الكتاب: الشرح الكبير
المؤلف: عبد الرحمن بن قدامه
الجزء: ١٢
الوفاة: ٦٨٢
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

الشرح الكبير
على متن المقنع تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد
بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 682 ه‍ كلاهما على مذهب إمام الأئمة (أبي عبد الله أحمد بن محمد
ابن حنبل الشيباني) مع بيان الخلاف سائر الأئمة وأدلتهم رضي الله عنهم
الجزء الثاني عشر
(وبه تم الكتاب)
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الشهادات
والأصل فيها الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين
من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء - وقال سبحانه - وأشهدوا
ذوي عدل منكم - وقال عز وجل - وأشهدوا إذا تبايعتم) وأما السنة فروى وائل بن حجر رضي
الله عنه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول
الله ان هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم
للحضرمي (ألك بينة؟ - فقال لا قال - فلك يمينه) قال يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما
حلف عليه وليس يتورع من شئ قال (ليس لك منه إلا ذلك) قال فانطلق الرجل ليحلف
له فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض) قال الترمذي
هذا حديث حسن صحيح وروى محمد بن عبد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان
2

النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) قال الترمذي هذا حديث في اسناده
مقال والعزرمي يضعف في الحديث من قبل حفظه ضعفه ابن المبارك وغير الا ان أهل العلم أجمعوا
على هذا قال قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم ولان
العبرة تقتضي مشروعية الشهادة فإن الحاجة داعية إليها لحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع
إليها قال شريح القضاء جمر فنحه عنك بعودين يعني الشاهدين وإنما الخصم داء والشهود شفاء
فافرغ الشفاء على الداء، واشتقاق الشهادة من المشاهدة لأن الشاهد يخبر عما شاهده، وقيل لأن الشاهد
يخبره ويجعل الحاكم كالشاهد للمشهود عليه وتسمى بينة لأنها تبين ما التبس وتكشف الحق في المختلف فيه
(مسألة) (تحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية إذا قام بها من يكفي سقطت عن
الباقين وان لم يقم بها أحد تعينت على من وجد
لقول الله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا - وقال - ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه
آثم قلبه) وإنما خص القلب بالاثم لأنه موضع العلم بها ولان الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات
وقال اله تعالى (ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها) إذا ثبت هذا فإذا دعي إلى تحمل شهادة في
نكاح أو دين أو عدة لزمته الإجابة قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء
لله) فإن قام بالفرض في التحمل والأداء اثنان سقط عن الجميع، وان امتنع الكل أثموا، وإنما يأثم
3

الممتنع إذا لم عليه ضرر وكانت شهادته تنفع، فإن كان عليه ضرر في التحمل أو الأداء أو كان ممن
لا تقبل شهادته أو يحتاج إلى التبذل في التزكية لم تلزمه لقول الله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وإنه لا يلزمه ان يضر نفسه لنفع غيره وإذا كان ممن
لا تقبل شهادته لم تجب عليه لأن مقصود الشهادة لا يحصل منه وهل يأثم بالامتناع إذا وجد غيره ممن
يقوم مقامه؟ فيه وجهان (أحدهما) يأثم لأنه قد تعين بدعاية ولأنه منهي عن الامتناع بقوله تعالى
(ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) (والثاني) لا يأثم لأن غيره يقوم مقامه فلم تتعين في حقه كما لو لم
يدع إليها فاما قول الله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) فقد قرئ بالفتح والرفع فمن رفع فهو خبر
معناه النهي ويحتمل معنيين (أحدهما) أن يكون الكاتب فاعلا اي لا يضر الكاتب والشهيد من
يدعوه بالا يجيب أو يكتب ما لم يستكتب أو يشهد بما لم يستشهد (والثاني) أن يكون يضار فعل
ما لم يسم فاعله فيكون معناه ومعنى الفتح واحدا أي لا يضر الكاتب والشهيد بقطعهما عن شغلهما
بالكتابة والشهادة ويمنعا حاجتهما
(مسألة) (قال الخرقي ومن لزمته الشهادة فعليه ان يقوم بها على القريب والبعيد ولا يسعه
التخلف عن اقامتها وهو قادر على ذلك)
قد ذكرنا ان الشهادة من فروض الكفايات فإن تعينت عليه بان لا يتحملها من يكفي فيها
سواه لزمه القيام بها، وان قام بها من يكفي غيره سقط عنه أداؤها إذا قبلها الحاكم فإن كان تحملها
4

جماعة فأداؤها واجب على الكل إذا امتنعوا أثموا كلهم كسائر فروض الكفايات ودليل وجوبها
قول الله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا - وقوله تعالى - يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله
شهداء بالقسط - وفي آية أخرى - كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين) ولان الشهادة أمانة فلزمه أداؤها كالوديعة
(مسألة) (ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة عليها ولا يجوز ذلك لمن لم تتعين عليه
في أصح الوجهين)
من له كفاية فليس له أخذ الجعل على الشهادة لأنها أداء فرض فإن فرض الكفاية إذا قام به
البعض وقع منهم فرضا، وان لم تكن له كفاية ولا تعينت عليه حل له أخذ الجعل لأن النفقة على عياله
فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإذا أخذ الرزق جمع بين الامرين فإن تعينت عليه الشهادة
احتمل ذلك أيضا واحتمل ألا يجوز لئلا يأخذ العوض عن أداء فروض الأعيان وقال أصحاب الشافعي
لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت عليه وهل يجوز لغيره؟ على وجهين
(مسألة) (ومن كانت عنده شهادة في حد لله تعالى أبيح اقامتها ولم يستحب وللحاكم ان
يعرض له بالوقوف عنها في أحد الوجهين)
5

يجوز للشاهد إقامة الشهادة في حدود الله تعالى من غير تقدم دعوى لأن أبا بكرة وأصحابه شهدوا
على المغيرة وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر من غير تقدم دعوى
فأجيزت شهادتهم. ولا يستحب أداؤها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ستر عورة ستره الله في الدنيا
والآخرة) وللحاكم ان يعرض للشاهد بالوقوف عن الشهادة في أظهر الروايتين لما روى صالح في
مسائله عن أبي عثمان النهدي قال جاء رجل إلى عمر فشهد على المغيرة بن شعبة فتغير لون عمر ثم جاء
آخر فشهد فاستنكر ذلك ثم جاء شاب يخطر بيديه فقال عمر ما عندك يا سلح العقاب؟ وصاح به عمر
صيحة فقال أبو عثمان والله لقد كدت ان يغشى علي فقال يا أمير المؤمنين رأيت أمرا قبيحا فقال
الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمد فأمر بأولئك النفر فجلدوا وفي رواية أنه لما شهد عنده على
المغيرة شهد ثلاثة وبقي واحد فقال عمر أرى شابا حسنا وأرجو ان لا يفضح الله على لسانه رجلا من
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهذا تعريض ظاهر
(مسألة) (ومن كانت عنده شهادة لآدمي يعلمها لم يقمها حتى يسأله فإن لم يعلمها استحب
له إعلامه بها وله اقامتها قبل ذلك)
إذا كان المشهود له يعلم له شهادة عند انسان لم يقمها الشاهد حتى يسأله صاحبها لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون ويشهدون
6

ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون) رواه البخاري فإن كان لا يعلمها استجب له إعلام صاحبها
بها كالوديعة وله أداؤها قبل اعلامه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته
قبل ان يسألها) رواه أبو داود فيتعين حمل الحديث على هذه الصورة جمعا بين الخبرين
(مسألة) (ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع)
وجملة ذلك أن الشهادة لا تجوز إلا بما يعلمه بدليل قول الله تعلى (إلا من شهد بالحق وهم
يعلمون) وقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسؤولا) وتخصيص هذه الثلاثة بالسؤال لأن العلم بالفؤاد وهو يستند إلى السمع والبصر لأن مدرك
الشهادة الرؤية والسماع وهما بالبصر
وقد روي عن ابن عباس أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة قال (هل ترى الشمس؟)
قال نعم قال (على مثلها فاشهد أو دع) رواه الخلال باسناده في جامعه. إذا ثبت هذا فإن مدارك العلم
كالشم والذوق واللمس لا حاجة إليها في الشهادة في الأغلب
(مسألة) (والرؤية تخص بالافعال كالقتل والغصب والسرقة وشرب الخمر والرضاع والولادة وغيرها)
فهذا لا يتحمل الشهادة إلا بالرؤية لأنه تمكن الشهادة عليه قطعا ومن ذلك الصفات المرئية
في المبيع ونحوها فلا يرجع إلى غير ذلك
7

(مسألة) (والسماع على ضربين سماع من المشهود عليه نحو الاقرار والعقود والطلاق) ونحو
ذلك فيحتاج أن يسمع كلام المتعاقدين يقينا ولا تعتبر رؤية المتعاقدين إذا عرفهما وتيقن انه كلامهما
وبهذا قال ابن عباس والزهري وربيعة والليث وشريح وعطاء وابن أبي ليلى ومالك، وذهب
أبو حنيفة والشافعي إلى أن الشهادة لا تجوز حتى يشاهد القائل المشهود عليه لأن الأصوات تشتبه فلا
يجوز أن يشهد عليها من غير رؤية كالخط
ولنا انه عرف المشهود عليه يقينا فجازت شهادته عليه كما لو رآه وجواز اشتباه الأصوات كجواز
اشتباه الصور، وإنما تجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقينا، وقد يحصل العلم بالسماع يقينا وقد
اعتبره الشرع بتجويزه الرواية من غير رؤية ولهذا قبلت رواية الأعمى ورواية من روى عن أزواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير محارمهن
(فصل) إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه جاز أن يشهد عليه حاضرا كان أو غائبا،
وان لم يعرف ذلك لم يجز أن يشهد عليه مع غيبته وجاز أن يشهد عليه حاضرا بمعرفة عينه نص عليه احمد قال
مهنا سألت احمد عن رجل يشهد لرجل بحق له على آخر وهو لا يعرف اسم هذا ولا اسم هذا الا أنه
يشهد له فقال إذ قال اشهد ان لهذا على هذا وهما شاهدان جميعا فلا بأس وإذا كان غائبا فلا يشهد
حتى يعرف اسمه، والمرأة كالرجل في أنه إذا عرف اسمها جاز أن يشهد عليها مع غيبتها وان لم يعرفها
8

لم يشهد عليها إلا في حال حضورها، قال احمد في رواية الجماعة لا تشهد الا لمن تعرف وعلى من تعرف
ولا يشهد إلا على امرأة قد عرفها، وإن كانت ممن عرف اسمها ودعيت وذهبت وجاءت فليشهد
والا فلا يشهد، فاما ان لم يعرفها فلا يجوز أن يشهد مع غيبتها ويجوز أن يشهد على عينها إذا عرف
عينها ونظر إلى وجهها. قال احمد لا تشهد على امرأة حتى تنظر إلى وجهها وهذا محمول على الشهادة
على من لم يتيقن معرفتها فاما من تيقن معرفتها ويعرف صوتها يقينا فيجوز أن يشهد عليها إذا تيقن
صوتها على ما قدمناه في المسألة قبلها فإن لم يعرف المشهود عليه فعرفه عنده من يعرفه فروي عن أحمد
أنه قال لا يشهد على شهادة غيره الا بمعرفته لها، وقال لا يجوز للرجل أن يقول للرجل اشهد ان هذه
فلانة ويشهد على شهادته وهذا صريح في المنع من الشهادة على من لا يعرفه بتعريف غيره
وقال القاضي يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب لتجويزه الشهادة بالاستفاضة وظاهر قوله المنع منه،
وقال احمد لا تشهد على امرأة الا باذن زوجها وهذا يحتمل أنه لا يدخل عليها بيتها إلا باذن زوجها لما روى
عمرو بن العاص قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستأذن على النساء بالاذن أزواجهن رواه أحمد في مسنده فاما
الشهادة عليها في غير بيتها فجائزة لأن اقرارها صحيح وتصرفها إذا كانت رشيدة صحيح فجاز أن يشهد عليها به
9

(فصل) إذا عرف الشاهد خطه ولم يذكر الشهادة فهل يجوز ان يشهد بذلك؟ على روايتين
(أحداهما) لا يجوز، قال أحمد في رواية حرب فيمن يري خطه وخاتمه ولا يذكر الشهاد: لا يشهد
إلا بما يعلم، وقال في رواية يشهد إذا عرف خطه وكيف تكون الشهادة الا هكذا؟ وقال في موضع آخر
إذا عرف خطه ولم يحفظ فلا يشهد إلا أن يكون منسوخا عنده موضوعا تحت ختمه وحرزه فيشهد وان لم
يحفظ، وقال أيضا إذا كان ردئ الحفظ يشهد ويكتبهما عنده وهذه رواية ثالثة وهو أن يشهد إذا كانت
مكتوبة عنده بخطه في حرزه ولا يشهد إذا لم تكن كذلك بمنزلة القاضي في إحدى الروايتين إذا وجد
حكمه بخطه تحت ختمه ولا يمضيه إذا لم كن كذلك
(مسألة) (الضرب الثاني سماع من جهة الاستفاضة فيما يتعذر علمه في الغالب الا بذلك كالنسب
والموت والملك والنكاح والخلع والوقف ومصرفه والعتق والولاء والولاية والعزل وما أشبه ذلك)
قال الخرقي وما تظاهرت به الاخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به كالشهادة على النسب
والولادة، أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالنسب قال ابن المنذر لا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه
ولو منع ذلك لاستحالت معرفته إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ولا تمكن المشاهدة فيه ولو اعتبرت
لما عرف أحد أباه ولا أمه ولا أحدا من أقاربه، وقد قال الله تعالى (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)
وكذلك الولادة واختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب والولادة فقال
10

أصحابنا هو تسعة أشياء النكاح والملك المطلق والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية
والعزل وبهذا قال أبو سعيد الإصطخري وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم لا تجوز في الوقف
والولاء والعتق والزوجية لأن الشهادة ممكنة فيه بالقطع ولأنها شهادة بعقد فأشبه سائر العقود، وقال
أبو حنيفة لا تقبل إلا في النكاح والموت ولا تقبل في الملك المطلق لأنها شهادة بمال فشابه الدين،
وقال صاحباه تقبل في الولاء مثل عكرمة مولى ابن عباس
ولنا ان هذه تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها فجازت الشهادة
عليها بالاستفاضة كالنسب قال مالك ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الا
بالسماع وقال: السماع في الاحباس والولاء جائز وقال أحمد في رواية المروذي اشهد ان داريختان لبختان
وان لم يشهدك وقيل له تشهد ان فلانة امرأة فلان ولم تشهد فقال نعم إذا كان مستفيضا فاشهد أقول
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وان خديجة وعائشة زوجتاه وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة، فإن
قيل يمكنه العلم بذلك بمشاهدة السبب قلنا وجود السبب لا يفيد العلم بكونه سببا يقينا فإنه يجوز ان
يشتري ما ليس بملك البائع ويصطاد صيدا صاده غيره ثم انفلت منه وان تصور ذلك فهو نادر وقول
أصحاب الشافعي تمكن الشهادة على الوقف باللفظ لا يصح لأن الشهادة ليست بالعقود ههنا إنما يشهد
بالوقف الحاصل بالعقد فهو بمنزلة الملك وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد وكذلك الحرية والولاء
11

وهذه جميعها لا يمكن القطع بها كما لا يمكن القطع بالملك لأنها مرتبة عليه فوجب ان تجوز الشهادة
فيها بالاستفاضة كالملك سواء
(مسألة) (ولا تقبل الاستفاضة الا من عدد يقع العلم بخبرهم في ظاهر كلام أحمد والخرقي
وقال القاضي تسمع من عدلين فصاعدا)
ذكره في المحرر لأن الحقوق تثبت بقول اثنين وهذا قول المتأخرين من أصحاب الشافعي والقول
الأول هو الذي تقضيه لفظة الاستفاضة فإنها مأخوذة من فيض الماء لكثرته ولأنه لو اكتفي فيه
بقول اثنتين لا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة على الشهادة وإنما اكتفي بمجرد السماع وقد ذكر شيخنا
في كتاب المقنع الخلع فيما يثبت بالاستفاضة ولم يذكره في المغني ولا في الكافي ولا رأيته في كتاب غيره
ولعله قاسه على النكاح والأولى أنه لا يثبت قياسا على الطلاق والنكاح بخلاف الخلع
(مسألة) (وان سمع انسانا يقر بنسب أب أو ابن فصدقه المقر له جاز ان يشهد له به وان
كذبه لم يشهد وان سكت جاز ان يشهد ويحتمل ألا يشهد حتى يتكرر)
إذا سمع رجلا يقول للصبي هذا ابني جاز ان يشهد به لأنه مقر بنسبه وان سمع الصبي يقول
هذا أبي فسكت الأب جاز أيضا لأن سكوت الأب اقرار له والاقرار يثبت به النسب فجازت الشهادة
به وإنما أقيم السكوت ههنا مقام الاقرار لأن الاقرار على الانتساب الباطل غير جائز بخلاف سائر
12

الدعاوى ولان النسب يغلب فيه الاثبات الا ترى انه يلحق بالامكان في النكاح؟ ويحتمل ان لا يشهد
حتى يتكرر ذكره أبو الخطاب لأن السكوت ليس باقرار حقيقي وإنما أقيم مقامه فاعتبرت تقويته بالتكرار
كما اعتبرت تقوية اليد في العقار بالاستمرار
(مسألة) (وان رأى شيئا في يد انسان يتصرف فيه تصرف الملاك من النقض والبناء والإجارة
والإعارة ونحوها جاز ان يشهد بالملك)
قال ذلك أبو عبد الله ابن حامد وهو قول أبي حنيفة والاصطخري من أصحاب الشافعي ويحتمل
ان لا يشهد الا باليد ولتصرف ذكره القاضي لأن اليد ليست منحصرة في الملك فإنه قد يكون بإجارة
وإعارة وغضب ووكالة وهو قول بعض أصحاب الشافعي. ووجه الأول ان اليد دليل الملك واستمرارها
من غير منازع يقويها فجرت مجرى الاستفاضة فجاز ان يشهد بها كما لو شاهد سبب اليد من بيع أو
إرث أو هبة واحتمال كونها من غصب وإجارة أو نحو ذلك يعارضه استمرار اليد من غير منازع
فلا يبقى مانعا كما لو شاهد سبب اليد فإن احتمال كون البائع غير المالك والوارث والواهب لا يمنع الشهادة
كذا ههنا، فإن قيل فإذا بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة الا بما يعلم، قلنا الظن يسمى
علما قال الله تعالى (فإن علمتموهن مؤمنات) ولا سبيل إلى العلم اليقيني ههنا فجاز بالظن
(فصل) قال الشيخ رحمه الله ومن شهد بالنكاح فلابد من ذكر شروطه وأنه تزوجها بولي
13

مرشد وشاهدي عدل ورضاها
لأن الناس يختلفون في شروطه فيجب ذكرها لئلا يكون الشاهد معتقدا صحة النكاح وهو فاسد
فإن شهد بعقد سواه كالبيع والإجارة فهل يشترط ذكر شروطه؟ على روايتين مبنيتين على الروايتين
فيما ادعاها وقد ذكرناه
(مسألة) (وان شهد بالرضاع فلابد من ذكر عدد الرضعات وانه شرب من ثديها أو
من لبن حلب منه)
لأن الناس يختلفون في الرضعات وفي الرضاع المحرم فإن شهد انه ابنها من الرضاع لم يكف
لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها ولابد من ذكران ذلك في الحولين
(مسألة) (وان شهد بالقتل احتاج ان يقول ضربه بالسيف أو جرحه فقتله أو مات من ذلك
فإن قال جرحه فمات لم يحكم به)
لجواز أن يكون مات بغير هذا وقد روي عن شريح انه شهد عنده رجل فقال اتكأ عليه بمرفقه
فمات فقال شريح فمات منه أو فقتله؟ فأعاد القول الأول فأعاد عليه شريح سؤاله فلم يقل فقتله ولا مات
منه فقال له شريح قم فلا شهادة لك رواه سعيد
(مسألة) (ومن شهد بالزنا فلا بد ان يذكر بمن زنى؟ وأين زنى؟ وانه رأى ذكره في فرجها)
لأن اسم الزنا يطلق على ما لا يوجب الجد وقد يعتقد الشاهد ما ليس بزنا زنا فاعتبر ذكر صفته
ليزول الاحتمال واعتبر ذكر المرأة لئلا تكون ممن تحل له أوله في وطئها شبهة وذكر المكان لئلا
14

تكون الشهادة منهم على فعلين ومن أصحابنا من قال لا يحتاج إلى ذكر المزني بها ولا ذكر المكان
لأنه محل الفعل فلا يعتبر ذكره كالزمان والأول أولى والزمان ممنوع في أحد الوجهين فإنه يشترط
ذكره لتكون شهادتهم على فعل واحد لجواز أن يكون ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر ولان الناس
اختلفوا في الشهادة في الحد مع تقادم الزمان فقال ابن أبي موسى لا تقبل لأن عمر قال من شهد على
رجل بحد فلم يشهد حين يصيبه فإنما يشهد على ضغن وقال غيره من أصحابنا تقبل لأنها شهادة بحق فجازت
مع تقادم الزمان كالقصاص ولأنه قد يعرض له ما يمنعه الشهادة في حينها ويتمكن منها بعد ذلك
(مسألة) (ومن شهد بالسرقة فلا بد من ذكر المسروق منه والنصاب والحرز وصفة السرقة)
لاختلاف العلماء في ذلك
(مسألة) (وان شهد بالقذف فلابد من ذكر المقذوف وصفة القذف) لذلك
(مسألة) (وان شهدا ان هذا العبد ابن أمة فلان لم يحكم به حتى يقولا ولدته في ملكه)
إذا ادعى عبدا انه له فشهد له شاهدان انه ابن أمته أو ادعى ثمرة شجرة فشهدت له البينة
انها ثمرة شجرته لم يحكم له بها لجواز أن تكون ولدته قبل تملكها وأثمرت الشجرة هذه الثمرة قبل ملكه
إياها، وان قالت البينة ولدته في ملكه أو أثمرتها في ملكه حكم له بالولد والثمرة لأنها شهدت أنها نماء ملكه
ما لم يرد سبب ينقله عنه فإن قيل فقد قلتم لا تقبل شهادة بالملك السابق على الصحيح وهذه شهادة بملك سابق
15

قلنا الفرق بينهما على تقديم التسليم ان النماء تابع للملك في الأصل فاثبات ملكه في الزمن الماضي على
وجه التبع وجرى مجرى ما لو قال ملكته منذ سنة وأقام البينة بذلك فإن ملكه يثبت في الزمن
الماضي تبعا للحال فيكون له النماء فيما مضى، ولان البينة ههنا شهدت سبب الملك وهو ولادتها أو
وجودها في ملكه فقويت بذلك ولهذا لو شهدت بالسبب في الزمن الماضي فقالت أفرضه ألفا أو
باعه ثبت الملك وان لم يذكره فمع ذكره أولى
(مسألة) (وان شهدت انه اشتراها من فلان أو وقفها عليه أو أعتقها لم يحكم بها حتى
يقولا وهي في ملكه)
لما ذكرنا في المسألة قبلها ولأنه يجوز ان يبيع ويقف ويعتق ما لا يملك
(مسألة) (وان شهد أن هذا الغزل من قطنه والطائر من بيضته أو الدقيق من حنطته حكم له بها)
لأنه لا يتصور أن يكون الطير من بيضته قبل ملكه البيضة وكذلك الغزل والدقيق ولان
الغزل عين القطن وإنما تغيرت صفته والدقيق اجزاء الحنطة تفرقت والطير هو البيض استحال
فكأن البينة قالت هذا غزله ودقيقه وطيره وليس كذلك الولد والئمرة فإنهما غير الام والشجرة
ولو شهد ان هذه البيضة من طيره لم يحكم له بها حتى يقول باضها في ملكه لأن البيضة غير الطير
وإنما هي من نمائه فهي كالولد ومذهب الشافعي في هذا الفصل على ما ذكرنا
(فصل) وإذا مات رجل فادعي آخر انه وارثه فشهد له شاهدان انه وارثه لا يعلمان له وارثا غيره سلم
المال إليه سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا، وان قالا لا نعلم له وارثا غيره في هذا البلد احتمل
ان يسلم المال إليه واحتمل ان لا يسلم إليه حتى يستكشف القاضي عن خبره في البلدان التي سافر إليها)
16

وجملة ذلك أن من ادعى أنه وارث فلان الميت فشهد له شاهدان انه وارثه لا يعلمان له وارثا
غيره قبلت شهادتهما وسلم المال إليه وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والعنبري، وقال ابن أبي ليلى
لا يقبل حتى يبينا أنه لا وارث له سواه
ولنا أن هذا مما لا يمكن علمه فكفى فيه الظاهر من شهادة الأصل بعدم وارث آخر قال أبو الخطاب
سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا وكذلك ذكره شيخنا ويحتمل ان لا يقبل الا من أهل
الخبرة الباطنة لأن عدم علمهم بوارث آخر ليس بدليل على عدمه بخلاف أهل الخبرة الباطنة فإن الظاهر أنه
لو كان له وارث آخر لم يخف عليهم وهذا قول الشافعي فاما ان قالا لا نعلم له وارثا بهذه البلدة
أو بأرض كذا وكذا احتمل ان يسلم المال إليه وبهذا قال أبو حنيفة كما لو قالا لا نعلم له وارثا وذكر
ذلك مذهبا لأحمد واحتمل ان هذا ليس بدليل على عدم وارث سواه لأنهما قد يعلمان أنه لا وارث
له في تلك الأرض ويعلمان له وارثا في غيرها فلم تقبل شهادتهما كما لو قالا لا نعلم له وارثا في هذا
البيت وهذا قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد وهو أولى إن شاء الله تعالى
(فصل) إذا مات رجل فشهد رجلان أن هذا الغلام ابن الميت لا نعلم له وارثا سواه وشهد آخران
لآخر أن هذا الغلام بن هذا الميت لا نعلم له وارثا سواه فلا تعارض بينهما وثبت نسب الغلامين منه
ويكون الإرث بينهما لأنه يجوز أن تعلم كل بينة ما لم تعلمه الأخرى.
17

(مسألة) (وتجوز شهادة المستخفي)
المستخفي هو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليسمع اقراره ولا يعلم به مثل أن بجحد الحق علانية
ويقر به سرا فيختبئ شاهدان في موضع لا يعلم بهما ليسمعا اقراره به ثم يشهدا به فشهادتهما مقبولة على
الرواية الصحيحة، وهو قول الشافعي وروي عن أحمد رواية أخرى لا تسمع شهادته اختاره أبو بكر وابن أبي
موسى وروي ذلك عن شريح والشعبي لأن الله تعالى قال (ولا تجسسوا) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(من حدث بحديث ثم التفت فهي أمانة) يعني انه لا يجوز لسامعه ذكره عنه لالتفاته وحذره
وقال مالك إن كان المشهود عليه ضعيفا ينخدع لم يقبلا عليه وان لم يكن كذلك قبلت.
ولنا انهما شهدا بما سمعاه يقينا فقبلت شهادتهما كما لو علم بهما.
(مسألة) (ومن سمع رجلا يقر بحق أو يشهد شاهدا بحق أو سمع حاكما يحكم أو يشهد
على حكمه وانفاذه جاز أن يشهد به في إحدى الروايتين ولا يجوز في الأخرى حتى يشهده على ذلك)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن سمع رجلا يقر بحق فالمذهب انه يجوز ان يشهد عليه
وان لم يقل للشاهد اشهد علي وهي التي ذكرها الخرقي وبه قال الشعبي والشافعي، وعن أحمد رواية
ثانية لا يشهد حتى يقول له المقر اشهد علي كما لا يجوز ان يشهد على شهادة رجل حتى يسترعيه إياها
ويقول له اشهد على شهادتي وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض لا يشهد وإذا سمعه يقر بدين
شهد، لأن المقر بالدين معترف انه عليه والمقر بالقرض لا يعترف بذلك لجواز أن يكون قد وفاه وعنه
18

رواية رابعة إذا سمع شيئا فدعي إلى الشهادة به فهو بالخيار ان شاء شهد وان شاء لم يشهد قال ولكن
يجب عليه إذا شهد ان يشهد (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) قال إذا شهدوا وقال ابن أبي موسى إذا
سمع رجلا يقر لرجل بحق ولم يقل اشهد علي بذلك وسع الشاهد أن يشهد عليه فيقول أشهد اني
حضرت اقرار فلان بكذا، وان سمعه يقول اقترضت من فلان أو قبضت من فلان لم يجز ان يشهد
وبه والصحيح الأول لأن الشاهد يشهد بما علمه وقد حصل له العلم بسماعه فجاز ان يشهد به كما يجوز
ان يشهد بما رآه من الافعال فأما الشهادة على الشهادة فهي ضعيفة فاعتبرت تقويتها بالاسترعاء وذكر
القاضي ان في الافعال روايتين
(إحداهما) لا يشهد به حتى يقول له المشهود عليه اشهد، قال شيخنا وهذا ان أراد به العموم
في جميع الأفعال فلا يصح لأن ذلك يؤدي إلى منع الشهادة عليه بالكلية فإن الغاصب لا يقول
لاحد اشهد أني غصبت ولا السارق ولا الزاني وأشباه هؤلاء وقد شهد أبو بكرة وأصحابه على
المغيرة بالزنا فلم يقل عمر هل أشهدكم أولا؟ ولا قاله للذين شهدوا على قدامة بشرب الخمر ولا قاله
عثمان للذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر ولم يقل هذا أحد من الصحابة ولا غيرهم ولا بلغنا
عن حاكم من حكام المسلمين في قديم الدهر وحديثه أنه رد شهادة على فعل بكون الشاهد لم يحملها
فحصل ذلك اجماعا ولان الشاهد مخبر صادق وهذا يحصل من غير أن يقال له اشهد وكذلك ان سمع
19

الحاكم يحكم أو شهد على حكمه وانفاذه جاز ان يشهد على ذلك في أظهر الروايتين والأخرى لا يجوز
حتى يشهده ووجههما ما ذكرنا والله أعلم
(فصل) ولو حضر شاهدان حسابا بين رجلين شرطا عليهما ان لا يحفظا عليهما شيئا كان للشاهدين
ان يشهدا بما سمعاه منهما ولم يسقط ذلك بشرطهما لأن للشاهد ان يشهد بما سمعه أو علمه وقد حصل
ذلك سواء اشهده أو منعه وكذلك يشهدان على العقود بحضورهما وعلى الجنايات بمشاهدتهما ولا
يحتاجان إلى إشهاد وبه قال ابن سيرين ومالك والثوري والشافعي
(فصل) والحقوق على ضربين (أحدهما) حق لآدمي معين كالحقوق المالية والنكاح وغيره من
العقود والعقوبات كالقصاص وحد القذف والوقف على آدمي معين فلا تسمع الشهادة فيه الا بعد
الدعوى لأن الشهادة فيه حق لآدمي فلا يستوفى الا بعد مطالبته واذنه ولأنه حجة على الدعوى
ودليل لها فلا يجوز تقديمها عليها (الضرب الثاني) اما كان حقا لآدمي غير معين كالوقوف على الفقراء
والمساكين أو على مسجد أو سقاية أو مقبرة مسبلة والوصية لشئ من ذلك أو نحو هذا، وما كان حقا
لله تعالى كالحدود الخالصة لله تعالى أو الزكاة الكفارة فلا تفتقر الشهادة إلى تقدم الدعوى لأن ذلك
ليس له مستحق معين من الآدميين يدعيه ويطالب به ولذلك شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة
وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر من غير تقدم دعوى فأجيزت شهادتهم
20

ولذلك لم يعتبر في ابتداء الوقف قبول من أحد ولا رضى منه وكذلك ما لا يتعلق به حق أحد كتحريم
الزوجة بالطلاق أو الظهار أو إعتاق الرقيق تجوز الحسبة به ولا تعتبر فيه الدعوى فلو شهد شاهدان
بعتق عبد أو أمة ابتداء ثبت ذلك سواء صدقهما المشهود عليه أو لم يصدقهما وبهذا قال الشافعي وقال به
أبو حنيفة في الأمة وقال في العبد لا يثبت ما لم يصدق العبد به ويدعيه لأن العتق حقه فأشبه سائر حقوق
ولنا أنها شهادة بعتق فلا تفتقر إلى تقدم الدعوى كعتق الأمة وتخالف سائر حقوق الآدمي لأنه
حق لله تعالى ولهذا لا يفتقر إلى قبول العتق ودليل ذلك الأمة وبه يبطل ما ذكروه فإن قال الأمة
يتعلق باعتاقها تحريم الوطئ قلنا هذا لا أثر له فإن البيع يوجب تحريمها عليه ولا تسمع الشهادة الا بعد الدعوى
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا شهد أحدهما أنه غصبه ثوبا أحمر وشهد آخر أنه غصبه
ثوبا أبيض أو شهد أحدهما أنه غصبه اليوم وشهد الآخر أنه غصبه أمس لم تكمل البينة وكذلك
كل شهادة على الفعل إذا اختلفا في الوقت)
متى كانت الشهادة على فعل فاختلف الشاهدان في زمنه أو مكانه أو صفة له تدل على تغاير الفعلين
لم تكمل شهادتهما مثل ان يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا يوم السبت بدمشق ويشهد الآخر أنه غصبه
بمصر أو يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا ويشهد الآخر انه غصبه ثوبا فلا تكمل الشهادة لأن كل فعل
لم يشهد به شاهدان. وهكذا ان اختلفا في زمن القتل ومكانه أو صفته أو في شرب الخمر أو القذف
21

لم تكمل الشهادة لأن ما شهد به أحد الشاهدين غير الذي شهد به الآخر فلم يشهد بكل واحد من الفعلين
الا شاهد واحد فلم يقبل إلا على قول أبي بكر فإن هذه الشهادة تكمل ويثبت المشهود به إذا اختلفا في الزمان أو
المكان، فاما ان اختلفا في صفة الفعل فشهد أحدهما أنه سرق مع الزوال كيسا أبيض وشهد الاخر أنه سرق
مع الزوال كيسا أسود أو شهد أحدهما أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد الاخر أنه سرقه عشيا لم تكمل
الشهادة ذكره ابن حامد وقال أبو بكر تكمل الشهادة والأول أصح لأن كل فعل لم يشهده الا واحد
على ما قدمنا، فإن اختلفا في صفة المشهود به اختلافا يوجب تغايرهما مثل ان يشهد أحدهما بثوب والآخر
بدينار فلا خلاف في أن الشهادة لا تكمل لأنه لا يمكن ايجابهما جميعا لأنه يكون ايجاب حق عليه
بشهادة واحد ولا ايجاب أحدهما بعينه لأن الآخر لم يشهد به وليس أحدهما أولى من الآخر
فاما ان شهد بكل فعل شاهدان واختلفا في المكان أو الزمان أو الصفة ثبتا جميعا لأن كلا منهما قد
شهد به بينة عادلة لو انفردت أثبتت الحق وشهادة الأخرى لا تعارضها لامكان الجمع بينهما الا
أن يكون الفعل مما لا يمكن تكراره كقتل رجل بعينه فتتعارض البينتان لعلمنا أن إحداهما كاذبة ولا
نعلم أيتهما هي؟ بخلاف ما يتكرر ويمكن صدق البينتين فيه فإنهما يثبتان جميعا ان ادعاهما وان لم يدع
إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه دون ما لم يدعه، وان شهد اثنان انه سرق مع الزوال كيسا أسود وشهد
آخران انه سرق مع الزوال كيسا أبيض أو شهد اثنان انه سرق هذا الكيس غدوة وشهد آخران
أنه سرقه عشيا فقال القاضي يتعارضان وهو مذهب الشافعي كما لو كان المشهود به قتلا، قال شيخنا
والصحيح أن هذا لا تعارض فيه لأنه يمكن صدق البينتين بان يسرق عند الزوال كيسين أبيض
22

وأسود وتشهد كل بينة بأحدهما ويمكن ان يسرق كيسا غدوة ثم يعود إلى صاحبه أو غيره فيسرقه
عشيا ومع إمكان الجمع لا تعارض فلى هذا ان ادعاهما المشهود له ثبتا له في الصورة الأولى وأما
في الصورة الثانية فيثبت له الكيس المشهود به حسب فإن المشهود به وإن كان فعلين لكنهما في محل
واحد فلا يجب أكثر من ضمانه، وإن لم يدع المشهود له إلا أحد الكيسين ثبت له ولم يثبت له الآخر
لعدم دعواه إياه، وان شهد له شاهد بسرقة كيس في يوم وشهد آخر بسرقة كيس في يوم آخر أو
شهد أحدهما بسرقته من مكان وشهد آخر بسرقته في مكان آخر أو شهد أحدهما بغصب كيس أبيض وشهد
آخر بغصب كيس أسود فادعاها المشهود له فله أن يحلف مع كل واحد منهما ويحكم له به لأنه مال قد
شهد له شاهد وان لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه ولم يثبت له الآخر لأنه لم يدعه.
(مسألة) (وإن شهد أحدهما أنه أقر له بألف أمس وشهد آخر انه أقر له بألف اليوم أو شهد
أحدهما انه باعه داره أمس وشهد آخر انه باعه إياها اليوم كملت البينة وثبت البيع والاقرار
وكذلك كل شهادة على القول)
أما إذا شهد أحدهما انه أقر له بألف أمس وشهد آخر انه أقر له بألف اليوم كملت البينة، لأن
الألف التي شهد بها أحدهما هي الألف التي شهد بها الآخر ولان الشاهدين شهدا بألف وان شهد
أحدهما انه باعه أمس وشهدا آخر انه باعه اليوم أو شهد أحدهما انه طلقها أمس وشهد آخر انه طلقها
23

اليوم، فقال أصحابنا تكمل الشهادة وقال الشافعي لا تكمل لأن كل واحد من البيع والطلاق لم يشهد
به إلا واحد أشبه ما لو شهد بالغضب في وقتين. ووجه قول أصحابنا أن المشهود به شئ واحد يجوز ان
يعاد مرة بعد أخرى ويكون واحدا فاختلافهما في الوقت ليس باختلاف فيه فلم يؤثر كما لو شهد
أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية وكذلك الحكم في كل شهادة على قول فالحكم فيه كالحكم في البيع
الا النكاح فإنه كالفعل إذا شهد أحدهما انه تزوجها أمس وشهد الآخر انه تزوجها اليوم لم تكمل
الشهادة في قولهم جميعا لأن النكاح أمس غير النكاح اليوم فلم يشهد بكل واحد من العقدين الا شاهد
واحد فلم يثبت كما لو كانت الشهادة على فعل.
(مسألة) (وكذلك القذف إذا شهد أحدهما انه قذفه غدوة وشهد الآخر انه قذفه عشية
أو شهد أحدهما أنه قذفه بالعربية وشهد الآخر أنه قذفه بالعجمية أو اختلفا في المكان لم يثبت القذف)
لأن القذف في مكان غير القذف في المكان الآخر وكذلك الاختلاف في الزمان وقال أبو بكر يثبت
القذف لأن المشهود به واحد وإن اختلفت العبارة واختلف الزمان والأول المذهب
(فصل) في الشهادة على الاقرار بالفعل مثل أن يشهد أحدهما انه أقر عندي يوم الخميس بدمشق
24

أنه قتله أو قذفه أو غصبه كذا أو ان له في ذمته كذا ويشهد الآخر أنه أقر عندي بهذا يوم السبت
بحمص كملت شهادتهما، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال زفر لا تكمل شهادتهما لأن كل اقرار
لم يشهد به إلا واحد فلم تكمل الشهادة كالشهادة على الفعل
ولنا ان المقر به واحد وقد شهد اثنان بالاقرار به فكملت شهادتهما كما لو كان الاقرار بهما
واحدا وفارق الشهادة على الفعل فإن الشهادة فيها على فعلين مختلفين فنظيره من الاقرار أن يشهد أحدهما
أنه أقر عندي أنه قتله يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قتله يوم الجمعة فإن شهادتهما لا تقبل ههنا
ويحقق ما ذكرناه أنه لا يمكن جمع الشهود لسماع الشهادة في حق كل واحد والعادة جارية بطلب الشهود
في أماكنهم لا في جمعهم إلى المشهود له فيمضي إليهم في أوقات منفردة وأماكن مختلفة فيشهدهم
على إقراره فإن كان الاقرار بفعلين مختلفين مثل أن يقول أحدهما أشهد انه أقر عندي أنه قتله
يوم الخميس وقال الآخر أشهد أنه أقر عندي انه قذفه بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن الذي يشهد به أحدهما غير
الذي شهد به صاحبه فلم تكمل الشهادة كما لو شهد أحدهما أنه أقر أنه غصبه دنانير وشهد الآخر أنه غصبه
دراهم لم تكمل وعلى قول أبي بكر تكمل الشهادة في القتل والقذف لأن القذف بالعربية أو العجمية والقتل
بالبصرة أو الكوفة ليس من المقتضي فلا تعتبر في الشهادة والأول أصح
25

(فصل) فإن شهد أحدهما أنه غصبه هذا العبد وشهد الآخر أنه أقر بغصبه منه كملت الشهادة
ويحكم بها لأنه يجوز أن يكون الغصب الذي أقر به هو الذي شهد الشاهد به فلم يختلف الفعل وكملت
الشهادة كما لو شهدا في وقتين على اقراره بالغصب وقال القاضي لا تكمل الشهادة ولا يحكم بها وهو قول
الشافعي لأنه يجوز أن يكون ما أقر به غير ما شهد به الشاهد وهذا يبطل بالشهادة على اقرارين فإنه
يجوز أن يكون ما أقر به عند أحد الشاهدين غير ما أقر به عند الآخر إذا كانا في وقتين مختلفين
ولأنه إذا أمكن جعل الشهادة على فعل واحد لم يحمل على اثنين كالاقرارين وكما لو شهد بالغصب
اثنان وشهد على الاقرار به اثنان فإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد من زيد أو أقر بغصبه منه
وشهد الآخر انه ملك زيد لم تكمل شهادتهما لأنهما لم يشهدا على شئ واحد وان شهد انه اخذه
من يديه ألزمه الحاكم رده إلى يديه لأن اليد دليل الملك فيرده إلى يده لتكون دلالتها ثابتة له قال مهنا
سألت أبا عبد الله عن رجل ادعى دارا في يد رجل وأقام شاهدين شهد أحدهما قال أشهد ان هذه الدار
لفلان وقال الآخر اشهد ان هذه الدار دار فلان قال شهادتهما جائزة
(مسألة) (وان شهد شاهد أنه أقر له بألفين وشهد آخر انه أقر له بألف ثبت الألف ويحلف
على الآخر مع شاهده ان أحب)
وجملة ذلك أنه إذا شهد أحد الشاهدين بشئ وشهد الآخر ببعضه صحت الشهادة وثبت ما اتفقا
عليه وحكم به وهذا قول شريح ومالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وإسحاق وأبي
26

عبيد وحكي عن الشعبي انه شهد عنده رجلان شهد أحدهما انه طلقها تطليقة وشهد آخر انه طلقها
تطليقتين فقال قد اختلفتما قوما وحكي عن أبي حنيفة انه إذا شهد شاهد انه أقر بألف وشهد آخر انه أقر
بألفين لم تكمل الشهادة لأن الاقرار بالألف غير الاقرار بألفين ولم يشهد بكل اقرار الا واحد.
ولنا ان الشهادة قد كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يرد أحدهما على صاحبه وما ذكروه من أن
كل إقرار إنما شهد به واحد يبطل بما إذا شهد أحدهما انه أقر بألف غدوة وشهد الآخر انه
أقر بألف عشيا فإن الشهادة تكمل مع أن كل اقرار إنما شهد به واحد فاما ما انفرد به أحدهما فإن
للمدعي ان يحلف معه ويستحق هذا قول من يرى الحكم بشاهد ويمين وهذا فيما إذا أطلقا الشهادة أو
لم تختلف الأسباب والصفات.
(فصل) إذا شهد له شاهدان بألف وشاهدان بخمسمائة ولم تختلف الأسباب والصفات دخلت
الخمسمائة في الألف ووجب له الألف بالشاهدين، وان اختلفت الأسباب والصفات وجب له الألف
والخمسمائة ولم يدخل أحدهما في الآخر لأنهما مختلفان
(مسألة) (وإن شهد أحدهما أن له عليه ألفا وشهد آخران له عليه ألفين فهل تكمل البينة
على ألف؟ على وجهين)
(أحدهما): تكمل كالتي قبلها، (والثاني): لا تكمل لأنه يحتمل أن يكون الألف المنفرد
من غير الألفين.
27

(مسألة) (وإن شهد أحدهما أن له عليه ألفا من قرض وشهد آخران أن له عليه ألفا من ثمن
مبيع لم تكمل البينة)
أما إذا اختلفت الأسباب والصفات مثل أن يشهد شاهد بألف من قرض وآخر بألف من ثمن
مبيع أو يشهد شاهد بألف بيض وآخر بألف سود أو يشهد أحدهما بألف دينار والآخر بألف
درهم لم تكمل البينة وكان له أن يحلف مع كل واحد منهما ويستحقها أو يحلف مع أحدهما ويستحق ما شهد به
(مسألة) (وإن شهد شاهدان أن له عليه ألفا وقال أحدهما قضاه بعضه بطلت شهادته نص
عليه وإن شهد انه أقرضه ألفا وقال أحدهما قضاه نصفه صحت شهادتهما)
إذا شهدا ان له عليه ألفا ثم قال أحدهما قضاه نصفه بطلت شهادته وهكذا ذكره أبو الخطاب
وذلك بأنه شهد بأن الألف جميعه عليه فإذا قضاه بعضه لم يكن الألف كله عليه فيكون كلامه متناقضا
فتفسد شهادته وفارق هذا ما لو شهد بألف ثم قال بل بخمسمائة لأن ذلك رجوع عن الشهادة بخمسمائة
واقرار بغلط نفسه وهذا لا يقول ذلك على وجه الرجوع والمنصوص عن أحمد ان شهادته تقبل
بخمسمائة فإنه قال إذا شهد بألف ثم قال أحدهما قبل الحكم قضاه منه خمسمائة أفسد شهادته والمشهود
له ما اجتمعا عليه وهو خمسمائة فصحت شهادته في نصف الألف الباقي وأبطلها في النصف الذي ذكر
أنه قضاه لأنه بمنزله الرجوع عن الشهادة به فأشبه ما لو قال اشهد بألف بل خمسمائة قال أحمد ولو جاء
28

بعد هذا المجلس فقال أشهد انه قضاه منه خمسمائة لم يقبل منه لأنه قد أمضى الشهادة فهذا يحتمل أنه
أراد إذا جاء بعد الحكم فشهد بالقضاء لم يقبل منه لأن الألف قد وجب بشهادتهما وحكم الحاكم ولا
تقبل شهادته بالقضاء لأنه لا يثبت بشاهد واحد فإنما ان شهد أنه أقرضه ألفا ثم قال أحدهما قضاه
منه خمسمائة قبلت شهادته في باقي الألف وجها واحدا لأنه لا تناقض في كلامه ولا اختلاف
(مسألة) (وإن كانت له بينة بألف فقال أريد ان تشهدا لي بخمسمائة لم يجز)
وعند أبي الخطاب يجوز قال أحمد إذ شهد على الف وكان الحاكم لا يحكم الا على مائتين فقال
له صاحب الحق أريد ان تشهدا لي على مائه لم يشهد الا بألف قال القاضي وذلك أن على الشاهد
نقل الشهادة على ما شهد قال الله تعالى (ذلك أدنى ان يأتوا بالشهادة على وجهها ولأنه لو ساغ للشاهد
ان يشهد ببعض ما اشهد لساغ للقاضي ان يقضي ببعض ما شهد به الشاهد وقال أبو الخطاب عندي
يجوز بذلك لأن من شهد بألف فقد شهد به بمائه وإذا شهد بمائه لم يكن كاذبا في شهادته فجاز كما لو
كان قد اقرضه مائة مرة وتسعمائة أخرى: قال شيخنا والأول أصح لما ذكر القاضي لأن شهادته
بمائة ربما أوهمت ان هذه المائة غير التي شهدت بأصله فيؤدي إلى ايجابها عليه مرتين قال أحمد إذا
29

قال اشهد على مائة درهم ومائة درهم ومائة درهم فشهد على مائة دون مائة كره الا ان يقول اشهدوني على
مائة ومائة ومائة يحكيه كله للحاكم كما كان
(فصل) قال أحمد إذا شهد بألف درهم ومائة دينار فله دراهم ذلك البلد ودنانيره قال القاضي
لأنه لما جاز ان يحمل مطلق العقد على ذلك جاز ان تحمل الشهادة عليه
(فصل) إذا شهد شاهد انه باعه هذا العبد بألف وشهد آخر انه باعه إياه بخمسمائة لم تكمل
البينة لاختلافهما في صفة البيع وله ان يحلف مع أحدهما ويثبت له ما حلف عليه فإن شهد بكل عقد
شاهدان ثبت البيعان فإن أضافا البيع إلى وقت واحد مثل ان يشهدا انه باعه هذا العبد مع الزوال
بألف وشهد آخر انه باعه إياه مع الزوال بخمسمائة تعارضت البينتان وسقطتا لأنه لا يمكن اجتماعهما
وكل بينة تكذب الأخرى وإن شهد بكل واحد من هذين شاهد واحد كان له ان يحلف مع أحدهما
ولا يتعارضان لأن التعارض إنما يكون مع البينتين الكاملتين
30

(باب شروط من تقبل شهادته)
وهي ستة أحدها البلوغ فلا تقبل شهادة الصبيان وعنه تقبل ممن هو في حال العدالة وعنه لا
تقبل إلى في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فالمشهور عنه أنها لا تقبل شهادة الصبي ما لم يبلغ
روي هذا عن ابن عباس وبه قال القاسم وسالم وعطاء ومكحول وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري
والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه وعن أحمد رواية ثانية ان شهادته تقبل
إذا كان ابن عشر قال ابن حامد فعلى هذه الرواية تقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص كالعبيد
وروي عن علي رضي الله عنه ان شهادة بعضهم تقبل على بعض، وروي ذلك عن شريح والحسن
والنخعي قال إبراهيم كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض فيما كان بينهم قال المغيرة وكان أصحابنا
لا يجيزون شهادتهم على رجل ولا على عبد. وروى الإمام أحمد باسناده عن مسروق قال كنا عند
علي فجاءه خمسة غلمة فقالوا انا كنا ست غلمة تتغاط فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الاثنين أنهما
غرقاه وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية وجعل على الثلاثة
خمسيها وقضى بنحو هذا مسروق وعنه رواية ثالثة ان شهادتهم لا تقبل إلا في الجراح إذا شهدوا قبل
الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم وهو قول مالك لأن الظاهر صدقهم
وضبطهم ولا تقبل بعد الافتراق لأنه يحتمل ان يلقنوا. قال ابن الزبير ان اخذوا عند مصاب
31

ذلك فبالحري ان يعقلوا ويحفظوا وعن الزهري ان شهادتهم جائزة ويستحلف أولياء المشجوج
وذكره عن مروان والمذهب أن شهادتهم لا تقبل في شئ لقول الله تعالى (واشهدوا ذوي عدل
منكم) وقال سبحانه (ممن ترضون من الشهداء) والصبي لا يرضى وقال عز وجل (ولا تكتموا
الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) فأخبر ان الشاهد الكاتم لشهادته آثم والصبي لا يأثم فيدل
على أنه ليس بشاهد ولان الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فينزعه عنه ويمنعنه منه فلا تحصل الثقة
بقوله ولان من لا يقبل قوله على نفسه في الاقرار لا تقبل شهادته على غيره كالمجنون يحقق هذا ان
الاقرار أوسع لأنه يقبل من الكافر والفاسق والمرأة ولا تصح الشهادة منهم ولان من لا تقبل
شهادته في المال لا تقبل في الجراح كالفاسق
(والثاني) العقل فلا تقبل شهادة معتوه ولا مجنون الا من يخنق في الأحيان إذا شهد في حال
افاقته ولا تقبل شهادة من ليس بعاقل اجماعا قال ابن المنذر وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو صغر
لأنه ليس بمحصل ولا تحصل الثقة بقوله فاما من يخنق في الأحيان إذا شهد في حال افاقته فتقبل
شهادته لأنها شهادة من عاقل أشبه من يخنق
32

(الثالث) الكلام فلا تقبل شهادة الأخرس نص عليه أحمد قيل له وإن كتبها؟ قال لا أدري
وهو قول أصحاب الرأي وقال مالك والشافعي وابن المنذر تقبل إذا فهمت إشارته لقيامها مقام نطقه
في كل أحكامه من كلامه ونكاحه وغير ذلك فكذلك في شهادته واستدل ابن المنذر بان النبي
صلى الله عليه وسلم أشار وهو جالس إلى الناس وهو قيام (ان اجلسوا فجلسوا)
ولنا أنها شهادة بالإشارة فلم تجز كإشارة الناطق لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين ولذلك لا يكتفى
بايماء الناطق ولا يحصل اليقين بالإشارة وإنما اكتفي بإشارته في أحكامه المختصة به للضرورة ولا ضرورة ههنا
وما استدل به ابن المنذر لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرا على الكلام وعمل بإشارته إلى الصلاة ولو
شهد الناطق بالإشارة والايماء لم تصح شهادته اجماعا فعلم أن الشهادة تفارق غيرها من الأحكام
ويحتمل ان تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فهمت إشارته لأن إشارته بمنزلة نطقه كما في سائر أحكامه والأول
أولى لأنا إنما قبلنا إشارته فيما يختص به للضرورة ولا ضرورة ههنا
(الرابع) الاسلام فلا تقبل شهادة كافر إلا أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم
وحضر الموصي الموت فتقبل شهادتهم ويحلفهم الحاكم بعد العصر لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى
ولا نكتم شهادة الله وانها لوصية الرجل بعينه فإن عثر على أنهما استحقا إثما قام آخران من أولياء
33

الوصي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ولقد خانا وكتما ويقضى لهم وعنه ان شهادة بعض أهل الذمة
تقبل على بعض والأول المذهب
وجملة ذلك أن شهادة أهل الكتاب لا تقبل في شئ على مسلم ولا كافر الا في الوصية في السفر
على ما نذكره ذكره الخرقي، وروى ذلك عن أحمد نحو من عشرين نفسا وممن قال لا تقبل شهادتهم
الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعي ومالك وأبو ثور ونقل حنبل عن أحمد ان شهادة بعضهم تقبل على
بعض وخطأه الخلال في نقله هذا وقال صاحبه أبو بكر هذا غلط لا شك فيه وقال ابن حامد بل
المسألة على روايتين قال أبو حفص البرمكي تقبل شهادة السبي بعضهم على بعض في النسب إذا ادعى
أحدهم ان الآخر اخوه والمذهب الأول والظاهر غلط من روى خلاف ذلك وذهبت طائفة من
أهل العلم إلى أن شهادة بعضهم على بعض تقبل ثم اختلفوا فمنهم من قال الكفر ملة واحدة فتقبل
شهادة اليهودي على النصراني والنصراني على اليهودي هذا قول حماد وسوار والثوري وأبي حنيفة
وأصحابه وعن قتادة والحكم وأبي عبيد وإسحاق تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض ولا تقبل شهادة
يهودي على نصراني ولا نصراني على يهودي ويروى عن الزهري والشعبي كقولنا وقولهم، واحتجوا
بما روي عن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض رواه ابن ماجة ولان بعضهم
يلي على بعض فتقبل شهادة بعضهم على بعض كالمسلمين
ولنا قول الله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقال تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم -
34

إلى قوله - ممن ترضون من الشهداء) والكافر ليس بذي عدل ولا هو منا ولا من رجالنا ولا ممن
نرضاه ولأنه لا تقبل شهادته على غير أهل دينه فلا تقبل على أهل دينه كالحربي والخبر يرويه أهل
مجلد وهو ضعيف وان ثبت فيحتمل انه أراد اليمين فإنها تسمى شهادة قال الله تعالى في اللعان (فشهادة
أحدهم أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين) واما الولاية فمتعلقها القرابة والشفقة وقرابتهم ثابتة
وشفقتهم كشفقة المسلمين وجازت لموضع الحاجة فإن غير أهل دينهم لا يلي عليهم والحاكم يتعذر
عليه ذلك لكثرتهم بخلاف الشهادة فإنها ممكنة من المسلمين، وقد روي عن معاذ رضي الله عنه
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقبل شهادة أهل دين الا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم
(فصل) فاما شهادة أهل الكتاب بوصية المسافر الذي مات في سفره إذا شهد بها شاهدان من
أهل الذمة قبلت شهادتهم إذا لم يوجد غيرهما من المسلمين ويستحلفان بعد العصر على ما ذكرنا
في صدر المسألة قال ابن المنذر وبهذا قال أكابر الماضين يعني الآية التي في سورة المائدة ومن قاله
شريح والنخعي والأوزاعي ويحيى بن حمزه وقضي بذلك عبد الله بن مسعود وأبو موسى رضي
الله عنهما وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا تقبل لأن من لا تقبل شهادته في غير الوصية لا تقبل في
الوصية كالفاسق ولان الفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى واختلفوا في تأويل الآية فمنهم من حملها على
التحمل دون الأداء ومنهم قال المراد بقوله من غيركم أي من عشيرتكم ومنهم من قال المراد بالشهادة اليمين
35

ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان
ذوا عدل منك أو آخران من غيركم ان أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) الآية وهذا
نص الكتاب وقد قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى ابن عباس قال خرج رجل من بني
تميم الداري وعدي بن زيد فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة
مخوصا بالذهب فاحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تيمم وعدي فقام
رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وان الجام لصاحبهم فنزلت فيهم (يا أيها
الذين آمنوا شهادة بينكم) الآية
وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على
وصيته فاشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته
فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحلفهما بعد العصر ما خانا
ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته فامضى شهادتهما رواه أبو داود
وروى الخلاف حديث أبي موسى باسناده وحمل الآية على أنه أراد من غير عشيرتكم لا يصح لأن
الآية نزلت في قصة عدي وتميم بلا خلاف بين المفسرين وقد فسره بما قلنا سعيد بن المسيب والحسن
36

وابن سيرين وعبيدة وسعيد بن جبير وسليمان التيمي وغيرهم ودلت عليه الأحاديث التي رويناها
ولأنه لو صح ما ذكروه لم تجب الايمان لأن الشاهدين من المسلمين لا قسامة عليهم وحملها على التحمل
لا يصح لأنه أمر باحلافهم ولا أيمان في التحمل وحملها على اليمين لا يصح لقوله (فيقسمان بالله إن ارتبتم
لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله) ولأنه عطفها على ذوي العدل من المؤمنين وهما
شاهدان وروى أبو عبيد في الناسخ المنسوخ أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان قال احمد أهل المدينة
ليس عندهم حديث أبي موسى من أين يعرفونه؟ فقد ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الصحابة وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة فتعين المصير إليه والعمل
به سواء وافق القياس أو خالفه
(الخامس) أن يكون ممن يحفظ فلا تقبل شهادة مغفل ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان
لأن الثقة لا تحصل بقوله لاحتمال أن يكون من غلطه وتقبل شهادة من يقل ذلك منه لأن أحدا
لا يسلم من الغلط.
(فصل) قال رحمه الله (السادس) (العدالة وهي استواء أحواله في دينه واعتدال أقواله وأفعاله
وقيل العدل من لم تظهر منه ريبة ويعتبر له شيئان الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض واجتناب
المحارم وهو ان لا يرتكب كبيرة ولا يد من على صغيرة) فإن الله تعالى نهى ان تقبل شهادة القاذف
37

فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة ولا يخرجه عن العدالة فعل صغيرة لقول الله تعالى (الذين يجتنبون
كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم) قيل اللمم صغار الذنوب ولان التحرز منها غير ممكن وجاء عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ان تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما) اي لم يلم فإن لامع الماضي بمنزلة لم
مع المستقبل وقيل اللمم ان يلم بالذنب ولا يعود فيه والكبائر كل ذنب فيه حد والاشراك بالله وقتل
النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين، وقد روى أبو بكرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الا أنبئكم
بأكبر الكبائر الاشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين - وكان متكئا فجلس فقال -
الا وقول الزور وشهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليه قال احمد لا تجوز شهادة
آكل الربا والعاق وقاطع الرحم ولا من لا يؤدي زكاة ماله، وإذا اخرج في طريق المسلمين الأسطوانة
والكنيف لا يكون عدلا ولا يكون ابنه عدلا إذا ورث أباه حتى يرد ما أخذ من طريق المسلمين ولا
يكون عدلا إذا كذب الكذب الشديد لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد شهادة رجل في كذبة. وقال عن الزهري
عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في حد ولا ذي غمر
على أخيه في عداوة ولا القاطع لأهل البيت ولا مجرب عليه شهادة زور ولا ضنين في قرابة ولا ولاء)
وقد رواه أبو داود (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولان ذي غمر على أخيه) فاما
الصغائر فإن كان مصرا عليها ردت شهادته وإن كان الغالب من امره الطاعات لم ترد لما ذكرنا
من عدم إمكان التحرز منه.
(مسألة) (ولا تقبل شهادة فاسق لقوله سبحانه وتعالى (واشهدوا ذوي عدل منكم)
38

وقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الآية والشهادة نبأ فيجب التوقف عنه
وقد روي في الحديث (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الاسلام ولا ذي غمر على
أخيه) رواه أبو عبيد وكان أبو عبيد لا يرى الخائن والخائنة مختصا بأمانات الناس بل جميع ما فرض
الله تعالى على العباد القيام به واجتنابه من كبير ذلك وصغيره قال الله تعالى (انا عرضنا على السماوات
والأرض والجبال) الآية وروي عن عمر أنه قال لا يؤسر رجل بغير العدول ولان دين الفاسق لا يزعه
عن ارتكاب محظورات الدين فلا يؤمن ان لا يزعه عن الكذب فلا تحصل الثقة بخبره إذا
تقرر هذا فالفسق نوعان:
(أحدهما) من جهة الافعال فلا خلاف في رد شهادته (الثاني) من جهة الاعتقاد وهو اعتقاد البدعة
فيوجب رد الشهادة أيضا. وبه قال مالك وشريك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور قال شريك أربعة
لا تجوز شهادتهم رافضي يزعم أنه له إماما مفترضة طاعته وخارجي يزعم أن الدنيا دار حرب
وقد يزعم أن المشيئة إليه ومرجئ، ورد شهادة يعقوب وقال الا أرد شهادة قوم يزعمون أن الصلاة ليست
من الايمان؟ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي المختلفون على ثلاثة اضرب (ضرب) اختلفوا في الفروع
فهؤلاء لا يفسقون ولا ترد شهادتهم وقد اختلفت الصحابة في الفروع ومن بعدهم من التابعين
39

(الثاني) من نفسقه ولا نكفره وهو من سب القرابة كالخوارج أو من سب الصحابة كالروافض
فلا تقبل لهم شهادة لذلك
(الثالث) من نكفره وهو من قال بخلق القرآن ونفى الرؤية وأضاف المشيئة إلى نفسه فلا تقبل له شهادة
وذكر القاضي أبو يعلى مثل هذا سواء قال: وقال احمد ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية المعلنة
وظاهر قول الشافعي وابن أبي ليلي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه قبول شهادة أهل الأهواء وأجاز
سوار شهادة ناس من بني العنبر ممن يرى الاعتزال قال الشافعي الا أن يكون ممن يرى الشهادة بالكذب
كالخطابية وهم أصحاب أبي الخطاب يشهد بعضهم لبعض بتصديقه
ووجه قول من أجاز شهادتهم أنه اختلاف لم يخرجهم عن الاسلام أشبه الاختلاف في الفروع
ولان فسقهم لا يدل على كذبهم لكونهم ذهبوا إلى ذلك تدينا واعتقادا أنه الحق ولم يرتكبوه عالمين
بتحريمه بخلاف فسق الافعال.
(مسألة) (ويتخرج قبول شهادة أهل الذمة على قبول شهادة الفاسق من جبة الاعتقاد المتدين
به إذا لم يتدين بالشهادة لموافقيه على مخالفيه كالخطابية.
وكذلك قال أبو الخطاب. وروي عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن
داعية فكذلك الشهادة.
40

ولنا أنه أحد نوعي الفسق فترد به الشهادة كالنوع الآخر ولأنه فاسق فترد شهادته للآية
(مسألة) (فاما من فعل شيئا من الفروع المختلف فيها فتزوج بغير ولي أو شرب من النبيذ مالا
يسكره أو اخر الحج مع امكانه ونحوه متأولا فلا ترد شهادته)
وإن فعله معتقدا تحريمه ردت شهادته. ويحتمل أن لا ترد بنص عليه أحمد في شارب النبيذ
يحد ولا ترد شهادته. وبهذا قال لشافعي وقال مالك ترد شهادته لأنه فعل ما يعتقد الحاكم تحريمه
فأشبه المتفق على تحريمه
ولنا ان الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع فلم يكن بعضهم يعيب من خالفه ولا
يفسقه ولأنه فرع مختلف فيه فلم ترد شهادة فاعله كالذي يوافقه عليه الحاكم، فاما ان فعله معتقدا تحريمه
ردت شهادته إذا تكرر ويحتمل أن لا ترد وبه قال أصحاب الشافعي لأنه فعل لا يرد شهادة بعض الناس
فلا يرد شهادة البعض الآخر كالمتفق على حله
ووجه الأول انه فعل محرم على فاعله ويأثم به فأشبه المتفق على تحريمه، وبهذا فارق معتقد
حله وقد روي عن أحمد فيمن يجب عليه الحج فلا يحج ترد شهادته وهذا يحمل على من اعتقد وجوبه
على الفور فاما من يعتقد أنه على التراخي وبتركه بنية فعله فلا ترد شهادته كسائر ما ذكرنا وقيل ترد لأنه
41

روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لقد هممت أن انظر في الناس فمن وجدته يقدر على الحج ولا يحج
ضربت عليه الجزية ثم قال ما هم بمسلمين وما هم بمسلمين
(مسألة) الثاني (استعمال المروءة وهو فعل ما يجمله ويزينه وترك ما يدنسه ويشينه فلا
تقبل شهادة المصانع، والمتمسخر، والمغني، والرقاص، واللاعب بالشطرنج، والنرد، والحمام والذي
يتغدى في السوق ويمد رجليه في مجمع الناس ويحدث بمباضعته أهله وأمته ويدخل الحمام بغير
مئزر ونحو ذلك)
المروءات اجتناب الأمور الدنيئة المزرية به وذلك نوعان (أحدهما) في الافعال كالأكل في السوق
وهو الذي ينصب مائدة في السوق ويأكل والناس ينظرون إليه ولا يعني أكل شئ يسير كالكسرة
ونحوها، وإن كان يكشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه أو يمد رجليه في مجمع الناس أو يتمسخر
بما يضحك الناس به أو يخاطب امرأته أو أمته أو غيرهما بحضرة الناس الخطاب الفاحش أو يحدث الناس
بمباضعته أهله أو نحو هذا من الافعال الدنيئة فلا تقبل شهادته لأن هذا سخف ودناءة فمن
42

رضيه لنفسه واستحسنه فليست له مروءة ولا تحصل الثقة بقوله قال احمد في رجل شتم بهيمة
قال الصالحون لا تقبل شهادته حتى يتوب، وقد روى ابن مسعود البدري قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (ان مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)
يعني من لم يستح صنع ما شاء ولان المروءة تمتنع الكذب وتزجر عنه ولهذا يمتنع منه ذو المروة وإن لم يكن
ذا دين فقد روي عن أبي سفيان أنه حين سأله قيصر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته قال والله لولا أني
كرهت أن يؤثر عني الكذب لكذبته ولم يكن يومئذ ذا دين ولان الكذب دناءة والمروءة تمنع
من الدناءة وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب اعتبرت في العدالة كالدين ومن فعل شيئا من
هذا مختفيا به لم يمنع من قبول شهادته لأن مروءته لا تسقط به وكذلك إن فعله مرة أو شيئا
قليلا لم ترد شهادته لأن صغير المعاصي لا يمنع الشهادة إذا قل فهذا أولى ولان المروءة لا تختل بقليل
هذا ما لم يكن عادة
43

(فصل في اللعب)
كل لعب فيه قمار فهو محرم أي لعب كان وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه ومن
تكرر منه ذلك ردت شهادته وما خلا القمار وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما
فمنه ما هو محرم ومنه ما هو مباح فالمحرم اللعب بالنرد وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي
وقال بعضهم هو مكروه غير محرم.
ولنا ما روى أبو موسى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنرد شير فقد عصي الله
ورسوله). وروى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير
ودمه)) رواه أبو داود وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم. إذا ثبت
هذا فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته سواء لعب به قمارا أو غير قمار وهو قول أبي حنيفة ومالك
وظاهر مذهب الشافعي. وقال مالك: من لعب بالشطرنج والنرد فلا أرى شهادته إلا باطلة لأن الله
تعالى قال (فماذا بعد الحق إلا الضلال) وهذا ليس من الحق فيكون من الضلال
(فصل) والشطرنج كالنرد في التحريم إلا أن تحريم النرد آكد لورود النص في تحريمه وهذا
في معناه فيثبت فيه حكمه قياسا عليه، وذكر القاضي أبو الحسين ممن ذهب إلى تحريمه علي بن أبي طالب
44

وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والقاسم وسالما وعروة ومحمد بن علي بن الحسين ومطر الوراق
ومالكا وأبا حنيفة وذهب الشافعي إلى إباحته وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب
وسعيد بن جبير واحتجوا بأن الأصل الإباحة ولم يرد بتحريمه نص ولا هو في معنى المنصوص عليه
فيبقى على الإباحة ويفارق الشطرنج النرد من وجهين (أحدهما) ان في الشطرنج تدبير الحرب فأشبه
اللعب بالحراب والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل
(والثاني) ان المعول في النرد على ما يخرجه الكعبتان فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج على
حذقه وتدبيره فأشبه المسابقة بالسهام
ولنا قول الله سبحانه وتعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
فاجتنبوه) قال علي رضي الله عنه الشطرنج من الميسر ومر رضي الله عنه على قوم فقال ما هذه التماثيل
التي أنتم لها عاكفون؟ قال أحمد أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه وروى واثلة بن الأسقع
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان لله عز وجل في كل يوم ستمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه فيها
نصيب (ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة فأشبه اللعب بالنرد وقولهم لا نص فيها وقد
ذكرنا فيها نصا وهو في معنى المنصوص على تحريمه وقولهم ان فيها تدبير الحرب قلنا لا يقصد هذا
45

منها وأكثر اللاعبين بها إنما يقصدون منها اللعب والقمار وقولهم ان المعول فيها على تدبيره فهو أبلغ
في اشغاله بها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة. إذا ثبت هذا فقال أحمد النرد أشد من الشطرنج
إنما قال ذلك لورود النص في النرد بخلاف الشطرنج. إذ ثبت هذا فقال القاضي: هو كالنرد في رد
الشهادة وهو قول أبي حنيفة ومالك لاشتراكهما في التحريم وقال أبو بكر ان فعله من يعتقد تحريمه
فهو كالنرد في حقه وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد شهادته الا ان يشغله عن الصلاة في أوقاتها أو
يخرجه إلى الحلف الكاذب أو نحوه من المحرمات أو يلعب بها على الطريق أو يفعل في لعبه ما يستخف
به من أجله ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة، وهذا مذهب الشافعي وذلك لأنه مختلف فيه أشبه
سائر المختلف فيه
(فصل) فأما اللاعب بالحمام يطيرها فلا شهادة له وهذا قول أصحاب الرأي وكان شريح لا يجيز
شهادة صاحب حمام ولا حمام ولأنه سفه ودناءة وقلة مروءة ويتضمن أذى الجيران واشرافه على
دورهم ورميه إياها بالحجارة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا يتبع حماما فقال (شيطان يتبع
شيطانة) فإن اتخذ الحمام لطلب فراخها أو لحمل الكتب أو للانس بها من غير اذى يتعدى إلى
الناس فلا بأس، وقد روى عبادة بن الصامت أن رجلا اتي النبي صلى الله عليه وسلم (فشكا إليه الوحشة فقال
(اتخذ زوجا من الحمام)
46

(فصل) فأما المسابقة المشروعة بالخيل وغيرها من الحيوانات أو على الاقدام فمباحة ولا دناءة
فيها ولا ترد بها الشهادة وقد ذكرنا مشروعية ذلك في باب المسابقة وكذلك ما في معناها من الثقاف
واللعب بالحراب وقد لعب الحبشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بالحراب وقامت عائشة رضي الله عنها
تنظر إليهم وتستتر به حتى ملت وسائر اللعب إذا لم يتضمن ضرارا ولا شغلا عن فرض فالأصل
اباحته فما كان فيه دناءة يترفع عنه ذووا المروءات منع الشهادة إذا فعله ظاهرا وتكرر منه ومالا دناءة
فيه لم ترد الشهادة به بحال
(مسألة) (فأما الشين في الصناعة كالحجام والحائك والنخال والنفاط والقمام والزبال والمشعوذ
والدباغ والحارس والكناس فهل تقبل شهادتهم إذا حسنت طرائقهم؟ على وجهين)
الصناعات الدنيئة كالكساح والكباش لا تقبل شهادتهما لما روى سعيد في سننه أن رجلا أتي
ابن عمر فقال له اني رجل كناس فقال له أي شئ تكنس؟ الزبل قال لا قال فالعذرة؟ قال نعم قال
الاجر خبيث وما تزوجت فخبيث حتى تخرج منه كما دخلت فيه وعن ابن عباس مثله في الكساح
ولان هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات فأشبه الذي قبله فاما الزبال ونحوهم ففيه وجهان (أحدهما)
لا تقبل شهادتهم لأنها دناءة تجتنبها أهل المروءات فهو كالذي قبله (والثاني) يقبل لأن بالناس إليه
حاجة فعلى هذا الوجه إنما تقبل شهادته إذا كان يتنظف للصلاة في وقتها ويصليها فإن صلى بالنجاسة
لم تقبل شهادته وجها واحدا، وأما الحائك والحارس والدباغ فهو أعلى من هذه الصنائع فلا ترد به
47

الشهادة وذكر شيخنا فيها وجهين وكذلك ذكرها أبو الخطاب والأولى قبول شهادة الحائك والحارس
والدباغ لأنه قد تولاها كثير من الصالحين وأهل المروءات وأما سائر الصنائع التي لا دناءة فيها فلا
ترد الشهادة بها إلا من كان منهم يحلف كاذبا أو يعد ويخلف وغلب هذا عليه فإن شهادته ترد
وكذلك من كان منهم يؤخر الصلاة عن أوقاتها ولا يتنزه عن النجاسات فلا شهادة له ومن كانت
صناعته يكثر فيها الربا كالصائغ والصيرفي ولم يتق ذلك ردت شهادته
(فصل في الملاهي)
وهي على ثلاثة أضرب: محرم وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور
والمعزفة والرباب ونحوها فمن أدام استماعها ردت شهادته لأنه يروى عن علي رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (إذا ظهر في أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء) ذكر منها إظهار المعارف والملاهي
وقال سعيد ثنا فرج بن فضالة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(إن الله بعثني رحمة للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير لا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا التجارة
فيهن وثمنهن حرام) يعني الضاربات وروى نافع قال سمع ابن عمر مزمارا فوضع أصبعيه على أذنيه
ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئا؟ قال فقلت لا قال فرفع أصبعيه من أذنيه وقال
48

كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا رواه الخلال في جامعه من طريقين ورواه
أبو داود في سننه وقال حديث منكر وقد احتج قوم بهذا الخبر على إباحة المزمار وقالوا لو كان
حراما لمنع النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر من سماعه ومنع ابن عمر نافعا من استماعه ولأنكر على الزامر بها
قلنا الأول لا يصح لأن المحرم استماعها دون سماعها والاستماع غير السماع ولهذا فرق الفقهاء في سجود
التلاوة بين السامع والمستمع ولم يوجبوا على من سمع شيئا محرما سد أذنيه قال الله تعالى (وإذا
سمعوا اللغو أعرضوا عنه) ولم يقل سدوا آذانهم والمستمع هو الذي يقصد السماع ولم يوجد هذا من ابن
عمر وإنما وجد السماع ولان بالنبي صلى الله عليه وسلم حاجة إلى معرفة انقطاع سماع الصوت عنه لأنه عدل عن الطريق وسد
أذنيه فلم يكن ليرجع إلى الطريق ولا يرفع أصبعيه من أذنيه حتى ينقطع الصوت عنه فأبيح للحاجة وأما الانكار
لعله كان في أول الهجرة حينما لم يكن الانكار واجبا أو قبل امكان الانكار لكثرة الكفار وقلة أهل الاسلام
فإن قيل فهذا الخبر ضعيف فإن أبا داود رواه وقال هو حديث منكر قلنا قد رواه الخلال من طريقين فلعل
أبا داود ضعفه لأنه لم يقع له إلا من إحدى الطريقين (وضرب مباح) وهو الدف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أعلنوا
النكاح واضربوا عليه بالدف) أخرجه مسلم وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي انه مكروه في غير النكاح لأنه يروى
عن عمر انه كان إذا سمع صوت الدف بعث فنظر فإن كان في وليمة سكت وإن كان في غيرها عمد الدرة
49

ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ان امرأة جاءته فقالت إني نذرت إن رجعت من سفرك سالما أن
أضرب على رأسك بالدف فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أوف بنذرك) رواه أبو داود ولو كان مكروها لم
يأمرها به وإن كان منذورا، وروت الربيع بنت معوذ قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة بني
بي فجعلت جويريات يضربن بدف لهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر إلى أن قالت إحداهن
وفينا نبي يعلم ما في غد فقال دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين) متفق عليه فاما الضرب به للرجال
فهو مكروه على كل حال لأنه إنما يضرب به النساء والمخنثون، والمشبهون بهن ففي ضرب الرجال
به تشبه بالنساء. فاما الضرب بالقضيب فيكره إذا انضم إليه مكروه أو محرم كالتصفيق والغناء والرقص
وإن خلا عن ذلك كله لم يكره لأنه ليس بآلة لهو ولا بطرب ولا يسمع منفردا بخلاف الملاهي،
ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا
(فصل) واختلف أصحابنا في الغناء فذهب الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز إلى إباحته قال
أبو بكر عبد العزيز الغناء والنوح معنى واحد مباح ما لم يكن معه منكر ولا فيه طعن فإن الخلال يحمل
الكراهة من احمد على الافعال المذمومة لا على القول بعينه، وروي عن أحمد انه سمع من عند ابنه
صالح قوالا فلم ينكر عليه، وقال له صالح يا أبه أليس كنت تكرههم؟ فقال قيل لي انهم يستعملون
المنكر، وممن ذهب إلى إباحة الغناء من غير كراهة إبراهيم بن سعد وكثير من أهل المدينة والعنبري
لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر فقال مزمور
50

الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (دعها فإنها أيام عيد) متفق عليه، وعن
عمر رضي الله عنه أنه قال الغناء زاد الراكب واختار القاضي انه مكروه غير محرم وهو قول الشافعي
وقال من اللهو المكروه، وقال احمد الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني، وذهب آخرون من
أصحابنا إلى تحريمه قال احمد فيمن مات وخلف ولدا يتيما وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها تباع
ساذجة قيل له انها تساوي مغنية ثلاثين ألفا وتساوي ساذجة عشرين دينارا فقال لا تباع إلا على أنها
ساذجة واحتجوا على تحريمه بما روي عن ابن الحنيفة في قوله تعالى (واجتنبوا قول الزور) قال الغناء
وقال ابن عباس وابن مسعود في قول الله تعالى (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال هو الغناء
وعن أبي أمامة ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء المغنيات وبيعهن والتجارة فيهن وأكل أثمانهن حرام
أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث علي بن يزيد وقد تكلم أهل العلم فيه
وروى ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (الغناء ينبت النفاق في القلب) والصحيح انه قول ابن
مسعود، وعلى كل حال من اتخذ الغناء صناعة يؤتى إليه ويأتي له أو اتخذ غلامه أو جارية مغنيين يجمع
عليهما الناس فلا شهادة له لأن هذا عند من لم يحرمه سفه ودناءة وسقوط مروءة ومن حرمه فهو مع
سفهه عاص مصر متظاهر بفسقه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، وإن كان لا ينسب نفسه إلى
الغناء وإنما يترنم لنفسه ولا يغني للناس أو كان غلامه وجاريته إنما يغنيان له انبنى هذا على الخلاف
فيه فمن أباحه أو كرهه لم ترد شهادته، ومن حرمه قال إن دام عليه ردت شهادته كسائر الصغائر
51

وإن لم يداوم عليه لم ترد شهادته، وان فعله من يعتقد حله فقياس المذهب أن لا ترد شهادته بمالا
لا يشتهر به منه كسائر المختلف فيه من الفروع، ومن كان يغشى بيوت المغني أو يغشاه المغنون للسماع
متظاهرا بذلك وكثر منه ردت شهادته في قولهم جميعا لأنه سفه ودناءة، وإن كان مستترا به فهو
كالمغني لنفسه على ما ذكر من التفصيل فيه
(فصل) فاما الحداء وهو الانشاد التي تساق به الإبل فمباح لا بأس به في فعله واستماعه لما روي
عن عائشة رضي الله عنها قالت كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء
وكان مع الرجال وكان انجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن رواحة (حرك بالقوم) فاندفع ينشد فتبعه
انجشة فأعتقت الإبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا نجشة رويدك رفقا بالقوارير) يعني النساء وكذلك نشيد
الاعراب وهو النصب لا بأس به وسائر أنواع الانشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
يسمع انشاد الشعر فلا ينكره والغناء من الصوت ممدود مكسور والغنى من المال مقصور والحداء ممدود
مضموم كالدعاء ويجوز الكسر كالنداء
(فصل) والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(إن من الشعر لحكما) وكان يضع لحسان منبرا يقوم عليه فيهجو من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وأنشده
كعب بن زهير قصيدته * بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * في المسجد وقال له عمه العباس يا رسول الله إني أريد
أن أمتدحك فقال قل لا يفضض الله فاك فأنشده
52

من قبلها طبت في الظلال * وفي مستودع حيث يخصف الورق
وقال عمر بن الشريد أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أمعك من شعر أمية؟) قلت نعم فأنشدته بيتا فقال
(هيه) حتى أنشدته مائة قافية وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
وقد اختلف في هذا فقيل ليس بشعر وإنما هو كلام موزون، وقيل بل هو شعر ولكنه
بيت واحد قصير فهو كالنثر، ويروى ان أبا الدرداء قيل له ما من أهل بيت في الأنصار إلا وقد
قال الشعر قال وأنا قد قلت
يريد العبد أن يعطى مناه * ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول العبد فائدتي ومالي * وتقوى الله أفضل ما استفادا
وليس في إباحة الشعر اختلاف وقد قاله الصحابة والعلماء والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة
والعربية وللاستشهاد به في التفسير وتعرف معنى كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ويستدل به
أيضا على النسب والتاريخ وأيام العرب ويقال الشعر ديوان العرب فإن قيل فقد قال الله تعالى (والشعراء
يتبعهم الغاوون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأن يمتلئ أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا)
رواه أبو داود وأبو عبيد وقال معنى يريه يأكل جوفه يقال ورواه يريه قال الشاعر:
53

وراهن ربي مثل ما قد ورينني * وأحمى على أكبادهن المكاويا
قلنا أما الآية فالمراد بها من أسرف وكذب بدليل وصفه لهم بقوله (ألم تر أنهم في كل واد
يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟) ثم استثنى المؤمنين بقوله (الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وذكروا الله كثيرا) ولان الغالب على الشعراء قلة الدين والكذب وقذف المحصنات وهجاء
الأبرياء لا سيما من كان في ابتداء الاسلام ممن يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويهجو المسلمين ويعيب الاسلام
ويمدح الكفار فوقع الذم على الأغلب واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة فالآية دليل على
إباحته ومدح أهله المتصفين بالصفات الجميلة، واما الخبر فقال أبو عبيد معناه أن يغلب عليه الشعر
حتى يشغله عن القرآن والفقه وقيل المراد به ما كان هجاء وفحشا فما كان من الشعر يتضمن هجاء
المسلمين والقدح في اعراضهم أو التشبب بامرأة بعينها بالافراط في وصفها فذكر أصحابنا أنه محرم
وهذا ان أريد به أنه محرم على قائله فهو صحيح، وأما على راويه فلا يصح فإن المغازي يروى فيها
قصائد الذين هاجوا بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك أحد، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما الا قصيدة أمية بن أبي الصلت الحائية
وكذلك يروى شعر قيس بن الحطيم في التشبب بعمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة أم النعمان
ابن بشير وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم قصيدة كعب بن زهير وفيها التشبب بسعاد ولم يزل الناس يروون
أمثال هذا ولا ينكر وروينا ان النعمان بن بشير دخل مجلسا فيه رجل يغنيهم بقصيدة قيس بن
الحطيم فلما دخل النعمان سكتوه من قبل ان فيها ذكر أمه فقال النعمان فلم يقل بأسا إنما قال
54

وعمرة من سروات النساء * تنفح بالمسك أردانها
وكان عمر بن طلحة بمجلس فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه فسكتوه فقال دعوه فإن قائل
هذا الشعر كان زوجها فأما لشاعر فمتى كان يهجو المسلمين ويمدح بالكذب أو يقذف مسلما أو مسلمة
فإن شهادته ترد وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل أعظم الناس ذنبا رجل يهاجي رجلا
فيهجو القبيلة بأسرها وقد روينا ان أباد لامة؟ شهد عند قاض فخاف ان ترد شهادته فقال إن
الناس غطوني تغطيت عنهم * وان بحثوا عني ففيهم مباحث
فقال القاضي ومن يبحثك يا أبا دلامة؟ وغرم المال من عنده ولم يظهر انه رد شهادته
(فصل في قراءة القرآن بالألحان) اما قراءته من غير تلحين فلا بأس بها وان حسن صوته به
فهو أفضل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (زينوا أصواتكم بالقرآن) وروي (زينوا القرآن بأصواتكم) وقال
(لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود) فقال أبو موسى لو أعلم انك تستمع لحبرته لك تحبيرا
وروي ان عائشة أبطأت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال أين كنت يا عائشة فقالت يا رسول الله كنت أسمع قراءة رجل
في المسجد لم أسمع أحدا يقرأ أحسن من قراءته فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع قراءته ثم قال (هذا سالم مولى أبي حذيفة
الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا) قال صالح قلت (لأبي زينوا القرآن بأصواتكم) ما معناه قال إن تحسنه
وقيل له ما معنى (من لم يتغن بالقرآن) قال يرفع صوته به، وهكذا قال الشافعي وقال الليث يتحزن به ويتخشع
به ويتباكى به. وقال ابن عيينة وعمر وبن الحارث ووكيع يستغني به فاما القرآن بالتلحين فينظر فيه فإن
لم يفرط في التمطيط والمد واشباع الحركات فلا بأس به فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ ورجع ورفع صوته
55

وقال الراوي لولا أن تجتمع الناس إلى لحكيت لكم قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام (ليس
منا من لم يتغن بالقرآن) وقال (ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) أي يجهر به ومعنى اذن
استمع قال القاضي هو مكروه على كل حال ونحوه قول أبي عبيد وقال معنى قوله (من لم يتغن بالقرآن) أي يستغني به
قال الشاعر: وكنت أمرأ زمنا بالعراق * عفيف النياح كثير التغني
قال ولو كان الغناء بالصوت لكان من لم يغن بالقرآن وروي نحو هذا التفسير عن ابن عيينة
وقال القاضي أحمد بن محمد البرني: هذا قول من أدركنا من أهل العلم وقال الوليد بن مسلم يتغنى
بالقرآن يجهر به وقيل يحسن صوته به. قال شيخنا والصحيح أن هذا القدر من التلحين لا بأس به
ولأنه لو كان مكروها لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح حمله على التغني في حديث (ما أذن الله لشئ
كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن) على الاستغناء لأن معنى اذن استمع وإنما تسمع القراءة ثم قال يجهر والجهر
صفة القراءة لا صفة الاستغناء فاما إذا أسرف في المد والتمطيط واشباع الحركات بحيث يجعل
الضمة واوا والفتحة ألفا والكسرة ياء كره ذلك ومن أصحابنا من قال يحرم لأنه يغير القرآن
ويخرج الكلمات عن وضعها ويجعل الحركات حروفا، وقد روينا عن أبي عبد الله أن رجلا سأله عن
ذلك فقال له ما اسمك؟ قال محمد قال أيسرك أن يقال لك يا مو حامد؟ قال لا قال ولا يعجبني أن
يتعلم الرجل الألحان إلا أن يكون حرمه مثل حرم أبي موسى قال له رجل فيكلمون قال لا كل ذا
56

واتفق أهل العلم على أنه تستحب قراءة القرآن بالتحزين والترتيل والتحسين وروى بريدة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرؤا القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن) وقال المروذي سمعت أبا عبد الله
قال لرجل لو قرأت وجعل أبو عبد الله ربما تغرغرت عينه وقال زهير بن حرب كنا عند يحيى القطان
فجاء محمد بن سعيد فقال له يحيى اقرأ فقرأ فغشي على يحيى حتى حمل وادخل وقال محمد بن صالح
العدوي قرأت عند يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه حتى فإنه خمس صلوات
(فصل) ولا تقبل شهادة الطفيلي وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة، وبهذا قال الشافعي
ولا نعلم فيه مخالفا وذلك لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من اتى طعاما لم يدع إليه دخل سارقا
وخرج معيرا) ولأنه يأكل محرما ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة فإن لم يتكرر هذا منه لم
ترد شهادته لأنه من الصغائر ومن سأل من غير أن تحل له المسألة فأكثر ردت شهادته لأنه فعل
محرما واكل سحتا واتى دناءة، وقد روى قبيصة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن
المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة رجل اصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما
من عيش - أو قال - سدادا من عيش، ورجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك) فاما
السائل ممن تباح له المسألة فلا ترد شهادته بذلك الا أن يكون أكثر عمره سائلا فينبغي ان
ترد شهادته لأن ذلك دناءة وسقوط مروءة، فإن اخذ من الصدقة من يجوز له الاخذ من غير
57

مسألة لم ترد شهادته لأنه فعل جائز لا دناءة فيه وان اخذ منها ما لا يجوز له وتكرر ذلك منه ردت
شهادته لأنه مصر على الحرام.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ومتى زالت الموانع منهم فبلغ الصبي وعقل المجنون واسلم الكافر
وتاب الفاسق قبلت شهادتهم بمجرد ذلك)
لأن المقتضي لقبول الشهادة موجود وإنما ردت لوجود المانع فإذا زال المانع عمل المقتضي عمله
كما لو لم يوجد المانع وتقبل توبة الفاسق لقول الله سبحانه وتعالى (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)
وقوله سبحانه (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) وقال النبي صلى الله عليه وسلم
(التائب من الذنب كمن لا ذنب له) وقال عمر رضي الله عنه: بقية عمر المرء لا قيمة له يدرك فيه ما
ما فات ويحيى فيه ما أمات ويبدل الله سيآته حسنات والتوبة على ضربين باطنة وحكمية فالباطنة يما
بينه وبين الله تعالى فإن كانت المعصية لا توجب حقا عليه في الحكم كقبلة الأجنبية والخلوة بها وشرب
المسكر والكذب فالتوبة منها الندم والعزم على أن لا يعود فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (التوبة
النصوح تجمع أربعة أشياء الندم بالقلب والاستغفار باللسان واضمار أن لا يعود) وبمجانبة خلطاء السوء
وإن كانت توجب حقا عليه لله تعالى أو لآدمي كمنع الزكاة والغصب فالتوبة منها بما ذكرنا وترك
المظلمة حسب إمكانه بان يؤدي الزكاة ويرد المغصوب أو بدله وان عجز عن ذلك نوى رده متى قدر
58

عليه فإن كان عليه فيها حق في البدن وكان حقا لآدمي كالقصاص وحد القذف فالمشترط في التوبة
التمكين من نفسه ببذلها للمستحق وإن كان حقا لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر فتوبته بالدم والعزم
على ترك العود ولا يشترط الاقرار به فإن كان ذلك لا يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه والتوبة فيما
بينه وبين الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله
فإن من ابدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد) فإن الغامدية حين أقرت بالزنا لم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك وان كانت معصيته مشهورة فذكر القاضي أن الأولى به الاقرار ليقام عليه الحد لأنه إذا كان
مشهورا فلا فائدة في ترك إقامة الحد عليه.
قال شيخنا والصحيح ان ترك الاقرار أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض للمقر عنده بالرجوع عن
الاقرار فعرض لما عز وللمقر عنده بالسرقة بالرجوع مع اشتهاره عنه باقراره وكره الاقرار حتى
قيل إنه لما قطع السارق كأنما أسف وجهه رمادا ولم يرد الامر وبالاقرار ولا الحث عليه في كتاب
ولا سنة ولا يصح له قياس إنما ورد الشرع بالستر والاستتار والتعريض للمقر بالرجوع عن الاقرار
وقال لهزال وهو الذي أمر ماعزابا بالاقرار (يا هزال لو سترت بثوبك لكان خيرا لك) وقال أصحاب
الشافعي توبة هذا اقراره ليقام عليه الحد وليس بصحيح لما ذكرنا ولان التوبة توجد حقيقتها بدون
الاقرار وهي تجب ما قبلها كما ورد في الاخبار مع ما دلت عليه الآيات في مغفرة الذنوب بالاستغفار
وترك الاسرار وأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها
59

(مسألة) (ولا يعتبر اصلاح العمل وعنه يعتبر في التائب اصلاح العمل سنة)
ظاهر كلام احمد والخرقي انه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة الولاية في
النكاح إصلاح العمل وهو أحد القولين لشافعي وفي القول الآخر يعتبر اصلاح العمل الا أن يكون
ذنبه شهادة بالزنا فلم يكمل عدد الشهود فإنه يكفي مجرد لتوبة من غير اعتبار اصلاح وما عداه فلا تكفي
التوبة حتى تمضي عليه سنة تظهر فيها توبته ويبين فيها صلاحه وهذا رواية عن أحمد حكاها أبو الخطاب لأن الله
تعالى قال (الا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) وهذا نص فإنه نهى عن قبول شهادتهم ثم استثنى التائب
المصلح ولان عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغا أمر بهجرانه حتى بلغته توبته فامر ان لا يكلم الا بعد سنة
ولنا قوله عليه السلام (التوبة تجب ما قبلها) وقوله (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ولان المغفرة
تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ولان التوبة من الشرك بالاسلام ولا يحتاج إلى اعتبار ما بعده
وهو أعظم الذنوب فما دونه أولى وأما الآية فيحتمل أن يكون الاصلاح من التوبة وعطفه عليها
لاختلاف اللفظين ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة تب أقبل شهادتك ولم يعتبر أمر آخر ولان
من كان غاصبا فرد ما في يديه أو مانعا للذكاة فأداها وتاب إلى الله عز وجل قد حصل منه الاصلاح
وعلم نزوله عن معصيته نادما عليه فإنه لو لم ترد التوبة لما أدى ما في يديه ولان تقديره بسنة تحكم لم
يرد به الشرع والتقدير إنما يثبت بالتوقيف وما رود من عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من
بدعة وكانت توبته بسبب الضرب والهجران فيحتمل انه أظهر التوبة تسترا بخلاف مسئلتنا وقد
ذكر القاضي ان التائب من البدعة يعتبر له سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال ومن علامة
60

توبته ان يجتنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة والصحيح
ان التوبة من البدعة كغيرها الا أن تكون التوبة تفعل بسبب الاكراه كتوبة صبيغ فيعتبر له مدة
يظهر ان توبته عن اخلاص لا عن اكراه وللحاكم ان يقول للمتظاهر بالمعصية تب اقبل شهادتك وقال
مالك لا اعرف هذا قال الشافعي وكيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة وقاله عمر لأبي بكرة؟
(مسألة) (ولا تقبل شهادة القاذف حتى يتوب)
وجملة ذلك أن القاذف إذا كان زوجا فحقق قذفه ببينة أو لعان أو كان أجنبيا فحققه بالبينة
أو باقرار المقذوف لم يتعلق بقذفه فسق ولا حد ولا رد شهادة وان لم يحقق قذفه بشئ من ذلك
تعلق به وجوب الحد عليه والحكم بفسقه ورد شهادته لقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا وأولئك هم الفاسقون) فإن تاب لم يسقط
عنه الحد وزل الفسق بلا خلاف وتقبل شهادته عندنا روي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وابن عباس
وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري وعبد الله بن عتبة وجعفر به أبي ثابت وأبى الزناد
ومالك والشافعي والبتي وإسحاق وأبو عبيد وابن المنذر وذكره ابن عبد البر عن يحيى بن سعيد
وربيعة وقال شريح والحسن والنخعي وسعيد بن جبير والثوري وأصحاب الرأي لا تقبل شهادته
إذا جلد وإن تاب، وعند أبي حنيفة لا ترد شهادته قبل الجلد وإن لم يتب والخلاف معه في فصلين:
61

(أحدهما) انه عندنا تسقط شهادته بالقذف إذا لم يحققه وعند أبي حنيفة ومالك لا تسقط الا
بالجلد (والثاني) انه ان تاب قبلت شهادته وإن جلد وعند أبي حنيفة لا تقبل وتعلق لقول الله تعالى
(ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) وبما روى ابن ماجة باسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجوز شهادة خائن ولا محدود في الاسلام واحتج في الفصل الآخر بان القذف
قبل حصول الجلد يجوز ان تقوم به البينة فلا يجب به التفسيق
ولنا في الفصل الثاني إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان
يقول لأبي بكرة حين شهد على لمغيرة بن شعبة تب أقبل شهادتك ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعا
قال سعيد بن المسيب شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث
ونكل زياد فجلد عمر الثلاثة وقال لهم عمر توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما
وأبى أبو بكرة فلم يقبل شهادته وكان قد عاد مثل النصل من العبادة ولأنه تاب من ذنبه فقبلت شهادته
كالتائب من الزنا يحققه ان الزنا أعظم من القذف به وكذلك قتل النفس التي حرم الله وسائر الذنوب
إذا تاب فاعلها قبلت شهادته فهذا أولى. وأما الآية فهي حجة لنا لأنه استثنى التائبين بقوله تعالى
(إلا الذين تابوا) والاستثناء من النفي إثبات فيكون تقديره إلا الذين تابوا فقبلوا شهادتهم وليسوا
بفاسقين فإن قالوا إنما يعود الاستثناء إلى الجملة التي تليه بدليل انه لا يعود إلى الجلد قلنا بل يعود
إليه أيضا لأن هذه الجمل معطوف بعضها على بعض بالواو وهي للجمع تجعل الجمل كلها كالجملة الواحدة
62

فيعود الاستثناء إلى جميعها الا ما منع. ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا
يجلس على تكرمته الا باذنه) عاد الاستثناء إلى الجملتين جميعا ولان الاستثناء يغاير ما قبله فعاد الجمل
المعطوف بعضها على بعض بالواو كالشرط فإنه لو قال امرأته طالق وعبده حر ان لم يقم عاد الشرط
إليهما كذا الاستثناء بل عود الاستثناء إلى الشهادة أولى لأن رد الشهادة هو المأمور به فيكون
الحكم والتفسيق خرج مخرج الخبر والتعليل لرد الشهادة فعود الاستثناء إلى الحكم المقصود إلى
من رده إلى التعليل وحديثهم ضعيف يرويه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف قال ابن عبد البر لم يرفعه
في روايته حجة، وقد روي من غير طريقه ولم يذكر فيه هذه الزيادة فدل ذلك على أنها من
غلطه ويدل على خطئه قبول شهادة كل محدود في غير المقذوف بعد ثبوته ثم لو قدر صحته فالمراد به
من لم يتب بدليل كل محدود تاب سوى هذا.
وأما الفصل الأول فدليلنا فيه الآية فإنه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء إيجاب الجلد ورد
الشهادة والفسق فيجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لم يمكنه تحقيقه كالجلد ولان الرمي
هو المعصية والذنب الذي يستحق به العقوبة وتثبت به المعصية الموجبة رد الشهادة، والحد كفارة تطهير
فلا يجوز تعليق رد الشهادة به، وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف فيثبتان جميعا به وتخلف
استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر، وقولهم إنما يتحقق بالجلد لا يصح لأن الجلد حكم القذف الذي
تعذر تحقيقه فلا يستوفى قبل تحقق القذف، وكيف يجوز أن يستوفى حد قبل تحقق سببه ويصير
متحققا بعده هذا باطل
63

(فصل) والقاذف في الشتم ترد شهادته وروايته حتى يتوب والشاهد بالزنا إذا لم تكمل بالبينة تقبل
روايته دون شهادته وحكي عن الشافعي ان شهادته لا ترد
ولنا ان عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة وقال له تب اقبل شهادتك وروايته مقبولة ولا نعلم خلافا في
قبول رواية أبي بكرة مع رد عمر شهادته
(مسألة) (وتوبته أن يكذب نفسه وقيل إن علم صدق نفسه فتوبته أن يقول قد ندمت على ما قلت
ولا أعود إلى مثله وأنا تائب إلى الله تعالى منه)
ظاهر كلام احمد والخرقي أن توبة القاذف اكذابه نفسه فيقول كذبت فيما قلت وهذا منصوص
الشافعي واختيار الإصطخري من أصحابه قال ابن عبد البر وممن قال هذا سعيد بن المسيب وطاوس
وعطاء والشعبي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيدة لما روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قول الله تعالى (إلا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فإن الله غفور رحيم)
قال توبته إكذاب نفسه ولان عرض المقذوف يلوث بقذفه فاكذابه نفسه يزيل ذلك التلويث
فتكون التوبة، وذكر القاضي ان القذف إن كان سبا فالتوبة منه إكذاب نفسه وإن كان شهادة
فالتوبة منه ان يقول القذف حرام باطل ولن أعود إلى ما قلت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي
قال وهو المذهب لأنه قد يكون صادقا فلا يؤمر بالكذب والخبر محمول على الاقرار بالبطلان لأنه
نوع إكذاب. قال شيخنا والأولى انه متى علم من نفسه الصدق فيما قذف به فتوبته الاستغفار
والاقرار ببطلان ما قاله وتحريمه فإنه لا يعود إلي مثله وان لم يعلم صدق نفسه فتوبته إكذاب نفسه
64

سواء كان القذف بشهادة أو سب لأنه قد يكون كاذبا في الشهادة صادقا في السب، ووجه الأول
ان الله تعالى سمى القاذف كاذبا على الاطلاق بقوله سبحانه (فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند
الله هم الكاذبون) فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان في
نفس الامر صادقا
(فصل) ولا يشترط في الشهادة الحرية بل تجوز شهادة العبد في كل شي إلا في الحدود والقصاص
على إحدى الروايتين وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء
الكلام في هذه المسألة في ثلاثة فصول (أحدها) في قبول شهادة العبد فيما عدا الحدود والقصاص
والمذهب انها مقبولة. روي ذلك عن علي وأنس رضي الله عنهما قال أنس ما علمت أن أحدا رد شهادة
العبد وبه قال عروة وشريح وإياس وابن سيرين والبتي وأبو ثور وداود وابن المنذر، وقال مجاهد
والحسن وعطاء ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو عبيد لا تقبل شهادته لأنه
غير ذي مروءة ولأنها مبنية على الكمال لا تتبعض فلم يدخل فيها العبد كالميراث، وقال الشافعي
والنخعي والحكم تقبل في الشئ اليسير
ولنا عموم آيات الشهادة وهو داخل فيها فإنه من رجالنا وهو عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره
الدينية، وروى عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي اهاب فجاءت أمة سوداء فقالت
قد أرضعتكما فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (وكيف وقد زعمت ذلك) متفق عليه
65

وفي رواية أبي داود فقلت يا رسول الله انها لكاذبة فقال (وما يدريك وقد قالت ما قالت؟
دعها عنك) ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته كالحر وقولهم ليس له مروءة ممنوع بل هو كالحر ينقسم
إلى من له مروءة، ومن لا مروءة له، وقد يكون منهم العلماء والامراء والصالحون والأتقياء سئل اياس
ابن معاوية عن شهادة العبد فقال أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب، وكان منهم زياد بن أبي عياش
من العلماء والزهاد وكان عمر بن عبد العزيز يرفع قدره ويكرمه ومنهم عكرمة مولى ابن عباس من
العلماء الثقات وكثير من الموالي كانوا عبيدا وأبناء عبيد لم يحدث فيهم بالاعتاق الا الحرية وهي لا تغير
طبعا ولا تحدث علما ولا دينا ولا مروءة ولا يقبل منهم الا من كان ذا مروءة ولا يصح قياس الشهادة
على الميراث فإن الميراث خلافة للموروث في ماله وحقوقه والعبد لا يمكنه الخلافة لأن ما يصير إليه يملكه
سيده فلا يمكن أن يخلف فيه ولان الميراث يقتضي التمليك والعبد لا يملك ومبنى الشهادة على العدالة التي
هي مظنة الصدق وحصول الثقة من القول والعبد أهل لذلك فوجب أن تقبل شهادته
(الفصل الثاني) ان شهادته لا تقبل في الحدود وفي القصاص احتمالان (أحدهما) تقبل شهادته
فيه لأنه حق آدمي، ولا يصح الرجوع عن الاقرار به أشبه الأموال
(والثاني) لا تقبل لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات فأشبه الحد وقد ذكرنا في هذا الكتاب
في الحد والقصاص روايتين وكذلك ذكره الشريف وأبو الخطاب فإنهما ذكرا في العقوبات كلها
روايتين (إحداهما) تقبل لما ذكرنا ولأنه رجل عدل فتقبل شهادته فيها كالحر والثانية لا تقبل وهي
66

