الكتاب: الشرح الكبير
المؤلف: عبد الرحمن بن قدامه
الجزء: ١١
الوفاة: ٦٨٢
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

الشرح الكبير
على متن المقنع، تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد
بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 682 ه‍ كلاهما على مذهب إمام الأئمة (أبي عبد الله أحمد بن محمد
ابن حنبل الشيباني) مع بيان الخلاف سائر الأئمة وأدلتهم رضي الله عنهم
الجزء الحادي عشر
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصيد
الأصل في إباحة الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (أحل لكم
صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وقال سبحانه (وإذا
حللتم فاصطادوا) وقال سبحانه (يسئلونك ماذا أحل لهم؟ قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح
مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) وأما السنة فروى
أبو ثعلبة الخشني قال اتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله انا بأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد
بكلبي المعلم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم فأخبرني ماذا يصلح لي؟ " قال اما ما ذكرت أنكم بأرض
2

صيد فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم والذي ليس بمعلم فأدركت
ذكاته فكل " متفق عليه وعن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله انا نرسل الكلب المعلم فيمسك
علينا قال " كل " قلت فإن قتل؟ قال " وان قتل ما لم يشركه كلب غيره " قال وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن صيد المعراض قال " ما خرق فكل وما قتل بعرضه فلا تأكل " متفق عليه أيضا وأجمع أهل
العلم على إباحة الاصطياد والاكل من الصيد
* (مسألة) * (ومن صاد صيدا فأدركه حيا حياة مستقرة لم يحل إلا بالذكاة)
اما ما أدرك ذكاته من الصيد فلا يشترط في اباحته سوى صحة التذكية ولذلك قال عليه الصلاة
والسلام " وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل " فاما ان أدركه وفيه حياة
مستقرة فلم يذبحه حتى مات نظرت، فإن كان الزمان لا يتسع لذكاته فمات فإنه يحل أيضا قال قتادة
يأكله ما لم يتوان في ذكاته أو يتركه عمدا وهو قادر على ذكاته ونحوه قول مالك والشافعي وروي
ذلك عن الحسن والنخعي، وقال أبو حنيفة لا يحل لأنه أدركه وفيه حياة مستقرة فتعلقت اباحته
بتذكيته كما لو اتسع الزمان
3

ولنا أنه لم يقدر على ذكاته كالذي قتله الصائد، ويفارق ما قاسوا عليه لأنه أمكنه ذكاته وفرط
بتركها، لو أدركه وفيه حياة مستقرة يعيش بها زمنا طويلا وأمكنه ذكاته ولم يذكه حتى مات لم
يبح سواء كان به جرح يعيش معه أولا وبه قال مالك والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب
الرأي لأن ما كان كذلك فهو في حكم الحي بدليل ان عمر رضي الله عنه كانت جراحاته موجبة فأوصى
وأجيزت وصاياه وأقواله في تلك الحال ولم تسقط عنه الصلاة ولا العبادات ولأنه ترك تذكيته مع
القدرة عليها فأشبه غير الصيد
* (مسألة) * (فإن لم يجد ما يذكيه به أرسل الصائد له عليه حتى يقتله في إحدى الروايتين) واختاره الخرقي
* (مسألة) * (فإن لم يفعل وتركه حتى مات لم يحل وقال القاضي يحل والأخرى لا يحل الا ان يذكيه)
اختلف قول أحمد في هذه المسألة فعنه مثل قول الخرقي وهو قول الحسن وإبراهيم وقال في موضع
إني لأقشعر من هذا يعني أنه لا يراه وهو قول أكثر أهل العلم لأنه مقدور عليه فلم يبح بقتل الجارح
كالانعام وكما لو أخذه سليما. ووجه الأول أنه صيد قتله الجارح له من غير امكان ذكاته فأبيح كما لو
أدركه ميتا ولأنها حال تتعذر فيها الذكاة في الحلق واللبة غالبا فجاز أن تكون ذكاته على حسب الامكان
4

كالمتردية في بئر، وحكي عن القاضي أنه قال في هذا يتركه حتى يموت فيحل لأنه صيد تعذرت تذكيته
فأبيح بموته من غير عقر الصائد له كالذي تعذرت تذكيته لقلة لبثه، والأول أصح لأنه حيوان لا يباح
بغير التذكية إذا كان معه آلة الذكاة فلم يبح بغيرها إذا لم تكن آلة كسائر المقدور على تذكيته، ومسألة
الخرقي محمولة على ما يخاف موته ان لم يقتله الحيوان أو يذكى فإن كان به حياة يمكن بقاؤه إلى أن
يأتي به منزله فليس فيه اختلاف لأنه لا يباح الا بالذكاة
* (مسألة) * (وان رمى صيدا فأثبته ثم رماه آخر فقتله لم يحل ولمن أثبته قيمته مجروحا على قاتله
الا ان يصيب الأول مقتله دور الثاني أو يصيب الثاني مذبحه فيحل وعلى الثاني ما خرق من جلده)
إذا رمى صيدا فأثبته ثم رماه آخر فأصابه لم تخل رمية الأول من قسمين (أحدهما) أن تكون
موجئة مثل ان ينحره أو يذبحه أو تقع في خاصرته أو قلبه فينظر في رمية الثاني فإن كانت غير
موجئة فهو حلال ولا ضمان على الثاني الا ان ينقصه برميه شيئا فيضمن ما نقصه وبالرمية الأولى صار
مذبوحا، وان كانت رمية الثاني موجئة فقال القاضي وأصحابه يحل كالتي قبلها وهو مذهب الشافعي
5

ويجئ على قول الخرقي أن يكون حراما كما لو ذبح حيوان فغرق في ماء أو ولئ عليه شئ فقتله
وقد ذكرناه (القسم الثاني) أن يكون جرح الأول غير موجئ فينظر في رمية الثاني فإن كانت موجئة
فهو محرم لما ذكرنا الا أن تكون رمية الثاني ذبحته أو نحرته
(فصل) فإن لم تكن جراحة الثاني موجئة فله ثلاث صور (أحدها) ان يذكى بعد ذلك فيحل
(الثانية) لم يذك حتى مات فهو حرام لأنه مات من جرحين مبيح ومحرم فحرم كما لو مات من
جرح مسلم ومجوسي وعلى الثاني ضمان جميعه لأن جرحه هو الذي حرمه فكان جميع الضمان عليه (الثانية)
قدر على ذكاته فلم يذكه حتى مات فيحرم لمعنيين (أحدهما) أنه ترك ذكاته مع امكانه (الثاني) أنه
مات من جرحين مبيح ومحرم ويلزم الثاني الضمان وفي قدره احتمالان (أحدهما) يضمن جميعه كالتي
قبلها (الاحتمال الثاني) يضمن بقسط جرحه لأن الأول إذا ترك الذبح مع إمكانه كان جرحه حاضرا
أيضا بدليل ما لو انفرد وقتل الصيد فيكون الضمان منقسما عليهما، وذكر القاضي في قسمه عليهما ان
يقسط أرش جرح الأول وعلى الثاني أرش جراحته ثم يقسم ما بقي من القيمة بينهما نصفين، وفرض
المسألة في صيد قيمته عشرة دراهم نقصه جرح الأول درهما ونقصه جرح الثاني درهما فعليه درهم
6

ويقسم الباقي وهو ثمانية بينهما نصفين فيكون على الثاني خمسة دراهم درهم بالمباشرة وأربعة بالسراية
وتسقط حصة الأول وهي خمسة، وإن كان أرش جرح الثاني درهمين لزماه ويلزمه نصف السبعة
الباقية ثلاثة ونصف وذلك خمسة ونصف وتسقط حصة الأول أربعة ونصف، فإن كانت جنايتهما
مملوكة لغيرهما قسم الضمان عليهم كذلك، قال شيخنا: ويتوجه على هذه الطريقة انه سوى بين الجنايتين
مع أن الثاني جنى عليه وقيمته دون قيمته يوم جنى عليه الأول وإن لم يدخل أرش الجناية في بدل
النفس كما يدخل في الجناية على الآدمي قال شيخنا والجواب عن هذا ان كل واحد منهما انفرد باتلاف
ما قيمته درهم وتساويا في اتلاف الباقي بالسراية وتساويا في الضمان وإنما يدخل أرش الجناية في بدل
النفس التي لا ينتقص بدلها باتلاف بعضها وهو الآدمي، أما البهائم فإذا جنى عليها جناية أرشها درهم
نقص ذلك من قيمتها فإذا سرى إلى النفس أوجبنا ما بقي من قيمة النفس ولم يدخل الأرش فيها
وذكر أصحاب الشافعي في قسمة الضمان طرقا ستة (أصحها) عندهم ان يقال إن الأول أتلف نصف
نفس قيمتها تسعة فيلزمه أربعة ونصف فيكون المجموع تسعة ونصفا وهي أقل من قيمته لأنها عشرة
فتقسم العشرة على تسعة ونصف فيسقط عن الأول ما يقابل أربعة ونصفا، ويتوجه على هذا ان كل
7

واحد منهما يلزمه أكثر من قيمة نصف الصيد حين جنى عليه، وان كانت الجراحات من ثلاثة فإن
كان الأول أثبته فعلى طريقة القاضي على كل واحد أرش جرحه وتقسم السراية عليهم أثلاثا وإن كان
المثبت له الثاني فجراحة الأول هدر لا عبرة بها والحكم في جرجي الآخرين كما ذكرنا وعلى
الطريقة الأخرى الأول أتلف ثلث نفس قيمتها عشرة فيلزمه ثلاثة وثلث والثاني أتلف ثلثها وقيمتها
تسعة فيلزمه ثلاثة (والثالث) أتلف ثلثها وقيمتها ثمانية فيلزمه درهمان وثلثان فمجموع ذلك تسعة
تقسم عليها العشرة حصة كل واحد منهم ما يقابل ما أتلفه، وان أتلفوا شاة مملوكة لغيره ضمنوها كذلك
(فصل) فإن رمياه معا فقتلاه كان حلالا وملكاه لا نهما اشتركا في سبب الملك والحلل تساوى
الجرحان أو تفاوتا لأن موته كان بهما فإن كان أحدهما موجئا والآخر غير موجئ ولا يثبته مثله فهو
لصاحب الجرح الموجئ لأنه الذي أثبته وقتله، ولا شئ على الآخر لأن جرحه كان قبل ثبوت ملك
الاخر فيه وان اصابه أحدهما بعد صاحبه فوجدناه ميتا لم نعلم هل صار بالأول ممتنعا أولا؟ حل لأن
الأصل الامتناع ويكون بينهما لأن أيديهما عليه، فإن قال كل واحد منهما انا أثبته ثم قتلته أنت حرم
لأنهما اتفقا على تحريمه ويتخالفان لأجل الضمان، ان اتفقا على الأول منهما فادعى الأول أنه أثبته
8

ثم قتله الاخر وأنكر الثاني اثبات الأول له فالقول قول الثاني لأن الأصل امتناعه ويحرم على الأول
لاقراره بتحريمه والقول قول الثاني في عدم الامتناع مع يمينه، وان علمت جراحة كل واحد منهما نظر
فيها فإن علم أن جراحة الأول لا يبقى معها امتناع مثل ان كسر جناح الطير أو ساق الظبي فالقول
قول الأول بغير يمين، وان علم أنه لا يزيل الامتناع مثل خدش الجلد فالقول قول الثاني وان احتمل
الامرين فالقول قول الثاني لأن الأصل معه وعليه اليمين لأن ما ادعاه الأول محتمل
* (مسألة) * (وان أدرك الصيد متحركا كحركة المذبوح فحكمه حكم الميت لا يحتاج إلى ذكاة)
لأن عقره كذكاته، ومتى أدركه ميتا حل بشروط أربعة (أحدها) أن يكون من أهل الذكاة
وهو أن يكون مسلما عاقلا أو كتابيا فإن كان وثنيا أو مجوسيا أو مرتدا أو من غير المسلمين وأهل
الكتاب أو مجنونا لم يبح صيده لأن الاصطياد أقيم مقام الذكاة والجارح مقام الآلة كالسكين وعقره للحيوان
بمنزلة افراء الأوداج قال النبي صلى الله عليه وسلم " فإن أخذ الكلب له ذكاة " والصائد بمنزلة المذكي
فتشترط الأهلية فيه
9

(فصل) فاما ما لا يفتقر إلى الذكاة كالحوت والجراد فيباح إذا صاده المجوسي ومن لا تباح
ذبيحته وقد أجمع على ذلك أهل العلم غير أن مالكا والليث وأبا ثور شذوا عن الجماعة وافرطوا فقال
مالك والليث لا نرى ان يؤكل الجراد إذا صاده المجوسي ورخصا في السمك، وأباح أبو ثور صيد
المجوسي وذبيحته وقد ذكرنا ذلك في باب الذكاة
* (مسألة) * (فإن رمى مسلم ومجوسي صيدا أو أرسلا عليه جارحا أو شارك كلب المجوسي كلب
المسلم في قتله لم يحل، وان أصاب أحدهما المقتل دون الآخر حل ويحتمل أن لا يحل)
متى رمى مسلم ومجوسي أو من ليس من أهل الذكاة صيدا أو أرسلا عليه جارحا فمات بذلك
لم يحل لأنه اجتمع في قتله مبيح ومحرم فغلب التحريم كالمتدلد بين ما يؤكل وبين مالا يؤكل، وكذلك
ان شارك كلب المجوسي كلب المسلم في قتله لما ذكرنا ولان الأصل الحظر، والحل موقوف على شرط
وهو ان يذكيه من هو من أهل الذكاة أو صيده الذي حصلت التذكية به ولم يتحقق ذلك وكذلك
ان رمياه بسهميهما فأصاباه فمات لما ذكرناه ولا فرق بين ان يقع سهماهما فيه دفعة واحدة أو يقع
أحدهما قبل الآخر، فإن أصاب أحدهما مقتله دون الاخر مثل أن يكون قد عقره (1) عقرا موحيا مثل ان ذبحه
أو جعله في حكم المذبوح ثم اصابه الثاني وهو غير موح ويجئ، على قول الخرقي ان لا يباح فإنه قال

(1) هذا نقص ونصه مذبوح فيكون الحكم للأول فإن كان الأول المسلم أبيح وإن كان المجوسي لم يبح وإن كان الثاني موحيا أيضا فقال أكثر أصحابنا الحكم للأول أيضا لأن الإباحة حصلت به فأشبه ما لو كان الثاني غير اه‍ من المعني
10

إذا ذبح فأتى على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء لم تؤكل ولان الروح خرجت بالجرحين
فأشبه ما لو جرحاه معا وإن كان الأول ليس بموح فالحكم للثاني في الحظر والإباحة
(فصل) فإن ارسل مسلمان كلبيهما على صيد وسمى أحدهما دون الآخر وكان أحد الكلبين
غير معلم فقتلا صيدا لم يحل، وكذلك ان ارسل كلبه المعلم فاستهل معه معلم اخر بنفسه فقتلا الصيد في
قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي يحل ههنا
ولنا أن ارسال الكلب على الصيد شرط لما نذكره ولم يوجد في أحدهما.
(فصل) إذا أرسل جماعة كلابا وسموا فوجدوا الصيد قتيلا لا يدرون من قتله حل أكله فإن
اختلفوا في قاتله وكانت الكلاب متعلقة به فهو بينهم على السواء لأن الجميع مشتركة في امساكه
فأشبه ما لو كان في أيدي الصيادين وعبيدهم، وإن كان البعض متعلقا به دون باقيها فهو لمن كلبه معلق
11

به وعلى من حكمنا له به اليمين في المسئلتين، لأن دعواه محتملة فكانت اليمين عليه كصاحب، اليد وإن كان
قتيلا والكلاب ناحية وقف الامر حتى يصطلحوا ويحتمل أن يقرع بينهم فمن قرع صاحبه
حلف وكان له، وهذا قول أبي ثور قياسا على ما لو تداعيا دابة في يد غيرهما وعلى الأول إذا خيف فساده
قبل اصطلاحهم عليه باعوه ثم اصطلحوا على ثمنه.
* (مسألة) * (وان رد كلب المجوسي إلى كلب المسلم فقتله حل أكله) وهذا قول الشافعي وأبي
ثور وقال أبو حنيفة لا يحل لأن كلب المجوسي عاون في اصطياده فأشبه إذا عقره.
ولنا أن جارحة المسلم انفردت بقتله فأبيح كما لو رمى المجوسي سهمه فرد الصيد فأصابه سهم
المسلم فقتله أو أمسك مجوسي شاة فذبحها مسلم وبهذا يبطل ما قاله.
* (مسألة) * (وان صاد المسلم بكلب المجوسي حل صيده).
وعنه لا يحل صيد المسلم بكلب المجوسي في الصحيح من المذهب، وبه قال سعيد بن المسيب
والحكم ومالك والشافعي وأبو ثور وإسحاق وأصحاب الرأي وعنه لا يباح وكرهه جابر والحسن
ومجاهد والنخعي والثوري لقول الله تعالى (وما علمتم من الجوارح) وهذا لم يعلمه وعن الحسن انه كره
الصيد بكلب اليهودي والنصراني لهذه الآية.
12

ولنا انه آلة صاد بها المسلم فحل صيده كالقوس والسهم، وقال ابن المسيب هو بمنزلة شفرته والآية
دلت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا فهو فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه، يحققه
أن التعليم إنما أثر في جعله آلة ولا تشترط الأهلية في ذلك هنا كعمل القوس والسهم وإنما أثر فيما
أقيم مقام الزكاة وهو ارسال الآلة من الكلب والسهم وقد وجد الشرط هنا.
* (مسألة) * (وان صاد المجوسي بكلب المسلم لم يحل صيده في قول الجميع)
* (مسألة) * (وان ارسل المسلم كلبا فزجره المجوسي حل صيده لأن الصائد هو المسلم وان
أرسله مجوسي فزجره مسلم لم يحل لأن الصائد هو المجوسي).
(فصل) الثاني الآلة وهي نوعان: محدد فيشترط له ما يشترط لآلة الذكاة ولابد أن يجرحه
فإن قتله بثقله لم يحل لأنه وقذ فيدخل في عموم قوله تعالى (والموقوذة)
* (مسألة) * (وان أصاب بالمعراض اكل ما قتل بحده دون عرضه)
المعراض عود محدد وربما جعل في رأسه حديدة.
قال احمد المعراض يشبه السهم يحذف به الصيد فربما أصاب الصيد بحده فخرق وقتل فيباح.
13

وربما أصاب بعرضه فقتل بثقله فيكون موقوذا فلا يباح وهذا قول علي وسليمان وعمار وابن عباس
وبه قال النخعي والحكم ومالك والثوري والشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وقال الأوزاعي
والحكم وأهل الشام يباح ما قتل بحده وعرضه وقال ابن عمر ما رمي من الصيد بجلاهق أو معراض
فهو من الموقوذة وبه قال الحسن.
ولنا ما روى عدي بن حاتم قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال " ما خرق فكل
وما قتل بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل " متفق عليه، وهذا نص صريح ولان ما قتل بحده بمنزلة ما طعنه
برمحه أو رماه بسهمه، ولأنه محدد خرق وقتل بحده وما قتل بعرضه إنما يقتله بثقله فهو موقوذ كالذي رماه بحجر
أو بندق ويحمل قول ابن عمر في تحريم ما قتل بالمعراض على ما قتل بعرضه ولأنه شبهه بالبندق.
(فصل) وحكم آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد
كالسهم يصيب الطائر بعرضه فيقتله أو الرمح والحربة والسيف يضرب به صفحا فيقتل فكل ذلك
حرام، وكذا ان أصاب بحده فلم يجرح وقتل بثقله لم يبح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما خرق فكل "
ولأنه إذا لم يجرحه فإنما يقتل بثقله فأشبه ما أصاب بعرضه.
14

* (مسألة) * (وان نصب مناجل أو سكاكين وسمى عند نصبها فقتلت صيدا أبيح فإن بان
منه عضو فحكمه حكم البائن بضربة الصائد على ما نذكره).
وروي نحو هذا عن ابن عمر وهو قول الحسن وقتادة، وقال الشافعي لا يباح بحال لأنه لم يذكه
أحد وإنما قتلت المناجل بنفسها ولم يوجد من الصائد إلا السبب فجرى ذلك مجرى من نصب سكينا
فذ بحث شاة ولأنه لو رمى سهما وهو لا يرى صيدا فقتل صيدا لم يحل فذا أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " كل ما ردت عليك يدك " ولأنه قصد قتل الصيد بما له حد جرت العادة
بالصيد به أشبه ما ذكرنا والتسبب يجري مجرى المباشرة في الضمان فكذلك في إباحة الصيد، وفارق
ما إذا نصب سكينا فإن العادة لم تجر بالصيد بها وإذا رمى سهما ولم يرم صيدا فليس ذلك بمعتاد والظاهر أنه
لا يصيب صيدا فلم يصح قصده بخلاف هذا.
* (مسألة) * (وإذا قتله بسهم مسموم لم يبح إذا غلب على الظن أن السم أعان على قتله)
إنما كان كذلك لأن ما قتله السم محرم وما قتله السهم مباح فإذا مات بسبب مباح ومحرم حرم
كما لو مات بسهمي مسلم، فأما ان علم أن السم لم يعن على قتله لكون السهم أوحى منه فهو مباح.
15

* (مسألة) * (وان رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل أو وطئ عليه شئ فقتله لم يبح إلا
أن تكون الجراح موحية كالذكاة فهل يحل؟ على روايتين).
إذا وقع في ماء يقتله مثله أو تردى ترديا يقتله مثله فلا يحل إذا لم تكن الجراح موحية فإن كانت
الجراح موحية كالذكاة ففيه روايتان (إحداهما) لا يحل وهو الذي ذكره الخرقي، وهي المشهورة
عن أحمد وهو ظاهر قول ابن مسعود وعطاء وأصحاب الرأي (والرواية الثانية) يحل وهو قول
أكثر أصحابنا المتأخرين ولا يضر وقوعه في الماء ولا ترديه، هو قول الشافعي ومالك والليث وقتادة
وأبي ثور لأن هذا صار في حكم الميت بالذبح فلا يؤثر فيه ما أصابه. ووجه الأولى قوله عليه الصلاة
والسلام " وان وجدته غريقا في الماء فلا تأكل " ولأنه يحتمل أن الماء أعان على خروج روحه فصار
بمنزلة ما لو كانت الجراحة غير موحية ولا خلاف في تحريمه إذا كانت الجراح غير موحية، فاما ان
وقع في الماء على وجه لا يقتله مثل أن يكون رأسه خارجا من الماء أو يكون من طير الماء الذي لا يقتله
الماء أو كان التردي لا يقتل مثل ذلك الحيوان فلا خلاف في إباحته، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم
16

" وان وجدته غريقا في الماء فلا تأكله " يقتضي أن يغرق جميعه، ولان الوقوع في الماء والتردي
إنما حرم خشية أن يكون قاتلا أو معينا على القتل وهذا منتف فيما ذكرناه
* (مسألة) * (فإن رماه في الهواء فوقع على الأرض فمات حل)
إذا رمى طائرا في الهواء أو على شجرة أو جبل فوقع على الأرض فمات به حل وبه قال الشافعي
وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال مالك لا يحل إلا أن تكون الجراح موحية أو يموت قبل سقوطه وحكي
ابن أبي موسى عن أحمد رواية نحو ذلك لقوله تعالى (والمتردية) ولأنه اجتمع المبيح والحاظر فغلب
الحاظر كما لو غرق.
ولنا أنه صيد سقط بالإصابة سقوطا لا يمكن الاحتراز عن سقوطه عليه فوجب أن يحل كما لو
أصاب الصيد فوقع على جنبه ويخالف ما ذكروه فإن الماء يمكن التحرز عنه بخلاف الأرض.
* (مسألة) * (وان رمى صيدا فغاب ثم وجده ميتا لا اثر به غير سهمه حل وعنه ان كانت الجراح موحية
حل وإلا فلا وعنه ان جده في يومه حل وإلا فلا وان وجد به غير أثر سهمه مما يحتمل انه أعان على قتله لم يبح)
17

متى رمى صيدا فغاب عن عينه فوجده ميتا وسهمه فيه لا أثر به غيره حل أكله. هذا المشهور
عن أحمد وكذلك لو ارسل كلبه على صيد فغاب عن عينه ثم وجده ميتا ومعه كلبه حل وهذا قول الحسن
وقتادة عن أحمد ان كانت الجراح موحية حل والا فلا لأنها إذا كانت موحية لم يتأخر الموت عنها ولم
تجز نسبة الموت إلى غيرها الا بوجود مثلها أو أوحى بخلاف غيرها، وعنه ان وجده في يومه حل والا فلا قال
احمد ان غاب نهارا فلا بأس وان غاب ليلا لم يأكله وعن مالك كالروايتين وعن أحمد ما يدل على أنه ان غاب
مدة طويلة لم يبح وان كانت يسيرة أبيح قيل له ان غاب يوما؟ قال يوم كثير، ووجه ذلك قول ابن
عباس إذا رميت فاقعصت فكل وان رميت فوجدت فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل وان غاب عنك
ليلة فلا تأكل فإنك لا تدري ما حدث به بعدك. وكره عطاء والثوري أكل ما غاب وعن أحمد مثل
ذلك وللشافعي فيه قولان لأن ابن عباس قال: كل ما أصميت وما أنميت فلا تأكل، قال الحكم
الاصماء الاقعاص يعني انه يموت في الحال والانماء ان يغيب عنك يعني انه لا يموت في الحال قال الشاعر
فهو لا تنمي رميته * ماله لا عد من نفره
وقال أبو حنيفة يباح ان لم يكن ترك طلبه وان تشاغل عنه ثم وجده لم يبح
18

ولنا ما روى عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس
به الا أثر سهمك فكل، وان وجدته غريقا في الماء فلا تأكل " متفق عليه، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده ان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أفتني في سهمي قال " ما رد عليك سهمك فكل "
قال وان تغيب عني؟ قال " وان تغيب عنك ما لم تجد فيه اثرا غير سهمك أو تجده قد صل " رواه أبو داود
وعن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا رميت الصيد فأدركته بعد ثلاث وسهمك فيه فكله ما لم
ينتن " ولان جرحه سبب إباحته وقد وجد يقينا والمعارض له مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك
ولأنه جده وسهمه فيه ولم يجد به أثرا آخر فأشبه ما لو لم يترك طلبه عند أبي حنيفة أو كما لو غاب نهارا
أو مدة يسيرة أو كما لو لم يغب. إذا ثبت هذا فإنه يشترط لحله شرطان (أحدهما) ان يجد سهمه فيه أو اثره
ويعلم انه أثر سهمه لأنه إذا لم يكن كذلك فهو شاك في وجود المبيح فلا يثبت بالشك (والثاني) ان لا يجد
به أثرا غير أثر سهمه مما يحتمل انه أعان على قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما لم تجد فيه اثرا غير سهمك "
وفي لفظ " ان وجدت فيه اثر غير سهمك فلا تأكله فإنك لا تدري أقتلته أنت أو غيرك " رواه
الدارقطني وفي لفظ " إذا وجدت فيه سهمك ولم يأكل منه سبع فكل منه " رواه النسائي وفي حديث عدي ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال " فإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به الا أثر سهمك فكل وان وقع في
19

الماء فلا تأكل " رواه البخاري ولأنه إذا وجد به أثرا يصلح أن يكون قد قتله أو أعان على قتله فقد
تحقق المعارض فلم يبح كما لو جد مع كلبه كلبا سواه، فأما إن كان الأثر مما لا يقتل مثله مثل أكل
حيوان ضعيف كالسنور والثعلب من حيوان قوي فهو مباح لأن هذا يعلم أنه لم يقتله فهو كما لو تهشم من وقعته
* (مسألة) * (وان ضربه فأبان منه عضو أو بقيت فيه حياة مستقرة لم يبح ما أبان منه وان بقي
معلقا بجلده حل وان أبانه ومات في الحال حل الجميع وعنه لا يباح ما أبان منه)
وجملة ذلك أنه إذا رمى صيدا أو ضربه فأبان منه بعضه لم يخل من ثلاثة أقسام (أحدها) ان يقطعه
قطعتين أو يقطع رأسه فيحل جميعه سواء كانت القطعتان متساويتين أو متفاوتتين وبهذا قال الشافعي
وروي ذلك عن عكرمة والنخعي وقتادة، قال أبو حنيفة ان كانتا متساويتين أو التي مع الرأس أقل
حلتا وإن كانت الأخرى أقل لم تحل وحل الرأس وما معه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما أبين من حي فهو ميت "
ولنا أنه جزء لا تبقى الحياة مع فقده فأبيح كما لو تساوت القطعتان (والثاني) ان يبين منه عضو
وتبقى فيه حياة مستقرة فالبائن محرم بكل حال سواء بقي الحيوان حيا أو أدركه فذكاه أو رماه
20

بسهم آخر فقتله الا أنه ان ذكاه حل بكل حال دون ما أبان منه، وان ضربه في غير مذبحه فقتله نظرت، فإن لم
يكن أثبته بالضربة الأولى حل دون ما أبان منه، وإن كان أثبته لم يحل شئ منه لأن ذكاة المقدور
في الحلق واللبة (الثالث) أبان منه عضوا ولم تبق فيه حياة مستقرة ففيها روايتان (أشهرهما) عن أحمد
إباحتها قال أحمد إنما حديث النبي صلى الله عليه وسلم " ما قطعت من الحي ميتة إذا قطعت وهي حية تمشي وتذهب " أما إذا
كانت البينونة والموت جميعا أو بعده بقليل إذا كان في علاج الموت فلا باس به الا ترى الذي يذبح
ربما مكث ساعة وربما مشى حتى يموت، وهذا مذهب الشافعي وروي ذلك عن علي وعطاء والحسن وقال قتادة
وإبراهيم وعكرمة ان وقعا معا أكلهما وان مشى بعد قطع العضو اكله ولم يأكل العضو
(والرواية الثانية) لا يباح ما بان منه وهو مذهب أبي حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أبين من حي
فهو ميت " ولأن هذه البينونة لا تمنع بقاء الحيوان في العادة فلم يبح أكل البائن كما لو أدركه الصياد
وفيه حياة مستقرة والأولى المشهورة لأن ما كان ذكاة لبعض الحيوان كان ذكاة لجميعه كما لو قده
نصفين والخبر يقتضي أن يكون الباقي حيا حتى يكون المنفصل منه ميتا وكذا نقول قال فإن بقي معلقا
بجلده حل رواية واحدة ذكره أبو الخطاب لأنه لم يبن
21

(فصل) قال أحمد ثنا هشيم عن منصور عن الحسن انه كان لا يرى بالطريدة بأسا كان المسلمون
يفعلون ذلك في مغازيهم واستحسنه أبو عبد الله قال والطريدة الصيد يقع بين القوم فيقطع ذامنه بسيفه
قطعة ويقطع الآخر أيضا حتى يؤتى عليه وهو حي قال وليس هو عندي الا ان الصيد يقع بينهم
لا يقدرون على ذكاته فيقطعونه قطعا
* (مسألة) * (وان اخذ قطعة من حوت وأفلت حيا أبيح ما أخذ منه)
لأن أقصى ما فيه انه ميت وميتته حلال لقوله عليه الصلاة والسلام في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته "
* (مسألة) * (وأما ما ليس بمحدد كالبندق والعصي والحجر والشبكة والفخ فلا يباح ما قتل به) لأنه وقيذ
أما ما قتلته الشبكة والحبل فهو محرم لا نعلم فيه خلافا الا عن الحسن انه مباح إذا قتله
الحبل إذا سمى فدخل فيه وجرحه وهذا قول شاذ يخالف عوام أهل العلم ولأنه قتل بما ليس له
حد أشبه ما قتله بالبندق
(فصل) فأما ما قتل البندق والحجر الذي لا حد له فلا يؤكل وهذا قول عامة الفقهاء فأما الحجر
المحدد كالصوان فهو كالمعراض ان قتل بحده أبيح وان قتل بعرضه أو ثقله فهو وقيذ لا يباح قال
22

ابن عمر في المقتولة بالبندق: تلك الموقوذة وكره ذلك سالم والقاسم ومجاهد وعطاء والحسن وإبراهيم
ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور. ورخص فيما قتل بها ابن المسيب أيضا وعمار وعبد الرحمن ابن أبي ليلى
ولنا قوله تعالى (حرمت عليكم الميتة - إلى قوله - والموقوذة) وروى سعيد باسناده عن إبراهيم عن
عدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا تأكل من البندقة الا ما ذكيت " وقال عمر رضي الله عنه ليتق
أحدكم ان يحذف الأرنب بالعصا والحجر ثم قال ولتذك لكم الأسل الرماح والنبل. إذا ثبت هذا
فسواء شدخه أو لم يشدخه حتى لو رماه ببندقة فقطعت حلقوم طائر ومريئه أو أطارت رأسه لم يحل
ومثله لو فعل ذلك بحجر غير محدد
(فصل) أجمع أهل العلم على تحريم صيد المجوسي إذا لم يذكه من هو من أهل الذكاة الا مالا ذكاة
له كالسمك والجراد، الا ان مالكا والليث وأبا ثور شذوا عن الجماعة وأفرطوا، فاما مالك والليث فقالا
لا نرى يؤكل الجراد إذا صاده المجوسي ورخصا في السمك، وأبا ثور أباح صيده لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وهذا قول يخالف الاجماع فلا عبرة به والحديث إنما أريد
به قبول الجزية منهم لا تحليل ذبائحهم ونسائهم لمخالفته الاجماع
23

(النوع الثاني) الجارحة فيباح ما قتلته ان كانت معلمة الا الكلب الأسود البهيم فلا يباح صيده،
ولا خلاف في اعتبار شرط التعليم في الجارحة لقوله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم
الله فكلوا مما أمسكن عليكم) فاما الكلب الأسود البهيم فلا يباح صيده، والبهيم الذي لا يخالط لونه لون
سواه قال أحمد الذي ليس فيه بياض قال ثعلب وإبراهيم الحربي كل لون لم يخالطه لون آخر فهو بهيم قيل لهما
من كل لون؟ قال نعم، وممن كره صيده الحسن والنخعي وقتادة وإسحاق قال احمد ما اعرف أحدا يرخص فيه
يعني من السلف وأباح صيده أبو حنيفة ومالك والشافعي لعموم الآية والخبر والقياس على غيره من الكلاب
ولنا أنه كلب محرم اقتناؤه فلم يبح صيده كغير المعلم ودليل تحريم اقتنائه قول النبي صلى الله عليه وسلم
" فاقتلوا منها كل أسود بهيم " رواه سعيد وغيره وروى مسلم في صحيحه باسناده عن عبد الله بن
المغفل قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها فقال " عليكم بالأسود البهيم ذي
النكتتين فإنه شيطان " فأمر بقتله وما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه فلم يبح صيده كغير المعلم ولان
النبي صلى الله عليه وسلم سماه شيطانا ولا يجوز اقتناء الشيطان، وإباحة الصيد المقتول رخصة فلا تستباح بمحرم
24

كسائر الرخص والعمومات مخصوصة بما ذكرناه، وإن كان فيه نكتتان فوق عينيه لم يخرج بذلك
عن كونه بهيما لما ذكرنا من الخبر
* (مسألة) * (والجوارح نوعان ما يصيد بنابه كالكلب والفهد فتعليمه بثلاثة أشياء، ان يسترسل
إذا ارسل وينزجر إذا زجر وإذا أرسل لم يأكل)
* (مسألة) * (ولا يعتبر تكرر ذلك منه)
هذا قول الشريف أبي جعفر وأبي الخطاب بل يحصل ذلك بالمرة لأنه تعلم صنعة فلا يعتبر فيه
التكرار كسائر الصنائع، وقال القاضي يعتبر تكرار ذلك منه مرة بعد أخرى حتى يصير معلما في العرف
وأقل ذلك ثلاث وهو قول أبي يوسف ومحمد ولم يقدر أصحاب الشافعي عدد المرات لأن التقدير
بالتوقيف ولا توقيف في هذا بل قدره بما يصير به في العرف معلما، وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا
تكرر مرتين صار معلما لأن التكرار يحصل بمرتين وإنما اشترطنا التكرار لأن تركه للاكل
يحتمل أن يكون لشبع ويحتمل أن يكون لتعليم فلا يتميز ذلك الا بالتكرار وما اعتبر فيه التكرار
25

اعتبر ثلاثا كالمسح في الاستحمار والاقرار والشهود في العدة والغسلات في الوضوء. ويفارق الصنائع
فإنه لا يتمكن من فعلها الا من تعلمها فإذا فعلها علم أنه تعلمها وعرفها، وترك الاكل ممكن الوجود من
المتعلم وغيره فيوجد من الصنفين جميعا فلا يتميز به أحدهما من الاخر حتى يتكرر
(فصل) قد ذكرنا ان ترك الأكل شرط لكون الجارح المذكور معلما وحكي عن ربيعة ومالك
أنه لا يشترط ترك الأكل لما روى أبو ثعلبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أرسلت كلبك المعلم
وذكرت اسم الله عليه فكل وان أكل " ذكره الإمام أحمد ورواه أبو داود
ولنا ان العادة في المعلم ترك الأكل فاعتبر شرطا كالانزجار إذا زجر وحديث أبي ثعلبة معارض
بما روي عدي بن حاتم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فإن أكل فلا تأكل فاني أخاف أن يكون إنما
أمسك على نفسه " وهذا أولى بالتقديم لأنه أصح وهو متفق عليه ولأنه متضمن للزيادة وهو ذكر
الحكم معللا ثم إن حديث أبي ثعلبة محمول على جارحة ثبت تعليمها لقوله " إذا أرسلت كلبك المعلم "
ولا يثبت التعليم حتى يترك الاكل، إذا ثبت هذا فإن الانزجار بالزجر إنما يعتبر قبل إرساله على
الصيد أو رؤيته أما بعد ذلك فإنه لا يعتبر الانزجار بحال قال شيخنا ولا أحسب هذه الخصال تعتبر في
26

غير الكلب فإنه الذي يجيب صاحبه إذا دعاه وينزجر إذا زجره والفهد لا يكاد يجيب داعيا وان
عد متعلما فيكون التعليم في حقه ترك الأكل خاصة أو بما يعده به أهل العرف معلما
* (مسألة) * (فإن أكل بعد تعلمه لم يحرم ما تقدم من صيده ولم يبح ما اكل منه في إحدى
الروايتين والأخرى يحل)
أصح الروايتين ان ما اكل منه لا يباح ويروى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وبه قال
عطاء وطاوس وعبيد بن عمير والشعبي والنخعي وسويد بن عفلة وأبو بردة وسعيد بن جبير وعكرمة
والضحاك وقتادة وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه (والثانية) يباح روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص
وسلمان وأبي هريرة وابن عمر حكاه عنهم الإمام أحمد وبه قال مالك وللشافعي قولان كالمذهبين
واحتج من أباحه بعموم قوله تعالى (فكلوا مما أمسكن عليكم) ولحديث أبي ثعلبة ولأنه صيد
جارح معلم فأبيح كما لو لم يأكل فإن الاكل يحتمل أن يكون لفرط جوع أو غيظ على الصيد
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله
فكل مما أمسك عليك " قلت وان قتل؟ قال " وان قتل الا ان يأكل الكلب فإن أكل فلا
27

تأكل فاني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه " متفق عليه ولان ما كان شرطا في الصيد الأول
كان شرطا في سائر صيوده كالارسال والتعليم فاما الآية فلا تتناول هذا الصيد لأنه قال (مما
أمسكن عليكم) وهذا إنما أمسك على نفسه
واما حديث أبي ثعلبة فقال احمد يختلفون عن هشيم فيه وحديثنا أصح لأنه متفق عليه وحديث
عدي أضبط ولفظه أبين لأنه ذكر الحكم والعلة، قال احمد حديث الشعبي عن عدي من أصح
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الشعبي يقول كان جاري وربيطي فحدثني والعمل عليه ويحتمل أنه أكل
منه بعد أن قتله وانصرف عنه
(فصل) ولا يحرم ما تقدم من صيده في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة يحرم لأنه
لو كان معلما ما اكل
ولنا عموم الآية والاخبار وإنما خص ما أكل منه ففيما عداه يجب العمل بالعموم ولان اجتماع
شروط التعليم حاصل فوجب الحكم به ولهذا حكمنا بحل صيده فإذا وجد الاكل احتمل أن يكون
لنسيان أو فرط جوع فلا يترك ما ثبت يقينا بالاحتمال
28

(فصل) ولا يحرم ما صاده الكلب بعد الصيد الذي أكل منه ويحتمل كلام الخرقي أنه يخرج
عن أن يكون معلما فتعتبر له شروط التعليم ابتداء والأول أولى لما ذكرنا في صيده قبل الاكل
(فصل) فإن شرب من دمه ولم يأكل منه لم يحرم نص عليه أحمد وبه قال عطاء والشافعي
وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وكرهه الشعبي والثوري لأنه في معنى الاكل
ولنا عموم الآية والاخبار وإنما خرج منه ما اكل منه لحديث عدي وهو قوله " فإن اكل منه
فلا تأكل " وهذا لم يأكل ولان الدم لا يقصده الصائد منه ولا ينتفع به فلا يخرج بشربه
عن أن يكون ممسكا على صائده
(فصل) وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم كالفهد وجوارح الطير فحكمه
حكم الكلب في إباحة صيده قال ابن عباس في قوله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين) هي
الكلاب المعلمة وكل طير تعلم الصيد والفهود والصقور وأشباهها وبمعنى ذلك قال طاووس ويحيى
ابن أبي كثير والحسن ومالك والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي وأبو ثور وحكي
عن ابن عمر ومجاهد انه لا يجوز الصيد الا بالكلب لقول الله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين)
يعني علمتم من الكلاب
29

ولنا ما روي عن عدي قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال " إذا أمسك عليك
فكل " ولأنه جارح يصاد به عادة ويقبل التعليم فأشبه الكلب، فاما الآية فإن الجوارح الكواسب
قال الله تعالى (ويعلم ما جرحتم) أي كسبتم وفلان جارحة أهله أي كاسبهم (مكلبين) من التكليب وهو الاغراء
(النوع الثاني) ذو المخلب كالبازي والصقر والعقاب والشاهين فتعليمه بان يسترسل ويجيب
إذا دعي ولا يعتبر ترك الأكل، فعلى هذا يباح صيده وان أكل منه وبهذا قال ابن عباس واليه
ذهب النخعي وحماد والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ونص الشافعي على أنه كالكلب في تحريم ما أكل
منه من صيده، لأن مجالدا روى عن الشعبي عن عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم " فإن أكل الكلب والبازي
30

فلا تأكل " ولأنه جارح أكل مما صاده عقيب قتله فأشبه سباع البهائم.
ولنا إجماع الصحابة فروي الخلاف باسناده عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل
وان أكل الصقر فكل لأنك تستطيع أن تضرب الكلب ولا تستطيع أن تضرب الصقر وقد ذكرنا
عن أربعة من الصحابة إباحة ما أكل منه الكلب وخالفهم ابن عباس ووافقهم في الصقر ولم ينقل
عن أحد في عصرهم خلافهم ولان جوارح الطير تعلم بالاكل ويتعذر تعليمها بترك الاكل فلم
يقدح في تعليمها بخلاف الكلب والفهد، وأما الخبر فلا يصح برواية مجالد وهو ضعيف قال أحمد
مجالد يضير القصة واحدة كم من أعجوبة لمجالد؟ والرواية الصحيحة تخالفه، ولا يصح قياس الطير على
السباع لما بينهما من الفرق وعلى هذا كل ما أمكن تعليمه والاصطياد به من جوارح الطير كالبازي
والصقر والعقاب والباشق ونحوه حل صيدها على ما ذكرنا.
* (مسألة) * (ولابد أن يجرح الصيد فإن قتله بصدمته أو خنقه لم يبح) قال الشريف وبه
قال أكثرهم وقال ابن حامد يباح وهو قول للشافعي لعموم الآية والخبر.
ولنا أنه قتله بغير جرح أشبه ما لو قتله بالحجر والبندق، ولان الله تعالى حرم الموقوذة وهذا
31

كذلك وهو يخص ما ذكروه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل "
يدل على أنه يباح ما لم ينهر الدم.
* (مسألة) * (وما أصابه فم الكلب هل يجب غسله؟ على وجهين)
[أحدهما] لا يجب، لأن الله تعالى ورسوله أمرا بأكله ولم يأمرا بغسله [والثاني] يجب لأن
نجاسته قد ثبتت فيجب غسل ما أصابه كبوله.
* (فصل) * قال رحمه الله (الثالث أن يرسل الآلة قاصدا للصيد فإن استرسل الكلب أو غيره
بنفسه لم يبح صيده وان زجره إلا أن يزيد عدوه بزجره فيحل، وبهذا قال ربيعة ومالك والشافعي
وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال عطاء والأوزاعي يؤكل صيده إذا جرح الصيد، وقال إسحاق إذا
32

سمى عند انفلاته أبيح وروى باسناده عن ابن عمر أنه سئل عن الكلاب تنفلت من مرابضها فتصيد
الصيد قال إذا ذكر اسم الله فكل قال إسحاق فهذا الذي اختار إذا لم يتعمد ارساله من غير اسم
الله عليه قال الخلال هذا قول أبي عبد الله.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أرسلت كلبك وسميت فكل، ولان ارسال الجارحة جعل بمنزلة
الذبح ولهذا اعتبرت التسمية معه فإن استرسل بنفسه فسمى صاحبه وزجره فزاد عدوه بزجره أبيح
صيده، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يباح وعن مالك كالمذهبين.
ولنا أن زجره أثر في عدوه فصار كما لو أرسله، لأن فعل الآدمي إذا انضاف إلى فعل البهيمة
كان الاعتبار بفعل الانسان بدليل أنه لو عدا على إنسان فأغراه آدمي فأصابه ضمن الآدمي، وان لم
يزد عدوه بزجره لم يبح لأنه لم يؤثر شيئا فهو كما لو لم يزجره
33

(فصل) وان أرسله بغير تسمية ثم سمى وزجره فزاد عدوه فظاهر كلام أحمد أنه يباح فإنه قال
إذا أرسل ثم سمى فانزجر أو أرسل وسمى فالمعنى قريب من السواء وظاهر هذا الإباحة لأنه انزجر
بتسميته وزجره فأشبه التي قبلها، وقال القاضي لا يباح لأن الحكم يتعلق بالارسال الأول بخلاف ما إذا
استرسل بنفسه ولأنه لا يتعلق به حظر ولا إباحة.
* (مسألة) * (وان أرسل كلبه إلى هدف فقتل صيدا أو أرسله يريد الصيد ولا يرى صيدا
لم يحل صيده إذا قتله)
لأن قصد الصيد شرط ولم يوجد وكذلك ان قصد إنسانا أو حجرا أو رمى عينا غير قاصد
صيدا فقتله لم يحل لأنه لم يقصد صيدا لكون القصد لا يتحقق إلا بعلمه، وبهذا قال الشافعي في الكلب
وقال الحسن ومعاوية بن قرة يأكله لعموم الآية والخبر ولأنه قصد الصيد فحل له ما صاده كما لو رآه
ولنا أن قصد الصيد شرط ولا يصح مع عدم العلم فأشبه ما لو لم يقصد الصيد.
34

* (مسألة) * (فإن رمى حجرا يظنه صيدا فأصاب صيدا لم يحل ويحتمل أن يحل ذكره أبو الخطاب)
لأنه لم يقصد شيئا على الحقيقة ويحتمل أن يحل اختاره شيخنا لأنه قصد الصيد أشبه ما لو رآه،
ولان صحة القصد تبنى على الظن وقد وجد وصح قصده فينبغي أن يحل صيده، فأما ان شك هل هو
صيد أم لا؟ وغلب على ظنه أنه ليس بصيد لم يبح، لأن صحة القصد تنبني على العلم ولم يوجد ذلك.
(فصل) فإن رأى سوادا أو سمع حسا فظنه آدميا أو بهيمة أو حجرا فرماه فقتله فإذا هو
صيد لم يبح، وبهذا قال مالك ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة والشافعي يباح إن كان المرسل
سهما ولا يباح إن كان جارحا واحتج من أباحه بعموم الآية والخبر، ولأنه قصد الاصطياد وسمى
فأشبه ما لو علمه صيدا.
ولنا انه لم يقصد فلم يبح كما لو رمى هدفا فأصاب صيدا أو كما في الجارح عند الشافعي وان
ظنه كلبا أو خنزيرا لم يبح لذلك وقال محمد بن الحسن يباح لأنه مما يباح قتله، ولنا ما تقدم
35

* (مسألة) * (وان رمى صيدا فقتل غيره أو رمى صيدا فقتل جماعة حل) إذا رمى صيدا
فأصابه هو وغيره حلا جميعا والجارح في هذا بمنزلة السهم.
نص احمد على ذلك وبه قال الثوري وقتادة وأبو حنيفة والشافعي إلا أن الشافعي قال إذا
أرسل الكلب على صيد فأخذ آخر في طريقه حل وان عدل عن طريقه إليه ففيه وجهان، وان أرسله
على صيد فقتل غيره أبيح وقال مالك إذا أرسل كلبه على صيد بعينه فاخذ غيره لم يبح لأنه لم
يقصد صيده إلا أن يرسله على صيود فتفرق عن صغار فإنها تباح إذا اخذها.
ولنا عموم قوله تعالى (فكلوا مما أمسكن عليكم) وقوله عليه السلام " إذا أرسلت كلبك وذكرت
اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك " وقوله عليه السلام " كل ما ردت عليك قوسك " ولأنه ارسل
آلة الصيد على صيد فحل ما صاده كما لو أرسلها على كبار فتفرقت عن صغار فاخذها عند مالك أو كما
لو اخذ صيدا في طريقه عند الشافعي ولأنه لا يمكن تعليم الجارح اصطياد واحد بعينه دون
واحد فسقط اعتباره.
36

* (مسألة) * (وان أرسل سهمه على صيد فأعانته الريح فقتلته ولولاها ما وصل حل)
لأنه قتل الحيوان بسهمه ورميه فحل كما لو وقع سهمه في حجر فرده إلى الصيد فقتله
* (مسألة) * (وان رمى صيدا فأثبته ملكه، فإن تحامل فأخذه غيره لزمه رده كما يلزمه رد الشاة)
* (مسألة) * (وان لم يثبته فدخل خيمة إنسان فأخذه فهو لآخذه) لأن الأول لم يملكه لكونه
ممتنعا فملكه الثاني بأخذه، ولو رمى طيرا على شجرة في دار قوم فطرحه في دارهم فأخذوه فهو للرامي
دونهم لأنه ملكه بإزالة امتناعه.
* (مسألة) * (وان وقع صيد في شبكة انسان فخرقها وذهب بها فصاده آخر فهو للثاني)
أما إذا تعلق صيد في شرك إنسان أو شبكته ملكه لأنه أثبته بآلته ذكره أصحابنا فإن أخذه انسان
لزمه رده عليه لأن آلته أثبتته فأشبه ما لو أثبته بسهمه وان لم تمسكه الشبكة بل انفلت منها في الحال أو
37

بعد حين لم يملكه لأنه لم يثبته وان أخذ الشبكة وذهب بها فصاده انسان ملكه ويرد الشبكة على
صاحبها دون الصائد لأنه لم يثبته، وإن كان يمشي بالشبكة على وجه لا يقدر على الامتناع فهو لصاحبها
لأنها أزالت امتناعه، فاما ان أمسكه الصائد وثبتت يده عليه ثم انفلت منه لم يزل ملكه عنه
لأنه امتنع منه بعد ثبوت ملكه عليه فلم يرد ملكه عنه. كما لو شردت فرسه أو ند بعيره.
(فصل) فإن اصطاد صيدا فوجد عليه علامة مثل قلادة في عنقه أو في اذنه قرطا لم يملكه لأن الذي
صاده ملكه فلا يزول ملكه بالانفلات، وكذلك ان وجد طائرا مقصوص الجناح ويكون
لقطة فإن قيل يحتمل ان الذي أمسكه أولا محرم لم يملكه أو انه أرسله على سبيل التخلية وإزالة الملك عنه
كالقاء الشئ التافه قلنا أما الأول فنادر وهو مخالف للظاهر لأن ظاهر حال المحرم انه لا يصيد ما حرم الله
تعالى عليه، وأما الثاني فخلاف الأصل فإن الأصل بقاء ملكه عليه وما ذكروه محتمل فلا يزول الملك بالشك
* (مسألة) * (ومن كان في سفينة فوثبت سمكة فوقعت في حجره فهي له دون صاحب السفينة)
وذلك لأن السمك من الصيد المباح فملك بالسبق إليه وهذه حصلت في يد الذي هي في حجره
38

وحجره له ويده عليه دون صاحب السفينة ألم تر انهما لو تنازعا كيسا في حجره كان أحق به من
صاحب السفينة؟ كذا ههنا، فأما ان وقعت السمكة في السفينة فهي لصاحبها ذكره ابن أبي موسى
وهو مفهوم كلام الخرقي لأن السفينة ملكه ويده عليها فما حصل من المباح فيها كان أحق به كحجره
(فصل) فإن كانت السمكة وثبت بفعل انسان لقصد الصيد كالصياد الذي يجعل في السفينة
ضوءا بالليل وبدق بشئ كالجرس ليثب السمك في السفينة فهذا للصياد دون من وقع في حجره لأن
الصائد أثبتها بذلك فصار كمن رمى طائرا فألقاه في دار قوم وان لم يقصد الصيد بهذا بل حصل اتفاقا
كانت لمن وقعت في حجرة
* (مسألة) * (وان صنع بركة ليصيد بها السمك فما حصل فيها ملكه وان لم يقصد بها ذلك
لم يملكه) كما لو توحل الصيد في أرضه وكذلك لو حصل في أرضه سمك من مد الماء، وان عشش
فيها طائر لم يملكه ولغيره أخذه كما يجوز له أخذ الماء والكلأ)
* (مسألة) * (ويكره صيد السمك بالنجاسة)
وهو أن يترك في الماء شئ نجس كالعذرة والميتة وشبههما ليأكله السمك ليصيد به، كره أحمد
39

ذلك وقال هو حرام لا يصاد به وإنما كره لما يتضمن من أكل السمك للنجاسة فيشبه الجلالة وسواء في
هذا ما يتفرق كالدم ومالا يتفرق كقطعة من الميتة، وكره أحمد الصيد ببنات وردان وقال إن مأواها الحشوش
وكره الصيد بالضفادع وقال نهي عن قتل الضفدع
* (مسألة) * [ويكره صيد الطير بالشباش]
وهو طير يخيط عينيه أو يربطه وكره أحمد الصيد بالخراطيم وكل شئ فيه روح لما فيه من تعذيب
الحيوان فإن صاده فالصيد مباح ولم ير بأسا بالصيد بالشبكة والشرك وبالدبق الذي يمنع الحيوان
من الطيران وان يطعم شيئا إذا أكله سكر واخذ
* (مسألة) * [وان أرسل صيدا وقال أعتقتك لم يزل ملكه عنه ويحتمل ان يزول وهو لمن أخذه]
ظاهر المذهب انه لا يزول ملكه عنه بالارسال والاعتاق قاله أصحابنا كما لو أرسل البعير والبقرة ويحتمل
ان يزول الملك لأن الأصل الإباحة والارسال يرده إلى أصله ويفارق بهيمة الأنعام من وجهين
[أحدهما] ان الأصل ههنا الإباحة وبهيمة الانعام بخلافه (الثاني) ان الارسال ههنا يفيد وهو
رد الصيد إلى الخلاص من أيدي الآدميين وحبسهم ولهذا روي عن أبي الدرداء انه اشترى عصفورا
من صبي فأرسله ولأنه يجب ارسال الصيد عل المحرم إذا أحرم بخلاف بهيمة الأنعام فإن ارساله تضييع
له وربما هلك إذا لم يكن له من يقوم به
* (فصل) * قال رضي الله عنه (الرابع التسمية عند ارسال السهم أو الجارحة فإن تركها لم يبح
سواء تركها عمدا أو سهوا في ظاهر المذهب وعنه ان نسيها على السهم أبيح وان نسيها على الجارحة لم يبح)
40

ظاهر المذهب ان التسمية شرط لإباحة الصيد وانها لا تسقط بالسهو وهو قول الشعبي وأبي ثور
وداود وروى حنبل عن أحمد أن التسمية تسقط بالنسيان قال الخلال سها أحمد في نقله، وممن أباح متروك
التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة ومالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان "
ولان ارسال الجارحة جرى مجرى التذكية فعفي عن النسيان فيه كالذكاة، وعن أحمد ان التسمية
تشترط على ارسال الكلب والعمد والنسيان بخلاف السهم فإن السهم آلة خفيفة وليس له اختيار
فهو بمنزلة السكين بخلاف الحيوان فإنه يفعل باختياره وقال الشافعي يباح متروك التسمية عمدا وسهوا
لأن البراء روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم " وعن أبي هريرة ان
النبي صلى الله عليه وسلم قيل له أرأيت الرجل منا يذبح وينسى ان يسمي الله؟ فقال " اسم الله في قلب كل مسلم " وقد
روي عن أحمد مثل ذلك
ولنا قوله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وقال (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل " قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا
آخر؟ قال " لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر " متفق عليه وفي لفظ " إذا خالط
كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل " وفي حديث أبي ثعلبة " وما صدت بقوسك
وذكرت اسم الله عليه فكل " وهذه نصوص صحيحة فلا يعرج على ما خالفها وقوله " عفي لامتي عن
41

الخطأ والنسيان يقتضي نفي الاثم لا جعل الشرط المعدوم كالموجود بدليل ما لو نسي شرط الصلاة والفرق
بين الصيد والذبيحة ان الذبح وقع في محله فجاز ان يتسامح فيه بخلاف الصيد وأحاديث أصحاب
الشافعي لم يذكرها أصحاب السنن المشهورة وان صحت فهي في الذبيحة ولا يصح قياس الصيد
على الذبيحة لما ذكرنا مع ما في الصيد من النصوص الخاصة والله أعلم
[فصل] إذا سمى الصائد على صيد فأصاب غيره حل وإن سمى على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره
فرمى به لم يبح ما صاد به لأنه لما لم يمكن اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت على الآلة التي يصيد
بها بخلاف الذبيحة ويحتمل ان يباح قياسا على ما لو سمى على سكين ثم ألقاها وأخذ غيرها وسقوط
اعتبار تعيين الصيد لمشقته لا يقتضي اعتبار تعيين الآلة فلا يعتبر.
باب الذكاة
* (مسألة) * (ولا يباح من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة الا الجراد وشبهه وسائر مالا يعيش
الا في الماء فلا ذكاة له، وعنه في السرطان وسائر البحري أنه يباح بلا ذكاة)
أما الحيوان المقدور عليه من الصيد والانعام فلا يباح الا بالذكاة بغير خلاف بين أهل العلم
لقول الله تعالى (حرمت عليكم الميتة - إلى قوله - الا ما ذكيتم) فاما السمك وشبهه مما لا يعيش الا في
42

الماء فإنه يباح بغير ذكاة لا نعلم في هذا خلافا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر " هو الطهور ماؤه
الحل ميتته " وقد صح ان أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر فأكلوا
منها شهرا حتى سمنوا وادهنوا فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه فقال " هو رزق أخرجه
الله لكم فهل معكم من لحمه شئ تطعمونا؟ " متفق عليه
(فصل) ولا فرق في ذلك بين ما مات بسبب أو بغير سبب لما ذكرنا من الحديثين وقد أجمع
أهل العلم على إباحة ما مات بسبب مثل ان صاده انسان أو نبذه البحر أو جزر عنه وكذلك ما حبس
في الماء بحظيرة حتى يموت فإنه يحل، قال أحمد في الطافي يؤكل وما جزر عنه الماء أجود والسمك
الذي نبذه البحر لم يختلف فيه، وإنما اختلفوا في الطافي وليس به بأس وممن أباح الطافي من السمك
أبو بكر الصديق وأبو أيوب رضي الله عنهما وبه قال مالك والشافعي وروي ذلك عن عطاء ومكحول والثوري
والنخعي وكره الطافي جابر وطاوس وابن سيرين وجابر بن زيد وأصحاب الرأي لما روي أن جابرا
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه " رواه أبو داود
ولنا قول الله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) وقال ابن عباس
طعامه ما مات فيه وأيضا ما ذكر من الحديثين، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه الطافي حلال
43

ولأنه لو مات في البر أبيح كالجراد واما حديث جابر فإنما هو موقوف عليه وكذلك قال أبو داود
رواه الثقات فأوقفوه على جابر وقد أسند من وجه ضعيف فإن صح فنحمله على نهي الكراهة لأنه
إذا مات رسب في أسفله فإذا أنتن طفا فكرهه لنتنه لا لتحريمه.
* (مسألة) * (وعنه في السرطان وسائر البحري انه يحل بلا ذكاة)
قال أحمد السرطان لا بأس به قيل له يذبح؟ قال لا وذلك أن مقصود الذبح إنما هو اخراج الدم منه
وتطيب اللحم بإزالته عنه فما لا دم فيه لا حاجة إلى ذبحه، فإن قلنا يذكى فذكاته ان يفعل به ما يموت
فاما ما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر من دواب البحر كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء فلا يحل
الا ان يذبح هذا الصحيح من المذهب، قال أحمد كلب الماء نذبحه ولا أرى بأسا بالسلحفاة إذا ذبح، والرق
نذبحه وفيه رواية أخرى أنه يحل بغير ذكاة وذهب إليه قوم من أهل العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر
" هو الطهور ماؤه الحل ميتته " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ولأنه من حيوان الماء فأبيح
بغير ذكاة كالسمك والسرطان وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه كل ما في البحر قد ذكاه الله
لكم وروى الإمام أحمد باسناده عن شريح رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل شئ في البحر مذبوح "
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان الله سبحانه ذبح كل شئ في البحر لابن آدم " والأولى أصح فيما
سوى السرطان لأنه حيوان يعيش في البر له نفس سائلة فلم يبح بغير ذكاة كالطير، قال شيخنا ولا
44

خلاف فيما علمناه في الطير والاخبار محمولة على مالا يعيش الا في البحر كالسمك وشبهه لأنه لا يتمكن
من تذكيته لأنه لا يذبح الا بعد اخراجه من الماء ومتى خرج مات
* (مسألة) * (وعنه في الجراد لا يؤكل الا ان يموت بسبب ككبه وتغريقه)
لا خلاف في إباحة الجراد وقد روى عبد الله بن أبي أوفى قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
سبع غزوات نأكل الجراد متفق عليه، ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب في قول عامة أهل
العلم منهم الشافعي وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وابن المنذر، وعن أحمد إذا قتله البرد لم يؤكل
وعنه لا يؤكل إذا مات بغير سبب وهو قول مالك ويروى عن سعيد بن المسيب
ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام " أحلت لنا ميتتان ودمان فالميتتان السمك والجراد " رواه
ابن ماجة ولم يفصل ولأنه تباح ميتته فلم يعتبر له سبب كالسمك ولأنه لو افتقر إلى سبب لافتقر إلى
ذبح وآلة كبهيمة الانعام
(فصل) يجوز أكل الجراد بما فيه وكذلك السمك يجوز ان يقلى من غير أن يشق جوفه
وقال أصحاب الشافعي في السمك لا يجور لأن رجيعه نجس ولنا عموم النص في اباحته وما ذكروه غير مسلم
وان بلع انسان منه شيئا وهو حي كره لأن فيه تعذيب الحيوان
(فصل) وسئل احمد عن السمك يلقى في النار فقال ما يعجبني والجراد فقال ما يعجبني والجراد
45

أسهل فإن هذا له دم، ولم يكره أكل السمك إذا ألقي في النار إنما كره تعذيبه بالنار وأما الجراد فسهل
في إلقائه لأنه لا دم ولان السمك لا حاجة إلى القائه في النار لامكان تركه حتى يموت بسرعة، والجراد
لا يموت في الحال بل يبقي مدة طويلة، وفي مسند الشافعي ان كعبا كان محرما فمرت به رجل من جراد
فنسي وأخذ جرادتين فألقاهما في النار فشواهما وذكر ذلك لعمر فلم ينكر عمر تركهما في النار، وذكر
له حديث ابن عمر كان الجراد يقلى له فقال إنما يؤخذ الجراد فتقطع أجنحته فيلقى في الزيت وهو حي
* (مسألة) * (ويشترط للذكاة شروط أربعة (أحدها) أهلية الذابح وهو أن يكون عاقلا مسلما أو
كتابيا فتباح ذبيحته ذكرا كان أو أنثى وعنه لا تباح ذبيحة نصارى بني تغلب ولا من أحد أبويه غير كتابي)
أجمع أهل العلم على إباحة ذبائح أهل الكتاب لقول الله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب
حل لكم) يعني ذبائحهم، قال البخاري قال ابن عبسا طعامهم ذبائحهم وكذلك قال مجاهد وقتادة
وروي معناه عن ابن مسعود وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا فرق بين العدم والفاسق
من المسلمين وأهل الكتاب وعن أحمد لا تباح ذبيحة الأقلف وروي عن ابن عباس، والصحيح
اباحته فإنه مسلم أشبه سائر المسلمين، وإذا أبيحت ذبيحة القاذف والزاني وشارب الخمر مع تحقق
فسقه وذبيحة النصراني وهو كافر أقلف فالمسلم أولى
(فصل) ولا فرق بين الحربي والذمي في إباحة ذبيحة الكتابي منهم وتحريم ذبيحة من سواه
وسئل أحمد عن ذبائح نصارى أهل الحرب فقال لا بأس بها حديث عبد الله بن مغفل قال إسحاق أجاد
قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم مجاهد والثوري والشافعي واحمد
وإسحاق وأصحاب الرأي ولا فرق بين الكتابي العربي وغيره إلا أن في نصارى العرب اختلافا
ذكرناه في باب الجزية وسئل مكحول عن ذبائح نصارى العرب فقال اما بهرا وتنوخ فلا بأس
46

وأما بنو تغلب فلا خير في ذبائحهم لأنه يروى عن علي رضي الله عنه وهو مذهب الشافعي ولا ذبائح
العرب من أهل الكتاب كلهم، والصحيح اباحته لعموم الآية فيهم، فاما من أحد أبويه غير كتابي
ممن لا تحل ذبيحته فقال أصحابنا لا تحل ذبيحته وبه قال الشافعي وإذا كان الأب كتابيا ففيه قولان
(أحدهما) تباح وهو قول مالك وأبي ثور (والثاني) لا تباح لأنه وجد ما يقتضي الإباحة والتحريم
فغلب ما يقتضي التحريم كما لو جرحه مسلم ومجوسي، وبيان وجود ما يقتضي التحريم ان كونه ابن مجوسي
أو وثني يقتضي تحريم ذبيحته وعنه تباح ذبيحته مطلقا وهو قول أبي حنيفة لعموم النص ولأنه كتابي
يقر على دينه فتحل ذبيحته كما لو كان ابن كتابيين، فإن كان ابن وثنيين أو مجوسيين فمقتضى قول
أصحابنا والشافعي ومالك تحريمه، ومقتضى قول أبي حنيفة حله لأن الاعتبار بدين الذابح لا بدين
أبيه بدليل ان الاعتبار في قبول الجزية بذلك ولعموم النص والقياس
* (مسألة) * (ولا تباح ذكاة مجنون ولا سكران ولا طفل غير مميز ولا مجوسي ولا وثني ولا مرتد)
أما المجنون والطفل والسكران فلا تحل ذبيحتهم لأنه لا يصح مع القصد أشبه ما لو ضرب انسانا
بالسيف فقطع عنق شاة ولأنه أمر يعتبر له الدين فاعتبر له العقل كالغسل وبهذا قال مالك وقال
الشافعي لا يعتبر العقل والأولى أولى لأن الذكاة يعتبر لها العقل كالعبادة ومن لا عقل له لا يصح منه
القصد فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها
(فصل) فأما ذكاة المجوسي فلا تحل في قول أهل العلم وشذ أبو ثور فأباح صيده وذبيحته لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ولأنهم يقرون بالجزية فتباح ذبيحتهم وصيدهم كاليهود
والنصارى وهذا قول يخالف الاجماع فلا عبرة به قال إبراهيم الحربي خرق أبو ثور الاجماع، قال
47

احمد ههنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا ما أعجب هذا؟ يفرض بأبي ثور، وممن كره ذبائحهم
ابن مسعود وابن عباس وعلي وجابر وأبو بردة وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن بن محمد وعطاء
ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي قال
أحمد ولا اعلم أحدا يقول بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة ولان الله تعالى قال (وطعام الذين أوتوا الكتاب
حل لكم) فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار لأنهم لا كتاب لهم فلم تحل ذبائحهم كأهل
الأوثان، وقد روى الإمام أحمد باسناده عن قيس بن سكن الأسدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" انكم قد تركتم بفارس من النبط فإذا اشتريتم لحما فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا
وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا " ولان كفرهم مع كونهم غير أهل كتاب يقتضي تحريم
ذبائحهم ونسائهم بدليل سائر الكفار من غير أهل الكتاب وإنما أخذت منهم الجزية لأن شبهة
الكتاب تقتضي التحريم لدمائهم فلما غلبت في التحريم لدمائهم فوجب أن يغلب عدم الكتاب في
تحريم الذبائح والنساء احتياطا للتحريم في الموضعين، ولأنه اجماع فإنه قول من سمينا ولا مخالف لهم
في عصرهم ولا فيمن بعدهم إلا رواية عن سعيد بن المسيب روي عنه خلافها
(فصل) وسائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة وغيرهم حكمهم حكم المجوس في تحريم
ذبائحهم قياسا عليهم بل هم شر من المجوس لأن المجوس لهم شبهة كتاب بخلاف هؤلاء، قال احمد
وطعام المجوس ليس به بأس أن يؤكل، وإذا أهدي إليه أن يقبل إنما كره ذبائحهم أو شيئا فيه
دسم. يعني من اللحم ولم ير بالسمن والجبن بأسا، وسئل عما تصنع المجوس لأمواتهم ويزمزمون عليهم
أياما عشرا ثم يقسمون ذلك في الجيران قال لا بأس بذلك وعن الشعبي قال كل مع المجوسي وإن
48

زمزم، وروى احمد ان سعيد بن جبير كان يأكل من كواميخ المجوس فأعجبه ذلك، وروى
هشام عن الحسن انه كان لا يرى بأسا بطعام المجوس في المصر ولا بشواريزهم ولا بكواميخهم
(فصل) ولا تباح ذبيحة المرتد وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب وهذا قول مالك
والشافعي وأصحاب الرأي، وقال إسحاق إن تدين بدين أهل الكتاب حلت ذبيحته ويحكى ذلك
عن الأوزاعي لأن عليا رضي الله عنه قال: من تولى قوما فهو منهم
ولنا انه كافر لا يقر على دينه فلم تحل ذبيحته كالوثني ولأنه لا تثبت له أحكام أهل الكتاب إذا
تدين بدينهم فإنه لا يقر بالجزية ولا يسترق ولا يحل له نكاح المرتدة، وأما قول علي فهو منهم لم يرد
انه منهم في جميع الأحكام بدليل ما ذكرنا ولأنه لم يكن يرى حل ذبائح نصارى بني تغلب ولا نكاح
نسائهم مع توليهم للنصارى ودخولهم في دينهم ومع اقرارهم على ما صولحوا عليه فلا يعتقد ذلك في
المرتدين. إذا ثبت هذا فإنه إذا ذبح حيوانا لغيره بغير اذنه ضمنه بقيمته حيا لأنه أتلفه وحرمه
ولا يضمنه إذا كان باذنه لأنه أذن في اتلافه
* (مسألة) * قال رحمه الله (الثاني الآلة وهو أن يذبح بمحدد سواء كان من حديد أو حجر أو
قصب أو غيره إلا السن والظفر)
الآلة لها شرطان (أحدها) أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها (والثاني) أن لا
تكون سنا ولا ظفرا فإذا اجتمع هذان الشرطان في شئ حل الذبح به حديدا كان أو حجرا أو
خشبا أو قصبا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر "
49

متفق عليه. وعن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله ان أحدنا صاد صيدا وليس معه سكين أيذبح
بالمروة وشقة العصا؟ فقال " امرر الدم بما شئت واذكر اسم الله عليه " والمروة الصوان، وعن
رجل من بني حارثة انه كان يرعى لقحة فأخذها الموت فلم يجد شيئا ينحرها به فوجد وتدا فوجأها به في
لبتها حتى أهريق دمها ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلها رواهما أبو داود وبهذا قال الشافعي وإسحاق
وأبو ثور ونحوه قول مالك وعمرو بن دينار وهو قول أبي حنيفة إلا في السن والظفر فإنه قال إذا
كانا متصلين لم يجز الذبح بهما وإن كان منفصلين جاز
ولنا عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا السن والظفر " ولان
ما لم تجز الذكاة به متصلا لم تجز منفصلا كغير المحدد
(فصل) فأما العظم غير السن فمقتضى اطلاق قول أحمد والشافعي وأبي ثور إباحة الذبح به
وهو قول مالك وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي وقال ابن جريج يذكي بعظم الحمار ولا يذكى بعظم
القرد لأنك تصلي على الحمار وتسقيه في جفنتك وعن أحمد لا يذكى بعظم ولا ظفر، وقال النخعي
لا يذكى بالعظم والقرن. ووجهه قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس
السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة " فعلله بكونه عظما فكل
عظم فقد وجدت فيه العلة والأول أصح إن شاء الله تعالى قاله شيخنا، لأن العظم دخل في عموم
اللفظ المبيح ثم استثنى السن والظفر خاصة فتبقى سائر العظام داخلة فيما يباح الذبح به والمنطوق مقدم
على التعليل ولهذا علل الظفر بكونه من مدى الحبشة ولا يحرم الذبح بالسكين وان كانت مدية لهم
ولان العظام يتناولها سائر الأحاديث العامة ويحصل بها المقصود فأشبهت سائر الآلات.
50

* (مسألة) * (فإن ذبح بآلة مغصوبة حل في أصح الوجهين).
لأن الذكاة وجدت ممن له أهلية الذبح أشبه ما لو ذبح شاة مغصوبة (والثاني) لا يحل له لأنه
منهي عنه لأن الآلة محرمة فلم يحصل مقصودها كما لو استجمر بالروث والرمة.
* (فصل) * (الثالث أن يقطع الحلقوم والمرئ وعنه يشترط مع ذلك قطع الودجين)
وجملة ذلك أن محل الذبح الحلق واللبة وهي الوهدة التي بين أصل العنق الصدر ولا يجوز الذبح
في غير هذا المحل بالاجماع وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الذكاة في الحلق واللبة " وقال أحمد
الذكاة في الحلق واللبة واحتج بحديث عمر وهو ما روى سعيد والأثرم باسنادهما عن الفرافصة
قال كنا عند عمر فنادى إن النحر في اللبة والحلق لمن قدر وإنما نرى أن الذكاة اختصت بهذا المحل
لأنه مجمع العروق فينسفح الدم بالذبح فيه ويسرع زهوق النفس فيكون أطيب للحم وأخف على الحيوان
قال أحمد لو كان حديث أبي العشراء حديثا يعني ما روى أبو العشراء عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه سئل أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو طعنت في فخذها أجزأ
عنك " قال أحمد أبو العشراء هذا ليس بمعروف. إذا ثبت ذلك فيشترط قطع الحلقوم والمرئ، وبهذا
قال الشافعي وعن أحمد رواية أخرى يشترط مع ذلك قطع الودجين، وبه قال مالك وأبو يوسف
لما روى أبو هريرة قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري
الأوداج ثم تترك حتى تموت رواه أبو داود، وقال أبو حنيفة يعتبر قطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين
ولا خلاف في أن الأكمل قطع الأربعة الحلقوم والمرئ والودجين فالحلقوم مجرى النفس والمرئ مجرى
الطعام والشراب والودجان هما عرقان محيطان بالحلقوم لأنه أسرع لخروج روح الحيوان فيخف
عليه ويخرج من الخلاف فيكون أولى والأول يجزئ لأنه قطع في محل الذبح ما لا تبقى الحياة مع
قطعه فأشبه ما لو قطع الأربعة والحديث محمول على من لم يقطع المرئ.
51

* (مسألة) * (وان نحره أجزأ وهو أن يطعنه بمحدد في لبته، ويستحب أن ينحر البعير ويذبح ما سواه)
ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب نحر الإبل وذبح ما سواها قال الله تعالى (فصل لربك
وانحر) وقال تعالى (ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة) قال مجاهد أمرنا بالنحر وأمر بنو إسرائيل
بالذبح فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في قوم ماشيتهم الإبل فسن النحر وبنو إسرائيل ماشيتهم البقر فأمروا
بالذبح وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بدنة وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده متفق عليه، والنحر أن
يطعنها بحربة أو نحوها في الوهدة التي بين عنقها وصدرها.
(فصل) فإن ذبح الإبل ونحر ما سواها أجزأه وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والزهري
وقتادة ومالك والليث وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وحكي عن داود أن الإبل لا تباح إلا
بالنحر ولا يباح غيرها إلا بالذبح لأن الله تعالى قال (ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) والامر يقتضي
الوجوب وقال تعالى (فصل لربك وانحر) ولان النبي صلى الله عليه وسلم نحر البدن وذبح الغنم وإنما نأخذ
الأحكام من جهته، وحكي عن مالك أنه لا يجزئ في الإبل إلا النحر لأن أعناقها طويلة فإذا ذبح تعذب
بخروج روحه وحكى ابن أبي موسى عن أحمد انه توقف عن أكل البعير إذا ذبح ولم ينحر قال
ابن المنذر إنما كرهه ولم يحرمه.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " امرر الدم بما شئت " وقالت أسماء نحرنا فرسا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة متفق عليه، عن عائشة قالت نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
بقرة واحدة ولأنه ذكاة في محل الذكاة فجاز اكله كالحيوان الآخر.
(فصل) وتصح ذبيحة المرأة حرة كانت أو أمة إذا أطاقت الذبح ووجدت الشروط وكذلك
ذبح الصبي العاقل إذا أطاق حرا كان أو عبدا لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر أجمع كل من
52

نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي وقد روي أن جارية لكعب بن مالك كانت
ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " خذوها " متفق
عليه وفي هذا الحديث فوائد سبع (أحدها) إباحة ذبيحة المرأة (والثانية) إباحة ذبيحة الأمة (والثالثة)
إباحة ذبيحة الحائض لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل (الرابعة) إباحة الذبح بالحجر (الخامسة) إباحة
ذبح ما خيف عليه الموت (السادسة) حل ما يذبحه غير مالكه بغير اذنه (السابعة) إباحة ذبحه لغير مالكه
* (مسألة) * (فإن عجز عن ذلك اي عن قطع الحلقوم والمرئ مثل ان يند البعير أو يتردى
في بئر فلا يقدر على ذبحه صار كالصيد إذا جرحه في أي موضع أمكنه فقتله حل أكله إلا أن يموت
بغيره مثل أن يكون رأسه في الماء فلا يباح)
هذا قول أكثر الفقهاء وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي
الله عنهم وبه قال مسروق والحسن والأسود وعطاء وطاوس وإسحاق والشعبي والحكم وحماد
والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وقال مالك لا يجوز اكله إلا أن يذكى وهو قول ربيعة والليث
قال أحمد لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج، واحتج مالك بان الحيوان الا نسي إذا توحش لم
يثبت له حكم الوحشي بدليل انه لا يجب على المحرم الجزاء بقتله ولا يصير الحمار الأهلي مباحا إذا توحش.
ولنا ما روى رافع بن خديج قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه
فأعياهم فاهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ان لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش
فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا " متفق عليه وحرب ثور في بعض دور الأنصار فضربه رجل بالسيف
وذكر اسم الله عليه فسئل عنه علي فقال ذكاة وحية فامر بأكله، وتردى بعير في بئر فذكي من
قبل شاكلته فبيع بعشرين درهما فأخذ ابن عمر عشره بدرهمين، ولأن الاعتبار في الذكاة بحال
53

الحيوان وقت ذبحه لا بأصله بدليل الوحشي إذا قدر عليه وجبت تذكيته في الحلق واللبة فكذلك
الأهلي إذا توحش اعتبر بحاله وبهذا فارق ما ذكره، فإذا تردى فلم يقدر على تذكيته فهو معجوز
عن تذكيته فأشبه الوحشي، فاما إن كان رأس المتردي في الماء لم يبح لأن الماء يعين على قتله فيحصل
قتله بمبيح وحاظر فيحرم كما لو جرحه مسلم ومجوسي.
* (مسألة) * (وان ذبح من قفاها وهو مخطئ فاتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة
أكلت، وان فعله عمدا فعلى وجهين)
قال القاضي معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه فتأتي السكين على القفا لأنها مع التوائها
معجوز عن ذبحها في محل الذبح فسقط اعتبار المحل كالمتردية في بئر، فاما مع عدم التوائها فلا تباح
بذلك لأن الجرح في القفا سبب للزهوق وهو في غير محل الذبح فإذا اجتمع مع الذبح منع حله كما لو بقر
بطنها وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا المعنى فإن الفضل بن زياد قال سألت أبا عبد الله عمن
ذبح في القفا فقال عامدا أو غير عامد؟ قلت عامدا قال لا تؤكل فإذا كان غير عامد كأن التوى عليه فلا بأس
(فصل) فإن ذبحها من قفاها اختيارا فقد ذكرنا عن أحمد انها لا تؤكل وهو مفهوم
كلام الخرقي وحكي هذا عن علي وسعيد بن المسيب ومالك وإسحاق وقال إبراهيم والنخعي تسمى
هذه الذبيحة القفينة وقال القاضي ان بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمرئ حلت والا فلا
ويعتبر ذلك بالحركة القوية وهذا مذهب الشافعي وهذا أصح لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة
مستقرة أحله كأكيلة السبع والمتردية والنطيحة وعنه ما يدل على اباحتها مطلقا، ولو ضرب عنقا بالسيف
فأطار رأسها حلت بذلك فإن أحمد قال لو أن رجلا ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك
54

الذبيحة كان له ان يأكله، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال تلك ذكاة وحية وافتي بأكلها
عمران بن حصين وبه قال الشعبي وأبو حنيفة والثوري، وقال أبو بكر: لأبي عبد الله فيها قولان الصحيح
انها مباحة لأنه اجتمع قطع مالا تبقي الحياة معه مع الذبح فأبيح كما ذكرنا مع قول من ذكرنا قوله
من الصحابة من غير مخالف
(فصل) فإن ذبحها من قفاها فلم يعلم هل كانت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمرئ أم لا؟
نظرت فإن كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القطع فالأولى اباحته لأنه بمنزلة ما قطعت عنقه بضربة
السيف وان كانت الآلة كآلة وابطأ قطعه وطال تعذيبه لم يبح لأنه مشكوك في وجود ما يحله فيحرم
كما لو أرسل كلبا على الصيد فوجد معه كلبا آخر لا يعرفه
* (مسألة) * (وكل ما وجد فيه سبب الموت كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة
السبع إذا أدرك ذكاتها وفيها حياة مستقرة أكثر من حركة المذبوح حلت وان صارت حركتها
كحركة المذبوح لم تحل)
وجملة ذلك أن المنخنقة الموقوذة وسائر ما ذكر في هذه المسألة وما أصابها مرض فماتت بذلك
فهي محرمة الا ان تدرك ذكاتها لقول الله تعالى (الا ما ذكيتم) وفي حديث جارية كعب انها كانت
ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة من غنمها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " كلوها "
فإن كانت لم يبق من حياتها الا مثل حركة المذبوح لم تبح الذكاة لأنه لو ذبح ما ذبحه المجوسي لم يبح وإن
أدركها وفيها حياة مستقرة بحيث يمكنه ذبحها حلت لعموم الآية والخبر وسواء كانت قد أنهت إلى حال
يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش لعموم الآية والخبر ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ولم يستفصل وقد قال
ابن عباس في ذئب عدا على شاة فعقرها فوضع قصبها بالأرض فأدركها فذبحها بحجر قال يلقي ما أصاب
الأرض ويأكل سائرها قال أحمد في بهيمة عقرت بهيمة حتى تبين فيها آثار الموت الا أن فيه الروح
يعني فذبحت فقال إذا مصعت بذنبها وطرفت بعينها وسال الدم فأرجو إن شاء الله ان لا يكون
بأكلها بأس وروي ذلك باسناده عن عقيل بن عمير وطاوس وقالا تحركت ولم يقولا سال الدم
55

وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت
فذبحوها فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها بضعف فنهر
الدم قال لا بأس، وقال ابن أبي موسى إذا انتهت إلى حد لا تعيش معه لم تبح بالذكاة ونص عليه أحمد
فقال إذا شق الذئب بطنها وخرج قصبها فذبحها لا تؤكل وقال إن كان يعلم أنها تموت من عقر السبع
فلا تؤكل وان ذكاها وقد خاف على الشاة الموت من العلة والشئ يصيبها فبادرها فذبحها يأكلها
وليس هذا مثل هذه لا ندري لعلها تعيش والتي قد خرجت أمعاؤها نعلم أنها لا تعيش وهذا قول أبي
يوسف، والأول أصح لأن عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح إلى حد علم أنه لا يعيش معه فوصى فقبلت وصاياه
ووجبت العبادة عليه، وفيما ذكرنا من عموم الآية والخبر وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في جارية كعب
ما يرد هذا، وتحمل نصوص أحمد على شاة خرجت أمعاؤها وبانت منها فتلك لا تحل بالذكاة لأنها في
حكم الميت ولا تبقى حركتها الا كحركة المذبوح، فأما ما خرجت أمعاؤها وبانت منها فهي في حكم
الحياة تباح بالذبح ولهذا قال الخرقي فيمن شق بطن رجل فأخرج حشوته فقطعها فأبانها ثم ضرب عنقه
آخر: فالقاتل هو الأول، ولو شق بطن رجل وضرب عنقه آخر فالقاتل هو الثاني وقال بعض أصحابنا
إذا كانت تعيش معظم اليوم حلت بالذكاة وهذا التحديد بعيد يخالف ظواهر النصوص ولا سبيل
إلى معرفته، وقوله في حديث جارية كعب فذكتها بحجر يدل على أنها بادرتها بالذكاة حين خافت
موتها في ساعتها، والصحيح انها إذا كانت تعيش زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح
وانها متى كانت مما لا يتيقن موتها كالمريضة انها متى تحركت وسال دمها حلت والله أعلم
* (فصل) * (الشرط الرابع أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح وهو ان يقول بسم الله لا يقوم غيرها مقامها)
فهذه التسمية المعتبرة عند الذبح لأن اطلاق التسمية ينصرف إليها وقد ثبت ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال " بسم الله والله أكبر " وكان ابن عمر يقوله ولا خلاف أن قول بسم الله يجزئه
وان قال اللهم اغفر لي لم يكف لأن ذلك طلب حاجة وان هلل أو سبح أو كبر الله أو حمد الله
56

احتمل الاجزاء لأنه ذكر اسم الله تعالى على وجه التعظيم واحتمل المنع لأن اطلاق التسمية لا يتناوله
وان ذكر اسم الله بغير العربية أجزأه وان أحسن العربية لأن المقصود ذكر اسم الله وهو يحصل
بجميع اللغات بخلاف التكبير والسلام فإن المقصود لفظه
* (مسألة) * (الا الأخرس فإنه يومئ برأسه إلى السماء)
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة الأخرس منهم الليث
والشافعي وإسحاق وأبو ثور وهو قول الشعبي وقتادة والحسن بن صالح. إذا ثبت هذا فإنه يشير
إلى السماء برأسه لأن إشارته تقوم مقام نطق الناطق واشارته إلى السماء تدل على قصده تسمية الذي في
السماء ونحو هذا قال الشعبي وقد دل على هذا حديث أبي هريرة ان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية
فقال يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين الله؟ " فأشارت إلى
السماء فقال " من أنا؟ " فأشارت بإصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والى السماء أي أنت رسول الله فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعتقها فإنها مؤمنة " رواه الإمام أحمد والقاضي البرتي في مسنديهما فحكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بايمانها بإشارتها إلى السماء تريد ان الله سبحانه فيها فأولى ان يكتفى بذلك علما على التسمية
ولو أنه أشار إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافيا
(فصل) وإن كان المذكي جنبا جازت له التسمية لأنه إنما منع من القرآن لا من الذكر ولهذا
تشرع التسمية عند الاغتسال وليست الجناية أعظم من الكفر والكافر يذبح ويسمي وممن رخص
في ذبح الجنب الحسن والليث والحكم والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر
لا اعلم أحدا كره ذلك ولا منع منه، وتباح ذبيحة الحائض لأنها في معنى الجنب
* (مسألة) * (فإن ترك التسمية عمدا لم تبح وان تركها ساهيا أبيحت وعنه تباح في الحالين
وعنه لا تباح فيهما)
57

المشهور من مذهب أحمد ان التسمية علي الذبيحة شرط في إباحة أكلها مع الذكر وتسقط
بالسهو وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق وممن أباح ما نسيت
التسمية عليه عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة وعن أحمد
انها مستحبة وليست شرطا في عمد ولا سهو
وبه قال الشافعي لأن البراء روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم "
وعن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل أرأيت الرجل منا يذبح وينسى ان يذكر اسم الله؟ فقال
" اسم الله في قلب كل مسلم " قال أحمد إنما قال الله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)
يعني الميتة وذكر ذلك عن ابن عباس، وعن أحمد رواية ثالثة أنها تجب في العمد والسهو لقوله
سبحانه (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وهو عام في العمد والسهو، ودليل الرواية الأولى
ما روى راشد بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمد "
أخرجه سعيد فأما الآية فمحمولة على ما إذا ترك التسمية عمدا بدليل قوله تعالى (وانه لفسق)
والاكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان ".
إذا ثبت هذا فالتسمية مع العمد شرط سواء كان الذابح مسلما أو كتابيا فإن ترك الكتابي التسمية
عمدا وذكر اسم غير الله لم تبح ذبيحته روى ذلك علي وبه قال الشافعي والنخعي وحماد وإسحاق
وأصحاب الرأي، وقال عطاء ومكحول إذا ذبح الكتابي باسم المسيح حل لأن الله تعالى أحل لنا
ذبيحتهم وقد علم أنهم يقولون ذلك
ولنا قول الله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وقوله (وما أهل لغير الله به)
والآية أريد بها ما ذبحوه بشرطه كالمسلم، وإن لم يعلم اسمى الذابح أم لا؟ أو ذكر اسم غير الله أو لا؟
فذبيحته حلال لأن الله تعالى أباح لنا كل ما ذبحه المسلم والكتابي وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح
58

وقد روي عن عائشة أنهم قالوا يا رسول الله ان قوما حديثو عهد بشرك يأتوننا بلحم لا ندري
أذكروا اسم الله أم لم يذكروا؟ قال " سموا أنتم وكلوا " أخرجه البخاري
(فصل) والتسمية على الذبيحة معتبرة حال الذبح أو قريبا منه كما تعتبر، في الطهارة وإن سمى
على شاة ثم أخذ أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يجز سواء ارسل الأولى أو ذبحها لأنه لم يقصد الثانية
بهذه التسمية، فإن رأى قطيعا من الغنم فقال باسم الله ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية لم تحل فإن
جهل كون ذلك لا يجزئ لم يجر مجرى النسيان لأن النسيان يسقط المؤاخذة والجاهل مؤاخذ
ولذلك يفطر الجاهل بالاكل في الصوم دون الناسي وإن أضجع شاة ليذبحها وسمى ثم ألقى السكين
وأخذ أخرى أو رد سلاما أو كلم انسانا أو استسقى ماء حل لأنه سمى على تلك الشاة بعينها ولم يفصل
بينهما إلا بفصل يسير فأشبه ما لو لم يتكلم
* (مسألة) * (وذكاة الجنين ذكاة أمه إذا خرج ميتا أو متحركا كحركة المذبوح وإن كانت
فيه حياة مستقرة لم يبح الا بذبحه وسواء أشعر أو لم يشعر)
وجملة ذلك أن الجنين إذا خرج ميتا من بطن أمه بعد ذبحها أو وجد ميتا في بطنها أو كانت
حركته بعد خروجه كحركة المذبوح فهو حلال روي هذا عن عمر وعلي وبه قال سعيد بن المسيب والنخعي
والشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال ابن عمر ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر، وروي ذلك عن عطاء وطاوس
ومجاهد والزهري والحسن وقتادة ومالك والليث والحسن بن صالح وأبي ثور لأن عبد الله بن كعب بن مالك
قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه وهذا إشارة إلى جميعهم
فكان اجماعا، وقال أبو حنيفة لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى لأنه حيوان ينفرد بحياته فلا يتذكى
بذكاة غيره كما بعد الوضع، قال ابن المنذر وكان الناس على اباحته لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا
إلى أن جاء النعمان فقال لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة لنفسين
ولنا ما روى أبو سعيد قال قيل يا رسول الله إن أحدنا ينحر الناقة ويذبح البقرة والشاة فيجد
59

في بطنها الجنين أيأكله أم يلقيه؟ قال " كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه " وعن جابر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ذكاة الجنين ذكاة أمه " رواه أبو داود ولان هذا اجماع من الصحابة
ومن بعدهم فلا يعول على ما خالفه ولان الجنين متصل بها اتصال خلقة يتغذى بغذائها فتكون ذكاته
ذكاتها كأعضائها، ولان الذكاة في الحيوان تختلف على حسب الامكان فيه والقدرة بدليل الصيد الممتنع
والمقدور عليه والمتردية والجنين لا نتوصل إلى ذبح بأكثر من ذبح أمه فيكون ذكاة له، فأما إن خرج حيا حياة
مستقرة يمكن ان يذكى فلم يذكه حتى مات فليس بذكي قال أحمد إن خرج حيا فلابد من ذكاته لأنه نفس أخرى
(فصل) واستحب أبو عبد الله أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه ولان ابن عمر
كان يعجبه أن يريق من دمه وإن كان ميتا
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويكره توجيه الذبيحة إلى غير القبلة وأن يذبح بآلة كآلة
وأن يحد السكين والحيوان يبصره)
وجملة ذلك أنه يستحب ان يستقبل بها القبلة روي ذلك عن ابن عمر وابن سيرين وعطاء
والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وكره ابن عمر وابن سيرين أكل ما ذبح لغير القبلة والأكثرون
على أنه لا يكره لأن أهل الكتاب يذبحون لغير القبلة، وقد أحل الله سبحانه ذبائحهم، ويكره أن يذبح
بآلة كآلة لما روى أبو داود باسناده عن شداد بن أوس قال خصلتان سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة
وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " ويكره أن يحد السكين والحيوان يبصره، ورأي عمر رجلا
قد وضع رجليه على شاة وهو يحد السكين فضربه حتى أفلت الشاة، ويكره أن يذبح شاة
والأخرى تنظر إليه كذلك
* (مسألة) * (ويكره أن يكسر عنق الحيوان أو يسلخه حتى يبرد أي حتى تزهق نفسه)
60

وقد قال عمر رضي الله عنه لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق، ولان في ذلك تعذيب الحيوان
فأشبه قطع عضو منه، وممن كره قطع عضو منه قبل الزهوق عطاء وعمرو بن دينار ومالك
والشافعي ولا نعلم لهم مخالفا
* (مسألة) * (فإن فعل أساء وأكلت لأن ذلك حصل بعد ذبحها وحلها)
وقد سئل احمد عن رجل ذبح دجاجة فأبان رأسها فقال يأكلها قيل له والذي بان منها أيضا؟
قال نعم قال البخاري قال ابن عمر وابن عباس إذا قطع الرأس فلا بأس به وهو قول الحسن والنخعي
والشعبي والزهري والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي وذلك لأن قطع ذلك العضو بعد
حصول الذكاة فأشبه ما لو قطعه بعد الموت، فاما ان قطع من الحيوان شئ وفيه حياة مستقرة فهو ميتة لما
روى أبو واقد الليثي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " رواه أبو داود
ولان إباحته إنما تحصل بالذبح وليس هذا بذبح
* (مسألة) * (وان ذبح الحيوان ثم غرق في ماء أو وطئ عليه شئ يقتله مثله فهل يحل؟ على روايتين)
(إحداهما) لا يحل وهو الذي ذكره الخرقي ونص عليه أحمد لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي
ابن حاتم في الصيد " وان وقعت في الماء فلا تأكل " وقال ابن مسعود من رمى طائرا فوقع في
ماء فغرق فيه فلا يأكله ولان الغرق سبب يقتل فإذا اجتمع مع الذبح فقد اجتمع ما يبيح ويحرم
فيغلب الحظر ولأنه لا يؤمن ان يعين على خروج الروح فيكون قد خرجت بفعلين مبيح ومحرم
فأشبه ما لو وجد الأمران في حال واحدة أو رماه مسلم ومجوسي فمات (والثانية) لا يحرم وبه قال أكثر
أصحابنا المتأخرين وهو قول أكثر الفقهاء لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت وكذلك لو
أبين رأسها بعد الذبح لم يحرم نص عليه أحمد ولأنه لو ذبح انسان ثم ضربه آخر أو غرقه لم
يلزمه قصاص ولا دية
* (مسألة) * (وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه كذي الظفر لم يحرم علينا)
61

