدة وتقييده بها ضرورة ان ارجاع
الأصل إلى طرف وتقييده به قابل للامرين وصالح لهما في حد ذاته.
المقام الثاني في أنه هل يعتبر التأبيد فيه بمعنى اطلاقه أمدا سواء كان مع دوام
الطرف أو انقراضه أم وبمعنى اطلاقه مع دوام طرفه.
وقد تبين بما بيناه في المقام الأول عدم اعتباره فيه بكلا المعنيين ذاتا ولم يدل
دليل شرعي على اعتباره فيه بل الدليل الشرعي دال على عدم اعتباره فيه فان ثبوت
الحبس في الشرع كاشف عنه لأنه قسم من الوقف ولا ينافيه التعبير عنه بالحبس
وجعله بابا آخر في الفقه لان غرضهم من الوقف هو المؤبد من تحبيس الأصل
وتسبيل ثمرته وهو لا يدل على اختصاصه به ذاتا أو شرعا.
وتوهم ان حقيقة الوقف هي تمليك رقبة الموقوفة للموقوف عليه أو اخراجها
464

عن ملك الواقف فلا يجامع مع اقترانه بمدة أو تعليقه على منقطع الاخر قد تبين لك فساده
كما تبين لك فساد التفصيل بين الاقتران بمدة والتعلق على منقطع الاخر حينئذ كما
عن صاحب الجواهر وبعض المعاصرين (قدس سرهما) إذ لو سلم ان حقيقته هي تمليك
الرقبة للموقوف عليه أو اخراجها عن ملك الواقف لم يتطرق فيه الاقتران بمدة ولا
التعليق على المنقطع الاخر.
وإذا اتضح لك مما بيناه حقيقة الوقف وانه لا يعتبر فيه التأبيد ولا يضره الاقتران
بمدة ولا التعليق على منقطع الاخر، اتضح لك عدم بطلان الوقف مع اقترانه بمدة
ولا مع تعليقه على منقطع الاخر.
فالحكم ببطلانه رأسا مع الاقتران بمدة كما ذكره المحقق قدس سره أو
الحكم ببطلانه وقفا وصحته حبسا كما حكاه صاحب المسالك عن بعض أو التفصيل
بين صورة إرادة الحبس منه فيصح وبين صورة إرادة الوقف الحقيقي فيبطل كما
اختاره قدس سره في غير محله لما تبين ان حقيقة الوقف لا تأبى عن التقييد بمدة ولم يدل
دليل شرعي على اعتباره الاطلاق فيه أمدا وعدم صحته مع التقيد فيه بمدة فلا وجه
حينئذ للحكم بالبطلان رأسا.
كما أنه لا وجه للحكم ببطلانه وقفا وصحته حبسا، لأنهما ان كانا حقيقتين
مختلفتين لا يعقل مع قصد الوقف وبطلانه صيرورته حبسا، وان لم يكونا حقيقتين
مختلفتين وكان الحبس مرتبة من الوقف لا مجال للحكم ببطلانه وقفا.
كما أن التفصيل بين قصد الوقف و قصد الحبس والحكم ببطلانه في صورة
الأولى وبصحته في الصورة الثانية لا وجه له، مع اتحادهما في الحقيقة وعدم
اختلافهما الا في المرتبة، بل في كون الوقف أعم والحبس أخص، لان قصد
الوقف حينئذ مع الاقتران بالمدة لا ينافي مع وقوعه حبسا، لان الحبس حينئذ مرتبة
من الوقف لا قسيم له.
وبما بيناه تبين لك الحال في الوقف على المنقطع الاخر، وانه يصح وقفا
465

لا بمعنى اخراج رقبة الموقوفة عن ملك الواقف، ولا بمعنى تمليكها للموقوف عليه،
لما عرفت من عدم اعتبارهما في حقيقة الوقف بل بمعنى تحبيس الأصل على الموقوف
عليه المنقرض الاخر مقيدا به، فرقبة الموقوفة حينئذ باقية على ملك الواقف فهو
مع كونه وقفا حبس حينئذ، لا بمعنى صيرورته في حكم الحبس كما يظهر من
بعض، لعدم اختلافهما في الحقيقة حتى ينافي كونه وقفا مع كونه حبسا حقيقة،
لما تبين لك من أن الوقف منه مؤبد ومنه غير مؤبد، وغير المؤبد منه هو الحبس.
فظهر انه لا وجه للقول بالبطلان رأسا حينئذ كما ظهر انه لا وجه للحكم بصحته
حبسا لا وقفا، أو انه يصح حبسا مع قصد الحبس، واما قصد الوقف فيصح وقفا
أو يبطل.
وبما بيناه تبين أيضا انه إذا انقرض الموقوف عليهم ترجع الموقوفة إلى
الواقف أو ورثته، لما ظهر لك ان رقبتها حينئذ باقية على ملك الواقف ولم تخرج
عن ملكه، فلا وجه للقول بصرفها حينئذ في وجود البر، كما أنه لا وجه للقول
برجوعها إلى ورثة الموقوف عليهم، مع أنه ان قلنا ببقاء الوقف حينئذ فلا مجال
للعود إلى ورثة الموقوف عليهم إرثا ولا وقفا، بل يتعين حينئذ صرفها في وجوه
البر، وان قلنا ببطلان الوقف حينئذ يتعين رجوعها إلى ورثة الواقف، فعلى كل
تقدير لا وجه لرجوعها إلى ورثة الموقوف عليهم.
تنبيهات:
الأول: انه ان قلنا بتمليك العين للموقوف عليه أو اخراجها عن ملك الواقف
في الوقف المؤبد لا ينافي ما بيناه من أنه لا يكون أحدهما حقيقة للوقف، لان ثبوت
تمليك العين أو اخراجها عن ملك الواقف حينئذ على فرض تسليمه إنما هو من جهة
ملازمته مع تأبيد الوقف، فلا ينافي خروجه عن حقيقة الوقف المشتركة بين المؤبد
والمنقطع الاخر.
الثاني: ان التأبيد على فرض اعتباره فإنما هو في الوقف بمعنى عدم تقييده
466

بمدة وعدم تعليقه على المنقرض الاخر، واما تأبيد العين الموقوفة ودوامها فلا وجه
لاعتباره، فاخراج تحبيس الفرس في سبيل الله عن الوقف، ودرجه في الحبس الذي
جعلوه قسيما للوقف في غير محله.
الثالث ان انقراض الاخر وانقطاعه إنما يتصور في الأوقاف الخاصة المتعلقة
بالافراد الموجودة، واما الأوقاف العامة المتعلقة بالعناوين الكلية فلا يتصور الانقراض
فيها، إذ لا يعتبر فيها الوجود حتى يكون انتفاعها في الخارج موجبا لانقراض الاخر
وانقطاعه، وارتباط الوقف بالعناوين الكلية باق حينئذ سواء وجدت افرادها في الخارج
أم لم توجد، فان وجدت في الخارج فهو وان لم توجد تصرف ثمرة الموقوفة في
وجوه البر مطلقا أو فيما هو أقرب إليها.
والحاصل انه ان اعتبر في الموقوف عليه الوجود في الخارج يكون الوقف
خاصا ويتطرق فيه انقراض الاخر وانقطاعه بسبب انعدامه وعدم وجوده، وان لم
يعتبر فيه الوجود بل تعلق الوقف بأمر عام أي بالكلى بعنوان انه كلى لا ينقطع تعلق
الوقف عنه بسبب انتفاء مصاديقه في الخارج، لعدم تعلق الوقف بمصاديقه حينئذ حتى
ينقطع بانقطاعها.
الرابع: قد ظهر مما بيناه ان العين الموقوفة باقية على ملك الواقف قطعا
في غير المؤبد منه، إذ لا يعقل التوقيت في تمليك العين والرقبة، فهي عند موت الواقف
تنتقل إلى ورثته مسلوب المنفعة وتصير طلقا حين انقراض الموقوف عليه، لا انها
تنتقل إليهم عند انقراضه.
وتظهر الفائدة فيما لو مات الواقف عن ولدين ثم مات أحدهما عن ولد قبل
الانقراض فعلى ما بيناه يشترك هو وابن أخيه لتلقيه من أبيه، غاية الأمر انه تلقاه
مسلوب المنفعة.
واما لو قلنا بانتقاله إلى الوارث حين الانقراض يختص الابن به، ولاحظ
لابن أخيه لتأخره عنه في الدرجة، فما في المسالك من أن المعتبر وارثه حين انقراض
467

الموقوف عليه كالولاء عند موته مسترسلا إلى أن يصادف الانقراض
في غير محله، لأنه ان قلنا ببقاء العين الموقوفة على ملك الواقف في الصورة المزبورة
كما هو المختار فلا وجه لاعتبار الوارث حين انقراض الموقوف عليه.
وان قلنا بخروجها عن ملك الواقف فلا وجه لعودها إلى وارثه، لا حين موت
الواقف ولا حين انقراض الموقوف عليه، لان انقراض الموقوف عليه ليس من
الأسباب الناقلة للعين الموقوفة إلى واقف أو وارثه، كما هو ظاهر.
468