ظاهر المذهب لأن الاختلاف في قبول شهادته في الأموال نقص وشبهة فلم تقبل شهادته فيما يندرئ بالشبهات
ولأنه ناقص الحال فلم تقبل شهادته في الحد والقصاص كالمرأة
(الفصل الثالث) ان شهادة الأمة تقبل فيما تقبل فيه شهادة النساء قياسا عليهن فإن النساء لا تقبل
شهادتهن في الحدود والقصاص وإنما تقبل في المال أو شبهه والأمة كالحرة فيما عداهما وقد دل عليه حديث
عقبة بن الحارث، وحكم المكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق بعضه حكم القن فيما ذكرنا لأن الرق فيهم وقد روي
عن عمر رضي الله عنه أنه لا تجوز شهادة المكاتب وبه قال عطاء والشعبي والنخعي
ولنا ما ذكرناه في العبد ولأنه إذا ثبت الحكم في القن ففي هؤلاء أولى
(فصل) وتجوز شهادة الأصم في المرئيات وعلى المسموعات قبل صممه اما شهادته على المرئيات فهو
فيها كالذي يسمع فتقبل شهادته فيها وتجوز شهادته في المسموعات التي كانت قبل صممه كما تجوز شهادة
الأعمى على الافعال التي رآها قبل العمى إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه
(مسألة) (وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات إذا تيقن الصوت وبالاستفاضة)
روي هذا عن علي وابن عباس وبه قال ابن سيرين وعطاء والشعبي والزهري ومالك وابن أبي
ليلى وإسحاق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة والشافعي لا تقبل شهادته، وروي ذلك عن النخعي
وأبي هاشم واختلف فيه عن الحسن وإياس وابن أبي ليلى وأجاز الشافعي شهادته بالاستفاضة والترجمة
إذا أقر عند أذنه ويد الأعمى على رأسه ثم ضبطه حتى حضر عند الحاكم فشهد عليه ولم يجزها في غير
ذلك لأن من لا تجوز شهادته على الافعال لا تجوز على الأقوال كالصبي ولان الأصوات تشتبه فلا
يحصل اليقين فلم يجز أن يشهد بها كالخط
67

ولنا قول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ولأنه رجل عدل مقبول الرواية فقبلت
شهادته كالبصير وفارق الصبي فإنه ليس برجل ولا عدل ولا مقبول الرواية ولان السمع أحد الحواس
التي يحصل بها اليقين وقد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى وكثرت صحبته له وعرف صوته يقينا فلا يشك
فيه فوجب أن تقبل شهادته فيما تيقنه كالبصير ولهذا أجاز الشافعي وأصحابه شهادته بالاستفاضة ولا
تثبت عندهم حتى يسمعها من عدلين ولا بد ان يعرفهما حتى يعرف عدالتهما فإذا صح ان يعرف
الشاهدين صح ان يعرف المقر ولا خلاف في قبول روايته وجواز استماعه من زوجته إذا عرف
صوتها وصحة قبول النكاح، وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصفة وفارق الافعال فإن
مدركها الرؤية وهي غير ممكنة من الأعمى والأقوال مدركها السمع هو يشارك البصير فيه وربما
زاد عليه ويفارق الخط فإنه لو تيقن من كتب الخط أو رآه يكتبه لم يجز ان يشهد بما كتب فيه
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز ان يشهد الا إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقينا فإن جوز أن يكون
صوت غيره لم يجز ان يشهد به كما لو اشتبه على البصير المشهود عليه فلم يعرفه
(مسألة) (وتجوز في المرئيات التي تحملها قبل العمى إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجوز شهادته أصلا لأنه لا يجوز أن يكون حاكما
ولنا ما تقدم في المسألة قبلها ولان العمي فقد حاسة لا يخل بالتكليف فلم يمنع قبول الشهادة
68

كالصمم وفارق الحكم فإنه يعتبر له من شروط الكمال ما لا يعتبر للشهادة ولذلك يعتبر له
السمع والاجتهاد وغيرهما.
(مسألة) (فإن لم يعرف المشهود عليه باسمه ونسبه ولم يعرفه الا بعينه قبلت شهادته أيضا
لما ذكرنا في المسألة الأولى)
وهذا قول القاضي ويصفه للحاكم بما يتميز به قال شيخنا ويحتمل ان لا تقبل لأن هذا مما لا ينضبط غالبا
(مسألة) (وان شهد عند الحاكم ثم عمي قبلت شهادته وجاز الحكم بها)
وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يجوز الحكم لأنه معنى يمنع قبول
الشهادة مع صحة النطق فمنع الحكم بها كالفسق
ولنا أنه معنى طرأ بعد أداء لا يورث تهمة في حال الشهادة فلم يمنع قبولها كالموت وفارق الفسق
فإنه يورث تهمة حال الشهادة
(مسألة) (وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والحسن والشعبي والزهري والشافعي وإسحاق وأبو عبيد
وأبو حنيفة وأصحابه وقال مالك والليث لا تجوز شهادته في الزنا وحده لأنه متهم فإن العادة فيمن
فعل قبيحا انه يحب أن يكون له نظراء وحكي عن عثمان أنه قال ودت الزانية ان النساء كلهن زنين
ولنا عموم الآيات فإنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا فيقبل في الزنا كغيره ولان من قبلت
شهادته في القتل قبلت في الزنا كولد الرشدة قال ابن المنذر وما احتجوا به غلط من وجوه (أحدها)
69

ان ولد الزنا لم يفعل قبيحا يحب أن يكون له نظراء فيه (والثاني) لا أعلم ما ذكر عن عثمان ثابتا عنه
وأشبه ذلك أن لا يكون ثابتا وغير جائز ان يثبت عن عثمان كلام بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها
تذكره (الثالث ان الزاني لو تاب لقبلت شهادته وهو الذي فعل الفعل القبيح فإذا قبلت شهادته
مع ما ذكروه فغيره أولى فإنه لا يجوز ان يلزم ولده من وزره أكثر مما لزمه ولا يتعدى الحكم إلى
غيره من غير أن يثبت فيه مع أن ولده لا يلزمه شئ من ضرره لقول الله تعالى (ولا تزر وازرة
وزر أخرى) وولد الزنا لم يفعل شيئا يستوجب به حكما
(مسألة) (وتقبل شهادة الانسان على فعل نفسه كالمرضعة بالرضاع والقاسم على القسمة
والحاكم على حكمه بعد العزل)
تجوز شهادة المرضعة على الرضاع لما ذكرنا من حديث عقبة بن الحارث وكذلك شهادة القاسم
على القسمة لأنه يشهد لغيره فصح على فعل نفسه كما لو شهد على فعل غيره وكذلك تقبل شهادة الحاكم
على حكمه بعد العزل لذلك وفي ذلك كله اختلاف لما ذكرنا فيما مضى
(مسألة) (وتقبل شهادة البدوي على القروي والقروي على البدوي إذا اجتمعت الشروط)
وهو ظاهر كلام الخرقي وهو قول ابن سيرين وأبي حنيفة والشافعي وأبي ثور وأجازه أبو الخطاب
وعن أحمد في شهادة البدوي على القروي اخشى ان لا تقبل فيحتمل وجهين (أحدهما) لا تقبل
وهو قول جماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح وكقول
الباقين احتياطا للدماء واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
70

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تجوز شهادة بدوي على صحاب قرية) ولأنه متهم حيث عدل إذا أشهد
قرويا واشهد بدويا قال أبو عبيد ولا أرى شهادتهم ردت الا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله والجفاء
في الدين (والثاني) تقبل لأن من قبلت شهادته على أهل البلد وقبلت شهادته على البدو قبلت شهادته
على أهل القرى ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب ان
لا يكون له من يسأله الحاكم فيتعرف عدالته
(باب موانع الشهادة)
ويمنع قبول الشهادة ستة أشياء (أحدها) قرابه الولادة فلا تقبل شهادة والد لولده وان سفل
ولا ولد لوالده وان علا.
ظاهر المذهب أن شهادة الوالد لولده لا تقبل ولا لولد ولده وان سفل وسواء في ذلك ولد البنين
وولد البنات ولا تقبل شهادة الولد لوالده ولا والدته ولا جده ولا جدته من قبل أبيه وأمه وان علوا
وسواء في ذلك الآباء والأمهات وآباؤهما وأمهاتهما وبه قال شريح والحسن والشعبي والنخعي ومالك
والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي وروي عن أحمد رواية ثانية تقبل شهادة الابن لابنه
ولا تقبل شهادة الأب لابنه لأن مال الابن في حكم مال الأب له أن يتملكه له إذا شاء فشهادته له
شهادة لنفسه أو يجربها لنفسه نفعا قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) وقال (ان أطيب
71

ما أكل الرجل من كسبه وان أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم) ولا يوجد هذا
في شهادة الابن لأبيه وعنه رواية ثالثة تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه فيما لا تهمة فيه كالنكاح
والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنى عنه لأن كل واحد منهما لا ينتفع بما يثبت للآخر من
ذلك فلا تهمة في حقه وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شهادة كل واحد منهما للآخر
مقبولة وروي ذلك عن شريح وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو ثور والمزني وداود وإسحاق وابن
المنذر لعموم الآيات ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع فتقبل شهادته فيه كالأجنبي
ولنا ما روى الزهري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي
غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة ولا ولاء) والظنين المتهم والأب متهم لولده لأن ماله كما له بما
ذكرنا ولان بينهما بعضية فكأنه يشهد لنفسه ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (فاطمة بضعة مني
يريبني ما رابها) ولأنه متهم في الشهادة على عدوه والخبر أخص من الآيات فتختص به
(مسألة) (وتقبل شهادة بعضهم على بعض في أصح الروايتين)
أما شهادة أحدهما على صاحبه فتقبل، نص عليه أحمد وهذا قول عامة أهل العلم، قال شيخنا ولم
أجد عن أحمد في الجامع فيه اختلافا وذلك لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط
شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) فأمر بالشهادة عليهم ولو لم تقبل لما أمر بها ولأنها
72

إنما ردت شهادته له للتهمة في ايصال النفع ولا تهمة في شهادته عليه فوجب ان تقبل كشهادة الأجنبي بل أولى
فإن شهادته لنفسه لما ردت للتهمة في ايصال النفع إلى نفسه كان اقراره عليها مقبولا وفيه رواية أخرى
أن شهادة أحدهما لا تقبل على صاحبه حكاها القاضي في المجرد لأن شهادته غير مقبولة فلا تقبل عليه كالفاسق
وقال بعض الشافعية لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حد قذف لأنه لا يقتل بقتله ولا يحد
بقذفه فلا يلزمه ذلك والمذهب الأول لما ذكرنا ولأنه يتهم له ولا يتهم عليه فشهادته عليه أبلغ
في الصدق كشهادته على نفسه
(فصل) فإن شهد اثنان بطلاق ضرة أمها أو قذف زوجها لها قبلت شهادتهما لأن حق أمهما
لا يزداد به وسواء كان المشهود عليه أباهما أو أجنبيا وتوفر الميراث لا يمنع قبول الشهادة بدليل قبول
شهادة الوارث لموروثه
(فصل) وتجوز شهادة الرجل لابنه من الرضاعة وأبيه وسائر أقاربه منها لأنه لا نسب بينهما
يوجب الانفاق والصلة وعتق أحدهما على صاحبه وتبسطه في ماله بخلاف قرابة النسب
(مسألة) ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه في إحدى الروايتين)
هذا الذي ذكره الخرقي وبه قال الشعبي والنخعي ومالك وإسحاق وأبو حنيفة والرواية الأخرى
يجوز هذا وقول شريح والحسن والشافعي وأبي ثور لأنه عقد على منفعة فلا يمنع قبول الشهادة كالإجارة
73

وقال الثوري وابن أبي ليلى تقبل شهادة الرجل لامرأته لأنه لا تهمة في حقه ولا تقبل شهادتهما له لأن
يساره وزيادة حقها من النفقة يحصل بشهادتها له بالمال فهي متهمة لذلك
ولنا أن كل واحد من الزوجين يرث الآخر من غير حجب ويتبسط في ماله عادة فلم تقبل
شهادته له كالابن مع أبيه ولان يسار الرجل يزيد نفقة امرأته ويسار المرأة يزيد في قيمة بضعها
المملوك لزوجها فكان كل واحد منهما يضاف إلى الآخر قال الله تعالى (وقرن في بيوتكن) وقال
(لا تدخلوا بيوت النبي) فأضاف البيوت إليهن تارة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرى وقال تعالى (لا تخرجوهن
من بيوتهن) وقال عمر للذي قال له إن غلامي سرق مرآة امرأتي: لا قطع عليه عبدكم سرق مالكم
ويفارق عقد الإجارة من هذه الوجوه كلها
(مسألة) (ولا تقبل شهادة السيد لعبده ولا العبد لسيده)
أما شهادة السيد لعبده فغير مقبولة لأن مال العبد لسيده فشهادته له شهادة لنفسه ولهذا قال النبي
صلى الله عليه وسلم (من باع عبدا وله مال فماله للبائع الا أن يشترطه المبتاع) ولا نعلم في هذا خلافا ولا تقبل شهادته
له أيضا بنكاح ولا لامته بطلاق لأن في طلاق أمته تخليصا له وإباحة بضعها في نكاح العبد نفع له ونفع
مال الانسان نفع له ولا تقبل شهادة العبد لسيده لأنه يتبسط في ماله وينتفع به ويتصرف فيه وتجب
نفقته منه ولا يقطع بسرقته فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه
(مسألة) (وتقبل شهادة الأخ لأخيه وسائر الأقارب والصديق لصديقه والمولى لعتيقه)
74

قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة وروي ذلك عن ابن الزبير وبه
قال شريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو عبيد وإسحاق
وأبو ثور وأصحاب الرأي وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم وعن
مالك أنه لا تقبل شهادته لأخيه إذا كان منقطعا إليه في صلته وبره لأنه متهم في حقه وقال ابن المنذر
قال مالك لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النسب وتجوز في الحقوق
ولنا عموم الآيات ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته له كالأجنبي ولا يصح القياس على الوالد
والولد لأن بينهما بعضية وقرابة بخلاف الأخ
(فصل) وشهادة العم وابنه والخال وابنه وسائر الأقارب أولى بالجواز فإن شهادة الأخ إذا
أجيزت مع قربه كان تنبيها على قبول شهادة من هو أبعد منه بطريق الأولى وتقبل شهادة أحد الصديقين
للاخر في قول عامة العلماء إلا مالكا قال لا تقبل شهادة الصديق الملاطف لأنه يجر إلى نفسه نفعا
بها فهو متهم فلم تقبل شهادته كشهادة العدو على عدوه
ولنا عموم أدلة الشهادة وما قاله يبطل بشهادة الغريم للمدين قبل الحجر وإن كان ربما قضاه دينه
منه فجر إلى نفسه نفعا أعظم مما يرجى ههنا من الصديقين وأما العداوة فسببها محصور وفي الشهادة عليه
شفاء غيظه منه فخالف الصداقة وتجوز شهادة المولى المعتق لعتيقه لأنه لا تهمة فيه أشبه الأجنبي ولأنه
بمنزلة الأخ وشهادة الأخ لأخيه مقبولة كما ذكرنا
75

(فصل) الثاني ان يجر إلى نفسه نفعا بشهادته كشهادة السيد لمكاتبه والوارث لموروثه والعبد
المأذون له في التجارة وكذلك لا تقبل شهادة الوارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال لأنه قد يسري
الجرح إلى نفسه فتجب الدية لهم ولا تقبل شهادة الشفيع ببيع الشقص الذي له فيه الشفعة لأنه يجر
إلى نفسه نفعا ولا تقبل شهادة الغرماء بدين المفلس أو بعين ولا شهادتهم للميت بدين أو مال فإنه لو
ثبت للمفلس أو للميت دين أو مال تعلقت حقوقهم به ويفارق ما لو شهد الغرماء لحي لا حجر عليه بمال
فإن شهادتهم تقبل لأن حقهم لا يتعلق بماله وإنما يتعلق بذمته فإن قيل إذا كان معسرا سقطت عنه
المطالبة فإذا شهدا له بمال ملك مطالبته فجروا إلى أنفسهم نفعا قلنا لم تثبت المطالبة بشهادتهم إنما ثبتت
بيساره واقراره لدعوى الحق الذي شهدوا به قال القاضي ولا تقبل شهادة الأجير لمن استأجره نص
عليه أحمد فإن قيل فلم قبلتم شهادة الوارث لموروثه مع أنه إذا مات ورثه فقد جر إلى نفسه نفعا بشهادته
قلنا لاحق له في ماله حين الشهادة وإنما يحتمل ان يتجدد له حق وهذا لا يمنع قبول الشهادة كما لو
شهد لامرأة يحتمل ان يتزوجها أو لغريم بمال له يحتمل ان يوفيه أو يفلس فيتعلق حقه به وإنما المانع
ما يحصل به نفع حال الشهادة فإن قيل فقد منعتم قبول شهادته لموروثه بالجرح قبل الاندمال لجواز ان يتجدد
له حق وان لم يكن له حق في الحال فإن قلتم قد انعقد سبب حقه قلنا يبطل بالشاهد لموروثه المريض فإن
شهادته تقبل مع انعقاد سبب استحقاقه بدليل ان عطيته له لا تنفذ وعطيته لغيره نقف على الخروج من الثلث
76

قلنا إنما منعنا الشهادة لموروثه بالجرح لأنه ربما افضى إلى الموت به فتجب الدية للوارث الشاهد به
ابتداء فيكون شاهدا لنفسه موجبا له بها حقا ابتداء بخلاف الشاهد للمريض والمجروح بمال فإنه إنما
يجب للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل ويجوز أن لا ينتقل فلم يمنع الشهادة له كالشهادة لغريمه فإن قيل فقد
أجزتم شهادة الغريم لغريمه بالجرح قبل الاندمال كما أجزتم شهادته له بماله قلنا إنما أجزناها لأن الدية لا تجب
للشاهد ابتداء إنما تجب للقتيل أو لورثته ثم يستوفي الغريم منها فأشبهت الشهادة بالمال.
(مسألة) (ولا تقبل شهادة الموصى له للميت والوكيل لموكله بما هو وكيل فيه والشريك
لشريكه والغرماء للمفلس بالمال واحد الشفيعين بعفو الاخر عن شفعته وكذلك المضارب بمال المضاربة)
لأنه متهم ولان الشفعة إذا بطلت للمشهود عليه توفرت على الشاهد فيكون شاهدا لنفسه وممن
رد شهادة الشريك لشريكه شريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا
فاما ان شهد الشريك لشريكه في غير ما هو شريك فيه أو الوكيل لموكله في غير ما هو وكيل فيه
أو العدو لعدوه أو الوارث لموروثه بمال أو بالجرح بعد الاندمال أو شهد أحد الشفيعين بعد أن أسقط
شفعته على الاخر باسقاط شفعته أو أحد الوصيين بعد سقوط وصيته على الاخر بما يسقط وصيته أو
كان أحد الوصيتين لا يزاحم بها الأخرى ونحو ذلك مما لا تهمة فيه قبلت لأن المقتضي لقبول الشهادة
متحقق والمانع منتف فوجب قبولها عملا بالمقتضي
(فصل) ولا تقبل شهادة الوصي للموصى عليهم ان كانوا في حجره وهذا قول أكثر أهل العلم
منهم الشعبي والثوري ومالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأجاز شريح وأبو ثور شهادته لهم
إذا كان الخصم غيره لأنه أجنبي متهم فقبلت شهادته لهم كما بعد زوال الوصية
77

ولنا أنه شهد بشئ هو خصم فيه فإنه الذي يطالب بحقوقهم ويخاصم فيها ويتصرف فيها فلم
تقبل شهادته به كما لو شهد بمال نفسه ولأنه يأكل من أموالهم عند الحاجة فيكون متهما بالشهادة به
وقولهم في حجره احتراز، أما لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم فإنها تقبل والحكم في أمين الحاكم يشهد
للأيتام الذين هم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء قياسا عليه فاما شهادته عليهم فمقبولة لا نعلم فيه
خلافا فإنه لا يتهم عليهم ولا يجر بشهادته عليهم نفعا ولا يدفع بها عنهم ضررا فهو كالأجنبي
(فصل) الثالث أن يدفع عن نفسه ضررا كشهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ والغرماء بجرح
شهود الدين على المفلس والسيد بجرح من شهد على مكاتبه أو عبده بدين والوصي بجرح الشاهد على الأيتام
والشريك بجرح الشاهد على شريكه وسائر من لا تقبل شهادته لانسان إذا شهد بجرح الشاهد عليه.
إنما لم تقبل شهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ لما فيه من دفع الدية عن أنفسهم
فإن كان الشاهد ان بالجرح فقيرين احتمل قبول شهادتهما لأنهما لا يحملان شيئا من الدية واحتمل ان
لا تقبل لجواز أن يوسرا قبل الحول فيحملان وكذلك الخلاف في البعيد الذي لا يحمل لبعده لجواز
أن يموت من هو أقرب منه قبل الحول فيحمل ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق
أو الابراء منه ولا شهادة أحد الشفيعين على الآخر باسقاط شفعته ولا شهادة بعض غرماء المفلس
على بعض باسقاط دينه أو استيفائه أو بعض من أوصي له بمال على آخر بما يبطل وصيته إذا كانت
78

وصيته تحصل بها مزاحمته إما لضيق الثلث عنهما أو لكون الوصيتين بمعين فهذا وأشباهه لا تقبل
الشهادة فيه لأن الشاهد به متهم لما يحصل بشهادته من دفع الضرر عن نفسه ونفعها فيكون شاهدا
لنفسه، وقد قال الزهري مضت السنة في الاسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين والظنين
المتهم، وروى طلحة بن عبد الله بن عوف قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن لا شهادة
لخصم ولا ظنين)
(فصل) الرابع العداوة كشهادة المقذوف على قاذفه والمقطوع عليه الطريق على قاطعه
والزوج بالزنا على امرأته.
وجملة ذلك أن شهادة العدو لا تقبل على عدوه في قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة والثوري
وإسحاق ومالك والشافعي والمراد بالعداوة ههنا العداوة الدنيوية مثل شهادة المقذوف على القاذف
والمقطوع عليه الطريق على القاطع والمقتول وليه على القاتل والمجروح على الجارح والزوج يشهد بالزنا
على امرأته فلا تقبل شهادته لأنه يقر على نفسه بعداوته لها بافسادها فراشه، وأما العداوة في الدين
كالمسلم يشهد على الكافر أو المحق من أهل السنة يشهد على المبتدع فلا ترد شهادته لأن العداوة في
الدين والدين يمنعه من ارتكاب محظور في دينه، وقال أبو حنيفة لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا
تخل بالعدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة لا تمنع الشهادة له
79

ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة
خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه) رواه أبو داود والغمر الحقد ولان العداوة
تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة وتخالف الصداقة فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور
نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي
من عدوه فافترقا، فإن قيل فلم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة؟ قلنا العداوة ههنا دينية
والدين لا يقتضي شهادة الزور ولا ان يترك دينه بموجب دينه
(فصل) فإن شهد على رجل بحق فقذفه المشهود عليه لم ترد شهادته بذلك لأنا لو أبطلنا شهادته
بهذا لتمكن كل مشهود عليه بابطال شهادة الشهاد بقذفه ويفارق ما لو طرأ الفسق بعد أداء الشهادة
وقبل الحكم فإن رد الشهادة فيه لا يفضي إلى ذلك بل إلى عكسه لأن طريان الفسق يورث تهمة
في حال أداء الشهادة لأن العادة اسراره فظهوره بعد أداء الشهادة يدل على أنه كان يسره حال
أدائها وههنا حصلت العداوة بأمر لا تهمة على الشاهد فيه، فأما المحاكمة في الأموال فليست عداوة
تمنع الشهادة في غير ما حكم فيه
(فصل) قال رحمه الله (الشرط الخامس ان يشهد الفاسق بشهادة فترد ثم يتوب فيعيدها
فإنها لا تقبل للتهمة) وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور والمزني وداود تقبل قال
80

ابن المنذر والنظر يدل على هذا لأنها شهادة تقبل في غير هذه الشهادة فقبلت فيها قياسا على غيرها
وكما لو شهد وهو كافر فردت شهادته ثم شهد بها بعد اسلامه
ولنا أنه متهم في أدائها لأنه يعير بردها وتلحقه غضاضة لكونها ردت بسبب نقص يتغير به
وصلاح حاله بعد ذلك من فعله يزول به العار فتلحقه التهمة في أنه قصد اظهار العدالة وإعادة الشهادة
لتقبل فيزول ما حصل بردها ولان الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد فعند ذلك
نقول شهادته مردودة بالاجتهاد فلا تقبل بالاجتهاد لأن ذلك يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وفارق
ما لو إذا رد شهادة كافر لكفره أو صبي لصغره أو عبد لرقه ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي وعتق
العبد وأعادوا تلك الشهادة فإنها لا ترد لأنها لم ترد أولا بالاجتهاد وإنما ردت باليقين ولان البلوغ
والحرية ليسا من فعل الشاهد فيتهم انه فعلهما لتقبل شهادته والكافر لا يرى كفره عارا ولا يترك
دينه من أجل شهادة ردت
(مسألة) ولو لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا قبلت)
وذلك لأن التحمل لا تعتبر فيه العدالة ولا البلوغ ولا الاسلام لأنه لا تهمة في ذلك وإنما يعتبر
ذلك للأداء فإذا رأى الفاسق شيئا أو سمعه ثم عدل وشهد به قبلت شهادته بغير خلاف نعلمه وهكذا
81

الصبي والكافر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يروون عنه بعد أن كبروا كالحسن والحسين وابن عباس
وابن الزبير وابن جعفر والنعمان بن بشير، والرواية في معنى الشهادة تشترط لها العدالة وغيرها من
الشروط المعتبرة للشهادة
(مسألة) (ولو شهد وهو كافر أو صبي أو عبد فردت شهادتهم ثم أعادوها بعد زوال الكفر
والصبا والرق قبلت)
ولما ذكرنا في الفصل الذي قبلها وقد روي عن النخعي والزهري وقتادة وأبي الزناد ومالك انها ترد
أيضا في حق من أسلم وبلغ وعن أحمد رواية كذلك لأنها شهادة مردودة فلم تقبل كشهادة من كان فاسقا وقد
ذكرنا ما يقتضي فرقا بينهما فيفترقان، وروي عن أحمد في العبد إذا ردت شهادته لرقه ثم عتق وأعاد تلك
الشهادة روايتان وقد ذكرنا الأولى ان شهادته تقبل لأن العتق من غير فعله وهو أمر يظهر بخلاف الفسق
(مسألة) (وان شهد لمكاتبه أو لموروثه بجرح قبل برئه فردت ثم أعادها بعد عتق المكاتب
وبرء الجرح ففي ردهما وجهان)
(أحدهما) تقبل لأن زوال المانع ليس من فعلهم فأشبه زوال الصبا والبلوغ ولان ردها بسبب
لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها بخلاف الفسق
(والثاني) لا تقبل لأن ردها باجتهاده فلا ينقضها باجتهاده والأول أصح فإن الأصل قبول
82

شهادة العدل لم يمنع منه مانع ولا يصح القياس على الشهادة المردودة بالفسق لما ذكرنا بينهما من
الفرق ويخرج على هذا كل شهادة مردودة إما للتهمة أو لعدم الأهلية إذا أعادوها بعد زوال التهمة
ووجود الأهلية هل تقبل؟ على وجهين
(مسألة) (وان شهد الشريك بعفو شريكه عن الشفعة ثم عفا الشاهد عن شفعته وأعاد تلك
الشهادة لم تقبل ذكره القاضي)
لأنه متهم فأشبه لفاسق والأولى أنها تخرج على الوجهين لأنها إنما ردت لكونها يجر بها إلى نفسه نفعا
وقد زال بعفوه والله أعلم.
(باب أقسام المشهود به)
والمشهود به ينقسم خمسة أقسام: (أحدها) الزنا وما يوجب حده فلا يقبل فيه إلا أربعة رجال أحرار.
أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود وقد نص الله تعالى عليه بقوله (سبحانه
لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال (أربعة وإلا حد في ظهرك) في أخبار سوى هذا وأجمعوا على أنه يشترط كونهم عدولا ظاهرا
83

وباطنا مسلمين سواء كان المشهود عليه مسلما أو ذميا وجمهور العلماء على أنه يشترط أن يكونوا رجالا أحرارا
فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا العبيد وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وشذ أبو ثور فقال تقبل
شهادة العبيد وحكاه أبو الخطاب والشريف رواية في المذهب، وحكي عن حماد وعطاء أنهما
قالا تجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين لأنه نقص واحد من عدد الرجال فقام مقامه امرأتان كالأموال
ولنا ظاهر الآية وان العبد مختلف في شهادته فكان ذلك شبهة في الحد لأنه يندرئ بالشبهات
ولا يصح قياس هذا على الأموال لخفة حكمها وشدة الحاجة إلى إتيانها لكثرة وقوعها والاحتياط في حفظها
ولهذا زيد في عدد شهود الزنا على شهود المال
(مسألة) (وهل يثبت الاقرار بالزنا بشاهدين أو لا يثبت الا بأربعة؟ على روايتين)
وللشافعي قولان (أحدهما) يثبت بشاهدين قياس على سائر الأقارير (والثاني) لا يثبت الا
بأربعة لأنه موجب لحد الزنا فأشبه فعله
(فصل) (الثاني القصاص وسائر الحدود فلا يقبل فيه إلا رجلان حران)
الا ما روي عن عطاء وحماد انهما قالا يقبل فيه رجل وامرأتان قياسا على الشهادة في الأموال
ولنا ان هذا مما يحتاط لدرئه واسقاطه ولهذا يندرئ بالشبهات ولا تدعو الحاجة إلى اثباته
وفي شهادة النساء شبهة بدليل قوله تعالى (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) وان شهادتهن
84

لا تقبل وان كثرت ما لم يكن معهن رجل فوجب ان لا تقبل شهادتهن فيه ولا ويصح قياس هذا على
المال لما ذكرنا من الفرق وبهذا الذي ذكرناه قال سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وحماد والزهري
وربيعة ومالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي واتفق هؤلاء كلهم على أنه يثبت
بشهادة رجلين ما خلا الزنا إلا الحسن فإنه قال الشهادة على القتل كالشهادة على الزنا لا يقبل
فيها إلا أربعة، وروي ذلك عن أبي عبد الله لأنها شهادة يثبت بها القتل فلم تثبت الا بأربعة
كالشهادة على زنا المحصن.
ولنا أنه أحد نوعي القصاص فيقبل فيه اثنان كقطع الطرف وفارق الزنا فإنه مختص بهذا وليست
العلة كونه قتلا بدليل وجوب الأربعة في زنا البكر ولا قتل فيه ولأنه انفرد بايجابه الحد على لرامي به
والشهود إذا لم تكمل شهادتهم فلم يجز ان يلحق به ما ليس مثله
(فصل) ولا تقبل الشهادة على القتل الا مع زوال الشبهة في لفظ الشاهد نحو ان يقول ضربه
فقتله وقد ذكرنا ذلك فإن كانت الشهادة بالجرح فقالا ضربه فأوضحه أو فاتضح منه أو فوجدناه موضحا
من الضربة قبلت شهادتهما فإن قالا ضربه فاتضح رأسه أو فوجدناه موضحا أو فاسال دمه أو وجدنا
في رأسه موضحة لم يثبت الايضاح لجواز أن يتضح عقيب ضربه بسبب آخر ولا بد من تعبير الموضحة
في إيجاب القصاص لأنه إن كان في رأسه موضحتان فيحتاجان إلى بيان ما شهدا به منهما وإن كانت
85

واحدة فيحتمل أن يكون قد أوسعها غير المشهود عليه فيجب ان يعينها الشاهدان فيقولان هذه فإن
قالا أوضحه في موضع كذا من رأسه موضحة قدر مساحتها كذا وكذا قبلت شهادتهما وإن قالا
لا نعلم قدرها أو مرضعها لم يحكم بالقصاص لأنه يتعذر مع الجهالة وتجب دية الموضحة لأنها لا تختلف
باختلافها وان قالا ضرب رأسه فأسال دمه في بازلة وان قالا فسال دمه لم يثبت شئ لجواز أن يسيل
دمه بسبب آخر وان قالا نشهد أنه ضربه فقطع يده ولم يكن أقطع اليدين قبلت شهادتهما ويثبت
القصاص لعدم الاشتباه وإن كان أقطع اليدين ولم يعينا المقطوعة لم يجب قصاص لأنهما لم يعينا اليد التي
يجب فيها القصاص منهما وتجب دية اليد لأنها تختلف باختلاف الأيدي
(فصل) فإن شهد أحدهما أنه أقر بقتله عمدا والآخر أنه أقر بقتله ولم يقل عمدا ولا خطأ ثبت
القتل لأن البينة قد كملت عليه ولم تثبت صفته فنسأل المشهود عليه عن صفته فإن أنكر أصل القتل لم
يقبل انكاره لقيام البينة به وان أقر بقتل العمد ثبت باقراره وان أقر بالخطأ فأنكر الولي فالقول قول
القاتل وهل يستحلف على ذلك؟ يخرج فيه وجهان فإن صدقه الولي على الخطأ ثبت عليه وان أقر بقتل
العمد وكذبه الولي وقال بل كان خطأ لم يجب القود لأن الولي لا يدعيه وتجب دية الخطأ ولا تحملها
العاقلة في هذه المواضع كلها ولا شيئا منها وتكون في ماله لأنها لم تثبت ببينة وفي بعضها القاتل مقر
بأنها في ماله دون مال عاقلته وان شهد أحدهما أنه قتله عمدا وشهد الآخر أنه قتله خطأ ثبت القتل
86

دون صفته ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا لأن الفعل قد يعتقده أحدهما خطأ والآخر عمدا
ويكون الحكم كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقتله خطأ. أن المشهود عليه يسأل على ما ذكرنا في أول الفصل
فإن شهد أحدهما أنه قتله غدوة والآخر انه قتله عشية أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف وقال الآخر
بعصا لم تتم الشهادة ذكره القاضي لأن كل واحد منهما يخالف صاحبه ويكذبه، وهو مذهب الشافعي
وقال أبو بكر يثبت القتل لاتفاقهما عليه واختلافهما في الصفة فيثبت القتل كما لو شهد أحدهما بقتل
العمد والآخر بقتل الخطأ والأول أصح لأن القتل غدوة غير السيف عشية ولا يتصور أن يقتل غدوة
ثم يقتل عشاء ولا ان يقتل بسيف ثم يقتل بعصا بخلاف الخطأ والعمد فإن الفعل واحد والخلاف في
نيته وقصده وقد يخفى ذلك على أحدهما دون الآخر فإن شهد أحدهما أنه قتله وشهد الآخر أنه أقر
بقتله ثبت القتل نص عليه أحمد واختاره أبو بكر واختار القاضي أنه لا يثبت وهو مذهب الشافعي لأن
أحدهما شهد بغير ما شهد به الآخر فلم تتفق شهادتهما على فعل واحد
ولنا أن الذي أقر به هو القتل الذي شهد به الشاهد فلا تنافي بينهما فيثبت بشهادتهما كما لو
شهد أحدهما بالقتل عمدا وشهد الآخر بالقتل خطأ أو كما لو شهد أحدهما أن له عليه ألفا وشهد الآخر
أنه أقر له بألف.
(فصل) إذا قتل رجل عمدا قتلا يوجب القصاص فشهد أحد الورثة على واحد منهم أنه عفى
87

عن القصاص سقط القود سواء كان الشاهد عدلا أو فاسقا لأن شهادته تضمنت سقوط حقه من
القصاص وقوله مقبول في ذلك فإن أحد الوليين إذا عفا عن حقه سقط القصاص كله ويشبه
هذا ما لو كان عبد بين شريكين فشهد أحدهما ان شريكه أعنق نصيبه وهو موسر عتق نصيب
الشاهد. وإن أنكره الآخر فإن كان الشاهد شهد بالعفو عن القصاص والمال لم يسقط المال لأن
الشاهد اعترف ان نصيبه سقط بغير اختياره فأما نصيب المشهود عليه فإن كان الشاهد ممن لا تقبل
شهادته فالقول قول المشهود عليه مع يمينه إذا حلف ثبتت حصته من الدية وإن كان مقبول القول حلف
الجاني معه وسقط حق المشهود عليه ويحلف الجاني انه عفا عن الدية ولا يحتاج إلى ذكر العفو عن
القصاص لأنه قد سقط بشهادة الشاهد فلا يحتاج إلى ذكره في اليمين لأنه إنما حلف على ما يدعى عليه
ولا يدعى عليه غير الدية
(فصل) إذا جرح رجل فشهد له رجلان من ورثته غير الوالدين والمولودين وكانت الجراح
مندملة قبلت شهادتهما لأنها. يجران إلى أنفسهما نفعا وان كانت غير مندملة لم يحكم بشهادتهما
وقد ذكرناه وان شهد وارث المريض له بمال ففي قبول شهاداتهم وجهان (أظهرهما) قبولها كما لو
شهدا له وهو صحيح
(والثاني) لا تقبل لأنه متى ثبت المال للمريض تعلق حق ورثته به ولهذا لا ينفذ تبرعه فيه فيما
88

زاد على الثلث وان شهد لمجروح بالجرح من لا يرثه لكونه محجوبا كالأخوين يشهد ان لأخيهما وله
ابن سمعت شهادتهما فإن مات ابنه نظرت فإن كان الحاكم حكم بشهادتهما لم ينقض حكمه لأن ما يطرأ
بعد الحكم بالشهادة لا يؤثر فيها كالفسق، وإن كان ذلك قبل الحكم بالشهادة لم يحكم بها لأنهما صارا
مستحقين فلا يحكم بشهادتهما كما لو فسق الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما، وان شهد على رجل بالجرح
الموجب للدية على العاقلة فشهد بعض عاقلة المشهود عليه بجرح الشهود لم تقبل شهادته وإن كان فقيرا
لأنه قد يكون ذا مال وقت العقل فيكون دافعا عن نفسه ويحتمل ان تقبل لأنهما لا يحملان شيئا من
الدية وإن كان الجرح مما لا تحمله العاقلة كجراحة العمد سمعت شهادتهما لأنهما لا يدفعان عن أنفسهما
ضررا، وإن كان الشاهدان شهدا على اقراره بالجرح قبلت لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وان كانت شهادتهما
بجرح عقله دون ثلث الدية خطأ وكانت شهادتهما بالجرح قبل الاندمال لم تقبل لأنها ربما صارت نفسا
فتحملها وإن كان بعده قبلت لأنها لا تحمل ما دون ذلك
(فصل) وإذا شهد رجلان على رجلين انهما قتلا رجلا ثم شهد المشهود عليهما على الأولين
انهما اللذان قتلاه فصدق الولي الأولين وكذب الآخرين وجب القتل عليهما لأن الولي يكذبهما
وهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما ضررا وان صدق الجميع بطلت شهادتهم أيضا لأنه بتصديق
89

الأولين مكذب للآخرين وتصديقه الآخرين تكذيب للأولين وهما متهمان لما ذكرناه فإن قيل فكيف
تتصور هذه المسألة والشهادة إنما تكون بعد الدعوى فكيف يتصور فرض تصديقهم وتكذيبهم؟ قلنا
يتصور ان يشهدا قبل الدعوى إذا لم يعلم الولي من قتله ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (خير
الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل ان يسألها) وهذا معني ذلك
(فصل) الثالث ما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود
والقصاص كالنكاح والطلاق والرجعة والنسب والعتق والولاء والوكالة في غير المال والوصية إليه
وما أشبه ذلك فلا يقبل فيه الا رجلان وعنه في الرجعة والنكاح والعتق انه يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين
وعنه في العتق انه يقبل فيه شاهد ويمين المدعي وقال القاضي النكاح وحقوقه من الطلاق والخلع والرجعة
لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة والوكالة والوصية والكتابة ونحوها تخرج على روايتين)
وجملة ذلك أن ما ليس بعقوبة ولا يقصد به المال كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والايلاء
والظهار والنسب والتوكيل والوصية إليه والولاء والكتابة وأشباه هذا فقال القاضي المعول عليه
في المذهب ان هذا لا يثبت الا بشاهدين ذكرين ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال وقد نص أحمد
في رواية الجماعة على أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق وقد نقل عن أحمد في الوكالة ان
كانت بمطالبة دين يعني يقبل فيها شهادة رجل وامرأتين فأما غير ذلك فلا ووجه ذلك أن الوكالة
90

في اقتضاء الدين يقصد منها المال فيقبل فيها شهادة رجل وامرأتين كالحوالة قال القاضي فيخرج من
هذا ان النكاح وحقوقه من الرجعة وشبهها لا تقبل فيها شهادة النساء رواية واحدة وما عداه
يخرج على روايتين وقال أبو الخطاب في النكاح والعتاق أيضا روايتان
(أحدهما) لا يقبل فيه الا شهادة رجلين وهو قول النخعي والزهري ومالك وأهل المدينة والشافعي
وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وربيعة في الطلاق
(والثانية) تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين روي ذلك عن جابر بن زيد وإياس بن معاوية
والشعبي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك في النكاح عن عطاء واحتجوا بأنه لا يسقط
بالشبهة فيثبت يرجل وامرأتين كالمال
ولنا انه ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال فلم يكن للنساء في شهادته مدخل
كالحدود والقصاص وما ذكروه لا يصح فإن الشبهة لا مدخل لها في النكاح وان تصور بان تكون
المرأة مرتابة بالحمل لم يصح النكاح
(فصل) وقد نقل عن أحمد في الاعسار ما يدل على أنه لا يثبت الا بثلاثة لحديث قبيصة بن مخارق
وفيه (حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجي من قومه لقد أصابت فلانا فاقة) قال أحمد هكذا جاء الحديث
91

فظاهر هذا انه أخذ به وروي عنه لا يقبل انه وصى حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل فظاهر
هذا انه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد إذا لم يحضره الرجال قال القاضي المذهب في هذا
كله لا يثبت الا بشاهدين وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الاعسار
(فصل) ولا يثبت شئ مما ذكرنا بشاهد ويمين المدعي لأنه إذا لم يثبت بشهادة رجل وامرأتين
فلان لا يثبت بشاهد واحد ويمين أولى قال أحمد ومالك في الشاهد واليمين إنما يكون ذلك في الأموال
خاصة لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق ولا عتاقة ولا سرقة ولا قتل وعن أحمد في العتق انه يثبت
بشاهد ويمين العبد ذكره الخرقي فقال إذا ادعى العبد ان سيده أعتقه وأتى بشاهد حلف مع شاهده
وصار حرا ونص عليه أحمد وقال في الشريكين في عبد ادعى كل واحد منهما ان شريكه أعتق حقه
منه وكانا معسرين عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا أو يحلف مع أحدهما
ويصير نصفه حرا فيخرج مثل هذا في الكتاب والولاء والوصية والوديعة والوكالة فيكون في الجميع
روايتان ما خلا العقوبات البدنية والنكاح وحقوقه فإنه لا يثبت بشاهد ويمين قولا واحدا قال القاضي:
المعمول عليه في جميع ما ذكرناه أنه لا يثبت الا بشاهدين وهو قول الشافعي وقد روى الدارقطني باسناده
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (استشرت جبريل في القضاء باليمين مع الشاهد
فأشار علي في الأموال لا تعدو ذلك) وقال عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى
بالشاهد واليمين، قال نعم في الأموال، وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره ورواه الإمام أحمد باسناده وغيره
92

(فصل) الرابع المال وما يقصد به المال كالبيع والرهن والقرض والوصية له وجناية الخطأ يقبل فيه
شهادة رجل وامرأتين وشاهد ويمين المدعي وهل يقبل في جناية العمد الموجبة للمال دون القصاص
كالهاشمة والمنقلة شهادة رجل وامرأتين؟ على روايتين)
وجملة ذلك أن المال كالقرض والرهون والديون كلها وما يقصد به المال كالبيع والوقف والإجارة
والهبة والصلح والمساقاة والمضاربة والشركة والوصية له والجناية الموجبة للمال كالخطأ وعمد الخطأ
والعمد الموجب للمال دون القصاص كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج يثبت بشهادة رجل
وامرأتين، وقال أبو بكر لا تثبت الجناية في البدن بشهادة رجل وامرأتين لأنها جناية فأشبهت ما يوجب
القصاص والأول أصح لأن موجبها المال فأشبهت البيع وفارق ما يوجب القصاص، لأن القصاص
لا تقبل فيه شهادة النساء كذلك ما يوجبه والمال يثبت بشهادة النساء فكذلك ما يوجبه ولا خلاف
في أن المال يثبت بشهادة النساء مع الرجال، وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز بقوله
سبحانه (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) وأجمع
أهل العلم على القول به.
(فصل) وأكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين، روي ذلك عن أبي بكر
وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز وشريح والحسن وإياس
93

وعبد الله بن عتبة وأبو سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك وابن أبي ليلى وأبو الزناد
والشافعي وقال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي والأوزاعي لا يقضى بشاهد ويمين وقال محمد بن الحسن
من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه لأن الله تعالى قال (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن
لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) فمن زاد في ذلك فقد زاد في النص والزيادة في النص نسخ، ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فحصر اليمين في جانب المدعى عليه كما حصر
البينة في جانب المدعي.
ولنا ما روي سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع
الشاهد الواحد، رواه سعيد بن منصور في سننه والأئمة من أهل السنن والمسانيد، قال الترمذي
هذا حديث غريب وفي الباب عن علي وابن عباس وجابر وقال النسائي إسناد ابن عباس في اليمين
مع الشاهد اسناد جيد ولان اليمين تشرع فيمن ظهر صدقه وقوى جانبه ولذلك شرعت في حق
صاحب اليد لقوة جنبته بها وفي حق المنكر لقوة جنبته فإن الأصل براءة ذمته والمدعي ههنا قد
ظهر صدقه فوجب أن تشرع) اليمين في حقه ولا حجة لهم في الآية لأنها دلت على مشروعية الشاهد
والمرأتين ولا نزاع في هذا وقولهم إن الزيادة في النص نسخ غير صحيح لأن النسخ الرفع والإزالة
والزيادة في الشئ تقرير له لا رفع والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه
94

ولان الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه ولم تكن نسخا فكذلك إذا انفصلت عنه
ولان الآية واردة في التحمل دون الأداء ولهذا قال (ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)
والنزاع في الأداء وحديثهم ضعيف وليس هو للحصر بدليل أن اليمين تشرع في حق المودع إذا
ادعى رد الوديعة وتلفها في حق الامناء لظهور جانبهم وفي حق الملاعن وفي القسامة وتشرع في حق
البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة وقول محمد في نقض قضاء من قضى بالشاهد واليمين
يتضمن القول بنقض قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الذين قضوا به وقد قال الله تعالى (فلا وربك
لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)
والقضاء بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله أولى من قضاء محمد بن الحسن المخالف له.
(فصل) قال القاضي يجوز أن يحلف على ما لا تجوز الشهادة عليه مثل ان يجد بخطه دينا له على
إنسان وهو يعرف أنه لا يكتب إلا حقا ولم يذكره أو يجد رزمانج أبيه بخطه دينا له على إنسان
ويعرف من أبيه الأمانة وانه لا يكتب إلا حقا فله أن يحلف عليه ولا يجوز أن يشهد به ولو أخبره
بحق أبيه ثقة فسكن إليه جاز أن يحلف عليه ولم يجز أن يشهد به، وبهذا قال الشافعي والفرق بين
اليمين والشهادة من وجهين.
(أحدهما) أن الشهادة لغيره فيحتمل أن من له الشهادة قد زور على خطه ولا يحتمل هذا فيما
حلف عليه لأن الحق إنما هو للحالف فلا يزور أحد عليه.
95

(الثاني) أن ما يكتبه الانسان من حقوقه يكثر فينسى بعضه بخلاف الشهادة والأولى التورع
عن ذلك أن شاء الله تعالى.
(فصل) وكل موضع قبل فيه الشاهد واليمين فلا فرق بين كون المدعي مسلما أو كافرا عدلا
أو فاسقا رجلا أو امرأة، نص عليه احمد لأن من شرعت في حقه اليمين لا يختلف حكمه باختلاف
هذه الأوصاف كالمنكر إذا لم تكن بينة.
(فصل) قال احمد مضت السنة أن يقضى باليمين مع الشاهد الواحد فإن أبي أن يحلف استحلف المطلوب،
وهذا قول مالك والشافعي وروي عن أحمد: فإن أبى المطلوب أن يحلف ثبت الحق عليه.
(فصل) ولا تقبل شهادة امرأتين ويمين المدعي وبه قال الشافعي، وقال مالك يقبل ذلك في الأموال
لأنهما في الأموال أقيمتا مقام الرجل فيحلف معهما كما يحلف مع الرجل ويحتمل لنا مثل ذلك.
ولنا أن البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل كما لو شهد أربعة نسوة وما ذكروه يبطل
بهذه الصورة فإنهما لو أقيمتا مقام رجل من كل وجه لكفى أربع نسوة مقام رجلين ولقبل في غير
الأموال شهادة رجل وامرأتين، لأن شهادة المرأتين ضعيفة تقوت بالرجل واليمين ضعيفة فيضم
ضعيف إلى ضعيف فلا يقبل.
96

(فصل) ولا يشترط أن يقول في يمينه وان شاهدي صادق في شهادته وقيل يشترط وهل تقبل
شهادة رجل وامرأتين وشاهد ويمين في دعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه ودعوى الأسير
إسلاما سابقا لمنع رقه؟ على روايتين من المحرر
(الخامس) مالا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والرضاع والاستهلال والبكارة
والثيوبة والحيض ونحوه فيقبل فيها شهادة امرأة واحدة وعنه لا يقبل فيها أقل من امرأتين وان شهد به
لرجل كان أولى بثبوته ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة، قال
القاضي والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت
الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص وانقضاء العدة وعن أبي حنيفة لا تقبل شهادتهن منفردات
على الرضاع لأنه يجوز ان يطلع عليه محارم المرأة من الرجال فلم يثبت بالنساء منفردات كالنكاح.
ولنا ما روي عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي اهاب فأتت أمة سوداء فقالت
قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأعرض عني ثم أتيته فقلت يا رسول الله انها كاذبة
فقال (وكيف وقد زعمت ذلك؟) ولأنها شهادة على عورة للنساء فيها مدخل فقبل فيها شهادة النساء
كالولادة ويخالف عقد النكاح فإنه ليس بعورة وحكي عن أبي حنيفة أيضا أن شهادة النساء المنفردات
لا تقبل في الاستهلال لأنها تكون بعد الولادة وخالفه صاحباه وأكثر أهل العلم لأنها تكون حال الولادة
97

فيتعذر حضور الرجال فأشبهت الولادة نفسها وقد روي عن علي انه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال
رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور من حديث جابر الجعفي وأجازه شريح والحسن والحارث العكلي وحماد فإذا
ثبت هذا فكل موضع قلنا تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فإنه يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، وقال طاوس
تجوز شهادة المرأة في الرضاع وإن كانت سوداء، وعن أحمد رواية أخرى لا يقبل فيه إلا امرأتان
وهو قول الحكم وابن أبي ليلى وابن شبرمة واليه ذهب مالك والثوري لأن كل جنس يثبت به الحق
يكفي فيه اثنان كالرجال ولان الرجال أكمل منهن ولا يقبل منهن إلا اثنان وقال عثمان يكفي ثلاث لأن
كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل وقال أبو حنيفة تقبل شهادة المرأة
الواحدة في ولادة الزوجات دون ولادة المطلقة، وقال عطاء الشعبي وقتادة لا يقبل فيها إلا أربع
لأنها شهادة من شرطها الحرية فلم تقبل فيها الواحدة كسائر الشهادات، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(شهادة امرأتين بشهادة رجل)
ولنا حديث عقبة بن الحارث الذي ذكرناه وروى حذيفة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجزي في الرضاع
شهادة امرأة واحدة) ولأنه معنى يثبت بقول النساء المنفردات فلا يشترط فيه العدد كالرواية واخبار
الديانات، وما ذكره الشافعي من اشتراط الحرية غير مسلم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (شهادة امرأتين
بشهادة رجل) في الموضع الذي تشهد فيه مع الرجل فإن شهد الرجل بذلك قبل وحده وهو قول
98

أبي الخطاب لأنه أكمل من المرأة فإذا اكتفى بها وحدها فلان يكتفى به أولى ولان ما قبل فيه قول
المرأة الواحدة قبل فيه قول الرجل كالرواية
(فصل) قال رحمه الله (وإذا شهد بقتل العمد رجل وامرأتان لم يثبت قصاص ولا دية،
وان شهدوا بالسرقة ثبت المال دون القطع)
لأن السرقة توجب القطع والمال فإذا قصرت عن أحدهما أثبتت الآخر. والقتل يوجب
القصاص والمال بدل منه فإذا لم يثبت الأصل لم يجب بدله، وإن قلنا موجبه أحد شيئين لم يتعين أحدهما
إلا بالاختيار فلو أوجبنا الدية وحدها أوجبنا معينا، وقال ابن أبي موسي لا يجب المال فيما إذا شهدوا
بالسرقة ولأنها شهادة لا توجب الحد وهو أحد موجبها فإذا بطلت في أحدهما بطلت في الآخر
(مسألة) (وإذا ادعى رجل الخلع قبل فيه رجل وامرأتان أو شاهد ويمين المدعي)
لأنه يدعي المال الذي خالعت به وان ادعته المرأة لم يقبل فيه إلا رجلان لأنها لا تقصد منه إلا الفسخ
وخلاصها من الزوج ولا يثبت ذلك بهذه البينة فاما ان اختلفا في عوض الخلع خاصة ثبت برجل وامرأتين
وكذلك ان اختلفا في الصداق لأنه مال
(فصل) وان ادعى رجل انه ضرب أخاه بسهم عمدا فقتله ونفذ إلى أخيه الآخر فقتله خطأ
وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو شاهدا وحلف معه ثبت قتل الثاني لأنه خطأ موجبه المال ولم يثبت
99

قتل الأول لأنه عمد موجبه القصاص فهما كالجنايتين المفترقتين وعلى قول أبي بكر لا يثبت منهما شئ
لأن الجناية عنده لا تثبت إلا بشاهدين سواء كان موجبها المال أو غيره، ولو ادعى رجل على آخر
انه سرق منه وغصبه مالا فحلف بالطلاق والعتاق ما سرق منه ولا غصبه، وأقام المدعي شاهدا
أو امرأتين شهدا بالسرقة والغصب، أو شاهدا وحلف معه استحق المسروق والمغصوب لأنه
أتى ببينة يثبت ذلك بمثلها ولم يثبت طلاق ولا عتق لأن هذه البينة جحد في المال دون الطلاق
والعتاق وظاهر مذهب الشافعي
(مسألة) (وإذا شهد رجل وامرأتان لرجل بجارية انها أم ولده ولدها منه قضي له بالجارية أم
الولد وهل تثبت حرية الولد ونسبه من مدعيه؟ على روايتين)
أما الجارية فنحكم له بها لأن أم الولد مملوكة له ولهذا يملك وطأها واجارتها واعارتها وتزويجها
ويثبت لها حكم الاستيلاد باقراره لأن إقراره ينفذ في ملكه ولذلك يثبت بالشاهد والمرأتين
والشاهد واليمين. ولا نحكم له بالولد لأنه يدعي نسبه والنسب لا يثبت بذلك ويدعي حريته أيضا
فعلى هذا نقول الولد في يد المنكر مملوكا له وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر يأخذها
وولدها ويكون ابنه لأن من يثبت له العين ثبتت له نماؤها والولد نماؤها وذكر فيها أبو الخطاب عن أحمد
روايتين كقول الشافعي
100

ولنا انه لم يدع الولد ملكا وإنما يدعي حريته ونسبه، وهذان لا يثبتان بهذه البينة
فيبقيان على ما كانا عليه
(فصل) فإن ادعى انها كانت ملكه فأعتقها لم يثبت ذلك بشاهد وامرأتين لأن البينة شهدت
بملك قديم فلم يثبت والحرية لا تثبت إلا برجل وامرأتين ويحتمل أن تثبت كالتي قبلها
(باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة)
(تقبل الشهادة على الشهادة فيما يقبل فيه كتاب القاضي وترد فيما يرد فيه)
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (أحدها) جوازها (والثاني) في موضعها (والثالث) في
شرطها. أما الأول فإن الشهادة على الشهادة جائزة باجماع العلماء وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب
الرأي. قال أبو عبيد اجتمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على امضاء الشهادة على الشهادة في
الأموال، ولان الحاجة داعية إليها فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الموقوف وما يتأخر اثباته
عند الحاكم ثم يموت شهوده، وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل
101

(الفصل الثاني) انها تقبل في المال وما يقصد به المال كما ذكر أبو عبيد ولا تقبل في حد وهذا قول
الشعبي والنخعي وأبي حنيفة وقال مالك والشافعي في قول وأبو ثور تقبل في الحدود وفي كل حق لأن ذلك
يثبت بشهادة الأصل فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال
ولنا ان الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات والاسقاط بالرجوع عن الاقرار والشهادة
على الشهادة فيها شبهة فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال
ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهود الأصل وهو معتبر بدليل انها لا تقبل مع
القدرة على شهود الأصل فوجب أن لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات ولأنها إنما تقبل للحاجة ولا حاجة
إليها في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على شهادة
الأصل لما ذكرنا فيبطل اثباتها، وظاهر كلام احمد انها لا تقبل في القصاص أيضا ولا حد القذف
لأنه قال إنما يجوز في الحقوق. اما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة وقال مالك والشافعي يقبل
وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله في كل شئ إلا في الحدود ولأنه حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن
الاقرار به ولا يستحب ستره فأشبه الأموال وذكر أصحابنا هذا رواية في الطلاق وليس هذا برواية
فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب انها لا تقبل فيه لأنه عقوبة فيه تدرأ بالشبهات وتبني على
الاسقاط فأشبهت الحدود فاما ما عدا الحدود والقصاص والأموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت إلا
102

بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فدل على قبولها في جميع هذه الحقوق وهذا قول
الخرقي، وقال ابن حامد لا تقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل الا في المال وما يقصد
به المال وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت الا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول أنه حق
لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود
(الفصل الثالث) في شروطها وهي ثلاثة (أحدها) أن تتعذر شهادة شهود الأصل بموت أو مرض
أو غيبة إلى مسافة القصر وعنه لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل
هذا أحد الشروط وهو تعذر شهادة الأصل لموت أو غيبة أو مرض أو حبس أو خوف من سلطان
أو غيره، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وحكي عن أبي يوسف ومحمد جوازها مع القدرة على
شهادة الأصل قياسا على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد
الأصل لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فكانا كالحاضرين وعن أحمد مثل ذلك الا ان القاضي تأوله
على الموت وما في معناه من الغيبة البعيدة ونحوها ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا فيزول هذا الخلاف
ولنا على اشتراط تعذر شاهد الأصل انه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل
يستغني عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع وكان أحوط للشهادة فإن سماعه منهما معلوم وصدق
شاهدي الفرع عليهما مظنون والعمل باليمين مع امكانه أولى من اتباع الظن ولان شهادة الأصل
103

تثبت نفس الحق وهذا إنما تثبت الشهادة عليه ولان في شهادة الفرع ضعفا لأنه يتطرق إليها احتمالان
احتمال غلط شاهدي الفرع فيكون ذلك وهنا فيها ولذلك لم ينتهض لاثبات الحدود والقصاص فينبغي
أن لا يثبت الا عند عدم شهادة الأصل كسائر الابدال ولا يصح قياسها على أخبار الديانات لأنه خفف
فيها وكذلك لا يعتبر فيها العدد ولا الذكورية ولا الحرية ولا اللفظ والحاجة داعية إليها في حق عموم
الناس بخلاف مسئلتنا.
ولنا على قبولها عند تعذرها بغير الموت أنه قد تعذرت شهادة الأصل فتقبل شهادة الفرع كما لو
مات شاهد الأصل ويخالف الحاضرين فإن سماع شهادتهما ممكن فلم يجز غير ذلك. إذا ثبت هذا
فذكر القاضي ان الغيبة المشروطة لسماع شهاد الفرع أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكن أن يشهد
ثم يرجع من يومه وهذا قاله أبو يوسف وأبو حامد من أصحاب الشافعي لأن الشاهد تشق عليه
المطالبة بمثل هذا السفر. وقد قال تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) وإذا لم يكلف الحضور
تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع وقال أبو الخطاب تعتبر مسافة القصر. وهو
قول أبي حنيفة وأبي الطيب الطبري مع اختلافهم في مسافة القصر كل على أصله لأن ما دون ذلك
في حكم الحاضر في الترخص وغيره بخلاف مسافة القصر ويعتبر دوام هذا الشرط إلى الحكم
وسنذكره إن شاء الله تعالى
104

(مسألة) (ولا يجوز لشاهد الفرع ان يشهد حتى يسترعيه شاهد الأصل فيقول اشهد على
شهادتي اني أشهد أن فلان بن فلان وقد عرفته بعينه واسمه ونسبه أقر عندي أو أشهدني على نفسه
طوعا بكذا أو شهدت عليه أو أقر عندي بكذا، وان سمعه يقول أشهد على فلان بكذا لم يجز أن يشهد
إلا أن يسمعه يشهد عند الحاكم أو يشهد بحق يعزيه إلى سبب من بيع أو إجارة أو قرض
فهل يشهد؟ به على وجهين)
يشترط لجواز شهادة الفرع أن يسترعيه على ما ذكرنا فإن سمع شاهدا يسترعي آخر شهادة يشهد
عليها جاز لهذا السامع ان يشهد بها لحصول الاسترعاء ويحتمل أن لا يجوز له ان يشهد إلا أن يسترعيه
بعينه وهو قول أبي حنيفة قال أحمد لا تكون شهادة الا أن يكون يشهدك فاما ان سمعه يتحدث
فإنما ذلك حديث وبما ذكرناه قال الشافعي وأصحاب الرأي وأبو عبيد فاما ان سمع شاهدا يشهد عند
الحاكم بحق أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سبب نحو ان يقول أشهد ان لفلان على فلان ألفا من ثمن سبيع
فهل يشهد به؟ فيه روايتان ذكرهما أبو الخطاب، وذكر القاضي أن له الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنه بالشهادة
عند الحاكم ونسبة الحق إلى سببه يزول الاحتمال ويرتفع الاشكال فتجوز له الشهادة على شهادته كما
105

لو استرعاه والرواية الأخرى لا يجوز له ان يشهد على شهادته وهو قول أبي حنيفة وأبي عبيد لأن
الشهادة فيها معنى النيابة فلا ينوب عنه الا باذنه ومن نصر الأول قال هذا ينقل شهادته ولا ينوب
عنه لأنه لا يشهد مثل شهادته إنما شهد على شهادته، فاما ان قال اشهد اني أشهد على فلان بكذا فالأشبه
أنه يجوز ان يشهد على شهادته وهو قول أبي يوسف لأن معنى ذلك اشهد على شهادتي اني أشهد
لأنه إذا قال اشهد فقد امره بالشهادة ولم يسترعه وما عدا هذه المواضع لا يجوز ان يشهد فيها على الشهادة
فإذا سمعه يقول أشهد ان لفلان على فلان ألف درهم لم يجز ان يشهد على شهادته لأنه لم يسترعه
الشهادة فيحتمل أن يكون وعده بها وقد يوصف الوعد بالوجوب مجازا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (العدة
دين) ويحتمل أن يريد بالشهادة العلم فلم يجز لسامعه الشهادة به، فإن قيل فلو سمع رجلا يقول لفلان
على فلان ألف درهم جاز ان يشهد بذلك فكذا هذا قلنا الفرق بينهما من وجهين:
(أحدهما) ان الشهادة تحتمل العلم ولا يحتمل الاقرار ذلك (الثاني) أن الاقرار أوسع في لزومه
من الشهادة بدليل صحته في المجهول وانه لا يراعى فيه العدد بخلاف الشهادة ولان الاقرار قول
الانسان على نفسه وهو غير متهم عليها فيكون أقوى منها ولهذا لا تسمع الشهادة في حق المقر ولا يحكم
بها ولو قال شاهد الأصل انا اشهد أن لفلان على فلان ألفا فاشهد به أنت عليه لم يجز ان يشهد على
106

شهادته لأنه ما استرعاه شهادته فيشهد عليها ولا هو شاهد بالحق لأنه ما سمع الاعتراف به ممن هو
عليه ولا شاهد سببه.
(فصل) فأما كيفية الأداء إذا كان قد استرعاه الشهادة فإنه يقول أشهد أن فلان بن فلان وقد
عرفته بعينه واسمه ونسبه وعدالته أشهدني أنه يشهد ان لفلان بن فلان كذا أو ان فلانا أقر عندي
بكذا وان لم يعرف عدالته لم يذكرها وان سمعه يشهد غيره قال اشهد ان فلان بن فلان اشهد
على شهادته ان لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا، وإن كان سمعه يشهد عند الحاكم قال اشهد
ان فلان بن فلان شهد على فلان بن فلان عند الحاكم بكذا، وإن كان نسب الحق إلى سببه قال اشهد
ان فلان بن فلان قال اشهد ان لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا من جهة كذا وكذا
وإذا أراد الحاكم ان يكتب ذلك كتبه على ما ذكرناه
(فصل) ويشترط ان يعينا شاهدي الأصل على ما ذكرنا ويسمياهما. وقال ابن جرير إذا قالا
ذكرين حرين عدلين جاز وإن لم يسميا لأن الغرض معرفة الصفات دون العين وليس بصحيح لجواز ان
يكونا عدلين عندهما وهما مجروحان عند غيرهما ولان المشهود عليه ربما أمكنه جرح الشهود فإذا لم يعرف
أعيانهما تعذر عليه ذلك.
107

(مسألة) (وتثبت شهادة شاهدي الأصل بشهادة شاهدين يشهدان عليهما سواء شهدوا
على كل واحد منهما أو شهد على كل واحد منهما شاهد من شهود الفرع وقال أبو عبد الله بن بطة لا
يثبت حتى يشهد أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع).
وجملة ذلك أنه يجوز أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل شاهد فرع فيشهد شاهدا فرع على
شاهدي أصل، قال القاضي لا يختلف كلام احمد في هذا. وهو قول شريح والشعبي والحسن وابن
شبرمة وابن أبي ليلى والثوري وإسحاق والبتي والعنبري وقال إسحاق لم يزل أهل العلم على هذا
حتى جاء هؤلاء. قال احمد وشاهد على شاهد يجوز لم يزل الناس على ذا شريح فمن دونه
إلا أن أبا حنيفة أنكره، وذهب أبو عبد الله بن بطة إلى أنه لا يقبل على كل شاهد أصل الا شاهدا
فرع وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن شاهدي الفرع يثبتان شهادة شاهدي الأصل فلا تثبت
شهادة كل واحد منهما بأقل من شاهدين كما لا يثبت إقرار مقرين بشهادة اثنين يشهد على كل واحد منها واحد
ولنا ان هذا يثبت بشاهدين وقد شهد اثنان بما يثبته فيثبت كما لو شهدا بنفس الحق ولان
شاهدي الفرع بدل من شاهدي الأصل فيكفي في عددها ما يكفي في شهادة الأصل ولان هذا اجماع
108

على ما ذكره احمد وإسحاق ولان شاهدي الفرع لا ينقلان عن شاهدي الأصل حقا عليهما فوجب
أن يقبل فيه قول واحد كاخبار الديانات فإنهما لا ينقلان الشهادة وليست حقا عليهما ولهذا لو
أنكراهما لم يعد الحاكم عليهما ولم يبطلها منهما وهذا الجواب عما ذكروه. إذا ثبت هذا فمن اعتبر لكل
شاهد أصل شاهدي فرع أجاز ان يشهد شاهدان على كل واحد من شاهدي الأصل وبه قال مالك
وأصحاب الرأي قال الشافعي رأيت كثيرا من الحكام والمفتين يجيزه وخرجه على قولين (أحدهما)
جوازه (والآخر) لا يجوز حتى يكون شهود الفرع أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع، واختاره
المزني لأن من يثبت به أحد طرفي الشهادة لا يثبت به الطرف لآخر كما لو شهد أصلا ثم يشهد مع
آخر على شهادة شاهد الأصل الآخر
ولنا انهما شهدا على قولين فوجب أن يقبل كما لو شهدا باقرار اثنين أو باقرارين بحقين وإنما لم
يجز أن يشهد شاهد الأصل فرعا لأنه يؤدي إلى أن يكون بدلا أصلا بشهادة بحق وذلك لا يجوز
ولأنهم يثبتون بشهادتهم شهادة الأصل وليست شهادة أحدهما ظرفا لشهادة الآخر فعلى قول الشافعي
إن يثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين وجب أن يكون شهود الفرع ستة وإن كان ثبت بأربع نسوة
وجب أن يكون شهود الفرع ثمانية وإن كان المشهود به زنا خرج فيه خمسة أقوال (أحدها) لا مدخل لشهادة
109

الفرع في اثباته (والثاني) يجوز ويجب أن يكون شهود الفرع ستة عشر فيشهد على كل واحد من شهود
الأصل أربعه (الثالث) يكفي ثمانية (والرابع) يكون أربعة يشهدون على كل واحد (والخامس) يكفي
شاهدان يشهدان على كل واحد من شهود الأصل وهذا اثبات لحد الزنا بشاهدين وهو بعيد
(فصل) فإن شهد بالحق شاهد أصل وشاهدا فرع يشهدان على شهادة أصل آخر جاز وإن شهد
شاهد أصل وشاهد فرع خرج فيه ما ذكرنا من الخلاف من قبل
(فصل) وان شهد شاهد أصل ثم شهد هو وآخر فرعا على شاهد أصل آخر لم تفد شهادته الفرعية شيئا
وكان حكم ذلك حكم ما لو شهد على شهادته شاهد واحد
(مسألة) (ولا مدخل للنساء في شهادة الفرع)
عن أحمد أن الذكورية شرط فلا يقبل في شهود الفرع نساء بحال سواء كان الحق مما يقبل فيه شهادة
النساء أولا. وهذا قول الشافعي ومالك والثوري لأنهم يثبتون بشهادتهم شهود الأصل دون الحق وليس
ذلك بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجل فأشبه القصاص والحد (والثانية) لهن مدخل فيما
كان المشهود به يثبت بشهادتهن في الأصل قال حرب قيل لأحمد فشهادة امرأتين على شهادة امرأتين
تجوز؟ قال نعم يعني إذا كان معهما رجل، وذكر الأوزاعي قال: سمعت نمير بن أوس يجيز شهادة
المرأة على شهادة المرأة. ووجهه ان المقصود بشهادتهن اثبات الحق الذي شهد به شهود الأصل فيدخل
110

النساء فيه فيجوز أن يشهد رجلان على رجل وامرأتين، وذكر أبو الخطاب رواية أخرى ان النساء
ليس لهن مدخل في الشهادة على الشهادة لأن فيها ضعفا لما ذكرنا من قبل فلا مدخل لهن فيها لأنها
تزداد بشهادتهن ضعفا فاعتبرت تقويتها باعتبار الذكورية فيها فعلى هذه الرواية لا يكن أصولا ولا فروعا
ولنا ان شهود الفرع ان كانوا يثبتون شهادة الأصول فهي تثبت بشهادتهم وان كانوا يثبتون نفس
الحق فهو يثبت بشهادتهم ولأن النساء يشهدن بالمال أو ما يقصد به المال فيثبت بشهادتهن كما لو أدينها عند
الحاكم وما ذكر للرواية الأخرى لا أصل له
(مسألة) (قال القاضي لا تجوز شهادة رجلين على شهادة رجل وامرأتين) نص عليه احمد
وقال أبو الخطاب هذه الرواية سهو من ناقلها
(مسألة) (ولا يحوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدي الفرع حتى تثبت عنده عدالتهما
وعدالة شاهدي الأصل)
وذلك لأن الحكم ينبني على الشهادتين جميعا فاعتبرت الشروط في كل واحد منهما ولا نعلم في
هذا خلافا فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع فشهدا بعدالتهما وعلى شهادتهما جاز بغير خلاف نعلمه وان
لم يشهدا بعدالتهما جاز، ويتولى الحاكم ذلك فإذا علم عدالتهما حكم وان لم يعرفهما وهذا مذهب الشافعي
111

وقال الثوري وأبو يوسف ان لم يعدل شاهد الفرع شاهدي الأصل لم يسمع الحاكم شهادتهما لأن ترك تعديله
يرتاب به الحاكم ولا يصح ذلك لأنه يجوز أن لا يعرفا ذلك فيرجع فيه إلي بحث الحاكم ويجوز أن يعرفا عدالتهما
ويتركانها اكتفاء بما يثبت عند الحاكم من عدالتهما
(مسألة) (وان شهدوا عنده فلم يحكم حتى حضر شهود الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهم)
لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء فلا تصح صلاته حتى يتوضأ
(مسألة) (وان حدث منهم ما يمنع قبول شهادتهم لم يجز الحكم)
لابد من اشتراط اسم العدالة في الجميع إلى استمرار الحكم لما ذكرنا في شاهد الأصل قبل هذا فعلى
هذا ان رجعوا قبل الحكم لم يحكم بها لأن الحكم ينبني عليها فأشبه ما لو فسق شهود الفرع أو رجعوا
(مسألة) (فإن حكم بشهادتهما ثم رجع شهود الفرع لزمهم الضمان) لأن الاتلاف كان بشهادتهم
فلزمهم الضمان كما لو اتلفوا بأيديهم
(مسألة) (فإن رجع شهود الأصل لم يضمنوا)
لأن الاتلاف كان بشهادة غيرهم فلا يلزمهم ضمان كالمتسبب مع المباشر ولأنهم لم يلجئوا الحاكم إلي
الحكم ويحتمل أن يضمنوا لأن الحكم يضاف إليهم بدليل انه تعتبر عدالتهم فلزمهم الضمان كما لو حكم
بشهادتهم ثم رجعوا ولأنهم سبب في الحكم فيضمنون كالمزكين
112

(فصل) فإن مات شهود الأصل أو الفرع لم يمنع الحكم وكذلك لو مات شهود الأصل قبل أداء
الفروع الشهادة لم يمنع من أدائها والحكم بها لأن موتهم من شرط سماع شهادة الفروع والحكم فلا يجوز
جعله مانعا وكذلك ان جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ومتى رجع شهود المال بعد الحكم لزمهم الضمان ولم ينقض
الحكم سواء كان المال قائما أو تالفا)
وسواء كان قبل القبض أو بعده أما الرجوع به على المحكوم له فلا نعلم بين أهل العلم خلافا انه لا يرجع به
عليه ولا ينقض الحكم في قول أهل الفتيا من علماء الأمصار وحكي عن سعيد ابن المسيب والأوزاعي انهما قالا
ينقض الحكم وان استوفى الحق ثبت بشهادتهما فإذا رجعا زال ما يثبت به الحكم كما لو تبين انهما كانا كافرين
ولنا ان حق المشهود له وجب له فلا يسقط بقولهما كما لو ادعياه لأنفسهما يحقق هذا ان حق
الانسان لا يزول إلا ببينة أو اقرار ورجوعهما ليس بشهادة ولهذا لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ولا هو
إقرار من صاحب الحق وفارق ما إذا تبين انهما كانا كافرين لأننا تبينا انه لم يوجد شرط الحكم وهو
شهادة العدول وفي مسئلتنا لم يتبين ذلك بجواز أن يكونا عدلى صادقين في شهادتهما وإنما كذبا في
رجوعهما ويفارق العقوبات حيث لا تستوفى لأنها تدرأ بالشبهات. وأما الرجوع على الشاهدين
113

به فهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأصحاب الرأي وقول الشافعي القديم وقال في الجديد لا يرجع
عليهما بشئ إلا أن يشهدا بعتق عبد فيضمنا قيمته لأنه لم يوجد منهما اتلاف للمال ولا يد عادية عليه
فلم يضمنا كما لو ردت شهادتهما
ولنا انهما إنما أخرج ماله من يده بغير حق وحالا بينه وبينه فلزمهما الضمان كما لو شهدا
بعتقه ولأنهما أزالا يد السيد عن عبده بشهادتهما المرجوع عنها فأشبه ما لو شهدا بحريته ولأنهما
تسببا إلى اتلاف حقه بشهادتهما بالزور عليه فلزمهما الضمان كشاهدي القصاص يحقق هذا انه إذا
لزمهما القصاص الذي يدرأ بالشبهات فوجوب المال أولى وقوله انهما ما أتلفا المال يبطل بما إذا شهدا
بعتقه فإن الرق في الحقيقة لا يزول بشهادة الزور وإنما حالا بين سيده وبينه وفي موضع اتلاف
المال فهما تسببا إلى تلفه فلزمهما ضمان ما تلف بسببهما كشاهدي القصاص وشهود الزنا وحافر
البئر وناصب السكين.
(مسألة) (وان رجع شهود العتق غرموا القيمة)
كالحكم في الشهادة بالمال على ما ذكرنا من الخلاف لأنهما من جملة المال.
وإن شهدا بالحرية ثم رجعا عن الشهادة لزمهما غرامة قيمتهما لسيدهما بغير خلاف بينهم فيه، فإن
المخالف في التي قبلها هو الشافعي وقد وافق ههنا وهو حجة عليه فيما خالف فيه ويغرما القيمة
لأن العبيد من المتقومات.
114

(مسألة) (وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى وإن كان بعده لم يغرموا شيئا)
إذا شهدا بطلاق امرأة تبين به فحكم الحاكم بالفرقة ثم رجعا عن الشهادة وكان قبل الدخول
فالواجب عليهما نصف المسمى.
وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه يجب مهر المثل لأنهما تلفا عليه البضع فلزمها عوضه
وهو مهر المثل وفي القول الآخر يلزمهما نصف مهر المثل لأنه إنما يملك نصف البضع بدليل انه إنما
يجب عليه نصف المهر.
ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم بدليل ما لو أخرجه من ملكه بردتها واسلامها
أو قتلها نفسها فإنها لا تضمن شيئا ولو فسخت نكاحها قبل الدخول برضاع من ينفسخ به نكاحها
لم يغرم شيئا وإنما يجب نصف المسمى لأنهما ألزماه للزوج بشهادتهما وقرراه عليه كما يرجع به على
فسخ نكاحه برضاع أو غيره وقوله انه ملك نصف البضع غير صحيح فإن البضع لا يجوز تمليك نصفه
ولان العقد ورد على جميعه والصداق واجب جميعه ولهذا تملكه المرأة إذا قبضته ونماؤه لها وتملك
طلبه إذا لم تقبضه وإنما يسقط نصفه بالطلاق واما أن يكون الحكم بالفرقة بعد الدخول فليس عليهما
ضمان وبه قال أبو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى عليهما ضمان المسمى في الصداق لأنهما فوتا عليه
115

نكاحا وجب عليه به عوض فكان عليهما ضمان ما وجب به كما قبل الدخول، وقال الشافعي يلزمهما
له مهر المثل لأنهما أتلفا البضع وقد سبق الكلام سعه في هذا ولا يصح القياس على ما قبل الدخول
لأنهما قررا عليه نصف المسمى وكان بعرض السقوط وههنا قد تقرر المهر كله بالدخول فلم يقررا عليه
شيئا ولم يخرجا من ملكه متقوما فأشبه ما لو أخرجاه من ملكه بقتلها أو أخرجته هي بردتها.
(مسألة) (وإن رجع شهود القصاص أو الحد قبل الاستيفاء لم يستوف وإن كان بعده وقالوا
أخطأنا فعليهم دية ما تلف ويقسط الغرم على عددهم فإن رجع أحدهم غرم بقسطه).
وجملة ذلك أن الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد أدائها لم تخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يرجعوا قبل
الحكم بها فلا يجوز الحكم بها في قول عامة أهل العلم وحكى عن أبي ثور أنه شذ عن أهل العلم فقال يحكم بها، لأن الشهادة
قد أديت فلا تبطل برجوع من شهد بها كما لو رجعا بعد الحكم وهذا فاسد، لأن الشهادة شرط
الحكم فإذا زالت قبله لم يجز كما لو فسقا ولان رجوعهما يظهر به كذبهما فلم يجز به الحكم كما لو شهد
بقتل رجل ثم علمت حياته ولأنه زال ظنه في أن ما شهد به حق فلم يجز به الحكم كما لو تغير اجتهاده
وفارق ما بعد الحكم فإنه تم بشرطه ولان الشك لا يزيل ما حكم به كما لو تغير اجتهاده (الحال الثاني)
أن يرجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان المحكوم به عقوبة كالحد والقصاص ولم يجز استيفاؤه، لأن
116

الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعهما من أعظم الشبهات ولان المحكوم به عقوبة لم يبق ظن استحقاقها
ولا سبيل إلى خبرها فلم يجز استيفاؤها كما لو رجعا قبل الحكم وإن كان المحكوم به مالا استوفي
ولم ينقض الحكم وقد ذكرناه وفارق المال القصاص والحد فإنه يمكن جبره بالزام الشاهد عوضه والحد
والقصاص لا يجير بايجاب مثله على الشاهدين لأن ذلك ليس بجبر ولا يحصل لمن وجب له منه عوض
وإنما شرع لزجر والتشفي والانتقام لا للجبر، فإن قيل فلم قلتم إنه إذا حكم بالقصاص ثم فسق الشاهد
استوفي في أحد الوجهين قلنا الرجوع أعظم في الشبهة من طريان الفسق لأنهما يقران أن شهادتهما
زور وانهما كانا فاسقين حين شهدا وحين حكم الحاكم بشهادتهما وهذا الذي طرأ فسقه لا يتحقق
كون شهادته كذبا ولا انه كان فاسقا حين أدى الشهادة ولا حين الحكم بها ولهذا لو فسق بعد
الاستيفاء لم يلزمه شئ والراجعان تلزمهما غرامة ما شهدا به فافترقا، (الحال الثالث) أن يرجعا
بعد الاستيفاء فإنه لا يبطل الحكم ولا يلزم المشهود له شئ سواء كان المشهود به مالا أو عقوبة لأن
الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به ووصول الحق إلى مستحقه ويرجع به على الشاهدين فإن كان المشهود
اتلافا في مثله القصاص كالقتل والجرح وقالا عمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل أو يقطع فعليهما القصاص
وبه قال ابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وقال أصحاب الرأي لاقود عليهما لأنهما لم
يباشرا الاتلاف فأشبها حافر البئر إذا تلف به شئ.
117

ولنا أن عليا رضي الله عنه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه ثم عادا فقالا أخطأنا
ليس هذا السارق فقال علي لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا مخالف له في الصحابة ولأنهما تسببا
إلى قتله وقطعه بما يفضي إليه غالبا فلزمهما القصاص كالمكره وفارق الحفر فإنه لا يفضي إلى القتل
غالبا وقد ذكرنا هذه المسألة في الجنايات فإن قالا عمدنا الشهادة عليه ولم نعلم أنه يقتل بهذا وكانا ممن
يجوز أن يجهلا ذلك وجبت الدية في أموالهما مغلظة لأنه شبه عمد ولم تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافهما
وان قال أحدهما عمدت قتله وقال الآخر أخطأت فعلى العامد نصف الدية مغلظة وعلى الآخر نصفها
مخففة ولا قصاص في الصحيح من المذهب وان قال كل واحد منهما إنما اعترف بعمد شارك فيه
مخطئا وهو لا يوجب القصاص والانسان إنما يؤاخذ باقراره لا باقرار غيره فعلى هذا تجب عليهما
دية مغلظة وإن قال أحدهما عمدنا جميعا وقال الآخر عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القصاص وفي الثاني
وجهان كالتي قبلها، وإن قالا أخطأنا فعليهما الدية مخففة في أموالهما لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وان
قال أحدهما عمدنا معا وقال الآخر أخطأنا معا فعلى الأول القصاص وعلى الثاني نصف الدية مخففة لأن
كل واحد منهما يؤاخذ باقراره، وان قال كل واحد منهما عمدت ولا أدري ما فعل صاحبي فعليهما القصاص
لاقرار كل واحد منهما بالعمد ويحتمل أن لا يجب عليهما القصاص، لأن اقرار كل واحد منهما لو انفرد
118

لم يجب عليه قصاص وإنما يؤاخذ الانسان باقراره لا باقرار صاحبه وان قال أحدهما عمدت ولا أدري
ما قصد صاحبي سئل صاحبه فإن قال مثل قوله فهي كالتي قبلها، وإن قال عمدنا معا فعليه القصاص
وفي الأول وجهان وإن قال أخطأت أو أخطأنا فلا قصاص على كل واحد منهما وان جهل حال الآخر
بجنون أو موت أو لم يقدر عليه فلا قصاص على المقر وعليه نصيبه من الدية المغلظة.
(فصل) وان رجع أحد الشاهدين وحده فالحكم فيه كالحكم في رجوعهما في أن الحاكم
لا يحكم بشهادتهما إذا كان رجوعه قبل الحكم ولا تستوفى العقوبة إذا رجع قبل استيفائها لأن الشرط
يختل برجوعه كاختلاله برجوعهما وإن كان رجوعه بعد الاستيفاء لزم حكم اقراره وحده فإن أقر بما
يوجب القصاص وجب عليه وان أقر بما يوجب دية مغلظة وجب عليه قسطه منها وان أقر بالخطأ
وجب عليه قسطه من الدية المخفقة وإن كان الشهود أكثر من اثنين في الحقوق المالية أو القصاص
ونحوه فيما يثبت بشاهدين أو أكثر من أربعة فرجع الزائد منهم قبل الحكم أو الاستيفاء لم يمنع
ذلك الحكم ولا الاستيفاء لأن ما بقي من البينة كاف في اثبات الحكم واستيفائه وان رجع بعد
الاستيفاء فعليه القصاص ان أقر بما يوجبه أو قسطه من الدية أو من المفوت بشهادتهم إن كان غير
ذلك وفي ذلك اختلاف ذكرنا بعضه
119

(فصل) وكل موضع وجب الضمان على الشهود بالرجوع فإنه يوزع بينهم على عددهم قلوا أو
كثروا قال أحمد في رواية بن منصور إذا شهد بشهادة ثم رجع وقد أتلف مالا فإنه ضامن بقدر
ما كانوا في الشهادة فإن كانوا اثنين فعليه النصف وان كانوا ثلاثة فعليه الثلث وعلى هذا لو كانوا عشرة
فعليه العشر فإن رجع أحدهم وحده غرم بقسطه على ما ذكرنا وفيه اختلاف يذكر إنشاء الله تعالى
فإذا شهد أربعة بالقتل فقتل المشهود عليه ثم رجع واحد فعليه الربع ان قال أخطأنا وان رجع
اثنان فعليهما النصف
(مسألة) (فإذا شهد ستة بالزنا على محصن فرجم بشهادتهم ثم رجع واحد فعليه القصاص
أو سدس الدية وان رجع اثنان فعليهما القصاص أو ثلث الدية)
وبهذا قال أبو عبيد وقال أبو حنيفة ان رجع واحد أو اثنان فلا شئ عليهما لأن بينة
الزنا قائمة فدمه غير محقون وان رجع ثلاثة فعليهم ربع الدية وان رجع أربعة فعليهم نصف
الدية وان رجع خمسة فعليهم ثلاثة أرباعها وان رجع الستة فعلى كل واحد منهم سدسها ومنصوص
الشافعي فيما إذا رجع اثنان كمذهب أبي حنيفة واختلف أصحابه فيما إذا شهد بالقصاص ثلاثة
فرجع أحدهم فقال أبو إسحاق لا قصاص عليه لأن بينة القصاص قائمة وهل يجب عليه ثلث الدية؟
120

على وجهين قال ابن الحداد عليه القصاص وفرق بينه وبين الراجع من شهود الزنا إذا كان زائدا بان
دم المشهود عليه بالزنا غير محقون وهذا دمه محقون وإنما أبيح دمه لولي القصاص وحده واختلفوا
فيما إذا شهد بالمال ثلاثة فرجع أحدهم على وجهين (أحدهما) يضمن الثلث (والثاني) لا شئ عليه
ولنا ان الاتلاف حصل بشهادتهم فالراجع يقر بالمشاركة فيه عمدا عدوانا كمن هو مثله في
ذلك فلزمه القصاص كما لو أقر بمشاركتهم في مباشرة قتله ولأنه أحد من قتل المشهود عليه بشهادته
فأشبه الثاني من شهود القصاص والرابع من شهود الزنا ولأنه أحد من حصل الاتلاف بشهادته
فلزمه من الضمان بقسطه كما لو رجع الجميع، وقولهم ان دمه غير محقون غير صحيح فإن الكلام فيما إذا
قتل ولم يبق له دم يوصف بحقن ولا عدمه وقيام الشهادة لا يمنع وجوب القصاص كما لو شهدت لرجل
باستحقاق القصاص فاستوفاه ثم أقرانه قتله ظلما وان الشهود شهود زور والتفريق بين القصاص
121

والرجم يكون دم القاتل غير محقون لا يصح لأنه غير محقون بالنسبة إلى من قتله ولان كل واحد
مؤاخذ باقراره ولا يعتبر قول شريكه ول هذا لو أقر أحد الشريكين بعمدها وقال الآخر أخطأنا وجب
القصاص على المقر بالعمد
(مسألة) (وان شهد أربعة بالزنا واثنان بالاحصان ثم رجع الجميع لزمتهم الدية أسداسا في أحد
الوجهين وفي الأخرى على شهود الزنا النصف وعلى شهود الاحصان النصف فإن شهد أربعة بالزنا وشهد
اثنان منهم بالاحصان صحت الشهادة فإن رجم ثم رجعوا عن الشهادة فعلى من شهد بالاحصان ثلثا
الدية على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني يلزمهم ثلاثة أرباعها)
وجملة ذلك أنه إذا شهد أربعة بالزنا واثنان بالاحصان فرجم ثم رجعوا عن الشهادة فالضمان
على جميعهم وقال أبو حنيفة لا ضمان على شهود الاحصان لأنهم شهدوا بالشرط دون السبب الموجب
للقتل وإنما يثبت ذلك بشهادة الزنا ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين
ولنا ان قتله حصل بمجموع الشهادة فتجب الغرامة على الجميع كما لو شهدوا جميعا على الزنا وفي
كيفية الضمان وجهان
122

(أحدهما) يوزع عليهم على عدد رؤوسهم كشهود الزنا لأن القتل حصل من جميعهم (والثاني) على
شهود الزنا النصف وعلى شهود الاحصان النصف لأنهما حزبان فلكل حزب نصف فإن شهد أربعة
بالزنا واثنان منهم بالاحصان ثم رجعوا فعلى الأول على شاهدي الاحصان الثلثان وعلى الاخر الثلث
لأن على شاهدي الاحصان الثلث لشهادتهما به والثلث بشهادتهما بالزنا وعلي الآخرين الثلث لشهادتهما
بالزنا وحده وعلى الوجه الثاني على شهود الاحصان ثلاثة أرباع الدية لأن عليهما النصف لشهادتهما
بالاحصان ونصف الباقي لشهادتهما بالزنا ويحتمل ان لا يجب على شاهدي الاحصان الا النصف لأن
كل واحد منهما جنى جنايتين وجنى كل واحد من الآخرين جناية واحدة فكانت الدية بينهم على
عدد رؤوسهم لا على عدد جنايتهم كما لو قتل اثنان واحدا جرحه أحدهما جرحا والآخر اثنين
(فصل) وإذا حكم الحاكم في المال برجل وامرأتين ثم رجعوا عن الشهادة يوزع الضمان عليهم
على الرجل نصفه وعلى كل امرأة ربعه وان رجع أحدهم وحده فعليه من الضمان حصته وإن كان
الشهود رجلا وعشر نسوة فرجعوا على شهادتهم فعلى الرجل السدس وعلى كل امرأة نصف السدس
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأن كل امرأتين كرجل فالعشر كخمسة رجال ويحتمل ان يجب
عليهن النصف وعلى الرجل النصف وبهذا قال أبو يوسف ومحمد لأن الرجل نصف البينة بدليل أنه
123

نصف البينة بدليل أنه لو رجع وحده قبل الحكم كان كرجوعهن كلهن فيكون الرجل حزبا والنساء
حزبا فإن رجع بعض النسوة وحده والرجل فعلى الراجع مثل ما عليه إذا رجع الجميع وعند أبي حنيفة
وأصحابه متى رجع من النسوة معا زاد على اثنين فليس على الراجعات شئ وقد مضي الكلام
معهم في هذا
(فصل) وإذا شهد أربعة بأربعمائة فحكم الحاكم بها ثم رجع واحد عن مائة وآخر عن مائتين والثالث
عن ثلاثمائة والرابع عن أربعمائة فعلى كل واحد منهما ما رجع عنه بقسطه فعلى الأول خمسة وعشرون وعلى
الثاني خمسون وعلى الثالث خمسة وسبعون وعلى الرابع مائة لأن كل واحد منهم يقر بأنه فوت على
المشهود عليه وبع ما رجع عنه ويقتضي مذهب أبي حنيفة ان لا يلزم الراجع عن الثلاثمائة والأربعمائة
أكثر من خمسين خمسين لأن المائتين اللتين رجع عنهما قد بقي بهما شاهدان
(مسألة) (وإذا حكم الحاكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله ويتخرج
ان يغرم النصف)
المنصوص عن أحمد رحمه الله انه يضمن المال كله في رواية جماعة ويتخرج ان يضمن النصف وبه
قال مالك والشافعي لأنه أحد حجتي الدعوى فكان عليه النصف كما لو كانا شاهدين
124

ولنا ان الشاهد حجة الدعوى فكان الضمان عليه كالشاهدين يحققه ان اليمين قول الخصم وقول
الخصم لمس بحجة على خصمه وإنما هو شرط الحكم فجرى مجرى مطالبته للحاكم بالحكم وبهذا ينفصل
عما ذكروه، وان سلمنا انها حجة لكن إنما جعلها حجة شهادة الشاهد ولهذا لم يجز تقديمها على شهادته
بخلاف شهادة الشاهد الآخر قال أبو الخطاب ويتخرج ان لا يلزمه الا النصف إذا قلنا برد
اليمين على المدعي
(فصل) وإذا شهد شاهدان انه أعتق هذا العبد عن ضمان مائة درهم وقيمة العبد مائتان فحكم
الحاكم بشهادتهما ثم رجعا رجع السيد على الشاهدين بمائة لأنها تمام القيمة وكذلك ان شهدا على رجل
انه طلق امرأته قبل الدخول على مائة ونصف المسمى مائتان غرما للزوج مائة لأنهما فوتاها بشهادتهما
المرجوع عنها، وان شهد رجلان على رجل بنكاح امرأة بصداق ذكراه وشهد آخران بدخوله بها
ثم رجعوا بعد الحكم عليه بصداقها فعلى شهود النكاح الضمان لأنهم ألزموه المسمى ويحتمل أن يكون
عليهم النصف وعلى الآخرين النصف لأنهما قرراه وشاهدا النكاح أوجباه فيقسم بين الأربعة
أرباعا، وان شهد مع هذا شاهدان بالطلاق لم يلزمهما شئ لأنهما لم يفوتا عليه شيئا يدعيه ولا
أوجبا عليه ما لم يكن واجبا.
125

(مسألة) (وان بان بعد الحكم ان الشاهدين كانا كافرين أو فاسقين نقض الحكم ويرجع
بالمال أو ببدله على المحكوم له، وإن كان المحكوم به اتلافا فالضمان على المزكين فإن لم يكن ثم تزكية
فعلى الحاكم، وعنه لا ينقض إذا كانا فاسقين)
وجملة ذلك أن الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ثم بانا فاسقين أو كافرين فإن الإمام ينقض حكمه
ويرد المال إن كان قائما أو عوضه إن كان تالفا، فإن تعذر ذلك لاعساره أو غيره فعلى الحاكم ثم يرجع على المشهود
له وعن أحمد رواية أخرى لا ينقض حكمه إذا كانا فاسقين ويغرم الشهود المال وكذلك إذا شهد
عنده عدلان أن الحاكم قبله حكم بشهادة فاسقين ففيه روايتان، واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضا
ولا خلاف بين الجميع انه ينقض حكمه إذا كانا كافرين وينقض حكم غيره إذا ثبت عنده انه حكم
بشهادة كافرين فنقيس على ذلك إذا حكم بشهادة فاسقين فإن شهادة الفاسقين مجمع على ردها وقد
نص الله تعالى التبين فيها فقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وأمر
126

وامر باشهاد العدول فقال سبحانه (وأشهدوا ذوي عدل منكر) وقال سبحانه (ممن ترضون من
الشهداء) فيجب نقض الحكم لفوات العدالة كما يجب نقضه لفوات الاسلام ولان الفسق معنى لو ثبت
عند الحاكم قبل الحكم منعه فإذا شهد شاهدان انه كان موجودا حال الحكم وجب نقض الحكم كالكفر
والرق في العقوبات. إذا ثبت هذا فإن أبا حنيفة قال لا يسمع الحاكم الشهادة بفسق الشاهدين قبل الحكم
ولا بعده ومتى جرح المشهود عليه البينة لم تسمع بينته بالفسق لكن يسأل عن الشاهدين ولا يسمع
على الفسق شهادة لأن الفسق لا يتعلق به حق أحد فلا تسمع فيه الدعوى والبينة.
ولنا أنه معنى يتعلق به الحكم فسمعت فيه الدعوى والبينة كالتزكية، وقوله لا يتعلق به حق
أحد ممنوع فإن المشهود عليه يتعلق حقه بفسقه في منع الحكم عليه قبل الحكم ونقضه بعد وتبرئته
من اخذ ماله أو عقوبته بغير حق فوجب ان تسمع فيه الدعوى والبينة كما لو ادعى رق الشاهد ولم
127

يدعه لنفسه ولأنه إذا لم تسمع البينة بالفسق أدى إلى ظلم المشهود عليه فإذا لم يسمع عليه شهادتهم
وحكم عليه بشهادة الفاسقين كان ظالما له فأما ان قامت البينة انه حكم بشهادة والدين أو ولدين أو
عدوين فإن كان الحاكم الذي حكم بشهادتهما ممن يرى الحكم به لم ينقض حكمه لأنه حكم باجتهاده
فيما يسوغ فيه الاجتهاد ولم يخالف نصا ولا اجماعا، فإن كل ممن لا يرى الحكم بشهادتهم نفضه لأن
الحاكم يعتقد بطلانه.
(فصل) فإن كان المحكوم به اتلافا كالقطع في السرقة والقتل ثم بان أنهما كافران أو فاسقان
أو عبدان أو أحدهما فلا ضمان على الشاهدين لأنهما مقيمان على أنهما صادقان فيما شهدا به وإنما
الشرع منع قبول شهادتهما بخلاف الراجعين عن الشهادة فإنهما اعترفا بكذبهما فإن لم يكن ثم مزكون
فالضمان على الحاكم أو الإمام الذي تولى ذلك لأنه حكم بشهادة من لا يجوز له الحكم بشهادته ولا
قصاص عليه لأنه مخطئ وتجب الدية وفي محلها روايتان (إحداهما) في بيت المال (والثانية) على
العاقلة وقد ذكرنا ذلك فيما مضى وللشافعي قولان كالروايتين، فإن قلنا الدية على العاقلة لم تحمل إلا الثلث
فما زاد ولا تحمل الكفارة لأنها لا تحمل ذلك في محل الوفاق كذى ههنا وتكون الكفارة في مال
القاتل، وان قلنا في بيت المال فينبغي أن يكون فيه القليل والكثير لأنه يكثر فيه خطؤه فجعل
الضمان عليه يجحف به وان قل ولان جعله في بيت المال لعلة انه نائب عنهم وخطأ النائب على
مستنيبه وسواء تولى الحاكم الاستيفاء بنفسه أو أمر من يتولاه، قال أصحابنا وإن كان الولي استوفاه
فهو كما لو استوفاه الحاكم لأن الحاكم سلطه على ذلك ومكنه منه والولي يدعي انه حقه فإن قيل فإذا
128

كان الولي استوفى حقه فينبغي أن يكون الضمان عليه كما لو حكم له بمال فقبضه ثم بان فسق الشهود كان
الضمان على المستوفي دون الحاكم كذا ههنا قلنا ثم حصل في يد المستوفي مال المحكوم عليه بغير حق
فوجب عليه رده أو ضمانه ان تلف وههنا لم يحصل في يده شي وإنما أتلف شيئا بخطأ الإمام
وتسليطه عليه فافترقا.
(فصل) فإن كان ثم مزكون مثل أن يشهد بالزنا أربعة فيزكيهم اثنان فرجم المشهود عليه ثم
بان الشهود فسقة أو عبيد أو بعضهم فلا ضمان على الشهود لأنهم يزعمون أنهم محقون ولم يعلم كذبهم
يقينا والضمان على المزكين، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال القاضي الضمان على الحاكم لأنه
حكم بقتله من غير تحقيق شرطه ولا ضمان على المزكين لأن شهادتهما شرط وليست الموجبة، وقال
أبو الخطاب في رؤوس المسائل الضمان على الشهود بالزنا
ولنا ان المزكين شهدوا بالزور شهادة أفضت إلى قتله فلزمهم الضمان كشهود الزنا إذا رجعوا
ولا ضمان على الحاكم لأنه أمكن إحالة الحكم على الشهود فأشبه ما إذا رجعوا عن الشهادة وقولهم إن
شهادتهم شرط لا يصح لأن من أصلنا ان شهود الاحصان يلزمهم الضمان وان لم يشهدوا بالسبب
129

وقد نص عليه احمد وقول أبي الخطاب لا يصح لأن شهود الزنا لم يرجعوا ولا علم كذبهم بخلاف
المزكين فإنه تبين كذبهم وانهم شهدوا بالزور فأما ان تبين فسق المزكين فالضمان على الحاكم لأن
التفريط منه حيث قبل شهادة فاسق من غير تزكية ولا بحث فلزمه الضمان كما لو قبل شهادة شهود
الزنا من غير تزكية ثم تبين كذبهم
(فصل) ولو جلد إمام انسانا بشهادة شهود ثم بان أنهم فسقة أو كفرة أو عبيد فعلى الإمام
ضمان ما حصل بسبب الضرب)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه
ولنا انها جناية صدرت عن خطأ الإمام فكانت مضمونة عليه كما لو قطعه أو فتله
(مسألة) (وإذا شهدوا عند الحاكم بحق ثم ماتوا حكم بشهادتهم إذا ثبتت عدالتهم)
لأنهم أدوا الشهادة، أشبه ما لو كانوا أحياء وكذلك ان جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم
(مسألة) (وإذا علم الحاكم بشاهد الزور عزره وطاف به في المواضع التي يشتهر فيها فيقال
انا وجدنا هذا شاهد زور فاجتنبوه)
شهادة الزور من أكبر الكبائر وقد نهى تعالى عنه في كتابه مع نهيه عن الأوثان فقال سبحانه
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) وروى أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) قالوا بلى يا رسول الله قال (الاشراك بالله وعقوق الوالدين)
130

وكان متكئا فجلس فقال (ألا وقول الزور وشهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق
عليه وروى أبو حنيفة عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار) فمتى ثبت عند الحاكم أن رجلا شهد بزور
عمدا عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وهو قول شريح
والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله والأوزاعي وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يعزر
ولا يشهر ولأنه قول منكر وزور فلا يعزر به كالظهار، وروى عنه الطحاوي انه يشهر وانكره المتأخرون
ولنا انه قول محرم يضر به الناس فأوجب العقوبة على قائله كالسب والقذف ويخالف الظهار
من وجهين (أحدهما) انه يختص بضرره (والثاني) انه أوجب كفارة شاقة هي يشد من التعزير ولأنه قول عمر
رضي الله عنه ولا نعلم له في الصحابة مخالفا. إذا ثبت ذلك فإن عقوبته غير مقدرة وإنما ذلك مفوض
إلى رأي الحاكم ان رأى ذلك بالجلد فعل وإن رآه بحبس أو كشف رأسه وتوبيخه فعل ولا يزيد
في جلده على عشر جلدات وقال الشافعي لا يزيد على تسع وثلاثين وقال ابن أبي ليلى يجلد خمسا
وسبعين سوطا. وهذا أحد قولي أبي يوسف وقال الأوزاعي في شاهدي الطلاق يجلدان
مائة ويغرمان الصداق.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من من حدود الله) متفق عليه
131

