الكتاب: الشرح الكبير
المؤلف: عبد الرحمن بن قدامه
الجزء: ٤
الوفاة: ٦٨٢
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

الشرح الكبير
على متن المقنع تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد
ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة 682 ه‍ كلاهما على مذهب إمام الأئمة (أبي عبد الله أحمد بن محمد
ابن حنبل الشيباني) مع بيان خلاف سائر الأئمة وأدلتهم رضي الله عنهم
الجزء الرابع
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(وبه نستعين)
كتاب البيع (*)
البيع مبادلة المال بالمال تمليكا وتملكا واشتقاقه من الباع لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه للاخذ
والاعطاء، ويحتمل أن كل واحد منهما كان يبايع صاحبه أي يصافحه عند البيع ولذلك سمى البيع صفقة
والأصل في جوازه الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى (وأحل الله البيع)
وقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) وقوله (الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقوله (ليس عليكم جناح
أن تبتغوا فضلا من ربكم) قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية
فلما كان الاسلام تأثموا فيه فأنزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) يعني في مواسم
الحج، وعن ابن الزبير نحوه رواه البخاري، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم

* ليعلم أن كتاب البيع في الشرح الكبير متأخر عن موضعه هنا فقدمناه لأجل موافقته للمغني للاستفادة
من الكتابين قراءة ومراجعة
2

" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " متفق عليه، وروى رفاعة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى
المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال " يا معشر التجار " فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا
أعناقهم وأبصارهم إليه فقال " ان التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من بر وصدق " قال الترمذي
هذا حديث حسن صحيح في أحاديث كثيرة سوى هذه، واجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة
والحكمة تقتضيه لأن حاجة الانسان تتعلق بما في يد صاحبه ولا يبذله صاحبه بغير عوض ففي تجويز
البيع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته
(مسألة) (وله صورتان (إحداهما) الايجاب والقبول. فالايجاب ان يقول البائع بعتك أو
ملكتك أو نحوهما، والقبول أن يقول المشتري ابتعت أو قبلت أو ما في معناهما فإن تقدم القبول
الايجاب جاز في إحدى الروايتين)
إذا تقدم القبول الايجاب بلفظ الماضي كقوله ابتعت منك فقال بعتك صح في أصح الروايتين
لأن لفظ القبول والايجاب وجد منهما على وجه تحصل منه الدلالة على تراضيهما فيصح كما لو تقدم
الايجاب (والثانية) لا يصح لأنه عقد معاوضة فلم يصح مع تقدم القبول كالنكاح ولان القبول
مبني على الايجاب فإذا لم يتقدم الايجاب فقد أتى بالقبول في غير محله فوجوده كعدمه، فإن
تقدم بلفظ الطلب فقال: بعني ثوبك بكذا فقال بعتك ففيه روايتان أيضا (إحداهما) يصح لما ذكرنا
وهو قول مالك والشافعي (والثانية) لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأنه لو تأخر عن الايجاب لم يصح
به البيع فلم يصح إذا تقدم كلفظ الاستفهام ولأنه عقد عري عن القبول فلم ينعقد كما لو لم يطلب فاما ان
تقدم بلفظ الاستفهام مثل أن يقول أتبيعني ثوبك بكذا فيقول بعتك لم يصح بحال. نص عليه احمد
3

وبه يقول أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لأن ذلك ليس بقبول ولا استدعاء
(مسألة) (وان تراخى القبول عن الايجاب صح ماداما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه والا فلا)
لأن حالة المجلس كحالة العقد بدليل أنه يكتفى بالقبض فيه لما يشترط قبضه، فإن تفرقا عن المجلس أو
تشاغلا بما يقطعه لم يصح لأن العقد إنما يتم بالقبول فلم يتم مع تباعده عنه كالاستثناء والشرط وخبر
المبتدأ الذي لا يتم الكلام الا به
(مسألة) (الثانية المعاطاة) وهو أن يقول: أعطني بهذا الدينار خبزا فيعطيه ما يرضيه أو يقول
البائع خذ هذا بدرهم فيأخذه، وقال القاضي لا يصح هذا الا في الشئ اليسير نص احمد على صحة
هذا البيع فيمن قال لخباز كيف تبيع الخبز؟ قال كذا بدرهم قال زنه وتصدق به فإذا وزنه فهو عليه
وقول مالك نحو من هذا فإنه قال: يقع البيع بما يعتقده الناس بيعا، وقال بعض الحنفية يصح في خسائس
الأشياء: وهو قول القاضي لأن العرف إنما جرى به في الشئ اليسير ومذهب الشافعي أن البيع لا يصح
الا بايجاب وقبول، وذهب بعض أصحابه إلى مثل قولنا
ولنا أن الله تعالى أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض
والاحراز والتفريق، والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولان البيع كان موجودا بينهم معلوما
عندهم. وإنما علق الشرع عليه أحكاما وأبقاه على ما كان فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم ولم ينقل
عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الايجاب والقبول. ولو
استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلا شائعا، ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله ولم يتصور منهم اهماله والغفلة
عن نقله ولان البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط الايجاب والقبول لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا
عاما ولم يخف حكمه لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرا واكلهم المال بالباطل ولم ينقل ذلك
4

عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه فيما علمناه ولان الناس يتبايعون بالمعاطاة في
كل عصر ولم ينقل انكاره قبل مخالفينا فكان اجماعا ولان الايجاب والقبول إنما يرادان للدلالة فإذا
وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه
(فصل) وكذلك الحكم في الايجاب والقبول في الهبة والهدية والصدقة فإنه لم ينقل عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه وقد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الحبشة وغيرها وكان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة. متفق عليه وروى البخاري عن أبي
هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه " أهدية أم صدقة؟ " فإن
قيل صدقة قال لأصحابه " كلوا " ولم يأكل وان قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم وفي حديث سلمان
رضي الله عنه حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر فقال: هذا شئ من الصدقة رأيتك أنت
وأصحابك أحق الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " كلوا " ولم يأكل ثم أتاه ثانية بتمر
فقال رأيتك لا تأكل الصدقة وهذا شئ أهديته لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بسم الله " وأكل
ولم ينقل قبول ولا أمر بايجاب وإنما سأل ليعلم هل هو صدقة أو هدية ولو كان الايجاب والقبول شرطا
في هذه العقود لشق ذلك ولكانت أكثر العقود فاسدة وأكثر أموالهم محرمة وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى
(فصل) قال رضي الله عنه (ولا يصح البيع الا بشروط سبعة (أحدها) التراضي به وهو أن يأتيا
به اختيارا لقول الله تعالى (الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فإن كان أحدهما مكرها لم يصح لعدم الشرط
الا أن يكره بحق كالذي يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه فيصح لأنه قول حمل عليه لحق فصح كاسلام المرتد)
(فصل) (الثاني أن يكون العاقد جائز التصرف وهو المكلف الرشيد فلا يصح من غير عاقل
5

كالطفل والمجنون والمبرسم والسكران والنائم لأنه قول يعتبر له الرضى فلم يصح من غير عاقل كالاقرار
وسواء أذن له وليه أو لم يأذن (فأما الصبي المميز والسفيه فيصح تصرفهما باذن وليهما) في إحدى الروايتين
(ولا يصح بغير اذنهما إلا في الشئ اليسير)
يصح تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي فيه في إحدى الروايتين. وهو قول
أبي حنيفة (والأخرى) لا يصح حتى يبلغ وهو قول الشافعي لأنه غير مكلف فأشبه غير المميز، ولان
العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصح به التصرف لخفائه وتزايده تزايدا خفي التدريج
فجعل الشارع له ضابطا وهو البلوغ فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة
ولنا قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم
أموالهم) معناه اختبروهم لتعلموا رشدهم وإنما يتحقق ذلك بتفويض التصرف إليهم من البيع والشراء
ليعلم هل تغير أولا ولأنه عاقل مميز محجور عليه فيصح تصرفه بإذن وليه كالعبد، وفارق غير المميز
فإنه لا تحصل له المصلحة بتصرفه لعدم تمييزه ومعرفته ولا حاجة إلى اختباره لأنه قد علم حاله، وقولهم
ان العقل لا يمكن الاطلاع عليه قلنا يعلم ذلك بتصرفاته وجريانها على وفق المصلحة كما يعلم في حق البالغ
فإن معرفة رشده شرط لدفع ماله إليه وصحة تصرفه كذا ههنا، فاما إن تصرف بغير اذن وليه
6

لم يصح تصرفه الا في الشئ اليسير، وكذلك تصرف غير المميز لما روي أن أبا الدرداء رضي الله
عنه اشترى من صبي عصفورا فأرسله ذكره ابن أبي موسى، ويحتمل أن يصح ويقف على إجازة الولي
وهو قول أبي حنيفة وهو مبني على تصرف الفضولي وسنذكره إن شاء الله تعالى، وكذلك الحكم في
تصرف السفيه بإذن وليه فيه روايتان (إحداهما) يصح لأنه عقد معاوضة فملكه بالاذن كالنكاح وقياسا
على الصبي المميز، يحقق هذا ان الحجر على الصبي أعلى من الحجر عليه فههنا أولى بالصحة ولأننا لو
منعنا تصرفه بالاذن لم يكن لنا طريق إلى معرفة رشده واختباره) (والثانية) لا يصح لأن الحجر عليه
لتبذيره وسوء تصرفه فإذا اذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه فلم يصح كما لو أذن في بيع ما يساوي عشرة
بخمسة وللشافعي وجهان كهاتين ويصح تصرفه في الشئ اليسير كالصبي
(فصل) (الثالث: أن يكون المبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة)
(فيجوز بيع البغل والحمار ودود القز وبذره والنحل منفردا أو في كواراته) قوله لغير ضرورة احتراز
من الميتة والمحرمات التي تباح في حال المخمصة والخمر يباح دفع اللقمة بها، فكل عين مملوكة يجوز اقتناؤها
والانتفاع بها في غير حال الضرورة يجوز بيعها إلا ما استثناه الشرع كالكلب وأم الولد والوقف لأن
الملك سبب إطلاق التصرف، والمنفعة المباحة يباح له استبقاؤها فجاز له أخذ عوضها وأبيح لغيره بذل ماله فيها
توصلا إليها ودفعا لحاجته بها كسائر ما أبيح نفعه، وسواء في ذلك ما كان طاهرا كالثياب والعقار وبهيمة
7

الانعام والخيل والصيود أو مختلفا في نجاسته كالبغل والحمار لا نعلم في ذلك خلافا، ويجوز بيع الجحش
الصغير والفهد الصغير وفرخ البازي إذا قلنا بجواز بيعهما لأنه ينتفع به في المال فأشبه طفل العبيد
(فصل) ويجوز بيع دود القز وبذره وقال أبو حنيفة إن كان مع دود القز قز جاز بيعه وإلا فلا
لأنه لا ينتفع بعينه فهو كالحشرات وقيل لا يجوز بيع بذره، ولنا أنه حيوان طاهر يجوز اقتناؤه لتملك
ما يخرج منه أشبه البهائم ولان الدود وبذره طاهر منتفع به فجاز بيعه كالثوب، وقوله لا ينتفع بعينه
يبطل بالبهائم التي لا يحصل منها نفع سوى النتاج ويفارق الحشرات التي لا نفع فيها أصلا فإن نفع هذه
كثير لأن الحرير الذي هو أشرف الملابس إنما يحصل منها
(فصل) ويجوز بيع النحل إذا شاهدها محبوسة بحيث لا يمكنها أن تمتنع، وقال أبو حنيفة لا يجوز
بيعها منفردة كما ذكر في دود القز، ولنا أنه حيوان طاهر يخرج من بطنه شراب فيه منافع للناس فجاز
بيعه كبهيمة الانعام، واختلف أصحابنا في بيعها في كواراتها فقال القاضي لا يجوز لأنه لا يمكن مشاهدتها
جميعا ولأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعا معها وهو مجهول. وقال أبو الخطاب يجوز بيعها في كواراتها منفردة
عنها فإنه يمكن مشاهدتها في كواراتها إذا فتح رأسها يعرف كثرته من قلته، وخفاء بعضه لا يمنع صحة بيعه
كالصبرة وكما لو كان في وعاء فإن بعضه يكون على بعض فلا يشاهد إلا ظاهره والعسل يدخل في البيع تبعا فلا
تضر جهالته كأساسات الحيطان، فإن لم يمكن مشاهدته لكونه مستورا بأقراصه ولم يعرف لم يجز بيعه لجهالته
8

(فصل) وفي بيع العلق التي ينتفع بها كالتي تعلق على صاحب الكلف فيمص الدم والديدان التي
تترك في الشص فتصاد بها السمك وجهان: أصحهما جواز بيعها لحصول نفعها فهي كالسمك (والثاني)
لا يجوز بيعها لأنها لا ينتفع بها إلا نادرا فشبهت ما لانفع فيه.
(مسألة) (ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد في إحدى الروايتين إلا الكلب
اختارها الخرقي. والأخرى لا يجوز اختارها أبو بكر)
يجوز بيع الهر وبه قال ابن عباس والحسن وابن سيرين والحكم وحماد والثوري ومالك والشافعي
وإسحاق وأصحاب الرأي، وعن أحمد أنه كره ثمنها وروي ذلك عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر
ابن زيد اختاره أبو بكر لما روى مسلم عن جابر أنه سئل عن ثمن السنور فقال زجر النبي صلى الله عليه وسلم
عن ذلك وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور رواه أبو داود
ولنا أنه حيوان يباح اقتناؤه من غير وعيد في حبسه فجاز بيعه كالبغل والحمار، ويمكن حمل الحديث
على غير المملوك منها وعلى ما لانفع فيه منها بدليل ما ذكرناه
(فصل) ويجوز بيع الفيل وسباع البهائم والطير الذي يصلح للصيد كالفهد والصقر والبازي
والعقاب والطير المقصود صوته كالهزار والبلبل والببغة وأشباه ذلك وبهذا قال الشافعي، وقال أبو بكر
عبد العزيز وابن أبي موسى لا يجوز بيع الفهد والصقر والفيل ونحوها لأنها نجسة فلم يجز بيعها كالكلب
9

ولنا انه حيوان يباح اقتناؤه من غير وعيد في حبسه فأبيح بيعه كالبغل والحمار وما ذكروه
يبطل بالبغل والحمار وحكمهما حكم سباع البهائم في الطهارة والنجاسة وإباحة الاقتناء والانتفاع.
فأما الكلب فإن الشرع توعد على اقتنائه وحرمه إلا في حال الحاجة فصارت اباحته ثابتة بطريق
الضرورة ولان الأصل إباحة البيع لقول الله تعالى (وأحل الله البيع) حرم منه ما استثناه الشرع
لمعان غير موجودة في هذا فيبقى على أصل الإباحة، فإن كان الفهد والصقر ونحوها ليس بمعلم ولا يقبل
التعليم لم يجز بيعه لعدم النفع به، وإن أمكن تعليمه جاز بيعه لأن مآله إلى الانتفاع أشبه الجحش الصغير
فأما ما يصاد عليه كالبومة التي يجعل عليها شباشا ليجمع الطير إليها فيصيده الصياد فيحتمل جواز بيعها
للنفع الحاصل منها ويحتمل المنع لأن ذلك مكروه لما فيه من تعذيب الحيوان وكذلك اللقلق ونحوه
(فصل) فأما بيض ما لا يؤكل لحمه من الطير فإن لم يكن فيه نفع لم يجز بيعه طاهرا كان أو نجسا
وإن كان ينتفع به بأن يصير فرخا وكان طاهرا جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به أشبه أصله، وإن كان
نجسا كبيض البازي والصقر ونحوه فحكمه حكم فرخه، وقال القاضي لا يجوز بيعه لنجاسته وكونه
لا ينتفع به في الحال وما ذكر ملغى بفرخه وبالجحش الصغير
(فصل) قال أحمد رحمه الله أكره بيع القرد. قال ابن عقيل هذا محمول على بيعه للإطافة به
واللعب فأما بيعه لمن ينتفع به لحفظ المتاع والدكان ونحوه فيجوز لأنه كالصقر وهذا مذهب الشافعي
وقياس قول أبي بكر وابن أبي موسى المنع من بيعه مطلقا
(مسألة) (ويجوز بيع العبد المرتد المريض وفي بيع الجاني والقاتل في المحاربة ولبن الآدميات وجهان)
10

حكم بيع المرتد حكم القاتل في صحة بيعه وسائر أحكامه، وبيعه جائز لأن قتله غير متحتم لاحتمال
رجوعه إلى الاسلام ولأنه مملوك منتفع به، وخشية هلاكه لا تمنع صحة بيعه كالمريض فانا لا نعلم خلافا
في صحة بيع المريض
(فصل) ويصح بيع العبد الجاني في أصح الوجهين سواء كانت جنايته عمدا أو خطأ على النفس
أو ما دونها موجبة للقصاص أو غير موجبة وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في
الآخر لا يصح بيعه لأنه تعلق برقبته حق آدمي فمنع صحة بيعه كالرهن. بل حق الجناية آكد لأنها تقدم
على حق المرتهن. ولنا أنه حق غير مستقر في الجاني يملك أداءه من غيره فلم يمنع البيع كالزكاة أو حق
ثبت بغير رضى سيده فلم يمنع بيعه كالدين في ذمته أو تصرف في الجاني فجاز كالعتق، وإن كان الحق
قصاصا فهو يرجى سلامته ويخشى تلفه وذلك لا يمنع كالمريض، أما الرهن فإن الحق متعلق فيه لا يملك
سيده ابداله ثبت الحق فيه برضاه وثيقة للدين فلو أبطله بالبيع سقط حق الوثيقة الذي التزمه برضاه واختياره
(فصل) فاما القاتل في المحاربة فإن تاب قبل القدرة عليه فهو كالجاني وان لم يتب حتى قدر
عليه فقال أبو الخطاب هو كالقاتل في غير محاربة لأنه عبد قن يصح اعتاقه ويملك استخدامه فصح بيعه
كغير القاتل، ولأنه يمكنه الانتفاع به إلى حين قتله، ويعتقه فيجر به ولاء أولاده فجاز بيعه كالمريض
المأيوس من برئه، وقال القاضي لا يصح بيعه لأنه تحتم قتله واتلافه واذهاب ماليته وحرم ابقاؤه فصار
بمنزلة ما لا ينتفع به من الحشرات والميتات، وهذه المنفعة اليسيرة مفضية به إلى قتله لا يتمهد بها محلا للبيع
كالمنفعة الحاصلة من الميتة لسد رمق أو إطعام كلب، والأولى أصح فإنه كان محلا للبيع والأصل بقاء
ذلك فيه وانحتام إتلافه لا يجعله تالفا بدليل أن أحكام الحياة من التكليف وغيره لا تسقط عنه ولا تثبت
11

أحكام الموتى له من أرث ماله ونفوذ وصيته وغيرها، ولان خروجه عن حكم الأصل لا يثبت إلا بدليل
ولا نص فيه ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الحشرات والميتات لأن تلك لم يكن فيها منفعة فيما مضى
ولا في الحال وعلى أن هذا المحتم يمكن زواله لزوال ما يثبت به من الرجوع عن الاقرار والرجوع من الشهود
ولو لم يمكن زواله فأكثر ما فيه تحقق تلفه، وهذا يجعله كالمريض المأيوس من برئه وبيعه جائز
(فصل) فاما بيع لبن الآدميات فرويت الكراهة فيه عن أحمد، واختلف أصحابنا في جوازه
وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي. وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه، وهو مذهب أبي
حنيفة ومالك لأنه مائع خارج من آدمية فلم يجز بيعه كالعرق ولأنه جزء من آدمي فلم يجز بيعه أشبه
سائر أجزائه. والأول أصح لأنه طاهر منتفع به فجاز بيعه كلبن الشاة ولأنه يجوز أخذ العوض عنه
في إجارة الظئر فأشبه المنافع ويفارق العرق فإنه لانفع فيه. ولذلك لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها
وسائر أجزاء الآدمي يجوز بيعها فإنه يجوز بيع العبد والأمة. وإنما حرم بيع الحر لأنه غير مملوك
وحرم بيع العضو المقطوع لأنه لانفع فيه
(مسألة) (وفي جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وابداله روايتان)
قال احمد لا أعلم في بيع المصاحف رخصة ورخص في شرائها. وقال الشراء أهون. وممن كره
بيعها ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وسعيد بن جبير وإسحاق قال ابن عمر وددت أن الأيدي تقطع
في بيعها. وقال أبو الخطاب يجوز بيع المصحف مع الكراهة وهي رواية عن أحمد لأنه منتفع به فأشبه
سائر كتب العلم، وهل يكره شراؤه وابداله؟ على روايتين ورخص في بيعها الحسن والحكم وعكرمة
والشافعي وأصحاب الرأي لأن البيع يقع على الورق والجلد وبيعه مباح
ولنا قول الصحابة ولم نعلم لهم مخالفا في عصرهم، ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى فتجب صيانته
عن البيع والابتذال (يقول الآخرون ان المبتذل ما لا يباع وأنفس الجواهر تباع وان بيعه يسهل على الناس الانتفاع به تعميم هدايته وكتبه محمد رشيد رضا) أما الشراء فهو أسهل لأنه استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه فجاز كما جاز شراء
رباع مكة واستئجار دورها ولم ير بيعها ولا أخذ اجرتها، وكذلك دفع الأجرة إلى الحجام لا يكره
مع كراهية كسبه والرواية الأخرى يكره لأن المقصود منه كلام الله تعالى فيجب صيانته عن الابتذال
وفي جواز شرائه التسبب إلى ذلك والمعونة عليه، ولا يجوز بيعه لكافر فإن اشتراه فالبيع باطل وبه
12

قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي يجوز ويجبر على بيعه لأنه أهل للشراء والمصحف محل، له ولنا
أنه يمنع من استدامة الملك عليه فمنع من ابتدائه كسائر مالا يجوز بيعه، وقد نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم، فلا يجوز تمكينهم من التوسل إلى نيل أيديهم إياه
{مسألة} (ولا يجوز بيع الحشرات ولا الميتة ولا شئ منها ولا سباع البهائم التي لا تصلح للصيد)
لا يجوز بيع الميتة ولا الخنزير ولا الدم. قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على القول به، وذلك لما
روى جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم وهو بمكة يقول " ان الله ورسوله حرم بيع الميتة
والخمر والخنزير والأصنام " متفق عليه ولا يجوز بيع مالا نفع فيه كالحشرات كلها وسباع البهائم التي
لا تصلح للاصطياد كالأسد والذئب، وما لا يؤكل ولا يصاد به من الطير كالرخم والحدأة والغراب الأبقع
وغراب البين وبيضها لأنه لا نفع فيه فأخذ ثمنه أكل للمال بالباطل ولأنه ليس فيها نفع مباح أشبهت الخنزير
{مسألة} (ولا يجوز بيع الكلب أي كلب كان لا نعلم فيه خلافا في المذهب)
وبه قال الحسن وربيعة. وحماد والشافعي وداود، ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر بن
عبد الله وعطاء والنخعي وأجاز أبو حنيفة بيع الكلاب كلها وأخذ ثمنها، وعنه لا يجوز بيع الكلب
العقور واختلف أصحاب مالك فقال قوم لا يجوز. وقال قوم يجوز بيع الكلب المأذون في امساكه
ويكره لما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور الا كلب الصيد ولأنه
يباح الانتفاع به. ويصح نقل اليد فيه والوصية به فصح بيعه كالحمار
ولنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن متفق عليه
وعن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثمن الكلب خبيث " رواه مسلم وعن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب فإن جاء يطلبه فاملؤا كفه
ترابا رواه أبو داود ولأنه حيوان نهي عن اقتنائه في غير حال الحاجة أشبه الخنزير، وأما حديثهم فقال
الترمذي لا يصح اسناد هذا الحديث. قال الدارقطني الصحيح أنه موقوف على جابر وقال أحمد هذا
من الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف
(فصل) ولا يحل قتل الكلب المعلم لأنه محل منتفع به مباح اقتناؤه فحرم اتلافه كالشاة. ولا نعلم
في هذا خلافا ولا غرم على قاتله وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك وعطاء عليه الغرم لما ذكرنا في
تحريم قتله. ولنا أنه محل يحرم أخذ عوضه لخبثه فلم يجب غرمه باتلافه كالخنزير. وإنما حرم اتلافه
لما فيه من الاضرار وهو منهي عنه. فاما قتله ما لا يباح امساكه من الكلاب فإن كان أسود بهيما أبيح
قتله لأنه شيطان كما جاء في حديث أبي ذر ولما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لولا أن الكلاب
أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم " وكذلك يباح قتل الكلب العقور لما روت عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم
الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " متفق عليه ويقتل كل واحد من هذين وإن كان
13

معلما لما ذكرنا من الحديثين. وعلى قياس الكلب العقور كل ما آذى الناس وضرهم في أنفسهم وأموالهم
يباح قتله ولأنه يؤذي بلا نفع أشبه الذئب وما لا مضرة فيه لا يباح قتله للخبر المذكور. وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها وقال " عليكم بالأسود البهيم ذي
النقطتين فإنه شيطان " رواه مسلم
(فصل) ويحرم اقتناء الكلاب إلا كلب الصيد والماشية والحرث لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " من اتخذ كلبا الا كلب ماشية أو صيد أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراط "
متفق عليه. وان اقتناه لحفظ البيوت لم يجز للخبر، ويحتمل الا باحة وهو قول بعض أصحاب الشافعي
لأنه في معنى الثلاثة والأول أصح لأن قياس غير الثلاثة عليها يبيح ما تناول أول الخبر تحريمه قال القاضي
وليس هو في معناها فقد يحتال اللص باخراجه بشئ يطعمه إياه ليسرق المتاع، أما الذئب فلا يحتمل هذا
في حقه ولان اقتناءه في البيوت يؤذي المارة بخلاف الصحراء
(فصل) ويجوز تربية الجرو الصغير لاحد الثلاثة في أقوى الوجهين لأنه قصده لذلك فيأخذ
حكمه كما جاز بيع الجحش الصغير الذي لانفع فيه في الحال لمآله إلى الانتفاع ولأنه لو لم يتخذ
الصغير لما أمكن جعل الكلب للصيد إذ لا يصير معلما إلا بالتعلم ولا يمكن تعلمه إلا بتربيته واقتنائه
مدة يعلمه فيها قال الله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن) ولا يوجد كلب معلم بغير
تعليم. والثاني لا يجوز لأنه ليس من الثلاثة
(فصل) ومن اقتنى كلب صيد ثم ترك الصيد مدة وهو يريد العود إليه لم يحرم اقتناؤه في مدة
تركه لأن ذلك لا يمكن التحرز منه، وكذلك لو حصد صاحب الزرع زرعه أبيح اقتناؤه حتى يزرع
زرعا آخر، وكذلك لو هلكت ماشيته أو باعها وهو يريد شراء غيرها فله إمساك كلبها لينتفع به في التي
يشتريها، فإن اقتنى كلب الصيد من لا يصيد به احتمل الجواز لاستثنائه في الخبر مطلقا واحتمل المنع
لأنه اقتناء من غير حاجة أشبه غيره من الكلاب، ومعنى كلب الصيد أي كلب يصيد به وهكذا الاحتمالان
فيمن اقتنى كلبا ليحفظ له حرثا أو ماشية إن حصلت أو يصيد به ان احتاج إلى الصيد وليس في الحال
حرث ولا ماشية، ويحتمل الجواز لقصده ذلك كما لو حصد الزرع وأراد زرع غيره
(مسألة) (ولا يجوز بيع السرجين النجس) وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجوز ولان
أهل الأمصار يبتاعونه لزرعهم من غير نكير فكان اجماعا
ولنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة وما ذكروه ليس باجماع لأن الاجماع اتفاق أهل العلم
ولم يوجد ولأنه رجيع نجس فلم يجز بيعه كرجيع الآدمي
(فصل) ولا يجوز بيع الحر ولا ما ليس بمملوك كالمباحات قبل حيازتها وملكها لا نعلم في ذلك خلافا
وقد روى البخاري باسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة
رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره "
{مسألة} (ولا يجوز بيع الادهان النجسة)
14

في ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه لأن أكله حرام لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل
عن الفأرة تموت في السمن فقال " إن كان مائعا فلا تقربوه " من المسند وإذا كان حراما لم يجز بيعه لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " ولأنه نجس فلم يجز بيعه قياسا على شحم الميتة
وعنه يجوز بيعه لكافر يعلم نجاستها لأنه يعتقد حلها ويستبيح أكلها ولأنه قد روي عن أبي موسى لتوا
به السويق وبيعوه ولا تبيعوه من مسلم وبينوه، والصحيح الأول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لعن
الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها، ان الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " متفق
عليه. ولأنه لا يجوز بيعها من مسلم فلا يجوز بيعها لكافر كالخمر والخنزير فإنهم يعتقدون حله ولا يجوز
بيعه لهم ولأنه دهن نجس فلم يجز بيعه لكافر كشحوم الميتة. قال شيخنا ويجوز أن يدفع إلى الكافر في
فكاك مسلم ويعلم الكافر بنجاسته لأنه ليس ببيع في الحقيقة إنما هو استنقاذ المسلم به
{مسألة} (وفي جواز الاستصباح بها روايتان ويخرج على ذلك جواز بيعها)
اختلفت الرواية في الاستصباح بالزيت النجس فروي عنه انه لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم
في السمن الذي ماتت فيه الفأرة " وإن كان مائعا فلا تقربوه " ولا النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شحوم
الميتة تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال " لا، هو حرام " متفق عليه. وهذا
في معناه وهو قول ابن المنذر وعنه اباحته لأن ذلك يروى عن ابن عمر وهو قول الشافعي لأنه أمكن
الانتفاع به من غير ضرر فجاز كالطاهر وهذا اختيار الخرقي، فعلى هذا يستصبح به على وجه لا تتعدى
نجاسته إما أن يجعل في إبريق ويصب منه في المصباح ولا يمس وإما أن يدع على رأس الجرة التي فيها
الزيت سراجا مثقوبا ويطبقه على رأس اناء الزيت، وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء بحيث يرتفع
الزيت فيملا السراج وما أشبه هذا، وعلى قياس هذا كل انتفاع لا يفضي إلى التنجيس بها يجوز
ويتخرج على جواز الاستصباح به جواز بيعه وهكذا ذكره أبو الخطاب لأنه يجوز الانتفاع به من
غير ضرورة فجاز بيعه كالبغل والحمار، وهل تطهر بالغسل فيه وجهان ذكرناهما فيما مضى، وإذا قلنا
تطهر بالغسل فالقياس يقتضي جواز بيعها لأنها عين نجسة تطهر بالغسل أشبهت الثوب النجس.
وكره أحمد رحمه الله أن تدهن بها بالجلود وقال تجعل منها الأسقية، ونقل عن ابن عمر انه يدهن بها
الجلود وعجب أحمد من هذا فيحتمل أن يحمل على ما لا تتعدى نجاسته كالنعال كما قلنا في جلود الميتة
(فصل) فأما شحوم الميتة وشحم الكلب والخنزير فلا يجوز الاستصباح به ولا الانتفاع به في
جلود ولا سفن ولا غيرها لما ذكرنا من الحديث، وإذا استصبح بالزيت النجس فاجتمع من دخانه
شئ فهو نجس لأن جزء منه، والنجاسة لا تطهر بالاستحالة فإن علق بشئ عفي عن يسيره لمشقة التحرز
عنه وإن كثر لم يعف عنه
(فصل) ولا يجوز بيع الترياق الذي فيه لحوم الحيات لأن نفعه إنما يحصل بالاكل وهو محرم فخلا
15

من نفع مباح فلم يجز بيعه كالميتة، ولا يجوز التداوي به ولا بسم الأفاعي، فأما سم النبات فإن كان لا ينتفع به
أو يقتل قليله لم يجز بيعه لعدم نفعه، وان أمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به
(فصل) (الرابع أن يكون مملوكا له أو مأذونا له في بيعه فإن باع ملك غيره بغير إذنه أو اشترى
بعين ماله شيئا بغير إذنه لم يصح وعنه يصح ويقف على إجازة المالك)
إذا اشترى بعين مال غيره أو باع ماله بغير اذنه ففيه روايتان (إحداهما) لا يصح البيع وهذا
مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر (والثانية) يصح البيع والشراء ويقف على إجازة المالك فإن أجازه
نفذ ولزم البيع وإن لم يجزه بطل وهو قول مالك وإسحاق وبه قال أبو حنيفة في البيع. فأما الشراء فيقع
للمشتري عنده بكل حال لما روى عروة بن الجعد البارقي ان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به
شاة فاشترى شاتين ثم باع إحداهما بدينار في الطريق، قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والشاة
وأخبرته فقال " بارك الله لك في صفقة يمينك " رواه ابن ماجة والأثرم ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه
فصح وقفه على اجازته كالوصية بزيادة على الثلث
ووجه الرواية الأولى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام " لاتبع ما ليس عندك " رواه ابن ماجة
والترمذي وقال حديث حسن صحيح يعني مالا تملك لأنه ذكره جوابا له حين سأله انه يبيع الشئ ويمضي
ويشتريه ويسلمه. ولاتفاقنا على صحة بيع ماله الغائب ولأنه باع مالا يقدر على تسليمه فأشبه الطير في
الهواء. فأما الوصية فيتأخر فيها القبول عن الايجاب، ولا يعتبر أن يكون لها مجيز حال وقوع العقد
ويجوز فيها من الغرر ما لا يجوز في البيع، وحديث عروة نحمله على أن وكالته كانت مطلقة بدليل
انه يسلم ويستلم وليس ذلك لغير المالك باتفاقنا
{مسألة} (وان اشترى له في ذمته بغير إذنه صح فإن أجازه من اشترى له ملكه وإلا لزم من اشتراه)
إذا اشترى في ذمته لانسان شيئا بغير اذنه صح لأنه متصرف في ذمته لا في مال غيره وسواء
نقد الثمن من مال الغير أو لا لأن الثمن هو الذي في الذمة والذي نقده عوضه ولذلك قلنا إنه إذا
اشترى ونقده الثمن بعد ذلك كان له البدل، وان خرج مغصوبا لم يبطل العقد وإنما وقف الامر
على إجازة الآخر لأنه قصد الشراء له فإن أجازه لزمه وعليه الثمن وان لم يقبله لزم من اشتراه
(فصل) وإن باع سلعة وصاحبها حاضر ساكت فحكمه حكم ما لو باعها بغير اذنه في قول الأكثرين
منهم أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي قال ابن أبي ليلى سكوته اقرار لأنه يدل على الرضا كسكوت
البكر في الاذن في النكاح. ولنا ان السكوت محتمل فلم يكن إذنا كسكوت الثيب، وفارق سكوت البكر
لوجود الحياء المانع من الكلام في حقها وليس ذلك موجودا هاهنا
{مسألة} (ولا يجوز بيع مالا يملكه ليمضي ويشتريه ويسلمه رواية واحدة)
وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا لأن حكيم بن حزام قال للنبي صلى الله عليه وسلم ان الرجل يأتيني
يلتمس من البيع ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فاشتريه ثم أبيعه منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لاتبع
ما ليس عندك " حديث حسن صحيح ولأنه يبيع ما لا يقدر على تسليمه أشبه بيع الطير في الهواء
16

{مسألة} (ولا يجوز بيع ما فتح عنوة ولم يقسم كأرض الشام والعراق ومصر ونحوها إلا
المساكن وأرضا من العراق فتحت صلحا وهي الحيرة والليس وبانقيا وأرض بني صلوبا لأن عمر
رضي الله عنه وقفها على المسلمين وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها في كل عام
ولم تقدر مدتها لعموم المصلحة فيها)
لا يجوز بيع شئ من الأرض الموقوفة ولا شراؤه كأرض الشام ونحوها في ظاهر المذهب وقول
أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، وروي ذلك عن عبد الله
ابن مغفل وقبيصة بن ذؤيب وميمون بن مهران والأوزاعي ومالك وأبي إسحاق الفزاري. قال
الأوزاعي لم تزل أئمة المسلمين ينهون عن شراء أرض الجزية ويكرهه علماؤهم، وقال: أجمع رأي عمر
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهروا على أهل الشام على اقرار أهل القرى في قراهم على ما كان بأيديهم
من أرضهم يعمرونها ويؤدون خراجها إلى المسلمين ويرون أنه لا يصلح لاحد من المسلمين شراء
ما في أيديهم من الأرض طوعا ولا كرها وكرهوا ذلك لما كان من ايقاف عمر وأصحابه الأرضين
المحبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين لاتباع ولا تورث قوة على جهاد من لم يظهر عليه بعد من
المشركين، وقال الثوري إذا أقر الإمام أهل العنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها، وروى نحو هذا
عن ابن سيرين والقرظي، لما روى عبد الرحمن بن زيد أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضا على أن
يكفيه جزيتها، وروي عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبقر (1) في الأهل والمال، ثم قال
عبد الله وكيف بمال بزاذان وبكذا وكذا؟ وهذا يدل على أن له مالا بزاذان ولأنها أرض لهم فجاز
بيعها كأرض الصلح، وقد روي عن أحمد أنه قال: كان الشراء أسهل يشتري الرجل ما يكفيه ويغنيه
عن الناس وهو رجل من المسلمين وكره البيع، قال شيخنا وإنما رخص في الشراء والله أعلم لأن بعض
الصحابة اشترى ولم يسمع عنهم البيع، ولان الشراء استخلاص للأرض ليقوم فيها مقام من كانت
في يده والبيع. أخذ عوض عما لا يملكه ولا يستحقه فلا يجوز
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تشتروا رقيق
أهل الذمة ولا أراضيهم. وقال الشعبي اشترى عتبة بن فرقد أرضا على شاطئ الفرات ليتخذ فيها قصا
فذكر ذلك لعمر فقال ممن اشتريتها؟ قال من أربابها، فلما اجتمع المهاجرون والأنصار قال هؤلاء
أربابها فهل اشتريت منهم شيئا؟ قال لا، قال فارددها إلى من اشتريتها منه وخذ مالك. وهذا قول عمر
في المهاجرين والأنصار بمحضر سادة الصحابة وأئمتهم فلم ينكر فكان اجماعا ولا سبيل إلى وجود
اجماع أقوى من هذا وشبهه إذ لا سبيل إلى نقل قول جميع الصحابة في مسألة ولا إلى نقل قول العشرة
ولم يوجد الاجماع إلا القول المنتشر، فإن قيل فقد خالفه ابن مسعود بما ذكر عنه. قلنا لا نسلم المخالفة
وقولهم اشترى قلنا المراد به أكرى كذا قال أبو عبيد، والدليل عليه قوله على أن يكفيه جزيتها ولا
يكون مشتريا لها وجزيتها على غيره وقد روى عنه القاسم أنه قال: من أقر بالطسق فقد أقر بالصغار
والذل وهذا يدل على أن الشراء هنا الاكتراء وكذلك كل من رويت عنه الرخصة في الشراء محمول

(1) التبقر التوسع
17

على ذلك وقوله فكيف بمال بزاذان ليس فيه ذكر الشراء، ولان المال الأرض فيحتمل أنه أراد
من السائمة أو الزرع أو نحوه، ويحتمل أنه أراد أرضا اكتراها وقد يحتمل أنه أراد بذلك غيره وقد
يعيب الانسان الفعل المعيب من غيره
(جواب ثان) أنه يتناول الشراء وبقي قول عمر في النهي عن البيع غير معارض، فأما المعنى
فلأنها موقوفة فلم يجز بيعها كسائر الوقوف والدليل على وقفها النقل والمعنى أما النقل فما نقل من
الاخبار أن عمر لم يقسم الأرض التي افتتحها وتركها لتكون مادة للمسلمين الذين يقاتلون في سبيل الله
إلى يوم القيامة وقد نقلنا بعض ذلك وهو مشهور تغني شهرته عن نقله
وأما المعنى فلأنها لو قسمت لكانت للذين افتتحوها ثم لورثته (الظاهر أن تكون لورثتهم) ولمن انتقلت إليه عنهم ولم تكن
مشتركة بين المسلمين، ولأنه لو قسمت لنقل ذلك ولم يخف بالكلية فإن قيل فهذا لا يلزم منه الوقف
لأنه يحتمل أنه تركها للمسلمين عامة فتكون فيئا للمسلمين والإمام نائبهم فيفعل ما يرى فيه المصلحة من
بيع وغيره، ويحتمل أنه تركها لأربابها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، قلنا أما الأول فلا يصح
لأن عمر إنما ترك قسمتها لتكون مادة للمسلمين كلهم ينتفعون بها مع بقاء أصلها وهذا معنى الوقف،
ولو جاز تخصيص قوم بأصلها لكان الذين افتتحوها أحق بها ولا يجوز أن يمنعها أهلها لمفسدة ثم يخص
بها غيرهم مع وجود المفسدة المانعة والثاني أظهر فسادا من الأول لأنه إذا منعها المسلمين المستحقين
كيف يخص بها أهل الذمة المشركين الذين لا حق لهم ولا نصيب؟
(فصل) وإذا بيعت هذه الأرض فحكم بصحة البيع حاكم صح لأنه مختلف فيه فصح بحكم الحاكم
كسائر المختلفات، وإن باع الإمام شيئا لمصلحة رآها مثل أن يكون في الأرض ما يحتاج إلى عمارته ولا
يعمرها الا من يشتريها صح أيضا لأن فعل الإمام كحكم الحاكم، وقد ذكر ابن عائذ في كتاب فتوح
الشام قال: قال غير واحد من مشايخنا إن الناس سألوا عبد الملك والوليد وسليمان ان يأذنوا لهم في شراء
الأرض من أهل الذمة فأذنوا لهم على ادخال أثمانها في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أعرض
عن تلك الأشرية لاختلاط الأمور فيها لما وقع فيها من المواريث ومهور النساء وقضاء الديون ولما لم يقدر
على تخليصه ولا معرفة ذلك كتب كتابا قرئ على الناس: إن من اشترى شيئا بعد سنة مائة إن بيعه
مردود. وتسمى سنة مائة سنة المدة فتناهى الناس عن شرائها ثم اشتروا أشرية كبيرة كانت بأيدي أهلها
تؤدي العشر ولا جزية عليها، فلما أفضى الامر إلى المنصور ورفعت إليه تلك الأشرية وأن ذلك أضر
بالخراج وكسره فأراد ردها إلى أهلها فقيل له قد وقعت في المواريث والمهور واختلط أمرها. فبعث
المعدلين منهم عبد الله بن يزيد إلى حمص، وإسماعيل بن عباس إلى بعلبك، وهضاب بن طوق ومحرز
ابن زريق إلى الغوطة، وأمرهم أن لا يضعوا على القطائع والأشرية القديمة خراجا ومنعوا الخراج
على ما بقي بأيدي الأنباط وعى الأشرية المحدثة من سنة مائة إلى السنة التي عدل فيها فعلى هذا ينبغي
أن يجزئ ما باعه إمام أو بيع باذنه أو تعذر رد بيعه هذا المجزئ في أن يضرب عليه خراج بقدر ما يحتمله
ويترك في يد مشتريه أو من انتقل إليه إلا ما بيع قبل المائة سنة فإنه لا خراج عليه كما نقل في هذا الخبر
18

(فصل) وحكم إقطاع هذه الأرض حكم بيعها في أن ما كان من عمر رضي الله عنه أو ما كان قبل
مائة سنة فهو لأهله وما كان بعد المائة ضرب عليه الخراج كما فعل المنصور إلا أن يكون بغير اذن الإمام
فيكون باطلا، وذكر ابن عائذ في كتابه باسناده عن سليمان بن عتبة أن أمير المؤمنين عبد الله بن محمد
أظنه المنصور سأله في مقدمه الشام سنة ثلاث أو أربع وخمسين عن الأرضين التي بأيدي أبناء الصحابة
يذكرون أنها قطائع لآبائهم قديمة فقلت يا أمير المؤمنين إن الله تعالى لما أظهر المسلمين على بلاد الشام
وصالحوا أهل دمشق وأهل حمص كرهوا أن يدخلوها دون أن يتم ظهورهم وإثخانهم في عدو الله وعسكروا
في مرج بردان المرة إلى مرج شعبان حسي بردا - مروج كانت مباحة فيما بين أهل دمشق وقراها
ليست لاحد منهم فأقاموا بها حتى وطأ الله بهم المشركين قهرا وذلا فاختبأ كل قوم محلهم وهيئوا فيها
بناء فرفع إلى عمر فأمضاه عمر لهم وأمضاه عثمان من بعده إلى ولاية أمير المؤمنين قال فقد أمضيناه
لهم! وعن الأحوص بن حكيم أن المسلمين الذين فتحوا حمص لم يدخلوها وعسكروا على نهر الاوند
فأحيوه فأمضاه لهم عمر وعثمان وقد كان أناس منهم تعدوا ذاك إلى حبس الاوند الذي على باب الرتبتين
فعسكروا في برجه مسلحة لمن خلفهم من المسلمين، فلما بلغهم ما أمضاه عمر للمعسكرين على نهر الاوند
سألوا أن يشركوهم في تلك القطائع فكتب إلى عمر فيه فكتب أن يعوضوا مثله من المروج التي كانوا
عسكروا فيها على باب الرتبتين فلم تزل تلك القطائع على شاطئ الاوند وعلى باب حمص وعلى باب
الرتبتين ماضية لأهلها لاخراج عليها تؤدي العشر
(فصل) وهذا الذي ذكرناه في الأرض المغلة، أما المساكن فلا بأس بحيازتها وبيعها وشرائها
وسكناها، قال أبو عبيد ما علمنا أحدا كره ذلك وقد اقتسمت بالكوفة خططا في زمن عمر رضي الله عنه
باذنه وبالبصرة وسكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الشام ومصر وغيرهما من
البلدان فما غاب ذلك أحد ولا أنكره
(فصل) وكذلك ما فتح صلحا بشرط أن يكون لأهله كأرض الحيرة والليس وبانقيا وأرض بني
صلوبا وما في معناها فيجوز بيعها لأنها ملك لأهلها فهي كالمساكن وكذلك كل أرض أسلم أهلها عليها
كأرض المدينة وشبهها فإنها ملك لأهلها يجوز بيعها لذلك
{مسألة} (وتجوز اجارتها) لأنها مستأجرة في أيدي أربابها وإجارة المستأجر جائزة على ما نذكره
في موضعه إن شاء الله تعالى (وعن أحمد أنه كره بيعها) لما ذكرنا (وأجاز شراءها) لأنه كالاستنقاذ لها
فجاز كشراء الأسير، ولأنه قد روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا في المسألة التي
قبلها، وإذا قلنا بصحة الشراء فإنها تكون في أيدي المشتري على ما كانت في يد البائع يؤدي خراجها
ويكون معنى الشراء ههنا نقل اليد من البائع إلى المشتري بعوض إلا ما كان قبل مائة سنة أو ما كان من
اقطاع عمر رضي الله عنه على ما ذكرناه، فإن اشتراها وشرط الخراج على البائع كما فعل ابن مسعود
فهو كراء لا شراء وينبغي أن يشترط بيان مدته كسائر الإجارات
{مسألة} (ولا يجوز بيع رباع مكة ولا إجارتها وعنه يجوز ذلك)
19

اختلف الرواية في بيع رباع مكة وإجارة دورها فروي أن ذلك غير جائز وهو قول أبي حنيفة
ومالك والثوري وأبي عبيد وكرهه إسحاق لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول
الله صلى الله عليه سلم في مكة " لاتباع رباعها، ولا تكرى بيوتها " رواه الأثرم، وعن مجاهد عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " مكة حرام بيع رباعها حرام اجارتها " رواه سعيد بن منصور في سننه
وروي أنها كانت تدعى السوائب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره مسدد في مسنده ولأنها
فتحت عنوة ولم تقسم فصارت موقوفة فلم يجز بيعها كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة ولم يقسموها
ودليل أنها فتحت عنوة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله
والمؤمنين وانها لم تحل لاحد قبلي ولا تحل لاحد بعدي، وإنما حلت لي ساعة من نهار " متفق عليه. وروت أم هانئ
أنها قالت أجرت حموين لي فأراد علي قتلهما فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: أني أجرت
حموين لي فزعم ابن أمي علي أنه قاتلهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت "
متفق عليه. وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أربعة فقتل منهم ابن خطل ومقيس بن ضبابة فدل
على أنها فتحت عنوة (والرواية الثانية) أنه يجوز ذلك روي ذلك عن طاوس وعمر وبن دينار وهو قول
الشافعي وابن المنذر وهو أظهر في الحجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له أين تنزل غدا؟ قال " وهل ترك
لنا عقيل من رباع؟ " متفق عليه، يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب لأنه ورثه دون اخوته لكونه كان
على دينه دونهما ولو كانت غير مملوكة لما أثر بيع عقيل شيئا ولان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم دور
بمكة كأبي بكر والزبير وحكيم بن حزام وأبي سفيان وسائر أهل مكة فمنهم من باع ومنهم من ترك داره
فهي في يد أعقابهم، وقد باع حكيم بن حزام دار الندوة فقال له ابن الزبير بعت مكرمة قريش فقال يا ابن
أخي ذهبت المكارم إلى التقوى أو كما قال، واشترى معاوية منه دارين، واشترى عمر رضي الله عنه دار
السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع
وغيره ولم ينكره منكر فكان اجماعا، وقد قرره النبي صلى الله عليه وسلم بنسبة دورهم إليهم فقال " من دخل
دار أبي سفيان فهو آمن. ومن أغلق بابه فهو آمن " وأقر هم في دورهم ورباعهم ولم ينقل أحدا عن داره
ولا وجد منه ما يدل على زوال أملاكهم وكذلك من بعده من الخلفاء حتى أن عمر مع شدته في الحق لما
احتاج إلى دار للسجن لم يأخذها إلا بالبيع. ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة فجاز بيعها
كسائر الأرض وما روي من الأحاديث في خلاف هذا فهو ضعيف. وأما كونها فتحت عنوة فهو صحيح
لا يمكن دفعه الا ان النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم فيدل ذلك على أنه تركها
لهم كما ترك لهوازن نساءهم وأبناءهم (1) كان الأولى أن يقول كما أعتقهم بقوله " أنتم الطلقاء ") وعلى القول الأول من كان ساكن دار أو منزل فهو أحق به
يسكنه ويسكنه وليس له بيعه ولا أخذ اجرته. ومن احتاج إلى مسكن فله بذلك الأجرة فيه. وان
احتاج إلى الشراء فله ذلك كما فعل عمر رضي الله عنه. وكان أبو عبد الله إذا سكن أعطاهم أجرتها. فإن
سكن بأجرة جاز أن لا يدفع إليهم الأجرة ان أمكنه لأنهم لا يستحقونها. وقد روي أن سفيان سكن
20

في بعض رباع مكة وهرب ولم يعطهم اجرة فأدركوه فأخذوها منه، وذكر لأحمد فعل سفيان فتبسم فظاهر
هذا انه أعجبه قال ابن عقيل وهذا الخلاف في غير مواضع المناسك. اما بقاع المناسك كموضع المسعى
والرمي فحكمه حكم المساجد بغير خلاف
(فصل) ومن بنى بمكة بآلة مجلوبة من غير ارض مكة جاز بيعها كما يجوز بيع أبنية الوقوف
وانقاضها، وان كانت من تراب الحرم وحجارته انبنى جواز بيعها على الروايتين في بيع رباع مكة
لأنها تابعة لها وهكذا تراب كل وقف وانقاضه قال احمد واما البناء بمكة فاني أكرهه قال إسحاق
البناء بمكة على وجه الاستخلاص لنفسه لا يحل وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له الا تبني لك
بمنى بيتا فقال " منى مناخ من سبق ".
{مسألة} (ولا يجوز بيع كل ماء عد كمياه العيون ونقع البئر ولا ما في المعادن الجارية من القار
والملح والنفط ولا ما ينبت في ارضه من الكلأ والشوك ومن اخذ منه شيئا ملكه)
الأنهار النابعة في غير ملك كالأنهار الكبار لا تملك بحال ولا يجوز بيعها، ولو دخل إلى ارض رجل
لم يملكه بذلك كالطير فدخل إلى ارضه ولكل أحد اخذه وتملكه، الا ان يحتفر منه ساقية فيكون أحق
بها من غيره، واما ما ينبع في ملكه كالبئر والعين المستنبطة بنفس النهر وارض العين مملوكة لمالك الأرض
فالماء الذي فيها غير مملوك في ظاهر المذهب لأنه يجزي من تحت الأرض فأشبه الماء الجاري في
النهر إلى ملكه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والوجه الآخر يملك لأنه نماء الملك. وقد روي
عن أحمد نحو ذلك فإنه قيل له قي رجل له ارض ولآخر ماء فيشترك صاحب الأرض وصاحب الماء
في الزرع يكون بينهما؟ فقال لا بأس اختاره أبو بكر وهذا يدل من قوله على أن الماء مملوك لصاحبه،
وفي معنى الماء المعادن الجارية في الاملاك كالقار والنفط والموميا والملح، وكذلك الحكم في الكلأ
والشوك النابت في ارضه فكذلك كله يخرج على الروايتين في الماء، والصحيح ان الماء لا يملك
فكذلك هذه وجواز بيع ذلك مبني على ملكه قال احمد: لا يعجبني بيع الماء البتة وقال الأثرم:
سمعت أبا عبد الله يسئل عن قوم بينهم نهر تشرب منه أرضوهم لهذا يوم ولهذا يومان يتفقون عليه
الحصص فجاء يومي ولا احتاج إليه أكريه بدراهم؟ قال ما أدري اما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى
عن بيع الماء قيل له انه ليس يبيعه إنما يكريه قال إنما احتالوا بهذا ليحسنوه فأي شئ هذا الا البيع؟
وروى الأثرم باسناده عن جابر وإياس بن عبد الله ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى ان يباع وروى
أبو عبيد والا ثرم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلمون شركاء في ثلاث في النار والكلأ والماء " فإن
قلنا يملك جاز بيعه وان قلنا لا يملك فصاحب الأرض أحق به من غيره لكونه في ملكه فإن دخل غيره
بغير اذنه فأخذه ملكه لأنه يباح في الأصل فأشبه ما لو عشش في ارضه طائر أو دخل إليها صيد أو نضبت
عن سمك فدخل إليها داخل فأخذه
{مسألة} (الا انه لا يجوز له الدخول إلى ملك غيره بغير اذنه) لأنه تصرف في ملك الغير بغير
21

اذنه أشبه ما لو دخل لغير ذلك (وعنه يجوز بيعه) وهذا مبني على أنه يملك وقد ذكرناه
(فصل) والخلاف في بيع ذلك إنما هو قبل حيازته. فأما ما يحوزه من الماء في انائه أو يأخذه
من الكلأ في حبله أو يحوزه في رحله أو يأخذه من المعادن فإنه يملكه بذلك بغير خلاف بين أهل العلم
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لأن يأخذ أحدكم حبلا فيأخذ حزمة حطب فيبيعها فيكف بها وجهه
خير له من أن يسأل الناس أعطي أو منع " رواه البخاري، وقد روى أبو عبيد في الأموال عن المشيخة
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء الا ما حمل منه. وعلى ذلك مضت العادة في الأمصار ببيع
الماء في الروايا والحطب والكلأ من غير نكير وليس لاحد أن يشرب منه ولا يتوضأ ولا يأخذ إلا بأذن
مالكه لأنه ملكه. قال أحمد: إنما نهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره ويجوز بيع البئر نفسها
والعين ومشتريها أحق بملئها، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من يشتري بئر رومة يوسع بها على
المسلمين وله الجنة؟ " أو كما قال فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من يهودي بأمر النبي صلى الله عليه
وسلم وسبلها للمسلمين، وروي أن عثمان اشترى منه نصفها باثني عشر ألفا ثم قال لليهودي اختر اما أن
تأخذها يوما وآخذها يوما واما أن تنصب لك عليها دلوا وأنصب عليها دلوا فاختار يوما ويوما فكان
الناس يستقون منها في يوم عثمان لليومين فقال اليهودي أفسدت علي بئري فاشتر باقيها فاشتراه بثمانية
آلاف، وفي هذا دليل على صحة بيعها وتسبيلها وملك ما يسقيه منها وجواز قسمة مائها بالمهايأة وكون
مالكها أحق بمائها وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك
(فصل) فاما المصانع المتخذة لمياه الأمطار تجتمع فيها ونحوها من البرك وغيرها فالأولى أنه يملك
ماؤها ويصح بيعه إذا كان معلوما لأنه مباح حصله بشئ معد له كالصيد يحصل في شبكة والسمك
في بركة معدة له ولا يحصل أخذ شئ منه بغير اذن مالكه وكذلك إن جرى من نهر غير مملوك ماء
إلى بركة في أرضه يستقر الماء فيها لا يخرج منها فحكمه حكم مياه الأمطار تجتمع في البركة قياسا عليه والله أعلم.
(فصل) إذا اشترى ممن في ماله حلال وحرام كالسلطان الظالم والمرابي فإن علم أن المبيع من
حلال فهو حلال وان علم أنه من الحرام فهو حرام ولا يقبل قول المشتري عليه في الحكم لأن الظاهر
أن ما في يد الانسان ملكه، فإن لم يعلمه من أيها هو كره لاحتمال التحريم فيه ولم يبطل البيع لامكان
الحلال سواء قل الحرام أو كثر وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام أو كثرته تكثر الشبهة وتقل قال
احمد لا يعجبني أن يأكل منه وذلك لما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الحلال بين
والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبراء لدينه وعرضه ومن وقع
في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك ان يرتع فيه الاوان لكل ملك حمى وان
حمى الله محارمه " متفق عليه واللفظ لمسلم ولفظ البخاري " فمن ترك ما اشتبه عليه كان لما استبان اترك، ومن
اجتزأ على ما يشك فيه من المأثم أو شك أن يواقع ما استبان " وروى الحسن بن علي رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وهذا مذهب الشافعي
(فصل) والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب ما أصله الحظر كالذبيحة في بلدة فيها مجوس وعبدة أو ثان
22

يذبحون فلا يجوز شراؤها وان جاز أن تكون ذبيحة مسلم لأن الأصل التحريم فلا يجوز الا بيقين أو
ظاهر وكذلك إن كان فيها أخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك والأصل فيه حديث
عدي بن حاتم " إذا أرسلت كلبك فخالط أكلبا لم يسم عليها فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتله " متفق
عليه. فاما إن كان ذلك في بلد الاسلام فالظاهر إباحتها لأن المسلمين لا يقرون في بلدهم بيع مالا يحل
بيعه ظاهرا (الثاني) ما أصله الإباحة كالماء يجده متغيرا لا يعلم بنجاسة تغيره أو غيرها فهو طاهر في
الحكم لأن الأصل الطهارة لا يزول عنها الا بيقين أو ظاهر ولم يوجد واحد منهما، والأصل في ذلك
حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه في الصلاة انه
يجد الشئ قال " لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " متفق عليه (الثالث) ما لا يفرق له أصل كرجل
في ماله حلال وحرام فهذا هو الشبهة التي الأولى تركها على ما ذكرناه وعملا بما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه وجد تمرة ساقطة فقال " لولا أني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها " وهو من باب الورع
(فصل) وكان أحمد لا يقبل جوائز السلطان وينكر على ولده وعمه قبولها ويشدد في ذلك. وممن
كان لا يقبلها سعيد بن المسيب والقاسم وبشر بن سعيد ومحمد بن واسع الثوري وابن المبارك، وكان
هذا منهم على سبيل الورع لا على أنها حرام فإن احمد قال: جوائز السلطان أحب إلي من الصدقة
وقال ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم نصيب فكيف أقول إنها سحت وممن كان يقبل
جوائزهم ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم مثل الحسن والحسين وابن جعفر ورخص فيه الحسن
البصري ومكحول الزهري والشافعي. واحتج بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي
طعاما ومات ودرعه مرهونة عنده وأجاب يهوديا دعاه وأكل من طعامه وقد أخبر الله تعالى أنهم أكالون
للسحت، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا بأس بجوائز السلطان فإن ما يعطيكم من حلال أكثر
مما يعطيكم من الحرام وقال لا تسأل السلطان شيئا وان أعطى فخذ فإن ما في بيت المال من الحلال أكثر
مما فيه من الحرام
(فصل) قال أحمد رضي الله عنه فيمن معه ثلاثة دراهم فيها درهم حرام يتصدق بالثلاثة وإن كان
معه مائتا درهم فيها عشرة دراهم حرام تصدق بالعشرة لأن هذا كثير وذاك قليل، قيل له قال سفيان
ما كان دون العشرة يتصدق به وما كان أكثر يخرج؟ قال نعم لا يجحف به قال القاضي ليس هذا على
سبيل التحديد وإنما هو على سبيل الاختيار لأنه كلما كثر الحلال بعد تناول الحرام وشق التورع عن الجميع
بخلاف القليل فإنه يسهل اخراج الكل والواجب في الموضعين اخراج قدر الحرام والباقي له وهذا
لأن تحريمه لم يكن لتحريم عينه وإنما حرم لتعلق حق غيره به فإذا أخرج عوضه زال التحريم كما لو
كان صاحبه حاضرا فرضي بعوضه وسواء كان قليلا أو كثيرا، والورع إخراج ما يتيقن به إخراج
عين الحرام ولا يحصل ذلك إلا باخراج الجميع لكن لما شق ذلك في الكثير ترك لأجل المشقة فيه
واقتصر على الواجب. ثم يختلف هذا باختلاف الناس فمنهم من لا يكون له سوى الدراهم اليسيرة فيشق
اخراجها لحاجته إليها ومنهم من يكون له كثير فيستغني عنها فيسهل اخراجها والله تعالى أعلم
23

(فصل) (الخامس أن يكون مقدورا على تسليمه فلا يجوز بيع الآبق ولا الشارد ولا الطير في
الهواء ولا السمك في الماء ولا المغصوب الا من غاصبه أو ممن يقدر على أخذه منه)
بيع العبد الآبق لا يجوز سواء علم بمكانه أو جهله وكذلك ما في معناه من الجمل الشارد والفرس العائر وشبههما
وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن ابن عمر أنه اشترى من بعض
ولده بعيرا شاردا وعن ابن سيرين لا بأس ببيع الآبق إذا كان علمهما فيه واحدا وعن شريح مثله.
ولنا ما روى أبو هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر رواه
مسلم وهذا بيع غرر ولأنه غير مقدور على تسليمه فلم يجز بيعه كالطير في الهواء فإن حصل في يد
إنسان جاز بيعه لامكان تسليمه
(فصل) ولا يجوز بيع الطير في الهواء مملوكا كان أولا اما المملوك فلانه غير مقدور عليه وغير
المملوك لا يجوز لعلتين عدم القدرة وعدم الملك لحديث أبي هريرة قيل في تفسيره هو بيع الطير في
الهواء والسمك في الماء ولا نعلم في هذا خلافا ولا فرق بين كون الطائر يألف الرجوع أولا يألفه
لأنه لا يقدر على تسليمه الآن وإنما يقدر إذا عاد. فإن قيل فالغائب في مكان بعيد لا يقدر على تسليمه
في الحال، قلنا الغائب يقدر على استحضاره والطير لا يقدر صاحبه على رده الا أن يرجع هو بنفسه ولا
يستقل مالكه برده فيكون عاجزا عن تسليمه لعجزه عن الواسطة التي يحصل بها تسليمه بخلاف الغائب
وان باعه الطير في البرج نظرت فإن كان البرج مفتوحا لم يجز لأن الطير ان لم يمكن
تسليمه فإن كان مغلقا ويمكن أخذه جاز بيعه وقال القاضي ان لم يمكن أخذه الا بتعب ومشقة لم يجز
بيعه وهذا مذهب الشافعي. وهو ملغي بالبعيد الذي لا يمكن إحضاره الا بتعب ومشقة، وفرقوا بينهما
بان البعيد تعلم الكلفة التي يحتاج إليها في احضاره بالعادة وتأخير التسليم مدته معلومة، والصحيح أن
تفاوت المدة في احضار البعيد واختلاف المشقة أكبر من التفاوت في إمساك طائر من البرج، والعادة
تكون في هذا كالعادة في ذلك فإذا صح في البعيد مع كثرة التفاوت وشدة اختلاف المشقة فهذا أولى
(فصل) ولا يجوز بيع السمك في الآجام هذا قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن مسعود انه
نهى عنه وقال إنه غرر وكرهه الحسن النخعي ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور ولا
نعلم لهم مخالفا لما ذكرنا من الحديث والمعنى، فإن باعه في الماء جاز بثلاثة شروط أحدها أن يكون مملوكا
وأن يكون الماء رقيقا لا يمنع مشاهدته ومعرفته، وان يمكن اصطياده لأنه مملوك معلوم يمكن تسليمه
فجاز بيعه كالموضوع في طست في الماء. وان اختل شرط مما ذكرنا لم يجز بيعه لفوات الشرط وروي
عن عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى فيمن له أجمة يحبس السمك فيها يجوز بيعه لأنه يقدر على تسليمه
ظاهرا أشبه ما يحتاج إلى مؤنة في الكيل أو الوزن والنقل. ولنا قول ابن مسعود وابن عمر لا تشتروا
السمك في الماء لأنه غرر ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وهذا منه ولأنه لا يقدر على
تسليمه الا بعد اصطياده أشبه الطير في الهواء ولأنه مجهول أشبه اللبن في الضرع ويفارق ما قاسوا عليه،
لأن ذلك من مؤنة القبض وهذا يحتاج إلى مؤنة ليمكن قبضه، فاما ان كانت له بركة له فيها سمك
24

يمكن اصطياده بغير كلفة والماء رقيق لا يمنع المشاهدة صح بيعه على ما ذكرنا، وان لم يمكن الا بكلفة
ومشقة وكانت يسيرة بمنزلة اصطياد الطائر من البرج فالقول فيه كالقول في بيع الطائر في البرج على ما ذكرنا
من الخلاف وان كانت كثيرة تتطاول المدة فيه لم يجز بيعه للعجز عن تسليمه في الحال والجهل بامكان التسليم
(فصل) ولا يجوز بيع المغصوب لعدم امكان تسليمه فإن باعه لغاصبه أو لقادر على أخذه منه
جاز لعدم الغرر فيه ولامكان قبضه، وكذلك ان باع الآبق لقادر عليه صح كذلك وان ظن أنه قادر
على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والامضاء لأن
العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه وثبت له الفسخ للعجز عن القبض فهو كما لو باعه فرسا
فشردت قبل تسليمها أو غائبا بالصفة فعجز عن تسليمه
(فصل) (السادس أن يكون معلوما برؤية أو صفة يحصل بها معرفته فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له
أو رآه ولم يعلم ما هو أو ذكر له من صفته ما لا يكفي في السلم لم يصح البيع وعنه يصح وللمشتري خيار الرؤية)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في بيع الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته
فالمشهور عنه انه لا يصح بيعه وبهذا قال الشعبي والنخعي والحسن والأوزاعي ومالك وإسحاق
وهذا أحد قولي الشافعي. وفيه رواية أخرى أنه يصح وهو مذهب أبي حنيفة والقول الثاني
للشافعي واحتج من أجازه بعموم قوله تعالى (وأحل الله البيع) وبما روي عن عثمان وطلحة أنهما تبايعا
داريهما أحداهما بالكوفة والأخرى بالمدينة فقيل لعثمان إنك قد غبنت فقال ما أبالي أني بعت ما لم
أره. وقيل لطلحة فقال لي الخيار لأنني اشتريت ما لم أره، فتحاكما إلى جبير فجعل الخيار لطلحة. وهذا
اتفاق منهم على صحة البيع ولأنه عقد معاوضة فلم تفتقر صحته إلى رؤية المعقود عليه كالنكاح. ولنا ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن بيع الغرر رواه مسلم، ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له فلم يصح
كبيع النوى في التمر، ولأنه بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم والآية مخصوصة بما ذكرنا من
الأصل، وأما حديث عثمان وطلحة فيحتمل أنهما تبايعا بالصفة ومع ذلك فهو قول صحابي وقد اختلف
في كونه حجة ولا يعارض به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنكاح لا يقصد منه المعاوضة ولا
يفسد بفساد العوض ولا بترك ذكره ولا يدخله شئ من الخيارات، وفي اشتراط الرؤية مشقة على
المخدرات واضرار بهن ولان الصفات التي تعلم بالرؤية ليست هي المقصودة بالنكاح فلا يضر الجهل بها
بخلاف البيع. فإن قيل فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من اشترى ما لم يره فهو بالخيار
إذا رآه " والخيار لا يثبت الا في عقد صحيح قلنا: هذا يرويه عمر بن إبراهيم الكردي وهو متروك
الحديث ويحتمل أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه فعلى هذا يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع كداخل
الثوب وشعر الجارية ونحوهما، فلو باع ثوبا مطويا أو عينا حاضرة لا يشاهد منها ما يختلف الثمن لأجله
كان كبيع الغائب فإن قلنا بصحة بيع الغائب فللمشتري الخيار في أشهر الروايتين وهو قول أبي حنيفة
ويثبت الخيار عند رؤية المبيع في الفسخ والامضاء ويكون على الفور فإن اختار الفسخ انفسخ العقد وان لم
يختر لزم العقد لأن الخيار خيار الرؤية فوجب أن يكون عندها وقيل يتقيد بالمجلس وان اختار الفسخ قبل
25

الرؤية انفسخ لأن العقد غير لازم في حقه فملك الفسخ كحالة الرؤية وان اختار امضاء العقد لم يلزم لأن
الخيار يتعلق بالرؤية ولأنه يؤدي إلى الزام العقد على المجهول فيفضي إلى الضرر وكذلك لو تبايعا على أن
لا يثبت الخيار للمشترى لم يصح الشرط كذلك. وهل يفسد به البيع؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع
(فصل) ويعتبر لصحة العقد الرؤية من المتعاقدين وان قلنا بصحة البيع مع عدم الرؤية فباع ما لم
يره فله الخيار عند الرؤية، وان لم يره المشتري فلكل منهما الخيار وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
لاخيار للبائع لحديث عثمان وطلحة ولأننا لو أثبتنا له الخيار لثبت لتوهم الزيادة والزيادة في المبيع لا تثبت
الخيار بدليل ما لو باع شيئا على أنه معيب فبان غير معيب لم يثبت الخيار له
ولنا أنه جاهل بصفة المعقود عليه فأشبه المشتري. فأما الخبر فإنه قول طلحة وجبير وقد خالفهما
عثمان وقوله أولى لأن البيع يعتبر فيه الرضا منهما فتعتبر الرؤية التي هي مظنة الرضا منهما
{مسألة} (وان ذكر له من صفته ما يكفي في السلم أو رآه ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا يتغير فيه
ظاهرا صح في أصح الروايتين ثم إن وجده لم يتغير فلا خيار له، وان وجده متغيرا فله الفسخ
والقول في ذلك قول المشترى مع يمينه)
إذا ذكر له من صفات المبيع ما يكفي في صحة السلم صح بيعه في ظاهر المذهب وهو قول أكثر أهل
العلم وعنه لا يصح حتى يراه لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه
ولنا أنه بيع بالصفة فصح كالسلم ولا نسلم أن الصفة لا يحصل بها المعرفة فإنها تحصل بالصفات الظاهرة
التي لا يختلف بها الثمن ظاهرا ولهذا اكتفي به في السلم ولأنه لا يعتبر في الرؤية الاطلاع على الصفات
الخفية. وأما ما لا يصح السلم فيه فإنما لم يصح بيعه بالصفة لأنه لا يمكن ضبطه بها. إذا ثبت هذا فإنه متى
وجده على الصفة لم يكن له الفسخ وبهذا قال ابن سيرين وأيوب ومالك والعنبري وإسحاق وأبو ثور
وابن المنذر، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه له الخيار بكل حال لأنه يسمى بيع خيار الرؤية ولان
الرؤية من تمام هذا العقد فأشبه غير الموصوف ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين، ولنا أنه سلم له
المعقود عليه بصفاته فلم يكن له خيار كالمسلم فيه ولأنه مبيع موصوف فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع
الأحوال كالسلم. وقولهم انه يسمي بيع خيار الرؤية لا تعرف صحته فإن ثبت فيحتمل انه يسميه من يرى
ثبوت الخيار فلا يحتج به على غيره فاما ان وجده بخلاف الصفة فله الخيار ويسمى خيار الخلف في
الصفة لأنه وجد الموصوف بخلاف الصفة فلم يلزمه كالمسلم فيه وان اختلفا في اختلاف الصفة فالقول
قول المشتري مع يمينه لأن لأصل براءة ذمته من الثمن فلم يلزمه ما لم يقربه أو يثبت ببينة أو ما يقوم مقامها
(فصل) والبيع بالصفة نوعان (أحدهما) بيع عين معينة مثل أن يقول بعتك عبدي التركي ويذكر
صفاته فهذا ينفسخ العقد عليه برده على البائع وتلفه قبل قبضه لكون المعقود عليه معينا فيزول العقد
بزوال محله، ويجوز التفرق قبل قبض ثمنه وقبضه كبيع الحاضر (الثاني) بيع موصوف غير معين مثل
ان يقول بعتك عبدا تركيا ثم يستقصى صفات السلم فهذا في معنى السلم فمتى سلم إليه عبدا على غير
26

ما وصف فرده أو على ما وصف فأبدله لم يفسد العقد لأن العقد لم يقع على غير هذا فلم ينفسخ العقد
برده كما لو سلم إليه في السلم غير ما وصف له فرده ولا يجوز التفرق عن مجلس العقد قبل قبض المبيع
أو قبض ثمنه وهذا قول الشافعي لأنه بيع في الذمة فلم يجز التفرق فيه قبل قبض أحد العوضين كالسلم
وقال القاضي يجوز التفرق فيه قبل القبض لأنه بيع حال فجاز التفرق فيه قبل القبض كبيع العين
(فصل) فإن رأيا المبيع ثم عقدا البيع بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه جاز في قول أكثر أهل العلم
وحكي عن أحمد رواية أخرى لا يجوز حتى يرياها حالة العقد وحكي ذلك عن الحكم وحماد ولان ما كان
شرطا في صحة العقد يجب أن يكون موجودا حال العقد كالشهادة في النكاح، ولنا أنه معلوم عندهما
أشبه ما لو شاهداه حال العقد والشرط إنما هو العلم والرؤية طريق العلم ولهذا اكتفي بالصفة المحصلة للعلم
والشهادة في النكاح تراد لحل العقد والاستيثاق عليه فلهذا اشترطت حال العقد ويقرر ما ذكرناه
ما لو رأيا دارا أوقفا في بيت منها أو أرضا ووقفا في طرفها وتبايعاها صح بلا خلاف مع عدم المشاهدة
للكل في الحال، ولو كانت الرؤية المشروطة للبيع مشروطة حال العقد لا اشترط رؤية جميعه،
إذا ثبت ذلك فمتى وجد المبيع بحاله لم يتغير لزمه البيع، وإن كان ناقصا ثبت له الخيار لأن ذلك كحدوث
العيب، وإن اختلفا في التغير فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه يلزمه الثمن فلا يلزمه ما لم يعترف به
فأما إن عقدا البيع بعد رؤية المبيع بمدة يتحقق فيها فساد المبيع لم يصح البيع لأنه مما لا يصح بيعه، وإن
كان يتغير فيها لم يصح بيعه أيضا لأنه مجهول، وكذلك إن كان الظاهر تغيره فإن كان يحتمل التغير
وعدمه وليس الظاهر تغيره صح بيعه لأن الأصل السلامة ولم يعارضه ظاهر فيصح بيعه كما لو كانت
الغيبة يسيرة وهذا ظاهر مذهب الشافعي
{مسألة} (ولا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الضرع، والمسك في الفأرة، والنوى في التمر)
بيع الحمل في البطن فاسد بغير خلاف، قال ابن المنذر أجمعوا على أن بيع الملاقيح والمضامين غير
جائز، وإنما لم يجز بيع الحمل في البطن لوجهين (أحدهما) الجهالة فإنه لا تعلم صفته ولا حياته (والثاني)
أنه غير مقدور على تسليمه بخلاف الغائب فإنه يقدر على الشروع في تسليمه، وقد روى سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين، قال
أبو عبيد الملاقيح ما في البطون وهي الأجنة، والمضامين ما في أصلاب الفحول فكانوا يبيعون الجنين في
بطن الناقة وما يضربه الفحل في عامه أو في أعوام وأنشد
إن المضامين التي في الصلب * ماء الفحول في الظهور الحدب
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المجر، قال ابن الاعرابي المجر ما في بطن الناقة
والمجر الربا والمجر القمار والمجر المحاقلة والمزابنة
(فصل) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع حبل الحبلة ومعناه نتاج النتاج قاله أبو
عبيد وعن ابن عمر قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج
27

الناقة ثم تحمل التي نتجت فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم وكلا البيعين فاسد، أما الأول فلانه
بيع معدوم، وإذا لم يجز بيع الحمل فبيع حمله أولى، وأما الثاني فلانه بيع إلى أجل مجهول
(فصل) ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، وبه قال الشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ونهى عنه
ابن عباس وأبو هريرة وكرهه طاوس ومجاهد. وحكي عن مالك أنه يجوز أياما معلومة إذا عرفا حلابها
لسقي الصبي كلبن الظئر وأجازه الحسن وسعيد بن جبير ومحمد بن مسلمة، ولنا ما روى ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع رواه الخلال وابن ماجة، ولأنه
مجهول الصفة والمقدار فأشبه الحمل، ولأنه بيع عين لم تخلق فلم يصح كبيع ما تحمل الناقة والعادة في
ذلك تختلف وأما لبن الظئر فإنما جاز للحضانة لأنه موضع حاجة
(فصل) ولا يجوز بيع المسك في الفأرة وهو الوعاء الذي يكون فيه. قال الشاعر:
إذا التاجر الهندي راح بفأرة * من المسك راحت في مفارقهم تجري
فإن فتح وشاهد ما فيه جاز بيعه وإن لم يشاهد لم يجز بيعه للجهالة، وقال بعض الشافعية يجوز
لأن بقاءه في فأرته مصلحة له فإنه يحفظ رطوبته وذكاء رائحته أشبه ما مأكوله في جوفه، ولنا أنه يبقى
خارج وعائه من غير ضرورة وتبقى رائحته فلم يجز بيعه مستورا كالدر في الصدف وما مأكوله في جوفه
اخراجه يفضي إلى تلفه، فالتفصيل في بيعه مع وعائه كالتفصيل في بيع السمن في ظرفه على ما نذكره
(فصل) ولا يجوز بيع النوى في التمر والبيض في الدجاجة للجهل بها ولا نعلم في هذا اختلافا،
فأما بيع الصوف على الظهر فالمشهور أنه لا يجوز بيعه لما ذكرنا من الحديث، ولأنه متصل بالحيوان فلم
يجز افراده بالعقد كأعضائه، وعنه أنه يجوز بشرط جزء في الحال لأنه معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه
كالرطبة وفارق الأعضاء لكونها لا يمكن تسليمها مع بقاء الحيوان سالما والخلاف فيه كالخلاف في اللبن
في الضرع، فإن اشتراه بشرط القطع وتركه حتى طال فحكمه حكم الرطبة إذا طالت على ما نذكره في موضعه
{مسألة} (فأما بيع الأعمى وشراؤه فإن أمكنه معرفة المبيع بالذوق إن كان مطعوما أو بالشم
إن كان مشموما صح بيعه وشراؤه، وإن لم يمكن جاز بيعه بالصفة كالبصير وله خيار الخلف في الصفة)
وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة له الخيار إلى معرفته بالبيع اما بحسه أو ذوقه أو وصفه وقال
عبيد الله بن الحسن شراؤه جائز وإذا أمر إنسانا بالنظر إليه لزمه. وقال الشافعي لا يجوز الا على الوجه
الذي يجوز فيه بيع المجهول أو يكون قد رآه بصيرا ثم اشتراه قبل مضي زمن يتغير فيه المبيع لأنه مجهول
الصفة عند العاقد فلم يصح كبيع البيض في الدجاجة والنوى في التمر
ولنا أنه يمكن الاطلاع على المقصود ومعرفته فأشبه بيع البصير، ولان إشارة الأخرس تقوم
مقام عبارته فكذلك شم الأعمى وذوقه، فأما البيض والنوى فلا يمكن الاطلاع عليه ولا وصفه بخلاف مسئلتنا
{مسألة} (ولا يجوز بيع الملامسة)
وهو أن يقول بعتك ثوبي هذا انك متى لمسته فهو عليك بكذا أو يقول أي ثوب لمسته فهو لك بكذا
(ولا بيع المنابذة) وهو أن يقول أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا (ولابيع الحصاة) وهو ان يقول ارم هذه الحصاة
28

فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا أو يقول بعتك من هذه الأرض قدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في فساد هذه المبايعات، والملامسة أن يبيعه شيئا ولا يشاهده على
أنه متى لمسه وقع البيع، والمنابذة أن يقول أي ثوب نبذته إلي فقد اشتريته بكذا هكذا فسره احمد
في الظاهر عنه ونحوه قال مالك والأوزاعي، وفيما روى البخاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن المنابذة وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل ان يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن
الملامسة والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه. وروى مسلم عن أبي هريرة في تفسيرهما قال هو لمس كل
واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه ولم ينظر كل واحد
منهما إلى ثوب صاحبه، وعلى التفسير الأول لا يصح البيع فيهما لعلتين (إحداهما) الجهالة (والثانية)
كونه معلقا على شرط وهو نبذ الثوب أو لمسه له، وان عقد البيع قبل نبذه ولمسه فقال بعتك ما تلمسه
من هذه الثياب أو ما أنبذه إليك فهو غير معين ولا موصوف فأشبه ما لو قال بعتك واحدا منها.
فأما بيع الحصاة فقد روى مسلم عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة واختلف
في تفسيره فقيل هو أن يقول ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم، وقيل هو أن يقول
بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا، وقيل هو أن يقول بعتك هذا بكذا
على اني متى رميت هذه الحصاة وجب البيع، وكل هذه البيوع فاسدة لما فيها من الغرر والجهل والله تعالى أعلم
{مسألة} (ولا يجوز أن يبيع عبدا غير معين، ولا عبدا من عبيد، ولا شاة من قطيع، ولا
شجرة من بستان، ولا هؤلاء العبيد إلا واحدا غير معين، ولا هذا القطيع إلا شاة غير معينة،
وان استثنى معينا من ذلك جاز)
لا يجوز ان يبيع عبدا غير معين لأنه مجهول ولأنه غرر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع
الغرر، ولا عبدا من عبيده سواء قلوا أو كثروا وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا باعه عبدا من
عبدين أو من ثلاثة بشرط الخيار له صح لأن الحاجة تدعو إليه، ولو كانوا أكثر لم يصح لأنه يكثر الغرر
ولنا انه مما تختلف أجزاؤه وقيمته فلا يجوز شراء بعضه غير معين ولا شياع كالأربعة ولأنه لا يصح من غير شرط
الخيار فلا يصح مع شرطه كالأربعة ولا حاجة إلى هذا فإن الاختيار يمكن قبل العقد ويبطل ما قالوه بالأربعة،
ولا يجوز بيع شاة من القطيع لأن شياه القطيع غير متساوية القيم فتكون مجهولة ولان ذلك يفضي إلى التنازع،
وكذلك إن باع شجرة من بستان لا يصح لما ذكرنا ولان فيه غررا فيدخل في عموم النهي عن بيع الغرر
(فصل) وان باع هؤلاء العبيد إلا واحدا غير معين، أو هذا القطيع إلا شاة غير معينة لم يصح
نص عليه وهو قول أكثر أهل العلم، وقال مالك يصح أن يبيع مائة شاة الا شاة يختارها، ويبيع
ثمرة حائط ويستثني ثمرة نخلات يعدها
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، قال الترمذي هذا حديث صحيح،
ونهى عن بيع الغرر ولأنه مبيع مجهول فلم يصح كما لو قال إلا شاة مطلقة ولأنه مبيع مجهول فلم يصح كما لو
قال بعتك شاة تختارها من القطيع، وضابط هذا الباب انه لا يصح استثناء ما لا يصح بيعه منفردا أو بيع
29

ما عداه منفردا عن المستثنى ونحوه مذهب أبي حنيفة والشافعي إلا أن أصحابنا استثنوا من هذا سواقط
الشاة للأثر الوارد فيبقى فيما عداه على قضية الأصل، فإن استثنى معينا من ذلك جاز لأن المبيع معلوم
بالمشاهدة لكون المستثنى معلوما ولا يبقى فيه غرر ولان نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا الا أن
تعلم يدل على الصحة إذا كانت معلومة ولا نعلم في هذا خلافا
{مسألة} (وان باع قفيزا من هذه الصبرة صح) لأنه معلوم لكون أجزائها لا تختلف فلا تفضي
إلى الجهالة، وكذلك إذا باعه رطلا من دن أو من زبرة حديد يصح لذلك، وحكي عن داود انه
لا يصح لأنه غير مشاهد ولا موصوف. ولنا ان المبيع مقدر معلوم من جملة يصح بيعها أشبه إذا باع
نصفها وما ذكره قياس وهو لا يحتج بالقياس ثم لا يصح لأنه إذا شاهد الجميع فقد شاهد البعض
{مسألة} (وان باعه الصبرة الا قفيزا أو ثمرة الشجرة الا صاعا لم يصح وعنه يصح)
إذا باع صبرة واستثنى منها قفيزا أو أقفزة أو باع ثمرة بستان واستثنى منها صاعا أو آصعا لم يصح
في ظاهر المذهب، روي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والشافعي والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب
الرأي. وفيه رواية أخرى أنه يجوز وهو قول ابن سيرين وسالم بن عبد الله ومالك لأن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن الثنيا الا أن تعلم وهذه ثنيا معلومة ولأنه معلوم أشبه إذا استثنى منها جزءا مشاعا
ووجه الأولى ما روى البخاري ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا ولان المبيع إنما علم
بالمشاهدة لا بالقدر، والاستثناء يغير حكم المشاهدة لأنه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة فلم يجز،
ويخالف الجز فإنه لا يعتبر حكم المشاهدة ولا يمنع المعرفة بها، وكذلك إذا باع ثمرة شجرة واستثنى
أرطالا فالحكم فيه على ما ذكرا. وقال القاضي في شرحه يصح لأن الصحابة رضي الله عنهم أجازوا
استثناء سواقط الشاة والصحيح ما ذكرناه، وهذه المسألة أشبه بمسألة استثناء الصاع من الحائط والمعنى
الذي ذكرناه ثم متحقق هاهنا
(فصل) فإن استثنى من الحائط شجرة بعينها جاز لأن المستثنى معلوم ولا يؤدي إلى الجهالة في
المستثنى منه، وان استثنى شجرة غير معينة لم يصح لأن المستثنى مجهول. وقال مالك يصح أن يستثنى
ثمرة نخلات يعدها وقد ذكرناه، وقد روي عن ابن عمر أنه باع ثمرة بأربعة آلاف واستثنى طعام القنيان
وهذا يحتمل أنه استثنى نخلا معينا بقدر طعام القنيان لأنه لو حمل على غير ذلك كان مخالفا لنهي النبي
صلى الله عليه وسلم عن الثنيا الا ان تعلم، ولان المستثنى متى كان مجهولا لزم أن يكون الباقي بعده مجهولا
فلم يصح بيعه كما لو قال بعتك من هذه الثمرة طعام القنيان
(فصل) وان استثنى جزءا معلوما من الصبرة أو الحائط مشاعا كثلاث أو أربع أو اجزاء كثلاثة
أثمان صح البيع والاستثناء ذكره أصحابنا وهو مذهب الشافعي، وقال أبو بكر وابن أبي موسى لا يجوز
ولنا انه لا يؤدي إلى جهالة المستثنى ولا المستثنى منه فصح كما لو استثنى شجرة بعينها وذلك لا معنى
بعتك هذه الصبرة إلا ثلثها اي بعتك ثلثيها، وان باع حيوانا واستثنى ثلثه جاز ومنع منه القاضي قياسا
على استثناء الشحم ولا يصح لأن الشحم مجهولا لا يصح افراده بالبيع وهذا معلوم يصح افراده بالبيع
30

فصح استثناؤه كالشجرة المعينة، وقياس المعلوم على المجهول في الفساد لا يصح فعلى هذا يصيران
شريكين فيه للمشتري ثلثاه وللبائع ثلثه
(فصل) وإذا قال بعتك قفيزا من هذه الصبرة إلا مكوكا جاز لأن القفيز معلوم والمكوك معلوم
ولا يفضي إلى جهالة، ولو قال بعتك هذه الثمرة بأربعة دراهم الا بقدر درهم صح لأن قدره معلوم
من المبيع وهو الربع فكأنه قال بعتك ثلاثة أرباع هذه الثمرة بأربعة دراهم، وان قال الا ما يساوي
درهما لم يصح لأن ما يساوي الدرهم يكون الربع وأكثر وأقل فيكون مجهولا فيبطل
{مسألة} (وان باعه أرضا الا جريبا أو جريبا من ارض يعلمان جربانها صح وكان مشاعا فيها والا لم يصح)
إذا باعه أرضا الا جريبا يريدان بذلك قدرا غير مشاع لم يصح لأن الأرض لا تساوي اجزاؤها
فيكون البيع مجهولا فهو كما لو باعه شاة من قطيع أو عبدا من عبيد، وإن كان الجريب المستثنى مشاعا
في الأرض وهما يعلمان جربانها صح لأنها إذا كانت عشرة أجربة فقد باع تسعة أعشار هذه الأرض وهو معلوم
بالمشاهدة وان لم يعلما جربانها لم يصح لأن المبيع غير معلوم فهو كما لو باع هؤلاء العبيد إلا واحدا غير معين وكذلك
إن باعه جريبا من هذه الأرض إن أراد قدرا غير مشاع لم يصح، وان باعه مشاعا وهما يعلمان جربانها
صح، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح لأن الجريب عبارة عن بقعة بعينها وموضعه مجهول.
ولنا ان الجريب من عشرة عشرها ولو قال بعتك عشر هذه الأرض صح فكذلك إذا باعه
منها جريبا مشاعا وهي عشرة. وما قالوه غير مسلم لأنه عبارة عن قدر كما أن المكيال عبارة عن قدر
فإذا أضافه إلى جملة كان ذلك جزأ منها، وان كانا لا يعلمان ذرعان الدار لم يصح لأن الجملة غير معلومة
واجزاء الأرض مختلفة فلا يمكن أن يكون معينا ولا مشاعا، وان قال بعتك من الأرض من هنا إلى
هنا جاز لأنه معلوم، وان قال عشرة أذرع ابتداؤها من هنا إلى حيث ينتهي الذرع لم يصح لأن
الموضع الذي ينتهي إليه الذرع لا يعلم حال العقد، وان قال بعتك نصيبي من هذه الدار ولا يعلم قدر
نصيبه أو قال نصيبا منها أو سهما لم يصح للجهالة وان علماه صح، وان قال بعتك نصف داري مما يلي
دارك لم يصح نص عليه لأنه لا يدري إلى أين ينتهي فيكون مجهولا
(فصل) وحكم الثوب حكم الأرض الا أنه إذا قال بعتك من هذا الثوب من هذا الموضع إلى
هذا صح فإن كان القطع لا ينقصه قطعاه، وإن كان ينقصه وشرط البائع أن يقطع له أو رضي بقطعه
هو والمشتري جاز، وان تشاحا في ذلك كانا شريكين فيه كما يشتركان في الأرض، وقال القاضي
لا يصح لأنه لا يقدر على التسليم الا بضرر أشبه ما لو باعه نصفا معينا من الحيوان، ولنا أن التسليم ممكن
ولحوق الضرر لا يمنع التسليم إذا حصل الرضا فهو كما لو باعه نصف حيوان مشاعا وفارق نصف الحيوان
المعين فإنه لا يمكن تسليمه مفردا الا باتلافه واخراجه عن المالية
{مسألة} (وان باعه حيوانا مأكولا الا رأسه أو جلده أو أطرافه صح وان استثنى حمله أو شحمه لم يصح)
إذا باعه حيوانا مأكولا واستثنى رأسه أو جلده أو أطرافه صح نص عليه احمد رحمه الله وقال مالك
يصح في السفر دون الحضر لأن المسافر لا يمكنه الانتفاع بالجلد والسواقط فجوز له شراء اللحم دونها. وقال
31

أبو حنيفة والشافعي لا يجوز لأنه لا يجوز افراده بالبيع فلم يجز استثناؤه كالحمل ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن الثنيا الا أن تعلم وهذه معلومة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ومعه أبو
بكر وعامر بن فهيرة مروا براعي غنم فذهب أبو بكر وعامر فاشتريا منه شاة وشرطا له سلبها، وروى أبو
بكر في الشفاء باسناده عن جابر عن الشعبي قال: قضى زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
في بقرة باعها رجل واشترط رأسها فقضى بالشروى يعني ان يعطى رأسا مثل رأس، ولان المستثنى
والمستثنى منه معلومان فصح كما لو باع حائطا واستثنى منه نخلة معينة، وكونه لا يجوز افراده بالبيع لا يمنع
صحة استثنائه كما أن الثمرة قبل التأبير لا يجوز افرادها بالبيع بشرط كشرط التبقية ويجوز استثناؤها
والحمل مجهول وفيه منع. فإن امتنع المشتري من ذبحها لم يجبر ويلزمه قيمة ذلك على التقريب نص عليه
لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قضى في رجل اشترى ناقة وشرط ثنياها فقال اذهبوا إلى السوق
فإذا بلغت أقصى ثمنها فاعطوه بحساب ثنياها من ثمنها
(فصل) فإن استثنى شحم الحيوان لم يصح نص عليه أحمد، قال أبو بكر لا يختلفون عن أبي عبد
الله أنه لا يجوز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا الا أن تعلم، ولأنه مجهول لا يصح افراده
بالبيع فلم يصح استثناؤه كفخذها، وان استثنى الحمل لم يصح الاستثناء لما ذكرنا وهو قول أبي حنيفة
ومالك والثوري والشافعي، نقل عن أحمد صحته، وبه قال الحسن والنخعي وإسحاق وأبو ثور لما
روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما باع جارية واستثنى ما في بطنها، ولأنه يصح استثناؤه في العتق
فصح في البيع قياسا عليه. ولنا ما تقدم في الصحيح من حديث ابن عمر أنه أعتق جارية واستثنى ما في
بطنها لأن الثقات الحفاظ حدثوا بالحديث فقالوا أعتق جارية والاسناد واحد. قاله أبو بكر ولا يلزم
من الصحة في العتق الصحة في البيع لأن العتق لا تمنعه الجهالة ولا العجز عن التسليم، ولا تعتبر فيه شروط البيع
(فصل) وإن باع جارية حاملا بحر، فقال القاضي لا يصح وهو مذهب الشافعي لأنه يدخل في
البيع فكأنه مستثنى. والأولى صحته لا المبيع معلوم وجهالة الحمل لا تضر لأنه ليس بمبيع ولا مستثنى
باللفظ، وقد يستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه باللفظ كما لو باع أمة مزوجة صح ووقعت منفعة البضع
مستثناة بالشرع ولو استثناها بلفظه لم يجز، ولو باع أرضا فيها زرع للبائع أو نخلة مؤبرة وقعت منفعتها
مستثناة مدة بقاء الزرع والثمرة ولو استثناها بقوله لم يجز
(فصل) ولو باعه سمسما واستثنى الكسب لم يجز لأنه قد باعه الشريج في الحقيقة وهو غير معلوم
فإنه غير معين ولا موصوف ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، وكذلك إن باعه
قطنا، واستثنى الحب لم يجز للجهالة، وكذلك إن باعه السمسم واستثنى الشيرج لم يجز لذلك
{مسألة} (ويجوز بيع ما مأكوله في جوفه وبيع الباقلا والجوز واللوز في قشريه والحب المشتد في سنبله)
يجوز بيع ما مأكوله في جوفه كالرمان والبيض والجوز لا نعلم فيه خلافا لأن الحاجة تدعو إلى
بيعه كذلك لكونه يفسد إذا أخرج من قشره
32

(فصل) ويجوز بيع الجوز واللوز والفستق والباقلا والرطب في قشريه مقطوعا وفي شجره وبيع الطلع
قبل تشقيقه مقطوعا وفي شجره وبيع الحب المشتد في سنبله، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي
لا يجوز حتى ينزع قشره الا على إلا في الطلع والسنبل في أحد القولين، واحتج بأنه مستور بما لا يدخر
عليه ولا مصلحة فيه فلم يجز بيعه كتراب الصاغة والمعادن وبيع والحيوان المذبوح في سلخه. ولنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وعن بيع السنبل حتى يبيض وتؤمن العاهة
فمفهومه إباحة بيعه إذا بدا صلاحه وابيض سنبله ولأنه مستور بحائل من أصل خلقته فجاز بيعه كالرمان
والبيض والقشر الأسفل، ولا يصح قولهم ليس من مصلحته فإنه لأقوام له في شجره إلا به، والباقلا
يؤكل رطبا وقشره يحفظ رطوبته ولان الباقلا يباع في أسواق المسلمين من غير نكير وهذا إجماع، وكذلك
الجوز واللوز في شجرهما والحيوان المذبوح يجوز بيعه في سلخه فإنه إذا جاز بيعه قبل ذبحه وهو مراد
للذبح فكذلك إذا ذبح كما أن الرمانة إذا جاز بيعها قبل كسرها فكذلك إذا كسرت، وأما تراب الصاغة والمعادن
فلنا فيهما منع وان سلم فليس ذلك من أصل الخلقة في تراب الصاغة ولا بقاؤه فيه من مصلحته بخلاف مسألتنا.
(فصل) (السابع أن يكون الثمن معلوما فإن باعه السلعة برقمها أو بألف درهم ذهبا وفضة أو بما ينقطع
به السعر أو بما باع به فلان أو بدينار مطلق وفي البلد نقود لم يصح البيع وإن كان فيه نقد واحد انصرف إليه)
يشترط أن يكون الثمن في البيع معلوما عند المتعاقدين لأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كالآخر
وقياسا على رأس مال السلم فإن باعه السلعة برقمها وهما لا يعلمانه أو أحدهما لم يصح البيع للجهالة فيه
وكذلك ان باعه بألف درهم ذهبا وفضة لأنه مجهول ولأنه بيع غرر فيدخل في عموم النهي عن بيع
الغرر، وان باعه بمائة ذهبا وفضة لم يصح البيع، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح ويكون
نصفين لأن الاطلاق يقتضي التسوية كالاقرار، ولنا أن قدر كل واحد منهما مجهول فلم يصح كما لو قال
بمائة بعضها ذهب وقوله إنه يقتضي التسوية ممنوع فإنه لو فسره بغير ذلك صح. وكذلك لو أقر له بمائة
ذهبا وفضة فالقول قوله في قدر كل واحد منهما. وان باعه بما ينقطع السعر به أو بما باع به فلان عبده وهما
لا يعلمانه أو أحدهما لم يصح لأنه مجهول، وان باعه بدينار مطلق وفي البلد نقود لم يصح لجهالته وإن كان
فيه نقد واحد انصرف إليه لأنه تعين بانفراده وعدم مشاركة غيره ولهذا لو أقر بدينار أو أوصى به انصرف إليه.
{مسألة} (وان قال بعتك بعشرة صحاح أو إحدى عشرة مكسرة أو بعشرة نقد أو عشرين
نسيئة لم يصح) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة
وهذا هو كذلك فسره مالك والثوري وإسحاق، وهذا قول أكثر أهل العلم لأنه لم يجزم له
ببيع واحد أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين ولان الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، وقد
روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا لا بأس أن يقول أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا فيذهب
إلى أحدهما فيحتمل انه جرى بينها بعد ما يجري في العقد فكأن المشتري قال أنا آخذه بالنسيئة بكذا
33

فقال خذه أو قد رضيت ونحو ذلك فيكون عقدا كافيا فيقول كقول الجمهور، فعلى هذا إن لم يوجد
ما يدل على الايجاب أو ما يقوم مقامه لم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابا. وقد
روي عن أحمد أنه قال فيمن قال إن خطته اليوم فلك درهم وان خطته غدا فلك نصف درهم أنه
يصح فيتحمل أن لا يلحق به هذا البيع فيخرج وجها في الصحة ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن
العقد ثم يمكن أن يصح لكونه جعالة بخلاف البيع ولان العمل الذي يستحق به الأجرة لا يمكن وقوعه
الا على إحدى الصفتين فتتعين الأجرة المسماة عوضا فلا يفضي إلى التنازع وهذا بخلافه
{مسألة} (وان باعه الصبرة كل قفيز بدرهم والثوب كل ذراع بدرهم والقطيع كل شاة بدرهم صح)
إذا باعه الصبرة كل قفيز بدرهم صح وان لم يعلما قدر قفزانها حال العقد وبهذا قال مالك
والشافعي وقال أبو حنيفة يصح في قفيز واحد ويبطل فيما سواه لأن جملة الثمن مجهولة فلم يصح
كبيع المتاع برقمه، ولنا أن المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه
بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين وهو وكيل الصبرة فجاز كما لو باع ما رأس ماله اثنان وسبعون لكل ثلاثة
عشر درهم فإنه لا يعلم في الحال وإنما يعلم بالحساب كذا ههنا ولان المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن
معلوم قدر ما يقابل كل جزء من المبيع فصح كالأصل المذكور وكذلك حكم الثوب والأرض والقطيع
من الغنم إذا كان مشاهدا فباعه إياه كل ذراع بدرهم أو كل شاة بدرهم صح وان لم يعلما قدر ذلك
حال العقد لما ذكرنا في الصبرة
{مسألة} (وان باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح لأن من للتبعيض وكل للعدد فيكون
ذلك العدد منها مجهولا)
ويحتمل أن يصح البيع بناء على قوله في الإجارة إذا أجره كل شهر بدرهم. قال ابن عقيل وهو
الأشبه كالمسألة التي قبلها لأن من وان أعطيت البعض فما هو بعض مجهول بل قد جعل لكل جزء
معلوم منها ثمنا معلوما فهو كما لو قال قفيزا منها وكمسألة الإجارة
(فصل) وإن قال بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم على أن أزيدك قفيزا أو أنقصك قفيزا لم يصح
لأنه لا يدري أيزيده أم ينقصه. وان قال على أن أزيدك قفيزا لم يجز لأن القفيز مجهول. وان قال على أن
أزيدك قفيزا من هذه الصبرة الأخرى أو بصفة يعلم بها صح لأن معناه بعتك هذه الصبرة
وقفيزا من هذه الأخرى بعشرة دراهم، وان قال على أن أنقصك قفيزا لم يصح لأن معناه بعتك هذه
الصبرة إلا قفيزا كل قفيز بدرهم وشئ مجهول، ولو قال بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على أن
أزيدك قفيزا من هذه الصبرة الأخرى لم يصح لافضائه إلى جهالة في الثمن في التفصيل لأنه يصير قفيزا
وشيئا بدرهم وهما لا يعرفانه لعدم معرفتهما بكمية ما في الصبرة من القفزان. ولو قصد أني أحط ثمن
قفيز من الصبرة ولا احتسب به لم يصح للجهالة التي ذكرناها. وان علما قدر قفزان الصبرة أو قال هذه
عشرة أقفزة بعتكها كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزا من هذه الصبرة أو وصفه بصفة يعلم بها صح
لأن معناه بعتك كل قفيز وعشرة بدرهم وان لم يعلم القفزان وجعله هبة لم يصح وان أراد أني لا احتسب
34

عليك بثمن قفيز منها صح أيضا لأنهما لما علما جملة الصبرة علما ما ينقص من الثمن، ولو قال على أن
أنقصك قفيزا صح لأن معناه بعتك تسعة أقفزة بعشرة دراهم، وحكي عن أبي بكر أنه يصح في جميع
المسائل على قياس قول أحمد لأنه يجيز الشرط ولا يصح ما قاله لأن المبيع مجهول فلا يصح بيعه بخلاف
الشرط الذي لا يفضي إلى الجهالة. وما لا تتساوى أجزاؤه كالأرض والثوب والقطيع من الغنم فيه نحو
من مسائل الصبرة. وان قال بعتك هذه الأرض أو هذه الدار أو هذا الثوب أو هذا القطيع بألف درهم
صح إذا شاهداه وان قال بعتك نصفه أو ثلثه أو ربعه بكذا صح وان قال بعتك من الثوب كل ذراع
بدرهم أو من القطيع كل شاة بدرهم لا يصح لأنه مجهول
(فصل) ويصح بيع الصبرة جزافا مع جهل المتبايعين بقدرها لا نعلم فيه خلافا وقد نص عليه
أحمد ودل عليه حديث ابن عمر وهو قوله، كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه متفق عليه، ولأنه معلوم بالرؤية فصح بيعه كالثياب
والحيوان، ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة فإن ذلك يشق لكون الحب بعضه على بعض ولا يمكن بسطها
حبة حبة، ولان الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر فاكتفي برؤية ظاهره بخلاف الثوب فإن نشره
لا يشق وتختلف أجزاؤه ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنه علم ما اشترى بأبلغ الطرق وهو
الرؤية، وكذلك لو قال بعتك نصف هذه الصبرة أو جزأ منها معلوما لأن ما جاز بيع جملته جاز بيع بعضه
كالحيوان، قال ابن عقيل ولا يصح هذا إلا أن تكون الصبرة متساوية الاجزاء، فإن كانت مختلفة
مثل صبرة بقال القرية لم يصح، ويحتمل أن يصح لأنه يشتري منها جزءا مشاعا فيستحق من جيدها
ورديئها بقسطه ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافا، وقال مالك لا يجوز في الأثمان
لأن لها خطرا ولا يشق وزنها ولا عددها فأشبه الرقيق والثياب
ولنا أنه معلوم بالمشاهدة أشبه المثمنات والنقرة والحلي ويبطل بذلك ما قال. وأما الرقيق فإنه
يجوز بيعهم إذا شاهدهم ولم يعدهم، وكذلك الثياب إذا شراها ورأي جميع أجزائها
(فصل) فإن كان البائع يعلم قدر الصبرة لم يجز بيعها جزافا نص عليه أحمد وهو اختيار الخرقي. وكرهه
عطاء وابن سيرين ومجاهد وعكرمة، وبه قال مالك وإسحاق وروي ذلك عن طاوس، قال مالك
لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك، وعن أحمد رحمه الله أنه مكروه غير محرم فقد روى بكر بن محمد عن
أبيه عنه أنه سئل عن الرجل يبيع الطعام جزافا وقد عرف كيله، فقلت له وإن مالكا يقول إذا باع الطعام
ولم يعلم المشتري فإن اختار أن يرده رده قال: هذا تغليظ شديد ولكن لا يعجبني إذا عرف كيله إلا
أن يخبره فإن باعه فهو جائز عليه وقد أساء. ولم ير أبو حنيفة والشافعي بذلك بأسا لأنه إذا جاز البيع
مع جهلهما بمقداره فمع العلم من أحدهما أولى. ووجه الأول ما روى الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " من عرف مبلغ شئ فلا يبيعه جزافا حتى يبينه " قال القاضي وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم انه نهى عن بيع الطعام مجازفة وهو يعلم كيله وأيضا الاجماع الذي نقله مالك ولان
البائع لا يعدل إلى البيع جزافا مع علمه بقدر الكيل الا للتغرير ظاهرا وقد قال عليه السلام " من غشنا
35

فليس منا " فصار كتدليس البيع فإن باع ما علم كيله صبرة فظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن الحكم
ان البيع صحيح لازم وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن المبيع معلوم لهما ولا تغرير من أحدهما أشبه ما لو
علما كيله أو جهلاه ولم يثبت ما روي من النهي فيه، وإنما كرهه أحمد كراهة تنزيه لاختلاف العلماء فيه
ولان تسويتهما في العلم أو الجهل أبعد من التغرير. وقال القاضي وأصحابه هذا بمنزلة التدليس والغش
ان علم به المشتري فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فهو كمن اشترى مصراة يعلم تصريتها، وإن لم
يعلم أن البائع كان عالما بذلك فله الخيار في الفسخ والامضاء وهذا قول مالك لأنه غش وغرر من البائع
فصح العقد معه ويثبت للمشتري الخيار، وذهب بعض أصحابه إلى أن البيع فاسد والنهي يقتضي الفساد
(فصل) فإن أخبره البائع بكيله ثم باعه بذلك الكيل فالبيع صحيح، فإن قبضه باكتياله تم البيع
والقبض، وان قبضه بغير كيل كان بمنزلة قبضه جزافا إن كان البيع باقيا كاله عليه، فإن كان قدر
حقه الذي أخبره فقد استوفاه، وإن كان زائدا رد الفضل وإن كان ناقصا أخذ النقص، وإن كان قد تلف
فالقول قول القابض مع يمينه سواء قل القبض أو كثر لأن الأصل عدم القبض وبقاء الحق وليس
للمشتري التصرف في الجميع قبل كيله لأن للبائع فيه علقة فإنه لو زاد كانت الزيادة له ولا يتصرف
في أقل من حقه بغير كيل لأن ذلك يمنعه من معرفة كيله، وان تصرف فيما يتحقق انه مستحق له
مثل أن يكون حقه قفيزا فيتصرف في ذلك أو في أقل منه بالكيل ففيه وجهان (أحدهما) له ذلك
لأنه تصرف في حقه بعد قبضه فجاز كما لوكيل له (والثاني) لا يجوز لأنه لا يجوز له التصرف في الجميع
فلم يجز له التصرف في البعض كما قبل القبض، فإن قبضه بالوزن فهو كما لو قبضه جزافا، فأما ان أعلمه
بكيله ثم باعه إياه مجازفة على أنه له بذلك الثمن سواء زاد أو نقص لم يجز لما روى الأثرم باسناده عن
الحكم قال: قدم طعام لعثمان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " اذهبوا بنا إلى عثمان نعينه على
طعامه " فقام إلى جنبه فقال عثمان في هذه الغرارة كذا وكذا وأبيعها بكذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " إذا سميت الكيل فكل " قال أحمد إذا أخبره البائع ان في كل قارورة منها كذا رطلا فأخذ بذلك
ولا يكتاله فلا يعجبني لقوله فعثمان " إذا سميت الكيل فكل " قيل له انهم يقولون إذا فتح فسد. قال
فلم لا يفتحون واحدة ويتركون الباقي
(فصل) ولو كان طعاما وآخر يشاهده فلمن شاهد الكيل شراؤه بغير كيل ثان لأنه شاهد
كيله أشبه ما لو كيل له وعنه يحتاج إلى كيل للخبر وكالبيع الأول ولو كاله بائع للمشتري ثم اشتراه
منه فكذلك لما ذكرنا، ولو اشترى اثنان طعاما فاكتالاه ثم اشترى أحدهما حصة شريكه قبل تفرقهما
فهو جائز، وان لم يحضر المشتري الكيل لم يجز الا بكيل. وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى
لابد من كيله، وان باعه الثاني في هذه المواضع على أنه صبرة جاز ولم يحتج إلى كيل ثان ينقله كالصبرة
(فصل) قال أحمد في رجل يشتري الجوز فيعد في مكيل ألف جوزة ثم يأخذ الجوز كله على
ذلك العيار لا يجوز. وقال في رجل ابتاع أعكاما كيلا وقال للبائع كل لي عكما منها وأخذ ما بقي على
هذا الكيل أكره هذا حتى يكيلها كلها. قال الثوري كان أصحابنا يكرهون هذا وذلك لأن ما في
36