(فائدة - 68)
يطلق النكاح في اللغة على الوطي كثيرا، وعلى العقد بقلة، وقيل في الشرع
بالعكس حتى قيل إنه لم يرد في الكتاب العزيز بمعنى الوطي الا في قوله عالي
" حتى تنكح زوجا غيره " بل قيل إنه فيها بمعنى العقد أيضا واشتراط الوطي إنما علم
من السنة.
وكيف كان فهل هو حقيقة في الوطي ومجاز في العقد، اطلاقا لاسم المسبب
على السبب، أو بالعكس اطلاقا لاسم السبب على المسبب لغة أو شرعا، أو فيهما أو
مشترك بينهما فيهما، أو في أحدهما؟ وقد نسب كل من الوجوه إلى قائل.
والتحقيق ان النكاح في أصل اللغة يقرب من الضم الدخولي بشهادة الاطراد
في موارد الاستعمال، فان قولهم تناكحت الأشجار إذا انضم بعضها إلى بعض من
هذا الباب، فان انضمام الأشجار بعضها ببعض لا يخلو غالبا من دخول بعض أغصانها
في بعض الأخرى، واليه يرجع قولهم: نكح الماء الأرض، إذا اختلط بترابها،
فلا يكون الاختلاط معنى مغايرا كما توهم.
واما استفاده الغلبة منه في قولهم: نكحه الدواء إذا خامره وغلبه، فإنما هي
من جهة المورد فان جعل الداء ناكحا والشخص منكوحا يقتضى غلبة الدواء عليه
، وقولهم: تناكح الجبلان، إذا التقيا، يرجع إلى ما بيناه أيضا تحقيقا أو تنزيلا،
والا فمجرد الالتقاء لا يسمى تناكحا بالضرورة، إذ لو صح التعبير بالتناكح لأجل مجرد
469

الملاقاة لم يختص الجبلين واطرد في كل ملاقاة.
فاتضح بما بيناه ان الوطي أحد مصاديق النكاح لا انه حقيقة فيه بخصوصه
واطلاق النكح بالضم على بضع المرأة من جهة انه ما به يتحقق انضمام
الرجل إليه في الدخول، واما اطلاق النكاح على عقد الازدواج فيمكن أن يكون
تحقيقيا، من حيث إنه مرتبة من الانضمام في جهة الدخول، ان قلنا بان مفهوم النكاح
أعم من الانضمام الحسى والمعنوي وضعا، وتنزيليا من جهة تنزله منزلة الانضمام
الحسى ان قلنا باختصاصه به وضعا.
فتوهم انه حقيقة في العقد بخصوصه مجاز في الوطي في غاية البشاعة
كما أن توهم كونه حقيقة في الوطي مجازا في العقد بعلاقة السببية والمسببية باطل
أيضا، والا صح اطلاقه على ملك اليمين أيضا تجوزا، مع أن اطلاق السبب على
المسبب وبالعكس إنما يصح فيما إذا اتحدا وجودا ويكون أحدهما منتزعا من الاخر
كما أوضحنا الكلام فيه في محله وسننبه عليه على أن اطلاق أحدهما على الاخر
بعلاقة السببية لو سلم فإنما هو في تسبيب الوجود لا تسبيب الحل والجواز، والعقد
إنما يكون سببا لحل الوطي وجوازه لا لوجوده وتحققه.
وإذا قد اتضح لك ما بيناه فاعلم أن النكاح المنطبق على الوطي إنما يحل شرعا
بأحد أمرين التزويج وملك اليمين، قال تعالى شأنه " والحافظون لفروجهم الا على
أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم فإنهم غير ملومين " فالكلام يقع في مقامين:
الأول: في عقد التزويج وهو مرتب على الانشاء المترتب على الكلام أو
ما بمنزلته والجميع متحد في الوجود الخارجي ضرورة انه لا وجود للعقد في الخارج
مغايرا للانشاء، كما أنه لا وجود له مغايرا للكلام أو ما بمنزلته، فان الصادر عن
الشخص في مقام الانشاء كالاخبار ليس الا الكلام أو ما بمنزلته، فانشاء المنشئ
وعقده التزويج في الخارج ليس الا كلامه الصادر عنه أو ما بمنزلته، فهما كسائر
الأمور الانتزاعية من التأديب والتعليم والتعلم وهكذا متحدان مع منشأ انتزاعهما
470

في الخارج، ويترتب على كل من الترتب والاتحاد مالا يترتب على الاخر.
فمن جهة الترتب الطبعي والمغايرة التحليلية يعد الكلام وما بمنزلته آلة وسببا
للانشاء والعقد، ومن جهة الاتحاد الخارجي يحملان عليه، وقسموا الكلام إلى
الاخبار والانشاء وعرفوا العقد بالايجاب والقبول المنطبقين على الكلام وما بمنزلته
ومن آثار الترتب والتعدد صحة ادخال اللام على التأديب والجبن ونحوهما وتركيبهما
مع الضرب والعقود على وجه التعليل، فتقول: ضربت للتأديب وقعدت عن الحرب
للجبن.
ومن آثار الاتحاد صحة انتصابهما على التمييز الرافع للابهام الناشئ من
ناحية النسبة، فتقول: ضربت تأديبا، وقعدت عن الحرب جبنا، فيميزان ويبينان
الضرب والقعود من حيث وجهه ونوعه.
وقد خفى هذا المعنى على أهل العربية فزعموا أن الانتصاب في هذا النحو
من التركيب على وجه التعليل ووقوع المنصوب مفعولا له، ولم يتنبهوا ان الانتصاب
لو كان على وجه التعليل وناظرا إليه لاطرد في كل علة ولم يختص بالمصدر المتحد
مع الفعل وقتا وفاعلا، وقد تنبه الزجاج ان الانتصاب من جهة الاتحاد، حيث ادرج
ما سموه مفعولا له في المفعول المطلق بحذف مصدر مضاف إليه، ولكن لم يتنبه ان
ما سموه مفعولا مطلقا يرجع إلى التمييز أيضا وليس عنوانا اخر، وقد أوضحنا الكلام
فيه في أساس النحو وشرحه وبينا هناك ان المفعول منحصر فيما سموه مفعولا به.
ثم إن العقد قد يستعمل مصدرا دالا على الحدث والنسبة إلى الفاعل أي جعل
الشئ ذا عقدة المعبر عنه في الفارسية (بگره بستن) وقد يستعمل اسم مصدر دالا على
الحدث الصرف وهو العقدة المعبر عنها في الفارسية (بگره) واتحاده مع الكلام
باعتبار الأول أقوى منه باعتبار الثاني، فإنه باعتبار الأول دائر مدار الكلام حدوثا
وبقاءا ولا انفكاك عنه بوجه، واما باعتبار الثاني فلا يدور مداره بقاءا لانفكاكه عنه
في مرحلة البقاء لبقائه بعد انقضاء الكلام كما هو ظاهر.
471

توضيح الكلام فيه ان الأمور المنتزعة على نحوين: فمنها ما ينتزع وجوده
من وجود منشأ انتزاعه، فيدور الامر المنتزع حينئذ مدار منشأه حدوثا وبقاءا كالفوقية
والتحتية المنتزعتين من تقابل الجسمين بحيث لو وقع أحدهما لوقع على الاخر
ومنها ما ينتزع حدوثه من حدوث منشأه فيدور الامر المنتزع حينئذ مدرا منشأه
حدوثا لا بقاءا، كالطهارة المنتزعة من الوضوء والغسل والتيمم والفسق المنتزع من
ارتكاب الكبائر. والعقد باعتبار الأول من قبيل الأول كما أنه بالاعتبار الثاني من قبيل
الثاني فان عقدة النكاح والبيع وهكذا تبقى بعد انقضاء الصيغة.
ومن هنا يجوز حل البيع بالفسخ والإقالة وإزالة النكاح بالطلاق من دون ان
ينقلب المنشأ وهو الحدوث إلى اللاحدوث. وإذ قد اتضح لك ما بيناه فاعلم أن مقسم
الاقسام والجامع بين الأنواع وموضوع الآثار والأحكام هو المعنى الثاني، ضرورة
ان البيع والصلح والنكاح وهكذا من المفاهيم العقدية التي تترتب عليها حلية الوطي
وجواز التصرفات إنما تكون أنواعا وأقساما له بهذا المعنى، كما أن الإقالة والفسخ
والطلاق إنما تلحقه كذلك، فالآثار إنما تدور العلقة الباقية حدوثا وبقاءا
لامدار الصيغة الزائلة.
وإذا اتضح لك ان موضوع الأحكام ومقسم الاقسام هو المعنى الثاني، اتضح
لك انه المبحوث عنه أيضا، ضرورة انه إنما يبحث عن الشئ لبيان أحكامه.
وحيث خفى ما حققناه على أكثر المتأخرين من الأصحاب (قدس سرهم)
زعموا ان العقد حقيقة هو الايجاب والقبول، وان اضافته إلى البيع وسائر الأنواع
لامية ان قلنا إن الأنواع هي الآثار المترتبة عليها، وبيانية ان قلنا إنها هي الايجاب
والقبول حقيقة.
وقد اتضح لك بما بيناه فساد الجميع، فان العقد حقيقة هو الأثر المترتب عليهما
وان اتحد معهما في الخارج اتحاد الامر المنتزع مع منشأ انتزاعه، والمبحوث عنه
هو المعنى الثاني المفارق عنهما في مرحلة البقاء فإضافته إلى الأنواع بيانية بناءا على
472