وذو الظفر قال قتادة هي الإبل والانعام والبط وما ليس بمشقوق الأصابع، وإذا ذبح حيوانا
غيره لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم وهي شحم الثرب والكليتين في ظاهر كلام احمد رحمه الله
واختاره ابن حامد فإن أحمد حكى عن مالك في اليهودي يذبح الشاة قال لا تأكل من شحمها قال
أحمد هذا مذهب دقيق وظاهر أنه لم يره صحيحا وهذا اختيار ابن حامد وأبي الخطاب وذهب
أبو الحسن التميمي والقاضي إلى تحريمها وحكاه التميمي عن الضحاك ومجاهد وهو قول مالك لأن الله
تعالى قال (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وليس هذا من طعامهم ولأنه جزء من البهيمة
لم يبح لذابحها فلم يبح لغيره كالدم
ولنا ما روى عبد الله بن مغفل قال دلي جراب من شحم يوم خيبر فنزوت لآخذه فإذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتبسم إلي متفق عليه، ولأنها ذكاة أباحت اللحم فأباحت الشحم كذكاة المسلم والآية حجة
لنا فإن معنى طعامهم ذبائحهم كذلك فسره العلماء وقياسهم ينتقض بما ذبحه الغاصب، وان ذبح شيئا يزعم أنه
يحرم عليه ولم يثبت أنه محرم عليه حل لعموم الآية وقوله إنه حرام غير معقول
* (مسألة) * (وان ذبح لعيده أو ليتقرب به إلى شئ مما يعظمونه لم يحرم عليه لأنه من
طعامهم فيدخل في عموم الآية)
وجملة ذلك أن ما ذبحوه لكنائسهم ينظر فيه فإن ذبح مسلم فهو مباح نص عليه وقال أحمد
وسفيان في المجوسي يذبح لآلهته ويدفع الشاة إلى المسلم فيذبحها فيسمي: يجوز الاكل منها وقال إسماعيل بن
سعيد سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به وان ذبحها الكتابي وسمى الله وحده حلت
أيضا لأن شرط الحل وجد، وان علم أنه ذكر غير اسم الله عليها أو ترك التسمية عمدا لم تحل، قال حنبل سمعت أبا عبد
الله قال لا تؤكل يعني ما ذبح لأعيادهم وكنائسهم لأنه أهل لغير الله به وقال في موضع يدعون التسمية
عمدا إنما يذبحون للمسيح، فاما ما سوى ذلك فرويت عن أحمد الكراهة فيما ذبح لكنائسهم وأعيادهم
مطلقا وهو قول ميمون بن مهران لأنه ذبح لغير الله وروي عن أحمد اباحته وسئل عنه العرباض بن
سارية فقال كلوا وأطعموني وروي مثل ذلك عن أبي أمامة الباهلي وأبي مسلم الخولاني وأكله أبو الدرداء
62

وجبير بن نفير ورخص فيه عمر بن الأسود ومكحول وضمرة بن حبيب لقول الله تعالى (وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وهذا من طعامهم قال القاضي ما ذبحه الكتابي لعيده أو نجم أو صنم أو
نبي فسماه على ذبيحته حرم لقول الله تعالى (وما أهل لغير الله به) وان سمى الله وحده حل لقول
الله تعالى (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) لكنه يكره لقصده بقلبه الذبح لغير الله تعالى
(فصل) قال أحمد لا تؤكل المصبورة ولا المجثمة وبه قال إسحاق والمجثمة هي الطائر والأرنب
يجعل غرضا يرمى حتى يقتل والمصبورة مثله الا ان المجثمة لا تكون الا في الطائر أو الأرنب وأشباهها
والمصبورة كل حيوان وأصل الصبر الحبس، والأصل في تحريمه ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر البهائم
وقال " لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا " وروى سعيد باسناده قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
المجثمة وعن أكلها ولأنه حيوان مقدور عليه فلم يبح بغير الذكاة كالبعير والبقرة
* (مسألة) * (ومن ذبح حيوانا فوجد في بطنه جرادا أو طائرا فوجد في حوصلته حبا أو وجد
الحب في بعر الجمل لم يحرم وعنه يحرم)
قال أحمد في السمكة توجد في بطن سمكة أخرى أو حوصلة طائر أو يوجد في حوصلته جراد
فقال في موضع: كل شئ أكل مرة لا يؤكل لأنه مستخبث وقال في موضع: الطافي أشد من هذا
وقد رخص فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال شيخنا وهذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعي
فيما في بطن السمكة دون ما في حوصلة الطائر لأنه كالرجيع ورجيع الطائر عنده نجس
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان ودمان " ولأنه حيوان طاهر في محل طاهر لا تعتبر
له ذكاة فأبيح كالطافي من السمك وهذا يخرج في الشعير يوجد في بعر الجمل وخثي الجواميس ونحوها
63

كتاب الأطعمة
* (والأصل فيها الحل) * لقول الله تعالى (وخلق لكم ما في الأرض جميعا) وقوله (ويحل لهم الطيبات)
وقوله سبحانه (أحلت لكم بهيمة الأنعام)
* (مسألة) * (فيحل كل طعام طاهر لا مضرة به كالحبوب والثمار لأنه من الطيبات)
فأما النجاسات كالميتة والدم وغيرهما فحرام لأنها من الخبائث لقول الله تعالى (حرمت عليكم
الميتة والدم) وقوله (ويحرم عليهم الخبائث) ويحرم ما فيه مضرة من السموم ونحوها لمضرتها وأذيتها
لأنها تقضي إلى هلاك النفس وقد قال الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
* (مسألة) * (والحيوانات مباحة لعموم النص الدال على الإباحة إلا الحمر الأهلية)
أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الأهلية قال احمد خمسة وعشرون من أصحاب رسول الله
64

صلى الله عليه وسلم وكرهوها، قال ابن عبد البر لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمها، وحكي عن ابن عباس
وعائشة رضي الله عنهما انهما كانا يقولان بظاهر قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على
طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) وتلاها ابن عباس وقال ما خلا هذا
فهو حلال، وسئلت عائشة عن الفأرة فقالت ما هي بحرام وتلت هذه الآية، ولم ير عكرمة وأبو
وائل بأكل لحم الخنزير بأسا، وروي عن غالب بن الحر قال أصابتنا سنة فقلت يا رسول الله أصابتنا
سنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وأنت حرمت لحوم الحمر الأهلية قال " أطعم أهلك
من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية "
65

ولنا ما روى جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن
في لحوم الخيل متفق عليه، قال ابن عبد البر وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الحمر الأهلية علي وعبد الله
ابن عمر وعبد الله بن عمر وجابر والبراء و عبد الله بن أبي أوفى وانس وزاهر الأسلمي بأسانيد صحاح
حسان وحديث غالب بن الحر لا يعرج على مثله مع ما عارضه، ويحتمل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهم في
مجاعتهم وبين علة تحريمها المطلق لكونها تأكل العذرات، قال عبد الله بن أبي أوفي حرمها رسول الله
صلى الله عليه وسلم البتة من أجل انها تأكل العذرة
(فصل) وألبان الحمر محرمة في قول أكثرهم ورخص فيها عطاء وطاوس والزهري والأول أصح
66

* (مسألة) * (وما له ناب يفرس به كالأسد والتمر والذئب والفهد والكلب والخنزير وابن آوى
والسنور وابن عرس والنمس والقرد إلا الضبع)
ذكر شيخنا في هذه المسألة الخنزير ولان له ناب يفرس به وهو محرم بالنص وقوله تعالى (حرمت
عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) ولا خلاف في تحريمه بين أهل العلم، فأما ما سوى الخنزير مما ذكرنا
فأكثر أهل العلم يرون تحريم كل ذي ناب قوي من السباع يعدو ويكسر إلا الضبع منهم مالك
والشافعي - إلا أن الشافعي لا يحرم ابن عرس - وأبو ثور وأصحاب الحديث، وقال سعيد بن جبير
والشعبي وبعض أصحاب مالك هو مباح لعموم قوله (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما - إلى قوله
الا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير)
67

ولنا ما روى أبو ثعلبة الخشني قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع
متفق عليه، وقال أبو هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أكل كل ذي ناب من السباع حرام "
قال ابن عبد البر هذا حديث ثابت صحيح مجمع على صحته وهو نص صريح يخص عموم الآيات
فيدخل فيه الأسد والنمر والذئب والفهد والكلب، وقد روي عن الشعبي انه سئل عن رجل يتداوى
بلحم الكلب فقال لا شفاه الله وهذا يدل على أنه رأى تحريمه
(فصل) والقرد محرم كرهه ابن عمر وعطاء والحسن ولم يجيزوا بيعه، قال ابن عبد البر لا أعلم
خلافا بين علماء المسلمين في أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه، وروي عن الشعبي ان النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن لحم القرد ولأنه سبع له ناب فيدخل في عموم التحريم وهو مسخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة
68

(فصل) وابن آوى وابن عرس والنمس حرام وسئل عن ابن آوى وابن عرس فقال كل شئ
ينهش بأنيابه فهو من السباع وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي ابن عرس مباح لأنه
ليس له ناب قوي فأشبه الضب ولأصحابه في ابن آوى وجهان
ولنا انها من السباع فتدخل في عموم النهي ولأنها مستخبثة غير مستطابة فإن ابن آوى يشبه
الكلب ورائحته كريهة فيدخل في عموم قوله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث)
* (مسألة) * (وما له مخلب من الطير يصيد به كالبازي والصقر والشاهين والحدأة والبومة)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك والليث والأوزاعي
ويحيى بن سعيد لا يحرم من الطير شئ، قال مالك لم أر أحدا من أهل العلم يكره سباع الطير،
69

واحتجوا بعموم الآيات المبيحة وقول أبي الدرداء وابن عباس ما سكت الله عنه فهو مما عفي عنه
ولنا ما روى ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب
من الطير رواهما أبو داود، وهذا يخص عموم الآيات ويقدم على ما ذكروه فيدخل في هذا كل
ماله مخلب يعدو به كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومة وأشباهها
* (مسألة) * (وما يأكل الجيف كالنسر والرخم واللقلق وغراب البين والأبقع)
قال عروة ومن يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا؟ والله ما هو من الطيبات ولعله
أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والفارة والعقرب
والكلب العقور " فهذه الخمس محرمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح قتلها في الحرم، ولا يجوز قتل صيد
70

مأكول في الحرم لأن ما يؤكل لا يجوز قتله إذا قدر عليه بل يذبح ويؤكل، وسئل أحمد عن العقعق
فقال إن لم يكن يأكل الجيف فلا بأس به، قال أصحابنا هو يأكل الجيف فيكون على هذا محرما
(فصل) ويحرم الخطاف والخشاف والخفاش وهو الوطواط قال الشاعر:
مثل النهار يزيد أبصار الورى * نورا ويعمى أعين الخفاش
قال أحمد ومن يأكل الخشاف؟ وسئل عن الخطاف فقال ما أدري، وقال النخعي كل الطير
حلال إلا الخفاش، وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تستطيبها العرب ولا تأكلها، ويحرم الزنابير
واليعاسيب والنحل وأشباهها لأنها مستخبثة غير مستطابة
* (مسألة) * (وما يستخبث كالقنفذ والفار والحيات والحشرات كلها)
71

القنفذ حرام قال أبو هريرة هو حرام وكرهه مالك وأبو حنيفة ورخص فيه الشافعي والليث وأبو ثور
ولنا ما روي عن أبي هريرة قال ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " هو خبيثة من الخبائث "
رواه أبو داود ولأنه يشبه المحرمات ويأكل الحشرات فأشبه الجرذ
(فصل) وما استطابته العرب فهو حلال لقول الله تعالى (ويحل لهم الطيبات) يعني ما يستطيبونه
وما استخبثته العرب فهو محرم لقول الله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث) والذين تعتبر استطابتهم
واستخباثهم هم أهل الحجاز من أهل الأمصار لأنهم الذين نزل عليهم الكتاب وخوطبوا به وبالسنة فرجع
في مطلق ألفاظهما إلى عرفهم دون غيرهم، ولم يعتبر أهل البوادي لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون
ما وجدوا ولهذا سئل بعضهم عما يأكلون فقال: ما دب ودرج إلا أم حبين قال لتهن أم حبين
72

العافية وما وجد في أمصار المسلمين مما لا يعرفه أهل الحجاز رد إلى أقرب ما يشبهه في الحجاز فإن
لم يشبهه شئ منها فهو مباح لدخوله في عموم قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما) الآية
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما سكت الله عنه فهو مما عفي عنه " فعلى هذا من المستخبثات الحشرات كالديدان
والجعلان وبنات وردان والخنافس والفأر والأوزاغ والحرباء والعضا والجراذين والعقارب والحيات
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ورخص مالك وابن أبي ليلى، والأوزاعي في ذلك كله إلا الأوزاغ
فإن ابن عبد البر قال هو مجمع على تحريمه، وقال مالك الحية حلال إذا ذكيت واحتجوا بعموم الآية
المبيحة، ولنا قول الله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " خمس فواسق يقتلن في
73

الحل والحرم العقرب والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور " وفي الحديث " الحية " مكان
الفأرة ولو كانت من الصيد المباح لم يبح قتلها لأن الله تعالى قال (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم)
وقال سبحانه (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) ولأنها مستخبثة فحرمت كالأوزاغ ومأمور
بقلتها فأشبهت الوزغ
(فصل) والسنور الأهلي محرم وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه نهى عن أكل الهر.
* (مسألة) * (وما تولد من مأكول وغيره كالبغل والسمع، والسمع ولدا الضبع من الذئب
وقيل سمي العسبار، والعسبار ولد الذئب من الذيخ ذكره صاحب الصحاح)
74

البغال محرمة عند كل من حرم الحمار الأهلي لأنها متولدة منه والمتولد من شئ حكمه حكمه في
التحريم وهكذا ان تولد بين الوحشي والانسي ولد فهو محرم تغليبا للتحريم، والسمع المتولد بين الذئب
والضبع محرم وكذا العسبار ولد الذئبة من الذيخ قال قتادة ما البغل إلا شئ من الحمار، وعن جابر قال
ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل
* (مسألة) * (وفي الثعلب والوبر وسنور البر واليربوع روايتان)
اختلفت الرواية عن أحمد في الثعلب فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه وهذا قول أبي هريرة
ومالك وأبي حنيفة لأنه سبع فيدخل في عموم النهي، وروي عن أحمد رحمه الله اباحته اختاره
75

الشريف أبو جعفر ورخص فيه عطاء وقتادة وطاوس والليث وسفيان بن عيينة والشافعي لأنه يفدى
في الحرم والاحرام، قال احمد وعطاء كل ما يودى إذا أصابه المحرم فإنه يؤكل، واختلفت الرواية
في سنور البر كاختلافها في الثعلب والقول فيه كالقول في الثعلب وللشافعي في سنور البر وجهان.
فأما الوبر فمباح وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي وابن المنذر وأبو يوسف
قال القاضي هو محرم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف
ولنا انه يفدى في الاحرام والحرم وهو كالأرنب يأكل النبات والبقول وليس له ناب يفرس
به ولا هو من المستخبثات فكان مباحا كالأرنب ولان الأصل الإباحة وعموم النص يقتضيها ولم يرد
فيه تحريم فتجب اباحته. فأما اليربوع فسئل احمد عنه فرخص فيه وهذا قول عروة وعطاء الخراساني
والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وفيه رواية أخرى انه محرم وروي ذلك عن ابن سيرين والحكم
وحماد وأصحاب الرأي لأنه يشبه الفأر
76

ولنا ان عمر رضي الله عنه حكم فيه بجفرة ولان الأصل الإباحة ما لم يرد فيه تحريم. وأما السنجاب
فقال القاضي هو محرم لأنه ينهش بنابه فأشبه الجرد، ويحتمل انه مباح لأنه يشبه اليربوع ومتى
تردد بين الإباحة والتحريم غلبت الإباحة لأنها الأصل وعموم النصوص يقتضيها
(فصل) والفيل محرم قال احمد ليس هو من أطعمة المسلمين وقال الحسن هو مسخ وكرهه أبو حنيفة
والشافعي ورخص الشعبي في أكله
ولنا أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وهو من أعظمها نابا ولأنه
مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة
77

(فصل) فأما الدب فينظر فيه فإن كان ذا ناب يفرس به فهو محرم وإلا فهو مباح، قال احمد
إن لم يكن له ناب فلا بأس به وقال أصحاب أبي حنيفة هو سبع لأنه أشبه شئ بالسباع فلا يؤكل
ولنا ان الأصل الإباحة ولم يتحقق وجود المحرم فيبقى على الأصل وشبهه بالسباع إنما يعتبر في وجود
العلة المحرمة وهو كونه ذا ناب يصيد به ويفرس فإذا لم يوجد ذلك كان داخلا في عموم النصوص المبيحة
* (مسألة) * (وما عدا هذا فمباح كبهيمة الانعام والخيل والدجاج)
لعموم النصوص الدالة على الإباحة كبهيمة الانعام وهي الإبل والبقر والغنم قال الله تعالى (أحلت
لكم بهيمة الأنعام) والخيل كلها عرابها وبراذينها، نص أحمد على ذلك وبه قال ابن سيرين وروي
ذلك عن ابن الزبير والحسن وعطاء والأسود بن يزيد وبه قال حماد بن زيد والليث وابن المبارك
78

والشافعي وأبو ثور، وقال سعيد بن جبير ما أكلت شيئا أطيب من معرفة برذون، وحرمها أبو حنيفة
وكرهها مالك والأوزاعي وأبو عبيد لقول الله تعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) وعن خالد
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حرام عليكم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها " ولأنه ذو حافر أشبه الحمار
ولنا قول جابر نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم
الخيل متفق عليه، وقالت أسماء نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة
متفق عليه ولأنه حيوان طاهر مستطاب ليس بذي ناب ولا مخلب فيحل كبهيمة الانعام ولأنه داخل
في عموم الآيات والاخبار المبيحة، وأما الآية فإنهم إنما يتعلقون بدليل خطابها وهم لا يقولون به،
وحديث خالد ليس له اسناد جيد قاله احمد قال وفيه رجلان لا يعرفان يرويه ثور عن رجل ليس
79

بمعروف فلا نترك أحاديثنا لمثل هذا الحديث المنكر، والدجاج مباح قال أبو موسى رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأكل الدجاج متفق عليه
* (مسألة) * (والوحشي من البقر والظباء والحمر يباح)
بقر الوحش على اختلاف أنواعها من الإبل والتيتل والوعل والمها وكذلك الظباء وحمر الوحش
من الصيود كلها مباحة وتفدي في الاحرام وهذا كله مجمع عليه لا نعلم فيه خلافا إلا ما روى
طلحة بن مصرف ان الحمار الوحشي إذا أنس واعتلف فهو بمنزلة الأهلي، قال احمد وما ظننت انه
روي في هذا شئ وليس الامر عندي كما قال وأهل العلم على خلافه لأن الظباء إذا تأنست لم تحرم
والأهلي إذا توحش لم يحل ولا يتغير منها شئ عن أصله وما كان عليه، قال عطاء في حمار الوحش
80

إذا تناسل في البيوت لا تزول عنه أسماء الوحش، فأما الزرافة فسئل احمد عنها تؤكل؟ قال نعم
وهي دابة تشبه البعير إلا أن عنقها أطول من عنقه وجسمها ألطف من جسمه وأعلى منه ويداها
أطول من رجليها وهي مباحة لعموم النصوص المبيحة ولأنها مستطابة ليس لها ناب ولا هي من
المستخبثات أشبهت الإبل وحرمها أبو الخطاب والأول أصح لما ذكرنا، والنعامة مباحة وقد قضى
فيها الصحابة رضي الله عنهم ببدنة إذا قتلها المحرم ولا نعلم في اباحتها خلافا
* (مسألة) * (والأرنب مباحة)
أكلها سعد بن أبي وقاص ورخص فيها أبو سعيد وعطاء وابن المسيب والليث ومالك والشافعي
وأبا ثور وابن المنذر ولا نعلم قائلا بتحريمها إلا شيئا روي عن عمرو بن العاص وقد صح عن أنس
81

أنه قال أنفجنا أرنبا فسعى القوم فلعبوا فأخذتها وجئت بها أبا طلحة فذبحها فبعث بوركها أو قال
فخذها إلى النبي صلى الله عليه فقبله متفق عليه، وعن محمد بن صفوان أو صفوان بن محمد قال صدت
أرنبين فذبحتهما بمروة فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني بأكلهما رواه أبو داود ولأنها
حيوان مستطاب ليس بذي ناب فأشبه الضب
* (مسألة) * (وسائر الوحش لعموم النص والضبع والضب)
رويت الرخصة في الضبع عن سعد وابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعكرمة وإسحاق،
قال عروة ما زالت العرب تأكل الضبع لا ترى بأكلها بأسا، وقال أبو حنيفة والثوري ومالك هي
82

حرام وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب فإنها من السباع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
أكل كل ذي ناب من السباع وهي من السباع فتدخل في عموم النهي، وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم انه سئل عن الضبع فقال " ومن يأكل الضبع؟ "
ولنا ما روى جابر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع فقلت صيد هي؟
قال " نعم " احتج به أحمد، وفي لفظ قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال " هو صيد
ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم " رواه أبو داود، وعن عبد الرحمن بن أبي عمار قال قلت لجابر
الضبع أصيد هي؟ قال نعم، قلت أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم رواه النسائي وأبو داود
والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال ابن عبد البر هذا لا يعارض حديث النهي عن كل ذي
83

ناب من السباع لأنه أقوى منه قلنا هذا تخصيص لا معارض ولا يعتبر في التخصيص كون المخصص
في رتبة المخصص بدليل تخصيص عموم الكتاب باخبار الآحاد، فأما الخبر الذي فيه " ومن يأكل
الضبع؟ " فهو حديث طويل يرويه عبد الملك بن المخارق تفرد به وهو متروك الحديث، وقد قيل إن
الضبع ليس لها ناب فعلى هذا لا تدخل في عموم النهي
(فصل) والضب مباح في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو سعيد
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سعيد كنا معشر أصحاب محمد لأن يهدى إلى أحد ناضب أحب
إليه من دجاجة وقال عمر ما يسرني أن مكان كل ضب دجاجة سمينة ولوددت أن في كل جحر ضب
ضبين وبهذا قال مالك والليث والشافعي وابن المنذر وقال الثوري وأبو حنيفة هو حرام لما روي
84

عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن اكل لحم الضب وروي نحوه عن علي ولأنه ينهش فأشبه ابن عرس
ولنا ما روى ابن عباس قال دخلت انا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي
بضب محنوذ فقيل هو ضب يا رسول الله فرفع يده فقلت احرام هو يا رسول الله؟ قال " لا ولكن لم يكن
بأرض قومي فأجدني أعافه " قال خالد فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر متفق
عليه قال ابن عباس ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الضب تقذرا وأكل على مائدته ولو كان حرما
ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم الضب ولكنه قذره ولو كان عندي
لأكلته ولان الأصل الحل ولم يوجد المحرم فبقي على الإباحة ولم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
نهي ولا تحريم ولان اباحته قول من سمينا من الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبت عنهم خلافه فيكون اجماعا
* (مسألة) * (والزاغ مباح)
85

وبذلك قال الحكم وحماد ومحمد بن الحسن والشافعي في أحد قوليه ويباح غراب الزرع وهو
الأسود الكبير الذي يأكل الزرع ويطير مع الزاغ لأن مرعاهما الزرع والحبوب فأشبها الحجل
وسائر الطير كالحمام وأنواعه من الفواخت والجوازل والرقاطي والدباسي والعصافير والقنابر والقطا
والحبارى والحجل لما روى سفينة قال أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حبارى رواه
أبو داود، والكركي والكروان والبط والإوز وما أشبهه مما يلتقط الحب أو يفدى في الاحرام مباح
لأنه مستطاب ويفدى في حق المحرم فكان مباحا كبقية ما يفدى وكذلك الغرانيق والطواويس وطير
الماء كله وأشباه ذلك لا نعلم فيه خلافا
86

(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في الهدهد والصرد فعنه انهما حلال لأنهما ليسا من ذوات
المخلب ولا مستخبثات وعنه تحريمهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الهدهد والصرد
والنملة والنحلة وكل ما كان لا يصيد بمخلبه ولا يأكل الجيف ولا يستخبث فهو حلال
* (مسألة) * (وجميع حيوان البحر مباح لقول الله تعالى (أحل لكم صيد البحر طعامه متاعا لكم)
الا الضفدع والحية والتمساح وقال ابن حامد الا الكوسج)
كل صيد البحر مباح الا الضفدع وهذا قول الشافعي وقال الشعبي لو أكل أهلي الضفادع لأطعمتهم
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن قتل الضفدع رواه النسائي فيدل على تحريمه ولأنها
87

مستخبثة، وكذلك الحية وقد ذكرنا الخلاف فيها، فاما التمساح فقال ابن حامد لا يؤكل التمساح ولا
الكوسج لأنهما يأكلان الناس وذكر ابن أبي موسى في التمساح رواية انه مكروه غير محرم
للآية وروي عن إبراهيم النخعي أو غيره انهم كانوا يكرهون سباع البحر كما يكرهون سباع البر
وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وقال أبو علي النجاد لا يباح
من البحري ما يحرم نظيره في البر كخنزير الماء وانسانه وهو قول الليث الا في كلب الماء فإنه يرى
إباحة كلب البر والبحر وقال أبو حنيفة لا يباح الا السمك وقال مالك كل ما في البحر مباح لعموم
قوله سبحانه (أحل لكم صيد البحر وطعامه)
(فصل) وكلب الماء مباح وركب الحسن بن علي سرجا عليه جلد من جلود كلاب الماء
88

وهذا قول مالك والشافعي والليث ويقتضيه قول الشعبي والأوزاعي ولا يباح عند أبي حنيفة وهو
قول أبي علي النجاد وبعض أصحاب الشافعي
ولنا عموم الآية والخبر قال عبد الله سألت أبي عن كلب الماء فقال ثنا يحيى بن سعيد عن
ابن جريج عن عمر وبن دينار وأبي الزبير سمعا شريحا رجلا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم يقول " كل
شئ في البحر فهو مذبوح " فذكرت ذلك لعطاء فقال أما الطير فنذبحه وقال أبو عبد الله كلب الماء نذبحه
(فصل) قال أحمد لا أكره الجري وكيف لنا بجري ورخص فيه علي والحسن ومالك والشافعي
89

وأبو ثور وأصحاب الرأي وسائر أهل العلم وقال ابن عباس الجري لا نأكله ورافقهم الرافضة
ومخالفتهم صواب
(فصل) وتحرم الجلالة التي أكثر علفها النجاسة وبيضها ولبنها وعنه يكره ولا يحرم قال أحمد
أكره لحوم الجلالة وألبانها قال القاضي هي التي تأكل العذرة فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم
لحمها ولبنها وفي بيضها روايتان وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها قال شيخنا
وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ولا هو ظاهر كلامه لكن يمكن
تحديده بان يكون كثيرا في مأكولها ويعفى عن اليسير وقال الليث إنما كانوا يكرهون الجلالة التي
لا طعام لها الا الرجيع وما أشبهه وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان
90

(إحداهما) هي محرمة (والثانية) هي مكروهة غير محرمة وهذا قول الشافعي وكره أبو حنيفة
لحومها والعمل عليها حتى تحبس ورخص العمل في لحومها وألبانها لأن الحيوان لا ينجس بأكل
النجاسات بدليل ان شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات
لا يكون ظاهره نجسا ولو نجس لما طهر بالاسلام ولا الاغتسال ولو تنجست الجلالة لما طهرت بالحبس
ولنا ما روى ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها، رواه أبو داود
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة ان
يؤكل لحمها ولا يحمل عليها الا الادم ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة رواه الخلال باسناده
91

ولان لحمها يتولد من النجاسة فيكون نجسا كرماد النجاسة وأما شارب الخمر فليس ذلك أكثر
غذائه وإنما يتغذى الطاهرات وكذلك الكافر في الغالب
* (مسألة) * (حتى تحبس وتزول الكراهة بحبسها اتفاقا)
واختلف في قدره فروي انها تحبس ثلاثا سواء كانت طائرا أو بهيمة وكان ابن عمر إذا أراد
أكلها حبسها ثلاثا وهذا قول أبي ثور لأن ما طهر حيوانا يطهر الآخر كالذي نجس ظاهره، والأخرى تحبس
الدجاجة ثلاثا والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين يوما وهذا قول عطاء في الناقة والبقرة لحديث عبد الله
ابن عمر ولأنهما أعظم جسما وبقاء علفهما فيهما أكثر من بقائه في الدجاجة والحيوان الصغير وعنه
تحبس الشاة سبعا لأنها أكبر من الطائر ودون البعير والبقرة، ويكره ركوب الجلالة وهو قول عمر
92

وابنه وأصحاب الرأي لحديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوبها
ولأنها ربما عرقت فتلوث بعرقها
* (مسألة) (وما يسقي بالماء النجس من الزرع والثمار محرم وكذلك ما سمد به وقال ابن عقيل
يحتمل ان يكره ذلك ولا يحرم ولا يحكم بتنجيسها)
لأن النجاسة تستحيل في بطنها فتطهر بالاستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان لحما ويصير
لبنا وهذا قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة والشافعي وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة
ويقول مكيل عرة مكيل بر والعرة عذرة الناس
ولنا ما روى ابن عباس قال كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم ان لا يدملوها
بعذرة الناس ولأنها تتغذى بالنجاسات وتسري فيها أجزاؤها والاستحالة لا تطهر فعلى هذا تطهر
إذا سقيت الطاهرات كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات
93

* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ومن اضطر إلى محرم مما ذكرنا فله ان يأكل منه ما يسد رمقه
وهل له الشبع؟ على روايتين)
أجمع العلماء على تحريم الميتة والخنزير حالة الاختيار وعلى إباحة الاكل منها في الاضطرار وكذلك
سائر المحرمات والأصل في ذلك قوله تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله
به) وقوله (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) ويباح له أكل ما يسد رمقه ويأمن معه الموت بالاجماع
ويحرم ما زاد على الشبع بالاجماع أيضا وفي الشبع روايتان
94

(إحداهما) لا يباح وهو قول أبي حنيفة واحدى الروايتين عن مالك واحد القولين للشافعي قال
الحسن يأكل قدر ما يقيمه لأن الآية دلت على تحريم الميتة واستثني ما اضطر إليه فإذا اندفعت الضرورة
لم يحل له الاكل كحالة الابتداء ولأنه بعد سد الرمق غير مضطر ولم يبح له الاكل كذا ههنا
(والثانية) أبيح له التشبع اختارها أبو بكر لما روى جابر ابن سمرة ان رجلا نزل الحرة فنفقت
عنده ناقة فقالت له امرأته اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله فقال حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأله فقال " هل عندك غنى يغنيك؟ " قال لا قال " فكلوها " ولم يفرق رواه أبو داود ولان ما جاز سد
الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح ويحتمل ان يفرق بينما إذا كانت الضرورة مستمرة وبينما إذا كانت
مرجوة الزوال فما كانت مستمرة كحال الاعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جز الشبع لأنه إذا
95

اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قريب ولا يتمكن من البعد عن الميتة مخافة الضرورة
المستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه وربما أدى ذلك إلى تلفه بخلاف التي ليست مستمرة فإنه يرجى
الغنى فيها بما يحل له. إذ ثبت هذا فإن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها ان ترك الأكل قال
احمد إذا كان يخشى على نفسه سواء كان من جوع أو يخاف ان ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع
عن الرفقة فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك ولا يتقيد ذلك بزمن محصور
(فصل) وهل يجب الاكل من الميتة أو غيرها من الحرمات على المضطر؟ فيه وجهان
(أحدهما) يجب وهو قول مسروق واحد الوجهين لأصحاب الشافعي قال الأثرم سئل أبو عبد الله
96

عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل فذكر مسروق من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات. دخل
النار وهذا اختيار ابن حامد لقول الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وترك الاكل مع امكانه
في هذه الحال إلقاء بيده إلى التهلكة وقال الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما)
ولأنه قادر على احياء نفسه بما أحله الله له فلزمه كما لو كان معه طعام حلال
(والثاني) لا يلزمه لما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ان طاغية
الروم حبسه في بيت وجعل معه خمرا ممزوجا بماء ولحم خنزير مشوي ثلاثة أيام فلم يأكل ولم يشرب
حتى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته فأخرجوه فال قد كان الله أحله لي لأنني مضطر
ولكن لم أكن لأشمتك بدين الاسلام، ولان إباحة الاكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص
ولان له غرضا في اجتناب النجاسة والاخذ بالعزيمة وربما لم تطلب نفسه تناول الميتة وفارق الحلال
في الأصل من هذه الوجوه
(فصل) وتباح المحرمات عند الاضطرار في الحضر والسفر جميعا لأن الآية مطلقة غير مقيدة
بإحدى الحالتين وقوله سبحانه (فمن اضطر) لفظ عام في كل مضطر ولان الاضطرار يكون في الحضر
97

في سنة المجاعة وسبب الإباحة الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك لكون هذه المصلحة أعظم من
مصلحة اجتناب النجاسات والصيانة عن تناول المستخبثات وهذا المعنى عام في الحالين وظاهر كلام
احمد أن الميتة لا تحل لمن يقدر على دفع ضرورته بالمسألة وروي عن أحمد أنه قال اكل الميتة إنما يكون
في السفر يعني انه في الحضر يمكنه السؤال وهذا عن أحمد خرج مخرج الغالب فإن الغالب ان الحضر
يوجد فيه الطعام الحلال ويمكن دفع الضرورة بالسؤال ولكن الضرورة أمر معبر بوجود حقيقته
لا يكتفى فيه بالمظنة بل متى وجدت الضرورة أباحت سواء وجدت المظنة أو لم توجد ومتى انتفت لم
يبح الاكل لوجود مظنتها بحال
(فصل) قال أصحابنا ليس للمضطر في سفر المعصية الاكل من الميتة كقاطع الطريق والآبق
98

القول الله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) قال مجاهد (غير باغ) على المسلمين (ولا عاد
)
عليهم وقال سعيد بن جبير إذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له فإن تاب واقلع عن معصيته حل له الاكل
(فصل) وهل للمضطر التزود من الميتة، على روايتين (أصحهما) له ذلك وهو قول مالك لأنه لا ضرر
في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته ولا يأكل منها الا عند ضرورته (والثانية)
لا يجوز لأنه توسع فيما لم يبح الا للضرورة فإن استصحبها فلقيه مضطر لم يجز له بيعه إياه لأنه إنما
يبح له منها ما يدفع به الضرورة ولا ضرورة إلى البيع لأنه لا يملكه ويلزمه إعطاء الآخر بعير عوض
99

إذا لم يكن هو مضطرا في الحال إلى منعه لأن ضرورة الذي لقيه موجودة وحاملها يخاف الضرر في ثاني الحال
* (مسألة) * (وان وجد طعاما لا يعرف مالكه وميتة أو صيدا وهو محرم فقال أصحابنا يأكل الميتة)
ويحتمل ان يحل له الطعام والصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة وكقول أصحابنا قال سعيد بن المسيب
وزيد بن أسلم، وقال مالك ان كانوا يصدقونه انه مضطر اكل من الزرع والثمرة وشرب اللبن وان
خاف ان تقطع يده أو لا يقبل منه أكل الميتة، ولأصحاب الشافعي وجهان
(أحدهما) يأكل الطعام وهو قول عبد الله بن ينار لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل
الميتة كما لو بذل له صاحبه
ولنا ان أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه فكان العدول إلى المنصوص
100

عليه أولى لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحق الآدمي مبني على الشح والضيق ولان
حق الادمي تلزمه غرامته وحق الله تعالى لا عوض له ويحتمل ان يحل له أكل الطعام والصيد إذا
لم تقبل نفسه الميتة لأنه قادر على الطعام الحلال فأشبه ما لو بذله له صاحبه
(فصل) وإذا وجد المضطر من يطعمه ويسقيه لم يحل له الامتناع من الأكل والشرب ولا العدول
إلى الميتة الا ان يخاف ان يسمه فيه أو يكون الطعام الذي يطعمه مما يضره ويخاف ان يهلكه أو يمرضه
(فصل) وإن وجد طعاما مع مالكه وامتنع من بذله أو بيعه منه ووجد ثمنه لم يجز له مكابرته عليه وأخذه منه
وعدل إلى الميتة سواء كان قويا يخاف من مكابرته التلف أو لم يخف فإن بذله بثمن مثله وقدر على الثمن لم يحل
له أكل الميتة لأنه قادر على طعام حلال، وان بذله بزيادة على ثمن المثل لا تجحف بماله لزمه شراؤه أيضا
101

لما ذكرناه وإن كان عاجزا عن الثمن فهو في حكم العادم وان امتنع من بذله الا بأكثر من ثمن
مثله فاشتراه المضطر بذلك لم يلزمه أكثر من ثمن مثله لأن الزيادة أحوج إلى بذلها بغير حق فلم يلزم كالمكره
(فصل) وان وجد المحرم ميتة وصيدا أكل الميتة وبه قال الحسن ومالك وأبو حنيفة وأصحابه
وقال الشافعي في واحد قوليه يأكل الصيد ويفديه وهو قول الشعبي لأن الضرورة تبيحه ومع القدرة
عليه لا تحل الميتة لعناه عنها قال شيخنا ويحتمل ان يحل أكل الصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة ووجه الأول ان
إباحة المية منصوص عليها وإباحة الصيد مجتهد فيها وتقديم المنصوص عليه أولى فإن لم يجد ميتة ذبح الصيد
واكله نص عليه احمد لأنه مضطر إليه عينا، وقد قيل إن في الصيد تحريمات ثلاثا تحريم قتله وتحريم أكله
وتحريم الميتة لأن ما ذبحه المحرم من الصيد يكون ميتة فقد ساوى الميتة في هذا وفضل هذا بتحريم القتل
102

والاكل لكن يقال على هذا ان الشارع إذا أباح له أكله لم يصر ميتة ولذا لو لم يجد الميتة فذبحه كان
ذكيا طاهرا وليس بنجس ولا ميتة ولهذا يتعين عليه ذبحه في محل الذبح وتعتبر شروط الذكاة فيه ولا
يجوز قتله ولو كان ميتة لم يتعين ذلك عليه
(فصل) إذا ذبح المحرم الصيد عند الضرورة جاز له ان يشبع منه لأنه لحم ذكي ولا حق فيه لآدمي
سواه فأبيح له الشبع منه كما لو ذبحه حلال لا من أجله
(فصل) فإن لم يجد المضطر شيئا لم يبح له بعض أعضائه، وقال بعض أصحاب الشافعي له ذلك
لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الاكلة.
ولنا أن اكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلا لنفسه ولا يتيقن حصول البقاء بأكله، أما قطع
الاكلة فإنه يخاف الهلاك بذلك فأبيح له ابعاده ودفع الضرر المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل
عليه ولم يبح له قتله ليأكله.
103

* (مسألة) * (فإن لم يجد إلا طعاما لم يبذله مالكه فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به
وإلا لزمه بذله فإن أبى فللمضطر أخذه قهرا ويعطيه قيمته فإن منعه فله قتاله على ما يسد رمقه أو قدر
شبعه على اختلاف الروايتين، فإن قتل صاحب الطعام لم يجب ضمانه وان قتل المضطر فعليه ضمانه).
وجملة ذلك أنه إذا اضطر إلى طعام فإن لم يجد إلا طعاما لغيره فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو
أحق به ولا يجوز لاحد أخذه منه لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة
وان اخذه منه أحد فمات فعليه ضمانه لأنه قتله بغير حق، وان لم يكن صاحبه مضطرا إليه لزمه بذله
للمضطر لأنه يتعلق به احياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله كما يلزمه بذل منافعه في انجائه من الغرق
والحرق فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه لأنه يستحقه دون مالكه فجاز له أخذه كعين ماله فإن
104

احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه على ما يسد رمقه لأنه الذي اضطر إليه وعنه له قتاله على قدر
الشبع والأول أولى وذكر ابن أبي موسى في الارشاد انه لا يجوز قتاله على شئ منه كما ذكر في دفع
الصائل فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه وان آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر لأنه
ظالم بقتاله فأشبه الصائل الا ان يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له المقاتلة عليه لامكان الوصول
إليه دونها، فإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمنه لم يلزمه الا ثمن مثله وقد ذكرناه ويلزمه عوضه في كل
موضع أخذه فإن لم يكن معه في الحال لزمه في ذمته ولا يباح للمضطر من مال أخيه إلا ما يباح
من الميتة، قال أبو هريرة قلنا يا رسول الله ما يحل لاحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال " يأكل
ولا يحمل ويشرب ولا يحمل "
105

* (مسألة) * (فإن لم يجد إلا آدميا مباح الدم كالمرتد والزاني المحصن حل له قتله وأكله).
وجملة ذلك أن المضطر إذا لم يجد الا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله اجماعا ولا اتلاف عضو
منه مسلما كان أو كافرا لأنه مثله فلا يجوز ان يقي نفسه باتلافه وهذا لا خلاف فيه، وإن كان مباح
الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي ان له قتله واكله، لأن قتله مباح وهكذا قال أصحاب الشافعي
لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع وان وجده ميتا أبيح أكله لأن اكله مباح قبله فكذلك بعد موته
وان وجد معصوما ميتا لم يبح اكله في قول أكثر الأصحاب وقال الشافعي وبعض الحنفية يباح
قال شيخنا وهو أولى، لأن حرمة الحي أعظم قال أبو بكر بن داود أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء
واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم " كسر عظم الميت ككسره وهو حي " واختار أبو الخطاب ان
له اكله وقال لا حجة في الحديث ههنا لأن الاكل من اللحم لا من العظم والمراد من الحديث التشبيه
106

في أصل الحرمة لا بمقدارها بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما
لا تجب به صيانة الميت.
(فصل) وإذا اشتدت المخمصة في سنة المجاعة وأصابت الضرورة خلقا كثيرا وكان عند بعض
الناس قدر كفايته من غير فضلة لم يلزمه بذل ما معه للمضطرين ولم يفرق أصحابنا بين هذه الحال وبين
كونه لا يتضرر بدفع ما معه إليهم في أن ذلك واجب عليه لكونه غير مضطر في الحال والآخر مضطر
فوجب تقديم حاجة المضطر.
ولنا ان هذا مفض به إلى هلاك نفسه وعياله فلم يلزمه كما لو أمكنه انجاء الغريق بتغريق نفسه
وليس في بذله القاء بيده إلى التهلكة وقد نهى عز وجل عن ذلك وهذا اختيار شيخنا رحمه الله
107

(فصل) والترياق محرم وهو دواء يعالج به من السم يجعل فيه لحوم الحيات ويعجن بالخمر لا يحل
اكله ولا شربه لأن الخمر ولحوم الحيات حرام، وممن كرهه الحسن وابن سيرين ورخص فيه الشعبي
ومالك ويقتضيه مذهب الشافعي لاباحته التداوي ببعض المحرمات.
ولنا ان لحم الحية حرام على ما ذكرنا فيما مضى وكذلك الخمر لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" ان الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ".
(فصل) ولا يجوز التداوي بشئ محرم ولا بشئ فيه محرم مثل ألبان الاتن ولحم شئ من
المحرمات ولا شرب الخمر للتداوي لما ذكرنا من الخبر، ولان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له
النبيذ يصنع للدواء فقال " انه ليس بدواء ولكنه داء "
108

(فصل) (ومن مر بثمرة في شجر لا حائط عليه ولا ناظر فله ان يأكل ولا يحمل وعنه لا يحل ذلك إلا لحاجة)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فروي عنه أنه قال إذا لم يكن عليها حافظ أكل إذا
كان جائعا وإذا لم يكن جائعا فلا يأكل وقال قد فعله غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولكن إذا كان عليه حائط لم يأكل لأنه قد صار شبه الحريم وقال في موضع إنما الرخصة للمسافر
إلا أنه لم يعتبر ههنا الاضطرار لأن الاضطرار يبيح ما وراء الحائط، ورويت عنه الرخصة في
الاكل من غير المحفوظ مطلقا من غير اعتبار رجوع ولا غيره وهذا المشهور في المذهب لما روي
عن أبي زينب التيمي قال سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وأبي برزه فكانوا
يمرون بالثمار فيأكلون في أفواههم وهو قول عمر وابن عباس وأبي برزة قال عمر يأكل
ولا يتخذ خبنة، وروي عن أحمد أنه قال يأكل مما تحت الشجر فإذا لم يكن تحت الشجر فلا
109

يأكل ثمار الناس وهو غني عنه ولا يضرب بحجر ولا يرمي لأن هذا يفسد وروي عن نافع عن عبد الله بن
عمر قال كنت ارمي نخل الأنصار فأخذوني فذهبوا بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " يا نافع لم
ترمي نخلهم؟ " فقلت يا رسول الله الجوع قال " لا ترم وكل ما وقع أشبعك الله وأرواك "، أخرجه
الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح، وقال أكثر الفقهاء لا يباح الاكل إلا في الضرورة لما
روى العرباض بن سارية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الا وان الله لم يحل لكم أن تدخلوا
بيوت أهل الكتاب إلا باذن ولا ضرب نسائهم ولا اكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم " رواه
أبو داود وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ان دماءكم وأموالكم واعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا "
متفق عليه.
110

ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل عن
الثمر المعلق فقال " ما أصاب منه من ذي الحاجة غير متخذ خبنة فلا شئ عليه ومن اخرج منه شيئا
فعليه غرامة مثليه والعقوبة " وقال الترمذي هذا حديث حسن وروى أبو سعيد الخدري عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا أتيت على حائط بستان فناد صاحب البستان ثلاثا فإن أجابك وإلا
فكل من غير أن تفيد " وروى سعيد باسناده عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثله ولأنه قول من سمينا من الصحابة من غير مخالف فكان اجماعا، فإن قيل فقد أبى سعد أن يأكل
قلنا امتناع سعد من اكله ليس مخالفا لهم فإن الانسان قد يترك المباح غنى عنه أو تورعا أو تقذرا
كترك النبي صلى الله عليه وسلم اكل الضب فاما أحاديثهم فهي مخصوصة بما رواه من الحديث
111

والاجماع فإن كانت محوطة لم يجز الدخول إليها لقول ابن عباس إن كان عليها حائط فهي حريم
فلا تأكل، وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس، ولان إحرازه بالحائط يدل على شح صاحبه به
وعدم المسامحة، قال بعض أصحابنا إذا كان عليه ناطور فهو كالمحوط في أنه لا يدخل إليه ولا يأكل
منه إلا في الضرورة.
* (مسألة) * (وفي الزرع وشرب لبن الماشية روايتان)
اختلفت الرواية عن أحمد في الزرع فروي عنه أنه قال: لا يأكل إنما رخص في الثمار ليس الزرع،
112

وقال ما سمعنا في الزرع أن يمس منه وجهه ان الثمار خلقها الله تعلى للاكل رطبة والنفوس تتوق
إليها والزرع بخلافها.
(والثانية) قال يأكل من الفريك لأن العادة جارية بأكله رطبا أشبه الثمر، وكذلك الحكم
في الباقلا والحمص وشبهه مما يؤكل رطبا، فأما الشعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الاكل
منه والأولى في الثمار وغيرها ان لا يأكل منها الا باذن لما فيها من الخلاف والأخبار الدالة على
التحريم. وكذلك روي عن أحمد رحمه الله في حلب لبن الماشية روايتان (إحداهما) يجوز له أن
يحلب ويشرب ولا يحمل لما روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أتى أحدكم
113

على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن فليحلب وليشرب ولا يحمل " رواه الترمذي وقال حديث
حسن صحيح والعمل عليه عند بعض أهل العلم وهو قول إسحاق (والرواية الثانية) لا يجوز له ان يحلب
ولا يشرب لما روى ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحلبن أحد ماشية أحد الا باذنه أيحب
أحدكم ان تؤتى مشربته وتكسر خزانته وينقل طعامه فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم
فلا يحلبن أحد ماشية أحد الا باذنه " وفي لفظ " فإن ما في ضروع مواشيهم مثل ما في مشاربهم " متفق عليه
(فصل) قال احمد أكره اكل الطين ولا يصح فيه حديث الا أنه يضر بالبدن يقال إنه ردي
وتركه خير من أكله وإنما كرهه أحمد من أجل مضرته فإن كان منه ما يتداوى به كالطين الأرمني
114

فلا يكره وإن كان مما لا مضرة فيه ولا نفع كالشئ اليسير جاز أكله لأن الأصل الإباحة والمعنى
الذي لأجله كره منتف ههنا فلم يكره
(فصل) ويكره أكل البصل والثوم والكراث والفجل وكل ذي رائحة كريهة من أجل
رائحته سواء أراد دخول المسجد أو لم يرد لما روى ابن ماجة ان النبي صلى الله عليه وسلم " قال إن الملائكة تتأذى
مما يتأذى منه الناس " فإن اكله لم يقرب المسجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أكل من
هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا " وفي رواية " فلا يقربنا في مساجدنا " رواه الترمذي وقال حديث
حسن صحيح وليس أكلها محرما لما روى أبو أيوب ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه بطعام
115

فلم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال " فيه الثوم " فقال يا رسول الله أحرام هو؟
قال " لا ولكني أكرهه من أجل ريحه " رواه الترمذي وقال حديث حسن وروي ان النبي صلى
الله عليه وسلم قال لعلي " كل الثوم فلولا ان الملك يأتيني لأكلته " وإنما منع أكلها لئلا يؤذي الناس
برائحته ولذلك نهى عن قربان المسجد فإن أتى المسجد كره له ذلك ولم يحرم لما روى المغيرة بن
شعبة قال أكلت ثوما وأتيت مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقت بركعة فلما دخلت
المسجد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريح الثوم فلما قضى صلاته قال من " أكل من هذه
116

الشجرة فلا يقربنا حتى يذهب ريحها " فجئت فقلت يا رسول الله لتعطني يدك قال فأدخلت يده
في كم قميصي إلى صدري فإذا أنا معصوب الصدر فقال " ان لك عذرا " رواه أبو داود وقد روي
عن أحمد أنه يأثم لأن ظاهر النهي التحريم ولان أذى المسلمين حرام وهذا فيه اذاهم
(فصل) ويكره أكل الغذة واذن القلب لما روي عن مجاهد قال كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الشاة ستا وذكر هذين ولان النفس تعافهما وتستخبثهما قال الشيخ ولا أظن أحمد كرههما الا لذلك
لا للخبر لأنه قال فيه حديث منكر ولان في الخبز ذكر الطحال وقد قال أحمد لا بأس به ولا أكره منه شيئا
(فصل) قيل لأبي عبد الله الجبن؟ قال يؤكل من كل وسئل عن الجبن الذي يصنعه المجوس قال
117

وما أدري الا أن أصح حديث فيه حديث الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل قال سئل
عمر عن الجبن وقيل له تعمل فيه الإنفحة الميتة فقال سموا أنتم وكلوا رواه أبو معاوية عن الأعمش
وقال أليس الجبن الذي يأكله عامتهم يصنعه المجوس
(فصل) ولا يجوز ان يشتري الجوز الذي يتقامر به الصبيان ولا البيض الذي يتقامرون به يوم
العيد لأنهم يأخذونه بغير حق والله أعلم
* (مسألة) * (ويجب على المسلم ضيافة المسلم المجتاز به يوما وليلة فإن أبى فللضيف طلبه به عند الحاكم)
قال أحمد الضيافة على المسلمين كل من نزل به ضيف كان عليه ان يضيفه قيل إن ضاف الرجل
118

ضيف كافر يضيفه؟ قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم " ولما
أضاف المشرك دل على أن المسلم يضاف وما أراه كذلك والضيافة معناها معنى صدقة التطوع على
المسلم والكافر، واليوم والليلة حق واجب وقال الشافعي ذلك مستحب وليس بواجب لأنه غير
مضطر إلى طعامه فلم يجب عليه بذله كما لو لم يضفه
ولنا ما ذكرناه من الحديث وروى المقدام ابن أبي كريمة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " ليلة الضيف حق واجب فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه ان شاء اقتضى وان شاء ترك "
حديث صحيح وفي لفظ " أيما رجل ضاف قوما فأصبح الضيف محروما فإن نصره على كل مسلم حتى
119

يأخذ بحقه من زرعه وماله " رواه أبو داود، والواجب يوم وليلة والكمال ثلاثة أيام وذكر ابن أبي
موسى ان الواجب ثلاثة أيام لما روى أبو سريج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الضيافة ثلاثة
أيام وجائزته يوم وليلة لا يحل لمسلم ان يقيم عند أخيه حتى يؤثمه " قالوا يا رسول الله كيف يؤثمه؟ قال " يقيم
عنده وليس عنده ما يقريه " متفق عليه قال أحمد معنى قوله عليه السلام " جائزته يوم وليلة " كأنه أوكد
من سائر الثلاثة ولم يرد يوما وليلة سوى الثلاثة لأنه يصير أربعة أيام وقد قال وما زاد على الثلاثة فهو
صدقة، فإن امتنع من ضيافته فللضيف بقدر ضيافته قال أحمد يطالبهم بحقه الذي جعله له النبي صلى الله
120

عليه وسلم ولا يأخذ شيئا الا بعلم أهله وعنه رواية أخرى له ان يأخذ ما يكفيه بغير اذنهم لما روى
عقبة بن عامر قال قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا قال " إذا نزلتم بقوم فأمروا
لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " متفق عليه
* (مسألة) * (وتستحب ضيافته ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة)
وعن أحمد ان الضيافة على أهل القرى دون أهل الأمصار قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل
إلى أي شئ تذهب فيها؟ قال هي مؤكدة وكأنها على أهل القرى والطرق الذين يمر بهم الناس أوكد
121

فاما مثلنا الآن فكأنه ليس مثل أولئك وذلك أهل القرى والله أعلم ليس عادتهم بيع القوت فلو لم
تلزمهم الضيافة بقي المسافر ليس له ما يقتات بخلاف أهل الأمصار فإن عادتهم ذلك فيجد المسافر
ما يشتري ويقتات فلا تلزمهم الضيافة
* (مسألة) * (وليس له انزال الضيف في بيته) لما فيه من الحراج الا ان لا يجد مسجدا أو رباطا يبيت
فيه فيبيت عنده للضرورة ولان الخبر إنما ورد في الضيافة لا غير فكان خاصا فيها دون غيرها
(فصل) قال المروذي سألت أبا عبد الله قلت تكره الخبز الكبار؟ قال نعم أكرهه ليس فيه بركة
إنما البركة في الصغار وقال مرهم ان لا يخبزوا كبارا قال ورأيت أبا عبد الله يغسل يديه قبل الطعام وبعده
122

وإن كان على وضوء وقال مهنا ذكرت ليحيى بن معين حديث قيس بن الربيع عن أبي هاشم عن
زاذان عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم " بركة الطعام الوضوء قبله وبعده " وذكرت الحديث
لأحمد فقال ما حدث به الا قيس بن الربيع وهو منكر الحديث قلت بلغني عن يحى بن سعيد قال
كان سفيان يكره غسل اليد عند الطعام لم كره سفيان ذلك؟ قال لأنه من زي العجم قلت بلغني عن
يحيى بن سعيد قال كان سفيان يكره أن يكون تحت القصعة الرغيف لم كرهه سفيان؟ قال كره ان
يستعمل الطعام قلت تكرهه أنت؟ قال نعم وروى ابن عقيل قال حضرت مع ابن شهاب وليمة ففرشوا
المائدة بالخبز فقال لا تتخذوا الخبز بساطا وقال المروذي قلت لأبي عبد الله ان أبا معمر قال إن أبا
أسامة قدم إليهم خبزا فكسره فقال هذا لئلا تعرفوا كم تأكلون قيل لأبي عبد الله يكره الاكل
123

متكئا؟ قال أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا آكل متكئا " رواه أبو داود عن شعيب بن
عبد الله بن عمرو عن أبيه قال ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا قط رواه أبو داود
وعن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يأكل الرجل منبطحا رواه أبو داود
(فصل) وتستحب التسمية عند الطعام وحمد الله تعالى عند آخره لما روى عمر بن أبي سلمة قال
اكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال " بسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك " فما زالت أكلتي
متفق عليه وروى الإمام أحمد باسناده عن أبي هريرة قال لا اعلمه الا عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر " قال معناه إذا اكل وشرب بشكر الله ويحمده على ما
رزقه " وعن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا اكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن
نسي ان يذكر اسم الله في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره " رواه أبو داود وعن معاذ بن انس
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اكل طعاما فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من
غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه " وعن أبي سعيد قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
124

إذا اكل طعاما قال الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين " وعن أبي أمامة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان
إذا رفع طعامه، أو ما بين يديه قال " الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه غير مكفى ولا مودع " رواهن ابن ماجة
(فصل) ويأكل بيمينه ويشرب بها روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا
أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " رواه
مسلم وأبو داود ويستحب الاكل بثلاث أصابع لما روى كعب بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل
بثلاث أصابع ولا يمسح يده حتى يلعقها رواه الإمام أحمد وذكر له حديث ترويه ابنة الزهري ان النبي صلى الله عليه وسلم
كان يأكل بكفه كلها فلم يصححه ولم ير إلا ثلاث أصابع وروي عن أحمد انه أكل خبيصا بكفه
كلها وروي عن عبد الله بن بريدة انه كان ينهى بناته ان يأكلن بثلاث أصابع وقال لا تشبهن بالرجال
(فصل) قال مهنا سألت احمد عن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تقطعوا
اللحم بالسكين فإن ذلك صنيع الأعاجم " فقال ليس بصحيح لا يعرف هذا وقال حديث عمرو بن أمية
الضمري خلاف هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من لحم الشاة فقام إلى الصلاة وطرح السكين
وحديث مسعر عن جامع بن شداد عن المغيرة اليشكري عن المغيرة ابن شعبة ضفت برسول الله صلى
الله عليه وسلم ذات ليلة فامر بجنب فشوي ثم أخذ الشفرة فجعل يجز فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فالقى
الشفرة قال وسألت أحمد عن حديث أبي جحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اكفف جشاءك يا أبا
جحيفة فإن أكثركم شبعا اليوم أكثركم جوعا يوم القيامة " فقال هو ويحيى جميعا ليس بصحيح
125

(فصل) وروي عن ابن عباس قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في الاناء
وعن أنس قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان ولا في سكرجة. قال قتادة فعلام
كانوا يأكلون؟ قال: على السفر. حديث صحيح وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
أن يقام عن الطعام حتى يرفع وعن نبيشة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أكل في
قصعة فلحسها استغفرت له القصعة " وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يمسح
أحدكم يده حتى يلعقها فإنه لا يدري في أي طعامه البركة " رواهن ابن ماجة
(فصل) وسئل أبو عبد الله عن غسل اليد بالخالة قال: لا بأس به نحن نفعله وسئل عن الرجل
يأتي القوم وهم على طعام فجأة لم يدع إليه فلما دخل إليهم دعوه يأكل؟ قال نعم وما بأس وسئل عن
حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه ادخر لأهله قوت سنة هو صحيح؟ قال نعم ولكنهم يختلفون في لفظه
(فصل) روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم
الملائكة " وعن جابر قال صنع أبو الهيثم بن التيهان للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فدعا النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه فلما فرغوا قال " أثيبوا أخاكم - قالوا: يا رسول الله وما إثابته؟ قال - ان
الرجل إذا دخل بيته وأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له فذلك إثابته " رواهما أبو داود
126

باب السبق
* (مسألة) * (تجوز المسابقة على الدواب والخيل والاقدام والسفن والمزاريق وسائر الحيوانات)
والأصل في ذلك السنة والاجماع. أما السنة فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل
المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وبين التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. متفق عليه
قال موسى بن عقبة بين الحفياء إلى ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة أميال، وقال سفيان من الثنية إلى
مسجد بني زريق ميل أو نحوه وأجمع المسلمون على جواز المسابقة في الجملة
والمسابقة على ضربين: مسابقة بغير عوض ومسابقة بعوض، فأما المسابقة بغير عوض فتجوز
مطلقا من غير تقييد بشئ معين كالمسابقة على الاقدام والسفن والطيور والبغال والحمر والفيلة والمزاريق
وتجوز المصارعة ورفع الحجارة ليعرف الأشد وغير هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع عائشة في سفر
فسابقته على رجلها فسبقته قالت فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال " هذه بتلك " رواه أبو داود
وسابق سلمة بن الأكوع رجلا من الأنصار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في يوم ذي قرد، وصارع النبي
127

صلى الله عليه وسلم ركانة فصرعه، ورواه الترمذي، ومر بقوم يربعون حجرا يعني يرفعونه ليعرفوا الأشد منهم
فلم ينكر عليهم، وسائر المسابقة يقاس على هذا
* (مسألة) * (ولا تجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام)
لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر " رواه أبو داود، فالسبق
بسكون الباء المسابقة والسبق بفتحها الجعل المخرج في المسابقة، اختصت هذه الثلاثة بتجويز العوض فيها
لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها والتفوق فيها، وهي المسابقة بها مع العوض مبالغة
في الاجتهاد فيها والأحكام لها وقد ورد الشرع بالامر بها والترغيب في فعلها، قال الله تعالى (وأعدوا
لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا ان القوة
الرمي ألا ان القوة الرمي
وروى سعيد في سننه عن خالد بن زيد قال كنت رجلا راميا وكان عقبة بن عامر الجهني يمر
فيقول يا خالد اخرج بنا نرمي فلما كان ذات يوم أبطأت عنه فقال هلم أحدثك حديثا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة:
128

صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله، ارموا واركبوا وان ترموا أحب إلي من أن تركبوا
وليس من اللهو الا ثلاث: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله ومن ترك الرمي
بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها " رواه أبو داود
وعن مجاهد قال قال رسول الله [ص] " ان الملائكة لا تحضر من لهوكم الا الرهان والنضال "
قال الأزهري النضال في الرمي والرهان في الخيل والسباق فيهما. وقال مجاهد أدركت ابن عمر يشتد
بين الهدفين إذا أصاب خصلة قال أنا بها أنا بها، وعن حذيفة مثله، فلا تجوز المسابقة بعوض الا
في هذه الثلاثة وبهذا قال الزهري ومالك وقال أهل العراق نحو ذلك في المسابقة على الاقدام
والمصارعة لورود الأثر بهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة وصارع ركانة ولأصحاب الشافعي وجهان
كالمذهبين، ولهم بالمسابقة بالطيور والسفن وجهان بناء على الوجهين في المسابقة على الاقدام والمصارعة
ولنا ما ذكرنا من الحديث فنفى السبق في غير هذه الثلاثة ويحتمل انه أراد به نفي الجعل أي
لا يجوز الجعل الا في هذه الثلاثة، ويحتمل أن يراد به نفي المسابقة بعوض فإنه يتعين حمل الخبر على
129

أحد الامرين للاجماع على جواز المسابقة بغير عوض في غير هذه الثلاثة، وعلى كل تقدير فالحديث حجة
لنا، ولان غير هذه الثلاثة لا يحتاج إليها في الجهاد كالحاجة إلى الثلاثة فلم تجز المسابقة عليها
بعوض كالرمي بالحجارة ورفعها
إذا ثبت هذا فالمراد بالنصل السهام من النشاب والنبل وغيرها وبالحافر الخيل وحدها وبالخف
الإبل خاصة. وقال أصحاب الشافعي تجوز المسابقة بكل ماله فصل من المزاريق وفي الرمح والسيف
وجهان وفي الفيل والبغال والحمير وجهان لأن للمزاريق والرماح والسيوف نصلا وللفيل خف وللبغال
والحمير حوافر فتدخل في عموم الخبر
ولنا ان هذه الحيوانات المختلف فيها لا تصلح للكر والفر ولا يقاتل عليها ولا يسهم لها، والفيل
لا يقاتل عليه أهل الاسلام، والرماح والسيوف لا يرمى بها فلم تجز المسابقة عليها كالبقر والتراس،
والخبر ليس بعام فيما تجوز المسابقة به لأنه نكرة في اثبات وإنما هو عام في نفي ما لا تجوز المسابقة به
بعوض لكونه نكرة في سياق النفي ثم لو كان عاما لحمل على ما عهدت المسابقة عليه، وورود الشرع
بالحث على تعلمه وهو ما ذكرناه
130

* (مسألة) * (ولا تصح الا بشروط خمسة)
(أحدها) تعيين المركوب والرماة لأن القصد معرفة جوهر الدابتين وسرعة عدوهما معرفة
حذق الرماة ولا يحصل الا بالتعيين لأن المقصود معرفة حذق رام بعينه لا معرفة حذق رام في الجملة
فلو عقد اثنان نضالا على أن مع كل واحد منهما ثلاثة غير متعينين لم يجز لذلك
* (مسألة) * (ولا يشترط تعيين الراكبين ولا القوسين)
لا يشترط تعيين القوس ولا السهام في المناضلة ولو عينها لم تتعين لأن القصد معرفة الحذق وهو
لا يختلف إلا بالرمي دون القوس والسهام، وفي الرهان يشترط تعيين الحيوان الذي يسابق به لما
ذكرنا ولا يعتبر تعيين الراكب لأن المقصود معرفة عدو الفرس لا حذق الراكب وكل ما يتعين لا يجوز
إبداله كالمتعين في البيع، وما لا يتعين يجوز إبداله لعذره وغيره، فعلى هذه ان شرطا أن لا يرمى بغير
هذا القوس ولا بغير هذا السهم ولا يركب غير هذا الراكب فهي شروط فاسدة وهي تنافي مقتضى
العقد فهو كما لو شرط إصابة بإصابتين
(فصل) ويجوز عقد النضال على اثنين وعلى جماعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أصحاب له ينتضلون
131

فقال " ارموا وأنا مع ابن الأدرع - فأمسك الآخرون وقالوا كيف نرمي وأنت مع ابن الأدرع؟
فقال - ارموا وأنا معكم كلكم " رواه البخاري، ولأنه إذا جاز أن يكونا اثنين جاز أن يكونا
جماعتين لأن المقصود معرفة الحذق وهو يحصل في الجماعتين وكذلك في سباق الخيل وقد ثبت ان
النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة وبين الخيل التي لم تضمر
* (مسألة) * (الثاني أن يكون المركوبان والقوسان من نوع واحد فلا يجوز بين عربي وهجين
ولا بين قوس عربية وفارسية ويحتمل الجواز)
إذا كانا من جنسين كالفرس والبعير لم يجز لأن البعير لا يكاد يسبق الفرس فلا يحصل الغرض
من هذه المسابقة فإن كانا من نوعين كالعربي والهجين والبختي والعرابي ففيه وجهان [أحدهما]
لا يصح ذكره أبو الخطاب لأن التفاوت بينهما في الجري معلوم بحكم العادة فأشبها الجنسين [والثاني]
يصح ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي
(فصل) ولا بأس بالرمي بقوس فارسية في ظاهر كلام أحمد، وقد نص على جواز المسابقة بها
وقال أبو بكر يكره لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه رأى مع رجل قوسا فارسية فقال " القها فإنها
ملعونة ولكن عليكم بالقسي العربية وبرماح القنا فبها يؤيد الله الدين وبها يمكن الله لكم
في الأرض " رواه الأثرم.
132

ولنا انعقاد الاجماع على الرمي بها وإباحة حملها فإن ذلك جار في أكثر الاعصار وهي التي يحصل
الجهاد بها في عصرنا هذا وأما الخبر فيحتمل انه لعنها، لأن حملتها في ذلك العصر العجم ولم يكونوا
أسلموا بعد ومنع العرب من حملها لعدم معرفتهم بها ولهذا أمر برماح القنا ولو حمل انسان رمحا غيرها
لم يكن مذموما وحكى أحمد ان قوما استدلوا على القسي الفارسية بقوله تعالى (واعدوا لهم ما استطعتم
من قوة) لدخوله في عموم الآية.
* (مسألة) * (الثالث تحديد المسافة والغاية ومدى الرمي بما جرت به العادة)
يشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة وأن يكون لابتداء عدوهما وآخره غاية لا يختلفان فيها
لأن الغرض معرفة اسبقهما ولا يعلم ذلك إلا بتساويهما في الغاية، لأن أحدهما قد يكون مقصرا في أول
عدوه سريعا في انتهائه وبالعكس فيحتاج إلى غاية تجمع حالتيه ومن الخيل ما هو أصبر والقارح أصبر
من غيره وروى ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية، رواه أبو داود
فإن استبقا بغير غاية لينظر أيهما يقف أولا لم يجز لأنه يؤدي إلى أن لا يقف أحدهما حتى تنقطع
فرسه ويتعذر الاشهاد على السبق فيه، ولذلك يشترط معرفة مدى الرمي إما بالمشاهدة أو بالذرعان
نحو مائة ذراع أو مائتي ذراع لأن الإصابة به نختلف بالقرب والبعد ويجوز ما يتفقان عليه إلا أن يجعلا
مسافة بعيدة تتعذر الإصابة في مثلها غالبا وهو ما زاد على ثلاثمائة ذراع فلا يصح، لأن الغرض يفوت
بذلك وقد قيل ما رمى في أربعمائة ذراع الا عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه.
133

* (مسألة) * (الشرط الرابع كون العوض معلوما لأنه مال في عقد فوجب العلم به كسائر العقود)
إما بالمشاهدة أو بالقدر أو بالصفة على ما تقدم في غير موضع ويجوز أن يكون حالا ومؤجلا وبعضه
حالا وبعضه مؤجلا فلو قال إن فضلتني فلك دينار حال وقفيز حنطة بعد شهر جاز لأن ما جاز أن يكون حالا
ومؤجلا جاز أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا كالبيع غير أنه يحتاج إلى صفة الحنطة بما تعلم به كالسلم
* (مسألة) * (الشرط الخامس الخروج عن شبه القمار بان لا يخرج جميعهم)
متى استبق اثنان والجعل منهما فاخرج كل واحد منهما لم يجز وكان قمارا، لأن كل واحد
منهما لا يخلو من أن يغنم أو يغرم وهذا قمار.
* (مسألة) * (فإن كان الجعل من الإمام أو أحد غيرهما أو أحدهما على أن من سبق أخذه جاز).
وجملة ذلك أن المسابقة إذا كانت بين اثنين أو حزبين لم بخل اما أن تكون منهما أو من
غيرهما فإن كان من غيرهما وكان من الإمام جاز سواء كان من ماله أو من بيت المال لأن في ذلك
مصلحة وحثا على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين، وإن كان غير الإمام فله بذل العوض من ماله، وبه
قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا يجوز، لأن هذا مما يحتاج إليه في الجهاد فاختص به الإمام
كتولية الولايات وتأمير الامراء
134

ولنا انه بذل لماله فيما فيه مصلحة وقربة فجاز كا لو اشترى به خيلا أو سلاحا فاما إن كان
منهما اشترط كون الجعل من أحدهما فيقول ان سبقتني فلك عشرة وان سبقتك فلا شئ عليك فهو
جائز وحكي عن مالك انه لا يجوز لأنه قمار.
ولنا ان أحدهما يختص بالسبق فجاز كما لو أخرجه الإمام ولا يصح ما ذكره لأن القمار لا يخلو
كل واحد منهما ان يغنم أو يغرم وههنا لا خطر أحدهما فلا يكون قمارا.
* (مسألة) * (فإن جاءا معا فلا شئ لهما) لأنه لا سابق فيهما وان سبق المخرج أحرز سبقه ولا
شئ له على صاحبه لأنه لو اخذ منه شيئا كان قمارا وان سبق الآخر أحرز سبق المخرج فملكه وكان
كسائر أمواله لأنه عوض في الجعالة فملك فيها كالعوض المجهول في رد الضالة، فإن كان العوض في الذمة
فهو دين يقضى به عليه ويجبر على تسلميه إن كان موسرا وان أفلس ضرب به مع الغرماء.
* (مسألة) * (وان اخرجا معا لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللا يكافئ فرسه فرسيهما أو بعيره
بعيريهما أو رميه رمييهما فإن سبقهما أحرز سبقهما وان سبقاه أحرز أسبقيهما ولم يأخذا منه شيئا
وان سبق أحدهما أحرز السبقين وان سبق معه المحلل فسبق الآخر بينهما)
السبق بفتح الباء الجعل الذي يسابق عليه ويسمى الخطر والندب والقرع والرهن ويقال سبق
135

إذا اخذ وإذا أعطى وهو من الأضداد، متى استبق اثنان فاخرج كل واحد منهما لم يجز وكان قمارا، لأن
كل واحد منهما لا يخلو من أن يغنم أو يغرم وسواء كان ما أخرجاه متساويا أو متفاوتا مثل ان أخرج أحدهما
عشرة والآخر خمسة ولو قال إن سبقتني فلك عشرة وان سبقتك فلي عليك قفيز حنطة أو قال إن سبقتني
فلك علي عشرة ولي عليك قفيز حنطة لم يجز لما ذكرناه. فإذا ادخلا بينهما محللا وهو ثالث لم يخرج شيئا
جاز، وبهذا قال سعيد بن المسيب والزهري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكى أشهب عن
مالك أنه قال في المحلل لا أحبه وعن جابر بن زيد انه قيل له ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا
لا يرون بالدخيل بأسا قال هم أعف من ذلك.
ولنا ما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن ان
يسبق فليس بقمار ومن ادخل فرسا بين فرسين وقد امن ان يسبق فهو قمار " رواه أبو داود فجعله
قمارا إذا أمن أن يسبق لأنه لا يخلو كل واحد منهما ان يغنم أو يغرم وإذا لم يؤمن أن يسبق لم يكن
قمارا، لأن كل واحد منهما يجوز أن يخلو عن ذلك. ويشترط أن يكون فرس المحلل مكافئا لفرسيهما
أو بعيره لبعيريهما أو رميه لرمييهما فإن لم يكن مكافئا مثل أن تكون فرساهما أجود من فرسه فيكونا
136

جوادين وهو بطئ فهو قمار للخبر ولأنه مأمون سبقه فوجوده كعدمه، وإن كان مكافئا جاز فإن
جاءوا الغاية دفعة واحدة أحرز كل واحد منهما سبق نفسه ولا شئ للمحلل لأنه لا سابق فيهم
وكذلك إن سبقا المحلل وان سبق المحلل أحرز السبقين بالاتفاق وان سبق أحد المستبقين وحده
أحرز سبق نفسه واخذ سبق صاحبه ولم يأخذ من المحلل شيئا وان سبق أحد المستبقين والمحلل أحرز
السابق مال نفسه ويكون سبق المسبوق بين السابق والمحل نصفين وسواء كان المستبقون اثنين أو
أكثر حتى لو كانوا مائة وبينهم محلل لا سبق منه جاز ولذلك لو كان المحلل جماعة جاز لأنه لا فرق
بين الاثنين والجماعة وهذا مذهب الشافعي.
* (مسألة) * (وان قال المخرج من سبق فله عشرة ومن صلى فله ذلك لم يجز إذا كانا اثنين
وإن قال من صلى فله خمسة جاز)
وجملة ذلك أنه إذا كان المخرج غير المتسابقين فقال لهما أو لجماعة أيكم سبق فله عشرة جاز لأن
كل واحد منهم يطلب أن يكون سابقا فأيهم سبق استحق العشرة فإن جاؤوا جميعا فلا شئ لواحد
137

منهم لأنه لا سابق فيهم وان قال لاثنين أيكما سبق فله عشرة وأيكما صلى فله ذلك لم يصح لأنه لا فائدة
في طلب السبق فلا يحرص عليه، وان قال ومن صلى فله خمسة صح لأن كل واحد منهما يطلب السبق
لفائدته فيه بزيادة الجعل، وان كانوا أكثر من اثنين فقال من سبق فله عشرة ومن صلى فله ذلك
صح لأن كل واحد منهم يطلب أن يكون سابقا أو مصليا والمصلي هو الثاني لأن رأسه عند صلي الآخر
والصلوان هما العظمان الناتئان من جانبي الذنب وفي الأثر عن علي أنه قال: سبق أبو بكر وصلى عمر
وخبطتنا فتنة قال الشاعر:
إن تبتدر غاية يوما لمكرمة * تلق السوابق منا والمصلينا
فإن قال للمجلي وهو الأول مائة، وللمصلي وهو الثاني تسعون، وللتالي. هو للثالث ثمانون،
وللنازع وهو الرابع سبعون، وللمرتاح وهو الخامس ستون، وللحظي وهو السادس خمسون، وللعاطف
وهو السابع أربعون، وللمؤمل وهو الثامن ثلاثون، وللطيم وهو التاسع عشرون، وللسكيت وهو
العاشر عشرة، وللفسكل وهو الأخير خمسة صح لأن كل واحد يطلب السبق فإذا فاته طلب ما يلي السابق
138

والفسكل اسم وللآخر ثم استعمل هذا في غير المسابقة بالخيل تجوزا كما روي أن أسماء بنت عميس كانت تزوجت
جعفر بن أبي طالب فولدت له عبد الله ومحمدا وعونا، ثم تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن
أبي بكر، ثم تزوجها علي بن أبي طالب فقالت له ان ثلاثة أنت آخرهم لاخيار، فقال لولدها فسكلتني
أمكم، وإن جعل للمصلي أكثر من السابق أو جعل للتالي أكثر من المصلي أو لم يجعل للمصلي شيئا
لم يجز لأن ذلك يفضي إلى أن لا يقصد السبق بل يقصد التأخر فيفوت المقصود
(فصل) وإذا قال لعشرة من سبق منكم فله عشرة صح فإن جاءوا معا فلا شئ لهم لأنه لم يوجد
الشرط الذي يستحق به الجعل في واحد منهم، وإن سبقهم واحد فله العشرة لوجود الشرط فيه،
وإن سبق اثنان فلهما العشرة وإن سبق تسعة وتأخر واحد فالعشرة للتسعة لأن الشرط وجد فيهم
فكان الجعل بينهم كما لو قال من رد عبدي الآبق فله كذا فرده تسعة ويحتمل أن يكون لكل واحد
من السابقين عشرة لأن كل واحد منهم سابق فيستحق الجعل بكماله كما لو قال من رد عبدا لي فله
عشرة فرد كل واحد عبدا وفارق ما لو قال من رد عبدي فرده تسعة لأن كل واحد منهم لم يرده إنما
139

رده حصل من الكل ويصير هذا كما لو قال من قتل قتيلا فله سلبه فإن قتل كل واحد واحدا فلكل
واحد سلب قتيله كاملا، وإن قتل الجماعة واحدا فلجميعهم سلب واحد وههنا كل واحد له سبق مفرد
فكان له الجعل كاملا، فعلى هذا لو قال من سبق فله عشرة ومن صلى فله خمسة فسبق خمسة وصلى
خمسة فعلى الوجه الأول للمسابقين عشرة لكل واحد منهم درهمان وللمصلين خمسة لكل واحد منهم
درهم وعلى الوجه الثاني لكل واحد من السابقين عشرة فيكون لهم خمسون ولكل واحد من المصلين
خمسة فيكون لهم خمسة وعشرون، ومن قال بالوجه الأول احتمل على قوله ان لا يصح العقد
على هذا الوجه لأنه يحتمل ان يسبق تسعة فيكون لهم عشرة لكل واحد منهم درهم وتسع ويصلي واحد
فيكون له خمسة فيكون للمصلي من الجعل أكثر مما للسابق فيفوت المقصود
* (مسألة) * (وإن شرطا ان السابق يطعم السبق أصحابه أو غيرهم لم يصح الشرط)
وفي صحة المسابقة وجهان لأنه عوض على عمل فلا يستحقه غير العامل كالعوض في رد الآبق
لا يفسد العقد وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يفسد
140

ولنا انه عقد لا تتوقف صحته على تسمية بدل فلم يفسد بالشرط الفاسد كالنكاح، وذكر القاضي
أن الشروط الفاسدة في المسابقة تنقسم قسمين -
(أحدهما) ما يخل بشرط صحة العقد نحو ان يعود إلى جهالة العوض أو المسافة ونحوهما فيفسد
العقد لأن العقد لا يصح مع فوات شرطه
(والثاني) ما لا يخل بشرط العقد نحو ان يشرط ان يطعم السبق أصحابه أو غيرهم أو يشترط
انه إذا نضل لا يرمي أبدا أو لا يرمي شهرا أو شرطا ان لكل واحد منهما أو لأحدهما فسخ العقد
متى شاء بعد الشروع في العمل وأشباه هذا فهذه شروط باطلة في نفسها وفي العقد المقترن بها وجهان
(أحدهما) حصته لأن العقد تم بأركانه وشروطه فإذا حذف الزائد الفاسد بقي العقد صحيحا
(والثاني) لا يبطل لأنه بذل العوض لهذا الغرض فإذا لم يحصل له غرضه لا يلزمه العوض وكل
موضع فسدت المسابقة فإن كان السابق المخرج أمسك سبقه وإن كان الآخر فله أجر عمله لأنه عمل
بعوض لم يسلم له فاستحق أجر المثل كالإجارة الفاسدة
* (فصل) * قال رحمه الله (والمسابقة جعالة لكل واحد منهما فسخها إلا أن يظهر الفضل لأحدهما
فيكون له الفسخ دون صاحبه
141

ذكره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وقال في الآخر هو لازم إن كان
العوض منهما وجائز إن كان من أحدهما أو من غيرهما وذكر القاضي احتمالا لأنه عقد من شرطه أن يكون
العوض والمعوض معلوما فكان لازما كالإجارة
ولنا انه عقد على ما لا تتحقق القدرة على تسليمه فكان جائزا كرد الآبق وذلك لأنه عقد على
الإصابة ولا يدخل تحت قدرته وبهذا فارق الإجارة. فعلى هذا لكل واحد من المتعاقدين الفسخ قبل
الشروع في المسابقة، وإن أراد أحدهما الزيادة فيها أو النقصان منها لم يلزم الآخر اجابته، فاما بعد
الشروع فيها فإن لم يظهر لأحدهما فضل مثل ان يسبقه بفرسه في بعض المسافة أو يصيب بسهامه أكثر
منه فللفاضل الفسخ دون المفضول لأنه لو جاز له ذلك لفات غرض المسابقة فلا يحصل ا؟ قصود، وقال
أصحاب الشافعي إذا قلنا العقد جائز ففي جواز الفسخ وجهان
* (مسألة) * (وتنفسخ بموت أحد المتعاقدين)
إذا قلنا إنها عقد جائز قياسا على العقود الجائزة من الوكالة والشركة والمضاربة ونحوها وإن قلنا
142

بلزومها انفسخت بموت أحد المركوبين والراميين لأن العقد تعلق بعين المركوب والرامي فانفسخ
بتلفه كما لو تلف المعقود عليه في الإجارة، ولا تبطل بموت الراكبين ولا تلف أحد القوسين لأنه غير
المعقود عليه فلم ينفسخ العقد بتلفه كموت أحد المتبايعين، فعلى هذا يقوم وارث الميت مقامه كما لو استأجر
شيئا ثم مات، فإن لم يكن له وارث أقام الحاكم مقامه من تركته كما لو أجر نفسه لعمل معلوم ثم مات
* (مسألة) * (والسبق في الخيل بالرأس إذا تماثلت الأعناق وفي مختلفي العنق والإبل بالكتف)
وجملته انه يشترط في المسابقة ارسال الفرسين والبعيرين دفعة واحدة فإن أرسل أحدهما قبل الآخر ليعلم
هل يدركه الآخر أولا؟ لم يجز هذا في المسابقة بعوض لأنه قد لا يدركه مع كونه أسرع منه لبعد المسافة بينهما
ويكون عند أول المسافة من يشاهد إرسالهما ويرتبهما وعند الغاية من يضبط السابق منهما لئلا يختلفا في ذلك
ويحصل السبق في الخيل بالرأس إذا تماثلت الأعناق فإن اختلفا في طول العنق أو كان ذلك في الإبل اعتبر السبق
بالكتف لأن الاعتبار بالرأس متعذر فإن طويل العنق قد يسبق رأسه لطول عنقه لا بسرعة عدوه
وفي الإبل ما يرفع رأسه وفيها ما يمد عنقه فربما سبق رأسه لمد عنقه لا بسبقه فلذلك اعتبر بالكتف
143

فإن سبق رأس قصير العنق فهو سابق بالضرورة وان سبق رأس طويل العنق بأكثر مما بينهما في
طول العنق فقد سبق وإن كان بقدره لم يسبق وإن كان أقل فالآخر سابق ونحو هذا كله قول الشافعي
وقال الثوري إذا سبق أحدهما بالاذن كان سابقا ولا يصح ذلك لأن أحدهما قد يرفع رأسه ويمد عنقه
فيسبق باذنه لذلك لا لسبقه، وان شرط السبق باقدام معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح وقال
بعض أصحاب الشافعي يصح ويتخاطان ذلك كما في الرمي ولا يصح لأن هذا لا ينضبط ولا يقف
الفرسان عند الغاية بحيث يعرف مساحة ما بينهما، وقد روى الدارقطني باسناده عن علي رضي الله
عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي قد جعلت لك هذه السبقة بين الناس فخرج علي فدعا سراقة
ابن مالك فقال يا سراقة اني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة
في عنقك فإذا اتيت الميطان - قال أبو عبد الرحمن الميطان مرسلها من الغاية - فصف الخيل ثم ناد هل
من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة فيسعد الله
بسبقه من شاء من خلقه وكان علي يقعد عند منتهى الغاية يخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف
الخط طرفيه بين إبهامي أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول لهما إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه
بطرف اذنيه أو اذن أو عذار فاجعلا السبقة له وإن شككتما فاجعلا سبقهما نصفين وهذا الأدب الذي ذكره
144

في هذا الحديث في ابتداء الارسال وانتهاء الغاية من أحسن ما قيل في هذا مع كونه مرويا عن أمير
المؤمنين علي رضي الله عنه في قضية أمره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوضها إليه فينبغي ان
تتبع ويعمل بها
* (مسألة) * (ولا يجوز ان يجنب أحدهما مع فرسه فرسا يحرضه على العدو ولا يصيح به في وقت
سباقه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا جلب ولا جنب " رواه أبو داود)
معنى الجنب ان يجنب المسابق إلى فرسه فرسا لا راكب عليه يحرض الذي تحته على العدو
ويحثه عليه وقال القاضي معناه ان يجنب فرسا يتحول عند الغاية عليها لكونها أقل كلالا واعياء قال
ابن المنذر كذا قيل ولا أحسب هذا يصح لأن الفرس التي يسابق بها لابد من تعيينها فإن كانت التي
يتحول عنها فما حصل السبق بها وان كانت التي يتحول إليها فما حصلت المسابقة بها في جميع الحلبة
ومن شرط السابق ذلك، ولان هذا متى احتاج إلى التحول والاشتغال به فربما سبق باشتغاله لا بسرعة
غيره ولان المقصود معرفة عدو الفرس في الحلبة كلها، فمتى كان إنما يركبه في آخر الحلبة فما حصل
145

المقصود. وأما الجلب فهو ان يتبع الرجل فرسه تركض خلفه ويجلب عليه ويصيح وراءه يستحثه بذلك
على العدو هكذا فسره مالك وقال قتادة الجلب والجنب في الرهان وعن أبي عبيد كقول مالك
وحكي عنه ان الجلب ان يحشر الساعي أهل الماشية ليصدقهم قال ولا يفعل ليأتهم على مياههم
فيصدقهم والتفسير الأول أصح لما روى عمران بن حصين ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا جلب ولا جنب
في الرهان " رواه أبو داود ويروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أجلب
على الخيل يوم الرهان فليس منا "
(فصل في المناضلة) قال الشيخ رحمه الله وهي المسابقة في الرمي بالسهام والمناضلة مصدر ناضلته
مناضلة ونضالا وسمي الرمي نضالا لأن السهم التام يسمى نضلا فالرمي به عمل بالنضل فسمي نضالا
ومناضلة مثل جادلته جدالا ومجادلة
ويشترط لها شروط أربعة (أحدها) أن تكون على من يحسن الرمي فإن كان في أحد الحزبين من
لا يحسنه بطل العقد فيه) واخرج من الحزب الآخر من جعل بإزائه لأن كل واحد من الزعيمين
يختار واحدا ويختار الاخر في مقابلته آخر كما لو بطل العقد في بعض المبيع بطل في ثمنه وهل يبطل
146

في الباقين؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة فإن قلنا لا يبطل فلكل حزب الخيار لتبعيض الصفقة
في حقهم فإن كان يحسن الرمي لكنه قليل الإصابة فقال حزبه ظنناه كثير الإصابة أو لم نعلم حاله
وان بان كثير الإصابة فقال الحزب الآخر ظنناه قليل الإصابة لم يسمع ذلك منهم لأن شرط دخوله
في العقد أن يكون من أهل الصنعة دون الحذق كما لو اشترى عبدا على أنه كاتب فبان حاذقا
أو ناقصا فيها لم يؤثر
(الثاني معرفة عدد الرشق وعدد الإصابة) الرشق بكسر الراء عدد الرمي وأهل العربية يقولون
هو عبارة عما بين العشرين والثلاثين والرشق بفتح الراء الرمي مصدر رشقت رشقا وإنما اشترط علمه
لأنه لو كان مجهولا لافضى إلى الاختلاف لأن أحدهما قد يريد القطع والآخر الزيادة ولابد من
معرفة عدد الإصابة فيقولان الرشق عشرون والإصابة خمسة أو ستة أو ما يتفقا عليه الا انه لا يصح
اشتراط إصابة تندر كإصابة جميع الرشق أو تسعة من عشرة ونحو هذا لأن الظاهر أنه لا يوجد فيفوت
الغرض وإنما اشترط العلم بعدد الإصابة ليتبين حذقهما
(فصل) ويشترط استواؤهما في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي فإن جعلا رشق
أحدهما عشرا والآخر عشرين أو شرطا أن يصيب أحدهما خمسة والآخر ثلاثة أو شرطا إصابة
147

أحدهما خواسق والآخر خواصل أو شرطا ان يحط أحدهما من إصابته سهمين أو يحط سهمين من
إصابته بسهم من إصابة صاحبه أو شرط ان يرمي أحدهما من بعد والآخر من قرب أو ان يرمي
أحدهما وبين أصابعه سهم والآخر بين أصابعه سهمان أو ان يرمي أحدهما وعلى رأسه شئ والآخر خال
عن شاغل أو ان يحط عن أحدهما واحدا من خطئه لا عليه ولا له وأشباه هذا مما تفوت به المساواة
لم يصح لأن موضوعها على المساواة والغرض معرفة الحذق وزيادة أحدهما على الآخر فيه ومع التفاضل
لا يحصل فإنه ربما أصاب أحدهما لكثرة رميه لا لحذقه فاعتبر المساواة كالمسابقة بالحيوان
(فصل) ويشترط أن تكون المسابقة على الإصابة لا على البعد فلو قال السبق لأبعدنا رميا لم يجز
لأن الغرض من الرمي الإصابة لا بعد المسافة فإن المقصود من الرمي إما قتل العدو أو جرحه أو الصيد
ونحو ذلك وكل هذا إنما يحصل من الإصابة لا من الابعاد
(فصل) إذا عقد النضال ولم يذكرا قوسا صح في ظاهر كلام القاضي ويستويان في القوس
اما بالعربية أو الفارسية وقال غيره لا يصح حتى يذكرا نوع القوس الذي يرميان عليه في الابتداء
لأن اطلاقه ربما افضى إلى الاختلاف وقد أمكن التحرز عنه بالتعيين للنوع فيجب ذلك، وان اتفقا على أنهما
يرميان بالنشاب في الابتداء صح وينصرف إلى القوس الأعجمية لأن سهامها هو المسمى بالنشاب
وسهام العربية يسمى نبلا فإن عينا نوعا لم يجز العدول عنها إلى غيرها لأن أحدهما قد يكون احذق
بالرمي بأحد النوعين دون الآخر
(الثالث معرفة الرمي هل هو مفاضلة أو مبادرة؟) المناضلة على ثلاثة أضرب (أحدها) يسمى
المبادرة وهي ان يقولا من سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية فهو السابق فأيهما سبق إليها
مع تساويهما في الرمي فقد سبق فإذا رميا عشرة عشرة فأصاب أحدهما خمسا ولم يصب الآخر خمسا
148

فالمصيب خمسا هو السابق لأنه قد سبق إلى خمس وسواء أصاب الآخر أربعا أو ما دونها أو لم يصب
شيئا ولا حاجة إلى تمام الرمي لأن السبق قد حصل بسبقه إلى ما شرطا السبق إليه فإن أصاب كل واحد
منها من العشر خمسا فلا سابق فيهما ولا يكملان الرشق لأن جميع الإصابة المشروطة قد حصلت واستويا فيها فإن
رمى أحدهما عشرا فأصاب خمسا ورمى الآخر تسعا فأصاب أربعا لم يحكم بالسبق ولا بعدمه حتى يرمي العاشر
فإن أصاب به فلا سابق فيهما وان أخطأ به فقد سبق الأول فإن لم يكن أصاب من التسعة الا ثلاثا
فقد سبق ولا يحتاج إلى رمي العاشر لأن أكثر ما يحتمل ان يصيب به ولا يخرجه عن كونه مسبوقا
(الثاني) المفاضلة وهو ان يقول أينا فضل صاحبه بإصابة أو إصابتين أو ثلاث من عشرين رمية فقد سبق
وتسمى محاطة لأن ما تساويا فيه من الإصابة محطوط غير معتد به ويلزم إكمال الرشق إذا كان فيه
فائدة، فإذا قالا أينا فضل صاحبه بثلاث فهو سابق فرميا اثني عشر سهما فأصاب بها أحدهما واخطأ
الآخر كلها لم يلزم إتمام الرشق لأن أكثر ما يمكن أن يصيب الآخر الثمانية الباقية ويخطئها الأول
ولا يخرج الأول بهذا عن كونه سابقا، وإن كان الأول إنما أصاب من الاثني عشرة عشرا لزمهما
ان يرميا الثالثة عشرة فإن أصابا بها أو أخطأ أو أصابها الأول وحده فقد سبق ولا يحتاج إلى اتمام
الرشق وان أصابها الآخر وحده فعليهما أن يرميا الرابعة عشرة والحكم فيها وفيما بعدها كالحكم
في الثالثة عشر فإنه متى ما أصاباها أو أخطئا أو أصابها الأول فقد سبق ولا يرميان ما بعدها وان أصابها
الآخر وحده رميا بعدها وكذا كل موضع يكون في اتمام الرشق فائدة لأحدهما يلزم اتمامه
149

وان يئس من الفائدة لم يلزم إتمامه فإذا بقي من العدد ما يمكن ان يسبق أحدهما به صاحبه أو
يسقط به سبق صاحبه لزم الاتمام والا فلا، فإذا كان السبق يحصل بثلاث إصابات من عشرين فرميا
ثماني عشرة فأخطأها أو أصاباها أو تساويا في الإصابة فيها لم يلزم الاتمام لأن أكثر ما يحتمل أن
يصيب أحدهما هاتين الرميتين ويخطئهما الآخر ولا يحصل السبق بذلك وكذلك ان فضل أحدهما
الآخر بخمس إصابات فما زاد لم يلزم الاتمام لأن إصابة الآخر السهمين الباقيين لا يخرج الآخر عن
كونه فاضلا بثلاث إصابات وان لم يفضله الا بأربع رميا السهم الآخر فإن اصابه المفضول وحده فعليهما
رمي الآخر فإن أصابه المفضول أيضا أسقط سبق الأول وان أخطأ في أحد السهمين أو أصاب الأول
في أحدهما فهو سابق (الثالث) ان يقول أينا أصاب خمسا من عشرين فهو سابق فمتى أصاب أحدهما
خمسا من العشرين ولم يصبها الآخر فالأول سابق وان أصاب كل واحد منهما خمسا أو لم يصب واحد منهما خمسا
فلا سابق فيهما وهذه في معنى المحاطة في أنه يلزم اتمام الرمي ما كان فيه فائدة ولا يلزم إذا خلا عنها ومتى أصاب
كل واحد منهما خمسا لم يلزم اتمامه ولم يكن فيهما سابق وان رميا ست عشرة رمية فلم يصب
واحد منهما شيئا لم يلزم اتمامه ولا سابق فيهما لأن أكثر ما يحتمل ان يصيبها أحدهما وحده ولا
يحصل السبق بذلك، واختلف أصحابنا فقال أبو الخطاب لابد من معرفة الرمي هل هو مبادرة أو
محاطة أو مفاضلة لأن غرض الرماة يختلف فمنهم من تكثر اصابته في الابتداء دون الانتهاء ومنهم
بالعكس فوجب بيان ذلك ليعلم ما دخل فيه وهذا الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وظاهر
كلام القاضي انه لا يحتاج إلى اشتراط ذلك لأن مقتضى النضال المبادرة وان من بادر إلى الإصابة فهو
150

السابق فإنه إذا شرط السبق لمن أصاب خمسة من عشرين فسبق إليها واحد فقد وجد الشرط،
ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(فصل) وإن شرطا إصابة موضع من الهدف على أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من
إصابة الآخر ففعل ثم فضل أحدهما الآخر بما شرطاه كان سابقا ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي
لأنه نوع من المحاطة فإذا أصاب أحدهما موضعا بينه وبين الغرض شبر وأصاب الآخر موضعا بينه
وبين الغرض أقل من شبر سقط الأول، وإن أصاب الأول الغرض أسقط الثاني وإن أصاب الثاني
الدائرة التي في الغرض لم يسقط الأول لأن الغرض كله موضع الإصابة فلا يفضل أحدهما صاحبه إذا
أصاباه إلا أن يشترطا ذلك، وإن شرطا ان يحتسب كل واحد منهما خاسقه بإصابتين جاز لأن أحدهما
لم يفضل صاحبه بشئ فقد استويا
(فصل) فإن عقد النضال جماعة ليتناضلوا حزبين فذكر القاضي انه يجوز وهو مذهب الشافعي
ويحتمل ان لا يجوز لأن التعيين شرط وقبل التفاضل لم يتعين من في كل واحد من الحزبين فعلى هذا
إذا تفاضلوا عقدوا الناضل بعده، وعلى قول القاضي يجوز العقد قبل التفاضل ولا يجوز ان يقتسموا
بالقرعة لأنها قد تقع على الحذاق في أحد الحزبين وعلى الكوادن في الآخر فيبطل مقصود النضال بل
يكون لكل حزب زعيم فيختار أحدهما واحدا ثم يختار الآخر واحدا كذلك حتى يتفاضلوا جميعا
ولا يجوز ان يجعل الخيار إلى أحدهما في الجميع ولا ان يختار جميع حزبه أولا لأنه يختار الحذاق في
حزبه ولا يجوز ان يجعل رئيس الحزبين واحدا لأنه يميل إلى حزبه فتلحقه التهمة ولا يجوز ان يختار كل
151