العكوم يختلف فلا يعلم ما في بعضها بكيل البعض، والجوز يختلف فيكون في أحد المكيلين أكثر من الآخر
فلا يصح تقديره بالكيل كما لا يصح تقدير المكيل بالوزن ولا الموزون بالكيل
(فصل) وان باع الادهان في ظروفها جملة وقد شاهدها جاز لأن اجزاءها لا تختلف فهي كالصبرة
وكذلك الحكم في العسل والدبس والخل وسائر المائعات التي لا تختلف، فإن باعه كل رطل بدرهم
أو باعه رطلا منه أو أرطالا معلومة يعلم أن فيها أكثر منها أو باعه أجزاء مشاعة أو أجزاء أو باعه إياه
مع الظرف بعشرة دراهم أو بثمن معلوم جاز، وان باعه السمن والظرف كل رطل بدرهم وهما يعلمان
مبلغ كل واحد منهما صح لأنه قد علم المبيع والثمن، وان لم يعلما ذلك جاز أيضا لأنه قد رضي أن
يشتري الظرف كل رطل بدرهم وما فيه كذلك فأشبه ما لو اشترى ظرفين في أحدهما سمن وفي آخر
زيت كل رطل بدرهم. وقال القاضي لا يصح لأن وزن الظرف يزيد وينقص فيدخل على غرر. والأول
أصح لأن بيع كل واحد منهما منفردا يصح كذلك، فكذلك إذا جمعهما كالأرض المختلفة الاجزاء
والثياب وغيرها. فأما إن باعه كل رطل بدرهم على أن يزن الظرف فيحسب عليه بوزنه ولا يكون مبيعا
وهما يعلمان زنة كل واحد منهما صح لأنه إذا علم أن الدهن عشرة والظرف رطل كان معناه بعتك
عشرة أرطال باثني عشر درهما، وان كانا لا يعلمان زنة الظرف والدهن لم يصح لأنه يؤدي إلى جهالة
الثمن في الحال، وسواء جهلا زنتهما جميعا أو زنة أحدهما كذلك
(فصل) وان وجد في ظرف الدهن ربا فقال ابن المنذر قال أحمد وإسحاق إن كان سمانا عنده
سمن أعطاه بوزنه سمنا، وان لم يكن عنده سمن أعطاه بقدر الرب من الثمن والزمه شريح بقدر
الرب سمنا بكل حال، وقال الثوري إن شاء أخذ الذي وجد ولا يكلف أن يعطيه بقدر الرب سمنا.
ولنا أنه وجد المبيع بكيل ناقصا فأشبه ما لو اشترى صبرة فوجد تحتها ربوة أو اشتراها على أنها
عشرة أقفزة فبانت تسعة فإنه يأخذ الموجود بقسطه من الثمن، كذلك هذا فعلى هذا إنما يأخذ
الموجود بقسطه من الثمن ولا يلزم البائع أن يعطيه سمنا سواء كان موجودا عنده أو لم يكن، فإن
تراضيا على اعطائه سمنا جاز
(فصل) وان باعه بمائة درهم إلا دينارا لم يصح ذكره القاضي لأنه قصد استثناء قيمة الدينار
وذلك غير معلوم، واستثناء المجهول من المعلوم يصيره مجهولا ولأنه استثناء من غير الجنس فلم يصح
كما لو قال بمائة إلا قفيزا من حنطة ويجئ على قول الخرقي انه يصح فيمن استثنى في الاقرار عينا من ورق
أو ورقا من عين فإنه يصح، فعلى هذا يحذف من الجملة بقيمة الدينار، ولو قال بمائة إلا قفيزا من
حنطة لم يصح لأنه استثناء من غير الجنس. فأما الذهب والفضة فهما كالجنس الواحد
(فصل في تفريق الصفقة) (وهو أن يجمع بين ما يجوز بيعه وبين ما لا يجوز) صفقة واحدة بثمن واحد
(وله ثلاث صور (إحداها) أن يبيع معلوما ومجهولا) كقولك بعتك هذه الفرس وما في بطن هذه الفرس الأخرى
بكذا فهذا بيع باطل بكل حال ولا أعلم في بطلانه خلافا لأن المجهول لا يصح بيعه بجهالته والمعلوم مجهول الثمن
ولا سبيل إلى معرفته لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما والمجهول لا يمكن تقويمه فيتعذر التقسيط
37

(الثانية) باع مشاعا بينه وبين غيره بغير إذن شريكه كعبد مشترك بينهما أو ما يقسم عليه الثمن بالاجزاء
كقفيزين متساويين لهما فيصح في ملكه بقسطه من الثمن ويفسد في نصيب الآخر، والثاني لا يصح فيهما وأصل
الوجهين ان أحمد نص فيمن تزوج حرة وأمة على روايتين (إحداهما) يفسد فيهما (والثانية) يصح في الحرة.
الوجه الأول قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وقال في الآخر لا يصح وهو قول أبي ثور
لأن الصفقة جمعت حلالا وحراما فغلب التحريم، ولان الصفقة إذا لم يمكن تصحيحها في جميع المعقود
عليه بطلت في الكل كالجمع بين الأختين وبيع درهم بدرهمين، ووجه الأول ان كل واحد منهما له
حكم لو كان منفردا فإذا جمع بينهما ثبت لكل واحد حكمه كما لو باع شقصا وسيفا ولان ما يجوز بيعه
قد صدر فيه البيع من أهله في محله بشرطه فصح كما لو انفرد، ولان البيع سبب اقتضى الحكم في محلين
فامتنع حكمه في أحد المحلين لنبوته عن قبوله فيصح في الآخر كما لو وصى بشئ لآدمي وبهيمة.
وأما الدرهمان والأختان فليس واحد منهما أولى بالفساد من الآخر فلذلك فسد فيهما وهذا بخلافه
(فصل) ومتى حكمنا بالصحة ههنا وكان المشتري عالما بالحال فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة
وإن لم يعلم مثل أن اشترى عبدا يظنه كله للبائع فبان أنه لا يملك إلا نصفه فله الخيار بين الفسخ
والامساك لأن الصفقة تبعضت عليه، وأما البائع فلا خيار له لأنه رضى بزوال ملكه عما يجوز بقسطه
ولو وقع العقد على شيئين يفتقر إلى القبض فيهما فتلف أحدهما قبل قبضه، فقال القاضي للمشتري
الخيار بين امساك الباقي بحصته وبين الفسخ لأن حكم ما قبل القبض في كون المبيع من ضمان البائع حكم
ما قبل العقد بدليل أنه لو تعيب قبل قبضه ملك المشتري الفسخ به
(الثالثة باع عبده وعبد غيره بغير اذنه أو عبدا وحرا أو خلا وخمرا ففيه روايتان)
اختلفت الرواية عن أحمد في هذا المسألة فنقل صالح عن أحمد فيمن اشترى عبدين فوجد أحدهما
حرا رجع بقيمته من الثمن، ونقل عنه مهنا فيمن تزوج امرأة على عبدين فوجد أحدهما حرا فلها قيمة
العبدين فأبطل الصداق فيهما جميعا. وللشافعي قولان كالروايتين وأبطل مالك العقد فيهما إلا أن يبيع
ملكه وملك غيره فيصح في ملكه يقف في ملك غيره على الإجازة ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال إن
كان أحدهما لا يصح بيعه بنص أو باجماع كالحر والخمر لم يصح العقد فيهما وإن لم يثبت بذلك كملكه
وملك غيره صح فيما يملكه لأن ما اختلف فيه يمكن أن يلحقه حكم الإجازة بحكم حاكم بصحة بيعه،
وقال أبو ثور لا يصح بيعه لما تقدم في القسم الثاني، ولان الثمن مجهول لأنه إنما يبين بالتقسيط للثمن
على القيمة وذلك مجهول في الحال فلم يصح البيع به كما لو قال بعتك هذه السلعة برقمها أو بحصتها من رأس
المال، ولأنه لو صرح به فقال بعتك هذا بقسطه من الثمن لم يصح فكذلك إذا لم يصرح وهذا هو
الصحيح إن شاء الله تعالى
ووجه الرواية الأولى أنه متى سمى ثمنا في مبيع فتقسط بعضه لا يوجب جهالة تمنع الصحة كما
لو وجد بعض المبيع معيبا فأخذ أرشه، وإذا قلنا بالصحة فللمشتري الخيار إذا لم يكن عالما كالقسم
38

الثاني لتبعض الصفقة عليه والحكم في الرهن والهبة وسائر العقود إذا جمعت ما يجوز وما لا يجوز
كالحكم في البيع إلا أن الظاهر فيها الصحة لأنها ليست عقود معاوضة فلا تؤثر جهالة العوض فيها
(فصل) وإن وقع العقد على مكيل أو موزون فتلف بعضه قبل قبضه لم ينفسخ العقد في الباقي
رواية واحدة سواء كانا من جنس واحد أو جنسين ويأخذ المشتري الباقي بحصته من الثمن لأن العقد
وقع صحيحا فذهاب بعضه لا يفسخه كما بعد القبض وكما لو وجد أحد المبيعين معيبا فرده أو أقال أحد
المتبايعين الآخر في بعض المبيع
{مسألة} (وإن باع عبده وعبد غيره باذنه بثمن واحد فهل يصح؟ على وجهين)
(أحدهما) يصح فيهما ويتقسط الثمن على قدر قيمتهما وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي
الشافعي لأن جملة الثمن معلومة فصح كما لو كانا لرجل واحد وكما لو باعا عبدا واحدا لهما
(والثاني) لا يصح لأن كل واحد منهما مبيع بقسطه من الثمن وهو مجهول على ما قدمنا وفارق
ما إذا كانا لرجل واحد فإن جملة المبيع مقابلة بجملة الثمن من غير تقسيط والعبد المشترك ينقسم عليه
الثمن بالاجزاء فلا جهالة فيه، فأما ان باع قفيزين متساويين له ولغيره بثمن واحد باذنه صح لأن الثمن
يتقسط عليهما بالاجزاء فلا يفضي إلى جهالة الثمن، وكذلك ان باعه عبدا لهما بثمن واحد صح لما ذكرنا
{مسألة} (وان جمع بين بيع وإجارة، أو بيع وصرف صح فيهما ويقسط العوض عليهما في أحد الوجهين)
إذا جمع بين عقدين مختلفي الحد كالبيع والإجارة والبيع والصرف بعوض واحد صح فيهما لأن
اختلاف حكم العقدين لا يمنع الصحة كما لو جمع ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه، وكذلك ان باع سيفا
محلى بذهب وفضة، وفيه وجه آخر أنه لا يصح لأن حكمهما مختلف وليس أحدهما أولى من الاخر
فبطل فيهما فإن البيع فيه خيار ولا يشترط فيه التقابض في المجلس، ولا ينفسخ العقد بتلف المبيع
والصرف يشترط له التقابض، وينفسخ العقد بتلف العين. وان جمع بين نكاح وبيع بعوض واحد
فقال زوجتك ابنتي وبعتك داري بمائة صح النكاح لكونه لا يفسد بفساد العوض وفي البيع وجهان
وللشافعي قولان كالوجهين
{مسألة} (وان جمع بين كتابة وبيع فكاتب عبده وباعه شيئا صفقة واحدة مثل أن يقول بعتك
عبدي هذا وكاتبتك بمائة كل شهر عشرة بطل البيع وجها واحدا) لأنه باع عبده لعبد فلم يصح كبيعه
إياه من غير كتابة وهل تبطل الكتابة؟ ينبني على روايتين في تفريق الصفقة
(فصل) قال رضي الله عنه (ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها)
لا يحل البيع بعد نداء الجمعة قبل الصلاة لمن تجب عليه الجمعة لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي
للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله تعالى وذروا البيع) فإن باع لم يصح البيع للنهي عنه. والنداء الذي يتعلق
به المنع هو النداء عقيب جلوس الإمام على المنبر لأنه النداء الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتعلق الحكم به، والنداء الثاني زيد في زمن عثمان رضي الله عنه، وحكى القاضي رواية عن أحمد أن البيع يحرم
39

بزوال الشمس وان لم يجلس الإمام على المنبر، ولا يصح هذا لأن الله تعالى علقه على النداء لا على الوقت،
ولان المقصود بهذا ادراك الجمعة وهو حاصل بما ذكرنا دون ما ذكره، ولأنه لو اختص تحريم البيع بالوقت
لما اختص بالزوال فإن ما قبله وقت أيضا، فأما من لا تجب عليه الجمعة من النساء والمسافرين وغيرهم فلا
يثبت في حقه هذا الحكم وذكر ابن أبي موسى فيه روايتين لعموم النهي، والصحيح ما ذكرنا إن شاء الله
تعالى فإن الله تعالى إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي فغير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي، ولان
تحريم البيع معلل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقهم، فإن كان المسافر في غير
المصر أو كان مقيما بقرية لا جمعة على أهلها لم يحرم البيع ولم يكره وجها واحدا، فإن كان أحدهما
مخاطبا بالجمعة دون الآخر حرم على المخاطب وكره للآخر لما فيه من الإعانة على الاثم، ويحتمل أن يحرم
لقوله تعالى (ولا تعاونوا على الاثم والعدوان)
{مسألة} (ويصح النكاح وسائر العقود في أصح الوجهين كالإجارة والصلح ونحوهما وفيه وجه
آخر أنه يحرم ولا يصح لأنه عقد معاوضة أشبه البيع. ولا أن النهي مختص بالبيع وغيره لا يساويه
في الشغل عن السعي لقلة وجوده فلا يؤدي إلى ترك الجمعة فلا يصح قياسه على البيع)
{مسألة} (ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمرا، ولا بيع السلاح في الفتنة ولا لأهل الحرب
ويحتمل أن يصح مع التحريم)
بيع العصير ممن يعتقد أنه يتخذه خمرا محرم وكرهه الشافعي، وذكر بعض أصحابه أن البائع إذا
اعتقد أنه يصيره خمرا محرم وإنما يكره إذا شك فيه، وحكى ابن المنذر عن الحسن وعطاء والثوري
أنه لا بأس ببيع التمر ممن يتخذه مسكرا، قال الثوري بع الحلال من شئت لقول الله تعالى (وأحل الله
البيع) ولان البيع تم بأركانه وشروطه، ولنا قول الله تعالى (ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) وهذا
نهي يقتضي التحريم، وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال يا محمد: إن
الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وشاربها وبائعها ومبتاعها وساقيها، وأشار
إلى كل معاون عليها ومساعد فيها. أخرجه الترمذي من حديث أنس، وقد روي هذا الحديث عن
ابن عباس وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
وروي ابن بطة باسناده عن محمد ابن سيرين أن قيما كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له، وأخبره
عن عنب أنه لا يصلح زبيبا ولا يصلح أن يباع إلا لمن يعصره فأمره بقلعه وقال بئس الشيخ أنا إن
بعت الخمر، ولأنه يعقد عليها لمن يعلم أنه يريدها للمعصية فأشبه إجارة أمته لم يعلم أنه يستأجرها
للزنا بها والآية مخصوصة بصور كثيرة فيخص منها صورة النزاع بدليلنا، وقولهم تم البيع بشروطه
وأركانه قلنا لكن وجد المانع منه
إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع إذا علم البائع قصد المشتري ذلك إما بقوله أو بقرائن محتفة بقوله
تدل عليه، وإن كان الامر محتملا كمن لا يعلم حاله أو من يعمل الخل والخمر معا ولم يلفظ بما يدل على
إرادة الخمر فالبيع جائز. فإن باعها لمن يتخذها خمرا فالبيع باطل ويحتمل أن يصح، وهو مذهب الشافعي
40

لأن المحرم في ذلك اعتقاده بالعقد دونه فلم يمنع صحة العقد كما لو دلس العيب
ولنا انه عقد على عين لمعصية الله تعالى بها فلم يصح كإجارة الأمة للزنا والغناء، وأما التدليس فهو
المحرم دون العقد ولان التحريم هنا لحق الله تعالى فافسد العقد كبيع الربا وفارق التدليس فإنه لحق آدمي
(فصل) وهكذا الحكم في كل ما قصد به الحرام كبيع السلاح في الفتنة أو لأهل الحرب أو
لقطاع الطريق، وبيع الأمة للغناء أو اجارتها لذلك فهو حرام والعقد باطل لما قدمنا. قال ابن عقيل
وقد نص أحمد على مسائل نبه بها على ذلك فقال في القصاب والخباز إذا علم أن من يشتري منه يدعو
عليه من يشرب المسكر لا يبيعه، ومن يخرط الاقداح لا يبيعها لمن يشرب فيها ونهى عن بيع الديباج
للرجال ولا بأس ببيعه للنساء، وروي عنه لا يبيع الجوز من الصبيان للقمار وعلى قياسه البيض
فيكون بيع ذلك كله باطلا
(فصل) قال أحمد في رجل مات وخلف جارية مغنية وولدا يتيما وقد احتاج إلى بيعها قال يبيعها
على أنها ساذجة فقيل له إنها تساوي ثلاثين ألف درهم فإذا بيعت ساذجة تساوي عشرين دينارا.
فقال لاتباع الاعلى أنها ساذجة. ووجهه ما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يجوز
بيع المغنيات ولا أثمانهن ولا كسبهن " قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث علي بن يزيد وقد تكلم
فيه بعض أهل العلم ورواه ابن ماجة وهذا يحمل على بيعهن لأجل الغناء، فاما ماليتهن الحاصلة بغير الغناء
فلا تبطل كبيع العصير لمن لا يتخذه خمرا فإنه لا يحرم لصلاحيته للخمر
(فصل) (ولا يجوز بيع الخمر ولا التوكل في بيعه ولا شرائه) قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن
بيع الخمر غير جائز، وعند أبي حنيفة يجوز للمسلم أن يوكل ذميا في بيعها وشرائها ولا يصح. فإن
عائشة روت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " حرمت التجارة في الخمر " وعن جابر أنه سمع النبي
صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول " ان الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام
فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال
" لا، هو حرام " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قاتل الله اليهود، ان الله تعالى حرم عليهم
شحومها فجعلوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه " متفق عليه ومن وكل في بيع الخمر وأكل ثمنه فقد أشبههم في
ذلك، ولان الخمر نجسة محرمة فحرم بيعها والتوكيل فيه كالميتة والخنزير
{مسألة} (ولا يصح بيع العبد المسلم لكافر إلا أن يكون ممن يعتق عليه فيصح في إحدى الروايتين)
لا يصح شراء الكافر مسلما، وهذا إحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي، وقال
أبو حنيفة يصح ويجبر على إزالة ملكه لأنه يملك المسلم بالإرث ويبقى ملكه عليه إذا أسلم في يده فصح
أن يشتريه كالمسلم. ولنا أنه يمنع استدامة ملكه عليه فمنع من ابتدائه كالنكاح ولأنه عقد يثبت الملك
للكافر على المسلم فلم يصح كالنكاح وإنما ملكه بالإرث وبقي ملكه عليه إذا أسلم في يده لأن الاستدامة
أقوى من الابتداء بالفعل والاختيار بدليل ثبوته بهما للحوم الصيد مع منعه من ابتدائه فلا يلزم من
41

ثبوت الأقوى ثبوت ما دونه مع انا نقطع الاستدامة عليه باجباره على ازالتها، فإن كان ممن يعتق عليه
بالقرابة صح في إحدى الروايتين وعتق عليه وهذا قول بعض الأصحاب، والأخرى لا يصح ولا يعتق
لأنه شراء يملك به المسلم فلم يصح كالذي لا يعتق عليه، ولان ما منع من شرائه لم يبح له شراؤه وان
زال ملكه عقيب الشراء المحرم الصيد. وجه الرواية الأولى أن الملك لا يستقر عليه وإنما يعتق
بمجرد الملك في الحال ويزول الملك عنه بالكلية ويحصل له من نفع الحرية أضعاف ما حصل من الإماء
بالملك في لحظة يسيرة. ويفارق من لا يعتق عليه فإن ملكه لا يزول إلا بإزالته وكذا شراء المحرم الصيد
{مسألة} (وإن أسلم عبد الذمي أجبر على إزالة ملكه عنه)
لأنه لا يجوز استدامة الملك للكافر على المسلم اجماعا وليس له كتابته لأن الكتابة لا تزيل ملك السيد
عنه ولا يجوز اقرار ملك الكافر عليه وقال القاضي له ذلك لأنه يزيل يده عنه فأشبه بيعه والأول أولى
{مسألة} (ولا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك
مثلها بتسعة، ولا شراؤه على شراء أخيه وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة عندي فيها عشرة ليفسخ
البيع ويعقد معه فإن فعل فهل يصح؟ على وجهين)
أما البيع فهو محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لابيع بعضكم على بيع بعض " ومعناه ما ذكرنا ومثله أن يقول
أبيعك خيرا منها بثمنها أو يعرض عليهما سلعة يرغب المشتري ليفسخ البيع ويعقد معه فلا يجوز
ذلك للنهي عنه ولما فيه من الاضرار بالمسلم والافساد عليه، وفي معنى ذلك شراؤه على شراء أخيه
لأنه في معنى المنهي عنه، ولان الشراء يسمى بيعا فيدخل في عموم النهي، ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن
يخطب الرجل على خطبة أخيه متفق عليه. وهو في معنى الخاطب، وان خالف وفعل فالبيع باطل للنهي
عنه والنهي يقتضي الفساد، وفيه وجه أنه يصح لأن المحرم هو عرض سلعته على المشتري أو قوله
الذي فسخ البيع من أجله وذلك سابق على البيع، ولأنه إذا صح الفسخ الذي حصل به الضرر فالبيع
المحصل للمصلحة أولى ولان النهي لحق آدمي فأشبه بيع النجش وهذا مذهب الشافعي
(فصل) وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يسم الرجل على سوم أخيه " ولا يخلو
من أربعة أقسام (أحدها) أن يوجد من البائع تصريح بالرضا بالبيع. فهذا يحرم السوم على غير ذلك
المشتري، وهو الذي تناوله النهي
والثاني أن يظهر منه ما يدل على عدم الرضا فلا يحرم السوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع فيمن
يزيد فروى أنس أن رجلا من الأنصار شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الشدة والجهد فقال له " أما
تبقى لك شئ؟ " قال بلى قدح وحلس قال " فائتني بهما " فأتاه بهما فقال " من يبتاعهما؟ " فقال
رجل أخذتهما بدرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من يزيد على درهم؟ " فأعطاه رجل درهمين
فباعهما منه: رواه الترمذي وقال حديث حسن وهذا أيضا اجماع فإن المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة
(الثالث) أن لا يوجد منه ما يدل على الرضا ولا عدمه فلا يحرم السوم أيضا ولا الزيادة استدلالا
42

بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت له أن معاوية وأبا جهم خطباها فأمرها أن تنكح أسامة، وقد
نهى عن الخطبة على خطبة أخيه كما نهى عن السوم على سوم أخيه فما أبيح في أحدهما أبيح في الآخر
(الرابع) أن يظهر منه ما يدل على الرضا من غير تصريح. فقال القاضي لا تحرم المساومة، وذكر
ان أحمد نص عليه في الخطبة استدلالا بحديث فاطمة ولان الأصل إباحة السوم والخطبة فحرم منه
ما وجد فيه التصريح بالرضا وما عداه يبقى على الأصل (قال شيخنا) لو قيل بالتحريم ههنا لكان وجها
حسنا فإن النهي عام خرجت منه الصورة المخصوصة بأدلتها فتبقى هذه الصورة على مقتضى العموم
ولأنه وجد منه دليل على الرضا أشبه ما لو صرح به، ولا يضر اختلاف الدليل بعد التساوي في الدلالة
وليس في حديث فاطمة ما يدل على الرضا لأنها جاءت مستشيرة للنبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك دليلا على
الرضا وكيف ترضى وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " لا تفوتينا بنفسك " فلم تكن تفعل شيئا قبل مراجعة
النبي صلى الله عليه وسلم والحكم في الفساد كالحكم في البيع على بيع أخيه في الموضع الذي حكمنا بالتحريم فيه
(فصل) وبيع التلجئة باطل وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي هو صحيح
لأن البيع تم بأركانه وشروطه خاليا عن مقارنة مفسدة فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عقد البيع
بغير شرط. ولنا أنهما ما قصدا البيع فلم يصح منهما كالهازلين، ومعنى بيع التلجئة أن يخاف أن يأخذ
السلطان أو غيره ملكه فيواطئ رجلا على أن يظهر أنه اشتراه منه ليحتمي بذلك ولا يريدان بيعا حقيقيا
{مسألة} (وفي بيع الحاضر للبادي روايتان إحداهما يصح والأخرى لا يصح بخمسة شروط
أن يحضر البادي لبيع سلعة بسعر يومها جاهلا بسعرها ويقصده الحاضر وبالناس حاجة إليها، وإن
اختل شرط منها صح البيع)
البادي ههنا من يدخل البلد من غير أهلها سواء كان بدويا أو من قرية أو من بلدة أخرى، ولا
يجوز ان يبيع الحاضر للبادي لقول ابن عباس نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد.
قال فقلت لابن عباس ما قوله حاضر لباد؟ قال لا يكون له سمسارا، متفق عليه، وعن جابر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " رواه مسلم والمعنى في
ذلك أنه متى ترك البدوي بيع سلعته اشتراها الناس رخص وتوسع عليهم السعر، وإذا تولى الحاضر
بيعها وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل لبلد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في تعليله إلى هذا.
وممن كره بيع الحاضر للبادي طلحة بن عبيد الله وابن عمر وأبو هريرة وأنس وعمر بن عبد العزيز
ومالك والليث والشافعي، ونقل أبو إسحاق ابن شاقلا أن الحسن بن علي المصري سأل احمد عن بيع
حاضر لباد فقال لا بأس به قال له فالخبر الذي جاء بالنهي. قال كان ذلك مرة، فظاهر هذا أن النهي
اختص بأول الاسلام لما كان عليهم من الضيق في ذلك. هذا قول مجاهد وأبي حنيفة وأصحابه، والمذهب
الأول لعموم النهي وما ثبت في حقهم ثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصهم به دليل، وهو مذهب
الشافعي وظاهر كلام الخرقي أنه يحرم بثلاثة شروط (أحدها) أن يكون الحاضر قصد البادي ليتولى
البيع له فإن كان هو القاصد للحاضر جاز لأن التضيق حصل منه لامن الحاضر. (الثاني) أن يكون
43

البادي جاهلا بالسعر قال أحمد في رواية أبي طالب: إذا كان البادي عارفا بالسعر لم يحرم لأن التوسعة
لا تحصل بتركه يبيعها لأنه لا يبيعها إلا بسعرها ظاهرا (الثالث) أن يكون قد جلب السلعة للبيع، فاما
ان جلبها ليأكلها أو يخزنها فليس في بيع الحاضر له تضييقا بل توسعة، وذكر القاضي شرطين آخرين
(أحدهما) أن يكون مريدا لبيعها بسعر يومها، فاما إن كان أحضرها وفي نفسه أن لا يبيعها رخيصة
فليس في بيعه تضييق (الثاني) أن يكون بالناس حاجة إليها وضرر في تأخير بيعها كالأقوات ونحوها،
وقال أصحاب الشافعي إنما يحرم بشروط أربعة وهي ما ذكرنا إلا حاجة الناس إليها فمتى اختل شرط
منها لم يحرم البيع وإن اجتمعت هذه الشروط فالبيع حرام وظاهر المذهب أنه باطل نص عليه
احمد في رواية إسماعيل بن سعيد. وذكر الخرقي رواية أخرى أن البيع صحيح وهو مذهب الشافعي
لأن النهي لمعنى في غير المنهي عنه فلم يبطل كتلقي الركبان ولنا أنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد والله أعلم
{مسألة} (فأما شراؤه له فيصح رواية واحدة) وهو قول الحسن وكرهت طائفة الشراء لهم
أيضا كما كرهت البيع فروى أنس قال: كان يقال هي كلمة جامعة يقول لا تبيعن له شيئا ولا تبتاعن له
شيئا وهو إحدى الروايتين عن مالك
ولنا أن النهي غير متناول للشراء بلفظه ولا هو في معناه فإن النهي عن البيع للرفق بأهل الحضر
ليتسع عليهم السعر ويزول عنهم الضرر، وليس ذلك في الشراء لهم ولا يتضررون لعدم الغبن للبادين
بل هو دفع الضرر عنهم والخلق في نظر الشارع على السواء فكما شرع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر
لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضرر. فاما ان أشار الحاضر على البادي من غير أن يباشر البيع فقد رخص
فيه طلحة بن عبيد الله والأوزاعي وابن المنذر وكرهه مالك والليث وقول الصحابي أولى
(فصل) وليس للإمام أن يسعر على الناس بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون وهذا مذهب
الشافعي، وكان مالك يقول يقال لمن يريد أن يبيع أقل ما يبيع الناس بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج
عنا، واحتج بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر
أنه مر بحاطب في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له مدين بكل
درهم فقال له عمر قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحتمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك فاما أن ترفع في السفر وإما
أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت ولان في ذلك إضرارا بالناس إذا زاد وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال " ان الله هو المسعر القابض الباسط الرازق إني لأرجو
أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وعن أبي سعيد مثله فوجه الدلالة من وجهين (أحدهما) أنه لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم
إليه (الثاني) أنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام ولأنه ماله فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان
كما لو اتفق الجماعة عليه، والظاهر أنه سبب الغلاء لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعتهم
بلدا يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها ويطلبها المحتاج
44

ولا يجدها الا قليلا فيرفع في ثمنها ليحصلها فتغلو الأسعار ويحصل الاضرار بالجانبين جانب الملاك
في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حراما، فاما حديث
عمر فقد روى فيه سعيد والشافعي أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال: ان الذي
قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء وإنما هو شئ أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع كيف شئت
وهذا رجوع إلى ما قلنا وما ذكروه من الضرر موجود فيما إذا باع في بيته ولا يمنع منه
{مسألة} (من باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها إلا أن تكون قد تغيرت صفتها،
وان اشتراها أبوه أو ابنه جاز)
من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدا لم يجز روي ذلك عن ابن عباس وعائشة والحسن
وابن سيرين والشعبي والنخعي وبه قال الثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي وأجازه
الشافعي لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها فجاز من بائعها كما لو باعها بمثل ثمنها
ولنا ما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل
أنها قالت دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة فقالت أم ولد زيد بن أرقم أني بعت
غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها: بئس ما شريت
بئس ما اشتريت ابلغي زيد بن أرقم قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. رواه أحمد
وسعيد بن منصور، والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه الا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم
فجرى مجرى روايتها ذلك عنه لأن ذلك ذريعة إلى الربا فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع الف بخمسمائة
إلى أجل، ولذلك قال ابن عباس في مثل هذه المسألة أرى مائة بخمسين بينهما حريرة يعني خرقة حرير
جعلاها في بيعهما والذرائع معتبرة، فأما ان باعها بمثل الثمن أو أكثر جاز لأنه لا يكون ذريعة وهذا
إن كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع، فإن نقصت مثل ان هزل العبد أو نسي متاعه أو تخرق الثوب
ونحوه جاز له شراؤها بما شاء لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا
(فصل) فإن اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول بعرض فاشتراها بنقد جاز ولا نعلم فيه خلافا لأن
التحريم إنما كان لشبهة الربا ولا ربا بين الأثمان والعروض، فإن باعها بنقد ثم اشتراها بنقد آخر فقال
أصحابنا يجوز لأنهما جنسان لا يحرم التفاضل بينهما أشبه ما لو اشتراها بعرض، وقال أبو حنيفة لا يجوز
استحسانا لأنهما كالشئ الواحد في معنى الثمنية ولان ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فهو كما لو باعها بجنس
الثمن الأول قال شيخنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى وهذه المسألة تسمى مسألة العينة قال الشاعر:
أندان أم نعتان أم ينبري لنا * فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه
ومعنى نعتان أي نشتري عينة كما وصفنا، وقد روى أبو داود باسناده عن ابن عمر قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله
عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد روي عن أحمد أنه
قال: العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة فإن باع بنقد ونسيئة فلا بأس وقال أكره
45

للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد قال ابن عقيل إنما كره النسيئة لمضارعته الربا فإن
البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل غالبا ويجوز أن تكون العينة اسما لهذه المسألة وللبيع نسيئة جميعا لكن
البيع بنسيئة مباح اتفاقا ولا يكره الا أن لا يكون له تجارة غيره
(فصل) فإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة فقال أحمد في رواية حرب لا يجوز إلا
أن تتغير السلعة لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فهي كمسألة العينة، فإن اشتراها بسلعة أخرى أو
بأقل من ثمنها أو بمثله نسيئة جاز لما ذكرنا في مسألة العينة، وان اشتراها بنقد آخر بأكثر من ثمنها
فهو كمسألة العينة على ما ذكرنا من الخلاف، قال شيخنا ويحتمل أن يكون له شراؤها بجنس الثمن
بأكثر منه إذ لم يكن ذلك عن مواطأة ولا حيلة بل وقع اتفاقا من غير قصد لأن الأصل حل البيع وإنما
حرم في مسألة العينة للأثر الوارد فيه وليس هذا في معناه لأن التوسل بذلك أكثر فلا يلحق به ما دونه
(فصل) وفي كل موضع قلنا لا يجوز له ان يشتري لا يجوز ذلك لوكيله لأنه قائم مقامه ويجوز
لغيره من الناس سواء كان أباه أو ابنه أو غيرهما لأنه غير البائع اشترى بنسيئة أشبه الأجنبي
{مسألة} (وإن باع ما يجري فيه الربا بنسيئة ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من جنسه أو ما لا
يجوز بيعه به نسيئة لم يجز)
روي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس وبه قال مالك وإسحاق وأجازه جابر بن زيد
وسعيد بن جبير وعلي بن حسين والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي. قال علي بن حسين إذا لم يكن
لك في ذلك رأى. وروى محمد بن عبد الله بن أبي مريم قال بعت تمرا من التمارين كل سبعة أصع بدرهم
ثم وجدت عند رجل منهم تمرا يبيعه أربعة آصع بدرهم فاشتريت منه فسألت عكرمة عن ذلك فقال لا بأس
أخذت أنقص مما بعت، ثم سألت سعيد بن المسيب عن ذلك وأخبرته بقول عكرمة فقال كذب قال عبد الله
ابن عباس ما بعت من شئ مما يكال بمكيال فلا تأخذ منه شيئا مما يكال بمكيال إلا ورقا أو ذهبا، فإذا أخذت
ذلك فابتع ممن شئت منه أو من غيره، فرجعت فإذا عكرمة قد طلبني فقال الذي قلت لك هو حلال
هو حرام، فقلت لسعيد بن المسيب ان فضل لي عنده فضل قال فاعطه أنت الكسر وخذ منه الدراهم
ووجه تحريم ذلك أنه ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة فحرم كمسألة العينة، وقد نص أحمد
على ما يدل على هذا، قال شيخنا والذي يقوى عندي جواز ذلك إذا لم يفعله حيلة ولا قصد ذلك
في ابتداء العقد كما قال علي بن الحسين فيما روى عنه عبد الله بن زيد قال قدمت على علي بن الحسين
فقلت له إني أجذ نخلي وأبيع فيمن حضرني إلى أجل فيقدمون بالحنطة وقد حل الاجل فيوقفونها
بالسوق فأبتاع منهم وأقاصهم، قال لا بأس بذلك إذا لم يكن منك على رأى وذلك لأنه اشترى
الطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح كما لو كان المبيع الأول حيوانا أو ثيابا ولما
ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا، فإن لم يأخذ بالثمن طعاما لكن اشترى من المشترى طعاما بدراهم
وسلمها إليه ثم أخذها منه وفاء أو لم يسلمها إليه لكن قاصه بها جاز كما في حديث علي بن الحسين
(فصل) والاحتكار حرام لما روى أبو أمامة ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يحتكر الطعام، وعن
46

سعيد بن المسيب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من احتكر فهو خاطئ رواهما الأثرم، وروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " والاحتكار المحرم ما جمع ثلاثة شروط:
(أحدها) أن يشتري فلو جلب شيئا أو أدخل عليه من غلته شيئا فادخره لم يكن محتكرا روي ذلك
عن الحسن ومالك، قال الأوزاعي الجالب ليس بمحتكر لقوله " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون "
ولان الجالب لا يضيق على أحد ولا يضر بل ينفع، فإن الناس إذا علموا أن عنده طعاما معدا للبيع كان
أطيب لقلوبهم (الثاني) أن يكون قوتا، فأما الادام والعسل والزيت وعلف البهائم فليس احتكاره
بمحرم. قال الأثرم سئل أبو عبد الله عن أي شئ الاحتكار؟ قال إذا كان من قوت الناس فهذا
الذي يكره وهذا قول عبد الله بن عمرو، وكان سعيد بن المسيب يحتكر الزيت وهو راوي حديث
الاحتكار، قال أبو داود وكان يحتكر النوى والخبط والبزر ولأن هذه الأشياء لا تعم الحاجة إليها
أشبهت الثياب والحيوان (الثالث) أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين (أحدهما)
أن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور قاله أحمد، فظاهر هذا ان البلاد الواسعة
الكبيرة كبغداد والبصرة ومصر ونحوها لا يحرم فيها الاحتكار لأن ذلك لا يؤثر فيها غالبا (الثاني)
أن يكون في حال الضيق بأن يدخل البلد قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها ويضيقون على الناس،
وأما ان اشتراه في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد لم يحرم
(فصل) ويستحب الاشهاد في البيع لقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) أقل أحوال الامر
الندب ولأنه أقطع للنزاع وأبعد من التجاحد، ويختص ذلك ماله خطر فأما مالا خطر له كحوائج البقال
والعطار وشبهها فلا يستحب ذلك فيها لأنها تكثر فيشق الاشهاد عليها وتقبح إقامة البينة عليها،
والترافع إلى الحاكم بخلاف الكثير وليس ذلك بواجب في واحد منها ولا شرطا له روي ذلك عن
أبي سعيد الخدري وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وإسحاق، وقال قوم هو فرض لا يجوز تركه
روي ذلك عن ابن عباس وممن رأى الاشهاد في البيع عطاء وجابر بن زيد والنخعي لظاهر الامر
قياسا على النكاح. ولنا قوله تعالى (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) قال أبو سعيد:
صار الامر إلى الأمانة وتلا هذه الآية، ولان النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعه ومن
رجل سراويل ومن أعرابي فرسا فجحده الاعرابي حتى شهد له خزيمة بن ثابت، ولم ينقل أنه اشهد في شئ
من ذلك وكان الصحابة يتبايعون في عصره في الأسواق فلم يأمرهم بالاشهاد ولا نقل عنهم فعله ولم ينكر عليهم
النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانوا يشهدون في كل بياعاتهم لنقل، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عروة بن الجعد البارقي أن يشتري
له أضحية ولم يأمره بالاشهاد، ولان المبايعة تكثر بين الناس في أسواقهم وغيرها فلو وجب الاشهاد في كل
ما يتبايعونه أفضى إلى الحرج المحطوط عنا بقوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) والآية المراد بها
الارشاد إلى حفظ الأموال والتعليم كما أمر بالرهن والكاتب، وليس بواجب وهذا ظاهران شاء الله تعالى
(فصل) ويكره البيع والشراء في المسجد لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيتم من
يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك " رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وقال
47

قوم لا بأس به. والصحيح الأول للحديث المذكور فإن باع فالبيع صحيح لأنه تم بأركانه وشروطه
ولم يثبت وجود مفسد له وكراهة ذلك لا توجب الفساد كالغش في البيع والتدليس والتصرية، وفي
قول النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا لا أربح الله تجارتك " من غير اخبار بفساد البيع دليل على صحته والله أعلم
{بسم الله الرحمن الرحيم}
باب الشروط في البيع
وهي ضربان: صحيح وهو ثلاثة أنواع (أحدها) شروط من مقتضى البيع كالتقابض وطول الثمن
ونحوه فهذا لا يؤثر فيه لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد فوجوده كعدمه (الثاني) شرط من مصلحة العقد
كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين أو الشهادة أو صفة في المبيع مقصودة نحو كون العبد
كاتبا أو خطيبا أو صانعا أو مسلما أو الأمة بكرا أو الدابة هملاجة أو الفهد صيودا فهو شرط صحيح يلزم
الوفاء به فإن لم يف به فللمشتري الفسخ والرجوع بالثمن والرضا به لأنه شرط وصفا مرغوبا فيه فصار
الشرط مستحقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافا
{مسألة} (فإن شرطها ثيبا كافرة فبانت بكرا مسلمة فلا فسخ له لأنه زاده خيرا وليس ذلك يزيد
في الثمن فأشبه ما لو شرطه غير صانع فبان صانعا)
وهذا قول الشافعي في البكر واختيار القاضي واستبعد كونه يقصد الثيوبة لعجزه عن البكر ويحتمل
أن له الفسخ لأن له فيه قصدا صحيحا وهو أن طالب الكافرة لكثرة لصلاحيتها للمسلمين والكفار أو
ليستريح من تكليفها العبادات وقد يشترط الثيب لعجزه عن البكر أو لبيعها لعاجز عن البكر فقد فات
قصده وقد دل اشتراطه على أن له قصدا صحيحا. فأما ان شرط صفة غير مقصودة فبانت بخلافها مثل
أن يشرطها سبطه فبانت جعدة أو جاهلة فبانت عالمة فلا خيار له لأنه زاده خيرا.
(فصل) فإن شرط الشاة لبونا صح وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يصح لأنه لا يجوز بيع
اللبن في الضرع فلم يجز شرطه، ولنا أنه أمر مقصود يتحقق من الحيوان ويأخذ قسطا من الثمن فصح
اشراطه كالصناعة في الأمة والهملجة في الدابة وإنما لم يجز بيعه مفردا للجهالة والجهالة فيما كان تبعا لا تمنع
الصحة ولذلك لو اشتراها بغير شرط صح بيعه معها. وكذلك يصح بيع أساسات الحيطان والنوى في
التمر وان لم يجز بيعهما منفردين فإن شرط انها تحلب قدرا معلوما لم يصح لأن اللبن يختلف ولا يمكن
ضبطه فتعذر الوفاء به، وإن شرطها غزيرة اللبن صح لأنه يمكن الوفاء به وان شرطها حاملا صح.
وقال القاضي قياس المذهب أن لا يصح لأن الحمل لاحكم له. ولهذا لا يصح اللعان على الحمل ويحتمل أنه ريح
ولنا أنه صفة مقصودة يمكن الوفاء بها فصح شرطه كالصناعة وكونها لبونا. وقوله ان الحمل لاحكم
له لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها، ومنع أخذ الحوامل في
الزكاة ومنع وطئ الحبالى المسبيات وأرخص للحامل في الفطر في رمضان إذا خافت على ولدها ومنع من
48

إقامة الحد عليها من أجل حملها. وظاهر الحديث المروي في اللعان يدل على أنه لاعنها حال حملها فانتفى
عنه ولدها، فإن شرط انها تضع الولد في وقت بعينه لم يصح وجها واحدا لأنه لا يمكن الوفاء به،
وكذلك ان شرط انها لا تحمل لذلك، وقال مالك لا يصح في المرتفعات ويصح في غيرهن، ولنا أنه
باعها بشرط البراءة من الحمل فلم يصح كالمرتفعات، وان شرطها حائلا فبانت حاملا فإن كانت أمة
فهو عيب يثبت الخيار وإن كان في غيرها فهو زيادة لا يستحق به فسخا، ويحتمل أن يستحق لأنه
قد يريدها لسفر أو حمل شئ لا تتمكن منه مع الحمل، وان شرط البيض في الدجاجة فقيل لا يصح
لأنه لا علم عليه يعرف به ولم يثبت له في الشرع حكم وقيل يصح لأنه يعرف بالعادة فأشبه اشتراط الشاة لبونا
{مسألة} (وان اشترط الطائر مصوتا أو انه يجئ من مسافة معلومة صح وقال القاضي لا يصح)
إذا شرط في الهزار والقمري ونحوهما انه مصوت فقال بعض أصحابنا لا يصح وبه قال أبو حنيفة
لأن صياح الطير يجوز أن يوجد وأن لا يوجد ولأنه لا يمكنه اكراهه على التصويت. والأولى جوازه
لأن فيه قصدا صحيحا وهو عادة له وخلقة فيه فأشبه الهملجة في الدابة والصيد في الفهد، وان شرط
في الحمام انه يجئ من مسافة معلومة صح أيضا اختاره أبو الخطاب لأن هذه عادة مستمرة وفيها قصد
صحيح لتبليغ الاخبار وحمل الكتب فجرى مجرى الصيد والهملجة وقال القاضي لا يصح وهو قول
أبي حنيفة لأن فيه تعذيبا للحيوان أشبه ما لو شرط الكبش مناطحا. وان شرط الغناء في الجارية لا يصح لأن الغناء
مذموم في الشرع فلم يصح اشتراطه كالزنا. وان شرط في الكبش النطاح أو في الديك كونه مناقرا لم يصح لأنه
منهي عنه في الشرع فجرى مجرى الغناء في الجارية. وان شرط أن الديك يوقظه للصلاة لم يصح لأنه لا
يمكن الوفاء به وان شرط أنه يصيح في أوقات معلومة جرى مجرى التصويت في القمري على ما ذكرنا
(والثالث) أن يشترط نفعا معلوما في المبيع كسكنى الدار شهرا وحملان البعير إلى
موضع معلوم أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب أو تكسيره أو خياطة
الثوب أو تفصيله ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة مثل أن يبيع دارا ويستثني سكناها
سنة، أو دابة ويشترط ظهره إلى مكان معلوم أو عبدا ويستثني خدمته مدة معلومة نص عليه أحمد وهو
قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر، وقال الشافعي وأصحاب الرأي لا يصح لأنه يروى ان
النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع وشرط ولأنه ينافي مقتضى البيع فأشبه ما لو شرط أن لا يسلمه ذلك لأنه
شرط تأخير تسليم المبيع إلى أن يستوفي البائع منفعته وقال ابن عقيل فيه رواية أخرى انه يبطل البيع
والشرط نقلها عبد الله بن محمد في الرجل يشتري من الرجل الجارية ويشترط أن تخدمه فالبيع باطل
قال شيخنا وهذه الرواية لا تدل على محل النزاع في هذه المسألة فإن اشتراط خدمة الجارية باطل
لوجهين (أحدهما) انها مجهولة فاطلاقه يقتضي خدمتها أبدا وهذا لا خلاف في بطلانه إنما الخلاف في
اشتراط منفعة معلومة (الثاني) أن يشترط خدمتها بعد زوال ملكه عنها وذلك يفضي إلى الخلوة بها
والخطر برؤيتها وصحبتها وهذا لا يوجد في غيرها ولذلك منع إعارة الأمة الشابة لغير محرمها وقال
49

مالك ان اشترط ركوبا إلى مكان قريب جاز وإن كان إلى مكان بعيد كره لأن اليسير تدخله المسامحة
ولنا ما روى جابر أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة وفي لفظ قال فبعته بأوقية
واستثنيت حملانه إلى أهلي متفق عليه وفي لفظ فبعته بخمس أواق قال قلت على أن لي ظهره إلى
المدينة قال " ولك ظهره إلى المدينة " رواه مسلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا الا أن تعلم وهذه
معلومة ولان المنفعة قد تقع مستثناة بالشرع على المشتري فيما إذا اشترى نخلا مؤبرة أو أرضا مزروعة
أو دارا مؤجرة أو أمة مزوجة فجاز أن يستثنيها كما لو اشترط البائع الثمرة قبل التأبير ولم يصح نهي
النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط إنما نهى عن شرطين في بيع فمفهومه إباحة الشرط الواحد وقياسهم
منقوض بشرط الخيار والتأجيل في الثمن
(فصل) وان باع أمة واستثنى وطأها مدة معلومة لم يصح لأن الوطئ لا يباح في غير ملك أو نكاح
لقول الله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير
ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) وفارق اشتراط وطئ المكاتبة حيث نبيحه لأنها
مملوكة فيستباح وطؤها بالشرط في المحل المملوك. واختار ابن عقيل عدم الإباحة أيضا وهو قول أكثر الفقهاء
(فصل) وان باع المشتري العين المستثناة منفعتها صح البيع وتكون في يد المشتري الثاني مستثناة
أيضا فإن كان عالما بذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له خيار كما لو اشترى معيبا يعلم
عيبه وان لم يعلم فله خيار الفسخ كمن اشترى أمة مزوجة أو دارا مؤجرة وان أتلف المشتري العين
فعليه أجرة المثل لتفويت المنفعة المستحقة لغيره وثمن البيع وان تلفت العين بتفريطه فهو كتلفها بفعله
نص عليه احمد وقال يرجع البائع على المبتاع بأجرة المثل قال القاضي: معناه عندي القدر الذي نقصه
البائع لأجل الشرط وظاهر كلام احمد خلاف هذا لأنه يضمن ما فات بتفريطه فضمنه بعوضه وهو
أجرة المثل فاما ان تلفت بغير فعله وتفريطه لم يضمن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله فعلى المشتري أن
يحمله على غيره لأنه كان له حملان؟ قال الا أنما شرط عليه هذا بعينه لأنه لا يملكها البائع من جهته فلم يلزمه
عوضها كما لو تلفت النخلة المؤبرة بثمرتها أو غير المؤبرة إذا اشترط البائع ثمرتها وكما لو باع حائطا واستثنى
منه شجرة بعينها فتلفت، وقال القاضي عليه ضمانها أخذا من عموم كلام أحمد وإذا تلفت العين رجع
البائع على المبتاع بأجرة المثل وكلامه محمول على حالة التفريط على ما ذكرناه
(فصل) إذا اشترط البائع منفعة المبيع فأراد المشتري أن يعطيه ما يقوم مقام المبيع في المنفعة أو
يعوضه عنها لم يلزمه قبوله وله استيفاء المنفعة من غير المبيع نص عليه احمد لأن حقه تعلق بعينها أشبه
ما لو استأجر عينا فبذل له الآخر مثلها ولان البائع قد يكون له غرض في استيفاء منافع تلك العين فلا
يجبر على قبول عوضها فإن تراضيا على ذلك جاز لأن الحق لهما وان أراد البائع إعارة العين أو اجارتها
لمن يقوم مقامه فله ذلك في قياس المذهب لأنها منافع مستحقة له فملك ذلك فيها كمنافع الدار المستأجرة
الموصى بمنافعها ولا تجوز اجارتها إلا لمثله في الانتفاع فإن أراد اجارتها أو اعارتها لمن يضر بالعين
بانتفاعه لم يجز ذلك كما لا يجوز له إجارة العين المستأجرة لمن لا يقوم مقامه ذكر ذلك ابن عقيل.
50

(فصل) وان قال بعتك هذه الدار وأجرتكها شهرا لم يصح لأنه إذا باعه فقد ملك المشتري المنافع
فإذا أجره إياها فقد شرط أن يكون له بدل في مقابلة ما ملكه المشتري فلم يصح قال ابن عقيل وقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان ومعناه أن يستأجره طحانا ليطحن له كذا بقفيز منه
فيصير كأنه شرط له القفيز عوضا عن عمله في باقي الكر المطحون ويحتمل الجواز بناء على اشتراط منفعة
البائع في المبيع على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(فصل) ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع مثل أن يشتري ثوبا ويشرط على بائعه
خياطته قميصا أو بغلة ويشرط حذوها نعلا أو حزمة حطب ويشرط حملها إلى موضع معلوم نص عليه
أحمد في رواية مهنا وغيره، واحتج أحمد بما روي أن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي حزمة حطب
وشارطه على حملها، وبه قال إسحاق وأبو عبيدة، وقال أبو حنيفة يجوز أن يشري بغلة ويشرط على
البائع حذوها، وحكي عن أبي ثور والثوري أنهما أبطلا العقد بهذا الشرط لأنه شرط فاسد أشبه
الشروط الفاسدة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط ولنا ما تقدم في قضية محمد بن مسلمة
ولأنه بيع وإجارة لأنه باعه الثوب وأجره نفسه على خياطته وكل واحد منهما يصح افراده بالعقد فإذا
جمعهما جاز كالعينين ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط قال أحمد: إنما نهى عن شرطين
في بيع وهو يدل بمفهومه على جواز الشرط الواحد ولابد من العلم بالمنفعة لهما ليصح اشتراطها لأننا
نزلنا ذلك منزلة الإجارة فلو اشترط حمل الحطب إلى منزله والبائع لا يعرف منزله لم يصح وان شرط
حذوها نعلا فلا بد من معرفة صفتها كما لو استأجره على ذلك ابتداء. قال احمد: في الرجل يشتري البغلة
على أن يحذوها جائز إذا أراد الشراك فإن تعذر العمل بتلف المبيع قبله أو بموت البائع انفسخت
الإجارة ورجع المشتري عليه بعوض ذلك، وان تعذر بمرض أقيم مقامه من يعمل العمل والأجرة
عليه كقولنا في الإجارة.
(فصل) وإذا اشترط المشتري منفعة البائع في المبيع فأقام البائع مقامه من يعمل العمل فله ذلك
بمنزلة الأجير المشترك يجوز أن يعمل العمل بنفسه وبمن يقوم مقامه وان أراد بذل العوض عن ذلك
لم يلزم المشتري قبوله وان أراد المشتري أخذ العوض عنه لم يلزم البائع بذله لأن المعاوضة عقد
تراض فلا يجبر عليه أحد وان تراضيا عليه احتمل الجواز لأنها منفعة يجوز أخذ العوض عنها لو لم يشترطها
فإذا ملكها المشتري جاز له أخذ العوض عنها كما لو استأجرها وكما يجوز أن تؤجر المنافع الموصى بها من
ورثة الموصي ويحتمل أن لا يجوز لأنه مشترط بحكم العادة والاستحسان لأجل الحاجة فلم يجز أخذ
العوض عنه كالقرض فإنه يجوز أن يرد في الخبز والخمير قل أو كثر ولو أراد أن يأخذ بقدر خبزه
وكسره بقدر الزيادة لم يجز ولأنه أخذ عوضا عن مرفق معتاد جرت العادة بالعفو عنه دون أخذ العوض
فأشبه المنافع المستثناة شرعا وهو ما إذا باع أرضا فيها زرع للبائع واستحق تبقيته إلى حين الحصاد فلو
أخذه قصيلا لينتفع بالأرض إلى وقت الحصاد لم يكن له ذلك
{مسألة} (وذكر الخرقي في جز الرطبة إن شرطه على البائع لم يصح فيخرج ههنا مثله)
51

إذا اشترى زرعا أو جزه من الرطبة أو ثمرة على الشجر فالحصاد وجز الرطبة وجذاذ الثمرة على
المشتري لأن نقل المبيع وتفريغ ملك البائع منه على المشتري كنقل الطعام المبيع من دار البائع بخلاف
الكيل والوزن والعدد فإنها على البائع من مؤنة تسليم المبيع إلى المشتري والتسليم على البائع،
وههنا حصل التسليم بالتخلية بدون القطع بدليل جواز بيعها والتصرف فيها وهذا مذهب أبي حنيفة
والشافعي ولا نعلم فيه خلافا. فإن شرطه على البائع فاختلف أصحابنا فقال الخرقي يبطل البيع وقال ابن
أبي موسى لا يجوز وقيل يجوز فإن قلنا لا يجوز فهل يبطل البيع لبطلان الشرط على روايتين، وقال
القاضي: المذهب جواز الشرط ذكره أبو بكر وابن حامد وقال القاضي ولم أجد بما قاله الخرقي رواية
في المذهب، واختلف فيه أصحاب الشافعي فقال بعضهم إذا شرط الحصاد على البائع بطل البيع قولا
واحدا وقال بعضهم يكون على قولين فمن أفسده قال لا يصح لثلاثة معان (أحدها) شرط العمل في
الزرع قبل أن يملكه (والثاني) أنه شرط مالا يقتضيه العقد (والثالث) أنه شرط تأخير التسليم لأن
معنى ذلك تسليمه مقطوعا، ومن أجازه هذا بيع وإجارة وكل واحد منهما يصح افراده فصح
جمعهما كالعينين وقولهم شرط العمل فيما لا يملكه يبطل بشرط رهن المبيع على الثمن في البيع (والثاني)
يبطل بشرط الرهن والكفيل والخيار (والثالث) ليس بتأخير لأنه يمكنه تسليمه قائما ويبقى الشرط
من المستلم فليس ذلك بتأخير التسليم فإذا فسدت هذه المعاني صح لما ذكرناه. فإن قيل فالبيع يخالف
حكمه حكم الإجارة لأن الضمان ينتقل في البيع بتسليم العين بخلاف الإجارة فكيف يصح الجمع بينهما؟
قلنا كما يصح بيع الشقص والسيف وحكمهما مختلف بدليل ثبوت الشفعة في الشقص دون السيف، وقد
صح الجمع بينهما. وقول الخرقي ان العقد ههنا يبطل يحتمل أن يختص هذه المسألة وشبهها مما يفضي
الشرط فيه إلى التنازع فإن البائع قد يريد قطعها من أعلاها ليبقى له منها بقية والمشتري يريد الاستقصاء
عليها ليزيد له ما يأخذه فيفضي إلى التنازع وهو مفسدة فيبطل البيع من أجله، ويحتمل أن يقاس عليه
ما أشبهه من اشتراط منفعة البائع في البيع كما ذكرنا في صدر المسألة والأول أولى لوجهين (أحدهما)
انه قد قال في موضع آخر ولا يبطل البيع شرط واحد (والثاني) ان المذهب انه يصح اشتراط منفعة
البائع في البيع كما ذكرنا والله أعلم
{مسألة} وإن جمع بين شرطين لم يصح)
ثبت عن أحمد رحمه الله أنه قال: الشرط الواحد لا بأس به إنما نهي عن الشرطين في البيع
وهو ما روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في
بيع ولا بيع ما ليس عندك " أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. قال الأثرم قيل
لأبي عبد الله ان هؤلاء يكرهون الشرط في البيع فنفض يده وقال: الشرط الواحد لا بأس به في البيع
إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في البيع وحديث جابر يدل على إباحة الشرط حين باعه جملة
وشرط ظهره إلى المدينة. واختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما فروي عن أحمد أنهما شرطان
صحيحان ليسا من مصلحة العقد فحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبا واشترط على
52

البائع خياطته أو قصارته أو طعاما واشترط طحنه وحمله إن شرط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز، وان
اشترط شرطين فالبيع باطل وكذلك فسر القاضي في شرحه الشرطين المبطلين بنحو هذا التفسير
وروى الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين أن يشتريها على أنه لا يبيعها من أحد ولا يطؤها ففسره
بشرطين فاسدين، وروى عنه إسماعيل بن سعيد في الشرطين في البيع ان يقول إذا بعتها فانا أحق
بها بالثمن، وان تخدمني سنة فظاهر كلام احمد ان الشرطين المنهي عنهما ما كان من هذا النحو، واما
ان شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو من مصلحته مثل أن يبيعه بشرط الخيار والتأجيل
والرهن والضمين أو بشرط ان يسلم إليه المبيع أو الثمن فهذا لا يؤثر في العقد وان كثر، وقال القاضي
في المجرد ظاهر كلام أحمد أنه متى شرط في العقد شرطين بطل سواء كانا صحيحين أو فاسدين لمصلحة
العقد أو لغير مصلحته اخذا من ظاهر الحديث وعملا بعمومه ولم يفرق الشافعي وأصحاب الرأي
بين الشرط والشرطين ورووا ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط ولأن الصحيح لا يؤثر في البيع
وان كثر والفاسد يؤثر فيه وان اتحد والحديث الذي رويناه يدل على الفرق ولان العذر اليسير إذا
احتمل في العقد لا يلزم احتمال الكثير، حديثهم ليس له أصل وقد أنكره أحمد ولا يعرفه مرويا في
مسند فلا يعول عليه، والذي ذكره القاضي في المجرد بعيد أيضا. فإن شرط ما يقتضيه العقد لا يؤثر
فيه بغير خلاف وشرط ما هو من مصلحة العقد كالأجل والخيار والرهن والضمين وشرط صفة في
المبيع كالكتابة والصناعة فيه مصلحة العقد فلا ينبغي أن يؤثر في بطلانه قلت أو كثرت. ولم يذكر
أحمد في هذه المسألة شيئا من هذا القسم فالظاهر أنه غير مراد له والأولى تفسيره بما حكاه ابن المنذر والله أعلم
(فصل) (الثاني) فاسد وهو ثلاثة أنواع (أحدها) أن يشرط على صاحبه عقد آخر كسلف أو
قرض أو بيع أو إجارة أو صرف للثمن أو غير فهذا يبطل البيع، ويحتمل أن يبطل الشرط وحده)
المشهور في المذهب ان هذا الشرط فاسد يبطل به البيع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل بيع وسلف
ولا شرطان في بيع " قال الترمذي هذا حديث صحيح ولان النبي صلى الله عليه سلم نهى عن بيعتين في بيعة،
حديث صحيح وهذا منه، قال احمد وكذلك كل ما في معنى ذلك مثل ان يقول على أن تزوجني ابنتك
أو على أن أزوجك ابنتي فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود صفقتان في صفقة ربا وهذا قول أبي حنيفة
والشافعي وجمهور العلماء وجوزه مالك وجعل العوض المذكور في الشرط فاسدا قال ولا ألتفت إلى
اللفظ الفاسد إذا كان معلوما حلالا فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير
ولنا الخبر والنهي يقتضي الفساد ولان العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط
فيفسد العقد لأن البائع لم يرض به الا بالشرط فإذا فات فات الرضا به ولأنه شرط عقدا في عقد
فلم يصح كنكاح الشغار، وقوله لا ألتفت إلى اللفظ لا يصح لأن البيع هو اللفظ كان فاسدا
فكيف يكون صحيحا، ويحتمل ان يصح البيع ويبطل الشرط بناء على ما ينافي مقتضى
العقد على ما نذكره إن شاء الله تعالى
53

(الثاني) شرط ما ينافي مقتضى البيع نحو ان يشترط ان لا خسارة عليه أو متى نفق المبيع والا
رده أو الا يبيع ولا يهب ولا يعتق وان أعتق فالولاء له أو يشترط ان يفعل ذلك فهذا الشرط
باطل في نفسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة حين شرط أهلها الولاء " ما كان من شرط ليس في
كتاب الله فهو باطل " نص على بطلان هذا الشرط وقسنا عليه سائر الشروط لأنها في معناه وهل يبطل
بها البيع؟ على روايتين، قال القاضي: المنصوص عن أحمد ان البيع صحيح وهو ظاهر كلام الخرقي
وبه قال الحسن والشعبي والنخعي والحكم وابن أبي ليلى وأبو ثور (والثانية) البيع فاسد وهو قول أبي
حنيفة والشافعي لأنه شرط فاسد فأفسد البيع كما لو اشترط فيه عقدا آخر، ولان الشرط إذا فسد
وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا ولان البائع إنما رضي بزوال
ملكه عن المبيع بشرطه والمشتري كذلك إذا كان الشرط له فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير
رضاه، والبيع ممن شرطه التراضي ولأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن بيع وشرط
ووجه الأولى ماروت عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل
عام أوقية فأعينيني، فقلت أن أحب أهلك أعدها لهم عدة واحدة ويكون ولاؤك لي فعلت،
فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم
جالس فقالت: اني عرضت عليهم فأبوا الا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم
فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال " خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق " ففعلت
عائشة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " أما بعد فما بال رجال يشترطون
شروطا ليست في كتاب الله تعالى، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط
قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق " متفق عليه فأبطل الشرط ولم يبطل العقد
قال ابن المنذر خبر بريرة ثابت ولا نعلم خبرا يعارضه فالقول به يجب فإن قيل المراد بقوله " اشترطي
لهم الولاء " اي عليهم بدليل انه أمرها به ولا يأمرها بفاسد قلنا لا يصح هذا التأويل لوجهين أحدهما
ان الولاء لها باعتاقها فلا حاجة إلى اشتراطه (الثاني) لهم أبوا البيع الا ان يشترط لهم الولاء فكيف
يأمرها بما علم أنهم لا يقبلونه منها واما أمرها بذلك فليس هو أمرا على الحقيقة، وإنما هو صيغة الامر
بمعنى التسوية بين الاشتراط وتركه كقول الله تعالى (استغفر لهم) وقوله (اصبروا
أولا تصبروا) والتقدير واشترطي لهم الولاء أولا تشترطي ولهذا قال عقيبه " فإنما الولاء لمن أعتق "
وحديثهم لا أصل له على ما ذكرنا وما ذكروه من المعنى في مقابلة النص لا يقبل
(فصل) وإذا حكمنا بصحة البيع فللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن ذكره القاضي وللمشتري
الرجوع يزيادة الثمن إن كان هو المشترط لأن البائع إنما سمح بالبيع بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض
بالشرط والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من اجل شرطه فإذا لم يحصل غرضه ينبغي ان يرجع بما
سمح به كما لو وجده معيبا ويحتمل إن يثبت الخيار ولا يرجع بشئ كمن شرط رهنا أو ضمينا فامتنع
54

الراهن والضمين ولان ما ينقصه الشرط من الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولا ولان النبي صلى الله عليه وسلم
لم يحكم لأرباب بريرة بشئ مع فساد الشرط وصحة البيع. وان حكمنا بفساد العقد لم يحصل به ملك
سواء قبضه أو يقبضه على ما نذكره إن شاء الله تعالى
{مسألة} (إذا شرط العتق ففي صحته روايتان)
إحداهما يصح وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي لأن عائشة اشترت بريرة وشرط عليها
أهلها عتقها وولاءها فأنكر النبي صلى الله وسلم شرط الولاء دون العتق (والثانية) الشرط فاسد
وهو مذهب أبي حنيفة لأنه شرط ينافي مقتضى العقد أشبه ما لو شرط أن لا يبيعه ولأنه شرط إزالة
ملكه عنه أشبه ما إذا اشترط أن يبيعه وليس في حديث عائشة انها شرطت لهم العتق إنما اخبرهم انها
تريد ذلك من غير شرط فاشترطوا ولاءها فإن حكمنا بفساده فحكمه حكم سائر الشروط الفاسدة على
ما بينا وان حكمنا بصحته فاعتقه المشتري فقد وفى بما شرط عليه وان لم يعتقه ففيه وجهان (أحدهما)
يجبر لأن شرط العتق إذا صح تعلق بعينه فيجبر كما لو نذر عتقه (والثاني) لا يجبر لأن الشرط لا يوجب
فعل المشروط بدليل ما لو شرط الرهن والضمين فعلى هذا يثبت للبائع خيار الفسخ لأنه لم يسلم له
ما شرط أشبه ما لو شرط عليه رهنا فلم يف به، وان تعيب المبيع أو كان أمة فاحبلها أعتقه وأجزأه لأن
الرق باق فيه وان استغله أو أخذ من كسبه شيئا فهو له وان مات المبيع رجع البائع على المشتري بما
نقصه شرط العتق فيقال كم قيمته لو بيع مطلقا وكم قيمته إذا بيع بشرط العتق؟ فيرجع بقسط ذلك
من ثمنه في أحد الوجهين كالأرش وفي الآخر يضمن بما نقص من قيمته
{مسألة} (وعنه فيمن باع جارية وشرط على المشتري انه ان باعها فهو أحق بها بالثمن ان
البيع جائز) روى المروذي عن أحمد أنه قال هو في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا شرطان
في بيع " يعني انه فاسد لأنه شرط أن يبيعه إياه وان يبيعه بالثمن الأول فهما شرطان في بيع نهي عنهما
ولأنه ينافي مقتضى العقد لأنه شرط ان لا يبيعه من غيره إذا أعطاه ثمنه فهو كما لو شرط ان لا يبيعه الا
من فلان وروى عنه إسماعيل بن سعيد البيع جائز لما روي عن ابن مسعود أنه قال ابتعت من امرأتي
زينب الثقفية جارية وشرطت لها ان بعتها فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به فذكرت ذلك لعمر فقال لا
تقربها ولاحد فيها شرط قال إسماعيل فذكرت لأحمد الحديث قال البيع جائز ولا تقربها لأنه كان فيها
شرط واحد للمرأة لم يقل عمر في ذلك البيع فاسد فحمل الحديث على ظاهره وأخذه به وقد اتفق
عمر وابن مسعود على صحته والقياس يقتضي فساده قال شيخنا ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في رواية
المروذي على فساد الشرط وفي رواية إسماعيل بن سعيد على جواز البيع فيكون البيع صحيحا والشرط
فاسدا كما لو اشتراها بشرط أن لا يبيعها وقول أحمد لا تقربها قد روي مثله فيمن اشترط في الأمة
أن لا يبيعها ولا يهبها أو شرط عليه ولاءها أولا يقربها والبيع جائز لحديث عمر المذكور. وقال القاضي
55

وهذا يدل على الكراهة لا على التحريم قال ابن عقيل عندي انه إنما منع من الوطئ لمكان الخلاف
في العقد لكونه يفسد بفساد الشرط في بعض المذاهب
{مسألة} (وان شرط رهنا فاسدا كالخمر ونحوه فهل يبطل البيع على وجهين؟) أصلهما الروايتان
في الشروط الفاسدة وقد مضى ذكرهما
(فصل) وإذا قال رجل لغريمه: بعني هذا على أن أقضيك دينك منه، ففعل، فالشرط باطل
لأنه شرط أن لا يتصرف فيه بغير القضاء وهل يفسد البيع؟ ينبني على الشروط الفاسدة في البيع على
ما ذكرنا. وان قال اقبضني حقي على أن أبيعك كذا وكذا فالشرط باطل والقضاء صحيح لأنه
أقبضه حقه وان قال أقبضني أجود من مالي على أن أبيعك كذا فالقضاء والشرط باطلان وعليه رد
ما قبضه ويطالب بماله
(فصل) ومتى حكمنا بفساد العقد لم يثبت به ملك سواء اتصل به القبض أو لا ولا ينفذ تصرف
المشتري فيه ببيع ولاهبة ولا عتق ولا غيره وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة يثبت الملك فيه إذا
اتصل به القبض وللبائع الرجوع فيه فيأخذه مع زيادته المتصلة الا ان يتصرف فيه المشتري تصرفا يمنع
الرجوع فيه فيأخذ قيمته محتجا بحديث بريرة فإن عائشة اشترتها بشرط الولاء فاعتقها فأجاز النبي صلى
الله عليه وسلم العتق والبيع فاسد ولان المشتري على صفة يملك المبيع ابتداء بعقد وقد حصل عليه
الضمان للبدل غير أنه عقد فيه تسليط فوجب ان يملكه كالعقد الصحيح. ولنا انه مقبوض بعقد فاسد فلم
يملكه كما لو كان الثمن ميتة أو دما فاما حديث بريرة فإنما يدل على صحة العقد لاعلى ما ذكروه وليس
في الحديث ان عائشة اشترتها بهذا الشرط بل الظاهر أن أهلها حين بلغهم انكار النبي صلى الله عليه
وسلم هذا الشرط تركوه ويحتمل ان الشرط كان سابقا للعقد فلم يؤثر فيه
(فصل) وعليه رد المبيع مع نمائه المنفصل وأجرة مثله مدة بقائه في يديه، وان نقص ضمن
نقصه لأنها جملة مضمونة فأجزاؤها تكون مضمونة أيضا وإن تلف المبيع في يد المشتري فعليه
ضمانه بقيمته يوم التلف قاله القاضي ولان أحمد نص عليه في الغصب ولأنه قبضه بإذن مالكه فأشبه
العارية، وذكر الخرقي في الغصب أنه يلزمه قيمته أكثر ما كانت فيخرج ههنا كذلك ولأصحاب
الشافعي وجهان كهذين
(فصل) فإن كان المبيع أمة فوطئها المشتري فلا حد عليه لاعتقاده أنها ملكه، ولان في الملك
اختلافا وعليه مهر مثلها لأن الحد إذا سقط للشبهة وجب المهر، ولان الوطئ في ملك الغير يوجب المهر
وعليه أرش البكارة إن كانت بكرا، فإن قيل أليس إذا تزوج امرأة تزويجا فاسدا فوطئها فأزال بكارتها
لا يضمن البكارة؟ قلنا لأن النكاح تضمن الاذن في الوطئ المذهب للبكارة لأنه معقود على الوطئ ولا
كذلك البيع لأنه ليس معقود على الوطئ بدليل أنه يجوز شراء من لا يحل وطؤها. فإن قيل إذا أوجبتم
56

مهر بكر فكيف توجبون ضمان البكارة وقد دخل ضمانها في المهر؟ وإذا أوجبتم ضمان البكارة فكيف
توجبون مهر بكر وقد أدى عوض البكارة بضمانه له فجرى مجرى من أزال بكارتها بإصبعه ثم وطئها؟
قلنا لأن مهر البكر ضمان المنفعة وأرش البكارة ضمان جزء فلذلك اجتمعا، وأما الثاني فإنه إذا وطئها بكرا
فقد استوفى نفع هذا الجزء فوجبت قيمة ما استوفى من نفعه وإذا أتلفه وجب ضمان عينه ولا يجوز
أن يضمن العين ويسقط ضمان المنفعة كما لو غصب عينا ذات منفعة فاستوفى منفعتها ثم أتلفها أو غصب
ثوبا فلبسه حتى أبلاه وأتلفه فإنه يضمن القيمة والمنفعة كذا ههنا
(فصل) وإن ولدت كان ولدها حرا لأنه وطئها بشبهة ويلحق به لذلك ولا ولاء عليه لأنه حر
الأصل وعلى الواطئ قيمته يوم وضعه لأنه يوم الحيلولة بينه وبين صاحبه فإن سقط ميتا لم يضمن لأنه
إنما يضمنه حين وضعه ولا قيمة له حينئذ. فإن قيل فلو ضرب بطنها فألقت جنينا ميتا وجب ضمانه قلنا
الضارب يجب عليه غرة وههنا يضمنه بقيمته ولا قيمة له ولان الجاني أتلفه وقطع نماءه وههنا يضمنه
بالحيلولة بعينه فإن كان الضارب أجنبيا فألقت جنينا ميتا فعلى الضارب غرة عبد أو أمة وللسيد أقل الأمرين
من دية الجنين أو قيمته يوم سقط لأن ضمان الضارب له قام مقام خروجه حيا ولذلك ضمنه
للبائع وإنما كان للسيد أقل الأمرين لأن الغرة ان كانت أكثر من القيمة فالباقي منها لورثته لأنه حصل
بالحرية فلا يستحق السيد منها شيئا وان كانت أقل لم يكن على الضارب أكثر منها لأنه بسبب ذلك
ضمن، وان ضرب الواطئ بطنها فألقت الجنين ميتا فعليه الغرة أيضا ولا يرث منها شيئا، وللسيد أقل الأمرين
كما ذكرنا، وان سلم الجارية المبيعة إلى البائع حاملا فولدت عنده ضمن نقص الولادة وان تلفت
بذلك ضمنها لأن تلفها بسبب منه وان ملكها الواطئ لم تصر بذلك أم ولد على الصحيح من المذهب لأنها
علقت منه في غير ملكه فأشبهت الزوجة وهكذا كل موضع حبلت في ملك غيره لا تصير له أم ولد بهذا
(فصل) إذا باع المشتري المبيع الفاسد لم يصح لأنه باع ملك غيره بغير اذنه، وعلى المشتري
رده على البائع الأول لأنه مالكه ولبائعه أخذه حيث وجده، ويرجع المشتري الثاني بالثمن على الذي
باعه ويرجع الأول على بائعه فإن تلف في يد الثاني فللبائع مطالبة من شاء منهما لأن الأول ضامن
والثاني قبضه من يد ضامنه بغير اذن صاحبه فكان ضامنا. فإن كانت قيمته أكثر من ثمنه فضمن الثاني
لم يرجع بالفضل على الأول لأن التلف في يده فاستقر الضمان عليه، وان ضمن الأول رجع بالفضل على الثاني
(فصل) وان زاد المبيع في يد المشتري بسمن أو نحوه ثم نقص حتى عاد إلى ما كان عليه أو ولدت
الأمة في يد المشتري ثم مات ولدها احتمل أن يضمن تلك الزيادة لأنها زيادة في عين مضمونة أشبهت
الزيادة في المغصوب واحتمل أن لا يضمنها لأنه دخل على أن لا يكون في مقابلة الزيادة عوض، فعلى
هذا تكون الزيادة أمانة في يده ان تلفت بتفريطه أو عدوانه ضمنها وإلا فلا، وان تلفت العين بعد
57

زيادتها أسقطت تلك الزيادة من القيمة وضمنها بما بقي من القيمة حين التلف، قال القاضي وهذا ظاهر كلام احمد
(فصل) وإذا باع بيعا فاسدا وتقابضا ثم أتلف البائع الثمن ثم أفلس فله الرجوع في المبيع
والمشتري أسوة الغرماء وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة المشتري أحق بالمبيع من سائر الغرماء لأنه
في يده فكان أحق به كالمرتهن. ولنا أنه لم يقبضه وثيقة فلم يكن أحق به كما لو كان وديعة عنده بخلاف
المرتهن فإنه قبضه على أنه وثيقة بحقه
(فصل) وإذا قال بع عبدك من فلان بألف على أن علي خمسمائة فباعه بهذا الشرط فالبيع فاسد
لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح لأنه لا يملك
المبيع والثمن على غيره، ولا يشبه هذا ما لو قال " أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة. لكون
هذا عوضا في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد ولذلك لم يجز في النكاح. أما في مسألتنا فإنه معاوضة في
مقابلة نقل الملك فلا يثبت لأن العوض على غيره، وإن كان هذا القول على وجه الضمان صح البيع ولزم الضمان
(الثالث أن يشترط شرطا يعلق البيع كقوله بعتك ان جئتني بكذا أو ان رضي فلان) فلا يصح
البيع لأنه علق البيع على شرط مستقبل فلم يصح كما إذا قال: بعتك إذا جاء رأس الشهر
{مسألة} (وكذلك إذا قال المرتهن ان جئتك بحقك في محله والا فالرهن لك، فلا يصح البيع، الا بيع
العربون وهو أن يشتري شيئا ويعطي البائع درهما ويقول إن اخذته وإلا فالدرهم لك. فقال احمد يصح
لأن عمر فعله وعند أبي الخطاب أنه لا يصح)
وممن روى عنه القول بفساد الشرط ابن عمر وشريح والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم، والأصل في ذلك ما روى معاوية بن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " رواه الأثرم قال الأثرم قلت لأحمد ما معنى قوله لا يغلق الرهن؟
قال لا يدفع رهن إلى رجل ويقول: ان جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا والا فالرهن لك. قال ابن المنذر
هذا معنى قوله لا يغلق الرهن عند مالك والثوري واحمد وإنما فسد البيع لأنه معلق بشرط مستقبل فلم
يصح كالمسألة قبلها، وكما لو قال إن ولدت ناقتي فصيلا فقد بعتكه بدينار
(فصل) والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع درهما أو أكثر على أنه ان
أخذ السلعة احتسب به من الثمن وان لم يأخذها فهو للبائع. يقال عربون وعربون وعربان وأربان.
قال أحمد ومحمد بن سيرين لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر أنه أجازه وقال ابن المسيب
وابن سيرين لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا قال احمد هذا في معناه، وقال أبو الخطاب
لا يصح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ويروى عن ابن عباس والحسن ولان النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن بيع العربون رواه ابن ماجة ولأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح كما لو
شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما
58

لو قال ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها ردهم (قال شيخنا) وهذا هو القياس وإنما صار احمد
فيه إلى ما روي عن نافع بن الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر والا
فله كذا وكذا، قال الأثرم قلت لأحمد تذهب إليه قال أي شئ أقول هذا عمر رضي الله عنه؟ وضعف
الحديث المروي. روى هذه القصة الأثرم باسناده
(فصل) فاما ان دفع إليه قبل البيع درهما وقال لاتبع هذه السلعة لغيري وان لم اشترها منك
فهذا الدرهم لك ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح لأن البيع خلا عن
الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه جمعا بين فعله
وبين الخبر وموافقة القياس والأئمة القائلين بفساد بيع العربون. وان لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم
يستحق البائع الدرهم لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه ولا يصح جعله عوضا من انتظاره
وتأخر بيعه من أجله لأنه لو كان عوضا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء ولان الانتظار
بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة
{مسألة} (وان قال بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث أو مدة معلومة والا فلا بيع بيننا فالبيع
صحيح نص عليه) وهذا قول أبي حنيفة والثوري وإسحاق ومحمد بن الحسن، وقال به أبو ثور
إذا كان إلى ثلاث، وحكي مثل قوله عن ابن عمر، وقال مالك يجوز في اليومين والثلاثة ونحوها
وإن كان عشرين ليلة فسخ البيع، وقال الشافعي وزفر البيع فاسد لأنه علق فسخ البيع على غرر فلم
يصح كما لو علقه بقدوم زيد.
ولنا أنه يروى عن عمر ولأنه علق رفع العقد بأمر يحدث في مدة الخيار فجاز كما لو شرط الخيار
ولأنه بيع فجاز أن ينفسخ بتأخير القبض كالصرف ولان هذا بمعنى شرط الخيار لأنه كما يحتاج إلى التروي في المبيع
- هل يوافقه أولا - يحتاج إلى التروي في الثمن هل يصير منقودا أولا فهما شبيهان في المعنى وان تغايرا في
الصورة الا أنه في الخيار يحتاج إلى الفسخ وهذا ينفسخ إذا لم ينقد في المدة المذكورة لأنه جعله كذلك.
{مسألة} (وان باعه وشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ وعنه يبرأ الا أن يكون البائع علم العيب فكتمه)
اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروي عنه أنه لا يبرأ إلا أن يعلم المشتري بالعيب وهو
قول الشافعي. وقال إبراهيم والحكم وحماد لا يبرأ إلا مما سمى، وقال شريح لا يبرأ الا مما أراه أو وضع
يده عليه، وروي عنه أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ من عيب علمه يروى ذلك عن عثمان
ونحوه عن زيد بن ثابت، وهو قول مالك وقول الشافعي في الحيوان خاصة لما روي أن عبد الله
ابن عمر باع زيد بن ثابت عبدا بشرط البراءة بثمانمائة درهم فأصاب به زيد عيبا فأراد رده على ابن
عمر فلم يقبله فترافعا إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر تحلف انك لم تعلم بهذا العيب؟ قال لا فرده عليه
فباعه ابن عمر بألف درهم رواه الإمام أحمد، وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر فكانت اجماعا ويتخرج
59

أن يبرأ من العيوب كلها بالبراءة وحكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد بناء على جواز البراءة من
المجهول، وروي هذا عن ابن عمر، وهو قول أصحاب الرأي وقول الشافعي لما روت أم سلمة أن
رجلين اختصما في مواريث درست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" استهما وتوخيا وليحلل كل واحد منكما صاحبه " وهذا يدل على أن البراءة من المجهول جائزة ولأنه
إسقاط حق لا تسليم فيه فصح في المجهول كالطلاق والعتاق ولافرق بين المجهول وغيره فما يثبت في
أحدهما يثبت في الآخر وقول عثمان قد خالفه ابن عمر فلا يبقى حجة
(فصل) وإذا قلنا بفساد هذا الشرط لم يفسد به البيع في ظاهر المذهب وهو وجه لأصحاب الشافعي
لما ذكرنا من قضية ابن عمر فإنهم أجمعوا على صحتها فعلى هذا لا يمنع الرد بوجود الشرط. ويكون
وجوده كعدمه وعن أحمد في الشروط الفاسدة روايتان (إحداهما) يفسد بها العقد فيدخل فيها هذا
البيع لأن البائع إنما رضي بهذا الثمن عوضا عن ماله بهذا الشرط فإذا فسد الشرط فات الرضا به
فيفسد البيع لعدم التراضي.
(فصل) قال رضي الله عنه (وإن باعه دارا أو ثوبا على أنه عشرة أذرع فبان أحد عشر فالبيع
باطل) لأنه لا يمكن اجبار البائع على تسليم الزيادة إنما باع عشرة، ولا المشتري على أخذ البعض وإنما
اشترى الكل وعليه ضرر في الشركة أيضا، عنه أنه صحيح والزيادة للبائع لأن ذلك نفص على المشتري
فلم يمنع صحة البيع كالمعيب، ثم يخير البائع بين تسليم المبيع زائدا وبين تسليم العشرة فإن رضي بتسليم
الجميع فلا خيار للمشتري لأنه زاده خيرا وإن أبى تسليمه زائدا فللمشتري الخيار بين الاخذ والفسخ
بجميع الثمن المسمى فإن رضي بالأخذ أخذ بالعشرة والبائع شريك له بالذراع، وهل للبائع خيار الفسخ؟
على وجهين (أولهما) له الفسخ لأن عليه ضررا في المشاركة (والثاني) لاخيار له لأنه رضي ببيع الجميع بهذا
الثمن فإذا وصل إليه الثمن مع بقاء جزء له فيه كان زيادة فلا يستحق بها الفسخ ولان هذا الضرر حصل
بتغريره واختياره بخلاف مجبره فلا ينبغي أن يسلط به على فسخ عقد المشتري، فإن بذلها البائع للمشتري
بثمن أو طلبها المشتري بثمن لم يلزم الآخر القبول لأنها معاوضة يعتبر فيها التراضي منهما فلا يجبر
واحد منهما عليها وإن تراضيا على ذلك جاز، وإن بانت تسعة فالبيع باطل لما ذكرنا وعنه أنه صحيح
والمشتري بالخيار بين الفسخ وأخذ المبيع بقسطه من الثمن، وقال أصحاب الشافعي ليس له إمساكه
إلا بجميع الثمن أو الفسخ بناء على المبيع المعيب عندهم، ولنا أنه وجد المبيع ناقصا في القدر فكان له إمساكه
بقسطه من الثمن كالصبرة إذا اشتراها على أنها مائة فبانت خمسين وسنبين في المعيب أن له امساكه وأخذ
الأرش، فإن أخذها بقسطها من الثمن فللبائع الخيار بين الرضا بذلك وبين الفسخ لأنه إنما رضي ببيعها
بكل الثمن فإذا لم يصل إليه ثبت له الفسخ، فإن بذل له المشتري جميع الثمن لم يملك الفسخ لأنه وصل
إليه الثمن الذي رضيه فأشبه ما لو اشترى معيبا فرضيه بجميع الثمن وان اتفقا على تعويضه عنه جاز لأنها
60

معاوضة فجازت بتراضيهما كغيرها
(فصل) وان اشترى صبرة على أنها عشرة أقفزة فبانت أحد عشر رد الزائد ولاخيار له ههنا
لأنه لا ضرر في رد الزيادة وإن بانت تسعة أخذها بقسطها من الثمن، وقد ذكرنا فيما تقدم أنه متى
سمى الكيل في الصبرة لا يكون قبضها إلا بالكيل فإن وجدها قدر حقه أخذها وإن كانت زائدة رد
الزيادة وإن نقصت أخذها بقسطها من الثمن وهل له الفسخ وإذا وجدها ناقصة؟ على وجهين (أحدهما)
له الخيار وهو مذهب الشافعي لأنه وجد المبيع ناقصا فكان له الفسخ كغير الصبرة وكنقصان الصفة
(والثاني) لاخيار له لأن نقصان القدر ليس بعيب في الباقي من الكيل بخلاف غيره
{باب الخيار في المبيع}
(وهو على سبعة أقسام: أحدها خيار المجلس ويثبت في البيع والصلح بمعناه والإجارة ويثبت في الصرف
والسلم وعنه لا يثبت فيهما ولا يثبت في سائر العقود إلا في المساقاة والحوالة والسبق في أحد الوجهين)
وجملته أن خيار المجلس يثبت في البيع بمعنى أنه يقع جائزا ولكل واحد من المتبايعين الخيار في
فسخه ماداما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم يروى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وأبي
هريرة وأبي برزة، وبه قال سعيد بن المسيب وشريح والشعبي وعطاء وطاوس والزهري والأوزاعي
وابن أبي ذئب والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وقال مالك وأصحاب الرأي يلزم العقد
بالايجاب والقبول والخيار لهما لأنه روي عن عمر رضي الله عنه: البيع صفقة أو خيار ولأنه عقد
معاوضة فلزم بمجرده كالنكاح والخلع
ولنا ما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا " تبايع الرجلان فلكل واحد
منهما الخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الاخر فتبايعا على ذلك فقد وجب
البيع وان تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام
" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " رواه الأئمة ورواه عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وحكيم بن حزام
وأبو ثور الأسلمي ورواه عن نافع عن ابن عمر مالك وأيوب وعبيد الله بن عمر وابن جريج والليث
ابن سعد وغيرهم وهو صريح في حكم المسألة وعاب كثير من أهل العلم على مالك مخالفته الحديث مع
روايته له وثبوته عنده قال الشافعي لا أدري هل أيهم مالك نفسه أو نافعا وأعظم أن أقول عبد
الله بن عمر. وقال ابن أبي ذئب يستتاب مالك في تركه لهذا الحديث. فإن قيل المراد بالتفرق هاهنا
التفرق بالأقوال كقوله تعالى (وما تفرق الذين أو توا الكتاب الامن بعد ما جاءتهم البينة) وقول النبي
صلى الله عليه وسلم " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " أي بالأقوال والاعتقادات قلنا هذا باطل
لوجوه منها ان اللفظ لا يحتمل ما قالوه إذ ليس بين المتبايعين تفرق بقول ولا اعتقاد إنما بينهما اتفاق على
61

البيع بعد الاختلاف فيه (الثاني) ان هذا يبطل فائدة الحديث إذ قد علم أنه بالخيار قبل العقد في
انشائه وإتمامه أو تركه (الثالث) أنه قال في الحديث " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار بعد
تبايعهما " وقال " وان تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " (والرابع) انه
يرده تفسير ابن عمر للحديث بفعله فإنه كان إذا بايع رجلا مشى خطوات ليلزم البيع وتفسير أبي برزة
بقوله مثل قولنا وهما راويا الحديث وأعلم معناه وقول عمر لبيع صفقة أو خيار معناه ان البيع ينقسم
إلى بيع شرط فيه الخيار وبيع لم يشرط فيه سماه صفقة لقصر مدة الخيار فيه لأنه قد روي عن الجوزجاني
مثل مذهبنا ولو أراد ما قالوه لم يجز ان يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا حجة في قول
أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن قول الصحابي لا يحتج به إذا خالفه غيره من الصحابة
وقد خالفه ابنه وأبو برزة وغيرهما، ولا يصح قياس البيع على النكاح لأن النكاح لا يقع الابعد رؤية ونظر غالبا فلا
يحتاج إلى الخيار بعده ولان في ثبوت الخيار فيه مضرة لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد وذهاب
حرمتها بالرد والحاقها بالسلع المبيعة فلم يثبت الخيار لذلك ولهذا لم يثبت فيه خيار الشرط ولاخيار الرؤية
والحكم في هذه المسألة ظاهر لظهور دليله وضعف ما يذكره المخالف في مقابلته
(فصل) ويثبت الخيار في الصلح بمعنى البيع لأنه عقد معاوضة أشبه البيع. والهبة إذا شرط فيها
عوضا معلوما ثبت فيها الخيار في إحدى الروايتين بناء على الاختلاف فيها هل تصير بيعا أو لا ويثبت
في الإجارة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع ويثبت في الصرف والسلم وما يشترط فيه القبض في المجلس
كبيع مال الربا بجنسه في الصحيح لما ذكرنا من الخبر والمعنى. وعنه لا يثبت فيها قياسا على خيار الشرط
فإنه لا يثبت فيها رواية واحدة لأن موضوعها على أن لا يبقى بينهما علقة بعد التفرق بدليل اشتراط
القبض، وثبوت الخيار يبقي بينهما علقة ولا يثبت في سائر العقود
وهي. على اضرب (أحدها) لازم لا يقصد به العوض كالنكاح والخلع فلا يثبت فيهما خيار لأن الخيار
إنما يثبت لمعرفة الحظ في كون العوض جابرا لما يذهب من ماله والعوض هاهنا ليس هو المقصود وكذلك
الوقف والهبة بغير عوض ولان في ثبوت الخيار في النكاح ضررا ذكرناه
(الضرب الثاني) لازم من أحد طرفيه كالرهن لازم في حق الراهن وجده فلا يثبت فيه خيار
لأن المرتهن يستغني بالجواز في حقه عن ثبوت الخيار والراهن يستغني بثبوت الخيار له إلى أن يقبض
وكذلك الضامن والكفيل لاخيار لهما لأنهما دخلا متطوعين راضيين بالغبن، وكذلك المكاتب
(الضرب الثالث) عقد جائز من الطرفين كالشركة والمضاربة والجعالة والوكالة والوديعة والوصية
فلا يثبت فيها خيار استغناء بجوازها والتمكن من فسخها بأصل وضعها
(الضرب الرابع) ما هو متردد بين الجواز واللزوم كالمساقاة والمزارعة، وظاهر المذهب انهما
جائزان فلا يدخلهما خيار، وقيل هما إجارة فلهما حكمها، والسبق والرمي الظاهر أنهما جعالة فلا
62

يثبت فيهما خيار وقيل هما إجارة وقد ذكرناه، فأما الحوالة والاخذ بالشفعة فهو عقد لازم يستقل به
أحد المتعاقدين فلا خيار فيهما لأن من لا يعتبر رضاه الخيار له، إذا لم يثبت في أحد طرفيه لا يثبت
في الآخر كسائر العقود، ويحتمل أن يثبت الخيار للمحيل والشفيع لأنه يقصد فيهما العوض فأشبها
سائر عقود المعاوضات
{مسألة} (ولكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما لما ذكرناه) ولا خلاف في
لزوم العقد بعد التفرق ما لم يكن سبب يقتضي جوازه مثل أن يجد في السلعة عيبا فيردها به أو يكون قد
شرط الخيار مدة معلومة فيملك الرد فيها بغير خلاف علمناه بين أهل العلم، وفي معنى العيب أن يدلس
المبيع بما يختلف به الثمن أو يشرط في المبيع صفة يختلف بها الثمن فيبين بخلافه أو يخبره في المرابحة
بثمن حال وهو مؤجل ونحو ذلك وقد دل على لزوم البيع بالتفرق قول النبي صلى الله عليه وسلم " وان
تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعاداتهم
لأن الشارع علق عليه حكما ولم يبينه فدل على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والاحراز، فإن كانا
في فضاء واسع كالمسجد الكبير والصحراء فبأن يمشي أحدهما مستدبرا لصاحبه خطوات وقيل هو ان
يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذي يتكلم به في العادة. قال أبو الحارث سئل أحمد عن تفرقة الأبدان
فقال إذا أخذ هذا هكذا وأخذ هذا هكذا فقد تفرقا. وروى مسلم عن نافع قال فكان ابن عمر
إذا باع فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة ثم رجع، وان كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت فالمفارقة
أن يفارقه من بيت إلى بيت أو إلى مجلس أو صفة أو من مجلس إلى بيت ونحو ذلك، فإن
كانا في دار صغيرة فإذا صعد أحدهما السطح أو خرج منها فقد فارقه، وإن كانا في سفينة صغيرة
خرج أحدهما منها ومشى، وإن كانت كبيرة صعد أحدهما إلى أعلاها ونزل الآخر في أسفلها وهذا
كله مذهب الشافعي، فإن كان المشتري هو البائع مثل أن اشترى لنفسه من مال ولده أو اشترى
لولده من نفسه لم يثبت فيه خيار المجلس لأنه يتولى طرفي العقد فلم يثبت له خيار كالشفيع ويحتمل
أن يثبت فيه كغيره فعلى هذا يعتبر لزومه مفارقة مجلس العقد لأن الافتراق لا يمكن هاهنا لكون
البائع هو المشتري، ومتى حصل التفرق لزم العقد قصدا ذلك أو لم يقصداه علماء أو جهلاه لأن النبي
صلى الله عليه وسلم علق الخيار على التفرق وقد وجد، ولو هرب أحدهما من الآخر لزم العقد لأنه
فارقه ولا يقف لزوم العقد على رضاهما ولهذا كان ابن عمر يفارق صاحبه ليلزم البيع، ولو أقاما في المجلس
وسدلا بينهما سترا أو بنيا بينهما حاجزا أو ناما وقاما فمضيا جميعا ولم يتفرقا فالخيار بحاله وان طالت
المدة لعدم التفرق، وقد روى أبو داود والأثرم باسنادهما عن أبي الوضئ قال غزونا غزوة لنا
فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسا بغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحنا من الغد وحضر الرحيل
قام إلى فرسه يسرجه فندم فأتى الرجل وأخذه بالبيع فأبى الرجل أن يدفعه إليه فقال بيني وبينك
63

أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله وعليه وسلم فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالوا له هذه القصة
فقال أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وما أراكما افترقتما. فإن فارق أحدهما الآخر مكرها احتمل بطلان الخيار
لوجود التفرق ولأنه لا يعتبر رضاه في مفارقة صاحبه له فكذلك في مفارقته لصاحبه، وقال القاضي
لا ينقطع الخيار لأنه حكم علق على التفرق فلم يثبت مع الاكراه كما لو علق عليه الطلاق ولأصحاب
الشافعي وجهان كهذين، فعلى قول من لا يرى انقطاع الخيار ان أكره أحدهما على فرقة صاحبه انقطع
خيار صاحبه كما لو هرب منه يبقى الخيار للمكره منهما في المجلس الذي يزول عنه الاكراه فيه حتى
يفارقه، وان أكرها جميعا انقطع خيارهما لأن كل واحد منهما يقطع خياره بتفرقة الآخر له فأشبه
ما لو أكره صاحبه دونه، وذكر ابن عقيل من صور الاكراه ما لو رأيا سبعا أو ظالما خشياه فهربا
فزعا منه أو حملهما سبيل أو فرقت بينهما ريح. فإن خرس أحدهما قامت إشارته مقام نطقه فإن لم تفهم
إشارته أو جن أو أغمي عليه قام أبوه أو وصيه أو الحاكم مقامه وهذا مذهب الشافعي
(فصل) ولو الحقا في العقد خيارا بعد لزومه لم يلحق وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
وأصحابنا يلحقه لأن لهما فسخ العقد فكان لهما إلحاق الخيار به كالمجلس. ولنا أنه عقد لازم فلم يصر
جائزا بقولهما كالنكاح وفارق المجلس فإنه جائز فجاز ابقاؤه على جوازه
(فصل) وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا الا أن
تكون صفقة خيار فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله " رواه الترمذي وقال حديث حسن
وقوله " الا أن يكون صفقة خيار " يحتمل أنه أراد البيع المشروط فيه الخيار فإنه لا يلزم بتفرقهما
لكونه ثابتا بعده بالشرط، ويحتمل أنه أراد البيع الذي شرط فيه أن لا يكون فيه خيار فيلزم بمجرد
العقد من غير تفرق. وظاهر الحديث تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه خشية من فسخ البيع وهذا
ظاهر كلام احمد في رواية الأثرم فإنه ذكر له فعل ابن عمر وهذا الحديث فقال هذا الان قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو اختيار أبي بكر، وقال القاضي ظاهر كلام احمد جواز ذلك لأن ابن
عمر فعله والأول أصح لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على فعل ابن عمر، والظاهر أن
ابن عمر لم يبلغه هذا ولو علمه لما خالفه
{مسألة} (إلا أن يتبايعا على أن لاخيار بينهما أو يسقطا الخيار بعده فيسقط في إحدى
الروايتين، وان أسقطه أحدهما بقي خيار صاحبه)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فروي عنه ان الخيار يمتد إلى التفرق ولا يبطل بالتخاير
ولا بالاسقاط قبل العقد ولابعده وهو ظاهر كلام الخرقي لأن أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه
وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " من غير تقييد ولا تخصيص في رواية حكيم بن حزام وأبي برزة
64

وأكثر الروايات عن عبد الله بن عمرو. والتقييد إنما هو في حديث ابن عمر، ومتى انفرد بعض الرواة
بزيادة قدم قول الأكثرين وذوي الضبط (والرواية الثانية) ان الخيار يبطل بالتخاير اختارها ابن
أبي موسى وهذا مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
ابن عمر " فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع " يعني لزم، وفي لفظ المتبايعان
بالخيار ما لم يتفرقا الا أن يكون البيع كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع " متفق
عليه. والاخذ بالزيادة أولى وهي صريحة في الحكم، والتخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد
فالتخاير في ابتدائه ان يقول بعتك ولا خيار بيننا ويقبل الآخر على ذلك فلا يكون لهما خيارا، والتخاير
بعده ان يقول كل واحد منهما بعد العقد اخترت امضاء العقد والزامه أو اخترت العقد أو أسقطت
خياري فيلزم العقد من الطرفين، وان اختار أحدهما دون الآخر لزم في حقه وحده كما لو كان خيار
الشرط فأسقطه أحدهما، وقال أصحاب الشافعي في التخاير في ابتداء العقد قولان أظهرهما لا يقطع
الخيار لأنه اسقاط للحق قبل سببه فلم يجز كخيار الشفعة، فعلى هذا هل يبطل به العقد؟ على وجهين
بناء على الشروط الفاسدة. ولنا ما ذكرنا من حديثي ابن عمر وذلك صريح في الحكم فلا نعول على
ما خالفه ولان ما أثر في الخيار في المجلس أثر فيه مقارنا للعقد كاشتراط الخيار ولأنه أحد الخيارين في
البيع فجاز اخلاؤه عنه كخيار الشرط، وقولهم انه اسقاط للخيار قبل سببه ممنوع فإن سبب الخيار البيع
المطلق، فأما البيع مع التخاير فليس سببا له ثم لو ثبت انه سبب للخيار لكن المانع مقارن له فلم يثبت
حكمه، والشفعة لنا فيها منع وان سلم فالفرق بينهما ان الشفيع أجنبي من العقد فلم يصح اشتراط اسقاط
خياره في العقد بخلاف مسئلتنا
(فصل) فإن قال أحدهما لصاحبه أختر ولم يقل الآخر شيئا فالساكت على خياره لأنه لم يوجد
منه ما يبطله وأما القائل فيحتمل أن يبطل خياره لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر " رواه البخاري ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه من
الخيار فسقط خياره وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحتمل أن لا يبطل خياره لأنه خيره فلم يختر فلم يؤثر
كما لو جعل لزوجته الخيار فلم تختر شيئا ويحمل الحديث على أنه خيره فاختار، والأول أولى لظاهر الحديث
ولأنه جعل الخيار لغيره ويفارق الزوجة لأنه ملكها مالا تملك فإذا لم تقبل سقط وههنا كل واحد منهما
يملك الخيار فلم يكن قوله تمليكا إنما كان اسقاطا فسقط
(فصل) قال رضي الله عنه (الثاني خيار الشرط وهو أن يشترط في العقد خيار مدة معلومة فيثبت
فيها وان طالت) هذا قول أبي يوسف ومحمد وابن المنذر وحكي ذلك عن الحسن بن صالح وابن أبي
ليلي وإسحاق وأبي ثور وأجازه مالك فيما زاد على الثلاث بقدر الحاجة مثل قرية لا يصل إليها في
65

أقل من أربعة أيام لأن الخيار لحاجته فيقدر بها، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز أكثر من ثلاث لما
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان جعل
له الخيار ثلاثة أيام ان رضي أخذ وان سخط ترك. ولان الخيار ينافي مقتضى البيع لأنه يمنع الملك واللزوم
واطلاق التصرف، وإنما جاز للحاجة فجاز القليل منه وآخر حد القلة ثلاث قال الله تعالى (فقال تمتعوا
في داركم ثلاثة أيام - بعد قوله - فيأخذكم عذاب قريب)
ولنا أنه حق يعتمد الشرط فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل ولم يثبت ما روي عن عمر رضي
الله عنه وقد روي عن أنس خلافه، وتقدير مالك بالحاجة لا يصح فإنها لا يمكن ضبط الحكم بها لخفائها
واختلافها وإنما يرتبط بمظنتها وهو الاقدام فإنه صالح أن يكون ضابطا وربط الحكم به في الثلاث وفي
السلم والأجل، وقول الآخرين: إنه ينافي مقتضى البيع لا يصح لأن مقتضى البيع نقل الملك والخيار لا
ينافيه وان سلمنا ذلك لكن متى خولف الأصل لمعنى في محل وجب تعدية الحكم لتعدي ذلك المعنى
{مسألة} (ولا يجوز مجهولا في ظاهر المذهب، وعنه يجوز وهما على خيارهما ما لم يقطعاه أو تنتهي مدته)
إذا شرط الخيار أبدا أو متى شاء، أو قال أحدهما ولي الخيار ولم يذكر مدته أو شرطاه إلى مدة
مجهولة كقدوم زيد أو نزول المطر أو مشاورة انسان ونحو ذلك لم يصح في الصحيح من المذهب هذا
اختيار القاضي وابن عقيل ومذهب الشافعي وعن أحمد أنه يصح وهما على خيارهما أبدا أو يقطعاه أو
تنتهي مدته أن كان مشروطا إلى مدة وهو قول ابن شبرمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم المسلمون على
شروطهم وقال مالك يصح ويضرب لهما مدة يختبر المبيع في مثلها في العادة لأن ذلك مقرر في العادة
فإذا أطلقا حمل عليه، وقال أبو حنيفة إن أسقطا الشرط قبل مضي الثلاث أو حذفا الزائد عليها وبينا مدته
صح لأنهما حذفا المفسد قبل اتصاله بالعقد فوجب أن يصح كما لو لم يشترطاه
ولنا انها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة كالأجل، ولان اشتراط الخيار أبدا يقتضي المنع
من التصرف على الأبد وذلك ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو قال بعتك بشرط أن لا تتصرف، وقول
مالك انه يرد إلى العادة لا يصح فإنه لإعادة في الخيار يرجع إليها واشتراطه مع الجهالة نادر، وقول أبي حنيفة
لا يصح فإن المفسد هو الشرط وهو مقترن بالعقد، ولان العقد لا يخلو من أن يكون صحيحا أو فاسدا
فإن كان صحيحا مع الشرط لم يفسد بوجود ما شرطناه وإن كان فاسدا لم ينقلب صحيحا كبيع درهم
بدرهمين إذا حذف أحدهما، وإذا قلنا يفسد الشرط هل يفسد به البيع؟ على روايتين
(إحداهما) يفسد وهو مذهب الشافعي لأنه عقد قارنه شرط فاسد كنكاح الشغار، ولان البائع إنما
رضي ببذله بهذا الثمن مع الخيار في استرجاعه والمشتري إنما رضي ببذل هذا الثمن فيه مع الخيار في فسخه
فلو صححناه لازلنا ملك كل واحد منهما عنه بغير رضاه وألزمناه ما لم يرض به ولان الشرط يأخذ قسطا
من الثمن فإذا حذفناه وجب رد ما سقط من الثمن من أجله وذلك مجهول فيكون الثمن مجهولا فيفسد به
66

العقد (والثانية) لا يفسد به العقد وهو قول ابن أبي ليلى لحديث بريرة ولان العقد قد تم بأركانه والشرط
زائد فإذا فسد وزال سقط الفاسد وبقي العقد بركنيه كما لو لم يشترط
(فصل) وان شرطه إلى الحصاد أو الجذاذ احتمل أن يكون كتعليقه على قدوم زيد لأنه يختلف
ويتقدم ويتأخر فكان مجهولا، ويحتمل أن يصح لأن ذلك يتفاوت في العادة ولا يكثر تفاوته، وان
شرطه إلى العطاء وأراد وقت العطاء وكان معلوما صح، وان أراد نفس العطاء فهو مجهول
(فصل) وان شرطا الخيار شهرا يوما يثبت ويوما لا، فقال ابن عقيل يصح في اليوم الأول
لامكانه ويبطل فيما بعده لأنه إذا لزم في اليوم الثاني لم يعد إلى الجواز، ويحتمل ان يبطل الشرط
كله لأنه شرط واحد تناول الخيار في أيام فإذا فسد بعضه فسد جميعه كما لو شرطه إلى الحصاد
{مسألة} (ولا يثبت الا في البيع والصلح بمعناه والإجارة في الذمة أو على مدة لا تلي العقد)
لا نعلم خلافا في ثبوت خيار الشرط في البيع الذي لا يشترط فيه القبض في المجلس وكذلك الصلح
بمعنى البيع لأنه بيع بلفظ الصلح والهبة بعوض على إحدى الروايتين والإجارة في الذمة نحو أن يقول
استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب ونحوه لأن الإجارة بيع المنافع فأشبهت بيع الأعيان، فاما الإجارة
المعينة فإن كانت مدتها من حين العقد دخلها خيار المجلس دون خيار الشرط لأن دخوله يفضي إلى
فوت بعض المنافع المعقود عليها أو استبقائها في مدة الخيار وكلاهما لا يجوز وهذا مذهب الشافعي، وذكر
القاضي مرة مثل هذا ومرة قال يثبت فيها خيار الشرط قياسا على البيع، وقد ذكرنا ما يقتضي الفرق
بينهما، فإن كانت المدة لا تلي العقد يثبت فيها خيار الشرط إذا كانت مدة الخيار لا تشتمل على شئ
من مدة العقد فإن كانت بعض مدة العقد تدخل في مدة الخيار لم يجز لما ذكرنا
{مسألة} (وان شرطاه إلى الغد لم يدخل في المدة) وهذا مذهب الشافعي، وعنه يدخل وهو
مذهب أبي حنيفة لأن إلى تستعمل بمعنى مع كقوله تعالى (وأيديكم إلى المرافق * ولا تأكلوا أموالهم
إلى أموالكم) والخيار ثابت بيقين فلا نزيله بالشك
ولنا أن موضوع (إلى) لانتهاء الغاية فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام
إلى الليل) وكالأجل وليس ههنا شك فإن الأصل حمل اللفظ على موضوعه فكأن الواضع قال متى سمعتم
هذه اللفظة فافهموا منها انتهاء الغاية. وفيما استشهدوا به حملت إلى علي معنى مع بدليل، أو لتعذر حملها
على موضوعها ولان الأصل لزوم العقد وإنما خولف فيما اقتضاه الشرط فيثبت ما تيقن منه وما شككنا
فيه رددناه إلى الأصل.
(فصل) وان شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو إلى غروبها صح، وقال بعض أهل العلم لا يصح
توقيته بطلوعها لأنها قد تتغيم فلا يعلم وقت طلوعها، ولنا أنه تعليق للخيار بأمر ظاهر معلوم فصح
كتعليقه بغروبها، وطلوع الشمس بروزها من الأفق كما أن غروبها سقوط القرص، ولذلك لو علق طلاق
67

امرأته أو عتق عبده بطلوع الشمس وقع ببروزها من الأفق، وإن عرض غيم يمنع المعرفة بطلوعها
فالخيار ثابت حتى يتيقن طلوعها كما لو علقه بغروبها فمنع الغيم المعرفة بوقته، ولو جعل الخيار إلى طلوع
الشمس من تحت السحاب أو إلى غيبتها تحته كان خيارا مجهولا
{مسألة} (وان شرطاه مدة فابتداؤها من حين العقد ويحتمل أن يكون من حين التفرق)
إذا شرط الخيار مدة معلومة اعتبرنا مدة الخيار من حين العقد في أظهر الوجهين والآخر من حين
التفرق لأن الخيار ثابت في المجلس حقا فلا حاجة إلى اثباته بالشرط ولان حالة المجلس كحالة العقد لأن
لهما فيه الزيادة والنقصان فكان كحالة العقد في ابتداء مدة الخيار بعد انقضائه والأول أصح لأنها مدة
ملحقة بالعقد فأشبهت الاجل، ولان الاشتراط سبب ثبوت الخيار فيجب أن يتعقبه حكمه كالملك في
البيع ولأنا لو جعلنا ابتداءها من حين التفرق أدى إلى جهالته لأنا لا نعلم متى يتفرقان فلا نعلم متى ابتداؤه
ولا وقت انتهائه، ولا يمنع ثبوت الحكم بسببين كتحريم الوطئ بالصيام والاحرام، فعلى هذا لو شرط
ابتداءه من حين التفرق لم يصح إلا على قولنا بصحة الخيار المجهول، وان قلنا ابتداؤه من حين التفرق
فشرط ثبوته من حين العقد صح لأنه معلوم الابتداء والانتهاء، ويحتمل أن لا يصح لأن خيار المجلس يغني
عن خيار آخر فيمنع ثبوته والأول أولى ومذهب الشافعي في هذا الفصل على ما ذكرنا
{مسألة} (وإن شرط الخيار لغيره جاز وكان توكيلا له فيه) إذا شرط الخيار لأجنبي صح وكان
اشتراطا لنفسه وتوكيلا لغيره فيه وهذا قول أبي حنيفة ومالك وللشافعي قولان (أحدهما) لا يصح وهو
قول القاضي إذا أطلق الخيار لفلان أو قال لفلان دوني لأن الخيار شرع لتحصيل الحظ لكل واحد
من المتعاقدين بنظره فلا يكون لمن لاحظ له، وان جعل الأجنبي وكيلا صح
ولنا أن الخيار يعتمد شرطهما ويفوض إليهما وقد أمكن تصحيح شرطهما وتنفيذ تصرفهما على الوجه
الذي ذكرناه فلا يجوز الغاؤه مع امكان تصحيحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون على شروطهم "
فعلى هذا يكون لكل واحد من المشترط ووكيله الذي شرط له الخيار الفسخ، ولو كان المبيع عبدا
فشرط الخيار له صح سواء شرطه له البائع أو المشتري لأنه بمنزلة الأجنبي، وإن كان العاقد وكيلا
فشرط الخيار لنفسه صح فإن النظر في تحصيل الحظ مفوض إليه، وان شرطه للمالك صح لأنه المالك
والحظ له، وان شرطه لأجنبي انبنى على الروايتين في صحة توكيل الوكيل
(فصل) ولو قال بعتك على أن استأمر فلانا أو حد ذلك بوقت معلوم فهو خيار صحيح وله الفسخ
قبل أن يستأمره لأنا جعلنا ذلك كناية عن الخيار وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وان لم يضبطه
بمدة معلومة فهو خيار مجهول فيه من الخلاف ما ذكرناه
68