تحديدها بالمعاني المنشئة من الايجاب والقبول كما هو التحقيق
ثم توهم الاختلاف في أن حقيقتها هل هي من قبيل المعاني المنشئة أو من قبيل
الصيغ المشتملة على الايجاب والقبول من الغرائب، ضرورة ان الأنواع هي المفاهيم
المنشئة القارة القابلة للحوق الاقرار والحل والإقالة والطلاق، واختلاف تعاريفهم
لا يدل على اختلافهم في حقائقها لان الغرض منها تقريب الحقيقة من وجه لا تحقيقها
من كل وجه كما هو الشأن في غالب التعاريف المتداولة في الكتب المصنفة، فهي
شبه التعاريف اللفظية من حيث عدم تعلق الغرض بالكشف منها الا في جملة،
فلا يدل اختلاف التعاريف حينئذ على اختلاف الحقيقة، ضرورة جواز اختلاف
التقريبات مع وحدة الحقيقة.
واعجب منه توهم وقوع النزاع في وضع ألفاظ العقود من البيع والصلح
وهكذا الايجاب والقبول، أو للمعاني المنشئة، فنسب إلى بعض وضعها للأول وان
استعماله في الثاني من قبيل استعمال السبب في المسبب والى اخر عكسه، والى ثالث
اشتراكهما في المعنيين، فان التعاريف إنما هي لبيان حقائق الأنواع لا لتفسير
الألفاظ وبيان وضعها، وليست الحقيقة النوعية تابعة للحقيقة اللفظية كما هو ظاهر
مع أن ألفاظ العقود إنما تستعمل في معنى واحد وهو المفهوم المنشأ من الايجاب
والقبول، فلا مجال للتجوز والاشتراك، والاطلاق على الايجاب والقبول لا ينافيه
إذ يكفي في صحة الاطلاق الاتحاد في الخارج مع المغايرة في المفهوم، كما يقال:
الضرب تأديب وظلم وقصاص، فيحمل المفاهيم المختلفة على الضرب مع بقائه
على مفهومه الأصلي، فالتعدد في الصدق والاطلاق، لا في الاستعمال فلا تجوز
ولا اشتراك.
ثم إن وضع ألفاظ العقود للايجاب والقبول واستعمالهما فيهما أو في أحدهما
غير معقول لاستلزامه اتحاد طرفي الوضع والاستعمال حينئذ، فان الايجاب والقبول
عين ألفاظ العقود. والالتزام باستعمال - مثل: بعت وصالحت وأنكحت.
473

وهكذا في اثار الأنواع لا فيها مجازا غير نافع أولا في دفع اشكال اتحاد
طرفي الوضع، وباطل ثانيا لان المتعاقدين إنما يكونان في مقام انشاء الأنواع
لا آثارها ولوازمها، ومناف ثالثا لما ذكروه من اعتبار الألفاظ الصريحة الحقيقية
في صيغ العقود اللازمة وعدم وقوعها بالكنايات والمجازات، مع أن الالتزام بان
الأنواع هي ألفاظ الايجاب والقبول وان المنشأ اثارها لا نفسها يوجب الالتزام
يعدم ارتفاع نفس الأنواع بالإقالة والفسخ بالخيار والطلاق وهو بديهي البطلان.
ثم إن الاستعمال بعلاقة السببية والمسببية باطل لا أصل له أصلا والا اطرد في
جميع الموارد، وصح اطلاق العقد على العاقد والسرير النجار والتأديب على
المؤدب وبالعكس وفساده مما لا يخفى على من له أدنى مسكة.
وقد بينا في محله ان علاقة السببية والمسببية كسائر العلائق المرسلة لا يوجب
جواز التجوز، وإنما التجأوا إليها جهلا بحقيقة الحال ووجه الاستعمال في الموارد
التي استنبطوها منها، فالتجوز ينحصر في الاستعارة.
بل قد حققنا في كشف الأستار عن وجه اسرار الرواية العلوية عليه وعلى
أبنائه الطاهرين آلاف تحية - في تقسيم الكلام إلى اقسام ثلاثة المنفتح منها
أبواب كثيرة المنفتح من كل باب منها أبواب ان التجوز في اللفظ لا أصل له أصلا
حتى في الاستعارة، لا كما زعمه السكاكي بل على وجه أدق قد خفى على جميع
الأقوام، قد استفدناه من أنوار إشاراته عليه السلام.
فاتضح بما بيناه غاية الاتضاح ان المستعمل فيه في ألفاظ العقود واحد وان
اختلف محل الاطلاق، فلا مجال للتجوز والاشتراك.
ثم اعلم أن مفهوم العقد حقيقة يختص بالعقدة الحاصلة من شد أحد الحبلين
بالاخر، واطلاقه على سائر الموارد كناية أو استعارة، فاطلاقه على عقود الأصابع
والقصب من جهة ارتباط طرفي العظم والقصب واتصالهما على نحو يوجب تنزله
منزلة العقدة الحاصلة بين الحبلين، كما أن اطلاقه على ما يقابل الايقاعات من
474

جهة وجود حبلين تنزيليين من طرف المتعاقدين مشدود أحدهما بالاخر، أو حبل
واحد شد أحد طرفيه بالمعقود عليه، كما سيظهر لك تفصيل الحال في بيان اقسام
العقود.
وهكذا الامر في اطلاق العقود على العهود الموثقة الإلهية المأخوذة في
ولاية مولانا أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى أبنائه الطاهرين - في عشر
مواطن المفسر بها قوله عز من قائل " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " أو مطلق
العهود الإلهية أو التكاليف الشرعية، فان حبل الالزام من الله تعالى فيها مشدود
بحبل الالتزام من المؤمنين.
ومن هذا الباب أيضا اطلاق العقدة على الاشكال لأنه إذا اشتكلت جهات في
امر وأبهم وخفى وجه المطلب يكون حبل الواقع مشدودا بحبل غيره. ومن هذا
القبيل أيضا اطلاق الاعتقاد على اذعان النفس بأمر علما كان أو اطمينانا، فان النفس
إذا سكنت واستقرت في امر يكون حبلها مشدودا بحبله، ومن هنا لا ينطبق على
ما دون الاذعان والاطمينان من مراتب الظن، ضرورة عدم حصول الشد والعقد مع
عدم الاذعان والاطمينان.
وبالتأمل فيما بيناه يظهر لك الحال في سائر الموارد، وإذ قد تحقق لك
مفهوم العقد لغة وحقيقة المبحوث عنها في الفقه، فلا بد لنا من التكلم في مقامات:
الأول: في بيان ان الأصل فيه الصحة والنفوذ، فأقول: ان المفاهيم العقدية
كسائر المفاهيم الانشائية من الطلب والتمني والترجي والاستفهام وهكذا افعال
توليدية وأمور اعتبارية انتزاعية تحصل بمجرد وجود منشأ انتزاعها في الخارج،
ولا تكون من قبيل الأحكام الشرعية تكليفية أو وضعية حتى يتوقف الحكم بالثبوت
على ورود النص. كشف الحال فيه ان انتزاع فعل وتولده منه على نحوين:
فقد يكون امرا واقعيا مجبولا عليه الطباع يعرفه العقل وأهل العرف من دون
مراجعة إلى الشرع كانتزاع علقة المجاورة والرفاقة والشركة وهكذا حيث تنتزع
475

من منشأها مع قطع النظر عن جعل الشرع، نعم للشارع هدم هذا الانتزاع وابطاله
كما سنبين لك انشاء الله تعالى.
وقد يكون مجعولا بحيث لا يترتب عليه واقعا من دون جعل الشارع،
كانتزاع الحدث والطهارة من أسبابها فان المترتب على الغسل والوضوء واقعا
إنما هي النظافة الظاهرية كما أن المترتب على البول وانزال المنى هي الخباثة
الظاهرية، وانتزاع الطهارة الشرعية والحدث الأصغر والأكبر منها إنما هو بجعل
الشارع، وانتزاع العقود من الانشاءات من قبيل الأول، ضرورة ان الانشاء
كالاخبار امر عرفي وجهة واقعية، فكما ان ترتب كشف المفهوم على الكلام
الخبري امر واقعي عرفي لا يكون مجعولا لاحد، فكذا ترتب حدوث المفهوم على
الكلام الانشائي، وهذا ظاهر جدا.
فما يظهر من بعض من أن العقد حكم شرعي لا يحكم به الا بعد قيام الدليل عليه
بمكان من الوهن، نعم قد يكون العقد موضوعا للحكم الشرعي وكأنه اختلط
عليه امر الموضوع بالمحمول
وإذا اتضح لك ان العقود واقعية وافعال غير مجعولة تتولد من الايجاب
والقبول ذاتا فاعلم أن انعقادها وانتزاعها من منشأها إنما يكون بعد وقوعها في
المحل واستنادها إلى أهلها فالحكم بالصحة والنفوذ إنما يكون بعد اجتماع أمور ثلاثة
تحقق منشأ انتزاع العقد ووقوعه في محله وصدوره من أهله.
وتوضيح الكلام فيه غاية الايضاح يتوقف على بسط الكلام في كل من الأمور
الثلاثة وبيان ما يعتبر فيها عرفا وشرعا.
فأقول بعون الله تعالى ومشيته: يعتبر في الأمر الأول عرفا وشرعا الايجاب
والقبول ما إذا كان العقد لازما ذاتا، أو كان من قبيل الهبة والنكاح ولا بد من توصلهما
وتوليهما حينئذ لأنهما بمنزلة امر واحد في مرحلة انتزاع العقد منهما فلا مجال
لانتزاعه منهما مع انفصال أحدهما عن الاخر بما يخرج عن الاتحاد.
476