واحد من الرئيسين أكثر من واحد واحد لأنه أبعد من التساوي وإذا اختلفا في المبتدئ بالخيار
أقرع بينهما، ولو قال أحدهما انا أختار أولا واخرج السبق أو يخرجه أصحابي لم يجز لأن السبق إنما
يستحق بالسبق لا في مقابلة تفضل أحدهما بشئ
(فصل) وإذا أخرج أحد الزعيمين السبق من عنده فسبق حزبه لم يكن على حزبه شئ لأنه
جعله على نفسه دونهم وإن شرطه عليهم فهو عليهم بالسوية ويقسم على الحزب الآخر بالسوية من
أصاب ومن أخطأ في أحد الوجهين كما أنه على الحزب الآخر بالسوية وفي الوجه الآخر يقسم بينهم
على قدر الإصابة ولا شئ لمن لم يصب لأن استحقاقه بالإصابة فكان على قدرها واختص بمن وجدت
فيه بخلاف المسبوقين فإنه وجب عليهم لالتزامهم به وقد استووا في ذلك
(فصل) ومتى كان النضال بين حزبين اشترط كون الرشق يمكن قسمه بينهم بغير كسر
ويتساووا فيه فإن كانوا ثلاثة وجب أن يكون له ثلث، وكذلك ما زاد لأنه إذا لم يكن كذلك بقي
سهم أو أكثر بينهم لا يمكن الجماعة الاشتراك فيه
(فصل) ولا يجوز ان يقولوا نقرع فمن خرجت قرعته فهو السابق ولا ان من خرجت قرعته
فالسبق عليه ولا ان يقولوا نرمي فأينا أصاب فالسبق على الآخر لأنه عوض في عقد فلا يستحق
بالقرعة ولا بالإصابة، وإن شرطوا أن يكون فلان مقدم حزب وفلان مقدم الآخر ثم فلان ثانيا في
الحزب الأول وفلان ثانيا من الحزب الثاني كان فاسدا لأن تقديم كل واحد من الحزبين يكون إلى
زعيمه وليس للحزب الاخر مشاركته في ذلك فإذا شرطوه كان فاسدا
(فصل) إذا تناضل اثنان واخرج إحداهما السبق فقال أجنبي انا شريكك في الغرم والغنم ان
152

نضلك فنصف السبق علي وإن نضلته فنصفه لي لم يجز وكذلك لو كان المتناضلون ثلاثة منهما محلل
فقال رابع للمستبقين انا شريككما في الغنم والغرم كان باطلا لأن الغنم والغرم إنما يكون من المناضل.
فأما من لا يرمي فلا يكون له غنم ولا عليه غرم ولو شرطا في النضال انه إذا جلس المستبق كان عليه السبق
لم يصح لأن السبق على النضال وهذا الشرط يخالف مقتضى النضال فكان فاسدا
(فصل) ولو فضل أحد المتناضلين صاحبه فأقل المفضول اطرح فضلك وأعطيك دينارا لم يجز
لأن المقصود معرفة الحذق وذلك يمنع منه وإن فسخا العقد وعقدا عقدا آخر جاز وإن لم يفسخاه
ولكن رميا تمام الرشق فتمت الإصابة له مع ما أسقطه استحق السبق ورد الدينار إن كان أخذه
* (مسألة) * (وإذا أطلقا الإصابة تناولها على أي صفة كانت)
لأنها إصابة وذكر شيخنا صفة الإصابة شرطا لصحة المناضلة في كتاب المغني فإن قالا خواصل
كان تأكيدا لها لأنه اسم لها كيفما كانت. قال الأزهري يقال خصلت مناضلي خصلة وخصلا ويسمى
ذلك القرع والقرطسة يقال قرطس إذا أصاب
* (مسألة) * (فإن قالا خواسق وهو ما خرق الغرض وثبت فيه أو خوازق وهو ما خزقه ووقع
بين يديه أو موارق وهو ما نفذ الغرض ووقع وراءه أو خوارم وهو ما خرم جانب الغرض أو حوابي
وهو ما وقع بين يدي الغرض ثم وثب إليه ومنه يقال حبا الصبي أو خواصر وهو ما كان في أحد جانبي
الغرض ومنه قيل الخاصرة لأنها في جانب الانسان تقيدت المناضلة بذلك)
لأن المرجع في المسابقة إلى شرطهما فيقيد بما شرطاه ههنا وان شرطا الخواسق والحوابي معا صح
153

* (مسألة) * (وان شرط إصابة موضع من الغرض كالدائرة فيه تفيد به) لما ذكرنا
(الرابع معرفة قدر الغرض طوله وعرضه وسمكه وارتفاعه من الأرض)
الغرض ما يقصد اصابته من قرطاس أو جلد أو خشب أو فرع أو غيره سمي غرضا لأنه يقصد ويسمى
شارة وشنا قال الأزهري ما نصب في الهدف فهو القرطاس وما نصب في الهواء فهو الغرض ويجب أن يكون
قدره معلوما بالمشاهدة أو بتقدير بشبر أو نحوه بحسب الشرط فإن الإصابة تختلف باختلاف
صغره وكبره وغلظه ورقته فوجب اعتبار ذلك
* (مسألة) * (وان تشاحا في المبتدئ منهما أقرع بينهما وقيل يقدم من له مزية باخراج السبق)
وجملة ذلك أنه لابد في المناضلة من أن يبتدئ أحدهما بالرمي لأنهما لو رميا معا أفضى إلى
الاختلاف ولم يعرف المصيب منهما، فإن كان المخرج أجنبيا قدم من يختاره منهما فإن لم يختر وتشاحا
أقرع بينهما لأنهما تساويا في استحقاق هذا فصارا إلى القرعة كما لو تنازع المتقاسمان في استحقاق
سهم معين أو في المبتدئ بالأخذ وأيهما كان أحق بالتقديم فبدره الآخر فرمى لم يعتد له بسهمه
أصاب أم أخطأ.
* (مسألة) * (وإذا بدأ أحدهما في وجه بدأ الآخر في الثاني تعديلا بينهما فإن شرطا البداءة لأحدهما
في كل الوجوه لم يصح)
لأن موضوع المناضلة على المساواة وهذا تفاضل فإن فعلا ذلك من غير شرط برضاهما جاز لأن
البداءة لا اثر لها في الإصابة ولا في جودة الرمي، وان شرطا ان يبدأ كل واحد منهما وجهين متواليين
154

جاز لتساويهما ويحتمل أن يكون اشتراط البداءة في كل موضع ذكرنا غير لازم ولا يؤثر في العقد لأنه
لا اثر له في تجويد رمي ولا كثرة إصابة وكثير من الرماة يختار التأخر على البداية فيكون وجود هذا
الشرط كعدمه، وإذا رمى البادئ بسهم رمى الثاني بسهم كذلك حتى يقضيا رمييهما لأن اطلاق
المناضلة يقتضي المراسلة ولأنه أقرب إلى التساوي وانجز للرامي، لأن أحدهما يصلح فرسه ويعدل
سهمه حتى يرمي الآخر، وان رميا سهمين سهمين فحسن وان شرطا أن يرمي أحدهما رشقه ثم يرمي
الاخر أو يرمي أحدهما عددا ثم يرمي الآخر مثله جاز لأنه لا يؤثر في مقصود المناضلة وان خالف
مقتضى الاطلاق كما يجوز ان يشترط في البيع ما لا يقتضيه الاطلاق من النقود والخيار والأجل لما
كان غير مانع من المقصود.
* (مسألة) * (والسنة يكون لهما غرضان يرميان أحدهما ثم يمضيان إليه فيأخذان السهام يرميان الآخر)
لأن هذا كان فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما بين الغرضين
روضة من رياض الجنة " وقال إبراهيم التيمي رأيت حذيفة يشتد بين الهدفين يقول أنا بها أنا بها في قميص
وعن ابن عمر مثل ذلك، والهدف ما ينصب الغرض عليه اما تراب مجموع أو حائط ويروى ان أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض فإذا جاء الليل كانوا رهبانا
فإن جعلوا غرضا واحدا جاز لأن المقصود يحصل به وهو عادة أهل عصرنا
(فصل) وإذا تشاحا في الوقوف فإن كان الموضع الذي طلبه أحدهما أولى مثل أن يكون في أحد
الموقفين يستقبل الشمس أو ريحا يؤذيه استقبالها ونحو ذلك والآخر يستدبرها قدم قول من طلب
استدبارها لأنه العرف إلا أن يكون في شرطهما استقبال ذلك فالشرط أولى كما لو اتفقا على الرمي ليلا
فإن كان الموقفان سواء كان ذلك إلى الذي يبدأ فيتبعه الآخر فإذا كان في الوجه الثاني وقف
الثاني حيث شاء ويتبعه الأول
155

(فصل) فإن أراد أحدهما التطويل والتشاغل عن الرمي بما لا حاجة إليه من مسح القوس والوتر
ونحو ذلك إرادة التطويل على صاحبه لعله ينسى القصد الذي أصاب به أو يفتر منع من ذلك وطولب
بالرمي ولا يزعج بالاستعجال بالكلية بحيث يمنع من تحري الإصابة، ويمنع كل واحد منهما من الكلام
الذي يغيظ به صاحبه مثل ان يرتجز ويفتخر ويتبجح بالإصابة ويعنف صاحبه على الخطأ أو يظهر له أنه
يعلمه وهكذا الحاضر معهما مثل الأمين والشاهدين يكره لهم مدح المصيب وتعنيف المخطئ وزجره
لأن فيه كسر قلب أحدهما وغيظه
* (مسألة) * (وإذا أطارت الريح الغرض فوقع السهم موضعه فإن كان شرطهما خواصل احتسب له به)
لعلمنا أنه لو كان الغرض في موضعه أصابه)
* (مسألة) * (وإن كان شرطهما خواسق لم يحتسب له به ولا عليه)
وهذا قول أبي الخطاب لأنا لا ندري هل يثبت في الغرض إن كان موجودا أولا؟ وقال القاضي
ينظر فإن كانت صلابة الهدف كصلابة الغرض فثبت في الهدف احتسب له به لأنه لو بقي مكانه لثبت
فيه كثبوته في الهدف وان لم يثبت فيه مع التساوي لم يحتسب وإن كان الهدف أصلب فلم يثبت فيه
أو كان رخوا لم يحتسب السهم له ولا عليه لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض لو بقي مكانه أولا
وهذا مذهب الشافعي فإن وقع السهم في غير موضع الغرض احتسب به على راميه لأنه أخطأ ولو وقع
في الغرض في الموضع الذي طار إليه حسب عليه أيضا إلا أن يكونا اتفقا على رميه في الموضع الذي
طار إليه وكذلك الحكم إذا ألقت الريح الغرض وجهه
(فصل) إذا كان شرطهما خواصل فأصاب بنصل السهم حسب له كيفما كان فإن أصاب بعرضه
أو بفوقه نحو ان ينقلب السهم بين يدي الغرض فيصيب فوقه الغرض لم يعتد به لأن هذا من سيئ
الخطأ فإن انقطع السهم قطعتين فأصابت القطعة الأخرى لم يعتد به وإن كان الغرض جلدا خيط عليه
156

شنبر كشنبر المنخل وجعلا له عرى وخيوطا تعلق به في العرى فأصاب الشنبر أو العرى نظرت في
شرطهما فإن شرطا إصابة الغرض اعتدله لأن ذلك من الغرض فاما المعاليق وهي الخيوط فلا يعتد له
بإصابتها على كلا الشرطين لأنها ليست من الجلدة ولا من الغرض فهي كالهدف
(فصل) فإن كان شرطهما خواسق وهو ما نقب الغرض وثبت فيه فمتى أصاب الغرض بنصله
وثبت فيه احتسب به وان خدشه ولم ينقبه لم يحتسب له وحسب عليه وان مرق منه احتسب له به
لأن ذلك لقوة رميه فهو أبلغ من الخاسق وان خرقه ووقع بين يديه احتسب له به في أحد الوجهين
لأنه نقب نقبا يصلح للخسق وإنما لم يثبت السهم لسبب آخر من سعة النقب أو غيره (والثاني) لا يحتسب
له وهو أولى لأن الخاسق ما ثبت وهذا لم يثبت وثبوته يكون لحذق الرامي وقصده برميه ما اتفقا عليه
الا أن يكون امتناع السهم من الثبوت لوجود ما يمنع الثبوت من حصاة أو حجر أو عظم أو ارض
غليظة ففيه الوجهان أيضا الا أنه إذا لم يحتسب له لم يحتسب عليه لكون العارض منعه من الثبوت
أشبه ما لو منعه عارض من الإصابة، فإن اختلفا في وجود العارض فإن عرف موضع النقب باتفاقهما
أو ببينة نظر في الموضع فإن لم يكن فيه ما يمنع فالقول قول المنكر وإن كان فيه ما يمنع فالقول قول
المدعي بغير يمين لأن الحال تشهد بصدق ما ادعاه وان لم يعلما موضع النقب الا أنهما اتفقا على أنه
خرق الغرض ولم يكن وراءه شئ يمنع فالقول قول المنكر بغير يمين أيضا لأنه لا مانع وإن كان
وراءه ما يمنع وادعى المصاب عليه انه لم يكن السهم في موضع وراءه ما يمنع فالقول قوله مع يمينه لأن
الأصل عدم الإصابة مع احتمال ما يقوله المصيب وان أنكر أن يكون خرق فالقول قوله أيضا مع يمينه لما ذكرنا
(فصل) إذا شرطا خاسقا فوقع السهم في نقب في الغرض أو موضع بال فنقبه وثبت في الهدف
157

معلقا في الغرض فإن كان الهدف صلبا كصلابة الغرض حسب له لأنه علم أنه لو كان الغرض صحيحا
لثبت فيه وإن كان الهدف ترابا أهيل لم يحسب له ولا عليه لأنا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض لو أصاب
موضعا منه قويا أولا؟ وان صادف السهم في نقب الغرض قد ثبت في الهدف مع قطعة من الغرض
فقال الرامي خسقت وهذه الجلدة قطعها سهمي لشدة الرمية فأنكر الآخر وقال بل كانت مقطوعة
فإن علم أن الغرض كان صحيحا فالقول قول الرامي وان اختلفا فذكر القاضي أنها كالتي قبلها إن كان
الهدف رخوا وإن كان قويا صلبا اعتد به، وان وقع سهمه في سهم ثابت في الغرض اعتد له به إن كان
شرطهما خواصل وإن كان خواسق لم يحسب له ولا عليه لأنا لا نعلم يقينا انه لولا فوق السهم الثابت
لخسق وان أصاب السهم ثم سبح عنه فخسق احتسب له به
* (مسألة) * (وان عرض عارض من كسر قوس أو قطع وتر أو ريح شديدة لم يحسب عليه بالسهم)
إذا أخطأ لعارض مما ذكرنا أو حيوان اعترض بين يديه أو ريح شديدة ترد السهم عرضا يحسب عليه
بذلك السهم لأن خطأه للعارض لا لسوء رميه قال القاضي ولو أصاب لم يحسب لأنه إذا لم يحسب عليه لم يحسب
له لأن الريح الشديدة كما يجوز ان تصرف الرمي الشديد فيخطئ يجوز ان تصرف السهم المخطئ عن خطئه
فيقع مصيبا فتكون إصابته بالريح لا بحذق رميه، فأما ان وقع السهم في حائل بينه وبين الغرض
فمرقه وأصاب الغرض حسب له لأن اصابته لسداد رميه ومروقه لقوته فهو أولى من غيره
وان كانت الريح لينة لا ترد السهم عادة لم يمنع لأن الجو لا يخلو من ريح ولان الريح اللينة لا تؤثر
إلا في الرمي الرخو الذي لا ينتفع به
(فصل) إذا قال رجل لآخر ارم هذا السهم فإن أصبت به فلك درهم صح وكان جعالة لأنه بذل مالا
في فعل له فيه غرض صحيح ولم يكن نضالا لأن النضال يكون بين اثنين أو جماعة على أن يرموا جميعا
ويكون الجعل لبعضهم إذا كان سابقا، وإن قال إن أصبت به فلك درهم وان أخطأت فعليك درهم
لم يصح لأنه قمار وان قال ارم عشرة أسهم فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك درهم صح لأنه
جعل الجعل في مقابلة إصابة معلومة فإن أكثر العشرة أقله ستة وليس ذلك مجهولا لأنه بالأقل يستحق
158

الجعل، وإن قال إن كان صوابك أكثر فلك بكل سهم أصبت به درهم صح وكذلك ان قال ارم
عشرة ولك بكل سهم أصبت به منها درهم. أو قال فلك بكل سهم زائد على النصف من المصيبات
درهم لأن الجعل معلوم بتقديره بالإصابة فأشبه ما لو قال استق لي من هذا البئر ولك بكل دلو تمرة
أو قال من رد عبدا من عبيدي فله بكل عبد درهم، وان قال إن كان خطؤك أكثر فعليك درهم
أو نحو هذا لم يجز لأنه قمار وان قال ارم عشرة فإن أخطأتها فعليك درهم أو نحو هذا لم يجز لأن الجعل
يكون في مقابلة عمل ولم يوجد من القابل عمل فيستحق به شيئا ولذلك لو قال الرامي لأجنبي إن
أخطأت فلك درهم لم يجز لذلك
(فصل) وإن شرط ان يرميا أرشاقا كثيرة جاز لأنه إذا جاز على القليل جاز على الكثير ولابد
أن تكون معلومة فإن شرطا ان يرميا منها كل يوم قدرا اتفقا عليه جاز لأن الغرض في ذلك صحيح
فإنهما أو أحدهما قد يضعف عن الرمي كله مع حذقه، وان أطلقا العقد جاز وحمل على التعجيل والحلول
كسائر العقود فيرميان من أول النهار إلى آخره الا ان يعرض عذر يمنع من مرض أو عذر كريح
يشوش السهام أو لحاجة إلى طعام أو شراب أو صلاة أو قضاء حاجة لأن هذه مستثناة بالعرف وإذا جاء
الليل تركاه لأن العادة ترك الرمي بالليل فحمل العقد عليه مع الاطلاق الا ان يشترطاه ليلا فيلزم فإن كانت
الليلة مقمرة منيرة اكتفي بذلك والا رميا بضوء شمعة أو مشعل
* (مسألة) * (وان عرض مطر أو ظلمة جاز تأخير الرمي) لأن المطر يرخي الوتر ويفسد الريش
وان عرض ظلمة كمجئ الليل تركا الرمي إلى الغد لأن العادة الرمي نهارا الا أن يشترطا الرمي
ليلا فيأخذ أحدهما صاحبه بذلك وقد ذكرناه في الفضل قبله ويكره للأمين والشهود مدح أحدهما
وزهزهته إذا أصاب وعيبه إذا أخطأ لما فيه من كسر قلب صاحبه وقد ذكرناه
159

كتاب الايمان
والأصل في مشروعيتها وثبوت حكمها الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقول الله
سبحانه (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) الآية. وقال تعالى
(ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها) وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالحلف في ثلاثة مواضع فقال (ويستنبئونك
أحق هو؟ قل إي وربي انه لحق) وقال سبحانه (قل بلى وربي لتأتينكم) وقال (قل بلى وربي لتبعثن)
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " اني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا
أتيت الذي هو خير وتحللتها " متفق عليه. وكان أكثر قسم النبي صلى الله عليه وسلم " ومصرف
القلوب - ومقلب القلوب " ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آي واخبار سوى هذين
كثير، وأجمعت الأمة على مشروعية اليمين وثبوت أحكامها ووضعها في الأصل لتوكيد المحلوف عليه
(فصل) وتصح من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين ولا تصح من غير مكلف كالصبي والمجنون
والنائم كالاقرار وفي السكران وجهان بناء على أن هذا مكلف أو غير مكلف، ولا تنعقد يمين مكره
وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة تنعقد لأنها يمين مكلف فانعقدت كيمين المختار
ولنا ما روى أبو أمامة وواثلة بن الأسقع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس على مقهور
يمين " ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح ككلمة الكفر
(فصل) وتصح من الكافر وتلزمه الكفارة بالحنث سواء حنث في كفره أو بعد اسلامه،
160

وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر إذا حنث بعد اسلامه وقال الثوري وأصحاب الرأي لا تنعقد
يمينه لأنه ليس بمكلف
ولنا ان عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء
بنذره ولأنه من أهل القسم بدليل قوله تعالى (فيقسمان بالله) ولا نسلم انه غير مكلف وإنما تسقط
عنه العبادات باسلامه لأن الاسلام يجب ما قبله. فأما ما التزمه بنذره أو يمينه فينبغي أن يبقى حكمه
في حقه لأنه من جهته.
(فصل) والايمان تنقسم خمسة أقسام (أحدها) واجب وهي التي ينجي بها انسانا معصوما من هلكة
كما روي عن سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه
عدوله فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنا انه أخي فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال
النبي صلى الله عليه وسلم " صدقت المسلم أخو المسلم " رواه أبو داود فهذا وأشباهه واجب لأن انجاء
المعصوم واجب وقد تعين في اليمين فيجب وكذلك انجاء نفسه مثل أن تتوجه ايمان القسامة في
دعوى القتل عليه وهو برئ
(الثاني) مندوب وهو الحلف الذي تتعلق به مصلحة من اصلاح بين متخاصمين أو إزالة حقد
من قلب مسلم عن الحالف أو غيره أو في دفع شر فهذا مندوب لأن فعل هذه الأمور مندوب إليه
واليمين مفضية إليه، وإن حلف على فعل طاعة أو ترك معصية ففيه وجهان (أحدهما) انه مندوب إليه
وهو قول بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي لأن ذلك يدعوه إلى فعل الطاعات وترك المعاصي
161

(والثاني) ليس بمندوب إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك في الأكثر
الأغلب ولا حث النبي صلى الله عليه وسلم أحدا عليه ولا ندبهم إليه ولو كان ذلك طاعة لم يخلوا به
ولان ذلك يجري مجرى النذر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال " انه لا يأتي بخير
وإنما يستخرج به من البخيل " متفق عليه.
(الثالث المباح الحلف على فعل مباح أو تركه والحلف على الخبر بشئ هو صادق فيه أو
يظن أنه فيه صادق فإن الله تعالى قال (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) ومن صور اللغو ان يحلف
على شئ يظنه كما حلف ويتبين بخلافه
(الرابع) المكروه وهو الحلف على مكروه أو ترك مندوب قال الله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة
لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) وروي ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه حلف لا ينفق
على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال وكان من أهل الإفك فأنزل الله تعالى (ولا يأتل أولو
الفضل منكم) الآية، قيل المراد بقوله (ولا يأتل) أي لا يمتنع ولان اليمين على ذلك مانعة من فعل
الطاعة أو حاملة على فعل المكروه فتكون مكروهة، فإن قيل لو كانت مكروهة لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على
الاعرابي الذي سأله عن الصلوات فقال هل علي غيرها؟ فقال " لا إلا أن تتطوع " فقال والذي
بعثك بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص منها ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل قال " أفلح الرجل
إن صدق " قلنا لا يلزم هذا فإن اليمين على تركها لا تزيد على تركها ولو تركها لم ينكر عليه ويكفي في
ذلك بيان ان ما تركه تطوع وقد بينه له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " إلا أن تتطوع " ولأن هذه
اليمين إن تضمنت ترك المندوب فقد تناولت فعل الواجب والمحافظة عليه كله بحيث لا ينقص منه
162

منه شيئا وهذا في الفضل يزيد على ما قابله من ترك التطوع فيترجح جانب الاتيان بها على تركها فيكون
من قبل المندوب فكيف ينكر؟ ولان في الاقرار على هذه اليمين بيان حكم يحتاج إليه وهو بيان أن
ترك التطوع غير مؤاخذ به ولو أنكر على الحالف هذا لحصل ضد هذا وتوهم كثير من الناس لحوق
الاثم بتركه فيفوت الغرض، ومن قسم المكروه الحلف في البيع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" الحلف منفق للسلعة ممحق للبركة " رواه ابن ماجة
(القسم الخامس) المحرم وهو الحلف الكاذب فإن الله تعالى ذمه بقوله سبحانه (ويحلفون على
الكذب وهم يعلمون) ولان الكذب حرام فإذا كان محلوفا عليه كان أشد في التحريم وان أبطل
به حقا واقتطع به مال معصوم كان أشد فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حلف
على يمين فاجرة يقتطع بها مال مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " متفق على معناه وأنزل الله تعالى في
ذلك (ان الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم
الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) ومن هذا القسم الحلف على معصية أو
ترك واجب فإن المحلوف عليه حرام فكان الحلف حراما لأنه وسيلة إليه والوسيلة تأخذ حكم المتوسل إليه
(فصل) ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرم كان حلها محرما لأن حلها بفعل المحرم
وهو محرم وإن كانت على مندوب أو ترك مكروه فحلها مكروه وإن كانت على مباح فحلها مباح،
فإن قيل فكيف يكون حلها مباحا وقد قال الله سبحانه وتعالى (ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها -
إلى قوله - تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة) والعهد يجب الوفاء به بغير
تمين فمع اليمين أولى فإن الله تعالى قال (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) وقال (يا أيها الذين آمنوا
أوفوا بالعقود) ولهذا نهى عن نقض اليمين والنهي يقتضي التحريم وذمهم عليه وضرب لهم مثل التي
163

نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ولا خلاف في أن المحل المختلف فيه لا يدخله شئ من هذا؟ وإن
كانت على فعل مكروه أو ترك مندوب فحلها مندوب إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا حلفت
على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك " وقال عليه السلام " إني والله
إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها وإن كانت
اليمين على فعل محرم أو ترك واجب فحلها واجب لأن حلها بفعل الواجب وفعله واجب
* (مسألة) * (واليمين التي تجب بها الكفارة هي اليمين بالله تعالى أو صفة من صفاته)
أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله تعالى فقال والله أو بالله أو تالله فحنث ان عليه الكفارة،
قال ابن المنذر وكان مالك وأبو عبيد والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي يقولون من حلف باسم من
أسماء الله تعالى فحنث فعليه الكفارة ولا نعلم في هذا خلافا إذا كان من أسماء الله الذي لا يسمى بها سواه
* (مسألة) * (وأسماء الله تعالى قسمان)
(أحدهما) مالا يسمى به غيره ونحو والله والقديم الأزلي والأول الذي ليس قبله شئ والآخر
الذي ليس بعده شئ وخالق الخلق ورزاق العالمين، فهذا القسم به يمين بكل حال وكذلك قوله
ورب العالمين، ورب السماوات، والحي الذي لا يموت (الثاني) ما يسمى به غيره واطلاقه ينصرف
إلى الله تعالى كالعظيم والرحيم والرب والمولى والرازق ونحوه. فأما الرحمن فذكره شيخنا من هذا
القسم في الكتاب المشروح وذكره في كتاب المغني من القسم الأول وهو أولى لأن ذلك إنما كان
يسمى به غير الله تعالى مضافا كقولهم في مسيلمة رحمان اليمامة أما إذا أطلق فلا ينصرف إلا إلى الله
تعالى، فهذا القسم الذي يسمى به غير الله مجازا بدليل قوله تعالى (ارجع إلى ربك - واذكرني عند
ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه) وقال (فارزقوهم منه) وقال (بالمؤمنين رؤوف رحيم)
164

* (مسألة) * (فهذا إن نوى بالقسم به اسم الله تعالى أو أطاق كان يمينا لأنه باطلاقه ينصرف إليه بالنية)
وهذا مذهب الشافعي، وقال طلحة العاقولي إذا قال والرب والخالق والرازق كان يمينا على كل حال
كالأول لا يستعمل مع التعريف باللام إلا في اسم الله تعالى فأشبهت القسم الأول
* (مسألة) * (وأما مالا يعد من أسمائه كالشئ والموجود والحي والعالم والمؤمن والكريم
والشاكر فإن لم ينو به الله تعالى أو نوى غيره لم يكن يمينا وإن نواه كان يمينا)
فيختلف هذا القسم والذي قبله في حالة الاطلاق ففي الأول يكون يمينا وفي الثاني لا يكون يمينا،
وقال القاضي والشافعي في هذا القسم لا يكون يمينا أيضا وإن قصد به اسم الله تعالى لأن اليمين إنما
تنعقد لحرمة الاسم فمع الاشتراك لا يكون له حرمة والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين
ولنا انه أقسم بالله قاصدا به الحلف فكان يمينا مكفرة كالقسم الذي قبله، وقولهم ان النية المجردة
لا تنعقد بها اليمين نقول به وما انعقد بالنية المجردة وإنما انعقد بالاسم المحتمل المراد به اسم الله تعالى
فإن النية تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته فيصير كالمصرح به كالكنايات ولهذا لو نوى بالقسم
الذي قبله غير الله لم يكن يمينا لنيته
* (مسألة) * (وإن قال وحق الله وعهد الله وأيم الله وأمانة الله وميثاقه وقدرته وعظمته وكبريائه
وجلاله وعزته ونحو ذلك فهو يمين)
وإن قال والعهد والميثاق وسائر ذلك ولم يضفه إلى الله تعالى لم يكن يمينا إلا أن ينوي صفة الله
تعالى وعنه يكون يمينا، وإن قال وحق الله فهي يمين مكفرة وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة
لا كفارة لها لأن حق الله طاعته ومفروضاته وليست صفة له
ولنا ان لله حقوقا يستحقها لنفسه من البقاء والعظمة والجلال والعزة وقد اقترن عرف الاستعمال
165

بالحلف بهذه الصفة فينصرف إلى صفة الله تعالى كقوله وقدر الله، وإن نوى بذلك القسم بمخلوق
فالقول فيه كالقول في الحلف بالعلم والقدرة الا ان احتمال المخلوق بهذا اللفظ أظهر، وإن قال وعهد
الله وكفالته فذلك يمين يجب تكفيرها إذا حنث فيها وبهذا قال الحسن وطاوس والشعبي والحارث
العكلي وقتادة الحكم والأوزاعي ومالك، وقال عطاء وابن المنذر وأبو عبيد لا يكون يمينا الا ان
ينوي وقال الشافعي لا يكون يمينا إلا أن ينوي اليمين بعهد الله الذي هو صفته، وقال أبو حنيفة ليس بيمين
ولعلهم ذهبوا إلى أن العهد من صفات الفعل فلا يكون الحلف به يمينا كما لو قال وحق الله، وقد وافقنا
أبو حنيفة في أنه إذا قال علي عهد الله وميثاقه ثم حنث انه تلزمه الكفارة
ولنا ان عهد الله يحتمل كلامه الذي أمرنا به ونهانا عنه لقوله (ألم أعهد إليكم يا بني آدم؟)
وكلامه قديم صفة له، ويحتمل انه استحقاقه لما تعبدنا به وقد ثبت له عرف الاستعمال فيجب أن
يكون يمينا باطلاقه كما لو قال وكلام الله. إذا ثبت هذا فإنه إذا قال علي عهد الله وميثاقه لأفعلن أو
قال وعهد الله ميثاقه لا أفعلن فهو يمين
* (مسألة) * (وإن قال وأيم الله أو وأيم الله فهي يمين موجبة للكفارة)
وهو كالحلف بعمر الله على ما نذكره، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به وانضم إليه عرف الاستعمال
فوجب ان ينصرف إليه، واختلف في اشتقاقه فقيل هو جمع يمين وحذفت النون فيه في البعض تخفيفا
لكثرة الاستعمال وقيل هو من اليمن فكأنه قال ويمن الله لأفعلن والفه الف وصل
* (مسألة) * (وإن قال وأمانة الله فقال القاضي لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين
مكفرة وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا تنعقد اليمين بها الا أن ينوي الحلف بصفة الله)
لأن الأمانة تطلق على الفرائض والودائع والحقوق قال الله تعالى (انا عرضنا الأمانة على
166

السماوات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان) وقال تعالى (ان الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) يعني الودائع والحقوق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " اد الأمانة إلى
من ائتمنك ولا تخن من خانك " وإذا كان اللفظ محتملا لم يصرف إلى أحد محتملاته الا ببينة
أو دليل صارف إليه
ولنا ان أمانة الله صفة من صفاته بدليل وجوب الكفارة على من حلف بها إذا نوى حملها
على ذلك عند الاطلاق لوجوه
(أحدها) أن حملها على غير ذلك صرف ليمين المسلم إلى المعصية أو المكروه لكونه قسما
بمخلوق والظاهر من حال المسلم خلافه
(الثاني) ان القسم في العادة يكون بالمعظم المحترم دون غيره وصفة الله أعظم حرمة وقدرا
(الثالث) ان ما ذكروه من الفرائض والودائع لم يعهد القسم بها ولا يستحسن ذلك لو صرح
به فلذلك لا يقسم بما هو عبارة عنه
(الرابع) ان أمانة الله المضافة إليه هي صفته وغيرها يذكر غير مضاف إليه كما ذكر في الآيات والخبر
(الخامس) ان اللفظ عام في كل أمانة الله لأن اسم الجنس إذا أضيف إلى معرفة أفاد الاستغراق
فتدخل فيه أمانه الله التي هي صفته فتنعقد اليمين بها موجبة للكفارة كما لو نواها
(فصل) والقسم بصفات الله تعالى كالقسم بأسمائه، وصفاته ينقسم ثلاثة أقسام
(أحدها) ما هو صفات لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها كعزة الله وعظمته وجلاله وكبريائه
وكلامه فهذه تنعقد بها اليمين في قولهم جميعا وبه يقول الشافعي وأصحاب الرأي لأن هذه من صفات
ذاته ولم يزل موصوفا بها، وقد ورد الأثر بالقسم ببعضها فروي " ان النار تقول قط قط وعزتك " رواه
167

البخاري والذي يخرج من النار يقول " وعزتك لا أسألك غيرها " وفي كتاب الله تعالى قال
(فبعزتك لأغوينهم أجمعين)
(الثاني) ما هو صفة للذات الا أنه يعبر به عن غيرها مجازا كعلم الله وقدرته فهذه صفة للذات
لم يزل موصوفا بها، وقد تستعمل في المعلوم والمقدور أقساما كقولهم اللهم اغفر لنا علمك فينا ويقال
اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك ويقال انظروا إلى قدرة الله أي مقدوره فمتى أقسم بهذا كان
يمينا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قال وعلم الله لا يكون يمينا لأنه يحتمل المعلوم
ولنا أن العلم من صفات الله تعالى فكانت اليمين به يمينا موجبة للكفارة كالعظمة والعزة
والقدرة وينتقض ما ذكروه بالقدرة فإنه قد سلموها وهي قرينتها، فأما ان نوى القسم بالمعلوم والمقدور
احتمل أن لا يكون يمينا وهو قول أصحاب الشافعي لأنه نوى بالاسم غير صفة الله تعالى مع احتمال اللفظ
ما نواه فأشبه ما لو نوى القسم بمخلوق في الأسماء التي يسمى بها غير الله تعالى، وقد روي عن أحمد
أن ذلك يكون يمينا بكل حال ولا يقبل منه نية غير صفة الله كالعظمة وقد ذكر طلحة العاقولي أن
أسماء الله تعالى المعرفة بلام التعريف كالخالق والرازق أنها تكون يمينا بكل حال لأنها لا تنصرف
الا إلى اسم الله تعالى كذا هذا
(الثالث) ما لا ينصرف باطلاقه إلى صفة الله تعالى لكن ينصرف بإضافته إلى الله سبحانه لفظا
168

أو نية كالعهد والميثاق والأمانة فهذا لا يكون يمينا مكفرة الا بإضافته أو نيته وسنذكره إن شاء الله
* (مسألة) * (وان قال والعهد والميثاق وسائر ذلك ولم يضفه إلى الله تعالى لم يكن يمينا الا أن
ينوي صفة الله تعالى وعنه يكون يمينا)
إذا قال والعهد والميثاق والأمانة والعظمة والكبرياء والقدرة والجلال ونوى عهد الله كان يمينا
وكذلك في سائرها لأنه نوى الحلف بصفة من صفات الله، وان أطلق فقال القاضي فيه روايتان
[أحداهما] يكون يمينا لأن لام التعريف ان كانت للعهد يجب أن تصرف إلى عهد الله تعالى لأنه
الذي عهدت اليمين به وان كانت للاستغراق دخل فيه ذلك
[والثانية] لا تكون يمينا لأنه يحتمل غير ما وجبت به الكفارة ولم يصرفه إلى ذلك بنيته فلا
تجب الكفارة لأن الأصل عدمها
(فصل) ويكره الحلف بالأمانة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حلف بالأمانة فليس منا "
رواه أبو داود، وروى زياد بن خدير أن رجلا حلف عنده بالأمانة فجعل يبكي بكاء شديدا فقال له
الرجل هل كان هذا يكره؟ قال نعم كان عمر ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي
* (مسألة) * (وان قال لعمر الله كان يمينا وقال أبو بكر لا يكون يمينا إلا أن ينوي).
ظاهر المذهب أن ذلك يمين موجبة للكفارة وان لم ينو وبه قال أبو حنيفة وقال أبو بكر ان
قصد اليمين فهو يمين وإلا فلا وهو قول الشافعي لأنها إنما تكون يمينا بتقدير خبر محذوف فكأنه
قال لعمر الله ما أقسم به فيكون مجازا والمجاز لا ينصرف إليه الاطلاق.
ولنا انه أقسم بصفة من صفات الله فكانت يمينا موجبة للكفارة كالحلف ببقاء الله وحياته
169

ويقال العمر والعمر واحد وقيل معناه وحق الله وقد ثبت له عرف الشرع والاستعمال قال الله تعالى
(لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون).
وقال النابغة: فلا لعمر الذي قد زرته حججا * وما أريق على الأنصاب من جسد
وقال آخر: إذا رضيت كرام بني قشير * لعمر الله أعجبني رضاها
وهذا في الشعر والكلام كثير، واما احتياجه إلى التقدير فلا يضر فإن اللفظ إذا اشتهر في العرف
صار من الأسماء العرفية ويجب حمله فيه عند الاطلاق دون موضوعه الأصلي على ما عرف من سائر
الأسماء العرفية ومتى احتاج اللفظ إلى التقدير وجب التقدير له ولم يجز اطراحه ولهذا يفهم مراد
المتكلم به ومن غير اطلاع على نية قائله وقصده كما يفهم ان مراد المتكلم من المتقدمين القسم ويفهم
من القسم بغير حرف القسم في اشعارهم في مثل قولهم.
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ويفهم من القسم الذي حذف في جوابه حرف لأنه مقدر مراد لهذا لبيت ويفهم من قول الله
تعالى (واسئل القرية - وأشربوا في قلوبهم العجل) التقدير فكذا ههنا وان قال عمرك الله كما في قوله.
أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف يلتقيان؟
فقد قيل هو مثل قوله نشدتك الله ولهذا ينصب اسم الله فيه وان قال لعمري أو لعمرك أو عمرك
فليس بيمين في قول أكثرهم، وقال الحسن في قوله لعمري عليه الكفارة.
ولنا انه أقسم بحياة مخلوق فلم تلزمه كفارة كما لو قال وحياتي وذلك لأن هذا اللفظ يكون قسما
بحياة الذي أضيف إليه العمر فإن التقدير لعمرك قسمي أو ما أقسم به والعمر الحياة والبقاء.
170

* (مسألة) * (وان حلف بكلام الله أو بالمصحف أو بالقرآن فهي يمين فيها كفارة واحدة
وعنه عليه بكل آية كفارة.)
وجملة ذلك أن الحلف بكلام الله أو بالقرآن أو بآية منه يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث
فيها، وبه قال ابن مسعود والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأبو عبيد وعامة أهل العلم، وقال
أبو حنيفة وأصحابه ليس بيمين ولا تجب به كفارة فمنهم من زعم أنه مخلوق ومنهم من قال
لا تعهد اليمين به.
ولنا أن القرآن كلام الله تعالى وصفة من صفات ذاته فتنعقد اليمين به كما لو قال وجلال الله
وعظمته وقولهم هو مخلوق قلنا هذا كلام المعتزلة وإنما الخلاف مع الفقهاء وقد روي عن ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " القرآن كلام الله غير مخلوق " وقال ابن عباس في قوله تعالى (قرآنا عربيا
غير ذي عوج) أي غير مخلوق وأما قولهم لا تعهد اليمين به فيلزمهم قولهم: وكبرياء الله وعظمته وجلاله
إذا ثبت هذا فإن الحلف بآية منه كالحلف بجميعه لأنها من كلام الله تعالى وكذلك الحلف
بالمصحف تنعقد به اليمين وكان قتادة يحلف بالمصحف ولم يكره ذلك إمامنا وإسحاق، لأن الحلف
بالمصحف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه وهو القرآن فإنه بين دفتي المصحف باجماع المسلمين.
(فصل) فإن حلف بالقرآن أو بحق القرآن أو بكلام الله لزمته كفارة واحدة، ونص أحمد
على أنه تلزمه بكل آية كفارة وهو الذي ذكره الخرقي وهو قول ابن مسعود والحسن، وقياس المذهب
أنه تلزمه كفارة واحدة وهو قياس مذهب الشافعي وأبي عبيد، لأن الحلف بصفات الله تعالى
وتكرر اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة فالحلف بصفة من صفات الله أولى أن تجزئه
كفارة واحدة. ووجه الأول ما روى مجاهد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف بسورة من
171

القرآن فعليه بكل آية كفارة يمين صبر فمن شاء بر ومن شاء فجر " رواه الأثرم، ولان ابن مسعود
قال ذلك ولم نعرف له مخالفا في الصحابة قال أحمد وما أعلم شيئا يدفعه، قال شيخنا ويحتمل كلام
احمد ان في كل آية كفارة على الاستحباب لمن قدر عليه فإنه قال عليه بكل آية كفارة لمن قدر
عليها فإن لم يمكنه فكفارة واحدة ورده إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليه غير واجب
وكلام ابن مسعود أيضا يحمل على الاختيار لكلام الله والمبالغة في تعظيمه كما روي عن عائشة انها
أعتقت أربعين رقبة حين حلفت بالعهد وليس ذلك بواجب، فعلى هذا تجزئه كفارة واحدة لقول
الله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) فكفارته اطعام عشرة مساكين وهذه يمين فتدخل في عموم
الايمان المنعقدة وإنها يمين واحدة فلم توجب كفارات كسائر الايمان، ولان إيجاب كفارات بعدد
الآيات يفضي إلى المنع من البر والتقوى والاصلاح بين الناس، لأن من علم أنه بحنثه تلزمه هذه
الكفارات كلها يترك المحلوف عليه كائنا ما كان وقد يكون برا وتقوى واصلاحا فتمنعه يمينه وقد
نهى الله تعالى عنه بقوله (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) وان
قلنا بوجوب كفارات بعدد الآيات فلم يطق ذلك أجزأته كفاره واحدة نص عليه احمد.
* (مسألة) * (وان قال أحلف بالله أو اشهد بالله أو أقسم بالله أو اعزم بالله كان يمينا، وان لم
يذكر اسم الله لم يكن يمينا إلا أن ينوي وعنه يكون يمينا).
هذا قول عامة الفقهاء لا نعلم فيه خلافا وسواء نوى اليمين أو اطلق لأنه لو قال بالله
ولم يقل أقسم ولا اشهد ولم يذكر الفعل كان يمينا وإنما كان يمينا بتقدير الفعل قبله، لأن
172

الباء تتعلق بفعل مقدر على ما ذكرناه فإن أظهر الفعل ونطق بالمقدر كان أولى بثبوت حكمه وقد ثبت
له عرف الاستعمال، قال الله تعالى (فيقسمان بالله) وقال تعالى (واقسموا بالله) وقال (فشهادة أحدهم
أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين) ويقول الملاعن في لعانه اشهد بالله اني لمن الصادقين وتقول
المرأة اشهد بالله انه لمن الكاذبين وانشد اعرابي * اشهد بالله لتفعلنه * وكذلك الحكم ان ذكر الفعل
بلفظ الماضي فقال أقسمت أو شهدت بالله قال عبد الله بن رواحة * أقسمت بالتنزلنه * ان أراد بقوله أقسمت
بالله الخبر عن قسم ماض أو بقوله أقسم بالله الخبر عن قسم يأتي به فلا كفارة عليه وان ادعى ذلك
قبل منه، وقال القاضي لا يقبل في الحكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه خلاف الظاهر.
ولنا ان هذا حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإذا علم من نفسه انه نوى شيئا واراده مع احتمال
اللفظ إياه لم يلزمه شئ وان قال شهدت بالله اني آمنت بالله فليس بيمين وذكر أبو بكر في قوله أعزم
بالله انه ليس بيمين مع الاطلاق وهو قول الشافعي لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الاستعمال
فظاهره غير اليمين، لأن معناه اقصد الله لأفعلن، ووجه الأول انه يحتمل اليمين وقد اقترن به ما يدل
عليه وهو جوابه بجواب القسم فيكون يمينا فأما ان نوى بقوله غير اليمين لم يكن يمينا.
(فصل) وان قال أولي بالله أو حلفت بالله أو آليت بالله أو الية بالله أو حلفا بالله أو قسما بالله فهو
يمين سواء نوى به اليمين أو أطلق لما ذكرناه في أقسم بالله وحكمه حكمه في تفصيله لأن الايلاء والحلف
والقسم واحد قال الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) وقال سعد بن معاذ أحلف
بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به
وقال الشاعر: أولي برب الراقصات إلى منى * ومطارح الأكوار حيث تبيت
وقال ابن دريد: الية باليعملات ترتمي * بها النجاء بين أجواز الفلا
173

وقال: بل قسما من يعرب هل لمقسم من بعد هذا منتهى؟
(فصل) فأما ان قال أقسمت أو آليت أو شهدت لأفعلن ولم يذكر اسم الله فعن أحمد روايتان
(إحداهما) انها يمين سواء نوى اليمين أو اطلق وروي ذلك عن عمر وابن عباس والنخعي
والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وعن أحمد ان نوى اليمين بالله كان يمينا والا فلا وهو قول مالك
وإسحاق وابن المنذر لأنه يحتمل القسم بالله وبغيره فلم يكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به
الكفارة وقال الشافعي ليس بيمين وان نوى، وروي نحو ذلك عن عطاء والحسن والزهري
وقتادة وأبي عبيد لأنها عريت عن اسم الله تعالى وصفته فلم تكن يمينا كما لو قال أقسمت بالبيت
ولنا انه قد ثبت لها عرف الشرع والاستعمال فإن أبا بكر قال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني
بما أصبت مما أخطأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقسم يا أبا بكر " رواه أبو داود وقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم
أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنه فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال " أبررت قسم عمي ولا هجرة " وفي كتاب
الله تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله - إلى قوله - اتخذوا ايمانهم جنة فصدوا
عن سبيل الله) فسماها يمينا وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وقالت عاتكة بنت عبد المطلب
حلفت لئن عادوا لنصطلمنهم * لجاءو تردي حجرتيها المقانب
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل
فآليت لا تنفك عيني حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
وقولهم يحتمل القسم بغير الله قلنا إنما يحمل على القسم المشروع ولهذا لم يكن مكروها ولو حمل
174

على القسم بغير الله كان مكروها ولو كان مكروها لم يفعله أبو بكر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبر النبي صلى الله عليه وسلم
قسم العباس حين أقسم عليه
(فصل) وان قال أعزم أو عزمت لم يكن قسما نوى به القسم أو لم ينوه لأنه لم يثبت لهذا اللفظ
عرف في الشرع ولا هو موضوع للقسم ولا فيه دلالة عليه، ولذلك ان قال استعين بالله أو أعتصم بالله
أو أتوكل على الله أو علم الله أو عز الله أو تبارك الله أو نحو هذا لم يكن يمينا نوى أو لم ينو لأنه ليس
بموضوع للقسم لغة ولا ثبت له عرف في شرع ولا استعمال فلم يجب به شئ كما لو قال سبحان الله وبحمده
ولا إله إلا الله والله أكبر
(فصل) وحروف القسم ثلاثة: الباء والواو والتاء في اسم الله تعالى خاصة والأصل في حروف
القسم الباء وتدخل على المظهر والمضر جميعا كقولك بالله وبك والواو وهي بدل من الباء تدخل على
المظهر دون المضمر وهي أكثر استعمالا ولأنها جاءت في أكثر الأقسام في الكتاب والسنة، وإنما
كانت الباء الأصل لأنها الحرف الذي تصل به الافعال القاصرة عن التعدي إلى مفعولاتها والتقدير في القسم
أقسم بالله كما قال الله سبحانه (وأقسموا بالله جهد ايمانهم) والتاء بدل من الواو وتختص باسم واحد من
أسماء الله تعالى وهو الله ولا تدخل على غيره فيقال تالله ولو قال تالرحمن أو تالرحيم لم يكن
قسما فإذا أقسم بأحد هذه الحروف الثلاثة في موضعه كان قسما صحيحا لأنه موضوع له وقد جاء
في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى (تالله لتسئلن عما كنتم تفترون - تالله لقد آثرك الله
علينا - تالله تفتؤ تذكر يوسف - تالله لأكيدن أصنامكم)
وقال الشاعر: تالله يبقى على الأيام ذو حيد * بمشمخر به الضيان والآس
175

وان قال ما أردت به القسم لم يقبل قوله لأنه اتى باللفظ الصريح في القسم واقترنت به قرينة دالة
عليه وهو الجواب بجواب القسم فيمنع صرفه إلى غيره
* (مسألة) * (ويجوز القسم بغير حرف القسم فيقول الله لأفعلن بالجر والنصب فإن قال الله لأفعلن
بالرفع كان يمينا الا أن يكون عربيا ولا ينوى به اليمين)
إذا أقسم بغير حرف القسم فقال الله لأقومن بالجر والنصب فهو يمين وقال الشافعي لا يكون
يمينا الا ان ينوي لأن ذكر الله تعالى بغير حرف القسم ليس بصريح في القسم فلا ينصرف الا بالنية
ولنا انه سائغ في العربية وقد ورد به عرف الاستعمال في الشرع فروي ان عبد الله بن مسعود
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم انه قتل أبا جهل فقال " الله انك قتلته؟ " قال الله اني قتلته ذكره البحاري وقال لركانة
ابن عبد يزيد " الله ما أردت الا واحدة " قال الله ما أردت الا واحدة وقال امرؤ القيس
* فقلت يمين الله أبرح قاعدا * - وقال أيضا * فقالت يمين الله مالك حيلة *
وقد اقترنت به قرينتان تدلان عليه (إحداهما) الجواب بجواب القسم (والثانية) الجر والنصب واسم
الله تعالى فوجب أن يكون يمينا كما لو قال والله، فإن قال الله لأفعلن بالرفع ونوى اليمين فهو يمين
الا أن يكون قد لحن كما لو قال والله بالرفع ولم ينو اليمين فقال أبو الخطاب تكون يمينا لأن قرينة الجواب
بجواب القسم كافية والعامي لا يعرف الاعراب فيأتي به الا أن يكون من أهل العربية فإن عدوله عن إعراب
القسم دليل على أنه لم يرده، قال شيخنا ويحتمل ان لا يكون قسما في حق العامي لأنه ليس بقسم في حق
أهل العربية فلم يكن قسما في حق غيرهم كما لو لم يجبه بجواب القسم ويجاب القسم بأربعة أحرف: حرفان
للنفي وهما ما ولا وحرفان للاثبات وهما ان واللام المفتوحة وتقوم ان الخفيفة المكسورة مقام ما
النافية مثل قوله (وليحلفن ان أردنا الا الحسنى) وان قال والله افعل بغير حرف فالمحذوف ههنا لا
176

ويكون يمينه على النفي لأن موضوعه في العربية لذلك قال الله تعالى (تفتؤ تذكر يوسف) اي لا
تفتؤ وقال الشاعر: * تالله تبقى على الأيام ذو حيد *
وقال آخر: * فقلت يمين الله أبرح قاعدا * أي لا أبرح
(فصل) وان قال لاها لله ونوى اليمين كان يمينا لأن أبا بكر رضي الله عنه قال في سلب قتيل
أبي قتادة لاها لله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه فقال
النبي صلى الله عليه وسلم " صدق " وان لم ينو اليمين فالظاهر أنه لا يكون يمينا لأنه لم يقترن به صرف ولا نية ولا في جوابه
حرف يدل على القسم وهذا مذهب الشافعي
* (مسألة) * (ويكره الحلف بغير الله تعالى ويحتمل أن يكون محرما وذلك نحو أن يحلف بأبيه أو
بالكعبة أو بصحابي أو إمام أو غيره قال الشافعي أخشى أن يكون معصية قال ابن عبد البر هذا أمر
مجتمع عليه وقيل لا يكره ذلك لأن الله تعالى أقسم بمخلوقاته فقال (والصافات صافا - والمرسلات عرفا)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي الذي سأل عن الصلاة " أفلح وأبيه ان صدق " وقال في حديث أبي العشراء " وأبيك
لو طعنت في فخذها لأجزأك "
ولنا ما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم أدركه وهو يحلف بأبيه فقال " ان الله
ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " قال عمر فوالله ما حلفت بها بعد ذلك
ذاكرا ولا آثرا متفق عليه يعني ولا حاكيا عن غيري
177

وعن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من حلف بغير الله فقد أشرك " قال الترمذي هذا حديث حسن
فاما قسم الله بمصنوعاته فإنما أقسم دالا على قدرته وعظمته ولله تعالى ان يقسم بما شاء ولا وجه للقياس
على إقسامه وقد قيل إن في إقسامه اضمار القسم برب هذه المخلوقات فقوله (والضحى) أي ورب الضحى
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي " أفلح وأبيه ان صدق " فقال ابن عبد البر هذا اللفظ غير محفوظ من
وجه صحيح وحديث أبي العشراء قال أحمد لو كان يثبت يعني انه لم يثبت، ثم إن لم يكن الحلف بغير
الله محرما فهو مكروه لأن من حلف بغير الله فقد عظم غيره تعظيما يشبه تعظيم الرب تبارك وتعالى
ولهذا سمي شركا لكونه أشرك غير الله مع الله تعالى في تعظيمه بالقسم به، فعلى هذا يستغفر الله إذا
أقسم بغير الله قال الشافعي من حلف بغير الله فليقل استغفر الله
* (مسألة) * (ولا تجب به الكفارة سواء أضافه إلى الله تعالى مثل قوله ومعلوم الله وخلقه ورزقه
وبيته أو لم يضفه كقوله والكعبة وأبي)
ويعني لا تجب الكفارة بالحنث فيها وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء
* (مسألة) * (وقال أصحابنا تجب الكفارة بالحنث برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة)
وروي عن أحمد أنه قال إذا حلف بحق رسول الله فحنث فعليه الكفارة ولأنه أخذ شرطي
الشهادة فالحلف به موجب للكفارة كالحلف بالله تعالى والأول أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من كان حالفا
فليحلف بالله أو ليصمت " ولأنه حلف بغير الله تعالى فلم توجب الكفارة بالحنث فيه كسائر الأنبياء
ولأنه مخلوق فلم تجب الكفارة بالحلف به كالحلف بإبراهيم عليه السلام ولأنه ليس بمنصوص عليه
ولا هو في معنى المنصوص ولا يصح قياس اسم غير الله على اسمه لعدم الشبه وانتفاء المماثلة وكلام
أحمد يحمل على الاستحباب
178

(فصل) ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط (أحدها) أن تكون اليمين منعقدة وهي التي
يمكن فيها البر والحنث وذلك الحلف على مستقبل ممكن
قال ابن عبد البر اليمين التي فيها الكفارة باجماع المسلمين هي التي على المستقبل من الافعال
كمن حلف ليضربن غلامه أو لا يضربه فإن فعل فعليه الكفارة وذهبت طائفة إلى أن الحنث إذا
كان طاعة لم يوجب كفارة، وقال قوم من حلف على فعل معصية فكفارتها تركها، وقال سعيد بن جبير
اللغو أن يحلف فيما لا ينبغي له يعني فلا كفارة عليه في الحنث وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة
رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارة " رواه
أبو داود ولان الكفارة إنما تجب لدفع الاثم ولا اثم في الطاعة ولان اليمين كالنذر ولا نذر في معصية الله
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر
عن يمينه " وقال " اني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فارى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي
هو خير وكفرت عن يميني " أخرجه البخاري وحديثهم لا يعارض حديثنا لأن حديثنا أصح منه
وأثبت ثم إنه يحتمل ان تركها كفارة لاثم الحلف والكفارة المختلف فيها كفارة المخالفة وقولهم
ان الحنث طاعة قلنا فاليمين غير طاعة فتلزمه الكفارة للمخالفة ولتعظيم اسم الله عز وجل إذا
حلف به ولم تبر يمينه، إذا ثبت ذلك نظرنا في يمينه فإن كان على ترك شئ ففعله حنث ووجبت
الكفارة، وإن كانت على فعل شئ فلم يفعله وكانت يمينه مؤقتة بلفظ أو بنية أو قرينة حاله ففات
الوقت حنث، وإن كانت مطلقة لم يحنث إلا بفوات وقت الامكان لأنه ما دام في الوقت والفعل
ممكن فيحتمل أنه يفعل فلا يحنث
* (مسألة) * (فأما اليمين على الماضي فليست منعقدة وهي نوعان: الغموس وهي التي يحلف بها
179

كاذبا عالما بكذبه وعنه فيها الكفارة، ومثلها الحلف على مستحيل كقتل الميت واحيائه وشرب ماء
الكوز ولا ماء فيه)
ظاهر المذهب ان يمين الغموس لا كفارة فيها نقله الجماعة عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم
منهم ابن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ومالك والأوزاعي والثوري والليث وأبو عبيد وأصحاب
الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة. وإنما سميت هذه يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الاثم
قال ابن مسعود كنا نعد اليمين التي لا كفارة لها اليمين الغموس، وعن سعيد بن المسيب قال هي
من الكبائر وهي أعظم من أن تكفر، وروي عن أحمد ان فيها الكفارة وروي ذلك عن عطاء
والزهري والحكم والبتي وهو قول الشافعي لأنه وجدت منه اليمين بالله والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة
ولنا انها يمين غير منعقدة فلا توجب الكفارة كاللغو أو يمين على ماض أشبهت اللغو، وبيان انها
غير منعقدة كونها توجب برا ولا يمكن فيها ولأنه قارنها ما ينافيها فلم تنعقد كالنكاح الذي قارنه
الرضاع ولان الكفارة لا ترفع إثمها فلا تشرع فيها، ودليل انها كبيرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" من الكبائر الاشراك بالله عقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس " رواه البخاري
وروي فيه " خمس من الكبائر لا كفارة لهن: الاشراك بالله والفرار من الزحف وبهت المؤمن وقتل
النفس بغير حق والحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم " ولا يصح القياس على المستقبلة
لأنها يمين منعقدة يمكن حلها والبر فيها وهذه غير منعقدة فلا حل لها وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فليكفر
عن يمينه وليأت الذي هو خير " يدل على أن الكفارة إنما تجب على فعل يفعله فيما يستقبله قاله ابن المنذر
(فصل) والمستحيل نوعان (أحدهما) مستحيل عقلا كقتل الميت واحيائه وشرب ماء الكوز
180

ولا ماء فيه فقال أبو الخطاب لا تنعقد يمينه ولا تجب بها كفارة وهذا مذهب مالك لأنها يمين قارنها
مالا يتصور فلم تنعقد كيمين الغموس لأن اليمين إنما تنعقد على متصور أو متوهم التصور وليس ههنا
واحد منهما وقال القاضي ينعقد موجبا للكفارة في الحال وهذا قول أبي يوسف والشافعي لأنه حلف
على فعل نفسه في المستقبل ولم يفعل فهو كما لو حلف ليطلقن امرأته فمات قبل طلاقها وبالقياس على
المستحيل عادة، ولا فرق بين أن يعلم أو لا يعلم مثل أن يحلف ليشربن الماء الذي في الكوز ولا ماء
فيه فالحكم واحد فيمن علم أنه لا ماء فيه ومن لم يعلم، ذكر شيخنا في الكتاب المشروح احياء الميت
وقتله في المستحيل عقلا واحياء الميت متصور عقلا وإنما هو مستحيل عادة فهو من النوع الثاني.
فأما قتل الميت فإن أراد قتله حال موته فهو من المستحيل عقلا فيه من الخلاف ما ذكرنا،
وإن حلف ليقتلن فلانا وهو ميت فهو كالمستحيل عادة فإنه يتصور أن يحييه الله فيقتله فتنعقد يمينه
على ما نذكره في المستحيل عادة
(النوع الثاني) المستحيل عادة كصعود السماء والطيران وقطع المسافة البعيدة في المدة القليلة
فإذا حلف على فعله انعقدت يمينه ذكره القاضي وأبو الخطاب لأنه يتصور وجوده فإذا حلف عليه
انعقدت يمينه ولزمته الكفارة في الحال لأنه مأيوس من البر فيها فوجبت الكفارة كما لو حلف
ليطلقن امرأته فماتت.
(فصل) إذا قال والله ليفعلن فلان كذا أو لا يفعل كذا أو حلف على حاضر فقال والله لتفعلن كذا
فأحنثه ولم يفعل فالكفارة على الحالف كذلك قال ابن عمر وأهل المدينة وعطاء وقتادة والأوزاعي
وأهل العراق والشافعي لأن الحالف هو الحانث فكانت الكفارة عليه كما لو كان هو الفاعل لما يحنثه
181

ولان سبب الكفارة إما اليمين أو الحنث أو هما وأي ذلك قدر فهو موجود في الحالف، وإن قال
أسألك بالله لتفعلن وأراد اليمين فهي كالتي قبلها وإن أراد الشفاعة إليه بالله فليس بيمين ولا كفارة
على واحد منها، وإن قال بأنه لتفعلن فهي يمين لأنه أجاب بجواب القسم إلا أن ينوي ما يصرفها
وإن قال بالله أفعل فليست يمينا لأنه لم يجبها بجواب القسم ولذلك لا يصلح أن يقول والله افعل ولا
تالله أفعل وإنما صلح ذلك في الباء لأنه لا تختص القسم فيدل على أنه سؤال فلا تجب به كفارة
* (الثاني) * لغو اليمين وهو أن يحلف على شئ يظنه حقا فيبين بخلافه فلا كفارة فيها
أكثر أهل العلم على أن هذه اليمين لا كفارة فيها قاله ابن المنذر يروى هذا عن ابن عباس وأبي
هريرة وأبي مالك وزرارة بن أوفى والحسن والنخعي ومالك وأبي حنيفة والثوري وممن قال هذا
لغو اليمين مجاهد وسليمان بن يسار والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأكثر أهل العلم على أن
لغو اليمين لا كفارة فيه وقال ابن عبد البر أجمع المسلمون على هذا وقد حكي عن النخعي في اليمين على شئ يظنه
حقا فيبين بخلافه انه من لغو اليمين وفيه الكفارة وهو أحد قولي الشافعي وروي عن أحمد ان فيه الكفارة
وليس هو من لغو اليمين لأن اليمين بالله وجدت مع المخالفة فأوجبت الكفارة كاليمين على مستقبل.
ولنا قول الله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم) ولأنها يمين غير منعقدة فلم تجب فيها
كفارة كيمين الغموس ولأنه غير قاصد للمخالفة فأشبه ما لو حلف ناسيا، وفي الجملة لا كفارة في يمين
على ماض لأنها تنقسم ثلاثة أقسام ما هو صادق فيه فلا كفارة فيه إجماعا وما تعمد الكذب فيه فهو يمين
182

الغموس لا كفارة فيها لأنها أعظم من أن تكون فيها كفارة وقد ذكرنا الخلاف فيها وما يظنه حقا فيبين
بخلافه فلا كفارة فيها لأنها من لغو اليمين
* (فصل) * (الشرط الثاني ان يحلف مختارا، فإن حلف مكرها لم تنعقد يمينه) وبه قال مالك
والشافعي وذكر فيها أبو الخطاب روايتين [إحداهما] تنعقد وهو قول أبي حنيفة لأنها يمين مكلف
فانعقدت كيمين المختار ولأن هذه الكفارة لا تسقط بالشبهة فوجبت مع الاكراه ككفارة الصيد
ولنا ما روى أبو أمامة وواثلة بن الأسقع ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس على مقهور يمين " ولأنه
قول حمل عليه بغير حق فلم يصح مع الاكراه ككلمة الكفر، واما كفارة لصيد فلا تجب مع
الاكراه فهي كمسئلتنا.
* (مسألة) * (وان سبقت اليمين على لسانه كقوله لا والله وبلى والله في عرض حديثه فلا كفارة عليه)
هذا قول أكثر أهل العلم لأنها من لغو اليمين نقل عبد الله عن أبيه أنه قال اللغو عندي أن
يحلف على اليمين يرى أنها كذلك والرجل يحلف فلا يعقد قلبه على شئ وممن قال إن اللغو اليمين
التي لا ينعقد عليها قلبه عمر وعائشة رضي الله عنهما وبه قال عطاء والقاسم وعكرمة والشعبي والشافعي
لما روي عن عطاء قال قالت عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعني في اللغو في اليمين " هو كلام الرجل
في بيته لا والله وبلى والله " أخرجه أبو داود قال ورواه الزهري وعبد الله بن أبي سليمان ومالك بن
183

مغول عن عطاء عن عائشة موقوفا، وروى الزهري أن عروة حدثه عن عائشة قالت إنما اللغو ما كان
في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب، وأيمان الكفارة كل يمين حلف عليها
على وجه من الامر في غضب أو غيره ليفعلن أو ليتركن فذاك عقد الايمان التي فرض الله عز وجل
فيها الكفارة ولان اللغو في كلام العرب غير المعقود عليه وهذا كذلك، وممن قال لا كفارة في هذا
ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك وزرارة بن أوفى والحسن والنخعي ومالك وهو قول من قال
إنه من لغو اليمين ولا نعلم في هذا خلافا
ووجه ذلك قول الله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان
فكفارته إطعام عشرة مساكين) فجعل الكفارة لليمين التي يؤاخذ بها ونفى المؤاخذة باللغو فيلزم
انتفاء الكفارة ولان المؤاخذة يحتمل أن يكون معناها إيجاب الكفارة بدليل انها تجب في الايمان
التي لا يأتم فيها وإذا كانت المؤاخذة ايجاب الكفارة فقد نفاها في اللغو فلا تجب لأنه قول من سمينا
من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فكان إجماعا ولان قول عائشة في تفسير اللغو وبيان
الايمان التي فيها الكفارة خرج منها تفسيرا لكلام الله تعالى وتفسير الصحابي مقبول:
* (فصل) * (الشرط الثالث في الحنث في يمينه بأن يفعل ما حلف عن تركه أو يترك ما حلف عن فعله مختارا
ذاكرا وان فعله مكرها أو ناسيا فلا كفارة عليه وعنه على الناسي كفارة)
إذا حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا فلا كفارة عليه، نقله عن أحمد الجماعة إذا كان في غير الطلاق
والعتاق وهذا ظاهر المذهب، اختاره الخلال وصاحبه فأما الطلاق والعتاق فإنه يحنث فيهما في ظاهر
المذهب وعنه لا يحنث في الطلاق والعتاق أيضا، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار وإسحاق وهو ظاهر
مذهب الشافعي لقوله تعالى (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم
184

" إن الله تجاوز عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه غير قاصد للمخالفة فلم يحنث كالنائم
والمجنون لأنه أحد طرفي اليمين فاعتبر فيه القصد كحالة الانتهاء بها وعن أحمد رواية أخرى أنه
يحنث وتلزمه الكفارة في اليمين المكفرة وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد والزهري وقتادة وربيعة
ومالك وأصحاب الرأي والقول الثاني للشافعي لأنه خالف ما حلف عليه قاصدا لفعله فلزمه الحنث
كالذاكر وكما لو كانت اليمين بالطلاق والعتاق
ولنا على أن الكفارة لا تجب في اليمين المكفر (1) ما تقدم من الآية والخبر، ولأنها تجب لمحو الاثم
ولا اثم على الناسي، وأما الطلاق والعتاق فهو معلق بشرط فيقع بوجود شرطه من غير قصد كما لو
قال أنت طالق ان طلعت الشمس أو قدم الحاج
(فصل) فإن فعله غير عالم بالمحلوف عليه كرجل حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه يحسبه أجنبيا أو
حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه فأعطاه ففارقه ظنا منه أنه قد برأ فوجده معيبا أو رديئا أو حلف
لا بعت لزيد ثوبا فوكل زيد من يدفعه إلى من يبيعه فدفعه إلى الحالف فباعه من غير علمه فهو كالناسي
لأنه غير قاصد للمخالفة أشبه الناسي
(فصل) والمكره على الفعل ينقسم قسمين (أحدهما) أن يلجأ إليه مثل من حلف لا يدخل دارا
فحمل فأدخلها أو لا يخرج منها فاخرج محمولا ولم يمكنه الامتناع فلا يحنث في قول الأكثرين وبه قال
أصحاب الرأي وقال مالك ان دخل مربوطا لم يحنث وذلك لأنه لم يفعل الدخول والخروج فلم يحنث
كما لو لم يوجد ذلك (الثاني) أن يكره بالضرب والتهديد بالقتل ونحوه فقال أبو الخطاب فيه روايتان
كالناسي وللشافعي قولان وقال أبو حنيفة ومالك يحنث لأن الكفارة لا تسقط بالشبهة فوجبت مع الاكراه
والنسيان ككفارة الصيد

(1) أي في النسيان
185

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه نوع اكراه
فلم يحنث به كما لو حمل ولم يمكنه الامتناع لأن الفعل لا ينسب إليه فأشبه من لم يفعله ولا نسلم الكفارة
في الصيد بل إنما تجب على المكره
* (مسألة) * (فإن حلف فقال إن شاء الله لم يحنث فعل أو ترك إذا كان متصلا بيمينه)
وجملة ذلك أن الحالف إذا قال إن شاء الله مع يمينه فهذا يسمى استثناء. قال ابن عمر روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث فعل أو ترك " رواه أبو داود، وأجمع العلماء
على تسميته استثناء وانه متى استثنى في يمينه لم يحنث فيها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف فقال إن شاء
الله لم يحنث " رواه الترمذي وروى أبو داود " من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وان شاء ترك " ولأنه
متى قال لأفعلن إن شاء الله فقد علمنا أنه متى شاء الله فعل ومتى لم يفعل لم يشاء الله ذلك فإن ما شاء
الله كان وما لم يشاء لم يكن. إذا ثبت هذا فإنه يشترط أن يكون الاستثناء متصلا باليمين بحيث لا يفصل
بينهما بكلام أجنبي ولا يسكت بينهما سكوتا يمكنه الكلام فيه فاما السكوت لانقطاع نفسه أو صوته
أوعي أو عارض من عطشة أو شئ غيرها فلا يمنع صحة الاستثناء وثبوت حكمه
وبهذا قال مالك والثوري وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من حلف
فاستثنى " وهذا يقتضي كونه عقيبه ولان الاستثناء من تمام الكلام فاعتبر اتصاله به كالشرط وجوابه
وخبر المبتدأ والاستثناء بالا، ولان الحالف إذا سكت ثبت حكم يمينه وانعقدت موجبة لحكمها وبعد
ثبوته لا يمكن رفعه ولا تغييره، قال أحمد حديث النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة " إذا حلفت على
يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك " ولم يقل فاستثن ولو جاز الاستثناء في كل حال لم
186

يحنث حالف به، وعن أحمد رواية أخرى انه يجوز الاستثناء إذا لم يطل الفصل بينهما قال في رواية
المروذي حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " والله لأغزون قريشا " ثم سكت ثم قال " إن شاء الله "
إنما هو استثناء بالقرب ولم يخلط كلامه بغيره، ونقل عنه إسماعيل بن سعيد مثل هذا وزاد ولا أقول
فيه بقول هؤلاء يعني لم ير ذلك إلا متصلا ويحتمله كلام الخرقي فإنه قال إذا لم يكن بين اليمين والاستثناء
كلام ولم يشترط اتصال الكلام وعدم السكوت وهذا قول الأوزاعي قال في رجل قال لا أفعل
كذا كذا ثم سكت ساعة لا يتكلم ولا يحدث نفسه بالاستثناء فقال له انسان قل إن شاء الله أيكفر
عن يمينه؟ قال أراه قد استثنى وقال قتادة له أن يستثني قبل أن يقوم أو يتكلم، ووجه ذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم استثنى بعد سكوته إذ قال " والله لأغزون قريشا " ثم سكت ثم قال " إن شاء الله "
احتج به أحمد ورواه أبو داود، وقال الوليد بن مسلم لم يغزهم، ويشترط على هذا الرواية أن لا يطيل
الفصل بينهما ولا يتكلم بينهما بكلام أجنبي، وحكي ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه قال
يصح الاستثناء ما دام في المجلس وحكي ذلك عن الحسن وعطاء. وعن عطاء أنه قال قدر حلب الناقة
العزوزة، وعن ابن عباس ان له أن يستثني بعد حين وهو قول مجاهد وهذا القول لا يصح لما ذكرناه
وتقديره بمجلس أو غيره لا يصح لأن التقديرات بابها التوقيف فلا يصار إليه بالتحكم
(فصل) ويشترط أن يستثني بلسانه ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامة أهل العلم منهم
الحسن والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو حنيفة وابن
المنذر ولا نعلم فيه مخالفا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث " والقول هو
النطق ولان اليمين لا تنعقد بالنية وكذلك الاستثناء، وقد روي عن أحمد إن كان مظلوما فاستثنى
187

في نفسه رجوت أن يجوز إذا خاف على نفسه فهذا في حق الخائف على نفسه لأن يمينه غر منعقدة
أو لأنه بمنزلة المتأول وأما في حق غيره فلا
(فصل) واشترط القاضي قصد الاستثناء فلو أراد الجزم فسبق لسانه إلى الاستثناء من غير قصد
أو كانت بمادته جارية بالاستثناء فجرى على لسانه من غير قصد لم يصح لأن اليمين لما لم تنعقد من
غير قصد فكذلك الاستثناء وهذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم انه لا يصح الاستثناء حتى يقصده
مع ابتدائه، فلو حلف غير قاصد للاستثناء ثم عرض له بعد فراغه من اليمين فاستثنى لم ينفعه وهذا
القول يخالف عموم الخبر هو قوله عليه السلام " من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث " فلا يصح
ولان لفظ الاستثناء يكون عقيب يمينه فكذلك نيته
(فصل) ويصح الاستثناء في كل يمين مكفرة كاليمين بالله تعالى والظهار والنذر قال ابن أبي موسى
من استثنى في يمين تدخلها كفارة فله ثنياه لأنها ايمان مكفرة فدخلها الاستثناء كاليمين بالله تعالى
فلو قال أنت علي كظهر أمي إن شاء الله أو لله علي أن أتصدق بمائة درهم إن شاء الله لم يلزمه شئ
لأنها ايمان فتدخل في عموم قوله " من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث "
(فصل) فإن قال والله لأشربن اليوم إلا أن يشاء الله أو لا أشرب إلا أن يشاء الله لم يحنث
بالشرب ولا تركه لما ذكرنا في الاثبات ولا فرق بين تقديم الاستثناء وتأخيره في هذا كله، فإذا قال
والله إن شاء الله لا أشرب اليوم أو لا أشربن ففعل أو ترك لم يحنث لأن تقديم الشرط وتأخيره
سواء قال الله تعالى (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد)
(فصل) فإن قال والله لأشربن اليوم إن شاء زيد فشاء زيد ولم يشرب حتى مضى اليوم حنث
188

وان لم يشأ زيد تلزمه يمين، فإن لم تعلم مشيئته لغيبة أو جنون أو موت انحلت اليمين لأنه لم يوجد
الشرط، وان قال والله لا أشرب إلا أن يشاء زيد فقد منع نفسه الشرب إلا أن توجد مشيئة زيد
فإن شاء فله الشرب وان لم يشأ لم يشرب، وإن خفيت مشيئته لغيبة أو موت أو جنون لم يشرب
وان شرب حنث لأنه منع نفسه الا أن توجد المشيئة (1) فيكذب ولكن غفر الله له بتوحيده، وأما الافراط في
الحلف فإنه إنما كره لأنه لا يكاد يخلو من الكذب والله أعلم
وأما قوله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم) فمعناه لا تجعلوا ايمانكم بالله مانعة لكم من البر
والتقوى والاصلاح بين الناس وهو ان يحلف بالله أن لا يفعل برا ولا تقوى ولا يصلح بين الناس
ثم يمتنع من فعله ليبر في يمينه ولا يحنث فيها فنهوا عن المضي فيها، قال احمد وذكر حديث ابن عباس
باسناده في قوله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم) الرجل يحلف أن لا يصل قربته وقد جعل
الله له مخرجا في التكفير فأمره أن لا يعتل بالله وليكفر وليبر وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لأن يستلج أحدكم
في يمينه آثم له عند الله من أن يؤدي الكفارة التي فرض الله عليه " وإن كان النهي عاد إلى اليمين
فالمنهي عنه الحلف على ترك البر والتقوى والاصلاح بين الناس لا على كل يمين فلا حجة فيها لهم إذا
* (مسألة) * (فإن دعي إلى الحلف عند الحاكم وهو محق استحب له افتداء يمينه فإن حلف فلا بأس)
قال أصحابنا تركه أولى فيكون مكروها وبه قال أصحاب الشافعي لما روي أن المقداد وعثمان تحاكما
إلى عمر في مال استقرضه المقداد فجعل عمر اليمين على المقداد فردها على عثمان فقال عمر: لقد أنصفك
فأخذ عثمان ما أعطاه المقداد ولم يحلف وقال خفت أن يوافق قدر بلاء فيقال بيمين عثمان. والصحيح
انه لا يكره بل مباح فعله كتركه لأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه عليه السلام بالحلف على الحق في ثلاثة

(1) كذا في الأصل وفيه نقص يراجع في المغني في مظنته
189

مواضع فقال (ويستنبئونك أحق هو؟ قل اي وربي انه لحق) والثاني قوله (قل بلى وربي لتأتينكم)
والثالث (قل بلى وربي لتبعثن) وروى محمد بن كعب القرظي ان عمر قال على المنبر وفي يده عصا
يا أيها الناس لا يمنعكم اليمين من حقوقكم فوالذي نفسي بيده ان في يدي لعصا، وروى الشعبي
ان عمرو أبيا احتكما إلى زيد في نخل ادعاه أبي فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد اعف أمير المؤمنين
فقال عمر ولم يعفي أمير المؤمنين؟ ان عرفت شيئا استحققته بيميني وإلا تركته والذي لا إله إلا هو ان
النخل لنخلي وما لأبي فيه حق فلما خرجا وهب النخل لأبي فقيل له يا أمير المؤمنين هلا كان هذا
قبل اليمين؟ فقال خفت أن لا أحلف فلا يحلف الناس على حقوقهم بعدي فتكون سنة ولأنه حلف
صدق على حق فأشبه الحلف عن غير الحاكم
* (فصل) * قال رحمه الله: وإن حرم أمته أو شيئا من الحلال لم يحرم وعليه كفارة يمين ان فعله
ويحتمل أن يحرم تحريما تزيله الكفارة
وقال أبو حنيفة يحرم لقول الله تعالى (لم تحرم ما أحل الله لك؟) وقوله (قد فرض الله لكم تحلة
ايمانكم) ولأنه تحريم للحلال فحرم كتحريم الزوجة
ولنا انه إذا أراد التكفير فله فعل المحلوف عليه وحل فعله مع تركه محرما تناقض، والعجب أن
أبا حنيفة لا يجيز التكفير إلا بعد الحنث وقد فرض الله تعالى تحلة اليمين، فعلى قوله يلزم كون
المحرم مفروضا أو من ضرورة المفروض لأنه لا تحصل التحلة إلا بفعل المحلوف وهو عنده محرم
وهذا غير جائز، ولأنه لو كان محرما لوجب تقديم الكفارة عليه كالظهار ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال
" إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك " فأمر بفعل
المحلوف عليه ولو كان محرما لم يأمر بفعله وسماه خيرا والمحرم ليس بخير
190

واما الآية فالمراد بها قوله هو علي حرام أو منع نفسه منه وذلك ليس يسمى تحريما قال الله
تعالى (يحلونه عاما ويحرمونه عاما) وقال (وحرموا ما رزقهم الله) ولم يثبت فيه التحريم حقيقة ولا
شرعا فإذا قال هذا حرام علي إن فعلت وفعل أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت ثم فعل فهو مخير ان
شاء ترك ما حرمه على نفسه وإن شاء كفر، وإن قال هذا الطعام حرام علي فهو كالحالف على تركه،
ويروي نحو هذا عن ابن مسعود والحسن وجابر بن زيد وقتادة وإسحاق وأهل العراق
وقال سعيد بن جبير فيمن قال الحل علي حرام يمين من الايمان يكفرها، وقال الحسن هي يمين
إلا أن ينوي امرأته، وعن إبراهيم مثله، وعنه إن نوى طلاقا وإلا فليس بشئ، وعن الضحاك
أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا الحرام يمين، وقال طاوس هو ما نوى، وقال مالك والشافعي ليس
بيمين ولا شئ عليه لأنه قصد تغيير المشروع فلغا ما قصده كما لو قال هذه ابنتي
ولنا قوله الله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - قد فرض الله لكم
تحلة أيمانكم) سمى تحريم ما أحل الله يمينا وفرض له تحلة وهو الكفارة. وقالت عائشة: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت انا وحفصة أن أيتنا دخل
عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل اني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحدانا فقالت له ذلك فقال " لا بل
شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود " فنزلت (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك؟) متفق
عليه فإن قيل إنما نزلت الآية في تحريم مارية القبطية كذلك قال الحسن وقتادة قلنا ما ذكرناه أصح
فإنه متفق عليه وقول عائشة صاحبة القصة الحاضرة للتنزيل المشاهدة للحال أولى والحسن وقتادة لو
سمعا قول عائشة لم يعدلا به شيئا ولم يصيرا إلى غيره فكيف يصار إلى قولهما ويترك قولها؟
191

وقد روي عن ابن عباس وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه جعل تحريم الحلال يمينا ولو ثبت ان
الآية نزلت في تحريم مارية كان حجة لنا لأنها من الحلال الذي حرم وليست زوجة فوجوب الكفارة
بتحريمها يقتضي وجوبها بتحريم كل حلال بالقياس عليها لأنه حرم الحلال فأوجب الكفارة كتحريم
الأمة المزوجة وما ذكروه يبطل بتحريمها. إذا ثبت هذا فعليه ان فعله كفارة يمين لقوله عليه السلام
" إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك " متفق عليه
ولان النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم العسل أو مارية أنزل الله سبحانه (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) قال
الحسن سمي تحريم ما أحل الله يمينا وفرض له تحلة وهي الكفارة ويحتمل أن يحرم تحريما تزيله الكفارة
لأنه تحريم يوجب الكفارة بالفعل فحرم ما حرمه كالظهار
* (مسألة) * (وإن قال هو يهودي أو نصراني أو برئ من الله تعالى أو من القرآن أو الاسلام
أو النبي عليه السلام) إن فعل ذلك فقد فعل محرما
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حلف على ملة غير الاسلام كاذبا معتمدا فهو كما قال "
متفق عليه، وفي لفظ " من حلف انه برئ من الاسلام فإن كان قد كذب فهو كما قال، وإن كان
صادقا لم يرجع إلى الاسلام سالما "
* (مسألة) * (وعليه كفارة إن فعل في إحدى الروايتين)
اختلفت الرواية عن أحمد في الحالف بالخروج من الاسلام مثل أن يقول هو يهودي أو نصراني
أو مجوسي إن فعل كذا، وهو برئ من الاسلام أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يقول هو يعبد الصليب
أو يعبد غير الله إن فعل أو نحو هذا إن فعل فعن احمد عليه الكفارة. إذا حنث يروى هذا عن
192

طاوس والحسن والشعبي والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن زيد
ابن ثابت رضي الله عنه
(والثانية) لا كفارة عليه وهو قول مالك والشافعي والليث وأبي ثور وابن المنذر لأنه لم يحلف
باسم الله ولا صفته فلم تلزمه كفارة كما لو قال عصيت الله فيما أمرني به ويحتمل أن يحمل كلام احمد
في الرواية الأولى على الندب دون الايجاب فإنه قال في رواية حنبل إذا قال أكفر بالله أو أشرك
بالله فأحب إلي أن يكفر كفارة يمين إذا حنث
- ووجه الرواية الأولى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل عن الرجل يقول هو يهودي أو نصراني
أو مجوسي أو برئ من الاسلام في اليمين يحلف بها فيحنث في هذه الأشياء؟ قال " عليه كفارة
يمين " أخرجه أبو بكر، ولا البراءة من هذه الأشياء توجب الكفر بالله فكان الحلف بها يمينا
كالحلف بالله تعالى. قال شيخنا والرواية الثانية أصح إن شاء الله تعالى فإن الوجوب من الشارع ولم
يرد في هذه اليمين نص ولا هي في قياس المنصوص فإن الكفارة إنما وجبت بالحلف باسم الله تعظيما
لاسمه واظهارا لشرفه وعظمته ولا تتحقق التسوية
* (مسألة) * (وإن قال أنه أستحل الزنا ونحوه فعلى وجهين)
وكذلك إن قال انا أستحل ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام فهو كالحلف بالبراءة من الاسلام
لأن استحلال ذلك يوجب الكفر فيخرج على الروايتين في المسألة قبلها
* (مسألة) * (وإن قال عصيت الله أو انا أعصي الله في كل ما أمرني به أو محوت المصحف إن
فعلت كذا وحنث فلا كفارة)
193

نص عليه احمد وبه قال عطاء والثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي، وقال طاوس والليث عليه
الكفارة وبه قال الأوزاعي إذا قال عليه لعنة الله
ولنا ان هذا لا يوجب الكفر أشبه ما لو قال محوت المصحف، وإن قال لا يراني الله في موضع كذا
إن فعلت وحنث فقال القاضي عليه كفارة، وذكر ان احمد نص عليه والصحيح ان هذا لا كفارة
فيه لأن إيجابها في هذا ومثله تحكم بغير نص. لا قياس صحيح
* (مسألة) * (وإن قال عبد فلان حر لأفعلن فليس بشئ وعنه عليه كفارة ان حنث)
أما إذا قال عبد فلان حر من غير تعليق لم يلزمه شئ وكذلك إن علقه لأن تعليق الشئ
بالشرط أثره في أن يصير عند الشرط كالمعلق فإذا كان المعلق لا يوجب شيئا فكذلك المعلق، ولا يعتق
العبد إذا حنث بغير خلاف لأنه لا يعتق بغير تنجيز العتق فالتعليق أولى وهل تلزمه كفارة؟ فيه روايتان
عن أحمد ذكرهما ابن أبي موسى (إحداهما) عليه كفارة لأنه حلف بالعتق فيما لا يقع بالحنث فلزمته
كفارة كما لو قال فلله علي ان أعتق فلانا
(والثانية) لا كفارة عليه لأنه حلف باخراج مال غيره فلم يلزمه شئ كما لو قال مال فلان صدقة
إن دخلت الدار ولأنه تعليق للعتق على صفة فلم تجب به كفارة كسائر التعليق، أما إذا قال لله علي ان
أعتق عبدا فإنه نذر فأوجب الكفارة بكون النذر كاليمين وتعليق العتق خلافه
(فصل) وإن قال إن فعلت كذا فمال فلان صدقة أو فعلى فلان حجة أو فمال فلان حرام عليه
194

أو هو برئ من الاسلام وأشباه هذا فليس ذلك بيمين ولا تجب به كفارة لا نعلم بين أهل العلم فه خلافا
لأنه لم يرد الشرع فيه بكفارة ولا هو في معنى ما ورد الشرع به
* (مسألة) * (وإن قال أيمان البيعة تلزمني فهي يمين رتبها الحجاج تشتمل على اليمين بالله تعالى
والطلاق والعتاق وصدقة المال فإن كان الحالف يعرفها ونواها انعقد يمينه بما فيها والا فلا شئ عليه،
ويحتمل أن لا تنعقد إلا في الطلاق والعتاق)
قال أبو عبد الله بن بطة كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن أيمان البيعة فقال
لست أفتي فيها بشئ ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي في هذه اليمين قال وكان أبي رحمه الله
يعني الحسين يهاب الكلام فيها، قال أبو القاسم إلا أن يلتزم الحالف بها بجميع ما فيها من الايمان
فقال له السائل عرفها أم لم يعرفها؟ قال نعم وكانت اليمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصافحة فلما ولي الحجاج
رتبها ايمانا تشتمل على اليمين بالله تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال فمن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشئ مما فيها لأن
هذا ليس بصريح في القسم والكناية لا تصح إلا بالنية ومن لم يعرف شيئا لم يصح أن ينويه وإن عرفها ولم ينو عقد
اليمين بما فيها لم يصح أيضا لما ذكرناه ومن عرفها ونوى اليمين بما فيها انعقد في الطلاق والعتاق
لأن اليمين بها تنعقد بالكناية، وما عدا الطلاق والعتاق كاليمين بالله تعالى وصدقة المال فقال القاضي
تنعقد يمينه ههنا أيضا لأنها يمين فتنعقد بالكناية المنوية كالطلاق والعتاق وكما لو لفظ بكل واحدة
وحدها وقال في موضع لا تنعقد اليمين بالله بالكناية، وهو مذهب الشافعي، لأن الكفارة إنما وجبت
فيها لما ذكر فيها من اسم الله تعالى المعظم المحترم ولا يوجد ذلك في الكناية.
* (مسألة) * (وان قال علي نذر أو يمين ان فعلت كذا وفعله فقال أصحابنا عليه كفارة يمين).
195

لما روى ابن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة اليمين " قال الترمذي
هذا حديث صحيح.
* (فصل) * في كفارة اليمين قال الشيخ رحمه الله: والأصل في كفارة اليمين الكتاب والسنة
والاجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم
الايمان) فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) الآية، وأما السنة فقول النبي صلى الله
عليه وسلم " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك " في
اخبار سوى هذا، واجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى.
* (مسألة) * (وهي تجمع تخييرا وترتيبا فيخير بين ثلاثة أشياء اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم
أو تحرير رقبة)
لما ذكرنا في الآية. وقد سبق شرح العتق والاطعام في كفارة الظهار، كسوة المساكين للرجل
ثوب يجزئه ان يصلي فيه وللمرأة درع وخمار ولا خلاف في أن كسوة أحد أصناف الكفارة
لنص الله عليها في كتابه بقوله (أو كسوتهم) وتتقدر الكسوة بما تجزئ الصلاة فيه على ما ذكرنا،
وهذا قول مالك، وممن قال لا تجزئه السراويل وحدها الأوزاعي وأبو يوسف وقال إبراهيم ثوب
جامع، وقال الحسن كل مسكين حلة ازار ورداء، وقال ابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة
وأصحاب الرأي يجزئه ثوب ثوب ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة، وروى الحسن قال تجزئ العمامة،
وقال سعيد بن المسيب عباءة وعمامة، وفي القلنسوة وجهان، واحتجوا بان ذلك يقع عليه اسم الكسوة
فأجزأ كالذي تجوز الصلاة فيه.
196

ولنا أن الكسوة أحد أنواع الكفارة فلم يجز فيه ما يقع عليه الاسم كالاطعام والاعتاق ولان
التكفير عبادة تعتبر فيها الكسوة فلم يجز فيه أقل مما ذكرناه كالصلاة ولأنه مصروف للمساكين
في الكفارة فيقدر كالاطعام، ولان اللابس ما لا يستر عورته يسمى عريانا فلم يجزئه لقول الله تعالى
(أو كسوتهم) إذا ثبت هذا فإنه إذا كسا امرأة أعطاها درعا وخمارا على ما ذكرنا لأنه أقل ما يستر
عورتها وتجزئها الصلاة فيه، وان أعطاها ثوبا واسعا يمكنها أن تستر به بدنها ورأسها أجزأه ذلك
والرجل يجزئه إذا كساه ثوب أو قميص يمكنه ان يستر به عورته ويجعل على عاتقه منه شيئا أو ثوبين
يأتزر بأحدهما ويرتدي بالآخر، ولا يجزئه مئزر وحده ولا سراويل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يصلي
أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شئ " ويجوز ان يكسوهم من جميع أصناف الكسوة من
القطن والكتان والصوف والشعر والوبر والخز والحرير، لأن الله تعالى أمر بكسوتهم ولم يعين
جنسها فأي جنس كساهم منه خرج عن العهدة لوجود الكسوة المأمور بها، ويجوز ان يكسوهم جديدا
ولبيسا إلا أن يكون قد بلي وذهبت منفعته فلا يجوز لأنه معيب فهو كالحب المعيب والرقبة إذا ذهبت
منفعتها وسواء كان ما أعطاهم مصبوغا أولا أو خاما أو مقصورا لأنه تحصل به الكسوة المأمور بها
والمنفعة المقصودة بها.
(فصل) والذي تجزئ كسوتهم هم المساكين الذين يجزئ اطعامهم، لأن الله تعالى قال
(فاطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) فينصرف الضمير إليهم.
و * (مسألة) * (فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة ان شاء قبل الحنث وان شاء بعده ولا يجوز
تقديمها على اليمين).
إذا عجز عن العتق والاطعام والكسوة أجزأه صيام ثلاثة أيام للآية وقد ذكرنا صفة العجز
197

في كفارة الظهر في العجز عن الرقبة، ويشترط التتابع في صوم الأيام الثلاثة وعنه لا يشترط لأن الامر
بصومها مطلق فلم يجز بغير دليل والأول ظاهر المذهب لأن في قراءة أبي وابن مسعود (فصيام ثلاثة
أيام متتابعات) والظاهر أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون خبرا ولأنه صوم في كفارة فلا ينتقل
عنه إلا بعد العجز عن العتق فوجب التتابع كصوم المظاهر.
* (مسألة) * (وهو مخير في التكفير ان شاء قبل الحنث وان شاء بعده)
سواء كان صوما أو غيره فيما سوى الظهار في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وممن روي عنه تقديم
التكفير على الحنث عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وسلمان الفارسي ومسلمة بن مخلد رضي الله
عنهم، وبه قال الحسن وابن سيرين وربيعة والأوزاعي والثوري وابن المبارك وإسحاق وأبو عبيد
وأبو خيثمة وسليمان بن داود، وقال أصحاب الرأي لا تجزئ الكفارة قبل الحنث لأنه تكفير قبل
وجود سببه فأشبه ما لو كفر قبل اليمين، ودليل ذلك أن سبب التكفير الحنث وهو هتك الاسم
المعظم المحترم ولم يوجد وقال الشافعي كقولك في الاعتاق والاطعام والكسوة وكقولهم في الصيام
من أجل انه عبادة بدنية فلم يجز فعله قبل وجوبه لغير مشقة كالصيام.
ولنا ما روى عبد الرحمن بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها
خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير " رواه أبو داود وقد روى أبو هريرة وأبو الدرداء
وعدي بن حاتم رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، رواه الأثرم وعن أبي موسى عن النبي
198

صلى الله عليه وسلم أنه قال " اني إن شاء الله لا احلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها لا كفرت عن يميني
وأتيت الذي هو خير، أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " رواه البخاري ولأنه كفر بعد وجود
السبب فأجزأ كما لو كفر بعد الجرح وقبل الزهوق والسبب هو اليمين بدليل قوله تعالى (ذلك
كفارة أيمانكم إذا حلفتم) وقوله سبحانه (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم
" وكفرت عن يميني فكفر عن يمينك " وتسمية الكفارة كفارة اليمين وبهذا ينفصل عما ذكروه
وعلى هذا فالحنث شرط وليس بسبب، ولان تعجيل حق الله تعالى في المال بعد وجود سببه قبل وجود
شرطه جائز بدليل تعجيل الزكاة بعد وجوب النصاب وقبل الحول وكفارة القتل بعد الجرح وقبل
الزهوق، قال ابن عبد البر العجب من أصحاب أبي حنيفة أجازوا تعجيل الزكاة من غير أن يرووا فيها
مثل هذه الآثار الواردة في تقديم الكفارة وأبوا تقديم الكفارة ههنا مع كثرة الرواية الواردة فيها والحجة
في السنة ومن خالفها محجوج بها، فاما أصحاب الشافعي فهم محجوجون بالأحاديث مع أنهم قد
احتجوا بها في البعض وخالفوها في البعض، وفرقوا ما جمع بينه النص ولان الصيام نوع تكفير فجاز
قبل الحنث كالتكفير بالمال، وقياس الكفارة على الكفارة أولى من قياسها على الصلاة المفروضة بأصل
الوضع، أما تقديمها على اليمين فلا يجوز عند أحد من العلماء لأنه تقديم للحكم قبل سببه فلم يجز كتقديم
الزكاة قبل ملك النصاب وكفارة القتل قبل الجرح.
(فصل) والتكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة، وقال ابن أبي موسى بعده أفضل
عند احمد وهو قول مالك والثوري والشافعي لما فيه من الخروج من الخلاف وحصول
النفس ببراءة الذمة.
ولنا ان الأحاديث الواردة فيه فيها التقديم مرة والتأخير أخرى وهذا دليل التسوية، ولأنه
199

تعجيل مال يجوز تعجيله قبل وجوبه فلم يكن التأخير أفضل كتعجيل الزكاة وكفارة القتل وما
ذكروه معارض بتعجيل النفع للفقراء والتبرع بما لم يجب عليه، والخلاف المخالف لا يوجب تفضيل
المجمع عليه كترك الجمع بين الصلاتين.
(فصل) فإن كان الحنث في اليمين محظورا فجعل الزكاة قبله ففيه وجهان
(أحدهما) يجزئه لأنه عجل الكفارة قبل سببها فأجزأته كما لو كان الحنث مباحا (والثاني) لا
يجزئه لأن التعجيل رخصة فلا يستباح بالمعصية كالقصر في سفر المعصية والحديث لم يتناول المعصية فإنه
قال " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها " ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان كما ذكرنا
* (مسألة) * (ومن كرر ايمانا قبل التكفير فكفارة واحدة وعنه لكل يمين كفارة)
وإذا كرر أيمانا قبل التكفير مثل ان قال والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا
فحنث فليس عليه الا كفارة واحدة، وكذلك ان حلف بايمان كقوله والله وعهد الله وميثاقه
وقدرته وكلامه وكبريائه على شئ واحد روي نحو هذا عن ابن عمر وبه قال الحسن وعروة وإسحاق، وروي
أيضا عن عطاء وعكرمة والنخعي وحماد والأوزاعي، وقال أبو عبيد فيمن قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته
ثم حنث فعليه ثلاث كفارات، وقال أصحاب الرأي عليه لكل يمين كفارة الا ان ينوي التأكيد أو التفهيم
ونحوه عن الثوري وأبي ثور، وعن أحمد مثل ذلك وعن الشافعي قولان كالمذهبين، وعن عمرو بن دينار
إن كان في مجلس واحد كقولنا وإن كان في مجالس كقولهم، واحتجوا بأن أسباب الكفارات
تكررت فتكرر في الكفارات كالقتل لآدمي أو صيد حربي ولان اليمين الثانية مثل الأولى فتقتضي ما تقتضيه
ولنا أنه حنث واحد أوجب جنسا واحدا من الكفارات فلم يجب به أكثر من كفارة كما
200