{مسألة} (وان شرطا الخيار لأحدهما دون صاحبه صح)
يجوز شرط الخيار لاحد المتعاقدين دون الآخر ويجوز أن يشرطا لأحدهما مدة وللآخر دونها
لأن ذلك حقهما وإنما جوز رفقا بهما فكيفما تراضيا به جاز، ولو اشترى شيئين وشرط الخيار في أحدهما
بعينه دون الآخر صح لأن أكثر ما فيه أنه جمع بين مبيع فيه الخيار وبين مبيع لاخيار فيه وذلك
جائز بالقياس على شراء ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه فإنه يصح ويكون كل واحد منهما مبيعا بقسطه من
الثمن فإن فسخ البيع فيما فيه الخيار رجع بقسطه من الثمن كما لو وجد أحدهما معيبا فرده، وان شرط
الخيار في أحدهما لا بعينه أو شرط الخيار لاحد المتعاقدين لا بعينه لم يصح لأنه مجهول فأشبه ما لو اشترى
واحدا من عبدين لا بعينه، ولأنه يفضي إلى التنازع فربما طلب كل واحد من المتعاقدين ضد ما يطلبه
الآخر ويدعي أنني المستحق للخيار أو يطلب من له الخيار رد أحد المبيعين ويقول ليس هذا الذي
شرطت لك الخيار فيه، ويحتمل أن لا يصح شرط الخيار في أحد المبيعين بعينه كما لا يصح بيعه بقسطه
من الثمن وهذا كله مذهب الشافعي
{مسألة} (ولمن له الخيار الفسخ بغير حضور صاحبه ولا رضاه)
وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف وزفر، وقال أبو حنيفة ليس له الفسخ إلا بحضور صاحبه
كالوديعة. ولنا أنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضى صاحبه فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق، وما ذكره ينتقض
بالطلاق، والوديعة لاحق للمودع فيها ويصح فسخها مع غيبته
{مسألة} (فإن مضت المدة ولم يفسخا بطل خيارهما)
إذا انقضت مدة الخيار ولم يفسخ أحدهما بطل الخيار ولزم العقد، وهذا قول أبي حنيفة
والشافعي وقال القاضي لا يلزم بمضي المدة وهو قول مالك لأن مدة الخيار ضربت لحق له لا لحق
عليه فلم يلزم الحكم بنفس مرور الزمان كمضي الاجل في حق المولي. ولنا أنها مدة ملحقة بالعقد
فبطلت بانقضائها كالأجل، ولان الحكم ببقائها يفضي إلى بقاء الخيار في غير المدة التي شرطاه فيها
والشرط يثبت الخيار فلا يجوز أن يثبت به ما لم يتناوله ولأنه حكم مؤقت ففات بفوات وقته كسائر
المؤقتات. ولان البيع يقتضي اللزوم وإنما يختلف موجبه بالشرط ففيما لم يتناوله الشرط يجب أن
يثبت موجبه لزوال المعارض كما لو أمضياه. وأما المولي فإن المدة إنما ضربت لاستحقاق المطالبة وهي
تستحق بمضي المدة والحكم في هذه المسألة ظاهر
(فصل) فإن قال أحد المتعاقدين عند العقد (لاخلابة) فقال أحمد: أرى ذلك جائزا وله الخياران
كان خلبه وإن لم يكن خلبه فليس له خيار وذلك لأن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيع فقال " إذا
بايعت فقل لا خلابة " متفق عليه ولمسلم " من بايعت فقل لا خلابة " فكان إذا بايع يقول لا خلابة قال
شيخنا ويحتمل أن لا يكون له خيار ويكون هذا الخبر خاصا بحبان لأنه روي أنه عاش إلى زمن عثمان فكان
69

يبايع الناس ثم يخاصمهم فيمر بهم بعض الصحابة فيقول لمن يخاصمه ويحك إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له
الخيار ثلاثا وهذا يدل على اختصاصه بهذا لأنه لو كان للناس عامة لقال لمن يخاصمه إن النبي صلى الله عليه وسلم
جعل الخيار لمن قال لا خلابة، وقال بعض الشافعية ان كانا عالمين أن ذلك عبارة عن خيار الثلاث ثبت
وان علم أحدهما دون الآخر فعلى وجهين لأنه روي أن حبان بن منقذ بن عمرو كان لا يزال يغبن
فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال " إذا أنت بايعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها
بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت أمسكت وان سخطت فارددها على صاحبها " وما ثبت في حق واحد
من الصحابة ثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل، ولنا أن هذا اللفظ لا يقتضي الخيار
مطلقا ولا يقتضي تقييده بثلاث والأصل اعتبار اللفظ فيما يقتضيه، والخبر الذي احتجوا به إنما رواه
ابن ماجة مرسلا وهم لا يرون المرسل حجة ثم لم يقولوا بالحديث على وجهه إنما قالوا إنه في حق من
يعلم أن مقتضاه ثبوت الخيار ثلاثا ولا يعلم ذلك أحد لأن اللفظ لا يقتضيه فكيف يعلم أن مقتضاه مالا
يقتضيه ولا يدل عليه، وعلى أنه إنما كان خاصا لحبان بدليل ما رويناه ولأنه كان يثبت له الرد على
من لم يعلم مقتضاه.
(فصل) إذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقترض
بالثمن ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن فلا خيار فيه لأنه من الحيل ولا يحل لآخذ الثمن الانتفاع به
في مدة الخيار ولا التصرف فيه قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يشتري من الرجل
الشئ ويقول لك الخيار إلى كذا وكذا مثل العقار قال هو جائز إذا لم يكن حيلة أراد أن يقرضه
فيأخذ منه العقار فيستغله ويجعل له فيه الخيار ليربح فيما أقرضه بهذه الحيلة، فإن لم يكن أراد هذا فلا
بأس. قيل لأبي عبد الله فإن أراد إرفاقه أراد أن يقرضه مالا، يخاف أن يذهب فاشترى منه شيئا وجعل
له الخيار لم يرد الحيلة، فقال أبو عبد الله هذا جائز الا أنه إذا مات انقطع الخيار لم يكن لورثته. وقول
أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع الذي لا ينتفع إلا باتلافه أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع
في مدة الخيار لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة
{مسألة} (وينتقل الملك إلى المشتري بنفس العقد في أظهر الروايتين)
ينتقل الملك في بيع الخيار بنفس العقد في ظاهر المذهب ولا فرق بين كون الخيار لهما أو لأحدهما
أيهما كان وهو أحد أقوال الشافعي وعن أحمد ان الملك لا ينتقل حتى ينقضي الخيار وهو قول مالك
والقول الثاني للشافعي وبه قال أبو حنيفة إذا كان الخيار لهما أو للبائع وإن كان للمشتري خرج عن
ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري لأن البيع الذي فيه الخيار عقد قاصر فلم ينقل الملك كالهبة
قبل القبض، وللشافعي قول ثالث أن الملك موقوف فإن أمضيا البيع تبينا أن الملك للمشتري وإلا
تبينا أنه لم ينتقل عن البائع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع " وقوله " من
70

باع نخلا بعد أن يؤبر فثمره للبائع إلا أن يشترط المبتاع " متفق عليه " فجعله للمبتاع بمجرد اشتراطه
وهو عام في كل بيع، ولأنه بيع صحيح فنقل الملك عقيبه كالذي لا خيار فيه، ولان البيع تمليك، بدليل
أنه يصح بقوله ملكتك فيثبت به الملك كسائر البيع لأن التمليك يدل على نقل الملك إلى المشتري
ويقتضيه لفظه وقد اعتبره الشرع وقضى بصحته فوجب اعتباره فيما يقتضيه ويدل عليه لفظه وثبوت
الخيار فيه لا ينافيه كما لو باع عرضا بعوض فوجد كل واحد منهما بما اشتراه عيبا، وقولهم إنه قاصر غير
صحيح وجواز فسخه لا يوجب قصوره ولا يمنع نقل الملك فيه كبيع المعيب، وامتناع التصرف إنما كان
لأجل حق الغير فلا يمنع ثبوت الملك كالمرهون، وقولهم إنه يخرج عن ملك البائع ولا يدخل في ملك
المشتري لا يصح لأنه يفضي إلى وجود ملك بغير مالك وهو محال ويفضي أيضا إلى ثبوت الملك
للبائع في الثمن من غير حصول عوضه للمشتري، أو إلى نقل ملكه عن المبيع من غير ثبوته في عوضه
وكون العقد معاوضة يأبى ذلك، وقول أصحاب الشافعي إن الملك موقوف إن أمضيا البيع تبينا أنه
انتقل وإلا فلا غير صحيح فإن انتقال الملك إنما ينبني على سببه الناقل وهو البيع وذلك لا يختلف
بامضائه وفسخه، فإن امضاءه ليس من المقتضي ولا شرطا فيه إذ لو كان كذلك لما ثبت الملك قبله
والفسخ ليس بمانع فإن المنع لا يتقدم المانع كما أن الحكم لا يسبق سببه ولا شرطه، ولان البيع مع
الخيار سبب يثبت الملك عقيبه فيما إذا لم يفسخ فوجب أن يثبته وإن فسخ كبيع المعيب وهو ظاهر إن شاء الله تعالى
{مسألة} (فما حصل من كسب أو نماء منفصل فهو له أمضيا العقد أو فسخاه)
ما يحصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه، قال أحمد
فيمن اشترى عبدا ووهب له مال قبل التفرق ثم اختار البائع العبد فالمال للمشتري، وقال الشافعي إن
أمضيا العقد وقلنا الملك للمشتري أو موقوف فالنماء المنفصل له، وإن قلنا الملك للبائع فالنماء له وان
فسخا العقد وقلنا الملك للبائع أو موقوف فالنماء له والا فهو للمشتري
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " قال الترمذي هذا حديث صحيح وهذا من ضمان
المشترى فيجب أن يكون خراجه له، ولان الملك ينتقل بالبيع على ما بينا فيجب أن يكون نماؤه للمشتري
كما بعد انقضاء الخيار ويتخرج أن يكون النماء المنفصل للبائع إذا فسخا العقد بناء على قولنا إن الملك
لا ينتقل، واما النماء المتصل فهو تابع للمبيع بكل حال كما يتبعه في الرد بالعيب والمقايلة
(فصل) وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه أو لم يكن مكيلا ولا موزونا فإن تلف أو نقص
أو حدث به عيب في مدة الخيار فهو من ضمانه لأنه ملكه وغلته له فكان من ضمانه كما بعد انقضاء
الخيار ومؤنته عليه، وإن كان عبدا فهل هلال شوال ففطرته عليه لذلك، وان اشترى حاملا فولدت
عنده في مدة الخيار ثم ردها على البائع لزمه رد ولدها لأنه مبيع حدث فيه زيادة منفصلة فلزم رده
71

بزيادته كما لو اشترى عبدين فسمن أحدهما عنده، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يرد الولد لأن الحمل
لاحكم له لأنه جزء متصل بالام فلم يأخذ قسطا من الثمن كأطرافها. ولنا أن كل ما يقسط عليه الثمن إذا كان
منفصلا يقسط عليه إذا كان متصلا كاللبن وما قالوه يبطل بالجزء المشاع كالثلث والربع، والحكم في الأصل ممنوع
ثم يفارق الحمل الأطراف لأنه يؤول إلى الانفصال وينتفع به منفصلا ويصح افراده منفصلا والوصية
به وله، ويرث إن كان من أهل الميراث ويفرد بالدية ويرثها ورثته وقولهم لا حكم للحمل لا يصح لهذه الأحكام
وغيرها مما قد ذكرناه
{مسألة} (وليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع في مدة الخيار الا بما يحصل به تجربة المبيع)
إنما لم يجز لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار لأنه ليس بملك للبائع فيتصرف فيه ولا
انقطعت عنه غلته فيتصرف فيه المشتري فأما تصرفه بما يحصل به تجربة المبيع كركوب الدابة لينظر
سيرها، والطحن على الرحى ليعلم قدر طحنها، وتحلب الشاة ليعلم قدر لبنها ونحو ذلك فيجوز لأن
ذلك هو المقصود بالخيار وهو اختبار المبيع
{مسألة} (فإن تصرفا فيه ببيع أو هبة أو نحوهما لم ينفذ تصرفهما)
إذا تصرف أحد المتبايعين في مدة الخيار في المبيع تصرفا ينقل الملك كالبيع والهبة والوقف أو يستغله
كالإجارة والتزويج والرهن والكتابة ونحوهما لم يصح تصرفه إلا العتق على ما نذكره سواء وجد تصرف
من البائع أو المشتري لأن البائع تصرف في غير ملكه والمشتري يسقط حق البائع من الخيار واسترجاع
المبيع فلم يصح تصرفه فيه كالتصرف في الرهن إلا أن يكون الخيار للمشتري وحده فينفذ تصرفه ويبطل
خياره لأنه لاحق لغيره فيه وثبوت الخيار له لا يمنع تصرفه فيه كالمعيب، قال احمد إذا اشترط الخيار
فباعه قبل ذلك بربح فالربح للمبتاع لأنه قد وجب عليه حين عرضه يعني بطل خياره ولزمه وهذا فيما
إذا اشترط الخيار له وحده، وكذلك إذا قلنا إن البيع لا ينقل الملك وكان الخيار لهما أو للبائع وحده
فتصرف فيه البائع نفذ تصرفه وصح لأنه ملكه وله ابطال خيار غيره، وقال أبن أبي موسى في تصرف
المشتري في المبيع قبل التفرق ببيع أو هبة روايتان (إحداهما) لا يصح لأن في صحته اسقاط حق البائع
من الخيار (والثانية) هو موقوف فإن تفرقا قبل الفسخ صح، وان اختار البائع الفسخ بطل بيع المشتري
قال أحمد في رواية أبي طالب إذا اشترى ثوبا بشرط فباعه بربح قبل انقضاء الشرط يرده إلى صاحبه ان
طلبه فإن لم يقدر على رده فللبائع قيمة الثوب لأنه استهلك ثوبه أو يصالحه. فقوله يرده ان طلبه يدل على
أن وجوب رده مشروط بطلبه، وقد روى البخاري عن ابن عمر أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر
فكان على بكر صعب لعمر فكان يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أبوه لا يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم أحد فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم " بعنيه " فقال عمر فهو لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد الله ابن
عمر فاصنع به ما شئت " وهذا يدل على التصرف قبل التفرق، والأول أصح وحديث ابن عمر ليس فيه
72

تصريح بالبيع فإن قول عمر هو لك يحمل على أنه أراد هبته وهو الظاهر فإنه لم يذكر ثمنا والهبة لا يثبت
فيها الخيار، وقال الشافعي تصرف البائع في المبيع بالبيع والهبة ونحوهما صحيح لأنه اما أن يكون على
ملكه فيملك العقد عليه، إما أن يكون للمشتري والبائع يملك فسخه، فجعل البيع والهبة فسخا وأما
تصرف المشتري فلا يصح إذا قلنا الملك لغيره وإن قلنا الملك له ففي صحة تصرفه وجهان
ولنا على أبطال تصرف البائع أنه تصرف في ملك غيره بغير ولاية شرعية ولا نيابة عرفية فلم
يصح كما بعد الخيار، وقولهم يملك الفسخ قلنا إلا أن ابتداء التصرف لم يصادف ملكه فلم يصح كتصرف
الأب فيما وهبه لولده قبل استرجاعه وتصرف الشفيع في الشقص المشفوع قبل اخذه
(فصل) فإن تصرف المشتري باذن البائع أو البائع بوكالة المشتري صح التصرف وانقطع
خيارهما لأنه يدل على تراضيهما بامضاء البيع فينقطع به خيارهما كما لو تخايرا، وإنما صح تصرفهما لأن
قطع الخيار حصل بالاذن في البيع فيقع بعد البيع انقطاع الخيار ويحتمل أن لا يصح تصرف البائع باذن
المشتري لأن البائع لا يحتاج إلى إذن المشتري في استرجاع المبيع فيصير كتصرفه بغير اذن المشتري
وقد ذكرنا أنه لا يصح كذا ههنا، وكل موضع قلنا إن تصرف البائع لا ينفذ ولكن ينفسخ به البيع
فإنه متى أعاد ذلك التصرف أو تصرف تصرفا سواه صح لأن الملك عاد إليه بفسخ البيع فصح تصرفه
فيه كما لو فسخ البيع بصريح قوله ثم تصرف فيه الا إذا قلنا إن تصرفه لا ينفسخ به البيع وكذلك
ان تقدم تصرفه بما ينفسخ به البيع صح تصرفه لما ذكرنا
{مسألة} (ويكون تصرف البائع فسخا لبيع وتصرف المشتري اسقاطا لخياره في أحد الوجهين
وفي الآخر البيع والخيار بحالهما، وان استخدام المبيع لم يبطل خياره في أصح الوجهين وكذلك ان
قبلته الجارية ويحتمل أن يبطل إذا لم يمنعها)
إذا تصرف البائع في المبيع بما يفتقر إلى الملك كان فسخا للبيع وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
لأن تصرفه يدل على رغبته في المبيع فكان فسخا للبيع كصريح القول لأن الصريح إنما كان فسخا للبيع
لدلالته على الرضا به فما دل على الرضا به يقوم مقامه ككنايات الطلاق، وعن أحمد رواية أخرى
لا ينفسخ البيع بذلك لأن الملك انتقل عنه فلم يكن تصرفه فيه استرجاعا له كمن وجد متاعه عند مفلس
فتصرف فيه، وان تصرف المشتري في المبيع في مدة الخيار بما ذكرنا ونحوه مما يختص الملك كاعتاق
العبد وكتابته ووطئ الجارية ومباشرتها ولمسها بشهوة ووقف المبيع وركوب الدابة لحاجته أو سكنى
الدار ورمها وحصاد الزرع فما وجد من هذا فهو رضا بالمبيع ويبطل به خياره لأن الخيار يبطل بالتصريح
بالرضى وبدلالته ولذلك بطل خيار المعتقة بتمكينها من نفسها وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ان وطئك فلا خيار لك " وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، فأما ما يستعلم به المبيع كركوب الدابة
ليختبر فراهتها والطحن على الرحى ليعلم قدره ونحو ذلك فلا يدل على الرضا ولا يبطل به الخيار لأنه
73

المقصود بالخيار وفيه وجه آخر أن تصرف المشتري لا يبطل خياره ولا يبطل الا بالتصريح كما لو ركب
الدابة ليختبرها، والأول أصح لأن هذا يتضمن إجازة البيع ويدل على الرضى به فيبطل به الخيار كصريح
القول، ولان صريح القول إنما يبطل به الخيار لدلالته على الرضى فما دل على الرضى بالمبيع يقوم مقام
القول ككنايات الطلاق، وان عرضه على البيع أو باعه بيعا فاسدا، أو عرضه على الرهن، أو وهبه
فلم يقبل الموهوب له بطل خياره على الوجه الأول لأن ذلك يدل على الرضى به، قال احمد إذا شرط
الخيار فباعه قبل ذلك يربح فالربح للمبتاع لأنه وجب عليه حين عرضه
(فصل) وإن استخدم المشتري المبيع ففيه روايتان (إحداهما) لا يبطل خياره، قال أبو الصقر
قلت لأحمد رجل اشترى جارية وله الخيار فيها يومين فانطلق بها فغسلت رأسه أو غمزت رجله أو
طبخت له أو خبزت هل يستوجبها بذلك؟ قال لا حتى يبلغ منها مالا يحل لغيره قلت فإن مشطها
أو خضبها أو حفها هل استوجبها بذلك؟ قال قد بطل خياره لأنه وضع يده عليها. وذلك لأن
الاستخدام لا يختص الملك ويراد به تجربة المبيع فأشبه ركوب الدابة ليعلم سيرها. ونقل حرب عن أحمد
أنه يبطل خياره لأنه انتفاع بالمبيع أشبه لمسها بشهوة. ويمكن أن يقال ما قصد به من الاستخدام تجربة المبيع
لا يبطل الخيار كركوب الدابة ليعلم سيرها وما لا يقصد به ذلك يبطل الخيار كركوب الدابة لحاجته،
وإن قبلت الجارية المشتري لم يبطل خياره وهذا مذهب الشافعي، ويحتمل أن يبطل ذكره أبو الخطاب
إذا لم يمنعها لأن اقراره لها على ذلك يجري مجرى استمتاعه بها، وقال أبو حنيفة إن قبلته بشهوة بطل
خياره لأنه استمتاع يختص الملك فأبطل خياره كما لو قبلها
ولنا انها قبلة لاحد المتعاقدين فلم يبطل خياره كما لو قبلت البائع ولان الخيار له لا لها فلو ألزمناه
بفعلها لألزمناه بغير رضاه ولا دلالة عليه بخلاف ما إذا قبلها فإنه يدل على الرضى بها، ومتى بطل خيار المشتري
بتصرفه فخيار البائع باق بحاله لأن خياره لا يبطل برضى غيره الا أن يكون تصرف باذن البائع وقد ذكرناه
{مسألة} (وان أعتقه المشتري نفذ عتقه وبطل خيارهما، وكذلك إن تلف المبيع، وعنه لا يبطل
خيار البائع وله الفسخ والرجوع بالقيمة)
إذا تصرف أحد المتعاقدين بعتق المبيع في مدة الخيار نفذ عتق من حكمنا بالملك له، وظاهر
المذهب أن الملك للمشتري فنفذ عتقه سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما لأنه عتق من مالك جائز التصرف
فنفذ كما بعد المدة وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا عتق فيما لا يملك ابن آدم " يدل بمفهومه على أنه ينفذ
في الملك وملك البائع الفسخ لا يمنع نفوذ العتق من المشتري كما لو باع عبدا بجارية معيبة فإن عتق
المشتري ينفذ مع أن للبائع الفسخ. ولو وهب رجل ابنه عبدا فاعتقه نفذ عتقه مع ملك الأب استرجاعه
ولا ينفذ عتق البائع في ظاهر المذهب، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي ينفذ عتقه لأنه ملكه، وإن
كان الملك انتقل فإنه يسترجعه بالعتق، ولنا أنه اعتاق من غير مالك فلم ينفذ كعتق الأب عبد ابنه
74

الذي وهبه إياه، وقد دللنا على أن الملك انتقل إلى المشتري، وان قلنا بالرواية الأخرى وان الملك
لم ينتقل إلى المشتري نفذ عتق البائع دون المشتري، وان أعتق البائع والمشتري جميعا فإن تقدم
عتق المشتري فالحكم على ما ذكرناه، وان تقدم عتق البائع فينبغي أن لا ينفذ عتق واحد منهما لأن
البائع لم ينفذ عتقه لكونه أعتق غير مملوكه، ولكن حصل باعتاقه فسخ البيع واسترجاع العبد فلم ينفذ
عتق المشتري، ومتى أعاد البائع الاعتاق مرة ثانية نفذ اعتاقه لأنه عاد العبد إليه أشبه ما لو استرجعه
بصريح قوله إلا على الرواية التي تقول إن تصرف البائع لا يكون فسخا للبيع فينبغي أن ينفذ
اعتاق المشتري. ولو اشترى من يعتق عليه جرى مجرى اعتاقه بصريح قوله وقد ذكرنا حكمه، وان
باع عبدا بجارية بشرط الخيار فاعتقها نفذ عتق الأمة دون العبد، وان أعتق أحدهما ثم أعتق الآخر
نظرت فإن أعتق الأمة أولا نفذ عتقها وبطل خياره ولم ينفذ عتق العبد، وإن أعتق العبد أولا
انفسخ البيع ورجع إليه العبد ولم ينفذ اعتاقه ولا ينفذ عتق الأمة لأنها خرجت بالفسخ عن ملكه
وعادت إلى سيدها الذي باعها.
(فصل) وإذا قال لعبده إذا بعتك فأنت حر ثم باعه صار حرا نص عليه أحمد، وبه قال الحسن
وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وسواء شرطا الخيار أو لم يشرطاه، وقال أبو حنيفة والثوري لا يعتق
لأنه إذا تم بيعه زال ملكه عنه فلم ينفذ اعتاقه له، ولنا أن زمن انتقال الملك زمن الحرية لأن البيع
سبب لنقل الملك وشرط للحرية فيجب تغليب الحرية كما لو قال لعبده إذا مت فأنت حر ولأنه علق
حريته على فعله للبيع، والصادر منه في البيع إنما هو الايجاب فمتى قال للمشتري بعتك فقد وجد شرط
الحرية فيعتق قبل قبول المشتري وعلله القاضي بأن الخيار ثابت في كل بيع فلا ينقطع تصرفه فيه فعلى
هذا لو تخايرا ثم باعه لم يعتق، ولا يصح هذا التعليل على مذهبنا لأننا قد ذكرنا أن البائع لو أعتق
في مدة الخيار لم ينفذ اعتاقه
(فصل) وإذا أعتق المشتري العبد بطل خياره وخيار البائع، وهذا اختيار الخرقي كما لو تلف
المبيع على ما نذكره، وفيه رواية أخرى أنه لا يبطل خيار البائع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار
ما لم يتفرقا " فعلى هذه الرواية له الفسخ ولا رجوع بالقيمة يوم العتق
(فصل) وان تلف المبيع في مدة الخيار فلا يخلوا إما أن يكون قبل القبض أو بعده فإن كان
قبل القبض وكان مكيلا أو موزونا انفسخ البيع، وكان من مال البائع ولا نعلم في هذا خلافا إلا أن
يتلفه المشتري فيكون من ضمانه، ويبطل خياره في خيار البائع روايتان وإن كان المبيع غير المكيل
والموزون فلم يمنع البائع والمشتري من قبضه فظاهر المذهب أنه من ضمان المشتري ويكون كتلفه
بعد القبض، وأما إن تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار فهو من ضمان المشتري ويبطل خياره
وفي خيار البائع روايتان (إحداهما) يبطل وهو اختيار الخرقي وأبي بكر لأنه خيار فسخ فبطل بتلف
75

المبيع كخيار الرد بالعيب إذا تلف المعيب (والثانية) لا يبطل وللبائع الفسخ ويطالب المشتري بقيمته أو
مثله إن كان مثليا اختارها القاضي وابن عقيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "
ولأنه خيار فسخ فلم يبطل بتلف المبيع كما لو اشترى ثوبا بثوب فتلف أحدهما ووجد الآخر بالثوب
عيبا فإنه يرده ويرجع بقيمة ثوبه كذا ههنا
{مسألة} (وحكم الوقف حكم البيع في أحد الوجهين وفيه وجه آخر أنه كالعتق لأنه تصرف
يبطل الشفعة فأشبه العتق)
والصحيح أن حكمه حكم البيع فيما ذكرنا لأن المبيع يتعلق به حق البائع فقلنا يمنع جواز التصرف
فمنع صحة الوقف كالرهن ويفارق الوقف العتق لأنه مبني على التغليب والسراية بخلاف الوقف ولا
نسلم أن الوقف يبطل الشفعة والله أعلم
{مسألة} (وان وطئ المشتري الجارية فأحبلها صارت أم ولد له وولده حر ثابت النسب)
لا يجوز للمشتري وطئ الجارية في مدة الخيار إذا كان الخيار لهما أو للبائع وحده لأنه يتعلق بها
حق البائع فلم يصح وطئها كالمرهونة ولا نعلم في هذا خلافا، فإن وطئها فلا حد عليه لأن الحد يدرأ
بشبهة الملك فبحقيقته أولى ولا مهر لها لأنها مملوكته، وان علقت منه فالولد حر يلحقه نسبه لأنه من
أمته ولا يلزم قيمته لذلك وتصير أم ولد له، فإن فسخ البائع البيع رجع بقيمتها لأنه تعذر الفسخ فيها
ولا يرجع بقيمة ولدها لأنه حدث في ملك المشتري، وان قلنا إن الملك لا ينتقل إلى المشتري فلا
حد عليه أيضا لأن له فيها شبهة لوجود سبب نقل الملك إليه فيها، واختلاف أهل العلم في ثبوت
الملك له، والحد يدرأ بالشبهات وعليه المهر وقيمة الولد وحكمهما حكم نمائهما، وان علم التحريم وان
ملكه غير ثابت فولده رقيق
{مسألة} (وان وطئها البائع وقلنا البيع ينفسخ بوطئه فكذلك، وان قلنا لا ينفسخ فعليه المهر
وولده رقيق إلا إذا قلنا الملك له ولا حد فيه على كل حال)
وقال أصحابنا عليه الحد إذا علم زوال ملكه وأن البيع لا ينفسخ بوطئه وهو المنصوص، وأما
البائع فلا يحل له الوطئ قبل فسخ البيع، وقال بعض الشافعية له وطؤها لأن البيع ينفسخ بوطئه فإن
كان الملك انتقل رجعت إليه، وان لم يكن انتقل انقطع حق المشتري منها فيكون واطئا لمملوكته
التي لا حق لغيره فيها، ولنا أن الملك انتقل عنه فلم يحل له وطؤها لقول الله تعالى (إلا على أزواجهم
أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) ولان ابتداء
الوطئ يقع في غير ملكه حراما، ولو انفسخ البيع قبل وطئه لم يحل حتى يستبرئها ولاحد عليه، وبهذا قال
أبو حنيفة ومالك والشافعي، وقال بعض أصحابنا ان علم التحريم وان ملكه قد زال ولا ينفسخ
بالوطئ فعليه الحد، وذكر أن أحمد نص عليه لأنه لم يصادف ملكا ولا شبهة ملك. ولنا أن ملكه
76

يحصل بابتداء وطئه فيحصل تمام الوطئ في ملكه مع اختلاف العلماء في كون الملك له وحل الوطئ له
ولا يجب الحد مع واحدة من هذه الشبهات فكيف إذا اجتمعت مع أنه يحتمل ان يحصل الفسخ باللامسة
قبل الوطئ فيكون الملك قد رجع إليه قبل وطئه، ولهذا قال أحمد في المشتري إنها قد وجبت عليه
فيما إذا مشطها أو خضبها أو حفها فبوضع يده عليها للجماع ولمس فرجها أولى، وعلى هذا يكون
ولده منها حرا ثابت النسب ولا يلزمه قيمته ولا مهر عليه، وتصير أم ولد له، وقال أصحابنا ان
علم التحريم فولده رقيق لا يلحقه نسبه، وان لم يعلم لحقه النسب وولده حر وعليه قيمته يوم الولادة
وعليه المهر ولا تصير أم ولد له لأنه وطئها في غير ملكه
(فصل) ولا بأس بنقد الثمن وقبض المبيع في مدة الخيار وهو قول أبي حنيفة والشافعي وكرهه
مالك قال لأنه في معنى بيع وسلف إذا أقبضه الثمن ثم تفاسخا البيع صار كأنه أقرضه إياه. ولنا ان
هذا الحكم من أحكام البيع فجاز في مدة الخيار كالإجارة وما ذكره لا يصح لأننا لا نجيز له التصرف فيه
{مسألة} (ومن مات منهم بطل خياره ولم يورث)
إذا مات أحد المتبايعين في مدة الخيار بطل خياره في ظاهر المذهب، ويبقى خيار الآخر بحاله
الا أن يكون الميت قد طالب بالفسخ قبل موته فيكون لورثته، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ويتخرج
ان الخيار لا يبطل، وينتقل إلى ورثته لأنه حق مالي فينتقل إلى الوارث كالأجل وخيار الرد بالعيب
ولأنه حق فسخ فينتقل إلى الوارث كالفسخ بالتحالف، وهذا قول مالك والشافعي. ولنا انه حق
فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة
{فصل} (الثالث) خيار الغبن ويثبت في ثلاث صور (إحداها) إذا تلقى الركبان فباعهم
أو اشترى منهم فلهم الخيار إذا هبطوا السوق وعلموا انهم قد غبنوا غبنا يخرج عن العادة، روي أنهم
كانوا يتلقون الاجلاب فيشترون منهم الأمتعة قبل أن يهبطوا الا سواق فربما غبنوهم غبنا بينا فيضروا
بهم وربما أضروا باهل البلد لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم والذين يتلقونهم لا يبيعونها سريعا
ويترابصون بها السعة فهو في معنى بيع الحاضر للبادي فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فروى ابن عباس
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد " وعن أبي هريرة مثله متفق
عليهما، وكرهه أكثر العلماء منهم عمر بن عبد العزيز ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق
وحكى عن أبي حنيفة أنه لم ير بذلك بأسا، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع فإن خالف وتلقى
الركبان واشترى منهم فالبيع صحيح في قول الجميع قاله ابن عبد البر، وعن أحمد أن البيع باطل لظاهر
النهي والأول أصح لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى
منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار " رواه مسلم والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح، ولان النهي لا
لمعنى في البيع بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكها باثبات الخيار فأشبه بيع المصراة وفارق
77

بيع الحاضر للبادي فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار إذ ليس الضرر عليه إنما هو على المسلمين، إذا تقرر
هذا فللبائع الخيار إذا علم أنه قد غبن، وقال أصحاب الرأي لا خيار له وقد روينا قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم في هذا ولا قول لاحد مع قوله، وظاهر المذهب انه لاخيار له الا مع الغبن لأنه إنما
يثبت لأجل الخديعة ودفع الضرر عن البائع ولا ضرر مع عدم الغبن وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحمل
اطلاق الحديث في اثبات الخيار على هذا لعلمنا بمعناه ومراده ولان النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار
إذا أتى السوق فيفهم منه انه أشار إلى معرفته بالغبن في السوق ولولا ذلك لكان الخيار له من حين
البيع، وظاهر كلام الخرقي ان الخيار يثبت له مجرد الغبن وان قل والأولى أن يتقيد بما يخرج عن
العادة لأن ما دون ذلك لا ينضبط، وقال أصحاب مالك إنما نهي عن تلقي الركبان لما يفوت به من الرفق
باهل السوق لئلا ينقطع عنهم ماله جلسوا من ابتغاء فضل الله، قال ابن القاسم فإن تلقاها متلق فاشتراها
عرضت على أهل السوق فيشتركون فيها، وقال الليث بن سعد يباع في السوق وهذا مخالف لمدلول
الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيار للبائع إذا هبط السوق ولم يجعلوا له خيار أو جعل النبي
صلى الله عليه وسلم الخيار له يدل على أن النهي عن التلقي لحقه لا لحق غيره، ولان الجالس في السوق
كالمتلقي في أن كل واحد منهما مبتغ لفضل الله ولا يليق بالحكمة فسخ عقد أحدهما والحاق الضرر به
دفعا للضرر عن مثله، وليس رعاية حق الجالس أولى من رعاية حق المتلقي، ولا يمكن اشتراك أهل
السوق كلهم في سلعته فلا يعرج على مثل هذا
(فصل) فإن تلقاهم فباعهم شيئا فهو كمن اشترى منهم ولهم الخيار إذا غبنهم غبنا يخرج عن العادة
وهذا أحد الوجهين للشافعية وقالوا في الآخر النهي عن الشراء دون البيع فلا يدخل البيع فيه
وهذا مقتضى قول أصحاب مالك لأنهم عللوه بما ذكرنا عنهم ولا يتحقق ذلك في البيع لهم. ولنا
قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا تلقوا الركبان " والبائع داخل فيه ولان النهي عنه لما فيه من خديعتهم
وغبنهم، وهذا في البيع كهو في الشراء، والحديث قد جاء مطلقا، ولو كان مختصا بالشراء لألحق به
ما في معناه وهذا في معناه
(فصل) فإن خرج لغير قصد التلقي فلقي ركبا فقال القاضي: ليس له الابتياع منهم ولا الشراء
وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، ويحتمل أن لا يحرم عليه ذلك وهو قول الليث بن سعد
والوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه لم يقصد التلقي فلم يتناوله النهي ولأنه نادر فلا يكثر ضرره
كمن يقصد ذلك ووجه الأول انه إنما نهي عن التلقي دفعا للخديعة والغبن عنهم وذلك متحقق سواء
قصد التلقي أو لم يقصده فأشبه ما لو قصد
{مسألة} (الثانية النجش وهو أن يزيد في السلعة من يريد شراها ليغر المشتري
فله الخيار إذا غبن)
78

النجش حرام وخداع قال البخاري الناجش آكل ربا خائن وهو خداع باطل لا يحل لما روى
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش متفق عليه، ولان في ذلك تغريرا بالمشتري
وخديعة له، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الخديعة في النار " فإن اشترى مع النجش
فالشراء صحيح في قول أكثر العلماء منهم الشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد أن البيع باطل اختاره أبو
بكر وهو قول مالك لأن النهي يقتضي الفساد. ولنا أن النهي عاد إلى الناجش لا إلى العاقد فلم يؤثر في
البيع ولان النهي لحق آدمي فلم يفسد العقد كبيع المدلس، وفارق ما كان لحق الله تعالى فإن حق الآدمي
يمكن جبره بالخيار أو زيادة في الثمن، لكن إن كان في البيع غبن لم تجر العادة بمثله فللمشتري الخيار بين
الفسخ والامضاء كما في تلقي الركبان فإن كان يتغابن بمثله فلا خيار له، وسواء كان النجش بمواطأة
من البائع أو لم يكن، وقال أصحاب الشافعي ان لم يكن ذلك بمواطأة من البائع وعلمه فلا خيار،
واختلفوا فيما إذا كان بمواطأة منه فقال بعضهم لاخيار للمشتري لأن التفريط منه حيث اشترى ما
لا يعرف قيمته. ولنا أنه تغرير بالعاقد فإذا غبن ثبت له الخيار كما في تلقي الركبان، وبذلك يبطل
ما ذكروه ولو قال البائع أعطيت بهذه السلعة ما لم يعط فصدقه المشتري ثم كان كاذبا فالبيع صحيح
وللمشتري الخيار أيضا لأنه في معنى النجش
{مسألة} (الثالثة المسترسل إذا غبن الغبن المذكور)
يعني إذا غبن غبنا يخرج عن العادة كما ذكرنا في تلقي الركبان، والنجش يثبت له الخيار بين
الفسخ والامضاء، وبه قال مالك قال ابن أبي موسى وقد قيل قد لزمه البيع ولا فسخ له وهو مذهب
أبي حنيفة والشافعي لأن نقصان قيمة السلعة مع سلامتها لا يمنع لزوم العقد كغير المسترسل وكالغبن
اليسير. ولنا أنه غبن حصل لجهله بالمبيع فأثبت الخيار كالغبن في تلقي الركبان. فاما غير المسترسل فإنه
دخل على بصيرة بالغبن فهو كالعالم بالعيب وكذا لو استعجل فجهل ما لو تثبت لعلمه لم يكن له خيار
لأنه انبنى على تفريطه وتقصيره، والمسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة قال أحمد:
المسترسل الذي لا يحسن أن يما كس وفي لفظ الذي لا يماكس فكأنه استرسل إلى البائع فأخذ ما
أعطاه من غير مماكسة ولا معرفة بغبنه. ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد، وحده أبو بكر في
التنبيه وابن أبي موسى في الارشاد بالثلث وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " والثلث كثير " وقيل
السدس والأولى تحديده بما لا يتغابن الناس به في العادة لأن ما لا يرد الشرع بتحديده يرجع فيه إلى العرف
(فصل) وإذا وقع البيع على غير متعين كقفيز من صبرة ورطل من دن فظاهر قول الخرقي انه
يلزم بالتفرق سواء تقابضا أولا، وقال القاضي في موضع المبيع الذي لا يلزم إلا بالقبض كالمكيل
والموزون فقد صرح بأنه لا يلزم قبل قبضه، وذكر في موضع آخر: من اشترى قفيزا من صبرتين
فتلفت إحداهما قبل القبض بطل العقد في التالف دون الباقي رواية واحدة، ولا خيار للبائع وهذا
79

تصريح باللزوم في حق البائع قبل القبض، وانه لو كان جائزا كان له الخيار سواء تلفت إحداهما أو
لم تتلف. ووجه الجواز انه مبيع لا يملك بيعه ولا التصرف فيه فكان جائزا كما قبل التفرق، ولأنه لو
تلف لكان من ضمان البائع. ووجه اللزوم قول النبي صلى الله عليه وسلم " وان تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما
البيع فقد وجب البيع " وما ذكرناه للقول الأول ينتقض ببيع الموصوف والسلم فإنه لازم مع ما ذكرناه
وكذلك سائر البيع في إحدى الروايتين.
(فصل) قال رضي الله عنه (الرابع خيار التدليس بما يزيد الثمن كتصرية اللبن في الضرع
وتحمير وجه الجارية وتسويد شعرها وتجعيده وجمع ماء الرحى وارساله عند عرضها فهذا يثبت
للمشتري خيار الرد) التصرية جمع اللبن في الضرع يقال صرى الشاة وصرى اللبن في ضرع الشاة
بالتشديد والتخفيف ويقال صرى الماء في الحوض، وصرى الطعام في فيه وصرى الماء في ظهره
إذا ترك الجماع وأنشد أبو عبيدة:
رأيت غلاما قد صرى في فقرته * ماء الشباب عنفوان شرته
قال البخاري أصل التصرية حبس الماء. يقال صريت الماء ويقال للمصراة المحفلة وهو من الجمع
أيضا ومنه سميت مجامع الناس محافل، والتصرية حرام إذا أريد بها التدليس على المشتري لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" لا تصروا الإبل " وقوله " من غشنا فليس منا " وروى ابن ماجة باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم " وراه ابن عبد البر " ولا تحل خلابة مسلم " فمن اشترى
مصراة من بهيمة الأنعام وهو لا يعلم تصريتها ثم علم فله الخيار في الرد والامساك روي ذلك عن ابن
مسعود وابن عمر وأبي هريرة وأنس واليه ذهب مالك وابن أبي ليلى والشافعي وإسحاق وأبو يوسف
وعامة أهل العلم، وذهب أبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا خيار له لأن ذلك ليس بعيب بدليل أنها لو لم
تكن مصراة فوجدها أقل لبنا من أمثالها لم يملك ردها، والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار
كما لو علفها فانتفخ بطنها فظن المشتري أنها حامل
ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فإنه
بخير النظرين بعد أن يحلبها ان شاء أمسك وان شاء ردها وصاعا من تمر " متفق عليه، وروى ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها
قمحا " رواه أبو داود ولأنه تدليس بما يختلف الثمن باختلافه فوجب به الرد كالشمطاء إذا سود شعرها،
وبه يبطل قياسهم فإن بياضه ليس بعيب كالكبر، وإذا دلسه ثبت له الخيار، وأما انتفاخ البطن فقد
يكون لغير الحمل فلا معنى لحمله عليه وعلى أن هذا القياس يخالف النص واتباع قول النبي صلى الله عليه وسلم
أولى، إذا ثبت هذا فإنما يثبت الخيار إذا لم يعلم المشتري بالتصرية فإن كان عالما لم يثبت له خيار، وقال
أصحاب الشافعي يثبت له الخيار في وجه للخبر ولان انقطاع اللبن لم يوجد وقد يبقى على حاله كما لو
80

تزوجت عنينا ثم طلبت الفسخ. ولنا أنه اشتراها عالما بالتدليس فلم يكن له خيار كما لو اشترى من
سود شعرها عالما بذلك ولأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له الرد كما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وبقاء اللبن
على حاله نادر بعيد لا يعلق عليه حكم، والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع
(فصل) وكذلك كل تدليس يختلف الثمن لأجله مثل أن يسود شعر الجارية أو يجعده أو يحمر
وجهها أو يضمر الماء على الرحى ويرسله عند عرضها على المشتري يثبت الخيار أيضا لأنه تدليس يختلف
الثمن باختلافه فأثبت الخيار كالتصرية، وبهذا قال الشافعي، ووافق أبو حنيفة في تسويد الشعر وقال
في تجعيده لا يثبت به خيار لأنه تدليس بما ليس بعيب أشبه ما لو سود أنامل العبد ليظنه كاتبا أو حدادا
وما ذكروه ينتقض بتسويد الشعر، وأما تسويد أنامل العبد فليس بمنحصر في كونه كاتبا لأنه يحتمل
أن يكون قد ولع بالدواة أو كان غلاما لكاتب يصلح له الدواة فظنه كاتبا طمعا لا يستحق به فسخا،
فإن حصل هذا من غير تدليس مثل أن اجتمع اللبن في الضرع من غير قصد، أو احمر وجه الجارية
لخجل أو تعب أو يسود شعرها بشئ وقع عليه، فقال القاضي له الرد أيضا لدفع الضرر اللاحق
بالمشتري والضرر واجب الدفع سواء قصد أو لم يقصد أشبه العيب، ويحتمل أن لا يثبت الخيار بحمرة
الوجه بخجل أو تعب لأنه يحتمل ذلك فتعين ظنه من خلقته الأصلية لطمع فأشبه سواد أنامل العبد
(فصل) وان دلسه بما لا يختلف به الثمن كتبييض الشعر وتبسيطه فلا خيار للمشتري لأنه لا
ضرر في ذلك، وان علف الشاة فظنها المشتري حاملا أو سود أنامل العبد أو ثوبه ليظنه كاتبا أو
حدادا أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة فظنها كثيرة اللبن فلا خيار له لأن ذلك لا ينحصر فيما ظنه
المشتري لأن سواد الأنامل قد يكون لولع أو خدمة كاتب أو حداد أو شروع في الكتابة وانتفاخ
البطن يكون للاكل فظنه المشتري غير ذلك طمعا لا يثبت به الخيار
(فصل) فإن أراد امساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يجعل له في المصراة أرشا بل خيره بين الامساك والرد مع صاع من تمر ولان المدلس ليس بمعيب فلم
يستحق له أرشا، فإن تعذر عليه الرد بتلف فعليه الثمن لأنه تعذر عليه الرد ولا أرش له أشبه غير
المدلس، فإن تعيب عنده قبل العلم بالتدليس فله رده ورد أرش العيب عنده وأخذ الثمن وان شاء أمسك
ولا شئ له، وان تصرف في المبيع بعد علمه بالتدليس بطل رده كما لو تصرف في المبيع، المعيب وان أخر
الرد من غير تصرف فحكمه حكم تأخير رد المعيب على ما نذكره إن شاء الله
{مسألة} (ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعا من تمر فإن لم يجد التمر فقيمته في موضعه
سواء كانت ناقة أو بقرة أو شاة)
إذا رد المصراة لزمه بدل اللبن في قول كل من جوز ردها وهو مقدر بصاع من تمر كما جاء في
81

الحديث، وهذا قول الليث وإسحاق والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور، وذهب مالك وبعض الشافعية
إلى أن الواجب صاع من قوت البلد لأن في بعض الأحاديث " ورد معها صاعا من طعام " وفي بعضها " ورد
معها مثل أو مثلي لبنها قمحا " فجمع بين الأحاديث وجعل تنصيصه على التمر لأنه غالب قوت البلد في
المدينة لأنه غالب قوت بلد آخر، وقال أبو يوسف يرد قيمة اللبن لأنه ضمان متلف فيقدر بقيمته كسائر
المتلفات وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى، وحكي عن زفر أنه يرد صاعا من تمر أو نصف صاع بر كقولهم
في الفطرة. ولنا الحديث الصحيح الذي أوردناه وقد نص فيه على التمر فقال " ان شاء ردها وصاعا
من تمر " وللبخاري " من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وان سخطها ففي حلبها صاع
من تمر " ولمسلم " ردها ورد صاعا من تمر لا سمرا " يعني لا يرد قمحا والمراد بالطعام في الحديث التمر لأنه
مطلق في أحد الحديثين مقيد في الآخر في قضية واحدة، والمطلق فيما هذا سبيله يحمل على المقيد
وحديث ابن عمر في روايته جميع بن عمير التيمي قال ابن نمير هو من اكذب الناس، وقال ابن حبان
كان يضع الحديث مع أن الحديث متروك الظاهر بالاتفاق إذ لا قائل بايجاب مثل لبنها أو مثلي لبنها
قمحا ثم قد شك فيه الراوي مع مخالفة الحديث الصحيح فلا يعول عليه، وقياس أبي يوسف مخالف
للنص فلا يقبل ولا يبعد أن يقدر الشارع بدل هذا المتلف قطعا للخصومة والتنازع كما قدر دية الآدمي
ودية أطرافه، ولا يمكن حمل الحديث على أن الصاع كان قيمة اللبن، فلذلك أوجبه لوجوه ثلاثة (أحدها)
أن القيمة هي الأثمان لا التمر (الثاني) أنه أوجب في المصراة من الإبل والغنم جميعا صاعا من تمر مع
اختلاف لبنها (الثالث) أن لفظه للعموم فيتناول كل مصراة ولا يتفق أن تكون قيمة لبن كل مصراة
صاعا وان أمكن أن يكون كذلك فيتعين ايجاب الصاع لأنه القيمة التي عين الشارع ايجابها فلا يجوز
العدول عنها، ويجب أن يكون صاع التمر جيدا غير معيب لأنه واجب باطلاق الشارع فينصرف إلى
ما ذكرناه كالصاع الواجب في الفطرة، ويكفي فيه أدنى ما يقع عليه اسم الجيد، ولا فرق بين أن تكون
قيمة التمر أقل من قيمة الشاة أو أكثر أو مثلها نص عليه وليس فيه جمع بين البدل والمبدل لأن التمر
بدل اللبن قدره الشارع به كما قدر في يدي العبد قيمته وفي يديه ورجليه قيمته مرتين مع بقاء العبد على
ملك السيد، وان عدم التمر في موضعه فعليه قيمته في موضع العقد لأنه بمنزلة عين أتلفها فيجب عليه قيمتها
(فصل) ولا فرق بين الناقة والبقرة والشاة فيما ذكرنا، وقال داود لا يثبت الخيار بتصرية البقرة لأن الحديث
" لا تصروا الإبل والغنم " فدل على أن ما عداهما بخلافهما ولان الحكم ثبت فيهما بالنص، والقياس لا تثبت
به الأحكام. ولنا عموم قوله " من اشترى مصراة ومن ابتاع محفلة " ولم يفصل والخبر فيه تنبيه على
تصرية البقر لأن لبنها أكثر وأنفع فيثبت بالتنبيه وهو حجة عند الجميع
(فصل) إذا اشترى مصراتين أو أكثر في عقد فردهن رد مع كل مصراة صاعا وبه قال
الشافعي وبعض المالكية، وقال بعضهم في الجميع صاع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من
82

اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ". ولنا قوله " من
اشترى مصراة " وهذا يتناول الواحدة ولان ما جعل عوضا عن شئ في صفقتين وجب إذا كان في صفقة
واحدة كأرش العيب وأما الحديث فإن الضمير فيه يعود إلى الواحدة
{مسألة} (فإن كان اللبن بحاله لم يتغير رده وأجزأه ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر)
إذا احتلبها واللبن بحاله ثم ردها مع لبنها فلا شئ عليه لأن المبيع إذا كان موجودا فرده لم
يلزمه بدله فإن أبى البائع قبوله وطلب التمر فليس له ذلك إذا كان اللبن لم يتغير ويحتمل أن يلزمه قبوله
لظاهر الخبر ولأنه قد نقص بالحلب لأن كونه في الضرع أحفظ له
ولنا انه قدر على رد المبدل فلم يلزمه البدل كسائر المبدلات مع أبدالها. والحديث المراد به رد
التمر حالة عدم اللبن لقوله " في حلبتها صاع من تمر " وقولهم الضرع أحفظ له لا يصح لأنه لا يمكن
ابقاؤه في الضرع على الدوام لأنه يضر بالحيوان، فإن تغير اللبن ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه قبوله
وهو قول مالك للخبر ولأنه قد نقص بالحموضة أشبه تلفه (والثاني) يلزمه قبوله لأن التعهد حصل
باستعلام المبيع بتعين البائع وتسليطه على حلبه فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة
(فصل) فإن رضي بالتصرية فأمسكها ثم وجد بها عيبا ردها به لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد
لعيب آخر كما لو اشترى أعرج فرضي به فوجده أبرص فإن رد لزمه صاع من تمر عوض اللبن لأنه عوض
به فيما إذا ردها بالتصرية فيكون عوضا له مطلقا
(فصل) ولو اشترى شاة غير مصراة فاحتلبها ثم وجد بها عيبا فله الرد، ثم إن لم يكن في ضرعها
لبن حال العقد فلا شئ عليه لأن اللبن الحادث بعد العقد يحدث على ملكه، وإن كان فيه لبن حال
العقد إلا أنه يسير لا يخلو الضرع من مثله عادة فلا شئ فيه لأنه لا عبرة به ولا قيمة له في العادة،
وإن كان كثيرا وكان قائما بحاله انبنى رده على رد لبن المصراة وقد سبق، فإن قلنا ليس له رده فبقاؤه
كتلفه، وهل له رد المبيع؟ يخرج على الروايتين فيما إذا اشترى شيئا فتلف بعضه أو تعيب فإن قلنا
برده رد مثل اللبن لأنه من المثليات والأصل ضمانها بمثلها إلا أنه خولف في لبن المصراة للنص ففيما
عداه يبقى على الأصل، ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو مما ذكرنا
(فصل) قال ابن عقيل إذا علم التصرية قبل حلبها مثل أن أقربه البائع أو شهد به من تقبل
شهادته فله ردها ولا شئ معها لأن التمر إنما وجب بدلا للبن المحتلب ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من اشترى
غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبها صاع من تمر " ولم يأخذ لها ههنا لبنا
فلم يلزمه رد شئ معها وهذا قول مالك، قال ابن عبد البر: هذا مما لا خلاف فيه
{مسألة} (ومتى علم التصرية فله الرد، وقال القاضي ليس له ردها إلا بعد ثلاث)
اختلف أصحابنا في مدة الخيار فقال القاضي هو مقدر بثلاثة أيام ليس له الرد قبل مضيها ولا
83

إمساكها بعدها فإن أمسكها بعدها سقط الرد قال وهو ظاهر كلام أحمد وقول بعض أصحاب الشافعي
لأن أبا هريرة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة
أيام إن شاء أمسكها وان شاء ردها ورد معها صاعا من تمر " رواه مسلم، قالوا هذه الثلاثة قدرها
الشارع لمعرفة التصرية فإنها لا تعرف قبل مضيها لأن لبنها في أول يوم لبن التصرية وفي الثاني يجوز أن
يكون نقص لتغير المكان واختلاف العلف وكذلك الثالث، فإذا مضت الثلاث استبانت التصرية وثبت
الخيار على الفور ولا يثبت قبل انقضائها، وقال أبو الخطاب متى تبينت التصرية جاز له الرد قبل
الثلاث وبعدها لأنه تدليس يثبت الخيار فملك الرد به إذا ظهر كسائر التدليس وهو قول بعض المدلسين،
فعلى هذا فائدة التقدير في الخبر بالثلاث لأن الظاهر أنه لا يحصل العلم إلا بها فاعتبرها لحصول العلم
ظاهرا، فإن حصل العلم بها أولم يحصل فالاعتبار به دونها كما في سائر التدليس، وظاهر قول ابن أبي
موسى انه متى علم التصرية ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى تمامها وهو قول ابن المنذر وأبي حامد
من الشافعية وحكاه عن الشافعي لظاهر حديث أبي هريرة فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة
كلها، وقول القاضي لا يثبت في شئ منها، وقول أبي الخطاب يسوى بينها وبين غيرها، والعمل بالخبر
أولى والقياس ما قاله أبو الخطاب قياسا على سائر التدليس
{مسألة} (وان صار لبنها عادة لم يكن له الرد في قياس قوله: إذا اشترى أمة مزوجة فطلقها
الزوج لم يملك الرد. وقال أصحاب الشافعي له الرد في أحد الوجهين للخبر ولان التدليس كان
موجودا في حال العقد فأثبت الرد كما لو نقص اللبن. ولنا ان الرد جعل لدفع الضرر بنقص الثمن ولم
يوجد فامتنع الرد ولان العيب لم يوجد ولم تختلف صفة البيع عن حالة العقد فلم يثبت التدليس ولان
الخيار يثبت لدفع الضرر ولا ضرر
{مسألة} (فإن كانت التصرية في غير بهيمة الأنعام كالأمة والاتان والفرس ثبت له الخيار في
أحد الوجهين) اختاره ابن عقيل وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " من
اشترى مصراة " ولأنه تصرية بما يختلف به الثمن فأثبت الخيار كتصرية بهيمة الأنعام لأن الآدمية
تراد للرضاع ويرغب فيها ظئرا، ولذلك لو اشترط كثرة لبنها فبان بخلافه ملك الفسخ، والفرس تراد
لولدها (والثاني) لا يثبت به الخيار لأن لبنها لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد كلبن بهيمة الأنعام، والخبر
ورد في بهيمة الأنعام ولا يصح القياس عليه لذلك، واللفظ العام أريد به الخاص لأنه أمر في ردها
بصاع من تمر ولا يجب في لبن غيرها ولأنه ورد عاما وخاصا في قضية واحدة فيحمل العام على الخاص
فإن قلنا بردها لم يلزمه بذل لبنها ولا يرد معها شيئا لأن هذا اللبن لا يباع عادة ولا يعتاض عنه
{مسألة} (ولا يحل للبائع تدليس سلعته ولا كتمان عيبها) لقوله عليه السلام " من غشنا فليس
منا " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام " المسلم أخو المسلم لا يحل
84

لمسلم باع من أخيه بيعا إلا بينه " رواه ابن ماجة، فإن فعل فالبيع صحيح في قول أكثر أهل العلم
منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي بدليل حديث التصرية فإن النبي صلى الله عليه وسلم صححه مع نهيه
عنه، وقال أبو بكر ان دلس العيب فالبيع باطل لأنه منهي عنه والنهي عنه والنهي يقتضي الفساد، فقيل له ما تقول
في التصرية؟ فلم يذكر جوابا فدل على رجوعه
(فصل) قال رضي الله عنه (الخامس خيار العيب وهو النقص كالمرض وذهاب جارحة أو سن
أو زيادتها ونحو ذلك، وعيوب الرقيق من فعله كالزنا والسرقة والإباق والبول في الفراش إن كان
من مميز) العيوب النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار لأن المبيع إنما صار محلا للعقد باعتبار
صفة المالية فما يوجب نقصا فيها يكون عيبا والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف التجار، فالعيوب
في الخلقة كالجنون والجذام والبرص والصمم والعمى والعور والعرج والعفل والقرن والفتق والرتق
والقرع والطرش والخرس وسائر المرض والإصبع الزائدة والناقصة والحول والخوص والسبل وهو
زيادة في الأجفان والتخنيث وكونه خنثى والخصاء والتزوج في الأمة والبخر فيها وهذا كله قول
أبي حنيفة والشافعي، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم في الجارية تشترى ولها زوج
أنه عيب، وكذلك الدين في رقبة العبد إذا كان السيد معسرا، والجناية الموجبة للقود، ولان الرقبة صارت
كالمستحقة لوجوب الدفع في الجناية والبيع في الدين ومستحقة الاتلاف بالقصاص، والزنا والبخر عيب
في العبد والأمة وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ليس بعيب في العبد لأنه لا يراد للفراش والاستمتاع
بخلاف الأمة. ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته فإنه بالزنا يتعرض لإقامة الحد عليه والتعزير ولا
يأمنه سيده على عائلته؟ والبخر يؤذي سيده ومن جالسه أو ساره، والسرقة والإباق والبول في
الفراش عيوب في الكبير الذي جاوز العشر، وقال أصحاب أبي حنيفة في الذي يأكل وحده ويشرب
وحده، وقال الثوري وإسحاق ليس بعيب حتى يحتلم لأن الأحكام تتعلق به من التكليف ووجوب
الحد فكذلك هذا. ولنا أن الصبي العاقل يتحرز من هذا عادة كتحرز الكبير فوجوده منه في تلك
الحال يدل على أن البول لداء في بطنه، والسرقة والإباق لخبث في طبعه. وحد ذلك بالعشر لأمر
النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب الصبي على ترك الصلاة عندها والتفريق بينهم في المضاجع. فأما من دون ذلك
فتكون هذه الأمور منه لضعف عقله وعدم تثبته، وكذلك إن كان العبد يشرب الخمر ويسكر من النبيذ
نص عليه أحمد لأنه يوجب الحد فهو كالزنا، وكذلك الحمق الشديد والاستطالة على الناس لأنه يحتاج
إلى التأديب وربما تكرر فأفضى إلى تلفه، ويختص الكبير دون الصغير لأنه منصوب إلى فعله، وعدم
الختان ليس بعيب في العبد الصغير لأنه لم يفت وقته ولا في الأمة الكبيرة وبه قال الشافعي، وقال
أصحاب أبي حنيفة هو عيب فيها لأنه زيادة ألم أشبهت العبد. ولنا أنه لا يجب عليها والألم فيه يقل
85

ولا يخشى منه التلف بخلاف العبد الكبير، فأما الكبير فإن كان مجلوبا من الكفار فليس ذلك بعيب
فيه لأن العادة أنهم لا يختنون فصار ذلك معلوما عند المشتري فهو كديتهم، وإن كان مسلما مولدا
فهو عيب فيه لأنه يخشى عليه منه وهو خلاف العادة
(فصل) والثيوبة ليست بعيب لأنها الغالب على الجواري فالاطلاق لا يقتضي خلافها هذا اختيار
القاضي، وقال ابن عقيل إذا اطلق الشراء اقتضى سلامتها من الثيوبة وبقاء البكارة، فالثيوبة اتلاف
جزء والأصل عدم الاتلاف والثمن يختلف باختلافه فنقول جزء يختلف الثمن ببقائه وزواله فزواله
عيب كتلف بعض اجزائها. وتحريمها على المشتري بنسب أو رضاع ليس بعيب إذ ليس في المحل ما يوجب
خللا في المالية ولا نقصا والتحريم يختص به، وكذلك الاحرام والصيام لأنهما يزولان قريبا وبه قال
أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا وكذلك عدة البائن. فأما عدة الرجعية فهي عيب لأن الرجعية
زوجة لا يؤمن ارتجاعها، ومعرفة الغناء والحجامة ليس بعيب، وحكي عن مالك في الجارية المغنية انه
عيب فيها لأنه محرم. ولنا انه ليس بنقص في عينها ولا قيمتها فهو كالصناعة وكونه محرما ممنوع وإن
سلم فالمحرم استعماله لا معرفته، والعسر ليس بعيب وكان شريح يرد به
ولنا أنه ليس بنقص وعمله بإحدى يديه يقوم مقام عمله بالأخرى، والكفر ليس بعيب وبه قال
الشافعي وهو عيب عند أبي حنيفة لأنه نقص لقول الله تعالى (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم)
ولنا أن العبيد فيهم المسلم والكافر والأصل فيهم الكفر، فالاطلاق لا يقتضي خلاف ذلك وكون
المؤمن خيرا من الكافر لا يقتضي كون الكفر عيبا كما أن المتقي خير من غيره، قال الله تعالى (ان
أكرمكم عند الله أتقاكم) وليس عدمه عيبا. وكونه ولد زنا ليس بعيب وبه قال الشافعي، وقال
أبو حنيفة هو عيب في الجارية لأنها تراد للافتراش بخلاف العبد، قلنا إن النسب في الرقيق غير مقصود
بدليل انهم يشترون مجلوبين غير معروفي النسب. وكون الجارية لا تحسن الطبخ أو الخبز ونحوه ليس
بعيب لأن هذا حرفة فلم يك فقدها عيبا كسائر الصنائع. وكونها لا تحيض ليس بعيب، وقال الشافعي
هو عيب إذا كان لكبر لأن من لا تحيض لا تحمل. ولنا ان الاطلاق لا يقتضي الحيض ولا عدمه
فلم يكن فواته عيبا كما لو كان لغير الكبر
{مسألة} (فمن اشترى معيبا لا يعلم عيبه فله الخيار بين الرد والامساك مع الأرش وهو قسط
ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن)
من اشترى معيبا يعلم عيبه أو مدلسا أو مصراة وهو عالم فلا خيار له لأنه بذل الثمن فيه عالما
راضيا به عوضا أشبه ما لا عيب فيه لا نعلم خلاف ذلك، وإن علم به عيبا لم يكن عالما به فله الخيار بين
الامساك والفسخ سواء كان البائع علم العيب فكتمه أو لم يعلم لا نعلم فيه خلافا ولان اثبات النبي صلى الله عليه
وسلم الخيار بالتصرية تنبيه على ثبوته بالعيب ولان مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب بدليل ما روي
86

عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اشترى مملوكا فكتب " هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن
خالد اشترى منه عبدا - أو أمة - لا دابة ولا غائلة بيع المسلم للمسلم " ولان الأصل السلامة والعيب حادث
أو مخالف للظاهر، فعند الاطلاق يحمل عليها فمتى فاتت فات بعض مقتضى العقد فلم يلزمه أخذه
بالعوض وكان له الرد وأخذ الثمن كاملا
(فصل) فإن اختار امساك المعيب واخذ الأرش فله ذلك وبه قال إسحاق، وقال أبو حنيفة
والشافعي ليس له الا الامساك أو الرد ولا أرش له الا أن يتعذر رد المبيع وروي ذلك عن أحمد
حكاه صاحب المحرر لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لمشتري المصراة الخيار بين الامساك من غير أرش أو الرد
ولأنه يملك الرد فلم يملك أخذ جزء من الثمن كالرد بالخيار. ولنا أنه ظهر على عيب لم يعلم به فكان
له الأرش كما لو تعيب عنده ولأنه فات عليه جزء من المبيع فكانت له المطالبة بعوضه كما لو اشترى
عشرة أقفزة فبانت تسعة أو كما لو أتلفه بعد البيع، فأما المصراة فليس فيها عيب وإنما ملك الخيار
بالتدليس لا لفوات جزء وكذلك لا يستحق أرشا إذا تعذر الرد، إذا ثبت هذا فمعنى الأرش أن
يقوم المبيع صحيحا ثم يقوم معيبا فيؤخذ قسط ما بينهما من الثمن. مثاله أن يقوم المعيب صحيحا بعشرة
ومعيبا بتسعة والثمن خمسة عشر فقد نقصه العيب عشر قيمته فيرجع على البائع بعشر الثمن وهو درهم
ونصف، وعلة ذلك أن المبيع مضمون على المشتري بثمنه ففوات جزء منه يسقط عنه ضمان ما قابله من
الثمن ولأننا لو ضمناه نقص القيمة أفضى إلى اجتماع الثمن والمثمن للمشتري فيما إذا اشترى شيئا بعشرة وقيمته
عشرون فوجد به عيبا ينقصه عشرة فأخذها حصل له المبيع ورجع بثمنه، وهذا لا سبيل إليه وقد نص أحمد على
ما ذكرناه. وذكره الحسن البصري فقال يرجع بقيمة العيب في الثمن يوم اشتراه. قال أحمد هذا أحسن ما سمعته
{مسألة} (وما كسب فهو للمشتري وكذلك نماؤه المنفصل وعنه لا يرده الا مع نمائه)
وجملة ذلك أنه إذا أراد رد المبيع فلا يخلو اما أن يكون بحاله أو أن يكون قد زاد أو نقص فإن
كان بحاله رده وأخذ الثمن، وان زاد بعد العقد أو حصلت له فائدة فذلك قسمان (أحدهما) أن
تكون الزيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم صنعة والحمل والثمرة قبل الظهور فإنه يردها بمائها فإنه يتبع
في العقود والفسوخ (القسم الثاني) أن تكون الزيادة منفصلة وهي نوعان (أحدهما) أن تكون من
غير المبيع كالكسب والأجرة وما يوهب له أو يوصى له به فهو للمشتري في مقابلة ضمانه لأن المبيع لو
هلك كان من مال المشتري وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " ولا نعلم في هذا خلافا
وقد روى ابن ماجة باسناده عن عائشة أن رجلا اشترى عبدا فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيبا فرده
فقال يا رسول الله انه استغل غلامي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " رواه أبو
داود وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم
(النوع الثاني) أن تكون الزيادة من عين المبيع كالولد والثمرة واللبن فهي للمشتري أيضا ويرد
87

الأصل بدونها، وبهذا قال الشافعي الا أن الولد إن كان لآدمية لم يملك ردها دونه وسنذكر ذلك
وعنه ليس له رده دون نمائه قياسا على النماء المتصل، والمذهب الأول لما ذكرناه من حديث عائشة
وقال مالك، إن كان النماء ثمرة لم يردها، وإن كان ولدا رده لأن الرد حكم فسرى إلى الولد
كالكتابة، وقال أبو حنيفة: النماء الحادث في يد المشتري يمنع الرد لأنه لا يمكن رد الأصل بدونه
لأنه من موجبه فلا يرفع العقد مع بقاء موجبه، ولا يمكن رده معه لأنه لم يتناوله العقد. ولنا انه نماء
حدث في ملك المشتري فلم يمنع الرد كما لو كان في يد البائع وكالكسب ولأنه نماء منفصل فجاز رد
الأصل بدونه كالكسب والثمرة عند مالك، وقولهم ان النماء من موجب العقد لا يصح إنما موجبه الملك
ولو كان موجبا للعقد لعاد إلى البائع بالفسخ، وقول مالك لا يصح، لأن الولد ليس بمبيع فلا يمكن رده
بحكم رد الام، ويبطل ما ذكره بنقل الملك بالهبة والبيع وغيرهما فإنه لا يسري إلى الولد بوجوده في
الام فإن اشتراها حاملا فولدت عند المشتري فردها رد ولدها معها لأنه من جملة المبيع والولادة نماء
متصل، وإن نقص المبيع فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى
{مسألة} (ووطئ الثيب لا يمنع الرد وعنه يمنع)
إذا اشترى أمة ثيبا فوطئها المشتري قبل علمه بالعيب فله ردها ولا شئ عليه روي ذلك عن
زيد بن ثابت، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وعثمان البتي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يمنع الرد
يروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال الزهري والثوري وأبو حنيفة وإسحاق لأن الوطئ كالجناية
لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال فوجب أن يمنع الرد كوطئ البكر، وقال شريح والشعبي
والنخعي وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى يردها ومعها أرش واختلفوا فيه فقال شريح والنخعي نصف
عشر ثمنها، وقال الشعبي حكومة وقال سعيد بن المسيب دنانير، وقال ابن أبي موسى مهر مثلها
وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكره ابن أبي موسى رواية عن أحمد لأنه إذا فسخ
صار واطئا في ملك الغير لكون الفسخ رفعا للعقد من أصله. ولنا أنه معنى لا ينقص عينها ولا قيمتها
ولا يتضمن الرضا بالعيب فلم يمنع الرد كالاستخدام وكوطئ الزوج. وما قالوه يبطل بوطئ الزوج، ووطئ
البكر ينقص ثمنها. وقولهم يكون واطئا في ملك الغير لا يصح لأن الفسخ رفع العقد من حينه لامن
أصله بدليل انه لا يبطل الشفعة ولا يوجب رد الكسب فيكون وطؤه في ملكه
(فصل) ولو اشتراها مزوجة فوطئها الزوج لم يمنع ذلك الرد بغير خلاف نعلمه، فإن زوجها
المشتري فوطئها الزوج ثم أراد ردها بالعيب فإن كان النكاح باقيا فهو عيب حادث، وإن كان قد زال
فحكمه حكم وطئ السيد، وقد استحسن أحمد أنه يمنع الرد وهو محمول على الرواية الأخرى إذ لا فرق
بين هذا وبين وطئ السيد، وان زنت في يد المشتري ولم يكن عرف ذلك منها فهو عيب حادث
حكمه حكم العيوب الحادثة، ويحتمل أن يكون عيبا بكل حال لأنه لزمها حكم الزنا في يد المشتري
88

{مسألة} (وان وطئ البكر أو تعيبت عنده فله الأرش، وعنه انه مخير بين الأرش وبين الرد
وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن)
إذا وطئ المشتري البكر قبل علمه بالعيب ففيه روايتان (إحداهما) لا يردها ويأخذ أرش العيب
وبه قال مالك وابن سيرين والزهري والثوري والشافعي وأبو حنيفة وإسحاق قال ابن أبي موسى وهو
الصحيح عن أحمد (والرواية الأخرى) يردها ومعها شئ اختارها الخرقي وبه قال شريح وسعيد بن
المسيب والشعبي والنخعي ومالك وابن أبي ليلى وأبو ثور، والواجب رد ما نقص قيمتها بالوطئ فإذا
كانت قيمتها بكرا مائة وثيبا ثمانين رد معها عشرين لأنه بفسخ العقد يصير مضمونا عليه بقيمته بخلاف
أرش العيب الذي يأخذه المشتري، وهذا قول مالك وأبي ثور، وقال شريح والنخعي يرد عشر ثمنها
وقال سعيد بن المسيب يرد عشرة دنانير وما قلناه إن شاء الله أولى، واحتج من منع ردها بان
الوطئ نقص عينها وقيمتها فمنع الرد كما لو اشترى عبدا فخصاه فنقصت قيمته، ووجه الرواية الأخرى
انه عيب حدث عند أحد المتبايعين لا للاستعلام فيثبت معه الخيار كالعيب الحادث عند البائع قبل القبض
(فصل) وكذلك كل مبيع كان معيبا ثم حدث به عيب عند المشتري قبل علمه بالأول ففيه
روايتان (إحداهما) ليس له الرد وله أرش العيب القديم، وبه قال الثوري وابن شبرمة والشافعي
وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن ابن سيرين والزهري والشعبي لأن الرد يثبت لإزالة الضرر،
وفي الرد على البائع اضرار به ولا يزال الضرر بالضرر (والثانية) له الرد ويرد أرش العيب الحادث
عنده ويأخذ الثمن وان شاء أمسكه وله الأرش، وبه قال مالك وإسحاق وقال الحكم يرده ولم يذكر
معه شيئا، ولنا حديث المصراة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بردها بعد حلبها ورد عوض لبنها ولأنه روي عن
عثمان أنه قضى في الثوب إذا كان به عوار يرده وإن كان قد لبسه، ولأنه عيب حدث عند المشتري فكان
له الخيار بين رد المبيع وأرشه وبين أرش العيب القديم كما لو حدث لاستعلام المبيع ولان العيبين قد استويا
والبائع قد دلس والمشتري لم يدلس فكان رعاية جانبه أولى، ولان الرد كان جائزا قبل حدوث
العيب الثاني فلا يزول إلا بدليل وليس في المسألة اجماع ولا نص، والقياس إنما يكون على أصل وليس
لما ذكروه أصل فيبقى الجواز بحاله. إذا ثبت هذا فإنه يرد أرش العيب الحادث عنده لأن المبيع بجملته
مضمون عليه بقيمته فكذلك أجزاؤه. فإن زال العيب الحادث عنده رده ولا شئ معه على كلتا الروايتين
وبه قال الشافعي لأنه زال المانع مع قيام السبب المقتضي للرد فثبت حكمه، ولو اشترى أمة فحملت عنده
ثم أصاب بها عيبا فالحمل عيب للآدميات دون غيرهن لأنه يمنع الوطئ ويخاف منه التلف فإن ولدت
فالولد للمشتري، وان نقصتها الولادة فذلك عيب، وان لم تنقصها الولادة ومات الولد ردها لزوال
89

العيب فإن كان ولدها باقيا لم يكن له ردها دون ولدها لما فيه من التفريق بينهما وهو محرم، وقال الشريف
ابن جعفر وأبو الخطاب في مسائلهما له ردها دون ولدها وهو قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه موضع
حاجة فأشبه ما لو ولدت حرا فإنه يجوز بيعها دون ولدها
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة "
رواه الترمذي وقال حديث حسن ولأنه أمكن منع الضرر بأخذ الأرش أو برد ولدها معها فلم يجز ارتكاب
نهي الشرع بالتفريق بينهما كما لو أراد الإقالة فيها دون ولدها، وقولهم إن الحاجة داعية إليه قلنا قد
اندفعت الحاجة بأخذ الأرش. أما إذا ولدت حرا فلا سبيل إلى بيعه معها بحال ولو كان المبيع حيوانا
غير الآدمي فحدث فيه حمل عند المشتري لم يمنع الرد بالعيب لأنه زيادة، وان علم بالعيب بعد الوضع
ولم تنقصه الولادة فله رد الام وامساك الولد لأن التفريق بينهما لا يحرم ولا فرق بين حملها قبل
القبض وبعده، ولو اشتراها حاملا فولدت عنده ثم اطلع على عيب فردها رد الولد معها لأنه من جملة
المبيع والزيادة فيه نماء متصل فأشبه ما لو سمنت الشاة، وان تلف الولد فهو كتعيب المبيع عنده فإن
قلنا له الرد فعليه قيمته، وعن أحمد لا قيمة عليه للولد، وحمل القاضي كلام أحمد على أن البائع دلس
العيب، وان نقصت الام بالولادة فهو عيب حادث حكمه حكم العيوب الحادثة، ويمكن حمل كلام أحمد على
أنه لاحكم للحمل وهو أحد أقوال الشافعي فعلى هذا يكون الولد حينئذ للمشتري فلا يلزمه رده مع بقائه
ولا قيمته مع التلف، والأول أصح وعليه العمل
(فصل) فإن كان المبيع كاتبا أو صانعا فنسي ذلك عند المشتري ثم وجد به عيبا فالنسيان عيب حادث
فهو كغيره من العيوب وعنه يرده ولا شئ عليه وعلله القاضي بأنه ليس بنقص في العين، ويمكن عوده
بالتذكر، قال وعلى هذا لو كان سمينا فهزل والقياس ما ذكرناه فإن الصناعة والكتابة مقومة تضمن في
الغصب وتلزم بشرطها في البيع فأشبهت الأعيان والمنافع من السمع والبصر والعقل وامكان العود منتقض
بالسن والبصر والحمل، وما روي عن أحمد محمول على ما إذا دلس بعيب
(فصل) وإذا تعيب المبيع عند البائع بعد العقد وكان المبيع من ضمانه فهو كالعيب القديم، وإن كان
من ضمان المشتري فهو كالعيب الحادث بعد القبض، فاما الحادث بعد القبض فهو من ضمان المشتري
لا يثبت الخيار وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك عهدة الرقيق ثلاثة أيام فما أصابه فيها فهو
من مال البائع إلا في الجنون والجذام والبرص، فإن تبين إلى سنة ثبت الخيار لما روى الحسن عن
عقبة ان النبي صلى الله عليه وسلم جعل عهدة الرقيق ثلاثة أيام ولأنه إجماع أهل المدينة ولان الحيوان
يكون فيه العيب ثم يظهر. ولنا انه ظهر في يد المشتري ويجوز أن يكون حادثا فلم يثبت به الخيار كسائر
المبيع وكما بعد الثلاثة والسنة وحديثهم لا يثبت قال أحمد ليس فيه حديث صحيح، وقال ابن المنذر لا يثبت
90

في العهدة حديث، والحسن لم يلق عقبة، واجماع أهل المدينة ليس بحجة، والداء الكامن لا عبرة به
وإنما النقص بما ظهر لا بما كمن
{مسألة} (قال الخرقي إلا أن يكون البائع دلس العيب فيلزمه رد الثمن كاملا)
قال القاضي ولو تلف المبيع عنده ثم علم أن البائع دلس العيب رجع بالثمن كله نص عليه في رواية
حنبل. معنى دلس العيب أي كتمه عن المشتري أو غطاه عنه بما يوهم المشتري عدمه مشتق من
الدلسة وهي الظلمة فكأن البائع يستر العيب، وكتمانه جعله في ظلمة فخفي على المشتري فلم يره ولم يعلم به
والتدليس حرام وقد ذكرناه فمتى فعله البائع فلم يعلم به المشتري حتى تعيب المبيع في يده فله رد
المبيع وأخذ ثمنه كاملا ولا أرش عليه سواء كان بفعل المشتري كوطئ البكر وقطع الثوب أو بفعل آدمي آخر
مثل أن يجني عليه أو بفعل العبد كالسرقة أو بفعل الله تعالى، وسواء كان ناقصا للمبيع أو مذهبا لجملته
قال احمد في رجل اشترى عبدا فأبق وأقام البينة أن إباقه كان موجودا في يد البائع يرجع على البائع
بجميع الثمن لأنه غر المشتري ويتبع البائع عبده حيث كان، ويحكى هذا عن الحكم ومالك لأنه غره
فرجع عليه كما لو غره بحرية أمة (قال شيخنا) ويحتمل أن يلزمه عوض العين إذا تلفت، وأرش البكر
إذا وطئها لقوله عليه السلام " الخراج بالضمان " وكما يجب عوض لبن المصراة على المشتري مع كونه
قد نهى عن التصرية وقال " بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم " وقد جعل الشارع الضمان
عليه لوجوب الخراج، فلو كان ضمانه على البائع لكان الخراج له لوجود علته، ولان وجوب الضمان
على البائع لا يثبت إلا بنص أو إجماع، ولا نعلم لهذا أصلا ولا يشبه هذا التغرير بحرية الأمة في
النكاح لأنه يرجع على من غره وإن لم يكن سيد الأمة، وههنا لو كان التدليس من وكيل البائع
لم يرجع عليه بشئ نص عليه
{مسألة} (وان أعتق العبد أو تلف المبيع يرجع بأرشه، وكذلك ان باعه غيره عالم بعيبه، وكذلك
إن وهبه وان فعله عالما بعيبه فلا شئ له)
إذا زال ملك المشتري عن المبيع بعتق أو موت أو وقف أو قتل أو تعذر الرد لاستيلاد ونحوه
قبل علمه بالعيب فله الأرش، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي إلا أن أبا حنيفة قال في المقتول خاصة
لا أرش له لأنه زال ملكه بفعل مضمون أشبه البيع
ولنا أنه عيب لم يرض به ولم يستدرك ظلامته فكان له الأرش كما لو أعتقه، والبيع ممنوع وإن
سلم فقد استدرك ظلامته فيه، وأما الهبة فمن أحمد فيها روايتان (إحداهما) أنها كالبيع لأنه لم ييأس
من امكان الرد لاحتمال رجوع الموهوب إليه. (والثانية) له الأرش وهو أولى ولم يذكر القاضي
غيرها لأنه لم يستدرك ظلامته أشبه الوقف، وامكان الرد ليس بمانع من أخذ الأرش عندنا بدليل
91

ما قبل الهبة، وان أكل الطعام أو لبس الثوب فأتلفه رجع بأرشه وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال
أبو حنيفة لا يرجع بشئ لأنه أهلك العين فأشبه ما لو قتل العبد. ولنا أنه ما استدرك ظلامته ولا رضي
بالعيب فلم يسقط حقه من الأرش كما لو تلف بفعل الله تعالى
(فصل) إذا باع المشتري المبيع قبل علمه بالعيب فله الأرش نص عليه احمد لأن البائع لم يوفه
ما أوجبه له العقد ولم يوجد منه الرضى به ناقصا فكان له الرجوع عليه كما لو أعتقه، وظاهر كلام
الخرفي أنه لا أرش له سواء باعه عالما بيعه أو غير عالم. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن امتناع
الرد كان بفعله فأشبه ما لو أتلف المبيع ولأنه استدرك ظلامته ببيعه فلم يكن له أرش كما لو زال العيب
(فصل) وان باعه عالما بعيبه أو وهبه أو أعتقه أو وقفه أو استولد الأمة ونحوه فلا شئ له.
ذكره القاضي لأن تصرفه فيه مع علمه بالعيب يدل على رضاه به أشبه ما لو صرح بالرضا (قال شيخنا)
وقياس المذهب أن له الأرش بكل حال، وقد روي عن أحمد فيما إذا باعه أو وهبه لأنا خيرناه ابتداء
بين رده وامساكه مع الأرش فبيعه والتصرف فيه بمنزلة إمساكه ولان الأرش عوض الجزء الفائت
من المبيع فلم يسقط ببيعه، كما لو باعه عشرة أقفزة وسلم إليه تسعة فباعها المشتري، وقولهم إنه استدرك
ظلامته لا يصح فإن ظلامته من البائع ولم يستدركها منه، وإنما ظلم المشتري الثاني فلا يسقط حقه
بذلك من الظالم له وهذا هو الصحيح من قول مالك، وذكر أبو الخطاب رواية أخرى فيمن باعه ليس
له شئ إلا أن يرد عليه المبيع فيكون له حينئذ الرد أو الأرش لأنه إذا باعه فقد استدرك ظلامته،
فعلى هذا إذا علم به المشتري الثاني فرده به أو أخذ أرشه منه فللأول أخذ أرشه وهو قول الشافعي
إذا امتنع على المشتري الثاني رده بعيب حدث عنده لأنه لم يستدرك ظلامته، وكل واحد من المشتريين
يرجع بحصة العيب من الثمن الذي اشتراه به على ما تقدم
(فصل) وإذا ردها المشتري الثاني على الأول وكان الأول باعها عالما بالعيب أو وجد منه ما يدل
على الرضى به فليس له رده لأن تصرفه رضى بالعيب، وان لم يكن علم فله رده على بائعه وبه قال
الشافعي، وقال أبو حنيفة ليس له رده الا أن يكون المشتري فسخ بحكم الحاكم لأنه سقط حقه من الرد
ببيعه فأشبه ما لو علم بعيبه. ولنا أنه أمكنه استدراك ظلامته برده فملك ذلك كما لو فسخ الثاني بحكم
حاكم أو كما لو لم يزل ملكه عنه ولا نسلم سقوط حقه، وإنما امتنع لعجزه عن رده فإذا عاد إليه زال
المانع فظهر جواز الرد كما لو امتنع الرد لغيبة البائع أو لمعنى آخر، وسواء رجع إلى المشتري الأول بالعيب
الأول أو بإقالة أو هبة أو شراء ثان أو ميراث في ظاهر كلام القاضي، وقال أصحاب الشافعي ان
رجع بغير الفسخ بالعيب الأول ففيه وجهان (أحدهما) ليس له رده لأنه استدرك ظلامته ببيعه ولم
يزل فسخه. ولنا أن سبب استحقاق الرد قائم وإنما امتنع لتعذره بزوال ملكه فإذا زال المانع وجب
92

أن يجوز الرد كما لو رد عليه بالعيب، فعلى هذا إذا باعها المشتري لبائعها الأول فوجد بها عيبا كان
موجودا حال العقد الأول فله الرد على البائع الثاني ثم للثاني رده عليه وفائدة الرد ههنا اختلاف الثمنين
فإنه قد يكون الثمن الثاني أكثر
(فصل) وان استغل المشتري المبيع أو عرضه على البيع أو تصرف فيه تصرفا دالا على الرضى
به قبل علمه بالعيب لم يسقط خياره لأن ذلك لا يدل على الرضى به معيبا، وان فعله بعد علمه بعيبه بطل
خياره في قول عامة أهل العلم. قال ابن المنذر كان الحسن وشريح وعبيد الله بن الحسن وابن أبي ليلى
والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي يقولون إذا اشترى سلعة فعرضها على البيع بعد علمه بالعيب بطل
خياره، وهذا قول الشافعي ولا أعلم فيه خلافا، فأما الأرش فقال ابن أبي موسى لا يستحقه أيضا، وقد
ذكرنا أن قياس المذهب استحقاق الأرش. قال أحمد أنا أقول إذا استخدم العبد فأراد نقصان العيب
فله ذلك، فأما ان احتلب اللبن الحادث بعد العقد لم يسقط رده لأن اللبن له فملك استيفاءه من المبيع
الذي يريد رده، وكذلك ان ركب الدابة لينظر سيرها أو استخدم الأمة ليختبرها أو لبس القميص
ليعرف قدره لم يسقط خياره لأن ذلك ليس برضا بالمبيع ولهذا لا يسقط به خيار الشرط وان استخدمها
لغير ذلك استخداما كثيرا بطل رده، وإن كان يسيرا لا ينقص الملك لم يبطل الخيار، قيل لأحمد ان
هؤلاء يقولون إذا اشترى عبدا فوجده معيبا فاستخدمه بأن يقول ناولني هذا الثوب بطل خياره
فأنكر ذلك وقال من قال هذا أو قال من أين أخذوا هذا؟ ليس هذا برضا حتى يكون شئ يبين ويطول
وقد نقل عنه في بطلان خيار الشرط بالاستخدام روايتان فكذلك يخرج ههنا
(فصل) فإن أبق العبد ثم علم عيبه فله أخذ أرشه فإن أخذه ثم قدر على العبد فإن لم يكن معروفا
بالإباق قبل البيع فقد تعيب عند المشتري فهل يملك رده ورد أرش العيب الحادث عنده والأرش
الذي أخذه على روايتين، وإن كان آبقا فله رده ورد ما أخذه من الأرش وأخذ ثمنه، وقال الثوري
والشافعي ليس للمشتري أخذ أرشه سواء قدر على رده أو عجز عنه الا ان يهلك لأنه لم ييأس من
رده فهو كما لو باعه، ولنا أنه معيب لم يرض به ولم يستدرك ظلامته فيه فكان له أرشه كما لو أعتقه
وفي البيع استدرك ظلامته بخلاف مسئلتنا.
(فصل إذا اشترى عبدا فأعتقه ثم علم به عيبا فأخذ أرشه فهو له. وعنه رواية أخرى أنه يجعله
في الرقاب وهو قول الشعبي لأنه من جملة الرقبة التي جعلها الله فلا يرجع إليه شئ من بدلها، ولنا ان
العتق إنما صادف الرقبة المعينة والجزء الذي أخذ بدله ما تناوله عتق ولا كان موجودا وليس الأرش بدلا
عن العبد إنما هو عن جزء من الثمن جعل مقابلا للجزء الفائت فلما لم يحصل ذلك الجزء من المبيع رجع
بقدره من الثمن لامن قيمة العبد، وكلام أحمد في الرواية الأخرى يحمل على استحباب ذلك لا على
93

وجوبه. قال القاضي إنما الروايتان فيما إذا أعتق عن كفارته لأنه إذا أعتقه عن الكفارة لا يجوز أن
يرجع إليه شئ من بدله كالمكاتب إذ أدى بعض كتابته. ولنا أنه أرش عبدا عتقه فهو كما لو تبرع بعتقه
{مسألة} (وان باع بعضه فله أرش الباقي وفي أرش المبيع الروايتان وقال الخرقي له رد ملكه
منه بقسطه من الثمن أو أرش العيب بقدر ملكه فيه)
إذا باع بعض المبيع ثم ظهر على عيب فله أرش الباقي لأنه كان له ذلك والأصل في كل ثابت بقاؤه
وفي أرش المبيع ما ذكرنا من الخلاف فيما إذا باع الجميع فإن أراد رد الباقي بحصته من الثمن ففيه روايتان
(إحداهما) له ذلك اختارها الخرقي لأنه مبيع رده ممكن أشبه ما لو كان الجميع باقيا (والأخرى) لا يجوز
وهي الصحيحة إذا كان المبيع عينا واحدة أو عينين ينقصهما التفريق لما فيه من الضرر على البائع بنقص
القيمة أو ضرر الشركة وامتناع الانتفاع بها على الكمال كوطئ الأمة وليس الثوب، وبهذا قال شريح
والشعبي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقد ذكر أصحابنا في غير هذا الموضع فيما إذا كان المبيع
عينين ينقصهما التفريق انه لا يجوز رد إحداهما وحدها لما فيه من الضرر، وفيما إذا اشترى معيبا وتعيب
عنده انه لا يملك رده الا ان يرد أرش العيب الحادث عنده فكذلك لا يجوز أن يرده في مسئلتنا معيبا
بعيب الشركة أو نقص القيمة بغير شئ. وما ذكره الخرقي يحمل على ما إذا دلس البائع العيب على
ما ذكرنا فيما مضى. وإن كان المبيع عينين لا ينقصهما التفريق فهل له رد الباقية في ملكه؟ يخرج على
الروايتين في تفريق للصفقة. قال القاضي: المسألة مبنية على تفريق الصفقة سواء كان المبيع عينا واحدة
أو عينين، والتفصيل الذي ذكرناه أولى
{مسألة} (وان صبغه أو نسجه فله الأرش ولا رد له في أظهر الروايتين) فيما إذا صبغه وهو قول
أبي حنيفة لأن فيه ضررا على البائع وتشق المشاركة فلم تجز كما لو فصله وخاطه أو خلط المبيع بما لا يتميز
منه، وعنه له الرد ويكون شريكا للبائع بقيمة الصبغ والنسج لأنه رد المبيع بعينه أشبه ما لو لم يصبغه
ولم ينسجه، ومتى رده لزمت الشركة ضرورة، وعنه يرده ويأخذ زيادته بالصبغ كما لو قصره وهو
بعيد لأن إجبار البائع على بذل ثمن الصبغ إجبار على المعاوضة فلم يجز لقوله سبحانه (الا أن تكون
تجارة عن تراض منكم) وان قال البائع أنا آخذه وأعطي قيمة الصبغ لم يلزم المشتري ذلك، وقال
الشافعي ليس للمشتري الا رده لأنه أمكنه رده فلم يملك أخذ الأرش كما لو سمن عنده، ولنا أنه لا يمكنه
رده الا برد شئ من ماله معه فلم يسقط حق من الأرش بامتناعه من رده كما لو تعيب عنده فطلب البائع
أخذه مع أخذ أرش العيب الحادث والأصل لا يسلمه فإنه يستحق أخذ الأرش إذا رده
{مسألة} (وان اشترى ما مأكوله في جوفه فكسره فوجده فاسدا فإن لم يكن له مكسورا قيمة
كبيض الدجاج رجع بالثمن كله، وإن كان له مكسورا قيمة كبيض النعام وجوز الهند فهو مخير بين
أخذ أرشه وبين رده، وعنه ليس له رد ولا أرش في ذلك كله)
94

إذا اشترى ما لا يطلع على عيبه الا بكسره كالبيض والجوز والرمان والبطيخ فكسره فظهر
عيبه ففيه روايتان (إحداهما) لا يرجع على البائع بشئ وهو مذهب مالك لأنه ليس من البائع تدليس
ولا تفريط لعدم معرفته بعيبه وكونه لا يمكنه الوقوف عليه الا بكسره فجرى مجرى البراءة من العيوب
(والثانية) يرجع عليه وهي ظاهر المذهب وقول أبي حنيفة والشافعي لأن عقد البيع اقتضى السلامة
من عيب ليطلع عليه المشتري فإذا بان معيبا ثبت له الخيار كالعبد ولان البائع إنما يستحق ثمن المعيب
دون الصحيح لأنه لم يملكه صحيحا فلا معنى لايجاب الثمن كله، وكونه لم يفرط لا يقتضي أن يجب له
ثمن ما لم يسلمه بدليل العيب الذي لم يعلمه في العبد. إذا ثبت هذا فإن المبيع إن كان مما لا قيمة له
مكسورا كبيض الدجاج الفاسد والرمان الأسود والجوز الخرب رجع بالثمن كله لأن هذا يبين به فساد
العقد من أصله لكونه وقع على ما لا نفع فيه فهو كبيع الحشرات والميتات وليس عليه رد المبيع إلى
البائع لأنه لا فائدة فيه، وإن كان الفاسد في بعضه رجع بقسطه (الثاني) أن يكون مما لعيبه قيمة كبيض
النعام وجوز الهند والبطيخ الذي فيه نفع ونحوه فإذا كسره نظرت. فإن كان كسرا لا يمكن استعلام
المبيع بدونه فالمشتري مخير بين رده ورد أرش الكسر وأخذ الثمن وبين أخذ أرش عيبه. هذا ظاهر
كلام الخرقي، وقال القاضي عندي لا أرش عليه لكسره لأنه حصل بطريق استعلام العيب والبائع
سلطه عليه حيث علم أنه لا يعلم صحته من فساده بغير ذلك، وهذا قول الشافعي. ووجه قول الخرقي أنه
نقص لم يمنع الرد فلزم رد أرشه كلبن المصراة إذا احتلبها والبكر إذا وطئها، وبها يبطل ما ذكره
بل ههنا أولى لأنه لا تدليس من البائع والتصرية تدليس، وإن كان كسرا يمكن استعلام المبيع بدونه
إلا أنه لا يتلف المبيع بالكلية فالحكم فيه كالذي قبله عند الخرقي والقاضي والمشتري مخير بين رده
وأرش الكسر وأخذ الثمن وبين أخذ أرش العيب، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الثانية
ليس له رده وله أرش العيب، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وقد ذكرناه، وان كسره كسرا لا يبقي
له قيمة فله أرش العيب لا غير لأنه أتلفه. وقدر أرش العيب قسط ما بين الصحيح والمعيب من الثمن
فيقوم المبيع صحيحا ثم يقوم معيبا غير مكسور فيكون للمشتري قدر ما بينهما من الثمن
(فصل) ولو اشترى ثوبا فنشره فوجده معيبا فإن كان مما لا ينقصه النشر رده وإن كان ينقصه
النشر كالهسجاني الذي يطوى طاقين ملتصقين جرى ذلك مجرى جوز الهند على التفصيل المذكور
فيما إذا لم يزد على ما يحصل به استعلام المبيع أو زاد كنشر من لا يعرف، وان أراد أخذ أرشه فله ذلك بكل حال
{مسألة} (ومن علم العيب وأخر الرد لم يبطل خياره إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضا من التصرف ونحوه)
وهكذا ذكر أبو الخطاب لأنه خيار لدفع الضرر المتحقق فكان على التراخي كخيار القصاص
وعنه أنه على الفور وهو مذهب الشافعي، فمتى علم العيب وأخر الرد مع امكانه بطل خياره لأنه يدل
95

على الرضى فأسقط خياره كالتصرف ولأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فأشبه خيار الشفعة
والأول أولى، ولا نسلم أن الامساك يدل على الرضى والشفعة تثبت لدفع ضرر غير متحقق بخلاف الرد بالعيب
{مسألة} (ولا يفتقر الرد إلى رضى ولا قضاء ولا حضور صاحبه قبل القبض ولا بعده)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان قبل القبض افتقر إلى حضور صاحبه دون رضاه،
وإن كان بعده افتقر إلى رضا صاحبه أو حكم حاكم لأن ملكه قد تم على الثمن فلا يزول إلا رضاه
ولنا أنه رفع عقد مستحق له فلم يفتقر إلى رضا صاحبه ولا حضوره كالطلاق ولأنه مستحق الرد بالعيب
فلم يفتقر إلى رضا صاحبه كقبل القبض
{مسألة} (فإن اشترى اثنان شيئا وشرطا الخيار أو وجداه معيبا فرضي أحدهما فللآخر
الفسخ في نصيبه، وعنه ليس له ذلك)
نقل عن أحمد رحمه الله في ذلك روايتان حكاهما أبو بكر وابن أبي موسى (إحداهما) لمن لم
يرض الفسخ، وبه قال ابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وإحدى الروايتين عن مالك
والأخرى لا يجوز له رد مشترك رده ناقصا أشبه ما لو تعيب عنده. ولنا أنه رد جميع ما ملكه بالعقد
فجاز كما لو انفرد بشرائه، والشركة إنما حصلت بايجاب البائع وإنما باع كل واحد منهما نصفها فخرجت
عن ملك البائع مشقصة بخلاف العيب الحادث
(فصل) وان ورث اثنان خيار عيب فرضي أحدهما سقط حق الآخر من الرد لأنه لو رد
وحده شقصت السلعة على البائع فتضرر بذلك وإنما أخرجها من ملكه إلى واحد غير مشقصة فلا
يجوز رد بعضها إليه مشقصا بخلاف المسألة التي قبلها، فإن عقد الواحد مع الاثنين عقدين فكأنه باع
كل واحد منهما نصفها منفردا فرد عليه أحدهما جميعا ما باعه إياه وههنا بخلافه
(فصل) ولو اشترى رجل من رجلين شيئا فوجده معيبا فله رده عليهما فإن كان أحدهما غائبا
رد على الحاضر حصته بقسطها من الثمن ويبقى نصيب الغائب في يده حتى يقدم، ولو كان أحدهما
باع العين كلها بوكالة الآخر فالحكم كذلك سواء كان الحاضر الوكيل أو الموكل. نص أحمد على نحو
من هذا، وان أراد رد نصيب أحدهما وامساك نصيب الآخر جاز لأنه يرد على البائع جميع ما باعه
ولم يحصل برده تشقيص لأنه كان مشقصا قبل البيع
(فصل) وان اشترى حلي فضة بوزنه دراهم فوجده معيبا فله رده وليس له أخذ الأرش لا فضائه
إلى التفاضل فيما يجب فيه التماثل، فإن حدث به عيب عند المشتري فعلى إحدى الروايتين يرده
ويرد أرش العيب الحادث عنده وبأخذ ثمنه، وقال القاضي ليس له رده لا فضائه إلى التفاضل ولا يصح
لأن الرد فسخ للعقد ورفع له فلا تبقى المعاوضة وإنما يدفع الأرش عوضا عن العيب الحادث عنده
96

بمنزلة ما لو خفي عليه في ملك صاحبه من غير بيع وكما لو فسخ الحاكم عليه، وعلى الرواية الأخرى يفسخ
الحاكم البيع ويرد البائع الثمن ويطالب بقيمة الحلي لأنه لم يمكن اهمال العيب ولا أخذ الأرش.
ولأصحاب الشافعي وجهان كهاتين الروايتين وان تلف الحلي فسخ العقد، ويرد قيمته ويسترجع الثمن
فإن تلف المبيع لا يمنع جواز الفسخ، واختار شيخنا أن الحاكم إذا فسخ وجب رد الحلي وأرش
نقصه كما قلنا فيما إذا فسخ المشتري على إحدى الروايتين وإنما يرجع إلى قيمته عند تعذره بتلف أو عجز
عن رده أما مع بقائه وإمكان رده فيجب رده دون بدله كسائر المبيع إذا انفسخ العقد فيه وليس في رده
ورد أرشه تفاضل لأن المعاوضة قد زالت بالفسخ ولم يبق له مقابل، وإنما هذا الأرش بمنزلة الجناية
عليه ولان قيمته إذا زادت على وزنه أو نقصت عنه أفضى إلى التفاضل لأن قيمته عوض عنه فلا يجوز
ذلك إلا أن يأخذ القيمة من غير الجنس. ولو باع قفيزا مما فيه الربا بمثله فوجد أحدهما بما أخذه عيبا ينقص
قيمته دون كله لم يملك أخذ أرشه لئلا يفضي إلى التفاضل والحكم فيه على ما ذكرنا في الحكم بالدراهم
{مسألة} (وإن اشترى واحد معيبين صفقة واحدة ليس له إلا ردهما أو إمساكهما والمطالبة بالأرش)
قاله القاضي، وعنه له رد أحدهما بقسطه من الثمن كما لو كان أحدهما معيب والآخر صحيحا لأن المانع
من الرد إنما هو تشقيص المبيع على البائع وهو موجود فيما إذا كان أحدهما صحيحا، فإن تلف أحدهما
فله رد الباقي بقسطه من الثمن في إحدى الروايتين، هذا قول الحادث العكلي والأوزاعي وإسحاق وقول
أبي حنيفة فيما بعد القبض لأنه رد المعيب على وجه لا ضرر فيه على البائع فجاز كما لورد الجميع (والثانية)
ليس له الا أخذ الأرش مع إمساك الباقي منهما وهو ظاهر قول الشافعي وقول أبي حنيفة فيما قبل القبض
لأن في الرد تبعيض الصفقة على البائع وذلك ضرر أشبه إذا كانا مما ينقصه التفريق، والقول في قيمة
التالف قول المشتري مع يمينه لأنه منكر لما يدعيه البائع من زيادة قيمته ولأنه بمنزلة الغارم لأن قيمة
التالف إذا زادت قدر ما يغرمه فهو بمنزلة المستعير والغاصب
{مسألة} (وإن كان أحدهما معيبا فله رده بقسطه من الثمن وعنه ليس له إلا ردهما أو إمساكهما)
ووجه الروايتين ما ذكرنا فيما إذا تلف أحدهما وفيه من التفصيل والخلاف ما ذكرنا
{مسألة} (فإن كان المبيع مما ينقصه التفريق كمصراعي باب أو زوجي خف أو من لا يجوز
التفريق بينهما كجارية وولدها فليس له رد أحدهما) لما فيه من الضرر على البائع بنقص القيمة وسوء
المشاركة ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " رواه
الترمذي وفي ذلك اختلاف ذكرنا فيما مضى وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله تعالى
97

{مسألة} (وان اختلفا في العيب هل كان عند البائع أو حدث عند المشتري ففي أيهما يقبل قوله؟
روايتان إلا أن لا يحتمل إلا قول أحدهما فالقول قوله بغير يمين)
إذا اختلف المتبايعان في العيب هل كان في المبيع قبل العقد أو حدث عند المشتري، فإن كان
لا يحتمل إلا قول أحدهما كالإصبع الزائدة والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها والجرح الطارئ
الذي لا يمكن كونه قديما فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين لأنا نعلم صدقه فلا حاجة إلى استحلافه
وان احتمل قول كل واحد منهما كالخرق في الثوب والرفو ونحوهما ففيه روايتان (إحداهما) القول
قول المشتري فيحلف بالله انه اشتراه وبه هذا العيب أو انه ما حدث عنده ويكون له الخيار اختارها
الخرقي لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت واستحقاق ما يقابله من الثمن ولزوم العقد في حقه
فكان القول قول من ينفي ذلك كما لو اختلفا في قبض المبيع (والثانية) القول قول البائع مع يمينه فيحلف
على حسب جوابه إن أجاب انه باعه بريئا من العيب حلف على ذلك، وان أجاب انه لا يستحق
ما يدعيه من الرد حلف على ذلك. ويمينه على البت لأن الايمان كلها على البت الا ما كان على النفي في
فعل الغير وعنه انها على نفي العلم فيحلف انه ما يعلم به عيبا حال البيع ذكرها ابن أبي موسى والرواية
الثانية مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد ولان المشتري يدعي عليه
استحقاق فسخ البيع والبائع ينكره والقول قول المنكر
(فصل) وإذا باع الوكيل ثم ظهر المشتري على عيب كان بالمبيع فله رده على الموكل لأن المبيع
يرد بالعيب على من كان له، فإن كان العيب مما يمكن حدوثه فأقربه الوكيل وانكره الموكل فقال
أبو الخطاب يقبل اقراره على موكله بالعيب لأنه أمر يستحق به الرد فقبل اقراره به على موكله كخيار
الشرط، وقال أصحاب أبي حنيفة والشافعي لا يقبل اقرار الوكيل بذلك، قال شيخنا وهو أصح لأنه
اقرار على الغير فلم يقبل كالأجنبي، وفارق خيار الشرط من حيث إن الموكل يعلم صفة سلعته ولا
يعلم صفة العقد لغيبته عنه، فعلى هذا إذا رده المشتري على الوكيل لم يملك الوكيل رده على الموكل
لأن رده كاقراره وهو غير مقبول على غيره ذكره القاضي، فإن أنكره الوكيل فتوجهت اليمين عليه
فنكل عنها فرد عليه بنكوله فهل له رده على الموكل على وجهين (أحدهما) ليس له رده لأن ذلك يجري
مجرى اقراره (والثاني) له رده لأنه رجع إليه بغير رضاه أشبه ما لو قامت به بينة
(فصل) ولو اشترى جارية على أنها بكرا فقال المشتري هي ثيب أو النساء الثقات ويقبل قول
واحدة، فإن وطئها المشتري وقال ما وجدتها بكرا خرج فيه وجهان بناء على الاختلاف في العيب الحادث
98

(فصل) فإن رد المشتري السلعة بعيب فأنكر البائع انها سلعته فالقول قول البائع مع يمينه وبه
قال أبو ثور وأصحاب الرأي ونحوه قال الأوزاعي فإنه قال فيمن صرف دراهم فقال للصيرفي هذا
درهمي يحلف الصيرفي بالله لقد وفيتك ويبرأ لأن البائع منكر كون هذه سلعته ومنكر استحقاق
الفسخ والقول قول المنكر، فأما ان جاء ليرد السلعة بخيار فأنكر البائع انها سلعته فحكى ابن المنذر
عن أحمد أن القول قول المشتري وهو قول الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي لأنهما اتفقا على استحقاق
فسخ العقد والرد بالعيب بخلافه
{مسألة} (ومن باع عبدا يلزمه عقوبة من قصاص أو غيره ويعلم المشتري ذلك فلا شئ له) لأنه
رضي به معيبا أشبه سائر المعيبات وهذا قول الشافعي، وان علم بعد البيع فله الرد أو الأرش على
أصلنا كغيره من العيوب
{مسألة} (فإن لم يعلم حتى قتل فله الأرش لتعذر الرد) وهو قسط ما بين قيمته جانيا وغير
جان، ولا يبطل البيع من أصله وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وقال أبو حنيفة والشافعي يرجع
بجميع الثمن لأن تلفه كان بمعنى استحق عند البائع فجرى مجرى اتلافه إياه، ولنا أنه تلف عند المشتري
بالعيب الذي كان فيه فلم يوجب الرجوع بجميع الثمن كما لو كان مريضا فمات بدائه أو مرتدا فقتل
بردته وبهذا ينتقض ما ذكروه ولا يصح قياسهم على اتلافه لأنه لم يتلفه فلم يشتركا في المقتضي، وإن
كانت الجناية موجبة للقطع فقطعت يده عند المشتري فقد تعيب عنده لأن استحقاق القطع دون حقيقته
فهل يمنع ذلك رده بعيبه؟ على روايتين
{مسألة} (وان كانت الجناية موجبة للمال والسيد معسر قدم حق المجني عليه، وللمشتري الخيار
إذا لم يكن عالما، فإن كان السيد موسرا تعلق الأرش بذمته والبيع لازم)
إذا كانت الجناية موجبة للمال أو للقود فعفي عنه إلى مال فعلى السيد فداؤه ويزول الحق عن رقبة العبد
ببيعه لأن للسيد الخيرة بين تسليمه وفدائه. فإذا باعه تعين عليه فداؤه لاخراج العبد عن ملكه ولاخيار
للمشتري لعدم الضرر عليه إذ الرجوع على غيره هذا إذا كان السيد موسرا وقال بعض أصحاب الشافعي
لا يلزم السيد فداؤه لأن أكثر ما فيه أنه التزم فداءه ولا يلزمه كما لو قال الراهن أنا أقضي الدين من الرهن
ولنا أنه أزال ملكه عن الجاني فلزمه فداؤه كما لو أتلفه وبهذا قال أبو حنيفة، وإن كان البائع
معسرا لم يسقط حق المجني عليه من رقبة الجاني لأن المالك إنما يملك نقل حقه عن رقبته بفدائه أو
ما يقوم مقامه ولا يحصل ذلك من ذمة المعسر فيبقى الحق في رقبته بحاله مقدما على حق المشتري وللمشتري
خيار الفسخ ان لم يكن عالما فإن فسخ رجع بالثمن وان لم يفسخ وكانت الجناية مستوعبة لرقبة العبد فاخذ
99

بها رجع المشتري بالثمن أيضا لأن أرش مثل هذا جميع ثمنه وان لم تكن مستوعبة رجع بقدر أرشه وإن كان
عالما بعيبه راضيا بتعلق الحق به لم يرجع بشئ لأنه اشترى معيبا عالما بعيبه فإن اختار المشتري
فداءه فله ذلك والبيع بحاله لأنه يقوم مقام البائع بين تسليمه وفدائه، وحكمه في الرجوع بما فداه به
على البائع حكم قضاء الدين عنه على ما نذكره في موضعه.
{فصل} قال رضي الله عنه (السادس خيار يثبت في التولية والشركة والمرابحة والموضعة ولابد
في جميعها من معرفة المشتري برأس المال) هذه أنواع من أنواع البيع وأنا اختصت بأسماء كاختصاص
السلم ويثبت فيها الخيار إذا أخبره بزيادة في الثمن أو نحو ذلك فيثبت للمشتري الخيار كما لو أخبره بأنه
كاتب أو صانع فاشتراه بثمن فبان بخلافه ولا بد في جميع هذه الأنواع من معرفة المشتري برأس المال
لأن معرفة الثمن متوقفة على العلم به والعلم بالثمن شرط فمتى فات لم يصلح البيع لفوات شرطه
{مسألة} (ومعنى التولية البيع برأس المال فيقول وليتكه أو بعتك برأس ماله أو بما اشتريته أو برقمه)
قال أحمد رحمه الله لا بأس ببيع الرقم والرقم هو الثمن المكتوب عليه إذا كان معلوما لهما حال العقد
وهذا قول عامة العلماء وكره طاوس بيع الرقم، ولنا أنه بيع بثمن معلوم فأشبه ما لو ذكر مقداره
أو إذا قال بعتك هذا بما اشتريته وقد علماه فإن لم يعلم فالبيع باطل لجهالة الثمن
{مسألة} (والشركة بيع بعضه بقسطه من الثمن ويصح بقوله شركتك في نصفه أو ثلثه)
إذا اشترى شيئا فقال له رجل أشركني في نصفه بنصف الثمن فقال له أشركتك صح وصار
شركا بينهما إذا كان الثمن معلوما لهما، ولو قال أشركني فيه أو قال الشركة فقال شركتك أو قال
ولني ما اشتريت ولم يذكر الثمن فقال وليتك صح إذا كان الثمن معلوما لأن الشركة تقتضي ابتياع
جزء منه بقسطه من الثمن على ما ذكر والتولية ابتياعه بمثل الثمن فإذا ذكر اسمه انصرف إليه كما إذا
قال أقلني فقال أقلتك، وفي حديث عن زهرة بن معبد أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام
إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له أشركنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا
لك بالبركة فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فبعث بها إلى المنزل ذكره البخاري، ولو اشترى شيئا
فقال له رجل أشركني فشركه انصرف إلى النصف لأنها تنصرف إلى التسوية باطلاقها، فإن اشترى
اثنان عبدا فقال لهما رجل أشركاني فيه فقالا شركناك احتمل أن يكون لهما النصف لأن اشراكهما
لو كان من كل واحد منهما منفردا لكان له النصف فكذلك حال الاجتماع، ويحتمل أن يكون له الثلث
لأن الاشتراك يفيد التساوي ولا يحصل التساوي الا بجعله بينهم أثلاثا وهذا أصح لأن اشراك
الواحد إنما اقتضى النصف لحصول التسوية به وان شركه كل واحد منهما منفردا كان له النصف ولكل
100