واما اللفظ والعربية والماضوية والصراحة وتأخر القبول عن الايجاب وتعدد
الموجب والقابل وبلوغهما واختيارهما فلا تعتبر فيه عرفا، ومع عدم قيام الدليل على
اعتبارها شرعا ووقوع الشك فيه الأصل عدم الاعتبار ومقتضاه الحكم بالصحة وانعقاد
العقد مع وقوعه في محله وصدوره عن أهله:
وتوهم ان الأصل عدم تحقق العقد حينئذ والاخذ بالقدر المحقق منه في غير
محله لان مرجع الاشتراط الشرعي إلى تضييق دائرة منشأ الانتزاع العرفي فمع
الشك فيه إنما نشك في وجود المانع مع احراز المقتضى فيحكم حينئذ بالصحة
اخذا بالمقتضى المعلوم والغاء للمانع المشكوك.
نعم يتم ذلك في الشرط العرفي إذ الشرائط العرفية لها دخل في تحقق
الاقتضاء فمع الشك في تحققها ولو مع الشك في أصل الاشتراط لا يكون المقتضى
محرزا، لان المراد بالمقتضى في باب الاستصحاب ماله دخل في وجود المقتضى
مع اتحادهما خارجا اتحاد الامر المتزع مع منشأ انتزاعه لا مجرد السبب.
إذا تحقق لك ما بيناه فاعلم أنه قد قام الاجماع على اعتبار اللفظ في الايجاب
والقبول مع قدرة المتعاقدين على النطق وهو المعتمد.
واما العربية والماضوية والصراحة وترتب القبول على الايجاب وتعدد القابل
والموجب فلم ينهض على اعتبارها ما يعتمد عليه كما هو ظاهر لمن راجع إلى
كلماتهم (قدس سره) الا انه لا ينبغي ترك الاحتياط في ما عدا الأخير سيما في الثلاثة
المتقدمة.
واما البلوغ فقد اشتهر اعتباره فيه وانه لا يصح عقد الصبي مطلقا وانه مسلوب
العبارة كالبهائم، والتحقق ان عبارته تامة فيصح عقده لنفسه ولغيره وإنما لا ينفذ
عقده فيما يرجع إلى نفسه من دون اذن وليه لعدم ولايته على نفسه وماله فيقع عقده
حينئذ فضوليا فان إجازة الولي أو هو بعد بلوغه ورشده نفذ والا فلا.
واما عقده لغيره فإن كان بأذنه فهو نافذ والا فهو فضولي أيضا موقوف مراعى،
يستقر في الصحة بامضائه وفى البطلان برده.
477

" فائدة - 69 "
تنقسم العقود إلى ما يكون لازما بالذات من الجانبين، وما يكون جائزا
كذلك وما يكون جائزا ذاتا من طرف الموجب دون القابل، وما يكون بالعكس
والضابط فيه انه ان كانت نسبة العلقة المتكونة والعقدة المنعقدة من انشائي
المتعاقدين إليهما على حد سواء، ويكون العقد حينئذ لازما بالذات من الجانبين، إذ كما
لم يكن أحد المتعاقدين حينئذ منفردا بايجابه لم يستقل أحدهما في رفعه وحله والا لزم
سلطنة أحدهما على الاخر، وذلك كعقد البيع والإجارة والصلح المعاوضي، فان كلا
منها يشتمل على بدليتين بدلية المعوض عن العوض وبدلية العوض عن المعوض
ومن المعلوم انه لا تأثير لعمل أحد المتعاقدين الا في احدى البدليتين لعدم
سلطنته الا على احدى المالين فمجموع البدليتين إنما يتكون من عملي المتعاقدين
فهما متشاركان في ايجاب العلقة ولا يختص الايجاب بأحدهما، ومقتضى اشتراكهما
في ايجاب العلقة عدم استقلال أحدهما في حله ورفعه الا بسلطنة جديدة وهذا معنى
اللزوم الذاتي.
فان قلت تركيب العقد من بدليتين ممنوع لان بدلية مال عن مال يستلزم بدلية
الاخر عنه، ولا مجال لتحقق البدلية من أحد الطرفين مع عدم تحققها من الطرف الآخر
، فالعلقة لا تكون مركبة من عملين مستندة إلى المتعاقدين بل هي عمل واحد
478

وان اشتمل على لازم وملزوم فهي صادرة عن أحد المتعاقدين والاخر قابل له.
قلت: بدلية أحد المالين عن الاخر لا تستلزم بدلية الاخر عنه ألا ترى ان بدل
الحيلولة مثلا أو قيمته بدل عن التالف ولا يكون التالف بدلا عنه بل باقيا على ملك
صاحبه ولذا لو عاد التالف يرجع البدل إلى المتلف ويعود التالف إلى صاحبه
والحاصل ان بدلية مال عن مال كبدلية شخص عن شخص ونيابته عنه فكما
ان نيابة الوكيل عن الموكل لا تقتضي نيابة الموكل عن الوكيل فكذلك بدلية مال
عن مال لا تقتضي بدلية الاخر عنه ولا تستلزمه.
فان قلت: لو اشترك المتعاقدان في ايجاب العقد وكان العقد صادرا منهما
على حد سواء لزم ان يتساويا في نسبة ايجاب العقد إليهما، مع أنه يختص أحدهما
بكونه موجبا والاخر بكونه قابلا وانفراد أحدهما بالايجاب والاخر بالقبول دليل
على عدم اشتراكهما في الايجاب.
قلت: اختلاف المالين في تعلق القصد أصالة بأحدهما وتبعا بالاخر من حيث
المبادلة أوجب اختلافهما في صيرورة أحدهما مثمنا والاخر ثمنا، والعمل المتعلق
بأحدهما ايجابا وبالاخر قبولا، وعامل أحد العاملين موجبا والاخر قابلا.
توضيح الحال ان نظر المتبايعين في البيع ابتداء أو أصالة إلى المتاع تسليما
وتسلما، وثانيا وتبعا إلى النقد من جهة انه وصلة إلى المتاع فصار المتاع أصلا
في مرحلة ايجاد البيع والنقد تبعا، وإن كان قوام البيع بهما في مرحلة انعقاد
العلقة فكان البيع حينئذ واقع على المتاع وصادر من صاحبه فبهذه الملاحظة صار
المتاع مبيعا وصاحبه بائعا وعمله بيعا وصار النقد ثمنا وصاحبه مبتاعا وعمله قبولا
للبيع وهكذا الامر في عقد الإجارة فان نظر المؤجر والمستأجر أصالة إلى تمليك
المنفعة وتملكها ولا يكون نظرهما إلى الأجرة الا تبعا وتوطئة ووصلة إلى
المنفعة المعقود عليها، ولذا صار صاحب المنفعة مؤجرا وصاحب الأجرة مستأجرا
واما المصالحة فلا يتمحض أحد طرفيها في كونه موجبا لا نظر المتعاقدين
479

فيها إلى ما صولح عليه وبه على حد سواء، ولذا يجوز لكل منهما ان يوجب
المصالحة من قبل نفسه فيقول لصاحبه صالحتك على ما ذكر بما ذكر، ويقول الاخر
قبلت هكذا.
فان قلت: سلمنا ان عقود المعاوضات تشتمل على بدليتين، ولكن مجرد اشتمالها
على بدليتين لا يقتضى لزومها، ولم لا يجوز حينئذ ان يرجع كل منهما عن عمل نفسه
قلت: لو كان عمل كل منهما مستقلا وكان متحققا في الخارج مع قطع النظر عن
الاخر لاستقل كل منهما في الرجوع عن عمل نفسه واما إذا لم يكن مستقلا بحيث لا يتحقق
في الخارج الا مع الاخر وكان المتحقق في الخارج امرا وحدانيا منحلا إلى أمرين،
كما هو الحال في المقام لا يستقل كل منهما في الرجوع عن عمل نفسه لان رجوعه
عن عمل نفسه يتوقف على إزالة عمل صاحبه ولا سلطنة له عليه حتى يتمكن من
إزالة عمله.
نعم إذا اجتمعا على إقالة العقد فلهما حله حينئذ لان كلا منهما يرجع عن عمل
نفسه من دون استلزام لإزالة عمل صاحبه وإن كان العقد مركبا من ايجاب وقبول
وكان صدوره من أحد الطرفين وهو الموجب له والطرف الآخر مطابق صرف وقابل
محض ولا دخل له في ايجاب العقد بوجه كالهبة والرهن لا يقتضى اللزوم من الجانبين
وان اقتضاه من أحد الطرفين.
توضيح الحال: ان عقد الهبة عبارة عن تمليك عين مجانا ومن المعلوم
ان التمليك فعل الواهب ولا دخل للمتهب في ايجابه وإنما يتوقف تحققه على قبول
المتهب ومطاوعته إياه من جهة انه ليس مقهورا على القبول فكما للواهب ايجاب
الهبة وعدمه فكذا للمتهب القبول وعدمه.
ودخول العين في ملكه يتوقف على قبوله فقبوله إنما يعتبر لأجل تتميم
المحل من حيث الانفعال لا لأجل تتميم الفاعل في فعله، ضرورة ان
حبل العين بيد الواهب والقائه إلى المتهب على وجه التمليك إنما هو فعله
480

