الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ٩
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغني
تأليف الشيخ الإمام العلامة والحبر المدقق الفهامة شيخ الاسلام موفق الدين
* (أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة) * المتوفى سنة 620 ه‍
على مختصر * (أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي) *
المتوفى سنة 334 ه‍
على مذهب إمام الأئمة ومحيي السنة الإمام * (أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل
الشيباني رضي الله عنه وعنهم وجزاهم عن أنفسهم وعن المسلمين أفضل الجزاء
الجزء التاسع
..
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب اللعان
قال رحمه الله تعالى
وهو مشتق من اللعن لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا، وقال
القاضي سمي بذلك لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذبا فتحصل اللعنة عليه وهي
الطرد والابعاد. والأصل فيه قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء الا أنفسهم)
الآيات، وروى سهل بن سعد الساعدي أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله
أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد أنزل
2

الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها " قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها. فطلقها ثلاثا بحضرة (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق
عليه، وروى أبو داود باسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين
تاب الله عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهجه حتى أصبح
ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اني جئت أهلي فوجدت عندهم رجلا فرأيت بعيني وسمعت
بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه فنزلت (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم
شهداء الا أنفسهم فشهادة أحدهم) الآيتين كلتيهما فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أبشر
يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " قال هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي تبارك وتعالى
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهما
وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال والله لقد صدقت عليها فقالت كذب
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاعنوا بينهما " فقيل لهلال اشهد فشهد أربع شهادات بالله انه
لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة
وان هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب. فقال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد
الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها اشهدي فشهدت أربع شهادات

(1) في نسخة قبل ان يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم
3

بالله انه لمن الكاذبين فلما كانت الخامسة قيل لها اتقى الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب
الآخرة وان هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي
فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى
أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها وقال " ان جاءت
به أصيهب أريضخ أثيبج حمش الساقين فهو لهلال، وان جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين
سابغ الأليتين فهو للذي رميت به " فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا الايمان لكان لي ولها شأن " قال عكرمة فكان بعد ذلك أميرا على مصر
وما يدعى لأب، ولان الزوج يبتلى بقذف امرأته لينفي العار والنسب الفاسد وتتعذر عليه البينة
فجعل اللعان بينة له، ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه وسلم " أبشر يا هلال فقد
جعل الله فرجا ومخرجا "
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (وإذا قذف الرجل زوجته البالغة الحرة المسلمة
فقال لها زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين ولم يأت بالبينة لزمه الحد إن لم يلتعن مسلما كان أو
كافرا حرا كان أو عبدا)
الكلام في هذه المسألة في فصول:
(أحدها) في صفة الزوجين الذين يصح اللعان بينهما وقد اختلفت الرواية فيهما فروي أنه
4

يصح من كل زوجين مكلفين سواء كانا مسلمين أو كافرين أو عدلين أو فاسقين أو محدودين في
قذف أو كان أحدهما كذلك، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وربيعة ومالك
وإسحاق. قال أحمد في رواية ابن منصور جميع الأزواج يلتعنون الحر من الحرة والأمة إذا كانت
زوجة، وكذلك العبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية
وعن أحمد رواية أخرى لا يصح اللعان الا من زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف
وروي هذا عن الزهري والثوري والأوزاعي وحماد وأصحاب الرأي، وعن مكحول ليس بين المسلم
والذمية لعان، وعن عطاء والنخعي في المحدود في القذف يضرب الحد ولا يلاعن وروي فيه حديث
لا يثبت. كذلك قال الشافعي والساجي. لأن اللعان شهادة بدليل قوله سبحانه (ولم يكن لهم شهداء
الا أنفسهم) فاستثنى أنفسهم من الشهداء وقال تعالى (فشهادة أحدهم أربع شهادات) فلا يقبل ممن
ليس من أهل الشهادة، وان كانت المرأة ممن لا يحد بقذفها لم يجب اللعان لأنه يراد لاسقاط الحد
بدليل قوله تعالى (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله) ولا حد ههنا فينتفى اللعان لانتفائه
وذكر القاضي في المجرد أن من لا يجب الحد بقذفها وهي الأمة والذمية والمحدودة في الزنا لزوجها
لعانها لنفي الولد خاصة وليس له لعانها لاسقاط القذف والتعزير لأن الحد لا يجب واللعان إنما يشرع
لاسقاط حد أو نقي ولد فإذا لم يكن واحد منهما لم يشرع اللعان
5

ولنا عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآية. ولان اللعان يمين فلا يفتقر إلى
ما شرطوه كسائر الايمان. ودليل أنه يمين قول النبي صلى الله عليه وسلم " لولا الايمان لكان لي ولها شأن " وأنه
يفتقر إلى اسم الله تعالى ويستوي فيه الذكر والأنثى
وأما تسميته شهادة فلقوله في يمينه أشهد بالله فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينا كما قال الله
تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله) ولان الزوج يحتاج إلى نفي الولد فيشرع
له طريقا إلى نفيه كما لو كانت امرأته ممن يحد بقذفها. وهذه الرواية هي المنصوصة عن أحمد في رواية
الجماعة، وما يخالفها شاذ في النقل
وأما قول الخرقي: وإذا قذف زوجته البالغة الحرة المسلمة. فيحتمل انه شرط هذا لوجوب
الحد عليه لا لنفي اللعان. ويحتمل أن يكون هذا شرطا عنده في المرأة لتكون ممن يجب عليه الحد
بقذفها فينفيه باللعان ولا يشترط في الزوج شئ من ذلك لأن الحد يجب عليه بقذف المحصنة وإن كان
ذميا أو فاسقا، فأما قوله مسلما كان أو كافرا. ففيه نظر لأنه أوجب عليه بقذف زوجته
المسلمة والكافر لا يكون زوجا لمسلمة فيحتاج إلى تأويل لفظه بحمله على أحد شيئين (أحدهما) انه
أراد أن الزوج يلاعن زوجته وإن كان كافرا فرد ذلك إلى اللعان لا إلى الحد (الثاني) انه أراد
ما إذا أسلمت زوجته فقذفها في عدتها ثم أسلم الزوج فإنه يلاعن
6

(فصل) ولا فرق بين كون الزوجة مدخولا بها أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها. قال ابن
المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار منهم عطاء والحسن والشعبي والنخعي
وعمرو بن دينار وقتادة ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي بظاهر قول الله تعالى
(والذين يرمون أزواجهم) فإن كانت غير مدخول بها فلها نصف الصداق لأنها فرقة منه.
كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومالك. وفيه رواية أخرى لا صداق لها لأن الفرقة حصلت
بلعانهما جميعا فأشبه الفرقة لعيب في أحدهما
(فصل) فإن كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما لأنه قول تحصل به الفرقة ولا يصح
من غير مكلف كالطلاق أو يمين فلا تصح من غير المكلف كسائر الايمان ولا يخلو غير المكلف
من أن يكون الزوج أو الزوجة أو هما. فإن كان الزوج فله حالان (أحدهما) أن يكون طفلا (والثاني)
أن يكون بالغا زائل العقل فإن كان طفلا لم يصح منه القذف ولا يلزمه به حد لأن القلم مرفوع عنه
وقوله غير معتبر وان أتت امرأته بولد نظرنا فإن كان لدون عشر سنين لم يلحقه الولد ويكون منفيا
عنه لأن العلم يحيط به بأنه ليس منه فإن الله عز وجل لم يجر العادة بأن يولد له لدون ذلك فينتفي عنه
كما لو أتت به المرأة لدون ستة أشهر منذ تزوجها
وإن كان ابن عشر فصاعدا فقال أبو بكر لا يلحق به الا بعد البلوغ أيضا لأن الولد لا يخلق الا
7

من ماء الرجل والمرأة ولو أنزل لبلغ. وقال ابن حامد يلحق به. قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد
وهذا مذهب الشافعي لأن الولد يلحق بالامكان وان خالف الظاهر ولهذا لو أتت بولد لستة أشهر
من حين العقد لحق بالزوج وإن كان خلاف الظاهر وكذلك يلحق به إذا أتت به لأربع سنين مع
ندرته. وليس له نفيه في الحال حتى يتحقق بلوغه بأحد أسباب البلوغ فله نفي الولد واستلحاقه. فإن
قيل فإذا ألحقتم به الولد فقد حكمتم ببلوغه فهلا سمعتم نفيه ولعانه؟ قلنا الحاق لولد يكفي فيه الامكان
والبلوغ لا يثبت الا بسبب ظاهر ولان الحاق الولد به حق عليه واللعان حق له فلم يثبت مع الشك.
فإن قيل فإن لم يكن بالغا انتفى عنه الولد وإن كان بالغا انتفى عنه اللعان. قلنا الا انه لا يجوز أن
يبتدئ اليمين مع الشك في صحتها فسقطت للشك فيها.
(الثاني) إذا كان زائل العقل لجنون فلا حكم لقذفه لأن القلم عنه مرفوع أيضا وان أتت
امرأته بولد فنسبه لاحق به لامكانه ولا سبيل إلى نفيه مع زوال عقله فإذا عقل فله نفي الولد حينئذ
واستلحاقه وان ادعى أنه كان ذاهب العقل حين قذفه وأنكرت ذلك ولأحدهما بينة بما قال ثبت
قوله وان لم يكن لواحد منهما بينة ولم يكن له حالة علم فيها زوال عقله فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل
والظاهر الصحة والسلامة وان عرفت له حالة جنون ولم تعرف له حالة إفاقة فالقول قوله مع يمينه، وان
عرفت له حالة جنون وحالة إفاقة ففيه وجهان (أحدهما) القول قولها قال القاضي هذا قياس قول
8

أصحابنا في الملفوف إذا ضربه فقده ثم ادعى أنه كان ميتا، وقال الولي كان حيا، (والوجه الثاني)
أن القول قوله لأن الأصل براءة ذمته من الحد فلا يجب بالشك ولان الحد يسقط بالشبهة ولا يشبه
هذا الملفوف لأن الملفوف قد علم أنه كان حيا ولم يعلم منه ضد ذلك فنظيره في مسئلتنا أنه يعرف
له حالة إفاقة، لا يعلم منه ضدها وفي مسئلتنا قد تقدم له حالة جنون فيجوز أن تكون قد استمرت
إلى حين قذفه وأما ان كانت الزوجة غير مكلفة فقذفها الزوج نظرنا فإن كانت طفلة لا يجامع مثلها
فلا حد على قاذفها لأنه قول يتيقن كذبه فيه وبراءة عرضها منه فلم يجب به حد كما لو قال أهل الدنيا
زناة ولكنه يعزر للسبب لا للقذف فلا يحتاج في التعزير إلى مطالبة لأنه مشروع لتأديبه وللإمام
فعله إذا رأى ذلك فإن كانت يجامع مثلها كابنة تسع سنين فعليه الحد وليس لوليها ولا لها المطالبة
به حتى تبلغ فإذا بلغت فطالبت فلها الحد وله اسقاطه باللعان وليس له لعانها قبل البلوغ لأن اللعان
يراد لاسقاط الحد أو نفي الولد ولا حد عليه قبل بلوغها ولا ولد فينفيه فإن أتت بولد حكم ببلوغها
لأن الحمل أحد أسباب البلوغ ولأنه لا يكون الا من نطفتها فمن ضرورته انزالها وهو من أسباب
بلوغها وان قذف امرأته المجنونة بزنا أضافة إلى حال إفاقتها أو قذفها وهي عاقلة ثم حنث لم يكن
لها المطالبة ولا لوليها قبل إفاقتها لأن هذا طريقه التشفي فلا ينوب عنه الولي فيه كالقصاص فإذا
أفاقت فلها المطالبة بالحد وللزوج اسقاطه باللعان فإن أراد لعانها في حال جنونها ولا ولد ينفيه لم يكن
9

له ذلك لعدم الحاجة إليه لأنه لا يتوجه عليه حد فيسقطه ولا نسب فينفيه وإن كان هناك ولد يريد
نفيه فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يلاعن ويلحقه الولد لأن الولد إنما ينتفي باللعان من الزوجين وهذه
لا يصح منها لعان، وقد نص أحمد في الخرساء ان زوجها لا يلاعن فهذه أولى وقال الخرقي في العاقلة
لا يعرض له حتى تطالبه زوجته وهذا قول أصحاب الرأي لأنها أحد الزوجين فلم يشرع اللعان مع
جنونه كالزوج ولان لعان الزوج وحده لا ينتفي به الولد فلا فائد في مشروعيته، وقال القاضي له
أن يلاعن لنفي الولد لأنه محتاج إلى نفيه فشرع له طريق إلى نفيه. وقال الشافعي له أن يلاعن
وظاهر مذهبه أن له لعانها مع عدم الولد لدخوله في عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم)
ولأنه زوج مكلف قاذف لامرأته التي يولد لمثلها فكان له أن يلاعنها كما لو كانت عاقلة
(فصل) فأما الأخرس والخرساء فإن كانا غير معلومي الإشارة والكتابة فهما كالمجنونين فيما
ذكرناه لأنه لا يتصور منهما لعان ولا يعلم من الزوج قذف ولا من المرأة مطالبة، وان كانا معلومي
الإشارة والكتابة فقد قال أحمد إذا كانت المرأة خرساء لم تلاعن لأنه لا تعلم مطالبتها، وحكاه ابن
المنذر عن أحمد وأبي عبيد وأصحاب الرأي، وكذلك ينبغي أن يكون في الأخرس وذلك لأن
اللعان لفظ يفتقر إلى الشهادة فلم يصح من الأخرس كالشهادة الحقيقة، ولان الحد يدرأ بالشبهات
والشهادة لنسبه صريحة كالنطق فلا يخلو من احتمال وتردد فلا يجب الحد بها كما لا يجب على أجنبي
10

بشهادته، وقال القاضي وأبو الخطاب هو الناطق في قذفه ولعانه وهو مذهب الشافعي لأنه يصح
طلاقه فصح قذفه ولعانه كالناطق، ويفارق الشهادة لأنه يمكن حصولها من غيره فلم تدع الحاجة
إلى الأخرس، وفي اللعان لا يحصل الا منه فدعت الحاجة إلى قبوله منه كالطلاق والأول أحسن
لأن موجب القذف وجوب الحد وهو يدرأ بالشهادة، ومقصود اللعان الأصلي نفي النسب وهو
يثبت بالامكان مع ظهور انتفائه فلا ينبغي أن يشرع ما ينفيه، ولا ما يوجب الحد مع الشبهة العظيمة
ولذلك لم تقبل شهادته، وقولهم ان الشهادة تحصل من غيره قلنا قد لا تحصل الا منه لاختصاصه
برؤية المشهود له أو لسماعه إياه
(فصل) فإن قذف الأخرس أو لاعن ثم تكلف فأنكر القذف واللعان لم يقبل انكاره للقذف
لأنه قد تعلق به حق لغيره بحكم الظاهر فلا يقبل انكاره له ويقبل انكاره اللعان فيما عليه فيطالب
بالحد ويلحقه للنسب ولا تعود الزوجية فإن قال أنا ألاعن للحد ونفي النسب كان له ذات لأنه إنما
لزمه باقراره أنه لم يلاعن فإذا أراد أن يلاعن كأنه له ذلك
(فصل) فإن قذفها وهو ناطق ثم خرس وأيس من نطقه فحكمه حكم الأصلي، وان رجي
عود نطقه وزوال خرسه انتظر به ذلك ويرجع في معرفة ذلك إلى قول عدلين من أطباء المسلمين
وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أنه يلاعن في الحالين بالإشارة لأن أمامة بنت
11

أبي العاص أصمتت فقيل لها لفلان كذا ولفلان كذا؟ فأشارت أن نعم فرأوا أنها وصية وهذا لا حجة
فيه لأنه لم يذكر من الرواي لذلك ولم يعلم أنه قول من قوله حجة ولا علم هل كان ذلك لخرس
يرجى زواله أو لا؟ وقال أبو الخطاب فيمن اعتقل لسانه وأيس من نطقه هل يصح لعانه
بالإشارة؟ على وجهين
(فصل) وكل موضع لا لعان فيه فالنسب لاحق فيه ويجب بالقذف موجبه من الحد والتعزير
الا أن يكون القاذف صبيا أو مجنونا فلا ضرب فيه ولا لعان كذلك قال الثوري ومالك والشافعي
وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم
(الفصل الثاني) أنه لا لعان بين غير الزوجين فإذا قذف أجنبية محصنة حد ولم يلاعن، وان
لم تكن محصنة عزر ولا لعان أيضا ولا خلاف في هذا، وذلك لأن الله تعالى قال (والذين يرمون المحصنات
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) ثم خص الزوجات من عموم هذه الآية بقوله (والذين يرمون
أزواجهم) ففيما عداهن يبقي عليه قضية العموم، وان ملك أمة ثم قذفها فلا لعان سواء كانت فراشا له
أو لم تكن ولا حد عليه بقذفها ويعذر فإن أتت بولد نظرنا فإن لم يعترف بوطئها لم يلحقه نسبه ولم
يحتج إلى نفيه وان اعترف بوطئها صارت فراشا له وإذا أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطئ لحقه
وبهذا قال مالك والشافعي وقال الثوري وأبو حنيفة لا تصير فراشا له حتى يقر بولدها فإذا أقر به
12

صارت فراشا له ولحقه أولادها بعد ذلك لأنها لو صارت فراشا بالوطئ لصارت فراشا
بإباحته كالزوجة.
ولنا أن سعدا نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة فقال هو أخي وابن وليدة أبي ولد على
فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر " متفق عليه وروى
ابن عمر عن عمر رضي الله عنه قال ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يعزلونهن لا تأتيني وليدة يعترف سيدها
أنه ألم بها الا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا ولان الوطئ يتعلق به تحريم المصاهرة فإذا
كان مشروعا صارت به المرأة فراشا كالنكاح ولأن المرأة إنما سميت فراشا تجوزا اما لمضاجعته لها
على الفراش وأما لكونها تحته في حال المجامعة وكلا الامرين يحصل في الجماع وقياسهم الوطئ على
الملك لا يصح لأن الملك لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا يحصل منه الولد بدون الوطئ ويفارق النكاح
فإنه لا يراد للوطئ ويتعلق به تحريم المصاهرة ولا ينعقد في محل يحرم الوطئ فيه كالمجوسية والوثنية
وذواتي محارمه إذا ثبت هذا فإن أراد نفي ولد أمته التي يلحقه ولدها فطريقه أن يدعي أنه استبرأها
بعد وطئه لها بحيضة فينتفي بذلك وان ادعى أنه كان يعزل عنها لم ينتف عنه بذلك لما روى جابر
قال جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره ان
تحمل فقال " اعزل عنها ان شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها " قال فلبث الرجل ثم أتاه فقال إن الجارية قد
13

حملت قال " أخبرتك أنه سيأتيها. ما قدر لها " رواه أبو داود، وروي عن أبي سعيد أنه قال كنت
اعزل عن جاريتي فولدت أحب الخلق إلي يعني ابنه ولحديث عمر الذي ذكرناه ولأنه حكم تعلق
بالوطئ فلم يعتبر معه الانزال كسائر الأحكام. وقد قيل إنه ينزل من الماء ما لا يحس به وان أقر
بالوطئ دون الفرج أو في الدبر لم تصر بذلك فراشا لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص
ولأنه ينتفي عنه الولد بدعوى الاستبراء إذا أتت به بعد الاستبراء بمدة الحمل فههنا أولى، وروي
عن أحمد أنها تصير فراشا لأنه قد يجامع فيسبق الماء إلى الفرج ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
وإذا ادعى الاستبراء قبل قوله بغير يمين في أحد الوجهين لأن من قبل قوله في الاستبراء
قبل بغير يمين كالمرأة تدعي انقضاء عدتها وفي الآخر يستحلف وهو مذهب الشافعي لعموم قوله
عليه السلام " ولكن اليمين على المدعى عليه " ولان الاستبراء غير مختص به فلم يقبل قوله فيه بغير يمين
كسائر الحقوق بخلاف العدة ومتى لم يدع الاستبراء لحقه ولدها ولم ينتف عنه وقال الشافعي في أحد
قوليه له نفيه باللعان لأنه لم يرض به فأشبه ولد المرأة
ولنا قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) فخص بذلك الأزواج ولأنه ولد يلحقه نسبه من
غير الزوجة فلم يملك نفيه باللعان كما لو وطئ أجنبية بشبهة فألحقت القافة ولدها به ولان له طريقا إلى
نفي الولد بغير اللعان فلم يحتج إلى نفيه باللعان فلا يشرع ولأنه إذا وطئ أمته ولم يستبرئها فأتت
بولد احتمل أن يكون منه فلم يجز له نفيه لكون النسب يلحق بالامكان فكيف
14

مع ظهور وجود سببه؟ ولو ادعى الاستبراء فأتت بولدين فأقر بأحدهما ونفى الآخر لحقاه معا لأنه
لا يمكن جعل أحدهما منه والآخر من غيره وهما حمل واحد ولا يجوز نفي الولد المقر به عنه مع
اقراره به فوجب الحاقهما به معا، وكذلك أن أتت أمته التي لم يعترف بوطئها بتوأمين فاعترف
بأحدهما ونفى الآخر
(فصل) وإذا نكح امرأة نكاحا فاسدا ثم قذفها وبينهما ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه
ولا حد عليه، وان لم يكن بينهما ولد حد ولا لعان بينهما، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
يلحقه الولد وليس له نفيه ولا اللعان لأنها أجنبية فأشبهت سائر الأجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد
ولنا أن هذا ولد يلحقه بحكم عقد النكاح فكان له نفيه كما لو كان النكاح صحيحا ويفارق
إذا لم يكن ولد فإنه لا حاجة إلى القذف لكونها أجنبية ويفارق سائر الأجنبيات لأنه لا يلحقه ولدهن
فلا حاجة به إلى قذفهن ويفارق الزوجة فإنه يحتاج إلى قذفها مع عدم الولد لكونها خانته وغاظته
وأفسدت فراشه فإذا كان له منها ولد فالحاجة موجودة فيهما وإذا لاعن سقط الحد لأنه لعان
مشروع لنفى الحد فأسقط الحد كاللعان في النكاح الصحيح وهل يثبت التحريم المؤبد؟ فيه وجهان
(أحدهما) يثبته لأنه لعان صحيح أشبه لعان الزوجة
(والثاني) لا يثبته لأن الفرقة لم تحصل به فإنه لا نكاح بينهما يحصل قطعه به بخلاف لعان
15

الزوجة فإن الفرقة حصلت به ولو لاعنها من غير ولد لم يسقط الحد ولم يثبت التحريم المؤبد لأنه لعان
فاسد فلم تثبت أحكامه وسواء اعتقد أن النكاح صحيح أو لم يعتقد ذلك لأن النكاح في نفسه ليس
بنكاح صحيح فأشبه ما لو لاعن أجنبية يظنها زوجته
(فصل) فلو أبان زوجته ثم قذفها بزنا أضافه إلى الزوجية فهي كالمسألة قبلها إن كان بينهما
ولد يريد نفيه فله أن ينفيه باللعان والا حد ولم يلاعن وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة
يحد ويلحقه الولد ولا يلاعن وهو قول عطاء ووجه المذهبين ما تقدم في التي قبلها، وقال عثمان البتي
له أن يلاعن وان لم يكن بينهما ولد، وروي عن ابن عباس والحسن أنه يلاعنها لأنه قذف مضاف
إلى حال الزوجية أشبه ما لو كانت زوجته
ولنا أنه إذا كان بينهما ولد فيه حاجة إلى القذف فشرع كما لو قذفها وهي زوجته، وإذا لم يكن
له ولد فلا حاجة به إليه وقد قذفها وهي أجنبية فأشبه ما لو لم يضفه إلى حال الزوجية، ومتى لاعنها
لنفي ولدها انتفى وسقط عنه الحد وفي ثبوت التحريم المؤبد وجهان وهل له أن يلاعنها قبل وضع
الولد؟ فيه وجهان
(أحدهما) له ذلك لأن من كان له لعانها بعد الوضع كان له لعانها قبله كالزوجة
16

(والثاني) ليس له ذلك وهو ظاهر قول الخريق لأن الولد عنده لا ينتفي في حال الحمل، ولان
اللعان إنما يثبت ههنا لأجل الولد فلم يجز أن يلاعن الا بعد تحققه بوضعه بخلاف الزوجة فإنه يجوز
لعانها مع عدم الولد وهكذا الحكم في نفي الحمل في النكاح الفاسد
(فصل) إذا اشترى زوجته الأمة ثم أقر بوطئها ثم أتت بولد لستة أشهر كان لاحقا له ولم
ينتف عنه الا بدعوى الاستبراء لأنه ملحق به بالوطئ في الملك دون النكاح لكون الملك حاضرا
فصار كالزوج الثاني يلحق به الولد وان أمكن أن يكون من الأول، وان لم يكن أقر بوطئها أو أقر
به فأتت بولد لدون ستة أشهر منذ وطئ كان ملحقا بالنكاح ان أمكن ذلك وله نفيه باللعان وهل
يثبت هذا اللعان التحريم المؤبد؟ على وجهين
(فصل) إذا قذف مطلقته الرجعية فله لعانها سواء كان بينهما ولد أو لم يكن، قال أبو طالب
سألت أبا عبد الله عن الرجل يطلق تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال: قال ابن عباس لا يلاعن ويجلد،
وقال ابن عمر يلاعن ما دامت في العدة قال وقول ابن عمر أجود لأنها زوجته وهو يرثها وترثه فهو
يلاعن وبهذا قال جابر بن زيد والنخعي والزهري وقتادة والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور
وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن ابن عمر لأن الرجعية زوجة فكان له لعانها كما لو لم يطلقها
(فصل) وان قذف زوجته ثم أبانها فله لعانها نص عليه أحمد سواء كان له ولد أو لم يكن روي
17

ذلك عن ابن عباس وبه قال الحسن والقاسم بن محمد ومكحول ومالك، والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور
وابن المنذر. وقال الحارث العكلي وجابر بن زيد وقتادة والحكم يجلد. وقال حماد بن أبي سليمان
وأصحاب الرأي: لا حد ولا لعان، لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وليس هذان بزوجين،
ولا يحد لأنه لم يقذف أجنبية
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم)
وهذا قد رمى زوجته فيدخل في عموم الآية
وإذا لم يلاعن وجب الحد بعموم قوله (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم
ثمانين جلدة) ولأنه قاذف لزوجته فوجب أن يكون له أن يلاعن كما لو كانا على النكاح إلى حالة اللعان
(فصل) وان قالت قذفني قبل أن يتزوجني وقال بل بعده أو قالت قذفني بعدما بنت منه وقال
بل قبله فالقول قوله لأن القول قوله في أصل القذف فكذلك في وقته. وان قالت أجنبية قذفني فقال
كنت زوجتي حينئذ فأنكرت الزوجية فالقول قولها لأن الأصل عدمها
(فصل) ولو قذف أجنبية ثم تزوجها فعليه الحد ولا يلاعن لأنه وجب في حال كونها أجنبية
فلم يملك اللعان من أجله كما لو لم يتزوجها. وان قذفها بعد تزوجها بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح حد
ولم يلاعن سواء كان ثم ولد أو لم يكن وهو قول مالك وأبي ثور. وروي ذلك عن سعيد بن المسيب
والشعبي. وقال الحسن وزرارة بن أبي أوفى وأصحاب الرأي: له أن يلاعن لأنه قذف امرأته فيدخل في
18

عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) ولأنه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل
النكاح، وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية كذلك. وقال الشافعي ان لم يكن ثم ولد لم يلاعن
وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان
ولنا انه قذفها قذفا مضافا إلى حال البينونة أشبه ما لو قذفها وهي بائن، وفارق قذف الزوجة لأنه
محتاج إليه لأنها غاظته وخانته. وإن كان بينهما ولد فهو محتاج إلى نفيه وههنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها
فهو المفرط في نكاح حامل من الزنا فلا يشرع له طريق إلى نفيه
(فصل) ولو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا يا زانية فنقل مهنا قال سألت أحمد عن رجل قال
لامرأته أنت طالق يا زانية ثلاثا فقال يلاعن. قلت إنهم يقولون يحد ولا يلزمها الا واحدة. قال:
بئس ما يقولون فهذا يلاعن لأنه قذفها قبل الحكم ببينونتها فأشبه قذف الرجعية.
وأما في المسألة الأولى فإن كان بينهما ولد فإنه يلاعن لنفيه والا حد ولم يلاعن لأنه يتعين
إضافة القذف إلى حال الزوجية لاستحالة الزنا منها بعد طلاقه لها فصار كأنه قال لها بعد ابانتها:
زنيت إذ كنت زوجتي على ما قررناه
(الفصل الثالث) ان كل قذف للزوجة يجب به اللعان سواء قال لها زنيت أو رأيتك تزنين
سواء كان القاذف أعمى أو بصيرا نص عليه أحمد وبهذا قال الثوري والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور
19

وهو قول عطاء. وقال يحيى الأنصاري وأبو الزناد ومالك لا يكون اللعان الا بأحد أمرين: اما
رؤية واما انكار للحمل لأن آية اللعان نزلت في هلال بن أمية وكان قال رأيت بعيني وسمعت
باذني فلا يثبت اللعان الا في مثله
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآية. وهذا رام لزوجته فيدخل في عموم الآية
ولان اللعان معنى يتخلص به من موجب القذف فيشرع في حق كل رام لزوجته كالبينة والاخذ
بعموم اللفظ أولى من خصوص السبب ثم لم يعملوا به في قوله، وسمعت بأذني وسواء قذفها بزنا
في القبل أو في الدبر وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يثبت اللعان بالقذف بالوطئ في الدبر
وبناه على أصله في أن ذلك لا يجب به الحد
ولنا أنه رام لزوجته بوطئ في فرجها فأشبه ما لو قذفها بالوطئ في قبلها وأما ان قذفها بالوطئ دون
الفرج أو بشئ من الفواحش غير الزنا فلاحد عليه ولا لعان لأنه قذفها بما لا يجب به الحد فلم يثبت به
الحد واللعان كما لو قذفها بضرب الناس واذاهم
(الفصل الرابع) أنه إذا قذف زوجته المحصنة وجب عليه الحد وحكم بفسقه ورد شهادته الا
أن يأتي ببينة أو يلاعن فإن لم يأت بأربعة شهداء أو امتنع من اللعان لزمه ذلك كله وبهذا قال مالك
20

والشافعي، وقال أبو حنيفة يجب اللعان دون الحد فإن أبى حبس حتى يلاعن لأن الله تعالى قال
(والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء الا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات)
الآيات
فلم يوجب بقذف الأزواج الا اللعان
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) وهذا عام في الزوج وغيره، وإنما خص الزوج
بأن أقام لعانه مقام الشهادة في نفي الحد والفسق ورد الشهادة عنه، وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم " البينة
ولا حد في ظهرك " وقوله لما لاعن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ولأنه قاذف يلزمه الحد
لو أكذب نفسه فلزمه إذ لم يأت بالبينة المشروعة كالأجنبي، فاما ان قذف غيرها كالكتابية والأمة
والمجنونة والطفلة فإنه يجب عليه التعزير بذلك لأنه أدخل عليهن المعرة بالقذف ولا يحد لهن حدا
كاملا لنقصانهن بذلك، ولا يتعلق به فسق ولا رد شهادة لأنه لا يوجب الحد، قال القاضي وليس
له اسقاط هذا التعزير باللعان لأن اللعان اما لنفي النسب أو لدرء الحد وليس ههنا واحد منهما،
وقال الشافعي له اسقاطه باللعان لأنه إذا ملك اسقاط الحد الكامل باللعان فاسقاط ما دونه أول،
وللقاضي أن يقول لا يلزم من مشروعيته لدفع الحد الذي يعظم ضرره مشروعيته لدفع ما يقل ضرره
كما لو قذف طفلة لا يتصور وطؤها فإنه يعزر تعزير السب والأذى وليس له اسقاطه باللعان كذا ههنا
21

واما إن كان لاحد هؤلاء ولد يريد نفيه فقال القاضي له أن يلاعن لنفيه وهذا قول الشافعي وهو ظاهر
كلام احمد في الأمة والكتابية سواء كان لهما ولد أو لم يكن، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى
(مسألة): ل (ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته)
يعني لا يتعرض له بإقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى تطالبه زوجته بذلك فإن ذلك حق
لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقها. وليس لوليها المطالبة عنها ان كانت مجنونة أو محجورا
عليها ولا لولي الصغيرة وسيد الأمة المطالبة بالتعزير من اجلهما لأن هذا حق ثبت للتشفي فلا يقوم
الغير فيه مقام المستحق كالقصاص، فإن أراد الزوج اللعان من غير مطالبة نظرنا فإن لم يكن هناك نسب
يريد نفيه لم يكن له أن يلاعن وكذلك كل موضع سقط فيه الحد مثل أن أقام البينة بزناها أو أبرأته
من قذفها أو حد لها ثم أراد لعانها ولا نسب هناك ينفى فإنه لا يشرع اللعان وهذا قول أكثر
أهل العلم، ولا نعلم فيه مخالفا الا بعض أصحاب الشافعي قالوا له الملاعنة لإزالة الفراش، والصحيح
عندهم مثل قول الجماعة لأن إزالة الفراش تمكنه بالطلاق، والتحريم المؤبد ليس بمقصود يشرع
اللعان من أجله، وإنما حصل ذلك ضمنا
22

فأما إن كان هناك ولد يريد نفيه قال القاضي له أن يلاعن لنفيه وهذا مذهب الشافعي لأن
هلال بن أمية لما قذف امرأته وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أرسل إليها فلاعن بينهما ولم تكن طالبته
ولأنه محتاج إلى نفيه شرع له طريق إليه كما لو طالبته، ولان نفي النسب الباطل حق له فلا يسقط برضاها
به كما لو طالبت باللعان ورضيت بالولد. ويحتمل أن لا يشرع اللعان ههنا كما لو قذفها بصدقته وهو قول
أصحاب الرأي لأنه أحد موجبي القذف فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد
(فصل) وإذا قذفها ثم مات قبل لعانهما أو قبل اتمام لعانه سقط اللعان ولحقه الولد وورثته
في قول الجميع لأن اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه. وان مات بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها فكذلك
وقال الشافعي: تبين بلعانه ويسقط التوارث وينتفي الولد ويلزمها الحد الا أن تلتعن
ولنا انه مات قبل اكمال اللعان أشبه ما لو مات قبل اكمال التعانه وذلك لأن الشرع إنما رتب هذه الأحكام
على اللعان التام والحكم لا يثبت قبل كمال سببه. وان ماتت المرأة قبل اللعان فقد ماتت على الزوجية
ويرثها في قوله عامة هل العلم، وروي عن ابن عباس ان التعن لم يرث ونحو ذلك عن الشعبي وعكرمة
لأن اللعان يوجب فرقة تبين بها فيمنع التوارث كما لو التعن في حياتها
ولنا انها ماتت على الزوجية فورثها كما لو لم يلتعن ولان اللعان سبب الفرقة فلم يثبت حكم بعد
موتها كالطلاق وفارق اللعان في الحياة فإنه يقطع الزوجية على أننا قد ذكرنا انه لو لاعنها ولم تلتعن
هي لم تنقطع الزوجية أيضا فههنا أولى فإن قيل أليس قد قلتم لو التعن من الولد الميت ونفاه لم يرثه
23

فكذلك الزوجة؟ قلنا لو التعن الزوج وحده دونها لم ينتف الولد ولم يثبت حكم اللعان على ما ذكرنا
ثم الفرق بينهما انه إذا نفى الولد تبينا انه لم يكن منه أصلا في حال من الأحوال والزوجة قد كانت
امرأته فيما قبل اللعان وإنما يزيل نكاحها اللعان كما يزيله الطلاق. وإذا ماتت قبله فقد ماتت قبل
وجود ما يزيله فيكون موجودا حال الموت فيوجب التوارث وينقطع بالموت فلا يمكن انقطاعه مرة
أخرى وان أراد الزوج اللعان ولم تكن طالبت بالحد في حياتها لم يكن له أن يلتعن سواء كان ثم
ولد يريد نفيه أو لم يكن
وقال الشافعي: إن كان ثم ولد يريد نفيه فله ان يلتعن وهذا ينبني على أصل؟ وهو ان اللعان إنما
يكون بين الزوجين فإن لعان الرجل وحده لا يثبت به حكم وعندهم بخلاف ذلك، فأما ان كانت
طالبت بالحد في حياتها فإن أولياءها يقومون في الطلب به مقامها فإن طولب به فله اسقاطه باللعان.
ذكره القاضي والا فلا لأنه لا حاجة إليه مع عدم الطلب فإنه لا حد عليه. وقال أصحاب الشافعي: إن كان
للمرأة وارث غير الزوج فله اللعان ليسقط الحد عن نفسه والا فلا لعدم الحاجة إليه
(فصل) وإذا مات المقذوف قبل المطالبة بالحد سقط ولم يكن لورثته الطلب به. وقال أصحاب
الشافعي يورث وان لم يكن طالب به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك حقا فلورثته " ولأنه حق ثبت
له في الحياة يورث إذا طالب به فيورث وان لم يطالب به كحق القصاص
24

ولنا انه حد تعتبر فيه المطالبة فإذا لم يوجد الطلب من المالك لم يجب كحد القطع في السرقة.
والحديث يدل على أن الحق المتروك يورث وهذا ليس بمتروك. وأما حق القصاص فإنه حق يجوز الاعتياض
عنه وينتقل إلى المال بخلاف ما نحن فيه. فأما ان طالب به ثم مات فإنه ترثه العصبات من النسب دون غيرهم لأنه
حق يثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح. وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي.
ومتى ثبت للعصبات فلهم استيفاؤه وان طلب أحدهم وحده فله استيفاؤه وان عفى بعضهم لم يسقط وكان
للباقين استيفاؤه ولو بقي واحد كان له استيفاء جميعه لأنه حق يراد للردع والزجر فلم يتبعض كسائر الحدود
ولا يسقط باسقاط البعض لأنه يراد لدفع العار عن المقذوف وكل واحد من العصبات يقوم مقامه في استيفائه
فيثبت له جميعه كولاية النكاح ويفارق حق القصاص لأن ذلك يفوت إلى بدل ولو أسقطناه ههنا
لسقط حق غير العافي إلى غير بدل فعلى هذا لو قذف امرأته فماتت بعد المطالبة ولها أحد من عصباتها
غيره فله استيفاؤه وإن كان زوجها عصبتها وليس لها أحد سواه سقط وإن كان لها من عصبتها غيره
فله الطلب به ولا يسقط بما ذكرنا من أنه يكمل لكل واحد بخلاف القصاص
(فصل) وإذا قذف امرأته وله بينة تشهد بزناها فهو مخير بين لعانها وبين إقامة البينة لأنهما
بينتان فكانت له الخيرة في إقامة أيتهما شاء كمن له بدين شاهدان وشاهد وامرأتان ولان كل واحدة
منهما يحصل بها ما لا يحصل بالأخرى فإنه يحصل باللعان نفي النسب الباطل ولا يحصل ذلك بالبينة
25

ويحصل بالبينة ثبوت زناها وإقامة الحد عليها ولا يحصل باللعان فإن لاعنها ونفي ولدها ثم أراد إقامة
البينة فله ذلك فإذا أقامها ثبت موجب اللعان وموجب البينة وان أقام البينة أولا ثبت الزنا وموجبه
ولم ينتف عنه الولد فإنه لا يلزم من الزنا كون الولد منه وان أراد لعانها بعد ذلك وليس بينهما ولد
يريد نفيه لم يكن له ذاك لأن الحد قد انتفى عنه بإقامة البينة فلا حاجة إليه وإن كان بينهما ولد يريد
نفيه فعلى قول القاضي له أن يلاعن وقد ذكرنا ذلك فيما مضى
(فصل) وان قذفها فطالبته بالحد فأقام شاهدين على اقرارها بالزنا سقط عنه الحد لأنه ثبت
تصديقها إياه ولم يجب عليها الحد لأن الحد لا يجب الا بالاقرار أربع مرات ويسقط بالرجوع عن
الاقرار وهل يثبت الاقرار بالزنا بشاهدين؟ قال أبو بكر فيه قولان (أحدهما) يثبت بشاهدين كسائر
الأقارير واختاره (والثاني) لا يثبت لأنه لا يثبت به المقر به فلا يثبت به الاقرار به كرجل وامرأتين
وان لم تكن له بينة حاضرة فقال لي بينة غائبة أقيمها على الزنا أمهل اليومين والثلاثة لأن ذلك قريب
فإن أتى بالبينة والا حد الا أن يلاعن إذا كان زوجا فإن قال قذفتها وهي صغيرة فقالت قذفني وأنا
كبيرة وأقام كل واحد منهما بينة بما قال فهما قذفان وكذلك أن اختلفا في الكفر والرق أو الوقت
لأنه لا تنافي بينهما الا ان يكونا مؤرخين تاريخا واحدا فيسقطان في أحد الوجهين وفي الآخر يقرع
بينهما فمن خرجت قرعته قدمت بينته
26

(فصل) فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانة وقذفنا لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعداوته لهما وشهادة
العدو لا تقبل على عدوه فإن أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بذلك القذف لم تقبل لأنها ردت
للتهمة فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ثم تاب وأعادها ولو أنهما ادعيا عليه أنه
قذفهما ثم أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما لأنهما لم يردا في هذه
الشهادة ولو شهدا أنه قذف امرأته ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما
بطلت شهادتهما لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه وان لم يضيفاها إلى ذلك الوقت وكان
ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين وان كانا بعد الحكم لم يبطل
لأن الحكم تم قبل وجود المانع كظهور الفسق وان شهدا أنه قذف امرأته وامنا لم تقبل شهادتهما
لأنها ردت في البعض للتهمة فوجب أن ترد للكل وان شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت
شهادتهما، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد وقال في القديم لا تقبل لأنهما يجران
إلى أمهما نفعا وهو أنه يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشئ لأن لعانه لها ينبني على معرفته
بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به وان شهدا بطلاق الضرة ففيه وجهان (أحدهما) لا تقبل
لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو توفيره على أمهما (والثاني) تقبل لأنهما لا يجران إلى أنفسهما نفعا
(فصل) ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر انه أقر بذلك بالعجمية تمت الشهادة
27

لأن الاختلاف في العربية والعجمية عائد إلى الاقرار دون القذف ويجوز أن يكون القذف واحدا
والاقرار به في مرتين، وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها وشهد آخر انه أقر بذاك
يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه، وان شهد أحدهما انه قذفها بالعربية وشهد الآخر انه قذفها
بالعجمية أو شهد أحدهما انه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر انه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما انه
أقر انه قذفها بالعربية أو بالعجمية أو شهد أحدهما انه أقر أنه قذفها بالعربية أو يوم الخميس وشهد
الآخر أنه أقر انه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة أو يوم الخميس وشهد الآخر انه قذفها يوم الجمعة ففيه وجهان
(أحدهما) تكمل الشهادة وهو قول بي بكر ومذهب أبي حنيفة لأن الوقت ليس ذكره شرطا
في الشهادة بالقذف وكذلك اللسان فلم يؤثر الاختلاف كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس
بالعربية وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية
(والآخر) لا تكمل الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما
فلم يثبت كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة وفارق الاقرار
بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين
(مسألة) قال (فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا)
في هذه المسألة مسئلتان (إحداهما) أن الفرقة بين المتلاعنين لا تحصل الا بلعانهما جميعا وهل
يعتبر تفريق الحاكم بينهما؟ فيه روايتان
28

(إحداهما) أنه معتبر فلا تحصل الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما وهو ظاهر كلام الخرقي وقول
أصحاب الرأي لقول ابن عباس في حديثه ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وهذا يقتضي أن الفرقة لم
تحصل قبله وفي حديث عويمر قال: كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن
يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يقتضي امكان امساكها وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت
قبل ذلك لما وقع طلاقه ولا أمكنه امساكها، ولان سبب هذه الفرقة يقف على الحاكم فالفرقة
المتعلقة به لم تقع الا بحكم الحاكم كفرقة العنة
(والرواية الثانية) تحصل الفرقة بمجرد لعانهما وهي اختيار أبي بكر وقول مالك وأبي عبيد
عنه وأبي ثور وداود وزفر وابن المنذر، وروي ذلك عن ابن عباس لما روي عن عمر رضي الله
عنه أنه قال: المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا. رواه سعيد ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد
فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع، ولان الفرقة لو لم تحصل الا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق
إذا كرهاه كالتفريق للعيب والاعسار، ولوجب أن الحاكم إذا لم يفرق بينهما أن يبقى النكاح
مستمرا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا سبيل لك عليها " يدل على هذا وتفريقه بينهما بمعنى اعلامه لهما
بحصول الفرقة وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما
وقال الشافعي رحمه الله: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وان لم تلتعن المرأة لأنها فرقة
29

حاصلة بالقول فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق ولا نعلم أحدا وافق الشافعي على هذا القول
وحكي عن النبي أنه لا يتعلق باللعان فرقة لما روي أن العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا فأنفذه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه وكلا القولين لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين
المتلاعنين رواه عبد الله بن عمر وسهل بن سعد وأخرجهما مسلم وقال سهل فكانت سنة لمن كان
بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين، وقال عمر المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا
وأما القول الآخر فلا يصح لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين
بلعان أحدهما، وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما فالقول بوقوع
الفرقة قبله تحكم يخالف مدلول السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، لأن لفظ اللعان لا يقتضي
فرقة فإنه اما ايمان على زناها أو شهادة بذلك، ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما لم يحصل
التفريق وإنما ورد الشرع به بعد لعانهما فلا يجوز تعليقه على بعضه كما لم يجز تعليقه على بعض
لعان الزوج ولأنه فسخ ثبت بايمان مختلفين فلم يثبت بيمين أحدهما كالفسخ لتحالف المتبايعين عند
الاختلاف، ويبطل ما ذكروه بالفسخ بالعيب أو العتق، وقول الزوج اختاري وأمرك بيدك أو
وهبتك لأهلك أو لنفسك وأشباه ذلك كثير إذا ثبت هذا فإن قلنا إن الفرقة تحصل بلعانهما فلا
تحصل الا بعد اكمال اللعان منهما، وان قلنا لا تحصل الا بتفريق الحاكم لم يجز له أن يفرق بينهما
30

الا بعد كمال لعانهما فإن فرق قبل ذلك كان تفريقه باطلا وجوده كعدمه وبهذا قال مالك، وقال
الشافعي لا تقع الفرقة حتى يكمل الزوج لعانه، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن إذا فرق بينهما بعد
أن لاعن كل واحد منهما ثلاث مراث أخطأ السنة والفرقة جائزة، وان فرق بينهما بأقل من ثلاث
فالفرقة باطلة لأن من أتى بالثلاث فقد أتى بالأكثر فيتعلق الحكم به
ولنا أنه تفريق قبل تمام اللعان فلم يصح كما لو فرق بينهما لأقل من ثلاث أو قبل لعان المرأة
ولأنها ايمان مشروعة لا يجوز للحاكم الحكم قبلها بالاجماع فإذا حكم لم يصح حكمه كايمان المختلفين
في البيع وكما قبل الثلاث ولان الشرع إنما ورد بالتفرق بعد كمال السبب فلم يجز قبله كسائر الأسباب
وما ذكروه تحكم لا دليل عليه ولا أصل له ثم يبطل بما إذا شهد بالدين رجل وامرأة واحدة أو بمن
توجهت عليه اليمين إذا أتى بأكثر حروفها وبالمسابقة إذا قال من سبق إلى خمس إصابات فسبق
إلى ثلاثة وبسائر الأسباب فاما إذا تم اللعان فللحاكم أن يفرق من غير استئذانهما لأن النبي
صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين ولم يستأذنهما، وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته
في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فألحق الولد بالمرأة،
وروى سفيان عن الزهري عن سهل بن سعد قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين
أخرجهما سعيد، ومتى قلنا إن الفرقة لا تحصل الا بتفريق الحاكم فلم يفرق بينهما فالنكاح باق بحاله
لأن ما يبطل النكاح لم يوجد فأشبه ما لو لم يلاعن
31

(فصل) وفرقة اللعان فسخ وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة هي طلاق لأنها فرقة من جهة
الزوج تختص النكاح فكانت طلاقا كالفرقة بقوله أنت طالق
ولنا أنها فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع، ولان اللعان ليس
بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقا كسائر ما ينفسخ به النكاح ولأنه لو كان طلاق
لوقع بلعان الزوج دون لعان المرأة
(فصل) وذكر بعض أهل العلم أن الفرقة إنما حصلت باللعان لأن لعنة الله وغضبه قد وقع
بأحدهما لتلاعنهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند الخامسة " انها الموجبة " أي توجب لعنة الله وغضبه
ولا نعلم من هو منهما يقينا ففرقنا بينهما خشية أن يكون هو الملعون فيعلو امرأة غير ملعونة وهذا
لا يجوز كما لا يجوز أن يعلو المسلمة كافر ويمكن أن يقال على هذا لو كان هذا الاحتمال مانعا من دوام
نكاحهما لمنعه من نكاح غيرها فإن هذا الاحتمال متحقق فيه، ويحتمل أن يكون الموجب للفرقة
وقوع اللعنة والغضب بأحدهما غير معين فيفضي إلى علو ملعون لغير ملعونة أو إلى امساكه لملعونة
مغضوب عليها، ويحتمل أن سبب الفرقة النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه فإن
الرجل إن كان صادقا فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الاشهاد وأقامها مقام خزي وحقق
عليها اللعنة والغضب وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذبا فقد أضاف إلى ذلك بهتها وقذفها بهذه
32

الفرية العظيمة والمرأة ان كانت صادقة أكذبته على رؤوس الاشهاد وأوجبت عليه لعنة الله
وإن كان كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها وألزمته العار والفضيحة وأحوجته إلى هذا
المقام المخزي فحصل لكل واحد منهما نفرة من صاحبه لما حصل إليه من إساءته لا يكاد يلتئم لهما
معها حال فاقتضت حكمة الشارع انحتام الفرقة بينهما وإزالة الصحبة المتمحضة مفسدة ولأنه إن كان
كاذبا عليها فلا ينبغي أن يسلط على امساكها مع ما صنع من القبيح إليها، وإن كان صادقا فلا ينبغي
أن يمسكها مع علمه بحالها ولهذا قال العجلاني كذبت عليها ان أمسكتها
(المسألة الثانية) أنها تحرم عليه باللعان تحريما مؤبدا فلا تحل له وان أكذب نفسه في ظاهر
المذهب ولا خلاف بين أهل العلم في أنه إذا لم يكذب نفسه لا تحل له الا أن يكون قولا شاذا وأما
إذا أكذب نفسه فالذي رواه الجماعة عن أحمد أنها لا تحل له أيضا وجاءت الاخبار عن عمر بن
الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهم أن المتلاعنين لا يجتمعان ابدا، وبه قال الحسن
وعطاء وجابر بن زيد والنخعي والزهري والحكم ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد
وأبو ثور وأبو يوسف، وعن أحمد رواية أخرى ان أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله
وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عن أصحابه قال أبو بكر لا نعلم أحدا رواها غيره، وينبغي أن تحمل
هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما الحاكم فاما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله
33

وقد ذكرنا أن مذهب البتي أن اللعان لا يتعلق به فرقة وعن سعيد بن المسيب ان أكذب نفسه
فهو خاطب من الخطاب، وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لأن فرقة اللعان عندهما طلاق وقال سعيد
ابن جبير ان أكذب نفسه ردت إليه ما دامت في العدة
ولنا ما روى سهل بن سعد قال مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا
رواه الجوزجاني في كتابه باسناده وروي مثل هذا عن الزهري ومالك ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الحد
والتكذيب فلم يرتفع بهما كتحريم الرضاع
(فصل) فإن كانت أمة فاشتراها ملاعنها لم تحل له لأن تحريمها تحريم مؤبد فحرمت به على
مشتريها كالرضاع ولان المطلق ثلاثا إذا اشترى مطلقته لا تحل له قبل زوج وإصابة فههنا أولى
لأن هذا التحريم مؤبد وتحريم الطلاق ليس بمؤبد ولان تحريم الطلاق يختص النكاح وهذا لا
يختص به وهذا مذهب الشافعي
(مسألة) قال (فإن أكذب نفسه فلها عليه الحد)
وجملة ذلك أن الرجل إذا قذف امرأته ثم أكذب نفسه عليه الحد سواء أكذبها قبل
لعانها أو بعده وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا وذلك لأن اللعان
34

أقيم مقام البينة في حق الزوج فإذا أكذب نفسه بان ان لعانها كذب وزيادة في هتكها وتكرار
لقذفها فلا أقل من أن يجب الحد الذي كان واجبا بالقذف المجرد فإن عاد من اكذاب نفسه
وقال لي بينة أقيمها بزناها أو أراد اسقاط الحد عنه باللعان لم يسمع منه لأن البينة واللعان لتحقيق
ما قاله وقد أقر بكذب نفسه فلا يسمع منه خلافه وهذا فيما إذا كانت المقذوفة محصنة فإن كانت
غير محصنة فعليه التعزير
(فصل) ويلحقه نسب الولد سواء كان الولد حيا أو ميتا غنيا كان أو فقيرا، وبهذا قال الشافعي
وأبو ثور وقال الثوري إذا استلحق الولد الميت نظرنا فإن كان ذا مال لم يلحقه لأنه إنما يدعي مالا وان
لم يكن ذا مال لحقه، وقال أصحاب الرأي: إن كان الولد الميت ترك ولدا ثبت نسبه من
المستلحق وتبعه نسب ابنه وان لم يكن ترك ولدا لم يصح استلحقه ولم يثبت نسبه ولا يرث
منه المدعي شيئا لأن نسبه منقطع بالموت فلم يصح استلحاقه فإذا كان له ولد كان مستلحقا
لولده وتبعه نسب الميت
ولنا أن هذا ولد نفاه باللعان فكان له استلحاقه كما لو كان حيا أو كان له ولد ولان ولد الوالد
يتبع نسب الولد وقد جعل أبو حنيفة نسب الولد تابعا لنسب ابنه فجعل الأصل تابعا للفرع وذلك
باطل، فأما قول الثوري انه إنما يدعي مالا قلنا إنما يدعي النسب والميراث والمال تبع له، فإن قيل فهو
35

متهم في غرضه حصول الميراث قلنا إن النسب لا تمنع التهمة لحوقه بدليل أنه لو كان له أخ يعاديه فاقر
بابن لزمه وسقط ميراث أخيه ولو كان الابن حيا وهو غني والأب فقير فاستلحقه فهو متهم في ايجاب نفقته على
ابنه ويقبل قوله فكذلك ههنا، ثم كان ينبغي أن يثبت النسب ههنا لأنه حق للولد ولا تهمة فيه ولا يثبت
الميراث المختص بالتهمة، ولا يلزم من انقطاع التبع انقطاع الأصل، قال القاضي ويتعلق باللعان أربعة
أحكام: حقان عليه وجوب الحد ولحوق النسب، وحقان له الفرقة والتحريم المؤبد فإذا أكذب نفسه
قبل قوله فيما عليه فلزمه الحد والنسب فلم يقبل فيما له فلم تزل الفرقة ولا التحريم المؤبد
(فصل) فإن لم يكذب نفسه ولكن لم يكن له بينة ولا لاعن أقيم عليه الحد فإن أقيم عليه
بعضه فبذل اللعان وقال أنا ألاعن قبل منه لأن اللعان يسقط جميع الحد فيسقط بعضه كالبينة، فإن
ادعت زوجته أنه قذفها بالزنا فأنكر فأقامت عليه بينة أنه قذفها بالزنا فقال صدقت البينة وليس ذلك
قذفا لأن القذف الرمي بالزنا كذبا وأنا صادق فيما رميتها به لم يكن ذلك اكذابا لنفسه لأنه مصر على
رميها بالزنا وله اسقاط الحد باللعان، ومذهب الشافعي في هذا الفصل كمذهبنا، فإن قال ما زنت ولا
رميتها بالزنا فقامت البينة عليه بقذفها لزمه الحد ولم تسمع بينته ولا لعانه نص عليه أحمد لأن قوله
ما زنت تكذيب للبينة واللعان فلا تثبت له حجة قد أكذبها وجرى هذا مجرى قوله في الوديعة
إذا ادعيت عليه فقال ما أودعتني فقامت عليه البينة بالوديعة فادعى الرد أو التلف لم يقبل ولو أجاب
بأنه ماله عندي شئ ولا يستحق علي شيئا فقامت عليه البينة فادعى الرد أو التلف قبل منه
36

(مسألة) قال (وإن قذفها وانتفى من ولدها وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم نفي عنه
إذا ذكره في اللعان)
وجملة ذلك أن الزوج إذا ولدت امرأته ولدا يمكن كونه منه فهو ولده في الحكم لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " ولا ينتفي عنه الا أن ينفيه باللعان التام الذي اجتمعت
شروطه وهي أربعة:
(أحدها) أن يوجد اللعان منهما جميعا وهذا قول عامة أهل العلم، وقال الشافعي ينتفي بلعان
الزوج وحده لأن نفي الولد إنما كان بيمينه والتعانه لا بيمين المرأة على تكذيبه، ولا معنى ليمين المرأة
في نفي النسب وهي تثبته وتكذب قول منه ينفيه وإنما لعانها لدرء الحد عنها كما قال الله تعالى (ويدرأ
عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين) ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الولد عنه
بعد تلاعنهما فلا يجوز النفي ببعضه كبعض لعان الزوج (والثاني) أن تكمل ألفاظ اللعان منهما جميعا
(الشرط الثالث) أن يبدأ بلعان الزوج قبل المرأة فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد به، وبه قال
أبو ثور وابن المنذر. وقال مالك وأصحاب الرأي ان فعل أخطأ السنة والفرقة جائزة وينتفي الولد عنه
37

لأن الله تعالى عطف لعانها على لعانه بالواو هي لا تقتضي ترتيبها، ولان اللعان قد وجد منهما جميعا
فأشبه ما لو رتبت، وعند الشافعي لا يتم اللعان الا بالترتيب الا أنه يكفي عنده لعان الرجل وحده لنفي
الولد وذلك حاصل مع اخلاله بالترتيب وعدم كمال ألفاظ اللعان من المرأة
ولنا أنه أتي باللعان على غير ما ورد به القرآن والسنة فلم يصح كما لو اقتصر على لفظة واحدة ولان
لعان الرجل بينته لاثبات زناها ونفي ولدها ولعان المرأة للانكار فقدمت بينة الاثبات كتقديم
الشهود على الايمان، ولان لعان المرأة لدرء العذاب عنها ولا يتوجه عليها ذلك الا بلعان الرجل فإذا
قدمت لعانها على لعانه فقد قدمته على وقته فلم يصح كما لو قدمته على القذف
(الشرط الرابع) أن يذكر نفي الولد في اللعان فإذا لم يذكر لم ينتف الا أن يعيد الايمان ويذكر نفيه وهذا
ظاهر كلام الخرقي واختيار القاضي ومذهب الشافعي وقال أبو بكر لا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه وينتفي
بزوال الفراش. ولان حديث
سهل بن سعد الذي وصف فيه اللعان لم يذكر فيه الولد وقال فيه ففرق رسول الله
صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها. رواه أبو داود. وفي حديث
رواه مسلم عن عبد الله ان رجلا لاعن امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وسلم
بينهما وألحق الولد بأمه
ولنا ان سقط حقه باللعان كان ذكره شرطا كالمرأة ولان غاية ما في اللعان أن يثبت زناها
38

وذلك لا يوجب نفي الولد كما لو أقرت به أو قامت به بينة. فأما حديث سهل بن سعد فقد روي فيه
وكانت حاملا فأنكر حملها من رواية البخاري. وروى ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة. والزيادة من الثقة
مقبولة. فعلى هذا لابد من ذكر الولد في كل لفظة ومع اللعن في الخامسة لأنها من لفظات اللعان
وذكر الخرقي شرطا خامسا وهو تفريق الحاكم بينهما وهذا على الرواية التي تشترط تفريق
الحاكم لوقوع الفرقة. فأما على الرواية الأخرى فلا يشترط تفريق الحاكم لنفي الولد كما لا يشترط لدرء
الحد عنه ولا لفسخ النكاح. وشرط أيضا شرطا سادسا وهو أن يكون قد قذفها وهذا شرط اللعان
فإنه لا يكون الا بعد القذف وسنذكره إن شاء الله تعالى
(فصل) وان ولدت امرأته توأمين وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر فاستلحق أحدهما
ونفى الآخر لحقا به لأن الحمل الواحد لا يجوز أن يكون بعضه منه وبعضه من غيره. فإذا ثبت نسب
أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه ولم نجعل ما أقر به تابعا لما نفاه
لأن النسب يحتاط لاثباته لا لنفيه ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن أن يكون
من غيره ألحقناه به احتياطا ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه، فإن كان قد قذف أمها فطالبته بالحد
فله اسقاطه باللعان، وحكي عن القاضي انه يحد ولا يملك اسقاطه باللعان وهو مذهب الشافعي لأنه
باستلحاقه اعترف بكذبه في قذفه فلم يسمع إنكاره بعد ذلك
39

ووجه الأول انه لا يلزم من كون الولد منه انتفاء الزنا عنها كما لا يلزم من وجود الزنا منها كون
الولد منه ولذلك لو أقرت بالزنا أو قامت به بينة لم ينتف الولد عنه فلا تنافي بين لعانه وبين استلحاقه
للولد، وان استلحق أحد التوأمين وسكت عن الآخر لحقه لأنه لو نفاه للحقه فإذا سكت عنه كان
أولى، ولان امرأته متى أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه باللعان. وان نفى أحدهما وسكت عن الآخر
لحقاه جميعا. فإن قيل ألا نفيتم المسكوت عنه لأنه قد نفى أخاه وهما حمل واحد؟ قلنا لحوق النسب
مبني على التغليب وهو يثبت بمجرد الامكان وإن كان لم يثبت الوطئ ولا ينتفي لامكان للنفي فافترقا
فإن أتت بولده فنفاه ولاعن لنفيه ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول
لأن اللعان تناول الأول وحده ويحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان. ويحتمل انه ينتفي بنفيه من غير
حاجة إلى لعان ثان لأنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة فلا يحتاج إلى لعان ثان. ذكره القاضي
فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه. وان سكت عن نفيه لحقاه أيضا فأما ان نفى الولد
باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من
حمل واحد مدة الحمل، ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل، فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى ولا
ينتفي بغير اللعان لأنه حمل منفرد. وان استلحقه أو ترك نفيه لحقه وان كانت قد بانت باللعان
40

لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول، وان لاعنها قبل وضع الأول فأتت بولد ثم ولدت
آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني لأنها بانت باللعان وانقضت عدتها بوضع الأول وكان حملها
الثاني بعد انقضاء عدتها في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه
(فصل) وان مات أحد التوأمين أو ماتا معا فله أن يلاعن لنفي نسبهما وبهذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة يلزمه نسب الحي ولا يلاعن الا لنفي الحد لأن الميت لا يصح نفيه باللعان فإن نسبه قد
انقطع بموته فلا حاجة إلى نفيه باللعان كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لقطع النكاح لكونه
قد انقطع وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي لأنهما حمل واحد
ولنا أن الميت ينسب إليه فيقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه فكان له نفي نسبه واسقاط
مؤنته كالحي وكما لو كان للميت ولد
(مسألة) قال (وإن أكذب نفسه بعد ذلك لحقه الولد)
وجملة ذلك أن الرجل إذا لاعن امرأته ونفى ولدها ثم أكذب نفسه لحقه الولد إذا كان حيا
بغير خلاف بين أهل العلم وإن كان ميتا لحقه نسبه أيضا في قول أكثر أهل العلم سواء كان له ولد
41

أو لم يكن وسواء خلف مالا أو لم يخلف وذلك لأن النسب حق للولد فإذا أقر به لزمه وسواء تقدم
انكاره له أو لم يكن ولان سبب نفيه عنه نفيه له فإذا أكذب نفسه فقد زال سبب النفي وبطل
فوجب أن يلحقه نسبه بحكم النكاح الموجب للحوق نسبه به
(فصل) والقذف على ثلاثة أضرب (واجب) وهو أن يرى امرأته تزني في طهر لم يطأها فيه فإنه
يلزمه اعتزالها حتى تنقضي عدتها فإذا أتت بولد لستة أشهر من حين الزنا وأمكنه نفيه عنه لزمه
قذفها ونفي ولدها لأن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزاني فإذا لم ينفه لحقه الولد وورثه
وورث أقاربه وورثوا منه ونظر إلى بناته وأخواته وليس ذلك بجائز فيجب نفيه لإزالة ذلك ولو
أقرت بالزنا ووقع في قلبه صدقها فهو كما لو رآها (الثاني) أن يراها تزني أو يثبت عنده زناها وليس
ثم ولد يلحقه نسبه أو ثم ولد لكن لا يعلم أنه من الزنا أو يخبره بزناها ثقة يصدقه أو يشيع في الناس
أن فلانا يفجر بفلانة ويشاهده عندها أو داخلا إليها أو خارجا من عندها أو يغلب على ظنه فجورها
فهذا له قذفها لأنه روي عن عبد الله أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا وجد مع امرأته
رجلا فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ، فذكر انه يتكلم أو يسكت ولم
ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على هلال والعجلاني قذفهما حين رأيا وان سكت جاز
وهو أحسن لأنه يمكنه فراقها بطلاقها ويكون فيه سترها وستر نفسه وليس ثم ولد يحتاج إلى نفيه
42

(الحال) محرم وهو ما عدا ذلك من قذف أزواجه والأجانب فإنه من الكبائر قال الله
تعالى (ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ ولن يدخلها
الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين
والآخرين " رواه أبو داود
قوله " وهو ينظر إليه " يعني يراه منه فكما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم
حرم على الرجل جحد ولده ولا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره لأنه غير مأمون على الكذب
عليها ولا برؤيته رجلا خارجا من عندها من غير أن يستفيض زناها لأنه يجوز أن يكون دخل سارقا
أو هاربا أو لحاجة أو لغرض فاسد فلم يمكنه ولا لاستفاضة ذلك في الناس من غير قرينة تدل على صدقهم
لاحتمال أن يكون أعداؤها أشاعوا ذلك عنها وفيه وجه آخر انه يجوز لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة
ولا بمخالفة الولد لون والديه أو شبههما ولا لشبهه بغير والديه لما روى أبو هريرة قال: جاء رجل
من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي جاءت بولد اسود. يعرض بنفيه فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم " هل لك من إبل؟ " قال نعم قال " فما ألوانها؟ " قال حمر قال " هل فيها من أورق؟ " قال إن
فيها أورقا قال " فأنى أتاها ذلك؟ " قال عسى أن يكون نزعه عرق قال " فهذا عسى أن يكون نزعه
43

عرق " قال ولم يرخص له في الانتفاء منه. متفق عليه. ولان الناس كلهم من آدم وحواء وألوانهم
وخلقهم مختلفة فلولا مخالفتهم شبه والديهم لكانوا على خلقة واحدة ولان دلالة الشبه ضعيفة ودلالة
ولادته على الفراش قوية فلا يجوز ترك القوي لمعارضة الضعيف ولذلك لما تنازع سعد بن أبي وقاص
وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ورأي النبي صلى الله عليه وسلم فيه شبها بينا بعتبة ألحق الولد بالفراش وترك
الشبه وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامد وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي
وذكر القاضي وأبو الخطاب ان ظاهر كلام أحمد جواز نفيه وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي
لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث اللعان " ان جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين
فهو للذي رميت به " فأتت به عليه النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لولا الايمان لكان لي ولها
شأن " فجعل الشبه دليلا على نفيه عنه والصحيح الأول وهذا الحديث إنما يدل على نفيه عنه مع ما تقدم
من لعانه ونفيه إياه عن نفسه فجعل الشبه مرجحا لقوله ودليلا على تصديقه وما تقدم من الأحاديث
يدل على عدم استقلال الشبه بالنفي. ولان هذا كان في موضع زال الفراش وانقطع نسب الولد عن
صاحبه فلا يثبت مع بقاء الفراش المقتضي لحوق نسب الولد بصاحبه وإن كان يعزل عن امرأته
فأتت بولد لم يبح له نفيه لما ذكرنا من حديث جابر وأبي سعيد
وعن أبي سعيد أنه قال يا رسول الله انا نصيب من النساء ونحب الأثمان أفنعزل عنهن؟ قال " ان
44

الله إذا قضى خلق نسمة خلقها " ولأنه قد يسبق من الماء مالا يحس به فتعلق. وأما إن كان لا يطؤها
الا دون الفرج أو في الدبر فأتت بولد فذكر أصحابنا انه ليس له نفيه لأنه لا يأمن أن يسبق الماء
إلى الفرج فيعلق به وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وهو بعيد لأنه من أحكام الوطئ في الفرج
فلا يتعلق بما دونه كسائر الأحكام ودلالة عدم الوطئ في الفرج على انتفاء الولد أشد من دلالة
مخالفة الولد لون والديه. فأما ان وجد أحد هذه الوجوه التي ذكرنا مع الزنا ويحتمل كونه منه
أو من الزاني مثل ان زنت في طهر أصابها فيه أو زنت فلم يعتزلها ولكنه كان يعزل عنها أو كان
لا يطؤها الا دون الفرج أو كان الولد شبيها بالزاني دونه لزمه نفيه لأن هذا مع الزنا يوجب نسبته
إلى الزاني بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم حكم بولد امرأة هلال لشريك بن سحماء بشبهه له مع لعان هلال لها
وقذفه إياها. وأما إذا أتت زوجته بولد فشك فيه من غير معرفته لزناها فلا يحل له قذفها ولا لعانها
لما تقدم من حديث الفزاري، وكذلك أن عرف زناها ولم يعلم أن الولد من الزاني ولا وجد دليل عليه
فليس له نفيه لأن الولد للفراش وللعاهر الحجر
(فصل) فإن أكرهت زوجته على الزنا في طهر لم يصبها فيه فأتت بولد يمكن أن يكون من الواطئ
فهو منه وليس للزوج قذفها بالزنا لأن هذا ليس بزنا منها. وقياس المذهب انه ليس له نفيه ويلحقه
النسب لأن نفي الولد لا يكون الا باللعان ومن شرط اللعان القذف ولان اللعان لا يتم الا بلعان المرأة ولا
يصح اللعان من المرأة ههنا لأنها لا تكذب الزوج في اكراهها على ذلك وهذا قول أصحاب الرأي
45

وذكر بعض أصحابنا في ذلك روايتين (إحداهما) له نفيه باللعان لأنه محتاج إلى نفيه فكان له
نفيه كما لو زنت مطاوعة، وهذا مذهب الشافعي وهذا إنما يصح عند الشافعي لأنه يرى نفي الولد
بلعان الزوج وحده. وأما من لا يرى ذلك فلا يصح عنده النفي باللعان ههنا والله تعالى أعلم
(مسألة) قال (وان نفى الحمل في التعانه لم ينتف عنه حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن)
اختلف أصحابنا فيما إذا لاعن امرأته وهي حامل ونفى حملها في لعانه. فقال الخرقي وجماعة
لا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع وينتفي الولد فيه، وهذا قول أبي
حنيفة وجماعة من أهل الكوفة لأن الحمل غير مستيقن يجوز أن يكون ريحا أو غيرها فيصير نفيه
مشروطا بوجوده ولا يجوز تعليق اللعان بشرط، وقال مالك والشافعي وجماعة من أهل الحجاز
يصح نفي الحمل وينتفي عنه محتجين بحديث هلال وأنه نفي حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وسلم وألحقه بالأول
ولا خفاء بأنه كان حملا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " انظروها فإن جاءت به " كذا وكذا قال ابن عبد البر
الآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة وأوردها ولان الحمل مظنون بامارات تدل عليه ولهذا ثبتت
للحامل أحكام تخالف بها الحائل من النفقة والفطر في الصيام وترك إقامة الحد عليها وتأخير القصاص
عنها وغير ذلك مما يطول ذكره ويصح استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه وهذا القول هو الصحيح
لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنا ما كان، وقال أبو بكر ينتفي الولد
46

بزوال الفراش ولا يحتاج إلى ذكره في اللعان احتجاجا بظاهر الأحاديث حيث لم ينقل فيها نفي
الحمل ولا التعرض لنفيه، وقد ذكرنا ذلك فاما من قال إن الولد لا ينتفي الا بنفيه بعد الوضع فإنه
يحتاج في نفيه إلى إعادة اللعان بعد الوضع، وقال أبو حنيفة ومن وافقه ان لاعنها حاملا ثم أتت
بالولد لزمه ولم يتمكن من نفيه لأن اللعان لا يكون الا بين الزوجين وهذه قد بانت بلعانها في
حال حملها، وهذا فيه الزامه ولدا ليس منه وسد باب الانتفاء من أولاد الزنا والله تعالى قد
جعل له إلى ذلك طريقا فلا يجوز سده وإنما تعتبر الزوجية في الحال التي أضاف الزنا إليها فيه لأن الولد الذي
تأتي به يلحقه إذا لم ينفه فيحتاج إلى نفيه وهذه كانت زوجة في تلك الحال فملك نفي ولدها والله أعلم
(فصل) وان استلحق الحمل فمن قال لا يصح استلحاقه وهو المنصوص عن أحمد ومن أجاز
نفيه قال لا يصح استلحاقه وهو مذهب الشافعي لأنا محكوم بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث
فصح الاقرار به كالمولود إذا استلحقه لم يملك نفيه بعد ذلك كما لو استلحقه بعد الوضع ومن قال لا يصح
استلحاقه قال لو صح استلحاقه لزمه بترك نفيه كالمولود ولا يلزمه ذلك بالاجماع ولان للشبه أثرا في الالحاق
بدليل حديث الملاعنة وذلك مختص بما بعد الوضع فاختص صحة الاستلحاق به فعلى هذا لو استلحقه ثم نفاه
بعد وضعه كان له ذلك فاما ان سكت عنه فلم ينفه ولم يستلحقه لم يلزمه عند أحد علمنا قوله لأن
47

تركه يحتمل أن يكون لأنه لا يتحقق وجوده الا أن يلاعنها فإن أبا حنيفة ألزمه الولد على ما أسلفناه
(فصل) وإذا ولدت امرأته ولدا فسكت عن نفيه مع امكانه لزمه نسبه ولم يكن له نفيه بعد
ذلك، وبهذا قال الشافي قال أبو بكر لا يتقدر ذلك بثلاث بل هو على ما جرت به العادة
إن كان ليلا فحتى يصبح وينتشر الناس، وإن كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب أو ينام إن كان
ناعسا أو يلبس ثيابه ويسرج دابته ويركب ويصلي ان حضرة الصلاة ويحرز ماله إن كان غير
محرز وأشباه ذلك من أشغاله فإن أخره بعد هذا كله لم يكن له نفيه، وقال أبو حنيفة له تأخير نفيه
يوما ويومين استحسانا لأن النفي عقيب الولادة يشق فقدر باليومين لقلته، وقال أبو يوسف ومحمد
يتقدر بمدة النفاس لأنها جارية مجرى الولادة في الحكم، وحكي عن عطاء ومجاهد ان له نفيه ما لم
يعترف به فكان له نفيه كحالة الولادة
ولنا أنه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على الفور كخيار الشفعة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم
" الولد
للفراش " عام خرج منه ما أنفقنا عليه مع السنة الثابتة فما عداه يبقى على عموم الحديث، وما ذكره
أبو حنيفة يبطل بخيار الرد بالعيب والاخذ بالشفعة وتقديره بمدة النفاس تحكم لا دليل عليه، وما قاله
عطاء يبطل أيضا بما ذكره، ولا يلزم القصاص لأنه لاستيفاء حق لا لدفع ضرر ولا الحمل لأنه لم
يتحقق ضرره إذا ثبت هذا فهل يتقدر الخيار في النفي بمجلس العلم أو بامكان النفي على وجهين بناء
48

على المطالبة بالشفعة فإن أخر نفيه عن ذلك ثم ادعى انه لا يعلم بالولادة وأمكن صدقه بأن يكون
في موضع يخفى عليه ذلك مثل أن يكون في محلة أخرى فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم العلم،
وان لم يمكن مثل أن يكون معها في الدار لم يقبل لأن ذلك لا يكاد يخفى عليه، وان قال علمت ولادته
ولم أعلم أن لي نفيه أو علمت ذلك ولم أعلم أنه على الفور وكان ممن يخفى عليه ذلك كعامة الناس قبل
منه لأن هذا مما يخفى عليهم فأشبه ما لو كان حديث عهد باسلام، وإن كان فقيها لم يقبل ذلك منه
لأنه مما لا يخفى عليه ذلك، ويحتمل أن يقبل (؟؟) لأن الفقيه يخفى عليه كثير من الأحكام، وقال
أصحابنا لا يقبل ذلك من الفقيه ويقبل من الناشئ ببادية وحديث العهد بالاسلام، وهل يقبل من
سائر العامة؟ على وجهين، وإن كان له عذر يمنعه من الحضور لنفيه كالمرض والحبس أو الاشتغال
بحفظ مال يخاف ضيعته أو بملازمة غريم يخاف فوته أو غيبته نظرت فإن كانت مدة ذلك قصيرة
فأخره إلى الحضور ليزول عذره لم يبطل نفيه لأنه بمنزلة من علم ذلك ليلا فأخره إلى الصبح، ان
كانت تتطاول فأمكنه التنفيذ إلى الحاكم ليبعث إليه من يستوفي عليه اللعان والنفي فلم يفعل سقط
نفيه فإن لم يمكنه أشهد على نفسه أنه ناف لولد امرأته فإن لم يفعل بطل خياره لأنه إذا لم يقدر على
نفيه كان الاشهاد قائما مقامه كما يقيم المريض الفيئة بقوله بدلا عن الفيئة بالجماع فإن لم أصدق
المخبر عنه نظرت فإن كان مستفيضا منتشرا لم يقبل قوله، وان لم يكن مستفيضا وكان المخبر مشهور
49

العدالة لم يقبل والا قبل، وان قال لم أعلم أن علي ذلك قبل قوله لأنه مما يخفى، وان علم وهو غائب
فأمكنه السير فاشتغل به لم يبطل خياره، وان أقام من غير حاجة بطل لأنه أخره لغير عذر وان كانت له
حاجة تمنعه من السير فهو على ما ذكرنا من قبل، وان أخر نفيه لغير عذر وقال أخرت نفيه رجاء أن
يموت فاستر عليه وعلي بطل خياره لأنه أخر نفيه مع الامكان لغير عذر
(فصل) فإن هنئ به فأمن على الدعاء لزمه في قولهم جميعا، وان قال أحسن الله جزاءك أو
بارك الله عليك أو رزقك الله مثله لزمه الولد وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي لا يلزمه لأنه جازاه
على قصده، وإذا قال رزقك الله مثله فليس ذلك اقرارا ولا متضمنا له
ولنا أن ذلك جواب الراضي في العادة فكان اقرارا كالتأمين على الدعاء وان سكت كان اقرارا
ذكره أبو بكر لأن السكوت صلح دالا على الرضى في حق البكر وفي مواضع أخر فههنا أولى، وفي
كل موضع لزمه الولد لم يكن له نفيه بعد ذلك في قوله جماعة أهل العلم منهم الشعبي والنخعي وعمر
ابن عبد العزيز ومالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي، وقال الحسن له أن يلاعن لنفيه ما دامت
أمه عنده يصير لها الولد ولو أقر به والذي عليه الجمهور أولى فإنه أقر به فلم يملك جحده كما لو
بانت منه أمه، ولأنه أقر بحق عليه فلم يقبل منه جحده كسائر الحقوق
50

(مسألة) قال (ولو جاءت امرأته بولد فقال لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني
فهو ولده في الحكم ولا حد عليه لها)
وجملة ذلك أن المرأة إذا ولدت فقال زوجها ليس هذا الولد مني أو قال ليس هذا ولدي فلا
حد عليه لأن هذا ليس بقذف بظاهره لاحتمال انه يريد انه من زوج آخر أو من وطئ بشبهة أو
غير ذلك ولكنه يسئل فإن قال زنت فولدت هذا من الزنا فهذا قذف يثبت به اللعان، وان قال
أردت انه لا يشبهني خلقا ولا خلقا فقالت بل أردت قذفي فالقول قوله لأنه اعلم بمراده ولا سيما إذا صرح
بقوله لم تزن، وان قال وطئت بشبهة والولد من الواطئ فلا حد عليه أيضا لأنه لم يقذفها ولا قذف
واطئها، وان قال أكرهت على الزنا فلا حد أيضا لأنه لم يقذفها ولا لعان في هذه المواضع لأنه لم
يقذفها ومن شرط اللعان القذف ويلحقه نسب الولد وبهذا قال أبو حنيفة
وذكر القاضي ان في هذه الصورة الآخرة رواية أخرى ان له اللعان لأنه محتاج إلى نفي
الولد بخلاف ما إذا قال وطئت بشبهة فإنه يمكن نفي النسب بعرض لولد على القاف فيستغنى
بذلك عن اللعان فلا يشرع كما لا يشرع لعان أمته لما أمكن نفي نسب ولدها بدعوى الاستبراء
وهذا مذهب الشافعي
ولنا ان اللعان إنما ورد به الشرع بعد القذف في قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم ولم
51

يكن له شهداء الا أنفسهم) الآية، ولما لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين هلال وامرأته كان بعد قذفه إياها
وكذلك لما لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته كان بعد قذفه إياها ولا يثبت الحكم لا في مثله، ولان
نفي اللعان إنما ينتفي به الولد بتمامه منهما ولا يتحقق اللعان من المرأة ههنا، فأما ان قال وطئك
فلان بشبهة وأنت تعلمين الحال فقد قذفها وله لعانها ونفى نسب ولدها، وقال القاضي ليس له
نفيه باللعان وكذلك قال أصحاب الشافعي لأنه يمكنه نفي نسبه بعرضه على القافة فأشبه ما لو قال
واشتبه عليك أيضا
ولنا انه رام لزوجته فيدخل في عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) ولأنه رام لزوجته
بالزنا فملك لعانها ونفى ولدها كما لو قال زنى بك فلان وما ذكروه لا يصح فإنه قد لا يوجد قافة وقد
لا يعترف الرجل بما نسب إليه أو يغيب أو يموت فلا ينتفي الولد، وان قال ما ولدته وإنما التقطته
أو استعرته فقالت بل هو ولدي منك لم يقبل قول المرأة الا ببينة وهذا قول الشافعي وأبي ثور
وأصحاب الرأي لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها والأصل عدمها فلم تقبل دعواها من غير بينة
كالدين. قال القاضي وكذلك لا تقبل دعواها للولادة فيما إذا علق طلاقها بها ولا دعوى الأمة لها
لتصير بها أم ولد ويقبل قولها فيها لتقضي عدتها بها، فعلى هذا لا يلحقه الولد الا أن نقيم بينة وهي
امرأة مرضية تشهد بولادتها له فإذا ثبتت ولادتها له لحقه نسبه لأنه ولد على فراشه والولد للفراش
52

وذكر القاضي في موضع آخر ان القول المرأة لقول الله تعالى (ولا يحل لهن ان يكتمن
ما خلق الله في أرحامهن) وتحريم كتمانه دليل على قبول قولها فيه ولأنه خارج من المرأة تنقضي به
عدتها فقبل قولها فيه كالحيض ولأنه حكم يتعلق بالولادة فقبل قولها فيه كالحيض فعلى هذا النسب لاحق
به وهل له نفيه باللعان؟ فيه جهان
(أحدهما) ليس له نفيه لأن انكاره لولادتها إياه اقرار بأنها لم تلده من زنا فلا يقبل انكاره
لذلك لأنه تكذيب لنفسه (والثاني) له نفيه لأنه رام لزوجته وناف لولدها فكان له نفيه باللعان كغيره
(فصل) ومن ولدت امرأته ولدا لا يمكن كونه منه في النكاح لم يلحقه نسبه ولم يحتج إلى نفيه
لأنه يعلم أنه ليس منه فلم يلحقه كما لو أتت به عقيب نكاحه لها، وذلك مثل أن تأتي به لدون ستة
أشهر من حين تزوجها فلا يلحق به في قول كل من علمنا قوله من أهل العلم لأننا نعلم أنها علقت به
قبل أن يتزوجها. وإن كان الزوج طفلا له أقل من عشر سنين فأتت امرأته بولد لم يلحقه لأنه لم
يوجد؟ ولد لمثله ولا يمكنه الوطئ، وإن كان له عشر فحملت امرأته لحقه ولدها لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" واضربوهم على الصلاة لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " وقال القاضي يلحق به إذا أتت به لتسعة
أعوام ونصف عام مدة الحمل لأن الجارية يولد لها لتسع فكذلك الغلام. وقال أبو بكر لا يحلقه حتى
يبلغ لأن الولد إنما يكون من الماء ولا ينزل حتى يبلغ
53

ولنا انه زمن يمكن البلوغ فيه فيلحقه الولد كالبالغ. وقد روي أن عمرو بن العاص وابنه
عبد الله لم يكن بينهما الا اثنا عشر. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم دليل على امكان الوطئ
الذي هو سبب الولادة. وأما قياس الغلام على الجارية فغير صحيح فإن الجارية يمكن الاستمتاع بها
لتسع عادة والغلام لا يمكنه الاستمتاع لتسع وقد تحيض لتسع وما عهد بلوغ غلام لتسع. ولو تزوج
رجل امرأة في مجلس ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد أو
تزوج مشرقي بمغربية ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه وبذلك قال مالك والشافعي، وقال
أبو حنيفة يلحقه نسبه لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل، ألا ترى انكم قلتم إذا مضى زمان
الامكان لحق الولد وان علم أنه لم يحصل منه الوطئ
ولنا انه لم يحصل امكان الوطئ بهذا العقد فلم يلحق به الولد كزوجة ابن سنة أو كما لو ولدته
لدون ستة أشهر. وفارق ما قاسوا عليه لأن الامكان إذا وجد لم يعلم أنه ليس منه قطعا لجواز أن
يكون وطئها من حيث لا يعلم ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطئ فعلقنا الحكم على امكانه في النكاح
ولم يجز حذف الامكان عن الاعتبار لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه فلم يجز الحاقه به مع
يقين كونه ليس منه، وان ولدت امرأة مقطوع الذكر والأنثيين لم يلحق نسبه به في قوله عامة أهل
العلم لأنه يستحيل منه الانزال والايلاج. وان قطعت أنثياه لم يلحق دون ذكره فكذلك لأنه لا ينزل
ما يخلق منه الولد. وقال أصحابنا يلحقه النسب لأنه يتصور منه الايلاج وينزل ماءا رقيقا
54

ولنا أن هذا لا يخلق منه ولد عادة ولا وجد ذلك فأشبه ما لو قطع ذكره معهما ولا اعتبار بايلاج
لا يخلق منه الولد كما لو أولج إصبعه. وأما قطع ذكره وحده فإنه يلحقه الولد لأنه يمكن أن يساحق
فينزل ماء يخلق منه الولد. ولأصحاب الشافعي اختلاف في ذلك على نحو ما ذكرنا من الخلاف عندنا.
قال ابن اللبان لا يلحقه الولد في هاتين الصورتين في قول الجمهور
وقال بعضهم يلحقه بالفراش وهو غلط لأن الولد إنما يلحق بالفراش إذا أمكن. ألا ترى انها
إذا ولدت بعد شهر منذ تزوجها لم يلحقه وههنا لا يمكن لفقد المني من المسلول وتعذر ايصال المني إلى
قعر الرحم من المجبوب. ولا معنى لقول من قال يجوز أن تستدخل المرأة مني الرجل فتحمل لأن
الولد مخلوق من مني الرجل والمرأة جميعا ولذلك يأخذ الشبه منهما وإذا استدخلت المني بغير جماع لم
تحدث لها لذة تمني بها فلا يختلط منهما ولو صح ذلك لكان الأجنبيان الرجل والمرأة إذا تصادفا
انها استدخلت منيه وان الولد من ذلك المني يلحقه نسبه وما قال ذلك أحد
(فصل) وان طلق امرأته وهي حامل فوضعت ولدا ثم ولدت آخر قبل مضي ستة أشهر فهو من
الزوج لأننا نعلم أنهما حمل واحد فإذا كان أحدهما منه فالآخر منه. وإن كان بينهما أكثر من ستة
أشهر لم يحلق الزوج وانتفى عنه من غير لعان لأنه لا يمكن أن يكون الولد حملا واحدا وبينهما
مدة الحمل فعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية وانقضاء العدة وكونها أجنبية فهي كسائر الأجنبيات
55

وان طلقها فاعتدت بالأقراء ثم ولدت قبل مضي ستة أشهر من آخر أقرائها لحقه لأننا تيقنا
انها لم تحمله بعد انقضاء عدتها ونعلم أنها كانت حاملا به في زمن رؤية الدم فليزم ان لا يكون الدم
حيضا فلم تنقض عدتها به. وان أتت به لأكثر من ذلك لم يلحق بالزوج وهذا قول أبي العباس بن
سريج. وقال غيره من أصحاب الشافعي يلحق به لأنه يمكن أن يكون منه والولد يلحق بالامكان
ولنا انها أتت به بعد الحكم بانقضاء عدتها في وقت يمكن ان لا يكون منه فلم يلحقه كما لو
انقضت عدتها بوضع الحمل وإنما يعتبر الامكان مع بقاء الزوجة أو العدة وأما بعدهما فلا يكتفى
بالامكان للحاقه وإنما يكتفى بالامكان لنفيه وذلك لأن الفراش سبب ومع وجود السبب يكتفى
بامكان الحكمة واحتمالها فإذا انتفى السبب وآثاره فينتفي الحكم لانتفائه ولا يلتفت إلى مجرد الامكان
والله أعلم. فأما ان وضعته قبل انقضاء العدة لأقل من أربع سنين لحق بالزوج ولم ينتف عنه الا
باللعان. وان وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق وكان بائنا انتفى عنه بغير لعان لأننا
علمنا أنها علقت به بعد زوال الفراش. وإن كان رجيعا فوضعته لأكثر من أربع سنين منذ انقضت
العدة فكذلك لأنها علقت به بعد البينونة وان وضعته لأكثر من أربع سنين منذ الطلاق ولاقل
منها منذ انقضت العدة ففيه روايتان (إحداهما) لا يلحقه لأنها لم تعلق به قبل طلاقها فأشبهت
البائن (والثانية) يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والايلاء
والحل في رواية فأشبه ما قبل الطلاق
(فصل) فإن غاب عن زوجته سنين فبلغتها وفاته فاعتدت ونكحت نكاحا صحيحا في الظاهر
56

ودخل بها الثاني وأولدها أولاد اثم قدم الأول فسخ نكاح الثاني وردت إلى الأول وتعتد من
الثاني ولها عليه صداق مثلها والأولاد له لأنهم ولدوا على فراشه. روي ذلك عن علي رضي الله عنه
وهو قول الثوري وأهل العراق وابن أبي ليلى ومالك وأهل الحجاز والشافعي وإسحاق وأبي يوسف
وغيرهم من أهل العلم الا أبا حنيفة قال: الولد للأول لأنه صاحب الفراش لأن نكاحه صحيح ثابت
ونكاح الثاني غير ثابت فأشبه الأجنبي.
ولنا ان الثاني انفرد بوطئها في نكاح يلحق النسب في مثله فكان الولد له دون غيره كولد الأمة
من زوجها يلحقه دون سيدها وفارق الأجنبي فإنه ليس له نكاح
(فصل) وان وطئ رجل امرأة لا زوج لها بشبهة فأتت بولد لحقه نسبه وهذا قول الشافعي
وأبي حنيفة. وقال القاضي وجدت بخط أبي بكر انه لا يلحق به لأن النسب لا يلحق الا في نكاح
صحيح أو فاسد أو ملك أو شبهة ملك ولم يوجد شئ من ذلك ولأنه وطئ لا يستند إلى عقد فلم يلحق
الولد فيه بالوطئ كالزنا الصحيح في المذهب الأول
قال احمد: كل من درأت عنه الحد ألحقت به الولد: ولأنه وطئ اعتقد الواطئ حله فلحق
به النسب كالوطئ في النكاح الفاسد. وفارق وطئ الزنا فإنه لا يعتقد الحل فيه. ولو تزوج رجلان
أختين فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة منهما إلى زوج الأخرى فوطئها وحملت منه لحق
الولد بالواطئ لأنه وطئ يعتقد حله فلحق به النسب كالوطئ في نكاح فاسد
57

وقال أبو بكر لا يكون الولد للواطئ وإنما يكون للزوج وهذا الذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة
لأن الولد للفراش. ولنا ان الواطئ انفرد بوطئها فيما يلحق به النسب فلحق به كما لو لم تكن ذات
زوج وكما لو تزوجت امرأة المفقود عند الحكم بوفاته ثم بان حيا. والخبر مخصوص بهذا فنقيس
عليه ما كان في معناه. وان وطئت امرأته أو أمته بشبهة في طهر لم يصبها فيه فاعتزلها حتى أتت بولد
لستة أشهر من حين الوطئ لحق الواطئ وانتفى عن الزوج من غير لعان. وعلى قول أبي بكر
وأبي حنيفة يلحق الزوج لأن الولد للفراش. وان أنكر الواطئ الوطئ فالقول قوله بغير يمين ويلحق
نسب الولد بالزوج لأنه لا يمكن الحاقه بالمنكر ولا تقبل دعوى الزوج في قطع نسب الولد. وان أتت
بالولد لدون ستة أشهر من حين الوطئ لحق الزوج بكل حال لأننا نعلم أنه ليس من الوطئ. وان
اشتركا في وطئها في طهر فأتت بولد يمكن أن يكون منهما لحق الزوج لأن الولد للفراش وقد أمكن
كونه منه. وان ادعى الزوج انه من الواطئ فقال بعض أصحابنا يعرض على القافة معهما فيلحق
بمن ألحقته منهما فإن ألحقته بالواطئ لحقه ولم يملك نفيه عن نفسه وانتفى عن الزوج بغير لعان وان
ألحقته بالزوج لحق ولم يملك نفيه باللعان في أصح الروايتين (والأخرى) له ذلك وان ألحقته بهما
لحق بهما ولم يملك الواطئ نفيه عن نفسه وهل يملك الزوج نفيه باللعان؟ على روايتين. وان لم توجد
قافة أو أنكر الواطئ الوطئ أو اشتبه على القافة لحق الزوج لأن المقتضي للحاق النسب به متحقق
ولم يوجد ما يعارضه فوجب اثبات حكمه. ويحتمل ان يلحق الزوج بكل حال لأن دلالة قول القافة ضعيفة
ودلالة الفراش قوية فلا يجوز ترك دلالته لمعارضة دلالة ضعيفة
(فصل) وان أتت بولد فادعى انه من زوج قبله نظرنا فإن كانت تزوجت بعد انقضاء
58

العدة لم يلحق بالأول بحال وإن كان بعد أربع سنين منذ بانت من الأول لم يلحق به أيضا. وان
وضعته لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها (الثاني) لم يلحق به وينتفي عنهما وإن كان لأكثر من ستة أشهر
فهو ولده وإن كان لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ولأقل من أربع سنين من طلاق الأول ولم
يعلم انقضاء العدة عرض على القافة وألحق بمن ألحقته به منهما فإن ألحقته بالأول انتفى عن الزوج بغير
لعان وان ألحقته بالزوج انتفى عن الأول ولحق الزوج وهل له نفيه باللعان؟ على روايتين
(مسألة) قال (واللعان الذي يبرأ به من الحد أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم
أشهد بالله لقد زنت ويشير إليها وان لم تكن حاضرة سماها ونسبها حتى يكمل ذلك أربع
مرات ثم يوقف عند الخامسة ويقال له اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب
الآخرة، فإن أبى الا أن يتم فليقل ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا،
وتقول هي أشهد بالله لقد كذب أربع مرات ثم توقف عند الخامسة تخوف كما خوف الرجل
فإن أبت إلا أن تتم فلتقل وغضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا)
في هذه المسألة مسئلتان (إحداهما) ان اللعان لا يصح الا بمحضر من الحاكم أو من يقوم مقامه
وهذا مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هلال بن أمية ان يستدعي زوجته إليه ولاعن بينهما
59

ولأنه اما يمين واما شهادة فأيهما كان فمن شرطه الحاكم. وان تراضى الزوجان بغير الحاكم يلاعن
بينهما لم يصح ذلك لأن اللعان مبني على التغليظ والتأكيد فلم يجز بغير الحاكم كالحد. وسواء كان
الزوجان حرين أو مملوكين في ظاهر كلام الخرقي. وقال أصحاب الشافعي: للسيد ان يلاعن بين عبده
وأمته لأن له إقامة الحد عليهما
ولنا انه لعان بين زوجين فلم يجز لغير الحاكم أو نائبه كاللعان ان بين الحرين. ولا نسلم ان السيد
يملك إقامة الحد على أمته المزوجة. ثم لا يشبه اللعان الحد لأن الحد زجر وتأديب واللعان اما شهادة
واما يمين فافترقا. ولان اللعان دارئ للحد وموجب له فجرى مجرى إقامة البينة على الزنا والحكم به
أو بنفيه. وان كانت المرأة خفرة لا تبرز لحوائجها بعث الحاكم نائبه وبعث معه عدولا ليلاعنوا بينهما
وان بعث نائبه وحده جاز لأن الجمع غير واجب
(فصل) ويستحب أن يكون اللعان بمحضر جماعة من المسلمين لأن ابن عباس وابن عمر
وسهل بن سعد حضروه مع حداثة أسنانهم فدل ذلك على أنه حضره جمع كثير لأن الصبيان إنما
يحضرون المجالس تبعا للرجال. ولان اللعان بني على التغليظ مبالغه في الردع به والزجر وفعله في
الجماعة أبلغ في ذلك. ويستحب ان لا ينقصوا عن أربعة لأن بينة الزنا الذي شرع اللعان من اجل
الرمي به أربعة وليس شئ من هذا واجبا. ويستحب ان يتلاعنا قياما فيبدأ الزوج فيلتعن وهو
60

قائم فإذا فرغ قامت المرأة فالتعنت وهي قائمة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهلال بن أمية " قم
فاشهد أربع شهادات " ولأنه إذا قام شاهده الناس فكان أبلغ في شهرته فاستحب كثرة الجمع وليس
ذلك واجبا وبهذا كله قال أبو حنيفة والشافعي ولا اعلم فيه مخالفا
(فصل) قال القاضي ولا يستحب التغليظ في اللعان بمكان ولا زمان وبهذا قال أبو حنيفة
لأن الله تعالى أطلق الامر بذلك ولم يقيده بزمن ولا مكان فلا يجوز تقييده الا بدليل ولان النبي
صلى الله عليه وسلم أمر الرجل باحضار امرأته ولم يخصه بزمن ولو خصه بذلك لنقل ولم يهمل، وقال أبو الخطاب
يستحب ان يتلاعنا في الأزمان والأماكن التي تعظم وهذا مذهب الشافعي الا ان عنده في التغليظ
بالمكان قولين (أحدهما) ان التغليظ به مستحب كالزمان (والثاني) انه واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لاعن عند المنبر فكان فعله بيانا للعان ومعنى التغليظ بالمكان انهما إذا كانا بمكة لاعن بينهما بين
الركن والمقام فإنه أشرف البقاع، وإن كان في المدينة فعند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بيت المقدس
عند الصخرة وفي سائر البلدان في جوامعها، واما الزمان فبعد العصر لقول الله تعالى (تحبسونهما
من بعد الصلاة فيقسمان بالله) واجمع المفسرون على أن المراد بالصلاة صلاة العصر قال أبو الخطاب
في موضع أو بين الأذانين لأن الدعاء بينهما لا يرد والصحيح الأول ولو استحب ذلك لفعله النبي
صلى الله عليه وسلم ولو فعله لنقل ولم يسغ تركه واهماله، واما قولهم ان النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بينهما المنبر فليس
هذا في شئ من الأحاديث المشهورة. وان ثبت هذا فيحتمل انه كان بحكم الاتفاق لأن مجلسه
61

كان عنده فلاعن بينهما في مجلسه فإن كان اللعان بين كافرين فالحكم فيه كالحكم في اللعان بين
المسلمين. ويحتمل ان يغلظ في المكان لقوله في الايمان وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقون
ان يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها فعلى هذا يلاعن بينهما في مواضعهم اللاتي يعظمونها النصراني في
البيعة واليهودي في الكنيسة والمجوسي في بيت النار وان لم يكن لهم مواضع يعظمونها حلفهم الحاكم
في مجلسه لتعذر التغليظ بالمكان وان كانت المسلمة حائضا وقلنا إن اللعان بينهما يكون في المسجد وقفت
على بابه ولم تدخله لأن ذلك أقرب المواضع إليه
(المسألة الثانية في ألفاظ اللعان وصفته) اما ألفاظه فهي خمسة في حق كل واحد منهما وصفته
ان الإمام يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له قل أربع مرات اشهد بالله اني لمن الصادقين فيما رميت به
زوجتي هذه من الزنا ويشير إليها ان كانت حاضرة ولا يحتاج مع الحضور والإشارة إلى نسبه وتسميته
كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود. وان كانت غائبة أسماها ونسبها فقال امرأتي فلانة بنت فلان
ويرفع في نسبها حتى ينفي المشاركة بينها وبين غيرها فإذا شهد أربع مرات وقفه الحاكم وقال له اتق الله فإنها
الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وكل شئ أهون من لعنة الله ويأمر رجلا فيضع يده على فيه حتى
لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة ثم يأمر الرجل فيرسل يده عن فيه فإن رآه يمضي في ذلك قال له قل وان
لعنة الله علي ان كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا
ثم يأمر المرأة بالقيام ويقول لها قولي اشهد بالله ان زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من
الزنا وتشير إليه وإن كان غائبا أسمته ونسبته فإذا كررت ذلك أربع مرات وقفها ووعظها كما
ذكرنا في حق الزوج ويأمر امرأة فتضع يدها على فيها فإن رآها تمضي على ذلك قال لها قولي وان
62

غضب الله علي إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا
قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد كيف يلاعن؟ قال على ما في كتاب الله يقول أربع مرات اشهد
بالله اني فيما رميتها به لمن الصادقين ثم يوقف عند الخامسة فيقول لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
والمرأة مثل ذلك توقف عند الخامسة فيقال لها اتق الله فإنها الموجبة توجب عليك العذاب فإن
حلفت قالت غضب الله عليها إن كان من الصادقين. وعدد هذه الألفاظ الخمسة شرط في اللعان
فإن أخل بواحدة منها لم يصح على ما ذكرناه فيما مضى. وان ابدل لفظا منها فظاهر كلام الخرقي انه يجوز
ان يبدل قوله اني لمن الصادقين بقوله لقد زنت لأن معناهما واحد ويجوز لها ابدال انه لمن الكاذبين
بقولها لقد كذب لأنه ذكر صفة اللعان كذلك واتباع لفظ النص أولى وأحسن. وان ابدل لفظة
اشهد بلفظ من ألفاظ اليمين فقال احلف أو أقسم أو اولي لم يعتد به
وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر انه يعتد به لأنه أتى بالمعنى فأشبه ما لو ابدل اني لمن الصادقين
بقوله لقد زنت وللشافعي وجهان في هذا والصحيح انه لا يصح لأن ما اعتبر فيه لفظ الشهادة لم يقم
غيره مقامه كالشهادات في الحقوق. ولان اللعان يقصد فيه التغليظ واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في
التغليظ فلم يجز تركه ولهذا لم يجز ان يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام اشهد
(والثاني) يعتد به لأنه اتى بالمعنى أشبه ما قبله وللشافعي وجهان كهذين. وان ابدل لفظة اللعنة
بالابعاد لم يجز لأن لفظ اللعنة أبلغ في الزجر وأشد في أنفس الناس ولأنه عدل عن المنصوص. وقيل:
يجوز لأن معناهما واحد وان أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة لم يجز لأن الغضب أغلظ ولهذا
63

خصت المرأة به لأن المعرة بزناها أقبح واثمها بفعل الزنا أعظم من إثمه بالقذف. وان أبدلتها بالسخط
خرج على وجهين فيما إذا ابدل الرجل لفظة اللعنة بالابعاد. وان ابدل الرجل لفظة اللعنة بالغضب
احتمل ان يجوز لأنه أبلغ واحتمل ان لا يجوز لمخالفته المنصوص
قال الوزير يحيى بن محد بن هبيرة رحمه الله تعالى: من الفقهاء من اشترط ان يزاد بعد قوله
من الصادقين فيما رميتها به من الزنا واشترط في نفيها عن نفسها فيما رماني به من الزنا ولا أراه يحتاج
إليه لأن الله سبحانه انزل ذلك وبينه ولم يذكر هذا الاشتراط
واما موعظة الإمام لهما بعد الرابعة وقبل الخامسة فهي مستحبة في قول أكثر أهل العلم لما روى
ابن عباس قال لما كانت الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال
والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة فلما كانت الخامسة قيل لها اتق الله فإن
عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. وان هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت
ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة ان غضب الله عليها إن كان من الصادقين
وروى أبو إسحاق الجوزجاني باسناده حديث المتلاعنين قول فشهد أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين
ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه وقال: ويحك كل شئ أهون عليك من لعنة الله ثم ارسل فقال لعنة
الله عليه إن كان من الكاذبين ثم دعاها فقرأ عليها فشهدت أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين ثم أمر
بها فأمسك على فيها وقال ويحك كل شئ أهون عليك من عذاب الله وذكر الحديث
(فصل) ويشترط في صحة اللعان شروط ستة (أحدها) أن يكون بمحضر الإمام أو نائبه
(الثاني) ان يأتي كل واحد منهما باللعان بعد القائه عليه فإن بادر به قبل ان يلقيه الإمام عليه لم يصح
كما لو حلف قبل ان يحلفه الحاكم (الثالث) استكمال لفظات اللعان الخمسة فإن نقص منها لفظة
64

لم يصح (الرابع) ان يأتي بصورته الا ما ذكرنا من الاختلاف في ابدال لفظة بمثلها في المعنى (الخامس)
الترتيب فإن قدم لفظة اللعنة على شئ من الألفاظ الأربعة أو قدمت المرأة لعانها على لعان الرجل
لم يعتد به (السادس) الإشارة من كل واحد منهما إلى صاحبه إن كان حاضرا وتسميته ونسبته إن كان
غائبا ولا يشترط حضورهما معا بل لو كان أحدهما غائبا عن صاحبه مثل ان لاعن الرجل في المسجد
والمرأة على بابه لعدم امكان دخولها جاز
(فصل) وإذا كان الزوجان يعرفان العربية لم يجز ان يلتعنا بغيرها لأن اللعان ورد في القرآن
بلفظ العربية. وان كانا لا يحسنان ذلك جاز لهما الالتعان بلسانهما لموضع الحاجة فإن كان الحاكم
يحسن لسانهما أجزأ ذلك. ويستحب ان يحضر معه أربعة يحسنون لسانهما. وإن كان الحاكم
لا يحسن لسانهما فلا بد من ترجمان قال القاضي ولا يجزئ في الترجمة أقل من اثنين عدلين وهو
قول الشافعي وظاهر قول الخرقي لأنه قال ولا يقبل في الترجمة عن أعجمي حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه
أقل من عدلين يعرفان لسانه وذكر أبو الخطاب رواية أخرى انه يجزئ قول عدل واحد وهو قول
أبي حنيفة وسنذكر ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى
(مسألة) قال (وإن كان بينهما في اللعان ولد ذكر الولد فإذا قال أشهد بالله لقد
زنت يقول وما هذا الولد ولدي وتقول هي اشهد بالله لقد كذب وهذا الولد ولده)
وجملة ذلك أنه متى كان اللعان لنفي ولد فلابد من ذكره في لعانهما. وقال الشافعي لا تحتاج
المرأة إلى ذكره لأنها لا تنفيه وإنما احتاج الزوج إلى ذكره لنفيه وقال أبو بكر لا يحتاج واحد منهما
إلى ذكره وينتفي بزوال الفراش
65

ولنا ان من سقط حقه باللعان اشترط ذكره فيه كالمرأة. والمرأة أحد الزوجين فكان
ذكر الولد شرطا في لعانها كالزوج ولأنهما متحالفان على شئ فاشترط ذكره في تحالفهما كالمختلفين
في اليمين وظاهر كلام الخرقي انه يكتفي بقول الزوج وما هذا الولد ولدي ومن المرأة بقولها وهذا
الولد ولده. وقال القاضي يشترط ان يقول هذا الولد من زنا وليس هو مني وهو مذهب الشافعي
لأنه قد يريد بقوله ليس هو مني يعني خلقا وخلقا ولم نقتصر على قوله من زنا لأنه قد يعتقد ان الوطئ
في نكاح فاسد زنا فأكدنا بذكرهما جميعا
ولنا انه نفى الولد في اللعان فاكتفى به كما لو ذكر اللفظين. وما ذكروه من التأكيد تحكم
بغير دليل ولا ينتفي الاحتمال بضم إحدى اللفظين إلى الأخرى فإنه إذا اعتقد انه من وطئ فاسد
واعتقد ان ذلك زنا صح منه ان يقول اللفظين جميعا وقد يريد انه لا يشبهني خلقا وخلقا أو أنه
من وطئ فاسد. فإن لم يذكر الولد في اللعان لم ينتف عنه وان أراد نفيه أعاد اللعان ويذكر نفي الولد فيه
(فصل) وإذا قذف امرأته بالزنا برجل بعينه فقد قذفهما وإذا لاعنها سقط الحد عنه لهما سواء
ذكر الرجل في لعانه أو لم يذكره وان لم يلاعن فلكل واحد منهما المطالبة وأيهما طالب حد له
ومن لم يطالب فلا يحد له كما لو قذف رجلا بالزنا بامرأة معينة وبهذا قال أبو حنيفة ومالك الا في أنه
لا يسقط حده بلعانها. وقال بعض أصحابنا القذف للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق في المطالبة
ولا الحد لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك بن سحماء فلم يجده النبي صلى الله عليه وسلم ولا عزره له
وقال بعض أصحاب الشافعي يجب الحد وهل يجب حد واحد أو حدان؟ على وجهين. وقال
66

بعضهم لا يجب الا حد واحد قولا واحدا. ولا خلاف بينهم انه إذا لاعن وذكر الأجنبي في لعانه
انه يسقط عنه حكمه وان لم يذكره فعلى وجهين
ولنا ان اللعان بينة في أحد الطرفين فكان بينة في الطرف الآخر كالشهادة. ولان به حاجة إلى
قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد للمقذوف على صدق
قاذفه كما استدل النبي صلى الله عليه وسلم على صدق هلال بشبه الولد لشريك بن سحماء فوجب ان يسقط حكم
قذفه ما أسقط حكم قذفها قياسا له عليها
(فصل) ولو قذف امرأته وأجنبية أو أجنبيا بكلمتين فعليه حدان لهما فيخرج من حد
الأجنبية بالبينة خاصة ومن حد الزوجة بالبينة أو اللعان. وان قذفهما بكلمة فكذلك الا انه إذا لم
يلاعن ولم تقم بينة فهل يحد لهما حدا وحدا أو حدين؟ على روايتين (إحداهما) يحد حدا واحدا
وبه قال أبو حنيفة والشافعي في القديم. وزاد أبو حنيفة سواء كان بكلمة وبكلمات لأنهما حدود
من جنس فوجب ان تتداخل كحدود الزنا (والثانية) ان طالبوا مجتمعين فحد واحد وان طالبوا
متفرقين فلكل واحد حد لأنهم إذا اجتمعوا في الطلب أمكن ايفاؤهم بالحد الواحد وإذا تفرقوا لم
يمكن جعل الحد الواحد ايفاء لمن لم يطالب لأنه لا يجوز إقامة الحد له قبل المطالبة منه. وقال
الشافعي في الحد يقام لكل واحد حد بكل حال لأنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون
ولنا انه إذا قذفهما بكلمة واحدة يجزئ حد واحد لأنه يظهر كذبه في قذفه وبراءة عرضهما من رميه
يحد واحد فأجزأ كما لو كان القذف لواحد. وإذا قذفهما بكلمتين وجب حدان لأنهما قذفان
67

لشخصين فوجب لكل واحد حد كما لو قذف الثاني بعد حد الأول. وهكذا الحكم فيما إذا قذف
أجنبيتين أو أجنبيات فالتفصيل فيه على ما ذكرناه. وان قذف أربع نسائه فالحكم في الحد كذلك
وان أراد اللعان فعليه ان يلاعن لكل واحدة لعانا مفردا ويبدأ بلعان التي تبدأ بالمطالبة فإن طالبن
جميعا وتشاححن بدأ بإحداهن بالقرعة وان لم يتشاححن بدأ بلعان من شاء منهن ولو بدأ بواحدة
منهن من غير قرعة مع المشاحة صح. ويحتمل ان يجزئه لعان واحد فيقول اشهد بالله اني لمن الصادقين
فيما رميت به كل واحدة من زوجاتي هؤلاء الأربع من الزنا وتقول كل واحدة اشهد بالله انه لمن
الكاذبين فيما رماني به من الزنا لأنه يحصل المقصود بذلك. والأول أصح لأن اللعان ايمان فلا
تتداخل لجماعة كالايمان في الديون
(فصل) ولو قال لزوجته يا زانية بنت الزانية فقد قذفها وقذف أمها بكلمتين والحكم في الحد
لهما على ما مضى من التفصيل فيه فإن اجتمعا في المطالبة ففي أيتهما يقدم؟ فيه وجهان (أحدهما) الام
لأن حقها آكد لكونه لا يسقط الا بالبينة ولان لهما فضيلة الأمومة (والثاني) تقديم البنت لأنه
بدأ بقذفها ومتى حد لإحداهما ثم وجب عليه الحد للأخرى لم يحد حتى يبرأ جلده من حد الأولى
فإن قيل إن الحد ههنا حق لآدمي فلم لا يوالي بينهما كالقصاص فإنه لو قطع يدي رجلين قطعنا يديه
لهما ولم نؤخره؟ قلنا لأن حد القذف لا يتكرر بتكرر سببه قبل إقامة حده فالموالاة بين حدين فيه
تخرجه عن موضوعه. والقصاص يجوز ان تقطع الأطراف كلها في قصاص واحد فإذا جاز
لواحد فلاثنين أولى
(فصل) وان قذف محصنا مرات فحد واحد رواية واحدة سواء قذفه بزنا آخر أو كرر القذف
68

بالأول لأنهما حدان ترادف بينهما فتداخلا كالزنا مرارا وان قذفه فحد له ثم قذفه مرة أخرى
بذلك الزنا فلا حد عليه لأنه قد تحقق كذبه فيه بالحد فلا حاجة إلى اظهار كذبه فيه ثانيا ولما جلد
عمر أبا بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة أعاد قذفه فهم عمر بإعادة الحد عليه فقال له علي ان جلدته
فارجم صاحبه فتركه، ولكنه يعزر تعزير السب والشتم. وذكر القاضي أن فيه رواية أخرى ان عليه
الحد ثانيا لأنه قذف ثان بعد إقامة الحد عليه فأشبه ما لو قذفه بزنا ثان. واما ان قذفه بزنا آخر
فعليه حد آخر لأنه قذف لمحصن لم يحد فيه فوجب ان يتعقبه الحد كالأول ولان سبب الحد وجد
بعد اقامته فأعيد عليه كالزنا والسرقة. وعن أحمد رواية أخرى لا حد عليه في الثاني لأنه حد لصاحبه
مرة فلا يعاد عليه الحد كما لو قذفه بالزنا الأول. وعلى هذه الرواية يعزر تعزير السب والشتم وهذه الرواية
الثانية فيما إذا تقارب القذف الثاني من الحد، فاما إذا تباعد زمانهما وجب الحد بكل حال لأنه لا يجوز
أن يكون حده مرة من اجله فوجب اطلاق عرضه له، ومذهب الشافعي في هذا كمذهبنا الا انهم
حكوا عن الشافعي فيما إذا أعاد القذف بزنا ثان قبل إقامة الحد قولين (أحدهما) يجب حد واحد
(والثاني) يجب حدان فاما ان قذف أجنبية ثم تزوجهما ثم قذفها فعليه الحد للقذف الأول ولا شئ
عليه للثاني في قول أبي بكر وحكي نحو ذلك عن الزهري والثوري وأصحاب الرأي لأنه لو قذف
أجنبية قذفين لم يجب عليه أكثر من حد واحد واختار القاضي انه ان قذفها بالزنا الأول لم يكن عليه
أكثر من حد واحدا وليس له اسقاطه الا بالبينة، وان قذفها بزنا آخر فهو على الروايتين فيما إذا قذف الأجنبية
ثم حد لها ثم قذفها بزنا آخر فإن قلنا يجب حدان فطالبت المرأة بموجب القذف الأول فأقام به بينة
69

سقط عند حده ولم يجب في الثاني حد لأنها غير محصنة وان لم يقم بينة حد لها ومتى طالبته بموجب
الثاني فأقام به بينة أو لاعنها سقط والا وجب عليه الحد أيضا لأن هذا القذف موجبه غير موجب
الأول فإن الأول موجبه الحد على الخصوص والثاني موجبه اللعان والحد وان بدأت بالمطالبة بموجب
الثاني فأقام بينة به أو لاعن سقط حده ولها المطالبة بموجب الأول فإن أقام به بينة والا حد
قال القاضي: ان أقام بالثاني بينة سقط موجب الأول وهو مذهب الشافعي لأنها صارت غير
محصنة ولا يثبت لها حد المحصنات
ولنا ان سقوط احصانها في الثاني لا يوجب سقوطه فيما قبل ذلك كما لو استوفى حده قبل إقامة
البينة ولعل هذا ينبني على ما إذا قذف رجلا فلم يقم الحد على القاذف حتى زنى المقذوف، وان لم يقم
بينة عليهما ولم يلتعن للثاني لم يجب الا حد واحد نص عليه احمد. ولأنهما حدان من جنسين ترادفا
فلم يقم أحدهما فتداخلا كما لو قذفها وهي أجنبية قذفين ولو قذف زوجته فحد لها ثم أعاد قذفها
بذلك الزنا لم يحد لها لما ذكرنا في إعادة قذف الأجنبي لكن يعز للأذى والسبب وليس له اسقاط
التعزير باللعان لأنه تعزير سبب لا تعزير قذف الا على الرواية التي تلزم الأجنبي حدان بإعادة القذف
فإنه يلزمه ههنا حد وله اسقاطه باللعان. وان ولد له ولد بعد حده فذكر انه من ذلك الزنا فله اللعان
لاسقاطه على كلتا الروايتين لأنه محتاج إلى نفيه، وان قذفها في الزوجية قذفين بزناءين فليس عليه
الا حد واحد ويكفيه لعان واحد لأنه يمين فإذا كان الحقان لواحد كفته يمين واحدة لكنه يحتاج
ان يقول اشهد بالله اني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزناءين، وفارق ما إذا قذف زوجتين حيث
لا يكفيه لعان واحد لأن اليمين وجبت لكل واحد منهما فلا تتداخل كسائر الايمان. وان أقام
70

البينة بالأول سقط عنه موجب الثاني لأنه زال احصانها ولا لعان الا أن يكون فيه نسب يريد نفيه
وان أقامها بالثاني لم يسقط الحد الأول وله اسقاطه باللعان الا على قوله القاضي فإنه يسقط بإقامة البينة
على الثاني، وان قذفها في الزوجية ولاعنها ثم قذفها بالزنا الأول فلا حد عليه لأنه قد حقق بلعانه
ويحتمل ان يحد كما لو قذفها به أجنبي وهو قول القاضي، ولو قذفها به أجنبي أو بزنا غيره فعليه الحد
في قول عامة أهل العلم منهم ابن عباس والزهري والشعبي والنخعي وقتادة ومالك والشافعي وأبو
عبيد، وذكر أبو عبيد عن أصحاب الرأي انهم قالوا إن لم ينف بلعانها ولدا حد قاذفها وان نفاه فلا
حد على قاذفها لأنه منتف عن زوجها بالشرع
ولنا ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من رماها أو ولدها فعليه
الحد " رواه أبو داود وهذا نص فإنه نص على من رماها مع أن ولدها منفي عن الملاعن شرعا
ولأنه لم يثبت زناها ولا زال احصانها فليزم قاذفها الحد بقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات
ثم لو يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وكما لو لم ينف ولدها. فأما ان أقام بينة فقذفها
قاذف بذلك الزنا أو بغيره فلا حد عليه لأنه قد زال احصانها ولان هذا القذف لم يدخل المعرة عليها
وإنما دخلت المعرة بقيام البينة ولكنه يعزر تعزير السب والأذى وهكذا كل من قامت البينة بزناه
لا حد على قاذفه وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولكنه يعزر تعزير السب والأذى ولا يملك الزوج
اسقاطه عن نفسه باللعان لما قدمناه. وان قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا آخر فعليه الحد لأنها
بانت منه باللعان وصارت أجنبية الا ان يضيف الزنا إلى حال الزوجية فعند ذلك أن كان ثم نسب يريد
نفيه فله الملاعنة لنفيه والا لزمه الحد ولا لعان بينهما
71

(مسألة) قال (فإن التعن هو ولم تلتعن هي فلا حد عليها والزوجية بحالها)
وجملة ذلك أنه إذا لاعنها وامتنعت من الملاعنة فلا حد عليها وبه قال الحسن والأوزاعي
وأصحاب الرأي وروي ذلك عن الحارث العكلي وعطاء الخراساني. وذهب مكحول والشعبي ومالك
والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأبو إسحاق الجوزجاني وابن المنذر إلى أن عليها الحد لقول الله تعالى
(ويدرأ عنها العذاب ان تشهد أربع شهادات) والعذاب الذي يدرؤه لعانها هو الحد المذكور في
قوله سبحانه (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) ولأنه بلعانه حقق زناها فوجب عليها الحد
كما لو شهد عليها أربعة
ولنا انه لم يتحقق زناها فلا يجب عليها الحد كما لو لم يلاعن. ودليل ذلك أن تحقيق زناها
لا يخلو اما أن يكون بلعان الزوج أو بنكولها أو بهما لا يجوز أن يكون بلعان الزوج وحده لأنه لو
ثبت زناها به لما سمع لعانها ولا وجب الحد على قاذفها ولأنه اما يمين واما شهادة وكلاهما لا يثبت
له الحق على غيره ولا يجوز ان يثبت بنكولها لأن الحد لا يثبت بالنكول فإنه يدرأ بالشبهات فلا يثبت
بها وذلك لأن النكول يحتمل أن يكون لشدة خفرها أو لعقلة على لسانها أو غير ذلك فلا يجوز اثبات
الحد الذي اعتبر في بينته من العدد ضعف ما اعتبر في سائر الحدود واعتبر في حقهم ان يصفوا صورة
الفعل وان يصرحوا بلفظه وغير ذلك مبالغة في نفي الشبهات عنه وتوسلا إلى اسقاطه ولا يجوز ان
يقضى فيه بالنكول الذي هو في نفسه شبهة لا يقضى به في شئ من الحدود ولا العقوبات ولا ما عدا
72

الأموال مع أن الشافعي لا يرى القضاء بالنكول في شئ فكيف يقتضي به في أعظم الأمور وأبعدها
ثبوتا وأسرعها سقوطا ولأنها لو أقرت بلسانها ثم رجعت لم يجب عليها الحد فلان له يجب بمجرد
امتناعها من اليمين على براءتها أولى. ولا يجوز ان يقضى فيه بهما لأن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة
لا يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق. ولان ما في كل واحد منهما من الشبهة لا ينتفي بضم
أحدهما إلى الآخر فإن احتمال نكولها لفرط حيائها وعجزها عن النطق باللعان في مجمع الناس لا يزول
بلعان الزوج. والعذاب يجوز أن يكون الحبس أو غيره فلا يتعين في الحد وان احتمل أن يكون هو
المراد فلا يثبت الحد بالاحتمال وقد يرجح ما ذكرناه بقول عمر رضي الله عنه ان الحد على من زنا
وقد أحصن إذا كانت بينة أو كان الحمل أو الاعتراف فذكر موجبات الحد ولم يذكر اللعان
واختلف الرواية فيما يصنع بها فروي أنها تحبس حتى تلتعن أو تقر أربعا. قال احمد: فإن
أبت المرأة ان تلتعن بعد التعان الرجل أجبرتها عليه وهبت ان احكم عليها بالرجم لأنها لو أقرت
بلسانها لم أرجمها إذا رجعت فكيف إذا أبت اللعان؟ ولا يسقط النسب الا بالتعانهما جميعا لأن
الفراش قائم حتى تلتعن والولد للفراش. قال القاضي: هذه الرواية أصح وهذا قول من وافقنا في أنه
لا حد عليها وذلك لقول الله تعالى (ويدرأ عنها العذاب ان تشهد أربع شهادات بالله) فيدل على أن
ها إذا لم تشهد لا يندرئ عنها العذاب
(والرواية الثانية) يخلى سبيلها وهو قول أبي بكر لأنه لم يجب عليها الحد فيجب تخلية سبيلها
كما لو لم تكمل البينة. فأما الزوجية فلا تزول والولد لا ينتفي ما لم يتم اللعان بينهما في قول عامة أهل العلم الا الشافعي فإنه قضى بالفرقة ونفي الولد بمجرد لعان الرجل وقد ذكرنا ذلك
73

(مسألة) قال (وكذلك أن أقرت دون الأربع مرات)
وجملته ان الرجل إذا قذف امرأته فصدقته وأقرت بالزنا مرة أو مرتين أو ثلاثا لم يجب عليها
الحد لأنه لا يثبت الا باقرار أربع مرات على ما يذكر في الحدود ثم إن كان تصديقها له قبل لعانه فلا
لعان بينهما لأن اللعان كالبينة إنما يقام مع الانكار وإن كان بعد لعانه لم تلاعن هي لأنها لا تحلف
مع الاقرار وحكمها حكم ما لو امتنعت من غير اقرار وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي ان صدقته قبل
لعانه فعليها الحد وليس له ان يلاعن الا أن يكون ثم نسب ينفيه فيلاعن وحده وينتفي النسب بمجرد
لعانه فإن كان بعد لعانه فقد انتفى النسب ولزمها الحد بناء على أن النسب ينتفي بمجرد لعانه وتقع
الفرقة ويجب الحد فإن الحد باقرار مرة وهذه الأصول قد مضى أكثرها ولو أقرت أربعا وجب
الحد ولا لعان بينهما إذا لم يكن ثم نسب ينفى وان رجعت سقط الحد عنها بغير خلاف علمناه وبه
يقول الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فإن الرجوع عن الاقرار بالحد مقبول وليس له ان يلاعن
للحد فإنه لم يجب عليه لتصديقها إياه وان أراد لعانها لنفي نسب فظاهر قول الخرقي انه ليس له ذلك
في جميع هذه الصور وهو قول أصحاب الرأي
وقال الشافعي له لعانها لنفي النسب فيها كلها لأنها لو كانت عفيفة صالحة فكذبته ملك نفي
ولدها فإذا كانت فاجرة فصدقته فلان يملك نفي ولدها أولى ووجه الأول ان نفي الولد إنما يكون
بلعانهما معا وقد تعذر اللعان منهما ولأنها لا تستحلف على نفي ما تقر به فتعذر نفي الولد لتعذر سببه كما
لو مات بعد القذف وقبل اللعان
(فصل) ولو قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت فلا حد عليها ولا عليه. وقال أصحاب الشافعي
74

عليه حد القذف لأنه يحتمل انها أرادت بذلك نفي الزنا عن نفسها كما يستعمل أهل العرف فيما إذا
قال قائل سرقت قال معك سرقت اي انا لم أسرق لكونك أنت لم تسرق
ولنا انها صدقته في قذفه إياها فأشبه ما لو قال صدقت ولا حد عليها لأن حد الزنا لا يثبت الا
بالاقرار أربع مرات وليس عليها حد القذف لأنها لم تقذفه وإنما أقرت على نفسها بزناها به ويمكن
ذلك من غير كونه زانيا بأن يظنها زوجته وهي عالمة انه أجنبي ولأنه يحتمل ان تريد نفي ذلك عنهما
كما ذكروه أو انه لم يطأني سواك فإن لم يكن زنا فأنت شريكي فيه ولا يجب الحد مع الاحتمال ولا
يلزم من سقوطه عن الرجل بظاهر تصديقها وجوبه عليها مع الاحتمال فإن الحد يدرأ بالشبهات ولا
يجب بها. ولو قال يا زانية فقال أنت ازنى مني فقال أبو بكر فيها كالتي قبلها لا حد على الزوج
بتصديقها له ولا على المرأة لما ذكرنا في التي قبلها
وقال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ليس قولها قذفا قال الشافعي الا ان تريد القذف لأنه
يحتمل ان تريد انه أصابني وهو زوجي فإن كان ذلك فهو أبلغ مني فيه. وقال القاضي عليها حد
لقذفها ولا حد عليها لتصديقها إياه وقد أتت بصريح قذفه بالزنا فوجب عليها الحد كما لو قالت أنت
زان والاحتمال مع التصريح بالقذف لا يمنع الحد كما لو قالت أنت زان. فأما ان قال يا زانية فقالت
بل أنت زان فكل واحد منهما قاذف لصاحبه عليه حد القذف لأن المرأة لا تملك اسقاط حدها الا
بالبينة والزوج يملك اسقاطه ببينة أو لعان
75

كتاب العدد
الأصل في وجوب العدة الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقول الله تعالى (والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وقوله سبحانه (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم
فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وقوله تعالى (والذين
يتوفى منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم
" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى علي زوج أربعة أشهر
وعشرا " وقال لفاطمة بنت قيس " اعتدي في بيت ابن أم مكتوم " في آي وأحاديث كثيرة
وأجمعت الأمة على وجوب العدة في الجملة وإنما اختلفوا في أنواع منها وأجمعوا على أن المطلقة قبل
المسيس لا عدة عليها لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل
أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) ولأن العدة
تجب لبراءة الرحم وقد تيقناها ههنا وهكذا كل فرقة في الحياة كالفسخ لرضاع أو عيب أو عتق أو
لعان أو اختلاف دين
(فصل) وتجب العدة على الذمية من الذمي والمسلم وقال أبو حنيفة ان لم تكن من دينهم لم تلزمها
لأنهم لا يخاطبون بفروع الدين
76

ولنا عموم الآيات ولأنها بائن بعد الدخول أشبه المسلمة وعدتها كعدة المسلمة في قول علماء
الأمصار منهم مالك والثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي ومن تبعهم الا ما روي عن مالك
أنه قال تعتد من الوفاة بحيضة
ولنا عموم قول الله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر
وعشرا) ولأنها معتدة من الوفاة أشبهت المسلمة
(فصل) والمعتدات ثلاثة أقسام:
(معتدة) بالحمل وهي كل امرأة حامل من زوج إذا فارقت زوجها بطلاق أو فسخ أو موته عنها حرة
كانت أو أمة مسلمة أو كافرة فعدتها بوضع الحمل ولو بعد ساعة لقول الله تعالى (وأولات الأحمال
أجلهن أن يضعن حملهن) (والثاني) معتدة بالقروء وهي كل معتدة من فرقة في الحياة أو وطئ في غير نكاح إذا كانت ذات
قرء فعدتها القرء لقول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
(والثالث) معتدة بالشهور وهي كل من تعتد بالقرء إذا لم تكن ذات قرء لصغر أو اياس لقول
الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن)
وذات القرء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة أشهر للحمل وعدة الآيسة وكل من
77

توفي عنها زوجها ولا حمل بها قبل الدخول أو بعده حرة أو أمة فعدتها بالشهور لقول الله تعالى (والذين
يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا)
(فصل) وكل فرقة بين زوجين فعدتها عدة الطلاق سواء كانت بخلع أو لعان أو رضاع أو فسخ
بعيب أو اعسار أو اعتاق أو اختلاف دين أو غيره في قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن عباس ان
عدة الملاعنة تسعة أشهر وأبى ذلك سائر أهل العلم وقالوا عدتها عدة الطلاق لأنها مفارقة في الحياة
فأشبهت المطلقة وأكثر أهل العلم يقولون عدة المختلعة عدة المطلقة منهم سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله
وعروة وسليمان بن يسار وعمر عبد العزيز والحسن والشعبي والنخعي والزهري وقتادة وخلاس بن
عمرو وأبو عياض ومالك والليث والأوزاعي والشافعي، وروي عن عثمان بن عفان وابن عمر وابن
عباس وابان بن عثمان وإسحاق بن المنذر أن عدة المختلعة حيضة، ورواه ابن القاسم عن أحمد لما
روى ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة، رواه النسائي
وعن ربيع بنت معوذ مثل ذلك وأن عثمان قضى به رواه النسائي وابن ماجة
ولنا قول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ولأنها فرقة بعد الدخول في
الحياة فكانت ثلاثة قروء كغير الخلع وقول النبي صلى الله عليه وسلم " قرء الأمة حيضتان " عام وحديثهم
يرويه عكرمة مرسلا قال أبو بكر هو ضعيف مرسل وقول عثمان وابن عباس قد خالفه قول عمر وعلي
78

فإنهما قالا عدتها ثلاث حيض وقولهما أولى، وأما ابن عمر فقد روى مالك عن نافع عنه أنه قال عدة
المختلعة عدة مطلقة وهو أصح عنه
(فصل) والموطوءة بشبهة تعتد عدة المطلقة وكذلك الموطوءة في نكاح فاسد وبهذا قال الشافعي لأن
وطئ الشبهة وفي النكاح الفاسد في شغل الرحم ولحقوق النسب كالوطئ في النكاح الصحيح فكان
مثله فيما تحصل به البراءة وان وطئت المزوجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدتها كيلا يفضي إلى
اختلاط المياه واشتباه الأنساب وله الاستمتاع منها بما دون الفرج في أحد الوجهين لأنها زوجة حرم
وطؤها لعارض مختص بالفرج فأبيح الاستمتاع منها بما دونه كالحائض
(فصل) والمزني بها كالموطوءة بشبهة في العدة وبهذا قال الحسن والنخعي وعن أحمد رواية أخرى
أنها تستبرأ بحيضة ذكرها ابن أبي موسى وهذا قول مالك وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
لا عدة عليها وهو قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأن العدة لحفظ النسب ولا يلحقه نسب
وقد روي عن علي رضي الله عنه ما يدل على ذلك
ولنا أنه وطئ يقتضي شغل الرحم فوجبت العدة منه كوطئ الشبهة وأما وجوبها كعدة المطلقة
فلأنها حرة فوجب استبراؤها بعدة كاملة كالموطوءة بشبهة وقولهم إنما تجب لحفظ النسب لا يصح
فإنها لو اختصت بذلك لما وجبت على الملاعنة المنفي ولدها والآيسة والصغيرة ولما وجب استبراء
79

الأمة التي لا يلحق ولدها بالبائع ولو وجبت لذلك لكان استبراء الأمة على البائع ثم لو ثبت أنها
وجبت لذلك فالحاجة إليها داعية فإن المزني بها إذا تزوجت قبل الاعتداد اشتبه ولد الزوج بالولد من
الزنا فلا يحصل حفظ النسب
(مسألة) قال رحمه الله تعالى (وإذا طلق الرجل زوجته وقد خلا بها فعدتها ثلاث حيض
غير الحيضة التي طلقها فيها)
في هذه المسألة ثلاثة فصول (أحدها) ان العدة تجب على كل من خلا بها زوجها وان لم يمسها ولا
خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس فأما ان خلا بها ولم يصبها ثم طلقها فإن مذهب
أحمد وجوب العدة عليها وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر وبه قال عروة وعلي بن
الحسين وعطاء والزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في قديم قوليه
وقال الشافعي في الجديد لا عدة عليها لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن
من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) وهذا نص ولأنها مطلقة لم تمس
فأشبهت من لم يخل بها
ولنا اجماع الصحابة روى الإمام أحمد والأثرم باسنادهما عن زرارة بن أوفى قال قضى الخلفاء
80

الراشدون أن من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت العدة ورواه الأثرم أيضا عن
الأحنف عن عمر وعلي وعن سعيد بن المسيب عن عمر وزيد بن ثابت وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر
فصارت اجماعا، وضعف أحمد ما روى في خلاف ذلك وقد ذكرناه في كتاب الصداق ولأنه عقد
على المنافع فالتمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام المتعلقة كعقد الإجارة والآية مخصوصة
بما ذكرناه ولا يصح القياس على من لم يخل بها لأنه لم يوجد منها التمكين
(فصل) وظاهر كلام الخرقي انه لا فرق بين أن يخلو بها مع المانع من الوطئ أو مع عدمه سواء
كان المانع حقيقيا كالجب والعنة والفتق والرتق أو شرعيا كالصوم والاحرام والحيض والنفاس والظهار
لأن الحكم علق ههنا على الخلوة التي هي مظنة الإصابة دون حقيقتها ولهذا لو خلا بها فأتت بولد لمدة
الحمل لحقه نسبه وان لم يطأ، وقد روي عن أحمد ان الصداق لا يكمل مع وجود المانع فكذلك يخرج
في العدة وروي عنه أن صوم شهر رمضان يمنع كمال الصداق مع الخلوة وهذا يدل على أنه متى كان
المانع متأكدا كالاحرام وشبهه منع كمال الصداق ولم تجب العدة لأن الخلوة إنما أقيمت مقام المسيس
لأنها مظنة له ومع المانع لا تتحقق المظنة، وأما ان خلا بها وهي صغيرة لا يمكن وطؤها أو كان أعمى
فلم يعلم بها فلا عدة عليها ولا يكمل صداقها لأن المظنة لا تتحقق مع ظهور استحالة المسيس
(الفصل الثاني) ان عدة المطلقة إذا كانت حرة وهي من ذوات القروء ثلاثة قروء بلا خلاف
81

بين أهل العلم وذلك لقول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) والقرء في كلام العرب
يقع على الحيض والطهر جميعا فهو من الأسماء المشتركة، قال أحمد بن يحيى ثعلب القروء الأوقات
الواحد قرء وقد يكون حيضا وقد يكون طهرا لأن كل واحد منهما يأتي لوقت. قال الشاعر:
كرهت العقر عقر بني تميم * إذا هبت لقارئها الرياح
يعني لوقتها وقال الخليل بن أحمد يقال أقرأت المرأة إذا دنا حيضها وأقرأت إذا دنا طهرها وفي
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة أيام أقرائك فهذا الحيض " وقال الشاعر:
مورثة عزا وفي الحي رفعة * لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فهذا الطهر واختلف أهل العلم في المراد بقوله سبحانه (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) واختلفت
الرواية في ذلك عن أحمد فروي أنها الحيض روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وسعيد بن المسيب
والثوري والأوزاعي والعنبري وإسحاق وأبي عبيد وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق
وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء قال القاضي الصحيح
عن أحمد أن الأقراء الحيض واليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالأطهار فقال في رواية النيسابوري
كنت أقول إنه الأطهار وأنا أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض وقال في رواية الأثرم كنت
أقول الأطهار ثم وقفت لقول الأكابر (والرواية الثانية) عن أحمد أن القروء الأطهار وهو قول
82

زيد وابن عمر وعائشة وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابان بن عثمان وعمر
ابن عبد العزيز والزهري ومالك والشافعي وأبي ثور وقال أبو بكر بن عبد الرحمن ما أدركت أحدا
من فقهائنا الا وهو يقول ذلك قول ابن عبد البر رجع أحمد إلى أن القروء الأطهار قال في رواية
الأثرم رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف والأحاديث عمن قال إنه أحق بها حتى تدخل
في الحيضة الثالثة أحاديثها صحاح وقوية، واحتج من قال ذلك بقول الله تعالى (فطلقوهن لعدتهن)
أي في عدتهن كقوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي في يوم القيامة وإنما أمر بالطلاق
في الطهر لا في الحيض ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر " مره فليراجعها حتى تطهر ثم
تحيض ثم تطهر فإن شاء طلق وان شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء " متفق
عليه وفي رواية ابن عمر " فطلقوهن في قبل عدتهن " ولأنها عدة عن طلاق مجرد مباح فوجب أن يعتبر
عقيب الطلاق وكعدة الآيسة والصغيرة
ولنا قول الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن)
فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر فدل ذلك على أن الأصل الحيض كما قال تعالى (فلم
تجدوا ماء فتيمموا صعيدا) الآية ولان المعهود في لسان الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض قال
النبي صلى الله عليه وسلم " تدع الصلاة أيام أقرائها " رواه أبو داود وقال لفاطمة بنت أبي حبيش " انظري فإذا
أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء " رواه النسائي ولم يعهد
83

في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه، وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان " ورواه أبو داود وغيره، فإن قالوا هذا يرويه
مظاهر بن مسلم وهو منكر الحديث قلنا قد رواه عبد الله بن عيسى عن عطية العوفي عن ابن عمر
كذلك أخرجه ابن ماجة في سننه وأبو بكر الخلال في جامعه وهو نص في عدة الأمة فكذلك عدة
الحرة ولان ظاهر قوله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وجوب التربص ثلاثة كاملة ومن جعل
القروء الأطهار لم يوجب ثلاثة لأنه يكتفي بطهرين وبعض الثالث فيخالف ظاهر النص ومن جعله
الحيض أوجب ثلاثة كاملة فيوافق ظاهر النص فيكون أولى من مخالفته ولأن العدة استبراء فكانت
بالحيض كاستبراء الأمة وذلك لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل والذي يدل عليه الحيض
فوجب أن يكون الاستبراء به، فإن قيل لا نسلم ان استبراء الأمة بالحيضة وإنما هو بالطهر الذي قبل
الحيضة كذلك قال ابن عبد البر وقال قولهم ان استبراء الأمة حيضة باجماع ليس كما ظنوا بل جائز
لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة واستيقنت ان دمها دم حيض كذلك قال إسماعيل بن إسحاق
ليحيى بن أكثم حين دخل عليه في مناظرته إياه، قلنا هذا يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى
تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " ولان الاستبراء تعرف براءة الرحم وإنما يحصل بالحيضة لا
بالطهر الذي قبلها ولأن العدة تتعلق بخروج خارج من الرحم فوجب أن تتعلق بالطهر كوضع الحمل
84