واحد منهما الربع، وان قال أشركاني فيه فشركه أحدهما فعلى الوجه الأول يكون له نصف حصة الذي
شركه وهو الربع وعلى الآخر له السدس لأن طلب الشركة بينهما يقتضي طلب ثلث ما في يد كل
واحد منهما ليكون مساويا لهما فإذا أجابه أحدهما ثبت له الملك فيما طلب منه وان قال له أحدهما
أشركناك انبنى على تصرف الفضولي. فإن قلنا يقف على الإجازة فأجازه فهل يثبت له الملك في نصفه
أو ثلثه على الوجهين، ولو قال لأحدهما أشركني في نصف هذا العبد فإن قلنا يقف على الإجازة من
صاحبه فأجازه فله نصف العبد ولهما نصفه وإلا فله نصف حصة الذي شركه، فإن اشترى عبدا فلقيه
رجل فقال أشركني في هذا العبد فقال قد شركتك فله نصفه فإن لقيه آخر فقال أشركني في هذا
العبد وكان عالما بشركة الأول فله ربع العبد وهو نصف حصة الذي شركه لأن طلبه للشركة رجع
إلى ما ملكه المشارك وهو النصف فكان بينهما، وان لم يعلم بشركة الأول فهو طالب نصف العبد لاعتقاده
أن جميع العبد لمن طلب منه المشاركة، فإذا قال له شركتك احتمل ثلاثة أوجه (أحدها) ان يصير له
نصف العبد ولا يبقى للذي شركه شئ لأنه طلب منه نصف العبد فأجابه إليه فصار كأنه قال بعني
نصف هذا العبد فقال بعتك، وهذا قول القاضي (الثاني) ان ينصرف قوله شركتك فيه إلى نصف
نصيبه ونصف نصيب شريكه فيمتد في نصف نصيبه ويقف الزائد على إجازة صاحبه على إحدى
الروايتين لأن لفظ الشركة يقتضي بعض نصيبه ومساواة المشتري له فلو باع جميع نصيبه لم يكن له
شركة لأنه لا يتحقق فيه ما طلب منه (الثالث) لا يكون للثاني الا الربع بكل حال لأن الشركة إنما
تثبت بقول البائع شركتك لأن ذلك هو الايجاب الناقل للملك وهو عالم انه ليس له إلا نصف العبد
فينصرف ايجابه إلى نصف ملكه، وعلى هذين الوجهين لطالب الشركة الخيار لأنه إنما طلب النصف
فلم يحصل له جميعه إلا أن نقول بوقوفه على الإجازة في الوجه الثاني فيخير الآخر، ويحتمل أن لا تصح
الشركة أصلا لأنه طلب شراء النصف فأجيب في الربع فصار بمنزلة ما لو قال بعني نصف هذا
العبد بعتك ربعه.
(فصل) ولو اشترى قفيزا من الطعام فقبض نصفه فقال له رجل بعني نصف هذا القفيز فباعه
انصرف إلى النصف المقبوض لأن البيع ينصرف إلى ما يجوز له بيعه وهو المقبوض وان أشركني
في هذا القفيز بنصف الثمن ففعل لم تصح الشركة إلا فيما قبض منه فيكون النصف المقبوض بينهما
لكل واحد منهما ربعه بربع الثمن لأن الشركة تقتضي التسوية هكذا ذكر القاضي، قال شيخنا والصحيح
إن شاء الله ان الشركة تنصرف إلى النصف كله فيكون بائعا لما يصح بيعه وما لا يصح فيصح في
نصف المقبوض في أصح الوجهين ولا يصح فيما لم يقبض كما في تفريق الصفقة.
101

{مسألة} (والمرابحة أن يبيعه بربح فيقول رأس مالي فيه مائة بعتكه بها وربح عشرة)
فهذا جائز لا خلاف في صحته ولا نعلم أحدا كرهه وان قال على أن أربح في كل عشرة درهما
أو قال ده يازدة أو دوازده. فقد كرهه أحمد ورويت فيه الكراهة عن ابن عمر وابن عباس والحسن
ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار، وقال إسحاق لا يجوز لأن الثمن مجهول حال العقد
فلم يجز كما لو باعه بما يخرج به في الحساب، ورخص فيه سعد بن المسيب وابن سيرين وشريح والنخعي
والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر لأن رأس المال معلوم والربح معلوم أشبه ما إذا قال وربح عشرة
دراهم ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه ولم يعلم لهما في الصحابة مخالف ولان فيه نوعا
من الجهالة فالتحرز عنها أولى وهذه كراهة تنزيه والبيع صحيح والجهالة يمكن ازالتها بالحساب فلم
تضر كما لو باعه صبرة كل قفيز بدرهم أما ما يخرج به الحساب فمجهول في الجملة والتفصيل
{مسألة} (والمواضعة أن يقول بعتكه بها ووضيعة درهم من كل عشرة فيلزم المشتري تسعون درهما)
المواضعة أن يخبر برأس ماله ويقول بعتك هذا به وأضع لك عشرة فيصح من غير كراهة، وان
قال بوضيعة درهم من كل عشرة كره لما ذكرنا في المرابحة وصح فإذا كان رأس ماله مائة لزمه تسعون
ويكون الحط عشرة، وقال قوم يكون الحط درهما من كل أحد عشر فيكون ذلك تسعة دراهم وجزأ
من أحد عشر جزأ من درهم ويبقى تسعون وعشرة اجزاء من أحد عشر جزأ من درهم، وهذا غلط
لأن هذا يكون حطا من كل أحد عشر وهو غير ما قاله، فأما إن قال بوضعية درهم لك عشرة كانت
الوضيعة من كل أحد عشر درهما درهم ويكون الباقي تسعين وعشرة أجزاء من أحد عشر جزأ من
درهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وحكي عن أبي ثور أنه قال الحط ههنا عشرة مثل الأولى ولا
يصح فإنه إذا قال لكل عشرة درهم يكون الدرهم من غيرها فكأنه قال من كل أحد عشر درهما
درهم، وإذا قال من كل عشرة درهما كان الدرهم من العدة، ولان من للتبعيض فكأنه قال آخذ
من العشرة تسعة وأحط منها درهما
(فصل) فإن باعه السلعة مرابحة مثل أن يخبره ان ثمنها مائة ويربح عشرة ثم علم ببينة أو اقرار
أن ثمنها تسعون فالبيع صحيح لأنه زيادة في الثمن فلم يمنع الصحة كالعيب وللمشتري الرجوع على البائع
بما زاد في الثمن وهو عشرة وحطها من الربح وهو درهم فيبقى على المشتري تسعة وتسعون درهما،
وبهذا قال الثوري وابن أبي ليلى وهو أحد قولي الشافعي، وقال أبو حنيفة يخير بين الاخذ بكل الثمن
أو يترك قياسا على المبيع.
ولنا أنه باعه برأس ماله وما قدره من الربح فإذا بان رأس ماله قدرا كان مبيعا به وبالزيادة التي
102

اتفقا عليها والمعيب كذلك عندنا فإن له أخذ الأرش ثم الفرق بينهما ان المسيب لم يرض إلا بالثمن
المذكور وههنا رضي فيه برأس المال والربح المقدر، وهل للمشتري الخيار؟ فالمنصوص عن أحمد أن
المشتري مخير بين أخذ المبيع برأس ماله وحصته من الربح وبين تركه نقل ذلك حنبل وهو قول للشافعي
لأن المشتري لا يأمن الخيانة في هذا الثمن أيضا، ولأنه ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن لكونه
خالفا أو وكيلا أو غير ذلك فظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له وحكي قولا للشافعي لأنه رضيه بمائة
وعشرة فإذا حصل له بدون ذلك فقد زاده خيرا فلم يثبت له الخيار كما لو اشتراه على أنه معيب فبان
صحيحا أو وكل في شراء معين بمائة فاشتراه بتسعين، وأما البائع فلا خيار له لأنه باعه برأس ماله وحصته
من الربح وقد حصل له ذلك.
(فصل) وان قال في المرابحة رأس مالي فيه مائة وأربح عشرة ثم قال غلطت رأس مالي فيه مائة
وعشرة لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد ان رأس ماله عليه ما قاله ثانيا ذكره ابن المنذر عن أحمد وإسحاق
وروى أبو طالب عن أحمد إذا كان البائع معروفا بالصدق قبل قوله وإن لم يكن صدوقا جاز البيع،
قال القاضي وظاهر كلام الخرقي أن القول قول البائع مع يمينه لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه
والقول قول الأمين مع يمينه كالوكيل والمضارب، والصحيح الأول وكون البائع مؤتمنا لا يوجب قبول
دعواه في الخلط كالمضارب إذا أقر بربح ثم قال غلطت، وعن أحمد رواية ثالثة أنه لا يقبل قول البائع
وإن أقام بينة حتى يصدقه المشتري وهو قول الثوري والشافعي لأنه أقر بالثمن وتعلق به حق الغير
فلا يقبل رجوعه وإن أقام بينة لاقراره بكذبها
ولنا أنها بينه عادلة شهدت بما يحتمل الصدق فتقبل كسائر البينات ولا نسلم أنه أقر بخلافها فإن
الاقرار يكون لغير المقر وحالة اخباره بثمنها لم يكن عليه حق لغيره فلم يكن اقرارا، فإن لم يكن له بينة
أو كانت له بينة وقلنا لا تقبل فادعى أن المشتري يعلم غلطه فأنكر المشتري فالقول قوله، فإن طلب
بيمينه فقال القاضي لا يمين عليه لأنه مدع واليمين على المدعى عليه، ولأنه قد أقر فيستغنى بالاقرار
عن اليمين، والصحيح أن عليه اليمين أنه لا يعلم ذلك لأنه ادعى ما يلزمه رد السعلة أو زيادة في ثمنها
فلزمه اليمين كموضع الوفاق وليس هو ههنا مدع إنما هو مدعى عليه العلم بمقدار الثمن الأول، وان قلنا
يقبل قول البائع أو قامت له بينة بما ادعاه وقلنا تقبل بينته فللمشتري أن يحلفه أن وقت ما باعها لم
يعلم أن شراءها أكثر ذكره الخرقي فإنه لو باعها بدون ثمنها عالما لزمه البيع بما عقد عليه لكونه تعاطى سببه
عالما فلزمه كمشتري المعيب عالما بعيبه، وإذا كان البيع يلزمه بالعلم فادعى عليه لزمته اليمين فإن نكل قضي
عليه بالنكول، وإن حلف خير المشتري بين قبوله بالثمن والزيادة التي غلط بها وحطها من الربح وبين
103

فسخ العقد (قال شيخنا) ويحتمل أنه إذا قال بعتك بمائة وربح عشرة ثم تبين أنه غلط بعشرة أنه لا يلزمه
حط العشرة من الربح لأن البائع رضي بربح عشرة في هذا المبيع فلا يكون له أكثر منها، وكذلك إن
تبين أنه زاد في رأس المال لا ينقص الربح من عشرة لأن البائع لم يبعه إلا بربح عشرة، فأما إن قال
وأربح في كل عشرة درهما فإنه يلزمه حط العشرة من الربح في الصورتين وإنما أثبتنا للمشتري الخيار
لأنه دخل على أن الثمن مائة وعشرة فإذا بان أكثر كان عليه ضرر في التزامه فلم يلزمه كالمعيب، وإن
اختار أحدهما بمائة واحد وعشرين لم يكن للبائع خيار لأنه قد زاده خيرا فلم يكن له خيار كبائع المعيب
إذا رضيه المشتري، وإن اختار البائع اسقاط الزيادة عن المشتري فلا خيار له أيضا لأنه قد بذلها
بالثمن الذي وقع عليه العقد ورضيا به
{مسألة} (ومتى اشتراه بثمن مؤجل أو ممن لا تقبل شهادته له أو بأكثر من ثمنه حيلة أو باع
بعض الصفقة بقسطها من الثمن فلم يبين ذلك للمشتري في تخييره بالثمن فللمشتري الخيار بين الامساك والرد)
إذا اشتراه بثمن مؤجل لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره فإن لم يفعل لم يفسد البيع وللمشتري
الخيار بين أخذه بالثمن الذي وقع عليه حالا وبين الفسخ في إحدى الروايتين وهو مذهب أبي
حنيفة والشافعي لأن البائع لم يرض بذمة المشتري وقد تكون ذمته دون ذمة البائع فلا يلزم الرضى بذلك
وحكى ابن المنذر عن أحمد أنه إن كان المبيع قائما فهو مخير بين الفسخ وأخذه بالثمن مؤجلا لأنه الثمن
الذي اشترى به البائع والتأجيل صفة له فهو كما لو أخبره بزيادة في الثمن وإن كان قد استهلك حبس
الثمن بقدر الاجل وهذا قول شريح
(فصل) وان اشتراه بدنانير فأخبر انه اشتراه بدراهم أو بالعكس أو اشتراه بعوض فأخبر أنه
اشتراه بثمن أو بالعكس وأشباه ذلك فللمشتري الخيار بين الفسخ وبين الرضى به بالثمن الذي تبايعا
به كسائر المواضع التي يثبت فيها ذلك.
(فصل) وان اشتراه ممن لا تقبل شهادته له كأبيه وابنه لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين ذلك وبهذا
قال أبو حنيفة، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد يجوز وان لم يبين لأنه اشتراه بعقد صحيح وأخبر
بثمنه فأشبه ما لو اشتراه من أجنبي. ولنا انه متهم في الشراء منهم لكونه يحابيهم ويسمح لهم فلم يجز
ان يخبر بما اشترى منهم مطلقا كما لو اشترى من مكاتبه فإنه يجب عليه ان يبين أمره لا نعلم
فيه خلافا وبه يبطل قياسهم
(فصل) وان اشتراه بأكثر من ثمنه حيلة مثل أن يشتريه من غلام دكانه الحر أو غيره على
وجه الحيلة لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره لأن ذلك تدليس وحرام على ما بيناه، وان لم يكن حيلة
104

فقال القاضي إذا باع غلام دكانه سلعة ثم اشتراها منه بأكثر من ذلك لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين
أمره لأنه يتهم في حقه فهو كمن لا تقبل شهادته له والصحيح إن شاء الله ان ذلك يجوز لأنه أجنبي فأشبه غيره
(فصل) إذا اشترى شيئين صفقة واحدة ثم أراد بيع أحدهما مرابحة أو اشترى اثنان شيئا
فتقاسماه وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة بالثمن الذي أداه فيه فإن كان من المتقومات التي لا ينقسم
عليها الثمن بالاجزاء كالثياب ونحوها لم يجز حتى يبين الحال على وجهه نص عليه وهذا مذهب
الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال الشافعي يجوز بيعه بحصته من الثمن لأن الثمن ينقسم على
المبيع على قدر قيمته كما لو كان المبيع شقصا وشفعا فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصته من الثمن، وذكر
ابن أبي موسى فيما إذا اشتراه اثنان فتقاسماه رواية عن أحمد أنه يجوز بيعه مرابحة بما اشتراه لأن
ذلك ثمنه فهو صادق فيما أخبر به. ولنا ان قسمة الثمن على المبيع طريقة الظن واحتمال الخطأ فيه
كثير وبيع المرابحة أمانة فلم يجز فيه هذا وصار هذا كالخرص الحاصل بالظن لا يجوز ان يباع به
ما يجب التماثل فيه، وأما الشفيع فلنا فيه منع وان سلم فإن ما اخذه الشفيع بالقيمة للحاجة الداعية إليه
لكونه لا طريق له سوى التقويم ولأنه لو لم يأخذه به لاتخذه الناس طريقا إلى اسقاط الشفعة
فيؤدي إلى تقويتها وهاهنا يمكن الاخبار بالحال وبيعه مساومة ولا تدعوا الحاجة إليه فإن باعه ولم
يبين فللمشتري الخيار بين الامساك والرد كالمسائل المذكورة وإن كان من المتماثلات التي ينقسم عليها
الثمن بالاجزاء كالبر والشعير المتساوي جاز بيع بعضه مرابحة بقسطه من الثمن لا نعلم فيه خلافا لأن
ثمن ذلك الجزء معلوم يقينا ولذلك جاز بيع قفيز من الصبرة. وان أسلم في ثوبين بصفة واحدة
فأخذهما على الصفة فله بيع أحدهما مرابحة بحصته من الثمن على قياس ذلك لأن الثمن ينقسم عليهما
نصفين لا باعتبار القيمة، ولذلك لو أقال في أحدهما أو تعذر تسليمه كان له نصف الثمن من غير اعتبار
قيمة المأخوذ منهما فكأنه أخذ كل واحد منهما منفردا وان حصل في أحدهما زيادة على الصفة جرت
مجرى الحادث بعد البيع على ما نذكر إن شاء الله
{مسألة} (وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار أو يؤخذ أرشا للعيب أو جناية عليه
يلحق برأس المال ويخبر به)
وجملة ذلك أن البائع إذا أراد الاخبار بثمن السلعة وكانت بحالها لم تتغير أخبر بثمنها، فإن تغير
سعر السلعة بأن حط البائع بعض الثمن عن المشتري أو اشتراه في مدة الخيار لحق بالعقد وأخبر
به في الثمن، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، وان تغير سعر السلعة وهي
105

بحالها فإن غلت لم يلزمه الاخبار بذلك لأنه زيادة فيها، وان رخصت فكذلك نص عليه احمد
لأنه صادق بدون الاخبار بذلك، ويحتمل أن يلزمه الاخبار بالحال، فإن المشتري لو علم بذلك لم يرضها
بذلك الثمن فكتمانه تغرير به فإن أخبره بدون ثمنها ولم يبين الحال لم يجز لأنه كذبه، فأما ما يؤخذ
أرشا للعيب أو جناية عليه فذكر القاضي أنه يخبر به على وجهه، وقال أبو الخطاب يحط أرش العيب
من الثمن ويخبر بالباقي وهو الذي ذكره شيخنا في هذا الكتاب لأن أرش العيب عوض عما فات
به فكان ثمن الموجود ما بقي، وفي أرش الجناية وجهان (أحدهما) يحط من الثمن كأرش العيب وهو
الأولى (والثاني) لا يحطه كالنماء، وقال الشافعي يحطهما من الثمن ويقول: تقوم علي بكذا. لأنه صادق
فيما أخبر به أشبه ما لو أخبره بالحال على وجهه
ولنا أن الاخبار بالحال أبلغ في الصدق وأقرب إلى البيان وبقي التغيير والتدليس فلزمه ذلك
كما يلزمه بيان العيب وقياس أرش الجناية على النماء والكسب لا يصح لأن أرش الجناية عوض نقصه
الحاصل بالجناية عليه فهو بمنزلة ثمن جزء منه باعه أو كقيمة أحد الثوبين إذا تلف أحدهما، والنماء زيادة
لم ينقص بها المبيع ولا هي عوض عن شئ منه
{مسألة} (وان جنى ففداه المشتري أو زيد في الثمن أو حط منه بعد لزومه لم يلحق به)
أما إذا جنى ففداه المشتري، فإنه لا يلحق بالثمن ولا يخبر به في المرابحة بغير خلاف علمناه لأن هذا لم
يزد به المبيع قيمة ولا ذاتا وإنما هو مزيل لنقصه بالجناية والعيب الحاصل بتعلقها برقبته فأشبهت الدواء
المزيل لمرضه الحادث عند المشتري، فأما الأدوية والمؤنة والكسوة وعمله في السلعة بنفسه أو عمل غيره
له بغير اجرة فإنه لا يخبر بذلك في الثمن وجها واحدا، وان أخبر بالحال على وجهه فحسن وكذلك ما زيد
في الثمن أو حط منه بعد لزوم العقد لا يخبر به، ويخبر بالثمن الأول لأن ذلك هبة من أحدهما للآخر فلا
يكون عوضا وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يلحق بالعقد ويخبر به في المرابحة لأنه بسبب العقد
{مسألة} (وان اشترى ثوبا بعشرة وقصره بعشرة أخبر بذلك على وجهه، فإن قال تحصل علي
بعشرين فهل يجوز ذلك؟ على وجهين، وان عمل فيه بنفسه عملا يساوي عشرة لم يجز ذلك وجها واحدا)
وجملة ذلك أن من أراد البيع مرابحة والسلعة بحالها أخبر بثمنها. وان تغيرت فهو على ضربين
(أحدهما) ان تتغير بزيادة وذلك نوعان (أحدهما) ان تزيد لنمائها كالسمن وتعلم صنعة أو يحدث منها
نماء منفصل كالولد والثمرة والكسب فهذا إذا أراد بيعها مرابحة أخبر الثمن من غير زيادة لأنه
الذي ابتاعها به، وان أخذ النماء المنفصل أو استخدم الأمة أو وطئ الثيب أخبر برأس المال ولم يجب
تبيين الحال، وروى ابن المنذر عن أحمد أنه يبين ذلك كله وهو قول إسحاق، وقال أصحاب الرأي
106

في الغلة يأخذها لا بأس ان يبيع مرابحة، وفي الولد والثمرة لا يبيع مرابحة حتى يبين لأنه موجب العقد
ولنا انه صادق فيما أخبر به من غير تغرير بالمشتري فجاز كما لو لم يزد، ولان الولد والثمرة نماء
منفصل، فلم يمنع من بيع المرابحة كالغلة (النوع الثاني) ان يعمل فيها عملا مثل ان يقصرها أو يرفوها
أو يخيطها أو يحملها فمتى أراد بيعها مرابحة أخبر بالحال على وجهه سواء عمل ذلك بنفسه أو استأجر
من عمله هذا ظاهر كلام احمد فإنه قال: يبين ما اشتراه وما لزمه ولا يجوز ان يقول تحصلت علي بكذا
وبه قال الحسن وابن سيرين وابن المسيب وطاوس والنخعي والأوزاعي وأبو ثور، وفيه وجه آخر انه
يجوز فيما استأجر عليه ان يضم الأجرة إلى الثمن ويقول. تحصلت علي بكذا لأنه صادق، وبه قال
الشعبي والحكم والشافعي. ولنا انه تغرير بالمشتري فإنه عسى انه لو علم أن بعض ما تحصلت به لأجل
الصناعة لم يرغب فيها لعدم رغبته في ذلك فأشبه ما ينفق على الحيوان في مؤنته وكسوته، وعلى المتاع
في خزنه (الضرب الثاني) أن يتغير بنقص كالمرض والجناية عليه أو تلف بعضه أو الولادة أو أن
يتعيب أو يأخذ المشتري بعضه كالصوف واللبن ونحوه فإنه يخبر بالحال ولا نعلم فيه خلافا
{مسألة} (وان اشتراه بعشرة ثم باعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة أخبر بذلك على وجهه وان
قال اشتريته بعشرة جاز وقال أصحابنا يحط الربح من الثمن الثاني ويخبر انه اشتراه بخمسة)
المستحب في هذه المسألة وأمثالها أو يخبر بالحال على وجهه لأن فيه خروجا من الخلاف وهو
أبعد من التغرير بالمشتري، فإن أخبر انه اشتراه بعشرة ولم يبين جاز وهذا قول الشافعي وأبي يوسف
ومحمد لأنه صادق فيما أخبر به وليس فيه تهمة فأشبه ما لو لم يربح، وروي عن ابن سرين انه يطرح
الربح من الثمن الثاني ويخبر أن رأس ماله عليه خمسة، واعجب أحمد قول ابن سيرين قال فإن باعه على
ما اشتراه يبين أمره يعني انه ربح مرة ثم اشتراه وهذا من أحمد على الاستحباب لما ذكرناه، ولأنه
الثمن الذي حصل به الملك الثاني أشبه ما لو خسر فيه، وقال أبو حنيفة لا يجوز بيعه مرابحة إلا أن يبين
أمره أو يخبر ان رأس ماله عليه خمسة وهو قول القاضي وأصحابه لأن المرابحة تضمن فيها العقود فيخبر
بما تقوم عليه كما تضم أجرة الخياط والقصاب، وقد استفاد بهذا العقد الثاني تقرير الربح في العقد
الأول لأنه أمن أن يرد عليه، فعلى هذا ينبغي إذا طرح الربح من الثمن الثاني أن يقول تقوم علي
بخمسة ولا يقول اشتريته بخمسة لأنه كذب وهو حرام فيصير كما لو ضم أجرة القصارة ونحوها إلى
الثمن وأخبر به. ولنا ما ذكرناه، وما ذكروه من ضم القصارة والخياطة فشئ بنوه على أصولهم لا نسلمه
ثم لا يشبه هذا ما ذكروه لأن المؤنة لزمته في هذا البيع الذي يلي المرابحة وهذا الربح في عقد آخر
قبل هذا الشراء فأشبه الخسارة فيه، وأما تقويم الربح فغير صحيح فإن العقد الأول قد لزم ولم يظهر
107

العيب ولم يتعلق به حكمه، وقد ذكرنا في مثل هذه المسألة ان للمشتري ان يرده على البائع إذا ظهر على
عيب قديم وإذا لم يلزمه طرح النماء والغلة فههنا أولى، ويجئ على قولهم انه لو اشترى بعشرة ثم باعه
بعشرين ثم اشتراها بعشرة فإنه يخبر انها حصلت عليه بغير شئ، وان اشتراها بعشرة ثم باعها بثلاثة
عشر ثم اشتراها بخمسة أخبر انها تقومت عليه بدرهمين، وان اشتراها بخمسة عشر أخبر انها تقومت
عليه باثني عشر نص أحمد على نظير هذا، فإن لم يربح ولكن اشتراها ثانية بخمسة أخبر بها لأنها ثمن
للعقد الذي يلي المرابحة، ولو خسر فيها مثل أن اشتراها بخمسة عشر ثم باعها بعشرة ثم اشتراها بأي
ثمن كان أخبر به ولم يجز أن يضم الخسارة إلى الثمن الثاني ويخبر به في المرابحة بغير خلاف نعلمه
وهو يدل على صحة ما ذكرناه
(فصل) وان ابتاع اثنان ثوبا بعشرين ثم بذل لهما فيه اثنان وعشرون فاشترى أحدهما نصيب
صاحبه فيه بذلك السعر فإنه يخبر في المرابحة بأحد وعشرين نص عليه وهذا قول النخعي، وقال الشعبي
يبيعه على اثنين وعشرين لأن ذلك الدرهم الذي كان أعطيه قد كان أحرزه ثم رجع إلى قول النخعي بعد
ذلك ولا نعلم أحدا خاف ذلك لأنه اشترى نصفه الأول بعشرة والثاني بأحد عشر فصار أحدا وعشرين
(فصل) قال احمد المساومة عندي أسهل من بيع المرابحة لأن بيع المرابحة يعتريه أمانة واسترسال
من المشتري ويحتاج فيه إلى تعيين الحال على وجهه ولا يؤمن هوى النفس في نوع تأويل وخطر
فيكون على خطر وغرر فتجنب ذلك أسلم وأولى
(فصل) وان اشترى رجل نصف سلعة بعشرة واشترى آخر نصفها بعشرين ثم باعاها مساومة
بثمن واحد فهو بينهما نصفان لا نعلم فيه خلافا لأن الثمن عوض عنها فكان بينهما على حسب ملكهما فيها
كالاتلاف وان باعها مرابحة أو مواضعة أو تولية فكذلك نص عليه أحمد وهو قول ابن سيرين والحكم
قال الأثرم قال أبو عبد الله إذا باعها فالثمن بينهما نصفان. قلت أعطى أحدهما أكثر مما أعطى الآخر؟
فقال وان أليس الثوب بينهما الساعة سواء؟ فالثمن بينهما لأن كل واحد منهما يملك مثل الذي يملك
صاحبه. وحكى أبو بكر عن أحمد ان الثمن بينهما على قدر رؤوس أموالهما لأن بيع المرابحة يقتضي أن يكون
الثمن في مقابلة رأس المال فيكون مقسوما بينهما على حسب رؤوس أموالهما، قال شيخنا ولم أجد عن أحمد
رواية بما قال أبو بكر، وقيل هذا وجه خرجه أبو بكر وليس برواية والمذهب الأول لأن الثمن عوض
المبيع وملكهما متساو فيه فكان ملكهما لعوضه متساويا كما لو باعه مساومة
(فصل) قال رضي الله عنه (السابع خيار يثبت لاختلاف المتبايعين فمتى اختلفا في قدر الثمن تحالفا فيبدأ
بيمين البائع فيحلف ما بعته بكذا وإنما بعتكه بكذا ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا)
108

إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة فقال البائع بعتك بعشرين، وقال المشتري بعشرة
ولأحدهما بينة حكم بينهما وان لم يكن لهما بينة تحالفا، وبه قال شريح وأبو حنيفة والشافعي وهي
رواية عن مالك وله رواية أخرى القول قول المشتري مع يمينه، وبه قال أبو ثور وزفر لأن البائع
يدعي عشرة ينكرها المشتري والقول قول المنكر، وقال الشعبي القول قول البائع أو يترادان البيع وحكاه
ابن المنذر عن أحمد لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة
فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع " رواه سعيد وابن ماجة وغيرهما والمشهور في المذهب الأول. ويحتمل
أن يكون معنى القولين واحدا وأن القول قول البائع مع يمينه فإذا حلف فرضي المشتري بذلك أخذ
به وان أبى حلف أيضا وفسخ البيع لأن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا
اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا " ولان كل واحد منهما مدع ومدعي عليه فإن
البائع يدعي عقدا بعشرين ينكره المشتري والمشتري يدعي عقدا بعشرة ينكره البائع والعقد بعشرة
غير العقد بعشرين فشرعت اليمين في حقهما وهذا الجواب عما ذكروه
(فصل) والمبتدئ باليمين البائع فيحلف ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا فإن شاء المشتري اخذه بما قال
البائع وإلا حلف ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يبدأ يبين المشتري
لأنه منكر واليمين في جنبته أقوى ولأنه يقضى بنكوله ينفصل الحكم وما كان أقرب إلى فصل الخصومة
كان أولى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع " وفي لفظ " فالقول قول البائع
والمشتري بالخيار " رواه أحمد ومعناه ان شاء اخذ وان شاء حلف ولان البائع أقوى جنبة لأنها إذا
تحالفا عاد المبيع إليه فكان أقوى كصاحب اليد وقد بينا أن كل واحد منهما منكر فيتساويان من هذا
الوجه والبائع إذا حلف فهو بمنزلة نكول المشتري يحلف الآخر ويقتضي به فهما سواء ويكفي كل واحد
منهما يمين واحدة لأنه أقرب إلى فصل القضاء
{مسألة} (فإن نكل أحدهما لزمه ما قال صاحبه)
يعني إذا حلف البائع فنكل المشتري عن اليمين قضي عليه وان نكل المشتري حلف المشتري وقضي
له، ووجه ذلك حديث ابن عمر لما باع زيدا عبدا واختلفا في عيب فيه فاحتكما إلى عثمان فوجبت على
عبد الله اليمين فلم يحلف فرد عثمان عليه العبد رواه الإمام أحمد
{مسألة} (فإن تخالفا فرضي أحدهما بقول صاحبه أقر العقد وإلا فلكل واحد منهما الفسخ)
إذا تخالفا لم ينفسخ البيع بنفس التخالف لأنه عقد صحيح فلم ينفسخ باختلافهما وتعارضهما في
الحجة كما لو قامت البينة لكل واحد منهما، لكن إن رضي أحدهما مما قال الآخر أجبر الآخر عليه وأقر
109

العقد بينهما وان لم يرض واحد منهما فلكل واحد منهما الفسخ هذا ظاهر كلام أحمد ويحتمل ان يقف
الفسخ على الحاكم وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن العقد صحيح وأحدهما ظالم وإنما يفسخه الحاكم لتعذر
امضائه في الحكم أشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان وجهل السابق منهما
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أو يترادان البيع " وظاهره استقلالهما بذلك، وروي أن ابن مسعود
باع الأشعث بن قيس رقيقا من رقيق الامارة فقال عبد الله بعتك بعشرين ألفا، وقال الأشعث شريت
منك بعشرة آلاف، فقال عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا اختلف المتبايعان
وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه فالقول قول البائع أو يترادان البيع " قال فاني أرد البيع رواه سعيد
وروى أيضا حديثا عن عبد الملك بن عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا اختلف المتبايعان
استحلف البائع ثم كان للمشتري الخيار إن شاء اخذ وان شاء ترك " وهذا ظاهر في أنه يفسخ من
غير حاكم لأنه جعل الخيار إليه فأشبه من له خيار الشرط ولأنه فسخ لاستدراك الظلامة أشبه الرد بالعيب
ولا يشبه النكاح لأن لكل واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق
{مسألة} (وان كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها فإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري
وعنه لا يتحالفان إذا كانت تالفة والقول قول المشتري مع يمينه)
إذا اختلفا في ثمن السلعة بعد تلفها فعن احمد فيها روايتان (إحداهما) يتحالفان هكذا ذكره
الخرقي مثل لو كانت قائمة، وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك (والأخرى) القول قول
المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر وهو قول النخعي والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة لقوله عليه السلام في
الحديث " والسلعة قائمة " مفهومه انه لا يشرع التحالف عند تلفها ولأنهما اتفقا على نقل السلعة إلى
المشتري واستحقاق عشرة في ثمنها، واختلفا في عشرة زائدة البائع يدعيها والمشتري ينكرها والقول
قول المنكر وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة للحديث الوارد فيه ففيما عداه يبقى على القياس، ووجه
الرواية الأولى عموم قوله عليه السلام " إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار "
قال أحمد ولم ينقل فيه " والبيع قائم " الا يزيد بن هارون قال أبو عبد الله وقد أخطأ، رواه الخلق عن
المسعودي ولم يقولوا هذه الكلمة، ولان كل واحد منهما مدع ومنكر فيشرع اليمين كحال قيام السلعة
فإن ذلك لا يختلف بقيام السلعة وتلفها، وقولهم تركناه للحديث قلنا لم يثبت في الحديث، قال ابن
المنذر وليس في هذا الباب حديث يعتمد عليه، وعلى أنه إذا خولف الأصل لمعنى وجب تعدية الحكم
بتعدي ذلك المعنى فنقيس عليه بل يثبت الحكم بالبينة فإن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه
يمكن معرفة ثمنها للمعرفة بقيمتها فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة فمع تعذر ذلك أولى، فإذا تحالفا
110

فإن رضي أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ العقد لعدم الحاجة إلى فسخه وإن لم يرضيا فلكل واحد
منهما فسخه كما إذا كانت السلعة باقية ويرد الثمن إلى المشتري ويدفع المشتري قيمة السلعة إلى البائع فإن
كانا من جنس واحد وتساويا بعد التقابض تقاصا، وينبغي أن لا يشرع التحالف ولا الفسخ فيما إذا كانت
قيمة السلعة مساوية للثمن الذي ادعاه المشتري ويكون القول قول المشتري مع يمينه لأنه لا فائدة في
ذلك لأن الحاصل به الرجوع إلى ما ادعاه المشتري. وإن كانت القيمة أقل فلا فائدة للبائع في الفسخ
فيحتمل أن لا يشرع له اليمين ولا الفسخ لأن ذلك ضرر عليه من غير فائدة، ويحتمل أن يشرع لتحصل
الفائدة للمشتري، ومتى اختلفا في قيمة السلعة رجعا إلى قيمة مثلها موصوفا بصفاتها، فإن اختلفا في
الصفة فالقول قول المشترى مع يمينه لأنه غارم
(فصل) وإن تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض البائع الثمن ثم اختلفا في قدره فالقول قول
البائع لأنه منكر لما يدعيه المشتري بعد انفساخ العقد أشبه ما إذا اختلفا في القبض
{مسألة} (وإن ماتا فورثتهما في منزلتهما) في جميع ما ذكرناه لأنهم يقومون مقامهما في أخذ
مالهما وارث حقوقهما فكذلك فيما يلزمهما أو يصير لهما، ولأنها يمين في المال فقام الوارث فيها مقام
الموروث كاليمين في الدعوى
{مسألة} (ومتى فسخ المظلوم منهما انفسخ العقد ظاهرا وباطنا وإن فسخ الظالم لم ينفسخ
قي حقه باطنا وعليه اثم الغاصب)
وجملة ذلك أن الفسخ إذ وجد منهما فقال القاضي ظاهر كلام أحمد أن الفسخ ينفذ ظاهرا وباطنا
لأنه فسخ لاستدراك الظلامة فهو كالرد بالعيب أو فسخ عقد بالتحالف فأشبه الفسخ باللعان. وقال
أبو الخطاب إن كان البائع ظالم لم ينفسخ العقد في الباطن لأنه لا يمكنه امضاء العقد واستيفاء حقه فلا ينفسخ
العقد في الباطن ولا يباح له التصرف في المبيع لأنه غاصب، وإن كان المشتري ظالما انفسخ البيع
ظاهرا وباطنا لعجز البائع عن استيفاء حقه فكان له الفسخ كما لو أفلس المشتري، ولأصحاب الشافعي
وجهان كهذين، ولهم وجه ثالث أنه لا ينفسخ في الباطن بحال وهذا فاسد لأنه لو علم أنه لا ينفسخ في
الباطن بحال لما أمكن فسخه في الظاهر فإنه لا يباح لكل واحد منهما التصرف فيما رجع إليه بالفسخ
ومتى علم أن ذلك محرم منع منه، ولان الشارع جعل للمظلوم منهما الفسخ ظاهرا وباطنا فانفسخ بفسخه
في الباطن كالرد بالعيب (قال شيخنا) ويقوى عندي إن فسخه المظلوم منهما انفسخ ظاهرا وباطنا
كذلك، وإن فسخه الكاذب عالما بكذبه لم ينفسخ بالنسبة إليه لأنه لا يحل به الفسخ فلم يثبت حكمه
بالنسبة إليه ويثبت بالنسبة إلى صاحبه فيباح له التصرف فيما رجع إليه لأنه رجع إليه بحكم من غير
111

عدوان منه فأشبه ما لو رد عليه المبيع بدعوى العيب ولا عيب فيه
{مسألة} (وان اختلفا في صفة الثمن تحالفا إلا أن يكون للبلد نقد معلوم فيرجع إليه)
إذا اختلفا في صفة الثمن رجع إلى نقد البلد نص عليه في رواية الأثرم لأن الظاهر أنهما لا يعقدان
إلا به، وإن كان في البلد نقود رجع إلى أوسطها نص عليه في رواية جماعة فيحتمل أنه أراده إذا كان
هو الأغلب والمعاملة به أكثر لأن الظاهر وقوع المعاملة به أشبه إذا كان في البلد نقد واحد، ويحتمل أنه
ردهما إليه مع التساوي لأن فيه تسوية بينهما في الحق وتوسطا بينهما وفي العدول إلى غيره ميل على
أحدهما فكان التوسط أولى، وعلى مدعي ذلك اليمين لأن قول خصمه محتمل فيجب اليمين لنفي ذلك
الاحتمال كوجوبها على المنكر، وإن لم يكن في البلد إلا نقدان تحالفا لأنهما اختلفا في الثمن على وجه
لم يترجح قول أحدهما فيتحالفان كما لو اختلفا في قدره
{مسألة} (وإن اختلفا في أجل أو شرط فالقول قول من ينفيه، وعنه يتحالفان إلا أن يكون
شرطا فاسدا فالقول قول من يثبته)
إذا اختلفا في أجل أو شرط أو رهن أو ضمين أو في قدر الاجل أو الرهن فالقول قول من ينفيه
في إحدى الروايتين مع يمينه وهذا قول أبي حنيفة لأن الأصل عدمه فكان القول قول من يدعيه
كأصل العقد (والثانية) يتحالفان وهو قول الشافعي لأنهما اختلفا في صفة العقد فوجب أن يتحالفا
كما لو اختلفا في الثمن فأما ان اختلفا فيما يفسد العقد فقال بعتك بخمس أو خيار مجهول أو في شرط
فاسد، وقال لابل بعتني بنقد معلوم أو خيار معلوم إلى ثلاث فالقول قول من يدعي الصحة مع يمينه
لأن ظهور تعاطي المسلمين الصحيح أكثر من تعاطي الفاسد، وان قال بعتك مكرها فأنكر فالقول
قول المشتري لأن الأصل عدم الاكراه وصحة البيع كذلك، وان قال بعتك وأنا صبي فالقول قول
المشتري نص عليه وهو قول الثوري وإسحاق لأنهما اتفقا على العقد واختلفا فيما يفسده فكان القول
قول من يدعي الصحة كالتي قبلها، ويحتمل أن يقبل قول من يدعي الصغر لأنه الأصل وهو قول بعض
أصحاب الشافعي ويفارق ما إذا اختلفا في الاكراه والشرط الفاسد من وجهين (أحدهما) أن الأصل
عدمه وههنا الأصل بقاؤه (والثاني) أن الظاهر من المكلف أنه لا يتعاطى إلا الصحيح وههنا ما ثبت
أنه كان مكلفا، وإن قال بعتك وأنا مجنون فإن لم يعلم حال جنون فالقول قول المشتري لأن الأصل
عدمه، وإن ثبت أنه كان مجنونا فهو كالصبي، وان قال بعتك وأنا غير مأذون لي في التجارة فالقول
قول المشتري نص عليه في رواية منها لأنه مكلف فالظاهر أنه لا يعقد إلا عقدا صحيحا
{مسألة} (وإن قال بعتني هذين قال بل أحدهما فالقول قول البائع)
112

أما إذا قال بعتني هذا العبد والأمة بمائة قال بل بعتك العبد بخمسين فالقول قول البائع لأن
المشتري يدعي عقدا ينكره البائع والقول قول المنكر، وإن قال البائع بعتك هذا العبد بألف فقال بل
هو والعبد الآخر بألف فالقول قول البائع مع يمينه وهو قول أبي حنيفة لأن البائع ينكر بيع العبد الزائد
فكان القول قوله مع يمينه كما لو ادعى شراءه منفردا. وقال الشافعي يتحالفان لأنهما اختلفا في أحد
عوضي العقد أشبه ما لو اختلفا في الثمن وهذا القول أقيس وأولى إن شاء الله تعالى
{مسألة} (وان قال بعتني هذا قال بل هذا حلف كل واحد منهما على ما أنكره ولم يثبت
بيع واحد منهما)
وذلك مثل أن يقول البائع بعتك هذا العبد قال بل بعتني هذه الجارية لأن كل واحد منهما يدعي عقدا على
عين ينكرها المدعي عليه والقول قول المنكر فإذا حلف البائع ما بعتك هذه الجارية أقرت في يده وإن كان مدعيها
قد قبضها ردت عليه واما العبد فإن كان في يد البائع أقر في يده ولم يكن للمشتري طلبه لأنه لا يدعيه وعلى البائع رد
الثمن إليه لأنه لم يصل إليه المعقود عليه، وإن كان في يد المشتري فعليه رده إلى البائع لأنه يعترف انه لم يشتره
وليس للبائع طلبه إذا بذل ثمنه لاعترافه بيعه، وإن لم يعطه ثمنه فله فسخ البيع واسترجاعه لتعذر
الثمن عليه فملك الفسخ كما لو أفلس المشتري، وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه ثبت العقدان
لأنهما لا يتنافيان فأشبه ما لو ادعى أحدهما البيع فيهما جميعا وأنكره الآخر، وإن أقام أحدهما بينة دون
الآخر ثبت ما قامت عليه البينة دون الآخر
{مسألة} (وان قال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري لا أسلمه حتى أقبض
المبيع وكان الثمن عينا أو عرضا جعل بينهما عدل يقبض منهما ويسلم إليهما)
لأن حق البائع قد تعلق بعين الثمن كما تعلق حق المشتري بعين المبيع فاستويا وقد وجب لكل واحد منهما
على الآخر حق قد استحق قبضه فاجبر كل واحد منهما على إيفاء صاحبه حقه وهذا قول الثوري وأحد
أقوال الشافعي، وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على تسليم المبيع أولا وهو قول ثان للشافعي والأول
أولى لما ذكرنا، وقال أبو حنيفة ومالك يجبر المشتري على تسليم الثمن قبل الاستيفاء كالمرتهن
ولنا أن تسليم المبيع يتعلق به استقرار البيع وتمامه فكان تقديمه أولى ويخالف الرهن فإنه لا تتعلق
به مصلحة عقد الرهن والتسليم ههنا يتعلق به مصلحة عقد البيع وإن كان دينا أجبر البائع على
تسليم المبيع ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن لأن حق المشتري تعلق بعين المبيع وحق البائع تعلق
بالذمة وتقديم ما تعلق بالعين أولى لتأكده وكذلك تقديم الدين الذي به الرهن على ما في الذمة
113

وكذلك تقديم أرش الجناية على الدين لذلك، وقال مالك وأبو حنيفة يجبر المشتري أولا على تسليم
الثمن كالمسألة قبلها وقد ذكرنا ما يدل على خلافه، إذا ثبت هذا وأجبنا على البائع التسليم فسلم فإن
كان المشتري موسرا والثمن حاضرا أجبر على تسليمه وإن كان الثمن غائبا عن البلد في مسافة القصر
أو كان المشتري معسرا فللبائع الفسخ لأن عليه ضررا في تأخير الثمن فكان له الفسخ والرجوع في
عين ماله كالمفلس، وإن كان الثمن في بيته أو بلده حجر على المشتري في المبيع وسائر ماله حتى يسلم
الثمن لئلا يتصرف في ماله تصرفا يضر بالبائع، وإن كان غائبا عن البلد قريبا دون مسافة القصر
فللبائع الفسخ في أحد الوجهين لأن عليه ضررا في تأخير الثمن أشبه المفلس (والثاني) لا يثبت له خيار
الفسخ لأنه كالحاضر فعلى هذا يحجر على المشتري كما لو كان في البدل وهذا كله مذهب الشافعي، وقال
شيخنا ويقوى عندي انه لا يجب على البائع تسليم المبيع حتى يحضر الثمن ويتمكن من تسليمه لأن
البائع إنما رضي ببذل المبيع بالثمن فلا يلزمه دفعه قبل حصول عوضه ولان المتعاقدين سواء في المعاوضة
فيستويان في التسليم وإنما يؤثر ما ذكر في الترجيح في تقديم التسليم مع حضور العوض الآخر لعدم
الضرر فيه أما مع الحظر المحوج إلى الحجر أو المجوز الفسخ فلا ينبغي ان يثبت ولان شرع الحجر
لا يندفع به الضرر لأنه يقف على الحاكم ويتعذر ذلك في الغالب ولان ما أثبت الحجر والفسخ بعد
التسليم أولى أن يمنع التسليم لأن المنع أسهل من الرفع، والمنع قبل التسليم أسهل من المنع بعده ولذلك
ملكت المرأة منع نفسها من التسليم قبل قبض صداقها ولم تملكه بعد التسليم على أحد الوجهين. وكل
موضع قلنا له الفسخ فإنه يفسخ بغير حكم حاكم لأنه فسخ للبيع فتعذر ثمنه فملكه البائع كالفسخ في عين
ماله إذا أفلس المشتري وكل موضع قلنا يحجر عليه فذلك إلى الحاكم لأن ولاية الحجر إليه
(فصل) فإن هرب المشتري قبل وزن الثمن وهو معسر فللبائع الفسخ في الحال لأنه يملك
الفسخ مع حضوره فمع هربه أولى وإن كان موسرا أثبت البائع ذلك عند الحاكم ثم إن وجد الحاكم
له ما لا قضاه والا باع المبيع وقضى ثمة منه وما فضل فللمشتري وان أعوز ففي ذمته، قال شيخنا
ويقوى عندي ان للبائع الفسخ بكل حال لأنا أبحنا له الفسخ مع حضوره إذا كان الثمن بعيدا عن البلد
للضرر في التأخير فههنا مع العجز عن الاستيفاء بكل حال أولى، ولا يندفع الضرر برفع الامر إلى
الحاكم لأنه قد يعجز عن اثباته عنده وقد يكون المبيع في مكان لا حاكم فيه والغالب ان لا يحضره
من يعرفه الحاكم بالعدالة فإحالته على هذا تضييع لماله وهذه الفروع تقوى ما ذكرته من أن للبائع
منع المشتري من قبض المبيع قبل احضار الثمن لما في ذلك من الضرر
114

(فصل) وليس للبائع الامتناع من تسليم المبيع بعد قبض الثمن لأجل الاستبراء وبهذا قال
أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك في القبيحة وقال في الجميلة يضعها على يدي عدل حتى تستبرأ لأن
التهمة تلحقه فيها فمنع منها. ولنا انه بيع عين لاخيار فيها قد قبض ثمنها فوجب تسليمها كسائر المبيعات
وما ذكره من التهمة لا يمكنه من المنع كالقبيحة ولأنه إن كان استبرأها قبل بيعها فاحتمال وجود الحمل
منها بعيد نادر وإن كان لم يستبرئها فهو الذي ترك التحفظ لنفسه، ولو طالب المشتري البائع بكفيل لئلا تظهر
حاملا لم يكن له ذلك لأنه ترك التحفظ لنفسه حال العقد فلم يكن له كفيل كما لو طالب كفيلا بالثمن المؤجل
{مسألة} (ويثبت الخيار للتخلف في الصفة وتغير ما تقدمت رؤيته وقد ذكرناه) في الفصل
السادس من كتاب البيع بما يغني عن اعادته
(فصل) قال رضي الله عنه (ومن اشترى مكيلا أو موزونا لم يجز بيعه حتى يقبضه، وان تلف
قبل قبضه فهو من مال البائع إلا أن يتلفه آدمي فيخير المشتري بين فسخ العقد وامضائه ومطالبة
متلفه ببدله وعنه في الصبرة المتعينة انه يجوز بيعها قبل قبضها، وان تلفت فهي من ضمان المشتري)
ظاهر المذهب ان المكيل والموزون لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه، وهو ظاهر كلام الخرقي
وكذلك قال في المعدود سواء كان متعينا كالصبرة أو غير متعين كقفيز منها، وهو ظاهر كلام احمد
ونحوه قول إسحاق، وروي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد بن أبي
سليمان ان كل ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه وما ليس بمكيل ولا موزون يجوز بيعه
قبل قبضه، وقال القاضي وأصحابه المراد بالمكيل والموزون والمعدود ما ليس بمتعين كالقفيز من صبرة
والرطل من زبدة، فأما المتعين فيدخل في ضمان المشتري كالصبرة يبيعها من غير تسمية كيل، وقد نقل
عن أحمد نحو ذلك فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل اشترى طعاما فطلب من يحمله فرجع وقد
احترق فهو من مال المشتري. وذكر الجوز جاني عنه فيمن اشترى ما في السفينة صبرة لم يسم كيلا فلا
بأس أن يشترك فيها ويبيع ما شاء الا أن يكون بينهما كيل فلا يولى عليه، ونحو هذا قال
مالك فإنه قال فيما بيع من الطعام مكايلة أو موازنة لم يجز بيعه قبل قبضه وما بيع مجازفة أو بيع من
غير الطعام مكايلة أو موازنة جاز بيعه قبل قبضه، ووجه ذلك ما روى الأوزاعي عن الزهري عن
حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا
فهو من مال المبتاع رواه البخاري عن ابن عمر من قوله تعليقا. وقول الصحابي مضت السنة يقتضي
سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولان المبيع المعين لا يتعلق به حق توفية فكان من مال المشتري كغير المكيل والموزون
ونقل عن أحمد أن المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن، فعلى هذا
115

يختص ذلك بالمطعوم في أنه لا يدخل في ضمان المشتري الا بقبضه فإن الترمذي روى عن أحمد انه
أرخص في بيع ما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه، وقال الأثرم سألت أبا عبد الله
عن قوله نهى عن ربح ما لا يضمن قال هذا في الطعام وما أشبهه من مأكول أو مشروب فلا يبيعه حتى
يقبضه، وقال ابن عبد البر الأصح عن أحمد بن حنبل ان الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام وذلك
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه فمفهومه إباحة بيع ما سواه قبل قبضه وروى ابن عمر قال
رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤووه إلى
رحالهم وهذا نص في بيع المعين وعموم قوله عليه السلام " من ابتاع طعاما فلا يبيعه (بالرفع وفي رواية فلا يبعه بالجزم والخبر في الأولى بمعنى الانشاء) حتى يستوفيه "
متفق عليهما. ولمسلم عن ابن عمر قال. كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله
عليه وسلم. أن نبيعه حتى ننقله من مكانه. وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاما فليس
له أن يبيعه حتى يستوفيه ولو دخل في ضمان المشتري جاز بيعه والتصرف فيه كما بعد قبضه، وهذا
يدل على تعميم المنع في كل طعام مع تنصيصه على البيع مجازفة بالمنع وهو خلاف قول القاضي وأصحابه
ويدل بمفهومه على أن ما عدا الطعام يخالفه في ذلك
(فصل) وكل مالا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه لا يجوز له بيعه حتى يقبضه وقد ذكرنا
ذلك وذكرنا الذي يحتاج إلى قبض والخلاف فيه لما ذكرنا من الأحاديث ولأنه من ضمان بائعه
فلم يجز بيعه كالسلم ولم نعلم بين أهل العلم في ذلك خلافا إلا ما حكي عن البتي أنه لا بأس ببيع كل شئ
قبل قبضه. قال ابن عبد البر وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام أظنه لم يبلغه الحديث
ومثل هذا لا يلتفت إليه.
(فصل) والمبيع بصفة أو برؤية متقدمة من ضمان البائع حتى يقبضه المبتاع فعلى هذا لا يجوز بيعه
قبل قبضه لأنه يتعلق به حق توفية فجرى مجرى المكيل والموزون
(فصل) وما يحتاج إلى القبض إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع، فإن تلف بآفة سماوية
بطل العقد ورجع المشتري بالثمن وان بان بفعل المشتري استقر عليه الثمن وكان كالقبض لأنه تصرف
فيه، وان أتلفه أجنبي لم يبطل العقد على قياس قوله في الجائحة ويثبت للمشتري الخيار بين الفسخ
والرجوع بالثمن لأن التلف حصل في يد البائع فهو كحدوث العيب في يده وبين البقاء على العقد ومطالبة
المتلف بالمثل إن كان مثليا وبالقيمة ان لم يكن مثليا، وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا، وان أتلفه
البائع فقال أصحابنا الحكم فيه كما لو أتلفه أجنبي، وقال الشافعي: ينفسخ العقد ويرجع المشتري بالثمن
لاغير لأنه تلف يضمنه به البائع أشبه تلفه بفعل الله تعالى، وفرق أصحابنا بينهما لكونه إذا تلف بفعل
116

الله تعالى لم يوجد مقتض للضمان سوى حكم العقد بخلاف ما إذا أتلفه، فإن اتلافه يقتضي الضمان بالمثل
وحكم العقد يقتضي الضمان بالثمن فكانت الخيرة إلى المشتري في التضمين بأيهما شاء
(فصل) وان تعيب في يد البائع أو تلف بعضه بأمر سماوي فالمشتري مخير بين أخذه ناقصا
ولا شئ له وبين فسخ العقد والرجوع بالثمن لأنه ان رضيه معيبا فكأنه اشترى معيبا عالما بعيبه لا يستحق
شيئا من اجل العيب، وان فسخ العقد لم يكن له أكثر من الثمن لأنه لو تلف المبيع كله لم يكن له
أكثر من الثمن أو تلف بعضه لم يكن له الفسخ لذلك لأنه أتلف ملكه فلم يرجع على غيره
وإن كان بفعل البائع فقياس قول أصحابنا أن المشتري مخير بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين أخذه
والرجوع على البائع بعوض ما أتلف أو عيب، وقياس قول الشافعي أنه بمنزلة ما لو تلف بفعل الله تعالى
وإن كان بفعل أجنبي فله الفسخ والمطالبة بالثمن وأخذ المبيع ومطالبة الأجنبي بعوض ما أتلف
(فصل) ولو باع شاة بشعير فأكلته قبل قبضه فإن كانت في يد المشتري فهو كما لو أتلفه، وان كانت
في يد البائع فهو كاتلافه وكذلك ان كانت في يد أجنبي فهو كاتلافه، وان لم يكن في يد أحد انفسخ
البيع لأن المبيع هلك قبل قبضه بأمر لا ينسب إلى آدمي فهو كتلفه بفعل الله تعالى
(فصل) ولو اشترى شاة أو عبدا أو شقصا بطعام فقبض الشاة أو العبد وباعهما أو أخذ الشقص
بالشفعة ثم تلف الطعام قبل قبضه انفسخ الأول دون الثاني ولا يبطل الاخذ بالشفعة لأنه كمل قبل
فسخ العقد ويرجع مشتري الطعام على مشتري الشاة أو العبد أو الشقص بقيمة ذلك لتعذر رده،
وعلى الشفيع مثل الطعام لأنه عوض الشقص
{مسألة} (وعنه في الصبرة المتعينة أنه يجوز بيعها قبل قبضها وان تلفت فهي من ضمان المشتري)
نقلها عنه أبو الحارث والجوزجاني واختاره القاضي وأصحابه ونحوه قول مالك لقول ابن عمر مضت
السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المتاع وقد ذكرنا ذلك
{مسألة} (وما عدا المكيل والموزون يجوز التصرف فيه قبل قبضه وان تلف فهو من مال المشتري)
وحكى أبو الخطاب رواية أخرى أنه كالمكيل والموزون في ذلك كله ما عدا المكيل والموزون
والمعدود والمطعوم على ما ذكرنا فيه من الخلاف يجوز التصرف فيه قبل قبضه في أظهر الروايتين
ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق، وعن أحمد
رواية أخرى لا يجوز بيع شئ قبل القبض اختارها ابن عقيل، وروي ذلك عن ابن عباس وهو قول
أبي حنيفة والشافعي الا ان أبا حنيفة اختار بيع العقار قبل قبضه وإذا قلنا بجواز التصرف فيه فتلف
فهو من ضمان المشترى، وقال أبو حنيفة كل مبيع قبل قبضه من ضمان البائع الا العقار، وقال الشافعي
117

هو من ضمان البائع في الجميع، وحكى أبو الخطاب عن أحمد مثل ذلك. واحتجوا بنهي النبي صلى الله عليه
وسلم أن يباع الطعام قبل قبضه، وبما روي عن ابن عباس أنه قال أرى كل شئ بمنزلة الطعام (1) (الطعام ربوي وعليه مدار المعيشة فلا يقاس عليه ما ليس مثله في ذلك) وبما
روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى
رحالهم، وروى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرا الصدقات حيث تقبض، وروي أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال " انههم عن بيع ما لم يقبضوا وعن ربح ما لم
يضمنوا " ولأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون.
ولنا على جواز بيعه قبل قبضه ما روى ابن عمر قال كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل
الدراهم الدنانير ونبيع بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " لا بأس
إذا تفرقتما وليس بينكما شئ " وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين، وروى ابن عمر
أنه كان على بكر صعب يعني لعمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " بعنيه " فقال هو لك يا رسول
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد الله ابن عمر فاصنع به ما شئت " وهذا ظاهر في التصرف
في المبيع بالهبة قبل قبضه، واشترى من جابر جملا ونقده ثمنه ثم وهبه إياه قبل قبضه ولأنه أحد نوعي
المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه كالمنافع في الإجارة يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض
المنافع ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفية فصح بيعه كالمال في يد المودع والمضارب
ولنا على أنه إذا تلف فهو من ضمان المشتري قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان "
وهذا المبيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه وقول ابن عمر مضت السنة ان ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو
من مال المبتاع، وأما أحاديثهم فقد قيل لم يصح منها الا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومه فإن تخصيص
الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على جوازه فيما سواه وقولهم لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب
المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض واليد ليست شرطا في صحة البيع بدليل جواز بيع
المال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة
(فصل) وما لا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه لعموم الخبر فيه قال القاضي ولو ابتاع
شيئا مما يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له أخذ بدله ان تراضيا لأنه مبيع لم يقبض فإن كان
مما لا يحتاج إلى قبض جاز أخذ البدل عنه الا أن يكون سلما لأنه لا يجوز بيع السلم قبل قبضه
(فصل) وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه كالذي
ذكرنا والأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود. وما لا ينفسخ العقد بهلاكه يجوز
التصرف فيه قبل القبض كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية
وقيمة المتلف لأن المقتضي للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود
118

عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزا من الغرر ومالا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه
وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك عند القاضي، وهو قول أبي حنيفة لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه،
وقال الشافعي لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين لأنه يخشى رجوعه
بانتقاض سببه بالردة قبل الدخول أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو بصفة بالطلاق أو انفساخه
بسبب من غير جهتها وكذلك قال الشافعي في عوض الخلف وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن
قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول، فاما ما ملك بإرث أو وصية أو غنيمة أو تعين ملكه فيه فإنه يجوز
له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض، وهذا
مذهب أبي حنيفة والشافعي وإن كان لانسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلا
فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها
فهي كالتي في يده فإن كان غصبا فقد ذكرنا حكمه
(فصل) فإن اشترى اثنان طعاما فقبضاه ثم باع أحدهما الآخر نصيبه قبل ان يقسماه احتمل أن
لا يجوز وكرهه الحسن وابن سيرين فيما يكال أو يوزن لأنه لم يقبض نصيبه منفردا فأشبه غير المقبوض
ويحتمل الجواز لأنه مقبوض لهما يجوز بيعه لا جنبي فجاز بيعه لشريكه كسائر الأموال فإن تقاسماه وتفرقا
ثم باع أحدهما نصيبه بذلك الكيل الذي كاله له لم يجز كما لو اشترى من رجل طعاما فاكتاله وتفرقا
ثم باعه إياه بذلك الكيل وان لم يتفرقا خرج على الروايتين اللتين ذكرناهما
(فصل) وكل مالا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز فيه الشركة ولا التولية ولا الحوالة به، وبهذا قال
أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك يجوز هذا كله في الطعام قبل قبضه لأنها تختص بمثل الثمن الأول
فجازت قبل القبض كالإقالة، ولنا ان التولية والشركة من أنواع البيع فإن الشركة بيع بعضه بقسطه
من ثمنه والتولية بيع جميعه بمثل ثمنه فيدخل في عموم النهي عن بيع الطعام قبل قبضه ولأنه تمليك لغير
من هو في ذمته فأشبه البيع. وأما الإقالة فهي فسخ للبيع فأشبهت الرد بالعيب، وكذلك لا يصح هبته ولا رهنه
ولا دفعه أجرة وما أشبه ذلك ولا التصرفات المنعقدة إلى القبض لأنه غير مقبوض فلا سبيل إلى اقباضه
119

{مسألة} (ويحصل القبض فيما بيع بالكيل والوزن بكيله ووزنه)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة التخلية في ذلك قبض، وقد روي عن أحمد رواية أخرى
أن القبض في كل شئ بالتخلية مع التمييز لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضا له كالعقار.
ولنا ما روى عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل " رواه
البخاري وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اشترى طعاما فلا يبيعه حتى
يكتاله " رواه مسلم وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع
البائع وصاع المشتري رواه ابن ماجة وهذا فيما بيع كيلا
{مسألة} (وفي الصبرة وما ينقل بالنقل) لأن ابن عمر قال كانوا يضربون على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا الطعام جزافا أن لا يبيعوه في مكانه حتى يحولوه، وفي لفظ كنا نبتاع
الطعام جزافا فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه، وفي
لفظ كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله
رواهن مسلم وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل، وقد دل على ذلك أيضا قوله عليه
الصلاة والسلام " إذا سميت الكيل فكل "
{مسألة} (وفيما يتناول بالتناول وفيما عدا ذلك بالتخلية)
وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز إذا كان البيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد
وإن كان ثيابا فقبضها نقلها وإن كان حيوانا فقبضه بمشيه من مكانه وإن كان ما لا ينقل ويحول فقبضه
التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه ولان القبض مطلق في الشرع فيجب فيه الرجوع إلى العرف
كالاحراز والتفرق والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرناه
(فصل) وأجرة الكيال والوزان في المكيل والموزون على البائع لأن عليه تقبيض المبيع للمشتري
والقبض لا يحصل الا بذلك فكان على البائع كما أن على بائع الثمرة سقيها وكذلك أجرة العداد في المعدودات
وأما نقل المنقولات وما أشبهها فهو على المشتري لأنه لا يتعلق به حق توفية نص عليه أحمد
(فصل) ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده باختيار البائع وبغير اختياره لأنه ليس للبائع حبس المبيع
على قبض الثمن ولان التسليم من مقتضيات العقد فمتى وجد بعده وقع موقفه كقبض الثمن
120

{مسألة} (والإقالة فسخ يجوز في المبيع قبل قبضه ولا يستحق بها شفعة ولا يجوز إلا بمثل الثمن وعنه
أنها بيع فلا يثبت. فيها ذلك الا بمثل الثمن في أحد الوجهين
إقالة النادم مستحبة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أقال نادما بيعته أقاله الله عثرته يوم
القيامة " رواه ابن ماجة وأبو داود ولم يقل أبو داود يوم القيامة، وهي فسخ في أصح الروايتين اختارها
أبو بكر وهي مذهب الشافعي (والثانية) هي بيع وهي مذهب مالك لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة
التي خرج عليها فكانت بيعا كالأول، وكونها بمثل الثمن لا يمنع من كونها بيعا كالتولية، وحكي عن أبي
حنيفة أنها فسخ في حق المتعاقدين بيع في حق غيرهما فلا تثبت أحكام البيع في حقهما بل يجوز في المبيع
قبل قبضه وفي السلم ويثبت حكم البيع في حق الشفيع فيجوز له أخذ الشقص الذي تقايلا فيه بالشفعة
ولنا أن الإقالة هي الرفع والإزالة يقال أقالك الله عثرتك أي أزالها فكانت فسخا للعقد الأول بدليل
جواز الإقالة في السلم مع اجماعهم على أنه لا يجوز بيع المسلم فيه قلب قبضه، ولأنها مقدرة بالثمن الأول
ولو كانت بيعا لم تقدر به ولأنه عاد إليه المبيع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب، ويدل
على أبي حنيفة ما كان فسخا في حق المتعاقدين كان فسخا في حق غيرهما كالرد بالعيب والفسخ بالخيار
ولان حقيقة الفسخ لا تختلف بالنسبة إلى شخص دون شخص والأصل اعتبار الحقائق، فإن قلنا هي فسخ
جازت قبل القبض وبعده وقال أبو بكر لابد من كيل ثان ويقوم الفسخ مقام البيع في إيجاب كيل ثان
كقيام فسخ النكاح مقام الطلاق في العدة
ولنا أنه فسخ للبيع فجاز قبل القبض كالرد بالعيب والتدليس والفسخ بالخيار أو لاختلاف المتبايعين
وفارق العدة فإنها اعتبرت للاستبراء والحاجة داعية إليه في كل فرقة بعد الدخول بخلاف مسئلتنا. وان
قلنا هي بيع لم يجز قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض لأن بيعه من بائعه قبل قبضه لا يجوز كما لا يجوز
من غيره ولا يستحق بها الشفعة إن كانت فسخا لأنها رفع للعقد وإزالة له وليست معاوضة فأشبهت
سائر الفسوخ، ومن حلف لا يبيع فأقال لم يحنث، وان كانت بيعا استحقت الشفعة وحنث الحالف على
ترك البيع بفعلها كالتولية. والصحيح أنها لا تجوز الا بمثل الثمن سواء قلنا هي فسخ أو بيع لأنها خصت
بمثل الثمن كالتولية وفيه وجه آخر أنها تجوز بأكثر من الثمن الأول وأقل منه كسائر البياعات فإذا
121

قلنا لا تجوز الا بمثل الثمن وأقال بأقل منه أو أكثر لم تصح الإقالة وكان الملك باقيا للمشتري، وبهذا
قال الشافعي، وعن أبي حنيفة أنها تصح بالثمن الأول ويبطل الشرط لأن لفظها اقتضى مثل الثمن
والشرط ينافيه فيبطل ونفي الفسخ على مقتضاه كسائر الفسوخ، ولنا أنه شرط التفاضل فيما يعتبر
فيه التماثل فيبطل كبيع درهم بدرهمين ولان القصد بالإقالة رد كل حق إلى صاحبه فإذا اشترط زيادة أو نقصا
أخرج العقد عن مقصوده فيبطل كما لو باعه بشرط أن لا يسلم إليه وفارق سائر الفسوخ لأنه لا يعتبر فيه
الرضى منهما بل يسأل به أحدهما فإذا شرط عليه شئ لم يلزمه لتمكنه من الفسخ بدونه وان شرط
لنفسه شيئا لم يلزم أيضا لأنه لا يستحق أكثر من الفسخ وفي مسئلتنا لا تجوز الإقالة الا برضاهما وإنما
رضي بها أحدهما مع الزيادة أو النقص فإذا أبطلنا شرطه فات رضاه فتبطل الإقالة لعدم رضاه بها
{باب الربا والصرف}
الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) وقال (أن تكون
أمة هي أربى من أمة) أي أكثر عددا. وهو في الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة وهو محرم بالكتاب
والسنة والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى (وحرم الربا) وما عداها من الآيات، وأما السنة فقول
النبي صلى الله عليه وسلم " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل يا رسول الله ما هي؟ قال " الشرك بالله والسحر
وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات
المؤمنات الغافلات " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه متفق عليهما
وأجمعت الأمة على أن الربا محرم.
122

{مسألة} (وهو نوعان ربا الفضل وربا النسيئة)
وأجمعت الأمة على تحريمهما وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة فحكي عن ابن عباس
وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم وابن الزبير انهم قالوا إنما الربا في النسيئة لقوله عليه السلام " لا ربا إلا
في النسيئة " رواه البخاري والمشهور من ذلك قول ابن عباس ثم إنه رجع إلى قول الجماعة وروى ذلك
الأثرم وقاله الترمذي وابن المنذر وروى سعيد باسناده عن أبي صالح قال صحبت ابن عباس حتى مات
فوالله ما رجع عن الصرف، وعن سعيد بن جبير قال سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن
الصرف فلم ير به بأسا وكان يأمر به، والصحيح قول الجمهور لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " لا تبيعوا الذهب بالذهب الا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق
بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز " وعن أبي سعيد قال جاء
بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " من أين هذا يا بلال؟ " قال كان عندنا تمر ردئ
فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أوه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن
ان أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به " متفق عليهما قال الترمذي: على حديث أبي سعيد العمل
عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ربا إلا في النسيئة " محمول على الجنسين
{مسألة} (فاما ربا الفضل فيحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون، وإن كان يسيرا
123

كتمرة بتمرتين وحبة بحبتين، وعنه لا يحرم الا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم
وعنه لا يحرم إلا في ذلك إذا كان مكيلا أو موزونا)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا أحاديث كثيرة من أتمها حديث عبادة بن الصامت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل والتمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر
مثلا بمثل والملح بالملح مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب
بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم
يدا بيد " رواه مسلم. فهذه الأعيان الستة المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والاجماع، واختلف
أهل العلم فيما سواها فحكي عن طاوس وقتادة أنهما قصرا الربا عليها، وبه قال داود ونفاة القياس
وقالوا اما عداها على أصل الإباحة لقول الله تعالى (وأحل الله البيع) واتفق القائلون بالقياس على
أن لربا فيها بعلة وانه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها لأن القياس دليل شرعي فيجب استخراج
علة هذا الحكم واثباته حيث وجدت علته ولان قول الله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) يقتضي
تحريم كل زيادة إذ الربا في اللغة الزيادة إلا ما أجمعنا على تخصيصه وهذا يعارض ما ذكروه، ثم اتفق
أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد إلا سعيد بن جبير فإنه قال: كل شيئين
يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة والدخن
لأنها يتقارب نفعها فجرى مجرى نوعي الجنس، وهذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم " بيعوا الذهب بالفضة
كيف شئتم يدا بيد وبيعوا التمر بالبر كيف شئتم " فلا يعول عليه واتفق المعللون على أن علة الذهب
124

والفضة واحدة وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما فروي عن أحمد في
ذلك ثلاث روايات أشهرهن أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، وعلة الأعيان
الأربعة كونه مكيل جنس نقلها عن أحمد الجماعة ذكرها الخرقي وابن أبي موسى وأكثر الأصحاب
وبه قال النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، فعلى هذه الرواية يجري الربا في كل
مكيل أو موزون بجنسه مطعوما كان أو غير مطعوم كالحبوب والأشنان والنورة والقطن والصوف
والكتان والحناء والحديد والنحاس ونحو ذلك، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالمعدودات
لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا
الصاع بالصاعين فاني أخاف عليكم الرماء " وهو الربا فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل
يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال " لا بأس إذا كان يدا بيد " رواه أحمد في المسند عن
ابن حبان عن أبيه عن ابن عمر، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا "
رواه الدارقطني، وعن عمار أنه قال: العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين لما كان يدا بيد
فلا بأس به إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن، ولان قضية البيع المساواة والمعتبر في تحقيقها الكيل
والوزن والجنس فإن الوزن أو الكيل يسوي بينهما صورة والجنس يسوي بينهما معنى فكانا علة
ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة فإنه جائزا إذا تساويا
125

في الكيل (والرواية الثانية) أن العلة في الأثمان الثمنية وفيما عداها كونه مطعوم جنس فيختص بالمطعومات
ويخرج منه ما عداها. قال أبو بكر روى ذلك عن أحمد جماعة، ونحو ذلك قول الشافعي فإنه قال: العلة الطعم
والجنس شرط والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمنية غالبا فيختص بالذهب والفضة لما روى معمر بن
عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام الا مثلا بمثل رواه مسلم، ولان الطعم وصف شرف
اذبه قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال فيقتضي التعليل بهما، ولأنه لو كانت
العلة في الأثمان الوزن لم يجز اسلامهما في الموزونات لأن أحد وصفي علة الربا يكفي في تحريم النساء
(والرواية الثالثة) العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا فلا يجري الربا
في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالتفاح والرمان والبطيخ والجوز والبيض ولا فيما ليس بمطعوم كالزعفران
والأشنان والحديد، ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب وهو قديم قولي الشافعي لما روي عن سعيد
ابن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا ربا الا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب " أخرجه
الدارقطني وقال الصحيح أنه من قول سعيد ومن رفعه فقد وهم، ولان لكل واحد من هذه الأوصاف
أثرا والحكم مقرون بجميعها في المنصوص عليه فلا يجوز حذفه ولان الكيل الوزن الجنس لا يقتضي
وجوب المماثلة وإنما أثره في تحقيقها في العلة ما يقتضي ثبوت الحكم لاما تحقق شرطه، والطعم بمجرده
لا تتحقق المماثلة به لعدم العيار الشرعي فيه، وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي وهو الكيل والوزن
ولهذا وجبت المساواة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا فوجب أن يكون الطعم معتبرا في المكيل
126

والموزون دون غيرهما، والأحاديث الواردة في هذا الباب يجب الجمع بينها وتقييد كل واحد منها
بالآخر فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل يتقيد بما فيه معيار شرعي من كيل أو وزن،
ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه وهذا اختيار شيخنا، وقال مالك
العلة القوت أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدخرات، وقال ربيعة يجري الربا فيما تجب
فيه الزكاة دون غيره. وقال ابن سيرين في الجنس الواحد. وهذا القول لا يصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم
في بيع
الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل " لا بأس إذا كان يدا بيد " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع عبدا بعبدين
رواه أبو داود والترمذي وقال: هو حديث صحيح، وقول مالك ينتقض بالحطب والإدام يستصلح
به القوت ولا ربا فيه عنده، وتعليل ربيعة ينعكس بالملح والعكس لازم عند اتحاد العلة. فالحاصل ان ما
اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد ففيه الربا رواية واحدة كالأرز والدخن والذرة
والقطنيات والدهن واللبن ونحوه، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر هذا قول علماء الأمصار
في القديم والحديث، وما يعدم فيه الكيل والوزن والطعم واختلف جنسه فلا ربا فيه رواية واحدة،
وهو قول أكثر أهل العلم وذلك كالتين النوى وألقت والماء، والطين الأرمني فإنه يؤكل دواء فيكون
موزونا مأكولا فهو إذا من القسم الأول وما عداه إنما يؤكل سفها فجرى مجرى الرمل والحصا. وما وجد
فيه الطعم وحده أو الكيل والوزن من جنس واحد ففيه روايتان، واختلف أهل العلم فيه. والأولى
إن شاء الله حله إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به ولا معنى يقوى التمسك به وهي مع ضعفها يعارض
127

بعضها بعضا فوجب اطراحها والجمع بينها والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب والسنة
والاعتبار، ولا فرق في المطعومات بين ما يؤكل قوتا كالأرز والذرة أو أدما كالقطنيات واللحم واللبن
أو تفكها كالثمار أو تداويا كالاهليلج والسقمونيا فإن الكل في باب الربا واحد
(فصل) وقوله في كل مكيل أو موزون أي ما كان جنسه مكيلا أو موزونا وان لم يتأت فيه كيل
ولا وزن اما لقلته كالحبة والحبتين والحفنة والحفنتين وما دون الأرزة من الذهب والفضة أو لكثرته
كالزبرة العظيمة فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض الا مثلا بمثل ويحرم التفاضل فيه، وبهذا قال الثوري
والشافعي وإسحاق وابن المنذر، ورخص أبو حنيفة في بيع الحفنة بالحفنتين والحبة بالحبتين وسائر
المكيل الذي لا يتأتى كيله ووافق في الموزون واحتج بأن العلة الكيل ولم يوجد في اليسير
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل من زاد أو ازداد فقد
أربى " ولان ما جرى الربا في كثيره جرى في قليله كالموزون ولا يجوز بيع تمرة بتمرة ولا حفنة
بحفنة وهذا قول الثوري لأن ما أصله الكيل لا تجري المماثلة في غيره
(فصل) اما مالا وزن للصناعة فيه كمعمول الحديد والرصاص والنحاس والقطن والكتان
والصوف والحرير فالمنصوص عن أحمد في الثياب والأكسية انه لا يجري فيه الربا فإنه قال لا بأس
بالثوب بالثوبين والكساء بالكساءين وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال لا يباع الفلس بالفلسين ولا السكين
بالسكينين ولا الإبرة بالإبرتين أصله الوزن ونقل القاضي حكم إحدى المسئلتين إلى الأخرى فجعل في
128

الجميع روايتين (إحداهما) لا يجري في الجميع وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم لأنه ليس
بموزون ولا مكيل وهذا هو الصحيح إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة وعدم النص والاجماع فيه
(والثانية) يجري الربا في الجميع اختارها ابن عقيل لأن أصله الوزن فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر
ان اختار القاضي ان ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالاسطال ففيه الربا والا فلا
(فصل) ويجري الربا في لحم الطير وعن أبي يوسف لا يجري فيه لأنه يباع بغير وزن. ولنا أنه
لحكم فأشبه سائر اللحمان وقوله لا يوزن قلنا هو من جنس ما يوزن ويقصد نقله وتختلف قيمته بثقله
وخفته أشبه ما يباع من الخبز عدا
(فصل) والجيد والردئ والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل
وهذا قول أكثر العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من
جنسه وأنكر ذلك أصحابه، وحكى بعض أصحابنا عن أحمد رواية انه لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة
لأن للصناعة قيمة بدليل حالة الاتلاف فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم
" الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل " وعن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الذهب بالذهب
تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها " رواه أبو داود وروى مسلم عن أبي الأشعث ان معاوية
أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس فبلغ عبادة فقدم فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى
عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح الا سواء بسواء عينا
129

بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى " وروى الأثرم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب
أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا الا
مثلا بمثل ولأنهما تساويا في الوزن فلا يؤثر اختلافهما في القيمة كالجيد بالردئ فأما ان قال لصائغ
130

اصنع لي خاتما وزنه درهم وأعطيك مثل زنته وأجرتك درهما فليس ذلك بيع درهم بدرهمين، وقال أصحابنا
للصائغ أخذ الدرهمين أحدهما في مقابلة الخاتم والباقي أجرة له
131

(فصل) وكل ما حرم فيه ربا الفضل حرم فيه النساء بغير خلاف علمناه، ويحرم التفرق قبل القبض
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عينا بعين " وقوله " يدا بيد " ولان تحريم النساء آكد ولذلك جرى في
132

الجنسين المختلفين فإذا حرم التفاضل فالنساء أولى بالتحريم
{مسألة} (ولا يباع ما أصله الكيل بشئ من جنسه وزنا ولا ما أصله الوزن كيلا)
لا خلاف بين أهل العلم في وجوب المماثلة في بيع الأموال التي يحرم التفاضل فيها وأن المساواة المرعية
هي المساواة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا، ومتى تحققت هذه المساواة لم يضر اختلافهما فيما سواها
وان لم توجد لم يصح البيع وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال مالك يجوز بيع بعض
الموزونات ببعض جزافا. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزنا بوزن الفضة بالفضة
وزنا بوزن والبر بالبر كيلا بكيل والشعير بالشعير كيلا بكيل " رواه الأثرم عن عبادة ورواه أبو داود
وفي لفظ " البر بالبر مدا بمد والشعير بالشعير مدا بمد فمن زاد أو ازداد فقد اربى " فامر بالمساواة
في الموزونات المذكورة في الوزن كما أمر بالمساواة في المكيلات بالكيل وما عدا الذهب والفضة من
الموزونات مقيس عليهما ولأنه جنس يجرى فيه الربا فلم يجز بيع بعضه ببعض جزافا كالمكيل ولان
حقيقة الفضل مبطلة للبيع ولا يعلم عدم ذلك الا بالوزن فوجب ذلك كما في المكيل والأثمان
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز بيع المكيل بالمكيل وزنا ولا بيع الموزون بالموزون كيلا لأن التماثل في
133

الكيل مشترط في المكيل وفي الوزن في الموزون وقد عدمت ولأنه متى باع رطلا من المكيل برطل حصل
في الرطل من الخفيف أكثر ما يحصل من الثقيل فيختلفان في الكيل وان لم يعلم الفضل لكن يجهل التساوي
فلا يصح كما لو باع بعضه ببعض جزافا. وكذلك إذا باع الموزون بالموزون بالكيل لا يتحقق التماثل في
الوزن فلم يصح كما ذكرنا في المكيل
(فصل) ولو باع بعضه ببعض جزافا أو كان جزافا من أحد الطرفين لم يجز قال ابن المنذر أجمع
أهل العلم على أن ذلك لا يجوز إذا كنا من صنف واحد لما روى مسلم عن جابر قال نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم
" الذهب بالذهب وزنا بوزن " إلى تمام الحديث دليل على أنه لا يجوز بيعه الا كذلك ولان التماثل شرط
والجهل به يبطل البيع الحقيقة التفاضل
{مسألة} قال (فإن اختلف الجنس جاز بيع بعضه ببعض كيلا ووزنا وجزافا)
ما لا يشترط فيه التماثل كالجنسين وما لا ربا فيه يجوز بيع بعضه ببعض كيلا ووزنا وجزافا
وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر العلماء قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع الصبرة
من الطعام بالصبرة لا ندري كم كيل هذه ولا كم كيل هذه من صنف واحد غير جائز ولا بأس به من
صنفين استدلالا بقوله عليه السلام " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " وذهب بعض أصحابنا
إلى منع بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون جزافا، وقال أحمد في رواية محمد بن الحكم أكره
134

ذلك قال ابن أبي موسى: لاخير فيما يكال بما يكال جزافا، ولا فيما يوزن بما يوزن جزافا. اتفقت
الأجناس أو اختلفت ولا بأس ببيع المكيل بالموزون جزافا، وقال ذلك القاضي والشريف أبو جعفر
قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام مجازفة وقياسا على الجنس الواحد
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " ولأنه
يجوز التفاضل فيه فجاز جزافا كالمكيل بالموزون، يحققه أنه إذا كان حقيقة الفضل لا يمنع فاحتماله أولى أن
لا يمنع وحديثهم أراد به الجنس الواحد، ولهذا جاء في بعض ألفاظ: نهى أن تباع الصبرة لا يعلم
مكيلها من التمر بالصبرة لا يعلم مكيلها من التمر. ثم هو مخصوص بالمكيل بالموزون فنقيس عليه محل النزاع
والقياس لا يصح لأن الجنس الواحد يجب التماثل فيه فمنع من بيعه مجازفة لفوات المماثلة المشترطة وفي
الجنسين لا يشترط التماثل ولا يمنع حقيقة التفاضل فاحتماله أولى
(فصل) إذا قال بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة وهما من جنس واحد وقد علما كيلهما وتساويهما
صح البيع لوجود التماثل المشترط، وان قال بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة مثلا بمثل فكيلتا فكانتا
سواء صح البيع، وان زادت إحداهما فرضي صاحب الناقصة بها مع نقصها أو رضي صاحب الزائدة برد
الفضل على صاحبه جاز وان امتنع فسخ البيع بينهما ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي
135

{مسألة} (والجنس ماله اسم خاص يشتمل أنواعا كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح)
الجنس الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها، والنوع الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها، وقد يكون النوع
جنسا بالنسبة إلى ما تحته والجنس نوعا بالنسبة إلى ما فوقه. والمراد ههنا الجنس الأخص والنوع الأخص
فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهما جنس كأنواع التمر وأنواع الحنطة وأنواع الشعير فالتمور كلها
جنس وان كثرت أنواعها كالبرني والعقلي وغيرهما ولك شيئين اتفقا في الجنس ثبت فيهما حكم الشرع
بتحريم التفاضل، وان اختلفت الأنواع لما ذكرنا من قول النبي صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مثلا بمثل "
الحديث بتمامه فاعتبر المساواة في جنس التمر بالتمر والبر بالبر ثم قال: فإذا اختلفت هذه الأجناس
فبيعوا كيف شئتم
(فصل) واختلفت الرواية في البر والشعير فظاهر المذهب أنهما جنسان وهو قول الثوري
136

والشافعي وأصحاب الرأي وعنه أنهما جنس واحد " يروى ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن
ابن الأسود بن عبد يغوث والحكم وحماد ومالك والليث لما روي عن معمر بن عبد الله أنه أرسل
غلامه بصاع قمح فقال: بعه ثم اشتر به شعيرا، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع فلما جاء
معمرا أخبره فقال معمرا: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الطعام بالطعام الا مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير. قيل فإنه ليس بمثله قال أني أخاف
أن يضارع. أخرجه مسلم ولان أحدهما يعتبر بالآخر فكانا كنوعي الجنس
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " بيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد " وفي لفظ " لا بأس ببيع
137

البر بالشعير والشعير بالبر هما يدا بيد وأما نسيئة فلا - وفي لفظ - فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا
كيف شئتم " وهذا صريح لا يجوز تركه بغير معارض مثله وحديث معمر لابد فيه من اضمار الجنس بدليل
سائر أجناس الطعام، ويحتمل أنه أراد الطعام المعهود عندهم وهو نسيئة فإنه قال في الخبر وكان طعامنا
يومئذ الشعير ثم لو كان عاما لوجب تقديم الخاص الصريح عليه وفعل معمر وقوله لا يعارض به فعل
النبي صلى الله عليه وسلم وقياسهم منقوض بالذهب والفضة
{مسألة} (وفروع الأجناس أجناس كالأدقة والاخباز والادهان)
إذا كان المشتركان في الاسم الخاص من جنسين فهما جنسان كالأدقة والاخباز والخلول والادهان
وعصير الأشياء المختلفة كلها أجناس مختلفة باختلاف أصولها، وحكي عن أحمد أن خل التمر وخل
138

العنب جنس وحكي أيضا عن مالك لأن الاسم الخاص يجمعهما. والصحيح الأول لأنهما من جنسين
مختلفين فكانا جنسين كدقيق الحنطة ودقيق الدخن وما ذكر للرواية الأخرى منقوض بسائر فروع
الأصول التي ذكرناها، فكل فرع مبني على أصله فزيت الزيتون وزيت البطم وزيت الفجل أجناس
ودهن السمك والشيرج والجوز واللوز والبزر أجناس، وعسل النحل وعسل القصب جنسان وتمر
النخل وتمر الهند جنسان، وكل شيئين أصلهما واحد فهما جنس وان اختلفت مقاصدهما، فدهن الورد
والبنفسج والزئبق والياسمين إذا كانت من دهن واحد فهي جنس واحد وهذا الصحيح من مذهب
الشافعي، وله قول آخر لا يجري الربا فيها لأنها تقصد للاكل، وقال أبو حنيفة هي أجناس لاختلاف
139

مقاصدها. ولنا أنها كلها شيرج وإنما طيبت بهذه الرياحين فنسبت إليها فلم تصر أجناسها كما لو طيب
سائر أنواع الأجناس، وقولهم لا تقصد للاكل قلنا هي صالحة للاكل وإنما تعد لما هو أعلى منه فلا تخرج
عن كونها مأكولة بصلاحها لغيره، وقولهم انها أجناس لا يصح لأنها من أصل واحد يشملها اسم واحد
فكانت جنسا كأنواع التمر والحنطة
(فصل) وقد يكون الجنس الواحد مشتملا على جنسين كالتمر يشتمل على النوى وغيره وهما
جنسان واللبن يشتمل على المخيض والزبد وهما جنسان فما داما متصلين اتصال الخلقة فهما جنس
واحد فإذا ميز أحدهما من الآخر صارا جنسين حكمهما حكم الجنسين الأصلين
140

(فصل) واللحم أجناس باختلاف أصوله، وكذلك اللبن وعنه جنس واحد وعنه في اللحم أنه
أربعة أجناس لحم الانعام ولحم الوحش ولحم الطير ولحم دواب الماء)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في اللحم فروي عنه انه جنس واحد وهذا الذي ذكره الخرقي وهو قول
أبي ثور وأحد قولي الشافعي وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذه رواية عن أحمد، وقال الانعام والوحش والطير
ودواب الماء أجناس يجوز التفاضل فيها رواية واحدة وإنما في اللحم روايتان (إحداهما) انه أربعة أجناس كما
141

ذكرناه وهو مذهب مالك الا أنه يحتمل أن الانعام والوحش جنس واحد فيكون عنده ثلاثة أصناف وروي
عنه أنه أجناس باختلاف أصوله وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وهي أصح لأنها فروع أصول
هي أجناس فكانت أجناسا كالأدقة والأخباز وهذا اختيار ابن عقيل، وعنه في اللحم انه أربعة أجناس
على ما ذكرناه، وهذا اختيار القاضي واحتج بأن لحم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها والقصد إلى
أكلها فكانت أجناسا (قال شيخنا) وهذا ضعيف لأن كونها أجناسا لا يوجب حصرها في أربعة
142

أجناس ولا نظير لهذا فيقاس عليه، والصحيح أنه أجناس باختلاف أصوله، ووجه قول الخرقي أنه
اشترك في الاسم الواحد حال حدوث الربا فيه فكان جنسا واحدا كالطلع، والصحيح ما ذكرنا وما
ذكره من الدليل منتقض بعسل النحل وعسل القصب وغير ذلك، فعلى هذا لحم الإبل كله صنف
بخاتيها وعرابها، والبقر عرابها وجواميسها صنف، والغنم ضأنها ومعزها جنس. ويحتمل أن يكونا صنفين
لأن الله تعالى سماها في الأزواج الثمانية فقال (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ففرق
بينهما كما فرق بين الإبل والبقر فقال (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) والوحش أصناف بقرها
143

صنف وغنمها صنف وظباؤها صنف، وكل ماله اسم يخصه فهو صنف، والطير أصناف، كل ما انفرد باسم
وصفة فهو صنف، فيجوز أن يباع لحم صنف لحم صنف آخر متفاضلا ومتماثلا ويباع بصفة متماثلا ومن
جعلها صنفا واحدا لم يجز بيع لحم بلحم متماثلا
(فصل) وفي اللبن روايتان (إحداهما) هو جنس واحد لما ذكرنا في اللحم (والثانية) هو أجناس
باختلاف أصوله كاللحم وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك لبن الانعام كلها جنس واحد
وقال ابن عقيل لبن البقر الأهلية والوحشية جنس واحد على الروايات كلها لأن اسم البقر يشملها
ولا يصح لأن لحمهما جنسان فكان لبنهما جنسين كالإبل والبقر، ويجوز بيع اللبن بغير جنسه متفاضلا
وكيف شاء يدا بيد وبجنسه متماثلا كيلا، ولا فرق بين أن يكونا حليبين أو حامضين أو أحدهما حليبا
والآخر حامضا لأن تغير الصفة لا يمنع جواز البيع كالجودة والرداءة، وان شيب أحدهما بماء أو غيره
لم يجز بيعه بخالص لابمشوب من جنسه وسنذكر ذلك
{مسألة} (واللحم والشحم والكبد أجناس)
اللحم والشحم جنسان، والكبد جنس والطحال جنس والقلب جنس والمخ جنس ويجوز بيع
جنس بجنس آخر متفاضلا، وقال القاضي لا يجوز بيع اللحم بالشحم وكره مالك ذلك الا ان يتماثلا وظاهر
المذهب إباحة البيع فيهما متماثلا ومتفاضلا وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنهما جنسان فجاز التفاضل
144

فيهما كالذهب والفضة، فإن منع منه لكون اللحم لا يخلو من شحم لم يصح لأن الشحم لا يظهر وإن كان
فيه شئ فهو غير مقصود فلا يمنع البيع ولو منع ذلك لم يجز بيع لحم بلحم لاشتمال كل واحد منهما على
ما ليس من جنسه ثم لا يصح هذا عند القاضي لأن السمين الذي يكون مع اللحم عنده لحم فلا يتصور
اشتمال اللحم على الشحم، وذكر القاضي أن الأبيض الذي في ظاهر اللحم الأحمر هو والأحمر جنس
واحد وان الالية والشحم جنسان، وظاهر كلام الخرقي أن كل ما هو أبيض في الحيوان يذوب بالإذابة
ويصير دهنا فهو جنس واحد (قال شيخنا) وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله سبحانه (حرمنا
145

عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما) فاستثنى ما حملت الظهور من الشحم، ولأنه يشبه الشحم في
لونه وذوبه ومقصده فكان شحما كالذي في البطن
{مسألة} (ولا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه وفي بيعه بغير جنسه وجهان)
لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه وهو مذهب مالك والشافعي وقول الفقهاء
السبعة وحكي عن مالك أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد للحم ويجوز بغيره، وقال أبو حنيفة يجوز
مطلقا لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه أشبه بيع الحيوان بالدراهم أو بلحم من غير جنسه
ولنا ما روي عن مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع
اللحم بالحيوان، قال ابن عبد البر هذا أحسن أسانيده، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حي
بميت ذكره الإمام أحمد، وروى ابن عباس أن جزورا نحرت فجاء رجل بعناق فقال أعطوني جزأ بهذا
العناق قال أبو بكر لا يصلح هذا قال الشافعي لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك. وقال أبو الزناد كل من
أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان ولان اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع
السمسم بالشيرج وهذا فارق ما قاسوا عليه، فما بيعه بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد والخرقي
أنه لا يجوز لما ذكرنا من الأحاديث واختار القاضي جوازه وللشافعي فيه قولان، واحتج من أجازه
بان مال الربا بيع بغير أصله ولا جنسه فجاز كما لو باعه بالأثمان، والظاهر أن الاختلاف مبني على الاختلاف
في اللحم، فإن قلنا بأنه جنس واحد لم يجز، وان قلنا أنه أجناس جاز بيعه بغير جنسه لما ذكرنا فإن باعه
بحيوان غير مأكول جاز في ظاهر قول أصحابنا وهو قول عامة الفقهاء
{مسألة} (ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا بسويقه في أصح الروايتين)
لا يجوز بيع الحب بالدقيق في الصحيح من المذهب وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والحكم
وحماد ومكحول الثوري وأبي حنيفة وهو المشهور عن الشافعي وعن أحمد أنه جائز، وبه قال ربيعة
ومالك وحكي عن النخعي وقتادة وابن شبرمة وإسحاق وأبي ثور لأن الدقيق نفس الحنطة وإنما
تكسرت اجزاؤها فجاز بيع بعضها ببعض كالحنطة المكسرة بالصحاح فعلى هذا إنما يباع الحب وزنا
لأن اجزاءه قد تفرقت بالطحن وانتشرت فيأخذ من المكيال مكانا كبيرا والحب يأخذ مكانا صغيرا
والوزن يسوي بينهما وبهذا قال إسحاق
ولنا أن بيع الحب بالدقيق بيع مال الربا بجنسه متفاضلا فحرم كبيع مكيلة بمكيلتين وذلك لأن الطحن
قد فرق أجزاءه فيحصل في مكياله دون ما يحصل في مكيال الحب، وان لم يتحقق التفاضل فقد جهل
التماثل والجهل بالتماثل كالعمل بالتفاضل فيما يشترط التماثل فيه، ولذلك لم يجز بيع بعضه ببعض جزافا
والتساوي في الوزن لا يلزم منه التساوي في الكيل، والحب والدقيق مكيلان لأن الأصل الكيل ولم
146

يوجد ما ينقل عنه ثم لو ثبت أن الدقيق كان موزونا لم يتحقق التماثل لأن المكيل لا يقدر بالوزن
كما لا يقدر الموزون بالكيل
(فصل) ولا يجوز بيع الحب بالسويق، وبه قال الشافعي وحكي عن مالك وأبي ثور جواز ذلك
متماثلا ومتفاضلا. ولنا أنه بيع الحب ببعض أجزائه متفاضلا فلم يجز كبيع مكوك حنطة بمكوكي دقيق
ولا سبيل إلى التماثل لأن النار قد اخذت من أحدهما دون الآخر فأشبهت المقلية بالنيئة، فأما الخبز
والهريسة والفالوذج والنشاء وأشباهها فلا يجوز بيعه بالحنطة، وقال أصحاب أبي حنيفة يجوز بناء على
مسألة مد عجوة وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، ويجوز بيع الحب بالدقيق من غير جنسه والخبز
وغير ذلك لعدم اشتراط المماثلة بينهما، وقال ابن أبي موسى لا يجوز بيع سويق الشعير بالبر في رواية
وذلك مبني على أن البر والشعير جنس واحد وقد ذكرناه
{مسألة} (ولا يجوز بيع أصله بعصيره ولا خالصه بمشوبه ولا رطبه بيابسه ولا نيئه بمطبوخه)
لا يجوز بيع شئ من مال الربا بأصله الذي فيه منه كالسمسم بالشيرج الزيتون بزيت وسائر
الادهان بأصولها والعصير بأصله كعصير العنب والرمان التفاح والسفرجل وقصب السكر لا يباع شئ
منها بأصله وبه قال الشافعي وقال ابن المنذر وقال أبو ثور يجوز، وقال أبو حنيفة يجوز إذا علم أن ما
في الأصل من الدهن والعصير أقل من المنفرد وان لم يجز، ولنا أنه مال بيع بأصله الذي هو
منه فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان وقد أثبتنا ذلك بالنص
(فصل) ولا يجوز بيع اللبن بالزبد ولا بالسمن ولا بشئ من فروعه كاللبأ والمخيض وسواء كان
فيه من غيره أولا لأنه مستخرج من اللبن فلم يجز بيعه بأصله الذي فيه منه كالسمسم بالشيرج وهذا
مذهب الشافعي، وعن أحمد انه يجوز بيع اللبن بالزبد إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في
اللبن وهذا يقتضي جواز بيعه به متفاضلا ومنع جوازه متماثلا، وقال القاضي وهذه الرواية لا تخرج على
المذهب لأن الشيئين إذا دخلهما الربا لم يجز بيع أحدهما بالآخر ومعه من غير جنسه كمد عجوة،
والصحيح ان هذه الرواية دالة على جواز البيع في مسألة مد عجوة وكونها مخالفة لروايات أخر لا يمنع
كونها رواية كسائر الروايات المخالفة لغيرها لكونها مخالفة لظاهر المذهب والحكم في السمن كالحكم
في الزبد، وأما اللبن بالمخيض فلا يجوز نص عليه احمد ويتخرج الجواز كالتي قبلها، وأما اللبن باللبأ
فإن كان قبل أن تمسه النار جاز متماثلا لأنه لبن بلبن؟ وان مسته النار لم يجز، وذكر القاضي وجها أنه
يجوز وليس بصحيح لأن النار عقدت أجزاء أحدهما وذهبت ببعض رطوبته فلم يجز بيعه بما لم تمسه
النار كالخبز بالعجين المقلية بالنيئة وهذا مذهب الشافعي
(فصل) ولا يجوز بيع الخالص بالمشوب كحنطة فيها شعير أو رواب بخالصة أو غير خالصة أو
لبن مشوب بخالص أو مشوب أو اللبن بالكشك أو الكامخ، ويتخرج الجواز إذا كان اللبن أكثر
من اللبن الذي في الكشك والكامخ بناء على مد عجوة، ولا يجوز بيع العسل في شمعه بمثله فإن كان
147

الخلط يسيرا كحبات الشعير ويسير التراب والزوان الذي لا يظهر في الكيل لم يمنع لأنه لا يخل بالتماثل
ولا يجوز بيع التمر بالدبس والخل والناطف والقطارة لأن بعضها معه من غير جنسه وبعضها مائع
والتمر جامد، ولا يجوز بيع الناطف بعضه ببعض ولا بغيره من المصنوع من التمر لأن معهما شيئا
مقصودا من غير جنسهما فهو كمد عجوة والعنب كالتمر فيما ذكرناه
(فصل) ولا يجوز بيع المشوب بالمشوب كالكشك والكامخ ولا يجوز بيع أحدهما بالآخر
كمسألة مد عجوة ولا يجوز نيئه بمطبوخه كالخبز بالعجين والحنطة المقلية بالنيئة لأنه لا يحصل التماثل لأن
النار ذهبت ببعض رطوبتها وهذا مذهب الشافعي
(فصل) ولا يجوز بيع نوع بنوع آخر إذا لم يكن فيه منه فيجوز بيع الزبد بالزبد والسمن بالمخيض
في ظاهر المذهب متماثلا متفاضلا لأنهما جنسان من أصل واحد أشبها اللحم والشحم، وممن أجاز
بيع الزبد بالمخيض الثوري والشافعي وإسحاق لأن اللبن الذي في الزبد غير مقصود وهو يسير فلم يمنع
كالملح في الشيرج، وبيع السمن بالمخيض أولى بالجواز لخلوه من اللبن المخيض، ولا يجوز بيع الزبد بالسمن
لأن في الزبد لبنا يسيرا ولا شئ في السمن فيختل التماثل ولأنه من الزبد فلم يجز بيعه كالزيتون بالزيت
وهذا مذهب الشافعي، واختار القاضي جوازه لأن اللبن الذي في الزبد غير مقصود فوجوده كعدمه
ولهذا جاز بيع الزبد بالمخيض ولا يصح ذلك لأن التماثل شرط وانفراد أحدهما بوجود اللبن فيه يخل
بالتماثل فلم يجز البيع كتمر منزوع النوى بما نواه فيه ولان أحدهما ينفرد برطوبة لا توجد في الآخر
أشبه الرطب بالتمر وكل رطب بيابس من جنسه، ولا يجوز بيع شئ من الزبد والسمن والمخيض بشئ
من أنواع اللبن كالجبن واللبأ ونحوهما لأن هذه الأنواع لم ينزع منها شئ فهي كاللبن الذي فيه
زبده فلم يجز بيعها به كبيع اللبن بها، وأما بيع الجبن بالأقط فلا يجوز بيع رطوبتهما أو رطوبة أحدهما
كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر، وان كانا يابسين احتمل المنع لأن الجبن موزون والأقط مكيل فأشبه
بيع الخبز بالدقيق، ويحتمل الجواز إذا تماثلا كبيع الجبن بالجبن
(فصل) ولا يجوز بيع رطب بيابس كالرطب بالتمر والعنب بالزبيب والحنطة المبلولة أو الرطبة
باليابسة والمقلية بالنيئة ونحو ذلك، وبه قال سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب والليث ومالك
والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يجوز لأنه اما أن يكونا جنسا فيجوز
متماثلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مثلا بمثل " أو يكونا جنسين فيجوز لقوله عليه السلام " لا تبيعوا
التمر بالتمر فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد "
ولنا قوله عليه السلام " لا تبيعوا التمر بالتمر " وفي لفظ نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في بيع
العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا متفق عليهما، وعن سعد ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع
الرطب بالتمر قال " أينقص الرطب إذا يبس؟ " قالوا نعم. فنهى عن ذلك رواه مالك وأبو داود والأثرم
وابن ماجة، وفي رواية الأثرم قال " فلا اذن " نهي وعلل بأنه ينقص إذا يبس، وروى مالك عن
148

نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الرطب بالتمر كيلا
وبيع العنب بالزبيب كيلا ولأنه جنس فيه الربا بيع بعضه ببعض على وجه ينفرد أحدهما بالنقصان فلم
يجز كبيع المقلية بالنيئة، ولا يلزم الحديث بالعتيق لأن التفاوت يسير. قال الخطابي وقد تكلم بعض
الناس في اسناد حديث سعد بن أبي وقاص في بيع الرطب بالتمر، وقال زيد أبو عياش راويه ضعيف
وليس الامر على ما توهمه وأبو عياش مولى بني زهرة معروف وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو لا
يروي عن متروك الحديث
{مسألة} (يجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة ومطبوخة بمطبوخه وخبزه بخبزه إذا
استويا في النشاف وعصيره بعصيره ورطبه برطبه)
يجوز بيع كل واحد من الدقيق والسويق بنوعه متساويا وبه قال أبو حنيفة والمشهور عن الشافعي
المنع لأنه يعتبر تساويهما حالة الكمال وهو حال كونهما حبا وقد فات ذلك لأن أحد الدقيقين يكون من
حنطة رزينة والآخر من خفيفة فيستويان دقيقا ولا يستويان حبا
ولنا أنهما تساويا حال العقد على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كبيع التمر بالتمر. إذا ثبت
هذا فإنما يباع بعضه ببعض كيلا لأن الحنطة مكيلة ولم يوجد في الدقيق والسويق ما ينقلهما عن ذلك
ويشترط تساويهما في النعومة ذكره أصحابنا وهو قول أبي حنيفة لأنهما إذا تفاوتا في النعومة تفاوتا
في ثاني الحال فيصير كبيع الحب بالدقيق وزنا، وذكر القاضي أن الدقيق يباع بالدقيق وزنا ولاوجه
له، وقد سلم في السويق أنه يباع بالكيل والدقيق مثله
(فصل) ولا يجوز بيع الدقيق بالسويق وبه قال الشافعي وعنه الجواز لأن كل واحد منهما أجزاء
حنطة ليس معه غيره أشبه السويق بالسويق
ولنا أن النار قد أخذت من السويق فلم يجز بيعه بالدقيق كالمقلية بالنيئة، وروي عن مالك وأبي
يوسف ومحمد وأبي ثور جواز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا لأنهما جنسان، ولنا أنهما أجزاء جنس
واحد فأشبه بيع أحدهما بجنسه
(فصل) ويجوز بيع مطبوخه بمطبوخه كاللبأ بمثله والجبن بالجبن والأقط بالأقط والسمن بالسمن
متساويا ويعتبر التساوي بين الاقط والأقط بالكيل، ولا يباع ناشف من ذلك برطب كما لا يباع
الرطب بالتمر ويباع الجبن بالجبن بالوزن لأنه لا يمكن كيله أشبه الخبز، وكذلك الزبد والسمن
ويتخرج أن يباع السمن بالكيل كالشيرج
(فصل) ويجوز بيع الخبز بالخبز وزنا وكذلك النشاء بنوعه إذا تساويا في النشافة والرطوبة ويعتبر
التساوي في الوزن لأنه يقدر به عادة ولا يمكن كيله، وقال مالك إذا تحرى المماثلة فلا بأس وان لم
يوزن وبه قال الأوزاعي وأبو ثور وحكي عن أبي حنيفة لا بأس به قرصا بقرصين، وقال الشافعي
لا يجوز بيع بعضه ببعض بحال الا أن ييبس ويدق دقا ناعما ويباع بالكيل ففيه قولان لأنه مكيل،
149

ويجب التساوي فيه ولا يمكن كيله فتعذرت المساواة فيه ولان في كل واحد منهما من غير جنسه فلم
يجز بيعه كالمغشوش من الذهب والفضة وغيرهما
ولنا على وجوب التساوي أنه مطعوم موزون فحرم التفاضل بينهما كاللحم واللبن، ومتى وجب
التساوي وجبت معرفة حقيقة التساوي في المعيار الشرعي كالحنطة بالحنطة والدقيق بالدقيق. ولنا على
الشافعي أن معظم نفعه في حال رطوبته فجاز بيعه به كاللبن باللبن ولا يمتنع أن يكون موزونا أصله مكيل
كالادهان، ولا يجوز بيع الرطب باليابس لانفراد أحدهما بالنقص في ثاني الحال فأشبه الرطب بالتمر
ولا يمنع زيادة أخذ النار من أحدهما أكثر من الآخر إذا لم يكثر لأن ذلك يسير ولا يمكن التحرز
منه أشبه بيع الحديثة بالعتيقة وما فيه من الملح والماء غير مقصود ويراد لمصلحته فهو كالملح في الشيرج
فإن يبس الخبز ودق وصار فتيتا بيع بمثله كيلا لأنه أمكن كيله فرد إلى أصله. وقال ابن عقيل فيه
وجه أنه يباع الوزن لأنه انتقل إليه
(فصل) فاما ما فيه غيره من فروع الحنطة مما هو مقصود كالهريسة والخزيرة والفالوذج وخبز
الا بازير والخشكنانج والسنبوسك ونحوه فلا يجوز بيع بعضه ببعض ولا بيع نوع بنوع آخر لأن كل
واحد منهما يشتمل على ما ليس من جنسه، وهو مقصود كاللحم في الهريسة والعسل في الفالوذج
والماء والدهن في الخزيرة ويكثر التفاوت في ذلك فلا يتحقق التماثل فيه، وحكم سائر الحبوب حكم
الحنطة فيما ذكرنا، ويجوز بيع الحنطة والمصنوع منها بغيرها من الحبوب والمصنوع منها لعدم اشتراط المماثلة بينهما
(فصل) ويجوز بيع العصير بجنسه متماثلا ومتفاضلا بغير جنسه وكيف شاء لأنهما جنسان ويعتبر التساوي
فيهما بالكيل لأنه يقدر به ويباع به عادة وهذا مذهب الشافعي وسواء كانا مطبوخين أو نيئين، وقال أصحاب
الشافعي: لا يجوز بيع المطبوخ بجنسه لأن النار تعقد أجزاءهما فيختلف ويؤدي إلى التفاضل
ولنا أنهما متساويان في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص فأشبه النئ بالنئ، فأما بيع
النئ بالمطبوخ من جنس واحد فلا يجوز لأن أحدهما ينفرد بالنقص في ثاني الحال أشبه الرطب
بالتمر، وقد ذكرناه وان باع عصير شئ من ذلك بثفله فإن كان فيه بقية من المستخرج منه لم يجز
بيعه به فلا يجوز بيع الشيرج بالكسب ولا الزيت بثفله الذي فيه بقية من الزيت الا على قولنا بجواز
مد عجوة وان لم يبق فيه شئ من عصيره جاز بيعه به متفاضلا ومتماثلا لأنهما جنسان
(فصل) ويجوز بيع الرطب بالرطب والعنب بالعنب ونحوه من الرطب بمثله في قول الأكثرين
ومنع منه الشافعي فيما يبس، فأما ما لا ييبس كالقثاء والخيار ونحوه فعلى قولين لأنه لا يعلم تساويهما
حالة الادخار فأشبه الرطب بالتمر، وذهب أبو حفص العكبري إلى هذا وقال ويحتمله كلام الخرقي
لقوله في اللحم لا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا قال شيخنا ومفهوم كلام الخرقي اباحته ههنا لأنه قال:
ولا يباع شئ من الرطب بيابس من جنسه مفهومه جواز الرطب بالرطب
ولنا أن نهيه عليه السلام عن بيع التمر بالتمر يدل بمفهومه على إباحة بيع كل واحد منهما بمثله
150