وقال القاسم وسالم يخفق سبع خفقات فأما شهرته بين الناس فإنه يوقف في سوقه إن كان من أهل السوق
أو في قبيلته إن كان من أهل القبائل أو في مسجده إن كان من أهل المساجد ويقول الموكل به
ان الحاكم يقرأ عليكم السلام ويقول هذا شاهد زور فاعرفوه، وهذا مذهب الشافعي وأتي الوليد بن
عبد الملك بشاهد زور فأمر بقطع لسانه وعنده القاسم وسالم فقالا سبحان الله بحسبه أن يخفق سبع
خفقات ويقام بعد العصر فيقال هذا أبو قبيس وجدناه شاهد زور ففعل ذلك به، ولا يسخم وجهه
ولا يركب ولا يكلف أن ينادي على نفسه، وروى عن عمر رضي الله عنه أنه يجلد أربعين جلدة
ويسخم وجهه ويطال حبسه رواه الإمام أحمد وقال سوار يلبب ويدار به على حلق المسجد فيقول من رآني فلا
يشهد بزور وروي عن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة أنه أمر بحلق بعض رؤوسهم وتسخيم وجوههم
ويطاف بهم في السوق والذي شهدوا له معهم.
ولنا أن هذا مثلة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة وما روي عن عمر فقد روي عنه خلافه وانه
حبسه يوما وخلى سبيله وفي الجملة ليس في هذا تقدير شرعي فما فعل الحاكم مما رآه لم يخرج عن مخالفة
نص أو معنى نص فله ذلك ولا يفعل به شئ من هذا حتى يتحقق أنه شاهد زور وتعمد ذلك أو
يشهد على رجل بفعل في الشام ويعلم ان المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق أو يشهد بقتل رجل
وهو حي وأن هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلاثة أعوام وسنها أقل من ذلك أو يشهد على رجل
132

انه فعل شيئا وقد مات قبل ذلك وأشباه هذا مما يعلم به كذبه ويعلم تعمده لذلك فأما تعارض البينتين
أو ظهور فسقه أو غلطه في شهادته فلا يؤدب لأن الفسق لا يمنع الصدق والتعارض لا يمنع أنه
كذب إحدى البينتين بعينها والغلط قد يعرض للصادق العدل ولا يتعمده فيعفى عنه قال الله تعالى
(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم)
(فصل) ومتى علم أن الشاهدين شهدا بالزور تبين ان الحكم كان باطلا ولم نقضه لأنا تبينا كذبهما
وإن كان المحكوم به مالا رد إلى صاحبه وإن كان اتلافا فعلى الشاهدين ضمانه لأنهما سبب اتلافه إلى
أن يثبت ذلك باقرارهما على أنفسهما من غير موافقة المحكوم له فيكون ذلك رجوعا منهما عن شهادتهما
وقد مضى حكم ذلك.
(فصل) وان تاب شاهد الزور ومضى على ذلك مدة تظهر فيها توبته وتبين صدقه فيها
وعدالته قبلت شهادته، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا تقبل شهادته أبدا لأن
ذلك لا يؤمن منه.
133

ولنا انه تائب من ذنبه فقبلت توبته كسائر التائبين وقوله لا يؤمن منه ذلك. قلنا
مجرد الاحتمال لا يمنع قبول الشهادة بدليل سائر التائبين فإنه لا يؤمن معاودة ذنوبهم وشهادتهم مقبولة
(مسألة) (ولا تقبل الشهادة الا بلفظ الشهادة فإن قال أعلم أو أحق لم يحكم به)
وجملة ذلك أن لفظ الشهادة معتبر في أدائها فيقول أشهد أنه أقر بكذا ونحوه ولو قال أعلم أو
أحق أو أتيقن أو اعرف لم يعتد به لأن الشهادة مصدر شهد يشهد شهادة فلا بد من الاتيان
بفعلها المشتق منها ولان فيها معنى لا يحصل في غيرها من اللفظات بدليل انها تستعمل في اللعان ولا يحصل
ذلك من غيرها وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم في ذلك خلافا.
(فصل) وإذا عين العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها أو نقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته ذكره الخرقي
مثل ان يشهد بمائة ثم يقول بل هي مائة وخمسون أو بل هي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه ويحكم بما شهد به أخيرا
وبهذا قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق وقال الزهري لا تقبل شهادته الأولى ولا الأخيرة لأن
كل واحدة منهما ترد ولان الأولى مرجوع عنها (والثانية) غير موثوق بها لأنها من مقر بغلطه
وخطئه في شهادته فلا يؤمن أن تكون في الغلط كالأولى وقال مالك يؤخذ بأقل قوليه لأنه أدى الشهادة
وهو غير متهم فلا يقبل رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحكم
134

ولنا ان شهادته الآخرة شهادة من عدل غير متهم لم يرجع عنها فوجب الحكم بها كما لو لم
يتقدمها ما يخالفها ولا تعارضها الأولى لأنها قد بطلت برجوعه عنها ولا يجوز الحكم بها لأنها شرط
الحكم فوجب استمرارها إلى انقضائه ويفارق رجوعه بعد الحكم لأن الحكم قد تم باستمرار شرطه
فلا ينقض بعد تمامه.
(باب اليمين في الدعاوى)
وهي مشروعة في حق المنكر في كل حق لآدمي
وجملة ذلك أن الحقوق على ضربين (أحدهما) ما هو حق لآدمي (والثاني) ما هو حق لله تعالى
وحق الآدمي ينقسم قسمين:
(أحدهما) ما هو مال أو المقصود منه المال كالبيع والقرض والصلح والغصب والجناية الموجبة
للمال فيستحلف فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم
ولكن اليمين على المدعى عليه) متفق عليه ولحديث الحضرمي والكندي
135

(القسم الثاني) ما ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو كل ما لا يثبت الا بشاهدين كالقصاص
وحد القذف والنكاح والطلاق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاء والولاء والرق ففيه روايتان:
(إحداهما) لا يستحلف المدعى عليه ولا تعرض عليه اليمين قال احمد ولم أسمع من مضى جوز
الايمان إلا في الأموال والعروض خاصة، وهذا قول مالك ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال لا يستحلف
في النكاح وما يتعلق به من دعوى الرجعة والفيئة في الايلاء ولا في الرق وما يتعلق به من الاستيلاء
والولاء والنسب لأن هذه الأشياء لا يدخلها البدل وإنما تعرض اليمين فيما يدخلها البدل فإن المدعى
عليه مخير بين ان يحلف أو يسلم ولأن هذه الأشياء لا تثبت الا بشاهدين ذكرين فلا تعرض
فيها اليمين كالحدود.
(والرواية الثانية) يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف وقال الخرقي إذا قال ارتجعتك فقالت
انقضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها وإذا اختلفا في مضي الأربعة الأشهر في الايلاء فالقول
قوله مع يمينه فيخرج في هذا أنه يستحلف في كل حق لآدمي وهذا قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد
136

لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قول دماء رجال وأموالهم) ولان اليمين على
المدعى عليه وهذا عام في كل مدعى وهو ظاهر في دعوى الدماء لذكرها في الدعوى مع عموم
الأحاديث ولأنها دعوى صحيحة في حق آدمي فجاز أن يحلف عليه كدعوى المال وهذا أولى إن
شاء الله تعالى. وقال أبو بكر عبد العزيز تشرع اليمين في كل حق لآدمي إلا في النكاح والطلاق لأن
هذا مما لا يحل بذله فلم يستحلف كحقوق الله سبحانه وإنما كان كذلك لأن الابضاع مما يحتاط لها فلا
تستباح بالنكول لأن النكول ليس بحجة قوية لأنه سكوت مجرد يحتمل أن يكون للخوف من اليمين
ويحتمل أن يكون للجهل بحقيقة الحال، ويحتمل أن يكون لعلمه بصدق المدعي ومع هذه الاحتمالات
لا ينبغي أن يقضى به فيما يحتاط له، وقال أبو الخطاب تشرع اليمين في كل حق لآدمي إلا في تسعة
أشياء النكاح والرجعة والطلاق والرق والاستيلاء والنسب والقذف والقصاص لأن البدل لا يدخل
هذه الأشياء ثم يستحلف فيها كحقوق الله سبحانه، وقال القاضي في الطلاق والقصاص والقذف
روايتان (إحداهما) لا يستحلف فيها لذلك (والثانية) يستحلف فيها لأنها دعوى صحيحة يستحلف
فيها كدعوى المال. وأما الستة الباقية فلا يستحلف فيها رواية واحدة لما سبق وقال الخرقي لا يستحلف
137

في القصاص ولا المرأة إذا أنكرت النكاح وتحلف إذا ادعت انقضاء عدتها لما سبق وإذا أقام العبد
شاهدا بعتقه حلف مع شاهده وعتق وهي إحدى الروايتين عن أحمد وقد ذكرنا ذلك
(مسألة) (ولا يستحلف في حقوق الله سبحانه) وهي نوعان (أحدهما) الحدود فلا تشرع
فيها يمين لا نعلم في هذا خلافا لأنه لو أقر ثم رجع عن اقراره قبل منه وخلي من غير يمين فلان لا يستحلف مع
عدم الاقرار أولى ولأنه يستحب ستره والتعريض للمقر به بالرجوع عن إقراره وللشهود ترك الشهادة
والستر عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم لهزال في قصة ماعز (يا هزال لو سترته بثوبك لكان خيرا لك) فلا تشرع
فيه يمين بحال
(النوع الثاني) الحقوق المالية كدعوى الساعي الزكاة على رب المال وان الحول قد تم وكمل
النصاب فقال احمد القول قول رب المال بغير يمين ولا يستحلف الناس على صدقاتهم وقول الشافعي
وأبو يوسف يستحلف لأنها دعوى مسموعة يتعلق بها حق آدمي أشبه حق الآدمي، ووجه الأول
انه حق لله تعالى أشبه الحد ولان ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة ولو ادعي عليه ان عليه
كفارة يمين أو ظهار أو نذر أو صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفي ذلك من غير يمين ولا تسمع
الدعوى في هذا ولا في حد لله تعالى ولأنه لا حق للمدعي فيه ولا ولاية له عليه فلا تسمع منه دعواه
138

كما لو ادعى حقا لغيره من غير اذنه ولا ولاية له عليه فإن تضمنت دعواه حقا له مثل ان يدعي
سرقة ماله لتضمين السارق أو يأخذ منه ما سرق أو يدعي عليه الزنا بجاريته ليأخذ مهرها منه سمعت
دعواه ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله تعالى
(مسألة) (ويجوز الحكم في المال وما يقصد به المال بشاهد ويمين المدعي)
روي ذلك عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وقد سبق ذكر ذلك ولا تقبل فيه شهادة
امرأتين ويمين لأن شهادة النساء ناقصة وإنما أجيزت بانضمام الذكر إليهن فلا يقبلن منفردات وان
كثرن ويحتمل ان يقبل لأن المرأتين في المال مقام رجل فيحلف معهما كما يحلف مع الرجل وهو
مذهب مالك ويبطل ذلك بشهادة أربع نسوة فإنه لا يقبل اجماعا
(مسألة) (وهل يثبت العتق بشاهد ويمين؟ على روايتين)
(أحداهما) يثبت وهو اختيار الخرقي وأبي بكر لأنه إزالة ملك فيقبل فيه شاهد ويمين كالبيع
أو اتلاف مال فيقبل فيه شاهد ويمين كالاتلاف بالفعل
(والرواية الثانية) لا تثبت الحرية إلا بشاهدين عدلين ذكرين لأنه ليس بمال ولا المقصود منه
المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه الحدود والقصاص.
139

(مسألة) (ولا يقبل في النكاح والرجعة وسائر ما لا يستحلف فيه كالطلاق والوصية شاهد ويمين)
لقول الله تعالى في الرجعة (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقسنا عليه سائر ما ذكرنا لأنه ليس
بمال ولا يقصد به المال أشبه العقوبات وفيه رواية أخرى يقبل فيه رجل وامرأتان أو يمين لأنه ليس
بعقوبة ولا يسقط بالشبهة أشبه المال وقال القاضي النكاح لا يثبت الا بشاهدين والثاني يخرج
فيه روايتان ذكرنا وجههما
(مسألة) (ومن حلف على فعل نفسه أو دعوى عليه في الاثبات حلف على البت)
معنى البت القطع أي يحلف بالله ما له علي شئ والايمان كلها على البت والقطع الا على
نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال الشعبي والنخعي كلها على
العلم وذكره ابن أبي موسى رواية عن أحمد وذكر حديث البستاني عن القاسم بن عبد الرحمن عن
النبي صلى الله عليه وسلم (لا تضطروا الناس في ايمانهم ان يحلفوا على ما لا يعلمون) ولأنه لا يحلف على ما لا
علم له به وقال ابن أبي ليلى كلها علي البت كما يحلف على فعل نفسه
ولنا حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم استحلف رجلا فقال (قل والله الذي لا اله الا هو ماله
عليك حق) وروى الأشعث بن قيس ان رجلا من كندة ورجلا من نضر موت اختصما إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ارض من اليمين فقال الحضرمي يا رسول الله إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا وهي في يده
140

قال (هل لك بينة؟) قال لا ولكن أحلفه: والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه فتهيأ الكندي
لليمين رواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكروه لا يصح لأنه يمكنه الإحاطة بفعل
نفسه ولا يمكنه ذلك في فعل غيره فافترقا في اليمين كما لو افترقت الشهادة فإنها تكون بالقطع فيما
يمكن القطع فيه من العقود وعلى الظن فيما لا يمكن فيه القطع من الاملاك والأسباب وعلى نفي العلم فيما
لا تمكن الإحاطة بانتفائه كالشهادة علي انه لا وارث له الا فلان وفلان وحديث القاسم بن عبد الرحمن
محمول على اليمين على نفي فعل الغير
إذا ثبت هذا فإنه يحلف فيما عليه على البت نفيا كان أو اثباتا، وأما ما يتعلق بفعل غيره فإن
كان اثباتا مثل ان يدعي انه اقرض أو باع ويقيم شاهدا بذلك فإنه يحلف مع شاهده على البت
والقطع، وإن كان على نفي مثل ان يدعى عليه دين أو غصب أو جناية فإنه يحلف على نفي العلم لا
غير، وان حلف عليه على البت كفاه وكان التقدير فيه العلم كما في الشاهد إذا شهد بعدد الورثة
وقال ليس له وارث غيرهم سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه ولو ادعى ان عبده استدان أو جنى
فأنكر ذلك فيمينه على نفي العلم لأنها يمين على فعل الغير فأشبهت يمين الوارث على نفي فعل الموروث
(فصل) ذكر ابن أبي موسى أنه اختلف قوله فيمن باع سلعة فظهر المشتري على عيب بها فأنكره
البائع هل اليمين على البتات أو على علمه؟ على روايتين ولو ابق عبد المشتري فادعى على البائع أنه
ابق عنده فأنكر هل يلزمه أن يحلف انه لم يأبق قط أو على نفي علمه؟ على روايتين الا أن يكون ولده
141

فيلزمه ان يحلف أنه لم يأبق قط، ووجه كون اليمين على نفي علمه انها على نفي فعل الغير فأشبه
ما لو ادعى عليه ان عبده جنى، ووجه الأخرى أنه ادعى عليه انه باعه معيبا يستحق رده عليه فلزمته
اليمين على البت كما لو كان اثباتا
(مسألة) (ومن توجهت عليه يمين الجماعة فقال احلف يمينا واحدة فرضوا جاز وان
أبوا حلف لكل واحد يمينا)
إذا كان الحق لجماعة فرضوا بيمين واحدة صح وسقطت دعواهم باليمين لأنها حقهم ولأنه لما
جاز ثبوت الحق ببينة واحدة لجماعة جاز سقوطه بيمين واحدة قال القاضي: ويحتمل ان لا يصح
حتى يحلف لكل واحد يمينا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اليمين حجة في حق الواحد
فإذا رضي بها اثنان صارت الحجة في حق كل واحد منهما ناقصة لا يعمل برضى الخصم كما لو رضي
ان يحكم عليه بشاهد واحد والصحيح الأول لأن الحق لهما فإذا رضيا به جاز ولا يلزم من رضاهما بيمين
واحدة أن يكون لكل واحد بعض اليمين كما أن الحقوق إذا قامت بها بينة واحدة لا تكون لكل حق
بعض البينة فاما ان حلفه الحاكم لجميعهم يمينا واحدة فخطأه أهل عصره (1) (فصل) قال (الشيخ رحمه الله واليمين المشروعة هي اليمين بالله تعالى اسمه في قول عامة

(1) كذا بالأصل
142

أهل العلم الا ان مالكا أحب بالله الذي لا اله الا هو وان استحلف حاكم بالله أجزأ)
قال ابن المنذر وهذا أحب إلي لأن ابن عباس روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف رجلا فقال
(قل والله الذي لا اله الا هو ماله عندك شئ) رواه أبو داود وفي حديث عمر حين حلف لأبي قال والله الذي
لا اله الا هو ان النخل لتخلي وما لأبي فيها شئ وقال الشافعي إن كان المدعى قصاصا أو عتاقا أو حدا
أو مالا يبلغ نصابا غلظت اليمين فحلف بالله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم
الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وقال في القسامة عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهذا اختيار
أبي الخطاب وذكر القاضي ان هذا في ايمان القسامة خاصة وليس بشرط
ولنا قول الله تعالى (فيقسمان بالله ان ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربي) وقال تعالى (فيقسمان
بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما) وقال تعالى في اللعان (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) وقال سبحانه
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم) قال بعض المفسرين من أقسم بالله فقد أقسم بالله جهد اليمين واستحلف
النبي صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد في الطلاق فقال (آالله ما أردت الا واحدة؟) وقال عثمان لابن عمر تحلف
بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ولان فيه كفاية فوجب ان يكتفى باسمه في اليمين كالمواضع التي
سلموها فأما حديث ابن عباس وابن عمر فإنه يدل على جواز الاستحلاف لذلك وما ذكرناه يدل على
143

الاكتفاء ببسم الله وحده وما ذكره الباقون تحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه إذا ثبت هذا فإن
اليمين في حق المسلم والكافر جميعا بالله تعالى لا يحلف أحد بغيره لقول الله تعالى (فيقسمان بالله) ولقول
النبي صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت
(مسألة) (وان رأى الحاكم تغليظها بلفظ أو زمن أو مكان جاز)
ففي اللفظ يقول والله الذي لا اله الا هو عالم الغيب وشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار
النافع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واليهودي والله الذي انزل التوراة على موسى وفلق
له البحر وأنجاه من فرعون وملائه والنصراني يقول والله الذي انزل الإنجيل على عيسى وجعله
يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والمجوسي يقول والله الذي خلقني وصورني ورزقني، والزمان
يحلفه بعد العصر وبين الأذانين والمكان يحلفه بمكة بين الركن والمقام وفي الصخرة ببيت المقدس
وفي سائر البلدان عند المنبر ويحلف أهل الذمة في المواضع التي يعظمونها وهذا الذي ذكره شيخنا
اختيار أبي الخطاب قال وقد أومأ إليه أحمد في رواية الميموني وذكر التغليظ في حق المجوسي قال
قل والله الذي خلقني ورزقني وإن كان وثنيا حلفه بالله وحده وكذلك إن كان لا يعبد الله لأنه
لا يجوز الحلف بغير الله تعالى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) ولان
144

هذا ان لم يكن يعد هذه يمينا فإنما يزداد بها اثما وعقوبة وربما عجلت عقوبته فيتعظ بذلك ويعتبر به
غيره وهذا كله ليس بشرط في اليمين وإنما للحاكم فعله إذا رأى، وظاهر كلام الخرقي ان اليمين لا تغلظ
الا في حق أهل الذمة ولا تغلظ في حق المسلم وبه قال أبو بكر وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني (لليهود نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على
من زنى؟) رواه أبو داود وكذلك قال الخرقي تغلظ في المكان فيحلف في المواضع التي يعظمونهما
ويتوقى الكذب فيها ولم يذكر التغليظ بالزمان، وممن قال يستحلف أهل الكتاب بالله وحده
مسروق وأبو عبيدة بن عبد الله وعطاء وشريح والحسن وإبراهيم وكعب بن سور ومالك والثوري
وأبو عبيد وممن قال لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق مسلم أبو حنيفة وصاحباه وقال مالك
والشافعي تغلظ ثم اختلفا فقال مالك يحلف في المدينة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف قائما ولا
145

يحلف قائما الا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستحلفون في غير المدينة في مساجد الجماعات ولا يحلف
عند المنبر الا على ما يقطع فيه السارق فصاعدا وهو ثلاثة دراهم وقال الشافعي يستحلف المسلم بين الركن
والمقام بمكة وفي المدينة عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر وعند
الصخرة ببيت المقدس وتغلظ في الزمان في الاستحلاف بعد العصر على نحو ما ذكرناه في صدر المسألة
ولا تغلظ في المال الا في نصاب فصاعدا وتغلظ في الطلاق والعتاق والحد والقصاص وقال ابن حزم
تغلظ بالقليل والكثير واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من حلف على منبري هذا بيمين آثمة
فليتبوأ مقعده من النار) فثبت انه يتعلق بذلك تأكيد اليمين، وروى مالك قال اختصم زيد بن ثابت
وابن مطيع في دار كانت بينهما إلى مروان بن الحكم فقال زيد أحلف له مكاني فقال مروان لا
146

والله الا عند منقطع الحقوق قال فجعل زيد يحلف أن حقه لحق ويأبى ان يحلف عند المنبر
فجعل مروان يعجب.
ولنا قول الله تعالى (فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله
لشهادتنا أحق من شهادتهما) ولم يذكر مكانا ولا زمانا ولا زيادة في اللفظ، واستحلف النبي صلى الله عليه وسلم
ركانة في الطلاق فقال (آالله ما أردت إلا واحدة؟) قال آالله ما أردت الا واحدة ولم يغلظ يمينه بزمن
ولا مكان ولا زيادة لفظ، وحلف عمر لأبي حين تحاكما إلى زيد في مكانه وكانا في بيت زيد وقال
عثمان لابن عمر تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه وفيما ذكروه من التغليظ تقييد لهذه النصوص
ومخالفة للاجماع فإن ما ذكر عن الخليفتين عمر وعثمان مع من حضرهما لم ينكر وهو في الشهرة فكان
إجماعا وقوله تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاة) إنما كان في حق أهل الكتاب والوصية في السفر وهي
قضية خولف فيها القياس في مواضع، منها قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين، ومنها استحلاف
الشاهدين، ومنها استحلاف خصومهما عند العثور على استحقاقهما الاثم وهم لا يعلمون بها أصلا فكيف
147

يحتجون بها؟ ولما ذكر ايمان المسلمين أطلق اليمين ولم يقيدها والاحتجاج بهذا أولى من المصير
إلى ما خولف فيه القياس وترك العمل به. وأما حديثهم فليس فيه دليل على مشروعية اليمين عند
المنبر إنما فيه دليل على تغليظ الاثم على الحالف. وأما قضية مروان فمن العجب احتجاجهم بها وذهابهم
إلى قول مروان في قضية خالفه زيد فيها وقول زيد فقيه الصحابة وقارئهم وأفرضهم أحق أن يحتج
به من قول مروان الذي لو انفرد ما جاز الاحتجاج به فكيف يجوز مع مخالفة اجماع الصحابة وقول
أئمتهم وفقهائهم ومخالفة فعلى النبي صلى الله عليه وسلم واطلاق كتاب الله سبحانه وتعالى؟ فهذا مما لا يجوز إنما
ذكر الخرقي التغليظ بالمكان واللفظ في حق الآدمي لاستحلاف النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بقوله (نشدتكم
بالله الذي أنزل التوراة على موسى) وروي عن كعب بن سور في النصراني قال: اذهبوا به إلى المذبح
واجعلوا الإنجيل في حجره والتوراة على رأسه، وقال الشعبي في نصراني: اذهب إلى البيعة فاستحلفه
بما يستحلف به مثله.
وقال ابن المنذر لا أعلم حجة توجب أن يستحلف في مكان بعينه ولا يمينا يستحلف بها غير التي
يستحلف بها المسلمون، وفي الجملة لا خلاف بين المسلمين في أن التغليظ بالمكان والزمان والألفاظ غير
148

واجب الا أن ابن الصباغ ذكر في وجوب التغليظ بالمكان قولين للشافعي وخالفه ابن القاص فقال لا خلاف
بين أهل العلم أن القاضي حيث استحلف المدعى عليه في عمله وبلد قضائه جاز وإنما التغليظ بالمكان
اختيار منه فيكون التغليظ عند من رآه اختيارا واستحبابا.
(فصل) قال ابن المنذر ولم أجد أحدا يوجب اليمين بالمصحف وقال الشافعي رأيتهم يؤكدون
بالمصحف ورأيت ابن مازن وهو قاض بصنعاء يغلظ اليمين بالمصحف قال أصحابه فيغلظ عليه باحضار
المصحف لأنه يشتمل على كلام الله وأسمائه وهذه زيادة على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين وعلى
ما فعله الخلفاء وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها ولا يترك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل
أصحابه لفعل ان مازن ولا غيره
(مسألة) (ولا تغلظ اليمين الا فيما له خطر كالجنايات والعتاق والطلاق وما تجب فيه الزكاة
من المال عند من يرى التغليظ)
149

وقيل ما يقطع فيه السارق روي ذلك عن مالك لأن التغليظ زيادة على اليمين التي ورد الشرع
بوجوبها فلا تجب الا بزيادة على مطلق الحق وترك التغليظ أولى على ما اختاره شيخنا ودل عليه الا
في موضع ورد الشرع به وصح كتحليف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بقوله (نشدتكم بالله الذي
أنزل التوراة على موسى) ونحوه
(مسألة) (وان رأى الحاكم ترك التغليظ فتركه كان مصيبا)
لموافقته مطلق النص وهو قوله عليه الصلاة والسلام (ولكن اليمين على المدعى عليه)
(فصل) ومن توجهت عليه يمين وهو فيها صادق أو توجهت له أبيح له الحلف ولا شئ عليه
من اثم ولا غيره لأن الله تعالى شرع اليمين ولا يشرع محرما وقد أمر الله سبحانه نبيه عليه الصلاة
والسلام أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من كتابه منها قوله تعالى (زعم الذين كفروا أن لن
150

يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن)) وحلف عمر لأبي على نخل ثم وهبه إياه وقال خفت ان لم احلف ان
يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم فيصير سنة قال حنبل بلي أبو عبد الله بمثل هذا جاء إليه ابن عمه
فقال لي قبلك حق من ميراث أبي وأطالبك بالقاضي وأحلفك فقيل لأبي عبد الله ما ترى؟ قال أحلف
له، إذا لم يكن له في قبلي حق وأنا غير شاك في ذلك حلفت له وكيف لا أحلف وابن عمر قد حلف؟
وانا من أنا؟ وعزم أبو عبد الله على اليمين فكفاه الله ذلك ورجع الغلام عن تلك المطالبة واختلف
في الأولى فقال قوم الحلف أولى من افتداء يمينه لأن عمر حلف ولان في الحلف فائدتين (أحداهما)
حفظ ماله عن الضياع وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته (والثانية) تخليص أخيه الظالم من مظلمته
وأكل المال بغير حقه وهذا من نصحه ونصرته بكفه عن ظلمه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم على رجل ان
يحلف ويأخذ حقه وقال أصحابنا الأفضل افتداء يمينه فإن عثمان افتدى يمينه وقال خفت ان يصادف
قدرا فيقال حلف وعوقب، أو هذا شؤم يمينه. وروى الخلال باسناده ان حذيفة عرف جملا سرق
151

له فخاصم إلى قاضي المسلمين فصارت اليمين على حذيفة فقال لك عشرة دراهم فأبى فقال لك عشرون
فأبى فقال لك ثلاثون فأبى فقال لك أربعون فأبى فقال حذيفة أتراني أترك جملي؟ فحلف بالله انه ما
باع ولا وهب، ولان في اليمين عند الحاكم تبذلا ولا يأمن أن يصادف قدرا فينسب إلى الكذب
وانه عوقب بحلفه كاذبا وفي ذهاب ماله أجر وليس هذا تضييعا للمال فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا
ويغرمه له في الآخرة، وأما عمر فإنه خاف لاستنان به وترك الناس الحلف على حقوقهم فيدل على
أنه لولا ذلك لما حلف قال شيخنا وهذا أولى والله تعالى أعلم
(فصل) والحلف الكذب ليقتطع به مال أخيه فيه اثم كبير وقيل إنه من الكبائر لأن الله تعالى
وعده عليه العذاب الأليم فقال سبحانه (ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق
لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) وروى ابن
مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر
لقي الله وهو عليه غضبان) متفق عليه وقد روي في حديث أن يمين الغموس تدع الدبار بلاقع.
152

(فصل) ومن ادعي عليه دين وهو معسر به لم يحل له ان يحلف انه لا حق له علي وبهذا قال
المزني وقال أبو ثور له ذلك لأن الله تعالى قال (وإن كانوا ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولأنه
لا يستحق مطالبته في الحال ولا يجب عليه أداؤه إليه. ولنا أن الدين في ذمته وهو حق له عليه ولو لم
يكن عليه حق لم يجز انظاره به
(فصل) ويمين الحالف على حسب جوابه فإذا ادعى عليه انه غصبه أو استودعه أو اقترض منه
نظرنا في جواب المدعى عليه فإن قال ما غصبتك ولا استودعتني ولا أقرضتني كلف ان يحلف على
ذلك، وإن قال مالك علي شئ أو لا تستحق علي شيئا أو لا تستحق علي ما ادعيته ولا شيئا منه كان
جوابا صحيحا ولا يكلف الجواب عن الغصب والوديعة والقرض لأنه يجوز أن يكون غصب منه ثم رده عليه
فلو كلف جحد ذلك كان كاذبا، وإن أقر به ثم ادعى الرد لم يقبل منه فإذا طلبت منه اليمين حلف
153

على حسب ما أجاب ولو ادعى أنني ابتعتك الدار التي في يدك فأنكره وطلب يمينه فإن كان أجاب
بأنك لا تستحقها حلف على ذلك
154

قال احمد في رجل ادعى على رجل انه أودعه فأنكره هل يحلف ما أودعتك؟ قال إذا حلف مالك
عندي ولا في يدي شئ فهو يأتي على ذلك؟ وهذا يدل على أنه لا يلزمه أن يحلف على حسب الجواب
155

وانه متى حلف مالك قبلي حق برئ بذلك ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(فصل) ولا تدخل اليمين النيابة ولا يحلف أحد عن غيره فلو كان المدعى عليه صغيرا أو مجنونا
156

لم يحلف عنه حتى يبلغ الصبي أو يعقل المجنون ولم يحلف عنه وليه ولو ادعى الأب لابنه الصغير حقا أو ادعاه
الوصي أو الأمين له وأنكر المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه فإن نكل قضي عليه ومن لم ير
157

القضاء بالنكول ورأي رد اليمين على المدعي لم يحلف الولي عنهما ولكن تقف اليمين ويكتب الحاكم
محضرا بنكول المدعى عليه، وان ادعى على العبد دعوى وكانت مما يقبل قول العبد فيها على نفسه
158

كالقصاص والطلاق والقذف والخصومة معه دون سيده فإن قلنا إن اليمين تشرع في هذا حلف العبد
دون سيده وان نكل لم يحلف غيره. وإن كان مما لا يقبل قول العبد فيه كاتلاف مال أو
159

جناية توجب المال فالخصم السيد واليمين عليه ولا يحلف العبد فيها بحال، وإن نكل من
توجهت عليه اليمين عنها وقال لي بينة أقيمها أو حساب أستثبته لاحلف على ما أتيقنه فذكر أبو الخطاب
انه لا يمهل وان لم يحلف جعل ناكلا. وقيل لا يكون ذلك نكولا ويمهل مدة قريبة كما لو ادعى قضاء أو إبراء
(فصل) ولو ادعى على رجل دينا أو حقا فقال قد أبرأتني منه واستوفيته مني فالقول قول
160

المنكر الابراء والاستيفاء مع يمينه ويكفيه ان يحلف بالله ان هذا الحق ويسميه تسمية يصير بها
معلوما - برئت ذمتك منه ولا من شئ منه، أو ما برئت ذمتك من ذلك الحق ولا من شئ منه
وان ادعى استيفاءه أو البراءة بجهة معلومة كفاه الحلف على تلك الجهة وحدها
161

باب الدعاوى والبينات
الدعوى إضافة الانسان إلى نفسه شيئا أو ملكا أو استحقاقا أو نحوه. وهو في الشرع إضافته إلى
نفسه استحقاق شئ في يد غيره أو في ذمته والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق شئ عليه.
وقال ابن عقيل الدعوى الطلب قال الله تعالى (ولهم ما يدعون)
(مسألة) (والمدعي من إذا ترك سكت والمنكر من إذا سكت لم يترك)
وقيل المدعي من يلتمس بقوله أخذ شئ من يد غيره وإثبات حق في ذمته والمدعى عليه من
ينكر ذلك وقد يكون كل واحد منهما مدعيا ومدعى عليه بأن يختلفا في العقد فيدعي كل واحد منهما
ان اليمين غير الذي ذكره صاحبه. والأصل في الدعوى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أعطي الناس بدعواهم
لادعى قول دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم وفي حديث (البينة
على المدعي واليمين على المدعى عليه)
(مسألة) (ولا تصح الدعوى والانكار الا من جائز التصرف)
لأن من لا يصح تصرفه لا قول له في المال ولا يصح إقراره ولا تصرفه فلا تسمع دعواه ولا
إنكاره كما لا يسمع إقراره
162

(مسألة) (وان تداعيا عينا لم تخل من ثلاثة أقسام (أحدها) أن تكون في يد أحدهما فهي
له مع يمينه انه لا حق للآخر فيها إذا لم تكن بينة)
لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو أن الناس أعطوا بدعواهم
لادعي ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) متفق عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة
الحصرمي والكندي (شاهداك أو يمينه ليس لك الا ذلك) ولان الظاهر من اليد الملك
(مسألة) (ولو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل والآخر آخذ بزمامها فهي للأول)
لأن تصرفه أقوى ويده آكد وهو المستوفي لمنفعتها، فإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر
راكبها فهي للراكب لأنه أقوى تصرفا فإن اختلفا في الحمل فادعاه الراكب وصاحب الدابة فهو
للراكب لأن يده على الدابة والحمل معا فأشبه ما لو اختلف الساكن وصاحب الدار في قماش فيها. وإن
تنازع الراكب وصاحب الدابة في السرج فهو لصاحب الدابة لأن السرج في العادة يكون لصاحب
الفرس. ولو تنازع اثنان في ثياب عبد لأحدهما فهي لصاحب العبد لأن يد العبد عليها وإن تنازع
صاحب الثياب وآخر في العبد اللابس لها فهما سواء لأن نفع الثياب يعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب
ومذهب الشافعي في هذا الفصل كالذي ذكرنا
163

(فصل) وان تنازعا قميصا أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه لأن تصرفه أقوى وهو
المستوفي لمنفعته، فإن كان كمه في يد أحدهما وباقيه مع الآخر أو تنازعا عمامة طرفها في يد أحدهما وباقيها
في يد الآخر فهما سواء فيها لأن يد الممسك بالطرف عليها بدليل انه لو كان باقيها على الأرض فنازعه
فيها غيره كانت له وإذا كانت في أيديهما تساويا فيها
(فصل) ولو كانت دار فيها أربعة أبيات في أحد أبياتها ساكن وفي الثلاثة الباقية ساكن آخر
فاختلفا فيها فإن لكل واحد ما هو ساكن فيه لأن كل بيت منفصل عن صاحبه ولا يا شرك الخارج منه
الساكن فيه في ثبوت اليد عليه وإن تنازعا الساحة التي يتطرق منها إلى البيوت فهي بينهما نصفان لاشتراكهما
في ثبوت اليد عليها فأشبهت العمامة فيما ذكرنا
(مسألة) (وإن تنازع صاحب الدار والخياط الإبرة والمقص فهما للخياط)
لأن تصرفه فيهما أكثر وأظهر، والظاهر أن الانسان إذا دعى خياط يخيط له فالعادة انه يحمل
معه إبرته ومقصه. وإن اختلفا في القميص فهو لصاحب الدار إذ ليست العادة أن يحمل القميص معه
يخيطه في دار غيره وإنما العادة ان يخيط قميص صاحب الدار فيها
وإن اختلف صاحب الدار والنجار في القدوم والمنشار وآلة النجارة فهي النجار وإن اختلفا
164

في الخشبة المنشورة والأبواب والرفوف المنجورة فهي لصاحب الدار وإن اختلف النجاد ورب الدار
في قوس الندف فهو للنجاد، وان اختلفا في الفرش والقطن والصوف فهو لصاحب الدار
(مسألة) (وإن تنازع هو والقراب القربة فهي للقراب) وإن اختلفا في الخابية والجرار فهي
لصاحب الدار، ومذهب الشافعي في هذه المسائل على ما ذكرناه
(مسألة) (وان تنازعا عرصة فيها شجر أو بناء لأحدهما فهي له) لأنه استوفى لمنفعتها
(مسألة) (وإن تنازعا حائطا معقودا ببناء أحدهما أو وحده أو متصلا به اتصالا لا يمكن إحداثه
أو له عليه أزج فهو له وإن كان محلولا من بنائهما أو معقودا بهما فهو بينهما)
وجملة ذلك أن الرجلين إذا تنازعا حائطا بين ملكهما وتساويا في كونه معقودا ببنائهما معا وهو
أن يكون متصلا بهما اتصالا لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط مثل اتصال البناء بالطين كهذه معطائر
التي لا يمكن إحداث اتصال بعضها ببعض أو تساويا في كونه محلولا من بنائهما أي غير متصل القنائهما
الاتصال المذكور بل بينهما شق مستطيل كما يكون بين الحائطين اللذين ألصق أحدهما بالآخر
فهما سواء في الدعوى إن لم تكن لواحد منهما بينة تحالفا فيحلف كل واحد منهما على نصف الحائط انه
له وتكون بينهما نصفين لأن كل واحد منهما يده على نصف الحائط لكون الحائط في أيديهما. وإن
حلف كل واحد منهما على جميع الحائط انه له وما هو لصاحبه جاز وبهذا قال أبو حنيفة وأبو ثور وابن
165

المنذر ولا أعلم فيه مخالفا لأن المختلفين في العين إذا لم تكن لواحد منهما بينة فالقول قول من هي في
يده مع يمينه، وإذا كانت في أيديهما كانت يد كل واحد منهما على نصفها فيكون القول قوله في نصفها
مع يمينه، وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن كان لكل واحد منهما بينة تعارضتا وصارا كمن
لا بينة لهما فإن لم تكن لهما بينة ونكلا عن اليمين كان الحائط في أيديهما على ما كان وإن حلف أحدهما
ونكل الآخر قضي على الناكل فكان الكل للآخر، وإن كان متصلا ببناء أحدهما دون الاخر
فهو له مع يمينه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو ثور لا يرجح بالعقد ولا ينظر إليه
ولنا أن الظاهر أن هذا البناء بني كله بناء واحدا فإذا كان بعضه لرجل كان باقيه له والبناء
الآخر الظاهر أنه بني وحده فإنه لو بني مع هذا كان متصلا به فالظاهر أنه لغير صاحب هذا الحائط
المختلف فيه فوجب أن يرجح بهذا كاليد
فإن قيل فلم لا تجعلوه له بغير يمين لذلك؟ قلنا لأن ذلك ظاهر وليس بيقين إذا يحتمل ان أحدهما
بنى الحائط لصاحبه تبرعا مع حائطه أو كان له فوهبه إياه أو بناه بأجرة فشرعت اليمين من أجل الاحتمال
كما شرعت في حق صاحب اليد وسائر من وجبت عليه اليمين. فأما إن كان معقودا ببناء
أحدهما عقد يمكن إحداثه كالبناء باللبن والآجر فإنه يمكن أن ينزع من الحائط المبني نصف لبنة أو
آجرة ويجعل مكانها لبنة صحيحة أو آجرة صحيحة تعقد الحائطين فقال القاضي: لا يرجح بهذا
لاحتمال أن يكون فعل هذا ليتملك الحائط المشترك، وظاهر كلام الخرقي أنه يرجح بهذا الاتصال
كما يرجح بالاتصال الذي لا يمكن احداثه لأن الظاهر أن صاحب الحائط لا يدع غيره يتصرف فيه.
166

بنزع آجره وتغيير بنائه وفعل ما يدل على ملكه له فوجب ان يرجح كما يرجح باليد مع أنها تحتمل
أن تكون يدا عادية حدثت بالغصب أو بالعارية أو الإجارة ولم يمنع ذلك الترجيح بها فإن كان لأحدهما
عليه بناء كحائط مبني عليه أو عقد معتمد عليه أو قبة ونحو هذا فهو له، وبهذا قال الشافعي لأن
وضع بنائه عليه بمنزلة اليد الثابتة لكونه منتفعا به فجرى مجرى حمله على البهيمة وزرعه في الأرض
ولان الظاهر أن الانسان لا يترك غيره يبني على حائط وكذلك إن كانت عليه سترة أو كان
في أصل الحائط خشبة أو طرفها بجنب حائط منفرد به أحدهما أو له عليه أزج معقود فالحائط المختلف
فيه له لأن الظاهر في الخشبة أنها لمن ينفرد بوضع بنائه عليها فيكون الظاهر أن ما عليها من البناء له
(مسألة) ولا ترجح الدعوى بوضع خشب أحدهما عليه ولا بوجوه الآجر والتزويق والتجصيص
ومعاقد القمط في الخمص)
قال أصحابنا لا ترجح دعوى أحدهما بوضع خشبة على الحائط وهو قول الشافعي لأن هذا مما
يسمح به الجار وقد ورد في الخبر النهي عن المنع منه وهو عندنا حق يجب التمكين منه فلا ترجح
به الدعوى كاسناد متاعه إليه وتجصيصه وتزويقه ويحتمل ان ترجح به الدعوى وهو قول مالك لأنه
167

ينتفع به بوضع ماله عليه فأشبه الباني عليه والزارع في الأرض وورود الشرع بالنهي عن المنع منه
لا يمنع كونه دليلا على الاستحقاق بدليل اننا استدللنا بوضعه على كون الوضع مستحقا على الدوام
حتى متى زال جازت إعادته ولان كونه مستحقا تشترط له الحاجة إلى وضعه ففيما لا حاجة إليه له منعه
من وضعه، وأما السماح به فإن أكثر الناس لا يسامحون به، ولهذا لما روى أبو هريرة الحديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم طأطئوا رؤوسهم كراهة لذلك فقال مالي أراكم عنها معرضين؟ والله لا رمين بها بين أكتافكم
وأكثر الفقهاء لا يوجبون التمكين من هذا ويحملون الحديث على كراهة المنع لا على تحريمه ولان
الحائط يبنى لذلك فيرجح به كالأزج وقال أصحاب أبي حنيفة لا ترجح الدعوى بالجذع الواحد
لأن الحائط لا يبنى له وترجح بالجذعين لأن الحائط يبنى لهما
ولنا أنه موضوع على الحائط فاستوى في ترجيح الدعوى قليله وكثيره كالبناء
(فصل) ولا ترجح الدعوى بكون الدواخل إلى أحدهما والخوارج ووجوه الاجر والحجارة
ولا كون الأجرة الصحيحة مما يلي أحدهما وقطع الآجر مما يلي ملك الآخر ولا بمعاقد القمط في
الخص يعني عقد الخيوط التي يشد بها الخص، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد
يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط لما روى نمران بن حارثة التميمي عن أبيه أن قوما اختصموا
168

إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خص فبعث حذيفة بن اليمان يحكم بينهم فحكم لمن تليه معاقد القمط ثم رجع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال (أصبت وأحسنت) رواه ابن ماجة وروي نحوه عن علي ولان العرف جار
بأن من بنى حائطا جعل وجه الحائط إليه
ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولان وجه الحائط
ومعاقد القمط إذا كانا شريكين فيه لا بد من أن يكون إلى أحدهما إذ لا يمكن كونه إليهما جميعا
فبطلت دلالته كالتزويق، ولأنه براد للزينة فهو كالتزويق، وحديثهم لا يثبته أهل النقل واسناده مجهول
قاله ابن المنذر قال الشالنجي ذكرت هذا الحديث لأحمد فلم يقنعه وذكرته لإسحاق بن راهويه
فقال ليس هذا حديثا ولم يصححه وحديث علي فيه مقال وما ذكروه من العرف ليس بصحيح فإن
العادة جعل وجه الحائط إلى خارج ليراه الناس كما يلبس الرجل أحسن ثيابه أعلاها الظاهر للناس
ليروه فيتزين به فلا دليل فيه
(فصل) ولا ترجح الدعوى بالتزويق والتحسين ولا بكون أحدهما له الآجر وسترة غير مبنية
عليه لأنه مما يتسامح به ويمكن إحداثه.
169

(مسألة) وان تنازع صاحب العلو والسفل في السلم والدرجة فهي لصاحب العلو الا أن يكون
تحت الدرجة مسكن لصاحب السفل فيكون بينهما وان تنازعا في السقف الذي بينهما فهو بينهما)
إذا تنازع صاحب العلو والسفل في الدرجة التي يصعد منها ولم يكن تحتها مرفق لصاحب السفل كسلم
مستمر أو دكة فهي لصاحب العلو وحده لأن له اليد والتصرف وحده لكونها مصعد صاحب العلو
لا غير والعرصة التي عليها الدرجة له أيضا لانتفاعه بها وحده وإن كان تحتها بيت بنيت لأجله
وليكون مدرجا للعلو فهي بينهما لأن يدهما عليه ولأنها سقف للسفلاني وموطئ للفوقاني فهي
كالسقف وإن كان تحتها طباق صغيرة لم تبن الدرجة لأجله وإنما جعل مرفقا يجعل فيه حب الماء
ونحوه فهي لصاحب العلو لأنها بنيت لأجله وحده، ويحتمل أن تكون بينهما لأن يدهما وانتفاعهما
حاصل بها فهي كالسقف
(فصل) فإن تنازعا السقف الذي بينهما تحالفا وكان بينهما وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة
هو لصاحب السفل لأن السقف على ملكه فكان القول قوله فيه كما لو تنازعا سرجا على دابة أحدهما كان
القول قول صاحبها وحكي عن مالك أنه لصاحب السفل وحكي عنه أنه لصاحب العلو لأنه يجلس عليه
ويتصرف فيه ولا يمكنه السكنى الا به
ولنا انه حاجز بين ملكيهما ينتفعان به غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان فكان بينهما
170

كالحائط بين الملكين وقولهم هو على ملك صاحب السفل يبطل بحيطان العلو ولا يشبه السرج على
الدابة لأنه لا ينتفع به غير صاحبها ولا يراد إلا لهذا فكان في يده وهذا السقف ينتفع به كل واحد
منهما لأنه سماء صاحب السفل يظله وأرض صاحب العلو يقله فاستويا فيه، وان تنازعا حوائط العلو
فهي لصاحب العلو لما ذكرنا
(مسألة) (وان تنازع المؤجر والمستأجر في رف مقلوع أو مصراع له شكل منصوب في الدار
فهو لصاحبها والا فهو بينهما)
وجملة ذلك أن المكتري والمكري إذا اختلفا في شئ في الدار فإن كان مما ينقل ويحول كالأثاث
والأواني والكتب فهو للمكتري لأن العادة أن الانسان يكري داره فارغة من رحله وقماشه وإن
كان في شئ مما يتبع في البيع كالأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرفوف المسمرة والسلاليم
المستمرة والرحا المنصوبة وحجرها الفوقاني فهو للمكري لأنه من توابع الدار فأشبه الشجرة المغروسة
فيها وان كانت الرفوف موضوعة على أوتاد فقال احمد إذا اختلفا في الرفوف فهي لصاحب الدار
فظاهر هذا العموم في الزفوف كلها، وقال القاضي هي بينهما إذا تحالفا لأنها لا تتبع في البيع فأشبهت
القماش فهذا ظاهر يشهد للمكتري وللمكري ظاهر يعارض هذا وهو أن المكري يترك الرفوف
في الدار ولا ينقلها عنها فإذا تعارض الظاهر من الجانبين استويا وهذا مذهب الشافعي فعلى هذا إن
171

تحالفا كانت بينهما وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهي لمن حلف وذكر شيخنا في الكتاب المشروح
أنه إن كان للرف شكل منصوب في الدار فهو لصاحب الدار مع يمينه وان لم يكن له شكل فهو
بينهما إذا تحالفا لأنه إذا كان له شكل منصوب في الدار فالمنصوب تابع للدار فهو لصاحبها والظاهر
أن أحد الرفين لمن له الآخر وكذلك إذا اختلفا في مصراع باب مقلوع فالحكم فيه كما ذكرنا هكذا
ذكره أبو الخطاب وذكره القاضي في موضع لأن أحدهما لا يستغني عن صاحبه فكان أحدهما لمن له الآخر
كالحجر الفوقاني من الرحا والمفتاح مع السكرة
(مسألة) وان تنازعا دارا في أيديهما فادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها جعل بينهما نصفين
واليمين على مدعي النصف
نص عليه احمد ولا يمين على الآخر لأن النصف المحكوم له به لا منازع له فيه ولا أعلم في هذا
خلافا الا انه حكي عن ابن شبرمة ان لمدعي الكل ثلاثة أرباعها لأن النصف له لا منازع له فيه والنصف
الآخر يقسم بينهما على حسب دعواهما فيه
ولنا ان مدعي النصف على ما يدعيه فكان القول قوله فيه مع يمينه كسائر الدعاوى فإن لكل
واحد منهما بينة بما يدعيه فقد تعارضت بينتاهما في النصف فيكون النصف لمدعي الكل والنصف
الآخر ينبني على الخلاف في أي البينتين تقدم، وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي الكل وعلى قول
172

أبي حنيفة وصاحبيه إن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها فالنصف لصاحب الكل لا منازع له فيه
ويقرع بينهما في النصف الآخر فمن خرجت له القرعة حلف وكان له، وإن كان لكل واحد بينة
تعارضتا وسقطتا وصارا كمن لا بينة لهما، وإن قلنا تستعمل البينتان أقرع بينهما وقدم من تقع له
القرعة في أحد الوجهين والثاني يقسم بينهما النصف فيكون لمدعي الكل ثلاثة أرباعها
(فصل) فإن كانت دار في يد ثلاثة ادعى أحدهم نصفها وادعى الآخر ثلثها وادعى الثالث
سدسها فهذا اتفاق منهم على كيفية ملكهم وليس ههنا اختلاف ولا تجاحد، وإن ادعى كل واحد
منهم ان بقية الدار وديعة أو عارية كانت لكل واحد منهما بما ادعاه من الملك بينة قضي له بها لأن بينته
تشهد بما ادعاه ولا معارض لها وان لم تكن لواحد منهم بينة حلف كل واحد منهم وأقر في يده ثلثها
(فصل) فإن ادعى أحدهم جميعها والآخر نصفها والآخر ثلثها فإن لم يكن لواحد منهم بينة
قسمت بينهم أثلاثا وعلى كل واحد منهم اليمين على ما حكم له به لأن يد كل واحد منهم على ثلثها وإن كانت
لأحدهم بينة نظرت فإن كانت لمدعي الجميع فهي له وإن كانت لمدعي النصف أخذه والباقي بين
الآخرين نصفين لصاحب الكل السدس بغير يمين ويحلف على نصف السدس ويحلف الآخر على
الربع الذي يأخذه جميعه وإن كانت البينة لمدعي الثلث أخذه والباقي بين الآخرين لمدعي الكل
السدس بغير يمين ويحلف على السدس الآخر ويحلف الاخر على جميع ما يأخذه وان كانت لكل
173

واحد بما يدعيه بينة فإن قلنا تقدم بينة صاحب اليد قسمت بينهم أثلاثا لأن يد كل واحد منهم على
الثلث وإن قلنا تقدم بينة الخارج فينبغي أن تسقط بينة صاحب الثلث لأنها داخلة ولمدعي النصف
السدس لأن بينته خارجة فيه ولمدعي الكل خمسة أسداس لأن له السدس بغير بينة لكونه لا منازع
له فيه لأن أحدا لا يدعيه وله الثلثان لكون بينته خارجة فيهما وقيل بل لمدعي الثلث السدس لأن بينته
تدعي الكل وتدعي النصف تعارضتا فيه وتساقطتا وبقي لمن هو في يده ولا شئ لمدعي النصف
لعدم ذلك فيه وسواء كان لمدعي الثلث بينة أو لم تكن، وان كانت العين في يد غيرهم واعترف
انه لا يملكها ولا بينة لهم فالنصف لمدعي الكل لأنه ليس منهم من يدعيه ويقرع بينهم في النصف
الباقي فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو صاحب النصف حلف وأخذه وإن خرجت لصاحب
الثلث حلف وأخذ الثلث ثم يقرع بين الآخرين في السدس فمن قرع صاحبه حلف وأخذه وان أقام
كل واحد منهم بينة بما ادعاه فالنصف لمدعي الكل لما ذكرنا والسدس الزائد يتنازعه مدعي الكل
ومدعي النصف والثلث يدعيه الثلاثة وقد تعارضت البينات فيه فإن قلنا تسقط البينات قرعنا بين
المتنازعين فيما تنازعوا فيه فمن قرع صاحبه حلف وأخذه ويكون الحكم فيه كما لو لم تكن لهم بينة
وهذا قول أبي عبيد وقول الشافعي إذ كان بالعراق وعلى الرواية التي تقول إذا تعارضت البينتان
قسمت العين بين المتداعيين فلمدعي الكل النصف ونصف السدس الزائد وثلث الثلث ولمدعي النصف نصف
174

السدس وثلث الثلث ولمدعي الثلث ثلثه وهو التسع فتخرج المسألة من ستة وثلاثين لمدعي الكل
النصف ثمانية عشر ونصف السدس ثلاثة والتسع أربعة فذلك خمسة وعشرون سهما ولصاحب
النصف سبعة ولمدعي الثلث أربعة وهو التسع وهذا قياس قول قتادة والحارث العكلي وابن شبرمة
وحماد وأبي حنيفة وهو قول الشافعي وقال أبو ثور يأخذ مدعي الكل النصف ويوقف الباقي حتى
يتبين وروي هذا عن مالك وهو قول الشافعي وقال ابن أبي ليلى وقوم من أهل العراق تقسم العين
بينهم على حسب عول الفرائض لصاحب الكل ستة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث
اثنان فصح من أحد عشر سهما.
وسئل سهل بن عبد الله بن أويس عن ثلاثة ادعوا كيسا وهو بأيديهم ولا بينة لهم وحلف كل
واحد منهم على ما ادعاه ادعى أحدهم جميعه وادعى الآخر ثلثيه وادعى آخر نصفه فأجاب فيها بشعر:
نظرت أبا يعقوب في الحسب التي طرت * فأقامت منهم كل قاعد
فللمدعي الثلثين ثلث وللذي * استلاط جميع المال عند التحاشد
من المال نصف غير ما سيغو به * وحصته من نصف ذا المال زائد
وللمدعي نصفا من المال ربعه * ويؤخذ نصف السدس من كل واحد
وهذا قول من قسم المال بينهم على حسب العول فكأن المسألة عالت إلى ثلاثة عشر وذلك
175

انه أخذ مخارج الكسور وهي ستة فجعلها لمدعي الكل وثلثاها أربعة لمدعي الثلثين ونصفها ثلاثة
لمدعي النصف صارت ثلاثة عشر
(فصل) فإن كانت الدار في أيدي أربعة فادعى أحدهم جميعها والثاني ثلثيها والثالث نصفها
والرابع ثلثها ولا بينة لهم حلف كل واحد منهم وله ربعها لأنه في يده والقول قول صاحب اليد مع
يمينه، وإن أقام كل واحد منهم بما ادعاه بينة قسمت بينهم أرباعا أيضا لأننا ان قلنا تقدم بينة الداخل
فكل واحد منهم داخل في ربعها فتقدم بينته فيه، وإن قلنا تقدم بينة الخارج فإن الرجلين إذا ادعيا
عينا في يد غيرهما فأنكرهما وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه تعارضتا وأقر الشئ في يد من هو
في يده، وإن كانت الدار في يد خامس لا يدعيها ولا بينة لواحد منهم بما ادعاه فالثلث لمدعي الكل
لأن أحدا لا ينازعه فيه ويقرع بينهم في الباقي، فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو مدعي الثلثين
أخذه وإن وقعت لمدعي النصف أخذه وأقرع بين الباقين في الباقي فإن وقعت لصاحب الثلث أخذه
وأقرع بين الثلاثة في الثلث الباقي وهذا قول أبي عبيد والشافعي إذ كان بالعراق إلا انهم عبروا عنه
بعبارة أخرى فقالوا لمدعي الكل الثلث ويقرع بينه وبين مدعي النصف في السدس الزائد عن الثلث
ثم يقرع بين الأربعة في الثلث الباقي ويكون الاقرار في ثلاثة مواضع، على الرواية الأخرى الثلث
لمدعي الكل ويقسم السدس الزائد عن النصف بينه وبين مدعي الثلثين ثم يقسم السدس الزائد عن
الثلث بينهما وبين مدعي النصف أثلاثا ثم يقسم الثلث الباقي بين الأربعة أرباعا وتصح المسألة من
176

ستة وثلاثين سهما لصاحب الكل ثلثها اثنا عشر ونصف السدس الزائد عن النصف ثلاثة وثلث
السدس الزائد عن الثلث سهمان وربع الثلث الباقي ثلاثة فيحصل له عشرون سهما وذلك خمسة
أتساع الدار، ولمدعي الثلثين ثمانية أسهم تسعان وهي مثل ما لمدعي الكل بعد الثلث الذي انفرد به
ولمدعي النصف خمسة أسهم تسع وربع تسع، ولمدعي الثلث ثلاثة نصف سدس وعلى قول من قسمها
على العول من خمسة عشر لصاحب الكل ستة ولصاحب الثلثين أربعة ولصاحب الثلث سهمان
ولصاحب النصف ثلاثة وعلى قول أبي ثور لصاحب الكل الثلث ويوقف الباقي
(مسألة) (وان تنازع الزوجان أو ورثتهما في قماش البيت فما كان يصلح للرجال فهو للرجل
وما كان يصلح للنساء فهو للمرأة وما كان يصلح لهما فهو بينهما)
إذا اختلف الزوجان في قماش البيت أو في بعضه فقال كل واحد منهما جميعه لي أو قال كل
واحد منهما هذه العين لي وكانت لأحدهما بينة ثبت له بلا خلاف، وان لم تكن لواحد منهما بينة
فالمنصوص عن أحمد ان ما يصلح للرجال من العمائم وقمصانهم وجبابهم والأقبية والطيالسة والسلاح
وأشباه ذلك القول فيه قول الرجل مع يمينه وما يصلح للنساء كحليهن وقمصهن ومقانعهن ومغازلهن
177

فالقول قول المرأة مع يمينها وما يصلح لهما كالمفارش والأواني فهو بينهما وسواء كان في أيديهما
من طريق الحكم أو من طريق المشاهدة وسواء اختلفوا في حال الزوجية أو بعد البينونة وسواء
اختلفا أو اختلف ورثتهما أو أحدهما وورثه الآخر
قال احمد في رواية الجماعة منهم يعقوب بن بختان في الرجل يطلق زوجته أو يموت فتدعي المرأة
المتاع: فما كان يصلح للرجال فهو للرجل وما كان من متاع النساء فهو للنساء وما استقام أن يكون
للرجال وللنساء فهو بينهما، فإن كان المتاع على يدي غيرهما فمن أقام البينة دفع إليه وان لم تكن لهما
بينة أقرع بينهما فمن كانت له القرعة حلف وأعطي المتاع وقال في رواية مهنا وكذلك ان اختلفا
وأحدهما مملوك وبهذا قال الثوري وابن أبي ليلى لأن أيديهما جميعا على قماش البيت بدليل ما لو نازعهما
فيه أجنبي كان القول قولهما وقد يرجح أحدهما على صاحبه يدا وتصرفا فيجب تقديمه كما لو تنازعا
دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامهما أو قميصا أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه أو جدارا
متصلا بجداريهما معقودا ببناء أحدهما
(مسألة) (وان اختلف صانعان في قماش دكان لهما حكم بآلة كل صناعة لصاحبها في ظاهر كلام أحمد والخرقي)
لما ذكرنا فيما إذا اختلف الزوجان في قماش البيت فألة العطار له وآلة النجارين للنجار فإن
لم يكونا في دكان واحد ولكن اختلفا في عين لم يرجح أحدهما بصلاحية العين المختلف له فيها
كما يذكر في مسألة الزوجين بعد وقال القاضي هذا إنما هو إذا كانت أيديهما عليه من طريق
178

الحكم أما ما كان في يد أحدهما من طريق المشاهدة فهو له مع يمينه، وإن كان في أيديهما قسم بينهما
نصفين سواء كان يصلح لهما أو لأحدهما وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن الا أنهما قالا ما يصلح
لهما ويدهما عليه من طريق الحكم فالقول فيه قول الرجل مع يمينه، وإذا اختلف أحدهما وورثه الاخر
فالقول قول الباقي، لأن اليد المشاهدة أقوى من اليد الحكمية بدليل ما لو تنازع الخياط وصاحب الدار
في الإبرة والمقص كانت للخياط وقال أبو يوسف القول قول المرأة فيما جرت العادة انه قدر جهاز
مثلها وقال مالك ما صلح لكل واحد منهما فهو له وما صلح لهما كان للرجل سواء كان في أيديهما من
طريق المشاهدة أو من طريق الحكم لأن البيت للرجل ويده عليه أقوى لأن عليه السكنى وقال
الشافعي وزفر والبتي ما كان في البيت فهو لهما نصفين فيحلف كما واحد منهما على نصفه ويأخذه
وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأنهما تساويا في ثبوت يدهما على المدعى وعدم
البينة فلم يقدم أحدهما على صاحبه كالذي يصلح لهما أو كما لو كان في يدهما من حيث المشاهدة عند من سلم ذلك
ولنا أن يديهما جميعا على متاع البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي كان القول قولهما وقد يرجح
أحدهما على صاحبه يدا وتصرفا فيجب أن يقدم كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها
أو جدارا متصلا بداريهما معقودا ببناء أحدهما أوله أزج
ولنا على أبي حنيفة والقاضي انهما تنازعا فيما في أيديهما أشبه إذا كان في اليد الحكمية، فاما ما كان
179

يصلح لهما فإنه في أيديهما ولا مزية لأحدهما على صاحبه أشبه إذا كان في أيديهما من جهة المشاهدة
والدلالة على أنه ليس للباقي منهما ان وارث الميت قائم مقامه أشبه ما لو جعل أحدهما لنفسه وكيلا
(فصل) فأما إذا لم تكن لأحدهما يد حكمية بل تنازع رجل وامرأة في عين غير قماش بينهما
فلا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له بل إن كانت في أيديهما فهي بينهما وان كانت في يد أحدهما
فهي له وان كانت في يد غيرهما اقترعا عليها فمن خرجت له القرعة فهي له واليمين على من حكمنا
له بها في كل المواضع لأنه ليس لهما يد حكمية فاشبها سائر المختلفين
(مسألة) (وكل من قلنا هو له فهو له مع يمينه إذا لم تكن بينة) لاحتمال ما ادعاه خصمه
(مسألة) (وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها)
وجملة ذلك أن البينة إذا كانت للمدعي وحده وكانت العين في يد المدعى عليه حكم باليمين
للمدعي بغير خلاف ولم يحلف وهو قول أهل الفتيا من أهل الأمصار منهم الزهري والثوري وأبو
حنيفة ومالك والشافعي وقال شريح وعون بن عبد الله والنخعي والشعبي وابن أبي ليلي يستحلف
الرجل مع بينته قال شريح لو أثبت كذا وكذا شهداء عندي ما قضيت لك حتى تحلف
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البنية على المدعي واليمين على المدعى عليه) ولان البينة أحد حجتي الدعوى
180

فيكتفى بها كاليمين إذا ثبت ذلك فقال أصحابنا لا فرق بين الحاضر والغائب والحي والميت والعاقل
والمجنون والصغير والكبير وقال الشافعي إذا كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه احلف المشهود له
لأنه لا يعبر عن نفسه في دعوى القضا والابراء فيقوم الحاكم مقامه في ذلك لنزول الشبهة قال شيخنا
وهذا حسن فإن قيام البينة للمدعي بثبات حقه لا بنفي احتمال القضاء والابراء بدليل ان المدعى عليه
لو ادعاه سمعت دعواه وبينته فإذا كان حاضرا مكلفا فسكوته عن الدعوى دليل على انتفائه فيكتفى
بالبينة فإن كان غائبا أو ممن لا قول له بقي احتمال ذلك من غير دليل يدل على انتفائه فتشرع اليمين
لنفيه وان لم تكن للمدعي بينة وكانت للمنكر بينة سمعت بينته ولم يحتج إلى الحلف معها لأنا ان
قلنا بتقديمها مع التعارض وانه لا يحلف معها فمع افرادها اولي، وان قلنا بتقديم بينة المدعى عليه
فيجب ان يكتفى بها عن اليمين لأنها أقوى من اليمين فإذا اكتفي باليمين فيما هو أقوى منها أولى
ويحتمل ان تشرع أيضا لأن البينة ههنا يحتمل أن يكون مستندها اليد والتصرف فلا تفيد الا
ما إفادته اليد والتصرف لا يغني عن اليمين فكذلك ما قام مقامه
(مسألة) (وإن كان لكل واحد منهما بينة حكم بها للمدعي في ظاهر المذهب، وعنه إن
181

شهدت بينة المدعى عليه أنها له نتجت في ملكه أو قطيعة من الإمام قدمت بينته وإلا فهي للمدعي
ببينته وقال القاضي فيهما إذا لم يكن مع بينة الداخل ترجيح لم يحكم بها رواية واحدة وقال أبو الخطاب
فيه رواية أخرى أنها مقدمة بكل حال)
وجملة ذلك أن من ادعى عينا في يده غير فأنكره وأقام كل واحدة منهما بينة حكم بها للمدعي
ببينته وتسمى بينة الخارج وبينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل وقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه
الله فيما إذا تعارضتا فالمشهور عنه تقديم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعى عليه بحال وهذا اختيار
الخرقي وهو قول إسحاق وعنه رواية ثانية ان شهدت بينة الداخل بسبب الملك فقالت نتجت في
ملكه أو اشتراها أو نسجها أو كانت بينته أقدم تاريخا قدمت وإلا قدمت بينة المدعي وهو قول
أبي حنيفة وأبي ثور في النتاج والنساج فيما لا يتكرر نسجه، وأما ما يتكرر نسجه كالخز والصوف فلا
تسمع بينته لأنها إذا شهدت بالسبب فقد أفادت مالا تفيده اليد وقد روى جابر بن عبد الله ان النبي
صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير فقام كل واحد منهما البينة أنه أنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
للذي هي في يده، وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة ان بينة المدعى عليه تقدم بكل حال وهو قول شريح
والشعبي والحكم والشافعي وأبي عبيد وقال هو قول أهل المدينة وأهل الشام وروي ذلك عن طاوس
وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد وقال لا تقدم بينة الداخل إذا لم تفد الا ما إفادته يده رواية
واحدة واحتج من ذهب إلي تقديم بينة المدعى عليه بان جنبته أقوى لأن الأصل معه ويمينه تقدم
182

على يمين المدعي فإذا تعارضت البيتان وجب ابقاء يده على ما فيها وتقديمه كما لو لم تكن بينة لواحد
منهما وحديث جابر يدل على هذا فإنه إنما قدم بينته ليده
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) فجعل جنس البينة من جنبة
المدعي فلا يبقي في جنبة المدعى عليه بينة ولان بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة
الجرح والتعديل ودليل كثرة فائدتها أنها تثبت شيئا لم يكن وبينة المنكر إنما تثبت ظاهرا تدل
اليد عليه فلم تكن مفيدة ولان الشهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتصرف فإن ذلك
جائز عند كثير من أهل العلم فصارت البينة بمنزلة اليد المفردة فقدم عليه بينة المدعي كما تقدم اليد
كما أن شاهدي الفرع لما كانا مبنيين على شاهدي الأصل لم تكن لهما مزية عليهما
(فصل) وأي البينتين قدمناها لم يحلف صاحبها وقال الشافعي في أحد قوليه يستحلف صاحب
اليد لأن البينتين سقطتا بتعارضهما فصارتا كمن لا بينة لهما فيحلف الداخل كما لو لم تكن لواحد منهما بينة
ولنا ان إحدى البينتين راجحة فيجب الحكم بها منفردة كما لو تعارض خبران خاص وعام
أو أحدهما أرجح بوجه من الوجوه ولا نسلم ان البينة الراجحة تسقط وإنما ترجح ويعمل
بها وتسقط المرجوحة
(مسألة) (وان أقام الداخل ببينة أنه اشتراها من الخارج وأقام الخارج بينة انه اشتراها
183

من الداخل فقال القاضي تقدم بينة الداخل لأنه الخارج في المعنى وقيل تقدم بينة الخارج)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي)
(فصل) إذا ادعى الخارج ان العين ملكه وأنه أودعها الداخل أو اعاره إياها أو اجرها منه
ولم تكن لواحد منهما بينة فالقول قول المنكر مع يمينه لا نعلم فيه خلافا وإن كان لكل واحد منهما
بينة قدمت بينة الخارج وهو قول الشافعي وقال القاضي بينة الداخل مقدمة لأنه هو الخارج في
المعنى كالمسألة قبلها لأنه ثبت ان المدعي صاحب اليد فإن يد الداخل نائبة عنه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) فتكون البينة للمدعي كما لو لم
يدع الايداع. يحققه ان دعواه الايداع زيادة في حجته وشهادة البينة بها تقوية لها فلا يجوز أن تكون
مبطلة لبينته، وان ادعى الخارج ان الداخل غصبه إياها وقام بينتين قضي للخارج ويقتضي قول القاضي انها
للداخل والأولى ما ذكرناه
(فصل) فإن كان في يد رجل جلد شاة مسلوخة ورأسها وسواقطها وباقيها في يد آخر فادعاها
كل واحد منهما جميعها ولا بينة لهما ولا لأحدهما فلكل واحد منهما ما في يده مع يمينه وان أقاما
بينتين وقلنا تقدم بينة الداخل فلكل واحد منهما ما في يده من غير يمين وإن كان في يد كل واحد
منهما شاة فادعى كل واحد منهما ان الشاة التي في يد صاحبه له ولا بينة لهما حلف كل واحد منهما
184

لصاحبه وكانت الشاة التي في يده له وان أقاما بينتين فلكل واحد منهما شاة التي في يد صاحبه ولا تعارض
بينهما وإن كان كل واحد قال هذه الشاة التي في يدك لي من نتاج شاتي هذه فالتعارض في النتاج لا في
الملك وان ادعى واحد منهما ان الشاتين له دون صاحبه وأقاما بينتين تعارضتا وانبنى ذلك على القول
في بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الخارج جعل لكل واحد منهما ما في يد الآخر ومن قدم بينة
الداخل أو قدمها إذا شهدت بالنتاج جعل لكل واحد منهما ما في يده
(فصل) إذا ادعى زيد شاة في يد عمرو وأقام بها بينة فحكم له بها حاكم ثم ادعاها عمرو على زيد
وأقام بها بينة فإن قلنا بينة الخارج مقدمة لم تسمع بينة عمرو لأن بينة زيد مقدمة عليها وان قلنا
بينة الداخل مقدمة نظرنا في الحكم كيف وقع؟ فإن كان حكم بها لزيد لأن عمرا لا بينة له ردت
إلى عمرو لأنه قد قامت له بينة واليد كانت له وإن كان حكم بها لزيد لأنه يرى تقديم بينة الخارج
لم ينقض حكمه لأنه حكم بما يسوغ الاجتهاد فيه وان كانت بينة عمرو قد شهدت له أيضا وردها
الحاكم لفسقها ثم عدلت لم ينقض الحكم أيضا لأن الفاسق إذا شهد عند الحاكم بشهادة فردها لفسقه
ثم أعادها بعد لم تقبل وان لم يعلم الحكم كيف كان لم ينقض لأنه حكم حاكم الأصل جريانه على الصحة
والعدل فلا ينقض بالاحتمال وان جاء ثالث فادعاها وأقام بها بينة فبينته وبينة زيد متعارضتان ولا
185

يحتاج زيد إلى إقامة بينة لأنها قد شهدت مرة وهما سواء في الشهادة حال التنازع فلم يحتج إلى اعادتها
كالبينة إذا شهدت ووقف الحكم على البحث عن حالها ثم بانت عدالتها فإنها تقبل ويحكم بها من
غير إعادة شهادتهما كذا ههنا
(فصل) وإذا كان في يد رجل شاة فادعاها رجل انها له منذ سنة وأقام بذلك بينة وادعى
الذي هي في يده انها في يديه منذ سنتين وأقام بذلك بينة فهي للمدعي بغير خلاف لأن بينته تشهد له
بالملك وبينة الداخل تشهد باليد خاصة فلا تعارض بينهما لامكان الجمع بينهما بان تكون اليد عن غير
ملك فكانت بينة الملك أولى وان شهدت بينته بأنها ملكه منذ سنتين فقد تعارض ترجيحان تقديم
التاريخ من بينة الداخل وكون الأخرى بينة الخارج ففيه روايتان (إحداهما) تقدم بينة الخارج
وهو قول أبي يوسف ومحمد وأبي ثور ويقتضيه عموم كلام الخرقي لقوله عليه الصلاة والسلام (البينة
على المدعي) ولان بينة الداخل يجوز أن يكون مستندها اليد فلا تفيد أكثر مما تفيده اليد فأشبهت
الصورة الأولى (والثانية) تقدم بينة الداخل وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنها تضمنت زيادة
وان كانت بالعكس فشهدت بينة الداخل انه يملكها منذ سنة وشهدت بينة الخارج انه يملكها منذ
سنتين قدمت بينة الخارج الا على الرواية التي تقدم فيها بينة الداخل فيخرج فيها وجهان بناء على
الروايتين في التي قبلها وظاهر مذهب الشافعي تقديم بينة الداخل على كل حال وقال بعضهم فيها
186

قولان فإن ادعى الخارج انها ملكه منذ سنة وادعي الداخل انه اشتراها منه منذ سنتين وأقام
كل واحد منهما بينة قدمت بينة الداخل ذكره القاضي وهو قول أبي ثور فإن اتفق تاريخ البينتين
إلا أن بينة الداخل تشهد بنتاج أو شراء أو غنيمة أو ارث أو هبة من مالك أو قطيعة من الإمام أو
سبب من أسباب الملك ففي أيهما يقدم روايتان ذكرناهما فإن ادعى انه اشتراها من الآخر قضي له بها
لأن بينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفي على البينة الأخرى فقدمت عليها كما تقدم بينة الجرح على التعديل
(فصل) قال رحمه الله (القسم الثاني أن تكون العين في يديهما فيتحالفان وتقسم بينهما)
وجملة ذلك أنه إذا تنازع نفسان في عين في أيديهما فادعى كل واحد منهما انها له دون صاحبه
ولم تكن لهما بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وجعلت بينهما نصفين لا نعلم في هذا خلافا لأن يد كل
واحد منهما على نصفها والقول قول صاحب اليد مع يمينه وإن نكلا جميعا عن اليمين فكذلك لأن
كل واحد منهما يستحق ما في يد الآخر بنكوله، وان نكل أحدهما وحلف الآخر قضي له بجميعها
لأنه يستحق ما في يده بيمينه وما في يد الآخر بنكوله أو بيمينه التي ردت عليه بنكول صاحبه،
وإن كان لأحدهما بينة دون الآخر حكم له بها بغير خلاف علمناه لأنه يرجح بالبينة
(مسألة) (وان تنازعا مسناة بين نهر أحدهما وارض الآخر تحالفا وهي بينهما)
لأنها حاجز بين ملكيهما فكانت يدهما عليه كما لو تنازعا حائطا بين داريهما وفي كل موضع قلنا
187

هو بينهما نصفين إنما يحلف كل واحد منهما على النصف الذي يجعله له دون ما لا يحصل له
(مسألة) (وان تنازعا صبيا في يديهما فكذلك)
لأن يديهما عليه واليد دليل الملك والطفل لا يعبر عن نفسه فهو كالبهيمة والمتاع إلا أن يعترف
أن سبب يده غير الملك مثل ان يلتقطه فلا تقبل دعواه لرقه لأن اللقيط محكوم بحريته فاما غيره
فقد وجد فيه دليل الملك من غير معارض فيحكم برقه فعلى هذا إذا بلغ فادعى الحرية لم تسمع دعواه
لأنه محكوم برقه قبل دعواه فاما إن كان مميزا فقال إني حر منعا منه إلا أن تقوم بينة برقه لأن
الظاهر الحرية وهي الأصل في بني آدم والرق طارئ عليها فإن كان له بينة قدمت البينة لأنها تقدم
على الأصل لأنها تشهد بزيادة ويحتمل أن يكون كالطفل فيكون بينهما لأنه غير مكلف أشبه الطفل
والأول أولى لأن المميز يصح تصرفه بالوصية ويلزم بالصلاة أشبه البالغ ولأنه يعرب عن نفسه في
دعوى الحرية أشبه البالغ فاما البالغ إذا ادعى رقه فأنكر لم يثبت رقه الا ببينة وان لم تكن له بينة فالقول
قوله مع يمينه في الحرية لأنها الأصل وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي فإن ادعى رقه اثنان
فاقر لهما بالرق ثبت رقه فإن ادعاه كل واحد منهما لنفسه فاعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له وبه قال
الشافعي وقال أبو حنيفة يكون بينهما نصفين لأن يدهما عليه فأشبه الطفل والثوب
ولنا أنه إنما ثبت رقه باعترافه فكان مملوكا لمن اعترف له كما لو لم تكن يده عليه ويخالف الثوب
188

والطفل فإن الملك حصل فيهما باليد وقد تساويا فيها وههنا حصل بالاعتراف وقد اختص به أحدهما
فكان مختصا به فإن أقام كل واحد بينة أنه مملوكه تعارضتا وسقطتا ويقرع بينهما أو يقسم بينهما على
ما مر من التفصيل فإن قلنا بسقوطهما ولم يعترف لهما بالرق فهو حر وان اعترف لأحدهما فهو لمن
اعترف له وإن أقر لهما معا فهو بينهما لأن البينتين سقطتا فصارتا كالمعدومتين وان قلنا بالقرعة أو بالقسمة
فأنكرهما لم يلتفت إلى إنكاره فإن اعترف لأحدهما لم يلتفت إلى اعترافه لأن رقه ثابت بالبينة فلم يبق له
يد على نفسه كما قلنا فيما إذا ادعى رجلان دارا في يد ثالث وأقام كل واحد بينة أنها ملكه واعترف
أنها ليست له ثم أقر أنها ليست له ثم أقر انها لأحدهما لم يرجح باقراره
(مسألة) (وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها لأنه ترجح بالبينة وإن كان لكل واحد منهما
بينة قدم اسبقهما تاريخا فإن وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى فهما سواء ويحتمل تقديم المطلقة)
أما إذا أقام كل واحد منهما بينة وتساوتا تعارضتا وقسمت العين بينهما نصفين وبهذا
قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لما روى أبو موسى أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين رواه
أبو داود ولان كل واحد منهما داخل في نصف العين خارج في نصفها فتقدم بينة كل واحد منهما
189

فيما في يده عند من يقدم بينة الداخل وفيما في يد صاحبه عند من يقدم بينة الخارج فيستويان على
كل واحد من القولين.
(مسألة) (وان كانت إحداهما متقدمة التاريخ وحكم بها له مثل أن تشهد إحداهما أنها له منذ
سنة وتشهد الأخرى أنها للآخر منذ سنتين فيقدم أسبقهما تاريخا)
قال القاضي هو قياس المذهب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأن المتقدمة التاريخ
أثبتت الملك له في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى فيثبت الملك فيه ولهذا له المطالبة بالنماء في ذلك
الزمان وتعارضت البينتان في الملك في الحال فسقطتا وبقي ملك السابق تحت استدامته وأن لا يثبت
لغيره ملك الا من جهته وظاهر كلام الخرقي التسوية بينهما وهو أحد قولي الشافعي ووجهه أن الشاهد
بالملك الحادث أحق بالترجيح لجواز أن يعلم به دون الأول بدليل انه لو ذكر أنه اشتراه من الآخر
أو وهبه إياه لقدمت بينته اتفاقا فإذا لم يرجح بها فلا أقل من التساوي وقولهم إنه يثبت الملك في الزمان
الماضي من غير معارضة قلنا إنما يثبت تبعا لثبوته في الحال ولو انفرد بان يدعي الملك في الماضي لم
تسمع دعواه ولا بينته
(مسألة) (فإن وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى فهما سواء) ذكره القاضي ويحتمل أن يحكم به
لمن يوقت قاله أبو الخطاب وهو قول أبي يوسف ومحمد
190

ولنا انه ليس في إحداهما ما يقتضي الترجيح من تقدم الملك ولا غيره فوجب استواؤهما كما لو
أطلقا أو استوى تاريخهما
(مسألة) (وان شهدت إحداهما بالملك والأخرى بالملك والنتاج أو سبب من أسباب الملك
فهل يرجح بذلك؟ على وجهين)
(إحداهما) لا يرجح به وهو اختيار الخرقي لأنهما تساوتا فيما يرجع إلى المختلف فيه وهو ملك
العين الآن فوجب تساويهما في الحكم
(والثاني) تقدم بينة النتاج وما في معناه وهو مذهب أبي حنيفة لأنها تتضمن زيادة علم
وهو معرفة السبب والأخرى خفي عليها ذلك فيحتمل أن تكون شهادتها مستندة إلى مجرد اليد
والتصرف فتقدم الأولى عليها كتقديم بينة الجرح على التعديل، وهذا قول القاضي فيما إذا كانت
العين في يد غيرهما.
(مسألة) ولا تقدم إحداهما بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة ولا الرجلان على الرجل وامرأتين
ويقدم الشاهدان على الشاهد واليمين في أحد الوجهين)
لا ترجح إحدى البينتين بكثرة العدد واشتهار العدالة وهو قول أبي حنيفة والشافعي ويتخرج
أن يرجح بذلك مأخوذا من قول الخرقي ويقدم الأعمى أوثقهما في نفسه وهذا قول مالك لأن أحد
الخبرين يرجح بذلك فكذلك الشهادة ولأنها خبر ولان الشهادة إنما اعتبرت لغلبة الظن بالمشهود به
191

وإذا كثر العدد أو قويت العدالة كان الظن أقوى وقال الأوزاعي تقسم على عدد الشهود فإذا شهد لأحدهما
شاهدان وللآخر أربعة قسمت العين بينهما أثلاثا لأن الشهادة سبب الاستحقاق فتوزع الحق عليها
ولنا ان الشهادة مقدرة بالشرع فلا تختلف بالزيادة كالدية بخلاف الخبر فإنه مجتهد في قبول
خبر الواحد دون العدد فرجح بالزيادة والشهادة متفق فيها على خبر الاثنين فصار الحكم متعلقا بهما
دون اعتبار الظن ألا ترى أنه لو شهد النساء منفردات لا تقبل شهادتهن وان كثرن حتى صار الظن
بشهادتهن أغلب من شهادة الذكرين؟ وعلى هذا لا ترجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين في
المال لأن كل واحدة من البينتين حجة في المال فإذا اجتمعتا تعارضتا فاما إن كان لأحدهما شاهدان
وللآخر شاهد فبذل يمينه معه ففيه وجهان:
(أحدهما) يتعارضان لأن كل واحد منهما حجة بمفرده فأشبه الرجلين مع الرجل والمرأتين
(والثاني) يقدم الشاهدان لأنهما حجة متفق عليها والشاهد واليمين مختلف فيهما ولان اليمين قوله لنفسه
والبينة الكاملة شهادة الأجنبيين فوجب تقديمها كتقديمها على يمين المنكر وهذا الوجه أصح إن شاء الله
تعالى وللشافعي قولان كالوجهين
(مسألة) وان تساوتا تعارضتا وقسمت العين بينهما بغير يمين وعنه أنهما يتحالفان كمن لا بينة
لهما وعنه أنه يقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها)
192

وجملة ذلك أن البينتين إذا تساوتا تعارضتا وقسمت العين نصفين لما ذكرنا من حديث أبي
موسى وما ذكرناه من المعنى. واختلفت الرواية هل يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به
أو يكون له من غير يمين؟ روي أنه يحلف وهو الذي ذكره الخرقي لأن البينتين لما تعارضتا من غير
ترجيح وجب اسقاطهما كالخبرين إذا تعارضا وتساويا وإذا سقطا صار المختلفان كمن لا بينة لهما
ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به وهذا أحد قولي الشافعي بناء على أن اليمين تجب
على الداخل مع بينته ويحلف معها
والرواية الأخرى: تقسم بينهما العين من غير يمين وهو قول مالك وأبي حنيفة والقول الثاني
للشافعي وهو أصح إن شاء الله للخبر والمعنى الذي ذكرناه ولا يصح قياس هاتين البينتين على الخبرين
المتساويين لأن كل بينة راجحة في نصف العين على كل واحد من القولين وقد ذكرنا ان البينة
يحكم بها من غير يمين وفيه رواية أخرى أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له لا حق
للآخر فيها وكانت العين له كما لو كانت في يد غيرهما ذكر هذه الرواية أبو الخطاب والأولى أصح
إن شاء الله تعالى للخبر والمعنى.
(مسألة) (وإن ادعى أحدهما انه اشتراها من زيد لم تسمع البينة على ذلك حتى تقول وهو
ملكه وتشهد البينة به)
193

وجملة ذلك أنه متى كان في يد رجل عين فادعى آخر أنه اشتراها من زيد وهي ملكه وأقام بذلك بينة
حكم له بها لأنه ابتاعها من مالكها وكذا ان شهدت أنه باعه إياها وسلمها إليه حكم له بها لأنه لم يسلمها إليه
إلا وهي في يده وإن لم يذكر إلا التسليم لم يحكم بها لأنه يمكن أن يبيعه مالا يملكه فلا يزال صاحب
اليد فإن ادعي أحدهما انه اشتراها من زيد وهي ملكه وادعى الآخر انه اشتراها من عمرو وهي
ملكه وأقاما بذلك بينتين تعارضتا فإن كانت في يد أحدهما انبنى ذلك على الروايتين في تقديم بينة
الخارج والداخل فإن كانت في أيديهما قسمت بينهما لأن بينة كل واحد منهما داخلة في أحد النصفين
خارجة عن النصف الآخر وإن كانت في يد أحد البائعين فأنكرهما وادعاها لنفسه فإن قلنا تسقط
البينتان حلف وكانت له وإن أقر بها لأحدهما صار الداخل إلا أن يقر بعد أن يحلف انها له وإن قلنا
يقدم أحدهما بالقرعة فهي لمن تخرج له القرعة مع يمينه وإن قلنا تقسم بينهما قسمت ورجع كل أحد
منهما بنصف ثمنها فإن كان المبيع مما يدخل في ضمان المشتري بنفس العقد أو كان المشتري مقرا بقبضه
فلا خيار لو حد منهما ولا الرجوع بشئ من الثمن لاعترافه بسقوط الضمان على البائع وإن كان من
194

المكيل والموزون ولم يقبض فلكل واحد منهما الخيار في الفسخ والامضاء فإن اختار أحدهما الفسخ
لم يتوفر المبيع على الآخر لأن البائع اثنان والله أعلم
(مسألة) (وإن أقام أحدهما بينة انها ملكه وأقام الآخر بينة انه اشتراها أو أعتقه قدمت بينة الثاني)
لأنها تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الملك ولا تعارض بينهما فيثبت الملك للأول
والشراء منه للثاني.
(مسألة) (وان أقام رجل بينة ان هذه الدار لأبي خلفها تركة وأقامت امرأته بينة ان أباه
أصدقها إياها فهي للمرأة) لما ذكرنا
(فصل) قال رضي الله عنه (القسم الثالث تداعيا عينا في يد غيرهما فإن يقرع بينهما، فمن
خرجت له القرعة حلف انها له وأخذها)
وجملة ذلك أن الرجلين إذا تداعيا عينا في يد غيرهما ولا بينة لهما فأنكرهما فالقول قوله مع يمينه
بغير خلاف، وان اعترف أنه لا يملكها وقال لا أعرف صاحبها أو قال هي لاحدكما لا أعرفه عينا
أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف انها له وسلمت إليه لما روى أبو هريرة ان رجلين تداعيا عينا
لم تكن لواحد منهما بينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها رواه أبو داود،
ولأنهما تساويا في الدعوى ولا بينة لواحد منهما ولا يد والقرعة تميز عند التساوي كما لو أعتق عبيدا
الا مال له غيرهم في مرض موته
195

(مسألة) (فإن كان المدعى عبدا فأقر لأحدهما لم يرجح باقراره)
لأنه محجور عليه أشبه الطفل فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها بغير خلاف نعلمه
(مسألة) (وان كانت لكل واحد منهما بينة ففيه روايتان ذكرهما أبو الخطاب)
(إحداهما) تسقط البينتان ويقترع ليتداعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة هذا الذي ذكره القاضي
وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ذكر القرعة ولم يفرق بين أن تكون معها بينة أو لم تكن روي هذا عن
ابن عمر وابن الزبير وبه قال إسحاق وأبو عبيد وهو رواية عن مالك وقديم قولي الشافعي لما روى
ابن المسيب ان رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة وجاء كل واحد منهما بشهود عدول
على عدة واحدة فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما رواه الشافعي في مسنده ولان البينتين حجتان تعارضتا من
غير ترجيح لإحداهما على الأخرى فسقطتا كالخبرين
(والرواية الثانية) تستعمل البينتان وفي كيفية استعمالهما روايتان (إحداهما) تقسم العين بينهما
وهو قول الحارث العكلي وقتادة وابن شبرمة وحماد وأبي حنيفة وقول للشافعي لما ذكرنا من حديث
أبي موسى ولأنهما تساويا في دعواه فتساويا في قسمته (والرواية الثانية) تقدم إحداهما وهو قول
للشافعي وله قول رابع يوقف الامر حتى يتبين وهو قول أبي ثور لأنه اشتبه الامر فوجب التوقف
كالحاكم إذا لم يتضح الحكم له في قضية
196

ولنا خبر أبي موسى وخبر ابن المسيب ولان تعارض الحجتين لا يوجب التوقف كالخبرين بل
إذا تعذر الترجيح أسقطناهما ورجعنا إلى دليل غيرهما إذا ثبت هذا. فأما إذا أسقطنا البينتين أقرعنا
بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها كما لو لم تكن لهما بينة، وان قلنا يعمل بالبينتين ويقرع
بينهما فمن خرجت له القرعة أخذها من غير يمين وهذا قول الشافعي لأن البينة تغني عن اليمين،
وقال أبو الخطاب عليه اليمين مع بينته ترجيحا لها وعلى هذا القول تكون هذه الرواية كالأولى وإنما يظهر
اختلاف الحكم في شئ آخر سنذكره إن شاء الله تعالى
(فصل) وان أنكرهما من العين في يده وكانت لأحدهما بينة حكم له بها وإن أقام كل واحد منهما
بينة فإن قلنا تستعمل البينتان أخذت العين من يده وقسمت بينهما على قول من يرى القسمة وتدفع إلى من
تخرج له القرعة عند من يرى ذلك، وان قلنا تسقط البينتان حلف صاحب اليد وأقرت في يده كما لو لم تكن لهما بينة
(مسألة) (وان أقر صاحب اليد لأحدهما لم يرجح باقراره إذا قلنا لا تسقط البينتان)
لأنه قد ثبت زوال ملكه فصار كالأجنبي وان قلنا بسقوطهما فأقر بها لهما أو لأحدهما قبل
اقراره، فأما ان أقر بها في الابتداء لأحدهما صار المقر له صاحب اليد لأن من هي في يده مقر بأن
يده نائبة عن يده، وان أقر لهما جميعا فاليد لكل واحد منهما في الجزء الذي أقر له به لذلك
197

(مسألة) (وان ادعاها صاحب اليد لنفسه وقلنا بسقوط البينتين حلف لكل واحد منهما وهي
له وهو قول القاضي)
لأنه صاحب اليد وهو منكر فلزمته اليمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اليمين على من
أنكر) وقال أبو بكر بل يقرع بين المدعيين فتكون لمن تخرج له القرعة وهذا ينبني على أن البينتين
إذا تعارضتا لا يسقطان فرجحت إحدى البينتين بالقرعة كما لو أقر صاحب اليد انها لأحدهما لا يسلمه بعينه
(فصل) إذا تداعيا عينا في يد غيرهما فقال هي لاحدكما لأعرفه عينا أو قال لا أعرف صاحبها
أو هو أحدكما أو غيركما أو قال أودعنيها أحدكما أو رجل لا أعرفه عينا فادعى كل واحد منهما انك
تعلم اني صاحبها أو اني أنا الذي أودعتكها وطلب يمينه لزمه أن يحلف له لأنه لو أقر له لزمه تسليمها
إليه ومن لزمه الحق مع الاقرار لزمته اليمين مع الانكار ويحلف على ما ادعاه من نفي العلم وإن صدقاه
فلا يمين عليه، وان صدقه أحدهما حلف الآخر وإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار المقر له صاحب
اليد فإن قال غير المقر له احلف لي ان العين ليست ملكي أو اني لست الذي أودعكها لزمته اليمين
على ما ادعاه من ذلك لما ذكرنا وإن نكل عن اليمين قضي عليه بقيمتها وإن اعترف لهما كان الحكم
فيها كما لو كانت في أيديهما ابتداءا وعليه اليمين لكل واحد منهما في النصف المحكوم به لصاحبه
وعلى كل واحد منهما اليمين لصاحبه في الصنف المحكوم له به.
(فصل) إذا كان في يد رجل دار فادعاها نفسان فقال أحدهما أجرتكها وقال الآخر هي داري
198

أعرتكها أو قال هي داري ورثتها من أبي أو قال هي داري ولم يذكر شيئا آخر فأنكرهما صاحب
اليد فالقول قوله مع يمينه، وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها فإن أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه
تعارضتا وكان الحكم على ما ذكرنا فيما مضي إلا على الرواية التي تقدم فيها البينة الشاهدة بالسبب
فإن بينة من ادعى انه ورثها مقدمة لشهادتها بالسبب، وان أقام أحدهما بينة انه غصبه إياها وأقام
الاخر بينة انه أقر له بها فهي للمغصوب منه ولا تعارض بينهما لأن الجمع بينهما ممكن بأن يكون
غصبها من هذا وأقر بها لغيره واقرار الغاصب باطل وهذا مذهب الشافعي فتدفع إلى المغصوب منه
(فصل) نقل ابن منصور عن أحمد في رجل اخذ من رجلين ثوبين أحدهما بعشرة والاخر
بعشرين ثم لم يدر أيهما ثوب هذا من هذا فادعى أحدهما ثوبا من هذين الثوبين وادعاه الاخر
يقرع بينهما فأيهما اصابته الفرعة حلف واخذ الثوب الجديد والآخر للآخر وإنما قال ذلك لأنهما
تنازعا عينا في يد غيرهما.
(فصل) إذا تداعيا عينا فقال كل واحد منهما هذه العين لي استدنتها من زيد بمائة ونقدته إياها ولا بينة
لواحد منهما فإن أنكرهما زيد فهي له مع يمينه وان أقر بها لأحدهما سلمها إليه وحلف للآخر وان أقر لكل
واحد منهما بنصفها سلمت إليهما وحلف لكل واحد منهما على نصفها وان قال لا أعلم لمن هي أقرع بينهما فمن
خرجت له القرعة حلف واخذها وان حلف البائع له ثم أقربها لأحدهما سلمت إليه وان أقربها للآخر
199

لزمته غرامتها وان أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه وكانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين مثل ان يدعي
أحدهما انه اشتراها في المحرم وادعى الآخر انه اشتراها في صفر وشهدت بينة كل واحد منهما للآخر
بدعواه فهي للأول لتقدم بينته بأنه باعها منه أولا وزال ملكه عنها فيكون بيع الثاني باطلا لكونه
باع ما لا يملكه ويطالب برد الثمن وان اتفق تاريخهما أو كانتا مطلقتين أو أحدهما مطلقة والأخرى
مؤرخة تعارضتا لتعذر الجمع فينظر في العين فإن كانت في يد أحدهما انبنى ذلك على بينة الداخل
والخارج فمن قدم بينة الداخل جعلها لمن هي في يده ومن قدم بينة الخارج جعلها له وان كانت
في يد البائع وقلنا تسقط البينتان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لهما وكانت له وان أقر لأحدهما
سلمت إليه وحلف للآخر وان أقر لهما فهي بينهما ويحلف لكل واحد منهما على نصفها كما لو لم
يكن لهما بينة وان قلنا لا تسقط البينتان لم يلتفت إلى انكاره ولا اعترافه وهذا قول القاضي وأكثر
أصحاب الشافعي لأنه قد ثبت زوال ملكه وان يده لا حكم لها فلا حكم لقوله فمن قال يقرع بينهما
أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة فهي له مع يمينه وهذا قول القاضي لم يذكر غيره وقال أبو
الخطاب يقسم بينهما وقد نص عليه أحمد في رواية الكوسج في رجل أقام بينة انه اشترى سلعة
بمائة وأقام الاخر بينة انه اشتراها بمائتين فكل واحد منهما يستحق نصف السلعة بنصف الثمن
ويكونان شريكين وحمل القاضي هذه الرواية على أن العين في أيديهما أو على أن البائع أقر لهما
200

جميعا واطلاق والرواية يدل على صحة قول أبي الخطاب فعلى هذا إن كان البيع مما لا يدخل في ضمان
المشتري الا بقبضه فلكل واحد منهما الخيار لأن الصفقة تبعضت عليه فإن اختار الامساك رجع كل
واحد منهما بنصف الثمن وان اختار الفسخ رجع كل واحد منهما بجميع الثمن وان اختار أحدهما
الفسخ توفرت السلعة كلها على الآخر الا أن يكون الحاكم قد حكم بنصف السلعة ونصف الثمن فلا
يعود النصف الآخر إليه وهذا قول الشافعي في كل موضع
(فصل) ولو كان في يد رجل دار فادعى عليه رجلان كل واحد منهما يزعم أنه غصبها منه وأقام
بذلك بينة فالحكم فيه كالحكم فيما إذا ادعي كل واحد منهما: إني اشتريتها منه على ما مضى من التفصيل فيه
(مسألة) (وإن كان في يد رجل عبد فادعى انه اشتراه من زيد فادعى العبد ان زيدا
أعتقه وأقام كل واحد بينة انبني على بينة الداخل والخارج فإن كان العبد في يد زيد فالحكم فيه
كالحكم فيما إذا ادعيا عينا في يد غيرهما)
إذا ادعي رجل عبدا في يد آخر انه اشتراه منه وادعى العبد ان سيده أعتقه ولا بينة
لهما فأنكرهما حلف لهما والعبد له فإن أقر لأحدهما ثبت ما أقر به ويحلف للاخر وان أقام
أحدهما بينة بما ادعاه ثبت وان أقام كل واحد منهما بينة بدعواه وكانتا مؤرختين بتاريخين
201

مختلفين قدمنا الأولى وبطلت الأخرى لأنه ان سبق العتق لم يصح البيع وان سبق البيع لم يصح
العتق لأنه أعتق عبد غيره فإن قيل يحتمل انه عاد إلى ملكه فاعتقه قلنا قد ثبت الملك للمشتري فلا
يبطله عتق البائع، وان كانتا مؤرختين بتاريخ واحد أو مطلقتين أو إحداهما مطلقه تعارضتا لأنه لا ترجيح
لإحداهما على الأخرى فإن كان في يد المشتري انبني ذلك على الخلاف في تقديم بينة الداخل والخارج
فإن قدمنا بينة الداخل فهو للمشتري وان قدمنا بينه الخارج قدم العتق لأنه خارج وإن كان في يد
البائع وقلنا إن البينتين تسقطان بالتعارض صارا كمن لا بينة لهما فإن أنكرهما حلف لهما وإن أقر بالعتق
ثبت ولم يحلف العبد لأنه لو أقر بأنه ما أعتقه لم يلزمه شئ فلا فائدة في احلافه وان قلنا ترجح
إحدى البينتين بالقرعة قرعنا بينهما فمن خرجت قرعته قدمناه قال أبو بكر هذا قياس قول أبي عبد الله
فعلى هذا يحلف من خرجت له القرعة في أحد الوجهين وان قلنا يقسم قسمنا العبد فجعلنا نصفه مبيعا
ونصفه حرا ويسري العتق إلى جميعه إن كان البائع موسرا لأن البينة عليه انه أعتقه مختارا وقد ثبت
العتق في نصفه بشهادتهما
(مسألة) (وإن كان في يده عبد وادعى عليه رجلان كل واحد منهما انه اشتراه بثمن سماه فصدقهما
لزمه الثمن لكل واحد منهما وان أنكرهما حلف لهما وبرئ وان صدق أحدهما لزمه ما ادعاه وحلف للآخر
202

وإن كان لأحدهما بينة فله الثمن ويحلف للآخر وإن كان لكل واحد منهما بينة وأمكن صدقهما لاختلاف
تاريخهما أو اطلاقهما أو اطلاق إحداهما وتاريخ الأخرى عمل بهما وان اتفق تاريخهما تعارضتا والحكم على ما تقدم
وإن كان في يد انسان عين فادعى عليه رجلان كل واحد منهما انك اشتريته مني بألف وأقام
بذلك بينة واتفق تأريخهما مثل ان يقول اشتراها مني مع الزوال يوم كذا ليوم واحد فهما متعارضتان
فإن قلنا يسقطان رجع إلى قول المدعى عليه فإن أنكرهما حلف لهما وبرئ وان أقر لأحدهما فعليه له الثمن
يحلف للآخر وان أقر لهما فعليه لكل واحد منهما الثمن لأنه يحتمل ان يشتريها من أحدهم ثم يهبها
للآخر ويشتريها منه وإن قال اشتريتها منكما صفقة واحدة بألف فقد أقر لكل واحد منهما بنصف الثمن
وله ان يحلف على الباقي وان قلنا يقرع بينهما وجب الثمن لمن تخرج له القرع ويحلف للاخر ويبرأ
وان قلنا يقسم قسم الثمن بينهما ويحلف لكل واحد منهما على الباقي فإن كان التاريخان مختلفين
أو كانتا مطلقتين أو أحداهما مطلقة ثبت العقدان ولزمه الثمنان لأنه يمكن ان يشتريها من أحدهما
ثم يملكها الآخر فيشتريها منه وإذا أمكن صدق البينتين والجمع بينهما وجب تصديقهما فإن قيل فلم
قلتم ان البائع إذا كان واحدا والمشتري اثنان فأقام أحدهما بينة انه اشتراه في المحرم وأقام الاخر بينة انه
اشتراه في صفر يكون الشراء الثاني باطلا؟ قلنا إنه إذا ثبت الملك للأول لم يبطله بان يبيعه للثاني ثانيا
203

وفي مسئلتنا ثبوت شرائه من كل واحد منها يبطل ملكه لأنه لا يجوز ان يشتري ثانيا ملك نفسه ويجوز ان
يبيع البائع ما ليس له فافترقا فإن قيل فإذا كانت البينتان مطلقتين أو إحداهما مطلقة احتمل أن يكون تاريخهما
واحدا فيتعارضان والأصل براءة ذمة المشهود عليه فلا تشغل بالشك قلنا متى أمكن صدق البينتين
وجب تصديقهما ولم يكن ثم شك وإنما يبقى الوهم والوهم لا تبطل به البينة لأنها لو بطلت به لم يثبت
بها حق أصلا لأنه ما من بينة الا ويحتمل أن تكون كاذبة أو غير عادلة أو متهمة أو معارضة ولم
يلتفت إلى الوهم كذا ههنا
(مسألة) (وان ادعي كل واحد منهما انه باعني إياه بألف وأقام بنية قدم أسبقهما تاريخا
لما ذكرنا فإن لم تسبق أحدهما تعارضنا
(مسألة) (وان قال أحدهما غصبني إياه وقال الآخر ملكنيه أو أقر لي به فإن أقام كل
واحد منهما بينة فهو للمغصوب منة ولا يغرم للاخر شيئا) لأنه لا تعارض بينهما لجواز أن يكون غصبه
من هذا ثم ملكه الاخر والله أعلم
(مسألة) (وإذا ادعى رجل زوجية امرأة فأقرت بذلك قبل اقرارها)
لأنها أقرت على نفسها وهي غير متهمة لأنها لو أرادت ابتداء النكاح لم تمنع منه فإن ادعاها
اثنان فأقرت لأحدهما لم يقبل اقرارها لأن الآخر يدعي ملك بضعها وهي معترفة ان ذلك قد ملك
204