واتهاب المتهب إنما هو اخذ الحبل الملقى إليه لا فعل في عرض فعل الواهب
فلا تأثير له في الفعل وإنما له التأثير في الانفعال من جهة ان دخول العين في ملكه
إنما يكون باختياره ومطاوعته فرجوع الواهب عن هبته حينئذ إنما يكون رجوعا
عن عمل نفسه وليس فيه حل وإزالة العمل صاحبه.
ولذا اتفق الأصحاب (قدس سره) على أن رجوع الواهب عن هبته حكم لاحق
قابل للاسقاط بخلاف الخيار الثابت في عقود المعاوضات فإنهم اتفقوا على أنه
حق قابل للاسقاط لرجوعه إلى سلطنة ذي الخيار على حل عمل صاحبه وازالته فهي
سلطنة جديد ثابته اما بجعل الشرع أو باشتراط المتعاقدين في متن العقد.
فان قلت: مجرد كون الهبة فعل الواهب وعلمه لا يقتضى جواز رجوعه عنها
لخروج العين الموهوبة عن ملك الواهب ودخولها في ملك المتهب فلا ينفذ تقلب
الواهب فيها لعدم سلطنته على المتهب وماله.
قلت: سلطنته على الرجوع عنها لا تكون من شؤون ملك العين حتى يقال إنه
لا موضوع لها بعد الهبة الخروج العين الموهوبة عن ملكه بل من شؤون سلطنته
على عمله وهو التمليك إذ كما له احداثه وايجاده، فكذلك له ابقائه وازالته ما لم
يصادف مانعا، وهذه السلطنة أي سلطنته العمل على عمله باقية حتى في العقود اللازمة.
ومن هنا تنفذ الإقالة من المتبايعين ولو زالت سلطنتهما على عملهما بلزوم
العقد لزم اما بطلان الإقالة أو رجوعها إلى عقد الحل لا حل العقد كما نسب إلى
أبي حنيفة واللازم بكلا شقيه باطل بالضرورة هذا كله بالنسبة إلى الواهب.
واما المتهب فلا يستقل في الرجوع عنها بمعنى القاء حبل الموهوبة إلى الواهب
وادخاله في ملكه لعدم سلطنته على الواهب حتى يدخلها في ملكه قهرا فلا تدخل
في ملكه الا بايجاب جديد منه وقبول الواهب إياه وهذا معنى لزوم الهبة بالنسبة إليه.
واما الرهن فهو كالهبة مركب من ايجاب وقبول محض لأنه عبارة عن اعطاء
ولاية للمرتهن في استيفاء حقه من العين المرهونة فايجابه من الراهن ولا دخل
481

للمرتهن في ايجابه بوجه، وإنما هو مطاوع وقابل له ولكنه بعكس الهبة لازم من
طرف الموجب دون القابل ووجهه واضح.
اما لزومه من طرف الراهن فلان نفوذ رجوعه عن الرهن مستلزم لسلطنته على
المرتهن في اسقاط حقه ومن المعلوم انه لا سلطنة له على ذلك فلا مجال لرجوعه عنه،
واما جوازه من قبل المرتهن فلانه مسلط على نفسه وجهاته والرهن من جهاته وحقوقه
ومن له الحق مخير في استيفاء حقه واسقاطه وهذا معنى جواز الرهن من قبله.
وإن كان العقد متحققا من قبل الموجب ولا يتوقف في تحققه على قبول الطرف
وان توقف عليه هو باعتبار آخر كالولالة والوديعة والعارية ونظائرها من العقود الإذنية
يكون جائزا من الجانبين ويستقل كل منهما في الرجوع عن عمله.
توضيح ذلك: ان التوكيل عبارة عن جعل الوكيل قائما مقام الموكل في نفوذ
تصرفه فيما وكل فيه.
ومن المعلوم انه يتحقق ذلك المعنى بايجاب الموكل ضرورة ان جواز
تصرف الوكيل فيما وكل فيه من التزويج والايجار والاستيجار والبيع والشراء،
وهكذا من التصرفات والتقلبات التي هي من شؤون الموكل إنما يحصل باذنه
وترخيصه ولا يستلزم التصرف في شؤون الوكيل وجهاته حتى يتوقف على قبوله،
ولذا ينفذ تصرفه فيما وكل فيه قبل انشائه القبول والاكتفاء بالقبول الفعلي في العقود الإذنية
يرجع إلى ما بيناه لا إلى احتياج التوكيل إلى انشاء القبول وقيام اتيان
الوكيل بما وكل فيه مقام انشاء القبول والا لزم ترتب الوكالة عليه ترتب العقد على
تحقق سببه من الايجاب والقبول فيلزم حينئذ عدم تحقق الفعل عن الوكالة وعدم
نفوذه ضرورة انه لا يعقل أن يكون المحقق للشئ متحققا منه.
وهكذا الامر في سائر العقود الإذنية فان اذن المعير والمودع كاف في
تحقق جواز الانتفاع للمستعير وحفظ الوديعة للودعي، ولا يتوقف جواز الانتفاع
بالعين المستعارة وحفظ الوديعة على قبول المستعير والودعي وكذلك الحال في
سائر العقود الإذنية من الشركة والمضاربة وهكذا: فالقبول لا تأثير له في العقود
482

الاذنية بوجه وإنما له التأثير في غرض الموجب وهو تعهد حفظ الوديعة والعين
المستعارة ومباشرة امر الوكالة وهكذا من الآثار المقصودة المترتبة على القبول.
ومن هنا لا يعتبر فيها التواصل والتوالي بين الايجاب والقبول باتفاق
الأصحاب (قدس سرهم).
وبما بيناه ظهر انه لو تصرف الوكيل في مال موكله مثلا قبل وصول خبر
التوكيل إليه طبق ما وكله يقع صحيحا غير موقوف على امضاء موكله لان
تصرفه حينئذ لم يكن فضوليا حتى يقع موقوفا على امضاء الأصيل.
483

" فائدة - 70 "
اعلم أنه لا جبر ولا تفويض في افعال العباد بل امر بين الامرين ومنزلة بين
المنزلين وتوضيح المرام يتوقف على بيان شبهات الجبرية والمفوضة ودفعهما
حتى يتضح فصل القول في المقام ويتحقق انه لا جبر ولا تفويض فأقول:
عمدة شبهات الجبرية ترجع إلى أمور أربعة:
الأولى: انه لا يمكن صدور فعل من العبد على خلاف مشية الباري تعالى
شأنه والا لزم أن يكون العبد مستقلا في قدرته واستطاعته وهو باطل بالضرورة،
فلا يصدر منه فعل الا بمشيته تعالى شأنه ومع مشيته تعالى شأنه تكون إرادة العبد
مقهورة تحت ارادته تعالى شأنه، فتكون ارادته حينئذ كلا إرادة فيكون مجبورا في
أفعاله.
والثانية: ان الشئ ما لم يجب لم يوجد وهذه قضية ضرورية لا شبهة فيها
ففعل العبد إنما يوجد في الخارج بعد وجوبه ومع وجوبه لا يمكنه تركه فيكون
مضطرا في فعله.
والثالثة ان ما بالغير لا بد ان ينتهى إلى ما بالذات وهذه قضية ضرورية
ففعل العبد لا بد ان ينتهى إلى الواجب بالذات وهو الباري تعالى شأنه، فالفعل صادر
منه تعالى شأنه في الحقيقة وإن كان محل صدوره العبد
والرابعة انه تعالى عالم بافعال العباد قبل صدورها منه ويستحيل تخلف العبد
484

عما علم به الباري تعالى شأنه فيكون مضطرا فيه، ضرورة ان الفعل الاختياري ما
يكون الفاعل مختارا في فعله وتركه ويتمكن من اعمال القدرة في كل من الفعل والترك
واما ما لا بد من وقوعه فهو اضطراري.
والجواب عن الشبهة الأولى ان مشية الباري تعالى لا تتعلق بفعل العبد أصلا
حتى يردد أمرها بين تعلقها بايجاد الفعل أو الترك ويلزم ما ذكروه من المحذور،
وإنما تعلقت بجعل العبد قادرا على ايجاد الفعل والترك وارسال عنانه إلى امد معدود
في افعال مخصوصة حتى يمتحن ويظهر سريرته ويتم الحجة عليه قال عز من قائل:
* (احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من
قبلهم فليعلمن الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) *.
ومن المعلوم ان الامتحان لا يتحقق الا مع كونه قادرا مختارا في الفعل والترك
ضرورة ان عنوان الطاعة والعصيان لا يتحققان مع كونه مجبورا في فعله، فانكشف
بما بيناه ان الطاعة والعصيان مشتركتان في عدم تعلق المشية التكوينية بهما وانه
لا يعقل مع تحقق العنوانين في افعال العباد تعلق المشية التكوينية بها وما ورد من أنه
لا يصدر من العبد طاعة ولا معصية الا بمشية الباري تعالى شأنه وانهما مشتركان
في كونهما موردين للمشية لا ينافي ما بيناه، لان المقصود منه ان الطاعة والمعصية
لا يصدران من العبد الا بتقدير في الفعل ومهلة في المدة من قبل الرب تعالى ردا
على المفوضة الزاعمين ان العبد مرسل ولا تقدير ولا تحديد في افعال العباد من قبله
تعالى شأنه هذا بالنسبة إلى الإرادة التكوينية.
واما بالنسبة إلى الإرادة التشريعية فمختلفان فان الطاعة مأمور بها ومرضاة
للرب تعالى والعصيان منهى عنه وسخط له تعالى شأنه.
والجواب عن الشبهة الثانية ان مجرد وجوب وجود المعلول لأجل وجود
علته التامة في الخارج لا يوجب خروجه عن تحت الاختيار بل يختلف حاله باختلاف
علته، فان كانت غير اختيارية فالمعلول كذلك وان كانت اختيارية فكذلك، أترى
485