لو قصد التأكيد، قولهم انها أسباب تكررت ممنوع فإن السبب الحنث وهو واحد سلمنا فينتقض
بما إذا كرر الوطئ في رمضان في أيام وبالحدود إذا تكررت أسبابها، ولا يصح القياس على الصيد
الحرمي لأن الكفارة بدل ولذلك تزداد بكبر الصيد وتقدر بقدرة فهي كدية القتل ولا على كفارة
قتل الآدمي لأنها أجريت مجرى البدل أيضا لحق الله تعالى لأنه لما أتلف آدميا عابدا لله تعالى
ناسب ان يوجد عبدا يقوم مقامه في العبادة فلما عجز عن الايجاد لزمه اعتاق رقبة لأن العتق ايجاد
للعبد بتخليصه من رق العبودية وشغلها إلى فراغ البال للعبادة بالحرية التي حصلت بالاعتاق ثم الفرق
ظاهر لأن السبب ههنا تكرر بكماله وشروطه وفي محل النزاع لم يوجد ذلك لأن الحنث، اما أن يكون
هو السبب أو جزءا منه أو شرطا له بدليل توقف الحكم على وجوده وأياما كان فلم يتكرر فلم يجز
وإن صح القياس فقياس كفارة اليمين على مثلها أولى من قياسها على القتل لبعد ما بينهما
* (مسألة) * (والظاهر فيما إذا كرر الايمان انها ان كانت على فعل واحد فكفارة واحدة وان
كانت على أفعال فعليه لكل يمين كفارة)
ولأنها إذا كانت على فعل واحد كان سببها واحدا فالظاهر أنه أراد التوكيد لذلك كقول النبي
صلى الله عليه وسلم " والله لأغزون قريشا " قالها ثلاثا وإن كانت على أفعال فعليه لكل يمين كفاره وهو ظاهر
كلام الخرقي ورواه المروذي عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم وقال أبو بكر تجزئه كفارة
واحدة رواها ابن منصور عن أحمد قال القاضي هي الصحيحة وقال أبو بكر ما نقله المروذي عن
أحمد قول لأبي عبد الله، ومذهبه أن كفارة واحدة تجزئه وهو قول إسحاق لأنها كفارات من
201

جنس واحد فتداخلت كالحدود من جنس واحد وان اختلفت محالها بان سرق من جماعة أو زنى بنساء
ولنا أنهن ايمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تكفر إحداهما بكفارة الأخرى
كما لو كفر عن إحداهما قبل الحنث في الأخرى وكالايمان المختلفة الكفارة وبهذا فارق الايمان على شئ
واحد فإنه متى حنث في إحداهما كان حانثا في الأخرى فلما كان الحنث واحدا كانت الكفارة واحدة
وههنا تعذر الحنث فتعذرت الكفارات، وفارق الحدود فإنها وجبت للزجر وتندرئ بالشبهات
بخلاف مسئلتنا ولان الحدود عقوبة بدنية والموالاة بينها ربما افضى إلى التلف فاجتزئ بإحداها
وههنا اخراج مال يسير أو صيام ثلاثة أيام فلا يلزم الضرر الكبير بالموالاة فيه ولا يخشى منه التلف
(فصل) إذا حلف يمينا واحدة على أجناس مختلفة فقال والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست
فحنث في الجميع فكفارة واحدة لا نعلم فيه خلافا لأن اليمين واحدة والحنث واحد فإنه يحنث بفعل
واحد من المحلوف عليه وتنحل يمينه، وإن حلف أيمانا على أجناس فقال والله لا أكلت والله لا شربت
والله لا لبست فحنث في واحدة منها فعليه كفارة، فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى لزمته كفارة
أخرى لا نعلم في هذا خلافا لأن الحنث في الثاني تجب به الكفارة بعد أن كفر عن الأولى فأشبه ما
لو وطئ في رمضان فكفر ثم وطئ مرة أخرى فإن حنث في الجميع قبل التكفير ففيه روايتان ذكرناهما
في المسألة قبل هذا الفصل
* (مسألة) * (وان كانت الايمان مختلفة الكفارة كالظهار واليمين بالله فلكل يمين كفارتها
مثل ان يحلف بالله تعالى وبالظهار وبعتق عبده فإذا وجبت فعليه كفارة يمين وكفارة ظهار ويعتق العبد)
202

لأن تداخل الأحكام إنما يكون مع اتحاد الجنس كالحدود من جنس فأما الكفارات فمن أجناس
وأسبابها مختلفة فلم تتداخل كحد الزنا والسرقة والقذف والشرب
* (مسألة) * (وكفارة العبد الصيام وليس لسيده منعه منه ومن بعضه حر فحكمه في الكفارة حكم الأحرار)
لا خلاف في أن العبد يجزئه الصيام في الكفارة ولان ذلك فرض المعسر من الأحرار وهو
أحسن حالا من العبد فإنه لم يملك في الجملة ولان العبد داخل في قول الله تعالى (فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيام)
(فصل) فإن أذن السيد لعبده في التكفير بالمال لم يلزمه لأنه ليس يملك لما أذن له فيه وهل
يجزئه باذن السيد؟ فيه روايتان [إحداهما] لا يجزئه وهو ظاهر كلام الخرقي ولا يجزئه الا الصيام
[والثانية] يجزئه لأن المنع لحق السيد وقد اذن أشبه ما لو اذن له ان يتصدق بالمال وقد ذكرنا
ذلك في الظهار والاختلاف فيه، وذكر القاضي ان أصل هذين عنده الروايتان في ملك العبد بالتمليك
فإن قلنا يملك بالتمليك فملكه سيده وأذن له بالتكفير بالمال جاز لأنه مالك لما يكفر به وإن قلنا لا يملك
بالتمليك ففرضه الصيام لأنه لا يملك شيئا يكفره، وكذلك ان قلنا إنه يملك ولم يأذن له سيده في التكفير
بالمال ففرضه الصيام وإن ملك لأنه محجور عليه ممنوع من التصرف فيما في يديه قال أصحابنا يجعلون في
العبد روايتين مطلقا سواء قلنا يملك أو لا يملك ثم على الرواية التي تجيز له التكفير بالمال له ان يطعم،
203

وهل له أن يعتق؟ على روايتين [إحداهما] ليس له ذلك لأن العتق يقتضي الولاء والولاية والإرث وليس
ذلك للعبد وهذا رواية عن مالك وبه قال الشافعي على القول الذي يجيز له التكفير بالمال أو الثانية له
التكفير بالعتق لأن من صح تكفيره بالمال صح تكفيره بالعتق كالحرية ولأنه يملك العبد فصح تكفيره
باعتاقه كالحر، وقولهم ان العتق يقتضي الولاء والولاية ممنوع إذا عتق في الكفارة على ما أسلفناه وإن
سلمنا فتخلف بعض الأحكام لا يمنع ثبوت المقتضي فإن الحكم يتخلف لتخلف سببه لا لتخلف
أحكامه كما أنه يثبت لوجود سببه، ولان تخلف بعض الأحكام مع وجود المقتضي إنما يكون لمانع
ويجوز أن يختص المنع بها دون غيرها وهذا السبب المقتضي لهذه الأحكام ولا يمنع ثبوته تخلفها عنه
في الرقيق على أن الولاء يثبت اعتاق العبد لكن لا يرث به كما لو اختلف ديناهما وهذا اختيار أبي بكر
ويفرع عليه إذا أذن له سيده فأعتق نفسه ففيه قولان
[أحدهما] يجزئه لأنه رقبة تجزئ عن غيره فأجزأت عنه كغيره
[والآخر] لا يجزئه لأن الاذن له في الاعتاق ينصرف إلى إعتاق غيره وهذا التعليل يدل على
أن سيده إذا أذن له في اعتاق نفسه عن كفارته جاز ومتى اطلق الاذن في الاعتاق فليس له أن يعتق
إلا أقل قبة تجزئ عن الواجب وليس له اعتاق نفسه إذا كان مما يجزئ وهذا من أبي بكر يقتضي
أن لا يعتبر في التكفير أن يملكه سيده ما يكفر به لأنه لا يملك نفسه بل متى أذن له في التكفير
بالاطعام أو الاعتاق أجزأه لأنه لو اعتبر التمليك لما صح له أن يعتق نفسه لأنه لا يملكها ولان
التمليك لا يكون إلا في معين فلا يصح ان يأذن فيه مطلقا
204

(فصل) إذا أعتق العبد عبدا عن كفارته باذن سيده وقلنا إن الاعتاق في الكفارة يثبت به
الولاء، لمعتقه ثبت ولاؤه للعبد الذي أعتقه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الولاء لمن أعتق " ويرث به لأنه
ليس من أهل الميراث وانتفاء الإرث لا يمنع ثبوت الولاء كما لو اختلف ديناهما أو قتل المعتق عتيقه
فإنه لا يرثه مع ثبوت الولاية عليه فإن عتق المعتق ورث بالولاء لزوال المانع كما إذا كانا مختلفي الدين
فأسلم الكافر منها ذكر هذا طلحة العاقولي، ومقتضى هذا ان سيد العبد لا يرث عتيقه في حياة عبده
كما لا يرث ولد عبده وان أعتق عبده ثم مات ورث السيد مولى عبده لأنه مولى مولاه كما أنه لو أعتق العبد
وله ولد عليه الولاء لمولى أمه يجر ولاءه ويرثه سيده إذا مات أبوه
* (مسألة) * (وليس للسيد منع عبده من التكفير بالصيام سواء كان الحنث والحلف باذنه أو
بغير اذنه وسواء أضربه الصيام أو لم يضربه)
وقال الشافعي ان حنث بغير اذنه والصوم يضربه فله منعه لأن السيد لم يأذن له فيما ألزم نفسه
مما يتعلق به ضرر على السيد فكان له منعه وتحليله كما لو أحرم بالحج بغير اذنه
ولنا انه صوم واجب لحق الله تعالى فلم يكن لسيده منعه كصيام رمضان وقضائه، ويفارق الحج
لأن ضرره كثير لطول مدته وغيبته عن سيده وتفويت خدمته ولهذا ملك تحليل زوجته منه ولم يملك
منعها صوم الكفارة، فأما صوم التطوع فإن كان فيه ضرر عليه فللسيد منعه منه لأنه يفوت حقه وليس
بواجب عليه وإن كان لا يضر به لم يكن لسيده منعه منه لأنه يعبد ربه بما لا مضرة فيه فأشبه ذكر
الله تعالى وصلاة النافلة في غير وقت خدمته، وللزوج منع زوجته منه في كل حال لأنه يفوت حقه من
الاستمتاع ويمنعه منه
205

(فصل) ومن نصفه حر فحكمه في الكفارة حكم الأحرار، متى ملك لجزئه الحر ما يكفر به لم يجز
له الصيام وله التكفير بأحد الأمور الثلاثة وظاهر كلام الشافعي ان له التكفير بالاطعام والكسوة
دون الاعتاق لأنه لا يثبت له الولاء ومنهم من قال لا يجزئه الا الصيام لأنه منقوص بالرق أشبه القن
ولنا قول الله تعالى (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) وهذا واجد ولأنه يملك ملكا تاما فأشبه الحر
الكامل ولا نسلم أنه لا يثبت له الولاء ثم إن امتناع بعض أحكامه لا يمنع صحته كعتق المسلم رقيقة الكافر
[فصل] والكفارة في حق الحر والعبد والمسلم والكافر سواء لأن الله تعالى ذكر الكفارة
بلفظ عام في جميع المخاطبين فدخل الكل في عمومه الا ان الكافر لا يصح منه التكفير بالصيام
لأنه عبادة وليس هو من أهلها ولا بالاعتاق لأن من شرطه الايمان في الرقبة ولا يجوز لكافر شراء
مسلم الا ان يتفق اسلامه في يديه أو يرث مسلما فيعتقه فيصح اعتاقه وان لم يتفق ذلك فتكفيره بالاطعام
أو الكسوة فإذا كفر ثم أسلم لم تلزمه إعادة التكفير وإن أسلم قبل التكفير كفر بما يجب عليه في تلك الحال
من اعتاق أو اطعام أو كسوة أو صيام ويحتمل على قول الخرقي انه لا يجزئه الصيام لأنه إنما يكفر بما
وجب عليه حين الحنث ولم يكن الصيام مما وجب عليه
[فصل] إذا حلف رجل بالله لا يفعل شيئا فقال له آخر يميني في يمينك لم يلزمه شئ لأن يمين
206

الأول ليست ظرفا ليمين الثاني، وان نوى انه يلزمني من اليمين ما يلزمك لم يلزمه حكمها قاله القاضي
وهو مذهب الشافعي لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية لأن تعليق الكفارة بها لحرمة اللفظ باسم
الله المحترم أو صفة من صفاته ولا يوجد ذلك بالكناية. فأما ان حلف بطلاق فقال آخر يميني في
يمينك ينوي أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك انعقدت يمينه نص عليه أحمد وسئل عن رجل حلف
بالطلاق لا يكلم رجلا فقال رجل وانا على مثل يمينك فقال عليه مثل الذي حلف لأن الكناية تدخل
في الطلاق، وكذلك يمين العتق وان لم ينو شيئا لم تنعقد يمينه لأن الكناية لا تقبل بغير نية وليس قوله
هذا بصريح وإن كان المقول له لم يحلف بعد وإنما أراد انه يلزم الاخر يمينا يحلف بها فحلف المقول لم تنعقد
يمين القائل وإن كان في الطلاق والعتاق لأنه لابد أن يكون هناك ما يكنى عنه وليس ههنا ما يكنى عنه
(فصل) وإذا قال حلفت ولم يكن حلف فقال أحمد هي كذبة وليس عليه يمين وعنه عليه الكفارة
لأنه أقر على نفسه والأول المذهب لأنه حكم فيما بينه وبين الله فإن كذب في الخبر به لم يلزمه حكمه
كما لو قال ما صليت وقد صلى، ولو قال علي يمين فهي كالتي قبلها وان نوى القسم فقال أبو الخطاب
هي يمين وهو قول أصحاب الرأي وقال الشافعي ليس بيمين لأنه لم يأت باسم الله المعظم ولا صفته فلم يكن
يمينا كما لو قال حلفت وهذا أصح إن شاء الله تعالى فإن هذه ليست صيغة اليمين والقسم وإنما هي صيغة الخبر فلا
يكون بها حالفا وان قدر ثبوت حكمها لزمه أقل ما تناوله الاسم وهو يمين ما وليست كل يمين موجبة للكفارة
فلا يلزمه شئ، ووجه الأول انه كناية عن اليمين وقد نوى بها اليمين فتكون يمينا كالصريح
[فصل] وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه أمر بابرار المقسم أو القسم رواه البخاري وهذا والله
207

أعلم على سبيل الندب لا سبيل الايجاب بدليل ان أبا بكر رضي الله عنه قال أقسمت عليك يا رسول
الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقسم يا أبا بكر " ولم يخبره ويحتمل ان يجب ابراره
إذا لم يكن فيه ضرر ويكون امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أبرار أبي بكر لما علم من الضرر فيه، وإن أجابه إلى
صورة ما أقسم عليه دون معناه عند تعذر المعنى فحسن فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ان العباس جاءه
برجل ليبايعه على الهجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا هجرة بعد الفتح " قال العباس أقسمت عليك يا رسول
الله لتبايعنه فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في يده فقال " أبررت قسم عمي ولا هجرة " فأجابه إلى صورة المبايعة
دون ما قصد بيمينه
[فصل] وتستحب إجابة من حلف بالله لما روى ابن عمر قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من استعاذ
بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فاعطوه ومن استجار بالله فأجيروه ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه
فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا ان قد كافأتموه " وعن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله: أما الذين يحبهم الله فرجل سأل قوما فسألهم بالله ولم يسألهم
بقرابة بينه وبينهم فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته الا الله عز وجل والذي أعطاه،
وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني ويتلو كتابي،
ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا فاقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له، والثلاثة الذين يبغضهم
الله الشيخ الزاني والفقير المختال والغني الظلوم " رواهما النسائي
208

* (باب جامع الايمان) *
* (مسألة) * (ويرجع في الايمان إلى النية فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها)
الايمان مبنية على نية الحالف فإذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء كان ما نواه موافقا لظاهر
اللفظ أو مخالفا له، فالموافق للظاهر ان ينوي باللفظ موضوعه الأصلي مثل ان ينوي باللفظ العام العموم
وبالمطلق الاطلاق وبسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الافهام منها. والحالف يتنوع أنواعا (أحدها) ان ينوي
بالعام الخاص مثل ان يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة يريد لحما بعينه وفاكهة بعينها (ومنها) ان يحلف على
فعل شئ أو تركه مطلقا وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه مثل أن يحلف لا يتغدى ويريد اليوم أولا أكلت
يعني الساعة (ومنها) ان ينوي بيمينه غير ما يفهمه السامع منه كما ذكرنا في المعاريض في مسألة إذا تأول في
يمينه
فله تأويله (ومنها) أن يريد بالخاص العام مثل أن يحلف لا شربت لفلان الماء من العطش يعني قطع
كل ماله فيه منة أو لا يأوي مع امرأته في دار يريد حفاءها بترك اجتماعه بها في جميع الدور أو
حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها به فتعلق يمينه بالانتفاع به أو بثمنه منها مما لها فيه منة
عليه وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف لفظه لأن الحنث
مخالفة ما وقعت عليه اليمين واليمين لفظة فلو أحنثناه على ما سواه لأحنثناه على ما نوى لا على ما حلف
ولان النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك لا يحنث بمخالفتها
ولنا انه نوى بكلامه ما يحتمل ويسوغ في اللغة التعبير عنه فتنصرف يمينه إليه كالمعاريض،
209

وبيان احتمال اللفظ له انه يسوغ في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام قال الله تعالى (ما يملكون
من قطمير - ولا يظلمون فتيلا - وإذا لا يؤتون الناس نقيرا) والقطمير لفافة النواة والفتيل ما في شقها والنقير
النقرة التي في ظهرها ولم يرد ذلك بعينه بل نفى كل شئ، وقال الحطيئة يهيج بني العجلان:
* ولا يظلمون الناس حبة خردل *
ولم يرد الحبة بعينها إنما أراد لا يظلمونهم شيئا وقد يذكر العام ويراد به الخاص كقوله تعالى
(الذين قال لهم الناس) أراد رجلا واحدا (ان الناس قد جمعوا لكم) يعني أبا سفيان وقال (تدمر
كل شئ بأمر ربها) ولم تدمر السماء والأرض ولا مساكنهم، وإذا احتمله اللفظ وجب صرف
اليمين إليه إذا نواه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وإنما لامرئ ما نوى " ولان كلام الشارع يحمل على مراده به
إذا ثبت ذلك بالدليل فكذلك كلام غيره. قولهم ان الحنث مخالفة ما عقد اليمين عليه قلنا وهذا كذلك
فإن اليمين إنما انعقدت على ما نواه ولفظه مصروف إليه وليست هذه نية مجردة بل لفظ منوي به ما يحتمله
(فصل) ومن شرائط انصراف اللفظ إلى ما نواه احتمال اللفظ له فإن نوى ما لا يحتمله اللفظ مثل أن
يحلف لا يأكل خبزا يعنى به لا يدخل بيتا فإن يمينه لا تنصرف إلى المنوي لأنها نية مجردة لا يحتملها
اللفظ فأشبه ما لو نوى ذلك بغير يمين
* (مسألة) * [فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها]
إذا عدمت البينة نظرنا في سبب اليمين وما أثارها لدلالتها على النية فإذا حلف ليقضينه حقه
غدا فقضاه قبله لم يحنث إذا قصد أن لا يتجاوزه أو كان السبب لا يقتضيه وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد
210

وأبو ثور وقال الشافعي يحنث إذا قضاه قبله لأنه يترك ما حلف عليه مختارا فحنث كما لو قضاه بعده
ولنا ان مقتضى اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله فقد قضي قبل خروج
الغد وزاده خيرا ولان مبنى الايمان على هذا ونية هذا بيمينه تعجيل القضاء قبل خروجه فتعلقت
يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به، فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين فإن كان يقتضي التعجيل
فهو كما لو نواه لأن السبب يدل على النية، وان لم ينو ذلك ولا كان السبب يقتضيه فظاهر كلام
الخرقي انه لا يبر إلا بقضائه قبله وقال القاضي يبر على كل حال لأن اليمين للحنث على الفعل فمتى
عجله فقد أتى بالمقصود فيه فيبر كما لو نوى ذلك، والأول أصح إن شاء الله تعالى لأنه ترك فعل ما
تناولته يمينه لفظا ولم تصرفها عنه نية ولا سبب فحنث كما لو حلف ليصومن شعبان فصام رجبا ويحتمل أن
ما قاله القاضي في القضاء خاصة لأن عرف هذه اليمين في القضاء التعجيل فتنصرف اليمين المطلقة إليه.
[فصل] فأما غير قضاء الحق كأكل شئ أو شربه أو بيع شئ أو شرائه أو ضرب عبده أو نحوه
فمتى عين وقتا ولم ينو ما يقتضي تعجيله ولا كان سبب يمينه يقتضيه لم يبر إلا بفعله في وقته، وذكر
القاضي انه يبر بتعجيله عن وقته وحكي ذلك عن بعض أصحاب أبي حنيفة.
ولنا انه لم يفعل المحلوف عليه في وقته من غير نية تصرف يمينه ولا سبب فيحنث كالصيام،
ولو فعل بعض المحلوف عليه قبل وقته وبعضه في وقته لم يبر لأن اليمين في الاثبات لا يبر فيها إلا
بفعل جميع المحلوف عليه، فترك بعضه في وقته كترك جميعه إلا أن ينوي أن لا يجاوز ذلك الوقت
أو يقتضي ذلك سببها.
211

* (مسألة) * (وان حلف أن لا يبيع ثوبه الا بمائة فباعه بأكثر لم يحنث ان باعه بأقل حنث)
لأن قصده أن لا يبيعه بأقل منها فحنث إذا باعه بالأقل ولا يحنث إذا باعه بأكثر لأن قرينة
الحال تدل على ذلك والعرف فهو كما لو حلف ليقضينه حقه غذا فقضاه اليوم، ومقتضى مذهب الشافعي
انه يحنث إذا باعه بأكثر لمخالفته اللفظ
* (مسألة) * (ومن حلف لا يبيع ثوبه بعشره فباعه بها أو بأقل حنث وان باعه بأكثر لم يحنث)
وقال الشافعي لا يحنث إذا باعه بأقل لأنه لم تتناوله يمينه
ولنا ان العرف في هذا أن لا يبيعه بها ولا بأقل منها بدليل انه لو وكل في بيعه انسانا وأمره
أن لا يبيعه بعشرة لم يكن له بيعه بأقل منها، وإن هذا تنبيه على امتناعه من بيعه بما دون العشرة
والحكم يثبت بالتنبيه كثبوته باللفظ، وان حلف لا أشتريه بعشرة فاشتراه بأقل لم يحنث وان اشتراه
بها أو بأكثر منها حنث لما ذكرنا، ومقتضى مذهب الشافعي أن لا يحنث إذا اشتراه بأكثر منها
لأن يمينه لم تتناوله لفظا
ولنا انها تناولته عرفا وتنبيها فكان حانثا كما لو حلف أن ماله علي حبة فإنه يحنث إذا كان عليه
أكثر منها، قيل لأحمد رجل حلف لا ينقص هذا الثوب من كذا قال قد أخذته ولكن هب لي
كذا؟ قال هذا حيلة، قيل له فإن قال البائع أبيعك بكذا وأهب لفلان شيئا آخر؟ قال هذا كله
ليس بشئ وكرهه.
* (مسألة) * (وان حلف لا يدخل دارا ونوى اليوم لم يحنث بالدخول في غيره)
212

لأن قصده يتعلق باليوم فاختص الحنث بالدخول فيه دون غيره
* (مسألة) * (وان دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى اختصت يمينه به إذا قصده لما ذكرنا)
* (مسألة) * (وان حلف لا يشرب له الماء من العطش يقصد قطع منته حنث بأكل خبزه
واستعارة دابته وكل ما فيه المنة)
لأن ذلك للتنبيه على ما هو أعلى منه كقول الله تعالى (ولا يظلمون فتيلا) يريد لا يظلمون شيئا وقال الشاعر:
* ولا يظلمون الناس حبة خردل *
* (مسألة) * (وان حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يقصد قطع منتها فباعه واشترى بثمنه ثوبا
فلبسه حنث وكذلك ان انتفع بثمنه)
هذه المسألة أصل فرع قد تقدم ذكره في أول الباب وهو ان الأسباب معتبرة في الايمان
بتعدي الحكم بتعديها فإذا أمتن عليه بثوب فحلف أن لا يلبسه لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به
في غير اللبس لأنه نوع انتفاع به تلحق المنة به، فإن لم يقصد قطع المنة ولا كان سبب يمينه يقتضي
ذلك لم يحنث الا بما تناولته يمينه وهو لبسه خاصة، فلو أبدله بثوب غيره ثم لبسه أو باعه وأخذ ثمنه
لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظا ونية وسببا
(فصل) فإن فعل شيئا لها فيه منة عليه سوى الانتفاع بالثوب وبعوضه مثل ان سكن دارها أو أكل
طعاما أو لبس ثوبها لها غير الثوب المحلوف عليه لم يحنث لأن المحلوف عليه الثوب فتعلقت يمينه به أو بما
حصل به فلم يتعد إلى غيره لاختصاص اليمين والسبب به
213

(فصل) وان امتنت امرأته عليه بثوب فحلف ان لا يلبسه قطعا لمنتها فاشتراه غيرها ثم كساه إياه
أو اشتراه الحالف ولبسه على وجه لا منة لها فيه ففيه وجهان
(أحدهما) يحنث لمخالفته يمينه لفظا ولان لفظ الشارع إذا كان أعم من السبب وجب الاخذ بعموم
اللفظ دون خصوص السبب كذا في اليمين ولأنه لو خاصمته امرأة له فقال نسائي طوالق طلقن كلهن
وإن كان سبب الطلاق واحدة كذا ههنا
(والثاني) لا يحنث لأن السبب اقتضى تقييد لفظه بما وجد فيه السبب فصار كالمنوي أو كما لو
خصصه بقرينة لفظية:
* (مسألة) * (فإن حلف لا يأوي معها في دار يرد جفاءها ولم يكن للدار سبب يهيج يمينه
فأوى معها في غيرها حنث)
وهذه المسألة أيضا من فروع اعتبار النية وذلك أنه متى قصد جفاءها بترك الاوي معها ولم يكن للدار
أثر في يمينه كان ذكر الدار كعدمه وكأنه حلف لا يأوي معها فإذا أوى معها في غيرها حنث لمخالفته ما حلف
على تركه وصار هذا بمنزلة سؤال الاعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعت أهلي نهار رمضان فقال " أعتق رقبة "
لما كان ذكره أهله لا أثر له في ايجاب الكفارة حذفناه من السبب وصار السبب الوقاع سواء كان
للأهل أو لغيره، وإن كان للدار أثر في يمينه مثل ان يكره سكناها أو خوصم من أجلها أو أمتن عليه
بها لم يحنث إذا أوى معها في غيرها لأنه قصد بيمينه الجفاء في الدار بعينها فلم يخالف ما حلف عليه
214

وان عدم السبب والنية لم يحنث إلا بفعل ما تناوله لفظه وهو الاوي معها في تلك الدار بعينها لأنه لم يجب
اتباع لفظه إذا لم يكن سبب ولا نية تصرف اللفظ عن مقتضاه أو تقتضي زيادة عليه ومعنى الاوي
الدخول فمن حلف لا يأوي معها فدخل معها الدار حنث قليلا كان لبثهما أو كثيرا قال الله تعالى مخبرا
عن فتى موسى (إذ آوينا إلى الصخرة) قال أحمد كم كان ذلك إلا ساعة أو ما شاء الله يقال اويت انا
وآويت غيري قال الله تعالى (إذ أوى الفتية إلى الكهف) وقال تعالى (وآويناهما إلى ربوة)
(فصل) وان برها بهدية أو غيرها أو اجتمع معها فيما ليس بدار ولا بيت لم يحنث سواء كان للدار سبب
في يمينه أو لم يكن لأنه قصد جفاءها بهذا النوع فلم يحنث بغيره فإن حلف ان لا يأوي معها في دار
لسبب فزال السبب الموجب ليمينه مثل إن كان السبب امتنانها بها عليه فملك الدار أو صارت لغيرها
فأوى معها فيها فهل يحنث؟ على وجهين مضى ذكرهما وتعليلهما
(فصل) وان حلف لا يدخل عليها بيتا فدخل عليها فيما ليس ببيت فحكمه حكم المسألة التي قبلها
ان قصد جفاءها ولم يكن للبيت سبب هيج يمينه حنث والا فلا وان دخل على جماعة هي فيهم يقصد
الدخول عليها معهم حنث وكذلك ان لم يقصد شيئا، وان استثناها بقلبه ففيه وجهان (أحدهما)
لا يحنث كما لو حلف ان لا يسلم عليها فسلم على جماعة هي فيهم يقصد بقلبه السلام على غيرها فإنه لا يحنث
(والثاني) يحنث لأن الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالقصد وقد وجد في حق الكل على
السواء وهي منهم فحنث به كما لو لم يقصد استثناءها، وفارق السلام فإنه قول يصح تخصيصه بالقصد
ولهذا يصح ان يقال السلام عليكم الا فلانا ولان السلام قول يتناول ما يتناوله الضمير في عليكم
215

والضمير عام يصح ان يراد به الخاص فصح ان يراد به من سواها والفعل لا يتأتى فيه هذا وان دخل
بيتا لم يعلم أنها فيه فوجدها فيه فهو كالدخول عليها ناسيا ففيه روايتان فإن قلنا لا يحنث بذلك فخرج حين
علم بها لم يحنث وكذلك ان حلف لا يدخل عليها فدخلت هي عليه فخرج في الحال لم يحنث وان أقام
معها فهل يحنث؟ على وجهين بناء على من حلف لا يدخل دارا هو فيه فاستدام المقام فهل يحنث؟ على وجهين
* (مسألة) * (وان حلف لعامل لا يخرج الا بأذنه فعزل أو على زوجته فطلقها أو على عبده فاعتقه
ونحوه يريد ما دام كذلك انحلت يمينه وان لم تكن له نية انحلت يمينه أيضا)
ذكره الخرقي لأن الحال تصرف اليمين إليه وذكر في موضع آخر ان السبب إذا كان يقتضي
التعميم عممناها به وان اقتضى الخصوص مثل من نذر لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم فقال
أحمد النذر يوفي به، قال شيخنا والأول أولى لأن السبب يدل على النية فصار كالمنوي سواء، وان
حلف لا رأيت منكرا الا رفعته إلى فلان القاضي فعزل انحلت يمينه ان نوى ما دام قاضيا وان لم ينو
احتمل وجهين وقد ذكرنا في أول الباب ان النية إذا عدمت نظرنا في سبب اليمين وما أثارها لدلالته
على النية فإذا حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار وكان سبب يمينه غيظا من جهة الدار لضرر
لحقه منها أو منة عليه بها اختصت يمينه بها، وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقتضي جفاءها لا أثر للدار
فيه تعلق باويه معها في كل دار، ومثله إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها إن كان سببه المنة عليه منها
فكيفما انتفع به أو بثمنه حنث، وإن كان سبب يمينه خشونة غزلها أو رداءته لم تتعد يمينه لبسه وقد
دللنا على تعلق اليمين بما نواه والسبب دليل على النية فيتعلق اليمين به وقد ثبت ان كلام الشارع إذا
216

كان خاصا في شئ لسبب عام تعدى إلى ما وجد فيه السبب لنصه على تحريم التفاضل في أعيان ستة
ثبت الحكم في كل ما وجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي مثله، فاما إن كان اللفظ عاما والسبب
خاصا مثل من دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى أو حلف ان لا يقعد فإن كانت له نية فيمينه على ما نوى
وان لم تكن له نية فكلام أحمد يقتضي روايتين (إحداهما) ان اليمين محمولة على العموم لأن أحمد سئل
عن رجل نذر لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم فقال النذر يوفى به يعني لا يدخله. ووجه ذلك أن
لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب خاص وجب الاخذ بعوم اللفظ لا بخصوص السبب كذلك يمين
الحالف وذكر القاضي فيمن حلف على زوجته أو عبده ان لا يخرج الا بأذنه فعتق العبد وطلقت المرأة
وخرجا بغير أذنه لا يحنث لأن قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها وإنما يملك منع الزوجة أو
العبد مع ولايته عليهما فكأنه قال ما دمتما في ملكي، ولان السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته
عليها في العموم ولو نوى الخصوص لاختصت يمينه به فكذلك إذا وجد ما يدل عليها. ولو حلف
لعامل لا يخرج الا باذنه فعزل أو حلف لا يرى منكرا الا رفعه إلى فلان القاضي فعزل ففيه وجهان بناء
على ما تقدم (أحدهما) لا تنحل اليمين بعزله قال القاضي هذا قياس المذهب لأن اليمين إذا تعلقت بيمين موصوفة
تعلقت بالعين وان تغيرت الصفة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي (والوجه الآخر) تنحل اليمين
بعزله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يقال رفعه إليه الا في حال ولايته. فعلى هذا ان رأى المنكر في ولايته
فامكنه رفعه فلم يرفعه إليه حتى عزل لم يبر برفعه إليه في حال العزل وهل يحنث بعزله؟ فيه وجهان
217

(أحدها) يحنث لأنه قد فات رفعه إليه فأشبه ما لو مات (والثاني) لا يحنث لأنه لم يتحقق فواته لاحتمال
ان يلي فيرفعه إليه بخلاف ما لو مات فإنه يحنث لأنه قد تحقق فواته، وإن مات قبل إمكان رفعه إليه
حنث أيضا لأنه قد فات فأشبه ما لو حلف ليضر بن عبده في غد فمات العبد اليوم ويحتمل ان لا يحنث
لأنه لم يتمكن من فعل المحلوف عليه فأشبه المكره، وان قلنا لا تنحل يمينه فعزل فرفعه إليه بعد عزله بر بذلك
(فصل) وان اختلف السبب والنية مثل ان امتنت عليه امرأته بغزلها فحلف ان لا يلبس ثوبا
من غزلها ينوي اجتناب اللبس خاصة دون الانتفاع بثمنه وغيره قدمت النية على السبب وجها واحدا
لأن النية وافقت مقتضى اللفظ وان نوى بيمينه ثوبا واحدا فكذلك في ظاهر كلام الخرقي وقال
القاضي يقدم السبب لأن اللفظ، ظاهر في العموم والسبب يؤكد ذلك الظاهر ويقويه لأن السبب
هو الامتنان وظاهر حاله قصد قطع المنة فلا يلتفت إلى نيته المخالفة للظاهرين والأول أصح لأن السبب
إنما اعتبر لدلالته على القصد فإذا خالف حقيقة القصد لم يعتبر فكان وجوده كعدمه فلم يبق الا اللفظ
بعمومه والنية تخصه على ما بيناه فيما مضى
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين - يعني إذا عدمت النية والسبب
رجع إلى التعيين - فإذا حلف لا يدخل دار فلان هذه فدخلها وقد صارت فضاء أو حماما أو مسجدا أو
باعها فلان، أو لا لبست هذا القميص فجعله سراويل أو رداء أو عمامة ولبسه، أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا
أو امرأة فلان أو صديقة فلان أو غلامه سعدا فطلقت الزوجة وزالت الصداقة وعتق العبد فكلمهم، أو لا أكلت
لحم هذا الحمل فصار كبشا أو لا أكلت هذا الرطب فصار تمرا أو دبسا أو خلا أو لا اكلت هذا اللبن فتغير
أو عمل منه شئ فأكله حنث في ذلك كله ويحتمل أن لا يحنث)
218

وجملة ذلك أنه إذا حلف على شئ عينه بالإشارة مثل أن حلف لا يأكل هذا الرطب لم يخل
من حالين (أحدهما) أن يأكله رطبا فيحنث بلا خلاف بين الجميع لكون فعل ما حلف على تركه صريحا
(الثاني) أن تتغير صفته فذلك خمسة أقسام
(أحدها) أن تستحيل أجزاؤه ويتغير اسمه مثل ان حلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فرخا
أو لا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا فأكله فلا يحنث لأنه زال اسمه واستحالت أجزاؤه وعلى قياسه
لا شربت هذا الخمر فصار خلا وشربه
(القسم الثاني) وتغيرت صفته وزال اسمه مع بقاء أجزائه مثل ان حلف لا أكلت هذا الرطب
فصار تمرا، أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا، أو لا أكلت هذا الحمل فصار كبشا، أو لا دخلت هذه
الدار فدخلها بعد تغيرها (1) وقاله أبو يوسف في الحنطة إذا صارت دقيقا وللشافعي في الرطب إذا صار
تمرا والصبي إذا صار شيخا والحمل إذا صار كبشا وجهان وقالوا في سائر الصور لا يحنث لأن اسم المحلوف عليه
وصورته زالت فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل هذه البيضة فصارت فرخا
ولنا ان عين المحلوف عليه باقية فحنث كما لو حلف لا أكلت هذا الحمل فأكل لحمه أو لا لبست
هذا الغزل فصار ثوبا ولبسه أو لا لبست هذا الرداء فلبسه بعد أن صار قميصا أو سراويل، وفارق
البيضة إذا صارت فرخا لأن أجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم تبق عينها ولأنه لا اعتبار
بالاسم مع التعيين كما لو حلف لا كلمت زيدا هذا فغير اسمه أو لا كلمت صاحب الطيلسان

(1) سقط من الأصل هنا كلام كثير يراجع في المغني
219

فكلمه بعد بيعه ولأنه متى اجتمع التعيين مع غيره فما يعرف به كان الحكم للتعيين كما
لو اجتمع مع الإضافة
(القسم الثالث) تبدلت الإضافة مثل ان حلف لا كلمت زوجة زيد هذه ولا عبده هذا ولا
دخلت داره هذه فعلق الزوجة وباع العبد والدار فكلمهما ودخل حنث وبه قال مالك والشافعي
ومحمد وزفر، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يحنث الا في الزوجة لأن الدار لا توالى ولا تعادى وإنما
الامتناع لأجل مالكها فتعلقت اليمين بها مع بقاء ملكه عليه وكذلك العبد في الغالب
ولنا أنه إذا اجتمع في اليمين التعيين والإضافة كان الحكم للتعيين كما لو قال والله لا كلمت
زوجة فلان ولا صديقه. وما ذكروه لا يصح في العبد لأنه يوالي ويعادي ويلزمه في الدار إذا أطلق ولم
يذكر مالكها فإنه يحنث بدخولها بعد بيع مالكها إياها
(القسم الرابع) إذا تغيرت صفته بما يزيل اسمه ثم عادت كمقص انكسر ثم أعيد وقلم كسر ثم
بري وسفينة نقضت ثم أعيدت فإنه يحنث لأن أجزاءها واسمها موجودان فأشبه ما لو لم يتغير
(القسم الخامس) إذا تغيرت صفته بما لا يزيل اسمه كلحم شوي وعبد بيع ورجل مرض فإنه يحنث
به بلا خلاف نعلمه لأن الاسم الذي علق عليه اليمين لم يزل، ولا زال التغيير فحنث به كما لو لم يتغير حاله
(فصل) وان قال والله لا كلمت سعدا زوج هند أو سيد صبيح أو صديق عمرو أو مالك هذا الدار
أو صاحب الطيلسان، أو لا كلمت هندا امرأة سعد أو صبيحا عبده أو عمرا صديقه ف‍؟ لق الزوجة وباع العبد
والدار والطيلسان وعادى عمرا وكلمهم حنث لأنه متى اجتمع الاسم والإضافة غلب الاسم بجريانه
مجرى التعيين في تعريف المحل
(فصل) ولو حلف لا يلبس هذا الثوب وكان رداء في حال حلفه فارتدى به أو اتزر أو اعتم به
220

أو جعله قميصا أو سراويل أو قباء فلبسه حنث، وكذلك إن كان قميصا فارتدى به أو سراويل فاتزر بها
وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي لأنه قد لبسه، وان قال في يمينه لا لبسته وهو رداء فغيره عن
كونه رداء ولبسه لم يحنث لأن اليمين وقعت على ترك لبسه رداء، وكذلك ان نوى بيمينه في شئ
من هذه الأشياء ما دام على تلك الصفة والإضافة وما لم يتغير في هذه المسائل المذكورة في هذا الفصل
والذي قبله لقوله عليه السلام " وإنما لا مرئ ما نوى)
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (فإن عدم ذلك رجعنا إلى ما يتناوله الاسم. والأسماء تنقسم ثلاثة
أقسام شرعية وحقيقية وعرفية)
وجملة ذلك أن الأسماء تنقسم على ستة أقسام (أحدها) ماله مسمى واحد كالرجل والمرأة والانسان
والحيوان فهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بغير خلاف (والثاني) ماله موضوع شرعي وموضوع لغوي
كالوضوء والصلاة والطهارة والزكاة والصوم والحج والعمرة والبيع فهذا ينصرف اليمين عند الاطلاق إلى
الموضوع الشرعي دون اللغوي لا نعلم أيضا فيه خلافا إلا ما ذكره فيما يأتي إن شاء الله
(الثالث) ماله موضوع حقيقي ومجاز لم يستعمل أكثر من الحقيقة كالأسد والبحر فيمين الحالف
ينصرف عند الاطلاق إلى الحقيقة دون المجاز لأن كلام الشارع إذا ورد مثل هذا حمل على
حقيقته دون مجازه كذلك اليمين (الرابع) الأسماء العرفية، وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة
مغمورة فيه فهذا على ضروب
(أحدها) ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالرواية وهي في العرف اسم للمزادة
221

وفي الحقيقة اسم لما يستقى عليه من الحيوانات، والظعينة في العرف المرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن
عليها، والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة، وفي الحقيقة العذرة فناء الدار ولذلك قال علي
رضي الله عنه لقوم ما لكم لا تنظفون عذراتكم؟ يريد أفنيتكم، والغائط المطمئن من الأرض. فهذا
وأشباهه يصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لأنه الذي يريده بيمينه ويفهم من كلامه
فأشبه الحقيقة في غيره
(الضرب الثاني) أن يخص عرف الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم الموضوع ويتنوع أنواعا نذكرها
إن شاء الله في المسائل كالدابة والريحان وغير ذلك
* (فصل) * في الأسماء الشرعية، إذا حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا أو لا ينكح فنكح نكاحا
فاسدا لم يحنث إلا أن يضيف اليمين إلى شئ لا تتصور فيه الصحة مثل أن يحلف أن لا يبيع الحر
أو الخمر فيحنث بصورة البيع
إذا حلف أن لا يبيع ولا ينكح انصرف إلى الصحيح دون الفاسد وبهذا قال الشافعي، وقال
أبو حنيفة إذا قال لعبده ان زوجتك أو بعتك فأنت حر فزوجه تزويجا فاسدا لم يعتق، وان باعه بيعا
فاسدا يملك به حنث لأن البيع ينصرف إلى الصحيح بدليل قول الله تعالى (وأحل الله البيع) وأكثر
ألفاظه في البيع إنما تنصرف إلى الصحيح فلا يحنث بما دونه كما في النكاح وكالصلاة وغيرهما وما ذكروه
من ثبوت الملك به ممنوع، وقال ابن أبي موسى لا يحنث بالنكاح الفاسد وهل يحنث بالبيع الفاسد؟ على
222

روايتين، وقال أبو الخطاب ان نكحها نكاحا مختلفا فيه مثل أن يتزوجها بلا ولي ولا شهود أو باع
في وقت النداء فعلى وجهين، وقال ابن أبي موسى ان تزوجها زواجا مختلفا فيه أو ملك ملكا
مختلفا فيه حنث فيهما جميعا
ولنا أنه نكاح فاسد وبيع فاسد فلم يحنث بهما كالمتفق على فسادهما
(فصل) والماضي والمستقبل سواء في هذا وقال محمد بن الحسن إذا حلف ما تزوجت ولا صليت
ولا بعت وكان قد فعله فاسدا حنث لأن الماضي لا يقصد منه الا الاسم والاسم يتناوله، والمستقبل
بخلافه فإنه يراد بالنكاح والبيع الملك وبالصلاة القربة
ولنا أن ما لا يتناوله الاسم في المستقبل لا يتناوله في الماضي وكغير المسمى وما ذكره لا يصح
لأن الاسم لا يتناول الا الشرعي ولا يحصل
(فصل) فإن حلف لا يبيع فباع بيعا فيه الخيار حنث، وقال أبو حنيفة لا يحنث لأن الملك لا
يثبت في مدة الخيار فأشبه البيع الفاسد
ولنا أنه بيع صحيح شرعي فيحنث به كالبيع اللازم وما ذكره ممنوع فإن بيع الخيار يثبت الملك
به بعد انقضاء الخيار بالاتفاق وهو سبب له فكذلك قبله
(فصل) وإن حلف لا يبيع أو لا يزوج فأوجب البيع والنكاح ولم يقبل المتزوج والمشتري لم
يحنث وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن البيع والنكاح عقدان لا يتمان إلا
بالقبول فلم يقع الاسم على الايجاب بدونه فلم يحنث به
223

(فصل) وإن أضاف اليمين في البيع والنكاح إلى ما تتصور فيه الصحة كالخمر والخنزير والحر
حنث كصورة البيع لأنه يتعذر حمل يمينه على عقد صحيح فتعين محملا له ويحتمل أن لا يحنث لأنه
ليس ببيع في الشرع
* (مسألة) * (وذكر الفاضي فيمن قال لامرأته ان سرقت مني شيئا ويعينه فأنت طالق ففعلت
لم تطلق) لأن البيع الشرعي لم يوجد (1) والأول أولى لأن صورة البيع وجدت
(فصل) وإن حلف لا يتزوج حنث بمجرد الايجاب والقبول الصحيح لا نعلم فيه خلافا لأن
ذلك يحصل به المسمى الشرعي فتناولته يمينه، وإن حلف ليتزوجن بر بذلك سواء كانت له
امرأة أو لم تكن وسواء تزوج نظيرتها أو أعلى منها الا ان يحتال على حل يمينه بتزوج لا يحصل
المقصود مثل ان يواطئ امرأته على نكاح لا يغيظها به فلا يبر وبهذا قال أصحابنا إذا حلف ليتزوجن
على امرأته لا يبر حتى يتزوج نظيرتها ويدخل بها وهو قول مالك لأنه قصد غيظ زوجته ولا يحصل الا بذلك
ولنا أنه تزوج تزويجا صحيحا فبر به كما لو تزوج نظيرتها والدخول غير مسلم فإن الغيظ يحصل
بمجرد الخطبة وان حصل بما ذكروه زيادة في الغيظ فلا يلزمه الزيادة على الغيظ الذي يحصل بما تناولته
يمينه كما أنه لا يلزمه نكاح اثنين ولا ثلاثة ولا أعلى من نظيرتها والذي تناولته يمينه مجرد التزويج
ولذلك لو حلف لا يتزوج على امرأة حنث بهذا فكذلك يحصل البر به لأن المسمى واحد فما تناوله
النفي تناوله في الاثبات وإنما لا يبر إذا زوج تزويجا لا يحصل به الغيظ كما ذكرناه من الصورة ونظائرها لأن مبنى
الايمان على المقاصد والنيات ولم يحصل مقصوده ولان التزويج يحصل ههنا حيلة على التخلص من
224

يمينه بما لا يحصل مقصودها فلم تقبل منه حيلته وقد نص أحمد على هذا فقال إذا حلف ليتزوجن
على امرأته فتزوج بعجوز أو زنجية لا يبر لأنه أراد ان يغيظها ويغيرها ويغمها وبهذا لا تغار ولا تغتم
فعلله أحمد بما يغيظ به الزوجة ولان الغيظ لا يتوقف على ذلك، ولو قدر ان تزوج العجوز
يغيظها والزنجية لبر به وإنما ذكره أحمد لأن الغالب أنه لا يغيظها لأنها تعلم أنه إنما فعل ذلك
حيلة لئلا يغيظها ويبر به
(فصل) وإن حلف لا تسريت فوطئ جاريته حنث ذكره أبو الخطاب وقال القاضي لا يحنث
حتى يطأ فينزل فحلا كان أو خصيا وقال أبو حنيفة لا يحنث حتى يحصنها ويحجبها عن الناس لأن
التسري مأخوذ من السر وهو الوطئ لأنه يكون في السر قال الله تعالى (ولكن لا تواعدوهن
سرا) وقال الشاعر:
فلن تطلبوا سرها للغنى * ولن تسلموها لأزهادها
وقال الآخر لقد زعمت بسباسة القوم أنني * كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
ولان ذلك حكم تعلق بالوطئ فلم يعتبر فيه الانزال ولا التحصن كسائر الأحكام
* (مسألة) * (إذا حلف لا يصوم لم يحنث حتى يصوم يوما)
هذا إذا لم يسم عددا ولم ينوه وأقل ذلك صوم يوم لا خلاف فيه لأنه ليس في الشرع صوم
مفردا أقل من يوم فلزمه لأنه اليقين
225

* (مسألة) * (وإن حلف لا يصلي لم يحنث حتى يفرغ مما يقع عليه اسم الصلاة) وفيه روايتان
(إحداهما) يجزئه ركعة نقلها إسماعيل بن سعيد لأن أقل الصلاة ركعة فإن الوتر صلاة مشروعة
وهي ركعة واحدة وروي عن عمر رضي الله عنه انه تطوع بركعة واحدة
(والثانية) لا يجزئه إلا ركعتان وبه قال أبو حنيفة لأن أقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان
فوجب حمل اليمين عليه وقد قيل إنما يجب ركعتان في النذر لأنه واجب، أما الوتر فهو نفل ولان
الركعة لا تجزئ في الفرض فلا تجزئ في النفل قياسا عليه وكالسجدة وللشافعي قولان كالروايتين
وقال القاضي ان حلف لا صليت صلاة لم يحنث حتى يفرغ من أقل ما يقع عليه اسم الصلاة على ما ذكرنا
وإن حلف لا يصلي حنث بالتكبير وهذا أشبه ما إذا قال لزوجته ان حضت حيضة فأنت طالق فإنها
لا تطلق حتى تحيض ثم تطهر، ولو قال إن حضت طلقت بأول الحيض لأنه إذا شرع
في الصلاة يسمى مصليا. قال شيخنا: يحتمل أن يخرج على هذا الروايتين فيمن حلف
لا يفعل شيئا ففعل بعضه
(فصل) وإن حلف لا يهب زيدا شيئا ولا يوصي له ولا يتصدق عليه ففعل ولم يقبل زيد حنث
إذا حلف لا يهب زيدا شيئا أو لا يعيره فأوجب ذلك ولم يقبل زيد حنث ذكره القاضي وهو قول
أبي حنيفة وابن شريح لأن الهبة والعارية لا عوض فيهما فكان مسماهما الايجاب والقبول شرط لنقل
الملك وليس هو من السبب فيجب بمجرد الايجاب فيه كالوصية وقال الشافعي لا يحنث بمجرد الايجاب
لأنه عقد لا يتم الا بالقبول فلم يجب بمجرد الايجاب كالنكاح والبيع، فأما الهدية والوصية والصدقة
226

فتجب بمجرد الايجاب وذكره أبو الخطاب قال شيخنا ولا أعلم قولا للشافعي الا ان الظاهر أنه لا
يخالف في الوصية والهدية لأن الاسم يقع عليها بدون القبول ولهذا لما قال الله تعالى (كتب عليكم
إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) إنما أراد الايجاب دون القبول
ولان الوصية تصح قبل موت الموصي ولا قبول لها حينئذ
* (مسألة) * (وإن حلف لا يتصدق عليه فوهبه لم يحنث لأن التصدق نوع من الهبة ولا يحنث
الحالف على نوع آخر ولا يثبت للجنس حكم النوع ولهذا حرمت الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تحرم
الهبة ولا الهدية بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة " هو عليها صدقة
ولنا هدية " وان حلف لا يهبه شيئا فأسقط عنه دينا لم يحنث الا ان ينوي لأن الهبة تمليك عين
وليس له الا دين في ذمته
* (مسألة) * (وان حلف لا يهبه فتصدق عليه حنث وكذلك ان اهدى له أو أعمره)
لأن ذلك من أنواع الهبة وان أعطاه من الصدقة الواجبة يحنث لأن ذلك حق لله تعالى
عليه يجب اخراجه فليس هو هبة منه فإن تصدق عليه تطوعا حنث قال القاضي هو مذهب الشافعي
وقال أبو الخطاب لا يحنث وهو قول أصحاب الرأي لأنهما يختلفان اسما وحكما بدليل قول النبي
صلى الله عليه وسلم " هو عليها صدقة ولنا هدية " وكانت الصدقة محرمة عليه والهدية حلال له ويقبل الهدية
227

ولا يقبل الصدقة ومع هذا الاختلاف لا يحنث في أحدهما بفعل الآخر، ووجه الأول انه تبرع
بعين في الحياة فحنث به كالهدية ولان الصدقة تسمى هبة فلو تصدق بدرهم قيل وهب درهما وتبرع
بدرهم واختلاف التسمية لكون الصدقة نوعا من الهبة فتخص باسم دونها كاختصاص الهدية
والعمرى باسمين ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة وكذلك اختلاف الأحكام فإنه قد يثبت للنوع
ما لا يثبت للجنس كما يثبت للآدمي من الأحكام ما لا يثبت لمطلق الحيوان
* (مسألة) * (وان أعاره لم يحنث الا عند أبي الخطاب)
لأن العارية هبة المنفعة وقال القاضي لا يحنث وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح لأن الهبة
تمليك الأعيان وليس في العارية تمليك عين ولان المستعير لا يملك المنفعة وإنما يستحقها ولهذا يملك
المعير الرجوع ولا يملك المستعير اجارتها
* (مسألة) * [وان وقف عليه حنث قاله أبو الخطاب]
لأنه تبرع له بعين في الحياة، ويحتمل ان لا يحنث لأن الوقف لا يملك في رواية ولأنه لا يطلق
عليه اسم الهبة
* (مسألة) * (وان وصى له لم يحنث) لأن الهبة تمليك في الحياة والوصية إنما تملك
بالقبول بعد الموت.
* (مسألة) * (وان باعه وحاباه حنث في أحد الوجهين).
228

لأنه ترك له بعض المبيع بغير عوض أو هبة بعض الثمن، والوجه الآخر أنه لا يحنث وهو أولى
لأنها معاوضة يملك الشفيع أخذ جميع المبيع ولو كان هبة أو بعضه لم يملك أخذه كله وان أضافه لم
يحنث لأنه لا يملكه شيئا وإنما اباحه الاكل ولهذا لا يملك التصرف بغيره.
* (فصل) * قال رحمه الله (القسم الثاني الأسماء الحقيقية، فإذا حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم
أو المخ أو الكبد أو الطحال أو القلب أو الكرش أو المصران أو الالية أو الدماغ أو القانصة لم يحنث)
وجملة ذلك أن الحالف على أكل اللحم لا يحنث بأكل ما ليس بلحم من الشحم والمخ وهو الذي
في العظام والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد والطحال والرئة والقلب والكرش والمصران
والقانصة ونحوها، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يحنث بأكل هذا كله لأنه لحم حقيقة
ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ.
ولنا أنه لا يسمى لحما وينفرد عنه باسمه وصفته، ولو أمر وكيله بشراء لحم فاشترى هذا لم يكن
ممتثلا لامره ولا ينفذ الشراء للموكل فلم يحنث بأكله كالبغل، وقد دل على أن الكبد والطحال ليسا
لحما قول النبي صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان ودمان أما الدمان فالكبد والطحال " ولا نسلم أنه لحم حقيقة
بل هو من الحيوان كالعظم والدم فأما ان قصد اجتناب الدسم حنث بأكل الشحم، لأن له دسما
وكذلك المخ وكل ما فيه دسم ولا يحنث بأكل الالية، قال بعض أصحاب الشافعي يحنث لأنها
نابتة في اللحم وتشبهه في الصلابة ولا يصح ذلك لأنها لا تسمى لحما ولا يقصد منها ما يقصد منه وتخالفه
229

في اللون والذوب والطعم فلم يحنث بأكلها كشحم البطن فأما الذي على الظهر والجنب وفي تضاعيف
اللحم فلا يحنث في أكله في ظاهر كلام الخرقي فإنه قال اللحم لا يخلو من الشحم يشير إلى ما يخالط اللحم
مما تذيبه النار وهذا كذلك وهو قول طلحة العاقولي وممن قال هذا شحم أبو يوسف ومحمد، وقال القاضي
هو لحم يحنث بأكله من حلف لا يأكل شحما وهو مذهب الشافعي لأنه لا يسمى شحما ولا بائعه شحاما
ولا يفرد عن اللحم مع الشحم ويسمى بائعه لحاما ويسمى لحما سمينا ولو وكل في شراء لحم فاشتراه الوكيل
لزمه ولو اشتراه الوكيل في شراء الشحم لم يلزمه.
ولنا قول الله تعالى (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا
أو ما اختلط بعظم) ولأنه يشبه اللحم في صفته وذوبه ويسمى دهنا فكان شحما كالذي في البطن ولا نسلم
أنه لا يسمى شحما ولا انه يسمى بمفرده لحما وإنما يسمى اللحم الذي هو عليه لحما سمينا ولا يسمى بائعه
شحاما لأنه لا يباع بمفرده وإنما يباع تبعا للحم وهو تابع له في الوجود والبيع فلذلك سمي بائعه لحاما
ولم يسم شحاما لأنه سمي بما هو الأصل دون التبع.
* (مسألة) * (وان أكل المرق لم يحنث).
وقد قال أحمد لا يعجبني قال أبو الخطاب هذا على سبيل الورع وقال ابن موسى والقاضي
يحنث لأن المرق لا يخلو من اجزاء اللحم الذائبة فيه، وقد قيل المرق أحد اللحمين.
ولنا انه ليس بلحم حقيقة ولا يطلق عليه اسم اللحم فلا يحنث به كالكبد ولا نسلم ان اجزاء اللحم
230

فيه وإنما فيه ماء اللحم ودهنه وليس ذلك بلحم وأما المثل فإنما أريد به المجاز كما في نظائره من قولهم
الدعاء أحد الصدقتين وقلة العيال أحد اليسارين وهذا دليل على أنها ليست بلحم لأنه جعلها
غير اللحم الحقيقي.
(فصل) فإن أكل رأسا أو كراعا لا يحنث إلا أن ينوي لا يشتري من الشاة شيئا، قال القاضي
لأن اطلاق اسم اللحم لا يتناول الرؤوس والكوارع، ولو وكله في شراء لحم فاشترى رأسا أو كارعا
لم يلزمه ويسمى بائع ذلك رواسا ولا يسمى لحاما، وقال أبو الخطاب يحنث بأكل لحم الخد لأنه
لحم حقيقة وحكي عن ابن أبي موسى انه لا يحنث حتى ينويه باليمين، وان أكل اللسان احتمل
وجهين [أحدهما] يحنث لأنه لحم حقيقة [والثاني] لا يحنث لأنه منفرد عن اللحم باسمه
وصفته فأشبه القلب.
* (مسألة) * [وان حلف لا يأكل الشحم فأكل شحم الظهر حنث].
ظاهر هذا أن الشحم كل ما يذوب بالنار مما في الحيوان وهو ظاهر كلام الخرقي وظاهر الآية
والعرف يشهد لذلك، وهو ظاهر قول أبي الخطاب وطلحة العاقولي، وهو قول أبي يوسف ومحمد
ابن الحسن، وقال القاضي الشحم هو الذي يكون في الجوف من شحم الكلى أو غيره وان اكل من
كل شئ من الشاة من لحمها الأحمر والأبيض والالية والكبد والطحال والقلب فقال شيخنا يعني
231

ابن حامد لا يحنث لأن اسم الشحم لا يقع عليه وهو قول أبي حنيفة والشافعي وقد سبق الكلام في أن
شحم الظهر والجنب شحم فيحنث به، فأما ان أكل اللحم الأحمر وحده ولم يظهر فيه شئ من الشحم
فقال الخرقي يحنث لأنا قد ذكرنا ان الشحم كل ما يذوب بالنار ولا يكاد اللحم يخلو من شئ منه
وان قل فيحنث به ولأنه يظهر في الطبخ فيبين على وجه المرق وان قل وهذا يفارق من حلف لا يأكل
سمنا فأكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمه ولا لونه فإن هذا يظهر الدهن فيه، وقال غير الخرقي
من أصحابنا لا يحنث وهو الصحيح لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمه ولا لونه والذي يظهر في
المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه.
(فصل) ويحنث بالاكل من الالية في ظاهر كلام الخرقي وموافقيه لأنها دهن تذوب
بالنار وتباع مع الشحم ولا تباع مع اللحم، وعلى قول القاضي وموافقيه ليست شحما ولا لحما فلا
يحنث به الحالف على تركهما.
(فصل) إذا حلف لا يأكل لحما حنث بأكل اللحم المحرم كالميتة والخنزير والمغصوب وبه قال
أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه لا يحنث بأكل اللحم المحرم بأصله لأن يمينه تنصرف إلى ما يحل
دون ما يحرم فلا يحنث بما لا يحل كما لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا.
ولنا ان هذا لحم حقيقة وعرفا فحنث به كالمغصوب وقد سماه الله تعالى لحما فقال (ولحم الخنزير)
232

وما ذكروه يبطل بما إذا حلف لا يلبس ثوبا فلبس ثوب حرير، واما البيع الفاسد فلا يحنث به لأنه
ليس ببيع في الحقيقة.
* (مسألة) * (وان حلف لا يأكل لبنا فأكل زبدا أو سمنا أو كشكا أو بصلا أو جبنا لم يحنث
وان حلف على الزبد والسمن فأكل لبنا لم يحنث)
إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل من لبن الانعام أو الصيد أو لبن آدمية حنث لأن الاسم يتناوله
حقيقة وعرفا وسواء كان حليبا أو رائبا أو مائعا أو مجمدا لأن الجميع لبن. ولا يحنث بأكل الجبن
والسمن والبصل والأقط والكشك، وان أكل زبدا فكذلك نص عليه وقال القاضي يحتمل ان يقال
في الزبد ان ظهر فيه لبن حنث بأكله والا فلا كما لو حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن وهذا
مذهب الشافعي، وان حلف لا يأكل زبدا فأكل سمنا أو لبنا لم يظهر فيه الزبد لم يحنث وإن كان الزبد
فيه ظاهرا حنث وان أكل لبنا لم يحنث وكذلك سائر ما يصنع من اللبن سوى السمن لم يحنث وان
أكل السمن منفردا أو في عصيدة أو حلواء أو طبيخ يظهر فيه طعمه حنث وكذلك إذا حلف لا يأكل
لبنا فأكل طبيخا فيه لبن أو لا يأكل خلا فأكل طبيخا فيه خل يظهر فيه طعمه حنث وبهذا قال
233

الشافعي وقال بعض أصحابنا لا يحنث لأنه لم يفرده بالاكل ولا يصح لأنه أكل المحلوف عليه وأضاف
إليه غيره فحنث كما لو أكله وأكل غيره
* (مسألة) * (وان حلف على الفاكهة فأكل من ثمر الشجر كالجوز واللوز والتمر والرمان
حنث وان أكل البطيخ حنث ويحتمل ان لا يحنث)
إذا حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل ما يسمى فاكهة وذلك كل ثمرة تخرج من الشجر
يتفكه بها من العنب والرطب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والأترج والتوت
والنبق واللوز والجميز وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة وأبو ثور لا يحنث بأكل
ثمرة النخل والرمان لقول الله تعالى (فيهما فاكهة ونخل ورمان) والمعطوف يغاير المعطوف عليه
ولنا انها ثمرة شجرة يتفكه بها فكانا من الفاكهة كسائر الأثمار ولأنهما فاكهة في عرف الناس
ويسمى بائعهما فاكهانيا وموضع بيعهما دار الفاكهة والأصل في العرف الحقيقة والعطف لتشريفها
وتخصيصهما كقوله تعالى (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) وهما من
الملائكة، فأما يابس هذه الفواكه كالزبيب والتمر والتين والمشمش اليابس والإجاص ونحوها فهو
من الفاكهة لأنه ثمر شجرة يتفكه به ويحتمل انه ليس منها لأنه يدخر ومنه ما يقتات فأشبه الحبوب،
والزيتون ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه بأكله وإنما المقصود منه الادم لا التفكه والبطم في معناه لأن
234

المقصود زيته ويحتمل انه فاكهة لأنه ثمر شجرة يؤكل غضا ويابسا على جهته أشبه التوت، والبلوط
ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه به وإنما يؤكل عند المجاعة أو للتداوي وكذلك سائر ثم الشجر البري
الذي لا يستطاب كالزعرور الأحمر وثمر القيقب والعفص وحب الآس ونحوه إن كان فيها ما يستطاب
كحب الصنوبر والبندق فهو فاكهة لأنه ثمر شجرة يتفكه به وفي البطيخ وجهان
(أحدهما) هو من الفاكهة ذكره القاضي وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه ينضج ويحلو
أشبه ثمر الشجر (والثاني) لا يحنث بأكله لأنه ثمر بقلة أشبه الخيار
* (مسألة) * [ولا يحنث بأكل القثاء والخيار ونحوه والقرع والباذنجان]
لأنه من الخضر وليس من الفاكهة وكذلك ما يكون في الأرض كالجزر واللفت والفجل
والقلقاس والسوطل ونحوه، ليس شئ من ذلك فاكهة لأنه لا يسمى بها ولا هو في معناها
* (مسألة) * [وان حلف لا يأكل رطبا فأكل مذنبا حنث]
وهو الذي بدأ فيه الارطاب من ذنبه وباقيه بسر أو منصفا وهو الذي بعضه بسر وبعضه رطب
أو حلف لا يأكل بسرا فأكل ذلك حنث وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد والشافعي وقال أبو يوسف
وبعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه لا يسمى رطبا ولا تمرا
235

ولنا انه أكل رطبا وبسرا فحنث كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردين وما ذكروه
لا يصح فإن القدر الذي أرطب رطب والباقي بسر ولو أنه حلف لا يأكل البسر فأكل البسر
الذي في المنصف حنث وان أكل البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث
واحد منهما وان حلف واحد ليأكلن رطبا وآخر ليأكلن بسرا فأكل الحالف على أكل الرطب ما في
المنصف من الرطب وأكل الآخر باقيها برا جميعا وان حلف ليأكلن رطبة أو بسرة أو لا يأكل
ذلك فأكل منصفا لم يبر ولم يحنث لأنه ليس فيه رطبة ولا بسرة
* (مسألة) * (وان أكل تمرا أو بسرا لم يحنث) لأنه ليس برطب
[فصل] وان حلف لا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث لأنه لم يتناوله الاسم وكذلك لو أكل
بسرا أو بلحا وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا
[فصل] فإن حلف لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو دبسا أو خلا أو ناطفا أو لا يكلم شابا فكلم شيخا
أو لا يشترى جديا فاشترى تيسا أو لا يضرب عبدا فضرب عتيقا لم يحنث بغير خلاف لأن اليمين تعلقت
بالصفة دون العين ولم توجد الصفة فجرى مجرى قوله لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها فأما ان
عين المحلوف عليه ففيه خلاف ذكرناه فيما مضى
* (مسألة) * [وان حلف لا يأكل ادما حنث بأكل البيض والشواء والجبن والملح والزيتون واللبن
وسائر ما يصطبغ به وفي التمر وجهان]
236

إذا حلف على ترك الادم حنث بأكل ما جرت العادة بأكل الخبز به لأن هذا معنى التأدم وسواء
في هذا ما يصطبغ به كالطبيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن قال الله تعالى (وصبغ
للآكلين) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " نعم الادام الخل - وقال - ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة "
رواه ابن ماجة - أو من الجامدات كالشواء والجبن والباقلا والزيتون والبيض وبهذا قال الشافعي وأبو
ثور وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ما لا يصطبغ به فليس بأدم لأن كل واحد منهما يرفع إلى الفم مفردا
ولنا ما روي عن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال " سيد الادام اللحم - وقال - سيد أدمكم الملح " رواه ابن ماجة
ولأنه يؤكل به الخبز عادة فكان ادما كالذي يصطبغ به ولان كثير مما ذكرنا لا يؤكل في العادة وحده
إنما يعد للتأدم به فكان ادما كالخل واللبن وقولهم انه يرفع إلى الفم مفردا عنه جوابان
(أحدهما) ان منه ما يرفع مع الخبز كالملح ونحوه
(والثاني) انهما يجتمعان في الفم والمضغ والبلع الذي هو حقيقة الاكل فلا يضر افتراقهما قبله
وأما التمر ففيه وجهان
(أحدهما) انه أدم لما روى يوسف عن عبد الله بن سلام قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع
تمرة على كسرة وقال " هذا إدام هذه " رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد (والثاني) ليس بأدم لأنه
237

لا يؤتدم به عادة وإنما يؤكل قوتا وحلاوة ولأنه فاكهة فأشبه الزبيب
[فصل] إذا حلف لا يأكل طعاما حنث بأكل كل ما يسمى طعاما من قوت وأدم وحلواء
وجامع ومائع قال الله تعالى (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل الا ما حرم إسرائيل على نفسه - وقال
تعالى - ويطعمون الطعام على حبه) يعني على محبة الطعام وحاجتهم إليه وقيل على حب الله تعالى
وقال تعالى (قل لاجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم
خنزير) وسمى النبي صلى الله عليه وسلم اللبن طعاما فقال " إنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم " وفي الماء وجهان
(أحدهما) هو طعام لقوله تعالى (ومن لم يطعمه فإنه مني) والطعام ما يطعم ولان النبي صلى الله عليه وسلم سمى
اللبن طعاما وهو مشروب فكذلك الماء.
[والثاني] ليس بطعام لأنه لا يسمى طعاما ولا يفهم من اطلاقه اسم الطعام ولهذا يعطف عليه فيقال
طعام وشراب وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب الا اللبن " رواه ابن ماجة ويقال باب
الأطعمة والأشربة ولأنه إن كان طعاما في الحقيقة فليس بطعام في العرف فلا يحنث بشربه لأن مبنى الايمان
على العرف لكون الحالف في الغالب لا يريد بلفظه إلا ما يعرفه، فإن أكل دواء ففيه وجهان:
238

(أحدهما) يحنث لأنه يطعم حال الاختيار وهو مذهب الشافعي (والثاني) لا يحنث لأنه لا يدخل
في إطلاق اسم الطعام ولا يوكل الا عند الضرورة، فإن اكل من نبات الأرض ما جرت العادة بأكله
حنث وان أكل ما لم تجر به عادة كورق الشجر ونشارة الخشب والتراب احتمل وجهين (أحدهما)
يحنث لأنه قد اكله فأشبه ما جرت العادة بأكله ولأنه روي عن عتبة بن غزوان أنه قال لقد رأيتنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ما لنا طعام إلا ورق الحبلة حتى قرحت أشداقنا (والثاني) لا يحنث
لأنه لا يتناوله اسم الطعام في العرف
(فصل) وان حلف لا يأكل قوتا فأكل خبزا أو تمرا أو تينا أو لحما أو لبنا حنث لأن كل
واحد من هذه يقتات في بعض البلدان، ويحتمل ان لا يحنث الا بما يقتاته أهل بلده لأن يمينه تنصرف إلى
القوت المتعارف عندهم وفي بلدهم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وان اكل سويقا أو استف دقيقا
حنث لأنه يقتات كذلك، ولهذا قال بعض اللصوص
لا تخبزا خبزا وبسا بسا * ولا تطيلا بمقام حبسا
وان اكل حبا يقتات خبزه حنث ولذلك روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر قوت عياله سنة وإنما يريد الحب،
ويحتمل ان لا يحنث لأنه لا يقتات كذلك وان أكل عنبا أو حصرما أو خلا لم يحنث لأنه لم يصر قوتا.
* (مسألة) * (وان حلف لا يلبس شيئا فلبس ثوبا أو درعا أو جوشنا أو خفا أو نعلا حنث) وكذلك
ان لبس عمامة أو قلنسوة)
239

وقال أصحاب الشافعي في الخف والنعل وجهان (أحدهما) لا يحنث
ولنا انه ملبوس حقيقة وعرفا فحنث كالثياب وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم أهدى
إليه النجاشي خفين فلبسهما. وقيل لابن عمر: إنك تلبس هذه النعال فقال رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يلبسهما. فإن ترك القلنسوة في رجله أو ادخل يده في الخف أو النعل لم يحنث لأن
ذلك ليس بلبسه لهما
* (مسألة) * (وان حلف لا يلبس حليا فلبس حلية ذهب أو فضة أو جوهر حنث وان لبس الدراهم
والدنانير في مرسلة فعلى وجهين)
إذا حلف لا يلبس حليا فلبس حلية ذهب أو فضة حنث فإن لبس خاتما من فضة أو مخنقة من لؤلؤ أو
جوهر وحده حنث وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأنه ليس بحلي وحده
ولنا قول الله تعالى (وتستخرجون منه حلية تلبسونها) وقال تعالى [يحلون فيها من أساور من ذهب
ولؤلؤا] وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال الله تعالى للبحر الشرقي إني جاعل فيك
الحلية والصيد والطيب ولان الفضة حلي إذا كانت سوارا أو خلخالا فكانت حليا إذا كانت خاتما
كالذهب والجوهر، واللؤلؤ حلي مع غيره فكان حليا وحده كالذهب وان لبس عقيقا أو سبجا لم يحنث
240

وقال الشافعي إن كان من أهل السواد حنث وفي غيرهم وجهان لأن هذا حلي في عرفهم
(ولنا) ان هذا ليس بحلي فلا يحنث به كالودع وخرز الزجاج وما ذكروه ويبطل بالودع، وان لبس
الدراهم والدنانير في مرسلة فعلى وجهين (أحدهما) لا يحنث لأنه ليس بحلي إذا لم يلبسه فكذلك إذا
لبسه [والثاني] يحنث لأنه ذهب وفضة لبسه فكان حليا كالسوار والخاتم وان لبس سيفا محلى لم يحنث
لأن السيف ليس بحلي، وان لبس منطقة محلاة ففيه وجهان [أحدهما] لا يحنث لأن الحلية لها دونه
فأشبهت السيف المحلى [والثاني] يحنث لأنها من حلي الرجال ولا يقصد بلبسها محلاة في الغالب إلا
التجمل بها، وان حلف لا يلبس خاتما فلبسه في غير الخنصر من أصابعه حنث وقال الشافعي لا يحنث
لأن اليمين تقتضي لبسا معتادا وليس هذا معتادا فأشبه ما لو أدخل القلنسوة في رجله
ولنا انه لابس لما حلف على ترك لبسه فأشبه ما لو اتزر بالسراويل. وأما إدخال
القلنسوة في رجله فهو عبث وسفه بخلاف هذا فإنه لا فرق بين الخنصر وغيرها الا من حيث
الاصطلاح على تخصيصه بالخنصر
241

* (مسألة) * (وان حلف لا يركب دابة فلان ولا يلبس ثوبه ولا يدخل داره فركب دابة عبده
ولبس ثوبه ودخل داره أو فعل ذلك فيما استأجره فلان حنث وان ركب دابة استعارها لم يحنث)
إذا حلف لا يدخل دار فلان فدخل دار مملوكة له أو دارا يسكنها بأجرة أو عارية أو غصب
حنث وبذلك قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث الا بدخول دار يملكها لأن الإضافة
في الحقيقة إلى المالك بدليل أنه لو قال هذه الدار لفلان كان مقرا له بملكها ولو قال إنه يسكنها لم يقبل
ولنا أن الدار تضاف إلى ساكنها كإضافتها إلى مالكها قال الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن)
وأراد بيوت أزواجهن اللائي يسكنها وقال تعالى (وقرن في بيوتكن) ولان الإضافة للاختصاص
ولذلك يضاف الرجل إلى أخيه بالاخوة والى أمه بالبنوة والى والده بالأبوة والى امرأته بالزوجية
وساكن الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة وهي مستعملة في العرف فوجب ان يحنث
بدخولها كالمملوكة له، وقولهم هذه الإضافة مجاز ممنوع بل هي حقيقة لما ذكرناه ولو كانت مجازا لكنه
مشهور فيتناوله اللفظ كما لو حلف لا شربت من رواية فلان فإنه يحنث بالشرب من مزادته. أما
الاقرار فإنه لو قال هذه دار زيد وفسر إقراره بسكناها احتمل ان لا يقبل تفسيره، وان سلمنا
242

فإن قرينة الاقرار تصرفه إلى الملك وكذلك لو حلف لا دخلت مسكن زيد حنث بدخوله الدار التي
يسكنها، ولو قال هذا المسكن لزيد كان مقرا له به ولا خلاف في هذه المسألة وهي نظيرة مسئلتنا
[فصل] وان ركب دابة عبده أو لبس ثوبه أو دخل داره حنث لأن ما في يد العبد لسيده فهو كالذي
في يده، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن دار العبد ملك للسيد فإن حلف لا يلبس
ثوب السيد ولا يركب دابته فلبس ثوب عبده وركب دابته حنث وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة
لا يحنث لأن العبد بهما أخص
ولنا أنهما مملوكان للسيد فتناولتهما يمين الحالف كالدار وما ذكروه يبطل بالدار
* (مسألة) * (وان حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة استعارها لم يحنث وان ركب دابة استأجرها حنث)
لأنه ملك منافعها بخلاف المستعير وهكذا ذكره أبو الخطاب ولو ركب دابة غصبها فلان لم
يحنث، وفارق مسألة الدار فإنه لم يحنث في الدار لكونه استعارها ولا غصبها وإنما حنث لسكناه فيها
فأضيفت الدار إليه لذلك ولو غصبها أو استعارها من غير أن يسكنها لم تصح إضافتها إليه فلا
يحنث الحالف فيكون كمستعير الدابة وغاصبها
* (مسألة) * (وان حلف لا يركب دابة عبده فركب دابة جعلت برسمه حنث)
243

وكذلك ان حلف لا يدخل دار هذا العبد ولا يلبس ثوبه وعند الشافعي لا يحنث لأنه لا يملك
شيئا من ذلك والإضافة تقتضي الملك وقد قدمنا الكلام معه فيما مضى ويخص هذا الفصل
بان الملكية لا تمكن ههنا فلا تصح الإضافة بمعناها فتعين حمل الإضافة ههنا على إضافة الاختصاص دون الملك
* (مسألة) * (وان حلف لا يدخل دارا فدخل سطحها حنث وان دخل طاق الباب احتمل وجهين)
إذا حلف لا يدخل دارا فرقى سطحها حنث، وبه قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي
لا يحنث ولأصحابه فيما إذا كان السطح محجرا وجهان واحتجوا بان السطح يقيها الحر والبرد
ويحرزها فهو كحيطانها،
ولنا ان سطح الدار منها وحكمه حكمها فحنث بدخوله كالمحجر أو كما لو دخل بين حيطانها ودليل
ذلك أن الاعتكاف يصح في سطح المسجد ويمنع الجنب من اللبث فيه، ولو حلف ليخرجن من الدار فصعد
سطحها لم يبر ولو حلف ان لا يخرج منها فصعد سطحها لم يحنث، ولأنه داخل في حدود الدار ومملوك
لصاحبها ويملك بشرائها ويخرج منها من ملك صاحبها ببيعها، والبائت عليه يقال بات في داره وبهذا يفارق
ما وراء حائطها، فإن كان في اليمين قرينة لفظية أو حالية تقتضي اختصاص الإرادة بداخل الدار مثل
أن يكون بسطح الدار طريق وسبب يمينه يقتضي ترك وصلة أهل الدار لم يحنث بالمرور على سطحها وكذلك
244

ان نوى بيمينه باطن الدار تقيدت يمينه بما نواه لأنه ليس المرء الا ما نواه، وان دخل طلق الباب
احتمل وجهين (أحدهما) يحنث لأنه دخل في حدها (والثاني) لا يحنث لأنه لا يسمى داخلا وقال
القاضي إذا قام على العتبة لم يحنث لأن الباب إذا أغلق حصل خارجا منها ولا يسمى داخلا فيها
(فصل) فإن تعلق بغصن شجرة في الدار لم يحنث لأنه لم يدخلها فإن صعد حتى صار في مقابلة
سطحها بين حيطانها حنث وان لم ينزل بين حيطانها احتمل ان لا يحنث لأنه في هوائها وهواؤها
ملك لصاحبها فأشبه ما لو قام على سطحها واحتمل ان لا يحنث لأنه لا يسمى داخلا ولا هو على شئ
من اجزائها وكذلك لو كانت الشجرة في غير الدار فتعلق بفرع ماد على الدار في مقابلة سطحها
وان قام على حائط احتمل وجهين (أحدهما) يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي لأنه داخل
في حدها فأشبه القائم على سطحها (والثاني) لا يحنث لأنه لا يسمى دخولا
(فصل) وان حلف لا يضع قدمه في الدار فدخلها راكبا أو ماشيا أو حافيا أو منتعلا حنث
كما لو حلف لا يدخلها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور ان دخلها راكبا لم يحنث لأنه
لم يضع قدمه فيها
ولنا أنه قد دخل الدار فيحنث كما لو دخلها ماشيا ولا نسلم أنه لم يضع قدمه فيها فإن قدمه
245

موضوعة على الدابة فيها فأشبه ما لو دخلها منتعلا وعلى ان هذا في العرف عبارة عن اجتناب الدخول
فتحمل عليه يمينه، فإن قيل هذا مجاز لا يحمل اليمين عليه قلنا المجاز إذا اشتهر صار من الأسماء العرفية
فينصرف اللفظ باطلاقه إليه كلفظ الرواية والدابة وغيرهما
* (مسألة) * (وان حلف لا يكلم انسانا حنث بكلام كل انسان - لأنه فعل المحلوف عليه - فإن
زجره فقال تنح أو اسكت حنث)
لأنه كلمه وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحنث بالقليل لأن هذا تمام الكلام الأول والذي يقتضيه
يمينه ان لا يكلمه كلاما مستأنفا
ولنا ان هذا القليل كلام منه له حقيقة وقد وجد بعد يمينه فيحنث به كما لو فصله ولان ما يحنث به
إذا فصله يحنث به إذا وصله كالكبير، وقولهم ان اليمين تقتضي خطابا مستأنفا قلنا هذا خطاب مستأنف
وهو غير الأول بدليل أنه لو قطعه حنث به قال شيخنا وقياس المذهب ان لا يحنث لأن قرينة صلته
هذا الكلام بيمينه تدل على إرادة كلام يستأنفه بعد انقضاء هذا الكلام المتصل فلم يحنث كما لو
وجدت النية حقيقة ولو نوى كلاما غير هذا لم يحنث بهذا في المذهبين
(فصل) فإن صلى بالمحلوف عليه إماما ثم سلم من الصلاة لم يحنث نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة
وقال أصحاب الشافعي يحنث لأنه شرع له ان ينوي السلام على الحاضرين
246

ولنا أنه قول مشروع في الصلاة فلم يحنث به كتكبيرها وليست نية الحاضرين بسلامه واجبة في
السلام وان أرتج عليه في الصلاة ففتح عليه الحالف لم يحنث لأن ذلك كلام الله وليس بكلام الآدميين
* (مسألة) * (وان حلف لا يبتدئه بكلام فتكلما معا حنث) لأن كل واحد منهما مبتدئ إذ لم
يتقدم كلامه كلام سواه
(فصل) وان كاتبه أو أرسل إليه رسولا حنث الا أن يكون أراد ان لا يشافهه وهذا قول
الأصحاب ومذهب مالك والشافعي في القديم وقد روى الأثرم وغيره عن أحمد في رجل حلف ان
لا يكلم رجلا فكتب إليه كتابا فقال وأي شئ كان سبب ذلك؟ إنما ننظر إلى سبب يمينه ولم حلف؟ ان
الكتاب يجري مجرى الكلام وقد يكون بمنزلة الكلام في بعض الحالات وهذا يدل على أنه لا
يحنث بالكتاب الا أن تكون نيته أو سبب يمينه يقتضي هجرانه وترك صلته فإن لم يكن كذلك لم
يحنث بكتاب ولا رسول لأن ذلك ليس بتكليم في الحقيقة وهذا يصح نفيه فيقال ما كلمته إنما كاتبته
أو راسلته ولذلك قال الله تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله - وقال -
يا موسى اني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره
من الرسل ولم يختص بكونه كليم الله ونجيه، وقد قال أحمد حين مات بشر الحافي لقد كان فيه أنس
247

وما كلمته قط وقد كانت بينهما مراسلة وممن قال لا يحنث بهذا الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر
والشافعي في الجديد، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى (وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا أو من
وراء حجاب أو يرسل رسولا) فاستثنى الرسول من التكلم والأصل أن يكون المستثنى من جنس
المستثنى منه ولأنه موضوع لافهام الآدميين أشبه الخطاب والصحيح ان هذا ليس بتكليم وهذا
الاستثناء من غير الجنس كما قال في الآية الأخرى (آيتك ان لا تكلم الناس ثلاثة أيام الا رمزا) والرمز
ليس بتكليم لكن ان نوى ترك مواصلته أو كان سبب يمينه يقتضي هجرانه حنث ولذلك قال أحمد
الكتاب يجرى مجرى الكلام وقد يكون بمنزلة الكلام فلم يجعله كلاما إنما قال هو بمنزلته في بعض
الحالات إذا كان السبب يقتضي ذلك وان اطلق احتمل ان لا يحنث لأنه لم يكلمه واحتمل ان يحنث
لأن الغالب من الحالف بهذه اليمين قصد المواصلة فتعلق يمينه بما يراد في الغالب
(فصل) وان أشار إليه ففيه وجهان (أحدهما) يحنث قاله القاضي لأنه ليس بكلامه قال الله تعالى
لمريم عليها السلام (فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا - إلى قوله - فأشارت إليه)
وقال في زكريا (آيتك ان لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا - إلى قوله - فخرج على قومه من المحراب
فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا) ولان الكلام حروف وأصوات ولا يوجد في الإشارة ولان
248

الكلام شئ مسموع وتبطل به الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم " ان صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من
كلام الناس " والإشارة خلاف هذا، فإن قيل فقد قال الله تعالى (آيتك ان لا تكلم الناس ثلاثة
أيام إلا رمزا) قلنا هذا استثناء من غير الجنس بدليل ما ذكرنا ولصحة نفيه عنه فيقال ما كلمه
وإنما أشار إليه.
(فصل) فإن ناداه بحيث يسمع فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث نص عليه أحمد فإنه سئل عن
رجل حلف ان لا يكلم انسانا فناداه والمحلوف عليه لا يسمع قال يحنث وهذا لكون ذلك يسمى
تكليما يقال فلم يسمع
(فصل) وان سلم على المحلوف عليه حنث لأن السلام كلام تبطل به الصلاة فحنث به كغيره من الكلام
* (مسألة) * (وان حلف لا يكلمه حينا فذلك ستة أشهر نص عليه)
وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يكلمه حينا فقيد ذلك بلفظه أو نيته بزمن تقيد به وان أطلق انصرف
249

إلى ستة أشهر روي ذلك عن ابن عباس وبه قال أصحاب الرأي وقال مجاهد والحكم وحماد ومالك
هو سنة لقوله تعالى (تؤتي أكلها كل حين باذن ربها) اي كل عام وقال الشافعي وأبو ثور ليس
هو مقدرا ويبر بأدنى زمن لأن الحين اسم مبهم يقع على الكثير والقليل، قال الله تعالى (ولتعلمن
نبأه بعد حين) قيل أراد يوم القيامة، وقال (هل أتى على الانسان حين من الدهر؟ - وقال - فذرهم
في غمرتهم حتى حين - وقال - حين تمسون وحين تصبحون) ويقال جئت منذ حين وإن
كان اتاه من ساعة
ولنا ان الحين المطلق في كلام الله تعالى أقله ستة أشهر قال عكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيد
في قوله تعالى (تؤتي أكلها كل حين باذن ربها) إنه ستة أشهر فيحمل مطلق كلام الآدمي على مطلق
كلام الله تعالى ولأنه قول ابن عباس ولا نعلم له في الصحابة مخالفا وما استشهدوا به من المطلق في
كلام الله تعالى فما ذكرناه أقله فيحمل عليه لأنه اليقين
* (مسألة) * (وان قال زمنا أو دهرا أو بعيدا أو مليا أو الزمان رجع إلى أقل ما يتناوله اللفظ)
وكذلك وقتا أو طويلا أو بعيدا أو قريبا في قول أبي الخطاب وهو مذهب الشافعي لأن
هذه الأشياء لا حد لها في اللغة وتقع على القليل والكثير فوجب حمله على أقل ما تناوله اسمه وقد
يكون القريب بعيدا بالنسبة إلى ما هو أقرب منه أو قريبا بالنسبة إلى ما هو أبعد منه ولا يجوز التحديد بالتحكم
250

وإنما يصار إليه بالتوقيف ولا توقيف ههنا فيجب حمله على اليقين وهو أقل ما تناوله الاسم وقال ابن
أبي موسى الزمان ثلاثة أشهر وقيل هو كالأبد والدهر وهو أقيس لأنه بالألف واللام فهو على معناهما
وقال طلحة العاقولي: الحين والعمر والزمان واحد لأنهم لا يفرقون في العادة بينها والناس يقصدون
بذلك البعيد فلو حمل على القليل حمل على خلاف قصد الحالف، ودهر يحتمل أنه كالحين أيضا لهذا المعنى
وقال في بعيد وطويل وملي هو على أكثر من شهر وهذا قول أبي حنيفة لأن ذلك ضد القليل فلا
يجوز حمله على ضده
* (مسألة) * (وان قال عمرا احتمل أنه كذلك واحتمل أن يكون أربعين عاما)
واحتمل أن يكون كالحين وهو قول طلحة العاقولي واحتمل أن يكون أربعين عاما لقول الله
تعالى (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله) وكان ذلك أربعين سنة فيجب حمل الكلام عليه ولان العمر
في الغالب لا يكون الا مدة طويلة فلا يحمل على خلاف ذلك وهذا قول حسن قاله شيخنا وقال
القاضي هذه الألفاظ كلها مثل الحين قياسا الا بعيدا ومليا فإنه على أكثر من شهر لأنه يقتضي البعيد
* (مسألة) * (وان قال الأبد والدهر فذلك على الزمان كله)
لأن الألف واللام للاستغراق تقتضي الدهر كله وكذلك الزمان في الصحيح وقد ذكرناه
251

* (مسألة) * (والحقب ثمانون عاما وقال مالك أربعون يوما)
لأن ذلك يروى عن ابن عباس وقال القاضي وأصحاب الشافعي هو أدنى زمان لأنه لم ينقل
عن أهل اللغة فيه تقدير
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى (لابثين فيها أحقابا) الحقب ثمانون سنة وما ذكره
القاضي وأصحاب الشافعي لا يصح لأن قول ابن عباس حجة لأن ما ذكروه يفضي إلى حمل كلام الله تعالى (لابثين
فيها أحقابا - وقول موسى - أو أمضي حقبا) إلى اللكنة لأنه أخرج ذلك مخرج التكثير فإذا صار معنى ذلك
لابثين فيها ساعات أو لحظات أو أمضي لحظات أو ساعات صار مقتضى ذلك التقليل وهو ضد ما أراد الله تعالى
بكلامه وضد المفهوم منه ولم يذكره أحد من المفسرين فيما نعلم فلا يجوز تفسير الحقب به
* (مسألة) * والشهور اثنا عشر عند القاضي وعند أبي الخطاب ثلاثة كالأشهر)
أما الأشهر فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع وأما الشهور فاختار أبو الخطاب أنها ثلاثة أيضا لذلك
ولان جمع الكثرة يستعمل بمعنى القلة كقوله تعالى (ثلاثة قروء) وقال القاضي وغيره هي اثنا عشر
شهرا ولان الشهور جمع الكثرة وأقله عشرة فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة
* (مسألة) * (والأيام ثلاثة) لأنها أقل الجمع قال الله تعالى (واذكروا الله في أيام معدودات)
وهي أيام التشريق)
252

(فصل) وان حلف لا يتكلم ثلاث ليال أو ثلاثة أيام لم يكن له ان يتكلم في الأيام التي بين
الليالي ولا في الليالي التي بين الأيام الا ان ينوي قال الله تعالى (آيتك ان لا تكلم الناس ثلاثة أيام
الا رمزا) وفي موضع آخر ثلاث ليال سويا فكان كل واحد من اللفظين عبارة عن الزمانين جميعا
وقال تعالى (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) فدخل فيه الليل والنهار
* (مسألة) * (وان حلف لا يدخل باب هذه الدار فحول ودخله حنث)
إذا حلف لا يدخل هذه الدار من بابها فدخلها من غير الباب لم يحنث لأن يمينه لم تتناول غير
الباب ويتخرج ان يحنث إذا أراد بيمينه اجتناب الدار ولم يكن الباب سبب هيج يمينه كما لو حلف
لا يأوي مع زوجته في دار فاوى معها في غيرها وان حول بابها إلى مكان آخر فدخل منه حنث لأنه
دخلها من بابها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي. وان حلف لا دخلت من باب هذه الدار فكذلك
وان جعل لها باب آخر مع بقاء الأول فدخل منه حنث لأنه دخل من باب الدار وان قلع الباب ونصب
في دار أخرى وبقي الممر حنث بدخوله ولم يحنث بالدخول من الموضع الذي نصب فيه الباب لأن
الدخول في الممر لا من المصراع
* (مسألة) * (وان حلف لا يكلمه إلى حين الحصاد انتهت يمينه بأوله)
253

لأن إلى لانتهاء الغاية فتنتهي عند أول الغاية كقوله سبحانه (ثم أتموا الصيام إلى الليل) ويحتمل
ان تتناول جميع مدته لأن إلى تستعمل بمعنى مع كقوله تعالى (ويزدكم قوة إلى قوتكم - وقوله - ولا
تأكلوا أموالهم إلى أموالكم - وقوله - وأيديكم إلى المرافق)
* (مسألة) * (وان حلف لا مال له وله مال غير زكوي أو دين على الناس حنث)
إذا حلف لا يملك مالا حنث بملك كل ما يسمى مالا سواء كان من الأثمان أو غيرها من العقار
والأثاث والحيوان وبهذا قال الشافعي وعن أحمد أ؟؟ إذا نذر الصدقة بجميع ماله إنما يتناول نذره
الصامت من ماله ذكرها ابن أبي موسى لأن اطلاق المال ينصرف إليه وقال أبو حنيفة لا يحنث الا
ان يملك مالا زكويا استحسانا لأن الله تعالى قال (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) فلا يتناول الا الزكوي
ولنا ان غير الزكوية أموال قال الله تعالى (أن تبتغوا بأموالكم) وهي مما يجوز ابتغاء النكاح بها
وقال أبو طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم ان أحب أموالي إلي ببرحا يريد حديقة وقال عمر أصبت أرضا بخيبر لم
أصب مالا قط هو أنفس عندي منه وقال أبو قتادة اشتريت مخرفا فكان أول مال تأثلته وفي حديث
آخر " المال سكة مأثورة أو مهرة مأمورة " ويقال خير المال عين خرارة في ارض خوارة ولأنه يسمى
مالا فحنث به لزكوي واما قوله تعالى (وفي أموالهم حق) فالحق ههنا غير الزكاة لأن هذه الآية
254

مكية نزلت قبل فرض الزكاة لأن الزكاة إنما فرضت بالمدينة ثم لو كان لحق الزكاة فلا حجة فيها
فإن الحق إذا كان في بعض المال كان في المال كما أن من هو في بيت في بلدة فهو في البيت وفي البلدة قال
الله تعالى (وفي السماء رزقكم وما توعدون) ولا يلزم أن يكون في جميع أقطارها، ثم لو اقتضى هذا
العموم لوجب تخصيصه فإن ما دون النصاب مال ولا زكاة فيه وإن كان له دين حنث وهكذا
ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأنه لا ينتفع به
ولنا أنه ينعقد عليه حول الزكاة ويصح اخراجها عنه ويصح التصرف فيه بالابراء والحوالة
والمعاوضة عنه لمن هو في ذمته والتوكيل في استيفائه فحنث به كالمودع
(فصل) وإن كان له مال مغصوب حنث لأنه باق على ملكه وإن كان له مال ضائع ففيه وجهان
(أحدهما) يحنث لأن الأصل بقاؤه على ملكه (والثاني) لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه فإن ضاع على وجه
قد أيس من عوده كالذي سقط في بحر لم يحنث لأن وجوده كعدمه، ويحتمل ان لا يحنث في كل
موضع لا يقدر على أخذ ماله كالمجحود والمغصوب والدين على غير ملئ لأنه لا نفع فيه وحكمه حكم المعدوم
في جواز الاخذ من الزكاة وانتفاء وجوب أدائها عنه وان تزوج لم يحنث لأن ما ملكه ليس بمال
وكذلك ان وجب له حق شفعة لأنه لم يثبت له الملك به وان استأجر عقارا أو غيره لم يحنث لأنه
لا يسمى مالكا لمال
* (مسألة) * (وان حلف لا يفعل شيئا فوكل من يفعله حنث الا ان ينوي)
255

لأن الفعل ينسب إلى الموكل كما ينسب إلى الوكيل فيحنث به كما لو حلف لا يحلق رأسه فامر من
يحلقه فإنه يحنث لأن الفعل منسوب إليه ولذلك تجب الفدية على من حلق رأسه باذنه في الاحرام
وان كانت نيته ان لا يباشر بنفسه لم يحنث لأن الايمان مبناها على النية
(فصل) فاما الأسماء العرفية فهي أسماء اشتهر مجازها حتى غلب على الحقيقة كالرواية والظعينة
والدابة والغائط والعذرة ونحوها فيتعلق اليمين بالعرف دون الحقيقة لأن الحقيقة صارت فيها مغمورة
لا يعرفها أكثر الناس كالراوية للمزادة في العرف وفي الحقيقة الجمل الذي يستقى عليه، والغائط والعذرة في
العرف للخارج المستقذر وفي الحقيقة الغائط المكان المطمئن والعذرة فناء الدار، والظعينة في العرف
للمرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها والدابة في الحقيقة لكل ما يدب قال الله تعالى (والله خلق
كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) وفي
العرف اسم للبغال والخيل والحمير فلهذا قلنا اليمين تنصرف إلى العرف دون الحقيقة لأنه لا يعلم أن الحالف
لا يريد غيره فصار كالمصرح به
* (مسألة) * (وان حلف على وطئ امرأة تعلقت يمينه بجماعها)
لأنه الذي يصرف اللفظ في العرف إليه وكذلك إذا حلف على وطئ زوجته صار موليا منها
256