عليها فصار اقرارها بحق غيرها ولأنها متهمة فإنها لو أرادت ابتداء تزويج أحد المتداعيين لم يكن
لها ذلك قبل الانفصال من دعوى الاخر فإن قيل فلو تداعيا عينا في يد ثالث فأقر لأحدهما قبل
قلنا لا يثبت الملك باقراره في العين إنما يجعله كصاحب اليد فيحلف والنكاح ولا يستحق باليمين فلم ينفع
الاقرار بها ههنا فإن كان أحد المتداعيين له بينة حكم له بها لأن البينة حجة في النكاح وغيره وان
أقاما بينتين تعارضتا وسقطا وحيل بينهما وبينها ولا يرجح أحد المتداعيين باقرار المرأة لما ذكرنا
ولا بكونها في بيته ويده لأن اليد لا تثبت على حرة ولا سبيل إلى القسمة ههنا ولا إلى القرعة لأنه
لابد مع القرعة من اليمين ولا مدخل لها ههنا
(باب في تعارض البينتين)
إذا قال لعبده متى قتلت فأنت حر فادعى العبد أنه قتل وأنكر لورثة فالقول قولهم لأن الأصل
عدم القتل فإن أقام بينة بدعواه عتق وان أقام الورثة بينة بموته قدمت بينة العبد في أحد الوجهين
لأنها تشهد بزيادة وهي القتل (والثاني) يتعارضان لأن إحداهما تشهد بضد ما شهدت به
الأخرى فيبقى على الرق
205

(مسألة) (وان قال إن مت في المحرم فسالم حر وان مت في صفر فغانم حر وأقام كل واحد
منهما بينة بدعواه بموجب عتقه قدمت بينة سالم في أحد الوجوه)
لأن معها زيادة علم فإنها أثبتت ما يجوز ان يختفي على البينة الأخرى (والثاني) يتعارضان ويبقى
العبد على الرق لأنهما سقطا فصارا كمن لا بينة لهما (والثالث) يقرع بينهما فيعتق من تقع له القرعة
فاما ان لم تقم لواحد منهما بينة وأنكر الورثة فالقول قولهم لأنه يجوز ان يموت في غير هذين الشهرين
وان أقروا لأحدهم عتق باقرارهم وكذلك ان أقام بينة
(مسألة) (وان قال إن مت من مرضي هذا فسالم حر وان برئت فغانم حر فأقاما بينتين
تعارضتا وبقيا على الرق ذكره أصحابنا والقياس ان يعتق أحدهما بالقرعة ويحتمل ان يعتق غانم وحده
لأن بينته تشهد بزيادة)
إذا قال إن مت من مرضي هذا فسالم حر وان برئت فغانم حر فمات وادعى كل واحد منهما
موجب عتقه أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق لأنه لا يخلو من أن يكون برأ أو لم يبرأ فيعتق
أحدهما على كل حال ولم تعلم عينه فيخرج بالقرعة كما لو أعتق أحدهما فاشكل علينا ويحتمل ان يقدم
قول سالم لأن الأصل عدم البرء وان أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه فقال أصحابنا يتعارضان
ويبقى العبدان على الرق وهذا مذهب الشافعي لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى وتثبت زيادة
206

تنفيها الأخرى وهذا قول لا يصح وهو ظاهر الفساد لأن التعارض أثر في اسقاط البينتين ولو لم يكونا
أصلا لعتق أحدهما فكذلك إذا سقطا وذلك لأنه لا يخلو من إحدى الحالتين اللتين علق على كل واحدة
منهما عتق أحدهما فيلزم وجوده كما لو قال إن كان هذا الطائر غرابا فسالم حر وان لم يكن غرابا فغانم
حر ولم يعلم حاله ولكن يحتمل وجهين (أحدهما) يقرع بينهما كما في مسألة الطائر ولان البينتين إذا
تعارضنا قدمت إحداهما بالقرعة في رواية (والثاني) تقدم بينة غانم لأنها شهدت بزيادة وهي البرء
وان أقر الورثة لأحدهم عتق باقرارهم ولم يسقط حق الآخر مما ذكرنا الا ان يشهد عدلان منهم بذلك
مع انتفاء التهمة فيعتق وحده إذا لم تكن للآخر بينة
(مسألة) (وان أتلف ثوبا فشهدت بينة ان قيمته عشرون وشهدت أخرى ان قيمته ثلاثون
لزمته أقل القيمتين)
وجملة ذلك أنه إذا شهد شاهد أنه غصبه ثوبا قيمته درهمان وشهد آخر ان قيمته ثلاثة ثبت
ما اتفقا عليه وهو درهمان فله ان يحلف مع الآخر على درهم لأنهما اتفقا على درهمين وانفرد أحدهما
بدرهم فأشبه ما لو شهد أحدهما بألف والآخر بخمسمائة وإذا شهد شاهدان ان قيمته درهمان وشاهدان
ان قيمته ثلاثة ثبت له درهمان وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة له ثلاثة لأنه قد شهد بها شاهدان
207

وهما حجة فيؤخذ بهما كما يؤخذ بالزيادة في الاخبار وكما لو شهد شاهدان بألف وشاهدان بألفين
فإنه يجب له الفان قال القاضي ويتوجه لنا مثل ذلك كما لو شهد له شاهدان بألف وشاهدان بخمسمائة
ولنا ان من شهد ان قيمته درهمان ينفي ان قيمته ثلاثة فقد تعارضت البينتان في الدرهم ويخالف
الزيادة في الاخبار فإن من يروي الناقص لا ينفي الزيادة وكذلك من شهد بألف لا ينفي ان عليه
ألفا آخر فإن قيل فلم قلتم إنه إذا شهد بواحدة من القيمتين شاهدان تعارضتا وان شهد شاهد
لم يتعارضا وكان له ان يحلف من الشاهد بالزيادة عليها؟ قلنا لأن الشاهدين حجة وبينة وإذا كملت من
الجانبين تعارضت الحجتان لتعذر الجمع بينهما اما الشاهد الواحد فليس بحجة وحده وإنما يصير حجة
مع اليمين فإذا حلت مع أحدهما كملت الحجة مع يمينه ولم يعارضها ما ليس بحجة كما لو شهد بأحدهما
شاهدان وبالآخر شاهد واحد
(مسألة) (ولو ماتت امرأة وابنها فقال زوجها ماتت فورثناها ثم مات ابني فورثته وقال
أخوها بل مات ابنها فورثته ثم ماتت فورثناها حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وكان
ميراث الابن لأبيه وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه تعارضتا
وسقطتا أيضا وقياس مسائل الخرقي ان يجعل للأخ سدس مال الابن والباقي للزوج)
وجملة ذلك أنه إذا مات جماعة يرث بعضهم بعضا واختلف الاحياء من ورثتهم في السابق
208

بالموت في المسألة المذكورة فقال الزوج ماتت المرأة أولا فصار ميراثها كله لي ولابني ثم مات ابني
فصار ميراثه لي وقال أخوها مات ابنها أولا فورثت ثلث ماله ثم ماتت فكان ميراثها بيني وبينك
نصفين حلف كل واحد منهما على ابطال دعوى صاحبه وجعلنا ميراث كل واحد منهما للاحياء من
ورثته دون من مات معه لأن سبب استحقاق الحي من موروثه موجود وإنما يمتنع لبقاء موروث
الاخر بعده وهذا الامر مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك فيكون ميراث الابن لأبيه لا مشارك
له فيه وميراث المرأة بين أخيها وزوجها نصفين وهذا مذهب الشافعي فإن قيل فقد أعطيتم الزوج
النصف وهو لا يدعي إلا الربع قلنا بل هو مدع لجميعه ربعه بميراثها منه وثلاثة أرباعه بميراثه من أبيه
قال أبو بكر قد ثبتت البنوة بيقين فلا يقطع ميراث الأب فيه إلا ببينة تقوم للأخ وهذا تعليل لقول
الخرقي في هذه المسألة وذكر قولا آخر يحتمل ان الميراث بينهما نصفين قال شيخنا وهذا ما يدرى ما
أراد به ان أراد ان مال المرأة بينهما نصفين لم يصح لأنه يفضي إلى إعطاء الأخ ما لا يدعيه ولا يستحقه
يقينا لأنه لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه ولا يمكن ان يستحق أكثر منه وان أراد ان ثلث
مال الابن يضم إلى مال المرأة فيقسمانه نصفين لم يصح لأن نصف ذلك إلى الزوج باتفاق منهما
لا ينازعه الأخ فيه وإنما النزاع بينهما في نصفه ويحتمل أن يكون هذه مراده كما لو تنازع رجلان
دارا في أيديهما فادعاها أحدهما كلها وادعى الاخر نصفها فإنها تقسم بينهما نصفين وتكون اليمين على
مدعي النصف الا ان الفرق بين هذه المسألة وتلك ان الدار في أيديهما فكل واحد منهما في يد
209

نصفها فمدعي النصف يدعيه وهو في يده فقبل قوله فيه مع يمينه وفي مسئلتنا يعترفان أن هذا ميراث عن
البنين فلا يد لأحدهما عليه لاعترافهما بأنه لم يكن لهما وإنما هو ميراث يدعيانه من غيرهما وان أراد ان سدس
مال الابن يضم إلى نصف مال المرأة فيقسم بينهما نصفين فله وجه لأنهما تساويا في دعواه فيقسم
بينهما كما لو تنازعا دابة في أيديهما وعلى كل واحد منهما اليمين فيما حكم له به والذي يقتضيه قول أصحابنا
في الغرقى والهدمى أن يكون سدس الابن للأخ وباقي ميراثهما للزوج لأنا نقدر ان المرأة ماتت أولا
فيكون ميراثها لابنها وزوجها ثم مات الابن فورثه أبوه وهو الزوج فصار ميراثها كله لزوجها ثم
نقدر ان الابن مات أولا فورثه أبواه لامه الثلث ثم ماتت فصار الثلث بين أخيها وزوجها نصفين
لكل واحد منهما السدس فلم يرث الأخ الا سدس مال لابن كما ذكرنا قال شيخنا ولعل هذا القول
يختص بمن جهل موتهما واتفق وراثهما على الجهل به والقولان المتقدمان قول الخرقي وقول أبي فيما
إذا ادعى ورثة كل ميت أنه مات أخيرا وان الاخر مات قبله فإن كان لأحدهما بينة بما ادعاه حكم له بها
وان أقاما بينتين تعارضتا وهل يسقطان أو يقرع بينهما أو يقسمان ما اختلفا فيه؟ يخرج
على الروايات الثلاث.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا شهدت بينة على ميت انه وصي بعتق سالم وهو ثلث ماله
وشهدت بينة أخرى أنه وصى بعتق غانم وهو ثلث ماله أقرع بينهما فمن تقع له القرعة عتق دون
210

صاحبه الا ان يجيز الورثة لأن الوصيتين ثبتا بشهادة العدول فهما سواء فيقرع بينهما سواء
اتفق تاريخهما أو اختلف لأن الوصية يستوي فيها المتقدم والمتأخر فمن خرجت له القرعة عتق جميعه
وقال أبو بكر وابن أبي موسى يعتق نصف كل واحد منهما بغير قرعة لأن القرعة إنما تجب إذا
كان أحدهما عبدا والآخر حرا ولا كذلك ههنا فيجب ان يقسم بينهما ويدخل النقص على كل واحد
منهما بقدر وصيته كما لو أوصى لاثنين بمال والأول قياس المذهب لأن الاعتاق بعد الموت كالاعتاق
في مرض الموت وقد ثبت في الاعتاق في مرض الموت أنه يقرع بينهما لحديث عمران بن حصين
كذلك بعد الموت ولان المعنى المقتضي في أحدهما في الحياة موجود بعد الممات فيثبت فلما ان صرح
فقال إذا مت فنصف كل واحد من سالم وغانم حر أو كان في لفظه ما يقتضيه أو دلت عليه قرينة ثبت
ما اقتضاه وان أجاز الورثة عتقهما عتقا لأن الحق لهم فأشبه ما لو أعتقوهما بعد موته
(مسألة) وان شهدت بينة سالم أنه رجع عن عتق غانم عتق سالم وحده سواء كانت بينته وارثة أو لم تكن)
لأنهما لم يجران بشهادتهما إلى أنفسهما نفعا ولا يدفعان عنها ضررا فإن قيل فهما يثبتان لأنفسهما
ولاء سالم قلنا وهما يسقطان ولاء غانم أيضا على أن الولاء إنما هو اثبات سبب الميراث ومثل ذلك
لا ترد الشهادة فيه كما يثبت النسب بالشهادة وإن كان الشاهد يجوز أن يرث المشهود له وتقبل شهادته
لأخيه بالمال وان جاز ان يرثه
211

(مسألة) (وان كانت قيمة غانم سدس المال وبينته أجنبية قبلت)
لأنها بينة غير متهمة فتقبل شهادتها كما لو كانت قيمته ثلث المال وان كانت بينته وارثة عتق العبدان لأن
البينة الوارثة متهمة في شهادتها لكونها ترد إلى الرق من كثرت قيمته وترد شهادتها في الرجوع كما لو كانت
فاسقة ويعتق سالم كله بالبينة العادلة ويعتق غانم لأن سالما لما عتق بشهادة الأجنبيين صار كالمغصوب فصار غانم
ربع التركة فيعتق جميعه لنقصه عن ثلث الباقي لأن الباقي يصير كأنه التركة جميعها وإنما يعتق باقرارهم لا بشهادتهم
قال أبو بكر، ويحتمل ان يقرع بينهما فإن خرجت القرعة لسالم عتق وحده وان خرجت لغانم عتق هو
ونصف سالم كما لو لم تشهد بالرجوع فإن الشهادة بالرجوع لم تقبل فكان وجودها كعدمها فإنه في هذه الصورة يعتق
فيها ثلث المال وتكمل في أحدهما فإذا وقعت القرعة لسالم عتق جميعه لأنه ثلث المال وان وقعت لغانم
عتق جميعه ونصف سالم لأن ذلك ثلث المال
(مسألة) وان شهدت بينة أنه أعتق سالما في مرضه وشهدت أخرى أنه وصى بعتق غانم وكل
واحد منهما ثلث المال عتق سالم وحده)
لأنه لا ينفذ تصرفه في مرضه الا في الثلث إذا لم تجز الورثة وعتق سالم منجز وعتق غانم وصية
فيقدم عتق سالم على الوصية
212

(مسألة) وان شهدت بينة غانم أنه أعتقه في مرضه أيضا عتق اقدمهما تاريخا فإن جهل السابق
عتق أحدهما بالقرعة)
وجملة ذلك أنه إذا ادعى سالم أنه أعتقه في مرض موته وادعى عبده غانم انه أعتقه في مرض
موته وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه فلا تعارض بينهما لأن ما شهدت به كل بينة لا ينفي ما شهدت
به الأخرى ولا يكذبها فيثبت اعتاقه لهما فإن كانت البينتين مؤرختين بتاريخين متخلفين عتق الأول
منهما ورق الثاني الا ان يجيز الورثة لأن المريض إذا تبرع تبرعا يعجز ثلثه قدم الأول فالأول وان
اتفق تاريخهما أو اطلقتا أو إحداهما فهما سواء لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فيستويان ويقرع
بينهما فيعتق من تخرج له القرعة ويرق الآخر الا أن يجيز الورثة لأنه لا يخلو اما أن يكون أعتقهما
معا فيقرع بينهما كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العبيد الستة الذين أعتقهم سيدهم عنه موته ولم يكن له مال
سواهم أو يكون أعتق أحدهما قبل صاحبه واشكل علينا فيخرج بالقرعة كما في مسألة الطائر وقيل
يعتق من كل واحد نصفه.
وهو قول الشافعي لأنه أقرب إلى التعديل منهما فإن في القرعة قد يرق السابق المستحق للعتق
ويعتق الثاني المستحق للرق وفي القسمة لا يخلو المستحق للعتق من حرية ولا المستحق للرق من رق ولذلك قسمنا
المختلف فيه على إحدى الروايتين إذا تعارضت بينتان والأول المذهب لأنه لا يخلو من شبهة بإحدى
213

الصورتين اللتين ذكرناهما والقرعة ثابتة في كل واحد منهما وقولهم ان في القرعة احتمال ارفاق الحر قلنا
وفي القسمة ارقاق نصف الحر يقينا وتحرير نصف الرقيق يقينا وهو أعظم ضررا
(مسألة) (فإن كانت بينة أحدهما وارثة ولم تكذب الأجنبية فكذلك وان قالت ما أعتق
سالما إنما أعتق غانما عتق غانم كله وحكم سالم كحكمه لو لم يطعن في بينته في أنه يعتق ان تقدم تاريخ عتقه أو خرجت
له القرعة وإلا فلا، وان كانت الوراثة فاسقة ولم تطعن في بينة سالم عتق سالم كله وينظر في بينة غانم
فإن كان تاريخ عتقه سابقا أو خرجت القرعة له عتق كله، وإن كان متأخرا أو خرجت القرعة لسالم لم
يعتق منه شئ. وقال القاضي: يعتق من غانم نصفه وإن كذبت بينة سالم عتق العبدان)
وجملة ذلك أن المريض إذا خلف ابنين لا وارث له سواهما فشهدا انه أعتق سالما في مرض
موته وشهد أجنبيان انه أعتق غانما في مرض موته وكل واحد ثلث ماله ولم يطعن الاثنان في شهادتهما
وكانت البينتين عادلتين فالحكم فيه كالحكم فيما إذا كانتا أجنبيتين سواء لأنه قد ثبت ان الميت أعتق
العبدين، وان طعن الاثنان في شهادة الأجنبيين وقالا ما أعتق غانما إنما أعتق سالما لم يقبل قولهما في
رد شهادة الأجنبية لأنها بينه عادلة مثبته والأخرى نافيه وقول المثبت يقدم على قول النافي ويكون حكم
ما شهدت به إذا لم تطعن الوارثة في شهادتها انه يعتق ان تقدم تاريخ عتقه أو خرجت له القرعة ويرق
214

إذا تأخر تاريخه أو خرجت القرعة لغيره. واما الذي شهد به الابنان فيعتق كله لاقرارهما باعتاقه
وحده واستحقاقه الحرية.
وهذا قول القاضي وقيل يعتق ثلثاه إن حكم بعتق سالم وهو ثلث الباقي لأن العبد الذي شهد به
الأجنبيان كالمغصوب من التركة والذاهب من التركة بموت أو تلف فيعتق ثلث الباقي وهو ثلثا غانم
والأول أصح لأن المعتبر خروجه من الثلث حال الموت وحال الميت في قول الابنين لم يعتق سالم
إنما عتق بالشهادة بعد الموت فيكون ذلك بمنزلة موته بعد موت سيده فلا يمنع من عتق من خرج
من الثلث قبل موته فإن كان الاثنان فاسقين ولم يردا شهادة لأجنبية ثبت العتق لسالم ولم يزاحمه
من شهد له الاثنان لفسقهما فلا يقبل قولهما في اسقاط حق ثبت ببينة عادلة وقد أقر الابنان بعتق
غانم فينظر فإن تقدم تاريخ عتقه أو أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق كله كما قلنا في التي قبلها
وإن تأخر تاريخ عتقه أو خرجت القرعة لغيره لم يعتق منه شئ لأن الاثنين لو كانا عدلين لم يعتق
منه شئ فإذا كانا فاسقين أولى وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي يعتق نصفه في الأحوال كلها
لأنه استحق العتق باقرار الورثة مع ثبوت عتق الاخر بالبينة العادلة فصار بالبينة كأنه أعتق
العبدين فيعتق منه نصفه.
قال شيخنا: وهذا لا يصح فإنه لو أعتق العبدين لأعتقنا أحدهما بالقرعة ولأنه في حال تقديم
تاريخ من شهدت له البينة لا يعتق منه شئ وكانت بينة عادلة فمع فسوقها أولى وان كذبت الوارثة
215

الأجنبية فقالت ما أعتق سالما إنما أعتق غانما عتق العبدان وقيل يعتق من غانم ثلثاه والأول أولى.
(فصل) إذا شهد عدلان أجنبيان انه وصى بعتق سالم وفهد عدلان وارثان انه رجع عن الوصية
بعتق سالم ووصى بعتق غانم وقيمتهما سواء أو كانت قيمة غانم أكثر قبلت شهادتهما وبطلت وصية
عتق سالم وقد ذكرناه فإن كان الوارثان فاسقين لم تقبل شهادتهما في الرجوع ويلزمهما اقرارهما لغانم
فيعتق سالم بالبينة العادلة ويعتق غانم باقرار الورثة بالوصية باعتاقه وحده، وذكر القاضي وأصحاب
الشافعي انه إنما يعتق ثلثاه لأنه لما أعتق سالم بشهادة الأجنبيين صار كالمغصوب فصار غانم نصف
التركة فيعتق ثلثاه وهو ثلث التركة
ولنا ان الوارثة تقر بأنه حين الموت ثلث التركة وان عتق سالم إنما كان بشهادتهما بعد الموت
فسار كالمغصوب بعد الموت ولو غصب بعد الموت لم يمنع عتق غانم كله فكذلك الشهادة بعتقه،
وقد ذكر القاضي فيما إذا شهدت بينة عادلة باعتاق سالم في مرضه ووارثة فاسقة باعتاق غانم في مرضه
وانه لم يعتق سالما ان غانما يعتق كله وهذا مثله، فأما ان كانت قيمة غانم أقل من قيمة سالم فالوارثة
متهمة لكونها ترد إلى الرق من كثرت قيمته فترد شهادتهما في الرجوع كما ترد شهادتهما بالرجوع
عن الوصية بعتق سالم ويعتق غانم كله أو ثلث الباقي على ما ذكرنا من الاختلاف فيما إذا كانت فاسقة
216

فإن لم تشهد الوارثة بالرجوع عن عتق سالم لكن شهدت بالوصية بعتق غانم وهي بينة عادلة ثبتت
الوصيتان سواء كانت قيمتهما سواء أو مختلفة إن خرجا من الثلث وإن لم يخرجا من الثلث أقرع
بينهما فيعتق من خرجت له القرعة ويعتق تمام الثلث من الاخر سواء تقدمت إحدى الوصيتين عن
الأخرى أو استوتا لأن المتقدم والمتأخر من الوصايا سواء
(فصل) ولو شهدت بينة عادلة انه وصى لزيد بثلث ماله وشهدت بينة أخرى انه رجع عن
الوصية لزيد ووصى لعمرو بثلث ماله وشهدت بينة ثالثة انه رجع عن الوصية لعمرو ووصى لبكر
بثلث ماله صحت الشهادة كلها وكانت الوصية لبكر سواء كانت البينات من الورثة أو لم تكن لأنه
لا تهمة في حقهم وإن كانت شهادة البينة الثالثة انه رجع عن إحدى الوصيتين لم تفد هذه الشهادة
لأنه قد ثبت بالبينة الثانية انه رجع عن الوصية لزيد وهي إحدى الوصيتين، فعلى هذا تثبت الوصية
لعمرو، وان كانت البينة شهدت بالوصية لعمرو ولم تشهد بالرجوع عن وصية زيد فشهدت الثالثة
برجوعه عن إحدى الوصيتين لا بعينها فقال القاضي لا تصح الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنهما لم
يعينا المشهود عليه وتصير كما لو قالا نشهد ان لهذا على هذين ألفا أو ان لاحد هذين على هذا ألفا فيكون
الثلث بين الجمع أثلاثا، وقال أبو بكر قياس قول أبي عبد الله انه يصح الرجوع عن إحدى الوصيتين
ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة بالرجوع عن وصيته بطلت وهذا قول ابن أبي موسى وإذا صح
217

الرجوع عن أحدهما بغير تعيين صحت الشهادة به لذلك، ووجه ذلك أن الوصية تصح بالمجهول وتصح
الشهادة فيها بالمجهول فجازت في الرجوع من غير تعيين الرجوع عن وصيته
(فصل) إذا شهد شاهدان انه وصى لزيد بثلث ماله وشهد واحد انه وصى لعمرو بثلث ماله
انبنى هذا على الشاهد واليمين هل يعارض الشاهدين؟ فيه وجهان (أحدهما) يتعارضان فيحلف عمر
مع شاهد ويقسم الثالث بينهما لأن الشاهد واليمين حجة في المال فأشبه الشاهدين (والثاني)
لا يعارضهما لأن الشاهدين أقوى فعلى هذا ينفرد زيد بالثلث وتقف وصية عمرو على إجازة الورثة.
فاما إن شهد واحد انه رجع عن وصية زيد ووصى لعمرو بثلثه فلا تعارض بينهما ويحلف عمرو مع
218

شاهده وتثبت الوصية له والفرق بين المسئلتين ان في الأول تقابلت البينتان فقدمنا اقرارهما، وفي
الثانية لم يتقابلا وإنما يثبت بالرجوع وهو يثبت بالشاهد واليمين لأن المقصود به المال وهذا مذهب الشافعي
(فصل) إذا اختلفا في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة ان هذه الدار كانت أمس ملكه أو
منذ شهر فهل تسمع هذه البينة ويقضى بها؟ على وجين (أحدهما) تسمع ويحكم بها لأنها تثبت الملك
في الماضي وإذا ثبت أستديم حتى يعلم زواله (والثاني) لا يحكم بها، قال القاضي وهو الصحيح لأن
الدعوى لا تسمع ما لم يدع المدعي الملك في الحال فلا تسمع بينته على ما لم يدعه، لكن ان انضم إلى
شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديهما فقالا نشهد انها كانت ملكه أمس فغصبها هذا
منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها لأنها إذا لم تبين السبب فاليد
دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلالة اليد لجواز أن تكون ملكه أمس ثم تنتقل
219

إلى صاحب اليد، فإذا ثبت ان سبب اليد عدوان خرجت عن كونها دليلا فوجب القضاء باستدامة
الملك السابق، وان أقر المدعى عليه انها كانت ملكا للمدعي أمس أو فيما مضى سمع اقراره وحكم به
في الصحيح لأنه حينئذ يحتاج إلى بيان سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي فيحتاج إلى البينة ويفارق
البينة من وجهين (أحدهما) انه أقوى من البينة لكونها شهادة من الانسان على نفسه ويزول به النزاع
بخلاف البينة ولهذا تسمع في المجهول ويقضى به بخلاف البينة (والثاني) ان البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه
والدعوى يجب أن تكون معلقة بالحال والاقرار يسمع ابتداءا، وإن شهدت البينة انها كانت في يده
أمس ففي سماعها الوجهان وان أقر المدعى عليه بذلك، والصحيح انه يسمع ويقضى به لما ذكرنا
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى كل واحد
220

منهما انه مات على دينه فإن عرف أصل دينه فالقول قول من يدعيه وان لم يعرف فالميراث للكافر
لأن المسلم لا يقر ولده على الكفر في دار الاسلام)
إذا مات رجل لا يعرف دينه وخلف تركة وابنين أحدهما مسلم والآخر كافر فادعى
كل واحد منهما انه مات على دينه وان الميراث له دون أخيه فالميراث للكافر ذكره الخرقي لأن
دعوى المسلم لا تخلو من أن يدعي كون الميت مسلما أصليا فيجب كون أولاده مسلمين ويكون اخوه
الكافر مرتدا وهذا خلاف الظاهر فإن المرتد لا يقر على ردته في دار الاسلام أو يقول إن أباه كان
كافرا فأسلم قبل موته فهو معترف بأن الأصل ما قاله اخوه مدع زواله وانتقاله والأصل بقاء ما كان
على ما كان حتى يثبت زواله، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى انهما في الدعوى سواء فالميراث
221

بينهما نصفين كما لو تنازع اثنان عينا في يديهما ويحتمل أن يكون الميراث للمسلم منهما وهو قول أبي حنيفة
لأن الدار دار الاسلام يحكم باسلام لقيطها ويثبت للميت فيها إذا لم يعرف أصل دينه حكم الاسلام في
الصلاة عليه ودفنه وتكفينه من الوقف الموقوف على تكفين أموات المسلمين ولأنه يدفن في مقابر المسلمين
ويغسل فيثبت فيه سائر أحكام المسلمين فكذلك في ميراثه ولان الاسلام يعلو ولا يعلى ويجوز أن يكون
أخوه الكافر مرتدا لم تثبت عند الحاكم ردته ولم ينته إلى الإمام خبره وظهور الاسلام بناء على
هذا أظهر من ثبوت الكفر بناء علي كفر أبيه ولهذا جعل الشرع أحكامه أحكام المسلمين فيما عدا
المتنازع فيه وقال القاضي قياس المذهب اننا ننظر فإن كانت التركة في أيديهما أقرع بينهما فمن
قرع صاحبه حلف واستحق كما قلنا فيما إذا تداعيا عينا ويقتضي كلامه انها إذا كانت في يد أحدهما
فهي له مع يمينه وهذا قول لا يصح لأن كل واحد منهما يقر بأن هذه التركة تركة هذا الميت وانه
إنما يستحقها بالميراث فلا حكم ليده، وقال أبو الخطاب يحتمل ان يقف الامر حتى يعرف أصل دينه أو
يصطلحا وهذا قول الشافعي وقد ذكرنا الدليل على ظهور كفره فأما ظهور حكم الاسلام في الصلاة
عليه وغسله وغير ذلك فإن هذا لا ضرر فيه على أحد وأما قوله ان الاسلام يعلو ولا يعلى فإنما يعلو
إذا ثبت والنزاع في ثبوته وهذا إذا لم يثبت أصل دينه فإن ثبت أصل دينه فالقول قول من ينفيه
مع يمينه وهذا قول الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة القول قول المسلم على كل حال
لما ذكرنا في التي قبلها
ولنا ان الأصل بقاء ما كان عليه فكان القول قول من يدعيه كسائر المواضع وأما ان لم يعترف
222

المسلم أنه أخوه وادعى كل واحد منهما ان الميت أبوه دون الآخر فهما سواء في الدعوى لتساوي أيديهما
عليه ودعاويهما فإن المسلم والكافر في الدعوى سواء ويقسم المال بينهما نصفين كما لو كان في أيديهما
دار فادعى كل واحد منهما أنها له ولا بينة لهما ويحتمل ان يقدم قول المسلم لأن حكم الميت حكم
المسلمين في غسله والصلاة عليه وسائر أحكامه، وقال القاضي يقرع بينهما كما إذا تداعيا عينا في يد غيرهما
ولم يدعها لنفسه ويحتمل ان يقف الامر حتى يعرف أصل دينه وهو قول الشافعي الا ان يصطلحا
(مسألة) (وإن أقام كل واحد بينة انه مات على دينه تعارضتا وان قال شاهدان نعرفه مسلما
وقال شاهدان نعرفه كافرا فالميراث للمسلم إذا لم تؤرخ الشهود معرفتهم)
أما إذا أقاما بينتين كل واحد بينة انه مات على دينه ولم يعرف أصل دينه تعارضتا وان عرف
أصل دينه نظرنا في لفظ الشهادة فإن شهدت كل واحدة منهما انه كان آخر كلامه التلفظ بما شهدت به فهما
223

متعارضتان وان شهدت إحداهما انه مات على دين الاسلام وشهدت الأخرى انه مات على دين الكفر
قدمت بينة من يدعي انتقاله عن دينه لأن المبقية له على أصل دينه ثبتت شهادتها على الأصل الذي تعرفه
لأنهما إذا عرفا أصل دينه ولم يعرفا انتقاله عنه جاز لهما ان يشهدا أنه مات على دينه الذي عرفاه والبينة
الأخرى معها علم لم تعلمه الأولى فقدمت عليها كما لو شهدا ان هذا العبد كان ملكا لفلان إلى أن مات
وشهد آخران انه أعتقه أو باعه قبل موته قدمت بينة العتق والبيع فأما ان قال شاهدان نعرفه مسلما
وقال شاهدان نعرفه كافرا نظرنا في تاريخهما فإن اختلف تاريخيهما عمل بالآخرة منهما لأنه ثبت
انه انتقل عما شهدت به الأولى إلى ما شهدت به الأخرى وان كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة
قدمت بينة المسلم لأن المسلم لا يقر على الكفر في دار الاسلام وقد يسلم الكافر فيقر وإن كانتا مؤرختين
224

بتاريخ واحد نظرنا في شهادتهما فإن كانت على اللفظ فهما متعارضتان وإن لم تكن على اللفظ ولم يعرف
أصل دينه فهما متعارضتان وإن عرف أصل دينه قدمت الناقلة له عن أصل دينه وكل موضع تعارضت
البينتان فقال الخرقي تسقط البينتان ويكونان كمن لا بينة لهما وقد ذكرنا روايتين أخريين (إحداهما)
يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذ (والثانية) يقسم بينهما ونحو هذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة تقدم بينة الاسلام على كل حال وقد مضى الكلام معه وقد قال الخرقي إذا قال شاهدان نعرفه
كان مسلما وقال شاهدان نعرفه كان كافرا فالميراث للمسلم إذا لم يؤرخ الشهود معرفتهم وهو محمول على
225

من لم يعلم أصل دينه أو على أن أصل دينه الكفر اما من كان مسلما في الأصل فينبغي ان تقدم بينة الكفر لأن بينة
الاسلام يجوز أن تستند إلى ما كان عليه في الأصل
(فصل) وان خلف ابنا مسلما وأخا كافرا فاختلفا في دينه حال موته فالحكم فيها كالتي قبلها
وهكذا سائر الأقارب.
(مسألة) (وان خلف أبوين كافرين وابنين مسلمين فاختلفوا في دينه فالقول قول الأبوين
ويحتمل أن القول قول الابنين)
226

ظاهر المذهب أن القول قول الأبوين لأن كون الأبوين كافرين بمنزلة معرفة أصل دينه لأن
الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه فيثبت انه كان كافرا في صغره. ويحتمل أن القول قول
الابنين لأن كفر أبويه يدل على أصل دينه في صغره واسلام ابنيه يدل على اسلامه في كبره فيعمل
بهما جميعا يحمل كل واحد منهما على مقتضاه فهو كما لو قال شاهدان نعرفه كافرا في صغره وقال
شاهدان نعرفه مسلما في كبره
(فصل) وان خلف ابنا كافرا وأخا وامرأة مسلمين واختلفوا في دينه فالقول قول الابن على
227

قول الخرقي. ووجهه ما سبق فيما إذا خلف ابنين مسلما وكافرا وقال القاضي يقرع بينهما وقد سبق
تعليله في مسألة الابنين. وقال أبو بكر قياس المسألة أن تعطى المرأة الربع ويقسم الباقي بين الأخ)
والابن نصفين لأنها تدعي زيادة عليه فيدخل في عموم قوله تعالى (ولهن الربع مما تركتم
فلا يخرج الا بدليل تخصيصها ولا يخرج بالشك ويقسم الباقي بين الأخوين لتساويهما في الدعوى
وهو في أيديهما.
(فصل) ولو مات مسلم وخلف زوجة وورثة سواها وكانت الزوجة كافرة ثم أسلمت وادعت
228

أنها أسلمت قبل موته وأنكرها الورثة فالقول قولهم لأن الأصل عدم ذلك فإن لم يثبت أنها كافرة
فادعى عليها الورثة أنها كانت كافرة وأنكرتهم فالقول قولها لأن الأصل عدم ما ادعوه وان ادعوا
انه طلقها قبل موته فأنكرتهم فالقول قولها فإن اعترفت بالطلاق وانقضاء العدة وادعت أنه راجعها
فالقول قولهم وان اختلفوا في انقضاء عدتها فالقول قولهما في أنها لم تنقض لأن الأصل بقاؤها
ولا نعلم في هذا كله خلافا.
وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولو خلف ولدين مسلمين اتفقا على أن أحدهما كان مسلما حين
229

موت أبيه وادعى الآخر أنه أسلم في حياة أبيه وجحده أخوه فالميراث للمتفق عليه لأن الأصل بقاء
الكفر الا ان يعلم زواله وعلى أخبه اليمين وتكون على نفي العلم لأنها على نفي فعل أخيه الا أن يكون
ثبت أنه أسلم قبل قسم التركة فيرث فإن من أسلم على ميراث قبل القسمة قسم له وإن كان أحدهما
حرا والآخر رقيقا ثم عتق واختلفا في حريته عند الموت فالقول قول من ينفيها وان لم يثبت أنه كان
رقيقا ولا كافرا فادعي عليه أنه كذلك فأنكر فالقول قوله والميراث بينهما لأن الأصل الحرية
والاسلام وعدم ما سواهما.
230

(فصل) إذا أسلم أحد الابنين في غرة شعبان والآخر في غرة رمضان واختلفا في موت أبيهما
فقال الأول مات في شعبان فورثته وحدي وقال الآخر مات في رمضان فالميراث بينهما لأن الأصل
بقاء حياته حتى يعلم زوالها وان أقام واحد منهما بينة بدعواه ففيه وجهان
(أحدهما) يتعارضان (والثاني) نقدم بينة موته في شعبان لأنها معها زيادة علم لأنه ثبت موته في
شعبان ويجوز ان يخفى ذلك على البينة الأخرى
(مسألة) ولو مات مسلم وخلف ولدين مسلما وكافرا فأسلم الكافر وقال أسلمت قبل موت
أبى وقال أخوه بل بعده فلا ميراث له لأن الأصل بقاء الكفر حتى يعلم زواله وعلى أخيه اليمين وتكون
على نفي العلم لأنها على نفي فعل الغير وقد ذكرناه
231

(مسألة) وان قال أسلمت في المحرم ومات أبي في صفر فلي الميراث وقال أخوه بل مات
في ذي الحجة فله الميراث مع أخيه لأن الأصل بقاء الحياة فإن أقام كل واحد بينة بدعواه
فهل يتعارضان أو تقدم بينة من ادعى تقديم موته؟ فيه وجهان ذكرناهما في الفصل قبل هاتين
المسئلتين والله أعلم.
الله أكبر
232

كتاب العتق
العتق في اللغة الخلوص ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير اي خالصتها وسمي البيت احرام عتيقا
لخلوصه من أيدي الجبابرة وهو في الشرع تحرير الرقبة وتخليصها من الرق يقال عتق العبد وأعتقته أنا
وهو عتيق ومعتق والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (فتحرير رقبة)
وقال تعالى (فك رقبة) وأما السنة فما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق رقبة مؤمنة
أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار حتى إنه ليعتق اليد باليد والرجل بالرجل والفرج بالفرج) متفق
عليه في أخبار كثيرة سوى هذا وأجمع الأمة على صحة العتق وحصول القربة به
(مسألة) (وهو من أفضل القرب)
لأن الله تعالى جعله كفارة للقتل والوطئ في رمضان والايمان وجعله النبي صلى الله عليه وسلم فكاكا لمعتقه من
النار ولان فيه تخليص الآدمي المعصوم من ضرر الرق وملك نفسه ومنافعه وتكميل أحكامه وتمكينه من
التصرف في نفسه ومنافعه على حسب إرادته واختياره واعتاق الرجل أفضل من اعتاق المرأة لما روى
كعب بن مرة البهزي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أيما رجل أعتق رجلا مسلما كان فكاكه
منه النار يجزى بكل عظم من عظامه عظما من عظامه، وأيما رجل مسلم أعتق امرأتين مسلمتين
233

كانتا فكاكه من النار يجزى بكل عظم من عظامهما عظما من عظامه، وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة
كانت فكاكها من النار تجرى بكل عظم من عظامها عظما من عظامها) وقيل عتق المرأة للمرة أفضل.
(مسألة) (والمستحب عتق من له كسب ودين ينتفع بالعتق)
فأما من لا قوة له ولا كسب فلا يستحب عتقه ولا كتابته لسقوط نفقته عن سيده باعتاقه فيضيع
أو يصير كلا على الناس ويحتاج إلى المسألة فلا يستحب عتقه ولا كتابته فإن كان ممن يخاف عليه
الرجوع إلى دار الحرب وترك اسلامه أو يخاف عليه الفساد كمن يخاف أنه إذا أعتق فاحتاج
سرق أو فسق أو قطع الطريق أو جارية يخاف عليها الزنا والفساد كره اعتاقه فإن غلب على الظن
إفضاؤه إلى هذا كان محرما لأن التوسل إلى الحرام حرام فإن أعتقه صح لأنه اعتاق صدر من أهله
في محله فصح كعتق غيره
(مسألة) (ويحصل العتق بالقول والملك ولا يحصل بالنية المجردة)
لأنه إزالة ملك فلا يحصل بالنية المجردة كالطلاق وألفاظه تنقسم إلى صريح وكناية فالصريح
لفظ العتق والحرية كيف صرفا نحو أنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق أو أعتقتك لأن هذين اللفظين وردا
في الكتاب والسنة وهما يستعملان في العتق عرفا فمتى اتى بشئ من هذه الألفاظ حصل به العتق سواء نواه
234

أو لم ينوه قال احمد في رجل لقي امرأة في الطريق فقال تنحي يا حرة فإذا هي جاريته قال قد عتقت عليه
وقال في رجل قال لخدم قيام في وليمة مروا أنتم أحرارا وكانت معهم أم ولده لم يعلم بها قال هذا
عندي تعتق أم ولده ويحتمل ان لا تعتق في هذين الموضعين لأنه قصد باللفظة الأولى غير العتق فلم
تعتق به كما لو قال عبدي حر بريد انه عفيف كريم الأخلاق واللفظة الثانية أراد غير أم ولده فأشبه
ما لو نادى امرأة من نسائه فأجابته غيرها فقال أنت طالق يظنها المناداة فإنها لا تطلق في رواية
فكذا ههنا، وأما ان قصد غير العتق كالرجل يقول عبدي هذا حر يريد عفته وكرم أخلاقه أو يقول
لعبده ما أنت الا حر أي انك لا تطيعني ولا ترى لي حقا ولا طاعة فلا يعتق في ظاهر المذهب قال
حنبل سئل أبو عبد الله عن رجل قال لغلامه أنت حر وهو يعاتبه قال إذا كان لا يريد به العتق يقول
كأنك حر ولا يريد أن يكون حرا أو كلاما شبه هذا رجوت ان لا يعتق وأنا اهاب المسألة لأنه
نوى بكلامه ما يحتمله فانصرف إليه كما لو نوى بكناية العتق العتق قال وان طلب استحلافه حلف
وبيان احتمال اللفظ لما اراده ان المرأة تمدح بهذا يقال امرأة حرة يعنون عفيفة وتمدح المملوكة
به أيضا ويقال للحيي الكريم الأخلاق حر قالت سبيعة ترثي عبد المطلب
ولا تسأما أن تبكيا كل ليلة * ويوم على حر كريم الشمائل
وأما الكناية فنحو قوله خليتك والحق باهلك واذهب حيث شئت ونحوها وكذلك قوله حبلك
235

على غاربك فهذا ان نوى به العتق عتق وان لم ينوه لم يعتق لأنه يحتمل غيره ولم يرد به كتاب ولا
سنة ولا عرف استعمال وفي قوله لا سبيل لي عليك ولا ملك لي عليك ولا رق لي عليك وفككت
رقبتك وأنت مولاي وأنت لله وأنت سائبة روايتان (إحداهما) انه صريح (والأخرى) كناية ذكر
القاضي وأبو الخطاب في قوله لا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك: روايتين (إحداهما) أنه صريح
(والأخرى) كناية قال شيخنا والصحيح أنه كناية لما ذكرناه، فأما قوله لا ملك لي عليك ولا
رق لي عليك وأنت لله فقال القاضي هو صريح نص عليه احمد وذكر أبو الخطاب فيه روايتين لأنه
يحتمل غير العتق ولا خلاف في المذهب انه يعتق به إذا نوى وممن قال يعتق بقوله أنت لله إذا نوى
الشعبي والمسيب بن رافع وحماد والشافعي وقال أبو حنيفة لا يعتق به لأن مقتضاه أنت عبد الله
أو مخلوق لله وهذا لا يقتضي العتق
ولنا انه يحتمل أنت حر لله أو عتيق لله أو عبد لله وحده لست بعبد لي ولا لاحد سوى الله
فإذا نوى الحرية به وقعت كسائر الكنايات وما ذكروه لا يصح لأن احتماله لما ذكروه لا يمنع
احتماله لما ذكرناه بدليل سائر الكنايات فإنها تحتمل العتق وغيره ولو لم تحتمل الا العتق لكانت
صريحة فيه وما احتمل أمرين انصرف إلى أحدهما بالنية وهذا شأن الكنايات وما ذكروه من
الاحتمال يدل على أن هذا ليس بصريح وإنما هو كناية وقوله لا ملك لي عليك ولا رق لي عليك
236

خبر عن انتفاء ملكه ولم يرد به شرع ولا عرف استعمال في العتق فلم يكن صريحا فيه كقوله ما أنت
عبدي ولا مملوكي وقوله لامرأته ما أنت امرأتي ولا زوجتي وفي قوله فككت رقبتك وأنت سائبة
وأنت مولاي روايتان (إحداهما) هو صريح في العتق لأنها تتضمنه وقد جاء في كتاب الله تعالى (فك رقبة)
يعني العتق فكانت صريحة كقوله أعتقتك (والثاني) هو كناية لأنه يحتمل غير العتق
(مسألة) (وفي قوله لامته أنت طالق وأنت حرام روايتان)
(أحداهما) هي كناية والأخرى لا تعتق به وهو قول أبي حنيفة لأن الطلاق لفظ وضع
لإزالة الملك عن المنفعة فلم يزل به الملك عن الرقبة كفسخ الإجارة ولان ملك الرقبة لا يستدرك
بالرجعة فلا ينحل كسائر الاملاك
(والثانية) هو كناية تعتق به إذا نواه وهو قول مالك والشافعي لأن الرق أحد الملكين على
الآدمي فيزول بلفظ الطلاق كالآخر أو فيكون للفظ الموضوع لإزالة أحدهما كناية في إزالة الآخر
كالحرية في إزالة النكاح ولان فيه معنى الاطلاق فإذا نوى به اطلاقها من ملكه فقد نوى بلفظه
ما يحتمله فتحصل به الحرية كسائر كنايات العتق
(فصل) وان قال لامته أنت حرام ينوي به العتق عتقت، وذكر أبو الخطاب ان فيها رواية
237

أخرى لا تعتق كقوله لها أنت طالق والصحيح انها تعتق به لأنه يحتمل انك حرام علي لكونك
حرة فتعتق به كقوله لا سبيل لي عليك
(مسألة) (وان قال لعبده وهو أكبر منه أنت ابني لم يعتق ذكره القاضي ويحتمل ان يعتق)
إذا قال لا كبر منه أو لمن لا يولد لمثله: هذا ابني مثل ان يقول من لم عشرون سنة لمن له خمسة
عشرة سنة: هذا ابني لم يعتق ولم يثبت نسبه، وقال أبو حنيفة يعتق وخرجه أبو الخطاب وجها لنا
لأنه اعترف بما تثبت به حريته فأشبه ما لو أقر بها
ولنا أنه قول يتحقق كذبه فيه فلم يثبت الحرية كما لو قال لطفل هذا أبي أو لطفلة هذه أمي،
قال ابن المنذر هذا من قول النعمان شاذ لم يسبقه أحد إليه ولا تبعه أحد عليه وهو محال من الكلام
وكذب يقينا ولو جاز هذا لجاز ان يقول الرجل لطفل هذا أبي ولأنه لو قال لزوجته وهي أسن منه:
هذه ابنتي أو قال لها وهي أسن منه هذه أمي لم تطلق كذا هذا
(مسألة) (وان أعتق حاملا عتق جنينها الا ان يستثنيه)
لأنه يتبعها في البيع والهبة ففي العتق أولى فإن استثناه لم يعتق روي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة
والنخعي وإسحاق وابن المنذر وقال ابن سيرين له ما استثنى وقال عطاء والشعبي إذا استثنى ما في
بطنها فله ثنياه وقال مالك والشافعي لا يصح استثناء الجنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا الا ان تعلم
وقياسا على استثنائه في البيع أشبه بعض أعضائها
238

ولنا انه قول ابن عمر وأبي هريرة قال أحمد اذهب إلى حديث ابن عمر في العتق ولا أذهب
إليه في البيع ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) ولأنه يصح افراده بالعتق فصح استثناؤه
كالمنفصل وخبرهم نقول به والحمل معلوم فصح استثناؤه للحديث ويفارق البيع لأنه عقد معاوضة
يعتبر فيه العلم بصفات العوض ليعلم هل هو قائم مقام لعوض أم لا؟ والعتق تبرع لا تتوقف صحته على
معرفة صفات المعتق ولا تنافيه الجهالة ويكفي العلم بوجوده وقد وجد ولذلك صح افراد الحمل
بالعتق ولم يصح بالبيع ولان استثناءه في البيع إذا بطل بطل البيع كله وههنا إذا بطل استثناؤه لم يبطل
العتق في الأمة ويسري الاعتاق إليه فكيف يصح إلحاقه به مع تضاد الحكم فيها؟ ولا يصح قياسه
على بعض أعضائها لأنه يصح انفراده بالحرية عن أمه فيما إذا أعتقه دونها وفي ولد المغرور بحرية
أمة وفيما إذا وطئ بشبهة وفي ولد أم الولد وغير ذلك ولا يصح ذلك في بعض أعضائها ولان الولد
يرث ويورث ويوصى به فكيف يصح قياسه على بعض الأعضاء؟
وروى الأثرم عن ابن عمر أنه أعتق أمة واستثنى ما في بطنها ولأنها ذات حمل فصح استثناء
حملها كما لو باع نخلة لم تؤبر واشترط ثمرتها وقال القاضي يخرج على الروايتين فيما إذا استثنى ذلك
في البيع والمنصوص عنه ما ذكرنا من أنه يصح استثناؤه في العتق ولا يصح في البيع لم ذكرنا من الفرق بينهما
239

(مسألة) (وان أعتق ما في بطنها دونها عتق وحده)
لا نعلم في ذلك خلافا وهو قول سفيان واحمد وإسحاق لأن حكمه حكم الانسان المنفرد ولهذا
يورث الجنين إذا ضرب بطن امرأة فأسقطت جنينا وجب فيه غرة موروثة عنه كأنه سقط حيا وتصح
الوصية به وله ويرث إذا مات موروثه قبل ان يولد ثم ولد بعده فصح عتقه كالمنفصل
(فصل) ولا يصح العتق الا من جائز التصرف فلا يصح عتق الصبي والمجنون قال ابن المنذر
هذا قول عامة أهل العلم منهم الحسن والشعبي والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وذلك
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى
يستيقظ) ولأنه تبرع بالمال فلم يصح كالهبة ولا يصح عتق المحجور عليه للسفه وهو قول القاسم بن محمد
وعنه يصح قياسا على طلاقه وتدبيره
ولنا أنه محجور عليه في ماله لحظ نفسه فلم يصح عتقه كالصبي ولأنه تصرف في المال في حياته
أشبه هبته وبيعه ويفارق الطلاق لأن الحجر عليه في ماله والطلاق ليس بتصرف فيه ويفارق التدبير لأنه
تصرف فيه بعد موته وغناه عنه بالموت ولهذا صحت وصيته ولم تصح هبته المنجزة وعتق السكران مبني
على طلاقه وفيه من الخلاف ما فيه ولا يصح عتق المكره كما لا يصح بيعه ولا تصرفاته ولا يصح
240

عتق الموقوف لأن فيه ابطالا لحق البطن الثاني منه وليس له ذلك
(فصل) ولا يصح العتق من غير المالك بغير إذنه فلو أعتق عبد ولده الصغير أو يتيمه الذي في
حجره لم يصح، وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وقال مالك يصح عتق عبد ولده الصغير لقوله عليه
الصلاة والسلام (أنت ومالك لأبيك) ولان له عليه ولاية وله فيه حق فسح اعتاقه كما له
ولنا انه عتق من غير مالك فلم يصح كاعتاق عبد ولده الكبير قال ابن المنذر لما روث الله الأب
من مال ابنه السدس مع ولده دل على أنه لا حق له في سائره وقوله عليه السلام (أنت ومالك لأبيك)
لم يرد به حقيقة الملك وإنما أراد المبالغة في وجوب حقه عليك وامكان الاخذ من مالك وامتناع
مطالبتك إياه بما أخذ منه ولهذا لم ينفذ اعتاقه لعبده ولده الكبير الذي ورد الخبر فيه وثبوت الولاية
له على مال ولده أبلغ في امتناع اعتاق عبده لأنه إنما أثبت عليه الولاية لحظ الصبي ليحفظ ماله عليه
وينميه له ويقوم بمصالحه التي يعجز الصبي عن القيام بها. وإذا كان مقصود الولاية الحفظ اقتضت
منع التفريط والتضييع باعتاق رقيقه والتبرع بماله ولو قال رجل لعبد أنت حر من مالي فليس بشئ فإن
اشتراه بعد ذلك فهو مملوكه ولا شئ عليه وبه قال مالك والشافعي وعامة للفقهاء ولو بلغ رجلا أن رجلا
قال لعبده أنت حر من مالي فقال قد رضيت فليس بشئ وبه قال الثوري وإسحاق
(مسألة) (وأما الملك فمن ملك ذا رحم محرم عتق عليه وعنه لا يعتق الا عمودا النسب)
ذو الرحم المحرم القريب الذي يحرم نكاحه عليه لو كان أحدهما رجلا والآخر امرأة وهم الولدان
241

وان علوا من قبل الأب والام جميعا والولد وإن سفل من ولد البنين والبنات والاخوة والأخوات
وأولادهم وان سفلوا والأعمام والعمات والأخوال والخالات وان علوا دون أولادهم فمتى ملك أحدا
منهم عتق عليه روي ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وجابر بن زيد
وعطاء والحكم وابن أبي ليلى والثوري والليث وأبو حنيفة والحسن بن صالح وشريك ويحيى بن آدم
واعتق مالك الوالدين والمولودين وان بعدوا والاخوة والأخوات دون أولادهم ولم يعتق الشافعي
الا عمودي النسب وعن أحمد كذلك ولم يعتق داود وأهل الظاهر أحدا حتى يعتقه لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(لا يجزي ولد والده الا ان يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه) رواه مسلم
ولنا ما روى الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ملك ذا رحم محرم فهو حر) رواه
أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ولأنه ذو رحم محرم فعتق عليه بالملك كعمودي النسب وكالاخوة
والأخوات عند مالك فأما قوله (حتى يشتريه فيعتقه) فيحتمل أنه أراد فيشتريه فيعتقه بشرائه كما يقال
ضربه فقتله والضرب هو القتل وذلك لأن الشراء لما كان يحصل به العتق تارة دون أخرى جاز
242

عطف صفته عليه كما يقال ضربه فأطار رأسه وسواء ملكه بشراء أو هبة أو غنيمة أو ارث أو غيره
لا نعلم بين أهل العلم فيه خلافا
(فصل) ولا خلاف في أن المحارم من غير ذوي الأرحام لا يعتقون على سيدهم كالأم من الرضاعة
والأخ منها والربيبة وأم الزوجة وابنتها إلا أنه حكي عن الحسن وابن سيرين وشريك انه لا يجوز
بيع الأخ من الرضاعة وروي عن ابن مسعود انه كرهه والأول أصح قال الزهري جرت السنة بان يباع
الأخ والأخت من الرضاعة ولأنهم لا نص في عتقهم ولا هم في معنى المنصوص عليه فيبقون على الأصل
ولأنهما لا رحم بينهما ولا توارث ولا تلزمه نفقته فأشبه الربيبة وأم الزوجة.
(مسألة) (وان ملك ولده من الزنا لم يعتق عليه في ظاهر كلام أحمد)
لأن أحكام الولد غير ثابتة فيه وهي الميراث والحجب والمحرمية ووجوب الانفاق وثبوت الولاية
عليه ويحتمل أن يعتق لأنه جزؤه حقيقة وقد ثبت فيه حكم تحريم التزويج ولهذا لو ملك ولده
المخالف له في الدين عتق عليه مع انتفاء هذه الأحكام.
(مسألة) وان ملك سهما ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله وعليه قيمة
نصيب شريكه وإن كان معسرا لم يعتق عليه الا ما ملك وان ملكه بالميراث لم يعتق منه إلا ما ملك
موسرا كان أو معسرا وعنه أنه يعتق عليه نصيب الشريك إن كان موسرا.
243

وجملة ذلك أن من ملك سهما ممن يعتق عليه فإنه يعتق عليه ما ملك منه سواء ملكه بعوض أو
بغير عوض كالاغتنام والوصية وسواء ملكه باختياره كالذي ذكرنا أو بغير اختياره كالميراث لأن
كل ما يعتق به الكل يعتق به البعض كالاعتاق بالقوم ثم ينظر فإن كان معسرا لم يسر العتق واستقر
في ذلك الجزء ورق الباقي لأنه لو أعتقه بقوله لم يسر اعتاقه بتصريحه بالعتق وقصده إياه فههنا أولى
وإن كان موسرا وكان الميراث باختياره كالملك بغير الميراث سرى إلى باقيه فعتق جميع العبد ولزمه
لشريكه قيمة باقيه لأنه فوته عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف وقال قوم لا يعتق عليه
الا ما ملك سواء ملكه بشراء أو غيره لأن هذا لم يعتقه وإنما عتق عليه بحكم الشرع عن غير اختيار
فلم يسر كما لو ملكه بالميراث وفارق ما أعتقه لأنه فعله باختياره قاصدا إليه
ولنا انه فعل سبب العتق اختيارا منه وقصد إليه فسرى ولزمه الضمان كما لو وكل من أعتق
نصيبه وفاروق الميراث فإنه حصل بغير فعله ولا قصده ولان من باشر سبب السراية اختيارا لزمه
الضمان كمن جرح إنسانا فسرى جرحه ولان مباشرة ما يسري ونسبته إليه في لزوم حكم السراية
واحدة بدليل استواء الحافر والدافع في ضمان الواقع فاما ان ملكه بالميراث لم يسر العتق فيه واستقر
فيما ملكه ورق الباقي موسرا كان أو معسرا لأنه لم يتسبب إلى اعتاقه وإنما حصل بغير اختياره وبه
قال مالك والشافعي وأبو يوسف وعن أحمد ما يدل على أنه أنه يسري إلى نصيب الشريك إذا كان موسرا
244

لأنه عتق عليه بعضه وهو موسر فسرى إلى باقيه كما لو وصى له به فقبله والمذهب الأول لأنه لم يعتقه
ولا تسبب إليه فلم يضمن ولم يسر كالأجنبي وفارق ما تسبب إليه
(فصل) وان ورث الصبي والمجنون جزءا ممن يعتق عليهما عتق ولم يسر إلى باقيه لأنه إذا لم
يسر في حق المكلف ففي حقهما أولى وان وهب لهما أو وصي لهما به وهما معسران فعلى وليهما قبوله
لأنه نفع لهما باعتاق قريبهما من غير ضرر يلحق قريبهما وان كانا موسرين ففيه وجهان مبنيان على
أنه هل يقوم عليهما باقيه إذا ملكا بعضه؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يقوم ولا يسري العتق إليه لأنه يدخل ملكه بغير اختياره أشبه ما لو ورثه (والثاني)
يقوم عليه لأن قبول وليه يقوم مقام قبوله فأشبه الوكيل فعلى هذا الوجه ليس لوليه قبوله لما فيه من
الضرر، وعلى الأول يلزمه قبوله لأنه نفع بغير ضرر إذا كان ممن لا تلزمه نفقته وإذا قلنا ليس له ان
يقبله فقبله احتمل أن لا يصح القبول لأنه فعل ما لم يأذن له الشرع فيه فأشبه ما لو باع ماله بغبن واحتمل
ان يصح وتكون الغرامة عليه لأنه ألزمه هذه الغرامة فكانت عليه كنفقة الحج إذا حجه
(فصل) وان باع عبدا لذي رحمه وأجنبي صفقة واحدة عتق كله إذا كان ذو رحمة موسرا وضمن
لشريكه قيمة حقه منه وقال أبو حنيفة لا يضمن لشريكه شيئا لأن ملكه لم يتم الا بقبول شريكه
فصار كأنه اذن له في اعتاق نصيبه بملكه باختياره فوجب ان يقوم عليه باقيه مع يساره كما لو انفرد
بشرائه ولا نسلم انه لا يصح قبوله الا بقبول شريكه.
245

(فصل) إذا كانت مزوجة ولها ابن موسر فاشتراها هو وزوجها وهي حامل منه صفقة واحدة
عتق نصيب الابن من أمه وسرى إلى نصيب الزوج ويقوم عليه وعتق الحمل عليهما معا لأنه ابن
الزوج وأخو الابن ولا يجب لأحدهما على الآخر منه شئ لأنه عتق عليهما في حال واحدة ولو كانت
المسألة بحالها فوهبت لهما أو وصي لهما بها فقبلاها في حال واحدة فكذلك وان قبلها أحدهما قبل الآخر
نظرنا فإن قبل الابن أولا عتقت الام وحملها وعليه قيمة باقيهما للزوج وإن قبل الزوج أو لا عتق
عليه الحمل كله ثم إذا قبل الابن عتقت عليه الام كلها ويتقاصان ويرد كل واحد منهما الفضل على
صاحبه ومن قال في الوصية ان الملك لا يثبت فيها بالموت فالحكم فيه كما لو قبلاها دفعة واحدة
(مسألة) (وان مثل بعبده فجدع انفه وأذنه أو نحو ذلك عتق نص عليه)
لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان زنباعا أبا روح وجد غلاما له مع جاريته فقطع
ذكره وجدع انفه فأتى العبد النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما حملك على ما فعلت؟)
قال فعل كذا وكذا قال (اذهب فأنت حر) قال القاضي والقياس ان لا يعتق لأن سيده لم يعتقه بلفظ
صريح ولا كناية وإذا ثبت الحديث وجب العمل به وترك القياس
(مسألة) (وإذا أعتق العبد فماله لسيده)
روي هذا عن ابن مسعود وأبي أيوب وأنس ابن مالك وبه قال قتادة والحكم والثوري والشافعي
246

وأصحاب الرأي وروي ذلك عن حماد والبتي وداود بن أبي هند وحميد وعنه رواية أخري أنه للعبد
وبه قال الحسن وعطاء والنخعي ومالك وأهل المدينة يبيعه لما روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال (من أعتق عبدا وله مال فالمال للعبد) رواه الإمام أحمد وغيره وروى حماد بن سلمة
عن أيوب عن نافع عن ابن عمر انه كان إذا أعتق عبدا لم يعرض لماله
ولنا ما روى الأثرم باسناده عن ابن مسعود أنه قال لغلامه عمير يا عمير إني أريد ان أعتقك
عتقا هنيئا فأخبرني بمالك فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيما رجل أعتق عبده أو غلامه فلم يخبره
بماله فماله لسيده ولان العبد وماله كانا للسيد فأزال ملكه عن أحدهما فبقي ملكه في الآخر كما لو
باعه وقد دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبدا وله مال فماله للبائع الا ان يشترطه المبتاع)
فأما حديث ابن عمر فقال أحمد يرويه عبد الله بن أبي جعفر من أهل مصر وهو ضعيف في الحديث كان
صاحب فقه فاما في الحديث فليس هو فيه بالقوي وقال أبو الوليد هذا الحديث خطأ فاما فعل ابن عمر
فهو تفضل منه على معتقه قيل لأحمد كان هذا عندك على التفضل؟ فقال أي لعمري على التفضل قيل له
فكأنه عندك للسيد؟ فقال نعم للسيد مع البيع سواء
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا أعتق جزءا من عبده معينا أو مشاعا عتق كله)
أما إذا أعتق عبده وهو صحيح جائز التصرف فإنه يصح عتقه باجماع أهل العلم فإن أعتق بعضه
247

عتق كله في قول جمهور العلماء روي ذلك عن عمر وابنه رضي الله عنهما وبه قال الحسن والحكم
والأوزاعي والثوري والشافعي قال ابن عبد البر عامة العلماء بالحجاز والعراق قالوا يعتق كله إذا أعتق
نصفه وقال طاوس يعتق في عتقه ويرق في رقه وقال حماد وأبو حنيفة يعتق منه ما أعتق ويسعى في
باقيه وخالف أبا حنيفة أصحابه فلم يروا عليه سعايه وروي عن مالك في رجل أعتق نصف عبد ثم
غفل عنه حتى مات فقال أرى نصفه حرا ونصف رقيقا لأنه تصرف في بعضه فلم يسر إلى باقيه كالبيع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد فكان معه ما يبلغ ثمنه قوم عليه قيمة عدل وعتق
عليه جميع العبد) وإذا عتق عليه نصيب شريكه كان تنبيها على عتق جميعه إذا كان كله ملكا له وقال
النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شقصا له من مملوك فهو حر من ماله) ولأنه إزالة ملك عن بعض مملوكه
الآدمي فزال عنه جميعه كالطلاق ويفارق البيع فإنه لا يحتاج إلى السعاية ولا يبنى على التغليب والسراية.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين ان يعتق جزءا كبيرا كنصفه أو ثلثه أو صغيرا كعشره أو عشر عشره
ولا نعلم في هذا خلافا بين القائلين بسراية العتق إذا كان مشاعا
(فصل) قان أعتق جزءا معينا كرأسه أو يده أو أصبعه عتق كله أيضا وبه قال قتادة والشافعي
وإسحاق وقال أصحاب الرأي ان أعتق رأسه أو ظهره أو بدنه أو بطنه أو جسده أو نفسه أو فرجه
عتق كله لأن حياته لا تبقى بدون ذلك وان أعتق يده أو عضوا تبقى حياته بدونها لم يعتق لأنها يمكن
إزالة ذلك مع بقائه فلم يعتق كاعتاقه شعره
248

ولنا أنه أعتق عضوا من أعضائه فعتق جميعه كرأسه فاما إذا أعتق شعره أو سنه أو ظفره لم يعتق
وقال قتادة والليث في الرجل يعتق ظفر عبده يعتق اكله لأنه من اجزائه أشبه أصبعه
ولنا ان هذه الأشياء تزول ويخرج غيرها فأشبهت الشعر والريق وسنذكر ذلك في الطلاق والعتق مثله
(مسألة) (وان أعتق شركا له في عبد وهو موسر بقيمة باقيه عتق كله وعليه قيمة
باقيه يوم العتق لشريكه)
وجملته ان الشريك إذا أعتق نصيبه من العبد عتق عليه لا نعلم فيه خلافا لما ذكرنا من الأثر
وإذا عتق نصيبه سرى العتق إلى جميعه فصار جميعه حرا وعلى المعتق قيمة أنصباء شركائه ولولاء له هذا قول
مالك وابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري والشافعي وأبي يوسف ومحمد وإسحاق وقال البتي لا يعتق الا
حصة المعتق ونصيب الباقين باق على الرق ولا شئ على المعتق لما روى التلب عن أبيه ان رجلا أعتق
شقصا له في مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد ولأنه لو باع نصيبه لاختص البيع به فكذلك
العتق الا أن تكون جارية نفيسة يغالى فيها فيكون ذلك بمنزلة الجناية من المعتق للضرر الذي أدخله
على شريكه وقال أبو حنيفة لا يعتق الا حصة المعتق ولشريكه الخيار في ثلاثة أشياء ان شاء أعتق وان
شاء استسعى العبد وان شاء ضمن شريكه فيعتق حينئذ
249

ولنا الحديث الذي روينا وهو صحيح متفق عليه ورواه مالك في موطئه عن نافع عن ابن عمر
فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم العتق في جميعه وأوجب قيمة نصيب المعتق عليه ولم يجعل له خيرة ولا لغيره وروى
قتادة عن أبي المليح عن أبيه ان رجلا من قومه أعتق شقصا له في مملوك فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فجعل خلاصه عليه في ماله وقال (ليس لله شريك) قال أبو عبد الله الصحيح أنه عن أبي المليح عن
النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وليس فيه عن أبيه هذا معنى كلامه وقول البتي شاذ يخالف الاخبار كلها فلا
يعول عليه وحديث التلب يتعين حمله على المعسر جمعا بين الأحاديث وقياس العتق على البيع لا يصح
فإن البيع لا يسري فيما إذا كان العبد كله له والعتق يسري فإنه لو باع نصف عبده لم يسر ولو أعتقه
عتق كله. إذا ثبب هذا فإن ولاءه يكون له لأنه عتق باعتاقه من ماله ولا خلاف في هذا عند من يرى عتقه عليه
(فصل) ولا فرق في هذا بين أن يكون الشركاء مسلمين أو كافرين أو بعضهم مسلما وبعضهم
كافرا ذكره القاضي وهو قول الشافعي وذكر أبو الخطاب في الكافر وجها أنه إذا أعتق نصيبه
من مسلم أنه لا يسري إلى باقيه ولا يقوم عليه لأنه لا يصح شراء الكافر عبدا مسلما
ولنا عموم الخبر ولان ذلك يثبت لإزالة الضرر فاستوى فيه الكافر والمسلم كالرد بالعيب والغرض
ههنا تكميل العتق ودفع الضرر عن الشريك دون التمليك بخلاف الشراء ولو قدر ان ههنا تمليكا
لكان تقديرا في أدنى زمان حصل ضرورة تحصيل العتق لا ضرر فيه فإن قدر فيه ضرر فهو مغمور
250

بالنسبة إلى ما يحصل من العتق فوجوده كالعدم وقياس هذا على الشراء غير صحيح لما بينهما من الفرق
(مسألة) (فإن أعتقه الشريك بعد ذلك وقبل أخذ القيمة لم يثبت له فيه عتق)
لأنه قد صار حرا بعتق الأول له لأن عتقه حصل باللفظ لا يدفع القيمة وصار جميعه حرا واستقرت
القيمة على المعتق الأول فلا ينعتق بعد ذلك بعتق غيره وبهذا قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري
وأبو يوسف ومحمد وإسحاق وابن المنذر والشافعي في قول له اختاره المزني وقال الزهري وعمرو
ابن دينار ومالك والشافعي في قول لا يعتق الا بدفع القيمة ويكون قبل ذلك ملكا لصاحبه ينفذ
عتقه فيه ولا ينفذ تصرفه فيه بغير العتق واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (قوم عليه قيمة عدل لا وكس
ولا شطط ثم يعتق) فجعله عتيقا بعد دفع القيمة ولان العتق إذا ثبت بعوض ورد الشرع به مطلقا
لم يعتق إلا بالأداء كالمكاتب وللشافعي قول ثالث ان العتق مراعى، فإن دفع القيمة تبينا ان العتق كان
حصل من حين أعتق نصيبه، وان لم يدفع القيمة تبينا أنه لم يكن عتق لأن فيه احتياطا لهما جميعا
ولنا حديث ابن عمر فإنه روي بألفاظ مختلفة تجتمع في الدلالة على الحرية باللفظ فروى أبو أيوب
عن نافع عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمنه بقيمة العدل
فهو عتيق) رواه أبو داود والنسائي وفي لفظ رواه ابن أبي مليكة عن نافع عن ابن عمر (فكان له مال
251

فقد عتق كله) وفي رواية ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر (وكان للذي يعتق ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل يعتق
كله) وروى أبو داود باسناده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق شقصا
في مملوك فهو حر من ماله) وهذه نصوص في محل النزاع فإنه جعله حرا وعتيقا باعتاقه مشروطا بكونه
موسرا ولأنه عتيق بالسراية فكانت حاصلة من لفظه عقيبه كما لو أعتق جزءا من عبده ولا القيمة
معتبرة وقت الاعتاق ولا ينفذ تصرف الشريك فيه بغير الاعتاق وعند الشافعي لا ينفذ بالاعتاق
أيضا فدل على أن العتق حصل فيه بالاعتاق الأول فاما حديثهم فلا حجة لهم فيه فإن الواو لا تقتضي
ترتيبا وأما العطف بثم في اللفظ الآخر فلم يرد بها الترتيب فإنها قد ترد لغير الترتيب كقوله سبحانه
(ثم الله شهيد على ما يفعلون) فاما العوض فإنما وجب عن المتلف بالاعتاق بدليل اعتباره بقيمته حين
الاعتاق وعدم اعتبار التراضي فيه ووجوب القيمة من يغر وكس ولا شطط بخلاف الكتابة. إذا
ثبت هذا فإن الشريك إذا أعتقه بعد عتق الأول وقبل أخذ القيمة لم يثبت له فيه عتق ولا له عليه
ولاء وولاؤه كله للمعتق الأول وعليه القيمة لأنه قد صار حرا باعتاقه وعند مالك يكون ولاؤه بينهما
على قدر ملكهما فيه ولا شئ على المعتق الأول من القيمة ولو أن المعتق الأول لم يؤد القيمة حتى
أفلس عتق العبد وكانت القيمة في ذمته دينا يزاحم بها الشريك عندنا وعند مالك لا يعتق منه الا
ما عتق ولو كان المعتق جارية حاملا فلم يؤد القيمة حتى وضعت حملها فليس على المعتق الا قيمتها حين
252

أعتقها لأنه حينئذ حررها وعند مالك يقوم ولدها أيضا ولو أتلف العبد قبل أداء القيمة تلف حرا
والقيمة على المعتق لأنه فوت رقه، وعند مالك لا شئ على المعتق وما لم يقوم ويحكم بقيمته فهو في
جميع أحكامه عبد
(فصل) والقيمة معتبرة حين اللفظ بالعتق لأنه حين الاتلاف وهو قول الشافعي على أقواله كلها
فإن اختلفا في قدره رجع إلى قول المقومين فإن كان العبد قد مات أو غاب أو تأخر تقويمه زمنا
تختلف فيه القيم ولم تكن بينة فالقول قول المعتق لأنه منكر للزيادة والأصل براءة ذمته منها وهذا
أحد قولي الشافعي فإن اختلفا في صناعة في العبد توجب زيادة في القيمة فالقول قول المعتق كذلك
الا أن يكون العبد يحسن الصناعة في الحال ولم يمض زمن يمكن تعلمها فيه فيكون القول قول الشريك
لعلمنا بصدقه وان مضى زمن يمكن حدوثها فيه ففيه وجهان (أحدهما) القول قول المعتق لأن الأصل
براءة ذمته (والثاني) القول قول الشريك لأن الأصل بقاء ما كان وعدم الحدوث وان اختلفا في عيب
ينقص قيمته كسرقة أو إباق فالقول قول الشريك لأن الأصل السلامة فبالجهة التي رجحنا قول
المعتق في نفي الصناعة يرجح قول الشريك في نفي العيب وإن كان العيب فيه حال الاختلاف واختلفا
في حدوثه فالقول قول المعتق لأن الأصل براءة ذمته وبقاء ما كان على ما كان وعدم حدوث العيب
فيه ويحتمل أن يكون القول قول الشريك لأن الأصل براءته من العيب حين الاعتاق
253

(فصل) والمعتبر في اليسار في هذا أن يكون له فضل عن قوت يومه وليلته وما يحتاج إليه من
حوائجه الأصلية من الكسوة وسائر ما لابد منه ما يدفعه إلى شريكه ذكره أبو بكر في التنبيه وان
وجد بعض ما يفي بالقيمة قوم عليه قدر ما يمكنه منه ذكره احمد في رواية ابن منصور وهو قول مالك
وقال احمد لا يباع فيه دار ولا رباع ومقتضى هذا ان لا يباع له أصل مال، وقال مالك والشافعي يباع
عليه سوار بيته وماله بال من كسوته ويقضى عليه في ذلك كما يقضى عليه في سائر الدعاوى والمعتبر
في ذلك حال تلفظه بالعتق لأنه حال الوجوب فإن أيسر المعسر بعد ذلك لم يسر اعتاقه، وإن أعسر
الموسر لم يسقط ما وجب عليه لأنه وجب عليه فلم يسقط باعساره كدين الاتلاف نص عليه احمد
(مسألة) (وإن كان معسرا لم يعتق الا نصيبه وبقي حق شريكه فيه وعنه يعتق كله ويستسعى
العبد في قيمة باقيه غير مشقوق عليه)
ظاهر المذهب ان المعسر إذا أعتق نصيبه من العبد استقر فيه العتق ولم يسر إلى نصيب شريكه
بل يبقى على الرق فإذا أعتق شريكه عتق عليه نصيبه وهذا قول إسحاق وأبي عبيد وابن المنذر
وداود وابن جرير وهو قول مالك والشافعي على ما بيناه فيما مضى، وروي عن عروة انه اشترى عبدا
أعتق نصفه فكان عروة يشاهره شهر عبد وشهر حر، وروي عن أحمد ان المعتق إذا أعتق نصيبه
استسعى العبد في قيمة باقيه حتى يؤديها فيعتق وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى والأوزاعي
254

وأبي يوسف ومحمد لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق شقصا له في مملوك
فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال وإلا استسعى العبد غير مشقوق عليه) متفق عليه، ورواه أبو داود
قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة فإذا استسعي في نصف قيمته ثم أيسر معتقه رجع عليه بنصف القيمة
لأنه هو أجلاه إلى هذا وكلفه إياه، وعن أبي يوسف ومحمد انهما قالا يعتق جميعه وتكون قيمة نصيب
الشريك في ذمته لأن العتق لا يتبعض فإذا وجد في البعض سرى إلى جميعه كالطلاق وتلزم المعتق
القيمة لأنه المتلف لنصيب صاحبه باعتاقه فوجبت قيمته في ذمته كما لو أتلفه وقال أبو حنيفة لا يسري
فيه العتق وإنما يستحق به اعتاق النصيب الباقي فيخير شريكه بين اعتاق نصيبه ويكون الولاء بينهما
وبين أن يستسعى العبد في قيمة نصيبه فإذا أداه إليه عتق والولاء بينهما
ولنا حديث ابن عمر وهو صحيح ثابت عند جميع العلماء بالحديث ولان الاستسعاء اعتاق بعوض
فلم يجبر عليه كالكتابة ولان في الاستسعاء اضرارا بالشريك والعبد أما الشريك فانا نحيله على سعاية
قد لا يحصل منها شئ أصلا وإن حصل فالظاهر أنه يكون متفرقا ويفوت عليه ملكه وأما العبد
فإنه يجبره على سعاية لم يردها وكسب لم يختره وهذا ضرر في حقهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر
ولا ضرار) وقال سليمان بن حرب أليس الزم المعتق ثمن ما بقي من العبد لئلا يدخل على شريكه
ضرر فإذا أمروه بالسعي واعطاء كل شهر درهمين ولم يقدر على تملكه فأي ضرر أعظم من ذلك؟
255

فاما حديث الاستسعاء فقام الأثرم ذكره سليمان بن حرب فطعن فيه وضعفه، وقال أبو عبد الله
ليس في الاستسعاء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروبة واما شعبة وهشام
الدستوائي فلم يذكره وحدث به معمر ولم يذكر فيه السعاية قال أبو داود وهمام أيضا لا يقوله قال المروذي
وضعف أبو عبد الله حديث سعيد وقال ابن المنذر لا يصح حديث الاستسعاء وذكر همام ان ذكر
الاستسعاء من فتيا قتادة وفرق بين الكلام الذي هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول قتادة قال
بعد ذلك فكان قتادة يقول: ان لم يكن له مال استسعي قال ابن عبد البر حديث أبي هريرة يدور
على قتادة، وقد اتفق شعبة وهشام وهمام على ترك ذكره وهم الحجة في قتادة ولقول قولهم فيه عند
جميع أهل العلم إذا خالفهم غيرهم فاما قول أبي حنيفة وقول صاحبيه الأخير فلا شئ معهم يحتجون به
من حديث قوي ولا ضعيف بل هو محرد رأي وتحكم يخالف الحديثين جميعا قال ابن عبد البر لم يقل
أبو حنيفة وزفر بحديث ابن عمر ولا بحديث أبي هريرة على وجهه وكل قول خالف السنة فمردود
على قائله، والله المستعان.
(فصل) وإذا قلنا بالسعاية احتمل أن يعتق كله وتكون القيمة في ذمة العبد دينا يسعى في أدائها
وتكون أحكامه أحكام الأحرار فإن مات وفي يده مال كان لسيده بقية السعاية وباقي ماله موروث
ولا يرجع العبد على أحد وهذا قول أبي يوسف ومحمد ويحتمل أن لا يعتق حتى يؤدي السعاية فيكون
256

حكمه قبل أدائها حكم من بعضه رقيق ان مات فللشريك الذي لم يعتق من ماله مثل ما يكون له على
قول من لم يقل بالسعاية لأنه اعتاق بأداء مال فلم يعتق قبل أدائه كالكاتب، وقال ابن أبي ليلى
وابن شبرمة يرجع العبد على المعتق إذا أيسر لأنه كلفه السعاية باعتاقه
ولنا انه حق لزم العبد في مقابلة حريته فلم يرجع به على أحد كمال الكتابة ولأنه لو رجع به على
السيد لكان هو الساعي في العوض كسائر الحقوق الواجبة عليه
(مسألة) وإذا كان العبد الثلاثة لأحدهم نصفه ولآخر ثلثه ولثالث سدسه فأعتق صاحب
النصف وصاحب السدس معا وهما موسران عتق عليهما وضمنا حق شريكهما فيه نصفين وصار
ولاؤه بينهما أثلاثا ويحتمل أن يضمناه على قدر ملكهما فيه)
إذا كان العبد مشتركا بين جماعة فاعتق اثنان منهم وهو موسرون معاسرى عتقهم إلى باقي العبد
ويكون الضمان بينهم على عدد رؤوسهم يتساوون في ضمانه وولائه وبهذا قال الشافعي ويحتمل ان
يقسم بينهم على قدر أملاكهم وهو قول مالك في إحدى الروايتين عنه لأن السراية جعلت باعتاق
ملكهما وما وجب بسبب الملك كان على قدره كالنفقة واستحقاق الشفعة
ولنا ان عتق النصيب اتلاف لرق الباقي وقد اشتركا فيه فيتساويان في الضمان كما لو جرح أحدهما
257

جرحا والآخر جرحين فمات بهما أو القى أحدهما جزءا من النجاسة في مائع والقى الآخر جزأين ويفارق
الشفعة فإنها ثبتت لإزالة الضرر عن نصيب الشريك الذي لم يبع فكان استحقاقه على قدر نصيبه
ولأن الضمان ههنا لدفع الضرر منهما وفي الشفعة لدفع الضرر عنهما والضرر منهما يستويان في ادخاله
على الشريك وفي الشفعة ضرر صاحب النصف أعظم من ضرر صاحب السدس فاختلفا إذا ثبت
هذا كان ولاؤه بينهما ثلاثا لأننا إذا حكمنا بان الثلث معتق عليهما نصفين فنصفه سدس إذا ضممناه
إلى النصف الذي لأحدهما صار ثلثين وإذا ضممنا السدس الآخر إلى سدس المعتق صار ثلثا وعلى
الوجه الآخر يصير الولاء بينهما أرباعا لصاحب السدس ربعه ولصاحب النصف ثلاثة أرباعه والضمان
كذلك ويشترط عتقهما معا بان يوكلا من يعتقه عنهما أو يوكل أحدهما الآخر في عتق نصيبه ويتلفظا
به معا لأنه لو سبق أحدهما صاحبه عتق عليه جميعه على ما ذكرنا ويشترط اليسار أيضا فيهما فإن كان
أحدهما موسرا وحده قوم عليه نصيب من لم يعتق لأن المعسر لا يسري عتقه فيكون الضمان على المعسر
خاصة فإن كان أحدهما موسرا ببعض ما يخصه قوم عليه ذلك القدر وباقيه على الآخر مثل ان يجد
صاحب السدس قيمة نصف السدس فيقوم عليه ويقوم الربع على صاحب النصف ويصير ولاؤه
بينهم أرباعا لصاحب السدس ربعه وباقيه لمعتق النصف لأنه لو كان أحدهما معسرا قوم
الجميع على الآخر فإذا كان موسرا ببعضه قوم الباقي على صاحب النصف لأنه موسر وفيه
اختلاف ذكرناه من قبل
258

(مسألة) (وإذا أعتق الكافر نصيبه من مسلم وهو موسر سرى إلى باقيه في أحد الوجهين)
ذكره القاضي وهو قول الشافعي لأنه تقويم متلف فاستوى فيه المسلم والكافر كتقويم المتلفات
والوجه الثاني لا يسري ذكره أبو الخطاب لأن فيه تقدير الملك والكافر لا يجوز ان يتملك المسلم
والأول أصح إن شاء الله تعالى
(مسألة) (وان ادعى كل واحد من الشريكين ان شريكه أعتق نصيبه وهما موسران فقد
صار العبد حرا باعتراف كل واحد منهما وصار مدعيا على شريكه قيمة حقه منه ولا ولاء عليه لواحد منهما)
وجملة ذلك أن الشريكين الموسرين إذا ادعى كل واحد منهما ان شريكه أعتق نصيبه فكل
واحد منهما معترف بحرية نصيبه شاهد على شريكه بحرية نصفه الآخر لأنه يقول لشريكه أعتقت
نصيبك فسرى العتق إلى نصيبي فعتق كله عليك ولزمك لي قيمة نصيبي فصار العبد حرا لاعترافهما
بحريته وبقي كل واحد منهما يدعي قيمة حصته على شريكه فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها وان
لم تكن بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وبرئا فإن نكل أحدهما قضي عليه وان نكلا جميعا تساقط
حقاهما لتماثلهما ولا ولاء عليه لواحد منهما لأنه لا يدعيه ولا فرق في هذه الحال بين العدلين
والفاسقين والمسلمين والكافرين لتساوي العدل والفاسق والمسلم والكافر في الاعتراف والدعوى
فإن اعترف أحدهما به بعد ذلك ثبت له لأنه لا مستحق له سواه وإنما لم يثبت له لانكاره له فإذا
اعترف به زال الانكار فثبت له ولزمته قيمة نصيب شريكه لاعترافه بها
259

(مسألة) (وان كانا معسرين لم يعتق على واحد منهما)
لأنه ليس في دعوى أحدهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه اعتراف بحرية نصيبه ولا ادعاء
استحقاق قيمتها على المعتق لكن عتق العسر لا يسري إلى غيره فلم يكن في دعواه أكبر من أنه شاهد
على صاحبه باعتاق نصيبه فإن كانا فاسقين فلا أثر لكلامهما في الحال ولا عبرة بقولهما لأن غير العدل
لا تقبل شهادته، وإن كانا عدلين فشهادتهما مقبولة لأن كل واحد منهما لا يجر إلى نفسه بشهادته نفعا
ولا يدفع عنها ضررا وقد حصل للعبد بحرية كل نصف منه شاهد عدل فإن حلف معهما عتق كله وان
حلف مع أحدهما عتق نصفه على الرواية التي تقول ان العتق يثبت بشاهد ويمين وان لم يحلف لم يعتق
منه شئ لأن العتق لا يحصل بشاهد من غير يمين وإن كان أحدهما عدلا دون الآخر فله ان يحلف
مع شهادة العدل ويصير نصفه حرا والآخر رقيقا
(فصل) ومن قال بالاستسعاء فقد اعترف بان نصيبه خرج عن يده فيخرج العبد كله ويستسعى
في قيمته لاعتراف كل واحد منهما بذلك في نصيبه
(مسألة) (وان اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق عليه ولم يسر إلى النصف الذي كان له)
لأن عتقه حصل باعترافه بحريته باعتاق شريكه ولا يثبت له عليه ولاء لأنه لا يدعي اعتاقه بل
260

يعترف ان المعتق غيره وإنما هو مخلص له ممن يسترقه ظلما فهو كمخلص الأسير من أيدي الكافر
وقال أبو الخطاب يسري لأنه شراء حصل به الاعتاق فأشبه شراء بعض ولده فإن أكذب نفسه
في شهادته على شريكه ليسترق ما اشتراه منه لم يقبل لأنه رجوع عن الاقرار بالحرية فلم يقبل كما لو
أقر بحرية عبده ثم كذب نفسه وهل يثبت له الولاء عليه ان أعتقه؟ فيه احتمالان (أحدهما) لا
يثبت لما ذكرناه (والثاني) يثبت لأنا نعلم أن على العبد ولاء ولا يدعيه أحد سواه ولا ينازعه فيه
فوجب ان يقبل قوله فيه وان اشترى كل واحد منهما نصيب صاحبه صار العبد كله حرا ولا ولاء
عليه لواحد منهما فإن أعتق كل واحد منهما ما اشتراه ثم أكذب نفسه في شهادته فهل يثبت له ولاء
ما أعتقه؟ على وجهين وان أقر كل واحد منهما بأنه كان أعتق نصيبه وصدق الآخر في شهادته بطل
البيعان وثبت لكل واحد منهما الولاء على نصفه لأن أحدا لا ينازعه فيه وكل واحد منهما يصدق الآخر في
استحقاق الولاء ويحتمل أن يثبت الولاء لهما وان لم يكذب واحد منهما نفسه لأنا نعلم أن الولاء ثابت
عليه لهما ولا يخرج عنهما وانه بينهما اما بالعتق الأول واما بالثاني لأنهما ان كانا صادقين في شهادتهما
فقد ثبت الولاء لكل واحد منهما على النصف الذي أعتقه أولا وان كانا كاذبين فقد أعتق كل
واحد منهما نصفه بعد أن اشتراه وإن كان أحدهما صادقا والآخر كاذبا فلا ولاء للصادق منهما لأنه
لم يعتق النصف الذي كان له ولا صح عتقه في الذي اشتراه لأنه كان حرا قبل شرائه والولاء كله
للكاذب لأنه أعتق النصف الذي كان له ثم اشترى النصف الذي لشريكه وكل واحد منهما يساوي
صاحبه في الاحتمال فيقسم بينهما
261

(فصل) وكل من شهد على سيد عبد بعتق عبده ثم اشتراه عتق عليه وان شهد اثنان عليه بذلك
فردت شهادتهما ثم اشترياه أو أحدهما عتق وبهذا قال مالك والأوزاعي والشافعي وابن المنذر وهو
قياس قول أبي حنيفة ولا يثبت للمشتري ولاء على العبد لأنه لا يدعيه ولا للبائع لأنه ينكر عتقه ولو
كان العبد بين شريكين فادعى كل واحد منهما ان شريكه أعتق حقه منه وكانا موسرين فعتق عليهما
أو كانا معسرين عدلين فحلف العبد مع كل واحد منهم وعتق العبد أو ادعى عبد ان سيده أعتقه
فأنكر وقامت البينة بعتقه عتق ولا ولاء على العبد في هذه المواضع كلها لأن أحدا لا يدعيه ولا
يثبت لاحد حق ينكره فإن عاد من ثبت اعتاقه فاعترف به ثبت له الولاء لأنه لا مستحق له سواه
وإنما لم يثبت له لانكاره له فإذا اعترف زال الانكار وثبت له وأما الموسران إذا عتق عليهما فإن صدق
أحدهما صاحبه في أنه أعتق نصيبه وحده أو أنه سبق بالعتق فالولاء له وعليه غرامة نصيب
الآخر وان اتفقا على أن كل واحد منهما أعتق نصيبه دفعة واحدة فالولاء بينهما وان ادعى كل واحد
منهما أن المعتق وحده أو أنه السابق فأنكر الآخر تحالفا والولاء بينهما نصفين
(مسألة) (وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا عتق نصيب المعسر وحده)
لاعترافه بان نصيبه قد صار حرا باعتاق شريكه الموسر الذي يسري عتقه ولم يعتق نصيب
الموسر لأنه يدعي ان المعسر الذي لا يسري عتقه أعتق نصيبه فعتق وحده ولا تقبل شهادة المعسر
عليه لأنه يجر إلى نفسه نفعا لكونه يجب عليه بشهادته قيمة حصته فعلى هذا ان لم تكن للعبد بينة
262

سواه حلف الموسر وبرئ من القيمة والعتق جميعا ولا ولاء للمعسر في نصيبه لأنه لا يدعيه ولا للموسر
أيضا لذلك فإن عاد المعسر فاعتقه وادعاه ثبت له وان أقر الموسر باعتاق نصيبه وصدق المعسر عتق
نصيبه أيضا وعليه غرامة نصيب المعسر ويثبت له الولاء وإن كان للعبد بينة تشهد باعتاق الموسر وكانت
عدلين ثبت العتق ووجبت القيمة للمعسر عليه وان كانت عدلا واحدا وحلف العبد معه ثبت العتق في
إحدى الروايتين والأخرى لا يثبت العتق وللمعسر ان يحلف معه ويستحق قيمة نصيبه سواء حلف
العبد أو لم يحلف لأن الذي يدعيه مال يقبل فيه شاهد ويمين
(فصل) وإذا ادعى أحد الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وأنكر الآخر وكان المدعى عليه
موسرا عتق نصيب المدعي وحده لاعترافه بحريته بسراية عتق شريكه وصار مدعيا نصف القيمة
على شريكه ولا يسري لأنه لا يعترف أنه المعتق له وإنما عتق باعترافه بحريته لا باعتاقه له ولا ولاء
عليه لانكاره له قال القاضي وولاؤه موقوف وإن كان المدعي عدلا لم تقبل شهادته لأنه يدعي نصف
قيمته على شريكه فيجر بشهادته إليه نفعا ومن شهد بشهادة يجر بها إليه نفعا بطلت كلها وأما إن كان
المدعى عليه معسرا فالقول قوله مع يمينه ولا يعتق منه شئ فإن كان المدعي عدلا حلف العبد مع
شهادته وصار نصفه حرا وقال حماد إن كان المشهود عليه موسرا سعى له. وإن كان معسرا سعى
لهما وقال أبو حنيفة إن كان معسرا استسعى العبد وولاؤه بينهما وإن كان موسرا فولاء نصفه موقوف
فإن اعترف انه أعتق استحق الولاء والا كان الولاء لبيت المال
263

(مسألة) (وإذا قال أحد الشريكين إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر فاعتق الأول وهو
موسر عتق كله عليه
هذا اختيار الأصحاب أنه يعتق على الأول ويقوم عليه نصيب الشريك إن كان موسرا ولا
يقع اعتاق شريكه لأن السراية سبقت فمنعت عتق الشريك قال شيخنا ويحتمل ان يعتق عليهما
جميعا لأن عتق نصيبه سبب السراية وشرط لعتق نصيب الشريك فلم يسبق أحدهما الآخر لوجودهما
في حال واحدة وقد يرجح وقوع عتق الشريك لأنه تصرف منه في ملكه والسراية تقع في غير ملك
على خلاف الأصل فكان نفوذ عتق الشريك أولى ولان سراية العتق على خلاف الأصل لكونها
اتلافا لملك المعصوم بغير رضاه والزاما للمعتق غرامة لم يلتزمها بغير اختياره وإنما ثبت لمصلحة تكميل
العتق فإذا حصلت هذه المصلحة باعتاق الملك كان أولى.
(مسألة) (وإن كان معسرا لم يعتق عليه الا نصيبه) لما ذكرنا من أن عتق المعسر لا يسري إلى
نصيب شريكه ويعتق نصيب شريكه بالشرط
(مسألة) (وان قال إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر مع نصيبك فاعتق نصيبه عتق عليهما موسرا
كان أو معسرا
ولم يلزم المعتق شئ لأن العتق وجد منهما معا فهو كما لو وكلا رجلا في اعتاقه عنهما فاعتقهما وقيل يعتق
كله على المعتق لأن اعتاق نصيبه شرط عتق نصيب شريكه فيلزم أن يكون سابقا عليه والأول أولى لأنه أمكن
264

العمل بمقتضى شرطه فوجب العمل به لما ذكرنا.
(فصل) فإن قال إن أعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل اعتاقك وقعا معا إذا أعتق نصيبه هذا مقتضى
قول أبي بكر والقاضي ومقتضى قول ابن عقيل أن يعتق كله على المعتق ولا يقع اعتاق شريكه لأنه اعتاق
في زمن ماض ومقتضى قول ابن شريح ومن وافقه ممن قال بسراية العتق أن لا يصح اعتاقه لأنه
يلزم من عتق نصيبه تقدم عتق الشريك وسرايته فيمتنع اعتاق نصيبه هذا ويمتنع عتق نصيب الشريك
ويفضي إلى الدور فيمتنع الجميع وسنذكر ذلك في الطلاق إن شاء الله تعالى
فصل إذا كان لرجل نصف عبدين متساويين في القيمة لا يملك غيرهما فاعتق أحدهما في صحته
عتق وسرى إلى نصيب شريكه لأنه موسر بالنصف الذي له من العبد الآخر فإن أعتق النصف
الآخر عتق لأن وجوب القيمة في ذمته لا يمنع صحة عتقه ولم يسر لأنه معسر وان أعتق الأول في
مرض موته لم ييسر لأنه إنما ينفذ عتقه في ثلث ماله وثلث ماله هو الثلث من العبد الذي أعتق نصفه
وإذا أعتق الثاني وقف على إجازة الورثة وان أعتق الأول في صحته واعتق الثاني في مرضه لم ينفذ
عتق الثاني لأن عليه دينا يستغرق قيمته فيمنع صحة عتقه الا أن يجيز الورثة.
(فصل) إذا شهد شاهدان على رجل انه أعتق شركا له في عبد فسرى إلى نصيب الشريك
265

غرم له قيمة نصيبه ثم رجعا عن الشهادة غرما قيمة العبد جميعه، وقال بعض أصحاب الشافعي
تلزمهما غرامة نصيبه دون نصيب شريكه لأنهما لم يشهدا إلا بعتق نصيبه فلم تلزمهما غرامة ما سواه
ولنا أنهما فوتا عليه نصيبه وقيمة نصيب شريكه فلزمهما ضمانه كما لو فوتاه بفعلهما وكما لو شهدا عليه
بجرح ثم سرى الجرح ومات المجروح فضمن الدية ثم رجعا عن شهادتهما
(فصل) وان شهد شاهدان على ميت بعتق عبد في مرض موته وهو ثلث ماله فحكم الحاكم
بشهادتهما وعتق العبد ثم شهد آخران بعتق آخر وهو ثلث ماله ثم رجع الأولان عن الشهادة نظرنا
في تاريخ شهدتهما فإن كانت سابقة ولم يكذب الورثة رجوعهما عتق الأول ولم يقبل رجوعهما
ولم يغرما شيئا ويحتمل أن يلزمهما شراء الثاني واعتاقه لأنهما منعا عتقه بشهادتهما المرجوع عنها
وان صدقوهما في رجوعهما وكذبوهما في شهادتهما عتق الثاني ورجعوا عليهما بقيمة الأول لأنهما
فوتا رقه عليهم بشهادتهما المرجوع عنها وإن كان تاريخها متأخرا عن الشهادة الأخرى بطل حكم
عتق المحكوم بعتقه لأننا تبينا أن الميت قد أعتق ثلث ماله قبل اعتاقه ولم يغرم الشاهدان شيئا لأنهما
ما فوتا شيئا وان كانتا مطلقتين أو إحداهما أو اتفق تاريخهما أقرع بينهما فإن خرجت على الثاني عتق
وبطل عتق الأول ولا شئ على الشاهدين لأن الأول باق على الرق وان خرجت قرعة الأول عتق
266

ونظرنا في الورثة فإذا كذبوا الشاهدين الأولين في شهادتهما عتق الثاني ورجعوا على الشاهدين
بقيمة الأول لأنهما فوتا رقه بغير حق وان كذبوهما في رجوعهما لم يرجعوا عليهما بشئ لأنهم يقرون
بعتق المحكوم بعتقه.
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه ويصح تعليق العتق بالصفات كدخول الدار ومجئ الأمطار
لأنه عتق بصفة فصح كالتدبير وإذا علق عتقه على مجئ وقت كقوله أنت حر في رأس الحول لم
يعتق حتى يجئ رأس الحول وله بيعه وهبته واجارته ووطئ الأمة كالتدبير وبه قال الأوزاعي
والشافعي وابن المنذر قال احمد إذا قال لغلامه أنت حر إلى أن يقدم فلان ويجئ فلان والى رأس
السنة والى رأس الشهر إنما يريد إذا جاء رأس السنة أو جاء رأس الهلال
وإذا قال أنت طالق إذا جاء الهلال إنما يريد إذا جاء رأس الهلال وقال إسحاق كما قال احمد
وحكي عن مالك أنه قال إذا قال لعبده أنت حر في رأس الحول عتق في الحال والذي حكاه ابن المنذر
عنه أنها إذا كانت جارية لم يطأها لأنه لا يملكها ملكا تاما ولا يهبها ولا يبيعها وان مات السيد قبل الوقت
كانت حرة عند الوقت من رأس المال وقد روي عن أحمد أنه لا يطؤها لأن ملكه غير تام عليها
والأول أصح لما روي عن أبي ذر أنه قال لعبده أنت عتيق إلى رأس الحول فلولا ان العتق يتعلق
بالحول لم يعلقه عليه ولأنه علق العتق بصفة فوجب أن يتعلق بها كما لو قال إذا أديت إلي ألفا فأنت
حر واستحقاقه للعتق لا يمنع إباحة الوطئ كالاستيلاد وأما المكاتبة فإنما لم يبح وطؤها لأنها اشترت
نفسها من سيدها بعوض وزال ملكه عن أكسابها بخلاف مسئلتنا، ومتى جاء الوقت وهو في ملكه
267

عتق بغير خلاف نعلمه فإن خرج عن ملكه ببيع أو ميراث لم يعتق.
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال النخعي وابن أبي ليلى إذا قال لعبده ان فعلت كذا فأنت
حر فباعه بيعا صحيحا ثم فعل ذلك عتق وانتقض البيع قال ابن أبي ليلى إذا حلف بالطلاق لا كلمت
فلانا ثم طلقها طلاقا بائنا ثم كلمه حنث وعامة أهل العلم على خلاف هذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(لا طلاق ولا عتاق ولا بيع فيما لا يملك ابن آدم) ولأنه لا ملك له فلم يقع طلاقه وعتاقه كما لو لم
يكن له مال متقدم.
(فصل) وإذا قال لعبده إن لم أضربك عشرة أسواط فأنت حر ولم ينو وقتا بعينه لم يعتق
حتى يموت وان باعه قبل ذلك صح بيعه ولم يفسخ في قول أكثر أهل العلم وقال مالك ليس له
بيعه فإن باعه فسخ البيع.
ولنا انه باعه قبل وجود الشرط فلم يفسخ كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر وباعه قبل دخولها
(مسألة) (وإذا علق عتق عبده بشرط كقوله ان أديت إلي ألفا فأنت حر أو ان دخلت
الدار فأنت حر فهي صفة لازمة ألزمها نفسه ولا يملك ابطالها بالقول قياسا على النذر)
ولذلك ان اتفق السيد والعبد على ابطالها لم تبطل لذلك ولو أبرأه السيد من الألف لم يعتق بذلك ولم
يبطل التعليق لأنه لا حق له في ذمته يبرئه منه
268

(فصل) ولا يعتق قبل وجود الصفة بكمالها فلو قال لعبده إذا أديت إلي ألفا فأنت حر لم يعتق
حتى يؤدي الألف جميعها، وذكر القاضي ان من أصلنا ان العتق المعلق بصفة يوجد بوجود بعضها
كما لو قال أنت حر ان أكلت رغيفا فأكل نصفه ولا يصح ذلك لوجوه
(أحدها) ان أداء الألف شرط العتق وشروط الأحكام يعتبر وجودها بكمالها لثبوت الأحكام وتنتفي
بانتفائها كسائر شروط الأحكام (الثاني) انه إذا علقه على وصف ذي عدد فالعدد وصف في الشرط ومن
علق الحكم على شرط ذي وصف لم يثبت ما لم توجد الصفة كقوله لعبده ان خرجت عاريا فأنت حر فخرج
لابسا لم يعتق فكذلك العدد (الثالث) انه متى كان في اللفظ ما يدل على الكل لم يحنث بفعل البعض
كما لو حلف لا صليت صلاة أو لا صمت صياما لم يحنث حتى يفرغ مما سمي صلاة ويصوم يوما، ولو قال
لامرأته ان حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر من الحيضة، وذكر الألف ههنا يدل على أنه أراد
ألفا كاملة (الرابع) ان الأصل الذي ذكره فيما - إذا قال إن أكلت رغيفا فأنت حر انه يعتق بأكل
بعضه - ممنوع وإنما إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه يحنث في رواية في موضع يحتمل إرادة البعض
ويتناوله اللفظ كمن حلف لا يصلي فشرع في الصلاة أو لا يصوم فشرع في الصيام أو لا يشرب
ماء هذا الاناء فشرب بعضه ونحو هذا لأن الشارع في الصلاة والصيام قد صلى وصام ذلك الجزء
269