يحققه ان العدة مقصودها معرفة براءة المرأة من الحمل فتارة تحصل بوضعه وتارة تحصل بما ينافيه وهو
الحيض الذي لا يتصور وجوده معه، فأما قوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن فيحتمل أنه أراد قبل عدتهن
إذ لا يمكن حمله على الطلاق في العدة ضرورة ان الطلاق سبق العدة لكونه سببها والسبب يتقدم على
الحكم فلا يوجد قبله والطلاق في الطهر تطليق قبل العدة إذا كانت الأقراء الحيض
(الفصل الثالث) ان الحيضة التي طلق فيها لا تحسب من عدتها بغير خلاف بين أهل العلم لأن
الله تعالى أمر بثلاثة قروء فتناول ثلاثة كاملة والتي طلق فيها لم يبق منها ما تم به مع اثنتين ثلاثة كاملة فلا
يعتد بها ولان الطلاق إنما حرم في الحيض لما فيه من تطويل العدة عليها فلو احتسب بتلك الحيضة قرءا
كان أقصر لعدتها وأنفع لها فلم يكن محروما ومن قال القروء الأطهار احتسب لها بالطهر الذي طلقها فيه قرءا
فلو طلقها وقد بقي من قرئها لحظة حسبها قرءا وهذا قول كل من قال القروء الأطهار الا الزهري وحده
قال تعتد بثلاثة قروء سوى الطهر الذي طلقها فيه، وحكي عن أبي عبيد أنه إن كان جامعها في الطهر
لم يحتسب ببقيته لأنه زمن حرم فيه الطلاق فلم يحتسب به من العدة كزمن الحيض
ولنا أن الطلاق حرم في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها فلو لم يحتسب بقية الطهر
قرءا كان الطلاق في الطهر أضر بها وأطول عليها، وما ذكر عن أبي عبيد لا يصح لأن تحريم الطلاق في
الحيض لكونها لا تحتسب ببقيته فلا يجوز أن تجعل العلة في عدم الاحتساب تحريم الطلاق فتصير
85

العلة معلولا وإنما تحريم الطلاق في الطهر الذي أصابها فيه لكونها مرتابة ولكونه لا يأمن الندم بظهور
حملها، فأما ان انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر فإن الطلاق يقع في أول الحيضة ويكون محرما
ولا تحتسب بتلك الحيضة من عدتها وتحتاج ان تعتد. بثلاث حيض بعدها أو ثلاثة أطهار على الرواية
الأخرى، ولو قال لها أنت طالق في آخر طهرك أو في آخر جزء من طهرك أو انقضت حروف الايقاع
ولم يبق من الطهر الا زمن الوقوع فإنها لا تحتسب بالطهر الذي وقع فيه الطلاق لأن العدة لا تكون
الا بعد وقوع الطلاق وليس بعده طهر تعتد به ولا يجوز الاعتداد بما قبله ولا بما قاربه ومن جعل
القرء الحيض اعتد لها بالحيضة التي تلي الطلاق لأنها حيضة كاملة يقع فيها طلاق فوجب أن تعتد بها
قرءا، وان اختلفا فقال الزوج وقع الطلاق في أول الحيض وقالت بل في آخر الطهر أو قال انقضت
حروف الطلاق مع انقضاء الطهر وقالت بل وقد بقي منه بقية فالقول قولها لأن قولها مقبول في
الحيض وفي انقضاء العدة
(مسألة) قال (فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة أبيحت للأزواج)
حكى أبو عبد الله بن حامد في هذه المسألة روايتين (إحداهما) انها في العدة ما لم تغتسل فيباح
لزوجها ارتجاعها ولا يحل لغيره نكاحها قال أحمد: عمر وعلي وابن مسعود يقولون قبل أن تغتسل من
86

الحيضة الثالثة، وروي ذلك عن سعيد ابن المسيب والثوري وإسحاق وروي ذلك عن أبي بكر الصديق
وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهم قال شريك له الرجعة وان فرطت
في الغسل عشرين سنة قال أبو بكر وروي عن أبي عبد الله أنها في عدتها ولزوجها رجعتها حتى يمضي
وقت الصلاة التي طهرت في وقتها وهذا قول الثوري وبه قال أبو حنيفة إذا انقطع الدم لدون أكثر
الحيض فإن للقطع لأكثره انقضت العدة بانقطاعه. ووجه اعتبار الغسل قول الأكثرين من الصحابة ولا
مخالف لهم في عصرهم فيكون اجماعا ولأنها ممنوعة من الصلاة بحكم حدث الحيض فأشبهت الحائض
(والرواية الثانية) أن العدة تنقضي بطهرها من الحيضة الثانية وانقطاع دمها اختاره أبو الخطاب
وهو قول سعيد بن جبير والأوزاعي والشافعي في القديم لأن الله تعالى قال (يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء) وقد كلمت القروء بدليل وجوب الغسل عليها ووجوب الصلاة وفعل الصيام وصحته منها ولأنه
لم يبق حكم العدة في الميراث ووقوع الطلاق بها واللعان والنفقة فكذلك فيما نحن فيه، قال القاضي إذا
شرطنا الغسل أفاد عدمه إباحة الرجعة وتحريمها على الأزواج فأما سائر الأحكام فإنها تنقطع بانقطاع دمها
(فصل) وان قلنا القروء الأطهار فطلقها وهي طاهر انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الثالثة
وان طلقها حائضا انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الرابعة، وهذا قول زيد بن ثابت وابن عمر
وعائشة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابان بن عثمان ومالك وأبي ثور وهو ظاهر مذهب الشافعي
87

وحكي عنه قول آخر لا تنقضي العدة حتى يمضي زمن الدم يوم وليلة لجواز أن يكون الدم دم فساد
فلا تحكم بانقضاء العدة حتى يزول الاحتمال وحكى القاضي هذا احتمالا في مذهبنا أيضا
ولنا أن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء فالزيادة عليها مخالفة للنص فلا يعول عليه ولأنه قول
من سمينا من الصحابة رواه الأثرم عنهم باسناده، ولفظ حديث زيد بن ثابت " إذا دخلت في الدم
من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها " وقولهم ان الدم يكون دم فساد قلنا
قد حكم بكونه حيضا في ترك الصلاة وتحريمها على الزوج وسائر أحكام الحيض فكذلك في انقضاء
العدة ثم إن كان التوقف عن الحكم بانقضاء العدة للاحتمال فإذا تبين أنه حيض علمنا أن العدة قد
انقضت حين رأت الدم كما لو قال لها ان حضت فأنت طالق، اختلف القائلون بهذا القول فمنهم من
قال اليوم والليلة من العدة لأنه دم تكمل به العدة فكان منها كالذي في أثناء الأطهار، ومنهم من قال
ليس منها إنما يتبين به انقضاؤها ولأننا لو جعلناه منها أوجبنا الزيادة على ثلاثة قروء ولكننا نمنعها
من النكاح حتى يمضي يوم وليلة ولو راجعها زوجها فيها لم تصح الرجعة وهذا أصح الوجهين
(مسألة) قال (وإن كانت أمة فإذا اغتسلت من الحيضة الثانية)
أكثر أهل العلم يقولون عدة الأمة بالقرء قرآن منهم عمر وعلي وابن عمر وسعيد بن المسيب
وعطاء و عبد الله بن عتبة والقاسم وسالم بن زيد بن أسلم والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي
88

وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وعن ابن سيرين عدتها عدة الحرة الا أن تكون قد مضت بذلك
سنة وهو قول داود لقول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " قرء الأمة حيضتان " وقد ذكرناه وقول عمر وعلي وابن عمر ولم نعرف
لهم مخالفا في الصحابة فكان اجماعا وهذا يخص عموم الآية ولأنه معنى ذو عدد بني على التفاضل
فلا تساوي فيه الأمة الحرة كالحد وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفا كما كان حدها على
النصف من حد الحرة الا أن الحيض لا يتبعض فكمل حيضتين، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لو
أستطيع أن أجعل العدة حيضة ونصفا لفعلت فإذا تقرر هذا فانقضاء عدتها بالغسل من الحيضة الثانية
في إحدى الروايتين وفي الأخرى بانقطاع الدم من الحيضة الثانية وعلى الرواية التي تقول إن القروء
الأطهار فانقضاء عدتها برؤية الدم من الحيضة الثانية
(مسألة) قال (وان كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر)
أجمع أهل العلم على هذا لأن الله تعالى ذكره في كتابه بقوله سبحانه (واللائي يئسن من المحيض
من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتبر
ثلاثة أشهر بالأهلة لقول الله تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) وقال
89

سبحانه (ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها
أربعة حرم) ولم يختلف الناس في أن الأشهر الحرم معتبرة بالأهلة وان وقع الطلاق في أثناء الشهر
اعتدت بقيته ثم اعتدت شهرين بالأهلة ثم اعتدت من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما وهذا مذهب
مالك والشافعي وقال أبو حنيفة تحتسب بقية الأول وتعتد من الرابع بقدر ما فاتها من الأول تاما كان
أو ناقصا لأنه لو كان من أول الهلال كانت العدة بالأهلة فإذا كان من بعض الشهر وجب قضاء ما
فات منه وخرج أصحابنا وجها ثانيا ان جميع الشهور محسوبة بالعدد وهو قول ابن بنت الشافعي لأنه
إذا حسب الأول بالعدد كان ابتداء الثاني من بعض الشهر فيجب أن يحسب بالعدد وكذلك الثالث
ولنا أن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى الثلاثين ولذلك إذا غم الشهر كمل ثلاثين والأصل
الهلال فإذا أمكن اعتبار الهلال اعتبروا وإذا تعذر رجعوا إلى العدد وفي هذا انفصال عما ذكر
لأبي حنيفة وأما التخريج الذي ذكرناه فإنه لا يلزم تمام الشهر الأول من الثاني ويجوز أن يكون تمامه من الرابع
(فصل) وتجب العدة من الساعة التي فارقها زوجها فيها فلو فارقها نصف الليل أو نصف النهار
اعتدت من ذلك الوقت إلى مثله في قول أكثر أهل العلم وقال أبو عبد الله بن حامد لا تحتسب
بالساعات وإنما تحتسب بأول الليل والنهار فإذا طلقها نهارا احتسبت من أول الليل الذي يليه وان
90

طلقها ليلا احتسبت بأول النهار الذي يليه وهذا قول مالك لأن حساب الساعات يشق فسقط اعتباره
ولنا قول الله تعالى (فعدتهن ثلاثة أشهر) ولا تجوز الزيادة عليها بغير دليل وحساب الساعات
ممكن اما يقينا واما استظهارا فلا وجه للزيادة على ما أوجبه الله تعالى
(مسألة) قال (والأمة شهران)
اختلفت الروايات عن أبي عبد الله في عدة الأمة فأكثر الروايات عنه انها شهران رواه عنه جماعة
من أصحابه واحتج فيه بقول عمر رضي الله عنه: عدة أم الولد حيضتان ولو لم تحض كان عدتها شهرين
رواه الأثرم عنه باسناده وهذا قول عطاء والزهري وإسحاق وأحد قولي الشافعي لأن الأشهر بدل
من القروء وعدة ذات القروء قرءان فبدلهما شهران ولأنها معتدة بالشهور عن غير الوفاة فكان عددها
كعدد القرء ولو كانت ذات قرء كالحرة
(والرواية الثانية) ان عدتها شهر ونصف نقلها الميموني والأثرم واختارها أبو بكر وهذا قول علي
رضي الله عنه وروي ذلك عن ابن عمر وابن المسيب وسالم والشعبي والثوري وأصحاب الرأي وهو
قول ثان للشافعي لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة وعدة الحرة ثلاثة أشهر فنصفها شهر ونصف وإنما
كما لذات الحيض حيضتين لتعذر تبعيض الحيضة فإذا صرنا إلى الشهور أمكن التنصيف فوجب المصير
إليه كما في عدة الوفاة ويصير هذا كالمحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مد أجزأه إخراجه فإن
91

أراد الصيام مكانه صام يوما كاملا. ولأنها عدة أمكن تنصيفها فكانت على النصف من عدة الحرة
كعدة الوفاة ولأنها معتدة بالشهور فكانت على النصف من عدة الحرة كالمتوفى عنها زوجها
(والرواية الثالثة ان عدتها ثلاثة أشهر وروي ذلك عن الحسن ومجاهد وعمر بن عبد العزيز
والنخعي ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك وهو القول الثالث للشافعي لعموم قوله تعالى (فعدتهن
ثلاثة أشهر) ولأنه استبراء للأمة الآيسة بالشهور فكان ثلاثة أشهر كاستبراء الأمة إذا ملكها أو مات
سيدها ولان اعتبار الشهور ههنا للعلم ببراءة الرحم ولا يحصل هذا بدون ثلاثة أشهر في الحرة والأمة
جميعا لأن الحمل يكون نطفة أربعين يوما وعلقة أربعين يوما ثم يصير مضغة ثم يتحرك ويعلو بطن المرأة
فيظهر الحمل وهذا معنى لا يختلف بالرق والحرية ولذلك كان استبراء الأمة في حق سيدها ثلاثة أشهر
ومن رد هذه الرواية قال هي مخالفة لاجماع الصحابة لأنهم اختلفوا على القولين الأولين ومتى اختلف
الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث لأنه يفضي إلى تخطئتهم وخروج الحق عن قول جميعهم ولا
يجوز ذلك ولأنها معتدة لغير الحمل فكانت دون عدة الحرة كذات القرء المتوفى عنها زوجها
(فصل) واختلف عن أحمد في السن الذي تصير به المرأة من الآيسات فعنه أوله خمسون سنة
لأن عائشة قالت لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد خمسين سنة. وعنه ان كانت من النساء العجم فخمسون
وان كانت من نساء العرب فستون لأنهن أقوى طبيعة، وقد ذكر الزبير بن بكار في كتاب النسب
أن هندا بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن
92

أبي طالب ولها ستون سنة. وقال: يقال إنه لن تلد بعد خمسين سنة الا عربية ولا تلد لستين الا
قرشية وللشافعي قولان (أحدهما) يعتبر السن الذي يتيقن انه إذا بلغته لم تحض، قال بعضهم هو اثنان
وستون سنة (والثاني) يعتبر السن الذي ييئس فيه نساء عشيرتها لأن الظاهر أن نشأها كنشئهن
وطبعها كطبعهن، والصحيح إن شاء الله انه متى بلغت المرأة خمسين سنة فانقطع حيضها عن عادتها
مرات لغير سبب فقد صارت آيسة لأن وجود الحيض في حق هذه نادر بدليل قول عائشة وقلة
وجوده فإذا انضم إلى هذا انقطاعه عن العادات مرات حصل اليأس من وجوده فلها حينئذ ان تعتد
بالأشهر، وان انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه على ما سنذكره إن شاء الله
، وان رأت الدم بعد الخمسين على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض في الصحيح لأن دليل
الحيض الوجود في زمن الامكان وهذا يمكن وجود الحيض فيه وإن كان نادرا، وان رأته بعد الستين
فقد تيقن انه ليس بحيض لأنه لم يوجد ذلك، قال الخرقي فإذا رأته بعد الستين فقد تيقن انه ليس بحيض
فعند ذلك لا تعتد به وتعتد بالأشهر كالتي لا ترى دما
(فصل) وأقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين لأن المرجع فيه إلى الوجود وقد وجد من تحيض
لتسع، وقد روي عن الشافعي أنه قال رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة فهذه إذا أسقطت من
93

عمرها مدة الحملين في الغالب عاما ونصفا وقسمت الباقي بينها وبين ابنتها كانت كل واحدة منهما قد
حملت لدون عشر سنين، فإن رأت دما قبل ذلك فليس بحيض لأنه لم يوجد من مثلها متكررا والمعتبر
من ذلك ما تكرر ثلاث مرات في حال الصحة ولم يوجد ذلك فلا يعتد به
(فصل) فإن بلغت سنا تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض كخمس عشرة سنة فعدتها ثلاثة أشهر
في ظاهر قول الخرقي وهو قول أبي بكر وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وضعف أبو بكر الرواية المخالفة
لهذا وقال رواها أبو طالب فخالف فيها أصحابه وذلك ما روى أبو طالب عن أحمد انها تعتد سنة، قال القاضي هذه
الرواية أصح لأنه متى أتى عليها زمان الحيض فلم تحض صارت مرتابة يجوز أن يكون بها حمل منع حيضها
فيجب ان تعتد بسنة كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده
ولنا قول الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر
واللائي لم يحضن) وهذه من اللائي لم يحضن ولأن الاعتبار بحال المعتدة لا بحال غيرها ولهذا لو حاضت
قبل بلوغ سن يحيض لمثله النساء في الغالب مثل ان تحيض ولها عشر سنين اعتدت بالحيض وفارق
من ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه فإنها من ذوات القروء وهذه لم تكن منهن
94

(مسألة) قال (وإذا طلقها طلاقا يملك فيه الرجعة وهي أمة فلم تنقض عدتها حتى
أعتقت بنت على عدة حرة وإن طلقها طلاقا لا يملك فيه الرجعة فأعتقت اعتدت عدة أمة)
هذا قول الحسن والشعبي والضحاك وإسحاق وأصحاب الرأي وهذا أحد أقوال الشافعي والقول
الثاني تكمل عدة أمة سواء كانت بائنا أو رجعية وهو قول مالك وأبي ثور لأن الحرية طرأت
بعد وجوب العدة عليها فلا يعتبر حكمها كما لو كانت بائنا أو كما لو طرأت بعد وجوب الاستبراء
ولأنه معنى يختلف بالرق والحرية فكان الاعتبار بحالة الوجوب كالحد. وقال عطاء والزهري
وقتادة تبني على عدة حرة بكر حال وهو القول الثالث للشافعي لأن سبب العدة الكاملة إذا وجد
في أثناء العدة انتقلت إليها وان كانت بائنا كما لو اعتدت بالشهور ثم رأت الدم
ولنا انها إذا عتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة تعتد عدة الوفاة لو مات فوجب
ان تعتد عدة الحرائر كما لو أعتقت قبل الطلاق وان أعتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في الزوجية
فلم تجب عليها عدة الحرائر كما لو أعتقت بعد مضي القرائن. ولان عدة الرجعية تنتقل إلى عدة الحرائر
كما لو انقضت عدتها وما ذكرناه لمالك يبطل بما إذا مات زوج الرجعية فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة
95

والفرق بين ما نحن فيه وبين ما إذا حاضت الصغيرة ان الشهور بدل عن الحيض فإذا وجد المبدل
زال حكم البدل كالمتيمم يجد الماء وليس كذلك ههنا فإن عدة الأمة ليست ببدل ولذلك تبني الأمة
على ما مضى من عدتها اتفاقا وإذا حاضت الصغيرة استأنفت العدة فافترق وتخالف الاستبراء فإن
الحرية لو قارنت سبب وجوبه لم تكمل الا ترى ان أم الولد إذا مات سيدها عتقت لموته ووجب
الاستبراء كما يجب على التي لم تعتق ولان الاستبراء لا يختلف بالرق والحرية بخلاف مسئلتنا
(فصل) إذا عتقت الأمة تحت العبد فاختارت نفسها اعتدت عدة الحرة لأنها بانت من
زوجها وهي حرة.
وقد روى الحسن ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بريرة ان تعتد عدة الحرة وان طلقها رجعيا فاعتقها
سيدها بنت على عدة الحرة سواء فسخت أو أقامت على النكاح لأنها عتقت في عدة رجعية وان لم تفسخ فراجعها
في عدتها فلها الخيار بعد رجعتها فإن اختارت الفسخ قبل المسيس فهل تستأنف العدة أم تبنى على ما مضى
من عدتها؟ على وجهين فإن قلنا تستأنف عدة حرة، وان قلنا تبني بنت على عدة حرة
96

" مسألة " قال (وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه؟
اعتدت سنة)
وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق امرأته وهي من ذوات الأقراء فلم تر الحيض في عادتها ولم
تدر ما رفعه؟ فإنها تعتد سنة تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة رحمها لأن هذه المدة هي غالب
مدة الحمل فإذا لم يبن الحمل فيها علم براءة الرحم ظاهرا فتعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر
هذا قول عمر رضي الله عنه قال الشافعي هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منهم منكر
علمناه وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن الحسن وقال الشافعي في قول آخر
تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد بثلاثة أشهر لأن هذه المدة هي التي يتيقن بها براءة
رحمها فوجب اعتبارها احتياطا
وقال في الجديد تكون في عدة ابدا حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس تعتد حينئذ بثلاثة أشهر
وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وطاوس والشعبي والنخعي والزهري أبي الزناد والثوري أبي
عبيد وأهل العراق لأن الاعتداد بالأشهر جعل بعد الإياس فلم يجز قبله وهذه ليست آيسة ولأنها
ترجو عود الدم فلم تعتد بالشهور كما لو تباعد حيضها لعارض
97

ولنا الاجماع الذي حكاه الشافعي ولان الغرض بالاعتداد معرفة براءة رحمها وهذا تحصل به
براءة رحمها فاكتفي به ولهذا اكتفي في حق ذات القرء بثلاثة قروء وفى حق الآيسة بثلاثة أشهر ولو
روعي اليقين لاعتبر أقصى مدة الحمل، ولان عليها في تطويل العدة ضررا فإنها تمنع من الأزواج وتحبس
دائما ويتضرر الزوج بايجاب السكنى والنفقة عليه وقد قال ابن عباس لا تطولوا عليها الشقة كفاها تسعة
أشهر، ان قيل فإذا مضت تسعة أشهر فقد علم براءة رحمها ظاهرا فلم اعتبرتم ثلاثة أشهر بعدها؟
قلنا الاعتداد بالقروء والأشهر إنما يكون عند عدم الحمل وقد تجب العدة مع العلم ببراءة الرحم بدليل
ما لو علق طلاقها بوضع الحمل فوضعته وقع الطلاق ولزمتها العدة.
(فصل) فإن عاد الحيض إليها في السنة ولو في آخرها لزمها الانتقال إلى القروء لأنها الأصل
فبطل بها حكم البدل، وان عاد بعد مضيها ونكاحها لم تعد إلى القروء لأن عدتها انقضت وحكمنا
بصحة نكاحها فلم تبطل كما لو اعتدت الصغيرة بثلاثة أشهر وتزوجت ثم حاضت، وان حاضت بعد
السنة وقبل نكاحها ففيه وجهان (أحدهما) لا تعود لأن العدة انقضت بالشهور فلم تعد كالصغيرة (والثاني)
تعود لأنها من ذوات القروء وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق زوجها بها فلزمها العود كما لو حاضت في السنة
(مسألة) قال (وان كانت أمة اعتدت بأحد عشر شهرا تسعة أشهر للحمل وشهران للعدة
هذه المسألة مبنية على أصلين (أحدهما) ان الحرة تعتد بسنة إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه؟
98

(الثاني) ان عدة الأمة الآيسة شهران فتتربص تسعة أشهر لأن مدة الحمل تتساوى فيها الحرة والأمة
لكونه أمرا حقيقيا فإذا يئست من الحمل اعتدت عدة الآيسة شهرين، وعلى الرواية التي جعل عدتها
شهرا ونصفا تكون عدتها عشرة أشهر ونصفا ومن جعلها ثلاثة أشهر فعدتها سنة كالحرة
(مسألة) قال وان عرفت ما رفع الحيض؟ كانت في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به الا
أن تصير من الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر من وقت تصير في عداد الآيسات)
أما إذا عرفت أن ارتفاع الحيض بعارض من مرض أو رضاع فإنها تنظر زوال العارض
وعود الدم وان طال إلا أن تصير في سن اليأس وقد ذكرناه فعند ذلك تعتد عدة الآيسات. وقد
روى الشافعي في مسنده باسناده عن حبان بن منقذ (1) انه طلق امرأته طلقة واحدة وكانت لها منه بنية ترضعها
فتباعد حيضها ومرض حبان فقيل له إنك ان مت ورثتك فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد بن ثابت
فسأله عن ذلك فقال عثمان لعلى وزيد ما تريان؟ فقالا نرى انها ان ماتت ورثها وان ماتت ورثته لأنها
ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض فرجع حبان إلى
أهله فانتزع البنت منها فعاد إليها الحيض فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة فورثها
عثمان رضي الله عنه، وروى الأثرم باسناده عن محمد بن يحيى بن حيان انه كانت عنده جده امرأتان

(1) حبان بن منقذ الأنصاري له صحبة روى عنه ابنه واسع بن حبان وهو بفتح الحاء
99

هاشمية وأنصارية فطلق الأنصارية وهي مرضع فمرت بها سنة ثم هلك ولم تحض فقالت الأنصارية
لم أحض فاختصموا إلى عثمان رضي الله عنه فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال هذا عمل ابن
عمك هو أشار علينا بهذا يعني علي ابن أبي طالب رضي الله عنه.
(مسألة) قال (وان حاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه لم
تنقض عدتها الا بعد سنة بعد انقطاع الحيض)
وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين
فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه تجلس تسعة أشهر فإذا لم يستبن بها حمل تعتد بثلاثة أشهر فذلك
سنة ولا نعرف له مخالفا. قال ابن المنذر قضى به عمر بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر
وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يطلق امرأته فتحيض حيضة ثم يرتفع حيضها قال
اذهب إلى حديث عمر إذا رفعت حيضتها فلم تدر مما ارتفعت فإنها تنتظر سنة قيل له فحاضت دون السنة
فقال ترجع إلى الحيضة قيل له فإن ارتفعت حيضتها أيضا لا تدر مما ارتفعت؟ قال تقعد سنة أخرى
وهذا قول كل من وافقنا في المسألة الأولى وذلك لأنها لما ارتفعت حيضتها حصلت مرتابة فوجب
ان تنتقل إلى الاعتداد بسنة كما لو ارتفع حيضها حين طلقها ووجب عليها سنة كاملة لأن العدة
100

لا تنبني على عدة أخرى ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم انتقلت إلى ثلاثة أشهر كاملة
ولو اعتدت الصغيرة شهرا أو شهرين ثم حاضت انتقلت إلى ثلاثة قروء
(فصل) فإن كانت عادة المرأة ان يتباعد ما بين حيضتيها لم تنقض عدتها حتى تحيض ثلاث
حيض وان طالت لأن هذه لم يرتفع حيضها ولم تتأخر عن عادتها فهي من ذوات القروء باقية على
عادتها فأشبهت من لم يتباعد حيضها ولا نعلم في هذا مخالفا
(فصل) في عدة المستحاضة لا تخلو اما أن يكون لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز أو لا تكون
كذلك فإن كان لها حيض محكوم به بذلك فحكمها فيه حكم غير المستحاضة إذا مرت لها ثلاثة
قروء فقد انقضت عدتها قال احمد المستحاضة تعتد أيام أقرائها التي كانت تعرف وان علمت أن
لها في كل شهر حيضة ولم تعلم موضعها فعدتها ثلاثة أشهر وان شكت في شئ تربصت حتى تستيقن
ان القروء الثلاث قد انقضت وان كانت مبتدأة لا تمييز لها أو ناسية لا تعرف لها وقتا ولا تمييزا
فعن أحمد فيها روايتان:
(إحداهما) ان عدتها ثلاثة أشهر وهو قول عكرمة وقتادة وأبي عبيد لأن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر حمنة بنت جحش ان تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة فجعل لها حيضة في كل شهر
101

تترك فيها الصلاة والصيام ويثبت فيها سائر أحكام الحيض فيجب ان تنقضي به العدة لأن
ذلك من أحكام الحيض
(والرواية الثانية) تعتد سنة بمنزلة من رفعت حيضتها لا تدري ما رفعها قال احمد إذا كانت
قد اختلطت ولم تعلم اقبال الدم وادباره اعتدت سنة لحديث عمر لأن به يتبين الحمل، وهو قول
مالك وإسحاق لأنها لم تتيقن لها حيضا مع أنها من ذوات القروء فكانت عدتها سنة كالتي ارتفع
حيضها، وعلى الرواية الأولى ينبغي ان يقال إننا متى حكمنا بأن حيضها سبعة أيام من كل شهر فمضى
لها شهران بالهلال وسبعة أيام من أول الثالث فقد انقضت عدتها وان قلقا القروء الأطهار فطلقها
في آخر شهر ثم مر لها شهران وهل الثالث انقضت عدتها وهذا مذهب الشافعي
(مسألة) قال (ولو طلقها وهي من اللائي لم يحضن فلم تنقض عدتها بالشهر حتى
حاضت استقبلت العدة بثلاث حيض ان كانت حرة وبحيضتين ان كانت أمة)
وجملته ان الصغيرة التي لم تحض أو البالغ التي لم تحض إذا اعتدت بالشهور فحاضت قبل انقضاء
عدتها ولو بساعة لزمها استئناف العدة في قول عامة علماء الأمصار منهم سعيد بن المسيب والحسن
ومجاهد وقتادة والشعبي والنخعي والزهري والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب
102

الرأي وأهل المدينة وأهل البصرة وذلك لأن الشهور بدل عن الحيض فإذا وجد المبدل بطل حكم
البدل كالتيمم مع الماء ويلزمها ان تعتد بثلاث حيض ان قلنا القروء الحيض وان قلنا القروء الأطهار
فهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرءا؟ فيه وجهان.
(إحداهما) تعتد به لأنه طهر انتقلت منه إلى حيض فأشبه الطهر بين الحيضتين (والثاني) لا
تعتد به وهو ظاهر كلام الشافعي لأن القرء هو الطهر بين حيضتين وهذا لم يتقدمه حيض فلم يكن
قرءا فأما ان انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت بعدها ولو بلحظة لم يلزمها استئناف العدة لأنه
معنى حدث بعد انقضاء العدة كالتي حاضت بعد انقضاء العدة بزمن طويل ولا يمكن منع هذا الأصل
لأنه لو صح منعه لم يحصل لمن لم تحض الاعتداد بالشهور بحال
(فصل) ولو حاضت حيضة أو حيضتين ثم صارت من الآيسات استأنفت العدة بثلاثة أشهر
لأن العدة لا تلفق من جنسين وقد تعذر اتمامها بالحيض فوجب تكميلها بالأشهر وان ظهر بها حمل
من الزوج سقط حكم ما مضى وتبين ان ما رأته من الدم لم يكن حيضا لأن الحامل لا تحيض ولو
حاضت ثلاث حيض ثم ظهر حمل لأقل من ستة أشهر منذ انقضت الحيضة الثالثة تبينا ان الدم
ليس بحيض لأنها كانت حاملا مع رؤية الدم والحامل لا تحيض ولو حاضت ثلاث حيض ثم ظهر
بها حمل يمكن أن يكون حادثا بعد قضاء العدة بان تأتي به لستة أشهر منذ فرغت من عدتها لم تلحق بالزوج
103

وحكمنا بصحة الاعتداد وكان هذا الولد حادثا وان أتت به لدون ذلك تبينا ان الدم ليس بحيض
لأنه لا يجوز وجوده في مدة الحمل
(فصل) وإذا ارتابت المعتدة ومعناه ان ترى امارات الحمل من حركة أو نفخة ونحوهما وشكت
هل هو حمل أم لا؟ فلا تخلو من ثلاثة أحوال:
(أحدهما) ان تحدث به الريبة قبل انقضاء عدتها فإنما تبقى في حكم الاعتداد حتى تزول الريبة
فإن بان حملا انقضت عدتها بوضعه فإن زالت وبان انه ليس بحمل تبينا ان عدتها انقضت بالقروء
أو الشهور فإن زوجت قبل زوال الريبة فالنكاح باطل لأنها تزوجت وهي في حكم المعتدات في الظاهر
ويحتمل انه إذا تبين عدم الحمل انه يصح النكاح لأنا تبينا انها تزوجت بعد انقضاء عدتها
(الثاني) ان تظهر الريبة بعد قضاء عدتها والتزوج فالنكاح صحيح لأنه وجد بعد قضاء العدة ظاهرا
والحمل مع الريبة مشكوك فيه ولا يزل به ما حكم بصحته لكن لا يحل لزوجها وطؤها لأننا شككنا
في صحة النكاح ولأنه لا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر ان يسقي ماءه زرع غيره ثم ننظر فإن
وضعت الولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ووطئها فنكاحه باطل لأنه نكحها وهي حامل
وان أتت به لأكثر من ذلك فالولد لاحق به ونكاحه صحيح
(الحال الثالث) ظهرت الريبة بعد قضاء العدة وقبل النكاح ففيه وجهان (أحدهما) لا يحل لها
104

ان تتزوج وان تزوجت فالنكاح باطل لأنها تتزوج مع الشك في انقضاء العدة فلم يصح كما لو
وجدت الريبة في العدة ولأننا لو صححنا النكاح لوقع موقوفا ولا يجوز كون النكاح موقوفا، ولهذا
لو أسلم وتخلفت امرأته في الشرك لم يجز ان تتزوج أختها لأن نكاحها يكون موقوفا على اسلام
الأولى (والثاني) يحل لها النكاح ويصح لأننا حكمنا بانقضاء العدة وحل النكاح وسقوط
النفقة والسكنى فلا يجوز زوال ما حكم به بالشك الطارئ، ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير
اجتهاده ورجوع الشهود
(فصل) وإذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها أخرجت بالقرعة وعليها العدة دون غيرها وتحسب
عدتها من حين طلق لا من حين القرعة وان طلق واحدة بعينها وأنسبها ففي قول أصحابنا الحكم فيها
كذلك والصحيح انه يحرم عليه الجميع فإن مات فعلى الجميع الاعتداد بأقصى الأجلين من عدة الطلاق
والوفاة لأن النكاح كان ثابتا بيقين وكل واحدة منهن يجوز أن تكون هي المطلقة وأن تكون زوجا فوجب
أقصى الأجلين إن كان الطلاق بائنا ليسقط الفرض بيقين كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه أن
يصلى خمس صلوات، لكن ابتداء القرء من حين طلق وابتداء عدة الوفاة من حين الموت وهذا مذهب
الشافعي، وان طلق الجميع ثلاثا بعد ذلك فعليهن كلهن تكميل عدة الطلاق من حين طلقهن ثلاثا، وان
طلق ثلاثا وأنسبهن فهو كما لو طلق واحدة
105

" مسألة " قال ولو مات عنها وهو حر أو عبد قبل الدخول أو بعده انقضت عدتها
لتمام أربعة أشهر وعشر ان كانت حرة ولتمام وشهرين وخمسة أيام ان كانت أمة
أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر مدخولا بها أو غير
مدخول بها سواء كانت كبيرة بالغة أو صغيرة لم تبلغ وذلك لقوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر أن تحد على ميت فرق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " متفق عليه
فإن قيل ألا حملتم الآية على المدخول بها كما قلتم في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء) قلنا إنما خصصنا هذه بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن
من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها) ولم يرد تخصيص عدة الوفاة ولا أمكن قياسها
على المطلقة في التخصيص لوجهين) (أحدهما) ان النكاح عقد عمر فإذا مات انتهى والشئ إذا انتهى
تقررت أحكامه كتقرر أحكام الصيام بدخول الليل وأحكام الإجارة بانقضائها والعدة من أحكامه
(الثاني) ان المطلقة إذا أتت بولد يمكن الزوج تكذيبها ونفيه باللعان وهذا ممتنع في حق الميت فلا
106

يؤمن أن تأتي بولد فيلحق الميت نسبه وماله من ينفيه فاحتطنا بايجاب العدة عليه لحفظها من التصرف
والمبيت في غير منزلها حفظا لها
إذا ثبت هذا فإنه لا يعتبر وجود الحيض في عدة الوفاة في قول عامة أهل العلم، وحكي عن مالك
انها إذا كانت مدخولا بها وجب أربعة أشهر وعشر فبها حيضة، واتباع الكتاب والسنة أولى،
ولأنه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر ثلاثة قروء كالمطلقة وهذا الخلاف يختص بذات القروء، فأما
الآيسة والصغيرة فلا خلاف فيها، وأما الأمة المتوفى عنها زوجها فعدتها شهران وخمسة أيام في قول
عامة أهل العلم منهم سعيد بن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار والزهري وقتادة ومالك والثوري
والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم إلا ابن سيرين فإنه قال ما أرى عدة الأمة إلا
كعدة الحرة إلا أن تكون قد مضت في ذلك سنة فإن السنة أحق أن تتبع وأخذ بظاهر النص وعمومه
ولنا اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أن عدة الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة فكذلك عدة الوفاة
(فصل) والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها فتجب عشرة أيام مع الليل وبهذا قال
مالك والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي يجب عشر ليالي وتسعة أيام
لأن العشر تستعمل في الليالي دون الأيام وإنما دخلت الأيام اللاتي في أثناء الليالي تبعا قلنا العرب
تغلب اسم التأنيث في العدد خاصة على المذكر فتطلق لفظ الليالي وتريد الليالي بأيامها كما قال الله تعالى
107

لزكريا (آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) يريد أيامها بدليل أنه قال في موضع آخر (آيتك
أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام الا رمزا يريد بلياليها ولو نذر اعتكاف العشر الأخير من رمضان لزمه الليالي
والأيام، ويقول القائل: سرنا عشرا، يريد الليالي بأيامها، فلم يجز نقلها عن العدة إلى الإباحة بالشك
(فصل) وإذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بلا خلاف، قال ابن المنذر
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك وذلك لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه
فاعتدت للوفاة كغير المطلقة، وان مات مطلق البائن في عدتها بنت على عدة الطلاق إلا أن يطلقها
في مرض موته فإنها تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء نص على هذا أحمد وبه قال
الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وقال مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر تبني على عدة
الطلاق لأنه مات وليست زوجة له لأنها بائن من النكاح فلا تكون منكوحة
ولنا انها وارثة له فيجب عليها عدة الوفاة كالرجعية وتلزمها عدة الطلاق لما ذكروه في دليلهم وان مات المريض
المطلق بعد انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كل طلاقه قبل الدخول فليس عليها عدة لموته، وقال
القاضي عليهن عدة الوفاة إذا قلنا يرثنه لأنهن يرثنه بالزوجية فتجب عليهن عدة الوفاة كما لو مات بعد الدخول وقبل
قضاء العدة، ورواه أبو طالب عن أحمد في التي انقضت عدتها، وذكر ابن أبي موسى فيها روايتين،
والصحيح انها لا عدة عليها لأن الله تعالى قال (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن
108

فمالكم عليهن من عدة تعتدونها) وقال (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقال واللائي
يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) فلا يجوز تخصيص
هذه النصوص بالتحكم ولأنها أجنبية تحل للأزواج ويحل المطلق نكاح أختها وأربع سواها فلم تجب
عليها عدة لموته كما لو تزوجت، وتخالف التي مات في عدتها فإنها لا تحل لغيره في هذا الحال ولم تنقض عدتها
ولا نسلم انها ترثه فإنها لو ورثته لا أفضى إلى أن يرث الرجل ثماني زوجات فاما إن تزوجت إحدى
هؤلاء فلا عدة عليها بغير خلاف نعلمه ولا ترثه أيضا وان كانت المطلقة البائن لا ترث كالأمة أو الحرة
يطلقها العبد أو الذمية يطلقها المسلم والمختلعة أو فاعلة ما يفسخ نكاحها لم نلزمها عدة سواء مات زوجها
في عدتها أو بعدها على قياس قول أصحابنا فهم عللوا نقلها إلى عدة الوفاة بإرثها وهذه ليست وارثة
فأشبهت المطلقة في الصحة وأما المطلقة في الصحة إذا كانت بائنا فمات زوجها فإنها تبني على عدة الطلاق
ولا تعتد للوفاة وهذا قول مالك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر وقال الثوري وأبو حنيفة
عليها أطول الأجلين كما لو طلقها في مرض موته
ولنا قوله سبحانه (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ولأنها أجنبية منه في نكاحه وميراثه
والحل له ووقوع طلاقه وظهاره وتحل له أختها وأربع سواها فلم تعتد لوفاته كما لو انقضت عدتها،
وذكر القاضي في المطلقة في المرض انها إذا كانت حاملا تعتد أطول الأجلين، وليس هذا بشئ
109

لأن وضع الحمل تنقضي به كل عدة، ولا يجوز أن يجب عليها الاعتداد بغير الحمل على ما نذكره في
المسألة التي تلي هذا إن شاء الله تعالى
(مسألة) قال (ولو طلقها أو مات عنها وهي حامل منه لم تنقض عدتها الا بوضع
الحمل أمة كانت أو حرة)
أجمع أهل العلم في جميع الأعصار على أن المطلقة الحامل تنقضي عدتها بوضع حملها وكذلك كل
مفارقة في الحياة وأجمعوا أيضا على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا أجلها وضع حملها إلا ابن
عباس، وروي عن علي من وجه منقطع انها تعتد بأقصى الأجلين، وقاله أبو السنابل بن بعكك في
حياة النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله وقد روي عن ابن عباس أنه رجع إلى قول الجماعة لما
بلغه حديث سبيعة وكره الحسن والشافعي أن تنكح في دمها ويحكى عن حماد وإسحاق أن عدتها لا تنقضي
حتى تطهر وأبى سائر أهل العلم هذا القول، وقالوا لو وضعت بعد ساعة من وفاة زوجها حل لها أن تتزوج
ولكن لا يطؤها زوجها حتى تطهر من نفاسها وتغتسل وذلك لقول الله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن
حملهن) وروي عن أبي بن كعب قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) للمطلقة ثلاثا أو
110

للمتوفى عنها؟ قال " هي للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها " وقال ابن مسعود من شاء الله باهلته أو لاعنته ان الآية
التي في سورة النساء القصرى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) نزلت بعد التي في سورة
البقرة (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) يعني ان هذه الآية هي الأخيرة فتقدم على ما خالفها
من عموم الآيات المتقدمة ويخص بها عمومها
وروى عبد الله بن الأرقم ان سبيعة الأسلمية أخبرته انها كانت تحت سعد بن خولة وتوفي عنها
في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب ان وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب
فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ انك والله ما أنت بناكح
حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي فأمرني بالتزويج ان بدا لي
متفق عليه، قال ابن عبد البر هذا حديث صحيح قد جاء من وجوه شتى كلها ثابتة إلا ما روي عن
111

ابن عباس وروي عن علي من وجه منقطع، ولأنها معتدة حامل فتنقضي عدتها بوضعه كالمطلقة، يحققه
ان العدة أنما شرعت لمعرفة براءتها من الحمل ووضعه أدل الأشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي العدة
ولأنه لا خلاف في بقاء العدة ببقاء الحمل فوجب أن تنقضي به كما في حق المطلقة
(فصل) وإذا كان الحمل واحدا انقضت العدة بوضعه وانفصال جميعه، وان ظهر بعضه فهي
في عدتها حتى ينفصل باقيه لأنها لا تكون واضعة لحملها ما لم يخرج كله وإن كان الحمل اثنين أو أكثر لم
تنقض عدتها إلا بوضع لآخر لأن الحمل هو الجمع، هذا قول جماعة أهل العلم إلا أبا قلابة وعكرمة
فإنهما قالا تنقضي عدتها بوضع الأول ولا تتزوج حتى تضع الآخر
وذكر ابن أبي شيبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال إذا وضعت أحدهما فقد انقضت عدتها، قيل له
فتتزوج؟ قال لا قال قتادة خصم العبد، وهذا قول شاذ يخالف ظاهر الكتاب وقول أهل العلم والمعنى
فإن العدة شرعت لمعرفة البراءة من الحمل فإذا علم وجود الحمل فقد تيقن وجود الموجب للعدة
112

وانتفت البراءة الموجبة لانقضائها ولأنها لو انقضت عدتها بوضع الأول لأبيح لها النكاح كما لو
وضعت الآخر فإن وضعت ولدا وشكت في وجود ثان لم تنقض عدتها حتى تزول الريبة وتتيقن انها لم
يبق معها حمل لأن الأصل بقاؤها فلا يزول بالشك
(مسألة) قال (والحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شئ من خلق الانسان
حرة كانت أو أمة)
وجملة ذلك أن المرأة إذ ألقت بعد فرقة زوجها شيئا لم يخل من خمسة أحوال (أحدها) أن
تضع ما بان فيه خلق الآدمي من الرأس واليد والرجل فهذا تنقضي به العدة بلا خلاف بينهم. قال
ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط إذا علم أنه ولد.
وممن نحفظ عنه ذلك الحسن وابن سيرين وشريح والشعبي والنخعي والزهري والثوري ومالك
والشافعي وأحمد وإسحاق
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله إذا نكس في الخلق الرابع؟ يعني تنقضي به العدة فقال إذا نكس
في الخلق الرابع فليس فيه اختلاف ولكن إذا تبين خلقه هذا أدل وذلك لأنه إذا بان فيه شئ من
خلق الآدمي علم أنه حمل فيدخل في عموم قوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)
113

(الحال الثاني) ألقت نطفة أو دما لا تدري هل هو ما يخلق منه الآدمي أولا فهذا لا يتعلق
به شئ من الأحكام لأنه لم يثبت انه ولد لا بالمشاهدة ولا بالبينة
(الحال الثالث) ألقت مضغة لم تبن الخلقة فشهد ثقات من القوابل ان فيه صورة خفية
بان بها انها خلقة آدمي فهذا في حكم الحال الأول لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة انه ولد
(الحال الرابع) إذا ألقت مضغة لا صورة فيها فشهد ثقات من القوابل انه مبتدأ خلق آدمي
فاختلفت عن أحمد فنقل أبو طالب ان عدتها لا تنقضي به ولا تصير به أم ولد لأنه لم يبن فيه خلق آدمي
فأشبه الدم وقد ذكر هذا قولا للشافعي وهو اختيار أبي بكر
ونقل الأثرم عن أحمد أن عدتها لا تنقضي به ولكن تصير أم ولد لأنه مشكوك في كونه ولدا
فلم يحكم بانقضاء العدة المتبقية بأمر مشكوك فيه ولم يجز بيع الأمة الوالدة له مع الشك في رقها فيثبت
كونها أم ولد احتياطا ولا تنقضي العدة احتياطا، ونقل حنبل أنها تصير أم ولد ولم يذكر العدة
فقال بعض أصحابنا على هذا تنقضي به العدة وهو قول الحسن وظاهر مذهب الشافعي لأنهم
شهدوا بأنه خلقة آدمي أشبه ما لو تصور. والصحيح ان هذا ليس برواية في العدة لأنه لم يذكرها
ولم يتعرض لها.
(الحال الخامس) أن تضع مضغة لا صورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدمي فهذا لا
114

تنقضي به عدة ولا تصير به أم ولد لأنه لم يثبت كونه ولدا ببينة ولا مشاهدة فأشبهه العلقة فلا تنقضي
العدة بوضع ما قبل المضغة بحال سواء كان نطفة أو علقة وسواء قيل إنه مبتدأ خلق آدمي أو لم يقل نص عليه
أحمد فقال أما إذا كان علقة فليس بشئ إنما هي دم لا تنقضي به عدة ولا تعتق به أمة ولا نعلم
مخالفا في هذا الا الحسن فإنه قال إذا علم أنها حمل انقضت به العدة وفيه الغرة، والأول أصبح وعليه
الجمهور، وأقل ما تنقضي به العدة من الحمل ان تضعه بعد ثمانين يوما منذ أمكنه وطؤها لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " ان خلق أحدكم ليجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون
مضغة مثل ذلك " ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن تكون بعد الثمانين فاما بعد الأربعة أشهر
فليس فيه اشكال لأنه منكس في الخلق الرابع
(فصل) وأقل مدة الحمل سته أشهر لما روى الأثرم باسناده عن أبي الأسود انه رفع إلى عمر
ان امرأة ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فقال له علي ليس لك ذلك قال الله تعالى (والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين) وقال تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) فحولان وستة أشهر
ثلاثون شهرا لا رجم عليها فخلى عمر سبيلها وولدت مرة أخرى لذلك الحد ورواه الأثرم أيضا
عن عكرمة ان ابن عباس قال ذلك قال عاصم الأحول فقلت لعكرمة انا بلغنا ان عليا قال هذا فقال
عكرمة لا ما قال هذا الا ابن عباس وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة
أشهر وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم
115

(مسألة) قال (ولو طلقها أو مات عنها فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته
بأربع سنين لحقه الولد وانقضت عدتها به)
ظاهر المذهب ان أقصى مدة الحمل أربع سنين، به قال الشافعي وهو المشهور عن مالك وروي
عن أحمد أن أقصى مدته سنتان وروي ذلك عن عائشة وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة لما روت جميلة
بنت سعد عن عائشة لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل ولان التقدير إنما يعلم بتوقيف أو اتفاق
ولا توقيف ههنا ولا اتفاق إنما هو على ما ذكر وقد وجد ذلك فإن الضحاك بن مزاحم وهرم بن
حيان حملت أم كل واحد منهما به سنتين وقال الليث أقصاه ثلاث سنين حملت مولاة لعمر بن
عبد الله ثلاث سنين وقال عباد بن العوام خمس سنين وعن الزهري قال قد تحمل المرأة ست سنين وسبع
سنين وقال أبو عبيد ليس لأقصاه وقت يوقف عليه
ولنا أن مالا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود وقد وجد الحمل لأربع سنين فروى الوليد بن مسلم
قال قلت لمالك بن أنس حديث جميلة بنت سعد عن عائشة لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل قال
مالك سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد وقال
الشافعي بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين وقال احمد نساء بني عجلان يحملن أربع سنين
116

وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين وبقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن
ابن علي في بطن أمه أربع سنين وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي حكى ذلك أبو الخطاب وإذا تقرر
وجوده وجب أن يحكم به ولا يزاد عليه لأنه ما وجد ولان عمر ضرب لامرأة المفقود أربع سنين
ولم يكن ذلك الا لأنه غاية الحمل، وروي ذلك عن عثمان وعلي وغيرهما. إذا ثبت هذا فإن المرأة
إذا ولدت لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه ولم تكن تزوجت ولا وطئت ولا
انقضت عدتها بالقروء ولا بوضع الحمل فإن الولد لاحق بالزوج وعدتها منقضية به
(فصل) وان أتت بالولد لأربع سنين منذ مات أو بانت منه بطلاق أو فسخ أو انقضاء
عدتها ان كانت رجعية لم يلحقه ولدها لأننا نعلم أنها علقت به بعد زوال النكاح والبينونة منه
وكونها قد صارت منه أجنبية فأشبهت سائر الأجنبيات. ومفهوم كلام الخرقي أن عدتها لا تنقضي
به لأنه لا ينتفي عنه بغير لعان فلم تنقض عدتها منه بوضعه كما لو أتت به لأقل من ستة أشهر منذ
نكحها. قال أبو الخطاب هل تنقضي به العدة؟ على وجهين
وذكر القاضي أن عدتها تنقضي به وهو مذهب الشافعي لأنه ولد يمكن أن يكون منه بعد نكاحه
بأن يكون قد وطئها بشبهة أو جدد نكاحها فوجب أن تنقضي به العدة، وان لم يلحق به كالولد
المنفي باللعان وبهذا فارق الذي أتت به لأقل من ستة أشهر فإن ينتفي عنه يقينا ثم ناقضوا قولهم
117

فقالوا لو تزوجت في عدتها وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين دخل بها الثاني ولاكثر من
أربع سنين من حين بانت من الأول فالولد منتف عنهما ولا تنقضي عدتها بوضعه عن واحد منهما
وهذا أصح فإن احتمال كونه منه لم يكف في اثبات نسب الولد منه مع أنه يثبت بمجرد الامكان
فلان لا يكفي في انقضاء العدة أولى وأحرى، وما ذكروه منتقض بما سلموه وما ذكروه من الفرق بين
هذا وبين الذي أتت به لأقل من ستة أشهر غير صحيح فإنه يحتمل أن يكون أصابها قبل نكاحها
بشبهة أو بنكاح غير هذا النكاح الذي أتت بالولد فيه فاستويا.
وأما المنفي باللعان فانا نفينا الولد عن الزوج بالنسبة إليه ونفينا حكمه في كونه منه بالنسبة إليها
حتى أوجبنا الحد على قاذفها وقاذف ولدها وانقضاء عدتها من الأحكام المتعلقة بها دونه فثبتت
(فصل) وان أقرت المرأة بانقضاء عدتها بالقروء ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا من بعد انقضائها
لم يلحق نسبه بالزوج، وبه قال أبو حنيفة وابن سريج وقال مالك والشافعي يلحق به ما لم تتزوج أو
يبلغ أربع سنين وكلام الخرقي يحتمل ذلك فإنه أطلق قوله إذا أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع
سنين لحقه الولد وذلك لأنه ولد يمكن كونه منه وليس معه من هو أولى منه ولا من يساويه فوجب
أن يلحق به كما لو أتت به بعد عقد النكاح
ولنا أنها أتت به بعد الحكم بقضاء عدتها وحل النكاح لها بمدة الحمل فلم يلحق به كما لو أتت
118

به بعد انقضاء عدتها بوضع حملها لمدة الحمل وإنما يعتبر الامكان مع بقاء النكاح أو آثاره وقد زال
ذلك، وان انقضت عدتها بالشهور ثم أتت بولد لدون أربع سنين لحقه نسبه لأنها ان كانت تدعي
الإياس تبينا كذبها فإن من تحمل ليست بآيسة وان كانت من اللائي لم يحضن أو متوفى عنها
لحقه ولدها لأنه لا يوجد في حقها ما ينافي كونها حاملا
(فصل) وإذا مات الصغير الذي لا يولد لمثله عن زوجته فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض
العدة بوضعه، وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة ان مات وبها حمل ظاهر اعتدت عنه بالوضع
فإن ظهر الحمل بها بعد موته لم تعتد به
وقد روي عن أحمد في الصبي مثل قول أبي حنيفة وذكره ابن أبي موسى قال أبو الخطاب
وفيه بعد وهكذا الخلاف فيما إذا تزوج بامرأة ودخل بها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين عقد
النكاح فإنها لا تعتد بوضعه عندنا، وعنده تعتد به واحتج بقوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن
أن يضعن حملهن) ولنا أن هذا حمل منفي عنه يقينا فلم تعتد بوضعه كما لو ظهر بعد موته والآية واردة في المطلقات ثم هي
مخصوصة بالقياس الذي ذكرناه، إذا ثبت هذا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل من الوطئ الذي علقت به منه سواء
كان هذا الولد ملحقا بغير الصغير مثل أن يكون من عقد فاسد أو وطئ شبهة أو كان من زنا لا يلحق
بأحد لأن العدة تجب من كل وطئ فإذا وضعته اعتدت من الصبي بأربعة أشهر وعشر لأن العدتين من
رجلين لا يتداخلان، وان كانت الفرقة في الحياة بعد الدخول كزوجة كبير دخل بها ثم طلقها وأتت
119

بولد لدون ستة أشهر منذ تزوجها فإنها تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء وكذلك إذا طلق الخصي المجبوب
امرأته أو مات عنها فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض عدتها بوضعه وتنقضي به عدة الوطئ ثم
تستأنف عدة الطلاق أو عدة الوفاة على ما بيناه، وذكر القاضي ان ظاهر كلام أحمد أن الولد يلحق
به لأنه قد يتصور منه الانزال بأن يحك موضع ذكره بفرجها فينزل فعلى هذا القول يلحق به الولد
وتنقضي به العدة، والصحيح أن هذا لا يلحق به ولد لأنه لم تجر به عادة فلا يلحق به ولدها
كالصبي الذي لم يبلغ عشر سنين ولو تزوج امرأة في مجلس الحاكم ثم طلقها في المجلس أو تزوج
المشرقي بالمغربية ثم أتت بولد لا يمكن أن يكون منه بعد اجتماعهما بمدة الحمل فإنه لا يلحقه نسبه
ولا تنقضي العدة بوضعه
(مسألة) قال (ولو طلقها أو مات عنها فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها
فرق بينهما وبنت على ما مضى من عدة الأول ثم استقبلت العدة من الثاني)
وجملة الامر ان المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها اجماعا أي عدة كانت لقول الله تعالى (ولا
تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، ولأن العدة إنما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم لئلا يفضي
إلى اختلاط المياه وامتزاج الأنساب، وان تزوجت فالنكاح باطل لأنها ممنوعة من النكاح لحق
الزوج الأول فكان نكاحا باطلا كما لو تزوجت وهي في نكاحه ويجب أن يفرق بينه وبينها فإن لم
120

يدخل بها فالعدة بحالها ولا تنقطع بالعقد الثاني لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشا ولا يستحق عليه
بالعقد شئ وتسقط سكناها ونفقتها عن الزوج الأول لأنها ناشز، وان وطئها انقطعت العدة سواء
علم التحرير أو جهله، وقال أبو حنيفة لا تنقطع لأن كونها فراشا لغير من له العدة لا يمنعها كما لو
وطئت بشبهة وهي زوجة فإنها تعتد، وان كانت فراشا للزوج، وقال القاضي ان وطئها عالما بأنها
معتدة وانها تحرم فهو زان فلا تنقطع العدة بوطئه لأنها لا تصير به فراشا ولا يلحق به نسب،
وإن كان جاهلا انها معتدة أو بالتحريم انقطعت العدة بالوطئ لأنها تصير به فراشا، والعدة تراد
للاستبراء وكونها فراشا ينافي ذلك فوجب أن يقطعها فأما طريانه عليها فلا يجوز
ولنا أن هذا وطئ بشبهة نكاح فتنقطع به العدة كما لو جهل، وقولهم انها لا تصير به فرشا قلنا لكنه لا يلحق
نسب الولد الحادث من وطئه بالزوج الأول فهما شيئان إذا ثبت هذا فعليه فراقها فإن لم يفعل وجب التفريق
بينهما فإن فارقها أو فرق بينهما وجب عليها أن تكمل عدة الأول لأن حقه أسبق وعدته وجبت عن
وطئ في النكاح صحيح فإذا أكملت عدة الأول وجب عليها أن تعتد من الثاني ولا تتداخل العدتان
لأنهما من رجلين وهذا مذهب الشافعي
وقال أبو حنيفة يتداخلان فتأتي بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني تكون عن بقية عدة الأول وعدة
الثاني لأن القصد معرفة براءة الرحم وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعا
ولنا ما روى مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن طليحة كانت تحت
121

رشيد الثقفي فطلقها ونكحها غيره في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها ضربات
بمخفقة وفرق بينهما ثم قال أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها
فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها
فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبدا
وروى باسناده عن علي أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما
استحل من فرجها وتكمل ما أفسدت من عدة الأول وتعتد من الآخر وهذان قولا سيدين من
الخلفاء لم يعرف لهما في الصحابة مخالف ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين
واليمينين ولأنه حبس يستحقه الرجل على النساء فلم يجز أن تكون المرأة في حبس رجلين كحبس الزوجة
(مسألة) قال (وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين)
يعني للزوج الثاني أن يتزوجها بعد قضاء العدتين. فأما الزوج الأول فإن كان طلاقه ثلاثا لم
تحل له بهذا النكاح وان وطئ فيه لأنه نكاح باطل، وإن كان طلاقه دون الثلاث فله نكاحها
أيضا بعد العدتين، وان كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه
وعن أحمد رواية أخرى أنها تحرم على الزوج الثاني على التأبيد وهو قول مالك وقديم قولي
122

الشافعي لقول عمر لا ينكحها أبدا، ولأنه استعجل الحق قبل وقته فحرمه في وقته كالوارث إذا قتل
موروثه ولا يفسد النسب فيوقع التحريم المؤبد كاللعان
وقال الشافعي في الجديد له نكاحها بعد قضاء عدة الأول ولا يمنع من نكاحها في عدتها منه
ولأنه وطئ يلحق به النسب فلا يمنع من نكاحها في عدتها منه كالوطئ في النكاح ولأن العدة إنما
شرعت حفظا للنسب وصيانة للماء والنسب لاحق به ههنا فأشبه ما لو خالها ثم نكحها في عدتها
وهذا حسن موافق للنظر
ولنا على اباحتها بعد العدتين انه لا يخلو اما أن يكون تحريمها بالعقد أو بالوطئ في النكاح الفاسد
أو بهما وجميع ذلك لا يقتضي التحريم بدليل ما لو نكحها بلا ولي ووطئها ولأنه لو زنى بها لم تحرم
عليه على التأبيد فهذا أولى ولان آيات الإباحة عامة كقوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وقوله
(والمحصنات من المؤمنات) فلا يجوز تخصيصها بغير دليل. ما روي عن عمر في تحريمها فقد خالفه علي فيه.
وروي عن عمر أنه رجع عن قوله في التحريم إلى قول علي فإن عليا قال: إذا انقضت عدتها
فهو خاطب من الخطاب فقال عمر ردوا الجهالات إلى السنة ورجع إلى قول علي وقياسهم يبطل بما إذا
زنى بها فإنه قد استعجل وطأها ولا تحرم عليه على التأبيد، ووجه تحريمها قبل قضاء عدة الثاني عليه
123

قول الله تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) ولأنه وطئ يفسد به النسب
فلم يجز النكاح في العدة كوطئ الأجنبي
(فصل) وكل معتدة من غير النكاح الصحيح كالزانية والموطوءة بشهبة أو في نكاح فاسد
فقياس المذهب تحريم نكاحها على الواطئ وغيره، والأولى حل نكاحها لمن هي معتدة منه إن كان
يحلقه نسب ولدها لأن العدة لحفظ مائه وصيانة نسبه ولا يصان ماؤه المحترم عن مائه المحترم ولا
يحفظ نسبه عنه ولذلك أبيح للمختلعة نكاح من خالعها ومن لا يلحق نسب ولدها كالزانية لا يحل له
نكاحها لأن نكاحها يفضي إلى اشتباه النسب فالواطئ كغيره في أن الولد لا يلحق نسبه بواحد منهما
(مسألة) قال (وان أتت بولد يمكن أن يكون منهما أري القافة وألحق بمن ألحقوه
منهما وانقضت عدتها منه واعتدت للآخر)
وجملته انها إذا كانت حاملا انقضت عدتها منه بوضع حملها لقوله سبحانه (وأولات الأحمال
أجلهن أن يضمن حملهن) ثم ننظر فإن كان يمكن أن يكون من الأول دون الثاني وهو أن تأتي به
لدون ستة أشهر من وطئ الثاني وأربع سنين فما دونها من فراق الأول فإنه يلحق بالأول وتقتضي
عدتها به منه بوضعه ثم تعتد بثلاثة قروء عن الثاني، وان أمكن كونه من الثاني دون الأول وهو أن
124

تأتي به لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطئ الثاني ولاكثر من أربع سنين منذ بانت من
الأول فهو ملصق بالثاني دون الأول فتنقضي به عدتها من الثاني ثم تتم عدة الأول وتقدم عدة
الثاني ههنا على عدة الأول لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من انسان والعدة من غيره. وان أمكن أن
يكون منهما وهو أن تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطئ الثاني ولأربع سنين فما دونها من بينونتها
من الأول أري القافة ألحقته بالأول لحق به كما لو أمكن أن يكون منه دون الثاني وان ألحقته
بالثاني لحق به وكان الحكم كما لو أمكن كونه من الثاني دون الأول. فإن أشكل أمره على القافة أو
لم تكن قافة لزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء، لأنه إن كان من الأول فقد أتت بما عليها من
عدة الثاني وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول ليسقط الفرض بيقين. فأما الولد فقال
أبو بكر: يضيع نسبه لأنه لا دليل على نسبته إلى واحد منهما فأشبه ما لو كان مجنونا لم ينسب إلى
واحد منهما. وقال أبو عبد الله بن حامد يترك حتى يبلغ فينتسب إلى أحدهما. وان ألحقته القافة بهما
لحق بهما. ومقتضى المذهب أن تنقضي عدتها به منهما جميعا لأن نسبه ثبت منهما كما تنقضي عدتها به
من الواحد الذي يثبت نسبه منهما
وان نفته القافة عنهما فحكمه حكم ما لو أشكل أمره وتعتد بعد وضعه بثلاثة قروء ولا ينتفي
عنهما بقول القافة لأن عمل القافة في ترجيح أحد صاحبي الفراش لافي النفي عن الفراش كله ولهذا لو
كان صاحب الفراش واحدا فنفته القافة عنه لم ينتف عنه بقولها
فأما ان ولدت ستة أشهر من وطئ الثاني ولاكثر من أربع سنين من فراق الأول لم
125

يلحق بواحد ومنهما ولا تنقضي به عدتها منه لأننا نعلم أنه من وطئ آخر فتنقضي به عدتها من ذلك
الوطئ ثم تتم عدة الأول وتستأنف عدة الثاني لأنه قد وجد ما يقتضي عدة ثالثة وهو الوطئ الذي
حملت منه فتجب عليها عدتان واتمام العدة الأولى
(فصل) وإذا تزوج معتدة وهما عالمان بالعدة وتحريم النكاح فيها ووطئها فهما زانيان
عليهما حد لزنا ولا مهر لها ولا يلحقه النسب. وان كانا جاهلين بالعدة أو بالتحريم ثبت النسب
وانتفى الحد ووجب المهر. وان علم هو دونها فعليه الحد والمهر ولا نسب له. وان علمت هي دونه
فعليها الحد ولا مهر لها والنسب لاحق به وإنما كان كذلك لأن هذا نكاح متفق على بطلانه فأشبه
نكاح ذوات محارمه
(فصل) وإذا خالع الرجل زوجته أو فسخ نكاحه فله ان يتزوجها في عدتها في قول جمهور
الفقهاء وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والزهري والحسن وقتادة ومالك والشافعي
وأصحاب الرأي وشذ بعض المتأخرين فقال لا يحل له نكاحها ولا خطبتها لأنها معتدة
ولنا ان العدة لحفظ نسبه وصيانة مائه ولا يصان ماؤه عن مائه إذا كانا من نكاح صحيح فإذا
تزوجها انقطعت العدة لأن المرأة تصير فراشا له بعقدة ولا يجوز أن تكون زوجة معتدة فإن
وطئها ثم طلقها لزمتها عدة مستأنفة ولا شئ عليها من الأول لأنها قد انقطعت وارتفعت وان طلقها
قبل ان يمسها فهل تستأنف العدة أو تبني على ما مضى؟ قال القاضي فيه روايتان (إحداهما) تستأنف
وهو قول أبي حنيفة لأنه طلاق لا يخلو من عدة فأوجب عدة مستأنفة كالأول (والثانية) لا يلزمها
استئناف عدة وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأنه طلاق في نكاح قبل المسيس فلم يوجب
عدة لعموم قوله سبحانه (ثم طلقتموهن من قبل ان تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها
126

وذكر القاضي في كتاب الروايتين أنه لا يلزمها استئناف العدة رواية واحدة لكن يلزمها اتمام
بقية العدة الأولى لأن اسقاطها يفضي إلى اختلاط المياه لأنه يتزوج امرأة ويطؤها ويخلعها ثم يتزوجها
ويطلقها في الحال ويتزوجها الثاني في يوم واحد، فإن خلعها حاملا ثم تزوجها حاملا ثم طلقها وهي
حامل انقضت عدتها بوضع الحمل على كلتا الروايتين ولا نعلم فيه مخالفا ولا تنقضي عدتها قبل وضعها بغير
خلاف نعلمه، وان وضعت حملها قبل النكاح الثاني فلا عدة عليها للطلاق من النكاح الثاني بغير خلاف
أيضا لأنه نكحها بعد قضاء عدة الأول، وان وضعته بعد النكاح الثاني وقبل طلاقه فمن قال يلزمها استئناف
عدة أوجب عليها الاعتداد بعد طلاق الثاني بثلاثة قروء ومن لا يلزمها استئناف عدة لم يوجب عليها
ههنا عدة لأن العدة الأولى انقضت بوضع الحمل إذ لا يجوز ان تعتد الحامل بغير، وضعه وان كانت
من ذوات القروء أو الشهور فنكحها الثاني بعد مضي قرء أو شهر ثم مضى قرآن أو شهران قبل طلاقه
من النكاح الثاني فقد انقطعت العدة بالنكاح الثاني فإن قلنا تستأنف العدة فعليها عدة تامة بثلاثة
قروء أو ثلاثة أشهر وان قلنا تبني أتمت العدة الأولى بقرأين أو شهرين
(فصل) وان طلقها رجعيا ثم ارتجعها في عدتها ووطئها ثم طلقها انقطعت العدة الأولى
برجعته لأنه زال حكم الطلاق وتستأنف عدة من الطلاق الثاني لأنه طلاق من نكاح اتصل به
المسيس وان طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف عدة أو تبني على العدة الأولى فيه روايتان (أولاهما) أنها
127

تستأنف لأن الرجعة أزالت شعث الطلاق الأول وردتها إلى النكاح الأول فصار الطلاق الثاني
طلاقا من نكاح اتصل به المسيس والثانية تبني لأن الرجعة لا تزيد على النكاح الجديد، ولو نكحها ثم
طلقها قبل المسيس لم يلزمها لذلك الطلاق عدة فكذلك الرجعة، فإن فسخ نكاحها قبل الرجعة بخلع
أو غيره احتمل أن يكون حكمه حكم الطلاق لأن موجبه في العدة موجب الطلاق ولا فرق بينهما
واحتمل أن تستأنف العدة لأنهما جنسان بخلاف الطلاق وان لم يرتجعها بلفظه لكن وطئها في
عدتها فهل تحصل بذلك رجعة أولا؟ فيه روايتان
(إحداهما) تحصل به الرجعة فيكون حكمها حكم من ارتجعها بلفظه ثم وطئها سواء (والثانية)
لا تحصل الرجعة به ويلزمها استئناف عدة لأنه وطئ في نكاح تشعث فهو كوطئ الشبهة، وتدخل
بقية عدة الطلاق فيها لأنهما من رجل واحد، وان حملت من هذا الوطئ فهل تدخل فيها بقية
الأولى؟ على وجهين (أحدهما) تدخل لأنهما من رجل واحد (والثاني) لا تدخل لأنهما من جنسين
فعلى هذا إذا وضعت حملها أتمت عدة الطلاق، وان وطئها وهي حامل ففي تداخل العدتين وجهان
فإن قلنا يتداخلان فانقضاؤهما معا بوضع الحمل وان قلنا لا يتداخلان فانقضاء عدة الطلاق بوضع
الحمل، وتستأنف عدة الوطئ بالقروء
(فصل) فإن طلقها طلاقا رجعيا فنكحت في عدتها من وطئها فقد ذكرنا انها تبني على عدة
128

الأول ثم تستأنف عدة الثاني ولزوجها الأول رجعتها في بقية عدتها منه لأن الرجعة امساك للزوجة
وطريان الوطئ من أجنبي على النكاح لا يمنع الزوج امساك زوجته كما لو كانت في صلب النكاح،
وقيل ليس له رجعتها لأنها محرمة عليه فلم يصح له ارتجاعها كالمرتدة، والصحيح الأول فإن
التحريم لا يمنع الرجعة كالاحرام، ويفارق الردة لأنها جارية إلى بينونة بعد الرجعة بخلاف
العدة، وإذا انقضت عدتها منه فليس له رجعتها في عدة الثاني لأنها ليست منه، وإذا ارتجعها
في عدتها من نفسه وكانت بالقروء أو بالأشهر انقطعت عدته بالرجعة وابتدأت عدة من الثاني
ولا يحل له وطؤها حتى تنقضي عدة الثاني كما لو وطئت بشبهة في صلب نكاحه، وان كانت
معتدة بالحمل لم يمكن شروعها في عدة الثاني قبل وضع الحمل لأنها بالقروء فإذا وضعت حملها
شرعت في عدة الثاني، وإن كان الحمل ملحقا بالثاني فإنها تعتد به عن الثاني وتقدم عدة الثاني
على الأول فإذا أكملتها شرعت في اتمام عدة الأول وله حينئذ أن يرتجعها لأنها في عدته، وان أحب
أن يرتجعها في حال حملها ففيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك لأنها ليست في عدته وهي محرمة
عليه فأشبهت الأجنبية أو المرتدة، والثاني له رجعتها لأن عدتها منه لم تنقض، وتحريمها
لا يمنع رجعتها كالمحرمة
(فصل) إذا تزوج رجل امرأة لها ولد من غيره فمات ولدها فإن أحمد قال يعتزل امرأته
129

حتى تحيض حيضة، وهذا يروى عن علي بن أبي طالب والحسن ابنه ونحوه عن عمر بن الخطاب
وعن الحسن بن علي والصعب بن جثامة وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز والنخعي ومالك وإسحاق
وأبو عبيد قال عمر بن عبد العزيز لا يقربها حتى ينظر بها حمل أم لا وإنما قالوا ذلك لأنها ان كانت
حاملا حين موته ورثه حملها، وان حدث الحمل بعد الموت لم يرثه فإن كان للميت ولد أو أب أو جد لم
يحتج إلى استبرائها لأن الحمل لا ميراث له، وان كانت حاملا قد تبين حملها لم يحتج إلى استبرائها
لأن الحمل معلوم، وان كانت آيسة لم يحتج إلى استبرائها لليأس من حملها، وان كانت ممن يمكن
حملها ولم يبين بها حمل ولم يعتزلها زوجها فأتت بولد قبل ستة أشهر ورث، وان أتت به بعد ستة
أشهر من حين وطئها بعد موت ولدها لم يرث لأنا لا نتيقن وجوده حال موته هذا يروي عن
سفيان وهو قياس قول الشافعي
(فصل) في أحكام المفقود إذا غاب الرجل عن امرأته لم يخل من حالين (أحدهما) أن تكون
غيبة غير منقطعة يعرف خبره ويأتي كنابه فهذا ليس لامرأته أن تتزوج في قول أهل العلم
أجمعين الا أن تتعذر الانفاق عليها من ماله فلها أن تطلب فسخ النكاح فيفسخ نكاحه وأجمعوا
على أن زوجة الأسير لا تنكح حتى تعلم يقين وفاته وهذا قول النخعي والزهري ويحيي الأنصاري
ومكحول والشافعي وأبى عبيد وأبي ثور وإسحاق وأصحاب الرأي وان أبق العبد فزوجته على الزوجية
حتى تعلم موته أو ردته وبه قال الأوزاعي والثوري والشافعي وإسحاق وقال الحسن إباقه طلاقه
130

ولنا أنه ليس بمفقود فلم ينفسخ نكاحه كالحر ومن تعذر الانفاق من ماله على زوجته فحكمها
في الفسخ حكم ما ذكرنا الا أن العبد نفقة زوجته على سيده أو في كسبه فيعتبر تعذر الانفاق
من محل الوجوب.
(الحال الثاني) أن يفقد وينقطع خبره ولا يعلم له موضع فهذا ينقسم قسمين (أحدهما) أن يكون
ظاهر غيبته السلامة كسفر التجارة في غير مهلكة وإباق العبد وطلب العلم والسياحة فلا تزول
الزوجية أيضا ما لم يثبت موته. وروي ذلك عن علي واليه ذهب ابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري
وأبو حنيفة والشافعي في الجديد، وروي ذلك عن أبي قلابة والنخعي وأبي عبيد
وقال مالك والشافعي في التقديم تتربص أربع سنين وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل
للأزواج لأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطئ بالعنة وتعذر النفقة بالاعسار فلان يجوز ههنا لتعذر الجميع
أولى واحتجوا بحديث عمر في المفقود مع موافقة الصحابة له وتركهم انكاره
ونقل أحمد بن أصرم عن أحمد إذا مضى عليه تسعون سنة قسم ماله وهذا يقضي أن زوجته
تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج، قال أصحابنا إنما اعتبر تسعين سنة من يوم ولادته لأن الظاهر أنه لا يعيش
أكثر من هذا العمر فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب الحكم بموته كما لو كان فقده بغيبة ظاهرها
الهلاك والمذهب الأول لأن هذه غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قبل الأربع سنين أو كما قبل
131

التسعين ولان هذا التقدير بغير توقيف والتقدير لا ينبغي أن يصار إليه الا بالتوقيف لأن تقديرها
بتسعين سنة من يوم ولادته يفضي إلى اختلاف العدة في حق المرأة باختلاف عمر الزوج ولا نظير
لهذا وخبر عمر ورد فيمن ظاهر غيبته الهلاك فلا يقاس عليه غيره
(القسم الثاني) أن تكون غيبته ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا أو
يخرج إلى الصلاة فلا يرجع أو يرجع أو يمضي إلى مكان قريب ليقضي حاجته ويرجع فلا يظهر له خبر أو يفقد
بين الصفين أو ينكسر بهم مركب فيغرق بعض رفقته أو يفقد في مهلكه كبرية الحجاز ونحوها
فمذهب أحمد الظاهر عنه أن زوجته تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر
وعشرا وتحل للأزواج.
قال الأثرم قيل لأبي عبد الله تذهب إلى حديث عمر؟ قال هو أحسنها يروى عن عمر من
ثمانية وجوه ثم قال زعموا أن عمر رجع عن هذا هؤلاء الكذابين، قلت فروي من وجه ضعيف
أن عمر قال بخلاف هذا قال لا الا أن يكون انسان يكذب، وقلت له مرة ان انسانا قال لي ان أبا
عبد الله قد ترك قوله في المفقود بعدك فضحك ثم قال من ترك هذا القول أي شئ يقول؟ وهذا قول
عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير. قال أحمد خمسة من أصحاب النبي الله صلى الله عليه وسلم وبه قال عطاء
وعمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وقتادة والليث وعلي بن المديني وعبد العزيز بن أبي سلمة
132

وبه يقول مالك الشافعي في القديم الا أن مالكا قال ليس في انتظار من يفقد في القتال وقت.
وقال سعيد بن المسيب في امرأة المفقود بين الصفين تتربص سنة لأن غلبة هلاكه ههنا أكثر من
غلبة غيره لوجود سببه
وقد نقل عن أحمد أنه قال: كنت أقول إذا تربصت أربع سنين ثم اعتدت أربعة أشهر وعشرا
تزوجت وقد ارتبت فيها وهبت الجواب فيها لما اختلفت الناس فيها فكأني أحب السلامة
وهذا توقف يحتمل الرجوع عما قاله وتتربص أبدا ويحتمل التورع ويكون المذهب ما قاله أولا
قال القاضي: أكثر أصحابنا على أن المذهب رواية واحدة. وعندي ان المسألة على روايتين
وقال أبو بكر الذي أقول به ان صح الاختلاف في المسألة ان لا يحكم بحكم ثان الا بدليل على الانتقال
وان ثبت الاجماع فالحكم فيه على نص عليه وظاهر المذهب على ما حكيناه أولا نقله عن أحمد الجماعة
وقد أنكر أحمد رواية من روي عنه الرجوع على ما حكيناه من رواية الأثرم
وقال أبو قلابة والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأصحاب الرأي والشافعي في
الجديد: لا تتزوج امرأة المفقود حتى يتبين موته أو فراقه لما روى المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" امرأة المفقود امرأته حتى يأتي زوجها " وروى الحكم وحماد عن علي لا تتزوج امرأة المفقود
حتى يأتي موته أو طلاقه لأنه شك في زوال الزوجية فلم تثبت به الفرقة كما لو كان ظاهر غيبته السلامة
133

ولنا ما روى الأثرم والجوزجاني باسنادهما عن عبيد بن عمير قال فقد رجل في عهد عمر فجاءت
امرأته إلى عمر فذكرت ذلك له فقال انطلقي فتربصي أربع سنين ففعلت ثم أتته فقال انطلقي فاعتدي
أربعة أشهر وعشرا ففعلت ثم أتته فقال أين ولي هذا الرجل؟ فقال طلقها ففعل فقال لها عمر انطلقي فتزوجي
من شئت فتزوجت ثم جاء زوجها الأول فقال عمر أين كنت؟ قال يا أمير المؤمنين استهوتني الشياطين
فوالله ما أدري في أي ارض الله، كنت عند قوم يستعبدونني حتى اغتزاهم منهم قوم مسلمون فكنت
فيما غنموه فقالوا لي أنت رجل من الانس وهؤلاء من الجن فمالك ومالهم؟ فأخبرتهم خبري فقالوا
بأي أرض الله تحب أن تصبح؟ قلت المدينة هي أرضي فأصبحت وأنا أنظر إلى الحرة، فخيره عمر
ان شاء امرأته وان شاء الصداق فاختار الصداق وقال قد حبلت لا حاجة لي فيها. قال احمد يروى عن
عمر من ثلاثة وجوه ولم يعرف في الصحابة له مخالف
وروى الجوزجاني وغيره باسنادهم عن علي في امرأة المفقود تعتد أربع سنين ثم يطلقها ولي
زوجها وتعتد بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا فإن جاء زوجها المفقود بعد ذلك خير بين الصداق وبين
امرأته، وقضى به عثمان أيضا وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم. وهذه قضايا انتشرت في الصحابة
فلم تنكر فكانت اجماعا
فأما الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يثبت ولم يذكره أصحاب السنن وما رووه عن
134

علي فيرويه الحكم وحماد مرسلا والمسند عنه مثل قولنا. ثم يحمل ما رووه على المفقود الذي ظاهر غيبته
السلامة جمعا بينه وبين ما رويناه. وقولهم انه شك في زوال الزوجية ممنوع فإن الشك ما تساوى فيه
الأمران والظاهر في مسئلتنا هلاكه
(فصل) وهل يعتبر أن يطلقها ولي زوجها ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة قروء؟ فيه روايتان (إحداهما)
يعتبر ذلك لأنه في حديث عمر الذي رويناه وقد قال أحمد هو أحسنها. وذكر في حديث علي انه
يطلقها ولي زوجها (والثانية) لا يعتبر ذلك. كذلك قال ابن عمر وابن عباس وهو القياس فإن ولي
الرجل لا ولاية له في طلاق امرأته. ولأننا حكمنا عليها بعدة الوفاة فلا تجب عليها مع ذلك عدة
الطلاق كما لو تيقنت وفاته ولأنه قد وجد دليل هلاكه على وجه أباح لها التزويج وأوجب عليها عدة
الوفاة فأشبه ما لو شهد به شاهدان
(فصل) وهل يعتبر ابتداء المدة من حين الغيبة أو من حين ضرب الحاكم المدة؟ على روايتين
(إحداهما) يعتبر ابتداؤها من حين ضربها الحاكم لأنها مدة مختلف فيها فافتقرت إلى ضرب الحاكم
كمدة العنة (والثاني) من حين انقطع خبره وبعد أثره لأن هذا ظاهر في موته فكان ابتداء المدة
منه كما لو شهد به شاهدان وللشافعي وجهان كالروايتين
135

(فصل) فإن قدم زوجها الأول قبل أن تتزوج فهي امرأته، وقال بعض أصحاب الشافعي
إذا ضربت لها المدة فانقضت بطل نكاح الأول، والذي ذكرنا أولى لأننا إنما أبحنا لها التزويج لأن
الظاهر موته فإذا بان حيا انخرم ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله كما لو شهدت البينة بموته ثم بان
حيا ولأنه أحد الملكين فأشبه ملك المال، فاما ان قدم بعد أن تزوجت نظرنا فإن كان قبل دخول
الثاني بها فهي زوجة الأول ترد إليه ولا شئ، قال أحمد أما قبل الدخول فهي امرأته وإنما التخيير
بعد الدخول وهذا قول الحسن وعطاء وخلاس بن عمر والنخعي وقتادة ومالك وإسحاق، وقال
القاضي فيه رواية أخرى أنه يخير وأخذه من عموم قول أحمد إذا تزوجت امرأته فجاء خير بين
الصداق وبين امرأته، والصحيح أن عموم كلام أحمد يحمل على خاصه في رواية الأثرم وأنه لا تخيير
الا بعد الدخول فتكون زوجة الأول ورواية واحدة لأن النكاح إنما صح في الظاهر دون الباطن
فإذا قدم تبينا أن النكاح كان باطلا لأنه صادف امرأة ذات زوج فكان باطلا كما لو شهدت بينة
بموته وليس عليه صداق لأنه نكاح فاسد لم يتصل به دخول ويعود الزوج بالعقد الأول كما لو لم
تتزوج، وان قدم بعد دخول الثاني بها خير الأول بين أخذها فتكون زوجته بالعقد الأول وبين
أخذ صداقها وتكون زوجة للثاني وهذا قول مالك لاجماع الصحابة عليه فروى معمر عن الزهري
عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قالا إن جاء زوجها الأول خير بين المرأة وبين الصداق الذي
136

ساق هو رواه الجوزجاني والأثرم وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم، وقال علي ذلك في الحديث الذي
رويناه ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان اجماعا فعلى هذا ان أمسكها الأول فهي زوجته
بالعقد الأول، والمنصوص عن أحمد أنه لا يحتاج الثاني إلى طلاق لأن نكاحه كان باطلا في
الباطن، وقال القاضي قياس قوله أنه يحتاج إلى طلاق لأن هذا نكاح مختلف في صحته فكان مأمورا
بالطلاق ليقطع حكم العقد الثاني كسائر الأنكحة الفاسدة ويجب على الأول اعتزالها حتى تقضي عدتها
من الثاني، وان لم يخترها الأول فإنها تكون مع الثاني ولم يذكروا لها عقدا جديدا، والصحيح أنه
يحب أن يستأنف لها عقدا لأننا تبينا بطلان عقده بمجئ الأول، ويحمل قول الصحابة على هذا
لقيام الدليل عليه فإن زوجة الانسان لا تصير زوجة لغيره بمجرد تركه لها وقال أبو الخطاب القياس اننا ان
حكمنا بالفرقة ظاهرا وباطنا فهي امرأة الثاني ولا خيار للأول لأنها بانت منه بفرقة الحاكم فأشبه ما لو فسخ
نكاحها لعسرته، وان لم نحكم بفرقته باطنا فهي امرأة الأول ولا خيار له
(فصل) ومتى اختار الأول تركها فإنه يرجع على الثاني بصداقها لقضاء الصحابة بذلك ولأنه
حال بينه وبينها بعقده عليها ودخوله بها، واختلف عن أحمد فيما يرجع به فروي عنه أنه يرجع
بالصداق الذي أصدقها هو وهو اختيار أبى بكر وقول الحسن والزهري وقتادة وعلي بن المديني
لقضاء علي وعثمان أنه يخير بينهما وبين الصداق الذي ساق هو ولأنه أتلف عليه المعوض فرجع عليه
137

بالعوض كشهود الطلاق إذا رجعوا عن الشهادة فعلى هذا إن كان لم يدفع إليها الصداق لم يرجع بشئ وإن كان
قد دفع بعضه رجع بما دفع ويحتمل أن يرجع عليه بالصداق وترجع المرأة بما بقي عليه من صداقها وعن
أحمد أنه يرجع عليه بالمهر الذي أصدقها الثاني لأن اتلاف البضع من جهته والرجوع عليه بقيمته والبضع
لا يتقوم الاعلى زوج أو من جرى مجراه فيجب الرجوع عليه بالمسمى الثاني دون الأول وهل يرجع الزوج
الثاني على الزوجة بما أخذ منه؟ فيه روايتان ذكر ذلك أبو عبد الله بن حامد إحداهما يرجع به لأنها غرامة لزمت
الزوج بسبب وطئه لها فرجع بها كالمغرور (والثانية) لا يرجع بها وهو أظهر لأن الصحابة لم يقضوا
بالرجوع فإن سعيد بن المسيب روى أن عمر وعثمان قضيا في المرأة التي لا تدري ما مهلك زوجها؟
أن تربص أربع سنين ثم تعتد عدة المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ثم تزوج ان بدا لها فإن
جاء زوجها خير اما امرأته واما الصداق فإن اختار الصداق فالصداق على زوجها الآخر وتثبت عنده
وان اختار امرأته عزلت عن زوجها الآخر حتى تنقضي عدتها وان قدم زوجها وقد توفي زوجها
الآخر ورثت واعتدت عدة المتوفي عنها وترجع إلى الأول رواه الجوزجاني ولأن المرأة لا تعزير منها
فلم يرجع عليها بشئ كغيرها فإن قلنا يرجع عليها فإن كان قد دفع إليها الصداق رجع به وإن كان
لم يدفعه إليها دفعه الأول ولم يرجع عليها بشئ، وإن كان قد دفع بعضه رجع بما دفع
وان قلنا لا يرجع عليها وإن كان قد دفع إليها الصداق لم يرجع به، وان لم يكن دفعه إليها لزمه
دفعه ويدفع إلى الأول صداقا آخرا.
138

(فصل) وان اختارت امرأة المفقود المقام والصبر حتى يتبين امره فلها النفقة ما دام حيا وينفق
عليها من ماله حتى يتبين أمره لأنها محكوم لها بالزوجية فتجب لها النفقة كما لو علمت حياته فإذا تبين
انه مات أو فارقها فلها النفقة إلى يوم موته أو بينونتها منه ويرجع عليها بالباقي لأنا تبينا أنها أنفقت مال
غيره أو أنفقت من ماله وهي غير زوجة له وان رفعت أمرها إلى الحاكم فضرب لها مدة فلها النفقة
في مدة التربص ومدة العدة لأن مدة التربص لم يحكم منه بينونتها من زوجها فهي محبوسة عليه بحكم
الزوجية فأشبه ما قبل المدة وأما مدة العدة فلأنها غير متيقنة بخلاف عدة الوفاة فإن موته متقين
وما بعد العدة ان تزوجت أو فرق الحاكم بينهما سقطت نفقتها لأنها أسقطتها بخروجها عن حكم
نكاحه وان لم تتزوج ولا فرق الحاكم بينهما فنفقتها باقية لأنها لم تخرج بعد من نكاحه وان قدم
الزوج بعد ذلك وردت إليه عادت نفقتها من حين الرد، وقد روى الأثرم والجوزجاني، وقال ابن عباس
إذا يجحف ذلك بالورثة ولكنها تستدين فإن جاء زوجها أخذت من ماله وان مات أخذت من
نصيبها من الميراث وقالا ينفق عليها بعد في العدة بعد الأربع سنين من مال زوجها جميعه أربعة أشهر
وعشرا وان قلنا ليس لها ان تتزوج لم تسقط نفقتها ما لم تتزوج فإن تزوجت سقطت نفقتها لأنها
139

بالتزويج تخرج عن يديه وتصير ناشزا وان فرق بينهما فلا نفقة لها ما دامت في العدة فإذا انقضت
فلم تعد إلى مسكن زوجها فلا نفقة لها أيضا لأنها باقية على النشوز وان عادت إلى مسكنه احتمل ان
تعود النفقة لأن النشوز المسقط لنفقتها قد زال ويحتمل الا تعود لأنها ما سلمت نفسها إليه وان عاد
فتسلمها عادت نفقتها ومتى أنفق عليها ثم بان ان الزوج كان قد مات قبل ذلك حسب عليها ما أنفق عليها
من حين موته من ميراثها فإن لم ترث شيئا فهو عليها لأنها أنفقت من مال الوارث مالا تستحقه فأما نفقتها على
الزوج الثاني فإن قلنا لها ان تتزوج فنكاحها صحيح حكمة في النفقة حكم غيره من الأنكحة الصحيحة وان قلنا
ليس لها ان تتزوج فلا نفقة لها فإن أنفق عليها لم يرجع بشئ لأنه تطوع به الا أن يجبره على ذلك حاكم فيحتمل ان
يرجع بها لأنه ألزمه أداء ما لم يكن واجبا عليه ويحتمل الا يرجع به لأن ما حكم به الحاكم لا يجوز نقضه ما لم يخالف
كتابا أو سنة أو اجماعا فإن فارقها بتفريق الحاكم أو غيره فلا نفقة لها الا أن تكون حاملا فينبني وجوب النفقة على
الروايتين في النفقة هل هي للحمل أولها من أجله؟ فإن قلنا هي للحمل فلها النفقة لأن نسب الحمل لاحق به فيجب
عليه الانفاق على ولده، وان قلنا لها من أجله فلا نفقة لها لأنه في غير نكاح صحيح فأشبه حمل الموطوءة
بشبهة، وإذا أتت بولد يمكن كونه من الثاني لحقه نسبه لأنها صارت فراشا له وقد علمنا أن الولد
ليس من الأول لأنها تربصت بعد فقده أكثر من مدة الحمل وتنقضي عدتها من الثاني بوضعه لأن
الولد منه وعليها أن ترضعه اللبا لأن الولد لا يقوم بدنه الا به فإن ردت إلى الأول فله منعها من
140

ارضاعه كما له أن يمنعها من رضاع أجنبي لأن ذلك يشغلها عن حقوقه الا أن يضطر إليها ويخشى
عليه التلف فليس له منعها من ارضاعه لأن هذا حال ضرورة، فإن أرضعته في بيت الزوج الأول
لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته ويده، وان أرضعته في غير بيته بغير اذنه فلا نفقة لها لأنها ناشز
وإن كان باذنه خرج على الروايتين فيما إذا سافرت لحاجتها باذنه
(فصل) في ميراثها من الزوجين وتوريثهما منها، متى مات زوجها الأول أو ماتت قبل تزوجها
للثاني ورثته وورثها وكذلك أن تزوجت الثاني فلم يدخل بها لأننا قد تبينا أنه متى قدم قبل الدخول
بها ردت إليه بغير تخيير
وقد ذكرنا: أن القاضي ذكر: أن فيها رواية أخرى أن يخير فيها فعلى هذه الرواية حكمه حكم
ما لو دخل بها الثاني، فأما ان دخل الثاني بها نظرنا فإن قدم الأول فاختارها وردت إليه ورثها
وورثته ولم ترث الثاني ولم يرثها لأنه لا زوجية بينهما، وان مات أحدهما قبل اختيارها اما في الغيبة
أو بعد قدومه فإن قلنا لها أن تتزوج ورثت الزوج الثاني وورثها ولم ترث الأول ولم يرثها لأن من
خير بين شيئين فنعذر أحدهما تعين الآخر، وان ماتت قبل اختيار الأول خير فإن اختارها ورثها
وان لم يخترها ورثها الثاني هذا ظاهر قول أصحابنا، وأما على ما اختاره فإنها لا ترث الثاني ولا يرثها
بحال الا أن يجدد لها عقدا أو لا يعلم أن الأول كان حيا ومتى علم أن الأول كان حيا ورثها وورثته
الا أن يختار تركها فتبين منه بذلك فلا ترثه ولا يرثها
141

وعلى قول أبى الخطاب ان حكمنا بوقوع الفرقة بتفريق الحاكم ظاهرا أو باطنا ورثت الثاني
وورثها ولم ترث الأول ولم يرثها فأما عدتها منهما فمن ورثته اعتدت لوفاته عدة الوفاة، وان مات
الثاني في موضع لا ترثه فالمنصوص عن أحمد أنها تعتد عدة الوفاة في النكاح الفاسد فعلى هذا عليها
عدة الوفاة لوفاته وهو اختيار أبي بكر
وقال ابن حامد لا عدة عليها لوفاته لكن تعتد من وطئه بثلاثة قروء فإن ماتا معا اعتدت لكل
واحد منهما وبدأت بعدة الأول فإذا أكملتها اعتدت للآخر، وان مات الأول أولا فكذلك،
وان مات الثاني أولا بدأت بعدته فإذا مات الأول انقطعت عدة الثاني ثم ابتدأت عدة الأول فإذا
أكملتها أتمت عدة الثاني، وان علم موت أحدهما وجهل وقت موت الآخر أو جهل موتهما فعليها
أن تعتد عدتين من حين تيقنت الموت وتبدأ بعدة الأول لأنه أسبق وأولى، وان كانت حاملا فبوضع
الحمل تنقضي عدة الثاني لأن الولد منه ثم تبتدئ بعده بعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا
(فصل) وإذا تزوجت امرأة المفقود في وقت ليس لها أن تتزوج فيه مثل أن تتزوج قبل
مضي المدة التي يباح لها التزويج بعدها أو كانت غيبة زوجها ظاهرها السلامة أو ما أشبه هذا فنكاحها
باطل. وقال القاضي ان تبين أن زوجها قد مات وانقضت عدتها منه أو فارقها وانقضت عدتها
142

ففي صحة نكاحها وجهان (أحدهما) هو صحيح لأنها ليست في نكاح ولا عدة فصح تزويجها كما
لو علمت ذلك.
(والثاني) لا يصح لأنها معتقدة تحريم نكاحها وبطلانه. وأصل هذا من باع عينا في يده
يعتقدها لموروثه فبان مورثه ميتا والعين مملوكة له بالإرث هل يصح البيع؟ فيه وجهان كذا ههنا
ومذهب الشافعي مثل هذا
ولنا أنها تزوجت في مدة منعها الشرع من النكاح فيها فلم يصح كما لو تزوجت المعتدة في عدتها
أو المرتابة قبل زوال ريبتها
(فصل) ويقسم مال المفقود في الوقت الذي تؤمر زوجته بعدة الوفاة فيه وبهذا قال قتادة.
وقال الشافعي ومالك وأصحاب الرأي وابن المنذر لا يقسم ماله حق تعلم وفاته لأن الأصل البقاء فلا
يزول عنه بالشك وإنما صرنا إلى إباحة التزويج لامرأته لاجماع الصحابة ولان بالمرأة حاجة إلى النكاح
وضررا في الانتظار فاختص ذلك بها
ولنا أن من اعتدت زوجته للوفاة قسم ماله كمن قامت البينة بموته. وما أجمع عليه الصحابة
يقاس عليه ما كان في معناه. وتأخير القسمة ضرر بالورثة وتعطيل لمنافع المال وربما تلف أو قلت
قيمته فهو في معنى الضرر بتأخير التزويج
143

(فصل) وان تصرف الزوج المفقود في زوجته بطلاق أو ظهار أو ايلاء أو قذف صح تصرفه
لأن نكاحه باق ولهذا خير في أخذها وإنما حكمنا بإباحة تزوجها لأن الظاهر موته فلا يبطل في الباطن
كما لو شهدت بموته بينة كاذبة
(فصل) وإذا فقدت الأمة زوجها تربصت أربع سنين ثم اعتدت للوفاة شهرين وخمسة أيام
وهذا اختيار أبي بكر. وقال القاضي تتربص نصف تربص الحرة ورواه أبو طالب عن أحمد وهو
قول الأوزاعي والليث لأنها مدة مضروبة للمرأة لعدم زوجها فكانت الأمة فيه على النصف من الحرة كالعدة
ولنا أن الأربع سنين مضروبة لكونها أكثر مدة الحمل ومدة الحمل في الحرة والأمة سواء فاستويا
في التربص لها كالتسعة الأشهر في حق من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه؟ وكالحمل نفسه وبهذا ينتقض
قياسهم. فأما العبد فإن كانت زوجته حرة فتربصها تربص الحرة تحت الحر وان كانت أمة فهي كالأمة
تحت الحر لأن العدة معتبرة بالنساء دون الرجال وكذلك مدة التربص. وحكي عن الزهري ومالك انه
يضرب له نصف أجل الحر والأولى ما قلناه لأنه تربص مشروع في حق المرأة لفرقة زوجها فأشبه العدة
فصل فإن غاب رجل عن زوجته فشهد ثقات بوفاته فاعتدت زوجته للوفاة أبيح لها أن تتزوج
فإن عاد الزوج بعد ذلك فحكمه حكم المفقود يخير زوجها بين أخذها وتركها وله الصداق وكذلك
ان تظاهرت الاخبار بموته، وقد روى الأثرم باسناده عن أبي المليح عن شهية ان زوجها صيفي بن
144

فشيل نعى لها من قيذائيل فتزوجت بعده ثم إن زوجها الأول قدم فأتينا عثمان وهو محصور فأشرف
علينا فقال كيف إقضي بينكم وأنا على هذا الحال؟ فقلنا قد رضينا بقولك فقضى أن يخير الزوج
الأول بين الصداق وبين المرأة فرجعنا. فلما قتل عثمان أتينا عليا فخير. الزوج الأول بين الصداق
وبين المرأة فاختار الصداق فأخذ مني ألفين ومن زوجي الآخر ألفين، فإن حصلت الفرقة بشهادة
محصورة فما حصل من غرامة فعليهما لأنهما سبب في ايجابها. وان شهدوا بموت رجل فقسم ماله ثم
قدم فما وجد من ماله أخذه وما تلف منه أو تعذر رجوعه فيه فله تضمين الشاهدين لأنهما سبب
الاستيلاء عليه وللمالك تضمين المتلف لأنه أتلف ماله بغير اذنه
(فصل) وإذا نكح رجل امرأة نكاحها متفقا على بطلانه مثل ان ينكح ذات محرمه أو معتدة يعلم
حالها وتحريمها فلا حكم لعقده، والخلوة بها كالخلوة بالأجنبية لا توجب عدة وكذلك الموت عنها لا يوجب
عدة الوفاة، وان وطئها اعتدت لوطئه بثلاثة قروء منذ وطئها سواء فارقها أو مات عنها كما لو زنى
بها من غير عقد. وان نكحها نكاحا مختلفا فيه فهو فاسد فإن مات عنها فنقل جعفر بن محمد أن عليها
عدة الوفاة وهذا اختيار أبي بكر
وقال أبو عبد الله بن حامد ليس عليها عدة الوفاة وهو مذهب الشافعي لأنه نكاح لا يثبت الحل
فأشبه الباطل، فعلى هذا إن كان قبل الدخول فلا عدة عليها وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء
145

ووجه الأول أنه نكاح يلحق به النسب فوجبت به عدة الوفاة كالنكاح الصحيح، وفارق الباطل
فإنه لا يلحق به النسب، وان فارقها في الحياة بعد الإصابة اعتدت بعد فرقته بثلاثة قروء ولا اختلاف
فيه وإن كان قبل الخلوة فلا عدة عليها بلا خلاف لأن المفارقة في الحياة في النكاح الصحيح لا عدة
عليها بلا خلاف ففي الفاسد أولى، وإن كان بعد الخلوة قبل الإصابة فالمنصوص عن أحمد ان عليها
العدة لأنه مجرى مجري النكاح الصحيح في لحوق النسب فكذلك في العدة، وقال الشافعي لا عدة عليها لوجهين
(أحدهما) أنها خلوة في غير نكاح صحيح أشبهت التي نكاحها باطل (والثاني) ان الخلوة عنده في النكاح
الصحيح لا توجب العدة ففي الفاسد أولى وهذا مقتضى قول ابن حامد
(فصل) في عدة المعتق بعضها ومتى كانت معتدة بالحمل أو بالقروء فعدتها كعدة الحرة لأن عدة
الحامل لا تختلف بالرق والحرية وعدة الأمة بالقروء قرءان فأدنى ما يكون فيها من الحرية يوجب قرءا
ثالثا لأنه لا يتبعض، وان كانت معتدة بالشهور اما للوفاة واما للإياس أو الصغر فعدتها بالحساب من
عدة حرة وأمة فإذا كان نصفها حرا فاعتدت للوفاة فعليها ثلاثة أشهر وثمان ليال لأن الليل يحسب
مع النهار فيكون عليها ثلاثة أرباع ذلك وان كانت معتدة بالشهور عن الطلاق وقلنا إن عدة الأمة
شهر نصف كان عدة للمعتق نصفه شهرين وربعا وان قلنا عدة الأمة شهران أو ثلاثة أشهر فعدة
المعتق بعضها كعدة الحرة سواء، وأم الولد والمدبرة والمكاتبة عدتهن كعدة الأمة سواء لأنهن إماء
146

(مسألة) قال (وأم الولد إذا مات سيدها فلا تنكح حتى تحيض كاملة)
هذا المشهور عن أحمد وهو قول ابن عمر وروي ذلك عن عثمان وعائشة والحسن والشعبي
والقاسم بن محمد وأبى قلابة ومكحول ومالك والشافعي وأبى عبيد وأبى ثور، وروي عن أحمد أنها
تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا وهو قول سعيد بن المسيب وأبى عياض وابن سيرين وسعيد
ابن جبير ومجاهد وخلاس بن عمرو وعمر بن عبد العزيز والزهري ويزيد بن عبد الملك والأوزاعي
وإسحاق لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال لا تفسدوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا
توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا رواه أبو داود ولأنها حرة تعتد للوفاة فكانت عدتها أربعة
أشهر وعشرا كالزوجة الحرة، وحكى أبو الخطاب رواية ثالثة تعتد شهرين وخمسة أيام ولم أجد هذه
الرواية عن أحمد في الجامع ولا أظنها صحيحة عن أحمد وروي ذلك عن عطاء وطاوس وقتادة
ولأنها حين الموت أمة فكانت عدتها عدة الأمة كما لو مات رجل عن زوجته الأمة فعتقت بعد
موته ويروى عن علي وابن مسعود وعطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي ان عدتها ثلاث حيض
لأنها حرة تستبرئ فكان استبراؤها بثلاث حيض كالحرة المطلقة
ولنا أنه استبراء لزوال الملك عن الراقبة فكان حيضة في حق من تحيض كسائر استبراء
147

المعتقات والمملوكات، ولأنه استبراء لغير الزوجات والموطوءات بشبهة فأشبه ما ذكرنا قال القاسم بن
محمد سبحان الله يقول الله تعالى في كتابه (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) ما هن بأزواج
فأما حديث عمرو بن العاص فضعيف. وقال ابن المنذر ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص
وقال محمد بن موسى سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص فقال لا يصح، وقال
الميموني رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا ثم قال أين سنة النبي صلى الله عليه وسلم في
هذا وقال أربعة أشهر وعشرا إنما هي عدة الحرة من النكاح وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى
الحرية ويلزم من قال بهذا أن يورثها وليس لقول من قال تعتد بثلاث حيض وجه وإنما تعتد
بذلك المطلقة وليست هذه مطلقة ولا في معنى المطلقة. وأما قياسهم إياها على الزوجات فلا يصح فإن
هذه ليست زوجة ولا في حكم الزوجة ولا مطلقة ولا في حكم المطلقة
(فصل) ولا يكفي في الاستبراء طهر واحد ولا بعض حيضة وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال
بعض أصحاب مالك متى طعنت في الحيضة فقد تم استبراؤها وزعم أنه مذهب مالك، وقال الشافعي
في أحد قوليه يكفي طهر واحد إذا كان كاملا وهو ان يموت في حيضها فإذا رأت الدم من الحيضة
الثانية حلت وتم استبراؤها وهكذا الخلاف في الاستبراء كله وبنوا على هذا على أن القروء الأطهار وهذا
يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة "
148

وقال رويفع بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر " من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة " رواه الأثرم وهذا صريح فلا يعول على
ما خالفه. ولان الواجب استبراء والذي يدل على البراءة هو الحيض فإن الحامل لا تحيض فأما الطهر
فلا دلالة فيه على البراءة فلا يجوز أن يعول في الاستبراء على ما لا دلالة عليه دون ما يدل عليه
وبناؤهم قبولهم هذا على قولهم ان القروء الأطهار بناء للخلاف على الخلاف، ليس ذلك بحجة ثم لم
يمكنهم بناء هذا على ذلك حتى خالفوه فجعلوا الطهر الذي طلقها فيه قرءا ولم يجعلوا الطهر الذي مات فيه
سيد أم الولد قرا وخالفوا الحديث والمعنى، فإن قالوا إن بعض الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة
قلنا فيكون الاعتماد حينئذ على بعض الحيضة وليس ذلك قرءا عند أحد فإذا تقرر هذا فإن مات عنها
وهي طاهر فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة حلت وان كانت حائضا لم تعتد ببقية تلك الحيضة ولكن
متى طهرت من الحيضة الثانية حلت لأن استبراء هذه بحيضة فلابد من حيضة كاملة
(مسألة) قال (وان كانت مؤيسة فبثلاثة أشهر)
وهذا المشهور عن أحمد أيضا وهو قول الحسن وابن سيرين والنخعي وأبى قلابة وأحد قولي
الشافعي. وسأل عمر بن عبد العزيز أهل المدينة والقوابل فقالوا لا تستبرأ الحبلى في أقل من ثلاثة
149

أشهر فأعجبه قولهم وعن أحمد رواية أخرى انها تستبرأ بشهر وهو قول ثان للشافعي لأن الشهر
قائم مقام القروء في حق الحرة والأمة المطلقة فكذلك في الاستبراء
وذكر القاضي رواية ثالثة انها تستبرأ بشهرين كعدة الأمة المطلقة ولم أر لذلك وجها ولو كان
استبراؤها بشهرين لكان استبراء ذات القرء بقرءين ولم نعلم به قائلا. وقال سعيد بن المسيب
وعطاء والضحاك والحكم في الأمة التي لا تحيض تستبرأ بشهر ونصف. ورواه حنبل عن أحمد
فإنه قال: قال عطاء ان كانت لا تحيض فخمس وأربعون ليلة. قال عمي كذلك اذهب لأن عدة
الأمة المطلقة الآيسة كذلك والمشهور عن أحمد الأول
قال أحمد بن القاسم قلت لأبي عبد الله كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة وإنما جعل الله
قي القرآن مكان كل حيضة شهرا؟ فقال إنما قلنا بثلاثة أشهر من أجل الحمل فإنه لا يتبين في أقل من
ذلك فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل فأخبروه أن الحمل لا يتبين في
أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك ثم قال ألا تسمع قول ابن مسعود ان النطفة أربعين يوما ثم علقة
أربعين يوما ثم مضغة بعد ذلك
قال أبو عبد الله فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة وهي لحم فتبين حينئذ وقال لي هذا
معروف عند النساء فاما شهر فلا معنى فيه ولا نعلم به قائلا، ووجه استبرائه بشهر أن الله تعالى جعل
150

الشهر مكان الحيضة ولذلك اختلفت الشهور باختلاف الحيضات فكانت عدة الحرة الآيسة ثلاثة
أشهر مكان ثلاثة قروء، وعدة الأمة شهرين مكان قرأين وللأمة المستبرأة التي ارتفع حيضها عشرة
أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة فيجب أن يكون مكان الحيضة ههنا شهر كما في حق من
ارتفع حيضها، فإن قيل فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر قلنا وههنا ما يدل على
البراءة هو الإياس فاستويا
(مسألة) قال (وان ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة)
وفي هذه المسألة أيضا روايتان (إحداهما) أنها تستبرأ بعشرة أشهر (والثانية) بسنة تسعة
أشهر للحمل لأنها غالب مدته وثلاثة أشهر مكان الثلاثة التي تستبرأ بها الآيسات، وقد ذكرنا
الروايتين في الآيسة وذكرنا أن المختار عن أحمد استبراؤها بثلاثة أشهر وههنا جعل مكان الحيضة
شهرا لأن اعتبار تكرارها في الآيسة لتعلم براءتها من الحمل وقد علم براءتها منه ههنا بمضي غالب
مدته فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس
(فصل) وان علمت ما رفع الحيض لم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرئ نفسها بحيضة
151

الا أن تصير آيسة فتستبرئ نفسها استبراء الآيسات، وان ارتابت بنفسها فهي كالحرة المستريبة، وقد
ذكرنا حكمها فيما مضى من هذا الباب والله تعالى أعلم
(مسألة) قال (وان كانت حاملا فحتى تضع)
وهذه بحمد الله لا خلاف فيها فإن الله تعالى قال (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع " ولان عدة الحرة والأمة والمتوفى عنها والمطلقة
واستبراء كل أمة إذا كانت حاملا بوضع حملها وذلك لأن المقصود من العدة والاستبراء معرفة براءة
الرحم من الحمل وهذا يحصل بوضعه ومتى كانت حاملا باثنين أو أكثر فلا ينقضي استبراؤها حتى
تضع آخر حملها على ما ذكرناه في المعتدة
(فصل) وإذا زوج أم ولده ثم مات عتقت ولم يلزمها استبراء لأنها محرمة على المولى وليست
له فراشا وإنما هي فراش للزوج فلم يلزمها الاستبراء ممن ليست له فراشا، ولأنه لم يزوجها حتى
استبرأها فإنه لا يحل له تزويجها قبل استبرائها، فإن طلقها الزوج قبل دخوله بها فلا عدة عليها أيضا
وان طلقها بعد المسيس أو مات عنها قبل ذلك أو بعده فعليها عدة حرة كاملة لأنها قد صارت حرة
في حال وجوب العدة عليها، وان مات سيدها وهي في عدة الزوج عتقت ولم يلزمها استبراء لما
152

ذكرناه ولأنه فراشه عنها قبل موته فلم يلزمها استبراء من أجله كغير أم الولد إذا باعها ثم مات
وتبني على عدة أمة إن كان طلاقها بائنا أو كانت متوفى عنها، وان كانت رجعية بنت على عدة حرة
على ما مضى، وان بانت من الزوج قبل الدخول بطلاق أو بانت بموت زوجها أو طلاقه بعد الدخول
فقضت عدته ثم مات سيدها فعليها الاستبراء لأنها عادت إلى فراشه، وقال أبو بكر لا يلزمها استبراء
الا أن يردها السيد إلى نفسه لأن فراشه قد زال بتزويجها ولم يتجدد لها ما يردها إليه فأشبهت
الأمة غير الموطوءة
(فصل) فإن مات زوجها وسيدها ولم تعلم أيهما مات أولا فعلى قول أبي بكر ليس عليها استبراء لأن فراش
سيدها قد زال عنها ولم تعد إليه وعليها أن تعتد لوفاة زوجها عدة الحرائر ولأنه يحتمل أن سيدها مات أولا
ثم مات زوجها وهي حرة فلزمها عدة الحرة لتخرج من العدة بيقين، وعلى القول الآخر إن كان
بين موتهما شهران وخمسة أيام فما دون فليس عليها استبراء لأن السيد إن كان مات أولا فقد مات
وهي زوجته، وإن كان مات آخرا فقد مات وهي معتدة وليس عليها استبراء في هاتين الحالتين وعليها
أن تعتد بعد موت الآخر منهما عدة الحرة لما ذكرناه وإن كان بين موتهما أكثر من ذلك فعليها
بعد موت الآخر منهما أطول الأجلين من أربعة أشهر وعشر واستبراء بحيضة لأنه يحتمل أن يكون
السيد مات أولا فيكون عليها عدة الحرة من الوفاة ويحتمل انه مات آخرا بعد انقضاء عدتها من
الزوج وعودها إلى فراشه فلزمها الاستبراء بحيضة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين قال ابن
عبد البر وعلى هذا جميع القائلين من العلماء بأن عدة الأمة من سيدها بحيضة ومن زوجها شهران
وخمس ليال فإن جهل ما بين موتهما فالحكم فيه كما لو علمنا أن بينهما شهرين وخمس ليال احتياطا
لاسقاط الفرض بيقين كما أخذنا بالاحتياط في الايجاب بين عدة حرة وحيضة فيما إذا علمنا أن بينهما
153

شهرين وخمس ليال وقول أصحاب الشافعي في هذا القول مثل قولنا وكذلك قول أبي حنيفة وأصحابه
الا أنهم جعلوا مكان الحيضة ثلاث حيضات بناء على أصلهم في استبراء أم الولد
وقال ابن المنذر حكمها حكم الإماء وعليها شهران وخمسة أيام ولا أنقلها إلى حكم الحرائر الا
بإحاطة ان الزوج مات بعد المولى، وقيل إن هذا قول أبي بكر عبد العزيز أيضا والذي ذكرناه
أحوط. فأما الميراث فإنها لا ترث من زوجها شيئا لأن الأصل الرق والحرية مشكوك فيها فلم ترث
مع الشك والفرق بين الإرث والعدة أن ايجاب العدة عليها استظهار لا ضرر فيه على غيرها وايجاب
الإرث اسقاط لحق غيرها ولان الأصل تحريم النكاح عليها فلا يزول الا بيقين والأصل عدم
الميراث لها فلا ترث الا بيقين فإن قيل أفليس المفقود إذا ماتت زوجته وقف ميراثه منها مع الشك
في ارثه قلنا الفرق بينهما أن الأصل ههنا الرق والشك في زواله وحدوث الحال التي يرث فيها
والمفقود الأصل حياته والشك في موته وخروجه عن كونه وارثا فافترقا
(مسألة) قال (وإن أعتق أم ولده أو أمة كان يصيبها لم تنكح حتى تحيض حيضة
كاملة وكذلك أن أراد أن يزوجها وهي في ملكه استبرأها بحيضة ثم زوجها)
لا يختلف المذهب في أن الاستبراء ههنا بحيضة في ذات القروء وهو قول الشافعي وهو قول
الزهري والثوري فيمن أراد تزويج أمة كان يصيبها، وقال أصحاب الرأي ليس عليها استبراء لأن
له بيعها فكان له تزويجها كالتي لا يصيبها، وقال عطاء وقتادة عدتها حيضتان كعدة الأمة المطلقة
ولنا انها فراش لسيدها فلم يجز أن تنتقل إلى فراش غيره بغير استبراء كما لو مات عنها ولأن هذه
موطوءة وطئا له حرمة فلم يجز ان تتزوج قبل الاستبراء كالموطوءة بشبهة وهذا لأنه إذا وطئها
154

سيدها اليوم ثم زوجها فوطئها الزوج في آخر اليوم أفضى إلى اختلاط المياه وامتزاج الأنساب وهذا
لا يحل ويخالف البيع فإنها لا تصير به فراشا ولا يحل لمشتريها وطؤها حتى يستبرئها فلا يفضي إلى اختلاط
المياه ولهذا يصح في المعتدة والمزوجة بخلاف التزويج
(فصل) فإن لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما ذكرنا في أم الولد على ما شرحنا ومفهوم
كلام الخرقي انها إذا كانت أمة لا يطؤها سيدها: لم يلزمها استبراء لأنها ليست فراشا لسيدها فلم
يلزمها الاستبراء كالمزوجة والمعتدة ولان تركها للاستبراء لا يفضي إلى اختلاط المياه وامتزاج
الأنساب بخلاف الموطوءة
(فصل) وان مات عن أمة كان يصيبها فاستبراؤها بما ذكرنا في أم الولد لأنها فراش لسيدها
فأشبهت أم الولد الا أنها إذا كانت من ذوات القروء فاستبراؤها بحيضة واحدة رواية واحدة
لأنها لا تصير حرة (فصل) وان أعتق أم ولده أو أمته التي كان يصيبها أو غيرها ممن تحل له اصابتها فله أن يتزوجها
في الحال من غير استبراء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يوفون أجرهم مرتين: رجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها،
وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوجها " ولم يذكر الاستبراء ولان الاستبراء لصيانة مائه وحفظه
عن الاختلاط بماء غيره ولا يصان ماؤه عن مائه ولهذا كأنه له أن يتزوج مختلعته في عدتها
وقد وري عن أحمد في الأمة التي لا يطؤها: إذا أعتقها لا يتزوجها بغير استبراء لأنه لو باعها لم
تحل للمشتري بغير استبراء. والصحيح انه يحل له ذلك لأنه يحل له وطؤها بملك اليمين فكذلك
بالنكاح كالتي كان يصيبها ولان النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها ولم ينقل انه ان أصابها.
155

والحديث الآخر يدل على حلها له بظاهره لدخولها في العموم. ولأنها تحل لمن تزوجها سواه فله
أولى. ولأنه لو استبرأها ثم أعتقها وتزوجها في الحال كان جائزا حسنا فكذلك هذه فإنه تارك لوطئها
ولان وجوب الاستبراء في حق غيره إنما كان لصيانة مائه من اختلاط بغيره ولا يوجد ذلك ههنا
وكلام احمد محمول على من اشتراها ثم تزوجها قبل أن يستبرئها
(فصل) وان اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها لم يجز أن يتزوجها حتى يستبرئها وبهذا قال
الشافعي وقال أصحاب الرأي له ذلك. ويحكى ان الرشيد اشترى جارية فتاقت نفسه إلى جماعها قبل
استبرائها فأمره أبو يوسف أن يعتقها ويتزوجها ويطأها. قال أبو عبد الله وبلغني ان المهدي اشترى
جارية فأعجبته فقيل له أعتقها وتزوجها. قال أبو عبد الله سبحان الله ما أعظم هذا؟ أبطلوا الكتاب والسنة جعل
الله على الحرائر العدة من أجل الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها الا تعتد من اجل الحمل
وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبراء الأمة بحيضة من اجل الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقها على المكان
فيتزوجها فيطؤها يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدا فإن كانت حاملا كيف يصنع؟ هذا نقض
الكتاب والسنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ الحامل حتى تضع ولا غير الحامل حتى تحيض " وهذا
لا يدري أهي حامل أم لا؟ ما أسمج هذا؟ قيل له: ان قوما يقولون هذا فقال قبح الله هذا وقبح من
يقوله: وفيما نبه عليه أبو عبد الله من الأحاديث كفاية مع ما ذكرنا فيما قبل هذا الفصل
إذا ثبت هذا فليس له تزويجها لغيره قبل استبرائها إذا لم يعتقها لأنها ممن يجب استبراؤها فلم
يجز أن يتزوج كالمعتدة وسواء في ذلك المشتراة من رجل يطؤها أو من رجل قد استبرأها ولم يطأها
أو ممن لا يمكنه الوطئ كالصبي والمرأة والمجبوب. وقال الشافعي إذا اشتراها ممن لا يطؤها فله تزويجها
سواء أعتقها أو لم يعتقها وله أن يتزوجها إذا أعتقها لأنها ليست فراشا وقد كان لسيدها تزويجها قبل
156

بيعها فجاز ذلك بعد بيعها. ولأنها لو عتقت على البائع باعتاقه أو غيره لجاز لكل أحد نكاحها
فكذلك إذا أعتقها المشتري
ولنا عموم قوله عليه السلام " لا توطأ حائل تستبرأ بحيضة " ولأنه أمه يحرم عليه وطؤها
قبل استبرائها فحرم عليه تزويجها والتزوج بها كما لو كان بائعها يطؤها. فأما ان أعتقها في هذه
الصورة فله تزويجها لغيره لأنها حرة لم تكن فراشا فأبيح لها النكاح كما لو أعتقها البائع وفارق
الموطوءة فإنها فراش يجب عليها استبراء نفسها إذا عتقت فحرم عليها النكاح كالمعتدة. وفارق ماذا أراد
سيدها نكاحها فإنه لم يكن له وطؤها بملك اليمين فلم يكن له أن يتزوجها كالمعتدة ولان هذا يتخذ حيلة على
ابطال الاستبراء فمنع منه بخلاف تزويجها لغيره
(فصل) وإذا كانت أمة يطؤها فاستبرأها ثم أعتقها لم يلزمها استبراء لأنها خرجت عن
كونها فراشا باستبرائه لها وان باعها فأعتقها المشتري قبل وطئها لم تحتج إلى استبراء لذلك وان
باعها قبل استبرائها فأعتقها المشتري قبل وطئها واستبرائها فعليها استبراء نفسها وان مضى بعض
الاستبراء في ملك المشتري لزمها اتمامه بعد عتقها ولا ينقطع بانتقال الملك فيها لأنها لم تصر فراشا
للمشتري ولم يلزمها استبراء باعتاقه
(فصل) وإذا كانت الأمة بين شريكين فوطئاها لزمها استبراءان. وقال أصحاب الشافعي في
أحد الوجهين يلزمها استبراء واحد لأن القصد معرفة براءة الرحم ولذلك لا يجب الاستبراء بأكثر
من حيضة واحدة وبراءة الرحم تعلم باستبراء واحد
ولنا أنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالعدتين ولأنهما استبراءان من رجلين فاشبها
العدتين وما ذكروه يبطل بالعدتين من رجلين
157

(مسألة) قال (ومن ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بعد تمام ملكه لها
بحيضة ان كانت ممن تحيض أو بوضع الحمل ان كانت حاملا أو بمضي ثلاثة أشهر ان
كانت من الآيسات أومن اللائي لم يحضن)
وجملته ان من ملك أمة بسبب من أسباب الملك كالبيع والهبة والإرث وغير ذلك لم يحل له
وطؤها حتى يستبرئها بكرا كانت أو ثيبا صغيرة كانت أو كبيرة ممن تحمل أو ممن لا تحمل وبهذا قال
الحسن وابن سيرين وأكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن عمر لا يجب
استبراء البكر وهو قول داود لأن الغرض بالاستبراء معرفة براءتها من الحمل وهذا معلوم في البكر
فلا حاجة إلى الاستبراء وقال الليث ان كانت ممن لا يحمل مثلها لم يجب استبراؤها لذلك. وقال
عثمان البتي يجب الاستبراء على البائع دون المشتري لأنه لو زوجها لكان الاستبراء على المزوج
دون الزوج كذلك ههنا
ولنا ما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل
حتى تحيض رواه أحمد في المسند وعن رويفع بن ثابت قال إنني لا أقول الا ما سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم سمعته يقول " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر ان يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها
بحيضة " رواه أبو داود وفي لفظ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر يقول " من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي
حتى يستبرئها بحيضة " رواه الأثرم ولأنه ملك جارية محرمة عليه فلم تحل له قبل استبرائها كالثيب
التي تحمل ولأنه سبب موجب للاستبراء فلم يفترق الحال فيه بين البكر والثيب والتي تحمل والتي لا تحمل
158

كالعدة قال أبو عبد الله قد بلغني ان العذراء تحمل فقال له بعض أهل المجلس نعم قد كان في
جيراننا، وذكر ذلك بعض أصحاب الشافعي وما ذكروه يبطل بما إذا اشتراها من امرأة أو صبي
أو ممن تحرم عليه برضاع أو غيره وما ذكره البتي لا يصح لأن الملك قد يكون بالسبي والإرث والوصية
فلو لم يستبرئها المشتري أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب والفرق بين البيع والتزويج أن
النكاح لا يراد الا للاستمتاع فلا يجوز الا فيمن تحل له فوجب أن يتقدمه الاستبراء ولهذا لا يصح
تزويج معتدة ولا مرتدة ولا مجوسية ولا وثنية ولا محرمة بالرضاع ولا المصاهرة والبيع يراد لغير ذلك
فصح قبل الاستبراء ولهذا صح في هذه المحرمات ووجب الاستبراء على المشتري لما ذكرناه فاما
الصغيرة التي لا يوطأ مثلها فظاهر كلام الخرقي تحريم قبلتها ومباشرتها لشهوة قبل استبرائها وهو
ظاهر كلام احمد وفي أكثر الروايات عنه قال تستبرأ وان كانت في المهد، وروي عنه أنه قال إن
كانت صغيرة بأي شئ تستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال في رواية أخرى تستبرأ بحيضة
إذا كانت ممن تحيض والا بثلاثة أشهر ان كانت ممن توطأ وتحبل فظاهر أنه لا يجب استبراؤها
ولا تحرم مباشرتها
وهذا اختيار ابن أبي موسى وقول مالك وهو الصحيح لأن سبب الإباحة متحقق وليس على
تحريمها دليل فإنه لا نص فيه ولا معنى نص لأن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعيا إلى
الوطئ المحرم أو خشية أن تكون أم ولده لغيره ولا يتوهم هذا في هذه فوجب العمل بمقتضى الإباحة
فأما من يمكن وطؤها فلا تحمل قبلتها ولا الاستمتاع منها بما دون الفرج قبل الاستبراء الا المسبية على إحدى
الروايتين وقال الحسن لا يحرم من المشتراة الا فرجها وله أن يستمتع منها بما شاء ما لم يمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما نهى عن الوطئ ولأنه تحريم للوطئ مع ثبوت الملك فاختص بالفرج كالحيض
159

ولنا أنه استبراء يحرم الوطئ فحرم الاستمتاع كالعدة ولأنه لا يأمن من كونها حاملا من بائعها
فتكون أم ولد والبيع باطل فيكون مستمتعا بأم ولد غيره وبهذا فارق تحريم الوطئ للحيض فأما المسبية
فظاهر كلام الخرقي تحريم مباشرتها فيما دون الفرج لشهوة وهو الظاهر عن أحمد لأن كل استبراء
حرم الوطئ حرم دواعيه كالعدة ولأنه داعية إلى الوطئ المحرم لأجل اختلاط المياه واشتباه الأنساب
فأشبهت المبيعة، وروي عن أحمد أنه لا يحرم لما روي عن ابن عمر أنه قال وقع في سهمي يوم جلولاء
جارية كان عنقها إبريق فضة فما ملكت نفسي ان قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون ولأنه لا نص
في المسبية ولا يصح قياسها على المبيعة لأنها تحتمل أن تكون أم ولد للبائع فيكون مستمتعا بأم ولد غيره
ومباشرا لمملوكة غيره والمسبية مملوكة له على كل حال وإنما حرم وطؤها لئلا يسقي ماءه زرع غيره،
وقول الخرقي بعد تمام ملكه لها يعني أن الاستبراء لا يكون الا بعد ملك المشتري لجميعها ولو ملك
بعضها ثم ملك باقيها لم يحتسب الاستبراء الا من حين ملك باقيها، وان ملكها ببيع فيه الخيار انبني
على نقل الملك في مدة فإن قلنا ينتقل فابتداء الاستبراء من حين البيع، وان قلنا لا ينتقل فابتداؤه
من حين انقطع الخيار، وإن كان المبيع معيبا فابتداء الخيار من حين البيع لأن العيب لا يمنع نقل
الملك بغير خلاف، وهل يبتدأ الاستبراء من حين البيع قبل القبض أو من حين القبض؟ فيه وجهان
(أحدهما) من حين البيع لأن الملك ينتقل به (والثاني) من حين القبض لأن القصد معرفة براءتها
من ماء البائع، ولا يحصل ذلك مع كونها في يده، وان اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها ثم
صارت إلى السيد حلت له بغير استبراء لأن ملكه ثابت على ما في يد عبده فقد حصل استبراؤها
في ملكه، وان اشترى مكاتبه أمة فاستبرأها ثم صارت إلى سيده فعليه استبراؤها لأن ملكه تجدد
عليها إذ ليس للسيد ملك على ما في يد مكاتبه الا أن تكون الجارية من ذوات محارم المكاتب.
160

فقال أصحابنا تباح للسيد بغير استبراء لأنه يصير حكمها حكم المكاتب ان رق رقت وان عتق عتقت
والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، والاستبراء الواجب ههنا في حق الحامل بوضعه بلا خلاف وفي
ذات القروء بحيضة في قول أكثر أهل العلم، وقال سعيد بن المسيب وعطاء بحيضتين وهو مخالف
للحديث الذي رويناه وللمعنى فإن المقصود معرفة براءتها من الحمل وهو حاصل بحيضة وفي الآيسة والتي
لم تحض والتي ارتفع حيضها بما ذكرناه في أم الولد على ما مضى من الخلاف فيه
(فصل) ومن ملك مجوسية أو وثنية فأسلمت قبل استبرائها لم تحل له حتى يستبرئها أو تتم
ما بقي من استبرائها لما مضى، وان استبرأها ثم أسلمت حلت له بغير استبرائها، وقال الشافعي
لا تحل له حتى تجدد استبراءها بعد اسلامها لأن ملكه تجدد على استمتاعها فأشبهت من
تجدد ملكه على رقبتها
ولنا قوله عليه السلام " لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة " وهذا ورد في سبايا أوطاس وكن مشركات
ولم يأمر في حقهن بأكثر من حيضة ولأنه لم يتجدد ملكه ولا أصابها وطئ من غيره فلم يلزمه استبراؤها
كما لو حلت المعرفة ولان الاستبراء إنما وجب كيلا يفضي إلى اختلاط المياه وامتزاج الأنساب ومظنة
ذلك تجدد الملك على رقبتها ولم يوجد، ولو باع أمته ثم ردت عليه بفسخ أو إقالة بعد قبضها أو افتراقهما
لزمه استبراؤها لأنه تجديد ملك سواء كان المشتري لها امرأة أو غيرها، فإن كان ذلك قبل افتراقهما
أو قبل غيبة المشتري بالجارية ففيها روايتان (إحداهما) عليه الاستبراء وهو مذهب الشافعي لأنه
تجديد ملك والثانية ليس عليه استبراء وهو قول أبي حنيفة إذا تقايلا قبل القبض لأنه لا فائدة
في الاستبراء مع تعين البراءة
(فصل) وإذا زوج الرجل أمته فطلقها الزوج لم يلزم السيد استبراؤها ولكن ان طلقت بعد الدخول
161

أو مات عنها فعليها العدة ولو ارتدت أمته أو كاتبها ثم أسلمت المرتدة وعجزت المكاتبة حلت لسيدها بغير
استبراء وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي يجب عليه الاستبراء في هذا كله لأنه زال ملكه عن
استمتاعها ثم عاد فأشبهت المشتراة
ولنا انه لم يتجدد ملكه عليها فأشبهت المحرمة إذا حلت والمرهونة إذا فكت فإنه لا خلاف في
حلهما بغير استبراء ولان الاستبراء شرع لمعنى مظنته تجدد الملك فلا يشرع مع تخلف المظنة والمعنى
(فصل) وان اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج قبل الدخول لم تبح بغير استبراء نص عليه أحمد
وقال هذه حيلة وضعها أهل الرأي لابد من استبراءها
ووجه ذلك أن هذه تجدد الملك فيها ولم يحصل استبراؤها في ملكه فلم تحل بغير استبراء كما
لو لم تكن مزوجة ولان اسقاط الاستبراء ههنا ذريعة إلى اسقاطه في حق من أراد بأن يزوجها
عند بيعها ثم يطلقها زوجها بعد تمام البيع والحيل حرام. فاما إن كان الزوج دخل بها ثم طلقها فعليها
العدة ولا يلزم المشتري استبراؤها لأن ذلك قد حصل بالعدة ولأنها لو عتقت لم يجب عليها مع العدة
استبراء ولأنها قد استبرأت نفسها ممن كانت فراشا له فأجزأ ذلك كما لو كانت استبرأت نفسها
من سيدها إذا كانت خالية من زوج وان اشتراها وهي معتدة من زوجها لم يجب عليها استبراء لأنها
لم تكن فراشا لسيدها وقد حصل الاستبراء من الزوج بالعدة ولذلك لو عتقت في هذه الحال لم يجب
عليها استبراء. وقال أبو الخطاب في المزوجة هل يدخل الاستبراء في العدة؟ على وجهين
وقال القاضي في المعتدة يلزم السيد استبراؤها بعد قضاء العدة ولا يتداخلان لأنهما من رجلين
ومفهوم كلام أحمد ما ذكرناه أولا لأنه علل فيما قبل الدخول بأنها حيلة وضعها أهل الرأي ولا يوجد
ذلك ههنا. ولا يصح قولهم ان الاستبراء من رجلين فإن السيد ههنا ليس له استبراء
(فصل) وان كانت الأمة فوطئاها ثم باعاها لرجل أجزأه استبراء واحد لأنه يحصل به
162

معرفة البراءة. فإن قيل فلو أعتقها لألزمتموها استبراءين قلنا وجوب الاستبراء في حق المعتقة معلل
بالوطئ ولذلك لو أعتقها وهي ممن لا يطؤها لم يلزمها استبراء وقد وجد الوطئ من اثنين فلزمها حكم
وطئهما وفي مسئلتنا هو معلل بتجديد الملك لا غير ولهذا يجب على المشتري الاستبراء سواء كان سيدهما
يطؤها أو لم يكن والملك واحد فوجب أن يتجدد الاستبراء
(فصل) وإذا اشترى الرجل زوجته الأمة لم يلزمه استبراؤها لأنها فراش له فلم يلزمه استبراؤها
من مائه لكن يستحب ذلك ليعلم هل الولد من النكاح فيكون عليه ولاء له لأنه عتق بملكه له ولا تصير
به الأمة أم ولد، أو هو حادث في ملك يمينه فلا يكون عليه ولاء وتصير به الأمة أم ولد، ومتى تبين
حملها فله وطؤها لأنه قد علم الحمل وزال الاشتباه
(فصل) وان وطئ الجارية التي يلزمه استبراؤها قبل استبرأها أثم والاستبراء باق بحاله لأنه
حق عليه فلا يسقط بعد وانه. فإن لم تعلق منه استبرأها بما كان يستبرئها به قبل الوطئ وتبني على
ما مضى من الاستبراء وان علقت منه فمتى وضعت حملها استبرأها بحيضة ولا يحل له الاستمتاع منها
في حال حملها لأنه لم يستبرئها وان وطئها وهي حاملا حملا كان موجودا حين البيع من غير البائع فمتى
وضعت حملها انقضى استبراؤها. قال أحمد: ولا يلحق بالمشتري ولا يتبعه ولكن يعتقه لأنه قد
شرك فيه لأن الماء يزيد في الولد
وقد روى أبو داود باسناده عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بامرأة مجح (1)
على باب فسطاط فقال " لعله يريد أن يلم بها " فقالوا نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لقد هممت ان ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له أو كيف يستخدمه وهو لا يحل
له " ومعناه انه ان استلحقه وشركه فميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده وان اتخذوه مملوكا لم يحل

(1) هي المرأة الحبلى قد قاربت الولادة
163

له لأنه قد شرك فيه لكون الوطئ يزيد في الولد، وعن ابن عباس قال. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
وطئ الحبالى حتى يضعن ما في بطونهن. رواه النسائي والترمذي
(فصل) ومن أراد بيع أمته فإن كان لا يطؤها لم يلزمه استبراؤها لكن يستحب ذلك ليعلم
خلوها من الحمل فيكون أحوط للمشتري وأقطع للنزاع. قال احمد وان كانت لامرأة فاني أحب أن لا
تبيعها حتى تستبرئها بحيضة فهو أحوط لها، وإن كان يطؤها وكانت آيسة فليس عليه استبراؤها لأن
انتفاء الحمل معلوم، وان كانت ممن تحمل وجب عليه استبراؤها وبه قال النخعي والثوري. وعن أحمد
رواية أخرى لا يجب عليه استبراؤها وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن عبد الرحمن بن
عوف باع جارية كان يطؤها قبل استبرائها، ولان الاستبراء على المشتري فلا يجب على البائع فإن
الاستبراء في حق الحرة آكد ولا يجب قبل النكاح وبعده كذلك لا يجب في الأمة قبل البيع وبعده
ولنا ان عمر أنكر على عبد الرحمن بن عوف بيع جارية يطؤها قبل استبرائها فروى عبد الله
ابن عبيد بن عمير قال باع عبد الرحمن بن عوف جارية كان يقع عليها قبل ان يستبرئها فظهر بها
حمل عند الذي اشتراها فخاصموه إلى عمر فقال له عمر كنت تقع عليها؟ قال نعم قال فبعتها قبل
ان تستبرئها؟ قال نعم، قال ما كنت لذلك بخليق قال فدعا القافة فنظروا إليه فألحقوه به ولأنه
يجب على المشتري الاستبراء لحفظ مائه فكذلك البائع ولأنه قبل الاستبراء مشكوك في صحة البيع
وجوازه لاحتمال أن تكون أم ولد فيجب الاستبراء لإزالة الاحتمال فإن خالف وباع فالبيع صحيح
في الظاهر لأن الأصل عدم الحمل ولان عمر وعبد الرحمن لم يحكما بفساد البيع في الأمة التي باعها
قبل استبرائها الا بلحاق الولد به، ولو كان البيع باطلا قبل ذلك لم يحتج إلى ذلك، وذكر أصحابنا
الروايتين في كل أمة يطؤها من غير تفريق بين الآيسة وغيرها، والأولى ان ذلك لا يجب في الآيسة
164

لأن علة الوجوب احتمال الحمل وهو وهم بعيد والأصل عدمه فلا نثبت به حكما بمجرده
(فصل) وإذا اشترى جارية فظهر بها حمل لم يخل من أحوال خمسة (أحدها) أن يكون البائع
أقر بوطئها عند البيع أو قبله وأتت بولد لدون ستة أشهر أو يكون البائع ادعى الولد فصدقه المشتري
فإن الولد يكون للبائع والجارية أم ولد له والبيع باطل
(الحال الثاني) أن يكون أحدهما استبرأها ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين وطئها
المشتري فالولد للمشتري والجارية أم ولد له
(الحال الثالث) ان تأتي به لأكثر من ستة أشهر بعد استبراء أحدهما لها ولاقل من ستة أشهر
منذ وطئها المشتري فلا يلحق نسبه بواحد منهما ويكون ملكا للمشتري ولا يملك فسخ البيع لأن
الحمل تجدد في ملكه ظاهرا فإن ادعاه كل واحد منهما فهو للمشتري لأنه ولد في ملكه مع احتمال
كونه منه، وان ادعاه البائع وحده فصدقه المشتري لحقه وكان البيع باطلا وان كذبه فالقول قول
المشتري في ملك الولد لأن الملك انتقل إليه ظاهرا فلم تقبل دعوى البائع فيما يبطل حقه كما لو أقر بعد
البيع ان الجارية مغصوبة أو معتقة وهل يثبت نسب الولد من البائع؟ فيه وجهان
(أحدهما) يثبت لأنه نفع للولد من غير ضرر المشتري فيقبل قوله فيه كما لو أقر لولده بمال
(والثاني) لا يقبل لأن فيه ضررا على المشتري فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه ولذلك
لو أقر عبدان كل واحد منهما انه أخو صاحبه لم يقبل الا ببينة
(الحال الرابع) أن تأتي به بعد ستة أشهر منذ وطئها المشتري قبل استبرائها فنسبه لاحق بالمشتري
فإن ادعاه البائع فاقر له المشتري لحقه وبطل البيع وان كذبه فالقول قول المشتري، وان ادعى كل
واحد منهما أنه من الآخر عرض على القافة فالحق بمن ألحقته به لحديث عبد الرحمن بن عوف ولأنه
165