* (مسألة) * (وان حلف على وطئ دار تعلقت يمينه بدخولها راكبا أو ماشيا أو حافيا أو منتعلا)
لأن هذا في العرف عبارة عن اجتناب الدخول فيحمل اليمين عليه باطلاقه كلفظ الرواية
والدابة وغيرهما
* (مسألة) * (وان حلف لا يشم الريحان فشم الورد والبنفسج والياسمين أو لا يشم الورد والبنفسج
فشم دهنهما أو ماء الورد فالقياس انه لا يحنث وقال بعض أصحابنا يحنث)
إذا حلف لا يشم الريحان فإنه في العرف اسم يختص الريحان الفارسي وفي الحقيقة اسم لكل
نبت أو زهر طيب الريح مثل الورد والبنفسج والنرجس وقال القاضي لا يحنث الا بشم الريحان
الفارسي وهو مذهب الشافعي لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه وقال أبو الخطاب يحنث
بشم ما يسمى في الحقيقة ريحانا ولا يحنث بشم الفاكهة وجها واحدا وان حلف لا يشم وردا ولا بنفسجا
فشم دهنهما أو ماء الورد فقال القاضي لا يحنث وهو مذهب الشافعي لأنه لم يشم وردا ولا بنفسجا
وقال أبو الخطاب يحنث لأن الشم إنما هو للرائحة دون الذات ورائحة الورد والبنفسج موجودة فيهما
257

وقال أبو حنيفة يحنث بشم دهن البنفسج لأنه يسمى وردا والأول أقرب إلى الصحة إن شاء الله تعالى فإن
شم الورد والبنفسج اليابس حنث وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل تمرا
ولنا ان هذا اسمه وحقيقته باقية فيحنث به كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل قديدا وفارق ما ذكروه
فإن التمر ليس برطب ولا يسمى رطبا
* (مسألة) * (وان حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا حنث عند الخرقي ولم يحنث عند ابن أبي موسى)
إذا حلف لا يأكل لحما ولم يرد لحما بعينه فأكل من الانعام أو الصيد أو الطير حنث في قول
عامة علماء الأمصار وأما السمك فظاهر المذهب أنه يحنث بأكله وبهذا قال قتادة والثوري ومالك
وأبو يوسف وقال ابن أبي موسى في الارشاد لا يحنث الا ان ينويه وهذا قول أبي حنيفة والشافعي
لأنه لا ينصرف إليه اطلاق اسم اللحم ولو وكل وكيلا في شراء اللحم فاشترى له سمكا لم يلزمه
ويصح ان ينفى عنه الاسم فيقول ما أكلت لحما إنما أكلت سمكا فلم يتعلق به الحنث عند الاطلاق كما
258

لو حلف لا قعدت تحت سقف فإنه لا يحنث بقعوده تحت السماء وقد سماه الله سقفا محفوظا لأنه
مجاز كذا ههنا
ولنا قول الله تعالى (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) ولأنه من جسم حيوان ويسمى
لحما فحنث بأكله كلحم الطير وما ذكروه يبطل بلحم الطائر، وأما السماء فإن الحالف لا يقعد تحت
سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحتها فيعلم انه لم يردها بيمينه ولان التسمية ثم مجاز وههنا حقيقة
لكونه من جسم حيوان يصلح للاكل فكان الاسم فيه حقيقة كلحم الطير حيث قال الله تعالى
(ولحم طير مما يشتهون)
* (مسألة) * (وان حلف لا يأكل رأسا ولا بيضا حنث يأكل رؤوس الطير والسمك والجراد
عند القاضي وعند أبي الخطاب لا يحنث الا بأكل رأس كل حيوان جرت العادة بأكله منفردا
أو بيض بزايل بائضه في حال الحياة)
إذا حلف لا يأكل رأسا فإنه يحنث بأكل رأس كل حيوان من الإبل والصيود والحيتان
والجراد ذكره القاضي وقال أبو الخطاب لا يحنث الا بأكل رأس جرت العادة ببيعه للاكل منفردا
259

وقال الشافعي لا يحنث الا بأكل رؤوس بهيمة الأنعام دون غيرها الا أن يكون ببلد تكثر فيه الصيود
وتميز رؤوسها فيحنث باكلها، وقال أبو حنيفة لا يحنث بأكل روس الإبل لأن العادة لم تجر ببيعها
للاكل منفردة وقال صاحباه لا يحنث الا بأكل رؤوس الغنم لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها
فيمينه تنصرف إليها، ووجه الأول ان هذه رؤوس حقيقة وعرفا وهي مأكولة فيحنث بأكلها كما لو
حلف لا يأكل لحما فأكل من لحم النعام والزرافة وما يندر وجوده وبيعه، وأما إذا حلف لا يأكل بيضا
فيحنث بأكل بيض كل حيوان كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل كبيض النعام وبهذا قال الشافعي وقال
أصحاب الرأي لا يحنث بأكل بيض النعام وقال أبو ثور لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق
ولنا ان هذا كله بيض حقيقة وعرفا وهو مأكول فيحنث بأكله كبيض الدجاج ولأنه أو حلف
لا يشرب ماء فشرب ماء البحر أو ماء نجسا أو لا يأكل خبزا فأكل خبز الأرز والذرة
في مكان لا يعتاد أكله فيه حنث، فأما ان أكل بيض السمك والجراد فقال القاضي يحنث لأنه
بيض حيوان أشبه بيض النعام وقال أبو الخطاب لا يحنث الا بأكل بيض يزايل بائضه حال الحياة
وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وأكثر العلماء وهو الصحيح لأن هذا لا يفهم من اطلاق
260

اسم البيض ولا يذكر الا مضافا إلى بائضه ولا يحنث بأكل شئ يسمى بيضا غير بيض الحيوان
ولا شئ يسمى رأسا غير رؤوس الحيوان لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة
* (مسألة) * (وان حلف لا يدخل بيتا فدخل مسجدا أو حماما أو بيت شعر أو أدم أو لا يركب
فركب سفينة حنث عند أصحابنا ويحتمل ان لا يحنث)
وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يدخل بيتا فدخل مسجدا أو حماما حنث نص عليه أحمد ويحتمل
ان لا يحنث وهو قول أكثر الفقهاء لأنه لا يسمى بيتا في العرف والأول المذهب لأنهما بيتان حقيقة
وقد سمى الله عز وجل المساجد بيوتا فقال (في بيوت اذن الله ان ترفع - وقال - ان أول بيت وضع
للناس للذي ببكة مباركا) وروي في حديث " المسجد بيت كل تقي " وروي في الحديث " بئس
البيت الحمام " فإذا كان في الحقيقة بيتا وفي عرف الشرع حنث بدخوله كبيت الانسان وان دخل بيت
شعر أو أدم حنث سواء كان الحالف حضريا أو بدويا فإن اسم البيت يقع عليه حقيقة وعرفا قال
الله تعالى (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها) وأما
مالا يسمى في العرف بيتا كالخيمة فالأولى ان لا يحنث بدخوله من لا يسميه بيتا لأن يمينه لا تنصرف إليه
وإن دخل دهليز دار وصفتها لم يحنث وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة يحنث
لأن جميع الدار بيت
261

ولنا انه لا يسمى بيتا ولهذا يقال ما دخل البيت وإنما وقف في الصحن فإن حلف لا يركب فركب
سفينة حنث وهو قول أبي الخطاب لأنه ركوب قال الله تعالى (اركبوا فيها بسم الله مجريها) وقال
(فإذا ركبوا في الفلك) ويحتمل ان لا يحنث لأنه لا يسمى في العرف ركوبا.
* (مسألة) * (وان حلف لا يتكلم فقرأ أو سبح أو ذكر الله تعالى لم يحنث).
إذا حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان قرأ في الصلاة لم يحنث وان قرأ
خارجا منها حنث لأنه يتكلم بكلام الله تعالى وان ذكر الله تعالى لم يحنث ومقتضى مذهب أبي حنيفة
أنه يحنث ولأنه كلام الله قال الله تعالى (والزمهم كلمة التقوى) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلمتان خفيفتان
على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم "
ولنا ان الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم " ان الله
يحدث من أمره ما شاء وانه قد أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة " لم يتناول المختلف فيه وقال زيد بن
أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال الله
تعالى (آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) وقال (آيتك ان لا تكلم الناس ثلاثة أيام الا رمزا -
واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار) فأمره بالتسبيح مع قطع الكلام عنه ولان مالا
262

يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارجا منها كالإشارة وما ذكروه يبطل بالقراءة والتسبيح في الصلاة
وذكر الله المشروع فيها وان استأذن عليه إنسان فقال (ادخلوها بسلام آمنين) يقصد القرآن لم
يحنث، لأن هذا من القرآن فلا يحنث به ولذلك لا تبطل الصلاة به وان لم يقصد القرآن حنث
لأنه من كلام الناس.
* (مسألة) * (وان حلف لا يضرب امرأته فخنقها أو نتف شعرها أو عضها حنث)
لأنه يقصد ترك تأليمها وقد آلمها فاما ان عضها بتلذذ ولم يقصد تأليمها لم يحنث وان حلف ليضربنها
ففعل ذلك بر لوجود المقصود بالضرب.
* (مسألة) * (وان حلف ليضربنه مائة سوط فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه).
وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وقال ابن حامد يبر، لأن احمد قال في المريض عليه الحد
يضرب بعثكال النخل ويسقط عنه الحد، وبهذا قال الشافعي إذا علم أنها مسته كلها وان علم أنها لم
تمسه كلها لم يبر وان شك لم يحنث في الحكم لأن الله تعالى قال (فخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا
تحنث) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المريض الذي زنى " خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ
فاضربوه بها ضربة واحدة " ولأنه ضرب بمائة سوط فبر في يمينه كما لو فرق الضرب.
263

ولنا ان معنى يمينه أن يضربه مائة ضربة ولم يضربه إلا ضربة واحدة، الدليل على هذا أنه لو
ضربه مائة ضربة بسوط بر بغير خلاف ولو عاد العدد إلى السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد
كما لو حلف ليضربنه بعشرة أسواط ولان السوط ههنا آلة أقيمت مقام المصدر وانتصب انتصابه
لأن معنى كلامه لأضربنه مائة ضربة بسوط وهذا هو المفهوم من يمنيه والذي يقتضيه لغة فلا يبر
بما يخالف ذلك، وأما أيوب عليه السلام فإن الله تعالى أرخص له رفقا بامرأته لبرها به واحسانها إليه
ليجمع له بين بره في يمينه ورفقه بامرأته ولذلك أمتن عليه بهذا وذكره في جملة ما من به عليه من
معافاته من بلائه واخراج الماء له فيختص هذا به كاختصاصه بما ذكر معه ولو كان هذا الحكم عاما
بكل أحد لما خص أيوب بالمنة عليه، وكذلك المريض الذي يخاف تلفه أرخص له بذلك في الحد
دون غيره وإذا لم يتعده هذا الحكم في الحد الذي ورد النص به فيه فلان لا يتعداه إلى اليمين أولى ولو
خص بالبر من له عذر يبيح العدول في الحد إلى الضرب بالعثكال لكان له وجه اما بعد تعديته
إلى غيره فبعيد جدا.
[فصل] ولو حلف ان يضربه بعشرة أسواط فجمعها فضربه بها بر لأنه قد فعل ما حلف عليه
وان حلف ليضربنه عشر ضربات فكذلك إلا وجها لأصحاب الشافعي انه يبر وليس بصحيح لأن
264

هذه ضربة واحدة بأسواط ولهذا يصح ان يقال ما ضربته واحدة ولو حلف لا يضربه أكثر من
ضربة واحدة ففعل هذا لم يحنث في يمينه.
و [فصل] ولا يبر حتى يضربه ضربا يؤلمه، وبهذا قال مالك وقال الشافعي يبر بما لم يؤلم لأن
الاسم يتناوله فوقع البر به كالمؤلم.
ولنا ان هذا يقصد به في العرف التأليم فلا يبر بغيره وكذلك كل موضع وجب الضرب في الشرع
في حد أو تعزير كان من شرطه التأليم كذا ههنا.
* (فصل) * إذا حلف لا يأكل شيئا فأكله مستهلكا في غيره مثل ان لا يأكل لبنا فاكل زبدا أو لا يأكل
سمنا فاكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمه أو لا يأكل بيضا ناطفا أو لا يأكل شحما فاكل اللحم الأحمر أو لا
يأكل شعيرا فاكل حنطة فيها حبات شعير لم يحنث وان ظهر طعم السمن أو طعم شئ من المحلوف عليه
حنث وقال الخرقي يحنث بأكل اللحم الأحمر وحده وقال غيره يحنث بأكل حنطة فيها حبات شعير)
أما إذا حلف لا يأكل لبنا فاكل زبدا لا يظهر فيه طعم اللبن لم يحنث لأنه لم يأكل لبنا فأشبه
ما لو أكل كشكا وكذلك ان حلف لا يأكل سمنا فاكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمه
لا يحنث لذلك، فاما ان ظهر طعم شئ من المحلوف عليه حنث كما لو أكل كل واحد منفردا،
وان حلف لا يأكل بيضا فاكل ناطفا لم يحنث لأنه لا يسمى بيضا.
265

(مسألة) وان حلف لا يأكل شحما فاكل اللحم الأحمر فقال الخرقي يحنث لأن الشحم ما يذوب
بالنار مما في الحيوان والعرف يشهد لقوله
وهو ظاهر قول أبي الخطاب واللحم لا يكاد يخلو من شئ منه فيحنث به، وان قل لأنه يظهر
في الطبيخ فيبين على وجه المرق وفارق، من حلف لا يأكل سمنا فاكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه
طعمه ولا لونه، لأن هذا قد يظهر الدهن فيه وقال غير الخرقي من أصحابنا لا يحنث، قال شيخنا
وهو الصحيح لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمه ولا لونه والذي يظهر في المرق قد فارق اللحم
فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه فإن حلف لا يأكل شعيرا فاكل حنطة فيها حبات شعير فقال غير
الخرقي يحنث لأنه أكل شعيرا فأشبه ما لو أكله منفردا أو حلف لا يأكل رطبا فاكل منصفا والأولى ان
لا يحنث لأنه مستهلك في الحنطة أشبه السمن في الخبيص الذي لا يظهر طعمه، وان نوى بيمينه ان لا يأكل
الشعير منفردا أو كان السبب يقتضي ذلك أو يقتضي اكل شعير يظهر اثر اكله لم يحنث بذلك
* (فصل) * قال رضي الله عنه (فإن حلف لا يأكل سويقا فشربه أو لا يشربه فاكله فقال الخرقي
يحنث وقال أحمد من حلف لا يشرب نبيذا فثرد فيه وأكله لا يحنث فيخرج في كل ما حلف لا يأكله
فشربه أو لا يشربه فأكله وجهان وقال القاضي ان عين المحلوف عليه حنث وإلا فلا)
266

وجملة ذلك أن من حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله فقد نقل عن أحمد ما يدل
على روايتين (إحداهما) يحنث لأن اليمين على ترك أكل شئ أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب
ذلك الشئ فحملت اليمين عليه ألا ترى إلى قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم - وان الذين يأكلون
أموال اليتامى) لم يرد به الاكل على الخصوص؟ ولو قال طبيب لمريض لا تأكل العسل لكان ناهيا
عن شربه (والثانية) لا يحنث وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، لأن الافعال أنواع
كاليمين ولو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره كذلك الافعال، وقال القاضي إنما الروايتان
فيمن عين المحلوف عليه مثل من حلف لا أكلت هذا السويق فشربه أو لا يشربه فاكله أما إذا
اطلق فقال لا أكلت سويقا فشربه أو لا يشربه فاكله لم يحنث رواية واحدة لا يختلف المذهب
فيه وهذا يخالف ما ذكرنا ههنا من الاطلاق ومخالف لما أطلقه الخرقي، وليس للتعيين اثر في الحنث
وعدمه فإن الحنث في المعين إنما كان لتناوله ما حلف عليه وإجراء معنى الأكل والشرب على التناول
العام فيهما وهذا لا فرق فيه بين التعيين وعدمه وعدم الحنث معلل بأنه لم يفعل الفعل الذي حلف
على تركه وإنما فعل غيره وهذا في المعين كهو في المطلق لعدم الفارق بينهما، ولان الرواية في الحنث
أحدث من كلام الخرقي وليس فيه تعيين ورواية عدم الحنث أحدث من رواية مهنا عن أحمد فيمن
حلف لا يشرب هذا النبيذ فاكله لا يحنث لأنه لا يسمى شربا وهذا في المعين فإن عديت كل رواية
267

إلى محل الأخرى وجب أن يكون في الجميع روايتان، وان قصرت كل رواية على محلها كان الامر على
خلاف ما قال القاضي وهو ان يحنث في المطلق ولا يحنث في المعين.
(فصل) فإن حلف ليشربن شيئا فأكله أو ليأكلنه فشربه خرج فيه وجهان بناء على الروايتين
في الحنث إذا حلف على الترك ومتى تقيدت يمينه بنية أو سبب يدل عليها كانت يمينه على ما نواه أو دل
عليه السبب لأن الايمان على النية
(فصل) فإن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمى به فقد روي عن أحمد فيمن حلف لا يشرب
فمص قصب السكر لا يحنث وقال ابن أبي موسى إذا حلف لا يأكل ولا يشرب فمص قصب السكر
لا يحنث وهذا قول أصحاب الرأي فإنهم قالوا إذا حلف فمص حب رمان ورمى بالتفل لا يحنث لأنه
ليس بأكل ولا شرب ويجئ على قول الخرقي أنه يحنث لأنه قد تناوله فوصل إلى حلقه وبطنه فيحنث
به على ما قلناه فيمن حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله وان حلف لا يأكل سكرا فتركه
في فيه حتى ذاب وابتلعه خرج على الروايتين
* (مسألة) * (فإن حلف لا يطعم شيئا حنث بأكله وشربه ومصه)
لأن ذلك كله طعم قال الله تعالى في النهر (من ولم يطعمه)
268

* (مسألة) * (وان ذاقه ولم يبتلعه لم يحنث) في قولهم جميعا لأنه ليس بأكل ولا شرب ولذلك
لا يفطر به الصائم، وان حلف لا يذوقه فأكله أو شربه أو مصه حنث لأنه ذوق وزيادة وكذلك ان
مضغه ورمى به لأنه قد ذاقه
* (مسألة) * (وان حلف لا يأكل مائعا فأكله بالخبز حنث) لأن ذلك يسمى اكلا ولهذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم " كلوا الزيت وادهنوا به "
(فصل) وان حلف ليأكلن أكلة بالفتح لم يبر حتى يأكل ما يعده الناس أكلة وهي المرة
من الاكل والاكلة بالضم اللقمة ومنه " فليناوله في يده أكلة أو أكلتين "
* (فصل) * وان حلف لا يتزوج ولا يتطهر ولا يتطيب فاستدام ذلك لم يحنث)
في قولهم جميعا لأنه لا يطلق اسم الفعل على مستديم هذه الثلاثة فلا يقال تزوجت شهرا ولا
تطهرت شهرا ولا تطيبت شهرا وإنما يقال منذ شهر ولم ينزل الشارع استدامة التزويج والطيب
منزلة ابتدائهما في تحريمه في الاحرام
* (مسألة) * (وان حلف لا يركب ولا يلبس فاستدام ذلك حنث)
من حلف لا يلبس ثوبا هو لابسه فنزعه في الحال والا حنث وكذلك ان حلف لا يركب دابة
هو راكبها فنزل في أول حالة الامكان وإلا حنث وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور
269

لا يحنث باستدامة اللبس والركوب حتى يبتدئه لأنه لو حلف ان لا يتزوج ولا يتطهر فاستدام
ذلك لم يحنث كذا ههنا
ولنا ان استدامة اللبس والركوب تسمى لبسا وركوبا ويسمى لابسا وراكبا ولذلك يقال
لبست هذا الثوب شهرا وركبت دابتي يوما فحنث باستدامته كما لو حلف لا يسكن فاستدام السكنى
وقد اعتبر الشرع هذا في الاحرام حيث حرم لبس المخيط وأوجب الكفارة في استدامته كما أوجبها
في ابتدائه، وفارق التزويج فإنه لا يطلق على الاستدامة فلا يقال تزوجت شهرا وإنما يقال منذ شهر
ولهذا لم تحرم استدامته في الاحرام ويحرم ابتداؤه
* (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل دارا هو داخلها فأقام فيها حنث عند القاضي ولم يحنث عند أبي الخطاب)
وجه قول القاضي ان استدامة المقام في ملك الغير كابتدائه في التحريم قال أحمد
في رجل حلف على امرأته لا دخلت انا وأنت هذه الدار وهما جميعا فيها قال أخاف أن يكون قد حنث
[والثاني] لا يحنث اختاره أبو الخطاب وهو قول أصحاب الرأي لأن الدخول لا يستعمل في
الاستدامة ولهذا يقال دخلتها منذ شهر ولا يقال دخلتها شهرا فجرى مجرى التزويج ولان الدخول
الانفصال من خارج إلى داخل ولا يوجد في الإقامة وللشافعي قولان كالوجهين، ويحتمل أن من أحنثه
270

إنما كان لأن ظاهر حال الحالف أنه يقصد هجران الدار ومباينتها والإقامة فيها تخالف ذلك فجرى
مجرى الحالف على ترك السكنى بها
(فصل) وان حلف لا يضاجع امرأته على فراش وهما متضاجعان فاستدام ذلك حنث لأن
المضاجعة تقع على الاستدامة ولهذا يقال اضطجع على الفراش ليلة وإن كان هو مضطجعا على الفراش
وحده فاضطجعت عنده عليه نظرت، فإن قام لوقته لم يحنث وان استدام حنث لما ذكرنا، وان حلف
لا يصوم وهو صائم فأتم يومه فقال القاضي لا يحنث ويحتمل ان يحنث لأن الصوم يقع على الاستدامة
يقال صام يوما، ولو شرع في صوم يوم العيد حرمت عليه استدامته وان حلف لا يسافر وهو مسافر
فاخذ في العود أو أقام لم يحنث وان مضى في سفره حنث لأن الاستدامة سفر ولهذا يقال سافرت شهرا
* (مسألة) * (وان حلف لا يدخل على فلان بيتا فدخل فلان عليه فأقام معه فعلى الوجهين)
* (مسألة) * (وان حلف لا يمكن دارا ولا يساكن فلانا وهما متساكنان ولم يخرج في الحال حنث
إلا أن يقيم لنقل متاعه أو يخشى على نفسه الخروج فيقيم إلى أن يمكنه)
وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته فإن أقام فيها بعد يمينه
زمنا يمكنه الخروج حنث لأن استدامة السكنى سكنى كابتدائها في وقع السكنى عليها الا تراه
271

يقول سكنت في هذه الدار شهرا كما يقول لبست هذا الثوب وبهذا قال الشافعي، فإن أقام لنقل رحله
وقماشه لم يحنث لأن الانتقال لا يكون الا بالأهل والمال فيحتاج إلى أن ينقل ذلك معه حتى يكون
منتقلا وحكي عن مالك أنه ان أقام دون اليوم والليلة لم يحنث لأن ذلك قليل يحتاج إليه في الانتقال
فلم يحنث به وعن زفر أنه يحنث وان انتقل في الحال لأنه لابد أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة
فحنث بها وليس بصحيح فإنه لا يمكن الاحتراز منه لأنه لا يراد باليمين ولا تقع عليه أما إذا أقام زمنا
يمكنه الانتقال فيه فإنه يحنث لأنه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به كموضع الاتفاق الا ترى
أنه لو حلف لا يدخل الدار فدخل إلى أول جزء منها يحنث وإن كان قليلا
* (مسألة) * (وان أقام لنقل أهله ومتاعه لم يحنث)
وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يحنث
ولنا ان الانتقال إنما يكون بالأهل والمال على ما سنذكره فلا يمكنه التحرز من هذه الإقامة
فلا يقع اليمين عليها وعلى هذا لو خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع إمكان نقلهم عنه حنث
وقال الشافعي لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال لأنه إذا خرج بنية الانتقال فليس بساكن لأنه يجوز
أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله
272

ولنا ان السكنى تكون بالأهل والمال ولهذا يقال فلان ساكن في البلد الفلاني وهو غائب عنه
بنفسه، وإذا نزل بلدا بأهله وماله يقال سكنه، وقولهم انه نوى السكنى بنفسه لا يصح فإن من خرج
إلى مكان لينقل أهله إليه ولم ينو السكنى به بنفسه منفردا عن أهله الذي في الدار لم يحنث فيما بينه
وبين الله تعالى ذكره القاضي
وعن مالك انه اعتبر نقل عياله دون ماله والأولى إن شاء الله انه إذا انتقل بأهله فسكن في موضع
آخر انه لا يحنث وان بقي متاعه في الأولى لأن مسكنه حيث حل أهله به ونوى الإقامة به ولهذا لو حلف
273

لا يسكن دارا لم يكن ساكنا بها فنزلها بأهله ناويا للسكنى بها حنث وقال القاضي ان نقل إليها ما يتأثث
به ويستعمله في منزله فهو ساكن وان سكنها بنفسه
* (مسألة) * (وان خرج دون أهله ومتاعه حنث) لما ذكرنا في المسألة قبلها الا ان يودع متاعه أو
بعيره أو تأبى امرأته الخروج معه ولا يمكنه اكراهها فيخرج وحده فلا يحنث
274

(فصل) وان أكره على المقام لم يحنث لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه " وكذلك إن كان في جوف الليل في وقت لا يجد منزلا يتحول إليه أو تحول
بينه وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكنه فتحها أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله فأقام في طلب النقلة
أو انتظار الزوال المانع منها أو خرج طالبا للنقلة فتعذرت عليه اما لكونه لم يجد مسكنا يتحول إليه
لتعذر الكراء أو غيره. أو لم يجد بهائم ينتقل عليها ولا يمكنه النقلة بدونها فأقام ناويا للنقلة متى قدر
275

عليها لم يحنث وان أقام أياما وليالي، لأن اقامته من غير اختيار منه لعدم تمكنه من النقلة فإنه إذا لم
يجد مسكنا لا يمكنه ترك أهله أو القاء متاعه في الطريق فلم يحنث به كالمقيم للاكراه، فإن أقام في هذا
الوقت غيرنا وللنقلة حنث ويكون نقله لما يحتاج إلى نقله على ما جرت العادة فلو كان ذا متاع
كثير فنقله قليلا قليلا على العادة بحيث لا يترك النقل المعتاد لم يحنث وان أقام أياما، ولا يلزمه
276

جمع دواب البلد لنقله. ولا النقل بالليل ولا وقت الاستراحة عند التعب، ولا أوقات الصلوات
لأن العادة لم تجر بالنقل فيها
(فصل) ولو وهب رحله أو أودعه أو أعاره وخرج وحده لم يحنث لأن يده زالت عن المتاع
وكذلك ان أبت امرأته الخروج معه ولم يمكنه اكراهها أو كان له عائلة فامتنعوا من الخروج
والانتقال، ولم يمكنه اخراجهم فتركهم لم يحنث لأن هذا مما لم يمكنه فأشبه ما لم يمكنه نقله من
277

رحله، وان تردد إلى الدار لنقل المتاع أو عائدا أو زائرا لصديق لم يحنث، وقال القاضي ان دخلها
ومن رأيه الجلوس عنده حنث والا فلا
ولنا ان هذا ليس بسكنى ولذلك لو حلف ليسكنن دارا لم يبر بالجلوس فيها على هذا الوجه،
ولا يسمى ساكنا بها بهذا القدر فلم يحنث كما لو لم ينو الجلوس
278

(فصل) وان حلف لا يساكن فلانا وهو مساكنه فالحكم في الاستدامة علي ما ذكرنا في الحلف على
السكنى وان انتقل أحدهما وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة
* (مسألة) * (وان حلف لا يساكن فلانا فبنيا بينهما حائط وهما متساكنان حنث وإن كان
في الدار حجرتان كل حجرة تختص ببابها وطريقها فسكن كل واحد حجرة لم يحنث)
إذا كان في دار واحدة حالة اليمين فخرج أحدهما منها وقسماها حجرتين وفتحا لكل واحدة
279

منهما بابا وبينهما حاجز ثم سكن كل واحد منهما في حجرة لم يحنث لأنهما غير متساكنين، وإن
بنيا الحاجز بينهما وهما متساكنان حنث لأنهما تساكنا قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى
وهذا قول الشافعي ولا نعمل فيه خلافا
(فصل) وان سكنا في دار واحدة كل واحد في بيت ذي باب وغلق رجع إلى نيته بيمينه
280

أو إلى سببها، وما دلت عليه قرائن أحواله في المحلوف على المساكنة فيه. فإن عدم ذلك حنث
وهذا قول مالك، وقال الشافعي إن كانت الدار صغيرة فهما متساكنان، وان كانا في بيتين
كل واحد منهما له غلق أو كانا في خان فليسا متساكنين. لأن كل واحد منهما ينفرد بمسكنه
دون الآخر فأشبها المتجاورين
281

(فصل) وان حلف لا ساكنت فلانا في هذه الدار فقسماها حجرتين وبنيا بينهما حائطا وفتح
كل واحد منهما بابا لنفسه وسكناها لم يحنث كما ذكرنا في التي قبلها وهذا قول الشافعي وابن المنذر وأبي ثور
وأصحاب الرأي وقال مالك لا يعجبني ذلك ويحتمله قياس المذهب لكونه عين الدار فلا تنحل يمينه بتغييرها
كما لو حلف لا يدخلها فصارت فضاء والأول أصح لأنه لا يساكنه فيها لكون المساكنة في الدار لا تحصل مع
كونها دارين وفارق الدخول فإنه دخلها متغيرة
282

* (مسألة) * (وان حلف ليخرجن من هذه البلدة فخرج دون أهله لم يحنث وان حلف ليخرجن
من هذه الدار فخرج دون أهله لم يبر)
إذا حلف ليخرجن من هذه الدار اقتضت يمينه الخروج بنفسه وأهله كما لو حلف لا يسكنها
وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة تناولت يمينه الخروج بنفسه لأن الدار يخرج منها صاحبها
283

في اليوم مرات عادة فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد، وإنما أراد الخروج الذي هو النقلة.
والخروج من البلد بخلاف ذلك
* (مسألة) * (وان حلف ليخرجن من هذه البلدة أو ليرحلن عن هذه الدار ففعل فهل له
العودة إليها؟ على روايتين
(إحداهما) لا شئ عليه في العود ولا يحنث به لأن يمينه على الخروج، وقد خرج فانحلت يمينه
لفعل ما حلف عليه فلم يحنث فيها بعد
284

(والثانية) يحنث بالعود لأن ظاهر حاله قصد هجران ما حلف على الرحيل منه ولا يحصل ذلك
بالعود ويمكن حمل هذه الرواية على أن المحلوف عليه شئ هيج يمينه أو دلت قرينة حاله على إرادة هجرانه أو
نوى ذلك بيمينه فاقتضت يمينه دوام اجتنابها فإن لم يكن كذلك لم يحنث بالعود لأن اليمين عند عدم ذلك
على مقتضى اللفظ ومقتضاه ههنا الخروج وقد فعله فانحلت يمينه به وكذلك الحكم إذا حلف على
الرحيل من بلد لم يبر إلا بالرحيل بأهله
285

(فصل) (إذا حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها أو يمكنه الامتناع فلم يمتنع أو حلف لا يستخدم
رجلا فخدمه وهو ساكت فقال القاضي يحنث)
إذا حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها فلم يمكنه الامتناع لم يحنث نص عليه احمد
في رواية أبي طالب، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا لأن
الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه فإن حمل بأمره فأدخلها حنث لأنه دخل
مختارا فأشبه ما لو دخل راكبا. فإن حمل بغير أمره لكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع حنث أيضا
286

اختاره القاضي لأنه دخلها غير مكره فأشبه ما لو حمل بأمره، وقال أبو الخطاب في الحنث وجهان
(أحدهما) لا يحنث لأنه لم يفعل الدخول ولم يأمر به فأشبه ما لو لم يمكنه الامتناع، ومتى دخل
باختياره حنث سواء كان ماشيا أو راكبا أو محمولا أو القى سفينة في ماء فجره إليها أو سبح فيها
287

فدخلها، وسواء دخل من بابها أو تسور حائطها أو دخل من طاقة فيها أو نقب حائطها أو دخل
من ظهرها أو غير ذلك
(فصل) فإن أكره بالضرب ونحوه فدخلها لم يحنث في أحد الوجهين وهذا أحد قولي الشافعي
(والثاني) يحنث وهو قول أصحاب الرأي ونحوه عن النخعي لأنه دخلها وفعل ما حلف على تركه
288

والصحيح لأول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه
دخلها
مكرها أشبه ما لو حمل فأدخلها مكرها وكذلك ان حلف لا يستخدم رجلا فخدمه وهو ساكت فيه من
الخلاف ما ذكرناه في دخول الدار لأنه في معناه
(فصل) وان حلف لا يستخدم عبدا فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه فقال القاضي إن كان
عبده حنث وإن كان عبد غيره لم يحنث وهو قول أبي حنيفة لأن عبده يخدمه عادة بحكم استحقاقه
289

ذلك عليه ويكون معنى يمينه لا منعتك خدمتي فإذا لم ينهه لم يمنعه وعبد غيره بخلافه وقال أبو الخطاب
يحنث في الحالين لأن اقراره على الخدمة استخدام ولهذا يقال فلان يستخدم عبده إذا خدمه وان لم يأمره
ولأنه ما حنث به في عبده حنث به في عبد غيره كسائر الأشياء وقال الشافعي لا يحنث في الحالين لأنه حلف
على فعل نفسه فلا يحنث بفعل غيره كسائر الافعال
* (مسألة) * (وان حلف ليشربن هذا الماء أو ليضربن عبده غدا فتلف المحلوف عليه قبل الغد حنث
عند الخرقي ويحتمل أن لا يحنث وان مات الحالف لم يحنث)
290

أما إذا مات الحالف من يومه فلا حنث عليه لأن الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه وفي وقته
وهو الغد والحالف قد خرج عن أهلية التكليف قبل الغد فلا يمكنه حنثه وكذلك ان جن الحالف
من يومه فلم يفق إلا بعد خروج الغد لأنه خرج عن كونه من أهل التكليف، وان هرب العبد أو
مرض هو أو الحالف أو نحو ذلك فلم يقدر على ضرب العبد حنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه مع كونه من
أهل التكليف وان لم يمت الحالف ففيه سبع مسائل
291

(أحدها) أن يضرب العبد في غد أي وقت كان منه فإنه ببر في يمينه بلا خلاف.
(الثانية) أمكنه ضربه في غد فلم يضربه حتى مضى الغد وهما في الغد فيحنث بلا خلاف أيضا
(الثالثة) مات العبد من يومه فإنه يحنث وهو أحد قولي الشافعي ويتخرج أن لا يحنث وهو
قول أبي حنيفة ومالك والقول الثاني للشافعي لأنه قد ضربه بغير اختياره فمل يحنث كالمكره والناسي
ولنا انه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان وهو من أهل الحنث فحنث
292

كما لو أحلفه باختياره وكما لو حلف ليحجن العام فلم يقدر على الحج لمرض أو عدم النفقة وفارق الاكراه
والنسيان فإن الامتناع لمعنى في الحلف وههنا الامتناع لمعنى في المحل فأشبه ما لو ترك ضربه لصعوبته
أو ترك الحالف الحج لصعوبة الطريق وبعدها عليه فاما إن كان تلف المحلوف عليه بفعله واختياره
حنث وجها واحدا لأنه فوت الفعل على نفسه قال القاضي ويحنث الحالف ساعة موته لأن يمينه انعقدت
من حين حلفه وقد تعذر عليه الفعل فحنث في الحال كما لو لم يؤقت ويتخرج ان لا يحنث قبل الغد
لأن الحنث مخالفة ما عقد يمينه عليه فلا يحصل المخالفة الا بترك الفعل في وقته
293

(الرابعة) مات العبد في غد قبل التمكن من ضربه فهو كما لو مات في يومه
(الخامسة) مات العبد في غد بعد التمكن من ضربه قبل ضربه فإنه يحنث وجها واحدا وهو قول بعض
أصحاب الشافعي وقال بعضهم فيه قولان
ولنا انه تمكن من ضربه في وقته فلم يضربه فحنث كما لو مضى الغد قبل ضربه
294

(السادسة) مات الحالف في غد بعد التمكن من ضربه فلم يضربه حنث وجها واحدا لما ذكرنا
(السابعة) ضربه في يومه فإنه لا يبر وهذا قول أصحاب الشافعي وقال القاضي وأصحاب أبي
حنيفة يبر لأن يمينه للحنث على ضربه فإذا ضربه اليوم فقد فعل المحلوف عليه وزيادة فأشبه ما لو حلف
ليقضيه غدا فقضاه اليوم
295

ولنا انه لم يفعل المحلوف عليه في وقته فلم يبر كما لو حلف ليصومن يوم الجمعة فصام يوم الخميس
وفارق قضاء الدين فالمقصود تعجيله لا غير وفي قضاء الدين زيادة في التعجيل فلا يحنث فيها لأنه علم
من قصده إرادة ان لا يتجاوز غدا بالقضاء فصار كالملفوظ به إذا كان مبنى الايمان على النية ولا يصح
296

قياس ما ليس مثله عليه وسائر المحلوفات لا يعلم منها إرادة التعجيل عن الوقت الذي وقته لها فامتنع
الالحاق وتعين التمسك باللفظ
(الثامنة) ضربه بعد موته فلا يبر لأن اليمين تنصرف إلى ضربه حيا يتألم بالضرب وقد زال هذا بالموت
297

(التاسعة) ضربه ضربا لا يؤلمه لا يبر لما ذكرناه
(العاشرة) خنقه أو نتف شعره أو عصر ساقه بحيث يؤلمه فإنه يبر لأنه يسمى ضربا
لما تقدم ذكرنا له
(الحادية عشر) جن العبد فضربه فإنه يبر لأنه حي يتألم بالضرب وان لم يضربه حنث وان
298

حلف لا يضربه في غد ففيه نحو هذه المسائل ومتى فات ضربه بموته أو غيره لم يحنث لأنه لم يضربه
* (مسألة) * (وان قال والله لأشربن ماء هذا الكوز غدا فاندفق اليوم أو لآكلن هذا
الخبز غدا فتلف فهو على ما نحو ما ذكرنا في العبد)
299

قال صالح سألت أبي عن الرجل يحلف أن يترب الماء ف‍؟ نصب فقال يحنث وكذا لو حلف
ان يأكل هذا الرغيف فأكله كلب قال يحنث لأن ذا لا يقدر عليه
(فصل) ومن حلف لا يتكفل بمال فكفل ببدن فقال أصحابنا يحنث لأن المال يلزمه بكفالته
إذا تعذر احضار المكفول به قال شيخنا والقياس أنه لا يحنث لأنه لم يكفل بمال إنما يلزمه المال لتعذر
احضار المكفول به وأما قبل ذلك فلا يلزمه، ولان هذا لا يسمى كفالة بالمال ويصح نفيها عنه فيقال
300

ما تكفل بمال إنما تكفل بالبدن وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
* (مسألة) * (وان حلف ليقضينه حقه فأبرأه فهل يحنث؟ على وجهين)
وذلك مبني على ما إذا حلف على فعل شئ فتلف قبل فعله وفيه وجهان
301

(أحدهما) يحنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه
(والثاني) لا يحنث لأنه منع من فعله فأشبه المكره على فعل ما حلف على تركه وقد ذكرنا ذلك
فيمن حلف ليضربن غلامه فتعذر ضربه
* (مسألة) * (وان مات المستحق فقضى ورثته لم يحنث ذكره أبو الخطاب لأن قضاء ورثته
يقوم مقام قضائه في ابراء ذمته فكذلك في البر في يمينه)
302

وحكي عن القاضي أنه يحنث لأنه تعذر قضاؤه فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد
اليوم ومن نصر قول أبي الخطاب قال موت العبد يخالف ذلك لأن ضرب غيره لا يقوم مقام ضربه
وقال أصحاب الرأي وأبو ثور تنحل اليمين بموت المستحق ولا يحنث سواء قضى ورثته أو لم يقضهم
لأنه تعذر عليه فعل ما حلف عليه بغير اختياره أشبه المكره وقد سبق الكلام على هذا في مسألة
من حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد اليوم
303

* (مسألة) * (وان باعه بحقه عرضا لم يحنث عند ابن حامد لأنه قد قضاه حقه)
وقال القاضي يحنث لأنه لم يقض الحق الذي عليه بعينه
* (مسألة) * (وان حلف ليقضينه حقه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو إلى رأس الهلال أو إلى
304

استهلاله أو عند رأس الشهر أو مع رأسه فقضاه عند غروب الشمس في أول الشهر بر في يمينه وان
أخر ذلك مع امكانه حنث وان شرع في عده أو وكيله أو وزنه فتأخر القضاء لم يحنث)
لأنه لم يترك القضاء وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في هذا الوقت فشرع في أكله
305

فيه وتأخر الفراغ لكثرة لم يحنث لأن أكله كله غير ممكن في هذا الوقت للعلم بالعجز عن غير
ذلك ومذهب الشافعي في هذا كما ذكرنا
306

* (مسألة) * (وان حلف لا فارقتك حتى استوفي حقي منك فهرب منه حنث نص عليه وقال الخرقي
لا يحنث وان فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه خرج على روايتين)
وإذا حلف لا فارقتك ففيه عشر مسائل
307

(أحدها) ان يفارقه الحالف مختارا فيحنث سواء أبرأه من الحق أو فارقه والحق عليه لأنه
فارقه قبل استيفاء حقه منه
308

(الثانية) فارقه مكرها فينظر فإن كان حمل مكرها حتى فارقه لم يحنث وان أكره بالضرب
والتهديد لم يحنث وفي قول أبي بكر يحنث وفي الناسي تفصيل ذكرناه فيما مضى
(الثالثة) هرب منه الغريم بغير اختياره فلا يحنث وبهذا قال مالك وأبو ثور وابن المنذر
وأصحاب الرأي وروي عن أحمد انه يحنث لأن معنى يمينه ان لا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت
309

ولنا انه حلف على فعل نفسه في الفرقة ولا فعل باختياره فلم يحنث كما لو حلف لا قمت فقام غيره
(الرابعة) اذن له الحالف في الفرقة ففارقه فمفهوم كلام الخرقي انه يحنث وقال الشافعي لا يحنث
قال القاضي وهو قول الخرقي لأنه لم يفعل الفرقة التي حلف أنه لا يفعلها
ولنا أن معنى يمينه لألزمنك فإذا فارقه باذنه فما لزمه ويفارق ما إذا هرب منه لأنه فر بغير اختياره
وليس هو قول الخرقي لأن الخرقي قال فهرب منه ففهومه انه إذا فارقه بغير هرب انه يحنث
310

(الخامسة) فارقه من غير اذن ولا هرب على وجه تمكنه ملازمته والمشي معه أو امساكه
فهي كالتي قبلها
311

(السادسة) قضاه قدر حقه ففارقه ظنا منه انه قد وفاه فخرج رديئا أو بعضه فيخرج في الحنث
روايتان بناء على الناسي وللشافعي قولان كالروايتين
(أحدهما) يحنث وهو قول مالك لأنه فارقه قبل استيفاء حقه مختارا
(والثانية) لا يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي إذا وجدها زيوفا وان وجد أكثرها
312

نحاسا انه يحنث وان وجدها مستحقة فاخذها صاحبها خرج أيضا على الروايتين في الناسي لأنه ظان
انه مستوف حقه فأشبه ما لو وجدها رديئة وقال أبو ثور وأصحاب الرأي لا يحنث وان علم بالحال ففارقه
حنث لأنه لم يوفه حقه
313

(السابعة) فلسه الحاكم ففارقه فإن ألزمه الحاكم فهو كالمكره وان لم يلزمه مفارقته لكن فارقه
لعلمه بوجوب مفارقته حنث لأنه فارقه من غير اكراه فحنث كما لو حلف لا يصلي فوجبت عليه صلاة فصلاها
314

(الثامنة) احاله الغريم بحقه ففارقه فإنه يحنث وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وقال
أبو حنيفة ومحمد لا يحنث لأنه قد برئ إليه منه
315

ولنا انه ما استوفى حقه منه بدليل انه لم يصل إليه شئ ولذلك يملك المطالبة به فحنث كما لو
لم يحله فإن ظن أنه قد يريد بذلك مفارقته ففارقه خرج على الروايتين ذكره أبو الخطاب، قال شيخنا
316

والصحيح انه يحنث لأن هذا جهل بحكم الشرع فيه فلا يسقط الحنث كما لو جهل كون اليمين
موجبة للكفارة فاما ان كانت يمينه لا فارقتك ولي قبلك حق فأحاله ففارقه لم يحنث لأن هذا لم
317

يبق له قبله حق فإن أخذ به ضمينا أو كفيلا أو رهنا ففارقه حنث بلا إشكال لأنه يملك مطالبة الغريم
(التاسعة) قضاه عن حق عوضا عنه ثم فارقه فقال ابن حامد لا يحنث وهو قول أبي حنيفة
318

لأنه قد قضاه حقه وبرئ إليه منه بالقضاء وقال القاضي يحنث لأن يمينه على نفس الحق وهذا بدله
والأول أولى إن شاء الله تعالى لحصول المقصود به فإن كانت يمينه لا فارقتك حتى تبرأ من حقي أو
319

ولي قبلك حق لم يحنث وجها واحدا لأنه لم يبق قبله حق وهذا مذهب الشافعي
(العاشرة) وكل وكيلا يستوفي له حقه فإن فارقه قبل استيفاء الوكيل حنث لأنه فارقه قبل
320

استيفاء حقه، وان استوفى الوكيل ثم فارقه لم يحنث لأن استيفاء وكيله استيفاء له ببراءة غريمه ويصير
321

في ضمان الموكل فاما ان قال لا فارقتني حتى استوفي حقي منك ففارقه المحلوف عليه مختارا حنث وان
322

أكره على فراقه لم يحنث وان فارقه الحالف مختارا حنث الا على ما ذكره القاضي في تأويل كلام الخرقي
323

وهو مذهب الشافعي وسائر الفروع تأتي ههنا على نحو ما ذكرنا
324

* (مسألة) * (فإن حلف لافترقنا فهرب منه حنث)
325

إذا هرب من المحلوف عليه لأن يمينه تقتضي أن لا تحصل بينهما فرقة بوجه وقد حصلت الفرقة
326

بهربه وان أكرها على الفرقة لم يحنث الا على قول من لا يرى الاكراه عذرا
327

(فصل) وان حلف لا فارقتك حتى أوفيك حقك فأبرأه الغريم منه فهل يحنث؟ على وجهين
بناء على المكره، وإن كان الحق عينا فوهبها له الغريم فقبلها حنث لأنه ترك ايفاءها له باختياره
328

وان قبضها منه ثم وهبها إياه لم يحنث، وإن كانت يمينه لا أفارقك ولك قبلي حق لم يحنث إذا
أبرأه أو وهب العين له
329

* (مسألة) * (وقدر الفرقة ما عده الناس فراقا كفرقة البيع وقد ذكرناه في البيع) وما نواه بيمينه
عما تحتمله لفظه فهو على ما نواه
330

باب النذر
الأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع. اما الكتاب فقول الله تعالى (يوفون بالنذر) وقال
سبحانه (وليوفوا نذورهم) واما السنة فروت عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " رواه البخاري وعن عمران بن حصين
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم
يجئ قوم
ينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن " رواه
البخاري وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ووجوب الوفاء به
(فصل) ولا يستحب النذر لأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال " انه
لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " متفق عليه وهذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأنه لو كان
حراما لما مدح الموفين به لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه ولان النذر لو كان مستحبا
لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأفاضل أصحابه
* (مسألة) * (وهو أن يلزم نفسه لله تعالى شيئا فقول: لله علي أن افعل كذا، وان قال علي
331

نذر كذا لزمه أيضا)
لأنه صرح بلفظ النذر ولا يصح الا من مكلف مسلما كان أو كافرا لأنه قول يوجب على
المكلف عبادة أو مالا فلم يصح من غير المكلف كالاقرار ولأنه غير مكلف أشبه الطفل، ويصح
من الكافر لحديث عمر حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني نذرت ان أعتكف ليلة في المسجد الحرام: قال
" أوف بنذرك " متفق عليه
* (مسألة) * (ولا يصح إلا بالقول فإن نواه من غير قول لم يصح)
لأنه موجب للكفارة في أحد طرفيه فلم ينعقد بالنية كاليمين
* (مسألة) * (ولا يصح في محال ولا واجب فلو قال لله علي صوم أمس أو صوم رمضان لم ينعقد)
لا ينعقد نذر المستحيل كصوم أمس ولا يوجب شيئا لأنه لا يتصور انعقاده ولا الوفاء به لأنه
لو حلف على فعله لم تلزمه كفارة فالنذر أولى
قال شيخنا وعقد الباب في الصحيح من المذهب ان النذر كاليمين وموجبه موجبها الا في لزوم
الوفاء به إذا كان قربة وأمكنه فعله، ودليل هذا الأصل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبه لما نذرت
المشي ولم تطقه " ولتكفر يمينها " وفي رواية " فلتصم ثلاثة أيام " قال احمد إليه اذهب، وعن عقبة
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " كفارة النذر كفارة اليمين " أخرجه مسلم وقول ابن عباس في التي نذرت
332

ذبح ابنها كفري يمينك ولأنه قد ثبت ان حكمه حكم اليمين في أحد أقسامه وهو نذر اللجاج فكذلك
في سائره سوى ما استثناه الشرع فإن نذر واجبا كالصلاة المكتوبة فقال أصحابنا لا ينعقد نذره وهو
قول أصحاب الشافعي لأن النذر التزام ولا يصح التزام ما هو لازم له ويحتمل أن ينعقد نذره موجبا
لكفارة يمين ان تكره كما لو حلف لا يفعله ففعله فإن النذر كاليمين وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم يمينا ولذلك لو
نذر معصية أو مباحا لم يلزمه ويكفر إذا لم يفعله
* (مسألة) * (والنذر المنعقد على خمسة أقسام (أحدها) النذر المطلق وهو أن يقول لله علي نذر فيجب
به كفارة يمين في قول أكثر أهل العلم)
روي ذلك عن ابن مسعود وبان عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الحسن وطاوس
وسالم والقاسم والشعبي والنخعي وعكرمة وسعيد بن جبير ومالك والثوري ومحمد بن الحسن ولا نعلم
فيه محالفا الا الشافعي قال: لا ينعقد نذره ولا كفارة فيه وأما ما روى عقبة بن عامر قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " كفارة النذر إذا لم يسم كفاره يمين " رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب
وهذا نص ولأنه قول من سمينا من الصحابة والتابعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا فيكون اجماعا
333

(الثاني) اللجاج والغضب وهو ما يقصد به المنع من شئ أو الحمل عليه كقوله ان كلمتك فلله علي
الحج أو صوم سنة أو عتق عبدي أو الصدقة بمالي فهذا يمين يخير بين فعله وبين كفاره يمين لما روى
عمران بن حصين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين " رواه
سعيد في سننه، وعن أحمد ان الكفارة تتعين عليه ولا يجزئه غيرها للخبر والأول ظاهر المذهب
لأنها يمين فيخير فيها بين الامرين كاليمين بالله تعالى ولان هذا جمع الصفتين فيخرج عن العهدة
بكل واحدة منهما (الثالث) نذر المباح كقوله لله علي ان البس ثوبي أو أركب دابتي فهذا كاليمين
يتخير بين فعله وبين كفارة يمين لما روي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت اني نذرت أن اضرب
على رأسك بالدف فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " رواه أبو داود ولأنه لو حلف على فعل مباح
بر بفعله فكذلك إذا نذره لأن النذر كاليمين، وان شاء تركه وعليه كفارة يمين كما لو حلف ليفعلنه
فلم يفعل ويتخرج ان لا كفارة فيه فإن أصحابنا قالوا من نذر أن يعتكف في مسجد معين أو يصلي
فيه كان له أن يصلي ويعتكف في غيره ولا كفارة عليه ومن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأته الصدقة
بثلثه بلا كفارة وهذا مثله وقال مالك والشافعي لا ينعقد نذره لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر الا فيما
يبتغى به وجه الله " وروى ابن عباس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه
فقالوا أبو إسرائيل نذر ان يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " مروه فليجلس
ويستظل وليتكلم وليتم صومه " رواه البخاري
334

وعن أنس قال نذرت امرأة ان تمشي إلى بيت الله فسئل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " إن الله لغني
عن مشيها مروها فلتركب "، قال الترمذي هذا حديث صحيح ولم يأمر بكفارة وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يهادى بين اثنين فسال عنه فقالوا نذر ان يحج ماشيا فقال " ان الله لغني عن
تعذيب هذا نفسه مروه فليركب " متفق عليه ولم يأمره بكفارة ولأنه نذر غير واجب لفعل ما نذره
فلم يوجب كفارة كنذر المستحيل،
ولنا ما تقدم في قسم نذر اللجاج ولا غضب فاما حديث التي نذرت المشي فقد أمر فيه بالكفارة
في حديث آخر فروى عقبة بن عامر ان أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسال رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " مروها فلتركب ولتكفر عن يمينها " أخرجه أبو داود وهذه زيادة يجب الاخذ
بها ويجوز أن يكون الراوي للحديث روى البعض وترك البعض أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذكر الكفارة
في بعض الحديث إحالة على ما علم من حديثه في موضع آخر.
* (مسألة) (فإن نذر مكروها كالطلاق فإنه مكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أبغض الحلال إلى الله
الطلاق " استحب ان يكفر ولا يفعله)
لأن ترك المكروه أولى من فعله فإن فعله فلا كفارة عليه والخلاف فيه كالذي قبله (الرابع)
335

نذر المعصية كشرب الخمر وصوم يوم الحيض ويوم العيد فلا يجوز الوفاء به ويكفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " من نذر ان يعصي الله فلا يعصه " ولان معصية الله لا تباح في حال ويجب على الناذر كفارة
يمين، روي نحو هذا عن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب، وبه قال
الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه وسنذكر ذلك
إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (إلا أن ينذر ذبح ولده ففيه روايتان (إحداهما) انه كذلك (والثانية) يلزمه ذبح كبش
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن قال إن فعلت كذا فلله علي نحر ولدي أو يقول
ولدي نحير ان فعلت كذا أو نذر ذبح ولده مطلقا غير معلق بشرط فعن احمد عليه كفارة يمين
وهذا قياس المذهب لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج وكلاهما يوجب الكفارة وهو قول ابن
عباس فإنه قال لامرأة نذرت ان تذبح ابنها لا تنحري ابنك كفري عن يمينك
(والرواية الثانية) كفارته ذبح كبش ويطعمه المساكين وهو قول أبي حنيفة ويروى ذلك
عن ابن عباس أيضا، لأن نذر ذبح الولد جعل في الشرع كنذره ذبح شاة بدليل أن الله تعالى أمر
إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وكان أمرا بذبح شاة وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه
ودليل انه أمر بذبح شاة ان الله لا يأمر بالفحشاء ولا بالمعاصي وذبح الولد من كبائر المعاصي، قال الله
336

تعالى (ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو
خلقك " قيل ثم أي؟ قال " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك "، وقال الشافعي ليس هذا بشئ
ولا يجب به شئ لأنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به ولا يجوز ولا تجب به كفارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " رواه سعيد في سننه
ولان النذر حكمه حكم اليمين بدليل قوله عليه الصلاة والسلام " النذر حلفة " وكفارته كفارة يمين
فيكون بمنزلة من حلف ليذبحن ولده وقولهم ان النذر لذبح الولد كناية عن ذبح كبش لا يصح
لأن إبراهيم عليه السلام لو كان مأمورا بذبح كبش لم يكن الكبش فداء ولا كان مصدقا للرؤيا
قبل ذبح الكبش وإنما أمر بذبح ابنه ابتلاء ثم فدي بذبح الكبش وهذا أمر اختص به إبراهيم
عليه السلام لا يتعداه إلى غيره لحكمة علمها الله تعالى فيه ثم لو كان إبراهيم مأمورا بذبح كبش فقد
ورد شرعنا بخلافه فإن نذر ذبح الابن ليس بقربة في شرعنا ولا مباح بل هو معصية فتكون كفارته
كفارة سائر نذور المعاصي.
(فصل) فإن نذر ذبح نفسه أو أجنبي ففيها أيضا عن أحمد روايتان فنقل ابن منصور عن أحمد
337

فيمن نذر ذبح نفسه إذا حنث يذبح شاة وكذلك ان نذر ذبح أجنبي لأن ذلك يروى عن ابن
عباس والذي قال أنا أنحر فلانا فقال عليه كبش ولأنه نذر ذبح آدمي فكان عليه ذبح كبش كنذر
ذبح ابنه (والثانية) عليه كفارة يمين لأنه نذر معصية فكان موجبه كفارة لما ذكرنا فيما تقدم
وروى الجوزجاني باسناده عن الأوزاعي قال حدثني أبو عبيد قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال إني
نذرت ان أنحر نفسي فتجهمه ابن عمر واقف منه ثم أتي ابن عباس فقال اهد مائة بدنة ثم أتي
عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال أرأيت لو نذرت ان لا تكلم أباك أو أخاك؟ إنما هذه خطوة من
خطوات الشيطان استغفر الله وتب إليه فرجع إلى ابن عباس فأخبره نقال أصاب عبد الرحمن ورجع
ابن عباس عن قوله والصحيح ان هذا نذر معصية حكمه حكم سائر المعاصي لا غير.
(فصل) قال أحمد في امرأة نذرت نحر ولدها ولها ثلاثة أولاد تذبح عن كل واحد كبشا وتكفر
عن يمينها وهذا على قولنا ان كفارة نذر ذبح الولد كبش فجعل عن كل واحد لأن لفظ الواحد
إذا أضيف اقتضى التعميم فكان عن كل واحد كبش فإن عينت بنذرها واحدا فإنما عليه كبش
واحد بدليل إبراهيم عليه السلام لما أمر بذبح ابنه الواحد فدى بكبش واحد ولم يفد غير من أمر
بذبحه من أولاده كذا ههنا وعبد المطلب لما نذر ذبح ابن من بنيه ان يبلغوا عشرة لم يفد منهم إلا
واحدا وسواء نذرت معينا أو عينت واحدا غير معين، فأما قول أحمد وتكفر يمينها فيحتمل
338

انه أراد ان تذبح الكباش كفارة ويحتمل انه كان مع نذرها يمين فأما على الرواية الأخرى تجزئها
كفارة يمين على ما سبق.
* (مسألة) * (ويحتمل ان لا ينعقد نذر المباح ولا المعصية ولا تجب به كفارة ولهذا قال أصحابنا
من نذر الاعتكاف أو الصلاة في مكان معين فله فعله في غيره ولا كفارة وقد روي عن أحمد ما يدل على
ذلك فإنه قال فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة لبنة لا كفارة عليه)
وهذا في معناه وروي هذا عن مسروق والشعبي وهو مذهب الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر
في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد " رواه مسلم والمذهب ان عليه الكفارة وقد ذكرناه في نذر المباح
ووجهه ما روت عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " رواه الإمام أحمد
وأبو داود والترمذي وقال هذا حديث غريب
(فصل) وان نذر فعل طاعة وليس بطاعة لزمه فعل الطاعة كالذي في خبر أبي إسرائيل فإن
النبي صلى الله عليه وسلم امره باتمام الصوم وترك ما سواه لكونه ليس بطاعة وفي وجوب الكفارة لما تركه
روايتان على ما ذكرناه وقد روى عقبة بن عامر ان أخته نذرت ان تمشي إلى بيت الله الحرام حافية
غير مختمرة فذكر عقبة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مر أختك فلتركب ولتختمر ولتعصم ثلاثة
339

أيام "، رواه الجوزجاني والترمذي فإن كان المتروك خصالا كثيرة أجزأته كفارة واحدة لأنه نذر
واحد فتكون كفارته واحدة كاليمين الواحدة على أفعال ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أخت عقبة بن عامر
في ترك التحفي والاختمار بأكثر من كفاة.
* (مسألة) * (ولو نذر الصدقة بكل ماله فله الصدقة بثلثه ولا كفارة عليه
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي لبابة حين قال إن من توبتي يا رسول الله ان انخلع من
مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجزيك الثلث " وبهذا قال الزهري ومالك وقال ربيعة
يتصدق منه بقدر الزكاة لأن المطلق يحمل على معهود الشرع ولا يجب في الشرع إلا قدر الزكاة وعن
جابر بن زيد قال إن كان كثيرا وهو ألفان تصدق بعشره وإن كان متوسطا وهو الف تصدق بسبعه،
وإن كان قليلا وهو خمسمائة تصدق بخمسه وقال أبو حنيفة يتصدق بالمال الزكوي كله وعنه في غيره فيه روايتان.
[إحداهما] يتصدق به (والثانية) لا يلزمه منه شئ وقال النخعي والبتي والشافعي يتصدق بماله
كله لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر ان يطيع الله فليطعه " ولأنه نذر طاعة فلزمه الوفاء به كنذر الصلاة والصيام
ولنا حديث أبي لبابة المذكور وعن كعب ابن مالك قال قلت يا رسول الله ان من توبتي ان
انخلع من مالي صدقه إلى الله والى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك بعض مالك فهو
خير لك " متفق عليه ولأبي داود يجزئ عنك الثلث قالوا ليس هذا بنذر وإنما أراد الصدقة
340

بجميعه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم؟ الاقتصار على الثلث وليس هذا محل النزاع إنما النزاع فيمن نذر الصدقة
بجميعه فلنا عنه جوابان
(أحدهما) أن قوله " يجزئك الثلث " دليل على أنه اتى بلفظ يقتضي الايجاب لأنها إنما تستعمل غالبا
في الواجبات ولو كان مخيرا بإرادة الصدقة لما لزمه شئ يجزئ عنه بعضه (الثاني) ان منعه من الصدقة
بزيادة على الثلث دليل على أنه ليس بقربة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع أصحابة من القرب ونذر ما ليس
بقربة لا يلزم الوفاء به
ولنا على أبي حنيفة ان غير الزكوي مال فتناوله النذر كغير الزكوي وما قاله ربيعة لا يصح فإن
هذا ليس بزكاة ولا في معناها فإن الصدقة وجبت لاغناء الفقراء ومواساتهم وهذه صدقة تبرع بها
صاحبها تقربا إلى الله تعالى ثم إن المحمول على معهود الشرع المطلق وهذه صدقة معينة غير مطلقة ثم
تبطل بما لو نذر صياما فإنه لا يحمل على صوم رمضان وكذلك الصلاة وما ذكره جابر بن زيد
فهو تحكم بغير دليل
* (مسألة) * (وان نذر الصدقة بألف لزمه جميعه)
وعنه يجزئه ثلثه إذا نذر الصدقة بمعين من ماله أو بمقدر كألف فروي عن أحمد انه يجزئه ثلثه
لأنه مال نذر الصدقة به فأجزأه ثلثه كجميع المال والصحيح في المذهب لزوم الصدقة بجميعه لأنه
341

منذور هو قربة فلزمه الوفاء به كسائر المنذورات ولعموم قوله سبحانه (يوفون بالنذر) وإنما خولف
هذا في جميع المال للأثر فيه ولما في الصدقة بالمال كله من الضرر اللاحق به اللهم الا أن يكون المنذور
ههنا يستغرق جميع المال فيكون كنذر ذلك ويحتمل انه إن كان المنذور ثلث المال فما دون لزمه وفاء
نذره وان زاد على الثلث لزمه الصدقة بقدر الثلث منه لأنه حكم يعتبر فيه الثلث فأشبه الوصية به
(فصل) إذا نذر الصدقة بقدر من المال فابرأ غريمه من قدره يقصد به وفاء النذر لم يجزئه وإن
كان الغريم من أهل الصدقة قال أحمد لا يجزئه حتى يقبضه وذلك لأن الصدقة تقتضي التمليك وهذا
إسقاط فلم يجزئه كما في الزكاة قال أحمد فيمن نذر ان يتصدق بمال وفي نفسه انه الف أجزأه ان يخرج
ما قلنا وذلك لأن اسم المال يقع على القليل وما نواه زيادة على ما تناوله الاسم والنذر لا يلزم بالنية والقياس
انه يلزمه ما نواه لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فتعلق الحكم به كاليمين وقد نص أحمد فيمن نذر صوما أو
صلاة وفي نفسه أكثر مما تناوله لفظه انه يلزمه ذلك وهذا كذلك
* (فصل) * قال رحمه الله (الخامس نذر التبرر كنذر الصلاة والصيام والصدقة والاعتكاف
والحج والعمرة ونحوها من القرب سواء نذره مطلقا أو علقه بشرط يرجوه فقال إن شفى الله مريضي
أو سلم الأمالي فلله علي كذا فمتى وجد شرطه انعقد نذره ويلزمه الوفاء به)
نذر التبرر يتنوع ثلاثة أنواع (أحدها) هذا الذي ذكرناه إذا كان في مقابلة نعمة استجلبها أو نقمة
342

استدفعها كقوله ان شفي الله مريضي فعلي صوم شهر وتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الشرع كالصوم
والصلاة والصدقة والحج فهذا يلزم الوفاء به باجماع أهل العلم
(والنوع الثاني) التزام طاعة من غير شرط كقوله ابتداء لله علي صوم شهر فيلزم الوفاء به في
قول أكثر أهل العلم وهو قول أهل العراق وظاهر مذهب الشافعي وقال بعض أصحابه لا يلزم
الوفاء به لأن أبا عمر غلام ثعلبة قال النذر عند العرب وعد بشرط ولان ما التزمه الآدمي بعوض يلزمه
كالبائع والمستأجر وما التزمه بغير عوض لا يلزمه بمجرد العقد كالهبة
(النوع الثالث) نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض فيلزم الوفاء به
عند عامة أهل العلم
وحكى عن أبي حنيفة انه لا يلزمه الوفاء به لأن النذر فرع على المشروع فلا يجب به ما لا يجب له مالا نظير
له بأصل الشرع ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر ان يطيع الله فليطعه " رواه البخاري وذمه الذين ينذرون.
ولا يوفون وقول الله تعالى (ومنهم من عاهد الله لأن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين)
الآيات إلى قوله (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) وقال عمر اني نذرت ان أعتكف ليلة
في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " ولأنه الزم نفسه قربة على وجه التبرر فلزمه
كموضع الاجماع وكالعمرة فإنهم سلموها وهي غير واجبة عندهم كالاعتكاف وما ذكروه يبطل بهذين
الأصلين وما حكوه عن أبي عمر لا يصح فإن العرب تسمى الملتزم نذرا وان لم يكن بشرط قال جميل
343

فليت رجالا فيك قد نذروا دمي * وهموا بقتلي يابثين لقوني
والجعالة وعد بشرط وليست بنذر
* (مسألة) * (وان نذر صوم سنة لم يدخل في نذره رمضان ويوما العيد وفي أيام التشريق روايتان
وعنه ما يدل على أنه يقضي يومي العيدين وأيام التشريق)
إذا نذر صوم سنة معينة لم يدخل في نذره رمضان، ويوما العيدين لا يصح صومهما فلم يدخلا
في نذره كالليل وفي أيام التشريق روايتان
(إحداهما) لا يدخل في نذره لأنه منهى عن صومها اشبهت يومي العيدين
(والثانية) تدخل في نذره ويصومها كالمتمتع إذا لم يجد الهدي وفيه رواية أخرى ان يومي
العيدين وأيام التشريق يدخل في نذره فعلى هذا لا يصومها ويقضي بدلها وعليه كفارة يمين لقوله عليه
السلام " لا نذر في معصية " وكفارته كفارة يمين رواه أبو داود وان قلنا يجوز صيام أيام التشريق
عن نذره فصامها فلا كفارة عليه لأنه أتى بالمنذور أشبه ما لو نذر غيرها مما يصح صومه
* (مسألة) * (وان نذر صوم يوم الخميس فوافق يوم عيد أو حيض أفطر وقضي وكفر)
لأن مثل هذا النذر ينعقد لأنه نذر نذرا يمكن الوفاء به غالبا فكان منعقدا كما لو وافق غير
344

يوم العيد أو غير يوم الحيض والنفاس ولا يجوز ان يصوم يوم العيد ان وافقه لأن الشرع حرم صومه
فأشبه زمن الحيض ويلزمه القضاء لأنه نذر منعقد قد فاته الصيام بالعذر فلزمته الكفارة كما لو فاته
لمرض وعنه يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوم صومه معصية فأوجب الكفارة من غير قضاء كما
لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها
* (مسألة) * (ونقل عنه ما يدل على أنه ان صام يوم العيد صح صومه)
لأنه وفي بما نذر، فأما ان وافق نذره يوم حيض أو نفاس لم يصمه بغير خلاف نعلمه بين أهل
العلم ويتخرج في القضاء والكفارة مثل ما في يوم العيد قياسا عليه
* (مسألة) * (وان وافق أيام التشريق فهل يصومها؟ على روايتين)
(إحداهما) يصومها لقول عائشة لم يرخص في هذه الأيام ان يصمن الا للمتمتع إذا لم يجد الهدي
فسنا عليه سائر الواجبات (والثانية) لا يصومها للنهي عن ذلك
* (مسألة) * (وان نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم ليلا فلا شئ عليه وان قدم نهارا فعنه ما يدل
على أنه لا ينعقد نذره ولا يلزمه الا صيام ذلك اليوم ان لم يكن أفطر وعنه أنه يقضي ويكفر سواء
قدم وهو مفطر أو صائم وان وافق قدومه يوما من رمضان فقال الخرقي يجزئه صياما لرمضان ونذره
وقال غيره عليه القضاء وفي الكفارة روايتان)
345

وجملة ذلك أنه إذا نذر ان يصوم يوم يقدم فلان صح نذره وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي
الشافعي وقال في الاخر لا يصح نذره لأنه لا يمكن صومه بعد وجود شرطه فلم يصم كما لو قال لله علي
ان أصوم اليوم الذي قبل اليوم الذي يقدم فيه زيد
ولنا أنه زمن يصح فيه صوم التطوع فانعقد نذره لصومه كما لو أصبح صائما تطوعا وقال لله
علي أن أصوم يومي وقولهم لا يصح صومه لا يصح لأنه قد يعلم اليوم الذي يقدم فيه قبل قدومه فينوي
صومه من الليل ولأنه قد يجب عليه مالا يمكنه كالصبي يبلغ في أثناء يوم من رمضان والحائض تطهر
فيه ولا نسلم ما قاسوا عليه: إذا ثبت ذلك لم يخل من اقسام خمسة
(أحدهما) ان يقدم ليلا فلا شئ عليه في قول الجميع لأنه لم يقدم في اليوم ولا في وقت يصح فيه الصيام
(الثاني) أن يعلم قدومه من الليل فينوي صومه ويكون يوما يجوز فيه صوم النذر فيصح
صومه ويجزئه وفاء بنذره
(الثالث) أن يقدم يوم فطر أو أضحى فاختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فعنه لا يصح
ويقضي ويكفر نقله عن أحمد جماعة وهو قول أكثر أصحابنا ومذهب الحكم وحماد (والرواية الثانية)
يقضي ولا كفارة عليه وهو قول الحسن والأوزاعي وأبي عبيد وقتادة وأبي ثور وأحد قولي الشافعي
لأنه فاته الصوم الواجب بالنذر فلزمه قضاؤه كما لو تركه نسيانا ولم تلزمه كفارة لأن الشرع منعه
346

من صومه فهو كالمكره وعن أحمد رواية ثالثة ان صامه صح صومه وهو مذهب أبي حنيفة لأنه
قد وفي بما نذر فأشبه ما لو نذر معصية ففعلها ويتخرج أن يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوما صومه
حرام فكان موجبه الكفارة كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها ويتخرج ان لا يلزمه شئ
من كفارة ولا قضاء بناء على من نذر المعصية. ووجه قول الخرقي ان النذر ينعقد لأنه نذر نذرا يمكن
الوفاء به غالبا فكان منعقدا كما لو وافق غير يوم العيد ولا يجوز أن يصوم يوم العيد لأن الشارع
حرم صومه فأصابه زمن الحيض ولزمه القضاء لأنه نذر منعقد قد فاته الصيام بالعذر فلزمته الكفارة
لفواته كما لو فاته بمرض، وان وافق يوم حيض أو نفاس فهو كما لو وافق يوم فطر أو أضحى الا
انها لا تصومه بغير خلاف بين أهل العلم
(الرابع) ان يقدم في يوم يصح صومه والناذر مفطر ففيه روايتان (إحداهما) يلزمه القضاء
والكفارة لأنه نذر صوما نذرا صحيحا ولم يف به فلزمه القضاء والكفارة كسائر المنذورات ويتخرج
ان لا تلزمه كفارة وهو مذهب الشافعي لأنه ترك المنذر لعذر (والثانية) لا يلزمه شئ من قضاء
ولا غيره وهو قول أبي يوسف وأصحاب الرأي وابن المنذر لأنه قدم في زمن لا يصح صومه فيه فلم
يلزمه شئ كما لو قدم ليلا
347

(الخامسة) قدم والناذر صائم فلا يخلو من أن يكون تطوعا أو فرضا فإن كان تطوعا
فقال القاضي يصوم بقيته ويعقده عن نذره ويجزئه ولا قضاء ولا كفارة وهو قول أبي
حنيفة لأنه يمكن صوم يوم بعضه تطوع وبعضه واجب كما لو نذر في صوم التطوع اتمام صوم ذلك
اليوم وإنما وجد سبب الوجوب في بعضه وذكر القاضي احتمالا آخر أنه يلزمه القضاء والكفارة
لأنه صوم واجب فلم يصح بنية من النهار كقضاء رمضان وذكر أبو الخطاب هذين الاحتمالين
روايتين وعند الشافعي عليه القضاء فقط كما لو قدم وهو مفطر ويتخرج لنا مثله، وأما إن كان الصوم
واجبا مثل ان يوافق يوما من رمضان فقال الخرقي يجزئه لرمضان ونذره لأنه نذر صومه وقد وفى به
وقال غيره عليه القضاء لأنه لم يصمه عن نذره وفي الكفارة روايتان (إحداهما) يجب لتأخر النذر
(والثانية) لا يجب لأنه أخر أشبه ما لو أخر صوم رمضان لعذر
* (مسألة) * (وان وافق يوم نذره وهو مجنون فلا قضاء عليه ولا كفارة) لأنه خرج عن أهلية
التكليف قبل وقت النذر أشبه ما لو فاته
(فصل) وان قال لله علي صوم يوم العيد فهذا نذر معصية على ناذر الكفارة لا غير نقلها حنبل
عن أحمد وفيه رواية أخرى ان عليه القضاء مع الكفارة كما لو نذر يوم الخميس فوافق يوم العيد
والأولى هي الصحيحة قاله القاضي لأن هذا نذر معصية فلم يوجب قضاء كسائر المعاصي وفارق ما
348

إذا نذر صوم يوم الخميس فوافق يوم العيد لأنه لم يقصد بنذره المعصية وإنما وقع اتفاقا وههنا وتعمدها
بالنذر فلم ينعقد نذره ويدخل في قوله عليه الصلاة والسلام " لا نذر في معصية " ويتخرج ألا
يلزمه شئ بناء على نذر المعصية فيما تقدم
* (مسألة) * (وان نذر صوم شهر معين فلم يصمه لغير عذر فعليه القضاء وكفارة يمين)
لأنه صوم واجب معين أخره فلزمه قضاؤه كرمضان وتلزمه كفارة يمين لتأخير النذر عن وقته لأنه يمين
وان لم يصمه لعذر فعليه القضاء لأنه واجب أشبه رمضان وفي الكفارة روايتان (إحداهما) تلزمه
لتأخير النذر والأخرى لا تلزمه لأنه أخره لعذر أشبه تأخير رمضان ل‍؟ ذر
* (مسألة) * (وان صام قبله لم يجزئه) وكذلك ان نذر الحج في عام فحج قبله وقال أبو يوسف
يجزئه كما لو حلف ليقضينه حقه في وقت فقضاه قبله
ولنا ان المنذر محمول على المشروع ولو صام قبل رمضان لم يجزئه فكذلك إذا صام المنذور قبله
ولأنه لم يأت بالمنذور في وقته فلم يجزئه كما لو لم يفعله أصلا
* (مسألة) * (وان أفطر في أثنائه لغير عذر لزمه استئنافه ويكفر ويحتمل ان يتم باقيه ويقضي ويكفر)
إذا نذر صوم شهر معين فأفطر في أثنائه لم يخل من حالين أحدهما الفطر لغير عذر ففيه روايتان
(إحداهما) ينقطع صومه ويلزمه استئنافه لأنه صوم يجب متتابعا بالنذر فابطله الفطر لغير عذر وفارق
349

رمضان فإنه تتابعه بالشرع لا بالنذر وههنا أوجبه عل نفسه ثم فوته فأشبه ما لو شرطه متتابعا
(الثانية) لا يلزمه الاستئناف الا أن يكون قد شرط التتابع وهذا قول الشافعي لأن وجوب
التتابع ضرورة التعيين لا بالشرط فلم يبطله الفطر في أثنائه كشهر رمضان ولان الاستئناف يجعل
الصوم في غير الوقت الذي عينه والوفاء بنذره في غير وقته وتفويت البعض لا يوجب تفويت الجميع فعلى هذا
يكفر عن فطره ويقضي أيام فطره بعد اتمام صومه وهذا أ؟ يس إن شاء الله تعالى وأصح وعلى الرواية
الأولى يلزمه الاستئناف عقيب الأيام التي أفطر فيها ولا يجوز تأخيره لأن باقي الشهر منذور فلا يجوز
ترك الصوم فيه وتلزمه كفارة أيضا لا خلاله بصوم الأيام التي أفطرها
(الحال الثاني) أفطر لعذر فإنه يبني على ما مضى من صيامه ويكفر هذا قياس المذهب وفيه رواية
أخرى انه لا كفارة عليه وهو مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لأن النذر محمول على المشروع
ولو أفطر رمضان لعذر لم يلزمه شئ
ولنا انه فات ما نذره فلزمته كفارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة بن عامر " ولتكفر يمينها " وفارق رمضان
فإنه لو أفطر لغير عذر لم تجب عليه كفارة إلا في الجماع بخلاف هذا
(فصل) وان جن جميع الشهر المعين لم يلزمه قضاء ولا كفارة وقال أبو يوسف يلزمه القضاء لأنه
350

من أهل التكليف في وقت الوجوب فلم يلزمه القضاء كما لو كان في شهر رمضان وان حاضت المرأة جميع الزمن
المعين فعليها القضاء وفي الكفارة وجهان وقال الشافعي لا كفارة عليها وفي القضاء وجهان (أحدهما) لا يلزمها
لأن زمن الصوم لا يمكن الصوم فيه فلا يدخل في النذر كزمن رمضان
ولنا ان المنذور يحمل على المشروع ابتداء ولو حاضت في شهر رمضان لزمها القضاء فكذلك المنذور
(فصل) وان قال على الحج في عامي هذا فلم يحج لعذر أو غيره فعليه القضاء والكفارة ويحتمل
أن لا كفارة عليه إذا كان معذورا وقال الشافعي ان تعذر عليه الحج لاحد الشرائط السبعة أو منعه
منع سلطان أو عدو فلا قضاء عليه وان حدث به مرض أو أخطأ أو تواني قضاه
ولنا انه فاته الحج المنذور فلزمه قضاؤه كما لو مرض ولان المنذور محمول على المشروع ابتداء
ولو فاته المشروع لزمه قضاؤه فكذلك المنذور
* (مسألة) * (وان نذر صوم شهر لزمه التتابع)
إذا نذر صوم شهر فهو مخير بين أن يصوم شهرا بالهلال فيجزئه وبين أن يصومه بالعدد ثلاثين
يوما ويلزمه التتابع في أحد الوجهين وهو قول أبي ثور لأن اطلاق الشهر يقتضي التتابع (والثاني) لا يلزمه التتابع
351

وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوما ولا خلاف في أنه يجزئه
ثلاثون يوما فلم يلزمه التتابع كما لو نذر ثلاثين يوما
* (مسألة) * (وان نذر أياما معدودة لم يلزمه التتابع الا أن يستر له)
نص عليه أحمد وروي عنه فيمن قال لله علي صيام عشرة أيام يصومها متتابعا وهذا يدل على
وجوب التتابع في الأيام المنذورة وهو اختيار القاضي وحمل بعض أصحابنا كلام احمد على من شرط
التتابع أو نواه لأن لفظ العشرة لا يقتضي تتابعا والنذر لا يقتضيه ما لم يكن في لفظه أو نيته وقال
بعضهم كلام أحمد على ظاهره ويلزمه التتابع في نذر العشرة دون الثلاثين لأن الثلاثين شهر فلو
أراد التتابع لقال شهرا فعدوله إلى العدد دليل على إرادة التفريق بخلاف العشرة والصحيح أنه لا يلزمه
التتابع فإن عدم ما يدل على التفريق ليس بدليل على التتابع فإن الله تعالى قال في رمضان (فعدة من
أيام أخر) ولم يذكر تفريقها ولا تتابعها ولم يجب التتابع فيها بالاتفاق وقال بعض أصحابنا ان نذر
اعتكاف أيام لزمه التتابع ولا يلزم مثل ذلك في الصيام لأن الاعتكاف يتصل بعضه ببعض من
غير فصل الصوم يتخلله الليل فيفصل بعضه من بعض ولذلك لو نذر اعتكاف يومين متتابعين لدخل
فيه الليل والصحيح التسوية لأن الواجب ما اقتضاه لفظه ولا يقتضي التتابع بدليل نذر الصوم وما ذكروه
ومن قال يلزمه التتابع لزمته الليالي التي بين أيام الاعتكاف كما لو قال متتابعة
352

* (مسألة) * (وان نذر صياما متتابعا فأفطر لمرض أو حيض قضى لا غير وان أفطر لغير عذر
لزمه الاستيفاء وإن أفطر لسفر أو ما يبيح الفطر فعلى وجهين)
وجملته ان من نذر صياما متتابعا غير معين لم يخل من حالين (أحدهما) ان يفطر لعذر من حيض
أو مرض أو نحوه فهو مخير بين ان يبتدئ الصوم ولا شئ عليه لأنه أتى بالمنذور على وجهه وبين أن
يبني على صيامه ويكفر لأن الكفارة تلزم لتركه المنذور وإن كان عاجزا بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر
أخت عقبة بن عامر بالكفارة لعجزها عن المشي ولان النذر كاليمين، ولو حلف ليصومن صياما متتابعا
ثم لم يأت به متتابعا لزمته الكفارة، وإنما جوزنا له البناء ههنا لأن الفطر لعذر لا يقطع التتابع حكما
كما لو أفطر في صيام الشهرين المتتابعين لعذر كان له البناء والذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح
انه لا كفارة عليه إذا أفطر لعذر فإنه قال: قضاه لا غير وهي إحدى الروايتين عن أحمد، كما لو
ترك التتابع في الشهرين المتتابعين لعذر فإنه لا كفارة عليه كذا ههنا
(الحال الثاني) ان يفطر لغير عذر فهذا يلزمه استئناف الصيام ولا كفارة عليه لأنه ترك التتابع
المنذور لغير عذر مع امكان الاتيان به فلزمه فعله كما لو نذر صوما معينا فصام قبله فإن أفطر لعذر يبيح الفطر
353

كالسفر لم يقطع التتابع في أحد الوجهين لأنه عذر في فطر رمضان فأشبه المرض (والثاني) يفطر لأنه أفطر
باختياره أشبه ما لو أفطر لغير عذر
(فصل) إذا نذر صوم شهر متتابع فصام من أول الهلال أجزأه تاما كان الشهر أو ناقصا لأن
ما بين الهلالين شهر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " الشهر تسع وعشرون " وإن بدأ من أثناء شهر لزمه
شهر بالعدد ثلاثون يوما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم علكيم فأكملوا
ثلاثين " لأنه بدأ من أثنائه، إن كان ناقصا قضى يومين وإن كان تاما أتم يوما واحدا وان صام ذا الحجة
أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ولم ينقطع تتابعه كما لو أفطرت المرأة لحيض، وعليه كفارة ويقضي
أربعة أيام إن كان تاما وخمسة إن كان ناقصا والأولى أن لا يلزمه إلا أربعة إذا كان ناقصا لأنه بدأ
من أوله فيقضي المتروك منه حسب، وان صام من أول شهر فمرض فيه أياما معلومة أو حاضت المرأة فيه
ثم طهرت قبل خروجه قضى ما أفطر منه بعدته إن كان الشهر تاما وإن كان ناقصا فهل يلزمه الاتيان
بيوم آخر؟ على وجهين بناء على ما ذكرنا فيما إذا أفطر يوم العيد وأيام التشريق.
(فصل) إذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان فقدم في أول شهر رمضان فظاهر كلام الخرقي
ان هذا نذر منعقد يجزئ صيامه عن النذر ورمضان وهو قول أبي يوسف وقياس قول ابن عباس
وعكرمة لأنه نذر صوما في وقت وقد صام فيه، وقال القاضي في شرحه ظاهر كلام الخرقي انه غير
354

منعقد لأن نذره وافق زمنا يستحق صومه فلم ينعقد نذره كنذر صوم رمضان قال والصحيح عندي
صحة النذر لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالبا فانعقد كما لو وافق شعبان فعلى هذا يصوم رمضان ثم يقضي
ويكفر وهذا اختيار أبي بكر ونقل جعفر بن محمد عن أحمد ان عليه القضاء وقول الخرقي: أجزأه صيامه
لرمضان ونذره دليل على أن نذره انعقد عنده لولا ذلك ما كان صومه عن نذره وقد نقل أبو طالب
عن أحمد في من نذر ان يحج وعليه حجة مفروضة فاحرم عن النذر: وقعت عن المفروض ولا يجب
عليه شئ آخر وهذا مثل قول الخرقي وروي عكرمة عن ابن عباس في رجل نذر ان يحج ولم يكن
حج الفريضة قال يجزئ لهما جميعا، وعن عكرمة انه سئل عن ذلك فقال عكرمة يقتضي حجة عن نذره
وعن حجة الاسلام أرأيتم لو أن رجلا نذر ان يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه
من العصر والنذر؟ قال فذكرت قولي لابن عباس فقال أصبت وأحسنت وقال ابن عمر وأنس يبدأ
بحجة الاسلام ثم يحج لنذره وفائدة انعقاد ونذره لزوم الكفارة بتركه وانه لو لم ينوه لنذره لزمه
قضاؤه وعلى هذا لو وافق نذره بعض رمضان وبعض شهر آخر اما شعبان وإما شوال لزمه صوم ما خرج
عن رمضان ويتمه، ولو قال لله علي صوم رمضان فعلى قياس قول الخرقي يصح نذره ويجزئه صيامه عن
الامرين ولزمته الكفارة ان أخل به وعلى قول القاضي لا ينعقد نذره وهو مذهب الشافعي لأنه لا يصح
صومه عن النذر أشبه الليل.
355

ولنا أن النذر يمين فينعقد في الواجب موجبا للكفارة كاليمين بالله تعالى وقد نقل عن أحمد فيمن
نذر أن يحج العام وعليه حجة الاسلام روايتان.
(إحداهما) تجزئه حجة الاسلام عنها وعن نذره نقلها أبو طالب (والثانية) ينعقد نذره موجبا
لحجة غير الاسلام ويبدأ بحجة الاسلام ثم يقضي نذره نقلها ابن منصور لأنهما عبادتان تجبان بسببين
مختلفين فلم تسقط إحداهما بالأخرى كما لو نذر حجتين. ووجه الأولى انه نذر عبادة في وقت معين
وقد أتى بها فيه فأشبه ما لو قال لله علي ان أصوم رمضان.
(فصل) فأما ان قال لله علي ان أصوم شهرا فنوى صيام شهر رمضان لنذره ورمضان لم يجزئه
لأن شهر رمضان واجب يفرض الله تعالى ونذره يقتضي إيجاب شهر فيجب شهران بسببين
فلا يجزئ أحدهما عن الآخر كما لو نذر صوم شهرين وكما لو نذر أن يصلي ركعتين لم تجزئه صلاة
الفجر عن نذره وعن الفجر
* (مسألة) * (وان نذر صياما فعجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم عنه لكل يوم
مسكينا ويحتمل أن يكفر ولا شئ عليه)
من نذر طاعة لا يطيقها أو كان قادرا عليها فعجز عنها فعليه كفارة يمين لما روى عقبة بن عامر
قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته
356

فقال " لتمش ولتركب " متفق عليه ولأبي داود " ولتكفر يمينها " وللترمذي " ولتصم ثلاثة أيام " وعن
عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين "
قال " ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين " رواه أبو داود وقال وقفه من رواه عن ابن عباس
وقال ابن عباس من نذر نذرا يطيقه فليف بما نذر فإذا كفر وكان المنذور غير الصيام لم يلزمه شئ
آخر وإن كان صياما فعن احمد روايتان
(إحداهما) يلزمه لكل يوم اطعام مسكين قال القاضي وهذا أصح لأنه صوم وجد سبب ايجابه
عبثا فإذا عجز عنه لزمه ان يطعم عن كل يوم مسكينا كصوم رمضان ولان المطلق من كلام الادمي
يحمل على المطلق من كلام الله تعالى، ولو عجز عن الصوم المشروع أطعم عن كل يوم مسكينا كذلك
إذا عجز عن الصوم المنذور
(والثانية) لا يلزمه شئ آخر من اطعام ولا غيره لقوله من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة
يمين وهذا يقتضي أن تكون كفارة اليمين جميع كفارته ولأنه نذر عجز عن الوفاء به فكان الواجب
فيه كفارة يمين كسائر النذر ولان موجب النذر موجب اليمين الا مع إمكان الوفاء به إذا كان قربة
ولا يصح قياسه على صوم رمضان لوجهين (أحدهما) ان رمضان يطعم عنه عند العجز بالموت فكذلك
في الحياة (الثاني) ان قياس المنذور على المنذور أولى من قياسه على المفروض بأصل الشرع لأن هذا
قد وجبت فيه كفارة فأجزأت عنه بخلاف المشروع
357

(فصل) وان عجز عن الصوم لعارض يرجى زواله من مرض أو نحوه انتظر زواله ولا تلزمه
كفارة ولا غيرها لأنه لم يفت الوقت فيشبه المريض في شهر رمضان فإن استمر عجزه إلى أن صار
غير مرجو الزوال صار إلى الكفارة والفدية على ما ذكرنا من الخلاف فيه، فإن كان العجز المرجو
الزوال عن صوم معين فات وقته انتظر الامكان ليقضيه وهل تلزمه لفوات الوقت كفارة، على روايتين
ذكرهما أبو الخطاب (إحداهما) تجب الكفارة لأنه أخل بما نذره على وجهه فلزمته الكفارة كما لو نذر
المشي إلى بيت الله الحرام فعجز ولان النذر كاليمين ولو حلف ليصومن هذا الشهر لزمته الكفارة
كذا ههنا (والثانية) لا يلزمه لأنه أتى بصيام أجزأ عن نذره من غير تفريطه فلم تلزمه كفارة
كما لو صام عينه
(فصل) فإن نذر غير الصيام فعجز عنه كالصلاة ونحوها فليس عليه الا الكفارة لأن
الشرع لم يجعل لذلك حدا يصار إليه فوجبت الكفارة لمخالفته نذره فقط وان عجز عنه لعارض فحكمه
حكم الصيام سواء فيما فصلناه
(فصل) وان نذر صياما ولم يسم عددا ولم ينوه أجزأه صوم يوم لا خلاف فيه لأنه ليس في
الشرع صوم مفرد أقل من يوم فلزمه لأنه اليقين فإن نذر صلاة مطلقة ففيها روايتان
(إحداهما) تجزئه ركعة نقلها إسماعيل بن سعيد لأن أقل الصلاة ركعة فإن الوتر صلاة مشرعة
وهي ركعة واحدة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تطوع بركعة واحدة
358

(والثانية) لا يجزئه إلا ركعتان ذكرها الخرقي وبه قال أبو حنيفة لأن أقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان
فوجب حمل النذر عليه، وأما الوتر فهو نفل والنذر فرض فحمله على المفروض أولى ولان الركعة لا تجزئ في
الفرض ولا تجزئ في النفل كالسجدة وللشافعي قولان كالروايتين فاما ان عين بنذره عددا لزمه قل أو كثر
لأن النذر يثبت بقوله فكذلك عدده فإن نوى عددا فهو كما لو سماه لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فلزمه حكمه كاليمين
(فصل) وان نذر صوم الدهر لزمه ولم يدخل في نذره رمضان ولا أيام العيد والتشريق فإذا
أفطر لعذر أو غيره لم يقضه لأن الزمن مستغرق بالصوم المنذور لكن تلزمه كفارة لتركه وان لزمه
قضاء لرمضان أو كفارة قدمه على النذر لأنه واجب بأصل الشرع فيقدم على ما أوجبه على نفسه لتقديم
حجة الاسلام على المنذورة وإذا لزمته كفارة لتركه صوم يوم أو أكثر وكانت كفارته الصيام احتمل
ان يجب لأنه لا يمكن التكفير الا بترك الصوم المنذور وتكره يوجب كفارة فيفضي إلى التسلسل
وترك المنذور بالكلية ويحتمل ان تجب الكفارة ولا يجب بفعلها كفارة لأن ترك النذر لعذر لا
يوجب كفارة فلا يفضي إلى التسلسل والله أعلم
* (مسألة) * (وان نذر المشي إلى بيت الله الحرام أو موضع من الحرم لم يجزئه إلا المشي في حج
أو عمرة فإن ترك المشي لعجز أو غيره فعليه كفارة يمين وعنه عليه دم)
وجملة ذلك أن من نذر المشي إلى بيت الله عز وجل لزمه الوفاء بنذره وبهذا قال مالك
359

والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نذر ان
يطيع الله فليطعه - وقال - لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا
والمسجد الأقصى " ولا يجزئه المشي الا في حج أو عمرة وبه يقول الشافعي ولا نعلم فيه خلافا وذلك
لأن المشي إليه في الشرع هو المشي في حج أو عمرة فإذا اطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي ويلزمه
المشي لنذره إياه فإن عجز عن المشي ركب وعليه كفارة يمين وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم
وهو قول الشافعي وبه قال عطاء لما روى ابن عباس ان أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت
الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم ان تركب وتهدي هديا رواه أبو داود وفيه ضعف لأنه أخل بواجب
في الاحرام فلزمه هدي كتارك الاحرام من المقيات وعن ابن عمر وابن الزبير قالا يحج من قابل
ويركب ما مشي ويمشي ما ركب ونحوه قال ابن عباس وزاد ويهدي وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة
وعن النخعي روايتان (إحداهما) كقول ابن عمر (والثانية) كقول ابن عباس وهذا قول مالك وقال
أبو حنيفة يلزمه هدي سواء عجز عن المشي أو قدر عليه وأقل الهدي شاة وقال الشافعي لا تلزمه
مع العجز كفارة بحال الا أن يكون النذر إلى بيت الله فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان وأما غيره
فلا يلزم مع العجز شئ
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت الله " لتمش ولتركب
360

ولتكفر يمينها " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " كفارة النذر كفارة اليمين " ولان المشي مما لا يوجبه الاحرام
فلم يجب الدم يتركه كما لو نذرت صلاة ركعتين فتركتهما وحديث الهدي ضعيف وهذا حجة على
الشافعي حيث أوجب الكفارة عليها من غير ذكر العجز فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عليه الكفارة
من غير ذكر العجز قلنا يتعين حمله على حالة العجز لأن المشي قربة لكونه مشيا إلى عبادة والمشي إلى العبادة
أفضل ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب في عيد ولا جنازة فلو كانت قادرة على المشي لأمرها به ولم يأمرها
بالتكفير ولان المشي المقدور عليه لا يخلو من أن يكون واجبا أو مباحا فإن كان واجبا لزم الوفاء به وإن كان
مباحا لم تجب الكفارة بتركه عند الشافعي وقد أوجب الكفارة ههنا وترك ذكره في الحديث إما لعلم
النبي صلى الله عليه وسلم بحالها وعجزها وإما لأن الظاهر من حال المرأة العجز عن المشي إلى مكة أو يكون قد ذكر
في الخبر فترك الراوي ذكره وقول أصحاب أبي حنيفة إنه أخل بواجب في الحج قلما المشي لم
يوجبه الاحرام ولا هو من مناسكه فلم يجب بتركه هدي كما لو نذر صلاة ركعتين في الحج فلم يصلهما
فاما ان ترك المشي مع إمكانه فقد أساء وعليه كفارة لتركه صفة النذر وقياس المذهب ان يلزمه
استئناف الحج ماشيا لتركه صفة المنذور كما لو نذر صوما متتابعا فأتى به متفرقا، فإن عجز عن المشي
بعد الحج كفر وأجزأه وان مشي بعض الطريق وركب بعضا فعلى هذا القياس يحتمل أن يكون كقول
361

ابن عمر وهو ان يحج فيمشي ما ركب ويركب ما مشي ويحتمل ان لا يجزئه الا حج يمشي في جميعه
لأن ظاهر النذر يقتضي هذا ووجه القول الأول وهو الا يلزمه بترك المشي المقدور عليه أكثر
من كفارة ان المشي ليس بمقصود في الحج ولا ورد الشرع باعتباره في موضع فلم يلزمه بتركه
أكثر من كفارة كما لو نذر النحفي وشبهه وفارق التتابع في الصيام فإنه صفة مقصودة فيه اعتبرها
الشرع في صيام كفارتي الظهار والقتل
* (مسألة) * (فإن نذر الركوب فمشى فعلى الروايتين)
إذا نذر الحج راكبا لزمه الحج كذلك لأن فيه انفاقا في الحج فإن ترك الركوع فعليه كفارة
وقال أصحاب الشافعي يلزمه دم لترفهه بترك الانفاق وعن أحمد مثل ذلك وقد بينا ان الواجب بترك
النذر الكفارة دون الهدي الا ان هذا إذا مشى ولم يركب مع امكانه لم يلزمه أكثر من كفارة
لأن الركوب في نفسه ليس بطاعة ولا قربة، وكل موضع نذر المشي فيه أو الركوب فإنه يلزمه الاتيان
بذلك من دويرة أهله إلا أن ينوي موضعا بعينه فيلزمه من ذلك الموضع لأن النذر محمول على
أصله في الفرض، والحج المفروض يجب كذلك ويحرم للمنذور من حيث يحرم للواجب وقال بعض
الشافعية يجب الاحرام من دويرة أهله لأن اتمام الحج كذلك
ولنا ان المطلق محمول على المعهود في الشرع، والاحرام الواجب إنما هو من الميقات ويلزمه
362