ولأنهما تساويا في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كبيع اللبن باللبن والتمر بالتمر ولان
قوله تعالى (وأحل الله البيع) عام خرج منه المنصوص عليه وهو بيع التمر بالتمر وليس هذا في معناه
فيبقى على العموم، وقياسهم لا يصح فإن التفاوت كثير وينفرد أحدهما بالنقصان بخلاف مسئلتنا،
ولا بأس ببيع الحديث بالعتيق لأن التفاوت فيه يسير ولا يمكن ضبطه فعفي عنه
(فصل) ويجوز بيع القطارة والدبس والخل كل نوع بعضه ببعض متساويا قال أحمد في رواية
مهنا في خل الدقل يجوز بيع بعضه ببعض متساويا لأن الماء في كل واحد منهما غير مقصود وهو من
مصلحته فلم يمنع جواز البيع كالخبز بالخبز والتمر بالتمر في كل واحد منهما نواه ولا يباع نوع بالآخر
لأن في كل واحد منهما من غير جنسه يقل ويكثر فيفضي إلى التفاضل، والعنب كالتمر إلا أنه لا يباع
خل العنب بخل الزبيب لانفراد أحدهما بما ليس من جنسه، ويجوز بيع خل الزبيب بعضه ببعض
كخل العنب وخل التمر
(فصل) ويجوز بيع اللحم باللحم رطبا نص عليه، وقال الخرقي لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا
إذا تناهى جفافه وهذا مذهب الشافعي واختاره أبو حفص العكبري في شرحه، قال القاضي والمذهب
جواز بيعه، ونص أحمد على جواز بيع الرطب بالرطب ينبه على إباحة بيع اللحم باللحم من حيث كان اللحم
حال كماله ومعظم نفعه في حال رطوبته دون حال يبسه فجرى مجرى اللبن بخلاف الرطب فإن حال
كماله ومعظم نفعه في حال يبسه فإذا جاز فيه البيع ففي اللحم أولى، فأما بيع رطبه بيابسه ونيئه بمطبوخه
فلا يجوز لانفراد أحدهما بالنقص في ثاني الحال فلم يجز كالرطب بالتمر، قال القاضي ولا يجوز بيع
بعضه ببعض إلا منزوع العظام كما لا يجوز بيع العسل بمثله إلا بعد التصفية وهذا أحد الوجهين لأصحاب
الشافعي، وكلام أحمد رحمه الله يقتضي الإباحة مطلقا فإنه قال في رواية حنبل إذا صار إلى الوزن
رطلا برطل مثلا بمثل فأطلق ولم يشترط شيئا ولان العظم تابع للحم بأصل الخلقة فأشبه النوى في التمر
وفارق العسل في أن اختلاط الشمع به من فعل النحل لا من أصل الخلقة
{مسألة} (ولا يجوز بيع المحاقلة وهو بيع الحب في سنبله بجنسه وفي بيعه بغير جنسه وجهان)
وذلك لما روى البخاري عن أنس قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمحاضرة والملامسة والمنابذة
والمزابنة. والمحاضرة بيع الزرع الأخضر والمحاقلة بيع الزرع في الحقول بحب من جنسه، قال جابر:
المحاقلة أن يبيع الزرع بمائة فرق حنطة، وقال الأزهري الحقل الفراخ المزروع وفسره أبو سعيد
باستكراء الأرض بالحنطة ولأنه بيع الحب بجنسه جزافا من أحد الجانبين فلم يجز كما لو كانا على الأرض
فأما بيعه بغير جنسه فإن كان بدراهم أو دنانير جاز لأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد
يدل على جواز ذلك إذا اشتد وهذا أحد قولي الشافعي، وإن باعه بحب ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " (والثاني) لا يجوز لعموم الحديث المذكور
{مسألة} (ولا يجوز بيع المزابنة وهو بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر إلا في العرايا وهي
151

بيع الرطب في رؤوس النخل خرصا بمثله من التمر كيلا فيما دون خمسة أوسق لمن به حاجة إلى
أكل الرطب ولا ثمن معه)
لا يجوز بيع المزابنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة وهو بيع الرطب بالتمر متفق عليه.
وروى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، فأما العرايا فيجوز في الجملة وهو قول
أكثر أهل العلم منهم مالك في أهل المدينة والأوزاعي في أهل الشام والشافعي وإسحاق وابن المنذر،
وقال أبو حنيفة لا يحل بيعها لما ذكرنا من الحديث ولأنه بيع الرطب بالتمر من غير كيل في أحدهما
فلم يجز كما لو كان على وجه الأرض
ولنا ما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة
أوسق متفق عليه، ورواه زيد بن ثابت وسهل بن أبي حثمة وغيرهما وحديثهم في سياقه إلا العرايا
كذلك في المتفق عليه، وهذه زيادة يجب الاخذ بها ولو قدر التعارض وجب تقديم حديثنا بخصوصه
جمعا بين الحديثين وعملا بكلا النصين. قال ابن المنذر الذي نهى عن المزابنة هو الذي أرخص
في العرايا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، والقياس لا يصار إليه مع النص مع أن في الحديث
انه أرخص في العرايا، والرخصة استباحة المحظور مع وجود السبب الحاضر، فلو منع وجود السبب
من الاستباحة لم يبق لنا رخصة بحال
{فصل} وإنما يجوز بشروط خمسة (أحدها) أن يكون فيما دون خمسة أوسق في ظاهر المذهب
ولا خلاف في أنها لا تجوز في زيادة على خمسة أوسق وانها تجوز فيما نقص عن خمسة أوسق عند
القائلين بجوازها. فاما الخمسة الأوسق فظاهر المذهب أنه لا يجوز فيها وبه قال ابن المنذر والشافعي
في أحد قوليه، وقال مالك والشافعي في قول يجوز ورواه إسماعيل بن سعيد عن أحمد لأن في حديث
زيد وسهل أنه أرخص في العرايا مطلقا ثم استثنى ما زاد على الخمسة وشك الراوي في الخمسة فبقي
المشكوك فيه على أصل الإباحة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة. والمزابنة بيع الرطب بالتمر ثم أرخص في العرية فيما
دون خمسة أوسق وشك في الخمسة فيبقى على العموم في التحريم ولان العرية رخصة بنيت على خلاف
النص والقياس فيما دون الخمسة، والخمسة مشكوك فيها فلا تثبت إباحتها مع الشك، وروى ابن المنذر
باسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة والتخصيص
بهذا يدل على أنه لا تجوز الزيادة في العدد عليه كما اتفقنا على أنه لا تجوز الزيادة على الخمسة لتخصيصه
إياها بالذكر ولان خمسة الأوسق في حكم ما زاد عليها في وجوب الزكاة فيها دون ما نقص عنها فأما
قولهم أرخص في العرية مطلقا فلم يثبت أن الرخصة المطلقة سابقة على الرخصة المقيدة ولا متأخرة عنها
بل الرخصة واحدة رواها بعضهم مطلقة وبعضهم مقيدة فيجب حمل المطلق على المقيد ويصير القيد المذكور في
أحد الحديثين كأنه مذكور في الآخر ولذلك يقيد فيما زاد على الخمسة اتفاقا
152

(فصل) ولا يجوز أن يشتري أكثر من خمسة أوسق فيما زاد على صفقة سواء اشتراها من واحد
أو من جماعة، وقال الشافعي يجوز للانسان بيع جميع حائطه عرايا من رجل واحد ومن رجال في
عقود متكررة لعموم حديث زيد ولان كل عقد جاز مرة جاز أن يتكرر كسائر البيوع، ولنا عموم النهي
عن المزابنة استثنى منه العرية فيما دون خمسة أوسق فما زاد يبقى على العموم في التحريم ولان مالا يجوز
عليه العقد مرة إذا كان نوعا واحدا لا يجوز في عقدين كالذي على وجه الأرض وكالجمع بين الأختين.
(فصل) (كذا في الأصل وكان المناسب ان يذكر هذا الفصل عقيب الشرط الثاني ولا ندري إن كان هذا الوضع من المصنف أو من النساخ) ولا تعتبر حاجة البائع فلو باع رجل عرية من رجلين فيها أكثر من خمسة أوسق جاز
وقال أبو بكر القاضي لا يجوز لما ذكرنا في المشتري
ولنا أن المغلب في التجويز حاجة المشتري بدليل ما روى محمود بن لبيد قال قلت لزيد بن ثابت ما عراياكم
هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد
بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر
الذي في أيديهم يأكلونه رطبا، وإذا كان سبب الرخصة حاجة المشتري لم تعتبر حاجة البائع إلى البيع
فلا يتقيد في حقه بخمسة أوسق، ولأننا لو اعتبرنا الحاجة من المشتري وحاجة البائع إلى البيع أفضى إلى
أن لا يحصل الارفاق إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين فتسقط الرخصة. فإن قلنا لا يجوز ذلك بطل العقد
الثاني وان اشترى عريتين أو باعهما وفيهما أقل من خمسة أوسق جاز وجها واحدا
(الثاني) أن يكون مشتريها محتاجا إلى أكلها رطبا ولا يجوز بيعها لغني وهو أحد قولي الشافعي وله قول
آخر أنها تباح مطلقا لكل أحد لأن كل بيع جاز للمحتاج جاز للغني كسائر البيوع ولان حديث أبي
هريرة وسهل مطلقان. ولنا حديث زيد بن ثابت الذي ذكرناه وإذا خولف الأصل بشرط لم يجز
مخالفته بدون ذلك الشرط ولا يلزم من اباحته للحاجة اباحته مع عدمها كالزكاة للمساكين فعلى هذا متى
كان المشتري غير محتاج إلى اكل الرطب لم يجز شراؤها بالتمر، ولو باعها لواهبها تحرزا من دخول صاحب
العرية حائطه كمذهب مالك أو لغيره لم يجز وقال ابن عقيل يباح ويحتمله كلام أحمد لأن الحاجة وجدت
من الجانبين فجاز كما لو كان المشتري محتاجا إلى أكلها
ولنا حديث زيد الذي ذكرناه والرخصة لمعنى خاص لا تثبت مع عدمه ولان في حديث زيد وسهل
يأكلها أهلها رطبا ولو جازت لتخليص المعري لما شرط ذلك (الثالث) أن لا يكون للمشتري نقد يشتري
به للخبر المذكور (الرابع) أن يشتريها بخرصها من التمر ويجب أن يكون التمر الذي يشتري به معلوما
بالكيل ولا يجوز جزافا لا نعلم خلافا في هذا عند من أباح بيع العرايا لما روى زيد بن ثابت أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا متفق عليه، ولمسلم أن تؤخذ بمثل خرصها
تمرا يأكلها أهلها رطبا، إذا ثبت ذلك فمعنى خرصها بمثلها من التمر أن ينظر الخارص إلى العرية فينظر
كم يجئ منها تمرا فيشتريها المشتري بمثله تمرا، وبهذا قال الشافعي، ونقل حنبل عن أحمد أنه قال
يخرصها رطبا ويعطي تمرا وهذا يحتمل الأول، ويحتمل أنه يشتريها بمثل الرطب الذي عليها لأنه بيع
153

اشترطت المماثلة فيه فاعتبرت حال البيع كسائر البيوع ولان الأصل اعتبار المماثلة في الحال وأن لا يباع
الرطب بالتمر خولف في الأصل في بيع الرطب بالتمر فبقي فيما عداه على قضية الدليل. قال القاضي
والأول أصح لأنه ينبني على خرص الثمار في العشر والصحيح خرصه تمرا ولان المماثلة في بيع التمر
بالتمر معتبرة حالة الادخار وبيع الرطب بمثله تمرا يفضي إلى فوات ذلك، فأما أن اشتراها بخرصها
رطبا لم يجز وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي والثاني يجوز والثالث لا يجوز مع اتفاق النوع ويجوز
مع اختلافه. ووجه جوازه ما روى الجوزجاني عن أبي صالح عن الليث عن ابن شهاب عن سالم عن ابن
عمر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص بعد ذلك في بيع العرية
بالرطب أو التمر ولم يرخص في غير ذلك، ولأنه إذا جاز بيعها بالتمر مع اختصاص أحدهما بالنقص
في ثاني الحال فلان يجوز مع عدم ذلك أولى
ولنا ما روى مسلم باسناده عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تؤخذ
بمثل خرصها تمرا، وعن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر وقال
" ذلك الربا تلك المزابنة " الا أنه أرخص في العرية النخلة أو النخلتين يأخذهما أهل البيت بخرصهما تمرا
يأكلونها رطبا ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمرا فلم يجز بيعه بمثله رطبا كالتمر الجاف، ولان من له
رطب فهو مستغن عن شراء الرطب بأكل ما عنده وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري على ما أسلفناه
وحديث ابن يحيى شك في الرطب والتمر فلا يجوز العمل مع الشك سيما وهذه الأحاديث تثبته وتزيل الشك
(الخامس) التقابض في المجلس وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا ولا نعلم فيه مخالفا لأنه بيع تمر بتمر فاعتبر فيه
شروطه إلا ما استثناه الشرع مما لم يمكن اعتباره في بيع العرايا، والقبض في كل واحد منهما على حسبه
ففي التمر اكتياله وفي الثمر التخلية، وليس من شروطه حضور التمر عند النخيل بل لو تبايعا بعد
معرفة التمر والثمرة ثم مضيا جميعا إلى النخيل فسلمه إلى مشتريه ثم مضيا إلى التمر فسلمه البائع أو
تسلم التمر أولا ثم مضيا إلى النخل فسلمه جاز لأن التفرق لم يحصل قبل القبض. إذا ثبت هذا فإن بيع العرية
يقع على وجهين (أحدهما) أن يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بكذا ويصفه الثاني أن يكيل من التمر
بقدر خرصها ثم يقول بعتك هذا بهذا، أو بعتك ثمرة النخلة بهذا التمر ونحو هذا فإن باعه بمعين فقبضه
بنقله واخذه وان باعه بموصوف فقبضه بكيله
{مسألة} (فيعطيه من التمر مثل ما يؤول إليه ما في النخل عند الجفاف وعنه يعطيه مثل رطبه وقد ذكرناه)
(فصل) ولا يشترط في العرية أن تكون موهوبة لبائعها، وبه قال الشافعي وظاهر قول الخرقي انه
شرط، وقال الأثرم سمعت احمد يسئل عن تفسير العرايا فقال: العرايا ان يعري الرجل الجار أو القرابة
للحاجة والمسكنة فللمعرى ان يبيعها ممن شاء، وقال مالك بيع العرايا الجائز هو ان يعري الرجل الرجل
نخلات من حائطه ثم يكره صاحب الحائط دخول الرجل المعرى حائطه لأنه ربما كان مع أهله في الحائط
154

فيؤذيه دخول صاحبه عليه فيجوز ان يشتريها منه، واحتجوا بأن العرية في اللغة هبة ثمرة النخيل عاما
قال أبو عبيد الاعراء ان يجعل الرجل للرجل ثمرة نخله عامها ذلك قال شاعر الأنصار:
ليست بسنهاء ولا رجبية * ولكن عرايا في السنين الجوائح
يقول انا نعريها الناس، فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه لغة ومقتضاه في العربية ما لم يوجد ما يصرفه
عن ذلك. ولنا حديث زيد بن ثابت وهو حجة على مالك في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب ولأنه
لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسة أوسق لعدم اختصاص الحاجة بها ولم يجز بيعها بالتمر لأن
لأن الظاهر من حال صاحب الحائط الذي له النخل الكثير يعريه الناس أنه لا يعجز عن أداء ثمن
العرية. وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها لأن علة الرخصة حاجة المشتري إلى أكل الرطب
ولا ثمن معه سوى التمر فمتى وجد ذلك جاز البيع، ولان اشتراط كونها موهوبة مع اشتراط حاجة
المشتري إلى أكلها رطبا ولا ثمن معه يفضي إلى سقوط الرخصة إذ لا يكاد يتفق ذلك، ولان ما جاز
بيعه لواهبه إذا كان موهوبا جاز وان لم يكن موهوبا كسائر الأموال وما جاز بيعه لواهبه جاز
لغيره كسائر الأموال وإنما سمي عرية لتعريه عن غيره وافراده بالبيع
{مسألة} (ولا يجوز في سائر الثمار في أحد الوجهين)
لا يجوز بيع العرية في غير النخيل اختاره أبو حامد وهو قول الليث إلا تكون ثمرته مما لا يجري
فيه الربا فيجوز بيع رطبها بيابسها لعدم جريان الربا فيها، وقال القاضي يجوز في سائر الثمار وهو قول
مالك والأوزاعي قياسا على ثمرة النخيل، ويحتمل أن يجوز في العنب دون غيرهما وهو قول الشافعي
لأن العنب كالرطب في وجوب الزكاة فيه وجواز خرصه وتوسيقه وكثرة يابسه واقتنائه في بعض
البلدان والحاجة إلى أكل رطبه، والتنصيص على الشئ يوجب ثبوت الحكم في مثله ولا يجوز في غيرهما
لاختلافهما في أكثر هذه المعاني فإنه لا يمكن خرصها لتفرقها في الأغصان واستتارها بالأوراق ولا
يقتات يابسها فلا يحتاج إلى الشراء به، ووجه الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة التمر بالثمرة إلا
أصحاب العرايا فإنه أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب وكل ثمر بخرصه وهذا حديث حسن رواه
الترمذي وهو يدل على تخصيص العرية بالتمر فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك، وعن ابن عمر رضي
الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وعن كل ثمر
بخرصه ولان الأصل يقتضي تحريم بيع العرية وإنما جازت في ثمرة النخيل رخصة ولا يصح قياس غيرها عليها
لوجهين (أحدهما) أن غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها وسهولة خرصها وكون الرخصة في
الأصل لأهل المدينة، وإنما كانت حاجتهم إلى الرطب دون غيره (الثاني) أن القياس لا يعمل به إذا
خالف نصا وقياسهم يخالف نصوصا غير مخصوصة، وإنما يجوز التخصيص بالقياس على المحل المخصوص
ونهى عن بيع العنب بالزبيب لم يدل على تخصيص فيقاس عليه وكذلك سائر الثمار
{مسألة} (ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما
155

كمد عجوة ودرهم بمدين أو بدرهمين أو بمد ودرهم وعنه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي
معه غيره أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه)
هذه المسألة تسمى مسألة مد عجوة وظاهر المذهب أن ذلك لا يجوز نص عليه أحمد في مواضع
كثيرة قال ابن أبي موسى في السيف المحلى والمنطقة والمراكب المحلاة تباع بجنس ما عليها لا يجوز قولا
واحدا، وروي هذا عن سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وشريح وابن سيرين وبه قال الشافعي وإسحاق
وأبو ثور، وعن أحمد انه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره أو يكون مع كل
واحد منهما من غير جنسه: قال حرب قلت لأحمد دفعت دينارا كوفيا ودرهما وأخذت دينار ا
شاميا وزنهما سواء؟ قال لا يجوز إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة، وكذلك روي عن محمد
ابن أبي حرب الجرجرائي قال أبو داود سمعت أحمد يسئل عن الدراهم المسيبية بعضها صفر وبعضها
فضة بالدراهم فقال لا أقول فيه شيئا، قال أبو بكر روى هذه المسألة عن أحمد خمسة عشر نفسا كلهم
اتفقوا على أنه لا يجوز حتى يفصل إلا الميموني، وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة يجوز ذلك بما
ذكرنا من الشرط، وقال الحسن لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم وبه قال الشعبي والنخعي
واحتجوا بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد لأنه لو اشترى لحما من قصاب جاز
مع احتمال كونه ميتة لكن يجب حمله على أنه مذكى تصحيحا، وقد أمكن تصحيح العقد ههنا بجعل
156

الجنس في مقابلة غير الجنس أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل
ولنا ما روى فضالة بن عبيد قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة
دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا، حتى تميز بينهما " قال فرده حتى ميز بينهما رواه أبو داود
وفي لفظ رواه مسلم قال أمر رسول الله صلى الله عليه بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزنا بوزن " ولان العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس وجب أن
ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه من
العوض. بيانه إذا اشترى عبدين قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر بعشرة كان ثمن أحدهما ثلثي
العشرة والآخر ثلثها فلو رد أحدهما بعيب رده بقسطه من الثمن، وكذلك إذا اشترى شقصا
وسيفا بثمن أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، فإذا فعلنا هذا فيمن باع درهما ومدا قيمته
درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد، والمد الذي مع الدرهم في مقابلة مد وثلث
هذا إذا تفاوتت القيم ومع التساوي يجهل ذلك لأن التقويم ظن وتخمين، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه
في باب الربا ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص، وقولهم يجب تصحيح العقد ممنوع
بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد، كذلك لو باع بثمن وأطلق وفي البلد نقود بطل العقد ولم
يحمل على نقد أقرب البلاد إليه، أما إذا اشترى من انسان شيئا فإنه يصح لأن الظاهر أنه ملكه
لأن اليد دليل الملك، وإذا باع لحما فالظاهر أنه مذكى لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة
157

{مسألة} (وان باع نوعي جنس بنوع واحد منه كدينار قراضة وصحيح بصحيحين أو حنطة
حمراء وسمراء ببيضاء أو تمرا برنيا ومعقليا بابرحيمي فإن ذلك يصح قاله أبو بكر وأومأ إليه أحمد
واختار القاضي ان الحكم فيها كالتي قبلها)
وهو مذهب مالك والشافعي لأن العقد يقتضي انقسام الثمن على عوضه على حسب اختلافه في
قيمته كما ذكرنا وروي عن أحمد منع ذلك في النقد وتجويزه في الثمن نقله أحمد بن القاسم لأن
الأنواع في غير الأثمان يكثر اختلاطها ويشق تمييزها فعفي عنها بخلاف الأثمان
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل " الحديث وهذا يدل
على إباحة البيع عند وجود المماثلة المرعية هي في الموزون وزنا وفي المكيل كيلا ولان الجودة ساقطة في
باب الربويات فيما قوبل بجنسه فيما إذا اتحد النوع في كل واحد من الطرفين فكذلك إذا اختلفا واختلاف
القيمة ينبني على الجودة والرداءة ولأنه باع ذهبا بذهب متساويا في الوزن فصح كما لو اتفق النوع،
وإنما يقسم العوض على المعوض فيما يشتمل على جنسين أو في غير الربويات بدليل ما لو باع نوعا
بنوع يشتمل على جيد وردئ
{مسألة} (ولا يجوز بيع تمر منزوع النوى بما نواه فيه لاشتمال أحدهما على ما ليس من جنسه
دون الآخر، وإن نزع النوى ثم باع النوى والتمر بنوى وتمر لم يجز لأن التبعية زالت بنزعه فصار
كمسألة مد عجوة بخلاف ما إذا كان في كل واحد نواه، وان باع تمرا منزوع النوى بتمر منزوع النوى
158

جاز كما لو باع تمرا فيه النوى بعضه ببعض، وقال أصحاب الشافعي لا يجوز في أحد الوجهين لأنهما لم
يتساويا في حال الكمال ولأنه يتجافى في المكيال
ولنا قول النبي صلى الله وعليه وسلم " التمر بالتمر مدا بمد " ولأنهما تساويا في حال على وجه لا ينفرد أحدهما
بالنقصان فجاز كما لو كان في كل واحد نواه، ويجوز بيع النوى بالنوى كيلا كذلك
{مسألة} (وفي بيع النوى بتمر فيه النوى، واللبن بشاة ذات لبن والصوف بنعجة عليها صوف روايتان)
إذا باع النوى بتمر نواه فيه فعلى روايتين (أحداهما) لا يجوز رواه عنه مهنا وابن القاسم لأنه
كمسألة مدعجوة وكما لو باع تمرا فيه نواه بتمر منزوع النوى (والثانية) يجوز رواها ابن منصور لأن
النوى في التمر غير مقصود فجاز كما لو باع دارا مموها سقفها بذهب، فعلى هذا يجوز بيعه متفاضلا ومتساويا
لأن النوى الذي في التمر لا عبرة به فصار كبيع النوى بتمر منزوع النوى (فصل) وان باع شاة ذات لبن بلبن أو شاة عليها صوف بصوف أو باع لبونا بلبون أو ذات
صوف بمثلها خرج فيه الروايتان كالتي قبلها (إحداهما) الجواز اختاره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة
وسواء كانت الشاة حية أو مذكاة لأن ما فيه الربا غير مقصود (والثاني) المنع وهو مذهب الشافعي
لأنه باع مال الربا بأصله الذي فيه منه أشبه بيع اللحم بالحيوان والأول أولى، والفرق بينهما ان اللحم
والحيوان مقصود بخلاف اللبن والصوف، ولو كانت الشاة محلوبة اللبن جاز بيعها بمثلها وباللبن وجها
واحدا لأن اللبن لا أثر له ولا يقابله شئ من الثمن فأشبه الملح في الشيرج والخبز والجبن وحبات
الشعير في الحنطة ولا نعلم فيه خلافا، وكذلك لو كان اللبن المنفرد من غير جنس لبن الشاة جاز بكل
حال، ويحتمل أن لا يجوز على قولنا إن اللبن جنس واحد، ولو باع نخلة عليها ثمر بثمر أو بنخلة عليها
ثمر ففيه أيضا وجهان (أحدهما) الجواز اختاره أبو بكر لأن الثمر غير مقصود بالبيع (والثاني) لا يجوز
ووجه الوجهين ما ذكرنا في المسألة قبلها، واختار القاضي المنع وفرق بينها وبين الشاة ذات اللبن بكون
الثمرة يصح افرادها بالبيع وهي معلومة بخلاف اللبن في الشاة، وهذ الفرق غير مؤثر فإن ما يمنع إذا جاز
159

افراده يمنع وإن لم يجز افراده كالسيف المحلى يباع بجنس حليته وما لا يمنع لا يمنع وإن جاز افراده كمال العبد
(فصل) وان باع دارا سقفها مموه بذهب أو دارا بدار مموه سقف كل واحدة منهما جاز لأن
ما فيه الربا غير مقصود بالبيع فوجوده كعدمه، وكذلك لو اشترى عبدا له مال فاشترط ماله وهو
من جنس الثمن جاز إذا كان المال غير مقصود فهو كالسقف المموه، ولو اشترى عبدا بعبد واشترط
كل واحد منهما مال العبد جاز أيضا إذا كان المال غير مقصود
(فصل) وإن باع جنسا فيه الربا بجنسه ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود فهو على أقسام
(أحدها) أن يكون غير المقصود يسيرا لا يؤثر في كيل ولا وزن كالملح فيما يعمل فيه وحبات الشعير
في الحنطة فلا يمنع لأنه يسير لا يخل بالتماثل، وكذلك لو وجد في أحدهما دون الآخر لم يمنع لذلك
ولو باع ذلك بجنس غير المقصود الذي معه كبيع الخبز بالملح جاز لأن وجود ذلك كعدمه (الثاني) أن
يكون غير المقصود كثيرا إلا أنه لمصلحة المقصود كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر فيجوز
بيعه بمثله ويتنزل خلطه بمنزلة رطوبته لكونه من مصلحته فلم يمنع من بيعه بما يماثله كالرطب بالرطب
ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط كبيع خل العنب بخل الزبيب لافضائه إلى التفاضل فجرى مجرى بيع
التمر بالرطب، ومنع الشافعي ذلك كله إلا بيع الشيرج بالشيرج لكون الماء لا يظهر في الشيرج
(الثالث) أن يكون غير المقصود كثيرا وليس من مصلحته كاللبن المشوب بالماء بمثله والأثمان
المغشوشة بغيرها فلا يجوز بيع بعضها ببعض لأن خلطه ليس من مصلحته وهو يخل بالتماثل المقصود
فيه، وإن باعه بجنس غير المقصود كبيعه الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم احتمل الجواز لأنه يبيعه
بجنس غير مقصود فيه فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن، ويحتمل المنع بناء على الوجه الآخر في
160

الأصل وان باع دينارا مغشوشا بمثله والغش فيهما متفاوت أو غير معلوم المقدار لم يجز لأنه يخل بالتماثل
المقصود، وإن علم التساوي في الذهب والغش الذي فيهما خرج على وجهين أولاهما الجواز لأنهما تماثلا في
المقصود وفي غيره ولا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة لكون الغش غير مقصود فكأنه لا قيمة له
(فصل) ولو دفع إلى انسان درهما وقال أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم وبنصفه فلوسا أو
حاجة أخرى جاز لأنه اشترى نصفا بنصف وهما متساويان فصح كما لو دفع إليه درهمين فقال بعني
بهذا الدرهم فلوسا وأعطني بالآخر نصفين، وان قال اعطني بهذا الدرهم نصفا وفلوسا جاز أيضا لأن
معناه ذلك ولان ذلك لا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة فإن قيمة النصف الذي في الدرهم كقيمة
النصف الذي مع الفلوس يقينا وقيمة الفلوس كقيمة النصف الآخر سواء
{مسألة} (والمرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وما لا عرف لهم فيه ففيه وجهان)
(أحدهما) يعتبر عرفه في موضعه ولا يرد إلى أقرب الأشياء شبها به بالحجاز ونحو هذا مذهب الشافعي،
وقال أبو حنيفة الاعتبار في كل بلد بعادته، ولنا ما روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة " والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يحمل كلامه على بيان الأحكام
ولان ما كان مكيلا بالحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إليه التحريم في تفاضل الكيل فلا يجوز أن يتغير
بعد ذلك وهكذا الوزن، فأما مالا عرف له في الحجاز ففيه وجهان (أحدهما) يرد إلى أقرب الأشياء
شبها به بالحجاز كما أن الحوادث ترد إلى أشبه المنصوص عليه بها وهو القياس (والثاني) يعتبر عرفه
في موضعه لأن ما لم يكن له في الشرع حد يرجع فيه إلى العرف كالقبض الحرز والتفرق، وعلى هذا
161

إن اختلفت البلاد فالاعتبار بالغالب فإن لم يكن غالب تعين الوجه الأول ومذهب الشافعي كهذين الوجهين
(فصل) والبر والشعير مكيلان منصوص عليهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم " البر بالبر كيلا بكيل
والشعير بالشعير كيلا بكيل " وكذلك سائر الحبوب والأبازير والأشنان والجص والنورة وما أشبهها
والتمر مكيل وهو من المنصوص عليه وكذلك سائر ثمرة النخل من الرطب والبسر وغيرهما، وسائر
ما تجب فيه الزكاة من الثمار مثل الزبيب والفستق والبندق واللوز والعناب والمشمش والزيتون والبطم
والملح مكيل وهو من المنصوص عليه بقوله عليه السلام " الملح بالملح مدا بمد " والذهب والفضة موزونان
بقوله عليه السلام " الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزنا بوزن " وكذلك ما أشبههما من جواهر
الأرض كالحديد والرصاص والصفر والنحاس والزجاج والزئبق وكذلك الإبريسم والقطن والكتان
والصوف وغزل ذلك وما أشبهه، ومنه الخبز واللحم والشحم والجبن والزبد والشمع والزعفران
والورس والعصفر وما أشبه ذلك
(فصل) والدقيق والسويق مكيلان لأن أصلهما مكيل ولم يوجد ما ينقلهما عنه ولأنهما يشبهان
ما يكال وذكر القاضي في الدقيق أنه يجوز بيع بعضه ببعض وزنا ولا يمنع أن يكون موزونا وأصله مكيل
كالخبز. ولنا ما ذكرناه ولأنه يقدر بالصاع بدليل أنه يخرج في الفطر صاع من دقيق، وقد جاء ذلك
في الحديث والصاع إنما يقدر به المكيلات، وعلى هذا يكون الاقط مكيلا لأن في حديث صدقة الفطر
صاع من أقط. فاما اللبن وغيره من المائعات كالادهان من الزيت والشيرج والعسل والدبس والخل ونحو
ذلك، فالظاهر أنها مكيلة. قال القاضي في الادهان هي مكيلة وفي اللبن يصح السلم فيه كيلا، وقال
أصحاب الشافعي لا يباع اللبن بعضه ببعض الا كيلا، وقد روي عن أحمد رحمه الله تعالى أنه سئل
عن السلف في اللبن فقال نعم كيلا أو وزنا وذلك لأن الماء يقدر بالصاع، ولذلك قالوا: كان النبي صلى
الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ويغتسل هو وزوجته من الفرق وهذه مكاييل قدر بها الماء، وكذلك
سائر المائعات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما في ضروع الانعام إلا بكيل رواه ابن
ماجة، وأما غير المكيل والموزون فما لم يكن له أصل بالحجاز في كيل ولا وزن ولا يشبه ما جرى فيه
عرف بذلك كالنبات والحبوب والمعدودات من الجوز والبيض والرمان والقثاء والخيار وسائر الخضر
162

والبقول والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ ونحوها، فهذه إذا اعتبرنا التماثل فيها فإنه يعتبر في
الوزن لأنه أخصر ذكره القاضي في الفواكه الرطبة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والآخر
قالوا يعتبر ما أمكن كيله بالكيل لأن الأصل الأعيان الأربعة وهي مكيلة، ومن شأن الفرع أن يرد
إلى أصله بحكمه، والأصل حكمه تحريم التفاضل بالكيل فكذلك يكون حكم فروعه
ولنا أن الوزن أخصر فوجب اعتباره في غير المكيل والموزون كالذي لا يمكن كيله، وإنما اعتبر
الكيل في المنصوص لأنه يقدر به في العادة وهذا بخلافه
(فصل) قال رضي الله عنه (وأما ربا النسيئة فكل شيئين ليس أحدهما ثمنا علة ربا الفضل فيهما
واحدة كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون لا يجوز النساء فيهما وان تفرقا قبل التقابض بطل العقد)
متى كان أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا جاز النساء بينهما بغير خلاف لأن الشرع أرخص في السلم
والأصل في رأس مال السلم الدراهم والدنانير فلو حرم النساء ههنا لا نسد باب السلم في الموزونات في
الغالب وان لم يكن أحدهما ثمنا، فكل شيئين يجري فيهما الربا بعلة واحدة كالمكيل بالمكيل والموزون
بالموزون والمطعوم بالمطعوم عند من يعلل به يحرم بيع أحدهما بالآخر نسيئة بغير خلاف نعلمه لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " وفي لفظ " لا بأس
ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما النسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير - والشعير
أكثرهما - يدا بيد وأما النسيئة فلا " رواه أبو داود
(فصل) وان تفرقا قبل التقابض بطل العقد، وبه قال الشافعي رحمه الله تعالى، وقال أبو حنيفة
رحمه الله تعالى لا يشترط التقابض في غير النقدين لأن ما عداهما ليس بأثمان. فلم يشترط التقابض فيهما
كغير أموال الربا كبيع ذلك بأحد النقدين، وأما قوله عليه السلام " فإذا اختلفت هذه الأصناف
فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " فالمراد به القبض، ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق
بينهما قبل القبض كالذهب بالفضة
{مسألة} (وان باع مكيلا بموزون كاللحم بالبر جاز التفرق قبل القبض وفي التساوي روايتان)
وهذا ذكره أبو الخطاب وقال هو رواية واحدة لأن علتهما مختلفة فجاز التفرق قبل القبض كالثمن
بالثمن، ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض لأنه قال: وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه يدا بيد
163

وهل يجوز النساء؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يجوز ذكرها الخرقي لأنهما مالان من أموال الربا فلم
يجز النساء فيهما كالمكيل بالمكيل (والثانية) يجوز وهو قول النخعي لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي
علة ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالثياب بالحيوان وعند من يعلل بالطعم لا يجيزه ههنا وجها واحدا
{مسألة} (وما لا يدخله ربا الفضل كالثياب والحيوان يجوز النساء فيهما، وعنه لا يجوز وعنه لا يجوز في
الجنس الواحد كالحيوان بالحيوان ويجوز في الجنسين كالثياب بالحيوان)
فيه أربع روايات (إحداهن) لا يحرم النساء فيه سواء بيع بجنسه أو بغيره متساويا أو متفاضلا، وقال
القاضي إن كان مطعوما حرم النساء فيه وان لم يكن مكيلا ولا موزونا، وهذا مبني على أن العلة الطعم وهو
مذهب الشافعي، ووجه جواز النساء ما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز
جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة،
وروى سعيد في سننه عن أبي معشر عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد بن علي أن عليا باع
بعيرا له يقال له عصيفير بأربعة أبعرة إلى أجل ولأنهما مالان لا يجري فيهما ربا الفضل فجاز النساء
فيهما كالعرض بالدينار، ولأن النساء أحد نوعي الربا فلم يجز في الأموال كلها كالنوع الاخر فعلى
هذه الرواية علة تحريم النساء الوصف الذي مع الجنس. أما الكيل أو الوزن أو الطعم عند من يعلل
به فيختص تحريم النساء بالمكيل والموزون عند من يعلل به اختاره القاضي (والرواية الثانية) يحرم
النساء في كل مال بيع بمال آخر سواء كان من جنسه أو لا لما روى سمرة رضي الله عنه قال: نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. قال الترمذي حديث صحيح ولم يفرق بين الجنس
والجنسين، ولأنه بيع عرض بعرض فحرم النساء بينهما كالجنسين من أموال الربا فيكون علة النساء بينهما
المالية على هذه الرواية. قال القاضي فعلى هذا لو باع عرضا بعرض ومع أحدهما دراهم العروض نقدا
والدراهم نسيئة جاز وإن كان بالعكس لم يجز لأنه يفضي إلى النسيئة في العروض (قال شيخنا) وهذه
الرواية ضعيفة جدا لأنه اثبات حكم يخالف الأصل بغير نص. ولا اجماع ولا قياس صحيح فإن للمحل
المجمع عليه أو المنصوص عليه أو صافا لها أثر في تحريم الفضل فلا يجوز حذفها عن درجة الاعتبار،
وما هذا سبيله لا يجوز اثبات الحكم فيه وان لم يخالف أصلا فكيف مع مخالفة الأصل في حل البيع؟
فأما حديث سمرة فهو من رواية الحسن عن سمرة، وأبو عبد الله لا يصحح سماع الحسن من سمرة قاله
الأثرم (والرواية الثالثة) يحرم النساء في كل ما بيع بجنسه كالحيوان بالحيوان والثياب بالثياب ولا يحرم
164

في غير ذلك وهذا مذهب أبي حنيفة ويروى كراهة بيع الحيوان بالحيوان نساء عن ابن الحنفية وعبد الله
ابن عبيد بن عمير وعكرمة بن خالد وابن سيرين والثوري والحسن وروي ذلك عن عمار وابن عمر
لحديث سمرة ولان الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل فحرم النساء كالكيل والوزن (والرواية الرابعة)
لا يحرم النساء الا فيما بيع بجنسه متفاضلا لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الحيوان
اثنين بواحد لا يصلح نساء ولا بأس به يدا بيد " قال الترمذي حديث حسن، وروى الإمام أحمد
باسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس
والنجيبة بالإبل؟ فقال لا بأس إذا كان يدا بيد " وهذا يدل بمفهومه على إباحة النساء مع التماثل
والرواية الأولى أصح لموافقتها الأصل، والأحاديث المخالفة لها قد قال أحمد ليس فيها حديث يعتمد
عليه ويعجبني أن يتوقاه وذكر له حديث ابن عباس وابن عمر في هذا فقال هما مرسلان، وحديث
سمرة قد أجبنا عنه وحديث جابر قال أبو عبد الله هذا حجاج زاد فيه نساء، وليث بن سعيد قال
يعقوب بن شيبة هو واهي الحديث وهو صدوق، وإن كان أحد المبيعين مما لا ربا فيه والآخر فيه ربا
كالمكيل بالمعدود ففي تحريم النساء فيهما روايتان
{مسألة} (ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ وهو بيع الدين بالدين) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع
الكالئ بالكالئ رواه أبو عبيد في الغريب
(فصل) قال رحمه الله تعالى (ومتى افترق المتصارفان قبل التقابض أو افترقا عن مجلس السلم قبل
قبض رأس ماله بطل العقد)
أما إذا افترقا عن مجلس السلم قبل قبض رأس المال فسيذكر في بابه إن شاء الله تعالى، وأما
الصرف فهو بيع الأثمان بعضها ببعض، والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف. قال ابن المنذر
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف
فاسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب بالورق ربا الا هاء وهاء " وقوله عليه السلام " بيعوا
الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد " ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا
ونهى أن يباع غائب منها بناجز وكلها أحاديث صحاح. ويجزئ القبض في المجلس وان طال، ولو تماشيا
مصطحبين إلى منزل أحدهما أو إلى الصراف فتقابضاه عنده جاز، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال
مالك لاخير في ذلك لأنهما فارقا مجلسهما
ولنا أنهما لم يتفارقا قبل التقابض فأشبه ما لو كانا في سفينة تسير بهما أو راكبين على دابة واحدة
تمشي بهما وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه في قوله للذين مشيا إليه من جانب
العسكر: وما أراكما افترقتما. وان تفرقا قبل التقابض بطل العقد لفوات شرطه
165

{مسألة} وان قبض البعض ثم افترقا بطل في الجميع في أحد الوجهين، وفي الآخر يبطل فيما لم
يقبض بناء على تفريق الصفقة، ولو وكل أحدهما وكيلا في القبض فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز وقام
قبض وكيله مقام قبضه سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض أو لم يفارقه، وان افترقا قبل قبض
الوكيل بطل لأن القبض في المجلس شرط وقد فات، وان تخايرا قبل القبض في المجلس لم يبطل العقد
بذلك لأنهما لم يتفرقا قبل القبض، ويحتمل ان يبطل إذا قلنا بلزوم العقد وهو مذهب الشافعي لأن
العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض أشبه ما لو افترقا، والصحيح الأول فإن الشرط التقابض في المجلس
وقد وجد واشتراط التقابض قبل اللزوم تحكم بغير دليل ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف ثم اصطرفا
فإن الصرف يقع لازما صحيحا قبل القبض ثم يشترط القبض في المجلس
(فصل) ولو صارف رجلا دينارا بعشرة دراهم وليس معه الا خمسة لم يجز أن يتفرقا بل قبض
العشرة، فإن قبض الخمسة وافترقا فهل يبطل في الجميع أو في نصف الدينار؟ ينبني على تفريق الصفقة
فإن أرادا صحة العقد فسخا الصرف في النصف الذي ليس معه عوضه أو يفسخان العقد كله ثم يشتري
منه نصف الدينار بخمسة ويدفعها إليه ثم يأخذ الدينار كله فيكون نصفه له والباقي أمانة في يده
ويتفرقان ثم إذا صارفه بعد ذلك بالباقي له من الدينار أو اشترى به منه شيئا أو جعله سلما في شئ
أو وهبه إياه جاز، ولو اشترى فضة بدينار ونصف ودفع إلى البائع دينارين وقال أنت وكيلي في نصف
الدينار الزائد صح، ولو صارفه عشرة دراهم بدينار فأعطاه أكثر من دينار ليزن له حقه في وقت آخر
جاز وان طال ويكون الزائد أمانة في يده لا شئ عليه في تلفه نص أحمد على أكثر هذه المسائل،
فإن لم يكن مع أحدهما إلا خمسة دراهم فاشترى بها نصف دينار وقبض دينارا كاملا ودفع إليه الدراهم
ثم اقترضها منه واشترى بها النصف الباقي أو اشترى الدينار منه بعشرة ابتداء ودفع إليه الخمسة ثم اقترضها
منه ودفع إليه عوضا عن النصف الآخر على غير وجه الحيلة فلا بأس
{مسألة} (وان تقابضا ثم افترقا فوجدا أحدهما ما قبضه رديئا فرده بطل العقد في إحدى الروايتين)
هذا إن كان فيه عيب من غير جنسه لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه فيما يشترط قبضه اختاره
القاضي، والآخر لا يبطل لأن قبض عوضه في مجلس الرد يقوم مقام قبضه في المجلس وان رد بعضه
وقلنا يبطل في المردود فهل يبطل في الباقي؟ على روايتين بناء على تفريق الصفقة، وإن كان العيب من
جنسه فسنذكره إن شاء الله تعالى
(فصل) فإذا باع مدي تمر ردئ بدرهم ثم اشترى بالدرهم تمرا جيدا أو اشترى من رجل
دينارا صحيحا بدراهم وتقابضا ثم اشترى منه بالدراهم قراضة عن غير مواطأة ولا حيلة فلا بأس به،
وقال ابن أبي موسى لا يجوز إلا أن يمضي إلى غيره ليبتاع منه فلا يستقيم له فيجوز أن يرجع إلى البائع
166

فيبتاع منه، وقال أحمد في رواية الأثرم يبيعها من غيره أحب إلي، قلت له فإن لم يعلمه أنه يريد أن يبيعها
منه، فقال يبيعها من غيره فهو أطيب لنفسه وأحرى أن يستوفي الذهب منه فإنه إذا ردها إليه لعله أن
لا يوفيه الذهب ولا يحكم الوزن ولا يستقصي، يقول هي ترجع إليه، قيل لأبي عبد الله فذهب ليشتري
الدراهم بالذهب الذي أخذها منه من غيره (قوله فذهب الخرقي العبارة تعقيد واضطراب فتراجع في مظنتها من المغني) فلم يجدها فرجع إليه، فقال إذا كان لا يبالي اشترى منه أو
من غيره فنعم، فظاهر هذا أنه على وجه الاستحباب لا الايجاب ولعل احمد إنما أراد اجتناب المواطأة
على هذا ولهذا قال إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم، وقال مالك إن فعل ذلك مرة جاز
وإن فعله أكثر من مرة لم يجز لأنه يضارع الربا
ولنا ما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال: جاء بلال رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من أين هذا؟ " قال بلال كان عندنا تمر ردئ فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي
صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت ان تشتري فبع
التمر ببيع آخر ثم اشتر به " وروى أبو سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر
فجاء بتمر جنيب فقال " أكل تمر خيبر وهكذا؟ " فقال لا والله انا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين
بالثلاثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تفعل بع التمر بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا " متفق عليهما ولم يأمره
أن يبيعه من غير من يشتري منه، ولو كان ذلك محرما لبينه له وعرفه إياه، ولأنه باع الجنس بغيره من
غير شرط ولا مواطأة فجاز كما لو باعه من غيره، ولان ما جاز من البياعات مرة جاز على الاطلاق
كسائر البياعات، فإن تواطأ على ذلك لم يجز وكان حيلة محرمة، وبه قال مالك وقال أبو حنيفة والشافعي
يجوز ما لم يكن مشروطا في العقد. ولنا أنه إذا كان عن مواطأة كان حيلة والحيل محرمة على ما سنذكره
(فصل) والصرف ينقسم إلى قسمين (أحدهما) أن يبيع عينا بعين وهو أن يقول بعتك هذا
الدينار بهذه الدراهم (والثاني) أن يقع العقد على موصوف نحو أن يقول بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم
ناصرية وقد يكون أحد العوضين معينا دون الآخر وكل ذلك جائز، وظاهر المذهب أن النقود تتعين
بالتعيين في العقود فيثبت الملك في أعيانها، فإن تبايعا عينا بعين ثم تقابضا فوجد أحدهما عيبا فيما
قبضه فذلك قسمان (عبارة المغني في الصفحة السابقة. لم يخل من قسمين. وهو جواب الشرط. وما هنا لا
يصلح جوابا بل هو معطوف على ما قبله) (أحدهما) أن يكون العيب غشا من غير جنس المبيع كالنحاس في الدراهم والمس
في الذهب فالصرف باطل وهو قول الشافعي، وذكر أبو بكر فيها ثلاث روايات (إحداهن) البيع
باطل (والثانية) صحيح وللمشتري الخيار والترك وأخذ البدل (والثالثة) يلزمه العقد وليس له رد ولا
بدل. ولنا أنه باعه غير ما سمى له فلم يصح كما لو قال بعتك هذه البغلة فإذا هو حمار، أو هذا الثوب
القز وإذا هو كتان، وأما القول بأنه يلزمه البيع فلا يصح لأنه اشترى معيبا لم يعلم عيبه فلم يلزمه ذلك
بغير أرش كسائر البياعات (القسم الثاني) أن يكون العيب من جنسه كالسواد في الفضة والخشونة
167

كونها تتفطر (لعل أصله ككونها تتفطر وانظر عبارة المغني في أوائل هذه الصفحة فهي أصرح وأفصح) عند الضرب أوان سكتها مخالفة لسكة السلطان فيصح العقد ويخير المشتري بين
الامساك والترك ولا بدل له لأن العقد وقع على معين فإذا أخذ غيره أخذ ما لم يشتره، وإن قلنا إن
النقد لا يتعين بالتعيين في العقد فله أخذ البدل ولا يبطل العقد لأن الذي قبضه ليس هو المعقود عليه
فأشبه المسلم إذا قبضه فوجد به عيبا ومذهب الشافعي في هذا الفصل على ما ذكرناه
(فصل) ولو أرادا أخذ أرش العيب والعوضان في الصرف من جنس واحد لم يجز لحصول
الزيادة في أحد العوضين وفوات المماثلة المشترطة في الجنس الواحد، وخرج القاضي وجها لجواز أخذ
الأرش في المجس لأن الزيادة طرأت بعد العقد وليس لذلك وجه فإن أرش العيب من العوض
يجبر به في المرابحة ويرد به إذا رد المبيع بفسخ أو إقالة ولو لم يكن من العوض فبأي شئ استحقه المشتري
فإنه ليس بهبة، على أن الزيادة في المجلس من العوض وإن لم يكن أرشا فالأرش أولى، وإن كان
الصرف بغير جنسه فله أخذ الأرش في المجلس لأن المماثلة غير معتبرة، وتختلف قبض بعض العوض
عن بعض لا يضر ماداما في المجلس فجاز كما في سائر المبيع، وإن كان بعد التفرق لم يجز لأنه يفضي
إلى حصول التفرق قبل قبض أحد العوضين إلا أن يجعلا الأرش من غير جنس الثمن كأنه أخذ أرش
عيب الفضة حنطة فيجوز، وكذلك الحكم في سائر أموال الربا فيما بيع بجنسه أو بغير جنسه مما يشترط
فيه القبض، فإذا كان مما لا يشترط قبضه كمن باع قفيز حنطة بقفيزي شعير فوجد أحدهما عيبا فأخذ
أرشه درهما جاز وإن كان بعد التفرق لأنه لم يحصل التفرق قبل قبض ما يشترط فيه القبض
168

(فصل) وإن تلف العوض في الصرف بعد القبض ثم علم عيبه فسخ العقد ويرد الموجود وتبقى
قيمة العيب في ذمة من تلف في يده فيرد مثلها أو عوضها إن اتفقا عليه سواء كان الصرف بجنسه أو
بغير جنسه ذكره ابن عقيل وهو قول الشافعي، قال ابن عقيل وقد روي عن أحمد جواز أخذ الأرش
والأول أولى إلا أن يكونا في المجلس والعوضان من جنسين (القسم الثاني) أن يصطرفا في الذمة فيصح
169

سواء كانت الدراهم والدنانير عندهما أولا إذا تقابضا قبل الافتراق وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.
وحكي عن مالك لا يجوز الصرف إلا أن تكون العينان حاضرتين وعنه لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين
وتعين وعن زفر مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تبيعوا غائبا منها بناجز " ولأنه إذا لم يعين أحد
العوضين كان بيع دين بدين. ولنا انهما تقابضا في المجلس فصح كما لو كانا حاضرين، والحديث يراد
به أن لا يباع عاجل بآجل أو مقبوض بغير مقبوض بدليل ما لو غير أحدهما فإنه يصح وإن كان الآخر
غائبا ولان القبض في المجلس جرى مجرى القبض حالة العقد ألا ترى إلى قوله عينا بعين يدا بيد،
والقبض يجري في المجلس كذا التعيين. إذا ثبت هذا فلا بد من تعينها بالتقابض في المجلس
ومتى تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا قبل التفرق فله المطالبة بالبدل سواء كان العيب من جنسه
أو من غير جنسه لأن العقد وقع على مطلق لاعيب فيه فكان له المطالبة بما وقع عليه العقد كالمسلم فيه
وإن رضيه بعيبه والعيب من جنسه جاز كما لو رضي بالمسلم فيه معيبا، وإن اختار أخذ أرشه وكان
العوضان من جنسين جاز وإن كانا من جنس لم يجز وقد ذكرناه، وإن تقابضا ثم افترقا ثم وجد العيب
من جنسه فله ابداله في إحدى الروايتين اختارها الخلال والخرقي وروى ذلك عن الحسن وقتادة
وبه قال أبو يوسف ومحمد وهو أحد قولي الشافعي لأن ما جاز ابداله قبل التفرق جاز بعد التفرق
كالمسلم فيه (والثانية) ليس له ذلك اختارها أبو بكر وهو مذهب أبي حنيفة. والقول الثاني للشافعي
لأنه يقبضه بعد التفرق ولا يجوز ذلك في الصرف، ومن نصر الرواية الأولى قال قبض الأول صح
170

به العقد وقبض الثاني بدل عن الأول، ويشترط أن يأخذ البدل في مجلس الرد فإن لم يأخذه فيه بطل
العقد، وان وجد البعض رديئا فرده فعلى الرواية الأولى له البدل وعلى الثانية يبطل في المردود وهل
يصح فيما لم يرد على وجهين بناء على تفريق الصفقة ولافرق بين كون المبيع من جنس أو من جنسين
وقال مالك ان وجد درهما زيفا فرضي به جاز وان رده انتقض الصرف في دينار وان رد أحد عشر
درهما انتقض في دينارين وكلما زاد على دينار انتقض الصرف في دينار آخر
ولنا أن ما لا عيب فيه لم يرد فلم ينتقض الصرف فيما يقابله كسائر العوض، وان اختار واجد
العيب الفسخ فعلى قولنا له البدل ليس له الفسخ إذا أبدل له لأنه يمكنه أخذ حقه غير معيب، وعلى
الرواية الأخرى له الفسخ أو الامساك في الجميع لأنه تعذر عليه الوصول إلى ما عقد عليه مع ابقاء العقد
وان اختار أخذ أرش العيب بعد التفرق لم يكن له ذلك لأنه عوض يقبضه بعد التفرق عن الصرف
ويجوز على الرواية الأخرى
(فصل) ومن شرط المصارفة في الذمة أن يكون العوضان معلومين إما بصفة يتميزان بها أو يكون
للبلد نقد معلوم أو غالب فينصرف الاطلاق إليه، فلو قال بعتك دينارا مصريا بعشرين درهما من
نقد عشرة بدينار لم يصح إلا أن لا يكون في البلد نقد عشرة بدينار إلا نوع واحد فتنصرف
الصفة إليه وكذلك الحكم في البيع
(فصل) وإذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر عليه دراهم فاصطرفا بما في ذمتهما لم يصح
وبهذا قال الليث والشافعي، وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة جوازه لأن الذمة الحاضرة كالعين
171

الحاضرة ولذلك جاز أن يشتري الدراهم بدينار من غير تعيين
ولنا أنه بيع دين بدين وقد قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز،
وقال أحمد إنما هو اجماع وقد روى أبو عبيد في الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ
وفسره بالدين بالدين إلا أن الأثرم روى أن احمد سئل أيصح هذا الحديث؟ قال لا. فأما الصرف
فإنما صح بغير تعيين بشرط أن يتقابضا في المجلس فجرى القبض والتعيين في المجلس مجرى وجوده
حالة العقد، ولو كان لرجل على رجل دنانير فقضاه دراهم شيئا بعد شئ فإن كان يعطيه كل درهم
بحسابه من الدنانير صح نص عليه، فإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعد فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز
نص عليه لأن الدنانير دين والدراهم قد صارت دينا فيصير بيع دين بدين، وإن قبض أحدهما من
الآخر ماله عليه ثم صارفه بعين وذمة صح، وإذا أعطاه الدراهم شيئا بعد شئ ولم يقبضه إياها وقت
دفعها إليه ثم أحضرها وقوماها قانه يحتسب بقيمتها يوم القضاء لا يوم دفعها إليه لأنه قبل ذلك لم تصر
في ملكه إنما هي وديعة في يده، وان تلفت أو نقصت فهي من ضمان مالكها ويحتمل أن تكون من ضمان
القابض إذا قبضها بنية الاستيفاء لأنها مقبوضة على أنها عوض ووفاء، والمقبوض في عقد فاسد
كالمقبوض في عقد صحيح فيما يرجع إلى الضمان وعدمه، ولو كان لرجل عند صيرفي دنانير فأخذ منه
دراهم أدرارا لتكون هذه بهذه لم يكن كذلك بل كل واحد منهما في ذمة من قبضه، فإذا أرادا
التصارف أحضرا أحدهما واصطرفا بعين وذمة
(فصل) ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفا بعين وذمة في قول الأكثرين ومنع
172

منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وروي عن ابن مسعود لأن القبض شرط وقد يختلف
ولنا ان ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير،
آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقلت يا رسول
الله رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير،
آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا بأس ان تأخذها بسعر يومها
ما لم تفرقا وليس بينكما شئ " رواه أبو داود والأثرم قال احمد إنما يقضيه إياها بالسعر لم يختلفوا
إلا ما قال أصحاب الرأي أنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي لأنه بيع في الحال فجاز ما تراضيا عليه
إذا اختلف الجنس كما لو كان العوض عرضا
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها " فشرط أخذها بالسعر وروي أن بكر
ابن عبد الله ومسروقا العجلي سألا ابن عمر عن كري لهما له عليهما دراهم وليس معهما الا دنانير فقال
ابن عمر اعطوه بسعر السوق. ولان هذا جرى مجرى القضاء فيقيد بالمثل كالقضاء من الجنس والتماثل
ههنا بالقيمة لتعذر التماثل بالصورة، قيل لأبي عبد الله فإن أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق في الدينار
وما أشبهه فقال إن كان مما يتغابن الناس به فسهل ما لم يكن حيلة
(فصل) فإن كان المقضي الذي في الذمة مؤجلا فقد توقف احمد فيه، وقال القاضي يحتمل وجهين
(أحدهما) المنع وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي لأن ما في الذمة غير مستحق القبض فكان
173

القبض ناجزا في أحدهما والناجز يأخذ قسطا من الثمن (الثاني) الجواز وهو قول أبي حنيفة لأنه ثابت
في الذمة وما في الذمة بمنزلة المقبوض فكأنه رضي بتعجيل المؤجل، وهذا هو الصحيح إذا قضاه
بسعر يومها ولم يجعل للمقتضي فضلا لأجل تأجيل ما في الذمة لأنه ان لم ينقض عن سعرها شيئا فقد
رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض فأشبه ما لو قضاه من جنس الدين، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم
ابن عمر حين سأله، ولو افترق الحال لسأل واستفصل. هذا اختيار شيخنا
(فصل) قال احمد لو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه دينارا وقال استوف حقك منه
فاستوفاه بعد التفرق جاز، ولو كان عليه دنانير فوكل غريمه في بيع داره واستيفاء دينه من ثمنها فباعها
بدراهم لم يجز أن يأخذ منها بقدر حقه لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه ولأنه متهم نص أحمد على ذلك
(فصل) ولو كان له عند رجل دينار وديعة فصارفه به وهو معلوم بقاؤه أو مظنون صح الصرف
وان ظن عدمه لم يصح لأن حكمه حكم المعدوم، وان شك فيه فقال ابن عقيل يصح وهو قول بعض
الشافعية، وقال القاضي لا يصح لأنه غير معلوم البقاء وهو منصوص الشافعي. ووجه الأول أن الأصل
بقاؤه فصح البناء عليه عند الشك لأن الشك لا يزيل اليقين، ولذلك صح بيع الحيوان المشكوك في
حياته فإن تبين أنه كان تالفا حين العقد تبينا أن العقد وقع باطلا
(فصل) وإذا عرف المصطرفان وزن العرضين جاز أن يتبايعا بغير وزن، وكذلك لو أخبر أحدهما
الآخر بوزن ما معه فصدقه فإذا باع دينارا بدينار كذلك وافترقا فوجد أحدهما ما قبضه ناقصا بطل
الصرف لأنهما تبايعا ذهبا بذهب متفاضلا، فإن وجد أحدهما فيما قبضه زيادة على الدينار فإن كان
قال بعتك هذا الدينار بهذا فالعقد باطل لوجود التفاضل وان قال بعتك دينارا بدينار ثم تقابضا كان
الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه لأنه قبضه على أنه عوض ولم يفسد العقد لأنه أنما باع
174

دينارا بمثله وإنما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه، فإن أراد دفع عوض الزائد جاز سواء كان
من جنسه أو من غيره لأنها معاوضة مبتدأة، وإن أراد أحدهما الفسخ فله ذلك لأن آخذ الزائد وجد
المبيع مختلطا بغيره معيبا بعيب الشركة ودافعه لا يلزمه أخذ عوضه إلا أن يكونا في المجلس فيرد الزائد
أو يدفع بدله، ولو كان لرجل على رجل عشرة دنانير فوفاه عشرة عددا فوجدها أحد عشر كان هذا
الدينار زائدا في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه لأنه قبضه على أنه عوض عما له فكان مضمونا بهذا
القبض ولمالكه التصرف فيه كيف شاء
{مسألة} (والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد في أظهر الروايتين فلا يجوز ابدالها،
وان خرجت مغصوبة بطل العقد)
وبه قال مالك والشافعي وعن أحمد أنها لا تتعين بالعقد فيجوز إبدالها ولا يبطل العقد بخروجها
مغصوبة، وهذا مذهب أبي حنيفة لأنه يجوز اطلاقها في العقد فلم تتعين بالتعيين كالمكيال والصنجة.
ولنا أنه عوض في عقد فيتعين بالتعيين كسائر الأعواض ولأنه أحد العوضين فيتعين بالتعيين كالآخر
ويفارق ما ذكروه فإنه ليس بعوض وإنما يراد لتقدير المعقود عليه وتعريف قدره ولا يثبت فيها الملك
بحال بخلاف مسئلتنا، وإنما جاز اطلاقها لأن لها عرفا ينصرف إليه يقوم في بابها مقام الصفة، فعلى هذا
إن وجدها معيبة خير بين الامساك والرد كالعوض الآخر، ويتخرج أن يمسك ويطالب بالأرش
لأنه مبيع أشبه سائر المبيعات، وإن كان ذلك في الصرف فقد ذكرناه. هذا إن كان العيب من جنس
النقود وإن كان من غير جنسها كالنحاس في الفضة والفضة في الذهب وكان في جميعها بطل العقد وإن كان
في بعضها بطل فيه، وفي الباقي وجهان بناء على تفريق الصفقة وان قلنا لا يتعين انعكست هذه الأحكام
175

(فصل) في انفاق المغشوش من النقود وفيه روايتان أظهرهما الجواز نقل صالح عنه في دراهم يقال
لها المسيبية عامتها نحاس الا شيئا فيها فضة فقال إذا كان شيئا اصطلحوا عليه مثل الفلوس اصطلحوا
عليها فأرجو أن لا يكون بها بأس (والثانية) التحريم نقل حنبل في دراهم يخلط فيها مس ونحاس
يشتري بها ويباع فلا يجوز أن يبتاع بها أحد، كل ما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام،
وقال أصحاب الشافعي إن كان الغش مما لا قيمة له جاز الشراء بها، وإن كان مما له قيمة ففي جواز
انفاقها وجهان. واحتج من منع المغشوشة بقول النبي صلى الله عليه وسلم " من غشنا فليس منا " وبان عمر
نهى عن بيع نفاية بيت المال ولان المقصود فيه مجهول أشبه تراب الصاغة، والأولى ان يحمل كلام
احمد في الجواز على الخصوص فيما ظهر عيبه واصطلح عليه فإن المعاملة به جائزة إذ ليس فيه أكثر
من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما فلا يمنع من بيعهما كما لو كانا متميزين ولان هذا مستفيض في الاعصار
جار بينهم من غير نكير وفي تحريمه مشقة وضرر وليس شراؤه بها غشا للمسلمين ولا تغريرا لهم
والمقصود منها ظاهر مرئي معلوم بخلاف تراب الصاغة، ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ويقع اللبس
به فإن ذلك يفضي إلى التغرير بالمسلمين، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال في رجل اجتمعت عنده دراهم
زيوف ما يصنع بها؟ قال يسبكها. قيل له فيبيعها بدينار؟ قال لا، قيل يبيعها بفلوس؟ قال لا إني أخاف أن
يغر بها مسلما قيل لأبي عبد الله فيتصدق بها؟ قال: اني أخاف ان يغر بها مسلما، وقال ما ينبغي له أن
يغر بها المسلمين ولا أقول إنه حرام لأنه على تأويل وذلك إنما كرهته لأنه يغر بها مسلما. فقد صرح بأنه
إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين وعلى هذا يحمل منع عمر بيع نفاية بيت المال لما فيه من التغرير
176

فإن مشتريها ربما خلطها بدراهم جيدة واشترى بها ممن لا يعرف حالها ولو كانت مما اصطلحوا على
انفاقه لم تكن نفاية، فإن قيل روي عن عمر أنه قال من زافت عليه دراهمه فليخرج بها إلى البقيع
فليشتر بها سحق الثياب، وهذا دليل على جواز انفاق المغشوشة التي لم يصطلح عليها قلنا قد قال
احمد معنى زافت عليه دراهمه اي نفيت ليس انها زيوف ويتعين حمله على هذا جمعا بين الروايتين
عنه ويحتمل انه أراد ما ظهر غشه وبان زيفه بحيث لا يخفى على أحد ولا يحصل بها تغرير، وان تعذر
تأويلها تعارضت الروايتان عنه ويرجع إلى ما ذكرنا من المعنى ولا فرق بين ما كان غشه يبقى كالنحاس
والرصاص وما لا ثبات له كالزرنيخية والاندرانية وهو زرنيخ ونورة يطلى عليه فضة فإذا دخل
النار استهلك الغش وذهب.
177

(فصل) ولا يجوز بيع تراب الصاغة والمعدن بشئ من جنسه لأنه مال ربا بيع بجنسه على وجه لا
تعلم المماثلة بينهما فلم يصح كبيع الصبرة بالصبرة وان بيع بغير جنسه، وحكى ابن المنذر عن أحمد كراهة بيع
تراب المعادن وهو قول عطاء والشعبي والشافعي والثوري وإسحاق لأنه مجهول، وقال ابن أبي موسى في
178

الارشاد يجوز وهو قول مالك، وروي ذلك عن الحسن والنخعي وربيعة والليث قالوا فإن اختلط واشكل
فليبعه يعرض ولا يبيعه بعين ولا ورق لأنه باعه بما لا ربا فيه فجاز كما لو اشترى ثوبا بدينار ودرهم
(فصل) والحيل كلها محرمة لا تجوز في شئ من الدين وهو ان يظهر عقدا مباحا يريد به محرما
مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله عز وجل واستباحة محظوراته أو اسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك
قال أيوب السختياني رحمه الله انهم ليخادعون الله سبحانه كما يخادعون صبيا، لو كانوا يأتون الامر على وجهه
كان أسهل علي. فمن ذلك ما لو كان لرجل عشرة صحاح ومع آخر خمسة عشر مكسرة فاقترض كل واحد منهما
ما مع صاحبه ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلا أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة ثم وهبه
الخمسة الزائدة أو اشترى منه بها أوقية صابون ونحوها مما يأخذه بأقل من قيمته أو اشترى منه بعشرة إلا
حبة من الصحيح بمثلها من المكسرة واشترى منه بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير، وهكذا لو
اقرضه شيئا وباعه سلعة بأكثر من قيمتها أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى اخذ عوض
عن القرض فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة هذا
كله وأشباهه جائز ان لم يكن مشروطا في العقد، وقال بعض أصحاب الشافعي يكره ان يدخلا في البيع
على ذلك لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره ان يدخلا عليه
179

ولنا ان الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة وسماهم معتدين وجعل ذلك نكالا
وموعظة للمتعين ليتعظوا بهم ويمتنعوا من مثل أفعالهم، قال بعض المفسرين في قوله تعالى (وموعظة للمتقين)
اي لامة محمد صلى الله عليه وسلم فروي انهم كانوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة ويتركونها إلى يوم الأحد
ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها مجاري فيفتحها يوم الجمعة فإذا جاء السمك يوم السبت جرى
مع الماء في المجاري فيقع في الحفائر فيدعها إلى يوم الأحد ثم يأخذها ويقول ما اصطدت يوم السبت ولا
اعتديت فيه وهذا حيلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من ادخل فرسا بين فرسين وقد أمن ان يسبق فهو قمار "
رواه أبو داود فجعله قمارا مع ادخاله الفرس الثالث لكونه لا يمنع معنى القمار وهو كون كل واحد من
المتسابقين لا ينفك عن كونه أخذا أو مأخوذا منه وإنما دخل صورة تحيلا على إباحة محرم وسائر الحيل
مثل ذلك، ولان الله تعالى إنما حرم المحرمات لمفسدتها والضرر الحاصل منها ولا تزول مفسدتها مع بقاء
معناها باظهارهما صورة غير صورتها فوجب ان لا يزول التحريم كما لو سمى الخمر بغير اسمها لم يبح ذلك
شربها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليستحلن قوم من أمتي الخمر يسمونها بغير
اسمها " ومن الحيل في غير الربا أنهم يتوصلون إلى بيع المنهي عنه بأن يستأجروا بياض أرض البستان
بأمثال أجرته ثم يساقيه على ثمر شجره بجزء من ألف جزء للمالك وتسعمائة وتسعة وتسعون للعامل ولا يأخذ
منه المالك شيئا ولا يريد ذلك، وإنما قصده بيع الثمرة قبل وجودها بما سماه أجرة والعامل لا يقصد
أيضا سوى ذلك وربما لا ينتفع بالأرض التي سمى الأجرة في مقابلتها ومتى لم يخرج الثمر أو أصابته
180

جائحة جاء المستأجر يطلب الجائحة ويعتقد أنه إنما بذل ماله في مقابلة الثمرة لاغير ورب الأرض يعلم ذلك
(فصل) وإن اشترى شيئا بمكسرة لم يجز أن يعطيه صحيحا أقل منها، قال أحمد هذا هو الربا
المحض وذلك لأنه يأخذ عوض الفضة أقل منها فيحصل التفاضل، ولو اشتراه بصحيح لم يجز أن يعطيه
مكسرة أكثر منها كذلك، فإن تفاسخا البيع ثم عقدا بالصحاح أو بالمكسرة جاز، ولو اشترى ثوبا
بنصف دينار لزمه نصف دينار شق، فإن عاد فاشترى شيئا آخر بنصف لزمه نصف شق أيضا فإن
وفاء دينارا صحيحا بطل العقد الثاني لأنه تضمن اشتراط زيادة ثمن العقد الأول، وإن كان ذلك قبل
لزوم العقد الأول بطل أيضا لأنه وجد ما يفسده قبل انبرامه، وإن كان بعد لزومه لم يؤثر ذلك فيه ولا
يلزمه أكثر من ثمنه الذي عقد البيع به ومذهب الشافعي في هذا كما ذكرنا
181

{مسألة} (ويحرم الربا بين المسلم والحربي)
وبين المسلمين في دار الحرب كما يحرم بين المسلمين في دار الاسلام وبذلك قال مالك والأوزاعي
182

وأبو يوسف والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه
في مسلمين أسلما في دار الحرب لا ربا بينهما لما روى مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا ربا
بين
183

المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب " لأن أموالهم مباحة وإنما حظرها الأمان في دار الاسلام فما لم
يكن كذلك كان مباحا. ولنا قول الله تعالى (وحرم الربا الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم
184

الذي يتخبطه الشيطان من المس) وقوله تعالى (اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) وعموم الاخبار
يقتضي تحريم التفاضل، وقوله " من زاد أو ازداد فقد أربى " عام ولان ما كان محرما في دار الاسلام
كان محرما في دار الحرب كالربا بين المسلمين وخبرهم مرسل لا تعرف صحته (استدلوا أيضا بان مالهم مباح في دارهم فبأي طريق أخذه المسلم حل وأما المستأمن منهم بدارنا فماله محرم بعقد الأمان لأن أخذه غدر محرم وفي فتح القدير اشتراط أن يكون الربح للمسلم) ويحتمل أنه أراد النهي
عن ذلك ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة بخبر مجهول ولم يرو في صحيح ولا
185

مسند ولا كتاب موثوق به وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الاسلام فإن ماله
مباح إلا ما حظره الأمان
{باب بيع الأصول والثمار}
ومن باع دارا تناول البيع أرضها وبناءها وما يتصل بها لمصلحتها كالسلاليم والرفوف المسمرة
والأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرحى المنصوبة وأشباه ذلك لأنه متصل بها لمصلحتها أشبه حيطانها
{مسألة} (ولا يدخل ما هو مودع فيها من الكنز والأحجار المدفونة)
لأن ذلك مودع فيها للنقل عنها فأشبه الفرش والستور، ولا يدخل ما هو منفصل عنها لا يختص
بمصلحتها كالحبل والدلو والبكرة والقفل والفرش، وكذلك الرفوف الموضوعة على الأوتاد بغير تسمير
186

ولا غرز في الحائط، وحجر الرحى إن لم يكن منصوبا والخوابي الموضوعة من غير أن يطين عليها
لأنه منفصل عنها لا تختص بمصلحتها أشبه الثياب والطعام
{مسألة} (فأما ما كان من مصالحها لكنه منفصل عنها كالمفتاح وحجر الرحا الفوقاني إذا كان
السفلاني منصوبا ففيه وجهان) (أحدهما) يدخل في البيع لأنه لمصلحتها فأشبه المنصوب فيها (والثاني)
لا يدخل لأنه منفصل عنها فأشبه القفل والدلو ونحو ذلك وهذا مذهب الشافعي
{مسألة} وما كان في الأرض من الحجارة المخلوقة فيها أو مبني فيها كأساسات الحيطان المهدمة
فهو للمشتري لأنه من أجزائها فهو كترابها)
والمعادن الجامدة فيها والآجر كالحجارة في هذا، وإذا كان المشتري عالما بذلك فلا خيار له وان لم يعلم
وكان يضر بالأرض وينقصها كالصخر المضر بعروق الشجر فهو عيب حكمه حكم سائر العيوب فإن كانت
الحجارة والآجر مودعا فيها فهو للبائع كالكنز ويلزمه نقلها وتسوية الأرض واصلاح الحفر لأنه ضرر
لحق لاستصلاح ملكه فكان عليه إزالته وإن كان قلعها يضربا بالأرض أو تتطاول مدته فهو عيب،
وإن لم يكن في نقلها ضرر وكان يمكن نقلها في أيام يسيرة كالثلاثة فما دون فليس بعيب وله مطالبة البائع
لأنه لأعرف في تبقيتها بخلاف الزرع، ومتى كان عالما بالحال فلا أجرة له في الزمان الذي نقلت فيه
لأنه علم بذلك ورضي به فهو كما لو اشترى أرضا فيها زرع، وإن لم يعلم فاختار امساك المبيع فهل له اجرة
لزمان النقل على وجهين (أحدهما) له ذلك لأن المنافع مضمونة على المتلف فكان عليه بدلها كالاجر
(والثاني) لا يجب لأنه لما رضي بامساك المبيع رضي بتلف المنفعة في زمان النقل، فإن لم يختر الامساك
فقال البائع أنا أدع ذلك لك وكان مما لا ضرر في بقائه لم يكن له خيار لزوال الضرر عنه
(فصل) فإن كان في الأرض معادن جامدة كمعادن الذهب والفضة ونحوهما دخلت في البيع
وملكت بملك الأرض التي هي فيها لأنها من أجزائها فهي كأحجارها ولكن لا يباع معدن الذهب
بذهب، ويجوز بيعها بغير جنسها وان ظهر في الأرض معدن لم يعلم به البائع فله الخيار لأنه زيادة لم
يعلم بها فأشبه ما لو باعه ثوبا على أنه عشرة أذرع فبان أحد عشر، هذا إذا كان قد ملك الأرض باحياء
أو إقطاع، وقد روي أن ولد بلال بن الحارث باعوا عمر بن عبد العزيز أرضا فظهر فيها معدن فقالوا
إنما بعنا الأرض ولم نبع المعدن وأتوا عمر بالكتاب الذي فيه قطيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيهم فأخذه فقبله
ورد عليهم المعدن. وإن كان البائع ملك الأرض بالبيع احتمل أن لا يثبت له خيار لأن الحق لغيره
وهو المالك الأول، واحتمل أن يثبت له الخيار كما لو اشترى معيبا ثم باعه ولم يعلم عيبه فإنه يستحق
الرد وإن كان قد باعه مثل ما اشتراه، وروى أبو طالب عن أحمد إذا ظهر المعدن في ملكه
ملكه وظاهر هذا أنه لم يجعله للبائع ولا جعل له خيارا لأنه من أجزاء الأرض فأشبه ما لو ظهر
فيها حجارة ولها قيمة كبيرة
(فصل) فإن كان فيها بئر أو عين مستنبطة فنفس البئر وأرض العين مملوكة لمالك الأرض والماء
الذي فيها غير مملوك في أصح الروايتين، ولأصحاب الشافعي وجهان كالروايتين وفي معنى الماء المعادن
187

الجارية في الاملاك كالقار والنفط والموميا والملح وكذلك ما ينبت في الأرض من الكلأ والشوك ففي
هذا كله روايتان، فإن قلنا هي مملوكة دخلت في البيع والا لم تدخل
{مسألة} (وان باع أرضا بحقوقها دخل غراسها وبناؤها في البيع وان لم يقل بحقوقها فعلى وجهين)
إذا باع أرضا بحقوقها أو رهنا دخل في ذلك غراسها وبناؤها، وان لم يقل بحقوقها فهل يدخل
الغرس والبناء فيهما على وجهين، ونص الشافعي على أنهما يدخلان في البيع دون الرهن واختلف
أصحابه في ذلك فمنهم من قال فيهما جميعا قولان، ومنهم من فرق بينهما بكون البيع أقوى فيستتبع البناء
والشجر بخلاف الرهن ووجه دخولهما في البيع أنهما من حقوق الأرض ولذلك يدخلان إذا قال بحقوقها
وما كان من حقوقها يدخل فيها بالاطلاق كطرقها ومنافعها (والوجه الثاني) لا يدخلان لأنهما ليسا
من الأرض فلا يدخلان في بيعها ورهنها كالثمرة المؤبرة ومن نصر الأول فرق بينهما بكون الثمرة تراد
للنقل وليست من حقوقها بخلاف الشجرة والبناء فإن قال بعتك هذا البستان دخل فيه الشجر لأنه اسم
للأرض والشجر والحائط ولذلك لا تسمى الأرض المكشوفة بستانا ويدخل فيه البناء ذكره ابن
عقيل لأن ما دخل فيه الشجر دخل فيه البناء، ويحتمل أن لا يدخل. لأن اسم البستان لا يفتقر
إليه، فأما ان باعه شجرا لم تدخل الأرض في البيع. ذكره أبو إسحاق ابن شاقلا لأن الاسم
لا يتناولها ولا هي تبع للمبيع
(فصل) وإن قال بعتك هذه القرية وكان في اللفظ قرينة تدل على دخول أرضها مثل
المساومة على أرضها أو ذكر الزرع والغرس فيها وذكر حدودها أو بذل ثمن لا يصلح الا فيها وفي
أرضها دخل في البيع لأن الاسم يجوز أن يطلق عليها مع أرضها والقرينة صارفة إليه ودالة عليه فأشبه
ما لو صرح به وان لم يكن قرينة تصرف إلى ذلك فالبيع يتناول البيوت والحصن الدائر عليها فإن القرية
اسم لذلك وهو مأخوذ من الجمع لأنه يجمع الناس وسواء قال بحقوقها أو لم يقل، وأما الغراس بين بنيانها
فحكمه حكم الغراس في الأرض إن قال بحقوقها دخل وان لم يقله فعلى وجهين
{مسألة} (وإن كان فيها زرع يجز مرة بعد أخرى كالرطبة والبقول أو تكرر ثمرته كالقثاء والباذنجان
فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة للبائع)
سواء كان مما يبقى سنة كالهندبا أو أكثر كالرطبة، وعلى البائع قطع ما يستحقه منه في الحال
فإنه ليس لذلك حد ينتهي إليه ولان ذلك يطول ويخرج غير ما كان ظاهرا والزيادة من الأصول
التي هي ملك المشتري، وكذلك إن كان مما تتكرر ثمرته كالقثاء والبطيخ والباذنجان فالأصول
للمشتري والثمرة الظاهرة عند البيع للبائع لأن ذلك مما تتكرر الثمرة فيه أشبه الشجر، وإن كان مما تؤخذ
زهرته وتبقى عروقه في الأرض كالبنفسج والنرجس فالأصول للمشتري لأنه جعل في الأرض للبقاء
فيها فهو كالرطبة، وكذلك أوراقه وغصونه لأنه لا يقصد أخذه فهو كورق الشجر وأغصانه، فاما زهرته
فإن تفتحت فهي للبائع وما لم تتفتح للمشتري، واختار ابن عقيل في هذا كله أن البائع إن قال بعتك هذه
الأرض بحقوقها دخل فيها وإلا ففيه وجهان كالشجر
188

(فصل) وإذا اشترى أرضا وفيها بذر فاستحق المشتري أصله كالرطبة والبقول التي تجز مرة
بعد أخرى فهو للمشتري لأنه يترك في الأرض للتبقية فهو كأصول الشجر ولأنه لو كان ظاهرا كان له
فالمستتر أولى وسواء علقت له عروق في الأرض أولا، وإن كان بذرا لما يستحقه البائع كالشعير فهو
له إلا أن يشترطه المبتاع فيكون له، وقال الشافعي يبطل البيع لأن البذر مجهول وهو مقصود
ولنا أن البذر يدخل تبعا فلم يضر جهله كما لو اشترى عبدا واشترط ماله ولأنه يجوز في التابع
من الغرر ما لا يجوز في الأصل كبيع اللبن في الضرع مع الشاة والحمل مع الام ولا تضر جهالته،
ولا يجوز مفردا فإن لم يعلم المشتري ذلك فله فسخ البيع وامضاؤه لأنه يفوت عليه منفعة الأرض مدة
فإن تركه البائع للمشتري أو قال أنا أحوله وأمكن ذلك في زمن يسير لا يضر بمنافع الأرض فلا خيار
للمشتري لأنه أزال العيب بالنقل أو زاده خيرا بالترك فلزمه قبوله لأن فيه تصحيح العقد وهذا مذهب
الشافعي، وكذلك إن اشترى نخلا فيها طلع فبان مؤبرا فله الخيار لأنه يفوت على المشتري ثمرة عامه
فإن تركها البائع فلا خيار له، وإن قال أنا أقطعها الآن لم يسقط خياره لأن ثمرة العام تفوت وان قطعها
وان اشترى أرضا فيها زرع للبائع أو شجرا فيه ثمر للبائع والمشتري جاهل يظن أن الزرع والثمر له
فله الخيار كما لو جهل وجوده لأنه إنما رضي بذلك ماله عوضا عن الأرض والشجر بما فيهما فإذا بان بخلافه
ثبت له الخيار كمن اشترى معيبا يظنه صحيحا، فإن اختلفا في ذلك فالقول قول المشتري إذا كان مثله
يجهل ذلك كالعامي، وإن كان ممن يعلم ذلك لم يقبل قوله
{مسألة} (وإن كان فيها زرع لا يحصد إلا مرة كالبر والشعير فهو للبائع مبقى إلى الحصاد الا
أن يشترط المبتاع)
إذا كان في الأرض زرع لا يحصد إلا مرة كالبر والقطاني وما المقصود منه مستتر كالجزر
والفجل والثوم وأشباه ذلك فاشترطه المشتري فهو له قصيلا كان أو ذا حب مستترا أو ظاهرا معلوما
أو مجهولا لكونه دخل في البيع تبعا للأرض فلم يضر جهله وعدم كماله كما لو اشترى شجرة فاشترط
تمرتها بعد تأبيرها، وان أطلق البيع فهو للبائع لأنه مودع في الأرض فهو كالكنز والقماش وهذا قول
أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم فيه مخالفا. إذا ثبت ذلك فإنه يكون للبائع مبقى في الأرض إلى الحصاد
بغير أجرة لأن المنفعة حصلت مستثناة له، وعليه حصاده في أول وقت حصاده وإن كان بقاؤه أنفع له
على ما نذكر في الثمرة وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة عليه نقله عقيب البيع كقوله في الثمرة، وسنذكر
ذلك، وهكذا الحكم في القصب الفارسي لأن له وقتا يقطع فيه إلا أن العروق للمشتري لأنها تترك
في الأرض للبقاء فيها والقصب كالثمرة وان لم يكن ظهر من القصب شئ فهو للمشتري: فأما قصب
السكر فهو كالزرع، ويحتمل أن يكون كالقصب الفارسي لأنه يؤخذ سنة بعد سنة، فإن حصده قبل أوان
الحصاد لينتفع بالأرض في غيره لم يملك الانتفاع بها لأن منفعتها إنما حصلت مستثناة عن مقتضى العقد
ضرورة بقاء الزرع فتتقدر ببقائه كالثمرة على الشجر، وكما لو كان المبيع طعاما لا ينقل مثله عادة إلا في
189

شهر لم يكلف إلا ذلك فإن تكلف نقله في أقل من شهر لينتفع بالدار في غيره لم يجز كذا ههنا، ومتى
حصد الزرع وبقيت له عروق تستضربها الأرض فعلى البائع إزالتها، وإن تحفرت الأرض فعليه
تسوية حفرها لأنه استصلاح لملكه فهو كما لو باع دارا فيها خابية كبيرة لا تخرج إلا بهدم الباب فهدمه
كان عليه الضمان وكذلك كل نقص دخل على ملك شخص لاستصلاح ملك آخر من غير اذن الأول
ولا فعل صدر عنه النقص واسند إليه كان الضمان على مدخل النقص
(فصل) قال رحمه الله (ومن باع نخلا مؤبرا وهو ما تشقق طلعه فالثمر للبائع متروكا في رؤوس
النخل إلى الجزاز الا أن يشترطه المبتاع)
الابار التلقيح قاله ابن عبد البر الا أنه لا يكون حتى يتشقق الطلع فعبر به عن ظهور الثمرة للزومه
منه يقال أبرت النخلة بالتخفيف والتشديد فهي مؤبرة ومأبورة ومنه قوله عليه السلام " خير المال
سكة مأبورة " والسكة النخل المصفوف والحكم متعلق بالظهور دون نفس التلقيح ولذلك فسره
ههنا به قال القاضي وقد يتشقق الطلع بنفسه قد يشقه الصعاد فيظهر وأيهما كان فهو المراد هنا
وهذا قول أكثر أهل العلم، وحكى ابن أبي موسى رواية عن أحمد أنه إذا انشق طلعه ولم يؤبر
أنه للبائع لظاهر الحديث والمشهور الأول. وهذه المسألة تشتمل على فصول (أحدها) أن البيع
متى وقع على نخل مثمر ولم يشترط الثمرة وكانت الثمرة مؤبرة فهي للبائع، وان كانت غير مؤبرة
فهي للمشتري وبهذا قال مالك والليث والشافعي، وقال ابن أبي ليلي هي للمشتري في الحالين لأنها
متصلة بالأصل اتصال خلقة فكانت تابعة له كالأغصان، وقال أبو حنيفة والأوزاعي هي للبائع لأنه
نماء له حد فلم يتبع أصله كالزرع في الأرض
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها الا أن يشترط المبتاع "
متفق عليه وهذا صريح في رد قول ابن أبي ليلى وحجة على أبي حنيفة والأوزاعي بمفهومه لأنه جعل
التأبير حدا لملك البائع للثمرة فيكون ما قبله للمشتري والا لم يكن حدا ولا كان التأبير مفيدا ولأنه نماء
كامن لظهوره غاية فيكون تابعا لاصله قبل ظهوره كالحمل في الحيوان، فأما الأغصان فإنها تدخل في
اسم النخل وليس لانفصالها غاية، والزرع ليس من نماء الأرض وإنما هو مودع فيها
190

(الفصل الثاني) أنه متى اشترطها أحد المتبايعين فهي له مؤبرة كانت أو غير مؤبرة البائع
والمشتري سواء، وقال مالك ان اشترطها المشتري بعد التأبير جاز لأنه بمنزلة مشتريها مع أصلها
وان اشترطها البائع قبل التأبير لم يجز لأن ذلك بمنزلة شرائه لها قبل بدو صلاحها بشرط التبقية.
ولنا أنه استثنى بعض ما وقع عليه العقد وهو معلوم فصح كما لو باع حائطا واستثنى نخلة بعينها
ولأنه أحد المتبايعين فصح اشتراطه للثمرة كالمشتري، وقد ثبت الأصل بالاتفاق عليه، ولو اشترط
جزءا من الثمرة معلوما كان كاشتراط جميعها في الجواز في قول الجمهور، وقال ابن القاسم من أصحاب
مالك لا يجوز اشتراط بعضها لأن الخبر إنما ورد باشتراط جميعها. ولنا أن ما جاز اشتراط جميعه جاز
اشتراط بعضه كمدة الخيار وهكذا الحكم في مال العبد إذا اشترط بعضه
(الفصل الثالث) أن الثمرة إذا بقيت للبائع فله تركها في الشجر إلى أوان الجزاز سواء استحقها
بشرطه أو بظهورها وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يلزمه قطعها وتفريغ النخل منها لأنه مبيع
مشغول بملك البائع فلزمه نقله وتفريغه كما لو باع دارا فيها طعام له أو قماش
ولنا أن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة كما باع دارا فيها طعام لم يجب نقله إلا على حسب
العادة في ذلك وهو أن ينقله نهارا شيئا بعد شئ ولا يلزمه النقل ليلا ولا جمع دواب البلد لنقله كذلك
ههنا تفريغ النخل من الثمرة في أوان تفريغها وذلك أوان جذاذها، وقياسه حجة لنا لما بيناه، إذا تقرر
هذا فالمرجع في جزه إلى ما جرت به العادة فإن كان المبيع نخلا فحين تتناهى حلاوة ثمره، وإن كان
مما بسره خير من رطبه أو ما جرت العادة بأخذه بسرا فإنه يجزه حين تستحكم حلاوة بسره لأن هذا
191

هو العادة فإذا استحكمت حلاوته فعليه قطعه، وان قيل بقاؤه في شجره خير له وأبقى لم يمنع وجوب
القطع لأن العادة في ذلك قد وجدت فليس له ابقاؤه بعد ذلك وإن كان المبيع عنبا أو فاكهة سواه
فأخذه حين يتناهى ادراكه ويجز مثله وهذا قول مالك والشافعي
(فصل) فإن أبر بعضه دون بعض فما أبر للبائع وما يؤبر للمشتري نص عليه أحمد واختاره
أبو بكر للخبر الذي عليه مبنى هذه المسألة، وقال ابن حامد الكل للبائع وهو مذهب الشافعي لأنا
إذا لم نجعل الكل للبائع أدى إلى الاضرار باشتراك الا يدي فيجب أن يجعل ما لم يؤبر تبعا لما أبر
كثمر النخلة الواحدة إذا أبر بعضها فإن الجميع للبائع بالاتفاق، وقد يتبع الباطن الظاهر منه كأساسات
الحيطان تتبع الظاهر منه، وهذا الخلاف في النوع الواحد لأن الظاهر أنه يتقارب ويتلاحق فيختلط،
فأما إن أبر نوع لم يتبعه النوع الآخر ولم يفرق أبو الخطاب بين النوع والجنس كله وهو ظاهر مذهب
الشافعي لأنه يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الا يدي كما في النوع الواحد، والأشبه الفرق بين
النوعين والنوع لأن النوعين يتباعدان ويتميز أحدهما عن الآخر ولا يخشى اختلاطهما أشبها الجنسين
وما ذكروه يبطل بالجنسين، لا يصح القياس على النوع الواحد لافتراقهما فيما ذكرنا، ولو باع حائطين
قد أبر أحدهما لم يتبعه الآخر لأنه يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي لانفراد كل واحد
منهما عن صاحبه، ولو أبر بعض الحائط فأفرد بالبيع ما لم يؤبر فللمبيع حكم نفسه ولا يتبع غيره وخرج
القاضي وجها في أنه يتبع غير المبيع فيكون للبائع كما لو باع الحائط كله وهو أحد الوجهين لأصحاب
192

الشافعي. ولنا أن المبيع لم يؤبر شئ منه فوجب أن يكون للمشتري لمفهوم الحديث وكما لو كان منفردا
في بستان وحده ولأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة ولا اختلاف الأيدي ولا إلى ضرر فبقي على حكم
الأصل، فإن بيعت النخلة المؤبرة كلها أو بعضها ثم حدث طلع فهو للمشتري لأنه حدث في ملكه أشبه
ما لو حدث بعد أخذ الثمرة ولان ما أطلع بعد تأبير غيره لا يكاد يشتبه لتباعد ما بينهما
(فصل) وطلع الفحال كطلع الإناث فيما ذكرنا وهو ظاهر كلام الشافعي ويحتمل أنه للبائع بكل
حال لأنه قد يؤخذ للاكل قبل ظهوره فهو كثمرة لا تخلق إلا ظاهرة كالتين ويكون ظهور طلعه كظهور
ثمرة غيره. ولنا أنها ثمرة نخل إذا تركت ظهرت فهي كالإناث، ولأنه يدخل في عموم الخبر وما ذكر
للوجه الآخر لا يصح فإن أكله ليس هو المقصود منه وإنما يراد للتلقيح به وذلك يكون بعد ظهوره
فأشبه طلع الإناث، فإن باع نخيلا فيه فحال وإناث لم يتشقق منه شئ فالكل للمشتري إلا على الوجه
الآخر، فإن طلع الفحال يكون للبائع، وان تشقق أحد النوعين دون الآخر فما تشقق للبائع وما لم
يتشقق للمشتري إلا عند من سوى بين الأنواع كلها
(فصل) وكل عقد معاوضة يجري مجرى البيع في أن الثمرة المؤبرة تكون لمن انتقل عنه الأصل
وغير المؤبرة لمن انتقل إليه مثل أن يصدق المرأة نخلا أو يخلعها به أو يجعله عوضا في إجارة أو عقد
صلح لأنه عقد معاوضة فجرى مجرى البيع، وان انتقل بغير معاوضة كالهبة والرهن أو فسخ لأجل
العيب أو فلس المشتري أو رجوع الأب في هبة ولده أو تقايلا البيع، أو كان صداقا فرجع إلى
193

الزوج لفسخ المرأة النكاح أو نصفه لطلاق الزوج فإنه في الفسخ يتبع الأصل سواء أبر أو لم يؤبر
لأنه نماء متصل أشبه السمن وفي الهبة والرهن حكمهما حكم البيع في أنه يتبع قبل التأبير ولا يتبع بعده
لأن الملك زال عن الأصل بغير فسخ أشبه البيع، وأما رجوع البائع لفلس المشتري، أو الزوج لانفساخ
النكاح فيذكران في بابيهما
{مسألة} (وكذلك الشجر إذا كان فيه ثمر باد كالتوت والتين والرمان والجوز)
والشجر على خمسة أضرب (أحدها) ما تكون ثمرته في اكمام ثم تتفتح فتظهر كالنخل الذي بينا
حكمه وهو الأصل وما سوا مقيس عليه، ومن هذا الضرب القطن وما يقصد نوره كالورد والياسمين
والنرجس والبنفسج فإنه تظهر اكمامه ثم تتفتح فهو كالطلع إن تفتح جنبذه فهو للبائع وإلا فهو للمشتري (الثاني)
ما تظهر ثمرته بارزة لا قشر عليها ولا نور كالتين والتوت والجميز فهي للبائع لأن ظهورها من شجرها
بمنزلة ظهور ما في الطلع (الثالث) ما يظهر في قشره ثم يبقى فيه إلى حين الاكل كالموز والرمان فهو
للبائع أيضا بنفس الظهور لأن قشره من مصلحته ويبقى فيه إلى حين الاكل كالتين (الرابع) ما يظهر
في قشرين كالجوز واللوز فهو للبائع أيضا بنفس الظهور لأن قشره لا يزول عنه غالبا إلا بعد جزازه
فأشبه الضرب الذي قبله، ولان قشر اللوز يؤكل معه أشبه التين، وقال القاضي إن تشقق القشر
الاعلى فهو للبائع، وان لم يتشقق فهو للمشتري كالطلع، ولو اعتبر هذا لم يكن للبائع إلا نادرا ولا
يصح قياسه على الطلع لأن الطلع لابد من تشققه وتشققه من مصلحته وهذا بخلافه فإنه لا يتشقق على
شجره وتشققه قبل كماله يفسده
194

(الخامس) ما يظهر نوره ثم يتناثر فتظهر الثمرة كالتفاح والمشمش والإجاص والخوخ، فإذا تفتح
نوره وظهرت الثمرة فيه فهو للبائع، وان لم تظهر فهو للمشتري، وقيل ما يتناثر نوره فهو للبائع ومالا فهو
للمشتري لأن الثمرة لا تظهر حتى يتناثر النور وقال القاضي يحتمل أن يكون للبائع بظهور نوره لأن الطلع
إذا تشقق كان كنور الشجر، فإن العقد التي في جوف الطلع ليست عين الثمرة وإنما هي أوعية لها تكبر
الثمرة في جوفها وتظهر فتصير العقدة في طرفها وهي قمع الرطبة، وظاهر لفظه ههنا يقتضي ما قلناه أولا
وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه علق استحقاق البائع للثمرة ببدوها ولا يبدو الثمر حتى ينفتح نوره وقد
يبدو إذا كبر قبل أن ينثر النور فيتعلق ذلك بظهوره والعنب بمنزلة ماله نور لأنه يبدو في قطوفه شئ
صغار كحب الدخن ثم يتفتح ويتناثر كتناثر النور فيكون من هذا القسم وهذا يفارق الطلع لأن الذي
في الطلع عين الثمرة ينمو ويتغير والنور في هذه الثمار يتساقط ويذهب وتظهر الثمرة ومذهب الشافعي في
هذا الفصل جميعه كما ذكرنا أو قريبا منه وبينهما اختلاف قريب مما ذكرنا
{مسألة} (والورق للمشتري بكل حال)
الأغصان والورق وسائر أجزاء الشجر للمشتري لأنه من أجزائها خلق لمصلحتها فهو كأجزاء سائر
المبيع، ويحتمل أن يكون ورق التوت المقصود أخذه لدود القز للبائع إذا تفتح وللمشتري قبل ذلك
لأنه بمنزلة الجنبذ الذي يتفتح فيظهر نوره من الورد وغيره وإنما هذا في المواضع التي عادتهم أخذ الورق
وان لم يكن عادتهم ذلك فهو للمشتري كسائر الورق والله أعلم
{مسألة} (وان ظهر بعض الثمرة فهو للبائع، وما لم يظهر فهو للمشتري، وقال أبو حامد
الكل للبائع) وقد ذكرناه
195

{مسألة} (وان احتاج الزرع أو الثمرة إلى سقي لم يلزم المشتري ولم يملك منع البائع منه)
إذا كانت الثمرة للبائع مبقاة في شجر المشتري فاحتاجت إلى سقي لم يكن للمشتري منعه لأنه يبقى
به فلزمه تمكينه منه كتركه على الأصول، وان أراد سقيها من غير حاجة فللمشتري منعه لأن سقيه
يتضمن التصرف في ملك غيره والأصل منعه منه وإنما أبحناه للحاجة فما لم توجد الحاجة يبقى على أصل
المنع، وان احتاجت إلى سقي يضر بالشجر أو احتاج الشجر إلى سقي يضر بالثمرة فقال القاضي:
أيهما طلب السقي لحاجته أجبر الآخر عليه لأنه دخل العقد على ذلك فإن المشتري اقتضى عقده تبقية
الثمرة والسقي من تبقيتها واقتضى تمكين المشتري من حفظ الأصول وتسليمها فلزم كل واحد منهما ما
أوجبه العقد للاخر وان أضربه وإنما له أن يسقي بقدر حاجته، وان اختلفا في ذلك رجع إلى
أهل الخبرة وأيهما التمس السقي فالمؤنة عليه لأنه لحاجته
(فصل) وان خيف على الأصول الضرر بتبقية الثمرة عليها لعطش أو غيره والضرر يسير لم يجبر على
قطعها لأنها مستحقة للبقاء فلم يجبر على إزالتها لدفع ضرر يسير عن غيره، وإن كان كثيرا فخيف على الأصول
الجفاف أو نقص حملها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجبر كذلك (والثاني) يجبر على القطع لأن الضرر يلحقها
وان لم تقطع والأصول تسلم بالقطع فكان القطع أولى وللشافعي قولان كالوجهين
(فضل) ولا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ولا الزرع قبل اشتداد حبه إلا بشرط القطع في الحال
196

لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط التبقية إجماعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار
حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع. متفق عليه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. قال ابن المنذر:
أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث
197

(فصل) وكذلك الزرع الأخضر في الأرض لا يجوز بيعه الا بشرط القطع كما ذكرنا في الثمرة
على الأصول لما روى مسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى
البائع والمشتري. قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به وهو قول مالك وأهل المدينة وأهل
198

البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي، فإن باعه بشرط القطع أو باع الثمرة قبل بدو صلاحها
بشرط القطع صح بالاجماع لأن المنع إنما كان خوفا من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها
لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو قال " أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ
199

أحدكم مال أخيه؟ " رواه البخاري وهذا مأمون فيما يقطع فصح بيعه كما لو بدا صلاحه
(فصل) وإذا اشترى رجل نصف الثمرة قبل بدو صلاحها أو نصف الزرع قبل اشتداد حبه
مشاعا لم يجز سواء اشتراها من رجل أو من أكثر منه، وسواء شرط القطع أو لم يشترطه لأنه لا يمكنه
قطعه إلا بقطع ما لا يملكه فلم يصح اشتراطه.
200

{مسألة} (ولا يجوز بيع الرطبة والبقول إلا بشرط جذه ولا القثاء ونحوه إلا لفظه لفظة إلا أن يبيع أصله)
الرطبة وما أشبهها مما تثبت أصوله في الأرض ويؤخذ ما ظهر منه بالقطع مرة بعد أخرى كالنعناع
والهندبا وشبههما لا يجوز بيعه إلا أن يبيع الظاهر منه بشرط القطع في الحال وبذلك قال الشافعي، وروي
201

ذلك عن الحسن وعطاء ورخص مالك في شراء جزتين وثلاثا ولا يصح ذلك لأن ما في الأرض منه
مستور وما يحدث منه معدوم فلا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع ما يحدث من الثمرة، ومتى اشترى جزة لم يجز
ابقاؤها لأن ما يظهر منها أعيان لم يتناولها البيع فيكون للبائع إذا ظهر فيفضي إلى اختلاط المبيع بغيره
فإن أخرها حتى طالت فالحكم فيها يذكر إن شاء الله تعالى
202

(فصل) وإذا باع ثمرة شئ من هذه البقول كالقثاء والباذنجان لم يجز إلا بيع الموجود منها دون
المعدوم، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك يجوز بيع الجميع لأن ذلك يشق تمييزه فجعل ما لم
يظهر تبعا لما ظهر كما أن ما لم يبد صلاحه تبع لما بدا
203

ولنا أنها ثمرة لم تخلق فلم يصح بيعها كما لو باعها قبل ظهور شئ منها والحاجة تندفع ببيع أصوله
ولان ما لم يبد صلاحه يجوز افراده بالبيع بخلاف ما لم يخلق ولان ما لم يخلق من ثمرة النخل لا يجوز بيعه
تبعا لما خلق، وإن كان ما لم يبد صلاحه تبعا لما بدا، إذا ثبت ذلك فإن باعها قبل بدو صلاحها لم يجز
204

الا بشرط القطع، وإن كان بعد بدو صلاحه جاز مطلقا وبشرط القطع والتبقية على ما نذكر في ثمرة
الأشجار وسنبين بم يكون بدو صلاحه؟
(فصل) ويصح بيع هذه الأصول التي تتكرر ثمرتها من غير شرط القطع ذكره القاضي وهو
205

مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا فرق بين كون الأصول صغارا أو كبارا مثمرة أو غير مثمرة لأنه أصل
فيه الثمرة فأشبه الشجر، فإن باع المثمر منه فثمرته الظاهرة للبائع متروكة إلى حين بلوغها الا أن يشترطها
المبتاع فإن حدثت ثمرة أخرى فهي للمشتري وان اختلطت بثمرة البائع ولم تتميز كان الحكم فيها
كثمرة الشجرة إذا اختلطت بثمرة أخرى على ما يأتي حكمه
206

(فصل) والقطن ضربان (أحدهما) ماله أصل يبقى في الأرض أعواما فهذا حكمه حكم الشجر في أنه يصح
افراده البيع، وإذا بيعت الأرض بحقوقها دخل في البيع وثمرة كالطلع ان تفتح فهو للبائع والا فهو
للمشتري (الثاني) ما يتكرر زرعه كل عام فحكمه حكم الزرع، ومتى كان جوزه ضعيفا رطبا لم يقو ما فيه لم
يصح بيعه إلا أن يشترط القطع كالزرع الأخضر، وان قوي حبه واشتد جاز بيعه بشرط التبقية كالزرع
207

إذا اشتد حبه، وإذا بيعت الأرض لم يدخل في البيع إلا أن يشترطه المبتاع، والباذنجان الذي تبقى
أصوله وتتكرر ثمرته كالشجر وما يتكرر زرعه كل عام فهو كالحنطة والشعير.
(فصل) ولا يجوز بيع ما المقصود منه مستور في الأرض كالجزر والفجل والثوم والبصل حتى يقلع
ويشاهد وهذا قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي وأباحه مالك والأوزاعي وإسحاق لأن الحاجة
208

تدعوا إليه فأشبه بيع ما لم يبد صلاحه تبعا لما بدا
ولنا أنه مجهول لم يره ولم يوصف له فأشبه بيع الحمل ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر رواه
مسلم وهذا غرر، وأما بيع ما لم يبد صلاحه فإنما جاز تبعا فإن الظاهر أنه يتلاحق في الصلاح ويتبع بعضه
209

بعضا، فإن كان مما يقصد فروعه وأصوله كالبصل المبيع اخضر والكراث واللفت وسائر ما تقصد فروعه
جاز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الحيطان التي أساساتها مدفونة، ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعا
لما ظهر فلا تضر جهالته كالحمل في البطن مع بيع الحيوان، فإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه
210

لأن الحكم للأغلب، وكذا إن تساويا لأن الأصل اعتبار الشرط في الجميع وإنما سقط اعتباره فيما
كان معظم المقصود منه ظاهرا تبعا ففيما عداه يبقى على الأصل
{مسألة} (والحصاد واللقاط على المشترى)
211

وكذلك جزاز الثمرة إذا اشتراها في شجرها لأن نقل المبيع وتفريغ مالك البائع منه على المشتري
كنقل الطعام المبيع من دار البائع، ويفارق الكل والوزن فإنهما على البائع لأنهما من مؤنة تسليم المبيع
إلى المشتري والتسليم على البائع وههنا حصل التسليم بالتخلية بدون القطع بدليل جواز التصرف فيها،
212

وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا
{مسألة} (فإن باعه مطلقا أو بشرط التبقية لم يصح)
إذا باع الثمرة قبل صلاحها أو الزرع قبل اشتداد حبه بشرط التبقية لم يصح اجماعا وقد ذكرناه
213

وكذلك إذا باعها ولم يشترط تبقية ولا قطعا، وبه قال مالك والشافعي وأجازه أبو حنيفة لأن اطلاق العقد
يقتضي القطع فحمل عليه كما لو اشترطه قالوا: ومعنى النهي أن يبيعها مدركة قبل إدراكها بدليل قوله
في الحديث " أرأيت ان منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " فلفظة المنع تدل على أن العقد
214

يتناول معنى هو مقصود في الحال حتى يتصور المنع
ولنا النهي المطلق عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فيدخل فيه محل النزاع واستدلالهم بسياق
الحديث يدل على هدم قاعدتهم التي قرروها في أن اطلاق العقد يقتضي القطع ويقرر ما قلناه من أن
215

اطلاق العقد يقتضي التبقية فيصير العقد المطلق كالذي يشرط فيه التبقية يتناولهما النهي جميعا ويصح تعليلهما
بالعلة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم من منع الثمرة وهلاكها
(فصل) وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع على ثلاثة اضرب (أحدها) ان يبيعها
216

منفردة لغير مالك الأصل فلا يصح وهذا الذي ذكرناه وبينا بطلانه (الثاني) ان يبيعها مع الأصل
فيجوز بالاجماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها الذي باعها الا ان
يشترط المبتاع " متفق عليه ولأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعا في البيع فلم يضر احتمال الغرر فيها كما
217

احتملت الجهالة في بيع اللبن في الضرع مع بيع الشاة وأساسات الحيطان (الثالث) أن يبيعها مفردة
لمالك الأصل نحو أن تكون للبائع ولم يشترطها المبتاع فيبيعها له بعد ذلك أو يوصي لرجل بثمرة نخله
فيبيعها لورثة الموصى فيه وجهان (أحدهما) يصح وهو المشهور عن مالك وأحد الوجهين لأصحاب
218

الشافعي لأنه يجتمع الأصل والثمرة للمشتري أشبه ما لو اشتراهما معا، ولأنه إذا باعها لمالك الأصل
حصل التسليم إلى المشتري على الكمال لكونه مالكا لأصولها فصح كبيعها مع أصلها (والثاني)
لا يصح وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن العقد تناول الثمرة خاصة والغرر فيما تناوله العقد
219

أصل يمنع الصحة كما لو كانت الأصول لأجنبي ولأنها تدخل في عموم النهي بخلاف ما إذا باعهما معها
فإنه مستثنى بالخبر المذكور، ولان الغرر فيما يتناوله العقد أصل يمنع الصحة ولا يمنع إذا تناوله تبعا فإنه يجوز
في التابع من الغرر ما لا يجوز في المتبوع كاللبن في الضرع والحمل مع الشاة وغيرهما، وان باعه الثمرة بشرط
220

القطع في الحال صح وجها واحدا ولا يلزم المشتري الوفاء بالشرط لأن الأصل له
(فصل) وإذا باع الزرع الأخضر من غير شرط القطع مع الأرض جاز كبيع الثمرة مع الأصل
وان باعه لمالك الأرض منفردا ففيه وجهان على ما ذكرنا في الثمرة، واختار أبو الخطاب الجواز
221

وان باعه إياه بشرط القطع جاز وجها واحدا ولم يلزم المشتري الوفاء بالشرط لأن الأصل له فهو
كبيع الثمرة لمالك الأصل
(فصل) وإذا اشترى قصيلا من شعير ونحوه فقطعه ثم نبت فهو لصاحب الأرض المشتري
222

ترك الأصول على سبيل الرفض لها فسقط حقه منها كما يسقط حق صاحب الزرع من السنابل التي يدعها
ولذلك أبيح التقاطها، ولو سقط من الزرع حب ثم نبت من العام المقبل فهو لصاحب الأرض نص
أحمد على هاتين المسئلتين، ومما يؤكد هذا ان البائع لو أراد التصرف في أرضه بعد قصل الزرع بما
223

يفسد الأصول ويقلعها كان له ذلك ولم يملك المشتري منعه
{مسألة} (فإن باعها بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح واشتد الحب وطالت الجزة
وحدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطبا فأثمرت بطل البيع، وعنه لا يبطل
224

ويشتركان في الزيادة وعنه يتصدقان بها)
اختلفت الرواية فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع ثم تركها حتى بدا صلاحها فنقل
عنه حنبل وأبو طالب أن البيع يبطل اختارها الخرقي، وقال القاضي هي أصح فعلى هذا يرد المشتري
225

الثمرة إلى البائع ويأخذ الثمن ونقل أحمد بن سعيد أن البيع لا يبطل وهو قول أكثر الفقهاء لأن أكثر
ما فيه ان المبيع اختلط بغيره فأشبه ما لو اشترى حنطة فانثالت عليها أخرى أو ثوبا فاختلط بغيره، ونقل
عنه أبو داود فيمن اشترى قصيلا فمرض أو توانا حتى صار شعيرا فإن أراد به حيلة فسد البيع وانتفض
226

وجعل بعض أصحابنا هذا رواية ثالثة فيمن قصد التبقية وإلا لم يفسد، قال شيخنا: والظاهر أن هذا
يرجع إلى ما نقله أحمد بن سعيد فإنه يتعين حمل ما نقله أحمد بن سعيد على صحة البيع على من لم يرد حيلة
فإن أراد الحيلة لم يصح بحال، وقد ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة، ووجه الرواية الأولى
227

أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فاستثنى منه ما اشتراه بشرط القطع
وقطعه بالاجماع فيبقى فيما عداه على أصل التحريم، ولان التبقية معنى حرم الشرع اشتراطه لحق الله
تعالى فأبطل العقد وجوده كالنسيئة فيما يحرم فيه النساء وترك التقابض فيما يشترك القبض فيه، ولان
228

صحة البيع تجعل ذلك ذريعة إلى شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وتركها حتى يبدو صلاحها ووسائل
الحرام حرام كبيع العينة، ومتى حكمنا بفساد البيع فالثمرة كلها للبائع، وعنه أنهما يتصدقان بالزيادة
قال القاضي هذا مستحب لوقوع الخلاف في مستحق الثمرة فاستحب الصدقة بها وإلا فالحق أنها للبائع
229

تبعا للأصل كسائر نماء المبيع المتصل إذا رد على البائع بفسخ أو بطلان، ونقل ابن أبي موسى في
الارشاد أن البائع والمشتري يشتركان في الزيادة وان قلنا لا يبطل العقد فقد روي أنهما يشتركان في
الزيادة لحصولها في ملكهما كان الثمرة ملك المشتري والأصل ملك البائع وهو سبب الزيادة وقال القاضي
230

الزيادة للمشتري كالعبد إذا سمن، وحمل قول أحمد يشتركان على الاستحباب والأول أظهر لما ذكرنا
فإن الزيادة حصلت من أصل البائع من غير استحقاق تركها فكان له فيها حق بخلاف سمن العبد
فإنه لا يتحقق فيه هذا المعنى ولا يشبهه ولا يصح حمل قول أحمد على الاستحباب، فإنه لا يستحب
231

للبائع أن يأخذ من المشتري مالا يستحقه، بل ذلك حرام عليه فكيف يستحب وعن أحمد أنهما
يتصدقان بالزيادة وهو قول الثوري ومحمد بن الحسن لأن عين المبيع زاد بجهة محظورة، قال الثوري
إذا اشترى قصيلا يأخذ رأس ماله ويتصدق بالباقي، ولان الامر اشتبه في هذه الزيادة فكان
232

الأولى الصدقة بها، قال شيخنا: ويشبه أن يكون هذا استحبابا لأن الصدقات بالشبهات مستحبة
فإن أبيا الصدقة بها اشتركا فيها والزيادة هي ما بين قيمتها يوم الشراء وقيمتها يوم أخذها، قال القاضي:
ويحتمل أنه ما بين قيمتها قبيل بدو صلاحها وقيمتها بعده لأن الثمرة قبل بدو صلاحها كانت للمشتري
233