يحتمل كونه من كل واحد منهما وان ألحقته بهما لحق بهما وينبغي ان يبطل البيع وتكون
أم ولد للبائع لأننا نتبين أنها كانت حاملا منه قبل بيعها
(الحال الخامس) إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ باعها ولم يكن أقر بوطئها فالبيع صحيح
في الظاهر والولد مملوك للمشتري فإن ادعا البائع فالحكم فيه كما ذكرنا في الحال الثالث سواء
(مسألة) قال (وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة والبيتوتة في غير
منزلها والكحل بالإثمد والنقاب)
هذا يسمى الاحداد ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في وجوبه على المتوفى عنها زوجها الا عن
الحسن فإنه قال لا يجب الاحداد وهو قول شذ به عن أهل العلم وخالف به السنة فلا يعرج عليه
ويستوي في وجوبه الحرة والأمة والمسلمة والذمية والكبيرة والصغيرة وقال أصحاب الرأي الاحداد
على ذمية ولا صغيرة لأنهما غير مكلفتين
ولنا عموم الأحاديث التي سنذكرها ولان غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات
كالخمر والزنا وإنما يفترقان في الاثم فكذلك الاحداد ولان حقوق الذمية في النكاح كحقوق
المسلمة فكذلك فيما عليها
(فصل) ولا احداد على غير الزوجات كأم الولد إذا مات سيدها قال ابن المنذر لا أعلمهم
يختلفون في ذلك وكذلك الأمة التي يطؤها سيدها إذا مات عنها ولا الموطوءة بشبهة والمزني بها
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث الاعلى
زوج أربعة أشهر وعشرا " ولا احداد على الرجعية بغير خلاف نعلمه في حكم الزوجات
166

لها ان تتزين لزوجها وتستشرف له ليرغب فيها وتتفق عنده كما تفعل في صلب النكاح ولا
احداد على المنكوحة نكاحا فاسدا لأنها ليست زوجة على الحقيقة ولا لها من كانت تحل له ويحل لها
فتحزن على فقده.
(فصل) وتجتنب الحادة ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها ويحسنها وذلك أربعة
أشياء (أحدها) الطيب ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الاحداد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تمس
طيبا الا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قسط أو أظفار " متفق عليه وروت زينب
بنت أم سلمة قالت دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى أبوها أبو سفيان فدعت بطيب
فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضها ثم قالت والله مالي بالطيب من
حاجة غير اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على
ميت فوق ثلاث ليال الا على زوج أربعة أشهر وعشرا " متفق عليه ولان الطيب يحرك الشهوة
ويدعو إلى المباشرة، ولا يجوز لها استعمال الادهان المطيبة كدهن الورد والبنفسج والياسمين والبان
وما أشبهه لأنه استعمال للطيب، فأما الادهان بغير المطيب كالزيت والشيرج والسمن فلا بأس به لأنه
ليس بطيب (الثاني) اجتناب الزينة وذلك واجب في قول عامة أهل العلم منهم ابن عمر وابن عباس وعطاء
وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك وينهون عنه وهو ثلاثة أقسام:
(أحدها) الزينة في نفسها فيحرم عليها ان تختضب وان تحمر وجهها بالكلكون وان تبيضه بأسفيذاج
العرايس وأن تجعل عليه صبرا يصفره وأن تنقش وجهها ويديها وان تخفف وجهها وما أشبهه مما يحسنها
وأن تكتحل بالاسمد من غير ضرورة وذلك لما روت أم سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " المتوفى عنها
167

زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل " رواه النسائي
وأبو داود وروت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام الا على زوج
فإنها تحد أربعة أشهر عشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا
الا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قسط أو أظفار " متفق عليه. وعن أم سلمة
قالت جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت
عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا " مرتين أو ثلاثا متفق عليه، وروت أم سلمة قالت:
دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي عيني صبرا فقال " ماذا يا أم سلمة؟ "
قلت إنما هو صبر ليس فيه طيب فإنه " انه يشب الوجه لا تعجليه الا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي
بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب " قال قلت بأي شئ أمتشط قال " بالسدر تغلفين به رأسك " ولان
الكحل من أبلغ الزينة تدعو إليها وتحرك الشهوة فهي كالطيب وأبلغ منه، وحكي عن بعض
الشافعية أن للسوداء أن تكتحل وهو مخالف للخبر والمعنى فإنه يزينها ويحسنها، وان اضطرت
الحادة إلى الكحل بالإثمد للتداوي فلها أن تكتحل ليلا وتمسحه نهارا، ورخص فيه عند الضرورة
عطاء والنخعي ومالك وأصحاب الرأي لما روت أم حكيم بنت أسد عن أمها أن زوجها توفي وكانت
تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء فقالت لا تكتحلي
الا لما لابد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار رواه أبو داود والنسائي، وإنما منع من
الكحل بالإثمد لأنه الذي تحصل به الزينة، فأما الكحل بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به
لأنه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها، ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها لأنه
إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخظاب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " انه يشب الوجه ولا تمنع من
168

التنظيف بتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط
به لحديث أم سلمة ولأنه يراد للتنظيف لا للطيب
(القسم الثاني) زينة الثياب فتحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين كالمعصفر والمزعفر وسائر
الأحمر وسائر الملون للتحسين كالأزرق الصافي والأخضر الصافي والأصفر فلا يجوز لبسه لقول النبي
" لا تلبس ثوبا مصبوغا " وقوله " لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق " فاما ملا يقصد بصبغه حسنه
كالكحلي والأسود والأخضر المشبع فلا تمنع منه لأنه ليس بزينة وما صبغ غزله ثم نسج فيه احتمالان
(أحدهما) يحرم لبسه لأنه أرفع وأحسن ولأنه مصبوغ للحسن فأشبه ما صبغ بعد نسجه (والثاني)
لا يحرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة " الا ثوب عصب " وهو ما صبغ غزله قبل نسجه
ذكره القاضي ولأنه لم يصبغ وهو ثوب فأشبه ما كان حسنا من الثياب غير مصبوغ، والأول أصح
وأما العصب فالصحيح أنه نبت تصبغ به الثياب قال صاحب الروض الأنف الورس والعصب نبتان
باليمن لا ينبتان الا به فأرخص النبي صلى الله عليه وسلم للحادة في لبس ما صبغ بالعصب لأنه في معنى ما صبغ لغير
التحسين أما ما صبغ غزله للتحسين كالأحمر والأصفر فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه
كحصولها بما صبغ بعد نسجه ولا تمنع من حسان الثياب غير المصبوغة وإن كان رقيقا سواء كان
من قطن أو كتان وإبريسم لأن حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغيره كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة
لا يلزمها أن تغير لونها وتشوه نفسها
(القسم الثالث) الحلي فيحرم عليها لبس الحلي كله حتى الخاتم في قول عامة أهل العلم لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " ولا الحلي "، وقال عطاء يباح حلي الفضة دون الذهب وليس بصحيح لأن النهي
عام، ولان الحلي يزيد حسنها ويدعو إلى مباشرتها قالت امرأة
وما الحلي الا زينة لنقيصة * تتمم من حسن إذا الحسن قصرا
169

(فصل) الثالث مما تجتنبه الحادة النقاب وما في معناه مثل البرقع ونحوه لأن المعتدة مشبهة
بالحرمة والحرمة تمنع من ذلك وإذا احتاجت إلى ستر وجهها أسدلت عليه كما تفعل المحرمة
(فصل) والرابع المبيت في غير منزلها وممن أوجب على المتوفى عنها زوجها الاعتداد في منزلها
عمر وعثمان رضي الله عنهما. وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأم سلمة، وبه يقول مالك
والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق. وقال ابن عبد البر وبه يقول جماعة فقهاء
الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر
وقال جابر بن زيد والحسن وعطاء تعتد حيث شاءت، وروي ذلك عن علي وابن عباس وجابر
وعائشة رضي الله عنهم قال ابن عباس نسخت هذه الآية عدتها عند أهله وسكتت في وصيتها وان
شاءت خرجت لقول الله تعالى (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن) قال عطاء ثم جاء
الميراث فنسخ السكنى تعتد حيث شاءت. رواهما أبو داود
ولنا ما روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري انها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخبرته ان زوجها خرج في طلب اعبد له فقتلوه بطرف القدوم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أرجع
إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم "
قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة اوفي المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " كيف قلت؟ " فرددت عليه القصة فقال " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " فاعتددت
فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى
به رواه ملك في موطئه والأثرم وهو حديث صحيح قضى به عثمان في جماعة الصحابة فلم ينكروه
إذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به سواء كان مملوكا لزوجها أو
170

بإجارة أو عارية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريعة " امكثي في بيتك " ولم تكن في بيت يملكه زوجها
وفي بعض ألفاظه " اعتدي في البيت الذي اتاك فيه نعي زوجك " وفي لفظ " اعتدي حيث أتاك
الخبر " فإن اتاها الخبر في غير مسكنها رجعت إلى مسكنها فاعتدت فيه، وقال سعيد بن المسيب
والنخعي لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي زوجها اتباعا للفظ الخبر الذي رويناه
ولنا قوله عليه السلام " امكثي في بيتك " واللفظ الآخر قضية في عين والمراد به هذا فإن
قضايا الأعيان لا عموم لها ثم لا يمكن حمله على العموم فإنه لا يلزمها الاعتداد في السوق والطريق والبرية
إذا أتاها الخبر وهي فيها
(فصل) فإن خافت هدما أو غرقا أو عدوا أو نحو ذلك أو حولها صاحب المنزل لكونه عارية
رجع فيها أو بإجارة انقضت مدتها أو منعها السكنى بعديا أو امتنع من اجارته أو طلب به أكثر من
أجرة المثل أو لم تجد ما تكتري به أو لم تجد الا من مالها فلها ان تنتقل لأنها حال عذر ولا يلزمها بذلك
أجر السكن وإنما الواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن. وإذا تعذرت السكنى سقطت
ولها أن تسكن حيث شاءت ذكره القاضي. وذكر أبو الخطاب انها تنتقل إلى أقرب ما يمكنها
النقلة إليه وهو مذهب الشافعي لأنه أقرب إلى موضع الوجود فأشبه من وجبت عليه الزكاة في موضع
لا يجد فيه أهل السهمان فإنه ينقلها إلى أقرب موضع يجدهم فيه
ولنا ان الواجب سقط لعذر ولم يرد الشرع له ببدل فلا يجب كما لو سقط الحج للعجز عنه وفوات
شرط والمعتكف إذا لم يقدر على الاعتكاف في المسجد ولان ما ذكروه اثبات حكم بلا نص ولا معنى
نص فإن معنى الاعتداد في بيتها لا يوجد في السكني فيما قرب منه ويفارق أهل السهمان فإن القصد
نفع الأقرب وفي نقلها إلى أقرب موضع يجده نفع الأقرب فوجب لذلك
171

(فصل) قال أصحابنا ولا سكنى للمتوفى عنها إذا كانت حائلا. رواية واحدة وان كانت حاملا
فعلى روايتين وللشافعي في سكنى المتوفى عنها قولان وجه الوجوب قوله تعالى (والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير اخراج) فنسخ بعض المدة وبقي باقيها على
الوجوب. ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر فريعة بالسكنى في بيتها من غير استئذان الورثة ولو لم تجب السكنى
لم يكن لها أن تسكن الا باذنهم كما أنها ليس لها أن تتصرف في شئ من مال زوجها بغير اذنهم
ولنا ان الله تعالى إنما جعل للزوجة ثمن التركة أو ربعها وجعل باقيها لسائر الورثة، والسكن من
التركة فوجب أن لا يستحق منه أكثر من ذلك ولأنها بائن من زوجها فأشبهت المطلقة ثلاثا. وأما
إذا كانت حاملا وقلنا لها السكنى فلأنها حامل من زوجها فوجب لها السكنى قياسا على المطلقة.
فأما الآية التي احتجوا بها فإنها منسوخة
وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فريعة بالسكنى فقضية في عين يحتمل انه عليه السلام علم أن الوارث يأذن
في ذلك أو يكون الامر يدل على وجوب السكنى عليها ويتقيد ذلك بالامكان واذن الوارث من جملة
ما يحصل الامكان به، فإذا قلنا لها السكنى فهي أحق بسكنى المسكن الذي كانت تسكنه من الورثة
والغرماء من رأس مال المتوفى ولا يباع في دينه بيعا يمنعها السكنى فيه حتى تقضي العدة وبهذا
قال ومالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء. وان تعذر المسكن فعلى الوارث أن يكتري لها
مسكنا من مال الميت فإن لم يفعل أجبره الحاكم وليس لها أن تنتقل من مسكنها الا لعذر كما ذكرنا
وان اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه لم يجز لأن هذه السكنى يتعلق بها حق الله تعالى لأنها تجب
للعدة والعدة بتعلق بها حق الله تعالى فلم يجز اتفاقهما على ابطالها بخلاف سكنى النكاح فإنها حق لهما
ولان السكنى ههنا من الاحداد فلم يجز الاتفاق على تركها كسائر خصال الاحداد، وليس لهم ان
172

يخرجوها الا أن تأتي بفاحشة مبينة لقول الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا أن
يأتين بفاحشة مبينة) وهي أن تطول لسانها على أحمائها وتؤذيهم بالسب ونحوه. روي ذلك عن ابن
عباس وهو قول الأكثرين
وقال ابن مسعود والحسن هي الزنا لقول الله تعالى (واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا
عليهن أربعة منكم) واخراجهن هو الاخراج لإقامة حد الزنا ثم ترد إلى مكانها
ولنا ان الآية تقتضي الاخراج عن السكنى وهذا لا يتحقق فيما قالاه، وأما الفاحشة فهي اسم
للزنا وغيره من الأقوال الفاحشة. يقال أفحش فلان في مقاله ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قالت له
عائشة يا رسول الله قلت لفلان بئس أخو العشيرة فلما دخل ألنت له القول فقال " يا عائشة ان الله لا يحب
الفحش ولا التفحش " إذا ثبت هذا فإن الورثة يخرجونها عن ذلك المسكن إلى مسكن آخر من الدار
ان كانت كبيرة تجمعهم فإن كانت لا تجمعهم أولم يمكن نقلها إلى غيره في الدار ولم يتخلصوا من أذاها
بذلك فلهم نقلها. وقال بعض أصحابنا ينتقلون هم عنها لأن سكناها واجب في المكان وليس بواجب
عليهم والنص يدل على أنها تخرج فلا يعرج على ما خالفه ولان الفاحشة منها فكان الاخراج لها. وإن كان
أحماؤها هم الذين يؤذونها ويفحشون عليها نقلوا هم دونها فإنها لم تأت بفاحشة فلا تخرج بمقتضى النص
ولان الذنب لهم فيخصون بالاخراج
وإن كان المسكن لغير الميت فتبرع صاحبه باسكانها فيه لزمها الاعتداد به وان أبى أن يسكنها الا بأجرة
وجب بذلها من مال الميت الا ان يتبرع انسان ببذلها فيلزمها الاعتداد به فإن حولها صاحب المكان
أو طلب أكثر من أجرة المثل فعلى الورثة اسكانها إن كان للميت تركة يستأجر لها به مسكن لأنه
حق لها يقدم على الميراث فإن اختارت النقلة عن هذا المسكن الذي ينقلونها إليه فلها ذلك لأن سكناها
173

به حق لها وليس بواجب عليها فإن المسكن الذي كان يجب عليها السكنى به هو الذي كانت تسكنه
حين موت زوجها وقد سقطت عنها السكنى به وسواء كان المسكن الذي كانت به لأبويها أو لأحدهما
أو لغيرهم، وان كانت تسكن في دارها فاختارت الإقامة فيها والسكنى بها متبرعة أو بأجرة تأخذها من
التركة جاز ويلزم الورثة بذل الأجرة إذا طلبتها وان طلبت أن تسكنها غيرها وتنتقل عنها فإنها ذلك لأنه
ليس عليها أن تؤجر دارها ولا تعيرها وعليهم اسكانها
(فصل) فأما إذا قلنا ليس لها السكنى فتطوع الورثة باسكانها في مسكن زوجها أو السلطان
أو أجنبي لزمها الاعتداد به وان منعت السكنى به أو طلبوا منها الأجرة فلها أن تنتقل عنه إلى غيره
كما ذكرنا فيما إذا أخرجها المؤجر عند انقضاء الإجارة وسواء قدرت على الأجرة أو عجزت عنها
لأنه إنما تلزمها السكنى لا تحصيل المسكن، وان كانت في مسكن لزوجها فأخرجها الورثة منه وبذلوا
لها مسكنا آخر لم تلزمها السكنى وكذلك أن أخرجت من المسكن الذي هي به أو خرجت لأي
عارض كان لم تلزمها السكنى في موضع معين سواء بذله الورثة أو غيرهم لأنها إنما يلزمها الاعتداد
في بيتها الذي كانت فيه لا في غيره وكذلك إذا قلنا لها السكنى فتعذر سكناها في مسكنها وبذل
لها سواه، وان طلبت مسكنا سواه لزم الورثة تحصيله بأجرة أو بغيرها ان خلف الميت تركة تفي
بذلك ويقدم ذلك على الميراث لأنه حق على الميت فأشبه الدين فإن كان على الميت دين يستغرق
174

ماله ضربت بأجرة المسكن مع الغرماء لأن حقها مساو لحقوق الغرماء وتستأجر بما يصيبها موضعا
تسكنه وكذلك الحكم في المطلقة إذا حجر على الزوج قبل أن يطلقها ثم طلقها فإنها تضرب بأجرة
المسكن لمدة العدة مع الغرماء إذا كانت حاملا فإن قيل فهلا قدمتم حق الغرماء لأنه أسبق؟ قلنا لأن
حقها ثبت عليه بغير اختيارها فشاركت الغرماء فيه كما لو أتلف المفلس مالا لانسان أو جني عليه،
وان مات وهي في مسكنه لم يجز اخراجها منه لأن حقها تعلق بعين المسكن قبل تعلق حقوق الغرماء
بعينه فكان حقها مقدما كحق المرتهن، وان طلب الغرماء بيع هذا المسكن وتترك السكنى لها مدة
العدة لم يجز لأنها إنما تستحق السكنى إذا كانت حاملا ومدة الحمل مجهولة فتصير كما لو باعها واستثنى نفعها
مدة مجهولة وان أراد الورثة قسمة مسكنها على وجه يضربها في السكنى لم يكن لهم ذلك وان أرادوا التعليم
بخطوط من غير نقض ولا بناء جاز لأنه لا ضرر عليه فيه
(فصل) وإذا قلنا إنها تضرب مع الغرماء بقدر مدة عدتها فإنها تضرب مدة عادتها في وضع
الحمل ان كانت حاملا، وان كانت مطلقة من ذوات القروء وقلنا لها السكنى ضربت بمدة عادتها
في القروء فإن لم تكن عادة ضربت بغالب عادات النساء وهو تسعة أشهر للحمل وثلاثة أشهر لكل
قرء شهر أو بما بقي من ذلك أن كان قد مضى من مدة حملها شئ لأنه لا يمكن تأخير القسمة لحق
الغرماء فإذا ضربت بذلك فوافق الصواب فلم تزد ولم تنقص استقر الحكم وتستأجر بما يحصل لها
175

مكانا تسكنه إذا تعذر ذلك سكنت حيث شاءت وان كانت المدة أقل مما ضربت به مثل أن وضعت حملها لستة
أشهر أو تربصت ثلاثة قروء في شهرين فعليها رد الفضل وتضرب فيه بحصتها منه، وان طالت العدة
أكثر من ذلك مثل أن وضعت حملها في عام أو رأت ثلاثة قروء في نصف عام رجعت بذلك على الغرماء
كما يرجعون عليها في صورة النقص ويحتمل أن لا ترجع به ويكون في ذمة زوجها لأننا قدرنا ذلك مع تجويز
الزيادة فلم تكن لها الزيادة عليه
(فصل) وللمعتدة الخروج في حوائجها نهارا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها لما روى جابر قال
طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجذ نخلها فلقيها رجل فنهاها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال
" أخرجي فجذي نخلك لعلك أن تتصدقي منه أو تفعلي خيرا " رواه النسائي وأبو داود وروى مجاهد
قال استشهد رجل يوم أحد فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن يا رسول الله نستوحش بالليل
أفنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحدثن عند إحداكن حتى
إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها " وليس لها البيت في غير بيتها ولا الخروج ليلا الا
لضرورة لأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه
وان وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه الا بها كاليمين والحد وكانت ذات خدر بعث إليها الحاكم
من يستوفي الحق منها في منزلها وان كانت برزة جاز احضارها لاستيفائه فإذا فرغت رجعت إلى منزلها
176

(فصل) والأمة كالحرة في الاحداد والاعتداد في المنزل الا أن سكناها في العدة كسكناها في
حياة زوجها للسيد امساكها نهارا وارسالها ليلا فإن أرسلها ليلا ونهارا اعتدت زمانها كله في المنزل
وعلى الورثة سكناها فيهما كالحرة سواء
(فصل) والبدوية كالحضرية في الاعتداد في منزلها الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه فإن
انتقلت الحلة انتقلت معهم لأنها لا يمكنها المقام وحدها وان انتقل غير أهلها لزمها المقام معهم
وان انتقل أهلها انتقلت معهم الا ان يبقى من الحلة من لا تخاف على نفسها معهم فتكون مخيرة بين الإقامة
والرحيل وان هرب أهلها فخافت هربت معهم وان أمنت أقامت لقضاء العدة في منزلها
(فصل) فإن مات صاحب السفينة وامرأته في السفينة ولها مسكن في البر فحكمها حكم المسافرة
في البر على ما سنذكره وان لم يكن لها مسكن سواها وكان فيها بيت يمكنها السكنى فيه بحيث لا
تجتمع مع الرجال وأمكنها المقام فيه بحيث تأمن على نفسها ومعها محرمها لزمها أن تعتد به فإن كانت
ضيقة وليس معها محرمها أو لا يمكنها الإقامة فيها الا بحيث تختلط بالرجال لزمها الانتقال منها
إلى موضع سواها.
177

(مسألة) قال (والمطلقة ثلاثا تتوقى الطيب والزينة والكحل بالإثمد)
اختلفت الرواية عن أحمد في وجوب الاحداد على المطلقة البائن فعنه بجب عليها وهو قول
سعيد بن المسيب وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي والثانية لا يجب عليها وهو قول عطاء وربيعة
ومالك وابن المنذر ونحوه قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال الا على زوج أربعة أشهر وعشرا وهذه عدة الوفاة فيدل
على أن الاحداد إنما يجب في عدة الوفاة، ولأنها معتدة عن غير وفاة فلم يجب عليها الاحداد كالرجعية
والموطوءة بشبهة ولان الاحداد في عدة الوفاة لاظهار الأسف على فراق زوجها وموته، فأما الطلاق
فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معنى لتكليفها الحزن عليه ولان المتوفى عنها لو أتت بولد
لحق الزوح وليس له من ينفيه فاحتيط عليها بالاحداد لئلا يلحق بالميت من ليس من بخلاف
المطلقة فإن زوجها باق فهو يحتاط عليها بنفسه وينفي ولدها إذا كان من غيره
ووجه الرواية الأولى أنها معتدة بائن من نكاح فلزمها الاحداد كالمتوفى عنها زوجها وذلك
لأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه، ويخرج على هذا الرجعية فإنها زوجة والموطوءة بشبهة
ليست معتدة من نكاح فلم تكمل الحرمة، فأما الحديث فإنما مدلوله تحريم الاحداد على ميت غير
الزوج ونحن نقول به ولهذا جاز الاحداد ههنا بالاجماع فإذا قلنا يلزمها الاحداد لزمها شيئان توقي
178

الطيب والزينة في نفسها على ما قدمنا فيها ولا تمنع من النقاب ولا من اعتداد في غير منزلها ولذلك
أمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم على ما سنذكره
إن شاء الله تعالى:
(فصل) وإذا كانت المبتوتة حاملا وجب لها السكنى رواية واحدة ولا نعلم بين أهل العلم خلافا
فيه وان لم تكن حاملا ففيها روايتان:
(إحداهما) لا يجب لها ذلك وهو قول ابن عباس وجابر وبه قال عطاء وطاوس والحسن وعمرو
ابن ميمون وعكرمة وإسحاق وأبو ثور وداود
(الثانية) يجب لها ذلك وهو قول ابن مسعود وابن عمر وعائشة وسعيد بن المسيب والقاسم
وسالم وأبي بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار ومالك والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي لقول الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة مبينة) وقال تعالى
(أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وان كن أولات حمل
فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) فأوجب لهن السكنى مطلقا ثم خص الحامل بالانفاق عليها
179

ولنا ما روت فاطمة بنت قيس ان أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله
بشعير فتسخطته فقال والله مالك علينا من شئ فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها
" ليس لك عليه نفقة ولا سكنى فأمرها ان تعتد في بيت أم شريك ثم قال إن تلك امرأة
يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم " متفق عليه، فإن قيل فقد أنكر عليها عمر وقال:
ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، وقال عروة لقد عابت
عائشة ذلك أشد العيب وقال إنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، وقال سعيد بن المسيب
تلك امرأة فتنت الناس انها كانت لسنة فوضعت على بدي ابن مكتوم الأعمى. قلنا أما مخالفة
الكتاب فإن فاطمة لما أنكروا عليها قالت بيني وبينكم كتاب الله قال الله تعالى (لا تدري لعل الله
يحدث بعد ذلك أمرا) فأي أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا
فعلام تحبسونها فكيف تحبس امرأة بغير نفقة؟ وأما قولهم ان عمر قال لا ندع كتاب ربنا فقد أنكر
احمد هذا القول عن عمر قال ولكنه قال لا نجيز في ديننا قول امرأة وهذا مجمع على خلافه وقد أخذنا
بخبر فريعة وهي امرأة وبرواية عائشة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام وصار أهل العلم
إلى خبر فاطمة هذا في كثير من الأحكام مثل سقوط نفقة المبتوتة إذا لم تكن حاملا ونظر المرأة
إلى الرجال وخطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن سكنت إلى الأول
180

واما تأويل من تأول حديثها فليس بشئ فإنها تخالفهم في ذلك وهي اعلم بحالها ولم يتفق المتأولون
على شئ وقد رد على من رد عليها فقال ميمون بن مهران لسعيد بن المسيب لما قال تلك امرأة
فتنت الناس لئن كانت إنما اخذت بما أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتنت الناس وان لنا في رسول الله
صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة مع أنها أحرم الناس عليه ليس له عليها رجعة ولا بينهما ميراث. وقول عائشة
انها كانت في مكان وحش لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل بغير ذلك فقال " يا ابنة آل قيس إنما
السكنى والنفقة ما كان لزوجك عليك الرجعة " هكذا رواه الحميدي والأثرم. ولأنه لو صح ما قالته
عائشة أو غيرها من التأويل ما احتاج عمر في رده الا ان يعتذر بأنه قول امرأة ثم فاطمة صاحبة القصة
وهي اعرف بنفسها وبحالها وقد أنكرت على من أنكر عليها وردت على من رد خبرها أو تأوله بخلاف
ظاهره فيجب تقديم قولها لمعرفتها بنفسها وموافقتها ظاهر الخبر كما في سائر ما هذا سبيله
(فصل) قال أصحابنا ولا يتعين الموضع الذي تسكنه في الطلاق سواء قلنا لها السكنى أو لم نقل
بل يتخير الزوج بين اقرارها في الموضع الذي طلقها فيه وبين نقلها إلى مسكن مثلها، والمستحب اقرارها
لقوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا ان يأتين بفاحشة مبينة ولان فيه خروجا من
181

الخلاف فإن الذين ذكرنا عنهم ان لها السكنى يرون وجوب الاعتداد عليها في منزلها فإن كانت
في بيت يملك الزوج سكناه ويصلح لمثلها اعتدت فيه فإن ضاق عنهما انتقل عنها وتركه لها لأنه
يستحب سكناه في الموضع الذي طلقها فيه، وان اتسع الموضع لهما وفي الدار موضع لها منفرد كالحجرة
أو علو الدار أو سفلها وبينهما باب مغلق سكنت فيه وسكن الزوج في الباقي لأنهما كالحجرتين المتجاورتين
وان لم يكن بينهما باب مغلق لكن لها موضع تتستر فيه بحيث لا يراها ومعها محرم تتحفظ به جاز لأن
مع المحرم يؤمن الفساد، ويكره في الجملة لأنه لا يؤمن النظر وان لم يكن معها محرم لم يجز لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" لا يخلون رجل بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان " وان امتنع من اسكانها وكانت ممن لها عليه
السكنى أجبره الحاكم فإن كان الحاكم معدوما رجعت على الزوج وإن كان الحاكم موجودا فهل ترجع
على روايتين. وإن كان الزوج حاضرا ولم يمنعها من المسكن فاكترت لنفسها موضعا أو سكنت في
موضع تملكه لم ترجع بالأجرة لأنها تبرعت بذلك فلم ترجع به على أحد. وان عجز الزوج عن اسكانها
لعسرته أو غيبته أو امتنع من ذلك مع قدرته سكنت حيث شاءت وكذلك المتوفى عنها زوجها إذا لم
يسكنها ورثته لأنها إنما تلزمها السكنى في منزله لتحصين مائه فإذا لم تفعل لم يلزمها ذلك
182

(مسألة) قال (وإذا خرجت إلى الحج فتوفي عنها زوجها وهي بالقرب رجعت
لتقضي العدة فإن كانت قد تباعدت مضت في سفرها فإن رجعت وقد بقي من عدتها
شئ أتت به في منزلها)
وجملته ان المعتدة من الوفاة ليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره روي ذلك عن عمر
وعثمان رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي
والثوري. وان خرجت فمات زوجها في الطريق رجعت ان كانت قريبة لأنها في حكم الإقامة. وان
تباعدت مضت في سفرها. وقال مالك ترد ما لم تحرم. والصحيح ان البعيدة لا ترد لأنه يضر بها
وعليها مشقة ولابد لها من سفر وان رجعت، قال القاضي ينبغي أن يحد القريب بمالا تقصر فيه الصلاة
والبعيد ما تقصر فيه لأن ما لا تقصر الصلاة فيه أحكام الحضر. وهذا قول أبي حنيفة الا
انه لا يرى القصر الا في مسيرة ثلاثة أيام فقال متى كان بينها وبين مسكنها دون ثلاثة أيام فعليها
الرجوع إليه وإن كان فوق ذلك لزمها المضي إلى مقصدها والاعتداد فيه إذا كان بينها وبينه دون
183

ثلاثة أيام وإن كان بينه وبينها ثلاثة أيام وفي موضعها الذي هي به موضع يمكنها الإقامة فيه لزمها
الإقامة وان لم يمكنها الإقامة مضت إلى مقصدها
وقال الشافعي ان فارقت البنيان فلها الخيار بين الرجوع والتمام لأنها صارت في موضع أذن
لها زوجها فيه وهو السفر فأشبه ما لو كانت قد بعدت
ولنا على وجوب الرجوع إذا كانت قريبة ما روى سعيد ثنا جرير عن منصور عن سعيد بن
المسيب قال توفي أزواج نساؤهن حاجات أو معتمرات فردهن عمر من ذي الحليفة حتى يعتددن
في بيوتهن. ولأنه أمكنها الاعتداد في منزلها قبل أن يبعد سفرها فلزمها كما لو لم تفارق البنيان.
وعلى أن البعيدة لا يلزمها الرجوع ان عليها مشقه وتحتاج إلى سفر في رجوعها فأشبهت من بلغت
مقصدها. وان اختارت البعيدة الرجوع فلها ذلك إذا كانت تصل إلى منزلها قبل انقضاء عدتها
ومتى كان عليها في الرجوع خوف أو ضرر فلها ذلك المضي في سفرها كما لو بعدت، ومتى رجعت وقد بقي
عليها شئ من عدتها لزمها أن تأتي به في منزل زوجها بلا خلاف نعلمه بينهم في ذلك لأنه أمكنها
الاعتداد فيه فلزمها كما لو لم تسافر منه
184

(فصل) ولو كانت عليها حجة الاسلام فمات زوجها لزمتها العدة في منزلها وان فاتها الحج
لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها والحج يمكن الاتيان به في غير هذا العام. وان مات زوجها
بعد احرامها بحج الفرض أو بحج أذن لها زوجها فيه نظرت فإن كان وقت الحج متسعا لا تخاف
فوته ولا فوت الرفقة لزمها الاعتداد في منزلها لأنه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز اسقاط أحدهما،
وان خشيت فوات الحج لزمها المضي فيه وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة يلزمها المقام وان فاتها
الحج لأنها معتدة فلم يجز لها أن تنشئ سفرا كما لو أحرمت بعد وجوب العدة عليها
ولنا انهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الأسبق منهما كما لو كانت
العدة أسبق. ولان الحج آكد لأنه أحد أركان الاسلام والمشقة بتفويته تعظم فوجب تقديمه كما
لو مات زوجها بعد أن بعد سفرها إليه. وان أحرمت بالحج بعد موت زوجها وخشيت فواته احتمل
أن يجوز لها المضي إليه لما في بقائها في الاحرام من المشقة، واحتمل أن يلزمها الاعتداد في منزلها لأن العدة
أسبق ولأنها فرطت وغلظت على نفسها، فإذا قضت العدة وأمكنها السفر إلى الحج لزمها ذلك فإن
أدركته والا تحللت بعمل عمرة وحكمها في انقضاء حكم من فاته الحج وان لم يمكنها السفر فحكمها حكم
المحصر كالتي يمنعها زوجها من السفر، وحكم الاحرام بالعمرة كذلك إذا خيف فوات الرفقة أو لم يخف
185

(فصل) وإذا أذن لها زوجها للسفر لغير النقلة فخرجت ثم مات زوجها فالحكم في ذلك كالحكم
في سفر الحج على ما ذكرنا من التفصيل وإذا مضت إلى مقصدها فلها الإقامة حتى تقضي ما خرجت إليه
وتنقضي حاجتها من تجارة أو غيرها وإن كان خروجها لنزهة أو زيادة أو لم يكن قدر لها مدة فإنها تقيم إقامة
المسافر أو قضت حاجتها ولم يمكنها الرجوع لخوف أو غيره أتمت العدة في مكانها وان أمكنها الرجوع
لكن لا يمكنها الوصول إلى منزلها حتى تنقضي عدتها لزمها الإقامة في مكانها لأن الاعتداد وهي مقيمة أولى
من الاتيان بها في السفر وان كانت تصل وقد بقي من عدتها شئ لزمها العود لتأتي بالعدة في مكانها
(فصل) وان أذن الزوج لها في الانتقال إلى دار أخرى أو بلد آخر فمات قبل انتقالها لزمها
الاعتداد في الدار التي هي بها لأنها بيتها وسواء مات قبل نقلها متاعها أو بعده لأنها مسكنها ما لم تنتقل
عنه وان مات بعد انتقالها إلى الثانية اعتدت فيها لأنها مسكنها وسواء كانت قد نقلت متاعها أو لم
تنقله وان مات وهي بينهما فهي مخيرة لا مسكن لها منهما فإن الأولى قد خرجت عنها منتقلة
186

فخرجت عن كونها مسكنا لها (والثانية) لم تسكن بها فهما سواء وقيل يلزمها الاعتداد في الثانية لأنها
المسكن الذي أذن لها زوجها في السكنى به وهذا يمكن في الدارين فأما إذا كانا بلدين لم يلزمها الانتقال
إلى البلد الثاني بحال لأنها إنما كانت تنتقل لغرض زوجها في صحبتها إياه وإقامتها معه فلو ألزمناها
ذلك بعد موته لكلفناها السفر الشاق والتغرب عن وطنها وأهلها والمقام مع غير محرمها والمخاطرة
بنفسها مع فوات الغرض وظاهر حال الزوج أنه لو علم أنه يموت لما نقلها فصارت الحياة مشروطة في
النقلة فأما ان انتقلت إلى الثانية ثم عادت إلى الأول لنقل متاعها فمات زوجها وهي بها فعليها الرجوع
إلى الثانية لأنها صارت مسكنها بانتقالها إليها وإنما عادت إلى الأول لحاجة والاعتبار بمسكنها دون
موضعها وان مات وهي في الثانية فقالت اذن لي زوجي في السكنى بهذا المكان وأنكر ذلك الورثة
أو قالت إنما أذن لي زوجي في المجئ إليه لا في الإقامة به وأنكر ذلك الورثة فالقول قولها لأنها
187

أعرف بذلك منهم وكل موضع قلنا يلزمها السفر عن بلدها فهو مشروط بوجود محرمها مسافرا معها
والامن على نفسها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة
يوم وليلة الا مع ذي محرم من أهلها أو كما قال
(مسألة) قال (وإذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو ناء عنها فعدتها من يوم مات أو
طلق إذا صبح ذلك عندها وان لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة)
هذا المشهور في المذهب وأنه متى مات زوجها أو طلقها فعدتها من يوم موته وطلاقه قال أبو
188

بكر لا خلاف عن أبي عبد الله اعلمه أن العدة تجب من حين الموت والطلاق الا ما رواه إسحاق بن
إبراهيم وهذا قول ابن عمر وابن عباس وابن مسعود ومسروق وعطاء وجابر بن زيد وابن سيرين
ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وطاوس وسليمان بن يسار وأبي قلابة وأبي العالية والنخعي ونافع
ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد ان قامت بذلك
بينة فكما ذكرنا والا فعدتها من يوم يأتيها الخبر
189

وروي ذلك عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ويروى عن علي والحسن وقتادة
وعطاء الخراساني وخلاس بن عمرو أن عدتها من يوم يأتيها الخبر لأن العدة اجتناب
أشياء وما اجتنبتها.
ولنا أنها لو كانت حاملا فوضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لانقضت عدتها فكذلك سائر
أنواع العدد ولأنه زمان عقيب الموت أو الطلاق فوجب أن تعتد به كما لو كان حاضرا ولان القصد غير
معتبر في العدة بدليل أن الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتهما من غير قصد ولم يعدم ههنا الا القصد
190

وسواء في هذا اجتنبت ما تجنبه المعتدات أو لم تجتنبه فإن الاحداد الواجب ليس بشرط في العدة فلو
تركته قصدا أو عن غير قصد لانقضت عدتها فإن الله تعالى قال (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
وقال (فعدتهن ثلاثة أشهر) وقال (وأولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملها) وفي اشتراط الاحداد
مخالفة هذه النصوص فوجب الا يشترط
كتاب الرضاع
الأصل في التحريم بالرضاع الكتاب والسنة والاجماع: واما الكتاب فقول الله تعالى (وأمهاتكم
اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) ذكرهما الله سبحانه في جملة المحرمات
واما السنة فما روت عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " متفق عليه
وفي لفظ " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " رواه النسائي. وعن ابن عباس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة " لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة "
متفق عليه في اخبار كثيرة نذكر أكثرها إن شاء الله تعالى في تضاعيف الباب. واجمع علماء الأمة
على التحريم بالرضاع. إذا ثبت هذا فإن تحريم الام والأخت ثبت بنص الكتاب وتحريم البنت
ثبت بالتنبيه فإنه إذا حرمت الأخت فالبنت أولى وسائر المحرمات ثبت تحريمهن بالسنة وتثبت المحرمية
191

لأنها فرع على التحريم إذا كان بسبب مباح. فأما بقية أحكام النسب من النفقة والعتق ورد
الشهادة وغير ذلك فلا يتعلق به لأن النسب أقوى منه فلا يقاس عليه في جميع أحكامه وإنما يشبه
به فيما نص عليه فيه
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (والرضاع الذي لا يشك في تحريمه أن يكون
خمس رضعات فصاعدا)
في هذه المسألة مسئلتان: (أحدهما) ان الذي يتعلق به التحريم خمس رضعات فصاعدا هذا الصحيح في المذهب وروي هذا عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير وعطاء وطاوس وهو قول الشافعي.
وعن أحمد رواية ثانية ان قليل الرضاع وكثيره يحرم. وروي ذلك عن علي وابن عباس، وبه قال سعيد
بن المسيب والحسن ومكحول والزهري وقتادة والحكم وحماد ومالك والأوزاعي والثوري والليث
وأصحاب الرأي وزعم الليث ان المسلمين اجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به
الصائم واحتجوا بقول الله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) وقوله عليه السلام
" يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب "
192

وعن عقبة بن الحارث انه تزوج أم يحيي بنت أبي اهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ " متفق عليه، ولان ذلك فعل
يتعلق به تحريم مؤبد فلم يعتبر فيه العدد كتحريم أمهات النساء ولا يلزم اللعان لأنه قول
(والرواية الثالثة) لا يثبت التحريم الا بثلاث رضعات وبه قال أبو ثور وأبو عبيد وداود
وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحرم المصة ولا المصتان " وعن أم الفضل بنت الحارث قالت:
قال نبي الله صلى الله عليه وسلم " لا تحرم الاملاجة ولا الاملاجتان " رواهما مسلم، ولان ما يعتبر فيه العدد والتكرار
يعتبر فيه الثلاث. وروي عن حفصة لا يحرم دون عشر رضعات، وروي ذلك عن عائشة لأن عروة
روى في حديث سهلة بنت سهيل فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا " أرضعيه عشر رضعات فيحرم
بلبنها " وجه الأولى ما روي عن عائشة انها قالت أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخ
من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والامر على ذلك
رواه مسلم. وروى مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة عن سهلة بنت سهيل أرضعي سالما خمس
رضعات فيحرم بلبنها والآية فسرتها السنة وبينت الرضاعة المحرمة وصريح ما رويناه يخص مفهوم
ما رووه فنجمع بين الاخبار ونحملها على الصريح الذي رويناه
193

(فصل) وإذا وقع الشك في وجود الرضاع أوفي عدد الرضاع المحرم هل كملا أولا لم يثبت التحريم
لأن الأصل عدمه فلا نزول عن اليقين بالشك كما لو شك في وجود الطلاق وعدده
(المسألة الثانية) أن تكون الرضعات متفرقات وبهذا قال الشافعي، والمرجع في معرفة الرضعة
إلى العرف لأن الشرع ورد بها مطلقا ولم يحدها بزمن ولا مقدار فدل ذلك على أنه ردهم إلى
العرف فإذا ارتضع الصبي وقطع قطعا بينا باختياره كان ذلك رضعة فإذا عاد كانت رضعة أخرى
فأما ان قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدي إلى ثدي أو لشئ يليه أو قطعت عليه المرضعة
نظرنا فإن لم يعد قريبا فهي رضعة، وان عاد في الحال ففيه وجهان
(أحدهما) أن الأول رضعة فإذا عاد فهي أخرى وهذا اختيار أبي بكر وظاهر كلام أحمد
في رواية حنبل فإنه قال أما ترى الصبي يرتضع من الثدي فإذا أدركه النفس أمسك عن الثدي
ليتنفس أو يستريح فإذا فعل ذلك فهي رضعة وذلك لأن الأولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة
وان عاد كما لو قطع باختياره (والوجه الآخر) أن جميع ذلك رضعة وهو مذهب الشافعي الا فيما إذا قطعت
عليه المرضعة ففيه وجهان لأنه لو حلف لا اكلت اليوم الا أكلة واحدة فاستدام الاكل زمنا أو قطع
لشرب الماء أو انتقال من لون إلى لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام لم يعد الا أكلة واحدة فكذا
ههنا والأول أصح لأن اليسير من السعوط والوجور رضعة فكذا هذا
194

(مسألة) قال (والسعوط كالرضاع وكذلك الوجور)
معنى السعوط أن يصيب اللبن في أنفه من إناء أو غيره والوجور أن يصيب في حلقه صبا من غير
الثدي، واختلفت الرواية في التحريم بهما فأصح الروايتين أن التحريم يثبت بذلك كما يثبت بالرضاع
وهو قول الشافعي والثوري وأصحاب الرأي وبه قال مالك في الوجور
(والثانية) لا يثبت بهما التحريم وهو اختيار أبي بكر ومذهب داود وقول عطاء الخراساني في
السعوط لأن هذا ليس رضاع وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع ولأنه حصل من غير ارتضاع
فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه
ولنا ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا رضاع الا ما أنشز العظم وأنبت اللحم " رواه
أبو داود ولان هذا يصل به اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع ويحصل به من أنبات اللحم وانشاز
العظم ما يحصل من الارتضاع فيجب أن يساويه في التحريم، والأنف سبيل الفطر للصائم فكان
سبيلا للتحريم كالرضاع بالفم
(فصل) وإنما يحرم من ذلك مثل الذي يحرم بالرضاع وهو خمس في الرواية المشهورة فإنه
فرع على الرضاع فيأخذ حكمه، فإن ارتضع وكمل الخمس بسعوط أو جور أو استعط أو أوجر وكمل
الخمس برضاع ثبت التحريم لأنا جعلناه كالرضاع في أصل التحريم فكذلك في اكمال العدد ولو
حلبت في إناء دفعة واحدة ثم سقته غلاما في خمسة أوقات فهو خمس رضعات فإنه لو أكل من
195

طعام خمس أكلات متفرقا لكان قد أكل خمس أكلات، وان حلبت في إناء حلبات في خمسة
أوقات ثم سقيه دفعة واحدة كان رضعة واحدة كما لو جعل الطعام في إناء واحدة في خمسة أوقات ثم
أكله دفعة واحدة كان أكل واحدة. وحكي عن الشافعي قول في الصورتين عكس ما قلنا اعتبارا
بخروجه منها لأن الاعتبار بالرضاع والوجور فرعه
ولنا ان الاعتبار بشرب الصبي له لأنه المحرم ولهذا ثبت التحريم به من غير رضاع ولو ارتضع
بحيث يصل إلى فيه ثم مجه لم يثبت التحريم فكان الاعتبار به وما وجد منه الا دفعة واحدة فكان
رضعة واحدة، وان سقته في أوقات فقد وجد في خمسة أوقات فكان رضعات، فأما ان سقته
اللبن المجموع جرعة بعد جرعة متتابعة فظاهر قول الخرقي انه رضعة واحدة لاعتباره ما لو أكل الآكل
الطعام لقمة بعد لقمة فإنه لا يعد أكلات، ويحتمل ان يخرج على ما إذا قطعت عليه المرضعة
الرضاع على ما قدمنا
(فصل) وان عمل اللبن جبنا ثم أطعمه الصبي ثبت به التحريم وبهذا قال الشافعي وقال أبو
حنيفة لا يحرم به لزوال الاسم وكذلك على الرواية التي تقول لا يثبت التحريم بالوجور لا يثبت ههنا
بطريق الأولى. ولنا انه واصل من الحلق يحصل به انبات اللحم وانشاز فحصل به التحريم
كما لو شربه
196

(فصل) فأما الحقنة فقال أبو الخطاب المنصوص عن أحمد أنها لا تحرم وهو مذهب أبي حنيفة
ومالك، وقال ابن حامد وابن أبي موسى تحرم وهذا مذهب الشافعي لأنه سبيل يحصل بالواصل
منه الفطر فتعلق به التحريم كالرضاع
ولنا ان هذا ليس برضاع ولا يحصل به التغذي فلم ينشر الحرمة كما لو قطر في إحليله، ولأنه
ليس برضاع ولا في معناه فلم يجز اثبات حكمه فيه، ويفارق فطر الصائم فإنه لا يعتبر فيه انبات اللحم
ولا انشاز العظم وهذا لا يحرم فيه الا ما أنبت اللحم وأنشز العظم، ولأنه وصل اللبن إلى الباطن
من غير الحلق أشبه ما لو وصل من جرح
(مسألة) قال (واللبن المشوب كالمحض)
المشوب المختلط بغيره والمحض الخالص الذي لا يخالطه سواه، وسوى الخرقي بينهما سواء شيب
بطعام أو شراب أو غيره وبهذا قال الشافعي، وقال أبو بكر قياس قول احمد أنه لا يحرم لأنه وجور
وحكي عن ابن حامد قال: إن كان الغالب اللبن حرم والا فلا وهو قول أبي ثور والمزني لأن الحكم
للأغلب، ولأنه يزول بذلك الاسم والمعنى المراد به ونحو هذا قول أصحاب الرأي وزادوا فقالوا
ان كانت النار قد مست اللبن حتى أنضجت الطعام أو حتى تغير فليس برضاع ووجه الأول أن اللبن
197

متى كان طاهرا فقد حصل شربه ويحصل منه انبات اللحم وانشاز العظم فحرم كما لو كان غالبا وهذا
فيما إذا كانت صفات اللبن باقية، فأما ان صب في ماء كثير لم يتغير به لم يثبت به التحريم لأن هذا
ليس بلبن مشوب ولا يحصل به التغذي ولا انبات اللحم ولا انشاز العظم. وحكي عن القاضي ان
التحريم يثبت به وهو قول الشافعي لأن أجزاء اللبن حصلت في بطنه فأشبه ما لو كان لونه ظاهرا.
ولنا أن هذا ليس برضاع ولا في معناه فوجب ان لا يثبت حكمه فيه.
(فصل) وان حلب من نسوة وسقيه الصبي فهو كما لو ارتضع من كل واحدة منهن لأنه لو شيب
بماء أو عسل لم يخرج عن كونه رضاعا محرما فكذلك إذا شيب بلبن آخر
(مسألة) قال (ويحرم لبن الميتة كما يحرم لبن الحية لأن اللبن لا يموت)
المنصوص عن أحمد في رواية إبراهيم الحربي انه ينشر الحرمة وهو اختبار أبي بكر وهو قول
أبي ثور والأوزاعي وابن القاسم وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال الخلال لا ينشر الحرمة وتوقف
عنه احمد في رواية مهنا وهو مذهب الشافعي لأنه لبن ممن ليس بمحل للولادة فلم يتعلق به
التحريم كلبن الرجل
ولنا انه وجد الارتضاع على وجه ينبت اللحم وينشز العظم من امرأة فأثبت التحريم كما لو
198

كانت حية، ولأنه لا فارق بين شربه في حياتها وموتها الا الحياة والموت أو النجاسة وهذا لا أثر
له فإن اللبن لا يموت والنجاسة لا تمنع كما لو حلب في وعاء نجس، ولأنه لو حلب منها في حياتها
فشربه بعد موتها لنشر الحرمة وبقاؤه في ثديها لا يمنع ثبوت الحرمة لأن ثديها لا يزيد على الاناء في
عدم الحياة وهي لا تزيد على عظم الميتة في ثبوت النجاسة
(فصل) ولو حلبت المرأة لبنها في إناء ثم ماتت فشربه صبي نشر الحرمة في قول كل من جعل
الوجور ومحرما وبه قال أبو ثور والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم وذلك لأنه لبن امرأة في حياتها
فأشبه ما لو شربه وهي في الحياة
(مسألة) قال (وإذا حلبت ممن يلحق نسب ولدها به فثاب لها لبن فأرضعت به طفلا
خمس رضعات متفرقات في حولين حرمت عليه وبناتها من أبي هذا الحمل ومن غيره وبنات
أبي هذا الحمل منها ومن غيرها، وان أرضعت صبية فقد صارت ابنة لها ولزوجها لأن اللبن
من الحمل الذي هو منه)
وجملة ذلك أن المرأة حملت من رجل وثاب لها لبن فأرضعت به طفلا رضاعا محرما صار
الطفل المرتضع ابنا للمرتضعة بغير خلاف. وصار أيضا ابنا لمن ينسب الحمل إليه فصار في التحريم
199

وإباحة الخلوة ابنا لهما وأولاده من البنين والبنات أولاد أولادهما وان نزلت درجتهم وجميع أولاد
المرضعة من زوجها ومن غيره وجميع أولاد الرجل الذي انتسب الحمل إليه من المرضعة ومن غيرها
اخوة المرتضع وأخواته وأولاد أولادها أولاد اخوته وأخواته وان نزلت درجتهم. وأم المرضعة
جدته وأبوها جده وأخواتها أخواله وأخواتها خالاته وأبو الرجل جده، وأمه جدته واخوته أعمامه،
وأخواته عماته وجميع أقاربهما ينسبون إلى المرتضع كما ينتسبون إلى ولدهما من النسب، لأن اللبن الذي
ثاب للمرأة مخلوق من ماء الرجل والمرأة فنشر التحريم إليهما ونشر الحرمة إلى الرجل والى أقاربه
وهو الذي يسمى لبن الفحل، وفي التحريم به اختلاف ذكرناه في باب ما يحرم نكاحه. والجمع بينه
والحجة القاطعة فيه ما روت عائشة ان أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعدما أنزل الحجاب فقلت
والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني
امرأة أبي القعيس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ان الرجل ليس هو أرضعني ولكن
أرضعتني امرأته قال " ائذني له فإنه عمك تربت يمينك " قال عروة فبذلك كانت عائشة تأخذ بقول
حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب. متفق عليه
وسئل ابن عباس عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما هل يتزوج
الغلام بالجارية؟ فقال لا، اللقاح واحد. قال مالك اختلف قديما في الرضاعة من قبل الأب ونزل
200

برجال من أهل المدينة في أزواجهم منهم محمد بن المنكدر وابن أبي حبيبة فاستفتوا في ذلك فاختلف
عليهم ففارقوا زوجاتهم. فأما المرتضع فإن الحرمة تنتشر إليه والى أولاده وان نزلوا ولا تنتشر
إلى من في درجته من اخوته وأخواته ولا إلى أعلى منه كأبيه وأمه وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته
وأجداده وجداته فلا يحرم على المرضعة نكاح أبي الطفل المرتضع ولا أخيه ولا عمه ولا خاله ولا يحرم
على زوجها نكاح أم الطفل المرتضع ولا أخته ولا عمته ولا خالته. ولا بأس ان يتزوج أولاد
المرتضعة وأولاد زوجها اخوة الطفل المرتضع وأخواته. وقال احمد لا بأس أن يتزوج الرجل أخت
أخته من الرضاع ليس بينهما رضاع ولا نسب وإنما الرضاع بين الجارية وأخته
إذا ثبت هذا فإن من شرط تحريم الرضاع أن يكون في الحولين. وهذا قول أكثر أهل العلم
روي نحو ذلك عن عمر وعلي ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم
سوى عائشة، واليه ذهب الشعبي وابن شبرمة والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد
وأبو ثور ورواية عن مالك وروي عنه ان زاد شهرا جاز وروي شهران
وقال أبو حنيفة يحرم الرضاع في ثلاثين شهرا لقوله سبحانه (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)
ولم يرد بالحمل الأحشاء لأنه يكون سنتين فعلم أنه أراد الحمل في الفصال. وقال زفر مدة الرضاع
ثلاث سنين وكانت عائشة ترى رضاعة الكبيرة تحرم ويروى هذا عن عطاء والليث وداود
201

لما روي أن سهلة بنت سهيل قالت يا رسول الله انا كنا نرى سالما ولدا فكان يأوي معي ومع
أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا، وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال لها
النبي صلى الله عليه وسلم " أرضعيه " فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها فبذلك كانت عائشة تأخذ تأمر
بنات أخواتها وبنات اخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا خمس
رضعات وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من
الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس؟
رواه النسائي وأبو داود وغيرهما
ولنا قول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)
فجعل تمام الرضاعة حولين فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل
عليها وعندها رجل فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله انه أخي من الرضاعة فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة " متفق عليه، وعن أم سلمة قالت قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " لا يحرم من الرضاع الا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام " أخرجه الترمذي وقال حديث
حسن صحيح، وعند هذا يتعين حمل خبر أبي حذيقة على أنه خاص له دون الناس كما قال سائر أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم وقول أبي حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب وقول الصحابة فقد روينا عن علي وابن
202

عباس أن المراد بالحمل حمل البطن وبه استدل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وقد دل على هذا
قول الله تعالى (وفصاله في عامين) فلو حمل على ما قاله أبو حنيفة لكان مخالفا لهذه الآية إذا ثبت
هذا فالاعتبار بالعامين لا بالفطام فلو فطم قبل الحولين ثم ارتضع فيهما لحصل التحريم ولو لم يفطم
حتى تجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم، وقال ابن القاسم صاحب مالك
لو ارتضع بعد الفطام في الحولين لم تحرم عليه لقوله عليه السلام " وكان قبل الفطام "
ولنا قول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) وروي عنه عليه السلام
" لا رضاع الا ما كان في الحولين " والفطام معتبر بمدته لا بنفسه قال أبو الخطاب لو ارتضع بعد الحولين
بساعة لم يحرم، وقال القاضي لو شرع في الخامسة فحال الحول قبل كمالها لم يثبت التحريم ولا يصح
هذا لأن ما وجد من الرضعة في الحولين كاف في التحريم بدليل ما لو انفصل مما بعده فلا ينبغي
أن يسقط حكم بايصال ما لا أثر له به، واشترط الخرقي نشر الحرمة بين المرتضع وبين الرجل الذي
ثاب اللبن بوطئه: أن يكون لبن حمل ينتسب إلى الواطئ اما لكون الوطئ في نكاح أو ملك يمين أو
شبهة، فأما لبن الزاني أو النافي للولد باللعان فلا ينشر الحرمة بينهما في مفهوم كلام الخرفي وهو قول
أبي عبد الله بن حامد ومذهب الشافعي، وقال أبو بكر عبد العزيز تنتشر الحرمة بينهما لأنه معنى
ينشر الحرمة فاستوى في ذلك مباحه ومحظوره كالوطئ يحققه أن الواطئ حصل منه لبن وولد ثم إن
203

الولد ينشر الحرمة بينه وبين الواطئ كذلك اللبن ولأنه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة فنشرها
إلى الواطء كصورة الاجماع، ووجه القول الأول أن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة فلما لم تثبت
حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها ويفارق تحريم ابنته من الزنا لأنها من نطفته حقيقة بخلاف
مسئلتنا ويفارق تحريم المصاهرة فإن التحريم ثم لا يقف على ثبوت النسب ولهذا تحرم أم زوجته
وابنتها من غير نسب وتحريم الرضاع مبني على النسب ولهذا قال عليه " السلام يحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب " فاما المرضعة فإن الطفل المرتضع محرم عليها ومنسوب إليها عند الجميع وكذلك
يحرم جميع أولادها وأقاربها الذين يحرمون على أولادها على هذا المرتضع كما في الرضاع باللبن المباح
وإن كان المرتضع جارية حرمت على الملاعن بغير خلاف أيضا لأنها ربيبته فإنها بنت امرأته من الرضاع
وتحرم على الزاني عند من يرى تحريم المصاهرة وكذلك يحرم بناتها وبنات المرتضع من الغلمان لذلك
(فصل) وإذا وطئ رجلان امرأة فأتت بولد فأرضعت بلبنه طفلا صار ابنا لمن ثبت نسب المولود
منه سواء ثبت نسبه منه بالقافة أو بغيرها وان ألحقته القافة بهما صار المرتضع ابنا لهما فالمرتضع في
كل موضع تبع للمناسب فمتى لحق المناسب بشخص فالمرتضع مثله وان انتفى المناسب عن أحدهما
فالمرتضع مثله لأنه بلبنه ارتضع وحرمته فرع على حرمته وان لم يثبت نسبه منهما لتعذر القافة أو
لاشتباهه عليهم ونحو ذلك حرم عليهما تغليبا للخطر لأنه يحتمل أن يكون منهما ويحتمل أن يكون
204

أحدهما فيحرم عليه أقاربه دون أقارب الآخر وقد اختلطت أخته بغيرها فحرم الجميع كما لو علم أخته
بعينها ثم اختلطت بأجنبيات وان انتفى عنهما جميعا بان تأتي به لدون ستة أشهر من وطئهما أو لأكثر
من أربع سنين أو لدون ستة أشهر من وطئ أحدهما أو لأكثر من أربع سنين من وطئ الآخر
انتفى المرتضع عنهما أيضا فإن كان المرتضع جارية حرمت عليهما تحريم المصاهرة ويحرم أولادهما عليهما
أيضا لأنها ابنة موطوءتهما فهي ربيبة لهما
(فصل) ولا تنتشر الحرمة بغير لبن الآدمية بحال فلو ارتضع اثنان من لبن بهيمة لم يصيرا
أخوين في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي وابن القاسم وأبو ثور وأصحاب الرأي ولو ارتضعا من
رجل لم يصيرا أخوين ولم تنتشر الحرمة بينه وبينهما في قول عامتهم وقال الكرابيسي يتعلق به التحريم
لأنه لبن آدمي أشبه لبن الآدمية وحكي عن بعض السلف أنهما إذا ارتضعا من لبن بهيمة صارا
أخوين وليس بصحيح لأن هذا لا يتعلق به تحريم الأمومة فلا يثبت به تحريم الاخوة لأن الاخوة
فرع على الأمومة وكذلك لا يتعلق به تحريم الأبوة لذلك ولان هذا اللبن لم يخلق لغذاء المولود فلم
يتعلق به التحريم كسائر الطعام فإن ثاب لخنثى مشكل لبن لم يثبت به التحريم لأنه لا يثبت كونه
امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك وقال ابن حامد يقف الامر حتى ينكشف أمر الخنثى فعلى قوله
يثبت التحريم الا أن يتبين كونه رجلا لأنه لا يأمن كونه محرما
205

(فصل) وان ثاب لامرأة لبن من غير وطئ فأرضعت به طفلا نشر الحرمة في أظهر الروايتين
وهو قول ابن حامد ومذهب مالك والثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وكل من يحفظ عنه
ابن المنذر لقول الله تعالى (وأمهاتكم اللائي أرضعنكم) ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم كما لو ثاب بوطئ
ولان البان النساء خلقت لغذاء الأطفال فإن كان هذا نادرا فجنسه معتاد
(والرواية الثانية) لا تنشر الحرمة لأنه نادر لم تجر العادة به لتغذية الأطفال فأشبه لبن
الرجال والأول أصح
(فصل) إذا كان لرجل خمس أمهات أولاد له منهن لبن فارتضع طفل من كل واحدة منهن
رضعة لم يصرن أمهات له وصار المولى أبا له، وهذا قول ابن حامد لأنه ارتضع من لبنه خمس
رضعات وفيه وجه آخر لا تثبت الأبوة لأنه رضاع لم يثبت الأمومة فلم يثبت الأبوة كالارتضاع
بلبن الرجل والأول أصح فإن الأبوة إنما تثبت لكونه رضع من لبنه لا لكون المرضعة أما له
ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا قلنا بثبوت الأبوة حرمت عليه المرضعات لأنه ربيبهن
وهن موطوءات أبيه وإن كان لرجل خمس بنات فأرضعن طفلا كل واحدة رضعة لم يصرن أمهات
له وهل يصير الرجل جدا له وأولاده أخوالا له وخالات؟ على وجهين (أحدهما) يصير جدا وأخوهن
خالا لأنه قد كمل للمرتضع خمس رضعات من لبن بناته أو أخواته فأشبه ما لو كان من واحدة
206

والآخر لا يثبت ذلك لأن كونه جدا فرع كون ابنته اما وكونه خالا فرع كون أخته أما ولم يثبت
ذلك فلا يثبت الفرع وهذا الوجه يترجح في هذه المسألة لأن الفرعية متحققة بخلاف
التي قبلها: فإن قلنا: يصير أخوهن خالا لم تثبت الخؤولة في حق واحدة منهن لأنه
لم يرتضع من لبن أخواتهما خمس رضعات ولكن يحتمل التحريم لأنه قد اجتمع من اللبن المحرم
خمس رضعات. ولو كمل للطفل خمس رضعات من أمه وأخته وابنته وزوجته وزوجة أبيه من كل
واحدة رضعة خرج على الوجهين
(فصل) إذا كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت طفلا ثلاث رضعات وانقطع لبنها فتزوجت
آخر فصار لها منه لبن فأرضعت منه الصبي رضعتين صارت اما له بغير خلاف علمناه عند القائلين
بأن الخمس محرمات، ولم يصر واحد من الزوجين أبا له لأنه لم يكمل عدد الرضاع من لبنه ويحرم على
الرجلين لكونه ربيبهما لا لكونه ولدهما
(مسألة) قال (ولو طلق زوجته ثلاثا وهي ترضع من لبن ولده فتزوجت بصبي
مرضع فأرضعته فحرمت عليه ثم تزوجت بها ووطئها ثم طلقها أو مات عنها لم يجز
أن تزوجها الأول لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به)
هذه المسألة من فروع المسألة التي قبلها وهو أن المرتضع يصير ابنا للرجل الذي ثاب اللبن
207

بوطئه فهذه المرأة لما تزوجت ثم أرضعته بلبن مطلقها صار ابنا لمطلقها فحرمت عليه لأنها أمه
وبانت منه وكانت زوجة له فصارت زوجة لابن مطلقها فحرمت على الأول على التأبيد لكونها
صارت من حلائل أبنائه ولو تزوجت امرأة صبيا فوجدت به عيبا ففسخت نكاحه ثم تزوجت كبيرا
فصار لها منه لبن فأرضعت به الصبي خمس رضعات حرمت على زوجها لأنها صارت من حلائل
أبنائه. ولو زوج الرجل أم ولده أو أمته بصبي مملوك فأرضعته بلبن سيدها خمس رضعات انفسخ
نكاحه وحرمت على سيدها على التأبيد لأنها صارت من حلائل أبنائه فإن كان الصبي حرا لم يتصورها هذا
الفرع لم يصح نكاحه لأن من شرط جواز نكاح الحر الأمة خوف العنت ولا يوجد ذلك في الطفل
فإن زوجها بها كان النكاح فاسدا وان أرضعته لم تحرم على سيدها لأنه ليس بزوج في الحقيقة
(فصل) وإذا طلق زوجته ولها منه لبن فتزوجت آخر لم يخل من خمسة أحوال (أحدها)
ان يبقى لبن الأول بحاله لم يزد ولم ينقص ولم تلد من الثاني فهو للأول سواء حملت من الثاني أو لم
تحمل لا نعلم فيه خلافا لأن اللبن كان للأول ولم يتجدد ما يجعله من الثاني فبقي للأول (الثاني) أن
لا تحمل من الثاني فهو للأول سواء زاد أو لم يزد أو انقطع ثم عاد أو لم ينقطع (الثالث) أن تلد من
الثاني فاللبن له خاصة. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من احفظ عنه وهو قول أبي حنيفة والشافعي
سواء زاد أو لم يزد انقطع أو اتصل لأن لبن الأول ينقطع بالولادة من الثاني فإن حاجة المولود إلى
208

اللبن تمنع كونه لغيره (الحال الرابع) أن يكون لبن الأول باقيا وزاد بالحمل من الثاني فاللبن منهما
جميعا في قول أصحابنا وقال أبو حنيفة هو للأول ما لم تلد من الثاني
وقال الشافعي ان لم ينته الحمل إلى حال ينزل منه اللبن فهو للأول فإن بلغ إلى حال ينزل به
اللبن فزاد به ففيه قولان أحدهما هو للأول والثاني هو لهما
ولنا أن زيادته عند حدوث الحمل ظاهر في أنها منه وبقاء لبن الأول يقتضي كون أصله منه
فيجب ان يضاف إليهما كما لو كان الولد منهما (الحال الخامس) انقطع من الأول ثم ثاب بالحمل من
الثاني فقال أبو بكر هو منهما وهو أحد أقوال الشافعي إذا انتهى الحمل إلى حال ينزل به اللبن وذلك
لأن للبن كان للأول فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أن لبن الأول ثاب بسبب الحمل الثاني
فكان مضافا إليهما كما لو لم ينقطع. واختار أبو الخطاب انه من الثاني وهو القول للشافعي
لأن لبن الأول انقطع فزال حكمه بانقطاعه وحدث بالحمل من الثاني فكان له كما لو لم يكن لها لبن
من الأول. وقال أبو حنيفة هو للأول ما لم تلد من الثاني وهو القول الثالث للشافعي لأن الحمل لا يقتضي
اللبن وإنما يخلقه الله تعالى للولد عند وجوده لحاجته إليه والكلام عليه قد سبق
209

(مسألة) قال (ولو تزوج كبيرة وصغيرة ولم يدخل بالكبيرة حتى أرضعت الصغيرة
في الحولين حرمت عليه الكبيرة وثبت نكاح الصغيرة، وإن كان دخل بالكبيرة حرمتا عليه
جميعا ويرجع بنصف مهر الصغيرة على الكبيرة)
نص احمد على هذا كله، في هذا المسألة فصول أربعة:
الأول) انه متى تزوج كبيرة وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة قبل دخوله بها فسد نكاح
الكبيرة في الحال وحرمت على التأبيد وبهذا قال الثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال
الأوزاعي نكاح الكبيرة ثابت وتنزع منه الصغيرة وليس بصحيح فإن الكبيرة صارت من أمهات
النساء فتحرم أبدا لقول الله سبحانه (وأمهات نسائكم) ولم يشترط دخوله بها، فأما الصغيرة ففيها روايتان
(إحداهما) نكاحها ثابت لأنها ربيبة ولم تدخل بأمها فلا تحرم لقول الله سبحانه (فإن لم
تكونوا دخلتهم بهن فلا جناح عليكم
(والرواية الثانية) ينفسخ نكاحها وهو قول الشافعي وأبي حنيفة لأنهما صارتا أما وبنتا
واجتمعتا في نكاحه والجمع بينهما محرم فانفسخ نكاحهما كما لو صارتا أختين وكما لو قد عليهما بعد
الرضاع عقدا واحدا
210

ولنا أنه أمكن إزالة الجمع بانفساخ نكاح الكبيرة وهي أولى به لأن نكاحها محرم على التأبيد
فلم يبطل نكاحهما به كما لو ابتدأ العقد على أخته وأجنبية، ولان الجمع طرأ على نكاح الام والبنت
فاختص الفسخ بنكاح الام كما لو أسلم وتحته امرأة وبنتها، وفارق الأختين لأنه ليست إحداهما أولى
بالفسخ من الأخرى، وفارق ما لو ابتدأ العقد عليهما لأن الدوام أقوى من الابتداء
(الفصل الثاني) انه إن كان دخل بالكبيرة حرمتا جميعا على الأبد وانفسخ نكاحهما لأن
الكبيرة صارت من أمهات النساء والصغيرة ربيبة قد دخل بأمها فتحرم تحريما مؤبدا، وإن كان
الرضاع بلبنه صارت الصغيرة بنتا محرمة عليه لوجهين لكونها بنته وربيبته التي دخل بأمها
(الفصل الثالث) أن عليه نصف مهر الصغيرة لأن نكاحها انفسخ قبل دخوله بها من غير
جهتها والفسخ إذا جاء من أجنبي كان كطلاق الزوج في وجوب الصداق عليه ولا مهر للكبيرة ان
لم يكن دخل بها لأن فسخ نكاحها بسبب من جهتها فسقط صداقها كما لو ارتدت وبهذا قال مالك
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا، وإن كان دخل بالكبيرة لم يسقط مهرها لأنه
استقر بدخوله بها استقرارا لا يسقطه شئ ولذلك لا يسقط بردتها ولا بغيرها
(الفصل الرابع) انه يرجع على الكبيرة بما لزمه من صداق الصغيرة وبهذا قال الشافعي، وحكي
عن بعض أصحابه انه يرجع بجميع صداقها لأنها أتلفت البضع فوجب ضمانه، وقال أصحاب الرأي
211

ان كانت المرضعة أرادت الفساد رجع عليها بنصف الصداق والا فلا يرجع بشئ، وقال
مالك لا يرجع بشئ
ولنا انه يرجع عليها بالنصف أنها قررته عليه وألزمته إياه وأتلف عليه ما في مقابلته فوجب
عليها الضمان كما لو أتلفت عليه المبيع
ولنا على أبي حنيفة ان ما ضمن في العمد ضمن في الخطأ كالمال، ولأنها أفسدت نكاحه وقررت
عليه نصف الصداق فلزمها ضمانه كما لو قصدت الافساد ولنا على أن الزوج إنما يرجع بالنصف أن الزوج لم يغرم الا النصف فلم يجب له أكثر مما غرم
ولا بالفسخ يرجع إليه بدل النصف الآخر فلم يجب له بدل ما أخذ بدله مرة أخرى، ولان خروج
البضع من ملك الزوج لا قيمة له وإنما ضمنت المرضعة ههنا لما ألزمت الزوج ما كان معرضا للسقوط
بسبب يوجد من الزوجة فلم يرجع ههنا بأكثر مما ألزمته
(فصل) والواجب نصف المسمى لا نصف مهر المثل لأنه إنما يرجع بما غرم والذي غرم نصف
ما فرض لها فرجع به وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي يرجع بنصف مهر المثل لأنه ضمان متلف
فكان الاعتبار بقيمته دون ما ملكه به كسائر الأعيان
ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له بدليل ما لو قتلت نفسها أو ارتدت أو أرضعت
من ينفسخ نكاحها بارضاعه فإنها لا تغرم له شيئا وإنما الرجوع ههنا بما غرم فلا يرجع بغيره، ولأنه
212

لو رجع بقيمة المتلف لرجع بمهر المثل كله ولم يختص بنصفه لأن التلف لم يختص بالنصف ولان شهود
الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا لزمهم نصف المسمى كذا ههنا
(فصل) وكل امرأة تحرم بنتها إذا أرضعت زوجته الصغيرة أفسدت نكاحه وحرمتها عليه
ولزمها نصف الصداق، فإن أرضعتها أمه صارت أخته، وان أرضعتها جدته صارت عمته أو خالته
وان أرضعتها أخته صارت بنت أخته، وكل امرأة تحرم بنت زوجها إذا أرضعتها بلبن زوجها حرمتها
عليه، وعليها نصف مهرها كامرأة ابنه وامرأة أبيه وامرأة أخيه وامرأة جده لأنها ان أرضعتها امرأة
أبيه بلبنه صارت أخته وان أرضعتها امرأة ابنه صارت بنت أبيه وان أرضعتها امرأة أخيه صارت
بنت أخيه وان أرضعتها امرأة جده بلبنه صارت عمته أو خالته، وان أرضعتها امرأة أحد هؤلاء بلبن
غيره لم تحرم عليه لأنها صارت ربيبة زوجها، وان أرضعتها من لا تحرم بنتها كعمته وخالته لم تحرمها
عليه، ولو تزوج ابنة عمه فأرضعت جدتهما أحدهما صغيرا انفسخ النكاح لأنها ان أرضعت الزوج
صار عم زوجته وان أرضعت الزوجة صارت عمة وان أرضعتهما جميعا صار كل واحد منهما عم الآخر،
وان تزوج بنت عمته فأرضعت جدتهما أحدهما صغيرا انفسخ النكاح لأنها ان أرضعت الزوج صار
خالا لها وان أرضعت الزوجة صارت عمته، وان تزوج ابنة خاله فأرضعت جدتها الزوج صار عم زوجته
وان أرضعتها صارت خالته، وان تزوج ابنة خالته، فأرضعت الزوج صار خال زوجته وان أرضعتها
صارت خالة زوجها
213

(فصل) وان تزوج كبيرة ثم طلقها فأرضعت صغيرة بلبنه صارت بنتا له وان أرضعتها بلبن غيره
صارت ربيبة، فإن كان قد دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة على التأبيد وإن كان لم يدخل بها لم تحرم
لأنها ربيبة لم يدخل بأمها، وان تزوج صغيرة ثم طلقها فأرضعتها امرأة حرمت المرضعة على التأبيد
لأنها من أمهات نسائه، وان تزوج كبيرة وصغيرة ثم طلق الصغيرة فأرضعتها الكبيرة حرمت الكبيرة
وانفسخ نكاحها وإن كان لم يدخل بها فلا مهر لها وله نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها فلها مهرها
وتحرم هي والصغيرة على التأبيد، وان طلق الكبيرة وحدها قبل الرضاع فأرضعت الصغيرة ولم يكن
دخل بالكبيرة ثبت نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ويرجع
على الكبيرة بنصف صداقها وان طلقهما جميعا فالحكم في التحريم على ما مضى، ولو تزوج رجل كبيرة
وآخر صغيرة ثم طلقاهما ونكح كل واحد منهما زوجة الآخر ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت
عليهما الكبيرة وانفسخ نكاحها، وإن كان زوج الصغيرة دخل بالكبيرة حرمت عليه
وانفسخ نكاحها والا فلا
(فصل) وان أرضعت بنت الكبيرة الصغيرة فالحكم في التحريم والفسخ حكم ما لو أرضعتها الكبيرة
لأنها صارت جدتها، والرجوع بالصداق على المرضعة التي أفسدت النكاح، وان أرضعتها أم الكبيرة
انفسخ نكاحهما معا لأنهما صارتا أختين فإن كان لم يدخل بالكبيرة فله أن ينكح من شاء منهما
214

ويرجع على المرضعة بنصف صداقهما وإن كان قد دخل بالكبيرة فله نكاحها لأن الصغيرة لا عدة
عليها وليس له نكاح الصغيرة حتى تنقضي عدة الكبيرة لأنها قد صارت أختها فلا ينكحها في عدتها
وكذلك الحكم ان أرضعتها جدة الكبيرة لأنها تصير عمة الكبيرة أو خالتها والجمع بينهما محرم وكذلك
الحكم ان أرضعتها أختها أو زوجة أخيها بلبنه لأنها صارت بنت أخت الكبيرة أو بنت أخيه وكذلك
ان أرضعتها بنت أخيها أو بنت أختها ولا يحرم في شئ من هذا واحدة منهن على التأبيد لأنه تحريم
جمع الا إذا أرضعتها بنت الكبيرة وقد دخل بأمها
(فصل) ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع قبل الدخول غرم نصف صداقها، وإن كان بعد الدخول فنص
أحمد على أنه يرجع عليه بالمهر كله وهو مذهب الشافعي لأن المرأة تستحق المهر كله على زوجها فترجع بما
لزمه كنصف المهر في غير المدخول بها، والصحيح إن شاء الله تعالى أنه لا يرجع على المرضعة بعد الدخول بشئ
لأنها لم تقرر على الزوج شيئا ولم تلزمه إياه فلم يرجع عليها بشئ كما لو أفسدت نكاح نفسها، ولأنه
لو ملك الرجوع بالصداق بعد الدخول لسقط إذا كانت المرأة هي المفسدة للنكاح كالنصف قبل
الدخول، ولان خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم على ما ذكرناه فيما مضى ولذلك لا يجب
مهر المثل، وإنما رجع الزوج بنصف المسمى قبل الدخول لأنها قررته عليه ولذلك يسقط إذا كانت
هي المفسدة لنكاحها ولم يوجد ذلك ههنا وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، ولأنه لو رجع بالمهر
215

بعد الدخول لم يخل اما أن يكون رجوعه ببدل البضع الذي فوتته أو بالمهر الذي أداه: لا يجوز أن
يكون ببدل البضع لأنه لو وجب بدله لوجب له على الزوجة إذا فات بفعلها أو بقتلها ولكان
الواجب لها مهر مثلها، ولا يجوز أن يجب له بدل ما أداه إليها لذلك ولأنها ما أوجبته ولا أثر
في ايجابه ولا أدائه ولا تقريره، ولا نعلم بينهم خلافا في أنها إذا أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول
أنه يسقط مهرها ولا يرجع عليها بشئ إن كان أداه إليها ولا في أنها إذا أفسدته قبل الدخول
أنه يسقط صداقها وأنه يرجع عليها بما أعطاها، فلو دبت صغيرة إلى كبيرة فارتضعت منها خمس
رضعات وهي نائمة وهما زوجتا رجل انفسخ نكاح الكبيرة وحرمت على التأبيد، فإن كان دخل
بالكبيرة حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ولا مهر للصغيرة لأنها فسخت نكاح نفسها وعليه مهر
الكبيرة يرجع به على الصغيرة عند أصحابنا، ولا يرجع به على ما اخترناه، وان لم يكن دخل بالكبيرة
فعليه نصف صداقها يرجع به على مال الصغيرة لأنها فسخت نكاحها، وان ارتضعت الصغيرة منها
رضعتين وهي نائمة ثم انتبهت الكبيرة فأتمت لها ثلاث رضعات فقد حصل الفساد بفعلهما فيتقسط
الواجب عليهما، وعليه مهر الكبيرة وثلاثة أعشار مهر الصغيرة يرجع به على الكبيرة وان لم يكن
دخل بالكبيرة فعليه خمس مهرها يرجع به على الصغيرة، وهل ينفسخ نكاح الصغيرة؟ على روايتين
(فصل) وان أفسد النكاح جماعة تقسط المهر عليهم فلو جاء خمس فسقين زوجة صغيرة من
216

لبن أم الزوج خمس مرات انفسخ نكاحها ولزمهن نصف مهرها بينهن فإن سقتها واحدة شربتين
وأخرى ثلاثا فعلى الأول الخمس وعلى الثانية خمس وعشر، وان سقتها واحدة شربتين وسقاها ثلاث
ثلاث شربات فعلى الأول الخمس وعلى كل واحدة من الثلاث عشر، وإن كان له ثلاث نسوة كبار
وواحدة صغيرة فأرضعت كل واحدة من الثلاث الصغيرة أربع رضعات ثم حلبن في إناء وسقينه
الصغيرة حرم الكبار وانفسخ نكاحهن فإن لم يكن دخل بهن فنكاح الصغيرة ثابت على إحدى
الروايتين وعليه لكل واحدة منهن ثلث صداقها ترجع به على ضرتيها لأن فساد نكاحها حصل بفعلها
وفعلهما فسقط ما قابل فعلها وهو سدس الصداق وبقي عليه الثلث فرجع به على ضرتيها فإن كان
صداقهن متساويا سقط ولم يجب شئ لأنه يتقاص مالها على الزوج بما يرجع به عليها إذ لا فائدة في
أن يجب لها عليه ما يرجع به عليها، وإن كان مختلفا وهو من جنس واحد تقاصا منه بقدر أقلهما
ووجبت الفضلة به لصاحبها، وإن كان من أجناس ثبت التراجع على ما ذكرنا، وإن كان قد دخل
بإحدى الكبار حرمت الصغيرة أيضا وانفسخ نكاحها ووجب لها نصف صداقها ترجع به عليهن
أثلاثا واللتي دخل بها المهر كاملا وفي الرجوع به ما أسلفناه من الخلاف، وان حلبن في إناء فسقته
إحداهن الصغيرة خمس مرات كان صداق ضراتها يرجع به عليها إن كان قبل الدخول بهن لأنها أفسدت
نكاحهن ويسقط مهرها ان لم يكن دخل بها وإن كان دخل بها فلها مهرها ولا ترجع به على أحد
217

وان كانت كل واحدة من الكبار أرضعت الصغيرة خمس رضعات حرم الثلاث فإن كان لم يدخل
بهن فلا مهر لهن عليه، وإن كان دخل بهن فعليه لكل واحدة مهرها لا يرجع به على أحد وتحرم
الصغيرة ويرجع بما لزمه من صداقها على المرضعة الأولى لأنها التي حرمتها عليه وفسخت نكاحها،
ولو ارضع الثلاث الصغيرة بلبن الزوج فأرضعتها كل واحدة رضعتين صارت بنتا لزوجها في الصحيح
وينفسخ نكاحها ويرجع بنصف صداقها عليهن على المرضعتين الأوليين منه أربعة أخماسه وعلى الثالثة
خمسه لأن رضعتها الأولى حصل بها التحريم لكمال الخمس بها والثانية لا أثر لها في التحريم فلم يجب
عليها بها شئ ولا ينفسخ نكاح الأكابر لأنهن لم يصرن أمهات لها، ولو كان لامرأته الكبيرة خمس
بنات لهن لبن فأرضعن امرأته الصغيرة رضاعا تصير به إحداهن أما لها لحرمت أمها وانفسخ نكاحها
وهل ينفسخ نكاح الصغيرة على روايتين، وان أرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة فالصحيح
أن الكبيرة لا تحرم بهذا لأن كونها جدة يبنى على كون ابنتها أما وما صارت واحدة من بناتها أما
ويحتمل أن تحرم لأنه قد كمل لها من بناتها خمس رضعات وكذلك الحكم لو أرضعتها بنتها رضعة
وبنت ابنها رضعة وبنات بناتها ثلاث رضعات، ولو كمل لها من زوجته بلبنه ومن أمه وأخته وابنته
وابنة ابنه خمس رضعات فعلى الوجهين (أصحهما) لا يثبت تحريمها وفي الآخر يثبت فعلى هذا الوجه
ينفسخ نكاحها ويرجع عليهن بما غرم من صداقها على قدر رضاعهن فإن قيل فلم لا يرجع عليهن على
218

عدد رؤوسهن لكون الرضاع مفسدا فيستوي قليله وكثيره كما لو طرح النجاسة جماعة في مائع في
حالة واحدة؟ قلنا لأن التحريم يتعلق بعدد الرضعات فكان الضمان متعلقا بالعدد بخلاف النجاسة فإن
التنجيس لا يتعلق بقدر فيستوي قليله وكثيره ليكون القليل والكثير سواء في الافساد فنظير ذلك
أن يشرب في الرضعة من إحداهما أكثر مما يشرب من الأخرى
(فصل) إذا كانت له زوجة أمة فأرضعت امرأته الصغيرة فحرمتها عليه وفسخت نكاحها
كان ما لزمه من صداق الصغيرة له في رقبة الأمة لأن ذلك من جنايتها، وان أرضعتها أم ولده أفسدت
نكاحها وحرمتها عليه لأنها ربيبة دخل بأمها وتحرم أم الولد عليه أبدا لأنها من أمهات نسائه ولا
غرامة عليها لأنها أفسدت على سيدها فإن كان قد كاتبها رجع عليها لأن المكاتبة يلزمها أرش جنايتها وان
أرضعت أم ولده امرأة ابنه بلبنه فسخت نكاحها وحرمتها عليه لأنها صارت أخته، وان أرضعت
زوجة أبيه بلبنه حرمتها عليه لأنها صارت بنت ابنه ويرجع الأب على ابنه بأقل الامرين مما غرمه
لزوجته أو قيمتها لأن ذلك من جناية أم ولده، وان أرضعت واحدة منهما بغير لبن سيدها لم تحرمها
لأن كل واحدة منهما صارت بنت أم ولده (مسألة) قال (ولو تزوج بكبيرة وصغيرتين فأرضعت الكبيرة الصغيرتين حرمت
عليه الكبيرة وانفسخ نكاح الصغيرتين ولا مهر عليه للكبيرة ويرجع عليها بنصف صداق
الصغيرتين وله أن ينكح من شاء منهما)
أما تحريم الكبيرة فلأنها صارت من أمهات النساء، وأما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما
219

صارتا أختين واجتمعتا في الزوجية فينفسخ نكاحهما كما لو أرضعتها معا ولا مهر للكبيرة لأن الفساد
جاء من قبلها ويرجع عليها بنصف صداق الصغيرتين لأنها أفسدت نكاحهما وله أن ينكح من شاء
منهما لأن انفساخ نكاحهما للجمع ولا يوجب تحريما مؤبدا وهذا على الرواية التي قلنا إنها إذا
أرضعت الصغيرة اختص الفسخ بالكبيرة، فأما على الرواية التي تقول ينفسخ نكاحهما معا فإنه يثبت
نكاح الأخيرة من الصغيرتين لأن الكبيرة لما أرضعت الأولى انفسخ نكاحهما ثم أرضعت الأخرى
فلم تجتمع معهما في النكاح فلم ينفسخ نكاحها، فاما إن كان دخل بالكبيرة حرمت وحرمت الصغيرتان
على التأبيد لأنهما ربيبتان قد دخل بأمهما
(فصل) فإن أرضعت الصغيرتين أجنبية انفسخ نكاحهما أيضا وهذا أقول أبي حنيفة والمزني وأحد
قولي الشافعي، وقال في الآخر ينفسخ نكاح الآخرة وحدها لأن سبب البطلان حصل بها وهو الجمع
فأشبه ما لو تزوج إحدى الأختين بعد الأخرى
ولنا أنه جامع بين الأختين في النكاح فانفسخ نكاحهما كما لو أرضعتهما معا وفارق ما لو عقد على واحدة
بعد الأخرى فإن عقد الثانية لم يصح فلم يصر به جامعا بينهما وههنا حصل الجمع برضاع الثانية ولا يمكن القول
بأنه لم يصح فحصلتا معا في نكاحه وهما أختان لا محالة
(فصل) وان أرضعتهما بنت الكبيرة فالحكم في الفسخ كما لو أرضعته الكبيرة نفسها لأن الكبيرة
تصير جدة لهما ولكن الرجوع يكون على المرضعة المفسدة لنكاحهن
220

(مسألة) قال (وان كن الأصاغر ثلاثا فأرضعتهن منفردات حرمت الكبيرة وانفسخ
نكاح المرضعتين أولا وثبت نكاح آخرهن رضاها فإن أرضعت إحداهن منفردة اثنتين
بعد ذلك مها حرمت الكبيرة وانفسخ نكاح الأصاغر وتزوج من شاء من الأصاغر وإن كان
دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد)
إنما حرمت الكبيرة لأنها صارت من أمهات النساء وانفسخ نكاح المرضعتين أولا لأنهما
صارتا أختين في نكاحه وثبت نكاح الأخيرة لأن رضاعها بعد انفساخ نكاح الصغيرتين اللتين
قبلها فلم يصادف إخوتها جميعا في النكاح، وان أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعد ذلك معا بان
تلقم كل واحدة منهما ثديا فيمتصان معا أو تحلب من لبنها في إناء فتسقيهما انفسخ نكاح الجميع لأنهن
صرن أخوات في نكاحه وله أن يتزوج من شاء من الأصاغر لأن تحريمهن تحريم جمع لا تحريم تأبيد
فإنهن ربائب لم يدخل بأمهن وان دخل بالكبيرة حرم الكل على الأبد لأنهن ربائب مدخول بأمهن
هذا على الرواية الأولى وعلى الأخرى لما أرضعت الأولى انفسخ نكاحها ونكاح الكبيرة لأنها صارت
أمها واجتمعتا في نكاحه ثم ارتضعت الثانية فلم ينفسخ نكاحها لأنها منفردة بالرضاع في النكاح فلما أرضعت
الثالثة صارتا أختين فانفسخ نكاحهما
221

(فصل) فإن أرضعتهن بنت الكبيرة فهو كما لو أرضعتهن أمها ولو كان لها ثلاث بنات فأرضعت
كل واحدة منهن زوجة من الأصاغر حرمت الكبيرة بارضاع أولاهن ويرجع على مرضعتها بما
لزمه من مهرها لأنها أفسدت نكاحها ولا ينفسخ نكاح الأصاغر لأنهن لم يصرن أخوان وإنما هن
بنات خالات وعلى الرواية الأخرى ينفسخ نكاح المرضعة الأولى لاجتماعها مع جدتها في النكاح ويثبت
نكاح الأخيرتين ويرجع بما لزمه من مهر التي فسد نكاحها على التي أرضعتها وإن كان دخل بالكبيرة
حرم الكل عليه على الأبد ورجع على كل واحدة بما لزمه من مهر التي أرضعتها وان قلنا إنه يرجع بمهر الكبيرة
رجع به على المرضعة الأولى لأنها التي أفسدت نكاحها
(مسألة) قال (وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إذا كانت مرضية
وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى ان كانت مرضية استحلفت فإن كانت
كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها وذهب في ذلك إلى قول ابن عباس رضي الله عنه)
وجملة ذلك أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية، وبهذا قال طاوس
والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وسعيد بن عبد العزيز، وعن أحمد رواية أخرى لا يقبل الا
شهادة امرأتين وهو قول الحكم لأن الرجال أكمل من النساء ولا يقبل الا شهادة رجلين فالنساء أولى
وعن أحمد رواية ثالثة ان شهادة المرأة الواحدة مقبولة وتستحلف مع شهادتها وهو قول ابن عباس
وإسحاق لأن ابن عباس قال في امرأة زعمت أنها أرضعت رجلا وأهله فقال إن كانت مرضية
استحلفت وفارق امرأته، وقال إن كانت كاذبة لم يحل الحلول حتى تبيض ثدياها، يعني يصيبها
222

فيها برص عقوبة على كذبها. وهذا لا يقتضيه قياس ولا يهتدي إليه رأي فالظاهر أنه لا يقوله الا
توفيقا. وقال عطاء وقتادة والشافعي لا يقبل من النساء أقل من أربع كل امرأتين كرجل. وقال
أصحاب الرأي لا يقبل فيه الا رجلان أو رجل وامرأتان وروي ذلك عن عمر لقول الله تعالى (واستشهدوا
شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) ولنا ما روي عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي اهاب فجاءت أمة سوداء فقالت
قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له فقال " وكيف وقد زعمت ذلك؟ " متفق عليه
وفي لفظ رواه النسائي قال فأتيته من قبل وجهه فقلت انها كاذبة قال " كيف وقد زعمت أنها
قد أرضعتكما؟ خل سبيلها " وهذا يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة
وقال الزهري: فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان رضي الله عنه بشهادة امرأة في الرضاع.
وقال الأوزاعي فرق عثمان بين أربعة وبين نسائهم بشهادة امرأة في الرضاع. وقال الشعبي كانت
القضاة تفرق بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع ولان هذا شهادة على عورة فقبل
فيها شهادة النساء المنفردات كالولادة وعلى الشافعي بأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات فقبل
فيه شهادة المرأة المنفردة كالخبر
(فصل) ويقبل فيه شهادة المرضعة على فعل نفسها لما ذكرنا من حديث عقبة من أن الأمة السوداء
قالت قد أرضعتكما فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادتها ولأنه فعل لا يحصل لها به نفع مقصود ولا تدفع عنها
به ضررا فقبلت شهادتها به كفعل غيرها. فإن قيل فإنها تستبيح الخلوة به والسفر معه وتصير محرما
له قلنا ليس هذا من الأمور المقصودة التي ترد بها الشهادة، ألا ترى ان رجلين لو شهدا أن فلانا طلق
زوجته وأعتق أمته قبل شهادتهما وإن كان يحل لهما نكاحهما بذلك
223

فصل ولا تقبل الشهادة على الرضاع الا مسفرة فلو قالت أشهد أن هذا ابن هذه من الرضاع
لا يقبل لأن الرضاع المحرم يختلف الناس فيه، منهم من يحرم بالقليل ومنهم من يحرم بعد الحولين
فلزم الشاهد تبيين كيفيته ليحكم الحاكم فيه باجتهاده فيحتاج الشاهد أن يشهد ان هذا ارتضع من
ثدي هذه خمس رضعات متفرقات خلص اللبن فيهن إلى جوفه في الحولين. قال قيل خلوص اللبن
إلى جوفه لا طريق له إلى مشاهدته فكيف تجوز الشهادة؟ قلنا إذا علم أن هذا المرأة ذات لبن ورأي
الصبي قد التقم ثديها وحرك فمه في الامتصاص وحلقه في الاجتراع حصل ظن يقرب إلى اليقين ان
اللبن قد وصل إلى جوفه، وما يتعذر الوقوف عليه بالمشاهدة اكتفي فيه بالظاهر كالشهادة بالملك
وثبوت الدين في الذمة والشهادة على النسب بالاستفاضة
ولو قال الشاهد أدخل رأسه تحت ثيابها والتقم ثديها لا يقبل لأنه قد يدخل رأسه ولا يأخذ الثدي وقد
يأخذ الثدي ولا يمص فلابد من ذكر ما يدل عليه. وان قال أشهد أن هذا أرضعت هذا فالظاهر أنه يكتفي
في ثبوت أصل الرضاع لأن المرأة قالت قد أرضعتكما اكتفي بقولها
(مسألة) قال (وإذا تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول هي أختي من الرضاعة انفسخ
النكاح فإن صدقته المرأة فلا مهر لها وان كذبته فلها نصف المهر)
وجملته أن الزوج إذا أقر أن زوجته أخته من الرضاعة انفسخ نكاحه ويفرق بينهما، وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قال وهمت أو أخطأت قبل قوله لأن قوله ذلك يضمن أنه لم يكن
بينهما نكاح ولو جحد النكاح ثم أقر به قبل كذلك ههنا
224

ولنا أنه أقر بما يتضمن تحريمها عليه فلم يقبل رجوعه عنه كما لو أقر بالطلاق ثم رجع أو أقر أن
أمته أخته من النسب وما قاسوا عليه غير مسلم وهذا الكلام في الحكم فأما فيما بينه وبين ربه فينبني
ذلك على علمه بصدقه فإن علم أن الامر كما قال فهي محرمة عليه ولا نكاح بينهما وان علم كذب
نفسه فالنكاح باق بحاله وقوله كذلك لا يحرمها عليه لأن المحرم حقيقة الرضاع لا القول وان شك
في ذلك لم نزل عن اليقين بالشك وقيل في حلها له إذا علم كذب نفسه روايتان والصحيح ما قلناه لأن
قوله ذلك إذا كان كذبا لم يثبت التحريم كما لو قال لها وهي أكبر منه هي ابنتي من الرضاعة.
إذا ثبت هذا فإنه إن كان قبل الدخول وصدقته المرأة فلا شئ لها لأنهما اتفقا على أن النكاح
فاسد من أصله لا يستحق فيه مهر فأشبه ما لو ثبت ذلك ببينة وان أكذبته فالقول قولها لأن
قوله غير مقبول عليها في اسقاط حقوقها فلزمه اقراره فيما هو حق له وهو تحريمها عليه وفسخ نكاحه
ولم يقبل قوله فيما عليه من المهر
(فصل) فإن قال هي عمتي أو خالتي أو ابنة أخي أو أختي أو أمي من الرضاع وأمكن صدقه
فالحكم فيه كما لو قال هي أختي وان لم يمكن صدقه مثل أن يقول لاصغر منه أو لمثله هي أمي أو لأكبر
منه أو لمثله هذه ابنتي لم تحرم عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد تحرم عليه لأنه اقرار بما
يحرمها عليه فوجب أن يقبل كما لو أمكن
225

ولنا أنه أقر بما تحقق كذبه فيه فأشبه ما لو قال أرضعتني وإياها حواء أو كما لو قال هذه حواء
وما ذكروه منتقض بهذه الصور، ويفارق إذا أمكن فإنه لا يتحقق كذبه والحكم في الاقرار بقرابة
من النسب تحرمها عليه كالحكم في الاقرار بالرضاع لأنه في معناه
(فصل) إذا ادعى أن زوجته أخته من الرضاع فأنكرته فشهدت بذلك أمه أو ابنته لم تقبل
شهادتهما لأن شهادة الوالدة لولدها والوالد لوالده غير مقبولة، وان شهدت بذلك أمها أو ابنتها
قبلت وعنه لا يقبل بناء على شهادة الوالد على ولده والولد، وفي ذلك روايتان: وان
ادعت ذلك المرأة وأنكره الزوج فشهدت لها أمها أو ابنتها لم تقبل وان شهدت لها أم الزوج
أو ابنته فعلى روايتين:
(مسألة) قال (وان كانت المرأة هي التي قالت هي أخي من الرضاعة فأكذبها ولم
تأت بالبينة على ما وصفت فهي زوجته في الحكم)
وجملته أن المرأة إذا أقرت أن زوجها أخوها من الرضاعة فأكذبها لم يقبل قولها في نسخ
226

النكاح لأنه حق عليها، فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لأنها تقر بأنها لا تستحقه فإن كانت قد
قبضته لم يكن للزوج أخذه منها لأنه يقر بأنه حق لها وإن كان بعد الدخول فأقرت أنها كانت عالمة
بأنها أخته وبتحريمها عليه ومطاوعة له في الوطئ فلا مهر أيضا لاقرارها بأنها زانية مطاوعة وان
أنكرت شيئا من ذلك فلها المهر لأنه وطئ بشبهة وهي زوجته في ظاهر الحكم لأن قولها عليه غير
مقبول، فأما فيما بينها وبين الله تعالى فإن علمت صحة ما أقرت به لم يحل لها مساكنته وتمكينه من وطئها
وعليها أن تفر منه وتفتدي نفسها بما أمكنها لأن وطأه لها زنا فعليها التخلص منه مهما أمكنها
كما قلنا في التي علمت أن زوجها طلقها ثلاثا وجحدها ذلك، وينبغي أن يكون الواجب لها من المهر
بعد الدخول أقل الأمرين من المسمى أو مهر المثل لأنه إن كان المسمى أقل فلا يقبل قولها في وجوب
زائد عليه وإن كان الأقل مهر المثل لم تستحق أكثر منه لاعترافها بان استحقاقها له بوطئها لا بالعقد
فلا تستحق أكثر منه، وإن كان اقرارها باخوته قبل النكاح لم يجز لها نكاحه ولا يقبل رجوعها عن
اقرارها في ظاهر الحكم لأن اقرارها لم يصادف زوجته عليه يبطلها فقبل اقرارها على نفسها بتحريمه
عليها وكذلك لو أقر الرجل أن هذه أخته من الرضاع أو محرمة عليه برضاع أو غيره وأمكن
227

صدقه لم يحل له تزوجها بعد ذلك في ظاهر الحكم وأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني على علمه
بحقيقة الحال على ما ذكرناه
(فصل) وان ادعى أحد الزوجين على الآخر انه أقر انه أخو صاحبه من الرضاع فأنكر لم
يقبل في ذلك شهادة النساء المنفردات لأنها شهادة على الاقرار والاقرار مما يطلع عليه الرجال فلم يحتج
فيه إلى شهادة النساء المنفردات فلم يقبل ذلك بخلاف الرضاع نفسه
(فصل) كره أبو عبد الله الارتضاع بلبن الفجور والمشركات، وقال عمر بن الخطاب وعمر
ابن عبد العزيز رضي الله عنهما: اللبن يشتبه فلا تستق من يهودية ولا نصرانية ولا زانية: ولا يقبل
أهل الذمة المسلمة ولا يرى شعورهن، ولان لبن الفاجرة ربما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور
ويجعلها أما لولده فيتعير بها ويتضرر طبعا وتعيرا، والارتضاع من المشركة يجعلها أما لها حرمة الام
مع شركها وربما مال إليها في محبة دينها، ويكره الارتضاع بلبن الحمقاء كيلا يشبهها الولد في الحمق فإنه يقال إن
الرضاع يغير الطباع والله تعالى أعلم
228

كتاب النفقات
نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والاجماع: أما الكتاب فقول الله تعالى (لينفق ذو سعة
من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها) ومعنى قدر عليه
أي ضيق عليه ومنه قوله سبحانه (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) اي يوسع على من يشاء ويضيق
على من يشاء وقال الله تعالى (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم)
وأما السنة فما روى جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال " اتقوا الله في النساء " فإنهن
عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف " رواه مسلم وأبو داود. ورواه الترمذي باسناد عن عمرو بن الأحوص قال " ألا ان
لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون
ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، الا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن " وقال
هذا حديث حسن صحيح. وجاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل
شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق
عليه. وفيه دلالة على وجوب النفقة لها على زوجها وان ذلك مقدر بكفايتها وان نفقة ولده عليه دونها
مقدر بكفايتهم وان ذلك بالمعروف وان لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه
229

وأما الاجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين الا
الناشز منهن. ذكره ابن المنذر وغيره وفيه ضرب من العبرة وهو أن المرأة محبوسة على الزوج
يمنعها من التصرف والاكتساب فلابد من أن ينفق عليها كالعبد مع سيده
(مسألة) قال أبو القاسم رحمة الله تعالى (وعلى الزوج نفقة زوجته مالا غناء
بها عنه وكسوتها)
وجملة الامر ان المرأة إذا سلمت نفسها إلى الزوج على الوجه الواجب عليها فلها جميع حاجتها
من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن. قال أصحابنا ونفقتها معتبرة بحال الزوجين جميعا فإن كانا
موسرين فلها عليه نفقة الموسرين، وان كانا معسرين فعليه نفقة المعسرين، وان كانا متوسطين فلها
عليه نفقة المتوسطين، وكان أحدهما موسرا والآخر معسرا فعليه نفقة المتوسطين أيهما كان
الموسر. وقال أبو حنيفة ومالك يعتبر حال المرأة على قدر كفايتها لقول الله تعالى (وعلى المولود له
رزقهن وكسوتهن بالمعروف) والمعروف الكفاية، ولأنه سوى بين النفقة والكسوة، والكسوة على
قدر حالها فكذلك النفقة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فاعتبر كفايتها
230

دون حال زوجها، ولان نفقتها واجبة لدفع حاجتها فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها دون حال من
وجبت عليه كنفقة المماليك، ولأنه واجب للمرأة على زوجها بحكم الزوجية لم يقدر فكان معتبرا
بها كمهرها وكسوتها، وقال الشافعي الاعتبار بحال الزوج وحده لقول الله تعالى (لينفق ذو سعة من
سعته ومن قدر رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا الا ما اتاها) ولنا ان فيما ذكرناه
جمعا بين الدليلين وعملا بكلا النصين ورعاية لكلا الجانبين فيكون أولى
(فصل) والنفقة مقدرة بالكفاية وتختلف باختلاف من تجب له النفقة في مقدارها وبهذا قال
أبو حنيفة ومالك. وقال القاضي هي مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة، والواجب رطلان من
الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتبارا بالكفارات، وإنما يختلفان في صفته وجودته لأن
الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول وفيما تقوم به البنية وإنما يختلفان في جودته فكذلك النفقة
الواجبة. وقال الشافعي نفقة المقتر مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد
والله سبحانه ان اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل فقال سبحانه [من أوسط ما تطعمون أهليكم] وعلى الموسر
مدان لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدين في كفارة الأذى. وعلى المتوسط مد ونصف، نصف
نفقة الموسر ونصف نفقة الفقير
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فأمرها بأخذ ما يكفيها من
231

غير تقدير ورد الاجتهاد في ذلك إليها. ومن المعلوم ان قدر كفايتها لا ينحصر في المدين بحيث لا يزيد
عنهما ولا ينقص، ولان الله تعالى قال (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقال النبي صلى الله عليه وسلم
" ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وايجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف وايجاب
قدر الكفاية وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز انفاق بالمعروف فيكون ذلك هو الواجب بالكتاب
والسنة. واعتبار النفقة بالكفارة في القدر لا يصح لأن الكفارة لا تختلف باليسار والاعسار ولا هي
مقدرة بالكفارة وإنما اعتبرها الشرع بها في الجنس دون القدر ولهذا لا يجب فيها الا دم
(فصل) ولا يجب فيها الحب. وقال الشافعي الواجب فيها الحب اعتبارا بالاطعام في الكفارة
حتى لو دفع إليها دقيقا أو سويقا أو خبزا لم يلزمها قبوله كما لا يلزم ذلك المسكين في الكفارة. قال
بعضهم يجئ على قول أصحابنا انه لا يجوز وان تراضيا لأنه بيع حنطة بجنسها متفاضلا
ولنا قول ابن عباس في قوله تعالى (أوسط ما تطعمون أهليكم) قال الخبز والزيت. وعن ابن
عمر الخبز والسمن والخبز والزيت والتمر. ومن أفضل ما تطعمونهن الخبز واللحم. ففسر
اطعام الأهل بالخبز مع غيره من الادم، ولان الشرع ورد بالانفاق مطلقا من غير تقييد ولا تقدير
فوجب ان يرد إلى العرف كما في القبض والاحراز وأهل العرف إنما يتعارفون فيما بينهم في الانفاق
على أهليهم الخبز والادم دون الحب، والنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إنما كانوا ينفقون ذلك دون ما ذكروه
232

فكان ذلك هو الواجب. ولأنها نفقة قدرها الشرع بالكفاية فكان الواجب الخبز كنفقة العبد،
ولان الحب تحتاج فيه إلى طحنه وخبزه فمتى احتاجت إلى تكلف ذلك من مالها لم تحصل الكفاية
بنفقته، وفارق الاطعام في الكفارة لأنها لا تتقدر بالكفاية ولا يجب فيها الادم. فعلى هذا لو
طلبت مكان الخبز دراهم أو حبا أو دقيقا أو غير ذلك لم يلزمه بذله ولو عرض عليها بدل الواجب لها
لم يلزمها قبوله لأنها معاوضة فلا يجبر واحد منهما على قبوله كالبيع. وان تراضيا على ذلك جاز لأنه
طعام وجب في الذمة لآدمي معين فجازت المعاوضة عنه كالطعام في القرض. ويفارق الطعام في الكفارة
لأنه حق الله تعالى وليس هو لآدمي معين فيرضى. بالعوض عنه، وان أعطاها مكان الخبز حبا أو دقيقا
جاز إذا تراضيا عليه لأنه هذا ليس بمعاوضة حقيقة فإن الشارع لم يعتبر الواجب بأكثر من
الكفاية، فبأي شئ حصلت الكفاية كان ذلك هو الواجب، وإنما صرنا إلى ايجاب الخبز عند
الاختلاف لترجحه بكونه القوت المعتاد
(فصل) ويرجع في تقدير الواجب إلى اجتهاد الحاكم أو نائبه ان لم يتراضيا على شئ فيفرض
للمرأة قدر كفايتها من الخبز والادم فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع خبز البلد
الذي يأكله أمثالهما وللمعسرة تحت المعسر قدر كفايتهما من أدنى خبز البلد وللمتوسطة تحت المتوسط
233

من أوسطه لكل أحد على حسب حاله على ما جرت به العادة في حق أمثاله وكذلك الادم للموسرة
تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع الادم من اللحم والأرز واللبن وما يطبخ به اللحم والدهن على
اختلاف أنواعه في بلدانه السمن في موضع والزيت في آخر والشيرج في آخر وللمعسرة تحت
المعسر من الادم أدونه كالباقلا والخل والبقل والكامخ وما جرت به عادة أمثالهم وما يحتاج
إليه من الدهن وللمتوسطة تحت المتوسط أوسط ذلك من الخبز والادم كل على حسب عادته، وقال
الشافعي الواجب من جنس قوت البلدة لا يختلف باليسار والاعسار سوى المقدار والادم هو الدهن
خاصة لأنه أصلح للأبدان وأجود في المؤنة لأنه لا يحتاج إلى طبخ وكلفة ويعتبر الادم بغالب عادة
أهل البلد كالزيت بالشام والشيرج بالعراق والسمن بخراسان ويعتبر قدر الادم بالقوت فإذا قيل إن
الرطل تكفيه الأوقية من الدهن فرض ذلك، وفي كل يوم جمعة رطل لحم فإن كان في موضع
يرخص اللحم زادها على الرطل شيئا، وذكر القاضي في الادم مثل هذا وهذا مخالف لقول الله تعالى
(لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم
رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ومتى أنفق الموسر نفقة المعسر فما أنفق من سعته ولا رزقها بالمعروف
وقد فرق الله عز وجل بين الموسر والمعسر في الانفاق، وفي هذا جمع بين ما فرق الله تعالى، وتقدير
الادم بما ذكروه تحكم لا دليل عليه وخلاف العادة والعرف بين الناس في انفاقهم فلا يعرج على مثل
234

هذا، وقال ابن عمر من أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم والصحيح ما ذكرناه من رد النفقة
المطلقة في الشرع إلى العرف فيما بين الناس في نفقاتهم في حق الموسر والمعسر والمتوسط كما رددناهم في
الكسوة إلى ذلك ولان النفقة من مؤنة المرأة على الزوج فاختلف جنسها بالايسار والاعسار كالكسوة
(فصل) وحكم المكاتب والعبد حكم المعسر لأنهما ليس بأحسن حالا منه ومن نصفه حر إن كان
موسرا فحكمه حكم المتوسط لأنه متوسط نصفه موسر ونصفه معسر
(فصل) ويجب للمرأة ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها والسدر أو نحوه مما تغسل به رأسها
وما يعود بنظافتها لأن ذلك يراد للتنظيف فكان عليه كما أن على المستأجر كنس الدار وتنظيفها
فاما الخضاب فإنه ان لم يطلبه الزوج منها لم يلزمه لأنه يراد للزينة، وان طلبه منها فهو عليه، وأما
الطيب فما يراد منه لقطع السهوكة كدواء العرق لزمه لأنه يراد للتطيب، وما يراد منه للتلذذ
والاستمتاع لم يلزمه لأن الاستمتاع حق له فلا يجب عليه ما يدعوه إليه ولا يجب عليه شراء الأدوية
ولا أجرة الطبيب لأنه يراد لاصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر بناء مع يقع من الدار وحفظ
أصولها وكذلك أجرة الحجام والفاصد
235

(فصل) وتجب عليه كسوتها باجماع أهل العلم لما ذكرنا من النصوص ولأنها لابد منها على الدوام
فلزمته كالنفقة وهي معتبرة بكفايتها وليست مقدرة بالشرع كما قلنا في النفقة ووافق أصحاب الشافعي
على هذا ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم فيفرض لها على قدر كفايتها على قدر يسرهما وعسرهما
وما جرت عادة أمثالهما به من الكسوة فيجتهد الحاكم في ذلك عند نزول الامر كنحو اجتهاده في
المتعة للمطلقة وكما قلنا في النفقة فيفرض للموسرة تحت الموسر من أرفع ثياب البلد من الكتان والخبز
والإبريسم وللمعسرة تحت المعسر غليظ والكتان وللمتوسطة تحت المتوسط المتوسط من
ذلك فأقل ما يجب من ذلك قميص وسراويل ومقنعة ومداس وجبة للشتاء ويزيد من عدد الثياب ما
جرت العادة بلبسه مما لا غنى عنه دون ما للتجمل والزينة والأصل في هذا قول الله عز وجل وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف " والكسوة بالمعروف هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند
" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
(فصل) وعليه لها ما تحتاج إليه للنوم من الفراش واللحاف والوسادة كل على حسب عادته فإن كانت
ممن عادته النوم في الأكسية والبساط فعليه لها لنومها ما جرت عادتهم به ولجلوسها بالنهار البساط والزلى
والحصير الرفيع أو الخشن، الموسر على حسب ايساره والمعسر على قدر اعساره على حسب العوائد
(فصل) ويجب لها مسكن بدليل قوله سبحانه وتعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم)
236

فإذا وجبت السكنى للمطلقة فللتي في صلب النكاح أولى قال الله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) ومن المعروف
أن يسكنها في مسكن ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون وفي التصرف والاستمتاع وحفظ
المتاع ويكون المسكن على قدر يسارهما واعسارهما لقول الله تعالى (من وجدكم) ولأنه واجب لها لمصلحتها
في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة
(فصل) فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها لكونها من ذوي الاقدار أو مريضة وجب لها
خادم لقوله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادما ولأنه مما تحتاج
إليه في الدوام فأشبه النفقة، ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لأن المستحق خدمتها في نفسها،
ويحصل ذلك بواحد، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي الا أن مالكا قال: إن كان
لا يصلح المرأة الا أكثر من خادم فعليه أن ينفق على أكثر من واحد ونحوه قال أبو ثور إذا
احتمل الزوج ذلك فرض لخادمين
ولنا أن الخادم الواحد يكفيها لنفسها، والزيادة تراد لحفظ ملكها أو للتجمل وليس عليه ذلك إذا ثبت هذا
فلا يكون الخادم الا ممن يحل له النظر إليها اما امرأة واما ذو رحم محرم لأن الخادم يعزم المخدوم في غالب أحواله فلا
يسلم من النظر وهل يجوز أن يكون من أهل الكتاب فيه وجهان الصحيح منهما جوازه لأن استخدامهم مباح،
وقد ذكرنا فيما مضى أن الصحيح إباحة النظر لهم (والثاني) لا يجوز لأن في إباحة نظرهم اختلافا وتعافهم النفس
237

ولا يتنظفون من النجاسة ولا يلزم الزوج أن يملكها خادما لأن المقصود الخدمة فإذا حصلت من غير تمليك جاز
كما أنه إذا أسكنها دارا بأجرة جاز، لا يلزمه تمليكها مسكنا فإن ملكها الخادم فقد زاد خيرا
وان أخدمها من يلازم خدمتها من غير تمليك جاز سواء كان له أو استأجره حرا كان أو عبدا
وإن كان الخادم لها فرضيت بخدمته لها ونفقته على الزوج جاز، وان طلبت منه أجرة خادمها
فوافقها جاز، وان قال لا أعطيك أجر هذا ولكن أنا آتيك بخادم سواه فله ذلك
إذا أتاها بمن يصلح، وان قالت انا أخدم نفسي وآخذ أجر الخادم لم يلزم الزوج قبول ذلك لأن
الاجر عليه فتعيين الخادم إليه ولان في اخدامها توفيرها على حقوقه وترفيهها ورفع قدرها وذلك يفوت
بخدمتها لنفسها، وان قال الزوج انا أخدمك بنفسي لم يلزمها لأنها تحتشمه وفيه غضاضة عليها
لكون زوجها خادما، وفيه وجه آخر انه يلزمها الرضى به لأن الكفاية تحصل به
(فصل) وعلى الزوج نفقة الخادم ومؤنته من الكسوة والنفقة مثل ما لامرة المعسر الا انه لا يجب
لها المشط والدهن لرأسها والسدر لأن ذلك يراد للزينة والتنظيف ولا يراد ذلك من الخادم لكن
ان احتاجت إلى خف لتخرج إلى شراء الحوائج لزمه ذلك
238

(مسألة) قال (فإن منعها ما يجب لها أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه مقدار
حاجتها بالمعروف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند حين قالت إن أبا سفيان رجل شحيح وليس
يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي؟ فقال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)
وجملته أن الزوج إذا لم يدفع إلى امرأته ما يجب لها عليه من النفقة والكسوة أو دفع إليها أقل
من كفايتها فلها أن تأخذ من ماله الواجب أو تمامه باذنه وبغير اذنه بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند
" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وهذا اذن لها في الاخذ من ماله بغير اذنه وردها إلى اجتهادها
في قدر كفايتها وكفاية ولدها وهو متناول لاخذ تمام الكفاية فإن ظاهر الحديث دل على أنه قد
كان يعطيها بعض الكفاية ولا يتممها لها فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها في أخذ تمام الكفاية بغير علمه
لأنه موضع حاجة فإن النفقة لا غنى عنها ولا قوام الا بها فإذا لم يدفعها الزوج ولم تأخذها أفضى
إلى ضياعها وهلاكها فرخص لها في أخذ قدر نفقتها دفعا لحاجتها، ولان النفقة تتجدد بتجدد الزمان
شيئا فشيئا فتشق المرافعة إلى الحاكم والمطالبة بها في كل الأوقات فلذلك رخص لها في أخذها بغير
اذن من هي عليه. وذكر القاضي بينها وبين الدين فرقا آخر وهو أن نفقة الزوجة تسقط بفوات
239

وقتها عند بعض أهل العلم ما لم يكن فرضها لها فلو لم تأخذ حقها أفضى إلى سقوطها والاضرار بها بخلاف
الدين فإنه لا يسقط عند أحد بترك المطالبة فلا يؤدي ترك الاخذ إلى الاسقاط
(فصل) ويجب عليه دفع نفقتها إليها في صدر نهار كل يوم إذا طلعت الشمس لأنه أول وقت
الحاجة فإن اتفقا على تأخيرها جاز لأن الحق لها فإذا رضيت بتأخيره جاز كالدين، وان اتفقا على تعجيل نفقة عام أو شهر أو أقل من ذلك أو أكثر أو تأخيره جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فجاز
من تعجيله وتأخيره ما اتفقا عليه كالدين وليس بين أهل العلم في هذا خلاف عملناه فإن سلم إليها نفقة
يوم ثم ماتت فيه لم يرجع عليها بها لأنه دفع إليها ما وجب عليه دفعه إليها، وان أبانها بعد وجوب
الدفع إليها لم تسقط نفقتها فيه ولها مطالبته بها لأنها قد وجبت فلم تسقط بالطلاق كالدين، وان عجل
لها نفقة شهر أو عام ثم طلقها أو ماتت قبل انقضائه أو بانت بفسخ أو اسلام أحدهما أو ردته فله أن
يسترجع نفقة سائر الشهر، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يسترجعها
لأنها صلة فإذا قبضتها لم يكن له الرجوع فيها كصدقة التطوع
ولنا انه سلم النفقة سلفا عما يجب في الثاني فإذا وجد ما يمنع الوجوب ثبت الرجوع كما لو
أسلفها إياها فنشزت أو عجل الزكاة إلى الساعي فتلف ماله قبل الحول. وقولهم انها صلة قلنا بل هي
عوض عن التمكين وقد فات التمكين وذكر القاضي أن زوج الوثنية والمجوسية إذ ادفع إليها نفقة
240

سنتين ثم بانت باسلامه، فإن لم يكن اعلمها انها نفقة عجلها لها لم يرجع عليها لأن الظاهر أنه تطوع بها
وان أعلمها ذلك انبنى على معجل الزكاة إذا أعلم الفقير انها زكاة معجلة ثم تلف المال وفي الرجوع بها
وجهان كذلك ههنا. وكذلك ينبغي أن يكون في سائر الصور مثل هذا لأنه تبرع بدفع ما لا يلزمه
من غير اعلام الآخذ بتعجيله فلم يرجع به كمعجل الزكاة، ولو سلم إليها نفقة اليوم فسرقت أو
تلفت لم يلزمه عوضها لأنه برئ من الواجب بدفعه فأشبه ما لو تلفت الزكاة بعد قبض الساعي لها
أو الدين بعد اخذ صاحبه له
(فصل) وإذا دفع إليها نفقتها فلها أن تتصرف فيها بما أحبت من الصدقة والهبة والمعاوضة ما لم
يعد ذلك عليها بضرر في بدنها وضعف في جسمها لأنه حق لها التصرف فيه بما شاءت كالمهر وليس
لها التصرف فيها على وجه يضربها لأن فيه تفويت حقه منها ونقصا في استمتاعه بها
(فصل) وعليه دفع الكسوة إليها في كل عام مرة لأنها العادة ويكون الدفع إليها في أوله لأنه أول
وقت الوجوب فإن بليت الكسوة في الوقت الذي يبلى فيه مثلها لزمه ان يدفع إليها كسوة أخرى
لأن ذلك وقت الحاجة إليها وان بليت قبل ذلك لكثرة دخولها وخروجها أو استعمالها لم يلزمه
ابدالها لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في العرف. وان مضى الزمان الذي تبلى في مثله بالاستعمال
المعتاد ولم تبل فهل يلزمه بدلها؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه بدلها لأنها غير محتاجة إلى الكسوة
241

(والثاني) يلزمه لأن الاعتبار بمضي الزمان دون حقيقة الحاجة بدليل انها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه
بدلها. ولو أهدي إليها كسوة لم يسقط كسوتها وان أهدي إليها طعام فأكلته وبقي قوتها إلى الغد
لم يسقط قوتها فيه وان كساها ثم طلقها قبل ان تبلى فهل له أن يسترجعها؟ فيه وجهان (أحدهما) له ذلك
لأنه دفعها للزمان المستقبل فإذا طلقها قبل مضيه كان له استرجاعها كما لو دفع إليها نفقة مدة ثم طلقها
قبل انقضائها (والثاني) ليس له الاسترجاع لأنه دفع إليها الكسوة بعد وجوبها عليه فلم يكن له الرجوع
فيها كما لو دفع إليها النفقة بعد وجوبها ثم طلقها قبل اكلها بخلاف النفقة المستقلة
(فصل) أو إذا دفع إليها كسوتها فأرادت بيعها أو التصديق بها وكان ذلك يضر بها أو يخل
بتجملها بها أو بسترتها لم تملك ذلك كما لو أرادت الصدقة بقوتها على وجه يضر بها وان لم يكن في
ذلك ضرر احتمل الجواز لأنها تملكها فأشبهت النفقة، واحتمل المنع لأن له استرجاعها لو طلقها
في أحد الوجهين بخلاف النفقة
(فصل) والذمية كالمسلمة في النفقة والمسكن والكسوة في قول عامة أهل العلم وبه يقول مالك
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لعموم النصوص والمعنى
242

(مسألة) قال (فإذا منعها ولم تجد ما تأخذه واختارت فراقه فرق الحاكم بينهما
وجملته ان الرجل إذا منع امرأته النفقة لعسرته وعدم ما ينفقه فالمرأة مخيرة بين الصبر عليه
وبين فراقه وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن
عبد العزيز وربيعة وحماد ومالك ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي الشافعي واسحق وأبو عبيد
وأبو ثور. وذهب عطاء والزهري وابن شبرمة وأبو حنيفة وصاحباه إلى أنها لا تملك فراقه بذلك
ولكن يرفع يده عنها لتكتسب لأنه حق لها عليه فلا يفسخ النكاح لعجزه عنه كالدين. وقال
العنبري يحبس إلى أن ينفق
ولنا قول الله تعالى (فامساك بمعروف أو تسريح باحسان) وليس الامساك مع ترك الانفاق
امساكا بمعروف فيتعين التسريح. وروى سعيد عن سفيان ابن أبي الزناد قال سألت سعيد
ابن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على مرأته أيفرق بينهما؟ قال نعم قال سنة؟ قال سنة وهذا
ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ابن المنذر ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد
في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى، ولأنه
إذا ثبت الفسخ بالعجز عن الوطئ والضرر فيه أقل لأنه إنما هو فقد لذة وشهوة يقوم البدن بدونه
فلان يثبت بالعجز عن النفقة التي لا يقوم البدن الا بها أولى، إذا ثبت هذا فإنه متى ثبت الاعسار
بالنفقة على الاطلاق فللمرأة المطالبة بالفسخ من غير انظار وهذا أحد قولي الشافعي وقال حماد بن
243

أبي سليمان يؤجل سنة قياسا على العنين وقال عمر بن عبد العزيز اضربوا له شهرا أو شهرين، وقال
مالك الشهر ونحوه وقال الشافعي في القول الآخر يؤجل ثلاثا لأنه قريب
ولنا ظاهر حديث عمر ولأنه معنى يثبت الفسخ ولم يرد الشرع بالانظار فيه فوجب أن يثبت
الفسخ في الحال كالعيب ولان سبب الفسخ الاعسار وقد وجد فلا يلزم التأخير
(فصل) وان لم يجد النفقة الا يوما بيوم فليس ذلك اعسارا يثبت به الفسخ لأن ذلك هو الواجب
عليه وقد قدر عليه، وان وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعشها لم يكن لها الفسخ لأنها تصل
إلى كفايتها وما يقوم به بدنها وإن كان صانعا يعمل في الأسبوع بما يبعه في يوم بقدر كفايتها في
الأسبوع كله لم يثبت الفسخ لأن هذا يحصل الكفاية في جميع زمانه وان تعذر عليه الكسب في
بعض زمانه أو تعذر البيع لم يثبت الفسخ لأنه يمكن الاقتراض إلى زوال العارض وحصول الاكتساب
وإن عجز عن الاقتراض أياما يسيرة لم يثبت الفسخ لأن ذلك يزول عن قريب ولا يكاد يسلم منه
كثير من الناس، وان مرض مرضا يرجى زواله في أيام يسيرة لم يفسخ لما ذكرناه وإن كان ذلك
يطول فلها الفسخ لأن الضرر الغالب يلحقها ولا يمكنها الصبر وكذلك أن كان لا يجد من النفقة
الا يوما دون يوم فلها الفسخ لأنها لا يمكنها الصبر على هذا ويكون بمثابة من لا يجد الا بعض القوت
244

وان أعسر ببعض نفقة المعسر ثبت لها الخيار لأن البدن لا يقوم بما دونها وان أعسر بما زاد على
نفقة المعسر فلا خيار لها لأن تلك الزيادة تسقط باعساره ويمكن الصبر عنها ويقوم البدن بما دونها وان
أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها خيار لما ذكرنا وكذلك أن أعسر بالادم، وان أعسر بالكسوة فلها
الفسخ لأن الكسوة لابد منها ولا يمكن الصبر عنها ولا يقوم البدن، وان أعسر بأجرة مسكن
ففيه وجهان (أحدهما) لها الخيار لأنه مما لابد منه فهو كالنفقة والكسوة (والثاني) لا خيار لها لأن
البنية تقوم بدونه وهذا الوجه هو الذي ذكر القاضي، وان أعسر بالنفقة الماضية لم يكن لها الفسخ لأنها
دين يقوم البدن بدونها فأشبهت سائر الديون
(الحال الثاني) أن يمتنع من الانفاق مع يساره فإن قدرت له على مال أخذت منه قدر حاجتها
ولا خيار لها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هندا بالأخذ ولم يعجل لها الفسخ وان لم تقدر رافعته إلى الحاكم
فيأمره بالانفاق ويجبره عليه فإن أبى حبسه فإن صبر على الحبس أخذ الحاكم النفقة من ماله فإن لم يجد
الا عروضا أو عقارا باعها في ذلك، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وقال
أبو حنيفة النفقة في ماله من الدنانير والدراهم ولا يبيع عرضا الا بتسليم لأن بيع مال الانسان لا ينفذ
الا باذنه أو اذن وليه ولا ولاية على الرشيد
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك " ولم يفرق ولان ذلك مال له فتؤخذ منه النفقة كالدراهم
245

والدنانير وللحاكم ولاية عليه إذا امتنع ولايته على دراهمه ودنانيره وان تعذرت النفقة في حال
غيبته وله وكيل فحكم وكيله حكمه في المطالبة والاخذ من المال عند امتناعه وان لم يكن له وكيل ولم
تقدر المرأة على الاخذ أخذ لها الحاكم من ماله ويجوز بيع عقاره وعروضه في ذلك إذا لم تجد
ما تنفق سواه وينفق على المرأة يوما بيوم، وبهذا قال الشافعي ويحيى بن آدم وقال أصحاب الرأي
يفرض لها في كل شهر
ولنا أن هذا تعجيل للنفقة قبل وجوبها فلم يجز كما لو عجل لها نفقة زيادة عن شهر
(فصل) وان غيب ماله وصبر على الحبس ولم يقدر الحاكم له على مال يأخذه أو لم يقدر على
اخذ النفقة من مال الغائب فلها الخيار في الفسخ في ظاهر قول الخرقي واختيار أبي الخطاب،
واختار القاضي أنها لا تملك الفسخ وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن الفسخ في المعسر لعيب الاعسار
ولم يوجد ههنا ولان الموسر في مظنة امكان الاخذ من ماله، وذا امتنع في يوم فربما لا يمتنع
في الغد بخلاف المعسر
ولنا أن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا وهذا
اجبار على الطلاق عند الامتناع من الانفاق، ولان الانفاق عليها من ماله يتعذر فكان لها الخيار
كحال الاعسار بل هذا أولى بالفسخ فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور فعلى غيره أولى ولان في الصبر
246

ضررا أمكن ازالته بالفسخ فوجبت ازالته، ولأنه نوع تعذر يجوز الفسخ فلم يفترق الحال بين الموسر
والمعسر كما إذا أدى ثمن المبيع فإنه لا فرق في جواز الفسخ بين أن يكون المشتري معسرا وبين أن يهرب
قبل أداء الثمن، وعيب الاعسار إنما جوز الفسخ لتعذر الانفاق بدليل أنه لو اقترض ما ينفق عليه أو تبرع
له انسان بدفع ما ينفقه لم تملك الفسخ وقولهم انه يحتمل أن ينفق فيما بعد هذا قلنا وكذلك العسر يحتمل
أن يغنيه الله وأن يقترض أو يعطى ما ينفقه فاستويا
(فصل) ومن وجبت عليه نفقة امرأته وكان له عليها دين فأراد أن يحتسب عليها بدينه
مكان نفقتها فإن كانت موسرة فله ذلك لأن من عليه حق فله أن يقتضيه من أي أمواله شاء،
وهذا من ماله، وان كانت معسرة لم يكن له ذلك لأن قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من
قوته، وهذا لا يفضل عنها، ولان الله تعالى أمر بانظار المعسر بقوله سبحانه (وإن كان ذو عسرة
فنظرة إلى ميسرة) فيجب انظارها بما عليها
(فصل) وكل موضع ثبت لها الفسخ لأجل النفقة لم يجز الا بحكم الحاكم لأنه فسخ مختلف
فيه فيفتقر إلى الحاكم كالفسخ بالعنة ولا يجوز له التفريق الا أن تطلب المرأة ذلك لأنه لحقها فلم يجز
من غير طلبها كالفسخ للعنة فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخ لا رجعة له فيه وبهذا قال الشافعي وابن المنذر
247

وقال مالك هو تطليقة وهو أحق بها ان أيسر في عدتها لأنه تفريق لامتناعه من الواجب عليه لها فأشبه
تفريقه بين المولي وامرأته إذا امتنع من الفيئة والطلاق
ولنا أنها فرقة لعجزه عن الواجب لها عليه فأشبهت فرقة العنة، فاما ان أجبره الحاكم على الطلاق
فطلق أقل من ثلاث فله الرجعة عليها ما دامت في العدة فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من
الانفاق عليها ولم يكن الاخذ من ماله فطلبت المرأة الفسخ فللحاكم الفسخ لأن المقتضى له
باق أشبه ما قبل الطلاق
(فصل) وان رضيت بالمقام معه مع عسرته أو ترك انفاقه ثم بدا لها الفسخ أو تزوجت معسرا
عالمة بحاله وراضية بعسرته وترك انفاقه أو شرط عليها أن لا ينفق عليها ثم عن لها الفسخ فلها ذلك،
وبهذا قال الشافعي وقال القاضي ظاهر كلام احمد ليس لها الفسخ ويبطل خيارها في الموضعين وهو
قول مالك لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به فلم تملك الفسخ كما لو تزوجت عنينا عالمة بعنته
أو قالت بعد العقد قد رضيت به عنينا
ولنا أن وجوب النفقة يتجدد في كل يوم فيتجدد لها الفسخ ولا يصح اسقاط حقها فيما يجب
لها كاسقاط شفعتها قبل البيع ولذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة لم تسقط ولو أسقطتها أو أسقطت
المهر قبل النكاح لم يسقط وإذا لم يسقط وجوبها لم يسقط الفسخ الثابت به، وان أعسر بالمهر وقلنا
لها الفسخ لاعساره به فرضيت بالمقام لم يكن لها الفسخ لأن وجوبه لم يتجدد بخلاف النفقة ولو
248

تزوجته عالمة باعساره بالمهر راضية بذلك فينبغي ان لا تملك الفسخ باعساره به لأنها رضيت بذلك
في وقت لو أسقطته فيه سقط
(فصل) إذا رضيت بالمقام مع ذلك لم يلزمها التمكين من الاستمتاع لأنه لم يسلم إليها عوضه فلم
يلزمها تسليمه كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها
وتحصل ما تنفقه على نفسها لأن في حبسها بغير نفقة اضرارا بها، ولو كانت موسرة لم يكن له حبسها
لأنه إنما يملك حبسها إذا كفاها المؤنة وأغناها عما لابد لها منه ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب عليها
فإذا انتفى الأمران لم يملك حبسها
(فصل) ومن ترك الانفاق الواجب لامرأته مدة لم يسقط بذلك وكان دينا في ذمته سواء
تركه لعذر أو غير عذر في أظهر الروايتين وهذا قول الحسن ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر
والرواية الأخرى تسقط نفقتها ما لم يكن الحاكم قد فرضها لها وهذا مذهب أبي حنيفة لأنها نفقة تجب
يوما فيوما فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم كنفقة الأقارب، لأن نفقة الماضي قد استغني عنها
بمضي وقتها فتسقط كنفقة الأقارب
ولنا ان عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم أن ينفقوا
أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولأنها حق يجب مع اليسار والاعسار فلم يسقط بمضي
249

الزمان كأجرة العقار والديون، قال ابن المنذر هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والاجماع
ولا يزول ما وجب بهذه الحجج الا بمثلها، ولأنها عوض واجب فأشبهت الأجرة وفارق نفقة
الأقارب فإنها صلة يعتبر اليسار من المنفق والاعسار ممن تجب له وجبت لنزجية الحال فإذا
مضى زمنها استغني عنها فأشبه ما لو استغنى عنها بيساره وهذه بخلاف ذلك، إذا ثبت هذا فإنه ان
ترك الانفاق عليها مع يساره فعليه النفقة بكمالها، وان تركها لاعساره لم يلزمه الا نفقة المعسر لأن
الزائد سقط باعساره
(فصل) ويصح ضمان النفقة ما وجب منها وما يجب في المستقبل إذا قلنا إنها تثبت في الذمة،
وقال الشافعي يصح ضمان ما وجب وفي ضمان المستقبل وجهان بناء على أن النفقة هل تجب بالعقد
أو بالتمكين ومبنى الخلاف على ضمان ما لم يجب إذا كان مآله إلى الواجب فعندنا يصح وعندهم لا يصح
وقد ذكرنا ذلك في باب الضمان
(فصل) وان أعسر بنفقة الخادم أو الادم أو المسكن ثبت ذلك في ذمته وبهذا قال الشافعي
وقال القاضي لا يثبت لأنه من الزائد فلم يثبت في ذمته كالزائد عن الواجب عليه
ولنا أنها نفقة تجب على سبيل العوض فتثبت في الذمة كالنفقة الواجبة للمرأة قوتا وفارق الزائد
250

(فصل) وإذا أنفقت المرأة على نفسها من مال زوجها الغائب ثم بان أنه قد مات قبل انفاقها
حسب عليها ما أنفقته من ميراثها سواء أنفقته بنفسها أو بأمر الحاكم وبهذا قال أبو العالية ومحمد بن
سيرين والشافعي وابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافهم لأنها أنفقت مالا تستحق وان فضل لها
شئ فهو لها وان فضل عليها شئ وكان لها صداق أو دين على زوجها حسب منه وان لم يكن لها
شي من ذلك كان الفضل دينا عليها والله أعلم
(فصل) وان أعسر الزوج بالصداق ففيه ثلاثة أوجه أصحها ليس لها الفسخ وهو اختيار ابن
حامد (والثاني) لها الفسخ وهو اختيار أبي بكر لأنه أعسر بالعوض فكان لها الرجوع في المعوض كما
لو أعسر بثمن مبيعها (والثالث) ان أعسر قبل الدخول فلها الفسخ كما لو أفلس المشتري والمبيع
بحاله، وإن كان بعد الدخول لم تملك الفسخ لأن المعقود عليه قد استوفي فأشبه ما لو أفلس المشتري
بعد تلف المبيع أو بعضه
ولنا أنه دين فلم يفسخ النكاح للاعسار به كالنفقة الماضية، ولان تأخيره ليس فيه ضرر مجحف
فأشبه نفقة الخادم والنفقة الماضية ولأنه لا نص فيه ولا يصح قياسه على الثمن في المبيع لأن الثمن كل مقصود
البائع والعادة تعجيله والصداق فضلة ونحلة ليس هو المقصود في النكاح ولذلك لا يفسد النكاح
بفساده ولا بترك ذكره والعادة تأخيره ولان أكثر من يشتري بثمن حال يكون موسرا به وليس
251

الأكثر أن من تزوج بمهر يكون موسرا به ولا يصح قياسه على النفقة لأن الضرورة لا تندفع الا
بها بخلاف الصداق فأشبه شئ به النفقة الماضية وللشافعي نحو هذه الوجوه وإذا قلنا لها الفسخ للاعسار
به فتزوجته عالمة بعسرته فلا خيار لها وجها واحدا لأنها رضيت به كذلك وكذلك أن علمت
عسرته بعد العقد فرضيت بالمقام سقط حقها من الفسخ لأنها رضيت باسقاط حقها بعد وجوبه فسقط
كما لو رضيت بعيبه.
(فصل) ونفقة الأمة المزوجة حق لها ولسيدها لأن كل واحد منهما ينتفع بها ولكل واحد منهما
طلبها إن امتنع الزوج من أدائها ولا يملك واحد منهما اسقاطها لأن في سقوطها باسقاط أحدهما ضررا
بالآخر وان أعسر الزوج بها فلها الفسخ لأنه عجز عن نفقتها فملكت الفسخ كالحرة وان لم تفسخ
فقال القاضي لسيدها الفسخ لأن عليه ضررا في عدمها لما يتعلق بفواتها من فوات ملكه وتلفه فإن
أنفق عليها سيدها محتسبا بالرجوع فله الرجوع بها على الزوج رضيت بذلك أو كرهت لأن الدين
خالص حقه لا حق لها فيه وإنما تعلق حقها بالنفقة الحاضرة لوجوب صرفها إليها وقوام بدنها بها بخلاف
الماضية، وقال أبو الخطاب وأصحاب الشافعي ليس لسيدها الفسخ لعسرة زوجها بالنفقة لأنها حق
لها فلم يملك سيدها الفسخ دونها كالفسخ للعيب فإن كانت معتوهة أنفق المولى وتكون
النفقة دينا في ذمة الزوج وان كانت عاقلة قال لها السيد ان أردت النفقة فافسخي النكاح والا فلا
نفقة لك عندي
252

(فصل) وان اختلف الزوجان في الانفاق عليها أو في تقبيضها نفقتها فالقول قول المرأة لأنها منكرة
والأصل معها وان اختلفا في التمكين الموجب للنفقة أو في ولته فقالت كان ذلك من شهر فقال بل
من يوم فالقول قوله لأنه منكر والأصل معه وان اختلفا في يساره فادعته المرأة أو الزوج ليفرض لها
نفقة الموسرين أو قالت كنت موسرا وأنكر ذلك فإن عرف له مال فالقول قولها والا فالقول قوله
وبهذا كله قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وان اختلفا في فرض الحاكم للنفقة أو في وقتها
فقال فرضها منذ شهر فقالت بل منذ عام فالقول قوله، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال
مالك إن كان مقيما معها فالقول قوله، وإن كان غائبا عنها فالقول قول المرأة من يوم رفعت
أمرها إلى الحاكم.
ولنا أن قوله يوافق الأصل فقدم كما لو كان مقيما معها وكل من قلنا القول قوله فلخصمه عليه
اليمين لأنها دعاو في المال فأشبهت دعوى الدين ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولكن اليمين على المدعى
عليه " وان دفع الزوج إلى امرأته نفقة وكسوة أو بعث به إليها فقالت إنما فعلت ذلك تبرعا وهبة وقال
بل وفاء للواجب علي فالقول قوله لأنه أعلم بنية أشبه ما لو قضي دينه واختلف هو وغريمه في نيته
وان طلق امرأته وكانت حاملا فوضعت فقال طلقتك حاملا فانقضت عدتك بوضع الحمل وانقطعت
253