المنذور من المشي أو الركوب في الحج والعمرة إلى أن يتحلل لأن ذلك انقضاء الحج والعمرة. قال
احمد يركب في الحج إذا رمى وفي العمرة إذا سعى لأنه لو وطئ بعد ذلك لم يفسد حجه ولا عمرته،
وهذا يدل على أنه إنما يلزمه في الحج التحلل الأول
(فصل) وإذا نذر المشي إلى البيت الحرام أو بقعة منه كالصفا والمروة وأبي قبيس، أو موضع
من الحرم لزمه حج أو عمرة نص عليه احمد وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزمه إلا أن ينذر
المشي إلى الكعبة أو إلى مكة، وقال أبو يوسف ومحمد ان نذر المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام
كقولنا وفي باقي الصور كقول أبي حنيفة
ولنا أنه نذر المشي إلى موضع من الحرم أشبه النذر إلى مكة فاما ان نذر المشي إلى غير الحرم
كعرفة ومواقيت الاحرام وغير ذلك لم يلزمه ذلك ويكون كنذر المباح وكذلك ان نذر اتيان مسجد
سوى المساجد الثلاثة لم يلزمه اتيانه، وان نذر الصلاة فيه لزمه الصلاة دون المشي ففي أي موضع صلى
أجزأه لأن الصلاة لا تختص مكانا دون مكان فلزمته الصلاة دون الموضع ولا نعلم في هذا خلافا الا عن
الليث فإنه قال لو نذر صلاة أو صياما بموضع لزمه فعله في ذلك الموضع ومن نذر المشي إلى مسجد مشى إليه
قال الطحاوي ولم يوافقه على ذلك أحد من الفقهاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة
مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " متفق عليه ولو لزمه المشي إلى مسجد
بعيد لشد الرحل إليه وقد ذكرناه في الاعتكاف
363

(فصل) فإن نذر المشي إلى بيت الله ولم ينو شيئا ولم يعينه انصرف إلى بيت الله الحرام لأنه
المخصوص بالقصد دون غيره، واطلاق بيت الله ينصرف إليه دون غيره في العرف فينصرف إليه في النذر
(فصل) إذا نذر المشي إلى بيت الله والركوب إليه ولم يرد بذلك حقيقة المشي إنما أراد اتيانه لزمه
اتيانه في حج أو عمرة وعن أبي حنيفة لا يلزمه شئ لأن مجرد اتيانه ليس بقربة ولا طاعة
ولنا انه علق نذره بوصول البيت فلزمه كما لو قال لله علي المشي إلى الكعبة إذا ثبت هذا فإنه
مخير في المشي والركوب، وكذلك إذا نذر أن يحج البيت أو يزوره لأن الحج يحصل بكل واحد
من الامرين فلم يتبين أحدهما وان قال لله علي ان آتي البيت الحرام غير حاج ولا معتمر لزمه الحج
أو العمرة وسقط شرطه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن قوله لله علي ان آتي البيت يقتضي حجا
أو عمرة وشرط سقوط ذلك يخالف نذره فسقط حكمه.
(فصل) إذا نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لزمه ذلك وبهذا قال مالك والأوزاعي
وأبو عبيد وابن المنذر وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يتبين لي وجوب المشي إليهما لأن البر
باتيان بيت الله فرض والبر باتيان هذين نفل
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا
364

والمسجد الأقصى " ولأنه أحد المساجد الثلاثة فيلزم النذر بالمشي إليه كالمسجد الحرام ولا يلزم ما ذكروه
فإن كان قربة تجب بالنذر، وان لم يكن لها أصل في الوجوب كعيادة المرضى وشهود الجنائز ويلزمه بهذا
النذر أن يصلي في الموضع الذي أتاه ركعتين لأن القصد بالنذر القربة والطاعة وإنما يحصل ذلك
بالصلاة فتضمن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت الله الحرام أحد النسكين ونذر الصلاة في أحد
المسجدين كنذر المشي إليه كما أن نذر أحد النسكين في المسجد الحرام كنذر المشي وقال أبو حنيفة
لا تتعين عليه الصلاة في موضع بالنذر سواء كان في المسجد الحرام أو غيره لأن مالا أصل له في الشرع
لا يجب بالنذر بدليل نذر الصلاة في سائر المساجد
ولنا ما روي أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله اني نذرت أن اعتكف ليلة في المسجد
الحرام قال " أوف بنذرك " متفق عليه، روي عنه عليه الصلاة والسلام " صلاة في المسجد الحرام
بمائة الف صلاة " وان كانت فضيلة وقربة لزمت بالنذر كما لو نذر طول القراءة وما ذكروه ويبطل بالعمرة
فإنها تلزم بالنذر وهي غير واجبة عندهم
(فصل) إذا نظر الصلاة في المسجد الحرام لم تجز الصلاة في غيره لأنه أفضل المساجد وأكثرها
ثوابا للمصلي فيها وان نذر الصلاة في المسجد الأقصى أجزأته الصلاة في المسجد الحرام لما روى جابر
ان رجلا قام يوم الفتح فقال يا رسول الله اني نذرت ان فتح الله عليك ان أصلي في بيت المقدس
365

ركعتين قال " صل ههنا " ثم أعاد عليه قال " صل ههنا " ثم أعاد عليه قال " صل ههنا " ثم أعاد عليه قال
" شأنك " رواه الإمام أحمد ولفظه " والذي نفسي بيده لو صليت ههنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت
المقدس " وقد سبق هذا في باب الاعتكاف
(فصل) وان أفسد الحج المنذور ماشيا وجب القضاء مشيا لأن القضاء يكون على صفة الأداء
وكذلك ان فاته الحج لكن ان فاته الحج سقط توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة ومنى والرمي وتحلل
للعمرة ويمضي في الحج الفاسد ماشيا حتى يحل منه
* (مسألة) * (فإن نذر رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب إلا أن ينوي رقبة بعينها)
إذا نذر رقبة فهي التي تجزئ في الكفارة وهي المؤمنة السليمة من العيوب المضرة بالعمل على
ما ذكرنا في بابا الظهار لأن النذر المطلق تحمل على المعهود في الشعر والواجب بأصل الشرع كذلك
وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي
(والثاني) تجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة مسلمة أو كافرة لأن الاسم يتناول جميع ذلك
ولان المطلق يحمل على معهود الشرع وهو الواجب في الكفارة وما ذكروه يبطل بنذر المشي إلى
بيت الله الحرام فإنه لا يحمل على ما تناوله الاسم فاما ان نوى رقبة بعينها أجزأه عتقها اي رقبة كانت
لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، وان نوى ما يقع عليه الاسم الرقبة أجزأه ما نواه لما ذكرنا فإن المطلق يتقيد
366

بالنية كما يتقيد بالقرينة اللفظية، وقال احمد فيمن نذر رقبة معينة فمات قبل أن يعتقها تلزمه كفارة يمين
ولا يلزمه عتق عبد لأن هذا شئ فاته على حديث عقبة بن عامر واليه ذهب في الفائت وما عجز عنه
(فصل) ومن نذر حجا أو صياما أو صدقة أو عتقا أو اعتكافا أو صلاة أو غيرها من الطاعات
ومات قبل فعله فعله الولي عنه وعن أحمد في الصلاة لا يصلي عن الميت لأنها لا بدل لها بحال واما سائر
الأعمال فيجوز أن ينوب الولي عنه فيها وليس بواجب عليه لكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة له
والمعروف وأفتى بذلك ابن عباس في امرأة نذرت أن تمشي إلى قباء فماتت ولم تقضه أن تمشي ابنتها
عنها، وروى سعيد عن سفيان عن عبد الكريم بن أبي أمية انه سأل ابن عباس عن نذر كان على
أمه من اعتكاف قال صم عنها واعتكف عنها وقال ثنا أبو الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن عامر
ابن شعيب ان عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعدما مات
وقال مالك لا يمشي أحد عن أحد ولا يصوم عنه ولا يصلي وكذلك سائر أعمال البدن قياسا
على الصلاة، وقال الشافعي يقضي عنه الحج ولا يقضي الصلاة قولا واحدا ولا يقضي الصوم في أحد
الوجهين ويطعم عنه في كل يوم مسكين لأن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات وعليه صيام
شهر فليطعم عنه عن كل يوم مسكين " أخرجه ابن ماجة
367

وقال أهل الظاهر يجب القضاء على وليه بظاهر الأخبار الواردة فيه وجمهور أهل العلم على أن
القضا ليس بواجب على الولي الا أن يكون حقا في المال ويكون للميت تركة فامر النبي صلى الله عليه وسلم في
هذا محمول على الندب والاستحباب بدليل قرائن في الخبر منها ان النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقضاء
الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخف تركة يقضي منها، ومنها ان السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم
هل يفعل ذلك أولا؟ وجوابه يختلف باختلاف مقتضى سؤاله فإن كان مقتضاه السؤال عن الإباحة
فالامر في جوابه يقتضي الإباحة وإن كان السؤال عن الاجزاء فأمره يقتضي الاجزاء كقولهم أنصلي
في مرابض الغنم؟ قال " صلوا في مرابض الغنم " وإن كان السؤال عن الوجوب فأمره يقتضي الوجوب
كقولهم أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال " نعم توضئوا منها " وسؤال السائل في مسئلتنا كان عن
الاجزاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل يقتضيه لا غير
ولنا على جواز الصيام عن الميت ما روت عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من مات
368

وعليه صيام صام عنه وليه " وعن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان أمي ماتت
وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال " لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ " قال نعم قال " فدين الله
أحق ان يقضي " وفي رواية قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان أمي ماتت
وعليها صوم أفأصوم عنها؟ قال " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت
نعم قال " فصومي عن أمك " متفق عليهن وعن ابن عباس ان سعد بن عبادة استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في
نذر كان على أمه فتوفيت قبل ان تقضيه فأفتاه ان يقضيه فكانت سنة بعد وعنه ان رجلا أتي النبي
صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي نذرت ان تحج وانها ماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ "
369

قال نعم قال " فاقض الله فهو أحق بالقضاء " رواه البخاري وهذا صريح في الصوم والحج ومطلق في
النذر وما عدا المذكور في الحديث فمقاس عليه وحديث ابن عمر في الواجب بأصل الشرع ويتعين حمله
عليه جميعا بين الحديثين ولو قدر التعارض لكانت أحاديثنا أصح وأكثر وأولى بالتقديم. إذا ثبت
هذا فإن الأولى ان يقضي النذر عنه وارثه وان قضاه غيره أجزأ عنه كما لو قضى عنه دينه فإن النبي
صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقاسه عليه ولان ما يقضيه الوارث إنما هو تبرع منه وغيره مثله في التبرع وإن كان
النذر في مال تعلق بتركته
* (مسألة) * (وان نذر ان يطوف على أربع طاف طوافين)
نص عليه قال ذلك ابن عباس لما روى معاوية ابن خديج الكندي انه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
370

ومعه أمه كبشة بنت معدي كرب عمة الأشعث بن قيس فقالت يا رسول الله اني آليت ان أطوف
بالبيت حبوا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوفي على رجليك سبعين سبعا عن يديك وسبعا عن رجليك "
أخرجه الدارقطني باسناده وقال ابن عباس في امرأة نذرت ان تطوف بالبيت على أربع قال تطوف
عن يديها سبعا وعن رجلها سبعا رواه سعيد والقياس ان يلزمه طواف واحد على رجليه ولا يلزمه على
يديه لأنه غير مشروع فسقط كما أن أخت عقبة بن عامر نذرت ان تحج غير مختمرة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم
371

ان تحج وتختمر وروى عكرمة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فحانت منه نظرة فإذا امرأة ناشرة
شعرها قال " فمروها فلتختمر " ومر برجلين مقرونين فقال " أطلقا قرانكا وقد ذكرنا حديث أبي
إسرائيل الذي نذر ان يصوم ويفعل أشياء فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوم وحده ونهاه عن سائر
نذوره وهل تلزمه كفارة؟ يخرج فيه وجهان بناء على ما تقدم وقياس المذهب لزوم الكفارة لا خلاله
بصفة نذره وإن كان غير مشروع كما لو كان أصل النذر غير مشروع وأما وجه الأول فإن من نذر
الطواف على أربع فقد نذر الطواف على يديه ورجليه فأقيم الطواف الثاني مقام طوافه على يديه
372

كتاب القضاء
الأصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (وان
احكم بينهم بما أنزل الله) وقوله (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم خرجا مما قضيت) وأما السنة فروي عبد الله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران
وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " متفق عليه في آي وأخبار سوى ذلك كثيرة واجمع المسلمون على مشروعية
نصب القضاء والحكم بين الناس
* (مسألة) * (وهو فرض كفاية)
لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجبا عليهم كالجهاد والإمامة قال أحمد رحمه الله لابد
للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟ وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداء الحق فيه ولذلك
جعل الله فيه اجرا على الخطأ وأسقط عنه حكمه ولان فيه أمرا بالمعروف ونصرة للمظلوم وأداء الحق
إلى مستحقه ورد الظالم عن ظلمه واصلاحا بين الناس وتخليصا لبعضهم من بعض وذلك من أبواب
القرب ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله فكانوا يحكمون لأممهم وبعث عليا إلى
اليمن قاضيا وبعث معاذا قاضيا، وعن عقبة بن عامر قال جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله صلى
373

الله عليه وسلم فقال " اقض بينهما " قلت أنت أولى بذلك قال " وإن كان " قلت علام اقضي؟ قال
" اقض فإن صبت فلك عشرة أجور وان أخطأت فلك أجر واحد " رواه سعيد في سننه، وولى عمر
شريحا قضاء الكوفة وكعب بن سور قضاء البصرة
(فصل) وفيه خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه ولذلك كان السلف يمتنعون منه أشد
الامتناع ويخشون على أنفسهم خطره قال خاقان بن عبد الله أريد أبو قلابة على قضاء البصرة فهرب
إلى اليمامة فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل ليس هناك غيرك قال فانزلوا
الامر على ما قلتم فإن مثلي مثل سابح وقع في البحر فسبح يومه فانطلق ثم سبح اليوم الثاني فمضى
أيضا فلما كان اليوم الثالث فترت يداه، وكان يقال اعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة ولعظم خطره
قال النبي صلى الله عليه وسلم " من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين " قال الترمذي هذا حديث حسن
قيل في هذا الحديث إنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء وإنما وصفه بالمشقة فكأن من وليه قد حمل
على مشقة كمشقة الذبح
* (مسألة) * (فيجب على الإمام ان ينصب في كل إقليم قاضيا ويختار لذلك أفضل من يجد وأورعهم)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا قاضيا إلى اليمن وبعث معاذا قاضيا أيضا وقال " بم تحكم؟ " قال بكتاب الله
قال " فإن لم تجد؟ " قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فإن لم تجد؟ " قال اجتهد رأيي قال " الحمد
374

لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " وولى عمر شريحا قضاء الكوفة وكتب
إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء في الشام ولان أهل كل بلد يتحاجون إلى القاضي ولا
يمكنهم المصير إلى الإمام ومن أمكنه ذلك شق عليه فوجب اغناؤهم عنه
* (مسألة) * (ويختار لذلك أفضل من يجد وأورعهم ويأمر بتقوى الله تعالى وايثار طاعته في
سره وتحري العدل والاجتهاد في إقامة الحق)
إذا أراد الإمام تولية قاض فإن كان له خبرة بالناس ويعرف من يصلح للقضاء ولاه وان لم يعرف
ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم عما يصلح وان ذكر له رجل لا يعرف احضره وسأله
فإن عرف عدالته والا بحث عن عدالته فإذا عرفها ولاه قال علي رضي الله عنه لا ينبغي للقاضي أن
يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الرأي، ويكتب
له الإمام عهدا يأمره فيه بتقوى الله والتثبت في القضاء ومشاورة أهل العلم وتصفح حال الشهود وتأمل
الشهادات وتعاهد اليتامى وحفظ أموالهم وأموال الوقوف وغير ذلك مما يحتاج إلى مراعاته وان يستخلف
في كل صقع أصلح من يقدر عليه ليكون قيما بما يتولاه
* (مسألة *) (وهل يجب على من يصلح له إذا طلب ولم يوجد غيره الدخول فيه وعنه أنه سئل
هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال لا يأثم وهذا يدل على أنه ليس بواجب)
الناس في القضاء على ثلاثة أضرب (منهم) من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم
375

تجتمع فيه شروطه فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " القضاة ثلاثة " ذكر منهم رجالا قضى بين الناس
بجهل فهو في النار ولان من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من مستحقه ويدفعه إلى غيره
(ومنهم) من يجوز له ولا يجب عليه وهو من كان من أهل العدالة والاجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن
يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته ولا يجب عليه لأنه لم يتعين له فظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له
الدخول فيه لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولان طريقة
السلف الامتناع منه والتوقي وقد أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه وقال أبو عبد الله ابن حامد
إن كان رجلا خاملا يرجع إليه في الأحكام فالأولى له توليه ليرجع إليه في الأحكام ويقوم به الحق
وينتفع به المسلمون، وإن كان مشهورا في الناس بالعلم يرجع إليه في تعليم العلم والفتوى فالأولى الاشتغال
بذلك لما فيه من النفع مع الامن من الغرر هذا قول أصحاب الشافعي وقالوا أيضا إذا كان ذا حاجة
وله في القضاء رزق فالأولى له الاشتغال به فيكون أولى من سائر المكاسب لأنه قربة وطاعة (والثالث)
من يجب عليه وهو من يصلح للقضاء ولا يوجد سواه فهذا يتعين عليه لأنه فرض كفاية لا يقدر على
القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين عليه فإنه
سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قال لا يأثم فهذا يحتمل أن يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه
من الخطر فلا يلزمه الاضرار بنفسه لنفع غيره ولذلك امتنع أبو قلابة منه وقد قيل له ليس ههنا
غيرك ويحتمل ان يحمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فإن أحمد قال لابد
للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟
376

* (مسألة) * (وان وجد غيره كره له طلبه بغير خلاف في المذهب).
لأن أنسا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى نفسه ومن
أكره عليه أنزل الله عز وجل ملكا يسدده " قال الترمذي حديث حسن غريب وقال النبي صلى الله عليه وسلم
لعبد الرحمن بن سمرة " يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن
أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها " متفق عليه.
* (مسألة) * (وإن طلب فالأفضل ألا يجيب في ظاهر كلام أحمد).
وقال ابن حامد الأفضل الإجابة إذا أمن نفسه وقد ذكرنا أن ظاهر كلام أحمد رحمه
الله أن الأفضل والأولى له ألا يجيب إذا طلب ووجد غيره لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من
السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولان طريقة السلف الامتناع منه والتوفي لذلك وقد أراد
عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه وقد ذكرنا قول ابن حامد مفصلا وهو قول أصحاب الشافعي.
* (مسألة) * (ولا تثبت ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو نائبه لأنها من المصالح العامة فلم تجز
إلا من جهة الإمام كعقد الذمة).
* (مسألة) * (ومن شرط صحتهما معرفة المولي كون المولى على صفة تصلح للقضاء).
لأن مقصود القضاء لا يحصل إلا بذلك فإن كان يعرف صلاحيته للقضاء ولاه وإن لم يعرف ذلك
سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم فإن عرف ذلك ولاه.
377

* (مسألة) * (ويعين ما يوليه الحكم فيه من الأعمال والبلدان ومشافهته بالولاية أو مكاتبته بها
واشهاد شاهدين على توليته وقال القاضي تثبت بالاستفاضة إذا كان بلده قريبا يستفيض فيه أخبار بلد الإمام)
يشترط تعيين ما يوليه من الأعمال والبلدان ليعلم محمل ولايته فيحكم فيه ولا يحكم في غيره وقد ولى النبي
صلى الله عليه وسلم عليا قضاء اليمن وولى عمر شريحا قضاء الكوفة وكعب بن سور قضاء البصرة وبعث في كل مصر
قاضيا وواليا، ويشافهه الإمام بالولاية إن كان حاضرا أو يكاتبه بها إن كان غائبا لأن التولية تحصل بالمشافهة
في الحضرة وبالمكاتبة في الغيبة كالتوكيل فإن كان البلد الذي لا قضاة فيه غير بلد الإمام كتب له
العهد بما ولاه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمر وبن حزم حين بعثه إلى اليمن وكتب عمر إلى أهل
الكوفة، أما بعد فاني قد بعثت عليكم عمارا أميرا وعبد الله قاضيا فاسمعوا لهما وأطيعوا، فإن كان البلد
الذي ولاه بعيدا لا يستفيض إليه الخبر بما يكون في بلد الإمام أحضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما
العهد وأشهدهما على توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته فيقيما له الشهادة ويقول لهما اشهدا على اني قد وليته
قضاء البلد الفلاني وتقدمت إليه بما يشتمل هذا العهد عليه، وإن كان البلد قريبا من بلد الإمام يستفيض
إليه ما يجري في بلد الإمام نحو أن يكون بينهما خمسة أيام أو ما دونها جاز أن يكتفى بالاستفاضة دون
الشهادة، لأن الولاية تثبت بها وبهذا قال الشافعي إلا أن عنده في ثبوت الولاية بالاستفاضة في البلد
القريب وجهين، وقال أصحاب أبي حنيفة تثبت بالاستفاضة ولم يفرقوا بين البلد القريب والبعيد
378

لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى عليا قضاء اليمن وهو بعيد من غير شهادة وولى الولاة في البلدان البعيدة وفوض
إليهم الولاية والقضاء ولم يشهد وكذلك خلفاؤه ولم ينقل عنهم الاشهاد على تولية القضاء
مع بعد بلدانهم.
ولنا أن القضاء لا يثبت إلا بأحد أمرين وقد بعدت الاستفاضة في البلد البعيد لعدم وصولها
إليه فيتعين الاشهاد ولا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد على توليته، فإن الظاهر أنه لم
يبعث واليا إلا ومعه جماعة الظاهر أنه أشهدهم وعدم نقله لا يلزم منه عدم فعله، وقد قام
دليله فيتعين وجوبه.
* (مسألة) * (وهل تشترط عدالة المولي على روايتين).
(إحداهما) تشترط كما تشترط في المتولي (والثانية) لا تشترط لأن ولاية الإمامة الكبرى تصح
من كل بر وفاجر فصحت ولايته كالعدل ولأننا لو اعتبرنا العدالة في المولي أفضى إلى تعذرها بالكلية
فيما إذا كان الإمام غير عدل.
* (مسألة) * (وألفاظ التولية الصريحة سبعة وليتك الحكم وقلدتك أو استنبتك واستخلفتك
ورددت إليك وفوضت إليك الحكم فإذا وجد لفظ منها والقبول من المولى انعقدت الولاية)
لأنها لا تحتمل الا ذلك فمتى أني بواحدة منها واتصل بها القبول صحت الولاية كالبيع والنكاح
وغير ذلك والكناية أربعة اعتمدت عليك وعولت عليك ووكلت إليك وأسندت إليك الحكم فلا
379

تنعقد حتى يقترن بها قرينة نحو فاحكم أو تول ما عولت عليك فيه وما أشبهه نحو وانظر فيما أسندت
إليك واحكم فيما وكلت إليك، ولأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها من كونه يأخذ برأيه وغير
ذلك فلم تنصرف إلى التولية الا بقرينة تنفي الاحتمال.
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه وإذا ثبتت الولاية وكانت عامة استفاد بها النظر عشرة
أشياء: فصل الخصومات واستيفاء الحق ممن هو عليه ودفعه إلى ربه والنظر في أموال اليتامى والمجانين
والسفهاء والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس والنظر في الوقوف في عمله باجرائها على
شرط الواقف وتنفيذ الوصايا وتزويج النساء اللاتي لا ولي لهن وإقامة الحدود وإقامة الجمعة والنظر في
مصالح عمله بكف الأذى عن طرقات المسلمين وأفنيتهم وتصفح حال شهوده وامنائه والاستبدال
بمن يثبت جرحه منهم وإنما تثبت هذه الولايات له لأن العادة من القضاة توليها فعند اطلاق تولية
القضاء تنصرف إلى ولاية ما جرت العادة بولايته لها فاما جباية الخراج وأخذ الصدقة فعلى وجهين
(أحدهما) تدخلان فيه قياسا على سائر الخصال المذكورة وفي الآخر لا يدخلان فيه لأن العادة لم
تثبت بتولية القضاء لهما لأن الأصل عدم ذلك فلا يثبت
* (مسألة) * (وله طلب الرزق لنفسه وامنائه وخلفائه مع الحاجة فاما مع عدمها فعلى وجهين)
يجوز للقاضي أخذ الرزق ورخص فيه شريح وابن سيرين والشافعي وأكثر أهل العلم وروي
380

عن عمر رضي الله عنه انه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا ورزق شريحا في كل
شهر مائة درهم وبعث إلى الكوفة عمارا وابن مسعود وعثمان وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم
وكتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام ان انظرا رجالا من صالحي من قبلكم
فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله وقال أبو الخطاب يجوز له
أخذ الرزق مع الحاجة فاما مع عدمها فعلى وجهين، وقد روي عن أحمد أنه قال ما يعجبني ان يأخذ على
القضاء اجرا وإن كان فبقدر عمله مثل مال اليتيم وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الاجر على القضاء
وكان ابن مسعود وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه أجرا وقالا لا نأخذ أجرا
على أن نعدل بين اثنين وقال أصحاب الشافعي ان لم يكن متعينا جاز له أخذ الرزق وان تعين لم يجز
الا مع الحاجة والصحيح جواز الاخذ عليه مطلقا لأن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا
له رزقا كل يوم درهمين ولما ذكرنا ان عمر رزق زيدا وشريحا وابن مسعود وأمر بفرض الرزق
لمن ولي من القضاة ولان بالناس حاجة إليه ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل وضاعت الحقوق فاما الاستئجار
عليه فلا يجوز قال عمر رضي الله عنه لا ينبغي لقاضي المسلمين ان يأخذ على القضاء اجرا وهذا مذهب
الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأنه قربة يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فأشبه الصلاة ولأنه لا يعمله
الانسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة ولأنه عمل غير معلوم فإن لم يكن القاضي رزق
فقال للخصمين لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي عليه جعلا جاز ويحتمل الا يجوز
381

(فصل) قال رضي الله عنه ويجوز ان يوليه عموم النظر في عموم العمل ويجوز ان يوليه خاصا
في أحدهما أو فيهما ويوليه النظر في بلد أو محلة خاصة فينفذ قضاؤه في أهله ومن طرأ إليه ويجعل إليه
الحكم في المداينات خاصة أو في قدر من المال لا يتجاوزه أو يفرض إليه عقود الأنكحة دون
غيرها لأن ذلك جميعه إلى الإمام وله الاستنابة في الكل فتكون له الاستنابة في البعض فإن من ملك
في الكل ملك في البعض وقد صح ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يستنيب أصحابه كلا في شئ فولى عمر القضاء
وبعث عليا قاضيا على اليمين وكان يرسل أصحابه في جمع الزكاة وغيرها وكذلك الخلفاء بعده ولأنه
نيابة فكان على حسب الاستنابة
* (مسألة) * (فإن جعل إليهما عملا واحدا جاز)
وعند أبي الخطاب لا يجوز وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه يؤدي إلى إيقاف الأحكام
والخصومات لأنهما يختلفان في الاجتهاد ويرى أحدهما مالا يرى الآخر (والثاني) يجوز وهو قول أصحاب
أبي حنيفة وهو أصح إن شاء الله تعالى لأنه يجوز ان يستخلف في البلد الذي هو فيه فيكون فيه
قاضيان فجاز أن يكون فيها قاضيان أصلبان لأن الغرض فصل الخصومات وإيصال الحق إلى مستحقه
وهذا يحصل فأشبه القاضي وخلفاءه ولأنه يجوز للقاضي ان يستخلف خليفتين في موضع واحد فالإمام
أولى لأن توليته أقوى وقولهم يفضي إلى ايقاف الأحكام لا يصح فإن كل حاكم يحكم باجتهاده بين
المتحاكمين إليه وليس للآخر الاعتراض عليه ولا نقض حكمه فيما خالف اجتهاده
382

(فصل) ولا يجوز ان يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه وهذا مذهب الشافعي ولا
نعلم فيه خلافا لأن الله تعالى قال (فاحكم بين الناس بالحق) والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له
الحق في غير ذلك المذهب فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط وفي فساد التولية وجهان بناء على
الشروط الفاسدة في البيع
(فصل) إذا فرض الإمام إلى انسان تولية القاضي جاز لأنه يجوز ان يتولى ذلك فجاز له التوكيل
فيه كالبيع فإن فوض إليه اختيار قاض جاز ولا يجوز له اختيار نفسه ولا والده ولا ولده كما لو وكله
في الصدقة بمال لم يجز له أخذه ولا دفعه إلى هذين ويحتمل ان يجوز له اختيارهما إذا كانا صالحين
للولاية لأنهما يدخلان في عموم من اذن له في الاختيار منه مع أهليتهما أشبها الأجانب
* (مسألة) * (إذا مات المولي أو عزل المولى مع صلاحيته لم تبطل ولايته في أحد الوجهين وتبطل في الاخر)
إذا ولى الإمام قاضيا ثم مات لم ينعزل القاضي لأن الخلفاء رضي الله عنهم ولو أحكاما في
زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم ولان في عزله بموت الإمام ضررا على المسلمين فإن البلد يتعطل من
الحكام وتقف أحكام الناس إلى أن يولي الإمام الثاني حاكما وفيه خطر عظيم وكذلك لا ينعزل
القاضي إذا عزل الإمام لما ذكرنا فاما ان عزله الإمام الذي ولاه أو غيره ففيه وجهان (أحدهما)
لا ينعزل وهو مذهب الشافعي لأنه عقد لمصلحة المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله كما لو عقد النكاح
على موليته لم يكن له فسخه (والثاني) ينعزل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأعزلن أبا مريم
383

وأولين رجلا إذا رآه الفاجر فرقه فعزله عن قضاء البصرة وولى كعب بن سور مكانه، وولى علي
رضي الله عنه أبا الأسود ثم عزله فقال له لم عزلتني وما خنت قال إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين
ولأنه يملك عزل أمرائه وولاته على البلدان فكذلك قضاته وقد كان عمر رضي الله عنه يولي ويعزل
فعزل شر حبيل ابن حسنة عن ولايته في الشام وولى معاوية فقال له شر حبيل أمن جبن عزلتني أو خيانة؟
قال من كل لا ولكن أردت رجلا أقوى من رجل وعزل خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة وقد كان
يولي بعض الولاة الحكم مع الامارة فولى أبا موسى البصرة قضاءها وإمارتها ثم كان يعزلهم هو ومن
لم يعزله عزله عثمان بعده الا القليل منهم فعزل القاضي أولى ويفارق عزله بموت من ولاه أو عزله لأن فيه
ضررا وههنا لا ضرر فيه لأنه لا يعزل قاضيا حتى يولي آخر مكانه ولهذا لا ينعزل القاضي بموت الإمام
وينعزل بعزله وقد ذكر شيخنا في عزله بالموت في الكتاب المشروح وجهين وحكاهما أبو الخطاب
والأولى إن شاء الله ما ذكرنا فاما ان تغيرت حال القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من
القضاء أو اختل فيه بعض شروطه فإنه ينعزل بذلك ويتعين على الإمام عزله وجها واحدا، وأما إذا
استخلف القاضي خليفة فإنه ينعزل بموته وعزله لأنه نائبه أشبه الوكيل
* (مسألة) * (وهل ينعزل قبل العلم بالعزل على روايتين بناء على الوكيل)
وقد مضى ذلك في كتاب الوكالة
384

(فصل) وللإمام تولية القضاء في بلده وغيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى عمر بن الخطاب القضاء وولى عليا ومعاذا
وقال عثمان لابن عمر ان أباك كان يقضي وهو خير منك فقال إن أبي قد كان يقضي فإن أشكل عليه
شئ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث رواه عمرو بن شيبة في قضاة البصرة
وروى سعيد في سننه عن عمرو بن العاص قال: جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي
" يا عمرو اقض بينهما " قال قلت أنت أولى بذلك مني يا رسول الله قال " ان أصبت القضاء بينهما
فلك عشر حسنات وان أخطأت فلك حسنة " وعن عقبة بن عامر مثله، ولان الإمام يشتغل بأشياء
كثيرة من مصالح المسلمين فلا يتفرع للقضاء بينهم فإذا ولى قاضيا استحب أن يجعل له أن يستخلف
لأنه قد يحتاج إلى ذلك فإذا أذن له في الاستخلاف جاز له بلا خلاف نعلمه، وان نهاه لم يكن له أن
يستخلف لأن ولايته باذنه فلم يكن له ما ذكرناه كالوكيل، وان أطلق فله الاستخلاف، ويحتمل أن
لا يكون له ذلك لأنه يتصرف بالاذن فلم يكن له ما لم يأذن فيه كالوكيل ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان
ووجه الأول ان الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين إذا فعله بنفسه بخلاف الوكيل فإن استخلف
في موضع ليس له الاستخلاف فحكمه حكم من لم يول
* (مسألة) * (وإذا قال المولي من نظر في الحكم في البلد الفلاني من فلان وفلان فهو خليفتي
أو قد وليته لم تنعقد الولاية لمن ينظر)
لأنه علقها على شرط ولم يعين بالولاية أحدا منهم، ويحتمل أن تنعقد لمن نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم
385

قال " زيد فإن قتل فأميركم جعفر فإن قتل فأميركم عبد الله بن رواحة " فعلق ولاية الامارة بعد زيد
على شرط فكذلك ولاية الحكم
* (مسألة) * (وان قال وليت فلانا وفلانا فمن نظر منهما فهو خليفتي انعقدت الولاية) لمن ينظر
منهما لأنه عقد الولاية لهما جميعا
(فصل) قال الشيخ رحمه الله ويشترط في القاضي عشر صفات أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا
مسلما عدلا سميعا بصير متكلما مجتهدا وهل يشترط كونه كاتبا؟ على وجهين
وجملة ذلك أنه يشترط للقاضي أن يكون بالغا عاقلا مسلما لأن هذه شروط العدالة فأولى أن تشترط
للقضاء (الرابع) الذكورية فلا تصح تولية المرأة، وحكي عن ابن جرير ان الذكورية لا تشترط لأن المرأة
يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضيا، وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون قاضية في غير
الحدود لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " ولان القاضي يحضره محافل الخصوم
والرجال ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل ضعيفة الرأي ليست
من أهل الحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها ولو كان معها الف امرأة مثلها ما لم يكن معهن
رجل وقد نبه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله سبحانه (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما
الأخرى) ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه
386

ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا
(الخامس) الحرية فلا تصح تولية العبد لأنه منقوص برقه مشغول بحقوق سيده لا تقبل شهادته
في جميع الأشياء فلم يكن اهلا للقضاء كالمرأة
[السادس] أن يكون سميعا (السابع) أن يكون بصيرا [الثامن] أن يكون متكلما لأن الأصم
لا يسمع قول الخصمين والأعمى لا يعرف المدعي من المدعي عليه والمقر من المقر له، والأخرس لا يمكنه النطق
بالحكم ولا يفهم الناس جميع إشارته وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز أن يكون أعمى لأن شعيبا عليه
السلام كان أعمى ولهم في الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان
ولنا ان هذه الحواس تؤثر في الشهادة فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع وهذا لأن منصب
الشهادة دون منصب القضاء، والشاهد يشهد في أشياء يسيرة يحتاج إليه فيها وربما أحاط بحقيقة علمها
والقاضي ولايته عامة فيحكم في قضايا الناس عامة فإذا لم تقبل منه الشهادة فالقضاء أولى، وما ذكر
عن شعيب عليه السلام فممنوع فإنه لم يثبت انه كان أعمى ولو ثبت فيه ذلك فلا يلزم ههنا فإن شعيبا
عليه السلام كان من آمن معه من الناس قليلا، وربما لا يحتاجون إلى الحكم بينهم لقلتهم وتناصفهم
فلا يكون حجة في مسئلتنا (التاسع) العدالة فلا يجوز تولية فاسق ولا من فيه نقص يمنع الشهادة
وسنذكر ذلك في الشهادة إن شاء الله تعالى، وحكي عن الأصم أنه قال يجوز أن يكون القاضي فاسقا
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها فصلوها لوقتها
واجعلوا صلاتكم معهم سبحة "
387

ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) فأمر بالتبيين عند قول
الفاسق ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله ويجب التبيين عند حكمه، ولان الفاسق لا يجوز
أن يكون شاهدا فلئلا يجوز أن يكون قاضيا أولى فاما الخبر فأخبر بوقوع ذلك مع كونهم أمراء لا بمشروعيته
والنزاع في صحة توليته لا في وجودها (العاشر) أن يكون مجتهدا وبهذا قال مالك والشافعي وبعض
الحنفية، وقال بعضهم يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد لأن الغرض منه فصل الخصومات فاما إذا
أمكنه ذلك جاز كما يحكم بقول المقومين
ولنا قول الله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله - وقال - وان تنازعتم في شئ فردوه إلى
الله والرسول) وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في
الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل جار في
الحكم فهو في النار " رواه ابن ماجة والعامي يقضي على جهل ولان الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا والزام
ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى فإن قيل فالمفتي يجوز أن يخبر بما يسمع قلنا نعم إلا أنه لا يكون
مفتيا في تلك الحال وإنما هو مخبر فيحتاج أن يجبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد فيكون معمر لا بخبره لا
بفتياه ويخالف قول المقومين لأن ذلك لا تمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم
* (مسألة) * (وليس من شرط الحاكم أن يكون كاتبا وفيه وجه آخر انه يشترط ذلك ليعلم
ما يكتبه كاتبه ولا يتمكن من اخفائه عنه)
388

ولنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا وهو سيد الحكام وليس من ضرورة الحكم الكتابة فلا تعتبر شرطا
فإن احتاج إلى ذلك جاز توليته لمن يعرفه كما أنه قد يحتاج إلى القسمة بين الناس وليس من شرطه معرفة المساحة
ويحتاج إلى التقويم وليس من شروط القضاء أن يكون عالما بقيم الأشياء
* (مسألة) * (والمجتهد من يعرف من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقيقة والمجاز
والأمر والنهي والمجمل والمبين والمحكم والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ
والمستثنى والمستثنى منه ويعرف من السنة صحيحها من سقيمها وتواترها من آحادها ومرسلها ومتصلها
ومسندها ومنقطعها مما له تعلق بالأحكام خاصة وهي في كتاب الله تعالى نحو خمسمائة آية ولا يلزمه
معرفة سائر القرآن، ومن السنة ما يتعلق بالأحكام دون سائر الأخبار ومن خبر الجنة والنار ونحوهما مما يتعلق
بالأحكام وإنما كان المجتهد من يعرف هذه الأشياء المذكورة لأن المجتهد هو من يمكنه تعرف الصواب
بدليله كالمجتهد في القبلة ومن لا يعرفه بدليله يكون مقلدا لكون يقبل قول غيره من غير معرفة بصوابه
كالذي يقبل قول الدليل على الطريق من غير معرفة بصوابه وقول من يعرف جهة القبلة من غير معرفة. وأدلة
الأحكام الكتاب والسنة والاجماع والقياس وجهة دلالة الكتاب والسنة من هذه الوجوه فالكلام
باطلاقه يحمل على الحقيقة دون المجاز والعام الخاص إذا تعارضا قدم الخاص ويجوز تخصيص العام
ولا يدخل الخاص تخصيص، والمطلق يحمل على المقيد والمقصود ان لكل واحد مما ذكرنا دلالة لا تمكن
389

معرفتها الا بمعرفته فوجب معرفة ذلك ليعرف دلاله ووقف الاجتهاد على معرفته لذلك ومثاله ان المجتهد
في القبلة يحتاج في معرفة النجوم إلى معرفتها بأعيانها وجهاتها فإذا عرف القطب احتاج إلى معرفة كونه
في الجهة الشمالية وكذلك إذا عرف الشمس احتاج إلى معرفة الجهة التي تكون فيها في حال طلوعها
وحال غروبها وتوسطها وهذا كذلك والمسند من السنة والمتصل واحد والمرسل الذي يكون بين الراوي
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل غير مذكور والمنقطع الذي يكون بينهما أكثر من واحد وقيل الذي
يرويه من لم يدرك الصحابة عنهم.
* (مسألة) * (ويعرف ما أجمع عليه مما اختلف فيه والقياس وحدوده وشروطه وكيفية استنباط
الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة)
وقد نص احمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه، وإنما اشترطوا معرفة ما أجمع عليه لأن
الاجتهاد إنما شرع فيما اختلف فيه أما المجمع عليه فيجب الرجوع إلى ما أجمع عليه دون غيره فيجب
معرفة ذلك ليرجع في المجمع عليه إلى الاجماع وفي غيره إلى الاجتهاد وأما معرفة استنباط القياس وهو
أحد أدلة الأحكام فإنه لا يمكن معرفتها الا بذلك فكان معرفة ذلك من ضرورة معرفة الأحكام وأما
معرفة اللغة والعربية فإن أدلة الأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله والكتاب عربي مبين نزل به
الروح الأمين بلسان عربي مبين والسنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقوم مقامه وقد قال الله سبحانه
(وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه) فيعتبر معرفة اللغة التي هي لسان الكتاب والسنة ليعرف
390

مقتضاها فإن قيل فهذه الشروط لا تجتمع في أحد فكيف يجوز اشتراطها؟ قلنا ليس من شرطه أن يكون
محيطا بهذه المعلوم إحاطة تجمع أقصاها وإنما يحتاج ان يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب
والسنة ولسان العرب ولا ان يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا فقد كان أبو بكر الصديق وعمر
ابن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال إمامتهما يسئلان الحكم فلا
يعرفان ما فيه من السنة حتى يسألا الناس فيخبرا فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة فقال مالك في كتاب
الله شئ ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولكن ارجعي حتى أسال الناس ثم قام فقال أنشد
الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة فقام المغيرة بن شعبة فقال اشهد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعطاها السدس وسأل عمر عن املاص المرأة فأخبره المغيرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بفرة ولا تشترط
معرفة المسائل التي عرفها المجتهدون في كتبهم فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد فلا
تكون شرطا له وهو سابق وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل بل
من عرف أدلة مسألة وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها وان جهل غيرها كمن عرف الفرائض وأصولها
ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ولذلك ما من إمام الا وقد توقف في مسائل، وقيل من يجيب
في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم لا أدرى أصيبت مقاتله وحكي عن مالك انه سئل عن أربعين
مسألة فقال في ستة وثلاثين لا أدري ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدا وإنما المعتبر أصول هذه الأمور
وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا وصلح للفتيا
والقضاء وبالله التوفيق.
391

* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء وحكماه بينهما
جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما وبهذا قال أبو حنيفة وللشافعي قولان (أحدهما) لا يلزمه حكمه إلا
بتراضيهما لأن حكمه إنما يلزم بالرضى به فلا يكون الرضى إلا بعد المعرفة بحكمه.
ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " إن الله هو الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟ "
قال إن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضي علي الفريقان " قال ما أحسن هذا فمن
أكبر ولدك؟ " قال شريح قال " فأنت أبو شريح " أخرجه النسائي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من
حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون " ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم، ولان
عمر وأبيا تحاكما إلى زيد وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه القضاء وتحاكم عثمان وطلحة إلى
جبير بن مطعم ولم يكونوا قضاة فإن قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا؟
قلنا لم ينقل عنهما الا الرضا بتحكيمه خاصة وبهذا لا يعتبر قاضيا وما ذكروه يبطل بما إذا رضي بتصرف وكيله
فإنه يلزمه قبل المعرفة به إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية، وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة للحاكم نقضه إذا خالف رأيه، لأن هذا عقد في حق الحاكم فملك فسخه
كالعقد الموقوف في حقه.
ولنا ان هذا حكم صحيح لازم فلم يجز فسخه لمخالفة رأيه كحكم من له ولاية وما ذكروه لا يصح
فإن حكمه لازم للخصمين فكيف يكون موقوفا؟ ولو كان كذلك لملك فسخه وان لم يخالف رأيه ولا
نسلم الوقوف في العقود إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه
392

في الحكم لأنه لا يثبت إلا برضاه فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد
شروعه ففيه وجهان.
(أحدهما) له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع (والثاني) ليس له ذلك لأنه يؤدي
إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم مالا يوافقه رجع فبطل المقصود به واختلف أصحابنا فيمن
يجوز فيه التحكيم فقال أبو الخطاب ظاهر كلام احمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان
قياسا على قاضي الإمام وقال القاضي يجوز حكمه في الأموال خاصة فاما النكاح واللعان والقذف والقصاص
فلا يجوز التحكيم فيها لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص حاكم الإمام بالنظر فيها كالحدود
وذكر صاحب المحرر فيها روايتين ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، وإذا كتب هذا القاضي
بما حكم به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه لأنه حاكم نافذ الأحكام فلزم
قبول كتابه كحاكم الإمام
393

* (باب أدب القاضي) *
ينبغي أن يكون قويا من غير عنف لينا من غير ضعف لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف
من عدله ويكون حليما متأنيا ذا فطنة وتيقظ لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة صحيح السمع والبصر
عالما بلغات أهل ولايته عفيفا ورعا نزها بعيدا من الطمع صدوق اللهجة ذا رأي ومشورة لكلامه
لين إذا قرب وهيبة إذا أوعد ووفاء إذا وعد ولا يكون جبارا ولا عسوفا فيقطع ذا الحجة عن حجته
قال علي رضي الله عنه لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال عفيف حليم عالم
بما كان قبله يستشير ذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم، وقال عمر بن عبد العزيز ينبغي للقاضي
أن يكون فيه سبع خلال ان فاتته واحدة كانت فيه وصمة: العقل، والعفة، والورع، والنزاهة، والصرامة،
والعلم بالسنين، والحلم، ورواه سعيد وفيه ويكون فهما حليما عفيفا صلبا سآلا عما لا يعلم وفي رواية
محتملا للأئمة ولا يكون ضعيفا مهينا لأن ذلك يبسط المتخاصمين إلى التهاتر والتشائم بين يديه قال
عمر رضي الله عنه لأعزلن فلانا عن القضاء ولأستعملن رجلا إذا رآه الفاجر فرقه.
(فصل) وله ان ينتهر الخصم إذا التوى ويصيح عليه وان استحق التعزير عزره بما يرى من
أدب أو حبس وإن افتات عليه بان يقول حكمت علي بغير حق وارتشيت فله تأديبه وله وان يعفو
394

وان بدأ المنكر باليمين قطعها عليه وقال البينة على خصمك فإن عاد نهره فإن عاد عزره ان رأى وأمثال
ذلك مما فيه إساءة الأدب فله مقابلة فاعله وله العفو.
* (مسألة) * (وإذا ولى في غير بلده سال عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول وينفذ عند مسيره
من يعلمهم يوم دخوله ليتقوه)
وجملة ذلك إذا ولي في غير بلده فأراد المسير إلى بلد ولايته بحث عن قوم من أهل ذلك البلد
ليسألهم عنه ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته فإن لم يجد سال في طريقه فإن لم يجد سال إذا دخل عن
أهله ومن به من العلماء والفضلاء وأهل العدالة والسير وسائر ما يحتاج إلى معرفته وإذا قرب من
البلد بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه.
* (مسألة) * (ويجعل دخوله يوم الاثنين أو الخميس أو السبت ان أمكنه لقوله عليه الصلاة
السلام بورك لامتي في سبتها وخميسها)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس ويكون لابسا أجمل ثيابه
فيأتي الجامع فيصلي فيه ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا دخل المدينة ويستقبل
القبلة لأنه روي " أفضل المجالس ما استقل به القبلة "
* (مسألة) * (فإذا اجتمع الناس أمر بعهده فقرئ عليهم ليعلموا توليته وامر من ينادي من له
حاجة فليحضر يوم كذا ثم ينصرف إلى منزله الذي قد أعد له)
395

وأول ما يبدأ به ان يبعث إلى الحاكم المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم وهو ما فيه وثائق الناس من
المحاضر وهو نسخ ما يثبت عند الحاكم والسجلات نسخ ما حكم به وما كان عنده من حجج الناس
ووثائقهم مودعة في ديوان الحكم وكانت عنده بحكم الولاية فإذا انتقلت الولاية إلى غيره كان عليه تسليمها
إليه فتكون مودعة عنده في ديوانه
* (مسألة) * (ثم يخرج في اليوم الذي وعد الجلوس فيه على اعدل أحواله غير غضبان ولا جائع
ولا شبعان ولا حاقن ولا مهموم بأمر يشغله عن الفهم)
كالعطش الشديد والفرح الشديد والحزن الكبير والهم العظيم والوجع المؤلم والحر المزعج والنعاس الذي
يغمر القلب ليكون أجمع لقلبه واحضر لذهنه وأبلغ في تيقظه للصواب وفطنته لموضع الرأي ولذلك قال
النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان " فنص على الغضب ونبه على ما في معناه مما ذكرنا
ويسلم على من يمر به ثم يسلم على من هو في مجلسه ويصلي تحية المسجد إن كان في المسجد ويجلس على
بساط ولا يجلس على التراب ولا على حصر المسجد لأن ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم وهذه
الآداب المذكورة في هذه المسألة ليست شرطا في الحكم الا الخلو من الغضب وما في معناه وفي
اشتراطه روايتان وما ذكر ههنا من الجلوس على بساط ولا يجلس على التراب ولا حصر المسجد
لم نعلم أنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه والاقتداء بهم أولى إن شاء الله
تعالى فيكون وجوده وعدمه سواء
396

* (مسألة) * (ويستعين بالله تعالى ويتوكل عليه ويدعوه سرا ان يعصمه من الزلل ويوفقه للصواب
ولما يرضيه من القول والعمل ويجعل مجلسه في مكان فسيح كالجامع والقضاء الواسع في وسط البلدان
أمكن ليساوي فيه الناس)
(فصل) ولا يكره القضاء في الجامع والمساجد فعل ذلك شريح والحسن والشعبي ومحار
ابن دثار ويحيى بن يعمر وابن أبي ليلى وابن خلدة قاض لعمر بن عبد العزيز، وروي عن عمر وعلي
وعثمان انهم كانوا يقضون في المسجد قال مالك القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وبه قال
مالك وإسحاق وابن المنذر، وقال الشافعي يكره ذلك الا ان ينفق خصمان عنده في المسجد لما روي أن
عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن لا تقض في المسجد لأنه يأتيك الحائض والجنب والذمي
وتكثر غاشيته ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد وربما أدي إلى السب وما لم تبن له المساجد
ولنا اجماع الصحابة بما قد روينا عنهم وقال الشعبي رأيت عمر مستندا إلى القبلة يقضي بين الناس
ولان القضاء قربة وطاعة وانصاف بين الناس ولا نعلم صحة ما رووه وقد روي عنه خلافه وأما الحائض
فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله والجنب يغتسل ويدخل والذمي يجوز دخوله
باذن مسلم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك
من حوائجهم وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد وربما رفعوا أصواتهم فقد روي
عن كعب ابن مالك قال تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا فخرج النبي
صلى الله عليه وسلم فأشار إلي ضع من ديتك الشطر فقلت نعم يا رسول الله فقال " قم فاقضه "
397

* (مسألة) * (ولا يتخذ حاجبا ولا بوابا يحجب الناس عن الوصول إليه)
لما روى القاسم بن مخيمرة عن أبي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ولي من
أمور الناس شيئا واحتجب دون حاجتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره " رواه الترمذي ولان
حاجبه ربما قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم ولا بأس باتخاذ
حاجب في غير مجلس القضاء لأنه يحتاج إلى الخلوة بنفسه
* (مسألة) * (ويعرض القصص فيبدأ بالأول فالأول)
لأن الأول سبق فقدم كما لو سبق إلى موضع مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة واحدة
لئلا يستوعب المجلس بدعاويه فيضر بغيره فإن حضروا دفعة واحدة وتشاحوا أقرع بينهم فقدم من
تقع له القرعة ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه والدخول عليه الا أن يكون أحدهما كافرا فيقدم المسلم
عليه في الدخول ويرفعه في الجلوس لحرمة الاسلام فإن الله تعالى قال (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا
لا يستوون) ووجه وجوب العدل بين الخصمين فيما ذكرنا ما روى عمرو بن شبة في كتاب القضاة باسناده
عن أم سلمة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه سلم قال " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في
لفظه واشارته ومقعده ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ولا يرفعه على الاخر " وفي رواية " فليسو بينهم
في النظر والمجلس والإشارة " ولأنه إذا ميز أحد الخصمين عن الآخر حصر وانكسر وربما لم يقم حجته
فادى ذلك إلى ظلمه وقيل يسوي بين المسلم والكافر لأن العدل يقتضي ذلك ولا يسار
398

(إحداهما) ولا يلقنه حجته لما فيه من الضرر ولا يضيفه لأنه يكسر قلب صاحبه وروي مثل ذلك
عن علي الا ان يضيف صاحبه معه لما روي عن علي كرم الله وجهه انه نزل به رجل فقال له انك خصم
قال نعم قال تحول عنا فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تضيفوا أحد الخصمين الا وخصمه معه "
* (مسألة) * (ولا يعلمه كيف يدعي في أحد الوجهين لما ذكرنا وفي الآخر له تحرير الدعوى
إذا لم يحسن تحريرها).
لأنه لا ضرر على خصمه وله ان يشفع إلى خصمه لينظره أو يضع عنه ويزن عنه لأن النبي
صلى الله عليه وسلم شفع إلى كعب بن مالك في أن يحط عن ابن أبي حدرد بعض دينه وله ان يزن عن المدعى
عليه ما وجب عليه لأنه نفع لخصمه ولا يكون الا بعد انقضاء الحكم
* (مسألة) * (ويحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب)
حتى إذا حدثت حادثه يفتقر إلى سؤالهم عنها سألهم ليذكروا أدلتهم فيها وجوابهم عنها فإنه
أسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه وان حكم باجتهاده فليس لأحد منهم الاعتراض عليه وان خالف
اجتهاده ولان فيه افتياتا عليه الا ان يحكم بما يخالف نصا أو اجماعا ويستحب ان يشاورهم فيما يشكل
عليه لقول الله سبحانه (وشاورهم في الامر) قال الحسن إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنيا عن مشورتهم
وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده وقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة
الكفار يوم الخندق وشاور أبو بكر رضي الله عنه الناس في ميراث الجدة وعمر في دية الجنين وشاور
399

في حد الخمر وروي ان عمر كان يكون عنده جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عثمان وعلي
وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف إذا نزل به الامر شاورهم فيه ولا مخالف في استحباب ذلك
قال أحمد لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم ويشاورهما وولي محارب بن
دثار قضاء الكوفة فكان يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما، ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه
يشاورون وينتظرون لأنه يتنبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة ولان الإحاطة بجميع العلوم متعذرة
وقد يتنبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من من هو دون القاضي فكيف بمن يساويه؟ فقد روي أن أبا بكر
الصديق رضي الله عنه جاءته الجدتان فورث أم الام وأسقط أم الأب فقال له عبد الرحمن ابن سهل يا خليفه
رسول الله لقد أسقطت التي لو ماتت ورثها وورثت التي لو ماتت لم يرثها فرجع أبو بكر فاشرك بينهما. إذا ثبت
هذا فإنه يشاور أهل العلم والأمانة لأن من ليس كذلك لا قول له في الحادثة ولا يسكن إلى قوله قال سفيان وليكن
أهل مشورتك أهل التقوي وأهل الأمانة ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حججهم يبين له الحق
* (مسألة) * (والمشاورة ههنا لاستخراج الأدلة وتعرف الحق بالاجتهاد)
* (مسألة) * فإن اتضح له الحكم حكم وإلا اخره ولا يقلد غيره وإن كان اعلم منه
لا يجوز تقليد غيره سواء ظهر الحق فخالفه غيره فيه أو لم يظهر له شئ وسواء ضاق الوقت أو لم يضق وكذلك
ليس للمفتي الفتيا بالتقليد وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إذا كان الحاكم من أهل
الاجتهاد جاز له ترك رأيه لرأي من هو أفقه منه عنده إذا صار إليه فهو ضرب من الاجتهاد لأنه
يعتقد أنه أفقه منه بطريق الاجتهاد
400

ولنا أنه من أهل الاجتهاد فلم يجز له تقليد غيره كما لو كان مثله كالمجتهدين في القبلة وما ذكروه
لا يصح فإن هو أفقه منه يجوز عليه الخطأ فإذا اعتقد ان ما قاله خطأ لم يجز له ان يعمل به وإن كان
لم يبن له الحق فلا يجوز له ان يحكم بما يجوز ان يبين له خطؤه إذا اجتهد
* (مسألة) * (ولا يقضي وهو غضبان ولا حاقن ولا في شدة الجوع والعطش والهم والوجع
والنعاس والبرد المؤلم والحر المزعج فإن خالف وحكم فوافق الحق نفذ حكمه وقال القاضي لا ينفذ
وقيل إن عرض له ذلك بعد فهم الحكم جاز وإلا فلا)
لا خلاف بين أهل العلم فيما علمنا في أن القاضي لا ينبغي له ان يقضي وهو غضبان كره ذلك شريح
وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة والشافعي لما روي أن أبا بكرة كتب إلى ابنه عبد الله وهو قاض
بسجستان لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يحكم أحد بين اثنين
وهو غضبان " متفق عليه وروي عن عمر انه كتب إلى أبي موسى إياك والقلق والغضب والضجر
والتأذي بالناس عند الخصومة فإذا رأيت الخصم يتعمد فأوجع رأسه، ولأنه إذا غضب تغير عقله ولم
يستوف رأيه وفكره وفي معنى الغضب كلما يشغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والجوع
المزعج ومدافعة أحد الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح فهذه كلها تمنع الحكم لأنها
تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب فهي في معنى الغضب
المنصوص عليه فتجري مجراه فإن خالف وحكم في الغضب أو ما شاكله فوافق الحق نفذ قضاؤه
401

ذكره القاضي في المجرد وهو مذهب الشافعي وحكي عن القاضي انه لا ينفذ لأنه منهي عنه والنهي
يقتضي فساد المنهي عنه
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" اسق ثم ارسل إلى جارك " فقال الأنصاري أن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير
" اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر " متفق عليه فحكم في حال غضبه وقال بعض أهل العلم إنما يمنع
الغضب الحكم إذا كان قبل أن يتضح حكم المسألة للحاكم لأنه يشغله عن استيفاء النظر فيها فاما ما حدث بعد
اتضاح الحكم فلا يمنعه لأن الحق قد استبان قبله كغضب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير
* (مسألة) * (ولا يحل له أن يرتشي، ولا يقبل الهدية إلا ممن كان يهدي إليه قبل ولايته
بشرط أن لا تكون له حكومة)
اما الرشوة في الحكم ورشوة العالم فحرام على الآخذ بلا خلاف قال الله تعالى (أكالون للسحت)
قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسيره هو الرشوة، وقال إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر،
وروى عبد الله بن عمر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي قال الترمذي: هذا حديث
حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم رواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد والرائش وهو
السفير بينهما ولان المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو يتوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم قال
مسروق سألت بن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم؟ قال لا (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون) و (الظالمون) و (الفاسقون) وإنما السحت أن يستعينك على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل. وقال
402

قتادة قال كعب الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم. فاما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع
عنه فهو ملعون وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزئه على واجبه فقال عطاء وجابر بن زيد والحسن لا بأس
أن يصانع عن نفسه قال جابر: ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا ولأنه يستنقذ ماله كما
يستنفذ الرجل أسيره.
(فصل) ولا يقبل الحاكم هدية وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغلب استمالته ليعتني به في الحكم فيشبه الرشوة
قال مسروق إذا قبل القاضي الهدية اكل السحت وإذا قبل الرشوة بلغت به لكفر وقد روى أبو حميد الساعدي
قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام
النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " ما بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ الا جلس في بيت
أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحدا منكم فيأخذ شيئا الا جاء يوم
القيامة يحمله إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغر " فرفع يده حتى رأيت عفرة إبطيه
فقال " اللهم هل بلغت ثلاثا؟ " متفق عليه ولان حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من
أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه فلم يجز قبولها كالرشوة فاما إن كان يهدي إليه قبل
ولايته جاز قبولها منها بعد الولاية لأنها لم تكن من أجل الولاية لوجود سببها قبلها بدليل وجودها
قبل الولاية قال القاضي ويستحب له التنزه عنها فإن أحس انه يقدمها بين يدي خصومة أو فعلها حال
403

الحكومة حرم أخذها في هذه الحال لأنه كالرشوة وهذا كله مذهب الشافعي وروي عن أبي حنيفة
وأصحابه ان قبول الهدية مكروه غير محرم وفيما ذكرناه دلالة على التحريم
* (مسألة) * (فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها ردها إلى أربابها)
لأنه أخذها منهم بغير حق فأشبه المأخوذ بعقد فاسد ويحتمل ان يجعلها في بيت المال لأن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية بردها إلى أربابها وقد قال أحمد إذا اهدى البطريق لصاحب
الجيش عينا أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو بكر يكونون فيه سواء
* (مسألة) * (ويكره ان يتولى البيع والشراء بنفسه ويستحب ان يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله)
لما روى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما عدل ولي أتجر
في رعيته أبدا " ولأنه يعرف فيحابى فيكون كالهدية ولان ذلك يشغله عن النظر في أمور الناس وقد
روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما بويع أخذ الذراع وقصد السوق فقالوا يا خليفة رسول الله لا
يسعك ان تشتغل عن أمور المسلمين فقال " فاني لا أدع عيالي يضيعون " قالوا فنحن نفرض لك
ما يكفيك ففرضوا له كل يوم درهمين فإن باع واشترى صح البيع وتم بشروطه وأركانه ان احتاج
إلى مباشرته ولم يكن له ما يكفيه لم يكره لأن أبا بكر رضي الله عنه قصد السوق ليتجر حتى فرضوا له
ما يكفيه ولان القيام بعياله فرض عين فلا يتركه لوهم مضرة وإنما إذا استغنى عن مباشرته ووجد من
يكفيه ذلك كره لما ذكرناه من المعنيين وينبغي ان يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله لئلا يحابى
404

وهذا مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه قال لا يكره له البيع والشراء وتوكيل من لا يعرف
لما ذكرنا من قضية أبي بكر رضي الله عنه ولما ذكرناه وروي عن شريح أنه قال شرط علي عمر
حين ولاني القضاء ان لا أبيع ولا أبتاع ولا أرتشي ولا أقضي وانا غضبان وقضية أبي بكر حجة لنا فإن
الصحابة أنكروا عليه فاعتذر بحفظ عياله عن الضياع فلما أغنوه عن البيع والشراء بما فرضوا له قبل
قولهم وترك التجارة فحصل الاتفاق منهم على تركها عند الغنى عنها
* (مسألة) * (وتستحب له عيادة المرضى وشهود الجنائز ما لم تشغله عن الحكم وزيارة الاخوان
والصالحين من الناس لأنه قربة وطاعة وان كثر ذلك فليس له الاشتغال به عن الحكم)
لأن هذا تبرع فلا يشتغل به عن الفرض وله حضور البعض لأن هذا يفعله لنفع نفسه بتحصيل
الاجر والقربة له بخلاف الولائم لأنه يراعى فيها حق الداعي فيكسر قلب من لم يجب إذا أجيب غيره
* (مسألة) * (وله حضور الولائم)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضرها ويأمر بحضورها وقال من لم يجب فقد عصى الله ورسوله فإن
كثرت وازدحمت تركها كلها ولم يجب أحدا لأن هذا يشغله عن الحكم الذي تعين عليه لكنه
يعتذر إليهم ويسألهم التحليل ولا يجيب بعضا دون بعض لأن في ذلك كسرا لقلب من لم يجبه الا ان
يختص بعضها بعذر يمنعه دون بعض مثل أن يكون في إحداها منكر أو تكون في مكان بعيد أو يشتغل
405

بها زمنا طويلا والأخرى بخلاف ذلك فله الإجابة إليها دون الأولى لأن عذره ظاهر في التخلف عن الأولى
* (مسألة) * (ويوصي الوكلاء والأعوان على بابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع ويجتهد ان يكونوا
شيوخا أو كهولا من أهل الدين والعفة والصيانة)
لأنهم أقل شرا فإن الشباب شعبة من الجنون ولان الحاكم يأتيه النساء وفي اجتماع الشباب بهن ضرورة
* (مسألة) * (ويتخذ كاتبا مسلما مكلفا عدلا حافظا عالما يجلسه حيث يشاهد ما يكتبه ويجعل
القمطر مختوما بين يديه)
وجملة ذلك أنه يستحب للحاكم ان يتخذ كاتبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب زيد بن ثابت وغيره ولان
الحاكم تكثر اشغاله ونظره فلا يمكنه تولي الكتابة بنفسه وان أمكنه الكتابة بنفسه جاز والاستنابة
فيه أولى ولا يجوز ان يستنيب في ذلك الا عدلا لأن الكتابة موضع أمانة ويستحب أن يكون فقيها ليعرف
مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام ويفرق بين الجائز والواجب وينبغي أن يكون وافر العقل نزها
ورعا لئلا يستمال بالطمع ويكون مسلما لأن الله تعالى قال (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم
لا يألونكم خبالا) وقد روي أن أبا موسى قدم على عمر ومعه كاتب نصراني فاحضر أبو موسى شيئا من
مكتوباته عند عمر فاستحسنه وقال قل لكاتبك يجئ ويقرأ كتابه قال إنه لا يدخل المسجد قال ولم؟
قال إنه نصراني فانتهره عمر وقال لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى ولا تقربوهم وقد ابعدهم الله ولا
تعزوهم وقد اذلهم الله ولان الاسلام من شروط العدالة والعدالة شرط وقال أصحاب الشافعي في
406

اشراط عدالته واسلامه وجهان (أحدهما) يشترط لما ذكرنا (والثاني) لا يشترط لأن ما يكتبه لابد
من وقوف القاضي عليه فهو من الخيانة ويستحب أن يكون جيد الخط لأنه أكمل وأن يكون حرا
ليخرج من الخلاف وإن كان عبدا جاز لأن شهادة العبد جايزة ويكون القاسم على الصفة التي ذكرنا
في الكاتب ولابد من كونه حاسبا لأنه عمله وبه يقسم فهو كالخط للكاتب والفقه للحاكم ويستحب
للحاكم ان يجلس الكاتب بين يديه ليشاهد ما يكتبه ويشافهه بما يملى عليه وان قصد ناحية جاز لأن
المقصود يحصل لأن ما يكتبه يعرض على الحاكم فيستبرئه ويجعل القمطر مختوما بين يديه ليترك فيه
ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويتحرز من أن يدخله كتاب مزور أو يؤخذ منه شئ
* (مسألة) * (ويستحب ان لا يحكم الا بحضرة الشهود)
ليستوفى بهم الحقوق ويثبت بهم الحجج والمحاضر فإن كان ممن يحكم بعلمه فإن شاء أدناهم إليه
وان شاء أبعدهم منه بحيث إذا احتاج إلى إشهادهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك وإن كان ممن لا يحكم
بعلمه أجلسهم بالقرب حتى يسمعوا كلام المتحاكمين لئلا يقر منهم مقر ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه اقراره
* (مسألة) * (ولا يحكم لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له ويحكم بينهم بعض خلفائه)
أو بعض رعيته فإن عمر حاكم أبيا إلى زيد وحاكم رجلا عراقيا إلى شريح وحاكم علي يهوديا
إلى شريح وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم وان عرضت حكومة لوالديه أو ولده أو من لا تقبل
شهادته له ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز له الحكم فيها بنفسه وان حكم لم ينفذ حكمه له كنفسه
407

(والثاني) ينفذ حكمه اختاره أبو بكر وهو قول أبي يوسف وابن المنذر وأبي ثور لأنه حكم لغيره
أشبه الأجانب وعلى القول الأول متى عرضت لهؤلاء حكومة حكم بينهم الإمام أو حاكم آخر أو بعض
خلفائه فإن كانت الحكومة بين والديه أو ولديه أو والده وولده لم يجز الحكم بينهما على أحد الوجهين
لأنه لا تقبل شهادته لأحدهما على الاخر فلم يجز الحكم بينهما كما لو كان خصمه أجنبيا وفي الآخر
يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنهما سواء عنده فارتفعت تهمة الميل فاشبها الأجنبيين
(فصل) قال رضي الله عنه وأول ما ينظر في أمر المحبسين فيبعث ثقة إلى الحبس فيكتب اسم
كل محبوس ومن حبسه؟ وفيم حبسه؟ في رقعة منفردة ثم ينادي في البلدان القاضي ينظر في أمر
المحبسين غدا فمن له منهم خصيم فليحضر
إنما بدأ بالنظر في أمر المحبسين لأن الحبس عذاب وربما كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه فينفذ إلى
حبس القاضي الذي كان قبله ثقة فيكتب اسم كل محبوس وفيم حبس؟ ولمن حبس؟ وتحمل الرقاع إليه
ويأمر مناديا ينادي في البلد ثلاثة أيام ان القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبسين يوم كذا فمن كان
له محبوس فليحضر فإذا أحضر الناس في ذلك اليوم جعل الرقاع بين يديه فيمد يده إليها فما وقع
في يده منها نظر إلى اسم المحبوس وقال من خصم فلان المحبوس؟ فإذا قال خصمه انا بعث ثقة إلى
الحبس فاخرج خصمه وحضر معه مجلس الحكم ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يتسع زمانه للنظر
في ذلك المجلس ولا يخرج غيرهم فإذا حضر المحبوس وخصمه لم يسأل خصمه لم حبسه؟ لأن الظاهر
408

ان الحاكم إنما حبسه بحق لكن يسار المحبوس بم حبست؟ ولا يخلو جوابه من خمسة أقسام
(أحدها) أن يقول حبسني بحق له حال انا ملئ به فيقول له الحاكم اقضه والا رددتك إلى الحبس
(الثاني) ان يقول له على دين انا معسر به فيسأل خصمه فإن صدقه فلسه الحاكم وأطلقه وان كذبه
نظر في سبب الدين فإن كان سببا حصل له به مال كقرض أو شراء لم يقبل قوله في الاعسار إلا
ببينة بان ماله تلف أو نفد أو ببينة انه معسر فيزول الأصل الذي ثبت ويكون القول قوله فيما يدعيه
عليه من المال، وان لم يثبت له أصل مال ولم يكن لخصمه بينة بذلك فالقول قول المحبوس مع يمينه
انه معسر لأن الأصل الاعسار، وان شهدت لخصمه بينة بان له مالا لم تقبل حتى يبين ذلك المال بما
يتميز به فإن شهدت عليه البينة بدار معينة أو غيرها فصدقها فلا كلام وان كذبها وقال ليس هذا لي
وإنما هو في يدي لغيري لم يقبل الا أن يعزوه إلى معين فإن كان الذي أقر له حاضرا سئل فإن كذبه
في إقراره سقط وقضى من المال دينه، وان صدقه وكانت له بينة فهو أولى لأن له بينة وصاحب اليد
يقر له به وان لم تكن له بينة فذكر القاضي أنه لا يقبل قولهما ويقضي الدين منه لأن البينة شهدت لصاحب
اليد بالملك فتضمنت شهادتها وجوب القضاء منه فإذا لم تقبل شهادتها في حق نفسه قبلت فيما تضمنته
لأنه حق لغيره ولأنه متهم في إقراره لغيره لأنه قد يفعل ذلك ليخلص ماله ويعود إليه فتلحقه تهمة فلم تبطل
البينة بقوله وفيه وجه آخر يثبت الاقرار وتسقط البينة لأنها تشهد بالملك لمن لا يدعيه وينكره
409

(القسم الثالث) أن يقول حبسني لأن البينة شهدت علي لخصمي بحق ابتحث عن حال الشهود فهذا
ينبني على أصل وهو ان الحاكم هل له ذلك أولا؟ وفيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك لأن الحبس
عذاب فلا يتوجه عليه قبل ثبوت الحق عليه فعلى هذا لا يرده إلى الحبس ان صدقة خصمه في هذا
(والثاني) يجوز حبسه لأن المدعي قد أقام ما عليه وإنما بقي ما على الحاكم من البحث ولأصحاب الشافعي
وجهان كهذين يرده إلى الحبس حتى يكشف عن حال شهوده وان كذبه خصمه وقال بل عرف الحاكم عدالة
شهودي وحكم عليه بالحق فالقول قوله لأن الظاهر أن حبسه بحق
(القسم الرابع) أن يقول حبسني الحاكم بثمن كل أو قيمة خمر أرقته لذمي لأنه كان يرى ذلك
فإن صدقه خصمه فذكر القاضي انه يطلقه لأن غرم هذا ليس بواجب وفيه وجه آخر ان الحاكم ينفذ حكم
الحاكم الأول لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده وفيه وجه ثالث انه يتوقف ويجتهد ان يصطلحا على شئ لأنه
لا يمكنه فعل أحد الامرين وللشافعي قولان كالوجهين الآخرين فإن كذبه خصمه وقال بل حبست لحق
واجب غير هذا فالقول قوله لأن الظاهر حبسه لحق
* (مسألة) * (وإن كان حبس في تهمة أو افتيات على القاضي قبله خلى سبيله) لأن المقصود
بحبسه التأديب وقد حصل)
410

* (مسألة) * (وان لم يحضر له خصم فقال حبست ظلما ولا حق علي ولا خصم نادى بذلك ثلاثا فإن
حضر له خصم والا أحلفه وخلى سبيله) لأن الظاهر أنه لو كان له خصم لظهر
* (مسألة) * (ثم ينظر في أمر المجانين واليتامى والوقوف)
والنظر في ذلك بالنظر في أمر الأوصياء ونظار الوقوف لأنهم يكونون ناظرين في أموال اليتامى
والمجانين وتفرقة الوصية بين المساكين لأن المنظور عليه إن كان من الأيتام والمجانين لم تمكنهم المطالبة
لأنهم لا قول لهم وان كانوا مساكين لم يتعين الاخذ منهم فإذا قدم إليه الوصي فإن كان الحاكم قبله
نفذ وصيته لم يعزله لأن الحاكم ما نفذ وصيته إلا بعد معرفته أهليته في الظاهر ولكن نراعيه فإن
تغيرت حاله بفسق أو ضعف أضاف إليه أمينا قويا يعينه وإن كان الأول ما نفذ وصيته نظر فيه فإن
كان أمينا قويا أقره، وإن كان أمينا ضعيفا ضم إليه من يعينه، وإن كان فاسقا عزله وأقام غيره،
وعلى قول الخرقي يضم إليه امين ينظر عليه فإن كان قد تصرف أو فرق الوصية وهو أهل الوصية
نفذ تصرفه، فإن كان ليس باهل وكان الموصى لهم بالغين عاقلين معينين صح الدفع إليهم لأنهم قبضوا
حقوقهم، وان كانوا غير معينين كالفقراء والمساكين ففيه وجهان (أحدهما) عليه الضمان ذكره
القاضي وأصحاب الشافعي لأنه ليس له التصرف (والثاني) لا ضمان عليه لأنه أوصله إلى أهله، وكذلك
ان فرق الوصية غير الموصى إليه بتفريقها فعلى الوجهين
(فصل) وينظر في أمناء الحاكم وهم من رد إليهم الحاكم النظر في أمر الأطفال وتفرقة الوصايا
411

التي لم يتعين لها وصي فإن كانوا بحالهم أقرهم لأن الذي قبله ولاهم، ومن تغير حاله عزله ان فسق،
وان ضعف ضم إليه أمينا
(فصل) ثم ينظر في أمر الضوال واللقطة التي يتولى الحاكم حفظها فإن كانت مما يخاف تلفه كالحيوان
أو في حفظه مؤنة كالأموال الحافية باعها وحفظ ثمنها لأربابها، وان لم تكن كذلك كالأثمان حفظها
لأربابها ويكتب عليها ليعرفها
* (مسألة) * (ثم ينظر في حال القاضي قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء لم ينقض من أحكامه إلا
ما خالف نص كتاب أو سنة أو اجماعا)
ولا يجب على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله لأن الظاهر صحتها وصوابها وانه لا يتولى القضاء
الا من هو من أهل الولاية فإن تتبعها نظر في الحاكم قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء فما وافق من
أحكامه الصواب أو لم يخالف كتابا ولا سنة ولا اجماعا لم يجز نفضه، وإن كان مخالفا لاحد هذه
الثلاثة وكان في حق الله تعالى كالعتاق والطلاق نقضه لأن له النظر في حقوق الله تعالى، وإن كان
يتعلق بحق آدمي لم ينقضه إلا بمطالبة صاحبه لأن الحاكم لا يستوفي حقا لمن لا ولاية عليه بغير مطالبته
فإن طلب صاحبه ذلك نقضه وبهذا قال الشافعي وزاد إذا خالف قياسا جليا نقضه
وعن مالك وأبي حنيفة انهما قالا لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الاجماع ثم ناقضا قولهما فقال
مالك إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه، وقال أبو حنيفة إذا حكم ببيع متروك التسمية أو حكم بين
العبيد بالقرعة نقض حكمه، وقال محمد بن الحسن إذا حكم بالشاهد واليمين نقض حكمه وهذه
412

مسائل خلاف موافقة للسنة، واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الاجماع بأنه يسوع فيه الخلاف
فلم ينقض حكمه كما لا نص فيه
وحكي عن أبي داود انه ينقض جميع ما بان له خطؤه لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى
لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك ان تراجع فيه الحق فإن
الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الاجماع،
وحكي عن مالك انه وافقهما في قضاء نفسه
ولنا على نقضه إذا خالف نصا أو اجماعا أنه قضاء لم يصادف شرطه فوجب نقضه كما لو خالف
الاجماع وبيان مخالفته للشرط. ان شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ، ولأنه إذا
ترك الكتاب والسنة فقد فرط فوجب نقض حكمه كما لو خالف الاجماع أو كما لو حكم بشهادة
كافرين وما قالوه يبطل بما حكيناه عنهم فإن قيل إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم بان له الخطأ لم يعد
قلنا القرق بينهما من ثلاثة أوجه
(أحدها) ان استقبال القبلة يسقط حال العذر في حال المسايفة، والخوف من عدو أو سبع أو
نحو مع العلم ولا يجوز له ترك الحق إلى غيره مع العلم بحال الثاني ان الصلاة من حقوق الله تعالى
تدخلها المسامحة (الثالث) ان القبلة يتكرر فيها الاشتباه فيشق القضاء وههنا إذا بان له الخطاء لا يعود
الاشتباه بعد ذلك. وأما إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصا ولا اجماعا أو خالف اجتهاده اجتهاد
من قبله لم ينقضه لمخالفته لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك فإن أبا بكر حكم في مسائل
413

باجتهاده وخالفه عمر فلم ينقض أحكامه وعلي خالف عمر في اجتهاده فلم ينقض أحكامه وخالفهما علي
فلم ينقض أحكامهما فإن أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد وخالفه عمر ففاضل بين
الناس وخالفهما علي فسوى بين الناس وحرم العبيد ولم ينقض أحد منهم ما فعله من قبله وجاء أهل
نجران إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين كتابك بيدك وشفاعتك بلسانك فقال ويحكم ان عمر كان رشيد
الامر ولن أرد قضاء قضي به عمر رواه سعيد
وروي ان عمر حكم في المشركة باسقاط الاخوة من الأبوين ثم شكر بينهم بعد وقال تلك على
ما قضينا هذه على ما قضينا، وقضى في الجد بقضايا مختلفة، ولم يرد الأولى ولأنه يؤدي إلى نقض
الحكم بمثله وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الحكم أصلا لأن الحكم الثاني يخالف الذي قبله والثالث
يخالف الثاني فلا يثبت الحكم فإن قيل فقد روي أن شريحا حكم في ابني عم أحدهما أخ للام ان المال
للأخ فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال: علي بالعبد فجئ به فقال في اي كتاب الله وجدت
ذلك؟ فقال قال الله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فقال له علي قد قال الله
تعالى (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) ونقض
حكمه قلنا لم يثبت عندنا ان عليا نقض حكمه ولو ثبت فيحتمل أن يكون على اعتقاد انه خالف نص
الكتاب في الآية التي ذكرها فنقض حكمه لذلك
(فصل) إذا تغير اجتهاده قبل الحكم فإنه يحكم بما تغير اجتهاده إليه ولا يجوز أن يحكم باجتهاده الأول
414

لأنه إذا حكم به فقد حكم بما يعتقد انه باطل وهذا كما قلنا فيمن تغير اجتهاده في القبلة بعدما صلى لا يعيد
وإن كان قبل أن يصلي صلى إلى الجهة التي تغير اجتهاده إليها وكذلك إذا بان فسق الشهود قبل الحكم
بشهادتهم لم يحكم بها ولو بان بعد الحكم لم ينقضه
* (مسألة) * (وإن كان ممن لا يصلح نقض أحكامه وان وافقت الصحيح ويحتمل أن لا ينقض
الصواب منها)
أما إذا كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض قضاياه كلها ما أخطأ فيها وما أصاب ذكره أبو الخطاب
وهو مذهب الشافعي لأن وجود قضائه كعدمه، قال شيخنا تنقض قضاياه المخالفة للصواب كلها سواء
كانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أو لا يسوغ لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كلا قضاء لعدم شرط القضاء
فيه وليس في نقض قضاياه نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لأن الأول ليس باجتهاد ولا ينقض ما وافق الصواب
لعدم الفائدة في نقضه فإن الحق وصل إلى مستحقه ولو وصل الحق إلى مستحقه بطريق القهر من غير حكم
لم يغير ذلك فكذلك إذا كان بقضاء وجوده كعدمه
* (مسألة) * (وإن استعداه أحد على خصم له أحضره وعنه لا يحضره حتى يعلم أن لما ادعاه أصلا)
هذه المسألة فيها روايتان (إحداهما) انه يلزم القاضي أن يعديه ويستدعي خصمه سواء عما بينهما معاملة أو لم
يعلم وسواء كان المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أو لا يعامله كالفقير يدعي على ذي ثروة وهيئة نص على
هذا في رواية الأثرم في الرجل يستعدي على الحاكم انه يحضره ويستحلفه، وهذا اختيار أبي بكر ومذهب
415

أبي حنيفة والشافعي لأن في تركه تضييعا للحقوق واقرارا للظلم فإنه قد يثبت له الحق على من هو أرفع
منه بغصب أو يشتري منه شيئا ولا يوفيه أو يودعه شيئا أو يعيره إياه فلا يرده ولا تعلم بينهما معاملة
فإذا لم يعد عليه سقط حقه وهذا أعظم ضررا من حضور مجلس الحاكم فإنه لا يقبضه وقد حضر عمر
وأبي عند زيد وحضر هو وآخر عند شريح وحضر المنصور عند رجل من ولد طلحة بن عبيد الله
(والثانية) لا يستعديه إلا أن تعلم بينهما معاملة ويبين أن لما أعاده أصلا روي ذلك عن علي رضي الله
عنه وهو مذهب مالك لأن في أعدائه على كل أحد تبذيل أهل المروءات وإهانة ذوي الهيئات فإنه
لا يشاء أحد أن يتبذلهم عند الحاكم إلا فعل وربما فعل هذا من لا حق له ليفتدي المدعى عليه من حضوره
وشر خصمه بطائفة من ماله والأولى أولى لأن ضرر تضييع الحق أعظم من هذا وللمستعدى عليه ان
يوكل من يقوم مقامه ان كره الحضور.
* (مسألة) * (وان استعداه على القاضي قبله سأله عما يدعيه فإن قال لي عليه دين من معاملة
أو رشوة راسله بذلك، فإن اعترف أمره بالخروج منه وإن أنكر وقال إنما يريد تبذيلي فإن عرف أن
لما ادعاه أصلا أحضره وإلا فهل يحضره؟ على روايتين)
وجملة ذلك أنه إذا استعدي على الحاكم المعزول لم يعده حتى يعرف ما يدعيه فيسأله عنه صيانة
للقاضي عن الامتهان فإن ذكر انه يدعي عليه حقا من دين أو غصب أعداءه عليه وحكم بينهما كغير
القاضي وكذلك ان ادعى انه أخذ منه رشوة على الحكم لأن أخذ الرشوة عليه لا يجوز فهي كالغصب
وان ادعى عليه الجور في الحكم وكان المدعي بينة أحضره وحكم بالبينة وان لم تكن معه بينة ففيه
416

وجهان (أحدهما) لا يحضره لأن في احضاره وسؤاله امتهانا له وأعداء القاضي كثير وإذا فعل
هذا معه لم يؤمن أن لا يدخل في القضاء أحد خوفا من عاقبته (والثاني) يحضره لجواز أن يعترف
فإن حضر واعترف حكم عليه وان أنكر فالقول قوله من غير يمين لأن قول القاضي مقبول بعد العزل
كما تقبل ولايته، وإن ادعى عليه انه قتل ابنه ظلما فهل يستحضره من غير بينة؟ فيه وجهان فإن أحضره
فاعترف حكم عليه وإلا فالقول قوله، وان ادعى انه أخرج عينا من يده بغير حق فالقول قول الحاكم
من غير يمين ويقبل قوله للمحكوم له على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وإن قال حكم علي بشهادة فاسقين فالقول قوله بغير يمين)
لأن القول قوله في حكمه فلو قال حكمت على فلان بكذا قبل قوله بغير يمين فكذا في هذه المسألة
لأنه شاهد على فعل نفسه أشبه المرضعة إذا شهدت بالرضاع لم يلزمها يمين وكذلك القاسم إذا شهد
بالقسمة لأن الشاهد لا يمين عليه.
* (مسألة) * (وإن قال الحاكم المعزول كنت حكمت في ولايتي لفلان على لفلان بحق قبل قوله
وبه قال إسحاق ويحتمل أن لا يقبل قوله).
ذكره أبو الخطاب قال شيخنا وقول القاضي في فروع هذه المسألة يقتضي ان لا يقبل قوله
ههنا وهو قول أكثر الفقهاء لأن من لا يملك الحكم لا يملك الاقرار به كمن أقر بعتق عبد بعد
بيعه، ثم اختلفوا فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى هو بمنزلة الشاهد إذا كان معه شاهد آخر قبل
417

وقال أصحاب الرأي لا يقبل إلا شاهدان سواه يشهدان بذلك، وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن
شهادته على نفسه لا تقبل.
ولنا انه لو كتب إلى غيره ثم عزل ووصل الكتاب بعد عزله لزم المكتوب إليه قبول كتابه
فكذلك هذا ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال ولايته.
(فصل) فأما ان قال في ولايته كنت حكمت لفلان بكذا قبل قوله سواء قال قضيت عليه
بشاهدين عدلين أو قال سمعت بينته وعرفت عدالتهم أو قال قضيت عليه بنكوله أو قال أقر
فلان عندي لفلان بحق فحكمت به، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف، وحكي عن
محمد بن الحسن انه لا يقبل حتى يشهد معه رجل عدل، لأنه اخبار بحق على غيره فلم يقبل فيه
قول واحد كالشهادة.
ولنا انه يملك الحكم فملك الاقرار به كالزوج إذا أخبر بالطلاق والسيد إذا أخبر بالعتق ولأنه
لو أخبر أنه رأى كذا وكذا فحكم به قبل كذا ههنا وفارق الشهادة فإن الشاهد لا يملك اثبات ما أخبر
به فأما ان قال حكمت بعلمي أو بالنكول أو بشاهدين ويمين في الأموال فإنه يقبل أيضا وقال الشافعي
لا يقبل قوله في القضاء بالنكول وينبني قوله حكمت عليه بعلمي على القولين في جواز القضاء بعلمه لأنه
لا يملك الحكم بذلك فلا يملك الاقرار به.
ولنا انه أخبر بحكمه فيما لو حكم به لنفذ حكمه فوجب قبوله كالصور التي تقدمت ولأنه حاكم أخبر
يحكمه في ولايته فوجب قبوله كالذي سلمه ولان الحاكم إذا حكم في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد لم يسغ
418

نقض حكمه ولزم غيره امضاؤه والعمل به فصار بمنزلة الحكم بالبينة العادة ولا نسلم ما ذكره وان قال
حكمت لفلان على فلان بكذا ولم يضف حكمه إلى بينة ولا غيرها وجب قبوله وهو ظاهر ما ذكره
شيخنا في الكتاب المشروع وظاهر قول الخرقي لأنه لم يذكر ما ثبت به الحكم وذلك لأن الحاكم
متى ما حكم بحكم يسوغ فيه الاجتهاد وجب قبوله وصار بمنزلة ما اجتمع عليه.
(فصل) فإن أخبر القاضي بحكمه في غير موضع ولايته قبل وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه إذا قبل
قوله بحكمه بعد العزل وزوال ولايته بالكلية فلان يقبل مع بقائها في غير موضع ولايته أولى وقال
القاضي لا يقبل قوله وقال لو اجتمع قاضيان في غير ولايتهما كقاضي دمشق وقاضي مصر اجتمعا في بيت
المقدس فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو شهادة ثبتت عنده لم يقبل أحدهما قول صاحبه ويكونان
كشاهدين أخبر أحدهما صاحبه بما عنده وليس له أن يحكم به إذا رجع إلى عمله لأنه خبر من ليس بقاض
في موضعه، وإن كانا جميعا في عمل أحدهما كأنهما اجتمعا في دمشق فإن قاضي دمشق لا يعمل بما يخبره
به قاضي مصر لأنه يخبره في غير عمله وهل يعمل قاضي مصر بما أخبره به قاضي دمشق إذا رجع
إلى مصر؟ فيه وجهان بناء على القاضي هل له أن يحكم بعلمه؟ على روايتين لأن قاضي دمشق اخبره به
في عمله ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي ههنا.
* (مسألة) * (فإن ادعى على امرأة غير برزة لم يحضرها وأمرها بالتوكيل فإن وجبت عليها
اليمين ارسل إليها من يحلفها).
إذا كان المدعى عليه امرأة فإن كانت برزة وهي التي تبرز لقضاء حوائجها أمرت بالتوكيل فإن
419

توجهت اليمين عليها بعث الحاكم أمينا معه شاهدان فيستحلفها بحضرتهما، فإن أقرت
شهدا عليها، وذكر القاضي أن الحاكم يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في دارها وهو مذهب
الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " فبعث إليها ولم
يستدعها، وان أحضروا عندها كان بينهم وبينها ستر تتكلم من ورائه فإن اعترفت للمدعي انها
خصمه حكم بينهما وإن أنكرت ذلك جئ بشاهدين من ذوي رحمها يشهدان أنها المدعى عليها
ثم يحكم بينهما وان لم تكن بينه التحفت بجلبابها وأخرجت من وراء الستر لموضع الحاجة وما ذكرناه
أولى إن شاء الله لأنه أستر لها وإذا كانت خفرة منعها الحياء من النطق بحجتها والتعبير عن نفسها سيما
مع جهلها بالحجة وقلة معرفتها بالشرع وحججه
* (مسألة) * (وإن ادعى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه كتب إلى ثقات من أهل
ذلك البلد ليتوسطوا بينهما فإن لم يقبلوا قيل للخصم حقق ما تدعيه ثم يحضره وإن بعدت المسافة)
إذا استعدي على غائب وكان الغائب في غير ولاية القاضي لم يكن له ان يعدي عليه فإن كان في
ولايته وله في بلده خليفة فإن كانت له بينة ثبت الحق عنده وكتب إلى خليفته ولم يحضره وإن لم
تكن بينة حاضرة نفذ إلى خصمه ليحاكمه عند خليفته وإن لم يكن له فيه خليفة وكان فيه من يصلح
للقضاء قيل له حرر دعواك لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وقيمة الكلب
أو خمر الذمي فلا يكلف الحضور لما لا يقضى عليه به مع المشقة فيه بخلاف الحاضر فإنه لا مشقة في
420

حضوره فإذا تحررت بعث فأحضر خصمه بعدت المسافة أو قربت وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف
إن كان يمكنه أن يحضر ويعود فيأوى إلى موضعه أحضره وإلا لم يحضره ويوجه من يحكم بينهما، وقيل
إن كانت المسافة دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا
ولنا أنه لابد من فصل الخصومة بين المتخاصمين فإذا لم تمكن إلا بمشقة فعل ذلك كما لو امتنع
من الحضور فإنه يؤدب ولان الحاق المشقة به أولى من الحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم بينهما وإن
كانت امرأة برزة لم يشترط في سفره هذا محرم نص عليه أحمد لأنه حق آدمي وحق الآدمي
مبني على الشح والضيق
(باب طريق الحكم وصفته)
إذا جلس إليه خصمان فله أن يقول من المدعي منكما؟ وله أن يسكت حتى يبتدئا ويستحب أن
يجلس الخصمان بين يدي الحاكم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم
رواه أبو داود وروى سعيد باسناده عن الشعبي قال كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب مداراة
في شئ فجعلا بينهما زيد بن ثابت فاتياه في منزله فقال له عمر أتيناك لتحكم بيننا في بينة تؤتي
الحكم فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال ههنا يا أمير المؤمنين فقال له عمر جرت في أول القضاء
لكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبي فأنكر عمر فقال زيد لأبي اعف أمير المؤمنين
421

من اليمين فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين
عنده سواء وقال علي رضي الله عنه حين خاصم اليهودي على درعه إلى شريح لو أن خصمي مسلم
لجلست معه بين يديك ولان ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما والاقبال عليهما والنظر في خصومتهما
(فصل) فإذا جلسا بين يديه فإن شاء قال من المدعي منكما؟ لأنهما حضرا لذلك، وإن شاء سكت
ويقول القائم على رأسه من المدعي منكما؟ ان سكتا جميعا ولا يقول الحاكم ولا صاحبه لأحدهما تكلم
لأن في افراده بذلك تفضيلا له وتركا للانصاف قال عمرو بن قيس شهدت شريحا إذا جلس إليه
الخصمان ورجل قائم على رأسه يقول أيكما المدعي فليتكلم؟ فإن ذهب الآخر يشغب نهره حتى يفرغ
المدعي ثم يقول تكلم فإن بدأ أحدهما فادعي فقال خصمه أنا المدعي لم يلفت إليه وقال أجب عن
دعواه ثم ادع بما شئت فإن ادعيا معا فقياس المذهب ان يقرع بينهما وهو قياس قول الشافعي لأن
أحدهما ليس بأولى من الآخر وقد تعذر الجمع بينهما فيقرع بينهما كالمرأتين إذا زفتا في ليلة واحدة
واستحسن ابن المنذر ان يسمع منهما جميعا وقيل يرجئ أمرهما حتى يتبين من المدعي منها؟ وما
ذكرناه أولى لأنه لا يمكن الجمع بين الحكم في القضيتين معا وارجاء أمرهما اضرار بهما وفيما ذكرناه
دفع للضرر بحسب الامكان وله نظير في مواضع من الشرع فكان أولى
* (مسألة) * (ثم يقول للخصم ما تقول فيما ادعاه)
لأن شاهد الحال يدل على طلب المطالبة لأن احضاره والدعوى إنما يراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد
أغني ذلك عن سؤاله ويحتمل ألا يملك سؤاله عن ذلك لأنه حق المدعي فلا يتصرف فيه بغير اذنه كالحكم له
* (مسألة) * (وإن أقر لم يحكم له حتى يطالبه المدعي بالحكم)
إذا أقر المدعي عليه لزمه ما ادعي عليه وليس للحاكم ان يحكم عليه الا بمسألة المقر له لأن الحكم
422

عليه حق له فلا يستوفيه الا بمسألة مستحقة هكذا ذكره أصحابنا قال شيخنا: ويحتمل ان يجوز له
الحكم قبل مسألة المدعي لأن الحال تدل على ارادته ذلك فاكتفى بها كما اكتفى في مسألة المدعى عليه
الجواب ولان كثيرا من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك فيترك مطالبته به لجهله فيضيع حقه
فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته، وعلى القول الأول ان سأله الخصم الحكم له حكم على المقر
والحكم ان يقول ألزمتك ذلك أو قضيت عليك له أو يقول اخرج إليه منه فمتى قال له أحد هذه
الثلاثة كان حكما بالحق
* (مسألة) * (وإن أنكر مثل ان يقول المدعي أقرضته ألفا أو بعته فيقول ما أقرضني ولا باعني
أو ما يستحق علي ما ادعاه ولا شيئا منه أو لا حق له علي صح الجواب)
* (مسألة) * (وللمدعي ان يقول لي بينة؟
وهذا موضع البينة فإن لم يقل قال الحاكم ألك بينة؟ لما روي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم
حضرمي وكندي فقال الحضرمي يا رسول الله ان هذا غلبني على ارض لي فقال الكندي هي أرضي
في يدي ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي " ألك بينة؟ - قال لا قال - فلك يمينه " وهو
حديث حسن صحيح وإن كان المدعي عارفا بأنه موضع البينة فالحاكم مخير بين ان يقول ألك بينة؟
وبين ان يسكت فإذا قال لي بينة حاضرة أمره باحضارها ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكر
في كتاب المغني ان المدعي إذا قال لي بينة لم يقل له الحاكم احضرها لأن ذلك حق له فله ان يفعل
ما يرى فإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما عندها حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يتصرف فيه
423