بنمائها لا حق للبائع فيها، وكذلك الحكم في الرطبة إذا طالت والزرع الأخضر إذا أدجن لأنه
في معنى الثمرة وهذا إذا لم يقصد وقت الشراء تأخيره ولم يجعل شراءه بشرط القطع حيلة على
المنهي عنه من شراء الثمرة قبل بدو صلاحها ليتركها حتى يبدو صلاحها، فإن قصد ذلك فالبيع
234

باطل من أصله لأنه حيلة محرمة، وعند أبي حنيفة والشافعي لاحكم للقصد والبيع صحيح وقد
ذكرنا ذلك في تحريم الحيل
(فصل) فإن حدثت ثمرة أخرى أو باع شجرا فيه ثمرة للبائع فحدثت ثمرة أخرى، فإن تميزت
235

فلكل واحد ثمرته، وان اختلطتا ولم تتميز واحدة منهما فهما شريكان فيهما كل بقدر ثمرته، فإن لم
يعلم قدرهما اصطلحا عليهما ولا يبطل العقد في ظاهر المذهب لأن المبيع لم يتعذر تسليمه، وإنما اختلط
بغيره فهو كما لو اشترى طعاما في مكان فانثال عليه طعام للبائع أو انثال هو على طعام للبائع ولم يعرف
236

قدر كل واحد منهما، ويفارق هذا ما لو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها فتركها حتى بدا صلاحها فإن
العقد يبطل في أظهر الروايتين لكون اختلاط المبيع بغيره حصل بارتكاب نهي وكونه يتخذ حيلة
على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وههنا ما ارتكب نهيا ولا يجعل هذا طريق إلى فعل المحرم، وفيه
237

رواية أخرى أنه يبطل ذكرها أبو الخطاب كالمسألة التي قبلها، والصحيح الأولى وقد ذكرنا الفرق
بينهما، وقال القاضي: ان كانت الثمرة للبائع فحدثت ثمرة أخرى قيل لكل واحد اسمح بنصيبك
لصاحبك، فإن فعل أحدهما أقررنا العقد وأجبرنا الآخر على القبول لأنه يزول به النزاع، وان
238

امتنعا فسخنا العقد لتعذر وصول كل واحد منهما إلى قدر حقه، وان اشترى ثمرة فحدثت ثمرة أخرى
لم نقل للمشتري اسمح بنصيبك لأن الثمر كل المبيع فلا يؤمر بتخليته كله ونقول للبائع ذلك فإن
سمح بنصيبه للمشتري أجبرنا على القبول والا فسخ البيع وهذا مذهب الشافعي، وقال ابن عقيل:
239

لعل هذا قول لبعض أصحابنا فإنني لم أجده معزيا إلى أحمد، والظاهر أن هذا اختيار القاضي وليس
بمذهب لأحمد ولو اشترى حنطة فانثالت عليها أخرى لم ينفسخ البيع والحكم فيه كالحكم في الثمرة
تحدث معها أخرى على ما ذكرناه
240

(فصل) فإن اشترى عرية فتركها حتى أثمرت بطل البيع وهذا قول الخرقي، وعن أحمد أنه لا
يبطل وهو قول الشافعي لأن كل ثمرة جاز بيعها رطبا لا يبطل العقد إذا صارت تمرا كغير العرية، وكما
لو قطها وتركها عنده حتى أتمرت
241

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " يأكلها رطبا " ولان شراءها إنما جاز للحاجة إلى أكل
الرطب فإذا أتمرت تبينا عدم الحاجة فيبطل العقد ولا فرق بين تركه لغناه عنها أو مع حاجته إليها
وتركها لعذر أو لغير عذر للخبر، ولو أخذها رطبا فتركها عنده فأتمرت أو شمسها حتى صارت تمرا
242

جاز لأنه قد أخذها، فإن أخذ بعضها رطبا وترك باقيها حتى أتمر فهل يبطل البيع فيما أتمر؟ على وجهين
{مسألة} (وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح في الثمر جاز بيعه مطلقا وبشرط التبقية، وللمشتري
تبقيته إلى الحصاد والجزاز)
243

إذا بدا صلاح الثمرة جاز بيعها مطلقا وبشرط القطع وبشرط التبقية وهو قول مالك والشافعي
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز بشرط التبقية إلا أن محمدا قال: إذا تناهى عظمها جاز واحتجوا بان
هذا شرط للانتفاع بملك البائع على وجه لا يقتضيه العقد فلم يجز كما لو اشترط تبقية الطعام في كندوجه
244

ولنا أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها يدل بمفهومه على إباحة بيعها بعد بدو صلاحها
والمنهي عنه قبل بدو الصلاح عندهم بيعها بشرط التبقية فيجب أن يكون ذلك جائزا بعد بدو الصلاح
وإلا لم يكن بدو الصلاح غاية ولا يكون في ذكره فائدة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة
245

حتى يبدو صلاحها وتأمن العاهة، وتعليله بأمن العاهة يدل على التبقية لأن ما يقطع في الحال لا يخاف
العاهة عليه، وإذا بدا الصلاح فقد امنت العاهة فيجب أن يجوز بيعه مبقى لزوال علة المنع، ولان النقل
والتحويل يجب في الممتنع بحكم العرف، فإذا شرطه جاز كما لو اشترط نقل الطعام من ملك البائع حسب
246

العادة وفي هذا انفصال عما ذكروه، وكذلك إذا اشتد الحب يجوز بيعه كذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث " حتى يبيض " فجعل ذلك غاية للمنع من بيعه فيدل على الجواز بعده، وفي رواية نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد، ولأنه إذا اشتد حبه بدا صلاحه فصار كالثمرة إذا بدا صلاحها
247

وإذا اشتد بعض حبه جاز بيع جميع ما في البستان من نوعه كالشجرة
{مسألة} (ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك لأنه يجب عليه تسليم الثمرة كاملة)
وذلك يكون بالسقي فإن قيل فلم قلتم إنه إذا باع الأصل وفيه ثمرة للبائع لا يلزم المشتري سقيها
248

قلنا لأن المشتري ليس عليه تسليم الثمرة لأن البائع لم يملكها من جهته، وإنما بقي ملكه عليها بخلاف
مسئلتنا، فإن امتنع البائع من السقي لضرر يلحق بالأصل أجبر عليه لأنه دخل على ذلك
(فصل) ويجوز لمشتري الثمرة بيعها في شجرها روي ذلك عن الزبير بن العوام والحسن البصري وأبي
249

حنيفة والشافعي وابن المنذر، وكرهه ابن عباس وعكرمة وأبو سلمة لأنه تبع له قبل قبضه فلم يجز كما لو كان
على وجه الأرض ولم يقبضه. ولنا أنه يجوز له التصرف فيه فجاز بيعه كما لو قطعه، وقولهم لم يقبضه ممنوع
فإن قبض كل شئ بحسبه وهذا قبضه التخلية وقد وجدت
250

{مسألة} (وان تلفت بجائحة من السماء رجع على البائع، وعنه إن أتلفت الثلث فصاعدا ضمنه البائع
وإلا فلا) كل ما تهلكه الجائحة من الثمر على أصوله قبل أوان الجزاز من ضمان البائع وبهذا قال أكثر
أهل المدينة منهم يحيى بن سعيد ومالك وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث وهو قول الشافعي القديم،
251

وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد هو من ضمان المشتري لما روي أن امرأة أتت النبي
صلى الله عليه وسلم فقالت: ان ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسأله أن يضع عنه
فتألى أن لا يفعل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تألى فلان أن لا يفعل خيرا " متفق عليه، ولو كان واجبا
252

لأجبره عليه، ولان التخلية يتعلق بها جواز التصرف فتعلق بها الضمان كالنقل والتحويل، ولأنه لا يضمنه
إذا أتلفه آدمي فكذلك لا يضمنه باتلاف غيره
ولنا ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
253

" إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ "
رواهما مسلم، ورواه أبو داود ولفظه " من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا على م
يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم؟ " وهذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه قال الشافعي لم يثبت عندي
254

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت عندي لم أعده، ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها
في القليل والكثير: قلنا الحديث ثابت رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وغيرهم: فاما
حديثهم فلا حجة لهم فيه فإن فعل الواجب خير، فإذا تألى ان لا يفعل الواجب فقد تألى ان لا يفعل
255

خيرا، وإنما لم يجبره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قول بمجرد قول المدعي من غير إقرار بالبائع ولا حضوره،
واما التخلية فليست قبضا تاما بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف
تمام القبض بدليل المنافع في الإجارة يباح التصرف فيها كانت من ضمان المؤجر كذلك
الثمرة في شجرتها كالمنافع قبل استيفائها تؤخذ حالا فحالا وقياسهم يبطل بالتخلية في الإجارة
256

(فصل) والجائحة كل آفة لا صنع لآدمي فيها كالريح والحر والبرد والعطش لما روى الساجي
باسناده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجائحة تكون في البرد والحر وفي الحبق
وفي السيل وفي الريح وهذا تفسير من الرواي لكلام النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليه، فاما ما
257

كان بفعل آدمي فقال القاضي يخير المشتري بين فسخ العقد ومطالبة البائع بالثمن وبين البقاء عليه ومطالبة
الجاني بالقيمة كالمكيل والموزون إذا أتلفه آدمي قبل القبض لأنه أمكن الرجوع ببدله بخلاف التالف
بالجائحة إلا أن في إحراق اللصوص ونهب العساكر والحرامية وجهين، فإن قيل فقد نهى النبي صلى الله
258

عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن والثمرة غير مضمونة على المشتري، فإذا كانت القيمة أكثر من الثمن
فقد ربح فيه. قلنا إن المراد بالخبر النهي عن الربح بالبيع بدليل أن المكيل لو زادت قيمته قبل قبضه
ثم قبضه جاز ذلك بالاجماع
259

(فصل) وظاهر المذهب أنه لافرق بين قليل الجائحة وكثيرها إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله
كاليسير الذي لا ينضبط لا يلتفت عليه، قال أحمد إني لا أقول في عشر ثمرات ولا عشرين ولا أدري
ما الثلث ولكن إذا كانت جائحة تستغرق الثلث أو الربع أو الخمس توضع، وعن أحمد أن ما دون الثلث
260

من ضمان المشتري وهو مذهب مالك والشافعي في القديم لأنه لابد أن يأكل الطائر منها وتنثر الريح
وتسقط منها فلم يكن بد من ضابط وحد والثلث قد اعتبره الشارع في الوصية وعطية المريض قال الأثرم
قال أحمد إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولان الثلث في حد الكثرة وما دونه في حد القلة
261

بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية " الثلث والثلث كثير " فلهذا قدر به
ولنا عموم الأحاديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح وما دون الثلث داخل فيها فيجب
وضعه، ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها فكان ما تلف منها من ضمان البائع، وان نقص عن الثلث كالتي على الأرض
262

وما أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة ولا يسمى جائحة فلا يدخل في الخبر ولأنه لا يمكن التحرز منه
فهو معلوم الوجود بحكم العادة فإنه مشروط. إذا ثبت ذلك فمتى تلف شئ له قدر خارج عن العادة
وضع من الثمن بقدر الذاهب، وإن تلف الجميع بطل العقد ويرجع المشتري بجميع الثمن، وأما على
263

الرواية الثانية فإنه يعتبر ثلث الثمرة وقيل ثلث القيمة، فإن تلف الثلث فما زاد رجع بقسطه من الثمن
وإن كان دونه لم يرجع بشئ، وان اختلفا في الجائحة أو قدر التالف فالقول قول البائع لأن الأصل
بالسلامة، ولأنه غارم والقول في الأصول قول الغارم
264

(فصل) فإن بلغت الثمرة أوان الجزاز فلم يجزها حتى أصابتها جائحة فقال القاضي عندي لا توضع لأنه
مفرط بترك النقل في وقته مع قدرته فكان الضمان عليه، ولو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط
265

القطع فأمكنه قطعها فلم يقطعها حتى تلفت فهي من ضمانه لذلك، وان تلفت قبل امكان قطعها فهي
من مال البائع كالمسألة قبلها.
266

(فصل) فإن استأجر أرضا فزرعها فتلف الزرع فلا شئ على المؤجر نص عليه أحمد ولا نعلم
فيه خلافا لأن المعقود عليه منافع الأرض ولم يتلف إنما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها
267

ليقصر فيها ثيابا فتلفت الثياب فيها
{مسألة} (وصلاح بعض ثمرة الشجرة صلاح لجميعها)
268

لا يختلف فيه فيباح بيع جميعها بذلك لا نعلم فيه خلافا وهل يكون صلاحا لسائر النوع الذي في
البستان؟ على روايتين أظهرهما أنه يكون صلاحا فيجوز بيعه وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن قياسا
269

على الشجرة الواحدة، ولان اعتبار الصلاح يشق ويؤدي إلى الاشتراك واختلاف الا يدي فوجب
أن يتبع ما لم يبد صلاحه من نوعه لما بدا كالشجرة الواحدة (والثانية) لا يكون صلاحا، ولا يجوز
270

بيع إلا ما بدا صلاحه لأنه لم يبد صلاحه فلم يجز
بيعه كالذي في البستان الآخر.
271

(فصل) فأما النوع الآخر من ذلك الجنس فقال القاضي لا يجوز بيعه وهو أحد الوجهين لأصحاب
الشافعي، وقال محمد بن الحسن ما كان متقارب الادراك فبدو صلاح بعضه يجوز به بيع جميعه وما
272

يتأخر تأخرا كثيرا فلا يجوزه في الباقي، وقال أبو الخطاب يجوز بيع ما في البستان من ذلك الجنس
وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن الجنس الواحد يضم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب فيتبعه
273

في جواز البيع كالنوع الواحد، والأول أولى لأن النوعين قد يتباعد إدراكهما فلم يتبع أحدهما الآخر
في بدو الصلاح كالجنسين ويخالف الزكاة فإن القصد هو الغنى من جنس ذلك المال لتقارب منفعته
274

وقيام كل نوع مقام الآخر في المقصود والمعنى ههنا هو تقارب إدراك أحدهما من الآخر ودفع الضرر
الحاصل بالاشتراك واختلاف الأيدي ولا يحصل ذلك في النوعين فصار في هذا كالجنسين
275

(فصل) فأما النوع الواحد من بساتين فلا يتبع أحدهما الآخر في جواز بيع أحدهما ببدو صلاح
الآخر سواء كانا متجاورين أو متباعدين وهذا مذهب الشافعي، وحكي عن أحمد ان بدو الصلاح
276

في شجرة من القراح صلاح له ولما قاربه وبهذا قال مالك، لأنهما يتقاربان في الصلاح فأشبه القراح
الواحد ولان المقصود الامن من العاهة وقد وجد والأول المذهب لأنه إنما جعل ما لم يبد صلاحه
277

بمنزلة ما بدا دفعا لضرر الاشتراك واختلاف الأيدي وإلا فالأصل اعتبار كل شئ بنفسه والذي في
القراح الآخر لا يوجد فيه هذا الضرر فوجب أن لا يتبع الآخر كما لو تباعدا فإن بدا صلاح النوع
278

الواحد فأفرد بالبيع ما لم يبد صلاحه من بقية النوع من ذلك البستان لم يجز لدخوله تحت عموم النهي
وتعذر قياسه على الصورة المخصوصة من العموم وهي إذا باعه ما بدا صلاحه لأنه دخل في البيع تبعا
279

دفعا لمضرة الاشتراك ولا يوجد ذلك ههنا، ولأنه قد يدخل في البيع تبعا ما لا يجوز افراده كالثمرة
تباع مع الأصل والزرع مع الأرض، ويحتمل الجواز لأن الكل في حكم ما بدا صلاحه فأشبه بيعه معه
280

وكما لو أفرد بالبيع ما بدا صلاحه
{مسألة} (وبدو الصلاح في ثمر النخل أن يحمر أو يصفر، وفي العنب أو يتموه، وفي سائر الثمار
281

أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله)
وجملة ذلك أن ما كان من الثمر يتغير لونه عند صلاحه كثمرة النخل والعنب غير الأبيض والإجاص
282

فبدو صلاحه بذلك، فإن كان العنب أبيض فصلاحه بتموهه وهو أن يبدو فيه الماء الحلو ويلين ويصفو
لونه، فإن كان مما لا يتلون كالتفاح ونحوه فبأن يحلو ويطيب، وإن كان بطيخا أو نحوه فبأن ينمو وفيه النضج
283

وإن كان مما لا يتغير لونه ويؤكل طيبا كالقثاء والخيار فصلاحه بلوغه أن يؤكل عادة، وقال القاضي
وأصحاب الشافعي بلوغه تناهي عظمه وما قلناه أشبه بصلاحه مما قالوه فإن بدو صلاح الشئ ابتداؤه
284

وتناهي عظمه آخر صلاحه، ولان بدو الصلاح في الثمر يسبق حال الجزاز فلا يجوز أن يجعل بدو
صلاحه فيما يقاس عليه بسبقه قطعه عادة وما قلنا في هذا الفصل فهو قول مالك والشافعي وكثير من
285

أهل العلم أو مقارب له، وقال عطاء لا يباع حتى يؤكل من الثمر قليل أو كثير وروي عن ابن عمر وابن
عباس ولعلهم أرادوا صلاحه للاكل فيرجع معناه إلى ما قلنا فإن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى
286

الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل متفق عليه، وان أرادوا حقيقة الاكل فيحمل على
ذلك موافقة لا كثر الاخبار وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الثمر حتى يطيب
287

أكله متفق عليه، ونهى أن تباع الثمرة حتى تزهو قيل وما تزهو؟ قال " تحمار أو تصفار " رواه البخاري
ونهى عن بيع العنب حتى يسود، رواه الترمذي وابن ماجة والأحاديث في هذا كثيرة كلها تدل
288

على هذا المعنى والله أعلم.
{مسألة} (ومن باع عبدا وله مال فماله للبائع الا أن يشترطه المبتاع)
289

إذا باع عبده أو أمته وله مال ملكه إياه أو خصه به فهو للبائع لما روى ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع " رواه مسلم
290

وغيره ولان العبد وماله للبائع، فإذا باع العبد اختص البيع به دون غيره كما لو كان له عبدان فباع
أحدهما وان اشترطه المبتاع كان له للخبر، روي ذلك عن عمر بن الخطاب وقضى به شريح، وبه
291

قال مالك والشافعي وإسحاق.
{مسألة} (فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط المبيع، وإن لم يكن قصده
292

المال لم يشترط علمه)
إذا اشترى عبدا واشترط ماله وكان المال مقصودا بالشراء صح اشتراطه للخبر ويشترط أن يوجد
293

فيه شرائط البيع من العلم به وألا يكون بينه وبين الثمن ربا كما يعتبر ذلك في العينين المبيعتين لأنه مبيع
مقصود فأشبه ما لو ضم إلى العبد عينا أخرى وباعهما، وان لم يكن قصده المال صح شرطه وإن كان
294

مجهولا نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي ثور والبتي، وسواء كان المال من جنس الثمن أو من
غير جنسه عينا كان أو دينا، وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر. قال البتي: إذا باع عبدا بألف
295

درهم ومعه ألف درهم فالبيع جائز إذا كان رغبة المبتاع في العبد لا في الدراهم وذلك لأنه دخل في
البيع تبعا غير مقصود فأشبه أساسات الحيطان والتمويه بالذهب في السقوف، وقال القاضي: هذا
296

ينبني على كون العبد يملك أولا يملك. فإن قلنا لا يملك فاشترط المشتري ماله صار مبيعا معه فاشترط فيه
ما يشترط في سائر المبيعات وهو مذهب أبي حنيفة، وان قلنا يملك احتملت فيه الجهالة وغيرها مما
297

ذكرنا من قبل أنه بيع تبعا فهو كطي الآبار، وهذا خلاف نص أحمد والخرقي فإنهما جعلا الشرط
الذي يختلف الحكم به قصد المشتري دون غيره. قال شيخنا: وهو أصح إن شاء الله تعالى، واحتمال
298

الجهالة فيه لكونه غير مقصود كاللبن في الضرع والحمل في البطن وأشباه ذلك فإنه مبيع ويحتمل فيه
الجهالة وغيرها لما ذكرنا، وقد قيل إن المال ليس بمبيع ههنا، وإنما استبقاه المشتري على ملك العبد
299

فلا يزول عنه إلى البائع وهو قريب من الأول
(فصل) وإذا اشترط مال العبد في الشراء ثم رده بإقالة أو عيب رد ماله وقال داود يرده دون ماله
300

لأن ماله لم يدخل فيه فأشبه النماء الحادث عنده، ولنا أنه عين مال أخذها المشتري لا تحصل بدون
البيع فيردها بالفسخ كالعبد، ولان العبد إذا كان ذا مال كانت قيمته أكثر فأخذ ماله ينقص قيمته فلم يملك
301

رده حتى يدفع ما يزيل نقصه، فإن تلف ماله فأراد رده فهو بمنزلة العيب الحادث هل يمنع الرد؟ على روايتين
فإن قلنا بالرد فعليه قيمة ما تلف عنده. قال أحمد في رجل اشترى أمة معها قناع فاشترطه وظهر على
302

عيب وقد تلف القناع غرم قيمته بحصته من الثمن
{مسألة} (وإن كان عليه ثياب فقال أحمد: ما كان للجمال فهو للبائع، وما كان للبس
303

المعتاد فهو للمشتري)
إذا كان على العبد أو الجارية حلي فهو بمنزلة ماله على ما ذكرنا. فاما الثياب فقال أحمد: ما كان يلبسه
304

عند البائع فهو للمشتري، وان كانت ثيابا يلبسها فوق ثيابه أو شئ يزينه به فهو للبائع إلا أن يشترطه
305

المبتاع، وإنما كان كذلك لأن ثياب البذلة جرت العادة ببيعها معه، ولأنها تتعلق بها حاجة العبد وإنما
306

يلبسها إياه لينفقه بها وهذه حاجة السيد لا حاجة العبد ولم تجر العادة بالمسامحة فيها فجرت مجرى الستور
307

في الدار والدابة التي يركبه عليها. وقال ابن عمر من باع وليدة زينها بثياب فللذي اشتراها ما عليها
308

إلا أن يشترطه الذي باعها، وبه قال الحسن والنخعي، ولنا الخبر المذكور ولان الثياب لم يتناولها لفظ
309

البيع ولا جرت العادة ببيعها معه أشبه سائر مال البائع ولأنه زينة للمبيع أشبه ما لو زين الدار ببسط
310

أو ستور والله سبحانه وتعالى أعلم
311

(باب السلم)
وهو أن يسلم عينا حاضرة في عوض موصوف في الذمة إلى أجل ويسمى سلفا وسلما يقال: أسلم
وأسلف وهو نوع من البيع وينعقد بلفظ السلف والسلم لأنهما حقيقة فيه، ويشترط له ما يشترط للبيع
إلا أنه يجوز في المعدوم، والأصل في جوازه الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله سبحانه
(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) قال ابن عباس أشهد أن السلف
المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ هذه الآية، رواه سعيد وان
اللفظ يشمله بعمومه، وأما السنة فروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون
في الثمار السنتين والثلاث فقال " من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل
معلوم " متفق عليه، وأما الاجماع فقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز
(فصل) ولا يصح الا بشروط سبعة (أحدها) أن يكون مما يمكن ضبط صفاته التي يختلف الثمن
باختلافها ظاهرا كالمكيل من الحبوب وغيرها والموزون القطن والإبريسم والكتان والقنت
والصوف والشعر والكاغد والحديد والصفر والنحاس والطيب والادهان والخلول وكل مكيل أو
موزون وكذلك المزروع كالثياب، وقد جاء الحديث في الثمار، وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم
على أن السلم في الطعام جائز.
{مسألة} (فاما المعدود المختلف كالحيوان والفواكه والبقول والجلود والرؤوس ونحوها ففيه روايتان)
312

اختلفت الرواية في السلم في الحيوان فروي أنه لا يصح السلم فيه وهو قول الثوري وأصحاب الرأي
وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن جبير والشعبي. قال عمر: إن من الربا أبوابا
لا تخفى وإن منها السلم في البسر، ولان الحيوان يختلف اختلافا متباينا فلا يمكن ضبطه، وان استقصى
صفاته التي يختلف بها الثمن مثل أزج الحاجبين أكحل العينين أقنى الانف أهدب الأشفار ألمى الشفة
تعذر تسلميه لندرة وجوده على تلك الصفة وان لم يذكرها اختلف بها الثمن ظاهرا والمشهور في
المذهب صحة السلم فيه نص عليه أحمد في رواية الأثرم، قال ابن المنذر وممن روينا عنه أنه لا بأس
بالسلم في الحيوان ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب الحسن والشعبي ومجاهد
والزهري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور، ولان أبا رافع قال: استسلف النبي صلى الله
313

عليه وسلم من رجل بكرا، ورواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن أبتاع البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجئ الصدقة، رواه أبو داود ولأنه
يثبت في الذمة صداقا فيثبت في السلم كالثياب. فاما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف ثم هو
محمول على أنهم يشترطون من ضراب فحل بني فلان، قال الشعبي إنما كره ابن مسعود السلف في
الحيوان لأنهم اشترطوا نتاج فحل معلوم رواه سعيد، وقد روي عن علي أنه باع جملا له
يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل، ولو ثبت قول عمر في تحريم السلم في الحيوان فقد عارضه
قول من سمينا ممن وافقنا.
(فصل) واختلفت الرواية في السلم في الحيوان مما لا يكال ولا يوزن ولا يزرع فنقل إسحاق بن إبراهيم
عن أحمد أنه قال: لا أرى السلم الا فيما يكال أو يوزن أو يوقف عليه قال أبو الخطاب معناه يوقف عليه
بحد معلوم لا يختلف كالزرع فأما الرمان والبيض فلا أرى السلم فيه، وحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق
أنه لاخير في السلم في الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء والخيار لأنه لا يكال ولا يوزن ومنه الصغير
والكبير فعلى هذه الرواية لا يصح السلم في كل معدود مختلف كالذي سمينا وكالبقول لأنه يختلف ولا يمكن
314

تقديره بالحزم لأن الحزم يمكن في الصغير والكبير فلم يصح السلم فيه كالجواهر، ونقل إسماعيل بن سعيد
وابن منصور جواز السلم في الفواكه والموز والخضراوات ونحوها لأن كثيرا من ذلك يتقارب وينضبط
بالكبر والصغر وما لا يتقارب ينضبط بالوزن كالبقول ونحوها فيصح السلم فيه كالمزروع، وبهذا قال
أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي، وحكى ابن المنذر عن الشافعي المنع من السلم في البيض الجوز ولعل
هذا قول آخر فيكون له قولان:
(فصل) وفي السلم في الرؤوس من الخلاف ما ذكرناه وكذلك الأطراف وللشافعي فيه قولان
(أحدهما) يجوز وهو قول مالك والأوزاعي وأبي ثور لأنه لحم فيه عظم يجوز شراؤه فجاز السلم فيه
كبقية اللحم (والأخرى) لا يجوز وهو قول أبي حنيفة لأن أكثره العظام والمشافر واللحم فيه قليل وليس
بموزون بخلاف اللحم فإن كان مطبوخا أو مشويا فقال الشافعي لا يصح السلم فيه وهو قياس قول القاضي
لا يتناثر ويختلف وعلى قول أصحابنا غير القاضي حكم ما مسته النار حكم غيره وبه قال مالك والأوزاعي
315

وأبي ثور والعقد يقتضيه سليما من التناثر والعادة في طبخه تتقارب فأشبه غيره وفي الجلود من الخلاف
ما في الرؤوس والأطراف وقال الشافعي لا يصح السلم فيها لأنه يختلف فالورك ثخين قوي والصدر ثخين
رخو والبطن رقيق ضعيف والظهر أقوى فيحتاج إلى وصف كل موضع منه ولا يمكن ذرعه لاختلاف
أطرافه، ولنا أن التفاوت في ذلك معلوم فلم يمنع صحة السلم فيه كالحيوان فإنه يشتمل على الرأس والجلد
والأطراف والشحم وما في البطن وكذلك الرأس يشتمل على لحم الخدين والأذنين والعينين ويختلف
ولم يمنع صحة السلم فيه كذلك ههنا
(فصل) ويصح السلم في اللحم وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز لأنه يختلف، ولنا قول
النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم " ظاهره إباحة السلم في كل موزون ولأنا قد
بينا جواز السلم في الحيوان فاللحم أولى
(مسألة) وفي الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرؤوس وما يجمع
أخلاطا مميزة كالثياب المنسوجة من نوعين وجهان)
لا يصح السلم في الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط لأن الصفة لا تأتي عليها وفيه وجه آخر أنه
يصح إذا ضبط بارتفاع حائطه ودون أسفله وأعلاه لأن التفاوت في ذلك يسير. فأما الثياب المنسوجة
من نوعين كالقطن والكتان والإبريسم فالصحيح جواز السلم فيها لأن ضبطها ممكن وفيه وجه
آخر أنه لا يجوز كالمعاجين.
(فصل) ويصح السلم في اللبأ والخبز وما أمكن ضبطه ما مسته النار، وقال الشافعي لا يصح السلم
في كل معمول بالنار لأن النار تختلف ويختلف الثمن ويختلف عملها، ولنا أنه موزون فجاز السلم فيه
كسائر الموزونات ولعموم الحديث ولان عمل النار فيه معلوم بالعادة ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة
فأشبه المجفف بالشمس، فأما اللحم المطبوخ والمشوي فقال القاضي لا يصح السلم فيه وهو مذهب
الشافعي لأنه يتفاوت كثيرا وعادة الناس فيه مختلفة فلا يمكن ضبطه وقال بعض أصحابنا: يصح السلم
فيه لما ذكرنا في الخبز واللبأ.
316

(فصل) ويصح السلم في النشاب والنبل وقال القاضي: لا يصح السلم فيهما وهو مذهب الشافعي لأنه
يجمع أخلاطا من خشب وعقب وريش ونصل فرى مجرى أخلاط الصيادلة ولان فيه ريشا نجسا
لأنه من جوارح الطير. ولنا أنه مما يصح بيعه ويمكن ضبطه بالصفات التي لا يتفاوت الثمن معها غالبا
فصح السلم فيه كالقصب والخشب وما فيه من غيره متميز يمكن ضبطه والإحاطة به ولا يتفاوت كثيرا فلا
يمنع كالثياب المنسوجة من جنسين وقد يكون الريش طاهرا وإن كان نجسا لكن يصح بيعه فلا يمنع
السلم فيه كنجاسة البغل والحمار.
{مسألة} (ولا يصح فيما لا ينضبط كالجواهر كلها والحوامل من الحيوان والمغشوش من الأثمان وغيرها
وما يجمع أخلاطا غير مميزة كالغالية والند والمعاجين ويصح فيما يترك فيه شئ غير مقصود لمصلحته كالجبن
والعجين وخل التمر والسكنجبين ونحوه)
لا يصح السلم فيما لا ينضبط بالصفة كالجوهر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والفيروزج والبلور لأن
أثمانها تختلف اختلافا متباينا بالصغر والكبر وحسن التدوير وزيادة ضوئها وصفائها ولا يمكن تقديرها
بشئ معين لأن ذلك يتلف وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن مالك صحة السلم فيها إذا
اشترط منها شيئا معلوما إن كان وزنا فبوزن معروف والصحيح الأول لما ذكرناه، ولا يصح في
الحوامل من الحيوان لأن الصفة لا تأتي عليها، ولان الولد مجهول غير متحقق، وفيه وجه آخر انه يصح
لأن الحمل لا حكم له مع الام بدليل صحة بيع الحامل وإن اشترط الحمل ولا نقول بأن الجهل بالحمل
مبطل للبيع لكن ان لم تكن حاملا فله الرد، وإذا صح البيع صح السلم لأنه بيع، ولا يصح في
المغشوش من الأثمان لأنه مجهول لا ينضبط بالصفة ولا فيما يجمع أخلاطا غير مميزة كالغالية والند
والمعاجين التي يتداوى بها للجهل بها. والذي يجمع أخلاطا على أربعة اضرب (أحدها) مختلط مقصود
متميز كالثياب المنسوجة من نوعين والصحيح جواز السلم فيها (الثاني) ما خلطه لمصلحته وليس
بمقصود في نفسه كالإنفحة في الجبن والملح في العجين والخبز والماء في خل التمر والخل في السكنجبين
فيصح السلم فيه لأنه يسير لمصلحته (الثالث) أخلاط مقصودة غير متميزة كالغالية والند والمعاجين
317

فلا يصح السلم فيه لأن الصفة لا تأتي عليها (الرابع) ما خلطه غير مقصود ولا مصلحة فيه كاللبن المشوب
بالماء فلا يصح السلم فيه لأن غشه يمنع العلم بقدر المقصود منه فيكون مجهولا، ولا يصح السلم في
القسي المشتملة على الخشب والقرن والقصب والتوز إذ لا يمكن ضبط مقادير ذلك وتمييز ما فيه منها،
وقيل يجوز السلم فيها كالثياب المنسوجة من نوعين وكالنشاب المشتمل على الخشب والعقب والريش
والنصول والأولى ما ذكرنا.
(فصل) الثاني أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرا فيذكر جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته
وقدمه وجودته ورداءته وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكره إنما اشترط ذلك لأن المسلم فيه عوض
في الذمة فلابد من العلم به كالثمن، ولان العلم شرط في البيع وطريقه الرؤية أو الوصف والرؤية متعذرة
ههنا فتعين الوصف والأوصاف على ضربين متفق على اشتراطها ومختلف فيها، فالمتفق عليها ثلاثة
أوصاف: الجنس والنوع والجودة والرداءة فهذه لابد منها في كل مسلم فيه وكذلك معرفته وسنذكرها
وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم عن غيرهم فيه خلافا (الضرب الثاني) ما يختلف الثمن
باختلافه غير هذه الأوصاف فينبغي أن يكون ذكرها شرطا قياسا على المتفق عليها ونذكرها عند ذكره
وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة يكفي ذكر الأوصاف الأول لأنها تشتمل على ما وراءها من
الصفات. ولنا أنه يبقى من الصفات من اللون والبلد ونحوهما ما يختلف الثمن والعوض لأجله فوجب
ذكره كالنوع، ولا يجب استقصاء كل الصفات لأنه يتعذر وقد ينتهي الحال فيها إلى أمر يتعذر تسليم
المسلم فيه فيجب الاكتفاء بالأوصاف الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهرا، ولو استقصى الصفات حتى
انتهى إلى حال يتعذر وجود المسلم فيه بتلك الصفات بطل لأن من شروط السلم أن يكون المسلم فيه عام
الوجود في محله واستقصاء الصفات يمنع منه
(فصل) ولو أسلم في جارية وابنتها أو أختها أو عمتها أو خالتها أو بنت عمها لم يصح لأنه لابد
أن يضبط كل واحدة منهما بصفات ويتعذر وجود تلك الصفات في جارية وبنتها، ولو أسلم في ثوب
على صفة خرقة معيبة لم يجز لأنها قد تهلك وهذا غرر فهو كما لو شرط مكيالا بعينه غير معلوم
(فصل) والجنس والجودة والقدر شرط في كل مسلم فيه فلا حاجة إلى تكرير ذكر ذلك ويذكر
ما سواها فيصف التمر بأربعة أوصاف النوع برني أو معقلي والبلد إن كان يختلف فيقول بغدادي أو
318

بصرى فإن البغدادي أحلى وأقل بقاء لعذوبة الماء، والبصري بخلافه، والقدر كبار أو صغار، أو حديث
أو عتيق فإن أطلق العتيق أجزأ أي عتيق كان ما لم يكن مسوسا ولا حشفا ولا متغيرا، وإن شرط عتيق
عام أو عامين فهو على ما شرط، فأما اللون فإن كان النوع الواحد يختلف كالطبرزد يكون أحمر وأسود
ذكره والا فلا، والرطب كالتمر في هذه الأوصاف الا الحديث والعتيق وليس له من الرطب الا ما
أرطب كله ولا يأخذ مشدخا ولا ما قارب أن يتمر وهكذا ما يشبهه من العنب والفواكه
(فصل) ويصف البر بأربعة أوصاف النوع فيقول سبيلة أو سلموني والبلد حوراني أو سمالي
وصغار الحب أو كباره وحديث أو عتيق، وإن كان النوع الواحد يختلف لونه ذكره ولا يسلم إليه إلا
مصفى وهذا الحكم في الشعير وسائر الحبوب ويصف العسل بثلاثة أوصاف بالبلد ويجزئ ذلك عن
النوع، والزمان ربيعي وصيفي واللون وليس له الا مصفى
(فصل) ولا بد في الحيوان من ذكر النوع والسن والذكورية والأنوثية ويذكر اللون إن كان
النوع الواحد يختلف ويرجع في سن الغلام إليه إن كان بالغا والا فالقول قول سيده، وإن لم يعلم رجع
في ذلك إلى أهل الخبرة على ما يغلب على ظنونهم تقريبا، وإذا ذكر النوع في الرقيق وكان مختلفا مثل
التركي منهم الحبكلي والخزري فهل يحتاج إلى ذكره أو يكفي ذكر النوع؟ يحتمل وجهين (أولاهما) أنه
يحتاج لأنه يختلف به الثمن، ولا يحتاج في الجارية إلى ذكر الجعودة والسبوطة لأن ذلك لا يختلف به
الثمن اختلافا بينا ومثل ذلك لا يراعى كما لا تراعى صفات الحسن والملاحة، فإن ذكر شيئا من ذلك
319

لزمه، ويذكر الثيوبة والبكارة لأن الثمن يختلف بذلك ويتعلق به الغرض ويذكر القد خماسي أو سداسي
يعني خمسة أشبار أو ستة أشبار. قال أحمد: يقول خماسي سداسي أسود أبيض أعجمي أو فصيح،
أما الإبل فيضبطها بأربعة أوصاف فلان والسن بنت مخاض أو بنت لبون واللون
بيضاء أو حمراء أو ورقاء وذكر أو أنثى، فإن اختلف النتاج فكان فيه مهرية وأرجبية فهل يحتاج إلى
ضبط ذلك؟ يحتمل وجهين ولا يفتقر إلى ذكر ما زاد على هذه الأوصاف، وإن ذكر بعضه كان تأكيدا
ولزمه وأوصاف الخيل كأوصاف الإبل، وأما البغال والحمر فلا نتاج لها فيجعل بدل ذلك نسبتها إلى
بلدها، وأما البقر والغنم فإن عرف لها نتاج فهي كالإبل والا فهي كالحمر، ولا بد من ذكر النوع في
هذه الحيوانات فيقول في الإبل بختية أو عرابية، وفي الخيل عربية أو هجين أو برذون، وفي الغنم
ضأن أو معز الا الحمير والبغال فلا أنواع فيها
(فصل) ويذكر في اللحم السمن والذكورية والأنوثية والسمن والهزال وراعيا أو مغلوفا ونوع
الحيوان وموضع اللحم منه ويزيد في الذكر فحلا أو خصيا وإن كان لحم صيد لم يحتج إلى ذكر العلف
والخصي ويذكر الآلة التي يصاد بها من جارحة أو أحبولة، وفي الجارحة يذكر صيد فهد أو كلب
أو صقر فإن الاحبولة يؤخذ الصيد منها سليما، وصيد الكلب خير من صيد الفهد لكون الكلب أطيب
نكهة من الفهد لكونه مفتوح الفم في أكثر الأوقات، والصحيح إن شاء الله أن هذا ليس بشرط
لأن التفاوت فيه يسير ولا يكاد الثمن يتباين باختلافه ولا يعرفه الا القليل من الناس، وإذا لم يحتج
في الرقيق إلى ذكر السمن والهزال وأشباهها وما يتباين بها الثمن وتتعلق بها الرغبات ويعرفها الناس
320

فهذا أولى، ويلزم قبول اللحم بعظامه لأنه هكذا يقطع فهو كالنوى في التمر، فإن كان السلم في لحم
طير لم يحتج إلى ذكر الذكورية والأنوثية إلا أن يختلف بذلك كلحم الدجاج ولا إلى ذكر موضع اللحم
إلا أن يكون كثيرا يأخذ منه بعضه ولا يلزمه قبول الرأس والساقين لأنه لا لحم عليها، ويذكر في
السمك النوع بردي أو غيره والكبر والصغر والسمن والهزال والطري والملح ولا يقبل الرأس
والذنب وله ما بينهما وإن كان كثيرا يأخذ بعضه ذكر موضع اللحم منه
(فصل) ويضبط السمن بالنوع من ضأن أو معز أو بقر واللون أبيض أو أصفر، قال القاضي
ويذكر المرعى ولا يحتاج إلى ذكر حديث أو عتيق لأن الاطلاق يقتضي الحديث ولا يصح السلم في
عتيقه لأنه عيب ولا ينتهي إلى حد يضبط به، ويصف الزبد بأوصاف السمن ويزيد زبد يومه أو
أمسه ولا يلزمه قبول متغير من السمن والزبد ولا رقيق إلا أن تكون رقته للحر، ويصف اللبن بالمرعى
ولا يحتاج إلى اللون ولا حليب يومه لأن اطلاقه يقتضي ذلك ولا يلزمه قبول متغير. قال أحمد ويصح
السلم في المخيض وقال الشافعي لا يصح لأن فيه ما ليس من مصلحته وهو الماء فصار المقصود مجهولا
ولنا أن الماء يسير يترك لأجل المصحلة جرت العادة به فلم يمنع صحة السلم فيه كالماء في الشيرج
وفي خل التمر، ويصف الجبن بالنوع والمرعى ورطب أو يابس، ويصف اللبأ بصفات اللبن ويزيد
اللون ويذكر الطبخ وعدمه. (فصل) ويضبط الثياب بستة أوصاف النوع كتان أو قطن والبلد والطول والعرض والصفاقة
321

والرقة والغلظ والنعومة والخشونة ولا يذكر الوزن وإن ذكره لم يصح لتعذر الجمع بين صفاته
المشترطة مع وزن معلوم فيكون فيه تغرير لبعد اتفاقه، وان ذكر الخام أو المقصور فله شرطه وإن لم
يذكره جاز وله خام لأنه الأصل، وان ذكر مغسولا أو لبيسا لم يجز لأن اللبيس يختلف ولا ينضبط
فإن أسلم في مصبوغ مما يصبغ غزله جاز لأن ذلك من جملة صفات الثوب وإن كان مما يصبغ بعد
نسجه لم يجز لأن الصبغ يمنع من الوقوف على نعومة الثوب وخشونته ولان الصبغ غير معلوم، وان
أسلم في ثوب مختلف الغزول كقطن وكتان أو قطن وإبريسم أو صوف وإبريسم وكانت الغزول مضبوطة
بأن يقول السدى إبريسم واللحمة كتان أو نحوه جاز وقد ذكرناه، ولهذا جاز السلم في الخز وهو من غزلين
مختلفين، وإن أسلم في ثوب موشى وكان الوشي من تمام نسجه جاز وإن كان زيادة لم يجز لأنه لا ينضبط.
(فصل) ويصف غزل القطن والكتان بالبلد واللون والغلظ والرقة والنعومة والخشونة ويصف
القطن بذلك ويجعل مكان الغلظة والرقة الطول والقصر، وان شرط في القطن منزوع أحب جاز وان أطلق
كان له بحبه كالتمر بنواه، ويصف الإبريسم بالبلد واللون والغلظ والرقة، ويصف الصوف بالبلد
واللون والطول والقصر والزمان خريفي أو ربيعي لأن صوف الخريف أنظف، قال القاضي: ويصفه
بالذكورية والأنوثية لأن صوف الإناث أنعم ويحتمل أن لا يحتاج إلى هذه الصفة لأن التفاوت في هذا
يسير وعليه تسليمه نقيا من الشوك والبعر وإن لم يشترطه، وان اشترطه جاز وكان تأكيدا وكذلك
الشعر والوبر، ويصح السلم في الكاغد لأنه يمكن ضبطه ويصفه بالطول والعرض والرقة والغلظ
واستواء الصنعة وما يختلف به الثمن
322

(فصل) ويضبط الرصاص والنحاس والحديد بالنوع فيقول في الرصاص قلعي أو أسرب
والنعومة والخشونة واللون إن كان يختلف ويزيد في الحديد ذكرا أو أنثى فإن الذكر أحد وأمضى وان
أسلم في الأواني التي يمكن ضبط قدرها وطولها وسمكها ودورها كالاسطال القائمة الحيطان والطسوت جاز
ويضبطها بذلك وإن أسلم في قصاع وأقداح من الخشب جاز ويذكر نوع خشبها من جوز أو توت وقدرها
في الصغر والكبر والعمق والضيق والثخانة والرقة وإن أسلم في سيف ضبطه بنوع حديده وطوله وعرضه
ورقته وبلده وغلظه وقديم الطبع أو محدث ماض أو غيره يصف قبضته وجفنه
(فصل) والخشب على أضرب منه ما يراد للبناء فيذكر نوعه ورطوبته ويبسه وطوله ودوره
أو سمكه وعرضه ويلزمه أن يدفع إليه من طرفه إلى طرفه بذلك العرض والدور، وإن كان أحد
طرفيه أغلظ مما وصف فقد زاده خيرا، وإن كان أدق لم يلزمه قبوله، وان ذكر الوزن أو سمحا
جاز وان لم يذكره جاز وله سمح خال من العقد لأن ذلك عيب وإن كان للقسي ذكر هذه الأوصاف
وزاد سهليا أو جبليا أو خوطا أو فلقة فإن الجبلي أقوى من السهلي والخوط أقوى من الفلقة ويذكر
فيما للوقود الغلظ واليبس والرطوبة والوزن، ويذكر فيما للنصب النوع والغلظ وسائر ما يحتاج
إلى معرفته ويخرجه من الجهالة وان أسلم في النشاب والنبل ضبطه بنوع خشبه وطوله وقصره ودقته
وغلظه ولونه ونصله وريشه.
(فصل) والحجارة منها ما هو للأرحية فيضبطها بالدور والثخانة والبلد والنوع إن كان يختلف ومنها
ما هو للبناء فيذكر اللون والقدر والنوع والوزن ويذكر في حجارة الآنية النوع واللون والقدر واللين
والوزن ويصف البلور بأوصافه ويصف الآجر واللبن بموضع التربة واللون والدور والثخانة وان أسلم
323

في الجص والنورة ذكر اللون والوزن ولا يقبل ما أصابه الماء فجف ولا ما قدم قدما يؤثر فيه ويضبط التراب
بمثل ذلك ويقبل الطين الذي قد جف إن كان لا يتأثر بذلك
(فصل) ويضبط العنبر بالوزن والبلد وان شرط قطعة أو قطعتين جاز وان لم يشترط فله اعطاؤه
صغارا أو كبارا، وقد قيل العنبر نبات يخلقه الله تعالى في جنبات البحر ويضبط العود الهندي ببلده وما
يعرف به ويضبط اللبان والمصطكا وصمغ الشجر والمسك وسائر ما يجوز السلم فيه بما يختلف به
{مسألة} (فإن شرط الأجود لم يصح) لتعذر الوصول إليه إلا نادرا (وان شرط الأردأ لم يصح
في أحد الوجهين) لذلك (والثاني) يصح لأنه يمكنه تسليم المسلم أو خير منه فيلزم المسلم قبوله
{مسألة} (وإن جاءه بدون ما وصف له أو نوع آخر فله أخذه)
لأنه رضي بدون حقه ولا يلزمه لأن فيه اسقاط حقه، وقال القاضي يلزمه إذ لم يكن أدنى من النوع
المشترط لأنه من جنسه أشبه الزائد في الصفة. ولنا أنه لم يأت بالمشروط فلم يلزم قبوله كالأدنى بخلاف
الزائد في الصفة فإنه أحضر المشروط مع زيادة ولان أحد النوعين يصلح لما لا يصلح له الآخر بخلاف الصفة
{مسألة} (وإن جاءه بجنس آخر لم يجز له أخذه)
لقوله عليه الصلاة والسلام " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود وذكر
ابن أبي موسى رواية أنه يجوز أن يأخذ مكان البر شعيرا مثله ولعله بناه على أنهما جنس واحد والأول أصح
{مسألة} (وإن جاءه بأجود منه من نوعه لزمه قبوله) لأنه أتى بما تناوله العقد وزيادة تنفعه ولا تضره
{مسألة} (وإن جاءه بالأجود فقال خذه وزدني درهما لم يصح)
وقال أبو حنيفة يصح كما لو جاءه بزيادة في القدر. ولنا ان الجودة صفة فلا يجوز
افرادها بالعقد كما لو كان مكيلا أو موزونا، وإن جاءه بزيادة في القدر فقال له ذلك صح لأن
الزيادة ههنا يجوز افرادها بالبيع
{فصل} قال رحمه الله تعالى (الثالث أن يذكر قدره بالكيل في المكيل والوزن في الموزون والذرع
في المذروع فإن أسلم في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا لم يصح وعنه يصح)
يشترط معرفة قدر المسلم فيه بالكيل في المكيل والوزن في الموزون في إحدى الروايتين لقول
324

النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم "
متفق عليه ويشترط معرفة المذروع بالذرع والمعدود بالعد لأنه عوض غائب يثبت في الذمة فاشترط
معرفة قدره كالثمن، ولا نعلم في اعتبار معرفة مقدار المسلم فيه خلافا. قال ابن المنذر أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز في الثياب بذرع معلوم فإن أسلف في المكيل وزنا أو في
الموزون كيلا ففيه روايتان (إحداهما) لا يصح نقلها عنه الأثرم فقال سئل أحمد عن السلم في التمر
وزنا فقال لا إلا كيلا، قلت إن الناس ههنا لا يعرفون الكيل. قال وان كانوا لا يعرفون الكيل
فعلى هذه الرواية لا يجوز في المكيل إلا كيلا ولا في الموزون الا وزنا ذكره القاضي وابن أبي موسى
لأنه مبيع يشترط معرفة قدره فلم يجز بغير ما هو مقدر به في الأصل كبيع الربويات بعضها ببعض
ولأنه مقدر بغير ما هو مقدر به في الأصل فلم يجز كما لو أسلم في المذروع وزنا (الثانية) يجوز
فنقل المروذي عن أحمد أن السلم يجوز في اللبن إذا كان كيلا أو وزنا وهذا يدل على إباحة السلم
في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا لأن اللبن لا يخلو من أن يكون مكيلا أو موزونا وقد أجاز السلم
فيه بكل منهما وهو قول الشافعي وابن المنذر، وقال مالك ذلك جائز إذا كان الناس يتبايعون التمر
وزنا وهذا الصحيح إن شاء الله لأن الغرض معرفة قدره وامكان تسليمه من غير تنازع فبأي قدر
قدره جاز ويفارق بيع الربويات فإن التماثل بالكيل في المكيل الوزن في الموزون شرط ولا يعلم
هذا الشرط إذ قدرها بغير مقدارها الأصلي، وقد ذكرنا المكيل والموزون في باب الربا، ولا
يسلم في اللبأ إلا موزونا لأنه يجمد عقيب حلبه فلا يتحقق الكيل فيه وإن كان المسلم فيه مما لا يمكن
وزنه بميزان لثقله كالأرحية والحجارة الكبار وزن بالسفينة فتترك السفينة في الماء ثم يترك ذلك
فيها فينظر إلى اي موضع تغوص فيعلمه ثم يرفع ويترك مكانه رمل أو أحجار صغار إلى أن يبلغ الماء
الموضع المعلم ثم يوزن بميزان فيكون زنة ذلك الشئ
{مسألة} (ولا بد أن يكون المكيال معلوما فإن شرط مكيالا بعينه أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح)
بشرط أن يكون المكيال والصنجة والذراع معروفة عند العامة فإن عين مكيالا أو صنجة أو
325

ذراعا غير معلوم لم يصح لأنه يهلك فيتعذر المسلم فيه وهذا غرر لا يحتاج إليه العقد. قال ابن المنذر أجمع
كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم في الطعام لا يجوز بقفيز لا يعرف عياره ولا في ثوب بذرع
فلان لأن المعيار لو تلف أو مات فلان بطل السلم منهم الثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور
فإن عين مكيال رجل أو ميزانه وكانا معروفين عند العامة جاز ولم يختص بهما، فإن لم يعلما لم يجز لما ذكرنا
{مسألة} (وفي المعدود المختلف غير الحيوان روايتان)
(إحداهما) يسلم فيه عددا والأخرى وزنا وقيل يسلم في الجوز والبيض عددا وفي الفواكه والبقول
وزنا وما عدا المكيل والموزون الحيوان والمذروع فعلى ضربين معدود وغيره والمعدود نوعان (أحدهما)
لا يتباين كثيرا كالجوز والبيض فيسلم فيه عددا في أظهر الروايتين وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي،
وقال الشافعي لا يسلم فيهما عددا لأن ذلك يتباين ويختلف فلم يجز عددا كالبطيخ وإنما يسلم فيهما وزنا وكيلا
ولنا أن التفاوت يسير ويذهب ذلك باشتراط الكبر والصغر أو الوسط فيذهب التفاوت وإن
بقي شئ " يسير عفي عنه كسائر التفاوت في المكيل والموزون المعفو عنه، ويفارق البطيخ فإنه يتفاوت
تفاوتا كثيرا لا ينضبط ولنا فيه منع أيضا (النوع الثاني) ما يتفاوت كالرمان والسفرجل والقثاء والخيار
فحكمه حكم ما ليس بمعدود من البطيخ والبقول وفيه وجهان (أحدهما) يسلم فيه عددا ويضبطها بالصغر
والكبر لأنه يباع هكذا (والثاني) لا يسلم فيه إلا وزنا وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأنه لا يمكن تقديره
بالعدد لأنه يختلف كثيرا ويتباين جدا، ولا بالكيل لأنه يتجافى في المكيال. ولا يمكن تقدير البقل بالحزم
لأنه يختلف ويمكن حزم الكبيرة والصغيرة فلم يمكن تقديره بغير الوزن فيتعين تقديره به، وقيل يسلم في
الجوز والبيض عددا لأنه يباع كذلك وفي الفواكه والبقول وزنا لأنه أضبط وقد ذكرناه
326

قال رحمه الله تعالى (فصل) (الرابع أن يشترط أجلا معلوما له وقع في الثمن كالشهر ونحوه، فإن
أسلم حالا أو إلى أجل قريب كاليوم ونحوه لم يصح)
يشترط لصحة السلم كونه مؤجلا ولا يصح السلم الحال نص عليه أحمد في رواية المروذي، وبه
قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي، وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر يجوز السلم حالا لأنه عقد
يصح مؤجلا فصح حالا كبيوع الأعيان، ولأنه إذا جاز مؤجلا فحالا أجوز ومن الغرر أبعد
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل
معلوم " فأمر بالأجل والامر يقتضي الوجوب، ولأنه أمر بهذه الشروط تبيينا لشروط السلم ومنعا
منه بدونها، ولذلك لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن فكذلك الاجل، ولأنه إنما جاز رخصة للمرفق
ولا يحصل المرفق الا بالأجل، فإذا انتفى الاجل انتفى المرفق فلا يصح الكتابة، ولان الحلول
يخرجه عن اسمه ومعناه أما الاسم فإنه سمي سلما وسلفا لتعجل أحد العوضين وتأخر الآخر
ومعناه ما ذكرناه في أول الباب من أن الشارع رخص فيه من اجل الحاجة الداعية إليه ومع حضور ما يبيعه
حالا لا حاجة إلى السلم فلا يثبت وفارق بيوع الأعيان فإنها لم تثبت على خلاف الأصل لمعنى يختص
بالتأجيل وما ذكروه من التنبيه غير صحيح لأن ذلك إنما يجري فيما إذا كان المعنى المقتضي موجودا في
الفرع بصفة التأكيد وليس كذلك ههنا فإن البعد من الغرر ليس هو المقتضي لصحة السلم المؤجل
وإنما المصحح له شئ آخر لم يذكر اجتماعهما فيه وقد بينا افتراقهما. إذا ثبت هذا فإنه إن باعه ما يصح
السلم فيه حالا في الذمة صح ومعناه معنى السلم، وإنما افترقا في اللفظ لكن يشترط في البيع أن يكون
المبيع مملوكا للبائع، فإن باعه ما ليس عنده لم يصح وقد ذكرناه
(فصل) ويشترط كون الاجل مدة لها وقع في الثمن كالشهر وما قاربه، وقال أصحاب أبي حنيفة
لو قدره بنصف يوم جاز، وقدره بعضهم بثلاثة أيام وهو قول الأوزاعي لأنها مدة يجوز فيها خيار
الشرط وهي آخر حد القلة قالوا لأن الاجل إنما اعتبر في السلم لأن المسلم فيه معدوم في الأصل لكون
327

السلم إنما ثبت رخصة في حق المفاليس فلابد من الاجل ليحصل ويسلم وهذا يتحقق بأقل مدة يتصور
حصوله فيها. ولنا أن الاجل إنما اعتبر ليتحقق المرفق الذي شرع من أجله السلم ولا يحصل ذلك
بالمدة التي لا وقع لها في الثمن، ولا يصح اعتباره بمدة الخيار لأن الخيار يجوز ساعة وهذا لا يجوز
والأجل يجوز أن يكون أعواما وهم لا يجيزون الخيار أكثر من ثلاث وكونها آخر حد القلة لا يقتضي
التقدير بها، وقولهم إن المقصود يحصل بأقل مدة لا يصح فإن السلم إنما يكون لحاجة المفاليس الذين
لهم ثمار أو زروع أو تجارات ينتظرون حصولها ولا يحصل هذا في المدة اليسيرة غالبا
{مسألة} (إلا أن يسلم في شئ يأخذ منه كل يوم أجزاء معلومة فيصح)
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرجل يدفع إلى الرجل الدراهم في الشئ يؤكل فيأخذ منه كل يوم
من تلك السلعة شيئا فقال على معنى السلم؟ فقلت نعم، فقال لا بأس ثم قال مثل الرجل القصاب
يعطيه الدينار على أنه يأخذ منه كل يوم رطلا من لحم قد وصفه: وبهذا قال مالك، وقال الشافعي إذا
أسلم في جنس واحد إلى أجلين لم يصح في أحد القولين لأن ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر
وذلك مجهول. ولنا أن كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وآجال كبيوع الأعيان، فعلى هذا إذا
قبض البعض وتعذر رجع بقسطه من الثمن ولا يجعل للباقي فضلا على المقبوض لأنه مبيع واحد متماثل
الاجزاء فيقسط الثمن على اجزائه بالسوية كما لو اتفق أجله
{مسألة} (فإن أسلم في جنس إلى أجلين أو في جنسين إلى أجل صح) أما إذا أسلم في جنس
إلى أجلين فقد ذكرناه في المسألة قبلها، وإن أسلم في جنسين إلى أجل واحد صح قياسا على البيع
{مسألة} (ولابد أن يكون الاجل مقدرا بزمن معلوم للخبر)
وهو أن يسلم إلى وقت يعلم بالأهلة نحو أول الشهر وأوسطه وآخره أو يوم معلوم منه لقول الله
تعالى (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) ولا خلاف في صحة التأجيل بذلك،
فإن أسلم إلى عيد الفطر أو النحر أو يوم عرفة أو عاشوراء أو نحوها جاز لأنه معلوم بالأهلة فإن
328

جعل الاجل مقدرا بغير الشهور الهلالية وكان ما يعرفه المسلمون وهو مشهور بينهم مثل الأشهر الرومية
كشباط ونحوه أو عيد لا يختلف كالنيروز والمهرجان عند من يعرفهما فظاهر كلام الخرقي وابن أبي
موسى أنه لا يصح لأنه أسلم إلى غير الشهور الهلالية أشبه إذا أسلم إلى الشعانين وعيد الفطير، ولأن هذه
لا يعرفها كثير من المسلمين أشبه ما ذكرنا، وقال القاضي يصح وهو قول الأوزاعي والشافعي
لأنه معلوم لا يختلف أشبه أعياد المسلمين وفارق ما يختلف لكونه لا يعلمه المسلمون وإن كان مما
لا يعرفه المسلمون كالشعانين وعيد الفطير ونحوهما لم يصح السلم إليه لأن المسلمين لا يعرفونه ولا يجوز تقليد
أهل الذمة فيه لأن قولهم غير مقبول ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم لا يعرفه المسلمون،
وإن أسلم إلى ما لا يختلف مثل كانون الأول ولا يعرفه المتعاقدان أو أحدهما لم يصح لأنه مجهول عنده
{فصل} وإذا جعل الاجل إلى شهر تعلق بأوله، وان جعل الاجل اسما يتناول شيئين كجمادى
ويوم النفر تعلق بأولهما، وان قال إلى ثلاثة أشهر كان إلى انقضائها لأنه إذا ذكر ثلاثة أشهر مبهمة
وجب أن يكون ابتداؤها من حين لفظه بها، وكذلك لو قال إلى شهر كان إلى آخره وينصرف إلى
الأشهر الهلالية لقول الله تعالى (ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) وإن أراد الهلالية فإن
329

كان في أثناء شهر كمل شهرا بالعدد وشهرين بالأهلة، وقيل تكون الثلاثة بالعدد وسنذكر ذلك في
غير هذا، وان قال محلة شهر كذا صح وتعلق بأوله، وقيل لا يصح لأنه جعل ذلك ظرفا فيحتمل
أوله وآخره والصحيح الأول، فإنه لو قال لعبده أنت حر في شهر كذا تعلق بأوله وهو نظير
مسئلتنا، فإن قيل العتق يتعلق بالاخطار والاغرار ويجوز تعليقه على مجهول كنزول المطر وقدوم
زيد بخلاف مسئلتنا، قلنا الا انه إذا جعل محله في شهر تعلق بأوله فلا يكون مجهولا وكذا السلم
{مسألة} (وان أسلم إلى الحصاد أو شرط الخيار إليه فعلى روايتين)
لا يصح أن يؤجل السلم إلى الحصاد والجزاز وما أشبهه، كذلك قال ابن عباس وأبو حنيفة
والشافعي وابن المنذر، وفيه رواية أخرى أنه يجوز. قال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس، وبه
قال مالك وأبو ثور، وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء، وبه قال ابن أبي ليلى وقال أحمد إن كان
شئ يعرف فأرجو، وكذلك ان قال إلى قدوم الغزاة وهذا محمول على أنه أراد وقت العطاء
لأن ذلك معلوم، فأما نفس العطاء فهو مجهول يختلف ويتقدم ويتأخر، ويحتمل أنه أراد نفس العطاء
لكونه يتقارب أيضا فأشبه الحصاد ووجه ذلك أنه أجل تعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة
لا يتفاوت تفاوتا كثيرا أشبه إذا قال إلى رأس السنة
330

ولنا قول ابن عباس: لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تتبايعوا الا إلى شهر معلوم، ولان
ذلك يختلف ويقرب ويبعد فلا يجوز أن يكون أجلا كقدوم زيد، فإن قيل فقد روي عن عائشة أنها
قالت: ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي " أن ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة " قلنا قال ابن المنذر
رواه
حرمي بن عمارة، وقال أحمد فيه غفلة وهو صدوق، قال ابن المنذر فأخاف أن يكون من غفلاته
إذ لم يتابع عليه، ثم إنه لا خلاف في أنه لو جعل الاجل إلى الميسرة لم يصح، وان جعل الخيار
إليه فهو في معنى الاجل
{مسألة} (وإذا جاءه بالسلم قبل محله ولا ضرر في قبضه لزمه قبضه والا فلا)
عبر بالسلم عن المسلم فيه كما يعبر بالسرقة عن المسروق، وبالرهن عن المرهون، وإذا حضر
المسلم فيه على الصفة المشروطة لم يخل من أحوال ثلاثة (أحدها) أن يحضره في محله فيلزمه قبوله
كالبيع المعين سواء تضرر بقبضه أولا لأن على المسلم إليه ضررا في بقائه في يده، فإن امتنع قيل له إما
أن تقبض حقك أو تبرئ منه لأن قبض الحاكم قام مقام قبض الممتنع بولايته الا أنه ليس له الابراء
(الحال الثاني) أن يحضره بعد محل الوجوب فهو كما لو أحضر المبيع بعد تفرقهما (الحال الثالث) أن
يحضره قبل محله فينظر، فإن كان في قبضه قبل المحل ضرر إما لكونه مما يتغير كالفاكهة والأطعمة
كلها أو كان قديمه دون حديثه كالحبوب ونحو هذا لم يلزم المسلم قبوله لأن له غرضا في تأخيره بأن
يحتاج إلى أكله أو طعامه في ذلك الوقت، وكذلك الحيوان لأنه لا يأمن تلفه ويحتاج إلى المؤنة وهكذا
إن كان يحتاج في حفظه إلى مؤنة كالقطن ونحوه، أو كان الوقت مخوفا يخشى على ما يقبضه فلا يلزمه
الاخذ في هذه الأحوال لأن عليه ضررا في قبضه ولم يأت محل استحقاقه له فهو كنقص صفة فيه،
وإن كان مما لا ضرر في قبضه ولا يتغير كالحديد والرصاص والنحاس فإنه يستوي قديمه وحديثه ونحو
ذلك الزيت والعسل ولم يكن في قبضه ضرر الخوف ولا تحمل مؤنة فعليه قبضه لحصول غرضه مع
زيادة تعجل المنفعة فجرى مجرى زيادة الصفة وزيادة الجودة في المسلم فيه
(فصل) وليس له الا أقل ما تقع عليه الصفة لأنه قد سلم إليه ما تناوله العقد فبرئت ذمته منه فعليه
أن يسلم الحبوب نقية، فإن كان فيها تراب يأخذ موضعا من المكيال لم يجز، وإن كان يسيرا لا يؤثر في
الكيل ولا يعيب لزمه أخذه، ولا يلزمه أخذ التمر الا جافا، ولا يلزم أن يتناهى جفافه لأنه يقع عليه
331

الاسم، ولا يلزمه أن يقبل معيبا بحال وإن قبضه فوجده معيبا فله المطالبة بالبدل كالمبيع والله أعلم
(فصل) الشرط الخامس أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله لا نعلم فيه خلافا لأنه إذا كان
ظاهرا أمكن تسليمه عند وجوب التسليم، وإذا لم يكن عام الوجود لم يكن موجودا عند المحل
كذلك فلا يمكن تسليمه فلم يصح كبيع الآبق، بل أولى فإن السلم احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة
فلا يحتمل فيه غرر آخر لئلا يكثر الغرر فإن كان لا يوجد فيه أولا يوجد الا نادرا كالسلم في العنب
والرطب إلى شباط أو أذار أو أسلم إلى محل لا يعم وجوده فيه كزمان أول العنب
أو آخره الذي لا يوجد فيه الا نادرا لم يصح لأنه لا يؤمن انقطاعه فلا يغلب على الظن القدرة على
تسليمه عند وجوب التسليم
{مسألة} (وان أسلم في ثمرة بستان بعينه أو قرية صغيرة لم يصح لأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه)
قال ابن المنذر: ابطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالاجماع من أهل العلم منهم الثوري
ومالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، قال وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه
رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى فقال اليهودي من تمر حائط بني فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما
من حائط بني فلان فلا ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى " رواه ابن ماجة وغيره ورواه الجوزجاني
في المترجم وقال أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع ولأنه لا يؤمن انقطاعه وتلفه أشبه ما لو أسلم في
شئ قدره مكيال معين أو صنجة معينة أو أحضر خرقة وأسلم في مثلها
(فصل) ولا يشترط وجود المسلم فيه حال العقد بل يجوز ان يسلم في الرطب في أوان الشتاء
332

وفي كل معدوم إذا كان موجودا عند المحل وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال
الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي يشترط أن يكون جنسه موجودا حال العقد إلى حال المحل لأن
كل زمان يجوز أن يكون محلا للمسلم فيه لموت المسلم إليه فاعتبر وجوده فيه كالمحل. ولنا ان النبي صلى الله
عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال " من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو
وزن معلوم إلى أجل معلوم " ولم يذكر الوجود ولو كان شرطا لذكره ولنهاهم عن السلف سنتين لأنه
يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة ولا يثبت في الذمة ويوجد في محله غالبا أشبه الموجود ولا نسلم
ان الدين يحل بالموت، وان سلمنا فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود إذ لو لزم أفضى إلى أن تكون آجال
السلم مجهولة والمحل ما جعله المتعاقدان محلا وههنا لم يجعلاه
{مسألة} (وان أسلم إلى محل يوجد فيه عاما فانقطع خير بين الصبر والفسخ والرجوع برأس
ماله أو عوضه إن كان معدوما في أحد الوجهين وفي الآخر ينفسخ بنفس التعذر)
وجملة ذلك أنه تعذر تسليم المسلم فيه عند محله اما لغيبة المسلم إليه أو عجزه عن التسليم حتى عدم
المسلم فيه أو لم تحمل الثمار تلك السنة فالمسلم بالخيار بين الصبر إلى أن يوجد فيطالب به وبين أن يفسخ
العقد ويرجع بالثمن إن كان موجودا أو بمثله إن كان مثليا وإلا قيمته، وبذلك قال الشافعي وإسحاق
وابن المنذر، وفيه وجه آخر أنه ينفسخ بنفس التعذر لكون المسلم فيه من ثمرة العام بدليل وجوب
التسليم منها فإذا هلكت انفسخ العقد به كما لو باعه قفيزا من صبرة فهلكت والأول أصح فإن العقد قد صح
وإنما تعذر التسليم فهو كمن اشترى عبدا فابق قبل القبض، ولا يصح دعوى التعيين في هذا العام، فإنهما
333

لو تراضيا على دفع المسلم فيه من غيرها جاز وإنما أجبر على دفعه من ثمرة العام لتمكنه من دفع
ما هو نصف حقه وذلك يجب الدفع من ثمرة نفسه إذا قدر ولم يجد غيرها وليست متعينة فإن تعذر البعض
فللمشتري الخيار بين الفسخ في الكل والرجوع بالثمن وبين أن يصبر إلى حين الامكان ويطالب بحقه،
فإن أحب الفسخ في المتعذر وحده فله ذلك لأن الفساد طرأ بعد صحة العقد فلم يوجب الفساد في الكل
ويصبر على ما نذكره من الخلاف في الإقالة في بعض السلم، وان قلنا إن الفسخ يثبت بنفس التعذر انفسخ
في المعقود دون الموجود لما ذكرنا من أن الفساد الطارئ على بعض المعقود عليه لا يوجب فساد الجميع
ويثبت للمشتري خيار الفسخ في الموجود كما ذكرنا في الوجه الأول
(فصل) وإذا أسلم ذمي إلى ذمي في خمر ثم أسلم أحدهما فقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من
أهل العلم أن المسلم يأخذ دراهمه لأنه إن كان المسلم المسلم فليس له استيفاء الخمر فقد تعذر استيفاء المعقود
عليه وإن كان الآخر فقد تعذر عليه الايفاء فصار الامر إلى رأس ماله
{فصل} (الشرط السادس) أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد فإن تفرقا قبل ذلك بطل،
وبذلك قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يجوز أن يتأخر قبضه يومين وثلاثة وأكثر ما لم يكن ذلك
شرطا لأنه معاوضة لا تخرج بتأخير قبضه من أن تكون سلما فأشبه تأخيره إلى آخر المجلس
ولنا أنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض
كالصرف، ولا يصح قياسه على المجلس بدليل الصرف، وان قبض بعضه ثم تفرقا فكلام الخرقي
334

يقتضي أن لا يصح وحكي ذلك عن ابن شبرمة والثوري. وقال أبو الخطاب هل يصح في المقبوض؟
على وجهين بناء على تفريق الصفقة وهذا الذي يقتضيه مذهب الشافعي، وقد نص أحمد في رواية ابن
منصور إذا أسلمت ثلاثمائة درهم في أصناف شتى مائة في حنطة ومائة في شعير ومائة في شئ آخر
فخرج فيها زيوف رد على الأصناف الثلاثة على كل صنف بقدر ما وجد من الزيوف فصحح العقد في
الباقي بحصته من الثمن، وقال الشريف أبو جعفر فيمن أسلف ألفا إلى رجل فقبضه نصفه وأحاله بنصفه
أو كان له دين على المسلم إليه بقدر نصفه فحسبه عليه من الألف صح السلم في النصف المقبوض وبطل
في الباقي وحكي عن أبي حنيفة أنه قال يبطل في الحوالة في الكل، وفي المسألة الأخرى يبطل فيما
لم يقبض وحده بناء على تفريق الصفقة
(فصل) وان قبض الثمن فوجده رديئا فرده والثمن معين بطل العقد برده فإن كان الثمن أحد
النقدين وقلنا تتعين النقود بالتعيين بطل، ويبتدئان عقدا آخر ان اختاره، وإن كان في الذمة فله
ابداله في المجلس ولا يبطل العقد برده لأن العقد إنما وقع على ثمن سليم فإذا دفع إليه معيبا كان له رده
والمطالبة بالسليم، ولم يؤثر قبض المعيب في العقد، وان تفرقا ثم علما عيبه فرده ففيه وجهان (أحدهما)
يبطل العقد برده لوقوع القبض بعد التفرق (والثاني) لا يبطل لأن القبض الأول كان صحيحا
بدليل ما لو أمسكه ولم يرده وهذا بدل عن المقبوض وهذا قول أبي يوسف ومحمد وأحد قولي الشافعي
واختيار المزني لكن من شرطه أن يقبض البدل في مجلس الرد، فإن تفرقا عن مجلس الرد قبل قبض
البدل بطل وجها واحدا لخلو العقد عن قبض الثمن بعد تفرقهما، فإن وجد بعض الثمن رديئا فرده
335

ففي المردود ما ذكرنا من التفصيل، وهل يصح في غير الردئ. إذا قلنا بفساده في الردئ؟ على
وجهين بناء على تفريق الصفقة
(فصل) وان ظهرت الدراهم مستحقة والثمن معين لم يصح. قال أحمد: إذا خرجت الدراهم
مسروقة فليس بينهما بيع. وذلك لأن الثمن إذا كان معينا فقد اشترى بعين مال غيره بغير اذنه وإن
كان غير معين فله المطالبة ببدله في المجلس، وان قبضه ثم تفرقا بطل العقد لأن المقبوض لا يصلح
عوضا فقد تفرقا قبل أخذ الثمن الاعلى الرواية التي تقول بصحة تصرف الفضول، أو أن النقود
لا تتعين بالتعيين، وان وجد بعضه مستحقا بطل العقد فيه، وفي الباقي على وجهين بناء على تفريق الصفقة
(فصل) وإن كان له في ذمة رجل دينارا فجعله سلما في طعام إلى أجل لم يصح قال ابن المنذر:
أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وروي عن ابن عمر أنه قال: لا يصح لذلك وذلك
لأن المسلم فيه دين: فإذا جعل الثمن دينا كان بيع دين بدين ولا يصح بالاجماع، ولو قال أسلمت
إليك في كر طعام وشرطا أن يعجل له منها خمسين ويؤجل خمسين لم يصح العقد في الكل في قول الخرقي
ويخرج في صحته في قدر المقبوض وجهان (أحدهما) يصح وهو قول أبي حنيفة بناء على تفريق الصفقة
(والثاني) لا يصح وبه قال الشافعي وهو أصح لأن للمعجل فضلا على المؤجل فيقتضي أن يكون في
مقابلته أكثر مما في مقابلة المؤخر والزيادة مجهولة فلا يصح
{مسألة} (وهل يشترط كونه معلوم القدر والصفة كالمسلم فيه على وجهين)
336

اختلفت الرواية في معرفة صفة الثمن المعين ولا خلاف في اشتراط معرفة صفته إذا كان في الذمة
لأنه أحد عوضي السلم، فإذا لم يكن معينا اشترط معرفة صفته كالآخر إلا أنه إذا أطلق وفي البلد نقد
واحد انصرف إليه وقام مقام وصفه، وإن كان الثمن معينا فقال القاضي وأبو الخطاب يشترط ذلك
لأن أحمد قال: يقول أسلمت إليك كذا وكذا درهما ونصف الثمن فاعتبر ضبط صفته، وهذا قول مالك
وأبي حنيفة لأنه عقد لا يمكن اتمامه في الحال ولا تسليم المعقود عليه ولا يؤمن انفساخه فوجبت معرفة
رأس مال السلم فيه ليرد بدله كالقرض، ولأنه لا يؤمن أن يظهر بعض الثمن مستحقا فينفسخ العقد
في قدره فلا يعلم في كم بقي وكم انفسخ؟ فإن قيل هذا موهوم والموهومات لا تعتبر. قلنا الوهم ههنا معتبر
لأن الأصل عدم الجواز، وإنما جاز إذا وقع الامن الغرر ولم يوجد ههنا بدليل ما إذا أسلم في ثمرة
بستان بعينه أو قدر السلم بصنجة بعينها وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لأنه لم يذكره في شروط
السلم وهو أحد قولي الشافعي لأنه عوض مشاهد فلم يحتج إلى معرفة قدره كبيوع الأعيان وكلام أحمد
إنما تناول غير المعين ولا خلاف في اعتبار أوصافه، ودليلهم ينتقض بعقد الإجارة فإنه ينفسخ بتلف
العين المستأجرة ولا يحتاج مع التعيين إلى معرفة الأوصاف، ولان رد مثل الثمن إنما يستحق عند فسخ
العقد لا من جهة عقده. وجهالة ذلك لا تؤثر كما لو باع المكيل والموزون، ولان العقد قد تمت شرائطه
فلا يبطل بأمر موهوم فعلى القول الأول لا يجوز أن يجعل رأس مال السلم مالا يمكن ضبطه بالصفة
كالجواهر وسائر مالا يجوز السلم فيه فإن فعلا بطل العقد ويرده إن كان موجودا وإلا رد قيمته، فإن
337

اختلفا في القيمة فالقول قول المسلم إليه لأنه غارم وكذلك ان حكمنا بصحة العقد ثم انفسخ. فإن اختلفا
في المسلم فيه فقال أحدهما في كذا مدى حنطة، وقال الآخر في كذا مدى شعير تحالفا وتفاسخا وبه
قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي كما لو اختلفا في ثمن المبيع
(فصل) وكل مالين حرم النساء فيهما لا يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر لأن السلم من شرطه
النساء والتأجيل والذي ذكره الخرقي في أنه لا يجوز النساء في العروض وهي إحدى الروايتين فعلى هذا
لا يجوز اسلام بعضها في بعض. وقال ابن أبي موسى: لا يجوز أن يكون رأس مال السلم الا عينا أو
ورقا، قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد، قال ابن المنذر قيل لأحمد يسلم ما يوزن فيما يكال وما يكال
فيما يوزن؟ فلم يعجبه، فعلى هذا لا يجوز أن يكون المسلم فيه ثمنا وهو قول أبي حنيفة لأنها لا تثبت في
الذمة الا ثمنا فلا يجوز أن تكون مثمنة، وعلى الرواية التي تقول يجوز النساء في العروض يجوز أن
يكون رأس المال عرضا كالثمن سواء ويجوز اسلامها في الأثمان، قال الشريف أبو جعفر يجوز السلم
في الدراهم والدنانير وهذا مذهب مالك والشافعي لأنها تثبت في الذمة صداقا فتثبت في الذمة سلما
كالعروض ولأنه لا ربا بينهما من حيث التفاضل ولا النساء فصح اسلام أحدهما في الآخر كالعرض
في العرض ولا يصح ما قاله أبو حنيفة فإنه لو باع دراهم بدنانير صح ولا بد أن يكون أحدهم مثمنا فعلى
هذا إذا أسلم عرضا في عرض موصوف بصفاته فجاء عند الحلول بذلك العرض بعينه لزمه قبوله على
أحد الوجهين لأنه أتاه بالمسلم فيه على صفته فلزمه قبوله كما لو كان غيره (والثاني) لا يلزمه لأن يفضي
إلى كون الثمن هو المثمن، ومن نصر الأول قال هذا لا يصح لأن الثمن إنما هو في الذمة وهذا عوض
338

عنه، وهكذا لو أسلم جارية صغيرة في كبيرة فجاء المحل وهي على صفة المسلم فيه فأحضرها خرج فيها الوجهان
(أحدهما) لا يجوز لأنه يفضي إلى أن يكون قد استمتع بها وردها خالية عن عقر (والثاني) يجوز لأنه
أحضر المسلم فيه على صفته، ويبطل الأول بما إذا وجد بها عيبا فردها وللشافعي في هاتين المسئلتين
وجهان كهذين، فإن فعل ذلك حيلة لينتفع بالعين أو ليطأ الجارية ثم يردها بغير عوض لم يجز وجها واحدا
{مسألة} (وان أسلم ثمنا واحدا في جنسين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس)
يجوز أن يسلم دينارا في قفيز حنطة وقفيز شعير فإن لم يبين ثمن الحنطة من الشعير لم يصح
وقال مالك يجوز وللشافعي قولان كالمذهبين لأن كل عقد جاز على جنسين في عقدين جاز عليهما في
عقد واحد كبيوع الأعيان. ولنا أن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يصح كما لو عقد عليه
مفردا بثمن مجهول، ولان فيه غررا لأنا لا نأمن الفسخ بتعذر أحدهما فلم ندر بكم يرجع؟ وهذا غرر
يؤثر مثله في السلم، وبمثل هذا عللنا معرفة صفة الثمن وقد ذكرنا ثم وجها أنه لا يشترط فيخرج ههنا
مثله لأنه في معناه، والجواز ههنا أولى لأن العقد ثم إذا انفسخ لا يعلم مقدار ما يرجع به وههنا يرجع بقسطه
من رأس مال السلم، ولأنه لو باع عبده وعبد غيره بثمن واحد جاز في أظهر الوجهين وهذا مثله،
ولأنه لما جاز أن يسلم في شئ واحد إلى أجلين ولا يبين ثمن كل منهما ينبغي أن يجوز ههنا. قال ابن
أبي موسى: ولا يجوز أن يسلم خمسة دنانير وخمسين درهما في كر حنطة الا أن يبين حصة ما لكل
واحد منهما من الثمن، والأولى صحة هذا لأنه إذا تعذر بعض السلم رجع بقسطه منهما، وان تعذر
النصف رجع بالنصف، وان تعذر الخمس رجع بدينار وعشرة دراهم
(فصل) قال رحمه الله تعالى (السابع أن يسلم في الذمة، فإن أسلم في عين لم يصح)
339

لأنه ربما تلف قبل أوان تسليمه فلم يصح كما لو شرط مكيالا بعينه أو صنجة بعينها غير معلومة، ولان
المعين يمكن بيعه في الحال فلا حاجة إلى السلم فيه
{مسألة} (ولا يشترط ذكر مكان الايفاء)
ذكره القاضي وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث، وبه قال أبو يوسف
ومحمد وهو أحد قولي الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل
معلوم " ولم يذكر مكان الايفاء، ولو كان شرطا لذكره وفي الحديث الذي فيه أن اليهودي أسلم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى " ولم يذكر
مكان الايفاء ولأنه عقد معاوضة أشبه بيوع الأعيان، وقال الثوري يشترط وهو القول الثاني للشافعي
وقال الأوزاعي هو مكروه لأن القبض يجب بحلوله ولا يعلم موضعه يؤمئذ، وقال أبو حنيفة
وبعض أصحاب الشافعي إن كان لحمله مؤنة وجب شرطه والا فلا لأنه إذا كان لحمله مؤنة اختلف فيه
الغرض بخلاف مالا مؤنة فيه
{مسألة} (الا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه)
فيشترط ذكره لأنه متى كانا في برية لم يمكن التسليم في مكان العقد فإذا ترك ذكره كان مجهولا
{مسألة} (ويكون الوفاء في موضع العقد)
إذا كانا في مكان يمكن الوفاء فيه اقتضى العقد التسليم في مكانه فاكتفى بذلك عن ذكره
{مسألة} (فإن شرط الوفاء فيه كان تأكيدا)
وهو حسن لأنه شرط ما يقتضيه العقد أشبه ما لو شرط الحلول في ثمن المبيع
{مسألة} (وان شرطه في غيره صح)
لأنه بيع فصح شرط الايفاء في غير مكانه كبيوع الأعيان ولأنه شرط ذكر مكان الايفاء فصح كما
لو ذكره في مكان العقد (وعنه لا يصح) ذكرها ابن أبي موسى لأنه شرط خلاف ما اقتضاه العقد لأن
العقد يقتضي الايفاء في مكانه، وقال القاضي وأبو الخطاب: متى ذكر مكان الايفاء ففيه روايتان سواء
شرطه في مكان العقد أو في غيره لأنه ربما تعذر تسليمه في ذلك المكان فأشبه تعيين المكيال اختاره
340

أبو بكر، ولنا أن في تعيين المكان غرضا ومصلحة لهما أشبه تعيين الزمان وبهذا يبطل ما ذكروه، ثم لا يخلو
إما أن يكون مقتضى العقد التسليم في مكانه فإذا شرطه فقد شرط مقتضى العقد أولا يكون ذلك مقتضى
العقد فيتعين ذكر مكان الايفاء نفيا للجهالة عنه وقطعا للتنازع فالغرر في تركه لافي ذكره، وتعيين المكان
يفارق هذا فإنه لا حاجة إليه ويفوت به علم المقدار المشترط لصحة العقد ويفضي إلى التنازع وفي مسئلتنا
لا يفوت به شرط، ويقطع التنازع والمعنى المانع من التقدير بمكيال بعينه مجهول هو المقتضي لذكر مكان
الايفاء فكيف يصح قياسهم عليه؟
{مسألة} (ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه ولا هبته ولا أخذ غيره مكانه ولا الحوالة به)
لا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه بغير خلاف علمناه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه
وعن ربح ما لم يضمن ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه وكذلك التولية
والشركة وبهذا قال أكثر أهل العلم وحكي جواز الشركة والتولية عن مالك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية وقياسا على الإقالة، ولنا أنها معاوضة في
المسلم فيه قبل القبض فلم يصح كما لو كان بلفظ البيع ولأنهما نوعا بيع فلا يجوز فيه السلم قبل قبضه كالنوع
الآخر والحديث لا نعرفه وهو حجة لنا لأنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه والشركة والتولية بيع
فيدخلان في النهي ويحمل قوله وأرخص في الشركة والتولية على أنه أرخص فيهما في الجملة لافي
هذا الموضع، وأما الإقالة فإنها فسخ وليست بيعا وأما أخذ غيره مكانه فهو أن يأخذ غير المسلم فيه عوضا
عن المسلم فيه وذلك حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما وسواء كان العوض مثل المسلم فيه
في القيمة أو أقل أو أكثر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وذكر ابن أبي موسى رواية فيمن أسلم في
بر فعدمه عند المحل فرضي أن يأخذ شعيرا مثله جاز وذلك محمول على أن البر والشعير جنس والصحيح
في المذهب خلافه وقال مالك يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره إلا الطعام، وقال ابن
المنذر وقد ثبت أن ابن عباس قال: إذا أسلمت في شئ إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا
341

فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين رواه سعيد في سننه. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من
أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود وابن ماجة، ولان أخذ العوض عن المسلم
فيه بيع له فلم يجز كبيعه لغيره
(فصل) ولا تجوز الحوالة به لأنها إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس
بمستقر ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة أن يكون
لرجل سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي عنده السلم
فلا يجوز وان أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل
قبضه فلم يجز كالبيع.
{مسألة} (ويجوز بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته بشرط أن يقبض عوضه في المجلس ولا يجوز لغيره)
لحديث ابن عمر: كنا نبيع الأبعرة بالبقيع بالدنانير ونأخذ عوضها الدراهم وبالدراهم ونأخذ عوضها
الدنانير فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شئ " فقد دل الحديث
على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر وغيره مقاس عليه ودل على اشتراط القبض في
المجلس قوله " إذا تفرقتما وليس بينكما شئ " وفي ذلك اختلاف ذكرناه في الصرف وفيه رواية أخرى
أنه لا يصح بيعه لمن هو في ذمته كما لا يصح في السلم، والأول أولى فإن اشتراه منه موصوف في الذمة
من غير جنسه جاز ولا يتفرقا قبل القبض لأنه يكون بيع دين بدين، وان أعطاه معينا بما يشترط فيه
التقابض مثل ان أعطاه عوض الحنطة شعيرا جاز ولم يجز التفرق قبل القبض وان أعطاه معينا لا يشترط
فيه التقابض جاز التفرق قبل القبض كما لو قال بعتك هذا الشعير بمائة درهم في ذمتك ويحتمل ان لا يجوز
لأن المبيع في الذمة فلم يجز التفرق قبل القبض كالسلم
(فصل) وان باع الدين لغير من هو في ذمته لم يصح، وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق
قال أحمد: إذا كان لك على رجل طعام قرضا فبعه من الذي هو عليه بنقد ولا تبعه من غيره بنقد
ولا نسيئة وإذا أقرضت رجلا دراهم أو دنانير فلا تأخذ من غيره عوضا بمالك عليه، وقال الشافعي
342

إن كان الدين على معسر أو مماطل لم يصح البيع لأنه معجوز عن تسليمه وإن كان على ملئ باذل له
ففيه قولان (أحدهما) يصح لأنه ابتاع بمال ثابت في الذمة فصح كما لو اشترى في ذمته، ويشترط
أن يشتري بعين أو يتقابضا في المجلس لئلا يكون بيع دين بدين. ولنا أنه غير قادر على تسليمه فلم
يصح كبيع الآبق والطير في الهواء
{مسألة} وتجوز الإقالة في السلم وتجوز في بعضه في أحد الوجهين إذا قبض رأس مال السلم أو
عوضه في مجلس الإقالة)
الإقالة في السلم جائزة لأنها فسخ قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن
الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة، ولان الإقالة فسخ للعقد وقع من أصله وليست بيعا، قال القاضي
ولو قال لي عندك هذا الطعام صالحني على ثمنه جاز لأنه أقاله. فاما الإقالة في بعض السلم فاختلفت
الرواية فيها فروي عنه أنها لا تجوز وقد رويت كراهتها عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن
وابن سيرين والنخعي وسعيد بن جبير وربيعة وابن أبي ليلى وإسحاق، وروى حنبل عن أحمد أنه
قال: لا بأس بها. روي ذلك عن ابن عباس وعطاء وطاوس ومحمد بن علي وحميد بن عبد الرحمن
وعمرو بن دينار والحكم والثوري والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وابن المنذر لأن كل معروف جاز
في الجميع جاز في البعض كالابراء والانظار ووجه الرواية الأولى أن السلف في الغالب يزاد فيه في
الثمن من أجل التأجيل فإذا اقاله في البعض بقي البعض بالباقي من الثمن وبمنفعة الجزء الذي حصلت الإقالة
فيه فلم يجز كما لو شرط ذلك في ابتداء العقد، ويخرج الابراء والانظار فإنه لا يتعلق به شئ من ذلك
343

(فصل) وإذا اقاله رد الثمن إن كان باقيا والا رد مثله إن كان مثليا أو قيمته ان لم يكن مثليا
ويشترط رده في المجلس كما يشترط في السلم
{مسألة} (وان انفسخ العقد بإقالة أو غيرها لم يجز أن يأخذ من الثمن عوضا من غير جنسه)
متى أراد ان يعطيه عوضا عن الثمن فقال الشريف أبو جعفر لا يجوز له صرف ذلك الثمن في عقد
آخر حتى يقبضه، وبه قال أبو حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره "
ولان هذا مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم يجز التصرف فيه قبل قبضه كما لو كان في يد المشتري
ولان هذا مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم يجز اخذ عوضه كالمسلم فيه، وقال القاضي أبو يعلى:
يجوز اخذ العوض عنه وهو قول الشافعي لأنه عوض مستقر في الذمة فجاز اخذ العوض عنه كما لو كان
قرضا ولأنه مال عاد إليه بفسخ العقد فجاز اخذ العوض عنه كالثمن في المبيع، والفرق بين المسلم فيه
والثمن ان المسلم فيه مضمون بالعقد والثمن مضمون بعد فسخه والخبر أريد به المسلم فيه فإن قلنا بهذا
فحكمه حكم ما لو كان في قرض أو ثمنا في بيوع الأعيان لا يجوز ان يجعل سلما في شئ آخر لأنه بيع
دين بدين، ويجوز فيه ما يجوز في القرض وأثمان البياعات إذا فسخت ويأخذ أحد النقدين عن
الآخر ويقبضه في مجلس الإقالة لأنه صرف
{مسألة} (وإذا كان لرجل سلم وعليه سلم من جنسه فقال لغريمه اقبض سلمي لنفسك لم يصح قبضه
لنفسه) لأن قبضه لنفسه حوالة به والحوالة بالسلم لا تجوز وهل يقطع قبضه للآمر؟ على روايتين (إحداهما)
344

يصح لأنه أذن له في القبض فأشبه قبض وكيله وكما لو نوى المأمور القبض للآمر (والثانية) لا يصح لأنه
لم يجعله نائبا في القبض فلم يقع بخلاف الوكيل فصار كالقابض بغير اذن فإذا قلنا لا يصح القبض
بقي على ملك المسلم إليه، ولو قال الأول للثاني أحضر اكتيالي منه لأقبض لك ففعل لم يصح قبضه
للثاني وهل يكون قابضا لنفسه؟ على وجهين (أولاهما) أنه يكون قابضا لنفسه لأن قبض المسلم فيه
قد وجد من مستحقه كما لو نوى القبض لنفسه فعلى هذا إذا قبضه للآخر صح
{مسألة) (وان قال أقبضه لي ثم اقبضه لنفسك صح لأنه استنابه في قبضه له فصح كما لو لم يقل
ثم اقبضه لنفسك وإذا وقع القبض للآمر ملكه وقبضه ثانية فجاز ان يقبضه لنفسه كما لو كان في يد
غيره وكذلك ان قال الآمر أحضرنا حتى اكتاله لنفسي ثم تكتاله أنت صح؟
{مسألة} وان قال أنا أقبضه لنفسي وحده بالكيل الذي يشاهده جاز في إحدى
345

الروايتين لأنه علمه وشهد كيله والثانية لا يجوز، وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري ولم يوجد ذلك ولأنه قبضه
بغير كيل أشبه ما لو قبضه جزافا
{مسألة} وان اكتاله وتركه في المكيال وسلمه إلى غريمه فقبضه صح القبض لهما لأن استدامة
الكيل بمنزلة ابتدائه فلا معنى لابتداء الكيل ههنا لأنه لا يحصل به زيادة علم، وقال الشافعي لا يصح
للحديث الذي ذكرنا في المسألة قبلها وهذا يمكن القول بموجبه لأن قبض المشتري له جري لصاعه فيه
(فصل) وان دفع زيد إلى عمرو دراهم فقال اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك على ففعل لم يصح
لأن دراهم زيد لا تكون عوضا لعمرو فإن اشترى الطعام بعينها أو في ذمته فهو كتصرف الفضولي، وان
قال اشتر لي بها طعاما ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء ولم يصح القبض لنفسه على ما تقدم في مثل
هذه الصورة وان قال اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك ففعل نص عليه، وقال أصحاب الشافعي لا يصح
لأنه لا يجوز أن يكون قابضا من نفسه لنفسه
ولنا أنه يجوز أن يشتري من مال ولده ويبيعه ويقبض لنفسه من نفسه ولولده من نفسه وكذلك
346

لو وهب ولده الصغير شيئا جاز أن يقبل له من نفسه ويقبض منها فكذا ههنا
{مسألة} (وان قبض المسلم فيه جزافا فالقول قوله في قدره) لا يقبض ما أسلم فيه كيلا الا بالكيل
ولا وزنا الا بالوزن ولا بغير ما قدر به وقت العقد لأن الكل والوزن يختلفان فإن قبضه بذلك فهو
كقبضه جزافا ومتى قبضه جزافا فإنه يأخذ قدر حقه ويرد الباقي ويطالب بالنقص إن نقص وهل له
أن يتصرف في قدر حقه منه قبل ان نعتبره على وجهين مضى ذكرهما في كتاب البيع وان اختلفا في
قدره فالقول قول القابض مع يمينه لأنه أعلم بكيله ولأنه منكر للزائد والقول قول المنكر
{مسألة} (وان قبضه كيلا أو وزنا ثم ادعى غلطا لم يقبل قوله في أحد الوجهين) لأن الأصل عدم
الغلط والآخر يقبل لأنه أعلم بكيل ما قبض يعني إذا كاله فوجده ناقصا.
{مسألة} (وهل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه؟ على روايتين)
347

اختلفت الرواية في الرهن والضمين في السلم فروى المروذي وابن القاسم وأبو طالب منع ذلك
وهو الذي ذكره الخرقي واختاره أبو بكر ورويت كراهته عن علي وابن عمر وابن عباس والحسن
وسعيد بن جبير والأوزاعي، وروى حنبل جوازه وهو قول عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والحكم
ومالك الشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم
بدين إلى قوله مقبوضة) وقد روى عن ابن عباس وابن عمر أن المراد به السلم ولان اللفظ عام
فيدخل فيه السلم ولأنه أحد نوعي البيع فجاز أخذ الرهن بما في الذمة منه كبيوع الأعيان. ووجه
الأولى أن الرهن والضمين ان أخذ برأس مال السلم فقد أخذ بما ليس بواجب ولا ما مآله إلى
الوجوب لأن المسلم إليه قد ملكه وان أخذ بالمسلم فيه فالرهن إنما يجوز بشئ يمكن استيفاؤه من ثمن
الرهن والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن ولا من ذمة الضامن ولأنه لا يأمن هلاك الرهن
في يده بعدوان فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف
في شئ فلا يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن مقام ما في ذمة المضمون
عنه فيكون في حكم أخذ العوض والبدل عنه ولا يجوز ذلك
(فصل) فإن أخذ رهنا أو ضمينا بالمسلم فيه ثم تقايلا السلم أو فسخ العقد لتعذر المسلم فيه بطل
الرهن لزوال الدين الذي به الرهن وبرئ الضامن وعلى المسلم إليه رد رأس مال السلم في الحال ولا
يشترط قبضه في المجلس لأنه ليس بعوض، ولو أقرضه ألفا واخذ به رهنا ثم صالحه عن الألف على طعام
معلوم في ذمته صح وزال الرهن لزوال دينه من الذمة وبقي الطعام في الذمة ويشترط قبضه في المجلس
348

كيلا يكون بيع دين بدين فإن تفرقا قبل القبض بطل الصلح ورجع الألف إلى ذمته برهنه لأنه يعود
إلى ما كان عليه كالعصير إذا تخمر ثم عاد خلا. وكذا لو صالحه عن الدراهم بدنانير في ذمته فالحكم
على ما بينا في هذه المسألة
(فصل) وإذا حكمنا بصحة ضمان السلم فلصاحب الحق مطالبة من شاء منهما وأيهما قضاء برئت
ذمتهما منه فإن سلم المسلم إليه المسلم فيه إلى الضامن ليدفعه إلى المسلم جاز وكان وكيلا وان قال خذه عن
الذي ضمنت عني لم يصح وكان قبضا فاسدا مضمونا عليه لأنه إنما استحق الاخذ بعد الوفاء فإن أوصله
إلى المسلم برئ بذلك لأنه سلم إليه ما سلطه المسلم إليه في التصرف فيه وان تلف فعليه ضمانه لأنه قبضه
على ذلك وإن صالح المسلم الضامن عن المسلم فيه بثمنه لم يصح لأنه إقالة فلا يصح من غير المسلم إليه
وان صالحه المسلم إليه بثمنه صح وبرئت ذمته وذمة الضامن لأن هذا إقالة، وان صالحه على غير ثمنه لم
يصح لأنه بيع للمسلم فيه قبل القبض
(فصل) والذي يصح أخذ الرهن به كل دين ثابت في الذمة يصح استيفاؤه من الرهن كأثمان
البياعات والأجرة في الإجارات والمهر وعوض الخلع والقرض وأروش الجنايات وقيم المتلفات ولا
يجوز أخذ الرهن بما ليس بواجب ولا ما ماله إلى الوجوب كالدية على العاقلة قبل الحول لأنها لم تجب
بعد ولم يعلم افضاؤها إلى الوجوب لأنها قد تسقط بالجنون أو الفقر أو الموت فلم يصح أخذ الرهن
بها ويحتمل جواز أخذ الرهن بها قبل الحول لأن الأصل بقاء الحياة واليسار والعقل. فاما بعد الحول
فيجوز أخذ الرهن بها لأنها قد استقرت. ولا يجوز أخذ الرهن بالجعل في الجعالة قبل العمل لأنه
349

لم يجب ولا يعلم افضاؤه إلى الوجوب ويحتمل جواز أخذ الرهن به ذكره القاضي لأن مآله إلى
الوجوب واللزوم فأشبهت أثمان البياعات والأولى أولى لأن افضاءها محتمل فأشبهت الدية قبل الحول
ويجوز أخذ الرهن به بعد العمل لأنه قد وجب ولا يجوز أخذ الرهن بمال الكتابة لأنه غير
لازم فإن للعبد تعجيز نفسه ولا يمكن استيفاء دينه من الرهن لأنه لو عجز صار الرهن للسيد لأنه من
جملة مال المكاتب وقال أبو حنيفة يجوز
ولنا أنها وثيقة لا يمكن استيفاء الحق منها فلم يصح كضمان الخمر ولا يجوز أخذ الرهن بعوض المسابقة
لأنها جعالة لا يعلم افضاؤها إلى الوجوب لأن الوجوب إنما يثبت بسبق غير المخرج وهو غير معلوم ولا
مظنون، وقال بعض أصحابنا فيها وجهان هل هي إجارة أو جعالة؟ فإن قلنا هي إجارة جاز أخذ الرهن
بعوضها وقال القاضي ان لم يكن فيها محلل فهي جعالة وإن كان فيها محلل فعلى وجهين وهذا كله بعيد
لأن الجعل ليس في مقابلة العمل بدليل أنه لا يستحقه إذا كان مسبوقا وقد عمل العمل وإنما هو عوض
عن السبق ولا تعلم القدرة عليه ولأنه لا فائدة للجاعل فيه ولا هو مراد له، وإذا لم يكن إجارة مع
عدم المحلل فمع وجوده أولى لأن مستحق الجعل هو السابق وهو غير معين فلا يجوز استئجار رجل
غير معين ثم لو كانت إجارة لكان عوضها غير واجب في الحال ولا يعلم افضاؤها إلى الوجوب ولا يظن
فلم يجز أخذ الرهن به كالجعل في رد الآبق ولا يجوز أخذ الرهن بعوض غير ثابت في الذمة كالثمن
المعين والأجرة المعينة في الإجارة والمعقود عليه في الإجارة إذا كان منافع معينة كإجارة الدار والعبد
العين والدابة المعينة مدة معلوم أو لحمل شئ معين إلى مكان معلوم لأن هذا حق تعلق بالعين لا بالذمة
350

ولا يمكن استيفاؤه من الرهن لأن منفعة العين لا يمكن استيفاؤها من غيرها وتبطل الإجارة بتلف العين
فاما ان وقعت الإجارة على منفعة في الذمة كخياطة ثوب وبناء دار أخذ الرهن به لأنه ثابت في الذمة
ويمكن استيفاؤه من الرهن بأن يستأجر من ثمنه من يعمل ذلك العلم فجاز أخذ الرهن به كالدين
ومذهب الشافعي في هذا كله كما قلنا
(فصل) فأما الأعيان المضمونة كالغصوب العواري والمقبوض على وجه السوم ففيه وجهان
(أحدهما) لا يصح الرهن بها وهو مذهب الشافعي لأن الحق غير ثابت في الذمة أشبه ما ذكرنا، ولأنه
ان رهنه على قيمتها إذا تلفت فهو رهن على ما ليس بواجب ولا يعلم افضاؤه إلى الوجوب، وإن كان
الرهن على عينها لم يصح لأنه لا يمكن استيفاء عينها من الرهن فأشبه أثمان البياعات المتعينة (والثاني)
يصح أخذ الرهن بها وهو مذهب أبي حنيفة وقال كل عين كانت مضمونة بنفسها جاز أخذ الرهن بها
يريد ما يضمن بمثله أو قيمته كالمبيع يجوز أخذ الرهن به لأنه مضمون بفساد العقد، ولان مقصود الرهن
الوثيقة بالحق وهذا حاصل فإن الرهن بهذه الأعيان يحمل الراهن على أدائها، وان تعذر أداؤها
استوفى بدلها من ثمن الرهن فأشبهت الدين في الذمة
(فصل) قال القاضي كل ما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به وما لم يجز الرهن به لم يجز
أخذ الضمين به الا ثلاثة أشياء عهدة المبيع يصح ضمانها ولا يصح الرهن بها. والكتابة لا يصح الرهن
بدينها ويصح ضمانها في إحدى الروايتين. وما لا يجب لا يصح الرهن به ويصح ضمانه والفرق بينهما
من وجهين (أحدهما) أن الرهن بهذه الأشياء يبطل الارقاق فإنه إذا باع عبده بألف ودفع رهنا يساوي
351

ألفا فكأنه ما قبض الثمن ولا ارتفق به والمكاتب إذا رفع ما يساوي كتابته فما ارتفق بالأجل لأنه كان
يمكنه بيع الرهن وابقاء الكتابة ويستريح والضمان بخلاف هذا (والثاني) أن ضرر الرهن يعم لأنه يدوم
بقاؤه عند المشتري فيمنع البائع التصرف فيه والضمان بخلافه
(فصل) وإذا اختلف المسلم والمسلم إليه في حلول الأجل فالقول قول المسلم إليه لأنه منكر، وان
اختلفا في أداء المسلم فيه فالقول قول المسلم لذلك وان اختلفا في قبض الثمن فالقول قول المسلم إليه لذلك
وان اتفقا عليه وقال أحدهما كان في المجلس قبل التفرق. وقال الآخر بعده فالقول قول من يدعي
القبض في المجلس لأن معه سلامة العقد. وان أقام كل واحد بينة بما ادعاه قدمت أيضا بينته لأنها
مثبتة بخلاف الأخرى.
{باب القرض}
وهو نوع من السلف وهو جائز بالسنة والاجماع، أما السنة فروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم
استسلف من رجل بكرا فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره
فرجع إليه أبو رافع فقال يا رسول الله لم أجد فيها الا خيارا رباعيا، فقال " أعطه فإن خير الناس
أحسنهم قضاء " رواه مسلم، وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من مسلم يقرض مسلما
قرضا مرتين الا كان كصدقة مرة " وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت ليلة أسري بي
على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر فقلت يا جبريل ما بال القرض أفضل
352

من الصدقة؟ قال " لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة " رواهما ابن ماجة
وأجمع المسلمون على جواز القرض
{مسألة} (وهو من المرافق المندوب إليها في حق المقرض)
لما روينا من الأحاديث ولما روي عن أبي الدرداء أنه قال: لأن أقرض دينارين ثم يردان ثم
أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما. ولان فيه تفريجا عن أخيه المسلم وقضاء لحاجته فكان مندوبا
إليه كالصدقة وليس بواجب قال أحمد لا اثم على من سئل فلم يقرض وذلك لأنه من المعروف أشبه صدقة
التطوع وهو مباح للمقترض وليس مكروها. قال أحمد ليس القرض من المسألة يريد أنه لا يكره لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقرض وقد ذكرنا حديث أبي رافع ولو كان مكروها كان أبعد الناس منه، قال
ابن أبي موسى لا أحب أن يتحمل بأمانته ما ليس عنده يريد ما لا يقدر على وفائه، ومن أراد أن يستقرض
فليعلم المقرض بحاله ولا يغره من نفسه إلا الشئ اليسير الذي لا يتعذر مثله، وقال أحمد إذا اقترض
لغيره ولم يعلمه بحاله لم يعجبني وقال ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه، قال القاضي إذا كان من
يقترض له غيره معروف بالوفاء لكونه تغريرا بمال المقرض واضرارا به، وأما إذا كان معروفا بالوفاء
لم يكره لكونه إعانة له وتفريجا لكربته
(فصل) ولا يصح الا من جائز التصرف كالبيع وحكمه في الايجاب والقبول على ما مضى ويصح
بلفظ السلم والقرض لورود الشرع بهما وبكل لفظ يؤدي معناهما نحو قوله ملكتك هذا على أن ترد
353

علي بدله أو توجد قرينة دالة على ارادته وإن لم يذكر البدل ولم توجد قرينة فهو هبة. فإن اختلفا فالقول
قول الموهوب له لأن الظاهر معه لأن التمليك من غير عوض هبة ولا يثبت فيه خيار لأن المقرض دخل
على بصيرة ان الحظ لغيره والمقترض متى شاء رده وذلك يغنيه عن ثبوت الخيار
{مسألة} (ويصح في كل عين يجوز بيعها الا بني آدم والجواهر ونحوهما مما لا يصح السلم
فيه في أحد الوجهين فيهما)
يجوز قرض المكيل والموزون بغير خلاف، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم
على أن استقراض ماله مثل من المكيل الموزون والأطعمة جائز، ويجوز قرض كل ما يثبت في الذمة
354

سلما غير بني آدم، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجوز قرض المكيل والموزون لأنه لا
مثل له أشبه الجواهر. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا وليس بمكيل ولا موزون،
ولان ما يثبت سلما يملك بالبيع ويضبط بالوصف فجاز قرضه كالمكيل والموزون، وقولهم لا مثل له
خلاف أصلهم فإن عند أبي حنيفة لو أتلف ثوبا ثبت في ذمته مثله ويجوز الصلح عنه بأكثر
من قيمته، فأما مالا يثبت في الذمة سلما كالجواهر وشبهها فقال القاضي يجوز قرضها ويرد المستقرض
القيمة لأن مالا مثل له يضمن بالقيمة والجواهر كغيرها في القيم، وقال أبو الخطاب لا يجوز
لأن القرض يقتضي رد المثل وليس لها مثل، ولأنه لم ينقل قرضها ولا هي في معنى ما نقل القرض
فيه لكونها ليست من المرافق ولا تثبت في الذمة سلما فيجب ابقاؤها على المنع، ويمكن بناء هذا
الخلاف على الوجهين في الواجب في بدل غير المكيل والموزون، فإذا قلنا يجب رد المثل لم يجز
قرض الجواهر ولا مالا يثبت في الذمة سلما لتعذر رد مثلها وإن قلنا الواجب رد القيمة جاز قرضه
لامكان رد القيمة، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(فصل) فأما بنو آدم فقال أحمد أكره قرضهم فيحتمل كراهة التنزيه ويصح قرضهم وهو قول
ابن جريج والمزني لأنه مال يثبت في الذمة سلما فصح قرضه كسائر الحيوان، ويحتمل صحة قرض
العبيد دون الإماء وهو قول مالك والشافعي الا أن يقرضهن من ذوي محارمهن لأن الملك بالقرض
355

ضعيف فإنه لا يمنعها من ردها على المقرض فلا يستباح به الوطئ كالملك في مدة الخيار، وإذا لم يبح
الوطئ لم يصح القرض لعدم القائل بالفرق ولان الابضاع مما يحتاط لها ولو أبحنا قرضهن افضى إلى
أن الرجل يستقرض أمة فيطؤها ثم يردها من يومه ومتى احتاج إلى وطئها استقرضها فوطئها ثم ردها
كما يستعير المتاع فينتفع به ثم يرده
ولنا أنه عقد ناقل للملك فاستوى فيه العبد والأمة كسائر العقود ولا نسلم ضعف الملك فإنه مطلق
كسائر التصرفات بخلاف الملك في مدة الخيار، وقولهم متى شاء المقترض ردها ممنوع فإننا إذا قلنا
الواجب رد القيمة لا يملك المقترض رد الأمة وإنما يرد قيمتها وإن سلمنا ذلك، لكن متى قصد المقترض
هذا لم يحل له فعله ولا يصح اقتراضه كما لو اشترى أمة ليطأها ثم يردها بالمقايلة أو بعيب فيها وان وقع
هذا بحكم الاتفاق لم يمنع الصحة كما لو وقع ذلك في البيع وكما لو أسلم جارية في أخرى موصوفة بصفاتها
ثم ردها بعينها عند حلول الأجل، ولو ثبت أن القرض ضعيف لا يبيح الوطئ لم يمنع منه في الجواري
كالبيع في مدة الخيار وعدم القائل بالفرق ليس بشئ على ما عرف في مواضعه وعدم نقله ليس بحجة
فإن أكثر الحيوانات لم ينقل قرضها وهو جائز.
(فصل) ولو اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن لم يجز لأن القرض فيها يوجب رد المثل
فإذا لم يعرف القدر لم يمكن القضاء وكذلك لو اقترض مكيلا أو موزونا جزافا لم يجز كذلك ولو قدره
بمكيال بعينه أو صنجة بعينها غير معروفين عند العامة لم يجز لأنه لا يأمن تلف ذلك فيتعذر رد المثل فأشبه
السلم وقد قال أحمد في ماء بين قوم لهم نوب في أيام مسماة فاحتاج بعضهم إلى أن يستقي في غير نوبته
356