نفقتك ورجعتك وقالت بل بعد الوضع فلي النفقة ولك الرجعة فالقول قولها لأن الأصل بقاء النفقة
وعدم المسقط لها والعدة ولا رجعة للزوج لاقراره بعدمها وان رجع فصدقها فله الرجعة لأنها
مقرة له بها وان قال طلقتك بعد الوضع فلي الرجعة ولك النفقة وقالت بل وأنا حامل فالقول قوله لأن
الأصل بقاء الرجعة ولا نفقة لها ولا عدة عليها لأنها حق الله تعالى فالقول قولها فيها وان عاد فصدقها
سقطت رجعته ووجبت لها النفقة هذا في ظاهر الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني على ما يعلمه من
حقيقة الامر دون ما قاله
(فصل) وان طلق الرجل امرأته فادعت أنها حامل لتكون لها النفقة أنفق عليها ثلاثة أشهر ثم ترى
القوابل بعد ذلك لأن الحمل يبين بعد ثلاثة أشهر الا ان تظهر براءتها من الحمل بالحيض أو بغيره
فتنقطع نفقتها كما تنقطع إذا قال القوابل ليست حاملا ويرجع عليها بما أنفق لأنها اخذت منه ما
لا تستحقه فرجع عليها كما لو ادعت عليه دينا وأخذته منه ثم تبين كذبها
وعن أحمد رواية أخرى لا يرجع عليها لأنه أنفق عليها بحكم آثار النكاح فلم يرجع به كالنفقة
في النكاح الفاسد إذا تبين فساده. ان علمت براءتها من الحمل بالحيض فكتمته فينبغي أن يرجع
عليها قولا واحد لأنها اخذت النفقة مع علمها ببراءتها كما لو اخذتها من ماله بغير علمه. وان ادعت
الرجعية الحمل فأنفق عليها أكثر من مدة رجع عليها بالزيادة ويرجع في مدة العدة إليها لأنها
254

اعلم بها فالقول قولها فيها مع يمينها. فإن قالت قد ارتفع حيضي ولم ادر ما رفعه فعدتها سنة ان
كانت حرة وان قالت قد انقضت بثلاثة قروء وذكرت آخرها فلها النفقة إلى ذلك ويرجع عليها
بالزائد وان قالت لا أدري متى آخرها رجعنا إلى عادتها فحسبنا لها بها. وان قالت عادتي تختلف
فتطول وتقصر انقضت العدة بالأقصر لأنه اليقين وان قالت عادتي تختلف ولا اعلم رددناها إلى
غالب عادات النساء في كل شهر قرء لأنا رددنا المتحيرة إلى ذلك في أحكامها فكذلك هذه. وان
بان انها حامل من غيره مثل أن تلده بعد أربع سنين فلا نفقة عليه لمدة حملها لأنه من غيره. وان كانت
رجعية فلها النفقة في مدة عدتها فإن كانت انقضت قبل حملها فلها النفقة إلى انقضائها وان حملت في
أثناء عدتها فلها النفقة إلى الوطئ الذي حملت ثم لا نفقة لها حتى تضع حملها ثم تكون لها النفقة في تمام
عدتها. وان وطئها زوجها في العدة الرجعية حصلت الرجعة وان قلنا لا تحصل فالنسب لاحق به
وعليه النفقة لمدة حملها. وان وطئها بعد انقضاء عدتها أو وطئ البائن عالما بذلك وبحريمه فهو
زنا لا يلحقه نسب الولد ولا نفقة عليه من اجله وان جهل بينونتها أو انقضاء عدة الرجعية أو تحريم
ذلك وهو ممن يجهله لحقه نسبه، وفي وجوب النفقة عليه روايتان
255

(مسألة) قال (ويجبر الرجل عن نفقة والديه وولده الذكور والإناث إذا كانوا
فقراء وكان له ما ينفق عليهم)
الأصل في وجوب نفقة الوالدين والمولودين الكتاب والسنة والاجماع. اما الكتاب فقول الله
تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) أوجب اجر رضاع الولد على أبيه. وقال سبحانه (وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وقال سبحانه (وقضى ربك أن لا تعبدوا الا إياه وبالوالدين
احسانا) ومن الاحسان الانفاق عليهما عند حاجتهما. ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي
ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه. وروت عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان أطيب ما أكل
الرجل من كسبه وان ولده من كسبه " رواه أبو داود. وأما الاجماع فحكى ابن المنذر قال أجمع
أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين الذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد وأجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم. ولان ولد الانسان
بعضه وهو بعض والده فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصله
إذا ثبت هذا فإن الام تجب نفقتها ويجب أن تنفق على ولدها إذا لم يكن له أب وبهذا
قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك انه لا نفقة عليها ولا لها لأنها ليست عصبة لولدها
256

ولنا قوله سبحانه (وبالوالدين احسانا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله من أبر؟ قال " أمك ثم
أمك ثم أمك أباك ثم الأقرب فالأقرب " رواه أبو داود. ولأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب،
ولان بينهما قرابة توجب رد الشهادة ووجوب العتق فأشبهت الأب. فإن أعسر الأب وجبت النفقة
على الام ولم ترجع بها عليه ان أيسر. وقال أبو يوسف ومحمد ترجع عليه. ولنا ان من وجب عليه
الانفاق بالقرابة لم يرجع به كالأب
(فصل) ويجب الانفاق على الأجداد والجدات وان علوا وولد الولد وإن سفلوا وبذلك قال
الشافعي والثوري وأصحاب الرأي. وقال مالك لا تجب النفقة عليهم ولا لهم لأن الجد ليس بأب حقيقي
ولنا قوله سبحانه (وعلى الوارث مثل ذلك) ولأنه يدخل في مطلق اسم الولد والوالد بدليل ان
الله تعالى قال (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) فيدخل فيهم ولد البنين وقال (ولأبويه
لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) وقال (ملة أبيكم إبراهيم ولان بينهما قرابة توجب
العتق ورد الشهادة فأشبه الولد والوالد القريبين
(فصل) ويشترط لوجوب الانفاق ثلاثة شروط (أحدها) أن يكونوا فقراء لا مال لهم ولا
كسب يستغنون به عن انفاق غيرهم فإن كانوا موسرين بمال أو كسب يستغنون به فلا نفقة لهم لأنها
تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة
257

(الثاني) أن يكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم فاضلا عن نفقة نفسه اما من ماله واما
من كسبه. فأما من لا يفضل عنه شئ فليس عليه شئ لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا
كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن فضل فعلى عياله فإن كان فضل قرابته " وفي لفظ " ابدأ
بنفسك ثم بمن تعول " حديث صحيح
وروى أبو هريرة ان رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عندي دينار قال " تصدق
به على نفسك قال عندي آخر قال تصدق به على ولدك قال عندي آخر قال تصدق به على
زوجك قال عندي آخر قال تصدق به على خادمك قال عندي آخر قال أنت أبصر " رواه
أبو داود، ولأنها مواساة فلا تجب على المحتاج كالزكاة
(الثالث) أن يكون المنفق وارثا لقول الله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) ولان بين المتوارثين
قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث عن سائر الناس فينبغي أن يختص بوجوب صلته
بالنفقة دونهم فإن لم يكن وارثا لعدم القرابة لم تجب عليه النفقة لذلك، وان امتنع الميراث مع وجود
القرابة لم يخل من ثلاثة أقسام:
(أحدها) أن يكون أحدهما رقيقا فلا نفقة لأحدهما على صاحبه بغير خلاف لأنه لا ولاية بينهما
ولا ارث فأشبه الأجنبيين، ولان العبد لا مال له فتجب عليه النفقة وكسبه لسيده ونفقته على سيده
فيستغني بها عن نفقة غيره
258

(الثاني) أن يكون دينهما مختلفا فلا نفقة لأحدهما على صاحبه وذكر القاضي في عمودي النسب
روايتين (إحداهما) تجب النفقة مع اختلاف الدين وهو مذهب الشافعي لأنها نفقة تجب مع اتفاق
الدين فتجب مع اختلافه كنفقة الزوجة والمملوكة ولأنه يعتق على قريبه فيجب عليه الانفاق عليه
كما لو اتفق دينهما
ولنا انها مواساة على سبيل البر والصلة فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب
وانهما غير متوارثين فلم يجب لأحدهما على الآخر نفقته كما لو كان أحدهما رقيقا، وتفارق
نفقة الزوجات لأنها عوض يجب مع الاعسار فلم ينافيها اختلاف الدين كالصداق والأجرة، وكذلك
تجب مع الرق فيهما أو في أحدهما، وكذلك نفقة المماليك والعتق عليه يبطل بسائر ذوي الرحم المحرم
فإنهم يعتقون مع اختلاف الدين ولا نفقة لهم معه، ولأنه هذه صلة ومواساة فلا تجب مع اختلاف
الدين كادا زكاته إليه وعقله عنه وارثه منه
(الثالث) أن يكون القريب محجوبا عن الميراث بمن هو أقرب منه فينظر فإن كان الأقرب
موسرا فالنفقة عليه ولا شئ على المحجوب به لأنه الأقرب أولى بالميراث منه فيكون أولى بالانفاق
وإن كان الأقرب معسرا وكان من ينفق عليه من عمودي النسب وجبت نفقته على الموسر. ذكر
القاضي في أب معسر وجد موسر ان النفقة على الجد، وقال في أم معسرة وجدة موسرة النفقة على
259

الجدة وقال قال أحمد لا يدفع الزكاة إلى ولد ابنته لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ان ابني هذا سيد " فسماه ابنه
وهو ان ابنته، وإذا منع من دفع الزكاة إليهم لقرابتهم يجب إن تلزمه نفقتهم عند حاجتهم وهذا
مذهب الشافعي، وإن كان من غير عمودي النسب لم تجب النفقة عليه إذا كان محجوبا قال القاضي
وأبو الخطاب في ابن فقير وأخ موسر لا نفقة عليها لأن الابن لا نفقة عليه لعسرته. والأخ لا نفقة
عليه لعدم ارثه، ولان قرابته ضعيفة لا تمنع شهادته له فإذا لم يكن وارثا لم تجب عليه النفقة كذوي
الرحم ويتخرج في كل وارث لولا الحجب إذا كان من يحجبه معسرا وجهان:
(أحدهما) لا نفقة عليه لأنه ليس بوارث أشبه الأجنبي (والثاني) عليه النفقة لوجود القرابة
المقتضية للإرث والانفاق والمانع من الإرث لا يمنع من الانفاق لأنه معسر لا يمكنه الانفاق فوجوده
بالنسبة إلى الانفاق كعدمه
(فصل) فأما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فإن كانوا من غير عمودي
النسب فلا نفقة عليهم نص عليه احمد فقال الخالة والعمة لا نفقة عليهما، قال القاضي لا نفقة لهم رواية
واحدة وذلك لأن قرابتهم ضعيفة وإنما يأخذون ماله عند عدم الوارث فهم كسائر المسلمين فإن المال
يصرف إليهم إذا لم يكن للميت وارث وذلك الذي يأخذه بيت المال ولذلك يقدم الرد عليهم وقال
أبو الخطاب يخرج فيهم رواية أخرى أن النفقة تلزمهم عند عدم العصاب وذوي الفروض لأنهم
260

وارثون في تلك الحال قال ابن أبي موسى هذا يتوجه على معنى قوله والأول هو المنصوص عنه فأما
عمود النسب فذكر القاضي ما يدل على أنه يجب الانفاق عليهم سواء كانوا من ذوي الأرحام كأب
الام وابن البنت أو من غيرهم وسواء كانوا محجوبين أو وارثين وهذا مذهب الشافعي وذلك لأن
قرابتهم قرابة جزئية وبعضية وتقتضي رد الشهادة وتمنع جريان القصاص على الوالد بقتل الولد
وان سفل فأوجبت النفقة على كل حال كقرابة الأب الأدنى
(فصل) ولا يشترط في وجوب نفقة الوالدين والمولودين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام في ظاهر
المذهب، وظاهر كلام الخرقي فإنه أوجب نفقتهم مطلقا إذا كانوا فقراء وله ما ينفق عليهم، وقال
القاضي لا يشترط في الوالدين وهل يشترط ذلك في الولد؟ فكلام أحمد يقتضي روايتين (إحداهما)
تلزمه نفقته لأنه فقير (والثانية) إن كان يكتسب فينفق على نفسه لم تلزم نفقته وهذا القول يرجع إلى
أن الذي لا يقدر على كسب ما يقوم به تلزمه نفقته رواية واحدة سواء كان ناقص الأحكام كالصغير
والمجنون أو ناقص الخلقة كالزمن، وإنما الروايتان فيمن لا حرفة له ممن يقدر على الكسب ببدنه
وقال الشافعي يشترط نقصانه اما من طريق الحكم أو من طريق الخلقة، وقال أبو حنيفة ينفق
على الغلام حتى يبلغ فإذا بلغ صحيحا انقطعت نفقته، ولا تسقط نفقة الجارية حتى تتزوج ونحوه
قال مالك الا أنه قال ينفق على النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن الأزواج ثم لا نفقة لهن وان طلقن ولو
طلقن قبل البناء بهن فهن على نفقتهن
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " لم يستثن منهم بالغا ولا صحيحا ولأنه
261

والد أو ولد فقير فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني كما لو كان زمنا أو مكفوفا فاما الوالد فإن أبا حنيفة وافقنا
على وجوب نفقته صحيحا إذا لم يكن ذا كسب وللشافعي في ذلك قولان ولنا أنه والد محتاج فأشبه الزمن
(فصل) ومن كان له أب من أهل الانفاق لم تجب نفقته على سواه لأن الله تعالى قال (فإن
أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وقال وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) وقال النبي صلى الله عليه وسلم
لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فجعل النفقة على أيهم دونها ولا خلاف في هذا نعلمه
الا أن لأصحاب الشافعي فيما إذا اجتمع للفقير أب وابن موسران وجهين (أحدهما) ان النفقة على
الأب وحده (والثاني) عليهما جميعا لتساويهما في القرب
ولنا أن النفقة على الأب منصوص عليها فيجب اتباع النص وترك ما عداه
(فصل) ويلزم الرجل اعفاف ابنه إذا احتاج إلى النكاح وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولهم
في اعفاف الأب الصحيح، وجه آخر أنه لا يجب، وقال أبو حنيفة لا يلزم الرجل اعفاف أبيه
سواء وجبت نفقته أو لم تجب لأن ذلك من أعظم الملاذ فلم تجب للأب كالحلواء ولأنه أحد
الأبوين فلم يجب ذلك له كلام
ولنا أن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده فلزم ابنه له كالنفقة ولا يشبه الحلواء لأنه
262

لا يستضر بفقدها وإنما يشبه الطعام والادم، وأما الام فإنما اعفافها بتزويجها إذا طلبت ذلك وخطبها
كفؤها ونحن نقول بوجوب ذلك عليه وهم يوافقوننا في ذلك. إذا ثبت هذا فإنه يجب اعفاف من
لزمت نفقته من الآباء والأجداد فإن اجتمع جدان ولم يمكن الا اعفاف أحدهما قدم الأقرب
الا أن يكون أحدهما من جهة الأب والآخر من جهة الام فيقدم الذي من جهة الأب وان بعد لأنه
عصبة، والشرع قد اعتبر جهته في التوريث والتعصيب فكذلك في الانفاق والاستحقاق
(فصل) وإذا وجب عليه اعفاف أبيه فهو مخير ان شاء زوجه حر، وان شاء ملكه أمة أو
دفع إليه ما يتزوج به حرة أو يشتري به أمة، وليس للأب التخيير عليه الا أن الأب إذا عين امرأة
وعين الابن أخرى وصداقهما واحد قدم تعيين الأب لأن النكاح له والمؤنة واحدة فقدم قوله كما لو
عينت البنت كفؤا وعين الأب كفؤا يقدم تعيينها، وان اختلفا في الصداق لم يلزم الابن الأكثر
لأنه إنما يلزم أقل ما تحصل به الكفاية ولكن ليس له أن يزوجه أو يملكه قبيحة أو كبيرة لا استمتاع
فيها وليس له أن يزوجه أمة لأن فيه ضررا عليه وهو ارقاق ولده والنقص في استمتاعه، وان رضي
الأب بذلك لم يجز لأن الضرر يحلق بغيره وهو الولد ولذلك لم يكن للموسر أن يتزوج أمة، وإذا
زوجه زوجة أو ملكه أمة فعليه نفقته ونفقته، ومتى أيسر الأب لم يكن للولد استرجاع ما دفعه إليه
ولا عوض ما زوجه به لأنه دفعه إليه في حال وجوبه عليه فلم يملك استرجاعه كالزكاة، وان زوجه
263

أو ملكه أمة فطلق الزوجة أو أعتق الأمة لم يكن عليه أن يزوجه أو يملكه ثانيا لأنه فوت ذلك
على نفسه وان ماتتا فعليه اعفافه ثانيا لأنه لاصنع له في ذلك
(فصل) قال أصحابنا وعلى الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجا إلى اعفافه وهو
قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم لا يجب ذلك عليه، ولنا أنه من عمودي نسبه وتلزمه نفقته
فيلزمه اعفافه عند حاجته إليه كأبيه قال القاضي وكذلك يجئ في كل من لزمته نفقته من أخ وعم
أو غيرهم لأن احمد قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك والا بيع عليه. وكل من لزمه اعفافه لزمته
نفقة زوجته لأنه لا يتمكن من الاعفاف الا بذلك، وقد روي عن أحمد انه لا يلزم الأب نفقة
زوجة الابن وهذا محمول على أن الابن كان يجد نفقتها
(مسألة) قال (وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب أجبر وارثه على نفقته على قدر ميراثهم منه) ظاهر المذهب أن النفقة تجب على كل وارث لموروثه إذا اجتمعت الشروط التي تقدم ذكرنا
لها وبه قال الحسن ومجاهد والنخعي وقتادة والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وأبو ثور. وحكى بن
المنذر عن أحمد في الصبي المرضع لا أب له ولا جد نفقته وأجر رضاعه على الرجال دون النساء وكذلك
روى بكر بن محمد عن أبيه عن أحمد النفقة على العصبات وبه قال الأوزاعي وإسحاق وذلك لما
264

روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى على بني عم منفوس بنفقته. احتج به احمد. وقال ابن المنذر
روي عن عمر أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء، ولأنها مواساة ومعونة تختص
القرابة فاختصت بالعصبات كالعفل، وقال أصحاب الرأي تجب النفقة على كل ذي رحم محرم ولا
تجب على غيرهم لقول الله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال مالك
والشافعي وابن المنذر لا نفقة الا على المولودين والوالدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عندي دينار
قال " أنفقه على نفسك قال عندي آخر؟ قال أنفقه على أهلك قال عندي آخر أنفقه على
خادمك قال عندي آخر؟ قال أنت أعلم به " ولم يأمره بانفاقه على غير هؤلاء، ولان الشرع إنما ورد
بنفقة الوالدين والمولودين ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها فلا يصح قياسه عليهم
ولنا قول الله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ثم قال وعلى الوارث
مثل ذلك) فأوجب على الأب نفقة الرضاع ثم عطف الوارث عليه فأوجب على الوارث مثل
ما أوجب على الوالد
وروي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم من أبر؟ قال " أمك وأباك وأختك وأخاك " وفي لفظ
" ومولاك الذي هو أدناك حقا واجبا ورحما موصولا " رواه أبو داود وهذا نص لأن النبي صلى الله عليه وسلم
ألزمه الصلة والبر والنفقة من الصلة جعلها حقا واجبا وما احتج به أبو حنيفة حجة عليه فإن اللفظ عام
265

في كل ذي رحم فيكون حجة عليه فيمن عدا ذا لرحم المحرم وقد اختصت بالوارث في الإرث فكذلك
في الانفاق. وأما خبر أصحاب الشافعي فقضية في عين يحتمل انه لم يكن له غير من أمر بالانفاق
عليه ولهذا لم يذكر الوالد والأجداد وأولاد الأولاد، وقولهم لا يصح القياس قلنا إنما أثبتناه بالنص
ثم إنهم قد ألحقوا أولاد الأولاد بالأولاد مع التفاوت فبطل ما قالوه إذا ثبت هذا فإنه يختص
بالوارث بفرض أو تعصيب لعموم الآية ولا يتناول ذوي الأرحام على ما مضى بيانه فإن كان اثنان
يرث أحدهما الآخر ولا يرثه الآخر كالرجل مع عمته أو ابنة عمه وابنة أخيه والمرأة مع ابنة بنتها
وابن بنتها فالنفقة على الوارث دون الموروث نص عليه احمد في رواية ابن زياد فقال يلزم الرجل
نفقة عمته ولا يلزمه نفقة بنت أخته، وذكر أصحابنا رواية أخرى لا تجب النفقة على الوارث ههنا
لقول احمد العمة والخالة لا نفقة لهما الا أن القاضي قال هذه الرواية محمولة على العمة من الام فإنه لا يرثها
لكونه ابن أخيها من أمها، وقد ذكر الخرقي ان على الرجل نفقة معتقه لأنه وارثه ومعلوم ان
المعتق لا يرث معتقه ولا تلزمه نفقته فعلى هذا يلزم الرجل نفقة عمته لأبويه أو لأبيه وابنة عمة وابنة
أخته كذلك ولا يلزمهن نفقته وهذا هو الصحيح إن شاء الله لقول الله تعالى (وعلى الوارث مثل
ذلك) وكل واحد من هؤلاء وارث
266

" مسألة " قال (فإن كان للصبي أم وجد فعلى الام ثلث النفقة وعلى الجد ثلثا النفقة)
وجملته انه إذا لم يكن للصبي أب فالنفقة على وارثه فإن كان له وارثان فالنفقة عليهما على قدر
ارثهما منه، وان كانوا ثلاثة أو أكثر فالنفقة بينهم على قدر ارثهم منه فإذا كان له أم وجد فعلى
الام الثلث والباقي على الجد لأنهما يرثانه كذلك وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي النفقة كلها
على الجد لأنه ينفرد بالتعصيب فأشبه الأب. وقد ذكرنا رواية أخرى عن أحمد أن النفقة
على العصبات خاصة
ولنا قول الله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) والام وارثة فكان عليها بالنص ولأنه معنى
يستحق بالنسب فلم يختص به الجد دون الام كالوراثة
(فصل) وان اجتمع ابن وبنت فالنفقة بينهما أثلاثا كالميراث، وقال أبو حنيفة النفقة عليهما
سواء لأنهما سواء في القرب، وإن كان أم وابن فعلى الام السدس والباقي على الابن، وان كانت
بنت وابن ابن فالنفقة بينهما نصفين، وقال أبو حنيفة النفقة على البنت لأنها أقرب، وقال الشافعي
في هذه المسائل الثلاث النفقة على الابن لأنه العصبة، وان كانت له أم وبنت فالنفقة بينهما أرباعا
لأنهما يرثانه كذلك، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي النفقة على البنت لأنها تكون عصبة مع
267

أخيها، وان كانت له بنت وابن بنت فالنفقة على البنت وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين
النفقة على ابن البنت لأنه ذكر
ولنا قول الله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) فرتب النفقة على الإرث فيجب أن تترتب في
المقدار عليه وايجابها على ابن البنت بخلاف النص والمعنى فإنه ليس بعصبة ولا وارث فلا معنى لايجابها
عليه دون البنت الوارثة
(مسألة) قال (فإن كانت جدة وأخا فعلى الجدة سدس النفقة والباقي على الأخ وعلى
هذا المعنى حساب النفقات)
يعني أن ترتيب النفقات على ترتيب الميراث فكما أن للجدة ههنا سدس الميراث فعليها سدس
النفقة وكما أن الباقي للأخ فكذلك الباقي من النفقة عليه وعند من لا يرى النفقة على غير عمودي النسب
يجعل النفقة كلها على الجدة وهذا أصل قد سبق الكلام فيه فإن اجتمع بنت وأخت أو بنت
وأخ أو بنت وعصبة أو أخت وعصبة أو أخت وأم أو بنت وبنت ابن أو أخت لأبوين وأخت
لأب أو ثلاث أخوات متفرقات فالنفقة بينهم على قدر الميراث في ذلك سواء كان في المسألة
268

رد أو عول أو لم يكن وعلى هذا تحسب ما أتاك من المسائل وان اجتمع أم أم وأم أب فهما سواء في
النفقة لاستوائهما في الميراث
(فصل) فإن اجتمع أبوا أم فالنفقة على أم الام لأنها الوارثة وان اجتمع أبوا أب فعلى أم الأب
السدس والباقي على الجد وان اجتمع جد وأخ فهما سواء وان اجتمعت أم وأخ وجد فالنفقة بينهم
أثلاثا وقال الشافعي النفقة على الجد في هذه المسائل كلها الا المسألة الأولى فالنفقة عليهما بالسوية وقد
مضى الكلام على أصل هذا فيما تقدم
(فصل) فإن كان فيمن عليه النفقة خنثى مشكل فالنفقة عليه بقدر ميراثه فإن انكشف بعد ذلك
حاله فبان أنه أنفق أكثر من الواجب عليه رجع بالزيادة على شريكة في الانفاق وان بان أنه أنفق
أقل رجع عليه فلو كان للرجل ابن وولد خنثى عليهما نفقته فأنفقا عليه ثم بان أن الخنثى ابن رجع
عليه أخوه بالزيادة وان بان بنتا رجعت على أخيها بفضل نفقتها لأن من له الفضل أدى مالا يجب عليه
أداؤه معتقدا وجوبه فإذا تبين خلافه رجع بذلك كما لو أدى ما يعتقده دينا فبان بخلافه
(فصل) فإن كان له قرابتان موسران وأحدهما محجوب عن ميراثه بفقير فقد ذكرنا انه كان
المحجوب من عمودي النسب فالظاهر أن الحجب لا يسقط النفقة عنه وإن كان من غيرهما فلا نفقة.
عليه فعلى هذا إذا كان له أبوان وجد والأب معسر كان الأب كالمعدوم فيكون على الام ثلث النفقة
269

والباقي على الجد وإن كان معهم زوجة فكذلك وان قلنا لا نفقة على المحجوب فليس على الام ههنا
الا ربع النفقة ولا شئ على الجد وإن كان أبوان وأخوان وجد والأب معسر فلا شئ على الآخرين
لأنهما محجوبان وليسا من عمودي النسب ويكون على الام الثلث والباقي على الجد كما لو لم يكن أحد
غيرهما ويحتمل أن لا يجب على الام الا السدس لأنه لو كان الأب معدوما لم ترث الا السدس وان
قلنا إن كل محجوب لا نفقة عليه فليس على الام الا السدس ولا شئ على غيرها وان لم يكن في المسألة
جد فالنفقة كلها على الام على القول الأول وعلى الثاني ليس عليها الا السدس وان قلنا إن على المحجوب
بالمعسر النفقة وإن كان من غير عمودي النسب فعلى الام السدس والباقي على الجد والأخوين أثلاثا
كما يرثون إذا كان الأب معدوما وإن كان بعض من عليه النفقة غائبا وله مال حاضر أنفق الحاكم
منه حصته وان لم يوجد له مال حاضر فأمكن الحاكم الاقتراض عليه اقترض فإذا قدم فعليه وفاؤه
(فصل) ومن لم يفضل عن قوته الا نفقة شخص وله امرأة فالنفقة لها دون الأقارب لقول النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث جابر " إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فمن كان له فضل فعلى عياله فإن كان له فضل
فعلى قرابته " ولان نفقة القريب مواساة ونفقة المرأة تجب على سبيل المعاوضة فقدمت على مجرد المواساة
ولذلك وجبت مع يسارهما واعسارهما ونفقة القريب بخلاف ذلك ولان نفقة الزوجة تجب لحاجته
فقدمت على نفقة القرابة كنفقة نفسه ثم من بعدها نفقة الرقيق لأنها تجب مع اليسار والاعسار
270

فقدمت على مجرد المواساة ثم من بعد ذلك الأقرب فالأقرب فإن اجتمع أب وجد وابن وابن ابن
وقدم الأب على الجد والابن على ابنه وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين يستوي الأب والجد
والابن وابنه لتساويهم في الولادة والتعصيب
ولنا أن الأب والابن أقرب وأحق بميراثه فكانا أحق كالأب مع الأخ وإن اجتمع ابن وجد
أو أب وابن ابن احتمل وجهين (أحدهما) تقديم الابن والأب لأنهما أقرب فإنهما يليانه بغير واسطة
ولا يسقط ارثهما بحال والجد وابن الابن بخلافهما ويحتمل التسوية بينهما لأنهما سواء في الإرث
والتعصيب والولادة وان اجتمع جد وابن ابن فهما سواء لتساويهما في القرب والإرث والولادة
والتعصيب ويحتمل فيهما ما يحتمل في الأب والابن على ما سنذكره
(فصل) وان اجتمع أب وابن فقال القاضي إن كان الابن صغيرا أو مجنونا قدم لأن نفقته وجبت
بالنص مع أنه عاجز عن الكسب والأب قد يقدر عليه وإن كان الابن كبيرا والأب زمن فهو أحق
لأن حرمته آكد وحاجته أشد ويحتمل تقديم الابن لأن نفقته وجبت بالنص وان كانا صحيحين
فقيرين ففيهما ثلاثة أوله:
(أحدها التسوية بينهما لتساويهما في القرب وتقابل مرتبتهما (والثاني) تقديم الابن لوجوب
نفقته بالنص (والثالث) تقديم الأب لتأكد حرمته. وان اجتمع أبوان ففيهما الوجوه الثلاثة (أحدها)
271

التسوية لما ذكرنا (والثاني) تقديم الام أحق بالبر ولها فضيلة الحمل والرضاع والتربية وزيادة
الشفقة وهي أضعف وأعجز (والثالث) تقديم الأب لفضيلته وانفراده بالولاية على ولده واستحقاق
الاخذ من ماله وإضافة النبي صلى الله عليه وسلم الولد وماله إليه بقوله " أنت ومالك لأبيك " والأول أولى،
وان اجتمع جد وأخ احتمل التسوية بينهما لاستوائهما في استحقاق ميراثه والصحيح ان الجد أحق
لأن له مزية الولادة والأبوة ولان ابن ابنه يرثه ميراث ابن ويرث الأخ ميراث أخ وميراث الابن
آكد فالنفقة الواجب به تكون آكد. وإن كان مكان الأخ ابن أخ أو عم فالجد أولى بكل حال
(فصل) والواجب في نفقة القريب قدر الكفاية من الخبز والادم والكسوة بقدر العادة على ما ذكرناه
في الزوجة لأنها وجبت للحاجة فتقدرت بما تندفع به الحاجة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي
ما يكفيك وولدك بالمعروف " فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية فإن احتاج إلى خادم فعليه اخدامه كما
قلنا في الزوجة لأن ذلك من تمام كفايته
(مسألة) قال (وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيرا لأنه وارثه)
هذا مبني على الأصل الذي تقدم وان النفقة تجب على الوارث والمعتق وارث عتيقه فتجب عليه
272

نفقته إذا كان فقيرا ولمولاه يسار ينفق عليه منه. وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لا تجب
عليه نفقة بناء على أصولهم التي ذكرناها
ولنا قول الله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أمك وأباك، وأختك وأخاك،
ثم أدناك، ومولاك الذي يلي ذاك، حقا واجبا ورحما موصولا " ولأنه يرثه بالتعصيب فكانت
عليه نفقته كالأب، ويشترط في وجوب الانفاق عليه الشروط المذكورة في غيره
(فصل) فإن مات مولاه فالنفقة على الوارث من عصباته على ما بين في باب الولاء ويجب على السيد
نفقة أولاد عتيقة إذا كان له عليهم ولاء لأنه عصبتهم ووارثهم، وعليه نفقة أولاد معتقه إذا كان
أبوهم عبدا كذلك فإن أعتق أبوهم فانجر الولاء إلى معتقه صار ولاؤهم لمعتق أبيهم ونفقتهم عليه إذا
كملت الشروط، وليس على المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيرا لأنه لا يرثه فإن كان كل واحد
منهما مولى صاحبه مثل أن يعتق الحربي عبدا ثم يسبي العبد سيده فيعتقه فعلى كل واحد
منهما نفقة الآخر لأنه يرثه
(مسألة) قال (وإذا زوجت الأمة لزم زوجها أو سيده إن كان مملوكا نفقتها)
وجملته ان زوج الأمة لا يخلو اما أن يكون حرا أو عبدا أو بعضه حر وبعضه عبد فإن كان حرا
273

فنفقتها عليه للنص واتفاق أهل العلم على وجوب نفقة الزوجات على أزواجهن البالغين والأمة داخلة في
عمومهن، ولأنها زوجة ممكنة من نفسها فوجب على زوجها نفقتها كالحرة وإن كان زوجها مملوكا
فالنفقة واجبة لزوجته لذلك. فإن ابن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن العبد
نفقة زوجته هذا قول الشعبي والحكم والشافعي وبه قال أصحاب الرأي إذا بوأها بيتا. وحكى عن
مالك أنه قال: ليس عليه نفقتها لأن النفقة مواساة وليس هو من أهلها ولذلك لا تجب عليه
نفقة أقاربه ولا زكاة ماله
ولنا انها عوض واجب في النكاح فوجبت على العبد كالمهر، والدليل على أنها عوض انها تجب في
مقابلة التمكين ولهذا تسقط عن الحر بفوات التمكين، وفارق نفقة الأقارب. إذا ثبت وجوبها على
العبد فإنها تلزم سيده لأن السيد أذن له في النكاح المفضي إلى ايجابها، وقال ابن أبي موسى فيه
رواية أخرى انها تجب في كسب العبد وهو قول أصحاب الشافعي لأنه لم يمكن ايجابها في ذمته ولا
رقبته ولا ذمة سيده ولا إسقاطها فلم يبق إلا أن تتعلق بكسبه وقال القاضي تتعلق برقبته
لأن الوطئ في النكاح بمنزلة الجناية وأرش جناية العبد يتعلق برقبته يباع فيها أو يفديه سيده
وهذا قول أصحاب الرأي
ولنا انه دين أذن السيد فيه فلزم ذمته كالذي استدانه وكيله. وقولهم انه في مقابلة الوطئ غير
274

صحيح فإنه يجب من غير وطئ ويجب للرتقاء والحائض والنفساء وزوجة المجبوب والصغير وإنما
يجب بالتمكين وليس ذلك بجناية ولا قائم مقامها. وقول من قال إنه تعذر ايجابه في ذمة السيد غير
صحيح فإنه لا مانع من ايجابه وقد ذكرنا وجود مقتضيه فلا معنى لدعوى التعذر
(مسألة) قال (وان كانت أمة تأوي بالليل عند الزوج وبالنهار عند المولى أنفق كل
واحدة منهما مدة مقامها عنده،) هذه المسألة قد تقدمت وذكرنا أن النفقة في مقابلة التمكين وقد وجد منها في الليل فتجب
على الزوج النفقة فيه والباقي منها على السيد بحكم انها مملوكته لم تجب لها نفقة على غيره في هذا الزمن،
فيكون على هذا على كل واحد منهما نصف النفقة وهذا أحد قولي الشافعي. وقال في الآخر لا نفقة
لها على الزوج لأنها لم تمكن من نفسها في جميع الزمان فلم يجب لها شئ من النفقة كالحرة إذا بذلت
نفسها في أحد الزمانين دون الآخر
ولنا انه وجد التمكين الواجب بعقد النكاح فاستحقت النفقة كالحرة إذا مكنت من نفسها في
غير أوقات الصلوات المفروضات والصوم الواجب والحج المفروض، وفارق الحرة إذا امتنعت في أحد
الزمانين فإنها لم تبذل الواجب فتكون ناشزا وهذه ليست ناشرا ولا عاصية
275

(مسألة) قال (فإن كان لها ولد لم تلزمه نفقة ولده حرا كان أو عبدا ونفقتهم على سيدهم)
يعني الأمة ليس على زوجها نفقة ولده منها وإن كان حرا لأن ولد الأمة عبد لسيدها فإن الولد
يتبع أمه في الرق والحرية فتكون نفقتهم على سيدهم دون أبيهم فإن العبد أخص بسيده من أبيه
ولذلك لا ولاية بينه وبين أبيه ولا ميراث ولا انفاق وكل ذلك للسيد، وقد رويت عن أبي عبد الله
رحمه الله رواية أخرى أن ولد العربي يكون حرا وعلى أبيه فداؤه، فعلى هذا تكون نفقتهم عليه، ولو
أعتق الولد سيده أو علق عتقه بولادته أو تزوج الأمة على أنها حرة فولده منها أحرار وعلى أبيهم
نفقتهم في هذه المواضع كلها إذا كان حرا وتحققت فيه شرائط الانفاق
(فصل) وإذا طلق الأمة طلاقا رجعيا فلها النفقة في العدة لأنها زوجة، وان أبانها وهي حائل
فلا نفقة لها لأنها لو كانت حرة لم يكن لها نفقة فالأمة أولى، وان كانت حاملا فلها النفقة لقوله تعالى
(وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) نص على هذا احمد وبه قال إسحاق،
وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله في نفقة الحامل روايتان هل هي للحمل أو للحامل بسببه؟
(إحداهما) هي للحمل فعلى هذا لا تجب للمملوكة الحامل البائن نفقة لأن الحمل مملوك لسيدها فنفقته
عليه وللشافعي في هذا قولان كالروايتين
276

(فصل) وان طلق العبد زوجته الحامل طلاقا بائنا انبنى على وجوب النفقة على الروايتين في
النفقة هل هي للحمل أو للحامل؟ فإن قلنا هي للحمل فلا نفقة على العبد وبه قال مالك. وروي ذلك
عن الشعبي لأنه لا تجب عليه نفقة ولده، وان قلنا هي للحامل بسببه وجبت لها النفقة وهذا قول
الأوزاعي لأن الله تعالى قال (وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) ولأنها حامل
فوجبت لها النفقة كما لو كان زوجها حرا
(فصل) والمعتق بعضه عليه من نفقة امرأته بقدر ما فيه من الحرية وباقيها على سيده أو في ضريبته
أو في رقبته على ما ذكرنا في العبد، والقدر الذي يجب عليه بالحرية يعتبر فيه حاله إن كان موسرا فنفقة
الموسرين وإن كان معسرا فنفقة المعسرين والباقي تجب فيه نفقة المعسرين لأن النفقة مما يتبعض
وما يتبعض بعضناه في حق المعتق بعضه كالميراث والديات ومالا يتبعض فهو فيه كالعبد لأن الحرية
اما شرط فيه أو سبب له فلم يكمل وهذا اختيار المزني، وقال الشافعي حكمه حكم القن في الجميع إلحاقا
لاحد الحكمين بالآخر
ولنا انه يملك بنصفه الحر ملكا تاما ولهذا يورث عنه ويكفر بالاطعام ويجب فيه نصف دية
الحر فوجب أن تتبعض نفقته لأنها من جملة الأحكام القابلة للتبعيض. فأما نفقة أقاربه فليزمه منها
بقدر ميراثه لأن النفقة تنبني على الميراث، وعند المزني تلزمه كلها لأنه لا تبعيض، وعند الشافعي
لا يلزمه شئ لأن حكمه حكم العبيد وقد سبق الكلام في هذا
277

(مسألة) قال (وليس على العبد نفقة ولده حرة كنت الزوجة أو أمه)
أما إذا كانت زوجة العبد حرة فولدها أحرار لأن الولد يتبع الام في الرق والحرية وليس على
العبد نفقة أقاربه الأحرار لأن نفقتهم تجب على سبيل المواساة وليس هو من أهلها، وأما إذا كانت
زوجته مملوكة فولدها عبيد لسيدها لأنهم يتبعونها فتكون نفقتهم على سيدهم
(فصل) وحكم المكاتب في نفقة الزوجات والأولاد والأقارب حكم العبد القن لأنه عبد
ما بقي عليه درهم الا أنه إذا كانت له زوجة أنفق عليها من كسبه لأن نفقة الزوجة واجبة بحكم المعاوضة
مع اليسار والاعسار ولذلك وجبت على العبد فعلى المكاتب أولى، ولان نفقة المرأة لا تسقط عن
أحد من الناس إذا لم يوجد منها ما يسقط نفقتها ولا يمكن إيجابها على سيده لأن نفقة المكاتب لا تجب
على سيده فنفقة امرأته أولى. فأما نفقة أولاده وأقاربه الأحرار فلا تجب عليه لأنها تجب على سبيل
المواساة وليس هو من أهلها ولذلك لا تجب عليه الزكاة في ماله ولا الفطرة في بدنه فإن كانت زوجته
حرة فنفقة أولادها عليهم لأنهم يتبعونها في الحرية، وإن كان لهم أقارب أحرار كجد حر وأخ حر
مع الام أنفق كل واحد منهم بحسب ميراثه والمكاتب كأنه معدوم بالنسبة إلى النفقة
278

(مسألة) قال (وعلى المكاتبة نفقة ولدها دون أبيه المكاتب)
وجملته أن المكاتب إن كان له ولد لم يخل إما أن يكون من زوجته أو من أمته فإن كان من
زوجة وكانت مكاتبة فولدها يتبعونها في الكتابة ويكونون موقوفين على كتابها إن رقت رقوا
وإن عتقت بالأداء عتقوا فتكون نفقتهم عليها مما في يديها لأنهم في حكم نفسها ونفقتها مما في يديها
فكذلك على ولدها. وأما زوجها المكاتب فليس عليه نفقتهم لأنهم عبيد لسيد المكاتبة، وإن
كانت زوجته حرة أو أمة فقد بينا حكمهم، وان أراد المكاتب التبرع بالانفاق على ولده وكان من
أمة أو مكاتبة لغير سيده أو حرة لم يكن له ذلك لأن فيه تغريرا بمال سيده، وإن كان من أمة لسيده
جاز لأنه مملوك لسيده فهو ينفق عليه من المال الذي تعلق به حق سيده، وإن كان من مكاتبة
لسيده احتمل الجواز لأنه في الحال بمنزلة أمه وأمه مملوكة لسيدها، ويحتمل أن لا يجوز لأن
279

فيه تغريرا إذ لا يحتمل أن يعجز هو وتؤدي المكاتبة فيعتق ولدها فيحصل الانفاق عليها من مال
سيده ويصير حرا.
(مسألة) قال (وعلى المكاتب نفقة ولده من أمته)
أما ولد المكاتب من أمته فنفقتهم عليه لأن ولده من أمته تابع له يرق برقه ويعتق بعتقه فجرى
مجرى نفسه في النفقة فكما أن المكاتب ينفق على نفسه فكذلك على ولده الذي هذا حاله ولان هذا
الولد ليس له من ينفق عليه سوى أبيه فإن أمه أمة للمكاتب وليس له من الأحرار أقارب فيتعين على
المكاتب الانفاق عليه كأمه ولأنه لا ضرر على السيد في أنفاق المكاتب على ولده من أمته لأن إن أدى
وعتق فقد وفى مال الكتابة وليس للسيد أكثر منها وان عجز ورق عاد إليه المكاتب وولده الذي أنفق
عليه فكأنه إنما أنفق على عبده وتصير نفقته عليه كنفقة على سائر رقيقه
(فصل) وليس للمكاتب أن يتسرى بأمته الا باذن سيده لأن ملكه غير تام وعلى السيد ضرر
في تسريه بها لما فيه من التغرير بها، وان أذن له سيده في ذلك جاز لأن المنع لحقه فجاز باذنه كما لو أذن
لعبده القن، وإن وطئ بغير إذنه فلا حد عليه لأنه وطئ مملوكته فإن أولدها في الموضعين صارت
أم ولد له ليس له بيعها ولا بيع ولده فإن عتق عتق ولدها وصارت الأمة أم ولده تعتق بموته وان
280

رق رقت هي وولدها وصارت أمة لسيده والمكاتب وولده عبدان له ويلزم المكاتب الانفاق على عبيده
وإمائه وأمهات أولاده لأنهم ملك له فلزمه الانفاق عليهم كبهائمه
(باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج)
(مسألة) قال رحمه الله (وإذا تزوج بامرأة مثلها بوطأ فلم تمنعه نفسها ولا منعه أولياؤها لزمته النفقة)
وجملة ذلك أن المرأة تستحق النفقة على زوجها بشرطين:
(أحدهما) أن تكون كبيرة يمكن وطؤها فإن كانت صغيرة لا تحتمل الوطئ فلا نفقة لها وبهذا
قال الحسن وبكر بن عبد الله المزني والنخعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وهو المنصوص
عن الشافعي وقال في موضع لو قيل لها النفقة كان مذهبا وهذا قول الثوري لأن تعذر الوطئ لم يكن
بفعلها فلم يمنع وجوب النفقة لها كالمرض
ولنا أن النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع ولا يتصور ذلك مع تعذر الاستمتاع فلم تجب نفقتها
كما لو منعه أولياءها من تسليم نفسها وبهذا يبطل ما ذكروه ويفارق المريضة فإن الاستمتاع بها ممكن
281

وإنما نقص بالمرض ولان من لا تمكن الزوج من نفسها لا يلزم الزوج نفقتها فهذه أولى لأن تلك يمكن
الزوج قهرها والاستمتاع بها كرها وهذه لا يمكن ذلك فيها بحال
(الشرط الثاني) أن تبذل التمكين التام من نفسها لزوجها فأما ان منعت نفسها أو منعها أولياؤها
أو تساكتا بعد العقد فلم تبذل ولم يطلب فلا نفقة لها وإن أقاما زمنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة
ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق الا بعد دخوله ولم يلتزم نفقتها لما مضى ولان النفقة تجب في مقابلة
التمكين المستحق بعقد النكاح فإذا وجد استحقت وإذا فقد لم تستحق شيئا ولو بذلت تسليما غير
تام بأن تقول أسلم إليك نفسي في منزلي دون غيره أو في الموضع الفلاني دون غيره لم تستحق شيئا
إلا أن تكون قد اشتركت ذلك في العقد لأنها لم تبذل التسليم الواجب بالعقد فلم تستحق النفقة كما
لو قال البائع أسلم إليك السلعة على أن تتركها في موضعها أو في مكان بعينه وإن شرطت دارها أو بلدها
فسلمت نفسها في ذلك استحقت النفقة لأنها سملت التسليم الواجب عليها ولذلك لو سلم السيد أمته
المزوجة ليلا دون النهار استحقت النفقة وفارق الحرة فإنها لو بذلت تسليم نفسها في بعض الزمان
لم تستحق شيئا لأنها لم تسلم التسليم الواجب بالعقد وكذلك أن أمكنته من الاستمتاع ومنعته استمتاعا
لم تستحق شيئا لذلك
(فصل) وإن غاب الزوج بعد تمكينها ووجوب نفقتها عليه لم تسقط عنه بل تجب عليه في زمن
282

غيبته لأنها استحقت النفقة بالتمكين ولم يوجد منها ما يسقطها وان غاب قبل تمكينها فلا نفقة لها عليه
لأنه لم يوجد الموجب لها فإن بذلت التسليم وهو غائب لم تستحق نفقته لأنها بذلته في حال لا يمكنه
التسليم فيه لكن ان مضت إلى الحاكم فبذلت التسليم كتب الحاكم إلى حاكم البلد هو فيه
ليستدعيه ويعلمه ذلك فإن سار إليه أو وكل من يسلمها إليه فوصل وسلمها هو أو نائبه وجبت النفقة
حينئذ وان لم يفعل فرض الحاكم عليه نفقتها من الوقت الذي كان يمكن الوصول إليها ويسلمها فيه
لأن الزوج امتنع من تسلمها مع امكان ذلك وبذلها إياه له فلزمته نفقتها كما لو كان حاضرا وإن
كانت الزوجة صغيرة يمكن وطؤها أو مجنونة فسلمت نفسها إليه فتسلمها لزمته نفقتها كالكبيرة وان لم
يتسلمها لمنعها نفسها أو منع أوليائها فلا نفقة لها عليه وان غاب الزوج فبذل وليها تسليمها فهو كما لو
بذلت المكلفة التسليم فإن وليها يقوم مقامها وإن بذلت هي دون وليها لم يفرض الحاكم النفقة لها
لأنه لا حكم لكلامها
(مسألة) قال (وإذا كانت بهذه الحال التي وصفت وزوجها صبي أجبر وليه على
نفقتها من مال الصغير فإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما)
يعني إذا كانت المرأة كبيرة يكمن الاستمتاع بها فمكنت من نفسها أو بذلت تسليمها ولم تمنع
283

نفسها ولا منعها أولياؤها فعلى زوجها الصبي نفقتها وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي
في أحد قوليه، وقال في الآخر لا نفقة لها وهو قول مالك لأن الزوج لا يتمكن من الاستمتاع بها
فلم تلزمه نفقتها كما لو كانت غائبة صغيرة
ولنا أنها سلمت نفسها تسليما صحيحا فوجبت لها النفقة كما لو كان الزوج كبيرا ولان الاستمتاع
بها ممكن وإنما تعذر من جهة الزوج كما لو تعذر التسليم لمرضه أو غيبته، وفارق ما إذا غابت أو كانت
صغيرة فإنها لم تسلم نفسها تسليما صحيحا ولم تبذل ذلك فعلى هذا يجبر الولي على نفقتها من مال الصبي
لأن النفقة على الصبي، وإنما الولي ينوب عنه في أداء الواجبات عليه كما يؤدي أروش جناياته وقيم
متلفاته وزكواته. وان لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما كما ذكرنا في حق الكبير
فإن كان له مال وامتنع الولي من الانفاق أجبره الحاكم بالحبس فإن لم ينفق أخذ الحاكم من مال
الصبي وأنفق عليها فإن لم يمكنه وصبر الولي على الحبس وتعذر الانفاق فرق الحاكم بينهما إذا طلبت
ذلك على ما ذكرنا في حق الكبير وذكر القاضي في الكبير أنه لا يفرق بينهما فكذلك ههنا مثله لأنهما
سواء في وجوب الانفاق عليهما فكذلك في أحكامه
(فصل) وان بذلت الرتقاء أو الحائض والنفساء أو النضوة الخلق التي لا يمكن وطؤها أو المريضة
تسليم نفسها لزمته نفقتها، وإن حدث بها شئ من ذلك لم تسقط نفقتها لأن الاستمتاع ممكن ولا
284

تفريط من جهتها، وان منع من الوطئ ويفارق الصغيرة فإن لها حالا يتمكن من الاستمتاع بها فيها
استمتاعا تاما، والظاهر أنه تزوجها انتظارا لتلك الحال بخلاف هؤلاء ولذلك لو طلب تسليم هؤلاء
وجب تسليمهن، ولو طلب تسليم الصغيرة لم يجب فإن قيل فلو بذلت الصحيحة الاستمتاع بما دون
الوطئ لم تجب لها النفقة فكذلك هؤلاء قلنا لأن تلك منعت مما يجب عليها وهؤلاء لا يجب عليهن
التمكين مما فيه ضرر فإن ادعت أن عليها ضررا في وطئه لضيق فرجها أو قروح به أو نحو ذلك
وأنكره أريت امرأة ثقة وعمل بقولها وان ادعت عبالة ذكره وعظمه جاز أن تنظر المرأة إليهما حال اجتماعهما
لأنه موضع حاجة ويجوز النظر إلى العورة للحاجة والشهادة
" مسألة " قال (وان طالب الزوج بالدخول وقالت لا أسلم نفسي حتى أقبض صداقي
كان ذلك لها ولزمته النفقة إلى أن يدفع إليها صداقها)
وجملته أن للمرأة أن تمنع نفسها حتى تتسلم صداقها لأن تسليم نفسها قبل تسليم صداقها يفضي
إلى أن يستوفي منفعتها المعقود عليها بالوطئ ثم لا يسلم صداقها فلا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها بخلاف
المبيع إذا تسلمه المشتري ثم أعسر بالثمن فإنه يمكنه الرجوع فيه فلهذا ألزمناه تسليم صداقها أولا
وجعلنا لها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض صداقها لأنه إذا سلم إليها الصداق ثم امتنعت من
285

تسليم نفسها أمكن الرجوع فيه إذا ثبت هذا فمتى امتنعت من تسليم نفسها لتقبض صداقها فلها نفقتها
لأنها امتنعت لحق فإن قيل فلو امتنعت لصغر أو مرض لم تلزمه نفقتها قلنا الفرق بينهما أن امتناعها
لمرض لمعنى من جهتها وكذلك الامتناع للصغر وههنا الامتناع لمعنى من جهة الزوج وهو منعه
لما وجب لها عليه فأشبه ما لو تعذر الاستمتاع لصغر الزوج فإنه لا تسقط نفقتها عنه، ولو تعذر
لصغرها لا تلزمه نفقتها
(فصل) إذا سافرت زوجته بغير اذنه سقطت نفقتها عنه لأنها ناشز، وكذلك إن انتقلت
من منزله بغير إذنه، وإن سافرت باذنه في حاجته فهي على نفقتها لأنها سافرت في شغله ومراده
وإن كان في حاجة نفسها سقطت نفقتها لأنها فوتت التمكين لحظ نفسها وقضاء حاجتها فأشبه ما لو
استنظرته قبل الدخول مدة فأنظرها إلا أن يكون مسافرا معها متمكنا من استمتاعها فلا تسقط نفقتها
لأنها لم تفوت التمكين فأشبهت غير المسافرة ويحتمل أن لا تسقط نفقتها، وإن لم يكن معها لأنها
مسافرة باذنه أشبه ما لو سافرت في حاجته وسواء كان سفرها لتجارة أو حج تطوع أو زيادة ولو أحرمت بحج
تطوع بغير اذنه سقطت نفقتها لأنها في معنى المسافرة، وان أحرمت به باذنه فقال القاضي لها النفقة
والصحيح انها كالمسافرة لأنها باحرامها مانعة له من التمكين فهي كالمسافرة لحاجة نفسها على
ما ذكرناه. وان أحرمت بالحج الواجب أو العمرة الواجبة في الوقت الواجب من الميقات فلها
286

النفقة لأنها فعلت الواجب عليها بأصل الشرع في وقته فلم تسقط نفقتها كما لو صامت رمضان.
وإن قدمت الاحرام على الميقات أو قبل الوقت خرج فيها من القول ما في المحرمة بحج التطوع لأنها
فوتت عليه التمكين بشئ مستغنى عنه
فصل فإن اعتكفت فالقياس انه كسفرها إن كان بغير اذنه فهي ناشز لخروجها من منزل
زوجها بغير اذنه فيما ليس بواجب بأصل الشرع وإن كان باذنه فلا نفقة لها على قول الخرقي. وقال
القاضي لها النفقة، وان صامت رمضان لم تسقط نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع لا يملك منعها
منه فلم تسقط نفقتها كالصلاة ولأنه يكون صائما معها فيمتنع الاستمتاع لمعنى وجد فيه وإن كان
تطوعا لم تسقط نفقتها لأنها لم تخرج عن قبضته ولم تأت بما يمنعه من الاستمتاع بها فإنه يمكنه تفطيرها
ووطؤها فإن أراد ذلك منها فمنعته نفسها سقطت نفقتها بامتناعها من التمكين الواجب وإن كان
صوما منذورا معلقا بوقت معين فقال القاضي لها النفقة لأن احمد نص على أنه ليس له منعها ويحتمل
انه إن كان نذرها قبل النكاح أو كان النذر باذنه لم تسقط نفقتها لأنه كان واجبا عليها بحق سابق
على نكاحه أو واجب أذن في سببه وإن كان النذر في نكاحه بغير اذنه فلا نفقة لها لأنها فوتت عليه
حقه من الاستمتاع باختيارها بالنذر الذي لم يوجبه الشرع عليها ولا ندبها إليه. وإن كان النذر
مطلقا أو كان صوم كفارة فصامت باذنه فلها النفقة لأنها أدت الواجب باذنه فأشبه ما لو صامت
287

المعين في وقته وان صامت بغير اذنه فقال القاضي لا نفقة لها لأنها يمكنها تأخيره فإنه على التراخي
وحق الزوج على الفور وإن كان قضاء رمضان قبل ضيق وقته فكذلك وإن كان وقته مضيقا مثل أن
قرب رمضان الآخر فعليه نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع أشبه أداء رمضان
(مسألة) قال (وإذا طلق الرجل زوجته طلاقا لا يملك فيه الرجعة فلا سكنى لها ولا
نفقة الا أن تكون حاملا)
وجملة الامر أن الرجل إذا طلق امرأته طلاقا بائنا فاما أن يكون ثلاثا أو بخلع أو بانت
بفسخ وكانت حاملا فلها النفقة والسكنى باجماع أهل العلم لقول الله تعالى (أسكنوهن من حيث
سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن، وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن
حملهن) وفي بعض أخبار فاطمة بنت قيس " لا نفقة لك الا أن تكوني حاملا " ولان الحمل ولده فيلزمه
الانفاق عليه ولا يمكنه النفقة عليه إلا بالانفاق عليها فوجب كما وجبت أجرة الرضاع، وان كانت
حائلا فلا نفقة لها. وفي السكنى روايتان (إحداهما) لها ذلك وهو قول عمر وابنه وابن مسعود وعائشة
وفقهاء المدينة السبعة ومالك والشافعي للآية (والرواية الثانية) لا سكنى لها ولا نفقة وهي ظاهر المذهب
وقول علي وابن عباس وجابر وعطاء وطاوس والحسن وعكرمة وميمون بن مهران وإسحاق وأبي ثور
288

وداود وقال أكثر الفقهاء العراقيين لها السكنى والنفقة وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري
والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه والبتي والعنبري لأن ذلك يروى عن عمر وابن مسعود.
ولأنها مطلقة فوجبت لها النفقة والسكنى كالرجعية، وردوا خبر فاطمة بنت قيس بما روي عن عمر
أنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول. امرأة وأنكرته عائشة وسعيد بن المسيب وتأولوه
ولنا ما روت فاطمة بنت قيس ان زوجها طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته
فقال والله مالك علينا من شئ فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر ذلك له فقال " ليس لك عليه نفقة ولا
سكنى " فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك متفق عليه. وفي لفظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظري
يا ابنة قيس إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة فإذا لم يكن له عليها الرجعة فلا نفقة
ولا سكنى " رواه الإمام أحمد والأثرم والحميدي وغيرهم
قال ابن عباس من طريق الحجة وما يلزم منها قول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأحج لأنه
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصا صريحا فأي شئ يعارض هذا إلا مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المبين عن
الله مراده ولا شئ يدفع ذلك ومعلوم انه أعلم بتأويل قول الله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم)
وأما قول عمر ومن وافقه فقد خالفه علي وابن عباس ومن وافقهما والحجة معهم ولو لم
289

يخالفه أحد منهم لما قبل قوله المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على
عمر وعلى غيره ولم يصح عن عمر أنه قال لا تدع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة فإن احمد أنكره
وقال أما هذا فلا ولكن قال لا نقبل في ديننا قول امرأة وهذا أمر يرده الاجماع على قبول قول
المرأة في الرواية فأي حجة في شئ يخالفه الاجماع وترده السنة ويخالفه فيه علماء الصحابة. قال
إسماعيل بن إسحاق نحن نعلم أن عمر لا يقول لا ندع كتاب ربنا الا لما هو موجود في كتاب الله
والذي في الكتاب أن لها النفقة إذا كانت حاملا بقوله سبحانه (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن
حتى يضعن حملهن) وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن لاشتراطه
الحمل في الامر بالانفاق
وقد روى أبو داود وغيره من الأئمة باسنادهم عن ابن عباس قال: ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بينهما يعني المتلاعنين وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت، ولأن هذه محرمة عليه تحريما لا تزيله
الرجعة فلم يكن لها سكنى ولا نفقة كالملاعنة أو كالأجنبية وفارقت الرجعية في ذلك، وأما الرجعية فلها
السكنى والنفقة للآية والخبر والاجماع ولأنها زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه
(فصل) فأما الملاعنة فلا سكنى لها ولا نفقة إن كانت غير حامل للخبر وكذلك إن كانت
حاملا فنفى حملها وقلنا انه ينتفي عنه أو قلنا إنه ينتفي بزوال الفراش، وإن قلنا لا ينتفي بنفيه أو لم ينفه
290

وقلنا انه يلحقه نسبه فلها السكنى والنفقة لأن ذلك للحمل أولها بسببه وهو موجود فأشبهت المطلقة
البائن فإن نفى الحمل فأنفقت أمه وسكنت من غير الزوج وأرضعت ثم استلحقه الملاعن لحقه ولزمته النفقة
وأجر المسكن والرضاع لأنها فعلت ذلك على أنه لا أب له فإذا ثبت له أب لزمه ذلك ورجع به عليه،
فإن قيل النفقة لأجل الحمل نفقة الأقارب وهي تسقط بمضي الزمان فكيف ترجع عليه بما يسقط عنه
قلنا بل النفقة للحامل من أجل الحمل فلا تسقط كنفقتها في الحياة، وان سلمنا انها للحمل الا أنها
مصروفة إليها ويتعلق بها حقها فلا تسقط بمضي الزمان كنفقتها
(فصل) فأما المعتدة من الوفاة فإن كانت حائلا فلا سكنى لها ولا نفقة لأن النكاح قد زال
بالموت وان كانت حاملا ففيها روايتان
(إحداهما) لها السكنى والنفقة لأنها حامل من زوجها فكانت لها السكنى والنفقة كالمفارقة في
الحياة (والثانية) لا سكنى لها ولا نفقة لأن المال قد صار للورثة ونفقة الحامل وسكناها إنما هو للحمل
أو من أجله ولا يلزم ذلك الورثة لأنه إن كان للميت ميراث فنفقة الحمل من نصيبه، وإن لم يكن
له ميراث لم يلزم وارث الميت الانفاق على حمل امرأته كما بعد الولادة قال القاضي وهذه الرواية أصح
(فصل) وهل تجب نفقة الحمل (1) للحامل من أجل الحمل أو للحمل فيه روايتان (إحداهما) تجب
للحمل اختارها أبو بكر لأنها تجب بوجوده وتسقط عند انفصاله فدل على أنها له

(1) في نسخة نفقة الحامل
291

(والثانية) تجب لها من أجله لأنها تجب مع اليسار والاعسار فكانت له كنفقة الزوجات،
ولأنها لا تسقط بمضي الزمان فأشبهت نفقتها في حياته وللشافعي قولان كالروايتين، وينبني على هذا
الاختلاف فروع منها أنها إذا كانت المطلقة الحامل أمة وقلنا النفقة للحمل فنفقتها على سيدها لأنه
ملكه، وإن قلنا لها فعلى الزوج لأن نفقتها عليه، وإن كان الزوج عبدا وقلنا هي للحمل فليس عليه
نفقته لأنه لا تلزمه نفقة ولده، وإن قلنا عليه فالنفقة عليه لما ذكرنا، وإن كانت حاملا من نكاح فاسد
أو وطئ شبهة وقلنا النفقة للحمل فعلى الزوج والواطئ لأنه ولده فلزمته نفقته كما بعد الوضع، وان
قلنا للحامل فلا نفقة عليها لأنها ليست زوجة يجب الانفاق عليها، وإن نشزت امرأة انسان وهي
حامل وقلنا النفقة للحمل لم تسقط نفقتها لأن نفقة ولده لا تسقط بنشوز أمه، وإن قلنا لها فلا نفقة
لها لأنها ناشز.
(فصل) ويلزم الزوج دفع نفقة الحامل المطلقة إليها يوما فيوما كما يلزمه دفع نفقة الرجعية،
وقال الشافعي في أحد قوليه لا يلزمه دفعها إليها حتى تضع لأن الحمل غير متحقق ولهذا وقفنا الميراث
وهذا خلاف قول الله تعالى (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) ولأنها محكوم
لها بالنفقة فوجب دفعها إليه كالرجعية، وما ذكروه غير صحيح فإن الحمل يثبت بالامارات وتثبت أحكامه
في منع النكاح والحد والقصاص وفسخ البيع في الجارية المبيعة والمنع من الاخذ في الزكاة ووجوب الدفع
292

في الدية فهو كالمتحقق ولا يشبه هذا الميراث فإن الميراث لا يثبت الا بمجرد الحمل فإنه يشترط له الوضع والاستهلال
بعد الوضع ولا يوجد ذلك قبله ولأننا لا نعلم صفة الحمل وقدره ووجود توريثه بخلاف مسئلتنا فإن النفقة تجب
بمجرد الحمل ولا تختلف باختلافه، فإذا ثبت هذا فمتى ادعت الحمل فصدقها دفع إليها إن كان حملا فقد استوفت
حقها وإن بان انها ليست حاملا رجع عليها سواء دفع إليها بحكم الحاكم أو بغيره وسواء شرط انها
نفقة أو لم يشترط وعنه لا يرجع، والصحيح أنه يرجع لأنه دفعه على أنه واجب فإذا بان أنه ليس
بواجب استرجعه كما لو قضاها دينا فبان أنه لم يكن عليه دين، وإن أنكر حملها نظر النساء الثقات
فرجع إلى قولهن، ويقبل قول المرأة الواحدة إذا كانت من أهل الخبرة والعدالة لأنها شهادة على مالا
يطلع عليه الرجال أشبه الرضاع وقد ثبت الأصل بالخبر
(فصل) ولا تجب النفقة على الزوج في النكاح الفاسد لأنه ليس بينهما نكاح صحيح فإن طلقها
أو فرق بينهما قبل الوطئ فلا عدة عليها، وإن كان بعد الوطئ فعليها العدة ولا نفقة لها ولا سكنى
إن كانت حائلا لأنه إذا لم يجب ذلك قبل التفريق فبعده أولى، وإن كانت حاملا فعلى ما ذكرنا
من قبل فإن قلنا لها النفقة إذا كانت حاملا فلها ذلك قبل التفريق لأنه إذا وجب بعد التفريق فقبله
أولى ومتى أنفق عليها قبل مفارقتها أو بعدها لم يرجع عليها لأنه إن كان عالما بعدم الوجوب فهو
متطوع به وإن لم يكن عالما فهو مفرط فلم يرجع به كما لو أنفق على أجنبية وكل معتدة من الوطئ في
293

غير نكاح صحيح كالموطوءة بشهبة وغيرها إن كان يلحق الواطئ نسب ولدها فهي كالموطوءة
في النكاح الفاسد وإن كان لا يلحقه نسب ولدها كالزاني فليس عليه نفقتها حاملا كانت أو حائلا لأنه
لا نكاح بينهما ولا بينهما ولد ينسب إليه
(مسألة) قال (وإذا خالعت المرأة زوجها وأبرأته من حملها لم يكن لها نفقة ولا
للولد حتى تفطمه)
أما إذا خالعته ولم تبرئه من حملها فلها النفقة كما لو طلقها ثلاثا وهي حامل لأن الحمل ولده فعليه
نفقته وان أبرأته من الحمل عوضا في الخلع صح سواء كان العوض كله أو بعضه، وقد ذكرناه في
الخلع ويبرأ حين تفطمه إذا كانت قد أبرأته من نفقة الحمل وكفالة الولد إلى ذلك أو أطلقت البراءة
من نفقة الحمل وكفالته لأن البراءة المطلقة تنصرف ان المدة التي تستحق المرأة العوض عليه فيها وهي
مدة الحمل والرضاع لأن المطلق إذا كان له عرف انصرف إلى العرف، وان اختلفا في مدة الرضاع
انصرف إلى حولين لقوله سبحانه (وفصاله في عامين) وقال تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين لمن أراد ان يتم الرضاعة) ثم قال (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح
294

عليهما) فدل على أنه لا يجوز فصاله قبل العامين الا بتراض منهما وتشاور وان قدرا مدة البراءة بزمن
الحمل أو بعام أو نحو ذلك فهو على ما قدراه وهو أحسن لأنه أقطع للنزاع وأبعد من اللبس والاشتباه
ولو أبرأته من نفقة الحمل انصرف ذلك إلى زمن الحمل قبل وضعه قال القاضي إنما صح مخالعتها على
نفقة الولد وهي للولد دونها لأنها في حكم المالكة لها لأنها هي القابضة لها المستحقة المتصرفة فيها
فإنها في مدة الحمل هي الآكلة لها المنتفعة بها وبعد الولادة هي أجر رضاعها وهي الآخذة لها المتصرفة
فيها أيضا فصارت كملك من أملاكها فصح جعلها عوضا، فاما النفقة الزائدة على هذا من كسوة الطفل
ودهنه ونحو ذلك فلا يصح ان يعارض به في الخلع لأنه ليس هولها ولا هو في حكم ما هو لها
(مسألة) قال (والناشز لا نفقة لها فإن كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها)
معنى النشوز معصيتها لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له النكاح وأصله من الارتفاع مأخوذ من
النشز وهو المكان المرتفع فكأن الناشز ارتفعت من طاعة زوجها فسميت ناشزا، فمتى امتنعت من
فراشه أو خرجت من منزله بغير إذنه أو امتنعت من الانتقال معه إلى السكن مثلها أو من السفر معه
فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم منهم الشعبي وحماد ومالك والأوزاعي والشافعي
وأصحاب الرأي وأبو ثور وقال الحكم لها النفقة وقال ابن المنذر لا أعلم أحدا خالف هؤلاء الا الحكم
ولعله يحتج بان نشوزها لا يسقط مهرها فكذلك نفقتها
295

ولنا أن النفقة إنما تجب في مقابلة تمكينها بدليل أنها لا تجب قبل تسليمها إليه وإذا منعها النفقة
كان لها منعه التمكين فإذا منعته التمكين كان له منعها من النفقة كما قبل الدخول، ويخالف المهر فإنه
يجب بمجرد العقد ولذلك لو مات أحدهما قبل الدخول وجب المهر دون النفقة، فأما إذا كان له منها
ولد فعليه نفقة ولده لأنها واجبة له فلا يسقط حقه بمعصيتها كالكبير وعليه أن يعطيها إياها إذا كانت
هي الخاضعة له أو المرضعة له وكذلك أجر رضاعها يلزمه تسليمه إليها لأنه أجر ملكته عليه بالارضاع
لا في مقابلة الاستمتاع ولا يزول بزواله
(فصل) وإذا سقطت نفقة المرأة بنشوزها فعادت عن النشوز والزوج حاضر عادت نفقتها لزوال
المسقط لها ووجود التمكين المقتضي لها، وإن كانت غائبا لم تعد نفقتها حتى يعود التسليم
بحضوره أو حضور وكيله أو حكم الحاكم بالوجوب إذا مضى زمن الامكان. ولو ارتدت امرأته
سقطت نفقتها فإن عادت إلى الاسلام عادت نفقتها بمجرد عودها لأن المرتد إنما سقطت نفقتها بخروجها عن
الاسلام فإذا عادت إليه زال المعنى المسقط فعادت النفقة وفي النشوز سقطت النفقة بخروجها عن يده أو
منعها له من التمكين المستحق عليها ولا يزول ذلك إلا بعودها إلى يده وتمكينه منها ولا يحصل ذلك في غيبته
ولذلك لو بذلت تسليم نفسها قبل دخوله بها في حال غيبته لم تستحق النفقة بمجرد البذل كذا ههنا والله أعلم
296

(باب من أحق بكفالة الطفل)
كفالة الطفل وحضانته واجبة لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الانفاق
عليه وإنجاؤه من المهالك ويتعلق بها حق لقرابته لأن فيها ولاية على الطفل واستحقاقا له فيتعلق بها
الحق ككفالة اللقيط. ولا تثبت الحضانة لطفل ولا معتوه لأنه لا يقدر عليها وهو محتاج إلى من
يكفله فكيف يكفل غيره؟ ولا الفاسق لأنه غير موثوق به في أداء الواجب من الحضانة ولاحظ
للولد في حضانته لأنه ينشأ على طريقته. ولا الرقيق وبهذا قال عطاء والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي. وقال مالك في حر له ولد حر من أمة: الام أحق به إلا أن تباع فتنقل فيكون الأب أحق به
لأنها أم مشفقة فأشبهت الحرة
ولنا انها لا تملك منافعها التي تحصل الكفالة بها لكونها مملوكة لسيدها فلم يكن حضانة كما لو
بيعت ونقلت. ولا تثبت لكافر على مسلم وبهذا قال مالك والشافعي وسوار والعنبري، وقال ابن
القاسم وأبو ثور وأصحاب الرأي تثبت له لما روي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع
ابن سنان انه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه وقال
رافع ابنتي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اقعد ناحية - وقال لها - اقعدي ناحية - وقال - ادعواها "
297

فمالت الصبية إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها، رواه أبو داود
ولنا انها ولاية فلا تثبت لكافر على مسلم كولاية النكاح والمال ولأنها إذا لم تثبت للفاسق
فالكافر أولى فإن ضرره أكثر فإنه يفتنه عن دينه ويخرجه عن الاسلام بتعليمه الكفر وتزيينه
له وتربيته عليه وهذا أعظم الضرر. والحضانة إنما تثبت لحظ الولد فلا تشرع على وجه يكون فيه
هلاكه وهلاك دينه. فأما الحديث فقد روي على غير هذا الوجه ولا يثبته أهل النقل وفي إسناده
مقال. قال ابن المنذر ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنها تختار أباها بدعوته فكان ذلك خاصا في حقه
فأما من بعضه حر فإن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة فلا حضانة له لأنه لا يقدر عليها لكون منافعه
مشتركة بينه وبين سيده، وإن كان بينهما مهايأة فقياس قول احمد ان له الحضانة في أيامه لأنه قال
كل ما يتجزأ فعليه النصف من كل شئ. وهذا اختيار أبي بكر. وقال الشافعي لا حضانة له لأنه
كالقن عنده. وهذا أصل قد تقدم
(مسألة) قال (والام أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت)
وجملته ان الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أو معتوه فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت
الشرائط. فيها ذكرا كان أو أنثى وهذا قول يحيى الأنصاري والزهري والثوري ومالك والشافعي
298

وأبي ثور وإسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم والأصل فيه ما روى عبد الله بن عمرو بن
العاص ان امرأة قالت يا رسول الله ان ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء
وان أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت أحق به ما لم تنكحي " رواه
أبو داود. ويروى أن أبا بكر الصديق حكم على عمر بن الخطاب بعاصم لامه أم عاصم وقال ريحها وشمها
ولطفها خير له منك. رواه سعيد في سننه. ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه ولا يشاركها في
القرب إلا أبوه وليس له مثل شفقتها ولا يتولى الحضانة بنفسه وإنما يدفعه إلى امرأته، وأمه
أولى به من امرأة أبيه
(فصل) فإن لم تكن الام من أهل الحضانة لفقدان الشروط التي ذكرنا فيها أو بعضها
فهي كالمعدومة وتنتقل إلى من يليها في الاستحقاق ولو كان الأبوان من غير أهل الحضانة انتقلت
إلى من يليها لأنهما كالمعدومين
(فصل) ولا تثبت الحضانة إلا على الطفل أو المعتوه فأما البالغ الرشيد فلا حضانة عليه واليه
الخيرة في الإقامة عند من شاء من أبويه فإن كان رجلا فله الانفراد بنفسه لاستغنائه عنهما ويستحب
أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما. وان كانت جارية لم يكن لها الانفراد ولأبيها منعها منه لأنه
لا يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها ويلحق العار بها وبأهلها وان لم يكن لها أب فلوليها وأهلها منعها من ذلك
299

(مسألة) قال (وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه فكان مع من اختار منهما)
وجملته ان الغلام إذا بلغ سبعا وليس بمعتوه خير بين أبويه إذا تنازعا فيه فمن اختاره
منهما فهو أولى به قضى بذلك عمر وعلي وشريح وهو مذهب الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة لا يخير
لكن قال أبو حنيفة إذا استقل فأكل بنفسه ولبس بنفسه واستنجى بنفسه فالأب أحق به
ومالك يقول الام أحق به حتى يتغر. وأما التخيير فلا يصح لأن الغلام لا قول له ولا يعرف حظه
وربما اختار من يلعب عنده ويترك تأديبه ويمكنه من شهواته فيؤدي إلى فساده، ولأنه دون البلوغ
فلم يخير كمن دون السبع
ولنا ما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه. رواه سعيد باسناده والشافعي
وفي لفظ عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول ان زوجي يريد أن
يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " هذا أبوك وهذه أمك
فخذ بيد أيهما شئت " فأخذ بيد أمه فانطلقت به. رواه أبو داود ولأنه اجماع الصحابة فروي عن
عمر أنه خير غلاما بين أبيه وأمه. رواه سعيد، وروي عن عمارة الجرمي أنه قال خيرني علي بين
عمي وأمي وكنت ابن سبع أو ثمان، وروي نحو ذلك عن أبي هريرة وهذه قصص في مظنة الشهرة
300

ولم تنكر فكانت، اجماعا، ولان التقديم في الحضانة يلحق به الولد فيتقدم من هو أشفق لأن حظ
الولد عنده أكثر واعتبرنا الشفقة بمظنتها إذ لم يمكن اعتبارها بنفسها فإذا بلغ الغلام حدا يعرب عن
نفسه ويميز بين الاكرام وضده فمال إلى أحد الأبوين دل على أنه أرفق به وأشفق عليه فقدم بذلك
وقيدناه بالسبع لأنها أول حال أمر الشرع فيها بمخاطبته بالامر بالصلاة، ولان الام قدمت في حال
الصغر لحاجته إلى حمله ومباشرة خدمته لأنها أعرف بذلك وأقوم به فإذا استغنى عن ذلك تساوى
والداه لقربهما منه فرجح باختياره
(فصل) ومتى اختار أحدهما فسلم إليه ثم اختار الآخر رد إليه فإن عاد فاختار الأول أعيد
إليه هكذا أبدا كلما اختار أحدهما صار إليه لأنه اختيار شهوة لحظ نفسه فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه
في المأكول والمشروب وقد يشتهي المقام عند أحدهما في وقت وعند الآخر في وقت وقد يشتهي
التسوية بينهما وأن لا ينقطع عنهما، وإن خيرناه فلم يختر واحدا منهما أو اختارهما معا قدم أحدهما
بالقرعة لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه ولا يمكن اجتماعهما على حضانته فقدم أحدهما بالقرعة فإذا
قدم بها ثم اختار الآخر رد إليه لأننا قدمنا اختياره الثاني على الأول فعلى القرعة التي هي بدل أولى
(فصل) فإن كان الأب معدوما أو من غير أهل الحضانة وحضر غيره من العصبات كالأخ
والعم وابنه قام مقام الأب فيخير الغلام بين أمه وعصبته لأن عليا رضي الله عنه خير عمارة الجرمي
301

بين أمه وعمه، ولأنه عصبة فأشبه الأب وكذلك إن كانت أمه معدومة أو من غير أهل الحضانة
فسلم إلى الجدة خير الغلام بينها وبين أبيه أو من يقوم مقامه من العصبات فإن كان الأبوان معدومين
أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى امرأة كأخته وعمته أو خالته قامت مقام أمه في التخيير بينها وبين
عصباته للمعنى الذي ذكرناه في الأبوين فإن كان الأبوان رقيقين وليس له أحد من أقاربه سواهما
فقال القاضي لا حضانة لهما عليه ولا نفقة له عليهما ونفقته في بيت المال ويسلم إلى من يحضنه من المسلمين
(فصل) وإنما يخير الغلام بشرطين (أحدهما) أن يكونا جميعا من أهل الحضانة فإن كان
أحدهما من غير أهل الحضانة كان كالمعدوم ويعين الآخر
(الثاني) أن لا يكون الغلام معتوها فإن كان عند الام ولم يخير لأن المعتوه بمنزلة
الطفل وإن كان كبيرا ولذلك كانت الام أحق بكفالة ولدها المعتوه بعد بلوغه، ولو خير الصبي
فاختاره أباه ثم زال عقله رد إلى الام وبطل اختياره لأنه إنما خير حين استقل بنفسه فإذا زال استقلاله
بنفسه كانت الام أولى لأنها أشفق عليه وأقوم بمصالحه كما في حال طفوليته
(مسألة) قال (وإذا بلغت الجارية سبع سنين فالأب أحق بها)
وقال الشافعي تخير كالغلام لأن كل سن خير فيه الغلام خيرت فيه الجارية كسن البلوغ، وقال
302

أبو حنيفة الام أحق بها حتى تزوج أو تحيض، وقال مالك الام أحق بها حتى تزوج أو يدخل بها
الزوج لأنها لا حكم لاختيارها ولا يمكن انفرادها فكانت الام أحق بها كما قبل السبع
ولنا أن الغرض بالحضانة الحظ والحظ للجارية بعد السبع في الكون عند أبيها لأنها تحتاج إلى
حفظ والأب أولى بذلك فإن الام تحتاج إلى من يحفظها ويصونها، ولأنها إذا بلغت السبع قاربت
الصلاحية للتزويج، وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي ابنة سبع وإنما تخطب الجارية من أبيها لأنه
وليها والمالك لتزويجها وهو أعلم بالكفاءة وأقدر على البحث فينبغي أن يقدم على غيره ولا يصار
إلى تخييرها لأن الشرع لم يرد به به فيها ولا يصح قياسها على الغلام لأنه لا يحتاج إلى الحفظ والتزويج
كحاجتها إليه ولا على سن البلوغ لأن قولها حينئذ معتبر في اذنها وتوكيلها واقرارها واختيارها
بخلاف مسئلتنا ولا يصح قياس ما بعد السبع على ما قبلها لما ذكرنا في دليلنا
(فصل) إذ كانت الجارية عند الام أو عند الأب فإنها تكون عنده ليلا ونهارا لأن تأديبها
وتخريجها في جوف البيت من تعليمها الغزل والطبخ وغيرهما ولا حاجة بها إلى الاخراج منه ولا يمنع
أحدهما من زيارتها عند الآخر من غير أن يخلو الزوج بأمها ولا يطيل ولا يتبسط لأن الفرقة بينهما
تمنع تبسط أحدهما في منزل الآخر، وإن مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيتها، وإن كان الغلام
303

عند الام بعد السبع لاختياره لها كان عندها ليلا ويأخذه الأب نهارا ليسلمه في مكتب أو في صناعة
لأن القصد حظ الغلام وحظه فيما ذكرناه، وإن كان عند الأب كان عنده ليلا ونهارا ولا يمنع
من زيارة أمه لأن منعه من ذلك اغراء بالعقوق وقطيعة الرحم وإن مرض كانت الام أحق بتمريضه
في بيتها لأنه صار بالمرض كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره فكانت الام أحق به كالصغير
وإن مرض أحد الأبوين والولد عند الآخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته سواء كان ذكرا
أو أنثى لأن المرض يمنع المريض من المشي إلى ولده فمشى ولده إليه أولى. فأما في حال الصحة فإن
الغلام يزور أمه لأنها عورة فسترها أولى والام تزور ابنتها لأن كل واحدة منهما عورة تحتاج إلى
صيانة وستر وستر الجارية أولى لأن الام قد تخرجت وعقلت بخلاف الجارية
(فصل) وإذا أراد أحد الأبوين السفر لحاجة ثم يعود والآخر مقيم فالمقيم أولى بالحضانة لأن
في المسافرة بالولد اضرارا به وإن كان منتقلا إلى بلد ليقيم به. وكان الطريق مخوفا أو البلد الذي ينتقل
إليه مخوفا فالمقيم أولى بالحضانة لأن في السفر به خطرا به، ولو اختار الولد السفر في هذه الحال لم
يجب إليه لأن فيه تغريرا به. وإن كان البلد الذي ينتقل إليه آمنا وطريقه آمن فالأب أحق به سواء
كان هو المقيم أو المنتقل إلا أن يكون بين البلدين قريب بحيث يراهم الأب كل يوم ويرونه فتكون
الام على حضانتها. وقال القاضي إذا كان السفر دون مسافة القصر فهو في حكم الإقامة وهو قول
304

بعض أصحاب الشافعي لأن ذلك في حكم الإقامة في غير هذا الحكم فكذلك في هذا. ولان مراعاة
الأب له ممكنة والمنصوص عن أحمد ما ذكرناه وهو أولى لأن البعد الذي يمنعه من رؤيته يمنعه من
تأديبه وتعليمه ومراعاة حاله فأشبه مسافة القصر، وبما ذكرناه من تقديم الأب عند افتراق الدار بهما
قال شريح ومالك والشافعي وقال أصحاب الرأي ان انتقل الأب فالأم أحق به وإن انتقلت لام إلى
البلد الذي فيه أصل النكاح فهي أحق وإن انتقلت إلى غيره فالأب أحق.
وحكي عن أبي حنيفة ان انتقلت من بلد إلى قرية فالأب أحق وإن انتقلت إلى بلد آخر فهي
أحق لأن في البلد يمكن تعليمه وتخريجه
ولنا انه اختلف مسكن الأبوين فكان الأب أحق كما لو انتقلت من بلد إلى قرية أو بلد لم يكن
فيه أصل النكاح، وما ذكروه لا يصح لأن الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب ابنه وتخريجه وحفظه
نسبه فإذا لم يكن في بلده ضاع فأشبه ما لو كان في قرية، وان انتقلا جميعا إلى بلد واحد فالأم باقية
على حضانتها وكذلك إن أخذه الأب لافتراق البلدين ثم اجتمعا عادت إلى الام حضانتها، وغير الام
ممن له الحضانة من النساء يقوم مقامها وغير الأب من عصبات الولد يقوم مقامه عند عدمهما أو
كونهما من غير أهل الحضانة
305

(مسألة) قال (فإن تكن أم أو تزوجت الام فأم الأب أحق من الخالة)
في هذه المسألة فصلان (إحداهما) أن الام إذا تزوجت سقطت حضانتها. قال ابن المنذر
أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم قضى به شريح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب
الرأي وحكي عن الحسن أنها لا تسقط بالتزويج
ونقل مهنا عن أحمد إذا تزوجت الام وابنها صغير أخذ منها، قيل له فالجارية مثل الصبي؟ قال
لا، الجارية تكون معها إلى سبع سنين فظاهر هذا أنه لم يزل الحضانة عن الجارية لتزويج أمها وأزالها
عن الغلام. ووجه ذلك ما روي أن عليا وجعفرا وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة فقال
علي ابنة عمي وأنا أخذتها، وقال زيد بنت أخي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد وحمزة، وقال
جعفر بنت عمي وعندي خالتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الخالة أم " وسلمها إلى جعفر. رواه أبو داود
بنحو هذا المعنى فجعل لها الحضانة وهي مزوجة
الرواية الأولى هي الصحيحة، قال ابن أبي موسى: عليها العمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
للمرأة " أنت أحق به ما لم تنكحي " ولأنها إذا تزوجت اشتغلت بحقوق الزوج عن الحضانة فكان
الأب أحظ له ولان منافعها تكون مملوكة لغيرها فأشبهت المملوكة. فأما بنت حمزة فإنما قضى
بها لخالتها لأن زوجها من أهل الحضانة ولأنه لا يساويه في الاستحقاق إلا علي وقد ترجح جعفر
306

بأن امرأته من أهل الحضانة فكان أولى. وعلى هذا متى كانت المرأة متزوجة لرجل من أهل الحضانة
كالجدة تكون متزوجة للجد لم تسقط حضانتها لأنه يشاركها في الولادة والشفقة على الولد فأشبه الام
إذا كانت متزوجة للأب، ولو تنازع العمان في الحضانة وأحدهما متزوج للام أو الخالة فهو أحق
لحديث بنت حمزة وكذلك كل عصبتين تساويا وأحدهما متزوج بمن هي من أهل الحضانة قدم
بها لذلك، وظاهر قول الخرقي ان التزويج بأجنبي يسقط الحضانة بمجرد العقد وإن عري عن الدخول
وهو قول الشافعي ويحتمل أن لا تسقط الا بالدخول وهو قول مالك لأن به تشتغل عن الحضانة
ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنت أحق به ما لم تنكحي " وقد وجد النكاح قبل الدخول
ولان بالعقد يملك منافعها ويستحق زوجها منعها من حضانته فزال حقها كما لو دخل بها
(الفصل الثاني) الام إذا عدمت أو تزوجت أو لم تكن من أهل الحضانة واجتمعت أم
أب وخالة فأم الأب أحق وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد، وحكي ذلك عن مالك وأبي
ثور، وروي عن أحمد ان الأخت والخالة أحق من الأب فعلى هذا يحتمل أن تكون الخالة أحق
من أم الأب وهو قول الشافعي القديم لأنها تدلي بأم وأم الأب تدلي به فقدم من يدلي بالام كتقديم
أم الام على أم الأب ولان النبي صلى الله عليه وسلم قضى ببنت حمزة لخالتها وقال " الخالة أم "
ولنا أن أم الأب جدة وارثة فقدمت على الخالة كأم الام، ولان لها ولادة ووراثة فأشبهت
أم الام فأما الحديث فيدل على أن للخالة حقا في الجملة وليس النزاع فيه إنما النزاع في الترجيح عند
الاجتماع، وقولهم تدلي بأم قلنا لكن لا ولادة لها فيقدم عليها من له ولادة كتقديم أم الام على الخالة
فعلى هذا متى وجدت جدة وارثة فهي أولى ممن هو من غير عمودي النسب بكل حال وان علت
درجتها لفضيلة الولادة والوارثة فأما أم أبي فلا حضانة لها لأنها تدلي بأبي الام ولا حضانة له ولابن؟ أدلى به
(فصل) فإن اجتمعت أم أم وأم أب فأم الام أحق وان علت درجتها لأن لها ولادة وهي
تدلي بالام التي تقدم على الأب فوجب تقديمها عليها كتقديم الام على الأب، وعن أحمد ان أم الأب
أحق وهو قياس قول الخرقي لأنه قدم خالة الأب على خالة الام وخالة الأب أخت أمه وخالة الام
أخت أمها فإذا قدم أخت أم الأب دل على تقديمها وذلك لأنها تدلى بعصبة مع مساواتها للأخرى
في الولادة فوجب تقديمها كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الام، وإنما قدمت الام على الأب
لأنها التي تلي الحضانة بنفسها فكذلك أمه فإنها أنثى تلي بنفسها فقدمت لما ذكرناه
307

(مسألة) قال (والأخت من الأب أحق من الأخت من الام وأحق من الخالة)
وجملته انه إذا عدم من يستحق الحضانة من الآباء والأمهات وان علو انتقلت إلى الأخوات
وقد من على سائر القرابات كالخالات والعمات وغير هن لأنهن شاركن في النسب وقد من في الميراث
ولان العمات والخالات إنما يدلين بأخوة الاباء والأمهات ولا ميراث لهن مع ذي فرض ولا
عصبة فالمدلي إلى نفس المكفول ويرثه أقرب وأشفق فكان أولى وأولى الأخوات من كان لأبوين
لقوة قرابتها ثم من كان لأب ثم من كان لام نص عليه أحمد وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال
أبو حنيفة الأخت من الام أولى من الأخت من الأب وهو قول المزني وابن سريج لأنها أدلت بالام
فقدمت على المدلية بالأب كأم الام مع أم الأب وقال ابن سريج تقدم الخالة على الأخت من الأب
لذلك ولأبي حنيفة فيه روايتان
ولنا ان الأخت من الأب أقوى في الميراث فقدمت كالأخت من الأبوين ولا تخفى قوتها فإنها
أقيمت مقام الأخت من الأبوين عند عدمها وتكون عصبة مع البنات وتقاسم الجد، وما ذكروه
من الادلاء لا يلزم لأن الأخت تدلي بنفسها لكونهما خلفاء من ماء واحد ولهما تعصيب فكانت أولى والله أعلم
(مسألة) قال (وخالة الأب أحق من خالة الام)
وجملة انه إذا عدمت الأمهات والاباء والأخوات انتقلت الحضانة إلى الخالات ويقدمن
على العمات. نص عليه احمد ويحتمل كلام الخرقي تقديم العمات لأنه قدم خالة الأب وهي أخت أمه
على خالة الام وهي أخت أمها فيدل ذلك على تقديم قرابة الأب على قرابة الام ولأنهن يدلين بعصبة
فقدمن كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الام
وقال القاضي مراد الخرقي بقوله خالة الأب أي الخالة من الأب تقديم على الخالة من الام كتقديم
الأخت من الأب على الأخت من الام لأن الخالات أخوات الام فيجرين في الاستحقاق والتقديم
فيما بينهن مجرى الأخوات المفترقات وكذلك الحكم في العمات المفترقات، فإن قلنا بتقديم الخالات
فإذا انقرضن فالعمات بعدهن، وان قلنا بتقديم العمات فالخالات بعدهن، فإذا عدمن من انتقلت إلى
خالات الأب على قول الخرقي وعلى القول الآخر إلى خالات الام، وهل يقدم خالات الأب على عماته؟
على وجهين بناء على ما ذكرنا في الخالات والعمات فأما عمات الام فلا حضانة لهن لأنهن يدلين بأبي
الام وهو رجل من ذوي الأرحام لا حضانة له ولا لمن أدلى به
308

(فصل) وللرجال من العصبات مدخل في الحضانة وأولاهم الأب ثم الجد أبو الأب وان علا
ثم الأخ من الأبوين ثم الأخ من الأب ثم بنوهم ان سفلوا على ترتيب الميراث ثم العمومة ثم بنوهم
كذلك ثم عمومة الأب ثم بنوهم، وهذا قول الشافعي، وقال بعض أصحابه لا حضانة لغير الاباء
والأجداد لأنهم لا معرفة لهم بالحضانة ولأنهم ولاية بأنفسهم فلم يكن لهم حضانة كالأجانب
ولنا أن عليا وجعفرا اختصما في حضانة ابنة حمزة فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ادعاء الحضانة ولان
لهم ولاية وتعصيبا بالقرابة فتثبت لهم الحضانة كالأب والجد، والأجانب فلهم ليست لهم قرابة
ولا شفعة ولان الأجانب تساووا في عدم القرابة فليس واحد منهم أولى بالتقديم من الآخر،
والعصبات لهم قرابة يمتازون بها وأحقهم بالحضانة أحقهم بالميراث بعد الآباء والأجداد ويقومون
مقام الأب في التخيير للصبي بينه وبين الام أو غيرهما ممن له الحضانة من النساء ويكونون أحق بالجارية
إذا بلغت سبعا الابن العم فإن الجارية لا تسلم إليه إذا بلغت سبعا لأنه ليس بمحرم لها
(فصل) فأما الرجال من ذوي الأرحام كالخال والأخ من الام أبي الام وابن الأخت فلا
حضانة لهم مع وجود أحد من أهل الحضانة سواهم لأنه ليس بامرأة يتولى الحضانة ولا له قوة قرابة
كالعصبات ولا حضانة الا يدلي بهم كأم أبي الام وابنة الخال وابنة الأخ من الام لأنهن يدلين بمن
لا حضانة له فإذا لم يثبت للمدلي فللمدلين به أولى، فإن لم يكن هناك غيرهم احتمل وجهين (أحدهما)
هم أولى لأن لهم رحما وقرابة يرثون بها عند عدم من هو أولى منهم كذلك الحضانة تكون لهم عند عدم
من هو أولى بها منهم (والثاني) لا حق لهم في الحضانة وينتقل الامر إلى الحاكم والأول أولى
(فصل) في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء)
أولى الكل بها الام ثم أمهاتها وان علون يقدم منهن الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن
متحققة فهي في معنى الام. وعن أحمد ان الام الأب أمهاتها مقدمات على أم الام، فعلى هذه الرواية
يكون الأب أولى بالتقديم لأنهن يدلين به فيكون الأب بعد الام ثم أمهاته والأولى هي المشهورة
عند أصحابنا وان المقدم الام ثم أمهاتها ثم الأب ثم أمهاته، ثم الجد ثم أمهاته ثم جد الأب ثم أمهاته وان
كن غير وارثات لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة بخلاف أم أبي الام
وحكي عن أحمد رواية أخرى ان الأخت من الام والخالة أحق من الأب فتكون الأخت من
الأبوين أحق منه ومنهما ومن جميع العصبات، والأولى هي المشهورة في المذهب فإذا انقرض الآباء
والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات، وتقدم الأخت من الأبوين ثم الأخت من الأب ثم الأخت
309

من الام وتقدم الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضانة فقدمت على من في درجتها من الرجال
كالأم تقدم على الأب وأم الأب على أبي الأب وكل جدة في درجة جد تقدم عليه لأنها تلي الحضانة
بنفسها والرجل لا يليها بنفسه
وفيه وجه آخر انه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه والأول أولى وفي تقديم الأخت من الأبوين أو من الأب
على الجد وجهان. وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى ثم الأخ للأب ثم أبناؤهما ولا حضانة للأخ للام لما ذكرنا
فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات على الصحيح وترتيبهن فيها كترتيب الأخوات، ولا حضانة للأخوال
فإذا عدمن صارت للعمات ويقدمن على الأعمام كتقديم الأخوات على الاخوة ثم للعم للأبوين ثم للعم للأب
ولا حضانة للعم من الام، ثم أبناؤهما ثم إلى خالات الأب على قول الخرقي وعلى القول الآخر إلى خالات
الام ثم إلى عمات الأب ولا حضانة لعمات الام لأنهن يدلين باب الإمام ولا حضانة له، وإن اجتمع شخصان
أو أكثر من أهل الحضانة في درجة قدم المستحق منهم بالقرعة
(فصل) فإن تركت الام الحضانة مع استحقاقها لها ففيه وجهان (أحدهما) تنتقل إلى الأب
لأن أمهاتها فرع عليها في الاستحقاق فإذا أسقطت حقها سقط فروعها (والثاني) تنتقل إلى أمها وهو
أصح لأن الأب أبعد فلا تنتقل الحضانة إليه مع وجود أقرب منه كما لا تنتقل إلى الأخت وكونهن
فروعا لها لا يوجب سقوط حقوقهن بسقوط حقها كما لو سقط حقها لكونها من غير أهل الحضانة أو
لتزوجها وهكذا الحكم في الأب إذا أسقط حقه هل يسقط حق أمهاته؟ على وجهين وان كانت أخت من
أبوين وأخت من أب فأسقطت الأخت من الأبوين حقها لم يسقط حق الأخت من الأب لأن استحقاقها
من غير جهتها وليست فرعا عليها
(مسألة) قال (وإذا أخذ الولد من الام إذا تزوجت ثم طلقت رجعت على حقها
من كفالة)
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة والمزني قال إن كان الطلاق رجعيا
لم يعد حقها لأن الزوجية قائمة فأشبه ما لو كانت في صلب النكاح
ولنا أنها مطلقة فعاد حقها من الحضانة كالبائن وقولهم إنها قلنا إلا أنه قد عزلها عن فراشه
ولم يبق لها عليه قسم ولا لها به شغل وعقد سبب زوال نكاحها فأشبهت البائن في عدتها ويخرج عندنا
مثل قولهما لكون النكاح قبل الدخول مزيلا لحق الحضانة مع عدم القسم والشغل بالزوج
(فصل) وكل قرابة تستحق بها الحضانة منع منها مانع كرق أو كفر أو فسوق أو جنون
أو صغر إذا زال المانع مثل ان عتق الرقيق وأسلم الكافر، وعدل الفاسق، وعقل المجنون، وبلغ
310

الصغير عاد حقهم من الحضانة لأن سببها قائم، وإنما امتنعت لمانع فإذا زال المانع عاد الحق بالسبب
السابق الملازم كالزوجة إذا طلقت
(مسألة) قال (وإذا تزوجت المرأة فلزوجها أن يمنعها من رضاع ولدها الا أن يضطر
إليها ويخشى عليه التلف)
وجملة ذلك أن للزوج منع امرأته من رضاع ولدها من غيره ومن رضاع ولد غيرها الا أن يضطر إليها
لأن عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان من كل الجهات سوى أوقات الصلوات والرضاع
يفوت عليه الاستمتاع في بعض الأوقات فكان له المنع كالخروج من منزله، فإن اضطر الولد بأن لا توجد مرضعة
سواها أو لا يقبل الولد الارتضاع من غيرها وجب التمكين من ارضاعه لأنها حال ضرورة وحفظ
لنفس ولدها فقدم على حق الزوج كتقديم المضطر على المالك إذا لم يكن بالمالك مثل ضرورته
(فصل) فإن أرادت ارضاع ولدها منه فكلام الخرقي يحتمل وجهين (أحدهما) أن له منعها
من رضاعه لعموم لفظه وهو قول الشافعي لأنه يخل باستمتاعه منها فأشبه ما لو كان الولد من غيره
(والثاني) ليس له منعها فإنه قال وإن أرادت رضاع ولدها بأجرة مثلها فهي أحق به من غيرها
سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة وذلك لقول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين) وهذا خبر يراد به أمر وهو عام في كل والدة، ولا يصح من أصحاب الشافعي حمله على
المطلقات لأنه جعل لهن رزقهن وكسوتهن وهم لا يجيزون جعل ذلك أجر الرضاع ولا غيره، وقولنا في
الوجه الأول إنه يخل باستمتاعه قلنا ولكن لايفاء حق عليه وليس ذلك ممتنعا كما أن قضاء دينه
بدفع ماله فيه واجب سيما إذا تعلق به حق الولد في كونه مع أمه وحق الام في الجمع بينها وبين ولدها وهذا
الوجه ظاهر كلام ابن أبي موسى وهو ظاهر كلام القاضي أبي يعلى
(فصل) وإن آجرت المرأة نفسها للرضاع ثم تزوجت صح النكاح ولم يملك الزوج فسخ
الإجارة وله منعها من الرضاع حتى تنقضي المدة لأن منافعها ملكت بعقد سابق على نكاحه
فأشبه ما لو اشترى أمة مستأجرة أو دارا مشغولة، فإن الصبي أو اشتغل بغيرها فللزوج
الاستمتاع، وليس لولي الصبي منعه وبهذا قال الشافعي، وقال مالك ليس له وطؤها إلا برضاء
الولي لأن ذلك بنقص اللبن
ولنا أن وطئ الزوج مستحق بالعقد فلا يسقط بأمر مشكوك فيه كما لو أذن الولي فيه ولأنه يجوز
له الوطئ مع إذن الولي فجاز مع عدمه لأنه ليس للولي الاذن فيما يضر الصبي ويسقط حقوقه
311

(فصل) وان أجرت المرأة المزوجة نفسها للرضاع باذن زوجها جاز ولزم العقد لأن الحق لهما
ولا يخرج عنهما وان آجرتها بغير اذن الزوج لم يصح لما يتضمن من تفويت حق زوجها، وهذا
أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر يصح لأنه تناول محلا غير محل النكاح لكن للزوج فسخه
لأنه يفوت به الاستمتاع ويختل
ولنا أنه عقد يفوت به حق من ثبت له الحق بعقد سابق فلم يصح كإجارة المستأجر
(مسألة) قال (وعلى الأب أن يسترضع لولده الا أن تشاء الام أن ترضعه بأجرة مثلها
فتكون أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة)
الكلام في هذه المسألة في فصلين:
(أولهما) أن رضاع الولد على الأب وحده وليس له اجبار أمه على رضاعه دنيئة كانت أو شريفة
سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة ولا نعلم في عدم اجبارها على ذلك إذا كانت مفارقة خلافا، فأما
إن كانت مع الزوج فكذلك عندنا وبه يقول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال ابن أبي ليلى
والحسن بن صالح له إجبارها على رضاعها وهو قول أبي ثور ورواية عن مالك لقول الله تعالى
(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) والمشهور عن مالك أنها
ان كانت شريفة لم تجر عادة مثلها بالرضاع لولدها لم تجبر عليه، وإن كانت ممن ترضع في
العادة أجبرت عليه
ولنا قوله تعالى (وان تعاسرتم فسترضع له أخرى) وإذا اختلفا فقد تعاسرا ولان الاجبار على
الرضاع لا يخلو اما أن يكون لحق الولد أو لحق الزوج أولهما: لا يجوز أن يكون لحق الزوج فإنه لا يملك
اجبارها على رضاع ولده من غيرها ولا على خدمته فيما تختص به، ولا يجوز أن يكون لحق الولد فإن
ذلك لو كان له للزمها بعد الفرقة ولأنه مما يلزم الوالد لولده فلزم الأب على الخصوص كالنفقة أو كما
بعد الفرقة، ولا يجوز أن يكون لهما لأن ما لا مناسبة فيه لا يثبت الحكم بانضمام بعضه إلى بعض ولأنه لو
كان لهما لثبت الحكم به بعد الفرقة والآية محمولة على حال الاتفاق وعدم التعاسر
(الفصل الثاني) ان الام إذا طلبت ارضاعه بأجر مثلها فهي أحق به سواء كانت في حال الزوجية
أو بعدها وسواء وجد الأب مرضعة متبرعة أو لم يجد، وقال أصحاب الشافعي ان كانت في حبال الزوج
فلزوجها منعها من ارضاعه لأنه يفوت حق الاستمتاع بها في بعض الأحيان وان استأجرها على رضاعه
لم يجز لأن المنافع حق له فلا يجوز أن يستأجر منها ما هو أو بعضه حق له وان أرضعت الولد فهل
312

لها أجر المثل على وجهين وان كانت مطلقة وطلبت أجر المثل فأراد انتزاعه منها ليسلمه إلى من ترضعه
بأجر المثل أو أكثر لم يكن له ذلك وان وجد متبرعة أو من ترضعه بدون أجر المثل فله انتزاعه منها
في ظاهر المذهب لأنه لا يلزم التزام المؤنة مع دفع حاجة الولد بدونها وقال أبو حنيفة ان طلبت الاجر
لم يلزم الأب بذلها ولا يسقط حقها من الحضانة وتأتي المرضعة ترضعه عندها لأنه أمكن الجمع بين
الحقين فلم يجز الاخلال بأحدهما
ولنا على الأول ما تقدم وعلى جواز الاستئجار أنه عقد إجارة يجوز من غير الزوج إذا أذن
فيه فجاز مع الزوج كإجارة نفسها للخياطة أو الخدمة وقولهم ان المنافع مملوكة له غير صحيح فإنه لو
ملك منفعة الحضانة لملك اجبارها عليها ولم تجز إجارة نفسها لغيره باذنه ولكانت الأجرة له وإنما
امتنعت إجارة نفسها لأجنبي بغير إذنه لما فيه من تفويت الاستمتاع في بعض الأوقات ولهذا جازت
باذنه وإذا استأجرها فقد أذن لها في إجارة نفسها فصح كما يصح من الأجنبي، وأما الدليل على وجوب
تقديم الام إذا طلبت أجر مثلها على المتبرعة فقوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين
لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وقوله سبحانه (فإن أرضعن
لكم فآتوهن أجورهن ولان الام أحنى وأشفق ولبنها امرأ من لبن غيرها فكانت أحق به من
غيرها كما لو طلبت الأجنبية رضاعه بأجر مثلها ولان في رضاع غيرها تفويتا لحق الام من الحضانة
واضرارا بالولد لا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب والاضرار بالولد لغرض اسقاط حق أوجبه
الله تعالى على الأب، وقول أبي حنيفة يفضي إلى تفويت حق الولد من لبن أمه وتفويت الام في ارضاعه
لبنها فلم يجز ذلك كما لو تبرعت برضاعه فأما ان طلبت الام أكثر من أجر مثلها ووجد الأب
من ترضعه بأجر مثلها أو متبرعة جاز انتزاعه منها لأنها أسقطت حقها باشتراطها وطلبها ما ليس لها فدخلت
في عموم قوله (فسترضع له أخرى) وإن لم يجد مرضعة الا بمثل تلك الأجرة فالأم أحق لأنهما تساوتا
في الاجر فكانت الام أحق كما لو طلبت كل واحدة منهما أجر مثلها
(فصل) وان طلبت ذات الزوج الأجنبي ارضاع ولدها بأجرة مثلها باذن زوجها ثبت حقها
وكانت أحق به من غيرها لأن الام إنما منعت من الارضاع لحق الزوج فإذا أذن فيه زال المانع
فصارت كغير ذات الزوج وان منعها الزوج سقط حقها لتعذر وصولها إلى ذلك
(فصل) وإن أرضعت المرأة ولدها وهي في حبال والده فاحتاجت إلى زيادة نفقة لزمه لقول
الله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ولأنها تستحق عليه قدر كفايتها فإذا
زادت حاجتها زادت كفايتها والله أعلم
313

باب نفقة المماليك
(مسألة) قال رحمه الله (وعلى ملاك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسوهم بالمعروف)
وجملة ذلك أن نفقة المملوكين على ملاكهم ثابتة بالسنة والاجماع: أما السنة فما روى أبو ذر
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه
مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتوهم فأعينوهم " متفق عليه
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " للملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل
ما لا يطيق " رواه الشافعي في مسنده وأجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده ولأنه لابد
له من نفقة ومنافعه لسيده وهو أخص الناس به فوجبت نفقته عليه كبهيمته والواجب من ذلك قدر
كفايته من غالب قوت البلد سواء كان قوت سيده أو دونه أو فوقه وأدم مثله بالمعروف لقوله عليه
السلام " للملوك طعامه وكسوته بالمعروف " والمستحب أن يطعمه من جنس طعامه لقوله " فليطعمه
مما يأكل " فجمعنا بين الخبرين وحملنا خبر أبي هريرة على الاجزاء وحديث خبر أبي ذر على الاستحباب
والسيد مخير بين أن يجعل نفقته من كسبه إن كان له كسب وبين أن ينفق عليه من ماله ويأخذ كسبه
أو يجعله برسم خدمته لأن الكل ماله فإن جعل نفقته في كسبه فكانت وفق الكسب صرفه إليها
وإن فضل من الكسب شئ فهو لسيده وإن كان فيه عوز فعلى سيده تمامها. وأما الكسوة فبالمعروف
من غالب الكسوة لأمثال العبد في ذلك البلد الذي هو به والأولى أن يلبسه من لباسه لقوله عليه
السلام " وليلبسه مما يلبس " ويستحب أن يساوي بين عبيده الذكور في الكسوة والاطعام وبين
إمائه إن كن للخدمة أو الاستمتاع، وإن كان فيهن من هو للخدمة وفيهن من هو للاستمتاع فلا
بأس بزيادة من يزيدها للاستمتاع في الكسوة لأن ذلك حكم العرف ولان غرضه تجميل من يزيدها
للاستمتاع بخلاف الخادمة
(فصل) إذا تولى أحدهم طعامه استحب له أن يجلسه معه فيأكل فإن لم يفعل استحب أن
يطعمه منه ولو لقمة أو لقمتين لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كفى أحدكم خادمه طعامه
حره ودخانه فليدعه وليجلسه فإن أبى فليروغ له اللقمة واللقمتين " رواه البخاري ومعنى ترويغ اللقمة
غمسها في المرق والدسم وترويتها بذلك ويدفعها إليه ولأنه يشتهيه لحضوره فيه وتوليه إياه، وقد
قال الله تعالى (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) الآية ولان
نفس الحاضر تتوق ما لا تتوق نفس الغائب
314

(فصل) ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق وهو ما يشق عليه ويقرب من العجز عنه لحديث أبي
ذر ولان ذلك يضر به ويؤذيه وهو ممنوع من الاضرار به
(فصل) ولا يجبر المملوك على المخارجة ومعناه أن يضرب عليه خراجا معلوما يؤديه وما فضل
للعبد لأن ذلك عقد بينهما فلا يجبر عليه كالكتابة، وإن طلب العبد ذلك وأباه لم يجبر عليه أيضا
فإن اتفقا على ذلك جاز لما روي أن أبا ظبية حجم النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه أجره وأمر مواليه أن يخففوا
عنه من خراجه وكان كثير من الصحابة يضربون على رقيقهم خراجا فروي أن الزبير كان له ألف
مملوك على كل واحد منهم كل يوم درهم وجاء أبو لؤلؤة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فسأله أن يسأل
المغيرة بن شعبة يخفف عنه من خراجه، ثم ينتظر فإن كان ذا كسب يجعل عليه بقدر ما يفضل من
كسبه من نفقة وخراجه شئ جاز فإن لهما به نفعا فإن العبد يحرص على الكسب وربما فضل معه
شئ نريده في نفقته ويتسع به، وإن وضع عليه أكثر من كسبه بعد نفقته لم يجز، وكذلك أن
كلف من لا كسب له المخارجة لم يجز لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا تكلفوا الصغير
الكسب فإنكم متى تكلفوا الكسب سرق، ولا تكلفوا المرأة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم
متى كلفتموها الكسب كسبت بفرجها ولأنه متى كلف غير ذي الكسب خراجا كلفه ما يغلبه وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تكلفوهم ما يغلبهم " وربما حمله ذلك على أن يأتي به من غير وجهه فلم
يكن للسيد أخذه.
(فصل) وإذا مرض المملوك أو زمن أو عمي أو انقطع كسبه فعلى سيده القيام به والانفاق
عليه لأن نفقته تجب بالملك ولهذا تجب مع الصغر والملك باق مع العمى والزمانة فتجب نفقته مع
عموم النصوص المذكورة في أول الباب
" مسألة " قال (وان يزوج المملوك إذا احتاج إلى ذلك)
وجملة ذلك أنه يجب على السيد اعفاف مملوكه إذا طلب ذلك وهو أحد قولي الشافعي وقال أبو
حنيفة ومالك لا يجبر عليه لأن فيه ضررا عليه وليس مما تقوم به البنية فلم يجبر عليه كطعام الحلواء
ولنا قوله تعالى (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) والامر يقتضي الوجوب
ولا يجب إلا عند الطلب. وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال: من كانت له جارية فلم يزوجها
ولم يصبها أو عبد فلم يزوجه فما صنعا من شئ كان على السيد ولولا وجوب اعفافهما لما لحق السيد
الاثم بفعلهما، ولأنه مكلف محجور عليه دعى إلى تزويجه فلزمته اجابته كالمحجور عليه للسفه ولان
315

النكاح مما تدعو إليه الحاجة غالبا ويتضرر بفواته فأجبر عليه كالنفقة بخلاف الحلواء. إذا ثبت هذا
فالسيد مخير بين تزويجه أو تمليكه أمة يتسراها وله أن يزوجه عند طلبه لأن هذا مما يختلف الناس
فيه وفي الحاجة إليه ولا تعلم حاجته الا بطلبه ولا يجوز تزويجه إلا باختياره فإن اجبار العبد الكبير
على النكاح غير جائز فأما الأمة فالسيد مخير بين تزويجها إذا طلبت ذلك وبين أن يستمتع بها
فيغنيها باستمتاعه عن غيره لأن المقصود قضاء الحاجة وإزالة ضرر الشهوة وذلك يحصل بأحدهما
فلم يتعين أحدهما.
(فصل) وإذا كان للعبد زوجة فعلى سيده تمكينه من الاستمتاع بها ليلا لأن اذنه في النكاح
اذن في الاستمتاع المعتاد والعادة جارية بذلك ليلا وعليه نفقة زوجته على ما قدمنا
(مسألة) قال (فإن امتنع أجبر على بيعه إذا طلب المملوك ذلك)
وجملته أن السيد إذا امتنع مما يجب للعبد عليه من نفقة أو كسوة أو تزويج فطلب العبد البيع
أجبر سيده عليه سواء كان امتناع السيد من ذلك لعجزه عنه أو مع قدرته عليه لأن بقاء ملكه عليه
مع الاخلال بسد خلاته اضرار به وإزالة الضرر واجبة فوجبت إزالته ولذلك أبحنا للمرأة فسخ
النكاح عند عجز زوجها عن الانفاق عليها
قد روي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " عبدك يقول أطعمني وإلا فبعني وامرأتك
تقول أطعمني أو طلقني " وهذا يدل بمفهومه على أن السيد متى وفى بحقوق عبده فطلب العبد بيعه لم
يجبر السيد عليه وقد نص عليه احمد: قال أبو داود قيل لأبي عبد الله رحمه الله استباعت المملوكة
وهو يكسوها مما يلبس ويطعمها مما يأكل؟ قلنا لاتباع وإن كان أكثرت من ذلك الا أن تحتاج إلى
زوج فتقول زوجني، وقال عطاء وإسحاق في العبد يحسن إليه سيده وهو يستبيع: لا يبعه لأن الملك
للسيد والحق له فلا يجبر على إزانته من غير ضرر بالعبد كما لا يجبر على طلاق زوجته مع القيام بما يجب
لها ولا على بيع بهيمته مع الانفاق عليها
(مسألة) قال (وليس عليه نفقة مكاتبه الا أن يعجز)
لا خلاف في أن المكاتب لا تلزم سيده نفقته لأن الكتابة عقد أوجب ملك المكاتب اكساب
نفسه ومنافعه ومنع السيد من التصرف فيهما فلا يملك استخدامه ولا اجارته ولا اعارته ولا أخذ
كسبه ولا أرش الجناية عليه ولا يلزمه أداء أرش جنايته فسقطت نفقته عنه كما لو باعه أو أعتقه فإذا
عجز عاد رقيقا قنا وعاد إليه ملك نفعه واكسابه فعادت عليه نفقته كما لو اشتراه بعد بيعه
316

(مسألة) قال (وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها
فضل عن ربه)
أما إذا أراد استرضاع أمته لغير ولدها مع كونه لا يفضل عنه فليس له ذلك لأن فيه اضرارا
بولدها لنقصه من كفايته وصرف اللبن المخلوق لولدها إلى غيره مع حاجته إليه فلم يجزكا لو أراد أن
ينقص الكبير من كفايته ومؤنته فإن كان فيها فضل عن ري ولدها جاز لأنه ملكه وقد استغنى
عنه الولد فكان له استيفاؤه كالفاضل من كسبها عن مؤنتها وكما لو مات ولدها وبقي لبنها
(مسألة) قال (وإذا رهن المملوك أنفق عليه سيده) وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه ونفقته من غرمه " ولأنه ملك
الراهن ونماؤه له فكانت عليه نفقته كغير الرهن وقد ذكرت هذه المسألة في باب الرهن
(مسألة) قال (وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق (عليه)
إنما كان كذلك لأن نفقة العبد على سيده وقد قام الذي جاء به مقام سيده في الواجب عليه
فرجع به عليه كما لو أذن له، وقال الشافعي لا يرجع بشئ لأنه متبرع بانفاق لم يجب عليه
ولنا أنه أدى عنه ما وجب عليه عند تعذر أدائه منه فرجع به عليه كما لو أدى الحاكم عن الممتنع
من الانفاق على امرأته ما يجب عليه من النفقة ويتخرج أن لا يرجع بشئ بناء على الرواية الأخرى
فيمن أنفق على الرهن الذي عنده أو الوديعة أو الجمال إذا هرب الجمال فتركها مع المستأجر
(فصل) وله تأديب عبده وأمته إذا أذنبا بالتوبيخ والضرب الخفيف كما يؤدب ولده وامرأته
في النشوز وليس له ضربه على غير ذنب ولا ضربه ضربا مبرحا وإن أذنب، ولا لطمه في وجهه وقد روي
عن ابن مقرن المزني قال لقد رأيتني سابع سبعة ليس لنا إلا خادم واحد فلطمها أحدنا فأمرنا النبي
صلى الله عليه وسلم باعتاقها فأعتقناها. وروي عن أبي مسعود قال كنت اضرب غلاما لي فإذا رجل من خلفي
يقول " اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود " فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول " اعلم أبا مسعود ان الله أقدر
عليك منك على هذا الغلام "
(فصل) ومن ملك بهيمة لزمه القيام بها والانفاق عليها ما تحتاج إليه من علفها أو إقامة من يرعاها
لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا فلا هي أطعمتها
ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض " متفق عليه. فإن امتنع من الانفاق عليها أجبر على ذلك فإن
أبى أو عجز أجبر على بيعها أو ذبحها ان كانت مما يذبح. وقال أبو حنيفة لا يجبره السلطان
بل يأمره به
317

كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لأن البهيمة لا يثبت لها حق من جهة الحكم ألا ترى انه لا تصح
منها الخصومة ولا ينصب عليها خصم فصارت كالزرع والشجر
ولنا انها نفقة حيوان واجبة عليه فكان للسلطان إجباره عليها كنفقة العبيد ويفارق نفقة الشجر
والزرع فإنها لا تجب فإن عجز عن الانفاق وامتنع من البيع بيعت عليه كما يباع العبد إذا طلب البيع
عند إعسار سيده بنفقته وكما ينفسخ نكاحه إذا أعسر بنفقة امرأته وان عطبت البهيمة فلم ينتفع بها
فإن كانت مما يؤكل خير بين ذبحها والانفاق عليها وان كانت مما لا يؤكل أجبر على الانفاق عليها
كالعبد الزمن على ما ذكرناه فيما مضى ولا يجوز ان يحمل البهيمة مالا تطيق لأنها في معنى العبد وقد منع
النبي صلى الله عليه وسلم تكليف العبد مالا يطيق. لأن فيه تعذيبا للحيوان الذي له حرمة في نفسه وإضرار به وذلك غير جائز
ولا يحلب من لبنها إلا ما يفضل عن كفاية ولدها لأن كفايته واجبة على مالكه ولبن أمه مخلوق له فأشبه ولدها الأمة
كتاب الجراح
يعني كتاب الجنايات وأنما عبر عنها بالجراح لغلبة وقوعها به. والجناية كل فعل عدوان على نفس
أو مال لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان، وسموا الجنايات على الأموال
غصبا ونهبا وسرقة وخيانة وإتلافا
(فصل) وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع،
أما الكتاب فقول الله تعالى (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
318

لوليه سلطانا) وقال تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) وقال (ومن يقتل مؤمنا
متعمدا فجزاؤه جهنم) الآية.
وأما السنة فروى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد
ان لا إله إلا الله واني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب، الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق
للجماعة " متفق عليه، وروى عثمان وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في آي وأخبار سوى هذه كثيرة،
ولا خلاف بين الأمة في تحريمه فإن فعله إنسان متعمدا فسق وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء
غفر له وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم وقال ابن عباس ان توبته لا تقبل للآية التي ذكرناها
وهي من آخر ما نزل. قال ابن عباس ولم ينسخها شئ ولان لفظ الآية لفظ الخبر والاخبار لا يدخلها
نسخ ولا تغيير لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقا
ولنا قول الله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فجعله داخلا
في المشيئة. وقال تعالى (ان الله يغفر الذنوب جميعا وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " ان رجلا قتل
مائة رجل ظلما ثم سأل هل له من توبة؟ فدل على عالم فسأله فقال ومن يحول بينك وبين التوبة ولكن
اخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها فخرج تائبا فأدركه الموت في الطريق فاختصمت
فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فبعث الله إليهم فقال قيسوا ما بين القريتين فإلى أيهما كان
319

أقرب فاجعلوه من أهلها فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة فجعلوه من أهلها " ولان التوبة تصح
من الكفر فمن القتل أولى، والآية محمولة على من لم يتب أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه وله العفو
إذا شاء. وقوله لا يدخلها النسخ قلنا لكن يدخلها التخصيص والتأويل
(مسألة) قال أبو القاسم رحمة الله (والقتل على ثلاثة أوجه عمد وشبه العمد وخطأ
أكثر أهل العلم يرون القتل منقسما إلى هذه الأقسام الثلاثة روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال
الشعبي والنخعي وقتادة وحماد وأهل العراق والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأنكر مالك شبه
العمد وقال ليس في كتاب الله الا العمد والخطأ فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا وجعله من قسم
العمد وحكي عنه مثل قول الجماعة وهو الصواب لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في
بطونها أولادها " رواه أبو داود وفي لفظ " قتيل خطأ العمد " وهذا نص يقدم على ما ذكره وقسمه
أبو الخطاب أربعة أقسام فزاد قسما رابعا ما أجري مجرى الخطأ نحو أن ينقلب نائم على شخص
فيقتله أو يقع عليه من علو والقتل بالسبب كحفر البئر ونصل السكين وقتل غير المكلف أجري
320

الخطأ وإن كان عمدا وهذه الصورة التي ذكرها عند الأكثرين من قسم الخطأ فإن صاحبها لم
يعمد الفعل أو عمده وليس هو من أهل القصد الصحيح فسموه خطأ فاعطوه حكمه وقد صرح الخرقي
بذلك فقال في الصبي والمجنون عمدهما خطأ
(مسألة) قال (فالعمد ما ضربه بحديدة أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط أو
حجر كبير الغالب أن يقتل مثله أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة أو فل به فعلا الغالب من
ذلك الفعل أنه يتلف)
وجملة ذلك أن العمد نوعان: (أحدهما) أن يضربه بمحدد وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين والسنان وما في معناه
مما يحدد فيجرح من الحديد والنحاس والرصاص والذهب والفضة والزجاج والحجر والقصب والخشب
فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا فمات فهو قتل عمد لا خلاف فيه بين العلماء فيما علمناه، فاما ان جرحه
جرحا صغيرا كشرطة الحجام أو غرزة بإبرة أو شوكة نظرت، فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة
والصدغ وأصل الاذن فمات فهو عمد أيضا لأن الإصابة بذلك في المقتل كالجرح بالسكين في غير
المقتل وإن كان في غير مقتل نظرت فإن كان قد بالغ في إدخالها في البدن فهو كالجرح الكبير لأن
321

هذا يشتد ألمه ويفضي إلى القتل كالكبير، وإن كان الغور يسيرا أو جرحه بالكبير جرحا لطيفا
كشرطة الحجام فما دونها فقال أصحابنا ان بقي من ذلك ضمنا حتى مات ففيه القود
لأن الظاهر أنه مات منه وان مات في الحال ففيه وجهان (أحدهما) لا قصاص فيه قاله ابن حامد
لأن الظاهر أنه لم يمت منه ولأنه لا يقتل غالبا فأشبه العصا والسوط، والتعليل الأول أجود
لأنه لما احتمل حصول الموت بغيره ظاهرا كان ذلك شبهة في درء القصاص ولو كانت العلة كونه
لا يحصل به القتل غالبا لم يفترق الحال بين موته في الحال وموته متراخيا عنه كسائر ما لا يجب به
القصاص (والثاني) فيه القصاص لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل به بدليل ما لو
قطع شحمة اذنه، أو قطع أنملته، ولأنه لما لم يمكن إدارة الحكم وضبطه بغلبة الظن وجب ربطه بكونه
محددا ولا يعتبر ظهور الحكم في آحاد صور المظنة بل يكفي احتمال الحكمة ولذلك ثبت الحكم به فيما
إذا بقي ضمنا مع أن العمد لا يختلف مع اتحاد الآلة والفعل بسرعة الافضاء وابطائه، ولان في البدن
مقاتل خفية وهذا له سراية مور فأشبه الجرح الكبير وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يفرق بين
الصغير والكبير وهو مذهب أبي حنيفة وللشافعي من التفصيل مما ذكرنا
(النوع الثاني) القتل بغير المحدد مما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهذا عمد
موجب للقصاص أيضا، وبه قال النخعي والزهري وابن سيرين وحماد وعمرو بن دينار وابن أبي
322

ليلى ومالك والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وقال الحسن لا قود في ذلك وروي ذلك عن
الشعبي وقال ابن المسيب وعطاء وطاوس العمد ما كان بالسلاح وقال أبو حنيفة لا قود في ذلك الا
أن يكون قتله بالنار وعنه في مثقل الحديد روايتان، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الا إن في قتيل عمد
الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل " فسماه عمد الخطأ وأوجب فيه الدية دون القصاص
ولان العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب ضبطه بمظنته ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالبا لحصول العمد
بدونه في الجرح الصغير فوجب ضبطه بالجرح
ولنا قول الله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) وهذا مقتول ظلما، وقال الله
تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى)
وروى أنس ان يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين
متفق عليه وروى أبو هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين
اما يودى واما أن يقاد " متفق عليه ولأنه يقتل غالبا فأشبه المحدد، وأما الحديث فمحمول على
المثقل الصغير لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر فدل على أنه أراد ما يشبههما، وقولهم لا
يمكن ضبطه ممنوع فإننا نوجب القصاص بما نتيقن حصول الغلبة به فإذا شككنا لم نوجبه مع الشك
وصغير الجرح قد سبق القول فيه ولأنه لا يصح ضبطه بالجرح بدليل ما لو قتله بالنار أو بمثقل الحديد
إذا ثبت هذا فإن هذا النوع يتنوع أنواعا
323

(أحدها) أن يضربه بمثقل كبير يقتل مثله غالبا سواء كان من حديد كاللت والسندان والمطرقة
أو حجر ثقيل أو خشبة كبيرة، وحد الخرقي الخشبة الكبيرة بما فوق عمود الفسطاط يعني العمد
التي يتخذها الاعراب لبيوتها وفيها دقة، فأما عمد الخيام فكبيرة تقبل غالبا فلم يردها الخرقي، وإنما
حد الموجب للقصاص بما فوق عمود الفسطاط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المرأة التي ضربت جاريتها
بعمود فسطاط فقتلتها وجنينها قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة وقضى بالدية على عاقلتها، والعاقلة
لا تحمل العمد فدل على أن القتل بعمود الفسطاط ليس بعمد، وإن كان أعظم منه فهو عمد لأنه يقتل
غالبا، ومن هذا النوع أن يلقي عليه حائطا أو صخرة أو خشبة عظيمة أو ما أشبه مما يهلكه غالبا
فيهلكه ففيه القود لأنه يقتل غالبا
(النوع الثاني) أن يضربه بمثقل صغير كالعصى والسوط والحجر الصغير أو يلكزه بيده في
مقتل أو في حال ضعف من المضروب لمرض أو صغر أو في زمن مفرط الحر أو البرد بحيث تقتله
تلك الضربة أو كرر الضرب حتى قتله بما يقتل غالبا ففيه القود لأنه قتله بما يقتل مثله غالبا فأشبه
الضرب بمثقل كبير، ومن هذا النوع لو عصر خصيته عصرا شديدا فقتله بعصر يقتل مثله غالبا
فعليه القود، وإن لم يكن كذلك في جميع ما ذكرناه فهو عمد الخطأ وفيه الدية إلا أن يصغر جدا كالضربة
بالقلم والإصبع في غير مقتل ونحو هذا مما لا يتوهم القتل به فلا قود فيه ولا دية لأنه لم يمت به وكذلك أن مسه
بالكبير ولم يضربه به لأن الدية إنما تجب بالقتل وليس هذا بقتل
324

(النوع الثالث) أن يمنع خروج نفسه وهو ضربان (أحدهما) أن يجعل في عنقه خراطة ثم
يعلقه في خشبة أو شئ بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت فهذا عمد سواء مات في الحال أو بقي
زمنا لأن أوحى أنواع الخنق وهو الذي جرت العادة بفعله من الولاة في اللصوص وأشباههم
من المفسدين (والضرب الثاني) أن يخنقه وهو على الأرض بيديه أو منديل أو حبل أو يغمه بوسادة
أو شئ يضعه على فيه وأنفه أو يضع يديه عليهما فيموت فهذا ان فعل به ذلك مدة يموت في مثلها
غالبا فمات فهو عمد فيه القصاص، وبه قال عمر بن عبد العزيز والنخعي والشافعي، وان فعله في مدة
لا يموت في مثلها غالبا فمات فهو عمد الخطأ إلا أن يكون ذلك يسيرا في العادة بحيث لا يتوهم الموت
منه فلا يوجب ضمانا لأنه بمنزلة لمسه، وان خنقه وتركه مثلا حتى مات ففيه القود لأنه مات من
سراية جنايته فهو كالميت من سراية الجرح وان تنفس وصح ثم مات فلا قود لأن الظاهر أنه لم
يمت منه فأشبه ما لو اندمل الجرح ثم مات
(النوع الرابع) أن يلقيه في مهلكة وذلك على أربعة أضرب (أحدهما) أن يلقيه من شاهق
كرأس جبل أو حائط عال يهلك به غالبا فيموت فهو عمد (الثاني) أن يلقيه في نار أو ماء يغرقه،
ولا يمكنه التخلص منه اما لكثرة الماء أو النار واما لعجزه عن التخلص لمرض أو صغر أو كونه
325

مربوطا أو منعه الخروج أو كونه في حفيرة لا يقدر على الصعود منها ونحو هذا أو ألقاه في بئر ذات
نفس فمات به عالما بذلك فهذا كله عمد لأنه يقتل غالبا، وان ألقاه في ماء يسير يقدر على الخروج منه
فلبث فيه اختيارا حتى مات فلا قود فيه ولا دية لأن هذا الفعل لم يقتله، وإنما حصل موته بلبثه
فيه وهو فعل نفسه فلم يضمنه غيره، وان تركه في نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو كونه في طرف
منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود لأن هذا لا يقتل غالبا وهل يضمنه؟
فيه وجهان (أحدهما) لا يضمنه لأنه مهلك لنفسه بإقامته فلم يضمنه كما لو ألقاه في ماء يسير لكن يضمن
ما أصابت النار منه (والثاني) يضمنه لأنه جان بالالقاء المفضي إلى الهلاك، وترك التخلص لا يسقط
الضمان كما لو فصده فترك شد فصاده مع امكانه أو جرحه فترك مداواة جرحه، وفارق الماء لأنه
لا يهلك بنفسه ولهذا يدخله الناس للغسل والسباحة والصيد، وأما النار فيسيرها يهلك وإنما تعلم
قدرته على التخلص بقوله انا قادر على التخلص أو نحو هذا لأن النار لها حرارة شديدة فربما أزعجته
حرارتها عن معرفة ما يتخلص به أو أذهبت عقله بألمها وروعتها، وان ألقاه في لجة لا يمكنه التخلص
منها فالتقمه حوت ففيه وجهان (أحدهما) عليه القود لأنه ألقاه في مهلكة فهلك فأشبه ما لو غرق
فيها (والثاني) لا قود عليه لأنه لم يهلك بها أشبه ما لو قتله آدمي آخر، وان ألقاه في ماء يسير فأكله
سبع أو التقمه حوت أو تمساح فلا قود عليه لأن الذي فعله لا يقتل غالبا وعليه ضمانه لأنه هلك بفعله
326

(الضرب الثالث) ان يجمع بينه وبين أسد أو نمر في مكان ضيق كزبية ونحوها فيقتله فهذا
عمد فيه القصاص إذا فعل السبع به فعلا يقتل مثله، وان فعل به فعلا لو فعله الآدمي لم يكن عمدا لم
يجب القصاص به لأن السبع صار آلة للآدمي فكان فعله كفعله، وان ألقاه مكتوفا بين يدي الأسد
أو النمر في فضاء فأكله فعليه القود وكذلك أن جمع بينه وبين حية في مكان ضيق فنهشته فقتلته
فعليه القود، وقال القاضي لا ضمان عليه في الصورتين وهو قول أصحاب الشافعي لأن الأسد والحية
يهربان من الآدمي ولان هذا سبب غير ملجئ
ولنا أن هذا يقتل غالبا فكان عمدا محضا كسائر الصور، وقولهم انهما يهربان غير صحيح فإن
الأسد يأخذ الآدمي المطلق فكيف يهرب من مكتوف ألقي إليه ليأكله؟ والحية إنما تهرب في
مكان واسع أما إذا ضاق المكان فالغالب انها تدفع عن نفسها بالنهش على ما هو العادة
وقد ذكر القاضي فيمن ألقي مكتوفا في أرض مسبعة أو ذات حياة فقتلته ان في وجوب
القصاص روايتين وهذا تناقض شديد فإنه نفى الضمان بالكلية في صورة كان القتل فيها أغلب
وأوجب القصاص في صورة كان فيها أندر، والصحيح انه لا قصاص ههنا ويجب الضمان لأنه فعل به
فعلا معتمدا تلف به لا يقتل مثله غالبا، وان انهشه حية أو سبعا فقتله فعليه القود إذا كان ذلك مما
يقتل غالبا فإن كان مما لا يقتل غالبا كثعبان الحجاز أو سبع صغير ففيه وجهان (أحدهما) فيه القود لأن
327

الجرح لا يعتبر فيه غلبة حصول القتل به وهذا جرح ولان الحية من جنس ما يقتل غالبا (والثاني)
هو شبيه العمد لأنه لا يقتل غالبا أشبه الضرب بالعصا والحجر. وان كتفه وألقاه في ارض غير مسبعة
فأكله سبع أو نهشته حية فمات فهو شبه العمد، وقال أصحاب الشافعي هو خطأ محض
ولنا أنه فعل به فعلا لا يقتل مثله غالبا عمدا فأفضى إلى هلاكه أشبه ما لو ضربه بعصا فمات،
وكذلك أن ألقاه مشدودا في موضع لم يعد وصول زيادة الماء إليه. فأما إن كان في موضع يعلم وصول
زيادة الماء إليه في ذلك الوقت فمات بها فهو عمد محض وان كانت غير معلومة إما لكونها تحتمل
الوجود وعدمه أو لا تعهد أصلا فهو شبه عمد
(الضرب الرابع) أن يحبسه في مكان ويمنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها حتى يموت
فعليه القود لأن هذا يقتل غالبا وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال فإذا كان عطشان
في شدة الحر مات في الزمن القليل وإن كان ريان والزمن بارد أو معتدل لم يمت إلا في زمن طويل
فيعتبر هذا فيه وإن كان في مدة يموت في مثلها غالبا ففيه القرد، وإن كان لا يموت في مثلها غالبا ففيه القود
وإن كان لا يموت في مثلها غالبا فهو عمد الخطأ وان شككنا فيها لم يجب القرد لأننا شككنا في
السبب ولا يثبت الحكم مع الشك في سببه سيما القصاص الذي يسقط بالشبهات
(النوع الخامس) أن يسقيه سما أو يطعمه شيئا قاتلا فيموت به فهو عمد موجب للقود إذا كان
مثله يقتل غالبا، وان خلطه بطعام وقدمه إليه فأكله أو أهداه إليه أو خلطه بطعام رجل ولم
328

ذلك فأكله فعليه القود لأنه يقتل غالبا. وقال الشافعي في أحد قوليه لا قود عليه لأنه أكله مختارا
فأشبه ما لو قدم إليه سكينا فطعن بها نفسه. ولان انس بن مالك روى أن يهودية أتت رسول الله
صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتلها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال يجب القود؟ فيه قولان
ولنا خبر اليهودية فإن أبا سلمة قال فيه: فمات بشر بن البراء فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت.
أخرجه أبو داود ولان هذا يقتل غالبا ويتخذ طريقا إلى القتل كثيرا فأوجب القصاص كما لو أكرهه
على شربه، فأما حديث أنس فلم يذكر فيه ان أحدا مات منه. ولا يجب القصاص إلا أن يقتل به
ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر بن البراء فلما مات ارسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم
فسألها فاعترفت فقتلها، فنقل أنس صدر القصة دون آخرها ويتعين حمله جميعا بين الخبرين،
ويجوز أن يترك قتلها لكونها ما قصدت بشر بن البراء إنما قصدت قتل النبي صلى الله عليه وسلم فاختل العمد
بالنسبة إلى بشر، وفارق تقديم السكين لأنها لا تقدم إلى إنسان ليقتل بها نفسه إنما تقدم إليه لينتفع
بها وهو عالم بمضرتها ونفعها فأشبه ما لو قدم إليه السم وهو عالم به. فأما ان خلط السم بطعام نفسه
وتركه في منزله فدخل انسان فأكله فليس عليه ضمان بقصاص ولا دية لأنه لم يقتله وإنما الداخل
قتل نفسه فأشبه ما لو حفر في داره بئرا فدخل رجل فوقع فيها وسواء قصد بذلك قتل الآكل مثل
أن يعلم ظالما يريد هجوم داره فترك السم في الطعام ليقتله فهو كما لو حفر بئرا في داره ليقع فيها اللص
329

إذا دخل ليسرق منها. ولو دخل رجل باذنه فأكل الطعام المسموم بغير اذنه لم يضمنه لذلك.
وإن خلطه بطعام رجل أو قدم إليه طعاما مسموما وأخبره بسمه فأكله لم يضمنه لأنه أكله عالما بحاله
فأشبه ما لو قدم إليه سكينا فوجأ بها نفسه. وإن سقى انسانا سما أو خلطه بطعامه فأكله ولم يعلم به
وكان مما لا يقتل مثله غالبا فهو شبه عمد. فإن اختلف فيه هل يقتل مثله غالبا أولا؟ وثم بينة تشهد عمل
بها وان قالت البينة هو يقتل النضو الضعيف دون القوي أو غير هذا عمل على حسب ذلك. وان
لم يكن مع أحدهما بينة فالقول قول الساقي لأن الأصل عدم وجوب القصاص فلا يثبت بالشك ولأنه
أعلم بصفة ما سقى. وإن ثبت انه قاتل فقال لم أعلم أنه قاتل ففيه وجهان (أحدهما) عليه القود لأن السم
من جنس ما يقتل به غالبا فأشبه ما لو جرحه وقال لم اعلم أنه يموت منه (والثاني) لا قود عليه لأنه يجوز
أن يخفى عليه أنه قاتل وهذه شبهة يسقط بها القود
(النوع السادس) أن يقتله بسحر يقتل غالبا فيلزمه القود لأنه قتله بما يقتل غالبا فأشبه ما
لو قتله بسكين، وإن كان مما لا يقتل غالبا أو كان مما يقتل ولا يقتل ففيه الدية دون القصاص
لأنه عمد الخطأ فأشبه ضرب العصا
(النوع السابع) أن يتسبب إلى قتله بما يقتل غالبا وذلك أربعة أضرب (أحدها) أن يكره
رجلا على قتل آخر فيقتله فيجب القصاص على المكره والمكره جميعا وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة
ومحمد يجب القصاص على المكره دون المباشر لقوله عليه الصلاة والسلام " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما
330