ان حركة الأصابع الملازمة للكتابة الاختيارية اضطرارية لأجل وجوب وجودها
من قبل وجود الكتابة، كلا ثم كلا بل هو مختار في حركة الأصابع كما أنه مختار
في الكتابة.
والمقام من هذا القبيل فان العبد لا اضطرار له في ايجاد الإرادة بل يكون
مختارا فيه بل هي عين الاختيار فلا يكون مضطرا في الفعل الذي هو معلول عنها
وأيضا لو كان وجوب وجود المعلول بواسطة وجود العلة التامة موجبا لصيرورة
الفاعل مضطرا في فعله لزم أن يكون الباري تعالى مضطرا في فعله لان فعله تعالى
مسبوق بمشيته وهي تامة في وجود الفعل واللازم باطل بالضرورة وكذا الملزوم
وهذا في غاية الوضوح والظهور.
والجواب عن الشبهة الثالثة ان انتهاء ما بالغير إلى ما بالذات لا يوجب اضطرار
العبد في أفعاله إذ مقتضاه عدم وجود ما بالغير من دون انتهائه إلى ما بالذات، واما
انتهائه إليه على وجه الاضطرار فلا، والفعل الصادر من العبد على وجه الاختيار
منته إلى الواجب تعالى شأنه ودليل عليه، إذ لو لم يكن الواجب بذاته لم يكن في
الخارج ممكن حتى يصدر فعل منه.
وقد خفى الامر في المقام على بعضهم فزعم أن الانتهاء إلى ما لا بالاختيار ينافي
العقاب على فعل العبد من الكفر والعصيان فأجاب " بان العقاب إنما يتبع الكفر والعصيان
التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقا وتهما الذاتية اللازمة لخصوص
ذاتهما فان السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقى في بطن أمه والناس معادن
كمعادن الذهب والفضة - كما في الخبر - والذاتي لا يعلل فانقطع سؤال انه لم جعل
السعيد سعيدا والشقي شقيا فان السعيد سعيد بنفسه والشقي شقى كذلك وإنما أو
جدهما الله تعالى " وفيه نظر من وجوه:
الأول ان الانتهاء إلى ما لا بالاختيار لو لم يكن منافيا للاختيار لا حاجة إلى
هذا التكلف الذي ارتكبه ولو كان منافيا للاختيار في نظره لا يندفع الاشكال بانتهاء
كفره وعصيانه إلى شقاوته الذاتية اللازمة لذاتهما.
486

والثاني: انه لو كانت الشقاوة ذاتية لزم ان لا يستحق العقاب على ما يلزمها
من الكفر والعصيان، لخروجهما عن اختياره حينئذ، ولا يصلحه ان الذاتي لا يعلل
والثالث: انه كما يكون وجود الممكن فعلا للواجب تعالى شأنه ومستندا إليه
فكذلك الماهيات من الانسانية والحجرية والشجرية، وهكذا من الماهيات ولوازمها
لأنها تعينات للوجود ولا يعقل صدور الوجود من دون تعينات فلو كانت السعادة والشقاوة
ذاتيتين للسعيد والشقي بحيث لا يمكنهما التخلف عنهما وأوجدهما الله تعالى بهاتين
الصفتين لزم استنادهما إليه، وان تكونا فعلين له تعالى شأنه فيعود الاشكال وما اشتهر
من: " ان الله تعالى لم يجعل المشمشة مشمشة بل أوجدها ".
ان أريد منه انها لم تجعل بجعل تأليفي بل جعلت بجعل بسيط فهو كذلك.
وان أريد منه انها لا تكون مجعولة أصلا وان الماهيات أعيان ثابتة - كما نسب
إلى بعض - فهو باطل جدا، و بالجملة ما ذكره زلة فاضحة لا ينبغي الاصغاء إليه.
فان قلت: ما معنى الرواية الشريفة حينئذ.
قلت الرواية نبوية وقد فسرت في رواية أهل البيت عليه السلام بان المراد منها انه
علم الله تعالى انه سيسعد وهو في بطن أمه وانه سيشقى وهو في بطن أمه.
والجواب عن الشبهة الرابعة ان عدم جواز تخلف العبد عن علم الباري تعالى
شأنه لا يوجب اضطرار العبد في فعله، لان العلم عبارة عن انكشاف المعلوم على ما
هو عليه عند العالم، فلا يعقل تأثيره في المعلوم وصيرورته اضطراريا بواسطة تعلق العلم
به فإن كان المعلوم مع قطع النظر عن تعلق العلم به اختياريا فهو بلحاظ تعلق العلم
به اختياري أيضا ولا يعقل انقلابه إلى الاضطراري بواسطة تعلق العلم به والا لزم عدم
مطابقة العلم مع المعلوم.
واما التفويض بمعنى ارسال عنان العبد واطلاقه بحيث يكون العبد مستقلا
بمعنى انه ان شاء فعل سواء شاء الله ذلك أو شاء عدم وقوعه فهو باطل بالضرورة،
إذ قدرته إنما هي بمشية الباري تعالى شانه فلا يعقل استقلاله فيها، وكذلك التفويض
487

بمعنى اطلاق عنان العبد وارساله بحيث يقدر امضاء ما شاء وأراد، من دون تقدير
وقضاء في أفعاله ولو لم يكن مستقلا في فعله، لأنه اهمال للحكمة ومناف
لمصلحة نظام الكل، فوجب في الحكمة لأجل امتحانه وافتتانه اطلاق عنانه مع
تقدير وقضاء في أفعاله، بحيث لا يقدر على ما يتجاوز إلى ما يخالف الحكمة ومصلحة
نظام الكل، وهذا معنى امر بين الامرين والمنزلة بين المنزلتين.
وبما بيناه تبين ان القضاء والقدر جاريان في افعال العباد كما يجريان في
سائر شؤونهم، ولا يوجبان اجبارهم على فعل ما قدر لهم وإنما يوجبان منعهم عما
لم يقدر لهم، وما ورد في بعض الأدعية من مساعدة القضاء على ما يرتكبه العبد
من العصيان إنما هي من جهة امهاله واطلاق عنانه وعدم منعه عما قدر له.
فان قلت: الإرادة من جملة افعال العباد والأشياء الحادثة منه، والشئ ما لم
يجب لم يوجد، فما لم تجب الإرادة لم توجد في الخارج، وإذا وجبت لم يكن
الشخص مختارا في الإرادة والفعل المنبعث عنها.
قلت: إرادة العبد فعلا من أفعاله عبارة عن اعمال اختياره فلا يعقل ان تصير
واجبة خارجة عن تحت اختياره، وقضية الشئ ما لم يجب لم يوجد لا تجرى
في الإرادة كما هو ظاهر، وإنما تحدث الإرادة في النفس بسبب الدواعي لا بالعلة
الموجبة، ضرورة ان الوجوب إنما يجرى في المحل القابل له والإرادة لا تقبل
الوجوب.
والحاصل ان كل فعل منبعث عن إرادة الفاعل فهو اختياري وكل فعل
لا ينبعث عنها فهو اضطراري، فمالك اختيارية الفعل هي الإرادة فلا يعقل جريان
الاضطرار فيها.
488

(فائدة - 71)
قد نسب إلى بعض المعاصرين ان المفاهيم الانشائية في العقود والايقاعات
لا توجد في الخارج بالانشاء، وإنما هي معان ذهنية ثابتة في النفس وصيغ
الانشاءات إنما تبرزها وتكشف عنها، لأنها أمور اعتبارية لا وجود لها في الخارج
وإنما يعتبرها المنشئ في نفسه قبل الانشاء.
غاية الأمر انه لا يترتب الأثر على هذا المعنى النفسي الا بعد وجود مبرز
في الخارج، فالانشاء كالخبر كاشف وحاك ولا فرق بينهما في هذه الجهة، وإنما
يفترقان في أن الخبر كاشف عن الخارج والانشاء كاشف عن الامر النفسي من
انحاء العلائق والالتزامات.
أقول: التحقيق ان المفاهيم الانشائية في العقود والايقاعات أمور انتزاعية
من صيغ انشائية مترتبة عليها موجدة منها على وجه الانتزاع لا على وجه الاستقلال
ولا ينافي كونها أمورا اعتبارية عدم انتزاعها الا من الصيغ الموجودة في الخارج
كما أنه لا ينافي مع انتزاعها منها وترتبها عليها عدم انتزاعها منها الا مع سبق المعنى
الذهني عليها، بحيث لولا تصورها قبل في الذهن لا يتحقق الانتزاع.
توضيح الكلام فيه: ان الأمور الانتزاعية الاعتبارية على قسمين:
أحدهما ما ينتزع من منشأه سواء كان فعلا لفاعل أو لا، كالزوجية المنتزعة
من الأربعة مثلا والفوقية التحتية المنتزعتين من تقابل الجسمين بحيث لو وقع
489