فاستقرض من نوبة غيره ليرد عليه بدله في يوم نوبته فلا بأس وإن كان غير محدود كرهته فكرهه
إذا لم يكن محدودا لأنه لا يمكن رد مثله وان كانت الدراهم يتعامل بها عددا ويرد
عددا وان استقرض وزنا رد وزنا، وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي واستقرض أيوب من
حماد بن زيد دراهم بمكة عددا وأعطاه بالبصرة عددا ولأنه وفاه مثل ما اقترض فيما يتعامل به الناس
فأشبه ما لو كانوا يتعاملون بالوزن فاقترض وزنا ورد وزنا
{مسألة} (ويثبت الملك فيه بالقبض) لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك عليه كالهبة
{مسألة} (ولا يملك المقرض استرجاعه)
وجملة ذلك أن القرض عقد لازم من جهة المقرض جائز في حق المقترض فلو أراد المقرض الرجوع في
عين ماله لم يملك ذلك، وقال الشافعي له ذلك لأن كل ما يملك المطالبة بمثله يملك أخذه إذا كان موجودا
كالمغصوب والعارية، ولنا أنه زال ملكه عنه بعقد لازم من غير خيار فلم يكن له الرجوع فيه كالبيع ويفارق
المغصوب والعارية فإنه لم يزل ملكه عنهما ولأنه لا يملك المطالبة بمثلهما مع وجودهما وفي مسئلتنا بخلافه
{مسألة} (وله طلب بدله في الحال)
لأنه سبب يوجب رد المثل في المثليات فأوجبه حالا كالاتلاف ولو أقرضه تفاريق ثم طالبه بها جملة
فله ذلك لأن الجميع حال فأشبه ما لو باعه بيوعا حالة ثم طالبه بثمنها جملة وان أجل القرض لم يتأجل
وكل دين حل أجله لم يصر مؤجلا بتأجيله، وبه قال الأوزاعي والشافعي وابن المنذر وقال مالك
والليث يتأجل الجميع بالتأجيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " ولان المتعاقدين
يملكان التصرف في هذا العقد بالإقالة والامضاء فملكا الزيادة فيه كخيار المجلس، وقال أبو حنيفة
في القرض وبدل المتلف كقولنا وفي ثمن المبيع والأجرة والصداق وعوض الخلع كقولهما لأن الاجل
يقتضي جزءا من المعوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقص في عوضه وبدل المتلف يجب فيه المثل
من غير زيادة ولا نقص فلذلك لم يتأجل وبقية الأعواض يجوز الزيادة فيها فجاز تأجيلها، ولنا أن الحق
يثبت حالا والتأجيل تبرع ووعد فلا يلزم الوفاء به كما لو أعاره شيئا وهذا لا يقع عليه اسم
الشرط ولو سمي فالخبر مخصوص بالعارية فيلحق به ما اختلفنا فيه لأنه مثله، ولنا على أبي حنيفة
أنها زيادة بعد استقرار العقد فأشبه القرض، وأما الإقالة فهي فسخ وابتداء عقد آخر بخلاف مسئلتنا
وأما خيار المجلس فهو بمنزلة ابتداء العقد بدليل أنه يجري القبض لما يشترط قبضه والتعيين لما في الذمة
{مسألة} (فإن رده المقترض عليه لزمه قبوله ما لم يتعيب أو يكن فلوسا أو مكسرة فيحرمها
357

السلطان فيكون له القيمة وقت القرض)
يجوز للمقترض رد ما اقترضه على المقرض إذا كان على صفته لم ينقص ولم يحدث به عيب ويلزم
المقرض قبوله لأنه على صفة حقه أشبه ما لو أعطاه غيره وقياسا على المسلم فيه وسواء تغير سعره أو لم
يتغير ويحتمل أن لا يلزم المقرض قبول غير المثلي لأن القرض فيه يوجب رد القيمة على أحد الوجهين
فإذا رده بعينه لم يرد الواجب عليه فلم يجب قبوله كالبيع
(فصل) فإن تعيب أو تغير لم يجب قبوله لأن عليه في قبوله ضررا لأنه دون حقه فأشبه ما لو نقص
وكذلك إن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها لأنه كالعيب فلا يلزمه
قبولها ويكون له قيمتها وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة
فقال يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه؟ وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا وذكر أبو بكر في
التنبيه أنه يكون له قيمتها وقت فسدت وتركت المعاملة بها لأنه كان يلزمه رد مثلها ما دامت نافعة فإذا
فسدت انتقل إلى قيمتها حينئذ كما لو عدم المثل. قال القاضي هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن
تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها، وقال مالك والليث والشافعي ليس له إلا مثل ما أقرضه
لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى رخص سعرها
ولنا أن تحريم السلطان منع انفاقها وأبطل ما ليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها واما رخص السعر
فلا يمنع سواء كان قليلا أو كثيرا لأنه لم يحدث فيها شئ إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو
غلت وكذلك يخرج في المغشوشة إذا حرمها السلطان
{مسألة} (ويجب رد المثل في المكيل والموزون والقيمة في الجواهر ونحوها وفيما سوى ذلك وجهان)
لا نعلم خلافا في وجوب رد المثل في المكيل والموزون، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه
من أهل العلم على أن من أسلف سلفا مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله ان ذلك جائز وأن للمسلف
أخذ ذلك ولان المكيل والموزون يضمن في الغصب والاتلاف بمثله فكذا ههنا فإن أعوز المثل لزمته
قيمته يوم الاعواز لأنها حينئذ تثبت في الذمة ويرد القيمة في الجواهر ونحوها إذا قلنا بجواز قرضها
لأنها من ذوات القيم ولا مثل لها لأنها لا تنضبط وفيما سوى ذلك وجهان (أحدهما) يرد القيمة
لأن ما أوجب المثل في المثليات أوجب القيمة فيما لا مثل له كالاتلاف (والثاني) يجب رد مثله لأن النبي
صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله ولان ما ثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض
كالمثلي ويخالف الاتلاف فإنه لا مسامحة فيه فوجبت القيمة لأنها أحصر والقرض أسهل ولهذا جازت النسيئة
فيما فيه الربا ويعتبر مثل صفاته تقريبا فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل والموزون فإن تعذر المثل
فعليه قيمته يوم التعذر وإذا قلنا تجب القيمة وجبت حين القرض لأنها حينئذ تثبت في الذمة،
358

{مسألة} (ويثبت العوض في الذمة حالا وان أجله)
لأن التأجيل في الحال عدة وتبرع فلم يلزم الوفاء به وفيه اختلاف ذكرناه فيما مضى
وينبغي أن يفي له بما وعده.
{مسألة} (ويجوز شرط الرهن والضمين به) لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه على شعير
أخذه لأهله متفق عليه.
(فصل) ويجوز قرض الخبز ورخص فيه أبو قلابة ومالك ومنع منه أبو حنيفة، ولنا أنه موزون
فجاز قرضه كسائر الموزونات وإذا أقرض بالوزن رد المقترض مثله بالوزن وان استقرضه عددا رده
عددا وقال الشريف أبو جعفر فيه روايتان (إحداهما) لا يجوز كسائر الموزونات (والثانية) يجوز وقال
ابن أبي موسى إذا كان يتحرى أن يكون مثلا بمثل فلا يحتاج إلى وزن والوزن أحب إلى ووجه الجواز
ما روت عائشة قالت قلت يا رسول الله ان الجيران يقترضون الخبز والخمير ويردون زيادة ونقصانا
فقال " لا بأس إن ذلك من مرافق الناس لا يراد به الفضل " رواه أبو بكر في الشافي باسناده وروي
أيضا باسناده عن معاذ بن جبل انه سئل عن استقراض الخبز والخمير فقال " سبحان الله إنما هذا من
مكارم الأخلاق فخذ الكبير واعط الصغير وخذ الصغير واعط الكبير خيركم أحسنكم قضاء سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. ولان هذا مما تدعو الحاجة إليه ويشق اعتبار الوزن فيه وتدخله المسامحة
فأشبه دخول الحمام والركوب في سفينة الملاح من غير تقدير أجرة فإن شرط أن يعطيه أكثر مما أقرضه
أو أجود كان ذلك حراما وكذلك ان أقرضه صغيرا قصد أن يعطيه كبيرا لأن الأصل تحريم ذلك وإنما
أبيح لمشقة امكان التحرز منه فإذا قصد أو شرط أو أفردت الزيادة فقد أمكن التحرز منه فحرم بحكم
الأصل كما لو فعل ذلك في غيره
359

{مسألة} (ولا يجوز شرط ما يجر نفعا نحو أن يسكنه داره أو يقضيه خيرا منه أو في بلد آخر
ويحتمل جواز هذا الشرط)
كل قرض شرط فيه الزيادة فهو حرام بغير خلاف. قال ابن المنذر أجمعوا على أن المسلف إذا
شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي
عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولأنه عقد
ارفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في
الصفة مثل أن يقرض مكسرة فيعطيه صحاحا أو نقدا ليعطيه خيرا منه فإن شرط أن يعطيه
إياه في بلد آخر لم يجز إن كان لحمله مؤنة لأنه زيادة وان لم يكن لحمله مؤنة فقد روي عن أحمد انه
لا يجوز أيضا ورويت كراهته عن الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك
والأوزاعي والشافعي لأنه قد يكون في ذلك زيادة وقد نص احمد ان من شرط ان يكتب له بها
سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر وروي عنه جواز ذلك حكاه عنه ابن المنذر لكونه
مصلحة لهما. وحكاه عن علي وابن عباس والحسن بن علي وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن
الأسود وأيوب السختياني والثوري وإسحاق واختاره. وذكر القاضي ان للوصي قرض مال اليتيم في
بلد ليوفيه في بلد آخر ليربح خطر الطريق قال شيخنا: والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير
360

ضرر بواحد منهما والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها ولان هذا ليس بمنصوص عليه
ولا في معنى المنصوص فوجب ابقاؤه على الإباحة.
(فصل) وان شرط أن يؤجره دراه أو يبيعه شيئا أو ان يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز لأن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف ولأنه شرط عقدا في عقد فلم يجز كما لو باعه داره. وبشرط ان يبيعه
الآخر دراه، وان شرط ان يؤجره داره بأقل من اجرتها أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من
أجرتها أو على أن يهدي له أو يعمل له عملا كان أبلغ في التحريم
(فصل) وان شرط أن يوفيه أنقص مما أقرضه لم يجز إذا كان مما يجرى فيه الربا لافضائه إلى
فوات المماثلة فيما هي شرط فيه، وإن كان في غيره فكذلك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن
القرض يقتضي رد المثل وشرط النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز كشرط الزيادة ولهم وجه آخر أنه يجوز
لأن القرض جعل للرفق بالمستقرض وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه بخلاف الزيادة
{مسألة} (وان فعل ذلك من غير شرط أو قضاء خيرا أو أهدى له هدية بعد الوفاء جاز)
وكذلك ان كتب له سفتجة أو قضاه في بلد آخر خيرا منه جاز، ورخص في ذلك ابن عمر
361

وسعيد بن المسيب والحسن والنخعي والشعبي والزهري وقتادة ومكحول ومالك والشافعي وإسحاق،
وقال أبو الخطاب ان قضاه خيرا منه أو زاده زيادة بعد الوفاء من غير شرط ولا مواطأة فعلى روايتين
وروي عن أبي بن كعب وابن عباس أنه يأخذ مثل قرضه ولا يأخذ فضلا لئلا يكون قرضا جر منفعة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا فرد خيرا منه وقال " خيركم أحسنكم قضاء "
متفق عليه ولأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضا في القرض ولا وسيلة إليه ولا إلى استيفاء دينه أشبه ما
لو لم يكن قرض، وقال ابن أبي موسى إذا زاده بعد الوفاء فعاد المستقرض بعد ذلك يلتمس منه
قرضا ثانيا ففعل لم يأخذ منه الا مثل ما أعطاه. فإن اخذ زيادة أو أجود مما أعطاه حرم قولا واحدا
وإذا كان الرجل معروفا بحسن القضاء لم يكره اقراضه، وقال القاضي فيه وجه آخر أنه يكره لأنه
يطمع في حسن عادته وهذا لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفا بحسن القضاء فهل يسوغ
لاحد أن يقول اقراضه مكروه؟ ولان المعروف بحسن القضاء خير الناس وأفضلهم وهو أولى الناس
بقضاء حاجته وإجابة مسألته وتفريج كربته فلا يجوز أن يكون ذلك مكروها، وإنما يمنع من الزيادة
المشروطة، ولو أقرضه مكسرة فجاءه مكانها بصحاح بغير شرط جاز، وان جاءه بصحاح أقل منها
فأخذها بجميع حقه لم يجز لأن ذلك معاوضة للنقد بأقل منه فكان ربا، وكذلك ما يشترط فيه المماثلة
{مسألة} (وان فعله قبل الوفاء لم يجز الا أن تكون العادة جارية بينهما بذلك قبل القرض
الا أن يكافئه أو يحسبه من دينه)
وذلك لما روى الأثرم أن رجلا كان له على سماك عشرون درهما فجعل يهدي إليه السمك ويقومه
حتى بلغ ثلاثة عشر درهما فسأل ابن عباس فقال: اعطه سبعة دراهم، وعن ابن سيرين أن عمر أسلف
أبي بن كعب عشرة آلاف درهم فأهدى إليه أبي بن كعب من ثمرة أرضه فردها عليه ولم يقبله فأتاه
362

أبي فقال: لقد علم أهل المدينة اني من أطيبهم ثمرة وأنه لا حاجة لنا فبم منعت هديتنا؟ ثم أهدى
إليه بعد ذلك فقبل. وعن زرين حبيش قال: قلت لأبي بن كعب اني أريد أن أسير إلى أرض الجهاد
إلى العراق فقال إنك تأتي أرضا فاش فيها الربا، فإن أقرضت رجلا قرضا فأتاك بقرضك ليؤدي
إليك قرضك ومعه هدية فاقبض قرضك واردد عليه هديته. رواهما الأثرم، وروى البخاري عن
أبي بردة عن أبي موسى قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام وذكر حديثا وفيه، ثم قال لي
إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل قرض فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو
حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا. قال ابن أبي موسى: ولو أقرضه قرضا ثم استعمله عملا لم يكن يستعمله
مثله قبل القرض كان قرضا جر منفعة، ولو استضاف غريمه ولم تكن العادة جرت بذلك بينهما حسب
له ما أكله لما روى ابن ماجة في سننه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقرض
أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله الا أن يكون جرى بينه وبينه قبل
ذلك " وهذا كله في مدة القرض، فاما بعد الوفاء فهو كالزيادة من غير شرط وقد ذكرناه
(فصل) ولو اقترض نصف دينار فدفع إليه المقترض دينارا صحيحا وقال نصفه وفاء ونصفه
وديعة عندك أو سلم في شئ صح ولا يلزم المقرض قبوله لأن عليه في الشركة ضررا، ولو اشترى
بالنصف الباقي من الدينار سلعة جاز، فإن كان بشرط مثل أن يقول أقضيك صحيحا بشرط أن آخذ
منك بنصفه الباقي قميصا لم يجز لأنه لم يدفع إليه صحيحا الا ليعطيه بالنصف الباقي فضل ما بين
الصحيح والمكسور من النصف المقتضي وان اتفقا على كسره كسراه، وان اختلفا لم يجبر أحدهما
على ذلك لأنه ينقص قيمته
(فصل) ولو أفلس غريمه فأقرضه ألفا ليوفيه كل شهر شيئا معلوما جاز لأنه إنما انتفع باستيفاء
ما هو مستحق له، ولو كان له عليه حنطة فأقرضه ما يشتري به حنطة يوفيه إياها جاز لذلك، ولو
363

أراد رجل أن يبعث إلى عياله نفقة فأقرضها رجلا على أن يدفعها إلى عياله فلا بأس إذا لم يأخذ
عليها شيئا وإن أقرض أكاره ما يشترى به بقرا يعمل عليها في أرضه، أو بذرا يبذره فيها، فإن
كان شرط ذلك في القرض لم يجز لأنه شرط ما ينتفع به أشبه الزيادة، وان لم يكن شرطا فقال ابن أبي موسى
لا يجوز لأنه قرض جر منفعة. قال ولو قال أقرضني ألفا وادفع إلي أرضك أزرعها بالثلث كان خبيثا. قال
شيخنا. والأولى جواز ذلك إذا لم يكن مشروطا لأن الحاجة داعية إليه والمستقرض إنما يقصد نفع نفسه،
وإنما يحصل انتفاع المقرض ضمنا فأشبه أخذ السفتجة به وايفاءه في بلد آخر من حيث أنه مصلحة لهما جميعا
(فصل) قال أحمد في رجل اقترض دراهم وابتاع بها منه شيئا فخرجت زيوفا فالبيع جائز ولا
يرجع عليه بشئ. يعني لا يرجع البائع على المشتري ببدل الثمن لأنها دراهمه بعينها فعيبها عليه وإنما
له على المشتري بدل ما أقرضه إياه بصفته زيوفا وهذا يحتمل أنه أراد فيما إذا باعه السلعة بها وهو
يعلم عينها، فأما ان باعه في ذمته بدراهم ثم قبض هذه بدلا عنها غير عالم بها فينبغي أن يجب له دراهم
خالية من العيب ويرد هذه عليه وللمشتري ردها على البائع وفاء عن القرض ويبقى الثمن في ذمته،
فإن حسبها على البائع وفاء عن القرض ووفاه الثمن جيدا جاز، قال ولو أقرض رجلا دراهم وقال إذا
مت فأنت في حل كانت وصية، وان قال إن مت فأنت في حل لم يصح لأن هذا إبراء معلق على
شرط ولا يصح ذلك والأول وصية لأنه علقه على موت نفسه وذلك جائز. قال ولو أقرضه تسعين
دينارا وزنا بمائة عددا وزنها تسعون وكانت لا تنفق في مكان الا بالوزن جاز، وان كانت تنفق
برؤوسها فلا وذلك لأنها إذا كانت تنفق في مكان برؤوسها كان ذلك زيادة لأن تسعين من المائة تقوم
364

مقام التسعين التي أقرضه إياها ويستفضل عشرة ولا يجوز اشتراط الزيادة، وإذا كانت لا تنفق الا
بالوزن فلا زيادة فيها وان اختلف عددها، قال ولو قال اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة
فلا بأس، ولو قال اكفل عني ولك ألف لم يجز وذلك لأن قوله اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح
فجازت كما لو قال ابن لي هذا الحائط ولك عشرة، وأما الكفالة فلان الكفيل يلزمه أداء الدين فإذا أداه
وجب له على المكفول عنه فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضا صار قرضا جر منفعة فلم يجز
{مسألة} (وإذا أقرضه أثمانا فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وان أقرضه غيرها فطالبه بها لم
تلزمه فإن طالبه بالقيمة لزمه أداؤها)
وجملة ذلك أنه إذا أقرضه ما لحمله مؤنة وطالبه بمثله ببلد آخر لم يلزمه لأنه لا يلزمه حمله إلى
ذلك البلد، فإن تبرع المقترض بدفع المثل وأبى المقرض قبوله فله ذلك لأن عليه ضررا في قبضه لأنه
ربما احتاج إلى حمله إلى المكان الذي أقرضه فيه، وله المطالبة بقيمة ذلك في البلد الذي أقرضه فيه
لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه، ولو أقرضه أثمانا أو مالا مؤنة لحمله وطالبه بها وهما ببلد آخر
لزمه دفعه لأن تسليمه إليه في هذا البلد وغيره واحد
365

(فصل) ولو اقرض ذمي ذميا خمرا ثم أسلما أو أحدهما بطل القرض ولم يجب على المقترض
شئ سواء كان هو المقترض أو المقرض لأنه إذا أسلم لم يجز ان يجب عليه خمر لعدم ماليتها ولا يجب
بدلها لأنه لا قيمة لها ولذلك لا يضمنها إذا أتلفها، وإن كان المقرض لم يجب له شئ لما ذكرنا
والله سبحانه وتعالى اعلم
باب الرهن
الرهن في اللغة الثبوت والدوام يقال ماء راهن أي راكد ونعمة راهنة أي دائمة، وقيل هو الحبس
قال الله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) وقال الشاعر:
وفارقتك برهن لا فكاك له * يوم الوداع فاضحي الرهن قد غلقا
شبه لزوم قلبه لها واحتباسه عندها لوجده بها بالرهن الذي يلزمه المرتهن فيحبسه عنده ولا يفارقه
وغلق الرهن استحقاق المرتهن إياه لعجز الراهن عن فكاكه
{مسألة} (وهو وثيقة بالحق)
الرهن في الشرع المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه ان تعذر استيفاؤه من ذمة الغريم
وهو جائز بالكتاب والسنة والاجماع. قال الله سبحانه وتعالى (وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا
فرهان مقبوضة) وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعه
366

متفق عليه، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن " وأجمع المسلمون
على جواز الرهن في الجملة
(فصل) ويجوز الرهن في الحضر كجوازه في السفر قال ابن المنذر لا نعلم أحدا خالف في ذلك الا
مجاهدا قال ليس الرهن الا في السفر لقوله تعالى (وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة)
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعه وكانا بالمدينة، ولأنها وثيقة تجوز في السفر
فجازت في الحضر كالضمان. فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب لكون الكاتب يعدم في السفر غالبا
ولهذا لم يشترط عدم الكاتب وهو مذكور في الآية
(فصل) وهو غير واجب لا نعلم فيه مخالفا لأنه وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان والكتابة
وقول الله تعالى (فرهان مقبوضة) ارشاد لنا لا ايجاب علينا بدليل قول الله تعالى (فإن أمن
بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) ولأنه أمر به عند اعواز الكتابة وهي غير واجبة فكذلك بدلها
{مسألة} (وهو لازم في حق الراهن جائز في حق المرتهن) لأن العقد لحقه وحده فكان
له فسخه كالمضمون له وهو لازم من جهة الراهن لأن الحظ لغيره فلزم من جهته كالضمان في حق الضامن
{مسألة} (يجوز عقده مع الحق وبعده ولا يجوز قبله الا عند أبي الخطاب)
وجملة ذلك أن الرهن لا يخلو من أحوال ثلاثة (أحدها) أن يقع مع الحق فيقول بعتك هذا بعشرة
إلى شهر ترهنني بها كذا فيقول قبلت فيصح ذلك، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن الحاجة
داعية إلى ثبوته فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق ويشترطه فيه لم يتمكن من الزام المشتري عقده وكانت
الخيرة إلى المشتري، والظاهر أنه لا يبذله فتفوت الوثيقة بالحق (الحال الثاني) أن يقع بعد الحق فيصح
367

بالاجماع لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى الوثيقة به فجاز أخذها به كالضمان ولان الله تعالى قال (وان
كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) جعله بدلا عن الكتابة فيكون في محلها ومحلها بعد
وجوب الحق، ولان في الآية ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه) فجعله مذكورا بعدها بفاء التعقيب (الحال الثالث) أن يرهنه قبل الحق فيقول رهنتك عبدي
هذا بعشرة تقرضنيها فلا يصح في ظاهر المذهب واختاره أبو بكر والقاضي وذكر القاضي أن أحمد نص
عليه في رواية ابن منصور وهو مذهب الشافعي، واختار أبو الخطاب أنه يصح، فإذا قال رهنتك ثوبي
هذا بعشرة تقرضنيها غدا وسلمه إليه ثم اقرضه الدراهم لزمه الرهن وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لأنه
وثيقة بالحق فجاز عقدها قبل وجوبه كالضمان أو فجاز انعقادها على شئ يحدث في المستقبل كضمان
الدرك. ولنا أنه وثيقة بحق لا يلزم قبله فلم يصح قبله كالشهادة ولان الرهن بالحق تابع للحق فلا يسبقه
كالشهادة وأما الضمان فيحتمل أن يمنع صحته، وان سلمناه فالفرق بينهما أن الضمان التزام مال تبرعا
بالقول فجاز من غير حق ثابت كالنذر
{مسألة} (ويصح في كل عين يجوز بيعها)
لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين ليتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن ان تعذر استيفاؤه من
ذمة الراهن وهذا يتحقق في كل ما يجوز بيعه ولان كل ما كان محلا للبيع كان محلا لحكمة الرهن ومحل
الشئ محل حكمته الا أن يمنع من ثبوته مانع أو يفوت بشرط فيبقى الحكم به
368

{مسألة} (الا المكاتب إذا قلنا استدامة القبض شرط لم يجز رهنه)
إذا قلنا لا يجوز بيع المكاتب لم يجز رهنه لعدم حصول مقصود الرهن به وان قلنا يجوز بيعه وقلنا
استدامة القبض شرط في الرهن لم يصح، والصحيح أن استدامة القبض شرط فلا يصح رهنه وهذا مذهب
الشافعي لأن استدامة القبض غير ممكنة في حق المكاتب لمنافاتها مقتضى الكتابة، وقال القاضي: قياس
المذهب صحة رهنه وهو مذهب مالك لأنه يجوز بيعه وايفاء الدين من ثمنه، فعلى هذا يكون ما يؤديه
من نجوم الكتابة رهنا معه وان عجز ثبت الرهن فيه وفي اكتسابه وان عتق كان ما أداه من نجومه
بعد عقد الرهن رهنا بمنزلة ما لو كسب العبد ثم مات
369

(فصل) فاما المعلق عتقه بصفة فإن كانت توجد قبل حلول الدين لم يصح رهنه لكونه لا يمكن
بيعه عند حلول الحق ولا استيفاء الدين من ثمنه وإن كان الدين يحل قبلها صح رهنه لامكان بيعه
واستيفاء الدين من ثمنه وان كانت تحتمل الامرين كقدوم زيد فقيام المذهب صحة رهنه لأنه في
الحال محل للرهن ويمكن أن يبقى حتى يستوفى الدين من ثمنه فأشبه المريض والمدبر، وهو مذهب
أبي حنيفة ويحتمل أن لا يصح لأن فيه غررا إذ يحتمل أن يعتق قبل حلول الحق ولأصحاب
الشافعي اختلاف كنحو هذا
(فصل) ويجوز رهن الجارية دون ولدها وولدها دونها وإن كان صغيرا لأن الرهن لا يزيل
370

الملك فلا يحصل بذلك تفرقة ولأنه يمكن تسليم الولد مع أمه والام مع ولدها فإن دعت الحاجة إلى
بيع أحدهما بيع معه الآخر لأن الجمع في العقد ممكن والتفريق حرام فإذا بيعا معا تعلق حق المرتهن
من ذلك بقدر قيمة الرهن من الثمن فإذا كانت الجارية رهنا وكانت قيمتها مائة مع أنها ذات ولد
وقيمة الولد خمسون فحصتها ثلثا الثمن فإن لم يعلم المرتهن بالولد ثم علم فله الخيار في الرد والامساك
لأن الولد عيب فيها لكونه لا يمكن بيعها بدونه فإن أمسك فلا شئ له غيرها وان ردها فله فسخ
البيع ان كانت مشروطة فيه
{مسألة} (ويجوز رهن ما يسرع إليه الفساد بدين مؤجل ويباع ويجعل ثمنه رهنا)
371

يجوز رهن ما يسرع إليه الفساد دين حال ومؤجل لأنه يمكن ايفاء اليد من ثمنه أشبه الثوب
وسواء كان مما يمكن تجفيفه كالعنب أو لا يمكن كالبطيخ فإن كان مما يجفف فعلى الراهن تجفيفه لأنه من
مؤنة حفظه وتقيته فأشبه نفقة الحيوان وإن كان مما لا يجفف فإنه يباع ويقضى الدين من ثمنه إن كان
حالا أو يحل قبل فساده وان لم يحل قبل فساده فشرطا بيعه وجعل ثمنه رهنا فعلا ذلك وان أطلق
العقد فذكر القاضي فيه وجهين (أحدهما) لا يصح لأن بيع الرهن قبل حلول الحق لا يقتضيه عقد
الرهن فلم يجب كما لو شرط أن لا يبيعه (والثاني) يصح وهو الصحيح لأن العرف يقتضي ذلك لكون
المالك لا يعرض ملكه للتلف والهلاك فإذا تعين حفظه في بيعه حمل عليه مطلق العقد كالتجفيف
372

في العنب والانفاق على الحيوان. وللشافعي قولان كالوجهين. فاما ان شرطا ان لا يباع فلا يصح لأنه
شرط ما يتضمن فساده وفوات المقصود فأشبه ما لو شرط عدم النفقة على الحيوان. إذا ثبت ذلك
فإنه ان شرط للمرتهن بيعه أو اذن له فيه بعد العقد أو اتفقا على أن الراهن يبيعه أو غيره باعه والا باعه
الحاكم وجعل ثمنه رهنا ولا يقضى الدين من ثمنه لأنه لا يجوز له تعجيل وفاء الدين قبل حله وكذلك الحكم
ان رهنه ثيابا فخاف تلفها أو حيوانا فخاف موته لما ذكرنا
{مسألة} (ويجوز رهن المشاع)
وبه قال ابن أبي ليلى والنخعي ومالك والأوزاعي والعنبري والشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب
373

الرأي لا يصح الا أن يرهنه لشريكه أو يرهنها الشريكان لرجل واحد أو يرهن رجل داره من رجلين
فيقبضانها معا لأنه عقد تخلف عنه مقصوده لمعنى اتصل به فلم يصح كما لو تزوج أخته من الرضاع. بيانه
ان مقصوده الحبس الدائم والمشاع لا يمكن المرتهن حبسه لأن شريكه ينزعه في نوبته ولان استدامة
القبض شرط، وهذا يستحق زوال العقد عنه لمعنى فارق العقد فلم يصح رهنه كالمغصوب
ولنا أن المشاع يصح بيعه في محل الحق فصح رهنه كالمفرد قولهم مقصوده الحبس ممنوع إنما
المقصود استيفاء الدين من ثمنه عند تعذره من غيره والمشاع قابل لذلك ثم يبطل ما ذكروه برهن
القاتل والمرتد والمغصوب ورهن ملك غيره بغير اذنه فإنه يصح عندهم، إذا ثبت ذلك فرضي الشريك
374

والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فإن اختلفا جعله الحاكم في
يد أمين أمانة أو بأجرة لأن المالك لا يلزمه تسليم ما لم يرهنه والمرتهن لا يلزمه ترك الرهن عند المالك
فقام الحاكم مقامهما في حفظه لهما
(فصل) ويصح أن يرهن بعض نصيبه من المشاع كما يصح رهن جميعه سواء رهنه مشاعا في نصيبه
مثل أن يرهن بعض نصيبه أو رهن نصيبه من معين مثل أن يكون له نصف دار فيرهن
نصيبه من بيت منها بعينه. وقال القاضي يحتمل أن لا يصح رهن حصته من معين من شئ يمكن
قسمته لاحتمال أن يقسم الشريكان فيحصل الرهن في حصة شريكه، ولنا أنه يصح بيعه فصح رهنه
كغيره وما ذكروه لا يصح لأن الراهن ممنوع من التصرف في الرهن بما يضر بالمرتهن فيمنع القسمة
المضرة كما يمنع من بيعه.
375

(فصل) ويصح رهن المرتد والقاتل في المحاربة والجاني سواء كانت جنايته عمدا أو خطأ على
النقس وما دونها، وقال القاضي لا يصح رهن القاتل في المحاربة واختار أبو بكر أنه لا يصح رهن الجاني
والاختلاف في ذلك مبني على الاختلاف في صحة بيعه وقد سبق. فإن كان المرتهن عالما بالحال فلا
خيار له لأنه دخل على بصيرة أشبه المشتري إذا علم العيب وان لم يكن عالما ثم علم بعد اسلام المرتد
وفداء الجاني فكذلك لأن العيب زال فهو كزوال عيب المبيع وان علم قبل ذلك فله رده وفسخ البيع
إن كان مشروطا في العقد لأن العقد اقتضاه سليما فإذا ظهر معيبا ملك الفسخ كالبيع وان اختار امساكه
فلا أرش له لأن الرهن بجملته لو تلف قبل قبضه لم يملك بدله فبعضه أولى وكذلك لو لم يعلم حتى قتل
العبد بالردة أو القصاص أو أخذ في الجناية فلا أرش للمرتهن، وذكر القاضي أن قياس المذهب
أن له الأرش في هذه المواضع قياسا على البيع، وليس الامر كذلك فإن المبيع عوض عن الثمن فإذا فات
بعضه رجع بما يقابله من الثمن ولو فات كله كتلف المبيع قبل قبضه رجع بالثمن كله والرهن ليس بعوض
ولو تلف كله قبل القبض لما استحق الرجوع بشئ فكيف يستحق الرجوع ببدل عيبه أو فوات بعضه؟
وان امتنع السيد من فداء الجاني لم يجبر ويباع في الجناية لأن حق المجني عليه مقدم على الرهن كما لو
حدثت الجناية بعد الرهن فعلى هذا إن استغرق الأرش قيمته بيع وبطل الرهن وان لم يستغرقها
بيع منه بقدر الأرش والباقي رهن
(فصل) ويصح رهن المدبر في ظاهر المذهب بناء على جواز بيعه ومنع منه أبو حنيفة والشافعي لأنه
معلق عتقه بصفة أشبه ما لو كانت توجد قبل حلول الحق
376

ولنا أنه عقد يقصد منه استيفاء الحق من العين أشبه الإجارة ولأنه علق عتقه بصفة لا تمنع استيفاء
الحق أشبه ما لو علقه بصفة لا توجد قبل حلول الحق. وما ذكروه ينتقض بهذا الأصل، ويفارق التدبير
التعليق بصفة توجد قبل حلول الحق لأن الرهن لا يمنع عتقه بالصفة فإذا عتق تعذرا استيفاء الدين
منه فلا يحصل المقصود والدين في المدبر يمنع عتقه بالتدبير ويقدم عليه فلا يمنع حصول المقصود، والحكم
فيما إذا علم وجود التدبير أو لم يعلم كالحكم في العبد الجاني على ما فصل فيه. ومتى مات السيد قبل الوفاء
فعتق المدبر بطل الرهن وان عتق بعضه بقي الرهن فيما بقي وإن لم يكن للسيد مال يفضل عن وفاء
الدين بيع المدبر في الدين وبطل التدبير ولا يبطل الرهن به وإن كان الدين لا يستغرقه بيع منه بقدر
الدين وعتق ثلث الباقي وباقيه للورثة
{مسألة} (ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه إلا على ثمنه في أحد الوجهين)
لأنه يصح بيعه فصح رهنه كما بعد القبض. فاما رهنه على ثمنه قبل قبضه ففيه وجهان (أحدهما)
لا يصح لوجوه ثلاثة (أحدهما) أن البيع يقتضي تسليم المبيع أولا والرهن يقتضي تسليم الثمن أولا
(والثاني) أن البيع يقتضي ايفاء الثمن من غير المبيع والرهن يقتضي ايفاء الثمن منه (والثالث) ان
البيع يقتضي امساك المبيع مضمونا والرهن يقتضي عدم الضمان وهذا يوجب تناقض الأحكام وإنما
377

تتحقق هذه المعاني إذا شرط رهنه قبل قبضه فإن شرط أنه يقبضه ثم يسلمه رهنا فإنه يتحقق فيه بعض
هذه المعاني، وقد روي عن أحمد أنه قال إذا حبس ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهنا الا أن يكون
شرط عليه في نفس البيع. قال القاضي معناه شرط عليه رهنا غير المبيع فيكون له حبسه حتى يقبض
الرهن فإن وفى له به والا فسخ (والوجه الثاني) يصح كما يصح لغير البائع فاما المكيل والموزون فذكر
القاضي أنه يجوز رهنه قبل قبضه لأن قبضه مستحق فيمكن المشتري أن يقبضه ثم يقبضه وإنما لم يجز
بيعه لأنه يفضي إلى ربح ما لم يضمن وهو منهي عنه ويحتمل انه لا يصح رهنه لأنه لا يصح بيعه بربح
ولا برأس مال ولا يصح هبته فكذلك رهنه
{مسألة} (وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه إلا الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط
القطع في أحد الوجهين)
لا يصح رهن ما لا يجوز بيعه كأم الولد والوقف والعين المرهونة لأن مقصود الرهن استيفاء الدين
من ثمنه وما لا يجوز بيعه لا يمكن ذلك فيه ولو رهن العين المرهونة عند المرتهن لم يجز فلو قال الراهن
للمرتهن زدني مالا يكون الذي عندك رهنا به وبالدين الأول لم يجز، وبه قال أبو حنيفة ومحمد وهو
378

أحد قولي الشافعي، وقال مالك وأبو يوسف والمزني وأبو ثور وابن المنذر يجوز ذلك لأنه لو زاده
رهنا جاز فكذلك إذا زاد في دين الرهن ولأنه لو فدا المرتهن العبد الجاني باذن الراهن ليكون
رهنا بالمال الأول وبما فداه به جاز فكذلك ههنا ولأنها وثيقة محضة فجازت الزيادة فيها كالضمان، ولنا
أنها عين مرهونة فلم يجز رهنها بدين آخر كما لو رهنها عند غير المرتهن. فاما الزيادة في الرهن فتجوز
لأنه زيادة استيثاق بخلاف مسئلتنا، فاما العبد الجاني قلنا فيه منع وان سلمنا فإنما يصح فداؤه ليكون
رهنا بالفداء والمال الأول لكون الرهن لا يمنع تعلق الأرش بالجاني لكون الجناية أقوى ولان لولي
الجناية المطالبة ببيع الرهن واخراجه من الرهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه والرهن الجائز
تجوز الزيادة فيه فكذلك إذا صار جائزا بالجناية، ويفارق الرهن الضمان فإنه يجوز أن يضمن لغيره،
إذا ثبت هذا فرهنه بحق بان كان رهنا بالأول خاصة فإن شهد بذلك شاهدان يعتقدان فساده لم يكن،
لهما أن يشهدا به وان اعتقدا صحته جاز ان يشهدا بكيفية الحال ولا يشهدان أنه رهنه بالحقين مطلقا
379

(فصل) ويصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع والزرع الأخضر في أحد
الوجهين. اختاره القاضي لأن الغرر يقل فيه فإن الثمرة متى تلفت عاد إلى حقه في ذمة الراهن، ولأنه
يجوز بيعه فجاز رهنه، ومتى حل الحق بيع، وان اختار المرتهن تأخير بيعه فله ذلك (والثاني) لا يصح
وهو منصوص الشافعي لأنه لا يجوز بيعه فلا يصح رهنه كسائر ما لا يجوز بيعه
(فصل) وان رهن ثمرة إلى محل تحدث فيه أخرى لا تتميز فالرهن باطل لأنه مجهول حين حلول
الحق ولا يمكن امضاء الرهن على مقتضاه، وإن رهنها بدين حال أو شرط قطعها عند خوف اختلاطها
جاز لأنه لا غرر فيه، فإن لم يقطعها حتى اختلطت لم يبطل الرهن لأنه وقع صحيحا، لكن ان
سمح الراهن بيع الجميع أو اتفقا على قدر منه جاز، وإن اختلفا وتشاحا فالقول قول الراهن
مع يمينه لأنه منكر
(فصل) ولا يصح رهن المصحف في إحدى الروايتين نقل جماعة عنه لا أرخص في رهن
المصحف وذلك لأن المقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه ولا يحصل ذلك الا ببيعه وبيعه غير
جائز (والثانية) يصح فإنه قال إذا رهن مصحفا لا يقرأ فيه الا باذنه فظاهر هذا صحة رهنه وهو
قول مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي بناء على أنه يصح بيعه فيصح رهنه كغيره والخلاف في
ذلك مبني على جواز بيعه وقد ذكرناه في كتاب البيع
380

{مسألة} (ولا يصح رهن العبد المسلم لكافر)
اختاره القاضي لأنه عقد يقتضي قبض المعقود عليه والتسليط على بيعه فلم يجز كالبيع، واختار
381

أبو الخطاب صحته إذا شرطا كونه على يد مسلم ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه وهذا أولى لأن مقصود
الرهن يحصل من غير ضرر
382

(فصل) ولا يصح رهن المجهول لأنه لا يصح بيعه، فلو قال رهنتك هذا الجراب أو البيت أو
الخريطة بما فيها لم يصح للجهالة وإن لم يقل بما فيها صح للعلم بها، ولو قال رهنتك أحد هذين العبدين
لم يصح لعدم التعيين، وقال أبو حنيفة يصح لأنه يصح بيعه عنده بشرط الخيار له وقد ذكر في البيع
وفي الجملة أنه يعتبر للعلم في الرهن ما يعتبر في البيع، وكذلك القدرة على التسليم فلا يصح رهن الآبق
ولا الشارد ولا غير مملوك لأنه لا يصح بيعه
(فصل) فأما سواد العراق والأرض الموقوفة على المسلمين فظاهر المذهب انه لا يجوز رهنها لأنه
لا يجوز بيعها وهذا منصوص الشافعي وحكم بنائها حكمها، فإن كان فيها من غير ترابها أو الشجر المتجدد
فيها فإنه يصح افراده بالبيع والرهن في إحدى الروايتين نص عليهما في البيع لأنه طلق (الثانية)
لا يجوز لأنه تابع لما لا يجوز رهنه فهو كأساسات الحيطان، وان رهنه مع الأرض بطل في الأرض،
وهل يجوز في الأشجار والبناء إذا قلنا بجواز رهنها منفردة؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة
وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
383

(فصل) ولو رهن عبدا أو باعه يعتقده مغصوبا فبان ملكه نحو أن يرهن عبد ابنه فيبين أنه
قد مات وصار العبد ملكه بالميراث، أو وكل إنسانا يشتري له عبدا فباعه الموكل، أو رهنه يعتقده
لسيده الأول وكان تصرفه بعد شراء وكيله ونحو ذلك صح تصرفه لأنه صادف ملكا فصح كما لو
علم، ويحتمل ان لا يصح لأنه اعتقده باطلا
(فصل) ولو رهن المبيع في مدة الخيار لم يصح الا أن يرهنه المشتري والخيار له وحده فيصح
ويبطل خياره وذكره أبو بكر وهو مذهب الشافعي، ولو أفلس المشتري فرهن البائع عين ماله التي
له الرجوع فيها قبل الرجوع لم يصح لأنه رهن مالا يملكه، وكذلك رهن الأب العين التي وهبها
لابنه قبل رجوعه فيها لما ذكرنا، وفيه وجه لأصحاب الشافعي أنه يصح لأن له استرجاع العين وتصرفه
فيها يدل على الرجوع. ولنا أنه رهن ما لا يملكه بغير إذن المالك ولا ولاية عليه فلم يصح كما لو رهن
الزوج نصف الصداق قبل الدخول
(فصل) ولو رهن ثمر شجر يحمل في السنة حملين لا يتميز أحداهما من الآخر فرهن الحمل الأول
إلى محل يحدث الحمل الثاني على وجه لا يتميز لم يصح لأنه مجهول حين حلول الحق فلا يمكن استيفاء
الدين منه فأشبه ما لو كان مجهولا حين العقد، وإن شرط قطع الحمل الأول إذا خيف اختلاطه بالثاني
صح، وإن كان الحمل المرهون بحق حال أو كان الثاني يتميز عن الأول إذا حدث فالرهن صحيح،
فإن وقع التواني في قطع الحمل الأول حتى اختلط بالثاني وتعذر التمييز لم يبطل الرهن لأنه وقع صحيحا
وقد اختلط بغيره على وجه لا يمكن فصله فعلى هذا ان سمح الراهن بكون الثمرة رهنا كلها أو اتفقا
384

على قدر المرهون منهما فحسن، وان اختلفا فالقول قول الراهن مع يمينه في قدر الرهن لأنه منكر
للقدر الزائد والقول قول المنكر
(فصل) ولو رهنه منافع داره شهرا لم يصح لأن مقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه والمنافع
تهلك إلى حلول الحق، وان رهنه أجرة داره شهرا لم يصح لأنها مجهولة وغير مملوكة
(فصل) ولو رهن المكاتب من يعتق عليه لم يصح لأنه لا يملك بيعه وأجازه أبو حنيفة لأنهم
لا يدخلون معه في الكتابة، ولو رهن العبد المأذون من يعتق على السيد لم يصح لأن ما في يده
لسيده فقد صار حرا بشرائه
(فصل) ولو رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين صح في أحد الوجهين. وفيه وجه
أنه لا يصح، وقال أصحاب الشافعي لا يصح إذا كان الدين يستغرق التركة لأنه تعلق به حق آدمي
فلم يصح رهنه كالمرهون. ولنا أنه تصرف صادق ملكه ولم يعلق به حقا فصح كما لو رهن المرتد
وفارق المرهون فإن الحق تعلق باختياره وفي مسئلتنا تعلق بغير اختياره فلم يمنع تصرفه وهكذا
كل حق يثبت من غير إثباته كالزكاة والجناية فإنه لا يمنع رهنه، فإذا رهنه ثم قضى الحق من غيره
فالرهن بحاله، وان لم يقض الحق فللغرماء انتزاعه لأن حقهم سابق والحكم فيه كالحكم في الجاني،
وهكذا الحكم لو تصرف في التركة ثم رد عليه مبيع باعه الميت بعيب ظهر فيه أو حق تجدد تعلقه
بالتركة مثل ان وقع انسان أو بهيمة في بئر حفرها في غير ملكه بعد موته فالحكم واحد وهو أن
تصرفه صحيح غير نافذ، فإن قضى الحق من غيره نفذ والا فسخ البيع والرهن وعلى الوجه الآخر
لا يصح تصرفه والله أعلم
(فصل) ولا يصح الرهن والارتهان الا من جائز الامر وهو المكلف الرشيد غير المحجور عليه
لصغر أو سفه أو فلس لأنه نوع تصرف في المال فلم يصح من غير اذن من المحجور عليه كالبيع ويعتبر
ذلك في حال رهنه واقباضه لأن العقد والتسليم ليس بواجب وإنما هو إلى اختيار الراهن، فإذا لم
385

يكن له اختيار صحيح لم يصح منه كالبيع، فإن جن أحد المتراهنين قبل القبض أو مات لم يبطل الرهن
لأنه عقد يؤول إلى اللزوم فلم يبطل بجنون أحد المتعاقدين أو موته كالبيع في مدة الخيار. ويقوم ولي
المجنون مقامه فإن كان المجنون الراهن وكان الحظ في التقبيض مثل أن يكون شرطا في بيع يستضر بفسخه
ونحوه اقبضه. وإن كان الحظ في قبضه لم يجز له تقبيضه، وإن كان المجنون المرتهن قبضه وليه فإذا
مات قام وارثه مقامه في القبض فإن مات الراهن لم يلزم ورثته تقبيضه لأنهم يقومون مقام الراهن
ولم يلزمه ذلك، فإن لم يكن على الميت دين سوى هذا الدين فللورثة تقبيض الرهن، وإن كان عليه
دين سواه فظاهر المذهب انه ليس للوارث تخصيص المرتهن بالرهن نص عليه في رواية علي بن سعيد
وهو مذهب الشافعي، وذكر القاضي فيه رواية أخرى ان لهم ذلك اخذا مما نقل ابن منصور وأبو
طالب عن أحمد أنه قال: إذا مات الراهن أو أفلس فالمرتهن أحق به من الغرماء ولم يعتبر وجود
القبض بعد الموت أو قبله. قال شيخنا: وهذا لا يعارض ما نقله علي بن سعيد لأنه خاص وهذا عام
والاستدلال به على هذه الصورة يضعف جدا لندرتها فكيف يعارض بها الخاص، لكن يجوز أن يكون
هذا الحكم مبنيا على الرواية التي لا يعتبر فيها القبض في غير المكيل والموزون فيكون الرهن قد
لزم قبل القبض ووجب تقبيضه على الراهن فكذلك على وارثه ويختص ذلك بغير المكيل والموزون
وأما ما يلزم الرهن فيه فليس للورثة تقبيضه لأن الغرماء تعلقت ديونهم بالتركة قبل لزوم حقه في الرهن
فلم يجز تخصيصه به بغير رضاهم كما لو أفلس الراهن إذا قلنا إن للورثة التصرف في التركة ووفاء الدين
من أموالهم، فإن قيل فما الفائدة في القول بصحة الرهن إذا لم يختص المرتهن به؟ قلنا فائدته
أنه يحتمل أن يرضى الغرماء بتسليمه إليه فيتم الرهن، وسواء فيما ذكرنا ما بعد الاذن في القبض وقبله
لأن الاذن يبطل بالجنون والموت والاغماء والحجر
(فصل) ولو حجر على الراهن لفلس قبل التسليم لم يكن له تسليمه لأن فيه تخصيصا للمرتهن
به وليس له تخصيص بعض غرمائه، وإن حجر عليه لسفه فحكمه حكم ما لو زال عقله بجنون على
386

ما أسلفنا، وان أغمي عليه لم يكن للمرتهن قبض الرهن وليس لاحد تقبيضه لأن المغمى عليه لا تثبت
عليه الولاية، وإذا أغمي على المرتهن لم يكن لاحد أن يقوم مقامه في قبض الرهن وانتظر إفاقته،
وإن خرس وكانت له كتابة مفهومة أو إشارة معلومة فحكمه حكم المتكلمين، وإن لم تفهم إشارته
ولا كتابته لم يجز القبض، وإن كان أحد هؤلاء قد أذن في القبض فحكمه حكم من لم يأذن
لأن اذنهم يبطل بما عرض لهم
{مسألة} (ولا يلزم الرهن إلا بالقبض واستدامته شرط في اللزوم)
لا يلزم الرهن الا بالقبض ويكون قبل القبض رهنا جائزا يجوز للراهن فسخه، وبهذا قال أبو
حنيفة والشافعي وسواء في ذلك المكيل الموزون وغيره، وقال بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون
رواية أخرى أنه يلزم بمجرد العقد كالبيع وقد نص عليه أحمد في رواية الميموني، وقال مالك يلزم
الرهن بمجرد العقد قبل القبض لأنه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع ووجه الأولى قوله تعالى (فرهان
مقبوضة) وصفها بكونها مقبوضة، ولأنه عقد ارفاق يفتقر إلى القبول فافتقر إلى القبض كالقرض ولأنه
رهن لم يقبض فلا يلزم اقباضه كما لو مات الراهن، فعلى هذا إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو
بيع أو عتق، أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا بطل الرهن الأول سواء قبض الهبة والبيع والرهن الثاني
أو لم يقبضه لأنه أخرجه عن امكان استيفاء الدين من ثمنه أو فعل ما يدل على قصده ذلك، وان دبره
أو آجره أو زوج الأمة لم يبطل الرهن لأن هذا التصرف لا يمنع البيع فلا يمنع صحة الرهن ولأنه لا يمنع
ابتداء الرهن فلا يقطع استدامته كاستخدامه، وان كاتب العبد الرهن انبني على صحة رهن المكاتب،
فإن قلنا يجوز رهنه لم يبطل الرهن كالتدبير، وان قلنا لا يجوز بطل الرهن كما لو أعتقه
(فصل) فإن قلنا إن ابتداء القبض شرط في لزوم الرهن فاستدامة القبض شرط لأنها إحدى حالتي
الرهن فأشبهت الابتداء، وان قلنا إن الابتداء ليس بشرط في اللزوم فكذلك الاستدامة
{مسألة} (فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزوم الرهن)
387

وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك، فإذا
عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق لأنه أقبضه باختياره فلزم به كالأول قال احمد في رواية
ابن منصور: إذا ارتهن دارا ثم أكراها صاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهنا، وقال
فيمن رهن جارية ثم سأل المرتهن أن يبعثها إليه لتخبز لهم فبعث بها فوطئها انتقلت من الرهن فإن لم يكن
وطئها فلا شئ. قال أبو بكر: لا تكون رهنا في تلك الحال، فإذا ردها رجعت إلى الرهن وممن أوجب
استدامة القبض مالك وأبو حنيفة وهذا التفريغ على القول الصحيح، فاما على قول من قال ابتداء القبض
ليس بشرط فأولى أن يقول الاستدامة غير مشروطة لأن كل شرط يعتبر في الاستدامة يعتبر في الابتداء
وقد يعتبر في الابتداء ما لا يعتبر في الاستدامة، وقال الشافعي استدامة القبض ليست شرطا لأنه عقد
يعتبر القبض في ابتدائه فلم تشترط استدامته كالهبة
ولنا قول الله تعالى (فرهان مقبوضة) ولأنها إحدى حالتي الرهن فكان القبض فيه شرطا كالابتداء
ويفارق الهبة فإن القبض في ابتدائها يثبت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا والرهن يراد للوثيقة
ليتمكن من بيعه واستيفاء اليدين من ثمنه، فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه وإن أزيلت يد المرتهن بغير حق
كالغصب والسرقة أو إباق العبد أو ضياع المتاع ونحو ذلك لم يزل لزوم الرهن لأن يده ثابته حكما فكأنها لم تزل
{مسألة} (ولو رهنه عصيرا فتخمر زال لزومه، فإن تخلل عاد لزومه بحكم العقد السابق)
يصح رهن العصير لأنه يصح بيعه وتعريضه للخروج عن المالية لا يمنع صحة رهنه كالمريض والجاني
فإن صار إلى حال لا يخرج فيها عن المالية كالخل فهو رهن بحاله، وان تخمر زال لزوم العقد ووجبت
اراقته فإن أريق بطل العقد ولاخيار للمرتهن لأن التلف حصل في يده، فإن عاد خلا عاد اللزوم بحكم
العقد السابق كما لو زالت يد المرتهن عن الرهن ثم عادت إليه وان استحال خمرا قبل قبض المرتهن له
بطل الرهن ولم يعد بعوده خلا لأنه عقد ضعيف لعدم القبض فأشبه اسلام أحد الزوجين قبل الدخول
388

وذكر القاضي أن العصير إذا استحال خمرا بعد القبض بطل الرهن أيضا، ثم إذا عاد خلا عاد ملكا
لصاحبه مرهونا بالعقد السابق لأنه يعود مملوكا بحكم الملك الأول فيعود حكم الرهن لأنه زال بزوال
الملك فيعود بعوده وهذا قول الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: هو رهن بحاله لأنه كانت له قيمة حال
كونه عصيرا ويجوز أن تصير له قيمة فلا يزول الملك عنه كما لو ارتد الجاني، ولان اليد لم تزل عنه حكما
بدليل أنه لو غصبه غاصب فتخلل في يده كان ملكا للمغصوب منه، ولو زالت يده كان ملكا للغاصب
كما لو أراقه فجمعه إنسان فتخلل في يده كان له دون من أراقه، وهذا القول هو قولنا الأول في المعنى
الا أن يقولوا ببقاء اللزوم فيه حال كونه خمرا. قال شيخنا: ولم تظهر لي فائدة الخلاف بعد اتفاقهم
على عوده رهنا باستحالته خلا وأرى القول ببقائه رهنا أقرب إلى الصحة لأن العقد لو بطل لما عاد
صحيحا من غير ابتداء عقد، فإن قالوا يمكن عوده صحيحا لعود المعنى الذي بطل بزواله كما أن زوجة
الكافر إذا أسلمت خرجت من حكم العقد لاختلاف دينهما فإن أسلم الزوج في العدة عادت الزوجية
بالعقد الأول لزوال الاختلاف في الدين، قلنا هناك ما زالت الزوجية ولا بطل العقد، ولو بطل بانقضاء
العدة لما عاد الا بعقد جديد وإنما العقد كان موقوفا مراعى، فإذا أسلم في العدة تبينا انه لم يبطل وان
لم يسلم تبينا أنه كان قد بطل وههنا قد جزمتم ببطلانه، وعنه ان القبض واستدامته في المتعين ليس
بشرط ويلزم بمجرد العقد كالبيع، فعلى هذا ان امتنع الراهن من تقبيضه أجبر عليه كالبيع، فإن
رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها ثم طلبه أجبر الراهن على رده لأن الرهن صحيح والقبض
واجب فيجبر عليه كبيعه
(فصل) وإذا استعار شيئا ليرهنه جاز، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم
على أن الرجل إذا استعار من الرجل شيئا يرهنه على دنانير معلومة عند رجل سماه إلى وقت معلوم
ففعل ان ذلك جائز وينبغي أن يذكر المرتهن والقدر الذي يرهنه به وجنسه ومدة الرهن لأن الضرر
يختلف بذلك، فاحتيج إلى بيانه كأصل الرهن ومتى شرط شيئا من ذلك فخالف ورهنه بغيره لم
389

يصح الرهن لأنه لم يؤذن له فيه أشبه من لم يأذن في أصل الرهن وهذا إجماع حكاه ابن المنذر فإن
أذن له في رهنه بقدر من المال فنقص عنه صح لأن من اذن في شئ فقد أذن في أقل منه وان رهنه
بأكثر احتمل ان يبطل في الكل لأنه خالف المنصوص عليه فبطل كما لو قال ارهنه بدنانير فرهنه بدراهم
أو بحال فرهنه بمؤجل أو بالعكس فإنه لا يصح وهذا منصوص الشافعي، واحتمل ان يصح في القدر
المأذون فيه ويبطل في الزائد عليه لأن العقد تناول ما يجوز وما لا يجوز فصح فيما يجوز دون غيره
كتفريق الصفقة، ويفارق ما ذكرنا من الأصول فإن العقد لم يتناول مأذونا فيه بحال وكل واحد من
هذه الأمور يتعلق به غرض لا يوجد في الآخر فإن الراهن قد يقدر على فكاكه في الحال ولا يقدر على
ذلك عند الاجل وبالعكس، وقد يقدر على فكاكه بأحد النقدين دون الاخر فيفوت الغرض بالمخالفة
وفي مسئلتنا إذا صح في المائة المأذون فيها لم يختلف الغرض فإن أطلق الاذن في الرهن من غير تعيين
فقال القاضي يصح وله رهنه بما شاء وهو قول أصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي، والآخر لا يجوز
حتى يتبين قدر الذي يرهنه به وصفته وحلوله وتأجيله لأن هذا بمنزلة الضمان لأن منفعة العبد لسيده
والعارية ما أفادت المنفعة إنما حصلت له نفعا بكون الرهن وثيقة عنه فهو بمنزلة الضمان في
ذمته وضمان المجهول لا يصح
ولنا انها عارية فلم يشترط لصحتها ذكر ذلك كالعارية لغير الرهن والدليل على أنه عارية أنه
قبض ملك غيره لمنفعة نفسه منفردا بها من غير عوض فكان عارية كقبضه للخدمة، وقولهم انه ضمان
غير صحيح لأن الضمان يثبت في الذمة وهذا يثبت في الرقبة، ولأن الضمان لازم في حق الضامن وهذا
له الرجوع في العبد قبل الرهن والزام المستعير بفاكه بعده، وقولهم ان المنافع للسيد قلنا المنافع مختلفة
فيجوز ان يستعيره لتحصيل منفعة واحدة وسائر المنافع للسيد كما لو استعاره لحفظ متاع وهو مع ذلك
يخيط لسيده أو يعمل له شيئا أو استعاره ليخيط له ويحفظ المتاع لسيده، فإن قيل لو كان عارية لما
صح رهنه لأن العارية لا تلزم والرهن لازم، قلنا العارية غير لازمة من جهة المستعير فإن لصاحب العبد
390

المطالبة بفكاكه قبل حلول الدين، ولان العارية قد تكون لازمة فيما إذا اعاره حائطا ليبني عليه أو
أرضا ليزرع فيها ما لا يحصد قصيلا، ثم هو منقوض بما إذا استعاره ليرهنه بدين موصوف عند رجل
معين إلى اجل معلوم. إذا ثبت ذلك فإنه يصح رهنه بما شاء إلى اي وقت شاء لأن الاذن يتناول
الكل باطلاقه وللسيد مطالبة الراهن بفكاكه حالا كان أو مؤجلا في محل الحق وقبله لأن العارية لا تلزم
ومتى حل الحق فلم يقبضه فللمرتهن بيع الرهن واستيفاء الدين من ثمنه ويرجع المعير على الراهن بالضمان
وهو قيمة العين المستعارة أو مثلها ان كانت من ذوات الأمثال ولا يرجع بما بيعت سواء بيعت بأقل
من القيمة أو أكثر في أحد الوجهين (والثاني) انها ان بيعت بأقل من قيمتها رجع بالقيمة لأن العارية
مضمونة فيضمن نقص ثمنها، وان بيعت بأكثر رجع بما بيعت به لأن العبد ملك للمعير فيكون ثمنه
كله له، وكذلك لو أسقط المرتهن حقه عن الراهن رجع الثمن كله إلى صاحبه، فإذا قضى به دين
الراهن رجع به عليه، ولا يلزم من ضمان النقص ان لا تكون الزيادة لصاحب العبد كما لو كان باقيا
بعينه فاما ان تلف الرهن فإن الراهن يضمنه بقيمته سواء أتلف بتفريط أو بغير تفريط نص عليه
احمد لأن العارية مضمونة
(فصل) وان فك المعير الرهن وأدى الدين الذي عليه باذن الراهن رجع عليه، وإن قضاه
متبرعا لم يرجع بشئ، وان قضاه بغير إذنه محتسبا بالرجوع فهل يرجع؟ على روايتين بناء على ما إذا
قضى دينه بغير إذنه ويترجح الرجوع ههنا لأن له المطالبة فكاك عبده وأداء دينه فكاكه، وان
اختلفا في الاذن فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر، وإن شهد المرتهن للمعير قبلت شهادته
لأنه لا يجربها نفعا ولا يدفع بها ضررا، وإن قال أذنت لي في رهنه بعشرة، قال بخمسة فالقول قول
المالك لأنه منكر للزيادة، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وإن كان الدين مؤجلا
فقضاه حالا باذنه رجع به حالا، وان قضاه بغير إذنه فقال القاضي يرجع به حالا أيضا لأن
له المطالبة بفكاك عبده في الحال
391

(فصل) ولو استعار من رجل عبدا ليرهنه بمائة فرهنه عند رجلين صح لأن تعيين ما يرهن به
ليس شرطا فكذلك من يرهن عنده، ولان رهنه من اثنين أقل ضررا لأنه ينفك منه بعضه بقضاء
بعض الدين بخلاف ما إذا رهنه عند واحد، فإذا قضى أحدهما ما عليه من الدين خرج نصيبه من
الرهن لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان في الحقيقة، ولو استعار عبدا من رجلين فرهنه عند واحد
بمائة فقضاه نصفها عن أحد النصيبين لم ينفك من الرهن شئ في أحد الوجهين لأنه عقد واحد من
راهن واحد مع مرتهن واحد أشبه ما لو كان العبد لواحد (والثاني) ينفك نصف العبد لأن كل واحد
منهما إنما أذن في رهن نصيبه بخمسين فلا يكون رهنا بأكثر منهما كما لو قال له ارهن نصيبي بخمسين
لا تزد عليها، فعلى هذا الوجه إن كان المرتهن عالما بذلك فلا خيار له، وان لم يكن عالما والرهن
مشروط في بيع احتمل ان له الخيار لأنه دخل على أن كل جزء من الرهن وثيقة بجميع الدين وقد
فاته ذلك، واحتمل أن لا يكون له خيار لأن الرهن سلم له كله بالدين كله وهو قد دخل على ذلك،
ولو كان رهن هذا العبد عند رجلين فقضى أحدهما انفك نصيب كل واحد من المعيرين من نصفه،
وان قضى نصف دين أحدهما انفك نصيب أحدهما على أحد الوجهين، وفي الآخر ينفك نصف
نصيب كل واحد منهما
(فصل) ولو كان لرجلين عبدان فأذن كل واحد منهما لشريكه في رهن نصيبه من أحد العبدين
فرهناهما عند رجل مطلقا صح، فإن شرط أحدهما أنني متى قضيت ما على من الدين انفك الرهن في
العبد الذي رهنته وفي العبد الآخر أو في قدر نصيبي من العبد الآخر فهذا شرط فاسد لأنه شرط
ان ينفك بقضاء الدين رهن على دين آخر ويفسد الرهن لأن في هذا الشرط نقصا على المرتهن وكل
شرط فاسد ينقص حق المرتهن يفسد الرهن، فأما ان شرط أنه لا ينفك شئ من العبد حتى يقضي
جميع الدين فهو فاسد أيضا لأنه شرط أن يبقى الرهن محبوسا بغير الدين الذي هو رهن به، لكنه
لا ينقص حق المرتهن فهل يفسد الرهن بذلك على وجهين وقد ذكرنا أن الرهن لا يلزم إلا
بالقبض في الصحيح
392

(فصل) والقبض في الرهن كالقبض في البيع على ما ذكرناه، فلو رهنه دارا فخلى بينه وبينها
وللراهن فيها قماش لم يمنع من صحة التسليم لأن اتصالها بملك الراهن لا يمنع صحة التسليم كالثمرة في
الشجرة، وكذلك الدابة التي عليها حمل للراهن ولو رهن الحمل وهو على الدابة وسلمها إليه بحملها
صح القبض لأنه حصل فيهما جميعا فيكون موجودا في الرهن منهما
(فصل) وإذا رهنه سهما مشاعا مما لا ينقل خلى بينه وبينه وان لم يحضر الشريك، وإن كان منقولا
كالجواهر فقبضها تناولها ولا يمكن تناولها الا برضى الشريك، فإن رضي الشريك تناولها المرتهن،
وان امتنع فرضي الراهن أو المرتهن بيد الشريك جاز وناب عن المرتهن في القبض، وان تنازع
الشريك والمرتهن أقام الحاكم عدلا تكون في يده لهما، وان سلمها الراهن إلى المرتهن بغير اذن الشريك
فتناولها وقلنا استدامة القبض شرط لم يكف هذا التناول، وان قلنا ليس بشرط فقد حصل القبض
لأن الرهن حصل في يده والتعدي في غيره لا يمنع صحة القبض كما لو رهنه ثوبا فسلمه إليه مع ثوب
غيره فتناولهما جميعا، ولو رهنه ثوبا فاشتبه عليه بغيره فسلم إليه أحدهما لم يثبت القبض لأنه لا يعلم أنه
أقبضه الرهن، فإن تبين أنه الرهن صح القبض، وان سلم إليه الثوبين معا حصل القبض لأنه
قد تسلم الرهن يقينا
(فصل) ولو رهنه دارا فخلى بينه وبينها وهما فيها ثم خرج الراهن صح القبض، وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها لأنه ما كان في الدار فيده عليها فما
حصلت التخلية. ولنا أن التخلية تصح بقوله مع التمكين منها وعدم المانع أشبه ما لو كانا خارجين عنها،
ولا يصح ما ذكره لأن خروج المرتهن منها لا يزيل يده عنها ودخوله إلى دار غيره لا يثبت يده عليها،
ولأنه بخروجه عنها محقق لقوله فلا معنى لإعادة التخلية
(فصل) وان رهنه مالا في يد المرتهن عارية أو وديعة أو غصبا أو نحوه صح الرهن لأنه مالك
393

له يمكن قبضه فصح رهنه كما لو كان في يده، وظاهر كلام أحمد لزوم الرهن ههنا بنفس العقد من غير
احتياج إلى أمر زائد فإنه قال إذا حصلت الوديعة في يده بعد الرهن فهو رهن فلم يعتبر أمرا زائدا
وذلك لأن اليد ثابته والقبض حاصل وإنما يتغير الحكم لاغير. ويمكن تغير الحكم مع استدامة القبض
كما أنه لو طولب بالوديعة فجحدها لتغير الحكم وصارت مضمونة عليه من غير أمر زائد، ولو عاد
الجاحد فأقربها وقال لصاحبها خذ وديعتك فقال دعها عندك وديعة كما كانت ولا ضمان عليك فيها
لتغير الحكم من غير حدوث أمر زائد، وقال القاضي وأصحاب الشافعي لا يصير رهنا حتى تمضي
مدة يتأتى قبضه فيها، فإن كان منقولا فبمضي مدة يمكن نقله فيها، وإن كان مكيلا فبمضي مدة يمكن
اكتياله فيها، وإن كان غير منقول فبمضي مدة التخلية، وإن كان غائبا عن المرتهن لم يصر مقبوضا
حتى يوفيه هو أو وكيله ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها لأن العقد يفتقر إلى القبض، والقبض إنما يحصل
بفعله أو بامكانه فيكفي ذلك ولا يحتاج إلى وجود حقيقة القبض لأنه مقبوض حقيقة، فإن تلف قبل
مضي مدة يتأتى قبضه فيها فهو كتلف الرهن قبل قبضه ثم هل يفتقر إلى الاذن من الراهن في القبض؟
يحتمل وجهين (أحدهما) يفتقر لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم فلم يحصل بغير اذن كما لو كان في
يد الراهن. واقراره في يده لا يكفي كما لو أقر المغصوب في يد غاصبه مع امكان أخذه منه (والثاني)
لا يفتقر لأن اقراره في يده بمنزلة اذنه في القبض، فإن أذن له في القبض ثم رجع عنه قبل مضي مدة يتأتى
القبض فيها لم يلزم الرهن حتى يعود فيأذن ثم تمضي مدة يقبضه في مثلها
(فصل) وإذا رهنه المضمون على المرتهن كالمغصوب والعارية والمقبوض على وجه السوم أو في
بيع فاسد صح وزال الضمان، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يزول الضمان ويثبت حكم
الرهن، والحكم الذي كان ثابتا فيه يبقى بحاله لأنه لا تنافي بينهما بدليل أنه لو تعدى في الرهن صار
مضمونا وهو رهن كما كان فكذلك ابتداؤه لأنه أحد حالتي الرهن
394

ولنا أنه مأذون له في امساكه رهنا لم يتجدد فيه منه عدوان فلم يضمنه كما لو قبضه منه ثم أقبضه
إياه أو أبرأه من ضمانه، وقولهم لا تنافي بينهما ممنوع فإن الغاصب يده عادية يجب عليه إزالتها ويد
المرتهن محققة جعلها الشرع له ويد المرتهن يد أمانة، ويد الغاصب والمستعير ونحوهما يد ضامنة وهذان
متنافيان، ولان السبب المقتضي للضمان زال فزال الضمان لزواله كما لو رده إلى مالكه وذلك لأن سبب
الضمان الغصب أو العارية ونحوهما وهذا لم يبق غاصبا ولا مستعيرا، ولا يبقى الحكم مع زوال سببه
وحدوث سبب يخالف حكمه حكمه، وأما إذا تعدى في الرهن فإنه يلزمه الضمان لعدوانه لا لكونه
غاصبا ولا مستعيرا وههنا قد زال سبب الضمان ولم يحدث ما يوجبه فلم يثبت
(فصل) وإذا رهنه عينين فتلفت إحداهما قبل قبضها انفسخ العقد فيها دون الباقية لأن العقد
كان صحيحا فيهما، وإنما طرأ انفساخ العقد في إحداهما فلم يؤثر في الأخرى كما لو اشترى شيئين فرد
أحدهما بعيب أو غيره والراهن مخير بين اقباض الباقية وبين منعها إذا قلنا إن الرهن لا يلزم الا
بالقبض فإن كان التلف بعد قبض الأخرى لزم الرهن فيها، فإن كان الرهن مشروطا في بيع ثبت
للبائع الخيار لتعذر الرهن بكماله فإن رضي لم يكن له المطالبة ببدل التالفة لأن الرهن لم يلزم فيها وتكون
المقبوضة رهنا بجميع الثمن، فإن تلفت إحدى العينين بعد القبض فلا خيار للبائع لأن الرهن لو تلف
كله لم يثبت للبائع خيار فإذا تلف بعضه كان أولى، ثم إن كان تلفها بعد قبض العين الا خرى فقد لزم
الرهن فيها، وإن كان قبل قبض الأخرى فالراهن مخير بين اقباضها وبين تركه، فإن امتنع من
تقبيضها ثبت للبائع الخيار كما لو لم تتلف الأخرى
(فصل) فإذا رهنه دارا فانهدمت قبل قبضها لم ينفسخ عقد الرهن لأن ما ليتها لم تذهب بالكلية
فإن عرصتها وأنقاضها باقية ويثبت للمرتهن الخيار إن كان الرهن مشروطا في بيع لتعيبها ونقص قيمتها
395

فإن قيل فلم لا ينفسخ عقد الرهن كعقد الإجارة؟ قلنا الإجارة؟ عقد على منفعة السكنى وقد تعذرت
وعدمت فبطل العقد لعدم المعقود عليه والرهن عقد استيثاق يتعلق بالأعيان التي فيها المالية وهي باقية
فعلى هذا تكون العرصة والانقاض من الخشب والأحجار ونحوها من الرهن لأن العقد وارد على جميع
الأعيان والانقاض منها وما دخل في العقد استقر بالقبض
(فصل) ويجوز للمرتهن أن يوكل في قبض الرهن ويقوم قبض وكيله مقام قبضه في لزوم الرهن
وسائر أحكامه، فإن وكل المرتهن الراهن في قبض الرهن له من نفسه لم يصح ولم يكن قبضا لأن الرهن
وثيقة يستوفى الحق منه عند تعذر استيفائه من الراهن، فإذا كان في يد الراهن لم يحصل معنى
الوثيقة، وقد ذكرنا في البيع أن المشتري لو دفع إلى البائع وعاء وقال كل لي حقي فيه ففعل كان
قبضا فيخرج ههنا مثله
(فصل) إذا أقر الراهن بتقبيض الرهن أو أقر المرتهن بقبضه كان مقبولا فيما يمكن صدقهما فيه
فإن أقر الراهن بالتقبيض ثم أنكر وقال أقررت بذلك ولم أكن أقبضت شيئا أو أقر المرتهن بالقبض
ثم أنكره فالقول قول المقر له فإن طلب المنكر يمينه فيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه يمين لأن الاقرار
أقوى من البينة ولو قامت البينة بذلك وطلب المشهود عليه يمين خصمه لم يجب إليها فكذلك الاقرار
(والثاني) يلزمه اليمين، وهو قول الشافعي وهو أولى لأن العادة جارية بان الانسان يشهد على نفسه
بالقبض قبله فكذلك تسمع دعواه ويلزم خصمه اليمين لما ذكرنا من حكم العادة بخلاف البينة فإنها لا
تشهد الا بالحق قبل ولو فعلت ذلك لم تكن عادلة، وقال القاضي إن كان المقر غائبا فقال أقررت لأن
وكيلي كتب إلي بذلك ثم بان لي خلافه سمعنا قوله وأحلفنا خصمه وان أقر أنه باشر ذلك بنفسه
396

ثم عاد فأكذب نفسه لم يحلف خصمه، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي. فاما ان اختلفا في القبض
فقال المرتهن قبضته وأنكر الراهن فالقول قول صاحب اليد لأنه إن كان في يد الراهن فالأصل معه
وهو عدم الاقباض ولم يوجد ما يدل على خلافه وإن كان في يد المرتهن فقد وجد القبض لكونه لا
يحصل في يده الا بعد قبضه وان اختلفا في الاذن فقال الراهن: أخذته بغير اذني قال بل بأذنك
وهو في يد المرتهن فالقول قوله لأن الظاهر معه فإن العقد قد وجد ويده تدل على أنه بحق ويحتمل أن
يكون القول قول الراهن لأن الأصل عدم الإذن، وهذا مذهب الشافعي ذكر القاضي هذين الوجهين
{مسألة} (وتصرف الراهن في الرهن لا يصح الا العتق فإنه يصح ويؤخذ منه قيمته فيجعل
رهنا مكانه وعنه لا ينفذ عتق المعسر)
إذا تصرف الراهن بغير رضى المرتهن بغير العتق كالبيع والهبة والوقف والرهن ونحوه فتصرفه
باطل لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية فلم يصح بغير اذن
المرتهن كفسخ الرهن، وفي الوقف وجه آخر أنه يصح لأنه يلزم لحق الله تعالى أشبه العتق. والصحيح
الأول لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلم يصح كالهبة فإن أذن فيه صح وبطل الرهن الا أن
يأذن في البيع فيه تفصيل نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
(فصل) وليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدام ولا وطئ ولا سكنى ولا غير ذلك ولا يملك
التصرف فيه بإجارة ولا إعارة ولا غيرهما بغير رضى المرتهن، وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وقال
مالك وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: للراهن إجارته وإعارته مدة لا يتأخر انقضاؤها عن حلول
397

الدين، وهل له أن يسكن بنفسه؟ على اختلاف بينهم. وإن كان الرهن عبدا فله استيفاء منافعه بغيره وهل
له ذلك بنفسه؟ على الخلاف. وليس له إجارة الثوب ولا ما ينقص بالانتفاع وبنوه على أن المنافع للراهن لا تدخل
في الرهن ولا يتعلق بها حقه وسيأتي الكلام فيه
ولنا أنها عين محبوسة فلم يكن للمالك الانتفاع بها كالمبيع المحبوس عند البائع على قبض ثمنه. إذا ثبت
هذا فإن المتراهنين ان لم يتفقا على الانتفاع بها لم يجز الانتفاع وكانت منافعه معطلة فإن كانت دار ا أغلقت
وإن كان عبدا أو غيره تعطلت منافعه حتى يفك الرهن فإن اتفقا على إجارة الرهن وإعارته جاز ذلك
في ظاهر قول الخرقي لأنه جعل غلة الدار وخدمة العبد من الرهن ولو عطلت منافعهما لم تكن لهما غلة. وقال
ابن أبي موسى: أذن الراهن للمرتهن في اعارته أو اجارته صح والأجرة رهن وان أجره الراهن
بإذن المرتهن خرج من الرهن في أحد الوجهين ولا يخرج في الآخر كما لو أجره المرتهن. وقال
أبو الخطاب في المشاع يؤجره الحاكم لهما وذكر أبو بكر في الخلاف أن منافع الرهن تعطل مطلقا ولا يؤجراه،
وهو قول الثوري وأصحاب الرأي وقالوا إذا أجر الراهن بإذن المرتهن كان اخراجا من الرهن لأن الرهن
يقتضي حبسه عند المرتهن أو نائبه على الدوام فمتى وجد عقد يستحق به زوال الحبس زال الرهن
398

ولنا أن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين واستيفاؤه من ثمنه عند تعذر استيفائه من ذمة الراهن وهذا
لا ينافي الانتفاع به ولا اجارته ولا اعارته فجاز اجتماعهما كانتفاع المرتهن به ولان تعطيل منفعته تضييع
للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اضاعته، ولأنه عين تعلق بها حق الوثيقة فلم تمنع اجارتها كالعبد إذا
ضمن باذن سيده، ولا نسلم ان مقتضى الرهن الحبس بل مقتضاه تعلق الحق به على وجه تحصل به
الوثيقة وذلك غير مناف للانتفاع به. ولو سلمنا بأن مقتضاه الحبس فلا يمنع كون المستأجر نائبا عنه في
امساكه وحبسه ومتوفيا لمنفعته لنفسه
(فصل) ولا يمنع الراهن من اصلاح الرهن ودفع الفساد عنه ومداواته ان احتاج إليها، فإذا كان ماشية
فاحتاجت إلى اطراق الفحل فللراهن ذلك لأن فيه مصلحة الرهن وزيادته وذلك زيادة في حق المرتهن من
غير ضرر وان كانت فحولا لم يكن للراهن اطراقها بغير رضا المرتهن لأنه انتفاع لا مصلحة للرهن فيه فهو
كالاستخدام الا أن يكون يتضرر بترك الاطراق فيجوز لأنه كالمداواة له
(فصل) وليس للراهن عتق الرهن لأنه يبطل حق المرتهن من الوثيقة وذلك اضرار به فإن فعل
نفذ عتقه موسرا كان أو معسرا نص عليه أحمد وبه قال شريك والحسن بن صالح وأصحاب الرأي والشافعي
في أحد أقواله الا أن أبا حنيفة قال يستسعى العبد في قيمته إن كان المعتق موسرا. وعن أحمد انه لا ينفذ عتق
399

المعسر وذكرها الشريف أبو جعفر وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي لأن عتقه يسقط حق المرتهن
من الوثيقة من عين الرهن وبدلها فلم ينفذ لما فيه من الاضرار بالمرتهن ولأنه عتق يبطل حق غير المالك فنفذ
من الموسر دون المعسر كعتق شرك له في عبد، وقال عطاء والبتي وأبو ثور: لا ينفذ عتق الراهن موسرا كان أو
معسرا وهو القول الثالث للشافعي لأنه معنى يبطل حق الوثيقة من الرهن أشبه البيع
ولنا انه اعتاق من مالك جائز التصرف تام الملك فنفذ كعتق المستأجر ولان الرهن عين محبوسة لاستيفاء
الحق فنفذ فيها عتق المالك كالمبيع في يد البائع والعتق يخالف البيع فإنه مبني على التغليب والسراية وينفذ
في ملك الغير ويجوز عتق المبيع قبل قبضه والآبق والمجهول وما لا يقدر على تسليمه ويجوز تعليقه على الشرط
بخلاف البيع. إذا ثبت هذا فإن كان موسرا أخذت منه قيمته فجعلت مكانه رهنا لأنه أبطل حق الوثيقة بغير
اذن المرتهن فلزمته قيمته كما لو أبطلها أجنبي أو كما لو أتلفه وتكون القيمة رهنا لكونها نائبة عن العين
وبدلا منها وإن كان معسرا فهي في ذمته فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه فجعلت رهنا إلا أن يختار تعجيل
الحق فيقضيه ولا يحتاج إلى رهن وان أيسر بعد حلول الحق طولب بالدين خاصة لأن ذمته تبرأ به من
الحقين معا والاعتبار بقيمة العبد حال العتق لأنه وقت الاتلاف وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة في
المعسر يستسعى العبد في قيمته ثم يرجع على الراهن وفيه ايجاب الكسب على العبد ولا صنيع له ولا جناية منه
فكان الزام الغرم للمتلف أولى كحال اليسار وكسائر الاتلاف
(فصل) فإن أعتقه بإذن المرتهن فلا نعلم خلافا في نفوذ عتقه على كل حال لأن المنع كان لحق
المرتهن وقد أذن ويسقط حقه من الوثيقة موسرا كان المعتق أو معسرا لأنه اذن فيما ينافي حقه فإذا
400

وجد زال حقه وقد رضي به لرضاه بما ينافيه واذن فيه فلم يكن له بدل فإن رجع عن الاذن قبل العتق وعلم الراهن
برجوعه بطل الاذن وان لم يعلم برجوعه فأعتق ففيه وجهان بناء على عزل الوكيل بدون علمه، وان رجع
بعد العتق لم ينفعه الرجوع والقول قول المرتهن مع يمينه لأن الأصل عدم الإذن، وان اختلف الراهن
وورثة المرتهن فالقول قول الورثة أيضا الا أن أيمانهم على نفي العمل لأنها على فعل الغير، وان اختلف المرتهن
وورثة الراهن فالقول قول المرتهن مع يمينه وان لم يحلف قضي عليه بالنكول
{مسألة} (وليس عليه تزويج الأمة المرهونة فإن فعل لم يصح)
وهذا اختيار أبي الخطاب وقول مالك والشافعي. وقال القاضي وجماعة من أصحابنا يصح وللمرتهن
منع الزوج من وطئها لحق المرتهن حتى لا تخرج عن يده فيفوت القبض ومهرها رهن معها لأنه من نمائها
وبسببها فكان رهنا معها كأجرتها وسائر نمائها، وهذا مذهب أبي حنيفة لأن محل النكاح غير محل عقد
الرهن ولذلك صح رهن المزوجة ولان الرهن لا يزيل الملك فلم يمنع التزويج كالإجارة، ولنا أنه
تصرف في الرهن بما ينقص ثمنه ويستغل بعض منافعه فلم يملكه الراهن بغير رضى المرتهن كالإجارة
ولا يخفى تنقيصه لثمنها فإنه يعطل منافع بضعها ويمنع مشتريها من وطئها وحلها ويوجب عليها تمكين
زوجها من الاستمتاع بها ويعرضها بوطئه للحمل الذي يخاف منه تلفها ويشغلها عن خدمته بتربية ولدها
فتذهب الرغبة فيها وتنقص نقصا كثيرا وربما منع بيعها بالكلية. وقولهم ان محل عقد النكاح غير محل
الرهن غير صحيح فإن محل الرهن محل البيع والبيع يتناول جملتها، ولهذا يباح لمشتريها استمتاعها
401

وإنما صح رهن المزوجة لبقاء معظم المنفعة فيها وبقائها محلا للبيع كما يصح رهن المستأجرة. ويفارق الرهن
الإجارة فإن التزويج لا يؤثر في مقصود الإجارة ولا يمنع المستأجر من استيفاء المنافع المستحقة له ويؤثر
في مقصود الرهن وهو استيفاء الدين من ثمنها لأن تزويجها يمنع بيعها أو ينقص ثمنها فيتعذر استيفاء الدين بكماله
{مسألة} (وان وطئ الجارية فأولدها خرجت من الرهن وأخذت منه قيمتها فجعلت رهنا)
لا يجوز للراهن وطئ أمته المرهونة في قول أكثر أهل العلم، وقال بعض أصحاب الشافعي له
وطئ الآيسة والصغيرة لكونه لا ضرر فيه فإن علة المنع خوف الحمل مخالفة أن تلد منه فتخرج من الرهن
أو تتعرض للتلف، وهذا معدوم فيهما وسائر أهل العلم على خلاف هذا. قال ابن المنذر أجمع أهل
العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطئ أمته المرهونة ولان سائر من يحرم وطؤها لا فرق فيه بين
الآيسة والصغيرة وغيرهما كالمعتدة والمستبرأة والأجنبية ولان الوقت الذي تحمل فيه يختلف ولا ينحزر
فمنع من الوطئ جملة كما حرم الخمر للسكر وحرم منه اليسير الذي لا يسكر لكون السكر يختلف، فإن
وطئ فلا حد عليه لأنها ملكه وإنما حرمت عليه لعارض كالمحرمة والصائمة ولا مهر عليه لأن المرتهن
لاحق له في منفعتها ووطؤها لا ينقص قيمتها إذا كانت ثيبا فأشبه ما لو استخدمها وان تلف جزء منها
أو نقصها مثل أن افتض البكر أو أفضاها فعليه قيمة ما أتلف فإن شاء جعله رهنا معها وان شاء جعله
قضاء من الحق ان لم يكن حل فإن كان الحق قد حل جعله قضاء لا غير فإنه لا فائدة في جعله رهنا
ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة فيما ذكرناه
402

(فصل) فإن أولدها خرجت من الرهن وعليه قيمتها حين أحبلها كما لو جرح العبد كانت عليه
قيمته يوم جرحه ولا فرق بين الموسر والمعسر الا أن الموسر تؤخذ منه قيمتها والمعسر تكون قي ذمته
قيمتها على حسب ما ذكرنا في العتق، وهذا قول أصحاب الرأي، وقول الشافعي ههنا كقوله في العتق
الا أنه إذا قال لا ينفذ الاحبال فإنما هو في حق المرتهن، فأما في حق الراهن فهو ثابت فلا يجوز له
أن يهبها للمرتهن، ولو حل الحق وهي حامل لم يجز بيعها لأنها حامل بحر فإذا ولدت لم يجز بيعها حتى
تسقي ولدها اللبأ ثم إن وجد من يرضعه بيعت والا تركت حتى ترضعه ثم يباع منها بقدر الدين
ويثبت للباقي حكم الاستيلاد فإذا مات الراهن عتق. وان رجع المبيع إلى الراهن بيع أو غيره أو بيع
جميعها ثم رجعت إليه ثبت لها حكم الاستيلاد، وقال مالك ان كانت الأمة تخرج إلى الراهن وتأتيه
خرجت من الرهن وان تسور عليها أخذ ولدها وبيعت.
ولنا أن هذه أم ولد فلم يثبت فيها حكم الرهن كما لو كان الوطئ سابقا على الرهن أو نقول معنى
ينافي الرهن في ابتدائه فنفاه في دوامه كالحرية
(فصل) فإن كان الوطئ بإذن المرتهن خرجت من الرهن ولا شئ للمرتهن لأنه أذن في سبب ما ينافي
حقه فكان اذنا فيه ولا نعلم في هذا خلافا وان لم تحبل فهي رهن بحالها، فإن قيل إنما أذن في الوطئ
ولم يأذن في الاحبال قلنا الوطئ هو المفضي إلى الاحبال ولا؟؟ ذلك على اختياره فالاذن في سببه
403

اذن فيه، فإن أذن ثم رجع فهو كمن لم يأذن، وإن اختلفا في الاذن فالقول قول من ينكره وإن
أقر المرتهن بالاذن وأنكر كون الولد من الوطئ المأذون فيه أو قال هو من زوج أو زنا فالقول قول
الراهن بأربع شروط (أحدها) أن يعترف المرتهن بالاذن (الثاني) أن يعترف بالوطئ (الثالث) أن
يعترف بالولادة (الرابع) أن يعترف بمضي مدة بعد الوطئ يمكن أن تلد فيها فحينئذ لا يلتفت إلى انكاره
ويكون القول قول الراهن بغير يمين لأننا لم نلحقه به بدعواه: بل بالشرع، فإن أنكر شرطا من
هذه الشروط فقال لم آذن أو قال أذنت فما وطئت، أو قال لم تمض مدة تضع فيها الحمل منذ وطئت،
أو قال ليس هذا ولدها إنما استعارته فالقول قوله لأن الأصل عدم ذلك كله وبقاء الوثيقة صحيحة
حتى تقوم البينة وهذا مذهب الشافعي
(فصل) ولو أذن في ضربها فضربها فتلفت فلا ضمان عليه لأن ذلك تولد من المأذون فيه فهو
كتولد الا حبال من الوطئ
(فصل) وإذا أقر الراهن بالوطئ لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يقربه حال العقد أو قبل
لزومه فحكم هذين واحد ولا يمنع ذلك صحة الرهن لأن الأصل عدم الحمل، فإن بانت حائلا أو حاملا
بولد لا يلحق بالراهن فالرهن بحاله، وكذلك إن كان يلحق به لكن لا تصير به أم ولد مثل إن وطئها
وهي زوجته ثم ملكها ورهنها، وان بانت حاملا بما تصير به أم ولد بطل الرهن ولاخيار للمرتهن وإن
كان مشروطا في بيع لأنه دخل مع العلم بأنها قد لا تكون رهنا، فإذا خرجت من الرهن بذلك السبب
الذي علمه لم يكن له خيار كالمريض إذا مات والجاني إذا اقتص منه وهذا قول أكثر الشافعية، وقال
بعضهم له الخيار لأن الوطئ نفسه لا يثبت الخيار فلم يكن رضاه به رضى بالحمل الذي يحدث منه بخلاف
الجناية والمرض. ولنا أن اذنه في الوطئ اذن فيما يؤول إليه كذلك رضاه به رضى بما يؤول إليه (الحال
الثالث) أقر بالوطئ بعد لزوم الرهن فإنه يقبل في حقه ولا يقبل في حق المرتهن لأنه أقر بما يفسخ
عقدا لازما لغيره فلم يقبل كما لو أقر بذلك بعد بيعها، ويحتمل أن يقبل لأنه أقر في ملكه بما لا تهمة
404

فيه لأنه يستضر من ذلك أكثر من نفعه بخروجها من الرهن والأول أصح لأن اقرار الانسان على غيره لا يقبل
{مسألة} (وإن أذن المرتهن في بيع أو هبة أو نحو ذلك صح وبطل الرهن الا أن يأذن له
في بيعه بشرط أن يجعل ثمنه رهنا أو يعجل دينه من ثمنه)
وجملة ذلك أنه متى أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن أو هبته أو وقفه ففعل صح لأن المنع كان
لحقه فجاز باذنه ويبطل الرهن لأنه هذا تصرف ينافي الرهن فلا يجتمع مع ما ينافيه الا البيع فله ثلاثة
أحوال (أحدها) أن يأذن له في بيعه بعد حلول الحق فيصح ويتعلق حق المرتهن بثمنه ويجب قضاء
الدين منه لأن مقتضى الرهن بيعه واستيفاء الدين من ثمنه (الثاني) أنه يأذن له قبل حلوله مطلقا فيبيعه
فيبطل الرهن ولا يكون عليه عوضه لأنه أذن له فيما ينافي حقه فأشبه ما لو اذن في عتقه وللمالك اخذ
ثمنه وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومحمد يكون الثمن رهنا لأن الراهن باع الرهن بإذن المرتهن
فوجب ان يثبت حقه فيه كما لو حل الدين. قال الطحاوي: حق المرتهن يتعلق بعين الرهن والثمن بدله
فوجب ان يتعلق به كما لو أتلفه متلف
ولنا انه تصرف يبطل حق المرتهن من عين الرهن لا يملكه المرتهن، فإذا اذن فيه أسقط حقه
كالعتق. ويخالف ما بعد الحلول لأن المرتهن يستحق البيع. ويخالف الا تلاف لأنه غير مأذون فيه من
جهة المرتهن، فإن قال إنما أردت باطلاق الاذن أن يكون ثمنه رهنا لم يقبل قوله لأن اطلاق الاذن
يقتضي بيعا يفسخ الرهن، وبهذا قال الشافعي (الثالث) ان يأذن فيه بشرط ان يجعل ثمنه رهنا مكانه
أو يعجل له دينه من ثمنه فيجوز ويلزم ذلك لأنه لو شرط ذلك بعد حلول الحق جاز فكذلك قبله
وان اختلفا في الاذن فالقول قول المرتهن لأنه منكر، وان أقر بالاذن واختلفا في شرط جعل ثمنه
رهنا أو تعجيل دينه منه فالقول قول الراهن لأن الأصل عدم الشرط، ويحتمل ان يقدم قول المرتهن
لأن الأصل بقاء الوثيقة
{مسألة} (ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه من الرهن)
405

وجملة ذلك أن نماء الرهن جميعه وغلاته تكون رهنا في يد من الرهن في يده كالأصل وإذا
احتيج إلى بيعه في وفاء الدين بيع مع الأصل، وسواء في ذلك المتصل كالسمن والتعلم والمنفصل كالكسب
والأجرة والولد والثمر واللبن والصوف والشعر وبنحو هذا قال النخعي والشعبي. وقال الثوري وأصحاب
الرأي يتبع النماء ولا يتبع الكسب لأن الكسب لا يتبع في حكم الكتابة والاستيلاد والتدبير فلا يتبع
في الرهن كاعتاق مال الراهن. وقال مالك: يتبع الولد في الرهن خاصة دون سائر النماء لأن الولد
يتبع الأصل في الحقوق الثابتة كولد أم الولد، وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر لا يدخل في الرهن
شئ من النماء المنفصل ولا من الكسب لأنه حق تعلق بالأصل يستوفى من ثمنه فلا يسري إلى غيره
كحق جنايته حتى قال الشافعي لو رهنه ماشية مخاضا فنتجت فالنتاج لا يدخل في الرهن، وخالفه أبو
ثور وابن المنذر واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه "
وإنما يكون رهنا كسائر ماله
ولنا أنه حكم يثبت في العين بعقد المال فيدخل فيه النماء والمنافع كالملك بالبيع وغيره، ولان النماء
حادث من غير الرهن فيدخل فيه كالمتصل، ولأنه حق مستقر في الام ثبت برضى المالك فسرى إلى
الولد كالتدبير والاستيلاد. ولنا على مالك أنه نماء حادث من غير الرهن فسرى إليه حكم الرهن
كالولد، وعلى أبي حنيفة أنه عقد يستتبع النماء فاستتبع الكسب كالشراء، وأما الحديث فنقول به،
وأن غنمه وكسبه ونماءه للراهن لكن يتعلق به حق الرهن كالأصل. والفرق بينه وبين سائر مال
الراهن أنه تبع فثبت له حكم أصله، وأما حق الجناية فإنه ثبت بغير رضى المال فلم يتعد ما ثبت فيه لأنه
جزاء عدوان فاختص الجاني كالقصاص، ولان السراية في الرهن لا تفضي إلى استيفاء أكثر من دينه
فلا يكثر الضرر فيه. واما أرش الجناية على الرهن فيتعلق بها حق المرتهن لأنها بدل جزء منه فكانت
من الرهن كقيمته إذا أتلفه انسان وهذا قول الشافعي وغيره
(فصل) وإذا ارتهن أرضا أو دارا أو غيرهما تبعه في الرهن ما يتبع في البيع، فإن كان في الأرض
406

شجر فقال رهنتك هذه الأرض بحقوقها أو ذكر ما يدل على أن الشجر في الرهن دخل، وان لم يذكر
ذلك فهل يدخل في الرهن؟ على وجهين بناء على دخوله في البيع، وان رهنه شجرا مثمرا وفيه ثمرة
ظاهرة لم تدخل في الرهن كما لا تدخل في البيع. وان لم تكن ظاهرة دخلت، وقال الشافعي لا تدخل
بحال، وقال أبو حنيفة تدخل بكل حال لأن الرهن عنده يصح على الأصل دون الثمرة وقد قصد إلى
عقد صحيح فتدخل الثمرة ضرورة الصحة
ولنا أن الثمرة المؤبرة لا تدخل في البيع مع قوته وإزالته لملك البائع فالرهن مع ضعفة أولى، وعلى
الشافعي انه عقد على الشجر فاستتبع الثمرة غير المؤبرة كالبيع. ويدخل في الرهن الصوف واللبن
الموجودان كما يدخل في البيع، وكذلك الحمل وسائر ما يتبع في البيع لأنه عقد وارد على العين فدخلت
فيه هذه التوابع كالبيع، ولو كان الرهن دارا فخربت كانت أنقاضها رهنا معها لأنها من اجزائها وقد
كانت مرهونة قبل خرابها، ولو رهنه أرضا فنبت فيها شجر فهو من الرهن سواء نبت بفعل الراهن
أو بغير فعله لأنه من نمائها
{مسألة} (ومؤنته على الراهن وكفنه إن مات وأجرة مخزنه إن كان مخزونا)
مؤنة الرهن من طعامه وكسوته ومسكنه وحافظه وحرزه ومخزنه وغير ذلك على الراهن، وبهذا
قال مالك والشافعي والعنبري وإسحاق، وقال أبو حنيفة أجرة المسكن والحافظ على المرتهن لأنه من
مؤنة امساكه وارتهانه. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " رواه الدارقطني
وقال اسناد جيد متصل، ولأنه نوع اتفاق فكان على الراهن كالطعام، ولان الرهن ملك الراهن
فكان عليه مسكنه وحافظه كغير الرهن، وان أبق العبد فأجرة من يرده على الراهن، وقال أبو حنيفة
يكون بقدر الأمانة على الراهن وبقدر الضمان على المرتهن. وإن احتيج إلى مداواته لمرض أو جرح
فذلك على الراهن، وعند أبي حنيفة هو كأجرة من يرده من إباقه وبنى ذلك على أصله في أن يد المرتهن
يد ضمان بقدر دينه فيه وما زاد فهو أمانة عنده ويأتي الكلام على ذلك فيما بعد، فإن مات العبد
كانت مؤنة تجهيزه وتكفينه ودفنه على الراهن لأن ذلك تابع لمؤنته. فإن كل من لزمته مؤنة شخص في
حياته لافي مقابلة نفع كانت مؤنة تجهيزه ودفنه عليه كسائر العبيد والإماء والأقارب من الأحرار
(فصل) وإن كان الرهن ثمرة فاحتاجت إلى سقي وتسوية وجذاذ فذلك على الراهن، وان
احتاجت إلى تجفيف والحق مؤجل فعليه التجفيف لأنه يحتاج إلى أن يستبقيها رهنا حتى يحل الحق،
407

وإن كان حالا بيعت ولم يحتج إلى تجفيفها، فإن اتفقا على بيعها وجعل ثمنها رهنا بالحق المؤجل جاز
وان اختلفا قدم قول من يستبقيها بعينها لأن العقد يقتضي ذلك الا أن يكون مما تقل قيمته بالتجفيف
وقد جرت العادة ببيعه رطبا فيباع ويجعل ثمنه رهنا، وان اتفقا على قطع الثمرة في وقت جاز سواء
كان الحق حالا أو مؤجلا، أو كان الأصلح القطع أو الترك لأن الحق لا يخرج عنهما، وان اختلفا
قدم قول من طلب الأصلح إن كان ذلك قبل حلول الحق، وإن كان الحق حالا قدم قول من طلب القطع
لأنه إن كان المرتهن فهو طالب لاستيفاء حقه الحال فلزم اجابته، وإن كان الراهن فهو يطلب بتبرئة
ذمته وتخليص عين ملكه من الرهن والقطع أحوط من جهة أن في تبقيته غررا. ذكر القاضي هذا في
المفلس وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وهذا في معناه، ويحتمل أن ينظر في الثمرة فإن كانت تنقص
بالقطع نقصا كثيرا لم يجبر الممتنع من قطعها لأن ذلك اتلاف فلا يجبر عليه كما لا يجبر على نقض داره
ليبيع أنقاضها، ولا على ذبح فرسه ليبيع لحمها، فإن كانت الثمرة مما لا ينتفع بها قبل كمالها لم يجز
قطعها قبله ولم يجبر عليه بحال لما فيه من إضاعة المال والله أعلم
(فصل) فإن كان الرهن ماشية تحتاج إلى اطراق الفحل لم يجبر الراهن عليه لأنه ليس عليه ما
يتضمن زيادة في الرهن وليس ذلك مما يحتاج إليه لبقائها ولا يمنع من ذلك لكونه زيادة لهما لا ضرر
على المرتهن فيه، وان احتاجت إلى رعي فعلى الراهن أن يقيم لها راعيا لأن ذلك يجرى مجرى علفها
فإن أراد الراهن السفر بها ليرعاها في مكان آخر وكان لها في مكانها مرعى تتماسك به فللمرتهن منعه
لأن في السفر بها اخراجها عن نظره ويده، وان أجدب مكانها فلم تجد ما تتماسك به فللراهن السفر
بها لأنها تهلك إذا لم يسافر بها الا انها تكون في يد عدل يرضيان به أو ينصبه الحاكم ولا ينفرد الراهن
بها، فإن امتنع الراهن من السفر بها فللمرتهن نقلها لأن في بقائها هلاكها وضياع حقه من الرهن،
وان أراد جميعا السفر بها واختلفا في مكانها قدمنا قول من يعين الأصلح فإن استويا قدم قول المرتهن،
وعند الشافعي يقدم قول الراهن وإن كان الأصلح غيره لأنه أملك بها الا أنه يكون مأواها إلى يد
عدل. ولنا أن اليد للمرتهن فكان أولى كما لو كانا في بلد واحد وأيهما أراد نقلها عن البلد مع خصبه
لم يكن له سواء أراد نقلها إلى مثله أو أخصب منه إذ لا معنى للمسافرة بالرهن مع امكان ترك السفر به
وان اتفقا على نقلها جاز سواء كان أنفع لها أولا لأن الحق لا يخرج عنهما
408

(فصل) وإن كان عبدا يحتاج إلى ختان والدين حال أو اجله قبل برئه منع منه لأنه ينقص ثمنه
وفيه ضرر، وإن كان يبرأ قبل محل الحق والزمان معتدل لا يخاف عليه فيه فله ذلك لأنه من الواجبات
ويزيد في الثمن ولا يضر بالمرتهن ومؤنة ختانه على الراهن، وان مرض فاحتاج إلى دواء لم يجبر
الراهن عليه لأنه لا يتحقق أنه سبب لبقائه وقد يبرأ بغير علاج بخلاف النفقة، وان أراد الراهن
مداواته بما لا ضرر فيه لم يمنع منه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، فإن كان الدواء مما يخاف
غائلته كالسموم فللمرتهن منعه منه لأنه لا يأمن تلفه، وان احتاج إلى قصد أو احتاجت الدابة إلى
توديج ومعناه فتح الودجين ليسيل الدم وهما عرقان غليظان من جانبي ثغرة النحر أو تبزيغ وهو فتح
الرهصة فللراهن فعل ذلك ما لم يخف منه ضرر، وان احتيج إلى قطع شئ من بدنه بدواء لا يخاف
منه جاز، وان خيف منه فأيهما امتنع منه لم يجبر، وان كانت به آكلة كان له قطعها لأنه يخاف من
تركها لامن قطعها، وإن كان به خبيثة فقال أهل الخبرة الأحوط قطعها وهو أنفع من بقائها فللراهن
قطعها والا فلا، وان تساوى الخوف عليه في الحالين لم يكن له قطعها لأنه يحدث جرحا فيه لم يترجح
احداثه، وان كانت به سلعة أو إصبع زائدة لم يملك الراهن قطعها لأن قطعها يخاف منه وتركها لا يخاف
منه، وان كانت الماشية جربة فأراد الراهن دهنها بما يرجى نفعه ولا يخاف ضرره كالقطران والزيت
اليسير لم يمنع، وان خيف ضرره كالكثير فللمرتهن منعه. وقال القاضي: له ذلك بغير اذن المرتهن
لأن له معالجة ملكه، وان امتنع من ذلك لم يجبر عليه، ولو أراد المرتهن مداواتها بما ينفعها ولا
يخشى ضرره لم يمنع لأن فيه اصلاح حقه بما لا يضر بغيره، وان خيف منه الضرر لم يمكن منه
لأن فيه خطرا بحق غيره
(فصل) فإن كان الرهن نخلا فاحتاج إلى تأبير فهو على الراهن وليس للمرتهن منعه منه لأن فيه
مصلحة بغير مضرة وما يسقط من ليف أو سعف أو عراجين فهو من الرهن لأنه من اجزائه أو من
نمائه، وقال أصحاب الشافعي ليس من الرهن بناءا منهم على أن نماء الرهن ليس منه. ولا يصح ذلك
ههنا لأن السعف من جملة الأعيان التي ورد عليها عقد الرهن فكانت منه كالأصول وانقاض الدار
وإن كان الرهن كرما فله زباره لأنه لمصلحته ولا ضرر فيه والزرجون من الرهن، وإن كان الشجر
409

مزدحما وفي قطع بعضه صلاح لما يبقى فله ذلك، وان أراد تحويله كله لم يملك ذلك، وان قيل هو
الأولى لأنه قد لا يعلق فيفوت الرهن. وان امتنع الراهن من فعل هذا كله لم يجبر عليه لأنه لا يلزمه
فعل ما فيه زيادة الرهن
(فصل) وكل زيادة تلزم الراهن إذا امتنع منها أجبره الحاكم عليها فإن لم يفعل اكترى الحاكم
من ماله فإن لم يكن له مال اكترى من الرهن، فإن بذلها المرتهن متطوعا لم يرجع بشئ، وإن كان
باذن الراهن محتسبا بالرجوع رجع، فإن أنفق باذن الراهن ليكون الرهن رهنا بالنفقة والدين الأول
لم يصح ولم يصر رهنا بالنفقة لما ذكرنا، وان قال الراهن أنفقت متبرعا وقال المرتهن بل أنفقت
محتسبا بالرجوع فالقول قول المرتهن لأن الخلاف في نيته وهو أعلم بها وعليه اليمين لأن ما قاله الراهن
محتمل، وكل مؤنة لا تلزم الراهن كنفقة المداواة والتأبير وأشباههما لا يرجع بها المرتهن إذا أنفقها
سواء أنفقها محتسبا أو متبرعا
{مسألة} (وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف بغير تعد منه فلا شئ عليه ولا يسقط
بهلاكه شئ من دينه)
وجملة ذلك أن الرهن إذا تلف في يد المرتهن فإن كان تلفه بتعد أو تفريط في حفظه ضمنه لا نعلم
في ذلك خلافا لأنه أمانة في يده فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه أو تفريطه كالوديعة فاما ان تلف بغير
تعد منه ولا تفريط فلا ضمان عليه وهو من مال الراهن يروى ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال
عطاء والزهري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وروي عن شريح والنخعي والحسن أن
الرهن يضمن بجميع الدين وإن كان أكثر من قيمته لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الرهن بما
فيه " وقال مالك إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحريق فمن ضمان الراهن، وان ادعى تلفه بأمر
خفي لم يقبل قوله ويضمن، وقال الثوري وأبو حنيفة يضمنه المرتهن بأقل الا مرين من قيمته أو قدر
الدين ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه لما روى عطاء أن رجلا رهن فرسا فنفق عند المرتهن فجاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال " ذهب حقك " ولأنها عين مقبوضة للاستيفاء فيضمنها
410

من قبضها لذلك، أو من قبضها نائبه كحقيقة المستوفي، ولأنه محبوس بدين فكان مضمونا كالمبيع
إذا حبس لاستيفاء ثمنه.
ولنا ما روى ابن أبي ذؤيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق
الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه " رواه الأثرم عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن ابن أبي ذؤيب
ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذؤيب ولفظه " الرهن من صاحبه الذي رهنه وباقيه
سواء " قال ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه من حديث ابن أبي
أنيسة ولأنه وثيقة بالدين فلا يضمن كالزيادة على قدر الدين، ولأنه مقبوض بعقد واحد بعضه أمانة
فكان جميعه أمانة كالوديعة، وعلى مالك ان مالا يضمن به العقار لا يضمن به الذهب كالوديعة فأما
حديث عطاء فهو مرسل وقوله يخالفه. قال الدارقطني يرويه إسماعيل بن أمية وكان كذابا وقيل
يرويه مصعب بن ثابت وكان ضعيفا، ويحتمل انه أراد ذهب حقك من الوثيقة بدليل انه لم يسأل
عن قدر الدين وقيمة الرهن، والحديث الآخر ان صح فيحتمل أنه محبوس بما فيه، وأما المستوفى فإنه
صار ملكا للمستوفي وله نماؤه وغنمه فكان عليه ضمانه وغرمه بخلاف الرهن والمبيع قبل القبض ممنوع
إذا ثبت ذلك فإنه لا يسقط بهلاكه شئ من دينه وهو قول الشافعي لأن الدين كان ثابتا في ذمة الراهن
قبل التلف ولم يوجد ما يسقطه فبقي بحاله
{مسألة} (وان تلف بعضه فباقيه رهن بجميع الدين)
لأن جميعه كان رهنا بجميع الدين، فإذا تلف البعض بقي البعض الآخر رهنا بجميع الدين
لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولان الباقي بعض الجملة، وقد كان الجميع رهنا فيكون البعض
رهنا لأنه من الجملة
(فصل) وإذا قضاه حقه وابرأه من الدين بقي الرهن أمانة في يد المرتهن، وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة إذا قضاه كان مضمونا وإذا أبرأه لم يكن مضمونا استحسانا وهذا مناقضة لأن القبض
المضمون منه لم يزل ولم يبرئه منه، وعندنا انه كان أمانة وبقي على ما كان عليه وليس عليه رده لأنه
أمسكه بإذن مالكه ولا يختص بنفعه فهو كالوديعة بخلاف العارية فإنه يختص بنفعها وبخلاف ما لو أطارت
الريح إلى دراه ثوبا فإنه يلزمه رده إلى مالكه لأن مالكه لم يأذن في امساكه، فاما ان طلبه المالك في
411

هذه الحال لزم من هو في يده من المرتهن أو العدل دفعه إليه إذا أمكنه، فإن امتنع صار ضامنا كالمودع
إذا امتنع من رد الوديعة بعد طلبها فإن كان امتناعه لعذر مثل أن يكون بينهما طريق مخوف أو باب
مغلق لا يمكنه فتحه أو خاف فوت جمعة أو جماعة أو فوت وقت صلاة أو كان به مرض أو جوع شديد
ونحوه فأخر التسليم لذلك لم يضمن لأنه لا تفريط منه أشبه المودع
(فصل) وإذا قبض الرهن فوجده مستحقا لزمه رده على مالكه والرهن باطل من أصله، فإن
أمسكه مع علمه بالغصب حتى تلف في يده استقر الضمان عليه وللمالك تضمين أيهما شاء، فإن
أمسكه مع علمه بالغصب حتى تلف في يده استقر الضمان عليه وللمالك تضمين أيهما شاء، فإن
ضمن المرتهن لم يرجع على أحد لذلك، وان ضمن الراهن رجع عليه، وان لم يعلم بالغصب حتى
تلف بتفريطه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يستقر الضمان عليه أيضا لأن مال الغير تلف تحت يده العادية
أشبه ما لو علم (والثاني) لا ضمان عليه لأنه قبضه على أنه أمانة من غير علمه فهو كالوديعة، فعلى هذا
يرجع المالك على الغاصب لا غير (الثالث) للمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الغاصب لأنه
غره فرجع عليه كالمغرور بحرية أمة
{مسألة} (ولا ينفك شئ من الرهن حتى يقضى جميع الدين)
وجملة ذلك أن حق الوثيقة يتعلق بجميع الرهن فيصير محبوسا بكل الحق وبكل جزء منه لا
ينفك منه شئ حتى يقضى جميع الدين سواء كان مما يمكن قسمته أولا. قال ابن المنذر أجمع كل
من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من رهن شيئا بمال فأدى بعض المال وأراد اخراج بعض
الرهن ان ذلك ليس له ولا يخرج شئ حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه من ذلك كذلك قال مالك
والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الرهن وثيقة بحق فلا يزول الا بزوال
جميعه كالضمان والشهادة.
{مسألة} (وان رهنه عند رجلين فوفى أحدهما انفك في نصيبه)
إذا رهن عينا عند رجلين فنصفها رهن عند كل واحد منهما بدينه فمتى وفى أحدهما خرجت حصته
من الرهن لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين فكأنه رهن كل واحد منهما النصف منفردا
فإن أراد مقاسمة المرتهن واخذ نصيب من وفاه، وكان الرهن مما لا تنقصه القسمة كالمكيل
والموزون فله ذلك، وإن كان مما تنقصه القسمة لم تجب قسمته لأن على المرتهن ضررا فيها ويقر
412