من غير اذنه فإذا سأله المدعي سؤالها قال من كانت عنده شهادة فليذكر إن شاء ولا يقول لهما اشهدا
لأنه أمر وكان شريح يقول للشاهدين ما أنا دعوتكما ولا أنهاكما ان ترجعا وما يقضي على هذا المسلم غيركما
واني بكما أقضي اليوم وبكما اتقي يوم القيامة
* (مسألة) * (وإذا سمع الحاكم الشهادة وكانت صحيحة حكم بها إذا سأله المدعي)
فيقول للمدعى عليه قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهم فبينه عندي فإن لم يظهر
ما يقدح فيهما حكم عليه إذا سأل الحاكم لأن الحكم بالبينة حق له فلا يستوفيه الا بمسالة مستحقه
* (مسألة) * (ولا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالاقرار والبينة في مجلسه إذا سمعه معه شاهدان
فإن لم يسمعه معه أحد أو سمعه معه شاهد واحد فله الحكم نص عليه)
لأن الاقرار أحد البيتين فجاز الحكم به في مجلسه كالشهادة وقال القاضي لا يحكم به حتى يسمعه
معه شاهدان لأنه إذا لم يسمعه معه أحد كان حكما بعلمه
* (مسألة) * (وليس له الحكم بعلمه فيما رآه أو سمعه في غير مجلسه نص عليه وهو اختيار الأصحاب
وعنه ما يدل على جواز ذلك سواء كان في حد أو غيره)
ظاهر المذهب ان الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره وسواء في ذلك ما علمه قبل الولاية أو بعدها
وهذا قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي
وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف وأبي ثور وهو القول للشافعي
واختيار المزني لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند ان أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من
424

النفقة ما يكفيني وولدي قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه
بصدقها وروى ابن عبد البر في كتابه ان عروة ومجاهد رويا ان رجلا من بني مخزوم استعدى عمر
ابن الخطاب على أبي سفيان بن حرب انه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا فقال عمر اني لاعلم الناس
بذلك وربما لعبت انا وأنت فيه ونحن غلمان فاتي بابي سفيان فأتاه به فقال عمر يا أبا سفيان انهض
بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر عمر فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ههنا فضعه ههنا
فقال والله لا أفعل فقال والله لتفعلن فقال والله لا أفعل فعلاه بالدرة وقال خذه لا أم لك فضعه ههنا
فإنك ما علمت قدم الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر فوضعه حيث قال عمر ثم إن عمر استقبل القبلة فقال
اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالاسلام فاستقبل القبلة أبو سفيان
وقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الاسلام ما أذل به لعمر قال فحكم بعلمه ولان
الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن فما تحققه وقطع به كان أولى ولأنه يحكم في تعديل
الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياسا عليه وقال أبو حنيفة ما كان من حقوق الله تعالى
لا يحكم فيه بعلمه لأن حقوق الله تعالى مبينة على المساهلة والمسامحة وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل
ولايته لم يحكم به، وما علمه في ولايته حكم به لأن ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل
ولايته، وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما انا بشر وانكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن
بحجته من بعض فاقضي له على نحو ما اسمع منه " فدل على أنه لم يقضي بما يسمع لا بما يعلم وقال النبي
425

صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي " شاهداك أو يمينه ليس لك منه الا ذاك " وروي عن عمر رضي
الله عنه انه تداعى عنده رجلان فقال له أحدهما أنت شاهدي فقال إن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم
ولا أشهد وذكر ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على
على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم الأرش
ثم قال " اني خاطب الناس ومخبرهم انكم قد رضيتم أرضيتم؟ قالوا نعم فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر
القصة وقال - أرضيتم؟ - قالوا لا وهم بهم المهاجرون فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد فخطب
الناس فقال - أرضيتم؟ " قالوا نعم وهذا يبين انه لم يأخذ بعلمه وروى عن أبي بكر رضي الله عنه قال لو رأيت
حدا على رجل لم آخذه حتى تقوم البينة ولان تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى
ويحيله على علمه فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم
أفتى في حكم أبي سفيان من غير حضوره ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته وحديث عمر الذي
رووه كان انكارا لمنكر رآه لا حكم بدليل انه ما وجدت منهم دعوى ولا انكار بشروطهما ودليل
ذلك ما رويناه عنه ثم لو كان حكما كان معارضا بما رويناه عنه ويفارق الحكم بالشهادة فإنه لا يفضي
إلى تهمة بخلاف مسئلتنا، وأما الجرج والتعديل فإنه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه
لتسلسل فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى
مزكيين ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين فيتسلسل وما نحن فيه بخلافه
* (مسألة) * (وان قال المدعي مالي بينة فالقول قول المنكر مع يمينه فيعلمه ان له اليمين على
خصمه فإن سأله احلافه احلفه)
426

لأن الحق له فإذا أحلفه خلى سبيله وليس له استحلافه قبل مسألة المدعي لأن اليمين حق له فلم
يجز استيفاؤها قبل مطالبة مستحقها كنفس الحق وسقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر ان
رجلا من حضرموت ورجلا من كندة اتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي ان هذا
غلبني علي ارض لي ورثتها من أبي وقال الكندي أرضي وفي يدي لا حق له فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" شاهداك أو يمينه " قال إنه لا يتورع من شئ قال " ليس لك الا ذلك " رواه مسلم بمعناه
* (مسألة) * (وان احلفه أو حلف من غير سؤال المدعي لم يعتد بيمينه)
لأنه أتي بها في غير وقتها فإن سألها المدعي أعادها له لأن الأولى لم تكن يمينه وان أمسك
المدعي عن إحلاف خصمه الدعي عليه ثم أراد احلافه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه منها
وإنما أخرها وان قال أبرأتك من هذه اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى أوله ان يستأنف الدعوى
لأن حقه لا يسقط بالابراء من اليمين وإن استأنف الدعوى وأنكر المدعي عليه فله ان يحلفه لأن هذه
الدعوى غير الدعوى التي أبرأه بها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى ولم يكن للمدعي ان يحلفه يمينا
أخرى لا في هذا المجلس ولا في غيره
* (مسألة) * (وان نكل قضى عليه بالنكول)
نص عليه واختاره عامة شيوخنا فيقول له ان حلفت والا قضيت عليك ثلاثا فإن لم يحلف قضى
عليه إذا سأل المدعي ذلك لما روى أحمد ان ابن عمر باع زيد بن ثابت عبدا فادعى عليه زيد انه
باعه إياه عالما بعيبه فأنكره ابن عمر فتحاكما إلى عثمان رضي الله عنه فقال عثمان احلف بأنك
ما علمت به عيبا فأبى ابن عمر ان يحلف فرد عليه العبد ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " اليمين على المدعي عليه "
427

فحصرها في جنبته فلم تشرع لغيره وهذا مذهب أبي حنيفة واختار أبو الخطاب أنه لا يحكم بالنكول
ولكن يرد اليمين على خصمه وقال قد صوبه أحمد وقال ما هو ببعيد يحلف ويستحق فيقول الحاكم
لخصمه لك رد اليمين على المدعي فإن ردها حلف المدعي وحكم له لما روى ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم رد
اليمين على صاحب الحق رواه الدارقطني وروي ان المقداد اقترض من عثمان مالا فقال عثمان هو سبعة
آلاف وقال المقداد هو أربعة آلاف فقال المقداد لعثمان احلف أنه سبعة آلاف فقال له عمر أنصفك
فإن حلف حكم له
* (مسألة) * (فإن نكل أيضا صرفهما)
إذا نكل المدعي سئل عن سبب نكوله لأنه لا يجب بنكوله لغيره حق بخلاف المدعى عليه فإن قال
امتنعت لأن لي بينة أقيمها أو حسابا انظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في اليمين لأنه
لا يتأخر بتركه الا حقه بخلاف المدعى عليه وان قال لا أريد ان أحلف فهو نأكل فإن عاد أحدهما فبذل
اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس لأنه أسقط حقه منها حتى يحتكما في مجلس آخر فإذا استأنف الدعوى
أعيد الحكم بينهما كالأول
* (مسألة) * (وان قال المدعي لي بينة بعد قوله مالي ببينة لم يسمع ذكره الخرقي)
لأنه أكذب بينته لكونه أقر أنه لا يشهد له أحد فإن شهد له إنسان كان تكذيبا له ويحتمل ان
يقبل لأنه يجوز ان ينسى ويكون الشاهدان سمعا منه وصاحب الحق لا يعلمه فلا يثبت ذلك أنه كذب نفسه
* (مسألة) * (وان قال لا أعلم لي بينة ثم قال علمت لي بينة سمعت) لأنه يجوز أن تكون له
بينة لم يعلمها ثم علمها
428

* (مسألة) * (وان قال شاهدان نحن نشهد لك فقال هذان بينتي سمعت) قاله أبو الخطاب لما ذكرنا
* (مسألة) * (وان قال ما أريد أن تشهد إلي لم يكلف إقامة البينة) لأنه أسقط حقه منها
* (مسألة) * (وان قال لي بينة وأريد يمينه فإن كانت غائبة فله احلافه وان كانت حاضرة
فهل له ذلك؟ على وجهين)
إذا قال المدعي لي بينة غائبة قال الحاكم لك يمينه فإن شئت فاستحلفه وان شئت اخرته إلى أن
تحضر بينتك وليس لك مطالبته بكفيل ولا ملازمته حتى تحضر البينة نص عليه أحمد وهو مذهب
الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه ليس لك الا ذلك " فإن أحلفه ثم حضرت بينته
حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة فإذا وجدت البينة بطلت
اليمين وتبين كذبها، فإن قال لي بينة حاضرة وأريد يمينه ثم أقيم بينتي لم يملك ذلك في أحد الوجهين
وفي الآخر له احلافه وهو قول أبي يوسف كما لو كانت البينة غائبة
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " شاهداك أو يمينه ليس لك الا ذلك " وأو للتخيير بين شيئين
فلا يكون الجمع بينهما لأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة فلم يشرع غيرها معها مع إرادة المدعي اقامتها
وحضورها كما لو يطلب يمينه ولان اليمين بدل فلم يجب الجمع بينها وبين مبدلها كسائر الابدال مع
مبدلاتها وان قال المدعي لا أريد إقامتها وإنما أريد يمينه اكتفي بها واستحلف لأن البينة حقه
فإذا رضي باسقاطها وترك اقامتها فله ذلك كنفس الحق فإن حلف المدعي عليه ثم أراد المدعي إقامة
429

بينة لم يملك ذلك في أحد الوجهين لأنه قد أسقط حقه من اقامتها ولان تجويز اقامتها يفتح باب الحيلة
لأنه يقول لا أريد اقامتها ليحلف خصمه ثم يقيمها (والثاني) له ذلك لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف
كما لو كانت غائبة فإن كان له شاهد واحد في المال عرفه الحاكم ان له ان يحلف مع شاهده ويستحق
فإن قال لا أحلف أنا وارضى بيمينه استحلف فإذا حلف سقط الحق عنه فإن عاد المدعي بعدها وقال
أنا احلف مع شاهدي لم يستحلف ولم يسمع منه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين فعله
وهو قادر عليها فامكنه ان يسقطها بخلاف البينة وان عاد قبل ان يحلف المدعى عليه فبذل اليمين لم يكن
له ذلك في هذا المجلس وكل موضع قلنا يستحلف المدعى عليه فإن الحاكم يقول له ان حلفت والا
جعلتك ناكلا وقضيت عليك ثلاثا فإن حلف والا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك
* (مسألة) * (فإن سكت عن جواب المدعي فلم يقر ولم ينكر حبسه الحاكم حتى يجيب ولا
يجعله بذلك ناكلا)
ذكره القاضي في المحرر وقال أبو الخطاب يقول له الحاكم ان أجبت والا جعلناك ناكلا
وحكمت عليك ويكرر ذلك ثلاثا فإن أجاب والا جعله ناكلا وحكم عليه لأنه نأكل عما توجه الجواب
فيه فيحكم عليه بالنكول عنه باليمين
* (مسألة) * (وان حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق)
وجملة ذلك أن المدعي إذا ذكر ان له بينة بعيدة ولا يمكنه إحضارها أو لا يريد اقامتها فطلب
اليمين من المدعى عليه احلف له فإذا حلف ثم أحضر المدعي بينة حكم له وبهذا قال شريح والشعبي
ومالك والثوري والليث والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وإسحاق وحكي عن ابن أبي ليلى وداود
430

ان بينته لا تسمع لأن اليمين حجة المدعى عليه فلا تسمع بعدها حجة المدعي كما لا تسمع يمين المدعى
عليه بعد بينة المدعي
ولنا قول عمر رضي الله عنه البينة الصادقة أحب إلي من اليمين الفاجرة، وظاهر هذه البينة الصدق
ويلزم من صدقها فجوز اليمين المتقدمة فتكون أولى ولان كل حالة يجب عليه الحق فيها باقراره يجب
عليه بالبينة كما قبل اليمين وما ذكراه لا يصح لأن البينة الأصل واليمين بدل عنها ولهذا لا تشرع
الا عند تعذرها والبدل يبطل بالقدرة على المبدل كبطلان التيمم بالقدرة على الماء ولا يبطل الأصل
بالقدرة على البدل ويدل على الفرق بينهما أنهما حال اجتماعهما وامكان سماعهما تسمع البينة ويحكم بها
ولا تسمع اليمين ولا يسأل عنها
(فصل) فإن طلب المدعي حبس المدعى عليه وإقامة كقيل به إلى إقامة ببيته البعيدة لم يقبل منه
ولم تكن له ملازمة خصمه نص عليه أحمد لأنه لم يثبت له قبله حق يحبس به ولا يقيم به كفيلا ولان
الحبس عذاب فلا يلزم معصوما لم يتوجه عليه حق ولو جاز ذلك لتمكن كل ظالم من حبس من شاء
من الناس بغير حق وان كانت ببيته قريبة فله ملازمته حتى يحضرها لأن ذلك من ضرورة اقامتها
فإنه لو لم يتمكن من ملازمته لذهب من مجلس الحاكم ولا تمكن اقامتها الا بحضرته ولأنه لما تمكن من
احضاره مجلس الحكم حتى يقيم فيه البينة تمكن من ملازمته فيه حتى تحضر البينة ويفارق البينة البعيدة
ومن لا يمكن حضورها فإن الزامه الإقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حبس أو ما يقوم مقامه ولا سبيل إليه
(فصل) ولو أقام المدعي شاهدا واحدا ولم يحلف معه وطلب يمين المدعى عليه أحلف له ثم إن
أحضر شاهدا آخر بعد ذلك كملت بينته وقضي بها لما ذكرنا في التي قبلها والله أعلم
431

* (مسألة) * (وان قال لي مخرج مما ادعاه لم يكن مجيبا) لأن الجواب أحد أمرين اقرار أو إنكار
وليس هذا واحدا منهما
* (مسألة) * (وان قال لي حساب أريد ان أنظر فيه لم يلزم المدعي انظاره)
لأن حق الجواب يثبت له حالا فلم يلزمه انظاره كما لو ثبت عليه الدين وذكر شيخنا في كتاب
الكافي أنه ينظر ثلاثا ولا يهمل أكثر منها لأنه كثير وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنه يحتاج
إلى ذلك لمعرفة قدر دينه أو يعلم أهل عليه شئ أولا والثلاث مدة يسيرة
* (مسألة) * (وان قال قضيته أو أبرأني ولي ببينة بالقضاء أو الابراء وسأل الانظار انظر ثلاثا)
لأنها قريبة وللمدعي ملازمته لئلا يهرب أو يتغيب ولا يؤخر الحق عن المدة التي انظر فيها فإن
عجز عن إقامة البينة حلف المدعي على نفي ما ادعاه واستحق لأنه يصير منكرا واليمين على المنكر
(فصل) فإن شهدت البينة للمدعي فقال المدعى عليه احلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة
لم يحلف لأن في ذلك طعنا على البينة
* (مسألة) * (وان ادعي عليه عينا في يده فأقر بها لغيره جعل الخصم فيها وهل يحلف المدعى عليه على
وجهين فإن كان المقر له حاضرا مكلفا سئل فإن ادعاها لنفسه ولم تكن بينة وأخذها وان أقر بها للمدعي
سلمت إليه وان قال ليست لي ولا أعلم لمن هي؟ سلمت إلى المدعي في أحد الوجهين في الآخر لا تسلم
إليه الا ببينة ويجعلها الحاكم عند امين، وان أقر بها لغائب أو صبي أو مجنون سقطت عنه الدعوى، ثم إن
كان للمدعي بينة سلمت إليه وهل يحلف؟ على وجهين وان لم تكن له بينة حلف المدعي عليه انه لا يلزمه
432

تسليمها إليه وأقرت في يده الا ان يقيم بينة انها لمن سمى فلا يحلف
وجملة ذلك أن الانسان إذا ادعى دارا في يد غيره فقال الذي هي في يده ليست لي إنما هي لفلان
وكان المقر بها له حاضرا سئل عن ذلك فإن صدقه صار الخصم فيها وكان صاحب اليد لأن من هي في
يده اعترف ان يده بائنة عن يده واقرار الانسان بما في يده اقرار صحيح فيصير خصما للمدعي فإن
كانت للمدعي بينة حكم له بها، وان لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وان قال المدعي
احلفوا المقر الذي كانت العين في يده انه لا يعلم أنها لي فعليه اليمين لأنه لو أقر بها لزم الغرم كما لو قال
هذه العين لزيد ثم قال هي لعمرو فإنها تدفع إلى زيد ويغرم قيمتها لعمرو ومن لزمه الغرم مع الاقرار
لزمته اليمين مع الانكار، وفيه وجه انه لا يحلف لأنه أقام المقر له مقام نفسه فيقوم مقامه في اليمين
وتجزئ اليمين عنهما فإن رد المقر له الاقرار فقال ليست لي وإنما هي للمدعي حكم له بها، وان لم
تكن له بينة ففيه وجهان (أحدهما) تدفع إلى المدعي لأنه يدعيها ولا منازع له فيها ولان من هي في يده لو
ادعاها ثم نكل قضينا له بها فمع عدم ادعائه لها أولى
(والثاني) لا تدفع إليه لأنه لم يثبت لها مستحق لأن المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد معترف
انها ليست له فيأخذها الإمام فيحفظها لصاحبها وهذا الوجه الذي ذكره القاضي والأول أصح لما ذكرنا
من دليله ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ووجه ثالث ان المدعي يحلف انها له وتسلم إليه ويتخرج لنا مثله
433

بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه وان قال المقر له هي لثالث انتقلت الخصومة إليه وصار
بمنزلة صاحب اليد لأنه أقر له بها من له اليد حكما
* (مسألة) * (وان أقر بها الغائب أو لغير مكلف معين كالصبي والمجنون صارت الدعوى عليه
فإن لم تكن للمدعي بينة لم يقض له بها)
لأن الحاضر يعترف انها ليست له، ولا يقضى على الغائب بمجرد الدعوى ويقف الامر حتى
يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفا وتكون الخصومة معه، فإن قال المدعي احلفوا لي المدعي عليه
أحلفناه لما تقدم، وان أقر بها للمدعي لم تسلم إليه لأنه اعترف انها لغيره ويلزمه ان يغرم له قيمتها لأنه
فوتها عليه باقراره بها لغيره، وإن كان مع المدعي بينة سمعها الحاكم وقضى بها وكان الغائب على
خصومته متى خطر له ان يقدح في بينة المدعي وان يقيم بينة تشهد بانتقال الملك إليه من المدعي، وان أقام
بينة انها ملكه فهل يقضي به؟ على وجهين بناء على تقديم بينة الداخل والخارج فإن قلنا تقدم بينة
الخارج فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج أو لسبب من أسباب الملك فهل تسمع بينته ويقضى
بها؟ على وجهين فإن كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب سمعها الحاكم ولم يقض بها لأن البينة للغائب
والغائب لم يدعها هو ولا وكيله وإنما سمعها الحاكم لما فيها من الفائدة وهو زوال التهمة عن الحاضر
وسقوط اليمين عنه إذا ادعى عليه أنك تعلم أنها لي ويتخرج ان يقضى بها إذا قلنا بتقديم بينة الداخل
وان للمودع المحاكمة في الوديعة إذا غصبت لأنها بينة مسموعة فيقضى بها كبينة المدعي إذا لم تعارضها
بينة أخرى فإن ادعى من هي في يده انها معه بإجارة أو عارية وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض بها
لوجهين (أحدهما) ان ثبوت الإجارة والعارية يترتب على ثبوت الملك للمؤجر ولا يمكن ثبوت الملك
434

للمؤجر بهذه البينة فلا تثبت الإجارة المترتبة عليها (والثاني) ان بينة الخارج مرتبة على بينة الداخل
ويتخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل وكون الحاضر له فيها حق ومتى عاد المقر بها لغيره فأعادها
لنفسه لم تسمع دعواه لأنه أقر بأنه لا يملكها فلا يسمع منه الرجوع عن اقراره والحكم في غير المكلف
كالحكم في الغائب على ما ذكرناه.
* (مسألة) * (وان أقر بها لمجهول قيل له اما ان تعرفه واما أن نجعلك ناكلا وقضينا عليك
فإن أصر قضي عليه بالنكول).
لأنه لا تمكن الدعوى على مجهول فيضيع الحق باقراره هذا فيجب ان لا يقبل كما لو يسكت.
* (فصل) * قال رحمه الله (ولا تصح الدعوى إلا محررة تحريرا يعلم به المدعى إلا في الوصية
والاقرار فإنه يصح بالمجهول)
أما في غير ذلك فلا يصح لأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه المدعي فإن اعترف به لزمه
ولا يمكن ان يلزمه مجهولا ويفارق الاقرار فإن الحق عليه فلا يسقط بتركه اثباته وإنما صحت الدعوى
في الوصية مجهولة فإنها تصح مجهولة فإنه لو وصى له بشئ أو سهم صح فلا يمكنه ان يدعيها إلا مجهولة
كما يثبت وكذلك الاقرار لما صح ان يقر بمجهول صح لخصمه ان يدعي عليه انه أقر له بمجهول. إذا
ثبت هذا فإن كان المدعي أثمانا فلابد من ذكر ثلاثة أشياء الجنس والنوع والقدر فيقول
عشرة دنانير مصرية وان اختلفت بالصحاح والمكسرة.
* (مسألة) * (فإن كان المدعى عينا حاضرة عينها بالإشارة لأنها تعلم بذلك وان كانت غائبة ذكر
صفاتها ان كانت تنضبط بها وإلا ذكر قيمتها)
لأنها لا تتميز ولا تصير معلومة إلا بذلك فإن تعذر ذلك رجعنا إلى القيمة كما لو تلفت العين.
435

* (مسألة) * (وان كانت تالفة من ذوات الأمثال ذكر قدرها وجنسها وصفتها).
لأن المثل واجب في ذوات الأمثال فوجبت فيه هذه الصفات لأنه لا يتحقق المثل بدونها وان
ذكر قيمتها كان أولى لأنه احصر، وإن كان مما لا مثل له كالنبات والحيوان ذكر قيمته لأنها تجب
بتلفه وكذلك إن كان جوهرا تعين ذكر قيمته لأنها تجب بتلفه لأنها لا تنضبط إلا بذلك فإن كان
المدعى دارا فلابد من بيان موضعها وحدودها فيدعي ان هذا بحدودها وحقوقها لي وانها في يده
ظلما وأنا أطالبه بردها وان ادعى عليه ان هذه الدار لي وانه يمنعني منها صحت الدعوى وان لم يقل
انها في يده لأنه يجوز ان ينازعه ويمنعه وان لم تكن في يده وان ادعى جراحة فيها أرش معلومة كالموضحة
من الحر لم يحتج إلى ذكر أرشها لأنه معلوم وان كانت من عبد أو كانت من حر لا مقدر فيها فلابد من ذكر أرشها
وان ادعى على أبيه دينا لم تسمع الدعوى حتى يدعي ان أباه مات وترك في يده مالا لأن الولد لا يلزمه
قضاء دين والده ما لم يكن كذلك ويحتاج ان يذكر تركة أبيه ويحررها ويذكر قدرها كما يصنع في قدر
الدين هكذا ذكره القاضي، قال شيخنا والصحيح انه يحتاج إلى ذكر ثلاثة أشياء قدر دينه وموت
أبيه وانه وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء لدينه ان قال ما فيه وفاء لبعض دينه احتاج ان يذكر
ذلك القدر والقول قول المدعى عليه في نفي تركة الأب مع يمينه وكذلك ان أنكر موت أبيه ويكفيه
أن يحلف على نفي العلم لأنه على نفي فعل الغير وقد يموت ولا يعلم به ابنه، ويكفيه ان يحلف انه
ما وصل إليه من تركة أبيه شئ ولا يلزمه ان يحلف ان أباه لم يخلف شيئا لأنه قد يخلف تركة لا تصل
إليه فلا يلزمه الايفاء منه.
436

* (مسألة) * (وان ادعى نكاحا فلابد من ذكر المرأة بعينها إن حضرت وإلا ذكر اسمها ونسبها
وذكر شروط النكاح وانه تزوجها بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها في الصحيح من المذهب ان
كانت ممن يعتبر رضاها).
وهذا منصوص الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يحتاج إلى ذكر شرائطه لأنه نوع ملك فأشبه
ملك العبد الا انه لا يحتاج أن يقول وليست معتدة ولا مرتدة.
ولنا ان الناس اختلفوا في شرائط النكاح فمنهم من يشترط الولي والشهود ومنهم من لا يشترط
إذن البكر البالغ لأبيها في تزويجها ومنهم من يشترطه وقد يدعي نكاحا يعتقده صحيحا والحاكم لا يرى
صحته ولا ينبغي أن يحكم بصحته مع جهله بها ولا يعلمها ما لم يذكر الشروط وتقوم البينة بها ويفارق
المال فإن أسبابه لا تنحصر وقد يخفى على المدعي سبب ثبوت حقه والعقود تكثر شروطها ولذلك
اشترطنا لصحة البيع شروطا سبعة فربما لا يحسن المدعي عددها ولا يعرفها والأموال مما يتساهل فيها
ولذلك افترقا في اشتراط الولي والشهود في عقوده فافترقا في الدعوى وأما الردة والعدة فالأصل عدمهما
ولا يختلف الناس فيه ولا تختلف به الأغراض فإن كانت المرأة أمة والزوج حرا فقياس ما ذكرناه
انه يحتاج إلى عدم الطول وخوف العنت لأنهما من شرائط صحة نكاحهما فأما ان ادعى استدامة
الزوجية ولم يدع العقد لم يحتج إلى ذكر شروطه في أحد الوجهين لأنه يثبت بالاستفاضة ولو اشترط
ذكر الشروط لاشترطت الشهادة به ولا يلزم ذلك في شهادة الاستفاضة وفي الثاني يحتاج إلى ذكر
الشروط لأنه دعوى نكاح أشبه دعوى العقد.
437

* (مسألة) * (وإذا ادعى بيعا أو عقدا سواه فهل يشترط ذكر شروطه؟ يحتمل وجهين)
أما سائر العقود من البيع والإجارة والصلح وغيرها فلا يفتقر إلى الكشف وذكر الشروط
في أصح الوجهين لأنه لا يحتاط لها ولا يفتقر إلى الولي والشهود فلم يفتقر إلى الكشف كدعوى العين
وسواء كان المبيع حارية أو غيرها لأنها مبيع فأشبهت العبد وكذلك إذا كان المدعى عبدا أو دينا
لم يحتج إلى ذكر السبب لأن أسباب ذلك تكثر ولا تنحصر وربما خفي على المستحق سبب استحقاقه
فلا يكلف بيانه ويكفيه ان يقول استحق هذه العين التي في يده وأستحق كذا وكذا في ذمته ويقول
في البيع اني اشتريت هذه الجارية بألف درهم أو بعتها منه بذلك ولا يحتاج ان يقول وهي ملكه
أو وهي ملكي ونحن جائز الامر وتفرقنا عن تراض، وذكر أبو الخطاب في العقود وجها آخر انه
يشترط ذكر شروطها قياسا على النكاح وذكر أصحاب الشافعي هذين الوجهين ووجها ثالثا إن كان
المبيع جارية اشترط ذكر شروط البيع لأنه عقد يستباح به الوطئ أشبه النكاح، وإن كان
المبيع غيرهما لم يشترط لعدم ذلك والأول أولى لأنها دعوى فيما لا يشترط فيه الولي والشهود أشبه
دعوى العين وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكر سأله الحاكم عنه لتصير الدعوى معلومة
فيمكن الحاكم الحكم بها.
* (مسألة) * (وإن ادعت المرأة نكاحا على رجل وادعت معها نفقه أو مهرا سمعت دعواها وإن
لم تدع سوى النكاح فهل تسمع دعواها؟ على وجهين)
إذا ذكرت المرأة مع دعوى الزوجية حقا من حقوق النكاح كالمهر والنفقة ونحوها فإن دعواها تسمع
بغير خلاف نعلمه لأنها تدعي حقا لها تضيفه إلى سببه فتسمع دعواها كما لو ادعت اضافته إلى الشراء
438

وان أفردت دعوى النكاح فقال القاضي تسمع دعواها أيضا لأنه سبب لحقوق لها فتسمع دعواها
كالبيع وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر انه لا تسمع دعواها لأن النكاح حق للزوج عليها فلا تسمع
دعواها حقا لغيرها وان قلنا بالأول سئل الزوج فإن أنكر ولم تكن بينة فالقول قوله بغير يمين لأنه
إذا لم تستحلف المرأة والحق عليها فلألا لا يستحلف من الحق له وهو ينكره أولى ويحتمل ان يستحلف
لأن دعواها إنما سمعت لتضمنها دعوى حقوق مالية تشرع فيها اليمين وان أقامت البينة بالنكاح
ثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها وأما اباحتها فتبنى على باطن الامر فإن علم أنها امرأته حلت له
لأن انكاره النكاح ليس بطلاق ولا نوى به الطلاق وان علم أنها ليست امرأته إما العدم العقد أو
لبينونتها لم تحل له وهل يمكن منها في الظاهر؟ يحتمل وجهين
(أحدهما) يمكن منها لأن الحاكم قد حكم بالزوجية (والثاني) لا يمكن منها لاقراره على نفسه
بتحريمها عليه فيقبل قوله في حق نفسه دون ما عليه كما لو تزوج امرأة ثم قال هي أختي من الرضاعة
فإذا ثبت هذا فإن دعواها النكاح كدعوى الزوج فيما ذكرناه من الكشف عن سبب النكاح
وشرائط العقد ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا في هذا الفصل
* (مسألة) * (وان ادعى قتل موروثه ذكر القاتل وانه انفرد به أو شاركه فيه غيره وانه قتله
عمدا أو خطأ أو شبه عمد ويصفه) ويذكر صفة العمد لأنه قد يعتقد ما ليس بعد عمدا فلا يؤمن ان يقتص
ممن لا يجب له القصاص عليه وهو مما لا يمكن تلافيه فوجب الاحتياط فيه
439

* (مسألة) * (وان ادعى الإرث ذكر سببه)
لأن أسبابه تختلف ولابد في الشهادة من أن تكون على سبب معين فكذلك في الدعوى
* (مسألة) * (وان ادعى سيفا محلى يذهب قومه بغير جنس حليته وإن كان محلى يذهب وفضة
قومه بما شاء منهما للحاجة)
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وتعتبر في البينة العدالة ظاهرا وباطنا في اختيار الخرقي والقاضي
وعنه نقبل شهادة كل مسلم لم يظهر منه ريبة اختارها أبو بكر فإن جهل اسلامه رجع إلى قوله
والمذهب الأول)
وجملة ذلك أن الحاكم إذا شهد عنده شاهدان فإن عرف عدالتهما حكم بشهادتهما وان عرف
فسقهما لم يقبل قولهما وان لم يعرف حالهما سأل عنهما لأن معرفة العدالة شرط في جميع الحقوق وبهذا
قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وعن أحمد رواية أخرى يحكم بشهادتهما إذا عرف اسلامهما بظاهر
الحال الا ان يقول الخصم هما فاسقان وهذا قول الحسن والمال والحد في ذلك سواء لأن الظاهر من
المسلمين العدالة ولهذا قال عمر رضي الله عنه المسلمون عدول بعضهم على بعض وروي ان أعرابيا
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أتشهد ان لا إله إلا الله؟ " قال نعم فصام
وأمر الناس بالصيام، ولان العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله عز وجل ودليل ذلك الاسلام فإذا
وجد فليكتف به ما لم يقم على طلاقه دليل وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية الأولى وفي
سائر الحقوق كالثانية لأن الحدود والقصاص مما يحتاط لهما وتندرئ بالشبهات بخلاف غيرها
440

ولنا ان العدالة شرط فوجب العلم بها كالاسلام وكما لو طعن الخصم فيهما فأما الاعرابي المسلم
فإنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله تعالى عليهم فإن من ترك دينه في
زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثار الدين الاسلام وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته وأما قول عمر فالمراد
به الظاهر العدالة ولا يمنع ذلك وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة فقد روي عنه انه اتي بشاهدين فقال لست
أعرفكما ولا يضركما ان لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما فأتيا برجل فقال له عمر تعرفهما؟ فقال نعم فقال
عمر صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس؟ قال لا قال عاملتهما في الدراهم والدنانير التي تقطع فيها الرحم؟
قال لا قال كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال لا قال يا ابن أخي لست تعرفهما جيئا بمن يعرفكما
وهذا بحث يدل على أنه لا يكتفى بدونه. إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط الاسلام والبلوغ
والعقل والعدالة وليس فيها ما يحفى ويحتاج إلى البحث الا العدالة فيحتاج إلى البحث عنها لقول الله تعالى
(ممن ترضون من الشهداء) ولا يعلم أنه مرضي حتى يعرفه أو يخبر عنه فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم
وكناهم ونسبهم ويرفع فيها ما يتميزون به عن غيرهم ويكتب صنائعهم ومعائشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم
ليسأل عنهم جيرانهم وأهل سوقهم ومسجدهم ومحلتهم ويحكيهم فيكتب اسودا وأبيض أو انزع أو أغم
أو أشهل أو أكحل اقني الانف أو افطس رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة ونحو
هذا التمييز ولا يقع اسم على اسم ويكتب اسم المشهود له وقدر الحق ويكتب ذلك كله لأصحاب مسائله لكل
واحد رقعة وإنما ذكرنا المشهود له لئلا يكون بينه وبين الشاهد عدواة وذكرنا قدر الحق لأنه ربما كان ممن
يرون قبوله في اليسير دون الكثير فتطيب نفس المزكي به إذا كان يسيرا ولا تطيب إذا كان كثيرا
441

وينبغي للقاضي ان يخفي عن كل واد من أصحاب مسائله ما يعطي الآخر من الرقاع لئلا يتواطئوا، وان
شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه من جيران الشاهد وأهل الخبرة به وان شاء
أطلق ولم يعين المسؤول ويكون السؤال سرا لئلا يكون فيه هتك المسؤول عنه وربما يخاف المسؤول
من الشاهد والمشهود له والمشهود عليه ان يخبر بما عنده أو يستحي وينبغي أن يكون أصحاب مسائله غير
معروفين لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة وان يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس ذوي عقول وافرة
ايرياء من الشحناء والبغضة لئلا يطعنوا في الشهود ويسألوا عن الشاهد عدوه فيطعن فيه فيضيع حق المشهود
له ولا يكونوا من أهل الأهواء والعصبية يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم ويكونون امناء ثقات لأن
هذا موضع أمانة وإذا رجع أصحاب مسائله فأخبر اثنان بالعدالة قبلت شهادته وان أخبر بالجرح رد شهادته
وان أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل بعث آخرين فإن عادا فأخبرا بالتعديل تمت بينة التعديل
وسقط الجرح لأن بينته لم تتم وان أخبرا بالجرح ثبت ورد الشهادة وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر
بالتعديل لم تتم البينتان ويقدم الجرح ولا يقبل الجرح والتعديل الا من اثنين ويقبل قول أصحاب المسائل
وقيل لا تقبل شهادة المسؤولين ويكلف اثنين منهم ان يشهدوا بالتزكية والجرح عنده على شرط الشهادة
واللفظ وغيره ولا يقبل من صاحب المسألة لأن ذلك شهادة على شهادة مع حضور شهود الأصل ووجه
القول الأول ان شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة لا شهادة على شهادة فيكتفى بمن يشهد بها كسائر
شهادات الاستفاضة ولأنه موضع حاجة فإنه لا يلزم المزكي الحضور للتزكية وليس للحاكم اجباره عليها
فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل لتعذرت التزكية
لأنه قد لا يكون في جيران الشاهد من يعرفه للحاكم فلا يعرفه الحاكم فيفوت الجرح والتعديل
(فصل) ولا بد للحاكم من معرفة اسلام الشاهد قاله القاضي ويحصل ذلك بأحد أمور أربعة
442

(أحدها) إخباره عن نفسه أنه مسلم وإتيانه بكلمة الاسلام وهي شهادة ألا اله الا الله وأن
محمدا رسول الله لأنه لو لم يكن مسلما صار بذلك مسلما (الثاني) اعتراف المشهود عليه باسلامه لأنه حق عليه
(الثالث) خبرة الحاكم لأننا اكتفينا بذلك في عدالته فكذلك في اسلامه (الرابع) ان تقوم
به بينة ولا بد من معرفة الحرية في موضع تعتبر فيه ويكفي في ذلك أحد أمور ثلاثة البينة أو اعتراف
المشهود عليه أو خبرة الحاكم ولا يكفي اعتراف الشاهد لأنه لا يملك ان يصير حرا فلا يملك الاقرار به
(فصل) إذا شهد عند الحاكم مجهول الحال فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان
(إحداهما) يلزم الحاكم بشهادته لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه وقد اعترف بها ولأنه
إذا أقر بعدالته فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه فيؤخذ اقراره كسائر أقاريره
(والثاني) لا يجوز الحكم بشهادته لأن الحكم بها تعديل فلا يثبت بقول واحد ولان اعتبار
العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي الخصم بان يحكم عيه بقول فاسق لم يجز الحكم به
لأنه لا يخلوا اما ان يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه، لا يجوز ان يقال مع تعديله لأن التعديل لا
يثبت بقول الواحد ولا يجوز مع انتفاء تعديله لأن الحكم بشهادة غير العدل لا يجوز بدليل شهادة
من ظهر فسقه ومذهب الشافعي مثل هذا فإن قلنا بالأول فلا يثبت تعديله في غير المشهد عليه لأنه
لم يوجد منه التعديل وإنما حكم عليه لاقراره بوجود شرط الحكم، واقراره يثبت في حقه دون غيره
* (مسألة) * (وإن علم الحاكم عدالتهما عمل بعلمه وحكم بشهادتهما)
لا نعلم فيه خلافا وإذا عرف عدالة الشهود قال للمشهود قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح
443

في شهادتهم فبينه عندي فإن لم يقدح في شهادتهم حكم عليه لأن الحق قد صح على وجه لا اشكال فيه
* (مسألة) * (الا أن يرتاب بهما فيفرقهما ويسال كل واحد منهما كيف تحملت الشهادة؟ ومتى؟
وفي أي موضع؟ وهل كنت وحدك أو أنت وصاحبك؟ فإن اختلفا لم يحكم بشهادتهما وإن اتفقا
وعظهما وخوفهما فإن ثبتا حكم بها إذا سأله المدعي)
وجملة ذلك أن الحاكم إذا ارتاب بشهادة الشهود احتاج إلى البحث عنهم لقول الله تعالى (ممن
ترضون من الشهداء) ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه فيفرقهما ليظهر له حالهما فيفرقهم
ويسال كل واحد عن شهادته وصفتها فيقول كنت أول من شهد أو كتب أو لم يكتب وفي أي
مكان شهدت؟ وفي اي شهر؟ وأي يوم؟ وهل كنت وحدك أو مع غيرك؟ فإن اختلفوا سقطت شهادتهم
لأنه قد ظهر له ما يمنع قبولها ويقال أول من فعل هذا دانيال وقيل سليمان عليهما السلام وهو صغير
وروي عن علي رضي الله عنه ان سبعة نفر خرجوا فقد واحد منهم فاتت زوجته عليا تدعي على الستة
فسألهم علي فأنكروا وفرقهم وأقام كل واحد منهم عند سارية ووكل به من يحفظه فدعا واحدا منهم فسأله
فأنكر فقال الله أكبر فظن الباقون أنه قد اعترف فدعاهم فاعترفوا فقال للأول قد شهدوا عليك
وأنا قاتلك فاعترف فقلتهم
* (مسألة) * (وان اتفقوا وعظهم وخوفهم كما روي عن شريح أنه كان يقول للشاهدين إذا حضرا
يا هذان الا تريان؟ اني لم أدعكما ولست أمنعكما ان ترجعا وإنما يقضي على هذا أنتما وأنا متق بكما
فاتقيا وفي لفظ فاني بكما اقضي وبكما اتقي يوم القيامة)
444

وروى أبو حنيفة قال كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاء رجل فادعى على
رجل حقا فأنكره فاحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي تقوم به السماء
والأرض لقد كذبا علي في الشهادة وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال سمعت ابن عمر
يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان الطير لتخفق بأجنحتها وترمي ما في حواصلها من هول يوم
القيامة وان شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار " فإن صدقتما فاثبتا وان
كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا
* (فصل) * قال رحمه الله (ينبغي للقاضي ان يسال عن شهوده كل قليل لأن الرجل ينتقل من
حال إلى حال وهل هذا مستحب أو واجب؟ فيه وجهان)
(أحدهما) مستحب لأن الأصل بقاء ما كان فلا يزول حتى يثبت الجرح (والثاني) يجب البحث كلما مضت
مدة يتغير الحال فيها لأن العيب يحدث وذلك على ما يراه الحاكم، ولأصحاب الشافعي وجهان مثل هذين
* (مسألة) * (وليس للحاكم ان يرتب شهودا لا يقبل غيرهم)
لأن الله تعالى قال (وأشهدوا ذوي عدل منكم) ولان فيه اضرارا بالناس وتضييقا عليهم
لأن كثيرا من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها تقع عند غير المرتبين فمتى ادعى انسان شهادة غير
المرتبين وجب على الحاكم سماع بينته والنظر في عدالة شاهديه ولا يجوز ردهما بكونهما من غير المرتبين
445

لأن ذلك يخالف الكتاب والسنة والاجماع لكن له ان يرتب شهود اشهدهم الناس فيستغنون باشهادهم
عن تعديلهم ويستغني الحاكم عن الكشف عن أحوالهم فيكون فيه تخفيف من وجه ويكونون أيضا
يزكون من عرفوا عدالته من غيرهم إذا شهد
* (مسألة) * (فإن ثبتا حكم بشهادتهما لأن الظاهر صدقهما ولا يحكم حتى يسأله المدعي لأن
الحق وقد ذكرناه)
(فصل) إذا اتصلت به الحادثة واستنارت به الحجة لاحد الخصمين حكم إذا سأله لما بينا وإن
كان فيها لبس أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما إلى البيان فإن عجلها قبل البيان لم يصح حكمه، وممن
رأى الاصلاح بين الخصوم شريح وعبد الله بن عتبة وأبو حنيفة والشعبي والعنبري وروي عن عمر
أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن قال أبو عبيد إنما
يسعه الصلح في الأمور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لاحد الخصمين وتبين له موضع الظلم
فليس له أن يحمله على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر، وروي عن شريح أنه ما أصلح
بين متحاكمين إلا مرة واحدة
(فصل) وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب الله والا نظر في سنة رسول الله فإن لم يجدها نظر
في القياس فالحقها بأشبه الأشياء بها لما روى عمرو بن الحارث بن أخي المغيرة بن شعبة عن رجل من
أصحاب معاذ من أهل حمص عن معاذ ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " بم تحكم؟ -
قال بكتاب الله قال - فإن لم تجد - قال بسنة رسول الله قال - فإن لم تجد؟ - قال اجتهد رأيي
ولا آلو قال - الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله " فإن قيل عمرو بن
446

أخي المغيرة والرجال مجهولون قلنا قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ثم إنه
حديث مشهور في كتب أهل العلم رواه سعيد بن منصور والإمام أحمد وغيرهما وتلقاه العلماء بالقبول
وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد ان عمر قال لشريح انظر ما تبين لك في كتاب الله
فاتبع فيه السنة وما لم يتبين ذلك في السنة فاجتهد فيه رأيك وعن ابن مسعود مثل ذلك
* (مسألة) * (وإن جرحهما المشهود عليه كلف البينة بالجرح فإن سال الانظار وانظر ثلاثا ليجرحهما)
لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في كتابه إلى أبي موسى: واجعل لمن ادعى حقا
غائبا أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له حقه وإلا استحللت القضية عليه فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى
* (مسألة) * وللمدعي ملازمته الا ان يقيم بينة بالجرح)
لأن الحق قد ثبت في الظاهر فإذا لم يقم بينة بالجرح حكم عليه لظهور الحق
* (مسألة) * (ولا يسمع الجرح الا مفسرا بما يقدح في العدالة ويعتبر فيه اللفظ فيقول أشهد اني
رأيته يشرب الخمر أو سمعته يقذف أو رأيته يظلم الناس بأخذ أموالهم أو ضربهم أو يعامل بالربا أو
يعلم ذلك بالاستفاضة في الناس ولا بد من ذكر السبب وتعيينه)
وبهذا قال الشافعي وسوار وعنه يكفي ان يشهد أنه فاسق وليس بعدل وبه قال أبو حنيفة لأن
التعديل يسمع مطلقا وكذلك الجرح لأن التصريح بالسبب يجعل الجارح فاسقا يوجب عليه الحد في
بعض الحالات وهو ان يشهد عليه بالزنا فيفضي الجرح إلى جرح الجارح وتبطل شهادته
ولا يتجرح بها المجروح
447

ولنا أن الناس يختلفون في أسباب الجرح كاختلافهم في شارب يسير النبيذ فوجب ان لا يقبل
بمجرد الجرح لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جرحا ولان الجرح ينقل عن الأصل فإن الأصل في
المسلمين العدالة والجرح ينقل عنها فلا بد ان يعرف الناقل لئلا يعتقد نقله بما لا يراه الحاكم ناقلا
وقولهم إنه يفضي إلى جرح الجارح وايجاب الحد عليه قلنا ليس كذلك لأنه يمكنه التعريض من غير
تصريح فإن قيل ففي بيان السبب هتك المجروح قنا لا بد من هتكه فإن الشهادة عليه بالفسق هتك
ولكن جاز ذلك للحاجة الداعية إليه كما جازت الشهادة عليه به لإقامة الحد عليه بل ههنا أولى فإن فيه
دفع الظلم عن المشهود عليه وهو حق آدمي فكان أولى بالجواز لأن هتك عرضه بسببه لأنه تعرض
للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه فكان هو الهاتك لنفسه إذ كان فعله المحوج للناس إلى جرحه
فإن صرح الجارح بقذفه بالزنا فعليه الحد إن لم يأت بتمام أربعة شهداء وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي
لا حد عليه إذا كان بلفظ الشهادة لأنه لم يقصد ادخال المعرة عليه
ولنا قول الله سبحانه (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
ولان أبا بكرة ورفيقه شهدوا على المعيرة بالزنا ولم يكمل زياد شهادته فجلدهم عمر حد القذف بمحضر
من الصحابة ولم ينكره منكر فكان اجماعا ويبطل ما ذكروه بما شهدوا عليه لإقامة الحد عليه
(فصل) فإن أقام المدعي بينة ان هذين الشاهدين شهدا بذا الحق عند حاكم فردت شهادتهما
لفسقهما بطلت شهادتهما لأن الشهادة إذا ردت لفسق لم تقبل مرة ثانية
(فصل) ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء وقال أبو حنيفة يقبل لأنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة
فأشبه الرواية وأخبار الديانات
448

ولنا أنها شهادة فيما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه
الشهادة في القصاص وما ذكروه ممنوع
(فصل) ولا يقبل الجرح من الخصم بلا خلاف بين العلماء فلو قال المشهود عليه هذان فاسقان
أو عدوان أو أبا المشهود له لم يقبل قوله لأنه متهم في قوله ويشهد بما يجر إلى نفسه نفعا فأشبه
الشهادة لنفسه ولأننا لو قبلنا قوله لم يشأ أحد ان يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها فتضيع
الحقوق وتذهب حكمة البينة
(فصل) ولا تقبل شهادة المتوسمين، وذلك إذ حضر مسافران فشهدا عند حاكم لا يعرفهما لم
تقبل شهادتهما، وقال مالك يقبلهما إذا رأى منها سيما الخير لأنه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ففي التوقف
عن قولهما تضييع الحقوق فوجب الرجوع فيهما إلى السيماء الجميلة
ولنا ان عدالتهما مجهولة فلم يجز الحكم بشهادتهما كشاهدي الخضر وما ذكروه معارض بأن
قبول شهادتهما يفضي إلى القضاء بشهادتهما في دفع الحق إلى غير مستحقه
* (مسألة) * (وإن شهد عنده فاسق يعرف حاله قال للمدعي زدني شهودا)
ولا يقبل قوله لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) ويقول للمدعي
زدني شهودا لئلا يفضحه
449

* (مسألة) * (وإن جهل حاله طالب المدعي بتزكيته)
لأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه أتي بشاهدين فقال لهما اني لا أعرفكما ولا يضركما ان لم
أعرفكما جيئا بمن يعرفكما ولان العدالة شرط في قبول الشهادة على ما ذكرنا فإذا شك في وجودها
كانت كعدمها كشروط الصلاة
* (مسألة) * (ويكفي في التزكية شاهدان يشهدان أنه عدل رضي ولا يحتاج في التزكية ان يقول
علي ولي) وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول شريح وأهل العراق ومالك وبعض الشافعية وقال
أكثرهم لا يكفيه الا أن يقول علي ولي واختلفوا في تعليله فقال بعضهم لئلا تكون بينهم عداوة أو
قرابة وقال بعضهم لئلا يكون عدلا في شئ دون شئ
ولنا قوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فإن شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل
في عموم الآية ولأنه إذا كان عدلا لزم أن يكون له وعليه وفي حق سائر الناس وفي كل شئ فلا
يحتاج إلى ذكره ولا يصح ما ذكروه فإن الانسان لا يكون عدلا في شئ دون شي؟ ء ولا في حق
شخص دون شخص فإنها لا توصف بهذا ولا تنتفي أيضا بقوله علي ولي فإن من ثبتت عدالته لم تزل
بقرابة ولا عداوة وإنما ترد شهادته للتهمة مع كونه عدلا ثم إن هذا إذا كان معلوما انتفاؤه بينهما
لم يحتج إلى ذكره ولا نفيه عن نفسه ولان العداوة لا تمنع من شهادته له بالتزكية وإنما تمنع الشهادة
عليه وهذا شاهد له بالتزكية والعدالة فلا حاجة إلى نفي العداوة
(فصل) ولا يكفي ان يقول ما أعلم منه إلا الخير وهذا مذهب الشافعي وقال أبو يوسف يكفي
لأنه إذا كان من أهل الخبرة به ولا يعلم منه الا الخير فهو عدل
450

ولنا أنه لم يصرح بالتعديل فلم يكن تعديلا كما لو قال أعلم منه خيرا وما ذكروه لا يصح لأن
الجاهل بحال أهل الفسق لا يعلم منهم الا الخير لأنه يعلم اسلامهم وهو لا يعلم منهم غير ذلك وهم غير
عدول، قال أصحابنا ولا يقبل التعديل الا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة وهو مذهب الشافعي
لخبر عمر الذي قدمناه، ولان عادة الناس اظهار الطاعات وإسرار المعاصي فإن لم يكن ذا خبرة باطنة فربما
اغتر بحسن ظاهره وهو فاسق في الباطن وهذا يحتمل ان يريد الأصحاب بما ذكروه ان الحاكم إذا
علم أن المعدل لا خبرة له لم تقبل شهادته بالتعديل كما فعل عمر رضي الله عنه ويحتمل أنهم أرادوا أنه
لا تجوز للمعدل الشهادة بالعدالة إلا أن تكون له خبرة باطنة، فاما الحكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل
ولم يعرف حقيقة الحال فله ان يقبل الشهادة من غير كشف، وان استكشف الحال كما فعل عمر
رضي الله عنه فحسن
* (مسألة) * (وان عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى)
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك ينظرا أيهما أعدل الذان جرحاه أو الذان عدلاه؟
فيؤخذ بقول أعدلهما
ولنا ان الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه لأن التعديل متضمن ترك الريب
والجارح مثبت لوجود ذلك والاثبات مقدم على النفي ولان الجارح يقول رأيته يفعل والمعدل
مستنده أنه لم يره يفعل ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بان يراه الجارح يفعل المعصية
ولا يراه المعدل فيكون مجروحا
451

* (مسألة) * (وان سأل المدعي حبس المشهود عليه حتى يزكي شهوده فهل يحبس؟ على وجهين)
(أحدهما) يحبس لأن الظاهر العدالة وعدم السبق ولان الذي على الغريم قد أتى به وإنما بقي ما كان
على الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود (والثاني) لا يحبس لأن الأصل براءة الذمة وقيل
يحبس في المال فقط
* (مسألة) * (وان أقام شاهدا وسأل حبسه حتى يقيم الاخر حبسه إن كان في المال)
لأن الشاهد حجة فيه وإنما اليمين معونه له، وإن كان في غيره لم يحبس لأنه لا يكون حجة في
اثباته أشبه ما لو لم يقم شاهدا وفيه وجه آخر أنه يحبس كالتي قبلها والأول أولى لأنه إن حبس ليقيم
شاهدا آخر لتتم بهما البينة فهو كالحق الذي لا يثبت الا بشاهدين، وان حبس ليحلف معه فلا حاجة
إليه لأن الحلف ممكن في الحال، فإن حلف ثبت حقه وإلا لم يجب شئ، ويحتمل ان يقال إن كان المدعي
بازلا لليمين والتوقف لاثبات عدالة الشاهدين حبس كما ذكرنا في التي قبلها، وإن كان التوقف عن الحكم
لغير ذلك لم يحبس لما ذكرناه قال القاضي وكل موضع حبس فيه بشاهدين دام الحبس حتى تثبت
عدالة الشهود أو فسقهم، وكل موضع حبس لشاهد واحد فإنه يقال للمشهود له ان جئت بشاهد آخر
إلى بكيت والا أطلقناه، وان أقام شاهدين فحبس حتى يزكي شهوده فقيل يمهل ثلاثة أيام أيضا كالتي
قبلها وهو أولى إن شاء الله تعالى لأن الحبس عقوبة فإذا قلنا يحبس حتى يزكي شهوده فكل من
أراد حبس خصمه أقام شاهدين مجهولين لا يعرفهما الحاكم ويبقى خصمه في الحبس دائما وهذا
ضرر كثير مع أن الأصل براءة الذمة فاما الثلاثة أيام فهي يسيره
452

(فصل) إذا ادعى العبد ان سيده أعتقه وأقام شاهدين لم يعدلا فسأل الحاكم ان يحول بينه
وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة الشهود فعل الحاكم ذلك ويؤجره من ثقة ينفق عليه
من كسبه ويحبس الباقي فإن عدل الشاهدان ان أسلم إليه الباقي من كسبه وان فسقا رد إلى سيده وإنما
حلنا بينهما لما ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا، ولأننا لو لم نحل بينهما افضى إلى أن تكون أمة
يطؤها وان أقام شاهدا واحدا وسأل ان يحال بينهما ففيه وجهان
(فصل) وان أقامت المرأة شاهدين يشهدان بطلاقها ولم تعرف عدالة الشهود حيل بينه وبينها
وان أقامت شاهدا واحدا لم يحل بينهما لأن البينة لم تتم وهذا مما لا يثبت الا بشاهدين
* (مسألة) * (وان حاكم إليه من لا يعرف لسانه ترجم له من يعرف لسانه)
إذا تحاكم إلى القاضي العربي أعجميان أو أعجمي وعربي فلا بد من مترجم عنهما
* (مسألة) * (ولا يقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة الا قول عدلين)
وبهذا قال الشافعي وعن أحمد انه يقبل واحد وهذا اختيار أبي بكر عبد العزيز وابن المنذر
وقول أبي حنيفة قال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت ان النبي صلى الله عليه وسلم امره ان يتعلم كتاب يهود
قال فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا ولأنها مما لا تفتقر إلى لفظ الشهادة فأجزأ
فيها الواحد كاخبار الديانات ولأنه نقل ما خفي عن الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتحاكمين فوجب فيه العدد كالشهادة
ولان ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كغيبته فإذا ترجم له كان كنقل الاقرار إليه من غير مجلسه ولا
يقبل ذلك الا من شاهدين كذا ههنا فعلى هذه الرواية تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد
453

والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الاقرار بذلك الحق فإن كان مما يتعلق بالحدود
والقصاص اعتبر فيه الحرية ولم يكف الا شاهدان ذكران إن كان مما لا يكفي فيه ترجمة رجل وامرأتين
ولم تعتبر الحرية فيه وإن كان في حد زنا خرج في الترجمة وجهان
(أحدهما) لا يكفي فيه أقل من أربعة رجال أحرار عدول
(والثاني) يكفي فيه اثنان بناء على الروايتين في الشهادة على الاقرار بالزنا ويعتبر فيه لفظ الشهادة
لأنه شهادة وإن قلنا يكفي فيه واحد فلا بد من عدالته ولا يقبل من كافر ولا فاسق ويقبل من العبد
لأنه من أهل الشهادة ولرواية وقال أبو حنيفة لا يقبل من العبد لكونه ليس من أهل الشهادة
ولنا انه خبر يكفي فيه قول الواحد فيقبل فيه خبر العبد كاخبار الديانات ولا نسلم ان هذه شهادة
ولان العبد ليس من أهل الشهادة ولا يعتبر فيه لفظ الشهادة كالرواية وعلى هذا الأصل ينبغي ان يقبل فيه ترجمة
المرأة إذا كانت من أهل العدالة لأن روايتها مقبولة، فأما الجرح والتعديل فلا يكون الا من اثنين
وبهذا قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وابن المنذر وعن أحمد يقبل ذلك من واحد وهو
اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه خبر ولا يعتبره فيه لفظ الشهادة فيقبل من واحد كالرواية
ولنا انه إثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر العدد كالحضانة وفارق الرواية فإنها على
المساهلة ولا نسلم انها لا تفتقر إلى لفظ الشهادة
(فصل) والحكم في التعريف والرسالة كالحكم في الترجمة وفيها من الخلاف ما فيها، ذكره
شيخنا في الكتاب المشروح وذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب
454

* (مسألة) * (ومن ثبتت عدالته مرة فهل يحتاج إلى تجديد البحث عن عدالته مرة
أخرى؟ على وجهين)
وجملة ذلك أن من ثبتت، عدالته ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب حكم بشهادته وعدالته
لأن عدالته ثبتت وإن كان بعده بزمن طويل ففيه وجهان (أحدهما) لا يحتاج إلى ذلك (والثاني)
يحتاج لأن من طول الزمان تتغير الأحوال
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإن ادعى على غائب أو مستتر في البلد أو ميت أو صبي أو مجنون
وله بينة سمعها الحاكم وحكم بها)
من ادعى حقا على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه فعلى الحاكم إجابته
إذا كملت الشروط وبهذا قال ابن شبرمة ومالك والشافعي والأوزاعي والليث وسوار وأبو عبيد وإسحاق
وابن المنذر وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب وعن أحمد مثله وبه قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة
وأصحابه وروي ذلك عن القاسم والشعبي إلا أن أبا حنيفة قال إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو
شفيع جاز الحكم عليه واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعل " إذا تقاضي إليك رجلان فلا
تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك تدري بما تقضي "
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولأنه قضاء لاحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان
الآخر في البلد ولأنه يجوز أن يكون الغائب مما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه
455

ولنا ان هندا قالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي قال
" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه فقضى عليه لها ولم يكن حاضرا، ولان هذا بينة مسموعة
وعادلة فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضرا يقدم عليه إذا كان غائبا كسماع البينة وأما حديثهم
فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين
ويفارق الحاضر الغائب فإن البينة لا تسمع على حاضر الا بحضرته والغائب بخلافه، وقد ناقض أبو حنيفة
أصله فقال إذا جاءت امرأة فادعت ان لها زوجا غائبا وله مال في يد رجل وتحتاج إلى النفقة فاعترف
لها بذلك فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة، ولو ادعى على حاضر أنه اشترى من غائب ما فيه شفعة وأقام
بينة بذلك حكم بالبيع والاخذ بالشفعة ولو مات المدعى عليه فحضر بعض ورثته أو حضر وكيل
الغائب وأقام المدعي بينة حكم له بما ادعاه، والغيبة المعتبرة إلى مسافة القصر لأنها التي تبنى عليها الأحكام
(فصل) وكذلك الحكم في المستتر في البلد لأنه تعذر حضوره أشبه الغائب بل أولى فإن
الغائب معذور ولا عذر للمستتر نص عليه أحمد في رواية حرب وروى حرب باسناده عن أبي موسى
قال كان الخصمان إذا اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتعدا الموعد فوفى أحدهما ولم يوف الآخر قضى
للذي وفى ولأنه لو لم يحكم عليه لجعل الاستتار وسيلة إلى تضييع الحقوق
* (مسألة) * (والميت المدعى عليه كالغائب بل أولى) لأن الغائب قد يحضر بخلاف الميت
456

قال الشاعر: وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب
وكذلك الصبي والمجنون المدعى عليهما يجوز سماع البينة عليهما والحكم عليهما لأنه لا يعبر عن
نفسه فهو كالغائب وفي المستتر قول آخر يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وهل يحلف المدعى عليه إذا لم يبرأ إليه منه ولا من شئ منه؟ على روايتين)
وجملة ذلك أن البينة إذا قامت على غائب أو غير مكلف كالصبي والمجنون لم يستحلف المدعي مع
يمينه في أشهر الروايتين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " ولأنها بينة
عادلة فلم تجب اليمين معها كما لو كانت على حاضرة والثانية يستحلف معها وقول الشافعي لأنه يجوز
أن يكون استوفى ما قامت به البينة أو ملكه العين التي قامت بها البينة، ولو كان حاضرا فادعى ذلك
لوجبت اليمين فإذا تعذر ذلك منه لغيبته أو عدم تكليفه يجب ان يقوم الحاكم مقامه فيما يمكن
دعواه ولان الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الصبي والمجنون والغائب لأن كل ولاحد منهم لا يعبر عن
نفسه وهذا من الاحتياط والأولى ظاهر المذهب
* (مسألة) * (ثم إذا قدم الغائب أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون فهو على حجته)
أما إذا قدم الغائب عن الحكم فإن الحكم يقف على حضوره وان جرح الشهود لم يحكم عليه وان
استنظر الحاكم أجله ثلاثا فإن أقام البينة بجرحهم والا حكم عليه وان ادعى القضاء أو الابراء وكانت
له بينة به برئ والا حلف المدعي وحكم، له وان قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة
457

بطل الحكم لفوات شرطه، وان جرحهم بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقا لم يبطل الحكم ولم يقبله الحاكم
لجواز أن يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه
(فصل) ولا يقضي على الغائب الا في حقوق الآدميين فأما في الحدود التي لله تعالى فلا يقضي بها
عليه لأن مبناها على المساهلة والاسقاط فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم بالمال دون القطع
(فصل) ظاهر كلام احمد انه إذا قضى على الغائب بعين سلمت إلى المدعي وإن قضى عليه بدين
ووجد له مال اخذ منه فإنه قال في رواية حرب في رجل أقام بينة ان له سهما من ضيعة في أيدي قوم
فتواروا عنه يقسم عليهم شهدوا أو غابوا ويدفع إلى هذا حقه ولأنه ثبت حقه بالبينة فيسلم إليه كما لو كان
خصمه حاضرا ويحتمل ألا يدفع إليه شئ حتى يقيم كفيلا انه متى حضر خصمه وأبطل دعواه فعليه
ضمان ما اخذه لئلا يأخذ المدعي ما حكم له به ثم يأتي خصمه فيبطل حجته أو يقيم بينة بالقضاء والابراء
أو يملك العين التي قامت بها البينة بعد ذهاب المدعي أو موته فيضيع مال المدعى عليه، وظاهر
كلام احمد الأول فإنه قال في رجل عنده دابة مسروقة فقال هي عندي وديعة إذا أقيمت البينة
انها له تدفع إلى الذي أقام البينة حتى يجئ صاحب الوديعة فيثبت.
* (مسألة) * (وإن كان الخصم في البلد غائبا عن المجلس لم تسمع البينة حتى يحضر فإن امتنع
من الحضور سمعت البينة وحكم بها في إحدى الروايتين، وفي الأخرى لا تسمع حتى يحضر فإن
أبي بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فإن تكرر منه الاستتار أقعد على بابه من يضيق عليه
في دخوله وخروجه حتى يحضر).
وجملة ذلك أن الحاضر في البلد أو قريبا منه إذا لم يمتنع من الحضر لم يحكم عليه قبل
458

حضوره في قول أكثر أهل العلم ولأصحاب الشافعي وجه أنه يقضي عليه في غيبته لأنه غائب
أشبه الغائب البعيد.
ولنا انه أمكن سؤاله فإن امتنع من الحضور أو توارى فظاهر كلام أحمد جواز القضاء عليه لما ذكرنا
عنه في رواية حرب وروى عنه أبو طالب في رجل وجد غلامه عند رجل فأقام البينة انه غلامه
فقال الذي عنده الغلام أودعني هذا رجل فقال احمد أهل المدينة يقضون على الغائب ويقولون انه
لهذا الذي أقام البينة وهو مذهب حسن وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الاعذار وهو إذا
ادعى على رجل ألفا وأقام بينة فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه فينادي الرسول ثلاثا فإن جاء والا
فقد أعذروا إليه فهذا يقوي قول أهل المدينة وهو مذهب حسن، قد ذكر الشريف أبو جعفر
وأبو الخطاب انه يقضى عى الغائب الممنع وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر حضوره وسؤاله فجاز القضاء
عليه كالغائب البعيد بل هو أولى لأن البعيد معذور وهذا لا عذر له وعلى القول الآخر إذا امتنع من
الحضور بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فإن تكرر منه الاستتار أقعد على بابه من يضيق عليه
في دخوله وخروجه حتى يحضر لأن ذلك طريق إلى حضوره وتخليص الحق منه.
* (مسألة) * (وان ادعى ان أباه مات عنه وعن أخ له غائب وله مال في يد فلان أو دين عليه
فاقر المدعى عليه أو ثبتت بينته سلم إلى المدعي نصيبه وأخذ الحاكم نصيب الغائب فحفظ له ويحتمل
انه إذا كان المال دينا ان يترك نصيب الغائب في ذمة الغريم حتى يقدم).
وجملة ذلك أن من ادعى أن أباه مات وخلفه وأخا غائبا لا وارث له سواهما وترك في يد انسان
459

دارا أو عينا منقوله فأقر له صاحب اليد أو أنكر فثبت ما ادعاه ثبت ما في يد المدعي للميت
وانتزع من يد المنكر فدفع نصفها إلى المدعي وجعل النصف الآخر في يد أمين للغائب تكرمة له
إن كان يمكن كراؤه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان مما لا ينقل ولا يحول ومما ينحفظ ولا
يخاف هلاكه لم ينزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه لأن الغائب لم يدعه هو ولا وكيله فلم ينزع من
يد من هو فيه كما لو ادعى أحد الشريكين دارا مشتركة بينه وبين أجنبي فإنه يسلم إلى المدعي نصيبه
ولا ينزع نصيب الغائب كذا ههنا.
ولنا انها تركة ميت ثبتت ببينة فوجب ان ينزع نصيب الغائب كالمنقول وكما لو كان أخوه
صغيرا أو مجنونا ولان في بقائه له ضررا لأنه قد يتعزر على الغائب إقامة البينة وقد يموت الشاهدان
أو يغيبا أو تزول عدالتهما ويعزل الحاكم فيضيع حقه فوجب أن يحفظ بانتزاعه كالمنقول ويفارق
الشريك للأجنبي اجمالا وتفصيلا، أما الاجمال فإن المنقول ينتزع نصيب شريكه في الميراث ولا
ينزع نصيب الأجنبي وأما التفصيل فإن البينة ثبت بها الحق للميت بدليل انه تقضى منه ديونه وتنفذ
منه وصاياه ولان الأخ يشاركه فيما أخذه إذا تعذر عليه اخذ الباقي فأما إن كان دينا في ذمة انسان
فهل يقبض الحاكم نصيب الغائب؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يقبضه كما يقبض العين (والثاني) لا يقبضه لأنه إذا كان في ذمة من هو عليه كان أحوط
من أن يكون أمانة في يد الأمين لأنه لا يؤمن عليه التلف إذا قبضه والأول أولى لأن في الذمة يعرض
التلف بالفلس والموت وعزل الحاكم وتعذر البينة إذا ثبت هذا فإننا إذا دفعنا إلى الحاضر نصف
العين أو الدين لم نطالبه بضمين لأننا دفعناه بقول الشهود والمطالبة بالضمين طعن عليهم قال أصحابنا
سواء كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا، ويحتمل ان لا تقبل شهادتهما في نفي وارث آخر
حتى يكونا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة لأنه ليس من أهل المعرفة لأن جهله بالوارث
دليل على عدمه فلا يكتفى به وهذا قول الشافعي فعلى هذا تكون الدار موقوفة فلا يسلم إلى الحاضر
نصفها حتى يسأل الحاكم ويكشف عن المواضع التي كان يطرقها وينادي مناديا ينادي ان فلانا
مات فإن كان له وارث فليأت فإذا غلب على ظنه انه لو كان له وارث ظهر دفع إلى الحاضر نصيبه
وهل يطلب منه ضمين يحتمل وجهين وكذلك الحكم إذا كانا من أهل الخبرة الباطنة لكن لم يقولا
ولا نعلم له وارثا سواه.
460

(فصل) فإن كان مع الابن ذو فرض فعلى ظاهر المذهب يعطى فرضه كاملا وعلى هذا
التخريج يعطى اليقين فإن كانت له زوجة أعطيت ربع الثمن عائلا فيكون ربع التسع لجواز أن يكون
له أربع زوجات وان كانت له جدة ولم يثبت موت أمه لم يعط شيئا وان علم موتها أعطيت ثلث
السدس لجواز أن يكون له ثلاث جدات وتعطاه عائلا فيكون ثلث العشر ولا يعطى العصبة شيئا لجواز
أن يكون وارث يحجبه وإن كان زوجا أعطي الربع عائلا وهو الخمس لجواز أن تكون المسألة عائلة
فيعطى اليقين فإذا كشف الحاكم أعطى الزوج نصيبه وكمل لذوي الفروض فروضهم.
(فصل) إذا اختلفا في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة ان الدار كانت ليست ملكه أو منذ
شهر فهل تسمع البينة ويقضي بها على وجهين.
(أحدهما) تسمع ويحكم بها لأنها تثبت الملك في الماضي وإذا ثبت أستديم حتى يعلم زواله (والثاني)
لا تسمع، قال القاضي هو الصحيح لأن الدعوى لا تسمع ما لم يدعي المدعي الملك في الحال فلم يسمع
ما لم يدعه لكن ان انضم إلى شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديها فقالا نشهد انها كانت
ملكه أمس فغصبها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها
لأنه إذا لم يتبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلالة اليد لجواز
أن يكون ملكه أمس ثم ينتقل إلى صاحب اليد فإذا ثبت أن سبب اليد عدوان خرجت عن كونها
دليلا فوجب القضاء باستدامة الملك السابق، فإن أقر المدعى عليه انها كانت للمدعي أمس أو فيما مضى
سمع اقراره في الصحيح وحكم به لأنه حينئذ يحتاج إلى سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي فيحتاج
إلى بينة ويفارق البينة من وجهين.
(أحدهما) انه أقوى من البينة لكونها شهادة الانسان على نفسه ويزول به النزاع بخلاف
البينة (الثاني) أن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه والدعوى يجب أن تكون معلقة بالحال والاقرار يسمع
ابتداء، فإن شهدت البينة أنها كانت في يده أمس ففي سماعها وجهان، وإن أقر المدعى عليه بذلك
فالصحيح أنها تسمع ويقضي بها لما ذكرنا.
* (مسألة) * (وإن ادعى انسان أن الحاكم حكم له بحق فصدقه قبل قول الحاكم وحده)
وان لم يذكر الحاكم ذلك فشهد عدلان انه حكم له به قبل شهادتهما وأمضى القضاء وكذلك
461

ان شهدا أن فلانا وفلانا شهدا عندك بكذا قبل شهادتهما)
إذا ادعى انسان على الحاكم إنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي فذكر الحاكم حكمه أمضاه
وألزم خصمه ما حكم به عليه وليس هذا حكما بالعلم إنما هو امضاء لحكمه السابق وان لم يذكره القاضي
فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولهما وامضاء القضاء وبه، قال ابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن قال
القاضي هذا قياس قول أحمد لأنه قال يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف والشافعي لا يقبل لأنه لا يمكنه الرجوع إلى الإحاطة والعلم فلا يرجع إلى الظن كالشاهد
إذا نسي شهادته نشهد عنده شاهدان انه شهد لم يكن له ان يشهد.
ولنا انهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل فكذلك إذا شهدا عنده بحكمه فإنهما شهدا بحكم حاكم
وما ذكروه لا يصح لأن ذكر ما نسيه إليه ويخالف الشاهد لأن الحاكم يمضي ما حكم به إذا ثبت عنده والشاهد
لا يقدر على إمضاء شهادته وإنما يمضيها الحاكم وكذلك ان شهدا ان فلانا وفلانا شهدا عندك بكذا قبل
شهادتهما على الشاهدين كما يقبل شهادتهما على الحق نفسه
* (مسألة) * (وإن لم يشهد به أحد لكن وجده في قمطره في صحيفة تحت ختمه بخطه
فهل ينفذه؟ على روايتين)
(إحداهما) لا ينفذه إلا أن يذكره نص عليه احمد في الشهادة قاله بعض أصحابنا وهو مذهب
أبي حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن
(والثانية) انه يحكم به وبه قال ابن أبي ليلى قال شيخنا وهذا الذي رأيته عن أحمد في الشهادة
لأنه إذا كان في قمطره تحت ختمه لم يحتمل أن يكون إلا صحيحا ووجه الأولى انه حكم حاكم لم يعلمه
فلم يجز انفاذه إلا ببينة كحكم غيره ولأنه يجوز أن يزور عليه وعلى خطه وختمه والخط يشبه الخط فإن
قيل فلو وجد في دفتر أبيه حقا على انسان جاز له أن يدعيه ويحلف عليه فلنا هذا يخالف الحكم والشهادة
بدليل الاجماع على أنه لو وجد خط أبيه بشهادة لم يجز أن يحكم بها ولا يشهد بها ولو وجد حكم أبيه
مكتوبا بخطه لم يجز له انفاذه ولأنه يمكنه الرجوع فيما حكم به إلى نفسه لأنه فعله فروعي ذلك، وأما ما كتبه
أبوه فلا يمكنه الرجوع فيه إلى نفسه فكفى فيه الظن
* (مسألة) * (وكذلك الشاهد إذا وجد خطه بشهادة في كتاب ولم يذكرها فهل له أن
يشهد بها؟ على روايتين)
462

(إحداهما) له أن يشهد بها لأن الظاهر أنه خطه (والثانية) لا يشهد بها إلا أن يذكرها لأنها
قد تتزور على خطه وقد وجد ذلك
(فصل) قال الشيخ رحمه الله ومن كان له على انسان حق ولم يمكنه أخذه بالحاكم وقدر له على مال لم
يجز أن يأخذ قدر حقه نص عليه احمد واختاره عامة شيوخنا
وجملة ذلك أنه إذا كان لرجل على غيره حق وهو مقر به باذل له لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما
يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم فإن أخذ من ماله شيئا بغير إذنه لزمه رده إليه وإن كان قد حقه لأنه
لا يجوز أن يملك عليه عينا من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة وإن كانت من جنس حقه لأنه
قد يكون للانسان غرض في العين فإن أتلفها أو تلفت فصارت دينا في ذمته وكان الثابت في ذمته من
جنس حقه تقاصا في قياس المذهب والمشهور من مذهب الشافعي وإن كان مانعا له لأمر يبيح المنع
كالتأجيل والاعسار لم يجز أخذ شئ من ماله بغير خلاف، وان أخذ شيئا لزمه رده ما كان باقيا
أو عوضه إن كان تالفا ولا يحصل التقاص ههنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال بخلاف
التي قبلها، وإن كان ماله بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم والسلطان لم يجز له الاخذ أيضا بغير
خلاف لأنه قدر على استيفاء حقه ممن يقوم مقامه فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله، وان لم يقدر
على ذلك لكونه جاحدا له ولا بينة به ولكونه لا يجيبه إلى المحاكمة ولا يمكنه إجباره على ذلك أو نحو
هذا فالمشهور في المذهب انه ليس له أخذ قدر حقه وهو إحدى الروايتين عن مالك قال ابن عقيل
قد جعل أصحابنا المحدثون بجواز الاخذ وجها في المذهب أخذا من حديث هند حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم
" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
وقال أبو الخطاب ويتخرج لنا جواز الاخذ فإن كان المقدور عليه قدر حقه من جنسه أخذه
وإن كان من غير جنسه تحرى واجتهد في تقويمه لما ذكرنا من حديث هند، ومن قوله الرهن يركب
ويحلب بقدر ما ينفق والمرأة تأخذ مؤنتها، وبائع السلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضاه وقال الشافعي
إن لم يقدر على استخلاص حقه ببينة فله أخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه وإن كان له بينة وقدر على
استخلاصه ففيه وجهان والمشهور من مذهب مالك انه إن لم يكن لغيره عليه دين فله أن يأخذ بقدر حقه وإن
كان عليه دين لم يجز لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس
وقال أبو حنيفة له أن يأخذ بقدر حقه إن كان عينا أو ورقا أو من جنس حقه، وإن كان المال
عرضا لم يجز لأن أخذ العرض عن حقه اعتياض ولا تجوز المعاوضة إلا برضاء من المتعاوضين قال الله
463

تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) واحتج من أجاز الاخذ بحديث هند حين جاءت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل صحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني
وولدي فقال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه وإذا جاز لها أن تأخذ من مالها ما يكفيها
بغير إذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه الترمذي وقال
حديث حسن ومتى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير إذنه فقد خانه فيدخل في عموم الخبر وقال عليه
الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " ولأنه إن أخذ من غير جنسه كان
معاوضة بغير تراض، وإن أخذ من جنس حقه فليس له تعيين الحق بغير رضاء صاحبه فإن التعيين
إليه ألا ترى انه لا يجوز له أن يقول لا آخذ حقي إلا من هذا الكيس دون هذا ولان كل ما لا يجوز
له تملكه إذا لم يكن له دين لا يجوز له أخذه إذا كان له دين كما لو كان باذلا له فاما حديث هند
فإن احمد اعتذر عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت وهذا إشارة منه إلى الفرق بالمشقة في المحاكمة
في كل وقت والمخاصمة كل يوم تجب فيه النفقة بخلاف الدين، وفرق أبو بكر بينهما بفرق آخر وهو
ان قيام الزوجية كقيام البينة فكأن الحق صار معلوما بعلم قيام مقتضيه وبينهما فرقان آخران
(إحداهما) ان للمرأة من البسط في ماله بحكم العادة ما يؤثر في إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه
بالمعروف بخلاف الأجنبي
(الثاني) ان النفقة تراد لاحياء النفس وابقاء المهجة وهذا مما لا يصبر عنه ولا سبيل إلى تركه
فجاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين حتى يقول لو صارت النفقة ماضية لم يكن لها أخذها
ولو وجب لها عليه دين آخر لم يكن لها أخذه فعلى هذا ان أخذ شيئا لزمه رده إن كان باقيا وإن كان
تالفا وجب مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان متقوما فإن كان من جنس دينه تقاصا وتساقطا في قياس
المذهب وإن كان من غير جنسه غرمه، ومن جوز من أصحابنا الاخذ فإنه ان وجد جنس حقه جاز
له الاخذ بقدر حقه من غير زيادة وليس له الاخذ من غير جنسه مع قدرته على جنس حقه، وان لم
يجد الا من جنس غير حقه فيحتمل أن لا يجوز له تملكه لأنه لا يجوز له أن يبيعه من نفسه وهذا يبيعه
من نفسه وتلحقه فيه تهمة، ويحتمل أن يجوز له ذلك كما قالوا الرهن ينفق عليه إذا كان محلوبا أو مركوبا
464

يحلب ويركب بقدر النفقة وهي من غير الجنس. واختلف أصحاب الشافعي في هذا فمنهم من جوزه
له ومنهم من قال: يواطئ رجلا يدعي عليه عند الحاكم دينا فيقر له بملك الشئ المأخوذ الذي أخذه
فيمتنع من عليه الدعوى من قضاء الدين ليبيع الحاكم الشئ المأخوذ ويدفعه إليه
* (مسألة) * (وحكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن وذكر ابن أبي موسى عنه رواية
أخرى انه يزيل العقود والفسوخ)
ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن منهم مالك والأوزاعي
والشافعي واحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إذا حكم بعقد أو فسخ
أو طلاق نفذ حكمه ظاهرا وباطنا، فلو ان رجلين تعمدا الشهادة على رجل انه طلق امرأته فقبلهما القاضي بظاهر
عدالتهما ففرق بين الزوجين لجاز لاحد الشاهدين نكاحها بعد قضاء عدتها وهو عالم بتعمد الكذب، ولو أن
رجلا ادعى نكاح امرأة وهو يعلم أنه كاذب وأقام شاهدي زور فحكم الحاكم حلت له بذلك وصارت
زوجته قال ابن المنذر وتفرد أبو حنيفة فقال لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها وهما
يعلمان كذبها وتزويرها فحكم الحاكم بطلاقها يحل لها أن تتزوج وحل لاحد الشاهدين نكاحها، واحتج بما
روي عن علي رضي الله عنه ان رجلا ادعى على امرأة نكاحا فرفعها إلى علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان بذلك
فقضى بينها وبالزوجية فقالت والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين اعقد بيننا عقدا حتى أحل له فقال شاهداك
زوجاك فدل على أن النكاح ثبت بحكمه ولان اللعان يفسخ به النكاح وإن كان أحدهما كاذبا فالحكم أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما انا بشر مثلكم وانكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون
الحن بحجته من بعض فاقضي له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذ منه
شيئا فإنما اقطع له قطعة من النار " متفق عليه وهذا يدخل فيه ما إذا دعى انه اشترى منه شيئا فحكم له ولأنه
465

حكم له بشهادة زور فلا يحل له ما كان محرما عليه كالمال المطلق، واما الخبر عن علي ان صح فلا حجة لهم
فيه لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه ولم يجبها إلى التزويج لأن فيه طعنا على الشهود فاما اللعان
فإنما حصلت الفرقة به لا بصدق الزوج ولهذا لو قامت البينة به لم ينفسخ النكاح. إذا ثبب هذا فإذا شهد على
امرأة بنكاح وحكم به الحاكم ولم تكن زوجته فإنها لا تحل له ويلزمها في الظاهر وعليها ان تمتنع منه
ما أمكنها فإن أكرهها فالاثم عليه دونها، وان وطئها الرجل فقال أصحابنا وبعض الشافعية عليه الحد
لأنه وطئها وهو يعلم أنها أجنبية، وقيل لاحد عليه لأنه وطئ مختلف في حكمه فيكون شبهة وليس لها ان
تتزوج غيره وقال أصحاب الشافعي تحل لزوج ثان غير أنها ممنوعة منه في الحكم وقال القاضي يصح النكاح
ولنا ان هذا يفضي إلى الجمع بين الوطئ للمرأة من اثنين أحدهما يطؤها بحكم الظاهر والآخر
بحكم الباطن وهذا فساد فلا يشرع ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت به البينة في قول بعض الأئمة
فلم يجز تزويجها لغيره كالمنكوحة بغير ولي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى مثل مذهب
أبي حنيفة كما حكى ابن أبي موسى في أن حكم الحاكم يزيل العقود والفسوخ والأول هو المذهب
(فصل) قال ابن المنذر ويكره للقاضي ان يفتي في الأحكام كان شريح، يقول انا اقضي ولا أفتي
أما الفتيا في الطهارة وسائر ما لا يحكم في مثله فلا بأس بالفتيا فيه.
466

باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي
الأصل في كتاب القاضي والأمير إلى الأمير الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله
تعالى (إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم أن لا تعلوا علي وائتوني
مسلمين) وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى ملوك الأطراف وكان
يكتب إلى ولاته وعماله وسعاته وكان في كتابه إلى قيصر " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول
الله إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فاسلم تسلم واسلم يؤتك الله أجرك مرتين وان توليت فإن عليك
اثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " وروى الضحاك بن سفيان
قال كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أورث امرأة اشيم الضبابي من دية زوجها وأجمعت الأمة على كتاب
القاضي إلى القاضي ولان الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في بلد غير بلده لا يمكنه اثباته
والمطالبة به الا بكتاب القاضي فوجب قبوله
* (مسألة) * (يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في المال وما يقصد به المال كالقرض والغصب والبيع
والرهن والصلح والوصية له والجناية الموجبة للمال ولا يقبل في حد لله تعالى وهل يقبل فيما عدا ذلك
مثل القصاص والنكاح والطلاق والخلع والعتق والنسب والكتابة والتوكيل والوصية إليه؟ على روايتين
فاما حد القذف فإن قلنا هو حق لله تعالى فلا يقبل فيه وان قلنا هو حق آدمي فهو كالقصاص)
467

وجملة ذلك أن كتاب القاضي إلى القاضي يقبل في المال بغير خلاف علمناه ولا يقبل في الحدود
كحق الله تعالى وهل يقبل فيما عدا هذا؟ على وجهين وبهذا قال أصحاب الرأي وقال الشافعي يقبل كل
حق لآدمي من الجراح وغيرها وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى؟ على قولين (أحدهما) يقبل وهو قول
مالك وأبي ثور وحد القذف ينبني على الخلاف فيه على ما ذكرنا
ولنا على أنها لا تقبل في الحدود أنها مبنية على الستر والدرء بالشبهات والاسقاط بالرجوع عن الاقرار وكتاب
القاضي إلى القاضي شهادة وفيه شبهة فإنه يتطرق إليه احتمال الغلط أو السهو في شهود الفرع مع احتمال ذلك في
شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود
الأصل فوجب ان لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات ولان كتاب القاضي إلى القاضي إنما يقبل للحاجة ولا حاجة
إلى ذلك في الحد لأن ستر صاحبه أولي من الشهادة عليه ولأنه لا نص في ذلك ولا يصح قياسه على
الأموال لما بينهما من الفرق والتساهل وظاهر كلام احمد رحمه الله ان كتاب القاضي إلى القاضي لا
يقبل في القصاص أيضا ولا حد القذف لأنه قال إنما يجوز في الحقوق أما الدماء والحد فلا وهذا قول
أبي حنيفة، وظاهر كلام الخرقي أنه يقبل وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور ولأنه حق آدمي لا يسقط
بالرجوع عن الاقرار به أشبه الأموال وذكر أصحابنا عن أحمد هذا رواية لأنه قال شهادة رجل في
468

الطلاق جائزة قال أحمد ما أحسن ما قال فجعله أصحابنا رواية في القصاص قال شيخنا وليس هذا
برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات وتبنى
على الاسقاط فأشبهت الحد فاما ما عدا الحدود ولاموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت الا بشاهدين
فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فدل على جميعها في قبول هذا الحقوق وهو قول الخرقي
وقال ابن حامد لا يقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل الشهادة على الشهادة الا في
المال وما يقصد به وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت الا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول
انه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود وكتابة القاضي
إلى القاضي حكمها حكم الشهادة على الشهادة لأنه شهادة على شهادة
* (مسألة) * (ويجوز كتاب القاضي فيما حكم به لينفذه في المسافة القريبة ومسافة القصر ويجوز
فيما ثبت عنده ليحكم به في المسافة البعيدة دون القريبة)
وجملة ذلك أن كتاب القاضي على ضربين (أحدهما) أن يكتب بما حكم به وذلك مثل أن يحكم على
رجل بحق فيتغيب قبل وفائه أو يدعي حقا على غائب ويقيم به بينة ويسأل الحاكم الحكم عليه فيحكم
عليه ويسأله أن يكتب له كتابا بحكمه إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب فيكتب إليه أو تقوم البينة على
حاضر فيهرب قبل الحكم عليه فيسأل صاحب الحكم الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتابا بحكمه ففي هذه
469

الصور الثلاث تلزم الحاكم اجابته إلى الكتابة ويلزم المكتوب إليه قوله سواء كان بينهما مسافة قريبة أو بعيدة
حتى لو كانا في جانبي البلد أو مجلس الحاكم لزمه قبوله وامضاؤه وسواء كان حكما على حاضر أو غائب لا نعلم
في هذا خلافا لأن حكم الحاكم يجب امضاؤه على كل حاكم
(الضرب الثاني) ان يكتب بعلمه شهادة شاهدين عنده بحق لفلان مثل ان تقوم البينة عنده
بحق لرجل على آخر ولم يحكم به فيسأل صاحب الحق ان يكتب له كتابا بما حصل عنده فإنه يكتب
له أيضا، قال القاضي ويكون في كتابه شهد عندي فلان وفلان بكذا ليكون المكتوب إليه هو الذي
يقضي به ولا يكتب ثبت عندي لأن قوله ثبت عندي حكم بشهادتهما فهذا لا يقبله المكتوب إليه
إلا في المسافة البعيدة التي هي مسافة القصر ولا يقبله فيما دونها لأنه نقل شهادة فاعتبر فيه ما يعتبر في
الشهادة على الشهادة ونحو هذا قول الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يجوز ان يقبله في بلده وحكي عن
أبي حنيفة مثل هذا وقال بعض المتأخرين من أصحابه الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز كما لا يجوز ذلك
في الشهادة على الشهادة واحتج من اجازه لأنه كتاب الحاكم بما ثبت عنده فجاز قبوله مع
القرب ككتابة حكمه
ولنا ان ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب إليه فلم يجز مع القرب كالشهادة على الشهادة ويفارق
كتابه بالحكم فليس هو نقل إنما هو خبر
470

(فصل) ويقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر وإلى قاضي قرية ومن قاضي قرية
إلى قاضي قرية وإلى قاضي مصر
* (مسألة) * (ويجوز ان يكتب إلى قاض معين وإلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين
وحكامهم من غير تعيين ويلزم من وصله قبوله)
وبهذا قال أبو ثور واستحسنه أبو يوسف وقال أبو حنيفة لا يجوز ان يكتب إلى غير معين
ولنا أنه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم فلزم قبوله كما لو كان الكتاب إليه بعينه
* (مسألة) * (ولا يقبل الكتاب الا أن يشهد به شاهدان يحضرهما القاضي الكاتب فيقرؤه
عليهما ثم يقول اشهدكما ان هذا كتابي إلى فلان بن فلان ويدفعه إليهما فإذا وصلا إلى المكتوب إليه
دفعا إليه الكتاب وقالا نشهد أن هذا كتاب فلان إليك كتبه من عمله وأشهدنا عليه، والاحتياط
ان يشهد عليه بما فيه ويختمه ولا يشترط ختمه وان كتب كتابا وأدرجه وختمه وقال هذا كتابي إلى
فلان اشهدا علي بما فيه لم يصح لأن احمد قال فيمن كتب وصيته وختمها ثم اشهد على ما فيها فلا حتى
يعلمه ما فيها ويتخرج الجواز لقوله إذا وجدت وصية الرجل مكتوبة عند رأسه من غير أن يكون اشهد
471

أو اعلم أحدا بها عند موته وعرف خطه وكان مشهورا فإنه ينفذ ما فيها فعلى هذا عرف المكتوب
إليه انه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله والعمل على الأول)
وجملته انه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثة (أحدها) أن يشهد به شاهدان عدلان
ولا يكفي معرفة المكتوب إليه خط الكاتب وختمه ولا يجوز له قبوله بذلك في قول الجمهور وحكي
عن الحسن وسوار العنبري انهم قالوا إذا كان يعرف خطه وختمه قبله وهو قول أبي ثور والاصطخري
ويتخرج لنا مثل ذلك لأنه تحصل به غلبة الظن فأشبه شهادة الشاهدين
ولنا ان ما أمكن اثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار على الظاهر كاثبات العقود ولان الخط يشبه
الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول في
الشهادة على الخط وفي هذا انفصال عما ذكروه. إذا أثبت هذا فإن القاضي إذا كتب الكتاب دعا
رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه فيقرأ عليهما الكتاب أو يقرؤه غيره عليهما
والأحوط أن ينظرا معه فيما يقرؤه فإن لم ينظرا جاز لأنه لا يستقرأ الا ثقة فإذا قرأ عليهما قال اشهدا
علي ان هذا كتابي إلى فلان وان قال اشهدا على بما فيه كان أولى فإن اقتصر على قوله هذا كتابي
إلى فلان فظاهر كلام الخرقي انه لا يجزئ لأنه يحملها الشهادة فاعتبر ان يقول اشهدا علي كالشهادة
472

على الشهادة وقال القاضي يجزئ وهو مذهب الشافعي ثم إن كان ما في الكتاب قليلا اعتمدا على
حفظه وإن كان كثيرا فلم يقدرا على حفظه كتب كل واحد منهما مضمونه وقابل بها لتكون معه
يذكر بهاما يشهد به ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا لئلا يدفع إليهما غيره فإذا وصل الكتاب
معهما إليه قرأه الحاكم أو غيره عليهما فإذا سمعاه قالا نشهد أن هذا كتاب فلان لأنها أداء شهادة
فلا بد فيها من لفظ الشهادة، ويجب أن يقولا من عمله لأن الكتاب لا يقبل الا إذا وصل من
مجلس عمله وسواء وصل الكتاب مختوما أو غير مختوم مقبولا أو غير مقبول لأن الاعتماد على
شهادتهما لا على الخط والختم فإن امتحى الكتاب وكانا يحفظان ما فيه جاز لهما أن يشهدا بذلك،
وان لم يحفظاه لم يمكنهما الشهادة، وقال أبو حنيفة وأبو ثور لا يقبل الكتاب حتى يشهد
شاهدان على ختم القاضي
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى قيصر ولم يختمه فقيل له انه لا يقرأ كتابا غير مختوم فاتخذ
الخاتم واقتصاره على الكتاب دون الختم دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم
ليقرءوا كتابه ولأنهما لو شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه لوجب قبوله كما لو وصل مختوما وشهدا
بالختم. إذا ثبت هذا فإنه إنما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب وما يتعلق به الحكم قال الأثرم سمعت أبا
473

عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة وبعضهم ينظر فيها وبعضهم لا ينظر قال إذا حفظ فليشهد قيل
كيف وهو كلام كثير؟ قال يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع قلت يحفظ المعنى؟ قال نعم قيل له والحدود
والثمن وأشباه ذلك؟ قال نعم
* (مسألة) * (ولو أدرج الكتاب وختمه وقال هذا خطي اشهدا علي بما فيه أو قد أشهدتكما
على نفسي بما فيه لم يصح هذا التحمل)
وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال أبو يوسف إذا ختمه بختمه وعنونه جاز أن يتحملا الشهادة
عليه مدرجا فإذا وصل الكتاب شهدا عنه انه كتاب فلان ويتخرج لنا مثل هذا فإنهما
شهدا بما في الكتاب فجاز، وان لم يعلما تفصيله كما لو شهدا بما في هذا الكيس من الدراهم جازت
شهادتهما وان لم يعرفا قدرها
ولنا انهما شهدا بمجهول لا يعلمانه فلم تصح شهادتهما كما لو شهد أن لفلان على فلان مالا، وفارق
474

ما ذكره فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها، وههنا الشهادة على ما في الكتاب
دون الكتاب وهما لا يعرفانه
(الشرط الثاني) أن يكتبه القاضي من موضع عمله وولايته فإن كتبه من غير ولايته لم يسغ
قبوله لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو فيه كالعامي
(الشرط الثالث) أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته فإن وصله في غيره لم يكن
له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته، ولو ترافع إليه خصمان في غير محل ولايته لم يكن له الحكم بينهما
بحكم ولايته إلا إذا تراضيا عليه فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به، وسواء كان الخصمان من
أهل عمله أو لم يكونا، ولو ترافع إليه خصمان وهو في موضع ولايته من غير أهل ولايته كان له
الحكم بينهما لأن الاعتبار بموضعهما إلا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث
كانوا ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان فيكون الامر على ما أذن فيه ومنع منه لأن الولاية
بتوليته فيكون الحكم على وفقها
* (مسألة) * (وإذا وصل الكتاب فأحضر المكتوب إليه الخصم المحكوم عليه في الكتاب
فقال لست فلان بن فلان فالقول قوله مع يمينه إلا أن تقوم به بينة فإن ثبت انه فلان من فلان ببينة
أو إقرار فقال: المحكوم عليه غيري لم يقبل إلا ببينة تشهد ان في البلد من يساويه فيما سمي ووصف به
فيتوقف حتى يعلم المحكوم عليه منهما)
وجملة ذلك أنه إن أنكر وقف الحاكم ويكتب إلى الحاكم الكاتب يعلمه الحال وما وقع من الاشكال
حتى يحضر الشاهدين فيشهدا عنه بما يتميز به المشهود عليه منهما فإن ادعي المسمي انه كان في البلد من
475

يشاركه في الاسم والصفة وقد مات نظر فإن كان موته قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها أو كان
ممن لم يعاصره المحكوم عليه أو المحكوم له لم يقع إشكال وكان وجوده كعدمه، وإن كان موته بعد
الحكم أو بعد المعاملة وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين المحكوم له معاملة فقد وقع الاشكال كما
لو كان حيا لجواز أن يكون الحق على الذي مات
(فصل) وإذا كتب بثبوت بينة أو إقرار بدين جاز وحكم به المكتوب إليه وأخذ المحكوم عليه
وإن كان ذلك عينا كنقار محدود أو عينا مشهورة لا تشتبه بغيرها كعبد معروف مشهورا ودابة كذلك
حكم المكتوب إليه أيضا والزم تسليمه إلى المحكوم له به، وإن كان عينا لا تتميز إلا بالصفة كعبد غير
مشهور أو غيره من الأعيان التي لا تتميز إلا بالوصف ففيه وجهان (أحدهما) لا يقبل كتابه به وهو قول
أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوصف لا يكفي بدليل انه لا يجوز أن يشهد لرجل
بالوصف والتحلية كذلك المشهود به (والثاني) يجوز لأنه يثبت في الذمة بالعقد على هذه الصفة فأشبه
الدين ويخالف المشهود له فإنه لا حاجة إلى ذلك فيه فإن الشهادة له لا تثبت إلا بعد دعواه ولان المشهود
عليه يثبت بالصفة والتحلية فكذلك المشهود به فعلى هذا الوجه ينفذ العين مختومة وإن كان عبدا أو أمة
ختم في عنقه وبعثه إلى القاضي الكاتب ليشهد الشاهدان على عينه فإن شهدا عليه دفع إلى المشهود له به وان
لم يشهدا على عينه وقالا: المشهود به غير هذا وجب على آخذه رده إلى صاحبه ويكون حكمه حكم المغصوب
476