أحدهما لوقع على الاخر، وهذا القسم منتزع من عرض متأصل موجود في
الخارج ولا يتوقف انتزاعه منه على اعتبار معتبر وتصور متصور، ومعنى اعتباريته انه
لا استقلال له في الوجود لا انه يتوقف تحققه على اعتبار معتبر.
وثانيهما ما ينتزع من فعل فاعل وهو على قسمين أيضا:
أحدهما: ما ينتزع منه قهرا قصده الفاعل أم لا، كتولد الاحراق من القاء الحطب
في النار.
وثانيهما: مالا ينتزع منه الا مع قصد الفاعل إياه، كالتأديب والقصاص المنتزعين
من الضرب ونحوه والتعظيم المنتزع من القيام ونحوه، والامر المنتزع متحد مع
منشأ انتزاعه في الخارج ومترتب عليه طبعا، ولذا يصح حمله عليه فيقال الضرب
منه تأديب ومنه قصاص ومنه ظلم، وان يجعل المنتزع علة غائية لمنشأه فيقال ضربت
للتأديب، ولا منافاة بينهما لاختلاف الاعتبارين، فباعتبار متحد معه وباعتبار علة غائية
له يتأخر وجودها عنه.
ثم إن الامر المنتزع قد ينتزع حدوثه من حدوث شئ فيتحدان في مرحلة
الحدوث وان انفك وجود أحدهما من وجود الاخر، كعلقة الازدواج والمبادلة
وسائر العلائق المنتزعة من الايجاب والقبول، فان حدوثها منتزع من حدوثهما،
فهي متحدة معهما في الحدوث منفكة عنهما في الوجود فإنها باقية بعد انقضائهما،
وقد ينتزع وجوده من وجود شئ فيدور الامر المنتزع حينئذ مدار منشأ انتزاعه وجودا
وعدما، كالفوقية والتحتية المنتزعتين من تقابل الجسمين فإنهما باقيتان مع بقائه
وزائلتان بزواله.
فتبين بما بيناه ان المفاهيم الانشائية في العقود و الايقاعات منتزعة من حدوث
الانشاء في الخارج وحادثة به على وجه الانتزاع لا على وجه الاستقلال، وانه لا ينافي
منه احتياجه إلى قصد الفاعل إياها بحيث لولا قصده إياها لا تنتزع منه، كاحتياج
انتزاع التأديب من الضرب مثلا على قصد الضارب إياه، فكما ان التأديب لا يتحقق
الا بعد تحقق الضرب في الخارج وبتحققه يتحقق على وجه الانتزاع والمعنى النفسي
490

السابق عليه إنما يكون مقدمة، فكذلك المفاهيم الانشائية في العقود والايقاعات إنما
تتحقق بحدوث الانشاء في الخارج على وجه الانتزاع وما في النفس لا يكون الا مقدمة
ولو كان الامر كما توهم من أنها أمور اعتبارية ذهنية لا وجود لها في الخارج
أصلا حتى على وجه الانتزاع لزم ان يترتب عليها الآثار، سواء تحقق في الخارج
ما يبرزها ويكشف عنها أم لا، وأيضا لو تنزلنا وقلنا بلزوم وجود مبرز وكاشف عنها
في ترتيب الآثار لزم جواز الاكتفاء بالقضية الخبرية في ترتيب الآثار، إذ لا فرق بينها
وبين القضية الانشائية حينئذ في تحقق ابراز ما في الضمير بهما.
فان قلت: نعم مقتضى الميزان ترتب الآثار على ما في الضمير مطلقا سواء
تحقق مبرز في الخارج أم لا، وسواء كان المبرز انشاءا أم اخبارا ولكن لا مانع من
تقييد الشارع ترتيب الأثر عليه على وجود مبرز مخصوص في الخارج.
قلت: عدم ترتيب الأثر على ما في الضمير من دون انشاء ليس شرعيا تعبديا
حتى ينسب التقييد إلى الشارع، بل هو امر عرفي واقعي ثابت في حد نفسه، ومن
المعلوم ان الكاشف في حد نفسه طريق إلى الواقع ولا موضوعية له، فعدم ترتب
الأثر عليه الا بعد تحقق الانشاء في الخارج قولا أو فعلا كاشف عن عدم تماميته الا بالانشاء
وعدم تماميته الا به يدل على ما بيناه من انتزاعه منه.
ثم إن ما ذكره من الفرق بين الخبر والانشاء - من أن الأول كاشف عن
الخارج والثاني كاشف عما في الضمير - ان أريد منه ان الكلام مطلقا ناظر إلى
الكشف عن مفهومه وينقسم إلى قسمين باعتبار اختلاف المكشوف عنه، فإن كان
كاشفا عنه بقيد كونه في الخارج فهو خبر، وإن كان كاشفا عنه بقيد كونه في النفس
فهو انشاء، فهو باطل جدا، لان الكلام المجعول في وزان الواقع والناظر إلى
الكشف عن مفهومه خبر سواء جعل ناظرا إلى الكشف عما في الضمير كمقام الافتاء
والشهادة واظهار الحياة، أم إلى الخارج كما هو الشائع الغالب في الاستعمالات
491

ولذا يحتمل الصدق والكذب ويتطرق إليه المطابقة وعدمها.
بل الخبر مطلقا ناظر إلى الكشف عما في الضمير ابتداءا، ولكن قد يكون
النظر الأصيل إلى الخارج ويكون النظر إلى ما في الضمير توطئة للكشف عنه -
كما هو الشائع في الاستعمالات - ويكون صدق الكلام وكذبه حينئذ باعتبار مطابقته
مع الخارج وعدم مطابقته معه، وقد يكون النظر الأصيل إلى الكشف عما في الضمير
ولا نظر له إلى الخارج كالمقامات المزبورة، ويكون صدق الكلام وكذبه حينئذ
باعتبار مطابقته مع ما في الضمير وعدمها.
فانقسام الكلام إلى الخبر والانشاء باعتبار جعله في وزان الواقع وناظرا
إلى الكشف عنه، وجعله لا في وزان الواقع، فان جعل وزان الواقع وناظرا إليه
فهو خبر سواء طابقه أم لم يطابقه، وان لم يجعل في وزان الواقع وناظرا إلى
الكشف عنه بل جعل لغرض آخر من طلب مفهومه أو الاستعلام عنه أو تمنيه أو ترجيه
أو ايجاده وهكذا من الاغراض فهو انشاء، ولذا لا يكون الكلام حينئذ محتملا
للصدق والكذب وموردا للمطابقة وعدمها.
ضرورة ان الكلام إذا لم يكن في مقام تطبيقه على الواقع لم يتصف بالمطابقة
وعدمها. فالمنشئ في مقام العقد والايقاع ان جعل كلامه ناظرا إلى الكشف عما
في الضمير فهو حينئذ مخبر عما في ضميره وكلامه خبر لا انشاء، وان لم يجعل كلامه
في وزان الواقع والكشف عنه، فان جعله في مقام ايجاد مفهومه واثباته فهو مخالف
لما ذكره، وان جعله في مقام غرض آخر من الاغراض المترتبة على الانشاء من
الطلب أو التمني أو الترجي وهكذا لزم عدم تحقق العقد والايقاع حينئذ، وان لم
يجعله في مقام غرض معين من الاغراض المترتبة على الانشاء لزم أن يكون كلامه
لغوا لا يترتب عليه اثر.
والحاصل ان الشخص في مقام العقد والايقاع لا يخلو كلامه عن أربع صور
لا يصح منها الا واحدة.
492

الأول: ان يجعله في وزان ما في الضمير والكشف عنه، فيلزم حينئذ أن يكون
كلامه خبرا محتملا للصدق والكذب وموردا للمطابقة مع ما في الضمير
وعدمها، لا انشاءا وتوهم انه انشاء باعتبار كشفه عما في الضمير لا الخارج باطل
بالضرورة - كما عرفت - فيلزم حينئذ ان لا يتحقق عقد ولا ايقاع.
والثاني: ان يجعله لا في وزان الواقع، والكشف عنه وحينئذ لا يخلو عن
صور ثلث:
الأول: ان يجعله في مقام ايجاد مفهومه فيلزمه الرجوع عما أصر على نفيه
والاعتراف بما ذكره القوم.
والثاني: ان يجعله في مقام سائر الاغراض المترتبة على الانشاء من الاستفهام
والطلب أو التمني أو الترجي وهكذا، فيلزمه حينئذ الالتزام بعدم تحقق العقد والايقاع،
ضرورة عدم تحققهما بالأمور المذكورة.
والثالث: ان لا يجعله لغرض من الاغراض المترتبة على الانشاءات فيلزم
حينئذ أن يكون كلامه لغوا لا يترتب عليه اثر.
فظهر بما بيناه ان الصحيح من الوجوه إنما هو الوجه الأول من الوجه الثاني
الذي حكم ببطلانه وعدم صحته.
493

(فائدة - 72)
إذا علم المكلف بتحريم شئ اجمالا وتردد المحرم بين أمور محصورة،
وقلنا بتنجز الحكم بالعلم الاجمالي كما هو التحقيق، فهل يجرى أصل العدم في
كل من أطراف الشبهة باعتبار انه مجهول الحكم بعينه، وتتساقط الأصول لاستحالة
اعمال الجميع مع تنجز الحكم بالعلم، وعدم جواز اعماله في بعض دون بعض
لاستحالة الترجيح بلا مرجح؟ أو لا يجرى رأسا لمكان تنجز الحكم وعدم تطرق
العذر فيه؟ وجهان:
والتحقيق هو الوجه الثاني لان مؤدى الأصول إنما هو أحد أمرين التنجيز
أو العذر، وهما أمران متقابلان لا يعقل اجتماعهما في محل واحد فمع فرض تنجز
الحكم بالعلم الاجمالي يجب الاحتياط في مرحلة الامتثال بالاجتناب عن الجميع،
فلا مجال لاجراء أصل العدم النافي لوجوب الاحتياط الموجب لثبوت العذر حينئذ.
توضيح الكلام فيه: ان الأحكام الظاهرية التي هي مؤداة الأصول معلولة عن العلم
أو الجهل، وتأثيرهما إنما هو في تنجز الحكم الواقعي أو الاعذار عنه، لاجعل
حكم تكليفي في قبال الحكم الواقعي كما يوهمه التعبير عنها بالوجوب والحرمة
والإباحة، وهذا في غاية الوضوح وكمال الظهور، فان مرجع وجوب الاحتياط
في مورد العلم الاجمالي إلى تنجز الحكم الموجب لوجوب الموافقة القطعية التي
494