الذي شرع فيه والقدر الذي شربه من الاناء هو ماء الاناء وقرينة حاله تقتضي المنع من الكل
فتقتضي الامتناع من الكل ومتى فعل البعض فما امتنع من الكل فحنث لذلك ولو حلف على فعل شئ
لم يبر إلا بفعل الجميع وفي مسئلتنا تعليق الحرية على أداء الألف يقتضي وجود أدائها فلا يثبت الحكم المعلق
عليها دون أدائها كمن حلف ليؤدين ألفا لا يبر حتى يؤديها
(الخامس) ان موضع الشرط في الكتاب والسنة وأحكام الشريعة على أنه لا يثبت المشروط
بدون شرطه كقول النبي صلى الله عليه وسلم (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) فلو قال بعضها لم يستحق إلا
العقوبة وقوله (من أحيا أرضا ميتة فهي له) لا تكون له بشروعه في الاحياء، ولو قال في المسابقة
من سبق إلى خمس إصابات فهو سابق لم يكن سابقا إذا سبق إلى أربع ولو قال من رد ضالتي فله دينار
لم يستحقه بالشروع في ردها فكيف يخالف موضوعات الشرع واللغة بغير دليل؟ وإنما الرواية التي
جاءت عن أحمد في الايمان فيمن حلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه: يحنث لأن اليمين على الترك يقصد بها المنع
فنزلت منزلة النهي والنهي عن فعل شئ يقتضي المنع من بعضه بخلاف تعليق المشروط على الشرط
(فصل) وما يكتسبه العبد قبل وجود الشرط فهو لسيده لأنه لا يوجد عقد يمنع كون كسبه لسيده
إلا أنه إذا علق عتقه على أداء مال معلوم فما أخذه السيد حسبه من المال فإذا كمل أداء المال عتق، وما
فضل في يده لسيده لأنه كسب عبده، وإن كان المعلق عتقه أمة فولدت لم يتبعها ولدها في أحد
270

الوجهين لأنها أمة قن فأشبه ما لو قال إن دخلت الدار فأنت حرة ولا تجب عليها قيمة نفسها لأنه
عتق من السيد فأشبه ما لو باشر العتق
(فصل) إذا علق عتقه بصفة ثم باعه ثم اشتراه ووجدت الصفة عتق وبهذا قال أبو حنيفة وقال
الشافعي فيها قولان (أحدهما) لا يعتق لأن ملكه فيه متأخر عن عقد الصفة فلم يقع العتق فيه كما
لو عقد الصفة في حال زوال ملكه عنه
ولنا انه علق الصفة في ملكه وتحقق الشرط في ملكه فوجب أن يعتق كما لو لم يزل ملكه
عنه، وفارق ما إذا علقها في حال زوال ملكه لأنه لو نجز العتق لم يقع. فإذا علقه كان أولى بعدم
الوقوع بخلاف مسئلتنا
(مسألة) (إلا أن تكون الصفة وجدت منه في حال زوال ملكه فهل تعود بعوده؟ على روايتين)
(إحداهما) لا تعود لأنها انحلت بوجودها فلم تعد كما لو انحلت بوجودها في ملكه
(والثانية) تعود لأنه لم توجد الصفة التي يعتق بها فأشبه ما لو عاد إلى ملكه قبل وجود الصفة
ولان الملك مقدر في الصفة فكأنه قال إذا دخلت الدار وأنت في ملكي فأنت حر ولم يوجد ذلك
وقد روي عن أحمد في الطلاق انه يقع لأن التعليق والشرط وجدا في ملكه فأشبه ما لو لم يتخللهما دخول
ومن نصر الرواية الأولى قال إن العتق معلق بشرط لا يقتضي التكرار فإذا وجد مرة انحلت اليمين وقد
271

وجد الدخول في ملك غيره فانحلت اليمين فلم يقع العتق به بعد ذلك ويفارق العتق الطلاق من حيث إن النكاح
الثاني ينبني على النكاح الأول بدليل أن طلاقه في النكاح الأول يحتسب عليه في النكاح الثاني وينقص به
عدد طلاقه والملك باليمين بخلافه
(مسألة) (وتبطل الصفة بالموت) لأن ملكه يزول بموته فتبطل تصرفاته بزواله كالبيع
(مسألة) (وان قال إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي أو أنت حر بعد موتي بشهر
فهل يصح ويعتق بذلك؟ على روايتين)
إذا قال إن دخلت الدار بعد موتي فأنت حر لم تنعقد هذه لأنه علق عتقه على صفة توجد بعد
زوال ملكه فلم يصح كما لو قال إن دخلت الدار بعد بيعي إياك فأنت حر ولأنه اعتاق له بعد قرار
ملك غيره عليه فلم يعتق به كالمنجز (والثانية) يعتق ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه صرح
بذلك فحمل عليه كما لو وصى باعتاقه وكما لو وصى ببيع سلعة ويتصدق بثمنها ويفارق التصرف بعد
البيع فإن الله تعالى جعل للانسان التصرف بعد موته في ثلثه بخلاف ما بعد البيع والأول أصح إن شاء الله
تعالى ويفارق الوصية بالعتق وبيع السلعة لأن الملك لا يستقر للورثة فيه ولا يملكون التصرف
فيه بخلاف مسئلتنا وسنذكر ذلك بأبسط من هذا في التدبير إن شاء الله تعالى وعنه يصح لأنه اعتاق
272

بعد الموت فصح كما لو قال أنت حر بعد موتي، وان قال أنت حر بعد موتي بشهر فقد روي عن أحمد
في رواية مهنا انه لا يعتق ولا تصح هذه الصفة، وقال أيضا سألت احمد عن رجل قال أنت
حر بعد موتي بشهر بألف درهم فقال هذا كله لا يكون شيئا بعد موته وهذا اختيار أبي بكر، وذكر
القاضي وابن أبي موسي رواية أخرى انه يعتق إذا وجدت الصفتين بعد الموت ومضت المدة المذكورة
وهذا قول الثوري وأبي يوسف وإسحاق ووجههما ما تقدم وقال أصحاب الرأي لا يعتق حتى يعتقه
الوارث وعلى قول من قال يعتق يكون قبل العتق ملكا للوارث وكسبه له كأم الولد والمدبر في حياة
السيد وإن كان أمة فولدت قبل وجود الصفة فولدها يتبعها في التدبير ويعتق بوجود الصفة كما تعتق
هي والله سبحانه أعلم
(فصل) إذا قال لعبد له مقيد هو حر ان حل قيده ثم قال هو حر ان لم يكن في قيده عشرة
أرطال فشهد شاهدان عند الحاكم ان وزن قيده خمسة أرطال فحكم بعتقه وأمر بحل قيده فوزن
فوجد وزنه عشرة أرطال عتق العبد بحل قيده وتبينا انه ما عتق بالشرط الذي حكم الحاكم بعتقه به
وهل يلزم الشاهدين ضمان قيمته؟ فيه وجهان (أحدهما) يلزمهما لأن شهادتهما الكاذبة سبب عتقه
273

واتلافه فضمنا كالشهادة المرجوع عنها ولان عتقه حكم بحكم الحاكم المبني على الشهادة الكاذبة فأشبه
الحكم بالشهادة التي يرجعان عنها وهذا قول أبي حنيفة (والثاني) لا ضمان عليهما وهو قول أبي يوسف
ومحمد لأن عتقه لم يحصل بالحكم المبني على شهادتهما وإنما حصل بحل قيده ولم يشهدا به فوجب أن
لا يضمنا كما لو لم يحكم الحاكم
(فصل) وان قال لعبده أنت حر متى شئت لم يعتق حتى يشاء بالقول فمتى شاء عتق سواء كان
الفور أو التراخي وان قال أنت حر ان شئت فكذلك ويحتمل أن يقف على المجلس لأن ذلك
بمنزلة التخيير ولو قال لامرأته اختاري نفسك لم يكن لها الاختيار إلا على الفور فإن تراخى ذلك بطل خيارها كذا
تعليقه بالمشيئة وان قال أنت حر كيف شئت احتمل أن يعتق في الحال وهو قول أبي حنيفة لأن كيف
الا تقتضي شرطا ولا وقتا ولا مكانا فلا تقتضي توقيف العتق إنما هي صفة للحال فتقتضي وقوع
الحرية على أي حال كان ويحتمل أن لا يعتق حتى يشاء وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن المشيئة تقتضي
الخيار فتقتضي أن يعتق قبل اختياره كما لو قال أنت حرمتي شئت لأن كيف تعطي ما تعطي حتى وأي
فحكمهما حكمها وقد ذكر أبو الخطاب في الطلاق أنه إذا قال لزوجته أنت طالق متى شئت وكيف شئت
وحيث شئت لم تطلق حتى تشاء فيجئ ههنا مثله
(مسألة) (وان قال إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فدخل في حياة السيد صار مدبرا)
274

لأنه وجد شرط التدبير وهو دخول الدار وان لم يدخل حتى مات بطلت الصفة لأنه يزول به
الملك ولم يوجد التدبير لعدم شرطه وسنذكره في التدبير إن شاء الله تعالى
(مسألة) (وان قال إن ملكت فلانا فهو حرا أو كل مملوك أملكه فهو حر فهل يصح؟ على روايتين)
(أحداهما) لا يصح ولا يعتق روي ذلك عن ابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن
وعطاء وعروة والشافعي وابن المنذر ورواه الترمذي عن علي وجابر بن عبد الله وعلي بن الحسين
وشريح وغير واحد من التابعين قال وهو قول أكثر أهل العلم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا عتق فيما لا يملك ولا طلاق لابن آدم فيما لا يملك) قال
الترمذي وهو حديث حسن وهو أحسن ما روي في هذا الباب، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال (لا طلاق فيما لا يملك ابن آدم وان عينها) رواه الدارقطني، وعن علي رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا طلاق قبل نكاح) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا طلاق قبل ملك)
رواه أبو داود الطيالسي قال أحمد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من الصحابة ولأنه قول من سمينا
من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا فكان اجماعا وهذا ظاهر المذهب ولأنه لا يملك بتخيير العتق فلم
يملك تعليقه (والثانية) يعتق إذا ملكه لأنه أضاف العتق إلى حال يملك عتقه فيه فأشبه ما لو كان
التعليق في ملكه، وروى أبو طالب عن أحمد أنه قال إن اشتريت هذا الغلام فهو حر فاشتراه عتق
275

قال أبو بكر في كتاب الشافعي لا يختلف قول أبي عبد الله ان العتاق يقع الا ما روى محمد بن الحسن
ابن هارون في العتق أنه لا يقع وما أراه الا غلطا فإن كان قد حفظ فهو قول آخر ولأنه لو قال لامته
أول ولد تلدينه فهو حر فإنه يصح كذلك هذا وهو قول الثوري وأصحاب الرأي ولأنه يصح تعليقه
على الاخطار فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية والنذر واليمين وقال مالك ان خص جنسا من
الأجناس أو عبدا بعينه عتق إذا ملكه وان قال كل عبد أملكه لم يصح والأول أصح إن شاء الله
تعالى لأنه تعليق للعتق قبل الملك فأشبه ما لو قال لامة غيره: ان دخلت الدار فأنت حرة ثم ملكها
ودخلت الدار ولما ذكرنا من الأحاديث
(مسألة) (فإن قال العبد ذلك ثم عتق وملك عتق في أحد الوجهين قياسا على الحر (والثاني)
لا يعتق وهو الصحيح)
لأن العبد لا يصح العتق منه حين التعليق لكونه لا يملك وإن ملك فهو ملك ضعيف غير مستقر
لا يتمكن من التصرف فيه وللسيد انتزاعه منه بخلاف الحر
(فصل) إذا قال الحر أول غلام أملكه فهو حر انبنى ذلك على العتق قبل الملك وفيه روايتان
ذكرناهما فإن قلنا يصح عتق أول من يملكه لوجود الشرط فإن ملك اثنين معا عتق أحدهما
بالقرعة في قياس قول احمد فإنه قال في رواية مهنا إذا قال أول من يطلع من عبيدي فهو حر فطلع
اثنان منهم أو جميعهم فإنه يقرع بينهم ويحتمل ان يعتقا جميعا لأن الأولية وجدت فيهما جميعا فثبتت الحرية
276

فيهما كما لو قال في المسابقة من سبق فله عشرة فسبق اثنان اشتركا في العشرة، وقال النخعي يعتق
أيهما شاء وقال أبو حنيفة لا يعتق واحد منهما لأنه لا أول فيهما لأن كل واحد منهما مساو للآخر
ومن شرط الأولية سبق الأول
ولنا ان هذين لم يسبقهما غيرهما فكانا أول كالواحد وليس من شرط الأول ان يأتي بعده ثان
بدليل ما لو ملك واحدا ولم يملك بعده شيئا، وإذا وجدت الصفة فيهما فاما ان يعتقا جميعا أو
يعتق أحدهما وتعينه القرعة على ما نذكره، وكذلك الحكم فيما إذا قال أول ولد تلدينه فهو حر
فولدت اثنين خرجا معا
(مسألة) (وان قال آخر مملوك أشتريه فهو حر فملك عبيدا لم يعتق واحد منهم حتى يموت)
لأنه ما دام حيا فإنه يحتمل ان يشتري عبدا يكون هو الآخر فإذا مات عتق آخرهم وتبينا
أنه كان حرا حين ملكه فتكون أكسابه له وإن كان أمة كان أولادها أحرارا من حين ولدتهم
لأنهم أولاد حرة وإن كان وطئها فعليه مهرها لأنه وطئ حرة أجنبية ولا يحل له أن يطأها إذا
اشتراها حتى يشتري بعدها غيرها لأنه ما لم يشتر بعدها غيرها فهي آخر في الحال وإنما يزول
ذلك بشراء غيرها فوجب أن يحرم الوطئ وإن اشترى اثنين دفعة واحدة ثم مات فالحكم في عتقهما
كالحكم فيما إذا ملك اثنين في الفصل الذي قبله
277

(فصل) إذا قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت اثنين واشكل أولهما خروجا اخرج بالقرعة
كالتي قبلها فإن علم أولهما خروجا عتق وحده وهو قول مالك والثوري وأبي هاشم والشافعي وابن المنذر
وقال الحسن والشعبي وقتادة إذا ولدت ولدين في بطن فهما حران
ولنا انه إنما أعتق الأول والذي خرج سابقا هو الأول من المولودين فاختص العتق به فهو كما
لو ولدتهما في بطنين فإن ولدت الأول ميتا والثاني حيا فذكر الشريف أنه يعتق الحي منهما وبه قال
أبو حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا يعتق واحد منهما وهو الصحيح قاله شيخنا لأن شرط
العتق إنما وجد في الميت وليس محلا للعتق فانحلت اليمين به وإنما قلنا إن شرط العتق وجد فيه لأنه
أول ولد بدليل أنه إذا قال لامته إذا ولدت فأنت حرة فولدت ولدا ميتا عتقت، ووجه الأول ان
العتق يستحيل في الميت فتعلقت اليمين بالحي كما لو قال إن ضربت فلانا فعبدي حر فضربه حيا
عتق وان ضربه ميتا لم يعتق ولأنه معلوم من طريق العادة أنه قصد عقد يمينه على ولد يصح العتق فيه
وهو أن يكون حيا فتصير الحياة مشروطة فيه فكأنه قال أول ولد تلدينه حيا
(فصل) فإن قال لامته كل ولد تلدينه فهو حر عتق كل ولد ولدته في قول جمهور العلماء منهم
مالك والأوزاعي والليث والثوري والشافعي قال ابن المنذر لا أحفظ عن غيرهم خلافهم فإن باع الأمة
ثم ولدت لم يعتق ولدها لأنها ولدتهم بعد زوال ملكه
278

(مسألة) (فإن قال لامته آخر ولد تلدينه فهو حر فولدت حيا ثم ميتا لم يعتق الأول)
لأنه لم يوجد شرط عتقه وعلى قياس قول الشريف وأبي حنيفة فيما إذا قال أول ولد تلدينه فهو
حر فولدت ميتا ثم حيا يعتق الحي وان ولدت ميتا ثم حيا عتق الثاني لوجود شرطه وان ولدت
توأمين فأشكل الآخر منهما فإن أحدهما استحق العتق ولم يعتق بعينه فوجب اخراجه بالقرعة وسيأتي
ذلك إن شاء الله تعالى
(مسألة) (ولا يتبع ولد المعتقة بالصفة أمه في العتق في أصح الوجهين الا أن تكون حاملا
به حال عتقها أو حال تعليق عتقها)
إذا علق عتق أمة بصفة وهي حامل تبعها ولدها في ذلك لأنه كعضو من أعضائها فإن وضعته
قبل وجود الصفة ثم وجدت الصفة عتق لأنه تابع في الصفة فأشبه ما لو كان في البطن وان كانت
حائلا حين التعليق ثم وجدت الصفة وهي حامل عتقت هي وحملها لأن العتق وجد فيها وهي حامل فتبعها
ولدها كالمنجز فإن حملت بعد التعليق وقبل وجود الصفة ثم وجدت بعد ذلك لم يعتق الولد لأن
الصفة لم تتعلق به في حال التعليق، وفيه وجه آخر أنه يتبعها في العتق لا في الصفة فإذا ولم توجد فيها
لم توجد فيه بخلاف ولد المدبرة فإنه يتبعها في التدبير وإذا بطل فيها بقي فيه
279

(مسألة) وإذا قال لعبده أنت حر وعليك ألف أو على الف عتق ولا شئ عليه وعنه ان لم
يقبل لم يعتق) إذا قال لعبده أنت حر وعليك الف عتق ولا شئ عليه لأنه أعتقه بغير شرط وجعل
عليه عوضا لم يقبله فعتق ولم يلزمه الألف هكذا ذكر المتأخرون من أصحابنا ونقل جعفر بن محمد قال
سمعت أبا عبد الله قيل له إذا قال أنت حر وعليك ألف درهم فقال جيد قيل له فإن لم يرض العبد قال
لا يعتق إنما قال له على أن يؤدي إليه ألفا فإن لم يود فلا شئ فإن قال أنت حر على الف فكذلك في
إحدى الروايتين لأن على ليست من أدوات الشرط ولا البدل فأشبه قوله وعليك ألف والثانية ان قبل
العتق عتق ولزمته الألف وإن لم يقبل لم يعتق وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وهذه الرواية هي
الصحيحة لأنه أعتقه بعوض فلم يعتق بدون قبوله كما لو قال أنت حر بألف ولان على تستعمل للشرط
والعوض قال الله تعالى (قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) وقال (فهل نجعل
لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) وقال (اني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على
أن تأجرني ثماني حجج) ولو قال في النكاح زوجتك ابنتي على خمسمائة درهم وقال الآخر
قبلت صح النكاح ووجب الصداق
280

(مسألة) (وان قال على أن تخدمني سنة فكذلك)
وقيل إن لم يقبل لم يعتق رواية واحدة فعلى هذا إذا قبل العبد عتق في الحال ولزمته خدمته سنة
وان مات السيد قبل كمال السنة رجع على العبد بقيمة ما بقي من الخدمة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
تسقط قيمة العبد على خدمة السنة فيسقط منها بقدر ما مضى ويرجع عليه بما بقي من قيمته
ولنا ان العتق عقد لا يلحقه الفسخ فإذا تعذر فيه استيفاء العوض رجع إلى قيمته كالخلع في
النكاح والصلح في دم العبد فإذا قال أنت حر على أن تعطيني ألفا فالصحيح أنه لا يعتق حتى يقبل
فإذا قبل عتق ولزمه الألف فاما ان قال أنت حر بألف لم يعتق حتى يقبل ويلزمه الألف
(فصل) قال رضي الله عنه وإذا قال كل مملوك لي حر عتق عليه مكاتبوه ومدبروه وأمهات
أولاده وشقص يملكه
لأن اللفظ عام فيهم فعتقوا كما لو عينهم وذكر ابن أبي موسى في الارشاد أن الشقص لا يعتق
الا ان ينوبه لأنه لا يملكه كله والأول المذهب
281

(مسألة) (وان قال أحد عبدي حر أقرع بينهما فمن وقعت له القرعة فهو حر من حين أعتقه)
إذا قال أحد عبدي حر ولم ينو واحدا بعينه عتق أحدهم بالقرعة وليس للسيد التعيين ولا
للوارث بعده، فإن قال أردت هذا بعينه قبل منه وعتق لأن ذلك إنما يعرف من جهته وقال أبو حنيفة
والشافعي للمعتق التعيين ويطالب بذلك فيعتق من عينه وان لم يكن نواه حالة القول وإذا عتق بتعيينه
فليس لسائر العبيد الاعتراض عليه لأن له تعيين العتق ابتداء فإذا أوقعه غير معين كان له تعيينه كالطلاق
ولنا ان مستحق العتق غير معين فلم يملك تعيينه ووجب ان يميز بالقرعة كما لو أعتق الجميع في
مرضه ولم يخرجوا من الثلث وكما لو أعتق معينا ثم نسيه والطلاق كمسئلتنا فإن مات المعتق ولم يعين
282

فالحكم عندنا لا يختلف وليس للورثة التعيين بل يخرج المعتق بالقرعة وقد نص الشافعي على هذا
إذا قالوا لا ندري أيهم أعتق وقال أبو حنيفة لهم التعيين لأنهم يقومون مقام موروثهم وقد سبق
الكلام في المعتق وقوله من حين أعتقه يريد ان العبد إن كان اكتسب مالا بعد العتق فهو له
دون سيده لأنا تبينا أنه اكتسبه في حال الحرية
(فصل) ولو أعتق إحدى إمائه غير معينه ثم وطئ إحداهن لم يتعين الرق فيها وبه قال أبو حنيفة
283

وقال الشافعي يتعين الرق فيها لأن الحرية عنده تتعين بتعيينه ووطؤه دليل على تعيينه
وقد سبق الكلام معه
(مسألة) (وان مات أحد العبدين أقرع بينه وبين الحي فإن وقعت على الميت حسبناه من
التركة وقومناه حيت الاعتاق سواء مات في حياة سيده أو بعده قبل القرعة)
وبهذا قال الشافعي وقال مالك ان مات قبل موت سيده فالحي جميع التركة ولا يعتق الا ثلثه
ولا يعتبر الميت لأنه ليس بمحسوب من التركة ولهذا لو أعتق الحي بعد موته لأعتقنا ثلثه
284

ولنا ان الميت أحد المعتقين فوجب ان يقرع بينه وبين الحي كما لو مات بعد سيده ولان
المقصود من العتق تحصيل ثوابه وهو يحصل في حق الميت فيدخل في القرعة كالذي مات بعد سيده
فعلى هذا ان خرجت القرعة على الميت حسبناه من التركة وقومناه حين الاعتاق لأنه حين الاتلاف
وان وقعت على الحي نظرت في الميت فإن كان موته قبل موت سيده أو بعده قبل قبض الوارث
له لم نحسبه من التركة لأنه لم يصل إلى الوارث فتكون التركة الحي وحده فيعتق ثلثه وتعتبر قيمته
حين الاعتاق لأنه حين اتلافه وتعتبر قيمة التركة بأقل الامرين من حين الموت إلى حين قبض
285

الوارث لأن الزيادة تجددت على ملك الوارث فلم تحسب عليه من التركة والنقصان قبل القبض فلم
يحصل له فأشبه الشارد والآبق وإنما يحسب عليه ما حصل في يديه ولا يحسب الميت من التركة
لأنه وصل إليهم وجعلناه كالحي في تقويمه معه والحكم باعتاقه ان وقعت القرعة عليه أو من الثلثين
ان وقعت القرعة على غيره وتحسب قيمته أقل الأمرين من حين موت سيده إلى حين قبضه
286

(فصل) فإن دبر ثلاثة اعبد أو وصى بعتقهم فمات أحدهم في حياته بطل تدبيره والوصية فيه
وأقرع بين الحيين واعتق من أحدهما ثلثهما لأن الميت لا يمكن الحكم بوقوع العتق فيه لكونه مات
قبل الوقت الذي يعتق فيه، وقبل تحقق شرط العتق بخلاف التي قبلها فإن العتق حصل من حين
الاعتاق وإنما القرعة تبينه وتكشفه ولهذا يحكم بعتقه من حين الاعتاق ويكون كسبه له وحكمه حكم
الأحرار في سائر أحواله، وإن مات المدبر بعد موت سيده أقرع بينه وبين الاحياء لأن العتق
حصل من حين موت السيد
(مسألة) (وإن أعتق عبدا أو نسيه أخرج بالقرعة)
هذا قياس قول احمد وهو قول الليث، وقال الشافعي يقف الامر حتى يذكر فإن مات قبل أن
يبين أقرع الورثة بينهم، وقال ابن وهب يعتقون كلهم، وقال مالك ان أعتق عبدا له ومات ولم يبين
وكانوا ثلاثة عتق منهم بقدر ثلثهم وان كانوا أربعة عتق منهم بقدر ربع قيمتهم وعلى هذا فيقرع
بينهم فإن خرجت القرعة على من قيمته أقل من الربع أعيدت القرعة حتى يكمل وقال أصحاب الرأي ان قال
الشهود نشهد ان فلانا أعتق بعض عبيده ونسيناه فشهادتهم باطلة ونحو هذا قول الشعبي والأوزاعي
ولم يذكروا ما ذكره أصحاب الرأي في الشهادة
287

ولنا أن مستحق العتق غير معين فأشبه ما لو أعتق جميعهم في مرض موته
(مسألة) (فإن علم بعد أن المعتق غيره عتق وهل يبطل عتق الأول؟ على وجهين)
(أحدهما) يبطل ويرد إلى الرق ويعتق الذي عينه لأنه تبين له المعتق فيعتق دون غيره كما لو لم
يقرع (والثاني) يعتقان معا قاله الليث ومقتضى قول ابن حامد لأن الأول ثبتت الحرية فيه بالقرعة
فلا تزول كسائر الأحرار، ولان قول العتق ذكرت من كنت نسيته يتضمن اقراره بحرية من ذكره
واقرارا على غيره فقبل اقراره على نفسه دون غيره. أما إذا لم يقرع فإنه يقبل قوله فيعتق من عينه
ويرق غيره فإذا قال أعتقت هذا عتق ورق الباقون، وان قال أعتقت هذا لا بل هذا عتقا جميعا
لأنه أقر بعتق الأول فلزمه ثم أقر بعتق الثاني فلزمه ولم يقبل رجوعه عن اقراره الأول وكذلك
الحكم في اقرار الوارث
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وان أعتق في مرض موته ولم يجز الورثة اعتبر من ثلثه)
إذا أعتق في مرض الموت المخوف اعتبر من الثلث إذا لم يجز الورثة وكذلك التدبير والوصية
بالعتق لأنه تبرع بمال أشبه الهبة ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز من عتق الذي أعتق ستة مملوكين في مرضه
الا ثلثهم وما زاد على الثلث ان أجازوه فإن ردوه بطل لأن الحق لهم فجاز بإجازتهم وبطل بردهم
288

(مسألة) (وان أعتق جزءا من عبده أو دبره وهو ان يقول إذا مت فنصف عبدي حر ثم مات
فإن كان النصف المدبر ثلث ماله من غير زيادة عتق ولم يسير)
لأنه لو دبره كله لم يعتق منه الا ثلثه فإذا لم يدبر الا ثلثه كان أولى، وإن كان العبد كله يخرج
من الثلث ففي تكميل الحرية روايتان (إحداهما) تكمل وهو قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة
وأصحابه لأنهم يرون التدبير كالعتق في السراية وهو أحد قولي الشافعي لأنه أعتق البعض عبده
فعتق جميعه كما لو أعتقه في حياته
(والثانية) لا يكمل العتق فيه لأنه لا يمنع جواز البيع قلم يسير كتعليقه بالصفة في الحياة فاما ان
أعتق بعض عبده في مرضه فهو كعتق جميعه ان خرج من الثلث عتق جميعه والا عتق منه بقدر
الثلث لأن الاعتاق في المرض كالاعتاق في الصحة الا في اعتباره من الثلث، وتصرف المريض في
ثلثه في حق الأجنبي كتصرف الصحيح في جميع ماله وعنه لا يعتق منه الا ما أعتق كما لو أعتق شركا
له في عبد وثلثه يحتمل جميعه
(فصل) وإذا دبر أحد الشريكين نصيبه صح ولم يلزمه لشريكه في الحال شئ وهذا قول
الشافعي فإذا مات عتق الجزء المدبر إذا خرج من ثلثه وفي سرايته إلى نصيب الشريك ما ذكرنا في
المسألة قبلها وقال مالك إذا دبر نصيبه تقاوماه فإن صار للمدبر صار مدبرا كله وان صار للآخر صار
289

رقيقا كله وقال الليث يغرم المدبر لشريكه قيمة نصيبه ويصير العبد كله مدبرا فإن لم يكن له مال سعى
العبد في قيمة نصيب الشريك فإذا أداها صار مدبرا كله، وقال أبو يوسف ومحمد يضمن المدبر للشريك
قيمة حقه موسرا كان أو معسرا ويصير المدبر له، وقال أبو حنيفة الشريك بالخيار إن شاء دبر وان
شاء أعتق وان شاء استسعى العبد وان شاء ضمن صاحبه إن كان موسرا، ولنا انه تعليق المعتق على صفة
فصح في نصيبه كما لو علقه بموت شريكه
(مسألة) وان أعتق في مرضه شركا له في عبد أو دبره وثلثه يحتمل باقيه أعطي الشريك وكان جميعه
حرا في إحدى الروايتين والأخرى لا يعتق الا ما ملك منه)
وجملته أنه إذا ملك شقصا من عبد فاعتقه في مرض موته أو دبره أو وصى بعتقه ثم مات ولم
يف ثلث ماله بقيمة نصيب الشريك لم يعتق إلا نصيبه بغير خلاف نعلمه الا قولا شاذا أو قول من
يرى السعاية وذلك لأنه ليس له من ماله إلا الثلث الذي استغرقته قيمة الشقص فيبقى معسرا بمنزلة
من أعتق في صحته شقصا وهو معسر فإن كان ثلث ماله يفي بقيمة حصة شريكه سرى إلى نصيب
الشريك في إحدى الروايتين فيعتق العبد كله ويعطى الشريك قيمة نصيبه من الثلث لأن ملك المعتق
لثلث المال تام له التصرف فيه بالتبرع وغيره فهو كمال الصحيح فأشبه عتق الصحيح الموسر والثانية
لا يعتق الا حصته لأن ملكه يزول إلى ورثته بموته فلا يبقى شئ يقضى منه الشريك وبه قال الأوزاعي
290

وقال القاضي ما أعتقه في مرض موته سرى وما دبره أو وصى بعتقه لم يسر فالرواية في سراية العتق
في حال الحياة أصح والرواية في وقوفه في التدبير أصح وهذا مذهب الشافعي لأن العتق في الحياة
ينفذ في حال ملك المعتق وصحة تصرفه وتصرفه في ثلثه كتصرف الصحيح في ماله كله وأما التدبير
والوصية فإنما يحصل العتق به في حال زوال ملك المعتق وتصرفاته.
(مسألة) (وان أعتق في مرضه ستة أعبد قيمتهم سواء وثلثه يحتملهم ثم ظهر عليه دين يستغرقهم
بيعوا في دينه ويحتمل ان يعتق ثلثهم)
وجملة ذلك أن المريض إذا أعتق عبيده في مرضه أو دبرهم أو وصى بعتقهم وهم يخرجون من
ثلثه في الظاهر فأعتقناهم ثم مات فظهر عليه دين يستغرقهم تبينا بطلان عتقهم وبقاء رقهم فيباعون في
الدين ويكون عتقهم وصية والدين يقدم على الوصية قال علي رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قضي بالدين قبل الوصية ولان الدين يقدم على الميراث بالاتفاق ولهذا تباع التركة في قضاء الدين
وقد قال الله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) والميراث مقدم على الوصية في الثلثين فما يقدم
على الميراث يجب ان يقدم على الوصية، وبهذا قال الشافعي ورد ابن أبي ليلى عبدا أعتقه سيده عند
الموت وعليه دين قال احمد أحسن ابن أبي ليلى وذكر أبو الخطاب رواية أخرى في الذي يعتق
عبده في مرضه وعليه دين أنه يعتق منه بقدر الثلث ويرد الباقي لأن تصرف المريض في ثلثه
291

كتصرف الصحيح في جميع ماله وكما لو لم يكن عليه دين، وقال قتادة وأبو حنيفة وإسحاق
بسعي العبد في قيمته.
ولنا انه تبرع في مرض موته بما يعتبر خروجه من الثلث فقدم عليه الدين كالهبة ولأنه معتبر
من الثلث فقدم عليه الدين كالوصية وخفاء الدين لا يمنع ثبوت حكمه ولهذا يملك الغريم استيفاءه
فيتبين انه أعتقهم وقد استحقهم الغريم بدينه فلم ينفذ عتقه كما لو أعتق ملك غيره فإن قال الورثة نحن
نقضي الدين ونمضي العتق لم ينفذ في أحد الوجهين حتى يبتدئوا العتق لأن الدين كان مانعا منه فيكون
باطلا ولا يصح بنوال المانع بعده (والثاني) ينفذ العتق لأن المانع منه إنما هو الدين فإذا سقط وجب
نفوذه كما لو أسقط الورثة حقوقهم من ثلثي التركة بعد العتق في الجميع ولأصحاب الشافعي وجهان
كهذين وقيل إن أصل الوجهين إذا تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره وعلى الميت دين وقضي الدين
هل ينفذ؟ فيه وجهان:
(فصل) فإن أعتق المريض ثلاثة اعبد لا مال له غيرهم فاقرع الورثة فأعتقوا واحدا وأرقوا
اثنين ثم ظهر عليه دين يستغرق نصفهم ففيه وجهان:
(أحدهما) تبطل القرعة لأن الدين شريك في الاقراع فإذا حصلت القسمة مع عدمه كانت باطلة
292

كما لو قسم شريكان دون شريكهما الثالث (والثاني) يصح الاقراع لأنه لا يمكن امضاء القسمة وافراد
حصة الدين من كل واحد من النصيبين لأن القرعة دخلت لأجل العتق دون الدين فيقال للورثة
اقضوا ثلثي الدين وهو بقدر قيمة نصف العبدين اللذين بقيا اما من العبيد واما من غيرهم ويجب رد
نصف العبد الذي عتق فإن كان الذي أعتق عبدين أقرعنا بينهما فإذا خرجت القرعة على أحدهما وكان
بقدر السدس من التركة عتق وبيع الآخر في الدين وإن كان أكثر منه عتق منه بقدر السدس وإن كان
أقل عتق وعتق من الآخر تمام السدس.
(مسألة) (وان أعتقهم فأعتقنا ثلثهم ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه عتق من ارق منهم)
وجملته أنه إذا أعتق عبيده في مرضه أو دبرهم أو وصى بعتقهم لم يعتق منهم الا الثلث ويرق الثلثان
إذا لم يجز الورثة عتقهم فإذا فعلنا ذلك ثم ظهر له مال بقدر ثلثيهم تبينا انهم قد عتقوا
من حين أعتقهم أو من حين موته إن كان دبرهم أو وصى بعتقهم لأن تصرف المريض في ثلث ماله
نافذ وقد بان أنهم ثلث ماله وخفا ذلك علينا لا يمنع كونه موجودا فلا يمنع كون العتق واقعا فعلى هذا
يكون حكمهم حكم الأحرار من حين أعتقهم فيكون كسبهم لهم وان كانوا قد تصرف فيهم ببيع أو
هبة أو رهن أو تزويج بغير إذن كان باطلا وان كانوا قد تصرفوا فحكم تصرفهم حكم تصرف
الأحرار فلو تزوج عبد منهم بغير اذن سيده كان نكاحه صحيحا ووجب عليه المهر وان ظهر له مال
293

بقدر قيمتهم عتق ثلثاهم لأنه ثلث جميع المال فيقرع بين الذين وقفوا فيعتق من تقع له القرعة ان وفى
الثلثان بقيمته وقيمة الأول والا عتق منه تمام الثلثين وان ظهر له مال بقدر نصفهم عتق نصفهم وإن كان
بقدر ثلثهم عتق أربعة اتساعهم وعلى هذا الحساب
(فصل) وان وصى بعتق عبد له يخرج من الثلث وجب على الوصي اعتاقه فإن وصى بذلك
ورثته لزمهم اعتاقه فإن امتنعوا أجبرهم السلطان أو من ينوب منابه كالحاكم لأن هذا حق لله تعالى
وللعبد ومن وجب عليه ذلك ناب السلطان عنه أو نائبه كالزكاة والديون فإذا أعتقه الوارث أو السلطان
عتق وما اكتسبه في حياة الموصي فهو للموصي يكون من تركته ان بقي بعده لأنه كسب عبده القن
وما كسبه بعد موته وقبل اعتاقه فهو للوارث وقال القاضي هو للعبد لأنه كسبه بعد استقرار سبب
العتق فكان له ككسب المكاتب وقال بعض أصحاب الشافعي فيه قولان مبنيان على القولين في كسب
العبد الموصى به قبل قبول الوصية.
ولنا انه عبد قن فكان كسبه للورثة كغير الموصى بعتقه وكالمعلق عتقه بصفة وفارق المكاتب
فإنه يملك كسبه قبل عتقه فكذلك بعده ويبطل ما ذكروه بأم الولد فإن عتقها قد استقر سببه في حياة
سيدها وكسبها له والموصى به ممنوع وان سلمناه فالفرق بينهما أن الموصى به قد تحقق فيه سبب
الملك وإنما وقف على شرط هو القبول فإذا وجد الشرط استند الحكم إلى ابتداء السبب وفي الوصية
294

بالعتق ما وجد السبب وإنما أوصى بايجاده وهو العتق فإذا وجد لم يجز أن يثبت حكمه سابقا عليه ولهذا
يملك الموصى له القبول بنفسه والعبد ههنا لا يملك أن يعتق نفسه فإن مات العبد قبل موت سيده
وقبل اعتاقه فما كسبه للورثة على قولنا ولا نعلم قول مخالفينا فيه
(فصل) فإن علق عتق عبده على شرط في صحته فوجد في مرضه اعتبر خروجه من الثلث قاله
أبو بكر وقد نص احمد على مثل هذا في الطلاق وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر انه يعتق من رأس المال
وهو مذهب الشافعي لأنه يتهم فيه أشبه العتق في صحته
ولنا أنه عتق في حال تعلق حق الورثة بثلثي ماله فاعتبر من الثلث كالمنجز وقولهم لا يتهم فيه
قلنا وكذلك العتق المنجز لا يتهم فيه فإن الانسان لا يتهم بمحاباة غير الوارث وتقديمه على وارثه وإنما
منع منه لما فيه من الضرر بالورثة وهو حاصل ههنا ولو قال إذا قدم زيد وانا مريض فأنت حر فقدم
وهو مريض كان معتبرا من الثلث وجها واحدا
(مسألة) وان لم يظهر له مال جزأنا لهم ثلاثة اجزاء كل اثنين جزءا وأقرعنا بينهم بسهم حرية وسهمي
رق فمن خرج له سهم الحرية عتق ورق الباقون وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان ومالك والشافعي
295

وإسحاق وداود وابن جرير وقال أبو حنيفة يعتق من كل واحد ثلثه ويستسعى في باقيه وروي نحو هذا عن
سعيد بن المسيب وشريح الشعبي والنخعي وقتادة وحماد لأنهم تساووا في سبب الاستحقاق فيتساوون في
الاستحقاق كما لو كان لا يملك إلا ثلثهم وحده وهو ثلث ماله أو كما لو وصى بكل واحد منهم لرجل، وأنكر
أصحاب أبي حنيفة القرعة وقالوا هي من القمار وحكم الجاهلية ولعلهم يردون الخبر الوارد في هذه المسألة لمخالفته
قياس الأصول وذكر الحديث لحماد فقال هذا قول الشيخ - يعنى إبليس - فقال له محمد بن ذكوان
وضع القلم عن ثلاثة (أحدهم) المجنون حتى يفيق يعني - أنك مجنون - فقال له حماد ما دعاك إلى هذا؟ فقال
محمد وأنت ما دعاك إلى هذا وهذا قليل في جواب حماد وكان حريا أن يستتاب عن هذا، فإن
تاب وإلا ضربت عنقه.
ولنا ما روى عمران بن حصين ان رجلا من الأنصار أعتق ستة مملوكين في مرضه لا مال له غيرهم
فجزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة وهذا نص في محل النزاع وحجة لنا
في الامرين المختلف فيهما وهما جمع الحرية واستعمال القرعة، وهو حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود
وسائر أصحاب السنن، ورواه عن عمران بن الحصين الحسن وابن سيرين وأبو المهلب ثلاثة أئمة ورواه
الإمام أحمد عن إسحاق بن عيسى عن هشيم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي زيد الأنصاري
296

رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وروي نحوه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه حق في تفريقه
ضرر فوجب جمعه بالقرعة كقسمة الاجبار إذا طلبها أحد الشركاء ونظيره من القسمة ما لو كانت
دار بين اثنين لأحدهما ثلثها وللآخر ثلثاها وفيها ثلاثة مساكن متساوية لا ضرر في قسمتها فطلب
أحدهما القسمة فإنه يجعل كل بيت سهما ويقرع بينهم بثلاثة أسهم لصاحب الثلث سهم وللآخر
سهمان وقولهم ان الخبر يخالف قياس الأصول نمنع ذلك بل هو موافق لما ذكرناه وقياسهم فاسد
لأنه إذا كان ملكهم ثلثهم وحده لم يكن جميع نصيبه والوصية لا ضرر في تفريقها بخلاف مسئلتنا وان
سلمنا مخالفته قياس الأصول فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع سواء وافق القياس أو خالفه
لأنه قول المعصوم الذي جعل الله عز وجل قوله حجة على الخلق أجمعين وأمر باتباعه وطاعته وحذر
العقاب في مخالفة أمره وجعل الفوز في طاعته والضلال في معصيته وتطرق الخطأ إلى القائس في قياسه
أغلب من تطرق الخطأ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعدهم في روايتهم على أنهم قد خالفوا
قياس الأصول بأحاديث ضعيفة فأوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر ونقضوا الوضوء بالقهقهة
في الصلاة دون خارجها وقولهم في مسئلتنا في مخالفة القياس والأصول أشد وأعظم والضرر في مذهبهم
أعظم وذلك لأن الاجماع منعقد على أن صاحب الثلث في الوصية وما في معناها لا يحصل له شئ حتى
297

يحصل للورثة مثلاه وفي مسئلتنا يعتقون الثلث ويستسعون العبد في الثلثين فلا يحصل للورثة شئ
في الحال ويحيلونهم على السعاية فربما لا يحصل منها شئ أصلا وربما لا يحصل منها في الشهر الا اليسير
كالدرهم والدرهمين فيكون هذا كمن لم يحصل له شئ وفيه ضرر على العبيد لأنهم يجبرونهم على
الكسب والسعاية من غير اختيارهم وربما كان المجبر جارية فيحملها ذلك على البغاء أو عبدا فيسرق
أو يقطع الطريق وفيه ضرر على الميت حيث أفضوا بوصيته إلى الظلم والاضرار وتحقيق ما يوجب
له العقاب من ربه والدعاء عليه من عبيده وورثته، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرناه
في حق الذي فعل هذا قال (لو شهدته لم يدفن في مقابر المسلمين) قال ابن عبد البر في قول الكوفيين ضروب
من الخطأ والاضطراب مع مخالفة السنة الثابتة وأشار إلى ما ذكرناه
وأما انكارهم القرعة فقد جاءت في الكتاب والسنة والاجماع، قال الله تعالى (وما كنت لديهم
إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) وقال سبحانه (فساهم فكان من المدحضين) وأما السنة فقال
احمد في القرعة خمس سنن أقرع بين نسائه وأقرع في ستة مملوكين وقال لرجلين (استهما) وقال (مثل
القائم بحدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة) وقال (لو يعلم الناس ما في النداء والصف
الأول لاستهموا عليه) وفي حديث الزبير ان صفية جاءت بثوبين ليكفن فيهما حمزة فوجدنا إلى جنبه
قتيلا فقلنا لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب فوجدنا أحد الثوبين أوسع من الآخر فأقرعنا عليهما ثم
298

كفنا كل واحد في الثوب الذي طار له وتشاح الناس يوم القادسية في الاذان فاقرع بينهم سعد
واجمع العلماء على استعمالها في القسمة ولا نعلم بينهم خلافا في أن الرجل يقرع بين نسائه إذا أراد السفر
بإحداهن وإذا أراد البداية في القسمة بينهن وبين الأولياء إذا تشاحوا فيمن يتولى التزويج أو من
يتولى استيفاء القصاص وأشباه هذا.
(فصل) في كيفية القرعة قال احمد قال سعيد بن جبير يقرع بينهم بالخواتيم أقرع بين اثنين
في ثوب فاخرج خاتم هذا وخاتم هذا ثم قال يخرجون بالخواتيم ثم تدفع إلى رجل فيخرج منها
واحدا قال احمد بأي شئ خرجت مما يتفقان عليه وقع الحكم به سواء كان رقاعا أو خواتيم، وقال
أصحابنا المتأخرون الأولى ان يقطع رقاعا صغارا مستوية ثم تجعل في بنادق شمع أو غيره متساوية
القدر والوزن ثم تلقى في حجر رجل لم يحضر ويغطى عليها بثوب ثم يقال له ادخل يدك فاخرج
بندقة فنفضها ونعلم ما فيها، وهذا قول الشافعي وفي كيفية القرعة والعتق ست مسائل.
(أحدها) ان يعتق عددا من العبيد لهم ثلث صحيح كثلاثة أو تسعة أو ستة (أو قيمتهم متساوية)
ولا مال له غيرهم فيجزءون ثلاثة اجزاء جزءا للحرية وجزأين للرق ويكتب ثلاث رقاع في واحد
حرية وفي اثنين رق وتترك في ثلاث بنادق وتغطى بثوب ويقال لرجل لم يحضر اخرج على اسم
هذا الجزء فإن خرجت قرعة الحرية عتق ورق الجزءان الآخران وان خرجت رق رق وأخرجت
299

أخرى على جزء آخر فإن خرجت رقعة الحرية عتق ورق الجزء الثالث وان خرجت قرعة الرق رق
وعتق الجزء الثالث لأن الحرية تعينت فيهم وان شئت كتبت اسم كل جزء في رقعة ثم أخرجت
رقعة على الحرية فإذا أخرجت رقعة عتق المسمون فيها ويرق الباقون وان أخرجت رقعة على الرق
رق المسمون فيها ثم تخرج أخرى على الرق فيرق المسمون فيها ويعتق الجزء الثالث وان أخرجت
الثانية على الحرية عتق المسمون فيها ورق الثالث
(المسألة الثانية) أن تمكن قسمتهم أثلاثا وقيمتهم مختلفة يمكن تعديلهم بالقيمة كستة قيمة اثنين
منهم ثلاثة آلاف وقيمة اثنين ألفان وقيمة اثنين الف فتجعل الاثنين الأوسطين جزءا وتجعل
اثنين قيمة أحدهما ثلاثة آلاف مع آخر قيمته الف جزءا والآخرين جزءا فتكون ثلاثة اجزاء متساوية
في العدد والقيمة على ما قدمناه في المسألة الأولى قيل لأحمد لم يستووا في القيمة؟ قال يقومون بالثمن.
(المسألة الثالثة) أن يتساووا في العدد ويختلفوا في القيمة ولا يمكن الجمع بين تعديلهم بالعدد والقيمة
معا ولكن يمكن تعديلهم بكل واحد منهما منفردا كستة أعبد قيمة أحدهم الف وقيمة اثنين الف
وقيمة ثلاثة ألف فإنهم يعدلون بالقيمة دون العدد نص عليه احمد فقال إذا كانت قيمة واحد مثل
اثنين قوم لأنه لا يجوز أن يقع العتق في أكثر من الثلث ولا أقل وفي قسمته بالعدد تكرار القرعة
وتبعيض العتق حتى يكمل الثلث فكان التعديل بالقيمة أولى بيان ذلك انا لو جعلنا مع الذي قيمته
300

ألف آخر فخرجت قرعة الحرية لهما احتجنا أن نعيد القرعة بينهما فإذا خرجت على القليل القيمة
عتق وعتق من الذي قيمته ألف تمام الثلث وان وقعت قرعة الحرية على اثنين قيمتهما دون الثلث
عتقا ثم أعيدت لتكميل الثلث فإذا وقعت على واحد كملت الحرية منه فحصل ما ذكرناه من التبعيض
والتكرار، ولان قسمتهم بين المشتركين فيهم إنما يعدلون فيها بالقيمة دون الاجزاء
فعلى هذا تجعل الذي قيمته ألف جزءا والاثنين اللذين قيمتهما ألف جزءا والثلاثة الباقين جزءا
ثم يقرع بينهم على ما ذكرنا.
(المسألة الخامسة) أمكن تعديلهم بالعدد دون القيمة كستة أعبد قيمة اثنين الف وقيمه اثنين سبعمائة
وقيمة اثنين خمسمائة فههنا تجزئهم بالعدد لتعذر تجزئتهم بالقيمة فتجعل كل اثنين جزءا وتضم كل واحد
ممن قيمتهما قليلة إلى واحد ممن قيمتهما كثيرة وتجعل المتوسطين جزءا وتقرع بينهم فإن وقعت
قرعة الحرية على حر قيمته أكثر من الثلث أعيدت القرعة بينهما فعتق من تقع له قرعة الحرية ويعتق
من الآخر تتمة الثلث ويرق باقيه والباقون وان وقعت الحرية على جزء أقل من الثلث عتقا جميعا ثم
يكمل الثلث من الباقين بالقرعة
(المسألة السادسة) لم يمكن تعديلهم بالعدد ولا بالقيمة كخمسة اعبد قيمة أحدهم الف واثنان
301

الف واثنان ثلاثة آلاف فيحتمل ان تجزئهم ثلاثة اجزاء فتجعل أكثرهم قيمة جزءا وتضم إلى الثاني
أقل الباقين قيمة وتجعلهما جزءا والباقين جزءا وتقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق لأن هذا أقرب
إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ويعدل الثلث بالقيمة على ما تقدم ويحتمل ان لا يجزئهم بل يخرج القرعة على واحد
واحد حتى يستوفي الثلث فيكتب خمس رقاع بأسمائهم ثم يخرج رقعة على الحرية فمن خرج اسمه فيها
عتق ثم يخرج الثانية فمن خرج اسمه فيها عتق منه تمام الثلث
(مسألة) (وان كانوا ثمانية فإن شاء أقرع بينهم بسهمي حرية وخمسة رق وسهم لمن ثلثاه
حر وان شاء جزأهم أربعة اجزاء فاقرع بينهم بسهم حرية وثلاثة رق ثم أعاد القرعة لاخراج من
ثلثاه حر وان فعل غير ذلك جاز بان يجعل ثلاثة جزءا وثلاثة جزءا واثنين جزءا فإن خرجت على الاثنين
عتقا وكمل الثلث بالقرعة من الباقين وان خرجت الثلاثة أقرع بينهم بسهمي حرية وسهم رق فإن
كان جميع ماله عبدين أقرعنا بينهم بسهم حرية وسهمي رق على كل حال
(فصل) قد ذكرنا أنه إذا كان للمعتق مال غير العبيد مثلا قيمة العبيد عتقوا جميعهم لخروجهم من
الثلث وإن كان أقل من مثليهم عتق من العبيد قدر ثلث المال كله فإذا كان العبيد نصف المال عتق ثلثاهم
وان كانوا ثلثي المال عتق نصفهم وان كانوا ثلاثة أرباعه عتق أربعة اتساعهم وطريقه ان تضرب
302

قيمة العبيد في ثلاثة ثم تنسب إليه مبلغ التركة فما خرج بالنسبة عتق من العبيد مثلها فإذا كانت قيمة العبيد
ألفا وباقي التركة الفين ضربت قيمة العبيد في ثلاثة تكن ثلاثة آلاف ثم تنسب إليها الألفين تكن ثلثيها
فيعتق ثلثاهم وان كانت قيمة العبيد ثلاثة آلاف وباقي التركة الف ضربنا قيمتهم في ثلاثة تكن تسعة
وتنسب إليها التركة كلها تكن أربعة اتساعها وان كانت قيمتهم أربعة آلاف وباقي التركة الف ضربت
قيمتهم في ثلاثة تكن اثنى عشر وتنسب إليها خمسة آلاف تكن ربعها وسدس فيعتق ربعهم وسدسهم
(فصل) فإن كان على الميت دين يحيط ببعض التركة قدم الدين لأن العتق وصية وقد قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الدين قبل الوصية ولان قضاء الدين واجب وهذا تبرع وتقديم الواجب متعين
فإن كان الدين بقدر نصف العبيد جعلوا جزأين وكتب رقعتان رقعة للدين ورقعة للتركة ويخرج
واحد منهما على أحد الجزأين فمن خرجت عليه رقعة الدين بيع فيه وكان الباقي جميع التركة يعتق
ثلثهم بالقرعة على ما تقدم وإن كان الدين بقدر ثلثهم كتب ثلاث رقاع رقعة للدين واثنتان للتركة
وإن كان بقدر ربعهم كتب أربع رقاع رقعة للدين وثلاث للتركة ثم يقرع بين من خرجت له رقاع
التركة وان كتب رقعة للدين ورقعة للحرية ورقعتين للتركة جاز وقيل لا يجوز لئلا تخرج رقعة الحرية
قبل قضاء الدين والأول أصح لأنه إنما إنما يمنع من قبل قضاء الدين إذا لم يكن له وفاء فاما إن كان له
وفاء لم يمنع منه بدليل ما لو كان العتق في أقل من ثلث الباقي بعد وفاء الدين فإنه لا يمنع من العتق قبل وفائه
303

(مسألة) (وان أعتق عبدين قيمة أحدهما مائتان والآخر ثلاثمائة فأجاز الورثة عتقهما عتقا وان
لم يجز الورثة عتق ثلثهما وكمل الثلث في أحدهما فتجمع قيمتهما فتكون خمسمائة ثم يقرع بينهما فمن خرج
له سهم الحرية ضربنا قيمته في ثلاثة ونسبنا قيمتهما إلى المرتفع بالضرب فما خرج من النسبة عتق من
العبد بقدره فإن وقعت على الذي قيمته مائتان ضربنا في ثلاثة صار ستمائة ونسبنا قيمتهما إلى ذلك تكن
خمسة أسداسه فيعتق منه كذلك وان وقعت على الآخر ضربنا قيمته في ثلاثة تكن تسعمائة ونسبنا
قيمتهما وهي خمسمائة إلى ذلك نجدها خمسة اتساعه فيعتق منه ذلك وهو ثلث الجميع)
لأننا إذا ضربنا قيمة العبدين وهي خمسمائة في ثلاثة كانت ألفا وخمسمائة وهي جميع المال فالخمسمائة
بالنسبة إليها ثلث وبالنسبة إلى الذي قيمته مائتان خمسة أسداسه بعد الضرب والى الآخر خمسة
اتساعه وكل شئ أتى من هذا فسبيله ان يضرب في ثلاثة ليخرج بلا كسر وهذا قول من يرى
جميع العتق في بعض العبيد بالقرعة وعند أبي حنيفة ومن وافقه يعتقان فيستسعيان في باقي قيمتهما
وقد مضى الكلام معهم والله أعلم
(مسألة) (وان أعتق واحدا من ثلاثة اعبد غير معين فمات أحدهم في حياة السيد أقرع
بينه وبين الحيين فإن وقعت رقعة العتق على الميت رق الآخران)
لأن القرعة يبين بها من وقع عليه العتق فوجب ان يقرع بيتهم كما لو كانوا احياء فإذا وقعت
القرعة على الميت تبين رق الآخرين لأن الحرية إنما تقع على المعتق وهذان لم يعتق واحد منهما وان
وقعت على أحد الحيين عتق ان خرج من الثلث وقد سبق شرح هذا فيما إذا قال أحد عبدي حر
وذكرنا الخلاف فيه وان أعتق الثلاثة في مرضه فمات أحدهم في حياة السيد فكذلك في قول أبي بكر
لأن الحرية إنما تنفذ في الثلث فأشبه ما لو أعتق واحدا منهم قال شيخنا والأولى ان يقرع بين الحيين
ويسقط حكم الميت لأنه أعتق الثلاثة والاعتبار في خروجه من الثلث بحالة الموت وحالة الموت إنما كان له
304

العبد ان الحيان وهما كل ما له فيقرع بينهما فمن وقعت عليه القرعة عتق ان خرج من الثلث والا عتق
منه بقدر الثلث وان بقي من الثلث شئ بعد عتقه عتق من الآخر بقدر ما بقي من الثلث وصار بمنزلة ما لو أعتق
العبدين في مرضه ولم يكن له مال غيرهم
(فصل) إذا دفع العبد إلى رجل مالا فقال اشترني من سيدي بهذا المال فأعتقني ففعل لم يخل
من أن يشتريه بعين المال أو في ذمته ثم ينقد المال فإن اشتراه في ذمته ثم أعتقه صح الشراء ونفذ
العتق لأنه ملكه بالشراء فنفذ عتقه له وعلى المشتري أداء الثمن الذي اشتراه به لأنه لزمه الثمن بالبيع
والذي دفعه إلى السيد كان ملكا له لا يحتسب له به من اليمن فبقي الثمن واجبا عليه يلزمه أداؤه
وكان العتق من ماله والولاء له وبه قال الشافعي وابن المنذر فاما ان اشتراه بعين المال فالشراء باطل
ولا يصح العتق لأنه اشترى بعين مال غيره شيئا بغير اذنه فلم يصح الشراء ولم ينفذ العتق لأنه أعتق
مملوك غيره بغير اذنه ويكون السيد قد أخذ ماله لأن ما في يد العبد محكوم به لسيده فاما على الرواية
التي تقول ان النقود لا تتعين بالتعيين فإنه يكون الحكم فيه كما لو اشتراه في ذمته ونحو هذا قال
النخعي وإسحاق فإنهما قالا الشراء والعتق جائزان ويرد المشتري مثل الثمن من غير تفريق وقال الحسن
البيع والعتق باطلان وقال الشعبي لا يجوز ذلك ويعاقب من فعله من غير تفريق أيضا وقد ذكرنا ما
يقتضي التفريق وفيه توسط بين المذهبين فكان أولى أو شاء الله تعالى
(فصل) ولو كان العبد بين شريكين فأعطى العبد لأحدهما خمسين دينارا على أن يعتق نصيبه
منه فاعتقه عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسرا ورجع عليه شريكه بنصف الخمسين وبنصف قيمة
العبد لأن ما في يد العبد يكون بين سيديه لا ينفرد به أحدهما عن الاخر الا ان نصيب المعتق ينفذ فيه
305

العتق وإن كان العوض مستحقا إذ لم يقع العتق على عينها وإنما سمى خمسين ثم دفعها إليه وان أوقع
العتق على عينها يجب ان يرجع على العبد بقيمة ما أعتقه بالعوض المستحق ويسري العتق إلى نصيب
شريكه ويكون ولاؤه للمعتق
(فصل) ولو وكل أحد الشريكين شريكه في عتق نصيبه فقال الوكيل نصيبي حر عتق وسرى
إلى نصيب شريكه والولاء له وان أعتق نصيب الموكل عتق وسرى إلى نصيبه إن كان موسرا والولاء
للموكل فإن أعتق نصف العبد ولم ينو شيئا احتمل ان ينصرف إلى نصيبه لأنه لا يحتاج إلى نية ونصيب شريكه
يفتقر إلى النية ولم ينو ويحتمل أن ينصرف إلى نصيب شريكه لأنه أمره بالاعتاق فانصرف إلى ما أمر به،
ويحتمل أن ينصرف إليهما لأنهما تساويا وأيهما حكمنا بالعتق عليه ضمن نصيب شريكه، ويحمل أن لا يضمن
لأن الوكيل إذا أعتق نصيبه فسرى إلى نصيب شريكه لم يضمنه لأنه مأذون له في العتق، وقد
أعتق بالسراية فلم يضمن كمن أذن له في اتلاف شئ فإنه لا يضمنه وان أتلفه بالسراية، وإذا عتق
نصيب شريكه لم يلزم شريكه الضمان لأنه مباشر لسبب الاتلاف فلم يجب له ضمان ما تلف به كما لو قال
له أجنبي أعتق عبدك فأعتقه
306

(باب التدبير)
وهو تعليق العتق بالموت وسمي تدبيرا لأن الوفاة دبر الحياة يقال دابر الرجل يدابر مدابرة إذا
مات فسمي العتق بعد الموت تدبيرا والأصل فيه السنة والاجماع
أما السنة فما روى جابر أن رجلا أعتق مملوكا له عن دبر فاحتاج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من
يشتريه مني؟) فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه، وقال (أنت أحوج منه) متفق عليه
وقال ابن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من دبر عبده أو أمته ولم يرجع عن ذلك حتى
مات والمدبر يخرج من ثلث ماله بعد قضاء دين إن كان عليه وانفاذ وصاياه إن كان وصى وكان السيد
بالغا جائز الامر انه تجب له لحرية أولها
(مسألة) (ويعتبر من الثلث)
إنما يعتق المدبر إذا خرج من الثلث في قول أكثر أهل العلم يروى ذلك عن علي وابن عمر
وبه قال شريح وابن سيرين والحسن وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري
وقتادة وحماد ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي
307

وروى ابن مسعود ومسروق ومجاهد والنخعي وسعيد بن جبير انه يعتق من رأس المال قياسا على
أم الولد وكما لو أعتق في الصحة
ولنا انه تبرع بعد الموت فكان من الثلث كالوصية ويفارق العتق في الصحة فإنه لم يتعلق به حق
غير المعتق فنفذ في الجميع كالهبة المنجزة والاستيلاد أقوى من التدبير لأنه ينفذ من المجنون بخلاف
التدبير، ونقل حنبل عن أحمد انه يعتق من رأس المال ولا عمل عليها قال أبو بكر هذا قول قديم
رجع عنه إلى ما رواه الجماعة
(فصل) فإن اجتمع العتق في المرض والتدبير قدم العتق لأنه أسبق فإن اجتمع التدبير والوصية
بالعتق تساويا لأنهما جميعا عتق بعد الموت ويحتمل أن يقدم التدبير لأن الحرية تقع فيه عقيب الموت من
غير تأخر والوصية تقف على الاعتاق بعده
(مسألة) (ويصح من كل من تصح وصيته)
لأنه تبرع بالمال بعد الموت أشبه الوصية وقال الخرقي يصح تدبيره إذا جاوز العشر وكان بعرف
التدبير وكذلك الجارية إذا جاوزت التسع وقال الشافي في أحد قوليه يصح تدبير الصبي المميز قال
بعض أصحابه هو أصح قوليه وهو إحدى الروايتين عن مالك وروي ذلك عن شريح وعبد الله بن عتبة
وقال الحسن وأبو حنيفة لا يصح تدبيره وهو إحدى الروايتين عن مالك والقول الثاني للشافعي لأنه
لا يصح اعتاقه فلم يصح تدبيره كالمجنون
308

ولنا ان عمر رضي الله عنه أجاز وصية غلام من الأنصار لأخواله من غسان بأرض يقال لها
بئر جشم قومت ثلاثين ألفا رواه سعيد بن منصور وكان الغلام ابن عشر سنين وروي اثنتي عشرة
ولم يعرف له مخالف والتدبير في معنى الوصية وقد ذكرنا ذلك في كتاب الوصايا ويخالف التدبير
العتق في الحياة لأن فيه تفويتا لماله في حياته ووقت حاجته والوصية والتدبير لا ضرر عليه فيهما فإنه
ان عاش لم يذهب شئ من ماله وان مات فهو غير مستغن عن الثواب فيكون ذلك زيادة في رفع
درجته وإنما خص الخرقي ابن عشر سنين لأنه يؤمر بالصلاة والجارية بتسع لقول عائشة إذا بلغت
الجارية تسع سنين فهي امرأة ولأنه سن يمكن بلوغها فيه ويتعلق به أحكام غير ذلك فأما المجنون فلا
يصح شئ من تصرفاته فلذلك لم يصح تدبيره ويصح تدبير المحجور عليه للسفه لما ذكرنا في الصبي
بل هو أولى بالصحة من الصبي لأنه مكلف وحاجته إلى الثواب أكثر من حاجة الصبي وصحة تدبير
السكران مبنية على صحة وصيته وقد ذكرناه وكل من صح تدبيره فهو كالمكلف في صحة رجوعه قياسا علته
(فصل) ويصح تدبير الكافر ذميا كان أو حربيا في دار الاسلام وغيرها لأن له ملكا صحيحا
فصح تصرفه فيه كالمسلم فإن قيل لو كان ملكه صحيحا لم يملك عليه بغير اختياره قلنا هذا لا ينافي
الملك بدليل أنه يملك في النكاح وتملك عليه زوجته بغير اختياره، وحكم تدبيره حكم تدبير
المسلم على ما نذكره
309

(مسألة) وصريحة لفظ العتق والحرية المعلقين بالموت كقوله أنت حر أو عتيق أو معتق أو
محرر بعد موتي فيصير بذلك مدبرا بلا خلاف نعلمه)
وكذلك ان قال أنت مدبر أو قد دبرتك فإنه يصير مدبرا بمجرد اللفظ وان لم ينوه هذا منصوص
الشافعي وقال أصحابه فيه قول آخر انه ليس بصريح يفتقر إلى النية لأنهما لفظان لم يكثر استعمالهما
فافتقرا إلى النية كالكنايات
ولنا أنهما لفظان وضعا لهذا العقد فلم يفتقر إلى النية كالبيع بخلاف الكنايات فإنها غير موضوعة
له ويشاركها فيه غيرها فافتقرت إلى النية للتعيين وترجيح أحد المحتملين بخلاف الموضوع فإنه لا
يفتقر إلى النية كلفظ العتق
(مسألة) (ويصح مطلقا ومقيدا)
فالمطلق تعليق العتق بالموت من غير شرط آخر والمقيد ضربان أحدهما خاص مثل ان يقول إن مت
من مرضى هذا أو في بلدي هذا أو في عامي هذا فأنت حر فهذا جائز على ما قال إن مات على الصفة التي
شرطها عتق العبد والا فلا وقال مهنا سألت أحمد عمن قال لعبده أنت مدبر قال يكون مدبرا ذلك
اليوم فإن مات في ذلك اليوم صار حرا يعني إذا مات السيد
(الثاني) ان يعلق التدبير على صفة مثل ان يقول إن دخلت الدار فلت مدبر أو ان قدم زيد
أو ان شفى الله مريضي فأنت حر بعد موتى فهذا لا يصير مدبرا في الحال لأنه علق التدبير على شرط
310

فإذا وجد صار مدبرا وعتق بموت سيده وان لم يوجد في حياة السيد ووجد بعد موته لم يعتق لأن اطلاق
الشرط يقتضي وجوده في الحياة بدليل ما لو علق عليه عتقا منجزا فقال إذا دخلت الدار فأنت حر
فدخلها بعد موته لم يعتق ولان المدير من علق عتقه بالموت وهذا قبل الموت لم يكن مدبرا وبعد
الموت لا يمكن حدوت التدبير فيه
(فصل) فإن قال لعبد إذا قرأت القرآن فأنت حر بعد موتي فقرأ القرآن جميعه صار مدبرا
وان قرأ بعضه لم يصر مدبرا، وان قال إذا قرأت قرآنا فأنت حر بعد موتي فقرأ بعض القرآن صار
مدبرا لأنه في الأولى عرفه بالألف واللام المقتضية للاستغراق فعاد إلى جميعه وههنا نكره فاقتضي
بعضه فإن قيل فقد قال الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - وإذا قرأت
القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) ولم يرد القرآن جميعه قلنا قضية
اللفظ تتناول جميعه لأن الألف واللام للاستغراق وإنما حمل على بعضه بدليل فلا يحمل على البعض في
غير ذلك الموضع بغير دليل ولان قرينة الحال تقتضي قراءة جميعه لأن الظاهر أنه أراد ترغيبه في قراءة
القرآن فتتعلق الحرية به أو مجازاته على قراءته بالحرية والظاهر أنه لا يجازى بهذا لأمر الكثير ولا يرغب به
إلا فيما يشق اما قراءة آية أو آيتين فلا
(مسألة) (وان قال متى شئت فأنت مدبر أو أنت حر بعد موتي أو إذا شئت أو أي وقت
شئت فهو تدبير بصفة فمتى شاء في حياة سيده صار مدبرا يعتق بموته)
لأن المشيئة هنا على التراخي فمتى وجدت المشيئة وجد الشرط فهو كما لو قال إن دخلت الدار
فأنت حر بعد موتي فدخلها في حياة السيد وان مات السيد قبل مشيئته بطلت الصفة كما لو مات في
311

في المسألة الأخرى قبل دخول الدار وان قال متى شئت بعد موتي فأنت حر أو أي وقت شئت بعد
موتي فهو تعليق للعتق على صفة بعد الموت وقد ذكرنا انه لا يصح، وقال القاضي يصح فعلى قوله يكون
ذلك التراخي فمتى شاء بعد موت سيده عتق وما كسب قبل مشيئته فهو لورثة سيده لأنه عبد
قبل ذلك بخلاف الموصى به فإن في كسبه قبل القبول وجهين
(أحدهما) يكون للموصى له لأنا تبينا ملكه حين الموت وههنا لا يثبت الملك قبل المشيئة وجها
واحدا لأنه عتق معلق على شرط فلا يثبت العتق قبل الشرط وجها واحدا
(مسألة) (وان قال إن شئت فأنت مدبر فقياس المذهب انه على التراخي كقوله متى شئت)
وقال أبو الخطاب ان شاء في المجلس صار مدبرا والا فلا وكذلك قال القاضي في قوله إذا شئت
وإن شئت فأنت حر بعد موتي على أنه على الفور ان شاء في المجلس صار مدبرا والا بطلت الصفة
ولم يصر مدبرا بالمشيئة بعده بناء على قوله اختاري نفسك فإنه يقف على المجلس وهذا في معناه،
وإن قال إن شئت بعد موتي أو إذا شئت بعد موتي فأنت حر كان على الفور أيضا فمتى شاء عقيب موت
سيده أو في المجلس صار حرا وان تراخت مشيئته عن المجلس لم يثبت فيه حرية وذكر في الطلاق أنه إذا
قال أنت طالق إن شئت وشاء أبوك فشاءا معا وقع الطلاق سواء شاء على الفور أو التراخي أو شاء
أحدهما على الفور والآخر على التراخي وهذا مثله فيخرج في كل مسألة مثل ما ذكره في الأخرى
312

(فصل) وإذا قال لعبده إذا مت فأنت حر أولا؟ أو قال فأنت حر؟ أو لست بحر؟ لم يصر
مدبرا لأنه استفهام ولم يقطع بالعتق فهو كما لو قال لزوجته أنت طالق أولا؟ وسنذكر ذلك في الطلاق
(مسألة) (وإذا قال قد رجعت في تدبيري أو أبطلته لم يبطل لأنه تعليق للعتق بصفة
وعنه أنه يبطل كالوصية)
اختلفت الرواية عن أحمد في بطلان التدبير بالرجوع فيه قولا فالصحيح انه لا يبطل لأنه علق العتق
بصفة فلا يبطل كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر (والثانية) يبطل لأنه جعل له نفسه بعد موته
فكان ذلك وصية فجاز الرجوع فيه بالقول كما لو وصى له بعبد آخر وهو قول الشافعي القديم وقوله
الجديد كالرواية الأولى وهو الصحيح كتعليقه بصفة في الحياة ولا يصح القول بأنه وصية به لنفسه
لأنه لا يملك نفسه وإنما تحصل فيه الحرية ويسقط عنه الرق ولهذا لا تقف الحرية على قبوله واختياره
وتنجز عقيب الموت كتنجيزها عقيب سائر الشروط ولأنه غير ممتنع أن يجمع الامرين فيثبت فيه
حكم التعليق في امتناع الرجوع ويجتمعان في حصول العتق بالموت.
313

(فصل) إذا قال السيد لمدبره إذا أديت إلى ورثتي كذا فأنت حر فهو رجوع عن التدبير وينبني
على الروايتين إن قلنا إن له الرجوع بالقول بطل التدبير وإن قلنا ليس له الرجوع لم يؤثر هذا القول
شيئا، وان دبره كله ثم رجع في نصفه صح إذا قلنا بصحة الرجوع في جميعه لأنه لما صح أن يدبر نصفه
ابتداء صح أن يرجع في تدبير نصفه وان غير التدبير فكان مطلقا فجعله مقيدا ان قلنا يصح الرجوع
والا فلا فإن كان مقيدا فأطلقه صح على كل حال لأنه زيادة فلا يمنع منها وإذا دبر الأخرس وكانت
إشارته أو كتابته معلومة صح تدبيره ويصح رجوعه ان قلنا بصحة الرجوع في التدبير لأن إشارته
وكتابته تقوم مقام نطق الناطق في أحكامه وان دبر وهو ناطق ثم خرس صح رجوعه بإشارته
المعلومة أو كتابته وان لم تفهم إشارته فلا عبرة بها لأنه لا يعلم رجوعه
(فصل) وإذا رهن المدبر لم يبطل تدبيره لأنه تعليق للعتق بصفة فإن مات السيد وهو
رهن عتق وأخذ من تركته قيمته فتكون رهنا مكانه لأن عتقه بسبب من جهة سيده فأشبه ما لو
باشره بالعتق ناجزا.
(فصل) وان ارتد المدبر ولحق بدار الحرب لم يبطل تدبيره لأن ملك سيده باق عليه ويصح
تصرفه فيه بالعتق والهبة والبيع إن كان مقدورا عليه فإن سباه المسلمون لم يملكوه لأنه مملوك لمعصوم
ويرد إلى سيده ان علم به قبل قسمه ويستتاب فإن تاب والا قتل وان لم يعلم به حتى قسم لم يرده
314

إلى سيده في إحدى الروايتين والأخرى ان اختار سيده أخذه بالثمن الذي حسب به على آخذه أخذه
وان لم يختر أخذه بطل تدبيره ومتى عاد إلى سيده بوجه من الوجوه عاد تدبيره وان لم يعد إلى
سيده بطل تدبير كما لو بيع وكان رقيقا لمن هو في يده وان مات سيده قبل سبيه عتق فإن سبي
بعد هذا لم يرد إلى ورثة سيده لأن ملكه زال عنه بحريته فصار كأحرار دار الحرب ولكن يستتاب
فإن تاب وأسلم صار رقيقا يقسم بين الغانمين وان لم يتب قتل ولم يجز استرقاقه لأنه لا يقر على
كفره. وقال القاضي لا يجوز استرقاقه إذا أسلم. وهو قول للشافعي لأن في استرقاقه ابطال ولاء
المسلم الذي أعتقه
ولنا ان هذا لا يمنع قتله واذهاب نفسه وولائه لا يمنع تملكه أولى ولان المملوك الذي لم يعتقه
سيده يثبت الملك فيه للغانمين إذا لم يعرف مالكه بعينه ويثبت فيه إذا قسم قبل العلم بمالكه والملك
آكد من الولاء فلان يثبت مع الولاء وحده أولى فعلى هذا لو كان المدبر ذميا فلحق بدار الحرب
ثم مات سيده أو أعتقه ثم قدر عليه المسلمون فسبوه ملكوه وقسموه، وعلى قول القاضي وقول الشافعي
لا يملكوه فإن كان سيده ذميا جاز استرقاقه في قول القاضي ولأصحاب الشافعي في استرقاقه وجهان:
(أحدهما) يجوز وهذا حجة عليهم لأن عصمة مال الذمي كعصمة مال المسلم بدليل قطع سارقه
سواء كان مسلما أو ذميا ووجوب ضمانه وتحريم تملك ماله إذا أخذه الكفار ثم قدر عليه المسلمون
315

فأدركه صاحبه قبل قسمه قال القاضي الفرق بينهما أن سيده ههنا لو لحق بدار الحرب جاز تملكه
فجاز تملك عتيقه بخلاف المسلم قلنا إنما جاز استرقاق سيده لزوال عصمته وذهاب عاصمه وهو ذمته وعهده
وأما إذا ارتد مدبره فإن عصمة ولائه ثابتة بعصمة من له ولاؤه وهو والمسلم في ذلك سواء فإذا جاز
ابطال أحدهما جاز في الآخر مثله
(فصل) فإن ارتد سيد المدبر فذكر القاضي ان المذهب أنه يكون موقوفا فإن عاد إلى الاسلام
فالتدبير باق بحاله والا تبينا ان ملكه لم يزل وان قتل أو مات على ردته لم يعتق المدبر لأنا تبينا
أن ملكه زال بردته وقال أبو بكر قياس قول أبي عبد الله أن تدبيره يبطل بالردة فإن عاد إلى الاسلام
استأنف التدبير وقال الشافعي التدبير باق ويعتق بموت سيده لأن تدبيره سبق ردته؟ فهو كبيعه وهبته
قبل ارتداده وهذا ينبني على القول في مال المرتد هل هو باق على ملكه أو قد زال بردته، وسيذكر في
باب المرتد، فأما ان دبر في حال ردته فتدبيره مراعى، وان عاد إلى الاسلام تبينا ان تدبيره وقع صحيحا
وان قتل أو مات تبينا أنه وقع باطلا ولم يعتق المدبر، وقال ابن أبي موسى تدبيره باطل وهو قول
أبي بكر لأن المال يزول بالردة وإذا أسلم رد إليه تملكا مستأنفا
(مسألة) (وله بيع المدبر وهبته وان عاد إليه عاد التدبير وعنه لا يباع إلا في الدين وعنه
لاتباع الأمة خاصة)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في بيع المدبر فنقل عنه جماعة جواز بيعه مطلقا في الدين
316

وغيره مع الحاجة وعدمها قال إسماعيل بن سعد سألت أحمد عن بيع المدبر إذا كان بالرجل حاجة
إلى ثمنه فقال له أن يبيعه محتاجا كان أو غير محتاج قال شيخنا وهذا هو الصحيح. وروي مثل هذا
عن عائشة وعمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد وهو قول الشافعي وكره بيعه ابن عمر وسعيد بن
المسيب والشعبي والنخعي وابن سيرين والزهري والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي ومالك
لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يباع المدبر ولا يشترى) ولأنه استحق العتق بموت
سيده أشبه أم الولد
؟ ولنا ما روى جابر ان رجلا أعتق مملوكا له عن دبر فاحتاج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يشتريه
مني؟) فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه وقال (أنت أحوج منه) متفق عليه قال
جابر عبد قبطي مات عام أول في أمارة بن الزبير قال أبو إسحاق الجوزجاني صحت أحاديث بيع لمدبر
استقامة الطرق والخبر إذا ثبت استغني به عن غيره من رأي الناس ولأنه عتق بصفة ثبت
بقول المعتق فلم يمنع البيع كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر ولأنه تبرع بمال بعد الموت فلم
يمنع البيع في الحياة كالوصية قال أحمد هم يقولون من قال غلامي حر رأس الشهر فله بيعه قبل رأس
الشهر فإن قال غدا فله بيعه اليوم وان قال إذا مت قال لا يبيعه فالموت أكثر من الاجل ليس هذا
قياسا ان جاز ان يبيعه قبل رأس الشهر فله أن يبيعه قبل مجئ الموت وهم يقولون في من قال إن مت
317

من مرضي هذا فعبدي حر ثم لم يمت من مرضه ذلك فليس بشئ فإن قال إن مت فهو حر لا يباع
هذا متناقض إنما أصله الوصية من الثلث فله ان يغير وصيته ما دام حيا فاما خبرهم فلم يصح عن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول ابن عمر قال الطحاوي هو عن ابن عمر وليس بمسند عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ويحتمل انه أراد بعد الموت أو على الاستحباب ولا يصح قياسه على أم الولد لأن عتقها ثبت
بغير اختيار سيدها وليس بتبرع ويكون من جميع المال ولا يمكن إبطاله بحال والتدبير بخلافه
والهبة كالبيع لأنها تمليك في الحياة فأشبهت البيع وروي عنه رواية ثانية أنه لا يباع إلا في الدين
وهو ظاهر كلام الخرقي وقال مالك لا يباع إلا في دين يغلب رقبة العبد فإذا كان العبد يساوي
ألفا وكان عليه خمسمائة لم يبع وروي عن أحمد أنه قال انا أرى بيع المدبر في الدين وإذا كان فقيرا
لا يملك شيئا رأيت أن أبيعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع المدبر لما علم أن صاحبه لا يملك شيئا غيره، باعه
النبي صلى الله عليه وسلم لما علم من حاجته وهذا قول إسحاق وأبي أيوب وأبي خيثمة وقال إن باعه من غير حاجة
أجزناه وهذا مثل الرواية الأولى. ووجه قول الخرقي والرواية التي قال أحمد إنه يرى بيعه في الدين
وإذا كان صاحبه فقيرا لا يملك غيره حديث جابر المذكور فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما باع المدبر عند الحاجة
فلا يتجاوز به موضع الحاجة وعن أحمد رواية رابعة ان الأمة لا تباع خاصة قال شيخنا لا نعلم هذا
318

التفريق بين المدبر والمدبرة عن غير إمامنا رحمه الله وإنما احتاط في رواية المنع من بيعها لأن فيه
إباحة فرجها وتسليط مشتريها على وطئها مع الخلاف في بيعها وحلها فكره الاقدام على ذلك مع الاختلاف
فيه والظاهر أن المنع منه كان على سبيل الورع لا على التحريم فإنه إنما قال لا يعجبني بيعها والصحيح
جواز بيعها فإن عائشة باعت مدبرة لها سحرتها ولان المدبرة في معنى المدبر فما ثبت فيه ثبت فيها
(مسألة) (وان عاد إليه عاد التدبير)
لأنه علق عتقه بصفة فإذا باعه ثم عاد إليه عادت الصفة كما لو قال أنت حر ان دخلت الدار فباعه
ثم اشتراه وذكر القاضي ان هذا مبني على أن التدبير تعليق بصفة وفيه رواية أخرى أنه وصية
فيبطل بالبيع ولا يعود لأنه لو وصى بشئ ثم باعه بطلت الوصية ولم تعد بشرائه وهذا مذهب الشافعي
إلا أن عود الصفة بعد الشراء له فيه قولان والصحيح ان الصفة تعود بعوده إلى ملكه لأن التدبير
وجد فيه التعليق بصفة فلا يزول حكم التعليق بوجود معنى الوصية فيه بل هو جامع لامرين وغير
ممتنع وجود الحكم بسببين فيثبت حكمهما فيه
(مسألة) (وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها فهو بمنزلتها ولا يتبعها ولدها من قبل التدبير)
وجملة ذلك أن الولد الحادث من المدبرة بعد تدبيرها لا يخلو من حالين (أحدهما) أن يكون
موجودا حال تدبيرها ويعلم ذلك بان تأتي به لأقل من ستة أشهر من حين التدبير فهذا يدخل معها في
319

التدبير بغير خلاف نعلمه لأنه كعضو من أعضائها فإن بطل التدبير في الام لبيع أو موت أو رجوع بالقول لم
يبطل في الولد لأنه ثبت أصلا (الحال الثاني) ان تحمل به بعد التدبير فهذا يتبع أمه في التدبير ويكون حكمه حكمها
في العتق بموت سيدها في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وبه قال سعيد بن
المسيب والحسن والقاسم ومجاهد والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والثوري والحسن
ابن صالح وأصحاب الرأي وذكر القاضي أن حنبلا نقل عن أحمد أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشرط
المولى قال فظاهر هذا أنه لا يتبعها ولا يعتق بموت سيدها وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وللشافعي
قولان كالمذهبين (أحدهما) لا يتبعها وهو اختيار المزني لأن عتقها يتعلق بصفة ثبت بقول المعتق وحده
فأشبهت من عاق عتقها بدخول الدار قال جابر بن زيد إنما هو بمنزلة الحائط تصدقت به إذا مت فإن
ثمرته لك ما عشت ولان التدبير وصية وولد الموصى بها قبل الموت لسيدها
ولنا ما روي عن عمر وابن عمر وجابر أنهم قالوا ولد المدبرة بمنزلتها ولم نعرف لهم في الصحابة
مخالفا فكان اجماعا ولان الام استحقت الحرية بموت سيدها فيتبعها ولدها كأم الولد ويفارق التعليق
بصفة في الحياة والوصية لأن التدبير آكد من كل واحد منهما لأنه اجتمع فيه الأحرار وما وجد
فيه سببان آكد مما وجد فيه أحدهما ولذلك لا يبطل بالموت ولا بالرجوع عنه فعلى هذا ان بطل التدبير
في الام لمعنى اختص بها من بيع أو موت أو رجوع لم يبطل في ولدها ويعتق بموت سيدها كما لو كانت
320

أمه باقية على التدبير فإن لم يتسع الثلث لهما جميعا أقرع بينهما فأيهما خرجت القرعة له عتق ان
احتمله الثلث والا عتق منه بقدر الثلث وان فضل من الثلث بعد عتقه شئ كمل من الآخر كما لو
دبر عبدا أو أمة معا فاما الولد الذي وجد قبل التدبير فلا يتبعها فإنه لا يتبع في العتق المنجز ولا في حكم
الاستيلاد ولا في الكتابة فإن لا يتبع في التدبير أولى قال الميموني قلت لأحمد ما كان من ولد المدبرة قبل ان
تدبر قال لا يتبعها من ولدها ما كان قبل ذلك إنما يتبعها ما كان بعد ما دبرت وذكر أبو الخطاب
رواية أخرى أنه يتبعها في التدبير كالموجود بعده لأن حنبلا قال سمعت عمي يقول في الرجل يدبر
الجارية ولها ولد قال ولدها معها قال شيخنا وهذا بعيد والظاهر أن أحمد إنما أراد ولدها بعد التدبير
على ما صرح به في غير هذه الرواية فإن ولدها لا يتبعها في شئ من الأسباب التي تنقل الملك في الرقبة
من البيع والهبة والوقف ولا يتبعها في الاستيلاد الذي هو آكد من التدبير فإن لا يتبعها في التدبير أولى
(فصل) فاما ولد المدبر فحكمه حكم أمه بغير خلاف علمناه وهو قول ابن عمر وعطاء والزهري
والأوزاعي والليث لأن الولد يتبع الام في الرق والحرية فإن تسرى المدبر باذن سيده فولد له فروي
عن أحمد أنهم يتبعونه في التدبير وروي ذلك عن مالك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن
إباحة التسري تبنى على ثبوت الملك وولد الحر من أمته يتبعه في الحرية دون أمه كذلك ولد المدبر
321

أمته يتبعه دونها ولأنه ولد من يستحق الحرية من أمته فيتبعه في ذلك كولد المكاتب من أمته
(فصل) وإذا ولدت المدبرة فرجع في تدبيرها وقلنا بصحة الرجوع لم يتبعها ولدها لأن الولد
المنفصل لا يتبع في الحرية ولا في التدبير ففي الرجوع أولى فإن رجع في تدبيرهما جاز كما لو دبرها
وابنه المنفصل وان دبرها حاملا ثم رجع في تدبيرها حال حملها لم يتبعها الولد في الرجوع لأن التدبير
اعتاق والاعتاق مبني على التغليب والسراية والرجوع عنه بعكس ذلك فلم يتبع الولد فيه وهذا كما لو
ولد له توأمان فاقر بأحدهما لحقاه جميعا وان نفى أحدهما لم ينتف الآخر وان رجع في أحدهما دون
الآخر جاز وان دبر الولد دون أمه أو الام دون ولدها جاز لأنه يجوز ان يعتق كل واحد منهما
دون صاحبه فجواز ان يدبر أحدهما دون صاحبه أولى ولأنه تعليق العتق بصفة فجاز في أحدهما دون
الآخر كالتعليق بدخول الدار وان دبر أمته ثم قال إن دخلت الدار فقد رجعت في تدبيري لم يصح
لأن الرجوع لا يصح تعليقه بصفة وان قال كلما ولدت ولدا فقد رجعت في تدبيره لم يصح لذلك
(فصل) إذا اختلفت المدبرة وورثة سيدها في ولدها فقالت ولدتهم بعد تدبيري فعتقوا معي
وقال الورثة بل ولدتهم قبل تدبيرك فهم مملوكون لنا فالقول قول الورثة مع ايمانهم لأن الأصل
بقاء رقهم وانتفاء الحرية عنهم فإذا لم تكن بينة فالقول قول من يوافق قوله الأصل
(فصل) وكسب المدبر في حياة سيده لسيده لم أخذه منه لأن التدبير لا يخرج عن شبهه بالوصية
بالعتق أو بالتعليق له على صفة أو بالاستيلاد وكل هؤلاء كسبهم لسيدهم فكذلك المدبر فإن اختلف
322

هو وورثة سيده فما بيده بعد عتقه فقال كسبته بعد حريتي وقالوا بل قبلها فالقول قوله لأنه في يده
ولم يثبت ملكهم عليه بخلاف الولد فإنه كان رقيقا لهم فإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه قدمت
بينة الورثة عند من يرى تقديم بينة الخارج وبينة المدبر عند من يقدم بينة الداخل فإن أقر المدبر أن
ذلك كان في يده في حياة سيده ثم تجدد ملكه عليه بعد موته فالقول قول الوارث لأن الأصل معهم
وان أقام المدبر بينة بدعواه قبلت وتقدم على بينة الورثة ان كانت لهم بينة لأن بينته تشهد بزيادة
وان لم يقر المدبر بأنه كان له في حياة سيده فأقام الورثة بينة به فهل تسمع بينتهم؟ على وجهين
(مسألة) (وله إصابة مدبرته فإن أولدها بطل تدبيرها).
يباح وطئ أمته المدبرة، وقد روي عن ابن عمر انه دبر أمتين وكان يطؤهما وممن رأى ذلك ابن
عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والثوري ومالك والليث والأوزاعي والشافعي قال أحمد
لا أعلم أحدا كره ذلك غير الزهري وحكي عن الأوزاعي انه كان يقول إن كان يطؤها قبل تدبيرها
فلا بأس بوطئها بعده وإن كان لا يطؤها قبله لم يطأها بعد التدبير.
ولنا أنها مملوكته لم تشتر نفسها منه فحل له وطؤها لقول الله تعالى (أو ما ملكت أيمانهم فإنهم
غير ملومين) وقياسا على أم الولد.
323

(فصل) وابنة المدبرة مثلها في حل وطئها ان لم يكن وطئ أمها وعنه ليس له وطؤها
لأن حق الحرية ثبت لها تبعا أشبه ولد المكاتبة ولنا ان ملك سيدها تام فيها فحل له وطؤها
للآية وكأمها واستحقاقها الحرية لا تزيد على استحقاق أمها ولم يمنع ذلك وطأها وأما ولد المكاتبة
فألحقت بأمها وأمها يحرم وطؤها فكذلك ابنتها وأم هذه يحل وطؤها فيجب الحاقها بها وكلام احمد
محمول على أنه وطئ أمها.
(فصل) فإن أولدها بطل تدبيرها لأن مقتضى التدبير العتق من الثلث بعد الموت والاستيلاد
يقتضي ذلك معه تأكده وقوته فإنها تعتق من رأس المال وان لم يملك غيرها ولا يمنع الدين عتقها
فوجب ان يبطل به التدبير كملك الرقبة إذا طرأ على ملك النكاح ابطله.
(مسألة) (وان كاتب المدبر أو دبر المكاتب جاز).
اما تدبير المكاتب فهو صحيح، لا نعلم فيه خلافا لأنه تعليق لعتقه بصفة وهو يملك اعتاقه فملك
التعليق وإن كان وصية فهو وصية بما ملك وهو الاعتاق وتصح كتابة المدبر، نص عليه احمد وهو
قول ابن مسعود وأبي هريرة والحسن ولفظ حديث أبي هريرة عن مجاهد قال دبرت امرأة من
قريش خادما لها ثم أرادت ان تكاتبه قال فكنت الرسول إلى أبي هريرة فقال كاتبيه فإن أدى
كتابته فذاك وان حدث بك حدث عتق وأراه قال ما كان عليه له، ولان التدبير إن كان عتقا بصفة
324

لم يمنع الكتابة كالذي علق عتقه بدخول الدار وإن كان وصية لم يمنعها كما لو وصى بعتقه ثم كاتبه
ولان التدبير والكتابة سببان للعتق فلم يمنع أحدهما الآخر كتدبير المكاتب، وذكر القاضي أن
التدبير يبطل بالكتابة إذا قلنا هو وصية كما لو وصى به لرجل ثم كاتبه وهذا يخالف ظاهر كلام
احمد وهو غير صحيح في نفسه، ويفارق التدبير الوصية به لرجل، لأن مقصود الكتابة والتدبير لا يتنافيان
إذ كان المقصود منهما جميعا العتق فإذا اجتمعا كانا آكد لحصوله فإنه متى فات عتقه بأحدهما حصل
بالآخر وأيهما وجد قبل صاحبه حصل العتق به ومقصود الوصية به والكتابة يتنافيان لأن الكتابة
تراد للعتق والوصية تراد لحصول الملك فيه للموصى له ولا يجتمعان.
(مسألة) (فإن أدى عتق بالكتابة وبطل التدبير وان مات سيده قبل الأداء عتق ان حمل
الثلث ما بقي من كتابة وبطلت الكتابة وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث وسقط من
الكتابة بقدر ما عتق منه وكان على الكتابة فيما بقي.
(فصل) ومتى عتق بالتدبير كان ما في يده لسيده لأنه كان له قبل العتق فيكون له بعد العتق
كما لو لم يكن مكاتبا وبطلت الكتابة ذكره أصحابنا ومذهب الشافعي ان ما في يده له إذا لم يكن
عجز، قال شيخنا وعندي انه ينبغي ان يعتق ويتبعه ولده وأكسابه لأن السيد لا يملك ابطال كتابته
لكونها عقدا لازما من جهته وإنما يملك اسقاط حقه عليه فأما ما يستحقه المكاتب من أولاده وأكسابه
325

فلا يتمكن السيد من أخذه ويصير كما لو أبرأه من مال الكتابة ويحتمل ان يريد بالبطلان زوال
العقد دون سقوط أحكامه.
(مسألة) (وإذا دبر شركا له في عبد لم يسر إلى نصيب شريكه وإن أعتق شريكه سرى إلى
المدبر وغرم قيمته لسيده ويحتمل أن يسري في الأول دون الثاني).
وجملة ذلك أنه إذا دبر أحد الشريكين نصيبه لم يسر التدبير إلى نصيب شريكه موسرا كان
أو معسرا، وذكر أبو الخطاب وجها انه يسري تدبيره إذا كان موسرا ويقوم عليه نصيب
شريكه، وهو قول أبي حنيفة، لأنه استحق العتق بموت سيده فسرى ذلك فيه كالاستيلاد
وللشافعي قولان كالمذهبين.
ولنا انه تعليق للعتق بصفة فلم يسر كتعليقه بدخول الدار ويفارق الاستيلاد فإنه آكد ولهذا
يعتق من جميع المال ولو قتلت سيدها لم يبطل حكم استيلادها والمدبر بخلاف ذلك فعلى هذا ان مات
المدبر عتق نصيبه ان خرج من الثلث وهل يسري إلى نصيب شريكه إن كان موسرا فيه روايتان
ذكرناهما في كتاب العتق فإن أعتق الشريك نصيبه قبل موت السيد وهو موسر عتق وسرى إلى
نصيب المدبر، وذكر القاضي وأبو الخطاب فيه وجهين وللشافعي فيها قولان. (أحدهما) كقولنا (والثاني)
لا يسري عنقه وهو قول أبي حنيفة، لأن في المدبر قد انعقد سبب الولاء على العبد فلم يكن للآخر ابطاله.
326

ولنا حديث ابن عمر الذي ذكرناه في سراية العتق إلى نصيب الشريك إذا كان موسرا ولأنه
إذا سرى إلى ابطال الملك الذي هو آكد من الولاء فالولاء أولى وما ذكروه لا أصل له ويبطل
بما إذا علق عتق نصيبه بصفة.
(فصل) إذا دبر كل واحد من الشريكين نصيبه فمات أحدهما عتق نصيبه وبقي نصيب الآخر
على التدبير ان لم يف ثلثه بقيمة حصة شريكه وإن كان يفي به فهل يسري؟ على روايتين ذكرناهما
وإن قال كل واحد منهما إذا متنا فأنت حر فقال أبو بكر قال احمد إذا مات أحدهما فنصيبه حر
فظاهر هذا أن احمد جعل هذا اللفظ تدبيرا من كل واحد منهما لنصيبه ومعناه إذا مات كل واحد منا
فنصيبه حر فإنه قابل الجملة بالجملة فينصرف إلى مقابلة البعض بالبعض كقوله ركب الناس دوابهم ولبسوا
ثيابهم وأخذوا رماحهم يريد لبس كل انسان ثوبه وركب دابته وكذلك لو قال أعتقوا عبيدهم كان
معناه أعتق كل واحد عبده، وقال القاضي هذا تعليق للحرية بموتهما جميعا وإنما قال أحمد يعتق
نصيبه بناء على أن وجود بعض الصفة يقوم مقام جميعها قال شيخنا ولا يصح هذا لأنه لو كانت هذه
العلة لعتق العبد كله لوجود بعض صفة كل منهما وسنبين هذا القول بما نذكر من بعد، ومقتضى قول
القاضي أن لا يعتق شئ منه قبل موتهما جميعا، فإن قال كل واحد منهما أردت ان العبد حر بعد آخرنا
موتا انبنى هذا على تعليق الحرية على صفة توجد بعد الموت وقد ذكرنا الخلاف في ذلك فإن قلنا
يجوز ذلك عتق بعد موت الآخر منهما عليهما جميعا، وإن فلنا لا يصح عتق نصيب الآخر منهما بالتدبير
وفي سرايته إلى باقيه إن كان ثلثه يحتمل ذلك روايتان، وان قال كل واحد منهما إذا مت قبل
شريكي فنصيبي له فإذا مات فهو حر وان مت بعده فنصيبي حر فقد وصى كل واحد منهما للآخر
فإذا مات أحدهما صار العبد كله للآخر فإذا مات عتق كله عليه وصار ولاؤه له كله ان قلنا لا يصح
تعليق العتق على صفة بعد الموت وان قلنا يصح عتق عليهما وولاؤه بينهما.
(مسألة)) وإذا أسلم مدبر الكافر لم يقر في يده وترك في يد عدل ينفق عليه من كسبه وما
فضل لسيده وان أعوز فعليه تمامه الا أن يرجع في التدبير ونقول بصحة رجوعه فيجبر على بيعه)
وجملته انه إذا أسلم مدبر الكافر أمر بإزالة ملكه عنه لئلا يبقى الكافر مالكا لمسلم كغير
327

المدبر إذا قلنا بجواز بيعه ويحتمل ان يترك في يد عدل وينفق عليه من كسبه فإن لم يكن له كسب
أجبر سيده على الانفاق عليه لأنه ملكه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه بناء على أن
المدبر لا يجوز بيعه ولان في بيعه ابطال سبب العتق فكان ابقاؤه أصلح كأم الولد فإن قلنا ببيعه فباعه
بطل تدبيره وان قلنا يترك في يد عدل فإنه يستنيب من يتولى استعماله واكتسابه وينفق عليه من
كسبه وما فضل فلسيده وان لم يف كسبه بنفقته فالباقي على سيده وان اتفق هو وسيده على المخارجة
جاز وينفق على نفسه مما فضل من كسبه فإذا مات سيده عتق ان خرج من الثلث والا عتق منه
بقدر الثلث وبيع الباقي على الورثة ان كانوا كفارا وان أسلموا بعد الموت ترك فإن رجع سيده في تدبيره،
وقلنا بصحة رجوعه بيع عليه وإن كان المدبر مستأمنا فأراد الرجوع به إلى دار الحرب ولم يكن، أسلم لم نمنعه منه وإن كان قد أسلم منع لأننا نحول بينه وبينه في دار الاسلام فأولى ان يمنع من التمكن
منه في دار الحرب.
(مسألة) (ومن أنكر التدبير لم يحكم عليه الا بشاهدين وهل يحكم بشاهد وامرأتين أو شاهد
ويمين العبد؟ على روايتين)
إذا ادعى العبد على سيده انه دبره صحت دعواه لأنه يدعي استحقاق العتق ويحتمل ان
لا تصح الدعوى لأن السيد إذا أنكر التدبير كان بمنزلة انكار الوصية وانكار الوصية رجوع عنها
في أحد الوجهين
328

فيكون انكار التدبير رجوعا عنه والرجوع عنه يبطله في إحدى الروايتين والصحيح ان الدعوى
صحيحة لأن الرجوع عن التدبير لا يبطله في الصحيح من المذهب ولو أبطله فما ثبت كون الانكار
رجوعا ولو ثبت ذلك فلا يتعين الانكار جوابا للدعوى فإنه يجوز ان يقرا إذا ثبت هذا فإن أقر السيد
فلا كلام وان أنكر ولم تكن للعبد بينة فالقول قول السيد مع يمينه لأن الأصل عدمه فإن كانت للعبد بينة
حكم بها ويقبل فيها شاهدان عدلان بغير خلاف فإن لم يكن الا شاهد واحد وقال انا احلف معه
أو شاهد وامرأتان لم يحكم له به في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي لأن الثابت به الحرية
وكمال الأحكام وهذا ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال أشبه
النكاح والطلاق
(والثانية) بثبت بذلك لأنه لفظ يزول به ملكه عن مملوكه فأشبه البيع وهذا أجود لأن البينة
إنما تراد لاثبات الحكم على المشهود عليه وهو في حقه إزالة ملكه عن ماله فيثبت بهذا وان حصل
به غرض آخر للمشهود له فلا يمنع ذلك من ثبوته بهذه البينة ولان العتق مما يتشوف إليه وينبني على التغليب
والسراية فينبغي ان يسهل طريق اثباته وإن كان الاختلاف بين العبد وورثة السيد بعد موته فهو
كما لو كان الاحتلاف مع السيد الا ان الدعوى صحيحة بغير خلاف لأنهم لا يملكون الرجوع وايمانهم
329

على نفي العلم لأن الخلاف في فعل موروثهم وايمانهم على نفي فعله وتجب اليمين على كل واحد
من الورثة ومن نكل منهم عتق نصيبه ولم يسر إلى باقيه وكذلك ان أقر لأن اعتاقه بفعل الموروث
لا بفعل المقر ولا الناكل
(فصل) إذا دبر عبده ومات وله مال سواه يفي بثلثي ماله الا انه غائب أو دين في ذمة انسان
لم يعتق من المدبر الا ثلثه لجواز ان يتلف الغائب أو يتعذر استيفاء الدين فيكون العبد جميع التركة
وهو شريك الورثة فيها له ثلثها ولهم ثلثاها فلا يجوز ان يحصل على جميعها لكنه يستحق عتق ثلثه ويبقى
ثلثاه موقوفين لأن ثلثه حر على كل حال لأن أسوأ الأحوال ان لا يحصل من سائر المال شئ فيكون
العبد جميع التركة فيعتق ثلثه وفي ذلك خلاف ذكرناه في باب الموصى به فيما إذا وصى له بمعين ولم
يكن له سوى المعين الا مال غائب أو دين وهذا مثله في اعتباره من الثلث إذا ثبت هذا فإن العبد إذا
عتق كله بقدوم الغائب أو استيفاء الدين تبينا انه كان حرا حين الموت فيكون كسبه له لأنه إنما
عتق بالتدبير ووجود الشرط الذي علق عليه السيد حريته وهو الموت وإنما أوقفناه للشك في خروجه
من الثلث فإذا زال الشك تبينا انه كان حاصلا قبل زوال الشك وان تلف المال تبينا انه كان ثلثاه
رقيقا ولم يعتق منه سوى ثلثه وان تلف بعض المال رق من المدبر ما زاد على قدر ثلث الحاصل من المال
(فصل) فإن دبر عبدين وله دين يحرجان من ثلث المال إذا حصل أقرعنا بينهما فعتق
ممن تخرج له القرعة قدر ثلثهما وكان باقيه والعبد الاخر موقوفا فإذا استوفي من الدين شئ كمل من
330

عتق من وقعت له القرعة قدر ثلثه وما فضل عتق من الآخر كذلك حتى يعتقا جميعا أو مقدار
الثلث منهما فإن تعذر استيفاء الدين لم يزد العتق على مقدار ثلثهما فإن خرج الذي وقعت له القرعة
مستحقا بطل العتق فيه وعتق من الآخر ثلثه
(فصل) إذا دبر عبدا قيمته مائة وله مائة دينا عتق ثلثه ورق ثلثه ووقف ثلثه على استيفاء الباقي
وان كانت له مائة حاضرة مع ذلك عتق من المدبر ثلثاه ووقف عتقه على استيفاء الدين
(فصل) وان دبر عبده وقيمته مائة وله ابنان ومائتان دينا على أحدهما عتق من المدبر ثلثاه
لأن حصة الذي عليه الدين منه كالمستوفى ويسقط عن الذي عليه الدين منه نصفه لأنه قدر حصته من
الميراث ويبقى للآخر عليه مائة كلما استوفى منها شيئا عتق قدر ثلثه فإن كانت المائتان دينا على
الاثنين بالسوية عتق المدبر كله لأن كل واحد منهما عليه قدر حقه وقد حصل له ذلك بسقوطه من دينه
(فصل) إذا دبر عبدا قيمته مائة وخلف ابنين ومائتي درهم دينا له على أحدهما ووصى لرجل
بثلث ماله عتق من المدبر ثلثه وسقط عن الغريم مائة وكان للوصي سدس العبد وللابن ثلثه ويبقى
سدس العبد موقوفا لأن الحاصل من المال ثلثاه وهو العبد والمائة الساقطة عن الغريم وثلث ذلك
331