استكرهوا عليه ولان المكره آلة للمكره بدليل وجوب القصاص على المكره ونقل فعله إليه فلم يجب
على المكره كما لو رمى به عليه فقتله، وقال زفر يجب على المباشر دون المكره لأن المباشرة تقطع
حكم السبب كالحافر مع الدافع والآمر مع القاتل. وقال الشافعي يجب على المكره وفي المكره
قولان، وقال أبو يوسف لا يجب على واحد منهما لأن المكره لم يباشر القتل فهو كحافر البئر والمكره
ملجأ فأشبه المرمي به على انسان
ولنا على وجوبه على المكره أنه تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبا فأشبه ما لو السعة حية أو
ألقاه على أسد في زبية
ولنا على وجوبه على المكره أنه قتله ظلما لاستبقاء نفسه فأشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله
وقولهم ان المكره ملجأ غير صحيح فإنه متمكن من الامتناع ولذلك أثم بقتله وحرم عليه وإنما قتله عند
الاكراه ظنا منه أن في قتله نجاة نفسه وخلاصه من شر المكره فأشبه القاتل في المخمصة ليأكله،
وإن صار الامر إلى الدية وجبت عليهما وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومحمد لا دية على المكره بناء
منهما على أنه آلة وقد بينا فساده وإنما هما شريكان يجب القصاص عليهما جميعا فوجبت الدية عليهما
كالشريكين بالفعل وكما يجب الجزاء على الدال على الصيد في الاحرام والمباشر والردء كالمباشر في
المحاربة فعلى هذا إن أحب الولي قتل أحدهما وأخذ نصف الدية من الآخر أو العفو عنه فله ذلك
331

(الضرب الثاني) إذا شهد رجلان على رجل بما يوجب قتله فقتل بشهادتهما ثم رجعا واعترفا
بتعمد القتل ظلما وكذبهما في شهادتهما فعليهما القصاص وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قصاص
عليهما لأنه تسبب غير ملجئ فلا يوجب القصاص كحفر البئر
ولنا ما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق
فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال علي لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده ولأنهما
توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فوجب عليهما القصاص كالمكره
(الضرب الثالث) الحاكم إذا حكم على رجل بالقتل عالما بذلك متعمدا فقتله واعترف بذلك
وجب القصاص والكلام فيه كالكلام في الشاهدين ولو أن الولي الذي باشر قتله أقر بعلمه بكذب
الشهود وتعمد قتله فعليه القصاص لا أعلم فيه خلافا فإن أمر الشاهدان والحاكم والولي جميعا بذلك فعلى
الولي قصاص لأنه باشر القتل عمدا وعدوانا وينبغي أن لا يجب على غيره شئ لأنهم متسببون
والمباشرة تبطل حكم السبب كالدافع مع الحافر ويفارق هذا ما إذا لم يقر لأنه لم يثبت حكم مباشرة
القتل في حقه ظلما فكان وجوده كعدمه ويكون القصاص على الشاهدين والحاكم لأن الجميع متسببون
وإن صار الامر إلى الدية فهي عليهم أثلاثا ويحتمل أن يتعلق الحكم بالحاكم وحده لأن تسببه أخص
من تسببهم فإن حكمه واسطة بين شهادتهم وقتله فأشبه المباشر مع المتسبب، ولو كان الولي المقر
332

بالتعمد لم يباشر القتل وإنما وكل فيه نظرت في الوكيل فإن أقر بالعلم وتعمد القتل ظلما فهو القاتل
وحده لأنه مباشر للقتل عمدا ظلما من غير إكراه فتعلق الحكم كما لو أمر بالقتل في غير هذه الصورة
وان لم يعترف بذلك. فالحكم متعلق بالولي كما لو باشره والله أعلم
" مسألة " (قال ففيه القود إذا اجتمع عليه الأولياء وكان المقتول حرا مسلما)
أجمع العلماء على أن القود لا يجب الا بالعمد ولا نعلم بينهم في وجوبه بالقتل العمد إذا اجتمعت
شروطه خلافا وقد دلت عليه الآيات والاخبار بعمومها فقال الله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) وقال تعالى (كتب عليكم القصاص في القتل) وقال تعالى (ولكم
في القصاص حياة) يريد والله أعلم أن وجوب القصاص يمنع من يريد القتل منه شفقة على نفسه من
القتل فتبقى الحياة فيمن أريد قتله وقيل إن القاتل تنعقد العداوة بينه وبين قبيلة المقتول فيريد قتلهم
خوفا منهم ويريدون قتله وقتل قبيلته استيفاء ففي الاقتصاص منه بحكم الشرع قطع لسبب الهلاك
بين القبيلتين وقال الله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
" من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدى " متفق عليه
333

وروى أبو شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أصيب بدم أو خبل فهو بالخيار
بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية " رواه أبو داود
وفي لفظ " فمن قتل له بعد مقالتي قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا الدية أو يقتلوا " وقال عليه
السلام " العمد قود إلا أن يعفوا ولي المقتول " وفي لفظ " من قتل عامدا فهو قود " رواه أبو داود
وفي لفظ رواه ابن ماجة " من قتل عامدا فهو قود ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل " وقول الخرقي إذا اجتمع عليه الأولياء يعني إذا كان
للمقتول أولياء يستحقون القصاص فمن شرط وجوبه اجتماعهم على طلبه، ولو عفى واحد منهم سقط كله، وإن
كان بعضهم غائبا أو غير مكلف لم يكن لشركائه القصاص حتى يقدم الغائب ويختار القصاص أو يوكل ويبلغ
الصبي ويفيق المجنون ويختاراه، وقولهم إذا كان المقتول حرا مسلما يعنى مكافئا للقاتل فإذا كان القاتل حرا
مسلما اشترط كون المقتول حرا مسلما لتحقق المكافئة بينهما فإن الكافر لا يكافئ المسلم والعبد لا يكافئ الحر
(فصل) وأجمع أهل العلم على أن الحر المسلم يقاد به قاتله وإن كان مجدع الأطراف معدوم
الحواس والقاتل صحيح سوي الخلق أو كان بالعكس وكذلك إن تفاوتا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة والمرض والقوة والضعف والكبر والصغر والسلطان والسوقة ونحو هذا من الصفات
لم يمنع القصاص بالاتفاق وقد دلت عليه العمومات التي تلوناها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون
334

تكافأ دماءهم " ولان اعتبار التساوي في الصفات والفضائل يفضي إلى اسقاط القصاص بالكلية
وفوات حكمة الردع والزجر فوجب أن يسقط اعتباره كالطول والقصر والسواد والبياض
(فصل) ولا يشترط في وجوب القصاص كون القتل في دار الاسلام بل متى قتل في دار الحرب
مسلما عامدا عالما باسلامه فعليه القود سواء كان قد هاجر أو لم يهاجر، وبهذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة لا يجب القصاص بالقتل في غير دار الاسلام فإن لم يكن المقتول هاجر لم يضمنه
بقصاص ولا دية عمدا قتله أو خطأ وإن كان قد هاجر ثم عاد إلى دار الحرب كرجلين مسلمين
دخلا دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه ضمنه بالدية ولم يجب القود وحكي عن أحمد رواية
كقوله ولو قتل رجلا أسيرا مسلما في دار الحرب لم يضمنه الا بالدية عمدا قتله أو خطأ
ولنا ما ذكرنا من الآيات والاخبار ولأنه قتل من يكافئه عمدا ظلما فوجب عليه القود كما لو قتله
في دار الاسلام ولان كل دار يجب فيها القصاص إذا كان فيها إمام يجب وان لم يكن فيها
إمام كدار الاسلام.
(فصل) وقتل الغيلة وغيره سواء في القصاص والعفو وذلك للولي دون السلطان، وبه قال أبو
حنيفة والشافعي وابن المنذر وقال مالك الامر عندنا أن يقتل به وليس لولي الدم أن يعفو عنه وذلك
إلى السلطان والغيلة عنده أن يخدع الانسان فيدخل بيتا أو نحوه فيقتل أو يؤخذ ماله ولعله يحتج
بقول عمر في الذي قتل غيلة لو تمالا عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وبقياسه على المحارب
335

ولنا عموم قوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فأهله بين خيرتين " ولأنه قتيل
في غير المحاربة فكان أمره إلى وليه كسائر القتلى وقول عمر لأقدتهم به أي أمكنت الولي من
استيفاء القود منهم.
(فصل) وإذا قتل رجلا وادعى أنه وجده مع امرأته أو انه قتله دفعا عن نفسه أو انه دخل
منزله يكابره على ماله فلم يقدر على دفعه الا بقتله لم يقبل قوله الا ببينة ولزمه القصاص، روي نحو
ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر ولا أعلم فيه مخالفا وسواء وجد
في دار القاتل أو في غيرها أو وجد معه سلاح أو لم يوجد لما روي عن علي رضي الله عنه انه سئل
عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله فقال إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته ولان الأصل عدم
ما يدعيه فلا يثبت بمجرد الدعوى وإن اعترف الولي بذلك فلا قصاص عليه ولا دية لما روي عن
عمر رضي الله عنه أنه كان يوما يتغدى إذ جاءه رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم ووراءه قوم
يعدون خلفه فجاء حتى جاء جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالوا يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا فقال
له عمر ما يقولون؟ فقال يا أمير المؤمنين اني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته
فقال عمر ما يقول؟ قالوا يا أمير المؤمنين انه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل فخذي المرأة فاخذ
عمر سيفه فهزه ثم دفعه إليه وقال إن عادوا فعد رواه سعيد في سننه، وروي عن الزبير أنه كان يوما
336

قد تخلف عن الجيش ومعه جارية له فأتاه رجلان فقالا أعطنا شيئا فألقى إليهما طعاما كان معه فقالا
خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة، ولان الخصم اعترف بما يبيح قتله فسقط
حقه كما لو أقر بقتله قصاصا أو في حد يوجب قتله وان ثبت ذلك ببينة فكذلك
(مسألة) قال (وشبه العمد ما ضربه بخشبة صغيرة أو حجر صغير أو لكزة أو فعل
به فعلا الأغلب من ذلك الفعل أنه لا يقتل مثلة فلا قود في هذا والدية على العاقلة)
شبه العمد أحد أقسام القتل وهو أن يقصد ضربه بما لا يقتل غالبا إما لقصد العدوان عليه
أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير والوكز واليد وسائر
ما لا يقتل غالبا إذا قتل فهو شبه عمد لأنه قصد الضرب دون القتل ويسمى عمد الخطأ وخطأ العمد
لاجتماع العمد والخطأ فيه فإنه عمد الفعل وأخطأ في القتل فهذا لا قود فيه والدية على العاقلة في قول
أكثر أهل العلم، وجعله مالك عمدا موجبا للقصاص ولأنه ليس في كتاب الله الا العبد والخطأ فمن
زاد قسما ثالثا زاد على النص ولأنه قتله بفعل عمده فكان عمدا كما لو غرزه بإبرة فقتله وقال أبو
بكر من أصحابنا تجب الدية في مال القاتل وهو قول ابن شبرمة لأنه موجب فعل عمد فكان في مال
القاتل كسائر الجنايات
337

ولنا ما روى أبو هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها
وما في بطنها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها متفق
عليه، فأوجب ديتها على العاقلة والعاقلة لا تحمل عمدا، وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الا إن في قتيل خطأ
العمد قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل " وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عقل شبه
العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه " رواه أبو داود وهذا نص، وقوله هذا قسم
ثالث قلنا نعم هذا ثبت بالسنة والقسمان الأولان ثبتا بالكتاب ولأنه قتل لا يوجب القود فكانت
ديته على العاقلة كقتل الخطأ
(مسألة) (قال والخطأ على ضربين أحدهما ان يرمى الصيد أو يفعل ما يجوز له
قتله فيؤل إلى اتلاف حر مسلما كان أو كافرا فتكون الدية على عاقلته وعلى عتق رقبة مؤمنة)
وجملته أن الخطأ أن يفعل فعلا لا يريد به إصابة المقتول فيصيبه ويقتله مثل أن يرمي صيدا
أو هدفا فيصيب انسانا فيقتله قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن القتل الخطأ
أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره لا أعلمهم يختلفون فيه هذا قول عمر بن عبد العزيز وقتادة
والنخعي والزهري وابن شبرمة والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي فهذا الضرب من الخطأ
338

تجب به الدية على العاقلة والكفارة في مال القاتل بغير خلاف نعلمه، والأصل في وجوب الدية والكفارة قول
الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله الا أن يصدقوا) وسواء كان المقتول
مسلما أو كافرا له عهد لقول الله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله
وتحرير رقبة مؤمنة) ولا قصاص في شئ من هذا لأن الله تعالى أوجب به الدية ولم يذكر قصاصا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه لم يوجب القصاص
في عمد الخطأ ففي الخطأ أولى
(فصل) وان قصد فعلا محرما فقتل آدميا مثل أن يقصد قتل بهيمة أو آدميا معصوما فيصيب
غيره فيقتله فهو خطأ أيضا لأنه لم يقصد قتله وهذا مذهب الشافعي، وكذلك قال ابن المنذر أجمع كل
من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره، ويتخرج على قول
أبي بكر أن هذا عمد لقوله فيمن رمى نصرانيا فلم يقع به السهم حتى أسلم أنه عمد يجب به القصاص
لكونه قصد فعلا محرما قتل به انسانا
339

(مسألة قال (والضرب الثاني أن يقتل في بلاد الروم من عنده أنه كافر ويكون قد
أسلم وكتم اسلامه إلى أن يقدر على التخلص إلى أرض الاسلام فيكون عليه في ماله عتق
رقبة مؤمنة بلا دية لقول الله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير
رقبة مؤمنة)
هذا الضرب الثاني من الخطأ وهو أن يقتل في أرض الحرب من يظنه كافرا ويكون مسلما
ولا خلاف في أن هذا خطأ لا يوجب قصاصا لأنه لم يقصد قتل مسلم فأشبه ما لو ظنه صيدا فبان
آدميا إلا أن هذا لا تجب به دية أيضا ولا يجب إلا الكفارة، وروي هذا عن ابن عباس وبه
قال عطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والأوزاعي والثوري وأبو ثور وأبو حنيفة، وعن أحمد رواية
أخرى تجب به الدية والكفارة وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وقال عليه السلام " ألا إن في قتل خطأ العمد قتيل السوط
والعصا مائة من الإبل " ولأنه قتل مسلما خطأ فوجبت ديته كما لو كان في دار الاسلام
ولنا قول الله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ولم يذكر دية وتركه
340

ذكرها في هذا القسم مع ذكرها في الذي قبله وبعده ظاهر في أنها غير واجبة وذكره لهذا قسما مفردا يدل
على أنه لم يدخل في عموم الآية التي احتجوا بها ويخص بها عموم الخبر الذي رووه
(مسألة) قال (ولا يقتل مسلم بكافر)
أكثر أهل العلم لا يوجبون على مسلم قصاصا بقتل كافر أي كافر كان. روي ذلك عن عمر
وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن
وعكرمة والزهري وابن شبرمة ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور
وابن المنذر، وقال النخعي والشعبي وأصحاب الرأي يقتل المسلم بالذمي خاصة قال احمد: الشعبي والنخعي
قالا دية المجوسي واليهودي والنصراني مثل دية المسلم وإن قتله يقتل به هذا عجب يصير المجوسي مثل
المسلم سبحان الله ما هذا القول؟ واستبشعه وقال: النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا يقتل مسلم بكافر " وهو يقول
يقتل بكافر فأي شئ أشد من هذا؟ واحتجوا بالعمومات التي ذكرناها في أول الباب، وبما روى ابن
البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلما بذمي وقال " أنا أحق من وفى بذمته " ولأنه معصوم عصمة
مؤبدة فيقتل به قاتله كالمسلم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر "
341

رواه الإمام أحمد وأبو داود، وفي لفظ (لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري وأبو داود، وعن علي
رضي الله عنه قال من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر رواه الإمام أحمد ولأنه منقوص بالكفر فلا يقتل
به المسلم كالمستأمن، والعمومات مخصوصات بحديثنا، وحديثهم ليس له اسناد قاله أحمد وقال الدارقطني
يرويه ابن البيلماني وهو ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل؟ والمعنى في المسلم أنه مكافئ للمسلم بخلاف
الذمي؟ فأما المستأمن فوافق أبو حنيفة الجماعة في أن المسلم لا يقاد به وهو المشهور عن أبي يوسف،
وعنه يقتل به لما سبق في الذمي. ولنا أنه ليس بمحقون الدم على التأبيد فأشبه الحربي مع ما ذكرنا
من الدليل في التي قبلها
(فصل) فإن قتل كافر كافرا ثم أسلم القاتل أو جرحه ثم أسلم الجارح ومات المجروح فقال
أصحابنا يقتص منه وهو قول الشافعي لأن القصاص عقوبة فكان الاعتبار فيها بحال وجوبها دون
حال استيفائها كالحدود ولأنه حق وجب عليه قبل اسلامه فلم يسقط باسلامه كالدين ويحتمل أن
لا يقتل به وهو قول الأوزاعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقتل مسلم بكافر " ولأنه مؤمن فلا يقتل
بكافر كما لو كان مؤمنا حال قتله، ولان اسلامه لو قارن السبب منع عمله فإذا طرأ سقط حكمه
(فصل) وإن جرح مسلم كافرا فأسلم المجروح ثم مات مسلما بسراية الجرح لم يقتل به قاتله لأن
التكافؤ معدوم حال الجناية وعليه دية مسلم لأن اعتبار الأرش بحالة استقرار الجناية بدليل ما لو قطع
342

يدي رجل ورجليه فسرى إلى نفسه دية واحدة، ولو اعتبر حال الجرح وجب ديتان، ولو قطع حر
يد عبد ثم عتق ومات لم يجب قصاص لعدم التكافؤ حال الجناية وعلى الجاني دية حر اعتبارا بحال
الاستقرار وهذا قول ابن حامد وهو مذهب الشافعي. وللسيد أقل الأمرين من نصف قيمته أو
نصف دية حر والباقي لورثته لأن نصف قيمته إن كانت أقل فهي التي وجدت في ملكه فلا يكون
له أكثر منها لأن الزائد حصل بحريته ولا حق له فيما حصل بها، وإن كان الأقل الدية لم يستحق
أكثر منها لأن نقص القيمة حصل بسبب من جهة السيد وإعتاقه. وذكر القاضي ان أحمد نص
في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم أعتق ومات ان على الجاني قيمته للسيد وهذا يدل على أن
الاعتبار بحال الجناية وهذا اختيار أبي بكر والقاضي وأبي الخطاب
قال أبو الخطاب من قطع يد ذمي ثم أسلم ومات ضمنه بدية ذمي ولو قطع يد عبد فأعتقه سيده
ومات فعلى الجاني قيمته للسيد لأن حكم القصاص معتبر بحال الجناية دون حال السراية فكذلك
الدية، والأول أصح إن شاء الله سراية الجرح مضمونة فإذا أتلفت حرا مسلما وجب ضمانه بدية
كاملة كما لو قتله بجرح ثان. وقول احمد فيمن فقأ عيني عبد عليه قيمته للسيد لا خلاف فيه وإنما
الخلاف في وجوب الزائد على القيمة من دية الحر للورثة ولم يذكره أحمد، ولان الواجب مقدر بما
تفضي إليه السراية دون ما تتلفه الجناية بدليل ان من قطعت يداه ورجلاه فسرى القطع إلى نفسه لم
343

يلزم الجاني أكثر من دية ولو قطع أصبعا فسرى إلى نفسه لوجبت الدية كاملة فكذلك إذا سرت
إلى نفس حر مسلم تجب ديته كاملة، فأما ان جرح مرتدا أو حربيا فسرى الجرح إلى نفسه فلا
قصاص فيه ولا دية سواء أسلم قبل السراية أو لم يسلم لأن الجرح غير مضمون فلم يضمن سرايته بخلاف التي قبلها
(فصل) ولو قطع يد مسلم فارتد ثم مات بسراية الجرح لم يجب في النفس قصاص ولا دية ولا
كفارة لأنها نفس مرتد غير معصوم ولا مضمون، وكذلك لو قطع يد ذمي فصار حربيا ثم مات
من جراحه. وأما اليد فالصحيح انه لا قصاص فيها، وذكر القاضي وجها في وجوب القصاص فيها
لأن القطع استقر حكمه بانقطاع حكم سرايته فأشبه ما لو قطع طرفه ثم قتله أو جاء آخر فقتله.
وللشافعي في وجوب القصاص قولان
ولنا انه قطع هو قتل لم يجب به القتل فلم يجب القطع كما لو قطع من غير مفصل، وفارق ما قاسوا
عليه فإن القطع لم يصر قتلا وهل تجب دية الطرف؟ فيه وجهان (أحدهما) لا ضمان فيه لأنه تبين انه
قتل لغير معصوم (والثاني) تجب لأن سقوط حكم سراية الجرح لا يسقط ضمانه كما لو قطع طرف
رجل ثم قتله آخر، فعلى هذا هل يجب ضمانه بدية المقطوع أو بأقل الامرين من ديته أو دية النفس؟
فيه وجهان (أحدهما) تجب دية المقطوع فلو قطع يديه ورجليه ثم ارتد ومات ففيه ديتان لأن الردة
قطعت حكم السراية فأشبه انقطاع حكمها باندمالها أو بقتل آخر له (والثاني) يجب أقل الأمرين لأنه
لو لم يرتد لم يجب أكثر من دية النفس فمع الردة أولى. ولأنه قطع صار قتلا فلم يجب أكثر من
344

دية كما لو يرتد وفارق أصل الوجه الأول فإنه لم يصر قتلا ولان الاندمال والقتل منع وجود السراية
والردة منعت ضمانها ولم تمنع جعلها قتلا، وللشافعي من التفصيل نحو مما قلنا
(فصل) وان قطع مسلم يد نصراني فتمجس وقلنا لا يقر فهو كما لو جنى على مسلم فارتد وان قلنا
يقر عليه وجبت دية مجوسي، وان قطع يد مجوسي فتنصر ثم مات وقلنا يقر وجبت دية نصراني
ويجئ على قول أبي بكر والقاضي أن تجب دية نصراني في الأولى ودية مجوسي في الثانية كقولهم فيمن
جنى على ذمي فأسلم وعتق ثم مات من الجناية ضمنه بقيمة عبد ذمي اعتبارا بحال الجناية
(فصل) وإن قطع يد مسلم فارتد ثم أسلم ومات وجب القصاص على قاتله نص عليه أحمد رحمه الله
في رواية محمد بن الحكم. وقال القاضي يتوجه عندي انه إن كان زمن الردة تسرى في مثله الجناية لم
يجب القصاص في النفس وهل يجب في الطرف الذي قطع في إسلامه؟ على وجهين وهذا مذهب الشافعي
لأن القصاص يجب بالجناية والسراية كلها فإذا لم يوجد جميعها في الاسلام لم يجب القصاص كما لو جرحه
جرحين أحدهما في الاسلام والآخر في الردة فمات منهما
ولنا انه مسلم حال الجناية والموت فوجب القصاص بقتله كما لو لم يرتد واحتمال السراية حال الردة
لا يمنع لأنها غير معلومة فلا يجوز ترك السبب المعلوم باحتمال المانع كما لو لم يرتد فإنه يحتمل أن يموت
بمرض أو بسبب آخر أو بالجرح مع شئ آخر يؤثر في الموت، فأما الدية فتجب كاملة، ويحتمل
345

وجوب نصفها لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة فوجب نصف الدية كما لو جرحه
إنسان وجرح نفسه فمات منهما، فأما إن كان زمن الردة لا تسري في مثله الجناية ففيه الدية أو
القصاص. وقال الشافعي في أحد قوليه لا قصاص فيه لأنه انتهى إلى حال لو مات لم يجب القصاص
ولنا انهما متكافئان حال الجناية والسراية والموت فأشبه ما لو لم يرتد وإن كان الجرح خطأ وجبت
الكفارة بكل حال لأنه فوت نفسا معصومة
(فصل) وان جرحه وهو مسلم فارتد ثم جرحه جرحا آخر ثم أسلم ومات منهما فلا قصاص
فيه لأنه مات من جرحين مضمون وغير مضمون ويجب فيه نصف الدية لذلك وسواء تساوى
الجرحان أو زاد أحدهما مثل أن قطع يديه وهو مسلم فارتد فقطع رجله أو كان بالعكس لأن الجرح
في الحالين كجرح رجلين. وهل يجب القصاص في الطرف الذي قطعه في حال إسلامه؟ يحتمل وجهين
بناء على من قطع طرفه وهو مسلم فارتد ومات في ردته ولو قطع طرفه في ردته أولا فأسلم ثم قطع طرفه
الآخر ومات منهما فالحكم فيه كالتي قبلها
(فصل) ويقتل الذمي بالمسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي الذي رض رأس جارية من الأنصار
على أوضاح لها ولأنه إذا قتل بمثله فبمن فوقه أولى. ويقتل الذمي بالذمي سواء اتفقت أديانهم أو
اختلف فلو قتل النصراني مجوسيا أو يهوديا قتل به نص عليه احمد في النصراني يقتل بالمجوسي إذا
346

قتله، قيل فكيف يقتل به وديتهما مختلفه؟ فقال أذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بامرأة يعني انه
قتله بها مع اختلاف ديتهما ولأنهما تكافأ في العصمة بالذمة ونقيصة الكفر. فجرى القصاص بينهما
كما لو تساوى دينهما وهذا مذهب الشافعي
فصل ولا يقتل ذمي بحربي لا نعلم فيه خلافا لأنه مباح الدم على الاطلاق أشبه الخنزير ولا دية
فيه لذلك ولا كفارة ولا يجب بقتل المرتد قصاص ولا دية ولا كفارة لذلك سواء قتله مسلم أو ذمي
وهو قول بعض أصحاب الشافعي. وقال بعض أصحاب الشافعي يجب القصاص على الذمي بقتله والدية
إذا عفا عنه لأنه لا ولاية له في قتله، وقال بعضهم يجب القصاص دون الدية لأنه لا قيمة له. ولنا انه مباح
الدم أشبه الحربي ولان من لا يضمنه المسلم لا يضمنه الذمي كالحربي
(فصل) وليس على قاتل الزاني المحصن قصاص ولا دية ولا كفارة وهذا ظاهر مذهب الشافعي
وحكى بعضهم وجها أن على قاتله القود لأن قتله الإمام فيجب القود على من قتله سواه كمن عليه
القصاص إذا قتله غير مستحقه
ولنا أنه مباح الدم وقتله متحتم فلم يضمن كالحربي، ويبطل ما قاله بالمرتد وفارق القاتل فإن قتله
غير متحتم وهو مستحق على طريق المعاوضة فاختص بمستحقه وههنا يجب قتله لله تعالى فأشبه المرتد
وكذلك الحكم في المحارب الذي تحتم قتله
347

(فصل) ويقتل المرتد بالمسلم والذمي ويقدم القصاص على القتل بالردة لأنه حق آدمي، وان عفا
عنه ولي القصاص فله دية المقتول فإن أسلم المرتد فهي في ذمته، وإن قتل بالردة أو مات تعلقت بماله
وان قطع طرفا من أحدهما فعليه القصاص فيه أيضا، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يقتل المرتد بالذمي
ولا يقطع طرفه بطرفه لأن أحكام الاسلام في حقه باقية بدليل وجوب العبادات عليه ومطالبته بالاسلام
ولنا انه كافر فيقتل بالذمي كالأصلي، وقولهم ان أحكام الاسلام باقية غير صحيح فإنه قد زالت عصمته
وحرمته وحل نكاح المسلمات وشراء العبيد المسلمين وصحة العبادات وغيرها وأما مطالبته بالاسلام فهو
حجة عليهم فإنه يدل على تغليظ كفره وانه لا يقر على ردته لسوء حاله فإذا قتل بالذمي مثله فمن هو دونه أولى
(فصل) وان جرح مسلم ذميا ثم ارتد ومات المجروح لم يقتل به لأن التكافأ مشترط حال
وجود الجناية ولم يوجد، وان قتل من يعرفه ذميا أو عبدا وكان قد أسلم وعتق وجب القصاص لأنه
قتل من يكافئه عمدا عدوانا فلزمه القصاص كما لو علم حاله وفارق من علمه حربيا لأنه لا يعمد إلى قتل معصوم
" مسألة " قال (ولا حر بعبد)
روي هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال الحسن وعطاء
وعمر بن عبد العزيز وعكرمة وعمر بن دينار ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور ويروى عن سعيد
348

ابن المسيب والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي أنه يقتل به لعموم الآيات والاخبار لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " ولأنه آدمي معصوم فأشبه الحر
ولنا ما روى الإمام أحمد باسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال من السنة أن لا يقتل حر بعبد
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتل حر بعبد " رواه الدارقطني ولأنه لا يقطع طرفه بطرفه
مع التساوي في السلامة فلا يقتل به كالأب مع ابنه ولان العبد منقوص بالرق فلم يقتل به الحر كالمكاتب إذا
ملك ما يؤدي والعمومات مخصوصات بهذا فنقيس عليه
(فصل) ولا يقتل السيد بعبده في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن النخعي وداود أنه يقتل
به لما روى قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه "
رواه سعيد والإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب مع العمومات والمعنى في التي قبلها
ولنا ما ذكرناه في التي قبلها، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" لا يقاد المملوك من مولاه والولد من والده لا أقدته منك " رواه النسائي وعن علي رضي الله عنه
أن رجلا قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه عاما ومحى اسمه من المسلمين رواه سعيد والخلال
وقال احمد ليس بشئ قبل إسحاق بن أبي فروة، ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
349

عن أبي بكر وعمر أنهما قالا من قتل عبده جلد مائة وحرم سهمه مع المسلمين فأما حديث سمرة فلم يثبت
قال احمد: الحسن لم يسمع من سمرة إنما هي صحيفة، وقال عنه أحمد إنما سمع الحسن من سمرة ثلاثة
أحاديث ليس هذا منها ولان الحسن أفتى بخلافه فإنه يقول لا يقتل الحر بالعبد، وقال إذا قتل السيد
عبده يضرب ومخالفته له تدل على ضعفه
(فصل) ولا يقطع طرف الحر بطرف العبد بغير خلاف علمناه بينهم ويقتل العبد بالحر ويقتل
بسيده لأنه إذا قتل بمثله فبمن هو أكمل منه أولى مع عموم النصوص الواردة في ذلك، ومتى وجب
القصاص على العبد فعفى ولي الجناية إلى المال فله ذلك ويتعلق أرشها برقبته لأنه موجب جنايته فتعلق
برقبته كالقصاص ثم إن شاء سيده أن يسلمه إلى ولي الجناية لم يلزمه أكثر من ذلك لأنه سلم إليه
ما تعلق حقه به، وإن قال ولي الجناية بعه وادفع إلي ثمنه لم يلزمه ذلك لأنه لم يتعلق بذمته شئ،
وإنما تعلق بالرقبة التي سلمها فبرئ منها، وفيه وجه آخر أنه يلزمه ذلك كما يلزمه بيع الرهن، وان
امتنع من تسليمه واختار فداءه فهل تلزمه قيمته أو أرش الجناية جميعا؟ على روايتين ذكرناهما في غير
هذا الموضع، وان عفى عن القصاص ليملك رقبة العبد ففيه روايتان إحداهما يملكه بذلك لأنه يملك
إتلافه فكان ملكا له كسائر أمواله (والثانية) لا يملكه لأنه محل تعلق به القصاص فلا يملكه
بالعفو كالحر فعلى هذه الرواية يتعلق أرش الجناية برقبته كما لو عفا على مال لأن العوض الذي عفى لأجله
لم يصح له فكان له عوضه كالعقود الفاسدة
350

(فصل) ويجري القصاص بين العبيد في النفس في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر
ابن عبد العزيز وسالم والنخعي والشعبي والزهري وقتادة والثوري ومالك والشافعي وأبي حنيفة،
وروي عن أحمد رواية أخرى أن من شرط القصاص تساوي قيمتهم، وإن اختلف قيمتهم لم يجر
بينهم قصاص وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر فإن كانت أقل فلا وهذا قول
عطاء، وقال ابن عباس ليس بين العبيد قصاص في نفس ولا جرح لأنهم أموال
ولنا أن الله تعالى قال (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد)
وهذا نص من الكتاب فلا يجوز خلافه لأن تفاوت القيمة كتفاوت الدية والفضائل فلا يمنع القصاص
كالعلم والشرف والذكورية والأنوثية
(فصل) ويجري القصاص بينهم فيما دون النفس وبه قال عمر بن عبد العزيز وسالم والزهري وقتادة ومالك
والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى لا يجري القصاص بينهم فيما دون النفس وهو قول
الشعبي والنخعي والثوري وأبي حنيفة لأن الأطراف مال فلا يجري القصاص فيها كالبهائم ولان التساوي
في الأطراف معتبر في جريان القصاص بدليل انا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بالناقصة
وأطراف العبيد لا تتساوى. ولنا قول الله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين)
الآية ولأنه أحد نوعي القصاص فجرى بين العبيد كالقصاص في النفس
351

(فصل) وإذا وجب القصاص في طرف العبد وجب للعبد وله استيفاؤه والعفو عنه
(فصل) ولو قتل عبد عبدا ثم عتق القاتل قتل به، وكذلك لو جرح عبد عبدا ثم عتق الجارح
ومات المجروح قتل به لأن القصاص وجب فلم يسقط بالعتق بعده ولان التكافؤ موجود حال وجود
الجناية وهي السبب فاكتفي به، ولو جرح حر ذمي عبدا ثم لحق بدار الحرب فأسر واسترق لم يقتل
بالعبد لأنه حين وجوب القصاص حر
(فصل) وإذا قتل عبد عبدا فسيد المقتول مخير بين القصاص والعفو فإن عفى إلى مال
تعلق المال برقبة القاتل لأنه وجب بجنايته وسيده مخير بين فدائه وتسليمه فإن اختار فداءه فداه بأقل
الامرين من قيمته أو قيمة المقتول لأنه إن كان الأقل قيمته لم يلزمه أكثر منها لأنها بدل عنه،
وإن كان الأقل قيمة المقتول فليس لسيده أكثر منها لأنها بدل عنه، وعنه رواية أخرى أن سيده
إن اختار فداءه لزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ لأنه إذا سلمه للبيع ربما فإذا فيه مزايد أكثر من قيمته
فإن قتل عشرة أعبد عبدا لرجل عمدا فعليهما القصاص فإن اختار السيد قتلهم فله قتلهم، وإن عفى
إلى مال تعلقت قيمة عبده برقابهم على كل واحد منهم عشرها يباع منه بقدرها ويفديه سيده فإن
اختار قتل بعضهم والعفو عن البعض كان ذلك له لأن له قتل جميعهم والعفو عن جميعهم، وإن قتل
عبد عبدين لرجل واحد فله قتله والعفو عنه فإن قتله سقط حقه وإن عفا إلى مال تعلقت قيمة العبدين
برقبته فإن كانا لرجلين فكذلك إلا أن القاتل يقتل بالأول منهما لأن حقه أسبق فإن عفى عنه الأول
352

قتل، الثاني وإن قتلهما دفعة واحدة أقرع بين السيدين فأيهما خرجت له القرعة اقتص وسقط حق
الآخر، وإن عفا عن القصاص أو عفا سيد القتيل الأول عن القصاص إلى مال تعلق برقبة العبد
وللثاني أن يقتص لأن تعلق المال بالرقبة لا يسقط حق القصاص كما لو جنى العبد المرهون، وان قتله
الآخر سقط حق الأول من القيمة لأنه لم يبق محل يتعلق به، وان عفا الثاني تعلقت قيمة القتيل
الثاني برقبته أيضا ويباع فيهما ويقسم ثمنه على قدر القيمتين ولم نقدم الأول بالقيمة كما قدمناه بالقصاص
لأن القصاص لا يتبعض بينهما والقيمة يمكن تبعيضها، فإن قيل فحق الأول أسبق قلنا لا يراعى السبق
كما لو أتلف أموالا لجماعة واحدا بعد واحد، فأما ان قتل العبد عبدا بين شريكين كان لهما القصاص
والعفو، فإن عفا أحدهما سقط القصاص وينتقل حقهما إلى القيمة لأن القصاص لا يتبعض، وان قتل
عبدين لرجل واحد فله أن يقتص منه لأحدهما أيهما كان ويسقط حقه من الآخر وله أن يعفو عنه
إلى مال وتتعلق قيمتهما جميعا برقبته
(فصل) ويقتل العبد القن بالمكاتب والمكاتب به ويقتل كل واحد منهما بالمدبر وأم الولد
ويقتل المدبر وأم الولد بكل واحد منهما لأن الكل عبيد فيدخلون في عموم قوله تعالى (والعبد بالعبد)
فقد دل على كون المكاتب عبدا قول النبي صلى الله عليه وسلم " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " وسواء كان
المكاتب قد أدى من كتابته شيئا أو لم يؤد وسواء ملك ما يؤدي أو لم يملك الا إذا قلنا إنه إذا ملك
353

ما يؤدي فقد صار حرا لأنه لا يقتل بالعبد لأنه حر فلا يقتل بالعبد، وان أدى ثلاثة أرباع مال الكتابة
لم يقتل به أيضا لأنه يصير حرا ومن لم يحكم بحريته الا بأداء جميع الكتابة جاز قتله به، وقال أبو
حنيفة إذا قتل العبد مكاتبا له وفاء ووارث سوى مولاه لم يقتل به لأنه حين الجرح كان المستحق
المولى وحين الموت الوارث ولا يجب القصاص الا لمن يثبت حقه في الطرفين
ولنا قوله تعالى (النفس بالنفس) وقوله تعالى (العبد بالعبد) ولأنه لو كان قنا لوجب بقتله
القصاص فإذا كان مكاتبا كان أولى كما لو لم يخلف وارثا، وما ذكروه شئ بنوه على أصولهم ولا نسلمه
(مسألة) قال (وإذا قتل الكافر العبد عمدا فعليه قيمته ويقتل لنقضه للعهد)
يعني الكافر الحر لا يقتل بالعبد المسلم لأن الحر لا يقتل بالعبد لفقدان التكافؤ بينهما ولأنه لا يحد
بقذفة فلا يقتل بقتله كالأب مع ابنه وعليه قيمته ويقتل لنقضه العهد فإن قتل المسلم ينتقض به العبد
بدليل ما روي أن ذميا كان يسوق حمارا بامرأة مسلمة فنخسه بها فرماها ثم أراد اكراهها على الزنا
فرفع إلى عمر رضي الله عنه فقال ما على هذا صالحناهم فقتله وصلبه. وروي في شروط عمر أنه كتب
إلى عبد الرحمن بن غنم أن ألحق بالشروط من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده، ولأنه فعل
ينافي الأمان وفيه ضرر على المسلمين فكان نقضا للعهد كالاجتماع على قتال المسلمين، والامتناع من أداء
354

الجزية وفيه رواية أخرى أنه لا ينتقض عهده بذلك فعلى هذا عليه قيمته ويؤدب بما يراه ولي الأمر
(فصل) وان قتل عبد مسلم حرا كافرا لم يقتل به لأنا لا نقتل المسلم بالكافر وان قتل من نصفه
حر عبدا لم يقتل به لأنا لا نقتل نصف الحر بعبد وان قتله حر لم يقتل به لأن النصف الرقيق لا يقتل
به الحر وان قتل من نصفه حر من نصفه حر قتل به لأن القصاص يقع بين الجملتين من غير تفصيل وهما مستويان
(فصل) ويجري القصاص بين الولاة والعمال وبين رعيتهم لعموم الآيات والاخبار ولان
المؤمنين تتكافؤ دماءهم ولا نعلم في هذا خلافا، وثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لرجل شكى
إليه عاملا أنه قطع يده ظلما لئن كنت صادقا لأقيد بك منه، وثبت أن عمر رضي الله عنه كان يقيد
من نفسه وروى أبو داود قال خطب عمر فقال إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا
أموالكم فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه فقال عمرو بن العاص لو أن رجلا أدب بعض
رعيته تقصه منه؟ قال اي والذي نفسي بيده أقصه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قص
من نفسه ولان المؤمنين تتكافؤ دماؤهم وهذان حران مسلمان ليس بينهما إيلاد فيجري
القصاص بينهما كسائر الرعية.
(فصل) وإذا قتل القاتل غير ولي الدم فعلى قاتله القصاص ولورثة الأول الدية في تركة الجاني
الأول وبهذا قال الشافعي، وقال الحسن ومالك يقتل قاتله ويبطل دم الأول لأنه فات محله
355

فأشبه ما لو قتل العبد الجاني وروي عن قتادة وأبي هاشم لا قود على الثاني لأنه قتل مباح الدم فلم يجب
بقتله قصاص كالزاني المحصن
ولنا على وجوب القصاص على قاتله أنه محل لم يتحتم قتله ولم يبح لغير ولي الدم قتله فوجب
القصاص بقتله كما لو كان عليه دين
ولنا على وجوب الدية في تركة الجاني الأول أن القصاص إذا تعذر وجبت الدية كما لو مات أو
عفا بعض الشركاء أو حدث مانع، وفارق العبد الجاني فإنه ليس له مال ينتقل إليه، فإن عفا أولياء الثاني
على الدية أخذوها ودفعوها إلى ورثة الأول فإن كانت عليه ديون ضم ما قبضوا من الدية إلى سائر
تركته ثم ضرب أولياء المقتول الأول مع سائر أهل الديون في تركته وديته. وإن أحال ورثة المقتول
الثاني ورثة المقتول الأول بالدية على القاتل الثاني صحت الحوالة، ويتخرج أن تجب دية القتيل
الأول على قاتله ابتداء لأنه أتلف محل حق ورثته فكان غرامته عليه كما لو قتل العبد الجاني وإن
مات القاتل عمدا وجبت الدية في تركته وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك يسقط حق ولي
الجناية وتوجيه المذهبين على ما تقدم
356

(مسألة) قال (والطفل والزائل العقل لا يقتلان بأحد)
لا خلاف بين أهل العلم أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر
فيه مثل النائم والمغمى عليه ونحوهما، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة عن
الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق " ولان القصاص عقوبة مغلظة فلم تجب
على الصبي وزائل العقل كالحدود ولأنهم ليس لهم قصد صحيح فهم كالقاتل خطأ
(فصل) فإن اختلف الجاني وولي الجناية فقال الجاني كنت صبيا حال الجناية وقال ولي الجناية
كنت بالغا فالقول قول الجاني مع يمينه إذا احتمل الصدق لأن الأصل الصغر وبراءة ذمته من
القصاص وإن قال قتلته وأنا مجنون وأنكر الولي جنونه فإن عرف له حال جنون فالقول قوله أيضا
لذلك فإن لم يعرف له حال جنون فالقول قول الولي لأن الأصل السلامة وكذلك أن عرف له
جنون ثم علم زواله قبل القتل، وإن ثبتت لأحدهما بينة بما ادعاه حكم له، وإن أقاما بينتين تعارضتا
فإن شهدت البينة أنه كان زائل العقل فقال الولي كنت سكران وقال القاتل كنت مجنونا فالقول قول
القاتل مع يمينه لأنه أعرف بنفسه ولان الأصل براءة ذمته واجتناب المسلم فعل ما يحرم عليه
(فصل) فإن قتله وهو عاقل ثم جن لم يسقط عنه القصاص سواء ثبت ذلك عليه ببينة أو اقرار
357

لأن رجوعه غير مقبول ويقتص منه في حال جنونه ولو ثبت عليه الحد باقراره ثم جن لم يقم عليه حال
جنونه لأن رجوعه يقبل فيحتمل أنه لو كان صحيحا رجع
(فصل) ويجب القصاص على السكران إذا قتل حال سكره ذكره القاضي وذكر أبو الخطاب
ان وجوب القصاص عليه مبني على وقوع طلاقه وفيه روايتان، فيكون في وجوب القصاص عليه
وجهان (أحدهما) لا يجب عليه لأنه زائل العقل أشبه المجنون ولأنه غير مكلف
أشبه الصبي والمجنون.
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم أقاموا سكره مقام قذفة فأوجبوا عليه حد القاذف فلولا أن
قذفه موجب للحد عليه لما وجب الحد بمظنة وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى
ولأنه حكم لو لم يجب القصاص والحد لافضى إلى أن من أراد أن يعصي الله تعالى شرب ما يسكره
ثم يقتل ويزني ويسرق ولا يلزمه عقوبة ولا مأثم ويصير عصيانه سببا لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة
عنه ولأنه وجه لهذا، وفارق هذا الطلاق ولأنه قول يمكن الغاؤه بخلاف القتل، فأما ان شرب أو أكل
ما يزيل عقله غير الخمر على وجه محرم فإن زال عقله بالكلية بحيث صار مجنونا فلا قصاص عليه وإن كان
يزول قريبا ويعود من غير تداو فهو كالسكر على ما فصل فيه
358

(مسألة) قال (ولا يقتل والد بولده وان سفل)
وجملته أن الأب لا يقتل بولده والجد لا يقتل بولده وإن نزلت درجته وسواء في ذلك
ولد البنين أو ولد البنات، وممن نقل عنه أن الوالد لا يقتل بولده عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
وبه قال ربيعة والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال ابن نافع وابن
عبد الحكم وابن المنذر: يقتل به لظاهر آي الكتاب والاخبار الموجبة للقصاص ولأنهما حران
مسلمان من أهل القصاص فوجب ان يقتل كل واحد منهما بصاحبه كالأجنبيين. وقال ابن المنذر
قد رووا في هذا أخبارا، وقال مالك ان قتله حذفا بالسيف ونحوه لم يقتل به وإن ذبحه أو قتله قتلا
لا يشك في أنه عمد إلى قتله دون تأديبه أقيد به
ولنا ما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتل والد بولده "
أخرج النسائي حديث عمر ورواهما ابن ماجة وذكرهما ابن عبد البر وقال هو حديث مشهور عند
أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الاسناد فيه حتى
يكون الاسناد في مثله مع شهرته تكلفا ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنت ومال لأبيك " وقضية هذه
الإضافة تمليكه إياه فإذا لم تثبت حقيقة الملكية بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ
بالشبهات ولأنه سبب ايجاده فلا ينبغي ان يتسلط بسببه على اعدامه وما ذكرناه يخص العمومات
ويفارق الأب سائر الناس فإنهم لو قتلوا بالخذف بالسيف عليهم القصاص والأب بخلافه
359

(فصل) والجد وإن علا كالأب في هذا وسواء كان من قبل الأب أو من قبل الام في قول
أكثر مسقطي القصاص عن الأب وقال الحسن بن حي يقتل به
ولنا أنه والد فيدخل في عموم النص ولان ذلك حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد
كالمحرمية والعتق إذا ملكه، والجد من قبل الأب كالجد من قبل الام لأن ابن البنت يسمى ابنا
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن " إن ابني هذا سيد "
(مسألة) قال (والام في ذلك كالأب)
هذا الصحيح من المذهب وعليه العمل عند مسقطي القصاص عن الأب، وروي عن أحمد
رحمه الله ما يدل على أنه لا يسقط عن الام فإن مهنا نقل عنه في أم ولد قتلت سيدها عمدا تقتل، قال
من يقتلها؟ قال ولدها. وهذا يدل على ايجاب القصاص على الام بقتل ولدها وخرجها أبو بكر
على روايتين (إحداهما) ان الام تقتل بولدها لأنه لا ولاية لها عليه فقتل به كالأخ، والصحيح الأول
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقتل والد بولده " ولأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب ولأنها أولى بالبر
فكانت أولى بنفي القصاص عنها والولاية غير معتبرة بدليل انتفاء القصاص عن الأب بقتل
الكبير الذي لا ولاية عليه وعن الجد ولا ولاية له وعن الأب المخالف في الدين أو الرقيق والجدة
360

وإن علت في ذلك كالأم وسواء في ذلك من قبل الأب أو من قبل الام لما ذكرنا في الجد
(فصل) وسواء كان الوالد مساويا للولد في الدين والحرية أو مخالفا له في ذلك لأن انتفاء
القصاص لشرف الأبوة وهو موجود في كل حال فلو قتل الكافر ولده المسلم أو قتل المسلم أباه الكافر
أو قتل العبد ولده الحر أو قتل الحر والده العبد لم يجب القصاص لشرف الأبوة فيما إذا قتل ولده
وانتفاء المكافأة فيما إذا قتل والده
(فصل) وإذا ادعى نفران نسب صغير مجهول النسب ثم قتلاه قبل الحاقة بواحد منهما
فلا قصاص عليهما لأنه يجوز أن يكون ابن كل واحد منهما أو ابنهما وان ألحقته القافة بأحدهما
ثم قتلاه لم يقتل أبوه وقتل الآخر لأنه شريك الأب في قتل ابنه وإن رجعا جميعا. عن الدعوى
لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق للولد فلم يقبل رجوعهما عن اقرارهما به كما لو أقر له بحق سواه أو
كما لو ادعاه واحد فألحق به ثم جحده وان رجع أحدهما صح رجوعه وثبت نسبه من الآخر لأن
رجوعه لم يبطل نسبه ويسقط القصاص عن الذي لم يرجع ويجب على الراجع لأنه شارك الأب
وان عفى عنه فعليه نصف الدية، ولو اشترك رجلان في وطئ امرأة في طهر واحد وأتت بولد يمكن
أن يكون منهما فقتلاه قبل الحاقة بأحدهما لم يجب القصاص وان نفيا نسبه لم ينتف بقولهما وان نفاه
361

(أحدهما) لم ينتف بقوله لأنه لحقه بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وفارق التي قبلها من وجهين:
(أحدهما) إذا رجع عن دعواه لحق الآخر وههنا لا يلحق بذلك. (والثاني) ان ثبوت نسبه تم
بالاعتراف فيسقط بالجحد وههنا يثبت بالاشتراك في الوطئ فلا ينتفي بالجحد ومذهب الشافعي في
هذا الفصل كما قلنا سواء
(فصل) ولو قتل أحد الأبوين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص لأنه لو وجب لوجب لولده
ولا يجب للولد قصاص على والده لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلان لا يجب له بالجناية على غيره أولى
وسواء كان الولد ذكرا أو أنثى أو كان للمقتول ولد سواه أو من يشاركه في الميراث أو لم يكن
لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه وإذا لم يثبت بعضه سقط
كله لأنه لا يتبعض وصار كما لو عفى بعض مستحق القصاص عن نصيبه منه فإن لم يكن
للمقتول ولد منهما وجب القصاص في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن عبد العزيز والنخعي والثوري
والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الزهري لا يقتل الزوج بامرأته لأنه ملكها بعقد النكاح فأشبه الأمة
ولنا عمومات النص ولأنهما شخصان متكافئان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فيقتل به
كالأجنبيين، وقوله إنه ملكها غير صحيح فإنها حرة وإنما ملك منفعة الاستمتاع فأشبه المستأجرة
362

ولهذا تجب ديتها عليه ويرثها ولا يرث منها الا قدر ميراثه ولو قتلها غيره كانت ديتها أو
القصاص لورثتها بخلاف الأمة
(فصل) ولو قتل رجل أخاه فورثه أو أحد يرث ابنه منه شيئا من ميراثه لم يجب القصاص
لما ذكرنا، ولو قتل خال ابنه فورثت أم ابنه القصاص أو جزءا منه ثم ماتت بقتل الزوج أو غيره
فورثها ابنه سقط القصاص لأن ما منع مقارنا أسقط طارئا وتجب الدية ولو قتلت المرأة أخا زوجها
فصار القصاص أو جزء منه لابنها سقط القصاص سواء صار إليه ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو
من غيره لما ذكرنا
(فصل) وإذا قتل أحد أبوي المكاتب المكاتب أو عبدا له لم يجب القصاص لأن الوالد
لا يقتل بولده ولا يثبت للولد على والده قصاص، وان اشترى المكاتب أحد أبويه ثم قتله لم يجب
عليه قصاص لأن السيد لا يقتل بعبده.
(فصل) ابنان قتل أحدهما أباه والآخر أمه فإن كانت الزوجية بينهما موجودة حال قتل الأول
فالقصاص على قاتل الثاني دون الأول لأن القتيل الثاني ورث جزءا من دم الأول فلما قتل ورثه
قاتل الأول فصار له جزء من دم نفسه فسقط القصاص عنه ووجب له القصاص على أخيه فإن قتله
ورثه ان لم يكن له وارث سواه لأنه قتله بحق، وان عفا عنه إلى الدية وجبت وتقاصا بما بينهما وما
363

فضل لأحدهما فهو له على أخيه، وان لم تكن الزوجية بين الأبوين قائمة فعلى كل واحد منهما القصاص
لأخيه لأنه ورث الذي قتله أخوه وحده دون قاتله فإن بادر أحدهما فقتل صاحبه فقد استوفى حقه
وسقط القصاص عنه لأنه يرث أخاه لكونه قتلا بحق فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن
ابن يحجب القاتل فيكون له قتل عمه ويرثه إن لم يكن له وارث سواه، وان تشاحا في المبتدئ منهما
بالقتل احتمل أن يبدأ بقتل القاتل الأول لأنه أسبق واحتمل أن يقرع بينهما وهذا قول القاضي
ومذهب الشافعي لأنهما تساويا في الاستحقاق فيصيرا إلى القرعة وأيهما قتل صاحبه أولا إما بمبادرة
أو قرعة ورثه في قياس المذهب ان لم يكن له وارث سواه وسقط عنه القصاص وإن كان محجوبا عن
ميراثه كله فلوارث القتيل قتل الآخر، وان عفا أحدهما عن الآخر ثم قتل المعفو عنه العافي ورثه أيضا
وسقط عنه ما وجب عليه من الدية وان تعافيا جميعا على الدية تقاصا بما استويا فيه ووجب لقاتل الام
الفضل على قاتل الأب لأن عقل الام نصف عقل الأب ويتخرج أن يسقط القصاص عنهما لتساويهما
في استحقاقه لسقوط الديتين إذا تساوتا ولأنه لا سبيل إلى استيفائهما واستيفاء أحدهما دون الآخر
حيف فلا يجوز فتعين السقوط، وإن كان لكل واحد منهما ابن يحجب عمه عن ميراث أبيه فإذا
قتل أحدهما صاحبه ورثه ابنه ثم لابنه أن يقتل عمه ويرثه ابنه ويرث كل واحد من الابنين مال
أبيه ومال جده الذي قتله عمه دون الذي قتله أبوه، وإن كان لكل واحد منهما ابنة فقتل أحدهما
364

صاحبه سقط القصاص عنه لأنه ورث نصف مال أخيه ونصف قصاص نفسه فسقط عنه القصاص،
وورث مال أبيه الذي قتله أخوه ونصف مال أخيه ونصف مال أبيه الذي قتله هو وورثت البنت
التي قتل أبوها نصف مال أبيها ونصف مال جدها الذي قتله عمها ولها على عمها نصف دية قتيله
(فصل) أربعة اخوة قتل الأول الثاني والثالث الرابع فالقصاص على الثالث لأنه لما قتل الرابع
لم يرثه وورثه الأول وقد كان للرابع نصف قصاص الأول فرجع نصف قصاصه إليه فسقط ووجب
للثالث نصف الدية وكان للأول قتل الثالث لأنه لم يرث من دم نفسه شيئا فإن قتله ورثه في ظاهر
المذهب ويرث ما يرثه عن أخيه الثاني وإن عفا عنه إلى الدية وجبت عليه بكمالها يقاصه بنصفها وإن كان
لهما ورثة كان فيها من التفصيل مثل الذي في التي قبلها
(مسألة) قال (ويقتل الولد بكل واحد منهما)
هذا قول عامة أهل العلم منهم مالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكى أصحابنا عن أحمد
رواية ثانية أن الابن لا يقتل بأبيه لأنه ممن لا تقبل شهادته له بحق النسب فلا يقتل به كالأب مع ابنه
والمذهب أنه يقتل به للآيات والاخبار وموافقة القياس ولان الأب أعظم حرمة وحقا من الأجنبي
فإذا قتل بالأجنبي فبالأب أولى ولأنه يحد بقذفه فيقتل به كالأجنبي ولا يصح قياس الابن على الأب
365

لأن حرمة الوالد آكد والابن مضاف إلى أبيه بلام التمليك بخلاف الوالد مع الولد وقد
ذكر أصحابنا حديثين متعارضين عن سراقة عن النبي صلى الله عليه وسلم (أحدهما) أنه قال " لا يقاد الأب من ابنه
ولا الابن من أبيه " (والثاني) أنه كان يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه رواه الترمذي
وهذان الحديثان أما الحديث الأول لا نعرفه ولم نجده في كتب السنن المشهورة ولا أظن له أصلا
وإن كان له أصل فهما متعارضان متدافعان يجب اطراحهما والعمل بالنصوص الواضحة الثابتة والاجماع
الذي لا تجوز مخالفته
(مسألة) قال (ويقتل الجماعة بالواحد)
وجملته أن الجماعة إذا قتلوا واحدا فعلى كل واحد منهما القصاص إذا كان كل واحد منهم لو
انفرد بفعله وجب عليه القصاص روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عباس وبه قال
سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة وهو مذهب مالك والثوري والأوزاعي والشافعي
وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن أحمد رواية أخرى لا يقتلون به وتجب عليهم الدية
وهذا قول ابن الزبير والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وداود
وابن المنذر وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس وروي عن معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين
366

والزهري أنه يقتل منهم واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية لأن كل واحد منهم مكافئ
له فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد كما لا تجب ديات لمقتول واحد ولان الله تعالى قال (الحر بالحر)
وقال (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة
ولان التفاوت في الأوصاف يمنع بدليل ان الحر لا يؤخذ بالعبد والتفاوت في العدد أولى قال ابن المنذر
لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة
من أهل صنعاء قتلوا رجلا وقال لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعا، وعن علي رضي الله عنه أنه
قتل ثلاثة قتلوا رجلا وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان
إجماعا ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف ويفارق الدية
فإنها تتبعض والقصاص لا يتبعض ولان القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به
فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر
(فصل) ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين للتساوي في سببه فلو جرحه رجل جرحا
والآخر مائة أو جرحه أحدهما موضحة والآخر آمة أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة فمات كانا
سواء في القصاص والدية لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد
367

جرحان يتساويان من كل وجه ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده
ولا يكتفى باحتمال الوجود بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في انتفاء الحكم ولان الجرح الواحد يحتمل
أن يموت منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الأمة ومن غير الجائفة دون الجائفة
ولان الجراح إذا صارت نفسا سقط اعتبارها فكان حكم الجماعة كحكم الواحد الا ترى أنه لو قطع أطرافه
كلها فمات وجبت دية واحدة كما لو قطع طرفه فمات
(فصل) إذا اشترك ثلاثة في قتل رجل فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه الثالث فمات
فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل واحد ثلثها وله أن يعفو عن واحد فيأخذ
منه ثلث الدية ويقتل الآخرين وله أن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلي الدية ويقتل الثالث فإن
برئت جراحة أحدهم ومات من الجرحين الآخرين فله أن يقتص من الذي برئ جرحه بمثل جرحه
ويقتل الآخرين أو يأخذ منهما دية كاملة أو يقتل أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية وله أن
يعفو عن الذي برئ جرحه ويأخذ منه دية جرحه فإن ادعى الموضح أن جرحه برئ قبل موته
وكذبه شريكاه نظرت في الولي فإن صدقه ثبت حكم البرء بالنسبة إليه فلا يملك قتله ولا مطالبته
بثلث الدية وله أن يقتص منه موضحة أو يأخذ منه أرثها ولم يقبل قوله في حق شريكه لأن الأصل
عدم البرء فيها لكن ان اختار الولي القصاص فلا فائدة لهما في إنكار ذلك لأن له ان يقتلهما سواء
368

برئت أو لم تبرأ، وان اختار الدية لم يلزمهما أكثر من ثلثيها وان كذبه الولي حلف وله الاقتصاص
منه أو مطالبته بثلث الدية ولم يكن له مطالبته شريكه بأكثر من ثلثها فإن شهد له شريكاه ببرئها
لزمهما الدية كاملة لاقرارهما بوجوبها وللولي أخذ منهما ان صدقهما وان لم يصدقهما وعفا إلى الدية
لم يكن له أكثر من ثلثيها لأنه لا يدعي أكثر من ذلك وتقبل شهادتهما له ان كانا قد تابا وعدلا
لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بذلك نفعا فيسقط القصاص عنه ولا يلزمه أكثر من أرش موضحة
(فصل) إذا قطع رجل يده من الكوع ثم قطعها آخر من المرفق ثم مات نظرت فإن كانت
جراحة الأول برئت قبل قطع الثاني فالثاني هو القاتل وحده وعلى القود أو الدية كاملة ان عفا
عن قتله وله قطع يد الأول أو نصف الدية وان لم تبرأ فهما قاتلان وعليهما القصاص في النفس وان عفا
إلى الدية وجبت عليهما وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة القاتل هو الثاني وحده ولا قصاص على
الأول في النفس لأن قطع الثاني قطع سراية قطعه ومات بعد زوال جنايته فأشبه ما لو اندمل جرحه
وقال مالك ان قطعه الثاني عقيب قطع الأول قتلا جميعا وإن عاش بعد قطع الأول حتى أكل وشرب
ومات عقيب قطع الثاني فالثاني هو القاتل وحده وإن عاش بعدهما حتى أكل وشرب فللأولياء أن يقسموا
على أيهما شاؤوا ويقتلوه
369

ولنا أنهما قطعان لو مات بعد كل واحد منهما وحده لوجب عليه القصاص فإذا مات بعدهما وجب
عليهما القصاص كما لو كان في يدين ولان القطع الثاني لا يمنع جناية بعده فلا يسقط حكم ما قبله كما
لو كان في يدين ولا نسلم زوال جنايته ولا قطع سرايته فإن الألم الحاصل بالقطع الأول لم يزل وإنما
انضم إليه الألم الثاني فضعفت النفس عن احتمالهما فزهقت بهما فكل القتل بهما ويخالف الاندمال
فإنه لا يبقى معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فاختلفا، فإن ادعى الأول أن جرحه اندمل فصدقه
الولي سقط عنه القتل ولزمه القصاص في اليد أو نصف الدية، وان كذبه شريكه واختار الولي
القصاص فلا فائدة له في تكذيبه لأن قتله واجب، وان عفا عنه إلى الدية فالقول قوله مع يمينه ولا
يلزمه أكثر من نصف الدية وان كذب الولي الأول حلف وكان له قتله لأن الأصل عدم ما ادعاه ولو ادعى
الثاني اندمال جرحه فالحكم فيه كالحكم في الأول إذا ادعى ذلك
(مسألة) قال (وإذا قطعوا بها قطعت نظيرتها من كل واحد منهم)
وجملته ان الجماعة إذا اشتركوا في جرح موجب للقصاص وجب القصاص على جميعهم وبه قال
مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وقال الحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي وابن المنذر
لا تقطع يدان بيد واحدة ويتعين ذلك وجها في مذهب احمد لأنه روي عنه أن الجماعة لا يقتلون
370

بالواحد وهذا تنبيه على أن الأطراف لا تؤخذ بطرف واحد لأن الأطراف يعتبر التساوي فيها بدليل
انا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصتها ولا أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية، ولا
يمينا بيسار ولا يسارا بيمين، ولا نساوي بين الطرف والأطراف فوجب امتناع القصاص بينهما ولا
يعتبر التساوي في النفس فإننا نأخذ الصحيح بالمريض وصحيح الأطراف بمقطوعها وأشلها ولأنه يعتبر
في القصاص في الأطراف التساوي في نفس القطع بحيث لو قطع كل واحد من جانب لم يجب القصاص
بخلاف النفس، ولان الاشتراك الموجب للقصاص في النفس يقع كثيرا فوجب القصاص زجرا عنه
كيلا يتخذ وسيلة إلى كثرة القتل، والاشتراك المختلف فيه لا يقع الا في غاية الندرة فلا حاجة إلى
الزجر عنه ولان إيجاب القصاص على المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك أو عن
الاشتراك المعتاد، وإيجابه عن المشتركين في الطرف لا يحصل به الزجر عن الاشتراك المعتاد ولا عن
شئ من الاشتراك الا على صورة نادرة الوقوع بعيدة الوجود يحتاج في وجودها إلى تكلف، فايجاب
القصاص للزجر عنها يكون منعا لشئ ممتنع بنفسه لصعوبته واطلاقا في القطع السهل المعتاد بنفي
القصاص عن فاعله وهذا لا فائدة فيه بخلاف الاشتراك في النفس، يحققه أن وجوب القصاص على
الجماعة بواحدة في النفس والطرف على خلاف الأصل لكونه يأخذ في الاستيفاء زيادة على ما فوت
عليه ويخل بالتماثل المنصوص على النهي عما عداه وإنما خولف هذا الأصل في الأنفس زجرا عن
371

الاشتراك الذي يقع القتل به غالبا ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم، ولان النفس أشرف
من الطرف ولا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها بذلك
ولنا ما روي أن شاهدين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم جاءا
بآخر فقالا هذا هو السارق وأخطأنا في الأول فرد شهادتهما على الثاني وغرمهما دية الأول وقال
لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما، فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحدة،
ولأنه أحد نوعي القصاص فتؤخذ الجماعة بالواحد كالأنفس، وأما اعتبار التساوي فمثله في الأنفس
فإننا نعتبر التساوي فيها فلا نأخذ مسلما بكافر ولا حرا بعبد، وأما أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها
فلان الطرف ليس هو من النفس المقتص منها وإنما يفوت تبعا ولذلك كانت ديتهما واحدة بخلاف
اليد الناقصة والشلاء مع الصحيحة فإن ديتهما مختلفة، أما اعتبار التساوي في الفعل فإنما اعتبر في
اليد لأنه يمكن مباشرتها بالقطع فإذا قطع كل واحدة منهما من جانب كان فعل كل واحد منهما متميزا
عن فعل صاحبه فلا يجب على انسان قطع محل لم يقطع مثله، وأما النفس فلا يمكن مباشرتها بالفعل
وإنما أفعالهم في البدن فيفضي ألمه فتزهق ولا يتميز ألم أحدهما من ألم فعل الآخر فكانا
كالقاطعين في محل واحد ولذلك لا يستوفى من الطرف إلا في المفصل الذي قطع الجاني منه، ولا
يجوز تجاوزه وفي النفس لو قتله بجرح في بطنه أو جنبه أو غير ذلك كان الاستيفاء من العتق دون
المحل الذي وقعت الجناية فيه. إذا ثبت هذا فإنما يجب القصاص على المشتركين في الطرف إذا اشتركوا فيه
372

على وجه لا يتميز فعل أحدهم عن فعل الآخر إما بأن يشهدوا عليه بما يوجب قطعه فيقطع ثم يرجعون عن الشهادة
أو يكرهوا انسانا على قطع طرف فيجب قطع المكرهين كلهم والمكره أو يلقوا صخرة على طرف انسان فيقطعه
أو يقطعوا يدا أو يقلعوا عينا بضربة واحدة أو يضعوا حديدة على مفصل ويتحاملوا عليها جميعا
أو يمدوها فتبين، فإن قطع كل واحد منهم من جانب أو قطع أحدهم بعض المفصل وأتمه غيره أو ضرب
كل واحد ضربة أو وضعوا منشارا على مفصله ثم مده كل واحد إليه مرة مرة حتى بانت اليد فلا قصاص
فيه لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك في قطع جميعها، وإن كان فعل واحد منهم يمكن الاقتصاص
بمفرده اقتص منه وهذا مذهب الشافعي
(مسألة) قال (وإذا قتل الأب وغيره عمدا قتل من سوى الأب)
وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور، وعن أحمد ورواية أخرى لا قصاص على واحد منهما وهو
قول أصحاب الرأي لأنه قتل تركب من موجب وغير موجب فلم يوجب كقتل العامد والخاطئ
والصبي والبالغ والمجنون والعاقل
ولنا انه شارك في القتل العمد العدوان فيمن يقتل به لو انفرد بقتله فوجب عليه القصاص
كشريك الأجنبي، ولا نسلم ان فعل الأب غير موجب فإنه يقتضي الايجاب لكونه تمحض عمدا
373

عدوانا والجناية به أعظم اثما وأكثر جرما ولذلك خصه الله تعالى بالنهي عنه فقال (ولا تقتلوا
أولادكم ثم قال أن قتلهم كان خطأ كبيرا) ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنب قال " أن
تجعل لله ندا وهو خلقك، ثم أن تقتل ولدك خشية ان يطعم معك " فجعله أعظم الذنوب بعد الشرك
ولأنه قطع الرحم التي أمر الله تعالى بصلتها ووضع الإساءة موضع الاحسان فهو أولى بايجاب العقوبة
والزجر عنه وإنما امتنع الوجوب في حق الأب لمعنى مختص بالمحل لا لقصور في السبب الموجب فلا
يمتنع عمله في المحل الذي لا مانع فيه. وأما شريك الخاطئ قلنا فيه منع ومع التسليم فامتناع الوجوب
فيه لقصور السبب عن الايجاب فإن فعل الخاطئ غير موجب للقصاص ولا صالح له القتل منه ومن
شريكه غير متمحض عمدا لوقوع الخطأ في الفعل الذي حصل به زهوق النفس بخلاف مسئلتنا
(فصل) وكل شريكين امتنع القصاص في حق أحدهما لمعنى فيه من غير قصور في السبب فهو
في وجوب القصاص على شريكه كالأب وشريكه مثل أن يشترك مسلم وذمي في قتل عبد عمدا
عدوانا فإن القصاص لا يجب على المسلم والحر ويجب على الذمي والعبد إذا قلنا بوجوبه على شريك
الأب لأن امتناع القصاص عن المسلم لاسلامه وعن الحر لحريته وانتفاء مكافأة المقتول له وهذا المعنى
لا يتعدى إلى فعله ولا إلى شريكه فلم يسقط القصاص عنه
وقد نقل عبد الله بن أحمد قال سألت أبي رحمه الله عن حر وعبد قتلا عبدا عمدا قال أما الحر
فلا يقتل بالعبد وعلى الحر نصف قيمة العبد في ماله والعبد ان شاء سيده أسلمه وإلا فداه بنصف قيمة
374

العبد وظاهر هذا انه لا قصاص على العبد فيخرج مثل ذلك في كل قتل شارك فيه من لا يجب عليه القصاص
(مسألة) قال وإذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ لم يقتل واحد منهم وعلى الناقل
ثلث الدية في ماله وعلى عاقلة كل واحد من الصبي ثلث الدية وعتق رقبتين في
أموالهما لأن عمدها خطأ)
أما إذا شاركوا في القتل من لا قصاص عليه لمعنى في فعله كالصبي والمجنون فالصحيح في المذهب
انه لا قصاص عليه وبهذا قال الحسن والأوزاعي وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي
الشافعي. وعن أحمد رواية أخرى ان القود يجب على البالغ العاقل حكاها ابن المنذر عن أحمد
وحكي ذلك عن مالك وهو القول الثاني للشافعي وروي ذلك عن قتادة والزهري وحماد لأن القصاص
عقوبة تجب عليه جزاء لفعله فمتى كان فعله عمدا عدوانا وجب القصاص عليه ولا ننظر إلى فعل
شريكه بحال ولأنه شارك في القتل عمدا عدوانا فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وذلك لأن
الانسان إنما يؤخذ بفعله لا بفعل غيره، فعلى هذا يعتبر فعل الشريك منفردا فمتى تمحض عمدا عدوانا
كان المقتول مكافئا له وجب عليه القصاص. وبنى الشافعي قوله على أن فعل الصبي والمجنون
375

إذا تعمداه عمد لأنهما يقصدان القتل وإنما سقوط القصاص عنهما لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم
يقتض سقوطه عن شريكهما كالأبوة
ولنا انه شارك من لا مأثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ ولان الصبي
والمجنون لا قصد لهما صحيح ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ وهذا معنى قول
الخرقي عمدهما خطأ اي في حكم الخطأ في انتفاء القصاص عنه ومدار ديته وحمل عاقلتهما إياها ووجوب
الكفارة. إذا ثبت هذا فإن الدية تجب عليهم أثلاثا على كل واحد منهم ثلثا لأن الدية بدل المحل
ولذلك اختلفت باختلافه والمحل المتلف واحد فكانت ديته واحدة ولأنها تتقدر بقدره أما القصاص
فإنما كمل في كل واحد لأنه جزاء الفعل وافعالهم متعددة فتعدد في حقهم وكمل في حق كل واحد كما لو قذف
جماعة واحدا إلا أن الثلث الواجب على المكلف يلزم في ماله حالا لأن فعله عمدا والعاقلة لا تحمل العمد
وما يلزم الصبي والمجنون فعلى عاقلتهما لأن عمدهما خطأ والعاقلة تحمل جناية الخطأ إذا بلغت ثلث الدية
وتكون مؤجلة عاما فإن الواجب متى كان ثلث الدية كان أجله عاما ويلزم كل واحد منهما الكفارة من
ماله لأن فعلهما خطأ والقاتل الخاطئ والمشارك في القتل خطأ يلزمه كفارة لأنها لا تجب بدلا عن المحل
ولهذا لم تختلف وإنما وجبت تكفيرا للفعل ومحوا لاثره فوجب تكميلها كالقصاص
376

" مسألة " قال (ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر)
هذا قول عامة أهل العلم، منهم: النخعي والشعبي والزهري وعمر بن عبد العزيز ومالك وأهل
المدينة والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يقتل الرجل بالمرأة ويعطى أولياؤه نصف الدية. أخرجه
سعيد. وروي مثل هذا عن أحمد وحكي ذلك عن الحسن وعطاء وحكي عنهما مثل قول الجماعة ولعل
من ذهب إلى القول الثاني يحتج بقول علي رضي الله عنه ولان عقلها نصف عقلة فإذا قتل بها بقي له بقية
فاستوفيت ممن قتله.
ولنا قوله تعالى (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر) مع عموم سائر النصوص وقد ثبت أن
النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهوديا رض رأس جارية من الأنصار. وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والأسنان وان
الرجل يقتل بالمرأة، وهو كتاب مشهور عند أهل العلم متلقى بالقبول عندهم ولأنهما شخصان يحد
كل واحد منهما بقذف صاحبه فقتل كل واحد منهما بالآخر كالرجلين ولا يجب مع القصاص شئ
لأنه قصاص واجب فلم يجب معه شئ على المقتص كسائر القصاص واختلاف الابدال لا عبرة به
377

في القصاص بدليل أن الجماعة يقتلون بالواحد والنصراني يؤخذ بالمجوسي مع اختلاف دينيهما ويؤخذ
العبد بالعبد مع اختلاف قيمتهما.
(فصل) ويقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى ويقتل بهما لأنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى
" مسألة " قال (ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجرح)
وجملته أن كل شخصين جرى بينهما القصاص في النفس جرى القصاص بينهما في الأطراف
فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم والعبد بالعبد والذمي بالذمي والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر ويقطع
الناقص بالكامل كالعبد بالحر والكافر بالمسلم ومن لا يقتل بقتله لا يقطع طرفه بطرفه فلا يقطع
مسلم بكافر ولا حر بعبد ولا والد بولد وبهذا قال مالك والثوري والشافعي وأبو ثور وإسحاق وابن
المنذر. وقال أبو حنيفة: لا قصاص في الطرف بين مختلفي البدل فلا يقطع الكامل بالناقص
ولا الناقص بالكامل ولا الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا الحر بالعبد ولا العبد بالحر، ويقطع
المسلم بالكافر والكافر بالمسلم لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ
بالشلاء ولا الكاملة بالناقصة فكذا لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة ولا يؤخذ طرفها بطرفه
كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى.
378

ولنا أن من جرى بينهما القصاص في النفس جرى في الطرف كالحرين وما ذكروه يبطل
بالقصاص في النفس فإن التكافؤ معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن ثم يلزمه أن يأخذ الناقصة
بالكاملة لأن المماثلة قد وجدت وزيادة فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق كما تؤخذ ناقصة
الأصابع بكاملة الأصابع وأما اليسار واليمين فيجريان مجرى النفس لاختلاف محليهما ولهذا استوى
بدلهما فعلم أنها ليست ناقصة عنها شرعا ولا العلة فيهما ذلك.
" مسألة " قال (وإذا قتلاه وأحدهما مخطئ والآخر متعمد فلا قود على واحد منهما
وعلى العامد نصف الدية في ماله وعلى عاقلة المخطئ نصفها وعليه في ماله عتق رقبة مؤمنة) أما المخطئ فلا قصاص عليه للكتاب والسنة والاجماع: أما الكتاب فقول الله تعالى (وما كان
لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وقال تعالى
(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان "
واجمع أهل العلم على أنه لا قصاص عليه، وأما شريكه فأكثر أهل العلم لا يرون عليه قصاصا، وبه
قال النخعي والشافعي وأصحاب الرأي. وروي عن أحمد أن عليه القصاص، وحكي ذلك عن مالك
لأنه شارك في القتل عمدا عدوانا فوجب عليه القصاص كشريك العامد ولان مؤاخذته بفعله وفعله
عمد وعدوان لا عذر له فيه.
379

ولنا أنه قتل لم يتمحض عمدا فلم يوجب القصاص كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا
وخطأ ولان كل واحد من الشريكين مباشر ومتسبب فإذا كانا عامدين فكل واحد متسبب إلى
فعل موجب للقصاص فقام فعل شريكه مقام فعله لتسببه إليه وههنا إذا أقمنا المخطئ مقام العامد صار
كأنه قتله بعمد وخطأ غير موجب.
(فصل) وهل يجب القصاص على شريك نفسه وشريك السبع؟ فيه وجهان ذكرهما أبو عبد الله
ابن حامد وصورة ذلك أن يجرحه سبع ويجرحه انسان عمدا إما قبل ذلك أو بعده فيموت منهما أو
يجرح نفسه عمدا ثم يجرحه غيره عمدا فيموت منهما فهل يجب على المشارك له قصاص؟ فيه وجهان،
واختلف عن الشافعي فيه، وقال أصحاب الرأي لا قصاص عليه لأنه شارك من لا يجب القصاص عليه
فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ، ولأنه قتل تركب من موجب وغير موجب فلم يوجب كالقتل
الحاصل من عمد وخطأ، ولأنه لم يجب على شريك الخاطئ وفعله مضمون فلان لا يجب على
شريك من لا يضمن فعله أولى
(والوجه الثاني) عليه القصاص وهو قول أبي بكر، وروي عن أحمد أنه قال: إذا جرحه رجل
ثم جرح الرجل نفسه فمات فعلى شريكه القصاص لأنه قتل عمد متمحض فوجب القصاص على
الشريك فيه كشريك الأب، فأما ان جرح الرجل نفسه خطأ كأنه أراد ضرب جارحه فأصاب
380

نفسه أو خاط جرحه فصادف اللحم الحي فلا قصاص على شريكه في أصح الوجهين، وفيه وجه آخر
أن عليه القصاص بناء على الروايتين في شريك الخاطئ
(فصل) فإن جرحه انسان فتداوى بسم فمات نظرت فإن كان سم ساعة يقتل في الحال فقد
قتل نفسه وقطع سراية الجرح وجرى مجرى من ذبح نفسه بعد أن جرح وتنظر في الجرح فإن
كان موجبا للقصاص فلوليه استيفاؤه وان لم يكن موجبا له فلوليه الأرش، وإن كان السم لا يقتل
في الغالب وقد يقتل بفعل الرجل في نفسه عمد خطأ والحكم في شريكه كالحكم في شريك الخاطئ
وإذا لم يجب القصاص فعلى الجارح نصف الدية، وإن كان السم يقتل غالبا بعد مدة احتمل أن
يكون عمدا الخطأ أيضا لأنه لم يقصد القتل إنما قصد التداوي فيكون كالذي قتله واحتمل أن يكون
في حكم العمد فيكون في شريكه الوجهان المذكوران في الفصل الذي قبله، وان جرح رجل فخاط
جرحه أو أمر غيره فخاطه له وكان ذلك مما يجوز أن يقتل فحكمه حكم ما لو شرب سما يجوز ان يقتل
على ما مضى فيه وان خاطه غيره بغير اذنه كرها فهما قاتلان عليهما القود، وان خاطه وليه أو الإمام
وهو ممن لا ولاية عليه فهما كالأجنبي وإن كان لهما عليه ولاية فلا قود عليهما لأن فعلهما جائز لهما إذ
لهما مداواته فيكون ذلك خطأ وهل على الجارح القود؟ فيه وجهان بناء على شريك الخاطئ
381

(مسألة) قال (ودية العبد قيمته وان بلغت ديات)
أجمع أهل العلم أن في العبد الذي لا تبلغ قيمته دية الحر قيمته وان بلغت قيمته دية الحر أو زادت
عليها، فذهب احمد رحمه الله إلى أن فيه قيمته بالغة ما بلغت وان بلغت ديات عمدا كان القتل أو خطأ
سواء ضمن باليد أو بالجناية وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز
وإياس بن معاوية والزهري ومكحول ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبي يوسف وقال
النخعي والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد لا تبلغ به دية الحر، وقال أبو حنيفة ينتقص عن دية
الحر دينارا أو عشرة دراهم القدر الذي يقطع به السارق وهذا إذا ضمن بالجناية وان ضمن باليد
بأن يغضب عبدا فيموت في يده فإن قيمته تجب وان زادت على دية الحر واحتجوا بأنه ضمان آدمي
فلم يزد على دية الحر كضمان الحر وذلك لأن الله تعالى لما أوجب في الحر دية لا تزيد وهو أشرف
لخلوصه من نقيصة الرق كان تنبيها على أن دية العبد المنقوص لا يزاد عليها فنجعل مالية العبد معيارا لقدر
الواجب فيه ما لم يزد على الدية فإذا زاد علمنا خطأ ذلك فنرده إلى دية الحر كأرش ما دون الموضحة
يجب فيه ما تخرجه الحكومة ما لم يزد على أرش الموضحة فنرده إليها
ولنا انه مال متقوم فيضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت كالفرس أو مضمون بقيمته فكانت جميع
382

القيمة كما لو ضمنه باليد ويخالف الحر فإنه ليس بمضمون بالقيمة وإنما ضمن بما قدره الشرع فلم يتجاوزه
ولان ضمان الحر ليس بضمان مال ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته وهذا ضمان مال يزيد بزيادة
المالية وينقص بنقصانها فاختلفا، وقد حكى أبو الخطاب عن أحمد رحمه الله رواية أخرى انه لا يبلغ
بالعبد دية الحر والمذهب الأول
(باب القود)
القود القصاص ولعله إنما سمي بذلك لأن المتقص منه في الغالب يقاد بشئ يربط فيه أو بيده
إلى القتل فسمي القتل قودا لذلك
383

(مسألة) قال (ولو شق بطنه فأخرج حشوته فقطعها فأبانها منه ثم ضرب عنقه آخر
فالقاتل هو الأول ولو شق بطنه ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأن الأول لا يعيش
مثله والثاني قد يعيش مثله)
وجملته انه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل
قطع حشوته أي ما في بطنه وإبانتها منه أو ذبحه ثم ضرب عنقه الثاني فالأول هو القاتل لأنه لا يبقى
مع جنايته حياة فالقود عليه خاصة وعلى الثاني التعزير كما لو جنى على ميت، وان عفا الولي إلى الدية
فهي على الأول وحده وإن كان جرح الأول يجوز بقاء الحياة معه مثل شق البطن من غير إبانة
الحشوة أو قطع طرف ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأنه لم يخرج الأول من حكم الحياة
فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس والدية كاملة ان عفا عنه، ثم ننظر في جرح
الأول فإن كان موجبا للقصاص كقطع الطرف فالولي مخير بين قطع طرفه والعفو عن ديته مطلقا
وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة ونحوها فعليه الأرش وإنما جعلنا عليه القصاص لأن فعل الثاني
قطع سراية جراحه فصار كالمندمل الذي لا يسري وهذا مذهب الشافعي ولا اعلم فيه مخالفا ولو كان
جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة
384

مثل خرق المعى أو أم الدماغ فضرب الثاني عنقه فالقاتل هو الثاني لأنه فوت حياة مستقرة وقيل
هو في حكم الحياة بدليل أن عمر رضي الله عنه لما جرح دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج يصلد
فعلم الطبيب انه ميت فقال أعهد إلى الناس فعهد إليهم وأوصى وجعل الخلافة إلى أهل الشورى فقبل
الصحابة عهده واجمعوا على قبول وصاياه وعهده، فلما كان حكم الحياة باقيا كان الثاني مفوتا لها فكان هو
القاتل كما لو قتل عليلا لا يرجى برء علته
(فصل) إذا ألقى رجلا من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقتله فالقصاص على من قتله لأنه فوت
حياته قبل المصير إلى حال يئسوا فيها من حياته فأشبه ما لو رماه انسان بسهم قاتل فقطع آخر عنقه قبل وقوع
السهم به أو ألقى عليه صخرة فأطار آخر رأسه بالسيف قبل وقوعها عليه، وبهذا قال الشافعي ان
رماه من مكان يجوز أن يسلم منه وان رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان. (أجدهما) كقولنا
(والثاني) الضمان عليهما بالقصاص والدية عنه سقوطه لأن كل واحد منهما سبب للاتلاف
ولنا أن الرمي سبب والقتل مباشرة فانقطع حكم السبب كالدافع مع الحافر والجارح مع الذابح
وكالصور التي ذكرنا وما ذكروه باطل بهذه الأصول المذكورة
385

(مسألة) قال (وإذا قطع يديه ورجليه ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه
قتل ولم تقطع يده ولا رجلاه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله، والرواية
الأخرى قال إنه لأهل أن يفعل به كما فعل فإن عفا عنه الولي فعليه دية واحدة)
وجملة ذلك أن الرجل إذا جرح رجلا ثم ضرب عنقه قبل اندمال الجرح فالكلام في المسألة
في حالين (أحدهما) أن يختار الولي القصاص فاختلف الرواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء فروي
عنه لا يستوفى الا بالسيف في العنق وبه قال عطاء والثوري وأبو يوسف ومحمد لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا قود الا بالسيف " رواه ابن ماجة ولان القصاص أحد بدلي النفس فدخل الطرف
في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الامر إلى الدية لم تجب الا دية النفس ولان القصد من القصاص في النفس
تعطيل الكل واتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعديته باتلاف أطرافه كما لو
قتله بسيف كال فإنه لا يقتل بمثله. والرواية الثانية عن أحمد قال إنه لا هل أن يفعل به كما فعل يعني
أن للمستوفي أن يقطع أطرافه ثم يقتله وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبي حنيفة
وأبي ثور لقول الله تعالى (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقوله سبحانه (فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ولان النبي صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي لرضه رأس جارية من
386

الأنصار بين حجرين، ولان الله تعالى قال (والعين بالعين) وهذا قد قلع عينه فيجب أن تقلع عينه
للآية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه " ولان القصاص موضوع
على المماثلة ولفظه مشعر به فوجب أن يستوفي منه مثل ما فعل كما لو ضرب العنق آخر غيره، فأما
حديث " لا قود الا بالسيف " فقال أحمد ليس اسناده بجيد
(الحال الثاني) أن يصير الامر إلى الدية اما بعفو الولي أو كون الفعل خطأ أو شبه عمد أو غير
ذلك فالواجب دية واحدة وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم تجب دية الأطراف المقطوعة
ودية النفس لأنه لما قطع بسراية الجرح بقتله صار كالمستقر فأشبه ما لو قتله غيره ولهذا لم يسقط القصاص فيه
ولنا أنه قتل قبل استقرار الجرح فدخل أرش الجراحة في أرش النفس كما لو سرت إلى نفسه
والقصاص في الأطراف على إحدى الروايتين لا يجب وان وجب فإن القصاص لا يشبه الدية لأن
سراية الجرح لا تسقط القصاص فيه وتسقط ديته
(فصل) ومتى قلنا له ان يستوفي بمثل ما فعل بوليه فأحب أن يقتصر على ضرب عنقه فله ذلك
وهو أفضل وان قطع أطرافه التي قطعها الجاني أو بعضهم ثم عفا عن قتله فكذلك لأنه تارك بعض
حقه وان قطع بعض أطرافه ثم عفا إلى الدية لم يكن له ذلك لأن جميع ما فعل بوليه لا يجب به الا
دية واحدة فلا يجوز ان يستوفي بعضه ويستحق كمال الدية فإن فعل فله ما بقي من الدية فإن لم يبق
387

منها شئ فلا شئ له، وان قلنا ليس له أن يستوفي الا بضرب العنق فاستوفى منه بمثل ما فعل فقد أساء ولا شئ
عليه سوى المأثم لأن فعل الجاني في الأطراف لم يوجب عليه شيئا يختص بها فكذلك فعل المستوفي إن قطع
الجاني طرفا واحدا ثم عفا إلى الدية لم يكن له الا تمامها وان قطع ما تجب به الدية ثم عفا لم يكن له شئ وان
قطع ما يجب به أكثر من الدية ثم عفا احتمل أن يلزمه ما زاد على الدية لأنه لا يستحق أكثر من دية وقد فعل
ما يوجب أكثر منها فكانت الزيادة عليه، واحتمل أن لا يلزمه شئ لأنه لو قتله لم يلزمه شئ
فإذا ترك قتله وعفا عنه فأولى أن لا يلزمه شئ ولأنه فعل بعض ما فعل بوليه فلم يلزمه شئ كما لو قلنا
إن له أن يستوفي ما فعل به
(فصل) فإن قطع يديه ورجليه أو جرحه جرحا يوجب القصاص إذا انفرد فسرى إلى النفس
فله القصاص في النفس وهل له أن يستوفي القطع قبل القتل؟ على روايتين ذكرهما القاضي وبناهما
على الروايتين المذكورتين في المسألة (وإحداهما) ليس له قطع الطرف وهو مذهب أبي حنيفة لأن
ذلك يفضي إلى الزيادة على ما جناه الأول والقصاص يعتمد المماثلة، فمتى خيف فيه الزيادة سقط كما لو
قطع يده من نصف الذراع (والثانية) يجب القصاص في الطرف فإن مات به والا ضربت عنقه وهذا
مذهب الشافعي لما ذكرناه في المسألة، وذكر أبو الخطاب أنه لا يقتص منه في الطرف رواية
واحدة وأنه لا يصح تخريجه على الروايتين في المسألة لافضاء هذا إلى الزيادة بخلاف المسألة والصحيح
388

تخريجه على الروايتين وليس هذا بزيادة لأن فوات النفس بسراية فعله وسراية فعله كفعله
فأشبه ما لو قطعه ثم قتله ولان زيادة الفعل في الصورة محتمل في الاستيفاء كما لو قتله بضربة فلم يمكن
قتله في الاستيفاء الا بضربتين
(فصل) وان جرحه جرحا لا قصاص فيه ولا يلزم فوات الحياة به مثل ان أجافه أو أمه أو قطع
يده من نصف ذراعه أو رجله من نصف ساقه فمات منه أو قطع يدا ناقصة الأصابع أو شلاء أو زائدة
ويد القاطع أصلية صحيحة فالصحيح في المذهب أنه ليس له فعل مثل ما فعل وليس له أن يقتص الا في
العنق بالسيف ذكره أبو بكر والقاضي، وقال غيرهما فيه رواية أخرى أن له أن يقتص بمثل ما فعله
لأنه صار قتلا فكان له القصاص بمثل فعله كما لو رض رأسه بحجر فقتله به، والصحيح الأول لأن هذا
لو انفرد لم يكن فيه قصاص فلم يجز القصاص فيه مع القتل كما لو قطع يمينه ولم يكن للقاطع يمين لم يكن
له ان يستوفي من يساره، وفارق ما إذا رض رأسه فمات لأن ذلك الفعل قتل مفرد وههنا قتل وقطع
وانقطع لا يوجب قصاصا فبقي مجرد القتل فإذا جمع المستوفي بينهما فقد زاد قطعا لم يرد الشرع باستيفائه
فيكون حراما وسواء في هذا ما إذا قطع ثم قتل عقيبه وبين ما إذا قطع فسرى إلى النفس
(فصل) فأما قطع اليمنى ولا يمنى للقاطع أو اليد ولا يد له أو قلع العين ولا عين له فمات المجني عليه
فإنه يقتل بالسيف في العنق ولا قصاص في طرفه ولا أعلم فيه خلافا لأن القصاص إنما يكون من
389

مثل العضو المتلف وهو ههنا معدوم ولان القصاص فعل مثل ما فعل الجاني ولا سبيل إليه ولأنه لو
قطع ثم عفا عن القتل لصار مستوفيا رجلا ممن لم يقطع له مثلها أو اذنا بدلا عن عين وهذا غير جائز وهذا
يدل على فساد الوجه الثاني في الفصل الذي فيه
(فصل) وان قتله بغير السيف مثل ان قتله بحجر أو هدم أو تغريق أو خنق فهل يستوفي القصاص
بمثل فعله؟ فيه روايتان (إحداهما) له ذلك وهو قول مالك والشافعي (والثانية) لا يستوفي الا بالسيف
في العنق وبه قال أبو حنيفة فيما إذا قتله بمثقل الحديد على إحدى الروايتين عنده أو جرحه فمات، ووجه
الروايتين ما تقدم في أول المسألة ولان هذا لا تؤمن معه الزيادة على ما فعله الجاني فلا يجب القصاص
بمثل آلته كما لو قطع الطرف بآلة كآلة أو مسمومة أو بالسيف فإنه لا يستوفي بمثله ولان هذا لا يقتل
به المرتد فلا يستوفي به القصاص كما لو قتله بتجريع الخمر أو بالسحر، ولا تفريع على هذه الرواية فأما على
الرواية الأخرى فإنه إذا فعل به مثل فعله فلم يمت قتله بالسيف وهذا أحد قولي الشافعي والقول الثاني
أنه يكرر عليه ذلك الفعل حتى يموت به لأنه قتله بذلك فله قتله بمثله
ولنا أنه قد فعل به مثل فعله فلم يزد عليه كما لو جرحه جرحا أو قطع منه طرفا فاستوفى منه الولي
مثله فلم يمت به فإنه لا يكرر عليه الجرح بغير خلاف ويعدل إلى ضرب عنقه فكذا ههنا
(فصل) وان قتله بما لا يحل لعينه مثل أن لاط به فقتله أو جرعه خمرا أو سحره لم يقتل بمثله اتفاقا
390

ويعدل إلى القتل بالسيف، وحكى أصحاب الشافعي فيمن قتله باللواط وتجريع الخمر وجها آخر أنه يدخل
في دبره خشبة يقتله بها ويجرعه الماء حتى يموت
ولنا أن هذا محرم لعينه فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف كما لو قتله بالسحر، وان حرقه
فقال بعض أصحابنا لا يحرق لأن التحريق محرم لحق الله تعالى لقول الله النبي صلى الله عليه وسلم " لا يعذب
بالنار الا رب النار " ولأنه داخل في عموم الخبر، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال القاضي الصحيح
أن فيه روايتين كالتغريق:
(إحداهما) يحرق وهو مذهب الشافعي لما روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من حرق
حرقناه، ومن غرق غرقناه " وحملوا الحديث الأول على غير القصاص في المحرق
(فصل) إذا زاد مستوفى القصاص في النفس على حقه مثل أن يقتل وليه فيقطع المقتص أطرافه
أو بعضها نظرنا فإن عفا عنه بعد قطع طرفه فعليه ضمان ما أتلف بديته وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك
والشافعي وابن المنذر وأبو يوسف ومحمد لا ضمان عليه ولكن قد أساء ويعزر وسواء عفا عن القاتل
أو قتله لأنه قطع طرفا من جملة استحق اتلافها فلم يضمنه كما لو قطع أصبعا من يد يستحق قطعها
ولنا انه قطع طرفا له قيمة حال القطع بغير حق فوجب عليه ضمانه كما لو قطع عفا عنه ثم قطعه أو كما
لو قطعه أجنبي، فأما ان قطعه ثم قتله احتمل ان يضمنه أيضا لأنه يضمنه إذا عفا عنه فكذلك إذا
391

لم يعف عنه لأن العفو احسان فلا يكون موجبا للضمان واحتمل أن لا يضمنه وهو قول أبي حنيفة لأنه
لو قطع متعديا ثم قتل لم يضمن الطرف فلان يضمنه إذا كان القتل مستحقا أولى
فأما القصاص فلا يجب في الطرف بحال ولا نعلم في هذا خلافا لأن القصاص عقوبة تدرأ بالشبهات
والشبهة ههنا متحققة لأنه متحقق لاتلاف هذا الطرف ضمنا لاستحقاقه اتلاف الجملة ولا يلزم من
سقوط القصاص أن لا تجب الدية بدليل امتناعه لعدم المكافات. فأما إن كان الجاني قطع طرفه ثم
قتله فاستوفى منه بمثل فعله فقد ذكرناه فيما مضى وان قطع طرفا غير الذي قطعه الجاني كان الجاني
قطع يده فقطع المستوفي رجله احتمل أن يكون بمنزلة ما لو قطع يده لأن ديتهما واحدة واحتمل أن
تلزمه دية الرجل لأن الجاني لم يقطعها فأشبه ما لو لم يقطع يده
(فصل) فأما ان كانت الزيادة في الاستيفاء لأنه الطرف مثل ان استحق قطع أصبع فقطع
اثنتين فحكمه حكم القاطع ابتداء إن كان عقدا من مفصل أو شجة يجب في مثلها القصاص فعليه
القصاص في الزيادة، وإن كان خطأ أو جرحا لا يوجب القصاص مثل من يستحق موضحة فاستوفاها
هاشمة فعليه أرش الزيادة الا أن يكون ذلك بسبب من الجاني كاضطرابه حال الاستيفاء فلا شئ
على المقتص لأنه حصل بفعل الجاني، فإن اختلفا هل فعله خطأ أو عمدا؟ فالقول قول المقتص مع يمينه
لأن هذا مما يمكن الخطأ فيه وهو أعلم بقصده، وان قال المقتص حصل هذا باضطرابك أو فعل من
392

جهتك فالقول قول المقتص منه لأنه منكر فإن سرى الاستيفاء الذي حصلت فيه الزيادة إلى نفس
المقتص منه فمات أو إلى بعض أعضائه مثل أن قطع أصبعه فسرى إلى جميع يده أو اقتص منه بآلة
كآلة أو مسمومة أو في حال حر مفرط أو برد شديد فسرى فقال القاضي على المقتص نصف الدية
لأنه تلف بفعلين جائز ومحرم ومضمون وغير مضمون فانقسم الواجب عليهما نصفين كما لو جرحه
جرحا في حال ردته بعد وجرحا بعد اسلامه فمات منهما وهذا كله مذهب الشافعي ويحتمل أن يلزمه ضمان السراية
كلها فيما إذا اقتص بآلة مسمومة أو كآلة لأن الفعل كله محرم بخلاف قطع الإصبعين فإن أحدهما مباح
(فصل) قال القاضي ولا يجوز استيفاء القصاص الا بحضرة السلطان وحكاه عن أبي بكر وهو
مذهب الشافعي لأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد ويحرم الحيف فيه فلا يؤمن الحيف مع قصد التشفي فإن
استوفاه من غير حضرة السلطان وقع الموقع ويعزر لافتياته بفعل ما منع فعله ويحتمل أن يجوز الاستيفاء
بغير حضور السلطان إذا كان القصاص في النفس لأن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يقوده بنسعة فقال
إن هذا قتل أخي فاعترف بقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فاقتله " رواه مسلم بمعناه ولان اشتراط
حضور السلطان لا يثبت الا بنص أو اجماع أو قياس ولم يثبت ذلك ويستحب أن يحضر شاهدين
393

لئلا يجحد المجني عليه الاستيفاء، وإذا أراد الولي الاستيفاء فعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفي
بها فإن كانت كآلة منعها الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول
وقد روى شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا
القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " وان كانت مسمومة منعه الاستيفاء
بها لأنها تفسد البدن وربما منعت غسله وان عجل فاستوفى بآلة كآلة أو مسمومة عزر وإن كان السيف صارما غير
مسموم نظر في الولي فإن كان يحسن الاستيفاء ويكمله بالقوة والمعرفة مكنه منه لقوله تعالى (ومن قتل
مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) وقال عليه السلام (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا
وان أحبوا اخذوا الدية " ولأنه حق له متميز فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق
وان لم يحسن الاستيفاء. أمره بالتوكيل لأنه عاجز عن استيفاء حقه، فإن ادعى الولي المعرفة بالاستيفاء
فأمكنه السلطان من ضرب عنقه فضرب عنقه فأبانه فقد استوفى حقه وان أصاب غيره وأقر بتعمد
ذلك عزر. وان قال أخطأت وكانت الضربة في موضع قريب من العنق كالرأس والمنكب قبل قوله
مع يمينه لأن هذا مما يجوز الخطأ في مثله. وإن كان بعيدا كالوسط والرجلين لم يقبل قوله لأن
مثل هذا لا يقع الخطأ فيه ثم إن أراد العود ففيه وجهان (أحدهما) لا يمكن منه لأنه تبين منه انه لا
يحسن الاستيفاء ويحتمل العود إلى مثل فعله (والثاني) يمكن منه قاله القاضي لأن الظاهر تحرزه
394

عن مثل ذلك ثانيا. وإن كان الولي لا يحسن الاستيفاء أمره بالتوكيل فيه لأنه حقه فكان له التوكيل
في استيفائه كسائر حقوقه فإن لم يجد من يوكله إلا بعوض أخذ العوض من بيت المال
قال بعض أصحابنا يرزق من بيت المال رجل يستوفي الحدود والقصاص لأن هذا من المصالح
العامة فإن لم يحصل ذلك فالأجرة على الجاني لأنها اجرة لايفاء الحق الذي عليه فكانت عليه كأجرة
الكيال في بيع الكيل. ويحتمل أن تكون على المقتص لأنه وكيله فكانت الأجرة على موكله كسائر
المواضع والذي على الجاني التمكين دون الفعل ولهذا لو أراد أن يقتص من نفسه لم يمكن منه ولأنه
لو كانت عليه أجرة التوكيل للزمته أجرة الولي إذا استوفى بنفسه. وان قال الجاني أنا أقتص لك
من نفسي لم يلزم تمكينه ولم يجز ذلك له لأن الله تعالى قال (ولا تقتلوا أنفسكم) ولان معنى القصاص
أن يفعل به كما فعل ولان القصاص حق عليه لغيره فلم يجز أن يكون هو المستوفي له كالبائع لا يستوفي من نفسه
(فصل) وإن كان القصاص لجماعة من الأولياء وتشاحوا في المتولي منهم للاستيفاء أمروا بتوكيل
أحدهم أو واحد من غيرهم ولم يجز أن يتولاه جميعهم لما فيه من تعذيب الجاني وتعدد أفعالهم فإن
لم يتفقوا على واحد وتشاحوا وكان كل واحد منهم يحسن الاستيفاء أقرع بينهم لأن الحقوق إذا
تساوت وعدم الترجيح صرنا إلى القرعة كما لو تشاحوا في تزويج موليتهم فمن خرجت له القرعة
أمر الباقون بتوكيله ولا يجوز له الاستيفاء بغير اذنهم لأن الحق لهم فلا يجوز استيفاؤه بغير اذنهم.
وان لم يتفقوا على توكيل واحد منعوا الاستيفاء حتى يوكلوا
395

(مسألة) قال (وان كانت الجراح برئت قبل قتله فعلى المعفو عنه ثلاث ديات الا أن
يريدوا القود فيقيدوا ويأخذوا من ماله ديتين)
أما إذا قطع يديه ورجليه فبرئت جراحه ثم قتله فقد استقر حكم القطع ولولي القتيل الخيار ان
شاء عفا وأخذ ثلاث ديات دية لنفسه ودية ليديه ودية لرجليه وان شاء قتله قصاصا بالقتل وأخذ
ديتين لأطرافه وان أحب قطع أطرافه الأربعة وأخذ دية لنفس وأن أحب قطع يديه وأخذ ديتين
لنفسه ورجليه وإن أحب قطع رجليه وأخذ ديتين لنفسه ويديه وان أحب قطع طرفا واحدا وأخذ
دية الباقي وإن أحب قطع ثلاثة أطراف وأخذ دية الباقي وكذلك سائر فروعها لأن حكم القطع استقر
قبل القتل بالاندمال فلم يتغير حكمه بالقتل الحادث بعده كما لو قتله أجنبي ولا نعلم في هذا مخالفا
(فصل) فإن اختلف الجاني والولي في اندمال الجرح قبل القتل وكانت المدة بينهما يسيرة لا
يحتمل اندماله في مثلها فالقول قول الجاني بغير يمين وان اختلفا في مضي المدة فالقول قول الجاني
مع يمينه لأن الأصل عدم مضيها وان كانت المدة مما يحتمل البرء فيها فالقول قول الولي مع يمينه لأنه
قد وجد سبب وجوب دية اليدين بقطعهما والجاني يدعي سقوط ديتهما بالقتل والأصل عدم ذلك
فإن كانت للجاني بينة ببقاء المجني عليه ضمنا حتى قتله حكم له ببينة وإن كان للولي بينة ببرئه
396

حكم له أيضا. وان تعارضتا قدمت بينة الولي لأنها مثبتة للبرء. ويحتمل أن يكون القول قول الجاني
إذا لم يكن لهما بينة لأن الأصل بقاء الجراحة وعدم اندمالها. وان قطع أطرافه فمات واختلفا هل
برأ قبل الموت أو مات بسراية الجرح أو قال الولي ان مات بسبب آخر كأن لدغ أو ذبح نفسه أو
ذبحه غيره فالحكم فيما إذا مات بغير سبب آخر كالحكم فيما إذا قتله سواء وأما إذا مات بقتل أو سبب
آخر ففيه وجهان (أحدهما) تقديم قول الجاني لأن الظاهر بقاء الجناية والأصل عدم سبب آخر
فيكون الظاهر معه (والثاني) القول قول ولي الجناية لأن الأصل بقاء الديتين وجد سببهما حتى
يوجد ما يزيلهما فإن كانت دعواهما بالعكس فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك القصاص في النفس
فقال الجاني بل اندملت جراحه قبل موته أو ادعى موته بسب آخر فالقول قول الولي مع يمينه
لأن الجرح سبب للموت فقد تحقق، والأصل عدم الاندمال وعدم سبب آخر يحصل الزهوق به
وسواء كان الجرح فيما يجب به القصاص في الطرف كقطع اليد من مفصل ولا يوجبه كالجائفة والقطع
من غير مفصل، وهذا كله مذهب الشافعي
397

(مسألة) قال (ولو رمى وهو مسلم كافرا عبدا فلم يقع به السهم حتى عتق وأسلم
فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من سهمه)
هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي وقال أبو بكر يجب القود لأنه قتل مكافئا له ظلما عمدا
فوجب القصاص كما لو كان حرا مسلما حال الرمي يحققه أن الاعتبار بحال الجناية بدليل ما لو رمى
مسلما حيا فلم يقع به السهم حتى ارتد أو مات لم يلزمه شئ، ولو رمى عبدا كافرا فلم يقع به السهم
حتى عتق وأسلم فعليه دية حر مسلم، وقال أبو حنيفة يلزمه في العبد دية عبد لمولاه لأن الإصابة
ناشئة عن ارسال السهم فكان الاعتبار بها كحالة الجرح. فأما الكافر فمذهبه أن ديته دية المسلم
وأنه يقتل به المسلم وكذلك يقتل الحر بالعبد
ولنا على درء القصاص أنه لم يتعد إلى نفس مكافئته له حال الرمي فلم يجب عليه قصاص كما لو رمى
حربيا أو مرتدا فأسلم وعلى أبي حنيفة أنه أتلف حرا فضمنه ضمان الأحرار كما لو قصد صيدا وما قاله
يبطل بما إذا رمى حيا فأصابه ميتا، أو صحيحا فأصابه معيبا
ولنا على أن ديته تجب لورثته دون سيده وانه إذا أسلم تجب ديته لورثته المسلمين دون الكفار
ان مات مسلما حرا فكانت ديته لورثته المسلمين كما لو كان كذلك حال رميه ولان الميراث إنما
398

يستحق بالموت فتعتبر حاله حينئذ لا حين سبب الموت بدليل ما لو مرض وهو عبد كافر ثم أسلم ومات
بتلك العلة والواجب بدل المحل فيعتبر بالمحل الذي فات بها فيجب بقدره وقد فات بها نفس
حر مسلم والقصاص جزاء الفعل فيعتبر الفعل فيه والإصابة معا لأنهما طرفاه فلذلك لم يجب القصاص بقتله
(فصل) ولم يفرق الخرقي بين كون الكافر ذميا أو غيره الا أنه يتعين التفريق فيه فمتى رمى
إلى حربي في دار الحرب فأسلم قبل وقوع الرمية به فلا دية له وفيه الكفارة لأنه رمي مندوب إليه
مأمور به فأشبه ما لو قتله في دار الحرب يظنه حربيا وكان قد أسلم وكتم اسلامه وفيه رواية أخرى أن
فيه الدية على عاقلة القاتل لأنه نوع خطأ فكذلك ههنا ولو رمى مرتدا في دار الاسلام فأسلم ثم وقع
السهم به ضمنه لأنه مفرط بارسال سهمه عليه لأن قتل المرتد إلى الإمام لا إلى آحاد الناس
وقتله بالسيف لا بالسهم
(فصل) ولو رمى حربيا فتترس بمسلم فأصابه فقتله نظرنا فإن كان تترس به بعد الرمي ففيه
الكفارة وفي الدية على عاقلة الرامي روايتان كالتي قبلها وإن تترس به قبل الرمي لم يجز رميه الا أن
يخاف على المسلمين فيرمي الكافر ولا يقصد المسلم فإذا قتله ففي ديته أيضا روايتان وان رماه من غير
خوف على المسلم فقتله فعليه ديته لأنه لم يجز له رميه
(فصل) ولو قطع يد عبد ثم أعتق ومات أو يد ذمي ثم أسلم ومات ففيه وجهان (أحدهما) الواجب
399

دية حر مسلم لورثته ولسيده منها أقل الأمرين من ديته أو أرش جنايته اعتبارا بحال استقرار الجناية
وقال القاضي وأبو بكر تجب قيمة العبد بالغة ما بلغت مصروفة إلى السيد اعتبارا بحال الجناية لأنها
الموجب للضمان فاعتبرت حال وجودها ومقتضى قولهما ضمان الذمي الذي أسلم بدية ذمي ويلزمهما على
هذا أن يصرفاها إلى ورثته من أهل الذمة وهو غير صحيح لأن الدية لا تخلو من أن تكون مستحقة
للمجني عليه أو لورثته فإن كانت له وجب أن تكون لورثته المسلمين كسائر أمواله وأملاكه كالذي
كسبه بعد جرحه وإن كانت تحدث على ملك ورثته فورثته هم المسلمون دون الكفار.
(فصل) وإذا قطع أنف عبد قيمته ألف دينار فاندمل ثم أعتقه السيد وجبت قيمته بكمالها للسيد
وإن أعتقه ثم اندمل فكذلك لأنه إنما استقر بالاندمال ما وجب بالجناية والجناية كانت في ملك
سيده، وإن مات من سراية الجرح فكذلك في قول أبي بكر والقاضي وهو قول المزني لأن الجناية
يراعى فيها حال وجودها. وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد
ثم أعتق ومات ففيه قيمته لا الدية ومقتضى قول الخرقي أن الواجب فيه دية حر وهو مذهب الشافعي لأن
اعتبار الجناية بحالة الاستقرار وقد ذكرناه وتصرف إلى السيد لأنه استحق أقل الأمرين من ديته أو
أرش الجرح والدية ههنا أقل الأمرين وما ذكروه ينتقض بما إذا قطع يديه ورجليه فمات بسراية
الجرح فإن الواجب دية النفس لا دية الجرح
400

(فصل) وإن قطع يد عبد فأعتق ثم عاد فقطع رجله واندمل القطعان فلا قصاص في اليد لأنها
قطعت في حال رقه ويجب فيها نصف قيمته أو ما نقصه القطع لسيده ويجب القصاص في الرجل التي
قطعها حال حريته أو نصف الدية ان عفا عن القصاص لورثته، وان اندمل قطع اليد وسرى قطع الرجل
إلى نفسه ففي اليد نصف القيمة لسيده وعلى القاطع القصاص في النفس أو الدية كاملة لورثته، وان
اندمل قطع الرجل وسرى قطع اليد ففي الرجل القصاص بقطعها أو نصف الدية لورثته ولا قصاص
في اليد ولا في سرايتها وعلى الجاني دية حر لسيده منها أقل الأمرين من أرش القطع أو دية الحر على
قول ابن حامد وعلى أبي بكر والقاضي تجب قيمة العبد لسيده اعتبارا بحال جنايته، وإن سرى
الجرحان لم يجب القصاص في النفس ولا اليد لأنه مات من جرحين موجب وغير موجب فلم يجب
القصاص كما لو جرحه جرحين عمدا وخطأ ولكن يجب القصاص في الرجل لأنه قطعها من حر فإن
اقتص منه وجب نصف الدية لأنه مات من جنايته وقد استوفى منه ما يقابل نصف الدية وللسيد أقل الأمرين
من نصف القيمة أو نصف الدية، فإن زاد نصف الدية على نصف القيمة كان الزائد للورثة
وان عفا ورثته عن القصاص فلهم أيضا نصف الدية، وإن كان قاطع الرجل غير قاطع اليد واندمل
الجرحان فعلى قاطع اليد نصف القيمة لسيده وعلى قاطع الرجل القصاص فيها أو نصف الدية وان سرى
الجرحان إلى نفسه فلا قصاص على الأول لأنه قطع يد عبد وعليه نصف دية حر لأن المجني عليه حر
401

في حال قرار الجناية وعلى الثاني القصاص في النفس إذا كان عمد القطع لأنه شارك في القتل عمدا
عدوانا فهو كشريك الأب، ويتخرج أن لا قصاص عليه في النفس لأن الروح خرجت من سراية
قطعين موجب وغير موجب بناء على شريك الأب، وان عفا عنه إلى الدية فعليه نصف دية حر وان
قلنا بوجوب القصاص في النفس خرج في وجوبه في الطرف روايتان، وان قلنا لا تجب في النفس
وجب في الرجل
(فصل) وان قلع عين عبد ثم أعتق ثم قطع آخر يده ثم قطع آخر رجله فلا قود على الأول سواء
اندمل جرحه أو سرى وأما الآخران فعليهما القود في الطرفين ان وقف قطعهما أو ديتهما ان عفا
عنهما وان سرت الجراحات كلها فعليهما القصاص في النفس لأن جنايتهما صارت نفسا وفي ذلك وفي
القصاص في الطرف اختلاف وقد ذكرناه، وان عفا عنهما فعليهم الدية أثلاثا وفيما يستحقه السيد وجهان
(أحدهما) أقل الأمرين من نصف القيمة أو ثلث الدية هذا قياس قول أبي بكر لأنه بالقطع
استحق نصف القيمة فإذا صارت نفسا وجب فيها ثلث الدية فكان له أقل الأمرين
(والثاني) له أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية لأن الجناية إذا صارت نفسا كان
الاعتبار. بما آلت إليه، ألا ترى انه لو جنى الجانيان الآخران قبل العتق أيضا لم يكن على الأول الا
ثلث القيمة فلا يزيد حقه بالعتق كما لو قلع رجل عينه ثم باعه سيده ثم قطع آخر يده وآخر رجله ثم
402

مات فإنه يكون للأول ثلث القيمة، وإن كان أرش الجناية نصف القيمة فإذا قلنا بالوجه الأول فلو
كان الأول قطع أصبعيه أو هشمه والجانيان في الحرية قطعا يده فالدية عليهم أثلاثا للسيد منها أقل الأمرين
من أرش الإصبع وهو عشر القيمة أو ثلث الدية، ولو كان الجاني في حال الرق قطع يديه
والجانيان في الحرية قطعا رجليه وجبت الدية أثلاثا وكان للسيد منها أقل الأمرين من جميع قيمته أو
ثلث الدية وعلى الوجه الآخر يكون له في الفرعين أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية
(فصل) فإن كان الجانيان في حال الرق والواحد في حال الحرية فمات فعليهم الدية وللسيد من
ذلك في أحد الوجهين أقل الأمرين من أرش الجنايتين أو ثلثي الدية وعلى الآخر أقل الأمرين من
ثلثي القيمة أو ثلثي الدية
(فصل) وإن كان الجنة أربعة واحد في الرق وثلاثة في الحرية ومات كان للسيد في أحد الوجهين الأقل
من أرش الجناية أو ربع الدية وعلى الآخر الأقل من ربع القيمة أو ربع الدية. وإن كان الثلاثة
في الرق والواحد في الحرية كان للسيد أقل الأمرين من أرش الجنايات وثلاثة أرباع الدية في أحد
الوجهين وفي الآخر الأقل من ثلاثة أرباع القيمة أو ثلاثة أرباع الدية ولو كانوا عشرة واحد في
الرق وتسعة في الحرية فالدية عليهم وللسيد فيها بحساب ما ذكرنا على اختلاف الوجهين
(فصل) فإن قطع يده ثم أعتق فقطع آخر رجله ثم عاد الأول فقتله بعد الاندمال فعليه القصاص
للورثة ونصف القيمة للسيد وعلى الآخر القصاص للورثة في الرجل أو نصف الدية، فإن كان قبل
403

الاندمال فعلى الجاني الأول القصاص في النفس دون اليد لأنه قطعها في رقه فإن اختار الورثة القصاص
في النفس سقط حق السيد لأنه لا يجوز أن يستحق عليه النفس وأرش الطرف قبل الاندمال فإن
الطرف داخل في النفس في الأرش. وان اختاروا العفو فعليه الدية دون أرش الطرف لأن أرش
الطرف يدخل في النفس وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو أرش الطرف والباقي للورثة، وأما
الثاني فعليه نصف القصاص في الرجل لأن القتل قطع سرايتها فصار كما لو اندملت فإن عفا عنه فعليه
القصاص في النفس وهل يقطع طرفه؟ على روايتين. فإن عفا الورثة فعليه دية واحدة وأما الأول
فعليه نصف القيمة للسيد ولا قصاص عليه. وإن كان القاتل ثالثا فقد استقر القطعان ويكون على
الأول نصف القيمة لسيده وعلى الثاني القصاص في الرجل أو نصف الدية لورثته وعلى الثالث
القصاص في النفس أو الدية
(فصل) وإذا قطع رجل يد عبده ثم أعتقه ثم اندمل جرحه فلا قصاص عليه ولا ضمان لأنه إنما
قطع يد عبده وإنما استقر بالاندمال ما وجب بالجراح، وان مات بعد العتق بسراية الجرح فلا
قصاص فيه لأن الجناية كانت على مملوكه وفي وجوب الضمان وجهان (أحدهما) لا يجب شئ لأنه مات
بسراية جرح غير مضمون أشبه ما لو مات بسراية القطع في الحد وسراية القود ولأنا تبينا أن القطع
كان قتلا فيكون قاتلا لعده فلا يلزمه ضمانه كما لو لم يعتقه (والثاني) يضمنه بما زاد على أرش القطع
404

من الدية لأنه مات وهو حر بسراية قطع عدوان فيضمن كما لو كان القاطع أجنبيا لكن يسقط أرش
القطع لأنه في ملكه ويجب الزائد لورثته فإن لم يكن له وارث سواه وجب لبيت المال ولا يرث
السيد شيئا لأن القاتل لا يرث
(مسألة) قال وإذا قتل رجل اثنين واحدا بعد واحد فاتفق أولياء الجمع على القود أقيد
لهما وان أراد ولي الأول القود والثاني الدية أقيد للأول وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله.
وكذلك إن أراد أولياء الأول الدية والثاني القود)
وجملة ذلك أنه إذا قتل اثنين فاتفق أولياؤهما على قتله بهما قتل بهما وان أراد أحدهما القود
والآخر الدية قتل لمن أراد القود وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله سواء كان المختار للقود الثاني أو
الأول وسواء قتلهما دفعة واحدة أو دفعتين فإن بادر أحدهما فقتله وجب للآخر الدية في ماله أيهما
كان. وقال أبو حنيفة ومالك يقتل بالجماعة ليس لهم الا ذلك فإن طلب بعضهم الدية فليس له، وان
بادر أحدهم فقتل سقط حق الباقين لأن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به فكذلك إذا قتلهم واحد
قتل بهم كالواحد بالواحد
405

وقال الشافعي لا يقتل إلا بواحد سواء اتفقوا على طلب القصاص أو لم يتفقوا لأنه إذا كان
لكل واحد استيفاء القصاص فاشتراكهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق
ولنا على أبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم " فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا وان
أحبوا أخذوا العقل " فظاهر هذا ان أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية فإذا
اتفقوا على القتل وجب لهم وان اختار بعضهم الدية وجب له بظاهر الخبر، ولأنهما جنايتان لا يتداخلان
إذا كانتا خطأ أو أحدهما فلم يتداخلا في العمد كالجنايات على الأطراف وقد سلموها
ولنا على الشافعي انه محل تعلق به حقان لا يتسع لهما معا رضى المستحقان به عنهما
فيكتفى به كما لو قتل عبد عبدين خطأ فرضي بأخذه عنهما، ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز كما لو رضي
صاحب الصحيحة بالشلاء أو ولي الحر بالعبد وولي المسلم بالكافر، وفارق ما إذا كان القتل خطأ فإن
الجناية تجب في الذمة والذمة تتسع لحقوق كثيرة، وما ذكره مالك وأبو حنيفة فليس بصحيح فإن
الجماعة قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى اسقاط القصاص تغليظا للقصاص ومبالغة في الزجر
وفي مسئلتنا ينعكس هذا فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد وان قتل الثاني
والثالث لا يزداد به عليه حق بادر إلى قتل من يريد قتله وفعل ما يشتهي فعله فيصير هذا كاسقاط
القصاص عنه ابتداء مع الدية
406

(فصل) وان طلب كل ولي قتله بوليه مستقلا من غير مشاركة قدم الأول لأن حقه أسبق ولان
المحل صار مستحقا له بالقتل الأول فإن عفا ولي الأول فلولي الثاني قتله وإن طالب ولي الثاني قبل
طلب الأول بعث الحاكم إلى ولي الأول فأعلمه وإن بادر الثاني فقتله أساء وسقط حق الأول إلى الدية
وإن كان ولي الأول غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر وإن عفا أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك وان
قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفى أقرع بينهم فقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم وان
بادر غيره فقتله استوفى حقه ويسقط حق الباقين إلى الدية وإن قتلهم متفرقا وأشكل الأول
أو ادعى كل ولي أنه الأول ولا بينة لهم فأقر القاتل لأحدهم قدم باقراره وان لم يقر أقرعنا
بينهم لاستواء حقوقهم.
(فصل) وان قطع يمني رجلين فالحكم فيه كالحكم في الأنفس على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف
إلا إن أصحاب الرأي قالوا يقاد لهما جميعا ويغرم لهما دية اليد في ماله نصفين وهذا لا يصح لأنه
يفضي إلى إيجاب القود في بعض العضو والدية في بعضه والجمع بين البدل والمبدل في محل واحد
ولم يرد الشرع به ولا له نظير يقاس عليه.
(فصل) وان قطع يد رجل ثم قتل آخر ثم سرى القطع إلى نفس المقطوع فمات فهو قاتل لهما
فإذا تشاحا في المستوفى للقتل قتل بالذمي قتله لأن وجوب القتل عليه أسبق فإن القتل بالذي قطعه
407

إنما وجب عند السراية وهي متأخرة عن قتل الآخر، وأما القطع فإن لنا إنه يستوفى منه مثل ما فعل
فإنه يقطع له أولا ثم يقتل للذي قتله ويجب للأول نصف الدية ولان قلنا لا يستوفي القطع وجبت له
الدية كاملة ولم يقطع طرفه ويحتمل أن يجب له القطع على كل حال لأن القطع إنما يدخل في العقل
عند استيفاء القتل فإذا تعذر استيفاء القتل وجب استيفاء الطرف لوجوب مقتضيه وعدم المانع من
استيفائه كما لو لم يسر، ولو كان قطع اليد لم يسر إلى النفس فإنه تقطع يده أولا ثم يقتل، وسواء تقدم
القطع أو تأخر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك يقتل ولا يقطع لأنه إذا قتل تلف
الطرف فلا فائدة في القطع فأشبه ما لو كانا لواحد.
ولنا أنهما جنايتان على رجلين فلم يتداخلا كقطع يدي رجلين، وما ذكره من القياس غير
صحيح لأنه قد قال لو قطع يد رجل ثم قتله يقصد المثلة به قطع وقتل ونحن نوافقه على هذا في رواية
فقد حصل الاجماع منا ومنهم على انتفاء التداخل في الأصل فكيف نقيس عليه؟ ولكنه ينقلب
دليلا عليه فنقول قطع وقتل فيستوفى منه مثل ما فعل كما لو فعله برجل واحد يقصد المثلة به ويثبت
الحكم في محل النزاع بطريق التنبيه فإنه إذا لم يتداخل حق الواحد فحق الاثنين أولى ويبطل بهذا
ما قاله من المعنى.
(فصل) وإن قطع أصبعا من يمين رجل ويمينا لآخر وكان قطع الإصبع أسبق قطعت أصبعه
408

قصاصا وخير الآخر بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الإصبع ذكره القاضي وهو
اختيار ابن حامد ومذهب الشافعي لأنه وجد بعض حقه فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود
كمن أتلف مثليا لرجل فوجد بعض المثل وقال أبو بكر يخير بين القصاص ولا شئ له معه وبين
الدية هذا قياس قوله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية كالنفس
وإن كان قطع اليد سابقا على قطع الإصبع قطعت يمينه قصاصا ولصاحب الإصبع أرشها ويفارق
هذا ما إذا قتل رجلا ثم قطع يد آخر حيث قدمنا استيفاء القطع مع تأخره لأن قطع اليد لا يمنع
التكافؤ في النفس بدليل أنا نأخذ كامل الأطراف بناقصها وأن ديتهما واحدة ونقص الإصبع يمنع
التكافؤ في اليد بدليل أنا لا نأخذ الكاملة بالناقصة واختلاف ديتهما وأن عفا صاحب اليد قطعت
الإصبع لصاحبها إن اختار قطعها
(مسألة) قال (وإذا جرحه جرحا يمكن الاقتصاص منه بلا حيف اقتص منه)
وجملة ذلك أن القصاص يجري فيما دون النفس من الجروح إذا أمكن للنص والاجماع أما النص
فقول الله تعالى (والجروح قصاص) وروى أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر بن أنس كسرت
ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا إلا القصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله تكسر
ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا أنس كتاب الله القصاص "
409

قال فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لابره " متفق عليه وأجمع
المسلمون على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن ولان ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى
حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوبه
(فصل) ويشترط لوجوب القصاص في الجروح ثلاثة أشياء:
(أحدها) أن يكون عمدا محضا فأما الخطأ فلا قصاص فيه اجماعا ولان الخطأ لا يوجب القصاص
في النفس وهي الأصل ففيما دونها أولى ولا يجب بعمد الخطأ وهو أن يقصد ضربه بما لا يفضي إلى
ذلك غالبا مثل أن يضربه بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لأنه شبه العمد ولا
يجب القصاص إلا بالعمد المحض وقال أبو بكر يجب به القصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية
(الثاني) التكافؤ بين الجارح والمجروح وهو أن يكون الجاني يقاد من المجني عليه لو قتله
كالحر المسلم مع الحر المسلم فأما من لا يقتل بقتله فلا يقتص منه فيما دون النفس له كالمسلم مع الكافر
والحر مع العبد والأب مع ابنه لأنه لا تأخذ نفسه بنفسه فلا يؤخذ طرفه بطرفه ولا يجرح بجرحه
كالمسلم مع المستأمن.
(الثالث) امكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة لأن الله تعالى قال (وأن عاقبتم فعاقبوا
بمثل ما عوقبتم به) وقال (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ولان دم الجاني
410

معصوم إلا في قدر جنايته فما زاد عليها يبقى على العصمة فيحرم استيفاؤه بعد الجناية كتحريمه قبلها
ومن ضرورة المنع من الزيادة المنع من القصاص لأنها من لوازمه فلا يمكن المنع منها إلا بالمنع منه وهذا
لا خلاف فيه نعلمه.
وممن منع القصاص فيما دون الموضحة الحسن والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي ومنعه في
العظام عمر بن عبد العزيز وعطاء والنخعي والزهري والحكم وابن شبرمة والثوري والشافعي
وأصحاب الرأي. إذا ثبت هذا فإن الجرح الذي يمكن استيفاؤه من غير زيادة هو كل جرح ينتهي
إلى عظم كالموضحة في الرأس والوجه ولا نعلم في جواز القصاص في الموضحة خلافا وهي كل جرح
ينتهي إلى العظم في الرأس والوجه وذلك لأن الله تعالى نهى على القصاص في الجرح فلو لم يجب
ههنا لسقط حكم الآية وفي معنى الموضحة كل جرح ينتهي إلى عظم فيما سوى الرأس والوجه كالساعد
والعضد والساق والفخذ وفي قول أكثر أهل العلم وهو منصوص الشافعي. وقال بعض أصحابه:
لا قصاص فيها لأنه لا يقدر فيها وليس بصحيح لقول الله تعالى (والجروح قصاص) ولأنه أمكن
استيفاؤها بغير حيف ولا زيادة لانتهائها إلى عظم فهي كالموضحة والتقدير في الموضحة ليس هو المقتضي
للقصاص ولا عدمه مانعا وإنما كان التقدير في الموضحة لكثرة شينها وشرف محلها ولهذا قدر ما فوقها
من شجاج الرأس والوجه ولا قصاص فيه وكذلك الجائفة أرشها مقد لا قصاص فيه
411

(فصل) ولا يستوفي القصاص فيما دون النفس بالسيف ولا بآلة يخشى منها الزيادة سواء كان
الجرح بها أو بغيرها لأن القتل إنما استوفي بالسيف لأنه آلته وليس ثمة شئ يخشى التعدي إليه فتجب
أن يستوفى ما دون النفس بآلته ويتوقى ما يخشى منه الزيادة إلى محل لا يجوز استيفاؤه ولأننا منعنا
القصاص بالكلية فيما تخشى الزيادة في استيفائه فلان نمنع الآلة التي يخشى منها ذلك أولى فإن كان
الجرح موضحة أو ما أشبهها فبالموسى أو حديدة ماضية معدة لذلك ولا يستوفي ذلك الا من له علم بذلك
كالجرائحي ومن أشبهه فإن لم يكن للولي علم بذلك أمر بالاستنابة، وإن كان له علم فقال القاضي
ظاهر كلام احمد انه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص فيمكن من استيفائه إذا كان يحسن كالقتل
ويحتمل أن لا يمكن من استيفائه بنفسه ولا يليه الا نائب الإمام أو من يستنيبه ولي الجناية وهذا
مذهب الشافعي لأنه لا يؤمن مع العداوة وقصد التشفي في الحيف في الاستيفاء بما لا يمكن تلافيه وربما أفضى
إلى النزاع والاختلاف بان يدعي الجاني الزيادة وينكرها المستوفي
(فصل) وإذا أراد الاستيفاء من موضحة وشبهها فإن كان على موضعها شعر حلقه وتعمد إلى
موضع الشجة من رأس المشجوج فيعلم منه طولها بخشبة أو خيط ويضعها على رأس الشاج ويعلم طرفيه
بخط بسواد أو غيره يأخذ حديده عرضها كعرض الشجة فيضعها في أول الشامة ويجرها إلى آخرها
ويأخذ مثل الشجة طولا وعرضا ولا يراعى العمق لأن حده العظم ولو روعي العمق لتعذر الاستيفاء
412

لأن الناس يختلفون في قلة اللحم وكثرته وهذا كما يستوفى في الطرف مثله وان اختلفا في الصغر
والكبر والدقة والغلظ ويراعى الطول والعرض لأنه ممكن فإن كان رأس الشاج والمشجوج سواء
استوفى قدر الشجة، وإن كان رأس الشاج أصغر لكنه يتسع للشجة استوفيت ان استوعب رأس
الشاج كله وهي بعض رأس المشجوج لأنه استوفاها بالمساحة ولا يمنع الاستيفاء زيادتها على مثل
موضعها من رأس الجاني لأن الجميع رأسه وإن كان قدر الشجة يزيد على رأس الجاني فإنه يستوفي
الشجة من جميع رأس الشاج ولا يجوز أن ينزل إلى جبهته لأنه يقتص في عضو آخر غير العضو الذي
جنى عليه وكذلك لا ينزل إلى قفاه لما ذكرناه ولا يستوفي بقية الشجة في موضع آخر من رأسه لأنه
يكون مستوفيا لموضحتين وواضعا للحديدة في غير الموضع الذي وضعها فيه الجاني واختلف أصحابنا
فيماذا يصنع فذكر القاضي أن ظاهر كلام أبي بكر أنه لا أرش له فيما بقي كيلا يجتمع قصاص ودية
في جرح واحد، وهذا مذهب أبي حنيفة فعلى هذا يتخير بين الاستيفاء في جميع رأس الشاج ولا
أرش له وبين العفو إلى دية موضحة وقال أبو عبد الله بن حامد وبعض أصحابنا له أرش ما بقي وهو
مذهب الشافعي لأنه تعذر القصاص فيما جنى عليه فكان له أرشه كما لو تعذر في الجميع فعلى هذا تقدر
شجة الجاني من الشجة في رأس المجني عليه ويستوفي أرش الباقي فإن كانت بقدر ثلثها فله ثلث أرش
موضحة وان زادت أو نقصت عن هذا فبالحساب من أرش الموضحة ولا يجب له أرش موضحة
413

كاملة لئلا يفضي إلى ايجاب القصاص ودية موضحة في موضحة واحدة فإن أوضحه في جميع رأسه
ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يوضح منه بقدر مساحة موضحته من أي الطرفين شاء لأنه
جنى عليه في ذلك الموضع كله وإذا استوفى قدر موضحته ثم تجاوزها واعترف أنه عمد ذلك فعليه القصاص
في ذلك القدر فإذا اندملت موضحته استوفي منه القصاص في موضع الاندمال لأنه موضع الجناية وان
ادعى الخطأ فالقول قوله لأنه محتمل وهو أعلم بقصده وعليه أرش موضحة فإن قيل فهذه الموضحة
كلها لو كانت عدوانا لم يجب فيها الا دية موضحة فكيف يجب في بعضها دية موضحة؟ قلنا لأن
المستوفى لم يكن جناية إنما الجناية الزائد والزائد لو انفرد لكان موضحة فكذلك إذا كان معه ما ليس
بجناية بخلاف ما إذا كانت كلها عدوانا فإن الجميع جناية واحدة
(فصل) وإذا أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فأحب أن يستوفي القصاص بعضه
من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره احتمل أن يمنع منه لأنه يأخذ موضحتين بواحدة وديتهما
مختلفة واحتمل الجوار لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها إلا أن يقول أهل الخبرة إن
في ذلك زيادة ضرر أو شين فلا يفعل ولأصحاب الشافعي كهذين فإن كان رأس المجني عليه
أكبر فأوضحه الجاني في مقدمه ومؤخره موضحتين قدرهما جميع رأس الجاني فله الخيار بين
أن يوضحه موضحة واحدة في جميع رأسه أو يوضحه موضحتين يقتصر في كل واحدة منهما على قدر
414

موضحة ولا أرش لذلك وجها واحدا لأنه ترك الاستيفاء مع امكانه وان عفا إلى الأرش فله أرش
موضحتين وان شاء اقتص من أحدهما وأخذ دية الأخرى.
(فصل) وإذا كانت الجناية في غير الرأس والوجه فكانت في ساعد فزادت على ساعد الجاني لم ينزل إلى
الكف ولم يصعد إلى العضد وان كانت في الساق لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ لأنه عضو آخر
فلا يقتص منه كما لم ينزل من الرأس إلى الوجه ولم يصعد من الوجه إلى الرأس
(فصل) وإذا شج في مقدم رأسه أو مؤخره عرضا شجة لا يتسع لها مثل ذلك الموضع من رأس
الشاج فأراد ان يستوفي من وسط الرأس فيما بين الاذنين لكونه يتسع لمثل تلك الموضحة ففيه
وجهان (أحدهما) لا يجوز لأنه غير الموضع الذي شجه فيه فلم يجز له الاستيفاء منه كما لو أمكنه استيفاء
حقه من محل شجته، واحتمل أن يجوز لأن الرأس عضو واحد فإذا لم يمكنه استيفاء حقه من
محل شجته جاز من غيره كما لو شجه في مقدم رأسه شجة قدرها جميع رأس الشاج جاز اتمام استيفائها
في مؤخر رأس الجاني وهذا منصوص الشافعي وهكذا يخرج فيما إذا كان الجرح في موضع من
الساق والقدم والذراع والعضد وإن أمكن الاستيفاء من محل الجناية لم يجز العدول عنه وجها واحدا
415

(مسألة) قال (وكذلك إذا قطع منه طرفا من مفصل قطع منه مثل ذلك المفصل
إذا كان الجاني يقاد من المجني عليه لو قتله)
أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف وقد ثبت ذلك بقوله تعالى (العين بالعين
والأنف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) وبخبر الربيع بنت النضر بن أنس
ويشترط لجريان القصاص فيها شروط خمسة
(أحدها) أن يكون عمدا على ما أسلفناه (والثاني) أن يكون المجني عليه مكافئا للجاني بحيث
يقاد به لو قتله (والثالث) أن يكون الطرف متساويا للطرف ولا يؤخذ صحيح بأشل ولا كاملة
الأصابع بناقصة ولا أصلية بزائدة ولا يشترط التساوي في الدقة والغلظ والصغر والكبر والصحة
والمرض لأن اعتبار ذلك يفضي إلى سقوط القصاص بالكلية (والرابع) الاشتراك في الاسم الخاص
فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين ولا إصبع بمخالفة لها ولا جفن أو شفة إلا بمثلها (الخامس)
امكان الاستيفاء من غير حيف وهو أن يكون القطع من مفصل فإن كان من غير مفصل فلا قصاص
فيه من موضع القطع بغير خلاف نعلمه وقد روى نمر بن جابر عن أبيه ان رجلا ضرب رجلا على
ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل فاستعدى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية، فقال إني أريد
القصاص؟ قال " خذ الدية بارك الله لك فيها " ولم يقض له بالقصاص رواه ابن ماجة
416

(فصل) وفي قطع اليد ثمان مسائل (أحدها) قطع الأصابع من مفاصلها فالقصاص واجب لأن
لها مفاصل ويمكن القصاص من غير حيف، وان اختار الدية فله نصفها لأن في كل أصبع عشر الدية
(الثانية) قطعها من نصف الكف فليس له القصاص من موضع القطع لأنه ليس بمفصل فلا يؤمن
الحيف فيه وإن أراد قطع الأصابع ففيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك وهذا اختيار أبي بكر لأنه
يقتص من غير موضع الجناية فلم يجز كما لو كان القطع من الكوع، يحققه ان امتناع قطع الأصابع إذا
قطع من الكوع إنما كان لعدم المقتضى أو وجود مانع وأيهما كان فهو متحقق إذا كان القطع من
نصف الكف (والثاني) له قطع الأصابع ذكره أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه يأخذ دون حقه
لعجزه عن استيفاء حقه فأشبه ما لو شجه هاشمة فاستوفى موضحة. ويفارق ما إذا قطع من الكوع لأنه
أمكنه استيفاء حقه فلم يجز له العدول إلى غيره. وهل له حكومة في نصف الكف؟ فيه وجهان
(أحدهما) ليس له ذلك لأنه يجمع بين القصاص والأرش في عضو واحد فلم يجز كما لو قطع من الكوع
(والثاني) له أرش نصف الكف لأنه حق له تعذر استيفاؤه فوجب أرشه كسائر ما هذا حاله. وان
اختار الدية فله نصفها لأن قطع اليد من الكوع لا يوجب أكثر من نصف الدية فما دونه أولى
(الثالثة) قطع من الكوع فله قطع يده من الكوع لأنه مفصل وليس له قطع الأصابع لأنه غير
محل الجناية فلا يستوفى منه مع امكان الاستيفاء من محلها (الرابعة) قطع من نصف الذراع فليس له
417

أن يقطع من ذلك المواضع لأنه ليس بمفضل وقد ذكرنا الخبر الوارد فيه فله نصف الدية وحكومة في
المقطوع من الذراع، وهل له أن يقطع من الكوع؟ فيه وجهان كما ذكرنا فيمن قطع من نصف الكف
ومن جوز له القطع من الكوع فعنده في وجوب الحكومة لما قطع من الذراع وجهان، ويخرج أيضا
في جواز قطع الأصابع وجهان، فإن قطع منها لم يكن له حكومة في الكف لأنه أمكنه أخذه قصاصا فلم
يكن له طلب أرشه كما لو كانت الجناية من الكوع
(الخامسة) قطع من المرفق فله القصاص منه لأنه مفصل وليس له القطع من الكوع لأنه أمكنه
استيفاء حقه بكماله والاقتصاص من محل الجناية عليه فلم يجز له العدول إلى غيره وان عفا إلى الدية
فله دية اليد وحكومة للسيد
(السادسة) قطعها من العضد فلا قصاص فيها من أحد الوجهين وله دية اليد وحكومة للساعد
وبعض العضد والثاني له القصاص من المرفق وهل له حكومة في الزائد؟ على وجهين وهل له القطع من
الكوع؟ يحتمل وجهين (السابعة) قطع من المنكب فالواجب القصاص لأنه مفصل وان اختار الدية
فله دية اليد وحكومة لما زاد
(الثامنة) خلع عظم المنكب ويقال له مشط الكف فيرجع فيه إلى اثنين من ثقات أهل الخبرة فإن
قالوا يمكن الاستيفاء من غير أن تصير جائفة استوفي وإلا صار الامر إلى الدية، وفي جواز الاستيفاء
418