لا تحصل الا بالاجتناب عن الجميع، لا انه ثبت حكم جديد للأطراف، وهكذا الامر في
أصالة التخيير فإنها راجعة إلى الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية في مورد الامتثال للعجز
عن الموافقة القطعية لأجل عدم امكان الجمع بين الأطراف عقلا أو شرعا، وهكذا
الامر في الاستصحاب فإنه بناء على اليقين وركون إليه والغاء للشك، ومن المعلوم
ان اثر اليقين إنما هو التنجيز أو الاعذار، وهذه الأصول الثلاثة من اثار العلم.
واما أصل العدم والبراءة، فان قلنا إنه من اثار الجهل فمرجعه إلى ثبوت
العذر وعدم تنجز الحكم كما هو ظاهر، وان قلنا إنه من اثار العلم بالعدم الأزلي
كما هو التحقيق حيث إن ترجيح العدم على الوجود والبناء عليه في مشكوك الحدوث
والوجود على العدم في مشكوك البقاء ليس الا من قبل العلم فكذلك أيضا، لان
تأثير العلم إنما هو في التنجيز أو الاعذار، وهكذا الامر في الامارات فإنها منزلة
منزلة الدليل العلمي فمؤداها العلم التنزيلي الموجب لتنجيز الحكم أو الاعذار عنه.
وإذا اتضح لك ما بيناه فقد اتضح لك أمور:
الأول: ان مؤدى الأصول والامارات المعبر عنه بالحكم الظاهري ليس من
سنخ الحكم التكليفي وان اشترك معه في التعبير عنه بالوجوب والحرمة والإباحة
فلا مجال لما يتوهم من أنه مع مطابقته مع الحكم الواقعي يلزم اجتماع المثلين ومع
مخالفته معه يلزم اجتماع الضدين، ضرورة ان اجتماع المثلين أو الضدين إنما يلزم
إذا كانا من سنخ واحد،.
واما إذا كان الحكم الظاهري عبارة عن تنجز الحكم التكليفي أو العذر
عنه - كما أوضحناه - فهو من لواحق الحكم التكليفي وتوابعه المتفرعة عليه،
فمرجعهما إلى قضيتين مختلفتين موضوعا ومحمولا، فان موضوع الحكم الواقعي
هو فعل المكلف ومحموله الحكم التكليفي المولوي، وموضوع الحكم الظاهري
هو نفس الحكم الواقعي ومحموله تنجزه على المكلف أو العذر عنه.
495

والثاني: ان موافقة الماتى به مع الأصل أو الامارة لا تقتضي الاجزاء عن
المأمور به بالامر الواقعي إذا انكشف خلافه، لان موافقة الحكم الظاهري إنما
يقتضى العذر مع المخالفة لا الاجزاء
والثالث: انه إذا علم بنجاسة أحد الإنائين مثلا اجمالا ولاقى أحدهما شئ
اخر فالملاقي (بالكسر) في حكم الملاقى (بالفتح) فهو محكوم بالنجاسة ووجوب
الاجتناب عنه في الظاهر، سواء قلنا بان نجاسة الملاقى بالسراية أو انها نجاسة حكمية
تعبدية، لما عرفت من أن مقتضى تنجز الحكم بالعلم الاجمالي وجوب الاحتياط
والاجتناب عن الأطراف المشتبهة، وعدم جريان الأصل في الأطراف، من دون فرق
بين أن يكون الطرف طرفا ابتداءا أم تبعا.
وما ذهب إليه شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) من جريان الأصل في
الأطراف وتساقط الأصلين في الملاقى وصاحبه، من جهة وقوع كل منهما في عرض
الاخر فيتعارض الأصلان الجاريان فيهما ويتساقطان، واما الملاقي (بالكسر) فهو في
طول الملاقي (بالفتح) فيبقى الأصل فيه سليما عن المعارض فهو محكوم بالطهارة
في غير محله من وجوه:
الأول: انه مع تنجز الحكم بالعلم الاجمالي كما هو المفروض يجب
الاحتياط، ولا سبيل للأصل الموجب للعذر لافى الطرف الابتدائي ولا التبعي، كما
أوضحناه لك.
والثاني: ان أصل العدم أصل واحد لان موضوعه هو الكلى الواحد ولا يتعدد
بتعدد المجرى حتى يتطرق فيه التعارض، أترى ان أصل البراءة يرجع إلى أصول
غير متناهية باعتبار عدم تناهى مجارية؟ كلا ثم كلا.
والثالث: ان الأصل وظيفة صرفة وهي عبارة عن نفس الحكم الظاهري من البراءة
أو الاحتياط أو التخيير أو البناء على الحالة السابقة، وهي من قبيل المسببات لا يجتمع
اثنان منها في محل واحد حتى يقع التعارض بينهما، وإنما يقع التعارض بين سببين
496

متنافيين في الأثر إذا اجتمعا على محل واحد، فان تعادلا تساقطا ولم يؤثر واحد منهما
وإن كان أحدهما أقوى من الاخر اختص الأقوى بالتأثير.
والرابع: ان التعارض بين شيئين تنافيهما في الأثر ولا تنافى بين الأصول
الجارية في أطراف الشبهة بعضها مع بعض، وإنما التنافي بينها وبين وجوب
الاحتياط الذي هو اثر تنجز الحكم بالعلم الاجمالي، ولا تعارض بينهما، إذ بعد فرض
تنجز الحكم الموجب لوجوب الاحتياط لا يكون مجال للعذر حتى يجرى فيها أصالة
العدم.
فان قلت: التعارض حينئذ بين العلم الاجمالي بالحكم الموجب لتنجزه
وجهل المكلف به الموجب للعذر، وهما سببان متعارضان.
قلت: أولا ان مطلق الجهل ليس سببا للعذر حتى يعارض مع العلم بالحكم
وإنما الموجب للعذر هو الجهل التصديقي بالحكم لا الجهل التصوري المتعلق
بالمكلف به، والحكم معلوم في المقام بالعلم التصديقي فلا سبيل للعذر فيه لعدم
تطرق الجهل فيه بوجه، والجهل بمعنى فقد المعرفة إنما هو في المكلف به. لتردده
بين أمور محصورة، وهو لا يوجب العذر حتى يعارض العلم.
وثانيا لو سلم فهو لا يوجب المعارضة بين الأصول الجارية في أطراف العلم
الاجمالي بعضها مع بعض.
والحاصل: ان توهم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي ووقوع التعارض
بينها في الأطراف الأصلية وتساقطها من اجل عدم ترجيح بعضها على بعض وهم
فاحش.
ثم إنه استثنى (قده) مما ذكره صورة واحدة فحكم فيها بالاجتناب عن الملاقي
(بالكسر) فقال: " ولو كان ملاقاة شئ لاحد المشتبهين قبل العلم الاجمالي وفقد الملاقى
(بالفتح) ثم حصل العلم الاجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود قام ملاقيه مقامه
في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي، لان أصالة الطهارة في الملاقى (بالكسر) معارضة
497

بأصالة الطهارة في المشتبهة الاخر، لعدم جريان الأصل في المفقود حتى يعارضه، لما
أشرنا إليه في الأمر الثالث من عدم جريان الأصل فيما لا يبتلى به المكلف، ولا اثر له
بالنسبة إليه " انتهى.
وفيه ان فقد الملاقى لا يوجب وقوع الملاقى (بالكسر) في عرض الباقي حتى
يتعارض الأصلان فيهما ويتساقطان، بل اللازم على مبناه انحلال العلم الاجمالي وصيرورة
الشبهة بدوية بالنسبة إلى الباقي لفقد معارضه وعدم معارضة الملاقى معه لوقوعه في طوله
نعم ان قيل بان حصول العلم الاجمالي إذا كان بعد الملاقاة يكون الملاقى
(بالكسر) كالملاقي (بالفتح) من أطراف العلم الاجمالي ابتداءا فله وجه.
ضرورة انه لا تترتب التبعية على العلم الاجمالي حينئذ وإنما تترتب التبعية عليه
إذا كانت الملاقاة بعد حصوله ولكن يلزم حينئذ ان يحكم بنجاسة الملاقى مطلقا،
سواء فقد الملاقى (بالفتح) أم كان باقيا.
ولعل وجه نظره (قدس سره) انه بعد فقد الملاقى ينحصر الشبهة في الطرفين
فيجب الاجتناب عنهما معا، إذ لو لم نحكم به، فاما ان نحكم بعدم وجوب الاجتناب
عنهما معا فيلزم مخالفة العلم التفصيلي، واما ان نحكم بوجوب الاجتناب عنهما معا
فيلزم مخالفة العلم التحصيلي، واما ان نحكم بوجوب الاجتناب عن أحدهما بعينه أو
لا بعينه فيلزم الترجيح بلا مرجح، والحكم بعدم وجوب الموافقة القطعية مع امكانها
وكيف كان فالتحقيق عندي: ان الملاقى في حكم الملاقى مطلقا سواء حصل العلم
الاجمالي قبل الملاقاة أو بعدها، وسواء فقد الملاقى (بالفتح) أم لا، لما عرفت من
جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي وان الجهل بالمكلف به لا يكون منشأ للعذر.
498