مقسوم بين المدبر والوصي نصفين فحصة المدبر منه ثلثه يعتق في الحال ويبقى له سدسه موقوفا فكلما
اقتضي من المائة الباقية شئ عتق من المدبر قدر سدسه ويكون المستوفى بين الابن والوصي أثلاثا
فإذا استوفيت كلها حصل للابن ثلثاها وثلث العبد وهو قدر حقه وكمل للمدبر عتق نصفه وحصل للوصي
ثلث المائة وسدس العبد وهو قدر حقه وإن كان الدين على أجنبي لم يعتق من المدبر الا سدسه لأن
الحاصل من التركة هو العبد وثلثه بينه وبين الوصي الآخر وللوصي سدسه ولكل ابن سدسه ويبقى
ثلثه موقوفا فكلما اقتضي من الدين شئ عتق من المدبر قدر سدسه وكان المستوفى بين الابنين والوصي
أسداسا للوصي سدسه ولهما خمسة أسداسه فيحصل لكل واحد نصف المائة وثلثها وسدس العبد
وهو قدر حقه ويحصل للوصي سدس العبد وهو قدر حقه ويعتق من المدبر نصفه وهو قدر حقه
(مسألة) (وإذا قتل المدبر سيده بطل تدبيره لامرين)
(أحدهما) انه قصد استعجال العتق بالقتل المحرم فعوقب بنقيض قصده وهو إبطال التدبير كمنع
الميراث بقتل الموروث ولان العتق فائدة تحصل بالموت فتنتفي بالقتل كالإرث والوصية
(والثاني) ان التدبير وصية فيبطل بالقتل كالوصية بالمال ولا يلزم على هذا عتق أم الولد لكونها
آكد فإنها صارت بالاستيلاد بحال لا يمكن نقل الملك فيها ولذلك لم يجز بيعها ولا هبتها ولا رهنها
332

ولا الرجوع عن ذلك القول ولا غيره والإرث نوع من النقل فلو لم تعتق بموت سيدها انتقل الملك فيها إلى
الوارث ولا سبيل إليه بخلاف المدبر ولان سبب حرية أم الولد الفعل والبعضية الذي حصلت بينها وبين
سيدها بواسطة ولدها وهو آكد من القول ولهذا نبذ استيلاد المجنون ولم ينفذ اعتاقه ولا تدبيره
وسرى حكم استيلاد المعسر إلى نصيب شريكه بخلاف الاعتاق وعتقت من رأس المال والتدبير
لا ينفذ الا في الثلث ولا يملك الغرماء ابطال عتقها وإن كان سيدها مفلسا بحلاف المدبر ولا يلزم
الحكم في موضع تأكد الحكم فيما دونه كما يلزم الحاقه به في هذه المواضع التي افترقا فيها. إذا ثبت
هذا فلا فرق بين كونه عمدا أو خطأ كما لا فرق في ذلك في حرمان الإرث وابطال وصية القاتل
(فصل) فأما سائر جناياته غير قتل سيده فلا تبطل تدبيره لكن ان كانت جناية موجبة للمال
أو للقصاص فعفا الولي إلى المال تعلق المال برقبته فمن جوز بيعه جعل سيده بالخيار بين تسليمه
فيباع في الجناية وبين فدائه فإن سلمه في الجناية فبيع فيها بطل تدبيره وان عاد إلى سيده عاد تدبيره
وان اختار فداءه وفداه يما يفدى به فهو مدبر بحاله ومن لم يجز بيعه أوجب فداءه على سيده كأم الولد
وان كانت الجناية موجبة للقصاص فاقتص منه في النفس بطل تدبيره وان اقتص منه في الطرف فهو
مدبر بحاله وإذا مات سيده بعد جنايته وقبل استيفائها عتق على كل حال سواء كانت موجبة للمال
أو للقصاص لأن صفة العتق وجدت فيه فأشبه ما لو باشره به فإن الواجب قصاصا استوفي سواء كانت
333

جنايته على عبد أو حر لأن القصاص قد استقر وجوبه عليه في حال رقه فلا يسقط بحدوث الحرية
فيه وإن كان الواجب عليه مالا في رقبته فدي بأقل الامرين من قيمته أو أرش جنايته وان جني على
المدبر فأرش الجناية لسيده فإن كانت الجناية على نفسه وجبت قيمته لسيده وبطل التدبير بهلاكه
فإن قيل فهلا جعلتم قيمته قائمة مقامه كالعبد المرهون والموقوف
334

قلنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه
(أحدها) ان كل واحد من الوقف والرهن لازم فتعلق الحق يبدله والتدبير غير لازم لأنه يمكن
ابطاله بالبيع وغيره فلم يتعلق الحق ببدله
(الثاني) ان الحق في التدبير للمدبر فبطل حقه بفوات مستحقه والبدل لا يقوم مقامه في
335

الاستحقاق والحق في الوقف للموقوف عليه وفي الرهن للمرتهن وهو باق فثبت حقه في بدل محل حقه
(الثالث) ان المدبر إنما ثبت حقه بوجود موت سيده فإذا هلك قبل سيده فقد هلك
قبل ثبوت الحق له فلم يكن له بدل بخلاف الرهن والوقف فإن الحق ثابت فيهما فقام بدلهما مقامهما
وبين الرهن والمدبر فرق رابع وهو ان الواجب القيمة ولا يمكن وجود التدبير فيها ولا قيامها مقام
336

المدبر فيه وان أخذ عبدا مكانه فليس هو البدل إنما هو بدل القيمة بخلاف الرهن فإن القيمة يجوز أن تكون
رهنا فإن قيل فهذا يلزم عليه الموقوف فإنه إذا قتل اخذت قيمته فاشتري بها عبد يكون وقفا
مكانه قلنا قد حصل الفرق بين المدبر والرهن من الوجوه الثلاثة وكونه لا يحصل الفرق بينه وبين
الوقف من هذا الوجه لا يمنع ان يحصل الفرق بينه وبين الرهن به والله أعلم
337

(باب الكتابة)
الكتابة اعتاق السيد عبده على مال في ذمته يؤدى في نجوم، سميت كتابة لأن السيد يكتب
بينه وبينه كتابا بما اتفقا عليه وقيل سميت كتابة من الكتب وهو الضم لأن المكاتب يضم بعض
النجوم إلى بعض ومنه سمي الخرز كتابا لأنه يضم أحد طرفيه إلى الآخر بخرزه قال الحريري
وكاتبين وما خطت أناملهم * حرفا ولا قرأوا ما خط في الكتب
وقال ذو الرمة:
وفراء عرفتة أنأى خوارزها * مشلشل صنعته بينها الكتب
يصف قربة يسيل الماء من بين خرزها وسميت الكتيبة كتيبة لانضمام بعضها إلى بعض والمكاتب
يضم نجومه بعضها إلى بعض والنجوم ههنا الأوقات المختلفة لأن العرب كانت لا تعرف الحساب
وإنما تعرف الأوقات بطلوع النجوم كما قال بعضهم
إذا سهيل أول الليل طلع * فابن اللبون الحق والحق جذع
فسميت الأوقات نجوما والأصل في الكتابة الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله
تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا) وأما السنة فروى
338

سعيد عن سفيان عن الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان
لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه) رواه أبو داود وابن ماجة
وروى سهل بن حنيف ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أعان غارما أو غازيا أو مكاتبا في كتابته أظله
الله يوم لا ظل الا ظله) في أحاديث كثيرة سواهما وأجمعت الأمة على مشروعية الكتابة
(مسألة) (وهي مستحبة لمن يعلم فيه خير وهو الكسب والأمانة وعنه انها واجبة إذا ابتغاها
من سيده أجبر عليها)
إذا سأل العبد سيده مكاتبته استحب له اجابته إذا علم فيه خيرا ولم يجب ذلك في ظاهر المذهب
وهو قول عامة أهل العلم منهم الحسن والشعبي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد
أنها واجبة إذا دعى العبد المكتسب سيده إليها وهو قول عطاء والضحاك وعمرو بن دينار وداود وقال
إسحاق اخشى ان يأتم ان لم يفعل ولا يجبر عليها. ووجه ذلك قول الله تعالى (والذين يبتغون
الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا) وظاهر الامر الوجوب وروي ان سيرين
أبا محمد بن سيرين كان عبدا لانس بن مالك فسأله أن يكاتبه فأبى فأخبر سيرين عمر بن الخطاب
بذلك فرفع الدرة على أنس وقرأ عليه (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ان
علمتم فيهم خيرا) فكاتبه أنس
339

ولنا انه اعتاق بعوض فلم يجب عليه كالاستسعاء والآية محمولة على الندب وقول عمر يخالفه فعل
أنس قال أحمد الخير صدق وصلاح ووفاء بمال الكتابة ونحو هذا قال إبراهيم وعمرو بن دينار
وغيرهما وعبارتهم في ذلك مختلفة وقيل قوة على الكسب والأمانة قال الشافعي وقال ابن عباس
غنى واعطاء المال، وقال مجاهد غني وأداء، وقال النخعي صدق ووفاء ولا خلاف بينهم في أن من
لا خير فيه لا تجب اجابته
(مسألة) (وهل تكره كتابة من لا كسب له؟ على روايتين)
قال القاضي ظاهر كلام أحمد كراهته وكان ابن عمر يكرهه وهو قول مسروق والأوزاعي وعن
أحمد أنه لا يكره ولم يكرهه الشافعي وإسحاق وابن المنذر وطائفة من أهل العلم لأن جويرية بنت
الحارث كاتبها ثابت بن قيس بن شماس فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها فادى عنها كتابتها
وتزوجها واحتج ابن المنذر بأن بريرة كاتبت ولا حرفة لها فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجه
الأول ما ذكرنا في عتقه قال شيخنا وينبغي ان ينظر في المكاتب فإن كان ممن يتضرر بالكتابة
ويضيع لعجزه عن الانفاق على نفسه ولا يجد من ينفق عليه كرهت كتابته وإن كان يجد من يكفيه
مؤنته لم تكره كتابته لحصول النفع بالحرية من غير ضرر فأما جويرة فإنها كانت ذات أهل وكانت
ابنة سيد قومه فإذا عتقت رجعت إلى أهلها فاخلف الله لها خيرا من أهلها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم
340

وصارت إحدى أمهات المؤمنين وأعتق الناس ما كان بأيديهم من قومها حين بلغهم ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم تزوجها وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تر امرأة أعظم بركة على قومها منها واما بريره فإن
كتابتها تدل على إباحة ذلك وأنه ليس بمنكر ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في كراهته قال مسروق
إذا سأل العبد مولاه المكاتبة فإن كان له مكسبة أو كان له مال فليكاتبه وإن لم يكن له مال ولا
مكسبة فليحسن ملكته ولا يكلفه الا طاقته
(مسألة) (ولا يصح إلا من جائز التصرف فاما المجنون والطفل فلا تصح مكاتبتهما لرقيقهما
ولا مكاتبة سيدهما لهما لأن الكتابة نقل الملك بعوض فلا تصح منها كالبيع
(مسألة) (فإن كاتب المميز عبده بإذن وليه صح ويحتمل أن لا يصح بناء على قولنا إنه لا
يصح بيعه بإذن وليه ولأنه عقد اعتاق فلم يصح منه كالعتق بغير مال ولا يصح بغير اذن وليه بحال
(مسألة) (وان كاتب السيد عبده المميز صح وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح
فيها جميعها بحال لأنه ليس بمكلف أشبه المجنون
ولنا أنه يصح تصرفه وبيعه بإذن وليه فصحت منه الكتابة بذلك كالمكلف ودليل صحة
تصرفه قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح) والابتلاء الاختبار له بتفويض التصرف
إليه ليعلم هل يقع منه على وجه المصلحة أو لا؟ وهل يغبن في بيعه وشرائه أو لا؟ وايجاب السيد لعبده
341

المميز المكاتبة أذن له في قبولها. إذا ثبت هذا فإن كان السيد المكاتب طفلا أو مجنونا فلا حكم
لتصرفه ولا قوله وان كاتب المكلف عبده المكلف أو المجنون لم يثبت لهذا التصرف حكم المكاتبة
الصحيحة ولا الفاسدة لأنه لا حكم لقولهما لكن ان قال إن أديتما إلي فأنتما حران فاديا عتقا بالصفة
لا بالكتابة وما في أيديهما لسيدهما وان لم يقل ذلك لم يعتقا ذكره أبو بكر وقال القاضي يعتقان
وهو مذهب الشافعي لأن الكتابة تتضمن معنى الصفة فيحصل العتق ههنا بالصفة المحضة كما لو قال إن
أديت إلي فأنت حر
ولنا انه ليس بصفة صريحا ولا معنى وإنما هو عقد باطل فأشبه البيع الباطل
(فصل) إذا كاتب الذمي عبده ثم أسلما صح لأنه عقد معاوضة أو عتق بصفة وكلاهما يصح منه
فإذا ترافعا إلى الحاكم بعد الكتابة نظر في العقد فإن كان موافقا للشرع أمضاه وان كانت كتابته
فاسدة مثل أن يكون العوض خمرا أو خنزيرا أو غير ذلك من أنواع الفساد ففيه ثلاث مسائل
(أحدها) ان يكونا قد تقابضا حال الكفر فتكون الكتابة ماضية والعتق حاصلا لأن ما تم
في حال الكفر لا ينقضه الحاكم ويحكم بالعتق سواء ترافعا قبل الاسلام أو بعده
(الثانية) تقابضا بعد الاسلام ثم ترافعا إلى الحاكم فإنه يعتق لأن هذه كتابة فاسدة ويكون
حكمها حكم الكتابة الفاسدة المعقودة في الاسلام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
342

(والثالثة) ترافعا قبل قبض العوض الفاسد أو قبض بعضه فإن الحاكم يرفع
هذه الكتابة ويبطلها لأنها كتابة فاسدة لم يتصل بها قبض تنبرم به ولا فرق بين اسلامهما أو اسلام
أحدهما فيما ذكرناه من التغليب بحكم الاسلام وقال أبو حنيفة إذا كاتبه على خمر ثم أسلما لم يفسد
العقد ويؤدي قيمة الخمر لأن الكتابة كالنكاح ولو مهرها خمرا ثم أسلما لم يفسد العقد ويبطل الخمر
ولنا ان هذا عقد لو عقده المسلم كان فاسدا فإذا أسلما قبل التقابض أو أحدهما حكم بفساده
كالبيع الفاسد ويفارق النكاح فإنه لو عقده المسلم بخمر كان صحيحا وان أسلم مكاتب الذمي لم تنفسخ
الكتابة لأنها وقعت صحيحة ولا يجبر على إزالة ملكه لأنه خارج بالكتابة عن تصرف الكافر فيه
فإن عجز أجبر على إزالة ملكه عنه حينئذ فإن اشترى مسلما فكاتبه لم تصح الكتابة لأن الشراء باطل لم
يثبت له به ملك وان أسلم عبده فكاتبه بعد إسلامه لم تصح كتابته لأن الكتابة لا تزيل الملك. وقال القاضي
له ذلك وقد ذكرناه في كتاب البيع فإن عجز عاد رقيقا قنا واجبة على إزالة ملكه عنه
(فصل) وتصح كتابة الحربي عبده في دار الحرب وفي دار الاسلام، وبه قال الشافعي وقال
أبو حنيفة لا تصح لأن ملكه ناقص وحكي عن مالك أنه لا يملك ذلك بدليل أن للمسلم تملكه عليه
ولنا قوله تعالى (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) وهذه الإضافة إليهم تقتضي صحة أملاكهم
فتقتضي صحة تصرفاتهم. إذا ثبت هذا فإذا كاتب عبده فدخلا مستأمنين إلينا لم يتعرض الحاكم لهما
وان ترافعا إليه نظر بينهما فإن كانت كتابتهما صحيحة ألزمهما حكمها وان كانت فاسدة بين لهما فسادها
343

وان جاءا وقد قهر أحدهما صاحبه بطلت الكتابة لأن العبد ان قهر سيده ملكه فبطلت كتابته
بخروجه عن ملك سيده وان قهره السيد على ابطال الكتابة ورده رقيقا بطلت لأن دار الفكر دار
قهر وإباحة ولهذا لو قهر حر حرا على نفسه ملكه وإن دخلا من غير قهر فقهر أحدهما الآخر في
دار الاسلام لم تبطل الكتابة وكانا على ما كانا عليه قبله لأن دار الاسلام دار حظر لا يؤثر فيها القهر
الا بالحق وان دخلا مستأمنين ثم أرادا الرجوع إلى دار الحرب لم يمنعا وان أراد السيد الرجوع
وأخذ المكاتب معه فأبى المكاتب الرجوع معه لم يجبر لأنه بالكتابة زال سلطانه وإنما له في ذمته حق
ومن له دين في ذمة غيره لا يملك اجباره على السفر معه لأجله ويقال للسيد ان أردت الإقامة في دار
الاسلام لتستوفى مال الكتابة فاعقد الذمة وأقم ان كانت مدتها طويلة وان أردت توكيل من يقبض
لك نجوم الكتابة فافعل فإذا أدى نجوم الكتابة عتق وهو مخير ان أحب المقام في دار الاسلام
عقد على نفسه الذمة وان أحب الرجوع لم يمنع وان عجز وفسخ السيد كتابته عاد رقيقا ويرد
إلى سيده والأمان باق لأنه من مال سيده وسيده عقد الأمان لنفسه وماله فإذا انتقض الأمان في
في نفسه بعوده لم ينتقض في ماله وان كاتبه في دار الحرب فهرب ودخل إلينا بطلت الكتابة لأن
ملكه زال بقهره على نفسه فأشبه ما لو قهره على غيره من ماله وسواء جاءنا مسلما أو غير مسلم وان جاء
باذن سيده فالكتابة بحالها لأنه لم يقهر سيده فإذا دخل إلينا بأمان باذن سيده ثم سبى المسلمون سيده
344

وقتل انتقلت الكتابة إلى ورثته كما لو مات حتف أنفه وان من عليه الإمام أو فأداه أو هرب فالكتابة
بحالها وان استرقه الإمام فالمكاتب موقوف ان عتق السيد فالكتابة بحالها وان مات أو قتل فالمكاتب
للمسلمين مبقى على ما بقي من كتابته يعتق بالأداء إليهم وولاؤه لهم وان عجز فهو رقيق لهم فإن أراد
المكاتب الأداء قبل عتق سيده وموته أدى إلى الحاكم أو إلى أمينه وكان المال المقبوض موقوفا
على ما ذكرناه ويعتق المكاتب بالأداء وسيده رقيق لا يثبت له ولاء قال أبو بكر يكون الولاء للمسلمين
وقال القاضي يكون موقوفا فإن عتق سيده فهو له وان مات رقيقا فهو للمسلمين وإن كان استرقاق
سيده بعد عتق المكاتب وثبوت الولاء عليه فقال القاضي يكون ولاؤه موقوفا فإن عتق السيد
كان الولاء له وان قتل أو مات على رقه بطل الولاء لأنه رقيق لا يورث فبطل الولاء لعدم مستحقه
وينبغي أن يكون للمسلمين لأن مال من لا وارث له للمسلمين فكذلك الولاء والله أعلم
(فصل) وان كاتب المرتد عبده فعلى قول أبي بكر الكتابة باطلة لأن ملكه زال بردته وعلى
ظاهر المذهب كتابته موقوفة ان أسلم تبينا انها كانت صحيحة وان مات على ردته أو قبل بطلت وان
أدى في ردته لم يحكم بعتقه ويكون موقوفا فإن أسلم سيده تبينا صحة الدفع إليه وعتقه وان مات على ردته
345

أو قتل فهو باطل والعبد رقيق وان كاتبه وهو مسلم وارتد وحجر عليه لم يكن للعبد الدفع إليه ويؤدي
إلى الحاكم ويعتق بالأداء وان دفع إلى المرتد كان موقوفا كما ذكرنا وان كاتب المسلم عبده المرتد صحت
كتابته لأنه يصح بيعه فإن أدى عتق وان أسلم فهو على كتابته
(فصل) وكتابة المريض صحيحة فإن كان مرض الموت المخوف اعتبر من الثلث لأنه بيع ماله
بماله فجرى مجرى الهبة ولذلك ثبت الولاء على المكاتب لكونه معتقا فإن خرج من الثلث كانت الكتابة
لازمة وان لم يخرج من الثلث لزمت في قدر الثلث وباقيه موقوف على إجازة الورثة يصح بإجازته ويبطل
برده وهذا قول الشافعي وقال أبو الخطاب في رؤوس المسائل تجوز الكتابة من رأس المال لأنه عقد
معاوضة أشبه البيع والأول أولى
(مسألة) ولا يصح الا بالقول وينعقد بقوله كاتبتك على كذا) لأنه لفظها الموضوع لها فانعقدت
بمجرده كلفظ النكاح فيه
(مسألة) ولا يفتقر إلى قوله وان أديت إلي فأنت حر بل متى أدى عتق)
وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يعتق حتى يقول ذلك أو ينوي بالكتابة الحرية
ويحتمل مثل ذلك عندنا لأن لفظ الكتابة يحتمل المخارجة ويحتمل العتق بالأداء فلابد من تمييز أحدهما
عن الآخر ككنايات العتق
346

ولنا ان الحرية موجب عقد الكتابة فثبتت عند تمامه كسائر أحكامه ولان الكتابة عقد وضع
للعتق فلم يحتج إلى لفظ العتق ولا نيته كالتدبير وما ذكروه من استعمال الكتابة في المخارجة إن
ثبت فليس بمشهور فلم يمنع وقوع الحرية به كسائر الألفاظ الصريحة على أن اللفظ المحتمل
ينصرف بالقرائن إلى أحد محتمليه كلفظ التدبير فإنه يحتمل التدبير في معاشه وغيره وهو صريح
في الحرية كذلك هذا.
(مسألة) ولا يصح الا على عوض معلوم منجم بنجمين فصاعدا)
لا تصح الا على عوض معلوم لأنها عقد معاوضة أشبهت البيع ولا تجوز الا منجمة مؤجلة هذا
ظاهر المذهب وبه قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة تجوز حالة لأنه عقد على عين فإذا كان عوضه في
الذمة جاز أن يكون حالا كالبيع
ولنا أنه قد روي عن جماعة من الصحابة انهم عقدوا الكتابة ولم ينقل عن واحد منهم عقدها
حالة ولو جاز ذلك لم يتفقوا على تركه ولان الكتابة عقد معاوضة يعجز عن أداء عوضها في
الحال فكان من شرطها التأجيل كالسلم على أبي حنيفة ولأنها عقد معاوضة يلحقه الفسخ من شرطه
ذكر العوض فإذا وقع على وجه يتحقق فيه العجز عن العوض لم يصح كما لو أسلم في شئ لا يوجد عند
محله ويفارق البيع لأنه لا يتحقق فيه العجز عن العوض لأن المشتري يملك المبيع والعبد لا يملك شيئا
347

وما في يده لسيده وفي التنجيم إذا كان أكثر من نجم حكمتان إحداهما ترجع إلى المكاتب وهو
التخفيف عليه لأن الأداء مفرقا أسهل ولهذا تقسط الديون على المعسرين عادة تخفيفا عليهم والأخرى
للسيد وهي ان مدة الكتابة تطول غالبا فلو كانت على نجم واحد لم يظهر عجزه الا في آخر المدة فإذا
عجزه عاد إلى الرق وفاتت منافعه في مدة الكتابة كلها على سيده من غير نفع حصل له وإذا كانت منجمة
نجوما فعجز عن النجم الأول فمدته يسيرة وان عجز عما بعده فقد حصل للسيد نفع بما أخذ من النجوم
قبل عجزه إذا ثبت ذلك فأقله نجمان فصاعدا، وهذا مذهب الشافعي ونقل عن أحمد أنه قال من
الناس من يقول نجم واحد ومنهم من يقول نجمان ونجمان أحب إلي وهذا يحتمل أن يكون معناه
اني أذهب إلى أنه لا يجوز الا نجمان ويحتمل أن يكون المستحب نجمين ويجوز نجم واحد، قال ابن أبي
موسى هذا على طريق الاختيار وان جعل المال كله في نجم واحد جاز لأنه عقد يشترط فيه التأجيل
فجاز أن يكون إلى اجل واحد كالسلم ولان اعتبار التأجيل ليتمكن من تسليم العوض وهذا يحصل
بنجم واحد، ووجه الأول ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال الكتابة على نجمين والايتاء من الثاني
وهذا يقتضي ان هذا أقل ما تجوز عليه الكتابة لأن أكثر من نجمين جائز بالاجماع، وروي عن
عن عثمان أنه غضب على عبد له فقال لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين ولو جاز أقل من هذه لعاقبه
به في الظاهر، وفي حديث بريرة انها أتت عائشة فقالت يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على تسع
348

أواق في كل عام أوقية فأعينيني ولان الكتابة مشتقة من الضم وهو ضم نجم إلى نجم فدل ذلك على
افتقارها إلى نجمين والأول أقيس
(مسألة) (ويشترط علم ما يؤدي إليه في كل نجم كالثمن في البيع ولئلا يفضي
إلى النزاع والاختلاف)
ولا يشترط تساوي النجوم فإذا قال كاتبتك على الف إلى عشر سنين تؤدي عند انقضاء كل
سنة مائه أو قال تؤدي منها مائه عند انقضاء خمس سنين وباقيها عند تمام العشرة أو قال تؤدي في
آخر العام الأول مائة وتسعمائة عند انقضاء السنة العاشرة فكل ذلك جائز فإن قال تؤدي في كل
عام مائه جاز ويكون أجل كل مائه عند انقضاء السنة، وظاهر قول القاضي وأصحاب الشافعي انه لا
يصح لأنه لا يبين وقت الأداء من العام
ولنا قول بريرة كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية ولان الاجل إذا علق بمدة تعلق
بأحد طرفيها فإن كان بحرف إلى تعلق بأولها كقوله إلى شهر رمضان وإن كان بحرف في كان إلى آخرها
لأنه جعل جميعها وقتا لأدائها فإذا أدى في آخرها كان مؤديا لها في وقتها فلم يتعين عليه الأداء قبله
كتأدية الصلاة في آخر وقتها وان قال تؤديها في عشر سنين أو إلى عشر سنين لم يجز لأنه نجم
واحدا ومن أجاز الكتابة على نجم واحد أجازه وان قال تؤدي بعضها في نصف المدة وباقيها في آخرها
349

لم يجز لأن البعض يقع على القليل والكثير فيكون مجهولا
(فصل) وتجوز الكتابة على مال يجوز السلم فيه لأنه مال يثبت في الذمة مؤجلا في معاوضة
فجاز ذلك فيه كعقد السلم فإن كان من الأثمان وكان في البلد نقد واحد جاز إطلاقه لأنه ينصرف
إليه فأشبه البيع وإن كان فيه نقود بعضها أغلب في الاستعمال جاز للاطلاق أيضا وانصرف إليه عند
الاطلاق كما لو انفرد وان كانت مختلفة متساوية في الاستعمال وجب بيانه بما يتميز به من غيره من النقود
وإن كان من غير الأثمان وجب وصفه بما يوصف به في السلم فأما مالا يصح السلم فيه فلا يجوز أن يكون
عوضا في الكتابة لأنه عقد معاوضة يثبت عوضه في الذمة فلم يجز بعوض مجهول كالسلم، وقال القاضي
يصح على عبد مطلق وله الوسط إذا كاتبه على عبد مطلق لم يصح، ذكره أبو بكر وهو قول الشافعي
يجوز في أحد الوجهين، وهو قول أبي حنيفة ومالك لأن العتق لا يلحقه الفسخ فجاز أن يكون الحيوان
المطلق عوضا فيه كالعقل.
ولنا أن ما لا يجوز أن يكون عوضا في البيع والإجارة لا يجوز أن يكون عوضا في الكتابة كالثوب
المطلق ويفارق العقل لأنه بدل متلف مقدر في الشرع وههنا عوض في عقد أشبه البيع ولان الحيوان
الواجب في العقل ليس بحيوان مطلق بل هو مقيد بجنسه وسنه فلم يصح الالحاق به ولان الحيوان
المطلق لا تجوز الكتابة عليه بغير خلاف علمناه وإنما الخلاف في العبد المطلق ولم يرد الشرع به بدلا
350

في موضع علمناه. إذا ثبت هذا فإن من صحح الكتابة به أوجب له عبدا وسطا وهو السندي ويكون
وسطا من السنديين في قيمته كقولنا في الصداق ولا تصح الكتابة على حيوان مطلق غير العبد فيما
علمنا ولا على ثوب ولا دار ولذلك لا تجوز على ثوب من ثيابه ولا عمامة من عمائمه ولا غير ذلك من
المجهولات وممن اختار الكتابة على العبد الحسن وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن سيرين،
وروي عن أبي برزة وحفصة رضي الله عنهما.
(مسألة) (وتصح على مال وخدمة سواء تقدمت الخدمة أو تأخرت).
تجوز الكتابة على المنافع المباحة لأنها أحد العوضين في الإجارة فجاز أن تكون عوضا في الكتابة كالأثمان
ويشترط العلم بها كما يشترط في الإجارة فإن كاتبه على خدمة شهر ودينار صح ولا يحتاج إلى ذكر الشهر
وكونه عقيب العقد لأن الإجارة تقتضيه فإن عين الشهر بوقت لا يتصل بالعقد مثل أن يكاتبه في المحرم
على خدمته في رجب ودينار صح أيضا كما يجوز أن يؤجره داره شهر رجب في المحرم، وقال أصحاب
الشافعي لا يجوز على شهر لا يتصل بالعقد ويشترطون ذكر ذلك ولا يجوزون اطلاقه بناء على قولهم
في الإجارة وقد سبق الكلام فيه والخلاف في باب الإجارة ويشترط كون الدينار المذكور مؤجلا
لأن الاجل شرط في عقد الكتابة فإن جعل محل الدينار بعد الشهر بيوم أو أكثر صح بغير خلاف
نعلمه وان جعل محله في الشهر أو بعد انقضائه صح أيضا وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال
351

القاضي لا يصح لأنه يكون نجا واحدا وهذا لا يصح لأن الخدمة كلها لا تكون في وقت محل الدينار
وإنما يوجد جزء منها يسير مقاربا له وسائرها فيما سواه ولان الخدمة بمنزلة العوض الحاصل في ابتداء
مدتها ولهذا يستحق عوضها جميعه ويكون محلها غير محل الدينار وإنما جازت له حالة لأن المنع من
الحلول في غيرها لأجل العجز عنه في الحال وهذا غير موجود في الخدمة فجازت حالة وان جعل محل
الدينار قبل الخدمة وكانت الخدمة غير متصلة بالعقد بحيث يكون الدينار مؤجلا والخدمة بعده جاز
وان كانت الخدمة متصلة بالعقد لم يتصور كون الدينار قبله ولم يجز في أوله، لأنه يكون حالا
ومن شرطه التأجيل.
(فصل) إذا كاتب السيد عبده على خدمة مفرده في مدة واحدة مثل ان يكاتبه على خدمة شهر
بعينه أو سنة معينة فحكمه حكم الكتابة على نجم واحد على ما مضى من القول فيه ويحتمل أن يكون
كالكتابة على أنجم لأن الخدمة تستوفى في أوقات مفرقة بخلاف المال وان جعله على شهر بعد شهر
كأن كاتبه في أول المحرم على خدمته فيه وفي رجب صح لأنه على نجمين وان كاتبه على منفعة في الذمة
معلومة كخياطة ثوب عينه أو بناء حائط وصفه صح أيضا إذا كانت على نجمين وإن قال كاتبتك على
أن تخدمني هذا الشهر وخياطة كذا على عقيب الشهر صح في قول الجميع وان قال على أن تخدمني
شهرا من وقتي هذا وشهرا عقيب هذا الشهر صح أيضا وعند الشافعي لا يصح.
352

ولنا انه كاتبه على نجمين فصح كالتي قبلها.
(فصل) وإذا كاتب العبد وله مال فماله لسيده الا ان يشترطه المكاتب فإن كان له
سرية أو ولد فهو لسيده، وبه قال الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وقال
الحسن وعطاء والنخعي وسليمان بن موسى وعمرو بن دينار ومالك وابن أبي ليلى في المكاتب ماله
له ووافقنا عطاء وسليمان بن موسى والنخعي وعمرو بن دينار ومالك في الولد واحتج لهم بما روى ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أعتق عبدا وله مال فالمال للعبد.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) متفق عليه والكتابة
بيع ولأنه باعه نفسه فلم يدخل معه غيره كولده وأقاربه ولأنه هو وماله كانا لسيده فإذا وقع العقد
على أحدهما بقي الآخر على ما كان عليه كما لو باعه لأجنبي وحديثهم ضعيف قد ذكرنا ضعفه.
(مسألة) (وإذا أدى ما كوتب عليه أو أبرئ منه عتق لأنه لم يبق لسيده عليه شئ ولا
يعتق قبل أداء جميع الكتابة).
هذا ظاهر كلام الخرقي، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
353

(المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) رواه أبو داود دل بمنطوقه على أنه لا يعتق حتى يؤدي جميع كتابته
وبمفهومه على أنه إذا أدى كتابته لا يبقى عبدا قال أحمد في عبد رجلين كاتباه على ألف فأدى تسعمائة
ثم أعتق أحدهما نصيبه قال يعتق الا نصف المائة وقد روي عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وعائشة
وسعيد بن المسيب والزهري انهم قالوا المكاتب عبد ما بقي عليه درهم رواه عنهم الأثرم وبه قال
القاسم وسليمان بن يسار وعطاء وقتادة والثوري وابن شبرمة ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق
وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أم سلمة وروى سعيد باسناده عن أبي قلابة قال كنا أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن من مكاتب ما بقي عليه درهم وباسناده عن عطاء ان ابن عمر كاتب غلاما على ألف
دينار فأدى إليه تسعمائة دينار وعجز عن مائة دينار فرده ابن عمر في الرق.
(مسألة) (وما فضل في يده فهو له).
لأنه كان له قبل العتق فبقي على ما كان وعنه انه إذا ملك ما يؤدي صار حرا لما روت أم سلمة
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان لإحداكن مكاتب فكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه)، رواه
الترمذي وقال حديث حسن صحيح فأمرهن بالحجاب بمجرد ملكه لما يؤديه ولأنه مالك لمال
الكتابة أشبه ما لو أداه فعلى هذا متى امتنع من الأداء أجبره الحاكم عليه كسائر الديون الحالة على
354

القادر عليها فإن هلك ما في يديه قبل الأداء صار دينا في ذمته وقد صار حرا والصحيح انه لا يعتق
حتى يؤدي وهذا قول أكثر أهل العلم لما ذكرنا من حديث عمرو بن شعيب وروي سعيد باسناده
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيما عبد كانت عليه مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد) وفي رواية
(من كاتب عبده على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق) أو قال (الا عشرة دراهم ثم عجز فهو رقيق)
رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب ولأنه عتق علق بعوض فلم يعتق قبل أدائه كما لو قال إذا
أديت إلي ألفا فأنت حر فعلى هذه الرواية إذا أدى عتق وان لم يؤد لم يعتق فإن امتنع من الأداء
فقال أبو بكر يؤديه الإمام عنه ولا يكون ذلك عجزا ولا يملك السيد الفسخ وهو قول أبي حنيفة
ويحتمل انه إذا لم يؤد عجزه السيد ان أحب وعاد عبدا غير مكاتب ونحوه قال الشافعي فإنه قال إن
شاء عجز نفسه وامتنع من الأداء. ووجه ذلك أن العبد لا يجبر على اكتساب ما يؤديه في الكتابة
فلا يجبر على الأداء كسائر العقود الجائزة. ووجه الأول انه قد ثبت للعبد استحقاق الحرية بملك
ما يؤدي فلم يملك ابطالها كما لو أدى فإن تلف المال قبل أدائه جاز تعجيزه واسترقاقه وجها واحدا.
(فصل) إذا أبرأه السيد من مال الكتابة برئ وعتق لأن ذمته خلت من مال الكتابة فأشبه ما لو أداه وان أبرأه
من بعضه برئ منه وهو على الكتابة فيما بقي لأن الابراء كالأداء فإن كاتبه على دنانير فأبرأه من دراهم أو بالعكس
لم تصح البراءة لأنه أبرأه مما لا يجب عليه الا ان يريد بقدر ذلك مما لي عليك فإن اختلفا فقال المكاتب إنما
355

أردت من قيمة ذلك وقال السيد بل ظننت ان لي عليك النقد الذي أبرأتك منه فلم تقع البراءة
موضعها فالقول قول السيد مع يمينه لأنه اعرف بنيته فإن مات السيد واختلف المكاتب والورثة
فالقول قولهم مع أيمانهم ويحلفون على نفي العلم وان مات المكاتب واختلف ورثته وسيده فالقول
قول السيد لما ذكرنا
(مسألة) (فلو مات قبل الأداء كان ما في يده لسيده في الصحيح عنه وعلى الرواية الأخرى
لسيده بقية كتابته والباقي لورثته)
هذه المسألة تشبه أن تكون مبنية على المسألة التي قبلها ان قلنا إنه لا يعتق بملك ما يؤدي فقد
مات رقيقا وانفسخت كتابته بموته وكان ما في يده لسيده وان قلنا إنه عتق بملك ما يؤدي فقد
مات حرا وعليه لسيده بقية كتابته لأنه دين له عليه والباقي لورثته قال القاضي الأصح ان الكتابة
تنفسخ بموته ويموت عبدا وما في يده لسيده رواه الأثرم باسناده عن عمر وزيد والزهري وبه قال
إبراهيم وعمر بن عبد العزيز وقتادة والشافعي لما ذكرناه في التي قلبها ولأنه مات قبل أداء مال الكتابة
فوجب ان تنفسخ كما لو لم يكن له مال وكما لو علق عتقه بأداء ألف فمات قبل أدائها وعنه انه يعتق
ويموت حرا فيكون لسيده بقية كتابته والباقي لورثته روي ذلك عن علي وابن مسعود ومعاوية وبه
قال عطاء والحسن وطاوس وشريح والنخعي والثوري والحسن بن صالح ومالك وإسحاق وأصحاب
356

الرأي الا ان أبا حنيفة قال يكون حرا في آخر جزء من حياته وهذا قول القاضي ووجه هذا الرواية
ما تقدم في التي قبلها. لأنها معاوضة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين فلا تنفسخ بموت الآخر كالبيع
ولان العبد أحد من تمت به الكتابة فلم تنفسخ بموته كالسيد والأول أولى وتفارق الكتابة
البيع لأن كل واحد من المتعاقدين غير معقود عليه ولا يتعلق العقد بعينه فلم ينفسخ بتلفه
والمكاتب هو المعقود عليه والعقد متعلق يعينه فإذا تلف قبل تمام الأداء انفسخ العقد كما لو تلف
المبيع قبل قبضه ولأنه مات قبل وجود شرط حريته ويتعذر وجودها بعد موته، فأما ان مات ولم
يخلف وفاء فلا خلاف في المذهب ان الكتابة تنفسخ بموته ويموت عبدا وما في يده لسيده وهو
قول أهل الفتاوى من أئمة الأمصار الان يموت بعد أداء ثلاثة أرباع الكتابة عند أبي بكر والقاضي
ومن وافقهما فإنه يموت حرا في مقتضى قولهم وسنذكر ذلك أن شاء الله تعالى وقال مالك إن كان
له ولد حرا انفسخت الكتابة وإن كان مملوكا في كتابته أجبر على دفع المال إن كان له مال وان لم يكن له
أجبر على الاكتساب والأداء
(فصل) ولا تنفسخ الكتابة بالجنون لأنها عقد لازم فلم تنفسخ بالجنون كالرهن وفارق الموت
لأن العقد على العين والموت يفوت العين بخلاف الجنون ولان القصد من الكتابة العتق والموت
ينافيه ولهذا لا يصح عتق الميت والجنون لا ينافيه بدليل صحة عتق المجنون فعلى هذا إن أدى إليه
المال عتق لأن السيد إذا قبض منه فقد استوفى حقه الذي كان عليه وله أخذ المال من يده فيتضمن
357

ذلك براءته من المال فيعتق بحكم العقد وان لم يؤد إليه كان للسيد ان يحضره عند الحاكم وتثبت الكتابة
بالبينة فيبحث الحاكم عن ماله فإن وجد له مالا سلمه في الكتابة وعتق وان لم يجد له مالا جعل له أن
يعجزه ويلزمه الانفاق عليه لأنه عاد قنا ثم إن وجد له الحاكم بعد ذلك مالا يفي بمال الكتابة أبطل
فسخ السيد لأن الباطل بخلاف ما حكم به فبطل حكمه كما إذا أخطأ النص وحكم بالاجتهاد إلا أنه يرد على
السيد ما أنفقه من حين الفسخ لأنه لم يكن مستحقا عليه في الباطن وان أفاق وأقام البينة أنه كان قد
دفع إليه مال الكتابة بطل أيضا ولا يرد عليه ما أنفقه لأنه أنفق عليه مع علمه بحريته فكان متطوعا
بذلك فلم يرجع به وينبغي أن يستحلف الحاكم السيد انه ما استوفى مال الكتابة وهذا قول أصحاب الشافعي ولم
يذكره أصحابنا وهو حسن لأنه يحتمل أنه استوفاه والمجنون لا يعبر عن نفسه فيدعيه فيقوم الحاكم
مقامه في استحلافه عليه
(فصل) وقتل المكاتب كموته في انفساخ الكتابة على ما أسلفنا من الخلاف سواء كان القاتل
السيد أو الأجنبي ولا قصاص على قاتله الحر لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم للحديث فإن كان
القاتل سيده ولم يخلف وفاء انفسخت الكتابة وعاد ما في يده إلى سيده ولم يجب عليه شئ لأنه
لو وجب لوجب له فإن قيل فالقاتل لا يستحق بالقتل شيئا من تركة المقتول قلنا ههنا لا يرجع إليه
مال المكاتب ميراثا بل بحكم ملكه عليه لزوال الكتابة وإنما يمنع القاتل الميراث خاصة الا ترى أن
358

من له دين مؤجل إذا قتل من عليه الحق حل الدين في رواية وأم الولد إذا قتلت سيدها عتقت
وإن كان المكاتب قد خلف وفاء وقلنا إن الكتابة تنفسخ بموته فالحكم كذلك وان قلنا لا تنفسخ فله
القيمة على سيده تصرف إلى ورثته كما لو كانت الجناية على بعض أطرافه في حياته وإن كان الوفاء يحصل
بايجاب القيمة ولا يحصل بدونها وجب كما لو خلف وفاء لأن دية المقتول كتركته في قضاء ديونه منها
وانصرافها إلى ورثته بينهم على فرائض الله تعالى ولا فرق فيما ذكرنا بين ان يخلف وارثا أو لا يخلف وارثا
وذكر القاضي انه إذا لم يخلف وارثا سوى سيده لم تجب القيمة عليه بحال
ولنا أن من لا وارث له يصرف ماله إلى المسلمين ولا حق لسيده فيه لأن صرفه إلى سيده
بطريق الإرث والقاتل لا ميراث له وإن كان القاتل أجنبيا وجبت القيمة للسيد الا في الموضع الذي
لا تنفسخ الكتابة تجب لورثته
(مسألة) (وإذا عجلت الكتابة قبل محلها لزم السيد الاخذ وعتق)
هذا المنصوص عن أحمد ويحتمل ان لا يلزمه ذلك إذا كان في قبضه ضرر، وذكر أبو بكر فيه
رواية أخرى انه لا يلزمه قبول المال الا عند نجومه لأن بقاء المكاتب في هذه المدة في ملكه حق له
ولم يرض بزواله فلم يزل كما لو علق عتقه على شرط لم يعتق والصحيح في المذهب الأول وهو مذهب
الشافعي الا ان القاضي قال أطلق احمد والخرقي هذا القول وهو مقيد بما لا ضرر في قبضه قبل محلة
359

كالذي لا يفسد ولا يختلف قديمه وحديثه ولا يحتاج إلى مؤنة في حفظه ولا يدفعه في حال خوف يخاف
ذهابه فإن اختل أحد هذه الأمور لم يلزمه قبضه مثل أن يكون مما يفسد كالعنب والرطب والبطيخ
أو يخاف تلفه كالحيوان فإنه ربما تلف قبل المحل ففاته مقصوده، وإن كان مما يكون حديثه خيرا من
قديمه لم يلزمه أيضا أخذه لأنه ينقص إلى حين الحلول وإن كان مما يحتاج إلى مخزن كالطعام والقطن
لم يلزمه أيضا لأنه يحتاج في ابقائه إلى وقت المحل إلى مؤنة فيتضرر بها ولو كان غير هذا إلا أن البلد
مخوف لم يلزمه أخذه لأن في أخذه ضررا لم يرض بالتزامه وكذلك لو سلمه إليه في طريق مخوف
أو في موضع يتضرر بقبضه في لم يلزمه قبضه ولم يعتق المكاتب
قال القاضي والمذهب عندي أن فيه تفصيلا على حسب ما ذكرناه في السلم ولأنه لا يلزم الانسان
التزام ضرر لم يقتضه العقد ولا رضي بالتزامه وأما ما لا ضرر في قبضه فإذا عجله لزم السيد أخذه
وذكر أبو بكر انه يلزمه قبوله من غير تفصيل اعتمادا على اطلاق احمد القول في ذلك وهو ظاهر
اطلاق الخرقي لما روى الأثرم باسناده عن أبي بكر بن حزم ان رجلا أتى عمر فقال يا أمير المؤمنين اني
كاتبت على كذا وكذا واني أيسرت بالمال وأتيته به فزعم أنه لا يأخذها الا نجوما فقال عمر رضي
الله عنه يا يرفا خذ المال فاجعله في بيت المال واد إليه نجوما في كل عام وقد عتق هذا فلما رأى
ذلك سيده أخذ المال، وعن عثمان رضي الله عنه نحو هذا
360

ورواه سعيد بن منصور في سنه عن عمر وعثمان جميعا، وثنا هشيم عن ابن عون عن محمد بن سيرين
ان عثمان قضى بذلك ولان الاجل حق لمن عليه الدين فإذا قدمه فقد رضي باسقاط حقه فسقط كسائر الحقوق
فإن قيل إذا علق عتق عبده على فعل في وقت ففعله في غيره لم يعتق قلنا تلك صفة مجردة لا يعتق الا بوجودها
والكتابة معاوضة يبدأ فيها بأداء العوض فافترقا ولذلك لو أبرأه من العوض في الكتابة عتق ولو أبرأه
من المال في الصفة المجردة لم يعتق قال شيخنا والأولى ما قاله القاضي في أن ما كان في قبضه ضرر لم
يلزمه قبضه ولم يعتق ببذله لما ذكره من الضرر الذي لم يقتضه القعد وخبر عمر لا دلالة فيه على وجوب
قبض ما فيه ضرر ولان أصحابنا قالوا لو لقيه في بلد اخر فدفع إليه نجوم الكتابة أو بعضها فامتنع من
أخذها لضرر فيه من خوف أو مؤنة حمل لم يلزمه قبوله لما عليه من الضرر فيه وان لم يكن فيه ضرر
لزمه قبضه كذا ههنا وكلام احمد محمول على ماذا لم يكن في قبضه ضرر وكذلك قول الخرقي وأبي بكر
361

(فصل) إذا أحضر المكاتب مال الكتابة أو بعضه ليسلمه فقال السيد هذا حرام أو غصب لا
أقبله منك سئل العبد عن ذلك فإن أقر به لم يلزم السيد قبوله لأنه لا يلزمه أخذ المحرم ولا يجوز له
وان أنكر وكانت للسيد بينة بدعواه لم يلزمه قبوله وتسمع بينته لأن له حقا في أن لا يقتضي دينه من
حرام ولا يأمن أن يرجع صاحبه عليه به وان لم تكن له بينة فالقول قول العبد مع يمينه فإن نكل عن
اليمين لم يلزم السيد قبوله أيضا وان حلف قيل للسيد اما أن تقبضه واما أن تبرئه ليعتق فإن قبضه
وكان تمام كتابته عتق ثم ينظر فإن ادعى أنه حرام مطلقا لم يمنع منه لأنه لم يقربه لاحد وإنما تحريمه
فيما بينه وبين الله تعالى وان ادعى انه غصبه من فلان لزمه دفعه إليه لأن قوله وان لم يقبل في حق
المكاتب فإنه يقبل في حق نفسه كما لو قال رجل لعبد في يد غيره هذا حر وأنكر ذلك من العبد
في يده لم يقبل قوله عليه فإن انتقل إليه بسبب من الأسباب لزمته حريته فإن أبرأه من مال الكتابة
لم يلزمه قبضه لأنه لم يبق له عليه حق وان لم يبرئه ولم يقبضه كان له دفع ذلك إلى الحاكم ويطالبه
بقبضه فينوب الحاكم في قبضه عنه ويعتق العبد كما رويناه عن عمر وعثمان رضي الله عنهما في قبضهما مال
الكتابة حين امتنع المكاتب من قبضه
(فصل) إذا كاتبه على جنس لم يلزمه قبض غيره فلو كاتبه على دنانير لم يلزمه قبض دراهم ولا عرض
وان كانت على عرض موصوف لم يلزمه قبض غيره وان كانت على نقد فأعطاه من جنسه خيرا منه وكان
362

ينفق فيما ينفق فيه الذي كاتبه عليه لزمه أخذه لأنه زاده خيرا وإن كان لا ينفق في بعض البلدان التي ينفق
فيها ما كاتبه عليه لم يلزمه قبوله لأن عليه فيه ضرارا
(مسألة) ولا بأس ان يجعل المكاتب لسيده ويضع عنه بعض كتابته مثل ان يكاتبه على الف
في نجمين إلى سنة ثم قال عجل لي خمسمائة حتى أضع عنك الباقي أو حتى أبرئك من الباقي أو قال صالحني
منه على خمسمائة معجلة جاز ذلك. وبه يقول طاوس والزهري والنخعي وأبو حنيفة وكرهه الحسن وابن
سيرين والشعبي، وقال الشافعي لا يجوز لأن هذا بيع الف بخمسمائة وهو ربا الجاهلية وهو أن
يزيد في الدين لأجل الاجل وهذا أيضا هبة لأن هذا لا يجوز بين الأجانب والربا يجري بين
المكاتب وسيده فلم يجز هذا بينهما كالأجانب.
ولنا أن مال الكتابة غير مستقر ولا هو دين صحيح بدليل أنه لا يجبر على أدائه وله ان يمتنع من
أدائه ولا تصح الكفالة به وما يؤديه إلى سيده كسب عبده وإنما جعل الشرع هذا العقد وسيلة إلى
العتق وأوجب فيه التأجيل مبالغة في تحصيل العتق وتخفيفا على المكاتب فإذا أمكنه التعجيل على وجه
يسقط عنه يعض ما عليه كان أبلغ في حصول العتق واخف على العبد ويحصل من السيد اسقاط بعض
363

ماله على عبده ومن الله تعالى اسقاط بعض ما أوجبه عليه من الاجل لمصلحته ويفارق سائر الديون
بما ذكرنا ويفارق الأجانب من حيث إن هذا عبده فهو أشبه بعبده القن وأما قولهم إن الربا يجري
بينهما فيمنعه ما ذكره ابن أبي موسى وان سلمنا فإن هذا مفارق لسائر الربا بما ذكرناه وهو يخالف
ربا الجاهلية فإنه اسقاط لبعض الدين وربا الجاهلية زيادة في الدين تفضي إلى نفاد مال المدين وتحمله
ما يعجز عن وفائه من الدين فيحبس من اجله وهذا يفضي إلى تعجيل عتق المكاتب وخلاصه من
الرق والتخفيف عنه فافترقا
(فصل) فإن اتفقا على الزيادة في الاجل والدين مثل ان يكاتبه على الف في نجمين إلى سنة يؤدي
خمسمائة في نصفها والباقي في آخرها فيجعلانها إلى سنتين بألف ومائتين في كل سنة ستمائة أو مثل ان
يحل عليه نجم فيقول أخرني إلى كذا وأزيدك كذا فلا يجوز لأن الدين المؤجل إلى وقت لا يتأخر
اجله عن وقته باتفاقهما عليه ولا يتغير أجله بتغييره وإذا لم يتأخر عن وقته لم تصح الزيادة التي في
مقابلته ولان هذا يشبه ربا الجاهلية المحرم وهو الزيادة في الدين للزيادة في الاجل ويفارق المسألة
الأولى من هذين الوجهين فإن قيل فكما أن الاجل لا يتأخر فكذلك لا يتعجل ولا يصير المؤجل
حالا فلم يجاز في المسألة الأولى قلنا إنما جاز في المسألة الأولى بالتعجيل فعلا فإنه إذا دفع إليه الدين
364

المؤجل قبل محله جاز وجاز للسيد اسقاط باقي حقه عليه وفي هذه المسألة يأخذ أكثر مما وقع عليه
العقد فهو ضد المسألة الأولى وهو ممتنع من وجه آخر لأن في ضمن الكتابة انك متى أديت إلي
كذا فأنت حر فإذا أدى إليه ذلك فينبغي أن يعتق فإن قيل فإذا غير الاجل والعوض فكأنهما
فسخا الكتابة الأولى وجعلا كتابة ثانية قلنا لم يجر بينهما فسخ وإنما قصدا تغيير العوض والأجل
على وجه لا يصح فبطل التغيير وبقي العقد بحاله ويحتمل ان يصح ذلك كما في المسألة الأولى فعلى هذا
لو اتفقا على ذلك ثم رجع أحدهما قبل التعجيل فله الرجوع لما ذكرنا من أن الدين المتأخر لا يتأخر عن
أجله ولا يتقدم وإنما له أن يؤديه قبل محله ولمن له الدين ترك قبضه في محله وذلك إلى اختياره فإذا
وعد به ثم رجع قبل الفعل فله ذلك
(فصل) وان صالح المكاتب سيده عما في ذمته بغير جنسه مئل ان يصالح عن النقود بحنطة أو
شعير جاز الا أنه لا يجوز أن يصالحه على شئ مؤجل لأنه يكون بيع دين بدين وان صالحه عن الدراهم
بدنانير أو عن الحنطة بشعير لم يجز التفرق قبل القبض لأن هذا بيع في الحقيقة فيشترط له القبض
في المجلس، وقال القاضي يحتمل ان لا تصح هذه المصالحة مطلقا لأن هذا دين من شرطه التأجيل
فلم تجز المصالحة عليه بغير ولأنه دين غير مستقر فهو كدين السلم، وقال ابن أبي موسى لا
يجري الربا بين المكاتب وسيده فعلى قوله تجوز المصالحة كيفما كانت كما تجوز بين العبد القن وسيده
والأولى ما ذكرنا ويفارق دين الكتابة دين السلم فإنه يفارق سائر الديون بما ذكرنا في هذه المسألة
فمفارقته لدين السلم أعظم
365

(مسألة) وإذا أدى وعتق فوجد السيد بالعوض عيبا فله أرشه أو قيمته ولا يرتفع العتق)
وجملة ذلك أن المكاتب إذا دفع العوض في الكتابة فبان مستحقا تبين انه لم يعتق وكان وجود
هذا الدفع كعدمه لأنه لم يؤد الواجب عليه وقيل له ان أديت الآن والا فسخت كتابتك وإن كان
قد مات بعد الأداء فقد مات عبدا فإن بان معيبا مثل ان كاتبه على عروض موصوفة فقبضها فأصاب
بها عيبا بعد قبضها نظرت فإن رضي بذلك وأمسكها استقر العتق فإن قيل يستقر العتق ولم يعطه
جميع ما وقع عليه العقد فإن ما يقابل العيب لم يقبضه فأشبه ما لو كاتبه على عشرة فأعطاه تسعة قلنا امساكه
العيب راضيا به رضا منه باسقاط حقه فجرى مجرى ابرائه من بقية كتابته وان اختار امساكه واخذ
أرش العيب أو رده فله ذلك. قال أبو بكر وقياس قول احمد أنه لا يبطل العتق وليس له الرد وله
الأرش لأن العتق اتلاف واستهلاك فإذا حكم بوقوعه لم يبطل كعقد الخلع ولأنه ليس المقصود منه
المال فأشبه الخلع.
وقال القاضي يتوجه أن له الرد ويحكم بارتفاع العتق الواقع لأن العتق إنما يستقر باستقرار الأداء
وقد ارتفع الأداء فارتفع العتق، وهذا مذهب الشافعي لأن الكتابة عقد معاوضة يلحقه
الفسخ بالتراضي فوجب أن يفسخ بوجود العيب كالبيع وان اختار امساكه وأخذ الأرش
فله ذلك وتبين أن العتق لم يقع لأننا تبينا أن ذمته لم تبرأ من مال الكتابة ولا يعتق قبل ظن وقوع
366

العتق لا يوقعه إذا بان الامر بخلافه كما لو بان العوض مستحقا وان تلفت العين عند السيد أو حدث
بها عده عيب استقر أرش العيب والحكم في ارتفاع العتق على ما ذكرنا فيما مضى ولو قال السيد لعبده
ان أعطيتني عبدا فأنت حر فأعطاه عبدا فبان حرا أو مستحقا لم يعتق بذلك لأن معناه ان أعطيتنيه
ملكا ولم يعطه إياه ملكا ولم يملكه إياه.
(فصل) وإذا دفع إليه مال الكتابة ظاهرا فقال له السيد أنت حر أو قال هذا حر ثم بان العوض
مستحقا لم يعتق بذلك لأن ظاهره الاخبار عما حصل له بالأداء فلو ادعى المكاتب أن السيد قصد
بذلك عتقه وأنكر السيد فالقول قول السيد مع يمينه لأن الظاهر معه وهو أخبر بما نوى.
(فصل) قال رضي الله عنه ويملك المكاتب اكتسابه ومنافعه والشراء والبيع والإجارة والاستئجار
والسفر وأخذ الصدقة والانفاق على نفسه وولده ورقيقه وكل ما فيه صلاح المال يملك المكاتب أكسابه
ومنافعه والشراء والبيع باجماع أهل العلم لأن عقد الكتابة لتحصيل العتق ولا يحصل إلا بأداء عوضه
ولا يمكنه الأداء إلا بالاكتساب، والبيع والشراء من أقوى جهات الاكتساب فإنه قد جاء
في بعض الآثار أن تسعة أعشار الرزق في التجارة ويملك الإجارة والاستئجار قياسا على البيع والشراء
ويملك السفر قريبا كان أو بعيدا، وهذا قول الشعبي والنخعي والحسن بن صالح وأبي حنيفة وقد
367

أطلق أصحابنا القول في ذلك ولم يفرقوا بين السفر الطويل وغيره وقياس المذهب ان له منعه من سفر
تحل نجوم كتابته قبل لأنه يتعذر معه استيفاء النجوم في وقتها والرجوع في رقه عند عجزه فمنع منه
كالغريم الذي يحل الدين عليه قبل مدة سفره واختلف قوله فقال في موضع له السفر وقال في موضع
ليس له السفر إذا كان قصيرا لأنه في حكم الحاضر والموضع الذي منع منه إذا كان بعيدا يتعذر معه
استيفاء نجومه والرجوع في رقه عند عجزه.
ولنا ان المكاتب في يد نفسه وإنما للسيد عليه دين أشبه الحر الدين وما ذكروه لا أصل له ويبطل
بالحر الغريم وله أخذ الصدقة الواجبة والمستحبة لأن الله تعالى جعل للمكاتبين الاخذ من الواجبة
وإذا جاز الاخذ من الواجبة فالمستحبة أولى.
(مسألة) (وان شرط عليه أن لا يسافر ولا يأخذ الصدقة فهل يصح الشرط؟ على وجهين.
إذا شرط السيد على مكاتبه أن لا يسافر، فقال القاضي الشرط باطل، وهو قول الحسن وسعيد
ابن جبير والشعبي والنخعي وأبي حنيفة لأنه ينافي مقتضى العقد فلم يصح شرطه كشرط ترك الاكتساب
ولأنه غريم فلم يصح ترك السفر عليه كما لو اقرض لرجل قرضا بشرط أن لا يسافر وقال أبو الخطاب
يصح الشرط وله منعه من السفر وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم)
368

ولأنه شرط له فيه فائدة فلزم كما لو شرط نقدا معلوما وبيان فائدته أنه لا يأمن إباقه وانه لا يرجع إلى
سيده فيفوت العبد والمال الذي عليه ويفارق القرض فإنه عقد جائز من جانب المقرض متى شاء طالب
بأخذه ومنع الغريم السفر قبل إيفائه فكان المنع من السفر حاصلا بدون شرطه بخلاف الكتابة فإنه
لا يمكن السيد منعه من السفر إلا بشرطه وفيه حفظ عبده وماله فلا يمنع من تحصيله وهذا أصح إن شاء الله
تعالى فعلى هذا الوجه لسيده منعه من السفر فإن سافر بغير اذنه فله رده ان أمكنه وان لم
يمكنه رده احتمل أن له تعجيزه ورده إلى الرق لأنه لم يف بما شرط عليه أشبه ما لو لم يف بأداء الكتابة
واحتمل أن لا يملك ذلك لأنه مكاتب كتابة صحيحة لم يظهر عجزه فلم يملك تعجيزه كما لو لم يشترط عليه.
(فصل) وان شرط عليه ان لا يسأل الناس فقال أحمد قال جابر بن عبد الله هم على شروطهم
ان رأيته يسأل تنهاه فإن قال لا أعود لم يرده عن كتابته في مرة فظاهر هذا ان الشرط صحيح لازم
وانه ان خالف مرة لم يعجزه وان خالف مرتين أو أكثر فله تعجيزه قال أبو بكر إذا رآه يسأل مرة
في مرة عجزه كما إذا حل نجم في نجم عجزه فاعتبر المخالفة في مرتين كحلول نجمين وإنما صح الشرط
لقول عليه الصلاة والسلام (المسلمون على شروطهم) ولان له في هذا فائدة وغرضا صحيحا وهو أن
369

لا يكون كلا على الناس ولا يطعمه من صدقتهم وأوساخهم وذكر أبو الخطاب انه لا يصح الشرط
لأن الله تعالى جعل للمكاتب سهما عن الصدقة بقوله تعالى (وفي الرقاب) وهم المكاتبون فلا يصح
اشتراط ترك طلب ما جعل الله له.
(مسألة) (وله الانفاق على نفسه وولده ورقيقه وكل ما فيه صلاح المال).
لأن له التصرف في المال بما يعود بمصلحته ومصلحة ماله والانفاق على نفسه وولده ورقيقه من
أهم المصالح فينفق عليهم ما يحتاجون إليه من مأكلهم ومشربهم وكسوتهم بالمعروف مما لا غنى لهم عنه
والحيوان الذي له وله تأديب عبيده وتعزيرهم إذا فعلوا ما يستحقون ذلك لأنه من مصلحة ملكه
فملكه كالنفقة عليهم ولا يملك إقامة الحد عليهم لأنه موضع ولاية وما هو من أهلها وله ان يختنهم
لأنه من مصلحتهم وله المطالبة بالشفعة والاخذ بها لأنه نوع شراء فإن كان المشتري للشقص سيده
فله أخذه منه لأن له أن يشتري منه وان اشترى المكاتب شقصا لسيده فيه شركة فله أخذه من
المكاتب بالشفعة لأنه مع سيده في باب البيع والشراء كالأجنبي وان وجبت للسيد على مكاتبه شفعة
فادعى المكاتب أن سيده عفا عنها سمعت دعواه وان أنكره السيد كان عليه اليمين وان أذن السيد
لمكاتبه في البيع بالمحاباة صح منه وكان لسيده الاخذ بالشفعة، لأن بيعه بالمحاباة مع سيده فيه
صحيح ويصح اقرار المكاتب بالبيع والشراء والعيب والدين لأنه يصح تصرفه فيه بذلك ومن
ملك شيئا ملك الاقرار به.
370

(مسألة) (وليس له ان يتزوج ولا يتسرى ولا يتبرع ولا يقرض ولا يحابي ولا يقتص
من عبده الجاني على بعض رقيقه ولا يعتق ولا يكاتب إلا باذن سيده).
وجملة ذلك أن المكاتب ليس له أن يتزوج الا باذن سيده، وهو قول الحسن ومالك
والليث وأبي حنيفة والشافعي وأبي يوسف، وقال الحسن بن صالح له ذلك، لأنه عقد
معاوضة أشبه البيع.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر) ولان على السيد ضررا لأنه ان
عجز رجع عليه ناقص القيمة ويحتاج ان يؤدي المهر والنفقة من كسبه فيعجز عن أداء نجومه فيمنع
من ذلك كالتبرع به فعلى هذا إذا تزوج لم يصح وقال الثوري نكاحه موقوف ان أدى تبينا انه كان
صحيحا وان عجز فنكاحه باطل.
ولنا الخبر ولأنه تصرف منع منه للضرر فلم يصح كالهبة. إذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما ولا
مهر لها إن كان قبل الدخول وإن كان بعده فعليه مهر المثل يؤدى من كسبه كجنايته فإن أتت
بولد لحقه نسبه لأنه من وطئ في نكاح فاسد فإن كانت المرأة حرة فهو حر وان كانت أمه
فهو رقيق لسيدها، فإن أذن له سيده في النكاح صح في قول الجميع فإن الخبر يدل بمفهومة
على أنه يصح إذا اذن له لأن المنع من نكاحه لحق السيد فإذا اذن فيه زال المانع وقياسا على ما إذا
اذن لعبده القن.
371

(فصل) وليس له التسري بغير اذن سيده لأن ملكه ناقص. وقال الزهري لا ينبغي لأهله
ان يمنعوه من التسري.
ولنا ان على السيد فيه ضررا فمنع منه كالتزويج وبيان الضرر انه ربما احبلها والحمل عيب في بنات
آدم وربما تلفت وربما ولدت فصارت أم ولد يمتنع عليه بيعها في أداء كتابته فإن عجز رجعت إلى سيده
ناقصة وإذا منع من التزويج لضرره فهذا أولى فإن اذن له سيده جاز وقال الشافعي لا يجوز في أحد
القولين لأنه أمر يضر به وربما افضى إلى منعه من العتق فلم يجز باذن السيد.
ولنا انه لو اذن لعبده القن في التسري جاز فللكاتب أولى ولان المنع كان لأجل الضرر بالسيد فجاز
باذنه كالتزويج إذا ثبت هذا فإنه ان تسرى باذن سيده أو غير اذنه فلا حد عليه لشبهة الملك ولا مهر عليه
لأنه لو وجب لوجب له ولا يجب على الانسان شئ لنفسه فإن ولدت فالنسب لاحق به لأن الحد
إذا سقط للشبهة لحقه النسب ويكون الولد مملوكا له لأنه ابن أمته ولا يعتق عليه لأن ملكه غير تام
وليس له بيعه لأنه ولده ويكون موقوفا على كتابته فإن أدى عتق وعتق الولد لأنه ملك لأبيه الحر وان
عجز وعاد إلى الرق فولده رقيق أيضا ويكونان مملوكين للسيد
(فصل وليس له ان يزوج عبيده وإماءه بغير اذن سيده وهذا قول الشافعي وابن المنذر وذكر
عن مالك ان له ذلك إذا كان على وجه النظر لأنه عقد على منفعة فملكه كالإجارة وحكي
372

عن القاضي انه في الخصال له تزويج الأمة دون العبد لأنه يأخذ عوضا عن تزويجها بخلاف العبد
ولأنه عقد على منافعها أشبه اجارتها
ولنا ان على السيد فيه ضررا لأنه ان زوج العبد لزمته نفقة امرأته ومهرها وشغله بحقوق النكاح
ونقص قيمته وان زوج الأمة ملك الزوج بضعها ونقصت قيمتها وقلت الرغبات فيها وربما امتنع بيعها
بالكلية وليس ذلك من جهات المكاسب فربما أعجزه ذلك عن أداء نجومه وان عجز عاد رقيقا للسيد
مع ما تعلق بهم من الحقوق ولحقهم من النقص وفارق الإجارة فإنها من جهات المكاسب عادة فعلى
هذا ان وجب تزويجهم لطلبهم ذلك وحاجتهم إليه باعهم فإن العبد متى طلب التزويج حين سيده بين
بيعه وتزويجه وان اذن السيد في ذلك جاز لأن الحق له والمنع منه
(فصل) وليس له استهلاك ماله ولا هبته وبه قال الحسن ومالك والثوري والشافعي والثوري
وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا لأن حق سيده لم ينقطع عنه لأنه قد يعجز فيعود إليه ولان القصد
من الكتابة تحصيل العتق بالأداء وهبة ماله تفوت ذلك وتجوز باذن سيده وقال أبو حنيفة لا تجوز
لأنه يفوت المقصود بالكتابة وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا ان الحق لا يخرج عنهما فجاز باتفاقهما كالراهن والمرتهن ولا تصح الهبة بالثواب وقال الشافعي
في أحد قوليه تصح لأن فيها معاوضة
373

ولنا أن الاختلاف في تقدير الثواب يوجب الغرر ولان عوضها يتأخر فهو كالبيع نسيئة وان اذن
السيد فيها جازت ولذلك ان وهب لسيده أو لابن سيده الصغير جاز لأن قبوله للهبة إذن فيها وليس
له ان يحابي في البيع ولا يزيد في الثمن الذي اشترى به لأنه اتلاف للمال على سيده فأشبه الهبة ولا يجوز
له ان يعير دابته ولا يهدي هدية وأجاز ذلك أصحاب الرأي ويحتمل جواز إعارة دابته وهدية المأكول
ودعائه إليه كالمأذون له لأن المكاتب لا ينحط عن درجته ووجه الأول انه تبرع بماله فلم يجز كالهبة
وليس له ان يوصي بماله ولا يحط عن المشتري شيئا ولا يقرض لأنه يعرضه للاتلاف ولا يضمن ولا
يتكفل با؟؟ وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي لأن ذلك تبرع بماله فهو كالهبة ولا يقتص من عبده
الجاني على بعض رقيقه ذكره أبو بكر لأن فيه اتلاف المال على سيده وقال القاضي له ان يقتص من
الجناة عليه وعلي رقيقه ويأخذ الأرش لأن فيه مصلحته
(فصل) ولا يعتق رقيقه الا باذن سيده وبه قال الحسن والأوزاعي ومالك والشافعي وأبو حنيفة
لأن فيه ضررا على سيده بتفويت ماله فيما لا يحصل له به مال أشبه الهبة فإن أعتق لم يصح اعتاقه ويتخرج
ان يصح ويقف على اذن سيده وقال أبو بكر هو موقوف على آخر أمر المكاتب فإن أدى عتق معتقه
وان لم يؤد رق قال القاضي هذا قياس المذهب كقولنا في ذوي الأرحام انهم موقوفون
ولنا انه تبرع بماله بغير اذن سيده فكان باطلا كالهبة ولأنه تصرف تصرفا منع منه لحق سيده
374

فكان باطلا كسائر ما منع منه ولا يصح قياسه على ذوي أرحامه لأن عتقهم ليس بتصرف منه وإنما
يعتقهم الشرع على مالكهم بملكهم والمكاتب ملكه ناقص فلم يتقوا به فإذا عتق كمل ملكه فعتقوا
حينئذ والمعتق إنما يعتق بالاعتاق الذي كان باطلا فلا تتبين صحته إذا كمل الملك لأن كمال الملك في
في الثاني لا يوجب كونه كاملا حين الاعتاق ولذلك لا يصح سائر تبرعاته بأدائه فإن اذن فيه سيده
صح وقال الشافعي في أحد قوليه لا يصح لأن تبرعه بماله يفوت المقصود من كتابته وهو العتق الذي
هو حق لله تعالى أو فيه حق له فلا يجوز تفويته ولان العتق لا ينفك من الولاء وليس من أهله ولان ملك
المكاتب ناقص والسيد لا يملك اعتاق ما في يده ولا هبته فلم يصح إذنه فيه
ولنا ان الحق لا يخرج عنهما فإذا اتفقا على التبرع به جاز كالراهن والمرتهن وما ذكروه يبطل بالنكاح
فإنه لا يملكه ولا يملكه السيد عليه وإذا اذن فيه جاز وأما الولاء فإنه يكون موقوفا فإن عتق المكاتب
لأن له والا فهو لسيده كما يرق مماليكه من ذوي أرحامه هذا قول القاضي وقال أبو بكر يكون لسيده
كان اعتاقه إنما صح باذن سيده فكان كنائبه
(فصل) قال شيخنا وليس له ان يحج إذا احتاج إلى انفاق ماله فيه وذكر في كتاب الاعتكاف
ان له ان يحج بغير إذن سيده لأنه كالحر المدين ونقل الميموني عن أحمد للمكاتب ان يحج من المال
الذي جمعه إذا لم يأت نجمه قال شيخنا وذلك محمول على أنه يحج باذن سيده أما بغير إذنه فلا يجوز
375

لأنه تبرع بما ينفق ماله فيه فلم يجز كالعتق فاما ان أمكنه الحج من غير انفاق ماله كالذي يتبرع
له انسان باحجاجه أو يخدم من ينفق عليه فيجوز إذا لم يأت نجمه لأن هذا يجرى مجرى تركه المكسب
وليس ذلك مما يمنع منه
(فصل) وليس للمكاتب ان يكاتب الا باذن سيده وهذا قول الحسن والشافعي لأن الكتابة
نوع اعتاق فلم تجز من المكاتب كالمنجر ولأنه لا يملك الاعتاق فلم يملك الكتابة كالمأذون واختيار
القاضي جواز الكتابة وهو الذي ذكره أبو الخطاب في رؤوس المسائل وهو قول مالك وأبي حنيفة
والثوري والأوزاعي لأنه نوع معاوضة فأشبه البيع وقال أبو بكر هو موقوف كقوله في العتق المنجز
فإن اذن فيها السيد صحت، وقال الشافعي فيها قولان وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم
(مسألة) (وولاء من يعتقه ويكاتبه لسيده)
إذا كاتب عبده فعجزا جميعا صارا رقيقين للسيد وان أدى المكاتب الأول ثم أدى الثاني
فولاء كل واحد منهما لمكاتبه وإن أدى الأول وعجز الثاني صار رقيقا للأول وان عجز الأول
وأدى الثاني فولاؤه للسيد الأول وإن أدى الثاني قبل عتق الأول عتق قال أبو بكر وولاؤه للسيد
وهو قول أبي حنيفة لأن العتق لا ينفك عن الولاء والولاء لا يوقف لأنه سبب يورث به فهو كالنسب
376

ولان الميراث لا يقف كذلك سببه، وقال القاضي هو موقوف ان أدى عتق والولاء له وإلا فهو
للسيد، وهذا أحد قولي الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) ولان العبد ليس بملك له
ولا يجوز ان يثبت له الولاء على من لم يعتق في ملكه وقولهم لا يجوز ان يقف كما لو يقف النسب والميراث
ليس كذلك فإن النسب يقف على بلوغ الغلام وانتسابه إذا لم تلحقه القافة بأحد الواطئين وكذلك
الميراث يوقف على أن الفرق بين النسب والميراث وبين الولاء أن الولاء يجوز أن يقع لشخص
ثم ينتقل وهو ما يجره مولى الأب من مولى الام فجاز أن يكون موقوفا والنسب والميراث بخلاف
ذلك فإن مات المعتق قبل عتق المكاتب وقلنا الولاء للسيد ورثه، وإن قلنا هو موقوف
فميراثه أيضا موقوف.
(مسألة) (وليس له ان يبيع نسيئة وان باعا لسلعة باضعاف قيمتها وهذا مذهب الشافعي)
لأن فيه تغريرا بالمال وهو ممنوع منه لتعلق حق السيد به. قال القاضي ويتخرج الجواز بناء
على المضارب ان له البيع نسيئة في إحدى الروايتين فيخرج ههنا مثله وسواء أخذ ضمينا أو رهينا
أو لم يأخذ لأن الغرر باق لأنه يحتمل ان يتلف الرهن ويفلس الغريم والضمين، ويحتمل ان
يجوز مع الرهن والضمين لأن الوثيقة قد حصلت به والعوارض نادرة على خلاف الأصل فإن باع
377

بأكثر من قيمته حالا وجعل الزيادة مؤجلة جاز لأن الزيادة ربح وان اشتري نسيئة جاز لأنه لا غرر
فيه ولا يجوز ان يدفع به رهنا لأن الرهن أمانة وقد يتلف أو يجحده الغريم وليس له ان يدفع ماله
سلما لأنه في معنى البيع نسيئة وله أن يستسلف في ذمته لأنه في معني الشراء نسيئة وله أن
يقترض لأنه ينتفع بالمال وليس له أن يدفع ماله مضاربة لأنه يسلمه إلى غيره فيغرر به وفي الرهن والمضاربة
وجه آخر انه لا يجوز وله أن يأخذ قراضا لأنه من أنواع الكسب ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على ما ذكرنا
(مسألة) (ولا يكفر بالمال وعنه له ذلك باذن سيده)
إذا لزمت المكاتب كفارة ظاهر أو جماع في رمضان أو قتل أو كفارة يمين لم يكن له التكفير
بالمال لأنه عبد ولأنه في حكم المعسر بدليل أنه لا تلزمه زكاة ولا نفقة قريب وله أخذ الزكاة
لحاجته وكفارة العبد والمعسر الصيام وان اذن له سيده في التكفير بالمال جاز لأنه بمنزلة التبرع
ولان المنع لحقه وقد أذن فيه ولا يلزمه التكفير بالمال وان اذن فيه السيد لأن عليه ضررا لما يفضي
إليه من تفويت حريته كما أن التبرع لا يلزمه باذن سيده
وقال القاضي المكاتب كالعبد القن في التكفير ومتى أذن له سيده في التكفير بالمال انبنى
على ملك العبد بالتمليك فإن قلنا لا يملك لم يصح تكفيره بغير الصيام سواء أذن فيه أو لم يأذن لأنه
يكفر بما ليس بمملوك له وإن قلنا يملك بالتمليك صح تكفيره بالاطعام إذا أذن فيه السيد وان أذن
378

له في تكفير بالعتق فهل يصح؟ على روايتين نذكرهما في تكفير العبد إن شاء الله تعالى قال شيخنا
والصحيح أن هذا التفصيل لا يتوجه في المكاتب لأنه يملك المال بغير خلاف وإنما ملكه ناقص
لتعلق حق سيده به فإذا أذن له سيده فيه صح كالتبرع
(مسألة) (وهل له أن برهن أو يضارب؟ يحتمل وجهين)
(أحدهما) لا يجوز لأن في دفع ماله إلى غيره تغريرا به وفي الرهن خطر لأنه قد يتلف أو يجحده
الغريم وهذا مذهب الشافعي (والثاني) يجوز لأنه قد يرى الحظ فيه بدليل أن لولي اليتيم أن يفعله
في مال اليتيم فجاز كإجارته
(مسألة) (وليس له شراء ذوي رحمه الا باذن سيده)
لأنه تصرف يؤدي إلى اتلاف ماله لأنه يخرج من ماله ما يجوز التصرف فيه في مقابلة ما لا يجوز
له التصرف فيه أشبه الهبة وهذا قول الشافعي وقال القاضي له ذلك وهو قول الثوري وإسحاق
وأصحاب الرأي لأنه اشترى مملوكا لا ضرر على السيد في شرائه فصح كالأجنبي وبيانه انه يأخذ
كسبهم وإن عجز صاروا رقيقا لسيده ولأنه يصح ان يشتريه غيره فصح شراؤه له كالأجنبي ويفارق الهبة
لأنها تفوت المال بغير عوض ولا نفع يرجع إلى الكاتب ولاء السيد ولان السبب تحقق وهو صدور
التصرف من أهله في محله ولم يتحقق المانع لأن ما ذكروه لا نص فيه ولا له أصل يقاس عليه فإن أذن
379

فيه سيده جاز وهو قول مالك لأن المنع لحق سيده فجاز باذنه وهو قول بعض أصحاب الشافعي
وقال بعضهم فيه قولان
(مسألة) (وله أن يقبلهم إذا وهبوا له أو وصي له بهم)
لأنه إذا ملك شراءهم مع ما فيه من بذل ماله فلان يجوز بغير عوض أولى وعند من لا يرى جواز
شرائهم بغير اذن السيد لا يجوز قبولهم الا إذا لم يكن فيه ضرر بماله كما قالوا في ولي اليتيم إذا وصى
لليتيم بمن يعتق عليه
(مسألة) (وإذا ملكهم فليس لهم بيعهم ولا هبتهم ولا اخراجهم عن ملكه)
وقال أصحاب الرأي له بيع من عدا الوالدين والمولودين لأنهم ليست قرابتهم قرابة جزئية
ولا بعضية فأشبهوا الأجانب
ولنا انه ذو رحم يعتق عليه إذاعته فلا يجوز بيعه كالوالدين والمولودين ولأنه لا يملك بيعهم
إذا كان حرا فلا يملكه مكاتبا كوالديه
(فصل) ولا يعتقون بمجرد ملكه لهم لأنه لو باشرهم بالعتق أو أعتق غيرهم لم يقع العتق فلان
لا يقع بالشراء الذي أقيم مقامه أولى ومتى أدى وهم في ملكه عتقوا لأنه كمل ملكه فيهم وزال تعلق
حق سيده عنهم فعتقوا حينئذ وولاؤهم له دون سيده لأنهم عتقوا عليه بعد زوال ملكه سيده عنه
380

فصاروا بمنزلة ما لو اشتراهم بعد عتقه وان عجز ورد في الرق صاروا عبيدا للسيد لأنهم من ماله فيصيرون
للسيد بعجزه كعبيده الأجانب وله كسبهم لأنهم مماليكه أشبه الأجانب ونفقتهم عليه بحكم الملك لا بحكم
القرابة وكذلك الحكم في ولده من أمته قياسا عليهم
(فصل) فإن أعتقهم السيد لم يعتقوا لأنه لا يملكهم فلم يملك التصرف فيهم، وان أعتقهم
المكاتب بغير إذن سيده لم يعتقوا لتعلق حق سيده بهم وان أعتقهم باذنه عتقوا كما لو أعتق غيرهم
من عبيده وان أعتقه سيده عتق وصاروا رقيقا للسيد كما لو عجز لأن كتابته تبطل بعتقه كما تبطل
بموته وعلى ما اختاره شيخنا يعتقون لأنه عتق قبل فسخ الكتابة فوجب ان يعتقوا كما لو عتق بالابراء
من مال الكتابة أو بأدائه يحقق هذا ان الكتابة عقد لازم يستفيد بها المكاتب ملك رقيقه
واكسابه ويبقى حقه السيد في ملك رقبته على وجه لا يزول الا بالأداء أو ما يقوم مقامه فلا يتسلط
السيد على إبطالها فيما يرجع إلى إبطال حق المكاتب وإنما يتسلط على إبطال حقه من رقبة المكاتب
فينفذ في ماله دون مال الكاتب وقد ذكرنا مثل هذا فيما مضى وان مات المكاتب ولم يخلف وفاء
عادوا رقيقا وقال أبو يوسف ومحمد يسعون في الكتابة على نجومها وكذلك أم وولده وقال أبو حنيفة في
381

الولد خاصة ان جاء بالكتابة حالة قبلت منه وعتق
ولنا انه عبد للمكاتب فصار بموته لسيده إذا لم يخلف وفاء كالأجنبي وان خلف وفاء انبنى على
الروايتين في فسخ الكتابة على ما تقدم
(مسألة) (وولد المكاتبة الذي ولدته في الكتابة يتبعها)
تصح كتابة الأمة كما تصح كتابة العبد بغير خلاف وقد دل عليه حديث بريرة وحديث
جويرة بنت الحارث ولأنها داخلة في عموم قوله تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت
أيمانكم فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا) فإذا أتت المكاتبة بولد من غير سيدها من نكاح أو غيره
فهو تابع لها فإن عتقت بالأداء أو بالابراء عتق وان فسخت كتابتها وعادت إلى الرق عاد رقيقا قنا
وهذا قول شريح ومالك والثوري وأبي حنيفة وإسحاق وسواء في هذا ما كان حملا حال الكتابة أو حدث
بعدها وقال أبو ثور وابن المنذر هو عبد قن لا يتبع أمه وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بان الكتابة
غير لازمة من جهة العبد فلا تسري إلى الولد كالتعليق بالصفة
ولنا ان الكتابة سبب ثابت للعتق لا يجوز ابطاله فسرى إلى الولد كالاستيلاد ويفارق التعليق
بالصفة فإن السيد يملك ابطاله بالبيع
إذا ثبت هذا فالكلام في الولد في فصول أربعة في قيمته إذا تلف وفي كسبه وفي نفقته وفي
382

عتقه، أما قيمته إذا تلف فقال أبو بكر هي لامه تستعين بها على كتابتها لأن السيد لا يملك
التصرف فيه مع كونه عبدا فلا يستحق قيمته لأنه بمنزلة جزء منها ولو جنى على جزء منها كان أرشه
لها كذلك ولدها وإذا لم يستحقها هو كانت لامه لأن الحق لا يخرج عنهما ولان ولدها لو ملكته
بهبة أو شراء فقتل كانت قيمته لها فكذلك إذا تبعها يحققه انه إذا تبعها صار حكمه حكمها فلا يثبت
ملك السيد في منافعه ولا في أروش الجناية عليه كما لا يثبت له ذلك فيها
وقال الشافعي في أحد قوليه تكون القيمة لسيدها لأنها لو قتلت كانت قيمتها لسيدها فكذلك
ولدها والفرق بينهما ان الكتابة تبطل بقتلها فيصير مالها لسيدها بخلاف ولدها فإن العقد باق بعد
قتله فنظير هذا اتلاف بعض أعضائها والحكم في اتلاف بعض أعضائه كالحكم في اتلافه، وأما كسبه
وأرش الجناية عليه فينبغي أن يكون لامه أيضا لأن ولدها جزء منها تابع لها فأشبه بقية أجزائها
ولان أداءها لكتابتها سبب لعتقه وحصول الحرية له فينبغي ان يصرف ذلك فيه بمنزلة صرفه إليه
إذ في عجزها رقه وفوات كسبه عليه، واما نفقته فعلى أمه لأنها تابعة لكسبه وكسبه لها ونفقته عليها
واما عتقه فإنه يعتق بأدائها أو ابرائها ويرق بعجزها لأنه تابع لها وان ماتت المكاتبة في كتابتها بطلت
كتابتها وعاد رقيقا قنا لا ان يخلف وفاء فيكون على الروايتين، وان أعتقها سيدها لم يعتق ولدها
لأنه إنما تبعها في حكم الكتابة وهو العتق بالأداء وما حصل الأداء إنما حصل عتقها بأمر لا يتبعها
383

فيه فأشبه ما لو لم تكن مكاتبة ومقتضى قول أصحابنا الذين قالوا تبطل كتابتها بعتقها ان يعود ولدها
رقيقا ومقتضى قول شيخنا أنه يبقى على حكم الكتابة ويعتق بالأداء لأن العقد لم يوجد ما يبطله وإنما
سقط الأداء عنها لحصول الحرية بدونه فإذا لم يكن لها ولد يتبعها في الكتابة ولا في يدها مال يأخذه لم يظهر
حكم بقاء العقد ولم يكن في بقائه فائدة فانتفى لانتفاء فائدته وفي مسئلتنا في بقائه فائدة لافضائه إلى عتق ولدها
فينبغي أن يبقى ويحتمل أن يعتق باعتاقها لأنه جرى مجرى ابرائها من المال والحكم فيما إذا عتقت
باستيلاد أو تدبير أو تعليق بصفة كالحكم فيما إذا أعتقها لأنها عتقت بغير الكتابة وان أعتق السيد
الولد دونها صح عتقه نص عليه احمد في رواية مهنا لأنه مملوك له فصح عتقه كأمه ولأنه لو أعتقه معها
صح عتقه ومن صح عتقه مع غيره صح مفردا كسائر مماليكه. قال القاضي: وقد كان يجب ان لا ينفذ
عتقه لأن فيه ضررا بأمه لتفويت كسبه عليها فإنها كانت تسعين به في كتابتها ولعل احمد نفذ عتقه
تغليبا للعتق والصحيح أنه يعتق وما ذكره القاضي من الضرر لا يصح لوجوه
(أحدها) أن الضرر إنما يحصل في حق من له كسب يفضل عن نفقته فاما من لا كسب له فتخليصها
من نفقته نفع محض ومن له كسب لا يفضل عن نفقته فلا ضرر في اعتاقه لأنه لا يفضل لها من كسبه شئ
تنتفع به فكان ينبغي أن يقيد الحكم الذي ذكره بهذا القيد
(الثاني) أن النفع بكسبه ليس بواجب لها لأنها لا تملك اجباره على الكسب فلم يكن الضرر
بفواته معتبرا في حقها
384

(الثالث) أن مطلق الضرر لا يكفي في منع العتق الذي يحقق مقتضيه ما لم يكن له أصل يشهد له بالاعتبار
ولم يذكر له أصلا ثم هو ملغي بعتق المفلس والراهن وسراية العتق إلى ملك الشريك فإنه يعتق مع وجود
الضرر بتفويت الحق اللازم فهذا أولى.
(فصل) فاما ولد ولدها فإن ولد ابنها حكمه حكم أمه لأن ولد المكاتب لا يتبعه وأما ولد بنتها
فهو كبنتها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تسري الكتابة إليه لأن السراية إنما تكون مع الاتصال
وهذا ولد منفصل فلا يسري إليه بدليل ان أم الولد قبل ان يستولدها لا يسري إليه الاستيلاد وهذا
الولد اتصل بأمه دون جدته
ولنا ان ابنتها ثبت لها حكمها تبعا فيجب ان يثبت لابنتها حكمها تبعا كما ثبت لها حكم أمها ولان البنت
تبعت أمها فيجب ان يتبعها ولدها لأن علة اتباعها لامها موجودة في ولدها ولان البنت تعلق بها حق العتق فيجب
ان يسري إلى ولدها كالمكاتبة وهذا الخلاف في ولد البنت التابعة لامها في الكتابة فاما المولودة قبل الكتابة
فلا تدخل في الكتابة فابنتها أولى
(مسألة) (وان اشترى زوجته صح وانفسخ نكاحها)
يجوز للمكاتب شراء امرأته وللمكاتبة شراء زوجها لأن ذلك يجوز لغير المكاتب فجاز للمكاتب
كشراء الأجانب وينفسخ النكاح بذلك وقال الشافعي لا ينفسخ لأن المكاتب لا يملك بدليل أنه
لا يجوز له الشراء ولا يعتق والده وولده إذا اشتراه فأشبه العبد القن
385

ولنا أن المكاتب يملك ما اشتراه بدليل أنه تثبت له الشفعة على سيده ولسيده عليه ويجري
الربا بينة وبينه وإنما منع لتسري لتعلق حق سيده بما في يده كما يمنع الراهن من الوطئ
مع ثبوت ملكه ولذلك لم يعتق عليه ذوو رحمه وإذا اشترى أحدهما الآخر فله التصرف فيه
لأنه أجنبي منه.
(مسألة) (وان استولد أمته فهل تصير أم ولد يمتنع عليه بيعها؟ على وجهين)
إذا استولد المكاتب أمته قبل عتقه وعجزه فإنها تصير أم ولد للمكاتب وليس له بيعها نص
عليه أحمد لأن ولدها له حرمة الحرية ولا يجوز بيعه ويعتق بعتق أبيه وكذلك أمه فعلى هذا
لا يجوز بيعها وتكون موقوفة مع المكاتب ان أعتق فهي أم ولده وإن رق رقت، وقال القاضي
في موضع لا تصير أم ولد بحال وله بيعها لأنها حملت بمملوك في ملك غير تام وللشافعي
قولان كهذين الوجهين
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ولا يملك السيد شيئا من كسبه ولا بيعه درهما بدرهمين)
لا يملك شيئا من كسب المكاتب لأنه اشترى نفسه من سيده ليملك ماله وكسبه ومنافعه فلا
386

يبقى ذلك لبائعه كسائر المبيعات ويجري الربا بينه وبين سيده لأنه معه في باب المعاوضة كالأجنبي
وقال ابن أبي موسى لا ربا بينهما لأنه عبد في الأظهر من قوله ولا ربا بين العبد وسيده ولهذا جاز ان
يعجل لسيده ويضع عنه بعض كتابته وله وطئ مكاتبته إذا شرط ولو حملت منه صارت له
بذلك أم ولد، ووجه الأول أن السيد مع مكاتبه في باب المعاملة كالأجنبي بدليل ان لكل
واحد منهما الشفعة على صاحبه ولا يملك كل واحد منهما التصرف فيما بيد صاحبه وإنما يتعلق لسيده
حق فيما بيده لكونه بعرضية أن يعجزه فيعود إليه وهذا لا يمنع جريان الربا بينهما كالأب مع ابنه فعلى
هذا القول لا يجوز التفاضل بينهما فيما يحرم التفاضل فيه بين الأجنبيين ولا النساء فيما يحرم فيه
النساء بين الأجانب.
(فصل) فإن كان لكل واحد منهما على صاحبه دين مثل إن كان للسيد على مكاتبه دين من
الكتابة أو غيرها وللمكاتب على سيده دين وكانا نقدا من جنس واحد حالين أو مؤجلين أجلا
واحدا تقاصا وتساقطا لأنهما إذا تساقطا بين الأجانب فمع السيد ومكاتبه أولى وان كانا نقدا من
جنسين كدراهم ودنانير فقال ابن أبي موسى لو كان له على سيده ألف درهم ولسيده على مائة دينار
فجعلها قصاصا بها جاز بخلاف الحرين.
وقال القاضي لا يجوز هذا لأنه بيع دين بدين وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين ولأنه
387

لا يجوز بين الأجنبيين فلم يجز بين المكاتب وسيده كسائر المحرمات وفارق العبد القن فإنه باق في
تصرف سيده وما في يده ملك خالص لسيده أخذه والتصرف فيه فعلى هذا لا يجوز وان تراضيا به
وعلى قول ابن أبي موسى يجوز إذا تراضيا بذلك وتبايعاه ولا يثبت التقاص قبل تراضيهما به لأنه
بيع فإن كانا عرضين أو عرضا ونقدا لم تجز المقاصة فيهما بغير تراضيهما بحال سواء كان العوض من جنس
حقه أو من غير جنسه وان تراضيا بذلك لم يجز أيضا لأنه بيع دين بدين وان قبض أحدهما من الآخر
حقه ثم دفعه إلى الآخر عوضا عن ماله في ذمته جاز إذا لم يكن الثابت في الذمة عن سلم فإن كان ثبت
عن سلم لم يجز أخذ عوضه قبل قبضه وفي الجملة ان حكم المكاتب مع سيده في هذا حكم الأجانب الا
على قول ابن أبي موسى الذي ذكرناه.
(مسألة) وان جنى عليه فعليه أرش جنايته)
إذا جنى السيد على مكاتبه فلا قصاص عليه لامرين (أحدهما) أنه حر والمكاتب عبد (والثاني)
أنه ملكه ولا يقتص من المالك لمملوكه ولكن يجب الأرش ولا يجب الا باندمال الجرح لأنه قبل
الاندمال لا تؤمن سرايته إلى نفسه فيسقط أرشه ومتى سرى الجرح إلى نفسه انفسخت الكتابة
وكان كقتله فإذا اندمل الجرح وجب له أرشه حينئذ فإن كان من جنس مال الكتابة وقد حل
عليه نجم تقاصا وإن كان من غير جنس مال الكتابة أو كان النجم لم يحل لم يتقاصا ولكل واحد
388

منهما مطالبة صاحبه بما يستحقه فإن رضي المكاتب بتعجيل الواجب له عما لم يحل من نجومه جاز
إذا كان من جنس مال الكتابة
(مسألة) وان حبسه مدة فعليه أرفق الامرين به من انظاره مثل تلك المدة أو اجرة مثله)
إذا حبسه سيده فقد أساء ولا يحتسب عليه بمدته في أحد الوجوه (والثاني) يحتسب عليه بمدته
لأن مال الكتابة دين مؤجل فيحتسب بمدة الحبس من الاجل كسائر الديون المؤجلة فعلى هذا
الوجه يلزمه أجر مثله في المدة التي حبسه فيها والأول أصح لأن على سيده تمكينه من التصرف
مدة كتابته فإذا حبسه مدة وجب عليه تأخيره مثل تلك المدة ليستوفي الواجب له ولان حبسه
يقضي إلى ابطال الكتابة وتفويت مقصودها ورد، إلى الرق ولان عجزه عن أداء نجومه في محلها
بسبب من سيده فلم يستحق به فسخ العقد كما لو منع البائع المشتري من أداء الثمن لم يستحق فسخ
البيع لذلك ولو منعت المرأة زوجها من الانفاق عليها لم تستحق فسخ العقد لذلك (والثالث) يلزم
سيده أرفق الامرين به من انظاره مثل تلك المدة أو اجرة مثله فيها لأنه وجد سببهما
فكان للمكاتب أنفعهما.
(مسألة) (وليس له ان يطأ مكاتبته الا ان يشترط)
وطئ المكاتبة من غير شرط حرام في قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب والحسن والزهري
389

ومالك والليث والثوري والشافعي وأصاب الرأي وقيل له وطؤها في الوقت الذي لا يشغلها الوطئ عن السعي
عما هي فيه لأنها ملك يمينه فتدخل في عموم قوله تعالى (أو ما ملكت ايمانهم)
ولنا ان الكتابة عقد أزال ملك استخدامها وملك عوض منفعة بضعها فيما إذا وطئت بشبهة
فأزال حل وطئها كالبيع والآية مخصوصة بالمزوجة فنقيس عليها محل النزاع ولان الملك ههنا ضعيف
لأنه قد زال عن منافعها جملة ولهذا لو وطئت بشبهة كان المهر لها وتفارق أم الولد فإن ملكه باق عليها
وإنما يزول بموته فأشبهت المدبرة والموصى بها وإنما امتنع البيع لأنها استحقت العتق بموته استحقاقا
لازما لا يمكن زواله.
(فصل) فإن شرط وطأها فله ذلك، وبه قال سعيد بن المسيب وقال سائر من ذكرنا ليس له
وطؤها لأنه لا يملكه مع اطلاق العقد فلم يملكه بالشرط كما لو زوجها أو أعتقها، وقال الشافعي إذا
شرط ذلك في عقد الكتابة فسد لأنه شرط فاسد فأفسد العقد كما لو شرط عوضا فاسدا وقال مالك
لا يفسد العقد به لأنه لا يخل بركن العقد ولا شرطه فلم يفسد كالصحيح.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند شروطهم) ولأنها مملوكة له شرط نفعها فصح كشرط
استخدامها. يحقق هذا ان منعه من وطئها مع بقاء ملكه عليها ووجود المقتضي لحل وطئها إنما كان
لحقها فإذا اشترطه عليها جاز كالخدمة ولأنه استثنى بعض ما كان له فسح كاشتراط الخدمة وفارق البيع
فإنه يزيل ملكه عنها.
390

(مسألة) (وإن وطئها من غير أن يشترط أو وطئ أمتها أدب ولم يبلغ به الحد).
إذا وطئها من غير شرط لم يجب عليه الحد لشبهة الملك في قول عامة الفقهاء، وروي
عن الحسن والزهري أنهما قالا عليه الحد لأنه عقد عليها عقد معاوضة يحرم الوطئ فأوجب
الحد بوطئها كالبيع.
ولنا أنها مملوكته فلم يجب عليه الحد بوطئها كالمرهونة والمستأجرة ويخالف البيع فإنه يزيل
الملك والكتابة لا تزيله بدليل قوله عليه السلام (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) وعليه مهرها إذا
وطئها بغير شرط، لأنه استوفى منفعتها الممنوع من استيفائها فأشبه منافع بدنها فإن كانا عالمين
عزرا وان كانا جاهلين عزرا وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا عزر العالم وعزر الجاهل ولا
تخرج بالوطئ عن الكتابة وقال الليث ان طاوعته فقد فسخت كتابتها وعادت قنا
ولنا انه عقد لازم عقد لازم فلم ينفسخ بالمطاوعة على الوطئ كالإجارة والبيع بعد لزومه ويجب لها المهر
مطاوعة كانت أو مكرهة وبه قال الحسن والثوري والحسن بن صالح والشافعي وقال قتادة يجب
إذا أكرهها ولا يجب إذا طاوعته ونقله المزني عن الشافعي لأن المطاوعة بذلت نفسها بغير عوض
فصارت كالزانية ومنصوص الشافعي وجوبه في الحالين وأنكر أصحابه ما نقله المزني وقالوا لا يعرف
وقال مالك لا شئ عليه لأنها ملكه
391

ولنا انه عوض منفعتها فوجب لها كعوض بدنها ولان المكاتبة في يد نفسها ومنافعها لها ولهذا
لو وطئها أجنبي كان المهر لها وإنما وجب في حال المطاوعة لأن الحد سقط عنه للشبهة فوجب لها المهر
كما لو وطئ امرأة بشبهة عقد مطاوعة، فإن تكرر وطؤها وكان قد أدى مهر الوطئ الأول فللثاني مهر
أيضا لأن الأداء قطع حكم الوطئ وان لم يكن أدى عن الأول لم يجب الا مهر واحد لأن هذا عن
وطئ الشبهة فلم يجب الا مهر واحد كالوطئ في النكاح الفاسد
(فصل) فأما ان وطئها مع الشرط فلا حد عليه ولا مهر ولا تعزير لأنه وطئ يملكه ويباح
له فأشبه وطأها قبل كتابتها، وإذا وجب لها المهر بالوطئ فإن كان لم يحل عليها نجم فلها المطالبة
وإن كان قد حل عليها وكان المهر من غير جنسه فلها المطالبة أيضا به وإن كان من جنسه تقاصا
وأخذ ذو الفضل فضله.
(مسألة) (فإن أولدها صارت أم ولد له سواء وطئها بشرط أو بغير شرط)
لأنه أحبلها بحر في ملكه فكانت أم ولد كغير المكاتبة والولد حر لأنه ولده من مملوكته
ويلحقه نسبه لذلك ولأنه من وطئ سقط فيه الحد للشبهة فأشبه ولد المغرور ولا تلزمه قيمته
لأنها وضعته في ملكه
392

(فصل) وليس له وطئ بنت مكاتبته لأنها تابعة لها موقوفة معها فلم يبح وطؤها كأمها ولا يباح
ذلك بالشرط لأن حكم الكتابة ثبت فيها تبعا ولم يكن وطؤها مباحا حال العقد فيشترط فإن وطئها فلا
حد عليه ويأثم ويعزر لأنه وطئ وطئها محرما ولها المهر حكمه حكم كسبها يكون لامها تستعين به
في كتابتها لأن ذلك سبب حريتها فإن احبلها صارت أم ولد له والولد حر لأنه أحبلها بحر في ملكه
ويلحقه نسبه ولا تجب عليها قيمتها لأن أمها لا تملكها ولا قيمة ولدها لأنها وضعته في ملكه
(فصل) وليس له وطئ جارية مكاتبه ولا مكاتبته اتفاقا فإن فعل اثم وعزر ولا حد عليه
لشبهة الملك لأنه يملك مالكها وعليه مهرها لسيدها وولده منها حر يلحقه نسبه لأن الحد سقط لشبهة
الملك وتصير أم ولد له وعليه قيمتها لسيدها لأنه أخرجها بوطئه عن ملكه ولا تجب عليه
قيمة الولد لأنها وضعته في ملكه ويحتمل أن تلزمه قيمته لأنه أخرجه بوطئه عن أن يكون مملوكا
لسيدها فأشبه ولد المغرور
(فصل) ولا يملك السيد اجبار مكاتبته ولا ابنتها ولا أمتها على التزويج لأنه زال ملكه بعقد
الكتابة عن نفعها ونفع بعضها وعن عوضه وليس لواحدة منهن التزويج بغير إذنه لأن عليه ضررا
في ذلك فإنه يثبت حقا للزوج فيها فربما عجزت وعادت إليه على وجه لا يملك وطأها فإن تراضيا بذلك
393

جاز لأن الحق لا يخرج عنهما وهو وليها وولي ابنتها وجاريتها جميعا لأن الملك له فأشبه الجارية القن
والمهر للمكاتبة على ما ذكرنا في مهرهن إذا وطئهن السيد
(مسألة) (فإن أدت عتقت وان مات سيدها قبل أدائها عتقت وسقط ما بقي من كتابتها
وما في يدها لها إلا أن يكون بعد عجزها وقال أصحابنا هو لورثة سيدها وكذلك الحكم فيما إذا
أعتق المكاتب سيده)
قذ ذكرنا أن السيد إذا استولد مكاتبته صارت أم ولد له والولد حر ونسبه لاحق به ولا تبطل
كتابتها بذلك لأنها عقد لازم من جهة سيدها وقد اجتمع لها سببان يقتضيان العتق أيهما سبق صاحبه
ثبت حكمه هذا قول الزهري ومالك والليث والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال
الحاكم تبطل كتابتها لأنها سبب للعتق فتبطل بالاستيلاد كالتدبير
ولنا أنها عقد معاوضة فلا تبطل بالوطئ كالبيع ولأنها سبب للعتق لا يملك السيد الرجوع عنه
فلم يبطل بذلك كالتعليق بصفة وما ذكره يبطل بالتعليق بالصفة وتفارق الكتابة التدبير من وجوه
(أحدها) أن حكم التدبير والاستيلاد واحد وهو العتق عقيب الموت والاستيلاد أقوى لأنه
يعتبر من رأس المال ولا سبيل إلى ابطاله بحال فاستغني به عن التدبير والكتابة سبب يتعجل به
العتق بالأداء ويكون ما فضل من كسبها لها وتملك بها منافعها وكسبها وتخرج عن تصرف سيدها
وهذا لا يحصل بالاستيلاد فيجب أن تبقى لبقاء فائدتها
394