في ضمانه وضمان نقصه ومنفعته فلزمه أجره إن كان له أجر من يوم أخذه إلى أن يصل إلى صاحبه لأنه
أخذه من صاحبه قهرا بغير حق
(فصل) وان تغيرت حال القاضي الكاتب بعزل أو موت لم يقدح في كتابه، وان تغيرت
بفسق لم يقدح فيما حكم به، وبطل فيما ثبت عنده ليحكم به، وان تغيرت حال المكتوب إليه فلمن
قام مقامه قبول الكتاب والعمل به
وجملة ذلك أنه لا يخلو من أن تتغير حال القاضي الكاتب أو المكتوب إليه أو حالهما معا فإن تغيرت
حال الكاتب بموت أو عزل بعد أن كتب الكتاب واشهد على نفسه لم يقدح في كتابه وكان على من
وصله الكتاب قبوله والعمل به سواء تغيرت حاله قبل خروج الكتاب من بلده أو بعده وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لا يعمل به في الحالين. وقال أبو يوسف إن مات قبل خروجه من يده لم يعمل به، وان مات
بعد خروجه من يده عمل به لأن كتاب الحاكم بمنزلة الشهادة على الشهادة لأنه ينقل شهادة شاهدي الأصل
فإذا مات قبل وصول الكتاب صار بمنزلة موت شاهدي الفرع قبلي أداء شهادتهما
ولنا ان المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب ان ينقل
كتابه كما لو لم يمت ولان كتابه إن كان فيما حكم به فحكمه لا يبطل بموته وعزله وإن كان فيما ثبت عنده
بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهدي الأصل وما ذكروه
477

حجة عليهم لأن الحاكم قد اشهد على نفسه وإنما يشهد عند المكتوب إليه شاهدان عليه وهما حيان وهما
شاهدا الفرع وليس موته مانعا من شهادتهما فلا يمنع قبولها كموت شاهدي الأصل وان تغيرت بفسق
قبل الحكم بكتابه لم يحكم به لأن حكمه لا يصح فكذلك لا يجوز الحكم بكتابه ولان بقاء عدالة شاهدي
الأصل شرط في الحكم بشاهدي الفرع فكذلك بقاء عدالة الحاكم لأنه بمنزلة شاهدي الأصل وإن فسق
بعد الحكم بكتابه لم يتغير كما لو حكم بشئ ثم بان فسقه فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه كذا ههنا
وأما ان تغيرت حال المكتوب إليه بأي حال كان من موت أو عزل أو فسق فلمن وصل إليه الكتاب
ممن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به وبه قال الحسن حكي عنه أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس
ابن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولي الحسن فعمل به وبهذا قال الشافعي وقال أبو
حنيفة لا يعمل به لأن كتاب القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة عند المكتوب إليه وإذا شهد شاهدان
عند قاض لم يحكم بشهادتهما غيره.
ولنا ان المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأصل أو ثبوت الشهادة عنده وقد شهدا عند الثاني
فوجب أن يقبل كالأول وقولهم إنها شهادة عند الذي مات ليس بصحيح فإن الحاكم الكاتب ليس
478

بفرع وقد أديا الشهادة عند المحدود ولو ضاع الكتاب فشهدا بذلك عند الحاكم المكتوب إليه قبل
فدل ذلك على أن الاعتبار بشهادتهما دون الكتاب، وقياس ما ذكرناه ان الشاهدين إذا حملا الكتاب
إلى غير المكتوب إليه في حال حياته وشهدا عنده عمل به لما بيناه فإن كان المكتوب إليه خليفة
المكاتب فمات الكاتب أو عزل انعزل المكتوب إليه لأنه نائب عنه فينعزل بعزله وموته
كوكلائه، وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعزل خليفته كما لا ينعزل القاض الأصلي بموت
الإمام ولا عزله.
ولنا ما ذكرناه ويفارق الإمام فإن الإمام يعقد القضاء والامارة للمسلمين فلم يبطل ما عقده لغيره
كولاية النكاح فإذا مات الولي لم يبطل النكاح بخلاف نائب الحكم فإنه تنعقد ولايته لنفسه
نائبا عنه فيملك عزله ولان القاضي لو انعزل بموت الإمام لدخل الضرر على المسلمين لأنه يفضي إلى
عزل القضاة في جميع بلاد الاسلام وتتعطل الأحكام، وإذا ثبت انه ينعزل فليس له قبول
الكتاب لأنه حينئذ ليس بقاض.
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا حكم عليه فقال اكتب لي إلى الحاكم الكاتب انك
حكمت علي حتى لا يحكم علي ثانيا لم يلزمه ذلك ولكنه يكتب له محضرا بالقضية
479

لأن المحكوم عليه إذا استوفى الحق منه فقال للحاكم اكتب لي محضرا بما جرى لئلا يلقاني خصمي
في موضع آخر فيطالبني ثانيا ففيه وجهان.
(أحدهما) تلزمه اجابه ليتخلص من المحذور الذي يخافه (والثاني) لا تلزمه لأن الحاكم إنما
يكتب بما ثبت عنده أو حكم به فاما استئناف ابتداء فيكفي فيه الاشهاد فيطالبه أن يشهد على نفسه
بقبض الحق لأن الحق ثبت عليه بالبينة.
* (مسألة) * (وكل من ثبت له عند حاكم حق أو ثبتت براءته مثل ان أنكر وحلفه الحاكم أن
يكتب له محضرا بما جرى ليثبت حقه أو براءته لزمته إجابته)
أما إذا ثبت له حق باقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه شاهدين لزمه ذلك لأن الحاكم
لا يحكم بعلمه فربما جحد المقر لا يمكنه الحكم عليه ولو قلنا يحكم بعلمه احتمل أن ينسى فإن الانسان
عرضة النسيان فلا يمكنه الحكم باقراره وان ثبت عليه حق بنكول المدعى عليه أو بيمين المدعي
بعد النكول فسأله المدعي ان يشهد على نفسه لزمه ذلك لأنه لا حجة للمدعي سواء الاشهاد فاما إن
ثبت عنده ببينة فلا يجب جعل بينة أخرى (والثاني) يجب لأن في الاشهاد فائدة جديدة وهي اثبات
تعديل بينته والزام خصمه وان حلف المنكر وسأل الحاكم الاشهاد على براءته لزمه ليكون حجة له
480

في سقوط المطالبة مرة أخرى وفي جميع ذلك إذا سأله أن يكتب له محضرا بما جرى ففيه وجهان
(أحدهما) يلزمه ذلك لأنه وثيقة له فهو كالاشهاد لأن الشاهدين ربما نسيا الشهادة أو نسيا الخصمين
فلا يذكرهما إلا رؤية خطهما (والثاني) لا يلزمه لأن الاشهاد يكفيه والأول أصح لأن الشهود تكثر
عليهم الشهادات ويطول عليهم الأمد فالظاهر أنهما لا يتحققان الشهادة تحققا يحصل به أداؤها
فلا يفيد إلا بالكتاب.
* (مسألة) * (وان سال من ثبت محضره عند الحاكم ان يسجل به فعل ذلك وجعله نسختين
نسخة يدفعها إليه ونسخة يحبسها عنده والورق من بيت المال فإن لم يكن فمن مال المكتوب له).
ينبغي أن يجعل من بيت المال شئ برسم الكاغد الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات لأنه
من المصالح فإنه يحفظ به الوثائق ويذكر الحاكم حكمه والشاهد شهادته ويرجع بالدرك على من يرجع
عليه فإن أعوز ذلك لم يلزم الحاكم ذلك ويقول لصاحب الحق ان شئت جئت بكاغد أكتب لك فيه
فإنه حجة لك ولست أكرهك عليه فإن اختار ان يكتب له محضرا فصفته: بسم الله الرحمن الرحيم
حضر القاضي فلان بن فلان قاضي عبد الله الإمام فلان على كذا وكذا وإن كان خليفة القاضي قال خليفة
القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي الإمام بمجلس حكمه وقضائه بكذا فإن كان يعرف المدعي والمدعى
عليه بأسمائهما وأنسابهما قال فلان بن فلان الفلاني حضر معه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما
481

ويذكر حليتهما لأن الاعتماد عليها فربما استعار النسب فادعى عليه كذا وكذا فاقر له ولا يحتاج
أن يقول بمجلس حكمه لأن الاقرار يصح في غير مجلس الحكم وان كتب انه يشهد على اقراره
شاهدان كان آكد ويكتب الحاكم على رأس المحضر: الحمد لله رب العالمين أو ما أحب فأما ان أنكر
المدعى عليه وشهدت عليه بينة قال: فادعى عليه كذا وكذا فأنكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة؟
فأحضرها وسأل الحاكم سماعها ففعل وسأله ان يكتب له محضرا بما جرى فأجابه إليه وذلك في وقت
كذا ويحتاج ههنا ان يذكر مجلس حكمه وقضائه بخلاف الاقرار لأن البينة لا تسمع إلى في مجلس
الحكم والاقرار بخلافه، ويكتب الحاكم في آخر المحضر شهدا عندي بذلك ويكتب علامته في رأس
المحضر وإن اقتصر على ذلك دون المحضر جاز لئلا يحلف ثانيا وكتب له مثل ما تقدم إلا أنه يقول
فأنكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة؟ قال لا قال فلك يمينه وسأل احلافه فأحلفه في مجلس حكمه وقضائه
في وقت كذا وكذا ولابد من ذكر تحليفه لأن الاستحلاف لا يكون إلا بمجلس الحكم ويعلم
في أوله خاصة ويعلم في الاقرار والاحلاف على رأس المحضر جرى الامر على ذلك فإن نكل المدعى عليه
عن اليمين قال فعرض اليمين على المدعى عليه فنكل عنها فسأل خصمه الحاكم ان يقضي عليه بالحق في وقت كذا
وان رد اليمين على المدعي فحلف وحكم له بذلك ذكره، ويعلم في آخره ويذكر ان ذلك في مجلس حكمه وقضائه
وهذه صفة المحضر وأما السجل. فهو لا نفاذ ما ثبت عنده والحكم به وصفته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد
482

عليه القاضي فلان بن فلان ويذكر ما تقدم في أول المحضر ومن حضره من الشهود اشهدهم انه ثبت عنده
بشهادة فلان وفلان وقد عرفهما بما رأى معه قبول شهادتهما بمحضر من خصمين ويذكرهما ان
كانا معروفين والا قال مدع ومدعى عليه عليه جاز حضورهما وسماع الدعوى من أحدهما على الآخر
معرفة فلان بن فلان ويذكر المشهود عليه وإقراره طوعا في صحة منه وجواز أمر الجميع ما سمى
ووصف به في كتاب نسخته وينسخ الكتاب المثبت ألو المحضر جميعه حرفا بحرف فإذا فرغ منه
قال وان القاضي أمضاه وحكم به على ما هو الواجب في مثله بعد أن سأله ذلك والاشهاد به الخصم
المدعي ويذكر اسمه ونسبه ولم يدفعه الخصم الحاضر بحجة وجعل كل ذي حجة حجته على واشهد
القاضي فلان على أنفاسه وحكمه من حضره من الشهود في مجلس حكمه في اليوم المؤرخ في أعلاه
وأمر يكتب هذا السجل نسختين متساويتين تخلد نسخة منهما في ديوان الحكم والأخرى تدفع
إلى من كتبها له ولك واحد منهما حجة وثيقة فيما أنفذه منهما وهذا يذكر ليخرج من الخلاف ولو
483

قال إنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان ما في كتاب نسخته كذا ولم يذكر الادعاء عليه جاز وساغ
لجواز القضاء على الغائب وما يجتمع عنده من المحاضر والسجلات في كل أسبوع أو شهر بضم بعضها إلى
بعض ويكتب عليه محاضر وقت كذا في سنة كذا.
* (فصل في صفة الكتاب لي القاضي) *
بسم الله الرحمن الرحيم سبب هذه المكاتبة أطال الله بقاء من يصل إليه من قضاء المسلمين
وحكامهم انه ثبت عندي في مجلس حكمي وقضائي الذي أتولاه بمكان كذا وإن كان نائبا قال
484

الذي أنوب فيه عن القاضي فلان بمحضر من خصمين مدع ومدعى عليه جاز سماع الدعوى بينهما وقبول
البينة من أحدهما على الآخر بشهادة فلان وفلان وهما من الشهود المعدلين عندي عرفتهما وقبلت
شهادتهما بما رأيت معه قبولها معرفة فلان بن فلان الفلاني بعينه واسمه ونسبه فإن كان في إثبات
أسر أسير قال وان الفرنج خذلهم الله أسروه من مكان كذا في وقت كذا وحملوه إلى مكان كذا وهو
مقيم تحت حوطتهم أبادهم الله وإنه فقير من فقراء المسلمين ليس له شئ من الدنيا لا يقدر على فكاك
نفسه ولا شئ منه وانه مستحق للصدقة على ما يقتضيه كتاب المحضر المشار إليه المتصل أوله بآخر
كتابي المؤرخ بكذا وإن كان في إثبات دين قال وانه يستحق في ذمة فلان بن فلان الفلاني ويرفع
485

في نسبه ويصفه بما يتميز به من الدين كذا وكذا دينا عليه حالا وحقا واجبا لازما وإنه يستحق
مطالبته واستيفاءه منه وإن كان في إثبات عين كتب: وانه مالك لما في أيدي فلان من الشئ
الفلاني ويصفه صفة يتميز بها، مستحق لاخذه وتسلمه على ما يقتضيه كتاب المحضر المتصل بآخر
كتابي المؤرخ بتاريخ كذا وقال الشاهدان المذكوران انهما بما شهدا به عالمان وله محققان وانهما
لا يعلمان خلاف ما شهدا به إلى حين أقاما الشهادة عندي فأمضيت ما ثبت عندي من ذلك وحكمت
بموجبه بسؤال من جازت مسألته وسألني من جاز سؤاله وسوغت الشريعة المطهرة اجابته المكاتبة
إلى القضاة والحكام فأجبته إلى ملتمسه لجوازه شرعا وتقدمت بهذا فكتب وبالصاق المحضر المشار إليه
فالصق فمن وقف عليه منهم وتأمل ما ذكرته وتصفح ما سطرته واعتمد في انفاذه والعمل بموجبه ما وجبه
الشرع المطهر أحرز من الاجر أجز له وكتب في مجلس الحكم المحروس من مكان كذا في وقت
كذا ولا يشترط ان يذكر القاضي اسمه في العنوان ولا ذكر المكتوب إليه في باطنه وبهذا قال
486

الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لم يذكر اسمه فلا يقبله لأن الكتاب ليس إليه ولا يكفي ذكر اسمه في
العنوان دون باطنه لأن ذلك لم يقع على وجه المخاطبة
ولنا ان المعول فيه على شهادة الشاهدين على الحاكم الكاتب بالحكم ولا يقدح ولو ضاع الكتاب
وامتحى سمعت شهادتهما وحكم بها
487

* (باب القسمة) *
قسمة الاملاك جائزة والأصل في القسمة قول الله تعالى (ونيتهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر)
وقوله تعالى (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت
الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " وقسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وكان يقسم الغنائم وأجمعت الأمة على
جواز القسمة ولان بالناس؟ حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف على ايثاره
ويتخلص من سوء المشاركة وكثرة الأيدي
* (مسألة) * (وهو نوعان قسمة تراض وهي ما فيها ضرر ورد عوض من أحدهما كالدور الصغار
والحمام والعضائد المتلاصقة اللاتي لا يمكن قسمة كل عين منفردة والأرض التي في بعضها بئر أو بناء
ونحوه لا يمكن قسمته بالاجزاء والتعديل إذا رضوا بقسمتها أعيانا بالقيمة جاز لأن الحق لهم لا يخرج
عنهم وقد رضوا بقسمته وهذا جارية مجرى البيع لا يجبر عليها الممتنع لا يجوز فيها الا ما يجوز في البيع)
وجملة ذلك أن الشريكين والشركاء في شئ ربعا كان أو غيره والربع هو العقار من الدور
ونحوها إذا طلبها من الحاكم ان يقسمه بينهما أجابهما إليه وان لم يثبت عنده ملكهما وبهذا قال أبو
488

يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إن كان عقارا نسبوه إلى ميراث لم يقسمه حتى يثبت الموت والورثة
لأن الميراث باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه احتياطا للميت وما عدا العقار يقسمه وإن كان ميراثا
لأنه يثوى ويهلك وقسمته تحفظه وكذلك العقار الذي لا ينسب إلى الميراث وظاهر قول الشافعي
انه لا يقسم عقارا كان أو غيره ما لم يثبت ملكهما لأن قسمه بقولهم لو دفع بعد ذلك إلى حاكم آخر سهل
ان يجعله حكما لهم ولعله أن يكون لغيرهم
ولنا ان اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر ولهذا يجوز لهم التصرف
فيه ويجوز شراؤه منهم واتهابه واستئجاره وما ذكره الشافعي يندفع إذا ثبت في القصة إني قسمته
بينهم باقرارهم لا عن بينة شهدت لهم انه ملكهم وكل ذي حجة على حجته وما ذكره أبو حنيفة لا يصح
لأن الظاهر تملكهم ولا حق للميت فيه الا أن يكون عليه دين وما ظهر والأصل عدمه ولهذا اكتفينا
به في غير العقار وفيما لم ينسبوه إلى الميراث
* (مسألة) * (وهذه القسمة جارية مجرى البيع لما فيها من الرد وبهذا يصير بيعا)
لأن صاحب الرد بذل المال عوضا عما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع ولا يجبر عليها
الممتنع منها لما روى مالك في موطئه عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
489

" لا ضرر ولا ضرار " ولأنه لا يجير على بيع ملكه فلا يجبر على قسمته لأنها بيع ولا يجوز فيها الا ما يجوز
في البيع كذلك
(فصل) وهل تلزم قسمة التراضي بالقرعة إذا قسمها الحاكم أو رضوا بقاسم يقسم
بينهم؟ فيه وجهان (أحدهما) تلزم كقسمة الاجبار لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه
(والثاني) لا تلزم الا في البيع والبيع لا يلزم الا بالتراضي لا بالقرعة وإنما القرعة فيه لتعريف
البائع من المشتري، فأما ان تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما من السهمين بغير قرعة فإنه يجوز
لأن الحق لهما لا يخرج عنهما وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فاختار ويلزم ههنا بالتراضي والتفرق
كما يلزم البيع.
* (مسألة) * (والضرر المانع من القسمة هو نقص القيمة بالقسم في ظاهر كلام احمد ولا ينتفعان به
مقسوما في ظاهر كلام الخرقي)
اختلفت الرواية في الضرر المانع من القسمة ففي قول الخرقي هو ما لا يمكن أحدهما معه
الانتفاع بنصيبه مفردا فيما كان ينتفع به مع الشركة مثل أن تكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت
أصاب كل واحد منهما موضعا ضيقا لا ينتفع به ولو أمكن ان ينتفع به في شئ غير الدار لم يجبر على
القسمة أيضا لأنه ضرر يجري مجرى الاتلاف
490

(والرواية الأخرى) ان المانع من القسمة هو ان ينقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة
سواء انتفعوا به مقسوما أو لم ينتفعوا. قال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية الميموني
إذا قال بعضهم يقسم وبعضهم لا يقسم فإن كان فيه نقصان من ثمنه بيع وأعطي الثمن فاعتبر نقصان
الثمن وهذا الظاهر من كلام الشافعي لأن نقص قيمته ضرر والضرر منفي شرعا وقال مالك يجبر الممتنع
وان استضر قياسا على ما لا ضرر فيه ولا يصح لقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " من المسند ولان
في قسمته ضررا فلم يجبر عليه كقسمة الجوهرة بكسرها ولان في قسمته إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن إضاعة المال ولا يصح القياس على ما لا ضرر فيه لما بينهما من الفرق
* (مسألة) * (وإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر كرجلين لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث
ينتفع صاحب الثلثين بقسمها ويتضرر الاخر فطلب من لا يتضرر القسم لم يجبر الآخر عليه وان
طلبه الآخر أجبر الأول وقال القاضي ان طلبه الأول أجبر الاخر وان طلبه المضرور لم يجبر الآخر)
أما إذا طلب القسمة من لا يتضرر لم يجبر الاخر ذكره أبو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد في رواية
حنبل قال كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمها وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي ثور وقال القاضي يجبر
491

الآخر عليها وهو قول الشافعي وأهل العراق لأنه طلب إفراد نصيبه الذي لا يستضر بتميزه فوجبت
اجابته إليه كما لو كانا لا يستضران بالقسمة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " ولأنها قسمة يضر بها صاحبه فلم يجبره عليها كما
لو استضرا معا ولان فيه إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته وإذا حرم عليه إضاعة ماله
فإضاعة مال غيره أولى وقد روى عمرو بن جميع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تعصبة على أهل الميراث
الا ما حصل القسم " قال أبو عبيدة هو ان يخلف شيئا إذا قسم كان فيه ضرر على بعضهم أو على جميعهم
ولأننا اتفقنا على أن الضرر مانع من القسمة وان الضرر في حق أحدهما مانع ولا يجوز أن يكون
المانع هو ضرر الطالب لأنه مرضي به من جهته فلا يجوز كونه مانعا كما لو تراضيا عليها مع ضررهما
أو ضرر أحدهما فتعين الضرر من المانع في جهة المطلوب ولأنه ضرر غير مرضي به من جهة صاحبه
فمنع القسمة كما لو استضرا معا، فاما إذا طلب القسمة المستضر بها كصاحب الثلث في المسألة المفروضة
أجبر الاخر عليها هذا مذهب أبي حنيفة ومالك لأنه طلب دفع ضرر الشركة عنه بأمر لا ضرر على
صاحبه فيه فاجبر عليه كما لا ضرر فيه يحققه ان ضرر الطالب مرضي به من جهته فسقط حكمه والاخر
لا ضرر عليه فصارت كما لا ضرر فيه، وذكر أصحابنا ان المذهب أنه لا يجبر الممتنع عن القسمة لنهي
492

النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولان طلب القسمة من المستضر سفه فلا تجب اجابته إلى السفه قال
الشريف متى كان أحدهما يستضر لم تجب القسمة، وقال أبو حنيفة متى كان أحدهما ينتفع بها
وجبت وان استضر بها الغالب فعل وجهين وقال مالك تجب على كل حال
(فصل) ولو كانت دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها لكل واحد منهما ربعها فإذا
قسمت استضر كل واحد منهما ولا يستضر صاحب النصف فطلب صاحب النصف القسمة وجبت اجابته
لأنه يمكن قسمتها نصفين من غير ضرر فيصير حقهما لهما دارا وله النصف فلا يستضر واحد منهما ويحتمل
الا تجب عليهما الإجابة لأن كل واحد منهما يستضر بافراد نصيبه وان طلبا المقاسمة فامتنع صاحب
النصف أجبر لأنه لا ضرر على واحد منهم، وان طلبا افراد نصيب كل واحد منهما أو طلب أحدهما
أفراد نصيبه لم تجب القسمة على قياس المذهب لأنه إضرار بالطالب وسفه وعلى الوجه الذي ذكرناه
تجب القسمة لأن المطلوب منه لا ضرر عليه
* (مسألة) * (وإن كان بينهما عبيد أو بهائم أو ثياب ونحوها فطلب أحدهما قسمها أعيانا بالقيمة
لم يجبر الاخر عليه وقال القاضي يجبر)
أما إذا اتفقا على القسمة جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم يوم بدر ويوم خيبر ويوم حنين وهي
تشتمل على أجناس المال وسواء اتفقا على قسمة كل جنس بينهما أو اتفقا على قسمتها أعيانا بالقيمة وان
493

طلب أحدهما قسمة كل نوع على حدته ان أمكن وان طلب أحدهما القسمة وأبى الاخر وكان مما لا
تمكن قسمته الا بأخذ عوض من غير جنسه أو قطع ثوب في قطعه نقص أو كسر اناء أو رد عوض لم
يجبر الممتنع وان أمكن قسمة كل نوع على حدته من غير ضرر ولا رد عوض فقال القاضي يجبر
الممتنع وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب لا أعرف في هذا عن إمامنا رحمه الله رواية
ويحتمل ان لا يجبر الممتنع عليه وهو قول بن خيران من أصحاب الشافعي لأن هذا إنما يقسم أعيانا
بالقيمة فلم يجبر الممتنع عليه كما لا يجبر على قسمة الدور بان يأخذ هذا دارا وهذا دارا كالجنسين
المختلفين ووجه الأول ان الجنس الواحد كالدار الواحدة وليس اختلاف الجنس أو أحد في القيمة بأكثر
من اختلاف قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة فإن أرض القرية تختلف لا سيما إذا كانت ذات
أشجار مختلفة وأرض متنوعة والدار ذات بيوت واسعة وضيقة وحديثة وقديمة ثم هذا الاختلاف
لا يمنع الاجبار على القسمة كذلك الجنس الواحد وفارق الدور فإنه أمكن قسمة كل دار على
حدتها وههنا لا يمكن قسمة كل ثوب منها أثوابا على حدته فإن كانت الثياب أنواعا كالحرير والقطن
والكتان فهي كالأجناس فكذلك سائر المال والحيوان كغيره من الأموال ويقسم النوع الواحد
494

منه وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يقسم الرقيق قسم اجبار لأن منافعه تختلف
ويقصد منه العقل والدين والفطنة وذلك لا يقع فيه التعديل
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم جزأ العبيد الذين أعتقهم الأنصاري في مرضه ثلاثة اجزاء ولأنه نوع حيوان
يدخله التقويم فجازت قسمته كسائر الحيوان وما ذكروه غير صحيح لأن القيمة تجمع ذلك
وتعدله كسائر الأشياء المختلفة
* (مسألة) * (وإن كان بينهما حائط لم يجبر الممتنع من قسمته وان استهدم لم يجبر على قسم
عرصته وقال أصحابنا ان طلب قسمته طولا بحيث يكون له نصف الطول في كمال العرض أجبر الممتنع
وان طلب قسمه عرضا وكانت تسع حائطين أجبر الا فلا)
وجملة ذلك أن الشريكين إذا كان بينهما حائط لم يجبر الممتنع من قسمه لأن قسمه إفراد حق
أحد الشريكين من حق الآخر على وجه يمكن كل واحد منهما الانتفاع بحقه مفردا ولا يمكن ذلك في
الحائط لأنه ان طلب قسمته طولا في كمال العرض فقطع الحائط ففيه اتلاف فإن لم يقطعه افضى إلى
الضرر لأن في ذلك تحميل أحدهما ثقلا على نصيب صاحبه وان طلب قسمته عرضا في كمال الطول
لم يجبر الممتنع لأن فيه افسادا وفيه وجه آخر انه يجبر لأنه لا ضرر في قسمته وان استهدم لم يجبر على
قسم عرصته وقال أصحابنا ان طلب قسمه عرضا ليحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال
495

العرض أجبر الممتنع لأنه لا ضرر ويحتمل ان لا يجبر لأنه يفضي إلى الا يبقى ملكه الذي يلي
نصيب صاحبه بغير حائط وان طلب قسمه عرضا ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول
وكان يحصل لكل واحد منهما ما لا يمكن ان يبني فيه حائطا لم يجبر الممتنع لأنه يتضرر بذلك وان حصل
له ما يمكن بناء حائط فيه أجبر الممتنع لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد منهما الانتفاع به مقسوما
ويحتمل ألا يجبر لأنه لا تدخله القرعة خوفا من أن يحصل لكل واحد منهما ما يلي ملك الاخر
* (مسألة) * (وإن كان بينهما دار لها علو وسفل فطلب أحدهما قسمها لأحدهما العلو
وللآخر السفل أو كان بينهما منافع لم يجبر الممتنع من قسمها وان تراضيا على قسمها كذلك وعلى
قسم المنافع بالمهايأة جاز)
إذا كانت دار بين اثنين سفلها وعلوها فطلبا قسمها نظرت فإن طلب أحدهما قسمة السفل والعلو
بينهما ولا ضرر في ذلك أجبر الآخر عليه لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغرس يتبعها في البيع
والشفعة ولو طلب قسمة أرض فيها غراس أجبر شريكه عليه كذلك البناء وان طلب أحدهما جعل السفل لأحدهما والعلو للآخر ويقرع بينهما لم يجبر عليه الآخر لثلاثة معان (أحدهما) ان العلو تبع
السفل ولهذا إذا بيعا ثبتت الشفعة فيهما وإذا أفرد العلو بالبيع لم تثبت الشفعة فيه وإذا كان تبعا
له لم يجعل المتبوع بينهما والتبع بينهما فيصير التبع أصلا (الثاني) ان السفل والعلو يجريان مجرى
496

الدارين المتلاصقتين لأن كل واحد منهما يسكن منفردا ولو كان بينهما داران لم يكن لأحدهما المطالبة
يجعل كل دار نصيبا كذلك ههنا (الثالث) ان صاحب القرار يملك قرارها وهواءها فإذا جعل السفل
نصيبا للفرد صاحبه بالهواء وليست هذه قسمة عادلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يقسم الحاكم
فيجعل ذراعا من السفل بذراعين من العلو وقال أبو يوسف ذراع بذراع. وقال محمد يقسمها بالقيمة
واحتجوا بأنها دار واحدة فإذا قسمها على ما يراه جاز كالتي لا علو لها
ولنا ما ذكرناه من المعاني الثلاثة وفيها رد ما ذكروه وما يذكرونه من كيفية القسمة تحكم وبعضه
يرد بعضا، وإن طلب أحدهما قسمة العلو وحده أو السفل وحده لم يجب إليه لأن القسمة تراد للتمييز ومع
بقاء الإشاعة لا يحصل التمييز، وإن طلب أحدهما قسمة العلو منفردا والسفل منفردا لم يجب إليه لأنه قد
يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر فيستضر كل واحد منهما ولا يتميز الحقان
(فصل) وإن كان بينهما منافع فطلب أحدهما قسمها بالمهايأة لم يجبر الآخر لأن قسمة المنافع إنما
تكون بقسمة الزمان والزمان إنما يقسم بأن يأخذ أحدهما قبل الآخر وهذا لا تسوية فيه فإن الآخر
يتأخر حقه فلا يجبر على ذلك فاما ان تراضيا على قسمة العلو لأحدهما والسفل للآخر أو تراضيا على
497

قسمه المنافع بالمهايأة جاز لأن الحق لا يخرج عنهما فيجوز تراضيهما، وذكر ابن البناء في كتاب
الخصال أن الشركاء إذا اختلفوا في منافع دار بينهما ان الحاكم يجبرهم على قسمها بالمهايأة أو يؤجرها عليهم
* (مسألة) * (وإن كان بينهما أرض ذات زرع فطلب أحدهما قسمتها دون الزرع قسمت لأنه
لا ضرر في قسمها ويجبر الممتنع)
لأن الزرع في الأرض كالقماش في الدار فلم يمنع القسمة وسواء خرج الزرع أو كان بذرا لم يخرج
فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مشتركا كما لو باعا الأرض لغيرهما، وان طلب أحدهما قسمة الزرع منفردا
لم يجبر الآخر عليه لأن القسمة لا بد فيها من تعديل المقسوم وتعديل الزرع بالسهام لا يمكن لأنه
يشترط بقاؤه في الأرض المشتركة
* (مسألة) * (وان طلب قسمتها مع الزرع لم يجبر الآخر)
هكذا ذكره في الكتاب المشروح وهو قول الشافعي، وذكر في كتابه المغني والكافي انه
يجبر إذا كان الزرع قد خرج لأن الزرع كالشجر في الأرض والقسمة افراز حق وليست بيعا وان
قلنا هي بيع لم يجز إذا اشتد الحب لأنه يتضمن بيع السنبل بعضه ببعض، ويحتمل الجواز لأن
السنبل ههنا داخل تبعا للأرض، وليس بمقصود فأشبه بيع النخلة المثمرة بمثلها، وقال الشافعي
لا يجبر الممتنع من قسمها مع الزرع لأن الزرع مودع في الأرض للنقل عنها فلم تجب قسمته معها كالقماش فيها
498

ولنا انه ثابت فيها للنماء والنفع فأشبه الغراس وفارق القماش فإنه غير متصل بالدار ولا ضرر في نقله
* (مسألة) * (وان تراضوا عليه والزرع قصيل أو قطن جاز)
لأن الحق لهم لا يخرج عنهم، وإن كان بذرا أو سنابل قد اشتد حبها ففيه وجهان (أحدهما)
لا يجوز في البذر لجهالته وكونه لا يمكن افرازه وهذا مذهب الشافعي (والثاني) يجوز لأنه يدخل تبعا
للأرض فأشبه أساسات الحيطان وكذلك القول فيما إذا اشتد حبه فيه الوجهان (أحدهما) لا يجوز
لافضائه إلى بيع السنبل بعضه ببعض (والثاني) يجوز لأنه يدخل تبعا وقال القاضي يجوز في السنابل ولا
يجوز في البذر لجهالته ووجه الجواز انه يدخل تبعا فلا يكون مانعا من الصحة كما لو اشترى أرضا فيها زرع
واشترطه فإنه يملكه بالشرط، وإن كان بذرا مجهولا
* (مسألة) * (وإن كان بينهما نهر أو قناة أو عين ينبع ماؤها فالماء بينهما على ما اشترطا عند استخراج ذلك)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون على شروطهم) فإن اتفقا على قسمه بالمهايأة جاز لأن الحق
لهما لا يخرج عنهما، ولان المنافع ملكهما فجاز قسمها كالأعيان والمهايأة أن يكون في يد كل واحد
منهما مدة معلومة على قدر حقه من ذلك)
499

* (مسألة) * (وان أراد قسم ذلك بنصب خشبة أو حجر في مصدم الماء فيه ثقبان على قدر حق
كل واحد منهما جاز ويسمى المرار)
لأن ذلك طريق إلى التسوية بينهما فجاز كقسم الأرض بالتعديل، وان أراد أحدهما أن يسقي
بنصيبه أرضا ليس لها رسم شرب من هذا النهر جاز لأنه من نصيبه فجاز التصرف فيه كيف شاء
كسائر ماله وكما لو لم يكن له شريك، ويحتمل أن لا يجوز لأنه إذا جعل لهذه الأرض حقا في الشرب
من هذا النهر المشترك فربما أفضي إلى أن يجعل لها حقا في نصيب شريكه لأنه إذا طال الزمان يظن أن
لهذه الأرض حقا من السقي من النهر المشترك فيأخذ لذلك أكثر من حقه ويجئ على أصلنا ان الماء
لا يملك وينتفع بها كل واحد منهما على قدر حاجته
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (النوع الثاني قسمة الاجبار وهي ما لا ضرر فيها ولا رد عوض
كالأرض الواسعة والقرى والبساتين والدور الكبار والدكاكين الواسعة والمكيلات والموزونات من
جنس واحد سواء كان مما مسته النار كالدبس وخل التمر أو لم تمسه كخل العنب والألبان والادهان
فإذا طلب أحدهما قسمها وأبى الآخر أجبر عليه)
أما المكيلات والموزونات من المطعومات وغيرها فيجوز قسمها لأن جواز قسم الأرض مع
اختلافها يدل على جواز ما لا يختلف بطريق التنبيه وسواء في ذلك الحبوب والثمار والنورة والأشنان
500

والحديد والرصاص ونحوها من الجامدات والعصير والخل واللبن والعسل والسمن والدبس والزيت
والرب ونحوها من المائعات وسواء قلنا إن القسمة بيع أو افراز حق لأن بيعه جائز وافرازه جائز
فإن كان فيها أنواع كحنطة وشعير وتمر وزبيب فطلب أحدهما قسمها كل نوع على حدته أجبر الممتنع
وان طلب قسمها أعيانا لم يجبر الممتنع لأن هذا بيع نوع بنوع آخر، وليس بقسمة فلم يجبر عليه
كغير الشريك فإن تراضيا عليه جاز وكان بيعا يعتبر له التقابض قبل التفرق فيما يعتبر التقابض
فيه، وسائر شروط البيع
(فصل) إذا طلب أحد الشركاء القسمة وامتنع بعض الشركاء في الأرض والدور ونحوهما مما
ذكرنا أجبر الممتنع على القسمة بثلاثة شروط
(أحدها) أن يثبت عند الحاكم ملكهم ببينة لأن في الاجبار عليها حكما على الممتنع منها فلا يثبت
الا بما يثبت به الملك لخصمه بخلاف حالة الرضاء فإنه لا يحكم على أحدهما إنما يقسم بقولهما ورضاهما
(الشرط الثاني) ألا يكون فيها ضرر فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا ضرر ولا ضرار " رواه ابن ماجة، وفي لفظ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ألا ضرر ولا ضرار
(الشرط الثالث) أن يمكن تعديل السهام من غير شئ يجعل معها فإن لم يكن ذلك لم يجبر
الممتنع لأنها تصير بيعا والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين، ومثال ذلك أرض قيمتها مائة فيها شجرة
501

وبئر يساوي مائتين فإذا جعلت الأرض سهما كانت الثلث فيحتاج أن يجعل معها خمسون يردها عليه
من لم تخرج له البئر أو الشجرة ليكونا نصفين متساويين فهذه فيها بيع. ألا ترى ان آخذ الأرض
قد باع نصيبه من الشجرة والبئر بالثمن الذي أخذه. والبيع لا يجبر عليه لقول الله تعالى (إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم) فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة أجبر الممتنع من القسمة عليها لأنها تتضمن
إزالة ضرر الشركة عنهما وحصول النفع لهما لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز كان له أن
يتصرف فيه بحسب اختياره ويتمكن من إحداث الغراس والبناء فيه والإجارة والعارية، ولا يمكنه
ذلك مع الاشتراك فوجب أن لا يجبر الآخر عليه لقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " وقد
اختلف في الضرر المانع من القسمة وقد ذكرناه
* (مسألة) * (وهذه القسمة افراز حق (أحدهما) من الآخر وليست بيعا)
وهذا أحد قولي الشافعي وفى الآخر هي بيع وحكي ذلك عن أبي عبد الله بن بطة لأنه يبدل نصيبه
من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر وهذا حقيقة البيع
ولنا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك ولا يجب فيها شفعة ويلزم باخراج القرعة ويتقدر أحد
النصيبين بقدر الآخر والبيع لا يجوز فيه شئ من ذلك ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامه فلم
تكن بيعا كسائر العقود وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعا جازت قسمة الثمار خرصا والمكيل وزنا
502

والموزون كيلا والتفرق قبل القبض فيما يشترط فيه القبض في البيع إذا حلف لا يبيع فقسم لم يحنث
وإذا كان العقار أو بعضه وقفا جازت قسمته وان قلنا هي بيع انعكست هذه الأحكام، هذا إذا خلت
من الرد فإن كان فيها رد عوض فهي بيع لأن صاحب الرد يبدل المال عوضا عما حصل له من مال
شريكه وهذا هو البيع فإن فعلا ذلك في وقف لم يجز لأن بيعه غير جائز وإن كان بعضه طلقا وبعضه
وقفا والرد من صاحب الطلق لم يجز لأنه يشتري بعض الوقف، وإن كان من أهل الوقف جاز لأنهم
يشترون بعض الطلق وذلك جائز
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويجوز للشركاء ان ينصبوا قاسما يقسم بينهم وان يسألوا
الحاكم نصب قاسم فإن نصب الحاكم قاسما فمن شرطه أن يكون عدلا عالما بالحساب ليوصل إلى ذي
حق حقه كما يلزم أن يكون الحاكم عالما بالحكم ليحكم بالحق)
وهذا قول الشافعي الا أنه يشترط أن يكون حرا وان نصبوا قاسما بينهم فكان على صفة قاسم
الحاكم في العدالة والمعرفة فهو كقاسم الحاكم في لزوم قسمته بالقرعة وإن كان كافرا أو فاسقا أو جاهلا
بالقسمة لم تلزم قسمته الا بتراضيهم بها ويكون وجوده فيما يرجع إلى لزوم القسمة كعدمه
* (مسألة) * (فمتى عدلت السهام وأخرجت القرعة لزمت القسمة)
لأنها كالحكم من الحاكم ويحتمل ان لا تلزم فيما فيه رد بخروج القرعة حتى يرضيا بذلك لأن
503

ما فيه رد بيع حقيقة لأن صاحب الرد يبدل عوضا لما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع والبيع لا يلزم بالقرعة
* (مسألة) * (وإذا كان في القسمة تقويم لم يجز أقل من قاسمين لأنها شهادة بالقيمة فلم يقبل فيها
أقل من اثنين كسائر الشهادات وان لم يكن فيها تقويم أجزأ قاسم واحد)
لأن القاسم يجتهد في التقويم وهو يعمل باجتهاده؟ أشبه الحاكم ومتى اقتسما بأنفسهما واقترعا
لم تلزم القسمة الا بتراضيهما
* (مسألة) * (وإذا سألوا الحاكم قسمة عقار لم يثبت عنده أنه لهم قسمه وذكر في كتاب القسمة
أنه قسمة بمجرد دعواهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم)
لأن اليد دليل الملك وقال الشافعي لا يقسمه حتى يثبت عنده ملكهم وفي ذلك اختلاف
ذكرناه في أول باب القسمة ولا يجب عليه ان يقسم بينهم في هذه الحال بل يجوز له ذلك وقد ذكرناه
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويعدل القاسم السهام بالاجزاء ان كانت متساوية وبالقيمة ان
كانت مختلفة وبالرد ان كانت تقتضيه)
القسمة على ضربين قسمة إجبار وقسمة تراض وقسمة الاجبار ما أمكن التعديل فيها من غير رد
504

ولا تخلو من أربعة أقسام:
(أحدهما) أن تكون السهام متساوية وقيمة الاجزاء متساوية (الثاني) أن تكون السهام متساوية وقيمة
الاجزاء مختلفة (الثالث) أن تكون السهام مختلفة وقيمة الاجزاء متساوية (الرابع) أن تكون السهام مختلفة
والقيمة مختلفة فاما الأول فمثل ارض بين ستة لكل واحد منهم سدسها وقيمة اجزاء الأرض متساوية
فهذه تعدلها بالمساحة ستة أجزاء متساوية لأنه يلزم من تعديلها بالمساحة تعديلها بالقيمة لتساوي اجزائها
في القيمة ثم يقرع بينهم وكيفما أقرع بينهم جاز في ظاهر كلام احمد فإنه قال في رواية أبي داود ان شاء
رقاعا وان شاء خواتيم يطرح ذلك في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم معين ثم يقال أخرج
خاتما على هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له وعلى هذا لو أقرع بالحصى أو غيرها جاز واختار أصحابنا في
القرعة ان يكتب رقاعا متساوية بعدد السهام وهو ههنا مخير بين ان يخرج السهام على الأسماء أو يخرج
الأسماء على السهام فإن اخرج الأسماء على السهام كتب في كل رقعة اسم واحد من الشركاء وتترك في
بنادق شمع أو طين متساوية القدر والوزن وتترك في حجر رجل لم يحضر القسمة ويقال له أخرج
بندقة على هذا السهم فإذا أخرجها كان ذلك السهم لمن خرج اسمه في البندقة ثم يخرج على سهم آخر
كذلك حتى يبقى الأخير فيتعين لمن بقي وان اختار إخراج السهام على الأسماء في الرقاع أسماء
السهام فيكتب في رقعة الأول مما يلي جهة كذا وفى الآخر الثاني حتى يكتب الستة ثم يخرج القرعة
على واحد بعينه فيكون له السهم الذي في الرقعة ويفعل ذلك حتى يبقي الأخير فيتعين لمن بقي وذكر
505

أبو بكر ان البنادق تجعل طينا وتطرح في ماء ويعين واحدا فأي البنادق انحل الطين عنها وخرجت
رقعتها على الماء فهي له وكذلك الثاني والثالث وما بعده فإن خرج اثنان معا أعيد الاقراع والأول
أولى وأسهل (القسم الثاني) أن تكون السهام متفقة والقيمة مختلفة فإن الأرض تعدل بالقيمة وتجعل ستة
أسهم متساوية القيمة ويفعل في إخراج السهام مثل الذي قبله سواء لا فرق بينهما الا ان التعديل ثم
بالسهام وههنا بالقيمة (القسم الثالث) أن تكون القيمة متساوية والسهام مختلفة كأرض بين ثلاثة لأحدهم
النصف وللآخر الثلث وللثالث السدس وأجزاؤها متساوية القيم فإنها تجعل سهاما بقدر أقلها وهو
السدس فيجعل ستة أسهم ويعدل بالاجزاء ويكتب ثلاث رقاع بأسمائهم ويخرج رقعة على السهم الأول
فإن خرجت لصاحب السدس أخذه ثم يخرج أخرى على الثاني فإن خرجت لصاحب الثلث أخذ
الثاني والثالث وكانت الثلاثة الباقية لصاحب النصف بغير قرعة وان خرجت القرعة الثانية لصاحب
النصف أخذ الثاني والثالث والرابع وكان الخامس والسادس لصاحب الثلث وان خرجت القرعة
الأولى لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول وتخرج الثانية على الرابع فإن خرجت لصحاب الثلث أخذه
والذي يليه وكان السادس لصاحب السدس وان خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ الآخر
الخامس والسادس وان خرجت الأولى لصاحب الثلث أخذ الأول والثاني ثم تخرج الثانية على
الثالث فإن خرجت لصاحب النصف أخذ الثالث والرابع والخامس وأخذ الآخر السادس فإن
506

خرجت الثانية لصاحب السدس اخذه واخذ صاحب النصف ما بقي وقيل يكتب ست رقاع باسم
صاحب النصف ثلاث وباسم صاحب الثلث اثنان وباسم صاحب السدس واحدة وهذا لا فائدة فيه
فإن المقصود خروج اسم صاحب النصف وإذا كتب ثلاث رقاع حصل المقصود فأغنى ولا يصح ان
كتب رقاعا بأسماء السهام ويخرجها على أسماء الملاك لأنه إذا اخرج واحدة فيها السهم الثاني لصاحب
السدس ثم اخرج أخرى لصاحب النصف والثلث فيها السهم الأول احتاج ان يأخذ نصيبه متفرقا
الستضر بذلك (القسم الرابع) إذا اختلفت السهام والقيمة فإن القاسم يعدل السهام بالقيمة ويجعلها
ستة أسهم متساوية القيم ثم يخرج الرقاع فيها الأسماء على السهام كما ذكرنا في القسم الثالث سواء
لا فضل بينهما الا ان التعديل ههنا بالقيم وفي التي قبلها بالمساحة
(فصل) إذا كان بينهما دار أو خان كبير فطلب أحدهما قسمة ذلك ولا ضرر في قسمته أجبر
الممتنع على القسمة وتفرد بعض المساكن عن بعض وان كثرت المساكن وإن كان بينهما داران
أو خانان أو أكثر فطلب أحدهما ان يجمع نصيبه في إحدى الدارين ويجعل الباقي نصيبا للآخر لم
يجبر الممتنع وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يجبر إذا رأى الحاكم ذلك فله فعله سواء
تقاربتا أو تفرقتا لأنه أنفع واعدل وقال مالك وان كانت متجاورتين أجبر الممتنع من ذلك عليه لأن
507

المتجاورتين تتفاوت منفعتهما بخلاف المتباعدتين وقال أبو حنيفة ان كانت إحداهما أحجزة الأخرى
أجبر وإلا فلا لأنهما يجريان مجرى الدار الواحدة
ولنا انه نقل حقه من عين إلى عين أخرى فلم يجبر عليه كالمتفرقتين عند مالك وكما لو لم تكن حجزتها
عند أبي حنيفة وكما لو كانتا دارا أو دكانا مع أبي يوسف ومحمد الحكم في الدكاكين كالحكم في الدور ولو
كانت لهما عضائد صغار لا يمكن قسمة كل واحدة منهما منفردة لم يجبر الممتنع من قسمتها عليها
(فصل) وإن كان أرض واحدة تمكن قسمتها ويؤخذ فيها الشروط التي ذكرناها أجبر الممتنع
على قسمتها سواء كانت فارغة أو ذات شجر وبناء فإن كان فيها نخل وكرم وشجر مختلف وبناء
فطلب أحدهما قسمة كل عين على حدتها وطلب الآخر قسمة الجميع بالتعديل بالقيمة فقال أبو الخطاب
تقسم كل عين على حدتها وهو ظاهر كلام شيخنا في الكتاب المشروح وكذلك كل مقسوم إذا
أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه كان أولى ونحو هذا قال أصحاب الشافعي فمنهم قالوا
إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بان يكون الجيد في مقدمها والردئ في مؤخرها
فإذا قسمناها صار لكل واحد من الجيد والردئ مثل ما للآخر وجبت القسمة واجبر الممتنع عليها
وان لم تمكن القسمة بأن تكون العمارة والشجر والجيد لا يمكن قسمته وحده وأمكن التعديل بالقيمة
508

عدلت بالقيمة واجبر الممتنع من القسمة عليها وقال الشافعي في أحد القولين لا الممتنع من القسم
عليها وقالوا إذا كانت الأرض ثلاثين جزءا قيمة عشرة منها كقيمة عشرين لم تجبر الممتنع من القسمة
عليها لتعذر التساوي في الذرع ولأنه لو كان حقلان متجاوران لم يجبر الممتنع من القسمة إلا بان يجعل
كل واحد منهما سهما كذا ههنا.
ولنا انه مكان واحد أمكنت قسمته وتعديله من غير ضرر ولا عوض فوجبت قسمته كالدور
ولان ما ذكروه يفضي إلى منع وجوب القسمة في البساتين كلها والدور فإنه لا يمكن تساوي الشجر
وبناء الدور ومساكنها إلا بالقيمة ولأنه مكان لو بيع بعضه وجبت فيه الشفعة لشريك البائع فوجبت
قسمته كما لو أمكنت التسوية فاما إن كان بستانان لكل واحد منهما طريق أو حقلان أو داران أو
دكانان متجاوران أو متباعدان فطلب أحد الشريكين قسمته بجعل كل واحد منهما سهما لم يجبر الآخر
على هذا سواء كانا متساويين أو مختلفين وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأنهما شيئان متميزان لو بيع
أحدهما لم تجب الشفعة فيه لمالك الآخر بخلاف البستان الواحد والأرض الواحدة وان عظمت فإنها
إذا بيع بعضها وجبت الشفعة لمالك البعض الباقي والشفعة كالقسمة لأن كل واحد منهما يراد لإزالة
ضرر الشركة ونقصان التصرف فما لا تجب قسمته لا تجب الشفعة فيه فكذلك ما لا شفعة فيه لا تجب
509

قسمته وعكس هذا ما تجب قسمته يجب فيه الشفعة وما تجب الشفعة فيه تجب قسمته ولأنه لو بدا
الصلاح في بعض البستان كان صلاحا لباقيه إن كان كثيرا ولم يكن صلاحا لما جاوزه وإن كان صغيرا.
(فصل) إذا كان بينهما أرض قيمتها مائة في أحد جانبيها بئر قيمتها مائة وفى الآخر شجرة قيمتها
مائة عدلت بالقيمة وجعلت البئر مع نصف الأرض نصيبا والشجرة مع النصف نصيبا، فإن كانت بين
ثلاثة أو أكثر نظرت في الأرض، فإن كانت قيمتها مائة أو أقل لم تجب القسمة لأنها إذا كانت أقل
لم يمكن التعديل الا بقسمة البئر أو الشجرة وذلك مما لا تجب قسمته وان كانت قيمتها مائة فجعلناها
سهما والشجرة سهما لم يحصل مع البئر والشجرة شئ من الأرض فتصير هذه كقسمة الشجر وحده
وقسمة ذلك وحده ليست قسمة اجبار، وان كانت الأرض كثيرة القيمة بحيث يأخذ بعض الشركاء
سهامهم منها ويبقي منها شئ مع البئر والشجرة وجبت القسمة ومثاله أن تكون قيمة الأرض مائتين
وخمسين فتجعل مائة وخمسين سهما ويصير إلى البئر ما قيمته خمسون وإلى الشجرة مثل ذلك فتصير
ثلاثة سهام متساوية وفي كل سهم جزء من أجزاء الأرض فتجب القسمة حينئذ، وكذلك لو كانوا
أربعة وقيمة الأرض أربعمائة وجبت القسمة لأننا نجعل ثلاثمائة منها سهمين ومائة مع البئر والشجرة
سهمين فتعدلت السهام ولو كانت الأرض لاثنين فأرادا قسمة البئر والشجر دون الأرض لم تكن
قسمة اجبار ولو قسماها بشجرها كانت قسمة اجبار لأن الشجر يدخل تبعا للأرض فيصير الجميع
كالشئ الواحد ولهذا تجب فيه الشفعة إذا بيع شئ من الأرض بشجره وإذا قسم ذلك
510

دون الأرض صار أصلا في القسمة ليس بتابع لشئ واحد فيصير كأعيان مفردة من الدور والدكاكين
المفرقة ولهذا لا تجب فيه الشفعة.
(فصل) وعلى الإمام ان يرزق القاسم من بيت المال لأن هذا من المصالح، وقد روي أن عليا
رضي الله عنه اتخذ قاسما وجعل له رزقا من بيت المال، فإن لم يرزقه الإمام قال الحاكم للمتقاسمين ادفعا
إلى قاسم أجرة ليقسم بينكما، فإن استأجره كل منهما بأجر معلوم ليقسم نصيبه جاز، وان استأجروه
جميعا إجارة واحدة ليقسم بينهم بأجر واحد معلوم لزم كل واحد منهم من الاجر بقدر نصيبه
من المقسوم وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يكون عليهم على عدد رؤوسهم لأن
عمله في نصيب أحدهما مثل عمله في نصيب الآخر، وسواء تساوت سهامهم أو اختلفت فكان
الاجر بينهم سواء.
ولنا أن أجر القسمة يتعلق بالملك فكان بينهم على قدر الاملاك كنفقة العبد، وما ذكروه لا يصح
لأن العمل في أكبر النصيبين أكثر ألا ترى أن المقسم إذا كان مكيلا أو موزونا كان كيل الكثير
أكثر عملا من كيل القليل وكذلك الوزن والذرع، وعلى انه يبطل بالحافظ فإن حفظ القليل والكثير
سواء ويختلف أجره باختلاف المال.
(فصل) وأجرة القسمة بينهما وإن كان أحدهما الطالب لها، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد والشافعي
وقال أبو حنيفة هي على الطالب للقسمة لأنها حق له
ولنا أن الأجرة تجب بافراز الانصباء وهم سواء فيها فكانت الأجرة عليهما كما لو تراضوا عليها
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (إذا ادعى بعضهم غلطا فيما تقاسموه بأنفسهم وأشهدوا على
يراضيهم به لم يلتفت إليه، وإن كان فيما قسمه قاسم الحاكم فعلى المدعي البينة والا فالقول قول المنكر
511

مع يمينه وإن كان فيما قسمه حاكمهم الذي نصبوه وكان فيما اعتبرنا فيه الرضى بعد القرعة لم تسمع
دعواه والا فهو كقاسم الحاكم.
وجملة ذلك أنه إذا ادعى بعض المتقاسمين غلطا في القسمة وانه أعطي دون حقه وكانت قسمة
تلزم بالقرعة من غير تراض منهم فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ولا يقبل قول المدعي إلا ببينة، فإن
أقام شاهدين عدلين نقضت القسمة وأعيدت، وان لم تقم بينة عادلة وطلب يمين شريكه انه لا فضل معه
أحلف له، وإنما قدمنا قول المدعى عليه لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها، وإن كان مما لا يلزم
إلا بالتراضي كالذي قسماها بأنفسهما ونحوه لم تسمع دعوى ادعاء الغلط وهو الذي ذكره الأصحاب
وهو مذهب الشافعي لأنه قد رضي بذلك ورضاؤه بالزيادة في نصيب شريكه يلزمه، قال شيخنا
والصحيح عندي أن هذه كالتي قبلها وانه متى أقام البينة بالغلط نقضت القسمة لأن ما ادعاه محتمل
ثبت ببينة عادلة فأشبه ما لو أشهد على نفسه بقبض الثمن أو المسلم فيه ثم ادعى غلطا في كيله، وقولهم ان
حقه في الزيادة سقط برضائه ممنوع فإنه إنما يسقط إذا علمه، أما إذا ظن أعطي حقه فرضي بناء على
هذا ثم بان له الغلط فلا يسقط به حق كالثمن والمسلم فيه فإنه لو قبض المسلم فيه بناء على أنه عشرة أقفزة
راضيا بذلك ثم تعين له ثمانية وادعى المسلم إليه انه غلط فأعطاه اثني عشر وثبت ذلك ببينة لم يسقط
حق واحد منهما بالرضا به ولا يمتنع سماع دعواه وبينته ولان المدعى عليه في مسئلتنا لو فرط بالغلط
لنقضت القسمة ولو سقط حق المدعي بالرضا لما نقضت القسمة باقراره كما لو وهبه الزائد وقد ذكر
أصحابنا وغيرهم فيمن باع دارا على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة أو أحد عشر ان البيع باطل في أحد
الوجهين، وفى الآخر تكون الزيادة للبائع والنقص عليه والبيع إنما يلزم بالتراضي فلو كان التراضي
يسقط حقه من الزيادة لسقط حق البائع من الزيادة وحق المشتري من النقص، ولان من رضي بشئ
بناء على ظن تبين خلافه لم يسقط به حقه كما لو اقتسما شيئا وتراضيا به ثم بان نصيب أحدهما مستحقا
512

فإن قيل فلم لم يعط المظلوم حقه في هاتين المسئلتين ولا تنقض القسمة كما لو تبين الغلط في الثمن أو المسلم؟
قلنا لأن الغلط ههنا في نفس القسمة بتفويت شرط من شروطها وهو تعديل السهام فتبطل لفوات
شرطها وفي المسلم والثمن الغلط في القبض دون العقد فإن العقد قديم بشروطه فلا يؤثر الغلط في قبض
عوضه في صحته بخلاف مسئلتنا.
* (مسألة) * (وان تقاسموا ثم استحق من حصة أحدهم شئ معين بطلت القسمة وإن كان
شائعا فيهما فعلى وجهين)
إذا اقتسم الشريكان شيئا فبان بعضه مستحقا وكان معينا في نصيب أحدهما بطلت القسمة، وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تبطل بل يخير من ظهر المستحق في نصيبه بين الفسخ والرجوع بما
بقي من حقه كما لو وجد عيبا فيما أخذه
ولنا انها قسمة لم تعدل فيها السهام فكانت باطلة كما لو فعلا ذلك مع علمهما بالحال، وأما إذا
بان عيب نصيب أحدهما فيحتمل ان تمنع المسألة ونقول بطلان القسمة لعدم التعديل بالقيمة ويحتمل ان
ان يفرق بينهما فإن العيب لا يمكن التحرز منه فلم يؤثر في البطلان كالبيع وإن كان المستحق في
نصيبهما على السواء لم تبطل القسمة لأن ما يبقى لكل واحد منهما بعد المستحق قدر حقه ولان
القسمة إفراز حق أحدهما من الآخر وقد أفرز كل واحد منهما حقه الا أن يكون ضرر المستحق
في نصيب أحدهما أكثر مثل ان يسد طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه ونحو هذا فتبطل القسمة لأن هذا
513

يمنع التعديل فإن كان المستحق في نصيب أحدهما أكثر من الآخر بطلت القسمة لما ذكرناه، وإن كان
مشاعا فيهما بطلت لأن الثالث شريكهما ولم يحضر ولا اذن فأشبه ما لو كان لهما شريك يعلمانه فاقتسما
دونه، وفيه وجه آخر انها لا تبطل لأنه يأخذ من كل واحد منهما مثل ما يأخذ من الآخر ويصير مع
كل واحد قدر حقه فأشبه ما لو كان المستحق معينا في نصيبهما على السواء
* (مسألة) * (وان اقتسما دارين قسمة تراض فبنى أحدهما في نصيبه ثم خرجت الدار مستحقة
فقلع بناؤه رجع بنصف قيمته على شريكه)
هكذا ذكره الشريف أبو جعفر وحكاه أبو الخطاب عن القاضي وقال أبو يوسف ومحمد بن
الحسن ليس له الرجوع عليه بشئ لأنه غرس وبنى باختياره فلم يرجع بنقص ذلك على غيره كما لو
بنى في ملك نفسه
ولنا ان هذه القسمة بمنزلة البيع فإن الدارين لا تقتسمان قسمة اجبار على أن يكون كل واحد
منهما نصيبا وإنما يقتسمان كذلك بالتراضي فتكون جارية مجرى البيع ولو باعه الدار جميعها ثم أنت
مستحقة رجع عليه بالبناء كله وان باعه نصفها رجع عليه بنصفه وكذلك يخرج في كل قسمة جارية
مجرى البيع وهي قسمة التراضي كالذي فيه رد عوض وما لا يجبر على قسمته لضرر فيه ونحو ذلك فأما
قسمة الاجبار إذا ظهر نصيب أحدهما مستحقا بعد البناء والغرس فيه فينقض البناء ويقلع الغرس فإن
قلنا القسمة بيع فكذلك وان قلنا ليست بيعا لم يرجع لأن شريكه لم يضره ولم ينتقل إليه من
جهته بيع وإنما فرز حقه من حقه فلم يضمن له ما غرم فيه هذا الذي يقتضيه قول الأصحاب
* (مسألة) * (وان خرج في نصيب أحدهما عيب فله فسخ القسمة إذا لم يعلمه أو الرجوع بأرش
العيب) لأنه نقص في نصيبه فملك ذلك كالمشتري ويحتمل أن تبطل القسمة لأن التعديل فيها شرط
ولم يوجد بخلاف البيع
514

* (مسألة) * (وإذا اقتسم الورثة العقار ثم ظهر على الميت دين فإن قلنا هو إفراز حق لم تبطل
القسمة، وان قلنا هي بيع انبنى على بيع التركة قبل قضاء الدين هل يجوز؟ على وجهين)
وجملة ذلك أن تركة الميت يثبت فيها الملك لورثته سواء كان عليه دين أو لم يكن نص عليه أحمد
فيمن أفلس ثم مات فقال قد انتقل المبيع إلى الورثة وحصل ملكا لهم وبهذا قال الشافعي، وقال أبو
حنيفة إن كان الدين يستغرق التركة منع نقلها إلى الورثة وإن كان لا يستغرقها لم يمنع انتقال شئ
منها، وقال أبو سعيد الإصطخري يمنع بقدره وقد أوما إليه أحمد فإنه قال في أربعة بنين ترك أبوهم
دارا وعليه دين فقال أحد البنين انا أعطي ودعوا لي الربع فقال أحمد هذه الدار للغرماء لا يرثوا شيئا
حتى يؤدوا الدين وهذا يدل على أنها لم تنقل إليهم عنده لأنه منع الوارث من إمساك بدفع قيمته
لأن الدين لم يثبت في ذمة الورثة فيجب ان يتعلق بالتركة والمذهب الأول ولهذا قلنا إن الغريم لا يحلف
على دين الميت لأن الدين محله الذمة وإنما يتعلق بالتركة فيتخير الورثة بين قضاء الدين منها أو من
غيرها كالرهن والجاني ولهذا لا يلزم الغرماء نفقة العبد ولا يكون نماء التركة لهم ولأنه لا ينتقل إلى
الورثة أو إلى الغرماء أو يبقى للميت أو لا يكون لاحد، لا يجوز ان ينتقل إلى الغرماء لأنها لو انتقلت
إليهم لزمهم نفقة الحيوانات وكان نماؤها لهم غير محسوب من دينهم، ولا يجوز ان يبقى للميت لأنه
لم يبق أهلا للملك، ولا يجوز أن يكون لاحد لأنها مال مملوك فلا بد من مالك، ولأنها لو بقيت بغير
مالك لأبيحت لأن يتملكها كسائر المباحات فثبت انها انتقلت إلى الورثة فعلى هذا إذا تمت التركة
ثم إن غلبت الدار أو أثمرت النخيل أو نتجت الماشية فهو للوارث ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء
لأنه نماء ملكه أشبه كسب الجاني ويحتمل ان يتعلق به حق الغرماء كنماء الرهن ومن اختار الأول
قال تعلق حق الغرماء بالرهن آكد لا يثبت باختيار المالك ورضاه ولهذا منع المتصرف فيه وهذا
يثبت بغير رضاء المالك فلم يمنع التصرف لأنه أشبه الجاني وعلى الرواية الأخرى يكون حكمه حكم
515

التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها فعلى هذا ان تصرف الورثة في التركة ثم إن غلت الدار أو أثمرت
النخيل أو نتجت الماشية فهو للوارث ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء لأنه نماء ملكه أشبه كسب الجاني
ويحتمل ان يتعلق به حق الغرماء كنماء الرهن ومن اختار الأول قال تعلق حق الغرباء بالرهن آكد لا يثبت
باختيار المالك ورضاه ولهذا منع التصرف فيه وهذا يثبت بغير رضاء المالك فلم يمنع التصرف لأنه أشبه
الجاني وعلى الرواية الأخرى يكون حكمه حكم التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها فعلى هذا ان تصرف
الورثة في التركة ببيع أو هبة فعلى الرواية الأولى تصرفهم صحيح فإن قضوا الدين والا نقضت تصرفاتهم
كما إذا تصرف السيد في العبد الجاني ولم يود الجناية وعلى الروية الأخرى تصرفاتهم فاسدة لأنهم تصرفوا
فيما لم يملكوه والأول أولى إن شاء الله تعالى
(فصل) وان اقتسم الورثة تركة الميت ثم ظهر عليه دين لا وفاء له الا ما اقتسموه لم تبطل القسمة إذا
قلنا هي افراز حق لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع تصرف الوارث فيها كما لا يمنع تصرف السيد في
العيد الجاني لكن ان امتنعوا من وفاء الدين بيعت في الدين وبطلت القسمة لأن الدين يقدم على
الميراث لقوله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين) فإن وفي أحدهما دون الآخر صح في نصيبه وبيع
نصيب الآخر فإن قلنا إن القسمة بيع انبنى على بيع التركة وفيه وجهان ذكرنا دليلهما في المسألة
قبل هذا فإن قلنا يجوز لم تبطل القسمة وان قلنا لا يجوز فالقسمة باطلة لأنه بيع فإن قضوا الدين أعادوها
والا بيع في قضائه والخلاف في ذلك بني على الخلاف في انتقال التركة إلى الورثة إذا كان على الميت دين
وفيه روايتان ذكرناهما والمختار منهما والله أعلم
(فصل) قال أحمد في قوم اقتسموا دار أو حصل لبعضهم فيها زيادة أذرع ولبعضهم نقصان ثم
باعوا الدار جملة قسمت الدار بينهم على قدر الأذرع يعني ان الثمن يقسم بينهم على قدر ملكهم فيها
516

وهذا محمول على أن زيادة أحدهما في الأذرع لزيادة ملكه فيها مثل أن يكون لأحدهما الخمسان
فيحصل له أربعون ذراعا وللآخر ثلاثة أخماس فيحصل له ستون ذراعا فإن الثمن يقسم بينهم أخماسا
على قدر ملكهما في الدار، فأما إن كانت زيادة الأذرع لرداءة ما أخذ صاحبها كدار تكون بينهما
نصفين فأخذ أحدهما بنصيبه من جيدها أربعين ذراعا واخذ الآخر من رديئها ستين فلا ينبغي ان
يقسم الثمن على قدر الأذرع بل يقسم بينهما نصفين لأن الستين ههنا معدولة بالأربعين فلذلك تعدل
بها في الثمن، وقال أحمد رحمه الله في قوم اقتسموا دارا كانت أربعة أسطحة يجري عليها الماء من أحد
الأسطحة فلما اقتسموا أراد أحدهما منع جريان لآخر عليه وقال هذا شئ قد صار لي قال إن كان بينهما
شرط برد الماء فله ذلك وان لم يشترط فليس له منعه ووجه ذلك انهم اقتسموا الدار واطلقوا فاقتضى ذلك
أن يملك كل واحد حصته بحقوقها كما لو اشتراها بحقوقها ومن حقها جريان مائها فيما كان يجري إليه معتادا له
وهو على سطح المانع فلهذا استحقه حالة الاطلاق فإن تشارطا على رده فالشرط أملك والمؤمنون على شروطهم
* (مسألة) * (وان اقتسما فحصلت الطريق في نصيب أحدهما ولا منفذ للآخر بطلت القسمة)
لأن القسمة تقتضي التعديل. والنصيب الذي لا طريق له لا قيمة له الا قيمة قليلة فلا يحصل
التعديل، ولان من شرط الاجبار على القسمة أن يكون ما أخذه كل واحد منهما يمكن الانتفاع
به، وهذا لا ينتفع به آخذه، فإن كان قد أخذه راضيا عالما بأنه لا طريق له جاز لأن قسمة التراضي
بيع وشراؤه على هذا الوجه جائز. قال شيخنا وقياس المسألة التي قبل هذا ان الطريق تبقى بحالها في
نصيب الآخر ما لم يشترط صرفها عنه كجري الماء
* (مسألة) * (ويجوز للأب والوصي قسم مال المولى عليه مع شريكه)
لأن القسمة اما افراز حق أو بيع وكلاهما جائز لهما. ولان في القسمة مصلحة للصبي فجازت
كالشراء له، ويجوز لهما قسمة التراضي من غير زيادة في العوض لأن فيه دفعا لضرر الشركة فأشبه
ما لو باع لضرر الحاجة إلى قضاء الدين أو النفقة والله أعلم
517

(*) باب الحضانة
كفالة الطفل وحضانته واجبة لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الانفاق
عليه وانجاؤه من المهالك.
(مسألة) (وأحق الناس بحضانة الطفل والمعتوه أمه)
إذا افترق الزوجان ولهما ولد طفل أو معتوه فأما أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها
ذكرا كان أو أنثى هذا قول يحيى الأنصاري والزهري والثوري ومالك والشافعي وأبي ثور وإسحاق
وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم لما روي عبد الله بن عمرو بن العاص ان امرأة قالت يا رسول
الله ان ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وان أباه طلقني وأراد ان ينزعه
مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت أحق به ما لم تنكحي " رواه أبو داود ويروى ان أبا بكر الصديق
رضي الله عنه حكم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعاصم لامه أم عاصم وقال ريحها وشمها ولطفها
خير له منك، رواه سعيد في سنه ولأنها أشفق عليه وأقرب ولا يشاركها في القرب إلا الأب وليس
له مثل شفقتها ولا يتولى الحضانة بنفسه وإنما يدفعه إلى امرأته وأمه أولى من امرأة أبيه.
(فصل) فإن لم تكن الام من أهل الحضانة لفقدان الشروط انتقل إلى من يليها في الاستحقاق
لأنها صارت كالمعدومة.
(مسألة) (وأولى الناس بعد الام أمها ثم أمهاتها الأقرب فالأقرب ثم الأب)
يقدمن على سائر الأقارب من النساء والرجال لأنهن نساء ولادتهن متحققة فهن في معنى الام وعن
أحمد رواية أخرى أن أم الأب مقدمة على أم الام لأنها تدلي بعصبة فعلى هذا الرواية يكون الأب
أولى بالتقديم لأنهن يدلين به فيكون الأب بعد الام ثم أمهاته وإن علون ثم أبو الأب ثم أمهاته ثم جد
الأب ثم أمهاته وان لم يكن وارثات لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة بخلاف أم أبي الام.
(مسألة) (ثم الأخت للأبوين ثم الأخت للأب ثم الأخت للأم ثم الخالة ثم العمة في الصحيح عنه)
إذا عدم من يستحق الحضانة من الآباء والأمهات وإن علون انتقلت إلى الأخوات وقدمت على
سائر القرابات من الخالات والعمات وغيرهن لأنهن شاركن في النسب فقد من في الميراث وأولى الأخوات
من كانت لأبوين لقوة قرابتها ثم من كانت لأب ثم من كانت لام نص عليه أحمد وهو ظاهر مذهب
الشافعي، وقال أبو حنيفة الأخت من الام أولى من الأخت من الأب وهو قول المزني وابن شريح
لأنها أدلت بالام فقدمت على المدلية بالأب كأم الام مع أم الأب وقال ابن شريح تقدم الخالة على
الأخت من الأب كذلك ولأبي حنيفة فيه روايتان.
ولنا أن الأخت للأب أقوى في الميراث فقدمت كالأخت من الأبوين ودليل قوتها أنها أقيمت

* موضع هذا الباب ص 297 من الجزء التاسع وقد ترك وضعه فيه سهوا سببه اختلاف الترتيب بين المغني والشرح الكبير
518

مقام الأخت من الأبوين عند عدمها وتكون عصبة مع البنات وتقاسم الجد وما ذكروه من الأدلة
لا يلزم لأن الأخت تدلي بنفسها لكونهما خلقا من ماء واحد ولهما تعصيب فكانت أولى، وحكي عن
أحمد رواية أخرى أن الأخت من الام والخالة أحق من الأب فتكون الأخت من الأبوين أحق
منه ومنهما ومن جميع العصبات. وجه هذه الرواية ان هؤلاء نساء يدلين بالام فكن أولى من الأب
كالجدات، والرواية الأولى هي المشهورة في المذهب فإن اجتمع أخ وأخت قدمت الأخت في الحضانة لأنها
امرأة من أهل الحضانة فقدمت على من في درجتها من الرجال كتقديم الام على الأب وأم الأب
على أبي الأب لأنها تلي الحضانة بنفسها والرجل لا يليها بنفسه فإذا انقرض الاخوة والأخوات صارت
الحضانة للخالات وتقدم على العمة لأنها تدلي بالام وبعدهن العمات في الصحيح عنه لأنهن
أخوات الأب فتقدم العمة من الأبوين ثم العمة من الأب ثم العمة من الام كالأخوات ويقدمن على
الأعمام لأنهن نساء من أهل الحضانة فيقدمن على من في درجتهن من الرجال كتقديم الام على الأب
والجدة على الجد والأخت على الأخ.
(مسألة) (قال الخرقي وخالة الأب أحق من خالة الام)
قد ذكرنا انه انه إذا عمدت الأمهات والآباء والأخوات انتقلت الحضانة إلى الخالات ويقدمن
على العمات لما ذكرنا نص عليه أحمد، ويحتمل كلام الخرقي تقديم العمات لأنه قدم خالة الأب على
خالة الام فدل على تقديم قرابة الأب على قرابة الام ولأنهن يدلين بعصبة فقد من كتقديم الأخت من الأب
على الأخت من الام، وقال القاضي مراد الخرقي بقوله خالة الأب أي الخالة من الأب تقدم على
الخالة من الام لتقديم الأخت من الأب على الأخت من الام لأن الخالات أخوات الام فيجرين في
الاستحقاق والتقديم فيما بينهن مجرى الأخوات المفترقات وكذلك الحكم في العمات المفترقات، فإذا قلنا
بتقديم الخالات فإذا انقرضن فبعدهن العمات، وان قلنا بتقديم العمات فالخالات بعدهن فإذا عدمن
انتقلت إلى خالات الأب على قول الخرقي، وعلى القول الآخر إلى خالات الام، وهل تقدم خالات
الأب على عماته؟ على وجهين بناء على ما ذكرنا في الخالات والعمات، وأما عمات الام فلا حضانة لهن
لأنهن يدلين بأب الام وهو رجل من ذوي الأرحام ولا حضانة له ولا لمن يدلي به، وفيه وجه ان لهم
حضانة سوف نذكره إن شاء الله تعالى
(فصل) وللرجال من العصبات مدخل في الحضانة وأولاهم الأب ثم الجد أبو الأب وان علا ثم الأخ
من الأبوين ثم الأخ من الأب ثم بنوهم وان سفلوا على ترتيب الميراث ثم العمومة ثم بنوهم كذلك ثم
عمومة الأب ثم بنوهم وهذا قول الشافعي وقال بعض أصحابه لا حضانة لغير الأب والأجداد لأنهم لا معرفة
لهم بالحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم تكن لهم حضانة كالأجانب
ولنا أن عليا وجعفرا اختصما في حضانة بنت حمزة فلم ينكر عليهما النبي صلى الله عليه وسلم ادعاء الحضانة ولان
519

لهم ولاية وتعصيبا بالقرابة فثبتت لهم الحضانة كالأب والجد وفارق الأجانب فإنهم ليست لهم قرابة
ولا شفقة ولأنهم تساووا في عدم القرابة فليس واحد منهم أولى بالتقديم من الآخر والعصبات
لهم قربة يمتازون بها، وأحقهم بالحضانة أحقهم بالميراث بعد الآباء والأجداد ويقومون مقام
الأب في التخيير للصبي بينه وبين الام أو غيرها ممن له الحضانة من النساء ويكونون أحق بالجارية
إذا بلغت سبعا على ما نذكره
(مسألة) (الا أن الجارية ليس لابن عمها حضانتها، فإذا بلغت سبعا لم تسلم إليه لأنه
ليس محرما لها)
(مسألة) (فإن امتنعت الام من حضانتها مع استحقاقها انتقلت إلى أمها في أظهر الوجهين
والوجه الآخر تنتقل إلى الأب لأن أمهاتها فرع عليها في الاستحقاق فإذا أسقطت حقها سقطت فروعها
ولنا أن الأب أبعد فلا تنتقل الحضانة إليه مع وجود أقرب منه كما لا ينتقل إلى الأخت وكونهن
فروعا لها لا يوجب سقوط حقوقهن بسقوط حقها كما لو سقط حقها لكونها ليست من أهل الحضانة
أو لتزوجها وهكذا الحكم في الأب إذا سقط حقه هل يسقط حق أمهاته؟ على وجهين فإن كانت
أخت من أبوين وأخت من أب فأسقطت الأخت من الأبوين حقها لم يسقط حق الأخت من الأب
وجها واحدا لأن استحقاقها من غير جهتها وليست فرعا عليها
(مسألة) (فإن عدم هؤلاء كلهم فهل للرجال من ذوي الأرحام حضانة على وجهين)
(أحدهما) لهم حضانة لأن لهم رحما وقرابة يرثون بها عند عدم من هو أولى منهم فأشبهوا البعيد
من العصبات (والثاني) لا حق لهم في الحضانة وينتقل الامر إلى الحاكم لأنهم ليسوا ممن يحضن بنفسه
ولا لهم ولاية لعدم تعصيبهم فأشبهوا الأجانب فعلى الوجه الأول يكون أبو الأم وأمهاته أحق من
الخال لأنه يسقط في الميراث وفي تقديمهم على الأخ من الام وجهان
(أحدهما) يقدم الأخ لأنه يرث الفرض ويسقط ذوي الأرحام كلهم فيقدم عليهم في الحضانة
(والثاني) أبو الأم وأمهاته أولى منه لأن أبا الام يدلي إليها بالأبوة والأخ يدلي بالبنوة والأب
يقدم في الولاية على الابن فقدم في الحضانة لأنها ولاية
(مسألة) (ولا حضانة لرقيق ولا فاسق ولا كافر على مسلم)
لا تثبت الحضانة لطفل ولا معتوه لأنه لا يقدر عليها وهو يحتاج إلى من يكفله فكيف يكفل
غيره ولا لفاسق لأنه لا يوثق به في أداء الواجب من الحضانة ولاحظ للولد في حضانته لأنه ينشأ
على طريقته ولا لرقيق وبهذا قال عطاء والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك في حر له
ولد حر من أمة: الام أحق به الا ان تباع فينتقل فيكون الأب أحق به لأنها أم مشفقة اشبهت الحرة
ولنا أنها لا تملك منافعها التي تحصل الكفالة بها لكونها مملوكة لسيدها فلم تمكن لها حضانة كما
لو بيعت ونقلت ولا تثبت لكافر على مسلم وبهذا قال مالك والشافعي وسوار والعنبري وقال ابن القاسم
520

وأبو ثور وأصحاب الرأي تثبت لما روي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سيار انه أسلم
وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اقعد ناحية "
وقال لها " اقعدي ناحية - وقال - ادعواها " فمالت الصبية إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اهدها "
فمالت لأبيها فأخذها رواه أبو داود
ولنا انها ولاية فلا تثبت لكفار على مسلم كولاية النكاح والمال ولأنها إذا لم تثبت للفاسق فالكافر
أولى لأن ضرره أكثر فإنه مجتهد في اخراجه عن دينه ويخرجه عن الاسلام بتعليمه الكفر وتربيته له وهذا
أعظم الضرر والحضانة إنما تثبت لحظ الولد فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه فاما الحديث فقد
روي على غير هذا الوجه ولا يثبته أهل النقل وفي اسناده مقال قاله ابن المنذر ويحتمل ان النبي صلى الله عليه وسلم
علم أنها تختار أباها بدعوته فكان ذلك خاصا في حقه
(فصل) فاما من بعضه حرفان لم تكن بينة وبين سيده مهايأة فهو كالقن لكون منافعه
مشتركة بينه وبين سيده، وإن كان بينهما مهايأة فقياس قول احمد ان له الحضانة في أيامه لأنه
قال: كل ما يجزئ فعليه النصف من لك شئ وهذا اختيار أبي بكر، وعند الشافعي لا حضانة له لأنه
كالقن عنده وهو أصل قد تقدم
(مسألة) (ولا حضانة لامرأة مزوجة لأجنبي من الطفل)
إذا تزوجت الام سقطت حضانتها قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من احفظ عنه من أهل
العمل قضى به شريح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وعن الحسن أنها لا تسقط بالتزويج،
ونقل مهنا عن أحمد إذا تزوجت الام وابنها صغير اخذ منها قيل له فالجارية مثل الصبي؟ قال لا الجارية
تكون معها إلى سبع سنين فظاهر هذا انه لم يزل الحضانة عن الجارية لتزويج أمها وأزالها عن الغلام
ووجه ذلك ما روي أن عليا وجعفرا وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة فقال علي بنت عمي
وقال زيد بنت أخي لأن النبي صلى الله عليه وسلم آخي بين زيد وحمزة، وقال جعفر بنت عمي وعندي خالتها فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الخالة أم " وسلمها إلى جعفر رواه أبو داود بنحوه فجعل لها الحضانة وهي
مزوجة والأولى هي الصحيحة قال ابن أبي موسى وعليها العمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت أحق به
ما لم تنكحي " ولأنها تشتغل عن الحضانة بحقوق الزوج فكان الأب أحظ له ولان منافعها مملوكة
لغيرها اشبهت الأمة فاما بنتها فإنما قضى بها لخالتها لأن زوجها من أهل الحضانة ولأنه لا يساويه في
الاستحقاق الا علي وقد رجح جعفر بان امرأته من أهل الحضانة وعلى هذا متى كانت المرأة مزوجة
برجل من أهل الحضانة كالجدة المزوجة للجد لم تسقط حضانتها لأنه يشاركها في الولادة والشفقة
521

على الولد فأشبه الام إذا كانت زوجة الأب ولو تنازع العمان في الحضانة وأحدهما متزوج للام أو
للخالة فهو أحق لحديث بنت حمزة، وكذلك كل عصبتين تساوتا وأحدهما متزوج بمن هي من
أهل الحضانة قدم بذلك
(فصل) وظاهر هذا ان التزويج بالأجنبي يسقط الحضانة وهو ظاهر قول الخرقي وان عري عن
الدخول وهو قول الشافعي ويحتمل ان لا يسقط الا بالدخول وهو قول مالك لأن به يشتغل عن
الحضانة والأول أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أنت أحق به ما لم تنكحي " وقد وجد النكاح ولان بالعقد
تملك منافعها ويستحق زوجها منعها من حضانته فزال حقها كما لو دخل بها
(فصل) إذا عدمت الام أو تزوجت أو لم تكن من أهل الحضانة فأم الأب أولى من الخالة إذا
اجتمعتا وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد، وحكي عن مالك وعن أحمد ان الأخت والخالة أحق
من الأب وقد ذكرناه فعلى هذا يحتمل أن تكون الخالة أحق من أم الأب وهو قديم قولي الشافعي
لأنها تدلي بأم وأم الأب تدلي به فقدم من يدلي بالام كتقديم أم الام على أم الأب ولان النبي صلى الله عليه وسلم
قضى ببنت حمزة لخالتها وقال " الخالة أم "
ولنا ان أم الأب جدة وارثة فقدمت على الخالة كأم الام ولان لها ولادة فأشبهت أم الام،
فأما الحديث فيدل على أن للخالة حقا في الجملة وليس النزاع فيه إنما النزاع في الترجيح عند الاجتماع
وقولهم تدلي بأم قلنا لكن لا ولادة لها فيقدم عليها من له ولادة كتقديم أم الام على الخالة فعلى
هذا متى وجدت جدة وارثة فهي أولى ممن ليس من عمودي النسب بكل حال، وان علت
درجتها لفضيلة الولادة والوراثة
(فصل) وإن اجتمعت أم أم وأم أب فأم الام أولى وإن علت درجتها لأن لها ولادة وهي تدلي
بالام التي تقدم على الأب فوجب تقديمها عليها كتقديم الام على الأب، وعن أحمد ان أم الأب أحق
وهو قياس قول الخرقي لأنه قدم خالة الأب على خالة الام، وخالة الأب أخت أمه وخالة الام أخت
أمها فإذا قدم أخت أم الأب دل على تقديمها وذلك لأنها تدلي بعصبة مع مساواتها للأخرى في الولادة
فوجب تقديمها كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الام وإنما قدمت الام على الأب لأنها
أنثى تلي الحضانة بنفسها فكذلك أمه فإنها أنثى تلي بنفسها فقدمت لما ذكرنا
(مسألة) (ومتى زالت الموانع منهم مثل ان عتق الرقيق وأسلم الكافر وعدل الفاسق عقل
المجنون عاد حقهم من الحضانة)
لأن سببها قائم وإنما امتنعت لمانع فإذا زال المانع عاد الحق بالسبب السابق الملازم كالزوجة إذا
522

طلقت فإنه يعود حقها من الحضانة كذلك هذا وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة
والمزني قالا إن كان رجعيا لم يعد حقها لأن الزوجية قائمة فأشبه ما لو كانت في صلب النكاح
ولنا أنها مطلقة فعاد حقها من الحضانة كالبائن، وقولهم هي زوجه قلنا إلا أنه قد عزلها عن فراشه
ولم يبق لها عليه قسم ولا لها به شغل فأشبهت البائن ويخرج لنا مثل قولهما لكون النكاح قبل الدخول
مزيلا لحق الحضانة مع عدم القسم والشغل بالزوج
(فصل) ولا تثبت الحضانة إلا على الطفل والمعتوه فاما البالغ الرشيد فلا حضانة عليه واليه الخيرة
في الإقامة عند من شاء من أبويه فإن كان رجلا فله الانفراد بنفسه لاستغنائه عنهما، ويستحب أن
لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره لهما فاما الجارية فليس لها الانفراد ولأبيها منعها منه لأنه لا يؤمن أن يدخل
عليها من يفسدها ويلحق العار بها وبأهلها فإن لم يكن لها أب قام أولياؤها مقامه
(مسألة) (ومتى أراد أحد الأبوين النقلة إلى بلد بعيد آمن ليسكنه فالأب أحق وعنه الام أحق
فإن اختل شرط منها فالمقيم منها أحق)
وجملة ذلك أن أحد الأبوين إذا أراد السفر لحاجة ثم يعود والآخر مقيم فالمقيم أولى بالحضانة
لأن في المسافرة بالولد إضرارا به وإن كان منتقلا إلى بلد ليقيم به وكان الطريق مخوفا أو البلد الذي
ينتقل إليه مخوفا فالمقيم أحق به لأن في السفر به خطرا ولو اختار الولد السفر في هذه الحال لم يجب
إليه لأن فيه تعزيرا به وإن كان البلد الذي ينتقل إليه آمنا وطريقه آمن فالأب أحق به سواء كان
هو المقيم أو المنتقل فإن كان بين البلدين قرب بحيث يراهم الأب كل يوم ويرونه فتكون الام على
حضانتها، وقال القاضي إذا كان السفر دون مسافة القصر فهو في حكم الإقامة، وهو قول بعض
أصحاب الشافعي لأن ذلك في حكم الإقامة في غير هذا الحكم فكذلك في هذا ولان مراعاة الأب
له ممكنة والمنصوص عن أحمد ما ذكرناه
قال شيخنا: وهو أولى لأن البعد الذي يمنعه من رؤيته يمنعه من تأديبه وتعليمه ومراعاة حاله
فأشبه مسافة القصر وبما ذكرناه من تقديم الأب عند افتراق الدار بهما. قال شريح ومالك والشافعي
وعن أحمد رواية أخرى أن الام أحق لأنها أتم شفقة أشبه ما لو لم يسافر واحد منهما وقال أصحاب
الرأي ان انتقل الأب فالأم أحق به ولذلك أن انتقلت الام إلى البلد الذي كان فيه أصل النكاح
فهي أحق، وان انتقلت إلى غيره فالأب أحق وحكي عن أبي حنيفة ان انتقلت من بلد إلى قرية فالأب
أحق وان انتقلت إلى بلد آخر فهي أحق لأن في البلد يمكن تعليمه وتخريجه
ولنا انه اختلف مسكن الأبوين فكان الأب أحق كما لو انتقلت من بلد إلى قرية أو إلى بلد لم يكن
523

فيه أصل النكاح وما ذكروه لا يصح لأن الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب ابنه وتخريجه وحفظ
نسبه فإذا لم يكن في بلده ضاع فأشبه ما لو كان في قرية. وان انتقلا جميعا إلى بلد واحد فالأم
باقية على حضانتها وكذلك إن اخذه الأب لافتراق البلدين ثم اجتمعا عادت إلى الام حضانتها وغير
الام ممن له الحضانة من النساء يقوم مقامها وغير الأب من عصبات الولد يقوم مقامه عند عدمهما أو
كونهما من غير أهل الحضانة
(فصل) وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه فكان مع من اختار منهما
إذا لم يكن معتوها وتنازعا فيه فمن اختاره منهما فهو أولى به قضى بذلك عمر وعلي وشريح وهو مذهب
الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يخير قال أبو حنيفة إذا استقل بنفسه وليس بنفسه واستنجى
بنفسه فالأب أحق به وقال مالك الام أحق به حتى يثغر واما التخيير فلا يصح فإن الغلام لا قول له
ولا يعرف حظه وربما اختار من يلعب عنده ويترك تأديبه ويمكن من شهواته فيؤدي إلى افساده
ولأنه دون البلوغ فلم يخير كمن دون السبع
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه. رواه سعيد والشافعي، وفي
لفظ عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن
يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " هذا أبوك وهذه أمك فخذ
بيد أيهما شئت " فأخذ بيد أمه فانطلقت به. رواه أبو داود، ولأنه اجماع الصحابة فروي عن عمر
انه خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد
وروي عن عمارة الحرمي أنه قال: خيرني علي بين عمي وأمي وكنت ابن سبع أو ثمان، وروي
نحو ذلك عن أبي هريرة وهذه قصص في مظنة الشهرة ولم تنكر فكانت اجماعا ولان التقديم في الحضانة
لحق الولد فيقدم من هو أشفق لأن حظ الولد عنده أكبر واعتبرنا الشفقة بمظنها إذ لم يمكن اعتبارها
بنفسها فإذا بلغ الغلام حدا يعرب عن نفسه ويميز بين الاكرام وضده فمال إلى أحد الأبوين دل على أنه
أرفق به وأشفق عليه فقدم بذلك وقيدناه بالسبع لأنها أول حال أمر الشارع فيها بمخاطبته بالامر
بالصلاة ولان الام قدمت في حال الصغر لحاجته إلى حمله ومباشرة خدمته ولأنها أعرف بذلك وأقوم
به فإذا استغني عن ذلك تساوى والده لقربهما منه فرجح باختياره
(مسألة) (فإن اختار أباه كان عنده ليلا ونهارا وإن اختار أمه كان عندها ليلا وعند أبيه
نهارا ليعلمه الصناعة والكتابة ويؤدبه)
إذا اختار الغلام أباه كان عنده ليلا ونهارا ولا يمنع من زيارة أمه لأن منعه ذلك اغراء بالعقوق
524

وقطيعة الرحم وإن مرض كانت الام أحق بتمريضه في بيتها لأنه صار بالمرض كالصغير في الحاجة إلى
من يقوم بأمره فكانت الام أحق به كالصغير، وإن اختار الام كان عندها ليلا ويأخذه الأب نهارا
ليسلمه في مكتب أو في صناعة لأن القصد حظ الغلام وحظه فيما ذكرنا
(فصل) وإن مرض أحد الأبوين والولد عند الآخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته سواء
كان ذكرا أو أنثى لأن المرض يمنع المريض من المشي إلى ولده فمشي ولده إليه أولى، فاما في حال
الصحة فإن الغلام يزور أمه لأنها عورة فسترها أولى والام تزور ابنتها لأن كل واحدة منهما عورة
تحتاج إلى صيانة وستر الجارية أولى الام قد تخرجت وعقلت بخلاف الجارية
(مسألة) (فإن عاد فاختار الآخر نقل إليه فإن عاد فاختار الأول رد إليه)
هكذا ابدا كلما اختار أحدهما صار إليه لأنه اختيار شهوة لحظ نفسه فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه
في المأكول والمشروب وقد يشتهي المقام عند أحدهما في وقت، وعند الآخر في وقت وقد يشتهي
التسوية بنيهما وأن لا ينقط عنهما
(مسألة) (فإن لم يختر أحدهما أقرع بينهما)
لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه ولا يمكن اجتماعهما على حضانته فيقدم إحداهما بالقرعة فإذا قدم
بها ثم اختار الآخر نقل إليه لأننا قدمنا اختياره الثاني على الأول فعلى القرعة التي هي بدل أولى
(مسألة) (وإذا استوى اثنان في الحضانة كالأختين قد أحدهما بالقرعة لما ذكرنا
(فصل) فإن كان الأب معدوما أو من غير أهل الحضانة وحضر غيره من العصبات كالأخ
والعم وابنه قام مقام الأب فيخير الإمام بينه وبين أمه لأن عليا رضي الله عنه خير عمارة الحزمي بين
أمه وعمه ولأنه عصبة فأشبه الأب، وكذلك إن كانت الام معدومة أو من غير أهل الحضانة فحضنته
الجدة خير العلام بينها وبين أبيه أو من يقوم مقامه من العصبات فإن كان الأبوان معدومين أو من
غير أهل الحضانة فسلم إلى امرأة كأخته أو عمته أو خالته قامت مقام أمه في التخيير بينها وبين عصباته
للمعنى المذكور في الأبوين فإن كان الأبوان رقيقين وليس له أحد من أقاربه سواهما فقال القاضي
لا حضانة لهما عليه ولا نفقة له عليهما ونفقته في بيت المال ويسلم إلى من يحضنه من المسلمين
(فصل) وإنما يخير الغلام بشرطين:
(أحدهما) أن يكونا جميعا من أهل الحضانة. فإن كان أحدهما من غير أهل الحضانة كان
كالمعدوم وتعين الآخر:
(والثاني) ان لا يكون الغلام معتوها فإن كان معتوها كان عند الام ولم يخبر لأن المعتوه بمنزلة
الطفل وإن كان كبيرا ولذلك كانت الام أحق بكفالة ولده المعتوه بعد بلوغه ولو خير الصبي فاختار
525

أباه ثم زال عقله رد إلى الام وبطل اختياره لأنه إنما خير حين استقل بنفسه فإذا زال استقلاله بنفسه
كانت الام أولى لأنها أشفق عليه وأقوم بمصالحه كما في حال طفوليته
(مسألة) (وإذا بلغت الجارية سبع سنين كانت عند أبيها ولا تمنع الام من زيارتها وتمريضها
وقال الشافعي تخير كما يخير الغلام)
لأن كل سن خير فيه الغلام خيرت فيه الجارية كالبلوغ، وقال أبو حنيفة الام أحق بها حتى تتزوج
أو تحيض وذكر ابن أبي موسي في الارشاد رواية ان الام أحق بها حتى تحيض وقال مالك الام أحق بها
حتى تتزوج ويدخل بها الزوج لأنه لا حكم لاختيارها ولا يمكن انفرادها فكانت أحق بها كما قبل السبع
ولنا ان الغرض بالحضانة الحظ والحظ للجارية بعد السبع في الكون عند أبيها لأنها تحتاج إلى
حفظ والأب أحق بذلك فإن الام تحتاج إلى من يحفظها ويصونها ولأنها إذا بلغت السبع قاربت
الصلاحية للتزويج وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت سبع وإنما تخطب الجارية من أبيها لأنه
وليها والمالك لتزويجها وهو اعلم بالكفاءة واقدر على البحث فينبغي ان يقدم على غيره ولا يصار إلى
تخييرها لأن الشرع لم يرد به فيها ولا يصح قياسها على الغلام لأنه لا يحتاج إلى الحفظ والتزويج
كحاجتها إليه ولا على سن البلوغ لأن قولها حينئذ معتبر في إذنها وتوكيلها واقرارها واجبارها بخلاف
مسئلتنا ولا يصح قياس ما قبل السبع على ما بعدها لما ذكرنا في دليلنا والله أعلم
(فصل) وإذا كانت الجارية عند الام أو عند الأب فإنها تكون عنده ليلا ونهارا فإن تأديبها
وتخريجها في جوف البيت من تعليمها الغزل والطبخ وغيرهما ولا حاجة بها إلى الاخراج منه ولا
يمنع أحدهما من زيارتها عند الآخر من غير أن يخلو الزوج بأمها ولا يطيل ولا ينبسط لأن الفرقة
بينهما تمنع تبسط أحدهما في منزل الآخر، وان مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيتها. آخر الباب
والحمد لله رب العالمين:
* (تم بحمد الله وعونه الجزء الحادي عشر من كتاب الشرح الكبير) *
* (ويليه بمشيئة الله وتوفيقه الجزء الثاني عشر منه وأوله (كتاب الشهادات)) *
526