من المرفق أو ما دونه مثل ما ذكرنا في نظائره ومثل هذه المسائل في الرجل، والساق كالذراع، والفخذ
كالعضد، والورك كعظم الكتف، والقدم كالكف
(مسألة) قال (وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص)
المأمومة شجاج الرأس وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ وتسمى تلك الجلدة أم الدماغ لأنها تجمعه
فالشجة الواصلة إليها تسمى مأمومة وآمة لوصولها إلى أم الدماغ، والجائفة في البدن وهي التي تصل
إلى الجوف وليس فيهما قصاص عند أحد من أهل العلم نعلمه إلا ما روي عن ابن الزبير أنه قص من
المأمومة فأنكر الناس عليه وقالوا ما سمعنا أحدا قص منها قبل ابن الزبير. وممن لم ير في ذلك قصاصا
مالك والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن علي رضي الله عنه لا قصاص في المأمومة وقاله مكحول والزهري
والشعبي، وقال عطاء والنخعي لا قصاص في الجائفة
وروى ابن ماجة في سننه عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا قود في المأمومة ولا
في الجائفة ولا في المنقلة " ولأنهما جرحان لا تؤمن الزيادة فيهما فلم يجب فيهما قصاص ككسر العظام
(فصل) وليس في شئ من شجاج الرأس قصاص سوى الموضحة وسواء في ذلك ما دون الموضحة
كالحارصة والبازلة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق وما فوقها، وهي الهاشمة والمنقلة والآمة وبهذا قال
419

الشافعي. فأما ما فوق الموضحة فلا نعلم أحدا أوجب فيها القصاص إما ما روي عن ابن الزبير انه أقاد
من المنقلة وليس بثابت عنه، وممن قال به عطاء وقتادة وابن شبرمة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي.
قال ابن المنذر لا أعلم أحدا خالف ذلك ولأنهما جراحتان لا تؤمن الزيادة فيهما أشبها المأمومة والجائفة
وأما ما دون الموضحة فقد روي عن مالك وأصحاب الرأي ان القصاص يجب في الدامية والباضعة
والسمحاق. ولنا انها جراحة لا تنتهي إلى عظم فلم يجب فيها قصاص كالمأمومة، ولأنه لا يؤمن فيها الزيادة
فأشبه كسر العظام. وبيان ذلك أنه ان اقتص من غير تقدير أفضى إلى أن يأخذ أكثر من حقه
وان اعتبر مقدار العمق أفضى إلى أن اقتص من الباضعة والسمحاق موضحة ومن الباضعة سمحاقا
لأنه قد يكون لحم المشجوج كثيرا بحيث يكون عمق باضعة كموضحة الشاج أو سمحاقه ولأننا لم نعتبر
في الموضحة قدر عمقها فكذلك في غيرها وبهذا قال الحسن وأبو عبيد
(فصل) وان كانت الشجة فوق الموضحة فأحب أن يقتص موضحة جاز ذلك بغير خلاف بين
أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه يقتص على بعض حقه ويقتص من محل جناية فإنه إنما يضع السكين
في موضع وضعها الجاني لأن سكين الجاني وصلت إلى العظم ثم تجاوزته بخلاف قاطع الساعد فإنه
لم يضع سكينه في الكوع، وهل له أرش ما زاد على الموضحة؟ فيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك
وهو اختيار أبي بكر لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين قصاص ودية كما لو قطع الشلاء بالصحيحة
420

وكما في الأنفس إذا قتل المسلم بالكافر والعبد بالحر (والثاني) له أرش ما زاد على الموضحة اختاره
ابن حامد وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر القصاص فيه فانتقل إلى البدل كما لو قطع أصبعيه ولم
يمكن الاستيفاء إلا من واحدة، وفارق الشلاء بالصحيحة لأن الزيادة ثم من حيث المعنى وليست
متميزة بخلاف مسئلتنا
(مسألة) قال (وتقطع الاذن بالاذن)
أجمع أهل العلم على أن الاذن تؤخذ بالاذن وذلك لقول الله تعالى (والاذن بالاذن) ولأنها
تنتهي إلى حد فاصل فأشبهت اليد، وتؤخذ الكبيرة بالصغيرة وتؤخذ أذن السميع بأذن السميع،
وتؤخذ أذن الأصم بكل واحدة منهما لتساويهما فإن ذهاب السمع نقص في الرأس لأنه محله وليس
بنقص فيهما وتؤخذ الصحيحة بالمثقوبة لأن الثقب ليس بعيب وإنما يفعل في العادة للقرط والتزين به
فإن كان الثقب في غير محله أو كانت مخروجة أخذت بالصحيحة ولم تؤخذ الصحيحة بها لأن الثقب
إذا انخرم صار نقصا فيها والثقب في غير محله عيب، ويخير المجني عليه بين أخذ الدية الا قدر النقص
وبين أن يقتص فيما سوى العيب ويتركه من أذن الجاني، وفي وجوب الحكومة له في قدر النقب وجهان
وان قطعت بعض أذنه فله أن يقتص من أذن الجاني، وتقدير ذلك بالاجزاء فيؤخذ النصف بالنصف
421

والثلث بالثلث وعلى حساب ذلك، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يجري القصاص في البعض
لأنه لا ينتهى إلى حد
ولنا أنه يمكن تقدير المقطوع، وليس فيها كسر عظم فجرى القصاص في بعضها كالذكر
وبهذا ينتقض ما ذكره
(فصل) وتؤخذ الاذن المستحشفة بالصحيحة وهل تؤخذ الصحيحة بها؟ فيه وجهان (أحدهما)
لا تؤخذ بها لأنها ناقصة معيبة فلم تؤخذ بها الصحيحة كاليد الشلاء وسائر الأعضاء (والثاني)
تؤخذ بها لأن المقصود منها جمع الصوت، وحفظ محل السمع والجمال وهذا يحصل بها كحصوله
بالصحيحة بخلاف سائر الأعضاء
(فصل) وان قطع أذنه فأبانها فألصقها صاحبها فالتصقت وثبتت فقال القاضي يجب القصاص
وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق لأنه وجب بالإبانة وقد وجدت الإبانة، وقال أبو بكر لا قصاص
فيها وهو قول مالك لأنها لم تبن على الدوام فلم يستحق إبانة اذن الجاني دواما، وان سقطت بعد
ذلك قريبا أو بعيدا فله القصاص وبرد ما أخذ وعلى قول أبي بكر إذا لم تسقط له دية الأذن وهو
قول أصحاب الرأي وكذلك قول الأولين إذا اختار الدية، وقال مالك لا عقل لها إذا عادت مكانها
فأما ان قطع بعض أذنه فالتصق فله أرش الجرح ولا قصاص فيه، وان قطع أذن انسان فاستوفى
422

منه فألصق الجاني أذنه فالتفت وطلب المجني عليه ابانتها لم يكن له ذلك لأن الإبانة قد حصلت،
والقصاص قد استوفى فلم يبق له قبله حق، فاما إن كان المجني عليه لم يقطع جميع الاذن إنما قطع بعضها
فالتصق كان للمجني عليه قطع جميعها لأنه استحق إبانة جميعها ولم يكن أبانه، والحكم في السن
كالحكم في الاذن
(فصل) ومن ألصق أذنه بعد إبانتها أو سنه فهل تلزمه ابانتها؟ فيه وجهان مبينان على الروايتين
فيما بان من الآدمي هل هو نجس أو طاهر؟ إن قلنا هو نجس لزمته ازالتها ما لم يخف الضرر بإزالتها
كما لو جبر عظمه بعظم نجس، وان قلنا بطهارتها لم تلزمه إزالتها وهذا اختيار أبي بكر وقول عطاء بن
أبي رباح وعطاء الخراساني وهو الصحيح لأنه جزء آدمي طاهر في حياته وموته فكان طاهرا
كحالة اتصاله فاما ان قطع بين أذنه فالتصق لم تلزمه ابانتها لأنها طاهرة على الروايتين جميعا
لأنها لم تصر ميتة لعدم إبانتها ولا قصاص فيها. قاله القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه لا يمكن
المماثلة في المقطوع منها
(مسألة) قال (والأنف بالأنف)
وأجمعوا على جريان القصاص في الانف أيضا للآية والمعنى ويؤخذ الكبير بالصغير والأقنى
423

بالأفطس وأنف الأشم بأنف الأخشم الذي لا يشم لأن ذلك لعلة في الدماغ والأنف صحيح، كما تؤخذ
أذن السميع باذن الأصم، وإن كان بأنفه جذام أخذ به الانف الصحيح ما لم يسقط منه شئ لأن ذلك
مرض فإن سقط منه شئ لم يقطع به الصحيح الا أن يكون من أحد جانبيه فيأخذ من الصحيح مثل
ما بقي منه أو يأخذ أرش ذلك، والذي يجب فيه القصاص أو الدية هو المارن وهو ما لأن منه دون
قصبة الانف لأن ذلك حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب القصاص فيما انتهى إلى الكوع، وإن قطع الأنف
كله مع القصبة فعليه القصاص في المارن وحكومة للقصبة هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي وفيه
وجه آخر أنه لا يجب مع القصاص حكومة كيلا يجتمع في عضو واحد قصاص ودية، وقياس قول أبي
بكر أنه لا يجب القصاص ههنا لأنه يضع الحديدة في عضو الموضع الذي وضعها الجاني فيه فلم يملك ذلك
كقوله فيمن قطع اليد من نصف الذراع أو الكف
وذكر القاضي ههنا كقول أبي بكر ونظائره مثل قول ابن حامد ولا يصح التفريق مع التساوي
وإن قطع بعض الانف قدر بالاجزاء وأخذ منه بقدر ذلك كقولنا في الاذن ولا يؤخذ بالمساحة لئلا
يفضي إلى قطع جميع أنف الجاني لصغره ببعض أنف المجني لميا لكبره، ويؤخذ المنخر الأيمن بالأيمن
والأيسر بالأيسر ولا يؤخذ أيمن بأيسر ولا أيسر بأيمن ويؤخذ الحاجز بالحاجز لأنه يمكن القصاص
فيه لانتهائه إلى حد
424

(مسألة) قال (والذكر بالذكر)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن القصاص يجري في الذكر لقوله تعالى (والجروح قصاص)
ولان له حدا ينتهي إليه ويمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص كالأنف ويستوي
في ذلك ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب والذكر الكبير والصغير والصحيح والمريض لأن
ما وجب فيه القصاص من الأطراف لم يختلف بهذه المعاني كذلك الذكر ويؤخذ كل واحد من المختون
والا غلف بصاحبه لأن الغلفة زيادة تستحق إزالتها فهي كالمعدومة وأما ذكر الخصي والعنين فذكر الشريف أن غيرهما لا يؤخذ بهما وهو قول مالك لأنه لا منفعة
فيهما لأن العنين لا يطأ ولا ينزل والخصي لا يولد له ولا ينزل ولا يكاد يقدر على الوطئ فهما كالأشل
ولان كل واحد منهما ناقص فلا يؤخذ به الكامل كاليد الناقصة بالكاملة، وقال أبو الخطاب يؤخذ
غيرهما بهما في أحد الوجهين وهو مذهب الشافعي لأنهما عضوان صحيحان ينقبضان وينبسطان فيؤخذ
بهما غيرهما كذكر الفحل غير العنين وإنما عدم الانزال لذهاب الخصية والعنة لعلة في الظهر فلم يمنع
ذلك من القصاص بهما كاذن الأصم وأنف الأخشم، وقال القاضي لا يؤخذ ذكر الفحل بالخصي
425

لتحقق نقصه والإياس من برئه وفي أخذه بذكر العنين وجهان
(أحدهما) يؤخذ به غيره لأنه مأيوس من زوال عنته ولذلك يؤجل سنة بخلاف الخصي
والصحيح الأول فإنه إذا ترددت الحال بين كونه مساويا للآخر وعدمه لم يجب القصاص لأن الأصل
عدمه فلا يجب بالشك سيما وقد حكمنا بانتفاء التساوي لقيام الدليل على عنته وثبوت عيبه ويؤخذ كل
واحد من الخصي والعنين بمثله لتساويهما كما يؤخذ العبد بالعبد والذمي بالذمي
(فصل) ويؤخذ بعضه ببعضه ويعتبر ذلك بالاجزاء دون المساحة فيؤخذ النصف بالنصف والربع
بالربع وما زاد أو نقص فبحسب ذلك على ما ذكرناه في الانف والاذن
(مسألة) قال (والأنثيان بالأنثيين)
ويجري القصاص في الأنثيين لما ذكرنا من النص والمعنى لا نعلم فيه خلافا فإن قطع إحداهما وقال
أهل الخبرة انه ممكن أخذها مع سلامة الأخرى جاز فإن قالوا لا يؤمن تلف الأخرى لم تؤخذ خشبة
الحيف ويكون فيها نصف الدية، وان أمن الأخرى أخذت اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى
لما ذكرناه في غيرهما
426

(فصل) وفي القصاص في شفري المرأة وجهان (أحدهما) لا قصاص فيهما لأنه لحم لا مفصل له
ينتهي إليه فلم يجب فيه قصاص كلحم الفخذين هذا قول القاضي
(والثاني) فيهما القصاص لأن انتهاءهما معروف فأشبها الشفتين وجفني العين وهذا قول أبي
الخطاب ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(فصل) وإن قطع ذكر خنثى مشكل أو أنثييه أو شفريه فاختار القصاص لم يكن له قصاص في
الخال ويقف الامر حتى يتبين حاله لأننا لا نعلم أن المقطوع عضو أصلي وإن اختار الدية وكان يرجى
انكشاف حاله أعطيناه اليقين فيكون له حكومة في المقطوع وإن كان قد قطع جميعها فله دية امرأة
في الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين وإن يئس من انكشاف حاله أعطي نصف دية الذكر
والأنثيين ونصف دية الشفرين وحكومة في نصف ذلك كله
(فصل) يجب القصاص في الأليتين الناتئتين بين الفخذين والظهر بجانبي الدبر، هذا ظاهر
مذهب الشافعي وقال المزني لا قصاص فيهما لأنهما لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذ.
ولنا قوله تعالى (والجروح قصاص) ولان لهما حدا ينتهيان إليه فجرى القصاص فيهما كالذكر والأنثيين
(مسألة) قال (وتقطع العين بالعين).
أجمع أهل العلم على القصاص في العين وممن بلغنا قوله في ذلك مسروق والحسن وابن سيرين
427

والشعبي والنخعي والزهري والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وروي
عن علي رضي الله عنه والأصل فيه قول الله تعالى (والعين بالعين) ولأنها تنتهي إلى مفصل فجرى
القصاص فيها كاليد وتؤخذ عين الشاب بعين الكبير المريضة وعين الصغير والأعمش
ولا تؤخذ صحيحة بقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه
(فصل) فإن قلع عينه بأصبعه لم يجز أن يقتص بأصبعه لأنه لا يمكن المماثلة فيه وان لطمه فذهب
ضوء عينه لم يجز أن يقتص منه باللطمة لأن المماثلة فيها غير ممكنة ولهذا لو انفردت من اذهاب الضوء
لم يجب فيها قصاص ويجب القصاص في البصر فيعالج بما يذهب ببصره من غير أن يقلع عينه كما روى
يحيى بن جعدة أن أعرابيا قدم بحلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه
فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه؟ فأبى فرفعها إلى
علي رضي الله عنه فدعا علي بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين
فأدناها من عينه حتى سال انسان عينه وإن وضع فيها كافورا يذهب بضوئها من غير أن يجني على
الحدقة جاز وإن لم يمكن الا بالجناية على العضو سقط القصاص لتعذر المماثلة.
وذكر القاضي أنه يقتص منه بالطمة فيلطمه المجني عليه مثل لطمته فإن ذهب ضوء عينه وإلا
كان له أن يذهبه بما ذكرنا وهذا مذهب الشافعي وهذا لا يصح فإن اللطمة لا يقتص منها منفردة
428

فلا يقتص منها إذا سرت إلى العين كالشجة ان كانت دون الموضحة ولان اللطمة إذا لم تكن في
العين لا يقتص منها بمثلها مع الامن من إفساد العضو في العين فمع خوف ذلك أولى ولأنه قصاص
فيما دون النفس فلم يجز بغير الآلة المعدة كالموضحة وقال القاضي لا يجب القصاص إلا أن تكون
اللطمة تذهب بذلك غالبا فإن كانت لا تذهب به غالبا فذهب فهو شبه عمد لا قصاص فيه وهو قول الشافعي
لأنه فعل لا يفضي إلى الفوات غالبا فلم يجب به القصاص كشبه العمد في النفس. وقال أبو بكر
يجب القصاص بكل حال لعموم قوله (والعين بالعين) ولان اللطمة إذا سالت انسان العين كانت
بمنزلة الجرح ولا يعتبر في الجرح الافضاء إلى التلف غالبا
(فصل) فلو لطم عينه فذهب بصرها وابيضت وشخصت فإن أمكن معالجة عين الجاني حتى
يذهب بصرها وتبيض وتشخص من غير جناية على الحدقة فعل ذلك وإن لم يمكن الا ذهاب بعض
ذلك مثل أن يذهب البصر دون أن تبيض وتشخص فعليه حكومة للذي لم يمكن القصاص فيه كما لو جرح
هاشمة فإنه يقتص موضحة ويأخذ أرش باقي جرحه وعلى قول أبي بكر لا يستحق مع القصاص أرش
وقال القاضي إذا اقتص منه يعني لطمه مثل لطمته فذهب ضوء عينه ولم تبيض ولم تشخص فإن
أمكن معالجتها حتى تبيض وتشخص من غير ذهاب الحدقة فعله وان تعذر ذلك فلا شئ عليه كما لو
اندملت موضحة المجني عليه وحشة قبيحة وموضحة الجاني حسنة جميلة لم يجب شئ كذلك ههنا وهذا
بناه على أن اللطمة حصل بها القصاص كما حصل بجرح الموضحة وقد بينا فساد هذا
429

(فصل) وان شجه شجة دون الموضحة فأذهب ضوء عينه لم يقتص منه مثل شجته بغير خلاف نعلمه
لأنها لا قصاص فيها إذا لم يذهب ضوء العين فكذلك إذا ذهب ويعالج ضوء العين بمثل ما ذكرنا في
اللطمة، وان كانت الشجة فوق الموضحة فله أن يقتص موضحة وهل له. أرش الزيادة عليها؟ فيه وجهان
وان ذهب ضوء العين وإلا استعمل فيه ما يزيله من غير أن يجني على الحدقة، وان شجه موضحة فله أن
يقتص منها وحكم القصاص في البصر على ما ذكرنا من قبل. وأختلف أصحاب الشافعي في القصاص
في البصر في هذه المواضع كلها فقال بعضهم لا قصاص فيه لأنه لا يجب بالسراية كما لو قطع أصبعه
فسرى القطع إلى التي تليها فأذهبها عندهم وقال بعضهم يجب القصاص ههنا قولا واحدا لأن ضوء
العين لا تمكن مباشرته بالجناية فيقتص منه بالسراية كالنفس فيقتص من البصر كما ذكرنا فيما قبل هذا
(فصل) إذا قلع الأعور عين صحيح فلا قود وعليه دية كاملة روي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله
عنهما وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء. وقال الحسن والنخعي ان شاء اقتص وأعطاه نصف دية.
وقال مالك ان شاء اقتص وان شاء أخذ دية كاملة
وقال مسروق والشعبي وابن سيرين وابن مغفل والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر
له القصاص ولا شئ عليه وان عفا فله نصف الدية لقول الله تعالى (والعين بالعين) وجعل النبي
صلى الله عليه وسلم في العينين الدية ولأنها إحدى شيئين فيهما الدية فوجب القصاص ممن له واحدة أو نصف الدية
كما لو قطع الأقطع يد من له يدان
430

ولنا قول عمر وعثمان رضي الله عنهما ولم نعرف مخالفا في عصرهما ولأنه لم يذهب بجميع
بصره فلم يجز له الاقتصاص منه بجميع بصره كما لو كان إذا عينين. وأما إذا قطع يد الأقطع فلنا فيه
منع ومع التسليم فالفرق بينهم أن يد الأقطع لا تقوم مقام اليدين في النفع الحاصل بهما بخلاف عين
الأعور فإن النفع الحاصل بالعينين حاصل بها وكل حكم يتعلق بصحيح العينين يثبت في الأعور مثله
ولهذا صح عتقه في الكفارة دون الأقطع. فأما وجوب اليد كاملة عليه وهو قول مالك فلانه لما
دفع عنه القصاص مع إمكانه لفضيلة ضوعفت الدية عليه كالمسلم إذا قتل ذميا عمدا. ولو قلع الأعور
إحدى عيني الصحيح خطأ لم يلزمه إلا نصف الدية بغير اختلاف لعدم المعنى المقتضي لتضعيف. الدية
(فصل) ولو قلع الأعور عين مثله ففيه القصاص بغير خلاف لتساويهما من كل وجه إذا كانت
العين مثل العين في كونها يمينا أو يسارا. وان عفا إلى الدية فله جميعها وكذلك إن قطعها خطأ أو
عفا بعض مستحقي القصاص لأنه ذهب بجميع بصره فأشبه ما لو قطع عيني صحيح
(فصل) وان قلع الأعور عيني صحيح فقال القاضي هو مخير إن شاء اقتص ولا شئ له سوى
ذلك لأنه قد أخذ جميع بصره فإن اختار الدية فله دية واحدة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وفي العينين الدية "
لأنه لم يتعذر القصاص فلم تتضاعف الدية كما لو قطع الأشل يد صحيح أو كان رأس الشاج أصغر أو
يد القاطع أنقص. وقال القاضي يقتضي الفقه أن يلزمه ديتان إحداهما للعين التي تقابل عينه والدية
431

الثانية لأجل العين الناتئة لأنها عين أعور والصحيح ما قلنا وهو قول أكثر أهل العلم وأشد
موافقة للنصوص وأصح في المعنى (فصل) وان قلع صحيح العينين عين أعور فله القصاص من مثلها ويأخذ نصف الدية. نص
عليه أحمد لأنه ذهب بجميع بصره وأذهب الضوء الذي بدله كاملة وقد تعذر استيفاء جميع الضوء
إذ لا يمكن أخذ عينين بعين واحدة ولا أخذ يمين بيسرى فوجب الرجوع ببدل نصف الضوء ويحتمل
انه ليس له إلا القصاص من غير زيادة أو العفو على الدية كما لو قطع الأشل يدا صحيحة ولان الزيادة ههنا
غير متميزة فلم يكن لها بدل كزيادة الصحيحة على الشلاء هذا مع عموم قوله تعالى (والعين بالعين)
(فصل) وان قطع الأقطع يد من له يدان فعليه القصاص وان قطعت رجل الأقطع أو يده
فله القصاص أو نصف الدية لأن يد الأقطع لا تقوم مقام يديه في الانتفاع والبطش ولا يجزئ في
العتق عن الكفارة بخلاف عين الأعور فإنها تقوم مقام عينيه جميعا وقال القاضي ان كانت المقطوعة
أولا قطعت ظلما أو قصاصا ففي الباقية نصف الدية رواية واحدة وان كانت الأولى قطعت في سبيل
الله ففي الثانية روايتان (إحداهما) نصف الدية والثانية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين
جملة واما ان قطع الأقطع يد من ليس بأقطع فإن قلنا إن في يد الأقطع دية كاملة فلا قصاص وان قلنا
لا تكمل فيها الدية فالقصاص واجب فيها واللائق بالفقه ما ذكرناه أولا والتعليل بتفويت منفعة العضوين
432

ينتقض بما إذا قطعت الأولى قصاصا، والقياس على عين الأعور غير صحيح لما بينهما من الفرق، فاما ان
قطعت أذن من قطعت إحدى أذنيه فليس له الا نصف الدية رواية واحدة وان قطع هو أذن ذي
أذنين وجب عليه القصاص بغير خلاف علمناه لا في المذهب ولا في غيره لأن نفع كل أذن لا يتعلو بالأخرى
(فصل) ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه
إلى مفصل وهذا مذهب الشافعي، ويؤخذ جفن البصير والضرير وجفن الضرير بكل
واحد منهما لأنهما تساويا في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره لأنه يمنع أخذ أحدهما
بالآخر كالاذن إذا عدم السمع منها
(مسألة) قال (والسن بالسن)
أجمع أهل العلم على القصاص في السن للآية وحديث الربيع ولان القصاص فيها ممكن لأنها محدودة
في نفسها فوجب فيها القصاص كالعين، وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة وتؤخذ المكسورة بالصحيحة
لأنه يأخذ بعض حقه وهل يأخذ مع القصاص أرش الباقي؟ فيه وجهان ذكرناهما فيما مضى
(فصل) ولا يقتص إلا من سن من اتغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت، يقال لمن سقطت رواضعه
433

ثغر فهو مثغور فإذا نبتت قيل أثغر واتغر لغتان، وان قلع سن من لم يثغر لم يقتص من الجاني في الحال
وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأنه تعود بحكم العادة فلا يقتص منها كالشعر، ثم إن عاد
بدل السن في محلها مثلها على صفتها فلا شئ على الجاني كما لو قلع شعرة ثم نبتت، وان عادت مائلة عن
محلها أو متغيرة عن صفتها كان عليه حكومة لأنها لو لم تعد ضمن السن فإذا عادت ناقصة ضمن ما نقص
منها بالحساب ففي ثلثها ثلث ديتها وفي ربعها وعلى هذا، وان عادت والدم يسيل ففيها حكومة
لأنه نقص حصل بفعله، وان مضى زمن عودها ولم تعد سئل أهل العلم بالطب فإن قالوا قد يئس من
عودها فالمجني عليه بالخيار بين القصاص أو دية السن فإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها
فلا قصاص لأن الاستحقاق له غير متحقق فيكون ذلك شبهة في درئه وتجب الدية لأن القلع موجود
والعود مشكوك فيه، ويحتمل أنه إذا مات قبل مجئ وقت عودها أن لا يجب شئ لأن العادة عودها
فأشبه ما لو حلق شعره فمات قبل نباته، فاما ان قلع سن من قد أثغر وجب القصاص له في الحال لأن
الظاهر عدم عودها وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال القاضي يسئل أهل الخبرة فإن قالوا
لا تعود فله القصاص في الحال وان قالوا يرجى عودها إلى وقت ذكروه لم يقتص حتى يأتي ذلك
الوقت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنها تحتمل العود فأشبهت سن من لم يثغر، وإذا ثبت هذا
فإنها ان لم تعد بعد فلا كلام وان عادت لم يجب قصاص ولا دية، وهذا قول أبي حنيفة وأحد قولي
434

الشافعي وقال في الآخر لا يسقط الأرش لأن هذه السن لا تستخلف عادة فإذا عادت كانت هبة
مجددة ولذلك لا ينتظر عودها في الضمان
ولنا أنها سن عادت فسقط الأرش كسن من لم يثغر وندرة وجودها لا يمنع ثبوت حكمها
إذا وجدت، فعلى هذا إن كان أخذ الأرش رده وإن كان استوفى القصاص لم يجز قلع هذه قصاصا
لأنه لم يقصد العدوان، وإن عادت سن الجاني دون سن المجني عليه ففيه وجهان (أحدهما) لا تقلع
لئلا يأخذ سنين بسن واحدة وإنما قال الله تعالى (السن بالسن) والثاني تقلع وإن عادت مرات لأنه
قلع سنه وأعدمها فكان له اعدام سنه ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(فصل) وإن قلع سنا فاقتص منه ثم عادت سن المجني عليه فقلعها الجاني ثانية فلا شئ عليه
لأن سن المجني عليه لما عادت وجب للجاني عليه دية سنه فلما قلعها وجب على الجاني ديتها للمجني
عليه فقد وجب لكل واحد منهما دية سن فيتقاصان
(مسألة) قال (وان كسر بعضها برد من سن الجاني مثله)
وجملته أن القصاص جار في بعض السن لأن الربيع كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص
ولان ما جرى القصاص في جملته جرى في بعضه إذا أمكن كالاذن فيقدر ذلك بالاجزاء فيؤخذ
435

النصف بالنصف والثلث بالثلث وكل جزء بمثله ولا يؤخذ ذلك بالمساحة كيلا يفضي إلى أخذ جميع
سن الجاني ببعض سن المجني عليه، ويكون القصاص بالمبرد ليؤمن أخذ الزيادة فانا لو أخذناها
بالكسر لم نأمن أن تنصدع أو تنقلع أو تنكسر من غير موضع القصاص، ولا يقتص حتى يقول أهل
الخبرة إنه يؤمن انقلاعها أو السواد فيها لأن توهم الزيادة يمنع القصاص في الأعضاء كما لو قطعت يده
من غير مفصل، فإن قيل فقد أجزتم القصاص في الأطراف مع توهم سرايتها إلى النفس فلم منعتم منه
لتوهم السراية إلى بعض العضو؟ قلنا وهم السراية إلى النفس لا سبيل إلى التحرز منه فلو اعتبرناه في
المنع لسقط القصاص في الأطراف بالكلية فسقط اعتباره. أما السراية إلى بعض العضو فتارة نقول
إنما منع القصاص فيها احتمال الزيادة في الفعل لا في السراية مثل من يستوفي بعض الذراع فإنه
يحتمل أن يفعل أكثر مما فعل به وكذلك من كسر سنا ولم يصدعها فكسر المستوفي سنه وصدعها
أو قلعها أو كسر أكثر مما كسر فقد زاد على المثل، والقصاص يعتمد المماثلة، وتارة نقول إن
السراية في بعض العضو إنما منع إذا كانت ظاهرة ومثل هذا يمنع في النفس ولهذا منعناه من الاستيفاء
بآلة كآلة أو مسمومة وفي وقت افراط الحرارة أو البرودة تحرزا من السراية
(فصل) ومن قلع سنا زائدة وهي التي تنبت فضلة في غير سمت الأسنان خارجة عنها إما إلى
داخل الفم وإما إلى الشفة وكانت للجاني مثلها في موضعها فللمجنى عليه القصاص أو أخذ حكومة في
436

سنه وإن لم يكن له مثلها في محلها فليس للمجني عليه إلا الحكومة وإن كانت إحدى الزائدتين أكبر
من الأخرى ففيه وجهان (أحدهما) لا تؤخذ الكبرى بالصغرى لأن الحكومة فيها أكبر فلا
يقلع بها ما هو أقل قيمة منها.
(والثاني) تؤخذ بها لأنهما سنان متساويان في الموضع فتؤخذ كل واحدة منهما بالأخرى
كالأصليتين، ولان قول الله تعالى (والسن بالسن) عام فيدخل فيه محل النزاع، وإن قلنا يثبت
القياس في الزائدتين بالاجتهاد فالثابت بالاجتهاد معتبر بما ثبت بالنص واختلاف القيمة لا يمنع القصاص
بدليل جريانه بين العبيد وبين الذكر والأنثى في النفس والأطراف، على أن كبر السن لا يوجب كثرة
قيمتها فإن السن الزائدة نقص وعيب وكثرة العيب زيادة في النقص لا في القيمة ولان كبر السن
الأصلية لا يزيد قيمتها فالزائدة كذلك
(فصل) ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولان له حدا ينتهي إليه
فاقتص منه كالعين ولا نعلم في هذا خلافا، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس لأنه أفضل منه ويؤخذ
الأخرس بالناطق لأنه بعض حقه ويؤخذ بعض اللسان ببعض لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن
في بعضه كالسن ويقدر ذلك بالاجزاء ويؤخذ منه بالحساب
437

(فصل) وتؤخذ الشفة بالشفة وهي ما جاوز الذقن والخدين علوا وسفلا لقول الله تعالى (والجروح
قصاص) ولان له حدا ينتهي إليه يمكن القصاص منه فوجب كاليدين
(مسألة) قال (ولا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي حكي عن ابن سيرين وشريك
أن إحداهما تؤخذ بالأخرى لأنهما يستويان في الخلقة والمنفعة
ولنا أن كل واحدة منهما تختص باسم فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى كاليد مع الرجل. فعلى
هذا كل ما انقسم إلى يمين ويسار كاليدين والرجلين والأذنين والمنخرين والثديين والأليتين
والأنثيين لا تؤخذ إحداهما بالأخرى
(فصل) وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين لا يؤخذ الاعلى بالأسفل ولا الأسفل
بالأعلى لما ذكرنا ولا تؤخذ أصبع الا أن يتفقا في الاسم والموضع. ولا تؤخذ أنملة بأنملة إلا
أن يتفقا في ذلك ولا تؤخذ عليا بسفلى ولا وسطى. والوسطى والسفلى لا تؤخذان بغيرهما، ولا
تؤخذ السن بالسن الا أن يتفق موضعهما ولا تؤخذ أصبع ولا سن أصلية بزائدة ولا زائدة
بأصلية ولا زائدة بزائدة في غير محلها لما ذكرناه
438

(فصل) وما لا يجوز أخذه قصاصا لا يجوز بتراضيهما واتفاقهما عليه لأن الدماء لا تستباح
بالاستباحة والبذل، وكذلك لو بذلها له ابتداء لا يحل أخذها، ولا يحل لاحد قتل نفسه ولا قطع طرفه
فلا يحل لغيره ببذله، فلو تراضيا على قطع إحدى اليدين بدلا عن الأخرى فقطعها المقتص سقط القود
لأن القود سقط في الأولى باسقاط صاحبها، وفي الثانية باذن صاحبها في قطعها ودياتهما متساوية،
وهذا قول أبي بكر ولذلك قال: لو قطع المقتص اليد الأخرى عدوانا لسقط القصاص لأنهما تساويا
في الألم والدية والاسم فتقاصا وتساقطا، ولان ايجاب القصاص يفضي إلى قطع يدي كل واحد منهما
واذهاب منفعة الجنس والحاق الضرر العظيم بهما جميعا، ولا تفريع على هذا القول لوضوحه، وكل واحد
من القطعين مضمون بسرايته لأنه عدوان، وقال ابن حامد إن كان أخذها عدوانا فلكل واحد
منهما القصاص على صاحبه، وان أخذها بتراضيهما فلا قصاص في الثانية لرضا صاحبها ببذلها واذنه
في قطعها، وفي وجوبه في الأول وجهان (أحدهما) يسقط لما ذكرنا (والثاني) لا يسقط لأنه رضي بتركه
بعوض لم يثبت فكان له الرجوع إلى حقه كما لو باعه سلعة بخمر وقبضة إياه فعلى هذا له القصاص الا أنه لا يقتص
الا بعد اندمال الأخرى وللجاني دية يده فإذا وجب للمجني عليه دية يده وكانت الديتان واحدة تقاصا وان
كانت إحداهما أكبر من الأخرى كالرجل مع المرأة وجب القصاص لصاحبه
(فصل) وإذا قال المقتص للجاني اخرج يمينك لاقطعها فأخرج يساره فقطعها فعلى قول
439

أبي بكر يجزئ ذلك سواء قطعها عالما بها أو غير عالم، قول ابن حامد ان أخرجها عمدا عالما
بأنها يساره وانها لا تجزئ فلا ضمان على قاطعها ولا قود لأنه بذلها باخراجه لها لا على سبيل العوض
وقد يقوم الفعل في ذلك مقام النطق بدليل أنه لا فرق بين قوله هذا فكله وبين استدعاء ذلك
منه فيعطيه إياه، ويفارق هذا ما لو قطع يد انسان وهو ساكت لأنه لم يوجد منه البذل وينظر في المقتص
فإن فعل ذلك عالما بالحال عذر لأنه ممنوع منه لحق الله تعالى، وهل يسقط القصاص في اليمين؟ على
وجهين (أحدهما) يسقط لأن قاطع اليسار تعدى بقطعها ولأنه قطع إحدى يديه فلم يملك قطع اليد الأخرى
كما لو قطع يد السارق اليسرى مكان يمينه فإنه لا يملك قطع يمينه
(والوجه الثاني) أنه لا يسقط وهو مذهب الشافعي، وفرقوا بين القصاص وقطع السارق من
ثلاثة أوجه (أحدها) أن الحد مبني على الاسقاط بخلاف القصاص (والثاني) أن اليسار لا تقطع
في السرقة وان عدمت يمينه لأنه يفوت منفعة الجنس في الحد بخلاف القصاص (والثالث) أن اليد لو
سقطت بأكلة أو قصاص سقط القطع في السرقة فجاز أن يسقط بقطع اليسار بخلاف القصاص فإنه لا
يسقط وينتقل إلى البدل لكن لا تقطع يمينه حتى تندمل يساره لئلا يؤدي إلى ذهاب نفسه، فإن قيل
أليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر لم يؤخر أحدهما إلى اندمال الآخر؟ قلنا الفرق بينهما أن القطعين
مستحقان قصاصا فلهذا جمعنا بينهما وفي مسئلتنا أحدهما غير مستحق فلم نجمع بينهما فإذا اندملت
440

اليسار قطعنا اليمين فإن سرى قطع اليسار إلى نفسه كانت هدرا ويجب في تركته دية اليمين لتعذر الاستيفاء
فيها بموته وان قال المقتص منه لم أعلم أنها اليسار أو ظننت أنها تجزئ عن اليمين نظرت في المستوفي
فإن علم أنها يساره وأنها لا تكون قصاصا ضمنها بديتها ويعزر وقال بعض الشافعية عليه القصاص
لأنه قطعها مع العلم بأنه ليس له قطعها
ولنا أنه قطعها ببذل صاحبها فلم يجب عليه القصاص كما لو علم باذلها وإن كان جاهلا فلا تعزير عليه
وعليه الضمان بالدية لأنه بذلها على وجه البدل فكانت مضمونة عليه ولأنها مضمونة لو كان القاطع
عالما بها وما وجب ضمانه في العمد وجب في الخطأ كاتلاف المال، والقصاص باق له في اليمين ولا تقطع
حتى تدمل اليسار فإذا اندملت فله قطع اليمين فإن عفا وجب بدلها ويتقاصان وإن سرت اليسار إلى
نفسه كانت مضمونة بالدية الكاملة وقد تعذر قطع اليمين ووجب له نصف الدية فيتقاصان به ويبقى
نصف الدية لورثة الجاني، وإن اختلفا في بذلها فقال الجاني إنما بذلتها بدلا عن اليمين. وقال المجني عليه
بذلتها في غير عوض أو قال أخرجتها دهشة، فقال بل عالما، فالقول قول الجاني لأنه أعلم بنيته ولان
الظاهر أن الانسان لا يبذل طرفه للقطع تبرعا مع أن عليه قطعا مستحقا وهذا مذهب الشافعي وإن
441

كان باذل اليسار مجنونا مثل أن يجن بعد وجوب القصاص عليه فعلى قاطعها ضمانها بالقصاص إن كان
عالما وبالدية إن كان مخطئا لأن بذل المجنون ليس بشبهة. وإن كان من له القصاص مجنونا ومن عليه
القصاص عاقلا فأخرج إليه يساره أو يمينه فقطعها ذهبت هدرا لأنه لا يصح منه الاستيفاء ولا يجوز
البدل له ولا ضمان عليه لأنها أتلفها ببذل صاحبها، لكن إن كان المقطوع اليمنى فقد تعذر استيفاء
القصاص فيها لتلفها فيكون للمجنون ديتها، وان وثب المجنون عليه فقطع يده التي لا قصاص فيها فعلى
عاقلته ديتها وله القصاص في الأخرى وان قطع الأخرى فهو مستوف حقه في أحد الوجهين، لأن
حقه متعين فيها فإذا أخذها قهرا سقط حقه كما لو أتلف وديعته. (والثاني) لا يسقط حقه وله عقل يده
وعقل يد الجاني على عاقلته لأن المجنون لا يصح منه الاستيفاء ويفارق الوديعة إذا أتلفها لأنها تلفت
بغير تفريط وليس لها بدل إذا تلفت بذلك واليد بخلافه فإنها لو تلفت بغير تفريط كانت عليه ديتها
وكذلك الصغير وكذلك الحكم فيهما إذا قتلا قاتل أبيهما عمدا وان اقتصا من الجاني ما لا تحمله
عاقلته كما دون الثلث كقطع إصبع ونحوها سقط حقهما لأن ذلك يقتضي الدية في ذمتهما ولهما في ذمة
الجاني مثل ذلك فيتقاصان وإن كانت ديتهما مختلفة كالمسلم والذمي والرجل والمرأة فإن قلنا يكونان
مستوفيين حقهما بالقطع لم يبق لهما حق كما لو اتلفا وديعتهما وان قلنا لا يكونان مستوفيين يقاص
442

من الديتين بقدر الأدنى منهما ووجب الفضل للصبي والمجنون وان كانت الجناية عليهما أو على وليهما خطأ
تحمله العاقلة فاستوفيا القصاص لم يسقط حقهما وجها واحدا وكانت دية من استوفيا منه على عاقلتهما مؤجلة
ودية الجناية عليهما أو على وليهما على عاقلة الجاني مؤجلة
(فصل) وسراية القود غير مضمونة ومعناه أنه إذا قطع طرفا يجب القود فيه فاستوفى منه المجني
عليه ثم مات الجاني بسراية الاستيفاء لم يلزمه المستوفي شئ، وبهذا قال الحسن وابن سيرين ومالك والشافعي
وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وابن المنذر وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وقال
عطاء وطاوس وعمرو بن دينار والحارث العكلي والشعبي النخعي والزهري وأبو حنيفة: عليه
الضمان قال أبو حنيفة عليه كمال الدية في ماله وقال غيره هي على عاقلته لأنه فوت نفسه ولا يستحق الا
طرفه فلزمته ديته كما لو ضرب عنقه ولأنها سراية قطع مضمون فكانت مضمونة كسراية الجناية
والدليل على أنه مضمون انه مضمون بالقطع الأول لأنه في مقابلته
ولنا ان عمر وعليا رضي الله عنهما قالا من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله رواه
سعيد بمعناه ولأنه قطع مستحق مقدر فلا تضمن سرايته كقطع السارق وفارق ما قاسوا عليه فإنه
ليس ما فعله مستحقا إذا ثبت هذا فلا فرق بين سرايته إلى النفس بان يموت منها أو إلى ما دونها
مثل ان يقطع إصبعا فتسري إلى كفه
443

(فصل) وسراية الجناية مضمونة بلا خلاف لأنها اثر الجناية والجناية مضمونة فكذلك اثرها
ثم إن سرت إلى النفس وما لا يمكن مباشرته بالاتلاف مثل ان يهشمه في رأسه فيذهب ضوء عينيه
وجب القصاص فيه ولا خلاف في ذلك في النفس وفي ضوء العين خلاف قد ذكرناه فيما تقدم
وان سرت إلى ما يمكن مباشرته بالاتلاف مثل ان قطع إصبعا فتأكلت أخرى وسقطت من مفصل
ففيه القصاص أيضا في قول إمامنا وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وقال أكثر الفقهاء لا قصاص في الثانية
وتجب ديتها لأن ما أمكن مباشرته بالجناية لا يجب القود فيه بالسراية كما لو رمى سهما فمرق منه إلى آخر
ولنا ان ما وجب فيه القود بالجناية وجب بالسراية كالنفس وضوء العين ولأنه أحد نوعي القصاص
فأشبه ما ذكرنا وفارق ما ذكروه فإن ذلك فعل وليس بسراية ولأنه لو قصد ضرب رجل فأصاب
آخر لم يجب القصاص ولو قصد قطع ابهامه فقطع سبابته وجب القصاص ولو ضرب ابهامه فمرق
إلى سبابته وجب القصاص فيهما فافترقا ولان الثانية تلفت بفعل أوجب القصاص فوجب القصاص
فيها كما لو رمى إحداهما فمرق إلى الأخرى فأما ان قطع أصبعا فشلت إلى جانبها أخرى وجب القصاص
في المقطوعة حسب والأرش في الشلاء، وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا قصاص فيهما
ويجب أرشهما جميعا لأن حكم السراية لا ينفرد عن الجناية بدليل ما لو سرت إلى النفس فإذا لم يجب
القصاص في إحداهما لم يجب في الأخرى.
444

ولنا أنها جناية موجبة للقصاص لو لم تسر فأوجبته إذا سرت كالتي تسري إلى سقوط أخرى
وكما لو قطع يد حبلى فسرى إلى جنينها وبهذا يبطل ما ذكره وفارق الأصل لأن السراية مقتضية
للقصاص كاقتضاء الفعل له فاستوى حكمهما وههنا بخلافه ولان ما ذكره غير صحيح فإن القطع إذا
سرى إلى النفس سقط القصاص في القطع ووجب في النفس فخالف حكم الجناية حكم السراية فسقط
ما قاله، إذا ثبت هذا فإن الأرش يجب في ماله ولا تحمله العاقلة لأنه جناية عمد وإنما لم يجب القصاص
فيه لعدم المماثلة في القطع والشلل فإذا قطع أصبعه فشلت أصابعه الباقية وكفه فعفا عن القصاص
وجب له نصف الدية وان اقتص من الإصبع فله في الأصابع الباقية أربعون من الإبل ويتبعها ما حاذاها
من الكف وهو أربعة أخماسه فيدخل أرشه فيها ويبقى خمس الكف فيه وجهان (أحدهما)
يتبعها في الأرش ولا شئ فيه (والثاني) فيه الحكومة لأن ما يقابل الأربع تبعها في الأرش لاستوائهما
في الحكم وحكم التي اقتص منها مخالف لحكم الأرش فلم يتبعها
(فصل) ولا يجوز القصاص في الطرف الا بعد اندمال الجرح في قول أكثر أهل العلم
منهم النخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأبو ثور وروي ذلك عن عطاء والحسن قال
ابن المنذر كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى الانتظار بالجرح حتى يبرأ ويتخرج لنا أنه يجوز
الاقتصاص قبل البرء بناء على قولنا إنه إذا سرى إلى النفس يفعل كما فعل، وهذا قول الشافعي
445

قال ولو سأل القود ساعة قطعت أصبعه أقدته لما روى جابر أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته
فقال يا رسول الله أقدني قال " حتى تبرأ " فأبى وعجل فاستقاد له رسول الله صلى الله عليه وسلم فعييت رجل المستقيد
وبرأت رجل المستقاد منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ليس لك شئ عجلت " رواه سعيد مرسلا ولان القصاص
من الطرف لا يسقط بالسراية فوجب ان يملكه في الحال كما لو برأ
ولنا ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد من الجروح حتى يبرأ المجروح ورواه الدارقطني
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ولان الجرح لا يدرى أقتل هو أم ليس بقتل؟
فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه؟ فأما حديثهم فقد رواه الدارقطني وفي سياقه فقال يا رسول الله عرجت
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى أن يقتص من جرح
حتى يبرأ صاحبه وهذه زيادة يجب قبولها وهي متأخرة عن الاقتصاص فتكون ناسخة له وفى نفس
الحديث ما يدل على أن استقادته قبل البرء معصية لقوله " قد نهيتك فعصيتني " وما ذكروه ممنوع وهو
مبني على الخلاف
(فصل) فإن اقتص قبل الاندمال هدرت سراية الجناية، وقال أبو حنيفة والشافعي بل هي
مضمونة لأنها سراية جناية فكانت مضمونة كما لو لم يقتص
ولنا الخبر المذكور ولأنه استعجل ما لم يكن له استعجاله فبطل حقه كقاتل موروثه وبهذا فارق
446

من لم يقتص فعلى هذا لو سرى القطعان جميعا فمات الجاني والمستوفي فهما هدر. وقال أبو حنيفة يجب
ضمان كل واحد منهما لأن سراية كل واحد منهما مضمونة ثم يتقاصان فيسقطان، وقال الشافعي إن
مات المجني عليه أولا ثم مات الجاني كان قصاصا لأنه مات من سراية القطع فقد مات بفعل المجني
عليه، وإن مات الجاني فكذلك في أحد الوجهين وفي الآخر يكون موت الجاني هدرا ولولي المجني
عليه نصف الدية، فأما إن سرى أحد القطعين دون صاحبه فعندنا هو هدر لا ضمان فيه، وعند أبي
حنيفة يجب ضمان سرايته، وعند الشافعي إن سرت الجناية فهي مضمونة وإن سرى الاستيفاء لم
يجب ضمانه ومبنى ذلك على ما تقدم من الخلاف
(فصل) وأن اندمل جرح الجناية فاقتص منه ثم انتقض فسرى فسرايته مضمونة وسراية
الاستياء غير مضمونة لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص فعلى هذا لو قطع يد رجل فبرأ فاقتص ثم
انتقض جرح المجني عليه فمات فلوليه قتل الجاني لأنه مات من جنايته، وإن عفا إلى الدية فلا شئ
له لأنه استوفى بالقطع ما قيمته دية وهو يداه وإن سرى الاستيفاء لم يجب أيضا شئ لأن القصاص
قد سقط بموته والدية لا يمكن إيجابها لما ذكرنا، وإن كان المقطوع بالجناية يدا فوليه بالخيار بين
القصاص في النفس وبين العفو إلى نصف الدية ومتى سقط القصاص بموت الجاني أو غيره وجب
نصف الدية في تركة الجاني أو ماله إن كان حيا.
(فصل) ولو قطع كتابي يده مسلم فبرأ أو اقتص ثم انتقض جرح المسلم فمات فلوليه قتل الكتابي
والعفو إلى أرش الجرح وفي قدره وجهان
447

(أحدهما) نصف الدية لأنه قد استوفى بدل يده بالقصاص وبدلها نصف ديته فبقي له نصفها
كما لو كان القاطع مسلما
(والثاني) له ثلاثة أرباعها لأن يد اليهودي تعدل نصف ديته وذلك ربع دية المسلم فقد استوفى
ربع ديته وبقي له ثلاثة أرباعها، وأن كان قطع يدي المسلم فاقتص منه ثم مات المسلم فعفا وليه إلى مال
انبنى على الوجهين إن قلنا تعتبر قيمة اليهودي فله ههنا نصف الدية وإن قلنا الاعتبار بقيمة يد المسلم فلا
شئ له ههنا لأنه قد استوفى بدل يديه وهما جميع ديته، ولو كان القطع في يديه ورجليه فعفا إلى الدية
لم يكن له شئ وجها واحدا لأن دية ذلك دية مسلم، ولو كان الجاني امرأة على رجل فالحكم على
ما ذكرنا سواء لأن ديتها نصف دية الرجل
(فصل) إذا قطع يد رجل من الكوع ثم قطعها آخر من المرفق فمات بسرايتهما فلوليه قتل
القاطعين وليس له أن يقطع طرفيهما في أحد الوجهين وفي الآخر له يد القاطع من الكوع
فإن قطعها ثم عفا عنه فله نصف الدية وأما الآخر فإن كانت يده مقطوعة من الكوع فقطعها من
المرفق ثم عفا فله دية الاقدر الحكومة في الذراع ولو كانت يد القاطع من المرفق صحيحة لم يجز
قطعها رماية واحدة لأنه يأخذ صحيحة بمقطوعة وان قطع أيديهما وهما صحيحتان أو قطع رجلان
يديه فقطع يديهما ثم سرت الجناية فمات من قطعهما فليس لوليه العفو على الدية لأنه قد استوفى ما قيمته
دية وان اختار قتلهما فله ذلك
448

(فصل) ولا يجوز أن يقتص من حامل قبل وضعها سواء كانت حاملا وقت الجناية أو حملت
بعدها قبل الاستيفاء وسواء كان القصاص في النفس أو في الطرف: أما في النفس فلقول الله تعالى
(فلا يسرف في القتل) وقتل الحامل قتل لغير القاتل فيكون إسرافا
وروى ابن ماجة باسناده عن عبد الرحمن بن غنم قال ثنا معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وعبادة
ابن الصامت وشداد بن أوس قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع
ما في بطنها ان كانت حاملا وحتى تكفل ولدها وان زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل
ولدها " وهذا نص ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال للغامدية المقرة بالزنا " ارجعي حتى تضعي ما في بطنك ثم
قال لها ارجعي حتى ترضعيه " ولان هذا إجماع من أهل العلم لا نعلم بينهم فيه اختلافا
وأما القصاص في الطرف فلأننا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى الجاني أو إلى زيادة في حقه
فلان المنع منه خشية السراية إلى غير الجاني وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى. ولان في القصاص
منها قتلا لغير الجاني وهو حرام. وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ لأن الولد لا يعيش إلا به
في الغالب ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجئ أوان فطامه لما ذكرنا من الخبرين.
ولأنه لما أخر الاستيفاء لحفظه وهو حمل فلان يؤخر لحفظه بعد وضعه ولى إلا أن يكون القصاص
فيما دون النفس ويكون الغالب بقاؤها وعدم ضرره بالاستيفاء منها فيستوفى. وان وجد له مرضعة
راتبا جاز قتلها لأنه يستغني بلبنها وان كانت مترددة أو جماعة يتناوبنه أو أمكن أن يسقى من لبن شاة
449

أو نحوها جاز قتلها ويستحب للولي تأخيرها لما على الولد من الضرر لاختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة
(فصل) وإذا ادعت الحمل ففيه وجهان (أحدهما) تحبس حتى يتبين حملها لأن للحمل أمارات
خفية تعلمها من نفسها ولا يعلمها غيرها فوجب أن يحتاط للحمل حتى يتبين انتفاء ما ادعته. ولأنه
أمر يختصها فقبل قولها فيه كالحيض (والثاني) ذكره القاضي انها ترى أهل الخبرة فإن شهدن بحملها
أخرت وان شهدن ببراءتها لم تؤخر لأن الحق حال عليها فلا يؤخر بمجرد دعواها
(فصل) وان اقتص من حامل فقد أخطأ وأخطأ السلطان الذي مكنه من الاستيفاء وعليهما
الاثم إن كانا عالمين أو كان منهما تفريط وان علم أحدهما أو فرط فالاثم عليه ثم ننظر فإن لم تلق الولد
فلا ضمان فيه لأنا لم نتحقق وجوده وحياته. وان انفصل ميتا أو حيا لوقت لا يعيش في مثله ففيه
غرة وان انفصل حيا لوقت يعيش مثله ثم مات من الجناية وجبت فيه دية، وعلى من يجب ضمانه؟ ننظر
فإن كان الإمام والولي عالمين بالحمل وتحريم الاستيفاء أو جاهلين بالامرين أو بأحدهما أو كان الولي
عالما بذلك دون الممكن له من الاستيفاء فالضمان عليه وحده لأنه مباشر والحاكم الممكن له صاحب
سبب ومتى اجتمع المباشر مع المتسبب كان الضمان على المباشر دون المتسبب كالحافر مع الدافع، وان
علم الحاكم دون الولي فالضمان على الحاكم وحده لأن المباشر معذور فكان الضمان على المتسبب كالسيد
إذا أمر عبده بالقتل والعبد أعجمي لا يعرف تحريم القتل وكشهود القصاص إذا رجعوا عن الشهادة
بعد الاستيفاء، وقال القاضي إن كان أحدهما عالما وحده فالضمان عليه وحده وإن كانا عالمين فالضمان على
الحاكم لأنه الذي يعرف الأحكام والولي إنما يرجع إلى حكمه واجتهاده. وان كانا جاهلين ففيه وجهان
(أحدهما) الضمان على الإمام كما لو كانا عالمين (والثاني) على الولي وهذا مذهب الشافعي
450

وقال أبو الخطاب الضمان على الحاكم ولم يفرق. وقال المزني الضمان على الولي في كل حال لأنه المباشر
والسبب غير ملجئ فكان الضمان عليه كالحافر مع الدافع وكما لو أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل.
وقد ذكرنا ما يقتضي التفريق والله أعلم
(مسألة) قال (وإذا كان القاطع سالم الطرف والمقطوعة شلاء فلا قود)
لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بوجوب قطع يد أو رجل أو لسان صحيح بأشل الا ما حكي عن داود
أنه أوجب ذلك لأن كل واحد منهما مسمى باسم صاحبه فيؤخذ به كالأذنين
ولنا أن الشلاء لا نفع فيها سرى الجمال فلا يؤخذ بها ما فيه نفع كالصحيحة لا تؤخذ بالقائمة وما ذكر
له قياس وهو لا يقول بالقياس وإذا لم نوجب القصاص في العينين مع قول الله تعالى (العين بالعين) لأجل
تفاوتهما في الصحة والعمى فلان لا يجب ذلك فيما لا نص فيه أولى
(فصل) وان قطع إذنا شلاء أو انفا أشل فهل يؤخذ به الصحيح؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يؤخذ به
كسائر الأعضاء (والثاني) يؤخذ به لأن نفعه لا يذهب بشلله فإن نفع الاذن جمع الصوت ورد الهوام
وستر موضع السمع ونفع الانف جمع الريح ورد الهواء أو الهوام فقد ساوى الصحيح في الجمال والنفع
فوجب اخذ كل واحد منهما بالآخر كالصحيح بالصحيح بخلاف اليد والرجل وللشافعي قولان كالوجهين:
451

(فصل) ولا تؤخذ يد كاملة الأصابع بناقصة الأصابع فلو قطع من له خمس أصابع يد من له
أربع أو ثلاث أو قطع من له أربع أصابع يد من له ثلاث لم يجب القصاص لأنها فوق حقه وهل له
ان يقطع من أصابع الجاني بعدد أصابعه؟ فيه وجهان ذكرناهما فيما إذا قطع من نصف الكف وان قطع
ذو اليد الكاملة يدا فيها إصبع شلاء وباقيها صحاح لم يجز اخذ الصحيحة بها لأنه اخذ كامل بناقص
وفي الاقتصاص من الأصابع الصحاح وجهان فإن قلنا له ان يقتص فله الحكومة في الشلاء وأرش
ما تحتها من الكف وهل يدخل ما تحت الأصابع الصحاح في قصاصها أو تجب فيه حكومة؟ على وجهين
(فصل) وان قطع اليد الكاملة ذو يد فيها إصبع زائدة وجب القصاص فيها ذكره أبو عبد الله
ابن حامد لأن الزائدة عيب ونقص في المعنى يرد بها المبيع فلم يمنع وجودها القصاص منها كالسلعة
فيها والخراج واختار القاضي أنها لا تقطع بها وهو مذهب الشافعي لأنها زيادة، فعلى هذا إن كان للمجني
عليه أيضا أصبع زائدة في محل الزائدة من الجاني وجب القصاص لاستوائهما وان كانت في غير محلها
أو لم يكن للمجني عليه أصبع زائدة لم تؤخذ يد الجاني، وهل يملك قطع الأصابع؟ ننظر فإن كانت
الزائدة ملصقة بأحد الأصابع فليس له قطع تلك الإصبع لأن في قطعها اضرارا بالزائدة وهل له قطع
الأصابع الأربع؟ على وجهين، وان لم تكن ملصقة بواحدة منهن فهل له قطع الخمس؟ على وجهين وان
كانت الزائدة نابتة في أصبع في أنملتها العليا لم يجز قطعها، وإن كانت نابتة في السفلى أو
452

الوسطى فله قطع ما فوقها من الأنامل في أحد الوجهين ويأخذ أرش الأنملة التي تعذر قطعها في أحد
الوجهين ويتبع ذلك خمس الكف
(فصل) وإن قطع ذو يد لها أظفار يد من لا أظفار له لم يجز القصاص لأن الكاملة لا تؤخذ
بالناقصة، وان كانت المقطوعة ذات أظفار إلا انها خضراء أو مستحشفة أخذنا بها السليمة لأن ذلك
علة ومرض والمرض لا يمنع القصاص بدليل أنا نأخذ الصحيح بالسقيم
(مسألة) قال (وإن كان القاطع أشل والمقطوعة سالمة فشاء المظلوم أخذها فذلك له ولا
شئ له غيرها وان شاء عفا وأخذ دية يده)
أما إذا اختار الدية فله دية يده لا نعلم فيه خلافا لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص
فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي. وان اختار القصاص سئل
أهل الخبرة فإن قالوا إنه إذا قطع لم تنسد العروق ويدخل الهواء إلى البدن فأفسده سقط القصاص لأن لا يجوز
أخذ نفس بطرف وان أمن هذا فله القصاص لأنه رضي بدون حقه فكان ذلك كما لو رضي المسلم بالقصاص من
الذمي والرجل من المرأة والحر من العبد وليس له مع القصاص أرش لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت
في الصفة فلم يكن له أرش كالصورة التي ذكرناها. وقال أبو الخطاب عندي له أرش مع القصاص على قياس قوله
453

في عين الأعور والأول أصح فإن الحاق هذا الفرع بالأصول المتفق عليها أولى من الحاقه بفرع مختلف
فيه خارج عن الأصول مخالف للقياس
(فصل) وتؤخذ الشلاء بالشلاء إذا أمن في الاستيفاء الزيادة، وقال أصحاب الشافعي لا تؤخذ
بها في أحد الوجهين لأن الشلاء عليلة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما
ولنا أنهما متماثلان في ذات العضو وصفته فجاز اخذ إحداهما بالأخرى كالصحيحة بالصحيحة
(فصل) وتؤخذ الناقصة بالناقصة إذا تساوتا فيه بأن يكون المقطوع من يد الجاني كالمقطوع
من يد المجني عليه لأنهما تساوتا في الذات والصفة، فاما ان اختلفا فكان المقطوع من يد أحدهما الابهام
ومن الأخرى أصبع غيرها لم يجز القصاص لأن فيه أخذ أصبع بغيرها وان كانت يد أحدهما ناقصة
أصبعا والأخرى ناقصة تلك الإصبع وأخرى جاز أخذ الناقصة إصبعين بالناقصة أصبعا وهل له أرش
أصبعه الزائدة؟ فيه وجهان ولا يجوز أخذ الأخرى بها لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة
(فصل) ويجوز أخذ الناقصة بالكاملة لأنها دون حقه وهل له أخذ دية الأصابع الناقصة؟ على
وجهين (أحدهما) له ذلك وهو قول الشافعي واختيار ابن حامد
(والثاني) ليس له مع القصاص أرش. هو مذهب أبي حنيفة وقياس قول أبي بكر لئلا يفضي
إلى الجمع بين قصاص ودية في عضو واحد، وقال القاضي قياس قوله سقوط القصاص كقوله فيمن
454

قطعت يده من نصف الذراع وليس كذلك لأنه يقتص من موضع الجناية ويضع الحديدة في موضع
وضعها الجاني فملك ذلك كما لو جنى عليه فوق الموضحة أو كان رأس الشاج أصغر أو اخذ الشلاء
بالصحيحة، ويفارق القاطع من نصف الذراع لأنه لا يمكنه القصاص من موضع الجناية. هكذا حكاه
الشريف عن أبي بكر
(فصل) وإن كانت يد القاطع والمجني عليه كاملتين. في يد المجني عليه أصبع زائدة فعلى قول
ابن حامد لا عبرة بالزائدة لأنها بمنزلة الخراج والسلعة وعلى قول غيره له قطع يد الجاني وهل له حكومة
في الزائدة؟ على وجهين، وإن قطع من له خمس أصابع أصلية كيف من له أربع أصابع أصلية وإصبع
زائدة أو قطع من له أربع أصابع وإصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية فلا قصاص في الصورة
الأولى لأن الأصلية لا تؤخذ بالزائدة وله القصاص في الصورة الثانية في قول ابن حامد لأن الزائدة لا عبرة
بها، وقال غيره ان لم تكن الزائدة في محل الأصلية فلا قصاص أيضا لأن الإصبعين مختلفان، وإن كانت
في محل الأصلية فقال القاضي يجري القصاص وهو مذهب الشافعي ولا شئ له لنقص الزائدة، وهذا فيه
نظر فإنها متى كانت في محل الأصلية كانت أصلية لأن الزائدة هي التي زادت عن عدد الأصابع أو
كانت في غير محل الأصابع، وهذا له خمس أصابع في محلها فكانت كلها أصلية، فإن قالوا معنى كونها
زائدة انها ضعيفة مائلة عن سمت الأصابع، قلنا ضعفها لا يوجب كونها زائدة كذكر العنين وأما ميلها عن
455

الأصابع فإنها ان لم تكن نابتة في محل الإصبع المعدومة فسد قولهم انها في محلها وإن كانت نابتة في
موضعها وإنما مال رأسها واعوجت فهذا مرض لا يخرجها عن كونها أصلية
(فصل) وإذا قطع أصبعه فأصابه من جرحها أكلة في يده وسقطت من مفصل ففيها القصاص
وإن بادرها صاحبها فقطعها من الكوع لئلا تسري إلى سائر جسده ثم اندمل جرحه فعلى الجاني
القصاص في الإصبع والحكومة فيما تأكل من الكف ولا شئ عليه فيما قطعه المجني عليه لأنه تلف
بفعله، وإن لم يندمل ومات من ذلك فالجاني شريك نفسه فيحتمل وجوب القصاص عليه ويحتمل
أن لا يجب بحال لأن فعل المجني إنما قصد به المصلحة فهو عمد الخطأ وشريك الخاطئ لا قصاص عليه
ويكون عليه نصف الدية، وإن قطع المجني عليه موضع الاكلة نظرت فإن قطع لحما ميتا ثم سرت
الجناية فالقصاص على الجاني لأنه سراية جرحه خاصة، وإن كان في لحم حي فمات فالحكم فيه كما لو
قطعها خوفا من سرايتها
(فصل) وإذا قطع أنملة لها طرفان إحداهما زائدة والأخرى أصلية فإن كانت أنملة القاطع ذات
طرفين أيضا أخذت بها، وإن تكن ذات طرفين قطعت وعليه حكومة في الزائدة إن كانت المقطوعة
ذات طرف واحد وأنملة القاطع ذات طرفين أخذت بها في قول ابن حامد وعلى قول غيره لا قصاص
فيها وله دية أنملة، وإن ذهب الطرف الزائد فله الاستيفاء، وان قال أنا أصبر حتى يذهب الزائد ثم
اقتص فله ذلك لأن القصاص حقه فلا يجبر على تعجيل استيفائه
456

(فصل) ولو قطع أنملة رجل العليا ثم قطع أنملة آخر الوسطى ثم قطع السفلى من ثالث فللأول
القصاص من العليا ثم للثاني أن يقتص من الوسطى ثم للثالث أن يقتص من السفلى سواء جاءوا دفعة
واحدة أو واحدا بعد واحد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قصاص الا في العليا لأنه لم يجب
في غيرها حال الجناية لتعذر استيفائه فلم يجب بعد ذلك كما لو كان غير مكافئ حال الجناية ثم
صار مكافئا بعده
ولنا أن تعذر القصاص لايصال محله بغيره لا يمنعه إذا زال الاتصال كما لو جنت الحامل ويفارق
عدم التكافؤ لأنه تعذر لمعنى فيه وههنا تعذر لاتصال غيره به، فأما أن جاء صاحب الوسطى أو
السفلى يطلب القصاص قبل صاحب العليا لم يعطه لأن في استيفائه اتلاف أنملة لا يستحقها وقيل لهما
إما أن تصيرا حتى تعلما ما يكون من الأول فإن اقتص فلكما القصاص وان عفا فلا قصاص لكما وإما
أن ترضيا بالعقل فإذا جاء صاحب العليا فاقتص فللثاني الاقتصاص وحكم الثالث مع الثاني كحكم الثاني
مع الأول، وان عفا فلها العقل فإن قالا نحن نصبر وننظر بالقصاص ان تسقط العليا بمرض أو نحوه
ثم نقتص لم يمنعا من ذلك، وان قطع صاحب الوسطى الوسطى والعليا فعليه دية العليا تدفع إلى صاحب
العليا وان قطع الإصبع كلها فعليه القصاص في الأنملة الثالثة وعليه أرش العليا للأول وأرش السفلى
على الجاني لصاحبها وان عفا الجاني عن قصاصها وجب أرشها يدفعه إليه ليدفعه إلى المجني عليه
457

(فصل) وان قطع أنملة رجل العليا ثم قطع أنملتي آخر العليا والوسطى من تلك الإصبع فللأول
قطع العليا لأن حقه أسبق ثم يقطع الثاني الوسطى ويأخذ أرش العليا منه فإن بادر الثاني فقطع الأنملتين
فقد استوفى حقه وتعذر استيفاء القصاص للأول وله الأرش على الجاني، وإن كان قطع الأنملتين
أولا قدمنا صاحبهما في القصاص للأول وله الأرش على الجاني، وان بادر صاحبها فقطعها فقد
استوفى حقه وتقطع الوسطى للأول ويأخذ الأرش للعليا ولو قطع أنملة رجل العليا ولم يكن للقاطع
عليا فاستوفى الجاني من الوسطى فإن عفا إلى الدية تقاصا وتساقطا لأن ديتهما واحدة. وان اختار
الجاني القصاص فله ذلك ويدفع أرش العليا ويجئ على قول أبي بكر أن لا يجب القصاص لأن ديتهما
واحدة واسم الأنملة يشملها فتساقطا كقوله في إحدى اليدين بدلا عن الأخرى
(مسألة) قال (وإذا قتل وله وليان بالغ وطفل أو غائب لم يقتل حتى يقدم
الغائب ويبلغ الطفل)
وجملته أن ورثة القتيل إذا كانوا أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود الا باذن الباقين
فإن كان بعضهم غائبا انتظر قدومه ولم يجز للحاضر الاستقلال بالاستيفاء بغير خلاف علمناه وإن كان
بعضهم صغيرا أو مجنونا فظاهر مذهب احمد رحمه الله أنه ليس لغيرهما الاستيفاء حتى يبلغ
458

الصغير ويفيق المجنون وبهذا قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والشافعي أبو يوسف وإسحاق ويروى
عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وعن أحمد رواية أخرى: للكبار العقلاء استيفاؤه، وبه قال حماد
ومالك والأوزاعي والليث وأبو حنيفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قصاصا
وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك، ولان ولاية القصاص هي استحقاق استيفائه وليس للصغير هذه الولاية
ولنا انه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة معينين فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالا
كما لو كان بين حاضر وغائب أو أحد بدلي النفس فلم ينفرد به بعضهم كالدية، والدليل على أن
للصغير والمجنون فيه حقا أربعة أمور (أحدها) أنه لو كان منفردا لاستحقه ولو نافاه الصغر مع غيره
لنافاه منفردا كولاية النكاح (والثاني) أنه لو بلغ لاستحق ولو لم يكن مستحقا عند الموت لم يكن
مستحقا بعده كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه (والثالث) أنه صار الامر إلى المال لاستحق ولو
لم يكن مستحقا للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي (الرابع) أنه لو مات الصغير لاستحقه ورثته
ولو لم يكن حقا لم يرثه كسائر ما لم يستحقه فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره لأنه قتل عليا
مستحلا لدمه معتقدا كفره متقربا بذلك إلى الله تعالى، وقيل قتله لسعيه في الأرض بالفساد واظهار
السلاح فيكون كقاطع الطريق إذا قتل وقتله متحتم وهو إلى الإمام والحسن هو الإمام ولذلك لم ينتظر
459

الغائبين من الورثة ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم وان قدر أنه قتله قصاصا فقد اتفقنا على خلافه
فكيف يحتج به بعضنا على بعض
(فصل) وإن كان الوارث واحدا صغيرا كصبي قتلت أمه وليست زوجة لأبيه فالقصاص له وليس
لأبيه ولا غيره شفاؤه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك له استيفاؤه ولذلك الحكم في الوصي
والحاكم في الطرف دون النفس وذكر أبو الخطاب في موضع في الأب روايتين وفي موضع وجهين
(أحدهما) كقولنا لأن القصاص أحد بدلي النفس فكاب للأب استيفاؤه كالدية
ولنا أنه لا يملك إيقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص له كالوصي ولان القصد التشفي
ودرك الغيظ ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب له فافترقا ولان
الدية إنما يملك استيفاءها إذ تعنيت القصاص لا يتعين فإن يجوز العفو إلى الدية والصلح على مال أكثر
منها أقل، والدية بخلاف ذلك
(فصل) وكل موضع وجب تأخير الاستيفاء فإن القاتل يحبس حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون
ويقدم الغائب، وقد حبس معاوية هدية بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل في عصر الصحابة
فلم ينكر ذلك وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها. فإن قيل
فلم لا يخلى سبيله كالمعسر بالدين؟ قلنا لأن في تخليته تضييعا للحق فإنه لا يؤمن هربه والفرق بينه وبين
460

المعسر من وجوه أحدها أن قضاء الدين لا يجب مع الاعسار فلا يحبس بما لا يجب والقصاص ههنا
واجب وإنما تعذر المستوفى (الثاني) أن المعسر إذا حبسناه تعذر الكسب لقضاء الدين فلا يفيد بل
يضر من الجانبين وههنا الحق نفسه يفوت بالتخلية لا بالحبس (الثالث) أنه قد استحق قتله، وفيه
تفويت نفسه ونفعه فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لامكانه فإن قيل فلم يحبس من أجل
الغائب وليس للحاكم عليه ولاية إذا كان مكلفا رشيدا ولذلك لو وجد بعض ماله مغصوبا لم يملك
انتزاعه؟ قلنا لأن في القصاص حقا للميت وللحاكم عليه ولاية ولهذا تنفذ وصاياه من الدية وتقضى
ديونه منها فنظيره أن يجد الحاكم من تركة الميت في يد انسان شيئا غصبا والوارث غائب فإنه يأخذه
ولو كان القصاص في لحي طرفه لم يتعرض لمن هو عليه فإن أقام القاتل كفيلا بنفسه ليخلى سبيله لم يجز
لأن الكفالة لا تصح في القصاص فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إن تعذر احضار المكفول
به ولا يمكن استيفاؤه من غير القاتل فلم تصح الكفالة به كالحد ولان فيه تغريرا بحق المولى عليه فإنه
ربما خلي سبيله فهرب فضاع الحق
(فصل) فإن قتله بعض الأولياء بغير اذن الباقين لم يجب عليه قصاص وبهذا قال أبو حنيفة وهو
أحد قولي الشافعي والقول الأخير عليه القصاص لأنه ممنوع من قتله وبعضه غير مستحق له وقد يجب القصاص
باتلاف بعض النفس بدليل ما لو اشترك الجماعة في قتل واحد
ولنا انه مشارك في استحقاق القتل فلم يجب عليه القصاص كما لو كان مشاركا في ملك الجارية ووطئها
ولأنه محل يملك بعضه فلم تجب العقوبة المقدرة باستيفائه كالأصل ويفارق إذا قتل الجماعة واحدا فانا
461

لا نوجب القصاص بقتل بعض النفس وإنما كل واحد منهم قاتلا لجميعها وإن سلمنا وجوبه عليه
لقتله بعض النفس فمن شرطه المشاركة لمن فعله كفعله في العمد والعدوان ولا يتحقق ههنا
إذا ثبت هذا فإن للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره
فأشبه ما لو مات القاتل أو عفا بعض الأولياء، وهل يجب ذلك على قاتل الجاني أو في تركة الجاني؟ فيه
وجهان وللشافعي قولان (أحدهما) يرجع على قاتل الجاني لأنه أتلف محل حقه فكان الرجوع عليه
بعوض نصيبه كما لو كانت له وديعة فأتلفها (والثاني) يرجع في تركة الجاني كما لو أتلفه أجنبي أو عفا
شريكه عن القصاص، وقولنا أتلف محل حقه يبطل بما إذا أتلف مستأجره أو غريمه أو امرأته أو
كان المتلف أجنبيا ويفارق الوديعة فإنها مملوكة لهما فوجب عوض ملكه أما الجاني فليس بمملوك
للمجني عليه وإنما له عليه حق فأشبه ما لو قتل غريمه، فعلى هذا يرجع ورثة الجاني على قاتله بدية مورثهم
إلا قدر حقه منها. فعلى هذا لو كان الجاني أقل دية من قاتله مثل امرأة قتلت رجلا له ابنان فقتلها
أحدهما بغير اذن الآخر فللآخر نصف دية أبيه في تركة المرأة التي قتلته ويرجع ورثتها بنصف ديتها
على قاتلها وهو ربع دية الرجل
وعلى الوجه الأول يرجع الابن الذي لم يقتل على أخيه بنصف دية المرأة لم يفوت على أخيه إلا
نصف المرأة ولا يمكن أن يرجع على ورثة المرأة بشئ لأن أخاه الذي قتلها أتلف جميع الحق. وهذا
يدل على ضعف هذا الوجه. ومن فوائده أيضا صحة ابراء من حكمنا بالرجوع عليه ومالك مطالبته
462

فإن قلنا يرجع على ورثة الجاني صح ابراؤهم وملكوا الرجوع على قاتل موروثهم بقسط أخيه العافي
وان قلنا يرجع على تركة الجاني وله تركة فله الاخذ منها سواء أمكن ورثته أن يستوفوا من الشريك
أو لم يمكنهم وان قلنا يرجع على شريكه لم يكن له مطالبة ورثة الجاني سواء كان شريكه موسرا أو معسرا
" مسألة " قال (ومن عفا من ورثة المقتول عن القصاص لم يكن إلى القصاص سبيل وإن كان
الباقي زوجا أو زوجة)
أجمع أهل العلم على أجاز العفو عن القصاص وانه أفضل والأصل فيه الكتاب والسنة: أما الكتاب
فقول الله تعالى في سياق قوله (كتب عليكم القصاص في القتلى: فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع
بالمعروف وأداء إليه باحسان) وقال تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى قوله والجروح قصاص
فمن تصدق به فهو كفارة له) قيل في تفسيره فهو كفارة للجاني يعفو صاحب الحق عنه. وقيل فهو
كفارة للعافي بصدقته. وأما السنة فإن أنس بن مالك قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شئ
فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو. ورواه أبو داود. وفي حديثه في قصة الربيع بنت النضر حين كسرت سن
جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص فعفا القوم
463

إذا ثبت هذا فالقصاص حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب والرجال والنساء
والصغار والكبار فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص ولم يبق لاحد إليه سبيل. هذا قول أكثر
أهل العلم منهم عطاء والنخعي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي، وروي معنى ذلك عن
عمر وطاوس والشعبي. وقال الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي: ليس للنساء
عفو، والمشهور عن مالك انه موروث للعصبات خاصة وهو وجه لأصحاب الشافعي لأنه ثبت لدفع العار
فاختص به العصبات كولاية النكاح. ولهم وجه ثالث انه لذوي الأنساب دون الزوجين لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يقتلوا أو يأخذوا العقل " وأهله ذوو رحمة
وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص لا يسقط بعفو بعض الشركاء، وقيل هو رواية عن
مالك لأن حق غير العافي لا يرضى باسقاطه وقد تؤخذ النفس ببعض النفس بدليل قتل الجماعة بالواحد
ولنا عموم قوله عليه السلام " فأهله بين خيرتين " وهذا عام في جميع أهله والمرأة من أهله بدليل
قول النبي صلى الله عليه وسلم " من يعذرني من رجل يبلغني أذاه في أهلي وما عملت على أهلي الا خيرا، ولقد
ذكروا رجلا ما علمت عليه الا خيرا وما كان يدخل على أهلي الا معي " يريد عائشة. وقال له أسامة
يا رسول الله أهلك ولا نعلم الا خيرا. وروى زيد بن وهب أن عمر أتي برجل قتل قتيلا فجاء ورثة
المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل قد عفوت عن حقي، فقال عمر الله أكبر
464

عتق القتيل رواه أبو داود، وفي رواية عن زيد قال: دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلا
فقتلها فاستعدى إخوتها عمر فقال بعض إخوتها قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية
وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلا فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم فقال عمر
لابن مسعود ما تقول؟ قال إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه وقال كنيف ملئ علما. والدليل
على أن القصاص لجميع الورثة ما ذكرناه في مسألة القصاص بين الصغير والكبير، ولان من ورث الدية
ورث القصاص كما لم يمنع استحقاق الدية وسائر حقوقه الموروثة، ومتى ثبت انه حق مشترك بين
جميعهم سقط باسقاط من كان من أهل الاسقاط منهم لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه فإذا سقط
سقط جميعه لأنه مما لا يتبعض كالطلاق والعتاق، ولان القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض مبناه
على الدرء والاسقاط فإذا أسقط بعضهم سرى إلى الباقي كالعتق والمرأة أحد المستحقين فسقط باسقاطها
كالرجل، متى عفا أحدهم فللباقين حقهم من الدية سواء عفا مطلقا أو إلى الدية وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي ولا أعلم لهما مخالفا ممن قال بسقوط القصاص وذلك لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه
فثبت له البدل كما لو ورث القاتل بعض دمه أو مات ولما ذكرنا من خبر عمر رضي الله عنه
(فصل) فإن قتله الشريك الذي لم يعف عالما بعفو شريكه وسقوط القصاص به فعليه القصاص
465

سواء حكم به الحاكم أو لم يحكم وبهذا قال أبو حنيفة وأبو ثور وهو الظاهر من مذهب الشافعي وقيل
له قول آخر لا يجب القصاص لأن له فيه شبهة لوقوع الخلاف
ولنا انه قتل معصوما مكافئا له عمدا يعلم أنه لا حق له فيه فوجب عليه القصاص كما لو حكم بالعفو
حاكم والاختلاف لا يسقط القصاص فإنه لو قتل مسلما بكافر قتلناه به مع الاختلاف في قتله، وأما
ان قتله قبل العلم بالعفو فلا قصاص عليه، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه عليه القصاص
لأنه قتل عمد عدوان لمن لا حق له في قتله
ولنا انه قتله معتقدا ثبوت حقه فيه مع أن الأصل بقاؤه فلم يلزمه قصاص كالوكيل إذا قتل بعد
عفو الموكل قبل علمه بعفوه ولا فرق بين أن يكون الحاكم قد حكم بالعفو ولم يحكم به لأن الشبهة
موجودة مع انتفاء العلم معدومة عند وجوده، وقال الشافعي متى قتله بعد حكم الحاكم لزمه القصاص
علم بالعفو أو لم يعلم وقد بينا الفرق بينهما، ومتى حكمنا عليه بوجوب الدية إما لكونه معذورا وإما
للعفو عن القصاص فإنه يسقط عنه منها ما قابل حقه على القاتل قصاصا ويجب عليه الباقي فإن كان الولي
عفا إلى غير مال فالواجب لورثة القاتل ولا شئ عليهم، وإن كان عفا إلى الدية فالواجب لورثة
القاتل وعليهم نصيب العافي من الدية، وقيل فيه ان حق العافي من الدية على القاتل لا يصح لأن
الحق لم يبق متعلقا بعينه وإنما الدية واجبة في ذمته فلم تنتقل إلى القاتل كما لو قتل غريمه
466

(فصل) فإن كان القاتل هو العافي فعليه القصاص سواء عفا مطلقا أو إلى مال وبهذا قال
عكرمة والثوري ومالك والشافعي وابن المنذر. وروي عن الحسن تؤخذ منه الدية ولا يقتل. وقال
عمر بن عبد العزيز الحكم فيه إلى السلطان
ولنا قوله تعالى (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) قال ابن عباس وعطاء والحسن وقتادة
في تفسيرها أي بعد أخذه الدية. وعن الحسن عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أعفي
من قتل بعد أخذه الدية " ولأنه قتل معصوما مكافئا فوجب عليه القصاص كما لو لم يكن قتل
(فصل) وإذا عفا عن القاتل مطلقا صح ولم تلزمه عقوبة وبهذا قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر
وأبو ثور. وقال مالك والليث والأوزاعي يضرب ويحبس سنة
ولنا انه إنما كان عليه حق واحد وقد أسقطه مستحقه فلم يجب عليه شئ آخر كما لو أسقط
الدية عن القاتل خطأ
(فصل وإذا وكل من يستوفي القصاص صح توكيله نص عليه أحمد رحمه الله، فإن وكله ثم
غاب وعفا عن القصاص واستوفى الوكيل نظرنا فإن كان عفوه بعد القتل لم يصح لأن حقه قد استوفى
وإن كان قتله وقد علم الوكيل به فقد قتله ظلما فعليه القود كما لو قتله ابتداء. وان قتله قبل العلم بعفو
الموكل فقال أبو بكر لا ضمان على الوكيل لأنه لا تفريط منه فإن العفو حصل على وجه لا يمكن الوكيل
استدراكه فلم يلزمه ضمان كما لو عفا بعد ما رماه. وهل يلزم الموكل الضمان؟ فيه قولان (أحدهما)
لا ضمان عليه لأن عفوه غير صحيح لما ذكرنا من حصوله في حال لا يمكنه استدراك الفعل فوقع القتل
467

مستحقا له فلم يلزمه ضمان ولان العفو إحسان فلا يقتضي وجوب الضمان (والثاني) عليه الضمان لأن
قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب للمباشر فيه فكان الضمان على الآمر كما لو أمر
عبده الأعجمي بقتل معصوم
وقال غير أبي بكر في صحة العفو وجهان بناء على الروايتين في الوكيل هل ينعزل بعزل الموكل أو
لا؟ وللشافعي قولان كالوجهين، فإن قلنا لا يصح العفو فلا ضمان على أحد لأنه قتل من يجب قتله
بأمر يستحقه. وان قلنا يصح العفو فلا قصاص فيه لأن الوكيل قتل من يعتقد إباحة قتله بسبب هو
معذور فيه فأشبه ما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا، وتجب الدية على الوكيل لأنه لو علم
لوجب عليه القصاص فإذا لم يعلم تعلق به الضمان كما لو قتل مرتدا قد أسلم قبل علمه باسلامه ويرجع
بها على الموكل لأنه غره بتسليطه على القتل بتفريطه في ترك إعلامه بالعفو فيرجع عليه كالغار في النكاح
بحرية أمة أو تزوج معيبة، ويحتمل ان لا يرجع عليه الان العفو احسان منه فلا يقتضي الرجوع عليه
فعلى هذا تكون الدية على عاقلة الوكيل وهذا اختيار أبي الخطاب لأن هذا جرى الخطأ فأشبه
ما لو قتل في دار الحرب مسلما يعتقده حربيا
وقال القاضي هو في مال الوكيل لأنه عن محض وهذا لا يصح لأنه لو كان عمدا محضا
لا وجب القصاص، ولأنه يشترط في العمد المحض أن يكون عالما بحال المحل وكونه معصوما ولم يوجد
هذا، وان قال هو عمد الخطأ تحمله العاقلة. ذكره الخرقي ودل عليه خبر المرأة التي
قتلت جاريتها وجنينها بمسطح فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلتها، واختلف أصحاب الشافعي على هذين
468

الوجهين فعلى قول القاضي إن كان الموكل عفا إلى الدية فله الدية في تركة الجاني ولورثة الجاني مطالبة
الوكيل بديته وليس للموكل مطالبة الوكيل بشئ، فإن قيل فقد قلتم فيما إذا كان القصاص لأخوين فقتله
أحدهما فعليه نصف الدية ولأخيه مطالبته به في وجه، قلنا ثم أتلف حقه فرجع ببدله عليه وههنا أتلفه بعد سقوط
حق الموكل عنه فافترقا، وان قلنا إن الوكيل يرجع على الموكل احتمل أن تسقط الديتان لأنه لا فائدة
في أن يأخذها الورثة من الوكيل ثم يدفعوها إلى الموكل ثم يردها الموكل إلى الوكيل فيكون تكليفا
لكل واحد منهم بغير فائدة، ويحتمل أن يجب ذلك لأن الدية الواجبة في ذمة الوكيل لغير من للوكيل
الرجوع عليه وإنما تتساقط الديتان إذا كان لكل واحد من الغريمين على صاحبه مثل ماله عليه،
ولأنه قد تكون الديتان مختلفتين بأن يكون أحد المقتولين رجلا والآخر امرأة، فعلى هذا يأخذ ورثة
الجاني ديته من الوكيل ويدفعون إلى الموكل دية وليه ثم يرد الموكل إلى الوكيل قدر ما عرفه، وان
أحال ورثة الجاني الموكل على الوكيل بدية وليهم صح، فإن كان الجاني أقل دية مثل أن تكون امرأة
قتلت رجلا فقتلها الوكيل فلورثتها إحالة الموكل بديتها لأنه القدر الواجب لهم على الوكيل فيسقط عن
الوكيل والموكل جميعا ويرجع الموكل على ورثتها بنصف دية وليه، وإن كان الجاني رجلا قتل امرأة
فقتله الوكيل فلورثة الجاني إحالة الموكل بدية المرأة لأن الموكل لا يستحق عليهم أكثر من ديتها ويطالبون
الوكيل بنصف دية الجاني ثم يرجع به على الموكل
(فصل) وإذا جني على الانسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص فعفا عن القصاص ثم سرت
الجناية إلى نفسه فمات لم يجب القصاص وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك أن القصاص
واجب لأن الجناية صارت نفسا ولم يعف عنها
469

ولنا أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفا عنه فسقط في النفس كما لو عفا بعض
الأولياء، ولان الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع إمكانه لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد
ثم أسلم ثم مات منها نظرنا فإن كان عفا على مال فله الدية كاملة، وإن عفا على غير مال وجبت الدية
إلا أرش الجراح الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تجب لدية كاملة لأن الجناية
صارت نفسا وحقه في النفس لا فيما عفا عنه، وإنما سقط القصاص للشبهة، وإن قال عفو عن
الجناية لم يجب شئ لأن الجناية لا تقتصر بالقطع، وقال القاضي فيما إذا عفا عن القطع: ظاهر كلام أحمد أنه
لا يجب شئ وبه قال أبو يوسف ومحمد لأنه قطع غير مضمون فكذلك سرايته
ولنا أنها سراية جناية أوجبت الضمان فكانت مضمونه كما لو لم يعف وإنما سقطت ديتها بعفوه
عنها فيختص السقوط بما عفا عنه دون غيره والعفو عنه نصف الدية لأن الجناية أوجبت نصف الدية
فإذا عفا سقط ما وجب دون ما لم يجب فإذا صارت نفسا وجب بالسراية نصف الدية ولم يسقط أرش
الجرح فيما إذا لم يعف وإنما تكملت الدية بالسراية
(فصل) فإن كان الجرح لا قصاص فيه كالجائفة ونحوها فعفا عن القصاص فيه ثم سرى إلى
النفس فلوليه القصاص لأن القصاص لم يجب في الجرح فلم يصح المعفو عنه وإنما وجب القصاص بعد
عفوه وله العفو عن القصاص وله كمال الدية، وان عفا عن دية الجرح صح وله بعد السراية دية النفس
الا أرش الجرح ولا يمتنع وجوب القصاص في النفس مع أنه لا يجب كمال الدية بالعفو عنه كما لو قطع
يدا فاندملت واقتص منها ثم انتقضت وسرت إلى النفس فله القصاص في النفس وليس له العفو الا
470

على نصف الدية، وان قطع يده من نصف الساعد فعفا عن القصاص ثم سرى فعلى قول أبي بكر
لا يسقط القصاص في النفس لأن القصاص لم يجب فهو كالجائفة، ومن جوز له القصاص من الكوع
أسقط القصاص في النفس كما لو كان القطع من الكوع، وقال المزني لا يصح العفو عن دية الجرح
قبل اندماله فلو قطع يدا فعفا عن ديتها وقصاصها ثم اندملت لم تسقط ديتها وسقط قصاصها لأن
القصاص قد وجب فيها فصح العفو عنه بخلاف الدية وليس بصحيح لأن دية الجرح إنما وجبت
بالجناية إذ هي السبب ولهذا لو جنى على طرف عبد ثم باعه قبل موته كان أرش الطرف لبائعه لا لمشتريه
وتأخير المطالبة به لا يلزم منه عدم الوجوب وامتناع صحة العفو كالدين المؤجل لا تملك المطالبة به
ويصح العفو عنه كذا ههنا
(فصل) إن قطع يده فعفا عنه ثم عاد الجاني فقتله فلوليه القصاص وهذا ظاهر مذهب الشافعي
وقال بعضهم لا قصاص لأن العفو حصل عن بعضه فلا يقتل به كما لو سرى القطع إلى نفسه
ولنا أن القتل انفرد عن القطع فعفوه عن القطع لا يمنع ما يلزم بالقتل كما لو كان القاطع غيره،
وان اختار الدية فقال القاضي إن كان العفو عن الطرف إلى غير دية فله بالقتل نصف الدية وهو
ظاهر مذهب الشافعي لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال كان كالسراية ولذلك لو لم يعف
لم يجب أكثر من دية والقطع يدخل في القتل في الدية دون القصاص ولذلك لو أراد القصاص كان له
أن يقطع ثم يقتل ولو صار الامر إلى الدية لم يجب إلا دية واحدة، وقال أبو الخطاب له العفو إلى
دية كاملة وهو قول بعض أصحاب الشافعي، لأن القطع منفرد عن القتل فلم يدخل حكم أحدهما
في الآخر كما لو اندمل، ولان القتل موجب للقتل فأوجب الدية كاملة كما لو لم يتقدمه عفو، وفارق
السراية فإنها لم توجب قتلا، ولان السراية عفي عن سببها والقتل لم يعف عن شئ منه ولا عن
سببه وسواء فيما ذكرنا كان العافي عن الجرح أخذ دية طرفه أو لم يأخذها
471

(فصل) وان قطع أصبعا فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت الجناية إلى الكف ثم
اندمل الجرح لم يجب القصاص لما ذكرنا في النفس، ولان القصاص سقط في الإصبع بالعفو فصارت
اليد ناقصة لا تؤخذ بها الكاملة ثم إن كان العفو إلى الدية وجبت الدية كلها وإن كان على غير مال
خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا فيما إذا قطع يدا فعفا المجني عليه ثم سرى إلى نفسه، فعلى هذا
تجب ههنا دية الكف لا دية الإصبع، ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي، وقال القاضي
ظاهر كلام أحمد أن لا يجب شئ وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث
منها، وقد قال القاضي ان القياس فيما إذا قطع اليد ثم سرى إلى النفس أن يجب نصف الدية فيلزمه
أن يقول مثل ذلك ههنا.
(فصل) فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح عفوه ولم يكن له في سرايتها قصاص
ولا دية في ظاهر كلام أحمد، وسواء عفا بلفظ العفو أو الوصية، وممن قال بصحة عفو المجروح عن
دمه مالك وطاوس والحسن وقتادة والأوزاعي، وقال أصحاب الشافعي إذا قال عفوت عن الجناية
وما يحدث منها ففيه قولان (أحدهما) أنه وصيه فيبنى على الوصية للقاتل وفيها قولان (أحدهما)
لا يصح فتجب دية النفس الا دية الجرح (والثاني) يصح فإن خرجت من الثلث سقط والا سقط منها
ما خرج من الثلث ووجب الباقي. (والقول الثاني) ليس بوصية لأنه اسقاط في الحياة فلا يصح
وتلزمه دية النفس الا دية الجرح.
ولنا أنه أسقط حقه بعد انعقاد سببه فسقط كما لو أسقط الشفعة بعد البيع. إذا ثبت هذا فلا
فرق بين ان يخرج من الثلث أو لم يخرج لأن ما وجب العمد القود في إحدى الروايتين أو أحد
شيئين في الرواية الأخرى فما تعينت الدية ولا تثبت الوصية بمال ولذلك صح العفو من المفلس إلى
472

غير مال وأما الخطأ فإذا عفا عنها وعما يحدث اعتبر خروجها من الثلث سواء عفا بلفظ
العفو أو الوصية أو الابراء أو غيرها فإن خرجت من الثلث صح عفوه في الجميع وان لم تخرج من
الثلث سقط عنه من ديتها ما احتمله الثلث، وبهذا قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ونحوه قال
عمر بن عبد العزيز والأوزاعي وإسحاق لأن الوصية ههنا بمال
(فصل) فإن اختلف الجاني والولي أو المجني عليه فقال الجاني عفوت مطلقا وقال المجني
عليه بل عفوت إلى مال أو قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها قال بل عفوت عنها دون ما يحدث
منها فالقول قول المجني عليه أو وليه إن كان الخلاف معه، لأن الأصل عدم العفو عن الجميع وقد
ثبت العفو عن البعض باقراره فيكون القول في عدم سقوطه قوله
(مسألة) قال (وإذا اشترك الجماعة في القتل فأحب الأولياء أن يقتلوا الجميع فلهم
ذلك وان أحبوا أن يقتلوا البعض ويعفوا عن البعض ويأخذوا الدية من الباقين فلهم ذلك)
أما قتلهم للجميع فقد ذكرناه فيما مضى وأما ان أحبوا قتل البعض فلهم ذلك لأن كل من لهم قتله فلهم العفو
عنه كالمنفرد ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو البعض لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما
باسقاطه عن الآخر كما لو قتل كل واحد رجلا، وأما إذا اختاروا أخذ الدية من القاتل أو من بعض القتلة
فإن لهم هذا من غير رضا الجاني وبهذا قال سعيد بن المسيب وابن سيرين والشافعي وعطاء ومجاهد
وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال النخعي ومالك وأبو حنيفة ليس للأولياء الا القتل الا أن يصطلحا
على الدية برضا الجاني. وعن مالك رواية أخرى كقولنا واحتجوا بقوله تعالى (كتب عليكم القصاص)
والمكتوب لا يتخير فيه ولأنه متلف يجب به البدل فكان بدله معينا كسائر ابدال المتلفات
ولنا قول الله تعالى (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحسان) قال ابن
473

عباس كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فأنزل الله تعالى هذه الآية (كتب عليكم
القصاص في القتلى) الآية (فمن عفي له من أخيه شئ) فالعفو أن تقبل في العمد الدية (فاتباع بالمعروف)
يتبع الطالب بالمعروف ويؤدي إليه المطلوب (باحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة مما كتب على
من قبلكم) رواه البخاري
وروى أبو هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن
يودى وإما يقاد " متفق عليه
وروى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل وأنا والله عاقلة فمن
قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية " رواه أبو داود وغيره،
ولان القتل المضمون إذا سقط فيه القصاص من غير ابراء ثبت المال كما لو عفا بعض الورثة ويخالف
سائر المتلفات لأن بدلها يجب من جنسها وههنا يجب في الخطأ وعمد الخطأ من غير الجنس فإذا رضي
في العمد ببدل الخطأ كان له ذلك لأنه أسقط بعض حقه، ولان القاتل أمكنه إحياء نفسه ببذل الدية
فلزمه وينتقض ما ذكروه بما إذا كان رأس الشاج أصغر أو يد القاطع أنقص فإنهم سلموا فيهما
(فصل) واختلفت الرواية في موجب العمد فروي عن أحمد رحمه الله أن موجبه القصاص عينا
لقوله عليه السلام " من قتل عمدا فهو قود " ولما ذكروه في دليلهم، وروي أن موجبه أحد شيئين
القصاص أو الدية لما ذكرناه قبل هذا ولان الدية أحد بدلي النفس فكانت بدلا عنها لاعن بدلها
كالقصاص. وأما الخبر فالمراد به وجوب القود ونحن نقول به ويخالف القتل سائر المتلفات لأن بدلها
لا يختلف بالقصد وعدمه والقتل بخلافه وللشافعي قولان كالروايتين فإذا قلنا موجبه القصاص عينا فله العفو
إلى الدية والعفو مطلقا فإذا عفا مطلقا لم يجب شئ وهذا ظاهر مذهب الشافعي، وقال بعضهم تجب
474

الدية لئلا يطل الدم وليس بشئ لأنه لو عفا عن الدية بعد وجوبها صح عفوه، وان عفا عن القصاص
بغير مال لم يجب شئ. فأما إن عفا عن الدية لم يصح عفوه لأنها لم تجب، وإن قلنا الواجب أحد
شيئين لا بعينه فعفا عن القصاص مطلقا أو إلى الدية وجبت الدية لأن الواجب غير معين فإذا ترك
أحدهما وجب الآخر وان اختار الدية سقط القصاص وان اختار القصاص تعين وهل له بعد ذلك
العفو على الدية؟ قال القاضي له ذلك لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى ويكون بدلا
عن القصاص وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في الرواية الأولى أن الواجب القصاص عينا وله العفو
إلى الدية ويحتمل انه ليس له ذلك لأنه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها
(فصل) وإذا جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه المجني عليه بأرش الجناية سقط
القصاص لأن عدوله إلى الشراء اختيار للمال ولا يصح الشراء لأنهما ان لم يعرفا قدر الأرش فالثمن
مجهول وان عرفا عدد الإبل وأسنانها فصفتها مجهولة والجهل بالصفة كالجهل بالذات في فساد البيع
ولذلك لو باعه شيئا بجمل جذع غير معروف الصفة لم يصح، وان قدر الأرش بذهب أو فضة
وباعه به صح. (فصل) إذا وجب القصاص لصغير لم يجز لوليه العفو إلى غير مال لأنه لا يملك اسقاط حقه،
وان أحب العفو إلى مال وللصبي كفاية من غيره لم يجز لأن فيه تفويت حقه من غير حاجة فإن كان
فقيرا محتاجا ففيه وجهان:
(أحدهما) له ذلك لحاجته إلى المال لحفظه قال القاضي هذا أصح (والثاني) لا يجوز لأنه لا يملك
اسقاط قصاصه واما حاجته فإن نفقته في بيت المال والصحيح الأول فإن وجوب النفقة في بيت
المال لا يغنيه إذا لم يحصل فاما إن كان مستحق القصاص مجنونا فقيرا فلوليه العفو على المال لأنه ليست حالة
معتادة ينتظر فيها رجوع عنه
(فصل) ويصح عفو المفلس والمحجور عليه لسفه عن القصاص لأنه ليس بمال وان أراد المفلس
475

القصاص لم يكن لغرمائه اجباره على تركه وان أحب العفو عنه إلى مال فله ذلك لأن فيه حظا للغرماء
وإن أراد العفو على مال انبنى على الروايتين ان قلنا الواجب القصاص فله ذلك لأنه لم يثبت له مال
يتعلق به حق الغرماء وإن قلنا الواجب أحد شيئين لم يملك لأن المال يجب بقوله عفوت عن القصاص
فقوله على غير مال اسقاطه له بعد وجوبه وتعيينه ولا يملك ذلك وهكذا الحكم في السفيه ووارث
المفلس وان عفا المريض على غير مال فذكر القاضي في موضع أنه يصح سواء خرج من الثلث أو لم
يخرج وذكر ان أحمد نص على هذا وقال في موضع يعتبر خروجه من ثلثه ولعله ينبني على الروايتين
في موجب العمد على ما مضى
(فصل) وإذا قتل من لا وارث له فالامر إلى السلطان فإن أحب القصاص فله ذلك وان أحب
العفو على مال فله ذلك وان أحب العفو إلى غير مال لم يملكه لأن ذلك للمسلمين ولاحظ لهم في هذا
وهذا قول أصحاب الرأي الا أنهم لا يرون العفو على مال إلا برضا الجاني.
(فصل) وإذا اشترك الجماعة في القتل فعفي عنهم إلى الدية فعليهم دية واحدة وان عفا عن بعضهم
فعلى العفو عنه قسطه من الدية لأن الدية بدل المحل وهو واحد فتكون ديته واحدة سواء أتلفه واحد
أو جماعة وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى أن على كل واحد دية كاملة لأن له قتل كل واحد
منهم فكان على كل واحد منهم دية نفس كاملة كما لو قلع الأعور عين صحيح فإنه تجب عليه دية عينه
وهو دية كاملة والصحيح الأول لأن الواجب بدل المتلف فلا يختلف المتلف ولذلك لو قتل عبد
قيمته الفان حرا لم يملك العفو على أكثر من الدية. وأما القصاص فإنه عقوبة على
الفعل فيتعدد بتعدده.
476

" مسألة " قال (وان قتل من للأولياء ان يقيدوا به فبذل القاتل أكثر من الدية على أن
لا يقاد فللأولياء قبول ذلك)
وجملته أن من له القصاص له أن يصالح عنه بأكثر من الدية وبقدرها وأقل منها لا أعلم فيه
خلافا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل عمدا
دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين
خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل " رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وروينا
ان هدبة بن خشرم قتل قتيلا فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات
ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله ولأنه عوض عن غير مال فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه كالصداق وعوض
الخلع ولأنه صلح عنما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح عن العروض
" مسألة " قال (وإذا أمسك رجلا وقتله آخر قتل القاتل وحبس الماسك حتى يموت)
يقال أمسك ومسك ومسك وقد جمع الخرقي بين اللغتين فقال إذا أمسك وحبس الماسك وهو
اسم الفاعل من مسك مخففا ولا خلاف في أن القاتل يقتل لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق وأما
الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شئ عليه لأنه متسبب والقاتل مباشر فسقط حكم المتسبب به
وان أمسكه له ليقتله مثل ان ضبطه له حتى ذبحه له فاختلفت الرواية فيه عن أحمد فروي عنه أنه
يحبس حتى يموت وهذا قول عطاء وربيعة وروي ذلك عن علي وروي عن أحمد أنه يقتل أيضا،
وهو قول مالك قال سليمان بن أبي موسى: الاجماع فينا أن يقتل لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبامساكه
477

تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه وقال
أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يعاقب ويأثم ولا يقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان أعتى الناس
على الله من قتل غير قاتله والمسك غير قاتل " ولان الامساك سبب غير ملجئ فإذا اجتمعت معه
المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو يعلم الممسك أنه يقتله
ولنا ما روى الدارقطني باسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أمسك الرجل وقتله
الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك " ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما
لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت
(فصل) وان اتبع رجلا ليقتله فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله نظرت
فإن كان قصد الأول حبسه بالقطع ليقتله الثاني فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس
حكم الممسك لأنه حبسه على القتل وان لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القتل كالذي أمسكه غير عالم
وفيه وجه آخر ليس عليه الا القطع بكل حال والأول أصح لأنه الحابس له بفعله فأشبه الحابس
بامساكه فإن قيل لم اعتبر تم قصد الامساك ههنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الخارج قلنا إذا
مات من الجرح فقد مات من سرايته وأثره فنعتبر قصد الجرح الذي هو السبب دون قصد الأثر وفي
مسئلتنا إنما كان موته بأمر غير السراية والفعل ممكن له عليه فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه
(مسألة) قال (ومن أمر عبده أن يقتل رجلا وكان العبد أعجميا لا يعلم أن القتل
محرم قتل السيد وإن كان يعلم خطر القتل قتل العبد وأدب السيد)
إنما ذكر الخرقي كونه أعجميا وهو الذي لا يفصح ليتحقق منه الجهل وإنما يكون الجهل في حق
478

من نشأ في غير بلاد الاسلام فأما من أقام في بلاد الاسلام بين أهله فلا يخفى عليه تحريم القتل ولا
يعذر في فعله، ومتى كان العبد يعلم تحريم القتل فالقصاص عليه ويؤدب سيده لامره بما أفضى إلى
القتل بما يراه الإمام من الحبس والتعزير وإن كان غير عالم بخطره فالقصاص على سيده ويؤدب
العبد قال أحمد يضرب ويؤدب ونقل عنه أبو طالب قال يقتل الولي ويحبس العبد حتى يموت لأن
العبد سوط المولى وسيفه كذا قال علي وأبو هريرة وقال علي رضي الله عنه يستودع السجن
وممن قال بهذه الجملة الشافعي وممن قال إن السيد يقتل علي وأبو هريرة وقال قتادة يقتلان جميعا
وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن يديه ويعاقب ويحبس لأنه لم يباشر القتل ولا ألجأ
إليه فلم يجب عليه قصاص كما لو علم العبد خطر القتل
ولنا أن العبد إذا كان غير عالم بخطر القتل فهو معتقد اباحته وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو
اعتقده صيدا فرماه فبان انسانا ولان حكمة القصاص الردع والزجر ولا يحصل ذلك في معتقد
الإباحة وإذا لم يجب عليه وجب على السيد لأنه آلة له لا يمكن ايجاب القصاص عليه فوجب على المتسبب
به كما لو أنهشه حية أو كلبا أو ألقاه في زبية أسد فأكله ويفارق هذا ما إذا علم خطر القتل فإن
القصاص على العبد لامكان ايجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدافع مع الحافر ويكون
على السيد الأدب لتعديه بالتسبب إلى القتل
(فصل) ولو أمر صبيا لا يميز أو مجنونا أو أعجميا لا يعلم خطر القتل فقتل فالحكم فيه كالحكم
في العبد يقتل الآمر دون المباشر ولو امره بزنا أو سرقة لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب
الا على المباشر والقصاص يجب بالتسبب ولذلك وجب على المكره والشهود في القصاص
(فصل) ولو أمر السلطان رجلا فقتل آخر فإن كان القاتل يعلم أنه لا يستحق قتله فالقصاص
عليه دون الآمر لأنه غير معذور في فعله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "
وعنه عليه السلام أنه قال " من أمركم من الولاة بغير طاعة الله تعالى فلا تطيعوه " فلزمه القصاص
كما لو امره غير السلطان فإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور لأن المأمور معذور
لوجوب طاعة الإمام فيما ليس بمعصية والظاهر أنه لا يأمر الا بالحق وان امره غيره السلطان من
الرعية بالقتل فقتل فالقود على المأمور بكل حال علم أو لم يعلم لأنه لا يلزمه طاعته وليس له القتل
479

بحال بخلاف السلطان فإن إليه القتل للردة والزنا وقطع الطريق إذا قتل القاطع ويستوفي القصاص
للناص وهذا ليس إليه شئ من ذلك وان أكرهه السلطان على قتل أحد أو جلده بغير حق فمات
فالقصاص عليهما وان وجبت الدية كانت عليهما فإن كان الإمام يعتقد جواز القتل دون المأمور
كمسلم قتل ذميا أو حر قتل عبدا فقتله القاضي الضمان عليه دون الإمام لأن الإمام أمره بما
أدى اجتهاد. إليه والمأمور لا يعتقد جوازه فلم يكن له أن يقبل آمره فإذا قتله لزمه الضمان لأنه قتل
من لا يحل له قتله وينبغي أن يفرق بين العامي والمجتهد فإن كان مجتهدا فالحكم فيه على ما ذكر القاضي
وإن كان مقلدا فلا ضمان عليه لأن له تقليد الإمام فيما رآه وإن كان الإمام يعتقد تحريمه والقاتل يعتقد
حله فالضمان على الآمر كما لو أمر السيد الذي لا يعتقد تحريم القتل به والله أعلم
كتاب الديات
الأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله
الا أن يصدقوا) الآية
وأما السنة فروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابا
إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه " وان في النفس مائة من الإبل " رواه النسائي
في سننه ومالك في موطئه قال ابن عبد البر وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل
480

العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الاسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه في أحاديث كثيرة تأتي في مواضعها
من الباب إن شاء الله، وأجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (ودية الحر المسلم مائة من الإبل)
أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل وقد دلت عليه الأحاديث
الواردة منها حديث عمرو بن حزم وحديث عبد الله بن عمر في دية خطأ العمد وحديث
ابن مسعود في دية الخطأ وسنذكرها إن شاء الله. وظاهر كلام الخرقي أن الأصل في الدية الإبل
لا غير وهذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ذكر ذلك أبو الخطاب وهو قول طاوس والشافعي
وابن المنذر. وقال القاضي لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق والبقر والغنم
فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها وهذا قول عمر وعطاء وطاوس وفقهاء المدينة السبعة، وبه قال
الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد لأن عمرو بن حزم روى في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كتب إلى أهل اليمن " وان في النفس المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الورق ألف دينار " رواه النسائي
وروى ابن عباس أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا. رواه
أبو داود وابن ماجة، وروى الشعبي أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار
481

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيبا فقال: ألا ان الإبل قد غلت فقوم
على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل
الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة " رواه أبو داود
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا ان في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل " ولان
النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها هذا في غير الإبل
ولأنه بدل متلف حقا لآدمي فكان متعينا كعوض الأموال وحديث ابن عباس يحتمل أن النبي
صلى الله عليه وسلم أوجب الورق بدلا عن الإبل، والخلاف في كونها أصلا، وحديث عمرو بن شعيب يدل على أن
الأصل الإبل فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم لغلاء الإبل ولو كانت أصولها بنفسها
لم يكن إيجابها تقويما للإبل ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك ولا لذكره معنى
وقد روي أنه كان يقوم الإبل قبل أن تغلو بثمانية آلاف درهم ولذلك قيل إن دية الذمي أربعة
آلاف درهم وديته نصف الدية فكان ذلك أربعة آلاف حين كانت الدية ثمانية آلاف درهم
(فصل) فإذا قلنا هي خمسة أصول فإن قدرها من الذهب ألف مثقال ومن الورق اثنا عشر ألف
درهم، ومن البقر والحلل مائتان، ومن الشاء ألفان ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها
من الذهب ولا من سائرها الا الورق فإن الثوري وأبا حنيفة وصاحبيه قالوا قدرها عشرة آلاف
من الورق، وحكي ذلك عن ابن شبرمة لما روى الشعبي ان عمر جعل على أهل الورق عشرة آلاف
482

ولان الدينار معدول في الشرع بعشرة دراهم بدليل ان نصاب الذهب عشرون مثقالا ونصاب
الفضة مائتان وبما ذكرناه قال الحسن وعروة ومالك والشافعي في قول، وروي ذلك عن عمر
وعلي وابن عباس لما ذكرنا من حديث ابن عباس وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن
عمر ولان الدينار معدول باثني عشر درهما بدليل أن عمر فرض الجزية على الغني أربعة دنانير أو
ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسط دينارين أو أربعة وعشرين درهما، وعلى الفقير دينارا أو اثنا
عشر درهما وهذا أولى مما ذكروه في نصاب الزكاة، ولأنه لا يلزم أن يكون نصاب أحدهما معدولا
بنصاب الآخر كما أن السائمة من بهيمة الأنعام ليس نصاب شئ منها معدولا بنصاب غيره، قال
ابن عبد البر ليس مع من جعل الدية عشرة آلاف عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مسند ولا مرسل وحديث
الشعبي عن عمر يخالفه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه
(فصل) وعلى هذا أي شئ أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من هذه الأصول لزم
الولي أخذه ولم يكن له المطالبة بغيره سواء كان من أهل ذلك النوع أو لم يكن لأنها أصول في قضاء
الواجب يجزئ واحد منها فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه كخصال الكفارة وكشاتي الجبران
في الزكاة مع الدراهم، وان قلنا الأصل الإبل خاصة فعليه تسليمها إليه سليمة من العيوب وأيهما أراد
العدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه لأن الحق متعين فيها فاستحقت كالمثل في المثليات المتلفة، وان
483

أعوزت الإبل ولم توجد الا بأكثر من ثمن المثل فله العدول إلى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم
وهذا قول الشافعي القديم. وقال في الجديد تجب قيمة الإبل، لغة ما بلغت لحديث عمرو بن شعيب
عن عمر في تقويم الإبل، ولان ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته كذوات الأمثال ولان الإبل
إذا أجزأت إذا قلت قيمتها ينبغي أن تجزئ وان كثرت قيمتها كالدنانير إذا غلت أو رخصت وهكذا
ينبغي أن نقول إذا غلت الإبل كلها، فاما ان كانت الإبل موجودة بثمن مثلها الا أن هذا لم يجدها لكونها
في غير بلده ونحو ذلك فإن عمر قوم الدية من الدراهم اثني عشر ألفا وألف دينار
(فصل) وظاهر كلام الخرقي أنه لا تعتبر قمية الإبل بل متى وجدت على الصفة المشروطة
وجب أخذها قلت قيمتها أو كثرت وهذا ظاهر مذهب الشافعي، وذكر أصحابنا أن ظاهر مذهب
أحمد أن تؤخذ مائة قيمة كل بعير منها مائة وعشرون درهما فإن لم يقدر على ذلك أدى اثنى عشر
ألف درهم أو ألف دينار لأن عمر قوم الإبل على أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثني عشر
ألفا فدل على أن ذلك قيمتها ولأن هذه ابدل محل واحد فيجب أن تتساوى في القيمة كالمثل.
والقيمة في بدل القرض والمتلف في المثليات
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " وهذا مطلق فتقييده يخالف اطلاقه فلم
يجز الا بدليل ولأنها كانت تؤخذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيمتها ثمانية آلاف، وقول عمر في
484

حديثه ان الإبل قد غلت فقومها على أهل الورق اثني عشر ألفا دليل على أنها في حال رخصها أقل
قيمة من ذلك، قد كانت تؤخذ في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من ولاية عمر مع
رخصها وقلة قيمتها ونقصها عن مائة وعشرين فايجاب ذلك فيها خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان
النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دية الخطأ والعمد فغلظ دية العمد وخفف دية الخطأ، واجمع عليه أهل العلم
واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما، وجمع بين ما فرقه الشارع وإزالة للتخفيف والتغليظ جميعا
بل هو تغليظ لدية الخطأ، لأن اعتبار ابن مخاض بقيمة ثنية أو جذعة يشق جدا فيكون تغليظا للدية
في الخطأ وتخفيفا لدية العمد وهذا خلاف ما قصده الشارع وورد به، ولان العادة نقص قيمة بنات
المخاض عن قيمة الحقاق والجذعات فلو كانت تؤدى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بقيمة واحدة ويعتبر ذلك
فيها لنقل ولم يجز الاخلال به لأن ما ورد به الشرع مطلقا إنما يحمل على العرف والعادة فإذا أريد به
ما يخالف العادة وجب بيانه وإيضاحه لئلا يكون تلبيسا في الشريعة وإيهامهم ان حكم الله خلاف ما هو
حكمه على الحقيقة والنبي صلى الله عليه وسلم بعث للبيان قال الله تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم) فكيف يحمل
قوله على الالباس والألغاز؟ هذا مما لا يحل، ثم لو حمل الامر على ذلك لكان الأسنان عبثا غير مفيد
فإن فائدة ذلك أنما هو كون اختلاف أسنانها مظنة اختلاف القيم فأقيم مقامه، ولان الإبل أصل
في الدية فلا تعتبر قيمتها بغيرها كالذهب والورق، ولأنها أصل في الوجوب فلا تعتبر قيمتها
485

كالإبل في المسلم وشاة الجبران، وحديث عمرو بن شعيب حجة لنا فإن الإبل كانت تؤخذ قبل أن
تغلو ويقومها عمر وقيمتها أقل من اثنى الفأ، وقد قيل إن قيمتها كانت ثمانية آلاف ولذلك
قال عمر دية الكتابي أربعة آلاف، وقولهم انها ابدال محل واحد فلنا أن نمنع ونقول البدل إنما
هو الإبل وغيرها معتبر بها وان سلمنا فهو منتقض بالذهب والورق فإنه لا يعتبر تساويهما وينتقض
أيضا بشاة الجبران مع الدارهم، وأما بدل القرض والمتلف فإنما هو المثل خاصة والقيمة بدل عنه ولذلك
لا تجب إلا عند العجز عنه بخلاف مسئلتنا
فإن قيل هذا حجة عليكم لقولكم ان الإبل هي الأصل وغيرها بدل فيجب أن يساويها
كالمثل والقيمة. قلنا إذا ثبت لنا هذا ينبغي أن يقوم غيرها بها ولا تقوم هي بغيرها لأن البدل يتبع
الأصل ولا يتيع الأصل البدل على أنا نقول إنما صير إلى التقدير بهذا لأن عمر رضي الله عنه قومها
في وقته بذلك فوجب المصير إليه كيلا يؤدي إلى التنازع والاختلاف في قيمة الإبل الواجبة كما
قدر لبن المصراة بصاع من التمر نفيا للتنازع في قيمته فلا يوجب هذا أن يرد الأصل إلى التقويم
فيفضي إلى عكس حكمة الشرع ووقوع التنازع في قيمة الإبل مع وجوبها بعينها على أن المعتبر في بدلي
القرض مساواة المحل المقرض فاعتبر مساواة كل واحد من بدليه له والدية غير معتبرة بقيمة المتلف
ولهذا لا تعتبر صفاته وهكذا قول أصحابنا في تقويم البقر والشاء والحلل يجب أن يكون مبلغ الواجب
486

من كل صنف منها اثني عشر ألفا فتكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهما وقيمة كل شاة ستة دراهم
لتتساوى الابدال كلها وكل حلة بردتان فيكون أربعمائة برد
(فصل) ولا يقبل في الإبل معيب ولا أعجف ولا يعتبر فيها أن تكون من جنس إبله ولا إبل
بلده. وقال القاضي وأصحاب الشافعي الواجب عليه من جنس إبله سواء كان القاتل أو العاقلة لأن
وجوبها على سبيل المواساة فيجب كونها من جنس مالهم كالزكاة، فإذا كان عند بعض العاقلة عراب
وعند بعضهم بخاتي أخذ من كل واحد من جنس ما عنده، وإن كان عند واحد صنفان ففيه وجهان
(أحدهما) يؤخذ من كل صنف بقسطه (والثاني) يؤخذ من الأكثر فإن استويا دفع من أيهما شاء
فإن دفع من غير إبله خيرا من إبله أو مثلها جاز كما لو أخرج في الزكاة خيرا من الواجب وإن كان
أدون لم يقبل إلا أن يرضى المستحق، وإن لم يكن له إبل فمن غالب إبل البلد فإن لم يكن في البلد إبل
وجب من غالب إبل أقرب البلاد إليه فإن كانت إبله عجافا أو مراضا كلف تحصيل صحاح من جنس
ما عنده لأنه بدل متلف فلا تؤخذ فيه معيبة كقيمة الثوب المتلف ونحو هذا قال أصحابنا في البقر والغنم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " أطلق الإبل فمن قيدها احتاج إلى
دليل. ولأنها بدل المتلف فلم يختص بجنس ماله كبدل سائر المتلفات، ولأنها حق ليس سببه المال فلم
يعتبر كونه من جنس ماله كالمسلم فيه والقرض. ولان المقصود بالدية جبر المفوت والجبر لا يختص
487

بجنس مال من وجب عليه، وفارق الزكاة فإنها وجبت على سبيل المواساة ليشارك الفقراء الأغنياء فيما
أنعم الله تعالى به عليهم فاقتضى كونه من جنس أموالهم وهذا بدل متلف فلا وجه لتخصيصه بماله.
وقولهم انها مواساة غير صحيح وإنما وجبت جبرا للفائت كبدل المال المتلف وإنما العاقلة تواسي
القاتل فيما وجب بجنايته ولهذا لا يجب من جنس أموالهم إذا لم يكونوا ذوي إبل والواجب بجنايته
إبل مطلقة فتواسيه في تحملها، ولأنها لو وجبت من جنس مالهم لوجبت المريضة من المراض
والصغيرة من الصغار كالزكاة
(مسألة) قال (وإن كان القتل عمدا فهي في مال القاتل حالة أرباعا: خمس وعشرون
بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة)
أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة وهذا قضية الأصل وهو
أن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية على الجاني قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجني جان إلا على
نفسه " وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ولده " ابنك هذا؟ " قال نعم " اما انه لا يجني عليك
ولا تجني عليه " ولان موجب الجناية أثر فعل الجاني فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها فإنه لو
كسب كان كسبه له دون غيره وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والأكساب وإنما خولف
488

هذا الأصل في قتل المعذور فيه لكثرة الواجب وعجز الجاني في الغالب عن تحمله مع وجوب
الكفارة عليه وقيام عذره تخفيفا عنه ورفقا به والعامد لا عذر له فلا يستحق التخفيف ولا يوجد فيه
المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ إذا ثبت هذا فإنها تجب حالة، وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة
تجب في ثلاث سنين لأنها دية آدمي فكانت مؤجلة كدية شبه العبد
ولنا أن ما وجب بالعبد المحض كان حالا كالقصاص وأرش أطراف العبد ولا يشبه شبه العمد
لأن القاتل معذور لكونه لم يقصد القتل وإنما أفضى إليه من غير اختيار منه فأشبه الخطأ ولهذا تحمله
العاقلة ولان القصد التخفيف على العاقلة الذين لم تصدر منهم جناية وحملوا أداء مال مواساة فالأرفق
بحالهم التخفيف عنهم وهذا موجود في الخطأ وشبه العمد على السواء وأما العمد فإنما يحمله الجاني في
غير حال العذر فوجب أن يكون ملحقا ببدل سائر المتلفات ويتصور الخلاف معه فيما إذا قتل ابنه أو
قتل أجنبيا وتعذر استيفاء القصاص لعفو بعضهم أو غير ذلك واختلفت الرواية في مقدارها فروى
جماعة عن أحمد انها أرباع كما ذكر الخرقي وهو قول الزهري وربيعة ومالك وسليمان بن يسار وأبي
حنيفة، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وروى جماعة عن أحمد أنها ثلاثون حقة
وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها وبهذا قال عطاء ومحمد بن الحسن والشافعي وروي
ذلك عن عمر وزيد وأبي موسي والمغيرة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله
489

صلى الله عليه وسلم قال " من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وان شاءوا أخذوا الدية وهي
ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم " وذلك لتشديد القتل رواه الترمذي
وقال هو حديث حسن غريب وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الا إن في قتيل
عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها " رواه الإمام أحمد
وأبو داود وغيرهم وعن عمرو بن شعيب أن رجلا يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف فقتله فاخذ
عمر منه الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة رواه مالك في موطئه ووجه الأول ما روى
الزهري عن السائب بن يزيد قال كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا خمسا وعشرين
جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا وعشرين بنت لبون وخمسا وعشرين بنت مخاض ولأنه قول ابن
مسعود ولأنه حق يتعلق بجنس الحيوان فلا يعتبر فيه الحمل كالزكاة والأضحية
(فصل) والخلفة الحامل وقول النبي صلى الله عليه وسلم " في بطونها أولادها " تأكيد وقلما تحمل إلا ثنية وهي
التي لها خمس سنين ودخلت في السادسة وأي ناقة حملت فهي خلفة تجزئ في الدية وقد قيل لا تجزئ
الا ثنية لأن في بعض ألفاظ الحديث أربعون خلفة ما بين ثنية عامها إلى بازل ولان سائر أنواع الإبل
مقدرة السن فكذلك الخلفة والذي ذكره القاضي هو الأولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الخلفة والخلفة
هي الحامل فيقتضي أن تجزئ كل حامل ولو أحضرها خلفة فأسقطت قبل قبضها فعليه بدلها فإن أسقطت
بعد قبضها أجزأت لأنه برئ منها بدفعها
490

(فصل) فإن اختلفنا في حملها رجع إلى أهل الخبرة كما يرجع في حمل المرأة إلى القوابل وان تسلمها
الولي ثم قال لم تكن حوامل وقد ضمرت أجوافها وقال الجاني بل قد ولدت عندك نظرت فإن
قبضها بقول أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الظاهر أصابتهم وان قبضها بغير قولهم فالقول قول
الولي لأن الأصل عدم الحمل
(مسألة) (قال وإن كان القتل شبه عمدا فكما وصفت في أسنانها إلا أنها على العاقلة في ثلاث
سنين في كل سنة ثلثها)
وجملته أن القول في أسنان دية شبه العمد كالقول في دية العمد سواء في اختلاف الروايتين فيها
واختلاف العلماء فيها، وقد سبق الكلام في ذلك إلا أنها تخالف العمد في أمرين
(أحدهما) أنها على العاقلة في ظاهر المذهب وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري
وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال ابن سيرين والزهري والحارث العكلي وابن شبرمة
وقتادة وأبو ثور هي على القاتل في ماله، واختاره أبو بكر عبد العزيز لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله
العاقلة كالعمد المحض ولأنها دية مغلظة فأشبهت دية العمد وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك لأن
شبه العمد عنده من باب العمد
491

ولنا ما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها
وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا
فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ ويخالف العمد المحض لأنه يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وارادته
القتل وعمد الخطأ يغلظ من وجه وهو قصده الفعل ويخفف من وجه وهو كونه لم يرد القتل فاقتضى
تغليظها من وجه وهو الأسنان وتخفيفها من وجه وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها، ولا أعلم في أنها تجب
مؤجلة خلافا بين أهل العلم، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال الشعبي
والنخعي وقتادة وأبو هاشم وعبد الله بن عمر ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقد
حكي عن قوم من الخوارج انهم قالوا الدية حالة لأنها بدل متلف، ولم ينقل إلينا ذلك عمن يعد
خلافه خلافا وتخالف الدية سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجاني على سبيل المواساة له فاقتضت الحكمة
تخفيفها عليهم وقد روي عن عمر وعلي أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولا مخالف
لهما في عصرهما فكان اجماعا
(فصل) ويجب في آخر كل حول ثلثها ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية وبهذا قال
الشافعي، وقال أبو حنيفة ابتداؤها من حين حكم الحاكم لأنها مدة مختلف فيها فكان ابتداؤها من
حين حكم الحاكم كمدة العنة
492

ولنا أنه مال مؤجل فكان ابتداء أجله من حين وجوبه كالدين المؤجل والسلم ولا نسلم الخلاف فيها
فإن الخوارج لا يعتد بخلافهم، إذا ثبت هذا فإن كان الواجب دية نفس فابتداء حولها من حين الموت
سواء كان قتلا موجبا أو عن سراية جرح وإن كان الواجب دية جرح نظرت فإن كان عن جرح
اندمل من غير سراية مثل ان قطع يده فبرأت بعد مدة فابتداء المدة من حين القطع لأن تلك حالة
الوجوب ولهذا لو قطع يده وهو ذمي فأسلم ثم اندملت وجب نصف دية يهودي. واما إن كان الجرح
ساريا مثل ان قطع أصبعه فسرى إلى كفه ثم اندمل فابتداء المدة من حين الاندمال لأنها إذا
سرت فما استقر الأرش إلا عند الاندمال هكذا ذكر القاضي وأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب تعتبر
المدة من حين الاندمال فيهما لأن الأرش لا يستقر إلا بالاندمال فيهما
(فصل) وإذا كان الواجب دية فإنها تقسيم في ثلاث سنين كل سنة ثلثها سواء كانت دية
النفس أو دية الطرف كدية جدع الانف أو الاذنين أو قطع الذكر أو الأنثيين، وإن كان دون
الدية نظرنا. فإن كان ثلث الدية كدية المأمومة أو الجائفة وجب في آخر السنة الأولى ولم
يجب منه شئ حالا، وإن كان نصف الدية أو ثلثها كدية اليد أو دية المنخرين وجب الثلث
في آخر السنة الأولى والباقي في آخر السنة الثانية، وإن كان أكثر من الثلثين كدية ثمان
493

أصابع وجب الثلثان في السنتين والباقي في آخر الثالثة، وإن كان أكثر من دية مثل ان ذهب
سمع انسان ففي كل سنة ثلث لأن الواجب لو كان دون الدية لم ينقص في السنة عن الثلث
فكذلك لا يزيد عليه إذا زاد على الثلث، وإن كان الواجب بالجناية على اثنين وجب لكل
واحد ثلث في كل سنة لأن كل واحد له دية فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه وإن كان الواجب دون
ثلث الدية كدية الإصبع لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث ويجب حالا لأنه بدل متلف
لاتحمله فكان حالا كالجناية على المال.
(فصل) وفي الدية الناقصة كدية المرأة والكتابي وجهان (أحدهما) تقسم في ثلاث سنين
لأنها بدل النفس فأشبهت الدية الكاملة (والثاني) يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية
الكاملة وباقيها في العام الثاني لأن هذه تنقص عن الدية فلم تقسم في ثلاث سنين كأرش الطرف
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي كالوجهين وان كانت الدية لا تبلغ ثلث الدية الكاملة كدية المجوسي
وهو ثمان مائة درهم ودية الجنين وهي خمس من الإبل لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث
فأشبه دية السن والموضحة إلا أن يقتل الجنين مع أمه فتحمله العاقلة لأنها جناية واحدة وتكون
دية الام على الوجهين، بان قلنا هي في عامين كانت دية الجنين واجبة مع ثلث دية الام في العام الأول
لأنها دية أخرى ويحتمل أن تجب مع باقي دية الام في العام الثاني وان قلنا دية الام في ثلاث سنين
494

فهل تجب دية الجنين في ثلاثة أعوام أولا؟ على وجهين فإذا قلنا بوجوبها في ثلاث سنين وجبت في
السنين التي وجبت فيها دية الام لأنهما ديتان لمستحقين فيجب في كل سنة ثلث ديتهما وثلث ديته
ويحتمل في ثلاث سنين أخرى، لأن تلفها موجب جناية واحدة
(مسألة) قال (وإن كان القتل خطأ كان على العاقلة مائة من الإبل تؤخذ في
ثلاث سنين أخماسا عشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون
وعشرون حقة وعشرون جذعة)
لا يختلف المذهب في أن دية الخطأ أخماسا كما ذكر الخرقي، وهذا قول ابن مسعود والنخعي
وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري والليث وربيعة
ومالك والشافعي هي أخماس إلا أنهم جعلوا مكان بني مخاض بني لبون، وهكذا رواه سعيد في سننه
عن النخعي عن ابن مسعود وقال الخطابي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ودي الذي قتل بخيبر بمائة من إبل
الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض، وروي عن علي والحسن والشعبي والحارث العكلي
وإسحاق أنها أرباع كدية العمد سواء وعن زيد أنها ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وعشرون
495

ابن لبون وعشرون بنت مخاض، وقال طاوس ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وثلاثون بنت
مخاض وعشرون بني لبون ذكور لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قضى أن من قتل خطأ فديته من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشر
بني لبون ذكور رواه أبو داود وابن ماجة وقال أبو ثور الديات كلها أخماس كدية الخطأ لأنها
بدل متلف فلا تختلف بالعمد والخطأ كسائر المتلفات وحكي عنه أن دية العمد مغلظة ودية شبه العمد
والخطأ أخماس لأن شبه العمد تحمله العاقلة فكان أخماسا كدية الخطأ
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون
جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني مخاض " رواه أبو داود والنسائي
وابن ماجة ولان ابن لبون يجب على طريق البدل عن ابنة مخاض في الزكاة إذا لم يجدها فلا يجمع
بين البدل والمبدل في واجب ولان موجبهما واحد فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض ولان
ما قلناه الأقل فالزيادة عليه لا تثبت إلا بتوقيف يجب على من ادعا الدليل فأما دية قتيل خيبر فلا
حجة لهم فيه لأنهم لم يدعوا على أهل خيبر قتله إلا عمدا فتكون ديته دية العمد وهي من أسنان
الصدقة والخلاف في دية الخطأ وقول أبي ثور يخالف الآثار المروية التي ذكرناها فلا يعول عليه
(فصل) ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة قال ابن المنذر أجمع على هذا
496

كل من نحفظ عنه من أهل العلم وقد تثبت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على
العاقلة وأجمع أهل العلم على القول به وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم دية عمد الخطأ على العاقلة بما قد رويناه
من لأحاديث وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ، والمعنى في ذلك أن جنايات الخطأ تكثر
ودية الآدمي كثيرة فايجابها على الجاني في ماله يجحف به فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل
المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفا عنه إذا كان معذورا في فعله وينفرد هو بالكفارة
(فصل) ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين فإن عمر وعليا رضي الله عنهما جعلا
دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا فاتبعهم على ذلك أهل العلم،
ولأنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالا كالزكاة وكل دية تحملها العاقلة تجب مؤجلة لما
ذكرنا وما لا تحمله العاقلة يجب حالا لأنه بدل متلف فلزم المتلف حالا كقيم المتلفات، وفارق الذي
تحمله العاقلة فإنه يجب مواساة فألزم التأجيل تخفيفا على متحمله وعدل به عن الأصل في التأجيل كما عدل
به عن الأصل في الزامه غير الجاني
(فصل) ولا يلزم القاتل شئ من الدية وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة هو كواحد
من العاقلة لأنها وجبت عليهم إعانة له فلا يزيدون عليه فيها
497

ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها. متفق عليه وهذا يقتضي
أنه قضى بجميعها عليهم ولأنه قاتل لم تلزمه الدية فلم يلزمه بعضها كما لو أمره الإمام بقتل رجل فقتله
يعتقد أنه بحق فبان مظلوما ولان الكفارة تلزم القاتل في مائه وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر
منه فلا حاجة إلى إيجاب شئ من الدية عليه
(فصل) والكفارة في مال القاتل لا يدخلها تحمل، وقال أصحاب الشافعي في أحد
الوجهين تكون
في بيت المال لأنها تكثر فايجابها في ماله يجحف به
ولنا أنها كفارة فلا تجب على غير من وجد منه سببها كسائر الكفارات وكما لو كانت صوما،
ولان الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني ولا يكفر عنه بفعل غيره، ويفارق الدية فإنها إنما شرعت
لجبر المحل وذلك يحصل بها كيفما كان، ولان النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالدية على العاقلة لم يكفر عن
القاتل وما ذكروه لا أصل له، ولا يصح قياسه على الدية لوجوه
(أحدها) أن الدية لم تجب في بيت المال لأنها إنما وجبت على العاقلة ولا يجوز أن يثبت حكم
الفرع مخالفا لحكم الأصل
(الثاني) أن الدية كثيرة فايجابها على القاتل يجحف به والكفارة بخلافها
(الثالث) أن الدية وجبت مواساة للقاتل وجعل حظ القاتل من الواجب الكفارة فايجابها
498

على غيره يقطع المواساة ويوجب على غير الجاني أكثر مما وجب عليه وهذا لا يجوز
(فصل) وذكر أصحابنا ان الدية تغلظ بثلاثة أشياء إذا قتل في الحرم والشهور الحرم وإذا قتل
محرما وقد نص احمد رحمه الله على التغليظ على من قتل محرما في الحرم وفي الشهر الحرام، فأما ان
قتل ذا رحم محرم فقال أبو بكر تغلظ ديته، وقال القاضي ظاهر كلام احمد أنها لا تغلظ، وقال أصحاب
الشافعي تغلظ بالحرم والأشهر الحرم وذي الرحم المحرم وفي التغليظ بالاحرام وجهان، وممن روي
عنه التغليظ عثمان وابن عباس والسعيدان وعطاء وطاوس والشعبي ومجاهد وسليمان بن يسار وجابر
ابن زيد وقتادة والأوزاعي ومالك والشافعي وإسحاق واختلف القائلون بالتغليظ في صفته فقال
أصحابنا تغلظ لكل واحد من الحرمات ثلث الدية فإذا اجتمعت الحرمات الثلاث وجبت ديتان.
قال احمد في رواية ابن منصور فيمن قتل محرما في الحرم وفي الشهر فعليه أربعة وعشرون
ألفا وهذا قول التابعين القائلين بالتغليظ
وقال أصحاب الشافعي: صفة التغليظ إيجاب دية العمد في الخطأ لاغير ولا يتصور التغيلظ
في غير الخطأ ولا يجمع بين تغليظين وهذا قول مالك إلا أنه يغلظ في العمد فإذا قتل ذا رحم محرم
عمدا فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وتغليظها في الذهب والورق أن ينظر قيمة أسنان
الإبل غير مغلظة وقيمتها مغلظة ثم يحكم بزيادة ما بينهما كان قيمتها مخففة ستمائة وفي العمد ثمانمائة وذلك ثلث
499

الدية المخففة وعند مالك تغلظ على الأب والام والجد دون غيرهم، واحتجا على صفة التغليظ بما روي
عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه حذفه بالسيف ثلاثين حقة وثلاثين
جذعة وأربعين خلفة ولم يزد عليه في العدد شيئا وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعا ولان
ما أوجب التغليظ أوجبه في الأسنان دون القدر كالضمان ولا يجمع بين تغليظين لأن (1) ما أوجب التغليظ
بالضمان إذا اجتمع سببان تداخلا كالحرم والاحرام في قتل الصيد وعلى أنه لا يغلظ بالاحرام أن الشرع
لم يرد بتغليظه. واحتج أصحابنا بما روى ابن أبي نجيح أن امرأة وطئت في الطواف فقضى عثمان
رضي الله عنه فيها بستة آلاف والفين تغليظا للحرم، وعن ابن عمر أنه قال من قتل في الحرم أو ذا
رحم أو في الشهر الحرام فعليه دية وثلث وعن ابن عباس أن رجلا قتل رجلا في الشهر الحرام وفي
البلد الحرام فقال ديته اثنا عشر ألفا وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف وهذا
مما يظهر وينتشر ولم ينكر فيثبت اجماعا، وهذا فيه الجمع بين تغليظات ثلاث ولأنه قول التابعين القائلين
بالتغليظ، واحتجوا على التغليظ في العمد أنه إذا غلظ الخطأ مع العذر فيه ففي العمد مع عدم العذر أولى
وكل من غلظ الدية أوجب التغليظ في بدل الطرف بهذه الأسباب لأن ما أوجب تغليظ دية النفس
أوجب تغليظ دية الطرف كالعمد، وظاهر كلام الخرقي أن الدية لا تغلظ بشئ من ذلك وهو قول
الحسن والشعبي والنخعي وأبي حنيفة والجوزجاني وابن المنذر، وروي ذلك عن الفقهاء السبعة وعمر

(1) في نسخة إلا ما أوجب
500

ابن عبد العزيز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " في النفس المؤمنة مائة من الإبل لم يزد على ذلك وعلى أهل الذهب
ألف مثقال " في حديث أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من
هذيل وأنا والله عاقله، من قتل له قتيل بعد ذلك فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وإن أحبوا
أخذوا الدية " وهذا القتل كان بمكة في حرم الله تعالى فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم على الدية ولم يفرق بين
الحرم وغيره وقول الله عز وجل (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله)
يقتضي أن الدية واحدة في كل مكان وفي كل حال ولان عمر رضي الله عنه أخذ من قتادة المدلجي
دية ابنه ولم يزد على مائة، وروى الجوزجاني باسناده عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع
الفقهاء فكان مما أحيى من تلك السنن بقول فقهاء المدينة السبعة ونظرائهم أن ناسا كانوا يقولون:
إن الدية تغلظ في الشهر الحرام أربعة آلاف فتكون ستة عشر ألف درهم فألغى عمر رحمه الله ذلك
بقول الفقهاء وأثبتها اثني عشر ألف درهم في الشهر الحرام والبلد الحرام وغيرهما قال ابن المنذر وليس
بثابت ما روي عن الصحابة في هذا ولو صح فقول عمر يخالفه وقوله أولى من قول من خالفه وهو
أصح في الرواية مع موافقته الكتاب والسنة والقياس
(فصل) ولا تغلظ الدية بموضع غير الحرم وقال أصحاب الشافعي تغلظ الدية بالقتل في المدينة
على قوله القديم لأنها مكان صيده فأشبهت الحرم وليس بصحيح لأنها ليست محلا للمناسك
501