(الثاني) ان الكتابة أقوى من التدبير للزومها وكونها لا تبطل بالرجوع عنها ولا بيع
المكاتب ولا هبته
(الثالث) ان التدبير تبرع والكتابة عقد معاوضة لازم. إذا ثبت هذا فإنه يجتمع لها سببان
كل واحد منهما يقتضي الحرية فأيهما تم قبل صاحبه ثبتت الحرية به كما لو انفرد لأن انضمام أحدهما
إلى الآخر مع كونه لا ينافيه لا يمنع ثبوت حكمه فإن أدت عتق بالكتابة وما فضل من كسبها
فهو لها لأن المعتق بالكتابة له ما فضل من نجومه وإن عجزت وردت في الرق بطل حكم الكتابة
وبقي لها حكم الاستيلاد منفردا كما لو لم تكن مكاتبة وله وطؤها وتزويجها واجارتها وتعتق بموته وما
في يدها لورثة سيدها فإن مات سيدها قبل عجزها عتقت بأنها أم ولد وسقطت الكتابة لأن الحرية
حصلت فسقط العوض المبذول في تحصيلها كما لو باشرها سيدها بالعتق وما في يدها لورثة سيدها
في قول الخرقي وأبي الخطاب لأنها عتقت بحكم الاستيلاد فبطل حكم الكتابة فأشبهت غير المكاتبة
وقال القاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول ما فضل في يدها لها وهو قول الشافعي لأن العتق إذا
وقع في الكتابة لا يبطل حكمها كالابراء من مال الكتابة ولان ملكها كان ثابتا على ما في يدها
ولم يحدث الا ما يزيل حق سيدها عنها فيقتضى زوال حقه عما في يدها يدها وتقرير ملكها وخلوصه
لها كما اقتضى ذلك في نفسها وهذا أصح
395

(مسألة) (وكذلك الحكم فيما إذا أعتق المكاتب سيده يكون كسبه له في قول القاضي ومن
وافقه، وعلى قياس قول الخرقي ومن وافقه يكون لسيده كما لو عتقت الأمة المكاتبة ويحتمل أن يكون
لسيدها أيضا على قول الخرقي ومن وافقه لأن السيد أعتقه برضاه فيكون رضا منه باعطائه ماله بخلاف
العتق بالاستيلاد فإنه حصل بغير رضا الورثة واختيارهم ولأنه لو كان مال المكاتب يصير إلى السيد
اعتاقه لتمكن السيد من أخذ مال المكاتب متى شاء فمتى كان له غرض في اخذ ماله اما لكونه يفضل عن
نجوم الكتابة واما الغرض له في بعض أعيان ماله أو لكونه يتعجله قبل ان تحل نجوم الكتابة أعتق
واخذ ماله وهذا ضرر على المكاتب لم يرد الشرع به ولا يقتضيه عقد الكتابة فوجب ان لا يشرع
(فصل) وان أتت المكاتبة بولد من غير سيدها بعد استيلادها فله حكمها بالعتق بكل واحد
من السببين أيهما سبق عتق به كالأم سواء لأنه تابع لها فيثبت له ما ثبت لها وان ماتت المكاتبة بقي
للولد سبب الاستيلاد وحده فإن اختلفا في ولدها فقالت ولدته بعد كتابتي أو بعد ولادتي وقال السيد
بل قبله فقال أبو بكر القول قول السيد مع يمينه وهذا قول الشافعي لأن الأصل كون الأمة وولدها
رقيقا لسيدها له التصرف فيهما وهو يدعي ما يمنع التصرف ثم، وان زوج مكاتبه أمته ثم باعها منه
واختلفا في ولدها فقال السيد هو لي لأنها ولدته قبل بيعها لك وقال المكاتب بل بعده فالقول قول
المكاتب لأنهما اختلفا في ملكه ويد المكاتبة عليه فكان القول قول صاحب اليد مع يمينه كسائر
الأموال ويفارق ولد المكاتب لأنها لا تدعي ملكه
396

(فصل) وان كاتب اثنان جاريتهما ثم وطئها أحدهما أدب فوق أدب الواطئ المكاتبة الخالصة
له لأن الوطئ ههنا حرم من وجهين الشركة والكتابة فهو آكد واثمه أعظم وعليه لها مهر مثلها
على ما أسلفناه فيما إذا كان السيد واحدا فإن لم يكن حل نجم قبضت المهر فإذا حل نجمها سلمته إليهما وان حل نجمها
وهو من جنس مال الكتابة وكان في يدها بقدره دفعته إلى الذي لم يطأها واحتسب على الواطئ
بالمهر وان لم يكن في يدها شئ وكان بقدر نجمها أو دونه أخذت من الواطئ نصفه وسلمته إلى الآخر
وان لم يكن من جنس مال الكتابة فاتفقا على أخذه عوضا عن مال الكتابة فالحكم فيه كما لو كان
من جنسها وان لم يتفقا قبضت ودفعت ما عليها من مال الكتابة من عوضه أو غيره وان عجرت
ففسخا الكتابة وكان في يدها بقدر المهر أخذه الذي لم يطأ وسقط المهر من ذمة الواطئ وان لم
يكن في يدها شئ كان للذي لم يطأ ان يرجع على الواطئ بنصفه لأنه وطئ جارية مشتركة بينهما فإن
حبلت منه صارت أم ولد له وعليه نصف قيمتها لشريكه مع نصف المهر الواجب لها موسرا كان أو
معسرا فإن كان موسرا أداه في الحال وإن كان معسرا فهو في ذمته هذا ظاهر كلام الخرقي فعلى
هذا تصير أم ولد للواطئ ومكاتبة له كأنه اشتراها وتكون مبقاة على ما بقي من كتابتها وتعتبر قيمتها
مكاتبة مبقاة على ما بقي من كتابتها واختار القاضي أنه إن كان معسرا لم يسر الاحبال لأنه بمنزلة
397

لا عتاق بالقول يعتبر اليسار في سرايته ونصيب الواطئ قد ثبت له حكم الاستيلاد وحكم الكتابة
ونصيب شريكه لم يثبت له الا حكم الكتابة فإن أدت إليهما عتقت وبطل حكم الاستيلاد ونصفها
قن لا يقوم على الوارث وإن كان موسرا لأنه ليس بعتق وان مات الواطئ قبل عجزها عتق نصيبه
وسقط حكم الكتابة فيه وكان الباقي مكاتبا وإن كان الواطئ موسرا فقد ثبت لنصفها حكم
الاستيلاد ونصفها الآخر موقوف فإن أدت إليهما عتقت كلها وولاؤها لهما وان عجزت وفسخت
الكتابة قومناها حينئذ على الواطئ فيدفع إلى شريكه قيمة نصيبه ويصير جميعها أم ولد له فإن مات
التقت عليه وكان ولاؤها له وهذا مذهب الشافعي وله قول آخر أنها تقوم على الموسر وتبطل
الكتابة في نصف الشريك ويصير جميعها أم ولد ونصفها مكاتبا للواطئ فإن أدت نصيبه إليه عتقت
وسرى إلى الباقي لأنه ملكه وعتق جميعها وان عجزت ففسخت الكتابة كانت أم ولد له خاصة
فإذا مات عتقت كلها
ولنا ان بعضها أم ولد فكان جميعها كذلك كما لو كان الشريك موسرا يحقق هذا ان الولد
حاصل من جميعها وهو كله من الواطئ ونسبه لاحق به فينبغي ان يثبت ذلك لجميعها ويفارق
الاعتاق فإنه أضعف على ما بينا من قبل
ولنا على أن الكتابة لا تبطل بالتقويم أنها عقد لازم فلا تبطل مع بقائها بفعل صدر منه كما لو
398

استولدها وهو في ملكه أو كما لو لم تحبل منه وأما الولد فهو حر لأنه من وطئ فيه شبهة ونسبه
لاحق به لذلك ولا تلزمه قيمته لأنها وضعته في ملكه وروي عن أحمد في هذا روايتان (إحداهما)
لا تجب قيمته لأن نصيب شريكه انتقل إليه من حين العلوق وفي تلك الحال لم تكن له قيمة فلم
يضمنه (والثانية) عليه نصف قيمته لأنه كان من سبيل هذا النصف أن يكون مملوكا لشريكه فقد
أتلف رقه عليه فكان عليه نصف قيمته قال القاضي هذا الرواية أصح في المذهب وذكر هاتين الروايتين
أبو بكر وذكر أنها ان وضعته بعد التقويم فلا شئ على الواطئ وان وضعته قبل التقويم غرم نصف
قيمته فإن ادعى الواطئ لها لاستبراء فاتت بالولد لأكثر من ستة أشهر من حين الاستبراء لم يلحق به
ولم تصر أم ولد وكان حكم ولدها حكمها وان أتت به لأقل من ستة أشهر من حين الاستبراء لحق
به كما لو كان قبل الاستبراء لأنا تبينا أنها كانت حاملا وقت الاستبراء فلم يكن ذلك استبراء
(مسألة) (وان وطئاها جميعا فقد وجب لها على كل واحد منهما مهر مثلها)
فإن كانت في الحالين على صفة واحدة فهما سواء في الواجب عليهما وان كانت بكرا حين
وطئها الأول فعليه مهر بكر وعلى الآخر مهر ثيب فإن كان نجمها لم يحل فلها مطالبتهما بالمهرين وإن كان
قد حل وهو من جنس المهر تقاصا على ما ذكرنا في المقاصة فإن أدت إليهما عتقت وكان لها
المطالبة بالمهرين وان عجزت نفسها وفسخا الكتابة بعد قبضها المهرين وكانا سواء لم يملك أحدهما
399

مطالبة الاخر بشئ لأنها قبضتهما وهي مستحقة لذلك فإن كانا في يدها اقتسماهما وان تلفا أو بعضهما
فلا شئ لهما لأن السيد لا يثبت له دين على مملوكه وإن كان الفسخ قبل قبض المهرين وهما سواء سقط
عن كل واحد ما عليه وإن كان أحدهما أقل من الاخر تقاضا منهما بقدر أقلهما ويرجع من عليه أقلهما
على الاخر بنصف الزيادة وان قبضت من أحدهما دون الاخر رجع المقبوض منه على الاخر بنصف
ما عليه وان قبضت البعض من أحدهما دون الاخر أو قبضت من أحدهما أكثر من الاخر رجع
من قبض منه الأكثر على الاخر بنصف الزيادة التي أداها فإن أفضاها أحدهما بوطئه فعليه لها
ثلث قيمتها لأن الافضاء في الحرة يوجب ثلث ديتها فيوجب في الأمة ثلث قيمتها وهو مذهب
الشافعي وهذا الخلاف مبني على الواجب في افضاء الحرة وسنذكره إن شاء الله تعالى فإن فسخت
الكتابة رجع من لم يفضها على الاخر بنصف قيمة الافضاء على الخلاف المذكور فإن ادعى كل
واحد منهما على الاخر انه الذي أفضاها أو وطئها حلف كل واحد منهما وبرئ وان نكل أحدهما
قضي عليه وإن كان الخلاف قبل عجزها فادعت على أحدهما فالقول قوله مع يمينه وان ادعت على
أحدهما غير معين لم تسمع الدعوى
(مسألة) (وان ولدت من أحدهما صارت أم ولد له) ويغرم لشريكه نصف قيمتها وهل
يغرم نصف قيمة ولدها؟ على روايتين
400

وقد ذكرنا ذلك والخلاف فيه فيما إذا وطئها أحدهما
(مسألة) (وان أتت بولد والحق بهما صارت أم ولد لهما يعتق نصفها بموت أحدهما وباقيها
بموت الاخر كما لو كان سيدها واحدا واستولدها فإنها تعتق بموته وعند القاضي لا يسري استيلاد أحدهما
إلى نصيب شريكه)
لأنه انعقد له سبب استحقاقه للولاء على نصيبه بالكتابة فلم يجز ابطاله بالسراية الا ان يعجز فينظر
حينئذ فإن كان موسرا قوم عليه نصيب شريكه وإلا فلا وقد ذكرنا قول القاضي واجبنا عنه فيما سبق
(فصل) فاما ان أولدها كل واحد منهما واتفقا على السابق منهما فعلى قول الخرقي تصير أم ولد
له وولده حر يلحقه نسبه والخلاف في ذلك كالخلاف فيما إذا انفرد بايلادها سواء، واما الثاني فقد وطئ
أم ولد غيره بشبهة وأولدها فلا تصير أم ولد له لأنها مملوكة غيره فأشبه ما لو باعها ثم أولدها وعليه
مهرها لها لأن الكتابة لم تبطل والولد حر لأنه من وطئ شبهة وعليه قيمته للأول لأنه فوت رقه عليه
وكان من سبيله أن يكون رقيقا له حكمه حكم أمه فتلزمه قيمته على هذه الصفة وقد ذكرنا في وجوب
نصف قيمة الأول خلافا فإن قلنا بوجوبها تقاصا بما لو أحد منهما على صاحبه في القدر الذي تساويا
فيه ويرجع ذو الفضل بفضله وتعتبر القيمة يوم الولادة لأنها أول حال أمكن التقويم فيها وذكر
القاضي في المسألة أربعة أحوال
401

(أحدها) ان يكونا موسرين فالحكم على ما ذكرنا الا انه جعل المهر الواجب على الثاني للأول
وهذا مذهب الشافعي ولا يصح هذا لأن الكتابة لا تبطل بالاستيلاد ومهر المكاتبة لها دون سيدها
ولان سيدها لو وطئها وجب عليه المهر لها فلان لا يملك المهر الواجب على غيره أولى ولأنه عوض
نفعها فكان لها كأجرتها
(الثاني) أن يكون الأول موسرا والثاني معسرا فيكون الحال الأول سواء قال القاضي الا
ان ولده يكون مملوكا لاعساره بقيمته وهذا غير صحيح لأن الولد لا يرق باعسار والده بدليل ولد
المغرور من أمة والواطئ بشبهة وكل موضع حكمنا بحرية الولد لا يختلف بالاعسار واليسار وإنما
يعتبر اليسار في سراية العتق وليس عتق هذا بطريق السراية إنما هو لأجل الشبهة في الوطئ فلا
وجه لاعتبار التساوي فيه والصحيح انه حر وتجب قيمته في ذمة أبيه
(الحال الثالث) ان يكونا معسرين فإنها تصير أم ولد للأول ونصفها للثاني قال وعلى كل واحد
منهما نصف مهرها لصاحبه وفي ولد كل واحد منهما وجهان (أحدهما) أن يكون كله حرا وفي ذمة
أبيه نصف قيمته لشريكه (والثاني) نصف حر وباقيه عبد لشريكه الا ان نصف الولد الأول عبد
قن لأنه تابع للنصف الباقي من الام وأما النصف الباقي من ولد الثاني فحكمه حكم أمه لأنه ولد منها
بعد أن ثبت لنصفها حكم الاستيلاد للأول فكان نصفه الرقيق تابعا لها في ذلك ولعل القاضي أراد
402

ما إذا عجزت وفسخت الكتابة، فأما إذا كانت باقية على الكتابة فلها المهر كاملا على كل واحد
منهما إذا حكم برق نصف ولدها وجب أن يكون له حكمها في الكتابة لأن ولد المكاتبة يكون تابعا لها
(الحال الرابع) أن يكون الأول معسرا والثاني موسرا فحكمه حكم الثالث سواء الا ان ولد
الثاني حر لأن الحرية تثبت لنصفه بفعل أبيه وهو موسر فسرى إلى جميعه وعلى نصف قيمته
لشريكه ولم تقوم عليه الام لأن نصفها أم ولد للأول ولو صح هذا لوجب ان لا يقوم عليه
نصف الولد لأن حكمه حكم أمه في هذا فإذا منع حكم الاستيلاد السراية في الام منعه فيما هو تابع
لها ومذهب الشافعي في هذا الفصل قريب مما ذكر القاضي
(فصل) وإن اختلفا في السابق منهما فادعى كل واحد منهما أنه السابق فعلى قولنا لها المهر على
كل واحد منهما وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة الجارية لأنه يقول صارت أم ولد لي
باحبالي إياها ووجب لشريكي علي نصف قيمتها ولي عليه قيمة ولده لأنه يقول أولدتها بعد أن
صارت أم ولد لي وهل يكون مقرا لها بنصف قيمة ولدها؟ على وجهين سبق ذكرهما فعلى هذا ان
استوى ما يدعيه وما يقر به تقاصا وتساقطا ولا يمين على صاحبه لأنه يقول لي عليك مثل مالك علي
والجنس واحد فتساقطا وان زاد ما يقر به فلا شئ عليه لأن خصمه يكذبه في اقراره وان زاد ما
يدعيه فله اليمين على صاحبه في الزيادة ويثبت للأمة حكم العتق في نصيب كل واحد منهما بموته
لاقراره بذلك ولا يقبل قوله على شريكه في اعتاق نصيبه
403

وقال أبو بكر في الأمة قولان (أحدهما) ان يقرع بينهما فتكون أم ولد لمن تقع القرعة له (والثاني)
تكون أم ولد لهما ولا يطؤها واحد منهما قال وبالأول أقول وأما القاضي فاختار انهما ان كانا موسرين
فكل واحد منهما يدعي المهر على صاحبه ويقر له بنصفه وهذا مذهب الشافعي لأن المهر عندهم لسيدها
دونها ولا يعتق شئ منها بموت الأول لاحتمال أن تكون أم ولد للآخر فإذا مات الآخر عتقت
لأن سيدها قد مات يقينا وان كانا معسرين فكل واحد منهما يقر بان نصفها أم ولده ويصدقه
الاخر لأن الاستيلاد لا يسري مع الاعسار وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف المهر والاخر
يصدقه فيتقاصان ان تساويا وان فضل أحدهما صاحبه نظرت فإن كان كل واحد منهما يدعي الفضل
تحالفا وسقط وإن كان كل واحد منهما يقر بالفضل سقط لتكذيب المقر له به وفي الولد وجهان
(أحدهما) يكون حرا فيكون كل واحد منهما يدعي على الآخر نصف قيمة الولد (والوجه الثاني)
نصفه حر فيقربان نصف الولد مملوك لشريكه فيكون الولد بينهما من غير يمين وعلى الوجه الأول
يتقاصان ان استوت قيمة الولدين ولا يمين في الموضعين وأيهما مات عتقه نصيبه وولاؤه له وإن كان
أحدهما موسرا والآخر معسرا فالموسر يقر للمعسر بنصف قيمة الأمة ونصف مهر مثلها ويدعي
عليه جميع المهر وقيمة الولد والمعسر يقر للموسر بنصف المهر ونصف قيمة الولد فيسقط إقرار الموسر
للمعسر بنصف قيمة الجارية لكونه لا يدعيه ولا يصدقه فيه ويتقاصان بالمهر لاستواءهما فيه ويدفع
المعسر إلى الموسر نصف قيمة الولد لاقراره به ويحلف على ما يدعيه عليه من الزيادة لأنه ادعى عليه
404

جميع قيمة الولد فاقر له بنصفها ويحلف له الموسر على نصف قيمة الولد الذي ادعاه المعسر عليه وأما
الجارية فإن نصيب الموسر منها أم ولد بغير خلاف بينهما فيه وباقيه يتنازعانه فإن مات الموسر أولا
عتق نصيبه وولاؤه لورثته فإذا مات المعسر عتق باقيها وان مات المعسر أولا لم يعتق منها شئ فإذا
مات الموسر عتق جميعها ويجئ على قول أبي بكر ان يقرع بينهما في النصف المختلف فيه
(فصل) فإن وطئاها معا فاتت بولد لم تخل من ثلاثة أقسام
(أحدها) ان لا يمكن أن يكون من واحد منهما مثل أن تأتي به بعد استبرائها منهما أو بعد
أربع سنين منذ وطئها كل واحد منهما فيكون منفيا عنهما مملوكا لهما حكمه حكم أمه في العتق بأدائها
وتقبل دعوى الاستبراء من كل واحد منهما لأن دعوى الاستبراء في الأمة كاللعان في الحرة
(القسم الثاني) أن يكون من أحدهما بعينه دون صاحبه والحكم فيه حكم ما إذا ولدت من أحدهما
بعينه من وجوب المهر لها وقيمة نصفها لشريكه مع الخلاف في ذلك فاما الذي لم تحبل من وطئه فإن
كان الأول فعليه المهر لها وإن كان الثاني فقد وطئ أم ولد غيره فإن كانت الكتابة باقية فعليه المهر
لها أيضا وان كانت قد فسخت فالمهر للذي استولدها وقد وجب للثاني على الأول نصف قيمتها وفي
قيمة نصف الولد روايتان فإن كان المهر للأول تقاصا بقدر أقل الحقين وإن كان المهر لها رجع بحقه
على الذي أحبلها وأما القاضي فقال في هذا القسم الحكم في الأول كالحكم فيه إذا انفرد بالوطئ على ما مضى
من التفصيل وأما الثاني فإن وطئها بعد ولادتها من الأول نظرنا فإن وطئها بعد الحكم بكونها أم
ولد للأول فعليه مهر مثلها فإن كان فسخ الكتابة في حق نفسه لعجزها فالمهر له لأنها أم ولده وان
405

كان لم يفسخ فالمهر بينه وبينها نصفين وان وطئها بعد زوال الكتابة في حقه وقبل الحكم بأنها أم ولد
للأول سقط عنه نصف مهر لأن نصفها قن له وعليه النصف لها ان لم يكن الأول فسخ الكتابة
أوله ان فسخ وإن كان الأول معسرا فنصيبه منها أم ولد له ولها عليهما المهران والحكم فيما إذا
عجزت أو أدت قد تقدم فأما إن كان الولد من الثاني فالحكم في وطئ الأول كالحكم فيه إذا وطئ
منفردا ولم يحبلها، وأما الثاني فإن كان موسرا قوم عليه نصيب شريكه عند العجز فإن فسخا الكتابة قومناها
عليه وصارت أم ولد له وان رضي الثاني بالمقام على الكتابة قومنا عليه نصيب الأول وصارت كلها
أم ولد له ونصفها مكاتب ويرجع الأول على الثاني بنصف المهر ونصف قيمة الولد على إحدى الروايتين
ويرجع الثاني على الأول بنصف المهر فيتقاصان به إن كان باقيا عليهما وإن كان الثاني معسرا فالحكم
فيه كما لو ولدت من الأول وكان معسرا لا فصل بين المسألتين
(القسم الثالث) أمكن أن يكون الولد من كل واحد منهما فيرى القافة معهما فيلحق بمن الحقوه
به منهما فمن الحق به فحكمه حكم ما لو عرف أنه منه بغير قافة
(مسألة) (ويجوز بيع المكاتب ومشتريه يقوم مقام المكاتب)
وممن قال يجوز بيع المكاتب عطاء والنخعي والليث وابن المنذر وهو قديم قولي الشافعي قال
ولا وجه لقول ما قال لا يجوز وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه لا يجوز بيعه وهو
قول مالك وأصحاب الرأي والجديد من قولي الشافعي لأنه عقد يمنع استحقاق كسبه فمنع بيعه كبيعه
406

لأجنبي وعتقه، وقال الزهري وأبو الزناد يجوز بيعه برضاه ولا يجوز بغيره وحكي ذلك عن أبي يوسف
لأن بريرة إنما بيعت برضاها وطلبها ولان لسيده استيفاء منافعه برضاه ولا يجوز بغير رضاه كذلك بيعه
ولنا ما روى عروة عن عائشة انها قالت جاءت بريرة إلي فقالت يا عائشة اني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل
عام أوقية فأعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة ونقست فيها ارجعي إلى أهلك
ان أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت عليهم ذلك فأبوا وقالوا ان
شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
" لا يمنعك ذلك منها ابتاعي واعتقي إنما الولاء لمن أعتق " فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال (اما بعد فما بال ناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا
ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرطه أوثق وإنما الولاء لمن أعتق)
متفق عليه، قال ابن المنذر بيعت بريرة بعلم النبي صلى الله عليه وسلم وهي مكاتبة لم ينكر ذلك ففي ذلك أبين
البيان ان بيعه جائز ولا أعلم خبرا يعارضه ولا أعلم في شئ من الاخبار دليلا على عجزها وتأوله
الشافعي على أنها كانت قد عجزت وكان بيعها فسخا لكتابتها وهذا التأويل بعيد يحتاج إلى دليل
في غاية القوة وليس في الخبر ما يدل عليه بل قولها أعينيني على كتابتي دليل على بقائها على الكتابة ولأنها
أخبرتها ان نجومها في كل عام أوقية فالعجز إنما يكون بمضي عامين عند من لا يرى العجز إلا بحول
407

نجمين أو بمضي عام عند الآخرين والظاهر أن شراء عائشة لها كان في أول كتابتها ولا يصح قياسه
على أم الولد لأن سبب حريتها مستقر على وجه لا يمكن فسخه بحال فأشبه الوقف والمكاتب يجوز
رده إلى الرق وفسخ كتابته إذا عجز فافترقا قال ابن أبي موسى هل للسيد أن يبيع المكاتب بأكثر
مما كان عليه؟ على روايتين ولان المكاتب عبد مملوك لسيده لم يتحتم عتقه فجاز بيعه كالمعلق عتقه بصفة
والدليل على أنه مملوك قول النبي صلى الله عليه وسلم (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) ولان مولاته لا يلزمها
أن تحتجب منه إذا لم يملك ما يؤدي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي
فلتحتجب منه يدل بمفهومه على أنها لا تحتجب منه قبل ذلك وإنما سقط الحجاب عنه لكونه مملوكها
ولأنه يصح عتقه ولا يصح عتق من ليس بمملوك ولأنه يرجع عند العجز إلى كونه قنا ولو صار حرا
ما عاد إلى الرق ويفارق اعتاقه لأنه يزيل الرق بالكلية وليس بعقد إنما هو اسقاط للملك فيه وأما
بيعه فلا يمنع للمشترى بيعه وأما البائع فلم يبق له فيه ملك بخلاف مسئلتنا.
(فصل) وتجوز هبته والوصية به وقد روي عن أحمد انه منع هبته لأن الشرع إنما ورد ببيعه
والصحيح جوازها لأن ما كان في معنى المنصوص عليه يثبت الحكم فيه.
(فصل) ومشتريه يقوم فيه مقام المكاتب.
وجملة ذلك أن الكتابة لا تنفسخ بالبيع ولا يجوز ابطالها لا نعافي هذا خلافا قال ابن المنذر
408

أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن بيع السيد مكاتبه على أن يبطل كتابته ببيعه إذا كان ماضيا
فيها مؤديا ما يجب عليه من نجومه في أوقاتها غير جائز وذلك لأنها عقد لازم فلا يبطل بالبيع كالإجارة
والنكاح ويبقى على كتابته عند المشتري وعلى نجومه كما كان عند البائع مبقى على ما بقي من كتابته
يؤدي إلى المشتري ما كان يؤدي إلى البائع
(مسألة) (فإن أدى عتق وولاؤه له وان عجز عاد قنا له، وإن لم يعلم أنه مكاتب
فله الرد والأرش)
إذا أدى إلى المشتري عتق لأن حق المكاتب فيه انتقل إلى المشتري فصار المشتري هو المعتق
وولاؤه له لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) وقد دل عليه حديث بريرة لأنه جعل
ولاءها لعائشة حين اشترتها واعتقتها وان عجز عاد قنا له لأنه صار سيده فقام مقام المكاتب وان
لم يعلم أنه مكاتب ثم علم ذلك فله فسخ البيع أو أخذ الأرش لأن الكتابة عيب لكون المشتري
لا يقدر على التصرف فيه ولا يستحق كسبه ولا استخدامه ولا الوطئ ان كانت أمة فملك الفسخ
كشراء الأمة المزوجة فيخير حينئذ بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين الامساك مع الأرش
على ما ذكرنا في البيع
409

(فصل) فاما بيع الدين الذي على المكاتب من نجومه فلا يصح وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وأبو ثور وقال عطاء وعمرو بن دينار ومالك يصح لأن السيد يملكها في ذمة المكاتب
فجاز بيعها كسائر أمواله
ولنا انه دين غير مستقر فلم يجز بيعه كدين السلم ودليل عدم الاستقرار انه معرض للسقوط
بعجز المكاتب ولأنه لا يملك السيد اجبار العبد على أدائه ولا الزامه بتحصيله فلم يجز بيعه كالعدة
بالتبرع ولأنه غير مقبوض وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض فإن باعه فالبيع باطل وليس
للمشتري مطالبة المكاتب بتسليمه إليه وله الرجوع بالثمن على البائع إن كان دفعه إليه وان سلم
المكاتب إلى المشتري نجومه ففيه وجهان
(أحدهما) يعتق لأن البيع يضمن الاذن في القبض فأشبه قبض الوكيل (والثاني) لا يعتق لأنه
لم يستنبه في القبض وإنما قبض لنفسه بحكم البيع الفاسد فكان القبض فاسدا فلم يعتق بخلاف وكيله
فإنه استنابه ولو صرح بالاذن لم يكن مستنيبا له في القبض وإنما اذنه في القبض بحكم المعاوضة فلا فرق
بين التصريح وعدمه فإن قلنا يعتق بالأداء برئ المكاتب من مال الكتابة ويرجع السيد على المشتري
بما قبضه لأنه كالنائب عنه فإن كان من جنس الثمن وكان قد تلف تقاصا بقدر أقلهما ورجع ذو الفضل
بفضله وان قلنا لا يعتق بذلك فمال الكتابة باق في ذمة المكاتب ويرجع المكاتب على المشتري بما
410

دفعه إليه ويرجع المشتري على البائع فإن سلمه المشتري إلى البائع لم يصح تسليمه لأنه قبضه بغير اذن
المكاتب فأشبه ما لو أخذه من ماله بغير اذنه وإن كان من غير جنس مال الكتابة تراجعا بما لكل
واحد منهما على الآخر وان باعه ما أخذه بماله في ذمته وكان مما يجوز البيع فيه جاز إذا كان ما قبضه
السيد باقيا وإن كان قد تلف ووجبت قيمته وكان من جنس مال الكتابة تقاصا وإن كان المقبوض
من جنس مال الكتابة فتحاسبا به جاز
(فصل) وإذا كان للمكاتب ولد تبعه في الكتابة فباعهما صح لأنهما ملكه ولا مانع من
بيعهما ويكونان عند المشتري كما كانا عند البائع سواء وان باع أحدهما دون صاحبه أو باع أحدهما
الرجل وباع الآخر لغيره لم يصح لوجهين
(أحدهما) انه لا يجوز التفريق بين الوالد وولده في البيع إلا بعد البلوغ على إحدى الروايتين
(والثاني) ان الولد تابع لوالده وله كسبه وعليه نفقته فصار في معنى مملوكه فلم يجز التفريق بينهما وعلى
الرواية الأخرى يحتمل أن يجوز بيعه بعد البلوغ لأنه محل للبيع صدر فيه التصرف من أهله ويكون
عند من هو عنده على ما كان عليه قبل بيعه لوالده كسبه وعليه نفقته وأرش جنايته ويعتق بعتقه
كما لو بيع مع والده
(فصل) وتصح الوصية لمكاتبه لأنه مع سيده في المعاملة كالأجنبي ولذلك جاز دفع زكاته
411

إليه فإن قال ضعوا عن مكاتبي بعض كتابته أو بعض ما عليه وضعوا ما شاءوا قليلا كان أو كثيرا
وقد ذكرنا نحوه في الوصايا
(مسألة) (وإن اشترى كل واحد من المكاتبين الآخرين صح شراء الأول وبطل شراء
الثاني وسواء كانا لواحد أو لاثنين)
لا خلاف في أن المكاتب يصح شراؤه للعبيد والمكاتب يجوز بيعه على ما ذكرنا في الصحيح
من المذهب فإذا اشترى أحدهما الآخر صح شراؤه وملكه لأن التصرف صدر من أهله في محله وسواء
كانا مكاتبين لسيد واحد أو لاثنين فإن عاد الثاني فاشترى الذي اشتراه لم يصح لأنه سيده ومالكه
وليس للملوك أن يملك مالكه لأنه يفضي إلى تناقض الأحكام إذ كل واحد منهما يقول لصاحبه أنا
سيدك ولي عليك مال الكتابة تؤديه إلي وان عجزت فلي فسخ كتابتك وردك إلى أن تكون رقيقا
وهذا تناقض وإذا تناقض بملك المرأة زوجها ملك اليمين لثبوت ملكه عليها في النكاح فههنا أولى
ولأنه لو صح هذا لتقاصا الدينين إذا تساويا وعتقا جميعا
إذا ثبت هذا فشراء الأول صحيح والمبيع منهما باق على كتابته فإن أدى عتق وولاؤه موقوف
فإن أدى سيده كتابته كان الولاء له لأنه عتق بأدائه إليه وان عجز فولاؤه لسيده لأن العبد لا يثبت
له ولان السيد يأخذ ماله فكذلك حقوقه هذا مقتضى قول القاضي ومقتضى قول أبي بكر ان الولاء
412

لسيده لأن المكاتب عبد لا يثبت له الولاء فيثبت لسيده ذكر ذلك فيما إذا أعتق باذن سيده أو
كاتب عبده فأدى كتابته وهذا نظيره، ويحتمل ان يفرق بينهما لكون العتق ثم باذن السيد
فيحصل الانعام عنه باذنه فيه وههنا لا يفتقر إلى اذنه فلا نعمة له عليه فلا يكون له عليه ولاء ما لم يعجز سيده
(مسألة) (فإن لم يعلم السابق منهما فسد البيعان)
وهذا قول أبي بكر ويرد كل واحد منهما إلى كتابته لأن كل واحد منهما مشكوك في صحة
بيعه فيرد إلى اليقين وذكر القاضي انه يجري مجرى ما إذا زوج الوليان فأشكل الأول منهما فيقتضي
هذا ان يفسخ البيعان كما يفسخ النكاحان، وعلى قول أبي بكر لا يحتاج إلى الفسخ لأن النكاح إنما
احتيج فيه إلى الفسخ من اجل المرأة فإنها منكوحة نكاحا صحيحا لواحد منهما يقينا فلا يزول الا بفسخ وفي
مسئلتنا لم يثبت يقين البيع في واحد بعينه فلم يفتقر إلى فسخ
(مسألة) (وان أسر العدو المكاتب فاشتراه رجل فأحب سيده اخذه بما اشتراه والا فهو
عند مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته يعتق بالأداء وولاؤه له)
إذا أسر الكفار مكاتبا ثم استنقذه المسلمون فالكتابة بحالها فإن اخذ في الغنائم فعلم بحاله أو
أدركه سيده قبل قسمه اخذه بغير شئ وهو على كتابته كمن لم يؤسر وان لم يدركه حتى قسم وصار
في سهم بعض الغانمين أو اشتراه رجل من الغنيمة قبل قسمه أو من المشركين وأخرجه إلى سيده
413

فإن السيد أحق به بالثمن الذي ابتاعه به وفيما إذا كان غنيمة رواية أخرى انه إذا قسم فلا حق لسيده
فيه بحال فيخرج في المشتري مثل ذلك وعلى كل تقدير فإن سيده ان اخذه فهو مبقى على ما بقي
من كتابته وان تركه فهو في يد مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته يعتق بالأداء في الموضعين وولاؤه
لمن يؤدي إليه كما لو اشتراه من سيده
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يثبت عليه ملك للكفار ويرد إلى سيده بكل حال ووافق أبو حنيفة
والشافعي في المكاتب والمدبر خاصة لأنهما عنده لا يجوز بيعهما ولا نقل الملك فيهما فأشبها أم الولد
وقد تقدم الكلام في الدلالة على أن ما أدركه صاحبه مقسوما لا يستحق صاحبه أخذه بغير شئ
وكذلك ما اشتراه مسلم من دار الحرب وفي ان المكاتب والمدبر يجوز بيعهما بما يغني عن اعادته ههنا
(فصل) وهل يحتسب عليه بالمدة التي كان فيها عند الكفار؟ على وجهين
(أحدهما) لا يحتسب عليه بها لأن الكتابة اقتضت تمكينه من التصرف والكسب في هذه المدة
فإذا لم يحصل ذلك لم يحتسب كما لو حسبه سيده فعلى هذا يبني على ما مضى من المدة قبل الأسر
وتلغى مدة الأسر كأنها لم توجد
(والثاني) يحتسب عليه بها لأنها من مدة الكتابة مضت بغير تفريط من سيده فأحتسب عليه
بها كمرضه ولأنه مدين مضت مدة من اجل دينه في حبسه فأحتسب عليه كسائر الغرماء وفارق ما
إذا حبسه سيده بما ذكرناه فعلى هذا إذا حل عليه نجم عند استنقاذه جازت مطالبته به وان حل ما
يجوز تعجيزه بترك أدائه فلسيده تعجيزه ورده إلى الرق وهل له ذلك بنفسه أو بحكم الحاكم؟ فيه وجهان
414

(أحدهما) له ذلك لأنه تعذر عليه الوصول إلى المال في وقته أشبه ما لو كان حاضرا والمال غائبا يتعذر
احضاره وأداؤه في مدة قريبة كان لسيده الفسخ والمال ههنا اما معدوم واما غائب يتعذر أداؤه وفي
كلا الحالتين يجوز الفسخ (والثاني) ليس له ذلك الا بحكم الحاكم لأنه مع الغيبة يحتاج إلى أن
يبحث هل له مال أم لا؟ وليس كذلك إذا كان حاضرا فإنه يطالبه فإن أدى والا فقد عجز
نفسه فإن فسخ الكتابة بنفسه أو بحكم الحاكم ثم خلص المكاتب وادعى ان له مالا في وقت الفسخ
يفي بما عليه وأقام بذلك بينة بطل الفسخ ويحتمل ان لا يبطل حتى يثبت أنه كان يمكنه أداؤه لأنه إذا
كان متعذر الأداء كان وجوده كعدمه
(فصل) (قال الشيخ رضي الله عنه وان جنى على سيده أو أجنبي فعليه فداء نفسه مقدما على
الكتابة وقال أبو بكر يتحاصان)
وجملة ذلك أن المكاتب إذا جنى جناية موجبة للمال تعلق أرشها برقبته ويؤدي من المال الذي
في يده وبهذا قال الحسن والحكم وحماد والأوزاعي ومالك والحسن بن صالح والشافعي وأبو ثور
وقال عطاء والنخعي وعمرو بن دينار جنايته على سيده وقال عطاء ويرجع سيده بها عليه وقال الزهري
إذا قتل رجلا خطأ كانت كتابته وولاؤه لولي المقتول الا ان يفديه سيده
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجني جان الا على نفسه) ولأنها جناية عبد فلم تجب في ذمة سيده كالقن
415

إذا ثبت هذا فإنه يبدأ بأداء الجناية قبل الكتابة سواء حل عليه نجم أو لم يحل نص عليه أحمد وهو
المعمول به في المذهب وذكر أبو بكر قولا آخر ان السيد يشارك ولي الجناية فيضرب بما حل من نجوم
كتابته لأنهما دينان فيتحاصان قياسا على سائر الديون
ولنا ان أرش الجناية من العبد يقدم على سائر الحقوق المتعلقة به ولذلك قدمت على حق المالك
وحق المرتهن وغيرهما فوجب ان تقدم ههنا. يحققه ان ملك الكتابة مقدم على ملك السيد في عبده
فيجب تقديمه على عوض وهو مال الكتابة بطريق الأولى لأن الملك فيه قبل الكتابة كان مستقرا
ودين الكتابة غير مستقر فإذا قدم على المستقر فعلى غيره أولى. إذا ثبت هذا فإنه يفدي نفسه بأقل
الامرين من قيمته أو أرش جنايته لأنه إن كان أرش الجناية أقل فلا يلزمه أكثر من موجب جنايته
وهو أرشها، وإن كان أكثر لم يكن عليه أكثر من قيمته لأنه لا يلزمه أكثر من بذل المحل الذي تعلق
به الأرش فإن بدأ بدفع المال إلى ولي الجناية فوفى بأرش الجناية والا باع الحاكم منه بما يفي من أرشها
وباقيه باق على كتابته وان اختار السيد الفسخ فله ذلك ويعود عبدا قنا مشتركا بين السيد والمشتري
وان أبقاه السيد على الكتابة فأدى عتق بالكتابة وسرى العتق إلى باقيه إن كان المكاتب موسرا
ويقوم عليه وإن كان معسرا عتق منه ما عتق وباقيه رقيق فإن لم يكن في يده مال ولم يف بالجناية
الا قيمته كلها بيع كله فيها وبطلت كتابته
416

(فصل) وان بدأ بدفع المال إلى سيده وكان ولي الجناية سأل الحاكم فحجر على المكاتب ثبت
الحجر عليه وكان النظر فيه إلى الحاكم فلا يصح دفعه إلى سيده ويرتجعه الحاكم ويسلمه إلى ولي
الجناية فإن وفى والا كان الحكم فيه على ما ذكرنا من قبل وان لم يكن الحاكم حجر عليه صح
دفعه إلى السيد لأنه يقضي حقا عليه فجاز كما لو قضى بعض غرمائه قبل الحجر عليه فإن كان ما دفعه
إليه جميع مال الكتابة عتق
(مسألة) (وعليه فداء نفسه ويكون الأرش في ذمته فيضمن ما كان عليه قبل العتق ويفديه
بأقل الامرين من قيمته أو أرش جنايته)
لأنه لا يلزم أكثر مما كان واجبا عليه بالجناية فإن أعتقه السيد فعليه فداؤه بذلك لأنه أتلف
محل الاستحقاق فأشبه ما لو قتله
(مسألة) (وان عجز فلسيده تعجيزه ويفديه أيضا بما ذكرناه وقال أبو بكر فيه رواية أخرى
أنه يفديه بأرش الجناية بالغة ما بلغت)
لأنه لو سلمه احتمل أن يرغب فيه راغب بأكثر من قيمته فقد فوت تلك الزيادة باعتاقه
(فصل) فإن كانت الجناية على سيده فيما دون النفس فالسيد خصمه فيها فإن كانت موجبة للقصاص
فلسيده القصاص كما يجب على عبده القن لأن القصاص يجب للزجر فيحتاج إليه العبد في حق سيده
417

وان عفا على مال أو كانت موجبة للمال وجب له لأن المكاتب مع سيده كالأجنبي يصح أن يبايعه ويثبت
له في ذمته المال والحقوق كذلك الجناية ويفدي نفسه بأقل الامرين كالجناية على الأجنبي وعنه
يفديه بأرش الجناية كله فإن وفى ما في يده بما عليه فلسيده مطالبته به وان لم يف به فلسيده
تعجيزه فإذا عجزه وفسخ الكتابة سقط عنه مال الكتابة وأرش الجناية وعاد عبدا قنا ولا يثبت
للسيد على عبده القن مال وان أعتقه سيده ولا مال في يده سقط الأرش لأنه متعلق برقبته وقد أتلفها
وإن كان في يده مال لم يسقط لأن الحق كان متعلقا بالذمة وما في يده من المال فإذا تلفت الرقبة بقي
الحق متعلقا بالمال فاستوفي منه كما لو عتق بالأداء وهل يجب أقل الأمرين أو أرش الجناية كله؟ على وجهين
ويستحق السيد مطالبته بأرش الجناية قبل أداء مال الكتابة لما ذكرنا من قبل في حق الأجنبي وان اختار
تأخير الأرش والبداية بقبض مال الكتابة جاز ويعتق إذا قبض مال الكتابة كله وقال أبو بكر لا يعتق
بالأداء قبل أرش الجناية لوجوب تقديمه على مال الكتابة
ولنا ان الحقين ان الحقين جميعا للسيد فإذا تراضيا على تقديم أحدهما على الآخر جاز لأن الحق لهما لا يخرج
عنهما ولأنه لو بدأ بأداء مال الكتابة في حق الأجنبي عتق ففي حق السيد أولى ولان أرش الجناية
لا يلزم أداؤه قبل اندمال الجرح فيمكن تقديم وجوب الأداء عليه إذا ثبت هذا فإنه إذا أدى عتق ويلزمه
أرش الجناية سواء كان في يده مال أو لم يكن لأن عتقه بسبب من جهته فلم يسقط ما عليه بخلاف ما
418

إذا أعتقه سيده فإنه أتلف محل حقه بخلاف هذا وهل يلزمه أقل الأمرين أو جميع الأرش؟ على
وجهين وان كانت جنايته على نفس سيده فلورثته القصاص في العمد والعفو على مال وفي الخطأ المال
وحكم الورثة مع المكاتب حكم سيده معه لأن الكتابة انتقلت إليهم والعبد لو عاد قنا كان لهم
وان جنى على موروث سيده فورثه سيده فالحكم فيه كما لو كانت الجناية على سيده فيما دون
النفس على ما مضى
(فصل) وان جنى المكاتب جنايات تعلقت برد رقبته واستوى الأول والآخر في الاستيفاء
ولم يقدم الأول على الثاني ان كانت موجبة للمال لأنها تعلقت بمحل واحد وكذا إن كان بعضها في
حال كتابته وبعضها بعد تعجيزه فهي سواء ويتعلق جميعها بالرقبة فإن كان فيها ما يوجب القصاص
فالولي الجناية استيفاؤه وتبطل حقوق الآخرين فإن عفا إلى مال صار حكمه حكم الجناية الموجبة للمال
فإن أبرأه بعضهم استوفى الباقون لأن حق كل واحد يتعلق برقبته يستوفيه إذا انفرد فإذا اجتمعوا
تزاحموا فإذا أبرأه بعضهم سقط حقه وتزاحم الباقون كما لو انفردوا كما في الوصايا وديون الميت فإن
أدى وعتق فالضمان عليه وان أعتقه سيده فعليه الضمان وأيهما ضمن فالواجب عليه أقل الأمرين كما
ذكرنا في الجناية الواحدة ولأنه لو عجزه الغرماء وعاد قنا بيع وتحاصوا في ثمنه كذلك ههنا فاما ان
عجزه سيده وعاد قنا خير بين فدائه وتسليمه فإن اختار فداءه فداه بأقل الامرين كما لو أعتقه أو قتله
419

وفيه رواية أخرى أنه يلزمه أرش الجناية كله لأنه لو سلمه احتمل ان يرغب فيه راغب بأكثر من قيمته فقد
فوت تلك الزيادة باختياره امساكه فكان عليه جميع الأرش ويفارق ما إذا أعتقه أو قتله لأن المحل تلف فتعذر
تسليمه فلم يجب أكثر من قيمته والمحل ههنا باق يمكن تسليمه وبيعه وقد ذكرناه فإن أراد المكاتب فداء
نفسه قبل تعجيزه أو أعتقه ففيما تفدى به نفسه وجهان بناء على ما إذا عجزه سيده والله أعلم
(مسألة) وان لزمته ديون تعلقت بذمته بيع بها بعد العتق)
إذا اجتمع على المكاتب ثمن مبيع أو عوض قرض أو غيرهما من الديون مع مال الكتابة وفي يده
ما يفي بها فله أداؤها ويبدأ بأيها شاء كالحر وان لم يف بها ما في يده وكلها حالة ولم يحجر الحاكم عليه
فخص بعضهم بالقضاء صح كالحر وإن كان فيها مؤجل فعجله بغير إذن سيده لم يجز لأن تعجيله تبرع
فلم يجز بغير اذن سيده كالهبة وإن كان باذن سيده جاز كالهبة وإن كان التعجيل للسيد فقبوله بمنزلة
اذنه وإن كان الحاكم قد حجر عليه بسؤال غرمائه فالنظر إلى الحاكم وإنما يحجر عليه بسؤالهم فإن
حجر عليه بغير سؤالهم لم يصح لأن الحق لهم فلا يستوفى بغير اذنهم وان سأله سيده الحجر عليه لم
يجبه إلى ذلك لأن حقه غير مستقر فلا يحجر عليه من أجله وإذا حجر عليه بسؤال الغرماء فقال القاضي
عندي انه يبدأ بقضاء ثمن المبيع وعوض القرض يستوي بينهما ويقدمهما على أرش الجناية ومال الكتابة
لأن أرش الجناية محله الرقبة فإذا لم يحصل مما في يده استوفي من رقبته
420

وهذا مذهب الشافعي وقد ذكرنا أن أصحابنا والشافعي اتفقوا على تقديم أرش الجناية على مال
الكتابة فيما مضى وإذا لم يحجر عليه ودفع إلى السيد مال الكتابة عتق وبقيمة الديون في ذمته
يتبع بها بعد العتق لأنه صار حرا فهو كالاحرار ولان المداين رضي بذمته حين أدائه فكان له
ما رضي به كالحر.
(فصل) وإذا جنى بعض عبيد المكاتب جناية توجب القصاص فللمجني عليه الخيار بين القصاص
والمال فإن اختار المال أو كانت الجناية خطأ أو شبه عمد أو اتلاف مال تعلق أرشها برقبته وللمكاتب
فداؤه بأقل الامرين من قيمته أو أرش جنايته لأنه بمنزلة شرائه وليس له فداؤه بأكثر من قيمته
كما لا يجوز له ان يشتريه بذلك الا ان يأذن فيه سيده فإن كان الأرش أقل من قيمته لم
يكن له تسليمه لأنه تبرع بالزائد وان زاد الأرش على قيمته فهل يلزمه تسليمه أو يفديه بأقل
الأمين؟ على روايتين:
(فصل) فإن ملك المكاتب ابنه أو بعض ذوي رحمه المحرم أو ولد له ولد من أمته فجنى جناية تعلق
أرشها برقبته فللمكاتب فداؤه بغير اذن سيده كما يفدي غيره من عبيده.
وقال القاضي في المجرد ليس له فداؤه بغير اذنه وهو مذهب الشافعي لأنه اتلاف لا له فإن ذوي
رحمه ليسوا بمال له ولا يتصرف فيهم فلم يجز له اخراج ماله في مقابلتهم ولا شراؤهم كالتبرع ويفارق
421

العبد الأجنبي فإنه ينتفع به وله صرفه في كتابته وكان له فداؤه وشراؤه كسائر أمواله ولكن إن كان
لهذا الجاني كسب فدي منه وان لم يكن له كسب بيع في الجناية ان استغرقت قيمته وان لم تستغرقها بيع
بعضه فيها وما بقي للمكاتب.
ولنا انه عبد له حي فملك فداءه كسائر عبيده ولا نسلم انه لا يملك شراءه وقولهم لا يتصرف
فيه قلنا الا ان كسبه له فإن عجز المكاتب صار رقيقا معه لسيده وإن أدى المكاتب لم يتضرر السيد
بعتقهم وانتفع به المكاتب وإذا دار أمره بين نفع وانتفاء ضرر وجب ان لا يمنع منه وفارق التبرع
فإنه يفوت المال على السيد فإن قيل فيه ضرر وهو منعه من أداء الكتابة فإنه إذا صرف المال فيه
ولم يقدر على صرفه في الكتابة عجز عنها قلنا هذا الضرر لا يمنع المكاتب منه بدليل ما لو ترك الكسب
مع إمكانه أو امتنع من الأداء مع قدرته عليه فإنه لا يمنع منه ولا يجبر على كسب ولا أداء فكذلك
لا يمنع مما هو في معناه ولا مما يفضي إليه ولان غاية الضرر في هذا المنع من اتمام الكتابة وليس اتمامها
واجبا عليه فأشبه ترك الكسب بل هذا أولى لوجهين
(أحدهما) ان هذا فيه نفع للسيد لمصيرهم عبيدا له (والثاني) أن فيه نفعا للمكاتب باعتاق ولده وذوي
رحمه ونفعا لهم بالاعتاق على تقدير الأداء فإذا لم يمنع مما يساويه في المضرة من غير نفع فيه فلان لا يمنع مما فيه نفع
لازم لاحدى الجهتين أولى وولد المكاتبة يدخل في كتابتها والحكم في جنايته كالحكم في ولد المكاتب سواء
422

(فصل) وان جنى بعض عبيد المكاتب على بعض جناية موجبها المال لم يثبت لها حكم لأنه لا
يجب للسيد على عبده مال وإن كان موجبها القصاص فقال أبو بكر ليس له القصاص لأنه اتلاف لماله باختياره
وهذا الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكره أبو الخطاب في رؤوس المسائل، وقال القاضي
له القصاص لأنه من مصلحة ملكه فإنه لو لم يقتص أفضى إلى إقدام بعضهم على بعض وليس له العفو على مال
لما ذكرنا ولا يجوز بيعه في أرش الجناية لأن الأرش لا يثبت له في رقبة عبده فإن كان الجاني من عبيده
ابنه لم يجز بيعه لذلك وقال أصحاب الشافعي يجوز بيعه في أحد الوجهين لأنه لا يملك بيعه قبل
جنايته فيستفيد بالجناية ملك بيعه.
ولنا أنه عبده فلم يجب له عليه أرش كالأجنبي وما ذكروه ينتقض بالرهن إذا جني على راهنه
(فصل) فإن جنى عبد المكاتب عليه جناية موجبها المال كانت هدرا لما ذكرنا وإن كان موجبها
القصاص فله ان يقتض فيما دون النفس لأن العبد يقتص منه لسيده وان عفا على مال سقط القصاص
ولم يجب المال فإن كان الجاني أباه لم يقتص منه لأن الوالد لا يقتل بولده وان جنى المكاتب عليه
لمى يقتص منه لأن السيد لا يقتص منه لعبده وقال القاضي فيه وجه آخر أنه يقتص منه لأن حكم الأب
معه حكم الأحرار بدليل أنه لا يملك بيعه والتصرف فيه وجعلت حريته موقوفة على حريته قال القاضي
ولا نعلم موضعا يقتص فيه المملوك من مالكه غير هذا الموضع
423

(فصل) وان جنى على المكاتب فيما دون النفس فأرش الجناية له دون سيده لثلاثة معان (أحدهما)
ان كسبه له وذلك عوض عما يتعطل بقطع يده من كسبه (والثاني) ان المكاتبة تستحق المهر
في النكاح لتعلقه بعضو من أعضائها كذلك بدل العوض (الثالث) ان السيد أخذ مال الكتابة
بدلا عن نفس المكاتب فلا يجوز ان يستحق عنه عوضا آخر ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال
(أحدهما) أن يكون الجاني سيده فلا قصاص عليه لامرين (أحدهما) أنه حر والمكاتب عبد
(والثاني) انه ملكه ولا يقتص من المالك لمملوكه ولكن يجب الأرش إذا اندمل الجرح على ما
يذكر في الجنايات ولأنه قبل الاندمال لا تؤمن سرايته إلى نفسه فيسقط أرشه فإذا ثبت هذا فسرى
الجرح إلى نفسه انفسخت الكتابة وكان الحكم فيه كما لو قتله فإن اندمل لجرح وجب له أرشه على
سيده ويتقاصان إن كان من جنس مال الكتابة وقد حل عليه نجم وإن كان من غير جنس مال
الكتابة أو لم يحل عليه نجم لم يتقاصا ويطالب كل واحد منهما بما يستحقه فإن اتفقا على أن يجعل
أحدهما عوضا عن الآخر وكانا من جنسين لم يجز لأنه بيع دين بدين فإن قبض أحدهما حقه ثم دفعه
إلى الآخر عوضا عن حقه جاز وان رضي المكاتب بتعجيل الواجب له عما لم يحل من نجومه جاز
إذا كان من جنس مال الكتابة
424

(الحال الثانية) إذا كان الجاني أجنبيا حرا فلا قصاص، لا يقتل بالعبد فإن سرى الجرح إلى
نفسه انفسخت كتابته وعلى الجاني قيمته لسيده وان اندمل الجرح فعليه أرشه له فإن أدى الكتابة
وعتق ثم سرى الجرح إلى نفسه وجبت ديته لأن اعتبار الضمان بحالة الاستقرار ويكون ذلك لورثته
فإن كان الجاني السيد أو غيره من ورثته لم يرث منه شيئا لأن القاتل لا يرث ويكون لبيت المال ان
لم يكن له وارث ومن اعتبر الجناية بحالة ابتدائها أوجب على الجاني قيمته ويكون أيضا لورثته
(الحال الثالث) إذا كان الجاني عبدا أو مكاتبا فإن كان موجب الجناية القصاص وكانت على
النفس انفسخت الكتابة وسيده بالخيار بين القصاص والعفو على مال يتعلق برقبة الجاني وان كانت
فيما دون النفس كقطع يده فللمكاتب استيفاء القصاص وليس لسيده منعه كما أن المريض يقتص ولا
يعترض عليه ورثته والمفلس يقتص ولا يعترض عليه غرماؤه وان عفا على مال ثبت له وان عفا
مطلقا انبنى على الروايتين في موجب العمد وان قلنا موجبه القصاص عينا صح ولم يثبت له مال وليس
لسيده مطالبته باشتراط مال لأن ذلك تكسب ولا يملك اجباره على الكسب وان قلنا الواجب أحد
أمرين ثبت له دية الجرح لأنه لما ثبت القصاص تعين المال ولا يصح عفوه عن المال لأنه لا يملك
التبرع بغير إذن سيده وان صالح على بعض الأرش فحكمه حكم العفو إلى غير مال
(فصل) وإذا مات المكاتب وعليه ديون وأروش جنايات ولم يكن ملك ما يؤدي في كتابته
425

انفسخت الكتابة وسقط أرش الجنايات لأنها متعلقة برقبته وقد تلفت ويستوفي ديونه مما كان في
يده فإن لم يف بها سقط الباقي قال أحمد ليس على سيده قضاء دينه هذا كان يسعى لنفسه وإن كان
قد ملك ما يؤدي في كتابته انبنى ذلك على الروايتين في عتق المكاتب بملك ما يؤديه وقد ذكرنا
فيه روايتين الظاهر منهما أنه لا يعتق بذلك فتنفسخ الكتابة أيضا ويبدأ بقضاء الدين على ما ذكرنا
في الحال الأول وهذا قول زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن وشريح وعطاء وعمرو بن
دينار وأبي الزناد ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي (والثانية) انه إذا أملك
ما يؤدي صار حرا فعلى هذا يضرب السيد مع الغرماء بما حل من نجومه روي نحو هذا عن شريح
والنخعي والشعبي والحكم وحماد وابن أبي ليلى والثوري والحسن ابن صالح لأنه دين حال فيضرب
به كسائر الديون ويجئ على قول من قال إن الدين يحل بالموت ان يضرب بجميع مال الكتابة لأنه
فدحل بالموت والمذهب الأول الذي نقله الجماعة عن أحمد وقد روي سعيد في سننه ثنا هشيم ثنا
منصور وسعيد عن قتادة قال ذكرت لسعيد بن المسيب قول شريح في المكاتب إذا مات وعليه
دين وبقية من مكاتبته فقلت ان شريحا قضى ان مولاه يضرب مع الغرماء فقال سعيد أخطأ
شريح قضى زيد بالدين قبل المكاتبة
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وهي عقد لازم من الطرفين لا يدخلها خيار ولا يملك أحدهما فسخها
426

وجملة ذلك أن الكتابة عقد لازم من الطرفين لأنها عقد معاوضة أشبه عقد النكاح والبيع ولا
يدخلها خيار لأن الخيار شرع لدفع الغين عن المال والسيد دخل على بصيرة ان الحظ لعبده فلا معنى
للخيار ولا يملك أحدهما فسخها قياسا على سائر العقود اللازمة وعنه ان العبد يملك ذلك وسنذكره
ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل كسائر عقود المعاوضات
(مسألة) (ولا تنفسخ بموت السيد لا نعلم في ذلك خلافا ولا تنفسخ بجنونه ولا الحجر
عليه لأنه عقد لازم أشبه البيع)
(مسألة) (ويعتق بالأداء إلى سيده وقد ذكرنا ذلك وبالأداء إلى الورثة)
لأنه انتقل إليهم مع بقاء الكتابة فهو كالأداء إلى موروثهم ويكون مقسوما بينهم على قدر
مواريثهم كسائر ديونه فإذا كان له أولاد ذكور وإناث فللذكر مثل حظ الأنثيين ولا يعتق حتى
يؤدي إلى كل ذي حق حقه فإن أدى إلى بعضهم دون بعض لم يعتق كما لو كان بين شركاء فأدى
إلى بعضهم فإن كان بعضهم غائبا وله وكيل دفع نصيبه إلى وكيله وان لم يكن له وكيل دفع نصيبه
إلى الحاكم وعتق وإن كان موليا عليه دفع إلى وليه إما أبيه أو وصيه أو الحاكم أو أمينه فإن كان
له وصيان لم يبرأ إلا بالدفع إليهما معا وإن كان الوارث رشيدا قبض لنفسه ولا تصح الوصية ليقبض
له لأن الرشيد ولي نفسه وإن كان بعضهم رشيدا وبعضهم موليا عليه فحكم كل واحد منهم حكمه
427

وانفرد فإن إذن بعضهم في الأداء إلى الآخر وكان الذي اذن رشيدا فأذى إلى الآخر جميع حقه
عتق نصيبه ولا يسري إلى نصيبه شريكه إن كان معسرا ويسري إليه إن كان موسرا ويقوم
عليه نصيب شريكه كله كما لو كان بين شريكين فاعتق أحدهما نصيبه وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو
أحد قولي الشافعي وقال القاضي لا يسري عتقه وإن كان موسرا وهذا القول الثاني للشافعي وقال
أبو حنيفة لا يعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة لأنه أدى بعض مال الكتابة فأشبه ما لو أداه إلى السيد
فإن أبرؤه من مال الكتابة برئ منه وعتق وان أبرأه بعضهم عتق نصيبه وكذلك ان أعتق نصيبه
منه عتق والخلاف في هذا كله كالخلاف فيما إذا أدى إلى بعضهم باذن الآخر
ولنا على أنه يعتق نصيب من أبرأ من حقه عليه أو استوفى نصيبه باذن شركائه انه أبرأه من
جميع ماله عليه فوجب ان يلحقه العتق كما لو أبرأه سيده من جميع مال الكتابة وفارق ما إذا أبرأه
سيده من بعض مال الكتابة لأنه ما أبرأه من جميع حقه
ولنا على سراية عتقه انه اعتاق لبعض العبد الذي يجوز اعتاقه من موسر جائز التصرف غير
محجور عليه فوجب ان يسري عتقه كما لو كان قنا ولأنه عتق حصل بفعله واختياره فسرى كمحل
الوفاق فإن قيل في السراية اضرار بالشركاء لأنه قد يعجز فيرد إلى الرق قلنا إذا كان العتق في
محل الوفاق يزيل الرق المتمكن الذي لا كتابة فيه فلان يزيل عرضية ذلك بطريق الأولى
428

(فصل) وإذا عتق بالأداء إلى الورثة فولاؤه لسيده في إحدى الروايتين وهو اختيار الخرقي يختص
به عصباته دون أصحاب الفروض وهذا قول أكثر الفقهاء واختاره أبو بكر ونقله إسحاق
ابن منصور عن أحمد وإسحاق وروى حنبل وصالح بن أحمد عن أبيه قال اختلف الناس في المكاتب
يموت سيده وعليه بقية من كتابته قال بعض الناس الولاء للرجال والنساء وقال بعضهم لا ولاء للنساء
لأن هذا إنما هو دين على المكاتب ولا يرث النساء من الولاء إلا ما كاتبن أو أعتقن والذي يغلب
علي انهن يرثن ولو عجز المكاتب بعد وفاة السيد رد رقيقا، وهذا قول طاوس والزهري لأن المكاتب
انتقل إلى الورثة بموت السيد بدليل انهم لو أعتقوه بعد عتقهم لكان ولاؤه لهم كما لو انتقل بالشراء
ولأنه يؤدي إلى الورثة فكان ولاؤه لهم كما لو أدى إلى المشتري ووجه الأول ان السيد هو المنعم
بالعتق فكان الولاء له كما لو أدى إليه ولان الورثة إنما ينتقل إليهم ما بقي للسيد وإنما بقي له دين
في ذمة المكاتب والفرق بين الميراث والشراء أن السيد نقل حقه في البيع باختياره فلم يبق له فيه
حق من وجه والوارث يخلف الموروث ويقوم مقامه ويلي على موروثه ولا ينتقل إليه شئ أمكن
بقاؤه لموروثه والولاء مما أمكن بقاؤه للموروث فوجب أن لا ينتقل عنه وقذ ذكرنا ذلك في باب الولاء
(فصل) وان أعتقه الورثة صح عتقهم لأنه ملك لهم فصح عتقهم له ولان السيد لو أعتقه نفذ
عتقه وهم يقومون مقام موروثهم وولاؤه لهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) وإن أعتق
429

بعضهم نصيبه فعتق عليه كله بالسراية قوم عليه نصيب شركائه وكان ولاؤه له وان لم يسر لكونه
معسرا أو لغير ذلك فله ولاء ما أعتقه للخبر ولأنه منعم عليه فكان الولاء له كغير المكاتب وقال القاضي
ان أعتقوه كلهم قبل عجزه كان الولاء للسيد وان أعتق بعضهم لم يسر عتقه ثم ينظر فإن أدي إلى
الباقين عتق كله وكان ولاؤه للسيد وان عجز فردوه إلى الرق كان ولاء نصيب المعتق له لأنه لولا
اعتاقه لعاد سهمه رقيقا كسهام سائر الورثة فلما أعتقه كان هو المنعم عليه فكان الولاء له دونهم فأما
ان أبرأه الورثة كلهم عتق وكان ولاؤه على الروايتين اللتين ذكرناهما فيما إذا أدى إليهم لأن الابراء
جرى مجرى أداء ما عليه ويحتمل أن يكون الولاء لهم لأنهم أنعموا عليه بما عتق به أشبه ما لو أعتقوه
وان أبرأه بعضهم من نصيبه كان في ولائه ما ذكرنا من الخلاف
(فصل) إذا باع الورثة المكاتب أو وهبوه صح بيعهم وهبتهم لأنهم يقومون مقام موروثهم
وهو يملك بيعه وهبته كذلك ورثته ويكون عند المشتري الموهوب له مبقى على ما بقي من كتابته
ان عجز فعجزه عاد رقيقا له، وان أدى عتق وكان ولاؤه لمن يؤدي إليه على الرواية التي نقول إن
ولاءه للورثة إذا أدى إليهم وأما على الرواية الأخرى فيحتمل أن لا يصح بيعه ولا هبته لأن ذلك
يقتضي ابطال سبب ثبوت الولاء للسيد الذي كاتبه وليس ذلك للورثة ويحتمل أن يصح ويكون
الولاء للسيد ان أعتق بالكتابة، لأن السيد عقدها فعتق بها فكان ولاؤه له ويفارق ما باعه
430

السيد، لأن السيد ببيعه أبطل حق نفسه وله ذلك بخلاف الورثة فإنهم لا يملكون
ابطال حق موروثهم
(فصل) إذا وصى السيد بمال الكتابة صح فإن سلم مال الكتابة إلى الموصى له أو وكيله
أو وليه إن كان محجورا عليه برئ منه وعتق وولاؤه لسيده الذي كاتبه لأنه المنعم عليه وان أبرأه
من المال عتق لأنه برئ من مال الكتابة فأشبه ما لو أدى وان أعتقه لم يعتق لأنه لا يملك رقبته
وإنما وصى له بالمال الذي عليه وإن عجز ورد في الرق صار عبدا للورثة وما قبضه الموصى له من المال
فهو له لأنه قبضه بحكم الوصية الصحيحة والامر في تعجيزه إلى الورثة لأن الحق يثبت لهم بتعجيزه
ويصير عبدا لهم فكانت الخيرة في ذلك إليهم وتبطل وصية الموصى له بتعجيزه وان وصى بمال
الكناية للمساكين ووصى إلى من يقبضه ويفرقه بينهم صح ومتى سلم المال إلى الوصي برئ وعتق
وان أبرأه منه لم يبرأ لأن الحق لغيره فإن دفعه المكاتب إلى المساكين لم يبرأ منه ولم يعتق لأن
التعيين إلى الوصي دونه وان وصى بدفع المال إلى غرمائه تعين القضاء منه كما لو وصى به عطية لهم
فإن كان إنما وصى بقضاء ديونه مطلقا كان على المكاتب ان يجمع بين الورثة والوصي بقضاء الدين
ويدفعه إليهم بحضرته لأن المال للورثة ولهم قضاء الدين منه ومن غيره وللوصي في قضاء الدين حق
لأن له منعهم من التصرف في التركة قبل قضاء الدين
431

(فصل) إذا مات رجل وخلف ابنين وعبدا فادعى العبد ان سيده كاتبه فصدقاه ثبتت الكتابة
لأن الحق لهما وان أنكراه وكانت له بينة ثبتت الكتابة وعتق بالأداء إليهما وان عجز فلهما رده إلى
الرق وان لم يعجزاه وصبرا عليه لم يملك الفسخ وان عجزه أحدهما وأبى الآخر تعجيزه بقي نصفه
على الكتابة ورق النصف الآخر فإن لم تكن له بينة فالقول قولهما مع ايمانهما لأن الأصل بقاء الرق
وعدم الكتابة وتكون ايمانهما على نفي العلم لأنها يمين على نفي فعل الغير فإن حلفا ثبت رقه وإن نكلا
قضي عليهما أوردت اليمين عليه عند من يرى ردها فيحلف العبد وتثبت الكتابة وان حلف أحدهما
ونكل الآخر قضي برق نصفه وكتابة نصفه وان صدقه أحدهما وكذبه الآخر ثبتت الكتابة في نصفه
وعليه البينة في نصفه الآخر فإن لم تكن بينة وحلف المنكر صار نصفه مكاتبا ونصف رقيقا قنا فإن
شهد المقر على أخيه قبلت شهادته لأنه لا يجر إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا فإن كان معه شاهد
آخر كملت الشهادة وثبتت الكتابة في جميعه وان لم يشهد غيره فهل يحلف العبد معه؟ على روايتين
وان لم يكن عدلا أو لم يحلف العبد معه وحلف المنكر كان نصفه مكاتبا ونصفه رقيقا ويكون كسبه
بينه وبين المنكر نصفين ونفقته من كسبه لأنها على نفسه وعلى مالك نصفه فإن لم يكن له كسب كان
على المنكر نصف نفقته ثم إن اتفق هو ومالك نصفه على المهايأة مياومة أو مشاهرة أو كيفما كان
جاز فإن طلب أحدهما ذلك وامتنع الآخر أجبر عليها في ظاهر كلام احمد وهو قول أبي حنيفة، لأن
432

المنافع مشتركة بينهما فإذا أراد أحدهما حيازة نصيبه من غير ضرر لزم الآخر اجابته كالأعيان
ويحتمل ان لا يجبر وهو قول الشافعي لأن المهايأة تأخير حقه الحال لكون المنافع في هذا اليوم مشتركة
بينهما فلا تجب الإجابة إليه كتأخير دينه الحال فإن اقتسما الكسب مناصفة أو مهايأة جاز فإن لم يف
بأداء نجومه فللمقر رده في الرق وما في يده له خاصة لأن المنكر قد اخذ حقه من الكسب وان اختلف
المنكر والمقر فيما في يد المكاتب فقال المنكر هذا كان في يده قبل دعوى الكتابة أو كسبه في حياة
أبينا وأنكر ذلك المقر فالقول قوله مع يمينه لأن المدعي يدعي كسبه في وقت الأصل عدمه فيه ولأنه
لو اختلف هو والمكاتب في ذلك كان القول قول المكاتب فكذلك من يقوم مقامه وان أدى
الكتابة عتق نصيب المقر خاصة ولم يسر إلى نصيب شريكه لأنه لم يباشر العتق ولم ينسب إليه وإنما
كان السبب من أبيه وهذا حاك عن أبيه مقر بفعله فهو كالشاهد ولان المقر بزعم أن نصيب أخيه حر
أيضا لأنه قد قبض من العبد مثل ما قبض فقد حصل أداء مال الكتابة إليهما فعتق كله بذلك وولاء
النصف للمقر لأن أخاه لا يدعيه والمقر يدعي انه كله عتق بالكتابة وهذا الولاء الذي على هذا النصف
من نصيبي من الولاء وقال أصحاب الشافعي في ذلك وجهان
(أحدهما) كقولنا (والثاني) ان الولاء بين الابنين لأنه يثبت لموروثهما فكان لهما بالميراث
433

قال شيخنا والصحيح ما قلناه لما ذكرنا ولا يمتنع ثبوت الولاء للأب واختصاص أحد الابنين به كما
لو ادعى أحدهما دينا لأبيه على انسان وأنكره الاخر فإن المدعي يأخذ نصيبه من الدين ويختص
به دون أخيه وإن كان يرثه عن الأب ولذلك لو ادعياه معا وأقاما به شاهدا واحدا فحلف أحدهما
مع الشاهد وأبى الاخر فإن أعتق أحدهما حصته عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسرا هذا قول الخرقي
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد وكان له ما يبلغ قيمة العبد قوم
عليه قيمة العدل وأعطى شركاؤه حصصهم) ولأنه موسر عتق نصيبه من عبد مشترك
فسرى إلى باقيه كغير المكاتب
وقال أبو بكر والقاضي لا يعتق الا حصته لأنه إن كان المعتق المقر فهو منفذ وإن كان المنكر
لم يسر إلى نصيب المقر لأنه مكاتب لغيره وفي سراية العتق إليه ابطال سبب الولاء عليه فلم يجز ذلك
(مسألة) (وان حل نجم فلم يؤده فللسيد الفسخ وعنه لا يعجز حتى يحل نجمان وعنه لا يعجز
حتى يقول قد عجزت)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيما يجوز به للسيد فسخ الكتابة فروي عنه انه يجوز له
الفسخ إذا عجز عن نجم واحد وهو قول الحارث العكلي وأبي حنيفة والشافعي لأن السيد دخل على أن
يسلم له مال الكتابة على الوجه الذي كاتبه عليه ويدفع إليه المال في نجومه فإذا لم يسلم له لم يلزمه
434

عتقه لأنه عجز عن أداء النجم في وقته فجاز في وقته فجاز فسخ كتابته كالنجم الأخير ولأنه تعذر
العوض في عقد معاوضة ووجد عين ماله فكان له الرجوع كما لو باع سلعة فأفلس المشتري قبل نقد
ثمنها (والرواية الثانية) ان السيد لا يملك الفسخ حتى يحل نجمان قبل أدائها وهو ظاهر كلام الخرقي
قال القاضي وهو ظاهر كلام أصحابنا روي ذلك عن الحكم وابن أبي ليلى وأبي يوسف والحسن بن صالح
لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا يرد المكاتب في الرق حتى يتوالى عليه نجمان ولان ما بين
النجمين محل الأداء الأول فلا يتحقق العجز عنه حتى يفوت محله بحلول الثاني (والراية الثالثة)
أنه لا يعجز حتى يقول قد عجزت رواها عنه ابن أبي موسى وروي عنه أنه إذا أدى أكثر مال
الكتابة لم يرد إلى الرق واتبع بما بقي وإذا قلنا للسيد الفسخ لم تنفسخ الكتابة بالعجز بل له مطالبة
المكاتب بل حل من نجومه لأنه دين له حل فأشبه دينه على الأجنبي وله الصبر عليه وتأخيره به
سواء كان قادرا على الأداء أو عاجزا لأنه حق له سمع بتأخيره أشبه الدين على الأجنبي فإن اختار
الصبر عليه لم يملك العبد الفسخ بغير خلاف نعلمه
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المكاتب إذا حل عليه نجم ونجم
أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحاله أن الكتابة لا تنفسخ ما داما ثابتين على العقد
الأول وان اجله به ثم بدا له الرجوع فله ذلك لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل كالقرض وان اختار
435

السيد فسخ كتابته ورده إلى الرق فله ذلك بغير حضور حاكم ولا سلطان ولا يلزمه الاستبناء به،
فعل ذلك ابن عمر وهو قول شريح والنخعي وأبي حنيفة والشافعي، وقال ابن أبي ليلى لا يكون
عجزه الا عند قاض، وحكي نحوه عن مالك، وقال الحسن إذا عجز استؤني بعد العجز سنتين،
وقال الأوزاعي شهرين
ولنا ما روى سعيد باسناده عن ابن عمر أنه كاتب عبدا له على ألف دينار وعجز عن مائة دينار
فرده في الرق وباسناده عن عطية العوفي عن ابن عمر أنه كاتب عبده على عشرين ألفا فأدى عشرة
آلاف ثم اتاه فقال إني طفت العراق والحجاز فردني في الرق فرده وروي عنه انه كاتب عبدا له
على ثلاثين ألفا فقال له انا عاجز فقال له امح كتابتك فقال لي امح أنت
وروى سعيد باسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال
(أيما رجل كاتب غلامه على مائة أوقية فعجز عن عشر أواق فهو رقيق) ولأنه عقد عجز عن
عوضه فملك فسخه كالمسلم إذا تعذر المسلم فيه فإن قيل فلم كانت الكتابة لازمة من جهة السيد غير
لازمة من جهة العبد؟ قلنا بل هي لازمة من الطرفين ولا يملك العبد فسخها وإنما له ان يعجز نفسه
ويمتنع من الكسب وإنما جاز له ذلك لوجهين (أحدهما) أن الكتابة تتضمن اعتاقا بصفة ومن علق
عتقه بصفة لم يملك ابطالها ويلزم وقوع العتق بالصفة ولا يلزم العبد الاتيان بها ولا الاجبار عليها
436

(الثاني) ان الكتابة لحظ العبد دون سيده فكان لازما لمن ألزم نفسه حظ غيره وصاحب الحظ
بالخيار فيه كمن ضمن لغيره شيئا أو كفل له أو رهن عنده رهنا
(فصل) وإذا حل النجم على المكاتب وماله حاضر عنده طولب به ولم يجز الفسخ قبل الطلب
كما لا يجوز فسخ البيع والسلم بمجرد وجوب الدفع قبل الطلب فإن طلب منه فذكر انه غائب عن
المجلس في ناحية من نواحي البلد أو قريب منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يمكن احضاره قريبا لم
يجز فسخ الكتابة وامهل بقدر ما يأتي به إذا طلب الامهال لأن هذا يسير لا ضرر فيه وإن كان معه
مال من غير جنس مال الكتابة فطلب الامهال ليبيعه بجنس مال الكتابة امهل وإن كان المال غائبا
أكثر من مسافة القصر لم يلزم الامهال وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان له مال حاضر أو
غائب يرجو قدومه استؤني يومين وثلاثة لا أزيده على ذلك لأن الثلاثة آخر حد القلة والقرب لما
بيناه فيما مضى وما زاد عليها في حد الكثرة وهذا كله قريب بعضه من بعض فأما إذا كان قادرا
على الأداء واجدا لما يؤديه فامتنع من أدائه أو قال قد عجزت فقال الشريف أبو جعفر وجماعة
من أصحابنا المتأخرين بملك السيد الفسخ وهذا الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وظاهر كلام
437

الخرقي وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر بن جعفر ليس له ذلك ويجبر على تسليم العوض وهو قول
أبي حنيفة ومالك والأوزاعي وقد ذكر ذلك في كتاب البيع وفيه رواية أخرى أنه إذا قدر على أداء
المال كله أنه يصير حرا بملك ما يؤدي وقد ذكرناها
(فصل) فإن حل النجم والمكاتب غائب بغير اذن سيده فله الفسخ وإن كان غاب باذنه لم
يكن له ان يفسخ لأنه اذن في السفر المانع من الأداء لكن يرفع الامر إلى الحاكم ليجعل للسيد فسخ
الكتابة وإن كان قادرا على الأداء طالبه بالخروج إلى البلد الذي فيه السيد ليؤدي مال الكتابة
أو يوكل من يفعل ذلك فإن فعله في أول حال الامكان عند خروج القافلة إن كان لا يمكنه الخروج
الا معها لم يجز الفسخ وان اخره مع الامكان ومضى زمن المسير ثبت للسيد خيار الفسخ وإن كان
قد جعل للوكيل الفسخ عند امتناع المكاتب من الدفع إليه جاز وله الفسخ إذا ثبتت وكالته
ببينة بحيث يأمن المكاتب انكار السيد فإن لم يثبت ذلك لم يلزم المكاتب الدفع إليه وكان له عذر
يمنع جواز الفسخ لأنه لا يأمن ان يسلم إليه فينكر السيد وكالته ويرجع على المكاتب بالمال وسواء
صدقه في أنه وكيل أو كذبه فإن كتب حاكم البلد الذي فيه السيد إلى حاكم البلد الذي فيه المكاتب ليقبض
منه المال لم يلزمه ذلك لأن هذا توكيل لا يلزم الحاكم الدخول فيه فإن الحاكم لا يكلف القبض للبالغ الرشيد
فإن اختار القبض جرى مجرى الوكيل ومتى قبض منه المال عتق
438

(مسألة) (وليس للعبد فسخها بحال)
لأنها عقد لازم ومقصودها ثبوت الحرية في العبد وذلك حق لله تعالى فلا يملك العبد فسخه
وإن كان له فيه حظ وعنه له ذلك لأن العقد لحظه فملك فسخه كالمرتهن له فسخ الرهن دون
الراهن وان اتفق هو والسيد على فسخها جاز لأن الحق لهما فجاز باتفاقهما كفسخ البيع والإجارة
(مسألة) (ولو زوج ابنته من مكاتبه ثم مات انفسخ النكاح)
إذا زوج السيد ابنته من مكاتبه برضاها ثم مات السيد وكانت من الورثة انفسخ النكاح وبهذا
قال الشافعي ويحتمل أن لا ينفسخ حتى يعجز وبه قال أبو حنيفة لأنها لا ترثه وإنما تملك نصيبها من
الدين الذي عليه بدليل أن الوارث لو أبرأ المكاتب من الدين عتق وكان الولاء للميت لا للوارث
فإن عجز وعاد رقيقا قلنا انفسخ النكاح حينئذ لأنها ملكت نصيبها منه
ولنا أن المكاتب مملوك لسيده ولا يعتق بموته فوجب ان ينتقل إلى ورثته كسائر أملاكه
ولأنها لا يجوز لها ابتداء نكاحه لأجل الملك فانفسخ نكاحها بتجدد ذلك فيه كالعبد القن،
وأما كون الولاء للميت فلان السبب وجد منه فنسب العتق إليه وثبت الولاء له
إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن ترثه كله أو ترث بعضه لأنها إذا ملكت منه جزءا انفسخ
النكاح فيه فبطل في باقيه لأنه لا ينجز فإن كانت لا ترث أباها لمانع من موانع الميراث فنكاحها
439

باق بحاله والحكم في سائر الورثة من النساء كالحكم في البنت وكذلك لو تزوج رجل مكاتبة فورثها
أو بعضها انفسخ نكاحه لذلك
(مسألة) (ويجب على السيد ان يؤتيه ربع مال الكتابة ان شاء وضعه عنه وان شاء
قبضه ثم دفعه إليه)
الكلام في الايتاء في خمسة فصول وجوبه وقدره وجنسه ووقت جوازه ووقت وجوبه
(الفصل الأول) انه يجب على السيد إيتاء المكاتب شيئا مما كوتب عليه روي ذلك عن علي
رضي الله عنه وبه قال الشافعي وإسحاق وقال بريدة والحسن والنخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة
ليس بواجب لأنه عقد معاوضة فلا يجب فيه الايتاء كسائر عقود المعاوضات
ولنا قول الله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) وظاهر الامر الوجوب قال علي رضي الله
عنه: ضعوا عنه ربع مال الكتابة وعن ابن عباس قال ضعوا عنهم مكاتبتهم شيئا وتفارق الكتابة
سائر العقود فإن القصد بها رفق العبد بخلاف غيرها ولان الكتابة يستحق بها الولاء على العبد مع
المعاوضة فكذلك يجب ان يستحق العبد على السيد شيئا فإن قيل المراد بالايتاء إعطاؤه سهما من الصدقة
والندب إلى التصدق عليه وليس ذلك واجبا بدليل ان العقد يوجب العوض عليه فكيف يقتضي
اسقاط شئ منه؟ قلنا أما الأول فإن عليا وابن عباس فسراه بما ذكرنا وهما أعلم بتأويل القرآن وحمل
440

الامر على الندب يخالف مقتضى الامر فلا يصار إليه إلا بدليل وقولهم ان العقد يوجب عليه فلا
يسقط عنه قلنا إنما يجب الرفق به عند آخر كتابته رفقا به ومواساة له وشكرا لنعمة الله تعالى كما
تجب الزكاة مواساة من النعمة التي أنعم الله تعالى بها على عبده ولان العبد ولي جمع هذا المال وتعب
فيه فاقتضى الحال مواساته منه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باطعام عبده من الطعام الذي ولي حره ودخانه
واختص هذا بالوجوب لأن فيه معونة على العتق وإعانة لمن يحق على الله تعالى عونه فإن أبا هريرة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة حق على الله تعالى عونهم المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد
الأداء والناكح الذي يريد العفاف) قال الترمذي هذا حديث حسن
(الفصل الثاني) في قدره وهو الربع ذكره الخرقي وأبو بكر وغيرهما من أصحابنا روي ذلك
عن علي وقال قتادة العشر وقال الشافعي وابن المنذر يجزي ما يقع عليه الاسم وهو قول مالك إلا
أنه عنده مستحب لقول الله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) ومن للتبعيض والقليل بعض
فيكتفى به وقال ابن عباس ضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئا ولأنه قد ثبت أن المكاتب لا يعتق حتى
يؤدي جميع الكتابة بما ذكرنا من الاخبار ولو وجب إيتاؤه الربع لوجوب ان يعتق إذا أدى ثلاثة
أرباع الكتابة ولا يجب عليه أداء مال يجب رده إليه وقد روي عن ابن عمر انه كاتب عبدا له على
خمسة وثلاثين ألفا فأخذ منه ثلاثين وترك له خمسة
441

ولنا ما روي أبو بكر باسناده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) قال
(ربع المكاتبة) وروي موقوفا عن علي ولأنه مال يجب إيتاؤه مواساة بالشرع فكان مقدرا كالزكاة
ولان حكمة إيجابه الرفق بالمكاتب واعانته على تحصيل العتق وهذا لا يحصل باليسير الذي هو أقل
ما يقع عليه الاسم فلم يجز أن يكون هو الواجب وقول الله تعالى (وآتوهم من مال الله) إذا ورد غير
مقدر فيه فإن السنة بينته وقدرته كالزكاة
(الفصل الثالث) في جنسه ان قبض مال الكتابة ثم أعطاه منه أجزأ لأن الآية تقتضيه، وان
وضع عنه مما وجب عليه جاز لأن الصحابة رضي الله عنهم فسروا الآية بذلك ولأنه أبلغ في النفع
وأعون على حصول العتق فيكون أفضل من الايتاء وتدل الآية عليه من طريق التنبيه وان أعطاه
من جنس مال الكتابة من غيره جاز ويحتمل أن لا يلزم المكاتب قبوله، وهو ظاهر كلام الشافعي
لأن الله تعالى أمر بالايتاء منه
ولنا انه لا فرق في المعنى بين الايتاء منه والايتاء من غيره إذا كان من جنسه فوجب أن يتساويا
في الاجزاء كالزكاة وغير المنصوص إذا كان في معناه الحق به ولذلك جاز الحط عنه وليس هو بايتاء
لما كان في معناه وان آتاه من غير جنسه مثل أن يكاتبه على دراهم فيعطيه دنانير أو عروضا لم يلزمه
قبوله لأنه لم يؤته منه ولا من جنسه ويحتمل اللزوم لحصول الرفق به فإن رضي المكاتب بها جاز
442

(الفصل الرابع) في وقت جوازه وهو من حين العقد لقول الله تعالى (فكاتبوهم ان علمتم
فيهم خيرا وآتوهم) وذلك يحتاج إليه من حين العقد وكلما عجله كان أفضل لأنه يكون أنفع كالزكاة
(الفصل الخامس) في وقت وجوبه وهو حين العتق لأن الله تعالى أمر بايتائه من المال الذي
آتاه وإذا آتي المال عتق فيجب ايتاؤه حينئذ قال علي رضي الله عنه الكتابة على نجمين والايتاء
من الثاني فإن مات السيد قبل ايتائه فهو دين في تركته لأنه حق واجب فهو كسائر ديونه فإن ضاقت
التركة عنه وعن غيره من الديون تحاصوا في التركة بقدر حقوقهم ويقدم على الوصايا لأنه دين وقد
قضي النبي صلى الله عليه وسلم ان الدين قبل الوصية
(مسألة) (فإن أدى ثلاثة أرباع الكتابة وعجز عن الربع عتق ولم تنفسخ الكتابة في
قول القاضي وأصحابه)
وهو قول أبي بكر لأنه يجب رده إليه فلا يرد إلى الرق لعجزه عنه لأنه عجز عن أداء حق هو
له لا حق للسيد فيه فلا معنى لتعجيزه فيما يجب رده إليه وقال علي رضي الله عنه يعتق بقدر ما أدى
لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أصاب المكاتب حدا وميراثا ورث بحساب ما عتق
منه ويؤدى المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي دية عبد) رواه الترمذي وقال حديث حسن،
وروي عن عمر وعلي انه إذا أدى الشطر فلا رق عليه وروي ذلك عن النخعي
443

وقال عبد الله بن مسعود إذا أدى قدر قيمته فهو غريم وظاهر كلام الخرقي انه لا يعتق حتى
يؤدي جميع الكتابة
وروى الأثرم عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وعائشة وسعيد بن المسيب والزهري انهم قالوا:
المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وهو قول القاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء وقتادة والثوري وابن
شبرمة ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن أم سلمة لما روى
سعيد ثنا هشيم عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أيما
رجل كاتب غلامه على مائة أوقية فعجز عن عشر أواق فهو رقيق)
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المكاتب عبد ما بقي عليه
درهم) رواه أبو داود ولأنه عوض عن المكاتب فلا يعتق قبل أدائه كالقدر المتفق عليه ولأنه لو
عتق بعضه لسرى إلى باقيه كما لو باشره بالعتق
فأما حديث ابن عباس فمحمول على مكاتب لرجل مات وخلف ابنين فأقر أحدهما بكتابته
وأنكر الآخر فأدى إلى المقر وما أشبهها من الصور جمعا بين الاخبار وتوفيقا بينها وبين القياس، ولان
قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه) دليل على اعتبار
جميع ما يؤدي وروى سعيد باسناده عن أبي قلابة قال: كن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن من
444

ما بقي عليه دينار ويجوز ان يتوقف العتق على أداء الجميع وإن وجب رد البعض إليه كما لو قال إذا أديت
إلي فأنت حر ولله علي رد ربعها إليك فإنه لا يعتق حتى يؤديها وإن وجب عليه رد بعضها
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا كاتب عبيدا له كتابة واحدة بعوض واحد صح)
مثل أن يكاتب ثلاثة أعبد له بألف فيصح في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء وسليمان بن موسى
وأبو حنيفة ومالك والحسن بن صالح وإسحاق وهو المنصوص عن الشافعي وقال بعض أصحابه فيه
قول آخر أنه لا يصح لأن العقد مع ثلاثة كعقود ثلاثة عوض كل واحد منهم مجهول فلم يصح كما لو باع
كل واحد منهم لواحد صفقة واحدة بعوض واحد
ولنا أن جملة العوض معلومة وإنما جهل تفصيله فلم يمنع صحة العقد كما لو باعهم لواحد وعلى قول
من قال إن العوض يكون بينهم على السواء فقد علم أيضا تفصيل العوض وعلى كل واحد منهم
ثلث وكذا يقول فيما لو باعهم لثلاثة إذا ثبت هذا فكل واحد منهم مكاتب بحصته من الألف يقسم
بينهم على قدر قيمتهم حين العقد لأنه حين المعاوضة وزوال سلطان السيد عنهم فإذا أداه عتق، وهذا
قول عطاء وسليمان بن موسى والحسن بن صالح والشافعي وإسحاق وقال أبو بكر عبد العزيز يتوجه لأبي
445

عبد الله قول آخر أن العوض بينهم على عدد رؤوسهم فيتساوون فيه لأنه أضيف إليهم إضافة واحدة فكان
بينهم بالسوية كما لو أقر لهم بشئ
ولنا ان هذا عوض فيتقسط على المعوض كما لو اشترى شقصا وسيفا وكما لو اشترى عبيدا فرد
واحدا منهم بعيب أو تلف أحدهم ورد الآخر ويخالف الاقرار فإنه ليس بعوض إذا ثبت هذا فأيهم
أدى حصته عتق وهذا قول الشافعي وقال ابن أبي موسى لا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع الكتابة
وحكي ذلك عن أبي بكر وهو قول مالك وحكي عنه أنه إذ امتنع أحدهم من الكسب مع القدرة
عليه أجبر عليه الباقون واحتجوا بان الكتابة واحدة بدليل أنه لا يصح من كل واحد منهم الكتابة
بقدر حصته دون الباقين ولا يحصل العتق إلا بأداء جميع الكتابة كما لو كان المكاتب واحدا وقال
أبو حنيفة ان لم يقل لهم السيد ان أديتم عتقتم فأيهم أدى بحصته عتق وان أدوا جميعها عتقوا كلهم ولم
يرجع على صاحبه بشئ وان قال لهم ان أديتم عتقتم لم يعتق واحد منهم حتى يؤدي الكتابة كلها
ويكون بعضهم حميلا عن بعض ويأخذ أيهم شاء بالمال وأيهم أداها عتقوا كلهم ويرجع على صاحبيه بحصتهما
ولنا أنه عقد معاوضة مع ثلاثة فيبرأ كل واحد منهم بأداء حصته كما لو اشتروا عبيدا وكما لو لم
يقل لهم ان أديتم عتقتم على أبي حنيفة فإن قوله ذلك لا يؤثر لأن استحقاق العتق بأداء العوض لا بهذا
القول بدليل أنه يعتق بالأداء بدون هذا القول ولم يثبت كون هذا القول مانعا من العتق وقوله ان
446

هذا العقد كتابة واحدة ممنوع فإن العقد مع جماعة عقود بدليل البيع ولا يصح القياس على كتابة
الواحد لأن ما قدره في مقابلة عتقه وههنا في مقابلة عتقه ما يخصه فافترقا إذا ثبت هذا فإنه ان شرط
عليهم في العقد إن كان واحد منهم ضامن عن الباقين فسد الشرط والعقد صحيح وقال أبو الخطاب
فيه رواية أخرى ان الشرط صحيح وخرجه ابن حامد وجها بناء على الروايتين في ضمان الحر لمال
الكتابة وقال الشافعي العقد والشرط فاسدان لأن الشرط فاسد ولا يمكن تصحيح العقد بدونه
لأن السيد إنما رضي بالعقد بهذا الشرط فإذا لم يثبت لم يكن راضيا بالعقد وقال مالك وأبو حنيفة
العقد والشرط صحيحان لأنه من مقتضى العقد عندهما
ولنا ان مال الكتابة ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم فلم يصح ضمانه كما لو جعل المال صفة مجردة
في العتق فقال إن أديت إلي ألفا فأنت حر ولان الضامن لا يلزمه أكثر من المضمون عنه ومال الكتابة
لا يلزم المكاتب فلا يلزم الضامن ولأن الضمان تبرع وليس للمكاتب التبرع ولان لا يملك الضمان
عن حر ولا عمن ليس معه في الكتابة فكذلك من معه وأما العقد فصحيح بدليل ان الكتابة
لا تفسد بفساد الشرط بدليل خبر بريرة
(فصل) إذا مات بعض المكاتبين سقط قدر حصته نص عليه أحمد في رواية حنبل وكذلك ان
أعتق بعضهم وعن مالك ان أعتق السيد أحدهم وكان مكتسبا نفذ عتقه لعدم الضرر فيه وهذا مبني
على أنه لا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع مال الكتابة وقد مضى الكلام فيه
447

(فصل) فإن أدى أحد المكاتبين عن صاحبه أو عن مكاتب آخر قبل أداء ما عليه بغير علم
سيده لم يصح لأن هذا تبرع وليس له التبرع بغير اذن سيده فإن كان قد حل نجم صرف ذلك فيه
وان لم يكن حل عليه نجم فله الرجوع فيه وان علم السيد بذلك ورضي بقبضه عن الآخر صح لأن
قبضه له راضيا مع العلم دليل على الاذن فيه فجاز كما لو اذن فيه صريحا وإن كان الأداء بعد أن عتق
صح سواء علم السيد أو لم يعلم فإذا أراد الرجوع على صاحبه بما أدى عنه وكان قد قصد التبرع عليه
لم يرجع به وان أداه محتسبا بالرجوع عليه باذن المؤدى عنه رجع عليه لأنه قرض وإن كان بغير اذنه
لم يرجع عليه لأنه تبرع عليه بأداء ما لا يلزمه أداؤه بغير اذنه فلم يرجع عليه كما لو تصدق عنه صدقة
تطوع وبهذا فارق سائر الديون وإن كان باذنه وطلب استيفاءه قدم على أداء مال الكتابة كسائر
الديون وان عجز عن أدائه فحكمه حكم سائر الديون وهذا كله مذهب الشافعي
(مسألة) (وان اختلفوا بعد الأداء في قدر ما أدى كل واحد منهم فالقول قول من يدعي
أداء قدر الواجب عليه)
وهذا إذا أدوا وعتقوا فقال من كثرت قيمته أدينا على قدر قيمنا وقال الآخر بل أدينا على
السواء فبقيت لنا على الأكثر بقيمة فمن جعل العوض بينهم على عددهم قال القول قول من يدعي
التسوية ومن جعل على كل واحد قدر حصته فعنده فيه وجهان (أحدهما) القول قول من يدعي
448

التسوية لأن أيديهم على المال فيتساوون فيه (والثاني) قول من يدعي أداء قدر الواجب عليه لأن
الظاهران الانسان لا يؤدي الا ما عليه
(فصل) فإن جنى بعضهم فجنايته عليه دون صاحبه وبهذا قال الشافعي وقال مالك يؤدون
كلهم أرشه فإن عجزوا رقوا
ولنا قول الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجني جان إلا على
نفسه) ولأنه لو اشترك رجلان وتعاقدا لم يحمل أحدهما جناية صاحبه فكذا ههنا ولان ما لا يصح
لا يتضمنه عقد الكتابة ولا يجب على أحدهما بفعل الاخر كالقصاص وقد بينا ان كل واحد منهما
مكاتب بقدر حصته فهو كالمنفرد بعقده
(فصل) إذا شرط المكاتب في كتابته ان يوالي من شاء فالشرط بالطل والولاء لمن أعتق
لا نعلم في بطلان الشرط خلافا لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كانت في بريرة ثلاث قضيات
أراد أهلها ان يبيعوها ويشترطوا الولاة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (اشتريها واشترطي لهم
الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأنثى عليه ثم قال (أما بعد
449

فما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل
وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق إنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه ولان الولاء
لا يصح نقله بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته وقال (إنما الولاء لمن أعتق) ولأنه
لحمة كلحمة النسب فلم يصح اشتراطه لغير صاحبه كالقرابة ولأنه حكم العتق فلم يصح اشتراطه لغير
المعتق كما لا يصح اشتراط حكم النكاح لغير الناكح ولا حكم البيع لغير العاقد وسواء شرط ان يوالي
من شاء أو شرط لبائعه أو لرجل آخر بعينه ولا تفسد الكتابة بهذا الشرط نص عليه أحمد وقال
الشافعي تفسد به كما لو شرط عوضا مجهولا ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على الشروط الفاسدة في البيع
ولنا حديث بريرة فإن أهلها شرطوا لهم الولاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بشرائها مع هذا الشرط وقال
(إنما الولاء لمن أعتق) ويفارق جهالة العوض فإنه ركن العقد لا يمكن تصحيح العقد الا به وربما أفضت
جهالته إلى التنازع والاختلاف وهذا شرط زائد فإذا حذفناه بقي العقد صحيحا بحاله فإن قيل المراد
بقوله عليه السلام (اشترطي لهم الولاء) أي عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالشرط الفاسد واللام
تستعمل بمعنى على كقوله تعالى (وان أسأتم فلها) قلنا لا يصح لثلاث وجوه (أحدها) أنه مخالف
وضع اللفظ والاستعمال
(والثاني) ان أهل بريرة أبو هذا الشرط فكيف يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بشرط لا يقبلونه؟
450

(الثالث) ان ثبوت الولاء لها لا يحتاج إلى شرط لأنه مقتضى العتق وحكمه ولان في بعض
الألفاظ (لا يمنعنك هذا الشرط منها، ابتاعي واعتقي) وإنما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالشرط تعريفا
لنا ان وجود هذا الشرط كعدمه وانه لا ينقل الولاء عن المعتق
(فصل) فإن شرط السيد على المكاتب ان يرثه دون ورثته أو مزاحمتهم في مواريثهم فهو شرط
فاسد في قول عامة العلماء منهم الحسن وعطاء وشريح وعمر بن عبد العزيز والنخعي وإسحاق وأجاز
اياس بن معاوية ان يشرط شيئا من ميراثه ولا يصح لأنه يخالف كتاب الله وكل شرط ليس
في كتاب الله تعالى فهو باطل وروى سعيد ثنا هشيم عن منصور عن ابن سيرين
باسناده أن رجلا كاتب مملوكه واشترط ميراثه فلما مات المكاتب خاصم ورثته إلى شريح فقضى شريح
بميراث المكاتب لورثته فقال الرجل ما يغني شرطي منذ عشرين سنة؟ فقال شريح كتاب الله أنزله على نبيه
قبل شرطك بخمسين سنة ولا تفسد الكتابة بهذا الشرط كالذي قبله
(فصل) فإن شرط عليه خدمة معلومة بعد العتق جاز وبه قال عطاء وابن شبرمة وقال مالك والزهري
لا يصح لأنه ينافي مقتضى العقد أشبه ما لو شرط ميراثه
ولنا أنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه أعتق كل من يصلي من سبي العرب وشرط عليهم: أن
تخدموا الخليفة من بعدي ثلاث سنوات ولأنه اشترط خدمة في عقد الكتابة أشبه ما لو شرطها قبل
451

العتق ولأنه شرط نفعا معلوما أشبه ما لو شرط عوضا معلوما ولا نسلم ان ينافي مقتضى العقد فإن مقتضاه
العتق عند الأداء وهذا لا ينافيه
(فصل) إذا كاتبه على الفين في رأس كل شهر الف وشرط أن يعتق عند أداء الأول صح في قياس
المذهب ويعتق عند أدائه لأن السيد لو أعتقه بغير أداء شئ صح فكذلك إذا أعتقه عند أداء البعض ويبقى
الآخر دينا عليه بعد عتقه كما لو باعه نفسه به
(مسألة) وتجوز كتابة بعض عبده فإذا أدى عتق كله قاله أبو بكر)
لأنها معاوضة فصحت في بعضه كالبيع فإذا أدى جميع كتابته عتق كله لأنه إذا سرى العتق
فيه إلى ملك غيره فإلى ملكه أولى ويجب أن يؤدي إلى سيده مثلي كتابته لأن نصف كسبه يستحقه سيده
بما فيه من الرق ونصفه يؤدى في الكتابة إلا أن يرضى سيده بتأدية الجميع في الكتابة فيصح وإذا استوفى
المال كله عتق نصفه بالكتابة وباقيه بالسراية
(مسألة) وتجوز كتابة حصته من العبد المشترك بغير إذن شريكه)
إذا كان لرجل نصف عبد فكاتبه صح سواء كان باقيه حرا أو مملوكا لغيره وسواء أذن الشريك
أو لم يأذن وهذا ظاهر قول الخرقي وأبي بكر وهو قول الحكم وابن أبي ليلى وحكي عن الحسن
البصري والحسن بن صالح ومالك والعنبري وكره الثوري وحماد كتابته بغير إذن شريكه، وقال
452

الثوري ان فعل رددته إلا أن يكون بعده فيضمن لشريكه نصف ما في يده وقال أبو حنيفة يصح باذن
الشريك ولا يصح بغير إذنه وهو أحد قولي الشافعي إلا أن أبا حنيفة قال الاذن في ذلك اذن في
تأدية مال الكتابة من جميع كسبه ولا يرجع الاذن بشئ منه، وقال أبو يوسف ومحمد يكون جميعه
مكاتبا، وقال الشافعي في أحد قوليه إن كان باقيه حرا صحت كتابته وإن كان ملكا لم يصح سواء أذن
فيه الشريك أم لم يأذن لأن كتابته تقتضي اطلاقه في الكسب والسفر وملك نصفه يمنع ذلك ويمنعه أخذ
نصيبه من الصدقات لئلا يصير كسبا فيستحق سيده نصفه ولأنه إذا أدى عتق جميعه فيفضي إلى أن
يؤدي نصف كتابته ثم يعتق جميعه
ولنا أنه عقد معاوضة على نصيبه فصح كبيعه ولأنه ملك لم يصح بيعه وهبته فصحت كتابته كما
لو ملك جميعه ولأنه ينفذ اعتاقه فصحت كتابته كالعبد الكامل وكما لو كان باقيه حرا عند الشافعي
أو أذن فيه الشريك عند الباقين وقولهم إنه يقتضي المسافرة والكسب واخذ الصدقة قلنا أما المسافرة
فليست من المقتضيات الأصلية فوجود مانع منها لا يمنع أصل العقد، وأما الكسب وأخذ الصدقة
فإنه لا يمنع كسبه واخذه الصدقة بجزئه المكاتب ولا يستحق الشريك شيئا منه لأنه إنما يستحق
ذلك بالجزء المكاتب ولا حق للشريك فيه فكذلك ما حصل به كما لو ورث شيئا بجزئه الحر، وأما
الكسب فإن هايأه مالك نصفه فكسب في نوبته شيئا لم يشاركه فيه أيضا وان لم يهايئه فكسب
453