فأشبهت سائر البلدان، ولا يصح قياسها على الحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أي بلد هذا؟ أليست البلدة
الحرام؟ قال فإن دماءكم وأموالكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا "
وهذا يدل على أنه أعظم البلاد حرمة وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ان أعتى الناس على الله رجل قتل في
الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بدخل الجاهلية " وتحريم الصيد ليس هو العلة في التغليظ وإن كان
من جملة المؤثر فقد خالف تحريمه تحريم الحرم فإنه لا يجب الجزاء على من قتل فيه صيدا ولا
يحرم الرعي فيه ولا الاحتشاش منه ولا ما يحتاج إليه من الرجل والعارضة والقائمة وشبهه
(مسألة) قال (والعاقلة لا تحمل العبد ولا العمد ولا الصلح ولا الاعتراف ولا ما دون الثلث)
وهذه المسألة خمس مسائل: (الأولى) أن العاقلة لا تحمل العبد يعني إذا قتل العبد قاتل
وجبت قيمته في مال القاتل ولا شئ على عاقلته خطأ كان أو عمدا وهذا قول ابن عباس والشعبي
والثوري ومكحول والنخعي والبتي ومالك والليث وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور، وقال عطاء الزهري
والحكم وحماد وأبو حنيفة تحمله العاقلة لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة
بدله كالحر وعن الشافعي كالمذهبين ووافقنا أبو حنيفة في دية أطرافه
502

ولنا ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا
ولا اعترافا " وروي عن ابن عباس موقوفا عليه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فيكون اجماعا، ولان
الواجب فيه قيمة تختلف باختلاف صفاته فلم تحمله العاقلة كسائر القيم ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة قيمة
أطرافه فلم تحمل الواجب في نفسه كالفرس وبهذا فارق الحر
(المسألة الثانية) أنها لا تحمل العمد سواء كان مما يجب القصاص فيه أولا يجب ولا خلاف
في أنها لا تحمل دية ما يجب فيه القصاص وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمد بكل حال
وحكي عن مالك أنها تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها كالمأمومة والجائفة وهذا قول قتادة لأنها
جناية لا قصاص فيها أشبهت جناية الخطأ
ولنا حديث ابن عباس ولأنها جناية عمد فلا تحملها العاقلة كالموجب للقصاص وجناية الأب
على ابنه، ولان حمل العاقلة إنما يثبت في الخطأ لكون الجاني معذور تخفيفا عنه ومواساة له والعامد
غير معذور فلا يستحق التخفيف ولا المعاونة فلم يوجد فيه المقتضي، وبهذا فارق العمد الخطأ ثم
يبطل ما ذكروه بقتل الأب ابنه فإنه لا قصاص فيه ولا تحمله العاقلة
(فصل) وان اقتص بحديدة مسمومة فسرى إلى النفس ففيه وجهان (أحدهما) تحمله العاقلة
لأنه ليس بعمد محض أشبه عمد الخطأ (والثاني) لا تحمله لأنه قتله بآلة يقتل مثلها غالبا فأشبه من
لا قصاص له، ولو وكل في استيفاء القصاص ثم عفا عنه فقتله الوكيل من غير علم بعفوه فقال القاضي
503

لا تحمله العاقلة لأنه عمد قتله، وقال أبو الخطاب تحمله العاقلة لأنه لم يقصد الجناية ومثل هذا يعد
خطأ بدليل ما لو قتل في دار الحرب مسلما يظنه حربيا فإنه عمد قتله وهو أحد نوعي الخطأ وهذا
أصح ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(فصل) وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة، وقال الشافعي في أحد قوليه لا تحمله لأنه
عمد يجوز تأديبهما عليه فأشبه القتل من البالغ
ولنا أنه لا يتحقق منهما كمال القصد فتحمله العاقلة كشبه العمد ولأنه قتل لا يوجب القصاص
لأجل العذر فأشبه الخطأ وشبه العمد وبهذا فارق ما ذكروه ويبطل ما ذكروه بشبه العمد
(المسألة الثالثة) أنها لا تحمل الصالح ومعه أن يدعي عليه القتل فينكره ويصالح المدعي على
مال فلا تحمله العاقلة لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة كالذي ثبت باعترافه، وقال
القاضي معناه أن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية، والتفسير الأول أولى لأن هذا عمد
فيستغني عنه بذكر العمد، وممن قال لا تحمل العاقلة الصلح ابن عباس والزهري والشعبي والثوري
والليث والشافعي وقد ذكرنا حديث ابن عباس دية ولأنه لو حملته العاقلة أدى إلى أن يصالح بمال
غيره ويوجب عليه حقا بقوله
(المسألة الرابعة) أنها لا تحمل الاعتراف وهو أن يقر الانسان على نفسه بقتل خطأ أو شبه
504

عمد فتجب الدية عليه ولا تحمله العاقلة ولا نعلم فيه خلافا وبه قال ابن عباس والشعبي والحسن
وعمر بن عبد العزيز والزهري وسليمان بن موسى والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق
وأصحاب الرأي وقد ذكرنا حديث بن عباس فيه ولأنه لو وجب عليهم لوجب باقرار غيرهم ولا
يقبل اقرار شخص على غيره ولأنه يتهم في أن يواطئ من يقر له بذلك ليأخذ الدية من عاقلته
فيقاسمه إياها، إذا ثبت هذا فإنه يلزمه ما اعترف به وتجب الدية عليه حالة في قول أكثرهم
وقال أبو ثور وابن عبد الحكم لا يلزمه شئ ولا يصح اقراره لأنه مقر على غيره لا على نفسه ولأنه
لم يثبت موجب اقراره فكان باطلا كما لو أقر على غيره بالقتل
ولنا قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) ولأنه مقر
على نفسه بالجناية الموجبة للمال فصح اقراره كما لو أقربا تلاف مال أو بما لا تحمل ديته العاقلة ولأنه
محل مضمون فيضمن إذا اعترف به كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل
العاقلة لها فإذا لم تحملها وجبت عليه كجناية المرتد
(المسألة الخامسة) انها لا تحمل ما دون الثلث وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء مالك وإسحاق
وعبد العزيز وعمر بن أبي سلمة، وبه قال الزهري وقال لا تحمل الثلث أيضا، وقال الثوري وأبو حنيفة
تحمل السن والموضحة وما فوقها لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الغرة التي في الجبين على العاقلة وقيمتها نصف
505

عشر الدية ولا تحمل ما دون ذلك لأنه ليس فيه أرش مقدر والصحيح عن الشافعي أنها تحمل
الكثير والقليل لأن من حمل الكثير حمل القليل كالجاني في العمد
ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية أن لا يحمل منها شئ حتى تبلغ عقل المأمومة
ولان مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني لأنه موجب جناية وبدل متلفه فكان عليه كسائر
المتلفات والجنايات وإنما خولف في الثلث فصاعدا تخفيفا عن الجاني لكونه كثيرا يجحف به قال
النبي صلى الله عليه وسلم " الثلث كثير " ففيما دونه يبقى عليه قضية الأصل ومقتضى الدليل وهذا حجة على الزهري
لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلث كثيرا، فأما دية الجنين فلا تحملها العاقلة إلا إذا مات مع أمه من
الضربة لكون ديتهما جميعا موجب جناية تزيد على الثلث وان سلمنا وجوبها على العاقلة فلأنها
دية آدمي كاملة
(فصل) وتحمل العاقلة دية الطرف إذا بلغ الثلث وهو قول من سمينا في المسألة التي قبل هذا
وحكي عن الشافعي أنه قال في القديم لا تحمل ما دون الدية لأن ذلك يجري مجرى ضمان الأموال
بدليل أنه لا تجب فيه كفارة
506

ولنا قول عمر رضي الله عنه ولان الواجب دية جناية على حر تزيد على الثلث فحملتها العاقلة
كدية النفس. لأنه كثير يجب ضمانا لحر أشبه ما ذكرنا وما ذكره يبطل بما إذا جنى على الأطراف
بما يوجب الدية أن زيادة عليها
(فصل) وتحمل العاقلة دية المرأة بغير خلاف بينهم فيها وتحمل من جراحها ما بلغ أرشه ثلث
دية الرجل كدية أنفها وما دون ذلك كدية يدها لا تحمله العاقلة وكذلك الحكم في دية الكتابي
ولا تحمل دية المجوسي لأنها دون الثلث ولا دية الجنين إن مات منفردا أو مات قبل موت أمه
نص عليه احمد لأنه دون الثلث، وإن مات أمه حملتها العاقلة نص عليه لأن وجوب ديتهما حصل
في حال واحدة بجناية واحدة مع زيادتهما على الثلث فحملتهما العاقلة كالدية الواحدة
(فصل) وإن كان الجاني ذميا فعقله على عصبته من أهل دينه المعاهدين في إحدى الروايتين
وهو قول الشافعي وفي الأخرى لا يتعاقلون لأن المعاقلة تثبت في حق المسلم على خلاف الأصل تخفيفا
عنه ومعونة له فلا يلحق به الكافر لأن المسلم أعظم حرمة وأحق بالمواساة والمعونة من الذمي
ولهذا وجبت الزكاة على المسلمين مواساة لفقرائهم ولم تجب على أهل الذمة لفقرائهم فتبقى في حق
الذمي على الأصل. ووجه الرواية الأولى أنهم عصبة يرثونه فيعقلون عنه كعصبة المسلم من المسلمين
ولا يعقل عنه عصبة المسلمون لأنهم لا يرثونه ولا الحربيون لأن الموالاة والنصرة منقطعة بينهم،
507

ويحتمل أن يعقلوا عنه إذا قلنا إنهم يرثونه لأنهم أهل دين واحد يرث بعضهم بعضا ولا يعقل يهودي
عن نصراني ولا نصراني عن يهودي لأنهم لا موالاة بينهم وهم أهل ملتين مختلفتين ويحتمل أن
يتعاقلا بناء على الروايتين في توارثهما
(فصل) وإن تنصر يهودي أو تهود نصراني وقلنا إنه يقر عليه عقل عنه عصبته من أهل الدين
الذي انتقل إليه وهل يعقل عنه الذين القتل عن دينهم؟ على وجهين وإن قلنا لا يقر لم يعقل عنه أحد
لأنه كالمرتد والمرتد لا يعقل عنه أحد لأنه ليس بمسلم فيعقل عنه المسلمون ولا ذمي فيعقل عنه أهل
الذمة وتكون جناية في ماله وكذلك كل من لا تحمل عاقله جناية يكون موجبها في ماله كسائر
الجنايات التي لا تحملها العاقلة
(فصل) ولو رمى ذمي صيدا ثم أسلم ثم أصاب السهم آدميا فقتله لم يعقله المسلمون لأنه لم يكن
مسلما حال رميه، ولا المعاهدون لأنه قتله وهو مسلم فيكون في مال الجاني، وهذا لو رمي وهو مسلم
ثم ارتد ثم قتل السهم انسانا لم يعقله أحد. ولو جرح ذمي ذميا ثم أسلم الجارح ومات المجروح وكان
أرش جراحه يزيد على الثلث فعقله على عصبة من أهل الذمة وما زاد على أرش لا يحمله أحد
ويكون في مال الجاني كما ذكرنا، وإن لم يكن أرش الجرح مما تحمله العاقلة فجميع الدية على الجاني
وكذلك الحكم إذا جرح مسلما ثم ارتد. ويحتمل أن تحمل الدية كلها العاقلة في المسئلتين لأن
508

الجناية وجدت وهو ممن تحمل العاقلة جناية ولهذا وجب القصاص في المسألة الأولى إذا كان عمدا
ويحتمل أن لا تحمل العاقلة شيئا لأن الأرش إنما يستقر باندمال الجرح أو سرايته
(فصل) إذا تزوج عبد معتقة فأولدها أولادها فولاؤهم لمولى أمهم وان جنى أحدهم فالعقل على
مولى أمه لأنه عصبته ووارثه فإن أعتق أبوه ثم سرت الجناية أو رمى بسهم فلم يقع السهم حتى أعتق
أبوه لم يحمل عقله أحد لأن موالي الام قد زال ولاؤهم عنه قبل قتله وموالي الأب لم يكن لهم عليه
ولاء حال جناية فتكون الدية عليه في ماله إلا أن يكون أرش الجرح مما تحمله العاقلة منفردا فيخرج
فيه مثل ما قلنا في المسألة التي قبلها
(فصل) وإن جنى الرجل على نفسه خطأ أو على أطرافه ففيه روايتان. قال القاضي أظهرهما
ان على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه أو أرش جرحه لنفسه إذا كان أكثر من الثلث وهذا قول
الأوزاعي وإسحاق لما روي أن رجلا ساق حمارا فضربه بعصا كانت معه فطارت منها شظية ففقأت
عينه فجعل عمر ديته على عاقلته وقال هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد ولم نعرف له
مخالفا في عصره ولأنها جناية خطأ فكان عقلها على عاقلته كما لو قتل غيره. فعلى هذه الرواية ان
كانت العاقلة الورثة لم يجب شئ لأنه لا يجب للانسان شئ على نفسه وإن كان بعضهم وارثا سقط
عنه ما يقابل نصيبه وعليه ما زاد على نصيبه وله ما بقي إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه
509

(والرواية الثانية) جنايته هدر وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة ومالك والثوري والشافعي
وأصحاب للرأي وهي أصح لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فرجع سيفه على نفسه فمات
ولم يبلغنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بدية ولا غيرها ولو وجبت لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه جنى على
نفسه فلم يضمنه غيره كالعمد ولان وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجاني وتخفيفا عنه وليس
على الجاني ههنا شئ يحتاج إلى الإعانة والمواساة فيه فلا وجه لايجابه. ويفارق هذا ما إذا كانت
الجناية على غيره فإنه لم تحمله العاقلة لأجحف به وجوب الدية لكثرتها. فأما ان كانت
الجناية على نفسه شبه عمد فهل تجرى مجرى الخطأ؟ على وجهين (أحدهما) هي كالخطأ لأنها تساويه فيما إذا
كانت على غيره (والثاني) لا تحمله العاقلة لأنه لا عذر له فأشبه العمد المحض
(فصل) وأما خطأ الإمام والحاكم في غير الحكم والاجتهاد فهو على عاقلته بغير خلاف إذا
كان مما تحمله العاقلة وما حصل باجتهاده ففيه روايتان (إحداهما) على عاقلته أيضا لما روي عن عمر
رضي الله عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء فأجهضت جنينها فقال عمر لعلي عزمت عليك لا تبرح
حتى تقسمها على قومك ولأنه جان فكان خطؤه على عاقلته كغيره (والثانية) هو في بيت المال وهو
مذهب الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وإسحاق لأن الخطأ يكثر في أحكامه واجتهاده فايجاب عقله
على عاقلته يجحف بهم ولأنه نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله فكان أرش جنايته في مال الله
سبحانه وللشافعي قولان كالروايتين
510

" مسألة " قال (وإذا جنى العبد فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه فإن كانت الجناية أكثر
من قيمته لم يكن على سيده أكثر من قيمته)
هذا في الجناية التي تؤدى بالمال اما لكونها لا توجب الا المال واما لكونها موجبة للقصاص فعفا
عنها إلى المال فإن جناية العبد تتعلق برقبته إذ لا يخلو من أن تتعلق برقبته أو ذمته أو ذمة سيده.
أو لا يجب شئ ولا يمكن الغاؤها لأنها جناية آدمي فيجب اعتبارها كجناية الحر ولان جناية الصغير
والمجنون غير ملغاة مع عذره وعدم تكليفه فجناية العبد أولى، ولا يمكن تعلقها بذمته لأنه يفضي إلى الغائها أو تأخير حق المجني عليه إلى غير غاية ولا بذمه السيد لأنه لم يجن فتعين تعلقها برقبة العبد
ولأن الضمان موجب جنايته فتتعلق برقبته كالقصاص ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمته
فما دون أو أكثر فإن كان بقدرها فما دون فالسيد مخير بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى
ولي الجناية فيملكه وبهذا قال الثوري ومحمد بن الحسن وإسحاق، وروي ذلك عن الشعبي وعطاء
ومجاهد وعروة والحسن والزهري وحماد لأنه إن دفع أرش الجناية فهو الذي وجب للمجني عليه
فلم يملك المطالبة بأكثر منه، وان سلم العبد فقد أدى المحل الذي تعلق الحق به، ولان حق المجني
عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها، وإن طالب المجني عليه بتسليمه إليه وأبى ذلك سيده
511

لم يجبر عليه لما ذكرنا وان دفع السيد عبده فأبى الجاني قبوله وقال بعه وادفع إلي ثمنه فهل يلزم السيد
ذلك؟ على روايتين. وأما ان كانت الجناية أكثر من قيمته ففيه روايتان (إحداهما) ان سيده يخير
بين أن يفديه بقيمته أو أرش جنايته وبين أن يسلمه لأنه إذا أدى قيمته فقد أدى قدر الواجب عليه
فإن حق المجني عليه لا يزيد على العبد فلم يلزمه أكثر من ذلك كما لو كانت الجناية بقدر قيمته
(والرواية الثانية) يلزمه تسليمه إلا أن يفديه بأرش جناية بالغة ما بلغت وهذا قول مالك لأنه ربما
إذا عرض للبيع رغب فيه راغب بأكثر من قيمته فإذا أمسكه فقد فوت تلك الزيادة على المجني عليه
وللشافعي قولان كالروايتين. ووجه الرواية الأولى ان الشرع قد جعل له فداءه فكان له فداؤه وكان
الواجب قدر قيمته كسائر المتلفات
(فصل) فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا ولي الجناية على أن يملك العبد لم يملكه بذلك لأنه
إذا لم يملكه بالجناية فلان لا يملكه بالعفو أولى. ولأنه أحد من عليه القصاص فلا يملكه بالعفو كالحر
ولأنه إذا عفى عن القصاص القتل حقه إلى المال فصار كالجاني جناية موجبة للمال. وفيه رواية أخرى انه
يملكه لأنه مملوك استحق إتلافه فاستحق إبقاءه على ملكه كعبده الجاني عليه
(فصل) قال أبو طاب سمعت أبا عبد الله يقول إذا أمر غلامه فجنى فعليه ما جنى وإن كان أكثر
من ثمنه ان قطع يد حر فعليه دية يد الحر وإن كان ثمنه أقل. وان امره سيده أن يخرج رجلا فما جنى فعليه
512

قيمة جنايته. وان كانت أكثر من ثمنه لأنه بأمره، وكان علي وأبو هريرة يقولان إذا أمر عبده أن يقتل
فإنما هو سوطه ويقتل المولى ويحبس العبد. وقال احمد حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا قتادة
عن خلاس ان عليا قال إذا أمر الرجل عبده فقتل إنما هو كسوطه أو كسيفه يقتل المولى والعبد يستودع
السجن ولأنه فوت شيئا بأمره فكان على السيد ضمانه كما لو استدان بأمره
(فصل) فإن جنى جنايات بعضها بعد بعض فالجاني بين أولياء الجنايات بالحصص وبهذا قال
الحسن وحماد وربيعة وأصحاب الرأي والشافعي. وروي عن شريح أنه قال يقضي به لآخرهم وبه قال
الشعبي وقتادة لأنها جناية وردت على محل مستحق فقدم صاحبها على المستحق قبله كالجناية على المملوك
الذي لم يجن وقال شريح في عبد شج رجلا ثم آخر فقال شريح يدفع إلى الأول إلا أن يفديه مولاه
ثم يدفع إلى الثاني ثم يدفع إلى الثالث الا أن يفديه الأوسط
ولنا انهم تساووا في سبب تعلق الحق به فتساووا في الاستحقاق كما لو جنى عليهم دفعة واحدة
بل لو قدم بعضهم كان الأول أولى لأن حقه أسبق، ولا يصح القياس على الملك فإن حق المجني عليه
أقوى بدليل انهما لو وجدا دفعة واحدة قدم حق المجني عليه، ولان حق المجني عليه ثبت بغير رضا
صاحبه عوضا وحق المالك ثبت برضاه أو بغير عوض فافترقا (فصل) وان أعتق السيد عبده الجاني عتق وضمن ما تعلق به من الأرش لأنه أتلف محل الجناية
513

على من تعلق حقه به فلزمه غرامته كما لو قتله، وينبني قدر الضمان على الروايتين فيما إذا اختار امساكه
بعد الجناية لأنه امتنع من تسليمه باعتاقه فهو بمنزلة امتناعه من تسليمه باختيار فدائه. ونقل ابن منصور
عن أحمد انه ان أعتقه عالما بجناية فعليه الدية يعني دية المقتول وان لم يكن عالما بجناية فعليه قيمة العبد
وذلك لأنه إذا أعتقه مع العلم كان مختارا لفدائه بخلاف ما إذا لم يعلم فإنه لم يختر الفداء لعدم علمه به
فلم يلزمه أكثر من قيمة ما فوته
(فصل) فإن باعه أو وهبه صح بيعه لما ذكرنا في البيع ولم يزل تعلق الجناية عن رقبته فإن كان المشتري
عالما بحاله فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة وينتقل الخيار في فدائه وتسليمه إليه كالسيد الأول وان لم
يعلم فيه الخيار بين امساكه ورده كسائر المعيبات
(مسألة) قال (والعاقلة العمومة وأولادهم وان سفلوا في إحدى الروايتين عن أبي
عبد الله، والرواية الأخرى الأب والابن والاخوة وكل العصبة من العاقلة)
العاقلة من يحمل العقل والعقل الدية تسمى عقلا لأنها تعقل لسان ولي المقتول، وقيل إنما سميت
العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل والعقل المنع ولهذا سمي بعض العلوم عقلا لأنه يمنع من الاقدام على المضار،
ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة العصبات وان غيرهم من الاخوة من الام وسائر ذوي الأرحام
514

والزوج وكل من عدا العصبات ليسوا هم من العاقلة. واختلف في الآباء والبنين هل هم من العاقلة أولا
وعن أحمد في ذلك روايتان (إحداهما) كل العصبة من العاقلة يدخل فيه آباء القاتل وأبناؤه واخوته وعمومته
وأبناؤهم. وهذا اختيار أبي بكر والشريف أبي جعفر وهو مذهب مالك وأبي حنيفة لما روى عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون
منها شيئا الا ما فضل عن ورثتها وان قتلت فعقلها بين ورثتها. رواه أبو داود ولأنهم عصبة فأشبهوا
الآخرة، يحققه ان العقل موضوع على التناصر وهم من أهله ولان العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث
في تقديم الأقرب فالأقرب وآباؤه أحق العصبات بميراثه فكانوا أولى بتحمل عقله
(والرواية الثانية) ليس آباؤه وأبناؤه من العاقلة وهو قول الشافعي لما روى أبو هريرة قال
اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى
بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم متفق عليه. وفي رواية ثم ماتت القاتلة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم
ميراثها لبنيها والعقل على العصبة. رواه أبو داود النسائي. وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال فجعل
رسول الله صلى الله دية المقتولة على عاقلتها وبرأ زوجها وولدها قال فقالت عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ميراثها لزوجها وولدها " رواه أبو داود
إذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد لأنه في معناه ولان مال ولده ووالده كماله ولهذا لم تقبل
515

شهادتهما له ولا شهادته لهما ووجب على كل واحد منهما الانفاق على الآخر إذا كان محتاجا والآخر موسرا
وعتق عليه إذا ملكه فلا تجب في ماله دية كما لم يجب في مال القاتل. وظاهر كلام الخرقي ان في الاخوة
روايتين كالولد والوالد، وغيره من أصحابنا يجعلونهم من العاقلة بكل حال ولا اعلم فيه عن غيرهم خلافا
(فصل) فإن كان الولد ابن ابن عم أو كان الولد والد (1) مولى أو عصبة مولى فإنه يعقل في
ظاهر كلام احمد قاله القاضي. وقال أصحاب الشافعي لا يعقل لأنه والد أو ولد فلم يعقل كما لو يكن كذلك
ولنا انه ابن ابن عم أو مولى فيعقل كما لو لم يكن ولدا وذلك لأنه هذه القرابة أو الولاء سبب يستقل
بالحكم منفردا فإذا وجد مع ما لا يثبت به الحكم أثبته كما لو وجد مع الرحم المجرد ولأنه يثبت حكمه مع
القرابة الأخرى بدليل انه يلي نكاحها مع أن الابن لا يلي النكاح عندهم
(فصل) وسائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا من النسب والمولى وعصبته ومولى المولى
وعصبته وغيرهم وبهذا قال عمر بن عبد العزيز والنخعي وحماد ومالك والشافعي ولا أعلم عن غيرهم
خلافهم وذلك لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم يكن وارث أقرب منهم فيدخلون في العقل كالقريب
ولا يعتبر أن يكونوا وارثين في الحال بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا لا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها، ولان الموالي من
العصبات فأشبهوا المناسبين

(1) في نسخة أو كان الولد أو الوالد
516

(فصل) ولا يدخل في العقل من ليس بعصبة ولا يعقل المولى من أسفل وبه قال أبو حنيفة
وأصحاب مالك. وقال الشافعي في أحد قوليه يعقل لأنهما شخصان يعقل أحدهما صاحبه فيعقل الآخر
عنه كالأخوين. ولنا انه ليس بعصبة له ولا وارث فلم يعقل عنه كالأجنبي. وما ذكروه يبطل بالذكر
مع الأنثى والكبير مع الصغير والعاقل مع المجنون
(فصل) ولا يعقل مولى الموالاة وهو الذي يوالي رجلا يجعل له ولاءه ونصرته، ولا الحليف وهو
الرجل يحالف الآخر على أن يتناصرا على دفع الظلم ويتضافرا على من قصدهما أو قصد أحدهما ولا العديد
وهو الذي لا عشيرة له ينضم إلى عشيرة فيعد نفسه معهم وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة يعقل
مولى الموالاة ويرث. وقال مالك إذا كان الرجل في غير عشيرته فعقله على القوم الذي هو معهم. ولنا
انه معنى يتعلق بالعصبة فلا يستحق بذلك كولاية النكاح
(فصل) ولا مدخل لأهل الديوان في المعاقلة وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة يتحملون
جميع الدية فإن عدموا فالأقارب حينئذ يعقلون لأن عمر رضي الله عنه جعل الدية على أهل الديوان في
الأعطية في ثلاث سنين. ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة (1) ولأنه معنى لا يستحق به
الميراث فلم يحمل العقل كالجوار واتفاق المذاهب وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قضاء عمر، على أنه ان
صح ما ذكر عنه فيحتمل انهم كانوا عشيرة القاتل

(1) في نسخة على عصبة القاتلة
517

(فصل) ويشترك في العقل الحاضر والغائب وبهذا قال أبو حنيفة، وقال مالك يختص به الحاضر
لأن التحمل بالنصرة وإنما هي بين الحاضرين ولان في قسمته على الجميع مشقة، وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا الخبر وانهم استووا في التعصب والإرث فاستووا في تحمل العقل كالحاضرين، ولأنه معنى
يتعلق بالتعصيب فاستوى فيه الحاضر والغائب كالميراث
(فصل) ويبدأ في قسمته بين العاقلة بالأقرب فالأقرب يقسم على الاخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم
ثم أعمام الأب ثم بنيهم ثم أعمام الجد ثم بنيهم كذلك ابدا حتى إذا انقرض المناسبون فعلى المولى المعتق
ثم على عصباته على مولى المولى ثم على عصباته الأقرب فالأقرب كالميراث سواء، وإن قلنا للآباء والأبناء
من العاقلة بدئ بهم لأنهم أقرب، ومتى اتسعت أموال قوم للعقل لم يعدهم إلى من بعدهم لأنه حق يستحق
بالتعصيب فيقدم الأقرب فالأقرب كالميراث وولاية النكاح، وهل يقدم من يدلي بالأبوين على من
يدلي بالأب؟ على وجهين (أحدهما) يقدم لأنه يقدم في الميراث فقدم في العقل كتقديم الأخ على ابنه
(والثاني) يستويان لأن ذلك يستفاد بالتعصيب ولا أثر للام في التعصيب، والأول أولى إن شاء الله
تعالى لأن قرابة الام تؤثر في الترجيح والتقديم وقوة التعصيب لاجتماع القرابتين على وجه لا تنفرد
كل واحدة بحكم، وذلك لأن القرابتين تنقسم إلى ما تنفرد كل واحدة منهما بحكم كابن العم إن كان
أخا من أم فإنه يرث بكل واحدة من القرابتين ميراثا مفردا يرث السدس بالاخوة ويرث بالتعصيب
518

ببنوة، وحجب إحدى القرابتين لا يؤثر في حجب الأخرى فهذا لا يؤثر في قوة ولا ترجيح ولذلك
لا يقدم ابن العم الذي هو أخ من أم على غيره، وما لا ينفرد كل واحد منهما بحكم كابن العم من أبوين
مع ابن عم من أب لا تنفرد إحدى القرابتين بميراث عن الأخرى فتؤثر في الترجيح وقوة التعصيب
ولذلك أثرت في التقديم في الميراث فكذلك في غيره وبما ذكرناه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يسوى
بين القريب والبعيد ويقسم على جميعهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية المقتولة على عصبة القاتلة
ولنا أنه حكم تعلق بالتعصيب فوجب أن يقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث والخبر لا حجة
فيه لأننا نقسمه على الجماعة إذا لم يف به الأقرب فنحمله على ذلك
(فصل) ولا يحمل العقل إلا من يعرف نسبه من القاتل أو يعلم أنه من قوم يدخلون كلهم
في العقل، ومن لا يعرف ذلك منه لا يحمل وإن كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشيا لم يلزم قريشا كلهم
التحمل فإن قريشا وان كانوا كلهم يرجعون إلى أب واحد إلا أن قبائلهم تفرقت وصار كل قوم
ينتسبون إلى أب يتميزون به فيعقل عنهم من يشاركهم في نسبهم إلى الأب الأدنى، ألا ترى أن الناس
كلهم بنو آدم فهم راجعون إلى أب واحد؟ لكن إن كان من فخذ واحد يعلم أن جميعهم يتحملون وجب
أن يحمل جميعهم سواء عرف أحدهم نسبه أو لم يعرف للعلم بأنه متحمل على أي وجه كان وان لم
يثبت نسب القاتل من أحد فالدية في بيت المال، لأن المسلمين يرثونه إذا لم يكن له وارث بمعنى أنه
519

يؤخذ ميراثه لبيت المال فكذلك يعقلونه على هذا الوجه وان وجد له من يحمل بعض العقل
فالباقي في بيت المال كذلك.
(فصل) ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة لا تكلف من المال ما يجحف بها ويشق عليها
لأنه لازم لها من غير جنايتها على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجاني بما
يثقل على غيره ويجحف به كالزكاة، ولأنه لو كان الاجحاف مشروعا كان الجاني أحق به لأنه موجب
جنايته وجزاء فعله فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى، واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد
منهم فقال أحمد يحملون على قدر ما يطيقون، فعلى هذا لا يتقدر شرعا وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم
فيفرض على كل واحد قدرا يسهل ولا يؤذي وهذا مذهب مالك، لأن التقدير لا يثبت إلا
بتوقيف ولا يثبت بالرأي والتحكم ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم
كمقادير النفقات وعن أحمد رواية أخرى أنه يفرض الموسر نصف مثقال لأنه أقل مال يتقدر
في الزكاة فكان معتبرا بها. ويجب على المتوسط ربع مثقال لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع
فيه وقد قالت عائشة رضي الله عنها لا تقطع اليد في الشئ التافه وما دون ربع دينار لا قطع فيه
وهذا اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة أكثر ما يجعل على الواحد أربعة دراهم
وليس لأقله حد، لأن ذلك مال يجب على سبيل المواساة للقرابة فلم يتقدر أقله كالنفقة، قال ويسوى
بين الغنى والمتوسط لذلك، والصحيح الأول لما ذكرنا من أن التقدير إنما يصار إليه بتوقيف ولا
520

توقيف فيه وانه يختلف بالغنى والتوسط كالزكاة والنفقة ولا يختلف بالقرب والبعد كذلك واختلف
القائلون بالتقدير بنصف دينار وربعه، قال بعضهم يتكرر الواجب في الأعوام الثلاثة فيكون الواجب
فيها على الغني دينارا ونصفا وعلى المتوسط ثلاثة أرباع دينار لأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة
فيتكرر بتكرر الحول كالزكاة وقال بعضهم لا يتكرر لأن في إيجاب زيادة على النصف ايجابا لزيادة على
أقل الزكاة فيكون مضرا ويعتبر الغنى والتوسط عند رأس الحول لأنه حال الواجب فاعتبر الحال عنده
كالزكاة وان اجتمع من عدد العاقلة في درجة واحدة عدد كثير قسم الواجب على جميعهم فيلزم
الحاكم كل انسان على حسب ما يراه وان قل وعلى الوجه الآخر يجعل على المتوسط نصف ما على الغني
ويعم بذلك جميعهم وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر يخص الحاكم من شاء منهم فيفرض
عليهم هذا القدر الواجب لئلا ينقص عن القدر الواجب ويصير إلى الشئ التافه ولأنه يشق فربما
أصاب كل واحد قيراط فيشق جمعه.
ولنا أنهم استووا في القرابة فكانوا سواء كما لو قالوا وكالميراث وأما التعلق بمشقة الجمع فغير
صحيح، لأن مشقة زيادة الواجب أعظم من مشقة الجمع ثم هذا تعلق بالحكمة من غير أصل يشهد
لها فلا يترك لها الدليل ثم هي معارضة بخفة الواجب على كل واحد وسهولة الواجب عليهم ثم لا يخلو
من أن يخص الحاكم بعضهم بالاجتهاد أو بغير اجتهاد فمن خصه بالاجتهاد فعليه فيه مشقة وربما
521

لم يحصل له معرفة الأولى منهم بذلك فيتعذر الايجاب، وان خصه بالتحكم أفضى إلى أنه يخير
بين ان يوجب على انسان شيئا بشهوته من غير دليل وبين ان لا يوجب ولا نظير له وربما ارتشى
من بعضهم وربما امتنع من فرض عليه شئ من أدائه لكونه يرى مثله لا يؤدي شيئا مع
التساوي من كل الوجوه.
(فصل) ومن مات من العاقلة أو افتقر أو جن قبل الحول لم يلزمه شئ لا نعلم في هذا خلافا
لأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة فأشبه الزكاة وإن وجد ذلك بعد الحول لم يسقط
الواجب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يسقط بالموت لأنه خرج عن أهلية الوجوب فأشبه ما لو
مات قبل الحول.
ولنا انه تدخله النيابة لا يملك اسقاطه في حياته فأشبه الديون وفارق الحول لأنه لم
يجب ولم يستمر الشرط إلى حين الوجوب فأما إن كان فقيرا حال القتل فاستغنى عند الحول فقال
القاضي يجب عليه لأنه وجد وقت الوجوب وهو من أهله ويخرج على هذا من كان صبيا فبلغ أو
مجنونا فأفاق عند الحول وجب عليه كذلك ويحتمل أن لا يجب لأنه لم يكن من أهل الوجوب حالة
السبب فلم يثبت الحكم فيه حالة الشرط كالكافر إذا ملك مالا ثم أسلم عند الحول لم تلزمه الزكاة فيه
522

(مسألة) قال (وليس على فقير من العاقلة ولا امرأة ولا صبي ولا زائل العقل حمل شئ من الدية)
أكثر أهل العلم على أنه لا مدخل لاحد من هؤلاء في تحمل العقل قال ابن المنذر أجمع كل
نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان مع العاقلة وأجمعوا على أن الفقير
لا يلزمه شئ وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وحكى بعض أصحابنا عن مالك وأبي حنيفة
أن للفقير مدخلا في التحمل وذكره أبو الخطاب رواية عن أحمد لأنه من أهل النصرة فكان من
العاقلة كالغني والصحيح الأول لأن تحمل العقل مواساة فلا يلزم الفقير كالزكاة، ولأنها وجبت على
العاقلة تخفيفا عن القاتل فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه وفي إيجابها على الفقير تثقيل عليه
وتكليف له ما لا يقدر عليه ولأننا أجمعنا على أنه لا يكلف أحد من العاقلة ما يثقل عليه ويجحف، وتحميل
الفقير شيئا منها يثقل عليه ويجحف بماله وربما كان الواجب عليه جميع
ماله أو أكثر منه أو لا يكون له شئ أصلا.
وأما الصبي والمجنون والمرأة فلا يحملون منها لأن فيها معنى التناصر وليس هو من أهل النصرة
(فصل) ويعقل المريض إذا لم يبلغ حد الزمانة والشيخ إذا لم يبلغ حد الهرم لأنهما من أهل
النصرة والمواساة وفي الزمن والشيخ الفاني وجهان
523

(أحدهما) لا يعقلان لأنهما ليسا من أهل النصرة ولهذا لا يجب عليهما الجهاد ولا يقتلان إذا
كانا من أهل الحرب وكذلك يخرج في الأعمى لأنه مثلهما في هذا المعنى
(والثاني) يعقلون لأنهم من أهل المواساة ولهذا تجب عليهم الزكاة وهذا ينتقض بالصبي والمجنون
ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا
(مسألة) قال (ومن لم يكن له عاقلة أخذ من بيت المال فإن لم يقدر على ذلك فليس
على القاتل شئ)
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) أن من لا عاقلة له هل يؤدي من بيت المال
أولا؟ فيه روايتان: (إحداهما) يؤدى عنه وهو مذهب الزهري والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودي
الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال، وروي أن رجلا قتل في زحام في زمن عمر فلم يعرف قاتله
فقال علي لعمر يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرئ مسلم فأدى ديته من بيت المال ولان المسلمين يرثون
من لا وارث له فيعقلون عنه عند عدم عاقلته كعصباته ومواليه
(والثانية) لا يجب لأن بيت المال فيه حق للنساء والصبيان والمجانين والفقراء ولا عقل
عليهم فلا يجوز صرفه فيما لا يجب ولان العقل على العصبات وليس بيت المال عصبة ولا هو
524

كعصبة هذا. فأما قتيل الأنصار فغير لازم لأن ذلك قتيل اليهود وبيت المال لا يعقل عن الكفار
بحال وإنما النبي صلى الله عليه وسلم تفضل عليهم وقولهم انهم يرثونه قلنا ليس صرفه إلى بيت المال ميراثا بل
هو فيئ ولهذا يؤخذ مال من لا وارث له من أهل الذمة إلى بيت المال ولا يرثه المسلمون ثم لا يجب
العقل على الوارث إذا لم يكن عصبة ويجب على العصبة وإن لم يكن وارثا فعلى الرواية الأولى إذا لم
يكن له عاقلة أديت الدية عنه كلها من بيت المال وإن كان له عاقلة لا تحمل الجميع أخذ الباقي من بيت
المال وهو تؤدى من بيت المال في دفعة واحدة وفي ثلاث سنين؟ على وجهين (أحدهما) في ثلاث
سنين على حسب ما يؤخذ من العاقلة (والثاني) يؤدى دفعة واحدة وهذا أصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدى
دية الأنصاري دفعة واحدة وكذلك عمر ولان الدية بدل متلف لا تؤديه العاقلة فيجب كله في الحال
كسائر بدل المتلفات وإنما أجل على العاقلة تخفيفا عنهم ولا حاجة إلى ذلك في بيت المال ولهذا يؤدى الجميع
(الفصل الثاني) إذا لم يكن الاخذ من بيت المال فليس على القاتل شئ وهذا أحد قولي
الشافعي لأن الدية لزمت العاقلة ابتداء بدليل انه لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر تحملهم ولا رضاهم بها
ولا تجب على غير من وجبت عليه كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد كذا ههنا فعلى هذا
إن وجد بعض العاقلة حملوا بقسطهم وسقط الباقي فلا يجب على أحد ويتخرج ان تجب الدية على
525

القاتل إذا تعذر حملها عنه وهذا القول الثاني للشافعي لعموم قوله (ودية مسلمة إلى إهله) ولان قضية
الدليل وجوبها على الجاني جبرا للمحل الذي فوته وإنما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر
المحل فإذا لم يؤخذ ذلك بقي واجبا عليه بمقتضى الدليل، ولان الامر دائر بين ان يطل دم المقتول
وبين إيجاب ديته على المتلف لا يجوز الأول لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة وقياس أصول الشريعة
فتعين الثاني ولان اهدار الدم المضمون لا نظير له وإيجاب الدية على قاتل الخطأ له نظائر فإن المرتد لما لم يكن له
عاقلة تجب الدية في ماله والذمي الذي لا عاقلة له تلزمه الدية ومن رمى سهما ثم أسلم أو كان مسلما
فارتد أو كان عليه الولاء لموالي أمه فانجر إلى موالي أبيه ثم أصاب بسهم انسانا فقتله كانت الدية في
ماله لتعذر حمل عاقلته عقله كذلك ههنا فنحرر منه قياسا فنقول: قتيل معصوم في دار الاسلام تعذر
حمل عاقلته عقله فوجب على قاتله كهذه الصورة وهذا أولى من اهدار دماء الأحرار في أغلب الأحوال
فإنه لا يكاد يوجد عاقلة تحمل الدية كلها ولا سبيل إلى الاخذ من بيت المال فتضيع الدماء ويفوت
حكم إيجاب الدية، وقولهم إن الدية تجب على العاقلة ابتداء ممنوع وإنما تجب على القاتل ثم تتحملها
العاقلة عنه، وان سلمنا وجوبها عليهم ابتداء لكن مع وجودهم اما مع عدمهم فلا يمكن
القول بوجوبها عليهم ثم ما ذكروه منقوض بما أبديناه من الصور فعلى هذا تجب الدية على القاتل ان
تعذر حمل جميعها أو باقيها ان حملت العاقلة بعضها والله أعلم
526

" مسألة " (قال ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم ونساؤهم على النصف من دياتهم)
هذا ظاهر المذهب وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وعروة ومالك وعمرو بن شعيب، وعن أحمد
أنها ثلث دية المسلم إلا أنه رجع عنها فإن صالحا روى عنه أنه قال كنت أقول دية اليهودي والنصراني
أربعة آلاف، وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم حديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان الذي
يرويه الزهري عن سالم عن أبيه وهذا صريح في الرجوع عنه، وروي عن عمر وعثمان أن ديته
أربعة آلاف درهم وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار والشافعي
وإسحاق وأبو ثور لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دية اليهودي والنصراني أربعة
آلاف أربعة آلاف " وروي عن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية
المجوسي ثمانمائة درهم، وقال علقمة ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة ديته كدية المسلم، وروي
ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية رضي الله عنهم، وقال ابن عبد البر: وهو قول سعيد بن
المسيب والزهري لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دية اليهودي
والنصراني مثل دية المسلم " ولان الله تعالى ذكر في كتابه دية المسلم فقال (ودية المسلم إلى أهله)
وقال في الذمي مثل ذلك ولم يفرق فدل على أن ديتهما واحدة ولأنه ذكر حر معصوم فتكمل ديته كالمسلم
527

ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دية المعاهد نصف دية
المسلم " وفي لفظ ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى ان عقل الكتابي نصف عقل المسلم رواه الإمام أحمد، وفي
لفظ دية المعاهد نصف دية الحر قال الخطابي ليس في دية أهل الكتاب شئ أثبت من هذا ولا
بأس باسناده، وقد قال به احمد وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى ولأنه نقص مؤثر في الدية فأثر في
تنصيفها كالأنوثة، وأما حديث عبادة فلم يذكره أهل السنن، والظاهر أنه ليس بصحيح، وأما
حديث عمر فإنما كان ذلك حين كانت الدية ثمانية آلاف فأوجب فيه نصفها أربعة آلاف ودليل
ذلك ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يؤمئذ النصف فهذا بيان وشرح مزيل للاشكال
ففيه جمع للأحاديث فيكون دليلا لنا ولو لم يكن كذلك لكل قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدما على قول عمر
وغيره بغير اشكال فقد كان عمر إذنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ترك قوله وعمل بها فكيف يسوغ
لاحد أن يحتج بقوله في ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاما ما احتج به الآخرون فإن الصحيح من
حديث عمرو بن شعيب ما رويناه أخرجه الأئمة في كتبهم دون ما رووه، وأما ما رووه من أقوال
الصحابة فقد روي عنهم خلافه فنحمل قولهم في إيجاب الدية كاملة على سبيل التغليظ قال احمد
إنما غلظ عثمان الدية عليه لأنه كان عمدا فلما ترك القود غلظ عليه وكذلك حديث معاوية
528

ومثل هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه حين انتحر رقيق حاطب ناقة لرجل مزني فقال لحاطب اني
أراك تجيعهم لأغرمنك غرما يشق عليك فأغرمه مثلي قيمتها، فاما ديات نسائهم فعلى النصف من دياتهم
لا نعلم في هذا خلافا، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ولأنه لما كان دية
نساء المسلم على النصف من دياتهم كذلك نساء أهل الكتاب على النصف من دياتهم
(فصل) وجراحاتهم من دياتهم كجراح المسلمين من دياتهم وتغلظ دياتهم باجتماع الحرمات عند
من يرى تغليظ ديات المسلمين بها كتغليظ ديات المسلمين. قال حرب قلت لأبي عبد الله فإن قتل
ذميا في الحرم قال يزاد أيضا على قدره كما يزاد على المسلم، وقال الأثرم قيل لأبي عبد الله جني على مجوسي
في عينه وفي يده، قال يكون بحساب ديته كما أن المسلم يؤخذ بالحساب فكذلك هذا قيل قطع
يده، قال بالنصف من ديته
(مسألة) قال (فإن قتلوه عمدا أضعفت الدية على قاتله المسلم لإزالة القود)
هكذا حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا يروى عن عثمان رواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري
عن سالم عن أبيه ان رجلا قتل رجلا من أهل الذمة فرفع إلى عثمان فلم يقتله وغلظ عليه ألف دينار فصار إليه
529

احمد اتباعا وله نظائر في مذهبه فإنه أوجب على الأعور لما قلع عين الصحيح دية كاملة حين درأ
القصاص عنه وأوجب على سارق التمر مثلي قيمته حين درأ عنه القطع، وهذا حكم النبي
صلى الله عليه وسلم في سارق التمر فيثبت مثله ههنا، ولو كان القاتل ذميا أو قتل ذمي مسلما
لم تضعف الدية عليه لأن القصاص عليه واجب في الموضعين، وجمهور أهل العلم على أن دية الذمي
لا تضاعف بالعمد لعموم الأثر فيها ولأنها دية واجبة فلم تضاعف كدية المسلم أو كما لو كان القاتل ذميا
ولا فرق في الدية بين الذمي وبين المستأمن لأن كل واحد منهما كتابي معصوم الدم، وأما المرتد والحربي
فلا دية لهما لعدم العصمة فيهما
(مسألة) قال (ودية المجوسي ثماني مائة درهم ونساؤهم على النصف)
وهذا قول أكثر أهل العلم قال أحمد ما أقل ما اختلف في دية المجوسي؟ وممن قال ذلك عمر
وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء وعكرمة والحسن
ومالك والشافعي وإسحاق، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال ديته نصف دية المسلم كدية
الكتابي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وقال النخعي والشعبي وأصحاب الرأي
ديته كدية المسلم لأنه آدمي حر معصوم فأشبه المسلم
ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان اجماعا وقوله " سنوا بهم
سنة أهل الكتاب " يعني في أخذ جزيتهم وحقن دمائهم بدليل ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا، ولا
530

يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي لنقصان ديته وأحكامه عنهما فينبغي أن تنقص ديته كنقص المرأة
عن دية الرجل وسواء كان المجوسي ذميا أو مستأمنا لأنه محقون الدم ونساؤهم على النصف من
دياتهم باجماع وجراح كل واحد معتبرة من ديته، وإن قتلوا عمدا أضعفت الدية على القاتل المسلم
لإزالة القود نص عليه احمد قياسا على الكتابي
(فصل) فأما عبدة الأوثان وسائر من لا كتاب له كالترك ومن عبد ما استحسن فلا دية (1) لهم
وإنما تحقن دماؤهم بالأمان فإذا قتل من له أمان منهم فديته دية مجوسي لأنها أقل الديات فلا تنقص
عنها، ولأنه كافر ذو عهد لا تحل مناكحته فأشبه المجوسي
(فصل) ومن لم تبلغه الدعوة من الكفار إن وجد لم يجز قتله حتى يدعى فإن قتل قبل الدعوة
من غيران يعطى أمانا فلا ضمان فيه لأنه لا عهد له ولا ايمان فأشبه امرأة الحربي وابنه الصغير
وإنما حرم قتله ليبلغه الدعوة وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو الخطاب يضمن بما يضمن به أهل دينه
وهو مذهب الشافعي لأنه محقون الدم أشبه من له أمان، والأولى أول فإن هذا ينتقص بصبيان
أهل الحرب ومجانينهم ولأنه كافر لا عهد له فلم يضمن كالصبيان والمجانين، فأما إذا كان له عهد
فله دية أهل دينه فإن لم يعرف دينه ففيه دية المجوسي لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه
(مسألة) قال (ودية الحرة المسلمة نصف دية المسلم)
قال ابن المنذر وابن عبد البر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل وحكى غيرهما

(1) في نسخة فلا ذمة لهم
531

عن ابن علية والأصم انهما قالا ديتها كدية الرجل لقوله عليه السلام " في النفس المؤمنة مائة من
الإبل " وهذا قول شاذ يخالف اجماع الصحابة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن في كتاب عمرو بن حزم
دية المرأة على النصف من دية الرجل وهي أخص مما ذكروه وهما في كتاب واحد فيكون
ما ذكرنا مفسرا لما ذكروه مخصصا له، ودية نساء كل أهل دين على النصف من دية رجالهم على
ما قدمنا في موضعه
(مسألة) قال (وتساوي جراح المرأة جراح الرجل ان ثلث الدية فإن جاوز
الثلث فعلى النصف)
روي هذا عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة
ابن الزبير والزهري وقتادة والأعرج وربيعة ومالك، قال ابن عبد البر وهو قول فقهاء المدينة السبعة
وجمهور أهل المدينة، وحكي عن الشافعي في القديم وقال الحسن يستويان إلى النصف، وروي عن
علي رضي الله عنه انها على النصف فيما قل وكثر وروي ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري والليث وابن
أبي ليلى وابن شبرمة وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور والشافعي في ظاهر مذهبه واختاره ابن المنذر
لأنهما شخصان تختلف ديتهما فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم والكافر، ولأنهما جناية لها أرش
532

مقدر فكان من المرأة على النصف من الرجل كاليد وروي عن ابن مسعود أنه قال تعاقل المرأة الرجل
إلى نصف عشر الدية فإذا زاد على ذلك فهي على النصف لأنها تساويه في الموضحة
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عقل المرأة مثل
عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها " أخرجه النسائي وهو نص يقدم على ما سواه. وقال ربيعة
قلت لسعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال عشر، قلت ففي إصبعين؟ قال عشرون، قلت ففي
ثلاث أصابع؟ قال ثلاثون، قلت ففي أربع؟ قال عشرون قال قلت لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟
قال هكذا السنة يا ابن أخي وهذا مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه سعيد بن منصور ولأنه اجماع
الصحابة رضي الله عنهم إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك الا عن علي ولا نعلم ثبوت ذلك عنه ولان
ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه الذكر والأنثى، فأما الثلث نفسه
فهل يستويان فيه؟ على روايتين
(إحداهما) يستويان فيه لأنه لم يعتبر حد القلة ولهذا صحت الوصية به، وروي أنهما يختلفان
فيه وهو الصحيح لقوله عليه السلام " حتى يبلغ الثلث " وحتى للغاية فيجب أن تكون مخالفة
لما قبلها لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية) ولان الثلث في حد الكثرة لقوله عليه السلام
" الثلث والثلث كثير "
(فصل) فأما دية نساء سائر أهل الأديان فقال أصحابنا تساوي دياتهن ديات رجالهم إلى الثلث
533

لعموم قوله عليه السلام " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها " ولان الواجب
دية امرأة فساوت دية الرجل من أهل دينها كالمسلمين، ويحتمل أن تساوي المرأة الرجل إلى قدر ثلث
دية الرجل المسلم لأنه القدر الكثير الذي يثبت فيه التنصيف في الأصل وهو دية المسلم
(مسألة) قال (ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك)
قد تقدم شرح هذه المسألة فيما مضى ولا فرق في هذا الحكم بين القن من العبيد والمدبر
والمكاتب وأم الولد قال الخطابي أجمع عوام الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في
جنايته والجناية عليه الا إبراهيم النخعي فإنه قال في المكاتب يؤدي بقدر ما أدى من كتابته دية
الحر وما بقي دية العبد، وروي في ذلك شئ عن علي رضي الله عنه وقد روى أبو داود في سننه والإمام أحمد
في مسنده قال حدثنا محمد بن عبد الله ثنا هشام بن أبي عبد الله قال حدثني يحيى بن أبي كثير
عن عكرمة عن ابن عباس قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكاتب يقتل انه يودى ما أدى من
كتابته دية الحر وما بقي دية العبد. قال الخطابي وإذا صح الحديث وجب القول به إذا لم يكن منسوخا
أو معارضا بما هو أولى منه
534

(مسألة) قال (ودية الجنين إذا سقط من الضربة ميتا وكان من حرة مسلمة غرة عبد
أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه كأنه سقط حيا)
يقال غرة عبد بالصفة وغرة عبد بالإضافة والصفة أحسن لأن الغرة اسم للعبد نفسه، قال مهلهل
كل قتيل في كليب غره * حتى ينال القتل إلى مره
في هذه المسألة فصول خمسة (أحدهما) ان في جنين الحرة المسلمة غرة وهذا قول أكثر أهل
العلم منهم عمر بن الخطاب وعطاء والشعبي والنخعي والزهري ومالك والثوري والشافعي وإسحاق
وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقد روي عن عمر رضي الله عنه انه استشار الناس في املاص المرأة فقال
المغيرة بن شعبة شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة، قال لتأتين بمن يشهد معك فشهد له
محمد بن مسلمة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى
بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد
أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم متفق عليه، والغرة عبد أو أمة سميا
بذلك لأنهما من أنفس الأموال والأصل في الغرة الخيار
فإن قيل فقد روي في هذا الخبر " أو فرس أو بغل " قلنا هذا لا يثبت رواه عيسى بن يونس
ووهم فيه قاله أهل النقل، والحديث الصحيح المتفق عليه إنما فيه عبد أو أمة
535

فأما قول الخرقي: من حرة مسلمة. فإنما أراد ان جنين الحرة المسلمة لا يكون إلا حرا مسلما فمتى
كان الجنين حرا مسلما ففيه الغرة، وان كانت أمة كافرة أو أمة مثل أن يتزوج المسلم كتابية فإن
جنينها منه محكوم باسلامه وفيه الغرة ولا يرث منها شيئا لأنه مسلم ولد السيد من أمته وولد المغرور
من أمة حر، وكذلك لو وطئت الأمة بشبهة فولدها حر وفيه الغرة، فأما إن كان الجنين محكوما برقه
لم تجب فيه الغرة وسيأتي بيان حكمه، وأما جنين الكتابية والمجوسية إذا كان محكوما بكفره ففيه عشر
دية أمه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
قال ابن المنذر ولم أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأن جنين الحرة المسلمة مضمون بعشر دية
أمه فكذلك جنين الكافرة إلا أن أصحاب الرأي يرون أن دية الكفارة كدية المسلمة فلا يتحقق
عندهم بينهما اختلاف، فإن كان أبو الجنين كافرين مختلفا دينهما كولد الكتابي من المجوسية
والمجوسي من الكتابية اعتبرناه بأكثرهما دية فنوجب فيه عشر دية كتابية على كل حال لأن
ولد المسلمة من الكافرة معتبر بأكثرهما دية كذا ههنا، ولا فرق فيما ذكرناه بين كون الجنين
ذكرا أو أنثى لأن السنة لم تفرق بينهما وبه يقول الشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وعامة
أهل العلم، ولو ضرب بطن كتابية حاملا من كتابي فأسلم أحد أبويه ثم أسقطته ففيه الغرة في قول ابن
حامد والقاضي وهو ظاهر كلام احمد ومذهب الشافعي لأن الضمان معتبر بحال استقرار الجناية
والجنين محكوم باسلامه عند استقرارهما، وفي قول أبي بكر وأبي الخطاب فيه عشر دية كتابية لأن
536

الجناية عليه في حال الغرة، وان ضرب بطن أمة فأعتقت ثم ألقت الجنين فعلى قول ابن حامد والقاضي
فيه غرة وفي قول أبي بكر وأبي الخطاب فيه عشر قيمة أمه لأن الجناية عليه في حال كونه عبدا ويمكن
منع كونه عبدا ويمكن منع كونه صار حرا لأن الظاهر تلفه بالجناية وبعد تلفه لا يمكن تحريره وعلى قول
هذين يكون الواجب فيه لسيده وعلى قول ابن حامد للسيد أقل الأمرين من الغرة أو عشر قيمة أمه لأن الغرة ان
كانت أكثر لم يستحق الزيادة لأنها زادت بالحرية الحاصلة بزوال ملكه، وان كانت أقل لم يكن له أكثر
منها لأن النقص حصل باعتاقه فلا يضمن له كما لو قطع يد عبد فأعتقه سيده ثم مات بسراية الجناية
كان له أقل الأمرين من دية حر أو نصف قيمته وما فضل عن حق السيد لورثة الجنين، فأما ان
ضرب بطن الأمة فأعتق السيد جنينها وحده نظرت فإن أسقطته حيا لوقت يعيش مثله ففيه دية حر
نص عليه احمد، وان كانت لوقت لا يعيش مثله ففيه غرة لأنه حر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر
عليه عشر قيمة أمه، وان أسقطته ميتا ففيه عشر قيمة أمه لأننا لا نعلم كونه حيا حال إعتاقه، ويحتمل
ان تجب عليه الغرة لأن الأصل بقاء حياته فأشبه ما لو أعتق أمه
(الفصل الثاني) ان الغرة إنما تجب إذا سقط من الضربة ويعلم ذلك بأن يسقط
عقيب الضرب أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط ولو قتل حاملا لم يسقط جنينها أو ضرب من
في جوفها حركة أو انتفاخ فسكن الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين، وبهذا قال مالك وقتادة والأوزاعي
537

والشافعي وإسحاق وابن المنذر وحكي عن الزهري أن عليه الغرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين فلزمته
الغرة كما لو أسقطت.
ولنا أنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه ولذلك لا تصح له وصية ولا ميراث ولان الحركة يجوز
أن تكون لريح في البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك فأما إذا ألقته ميتا فقد تحقق والظاهر تلفه
من الضربة فيجب ضمانه سواء ألقته في حياتها أو بعد موتها وبهذا قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة
إن ألقته بعد موتها لم يضمنه لأنه يجري مجرى أعضائها وبموتها سقط حكم أعضائها
ولنا أنه جنين تلف بجنايته وعلم ذلك بخروجه فوجب ضمانه كما لو سقط في حياتها ولأنه لو سقط
حيا ضمنه فكذلك إذا سقط ميتا كما لو أسقطته في حياتها وما ذكروه ليس بصحيح لأنه لو كان
كذلك لكان إذا سقط ميتا ثم ماتت لم يضمنه كأعضائها ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان
أمه كما لو خرج حيا فاما إن ظهر بعضه من بطن أمه ولم يخرج باقيه ففيه الغرة، وبه قال الشافعي وقال
مالك وابن المنذر لا تجب الغرة حتى نلقيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الغرة في الجنين الذي ألقته المرأة
وهذه لم تلق شيئا أشبه ما لو لم يظهر منه شئ.
ولنا أنه قاتل لجنينها فلزمته الغرة كما لو ظهر جميعه ويفارق ما لو لم يظهر منه شئ لأنه لم يتيقن
قتله ولا وجوده وكذلك أن ألقت يدا أو رجلا أو رأسا أو جزءا من اجزاء الآدمي وجبت الغرة لأن
538

تيقنا انه من جنين وان ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة لأن ذلك يجوز أن يكون
من جنين واحد ويجوز أن يكون من جنينين فلم تجب الزيادة مع الشك لأن الأصل براءة الذمة
وكذلك لم يجب ضمانه إذا لم يظهر فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا شئ فيه لأنا لا نعلم أنه
جنين وان ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل ان فيه صورة خفية ففيه غرة وان شهدت أنه مبتدأ خلق
آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان (أصحهما) لا شئ فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة ولان الأصل براءة الذمة
فلا نشغلها بالشك (والثاني) فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه ما لو تصور هذا يبطل بالنطفة والعلقة
(الفصل الثالث) أن الغرة عبد أو أمة، وهذا قول أكثر أهل العلم وقال عروة وطاوس ومجاهد
عبد أو أمة أو فرس لأن الغرة اسم لذلك وقد جاء في حديث أبي هريرة قال قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة ونحوه
قال الشعبي لأنه روي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم انه جعل في ولدها مائة شاة رواه أبو داود وروي
عن عبد الملك بن مروان انه قضى في الجنين إذا أملص بعشرين دينارا فإذا كان مضغة فأربعين
فإذا كان عظما فستين فإذا كان العظم قد كسي لحما فثمانين فإن تم خلقه وكسي شعره فمائة دينار قال
قتادة إذا كان علقة فثلث غرة وإذا كان مضغة فثلثي غرة
ولنا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في املاص المرأة بعبد أو أمة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضية على
539

ما خالفها وذكر الفرس والبغل في الحديث وهم انفرد به عيسى بن يونس عن سائر الرواه فالظاهر أنه
وهم فيه وهو متروك في البغل بغير خلاف وكذلك في الفرس وهذا الحديث الذي ذكرناه أصح
ما روي فيه وهو متفق عليه وقد قال به أكثر أهل العلم فلا يلتفت إلى ما خالفه وقول عبد الملك بن
مروان تحكم بتقدير لم يرد به الشرع وكذلك قتادة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع من قولهما
إذا ثبت هذا فإنه تلزمه الغرة فإن أراد دفع بدلها ورضي المدفوع إليه جاز لأنه حق آدمي فجاز
ما تراضيا عليه وأيهما امتنع من قبول البدل فله ذلك لأن الحق فيها فلا يقبل بدلها الا برضاهما وتجب
الغرة سالمة من العيوب وان قل العيب لأنه حيوان وجب بالشرع فلم يقبل فيه المعيب كالشاة في
الزكاة لأن الغرة الخيار والمعيب ليس من الخيار ولا يقبل فيها هرمة ولا ضعيفة ولا خنثى ولا خصي
وان كثرت قيمته لأن ذلك عيب ولا يتقدر سنها في ظاهر كلام الخرقي وهو قول أبي حنيفة وقال
القاضي وأبو الخطاب وأصحاب الشافي لا يقبل فيها من له دون سبع سنين لأنه يحتاج إلى من يكفله
له ويحضنه وليس من الخيار وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لا يقبل فيها غلام بلغ خمس عشرة سنة
لأنه لا يدخل على النساء ولا ابنة عشرين لأنها تتغير وهذا تحكم لم يرد الشرع به فيجب ان لا يقبل
وما ذكروه من الحاجة إلى الكفالة باطل بمن له فوق السبع ولان بلوغه قيمة الكبير مع صغره يدل
على أنه خيار ولم يشهد لما ذكروه نص ولا له نظير يقاس عليه والشاب البالغ أكمل من الصبي عقلا
540

وبنية وأقدر على التصرف وانفع في الخدمة وقضاء الحاجة وكونه لا يدخل على النساء ان أريد به
النساء الأجنبيات بلا حاجة إلى دخوله عليهن وان أريد به سيدته فليس بصحيح فإن الله تعالى قال
(ليستأذنكم الذين ملكت ايمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم إلى قوله ليس عليكم ولا عليهم
جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض) ثم لو لم يدخل على النساء لحصل من نفعه أضعاف ما
يحصل من دخوله وفوات شئ إلى ما هو أنفع منه لا يعد فواتا كمن اشترى بدرهم ما يساوي عشرة
لا يعد فوتا ولا خسرانا ولا يعتبر لون الغرة، وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أن الغرة لا تكون الا
بيضاء ولا يقبل عبد أسود ولا جارية سوداء
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بعبد أو أمة وأطلق مع غلبة السواد على عبيدهم وإمائهم ولأنه
حيوان يجب دية فلم يعتبر لونه كالإبل في الدية
(الفصل الرابع) أن الغرة قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل، روي ذلك عن عمر
وزيد رضي الله عنهما، وبه قال النخعي والشعبي وربيعة وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب
الرأي، ولان ذلك أقل ما قدره الشرع في الجنايات وهو أرش الموضحة ودية السن فرددناه إليه
فإن قتيل فقد وجب في الأنملة ثلاثة أبعرة وثلث وذلك دون ما ذكرتموه قلنا الذي نص عليه صاحب
الشريعة غرة قيمتها أرش الموضحة وهو خمس من الإبل، وإذا كان أبوا الجنين كتابيين ففيه غرة قيمتها نصف
541

قيمة الغرة الواجبة في المسلم وفي جنين المجوسية غرة قيمتها أربعون درهما وإذا تعذر وجود غرة بهذه
الدراهم وجبت الدراهم لأنه موضع حاجة وإذا اتفق نصف عشر الدية من الأصول كلها بان تكون
قيمتها خمسا من الإبل وخمسين دينارا أو ستمائة درهم فلا كلام، وان اختلفت قيمة الإبل فنصف
عشر الدية من غيرها مثل ان كانت قيمة الإبل أربعين دينارا أو أربعمائة درهم فظاهر كلام الخرقي
أنها تقوم بالإبل لأنها الأصل وعلى قول غيره من أصحابنا تقوم بالذهب أو الورق فجعل قيمتها خمسين
دينارا أو ستمائة درهم فإن اختلفا قومت على أهل الذهب به وعلى أهل الورق به فإن كان من أهل
الذهب والورق جميعا قومها من هي عليه بما شاء منهما، لأن الخيرة إلى الجاني في دفع ما شاء من
الأصول ويحتمل أن تقوم بأدناهما على كل لذلك وإذا لم يجد الغرة انتقل إلى خمس من الإبل
على قول الخرقي وعلى قول غيره ينتقل إلى خمسين دينارا أو ستمائة درهم
(الفصل الخامس) أن الغرة موروثة عن الجنين كأنه سقط حيا لأنها دية له وبدل عنه فيرثها
ورثته كما لو قتل بعد الولادة، وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال الليث لا تورث بل
تكون بدله لامه لأنه كعضو من أعضائها فأشبه يدها
ولنا أنها دية آدمي حر فوجب أن تكون موروثة عنه كما لو ولدته حيا ثم مات وقوله إنه
عضو من أعضائها لا يصح لأنه لو كان عضوا لدخل بدله في دية أمه كيدها ولما منع من القصاص من أمه
542

وإقامة الحد عليها من أجله ولما وجبت الكفارة بقتله ولما صح عتقه دونها ولا عنقها دونه ولا
تصور حياته بعد موتها، ولان كل نفس تضمن بالدية تورث كدية الحي فعلى هذا إذا أسقطت
جنينا ميتا ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من ديته ثم يرثها ورثته وان ماتت قبله ثم ألقته ميتا لم يرث
أحدهما صاحبه وان خرج حيا ثم مات قبلها ثم مات فإنها ترث نصيبها من ديته ثم يرثها ورثتها
وان ماتت قبله ثم ألقته ميتا لم يرث أحدهما صاحبه وان خرج حيا ثم ماتت قبله ثم مات أو ماتت
ثم خرج حيا ثم مات ورثها ثم يرثه ورثته وان اختلف وراثهما في أولهما موتا فحكمها حكم الغرقى
على ما ذكر في موضعه ويجئ على قول الخرقي في المسألة التي ذكرها إذا ماتت امرأة وابنها أن يحلف
ورثة كل واحد منهما ويختصوا بميراثه وان ألقت جنينا ميتا أو حيا ثم مات ثم ألقت آخر حيا
ففي الميت غرة وفي الحي الأول دية كاملة إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله ويرثهما الآخر ثم
يرثه ورثته وان مات وان كانت الام قد ماتت بعد الأول وقبل الثاني فإن دية الأول ترث منها
الام والجنين الثاني ثم إذا ماتت الام ورثها الثاني يصير ميراثه لورثته، وان ماتت الام
بعدهما ورثتهما جميعا.
(فصل) وإذا ضرب بطن امرأة فألقت أجنة ففي كل واحد غرة وبهذا قال الزهري ومالك
والشافعي وإسحاق وابن المنذر قال ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه ضمان آدمي فتعدد
543

بتعدده كالديات وان ألقتهم أحياء في وقت يعيشون في مثله ثم ماتوا ففي كل واحدة دية كاملة وإن كان
بعضهم حيا فمات وبعضهم ميتا ففي الحي دية وفي الميت غرة
(فصل) وتحمل العاقلة دية الجنين إذا مات مع أمه، نص عليه أحمد إذا كانت الجناية عليها
خطأ أو شبه عمد لما روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة على
عصبة القاتلة وإن كان قتل الام عمدا أو مات الجنين وحده لم تحمله العاقلة وقال الشافعي تحمله
العاقلة على كل حال بناء على قوله إن العاقلة تحمل القليل والكثير والجناية على الجنين ليست بعمد لأنه
لا يتحقق وجوده ليكون مقصودا بالضرب.
ولنا أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث على ما ذكرناه وهذا دون الثلث وإذا مات وحده أو من
جناية عمد فدية أمه على قاتلها فكذلك ديته لأن الجناية لا يحمل بعض ديتها الجاني وبعضها غيره فيكون
الجميع على القاتل كما لو قطع عمدا فسرت الجناية إلى النفس
(مسألة) قال (وإن كان مملوكا ففيه عشر قيمة أمه سواء كان الجنين
ذكرا أو أنثى).
وجملة ذلك أنه إذا كان جنين الأمة مملوكا فسقط من الضربة ميتا ففيه عشر قيمة أمه هذا قول الحسن وقتادة
544

ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وبنحوه قال النخعي والزهري، وقال زيد بن أسلم يجب فيه نصف عشر
غرة وهو خمسة دنانير، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحاب يجب فيه نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته
إن كان أنثى لأن الغرة واجبة في جنين الحرة نصف عشر دية الرجل وعشر دية الأنثى وهذا متلف
فاعتباره بنفسه أولى من اعتباره بأمه، ولأنه جنين مضمون تلف بالضربة فكان فيه نصف عشر
الواجب فيه إذا كان ذكرا كبيرا وعشر الواجب إذا كان أنثى كجنين الحرة، وقال محمد بن الحسن
مذهب أهل المدينة يفضي إلى أن يجب في الجنين الميت أكثر من قيمته إذا كان حيا
ولنا أنه جنين مات بالجناية في بطن أمه فلم يختلف ضمانه بالذكورة والأنوثة كجنين الحرة ودليلهم
نقلبه عليهم فنقول جنين مضمون تلف بالجناية فكان الواجب فيه عشر ما يجب في أمه كجنين الحرة
وما ذكروه من مخالفة الأصل معارض بأن مذهبهم يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر وهو
خلاف الأصول. ولأنه لو اعتبر بنفسه لوجبت قيمته كلها كسائر المضمونات بالقيمية، ولان مخالفتهم
أشد من مخالفتنا لأننا اعتبرناه إذا كان ميتا بأمه وإذا كان حيا بنفسه فجاز أن تزيد قيمة الميت على
الحي مع اختلاف الجهتين كما جاز أن يزيد البعض على الكل في أن من قطع أطراف انسان الأربعة
كان الواجب عليه أكثر من دية النفس كلها وهم فضلوا الأنثى على الذكر مع اتحاد الجهة وأوجبوا
فيما يضمن بالقيمة عشر قيمته تارة ونصف عشرها أخرى وهذا لا نظير له. إذا ثبت هذا فإن قيمة أمه
545

معتبرة يوم الجناية عليها وهذا منصوص الشافعي، وقال بعض أصحابه تقوم حين أسقطت لأن الاعتبار
في ضمان الجناية بالاستقرار ويتخرج لنا وجه كذلك
ولنا أنه لم يتخلل بين الجناية وحال الاستقرار ما يوجب تغيير بدل النفس فكان الاعتبار بحال
الجناية كما لو جرح عبدا ثم نقصت السوق لكثرة الجلب ثم مات فإن الاعتبار بقيمته يوم الجناية
ولان قيمتها تتغير بالجناية وتنقص فلم تقوم في حال نقصها الحاصل بالجناية كما لو قطع يدها فماتت من
سرايتها أو قطع يدها فمرضت بذلك ثم اندملت جراحتها
(فصل) وولد المدبرة والمكاتبة والمعتقة بصفة وأم الولد إذا حملت من غير مولاها حكمه حكم
ولد الأمة لأنه مملوك ولا تحمل العاقلة شيئا من ذلك لأن العاقلة لا تحمل عبدا بحال، فأما جنين المعتق
بعضها فهو كهي فيه من الحرية مثل ما فيها فإذا كان نصفها حرا فنصفه حر فيه نصف غرة لورثته
وفي النصف الباقي نصف عشر قيمة أمه لسيده
(فصل) وإن وطئ أمة بشبهة أو غر بأمة فتزوجها وأحبلها فضربها ضارب فألقت جنينا فهو
حر وفيه غرة مورثة عنه لورثته وعلى الواطئ عشر قيمتها لسيدها لأنه لولا اعتقاد الحرية لكان
هذا الجنين مملوكا لسيده على ضاربه عشر قيمة أمه فلما انعتق بسبب الوطئ فقد حال بين سيدها وبين
هذا القدر فألزمناه ذلك للسيد سواء كان بقدر الغرة أو أكثر منها أو أقل
546

(فصل) إذا سقط جنين ذمية قد وطئها مسلم وذمي في طهر واحد وجب فيه اليقين وهو ما في
جنين الذمي فإن ألحق بعد ذلك بالذمي فقد وفى ما عليه وإن ألحق بمسلم فعليه تمام الغرة، وإن ضرب
بطن نصرانية فأسقطت وادعت أو ادعى ورثته انه من مسلم حملت به من وطئ شبهة أو زنا فاعترف
الجاني فعليه غرة كاملة، وإن كان مما تحمله العاقلة فاعترف أيضا فالغرة عليها وإن أنكرت حلفت وعليها
ما في جنين الذميين والباقي على الجاني لأنه ثبت باعترافه والعاقلة لا تحمل اعترافا، وإن اعترفت العاقلة
دون الجاني فالغرة عليها مع دية أمه، وإن أنكر الجاني والعاقلة فالقول قولهم مع ايمانهم اننا لا نعلم أن
هذا الجنين من مسلم ولا تلزمهم اليمين على البت لأنها يمين على النفي في فعل الغير فإذا حلفوا وجبت
دية ذمي لأن الأصل ان ولدها تابع ولان الأصل براءة الذمة، وإن كان مما لا تحمله العاقلة فالقول
قول الجاني وحده مع يمينه، ولو كانت النصرانية امرأة مسلم فادعى الجاني أن الجنين من ذمي بوطئ
شبهة أو زنا فالقول قول ورثة الجنين لأن الجنين محكوم باسلامه فإن الولد للفراش
(فصل) وإذا كانت الأمة بين شريكين فحملت بمملوك فضربها أحدهما فأسقطت فعليه كفارة
لأنه أتلف آدميا ويضمن لشريكه نصف عشر قيمة أمه ويسقط ضمان نصيبه لأنه ملكه وإن أعتقها
الضارب بعد ضربها وكان معسرا ثم أسقطت عتق نصيبه منها ومن ولدها وعليه لشريكه نصف
عشر قيمة الام وعليه نصف غرة من أجل النصف الذي صار حرا يورث عنه بمنزلة مال الجنين ترث
أمه منه بقدر ما فيها من الحرية
547

والباقي لباقي ورثته هذا قول القاضي وقياس قول أبي بكر وأبي الخطاب لا يجب على الضارب
ضمان ما أعتقه لأنه حين الجناية لم يكن مضمونا عليه والاعتبار في الضمان بحال الجناية وهي الضرب
ولهذا اعتبرنا قيمة الام حال الضرب وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وهذا أصح إن شاء الله لأن
الاتلاف حصل بفعل غير مضمون فأشبه ما لو جرح حربيا فأسلم ثم مات بالسراية ولان موته يحتمل
أن يكون قد حصل بالضرب فلا يتجدد ضمانه بعد موته والأصل براءة ذمته وإن كان المعتق موسرا
سرى العتق إليها وإلى جنينها وفي الضمان الوجهان، فعلى قول القاضي في الجنين غرة موروثة عنه وعلى
قياس قول أبي بكر عليه ضمان نصيب شريكه من الجنين بنصف عشر قيمة أمه ولا يضمن أمه لأنه
قد ضمنها باعتاقها فلا يضمنها بتلفها وإن كان المعتق الشريك الذي لم يضرب وكان معسرا فلا
ضمان على الشريك في نصيبه لأن العتق لم يسر إليه وعليه في نصيب شريكه من الجنين
نصف غرة يرثها ورثته على قول القاضي وعلى قياس قول أبي بكر يضمن نصيب شريكه بنصف
عشر قيمة أمه يكون لسيده اعتبارا بحال الجناية، وكذلك الحكم في ضمان الام إذا ماتت
من الضربة، وإن كان المعتق موسرا سرى العتق إليهما وصارا حرين وعلى المعتق ضمان نصف
الام، ولا يضمن نصف الجنين لأنه يدخل في ضمان الام كما يدخل في بيعها، وعلى الضارب ضمان
الجنين بغرة موروثة عنه على قول القاضي وعلى قياس قول أبي بكر يضمن نصيب الشريك بنصف
548

عشر قيمة أمه وليس عليه ضمان نصيبه لأنه ملكه حال الجناية عليه، وأما ضمان الام ففي أحد الوجهين فيها
دية حرة لسيدها منها أقل الأمرين من ديتها أو قيمتها وعلى الآخر يضمنها بقيمتها لسيدها كما تقدم
من قطع يد عبد ثم أعتق ومات
(فصل) ولو ضرب بطن أمته ثم أعتقها ثم أسقطت جنينا ميتا لم يضمنه في قياس قول أبي بكر
لأن جنايته لم تكن مضمونة في ابتدائها فلم يضمن سرايتها كما لو جرح مرتدا فأسلم ثم مات، ولان
موت الجنين يحتمل انه حصل بالضربة في مملوكه ولم يتجدد بعد العتق ما يوجب الضمان، وعلى قول ابن
حامد عليه غرة لا يرث منها شيئا لأن اعتبار الجناية بحال استقرارها، ولو كانت الأمة لشريكين
فضرباها ثم أعتقاها معا فوضعت جنينا ميتا فعلى قول أبي بكر على كل واحد منهما نصف عشر قيمة أمه
لشريكه لأن كل واحد منهما جنى على الجنين ونصفه له فسقط عنه ضمانه ولزم ضمان نصفه الذي لشريكه
بنصف عشر قيمة أمه. اعتبارا بحال الجناية وعلى قول ابن حامد على كل واحد منهما نصف الغرة للام منها
الثلث وباقيها للورثة ولا يرث القاتل منها شيئا
(فصل) إذا ضرب ابن المعتقة الذي أبوه عبد بطن امرأة ثم أعتق أبوه ثم أسقطت جنينا وماتت
احتمل أن تكون ديتهما في مال الجاني على ما تقدم ذكره، واحتمل أن تكون الدية على مولى الام
وعصباته في قياس قول أبي بكر اعتبارا بحال الجناية، وعلى قياس قول ابن حامد على مولى الأب
549

وأقاربه اعتبارا بحال الاسقاط، وان ضرب ذمي بطن امرأته الذمية ثم أسلم ثم أسقطت لم تحمله عاقلته
وان ماتت معه فكذلك لأن عاقلته المسلمين لا يعقلون عنه لأنه كان حين الجناية ذميا وأهل الذمة
لا يعقلون عنه لأنه حين الاسقاط مسلم، ويحتمل أن يكون عقله في قياس قول أبي بكر على عاقلته من
أهل الذمة اعتبارا بحال الجناية ويكون في الجنين ما يجب في الجنين الكافر لأنه حين الجناية محكوم
بكفره، وعلى قياس قول ابن حامد تجب فيه غرة كاملة، ويكون عقله وعقل أمه على عاقلته
المسلمين اعتبارا بحال الاستقرار
(مسألة) قال (وان ضرب بطنها فألقت جنينا حيا ثم مات من الضربة ففيه دية حر
إن كان حرا أو قيمته إن كان مملوكا إذا كان سقوطه لوقت يعيش لمثله وهو أن يكون لستة
أشهر فصاعدا)
هذا قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في الجنين
يسقط حيا من الضرب دية كاملة منهم زيد بن ثابت وعروة والزهري والشعبي وقتادة وابن شبرمة
ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته في
وقت يعيش لمثله فأشبه قتله بعد وضعه. وفي هذه المسألة ثلاثة فصول
(أحدها) انه إنما يضمن بالدية إذا وضعته حيا، ومتى علمت حياته ثبت له هذا الحكم سواء
550

ثبتت باستهلاله أو ارتضاعه أو بنفسها أو عطاسه أو غيره من الامارات التي تعلم بها حياته هذا ظاهر
قول الخرقي وهو مذهب الشافعي، وروي عن أحمد انه لا يثبت له حكم الحياة إلا بالاستهلال وهذا
قول الزهري وقتادة ومالك وإسحاق، وروي معنى ذلك عن عمر رضي الله عنه وابن عباس والحسن
ابن علي وجابر رضي الله عنهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا استهل المولود ورث وورث " مفهومه أنه
لا يرث إذا لم يستهل. والاستهلال الصياح قاله ابن عباس والقاسم والنخعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" مامن مولود يولد إلا مسه الشيطان فيستهل صارخا إلا مريم وابنها " فلا يجوز غير ما قاله
رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصل في تسمية الصياح استهلالا أن من عادة الناس أنهم إذا رأوا الهلال
صاحوا وأراه بعضهم بعضا فسمي صياح المولود استهلالا لأنه في ظهوره بعد خفائه كالهلال
وصياحه كصياح من يتراءاه
ولنا أنه علمت حياته فأشبه المستهل، والخبر يدل بمعناه وتنبيهه على ثبوت الحكم في سائر
الصور لأن شربه اللبن أدل على حياته من صياحه وعطاسه صوت منه كصياحه وأما الحركة والاختلاج
المنفرد فلا يثبت به حكم الحياة لأنه قد يتحرك بالاختلاج وسبب آخر وهو خروجه من مضيق فإن اللحم
يختلج سيما إذا عصر ثم ترك فلم تثبت بذلك حياته
(الفصل الثاني) أنه إنما يجب ضمانه إذا علم موته بسبب الضربة ويحصل ذلك بسقوطه في الحال
551

وموته متألما إلى أن يموت أو بقاء أمه متألمة إلى أن تسقطه فيعلم بذلك موته بالجناية كما لو ضرب
رجلا فمات عقيب ضربه أو بقي ضمنا حتى مات وان ألقته حيا فجاء آخر فقتله وكانت فيه حياة مستقرة
فعلى الثاني القصاص إذا كان عمدا أو الدية كاملة، وان لم يكن فيه حياة مستقرة بل كانت حركته
كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول وعليه الدية كاملة وعلى الثاني الأدب وان وقع الجنين حيا ثم بقي زمنا
سالما لا ألم به لم يضمنه الضارب لأن الظاهر أنه لم يمت من جناية
(الفصل الثالث) أن الدية الكاملة إنما تجب فيه إذا كان سقوطه لستة أشهر فصاعدا فإن كان
لدون ذلك ففيه غرة كما لو سقط متألما وبهذا قال المزني، وقال الشافعي فيه دية كاملة لأننا علمنا
حياته، وقد تلف من جنايته
ولنا انه لم تعلم فيه حياة يتصور بقاؤه بها فلم تجب فيه دية كما لو ألقته ميتا وكالمذبوح وقولهم
اننا علمنا حياته قلنا وإذا سقط ميتا وله ستة أشهر فقد علمنا حياته أيضا.
(فصل) وإذا ادعت امرأة على انسان انه ضربها فأسقطت جنينها فأنكر الضرب فالقول
قوله مع يمينه، لأن الأصل عدم الضرب وان أقر بالضرب أو قامت به بينة وأنكر أن تكون
أسقطت فالقول قوله أيضا مع يمينه لأنه لم يعلم أنها أسقطت ولا تلزمه اليمين على البت لأنها يمين على
فعل الغير والأصل عدمه، وان ثبت الاسقاط والضرب ببينة أو اقرار فادعى انها أسقطته من غير
552

ضربة نظرنا فإن كانت أسقطت عقيب ضربه فالقول قولها، لأن الظاهر أنه منه لوجوده عقيب شئ يصلح
أن يكون سببا له وان ادعى انها ضربت نفسها أو شربت دواء أو فعل ذلك غيرها فحصل الاسقاط به فأنكرته
فالقول قولها مع يمينها، لأن الأصل عدم ذلك وان أسقطت بعد الضرب بأيام نظرنا فإن كانت متألمة إلى
حين الاسقاط فالقول قولها وان لم تكن متألمة فالقول قوله مع يمينه كما لو ضرب انسانا فلم يبق متألما ولا
ضمنا ومات بعد أيام وان اختلفا في وجود التألم فالقول قوله لأن الأصل عدمه وان كانت متألمة
في بعض المدة فادعى انها برئت وزال المها وأنكرت ذلك فالقول قولها، لأن الأصل بقاؤه وان
ثبت اسقاطها من الضربة فادعت سقوطه حيا وأنكرها فالقول قوله مع يمينه الا ان تقوم لها بينة
باستهلاله، لأن الأصل عدم ذلك وان ثبتت حياته فادعت أنه لوقت يعيش مثله وأنكرها فالقول
قولها مع يمينها، لأن ذلك لا يعرف الا من جهتها ولا يمكن إقامة البينة عليه فقبل قولها فيه كانقضاء
عدتها ووجود حيضها وطهرها وان أقامت بينة باستهلاله وأقام الجاني بينة بعدم استهلاله قدمت بينتها
لأنها مثبتة فتقدم على النافية لأن المثبتة معها زيادة علم وان ادعت انه مات عقيب اسقاطه وادعى
انه عاش مدة فالقول قولها، لأن الأصل عدم حياته وان أقام كل واحد منهما بينة بدعواه قدمت
بينة الجاني لأن معها زيادة علم وان ثبت انه عاش مدة فادعت أنه بقي متألما حتى مات وأنكر ذلك فالقول
قوله لأن الأصل عدم التألم وان أقاما بينتين قدمت بينتها لأن معها زيادة علم ويقبل في استهلال
553

الجنين وسقوطه وبقائه متألما وبقاء أمه متألمة قول امرأة واحدة لأنه مما لا يطلع عليه الرجال فإن
الغالب انه لا يشهد الولادة الا النساء والاستهلال يتصل بها وهن يشهدن حال المرأة وولادتها وحال
الطفل ويعرفن علله وأمراضه وقوته وضعفه دون الرجال وان اعترف الجاني باستهلاله أو ما يوجب
فيه دية كاملة لم تحمله العاقلة وكانت الدية في مال الجاني لأن العاقلة لا تحمل اعترافا وإن كان
مما تحمل العاقلة فيه الغرة فعلى العاقلة غرة وباقي الدية في مال القاتل
(فصل) وان انفصل منها جنينان ذكر وأنثى فاستهل أحدهما اتفقوا على ذلك واختلفوا
في المستهل فقال الجاني هو الأنثى وقال وارث الجنين هو الذكر فالقول قول الجاني مع يمينه، لأن
الأصل عدم الاستهلال من الذكر وبراءة ذمته من الزائد على دية الأنثى فإن كان لأحدهما بينة قدم
بها، وإن كان لكل واحد منهما بينة وجبت دية الذكر لأن البينة قد قامت باستهلاله والبينة المعارضة
لها نافية له والاثبات مقدم على النفي، فإن قيل فينبغي أن تجب دية الذكر والأنثى قلنا لا تجب
دية الأنثى، لأن المستحق لها لم يدعها وهو مكذب للبينة الشاهدة بها وان ادعى الاستهلال
منهما ثبت ذلك بالبينتين وان لم تكن بينة فاعترف الجاني باستهلال الذكر فأنكرت العاقلة فالقول
قولهم مع أيمانهم فإذا حلفوا كانت عليهم دية الأنثى وغرة إن كانت تحمل الغرة وعلى الضارب تمام دية
الذكر وهو نصف الدية لا تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافه وان اتفقوا على أن أحدهما استهل ولم
554

يعرف بعينه لزم العاقلة دية أنثى لأنها متيقنة وتمام دية الذكر مشكوك فيه والأصل براءة الذمة منه
فلم يجب بالشك ويجب الغرة في الذي لم يستهل
(فصل) إذا ضربها فألقت يدا ثم ألقت جنينا فإن كان إلقاؤهما متقاربا أو بقيت المرأة متألمة
إلى أن ألقته دخلت اليد في ضمان الجنين، لأن الظاهر أن الضرب قطع يده وسرى إلى نفسه فأشته ما لو قطع يد
رجل وسرى القطع إلى نفسه ثم إن كان الجنين سقط ميتا أو حيا لا يعيش لمثله ففيه غرة وإن ألقته حيا لوقت
يعيش لمثله ففيه دية كاملة وان بقي حيا فلم يمت فعلى الضارب ضمان اليد بديتها بمنزلة من قطع يد رجل
فاندملت، وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي يسأل القوابل فإن قلن إنها يد من لم تخلق فيه الحياة
ففيها نصف الغرة وان قلن يد من خلقت فيه الحياة ففيها نصف الدية
ولنا أن الجنين إنما يتصور بقاء الحياة فيه إذا كان حيا قبل ولادته بمدة طويلة أقلها شهران
على ما دل عليه حديث الصادق المصدوق في أنه تنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وأقل ما يبقى بعد ذلك
شهران لأنه لا يحيى إذا وضعته لأقل من ستة أشهر والكلام مفروض فيما إذا لم يتخلل بين الضربة
والاسقاط مدة تزيل ظن سقوطه بها فيعلم حينئذ أنها كانت بعد وجود الحياة فيه، واما ان ألقت
اليد وزال الألم ثم ألقت الجنين ضمن اليد وحدها بمنزلة من قطع يدا فاندملت ثم مات صاحبها
ثم ننظر فإن ألقته ميتا أو لوقت لا يعيش مثله ففي اليد نصف غرة لأن في جميعه غرة ففي يده نصف
555

ديته وإن ألقته حيا لوقت يعيش لمثله ثم مات أو عاش وكان بين القاء اليد وبين القائه مدة يحتمل أن
تكون الحياة لم تخلق فيها أري القوابل ههنا فإن قلن انها يد من لم تخلق فيها الحياة وجب نصف غرة
وان قلن انها يد من خلقت فيه الحياة ومضي له ستة أشهر ففيه نصف الدية وان قبل انها يد من
خلقت فيه الحياة ولم تمض له ستة أشهر وجب فيه نصف غرة لأنها يد من لا يجب فيه أكثر من
غرة فأشبهت يد من لم ينفخ فيه روح وان أشكل الامر عليهن وجب نصف الغرة لأنه اليقين وما زاد
مشكوك فيه فلا يجب بالشك
(مسألة) قال (وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة سواء كان الجنين حيا أو ميتا)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وعطاء والزهري والحكم ومالك والشافعي وإسحاق
قال ابن المنذر كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة تلقى جنينا الرقبة مع
الغرة، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وقال أبو حنيفة لا تجب الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب
الكفارة حين أوجب الغرة
ولنا قول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة وقال وإن كان من قوم بينكم
وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو أحد
556

أبويه فهو محكوم بايمانه تبعا يرثه ورثته المؤمنون ولا يرث الكافر منه شيئا وإن كان من أهل الذمة
فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ولأنه نفس مضمون بالدية فوجبت فيه الرقبة كالكبير وترك ذكر
الكفارة لا يمنع وجوبها كقوله عليه السلام " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " وذكر الدية في مواضع
ولم يذكر الكفارة ولان النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المقتولة على عاقلة القاتلة ولم يذكر كفارة وهي واجبة
كذا ههنا وإنما كان كذلك لأن الآية أغنت عن ذكر الكفارة في موضع آخر فاكتفى بها وإن
ألقت المضروبة أجنة ففي كل جنين كفارة كما أن في كل جنين غرة أو دية وإن اشترك جماعة في ضرب
امرأة فألقت جنينا فديته أو الغرة عليهم بالحصص وعلى كل واحد منهم كفارة كما إذا قتل جماعة رجلا
واحدا وان ألقت أجنة فدياتهم عليهم بالحصص وعلى كل واحد في كل جنين كفارة فلو ضرب ثلاثة
بطن امرأة فألقت ثلاثة أجنة فعليهم تسع كفارات على كل واحد ثلاثة
(مسألة) قال (وإذا شربت الحامل دواء فألقت به جنينا فعليها غرة لا ترث منها
شيئا وتعتق رقبة
ليس في هذه الجملة اختلاف بين أهل العلم نعلمه الا ما كان من قول من لم يوجب عتق الرقبة
على ما قدمنا وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها فلزمها ضمانه بالغرة كما لو جنى عليه غيرها
ولا ترث من الغرة شيئا لأن القاتل لا يرث المقتول وتكون الغرة لسائر ورثته وعليها عتق رقبة كما
557

قدمنا ولو كان الجاني المسقط للجنين أباه أو غيره من ورثته فعليه غرة لا يرث منها شيئا ويعتق رقبة وهذا
قول الزهري والشافعي وغيرهما
(فصل) وان جنى على بهيمة فألقت جنينها ففيه ما نقصها في قول عامة أهل العلم وحكي عن أبي
بكر أن فيه عشر قيمة أمه لأنه جناية على حيوان يملك بيعه أسقطت جنينه أشبه جنين الأمة وهذا
لا يصح لأن الجناية على الأمة تقدر من قيمتها ففي يدها نصف قيمتها وفي موضحتها نصف عشر
قيمتها يقدر جنينها من قيمتها كبعض أعضائها والبهيمة إنما يجب في الجناية عليها قدر نقصها فكذلك
في جنينها ولان الأمة آدمية ألحقت بالاحرار في تقدير أعضائها من ديتها والبهيمة بخلاف ذلك
" مسألة " قال (وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فرجع المجر فقتل رجلا فعلى عاقلة كل واحد
منهم ثلث الدية وعلى كل واحد منهم عتق رقبة مؤمنة في ماله)
اما عتق رقبة على كل واحد منهم فلا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم لأن كل واحد منهم مشارك
في اتلاف آدمي معصوم والكفارة لا تتبعض فكملت في حق كل واحد منهم ثم لا يخلو من حالين
(أحدهما) ان يقتل واحدا منهم (والثاني) أن يقتل واحدا من غيرهم فعلى كل واحد عتق رقبة كما
ذكرنا والدية على عواقلهم أثلاثا لأن العاقلة تحمل الثلث فما زاد سواء قصدوا رمي واحد بعينه أو رمي جماعة أو لم
558

يقصدوا ذلك إلا أنهم ان لم يقصدوا قتل آدمي معصوم فهو خطأ ديته دية الخطأ وان قصدوا رمى جماعة أو
واحد بعينه فهو شبه عمد لأن قصد الواحد بعينه بالمنجنيق لا يكاد يفضي إلى اتلافه فتكون ديته مغلظة على العاقلة
الا أنها في ثلاث سنين وعلى قول أبي بكر لا تحمل العاقلة دية شبه العمد فلا تحمله ههنا (الثاني) أن يصيب رجلا
منهم فعلى كل واحد كفارة أيضا ولا تسقط عمن اصابه الحجر لأنه شارك في قتل نفس مؤمنة
والكفارة إنما تجب لحق الله تعالى فوجبت عليه بالمشاركة في نفسه كوجوبها بالمشاركة في قتل غيره، وأما
الدية ففيها ثلاثة أوجه (أحدها) ان على عاقلة كل واحد منهم ثلث ديته لورثة المقتول لأن كل واحد
منهم مشارك في قتل نفس مؤمنة خطأ فلزمته ديتها كالأجانب وهذا ينبني على إحدى الروايتين في أن
جناية المرء على نفسه أو أهله خطأ يحمل عقلها عاقلته
(الوجه الثاني) ما قابل فعل المقتول ساقط لا يضمنه أحد لأنه شارك في اتلاف حقه فلم يضمن
ما قابل فعله كما لو شارك في قتل بهيمته أو عبده وهذا الذي ذكره القاضي في المجرد ولم يذكر غيره
وهو مذهب الشافعي
(الثالث) أن يلغى فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين نصفين، قال
أبو الخطاب هذا قياس المذهب بناء على مسألة المتصادمين، والذي ذكره القاضي أحسن وأصح في
النظر وقد روي نحوه عن علي رضي الله عنه في مسألة القارضة والنامصة والواقصة، قال الشعبي
وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فارن فركبت إحداهن على عنق أخرى وقرصت الثالثة المركوبة
559

فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت عنقها فماتت فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقضى بالدية أثلاثا
على عواقلهن وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة لأنها أعانت على قتل نفسها وهذه شبيهة بمسئلتنا
ولان المقتول مشارك في القتل فلم تكمل الدية على شريكيه كما لو قتلوا واحدا من غيرهم وان رجع الحجر
فقتل اثنين من الرماة فعلى الوجه الأول تجب ديتهما على عواقلهما أثلاثا وعلى كل واحد كفارتان
وعلى الوجه الثاني تجب على عاقلة الحي منهم لكل ميت ثلث ديته وعلى عاقلة كل واحد من الميتين
ثلث دية صاحبه، ويلغى فعله في نفسه وعلى الوجه الثالث على عاقلة الحي لكل واحد من الميتين نصف
الدية ويجب على عاقلة كل واحد من الميتين نصف الدية لصاحبه.
(مسألة) قال (وان كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة في أموالهم)
هذا هو الصحيح في المذهب سواء كان المقتول منهم أو من غيرهم إلا أنه إذا كان منهم يكون
فعل المقتول في نفسه هدرا لأنه لا يجب عليه لنفسه شئ ويكون باقي الدية في أموال شركائه حالا
لأن التأجيل في الديات إنما يكون فيما تحمله العاقلة وهذا لا تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث
والقدر اللازم لكل واحد دون الثلث وذكر أبو بكر فيها رواية أخرى أن العاقلة تحملها، لأن
الجناية فعل واحد أوجب دية تزيد على الثلث والصحيح هو الأول، لأن كل واحد منهم يختص
560

بموجب فعله دون ما فعل شركائه وحمل العاقلة إنما شرع للتخفيف عن الجاني فيما يشق ويثقل، وما دون
الثلث يسير على ما أسلفناه والذي يلزم كل واحد أقل من الثلث، وأما قوله إنه فعل واحد قلنا بل هي
أفعال، لأن فعل كل واحد غير فعل الآخر وإنما موجب الجميع واحد فأشبه ما لو جرحه كل واحد
جرحا فاتت النفس بجميعها. إذا ثبت هذا فالضمان يتعلق بمن مد الحبال ورمى الحجر دون من وضعه
في الكفة وأمسك الخشبة اعتبارا بالمباشر كمن وضع سهما في قوس رجل ورماه صاحب القوس
فالضمان على الرامي دون الموضع
(فصل) إذا سقط رجل في بئر فسقط عليه آخر فقتله فعليه ضمانه لأنه قتله فضمنه كما لو رمى
عليه حجرا ثم ينظر فإن كان عمد رمي نفسه عليه وهو مما يقتل غالبا فعليه القصاص وإن كان مما
لا يقتل غالبا فهو شبه عمد وان وقع خطأ فالدية على عاقلته محففة، وان مات الثاني بوقوعه على الأول
فدمه هدر لأنه مات بفعله وقد روى علي بن رباح اللخمي أن رجلا كان يقود أعمى فوقع في بئر اخر البصير
ووقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم
يا أيها الناس لقيت منكرا * هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا؟ * خرا معا كلاهما تكسرا
وهذا قول ابن الزبير وشريح والنخعي والشافعي وإسحاق، ولو قال قائل ليس على
الأعمى ضمان البصير لأنه الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه وكان سبب وقوعه عليه ولذلك
561

لو فعله قصدا لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى ولو لم يكن سببا لم يلزمه ضمان بقصده
لكان له وجه الا أن يكون مجمعا عليه فلا تجوز مخالفة الاجماع ويحتمل أنه إنما لم يجب الضمان على
القائد لوجهين (أحدهما) أنه مأذون فيه من جهة الأعمى فلم يضمن ما تلف به كما لو حفر له بئرا
في داره باذنه فتلف بها (الثاني) أنه فعل مندوب إليه مأمور به فأشبه ما لو حفر بئرا في سابلة ينتفع
بها المسلمون فإنه لا يضمن ما تلف بها
(فصل) فإن سقط رجل في بئر فتعلق بآخر فوقعا معا فدم الأول هدر لأنه مات من فعله
وعلى عاقلته دية الثاني ان مات لأنه قتله بجذبته فإن تعلق الثاني بثالث فماتوا جميعا فلا شئ على الثالث
وعلى عاقلة الثاني ديته في أحد الوجهين لأنه جذبه وباشره بالجذب والمباشرة تقطع حكم السبب كالحافر
مع الدافع (والثاني) ديته على عاقلة الأول والثاني نصفين، لأن الأول جذب الثاني الجاذب للثالث
فصار مشاركا للثاني في اتلافه
ودية الثاني على عاقلة الأول في أحد الوجهين لأنه هلك بجذبته وان هلك بسقوط الثالث عليه فقد هلك
بجذبة الأول وجذبة نفسه للثالث فسقط فعل نفسه كالمصطدمين وتجب ديته بكمالها على الأول ذكره القاضي
(والوجه الثاني) يجب على الأول نصف ديته ويهدر نصفها في مقابلة فعل نفسه وهذا مذهب
الشافعي، ويتخرج وجه ثالث وهو وجوب نصف ديته على عاقلته لورثته كما قلنا فيما إذا رمى ثلاثة
بالمنجنيق فقتل الحجر أحدهم، وأما الأول إذا مات بوقوعهما عليه ففيه الأوجه الثلاثة لأنه مات من جذبته وجذبة الثاني للثالث فتجب ديته كلها على عاقلة الثاني ويلغى فعل نفسه على الوجه الأول، وعلى
الثاني يهدر نصف ديته المقابل لفعل نفسه ويجب نصفها على الثاني، وعلى الثالث يجب نصفها على عاقلته
لورثته، وان جذب الثالث رابعا فمات جميعهم بوقوع بعضهم على بعض فلا شئ على الرابع لأنه لم يفعل
شيئا في نفسه ولا غيره، وفي ديته وجهان (أحدهما) أنها على عاقلة الثالث المباشر لجذبه (والثاني) على عاقلة
562

الأول والثاني والثالث لأنه مات من جذب الثلاثة فكانت ديته على عواقلهم، وأما الأول فقد مات
بجذبته وجذبة الثاني وجذبة الثالث ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يلغى فعل نفسه وتجب ديته على
عاقلة الثاني والثالث نصفين (الثاني) يجب على عاقلتهما ثلثاها ويسقط ما قابل فعل نفسه (الثالث) يجب
ثلثها على عاقلته لورثته وأما الجاذب الثاني فقد مات بالافعال الثلاثة وفيه هذه الأوجه المذكورة في
الأول سواء، وأما الثالث ففيه مثل هذه الأوجه الثلاثة ووجهان آخران (أحدهما) أن ديته بكمالها
على الثاني لأنه المباشر لجذبه فسقط فعل غيره بفعله (والثاني) أن على عاقلته نصفها ويسقط النصف الثاني
في مقابلة فعله في نفسه.
(فصل) وان وقع بعضهم على بعض فماتوا نظرت فإن كان موتهم بغير وقوع بعضهم على بعض
مثل أن يكون البئر عميقا يموت الواقع فيه بنفس الوقوع أو كان فيه ماء يغرق الواقع فيقتله أو أسد
يأكلهم فليس على بعضهم ضمان بعض لعدم تأثير فعل بعضهم في هلاك بعض، وان شككنا في ذلك
لم يضمن بعضهم لأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك، وإن كان موتهم بوقوع بعضهم
على بعض فدم الرابع هدر لأن غيره لم يفعل فيه شيئا وإنما هلك بفعله وعليه دية الثالث لأنه قتله بوقوعه
عليه ودية الثاني عليه وعلى الثالث نصفين ودية الأول على الثلاثة أثلاثا
563

(فصل) وان هلكوا بأمر في البئر مثل مثل أسد كان فيه وكان الأول جذب الثاني والثاني جذ ب
الثالث والثالث جذب الرابع فقتلهم الأسد فلا شئ على الرابع وديته على عاقلة الثالث في أحد الوجهين
وفي الثاني على عواقل الثلاثة أثلاثا، ودم الأول هدر وعلى عاقلته دية الثاني، وأما دية الثالث فعلى الثاني
في أحد الوجهين وفي الآخر على الأول والثاني نصفين، وهذه المسألة تسمى مسألة الزبية وقد روى
حنش الصنعاني ان قوما من أهل اليمن وحفروا زبية للأسد فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد
فجذب ثانيا فجذب الثاني ثالث ثم جذب الثالث رابعا فقتلهم الأسد فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه
فقال للأول ربع الدية الا انه هلك فوقه ثلاثة وللثاني ثلث الدية لأنه هلك فوقه اثنان وللثالث نصف
الدية لأنه هلك فوقه واحد وللرابع كمال الدية وقال فاني اجعل الدية على من حضر رأس البئر فرفع
ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " هو كما قال " رواه سعيد بن منصور قال حدثنا أبو عوانة وأبو الأحوص
عن سماك بن حرب عن حنش بنحو هذا المعنى قال أبو الخطاب فذهب أحمد إلى ذلك توقيفا على خلاف
القياس والقياس ما ذكرناه.
(فصل) ويجب الضمان بالسبب كما يجب بالمباشرة فإذا حفر بئرا في طريق لغير مصلحة المسلمين
أو في ملك غيره بغير اذنه أو وضع في ذلك حجرا أو صب فيه ماء أو وضع قشر بطيخ
أو نحوه وهلك فيه انسان أو دابة ضمنه لأنه تلف بعد وانه فضمنه كما لو جنى عليه، روي عن شريح
564

أنه ضمن رجلا حفر بئرا فوقع فيها رجل فمات، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال النخعي
والشعبي وحماد والثوري الشافعي وإسحاق وان رجل حجرا وحفر آخر بئرا أو ناصب سكينا
فعثر بالحجر فوقع في البئر أو على السكين فهلك فالضمان على واضع الحجر دون الحافر وناصب السكين
لأن واضع الحجر كالدافع له، وإذا اجتمع الحافر والدافع فالضمان على الدافع وحده وبهذا قال الشافعي،
ولو وضع رجل حجرا ثم حفر عنده آخر بئرا أو نصب سكينا فعثر بالحجر فسقط عليهما فهلك احتمل
أن يكون الحكم كذلك لما ذكرنا واحتمل ان يضمن الحافر وناصب السكين لأن فعلهما متأخر عن
فعله فأشبه ما لو كان زق فيه مائع وهو واقف فحل وكاءه انسان وأماله آخر فسال ما فيه كان الضمان
على الآخر منهما، وان وضع انسان حجرا أو حديدة في ملكه أو حفر فيه بئرا فدخل انسان بغير إذنه
فهلك به فلا ضمان على المالك لأنه لم يتعد وإنما الداخل هلك بعدوان نفسه، وإن وضع حجرا في ملكه
ونصب أجنبي فيه سكينا أو حفر بئرا بغير إذنه فعثر رجل بالحجر فوقع على السكين أو في البئر فالضمان
على الحافر وناصب السكين لتعديهما إذا لم يتعلق الضمان بواضع الحجر لانتفاء عدوانه، وان اشترك
جماعة في عدوان تلف به شئ فالضمان عليهم، وان وضع اثنان حجرا وواحد حجر فعثر بهما انسان
فهلك فالدية على عواقلهم أثلاثا في قياس المذهب، وهو قول أبي يوسف، لأن السبب حصل من
الثلاثة أثلاثا فوجب الضمان عليهم وان اختلفت أفعالهم كما لو جرحه واحد جرحين وجرحه اثنان
565

جرحين فمات بهما وقال زفر على الاثنين النصف وعلى واضع الحجر وحده النصف لأن فعله مساو
لفعلهما، وان حفر انسان بئرا ونصب آخر فيها سكينا فوقع إنسان في البئر على السكين فمات فقال
ابن حامد الضمان على الحافر لأنه بمنزلة الدافع هذا قياس المسائل التي قبلها ونص أحمد رحمه الله
على أن الضمان عليهما قال أبو بكر لأنهما في معنى الممسك والقاتل الحافر كالممسك وناصب السكين
كالقاتل فيخرج من هذا أن يجب الضمان على جميع المتسببين في المسائل السابقة.
(فصل) وان حفرا بئرا في ملك نفسه أو في ملك غيره باذنه فلا ضمان عليه لأنه غير متعد بحفرها
وان حفرها في موات لم يضمن لأنه غير متعد بحفرها وكذلك أن وضع حجرا أو نصب شركا أو
شبكة أو منجلا ليصيد بها، وان فعل شيئا من ذلك في طريق ضيق فعليه ضمان من هلك به لأنه
متعد، وسواء أذن له الإمام فيه أو لم يأذن فإنه ليس للإمام الاذن فيما يضر بالمسلمين، ولو فعل ذلك
الإمام لضن ما تلف به لتعديه، وإن كان الطريق واسعا فحفر في مكان منها ما يضر بالمسلمين فعليه
الضمان كذلك وان حفر في موضع لا ضرر فيه نظرنا فإن حفرها لنفسه ضمن ما تلف بها سواء حفرها
باذن الإمام أو غير اذنه، وقال أصحاب الشافعي ان حفرها باذن الإمام لم يضمن لأن للإمام أن يأذن
في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل أنه يجوز أن يأذن في القعود فيه ويقطعه لم يبيع فيه
ولنا أنه تلف بحفر حفره في حق مشترك بغير إذن أهله لغير مصلحتهم فضمن كما لو لم يأذن
566

له الإمام، ولا نسلم ان للإمام أن يأذن في هذا وإنما يأذن في القعود لأن ذلك لا يدوم وتمكن إزالته
في الحال فأشبه القعود في المسجد ولان القعود جائز من غير إذن الإمام بخلاف الحفر، وان حفر
البئر لنفع المسلمين مثل أن يحفره فيه ماء المطر من الطريق أو لتشرب منه المارة ونحوها فلا
ضمان عليه لأنه محسن بفعله غير متعد بحفره فأشبه باسط الحصير في المسجد، وذكر بعض أصحابنا
أنه لا يضمن إذا كان باذن الإمام، وإن كان بغير إذنه ففيه روايتان.
(إحداهما) لا يضمن فإن احمد قال في رواية إسحاق بن إبراهيم إذا أحدث بئر الماء المطر ففيه
نفع للمسلمين أرجو أن لا يضمن
(والثانية) يضمن أومأ إليه احمد لأنه افتات على الإمام ولم يذكر القاضي سوى هذه الرواية
والصحيح هو الأول لأن هذا مما تدعو الحجة إليه ويشق استئذان الإمام فيه وتعم البلوى به ففي
وجوب استئذان الإمام فيه تفويت لهذه المصلحة العامة لأنه لا يكاد يوجد من يتحمل كلفة استئذانه
وكلفة الحفر معا فتضيع هذه المصلحة فوجب اسقاط استئذانه كما في سائر المصالح العامة من بسط
حصير في مسجد أو تعليق قنديل فيه أو وضع سراج أو رم شعث فيه وأشباه ذلك، وحكم البناء
في الطريق حكم الحفر فيها على ما ذكرنا من التفصيل والخلاف وهو أنه متى بنى بناء يضر إما
لكونه في طريق ضيق أو في واسع يضر بالمارة أو بنى لنفسه فقد تعدى ويضمن ما تلف به، ان
567

بنى في طريق واسع في موضع لا يضر البناء فيه لنفع المسلمين كبناء مسجد يحتاج إليه للصلاة فيه في
زاوية ونحوها فلان ضمان عليه وسواء في ذلك كله أذن فيه الإمام أو لم يأذن، ويحتمل ان يعتبر إذن الإمام
في البناء لنفع المسلمين دون الحفر لأن الحفر تدعو الحاجة إليه لنفع الطريق وإصلاحها وإزالة
الطين والماء منها بخلاف البناء فجري حفرها مجرى تنقيتها وحفر هدفة منها وقلع حجر يضر بالمارة
ووضع الحصا في حفرة منها ليملاها ويسهلها بإزالة الطين ونحوه منها وتسقيف ساقية فيها ووضع حجر
في طين فيها ليطأ الناس عليه أو عبروا عليه فهذا كله مباح لا يضمن ما تلف به لا أعلم فيه خلافا،
وكذلك ينبغي أن يكون في بناء القناطر، ويحتمل أن يعتبر استئذان الإمام لأن مصلحته لا يعم
وجوها بخلاف غيره، وان سقف مسجدا أو فرش بارية فيه أو نصب عليه بابا أو جعل فيه رفا لينفع
أهله أو علق فيه قنديلا أو بنى فيه حائطا فتلف به شئ فلا ضمان عليه، وقال أصحاب الشافعي ان فعل
شيئا من ذلك بغير إذن الإمام ضمن في أحد الوجهين، وقال أبو حنيفة يضمن إذا لم يأذن فيه الجيران
ولنا أنه فعل أحسن به ولم يتعد فيه فلم يضمن ما تلف به كما لو أذن فيه الإمام والجيران ولان هذا
مأذون فيه من جهة العرف لأن العادة جارية بالتبرع به من غير استئذان فلم يجب ضمان كالمأذون فيه نطقا
(فصل) وان حفر العبد بئرا في ملك إنسان بغير إذنه أو في طريق يتضرر به ثم أعتقه سيده
ثم تلف بها شئ ضمنه العبد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة الضمان على سيد، لأن الجناية هي
568

الحفر في حال رقه وكان ضمان جنايته حينئذ على سيده فلا يزول ذلك بعتقه كما لو جرح في حال
رقه ثم سرى جرحه بعد عتقه.
ولنا أن التلف الموجب للضمان وجد بعد اعتاقه فكان الضمان عليه كما لو اشترى سيفا في حال
رقه ثم قتل به بعد عتقه وفارق ما قاسوا عليه، لأن الاتلاف الموجب للضمان وجد حال رقه وههنا
حصل بعد عتقه وكذلك القول في نصب حجر أو غيره من الأسباب التي يجب بها الضمان
(فصل) وإذا حفر إنسان بئرا في ملك مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه ضمن ما تلف به جميعه
وهذا قياس مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة يضمن ما قابل نصيب شريكه فلو كان له شريكان
لضمن ثلثي التالف لأنه تعدى في نصيب شريكيه، وقال أبو يوسف عليه نصف الضمان لأنه تلف
بجهتين فكان الضمان نصفين كما لو جرحه واحد جرحا وجرحه آخر جرحين.
ولنا أنه متعد بالحفر فضمن الواقع فيها كما لو كان في غيره والشركة أو جبت تعديه بجميع
الحفر فكان موجبا لجميع الضمان ويبطل ما ذكره أبو يوسف بما لو حفره في طريق مشترك فإن
له فيها حقا ومع ذلك يضمن الجميع، والحكم فيما إذا أذن له بعض الشركاء في الحفر دون بعض
كالحكم فيما إذا حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره لكونه لا يباح الحفر ولا التصرف حتى يأذن الجميع
(فصل) وإذا حفر بئرا في ملك إنسان أو وضع فيه ما يتعلق به الضمان فأبرأه المالك من ضمان
569

ما يتلف به ففيه وجهان (أحدهما) يبرأ لأن المالك لو أذن فيه ابتداء فيه ابتداء لم يضمن ما تلف به فإذا
أبرأه من الضمان وأذن فيه زال عنه الضمان كما لو اقترن الاذن بالحفر (والآخر) لا ينتفي عنه الضمان
لأنه سبب موجب للضمان فلا يزول حكمه بالابراء كسائر الأسباب، ولان حصول الضمان به لكونه
تعدى بحفره والابراء لا يزيل ذلك، لأن ما مضى لا يمكن تغييره عن الصفة التي وقع عليها، ولان
وجوب الضمان ليس بحق للمالك الابراء منه كما لو أبرأه غير المالك ولأنه ابراء مما لم يجب فلم يصح
كالابراء من الشفعة قبل البيع.
(فصل) وان استأجر أجيرا فحفر في ملك غيره بغير اذنه وعلم الأجير ذلك فالضمان عليه
وحده لأنه متعد بالحفر وليس له فعل ذلك بأجرة ولا غيرها فتعلق الضمان به كما لو أمره غيره
بالقتل فقتل، وان لم يعلم فالضمان على المستأجر لأنه غره فتعلق الضمان به كالاثم وكذلك الحكم في البناء
ونحوه، ولو استأجر أجيرا ليحفر له في ملكه بئرا أو ليبني له فيها بناء فتلف الأجير بذلك لم يضمنه
المستأجر وبهذا قال عطاء والزهري وقتادة وأصحاب الرأي ويشبه مذهب الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" البئر جبار " ولأنه لم يتلفه وإنما فعل الأجير باختيار نفسه فعلا أفضى إلى تلفه فأشبه ما لو فعله تبرعا
من عند نفسه إلا أن يكون الأجير عبدا استأجره بغير إذن سيده أو صبيا بغير إذن وليه فيضمنه
لأنه متعد باستعماله متسبب إلى اتلاف حق غيره.
570

(فصل) فإن حفر إنسان في ملكه بئرا فوقع فيها إنسان أو دابة فهلك به وكان الداخل دخل
بغير إذنه فلا ضمان على الحافر لا عدوان منه وان دخل باذنه والبئر بينة مكشوفة والداخل بصير
يبصرها فلا ضمان أيضا، لأن الواقع هو الذي أهلك نفسه فأشبه ما لو قدم إليه سيف فقتل به نفسه
وإن كان الداخل أعمى أو كانت في ظلمة لا يبصرها الداخل أو غطى رأسها فلم يعلم الداخل بها حتى
وقع فيها فعليه ضمانه، وبهذا قال شريح والشعبي والنخعي وحماد ومالك وهو أحد الوجهين لأصحاب
الشافعي وقال في الآخر لا يضمنه لأنه هلك بفعل نفسه
ولنا أنه تلف بسببه فضمنه كما لو قدم له طعاما مسموما فأكله وبهذا ينتقض ما ذكروه وان
اختلفا فقال صاحب الدار ما أذنت لك في الدخول وادعى ولي الهالك أنه أذن له فالقول قول المالك
لأنه منكر وان قال كانت مكشوفة وقال الآخر كانت مغطاة فالقول قول ولي الواقع، لأن الظاهر
معه فإن الظاهر أنه لو كانت مكشوفة لم يسقط فيها ويحتمل أن القول قول المالك، لأن الأصل براءة
ذمته فلا تشتغل بالشك ولان الأصل عدم تغطيتها.
(فصل) وإذا بنى في ملكه حائطا مائلا إلى الطريق أو إلى ملك غيره فتلف به شئ وسقط
على شئ فأتلفه ضمنه لأنه متعد بذلك فإنه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء ملك غيره أو هواء
مشترك، ولأنه يعرضه للوقوع على غيره في غير ملكه فأشبه ما لو نصب فيه منجلا يصيد به،
571

وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وان بناه في ملكه مستويا أو مائلا إلى ملكه فسقط
من غير استهدام ولا ميل فلا ضمان على صاحبه فيما تلف به لأنه لم يتعد ببنائه ولا حصل منه تفريط
بابقائه وان مال قبل وقوعه إلى ملكه ولم يتجاوزه فلا ضمان عليه لأنه بمنزلة بنائه مائلا في ملكه
وان مال قبل وقوعه إلى هواء الطريق أو إلى ملك انسان أو ملك مشترك بينه وبين غيره نظرنا فإن
لم يمكنه نقضه فلا ضمان عليه لأنه لم يتعد ببنائه ولا فرط في ترك نقضه لعجزه عنه فأشبه ما لو
سقط من غير ميل فإن أمكنه نقضه فلم ينقضه لم يخل من حالين (أحدهما) أن يطالب بنقضه (والثاني)
أن لا يطالب به فإن لم يطالب به لم يضمن في المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الشافعي ونحوه
قال الحسن والنخعي والثوري وأصحاب الرأي لأنه بناه في ملكه والميل حادث بغير فعله فأشبه
ما لو وقع قبل ميله وذكر بعض أصحابنا فيه وجها آخر أن عليه الضمان، وهو قول ابن أبي ليلى
وأبي ثور وإسحاق لأنه متعد بتركه مائلا فضمن ما تلف به كما لو بناه مائلا إلى ذلك ابتداء ولأنه لو
طولب بنقضه فلم يفعل ضمن ما تلف ولو لم يكن ذلك موجبا للضمان لم يضمن بالمطالبة كما لو لم يكن
مائلا أو كان مائلا إلى ملكه وأما ان طولب بنقضه فلم يفعل فقد توقف أحمد عن الجواب فيها
وقال أصحابنا يضمن وقد أوما إليه أحمد وهو مذهب مالك ونحوه قال الحسن والنخعي والثوري
وقال أبو حنيفة الاستحسان أن يضمن، لأن حق الجواز للمسلمين وميل الحائط يمنعهم ذلك فلهم
572

المطالبة بإزالته فإذا لم يزله ضمن كما لو وضع عدلا على حائط نفسه فوقع في ملك غيره فطولب برفعه
فلم يفعل حتى عثر به إنسان وفيه وجه آخر لا ضمان عليه قال أبو حنيفة وهو القياس لأنه بناه
في ملكه ولم يسقط بفعله فأشبه ما لو لم يطالبه بنقضه أو سقط قبل ميله أو لم يمكنه نقضه ولأنه لو
وجب الضمان لم تشترط المطالبة كما لو بناه مائلا إلى غير ملكه فإن قلنا عليه الضمان إذا طولب فإن
المطالبة من كل مسلم أو ذمي توجب الضمان إذا كان ميله الطريق، لأن لكل واحد منهم حق
المرور فكانت له المطالبة كما لو مال الحائط إلى ملك جماعة كان لكل واحد منهم المطالبة وإذا
طالب واحد فاستأجله صاحب الحائط أو أجله له الإمام لم يسقط عنه الضمان، لأن الحق لجميع المسلمين
فلا يملك واحد منهم اسقاطه وان كانت المطالبة لمستأجر الدار أو مرتهنها أو مستعيرها ومستودعها
فلا ضمان عليهم لأنهم لا يملكون النقض وليس الحائط ملكا لهم وان طولب المالك في هذه
الحال فلم يمكنه استرجاع الدار ونقض الحائط فلا ضمان عليه لعدم تفريطه وان أمكنه استرجاعها
كالمعسر والمودع والراهن إذا أمكنه فكاك الرهن فلم يفعل ضمن لأنه أمكنه النقض وإن كان
المالك محجورا عليه لسفه أو صغر أو جنون فطولب هو لم يلزمه الضمان لأنه ليس اهلا للمطالبة
وان طولب وليه أو وصيه فلم ينقضه فالضمان على المالك لأن سبب الضمان ماله فكان الضمان عليه
دون المتصرف كالوكيل مع الموكل وإن كان المالك مشتركا بين جماعة فطولب أحدهم ينقضه احتمل
وجهين (أحدهما) لا يلزمه شئ لأنه لا يمكنه نقضه بدون اذنهم فهو كالعاجز عن نقضه.
573

(والثاني) يلزمه بحصته لأنه يتمكن من النقض بمطالبة شركائه والزامهم النقض فصار بذلك مفرطا
وأما إن كان ميل الحائط إلى ملك آدمي معين اما واحد واما جماعة فالحكم على ما ذكرنا الا أن
المطالبة للمالك وساكن الملك الذي مال إليه دون غيره وإن كان لجماعة فأيهم طالب وجب النقض
بمطالبته كما لو طالب واحد بنقض المائل إلى الطريق الا أنه متى طالب ثم أجله صاحب الملك أو
أبرأه منه أو فعل ذلك ساكن الدار التي مال إليها جاز لأن الحق له وهو يملك اسقاطه، وان مال إلى
درب غير نافذ فالحق لأهل الدرب والمطالبة لهم لأن الملك لهم ويلزم النقض بمطالبة أحدهم ولا يبرأ بابرائه
وتأجيله الا أن يرضى بذلك جميعهم لأن الحق لجميعهم.
(فصل) وإذا تقدم إلى صاحب الحائط بنقضه فباعه مائلا فلا ضمان على بائعه لأنه ليس بملك له
ولا على المشتري لأنه لم يطالب بنقضه وكذلك أن وهبه وأقبضه. وان قلنا بلزوم الهبة زال الضمان
عنه بمجرد العقد وإذا وجب الضمان وكان التالف به آدميا فالدية على عاقلته. فإن أنكرت عاقلته
كون الحائط لصاحبهم لم يلزمهم العقل الا أن يثبت ذلك ببينة لأن الأصل عدم الوجوب عليهم
فلا يجب بالشك وان اعترف صاحب الحائط لزمه به الضمان دونهم لأن العاقلة لا تحمل اعترافا وكذلك
ان أنكروا مطالبته بنقضه فالحكم على ما ذكرنا وإن كان الحائط في يد صاحبهم وهو ساكن في الدار
لم يثبت بذلك الوجوب عليهم لأن دلالة ذلك على الملك من جهة الظاهر. والظاهر لا تثبت به
الحقوق وإنما ترجح به الدعوى
(فصل) وان لم يمل الحائط لكن تشقق فإن لم يخش سقوطه لكون شقوقه بالطول لم يجب نقضه
574

وكان حكمه في هذا حكم الصحيح لأنه لم يخف سقوطه فأشبه الصحيح وان خيف وقوعه مثل أن تكون
شقوقه بالعرض فحكمه. حكم المائل لأنه يخاف منه التلف فأشبه المائل
(فصل) وإذا أخرج إلى الطريق النافذ جناحا أو ساباطا فسقط أو شئ منه على شئ فأتلفه
فعلى المخرج ضمانه وقال أصحاب الشافعي ان وقعت خشبة ليست مركبة على حائطه وجب ضمان
ما أتلفت، وإن كان مركبة على حائطه وجب نصف الضمان لأنه تلف بما وضعه على ملكه وملك
غيره فانقسم الضمان عليهما
ولنا أنه تلف بما أخرجه إلى حق الطريق فضمنه كما لو بنى حائطه مائلا إلى الطريق فأتلف
أو أقام خشبة في ملكه مائلة إلى الطريق أو كما لو سقطت الخشبة التي ليست موضوعة على الحائط
ولأنه إخراج يضمن به البعض فضمن به الكل كالذي ذكرنا ولأنه تلف بعدوانه فضمنه كما لو وضع
البناء على أرض الطريق، والدليل على عدوانه وجوب ضمان البعض ولو كان مباحا لم يضن به
كسائر المباحات ولأن هذه خشبة لو انقصف الخارج منها وسقط فأتلف فيجب أن
يضمن ما أتلف جميعها كسائر المواضع التي يجب الضمان فيها ولأننا لم نعلم موضعا يجب الضمان كله
ببعض الخشبة ويجب نصفه بجميعها وإن كان اخراج الجناح إلى درب غير نافذ بغير اذن أهله ضمن
ما أتلفه، وان فعل ذلك باذنهم فلا ضمان عليه لأنه مباح له غير متعد فيه
575

(فصل) وان أخرج ميزابا إلى الطريق فسقط على انسان أو شئ فأتلفه ضمنه وبهذا قال أبو حنيفة
وحكي عن مالك أنه لا يضمن ما أتلفه لأنه غير متعد باخراجه فلم يضمن ما تلف به كما لو أخرجه إلى ملكه
وقال الشافعي ان سقط كله فعليه نصف الضمان لأنه تلف بما وضعه على ملكه وملك غيره وان انقصف
الميزاب فسقط منه ما خرج عن الحائط ضمن جميع ما تلف به لأنه كله في غير ملكه
ولنا ما سبق في الجناح ولا نسلم أن اخراجه مباح فإنه أخرج إلى هواء ملك غيره شيئا يضر به
فأشبه ما لو أخرج إلى ملك آدمي معين بغير إذنه فاما ان أخرج إلى ملك آدمي معين شيئا من جناح أو ساباط
أو ميزاب أو غيره فهو متعد ويضمن ما تلف به لا أعلم فيه خلافا
(فصل) وإذا بالت دابته في طريق فزلق به حيوان فمات به فقال أصحابنا على صاحب الدابة
الضمان إذا كان راكبا لها أو قائدا أو سائقا لها لأنه تلف حصل من جهة دابته التي يده عليها فأشبه
ما لو جنت بيدها أو فمها وقياس المذهب انه لا يضمن ما تلف بذلك لأنه لا يدله على ذلك ولا يمكن
التحرز منه فلم يضمن ما تلف به كما لو أتلفت برجلها. كما لو لم يكن له يد عليها ويفارق هذا
ما أتلفت بيدها وفمها لأنه يمكنه حفظهما
576

(فصل) وإذا وضع جرة على سطحه أو حائطه أو حجرا فرمته الريح على انسان فقتله أو شئ
أتلفه لم يضمن لأن ذلك من غير فعله ووضعه له كان في ملكه ويحتمل أن يضمن إذا وضعها متطرفة
لأنه نسب إلى إلقائها وتعدى بوضعها فأشبه من بنى حائطه مائلا
(فصل) وإن سلم ولده الصغير إلى السابح ليعلمه السباحة فغرق فالضمان على عاقلة السابح لأنه
سلمه اليد ليحتاط في حفظه فإذا غرق نسب إلى التفريط في حفظه. وقال القاضي قال قياس المذهب أن
لا يضمنه لأن فعل ما جرت العادة به لمصلحته فلم يضمن ما تلف به كما إذا ضرب المعلم ضربا معتادا
فتلف به. فأما الكبير إذا غرق فليس على السابح شئ إذا لم يفرط لأن الكبير في يد نفسه لا ينسب
التفريط في هلاكه إلى غيره
(فصل) وإذا طلب انسانا بسيف مشهور فهرب منه فتلف في هربه ضمنه سواء وقع من شاهق
أو انخسف به سقف أو خر في بئر أو لقيه سبع فافترسه أو غرق في ماء أو احترق بنار وسواء كان
المطلوب صبيا أو كبيرا أعمى أو بصيرا عاقلا أو مجنونا، وقال الشافعي لا يضمن البالغ العاقل البصير
إلا أن يخسف به سقف فإن فيه وفي الصغير والمجنون والأعمى قولان لأنه هلك بفعل نفسه فلم
يضمنه الطالب كما لو لم يطلبه
ولنا انه هلك بسبب عدوانه فضمنه كما لو حفر له بئرا أو نصب سكينا أو سم طعامه ووضعه في
577

منزله وما ذكره يبطل بهذه الأصول، ولأنه تسبب إلى إهلاكه فأشبه ما لو انخسف من تحته سقف
أو كان صغيرا أو مجنونا، وإن طلبه بشئ يخيفه به كالليث ونحوه فحكمه حكم ما لو طلبه بسيف مشهور
لأنه في معناه. (فصل) ولو شهر سيفا في وجه انسان أو دلاه من شاهق فمات من روعته أو ذهب عقله فعليه
ديته، وإن صاح بصبي أو مجنون صيحة شديدة فخر من سطح أو نحوه فمات أو ذهب عقله، أو تغفل
عاقلا فصحا به فأصابه ذلك فعليه ديته تحملها العاقلة فإن فعل ذلك عمدا فهو شبه عمد وإلا فهو خطأ
ووافق الشافعي في الصبي وله في البالغ قولان. ولنا أنه سبب اتلافه فضمنه كالصبي
(فصل) وإن قدم انسانا إلى هدف يرميه الناس فأصابه سهم من غير تعمد فضمانه على عاقلة
الذي قدمه لأن الرامي كالحافر والذي قدمه كالدافع فكان الضمان على عاقلته، وإن عمد الرامي رميه
فالضمان عليه لأنه مباشر وذاك متسبب فأشبه الممسك والقاتل وإن لم يقدمه أحد فالضمان على الرامي
وتحمله عاقلته إن كان خطأ لأنه قتله
(فصل) وإن شهد رجلان على رجل بجرح أو قتل أو سرقة قد توجب القطع أو زنا يوجب الرجم
أو الجلد ونحو ذلك فاقتص منه أو قطع بالسرقة أو حد فأفضى إلى تلفه ثم رجعا عن الشهادة لزمهما
578

ضمان ما تلف بشهادتهما كالشريكين في الفعل ويكون الضمان في مالهما لا تحمله عاقلتهما لأنها لا تحمل
اعترافا وهذا يثبت باعترافهما
وقد روي عن علي رضي الله انه أن شاهدين شهدا عنده على رجل بالسرقة فقطعه ثم أتيا بآخر
فقالا يا أمير المؤمنين ليس ذاك السارق إنما هذا هو السارق فأغرمهما دية الأول وقال: لو علمت
أنكما تعمدتما لقطعتكما ولم يقبل قولهما في الثاني. وإن أكره رجل رجلا على قتل انسان فقتله فصار
الامر إلى الدية فهي عليهما لأنهما كالشريكين ولهذا وجب القصاص عليهما، ولو أكره رجل
امرأة فزنى بها فحملت فماتت من الولادة ضمنها لأنها ماتت بسبب فعله وتحملها العاقلة إلا أن لا يثبت
ذلك الا
(1) باعترافه فتكون الدية عليه لأن العاقلة لا تحمل اعترافا
(فصل) إذا بعث السلطان إلى امرأة ليحضرها فأسقطت جنينا ميتا ضمنه لما روي أن عمر رضي الله عنه
بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت يا ويلها مالها ولعمر فبينا هي في الطريق إذا فزعت
فضربها الطلق فألقت ولدا فصاح الصبي صيحتين فمات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار
بعضهم ان ليس عليك شئ إنما أنت وال ومؤدب وصمت علي فأقبل عليه عمر فقال ما تقول يا أبا الحسن
؟ فقال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم وان كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك ان
ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته فقال عمرا قسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك، ولو فزعت

(1) في نسخة بدون الا
579

المرأة فماتت لوجبت ديتها أيضا ووافق الشافعي في ضمان الجنين وقال لا تضمن المرأة لأن ذلك ليس
بسبب إلى هلاكها في العادة
ولنا انها نفس هلكت بارساله إليها فضمنها كجنينها أو نفس هلكت بسببه فغرمها كما لو ضربها
فماتت وقوله انه ليس بسبب عادة لنا ليس كذلك فإنه سبب للاسقاط والاسقاط سبب للهلاك عادة
ثم لا يتعين في الضمان كونه سببا معتادا فإن الضربة والضربتين بالسوط ليست سببا للهلاك في العادة
ومتى أفضت إليه وجب الضمان، وان استعدى انسان على امرأة فألقت جنينها أو ماتت فزعا فعلى عاقلة
المستعدي الضمان إن كان ظالما وان كانت هي الظالمة فأحضرها عند الحاكم فينبغي أن لا يضمنها
لأنها سبب احضارها بظلمها فلا يضمنها غيرها ولأنه استوفى حقه فلم يضمن ما تلف به كالقصاص ويضمن
جنينها لأنه تلف بفعله فأشبه ما لو اقتص منها
(فصل) ومن أخذ طعام إنسان أو شرابه في برية أو مكان لا يقدر فيه على طعام وشراب فهلك
بذلك أو هلكت بهيمته فعليه ضمان ما تلف به لأنه سبب هلاكه وان اضطر إلى طعام وشراب لغيره
فطلبه منه فمنعه إياه مع غناه عنه في تلك الحال فمات بذلك ضمنه المطلوب منه لما روي عن عمر رضي
الله عنه أنه قضى بذلك ولأنه إذا اضطر إليه صار أحق به ممن هو في يده وله أخذه قهرا فإذا منعه
إياه تسبب إلى اهلاكه بمنعه ما يستحقه فلزمه ضمانه كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك، وظاهر كلام
580

أحمد أن الدية في ماله لأنه تعمد هذا الفعل الذي يقتل مثله غالبا، وقال القاضي تكون على عاقلته لأن
هذا لا يوجب القصاص فيكون شبه العمد، وان لم يطلبه منه لم يضمنه لأنه لم يمنعه ولم يوجد منه فعل
تسبب به إلى هلاكه وكذلك كل من رأى إنسانا في مهلكة فلم ينجه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه
ضمانه وقد أساء، وقال أبو الخطاب قياس المسألة الأولى وجوب ضمانه لأنه لم ينجه من الهلاك مع امكانه
فيضمنه كما لو منعه الطعام والشراب
ولنا أنه لم يهلكه ولم يكن سببا في هلاكه فلم يضمنه كما لو يعلم بحاله، وقياس هذا على هذه
المسألة غير صحيح لأنه في المسألة منعه منعا كان سببا في هلاكه فضمنه بفعله الذي تعدى به وههنا لم
يفعل شيئا يكون سببا
(فصل) ومن ضرب إنسانا حتى أحدث فإن عثمان رضي الله عنه قضى فيه بثلث الدية، وقال
أحمد لا أعرف شيئا يدفعه وبه قال إسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا شئ فيه لأن الدية
إنما تجب لاتلاف منفعة أو عضو أو إزالة جمال وليس ههنا شئ من ذلك، وهذا هو القياس وإنما
ذهب من ذهب إلى ايجاب الثلث لقضية عثمان لأنها في مظنة الشهرة ولم ينقل خلافها فيكون اجماعا ولان
قضاء الصحابي بما يخالف القياس يدل على أنه توقيف وسواء كان الحدث ريحا أو غائطا أو بولا وكذلك
الحكم فيما إذا أفزعه حتى أحدث
581

(فصل) إذا ادعى القاتل ان المقتول كان عبدا أو ضرب ملفوفا فقده أو القى عليه حائطا أو ادعى
أنه كان ميتا وأنكر وليه ذلك فالقول قول الولي مع يمينه وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر
القول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته وما ادعاه محتمل فلا يزول عن اليقين بالشك
ولنا أن الأصل حياة المجني عليه وحريته فيجب الحكم ببقائه كما لو قتل من كان مسلما وادعى
انه ارتد قبل قتله وبهذا يبطل ما ذكره، وهكذا لو قتل في دار الاسلام انسانا وادعى أنه كان كافرا
وأنكر وليه فالقول قول الولي لأن الدار دار الاسلام ولذلك حكمنا باسلام لقيطها، وان قطع عضوا
وادعى شلله أو قطع عينا وادعى عماها وأنكر الولي فالقول قول المجني عليه لأن الأصل السلامة
وكذلك لو قطع ساعدا وادعى أنه لم يكن عليه كف أو قطع ساقا وادعى أنه لم يكن لها قدم، وقال
القاضي ان اتفقا على أنه كان بصيرا فالقول قول المجني عليه والا فالقول قول الجاني وهذا مذهب
الشافعي وكذلك على قياسه إذا اختلفنا في شلل العضو لأن هذا مما لا يتعذر إقامة البينة عليه فإنه لا يخفى
على أهله وجيرانه ومعاملته، وصفة تحمل الشهادة عليه أنه كان يتبع الشخص بصره ويتوقى ما يتوقاه البصير
ويتجنب البئر وأشباهه في طريقه ويعدل في العطفات خلف من يطلبه
582

ولنا ان الأصل السلامة فكان القول قول من يدعيه كما لو اختلفا في اسلام المقتول وحياته وقولهم
لا تتعذر إقامة البينة عليه وقلنا وكذلك لا تتعذر إقامة البينة على ما يدعيه الجاني فايجابها عليه أولى من إيجابها
على من يشهد له الأصل، ثم يبطل بسائر المواضع التي سلموها، فإن قالوا ههنا ما ثبت أن الأصل وجود
البصر قلنا الظاهر يقوم مقام الأصل ولهذا رجحنا قول من يدعي حريته واسلامه
(فصل) وان زاد في القصاص من الجراح وقال إنما حصلت الزيادة باضطرابه وأنكر المجني عليه
ففيه وجهان (أحدهما) القول قول المقتص منه لأن الأصل عدم الاضطراب ووجوب الضمان (والثاني)
القول قول المقتص لأن الأصل براءة ذمته وما يدعيه محتمل، والأول أصح فإن الجرح سبب
وجوب الضمان وما يدعيه من الاضطراب المانع من ثبوت حكمه الأصل عدمه فالقول قول من ينفيه كما
لو جرح رجلا وادعى أنه جرحه دفعا عن نفسه أو قتله وادعى أنه وجده مع أهله أو قتل بهيمة وادعى
أنها صالت عليه
583

الجراح تتنوع نوعين (أحدهما) الشجاج وهي ما كان في رأس أو وجه (النوع الثاني) ما كان
في سائر البدن وينقسم قسمين (أحدهما) قطع عضو (والثاني) قطع لحم والمضمون في الآدمي ضربان
(أحدهما) ما ذكرنا (والثاني) تفويت منفعة كتفويت السمع والبصر والعقل
(مسألة) قال رحمه الله (ومن أتلف ما في الانسان منه شئ واحد ففيه الدية وما فيه
شيئا ففي كل واحد منهما نصف الدية)
وجملة ذلك أن كل عضو لم يخلق الله تعالى في الانسان منه الا واحدا كاللسان والأنف والذكر
والصلب ففيه دية كاملة لأن اتلافه اذهاب منفعة الجنس واذهابها كاتلاف النفس، وما فيه منه شيئان
كاليدين والرجلين والعينين والأذنين والمنخرين والشفتين والخصيتين والثديين والأليتين ففيهما
الدية كاملة لأن في اتلافهما اذهاب منفعة الجنس وفي إحداهما نصف لأن في اتلافه اذهاب نصف
منفعة الجنس وهذه الجملة مذهب الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا، وقد روي عن الزهري عن أبي بكر
ابن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له في كتابه " وفي الانف
إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي
الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية " رواه النسائي وغيره ورواه ابن عبد
البر وقال كتاب عمرو بن حزم معروف عند الفقهاء وما فيه متفق عليه عند العلماء الا قليلا
584

(فصل) وما في الانسان منه أربعة أشياء ففيها الدية وفي كل واحد منها ربع الدية وهو أجفان
العينين وأهدابها وما فيه منه عشرة ففيها الدية وفي كل واحد منها عشرها وهي أصابع اليدين وأصابع
الرجلين وما فيه منه ثلاثة أشياء ففيها الدية وفي الواحد ثلثها وهو المنخران والحاجز بينهما وعنه في
المنخرين الدية وفي الحاجز حكومة لأن المنخرين شيئان من جنس فكان فيهما الدية كالشفتين وليس
في البدن شئ من جنس يزيد على الدية الا الأسنان فإن في كل سن خمسا من الإبل فتزيد على الدية
وقد روي أنه ليس فيها الا الدية قياسا على سائر ما في البدن والصحيح الأول لأن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم
ورد بايجاب خمس في كل سن فيجب العمل به وان خالف القياس
(مسألة) قال (وفي العينين الدية
أجمع أهل العلم على أن في العينين إذا أصيبتا خطأ الدية وفي العين الواحدة نصفها لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" وفي العينين الدية " ولأنه ليس في الجسد منهما إذا شيئان ففيهما الدية وفي إحداهما نصفها كسائر
الأعضاء التي كذلك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي العين الواحدة خمسون من الإبل "
رواه مالك في موطئه، ولان العينين من أعظم الجوارح نفعا وجمالا فكانت فيهما الدية وفي إحداهما
نصفها كاليدين. إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكونا صغيرتين أو كبيرتين ومليحتين أو قبيحتين أو
585

صحيحتين أو مريضتين أو حولاوين أو رمصتين فإن كان فيهما بياض لا ينقص البصر لم تنقص الدية
وان نقص البصر نقص من الدية بقدره وفي ذهاب البصر الدية، لأن كل عضوين وجبت الدية
بذهابهما وجبت باذهاب نفعهما كاليدين إذا أشاهما وفي ذهاب بصر أحدهما نصف الدية كما لو أشل
يدا واحدة وليس في إذهابهما بنفعها أكثر من دية كاليدين
(فصل) وإن جنى على رأسه جناية ذهب بها بصره فعليه ديته لأنه ذهب بسبب جنايته وان لم
يذهب بها فداواها فذهب بالمداواة فعليه ديته لأنه ذهب بسبب فعله وان اختلفوا في ذهاب البصر
رجع إلى اثنين عدلين مسلمين من أهل الخبرة لأن لهما طريقا إلى معرفة ذلك مشاهدتهما العين التي
هي محل البصر ومعرفة بحالها بخلاف السمع وان لم يوجد أهل الخبرة أو تعذر معرفة ذلك اعتبر بان
يوقف في عين الشمس ويقرب الشئ من عينه في أوقات غفلته فإن طرف عينه وخاف من الذي
يخوف به فهو كاذب وإلا حكم له، وإذا علم ذهاب بصره وقال أهل الخبرة لا يرجى عوده وجبت
الدية، وان قالوا يرجى عوده إلى مدة عينوها انتظر إليها ولم يعط الدية حتى تنقضي المدة فإن عاد
البصر سقطت عن الجاني وان لم يعد استقرت الدية وان مات المجني عليه قبل العود استقرت الدية
سواء مات في المدة أو بعدها فإن ادعى الجاني عود بصره قبل موته وأنكر وارثه فالقول قول
الوارث، لأن الأصل معه وان جاء أجنبي فقطع عينه في المدة استقرت على الأول الدية أو القصاص
586

لأنه أذهب البصر فلم يعدو على الثاني حكومة لأنه أذهب عينا لا ضوء لها يرجى عودها وان قال
الأول عاد ضوؤها وأنكر الثاني فالقول قول المنكر، لأن الأصل معه فإن صدق المجني عليه الأول
سقط حقه عنه ولم يقبل قوله على الثاني وان قال أهل الخبرة يرجى عوده لكن لا نعرف له مدة
وجبت الدية أو القصاص لأن انتظار ذلك إلى غير غاية يقضي إلى إسقاط موجب الجناية والظاهر
في البصر عدم العود والأصل يؤيدها فإن عاد قبل استيفاء الواجب سقط وإن عاد بعد الاستيفاء
وجب رد ما اخذ منه لأنا تبينا أنه لم يكن واجبا
(فصل) وان جنى عليه فنقص ضوء عينيه ففي ذلك حكومة وان ادعى نقص ضوئهما فالقول
قوله مع يمينه لأنه لا يعرف ذلك إلا من جهته وان ذكر أن إحداهما نقصت عصبت المريضة وأطلقت
الصحيحة ونصف له شخص فيباعد عنه فكلما قال رأيته فوصف لونه علم صدقته حتى تنتهي فإذا
انتهت علم موضعها ثم تشد الصحيحة وتطلق المريضة وينصب له شخص ثم يذهب حتى تنتهي
رؤيته ثم يدار الشخص إلى جانب آخر فيصنع به مثل ذلك ثم يعلمه عند المسافتين ويذرعان ويقابل
بينهما فإن كانتا سواء فقد صدق وينظر كم بين مسافة رؤية العليلة والصحيحة ويحكم له من الدية بقدر
ما بينهما وان اختلفت المسافتان فقد كذب وعلم أنه قصر مسافة رؤية المريضة ليكثر الواجب له فيردد
حتى تستوي المسافة بين الجانبين والأصل في هذا ما روي عن علي رضي الله عنه، قال ابن المنذر
587

أحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي رضي الله عنه أمر بعينه فعصبت وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو
ينظر حتى انتهى بصره ثم أمر فخط عند ذلك ثم أمر بعينه فعصبت الأخرى وفتحت الصحيحة وأعطى
رجلا بيضة فانطلق بها وهو يبصر حتى انتهى بصره ثم خط عند ذلك ثم حول إلى مكان آخر
ففعل مثل ذلك فوجدوه سواء فأعطاه بقدر ما نقص من بصره من مال الآخر
قال القاضي وإذا زعم أهل الطب أن بصره يقل إذا بعدت المسافة ويكثر إذا قربت وأمكن
هذا في المزارعة عمل عليه وبيانه أنهم إذا قالوا إن الرجل إذا كان يبصر إلى مائة ذراع ثم أراد أن
يبصر إلى مائتي ذراع احتاج
للمائة الثانية إلى ضعفي ما يحتاج إليه للمائة الأولى من البصر فعلى هذا إذا
أبصر بالصحيحة إلى مائتين وأبصر بالعليلة إلى مائة علمنا أنه قد نقص ثلثا بصر عينه فيجب له ثلثا
ديتها وهذا لا يكاد ينضبط في الغالب وكل مالا ينضبط ففيه حكومة. وان جنى على عينيه فندرتا أو
إذا حولتا أو أعمشتا ففي ذلك حكومة كما لو ضرب يده فاعوجت. والجناية على الصبي والمعتوه
كالجناية على البالغ والعاقل وإنما يفترقان في أن البالغ خصم لنفسه والخصم للصبي والمجنون وليهما فإذا
توجهت اليمين عليهما لم يحلفا ولم يحلف الولي عنهما فإن بلغ الصبي وأفاق المجنون حلفا حينئذ ومذهب
الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا
588

(فصل) وفي عين الأعور دية كاملة وبذلك قال الزهري ومالك والليث وقتادة وإسحاق.
وقال مسروق وعبد الله بن مغفل والنخعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي فيها نصف الدية لقوله عليه
السلام " وفي العين خمسون من الإبل " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " وفي العينين الدية " يقتضي أن لا يجب فيهما
أكثر من ذلك سواء قلعهما واحد أو اثنان في وقت واحدا وفي وقتين وقالع الثانية قالع عين أعور
فلو وجبت عليه دية لوجب فيهما دية ونصف ولان ما ضمن بنصف الدية مع بقاء نظيره ضمن به مع
ذهابه كالاذن ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله وفي العين الواحدة نصف الدية لم يفرق
ولنا أن عمر وعثمان وعليا وابن عمر قضوا في عين الأعور بالدية ولم نعلم لهم في الصحابة مخالفا
فيكون اجماعا ولان قلع عين الأعور تتضمن اذهاب البصر كله فوجبت الدية كما لو أذهبه من العينين
ودليل ذلك أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك الأشياء اللطيفة ويعمل
أعمال البصراء ويجوز أن يكون قاضيا وشاهدا ويجزئ في الكفارة وفي الأضحية إذا لم تكن
العوراء مخسوفة فوجب في بصره دية كاملة كذا في العينين فإن قيل فلو صبح هذا لم يجب في ذهاب
بصر إحدى العينين نصف الدية لأنه لم ينقص قلنا لا يلزم من وجوب شئ من دية العينين نقص دية
الثاني بدليل ما لو جنى عليهما فاحولتا أو عمشتا أو نقص ضوؤهما فإنه يجب أرش النقص ولا تنقص
589

ديتهما بذلك ولان النقص الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكامه ولا هو مضبوط في تفويت النفع فلم
يؤثر في تنقيص الدية كالذي ذكرنا
(فصل) وان قلع الأعور عين صحيح نظرنا فإن قلع العين التي لا تماثل عينه الصحيحة أو قلع
المماثلة للصحيحة خطأ فليس عليه الا نصف الدية لا أعلم فيه مخالفا لأن ذلك هو الأصل، وان قلع
المماثلة لعينه الصحيحة عمدا فلا قصاص عليه وعليه دية كاملة وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء
ومالك في إحدى روايتيه، وقال في الأخرى عليه نصف الدية ولا قصاص، وقال المخالفون في المسألة
الأولى: له القصاص لقول تعالى (والعين بالعين) وان اختار الدية فله نصفها للخبر ولأنه لو قلعها غيره
لم يجب فيها الا نصف الدية فلم يجب عليه الا نصفها كالعين الأخرى
ولنا أن عمر وعثمان قضيا بمثل مذهبنا ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة فكان اجماعا
(فصل) وان قلع الأعور عيني صحيح العينين فليس عليه الا دية عمدا كان أو خطأ،
وذكر القاضي أن قياس المذهب ديتين (إحداهما) في العين التي بها قلع عين الأعور
(والأخرى) في الأخرى لأنها عين أعور
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " في العينين الدية " ولأنه قلع عينين فلم يلزمه أكثر من الدية كما لو كان القاطع
صحيحا ولأنه لم يزد على تفويت منفعة الجنس فلم يزد على الدية كما لو قطع أذنه وما ذكره القاضي لا يصح لأن
590

وجوب الدية في إحدى عينيه لا يجعل الأخرى عين أعور على أن وجوب الدية بقلع إحدى العينين قضية مخالفة
للخبر والقياس صرنا إليها لاجماع الصحابة عليها ففيها عدا موضع الاجماع يجب العمل بهما والبقاء
عليها فإن كان قلعهما عمدا فاختار القصاص فليس له الا قلع عينه لأنه أذهب بصرة كله فلم يكن له
أكثر من اذهاب بصره وهذا مبني على ما تقدم من قضاء الحاجة، به ولان عين الأعور تقوم مقام
العينين وأكثر أهل العلم على أن له القصاص من العين ونصف الدية للعين الأخرى وهو مقتضى
الدليل والله أعلم.
(فصل) وإن قطع يد أقطع أو رجل أقطع الرجل فله نصف الدية أو القصاص من مثلها لأنه عضو
أمكن القصاص من مثله فكان الواجب فيه القصاص أو دية مثله كما لو قطع أذن من له أذن واحدة.
وعن أحمد رواية أخرى أن الأولى إن كانت قطعت ظلما وأخذ ديتها أو قطعت قصاصا ففيها نصف ديتها
وأن قطعت في سبيل الله ففي الباقية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين جملة فأشبه قلع عين الأعور
والصحيح الأول لأن هذا أحد العضوين الذين تحصل بهما منفعة الجنس لا يقوم مقام العضوين فلم تجب
فيه دية كاملة كسائر الأعضاء كما لو كانت الأولى أخذت قصاصا أو في غير سبيل الله ولا يصح
القياس على عين الأعور لوجوه ثلاثة.
(أحدهما) أن عين الأعور حصل بها ما يحصل بالعينين ولم يختلفا في الحقيقة والأحكام إلا تفاوتا
يسيرا بخلاف أقطع اليد والرجل
(والثاني) أن عين الأعور لم يختلف الحكم فيها باختلاف صفة ذهاب الأولى وههنا اختلفا
(الثالث) أن هذا التقدير والتعيين على هذا الوجه أمر لا يصار إليه بمجرد الرأي ولا توقيف
591

فيه فيصار إليه ولا نظير له فقياس عليه والمصير إليه تحكم بغير دليل فيجب اطراحه، وإن قطعت
أذن من قطعت أذنه أو منخر من قطعت منخره لم يجب فيه أكثر من نصف الدية رواية واحدة
لأن منفعة كل أذن لا تتعلق بالأخرى بخلاف العينين
(مسألة) قال (وفي الأشفار الأربعة الدية وفي كل واحد منهما ربع الدية)
يعني أجفان العينين وهي أربعة ففي جميعها الدية لأن فيها منفعة الجنس وفي كل واحد منهما ربع
الدية لأن كل ذي عدد تجب في جميعه الدية تجب في الواحد منها بحصته من الدية كاليدين والأصابع
وبهذا قال الحسن والشعبي وقتادة وأبو هاشم والثوري الشافعي وأصحاب الرأي، وعن مالك في
جفن العين وحجاجها الاجتهاد لأنه لم يعلم تقديره عن النبي صلى الله عليه وسلم والقدير لا يثبت قياسا
ولنا انها أعضاء فيها جمال ظاهر ونفع كامل فإنها تكن العين وتحفظها وتقيها الحر والبرد وتكون
كالغلق عليها يطبقه إذا شاء ويفتحه إذا شاء ولولاها لقبح منظره فوجبت فيها الدية كاليدين ولا
نسلم أن التقدير لا يثبت قياسا فإذا ثبت هذا فإن في أحدها ربع الدية. وحكي عن الشعبي أنه يجب
في الأعلى ثلثا دية العين وفي الأسفل ثلثها لأنه أكثر نفعا
ولنا أن كل ذي عدد تجب الدية في جميعه تجب بالحصة في الواحد منه كاليدين والأصابع وما
ذكره يبطل باليمين مع اليسرى والأصابع، وإن قلع العينين بأشفارهما وجبت ديتان لأنهما جنسان
592

تجب الدية بكل واحد منهما منفردا فوجبت باتلافهما جملة ديتان كاليدين والرجلين، وتجب الدية في
أشفار عين الأعمى لأن ذهاب بصر، عيب في غير الأجنان فلم يمنع وجوب الدية فيها كذهاب الشم
لا يمنع وجوب الدية في الانف
(فصل) وتجب في أهداب العينين بمفردها الدية وهو الشعر الذي على الأجفان وفي كل واحد
منها ربعها وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي فيه حكومة
ولنا أن فيها جمالا ونفعا فإنها تقي العينين وترد عنهما وتحسن العين وتجملها فوجبت فيها الدية
كالأجفان وان قطع الأجفان بأهدابها لم يجب أكبر من دية لأن الشعر يزول تبعا لزوال الأجفان
فلم تفرد بضمان كالأصابع إذا قطع اليد وهي عليها
(مسألة) قال (وفي الاذنين الدية) روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال عطاء ومجاهد والحسن وقتادة والثوري والأوزاعي والشافعي
وأصحاب الرأي ومالك في إحدى الروايتين عنه، وقال في الأخرى فيهما حكومة لأن الشرع لم يرد
فيهما بتقدير ولا يثبت التقدير بالقياس
ولنا أن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الاذنين الدية " ولان عمر وعليا قضيا
593

فيهما بالدية، فإن قيل فقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قضى في الاذن بخمسة عشر بعيرا قلنا
لم يثبت ذلك قاله ابن المنذر، ولان ما كان في البدن منه عضوان كان فيهما الدية كاليدين وفي إحداهما
نصف الدية بغير خلاف بين القائلين بوجوب الدية فيهما، ولان كل عضوين وجبت الدية فيهما وجب
في أحدهما نصفها كاليدين، وإن قطع بعض إحداهما وجب بقدر ما قطع من ديتها ففي نصفها نصف
ديتها وفي ربعها وعلى هذا الحساب سواء قطع من أعلى الاذن أو أسفلها أو اختلف في الجمال أو
لم يختلف كما أن الأسنان والأصابع تختلف في الجمال والمنفعة ودياتها سواء
وقد روي عن أحمد رحمه الله في شحمة الأذن ثلث الدية والمذهب الأول وتجب الدية في أذن
الأصم لأن الصم نقص في غير الاذن فلم يؤثر في ديتها كالعمى لا يؤثر في دية الأجفان وهذا قول
الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا
(فصل) فإن جنى على أذنه فاستحشفت واستحشافها كشلل سائر الأعضاء ففيها حكومة وهذا
أحد قولي الشافعي. وقال في الآخر: في ذلك ديتها لأن ما وجبت ديته بقطعه وجبت
بشلله كاليد والرجل.
ولنا أن نفعها باق وبعد استحشافها وجمالها فإن نفعها جمع الصوت ومنع دخول الماء والهوام في
صماخه وهذا باق بعد شللها، فإن قطعها قاطع بعد استحشافها ففيها ديتها لأنه قطع أذنا فيها جمالها ونفعها
فوجبت ديتها كالصحيحة وكما لو قلع عينا عمشاء أو حولاء
594

(مسألة) قال (وفي السمع إذا ذهب من الاذنين الدية)
لا خلاف في هذا. قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على أن في السمع الدية روي ذلك عن
عمر وبه قال مجاهد وقتادة والثوري والأوزاعي وأهل الشام وأهل العراق ومالك والشافعي وابن
المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافا لهم. وقد روي عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وفي السمع الدية "
وروى أبو المهلب عن أبي قلابة أن رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه
فقضى عمر بأربع ديات والرجل حي، ولأنها حاسة تختص بنفع فكان فيها الدية كالبصر، وإن ذهب
السمع من إحدى الاذنين وجب نصف الدية كما لو ذهب البصر من إحدى العينين، وإن قطع أذنه
فذهب سمعه وجبت ديتان لأن السمع في غيرهما فأشبه ما لو قلع أجفان عينيه فذهب بصره بخلاف العين
إذا قلعت فذهب بصره فإن البصر في العين فأشبه البطش الذاهب بقطع اليد
(فصل) وإن اختلفا في ذهاب سمعه فإنه يتغفل ويصاح، به وينظر اضطرابه ويتأمل عند صوت
الرعد والأصوات والمزعجة فإن ظهر منه انزعاج أو التفات أو ما يدل على السمع فالقول قول الجاني مع
يمينه لأن ظهور الامارات يدل على أنه سميع فغلبت جنبة المدعي وحلف لجواز أن يكون ما ظهر منه
595

اتفاقا وإن لم يوجد منه شئ من ذلك فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر أنه غير سميع وحلف لجواز
أن يكون احترز وتصبر، وإن ادعى ذلك في إحداهما سدت الأخرى وتغفل على ما ذكرنا فإن ادعى
نقصان السمع فيهما فلا طريق لنا إلى معرفة ذلك إلا من جهته فيحلفه الحاكم ويوجب حكومة، وإن
ادعى نقصه في أحدهما سددنا العليلة وأطلقنا الصحيحة وأقمنا من يحدثه وهو يتباعد إلى حيث يقول
اني لا أسمع فإذا قال إني لا أسمع غير عليه الصوت والكلام فإن بان أنه يسمع وإلا فقد كذب فإذا
انتهى إلى آخر سماعه قدر المسافة وسد الصحيحة وأطلقت المريضة وحدثه وهو يتباعد حتى يقول
اني لا أسمع فإذا قال ذلك غير عليه الكلام فإن تغيرت صفته لم يقبل قوله وان تتغير صفته حلف
وقبل قوله ومسحت المسافتان ونظر ما نقصت العليلة فوجب بقدره فإن قال إني أسمع العالي ولا
أسمع الخفي فهذا لا يمكن تقديره فتجب فيه حكومة
(فصل) فإن قال أهل الخبرة أنه يرجى عود سمعه إلى مدة انتظر إليها وإن لم يكن لذلك غاية
لم ينتظر، ومتى عاد السمع فإن كان قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعده ردت على ما قلنا في البصر
596

(مسألة) قال (وفي قرع الرأس إذا لم يثبت الشعر الدية وفي شعر اللحية الدية إذا لم
ينبت وفي الحاجبين الدية إذا لم تنبت)
هذه الشعور الثلاثة في كل واحد منها دية. وذكر أصحابنا معا شعرا رابعا وهو أهداب العينين
وقد ذكرناه قبل هذا ففي كل واحد منهما دية وهذا قول أبي حنيفة والثوري. وممن أوجب في
الحاجبين الدية سعيد بن المسيب وشريح والحسن وقتادة، وروي عن علي وزيد بن ثابت أنهما قالا
في الشعر فيه الدية، وقال مالك والشافعي فيه حكومة واختاره ابن المنذر لأنه اتلاف جمال من غير
منفعة فلم تجب فيه الدية كاليد الشلاء والعين القائمة
ولنا أنه أذهب الجمال على الكمال فوجب فيه دية كاملة كاذن الأصم وأنف الأخشم وما ذكروه
ممنوع فال الحاجب يرد العرق عن العين ويفرقه وهدب العين يرد عنها ويصونها فجرى مجرى أجفانها
وينتقض ما ذكروه بالأصل الذي قسنا عليه ويفارق اليد الشلاء فإنه ليس جمالها كاملا
(فصل) وفي أحد الحاجبين نصف الدية لأن كل شيئين فيهما الدية ففي أحدهما نصفها كاليدين
وفي بعض ذلك أو ذهاب شئ من الشعور المذكورة من الدية بقسطه من ديته يقدر بالمساحة كالأذنين
ومارن الانف، ولافرق في هذه الشعور بين كونها كشفية أو خفيفة أو جميلة أو قبيحة أو كونها من
597

صغير أو كبير لأن سائر ما فيه الدية من الأعضاء لا يفترق الحال فيه بذلك وإن أبقى من لحيته مالا
جمال فيه أو من غيرها من الشعور ففيه وجهان
(أحدهما) يؤخذ بالقسط لأنه محل يجب في بعضه بحصته فأشبه الاذن ومارن الانف
(والثاني) تجب الدية كاملة لأنه أذهب المقصود كله فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين، ولان
جنايته ربما أحوجت إلى اذهاب الباقي لزيادته في القبح على ذهاب الكل فتكون جنايته سببا لذهاب
الكل فأوجب ديته كما لو ذهب بسراية الفعل أو كما لو احتاج في دواء شجة الرأس إلى
ما ذهب بضوء عينه. (فصل) ولا تجب الدية في شئ من هذه الشعور الا بذهابه على وجه لا يرجى عوده مثل أن
يقلب على رأسه ماء حارا فتلف منبت الشعر فينقلع بالكلية بحيث لا يعود، وإن رجي عوده إلى مدة
انتظر إليها وان عاد الشعر قبل أخذ الدية لم تجب فإن عاد بعد أخذها ردها والحكم فيه كالحكم في
ذهاب السمع والبصر فيما يرجى عوده وفيما لا يرجى
(فصل) ولا قصاص في شئ من هذه الشعور لأن اتلافها إنما يكون بالجناية على محلها وهو
غير معلوم المقدار فلا تمكن المساواة فيه فلا يجب القصاص فيه
598

(مسألة) قال (وفي المشام الدية)
يعني الشم في اتلافه الدية فإنه حاسة تختص بمنفعة فكان فيها الدية كسائر الحواس ولا نعلم في
هذا خلافا. قال القاضي في كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي المشام الدية " فإن
ادعى ذهاب شمه اغتفلناه بالروائح الطيبة والمنتنة فإن هش للطيب وتنكر للمنتن فالقول قول الجاني
مع يمينه، وإن لم بين منه ذلك فالقول قول المجني عليه كقولهم في اختلافهم في السمع، وإن ادعى
المجني عليه نقص شمه فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك الا من جهته فقبل قوله
فيه كما يقبل قول المرأة في انقضاء عدتها بالأقراء ويجب له من الدية ما تخرجه الحكومة، وإن ذهب
شمه ثم عاد قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعد أخذها ردها لأنا تبينا أنه لم يكن ذهب وإن رجي
عود شمه إلى مدة انتظر إليها، وإن ذهب شمه من أحد منخريه ففيه نصف الدية كما لو ذهب
بصره من إحدى عينيه
(فصل) وفي الانف الدية إذا قطع مارنه بغير خلاف بينهم حكاه ابن عبد البر وابن المنذر
عمن يحفظ عنه من أهل العلم وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي الانف إذا
أوعب جدها
الدية " وفي رواية مالك في الموطأ " إذا أوعي جدعا " يعني إذا استوعب واستؤصل ولأنه عضو فيه جمال
599

ومنفعة ليس في البدن منه إلا شئ واحد فكانت فيه الدية كاللسان، وإنما الدية في مارنه وهو ما
لأن منه هكذا قال الخليل وغيره لأنه يروى عن طاوس أنه قال كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
" في الانف إذا أوعب مارنه جدعا الدية " ولان الذي يقطع فيه ذلك فانصرف الخبر إليه فإن قطع
بعضه ففيه بقدره من الدية يمسح ويعرف قدر ذلك منه كما قلنا في الاذنين، وقد روي هذا عن
عمر بن عبد العزيز والشعبي والشافعي، وان قطع أحد المنخرين ففيه ثلث الدية وفي المنخرين ثلثاها
وفي الحاجز بينهما الثلث قال أحمد في الوترة (1) الثلث وفي الحرمة في كل واحد منهما الثلث، وبهذا
قال إسحاق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء من جنس فتوزعت
الدية على عددها كسائر ما فيه عدد من جنس من اليدين والأصابع والأجفان الأربعة، وحكى أبو
الخطاب وجها آخر ان في المنخرين الدية وفي الحاجز بينهما حكومة لقول احمد في كل زوجين من
الانسان الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن المنخرين ليس في البدن لهما ثالث فأشبها
اليدين ولأنه بقطع المنخرين اذهب الجمال كله والمنفعة فأشبه قطع اليدين، فعلى هذا الوجه في قطع
أحد المنخرين نصف الدية وان قطع معه الحاجز ففيه حكومة وان قطع نصف الحاجز أو أقل
أو أكثر لم يزد على حكومة وعلى الأول في قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز نصف الدية
وفي قطع جميعه مع المنخر ثلثا الدية، وفي قطع جزء من الحاجز أو أحد المنخرين بقدره من ثلث

(1) هي حجاب بين المنخرين
600

الدية يقدر بالمساحة فإن شق الحاجز بين المنخرين ففيه حكومة فإن بقي منفرجا فالحكومة فيه أكثر
(فصل) وان قطع المارن مع القصبة ففيه الدية في قياس المذهب وهذا مذهب مالك ويحتمل أن
تجب الدية في المارن وحكومة في القصبة وهذا مذهب الشافعي لأن المارن وحده موجب للدية فوجبت
الحكومة في الزائد كما لو قطع القصبة وحدها مع قطع لسانه
ولنا قوله عليه السلام " في الانف إذا أوعب جدعا الدية " ولأنه عضو واحد فلم يجب به أكثر
من دية كالذكر إذا قطع من أصله وما ذكروه يبطل بهذا ويفارق ما إذا قطع لسانه وقصبته لأنهما عضوان
فلا تدخل دية أحدهما في الآخر، وأما العضو الواحد فلا يبعد أن يجب في جميعه ما يجب في بعضه
كالذكر تجب في حشفته الدية التي تجب في جميعه وأصابع اليد يجب فيها ما يجب في اليد من الكوع
وكذلك أصابع الرجل وفي الثدي كله ما في حلمته فأما ان قطع الأنف وما تحته من اللحم ففي اللحم
حكومة لأنه ليس من الانف فأشبه ما لو قطع الذكر واللحم الذي تحته
(فصل) فإن ضرب أنفه فأشله ففيه حكومة وإن قطعه قاطع بعد ذلك ففيه ديته كما قلنا في الاذن
وقول الشافعي ههنا كقوله في الاذن على ما مضى شرحه وتبيانه وان ضربه فعوجه أو غير لونه ففيه
601

حكومة في قولهم جميعا وفي قطعه بعد ذلك دية كاملة وان قطعه الا جلدة بقي معلقا بها فلم يلتحم واحتيج
إلى قطعه ففيه دية لأنه قطع جميعه بعضه بالمباشرة وباقيه بالتسبب فأشبه ما لو سرى قطع بعضه
إلى قطع جميعه وان رده فالتحم ففيه حكومة لأنه لم يبن وإن أبانه فرده فالتحم فقال أبو بكر ليس
فيه إلا حكومة كالتي قلبها، وقال القاضي فيه دية وهذا مذهب الشافعي لأنه أبان أنفه فلزمته
ديته كما لو لم يلتحم ولان ما أبين قد نجس فلزمه أن يبينه بعد التحامه ومن قال بقول أبي بكر
منع نجاسته ووجوب إبانته لأن أجزاء الآدمي كجملته بدليل سائر الحيوانات وجملته
طاهرة وكذلك أجزاؤه.
(فصل) وان قطع أنفه فذهب شمه فعليه ديتان لأن الشم في غير الانف فلا تدخل دية أحدهما
في الآخر كالسمع مع الاذن والبصر مع أجفان العينين والنطق مع الشفتين وان قطع أنف الأخشم
وجبت ديته لأن ذلك عيب في غير الانف فأشبه ما ذكرنا
" مسألة " قال (وفي الشفتين الدية)
لا خلاف بين أهل العلم أن في الشفتين الدية وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم
" وفي الشفتين الدية " ولأنهما عضوان ليس في البدن مثلهما فيهما جمال ظاهر ومنفعة كاملة فإنهما طبق
602

على الفم تقيانه ما يؤذيه ويستران الأسنان ويردان الريق وينفخ بهما ويتم بهما الكلام فإن فيهما
بعض مخارج الحروف فتجب فيهما الدية كاليدين والرجلين وظاهر المذهب أن في كل واحدة منهما نصف
الدية، وروي هذا عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما واليه ذهب أكثر الفقهاء وروي عن أحمد
رحمه الله رواية أخرى أن في العليا ثلث الدية وفي السفلى الثلثين، لأن هذا يروى عن زيد بن ثابت
وبه قال سعيد بن المسيب والزهري، ولان المنفعة بهما أعظم لأنها التي تدور وتتحرك وتحفظ الريق
والطعام والعليا ساكنة لا حركة فيها.
ولنا قول أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، ولان كل شيئين وجبت فيهما الدية وجب في أحدهما
نصفها كسائر الأعضاء، ولان كل ذي عدد وجبت فيه الدية سوي بين جميعه فيها كالأصابع والأسنان
ولا اعتبار بزيادة النفع بدليل ما ذكرنا من الأصل
(فصل) فإن ضربهما فأشلهما وجبت ديتهما لأنه أتلف منفعتهما فوجبت ديتهما كما لو أشل يديه
وان تقلستا فلم تنطبقا على الأسنان أو استرختا فصارتا لا تنفصلان عن الأسنان ففيهما الدية لأنه عطل
منفعتهما وجمالهما وإن تقلستا بعض التقليس وجبت الحكومة، لأن منافعهما لم تبطل بالكلية
(فصل) حد الشفة السفلى من أسفل ما تجافى عن الأسنان واللثة مما ارتفع عن جلدة الذقن
وحد العليا من فوق ما تجافى عن الأسنان واللثة إلى اتصاله بالمنخرين والحاجز، وحدهما طولا طول الفم
إلى حاشية الشدقين وليست حاشية الشدقين منهما
603

(مسألة) قال (وفي اللسان المتكلم به الدية)
أجمع أهل العلم على وجوب الدية في لسان الناطق وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن
مسعود رضي الله عنهم وبه قال أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الرأي وأصحاب الحديث وغيرهم
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي اللسان الدية " ولان فيه جمالا ومنفعة فأشبه الانف
فأما الجمال فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الجمال فقال " في اللسان " ويقال جمال الرجل
في لسانه والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ويقال ما الانسان لولا اللسان الا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة
وأما النفع فإن به تبلغ الأغراض وتستخلص الحقوق وتدفع الآفات وتقضي به الحاجات وتتم
العبادات في القراءة والذكر والشكر والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم والدلالة على الحق
المبين والصراط المستقيم وبه يذوق الطعام ويستعين في مضغه وتقلبه وتنقية الفم وتنظيفه فهو أعظم
الأعضاء نفعا وأتمها جمالا فايجاب الدية في غيره تنبيه على إيجابها فيه وإنما تجب الدية في لسان
الناطق فإن كان أخرس لم تجب فيه دية كاملة بغير خلاف لذهاب نفعه المقصود منه كاليد
الشلاء والعين القائمة.
(فصل) وفي الكلام الدية فإذا جنى عليه فخرس وجبت ديته، لأن كل ما تعلقت الدية باتلافه
تعلقت باتلاف منفعته كاليد فأما ان جنى عليه فأذهب ذوقه فقال أبو الخطاب فيه الدية، لأن الذوق
604

حاسة فأشبه الشم، وقياس المذهب أنه لا دية فيه فإنه لا يختلف في أن لسان الأخرس لا تجب فيه
الدية، وقد نص أحمد رحمه الله على أن فيه ثلث الدية ولو وجب في الذوق دية لوجبت في ذهابه مع
ذهاب اللسان بطريق الأولى واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال قد نص الشافعي على وجوب الدية فيه
ومنهم من قال لا نص له فيه ومنهم من قال قد نص على أن في لسان الآخر حكومة وان ذهب الذوق بذهابه
والصحيح إن شاء الله أنه لا دية فيه لأن في إجماعهم على أن لسان الأخرس لا تكمل الدية فيه إجماعا على أنها
لا تكمل في ذهاب الذوق بمفرده لأن كل عضو لا تكمل الدية فيه بمنفعته لا تكمل بمنفعته دونه كسائر الأعضاء
ولا تفريع على هذا القول فاما على الأول فإذا ذهب ذوقه كله ففيه دية كاملة، وان نقص نقصا
غير مقدر بأن يحس المذاق كله الا أنه لا يدركه على الكمال ففيه حكومة كما لو نقص بصره نقصا
لا يتقدر وإن كان نقصا يتقدر بأن لا يدرك بأحد المذاق الخمس وهي الحلاوة والمرارة والحموضة
والملوحة والعذوبة ويدرك بالباقي ففيه خمس الدية وفي اثنتين خمساها وفي ثلاث ثلاثة أخماسها، وان لم
يدرك بواحدة ونقص الباقي فعليه خمس الدية وحكومة لنقص الباقي، وان قطع لسان أخرس فذهب
ذوقه ففيه الدية لاتلافه الذوق وان جنى على لسان ناطق فأذهب كلامه وذوقه ففيه ديتان وان قطعه
فذهبا معا ففيه دية واحدة لأنهما يذهبان تبعا لذهابه فوجبت ديته دون ديتهما كما لو قتل انسانا لم تجب الا
دية واحدة ولو ذهبت منافعه مع بقائه ففي كل منفعة دية
605

(فصل) وان ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدر ما ذهب يعتبر ذلك بحروف المعجم
وهي ثمانية وعشرون حرفا سوى لا فإن مخرجها مخرج اللام والألف فمهما نقص من الحروف وجب
من الدية بقدره لأن الكلام يتم بجميعها فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره من
الكلام ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية، وفي الحرفين نصف سبعها، وفي الأربعة سبعها ولا فرق
بين ما خف من الحروف على اللسان وما ثقل لأن كل ما وجب فيه المقدر لم يختلف لاختلاف قدره
كالأصابع، ويحتمل أن تقسم الدية على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفة وهي أربعة الباء
والميم والفاء والواو دون حروف الحلق الستة الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين فهذه عشرة
بقي ثمانية عشر حرفا للسان تنقسم ديته عليها لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف
وحدها مع بقائه فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها بقسطه منها ففي الواحد نصف تسع
الدية وفي الاثنين تسعها وفي الثلاثة سدسها وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وان جنى على شفته
فذهب بعض الحروف وجب فيه بقدره وكذلك أن ذهب بعض حروف الحلق بجنايته وينبغي
أن تجب بقدره من الثمانية والعشرين وجها واحدا وان ذهب حرف فعجز عن كلمة لم يجب غير
أرش الحرف لأن الضمان إنما يجب لما تلف، وان ذهب حرف فأبدل مكانه حرفا آخر كأنه يقول
درهم فصار يقول دلهم أو دعهم أو ديهم فعليه ضمان الحرف الذاهب لأن ما تبدل لا يقوم مقام الذاهب
606

في القراءة ولا غيرها فإن جنى عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضا لأنه أصل وان لم يذهب شئ
من الكلام لكن حصلت فيه عجلة أو تمتمة أو فأفأة فعليه حكومة لما حصل من النقص والشين ولم
تجب الدية لأن المنفعة باقية وان جنى على جان آخر فأذهب كلامه ففيه الدية كاملة كما لو جنى على
عينه جان فعمشت ثم جنى عليها آخر فذهب ببصرها، وان أذهب الأول بعض الحروف وأذهب
الثاني بقية الكلام فعلى كل واحد منهما بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى العينين وذهب
الآخر ببصر الأخرى وإن كان ألثغ من غير جناية عليه فذهب انسان بكلامه كله فإن كان مأيوسا
من زوال لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف وإن كان غير مأيوس من زوالها كالصبي ففيه الدية كاملة
لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته بالتعليم
(فصل) إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه فإن استويا مثل أن يقطع ربع لسانه فيذهب
ربع كلامه وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما لو قلع إحدى عينيه فذهب بصرها، وان ذهب
من أحدهما أكثر من الاخر كأن قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه أو قطع نصف لسانه فذهب
ربع كلامه وجب بقدر الأكثر وهو نصف الدية في الحالين لأن كل واحد من اللسان والكلام
مضمون بالدية منفردا فإذا انفرد نصفه بالذهاب وجب النصف ألا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام
ولم يذهب من اللسان شئ وجب نصف الدية ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شئ وجب
607

نصف الدية، وان قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب نصف الدية فإن قطع آخر بقية اللسان
فذهبت بقية الكلام ففيه ثلاثة أوجه
(أحدهما) عليه نصف الدية هذا قول القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن السالم
نصف اللسان وباقيه أشل بدليل ذهاب نصف الكلام (والثاني) عليه نصف الدية وحكومة للربع
الأشل لأنه لو كان جميعه أشل لكانت فيه حكومة أو ثلث الدية فإذا كان بعضه أشل ففي ذلك البعض
حكومة أيضا (الثالث) عليه ثلاثة أرباع الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه قطع ثلاثة أرباع
لسانه فذهب ربع كلامه فوجبت عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو قطعه أولا ولا يصح القول بأن بعضه أشل لأن
العضو متى كان فيه بعض النفع لم يكن بعضه أشل كالعين إذا كان بصرها ضعيفا واليد إذا كان بطشها ناقصا
وان قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه نصف ديته فإن قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع الدية
وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر عليه نصف الدية لأنه لم يقطع الا نصف لسانه
ولنا أنه ذهب ثلاثة أرباع الكلام فلزمه ثلاثة أرباع ديته كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام
بقطع نصف اللسان الأول ولأنه لو أذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمه ثلاثة أرباع الدية
فلان تجب بقطع نصف اللسان في الأول أولى ولو لم يقطع الثاني نصف اللسان لكن جنى عليه جناية أذهب
بقية كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة أرباع ديته لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه
ثلاثة أرباع الدية كما لو جنى على صحيح فذهب بثلاثة أرباع كلامه مع بقاء لسانه
608

(فصل) وإذا قطع بعض لسانه عمدا فاقتص المجني عليه من مثل ما جنى عليه به فذهب من
كلام الجاني مثل ما ذهب من كلام المجني عليه وأكثر فقد استوفى حقه ولا شئ في الزائد لأنه
من سراية القود وسراية القود غير مضمونة، وان ذهب أقل فللمقتص دية ما بقي لأنه
لم يستوف بدله.
(فصل) وإذا قطع لسان صغير لم يتكلم لطفوليته وجبت ديته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
لا تجب لأنه لسان لا كلام فيه فلم يجب فيه دية كلسان الأخرس
ولنا أن ظاهره السلامة وإنما لم يتكلم لأنه لا يحسن الكلام فوجبت به الدية كالكبير، ويخالف
الأخرس انه علم أنه أشل الا ترى ان أعضاءه لا يبطش بها وتجب فيها الدية؟ وان بلغ حدا يتكلم
مثله فلم يتكلم فقطع لسانه لم تجب فيه الدية لأن الظاهر أنه لا يقدر على الكلام ويجب فيه ما يجب
609

في لسان الأخرس، وان كبر فنطق ببعض الحروف وجب فيه بقدر ما ذهب من الحروف لأننا تبينا
أنه كان ناطقا، وإن كان قد بلغ إلى حد يتحرك بالبكاء وغيره فلم يتحرك فقطعه قاطع فلا دية
فيه لأن الظاهر أنه لو كان صحيحا لتحرك وان لم يبلغ إلى حد يتحرك ففيه الدية لأن الظاهر
سلامته، وان قطع لسان كبير وادعى أنه كان أخرس ففيه مثل ما ذكرنا فيما إذا اختلفا في شلل العضو
المقطوع على ما ذكرناه فيما مضى
(فصل) وان جنى عليه فذهب كلامه أو ذوقه ثم عاد لم تجب الدية لأننا تبينا أنه لم يذهب ولو
ذهب لم يعد وإن كان قد اخذ الدية ردها وان قطع لسانه فعاد لم تجب الدية أيضا وإن كان قد أخذها
ردها قاله أبو بكر وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرد الدية لأن العادة لم تجر بعوده واختصاص هذا
بعوده يدل على أنه هبة مجددة.
ولنا انه عاد ما وجبت فيه الدية فوجب رد الدية كالأسنان وسائر ما يعود وان قطع انسان نصف
لسانه فذهب كلامه كله ثم قطع آخر بقيته فعاد كلامه لم يجب رد الدية لأن الكلام الذي كان
باللسان قد ذهب ولم يعد إلى اللسان وإنما عاد في محل آخر بخلاف التي قبلها، وان قطع لسانه فذهب
كلامه ثم عاد اللسان دون الكلام لم يرد الدية لأنه قد ذهب ما تجب الدية فيه بانفراده وان عاد كلامه
دون لسانه لم يردها أيضا لذلك
610

(فصل) وإذا كان للسانه طرفان فقطع أحدهما فذهب كلامه ففيه الدية لأن ذهاب الكلام
بمفرده يوجب الدية وان ذهب بعض الكلام نظرت فإن كان الطرفان متساويين وكان ما قطعه بقدر
ما ذهب من الكلام وجب وإن كان أحدهما أكبر وجب الأكثر على ما مضى، وان لم يذهب من
الكلام شئ وجب بقدر ما ذهب من اللسان من الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان
فهو خلقة زائدة وفيه حكومة وان قطع جميع اللسان وجبت الدية، من غير زيادة سواء كان الطرفان
متساويين أو مختلفين وقال القاضي ان كانا متساويين ففيهما الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان
وجبت الدية وحكومة في الخلقة الزائدة.
ولنا أن هذه الزيادة عيب ونقص يرد بها المبيع وينقص من ثمنه فلم يجب فيها شئ كالسلعة
في اليد وربما عاد القولان إلى شئ واحد، لأن الحكومة لا يخرج بها شئ إذا كانت الزيادة عيبا
(مسألة) قال (وفي كل سن خمس من الإبل إذا قامت ممن قد أنغر والأضراس
والأنياب كالأسنان)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الأسنان خمس خمس في كل سن، وقد روي ذلك عن عمر
611

ابن الخطاب وابن عباس ومعاوية وسعيد بن المسيب وعروة وعطاء وطاوس والزهري وقتادة ومالك
والثوري والشافعي وإسحاق وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم
" في السن خمس من الإبل " رواه النسائي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" في الأسنان خمس خمس " رواه أبو داود، فأما الأضراس والأنياب فأكثر أهل العلم على أنها
مثل الأسنان منهم عروة وطاوس وقتادة والزهري ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو
حنيفة ومحمد بن الحسن وروي ذلك عن ابن عباس ومعاوية وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى
في الأضراس ببعير بعير وعن سعيد بن المسيب أنه قال لو كانت أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين
فتلك الدية سواء، وروى ذلك مالك في موطئه وعن عطاء نحوه وحكي عن أحمد رواية أن
في جميع الأسنان والأضراس الدية فيتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد للاجماع على أن
في كل سن خمسا من الإبل وورد الحديث به فيكون في الأسنان ستون بعيرا، لأن فيه اثني عشر
سنا أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربعة أنياب فيها خمس خمس وفيه عشرون ضرسا في كل جانب
عشرة خمسة من فوق وخمسة من أسفل فيكون فيها أربعون بعيرا في كل ضرس بعيران فتكمل
الدية وحجة من قال هذا أنه ذو عدد يجب فيه الدية فلم تزد ديته على دية الانسان كالأصابع والأجفان
وسائر ما في البدن ولأنها تشتمل على منفعة جنس فلم تزد ديتها على الدية كسائر منافع الجنس ولان
612

الأضراس تختص بالمنفعة دون الجمال والأسنان فيها منفعة وجمال فاختلفا في الأرش.
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الأصابع سواء والأسنان سواء
الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء " وهذا نص وقوله في الأحاديث المتقدمة " في الأسنان خمس خمس "
ولم يفصل يدخل في عمومها الأضراس لأنها أسنان ولان كل دية وجبت في جملة كانت مقسومة
على العدد دون المنافع كالأصابع والأجفان والشفتين وقد أومأ ابن عباس إلى هذا فقال لا اعتبرها بالأصابع
فأما ما ذكروه من المعنى فلابد من مخالفة القياس فيه ممن ذهب إلى قولنا خالف المعنى الذي ذكروه
ومن ذهب إلى قولهم خالف التسوية الثابتة بقياس سائر الأعضاء من جنس واحد فكان ما ذكرناه
مع موافقة الاخبار وقول أكثر أهل العلم أولى، وأما على قول عمر إن في كل ضراس بعيرا فيخالف
القياسين جميعا والاخبار فإنه لا يوجب الدية الكاملة وإنما يوجب ثمانين بعيرا ويخالف بين الأعضاء
المتجانسة، وإنما يجب هذا الضمان في سن من قد ثغر وهو الذي أبدل أسنانه وبلغ حدا إذا قلعت
سنه لم يعد بدلهما، يقال ثغر وأثغر واتغر إذا كان كذلك، فأما سن الصبي الذي لم يثغر فلا يجب بقلعها
في الحال شئ هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه خلافا وذلك لأن العادة عود
سنه فلم يجب فيها في الحال شئ كنتف شعره لكن ينتظر عودها فإن مضت مدة ييئس من عودها
وجبت ديتها قال أحمد يتوقف سنة لأنه الغالب في نباتها.
613

وقال القاضي إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت الدية وان نبت مكانها أخرى لم تجب
ديتهما كما لو نتف شعره فعاد مثله لكن ان عادت قصيرة أو مشوهة ففيها حكومة لأن الظاهر أن ذلك
سبب الجناية عليها فإن أمكن تقدير نقصها عن نظيرتها ففيها من ديتها بقدر ما نقص، وكذلك أن
كانت فيها ثلمة أمكن تقديرها ففيها بقدر ما ذهب منها كما لو كسر من سنه ذلك القدر وان نبتت
أكبر من أخواتها ففيها حكومة لأن ذلك عيب وقيل فيها وجه آخر لا شئ فيها لأن هذا زيادة
والصحيح الأول لأن ذلك شين حصل بسبب الجناية فأشبه نقصها وان نبتت مائلة عن صف الأسنان
بحيث لا ينتفع بها ففيها ديتها لأن ذلك كذهابها وان كانت ينتفع بها ففيها حكومة للشين الحاصل بها
ونقص نفعها وان نبتت صفراء أو حمراء أو متغيرة ففيها حكومة لنقص جمالها، وان نبتت سوداء
أو خضراء ففيها روايتان حكاهما القاضي
(إحداهما) فيها ديتها (والثانية) فيها حكومة كما لو سودها من غير قلعها، وان مات الصبي
قبل اليأس من عود سنه ففيها وجهان
(أحدهما) لا شئ له لأن الظاهر أن لو عاش لعادت فلم يجب فيها شئ كما لو نتف شعره
(والثاني) فيها الدية لأنه قلع سنا وأيس من عودها فوجبت ديتها كما لو مضى زمن تعود في مثله
فلم تعد، وان قلع سن من قد ثغر وجبت ديتها في الحال لأن الظاهر أنها تعود فإن عادت لم تجب
614

الدية وإن كان قد أخذها ردها. وبهذا قال أصحاب الرأي، وقال مالك: لا يرد شيئا لأن العادة
أنها، تعود فمتى عادت كانت هبة من الله تعالى مجددة فلا يسقط بذلك ما وجب له بقلع سنه
وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا انه عادله في مكانها مثل التي قلعت فلم يجب له شئ كالذي لم يثغر، وان عادت ناقصة أو
مشوهة فحكمها حكم سن الصغير إذا عادت على ما ذكرنا، ولو قلع سن من لم يثغر فمضت مدة ييئس
من عودها وحكم بوجوب الدية فعادت بعد ذلك سقطت الدية وردت إن كانت أخذت كسن
الكبير إذا عادت
(فصل) وتجب دية السن فيما ظهر منها من اللثة لأن ذلك هو المسمى سنا وما في اللثة منها
يسمى سنخا فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السنخ ففي السن ديتها وفي السنخ حكومة كما لو قطع
انسان أصابع، رجل ثم قطع آخر كفه، وان قلعها الآخر بسنخها لم يجب فيها أكثر من ديتها كما
لو قطع اليد من كوعها، وان فهل ذلك في مرتين فكسر السن ثم عاد فقلع السنخ فعليه ديتها وحكومة
لأن ديتها وجبت بالأول ثم وجب عليه بالثاني حكومة كما لو فعله غيره، وكذلك لو قطع الأصابع ثم
قطع الكف، وان كسر بعض الظاهر ففيه من دية السن بقدره، وإن كان ذهب النصف وجب
نصف الأرش وإن كان الذاهب الثلث وجب الثلث، وإن جاء آخر فكسر بقيتها فعليه بقية الأرش
615

فإن قلع بقيتها بسنخها نظرنا فإن كان الأول كسرها عرضا فليس على الثاني للسنخ شئ لأنه
تابع لما قلعه من ظاهر السن فصار كما لو قطع الأول من كل أصبع من أصابعه أنملة ثم قطع الثاني يده
من الكوع، وإن كان الأول كسر نصف السن طولا دون سنخه فجاء الثاني فقطع الباقي بالسنخ كله
فعليه دية النصف الباقي وحكومة لنصف السنخ الذي بقي لما كسره الأول كما لو قطع الأول إصبعين
من يد ثم جاء الثاني فقطع الكف كله، فإن اختلف الثاني والمجني عليه فيما قلعه الأول فالقول قول المجني
عليه لأن الأصل سلامة السن، وان انكشفت اللثة عن بعض الس فالدية في قدر الظاهر عادة دون
ما انكشف على خلاف العادة، وإن اختلفا في قدر الظاهر اعتبر ذلك بأخواتها فإن لم يكن لها شئ يعتبر
به ولم يكن أن يعرف ذلك أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته
(فصل) وإن قلع سنا مضطربة لكبر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ وضغط الطعام
والريق وجبت ديتها وكذلك إن ذهب بعض منافعها وبقي بعضها لأن جمالها وبعض منافعها باق فكمل
ديتها كاليد المريضة ويد الكبير، وإن ذهبت منافعها كلها فهي كاليد الشلاء على ما سنذكره إن شاء الله
تعالى، وان قلع سنا فيها داء أو آكلة فإن لم يذهب شئ من أجزائها وجب فيها دية السن الصحيحة
لأنها كاليد المريضة وإن سقط من أجزائها شئ سقط من ديتها بقدر الذاهب منها ووجب الباقي،
وإن كان إحدى ثنيتيه قصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها كما لو نقصت بكسرها
616

(فصل) فإن جنى على سنه جان فاضطربت وطالت عن الأسنان وقيل إنها تعود إلى مدة إلى
ما كانت عليه انتظرت إليها فإن ذهبت وسقطت وجبت ديتها وان عادت كما كانت فلا شئ فيها
كما لو جنى على يده فمرضت ثم برأت، وان بقي فيها اضطراب ففيها حكومة، وان قلعها قالع فعليه
ديتها كاملة كما ذكرنا في الفصل الذي قبله وعلى الأول حكومة لجناية وان مضت المدة ولم تعد إلى ما كانت
عليه ففيها حكومة وان قلعها قالع فعليه ديتها كما ذكرنا وان قالوا يرجى عودها من غير تقدير مدة وجبت
الحكومة فيها لئلا يفضي إلى اهدار الجناية فإن عادت سقطت الحكومة لما ذكرنا في غيرها
(فصل) فإن قلع قالع سنه فردها صاحبها فنبتت في موضعها لم تجب ديتها نص عليه أحمد في
رواية جعفر بن محمد وهذا قول أبي بكر وعلى قول القاضي تجب ديتها وهو مذهب الشافعي، وقد
ذكرنا توجيههما فيما إذا قطع أنفه فرده فالتحم فعلى قول أبي بكر يجب فيها حكومة لنقصها ان نقصت
أو ضعفها ان ضعفت، وان قلعها قالع بعد ذلك وجبت ديتها لأنها سن ذات جمال ومنفعة فوجبت
ديتها كما لو لم تنقلع، وعلى قول القاضي ينبني حكمها على وجوب قلعها فإن قلنا يجب قلعها فلا شئ
على قالعها لأنه قد أحسن بقلعه ما يجب قلعه وان قلنا لا يجب قلعها احتمل أن يؤخذ بديتها لما ذكرنا
واحتمل أن لا يؤخذ بديتها لأنه قد وجبت له ديتها مرة فلا تجب ثانية ولكن فيها حكومة فاما ان
جعل مكانها سنا أخرى أو سن حيوان أو عظما فنبتت وجب ديتها وجها واحدا لأن سنه ذهبت
617

بالكلية فوجبت ديتها كما لو لم يجعل مكانها شيئا وان قلعت هذه الثانية لم تجب ديتها لأنها ليست
سنا له ولا هي من بدنه ولكن يجب فيها حكومة لأنها جناية أزالت جماله ومنفعته فأشبه ما لو خاط جرحه
بخيط فالتحم فقلع أسنان الخيط فانفتح الجرح وزال التحامه ويحتمل أن لا يجب شئ لأنه أزال ما ليس من
بدنه أشبه ما لو قلع الانف الذهب الذي جعله المجدوع مكان أنفه
(فصل) وان جنى على سنه فسودها فحكي عن أحمد رحمه الله في ذلك روايتان (إحداهما)
تجب ديتها كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي ويروى هذا عن زيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب
والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنخعي ومالك والليث وعبد العزيز
ابن أبي سلمة والثوري وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي
(والرواية الثانية) عن أحمد أنه ان أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها وان لم يذهب
نفعها ففيها حكومة وهذا قول القاضي والقول الثاني للشافعي وهو المختار عند أصحابه لأنه لم يذهب
بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرت
ولنا أنه قول زيد بن ثابت ولم يعرف له مخالف في الصحابة فكان إجماعا ولأنه أذهب الجمال
على الكمال فكملت ديتها كما لو قطع أذن الأصم وأنف الأخشم فاما ان اصفرت أو احمرت لم تكمل
ديتها لأنه لم يذهب الجمال على الكمال وفيها حكومة وان اخضرت احتمل أن يكون كتسويدها
لأنه يذهب بجمالها واحتمل أن لا يجب فيها إلا حكومة، لأن ذهاب جمالها بتسويدها أكثر فلم
يلحق به غيره كما لو حمرها فعلى قول من أوجب ديتها متى قلعت بعد تسويدها ففيها ثلث ديتها
أو حكومة على ما سنذكره فيما بعد وعلى قول من لم يوجب فيها إلا حكومة يجب في قلعها ديتها كما لو صفرها
(فصل) وان جنى على سنه فذهبت حدتها وكلت ففي ذلك حكومة وعلى قالعها بعد ذلك
618

دية كاملة لأنها سن صحيحة كاملة فكملت ديتها كالمضطربة وان ذهب منها جزء ففي الذاهب بقدره
وان قلعها قالع نقص من ديتها بقدر ما ذهب كما لو كسر منها جزء
(فصل) وفي اللحيين الدية وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى لأن فيهما نفعا وجمالا
وليس في البدن مثلهما فكانت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان وفي أحدهما نصفها كالواحد
مما في البدن منه شيئان وان قلعهما بما عليهما من الأسنان وجبت عليه ديتهما ودية الأسنان ولم تدخل
دية الأسنان في ديتهما كما تدخل دية الأصابع في دية الوجه لوجوه ثلاثة:
(أحدهما) ان الأسنان مغروزة في اللحيين غير متصلة بهما بخلاف الأصابع (والثاني) ان كل
واحد من اللحيين والأسنان ينفرد باسمه ولا يدخل أحدهما في اسم الآخر بخلاف الأصابع والكف
فإن اسم اليد يشملهما (والثالث) ان اللحيين توجدان قبل وجود الأسنان في الخلقة وتبقيان بعد
ذهابها في حق الكبير ومن تقلعت أسنانه عادة بخلاف الأصابع والكف
619

(مسألة) قال (وفي اليدين الدية)
أجمع أهل العلم على وجوب الدية في اليدين ووجوب نصفها في إحداهما، وروي عن معاذ بن
جبل رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " وفي اليدين الدية وفي الرجلين الدية " وفي كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي اليد خمسون من الإبل " ولان فيها جمالا ظاهرا ومنفعة كاملة وليس في
البدن من جنسهما غيرهما فكان فيهما الدية كالعينين واليد التي تجب فيها الدية من الكوع لأن اسم
اليد عند الاطلاق ينصرف إليها بدليل أن الله تعالى لما قال (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) كان
الواجب قطعهما من الكوع وكذلك التيمم يجب فيه مسح اليدين إلى الكوع فإن قطع يده من
فوق الكوع مثل أن يقطعها من المرفق أو نصف الساعد فليس عليه إلا دية اليد نص عليه احمد
في رواية أبي طالب وهذا قول عطاء وقتادة والنخعي وابن أبي ليلى ومالك وهو قول بعض أصحاب
الشافعي. وظاهر مذهبه عند أصحابه أنه يجب مع دية اليد حكومة لما زاد لأن اسم اليد لها إلى
الكوع، ولان المنفعة المقصود في اليد من البطش والاخذ والدفع بالكف وما زاد تابع للكف
والدية تجب في قطعها من الكوع بغير خلاف فتجب في الزائد حكومة كما لو قطعه بعد قطع الكف
قال أبو الخطاب وهذا قول القاضي
620

ولنا أن اليد اسم للجميع إلى المنكب بدليل قوله تعالى (وأيديكم إلى المرافق) ولما نزلت آية
التيمم مسحت الصحابة إلى المناكب، وقال ثعلب اليد إلى المنكب وفي عرف الناس أن جميع ذلك
يسمى يدا فإذا قطعها من فوق الكوع فما قطع الا يدا فلا يلزمه أكثر من ديتها، فأما قطعها في
السرقة فلان المقصود يحصل به وقطع بعض الشئ يسمى قطعا له كما يقال قطع ثوبه إذا قطع جانبا منه
وقولهم إن الدية تجب في قطعها من الكوع قلنا وكذلك تجب بقطع الأصابع منفردة ولا يجب بقطعها
من الكوع أكثر مما يجب في قطع الأصابع والذكر يجب في قطعه من أصله مثل ما يجب بقطع حشفته
فأما إذا قطع اليد من الكوع ثم قطعها من المرفق وجب في المقطوع ثانيا حكومة لأنه وجبت عليه
دية اليد بالقطع الأول فوجبت بالثاني حكومة كما لو قطع الأصابع ثم قطع الكف أو قطع حشفة الذكر
ثم قطع بقيته أو كما لو فعل ذلك اثنان.
(فصل) فإن جنى عليها فأشلها وجبت عليه ديتها لأنه فوت منفعتها فلزمته ديتها كما لو أعمى
عينه مع بقائها أو أخرس لسانه، وإن جنى على يده فعوجها أو نقص قوتها أو شانها فعليه حكومة
لنقصها، وإن كسرها ثم انجبرت مستقيمة وجبت حكومة لشينها ان شانها ذلك وإن عادت معوجة
فالحكومة أكثر لأن شينها أكثر، وإن قال الجاني أنا أكسرها ثم أجبرها مستقيمة لم يمكن من ذلك
لأنها جناية ثانية، فإن كسرها تعديا ثم جبرها فاستقامت لم يسقط ما وجب من الحكومة في اعوجاجها
621

لأن ذلك استقر حين انجبرت عوجاء وهذه جناية ثانية والجبر الثاني لها دون الأولى ولا يشبه هذا ما إذا
ذهب ضوء عينه ثم عاد لأننا تبينا أن الضوء لم يذهب وإنما حال دونه حائل وههنا بخلافه وتجب الحكومة
في الكسر الثاني لأنها جناية ثانية ويحتمل أن لا تجب لأنه أزال ضرر العوج منها فكان نفعا فأشبه
ما لو جنى عليه بقطع سلعة أزالها عنه
(فصل) فإن كان له كفان في ذراع أو يدان على عضد وإحداهما باطشة دون الأخرى أو إحداهما
أكثر بطشا أو في سمت الذراع والأخرى منحرفة عنه أو إحداهما تامة والأخرى ناقصة فالأولى
هي الأصلية والأخرى زائدة ففي الأصلية ديتها والقصاص بقطعها عمدا والأخرى زائدة فيها حكومة
سواء قطعها مفردة أو قطعها مع الأصلية، وعلى قول ابن حامد لا شئ فيها لأنها عيب فهي كالسلعة
في اليد وان استويا من كل الوجوه فإن كانتا غير باطشتين ففيهما ثلث دية اليد أو حكومة ولا تجب
دية اليد كاملة لأنهما لا نفع له فيهما فهما كاليد الشلاء وان كانتا باطشتين ففيهما جميعا دية اليد وهل تجب حكومة
مع ذلك؟ على وجهين بناء على الزائدة هل فيها حكومة أم لا؟ وان قطع إحداهما فلا قود لاحتمال أن تكون
هي الزائدة فلا تقطع الأصلية بها وفيها نصف ما فيهما إذا قطعتا لتساويهما وان قطع أصبعا من أحديهما
وجب أرش نصف إصبع وفي الحكومة وجهان وان قطع ذو اليد التي لها طرفان يدا مفردة وجب القصاص
فيهما على قول ابن حامد، لأن هذا نقص لا يمنع القصاص كالسلعة في اليد وعلى قول غيره لا يجب لئلا يأخذ
يدين بيد واحدة ولا تقطع إحداهما لأنا لا نعرف الأصلية فنأخذها ولا نأخذ زائدة بأصلية فأما
622

إن كان له قدمان في رجل واحدة فالحكم على ما ذكرناه في اليدين فإن كانت إحدى القدمين أطول
من الأخرى وكان الطويل مساويا للرجل الأخرى فهو الأصلي وإن كان زائدا عنها والآخر مساو
للرجل الأخرى فهو الأصلي وإن كان له في كل رجل قدمان يمكنه المشي على الطويلتين مشيا مستقيما
فهما الأصليان وان لم يمكنه فقطعا وأمكنه المشي على القصيرين فهما الأصليان والآخران زائدان
وان أشل الطويلتين ففيهما الدية، لأن الظاهر أنهما الأصليان فإن قطعهما قاطع فأمكنه المشي على
القصيرتين تبين؟ أنهما الأصليان وان لم يمكنه فالطويلان هما الأصليان
(مسألة) قال (وفي الثديين الدية سواء كان من رجل أو امرأة)
أما ثديا المرأة ففيهما ديتهما، لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا وفي الواحد منهما نصف الدية قال
ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة نصف الدية وفي الثديين الدية
وممن حفظنا ذلك عنه الحسن والشعبي والزهري ومكحول وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي ولان فيهما جمالا ومنفعة فأشبها اليدين والرجلين وفي أحدهما نصف الدية لأن كل عضوين
وجبت الدية فيهما وجب في أحدهما نصفها كاليدين وفي قطع حلمتي الثديين ديتهما نص عليه أحمد
623

رحمه الله وروى نحو هذا الشعبي والنخعي والشافعي وقال مالك والثوري ان ذهب اللبن وجبت
ديتهما والا وجبت حكومة بقدر شينه ونحوه قال قتادة إذا ذهب الرضاع بقطعهما ففيهما الدية
ولنا أنه ذهب منهما ما تذهب المنفعة بذهابه فوجبت ديتهما كالأصابع مع الكف وحشفة
الذكر وبيان ذهاب المنفعة أن بهما يشرب الصبي ويرتضع فهما كالأصابع في الكف وان قطع الثديين
كلهما فليس فيهما إلا دية كما لو قطع الذكر كله وان حصل مع قطعهما جائفة وجب فيهما ثلث
الدية مع ديتهما وان حصل جائفتان وجبت دية وثلثان وان ضربهما فأشلهما ففيهما الدية كما لو أشل
يديه وان جنى عليهما فأذهب لبنهما من غير أن يشلهما فقال أصحابنا فيهما حكومة وهذا قول أصحاب
الشافعي ويحتمل أن تجب ديتهما لأنه ذهب بنفعهما فأشبه ما لو أشلهما وهذا ظاهر قول مالك والثوري
وقتادة وان جنى عليهما من صغيرة ثم ولدت فلم ينزل لها لبن سئل أهل الخبرة فإن قالوا إن الجناية
سبب قطع اللبن فعليه ما على من ذهب باللبن بعد وجوده وإن قالوا ينقطع بغير الجناية لم يجب عليه
أرشه لأن الأصل براءة ذمته فلا يجب فيها شئ بالشك وان جنى عليهما فنقص لبنهما أو جنى على ثديين
ناهدين فكسرهما أو صار بهما مرض ففيه حكومة لنقصه الذي نقصهما
(فصل) فاما ثديا الرجل وهما التندوتان ففيهما الدية وبهذا قال إسحاق وحكي ذلك قولا للشافعي
624

وقال النخعي ومالك وأصحاب الرأي وابن المنذر فيهما حكومة وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه ذهب
بالجمال من غير منفعة فلم تجب الدية كما لو أتلف العين القائمة واليد الشلاء، وقال الزهري في حلمة
الرجل خمس من الإبل، وعن زيد بن ثابت فيه ثمن الدية
ولنا أن ما وجب في الدية من المرأة وجب فيه من الرجل كاليدين وسائر الأعضاء ولأنهما
عضوان في البدن يحصل بهما الجمال ليس في البدن غيرهما من جنسهما فوجبت فيهما الدية كاليدين
ولأنه أذهب الجمال فوجبت الدية كالشعور الأربعة عند أبي حنيفة وكأذني الأصم وأنف الأخشم
عند الجميع، ويفارق العين القائمة لأنه ليس فيها جمال كامل ولأنها عضو قد ذهب منه ما تجب فيه الدية
فلم تكمل ديته كاليدين إذا شلتا بخلاف مسئلتنا
(مسألة) قال (وفي الأليتين الدية)
قال ابن المنذر كل من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون في الأليتين الدية وفي كل واحدة منهما
نصفها منهم عمرو بن شعيب والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي، ولأنهما عضوان من جنس فيهما
جمال ظاهر ومنفعة كاملة فإنه يجلس عليهما كالوسادتين فوجب فيهما الدية وفي إحداهما نصفها كاليدين
والأليتان هما ما علا وأشرف من الظهر عن استواء الفخذين وفيهما الدية إذا أخذتا إلى العظم الذي
625

تحتهما، وفي ذهاب بعضهما بقدره لأن ما وجبت الدية فيه وجب في بعضه بقدره فإن جهل المقدار
وجبت حكومة لأنه نقص لم يعرف قدره
(فصل) وفي الصلب الدية إذا كسر فلم ينجبر لما روي في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم
" وفي الصلب الدية " وعن سعيد بن المسيب أنه قال: مضت السنة أن في الصلب الدية وهذا ينصرف
إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وممن قال بذلك زيد بن ثابت وعطاء والحسن والزهري ومالك، وقال القاضي
وأصحاب الشافعي ليس في كسر الصلب دية إلا أن يذهب مشيه أو جماعه فتجب الدية لتلك المنفعة
لأنه عضو لم تذهب منفعته فلم تجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء
ولنا الخبر ولأنه عضو ليس في البدن مثله فيه جمال ومنفعة فوجبت الدية فيه بمفرده كالأنف،
وإن ذهب مشيه بكسر صلبه ففيه الدية في قول الجميع ولا يجب أكثر من دية لأنها منفعة تلزم
كسر الصلب غالبا فأشبه ما لو قطع رجليه، وإن لم يذهب مشيه لكن ذهب جماعه ففيه الدية أيضا.
روي ذلك عن علي رضي الله عنه لأنه نفع مقصود فأشبه ذهاب مشيه، وان ذهب جماعه ومشيه،
وجبت ديتان في ظاهر كلام احمد رحمه في رواية ابنه عبد الله لأنهما منفعتان تجب الدية بذهاب
كل واحد منهما منفردة فإذا اجتمعتا وجبت ديتان كالسمع والبصر، وعن أحمد فيهما دية واحدة
لأنهما نفع عضو واحد فلم يجب أكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه
وان جبر صلبه فعادت إحدى المنفعتين دون الأخرى لم يجب الا دية الا أن تنقص الأخرى
626

فتجب حكومة لنقصها أو تنقص من جهة أخرى فيكون فيه حكومة لذلك، وإن ادعى ذهاب جماعه
وقال رجلان من أهل الخبرة ان مثل هذه الجناية يذهب بالجماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأنه
لا يتوصل إلى معرفة ذلك الا من جهته، وإن كسر صلبه فشل ذكره اقتضى كلام احمد وجوب ديتين
لكسر الصلب واحدة وللذكر أخرى، وفي قول القاضي ومذهب الشافعي يجب في الذكر دية وحكومة
لكسر الصلب وان أشل رجليه ففيهما دية أيضا وان أذهب ماءه دون جماعه احتمل وجوب الدية
وهذا يروى عن مجاهد. قال بعض أصحاب الشافعي هو الذي يقتضيه مذهب الشافعي لأنه ذهب
بمنفعة مقصودة فوجبت الدية كما لو ذهب بجماعه أو كما لو قطع أنثييه أو رضهما، ويحتمل أن لا تجب
الدية كاملة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها
(مسألة) قال (وفي الذكر الدية)
أجمع أهل العلم على أن في الذكر وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الذكر الدية "
ولأنه عضو واحد فيه الجمال والمنفعة فكملت فيه الدية كالأنف واللسان وفي شلله ديته لأنه ذهب
بنفعه أشبه ما لو أشل لسانه، وتجب الدية في ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب سواء قدر على
الجماع أو لم يقدر. فأما ذكر العنين فأكثرهم أهل العلم على وجوب الدية لعموم الحديث، ولأنه غير
627

مأيوس من جماعه وهو عضو في نفسه فكملت ديته كذكر الشيخ. وذكر القاضي فيه
عن أحمد روايتين
(إحداهما) تجب فيه الدية لذلك (والثانية) لا تكمل ديته وهو مذهب قتادة لأن منفعة الانزال
والاحبال والجماع وقد عدم ذلك منه في حال الكمال فلم تكمل ديته كالأشل، وبهذا فارق ذكر
الصبي والشيخ، واختلفت الرواية في ذكر الخصي فعنه فيه دية كاملة وهو قول سعيد بن عبد العزيز
والشافعي وابن المنذر للخبر ولان منفعة الذكر الجماع وهو باق فيه (والثانية) لا تجب فيه وهو قول
مالك والثوري وأصحاب الرأي وقتادة وإسحاق لما ذكرنا في ذكر العنين ولان المقصود منه تحصيل
النسل ولا يوجد ذلك منه فلم يكمل ديته كالأشل، والجماع يذهب في الغالب بدليل ان البهائم يذهب
جماعها بخصائها، والفرق بين ذكر العنين وذكر الخصي ان الجماع في ذكر العنين أبعد منه في ذكر
الخصي واليأس من الانزال متحقق في ذكر الخصي دون ذكر العنين، فعلى قولنا لا تكمل لدية في
ذكر الخصي ان قطع الذكر والأنثيين دفعة واحدة أو قطع الذكر ثم قطع الأنثيين لزمته ديتا فإن
قطع الأنثيين ثم قطع الذكر لم يلزمه الا دية واحدة في الأنثيين وفي الذكر حكومة لأنه ذكر خصي
قال القاضي ونص احمد على هذا وان قطع نصف الذكر بالطول ففيه نصف الدية ذكره أصحابنا والأولى
أن تجب الدية كاملة لأنه ذهب بمنفعة الجماع به فكملت ديته كما لو أشله أو كسر صلبه فذهب جماعه
628

وان قطع قطعة منه مما دون الحشفة وكان البول يخرج على ما كان عليه وجب بقدر القطعة من جميع
الذكر من الدية وإن خرج البول من موضوع القطع وجب الأكثر من حصة القطعة من الدية أو الحكومة
وإن ثقب ذكره فيما دون الحشفة فصار البول يخرج من الثقب ففيه حكومة لذلك
(مسألة) قال (وفي الأنثيين الدية)
لا نعلم في هذا خلافا وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي البيضتين الدية " ولان فيهما
الجمال والمنفعة فإن النسل يكون بهما فكانت فيهما الدية كاليدين وروى الزهري عن سعيد بن المسيب
أنه قال مضت السنة ان في الصلب الدية وفي الأنثيين الدية وفي إحداهما نصف الدية في قول
أكثر أهل العلم، وحكي عن سعيد بن المسيب أن في اليسرى ثلثي الدية وفي اليمنى ثلثها لأن نفع اليسرى
أكثر لأن النسل يكون بها
ولنا ان ما وجبت الدية في شيئين عنه وجب في أحدهما نصفها كاليدين وسائر الأعضاء ولأنهما
ذو عدد تجب فيه الدية فاستوت ديتهما كالأصابع، وما ذكروه ينتقص بالأصابع والأجفان تستوي
دياتها مع اختلاف نفعها ثم يحتاج إلى اثبات ذلك الذي ذكره، وان رض أنثييه أو أشلهما كملت
ديتهما كما لو أشل يديه أو ذكره فاقطع أنثييه فذهب نسله لم يجب أكثر من دية لأن ذلك نفعهما فلم
629

تزدد الدية بذهابه معهما كالبصر مع ذهاب العينين البطش مع ذهاب الرجلين، وان قطع إحداهما فذهب
النسل لم يجب أكثر من نصف الدية لأن ذهابه غير متحقق
(مسألة) قال (وفي الرجلين الدية)
أجمع أهل العلم على أن في الرجلين الدية وفي إحداهما نصفها روي ذلك عن عمر وعلي وبه
قال قتادة ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي
وقد ذكرنا الحديث والمعنى فيما تقدم وفي تفصيلها مثل ما ذكرنا من التفصيل في اليدين سواء ومفصل
الكعبين ههنا مفصل الكوعين في اليدين
(فصل) وفي قدم الأعرج ويد الأعسم الدية لأن العرج لمعنى في غير القدم والعسم الاعوجاج
في الرسغ وليس ذلك عيبا في قدم ولا كف فلم يمنع ذلك كمال الدية فيهما، وذكر أبو بكر أن في
كل واحدة منهم ثلث الدية كاليد الشلاء ولا يصح لأن هذين لم تبطل منفعتهما فلم تنقص ديتهما
بخلاف اليد الشلاء.
630

(مسألة) قال (وفي كل أصبع من اليدين والرجلين عشر من الإبل وفي كل أنملة منها
ثلث عقلها الا الابهام فإنها مفصلان ففي كل مفصل منها خمس من الإبل)
هذا قول عامة أهل العلم منهم عمر وعلي وابن عباس وبه قال مسروق وعروة ومكحول
والشعبي وعبد الله بن معقل والثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وأصحاب
الحديث ولا نعلم فيه مخالفا إلا رواية عن عمر أنه قضي في الابهام بثلث غرة وفي التي تليها باثنتي
عشرة وفي الوسطى بعشر وفي التي تليها بتسع وفي الخنصر بست وروي عنه أنه لما أخبر بكتاب كتبه
النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل أخذ به وترك قوله الأول وعن مجاهد
في الابهام خمس عشرة وفي التي تليها ثلاث عشرة وفي التي تليها عشر وفي التي تليها ثمان وفي التي تليها سبع
ولنا ما روى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل
لكل أصبح أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح رواه أبو داود عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه وهذه سواء " يعني الابهام والخنصر أخرجه البخاري
وأبو داود، وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو ابن حزم " وفي كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر
631

من الإبل " ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فكان سواء في الدية كالأسنان والأجفان وسائر
الأعضاء ودية كل أصبع مقسومة على أناملها وفي كل أصبع ثلاث أنامل الا الابهام فإنها أنملتان
ففي كل أنملة من غير الابهام ثلث عقل الابهام ثلاثة أبعرة وثلث، في كل أنملة من الابهام خمس
من الإبل نصف ديتها، وحكي عن مالك أنه قال الابهام أيضا ثلاث أنامل إحداها باطنة وليس هذا
بصحيح فإن الاعتبار بالظاهر فإن قوله عليه السلام " في كل أصبع عشر من الإبل " يقتضي وجوب
العشر في الظاهر لأنها هي الإصبع التي يقع عليها الاسم دون ما بطن منها كما أن السن التي يتعلق
بها وجوب ديتها هي الظاهرة من لحم اللثة دون سنخها، والحكم في أصابع اليدين والرجلين سواء
لعموم الخبر فيهما وحصول الاتفاق عليهما
(فصل) وفي الإصبع الزائدة حكومة وبذلك قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وعن
زيد بن ثابت أن فيها ثلث دية الإصبع وذكر القاضي أنه قياس المذهب على رواية ايجاب الثلث
في اليد الشلاء والأول أصح لأن التقدير لا يصار إليه الا بالتوقيف أو بمماثلته لما فيه توقيف
وليس ذلك ههنا لأن اليد الشلاء يحصل بها الجمال والإصبع الزائدة لا جمال فيها في الغالب ولان
جمال اليد الشلاء لأن يكاد يختلف والإصبع الزائدة تختلف باختلاف محالها وصفتها وحسنها وقبحها
فكيف يصح قياسها على اليد؟
632

(مسألة) قال (وفي البطن إذا ضرب فلم يستمسك الغائط الدية وفي المثانة إذا لم
يستمسك البول الدية)
وبهذا قال ابن جريج وأبو ثور وأبو حنيفة ولم أعلم فيه مخالفا إلا أن ابن أبي موسى ذكر في المثانة
رواية أخرى فيها ثلث الدية والصحيح الأول لأن كل واحد من هذين المحلين عضو فيه منفعة
كبيرة ليس في البدن مثله فوجب في تفويت منفعة دية كاملة كسائر الأعضاء المذكورة فإن نفع
المثانة حبس البول وحبس البطن الغائط منفعة مثلها والنفع بهما كثير والضرر بفواتهما عظيم فكان
في كل واحدة منهما الدية كالسمع والبصر وان فاتت المنفعتان بجناية واحدة وجب على الجاني ديتان
كما لو ذهب سمعه وبصره بجناية واحدة.
(مسألة) قال (وفي ذهاب العقل الدية)
لا نعلم في هذا خلافا وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما واليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي العقل الدية " ولأنه أكبر المعاني قدرا وأعظم الحواس
نفعا فإن به يتميز من البهيمة ويعرف به حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه ويتقى ما يضره ويدخل
به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بايجاب الدية
633

أحق من بقية الحواس فإن نقص عقله نقصا معلوما مثل ان صار يجن يوما ويفيق يوما فعليه من الدية
بقدر ذلك لأن ما وجب فيه الدية وجب بعضها في بعضه بقدره كالأصابع وان لم يعلم مثل ان صار
مدهوشا أو يفزع مما لا يفزع منه ويستوحش إذا خلاف هذا لا يمكن تقديره فتجب فيه حكومة
(فصل) فإن أذهب عقله بجناية لا توجب أرشا كاللطمة والتخويف ونحو ذلك ففيه الدية لا غير وان أذهبه بجناية توجب أرشا كالجراح أو قطع عضو وجبت الدية وأرش الجرح وبهذا قال
مالك والشافعي في الجديد، وقال أبو حنيفة والشافعي في التقديم يدخل الأقل منهما في الأكثر فإن
كانت اليد أكثر من أرش الجرح وجبت وحدها، وإن كان أرش الجرح أكثر كان قطع
يديه ورجليه فذهب عقله وجبت دية الجرح ودخلت دية العقل فيه فإن ذهاب العقل تختل معه منافع
الأعضاء فدخل أرشها فيه كالموت
ولنا أن جناية أذهبت منفعة من غير محلها مع بقاء النفس فلم يتداخل الأرشان كما لو أوضحه
فذهب بصره أو سمعه ولأنه لو جنى على أذنه أو أنفه فذهب سمعه أو شمه لم يدخل أرشهما في دية الأنف
والاذن مع قربهما منهما فههنا أولى وما ذكروه لا يصح لأنه لو دخل أرش الجرح في دية
العقل لم يجب أرشه إذا زاد على دية العقل كما أن دية الأعضاء كلها مع القتل لا يجب بها أكثر من
دية النفس ولا يصح قولهم إن منافع الأعضاء تبطل بذهاب العقل فإن المجنون تضمن منافعه وأعضاؤه
634

بعد ذهاب عقله بما تضمن به منافع الصحيح وأعضاؤه، ولو ذهبت منافعه وأعضاؤه لم تضمن كما
لا تضمن منافع الميت وأعضاؤه وإذا جاز أن تضمن بالجناية عليها بعد الجناية عليه جاز ضمانها مع الجناية
عليه كما لو جنى عليه فأذهب سمعه وبصره بجراحة في غير محلها
(فصل) فإن جنى عليه فأذهب عقله وسمعه وبصره وكلامه وجب أربع ديات مع أرش الجرح قال
أبو قلابة رمى رجل رجلا بحجر فذهب عقله وبصره وسمعه ولسانه فقضى فيه عمر بأربع ديات وهو
حي ولأنه أذهب منافع في كل واحدة منها دية فوجب عليها دياتها كما لو أذهبها بجنايات فإن مات من
الجناية لم يجب الا دية واحدة لأن ديات المنافع كلها تدخل في دية النفس كديات الأعضاء
(مسألة) قال (وفي البصر الدية والصعر أن يضربه فيصير وجهه في جانب)
أصل الصعر داء يأخذ البعير في عنقه فيلتوي عنقه وقول الله تعالى (ولا تصعر خدك للناس)
أي لا تعرض عنهم بوجهك تكبرا كإمالة وجه البعير الذي به العصر فمن جنى على انسان جناية فعوج
عنقه حتى صار وجهه في جانب فعليه دية كاملة روي ذلك عن زيد بن ثابت وقال الشافعي ليس فيه
الا حكومة لأنه اذهاب جمال من غير منفعة
ولنا ما روى مكحول عن زيد بن ثابت أنه قال: وفي الصعر الدية ولم يعرف له في الصحابة
635

مخالف فكان اجماعا ولأنه أذهب الجمال والمنفعة فوجبت فيه دية كاملة كسائر المنافع، وقولهم لم يذهب
بمنفعته غير صحيح فإنه لا يقدر على النظر أمامه واتقاء ما يحذره إذا مشى وإذا نابه أمر أو دهمه عدو
لم يمكنه العلم به ولا اتقاؤه ولا يمكنه لي عنقه ليعرف ما يريده نظره ويتعرف ما ينفعه ويضره
(فصل) فإن جنى عليه فصار الالتفات عليه شاقا أو ابتلاع الماء أو غيره ففيه حكومة لأنه
لم يذهب بالمنفعة كلها ولا يمكن تقديرها وان صار بحيث لا يمكنه ازدراد ريقه فهذا لا يكاد يبقى فإن
بقي مع ذلك ففيه الدية لأنه تفويت منفعة ليس لها مثل في البدن
" مسألة " قال (وفي اليد الشلاء ثلث ديتها وكذلك العين القاتمة والسن السوداء)
اليد الشلاء التي ذهب منها منفعة البطش والعين القائمة التي ذهب بصرها وصورتها باقية كصورة
الصحيحة واختلفت الرواية عن أحمد فيهما وفي السن السوداء فعنه في كل واحدة ثلث ديتها وروي
هذا عن ابن الخطاب ومجاهد وبه قال إسحاق، وعن زيد بن ثابت في العين القائمة مائة دينار.
والرواية الثالثة عن أحمد في كل واحدة حكومة وهذا قول مسروق الزهري ومالك والشافعي وأبي
ثور والنعمان وابن المنذر لأنه لا يمكن إيجاب دية كاملة لكونها قد ذهبت منفعتها ولا مقدر فيها
فتجب الحكومة فيها كاليد الزائدة
636

ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين القائمة
السادة لمكانها بثلث الدية، وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا قلعت
ثلث ديتها. رواه النسائي وأخرجه أبو داود في العين وحدها مختصرا وقول عمر رضي الله عنه رواه
قتادة عن خلاس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قضى
في العين القائمة إذا خسفت واليد الشلاء إذا قطعت والسن والسوداء إذا كسرت ثلث دية كل واحدة
منهن ولأنها كاملة الصورة فكان فيها مقدر كالصحيحة، وقولهم لا يمكن إيجاب مقدر ممنوع فانا
قد ذكرنا التقدير وبيناه
(فصل) قال القاضي قول أحمد رحمه الله في السن السوداء ثلث ديتها محمول على سن ذهبت
منفعتها بحيث لا يمكنه أن يعض بها الأشياء أو كانت تفتت فاما إن كانت منفعتها باقية ولم يذهب
منها الا لونها ففيها كمال ديتها سواء قلت منفعتها بان عجر عن عض الأشياء الصلبة بها أو لم يعجز
لأنها باقية المنفعة فكملت ديتها كسائر الأعضاء وليس على من سودها الا حكومة وهذا مذهب
الشافعي والصحيح من مذهب أحمد ما يوافق ظاهر كلامه لظاهر الاخبار وقضاء عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وقول أكثر أهل العلم ولأنه ذهب جمالها بتسويدها فكملت ديتها على من سودها كما لو
سود وجهه ولم يجب على متلفها أكثر من ثلث ديتها كاليد الشلاء وكالسن إذا كانت بيضاء فانقلعت
ونبت مكانها سوداء لمرض فيها فإن القاضي وأصحاب الشافعي سلموا أنها لا تكمل ديتها
637

(فصل) فإن نبتت أسنان صبي سوداء ثم ثغر ثم عادت سوداء فديتها تامة لأن هذا جنس
خلق على هذه الصورة فأشبه من خلق أسود الجسم والوجه جميعا وإن نبتت أولا بيضاء ثم ثغر
ثم عادت سوداء سئل أهل الخبرة فإن قالوا ليس السواد لعلة ولا مرض ففيها أيضا كمال ديتها،
وان قالوا ذلك لمرض فيها فعلى قالعها ثلث ديتها أو حكومة وقد سلم القاضي وأصحاب الشافعي الحكم
في هذه الصورة وهو حجة عليهم فيما خالفوا فيه، ويحتمل أن يكون الحكم فيما كانت سوداء
من ابتداء الخلقة هكذا لأن المرض قد يكون في فيه من ابتداء خلقته فيثبت حكمه في بعض ديتها
كما لو كان طارئا.
(فصل) وفي لسان الأخرس روايتان أيضا كالروايتين في اليد الشلاء وكذلك كل عضو ذهبت
منفعته وبقيت صورته كالرجل الشلاء والإصبع والذكر إذا كان أشلا وذكر الخصي والعنين إذا قلنا:
لا تكمل ديتهما وأشباه هذا فكله يخرج على الروايتين (إحداهما) فيه ثلث ديته والأخرى حكومة
(فصل) فاما اليد أو الرجل أو الإصبع أو السن الزوائد ونحو ذلك فليس فيه والأخرى حكومة
القاضي هذا في معنى اليد الشلاء فتكون على قياسها يخرج على الروايتين والذي ذكرناه أصح لأنه
لا تقدير في هذا ولا هو في معنى المقدر ولا يصح قياس هذا على العضو الذي ذهبت منفعته وبقي
جماله لأن هذه الزوائد لا جمال فيها إنما هي شين في الخلقة وعيب يرد به المبيع وتنقص به القيمة
فكيف يصح قياسه على ما يحصل به الجمال؟ ثم لو حصل به جمال ما لكنه يخالف جمال العضو الذي
638

يحصل به تمام الخلقة ويختلف في نفسه اختلافا كثيرا فوجبت فيه الحكومة ويحتمل أن لا يجب
فيه شئ لما ذكرنا.
(فصل) واختلفت الرواية في قطع الذكر بعد حشفته وقطع الكف بعد أصابعه فروى أبو طالب
عن أحمد فيه ثلث ديته وكذلك شحمة الأذن وعن أحمد في ذلك كله حكومة والصحيح في هذا
أن فيه حكومة لعدم التقدير فيه وامتناع قياسه على ما فيه تقدير لأن الأشل بقيت صورته وهذا لم تبق
صورته إنما بقي بعض ما فيه الدية أو أصل ما فيه الدية فأما قطع الذراع بعد قطع الكف والساق بعد
قطع القدم فينبغي أن تجب الحكومة فيه وجها واحدا لأن ايجاب ثلث دية اليد فيه يفضي إلى أن يكون
الواجب فيه مع بقاء الكف والقدم وذهابهما واحدا مع تفاوتهما وعدم النص فيهما والله أعلم
" مسألة " قال (وفي إسكتي المرأة الدية)
الإسكتان هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم وأهل اللغة يقولون الشفران
حاشيتا الإسكتين كما أن أشفار العين أهدابها وفيهما دية المرأة إذا قطعا، وبهذا قال الشافعي وقاله
الثوري إذا لم يقدر على جماعها وقضى به محمد بن سفيان إذا بلغ العظم لأن فيهما جمالا ومنفعة
وليس في البدن غيرهما من جنسهما فوجبت فيهما الدية كسائر ما فيه منه شيئان وفي إحداهما نصف
639

الدية كما ذكرنا في غيرهما وان جنى عليهما فأشلهما وجبت ديتهما كما لو جنى على شفتيه فأشلهما ولا
فرق بين كونهما غليظتين أو دقيقتين قصيرتين أو طويلتين من بكر أو ثيب أو صغيرة أو كبيرة مخفوضة أو
أو غير مخفوضة لأنهما عضوان فيهما الدية فاستوى فيهما جميع ما ذكرنا كسائر أعضائها ولا فرق
بين الرتقاء وغيرها، لأن الرتق عيب في غيرهما فلم ينقص ديتهما كما أن الصمم لم ينقص دية الأذنين
والخفض هو الختان في حق المرأة.
(فصل) وفي ركب المرأة حكومة وهو عانة المرأة وكذلك في عانة الرجل لأنه لا مقدر فيه
ولا هو نظير لما قدر فيه فإن أخذ منه شئ مع فرج المرأة أو ذكر الرجل ففيه الحكومة مع الدية
كما لو اخذ مع الانف والشفتين شئ من اللحم الذي حولهما.
" مسألة " قال (وفي موضحة الحر خمس من الإبل سواء كان من رجل أو امرأة
والموضحة في الرأس والوجه سواء وهو التي تبرز العظم)
هذه من شجاج الرأس أو الوجه وليس في الشجاج ما فيه قصاص سواها ولا يجب المقدر في أقل
منها وهي التي تصل إلى العظم سميت موضحة لأنها أبدت وضح العظم وهو بياضه وأجمع أهل العلم على أن أرشها
مقدر قاله ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الموضحة خمس من الإبل " رواه
640

أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن، وقول الخرقي في موضحة الحر يحترز به من موضحة
العبد وقوله سواء كان من رجل أو امرأة يعني انهما لا يختلفان في أرش الموضحة لأنها دون ثلث
الدية وهما يستويان فيما دون الثلث ويختلفان فيما زاد، وعند الشافعي ان موضحة المرأة على النصف
من موضحة الرجل بناء على أن جراح المرأة على النصف من جراح الرجل في الكثير والقليل
وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وعموم الحديث الذي رويناه ههنا حجة عليه وفيه كفاية
وأكثر أهل العلم على أن الموضحة في الرأس والوجه سواء روي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله
عنهما وبه قال شريح ومكحول والشعبي والنخعي والزهري وربيعة وعبيد الله بن الحسن وأبو حنيفة
والشافعي وإسحاق وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال تضعف موضحة الوجه على موضحة الرأس
فيجب في موضحة الوجه عشر من الإبل، لأن شينها أكثر وذكرة القاضي رواية عن أحمد
وموضحة الرأس يسترها الشعر والعمامة وقال مالك إذا كانت في الانف أو في اللحي الأسفل
ففيها حكومة لأنها تبعد عن الدماغ فأشبهت موضحة سائر البدن.
ولنا عموم الأحاديث وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الموضحة في الرأس والوجه سواء
ولأنها موضحة فكان أرشها خمسا من الإبل كغيرهما مما سلموه، ولا عبرة بكثرة الشين بدليل التسوية
بين الصغيرة والكبيرة وما ذكروه لمالك لا يصح فإن الموضحة في الصدر أكثر ضررا وأقرب
إلى القلب ولا مقدر فيها وقد روي عن أحمد رحمه الله أنه قال موضحة الوجه احرى ان يزاد في ديتها
وليس معنى هذا انه يجب فيها أكثر والله أعلم أنما معناه انها أولى بايجاب الدية فإنه إذا وجب
في موضحة الرأس مع قلة شينها واستتارها بالشعر وغطاء الرأس خمس من الإبل فلان يجب ذلك
في الوجه الظاهر الذي هو مجمع المحاسن وعنوان الجمال أولى، وحمل كلام أحمد على هذا أولى من
641

حمله على ما يخالف الخبر والأثر وقول أكثر أهل العلم، ومصيره إلى التقدير بغير توقيف ولا قياس صحيح
(فصل) ويجب أرش الموضحة في الصغيرة والكبيرة والبارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة
يشمل الجميع، وحد الموضحة ما أفضى إلى العظم ولو بقدر إبرة ذكره ابن القاسم والقاضي فإن شجه في رأسه
شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة لأنه لو أوضح الجميع
لم يلزمه أكثر من أرش موضحة فلان لا يلزمه أكثر من أرش هاشمة وان كانت منقلة وما دونها
أو مأمومة وما دونها فعليه أرش منقلة أو مأمومة لما ذكرناه.
(فصل) وليس في موضحة غير الرأس والوجه مقدر في قول أكثر أهل العلم منهم إمامنا ومالك والثوري
والشافعي وإسحاق وابن المنذر، قال ابن عبد البر ولا يكون في البدن موضحة يعني ليس فيها مقدر
قال على ذلك جماعة العلماء الا الليث بن سعد قال الموضحة تكون في الجسد أيضا، وقال الأوزاعي
في جراحة الجسد على النصف من جراحة وحكي نحو ذلك عن عطاء الخراساني قال في الموضحة
في سائر الجسد خمسة وعشرون دينارا
ولنا أن اسم الموضحة إنما يتعلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس، وقول الخليفتين
الراشدين الموضحة في الوجه والرأس سواء يدل على أن باقي الجسد بخلافه، ولان الشين فيما في الرأس
والوجه أكثر وأخطره مما في سائر البدن فلا يلحق به ثم إيجاب ذلك في سائر البدن يفضي إلى أن
يجب في موضحة العضو أكثر من ديته مثل أن يوضح أنملة ديتها ثلاثة ودية الموضحة خمس
وأما قول الأوزاعي وعطاء الخراساني فتحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه فيجب اطراحه
(فصل) وإن أوضحه في رأسه وجر السكين إلى قفاه فعليه أرش موضحة وحكومة لجرح القفا
لأن القفا ليس بموقع للموضحة وان أوضحه في رأسه ومدها إلى وجهه فعلى وجهين
642

(أحدهما) أنها موضحة واحدة لأن الوجه والرأس سواء في الموضحة فصار كالعضو الواحد
(والثاني) هما موضحتان لأنه أوضحه في عضوين فكان لكل واحد منهما حكم نفسه كما لو
أوضحه في رأسه ونزل إلى القفا
(فصل) وان أوضحه في رأسه موضحتين بينهما حاجز فعليه أرش موضحتين لأنهما موضحتان
فإن أزال الحاجز الذي بينهما وجب أرش موضحة واحدة لأنه صار الجميع بفعله موضحة فصار كما لو أوضح
الكل من غير حاجز يبقي بينهما، وان اندملتا ثم أزال الحاجز بينهما فعليه أرش ثلاث مواضح لأنه
استقر عليه أرش الأوليين بالاندمال ثم لزمته دية الثالثة، وإن تأكل ما بينهما قبل اندمالهما فزال لم
يلزمه أكثر من أرش واحدة لأن سراية فعله كفعله وان اندملت إحداهما وزال الحاجز بفعله أو
سراية الأخرى فعليه أرش موضحتين، وان أزال الحاجز أجنبي فعلى الأول أرش موضحتين وعلى
الثاني أرش موضحة لأن فعلى أحدهما لا ينبني على فعل الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته
وان أزاله المجني عليه وجب على الأول أرش موضحتين لأن ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره، فإن
اختلفا فقال الجاني أنا شققت ما بينهما وقال المجني عليه بل أنا أو أزالها آخر سواك فالقول قول المجني عليه لأن
سبب أرش موضحتين قد وجد والجاني يدعي زواله والمجني عليه ينكره والقول قول المنكر والأصل معه،
وان أوضح موضحتين ثم قطع اللحم الذي بينهما في الباطن وترك الجلد الذي فوقهما ففيها وجهان
643

(أحدهما) يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر (والثاني) أرش موضحة لاتصالهما في
الباطن، وان جرحه جراحا واحدة وأوضحه في طرفيها وباقيها دون الموضحة ففيه أرش موضحتين
لأن ما بينهما ليس بموضحة
(مسألة) قال (وفي الهاشمة عشر من الإبل وهي التي توضح العظم وتهشمه)
الهاشمة هي التي تتجاوز الموضحة فتهشم العظم سميت هاشمة لهشمها العظم ولم يبلغنا عن النبي
صلى الله عليه وسلم فيها تقدير، وأكثر من بلغنا قوله من أهل العلم على أرشها مقدر بعشر من الإبل روى ذلك
قبيصة بن ذؤيب عن زيد ثابت، وبه قال قتادة والشافعي والعنبري ونحوه قال الثوري وأصحاب
الرأي الا أنهم قدروها بعشر الدية من الدراهم وذلك على قولهم ألف درهم وكان الحسن لا يوقت
فيها شيئا، وحكي عن مالك أنه قال لا أعرف الهاشمة لكن في الايضاح خمس وفي الهشم حكومة قال
ابن المنذر النظر يدل على قول الحسن إذ لا سنة فيها ولا اجماع، ولأنه لم ينقل فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم
تقدير فوجبت فيها الحكومة كما دون الموضحة
ولنا قول زيد ومثل ذلك الظاهر أنه توقيف ولأنه لم نعرف له مخالفا في عصره فكان اجماعا
ولأنها شجة فوق الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدور كالمأمومة
644

(فصل) والهاشمة في الرأس والوجه خاصة على ما ذكرنا في الموضحة وان هشمه هاشمتين بينهما
حاجز ففيهما عشرون من الإبل على ما ذكرنا في الموضحة من التفصيل، وتستوي الهاشمة الصغيرة
والكبيرة، وان شجه شجة بعضها موضحة وبعضها هاشمة وبعضها سمحاق وبعضها متلاحمة وجب
أرش الهاشمة لأنه لو كان جميعها هاشمة أجزأ أرشها ولو انفرد القدر المهشوم وجب أرشها فلا
ينقص ذلك بما إذا زاد من الأرش في غيرها، وان ضرب رأسه فهشم العظم ولم يوضحه لم تجب دية
الهاشمة بغير خلاف لأن الأرش المقدر وجب في هاشمة يكون معها موضحة وفي الواجب فيها وجهان
(أحدهما) فيها خمس من الإبل لأنه لو أوضح وكسر لوجبت عشر: خمس في الايضاح وخمس
في الكسر فإذا وجد الكسر دون الايضاح وجب خمس (والثاني) تجب حكومة لأنه كسر عظم
لا جرح معه فأشبه كسر قصبة الانف
(فصل) فإن أوضحه موضحتين هشم العظم في كل واحدة منهما واتصل الهشم في الباطن فهما
هاشمتان لأن الهشم إنما يكون تبعا للإيضاح فإذا كانتا موضحتين كان الهشم هاشمتين بخلاف الموضحة
فإنها ليست تبعا لغيرها فافترقا.
(مسألة) قال (وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وهي التي توضح وتهشم وتسطو حتى تنقل عظامها)
المنقلة زائدة على الهاشمة وهي التي تكسر العظام وتزيلها عن مواضعها فيحتاج إلى نقل العظم
645

ليلتئم وفيها خمس عشرة من الإبل باجماع من أهل العلم حكاه ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو
ابن حزم " وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل " وفي تفصيلها ما في تفصيل الموضحة والهاشمة على ما مضى
(مسألة) قال (وفي المأمومة ثلث الدية وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ وفي الأمة
مثل ما في المأمومة)
المأمومة والآمة شئ واحد، قال ابن عبد البر أهل العراق يقولون لها الأمة وأهل الحجاز
المأمومة وهي الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ سميت أم الدماغ لأنها تحوطه وتجمعه فإذا وصلت الجراحة
إليها سميت آمة ومأمومة يقال أم الرجل آمة ومأمومة وأرشها ثلث الدية في قول عامة أهل العلم الا
مكحولا فإنه قال إن كانت عمدا ففيها ثلثا الدية وان كانت خطأ ففيها ثلثها
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم وفي المأمومة ثلث الدية. وعن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وروي نحوه عن علي ولأنها شجة فلم يختلف أرشها بالعمد والخطأ في
المقدار كسائر الشجاج
(فصل) وان خرق جلدة الدماغ فهي الدامغة وفيها ما في المأمومة قال القاضي لم يذكر أصحابنا
646

الدامغة لمساواتها المأمومة في أرشها وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق جلدة الدماغ ويحتمل أنهم
تركوا ذكرها لكونها لا يسلم صاحبها في الغالب
(فصل) فإن أوضحه رجل ثم هشمه الثاني ثم جعلها الثالث منقلة ثم جعلها الرابع مأمومة فعلى
الأول أرش موضحته وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة، وعلى الثالث خمس تمام أرش المنقلة،
وعلى الرابع ثمانية عشر وثلث تمام أرش المأمومة
(مسألة) قال (وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى الجوف)
وهذا قول عامة أهل العلم منهم أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأي
الا مكحولا قال فيها في العمد ثلثا الدية
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم " وفي الجائفة ثلث الدية " وعن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ولأنها جراحة فيها مقدر فلم يختلف قدر أرشها بالعمد والخطأ كالموضحة ولا
نعلم في جراح البدن الخالية عن قطع الأعضاء وكسر العظام مقدرا غير الجائفة، والجائفة ما وصل إلى
الجوف من بطن أو ظهر صدر أو ثغرة نحر أو ورك أو غيره
647

وذكر ابن عبد البر أن مالكا وأبا حنيفة والشافعي والبتي وأصحابهم اتفقوا على أن الجائفة لا تكون
الا في الجوف، قال ابن القاسم الجائفة ما أفضى إلى الجوف ولو بمغرز إبرة، فأما ان خرق شدقه
فوصل إلى باطن الفم فليس بجائفة لأن داخل الفم حكمه حكم الظاهر لا حكم الباطن وإن طعنه في وجنته
فكسر العظم ووصل إلى فيه فليس بجائفة لما ذكرنا
وقال الشافعي في أحد قوليه هو جائفة لأنه قد وصل إلى جوف وهذا ينتقص بما إذا خرق
شدقه، فعلى هذا يكون عليه دية هاشمة لكسر العظم وفيما زاد حكومة، وان جرحه في أنفه فأنفذه
فهو كما لو جرحه في وجنته فأنفذه إلى فيه في الحكم والخلاف، وان جرحه في ذكره فوصل إلى مجرى
البول من الذكر فليس بجائفة لأنه ليس بجوف يخاف التلف من الوصول إليه بخلاف غيره
(فصل) وان أجافه جائفتين بينهما حاجز فعليه ثلثا الدية وان خرق الجاني ما بينهما أو ذهب بالسراية
صارا جائفة واحدة فيها ثلث الدية لا غير، وإن خرق ما بينهما أجنبي أو المجني عليه فعلى الأول ثلثا الدية
وعلى الأجنبي الثاني ثلثها ويسقط ما قابل فعل المجني عليه، وإن احتاج إلى خرق ما بينهما للمداواة
فخرقها المجني عليه أو غيره بأمره أو خرقها ولي المجني عليه لذلك أو الطيب بأمره فلا شئ في خرق
الحاجز وعلى الأول ثلثا الدية، وان أجافه رجل فوسعها آخر فعلى كل واحد منهما أرش جائفة لأن
فعل كل واحد منهما لو انفرد كان جائفة فلا يسقط حكمه بانضمامه إلى فعل غيره لأن فعل الانسان
648

لا ينبني على فعل غيره، وان وسعها الطبيب باذنه أو أذنه وليه لمصلحته فلا شئ عليه، وان وسعها
جان آخر في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر فعليه حكومة لأن جنايته لم تبلغ الجائفة
وان أدخل السكين في الجائفة ثم أخرجها عزر ولا أرش عليه، وإن كان قد خاطها فجاء آخر فقطع
الخيوط وأدخل السكين فيها قبل أن تلتحم عزر أشد من التعزير الأول الذي قبله وغرمه ثمن الخيوط
وأجرة الخياط ولم يلزمه أرش جائفة لأنه لم يجفه وان فعل ذلك بعد التحامها فعليه أرش الجائفة وثمن
الخيوط لأنه بالالتحام عاد إلى الصحة فصار كالذي لم يجرح، وان التحم بعضها دون بعض ففتق
ما التحم فعليه أرش جائفة لما ذكرنا وان فتق غير ما التحم فليس عليه أرش الجائفة وحكمه حكم من فعل
مثل فعله قبل أن يلتحم منها شئ وان فتق بعض ما التحم في الظاهر دون الباطن أو الباطن دون الظاهر
فعليه حكومة كما لو وسع جرحه كذلك
(فصل) وان جرح فخذه ومد السكين حتى بلغ الورك فأجاف فيه أو جرح الكتف وجر
السكين حتى بلغ الصدر فأجافه فيه فعليه أرش الجائفة وحكومة في الجراح لأن الجراح في غير موضع
الجائفة فانفردت بالضمان كما لو أوضحه في رأسه وجر السكين حتى بلغ القفا فإنه يلزمه أرش
موضحة وحكومة لجرح القفا
(فصل) فإن أدخل حديدة أو خشبة أو يده في دبر انسان فخرق حاجزا في الباطن فعليه حكومة
649

ولا يلزمه أرش جائفة لأن الجائفة ما خرقت من الظاهر إلى الجوف وهذه بخلافه وكذلك لو أدخل
السكين في جائفة انسان فخرق شيئا في الباطن فليس ذلك بجائفة لما ذكرنا
(مسألة) قال (فإن جرحه في جوفه فخرج من الجانب الآخر فهما جائفتان)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء ومجاهد وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي قال
ابن عبد البر لا أعلمهم يختلفون في ذلك، وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه قال هي جائفة
واحدة، وحكي أيضا عن أبي حنيفة لأن الجائفة هي التي تنفذ من ظاهر البدن إلى الجوف وهذه
الثانية إنما نفذت من الباطن إلى الظهر
ولنا ما روى سعيد بن المسيب أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه فقضى أبو بكر رضي الله عنه
بثلثي الدية ولا مخالف له فيكون اجماعا أخرجه سعيد بن منصور في سننه وروي عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن عمر قضى في الجائفة إذا نفذت الجوف بأرش جائفتين لأنه أنفذه من موضعين
فكان جائفتين كما لو أنفذه بضربتين وما ذكروه غير صحيح فإن الاعتبار بوصول الجرح إلى
الجوف لا بكيفية إيصاله إذ لا أثر لصورة الفعل مع التساوي في المعنى ولان ما ذكروه من الكيفية
ليس بمذكور في خبر وإنما العادة والغالب وقوع الجائفة هكذا فلا يعتبر كما أن العادة والغالب حصولها
650

بالحديد، ولو حصلت بغيره لكانت جائفة ثم ينتقض ما ذكروه بما لو أدخل يده في جائفة انسان
فخرق بطنه من موضع آخر فإنه يلزمه أرش جائفة بغير خلاف نعلمه وكذلك يخرج فيمن أوضح
انسانا في رأسه ثم أخرج رأس السكين من موضع آخر فهي موضحتان فإن هشمه هاشمة لها مخرجان
فهي هاشمتان وكذلك ما أشبهه
(فصل) فإن أدخل أصبعه في فرج بكر فأذهب بكارتها فليس بجائفة لأن ذلك ليس يجوف
" مسألة " قال (ومن وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية)
معنى الفتق خرق ما بين مسلك البول والمني، وقيل بل معناه خرق ما بين القتل والدبر إلا أن
هذا بعيد لأنه يبعد أن يذهب بالوطئ ما بينهما من الحاجز فإنه حاجز غليظ قوي والكلام في هذه المسألة
في فصلين (أحدهما) في أصل وجوب الضمان (والثاني) في قدره. أما الأول فإن الضمان إنما يجب
بوطئ الصغيرة أو النحيفة التي لا تحمل الوطئ دون الكبيرة المحتملة له وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي يجب
الضمان في الجميع لأنه جناية فيجب الضمان به كما لو كان في أجنبية
ولنا انه وطئ مستحق فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة ولأنه فعل مأذون فيه ممن يصح إذنه
فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما يفضي إلى ذلك وكقطع السارق أو استيفاء
651

القصاص وعكسه الصغيرة والمكرهة على الزنا. إذا ثبت هذا فإنه يلزمه المهر المسمى في النكاح مع أرش الجناية
ويكون أرش الجناية في ماله إن كان عمدا محضا وهو أن يعلم أنها لا تطيقه وأن وطأه يفضيها، فأما
إن لم يعلم ذلك وكان مما يحتمل أن لا يفضي إليه فهو عمد الخطأ فيكون على عاقلته إلا على قول من
قال إن العاقلة لا تحمل عمد الخطأ فإنه يكون في ماله
(الفصل الثاني) في قدر الواجب وهو ثلث الدية وبهذا قال قتادة وأبو حنيفة، وقال الشافعي تجب
الدية كاملة وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز لأنه أتلف منفعة الوطئ فلزمته الدية كما لو قطع أسكتها
ولنا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قضي في الافضاء بثلث الدية ولم نعرف له
في الصحابة مخالفا ولأن هذه جناية تخرق الحاجز بين مسلك البول والذكر فكان موجبها ثلث الدية
كالجائفة ولا نسلم انها تمنع الوطئ، وأما قطع الإسكتين فإنما أوجب الدية لأنه قطع عضوين فيهما
نفع وجمال فأشبه قطع الشفتين
(فصل) وان استطلق بولها مع ذلك لزمته دية من غير زيادة وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي
تجب دية وحكومة لأنه فوت منفعتين فلزمه أرشهما كما لو فوت كلامه وذوقه
ولنا انه أتلف عضوا واحدا لم تفت غير منافعه فلم يضمنه بأكثر من دية واحدة كما لو قطع
لسانه فذهب ذوقه وكلامه وما قاله لا يصح لأنه لو أوجب دية المنفعتين لأوجب ديتين، لأن استطلاق
652

البول موجب الدية والافضاء عنده موجب الدية منفردا ولم يقل به وإنما أوجب الحكومة ولم يوجد
مقتضيها فإننا لا نعلم أحدا أوجب في الافضاء حكومة
(فصل) وان اندمل الحاجز وانسد وزال الافضاء لم يجب ثلث الدية ووجبت حكومة لجبر
ما حصل من النقص. (فصل) وان أكره امرأة على الزنا فأفضاها لزمه ثلث ديتها ومهر مثلها لأنه حصل بوطئ غير
مستحق ولا مأذون فيه فلزمه ضمان ما أتلف به كسائر الجنايات وهل يلزمه أرش البكارة مع ذلك؟
فيه روايتان (أحداهما) لا يلزمه لأن أرش البكارة داخل في مهر المثل فإن مهر البكر أكثر من مهر
الثيب فالتقاوت بينهما هو عوض أرش البكارة فلم يضمنه مرتين كما في حق الزوجة (والثانية) يضمنه
لأنه محل محل أتلفه بعدوانه فلزمه أرشه كما لو أتلفه بإصبعه، فأما المطاوعة على الزنا إذا كانت كبيرة ففتقها
فلا ضمان عليه في فتقها، وقال الشافعي يضمن لأن المأذون فيه الوطئ دون الفتق فأشبه ما لو قطع يدها
ولنا انه ضرر حصل من فعل مأذون فيه فلم يضمنه كأرش بكارتها ومهر مثلها وكما لو أذنت
في قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها وفارق ما إذا أذنت في وطئها فقطع يدها لأن ذلك ليس من
المأذون فيه ولا من ضرورته
(فصل) وأن وطئ امرأة بشبهة فأفضاها فعليه أرش افضائها مع مهر مثلها لأن الفعل إنما أذن
653

فيه اعتقادا أن المستوفي له هو المستحق فإذا كان غيره ثبت في حقه وجوب الضمان لما أتلف كما لو
أذن في أخذ الدين لمن يعتقد انه مستحقه فبان انه غيره وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يجب
لها أكثر الامرين من مهر مثلها أو أرش افضائها لأن الأرش لاتلاف العضو فلا يجمع بين ضمانه
وضمان منفعته كما لو قلع عينا
ولنا ان هذه جناية تنقل عن الوطئ فلم يدخل بدله فيها كما لو كسر صدرها وما ذكروه غير
صحيح فإن المهر يجب لاستيفاء منفعة البضع والأرش يجب لاتلاف الحاجز فلا تدخل المنفعة فيه
(فصل) وان استطلق بول المكرهة على الزنا والموطوءة بشبهة مع افضائهما فعليه ديتهما والمهر
وقال أبو حنيفة في الموطوءة بشبهة لا يجمع بينهما ويجب أكثرهما وقد سبق الكلام معه في ذلك
(مسألة) قال (وفي الضلع بعير وفي الترقوة بعيران)
ظاهر هذا أن في كل ترقوة بعيرين فيكون في الترقوتين أربعة أبعرة وهذا قول زيد بن ثابت
والترقوة هو العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف ولكل واحد ترقوتان ففيهما أربعة
أبعرة في ظاهر قول الخرقي، وقال القاضي المراد بقول الخرقي الترقوتان معا وإنما اكتفي بلفظ
الواحد لادخال الألف واللام المقتضية للاستغراق فيكون في كل ترقوة بعير وهذا قول عمر بن
654

الخطاب وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الملك بن مروان وسعيد بن جبير وقتادة وإسحاق
وهو قول للشافعي والمشهور من قوليه عند أصحابه أن في كل واحد مما ذكرنا حكومة وهو قول مسروق
وأبي حنيفة ومالك وابن المنذر لأنه عظم باطن لا يختص بجمال ومنفعة فلم يجب فيه أرش مقدر كسائر أعضاء
البدن ولان التقدير إنما يكون بتوقف أو قياس صحيح وليس في هذا توقيف ولا قياس وروي عن
الشعبي ان في الترقوة أربعين دينارا وقال عمرو بن شعيب في الترقوتين الدية وفي إحديهما نصفها
لأنهما عضوان فيهما جمال ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما فكملت فيهما الدية كاليدين.
ولنا قول عمر رضي الله عنه وزيد بن ثابت وما ذكروه ينتقض بالهاشمة فإنها كسر عظام
باطنة وفيها مقدر ولا يصح قولهم إنها لا تختص بجمال ومنفعة فإن جمال هذه العظام ونفعها
لا يوجد في غيرها ولا مشارك لها فيه، وأما قول عمرو بن شعيب فمخالف للاجماع فإننا لا نعلم أحدا
قبله ولا بعده وافقه فيه
(مسألة) قال (وفي الزند أربعة أبعرة لأنه عظمان)
قال القاضي: يعني به الزندين فيهما أربعة أبعرة لأن فيهما أربعة عظام ففي كل عظم بعير وهذا
يروي عن عمر بن الخطاب وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي فيه حكومة لما تقدم
655

ولنا ما روي سعيد ثنا هشيم ثنا يحيي بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن عمرو بن العاص كتب إلى
عمر في أحد الزندين إذا كسر فكتب له عمر إن فيه بعيرين، وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة
من الإبل ورواه أيضا من طريق آخر مثل ذلك وهذا لم يظهر له مخالف في الصحابة فكان إجماعا
(فصل) ولا مقدر في غير هذه العظام في ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر أهل العلم وقال
القاضي في عظم الساق بعيران وفي الساقين أربعة أبعرة وفي عظم الفخذ بعيران وفي الفخذين أربعة
فهذه تسعة عظام فيها مقدر الضلع والترقوتان والزندان والساقان والفخذان وما عداها لا مقدر فيه
وقال ابن عقيل وأبو الخطاب وجماعة من أصحاب القاضي في كل واحد من الذراع والعضد بعيران
وزاد أبو الخطاب عظم القدم لما روي سليمان بن يساران عمر قضي في الذراع والعضد والفخذ والساق
والزند إذا كسر واحد منها فجبر ولم يكن به دحور يعني عوجا بعير وإن كان فيها دحور فبحساب
ذلك وهذا الخبر إن صح فهو مخالف لما ذهبوا إليه فلا يصلح دليلا عليه والصحيح إن شاء الله أنه لا
تقدير في غير الخمسة الضلع والترقوتين والزندين لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف ومقتضي الدليل
وجوب الحكومة في هذه العظام الباطنة كلها وإنما خالفناه في هذه العظام لقضاه عمر رضي الله
عنه ففيما عداها يبقى على مقتضى الدليل وما عدا هذه العظام كعظم الظهر وغيره ففيه الحكومة
ولا نعلم فيه مخالفا وإن خالف فيها مخالف فهو قول شاذ لا يستند إلى دليل يعتمد عليه ولا يصار إليه
656

(مسألة) قال (والشجاج التي لا توقيت فيها أولها الحارصة وهي التي تحرص الجلد)
يعني تشقه قليلا وقال بعضهم هي الحارصة ثم الباضعة وهي تشق اللحم بعد الجلد ثم البازلة
وهي التي يسيل منها الدم ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم ثم السمحاق وهي التي بينها وبين
العظم قشرة رفيقة ثم الموضحة، هكذا وقع في النسخ التي وصلت إلينا: الحارصة ثم الباضعة ثم البازلة
ولعله من غلط الكاتب والصواب الحارصة ثم البازلة ثم الباضعة هكذا رتبها سائر من علمنا قوله من
أهل العلم ولان الباضعة التي تشق اللحم بعد الجلد فلا يمكن وجودها قبل البازلة التي يسيل منها الدم
وتسمى الدامعة لقلة سيلان دمها تشبيها له بخروج الدمع من العين والتي تشق اللحم بعد الجلد يسيل
منها دم كثير في الغالب فكيف يصح جعلها سابقة على ما لا يسيل منها إلا دم يسير كدمع العين ويدل على صحة ما ذكرناه أن زيد بن ثابت جعل في البازلة بعير أو في الباضعة بعيرين وقول الخرقي
والشجاج يعني جراح الرأس والوجه فإنه يسمى شجاجا خاصة دون جراح سائر البدن
والشجاج المسماة عشر خمس منها أرشها مقدر وقد ذكرناها وخمس لا توقيت فيها قال الأصمعي
أولها الحارصة وهي التي تشق الجلد قليلا يعني تقشر شيئا يسيرا من الجلد لا يظهر منه دم
ومنه حرص القصار الثوب إذا شقه قليلا ثم البازلة وهي يبزل منها الدم أي يسيل وتسمى الدامية
657

أيضا والدامعة ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم
يعني دخلت فيه دخولا كثيرا يزيد على الباضعة ولم تبلغ السمحاق ثم السمحاق وهي التي تصل إلى
قشرة رقيقة فوق العظم تسمى تلك القشرة سمحاقا، وسميت الجراح الواصلة إليها بها ويسميها أهل
المدينة الملطا والملطاة وهي التي تأخذ اللحم كله حتى تخلص منه، ثم الموضحة هي التي تقشر تلك
الجلدة وتبدي وضح العظم أي بياضه وهي أول الشجاج الموقتة وما قبلها من الشجاج الخمس فلا
توقيت فيها في الصحيح من مذهب أحمد وهو قول أكثر الفقهاء يروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز
ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد رواية أخرى ان في الدامية بعيرا
وفي الباضعة بعيرين وفي المتلاحمة ثلاثة وفي السمحاق أربعة أبعرة لأن هذا يروي عن زيد بن ثابت
وروى عن علي في السمحاق مثل ذلك رواه سعيد عنهما وعن عمر وعثمان فبها نصف أرش الموضحة
والصحيح الأول لأنها جراحات لم يرد فيها توقيت في الشرع فكان الواجب فيها حكومة كجراحات
البدن، وروي عن مكحول قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيما دونها
ولأنه لم يثبت فيها مقدر بتوقيف ولا له قياس يصح فوجب الرجوع إلى الحكومة كالحارصة،
وذكر القاضي انه متى أمكن اعتبار هذه الجراحات من الموضحة مثل أن يكون في رأس المجني
عليه موضحة إلى جانبها قدرت هذه الجراحة منها، فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش الموضحة
658

إن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش وعلى هذا إلا أن تزيد الحكومة على قدر ذلك فتوجب
ما تخرجه الحكومة، فإذا كانت الجراحة قدر نصف الموضحة وشينها ينقص قدر ثلثيها أوجبنا ثلثي
أرش الموضحة، وإن نقصت الحكومة أقل من النصف أوجبنا النصف فنوجب الأكثر مما تخرجه
الحكومة أو قدرها من الموضحة لأنه اجتمع سببان موجبان الشين وقدرها من الموضحة فوجب بها
أكثرهما لوجود سببه، والدليل على ايجاب المقدار أن هذا اللحم فيه مقدر فكان في بعضه بمقداره
من ديته كالمارن والحشفة والشفة والجفن وهذا مذهب الشافعي وهذا لا نعلمه مذهبا لأحمد ولا
يقتضيه مذهبه ولا يصح لأن هذه جراحة تجب فيها الحكومة فلا يجب فيها مقدر كجراحات
البدن ولا يصح قياس هذا على ما ذكروه فإنه لا تجب فيه الحكومة ولا نعلم لم ذكروه نظيرا
(مسألة) قال (وما لم يكن فيه من الجراح توقيت ولم يكن نظيرا لما وقتت ديته ففيه حكومة)
أما الذي فيه توقيت فهو الذي نص النبي صلى الله عليه وسلم على أرشه وبين قدر ديته كقوله " في الانف
الدية وفي اللسان الدية " وقد ذكرناه، وأما نظيره فهو ما كان في معناه ومقيسا عليه كالأليتين
والثديين والحاجبين وقد ذكرناه ذلك أيضا فما لم يكن من الموقت ولا مما يمكن قياسه عليه كالشجاج التي
دون الموضحة وجراح البدن سوى الجائفة وقطع الأعضاء وكسر العظام المذكورة فليس فيه إلا الحكومة
659

(مسألة) قال (والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به
قد برأت فما نقصته الجناية فله مثله من الدية كان قيمة وهو عبد صحيح عشرة وقيمه
وهو عبد به الجناية تسعة فيكون فيه عشر ديته)
هذا الذي ذكره الخرقي رحمه الله في تفسير الحكومة قول أهل العلم كلهم لا نعلم بينهم فيه خلافا
وبه قال الشافعي والعنبري وأصحاب الرأي وغيرهم، قال ابن المنذر كل من نحفظ عنه من أهل العلم
يرى أن معنى قولهم حكومة أن يقال إذا أصيب الانسان بجرح لا عقل له معلوم كم قيمة هذا المجروح
لو كان عبدا لم يجرح هذا الجرح فإذا قيل مائة دينار قيل وكم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى
برؤه؟ قيل خمسة وتسعون فالذي يجب على الجاني نصف عشر الدية وإن قالوا تسعون فعشر الدية،
وإن زاد أو نقص فعلى هذا المثال وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة منها
كما أن المبيع لما كان مضمونا على البائع بالثمن كان أرش عيبه مقدرا من الثمن فيقال كم قيمته لا عيب
فيه فقالوا عشرة فيقال كم قيمته وفيه العيب فإذا قيل تسعة علم أنه نقص عشر قيمته فيجب أن ترد
660

من الثمن عشره إي قدر كان نقدره عبدا ليمكن تقويمه ونجعل العبد أصلا للحر فيما لا موقت فيه
والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت
(مسألة) قال (وعلى هذا ما زاد من الحكومة أو نقص لا أن تكون الجناية في رأس
أو وجه فيكون أسهل مما وقت فيه فلا يجاوز به أرش الموقت)
يعني لو نقصته الجناية أكثر من عشر قيمته لوجب أكثر من عشر ديته ولو نقصته أقل من
العشر مثل ان نقصته نصف عشر قيمته لوجب نصف عشر ديته إلا إذا شجه دون الموضحة فبلغ أرش
الجراح بالحكومة أكثر من أرش الموضحة لم يجب الزائد، فلو جرحه في وجهه سمحاقا فنقصته عشر
قيمة فمقتضى الحكومة وجوب عشر من الإبل ودية الموضحة خمس فههنا يعلم غلط المقوم، لأن
الجراحة لو كانت موضحة لم تزد على خمس مع أنها سمحاق وزيادة عليها فلان لا يجب في بعضها زيادة
على خمس أولى وهذا قول أكثر هل العلم وبه يقول الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن مالك
انه يجب ما تخرجه الحكومة كائنا ما كان لأنها جراحة لا مقدر فيها فوجب فيها ما نقص
كما لو كانت في سائر البدن.
661

ولنا انها بعض الموضحة لأنه لو أوضحه لقطع ما قطعته هذه الجراحة ولا يجوز ان يجب في
بعض الشئ أكثر مما يجب فيه، ولان الضرر في الموضحة أكثر والشين أعظم والمحل واحد فإذا لم
يزد أرش الموضحة على خمس كان ذلك تنبيها على أن لا يزيد ما دونها عليها، واما سائر البدن فما كان
فيه موقت كالأعضاء والعظام المعلومة والجائفة فلا يزاد جرح عظم على ديته مثاله جرح أنملة فبلغ
أرشها بالحكومة خمسا من الإبل فإنه يرد إلى دية الأنملة، وان جني عليه في جوفه دون الجائفة لم
يزد على أرش الجائفة وما لم يكن كذلك وجب ما أخرجته الحكومة لأن المحل مختلف، فإن قيل فقد
وجب في بعض البدن أكثر مما وجب في جميعه ووجب في منافع اللسان أكثر من الواجب فيه
قلنا إنما وجبت دية النفس عوضا عن الروح وليست الأطراف بعضها بخلاف مسئلتنا هذا ذكره
القاضي، ويحتمل كلام الخرقي أن يختص امتناع الزيادة بالرأس والوجه لقوله الا أن تكون الجناية في
رأس أو وجه فلا يجاوز به أرش الوقت
(فصل) وإذا أخرجت الحكومة في شجاج الرأس التي دون الموضحة قدر أرش الموضحة
أو زيادة عليه فظاهر كلام الخرقي أنه أرش الموضحة، وقال القاضي يجب أن تنقص عنها شيئا
على حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد وهذا مذهب الشافعي لئلا يجب في بعضها ما يجب في جميعها، ووجه
قول الخرقي أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة وإنما سقط الزائد على أرش الموضحة
لمخالفته النص أو تنبيه النص ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل، ولان ما ثبت بالتنبيه يجوز أن يساوي
662

المنصوص عليه في الحكم ولا يلزم أن يزيد عليه كما أنه لما نص على وجوب فدية الأذى في حق
المعذور ولم تلزم زيادتها في حق من لا عذر له ولا يمتنع أن يجب في البعض ما يجب في الكل بدليل
وجوب دية الأصابع مثل دية اليد كلها وفي حشفة الذكر مثل ما في جميعه، فإن قيل هذا وجب بالتقدير
الشرعي لا بالتقويم، قلنا إذا ثبت الحكم بنص الشارع لم يمتنع ثبوت مثله بالقياس عليه والاجتهاد
المؤدي إليه، وفي الجملة فالحكومة دليل ترك العمل بها في الزائد لمعنى مفقود في المساوي فيجب
العمل فيه بها لعدم المعارض ثم وان صح ما ذكروه فينبغي أن ينقص أدنى ما تحصل به المساواة المحذورة
ويجب الباقي عملا بالدليل الموجب له والله أعلم
(فصل) ولا يكون التقويم الا بعد برء الجرح لأن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد برئه
فإن لم تنقصه الجناية شيئا بعد البرء مثل ان قطع إصبعا أو يدا زائدة أو قلع لحية امرأة فلم ينقصه ذلك
بل زاده حسنا فلا شئ على الجاني لأن الحكومة لأجل جبر النقص ولا نقص ههنا فأشبه ما لو لطم
وجهه فلم يؤثر، وان زادته الجناية حسنا فالجاني محسن بجنايته فلم يضمن كما لو قطع سلعة أو ثؤلولا
وبط خراجا، ويحتمل ان يضمن قال القاضي نص احمد على هذا لأن هذا جزء مضمون فلم يعر عن
663

ضمان كما لو أتلف مقدر الأرش فازداد به جمالا أو لم ينقصه شيئا، فعلى هذا يقوم في أقرب الأحوال
إلى البرء لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد برئه قوم في أقرب الأحوال إليه كولد المغرور لما تعذر
تقويمه في البطن قوم عند الوضع لأنه أقرب الأحوال التي أمكن تقويمه إلى كونه في البطن،
وان لم ينقص في تلك الحال قوم والدم جار لأنه لابد من نقص للخوف عليه. ذكره القاضي
ولأصحاب الشافعي وجهان كما ذكرنا: وتقوم لحية المرأة كأنها لحية رجل في حال ينقصه ذهاب
لحيته وإن أتلف سنا زائدة قوم وليس له سن ولا خلفها أصلية ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة،
فإن كانت المرأة إذا قدرناها ابن عشرين نقصها ذهاب لحيتها يسيرا وإن قدرناها ابن أربعين نقصها
كثيرا قدرناها ابن عشرين لأنه أقرب الأحوال إلى حال المجني عليه فأشبه تقويم الجرح الذي
لا ينقص بعد الاندمال فانا نقومه في أقرب أحوال النقص إلى حال الاندمال، والأول أصح إن شاء الله
فإن هذا لا مقدر فيه ولم ينقص شيئا فأشبه الضرب، وتضمين النقص الحاصل حال جريان الدم إنما
هو تضمين الخوف عليه وقد زال فأشبه ما لو لطمه فاصفر لونه حال اللطمة أو احمر ثم زال ذلك،
وتقدير المرأة رجلا لا يصح لأن اللحية زين للرجل وعيب فيها وتقدير ما يعيب بما يزين لا يصح،
664

وكذلك تقدير السن في حالة يراد زوالها بحالة تكره لا يجوز فإن الشئ يقدر بنظيره ويقاس على مثله
لا على ضده ومن قال بهذا الوجه فإنما يوجب أدنى ما يمكن ايجابه وهو أقل نقص يمكن تقديره
(فصل) وإن لطمه على وجهه فلم يؤثر في وجهه فلا ضمان عليه لأنه لم ينقص به جمال ولا منفعة
ولم يمكن له حال ينقص فيها فلم يضمنه كما لو شتمه، وإن سود وجهه أو خضره ضمنه بديته لأنه فوت
الجمال على الكمال فضمنه بديته كما لو قطع أذني الأصم وأنف الأخشم وقال الشافعي ليس فيه إلا
حكومة لأنه لا مقدر فيه ولا هو نظير لمقدر وقد ذكرنا انه نظير لقطع الاذنين في ذهاب الجمال
بل هو أعظم في ذلك فيكون بايجاب الدية أولى وإن زال السواد يرد ما أخذه لزوال سبب الضمان
وإن زال بعضه وجبت فيه حكومة ورد الباقي وإن صفر وجهه أو حمره ففيه حكومة لأن الجمال لم
يذهب على الكمال وهذا يشبه ما لو سود سنه أو غير لونها على ما ذكرنا من التفصيل فيها
" مسألة " قال (وإن كانت الجناية على العبد مما ليس فيه شئ موقت في الحر ففيه ما نقصه بعد
التئام الجرح وإن كان فيما جنى عليه شئ موقت في الحر فهو موقت في العبد ففي يده نصف قيمته
وفي موضحته نصف عشر قيمته نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر وهكذا الأمة)
665

وجملته ان الجناية على العبد يجب ضمانها بما نقص من قيمته لأن الواجب إنما وجب جبرا لما
فات بالجناية ولا ينجبر إلا بايجاب ما نقص من القيمة فيجب ذلك كما لو كانت الجناية على غيره من
الحيوانات وسائر المال ولا يجب زيادة على ذلك لأن حق المجني عليه قد انجبر فلا يجب له زيادة
على ما فوته الجاني عليه هذا هو الأصل ولا نعلم فيه خلافا فيما ليس فيه مقدر شرعي فإن كان الفائت
بالجناية موقتا في الحر كيده وموضحته ففيه عن أحمد روايتان (أحدهما) ان فيه أيضا ما نقصه بالغا
ما بلغ وذكر أبو الخطاب ان هذا اختيار الخلال، وروى الميموني عن أحمد أنه قال إنما يأخذ قيمة
ما نقص منه على قول ابن عباس وروي هذا عن مالك فيما عدا موضحته ومنقلته وهاشمته وجائفته
لأن ضمان ضمان الأموال فيجب فيه ما نقص كالبهائم ولان ما ضمن بالقيمة بالغا ما بلغ ضمن بعضه بما
نقص كسائر الأموال ولان مقتضي الدليل ضمان الفائت بما نقص خالفناه فيما وقت في الحر كما خالفناه
666

في ضمان بقيته بالدية الموقتة ففي العبد يبقى فيهما على مقتضي الدليل، وظاهر المذهب ان ما كان موقتا
في الحر فهو موقت في العبد ففي يده أو عينه أو أذنه أو شفته نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر
قيمته وما أوجب الدية في الحر كالأنف واللسان واليدين والرجلين والعينين والأذنين أوجب قيمة
العبد مع بقاء ملك السيد عليه روي هذا عن علي رضي الله عنه وروي نحوه عن سعيد بن
المسيب وبه قال ابن سيرين وعمر بن العزيز والشافعي والثوري وبه قال أبو حنيفة قال احمد هذا قول
سعيد بن المسيب وقال آخرون ما أصيب به العبد فهو على ما نقص من قيمته، والظاهر أن هذا لو
كان قول علي لما احتج احمد فيه إلا به دون غيره إلا أن أبا حنيفة والثوري قالا ما أوجب الدية
من الحر يتخير سيد العبد فيه بين أن يغرمه قيمته ويصير ملكا للجاني وبين أن لا يضمنه شيئا لئلا
يؤدي إلى اجماع البدل والمبدل لرجل واحد، وروي عن اياس بن معاوية فيمن قطع يد عبد عمدا
أو فقأ عينه هو له وعليه ثمنه.
ووجه هذه الرواية قول علي رضي الله عنه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا ولأنه آدمي يضمن
بالقصاص والكفارة فكان في أطرافه مقدر كالحر. ولان أطرافه فيها مقدر من الحر فكان فيها مقدر
من العبد كالشجاج الأربع عند مالك وما يوجب في شجاجه مقدر وجب في أطرافه مقدر كالحر.
667

وعلى أبي حنيفة قول علي ولأن هذه الأعضاء فيها مقدر فوجب ذلك فيها مع بقاء ملك السيد في
العبد كاليد الواحدة وسائر الأعضاء، ولان من ضمنت يده بمقدر ضمنت يداه بمثليه من غير أن
يملكه كالحر. وقولهم انه اجتمع البدل والمبدل لواحد ليس بصحيح لأن القيمة ههنا بدل العضو
وحده ولو كان بدلا عن الجملة لكان بدل اليد الواحدة بدلا عن نصفه وبدل تسع أصابع بدلا عن
تسعة أعشاره والامر بخلافه، والأمة مثل العبد في ذلك الا انها تشبه بالحرة وإذا بلغت ثلث قيمتها
احتمل ان جنايتها ترد إلى النصف فيكون في ثلاث أصابع ثلاثة أعشار قيمتها وفي أربعة أصابع خمسها
كما أن المرأة تساوي الرجل في الجراح إلى ثلث ديتها فإذا بلغت الثلث ردت إلى النصف والأمة
امرأة فيكون أرشها من قيمتها كأرش الحرة. ويحتمل ان لا يرد إلى النصف لأن ذلك في الحرة على
خلاف الأصل لكون الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية وان كما زاد نقصها وضررها زاد في ضمانها
فإذا خولف هذا في الحرة بقينا في الأمة وفق الأصل
668

(فصل) وإذا جنى على العبد في رأس أو وجه دون الموضحة فنقصته أكثر من أرشها وجب
ما نقصته ويحتمل ان يرد إلى النصف عشر قيمته كالحر إذا زاد أرش شجته التي دون الموضحة على
نصف عشر ديته والأول أولى لأن هذه جراحة لا موقت فيها فكان الواجب فيها ما نقص كما لو كانت
في غير رأسه ولان الأصل وجوب ما نقص خولف في المقدر ففي هذا يبقى على الأصل
" مسألة " قال (وإن كان المقتول خنثى مشكلا ففيه نصف دية ذكر ونصف دية أنثى)
وهذا قول أصحاب الرأي. وقال الشافعي دية أنثى لأنها اليقين فلا يجب الزائد بالشك
ولنا انه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالا واحدا وقد يئسنا من انكشاف حاله فيجب التوسط
بينهما والعمل بكلا الاحتمالين
(فصل) فأما جراحه فما لم يبلغ ثلث الدية ففيه دية جرح الذكر لاستواء الذكر والأنثى في
ذلك وان زاد على الثلث مثل ان قطع يده ففيه ثلاثة أرباع دية الذكر سبعة وثلاثون بعيرا ونصف
ويقاد به الذكر والأنثى لأنهما لا يختلفان في القود ويقاد هو بكل واحد منهما
669

(مسألة) قال (وإن كان المجني عليه نصفه حر ونصفه عبد فلا قود وعلى الجاني إن كان عمدا
نصف دية حر ونصف قيمته وهكذا في جراحه وإن كان خطأ فعليه نصف قيمته وعلى عاقلته
نصف الدية)
يعني لا قود على قاتله إذا كان نصفه حرا لأنه ناقص بالرق فلم يقتل به الحر كما لو كان كله رقيقا وإن كان قاتله
عبدا قتل به لأنه أكمل من الجاني وإن كان نصف القاتل حرا وجب القود لتساويهما وان كانت الحرية في القاتل
أكثر لم يجب القود لعدم المساواة بينهما وفي ذلك كله إذا لم يكن القاتل عبدا فعليه نصف دية حر ونصف قيمته
إذا كان عمدا لأن العاقلة لا تحمل العمد وإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته لأن العاقلة لا تحمل العبد وعلى
عاقلته نصف الدية لأنها دية حر في الخطأ والعاقلة تحمل ذلك. وهكذا الحكم في جراحه إذا كان
قدر الدية من أرشها يبلغ ثلث الدية مثل ان يقطع انفه أو يديه وان قطع إحدى يديه فعقل جميعها
على الجاني في ماله لأن عليه نصف دية اليد وهو ربع ديته لأجل حرية نصفه وذلك دون
ثلث الدية وعليه ربع قيمته
670

(فصل) ودية الأعضاء كدية النفس فإن كان الواجب من الذهب أو الورق لم يختلف بعمد
لا خطأ وإن كان من الإبل وجب في العمد أرباعا على إحدى الروايتين وفي الأخرى يجب خمس
وعشر منها حقاق وخمس وعشر جذاع وخمساها خلفات وفي الخطأ يجب أخماسا فإن لم يكن مثل
ان يوضحه عمدا فإنه يجب أربعة أرباعا والخامس من أحد الأجناس الأربعة قيمته ربع قيمة الأربع
وان قلنا بالرواية الأخرى وجب خلفتان وحقة وجذعة وبعير قيمته نصف قيمة حقة ونصف قيمة
جذعة. وإن كان خطأ وجب الخمس من الأجناس الخمسة من كل جنس بعير وإن كان الواجب
دية أنملة وقلنا يجب من ثلاثة أجناس وجب بعير وثلث من الخلفات وحقة وجذعة. وان قلنا
أرباعا وجب ثلاثة وثلث قيمتها نصف قيمة الأربعة وثلثها وإن كان خطأ فقيمتها ثلثا قيمة الخمس
وعند أصحابنا قيمة كل بعير مائه وعشرون درهما أو عشرة دنانير ولا فائدة في تعيين أسنانها
فإن اختلفت قيمة الدنانير والدراهم مثل ان كانت العشرة دنانير تساوي مائه درهم فقياس قولهم
انه إذا جاء بما قيمته عشرة دنانير لزم المجني عليه قبوله لأنه لو جاءه بالدنانير لزمه قبولها فليزمه
قبول ما يساويهما والله أعلم
(تم بحمد الله وعونه الجزء التاسع..)
671