بجملته شيئا كان بينهما له بقدر ما فيه من الجزء المكاتب ولسيده الباقي لأنه كسبه بجزئه المملوك فيه
فأشبه ما لو كسب قبل كتابته فقسم بين سيديه وقولهم انه يفضي إلى أن يؤدي بعض الكتابة فيعتق
جميعه قلنا يبطل هذا بما لو علق عتق نصيبه على أداء مال فإنه يؤدي عوض البعض ويعتق الجميع على
انا نقول لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة فإن جميع الكتابة هو الذي كاتبه عليه مالك نصفه ولم يبق
منها شئ فلا يعتق حتى يؤدي جميعها ولأنه لا يعتق الجميع بالأداء وإنما يعتق الجزء المكاتب لا غير وباقيه
إن كان المكاتب معسرا لم يعتق وإن كان موسرا عتق بالسراية لا بالكتابة ولا يمتنع هذا كما لو أعتق
بعضه عتق جميعه وإذا جاز عتق جميعه باعتاق بعضه بطريق السراية جاز ذلك فيما يجرى مجرى العتق
(مسألة) (وإذا أدى ما كوتب عليه ومثله لسيده الآخر عتق كله إن كان الذي كاتبه موسرا
وعليه قيمة حصة شريكه)
وجملة ذلك أن أحد الشريكين إذا كاتب نصيبه لم تسر الكتابة ولم يتعد الجزء الحر الذي كاتبه
لأن الكتابة عقد معاوضة فلم تسر كالبيع وليس للعبد ان يؤدي إلى مكاتبه شيئا حتى يؤدي إلى
شريكه مثله سواء اذن الشريك في كتابته أو لم يأذن لأنه إنما اذن في كتابة نصيب شريكه وذلك
يقتضي أن يكون نصيبه باقيا له هذا إذا كان الكسب لجميعه فإن أدى الكتابة من جميع كسبه لم
454

يعتق لأن الكتابة الصحيحة تقتضي العتق ببراءته من العوض وذلك لا يحصل بدفع ما ليس له
وان أدى إليهما جميعا عتق كله لأن نصفه يعتق بالأداء فإذا عتق سرى إلى سائره إن كان الذي
كاتبه موسرا وتلزمه قيمة نصيب شريكه لأن عتقه بسبب من جهته أشبه ما لو باشره بالعتق أو علق
عتق نصيبه بصفة فعتق بها فأما ان ملك شيئا بجزئه المكاتب كمن هايأه سيده فكسب شيئا في نوبته
أو أعطي من الصدقة من سهم الرقاب فلا حق لسيده فيه وله أداء جميعه في كتابته لأنه يستحق
ذلك بما فيه من الكتابة فأشبه النصف الباقي بعد اعطاء الشريك حقه ولو كان ثلثه حرا وثلثه مكاتبا
وثلثه رقيقا فورث بجزئه الحر ميراثا وأخذ بجزئه المكاتب من سهم الرقاب فله دفع ذلك كله في
كتابته لأنه ما استحق بجزئه الرقيق شيئا منه فلا يستحق مالكه منه شيئا وإذا أدى جميع كتابته
عتق فإن كان الذي كاتبه معسرا لم يسر العتق ولم يتعد نصيبه كما إذا واجهه بالعتق إلا على الرواية
التي نقول فيها بالاستسعاء فإنه يستسعى في نصيب الذي لم يكاتب وإن كان موسرا سرى إلى باقيه
(مسألة) (وان أعتق الشريك قبل أدائه عتق عليه كله إن كان موسرا وعليه قيمة نصيب
المكاتب وقال أبو بكر والقاضي لا يسري إلى النصف المكاتب)
لأنه قد انعقد للمكاتب سبب الولاء فلا يجوز ابطاله الا أن يعجز فيقوم عليه حينئذ، وقال
ابن أبي ليلى عتق الشريك موقوف حتى تنظر ما يصنع في الكتابة فإن أداها عتق وكان المكاتب
455

ضامنا لقيمة نصيب شريكه وولاؤه كله للمكاتب وان عجز سرى عتق الشريك وضمن نصف القيمة
للمكاتب وولاؤه كله له وأما الشافعي فلا يجوز كتابته الا باذن شريكه في أحد قوليه فإن كاتبه باذن
شريكه فأعتق الذي لم يكاتب فهل يسري في الحال أو يقف على العجز؟ فيه قولان
ولنا أنه عتق لجزء من العبد من موسر غير محجور عليه فسرى إلى باقيه كالقن وقولهم انه يفضي
إلى ابطال الولاء قلنا إذا كان العتق يؤثر في ابطال الملك الثابت الذي الولاء من بعض آثاره فلان
يؤثر في نقل الولاء بمفرده أولى ولأنه لو أعتق عبدا له أولاد من معتقة قوم نقل ولاءهم إليه فإذا نقل
ولاءهم الثابت باعتاق غيرهم فلان ينقل ولاء لم يثبت بعد باعتاق من عليه الولاء أولى ولأنه نقل
الولاء عمن لم يغرم له عوضا فلان ينقله بالعوض أولى فانتقال الولاء في موضع جر الولاء ينبه على
سراية العتق وانتقال الولاء إلى المعتق لكونه أولى من ثلاثة أوجه (أحدها) أن الولاء ثم ثابت وهذا
بعرض الثبوت (الثاني) أن النقل حصل ثم يا عتاق غيره وههنا باعتاقه (الثالث) أنه انتقل بغير
عوض وههنا بعوض
(فصل) وإن كان المعتق معسرا لم يسر عتقه وكان نصيبه حرا وباقيه على الكتابة فإن أدى عتق
عليهما وكان ولاؤه بينهما وان عجز عاد الجزء المكاتب رقيقا قنا إلا على الرواية التي تقول يستسعى
العبد فإنه يستسعى عند عجزه في قيمة باقيه ولا يستسعى في حال الكتابة لأن الكتابة سعاية فيما اتفقا
456

عليه فاستغني بها عن السعاية فيما يحتاج إلى التقويم فإذا عجز وفسخت الكتابة بطلت ورجع إلى
السعاية في القيمة وحديث ابن عمر حجة لما ذهبنا اله وهو ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(من أعتق شركا له في عبد فإن كان معه ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطي شركاؤه
حصصهم وعتق جميع العبد والا فقد عتق منه ما عتق) متفق عليه ورواه مالك في الموطأ عن نافع عن
ابن عمر وهذا الحديث حجة على من خالفه وهذا قول الخرقي والله تعالى أعلم
(مسألة) (وإن كاتبا عبدهما جاز سواء كان على التساوي أو التفاضل ولا يجوز أن يؤدي
إليهما إلا على التساوي)
إذا كان العبد لرجلين فكاتباه معا سواء تساويا في العوض أو اختلفا فيه وسواء اتفق نصيباهما
فيه أو اختلفا وسواء كان في عقد واحد أو عقدين صح وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يجوز
أن يتفاضلا في المال مع التساوي في الملك ولا التساوي في المال مع التفاضل في الملك لأن ذلك
يؤدى إلى أن ينتفع أحدهما بمال الآخر لأنه إذا دفع إلى أحدهما أكثر من قدر ملكه ثم عجز
رجع عليه الآخر بذلك
457

ولنا أن كل واحد منهما يعقد على نصيبه عقد معاوضة فجاز أن يختلفا في العوض كالبيع وما
ذكره لا يلزم لأن انتفاع أحدهما بمال الآخر إنما يكون عند العجز وليس ذلك من مقتضيات العقد
وإنما يكون عند زواله فلا يضر ولأنه إنما يؤدي إليهما على التساوي فإذا عجز قسم ما كسبه بينهما
على قدر الملكين فلم يكن أحدهما منتفعا الا بما يقابل ملكه وعاد الامر بعد زوال الكتابة إلى
حكم الرق كأنه لم يزل فإن قيل فالتساوي في الملك يقتضي التساوي في أدائه إليهما ويلزم منه وفاء
كتابة أحدهما قبل الآخر فيعتق نصيبه ويسري إلى نصيب صاحبه ويرجع الآخر عليه بنصف
قيمته قلنا يمكن أداء كتابته إليهما دفعة واحدة فيعتق عليهما ويمكن ان يكاتب أحدهما على مائة في
نجمين في كل نجم خمسون ويكاتب الآخر على مائتين في نجمين في الأول خمسون وفي الثاني مائة
وخمسون فيكون وقتهما واحدا فيؤدي إلى كل واحد منهما حقه على أن أصحابنا قد قالوا لا يسري
العتق إلى نصيب الآخر ما دام مكاتبا فلا يفضي إلى ما ذكروه وان قدر افضاؤه إليه فلا مانع فيه
من صحة الكتابة فإنه لا يخل بمقصود الكتابة وهو العتق بها ويكون سراية العتق من غير ضرر بأن
يكاتبه على مثلي قيمته فإذا عتق عليه غرم لشريكه نصف قيمته وسلم إليه باقي المال وحصل له ولاء
العبد ولا ضرر في هذا ثم لو كان فيه ضرر لكنه قد رضي به حين كتابته على أقل مما كاتبه به شريكه
والضرر المرضي به من جهة المضرور لا عبرة به كما لو باشره بالعتق أو أبرأه من مال الكتابة فإنه
يعتق عليه ويسري عتقه ويغرم لشريكه وهو جائز فهذا أولى بالجواز
458

(فصل) ولا يجوز ان يختلفا في التنجيم ولا أن يكون لأحدهما في النجوم قبل النجم الأخير
أكثر من الاخر في أحد الوجهين لأنه لا يجوز ان يؤدي إليهما إلا على السواء ولا يجوز تقديم أحدهما
بالوفاء على الآخر واختلافهما في ميقات النجوم وقدر المؤدى يفضي إلى ذلك (والثاني) يجوز لأنه
يمكن ان يعجل لمن تأخر نجمه قبل محله ويعطي من قل نجمه أكثر من الواجب له ويمكن ان يأذن
له أحدهما في الدفع إلى الآخر قبله أو أكثر منه ويمكن ان ينظره من حل نجمه أو يرضى من له
الكثير بأخذ دون حقه وإذا أمكن افضاء العقد إلى مقصوده فلا يبطله باحتمال عدم الافضاء إليه
(فصل) وليس للمكاتب ان يؤدي إلى أحدهما أكثر من الآخر ولا يقدم أحدهما على الآخر
ذكره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي قال شيخنا لا أعلم فيه خلافا لأنهما سواء فيه فيستويان
في كسبه وحقهما متعلق بما في يده تعلقا واحدا فلم يكن له ان يخص أحدهما بشئ منه دون الاخر
ولأنه ربما عجز فيعود إلى الرق ويتساويان في كسبه فيرجع أحدهما على الآخر بما في يده من الفضل
بعد انتفاعه به مدة فإن قبض أحدهما دون الآخر شيئا لم يصح القبض وللآخر ان يأخذ منه حصته
إذا لم يكن اذن في القبض فإن اذن فيه ففيه وجهان ذكرهما أبو بكر (أحدهما) يصح لأن المنع لحقه
فجاز باذنه كما لو اذن المرتهن للراهن في التصرف فيه أو اذن المشتري للبائع في قبض المبيع قبل أن يوفيه
459

ثمنه أو اذنا للمكاتب في التبرع ولأنهما لو اذنا له في الصدقة بشئ صح قبض المصدق عليه له كذلك
ههنا (والثاني) لا يجوز وهو اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي واختيار المزني
لأن ما في يد المكاتب ملك له فلا ينفذ اذن غيره فيه وإنما حق سيده في ذمته والأول أصح إن شاء الله
تعالى لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا اتفقوا على شئ فلا وجه للمنع وقولهم إنه ملك للمكاتب
تعليق على العلة ضد ما تقتضيه لأن كونه ملكا له يقتضي جواز تصرفه فيه على حسب اختياره وإنما
المنع لتعلق حق سيده به فإذا اذن زال المانع فصح التقبيض لوجود مقتضيه وخلوه من المانع ثم يبطل
بما ذكرنا من المسائل فعلى هذا الوجه إذا دفع إلى أحدهما مال الكتابة باذن صاحبه عتق نصيبه من
المكاتب لأنه استوفى حقه ويسري العتق إلى باقيه إن كان موسرا وعليه قيمة حصة شريكه لأن
عتقه بسببه وهذا قول الخرقي ويضمنه في الحال بنصف قيمته مكاتبا مبقى على ما بقي من كتابته
وولاؤه كله له وما في يده من المال للذي لم بقبض منه بقدر ما قبضه صاحبه والباقي بين العبد وبين
سيده الذي عتق عليه لأن نصفه عتق بالكتابة ونصفه بالسراية فحصة ما عتق بالكتابة للعبد وحصة
ما عتق بالسراية للسيد وعلى ما اختاره شيخنا يكون الباقي كله للعبد لأن الكسب كان ملكا له فلا
يزول ملكه عنه بعتقه كما لو عتق بالأداء وقال أبو بكر والقاضي لا يسري العتق في الحال وإنما
يسري عند عجزه فعلى قولهما يكون باقيا على الكتابة فإن أدى إلى الاخر عتق عليهما وولاؤه لهما
460

وما يبقى في يده من كسبه فهو له وان عجز وفسخت الكتابة قوم على الذي أدى إليه وكان ولاؤه
كله له وتنفسخ الكتابة في نصفه، وان مات فقد مات ونصفه حر ونصفه رقيق ولسيده الذي لم
يعتق نصيبه ان يأخذ مما خلفه مثلما أخذه شريكه من مال الكتابة وله نصف ما يبقى والباقي
لورثة العبد فإن لم يكن له وارث من نسبه فهو للذي أدى إليه بالولاء وان قلنا لا يصح القبض فما أخذه
القابض بينه وبين شريكه ولا تعتق حصته من المكاتب لأنه لم يستوف عوضه ولغير القابض مطالبة
القابض بنصيبه مما قبضه كما لو قبض بغير اذنه وان لم يرجع غير القابض بنصيبه حتى أدى المكاتب
إليه كتابته صح وعتق عليهما جميعا، وان مات العبد قبل استيفاء الاخر حقه فقد مات عبدا ويستوفي
الذي لم يقبض من كسبه بقدر ما أخذ صاحبه والباقي بينهما قال أحمد في رواية ابن منصور في عبد بين
رجلين كاتباه فأدى إلى أحدهما كتابته ثم مات وهو يسعى للآخر لمن ميراثه؟ قال أحمد كل ما كسب
العبد في كتابته فهو بينهما ويرجع هذا على الآخر بنصيبه مما أخذ وميراثه بينهما قال ابن منصور:
قال إسحاق بن راهويه كما قال
(فصل) عجز مكاتبهما فلهما الفسخ والامضاء فإن فسخا جميعا أو امضيا الكتابة جاز ما
اتفقا عليه وان فسخ أحدهما وأمضى الاخر جاز وعاد نصفه رقيقا قنا ونصفه مكاتبا وقال القاضي
تنفسخ الكتابة في جميعه وهو مذهب الشافعي لأن الكتابة لو بقيت في نصفه لعاد ملك الذي
فسخ الكتابة إليه ناقصا
461

ولنا أنها كتابة عن ملك أحدهما فلم تنفسخ بفسخ الاخر كما لو انفرد بكتابته ولأنهما عقدان
مفردان فلم ينفسخ أحدهما بفسخ الاخر كالبيع وما حصل من القبض لا يمنع لأنه إنما حصل ضمنا
لتصرف الشريك في نصيبه فإذا لم يمنع العقد في ابتدائه فلان لا يبطله في دوامه أولى ولان ضرره
حصل بعقده وفسخه فلا يزال بفسخ عقد غيره ولان في فسخ الكتابة ضررا بالمكاتب وسيده وليس
دفع الضرر عن الشريك الذي فسخ بأولى من دفع الضرر عن الذي لم يفسخ لوجوه ثلاثة (أحدهما) ان
ضرر الذي فسخ حصل ضمنا لبقاء عقد شريكه في ملك نفسه وضرر شريكه يزول بزوال عقده وفسخ تصرفه
في ملكه (الثاني) ان ضرر الذي فسخ لم يعتبره الشرع في موضع ولا أصل لما ذكروه من الحكم ولا يعرف له
نظير فيكون بمنزلة المصالح المرسلة التي وقع الاجماع على اطراحها وضرر شريكه بفسخ عقده معتبر
في سائر عقوده من بيعه وهبته وغير ذلك فيكون أولى
(الثالث) ان ضرر الفسخ يتعدى إلى المكاتب فيكون ضررا باثنين وضرر الفاسخ لا يتعداه،
ثم لو قدر تساوي الضررين لوجب ابقاء الحكم على ما كان عليه ولا يجوز احداث الفسخ من غير دليل راجح
(فصل) وإذا عجز المكاتب ورد في الرق وكان في يده مال فهو لسيده سواء كان من كسبه
أو صدقة تطوع أو وصية وما كان من صدقة مفروضة ففيه روايتان (إحداهما) هو لسيده وهو قول
462

أبي حنيفة وقال عطاء يجعله في السبيل أحب إلي وإن أمسكه فلا بأس (والرواية الثانية) يؤخذ ما بقي
في يده فيجعل في المكاتبين نقلها حنبل وهو قول شريح والنخعي والثوري واختار أبو بكر والقاضي
انه يرد إلى أربابه وهو قول إسحاق لأنه إنما دفع إليه ليصرف في العتق فإذا لم يصرف فيه وجب رده
كالعازي والغارم وابن السبيل
ووجه الرواية الأولى ان ابن عمر رد مكاتبا في الرق فأمسك ما أخذه منه ولأنه يأخذ لحاجته
فلم يرد ما أخذه كالفقير والمسكين، وأما الغازي فإنه يأخذ لحاجتنا إليه بقدر ما يكفيه لغزوه. فأما
الغارم فإن غرم لاصلاح ذات البين فهو كالغازي يأخذ لحاجتنا إليه وإن غرم لمصلحة نسفه فهو كمسئلتنا لا يرده
(فصل) فأما ما أداه إلى سيده قبل عجزه فلا يجب رده بحال لأن المكاتب صرفه في الجهة التي
أخذه لها وثبت ملك سيده عليه ملكا مستقرا فلم يزل ملكه عنه كما لو عتق المكاتب ويفارق ما في
يد المكاتب فإن ملك سيده لم يثبت عليه قبل هذا والخلاف في ابتداء ثبوته وما تلف في يد المكاتب
لم يرجع به عليه سواء عجز أو أدى لأن ماله تلف في يده أشبه ما لو تلف في يد سائر أصناف الصدقة
وإن اشترى به عرضا وعجز والعرض في يده ففيه من الخلاف مثل ما لو وجده بعينه لأن العرض
عوضه وقائم مقامه فأشبه ما لو أعطى الغازي من الصدقة ما اشترى به فرسا وسلاحا ثم فضل عن حاجته
(فصل) وموت المكاتب قبل الأداء كعجزه فيما ذكرنا لأن سيده يأخذ ما في يده قبل حصول
463

مقصود الكتابة وإن أدى وبقي في يده شئ فحكمه في رده واخذه حكم سيده في ذلك عند عجزه
لأنه مال لم يؤده في كتابته بقي بعد زوالها، فإن كان قد استدان ما أداه في الكتابة وبقي عنده من
الصدقة ما يقضي به دينه لم يلزمه رده لأنه محتاج إليه بسبب الكتابة فأشبه ما يحتاج إليه في أدائها
(فصل) إذا قال السيد لمكاتبه متى عجزت بعد موتي فأنت حر فهذا تعليق للحرية على صفة
تحدت بعد الموت وفيه اختلاف ذكرناه، فإن قلنا لا يصح فلا كلام وإن قلنا يصح فمتى عجز بعد
الموت صار حرا بالصفة، فإن ادعى العجز قبل حلول النجم لم يعتق لأنه لم يجب عليه شئ يعجز
عنه. وإن كان بعد حلوله ومعه ما يؤديه لم يقبل قوله لأنه غير عاجز وإن لم يكن معه مال ظاهر فصدقه
الورثة عتق وإن كذبوه فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم المال وعجزه فإذا حلف عتق وإذا
عتق بهذه الصفة كان ما في يده له إن لم تكن كتابته فسخت لأن العجز لا تنفسخ به الكتابة وإنما
يثبت به استحقاق الفسخ والحرية تحصل به بأول وجوده فتكون الحرية قد حصلت له في حال كتابته
فيكون ما في يده له كما لو عتق بالابراء من مال الكتابة ومقتضى قول بعض أصحابنا أن كتابته تبطل
ويكون ما في يده لورثة سيده
(فصل) إذا كاتب عبدا في صحته ثم أعتقه في مرض موته أو أبرأه من مال الكتابة فإن كان
يخرج من ثلثه الأقل من قيمته أو مال كتابته عتق مثل أن يكون له سوى المكاتب مائتان وقيمة
464

المكاتب مائة ومال الكتابة مائة وخمسة فانا نعتبر قيمته دون مال الكتابة وهي تخرج من الثلث
وإن كان بالعكس اعتبرنا مال الكتابة ونفذ العتق ويعتبر الباقي من مال الكتابة دون ما أدي منها
وإنما اعتبرنا الأقل لأن قيمته إن كانت أقل فهي قيمة ما أتلف بالاعتاق ومال الكتابة ما استقر عليه فإن
للعبد إسقاطه بتعجيز نفسه أو يمتنع من أدائه فلا يجبر عليه فلم يحتسب له به وإن كان عوض الكتابة
أقل اعتبرناه لأنه يعتق بأدائه ولا يستحق السيد عليه سواه وقد ضعف ملكه فيه وصار عوضه
وإن كان كل واحد منهما لا يخرج من الثلث مثل أن يكون ماله سوى المكاتب مائة فانا نضم الأقل
من قيمته أو مال الكتابة ونعمل بحسابه فيعتق منه ثلثاه ويبقى ثلثه بثلث مال الكتابة فإن أداه عتق
وإلا رق منه ثلثه ويحتمل أنه إذا كان مال الكتابة مائة وخمسين فيفي ثلثه بخمسين فأداها أن نقول
قد زاد مال الميت لأنه حسب على الورثة بمائة وحصل لهم ثلثه خمسون فقد زاد مال الميت فينبغي أن
يزيد ما يعتق منه لأن هذا المال يحصل لهم بعقد السيد والإرث عنه ويجب أن يكون المعتبر من مال
الكتابة ثلاثة أرباعه لأن ربعه يجب ايتاؤه للمكاتب فلا يحسب من مال الميت فإن كان ثلاثة أرباع
مال الكتابة مائة وخمسين وقيمة العبد مائة وللميت مائة أخرى عتق من العبد ثلثاه وحصل للورثة
من كتابة البعد خمسون عن ثلث العبد المحسوب عليهم ثلث المائة فقد زاد لهم ثلث الخمسين فيعتق
من العبد قدر ثلثها وهو تسع الخمسين وذلك نصف تسعه فصار العتق ثابتا في ثلثيه ونصف تسعه
465

وحصل للورثة المائة وثمانية أتساع الخمسين وهو مثلا ما عتق منه. فإن قيل لم أعتقتم بعضه وقد بقي
عليه بعض مال الكتابة؟ قلنا إنما أعتقنا بعضه ههنا باعتاق سيده لا الكتابة، ولما كان العتق في
مرض موته نفذ في ثلث ماله وبقي باقيه لحق الورثة، والموضع الذي لا يعتق إلا بأداء جميع الكتابة إذا
كان عتقه بها لأنه إذا بقي عليه شئ فما حصل لاستيفاء يخص المعاوضة فلم تثبت الحرية في العوض
(فصل) فإن وصى سيده باعتاقه أو ابرائه من الكتابة وكان يخرج من ثلثه أقل الأمرين من
قيمته أو مال الكتابة فالحكم فيه كالحكم فيما إذا أعتقه في مرضه أو أبرأه إلا أنه لا يحتاج ههنا إلى
ايقاع العتق لأنه أوصى به وإن لم يخرج الأقل منهما من ثلثه عتق منه بقدر الثلث ويسقط من الكتابة
بقدر ما عتق ويبقى باقيه على باقي الكتابة فإذا أداه عتق جميعه وإن عجز عتق منه بقدر الثلث ورق
الباقي. وقياس المذهب أن يتنجز عتق ثلثه في الحال وان لم يحصل للورثة في الحال شئ لأن حق
الورثة متحقق الحصول فإنه ان أدى وإلا عاد الباقي قنا وذكر القاضي فيه وجها آخر انه لا يتنجز
عتق شئ منه إذا لم يكن للميت مال سواه لئلا يتنجز للوصية ما عتق ويتأخر حق الوارث ولذلك لو
كان له مال غائب أو دين حاضر لم يتنجز وصيته من الحاضر والأول أصح لما ذكرناه وأما الحاضر
والغائب فإنه إن كان موصى له بالحاضر أخذ ثلثه في الحال ووقف الباقي على قدوم الغائب فقد حصل
466

للموصى له ثلث الحاضر ولم يحصل للورثة شئ في الحال فهي كمسألتنا ولم تكمل له جميع وصيته لأن
الغائب غير موثوق بحصوله فإنه ربما تلف بخلاف ما نحن فيه. فأما الزيادة الحاصلة بزيادة مال
الكتابة فإنها تقف على أدائه
(فصل) قال الخرقي وإذا كان العبد لثلاثة فجاءهم بثلاثمائة درهم فقال بيعوني نفسي بها فأجابوه
فلما عاد إليهم ليكتبوا له كتابا أنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا وشهد الرجلان عليه بالأخذ فقد
صار العبد حرا بشهادة الشريكين إذا كانا عدلين ويشاركهما فيما أخذا من المال وليس على العبد الشئ،
اعترض على الخرقي في هذه المسألة حيث أجاز له شراء نفسه بعين ما في يده مع أنه قد ذكر في باب العتق:
إذا قال العبد لرجل اشترني من سيدي بهذا المال واعتقني فاشتراه بعين المال كان الشراء والعتق باطلا
ويكون السيد قد أخذ ماله. فأجاب القاضي عن هذا الاشكال بوجوه: منها أن يكون مكاتبا وقوله
بيعوني نفسي بهذه أي أعجل لكم الثلاثمائة وتضعون عني ما بقي من كتابتي ولهذا ذكرها في باب
المكاتب (الثاني) أن يكون العبد لأجنبي قال له اشتر نفسك بها من غير أن يملكه إياها (الثالث)
أن يكون عتقا بصفة تقديره إذا قبضنا منك هذه الدراهم فأنت حر (الرابع) أن يكون سادته رضوا
ببيعه نفسه بما في يده وفعلهم ذلك معه اعتاق منهم مشروط بتأدية ذلك إليهم فتكون صورته صورة
البيع ومعناه العتق بشرط الأداء كما لو قال بعتك نفسك بخدمتي سنة فإن منافعه مملوكة لسيده وقد صح
467

هذا فيها فكذا ههنا قال شيخنا وهذا الوجه أظهر إن شاء الله تعالى لأنه لا يحتاج إلى تأويل ومتى أمكن
حمل الكلام على ظاهره لم يجز تأويله بغير دليل. إذا تقرر هذا فمتى اشترى العبد نفسه من سادته
عتق لأن البيع يخرجه عن ملكهم ولا يثبت عليه ملك آخر الا أنه ههنا لا يعتق الا بالقبض لأنا جعلناه
عتقا مشروطا به ولهذا قال الخرقي وقد صار العبد حرا بشهادة الشريكين اللذين شهدا بالقبض ولو
عتق بالبيع لعتق باعترافهم به لا بالشهادة بالقبض ومتى أنكر أحدهم اخذ نصيبه من الثمن فشهد عليه
شريكاه وكانا عدلين قبلت شهادتهما لأنهما شهدا للعبد بأداء ما يعتق به فقبلت شهادتهما كالأجنبيين
ويرجع المشهود عليه عليهما فيشاركهما فيما أخذاه لأنهما اعترفا بأخذ مائتين من ثمن العبد والعبد مشترك
بينهم فثمنه يجب أن يكون بينهم ولان ما في يد العبد لهم والذي أخذاه كان في يده فيجب ان يشترك
فيه الجميع ويكون بينهم بالسوية وشهادتهما فيما لهما فيه نفع غير مقبولة ودفع مشاركته لهما فيه نفع لهما
فلم تقبل شهادتهما فيه وقبلت بما ينتفع به العبد دون ما ينتفعان به كما لو أقر بشئ لغيرهما فيه
نفع فإن اقرارهما يقبل فيما عليهما دون مالهما وقياس المذهب ان لا تقبل شهادتهما على شريكهما بالقبض
لأنهما يدفعان بها عن أنفسهما ضررا ومغرما ومن شهد بشهادة يجر إلى نفسه نفعا بطلت شهادته
في الكل وإنما يقبل ذلك في الاقرار لأن العدالة غير معتبرة فيه والتهمة لا تمنع من صحته بخلاف
الشهادة فعلى هذا القياس يعتق نصيب الشاهدين باقرارهما ويبقى نصيب المشهود عليه موقوفا على
468

القبض وله مطالبته بنصيبه أو مشاركة صاحبيه بما أخذ فإن شاركهما أخذ منهما ثلثي مائة ورجع على
العبد بتمام المائة ولا يرجع المأخوذ منه على الآخر بشئ لأنه ان أخذ من العبد فهو يقول ظلمني واخذ
مني مرتين وإن أخذ من الشاهدين فهما يقولان ظلمنا وأخذ منا ما لا يستحقه علينا ولا يرجع المظلوم
على غير ظالمه وان كانا غير عدلين فكذلك سواء قلنا إن شهادة العدلين مقبولة أو لا لأن غير
العدل لا تقبل شهادته وإنما يؤاخذ باقراره وان أنكر الثالث البيع فنصيبه باق على الرق. إذا حلف
الا ان يشهدا عليه بالبيع ويكونان عدلين فتقبل شهادتهما لأنهما لا يجران إلى نفسهما بهذه الشهادة نفعا
(فصل) وإذا كان العبد بين شريكين فكاتباه بمائة فادعى دفعها إليهما وصدقاه عتق وان أنكراه
ولم تكن بينة فالقول قولهما مع أيمانهما وان أقر أحدهما وأنكر الآخر عتق نصيب المقر، وأما المنكر
فعلى قول الخرقي تقبل شهادة شريكيه عليه إذا كانا عدلا فيحلف العبد مع شهادتهما ويصير حرا
ويرجع المنكر على الشاهد فيشاركه فيما أخذه، وأما القياس فيقتضي أن لا تسمع شهادة شريكه عليه
لأنه يدفع بشهادته عن نفسه مغرما والقول قول السيد مع يمينه فإذا حلف فله مطالبة شريكه بنصف
ما اعترف به وهو خمسة وعشرون لأن ما قبضه كسب العبد وهو مشترك بينهما فإن قيل فالمنكر
ينكر قبض شريكه فكيف يرجع عليه؟ قلنا إنما ينكر قبض نفسه وشريكه مقر بالقبض ويجوز أن
يكون قد قبض فلم يعلم به وإذا أقر بمتصور لزمه حكم اقراره ومن حكمه جواز رجوع شريكه عليه
469

فإن قيل لو كان عليه دين لاثنين فوفى أحدهما لم يرجع الآخر على شريكه فلم رجع ههنا؟ قلنا إن كان
الدين ثابتا بسبب واحد فما قبض أحدهما منه رجع به الآخر عليه كمسئلتنا وعلى ان هذا يفارق
الدين لكون الدين لا يتعلق بما في يد الغريم إنما يتعلق بذمته حسب والسيد يتعلق حقه بما في يد
المكاتب فلا يدفع شيئا منه إلى أحدهما الا كان حق الآخر ثابتا فيه. إذا ثبت هذا فإنه ان رجع
على العبد بخمسين استقر ملك الشريك على ما أخذه ولم يرجع العبد عليه بشئ لأنه إنما قبض حقه،
وإن رجع على الشريك رجع عليه بخمسة وعشرين وعلى العبد بخمسة وعشرين ولم يرجع أحدهما على
الآخر بما أخذه منه لما ذكرنا من قبل، وان عجز العبد بأداء ما رجع به عليه فله تعجيزه واسترقاقه
ويكون نصفه حرا ونصفه رقيقا ويرجع على الشريك بنصف ما أخذه ولا تسري الحرية فيه لأن
الشريك والعبد يعتقدان أن الحرية ثابتة في جميعه وان المنكر غاصب لهذا النصف الذي استرقه ظالما
باسترقاقه والمنكر يدعي رق العبد جميعه ولا يعترف بحرية شئ منه لأنه يزعم أنه ما قبضت نصيبي
من كتابته وشريكي ان قبض شيئا استحق نصفه بغير اذني فلا يعتق شئ منه بهذا القبض وسراية
العتق ممتنعة على كلا القولين والسراية إنما تكون فيما إذا أعتق بعضه وبقي بعضه رقيقا وجميعهم متفقون
على خلاف ذلك وهذا منصوص الشافعي
(فصل) فإن ادعى العبد أنه دفع المائة إلى أحدهما ليدفع إلى شريكه حقه ويأخذ الباقي فأنكر
470

المدعى عليه حلف وبرئ فإن قال إنما دفعت إلي حقي والى شريكي حقه ولا بينة للعبد فالقول قول
المدعى عليه في أنه لم يقبض الا قدر حقه مع يمينه ولا نزاع بين العبد وبين الآخر لأنه لم يدع عليه
شيئا وله مطالبة العبد بجميع حقه وله مطالبته بنصفه ومطالبة القابض بنصف ما قبضه فإن اختار
مطالبة العبد فله القبض منه بغير يمين وان اختار الرجوع على شريكه بنصفه فللشريك عليه اليمين
أنه لم يقبض من المكاتب شيئا لأنه لو أقر بذلك لسقط حقه من الرجوع فإذا أنكره لزمته اليمين
فإن شهد القابض على شريكه بالقبض لم تقبل شهادته لمعنيين (أحدهما) أن المكاتب لم يدع عليه
شيئا وإنما تقبل البينة إذا شهدت بصدق المدعي (الثاني) أنه يدفع عن نفسه مغرما فإن عجز العبد
فلغير القابض ان يسترق نصفه ويقوم عليه نصيب شريكه لأن العبد معترف برقه غير مدع لحرية
هذا النصيب بخلاف التي قبلها ويحتمل أن لا يقوم أيضا لأن القابض يدعي حرية جميعه والمنكر
يدعي ما يوجب رق جميعه فإنهما يقولان ما قبضه قبضه بغير حق فلا يعتق حتى يسلم إلي مثل ما سلم
إليه وإذا كان أحدهما يدعي جميعه والآخر يدعي جزأه فما اتفقا على حرية البعض دون البعض
(فصل) وان اعترف المدعي بقبض المائة على الوجه الذي ادعاه المكاتب وقال قد دفعت إلى
شريكي نصفها فأنكر الشريك فالقول قوله مع يمينه وله مطالبة من شاء منهما بجميع حقه وللمرجوع
عليه ان يحلفه فإن رجع على الشريك فأخذ منه خمسين كان له ذلك لأنه اعترف بقبض المائة كلها
471

ويعتق المكاتب لأنه وصل إلى كل واحد منهما قدر حقه من الكتابة ولا يرجع الشريك عليه
بشئ لأنه يعترف له بأداء ما عليه وبراءته منه وإنما يزعم أن شريكه ظلمه فلا يرجع على غير ظالمه وان
رجع على العبد فله أن يأخذ منه الخمسين لأنه يزعم أنه ما قبض شيئا من كتابته وللعبد الرجوع على
القابض بها سواء صدقه في دفعها إلى المنكر أو كذبه لأنه وان دفعها فقد دفعها دفعا غير مبر فكان
مفرطا ويعتق العبد بأدائها فإن عجز عن أدائها فله أن يأخذها من القابض ثم يسلمها
فإن تعذر ذلك فله تعجيزه واسترقاق نصفه ومشاركة القابض في الخمسين التي قبضها
عوضا عن نصيبه ويقوم على الشريك القابض إن كان موسرا إلا أن يكون العبد يصدقه في
دفع الخمسين إلى شريكه فلا يقوم لأنه يعترف أنه حر وان هذا ظلمه باسترقاق نصفه الحر وان أمكن
الرجوع على القبض بالخمسين ودفعها إلى المنكر فامتنع من ذلك فهل يملك المنكر تعجيزه واسترقاق
472

نصفه؟ على وجهين بناء على القول في تعجيز العبد نفسه مع القدرة على الأداء ان قلنا له ذلك فللمنكر
استرقاقه، وان قلنا ليس له ذلك فليس للمنكر استرقاقه لأنه قادر على الأداء فإن قيل فلم لا يرجع
المنكر على القابض بنصف ما قبضه إذا استرق نصف العبد؟ قلنا لأنه لو رجع بها لكان قابضا جميع
حقه من مال الكتابة فيعتق المكاتب بذلك الا ان يتعذر قبضها في نجومها فتنفسخ الكتابة ثم يطالب
بها بعد ذلك فيكون له الرجوع بنصفها كما لو كانت غائبة في بلد آخر وتعذر تسليمها حتى فسخت
الكتابة والله أعلم
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وان اختلفا في الكتابة فالقول قول من ينكرها) لأن الأصل معه
(مسألة) (وان اختلفا في عوضها فالقول قول السيد في إحدى الروايتين)
إذا اختلفا في عوض الكتابة فقال السيد كاتبتك على الفين وقال المكاتب على الف فعنه
ثلاث روايات (أحدها) القول قول السيد ذكره الخرقي قال القاضي هذا المذهب نص عليه أحمد
473

في رواية الكوسج وهو قول الثوري والأوزاعي وإسحاق وقال أبو بكر اتفق أحمد والشافعي على
أنهما يتحالفان ويترادان وهو قول أبي يوسف ومحمد لأنهما اختلفا في عوض العقد القائم بينهما
فيتحالفان إذا لم تكن بينة كالمتبايعين وحكي عن أحمد رواية ثالثة ان القول قول المكاتب وهو
قول أبي حنيفة لأنه منكر للألف الزائد والقول قول المنكر لأنه مدعى عليه فيدخل في عموم قوله
عليه السلام (ولكن اليمين على المدعى عليه) ووجه الأولى أنه اختلاف في الكتابة فالقول قول
السيد فيه كما لو اختلفا في أصلها ويفارق البيع من وجهين (أحدهما) ان الأصل في البيع عدم ملك
كل واحد منهما لما صار إليه والأصل في المكاتب وكسبه أنه لسيده فالقول قوله فيه (الثاني) ان
التحالف في البيع مفيد ولا فائدة في التحالف في الكتابة فإن الحاصل منه يحصل بيمين السيد
وحده وبيان ذلك أن الحاصل بالتحالف فسخ الكتابة ورد العبد إلى الرق إذا لم يرض بما حلف
عليه سيده وهذا يحصل عند من جعل القول قول السيد مع يمينه فلا يشرع التحالف مع عدم فائدته
474

وإنما قدمنا قول المنكر في سائر المواضع لأن الأصل معه والأصل ههنا مع السيد لأن الأصل ملكه
للعبد وكسبه. إذا ثبت هذا فمتى حلف السيد ثبتت الكتابة بألفين كما لو اتفقا عليها وسواء كان
اختلافهما قبل العتق أو بعده مثل ان يدفع إليه الفين فيعتق ثم يدعي المكاتب ان أحدهما عن
الكتابة والاخر وديعة ويقول السيد بل هي جميعا مال الكتابة ومن قال بالتحالف قال إذا تحالفا
فلكل واحد منهما فسخ الكتابة الا ان يرضى بقول صاحبه وإن كان التحالف بعد العتق في مثل
الصورة التي ذكرناها لم ترتفع الحرية لأنها لا يمكن رفعها بعد حصولها ولا إعادة الرق بعد رفعه
ولكن يرجع السيد بقيمة ويرد إليه ما أدى إليه فإن كانا من جنس واحد تقاصا بقدر أقلهما
وأخذ ذو الفضل فضله
(مسألة) (وان اختلفا في وفاء مالها فقال العبد أديت وعتقت وأنكر السيد فالقول قول السيد مع يمينه)
لأنه منكر والقول قول المنكر وان اختلفا في ابرائه من مال الكتابة أو شئ منه فالقول
قول السيد مع يمينه لذلك
475

(فصل) إذا كاتب عبدين واستوفى من أحدهما ولم يدر أيهما استوفى فقياس المذهب ان يقرع
بينهما فمن خرجت له القرعة عتق ورق الآخر كما لو أعتق عبدا من عبيده وأنسيه وان ادعى الآخر
عليه أنه أدى فعليه اليمين أنه ما أدى فإن نكل عتق الآخر وان مات السيد قبل القرعة أقرع الورثة
فإن ادعى الآخر عليهم أنه المؤدي فعليهم اليمين أنهم لا يعلمون انه أدى لأنها يمين على نفي فعل الغير
فإن أقام أحد العبدين بينة أنه أدى عتق سواء كان قبل القرعة أو بعدها في حياة سيده أو بعد موته
وإن كان ذلك قبل القرعة تعينت الحرية فيه ورق الآخر فإن كان بعدها فكذلك لأن القرعة ليست
عتقا وإنما هي معينة للعتق والبينة أقوى منها فيثبت بها خطأ القرعة فيتبين بقاء الرق في الذي ظننا
حريته كما تبينا حرية من ظننا رقه ولان من لم يؤد لا يصير مؤديا بوقوع القرعة له فلا يوجد حكمه
الذي هو العتق ويتخرج على قول أبي بكر وابن حامد ان يعتقا على ما نذكر في الطلاق، وكذلك
الحكم فيما إذا ذكر السيد المؤدي منهما ومتى ادعى الآخر انه أدى فله اليمين على المدعى عليه من
476

السيد والورثة الا ان السيد يحلف على البت، وأما الورثة فإن ادعى أنه دفع إلى موروثهم حلفوا على
نفي العلم وإن ادعى أنه دفع إليهم حلفوا على البت وعلى كل واحد من الورثة يمين لأن كل واحد منهم
مدعى عليه فلزمته اليمين كما لو انفرد بالدعوى
(فصل) إذا كان للمكاتب أولاد من معتقة غير سيده فقال سيده قد أدى إلي وعتق فانجر ولاء
ولده إلي فأنكر ذلك مولى أمهم وكان المكاتب حيا صار حرا بهذا القول لأنه اقرار من سيده
بعتقه وينجر ولاء ولده إليه وإن كان ميتا فالقول قول مولى أمهم لأن الأصل بقاء الرق وبقاء ولائهم
له فيحلف ويبقى ولاؤهم له
(مسألة) (وإن أقام العبد شاهدا وحلف معه أو شاهد وامرأتين ثبت الأداء وعتق وهذا قول الشافعي)
لأن النزاع بينهما في أداء المال والمال يقبل فيه الشاهد واليمين والرجل والمرأتان
فإن قيل القصد من هذه الشهادة العتق وهو لا يثبت بشاهد ويمين قلنا بل يثبت بشاهد
477

ويمين في رواية، وان سلمنا ان الشهادة لا تثبت لكن الشهادة ههنا بأداء المال والعتق يحصل عند
أدائه بالعقد الأول ولم يشهد الشاهد به ولا بينهما فيه نزاع ولا يمتنع أن يثبت بشهادة الواحد ما
يترتب عليه أمر لا يثبت الا بشاهدين كما أن الولادة تثبت بشهادة النساء ويترتب عليها ثبوت النسب
الذي لا يثبت بشهادة النساء ولا بشاهد واحد
(فصل) فإن لم يكن للعبد شاهد وأنكر السيد فالقول قوله فإن قال لي شاهد غائب انظر ثلاثا
فإن جاء وإلا حلف السيد ثم متى جاء شاهده وأدى الشهادة ثبتت حريته وان جرح شاهده فقال لي
شاهد آخر أنظر ثلاثا لما ذكرناه
(فصل) وإن أقر السيد بقبض مال الكتابة عتق العبد إذا كان ممن يصح اقراره وإن أقر
بذلك في مرض موته قبل لأنه اقرار لغير وارث فيقبل وإن قال استوفيت كتابتي كلها عتق العبد
وإن قال استوفيتها كلها إن شاء الله أو ان شاء زيد عتق ولم يؤثر الاستثناء لأن هذا الاستثناء لا
478

مدخل له في الاقرار قال احمد في رواية أبي طالب إذا قال له الف إن شاء الله كان مقرا بها ولان
هذا الاستثناء تعليق بشرط والذي يتعلق بالشرط إنما هو المستقبل، وأما الماضي فلا يمكن تعليقه لأنه
قد وقع على صفة لا يتغير عنها بالشرط وإنما يدل الشرط على الشك فيه فكأنه قال استوفيت كتابتي
وانا أشك فيه فيلغو الشك ويثبت الاقرار وان قال استوفيت آخر كتابتي وقال إنما أردت أني
استوفيت النجم الآخر دون ما قبله وادعى العبد اقراره باستيفاء الكل فالقول قول السيد لأنه
أعرف بمراده والله أعلم
(فصل) قال رضي الله عنه (والكتابة الفاسدة مثل أن يكاتبه على خمر أو خنزير تغلب فيها
حكم الصفة في أنه إذا أدى عتق ولا يعتق بالابراء)
إذا كاتبه كتابة فاسدة على عوض مجهول أو حال أو محرم كالخمر والخنزير فقد روي عن أحمد
رحمه الله ما يدل عليه ان الكتابة على العرض المحرم باطلة لا يعتق بالأداء فيها اختاره أبو بكر فإنه
479

روي عن أحمد أنه قال: إذا كاتبه كتابة فاسدة فأدى ما كوتب عليه عتق ما لم تكن الكتابة
محرمة فحكم بالعتق بالأداء الا في المحرمة واختار القاضي انه يعتق بالأداء كسائر الكتابات الفاسدة
ويمكن حمل كلام القاضي على ما إذا جعل السيد الأداء شرطا للعتق فقال إذا أديت لي فأنت حر فأدى فإنه يعتق
بالصفة المجردة لا بالكتابة ويثبت في هذه الكتابة حكم الصفة في العتق بوجودها لا حكم الكتابة فأما ان شرط في
في الكتابة شرطا فاسدا فالمنصوص أنه لا يفسدها لكن يلغو الشرط وتصح الكتابة ويتخرج
ان يفسدها بناء على الشروط الفاسدة في البيع وهو مذهب الشافعي وقد ذكرناه فاما الكتابة
الفاسدة التي لا تكون عوضا محرما فإنها تساوي الصحيحة في أربعة أحكام
(أحدها) أنه يعتق ما كوتب عليه سوا صرح بالصفة بان يقول إذا أديت إلي فأنت حر أو لم
يقل لأن معنى الكتابة يقتضي هذا فيصير كالمصرح به فيعتق بوجوده كالصحيحة
(الثاني) إذا أعتقه بالأداء لم تلزمه قيمة نفسه ولم يرجع على سيده بما أعطاه ذكره أبو بكر وهو
480

ظاهرا كلام أحمد وقال الشافعي يتراجعان فيجب على العبد قيمته وعلى السيد ما أخذه فيتقاصان بقدر أقلهما
ان كانا من جنس واحد ويأخذ ذو الفضل فضله لأنه عقد معاوضة فاسد فوجب التراجع فيه كالبيع الفاسد
ولنا أنه عقد كتابة حصل العتق فيه بالأداء فلم يجب التراجع كما لو كان العقد صحيحا ولان ما
يأخذه السيد فهو من كسب عبده الذي يملك كسبه فلم يجب رده والعبد عتق بالصفة فلم تجب عليه
قيمته كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر وأما البيع الفاسد فإنه إن كان بين هذا وسيده فلا رجوع
على السيد بما أخذه وإن كان بينه وبين غيره فإنه أخذ مالا يستحقه ودفع إلى الآخر ما لا يستحقه
بعقد المقصود منه المعاوضة بخلاف هذا في مسئلتنا (الثالث) ان المكاتب يملك التصرف في كسبه
لأن عقد الكتابة تضمن الاذن في ذلك وله أخذ الصدقات والزكوات لأنه مكاتب يعتق بالأداء أشبه
الكتابة الصحيحة
(الرابع) أنه إذا كاتب جماعة كتابة فاسدة فادى أحدهم حصتهم عتق على قول من قال إنه يعتق
481

بالكتابة الصحيحة بأداء حصته لأن معنى العقد ان كل واحد منهم مكاتب بقدر حصته متى أدى
إلي كل واحد منكم قدر حصته فهو حر ومن قال لا يعتق في الصحيحة الا ان يؤدي جميعهم فههنا أولى
(فصل) وتفارق الصحيحة في ثلاثة أحكام (أحدها) ان السيد إذا أبرأه من المال لم تصح البراءة
ولم يعتق بذلك لأن المال غير ثابت في العقد بخلاف الكتابة الصحيحة وصار هذا كالصفة المجردة
في قوله إذا أديت إلي ألفا فأنت حر (الثاني) ان لكل واحد من السيد والمكاتب فسخها سواء كان
ثم صفة أو لم تكن وهذا قول أصحاب الشافعي لأن الفاسد لا يلزم حكمه والصفة ههنا مبنية على المعاوضة
وتابعة لها لأن المعاوضة هي المقصودة فلما أبطل المعاوضة التي هي الأصل بطلت الصفة المبنية عليها بخلاف
الصفة المجردة ولان السيد لم يرض بهذه الصفة الا بان يسلم له العوض المسمى فإذا لم يسلم كان له إبطالها
بخلاف الصحيحة فإن العوض سلم له فكان العقد لازما له
482

(الثالث) أنه لا يلزم السيد ان يؤدي إليه شيئا من الكتابة لأن العتق ههنا بالصفة المجردة
فأشبه ما لو قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر
(مسألة) (وتنفسخ بموت السيد وجنونه والحجر للسفه)
اختلف في انفساخها بموت السيد فذهب القاضي وأصحابه إلى بطلانها به وهو قول الشافعي
لأنه عقد جائز من الطرفين لا يؤول إلى اللزوم فبطل بالموت كالوكالة ولان المغلب فيها حكم الصفة
المجردة والصفة تبطل بالموت كذلك هذه الكتابة وقال أبو بكر لا تبطل بالموت ويعتق بالأداء إلى
الوارث وهو قول أبي حنيفة لأنه مكاتب يعتق بالأداء إلى السيد فيعتق بالأداء إلى الوارث
كالكتابة الصحيحة في باب العتق بالأداء فكذلك في هذا واختلف في انفساخها بجنون السيد
والحجر عليه والخلاف فيه كالخلاف في بطلانها بموته قال شيخنا والأولى أنها لا تبطل ههنا الا بالصفة
المجردة لا بذلك والمغلب في هذه الكتابة حكم الصفة المجردة فلا تبطل به فعلى هذا لو أدي إلى سيده
483

بعد ذلك عتق ولا يعتق عند من أبطالها
(فصل) ويملك السيد أخذ ما في يده وان فضل من الأداء فضل فهو لسيده هذا قول أبي
الخطاب لأن كسب العبد لسيده بحكم الأصل والعقد ههنا فاسد لم يثبت الحكم في وجوب العوض
في ذمته فلم ينقل الملك في المعوض كسائر العقود الفاسدة ولان المغلب فيها حكم الصفة المجردة وهي
484

لا تثبت له في كسبه فكذا ههنا وفارق الكتابة الصحيحة فإنها أثبتت الكتابة في العوض فأثبتته
في المعوض وقال القاضي ما في يد المكاتب وما يكسبه وما يفضل في يده بعد الأداء وهو مذهب
485

الشافعي لأنها كتابة يعتق بالأداء فيها فيثبت هذا الحكم فيها كالصحيحة والأول أصح لما بين
الفاسدة والصحيحة من الفروق
(مسألة) (وهل يتبع المكاتبة ولدها فيها؟ على وجهين)
486

(أحدها) يتبعها لأنها كتابة تعتق فيها بالأداء فيعتق ولدها به كالكتابة الصحيحة (والثاني)
لا يتبعها وهو أقيس وأصح لأن الأصل بقاء الرق فيه فلا يزول الا بنص أو معنى نص وما وجد واحد
منهما ولا يصح القياس على الكتابة الصحيحة لما ذكرنا من الفرق بينهما فيما تقدم فيبقى على الأصل
(مسألة) (وقال أبو بكر لا تنفسخ بموت السيد ولا جنونه ولا الحجر عليه للسفه) وقد ذكرناه
487

(باب أحكام أمهات الأولاد)
أم الولد هي التي ولدت من سيدها في ملكه ولا خلاف في إباحة التسري ووطئ الإماء لقول
الله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)
وقد كانت مارية القبطية أم ولد للنبي صلى الله عليه وسلم وهي أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم
(أعتقها ولدها) وكانت هاجر سرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام أم إسماعيل عليه السلام وكان لعمر
ابن الخطاب رضي الله عنه أمهات أولاد أوصى لكل واحدة منهن بأربعمائة وكان لعلي رضي
الله عنه أمهات أولاد ولكثير من الصحابة وكان علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله من أمهات
أولاد ويروى ان الناس لم يكونوا يرغبون في أمهات الأود حتى ولد هؤلاء الثلاثة فرغب الناس فيهن
وروي عن سالم بن عبد الله قال كان لابن رواحة جارية وكان يريد الخلوة بها وكانت امرأته ترصده
فخلا البيت فوقع عليها فندرت به امرأته وقالت أفعلتها؟ قال ما فعلت قالت فاقرا إذا فقال
شهدت بان وعد الله حق * وان النار مثوى الظالمينا
وان العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش رب العالمينا
ويحمله ملائكة شداد * ملائكة الإله مسومينا
488

قالت أما إذا أقرأت فاذهب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال فلقد رأيته يضحك حتى تبدو
نواجذه ويقول (هيه كيف قلت؟) فأكرره عليه فيضحك
(مسألة) (إذا حملت الأمة من سيدها فوضعت ما يتبين فيه خلق الانسان صارت له بذلك
أم ولد فإذا مات عتقت وان لم يملك غيرها)
ذكر ههنا لمصير الأمة أم ولد شرطين (أحدهما) ان تحمل به في ملكه سواء كان من وطئ مباح أو محرم
كالوطئ في الحيض والنفاس والاحرام والظهار فاما ان علقت منه في غير ملكه لم تصر بذلك أم ولد سواء
علقت منه بمملوك مثل ان يطأها في ملك غيره بنكاح أو زنا أو علقت بحر مثل أن يطأها بشبهة أو غر
من أمة فتزوجها على أنها حرة فاستولدها أو اشترى جارية فاستولدها ثم ظهرت مستحقة فإن الولد حر
ولا تصير الأمة أم ولد في هذه المواضع بحال فإن ملكها بعد ذلك ففيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى
(الشرط الثاني) ان تضع ما يتبين فيه شئ من خلق الانسان من رأس أو يد أو رجل أو تخطيط
سواء وضعته حيا أو ميتا وسواء أسقطته أو كان تاما قال عمر رضي الله عنه إذا ولدت الأمة من
سيدها فقد عتقت وإن كان سقطا وروى الأثرم باسناده عن ابن عمر أنه قال أعتقها ولدها وإن كان
سقطا وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله أم الولد إذا أسقطت لا تعتق فقال إذا تبين فيه يد أو
489

رجل أو شئ أو خلقة فقد عتقت هذا قول الحسن والشافعي وقال الشعبي إذا نكس في الخلق الرابع
فكان مخلقا انقضت به عد الحرة وعتقت به الأمة قال شيخنا ولا اعلم في هذا خلافا بين من قال
بثبوت حكم الاستيلاد، فاما ان ألقت نطفة أو علقة لم يثبت به شئ من أحكام الولادة لأنه ليس بولد
وروى يوسف بن موسى ان أبا عبد الله قيل له ما تقول في الأمة إذا ألقت مضغة أو علقة؟ قال تعتق
وهذا قول إبراهيم النخعي وذكر الخرقي لمصيرها أم ولد شرطا ثالثا وهو ان تحمل بحر ويتصور ذلك
في الملك في موضعين (أحدهما) في العبد إذا ملكه سيده وقلنا إنه يملك فوطئ أمته فاستولدها فولده
مملوك ولا تصير الأمة به أم ولد يثبت لها حكم الاستيلاد بذلك وسواء اذن له سيده في التسري بها أو لم يأذن
(الثاني) إذا استولد المكاتب أمته فإن ولد مملوك له ولا يثبت للأمة أحكام أم الولد في العتق
بموته في الحال لأن المكاتب ليس بحر وكذلك ولده منها فأولى ان لا تتحرر هي ومتى عجز المكاتب
وعاد إلى الرق أو مات قبل أداء كتابته فهي أمة قن كالعبد القن وهل يملك المكاتب بيعها؟ فيه
اختلاف ذكرناه في باب المكاتب
490

(مسألة) (وتعتق بموت سيدها من رأس المال وان لم يملك سواها)
وهذا قول كل من رأى عتقهن لا نعلم بينهم خلافا في ذلك وسواء ولدت في الصحة أو المرض
لأنه حاصل بالتذاذه وشهوته وما يتلفه في لذاته يستوي فيه حال الصحة والمرض كالذي يأكله ويلبسه
ولان عتقها بعد الموت وما يكون بعد الموت يستوي فيه المرض والصحة كقضاء الدين والتدبير
والوصية قال سعيد ثنا عن يحيى بن سعيد عن نافع قال أدرك ابن عمر رجلان فقالا انا تركنا هذا
الرجل يبيع أمهات الأولاد يعنيان ابن الزبير فقال ابن عمر أتعرفان أبا حفص؟ فإنه قضى في أمهات
الأولاد ان لا يبعن ولا يوهبن يستمتع بها صاحبها فإذا مات فهي حرة وقال ثنا عتاب عن حصيف
عن عكرمة عن ابن عباس قال قال عمر ما من رجل كان يقر بأنه كان يطأ جاريته يموت الا أعتقتها
وإن كان سقطا وروى ابن ماجة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما أمة ولدت من
سيدها
فهي حرة عن دبر منه)
(فصل) وإذا عتقت بموت سيدها فما كان في يدها من شئ فهو لورثة سيدها لأن أم الولد
أمة وكسبها لسيدها وسائر ما في يدها له فإذا مات سيدها فعتقت انتقل ما في يدها إلى ورثته كسائر
491

ماله وكما في يد المدبرة بخلاف المكاتبة فإن كسبها في حياة سيدها لها فإذا عتقت بقي لها كما
كان لها قبل العتق
(فصل) ولا فرق بين المسلمة والكافرة والعفيفة والفاجرة ولا بين المسلم والكافر والعفيف
والفاجر في هذا في قول أهل الفتاوى من أهل الأمصار لأن ما يتعلق به العتق يستوي فيه المسلم
والكافر كالتدبير والكتابة ولان عتقها بسبب اختلاط دمها بدمه ولحمها بلحمه فإذا استويا في حكمه
وقد روى سعيد ثنا هشيم ثنا منصور عن ابن سيرين عن أبي عطية الهمداني عن عمر بن الخطاب
قال في أم الولد: ان أسلمت وأحصنت وعفت أعتقت وان كفرت وفجرت وغدرت رقت وقال هشيم
حدثنا يحيى بن آدم عن أم ولد رجل ارتدت عن الاسلام فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز
فكتب عمران بيعوها ليسبيها أحد من أهل دينها فعلى هذا الحديث ينبغي ان يختص العتق بالمسلمة
العفيفة وترق الكافرة الفاجرة والله أعلم
(مسألة) (وان وضعت جسما لا تخطيط فيه فعلى روايتين)
أما إذا وضعت مضغة لم يظهر فيها شئ من خلق الآدمي فشهد ثقات من القوابل ان فيها
صورة خفية تعلقت بها الأحكام لأنهن اطلعن على الصورة التي خفيت على غيرهن وان لم يشهدن
492

بذلك لكن علم أنه مبتدأ خلق آدمي بشهادتهن أو غير ذلك ففيه روايتان (إحداهما) لا تصير به
الأمة أم ولد ولا تنقضي به عدة الحرة ولا يجب على الضارب المتلف له غرة ولا كفارة وهذا ظاهر
كلام الخرقي والشافعي وظاهر ما نقله الأثرم عن أحمد وظاهر قول الحسن والشعبي وسائر من
اشترط ان يتبين فيه شئ من خلق الآدمي
(والثانية) تتعلق به الأحكام الأربعة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه إذا تبين وخرج أبو عبد الله
ابن حامد رواية ثالثة وهي ان الأمة تصير أم ولد ولا تنقضي به عدة الحرة لأنه روي عن أحمد إذا
وضعت شيئا فمسته القوابل فعلمن أنه لحم ولم يتبين لحمه فيحتاط في العدة بأخرى ويحتاط بعتق الأمة
فظاهر هذا أنه حكم بعتق الأمة ولم يحكم بانقضاء العدة لأن عتق الأمة تحصيل للحرية فاحتيط بتحصيلها
والعدة يتعلق بها تحريم التزويج وحرمة الفرج فاحتيط بابقائها وقال بعض الشافعية بالعكس لا تجب
العدة ولا تصير الأمة أم ولد لأن الأصل عدم كل واحد منهما فيبقى على أصله ولا يصح لأن العدة
كانت ثابتة والأصل بقاؤها على ما كانت عليه والأصل في الآدمي الحرية فتغلب على ما يفضي إليها
(مسألة) (وان أصابها في ملك غيره بنكاح أو غيره ثم ملكها حاملا عتق الجنين ولم تصر
أم ولد له وعنه تصير)
493

وسواء ملكها حاملا فولدت في ملكه أو ملكها بعد ولادتها وبه قال الشافعي لأنها علقت منه بمملوك فلم
يثبت لها حكم الاستيلاد كما لو زنى بها ثم اشتراها لأن الأصل بقاء الرق وإنما خولف هذا الأصل فيما إذا
حملت منه في ملكه بقول الصحابة رضي الله عنهم ففيما عداه يبقى على الأصل ونقل ابن أبي موسى عن أحمد
أنها تصير أم ولد في الحالين وهو قول الحسن وأبي حنيفة لأنها أم ولده وهو مالك لها فيثبت لها حكم الاستيلاد
كما لو حملت في ملكه قال شيخنا ولم أجد هذه الرواية عن أحمد فيما إذا ملكها بعد ولادتها إنما نقل عنه التوقف
عنها في رواية مهنا فقال لا أقول فيها شيئا وصرح في رواية سواه بجواز بيعها فقال لا أرى بأسا ان يبيعها إنما
الحسن وحده قال إنها أم ولد وقال أكثر ما سمعنا فيه من التابعين يقولون انها لا تصير أم ولد حتى
تلد عنده وهو يملكها، كان عبيدة السلماني يقول ببيعها وشريح وإبراهيم والشعبي أما إذا ملكها حاملا
فظاهر كلام أحمد أنها تصير أم ولد وهو مذهب مالك لأنها ولدت منه في ملكه فأشبه ما لو أحبلها
في ملكه وقد صرح أحمد في رواية إسحاق بن منصور أنها لا تكون أم ولد حتى تحدث عنده حملا
وروى عنه ابنه صالح قال سألت أبي عن الرجل ينكح الأمة فتلد منه ثم يبتاعها قال لا تكون أم ولد له
قلت فإن اشتراها وهي حامل منه قال إذا كان الوطئ يزيد في الولد وكان يطؤها بعد ما اشتراها
وهي حامل كانت أم ولد له قال ابن حامد ان وطئها في ابتداء حملها أو بواسطة صارت له بذلك أم
494

ولد لأن الماء يزيد في سمع الولد وبصره وقال القاضي ان ملكها حاملا فلم يطأها حتى وضعت لم
تصر أم ولد وان وطئها حال حملها نظرنا فإن كان بعد أن كمل الولد وصار له خمسة أشهر لم تصر
بذلك أم ولد وان وطئها قبل ذلك صارت له بذلك أم ولد لأن عمر قال أبعد ما اختلطت دماؤكم
ودماؤهن ولحومكم ولحومهن بعتموهن؟ فعلل بالمخالطة والمخالطة ههنا حاصلة لأن الماء يزيد في الولد ولان
لحرية البعض اثرا في تحرير الجميع بدليل ما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وقال أبو الخطاب
ان وطئها بعد الشراء فهي أم ولد وكلام الخرقي يقتضي ان لا تكون أم ولد الا ان تحبل منه في
ملكه وهو الذي رواه إسحاق بن منصور عن أحمد وهو ظاهر المذهب لأنها لم تعلق منه بحر فلم يثبت له
حكم لاستيلاد كما لو زنى بها ثم اشتراها ولان حملها منه إذا لم يفد الحرية لولدها فلان لا يفيدها الحرية أولى
ويفارق هذا ما إذا حملت منه في ملكه فإن الولد حر فتحرر بتحريره وما ذكروه من أن الولد يزيد فيه الوطئ
غير مستيقن فلا يثبت الحكم بالشك ولو ثبت انه زاد لم يثبت الحكم بهذه الزيادة بدليل ما لو ملكها وهي حامل
منه من زنا أو غيره فوطئها لم تصر أم ولد وان زاد الولد به ولان حكم الاستيلاد إنما ثبت بالاجماع
495

في حق من حملت منه في ملكه وما عداه ليس في معناه وليس فيه نص ولا إجماع فوجب ان لا يثبت
هذا الحكم ولان الأصل الرق فتبقى على ما كانت عليه
(فصل) قال أحمد فيمن اشترى جارية حاملا من غيره فوطئها قبل وضعها فإن الولد لا يلحق
بالمشتري ولا يبيعه لكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد في الولد، وقد روي عن أبي الدرداء
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال (لعله يريد أن يلم بها؟) قالوا نعم فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (لقد هممت ان ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له؟ أم كيف يستخدمه
وهو لا يحل له؟) رواه أبو داود يعني أنه لو استلحقه وشركه في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده فإن اتخذه
مملوكا يستخدمه لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيد في الولد.
(فصل) إذا وطئ الرجل جارية ولده فإن كان قد تملكها وقبضها ولم يكن الولد وطئها ولا تعلقت
بها حاجته فقد ملكها الأب بذلك وصارت جاريته والحكم فيه كما لو اشتراها وان وطئها قبل تملكها فقد
فعل محرما لقول الله تعالى (والذين هو لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم
غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) وهذه ليست زوجته ولا ملك يمينه فإن قيل
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) فأضاف مال الابن إلى أبيه بلام الملك والاستحقاق فيدل
على أنه ملكه قلنا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الملك بدليل أنه أضاف إليه الولد وليس بمملوك وأضاف
496

إليه ماله في حال اضافته إلى الولد ولا يكون الشئ ملكا لمالكين حقيقة بدليل انه يحل له وطئ إمائه
والتصرف في ماله وصحة بيعه وهبته وعتقه ولان الولد لو مات لم يرث أبوه منه الا ما قدر له ولو كان
ماله لاختص به ولو مات الأب لم يرث ورثته مال ابنه ولا يجب على الأب حج ولا زكاة ولا جهاد
بيسار ابنه فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد التجوز بتشبيهه بما له في بعض أحكامه. إذا ثبت هذا فإنه
لاحد على الأب للشبهة لأنه إذا لم يثبت له حقيقة الملك فلا أقل من أن يكون شبهة تدرأ الحد فإن
الحد يدرأ بالشبهات ولكن يعزر لأنه وطئ وطئها محرما فأشبه وطئ الجارية المشتركة وفيه وجه آخر
أنه لا يعزر لأن مال ولده كماله ولا يصح لأن ماله مباح له غير ملوم عليه بخلاف وطئ الأب فإنه عاد
فيه ملوم عليه فإن علقت منه فالولد حر لأنه من وطئ درئ فيه الحد لشبهة الملك فكان حرا كولد
الجارية المشتركة ولا يلزمه قيمته لأن الجارية تصير ملكا له بالوطئ فيحصل علوقها بالولد وهي
ملكه وتصير أم ولد له تعتق بموته وتنتقل إلى ملكه فيحل له وطؤها بعد ذلك وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر لا تصير أم ولد له ولا يملكها لأنه استولدها في غير ملكه
فأشبه الأجنبي ولان ثبوت أحكام الاستيلاد إنما كان بالاجماع فيما إذا استولد مملوكته وهذه ليست
مملوكته ولا في معنى مملوكته لأنها محرمة عليه فوجب ان لا يثبت لها هذا الحكم لأن
497

الأصل الرق فتبقى على الأصل ولان الوطئ المحرم لا ينبغي أن يكون سببا للملك الذي هو نعمة وكرامة
لأنه يفضي إلى تعاطي المحرمات.
ولنا أنها علقت منه بحر لأجل الملك فصارت أم ولد له كالجارية المشتركة وبهذا فارق وطأ
الأجنبي. إذا ثبت هذا فإنه لا يلزمه مهرها ولا قيمتها، وقال أبو حنيفة لا يلزمه مهرها وتلزمه قيمتها
لأنه أخرجها عن ملك سيدها بفعل محرم أشبه ما لو قتلها وإنما لم يلزمه مهرها لأنه إذا ضمنها فقد دخلت
قيمة البضع في ضمانها فلم يضمنه ثانيا كما لو قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها فإنه يضمن قيمة النفس
دون قيمة اليد، وقال الشافعي يلزمه مهرها لأنه وطئ جارية غيره وطئا محرما فلزمه مهرها كالأجنبي
وتلزمه قيمتها على القول بكونها أم ولد كما يلزم أحد الشريكين نصيب شريكه إذا استولد الجارية المشتركة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) ولأنه لا يلزمه قيمة ولدها فلم يلزمه مهرها ولا قيمتها
كمملوكته ولأنه وطئ صارت به الموطوءة أم ولد لأمر لا يختص ببعضها فأشبه استيلاد مملوكته
(فصل) فإن كان الابن قد وطأ جاريته ثم وطئها أبوه فأولدها فقد روي عن أحمد فيمن وقع
على جارية ابنه إن كان الأب قابضا لها ولم يكن الابن وطئها فهي أم ولده فليس للابن فيها شئ
قال القاضي: فظاهر هذا أن الابن إن كان قد وطئها لم تصر أم ولد للأب باستيلادها لأنها
تحرم عليه تحريما مؤبدا بوطئ ابنه ولا تحل له بحال فأشبه وطئ الأجنبي فعلى هذا القول لا يملكها
498

ولا تعتق بموته فاما ولدها فيعتق على أخيه لأنه ذو رحمه كما لو استولد مملوكته التي وطئها ابنه فإنها
تصير أم ولد له مع تحريمها عليه على التأبيد فكذلك ههنا لأنه وطئ يدرأ فيه الحد لشبهة الملك فصارت
به أم ولد كما لو لم يطأها الابن
(فصل) فإن وطئ الابن جارية أبيه فهو زان عليه الحد إذا كان عالما بالتحريم ولا تصير أم
ولد له ويلزمه مهرها ويعتق ولده على جده لأنه ابن ابنه إذا قلنا إنه ولد الزنا يعتق على أبيه وتحرم
الجارية على الأب على التأبيد ولا تجب قيمتها على الابن لأنه لم يخرجها عن ملك أبيه ولم يمنعه بيعها
ولا التصرف فيها بغير الاستمتاع فإن استولدها الأب بعد ذلك فقد فعل محرم ولا حد عليه لأنه
وطئ صادف ملكا وتصير أم ولد له لأنه استولد مملوكته فأشبه ما لو وطئ أمته المرهونة
(فصل) فإن وطئ أمته وهي مزوجة فقد فعل محرما ولا حد عليه لأنها مملوكته ويعزر قال أحمد
يجلد ولا برجم يعني انه يعزر بالجلد لأنه لو وجب عليه الحد لوجب الرجم إذا كان محصنا فإن أولدها
صارت أم ولد له لأنه استولد مملوكته وتعتق بموته وولده حر وما ولدت بعد ذلك من الزوج
فحكمه حكم أمه.
499

(فصل) ولو ملك رجل أمه من الرضاع أو أخته أو ابنته لم يحل له وطؤها فإن وطئها فلا حد عليه
في أصح الروايتين لأنها مملوكته ويعزر وان ولدت منه فالولد حر ونسبه لاحق به وهي أم ولده
ولذلك لو ملك أمة مجوسية أو وثنية فاستولدها أو ملك الكافر أمة مسلمة فاستولدها فلا حد عليه
ويعزر ويلحقه نسب ولده وتصير أم ولد تعتق بموته لما ذكرنا وكذلك لو وطئ أمته المرهونة أو
وطئ رب المال أمة من مال المضاربة فأولدها صارت له بذلك أم ولد وخرجت من الرهن والمضاربة
وإن كان فيها ربح جعل الربح في مال المضاربة وعليه قيمتها للمرتهن تجعل مكانها رهنا أو يوفيه
عن دين الرهن والله أعلم
(مسألة) وأحكام أم الولد أحكام الأمة في الإجارة والاستخدام والوط وسائر أمورها الا فيما
ينقل الملك في رقبتها كالبيع والهبة والوقف أو ما يراد له كالرهن وعنه ما يدل على جواز بيعها مع
الكراهة ولا عمل عليه)
وجملة ذلك أن الأمة إذا حملت من سيدها وولدت منه ثبت لها حكم الاستيلاد وحكمها حكم
الإماء في حل وطئها لسيدها واستخدامها وملك كسبها وتزويجها واجارتها وعتقها وتكليفها وحدها
500

وعورتها، وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن مالك انه لا يملك اجارتها وتزويجها لأنه لا يملك بيعها
فلا يملك تزويجها واجارتها كالحرة
ولنا انها مملوكة ينتفع بها فيملك سيدها تزويجها واجارتها كالحرة وإنما منع بيعها لأنها استحقت
ان تعتق بموته وبيعها يمنع ذلك بخلاف التزويج والإجارة ويبطل دليلهم بالموقوفة والمدبرة عند من
منع بيعها. إذا ثبت هذا فإنها تخالف الأمة القن في أنها تعتق بموت سيدها من رأس المال ولا يجوز
بيعها ولا التصرف فيها بما ينقل الملك من الهبة والوقف ولا ما يراد للبيع وهو الرهن ولا تورث لأنها
تعتق بموت سيدها ويزول الملك عنها روي هذا عمر وعثمان وعائشة وعامة الفقهاء
وروي عن علي وابن عباس وابن الزبير إباحة بيعهن واليه ذهب داود قال ثنا سعيد ثنا سفيان
عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس في أم الولد قال بعها كما تبيع ثيابك أو بعيرك قال وثنا أبو عوانة
عن مغيرة عن الشعبي عن عبيدة قال خطب علي الناس فقال شاورني عمر في أمهات الأولاد فرأيت
انا وعمر ان أعتقهن فقضى به عمر حياته وعثمان حياته فلما وليت رأيت أن أرقهن قال عبيدة فرأي
عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي علي وحده وقد روى صالح بن أحمد قال قلت لأبي إلى أي
501

شئ تذهب في بيع أمهات الأولاد؟ قال أكرهه وقد باع علي بن أبي طالب وقال في رواية إسحاق
ابن منصور لا يعجبني بيعهن، قال أبو الخطاب وظاهر هذا أنه يصح بيعهن مع الكراهة فجعل هذا
رواية ثانية عن أحمد قال شيخنا والصحيح ان هذا ليس برواية مخالفة لقوله انهن لا يبعن لأن السلف
رحمة الله عليهم كانوا يطلقون الكراهة على التحريم كثيرا ومتى كان التحريم والمنع مصرحا به في سائر
الروايات عنه وجب حمل هذا اللفظ المحتمل على المصرح به ولا يجعل ذلك اختلافا وحجة من أجاز
بيعهن ما روى جابر قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا
فانتهينا وما كان جائزا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لم يجز نسخه بقول عمر ولا غيره ولان نسخ
الأحكام إنما يجوز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النص إنما ينسخ بنص، وأما قول الصحابي فلا ينسخ
ولا ينسخ به وان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتركون أقوالهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتركونه
بأقوالهم وإنما تحمل مخالفة عمر لهذا النص على أنه لم يبلغه ولو بلغه لم يعده إلى غيره ولأنها مملوكة
لم يعتقها سيدها ولا شيئا منها ولا قرابة بينه وبينها فلم تعتق كما لو ولدت منه ابنه في نكاح أو غيره
ولان الأصل الرق ولم يرد بزواله نص ولا اجماع ولا ما في معنى ذلك فوجب البقاء عليه ولان
ولادتها لو كانت موجبة لعتقها لثبت العتق بها حين وجودها كسائر أسبابه
502

وروي عن ابن عباس رواية أخرى انها تجعل في سهم ولدها لتعتق عليه قال سعيد ثنا سفيان
ثنا الأعمش عن زيد بن وهب قال: مات رجل منا وترك أم ولد فأراد الوليد بن عقبة أن يبيعها في دينه
فأتينا عبد الله بن مسعود فذكرنا ذلك له فقال إن كان ولابد فاجعلوها من نصيب أولادها
ولنا ما روى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما أمة ولدت من سيدها فهي
حرة عن دبر منه) وقال ابن عباس ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أعتقها ولدها)
رواهما ابن ماجة، وذكر الشريف أبو جعفر في مسائله عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن
بيع أمهات الأولاد ولا يبعن ولا يرهن ولا يرثن يستمتع بها سيدها ما بداله فإن مات فهي حرة
قال شيخنا وهذا فيما أظن عن عمر ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم
بدليل قول علي كان رأيي ورأي عمر ان لا تباع أمهات الأولاد وقوله فقضي به عمر حياته وعثمان
حياته وقول عبيدة رأي علي في الجماعة أحب إلينا من رأيه حده وروى عكرمة عن ابن عباس قال
قال عمر ما من رجل يقر بأنه يطأ جارية ثم يموت الا أعتقها إذا ولدت وإن كان سقطا فإن قيل فكيف
تصح دعوى الاجماع مع مخالفة علي وابن عباس وابن الزبير قلنا قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة فروى
عبيدة قال بعث إلي علي والى شريح فقال لي اقضوا كما كنتم تقضون فاني أبغض الاختلاف
503

وابن عباس قال: ولد أم الولد بمنزلتها وهو الراوي لحديث عتقهن عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعن عمر فيدل على موافقته لهم ثم قد ثبت الاجماع باتفاقهم قبل المخالفة واتفاقهم معصوم
عن الخطأ فإن الأمة لا تجمع على ضلالة ولا يجوز ان يخلو من زمن عن قائم لله بحجته ولو جاز
ذلك في بعض العصر لجاز في جميعه ورأي الموافق في زمن الاتفاق خير من رأيه في الخلاف بعده
فيكون الاتفاق حجة على المخالف له منهم كما هو حجة على غيره فإن قيل فلو كان الاتفاق في بعض
العصر اجماعا حرمت مخالفته فكيف خالفه هؤلاء الأئمة الذين لا تجوز نسبتهم إلى ارتكاب الحرام
قلنا الاجماع ينقسم إلى مقطوع به ومظنون وهذا من المظنون فتمكن المخالفة منهم مع كونه حجة كما
وقع منهم مخالفة النصوص الظنية ولم تخرج مخالفتهم عن كونها حجة كذا ههنا فأما قول جابر بعنا
أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فليس فيه تصريح بأنه كان بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا علم أبي بكر فيكون ذلك واقعا منهم على انفرادهم فلا تكون فيه حجة ويتعين حمل الامر على
هذا لأنه لو كان هذا واقعا بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واقرا عليه لم تجز مخالفته ولم يجمع الصحابة
504

بعدهما على مخالفتهما ولو فعلوا ذلك لم يخل من منكر عليهم ويقول كيف تخالفون فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفعل صاحبيه؟ وكيف تتركون سنتهما وتحرمون ما احلا ولأنه لو كان ذلك واقعا بعلمهما لاحتج به
علي حين رأي بيعهن واحتج به كل من وافقه على بيعهن ولم يجر شئ من هذا فوجب أن يحمل
الامر على ما حملناه عليه فلا يكون فيه إذا حجة ويحتمل انهم باعوا أمهات الأولاد في النكاح لا في الملك
(فصل) ومن أجاز بيعهن فعلى قوله ان لم يبعها سيدها حتى مات ولم يكن له وارث إلا ولدها
عتقت عليه وإن كان له وارث سوى ولدها حسبت منه نصيبه فعتقت وكان له ما بقي من ميراثه وان
لم يبق شئ فلا شئ له وان كانت أكثر من نصيبه عتق منها قدر نصيبه وباقيها رقيق لسائر الورثة
إلا على قول من قال إنه إذا ورث سهما ممن يعتق عليه سرى العتق إلى باقيه فإنه يعتق إن كان موسرا
وإن لم يكن لها ولد من سيدها ورثها ورثته كسائر رقيقه
(مسألة) (وإن ولدت من غير سيدها فلولدها حكمها في العتق بموت سيدها سواء عتقت أو ماتت)
إذا ولدت أم الولد بعد ثبوت حكم الاستيلاد لها من غير سيدها من زوج أو غيره فحكمه
حكمها في أنه يعتق بموت سيدها ويجوز فيه من التصرفات ما يجوز فيها ويمتنع فيه ما يمتنع فيها قال
505

احمد قال عمر وبن عباس وغيرهما ولدهما بمنزلتها ولا نعلم في هذا خلافا بين القائلين بثبوت حكم
الاستيلاد إلا أن عمر بن عبد العزيز قال هم عبيد فيحتمل أنه أراد انهم لا يثبت لهم حكم أمهم لأن
الاستيلاد يختص بها فتختص بحكمه كولد من علق عتقها بصفة ويحتمل انه أراد انهم عبيد حكمهم
حكم أمهم مثل قول الجماعة لأن الولد يتبع أمه في الرق والحرية فيتبعها في سببه إذا كان متأكدا
كولد المكاتبة والمدبرة بل ولد أم الولد أولى لأن سبب العتق فيها مستقر لا سبيل إلى ابطاله بحال
وإن ماتت أم الولد قبل سيدها لم يبطل حكم الاستيلاد في الولد وتعتق بموت سيدها لأن السبب
لم يبطل وإنما لم تثبت الحرية فيها لأنها لم تبق محلا وكذلك ولد المدبرة لا يبطل الحكم فيه
بموت أمه وأما ولد المكاتبة إذا ماتت فإنه يعود رقيقا بموتها فلم يبق حكمه فيه وفي ذلك اختلاف
ذكرناه في بابه فإن أعتق السيد أم الولد أو المدبرة لم يعتق ولدها لأنها عتقت بغير السبب الذي تبعها
فيه ويبقى عتقه موقوفا على موت سيده وكذلك ان أعتق ولدهما لم يعتقا بعتقه وان أعتق المكاتبة
506

فقد قال أحمد وسفيان وإسحاق المكاتبة إذا أدت أو أعتقت عتق ولدها وأم الولد والمدبرة إذا
أعتقت لم يعتق ولدها حتى يموت السيد فظاهر هذا أن ولد المكاتبة إذا أعتقها سيدها أنه يتبعها في
العتق لأنه في حكم مالها تستحق كسبه فيتبعها في العتق كمالها ولان اعتاقها منع أداءها بسبب من السيد
فأشبه ما لو أبرأها من مال الكتابة
(فصل) فاما ولد أم الولد قبل استيلادها وولد المدبرة قبل تدبيرها وولد المكاتبة قبل كتابتها فلا
يتبعها لوجوده قبل انعقاد السبب فيها وزوال حكم التبعية عنه قبل تحقق السبب في أمه ولهذا لا
يتبعها في العتق المنجز ففي السبب أولى وذكر أبو الخطاب في ولد المدبرة قبل التدبير روايتين فيخرج
ههنا مثله وهذا بعيد لأن الولد المنفصل لا يتبعها في عتق ولا بيع ولا هبة ولا في شئ من الأحكام
سوى الاسلام بشرط كونه صغيرا فيكف يتبع في التدبير؟ ولأنه لا نص فيه ولا قياس يقتضيه فيبقى بحاله
(مسألة) (وان مات سيدها وهي حامل فهل تستحق النفقة لمدة حملها؟ على روايتين)
هذا يشبه ما إذا مات عن امرأة حامل هل تستحق النفقة لمدة حملها؟ على روايتين ومبنى الخلاف على
الخلاف في نفقة الحامل هل هي للحمل أو للحامل؟ فإن قلنا هي للحمل فلا نفقة لها ولا للأمة الحامل لأن الحمل
507

له نصيب في الميراث فتجب نفقته في نصيبه لا في أنصباء شركائه، وان قلنا للحامل فالنفقة على الزوج
والسيد لأنهما شغلاها بحملها فكان عوض ذلك عليهما كما لو استأجرا دارا كانت اجرتها عليهما
(مسألة) (وإذا جنت أم الولد فداها سيدها بقيمتها أو دونها وعنه يفديها بأرش الجناية كله)
إذا جنت أم الولد تعلق أرش جنايتها برقبتها وعلى السيد ان يفديها بأقل الامرين من قيمتها
أو دونها وبهذا قال الشافعي وحكى أبو بكر عبد العزيز قولا آخر انه يفديها بأرش جنايتها بالغة ما
بلغت لأنه لم يسلمها في الجناية فلزمه أرش جنايتها بالغة ما بلغت كالقن وقال أبو ثور وأهل الظاهر
ليس عليه فداؤها وجنايتها في ذمتها تتبع بها إذا عتقت لأنه لا يملك بيعها فلم يكن عليه فداؤها كالحرة
ولنا أنها مملوكة له يملك كسبها لم يسلمها فلزمه أرش جنايتها كالقن ولا تلزمه زيادة على قيمتها
لأنه لم يمتنع من تسليمها وإنما الشرع منع ذلك لكونها لم تبق محلا للبيع ولا لنقل الملك فيها وأما
القن إذا لم يسلمها فلنا فيه منع وان سلم فلان القن أمكن ان يسلمها للبيع فربما زاد فيها راغب أكثر
508

من قيمتها فإذا امتنع مالكها من تسليمها أوجبنا عليه الأرش بكماله بخلاف أم الولد فإن ذلك لا يحتمل
فيها لأنه لا يجوز بيعها فلم يكن عليه أكثر من قيمتها
(فصل) فإن ماتت قبل فدائها فلا شئ على سيدها لأنه لم يتعلق بذمته شئ وإنما تعلق برقبتها
فإذا ماتت سقط الحق لتلف متعلقه وان نقصت قيمتها قبل فدائها وجب فداؤها بقيمتها يوم الفداء
لأنها لو تلفت جميعها لسقط الفداء فيجب ان يسقط بعضه بتلف بعضها وان زادت قيمتها زاد فداؤها
لأن متعلق الحق زاد فزاد الفداء بزيادته كالقن وينبغي ان تجب قيمتها معيبة بعيب الاستيلاد لأن
ذلك ينقصها فاعتبر كالمرض وغيره من العيوب ولان الواجب قيمتها في حال فدائها وقيمتها ناقصة
عن قيمة أم الولد فيجب ان ينقص فداؤها وأن يكون مقدرا بقيمتهما في حال كونها أم ولد والحكم
في المدبرة كالحكم في أم الولد ان قلنا لا يجوز بيعها وان قلنا يجوز بيعها فيمكن تسليمها للبيع ان اختار
كيدها فإن امتنع منه فهل يفديها بقيمتها أو أرش الجناية بالغة ما بلغت يخرج على روايتين
(فصل) فإن كسبت بعد جنايتها شيئا فهو لسيدها لأن الملك ثابت له دون المجني عليه وكذلك
ولدها لأنه منفصل عنها فأشبه الكسب ان فداها في حال حملها فعليه قيمتها حاملا لأن الولد متصل
بها أشبه سمنها وان أتلفها سيدها فعليه قيمتها لأنه أتلف حق غيره أشبه اتلاف الرهن وان نقصها
فعليه نقصها لأنه لما ضمن العين ضمن اجزاءها
509

(مسألة) (فإن عادت فجنب فداها أيضا وعنه يتعلق ذلك بذمتها)
فاما ان جنت جنايات فإن كانت الجنايات كلها قبل فداء شئ منها تعلق أرش الجميع برقبتها ولم
يكن عليه فيها كلها الا قيمتها أو أرش جميعها وعليه الأقل منهما ويشترك المجني عليهم في الواجب لهم
فإن لم يف بها تحاصوا فيها بقدر أروش جناياتهم وان كانت الجناية الثانية بعد فدائه من الأولى فعليه
فداؤها من التي بعدها كالأولى وحكى أبو الخطاب رواية ثانية عن أحمد أنه إذا فداها بقيمتها مرة لم
يلزمه فداؤها بعد ذلك لأنها جانية فلم يلزمه أكثر من قيمتها كما لو لم يكن فداها وقال الشافعي في
أحد قوليه لا يضمنها ثانيا ويشارك الثاني الأول فيما أخذه كما لو كانت قبل فدائها
ولنا أنها أم ولد جانية فلزمه فداؤها كالأولى ولان ما أخذه الأول عوض جنايته أخذه بحق
فلم يجز ان يشاركه غيره فيه كأرش جناية الحر أو الرقيق القن وفارق ما قبل الفداء لأن أرش الجنايات
510

تعلق برقبتها في وقت واحد فلم يلزم السيد أكثر من قيمة واحدة كما لو كانت الجنايات على واحد
(فصل) فإن أبرأ بعضهم من حقه توفر الواجب على الباقين إذا كانت كلها قبل الفداء وان
كانت المعفو عنها بعد فدائه توفر أرشها على سيدها
(فصل) وللسيد تزويجها وان كرهت وبهذا قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي واختيار
المزني وقال في القديم ليس له تزويجها الا برضاها لأنه قد ثبت لها حكم الحرية على وجه لا يملك السيد
ابطالها فلم يملك تزويجها بغير رضاها كالمكاتبة وقال في الثالث ليس له تزويجها وان رضيت لأن
ملكه فيها قد ضعف وهي لم تكمل فلم يملك تزويجها كاليتيمة وهل يزوجها الحاكم على هذا القول؟
فيه خلاف وقد روي عن أحمد أنه قيل له ان مالكا لا يرى تزويجها فقال وما يصنع مالك؟ هذا ابن
عمر وابن عباس يقولان إذا ولدت من غيره كان لولدها حكمها
ولنا أنها أمة يملك الاستمتاع منها واستخدامها فملك تزويجها كالقن وفارق المكاتبة فإنه لا يملك
ذلك منها والقول الثالث فاسد لذلك ولأنه يفضي إلى منع النكاح لامرأة بالغة محتاجة إليه وقولهم
يزوجها الحاكم لا يصح فإن الحاكم لا يزوج الا عند عدم الولي أو غيبته أو عضله ولم يوجد واحد منهما.
إذا ثبت هذا فإنه إذا زوجها فالمهر له لأنه بمنزلة كسبها وكسبها له
511

(مسألة) (وان قتلت سيدها عمدا فعليها القصاص وان عفوا على مال أو كانت الجناية خطأ
فعليها قيمة نفسها وتعتق في الموضعين)
إذا قتلت أم الولد سيدها عمدا فعليها القصاص لورثة سيدها ان لم يكن له منها ولد كما لو لم تكن
أم ولد وإن كان له منها ولد وهو الوارث وحده لم يجب عليها القصاص لأنه لو وجب لوجب لولدها
ولا يجب للولد على أمه قصاص وقد توقف احمد عن هذه المسألة في رواية مهنا وقال دعنا من هذه
المسائل وقياس مذهبه ما ذكرناه وإن كان مع ولده منها أولاد له من غيرها لم يجب القصاص أيضا
لأن حق ولدها من القصاص يسقط فيسقط كله ونقل مهنا عن أحمد انه يقتلها أولاده من غيرها وهذه
الرواية تخالف أصول مذهبه والصحيح انه لا قصاص عليها وإذا لم يجب القصاص فعليها قيمة نفسها وهذا
قول أبي يوسف وقال الشافعي عليها الدية لأنها تصير حرة ولذلك لزمها موجب جنايتها والواجب
على الحر بقتل الحر ديته.
ولنا انها جناية من أم ولد فلم يجب بها أكثر من قيمتها كما لو وجب على أجنبي ولان اعتبار
512

الجناية في حق الجاني بحال الجناية بدليل ما لو جنى عبد فاعتقه سيده وهي في حال الجناية أمة فإنها إنما
عتقت بالموت الحاصل بالجناية فيكون عليها فداء نفسها بقيمتها كما يفديها سيدها إذا قتلت غيرها ولأنها
ناقصة بالرق اشبهت القن وتفارق الحر فإنه جنى وهو كامل وإنما تعلق موجب الجناية بها لأنها فوتت
رقها بقتلها سيدها فأشبه ما لو فوت المكاتب الجاني رقه بأدائه
(مسألة) (ولا حد على قاذفها وعنه عليه الحد)
والأول قول أكثر أهل العلم وروي عن أحمد ان عليه الحد لأن ذلك يروى عن ابن عمر ولان
قذفها قذف لولدها الحر وفيها معنى منع بيعها اشبهت الحرة والأول أصح لأنها أمة حكمها حكم الإماء
في أكثر أحكامها ففي الحد أولى لأن الحدود تدرأ بالشبهات ويحتاط لاسقاطها ولأنها أمة تعتق بالموت
اشبهت المدبرة وتفارق والحرة فإنها كاملة
(فصل) ولا يجب القصاص على الحرة بقتلها لعدم المكافأة فإن كان القاتل رقيقا وجب القصاص
عليه لأنها أكمل منه وان جنت على عبد أو أمة جناية فيها القصاص لزمها القصاص لأنها أمة أحكامها
أحكام الإماء واستحقاقها العتق لا يمنع القصاص كالمدبرة
513

(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا أسلمت أم ولد الكافر منع من غشيانها وحيل بينه وبينها
واجبر على نفقتها ان لم يكن لها كسب فإن مات قبل ذلك عتقت وعنه أنها تستسعى في حياته وتعتق
يصح استيلاد الكافر لامته كما يصح منه عتقها وإذا استولد أمته ثم أسلمت لم تعتق في الحال،
وبه قال الشافعي وقال مالك تعتق إذ لا سبيل إلى بيعها ولا إلى اقرار ملكه عليها لما فيه من اثبات
ملك كافر على مسلمة فلم يجز كالأمة القن ونقل مهنا عن أحمد مثل ذلك، وعن أحمد رواية أخرى انها
تستسعى فإن أدت عتقت، وهو قول أبي حنيفة لأن فيه جمعا بين الحقين حقها في أن لا يبقى ملك
الكافر عليه وحقه في حصول عوض ملكه فأشبه بيعها إذا لم تكن أم ولد.
ولنا انه اسلام طرأ على ملك فلم يوجب عتقا ولا سعاية كالعبد القن وما ذكروه حكمة لم يعرف
من الشارع اعتبارها ويقابلها ضرر فإن في اعتاقها مجانا اضرارا بالمالك بإزالة ملكه بغير عوض
وفي الاستسعاء الزامها الكسب بغير رضاها وتضييع لحق سيدها لأن فيه إحالة على سعاية لا يدرى
هل يحصل منها شئ أولا؟ وان حصل فالظاهر أنه يكون يسيرا في أوقات متفرقة وجوده قريب من
عدمه والأولى أن يبقى الملك على ما كان عليه ويمنع من وطئها والتلذذ بها كيلا يفعل ذلك وهو
مشرك ويحال بينه وبينها ويمنع الخلوة بها لئلا يفضي إلى الوطئ المحرم ويجبر على نفقتها على التمام
لأنها مملوكته ومنعه من وطئها بغير معصية منها فأشبهت الحائض والمريضة وتسلم إلى امرأة ثقة
تكون عندها لتحفظها وتقوم بأمرها، وان احتاجت إلى آجر أو اجر مسكن فعلى سيدها وذكر
514

القاضي أن نفقتها في كسبها والفاضل منه لسيدها فإن عجز كسبها عن نفقتها فهل يلزم سيدها
تمام نفقتها؟ على روايتين، ونحو هذا مذهب الشافعي قال شيخنا والصحيح أن نفقتها عل سيدها
وكسبها له يصنع به ما شاء وعليه نفقتها على التمام سواء كان لها كسب أو لم يكن لأنها مملوكته ولم
يجر بينهما عقد يسقط نفقتها ولا تملك به كسبها فهي كأمته القن أو ما قبل اسلامها ولان الملك سبب لهذين
الحكمين والحادث منهما لا يصلح مانعا لأن الاستيلاد لا يمنع منها بدليل ما قبل اسلامها والاسلام لا يمنع بدليل
ما لو وجد قبل ولادتها واجتماعهما لا يمنع لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه لأنه إذا لم تلزمه نفقته
ولم يكن لها كسب أفضى إلى هلاكها وضياعها ولأنه يملك فاضل كسبها فلزمه فضل نفقتها كسائر مماليكا
(مسألة) (وإذا وطئ أحد الشريكين الجارية وأولدها صارت أم ولد له وولده حر وعليه
قيمة نصيب شريكه فإن كان معسرا كان في ذمته)
وطئ الجارية المشتركة محرم بغير خلاف علمناه بين أهل العلم ولا حد فيه في قول أكثر أهل العلم،
وقال أبو ثور يجب عليه الحد لأنه وطئ محرم فأشبه وطئ الأمة الأجنبية.
ولنا انه وطئ صادف ملكه فلم يجب الحد كوطئ زوجته الحائض ويفارق مالا ملك له فيه
فإنه لا شبهة له فيها ولهذا لو سرق عينا له فيها شرك لم يقطع ولو لم يكن له فيها ملك قطع ويجب عليه
التعزير بغير خلاف نعلمه لما ذكرنا في حجة أبي ثور فإن وطئها ولم تحمل منه فهي باقية على ملكهما
وعليه نصف مهر مثلها لأنه وطئ سقط فيه الحد للشبهة فأوجب مهر المثل كما لو وطئها يظنها امرأته
وسواء طاوعته أو أكرهها لأن وطئ جارية الغير يوجب المهر وان طاوعت لأن المهر لسيدها لا يسقط
515

بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع بعض أعضائها والواجب عليه من المهر بقدر ملك الشريك فيها، فاما ان أحبلها
ووضعت ما يتبين فيه بعض خلق الانسان فإنها تصير بذلك أم ولد للواطئ كما لو كانت خالصة له وتخرج
بذلك عن ملك الشريك كما تخرج بالاعتاق موسرا كان الواطئ أو معسرا لأن الايلاد أقوى من الاعتاق.
وهذا قول الخرقي ويلزمه نصف قيمتها لأنه أخرج نصفها من ملك الشريك فلزمته قيمته كما
لو أخرجه بالاعتاق أو الاتلاف فإن كان موسرا أداه وإن كان معسرا فهو في ذمته كما لو أتلفها
والولد حر يلحق نسبه بوالده لأنه من وطئ في محل له فيه ملك فأشبه ما لو وطئ زوجته فعلى هذا
القول إن وطئها الثاني بعد ذلك فأولدها فعليه مهرها لأنه وطئ صادف ملك الغير فأشبه وطئ
الأمة الأجنبية فإن كان عالما فولده رقيق لأنه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك فهو كوطئ مملوكة
غيره وان جهل ايلاد شريكه وانها صارت أم ولد له فولده حر لأنه من وطئ شبهة وعليه فداؤه
بقيمته يوم الولادة لأنه الوقت الذي يمكن التقويم فيه ذكره الخرقي.
وقال القاضي الصحيح عندي أن الأول لا يسري استيلاده إذا كان معسرا ولا يقوم عليه نصيب
شريكه بل يصير نصفها أم ولد ونصفها قن باق على ملك الشريك لأن الاحبال كالعتق ويجري مجراه
في التقويم والسراية واعتبر في سرايته اليسار كالعتق وهو قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي فعلى
هذا إذا ولدت يحتمل أن يكون الولد كله حرا، واحتمل أن يكون نصفه حرا ونصفه رقيقا كأمه
وكولد المعتق بعضها وبهذا يتبين انه لم يستحل انعقاد الأول من حر وقن، ووجه القول الأول
أن الاستيلاد أقوى من العتق ولهذا ينفذ من رأس المال من المريض ومن المجنون بخلاف الاعتاق
516

(فصل) وهل يلزمه نصف قيمة الولد؟ على وجهين ذكرهما أبو الخطاب (أحدهما) لا يلزمه وهو
ظاهر كلام الخرقي لأن الولد خلق حرا فلم يلزمه قيمة ولده الحر (والثاني) يلزمه نصف قيمته لشريكه
لأن الوطئ صادف ملك غيره وإنما انتقلت بالوطئ الموجب للمهر فيكون الوطئ سبب الملك ولا
يثبت الحكم الا بعد تمام سببه فيلزم حينئذ تقدم الوطئ على ملكه فيكون في ملك غيره وفعله ذلك
مع انخلاق الولد على ملك الشريك فيجب عليه نصف قيمته كولد المغرور، وقال القاضي ان وضعت
الولد بعد التقويم فلا شئ على الواطئ لأنها وضعته في ملكه ووقت الوجوب حالة الوضع ولا حق للشريك
فيها ولا في ولدها، وان وضعته قبل التقويم فهل تلزمه قيمة نصفه؟ على روايتين ذكرهما أبو بكر واختار انه لا يلزمه
(مسألة) وعند القاضي وأبي الخطاب إن كان الأول معسرا لم يسر استيلاده وتصير أم ولد
لهما يعتق نصفها بموت أحدهما) لأنها أم ولد له وقد ذكرنا ذلك وان أعتق أحدهما نصيبه بعد ذلك وهو
موسر فهل يقوم عليه نصيب شريكه؟ على وجهين (أحدهما) لا يسري عتقه لأنه يبطل حقه صاحبه من الولاء
الذي قد انعقد سببه بالاستيلاد (والثاني) يقوم عليه لحديث ابن عمر وهو أولى وأصح إن شاء الله تعالى.
(فصل) ولا فرق بين أن يكون في الأمة ملك قليل
أو كثير فالحكم في ذلك واحد لأن مالك
اليسير يملك بعضها أشبه الكثير
والله سبحانه وتعالى اعلم
* (تم الجزء الثاني عشر من كتابي.. والشرح الكبير وبه تم الكتاب) *
517

خاتمة الطبع
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المصلح الأعظم بالآيات البينات،
والعلم النافع والحكم الباهرات، محمد رسول الله وخاتم النبيين، وآله الطاهرين، وأصحابه الهداة
المهديين، ومن تبعهم إلى يوم الدين
أما بعد فإنه قد تم طبع كتاب (المغني) في فقه الاسلام، ومدارك المجتهدين من أئمته
الاعلام، مع كتاب الشرح الكبير المقتبس منه مع زيادة بعض الفوائد والاستدراكات، وقد بينا
مزايا الكتابين ووجوه الحاجة إليهما وترجمة مؤلفيهما في المقدمة التي نشرناها في الجزء الأول، وقد بلغت
أجزاؤهما 12 مجلدا كبيرا ولا يسعنا الا أن نعود في هذه الخاتمة إلى الثناء على مسدي هذا الخير العظيم
إلى الأمة الاسلامية بالامر بطبعه والانفاق عليه من ماله الخاص به، إمام السنة، ومحيي عدل الخلفاء
وعلوم الأئمة، مؤسس المملكتين، وخادم الحرمين الشريفين، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل
آل سعود ملك الحجاز ونجد، وعاهل العرب في كل غور ونجد، أعزه الله تعالى وأعز به العرب
والاسلام، ونفع به الأنام، وقد كان أمرنا أولا بطبع خمسمائة نسخة منه فقط ليوزعها على علماء
نجد، وأذن لنا أن نطبع منه ما شئنا على حسابنا لأجل نشره في سائر الأمصار، وبعد صدور عدة أجزاء
منه وكان قد استولى على الحجاز، واتسع الباب لنشر مطبوعاته فيه وفي غيره من الأقطار، فاشترى
منا أكثر النسخ التي طبعناها لأجل البيع، وكان قد اشتهر الكتاب في مصر وغيرها، وصار يزيد عدد
طالبيه فاضطررنا إلى زيادة ما كنا نطبعه لمكتبتنا عما تحتاج إليه لتكملة نسخ الذين اشتروا الاجزاء الأولى
وما زالوا يكثرون حتى اضطررنا إلى إعادة طبع الاجزاء الأولى، ولا شك أن لهذا الإمام
والملك الهمام ثواب الألوف من النسخ التي يوزعها على العلماء مجانا وثواب سائر النسخ التي يشتريها
منا المنتفعون بهذا الكتاب الجليل لأنه هو السبب في وجوده، ولولاه لما أقدمنا ولا أقدم غيرنا على
طبعه، لأن التجار لا يقدمون على طبع اثني عشر مجلدا في الفقه لاحد فقهاء مذهب الإمام أحمد بن
حنبل مع قلة الحنابلة في الأمصار وفقرهم، وقلة من يعلم أن هذا الكتاب هو في فقه الاسلام في
جملته لا فقه الحنابلة وحدهم
وقد بذلت مطبعتنا الجهد في تصحيح الكتاب بالمقابلة على أحسن النسخ الخطية المحفوظة في
خزائن المكتبة المصرية الكبرى العامة وهذه النسخ من وقف الملك المؤيد رحمه الله تعالى
ونسأل الله تعالى أن يثيبنا على ذلك وينفعنا نحن وسائر علماء المسلمين بهذا الكتاب النفيس.
ولله الحمد أولا وآخرا.
*. صاحب مطبعة المنار ومكتبتها بمصر
محمد رشيد رضا
518