في يد المرتهن بعضه رهن وبعضه وديعة، وقال أبو الخطاب فيمن رهن عبده عند رجلين فوفى
أحدهما يبقى جميعه رهنا عند الآخر حتى يوفيه، وكلامه محمول على أنه ليس للراهن مقاسمة المرتهن
لما عليه من الضرر لا بمعنى ان العين كلها تكون رهنا إذ لا يجوز ان يقال إنه رهن نصف العبد عند
رجل فصار جميعه رهنا
{مسألة} (وان رهنه رجلان شيئا فوفاه أحدهما انفك في نصيبه)
لما ذكرنا وقد قال احمد في رواية مهنا في رجلين رهنا دارا لهما عند رجل على الف فقضاه أحدهما
ولم يقض الآخر فالدار رهن على ما بقي وهذا من كلام احمد محمول أيضا على أنه ليس للراهن مقاسمة
المرتهن لما عليه من الضرر لا بمعنى ان العين كلها تكون رهنا عند الآخر لأنه إنما رهنه نصفها
(فصل) ولو رهن اثنان عبدا لهما عند اثنين بألف فهذه أربعة عقود ويصير كل ربع من العبد رهنا
بمائتين وخمسين فمتى قضاها من هي عليه انفك من الرهن ذلك القدر ذكره القاضي وهو الصحيح
{مسألة} (وإذا حل الدين وامتنع من وفائه فإن كان الراهن اذن للمرتهن أو العدل في
بيع الرهن باعه ووفى الدين والا رفع الامر إلى الحاكم فيجبره على وفاء الدين أو بيع الرهن فإن لم
يفعل باعه الحاكم وقضى دينه)
وجملة ذلك أنه إذا حل الدين لزم الايفاء لأنه دين حال فلزم إيفاؤه كالذي لارهن به فإن لم
يوف وكان قد اذن للمرتهن أو للعدل في بيع الرهن باعه ووفى الحق من ثمنه لأن هذا هو المقصود
من الرهن وقد باعه باذن صاحبه في قضاء دينه يصح في غير الرهن وما فضل من ثمنه فهو للمالك
وان فضل من الدين شئ فعلى الراهن وان لم يكن أذن لهما في بيعه أو كان قد أذن لهما ثم عزلهما طولب
بالوفاء أو بيع الرهن فإن أبى فعلى الحاكم ما يرى من حبسه أو تعزيره ليبيعه أو يبيعه الحاكم بنفسه أو
نائبه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يبيعه الحاكم لأن ولاية الحاكم على من عليه الحق لا على
ماله فلم ينفذ بيعه بغير اذنه. ولنا أنه حق تعين عليه فإذا امتنع من أدائه قام الحاكم مقامه في أدائه
كالايفاء من جنس الدين وان وفى الدين من غير الرهن انفك الرهن
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وان شرط في الرهن جعله على يد عدل صح وقام قبضه
مقام قبض المرتهن)
413

وجملة ذلك أن المتراهنين إذا شرطا كون الرهن على يدي رجل رضياه واتفقا عليه جاز وكان
وكيلا للمرتهن نائبا عنه في القبض فمتى قبضه صح قبضه وقام مقام قبض المرتهن في قول أكثر الفقهاء
منهم عطاء وعمرو بن دينار ومالك والثوري وابن المبارك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي
وقال الحكم والحارث العكلي وقتادة وابن أبي ليلى لا يكون مقبوضا بذلك لأن القبض من تمام العقد
فتعلق بالمتعاقدين كالايجاب والقبول
ولنا أنه قبض في عقد فجاز فيه التوكيل كسائر القبوض وفارق القبول لأن الايجاب إذا كان
لشخص كان القبول منه لأنه مخاطب به ولو وكل في الايجاب والقبول قبل ان يوجب له صح أيضا
وما ذكروه ينتقض بالقبض في البيع فيما يعتبر القبض فيه. إذا ثبت هذا فإنه يجوز ان يجعلا الرهن
على يدي من يجوز توكيله وهو الجائز التصرف مسلما كان أو كافرا عدلا أو فاسقا ذكرا أو أنثى
ولا يكون صبيا لأنه غير جائز التصرف مطلقا فإن فعلا كان قبضه وعدم القبض واحدا ولا عبدا
بغير اذن سيده لأن منافع العبد لسيده فلا يجوز تضييعها في الحفظ بغير اذنه فإن أذن له السيد
جاز. وأما المكاتب فيجوز بجعل لأن له الكسب وبذل منافعه بغير اذن السيد ولا يجوز بغير جعل
لأنه ليس له التبرع بمنافعه.
{مسألة} (فإن شرط جعله في يد اثنين فليس لا حدهما الانفراد بحفظه)
لأن المتراهنين لم يرضيا الا بحفظهما معا فلم يجز لأحدهما الانفراد به كالوصين فإن سلمه أحدهما
إلى الآخر فعليه ضمان النصف لأنه القدر الذي تعدى فيه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وفي
الآخر إذا رضي أحدهما بامساك الآخر جاز، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إن كان
مما ينقسم اقتسماه والا فلكل واحد منهما امساك جميعه لأن اجتماعهما على حفظه يشق عليهما فحمل الامر
على أن لكل واحد منهما الحفظ
ولنا أن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما معا فلم يجز لأحدهما الانفراد بذلك كالوصيين ولا
يجوز لأحدهما الانفراد بالتصرف. قولهم ان الاجتماع على الحفظ يشق ممنوع لامكان جعله في
مخزن عليه لكل واحد منهما قفل
{مسألة} (وليس للراهن ولا للمرتهن إذا لم يتفقا ولا للحاكم نقله عن يد العدل الا ان يتغير حاله)
414

وجملة ذلك أن العدل ما دام بحاله لم يتغير عن الأمانة ولا حدثت بينه وبين أحدهما عداوة فليس
لأحدهما ولا للحاكم نقله عن يده لأنهما رضيا به في الابتداء وان اتفقا على نقله جاز لأن الحق لهما
لم يعدهما وكذلك لو كان الرهن في يد المرتهن فلم يتغير حاله لم يكن للراهن ولا للحاكم نقله عن يده، فإن
تغيرت حال العدل بفسق أو ضعف أو حدثت عداوة بينه وبينهما أو بينه وبين أحدهما فمن طلب نقله
عن يده له ذلك ويضعانه في يد من اتفقا عليه. فإن اختلفا وضعه الحاكم عند عدل وان اختلفا في
تغير حاله بحث الحاكم وعمل بما ظهر له، وهكذا لو كان في يد المرتهن فتغيرت حاله في الثقة والحفظ
فللراهن رفعه عن يده إلى الحاكم ليضعه في يد عدل، وإذا ادعى الراهن تغير حال المرتهن فأنكر بحث
الحاكم عن ذلك وعمل بما بان له. فإن مات العدل أو المرتهن لم يكن لورثتهما امساكه الا برضاهما فإن
اتفقا عليه جاز، وان اتفقا على عدل يضعانه عنده فلهما ذلك لأن الحق لهما فيفوض أمره إليهما. وان
اختلف الراهن والمرتهن عند موت العدل أو اختلف الراهن وورثة المرتهن رفعا الامر إلى الحاكم ليضعه
على يد عدل فإن كان الراهن في يد اثنين فمات أحدهما أو تغيرت حاله بفسخ أو ضعف عن الحفظ أو
عداوة أقيم مقامه عدل يضم إلى العدل الآخر فيحفظان معا
{مسألة} (وله رده إليهما ولا يملك رده إلى أحدهما فإن فعل فعليه رده إلى يده فإن لم يفعل
ضمن حق الآخر)
وجملة ذلك أن العدل متى أراد رده عليهما فله ذلك وعليهما قبوله لأنه أمين متطوع بالحفظ فلم
يلزمه المقام عليه فإن امتنع أجبرهما الحاكم فإن تغيبا نصب الحاكم أمينا يقبضه لهما لأن للحاكم ولاية
على الممتنع من الحق الذي عليه فإن دفعه إلى أمين من غير امتناعهما ضمن الأمين وضمن الحاكم لأنه
لا ولاية له على غير الممتنع وكذلك لو تركه العدل عند آخر مع وجودهما ضمن وضمن القابض فإن
امتنعا ولم يجد حاكما فتركه عند عدل آخر لم يضمن. وان امتنع أحدهما لم يكن له دفعه إلى الآخر فإن
فعل ضمن. والفرق بينهما ان أحدهما يمسكه لنفسه والعدل يمسكه لهما هذا فيما إذا كانا حاضرين.
فإن كانا غائبين نظرت فإن كان للعدل عذر من مرض أو سفر أو نحوه دفعه إلى الحاكم فقبضه
منه أو نصب له عدلا يقبضه لهما. فإن لم يجد حاكما أودعه عند ثقة وليس له ان يودعه عند ثقة مع
وجود الحاكم فإن فعل ضمن. فإن لم يكن له عذر وكانت الغيبة بعيدة قبضه الحاكم منه فإن لم
415

يجد حاكما دفعه إلى عدل، وان كانت الغيبة دون مسافة القصر فهو كما لو كانا حاضرين لأنهما في حكم
الإقامة، وان كانا أحدهما حاضرا وحده فحكمهما حكم الغائبين وليس له دفعه إلى الحاضر منهما وفي
كل موضع قلنا لا يجوز له دفعه إلى أحدهما إذا دفعه إليه لزمه رده إلى يده فإن لم يفعل ضمن حق
الآخر لأنه فرط في دفعه إليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤدي "
رواه أبو داود والترمذي والنسائي
{مسألة} (فإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد فإن كان فيه نقود باع بجنس الدين)
وجملة ذلك انهما إذا أذنا للعدل في البيع ولم يعينا نقدا لم يبع الا بنقد البلد لأن الحظ فيه فإن
كان فيه نقود باع بأغلبها لذلك. فإن تساووا فقال القاضي يبيع بما يؤديه إليه اجتهاده وهو قول
الشافعي لأنه الاحظ. فإن تساووا بيع بجنس الدين. والذي ذكره شيخنا ان النقود إذا تساوت قدم
البيع بجنس الدين على البيع بما ير فيه الحظ لأنه يمكن القضاء منه. فإن لم يكن فيها جنس الدين
وتساوت النقود عنده في الحظ عين الحاكم له ما يبيعه به، وان عينا له نقدا لم يجز أن يخالفهما لأن
الحق لهما، وان اختلفا لم يقبل قول واحد منهما لأن لكل واحد منهما فيه حقا للراهن ملك الثمن
وللمرتهن حق الوثيقة واستيفاء حقه فعلى هذا يرفع الامر إلى الحاكم فيأمر ببيعه بنقد البلد سواء كان
من جنس الحق أو لم يكن وافق قول أحدهما أو لم يوافق لأن الحظ في ذلك، قال شيخنا والأولى انه
يبيعه بما يرى الحظ فيه. فإن كان في البلد نقود فهو كما لو لم يعينا نقدا وحكمه في البيع حكم الوكيل
في وجوب الاحتياط والمنع من البيع بدون ثمن المثل ومن البيع نساء، ومتى خالف لزمه ما يلزم الوكيل
المخالف، وذكر القاضي رواية في البيع نساء أنه يجوز بناء على الوكيل ولا يصح لأن البيع ههنا لايفاء
دين حال يجب تعجيله والبيع نساء يمنع من ذلك. وكذا نقول في الوكيل متى وجدت في حقه قرينة
دالة على منع البيع نساء لم يجز له وإنما الروايتان فيه عند انتفاء القرائن. وكل موضع حكمنا ببطلان
البيع وجب رد المبيع إن كان باقيا فإن تعذر فللمرتهن تضمين أيهما شاء من العدل أو المشتري بأقل
الامرين من قيمة الرهن أو قدر الدين لأنه يقبض قيمة الرهن مستوفيا لحقه لا رهنا فلذلك لم يكن له
أن يقبض أكثر من دينه وما بقي من قيمة الرهن للراهن يرجع به على من شاء منهما. وان استوفى
دينه من الراهن رجع الراهن بقيمته على من شاء منهما، ومتى ضمن المشتري لم يرجع على أحد لأن
416

العين تلفت في يده، وان ضمن العدل رجع على المشتري
(فصل) ومتى قدر له ثمنا لم يجز بيعه بدونه وان أطلق فله بيعه بثمن مثله أو زيادة عليه وبهذا
قال الشافعي، وقال أبو حنيفة له بيعه ولو بدرهم والكلام معه في الوكالة: فإن أطلقا فباع بأقل من ثمن
المثل مما يتغابن الناس به صح ولا ضمان عليه لأن ذلك لا يضبط غالبا وإن كان النقص أكثر من ذلك
أو باع بأنقص مما قدر له لم يصح البيع لأنه بيع لم يؤذن فيه فلم يصح كما لو خالف في النقد اختاره
شيخنا، وقال أصحابنا يصح ويضمن النقص كله
{مسألة} (وان قبض الثمن فتلف في يده فهو من ضمان الراهن)
إذا باع العدل الرهن باذنهما وقبض الثمن فتلف في يده من غير تفريط فلا ضمان عليه لأنه
أمين فهو كالوكيل ولا نعلم في ذلك خلافا ويكون من ضمان الراهن وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة
ومالك: يكون من ضمان المرتهن لأن البيع لأجله، ولنا أنه وكيل الراهن في البيع والثمن ملكه وهو
أمين له في قبضه فإذا تلف كان من ضمان موكله كسائر الامناء. وان ادعى التلف فالقول قوله مع يمينه
لأنه أمين ويتعذر عليه إقامة البينة على ذلك فإن كلفناه البينة شق عليه وربما أدى إلى أن لا يدخل
الناس في الأمانات، فإن خالفاه في قبض الثمن فقالا ما قبضه من المشتري وادعى ذلك ففيه
وجهان (أحدهما) يقبل قوله لأنه أمين (والآخر) لا يقبل لأن هذا ابراء للمشتري من الثمن
فلم يقبل قوله كما لو أبرأه من غير الثمن
{مسألة} (وان استحق المبيع رجع المشتري على الراهن)
إذا خرج المبيع مستحقا فالعهدة على الراهن دون العدل إذا اعلم المشتري انه وكيل وهكذا كل
وكيل باع مال غيره، وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة: العهدة على الوكيل والكلام معه يأتي في
الوكالة. فإن علم المشتري بعد تلف الثمن في يد العدل رجع على الراهن ولا شئ على العدل. فإن قيل
لم لا يرجع المشتري على العدل لأنه قبض الثمن بغير حق؟ قلنا لأنه سلمه إليه على أنه أمين في قبضه
يسلمه إلى المرتهن فلذلك لم يجب الضمان عليه، وأما المرتهن فقد بان له ان عقد الرهن كان فاسدا فإن كان
مشروطا في بيع ثبت له الخيار فيه وإلا سقط حقه، فإن كان الراهن مفلسا حيا أو ميتا كان المرتهن
والمشتري أسوة الغرماء لأنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في الذمة فاستووا في قسم ماله بينهم، فأما
417

إن خرج مستحقا بعد دفع الثمن إلى المرتهن رجع المشتري على المرتهن وهو قول الشافعي: وقال
أبو حنيفة يرجع على العدل ويرجع العدل على من شاء منهما من الراهن والمرتهن
ولنا أن عين ماله صار إلى المرتهن بغير حق فكان رجوعه عليه كما لو قبضه منه، فإن كان المشتري
رده بعيب لم يرجع على المرتهن لأنه قبض الثمن بحق ولا على العدل لأنه أمين ويرجع على الراهن،
فأما إن كان العدل حين باعه لم يعلم المشتري انه وكيل كان للمشتري الرجوع عليه ويرجع هو على
الراهن ان أقر العدل بذلك أو قامت به بينة فإن أنكر ذلك فالقول قول العدل مع يمينه، فإن نكل
عن اليمين فقضي عليه بالنكول أوردت اليمين على المشتري فحلف ورجع على العدل لم يرجع العدل
على الراهن لأنه يقر أنه ظلمه. وعلى قول الخرقي القول في حدوث العيب قول المشتري مع يمينه وهو
إحدى الروايتين عن أحمد، فإذا حلف المشتري رجع على العدل ورجع العدل على الراهن، فإن تلف
المبيع في يد المشتري ثم بان مستحقا قبل وزن ثمنه فللمغصوب منه تضمين من شاء من الغاصب والعدل
والمرتهن والمشتري ويستقر الضمان على المشتري لأن التلف في يده هذا إذا علم بالغصب. وإن لم يكن
عالما فهل يستقر الضمان عليه أو على الغاصب؟ على روايتين
{مسألة} (وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكر ولم يكن قضاه ببينة ضمن، وعنه لا يضمن
إلا أن يكون أمر بالاشهاد فلم يفعل وهكذا الحكم في الوكيل)
إذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن فأنكر ففيه وجهان (أحدهما) يقبل قوله في حق الراهن
ولا يقبل في حق المرتهن ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن العدل وكيل الراهن في دفع الثمن
إلى المرتهن وليس بوكيل للمرتهن في ذلك إنما هو وكيله في الحفظ فقط فلم يقبل قوله عليه فيما ليس
بوكيل له فيه كما لو وكل رجلا في قضاء دين فادعى انه سلمه إلى صاحب الدين (والثاني) يقبل قوله
على المرتهن في اسقاط الضمان عن نفسه ولا يقبل في نفي الضمان من غيره ذكره الشريف أبو جعفر
وهو مذهب أبي حنيفة لأنه أمين فقبل قوله في إسقاط الضمان عن نفسه كالمودع يدعي رد الوديعة،
فعلى هذا إذا حلف العدل سقط الضمان عنه ولم يثبت على المرتهن انه قبضه. وعلى القول الأول يحلف
المرتهن ويرجع على من شاء منهما، فإن رجع عن العدل لم يرجع العدل على الراهن لأنه يقول ظلمني
وأخذ مني بغير حق فلم يرجع على الراهن كما لو غصبه مالا آخر، وان رجع على الراهن فهل يرجع
418

الراهن على العدل؟ ينظر فإن كان دفعه إلى المرتهن بحضرة الراهن أو ببينة فماتت أو غابت لم يرجع
عليه لأنه أمين ولم يفرط في القضاء، وان دفعه في غيبة الراهن بغير بينة رجع عليه في إحدى الروايتين
لأنه فرط في القضاء بغير بينة فلزمه الضمان كما لو تلف الرهن بتفريطه (والرواية الثانية) لا يرجع الراهن
عليه سواء صدقه أو كذبه لأنه امين في حقه الا أنه ان كذبه فله عليه اليمين، فإن كان الراهن أمره
بالاشهاد فلم يفعل لزمه الضمان لأنه مفرط وهكذا الحكم في الوكيل لأنه في معناه
(فصل) إذا غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه زال عنه الضمان، ولو كان الرهن في يد
المرتهن فتعدى فيه ثم أزال التعدي أو سافر به ثم رده لم يزل عنه الضمان لأنه استئمانه زال بذلك فلم
يعد بفعله مع بقائه في يده بخلاف التي قبلها فإنه رد إلى يد نائب مالكها أشبه ما لو ردها إلى مالكها
(فصل) إذا استقرض ذمي من مسلم مالا فرهنه خمرا لم يصح سواء جعله في يد ذمي أو غيره
فإن باعها الراهن أو نائبه الذمي وجاء المقرض بثمنها لزمه قبوله، فإن أبي قيل له اما ان تقبض واما ان
تبرئ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرت مجرى الصحيح. قال عمر رضي الله عنه
في أهل الذمة معهم الخمر: ولو هم بيعها وخذوا من أثمانها، وان جعلها على يد مسلم فباعها لم يجبر المرتهن
على قبول الثمن لأنه بيع فاسد لا يقران عليه ولا حكم له
{مسألة} وان شرط ان يبيعه المرتهن أو العدل صح فإن عزلهما صح عزله)
إذا كان الرهن على يدي عدل فشرط ان يبيعه العدل عند حلول الحق أو ان يبيعه المرتهن صح
ويصح بيعه لأنه شرط فيه مصلحة للمرتهن لا ينافي مقتضى الرهن فصح كما لو شرط صفة فيه، وبه قال
أبو حنيفة ومالك والشافعي فيما إذا شرط ان يبيعه العدل، فإن شرط ان يبيعه المرتهن ففيه اختلاف
يذكر في الشروط في الرهن، فإن عزل الراهن العدل أو المرتهن عن البيع صح ولم يملك البيع، وبهذا
قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك لا ينعزل لأن وكالته صارت من حقوق الرهن فلم يكن للراهن
اسقاطه كسائر حقوقه. وقال ابن أبي موسى: ويتوجه لنا مثل ذلك فإن احمد قد منع الحيلة في غير
موضع من كتبه وهذا يفتح باب الحيلة للراهن، فإنه شرط ذلك للمرتهن ليجيبه إليه ثم يعزله.
والمنصوص الأول لأن الوكالة عقد جائز فلم يلزم المقام عليها كسائر الولايات وكونه من حقوق الرهن
لا يمنع جوازه كما لو شرطا الرهن نفي البيع فإنه لا يصير لازما، وكذلك إذا مات الراهن بعد الاذن
419

تنفسخ الوكالة، وقياس المذهب انه متى عزله عن البيع وكان الرهن مشروطا في بيع فللمرتهن فسخ
البيع الذي حصل الرهن عنه كما لو امتنع من تسليم الرهن المشروط في البيع، فأما ان عزله المرتهن
لم ينعزل لأن العدل وكيل الراهن لأن الراهن ملكه، ولو انفرد بتوكيله صح فلم ينعزل بعزل غيره
لكن لا يجوز بيعه بغير اذنه وهكذا لو لم يعزلاه فحل الحق لم يبعه حتى يستأذن المرتهن لأن البيع لحقه
فلم يجز حتى يأذن فيه ولا يحتاج إلى تجديد اذن من الراهن في ظاهر كلام احمد لأن الاذن قد وجد
فأكتفي به كما في الوكالة في سائر الحقوق، وذكر القاضي وجها انه يحتاج إلى تجديد اذن لأنه قد
يكون له غرض في قضاء الحق من غيره. والأول أولى فإن الاذن كاف ما لم يغير والغرض لا اعتبار
به مع صريح الاذن بخلافه بدليل ما لو جدد الاذن بخلاف المرتهن فإن البيع يفتقر إلى مطالبته
بالحق ومذهب الشافعي نحو هذا
(فصل) ولو أتلف الرهن في يد العدل أجنبي فعلى الجاني قيمته تكون رهنا في يده وله المطالبة
بها لأنها بدل الرهن وقائمة مقامه وله امساك الرهن وحفظه، فإن كان المتراهنان اذنا له في بيع الرهن
فقال القاضي قياس المذهب ان له بيع بدله لأن له بيع نماء الرهن تبعا للأصل فالبدل أولى، وقال
أصحاب الشافعي ليس له ذلك لأنه متصرف بالاذن فلا يملك بيع ما لم يؤذن له في بيعه والمأذون في
بيعه قد تلف وبدله غيره، وللقاضي أن يقول إنه قد اذن له في بيع الرهن والبدل رهن ثبت له حكم
الأصل من كونه يملك المطالبة به وامساكه واستيفاء دينه من ثمنه فكذلك بيعه، فإن كان البدل
من جنس الدين وقد اذن له في وفائه من ثمن الرهن مالك ايفاءه منه لأن بدل الرهن من جنس
الدين فأشبه ثمن المبيع
{مسألة} (فإن شرط ان لا يبيعه عند الحلول أو ان جاءه بحقه في محله والا فالرهن له لم يصح
الشرط وفي صحة الرهن روايتان)
الشروط في الرهان قسمان: صحيح وفاسد فالصحيح مثل ان يشترط كونه على يدي عدل أو
عدلين أو أكثر أو ان يبيعه العدل عند حلول الحق ولا نعلم في صحته خلافا فإن شرط ان يبيعه
المرتهن صح، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي لا يصح لأنه وكيل فيما يتنافى فيه الغرضان فلم
يصح كما لو وكله في بيعه من نفسه، ووجه التنافي أن الراهن يريد الصبر على المبيع والاحتياط في توفير
420

الثمن والمرتهن يريد تعجيل الحق وانجاز المبيع. ولنا ما جاز توكيل غير المرتهن فيه جاز توكيل
المرتهن فيه كبيع عين أخرى، ولان من جاز أن يشترط له الامساك جاز اشتراط البيع له كالعدل ولا
يضر اختلاف الغرضين إذا كان غرض المرتهن مستحقا له وهو استيفاء الثمن عند حلول الحق وانجاز
البيع، وعلى أن الراهن إذا وكله مع العلم بغرضه فقد سمح له بذلك والحق له فلا يمنع من السماحة به
كما لو وكل فاسقا في بيع ماله وقبض ثمنه، ولا نسلم أنه لا يجوز توكيله في بيع شئ من نفسه، ولئن
سلمنا فلان الشخص الواحد يكون بائعا مشتريا وموجبا قابلا وقابضا من نفسه لنفسه بخلاف مسئلتنا
(فصل) إذا رهنه أمة فشرطا كونها عند امرأة أو ذي محرم أو كونها في يد المرتهن أو أجني
على وجه لا يفضي إلى الخلوة بها مثل أن يكون لهما زوجات أو سراري، أو نساء من محارمهما معهما
في دارهما جاز لأنه لا يفضي إلى محرم، وإن لم يكن كذلك فسد الشرط لافضائه إلى الخلوة المحرمة
فلا يؤمن عليها ولا يفسد الرهن لأنه لا يعود إلى نقص ولا ضرر في حق المتعاقدين ويكون الحكم كما
لو رهنها من غير شرط يصح الرهن ويجعلها الحاكم على يد من يجوز أن تكون عنده، وإن كان الرهن
عبدا فشرط موضعه جاز أيضا كالأمة، ويحتمل أن لا يصح لأن للأمة عرفا بخلاف العبد، والأول
أصح فإن الأمة إذا كان المرتهن ممن يجوز وضعها عنده كالعبد، وإذا كان مرتهن العبد امرأة لا زوج
لها فشرطت كونه عندها على وجه يفضي إلى خلوته بها لم يجز أيضا فاستويا
(القسم الثاني) الشروط الفاسدة وهو ان يشترط ما ينافي مقتضى الرهن نحو أن لا يباع الرهن
عند حلول الحق أو لا يستوفي الدين من ثمنه، أو لا يباع ما خيف تلفه أو بيع الرهن باي ثمن كان، أو
أن لا يبيعه الا بما يرضيه فهذه شروط فاسدة لمنافاتها مقتضى العقد فإن المقصود مع الوفاء بهذه الشروط
مفقود، وكذلك ان شرطا الخيار للراهن أو أن لا يكون العقد لازما في حقه أو توقيت الرهن أو أن يكون
رهنا يوما ويوما لا، أو كون الرهن في يد الراهن أو أن ينتفع به المرتهن أو كونه مضمونا على
المرتهن أو العدل فهذه كلها فاسدة لأنها منها ما ينافي مقتضى العقد ومنها ما لا يقتضيه العقد ولا هو
من مصلحته، وعن أحمد إذا شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن انه يجوز في البيع. قال القاضي:
معناه أن يقول بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرا فيكون بيعا وإجارة فهو
صحيح، وان اطلق فالشرط باطل لجهالة الثمن، وقال مالك لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن
421

إلى أجل في الدور والأرضين وكرهه في الحيوان والثياب وكرهه في القرض
ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرطه في القرض، فإن شرط شيئا منها في عقد
الرهن فقال القاضي يحتمل أن يفسد الرهن بها بكل حال لأن العاقد إنما بذل ملكه بهذا الشرط،
فإذا لم يسلم له لم يصح العقد لعدم الرضى به بدونه، وقيل إن شرط الرهن مؤقتا أو رهنه يوما ويوما لا
فسد الرهن وهل يفسد بسائرها؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع، ونصر أبو الخطاب
في رؤوس المسائل صحته، وبه قال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن " وهو مشروط
فيه شرط فاسد ولم يحكم بفساده، وقيل ما ينقص حق المرتهن يبطله وجها واحدا ومالا فعلى وجهين
وهو مذهب الشافعي لأن المرتهن شرطت له زيادة لم تصح له فإذا فسدت الزيادة لم يبطل أصل الرهن
(فصل) وان شرط انه متى حل الحق ولم توفني فالرهن لي بالدين أو فهو مبيع لي بالدين الذي
عليك فهو شرط فاسد، وروي ذلك عن ابن عمر وشريح والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لما روى عبد الله بن جعفر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن "
رواه الأثرم قلت لأحمد ما معنى قوله، " لا يغلق الرهن "؟ قال لا يدفع رهنا إلى رجل ويقول إن جئتك
بالدراهم إلى كذا وكذا والا فالرهن لك، قال ابن المنذر هذا معنى قوله لا يغلق الرهن عند مالك
والثوري وأحمد وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر أن رجلا رهن دارا بالمدينة إلى أجل مسمى
فمضى الاجل فقال الذي ارتهن: منزلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " ولأنه علق البيع على
شرط فإنه جعله مبيعا بشرط أن لا يوفيه الحق في محله والبيع المعلق بشرط لا يصح فإذا شرط هذا
الشرط فسد الرهن. وفيه رواية أخرى أنه لا يفسد لما ذكرنا في الشروط الفاسدة، وهذا ظاهر قول
أبي الخطاب في رؤوس مسائله، واحتج بالحديث المذكور فبقي غلق الرهن على أصله فدل على صحته
ولان الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط فمنع بطلانه أولى أن يرضى به؟ ولنا انه رهن بشرط
فاسد فكان فاسدا كما لو شرط توقيته وليس في الخبر انه يشرط ذلك في ابتداء العقد
(فصل) وإذا قال الغريم رهنتك عبدي هذا على أن تزيدني في الاجل كان باطلا لأن الاجل
لا يثبت في الدين الا أن يكون مشروطا في عقد قد وجب به وإذا لم يثبت الاجل لم يصح الرهن لأنه
جعله في مقابلته ولان ذلك يضاهي ربا الجاهلة كانوا يزيدون في الدين ليزدادوا في الاجل
422

(فصل) إذا كان له على رجل الف فقال أقرضني ألفا بشرط أن أرهنك عبدي هذا بألفين
فنقل حنبل عن أحمد ان القرض باطل، وهو مذهب الشافعي لأنه قرض يجر منفعة وهي الاستيثاق
بالألف الأول وإذا بطل القرض بطل الرهن فإن قيل أليس لو شرط ان يعطيه رهنا بما يقترضه جاز؟
قلنا ليس هذا قرضا جر منفعة لأن غاية ما حصل له تأكيد الاستيفاء لبدل ما اقرضه وهو مثله والقرض يقتضي
وجوب الوفاء وفي مسئلتنا شرط في هذا القرض الاستيثاق لدينه الأول فقد شرط استيثاقا لغير موجب
القرض. ونقل مهنا ان القرض صحيح ولعل أحمد حكم بصحة القرض مع فساد الشرط كيلا يفضي إلى
جر المنفعة بالقرض أو حكم بفساد الرهن في الألف الأول وحده. ولو كان مكان القرض بيع فقال بعني
عبدك هذا بألف على أن أرهنك عبدي به وبالألف الآخر الذي علي فالبيع باطل رواية واحدة لأن
الثمن مجهول لكونه جعله ألفا ومنفعة هي وثيقة بالألف الأول وتلك المنفعة مجهولة ولأنه شرط عقد الرهن
بالألف الأول فلم يصح كما لو أفرده أو كما لو باعه داره بشرط أو يبيعه الآخر داره
(فصل) إذا فسد الرهن وقبضه المرتهن فلا ضمان عليه لأنه قبضه بحكم أنه رهن وكل عقد كان
صحيحا مضمونا أو غير مضمون ففاسده كذلك فإن كان مؤقتا أو شرط أن يصير المرتهن بعد انقضاء
423

مدته صار بعد ذلك مضمونا لأنه مقبوض بحكم بيع فاسد. وحكم الفاسد من العقود حكم الصحيح في
الضمان. وإن كان أرضا فغرسها قبل انقضاء الأجل فهو كغرس الغاصب لأنه غرس بغير إذن وإن غرس
بعد الاجل وكان قد شرط أن الرهن يصير له فقد غرس باذن لأن البيع قد تضمن الاذن وإن كان فاسدا
فعلى هذا يكون مخيرا بين أن يقر غرسه له وبين أخذه بقيمته وبين أن يلزمه بقلعه ويضمن له ما نقص
(فصل) إذا اشترى سلعة وشرط أن يرهنه بها شيئا من ماله أو شرط ضمينا فالبيع والشرط صحيح
لأنه من مصلحة العقد غير مناف لمقتضاه ولا نعلم في صحته خلافا إذا كان معلوما. ومعرفة الرهن تحصل
بالمشاهدة وبالصفة التي يعلم بها الموصوف كما في السلم ويتعين بالقبض. والضمين يعلم بالإشارة إليه ويذكر
اسمه ولا يصح بالصفة بأن يقول رجل غني من غير تعيين لأن الصفة لا تأتي عليه، ولو قال بشرط رهن
أو ضمين كان فاسدا لأن ذلك يختلف وليس له عرف ينصرف إليه بالاطلاق. ولو قال بشرط رهن
أحد هذين العبدين أو يضمنني أحد هذين الرجلين لم يصح لأن الغرض يختلف فلم يصح مع عدم التعيين
كالبيع، وهذا مذهب الشافعي. وحكي عن مالك وأبي ثور أنه يصح الرهن بالمجهول ويلزمه أن يدفع
424

إليه رهنا بقدر الدين لأنه وثيقة فجاز شرطها مطلقا كالشهادة. وقال أبو حنيفة إذا قال على أن أرهنك
أحد هذين العبدين جاز لأن بيعه جائز عنده
ولنا أنه شرط رهنا مجهولا فلم يصح كما لو شرط رهن ما في كمه ولأنه عقد يختلف فيه المعقود عليه
فلم يصح مع الجهل كالبيع. وفارق الشهادة فإن لها عرفا في الشرع فحملت عليه والكلام مع أبي حنيفة
قد مضى في البيع فإن الخلاف فيه واحد، إذا ثبت هذا فإن المشتري إن وفى بالشرط فسلم الرهن أو
ضمن عنه الضامن لزم البيع. وإن أبى تسليم الرهن أو أبى الضامن أن يضمن فللبائع الخيار بين فسخ
البيع وامضائه والرضا به بلا رهن ولا ضمين فإن رضي لزمه البيع، وهذا قول الشافعي وأصحاب
الرأي ولا يلزم المشتري تسليم الرهن، وقال مالك وأبو ثور يلزم الرهن إذا شرط في عقد البيع ويجبر
عليه المشتري وإن وجده الحاكم دفعه إلى البائع لأن عقد البيع وقع عليه أشبه الخيار والأجل، وقال
القاضي ما عدا المكيل والموزون يلزم فيه الرهن بمجرد العقد وقد مضى الكلام فيه
ولنا أنه رهن فلم يلزم قبل القبض كما لو لم يكن مشروطا في البيع أو كالمكيل والموزون وإنما لزم
الخيار والأجل بالشرط لأنه من توابع البيع لا ينفرد بنفسه والرهن عقد منفرد بنفسه ليس من التوابع
ولان الخيار والأجل يثبت بالقول ولا يفتقر إلى تسليم فاكتفى في ثبوته مجرد القول بخلاف الرهن
فأما الضمين فلا خلاف في أنه لا يلزمه الضمان إذ لا يلزمه شغل ذمته ووفاء دين غيره باشتراط غيره
ولو وعده بأنه يضمن ثم لم يفعل لم يلزمه كما لو وعده أن يبيعه ثم امتنع ومتى لم يف للبائع بشرطه
كان له الفسخ كما لو شرط له صفة في الثمن فلم يف بها
425

(فصل) ولو شرط رهنا أو ضمينا معينا فجاء بغيرهما لم يلزم البائع قبوله وإن كان ما أتى به خيرا
من المشروط مثل أن يأتي بأكثر قيمة من المشروط أو بضمان أوثق من المعين لأنه عقد على معين
فلم يلزمه قبول غيره كالبيع ولان الغرض يختلف بالأعيان فمنها ما يسهل بيعه ومنها ما هو أقل مؤنة وأسهل
حفظا وبعض الذمم أملا من بعض وأسهل فلا يلزمه قبول غير المعين كسائر العقود
(فصل) فإن تعيب الرهن أو استحال العصير خمرا قبل القبض فللبائع الخيار بين قبضه معيبا ورضاه
بلا رهن فيما إذا تخمر العصير وبين فسخ البيع ورد الرهن. وإن علم بالعيب بعد قبضه فكذلك وليس
له مع امساكه أرش من اجل العيب لأن الرهن إنما لزم فيما حصل قبضه وهو الموجود والجزء الفائت
لم يلزم تسليمه فلم يلزم الأرش بدلا عنه بخلاف المبيع وإن تلف أو تعيب بعد القبض فلا خيار للبائع.
وان اختلفا في زمن حدوث العيب فإن كان لا يحتمل الا قول أحدهما فالقول قوله من غير يمين
لأن اليمين إنما يراد لرفع الاحتمال، وان احتمل قوليهما معا انبنى على اختلاف المتبايعين في حدوث
العيب وفيه روايتان فيكون ههنا وجهان (أحدهما) القول قول الراهن وهو قول أبي حنيفة والشافعي
لأن الأصل صحة العقد ولزومه (والآخر) القول قول المرتهن وهو قياس قول الخرقي لأنهما اختلفا في قبض
المرتهن للجزء الفائت فكان القول قوله كما لو اختلفا في قبض جزء منفصل منه، وان اختلفا في زمن
التلف فقال الراهن بعد القبض وقال المرتهن قبله فالقول قوله لأنه منكر للقبض. وإن كان الرهن عصيرا
فاستحال خمرا واختلفا في زمن استحالته فالقول قول الراهن نص عليه احمد. وقال القاضي يخرج
فيه رواية أخرى أن القول قول المرتهن كالاختلاف في البيع. وهو قول أبي حنيفة لأن الأصل عدم
القبض كما لو اختلفا في زمن التلف
426

ولنا أنهما اتفقا على العقد والقبض واختلفا فيما يفسد به فكان القول قول من ينفيه كما لو اختلفا
في شرط فاسد، وفارق اختلافهما في حدوث العيب من وجهين (أحدهما) أنهما اتفقا على القبض ههنا وثم
اختلفا في قبض الجزء الفائت (الثاني) أنهما اختلفا ههنا فيما يفسد العقد والعيب بخلافه.
(فصل) ولو وجد بالرهن عيبا بعد أن حدث عنده عيب آخر فله رده وفسخ البيع لأن العيب
الحادث في ملك الراهن لا يلزم المرتهن ضمانه بخلاف البيع وخرجه القاضي على روايتين بناء على البيع
فعلى قوله لا يملك الرد لا يملك الفسخ والصحيح ما ذكرناه، وان هلك الرهن في يد المرتهن ثم علم أنه كان معيبا
لم يملك فسخ البيع لأنه قد تعذر عليه رده. فإن قيل فالرهن غير مضمون ولهذا لا يمنع رده بحدوث العيب
فيه قلنا إنما تضمن قيمته لأن العقد لم يقع على ملكه، وإنما وقع على الوثيقة فهو مضمون بالوثيقة،
أما إذا تعيب فقد رده فيستحق بدل ما رده وههنا لم يرد شيئا، فلو أوجبنا له بدله لأوجبنا على الراهن
غير ما شرط على نفسه.
(فصل) ولو لم يشرطا رهنا في البيع فتطوع المشتري برهن وقبضه البائع كان حكمه حكم الرهن
المشروط في البيع الا انه إذا رده بعيب أو غيره لم يملك فسخ البيع
(فصل) إذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنا على ثمنه لم يصح، قاله ابن حامد وهو قول الشافعي
لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكا له وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه وشرط رهنه قبل قبضه
وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهنا الا أن يكون شرطا
427

عليه في نفس البيع وهذا يدل على صحة الشرط لأنه يصح بيعه فصح رهنه، وقال القاضي معنى هذه
الرواية أنه شرط عليه في البيع رهنا غير المبيع فيكون له حبس المبيع حتى يقبض الرهن فإن لم يف
به فسخ البيع، وأما شرط رهن المبيع نفسه على ثمنه فلا يصح لوجوه (أحدها) أنه غير مملوك له
(والثاني) أن البيع يقتضي ايفاء الثمن من غير المبيع (والثالث) ان البيع يقتضي أن يكون امساك المبيع
مضمونا والرهن يقتضي أن لا يكون مضمونا (الرابع) ان البيع يقتضي تسليم المبيع أولا ورهن المبيع
يقتضي أن لا يسلمه حتى يقبض الثمن وهذا تناقض في الأحكام، وظاهر الرواية صحة رهنه، قولهم
انه غير مملوك قلنا إنما شرط رهنه بعد ملكه، وقولهم البيع يقتضي ايفاء الثمن من غير المبيع ممنوع إنما
يقتضي ايفاء الثمن مطلقا، ولو تعذر وفاء الثمن من غير المبيع لاستوفى من ثمنه، قولهم البيع يقتضي
428

تسليم المبيع قبل تسليم الثمن ممنوع وان سلم فلا يمنع أن يثبت بالشرط خلافه كما أن مقتضى البيع حلول
الثمن ووجوب تسليمه في الحال ولو شرط التأجيل جاز، وكذلك مقتضى البيع ثبوت الملك في المبيع
والتمكين من التصرف فيه وينتفي بشرط الخيار وهذا الجواب عن باقي الوجوه، فأما ان لم يشرط
ذلك في البيع لكن رهنه عنده بعد البيع، فإن كان بعد لزوم البيع فالأولى صحته لأنه يصح رهنه عند غيره فصح
عنده كغيره ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه فيصح رهنه على ثمنه، وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز
التصرف في المبيع ففي كل موضع جاز التصرف فيه جاز رهنه ومالا فلا لأنه نوع تصرف أشبه البيع
429

(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وان اختلفا في قدر الدين أو رده أو قال أقبضتك عصيرا
قال بل خمرا فالقول قول الراهن)
إذا اختلفا في قدر الحق نحو أن يقول الراهن رهنتك عبدي بألف فقال المرتهن بل بألفين فالقول
قول الراهن وبه قال النخعي والثوري والشافعي والبتي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن الحسن
وقتادة أن القول قول المرتهن ما لم يجاوز ثمن الرهن أو قيمته ونحوه قول مالك لأن الظاهر أن الرهن
يكون بقدر الحق.
ولنا أن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن والقول قول المنكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو
430

يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " رواه مسلم ولان
الأصل براءة الذمة من هذه الألف فكان القول قول من ينفيها كما لو اختلفا في أصل الدين، وما ذكروه
من الظاهر غير مسلم فإن العادة رهن الشئ بأقل من قيمته، إذا ثبت هذا فإن القول قول الراهن في قدر
ما رهنه سواء اتفقا على أنه رهنه بجميع الدين أو اختلفا، فلو اتفقا على أن الدين الفان وقال الراهن
إنما رهنتك بأحد الألفين وقال المرتهن إنما رهنتني بهما فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه ينكر تعلق
حق المرتهن في أحد الألفين بعبده والقول قول المنكر، وان اتفقا على أنه رهن بأحد الألفين،
وقال الراهن رهنته بالمؤجل، وقال المرتهن بل بالحال فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر،
431

ولان القول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته هذا ان لم تكن بينة. فإن كان لأحدهما بينة حكم
له بها وجها واحدا وإن اختلفا في قدر الرهن فقال رهنتك هذا العبد فقال بل هو والعبد الآخر
فالقول قول الراهن لأنه منكر ولا نعلم في هذا خلافا، وان قال رهنتك هذا العبد قال بل هذه
الجارية خرج العبد من الرهن لاعتراف المرتهن بأنه لم يرهنه وحلف الراهن على أنه ما رهنه الجارية
وخرجت من الرهن أيضا.
(فصل) وان اختلفا في رد الرهن إلى الراهن فالقول قوله لأنه منكر والأصل معه، وكذلك
الحكم في المستأجر إذا ادعى رد العين المستأجرة، وقال أبو الخطاب يتخرج فيهما وجه آخر أن القول
قول المرتهن والمستأجر في الرد بناء على المضارب والوكيل بجعل فإن فيهما وجهين، والفرق بينهما وبين
المرتهن ان المرتهن قبض العين لينتفع بها، وكذلك المستأجر والوكيل قبض العين لينتفع بالجعل لا بالعين
والمضارب قبضها لينتفع بربحها لا بها، وان اختلفا في تلف العين فالقول قول المرتهن مع يمينه لأن يده
يد أمانة ويتعذر عليه إقامة البينة على التلف فقبل قوله فيه كالمودع، فإن أتلفها المرتهن أو تلفت
بتفريطه واختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه لأنه غارم لا نعلم في ذلك خلافا
432

(فصل) وإن قال الراهن رهنتك عصيرا قال بل خمرا فالقول قول الراهن يريد إذا كان الرهن
شرط في البيع فقال الراهن رهنتك عصيرا فليس لك فسخ البيع، وقال المرتهن بل رهنتني خمرا
فلي فسخ البيع فالقول قول الراهن نص عليه أحمد لأنهما اختلفا فيما يفسد العقد فكان القول قول
من ينفيه وقد ذكرنا ذلك
(فصل) وإذا قال بعتك هذا الثوب على أن ترهنني بثمنه عبديك هذين، قال بل على رهن هذا
وحده فحكى القاضي فيها روايتين (إحداهما) يتحالفان لأنهما اختلفا في البيع فهو كالاختلاف في
الثمن (والثانية) القول قول الراهن لأنه منكر لشرط رهن العبد المختلف فيه والقول قول المنكر وهذا أصح
(فصل) وإن قال أرسلت وكيلك فرهنني عبدك هذا على عشرين وقبضها قال ما أمرته إلا
بعشرة ولا قبضت إلا عشرة سئل الرسول، فإن صدق الراهن فعليه اليمين أنه ما رهنه إلا بعشرة ولا
قبض إلا عشرة ولا يمين على الراهن لأن الدعوى على غيره، فإذا حلف الوكيل برئا جميعا، وإن نكل
فعليه العشرة المختلف فيها ولا يرجع بها على أحد لأنه يصدق الراهن في أنه ما أخذها ولا امره بأخذها
وإنما المرتهن ظلمه، وإن صدق المرتهن وادعى أنه سلم العشرين إلى الراهن فالقول قول الراهن مع
يمينه، فإن نكل قضى عليه بالعشرة وتدفع إلى المرتهن، وإن حلف برئ وعلى الوكيل غرامة العشرة
433

للمرتهن لأنه يزعم أنها حق له وإنما الراهن ظلمه، فإن عدم الوكيل وتعذر احلافه فعلى الراهن اليمين
أنه ما أذن في رهنه الا بعشرة ولا قبض أكثر منها ويبقى الرهن بعشرة
(فصل) إذا كان على رجل ألفان أحدهما برهن والآخر بغير رهن فقضى ألفا وقال قضيت
دين الرهن وقال المرتهن بل قضيت الدين الآخر فالقول قول الراهن مع يمينه سواء اختلفا في نية
الراهن أو في لفظه لأنه أعلم بنيته وصفة دفعه، ولأنه يقول الدين الباقي بلا رهن والقول قوله في أصل
الرهن فكذلك في صفته، وان أطلق القضاء ولم ينو شيئا فقال أبو بكر له صرفها إلى أيهما شاء كما لو
كان له مال حاضر وغائب فأدى قدر زكاة أحدهما فإن له أن يعين عن أي المالين شاء وهذا قول بعض
أصحاب الشافعي، وقال بعضهم يقع الدفع عن الدينين معا عن كل واحد نصفه لأنهما تساويا في القضاء
فتساويا في وقوعه عنهما، فأما إن أبرأه المرتهن من أحد الدينين واختلفا فالقول قول المرتهن على التفصيل
الذي ذكرناه في الرهن. ذكره أبو بكر
(فصل) إذا اتفق المتراهنان على قبض العدل للرهن لزم الرهن في حقهما ولم يضر انكاره لأن الحق
لهما وان قال أحدهما قبضه العدل فأنكر الآخر فالقول قول المنكر كما لو اختلفا في قبض المرتهن فإن أشهد
العدل بالقبض لم تقبل شهادته لأنها شهادة الوكيل لموكله فيما هو وكيل فيه
(فصل) إذا كان في يد رجل عبد فقال رهنتني عبدك هذا بألف فقال بل غصبته أو استعرته
434

فالقول قول السيد سواء اعترف بالدين أو جحده لأن الأصل عدم الرهن. وان قال السيد بعتك عبدي
هذا بألف قال بل رهنته عندي بها فالقول قول كل واحد منهما في العقد الذي ينكره ويأخذ السيد
عبده. وان قال رهنتكه بألف أقرضتنيه قال بل بعتنيه بألف قبضته مني ثمنا فكذلك ويرد صاحب
العبد الألف ويأخذ عبده.
(فصل) وإذا ادعى على رجلين فقال رهنتماني عبدكما بديني عليكما فأنكراه فالقول قولهما فإن شهد
كل واحد منهما على صاحبه قبلت شهادته وللمرتهن أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير جميعه رهنا
أو يحلف مع أحدهما ويصير نصيب الآخر رهنا وان أقر أحدهم أثبت في حقه وحده. وان شهد المقر
على المنكر قبلت شهادته لأنه لا يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها، وبهذا قال أصحاب الشافعي. وقال
بعضهم إذا أنكرا جميعا ففي شهادتهما نظر لأن المشهود له يدعي أن كل واحد منهما ظالم له بجحوده
حقه من الرهن ومتى طعن المشهود له في شهوده لم تقبل شهادتهم له. قلنا هذا لا يصح فإن إنكار الدعوى
لا يثبت به فسق المدعى عليه وإن كان الحق عليه لجواز أن ينسى أو يلحقه شبهة فيما يدعيه أو ينكره
ولذلك لو تداعى رجلان شيئا وتخاصما فيه ثم شهدا عند الحاكم بشئ لم يرد شهادتهما وإن كان أحدهما
كاذبا ولو ثبت الفسق بذلك لم يجز قبول شهادتهما جميعا مع تحقق الجرح في أحدهما
(فصل) وإذا ادعى رجلان على رجل أنه رهنهما عبده وقال كل واحد منهما رهنه عندي دون
435

صاحبي فأنكرهما فالقول قوله وان أنكر أحدهما وصدق الآخر سلم إلى من صدقه وحلف للآخر. وان
قال لا أعلم المرتهن منهما حلف على ذلك والقول قول من هو في يده منهما مع يمينه وإن كان في أيديهما
حلف كل واحد منهما على نصفه وصار رهنا عنده. وإن كان في يد غيرهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه
حلف وأخذه كما لو ادعيا ملكه وإن قال رهنته عند أحدهما ثم رهنته عند الآخر ولا أعلم السابق
منهما فكذلك. وإن قال هذا هو السابق بالعقد والقبض سلم إليه وحلف الآخر وان نكل والعبد في
يد الأول أو يد غيره فعليه قيمته للثاني كما لو قال هذا العبد لزيد وغصبته من عمرو فإنه يسلم إلى زيد
ويغرم قيمته لعمرو. وإن نكل والعبد في يد الثاني أقر في يده وغرم قيمته للأول لأنه أقر له بعد
ما فعل ما حال بينه وبين من أقر له به فلزمته قيمته كما قلنا، وقال القاضي إذا اعترف لغير من هو في يده
فهل يرجح صاحب اليد أو المقر له؟ على وجهين. ولو اعترف لأحدهما وهو في يديهما ثبتت يد المقر
له في النصف وفي النصف الآخر وجهان
{مسألة} (وإن أقر الراهن أنه أعتق العبد قبل رهنه فالحكم في ذلك كما لو أعتقه بعد رهنه)
على ما ذكرنا من الخلاف لأن كل من صح منه انشاء عقد صح منه الاقرار به ولا يقبل قوله في
تقدم عتقه لأنه يسقط حق المرتهن من عوضه فعلى هذا تؤخذ منه قيمته فتجعل رهنا مكانه إن كان
موسرا لأنه فوته على الراهن باقراره فهو كما لو أعتقه، وإن كان معسرا فالحكم فيه كما ذكرنا
436

{مسألة} (وإن أقر أنه كان جنى أو انه باعه أو غصبه قبل على نفسه ولم يقبل على
المرتهن إلا أن يصدقه)
وجملته أنه إذا أقر الراهن أن العبد كان جنى قبل رهنه فكذبه المرتهن وولي الجناية لم يسمع
قوله، وإن صدقه ولي الجناية وحده قبل إقراره على نفسه دون المرتهن ويلزمه أرش الجناية لأنه حال بين
المجني عليه وبين رقبة الجاني بفعله فأشبه ما لو جنى عليه، وإن كان معسرا فمتى انفك الرهن كان المجني
عليه أحق برقبته وعلى المرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك فإن نكل قضي عليه. وفيه وجه آخر انه يقبل اقرار
الراهن لأنه غير متهم لكونه تغريما يخرج الرهن من ملكه وعليه اليمين لأنه يبطل باقراره حق المرتهن
فيه، فإن أقر أنه غصبه لم يقبل على المرتهن لأن اقرار غيره لا يقبل في حقه فعلى هذا لا يخرج من
الرهن ولا يزول شئ من أحكام الرهن ويلزمه قيمته للمغصوب منه لأنه حال بينه وبينه برهنه،
وكذلك لا يقبل اقراره على المرتهن ببيع ولا هبة لما ذكرنا، فإن صدقه المرتهن في ذلك بطل الرهن
لاعترافه بما يبطله فإذا انفك أخذ الراهن باقراره
{مسألة} قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا كان الرهن مركوبا أو محلوبا فللمرتهن أن يركب ويحلب
بقدر نفقته متحريا للعدل في ذلك)
وجملة ذلك أن الرهن ينقسم إلى قسمين: حيوان وغيره، والحيوان نوعان (أحدهما) أن يكون
437

مركوبا أو محلوبا فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريا للعدل في ذلك نص عليه
احمد في رواية محمد بن الحكم وأحمد بن القاسم، واختاره الخرقي وهو قول إسحاق، وسواء أنفق
مع تعذر النفقة من الراهن لغيبة أو امتناع أو مع القدرة على اخذ النفقة منه واستئذانه. وعن أحمد
رواية أخرى لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشئ وهذا قول أبي حنيفة
ومالك والشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " ولأنه ملك غيره لم
يأذن له في الانتفاع به ولا الانفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن
ولنا ما روى البخاري باسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرهن يركب بنفقته
إذا كان مرهونا، والدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة " فجعل
منفعته بنفقته وهذا محل النزاع، فإن قيل المراد به الرهن ينفق وينتفع قلنا لا يصح لوجهين (أحدهما)
انه قد روي في بعض الألفاظ إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولان الدر يشرب وعلى
الذي يشرب نفقته فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع (الثاني) ان قوله بنفقته يشير إلى أن
الانتفاع عوض النفقة وإنما ذلك في حق المرتهن، اما الراهن فانفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة
438

لأحدهما بالآخر ولان نفقة الحيوان واجبة وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن
والنيابة عن المالك فيما وجب عليه واستيفاء ذلك من منافعه فجاز ذلك كما يجوز للمراد اخذ مؤنتها من
مال زوجها عند امتناعه بغير اذنه والنيابة عنه في الانفاق عليها. والحديث نقول به والنماء للراهن ولكن
للمرتهن ولاية صرفها إلى نفقته لثبوت يده عليه وولايته وهذا فيمن أنفق محتسبا بالرجوع فإن أنفق
متبرعا بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة
(فصل) النوع الثاني الحيوان غير المركوب والمحلوب كالعبد والأمة فليس للمرتهن ان ينفق عليه
ويستخدمه بقدر نفقته في ظاهر المذهب ذكره القاضي ونص عليه احمد في رواية الأثرم قال: سمعت
أبا عبد الله يسئل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه فقال الرهن لا ينتفع منه بشئ الا حديث أبي
هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف. قلت له فإن كان الركوب واللبن أكثر؟ قال لا إلا بقدر،
ونقل حنبل عن أحمد ان له استخدام العبد أيضا وبه قال أبو ثور إذا امتنع المالك من الانفاق عليه وقال
أبو بكر خالف حنبل الجماعة والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشئ الا ما خصه الشرع فإن القياس
انه لا ينتفع بشئ منه تركناه في المركوب والمحلوب للأثر فيما عداه يبقى على مقتضى القياس
(القسم الثاني) ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع بغير اذن
الراهن لا نعلم في ذلك خلافا لأن الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه، فإن اذن الراهن للمرتهن في
الانتفاع بغير عوض وكان دين الراهن من قرض لم يجز لأنه يصير قرضا جر منفعة وذلك حرام، قال
439

احمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض. يعني إذا كانت رهنا في قرض ينتفع بها المرتهن، وإن
كان الرهن بثمن مبيع أو اجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك،
وقد روي عن الحسن وابن سيرين، وهو قول إسحاق، فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل ان
استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره لكونه ما انتفع
بالقرض إنما انتفع بالإجارة، وإن حاباه فهو كالانتفاع بغير عوض يجوز في غير القرض،
ومتى استأجرها واستعارها المرتهن فظاهر كلام احمد انها تخرج عن كونها رهنا فمتى انقضت الإجارة
أو العارية عاد الرهن بحاله، قال احمد في رواية الحسن بن ثواب قال احمد إذا كان الرهن دارا فقال
المرتهن اسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي تنتقل فتصير دينا وتتحول عن الرهن، وكذلك ان أكراها للراهن
وقال احمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن دارا ثم اكراها لصاحبها خرجت من الرهن، فإذا رجعت
إليه صارت رهنا. قال شيخنا: والأولى أنها لا تخرج من الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها
لأن القبض مستدام ولا تنافي بين العقدين، وكلام أحمد في رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن
للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد
بخلاف ما إذا سكنها المرتهن، ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونا عليه، وبهذا قال الشافعي. وقال
أبو حنيفة لا ضمان عليه ومبنى ذلك على العارية هل هي مضمونة أم لا؟ وسيأتي ذلك
{مسألة} (وإن أنفق على الرهن بغير اذن الراهن مع امكانه فهو متبرع)
إذا أنفق على الحيوان متبرعا لم يرجع بشئ لأنه تصدق به فلم يرجع بعوضه كالصدقة على مسكين
440

وإن نوى الرجوع على المالك وكان ذلك بإذن المالك رجع عليه لأنه ناب عنه في الانفاق باذنه فكانت
النفقة على المالك كما لو وكله في ذلك
{مسألة} (وان عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم فعلى روايتين)
مفهوم كلامه ههنا أنه متى قدر على استئذان المالك فلم يستأذنه أن يكون متبرعا لا يرجع بشئ،
وكذلك ذكره أبو الخطاب لأنه مفرط في ترك استئذانه مع القدرة عليه فلم يرجع كما لو عمر داره بغير
اذنه، وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم ففيه روايتان (إحداهما أنه متبرع لأنه لم يستأذن
مالكه ولا من يقوم مقامه أشبه ما لو كان المالك حاضرا فلم يستأذنه (والثانية) يرجع عليه لأنه أنفق
عليه عند العجز عن استئذانه أشبه ما لو عجز عن استئذان الحاكم، وكذلك الحكم فيما إذا مات العبد
المرهون. وقال شيخنا فيمن أنفق بغير اذن الراهن بنية الرجوع مع امكانه أنه يخرج على روايتين بناء على
ما إذا قضى دينه بغير اذنه وهذا أقيس في المذهب إذ لا يعتبر في قضاء الذين العجز عن استئذان الغريم
{مسألة} (وكذلك الحكم في الوديعة وفي نفقة الجمال إذا هرب الجمال وتركها في يد المكتري)
لأنها أمانة فأشبهت الرهن
{مسألة} (وان انهدمت الدار فعمرها المرتهن بغير اذن الراهن لم يرجع به رواية واحدة)
وليس له الانتفاع بها بقدر عمارتها فإن عمارتها غير واجبة على الراهن فليس لغيره أن ينوب عنه
فيما لا يلزمه، فإن فعل كان متبرعا كالأجنبي بخلاف نفقة الحيوان فإنها تجب على مالكه لحرمته في
نفسه، وكذلك كفن العبد إذا مات يجب على سيده
441

(فصل) قال الشيخ (إذا جنى الرهن جناية موجبة للمال تعلق أرشها برقبته وللسيد فداؤه بالأقل من قيمته
أو أرش جنايته أو بيعه في الجناية أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، وعنه ان اختار فداءه لزمه جميع الأرش)
وجملة ذلك أن العبد المرهون إذا جنى على انسان أو على ماله تعلقت الجناية برقبته وقدمت
على حق المرتهن بغير خلاف علمناه لأنها مقدمة على حق المالك والملك أقوى من الرهن فأولى
أن يقدم على الرهن، فإن قيل فحق المرتهن أيضا يقدم على حق المالك. قلنا حق المرتهن ثبت من
جهة المالك بعقده وحق الجناية ثبت بغير اختياره مقدما على حقه فيقدم على ما ثبت بعقده، ولان حق
الجناية مختص بالعين يسقط بفواتها وحق المرتهن لا يسقط بفوات العين ولا يختص بها فكان تعلقه
بها أحق وأولى، فإن كانت جنايته موجبة للقصاص في النفس فلولي الجناية استيفاؤه، فإن اقتص
سقط الرهن كما لو تلف، وإن كانت في طرف اقتص منه وبقي الرهن في باقيه، وإن عفى على مال
تعلق برقبة العبد وصار كالجناية الموجبة للمال فيقال للسيد أنت مخير بين فدائه وبين تسليمه للبيع،
فإن اختار فداءه فداه بأقل الامرين من قيمته أو أرش الجناية في أصح الروايتين لأنه إن كان الأرش
أقل فالمجني عليه لا يستحق أكثر من أرش جنايته، وان كانت القيمة أقل فلا يلزمه أكثر منها لأن
ما يدفعه عوض عن العبد فلا يلزم أكثر من قيمته كما لو أتلفه (والثانية) يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ
لأنه ربما يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من قيمته
{مسألة} (فإن فداه فهو رهن بحاله، وان سلمه بطل الرهن)
إذا فداه الراهن فهو رهن بحاله لأن حق المرتهن قائم لوجود سببه، وإنما قدم حق المجني عليه
442

لقوته، فإذا زال ظهر حكم الرهن كحق من لارهن له مع حق المرتهن في تركة المفلس إذا أسقط
المرتهن حقه ظهر حكم الآخر وهذا مذهب الشافعي، وإن سلمه بطل الرهن لفوات محله فهو كما لو تلف
{مسألة} (فإن لم يستغرق الأرش قيمته بيع منه بقدره وباقيه رهن، وقيل يباع جميعه
ويكون باقي ثمنه رهنا)
إذا لم يستغرق أرش الجناية قيمة الرهن بيع منه بقدر الأرش وباقيه رهن لأن بيعه إنما جاز
ضرورة ايفاء الحق، فإذا اندفعت الضرورة ببيع البعض لم يجز بيع ما بقي لعدم الضرورة فيه، فإن
تعذر بيع بعضه بيع كله للضرورة المقتضية لبيعه ويكون باقي ثمنه رهنا لعدم تعلق الجناية به. وقال أبو
الخطاب: هل يباع منه بقدر الجناية أو يباع جميعه ويكون الفاضل من ثمنه عن أرش جنايته رهنا؟ على
وجهين (أحدهما) يباع بعضه خاصة لما ذكرنا (والثاني) يباع جميعه لأن بيع البعض يستقبض له وهو
عيب ينقص به الثمن وذلك يضر بالمالك والمرتهن، وقد قال عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار "
{مسألة} (فإن اختار المرتهن فداءه ففداه باذن الراهن رجع به، وان فداه بغير اذنه فهل
يرجع به؟ على روايتين
إذا امتنع الراهن من فداء الجاني فالمرتهن مخير بين فدائه وتسليمه، فإن اختار فداءه فبكم يفديه؟
يخرج على روايتين فيما يفديه به الراهن، فإن فداه باذن الراهن رجع به عليه كما لو قضى دينه باذنه،
وإن فداه متبرعا لم يرجع بشئ، وإن نوى الرجوع فهل يرجع ذلك؟ على وجهين بناء على ما لو قضى
دينه بغير اذنه. فإن زاد على الفداء الواجب لم يرجع به وجها واحدا. ومذهب الشافعي كما ذكرنا إلا أنه
443

لا يرجع بما فداه بغير اذنه وجها واحدا، وان شرط له الراهن الرجوع رجع قولا واحدا، وإن قضاه
باذنه من غير شرط الرجوع ففيه وجهان وهذا أصل يذكر فيما بعد، وان فداه وشرط أن يكون رهنا
بالفداء مع الدين الأول فقال القاضي يجوز ذلك لأن المجني عليه يملك بيع العبد وابطال الرهن فصار
بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة، ولان أرش الجناية متعلق به
وإنما ينتقل من الجناية إلى الرهن. وفيه وجه آخر انه لا يجوز لأن العبد رهن بدين فلم يجر رهنه بدين
سواه كما لو رهنه بدين غير هذا، وذهب أبو حنيفة إلى أن ضمان جناية الرهن على المرتهن فإن فداه
لم يرجع بالفداء، وان فداه الراهن وبيع في الجناية سقط دين الرهن إن كان بقدر الفداء وبناء على
أصله في أن الرهن من ضمان المرتهن وقد ذكرنا ذلك
(فصل) فإن كانت الجناية على سيد العبد فلا يخلو من حالين (أحدهما) أن تكون غير موجبة
للقود كجناية الخطأ واتلاف مال فيكون هدرا لأن العبد مال سيده فلا يثبت له مال في ماله (الثاني)
أن تكون موجبة للقود فلا يخلو أن تكون على النفس أو على ما دونها، فإن كانت على ما دون النفس
فالحق للسيد، فإن عفا على مال سقط القصاص ولم يجب المال لما ذكرنا، وكذلك ان عفا على غير مال
وان أراد ان يقتص فله ذلك لأن السيد لا يملك الجناية على عبده فيثبت له ذلك بجنايته عليه كالأجنبي
ولان القصاص يجب للزجر والحاجة داعية إلى زجره عن سيده، فإن اقتص فعليه قيمته تكون رهنا
مكانه أو قضاء عن الدين لأنه أخرجه عن الرهن باختياره فكان عليه بدله كما لو أعتقه، ويحتمل أن لا
يجب عليه شئ لأنه اقتص باذنه فكأنه اقتص بإذن الشارع فلم يلزمه شئ كالأجنبي وكذلك ان كانت الجناية
على النفس فاقتص الورثة فهل تجب عليهم القيمة؟ يخرج على ما ذكرنا، وليس للورثة العفو على مال
لما ذكرنا في السيد لأنهم يقومون مقام الموروث، وذكر القاضي وجها آخر أن لهم ذلك لأن الجناية في
444

ملك غيرهم فكان لهم العفو على مال كما لو جنى على أجنبي وللشافعي قولان كالوجهين، فإن عفا بعض
الورثة سقط القصاص وهل يثبت لغير العافي نصيبه من الدية؟ على الوجهين ومذهب الشافعي في
هذا الفصل على نحو ما ذكرناه
(فصل) فإن جنى المرهون على عبد سيده لم يخل من حالين (أحدهما) أن لا يكون مرهونا فحكمه
حكم الجناية على طرف سيده له القصاص ان كانت جنايته موجبة له فإن عفا على مال أو غيره أو كانت
الجناية لا توجب القصاص ذهبت هدرا وسواء كان المجني عليه قنا أو مدبرا أو أم ولد
(الحال الثاني) أن يكون رهنا فلا يخلو إما أن يكون رهنا عند مرتهن القاتل أو غيره فإن كان
عند مرتهن القاتل والجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص فإن اقتص بطل الرهن في المجني عليه
وعليه قيمة المقتص منه، ويحتمل أن لا يجب لأنه اقتص بإذن الشارع فإن عفا على مال أو كانت الجناية
موجبة للمال وكان رهنا بحق واحد فجنايته هدر لأن الحق يتعلق بكل واحد منهما فإذا قتل أحدهما
بقي الحق متعلقا بالآخر، وإن كان كل واحد منهما رهنا بحق منفرد ففيه أربع مسائل:
(إحداها) أن يكون الحقان سواء وقيمتهما سواء فتكون الجناية هدرا سواء كان الحقان من
جنسين مثل أن يكون أحدهما بمائة دينار والآخر بدراهم قيمتها مائة دينار أو من جنس واحد
لأنه لا فائدة في اعتبار الجناية
(المسألة الثانية) ان يختلف الحقان وتتفق القيمتان مثل أن يكون دين أحدهما مائة ودين الآخر
مائتين وقيمة كل واحد منهما مائة فإن كان دين القاتل أكثر لم ينقل إلى دين المقتول لعدم الغرض
445

فيه وإن كان دين المقتول أكثر نقل إلى القاتل لأن للمرتهن غرضا في ذلك وهل يباع القاتل وتجعل
قيمته رهنا مكان المقتول أو ينقل بحاله؟ على وجهين (أحدهما) لا يباع لأنه لا فائدة فيه (والثاني) يباع
لأنه ربما زاد فيه من يبلغه أكثر من ثمنه فإن عرض للبيع فلم يزد فيه لم يبع لعدم ذلك
(المسألة الثالثة) أن يتفق الدينان وتختلف القيمتان بان يكون دين كل واحد منهما مائة وقيمة أحدهما
مائة والآخر مائتين فإن كانت قيمة المقتول أكثر فلا غرض في النقل فيبقى بحاله وان كانت قيمة
الجاني أكثر بيع منه بقدر جنايته تكون رهنا بدين المجني عليه والباقي رهن بدينه وإن اتفقا
على تبقيته ونقل الدين إليه صار مرهونا بهما فإن حل أحد الدينين بيع بكل حال لأنه إن كان دينه
المعجل بيع ليستوفى من ثمنه وما بقي منه رهن بالدين الآخر وإن كان المعجل الآخر بيع ليستوفى
منه بقدره والباقي رهن بدينه
(المسألة الرابعة) أن يختلف الدينان والقيمتان مثل أن يكون أحد الدينين خمسين والآخر ثمانين
وقيمة أحدهما مائة والآخر مائتين فإن كان دين المقتول أكثر نقل إليه وإلا فلا
(فصل) فإن كان المجني عليه رهنا عند غير مرتهن القاتل فللسيد القصاص لأنه مقدم على حق
المرتهن بدليل أن الجناية الموجبة للمال مقدمة عليه فالقصاص أولى فإن اقتص بطل الرهن في المجني
عليه لأن الجناية عليه لم توجب مالا يجعل رهنا مكانه وعليه قيمة المقتص منه يكون رهنا لأنه أبطل حق
الوثيقة فيه باختياره. ويحتمل أن لا تجب لما ذكرنا وللسيد العفو على مال فتصير كالجناية الموجبة
446

للمال فيثبت المال في رقبة العبد لأن السيد لو جنى على العبد لوجب أرش جنايته لحق المرتهن فبأن يثبت
على عبده أولى. فإن كان الأرش لا يستغرق قيمته بعنا منه بقدر أرش الجناية يكون رهنا عند مرتهن
المجني عليه وباقيه رهن عند مرتهنه، وان لم يمكن بيع بعضه بيع جميعه وقسمة ثمنه بينهما على حسب
ذلك يكون رهنا، وان كانت الجناية تستغرق قيمته نقل الجاني فجعل رهنا عند الآخر، ويحتمل ان
يباع لاحتمال ان يرغب في شرائه راغب بأكثر من قيمته فيفصل من قيمته شئ يكون رهنا عند
مرتهنه وهذا كله قول الشافعي
(فصل) فإن كانت الجناية على موروث سيده فيما دون النفس كأطرافه أو ماله فهي كالجناية على
أجنبي وله القصاص إن كانت موجبة له والعفو على مال وغيره، وان كانت موجبة للمال ابتداء ثبت
فإن انتقل ذلك إلى السيد بموت المستحق فله ما لموروثه من القصاص والعفو على مال لأن الاستدامة
أقوى من الابتداء فجاز أن يثبت بها مالا يثبت في الابتداء، وان كانت الجناية على نفسه بالقتل ثبت
الحكم لسيده وله ان يقتص فيما يوجب القصاص. وان عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال
ابتداء فهل يثبت للسيد؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الجناية
على غيره فأشبهت الجناية على ما دون النفس (والثاني) لا يثبت له مال في عبده ولا له العفو عليه وهو
قول أبي ثور لأنه حق ثبت للسيد ابتداء فلم يكن له ذلك كما لو كانت الجناية عليه، وأصل الوجهين في
وجوب الحق في ابتدائه هل يثبت للقتيل ثم ينتقل إلى وارثه أو يثبت للوارث ابتداء؟ على وجهين وكل
موضع ثبت له المال في رقبة عبده فإنه يقدم على الرهن لأنه يثبت للموروث بهذه الصفة فينتقل إلى
وارثه كذلك فإن اقتص في هذه الصورة لم يلزمه بدل الرهن لأنه إذا قدم المال على حق المرتهن
447

فالقصاص أولى ولان القصاص ثبت للموروث مقدما على حق المرتهن فكذلك في حق وارثه فإن
كانت الجناية على مكاتب السيد فهي كالجناية على ولده وتعجيزه كموت ولده فيما ذكرناه
(فصل) فإن جنى العبد المرهون باذن سيده وكان ممن يعلم تحريم الجناية وانه لا يجب عليه قبول
ذلك من سيده فهي كالجناية بغير اذنه، وإن كان صبيا أو أعجميا لا يعلم ذلك فالجاني هو السيد. يتعلق
به موجب الجناية، ولا يباع العبد فيها موسرا كان أو معسرا كما لو باشر السيد الجناية، وقال القاضي
فيه وجه ان العبد يباع مع اعسار السيد لأن العبد باشر الجناية، والصحيح الأول لأن العبد آلة فلو
تعلقت الجناية به بيع مع اليسار، وحكم اقرار العبد بالجناية حكم إقرار غير المرهون على ما يأتي
بيانه إن شاء الله تعالى
{مسألة} (وان جني عليه جناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص فإن اقتص فعليه قيمة
أقلهما قيمة تجعل مكانه)
إذا جني على الرهن فالخصم في ذلك السيد لأنه المالك والأرش الواجب بالجناية ملكه وإنما للمرتهن فيه
حق الوثيقة فصار كالعبد المستأجر والمودع وبهذا قال الشافعي وغيره، فإن ترك المطالبة أو أخرها أو كان غائبا
أو له عذر يمنعه منها فللمرتهن المطالبة بها لأن حقه متعلق بموجبها فكان له المطالبة به كما لو كان الجاني سيده، ثم إن
كانت الجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص لأنه حق له وإنما يثبت ليستوفى فإن اقتص أخذت منه
قيمة أقلهما قيمة فجعلت مكانه رهنا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وهو قول إسحاق، ويتخرج أن
لا يجب عليه شئ وهو مذهب الشافعي لأنه لم يجب بالجناية مال ولا استحق بحال وليس على الراهن
448

ان يسعى للمرتهن في اكتساب مال، ووجه الأول انه أتلف مالا استحق بسبب اتلاف الرهن فغرم
قيمته كما لو كانت الجناية موجبة للمال، وهكذا الحكم فيما إذا ثبت القصاص للسيد في عبده المرهون. وإنما
أو جبنا أقل القيمتين لأن حق المرتهن إنما يتعلق بالمالية والواجب من المال هو أقل القيمتين لأن الرهن
إن كان أقل لم يجب أكثر من قيمته، وإن كان الجاني أقل قيمة لم يجب أكثر من قيمته لأنها التي أتلفها
بالقصاص وان عفا على مال صح عفوه ووجب أقل القيمتين لما ذكرنا، هذا إذا كان القصاص قتلا،
وإن كان جرحا أو قلع سن أو نحوه فالواجب بالعفو أقل الأمرين من أرش الجرح أو قيمة الجاني
لما ذكرنا وان عفا مطلقا انبنى على موجب العمد ما هو؟ فإن قلنا موجبه أحد شيئين ثبت المال وان
قلنا موجبه القصاص عينا فحكمه كما لو اقتص، أو قلنا ثم تجب القيمة على الراهن وجب هنا وهو اختيار
أبي الخطاب لأنه فوت بدل الرهن بعفوه أشبه ما لو اقتص، وان قلنا لا تجب على الراهن ثم لم تجب
ههنا وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنه اكتساب مال فلا يجبر عليه وكذلك ان عفا على غير مال
{مسألة} (وكذلك ان جنى على سيده فاقتص منه هو أو ورثته وقد ذكرنا ذلك)
{مسألة} (وان عفا السيد على مال أو كانت موجبة للمال فاقتص منه جعل مكانه)
أما إذا كانت الجناية موجبة للمال أو ثبت المال بالعفو عن الجناية الموجبة للقصاص فإنه يتعلق به
حق الراهن والمرتهن ويجب من غالب نقد البلد كقيم المتلفات، فلو أراد الراهن ان يصالح عنها ويأخذ
عوضا عنها لم يجز إلا بإذن المرتهن، فإن اذن جاز لأن الحق لهما وما قبض من شئ فهو رهن بدلا
عن الأول وقائما مقامه
449

{مسألة} (وان عفا السيد عن المال صح في حقه ولم يصح في حق المرتهن، فإذا انفك الرهن
رد إلى الجاني، وقال أبو الخطاب يصح وعليه قيمته)
إذا عفا السيد عن المال فقال القاضي يسقط حق الراهن دون المرتهن فتؤخذ القيمة من الجاني
تكون رهنا فإذا زال الرهن رجع الأرش إلى الجاني كما لو أقر ان الرهن مغصوب أو جان فإن
استوفى الدين من الأرش احتمل ان يرجع الجاني على العافي لأن ماله ذهب في قضاء دينه فلزمته
غرامته كما لو استعاره فرهنه، واحتمل أن لا يرجع عليه لأنه لم يوجد منه في حق الجاني ما يقتضي وجوب
الضمان وإنما استوفى بسبب منه حال ملكه له فأشبه ما لو جنى انسان على عبده ثم وهبه لغيره فتلف بالجناية
السابقة، وقال أبو الخطاب: يضمن العفو مطلقا ويؤخذ من الراهن قيمته تكون رهنا لأنه أسقط دينه
عن غريمه فصح كسائر ديونه، قال ولا يمكن كونه رهنا مع تقدم حق الراهن فيه ولزمته القيمة لتقوية
حق المرتهن كما لو أتلف بدل الرهن، وقال الشافعي لا يصح العفو أصلا لأن حق المرتهن متعلق به
فلم يصح عفو الراهن عنه كالرهن نفسه، وكما لو وهب الرهن أو غصب فعفا عن غاصبه. قال شيخنا:
وهذا أصح في النظر، فإن قال المرتهن أسقطت حقي من ذلك سقط لأنه ينفع الراهن ولا يضره،
وان قال أسقطت الأرش أو ابرأت منه لم يسقط لأنه ملك للراهن فلا يسقط باسقاط غيره وهل
يسقط حقه؟ فيه وجهان (أحدهما) يسقط وهو قول القاضي لأن ذلك يتضمن اسقاط حقه وإذا لم
يسقط حق غيره سقط حقه كما لو قال أسقطت حقي وحق الراهن (والثاني) لا يسقط لأن العفو
ولا براء منه لا يصح فلم يصح ما يضمنه
450

(فصل) وان أقر رجل بالجناية على الرهن فكذباه فلا شئ لهما، وإن كذبه المرتهن وصدقه
الراهن فله الأرش ولا حق للمرتهن فيه وان صدقه المرتهن وحده تعلق حقه بالأرش وله قبضه فإذا
قضى الراهن الحق أو أبرأه المرتهن رجع الأرش إلى الجاني ولا شئ للراهن فيه، وان استوفى حقه
من الأرش لم يملك الجاني مطالبة الراهن بشئ لأنه مقر له باستحقاقه
(فصل) ولو كان الرهن أمة حاملا فضرب بطنها أجنبي فألقت جنينا ميتا ففيه عشر قيمة أمه وان
ألقته حيا ثم مات لوقت يعيش مثله ففيه قيمته ولا يجب ضمان نقص الولادة لأنه لا يتميز نقصها عما وجب
ضمانه من ولدها، ويحتمل ان يضمن نقصها بالولادة لأنه حصل بفعله فلزم ضمانه كما لو غصبها ثم جنى عليها
ويحتمل ان يجب أكثر الامرين من نقصها أو ضمان جنينها لأن سبب ضمانها وجد فإذا لم يجتمع ضمانهما
وجب ضمان أكثرهما، وان ضرب بطن بهيمة فألقت ولدها ميتا ففيه ما نقصتها الجناية لاغير وما وجب
من ذلك كله فهو رهن مع الامر، وقال الشافعي: ما وجب لنقص الام أو لنقص البهيمة فهو رهن معها
وكذلك ما وجب في ولدها وما وجب في جنين الأمة فليس برهن ولنا أنه ضمان وجد بسبب الجناية على
الرهن فكان من الرهن كالواجب لنقص الولادة وولد البهيمة
{مسألة} (وان وطئ المرتهن الجارية بغير اذن الراهن فعليه الحد والمهر وولده رقيق)
لا يحل للمرتهن وطئ الجارية المرهونة اجماعا لقول الله تعالى (إلا على أزواجهم أو ما ملكت
ايمانهم وليست هذه زوجته ولا ملكه، فإن فعل بغير اذن الراهن عالما بالتحريم فعليه الحد لأنه
451

لا شبهة له فيه فإن الرهن وثيقة بالدين ولا مدخل لذلك في إباحة الوطئ، ولان وطئ المستأجرة يوجب
الحد مع ملكه لنفعها فالرهن أولى، ويجب عليه المهر سواء أكرهها أو طاوعته، وقال الشافعي لا يجب
المهر مع المطاوعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، ولان الحد إذا وجب على الموطوءة لم يجب المهر
كالحرة. ولنا ان المهر يجب للسيد فلا يسقط بمطاوعة الأمة واذنها كما لو أذنت في قطع يدها، ولأنه
استوفى هذه المنفعة المملوكة للسيد بغير اذنه فكان عليه عوضها كما لو أكرهها وكأرش بكارتها لو كانت
بكرا والحديث مخصوص بالمكرهة على البغاء فإن الله تعالى سماها بذلك مع كونها مكرهة فقال (ولا
تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) وقولهم لا يجب الحد والمهر قلنا لا يجب لها المهر لها وفي
مسئلتنا لا يجب لها وإنما يجب لسيدها. ويفارق الحرة فإن المهر لو وجب لوجب لها وقد أسقطت حقها
باذنها وههنا المستحق لم يأذن، ولان الوجوب في حق الحرة تعلق باكراهها وسقوطه بمطاوعتها فكذلك
السيد ههنا لما تتعلق السقوط باذنه ينبغي ان يثبت عند عدمه وسواء وطئها معتقدا للحل أو غير معتقد له،
أو ادعى بشبهة أو لم يدعها لا يسقط المهر بشئ من ذلك لأنه حق آدمي فلا يسقط بالشبهات وولده
رقيق للراهن لأنه من زنا ولأنه لا ملك له فيها ولا شبهة ملك فأشبه الأجنبي
452

{مسألة} (وإن وطئها باذن الراهن وادعى الجهالة وكان مثله بجهل ذلك فلاحد عليه ولا
مهر وولده حر لا تلزمه قيمته)
وجملة ذلك أن المرتهن إذا وطئها باذن الراهن وادعى الجهالة بالتحريم فإن احتمل صدقه لكونه
ممن نشأ ببادية أو حديث عهد بالاسلام فلاحد عليه وولده حر لأنه وطئها معتقدا إباحة وطئها فهو كما
لو وطئها يظنها أمته، وان لم يحتمل صدقه كالناشئ ببلاد المسلمين مختلطا بهم من أهل العلم لم تقبل دعواه
لأنه لا يخلو ممن يسمع منه ما يعلم به تحريم ذلك فيكون كمن لم يدع الجهل فيكون ولده رقيقا للراهن لأنه
من زنا، ومتى كان الوطئ باذن الراهن لم يجب عليه قيمة الولد وهذا قول بعض أصحاب الشافعي
لأن الاذن في الوطئ اذن فيما يحدث منه بدليل أنه لو أذن المرتهن للراهن في الوطئ فحملت سقط حقه
من الرهن، وكما لو اذن في قطع أصبع لم يضمنها وكالحرة إذا أذنت في وطئها سقط عنه الضمان، وفيه
قول ان قيمة الولد تجب؟ وإن أذن الراهن في الوطئ وهو منصوص الشافعي لأن وجوب الضمان يمنع
اتخاذ الولد رقيقا ويشبه اعتقاد الحل وما حصل ذلك باذنه بخلاف وطئ الراهن فإن خروجها من الرهن
بالحمل الذي سببه الوطئ المأذون فيه ولا يجب المهر إذا كان الوطئ باذن الراهن، وقال أبو حنيفة
يجب وعن الشافعية كالمذهبين
ولنا انه اذن في سببه وهو حقه فلم يجب كما لو أذن في قتلها، ولان المالك اذن في استيفاء المنفعة
453

فلم يجب عوضها كالحرة المطاوعة، وولده حر للشبهة وقد ذكرناه، ولا تصير هذه الأمة أم ولد بحال سواء
ملكها المرتهن بعد الوضع أو قبله، وسواء حكمنا برق الولد أو حريته وفيه وجه آخر أنه إذا ملكها
حاملا انها تصير أم ولد وسنذكر ذلك في أمهات الأولاد
(فصل) قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن رجل عنده رهون كثيرة لا يعرف أصحابها ولا
من رهن عنده قال: إذا أيست من معرفتهم ومعرفة ورثتهم فأرى ان تباع ويتصدق بثمنها، فإن
عرف بعد أربابها خيرهم بين الاجر أو يغرم لهم. هذا الذي اذهب إليه، وقال أبو الحارث عن أحمد
في الرهن يكون عنده السنين الكثيرة يأيس من صاحبه يبيعه ويتصدق بالفضل فظاهر هذا أنه يستوفي
حقه، ونقل أبو طالب لا يستوفي حقه من ثمنه ولكن ان جاء صاحبه بعد فطلبه أعطاه إياه وطلب منه
حقه، واما إن رفع امره إلى الحاكم فباعه ووفاه حقه منه جاز ذلك
454

(باب الحجر)
الحجر في اللغة المنع والتضييق ومنه سمي الحرام حجرا قال الله تعالى (ويقولون حجرا محجورا)
اي حراما محرما ويسمى العقل حجرا قال الله تعالى (هل في ذلك قسم لذي حجر؟) اي عقل سمي
حجرا لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح، وهو في الشرع منع الانسان من التصرف في ماله
{مسألة} (وهو على ضربين حجر على الانسان لحظ نفسه وحجر لحق غيره) كالحجر على
المريض في التبرع بما زاد على الثلث لحق الورثة، وعلى العبد والمكاتب لحق السيد والراهن
يحجر عليه في الرهن لحق المرتهن
ولهؤلاء أبواب يذكرون فيها، ومن ذلك الحجر على المفلس لحق الغرماء وهو المذكور ههنا، والمفلس
هو الذي لامال له ولا ما يدفع به حاجته ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " أتدرون من
المفلس " قالوا يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال " ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس
من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد ضرب هذا ولطم هذا وأكل مال هذا وأخذ
من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن بقي عليه شئ أخذ من سيئاتهم فرد
عليه ثم صك له صك إلى النار " أخرجه مسلم بمعناه فقولهم ذلك اخبار عن حقيقة المفلس، وقول النبي
صلى الله عليه وسلم " ليس ذلك المفلس " تجوز لم يرد به نفي الحقيقة بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم
بحيث يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغني، ونحو هذا قوله عليه الصلاة والسلام " ليس الشديد بالصرعة
إنما الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب " وقوله " ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى
النفس " ومنه قول الشاعر
ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الاحياء
قيل إنما سمي هذا مفلسا لأنه لامال له إلا الفلوس وهي أدنى أنواع المال، والمفلس في عرف
455

الفقهاء من دينه أكثر من ماله، وسموه مفلسا وإن كان ذا مال لأن ماله مستحق الصرف في جهة دينه
فكأنه معدوم وقد دل عليه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم مفلس الآخرة فإنه أخبر أن له حسنات أمثال الجبال
لكنها لا تفي بما عليه فقسمت بين الغرماء وبقي لا شئ له ويجوز أن يكون سمي بذلك لما يؤول إليه
من عدم ماله بعد وفاء دينه ويجوز أن يكون سمي بذلك لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا الشئ
التافه الذي لا يعيش إلا به كالفلوس
{مسألة} ومن لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله لأنه لا يلزمه أداؤه ولم يحجر عليه من
أجله لأنه لا يستحق المطالبة به فلم يجز منعه من التصرف في ماله بسببه فإن كان بعض دينه مؤجلا
وبعضه حالا وكان ماله يفي بالحال لم يحجر عليه أيضا، وقال بعض أصحاب الشافعي ان ظهرت أمارات
الفلس لكون ماله بإزاء دينه ولا نفقة له إلا من ماله حجر عليه في أحد الوجهين لأن الظاهر أنه ماله
يعجز عن ديونه فهو كما لو كان ماله ناقصا، ولنا أن ماله واف بما يلزمه أداؤه فلم يحجر عليه كما لو لم
تظهر أمارات الفلس ولان الغرماء لا يمكنهم طلب حقوقهم في الحال فلا حاجة إلى الحجر
{مسألة} (فإن أراد سفرا يحل الدين قبل مدته فلغريمه منعه الا أن يوثقه برهن أو كفيل)
456

وجملة ذلك أن المدين إذا أراد السفر وأراد غريمه منعه نظرنا فإن كان محل الدين قبل محل قدومه
من السفر كمن يسافر إلى الحج لا يقدم الا في صفر ودينه يحل في المحرم فله منعه من السفر لأن
عليه ضررا في تأخير حقه عن محله فإن أقام ضمينا مليئا أو دفع رهنا يفي بالدين عند المحل فله السفر
لزوال الضرر بذلك.
{مسألة} (فإن كان لا يحل الدين قبله ففي منعه روايتان)
أما إذا كان الدين لا يحل الا بعد محل السفر مثل أن يكون محله في ربيع وقدومه في صفر فإن
كان سفره إلى الجهاد فلغريمه منعه الا بضمين أو رهن لأنه سفر يتعرض فيه لذهاب النفس فلا يأمن
فوات الحق، وإن كان لغير الجهاد فليس له منعه في إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي لأن
هذا السفر ليس بامارة على منع الحق في محله فلم يملك منعه منه كالسفر القصير وكالسعي إلى الجمعة
(والثانية) له منعه لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر فملك منعه منه كالأول، وقال الشافعي
ليس له منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلا بحال سواء كان الدين يحل قبل محل
457

سفره أولا إلى الجهاد أو إلى غيره لأنه لا يملك المطالبة بالدين فلم يملك منعه من السفر ولا المطالبة
بكفيل كالسفر الآمن القصير، ولنا أنه سفر يمنع استيفاء الدين في محله فملك منعه منه إذا لم يوثقه برهن
أو كفيل كالسفر بعد حلول الحق، ولأنه لا يملك تأخير الدين عن محله وفي السفر المختلف فيه
تأخيره عن محله فلم يملك كحجره
{مسألة} (وإذا كان حالا وله ما يفي به لم يحجر عليه)
لعدم الحاجة إلى ذلك ويأمره بوفائه فإن أبى حبسه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لي
الواجد يحل عرضه وعقوبته " رواه أحمد فعقوبته حبسه وعرضه أن يغلظ له فيقال له يا ظالم يا متعدي ونحو ذلك
{مسألة} (فإن أصر باعه الحاكم وقضى دينه)
وجملته ان الغريم إذا حبس فصبر على الحبس ولم يقض الدين قضى الحاكم دينه من ماله. وان
احتاج إلى بيع ماله في قضاء دينه باعه وقضى دينه وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد، وقال
أبو حنيفة ليس للحاكم بيع ماله لكنه يجبره على البيع إذا لم يمكن الايفاء بدونه، فإن امتنع لم يبعه
الحاكم وإنما يحبسه ليبيع بنفسه الا أن يكون عليه أحد النقدين وماله من النقد الآخر فيدفع أحد
النقدين عن الآخر لأنه رشيد لا ولاية عليه فلم يجز بيع ماله بغير اذنه كالذي لادين عليه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله في دينه. رواه الخلال باسناده،
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: الا ان أسيفع جهينة قد رضي من دينه
وأمانته بأن يقال سبق الحاج فادان معرضا فأصبح وقد رين به فمن كان له عليه مال فليحضر غدا
458

فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه " ولأنه محجور عليه محتاج إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله بغير
رضاه كالصغير والسفيه ولأنه نوع مال فجاز بيعه في قضاء دينه كالأثمان وقياسهم يبطل ببيع الدراهم بالدنانير
{مسألة} (وان ادعى الاعسار وكان دينه عن عوض كالبيع والقرض أو عرف له مال سابق
حبس الا أن يقيم البينة على نفاد ماله أو إعساره، وهل يحلف معها؟ على وجهين وإن لم يكن
كذلك حلف وخلي سبيله)
وجملة ذلك أن من وجب عليه دين حال فطولب به فلم يؤده فإن كان في يده مال ظاهر أمره
الحاكم بالقضاء، وان لم يظهر له مال فادعى الاعسار فصدقه غريمه لم يحبس ووجب انظاره ولم يجز
ملازمته لقول الله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم
لغرماء الذي كثر دينه " خذوا ما وجدتم ليس لكم الا ذلك " ولان الحبس اما أن يكون لاثبات
عسرته أو لقضاء دينه وعسرته ثابته والقضاء متعذر فلا فائدة في الحبس فإن كذبه غريمه فلا يخلو اما
أن يكون عرف له مال أو لم يعرف، فإن عرف له مال لكون الدين ثبت عن معاوضة كالقرض
والبيع أو عرف له أصل مال سوى هذا فالقول قول غريمه مع يمينه فإذا حلف أنه ذو مال حبس
حتى تشهد البينة باعساره. قال ابن المنذر أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس
في الدين منهم مالك والشافعي وأبو عبيد والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن، وروي عن شريح
والشعبي وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس، وبه قال عبد الله بن
أبي جعفر والليث بن سعد.
459

ولنا ان الظاهر قول الغريم فكان القول قوله كسائر الدعاوى فإن شهدت البينة بتلف ماله قبلت
شهادتهم سواء كانت من أهل الخبرة الباطنة أولم تكن لأن التلف يطلع عليه أهل الخبرة وغيرهم، وان
طلب الغريم احلافه على ذلك لم يجب إليه لأنه تكذيب للبينة، وان شهدت مع ذلك بالاعسار اكتفى
بشهادتهما وثبتت عسرته وان لم تشهد الا بالتلف وطلب الغريم يمينه على عسرته وأنه ليس له مال
آخر استحلف على ذلك لأنه غير ما شهدت به البينة وان لم تشهد بالتلف وإنما شهدت بالاعسار لم
تقبل الشهادة الا من ذي خبرة باطنة لأن هذا في الأمور الباطنة لا يطلع عليه في الغالب الا أهل الخبرة
والمخالطة وهذا مذهب الشافعي. وحكي عن مالك أنه قال لا تسمع البينة على الاعسار لأنها شهادة
على النفي فلم تسمع كما لو شهدت أنه لادين عليه
ولنا ما روى قبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ويا قبيصة ان المسألة لا تحل الا لاحد ثلاثة
رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت
له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة
من أهل الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال -
سدادا من عيش " رواه مسلم وأبو داود، وقولهم ان الشهادة على النفي لا تقبل قلنا لا ترد مطلقا فإنه
لو شهدت بينة أن هذا وارث هذا الميت لا وارث له سواه قبلت، ولأن هذه وان كانت تتضمن النفي
فهي تثبت حالة تظهر ويوقف عليها بالمشاهدة بخلاف ما إذا شهدت أنه لا حق له فإن هذا مما لا يوقف
عليه ولا يشهد به حال يتوصل بها إلى معرفته بخلاف مسئلتنا وتسمع البينة في الحال، وبهذا قال الشافعي
460

وقال أبو حنيفة لا تسمع في الحال وتحبس شهرا وقيل ثلاثة أشهر، وروي أربع حتى يغلب على ظن
الحاكم أنه لو كان له مال لاظهره
ولنا أن كل بينة جاز سماعها بعد مدة جاز سماعها في الحال كسائر البينات وما ذكروه لو كان صحيحا
لاغنى عن البينة، فإن قال الغريم أحلفوه لي مع بينته أن لا مال له لم يستحلف في ظاهر كلام احمد لأنه
قال في رواية إبراهيم في رجل جاء بشهود على حق فقال الغريم استحلفوه لا يستحلف لأن ظاهر الحديث
البينة على المدعي واليمين على من أنكر. قال القاضي سواء شهدت البينة بتلف المال أو بالاعسار وهذا أحد
قولي الشافعي لأنها بينة مقبولة فلم يستحلف معها كما لو شهدت بأن هذا عبده وفيه وجه آخر انه يستحلف
وهو القول الثاني للشافعي لأنه يحتمل أن يكون له مال خفي عن البينة. قال شيخنا: ويصح عندي
الزامه اليمين على الاعسار إذا شهدت البينة بتلف المال وسقوطها عنه فيما إذا شهدت بالاعسار لأنها
إذا شهدت بالتلف صار كمن لم يثبت له أصل مال أو بمنزلة من أقر له غريمه بتلف ذلك المال وادعى
له مالا سواه أو أنه استحدث مالا بعد تلفه، ولو لم تقم البينة وأقر له غريمه بتلف ماله وادعى ان له
مالا سواه لزمته اليمين فكذلك إذا قامت به البينة فإنها لا تزيد على الاقرار، فإن كان الحق ثبت عليه
في غير مقابلة مال أخذه كأرش الجناية وقيمة متلف ومهر أو ضمان أو كفالة أو عوض خلع إن كانت
امرأة فإن لم يعرف له مال حلف أنه لامال له وخلي سبيله، وهذا قول الشافعي وابن المنذر، وإنما
اكتفينا بيمينه لأن الأصل عدم المال، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحبة وسواء ابني خلد بن
سواء " لا تيأسا من الرزق ما اهتزت رؤوسكما فإن ابن آدم يخلق وليس له إلا قشرتاه ثم يرزقه الله تعالى "
461

قال ابن المنذر الحبس عقوبة ولا نعلم له ذنبا يعاقب به والأصل عدم ماله بخلاف من علم له مال فإن الأصل
بقاء ماله فيحبس حتى يعلم ذهابه ومطلق كلام الخرقي يدل على أنه يحبس في الحالتين لكنه ينبغي ان
يحمل كلامه على هذا لقيام الدليل على الفرق
(فصل) ومتى ثبت اعساره عند الحاكم لم يجز مطالبته ولا ملازمته، وبه قال الشافعي وقال أبو
حنيفة لغرمائه ملازمته من غير أن يمنعوه من الكسب، فإذا رجع إلى بيته فأذن لهم في الدخول معه
وإلا منعوه من الدخول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لصاحب الحق اليد واللسان "
ولنا ان من ليس لصاحب الحق مطالبته لم يكن له ملازمته كصاحب الدين المؤجل، وقول الله
تعالى (فنظرة إلى ميسرة) ومن وجب انظاره حرمت ملازمته كمن دينه مؤجل والحديث فيه مقال
قاله ابن المنذر ثم نحمله على الموسر بدليل ما ذكرنا، وقد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي
أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه " خذوا ما وجدتم وليس لكم الا ذلك " رواه مسلم والترمذي
{مسألة} (وإن كان له ماله لا يفي به فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته أجابتهم)
إذا اتفق الغرماء على طلب الحجر عليه في هذه الحال لزم الحاكم إجابتهم ولا يجوز الحجر عليه بغير سؤال
غرمائه لأنه لا ولاية له في ذلك إنما يفعله لحق الغرماء فاعتبر رضاهم، وكذلك ان سأله بعضهم، وبهذا
قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة ليس للحاكم الحجر عليه فإذا أدى اجتهاده إلى الحجر عليه
ثبت لأنه فصل مجتهد فيه. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله في دينه
رواه الخلال باسناده
462

(فصل) وتصرفه قبل حجر الحاكم في ماله نافذ من البيع والهبة والاقرار وقضاء بعض الغرماء
وغير ذلك وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأنه رشيد غير محجور عليه فنفذ
تصرفه كغيره، ولان سبب المنع الحجر فلا يتقدم سببه، ولأنه من أهل التصرف، ولم يحجر عليه
أشبه الملئ وان أكري جملا بعينه أو دارا لم تنفسخ اجارته بالفلس وان المكتري أحق
به حتى تنقضي مدته
{مسألة} (ويستحب اظهار الحجر عليه والاشهاد عليه)
لنتجنب معاملته لئلا يستضر الناس بضياع أموالهم، ويشهد عليه لينتشر ذلك وربما عزل الحاكم
أو مات فيثبت الحجر عند الآخر فلا يحتاج إلى ابتداء حجر ثان
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام (أحدها) تعلق حق
الغرماء بماله فلا يصح تصرفه فيه ولا يقبل اقراره عليه الا العتق على إحدى الروايتين) متى حجر على
المفلس لم ينفذ تصرفه في شئ من ماله فإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو وقف أو إصداق امرأة مالا
له أو نحو ذلك لم يصح، وبه قال مالك والشافعي في قول، وقال في آخر يقف تصرفه فإن كان فيما بقي
من ماله وفاء الغرماء والا بطل. ولنا ان حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله فلم يصح تصرفه فيها
كالعين المرهونة ولأنه محجور عليه بحكم حاكم فأشبه السفيه، وان أقر بدين لم يقبل في الحال ويتبع به
بعد فك الحجر عنه نص عليه وهو قول مالك ومحمد بن الحسن والثوري والشافعي في قول، وقال في
الآخر يشاركهم اختاره ابن المنذر لأنه دين ثابت مضاف إلى ما قبل الحجر فشارك صاحبه الغرماء
463

كما لو ثبت ببينة، ولنا انه محجور عليه فلم يصح اقراره فيما حجر عليه فيه كالسفيه ولأنه اقرار يبطل
ثبوته في غير حق غير المقر فلم يقبل أو اقرار على الغرماء فلم يقبل كاقرار الراهن ولأنه متهم في اقراره
وفارق البينة فإنه لا تهمة في حقها، فإن كان المفلس صانعا كالقصار والحائك في يده متاع فأقر به لأربابه
لم يقبل والقول فيها كالتي قبلها وتباع العين التي في يده وتقسم بين الغرماء وتكون قيمتها واجبة على
المفلس إذا قدر عليها لأنها انصرفت في وفاء دينه بسبب من جهته فكانت قيمتها عليه كما لو أذن في
ذلك، وان توجهت على المفلس يمين فنكل عنها فقضي عليه فحكمه حكم اقراره يلزم في حقه دون
الغرماء فإن أعتق بعض رقيقه صح في إحدى الروايتين ونفذ وهو قول أبي يوسف وإسحاق لأنه عتق
من مالك رشيد فنفذ كما قبل الحجر. وفارق سائر التصرفات لأن للعتق تغليبا وسراية ولهذا يسري
إلى ملك الغير بخلاف غيره، والأخرى لا ينفذ عتقه وبه قال مالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي
واختاره أبو الخطاب في رؤوس المسائل لأنه ممنوع من التبرع لحق الغرماء فلم ينفذ عتقه كالمريض الذي
يستغرق دينه ماله، وأما سرايته إلى ملك الغير فمن شرطه أن يكون موسرا يؤخذ منه قيمة نصيب
شريكه ولا يتضرر ولو كان معسرا لم ينفذ عتقه إلا في ملكه صيانة لحق الغير وحفظا له عن الضياع
كذا ههنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى
{مسألة} (فإن تصرف في ذمته بشراء أو ضمان أو اقرار صح)
ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه أهل للتصرف وإنما وجد في حقه الحجر والحجر متعلق بماله
لا بذمته ولكن لا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء لأنهم رضوا بذلك إذا علموا بفلسه وعاملوه ومن
لا يعلم فقد فرط في ذلك فإن هذا في مظنة الشهرة، فعلى هذا يتبع بها بعد فك الحجر عنه، وفي اقراره
خلاف ذكرناه في المسألة التي قبلها، فاما ان ثبت عليه حق ببينة شارك صاحبه الغرماء لأنه دين ثابت قبل
الحجر عليه أشبه ما لو شهدت به قبل الحجر
{مسألة} (وان جنى شارك المجني عليه الغرماء وان جنى عبده قدم المجني عليه بثمنه)
إذا جنى المفلس بعد الحجر جناية موجبة للمال شارك المجني عليه الغرماء لأن حق المجني عليه ثبت
بغير اختياره، ولو كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا صاحبها عنها إلى مال أو صالحه المفلس على مال
464

شارك الغرماء لأن سببه ثبت بغير اختيار صاحبه فأشبه ما أوجب المال، فإن قيل ألا قدمتم حقه على
الغرماء كما قدمتم حق من جنى عليه بعض عبيد المفلس؟ قلنا لأن الحق في العبد الجاني تعلق بعينه فقدم
لذلك وحق هذا تعلق بالذمة كغيره من الديون فاستويا، فإن جنى عبده قدم المجني عليه بثمنه لأن
الحق تعلق بالعين فقدم على من تعلق حقه بالذمة كما يقدم حق المرتهن بثمن الرهن على الغرماء ولان
حق المجني عليه يقدم على حق المرتهن فأولى ان يقدم على حق الغرماء
{فصل} قال رحمه الله (الثاني أن من وجد عنده عينا باعها إياه فهو أحق بها بشرط أن يكون
المفلس حيا ولم ينقد من ثمنها شيئا والسلعة بحالها لم يتلف بعضها ولم تتغير صفتها بما يزيل اسمها كنسج
الغزل وخبز الدقيق)
وجملته ان المفلس إذا حجر عليه فوجد بعض غرمائه سلعته التي باعه إياها بعينها فله فسخ البيع
والرجوع في عين ماله بالشروط التي نذكرها روي ذلك عن عثمان وعلي وأبي هريرة وبه قال
عروة ومالك والشافعي والأوزاعي والعنبري وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال الحسن والنخعي
وابن شبرمة وأبو حنيفة هو أسوة الغرماء لأن البائع كان له حق الامساك لقبض الثمن فلما سلمه
أسقط حق الامساك فلم يكن له ان يرجع في ذلك بالافلاس كالمرتهن إذا سلم الرهن إلى الراهن ولأنه
ساوى الغرماء في سبب الاستحقاق فيساويهم في الاستحقاق كسائرهم
ولنا ما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أدرك متاعه بعينه عند انسان
قد أفلس فهو أحق به " متفق عليه قال أحمد. لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء ثم رفع إلى
رجل يرى العمل بالحديث جاز له نقض حكمه ولان هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فيه الفسخ
لتعذر الغرض كالمسلم فيه إذا تعذر ولأنه لو شرط في البيع رهنا فعجز عن تسليمه استحق الفسخ وهو
465

وثيقة بالثمن فالعجز عن تسليم الثمن بنفسه أولى ويفارق البيع الرهن فإن امساك الرهن امساك مجرد
على سبيل الوثيقة وليس ببدل والثمن ههنا بدل عن العين فإذا تعذر استيفاؤه رجع إلى المبدل وقولهم
تساووا في سبب الاستحاق قلنا لكن اختلفوا في الشرط فإن بقاء العين شرط لملك الفسخ وهي موجودة
في حق من وجد متاعه دون من لم يجده، إذا ثبت هذا فإن البائع بالخيار ان شاء رجع في السلعة
وان شاء لم يرجع، وكان أسوة الغرماء وسواء كانت السلعة مساوية لثمنها أو أقل أو أكثر لأن الاعسار
سبب يثبت جواز الفسخ فلا يوجبه كالعيب والخيار، ولا يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم لأنه فسخ ثبت
بالنص فلم يحتج إلى حكم حاكم كفسخ النكاح لعتق أمة
(فصل) وهل خيار الفسخ على الفور أو التراخي فيه وجهان (أحدهما) أنه على التراخي لأنه
حق رجوع يسقط إلى عوض فكان على التراخي كالرجوع في الهبة (والثاني) على الفور لأن جواز
تأخيره يفضي إلى الضرر بالغرماء لا فضائه إلى تأخير حقوقهم فأشبه خيار الاخذ بالشفعة وهذان الوجهان
مبنيان على الروايتين في خيار الرد بالعيب، ونصر القاضي الوجه الثاني ولأصحاب الشافعي الوجهان
(فصل) فإن بذل الغرماء لصاحب السلعة الثمن ليتركها لم يلزمه قبوله نص عليه أحمد وبه قال
الشافعي، وقال مالك ليس له الرجوع إنما جاز لدفع ما يلحقه من النقص في الثمن فإذا بذل له بكماله
لم يكن له الرجوع كما لو زال العيب من المعيب
ولنا الخبر الذي رويناه ولأنه تبرع بدفع الحق من غير من هو عليه فلم يجبر صاحب الحق على
قبضه كما لو أعسر الزوج النفقة فبذلها غيره أو أعسر المكاتب فبذل غيره ما عليه لسيده وبهذا
466

ينتقض ما ذكروه وسواء بذلوه من أموالهم أو خصوه بثمنه من مال المفلس، وفي هذا القسم ضرر
آخر لأنه لا يأمن أن يظهر له غريم لم يحضر فيرجع عليه، وان دفعوا إلى المفلس الثمن فبذله للبائع لم
يكن له الفسخ لأنه زال العجز عن تسليم الثمن فزال ملك الفسخ كما لو أسقط سائر الغرماء حقوقهم عنه
فملك أداء الثمن، ولو أسقط الغرماء حقوقهم عنه فتمكن من الأداء أو وهب له مال فأمكنه الأداء منه
أو غلت أعيان ماله فصارت قيمتها وافيه بحقوق الغرماء بحيث يمكنه أداء الثمن كله لم يملك الفسخ لزوال
سببه ولأنه مكنه الوصول إلى ثمن سلعته من المشتري فلم يكن له الفسخ كما لو لم يفلس
(فصل) فإن اشترى المفلس من انسان سلعة بعد الحجر في ذمته وتعذر الاستيفاء لم يكن له الفسخ
سواء علم أو لم يعلم لأنه لا يستحق المطالبة بثمنها فلا يستحق الفسخ لتعذره كما لو كان ثمنها مؤجلا ولان
العالم بالفلس دخل على بصيرة بخراب الذمة أشبه من اشترى معيبا يعلم عيبه، وفيه وجه أخر له الخيار
لعموم الخبر ولأنه عقد عليه وقت الفسخ فلم يسقط حقه من الفسخ كما لو تزوجت امرأة فقيرا
معسرا بنفقتها، وفيه وجه ثالث إن كان عالما بفلسه فلا فسخ له، وان لم يعلم فله الفسخ كمشتري
المعيب ويفارق المعسر بالنفقة لكون النفقة يتجدد وجوبها كل يوم فالرضا بالمعسر بها رضا بعيب ما لم يجب
467

بخلاف مسئلتنا، وإنما يشبه هذا إذا تزوجت معسرا بالصداق وسلمت نفسها إليه ثم أرادت الفسخ
(فصل) وان استأجر أرضا للزرع فأفلس قبل مضي شئ من المدة فللمؤجر فسخ الإجارة
لأنه وجد عين ماله وإن كان بعد انقضاء المدة فهو غريم بالأجرة، وإن كان بعد مضي بعضها لم يملك
الفسخ في قياس قولنا في المبيع إذا تلف بعضه قال المدة ههنا كالمبيع ومضي بعضها كتلف بعضه لكن
يعتبر مضي مدة لمثلها أجر لأنه لا يمكن التحرز عن مضي جزء منها بحال، وقال القاضي في موضع آخر
من اكترى أرضا فزرعها ثم أفلس ففسخ صاحب الأرض فعليه تبقية زرع المفلس إلى حين الحصاد
بأجر مثله لأن المعقود عليه المنفعة فإذا فسخ العقد فسخه فيما ملك عليه بالعقد وقد تعذر ردها عليه
فكان عليه عوضها كما لو فسخ البيع بعد تلف المبيع فله قيمته، ويضرب بذلك مع الغرماء كذا ههنا،
ويضرب مع الغرماء بأجر المثل دون المسمى وهذا مذهب الشافعي وهذا لا يقتضيه مذهبنا ولا يشهد
بصحته الخبر ولا يصح في النظر. أما الخبر فلان النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال " من أدرك متاعه بعينه عند
رجل قد أفلس فهو أحق به " وهذا ما أدرك متاعه بعينه ولا هو أحق به بالاجماع فإنهم وافقوا على
وجوب تبقيتها وعدم الرجوع في عينها ولان معنى قوله من أدرك متاعه بعينه أي على وجه يمكنه أخذه
ويتعلق حقه بعينه وليس هذا كذلك، وأما النظر فإن البائع إنما كان أحق بعين ماله لتعلق حقه
بالعين وامكان رد ماله إليه بعينه فيرجع على من تعلق حقه بمجرد الذمة وهذا لم يتعلق حقه بالعين
468

ولا أمكن ردها إليه وإنما صار فائدة الرجوع الضرب بالقيمة دون المسمى وليس هذا هو المقتضي في
محل النص ولا هو في معناه فاثبات الحكم به تحكم بغير دليل، ولو اكترى من يحمل له متاعا إلى بلد
ثم أفلس المكتري قبل حمل شئ فللمكتري الفسخ. وان حمل البعض أو بعض المسافة لم يكن له الفسخ
في قياس المذهب وقياس قول القاضي له ذلك وإذا فسخ سقط عنه حمل ما بقي وضرب مع الغرماء
بقسط ما حمل من الاجر المسمى وعلى قياس قول القاضي ينفسخ العقد في الجميع ويضرب بقسط ما
حمل من أجر المثل لما ذكرنا من قوله في المسألة التي حكينا قوله فيها
(فصل) وان أقرض رجلا مالا ثم أفلس المقترض وعين المال قائمة فله الرجوع فيها لقوله عليه
السلام " من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " ولأنه غريم وجد عين ماله فكان
له أخذها كالبائع فإن أصدق امرأة عينا ثم انفسخ نكاحها بسبب من جهتها يسقط صداقها أو طلقها
قبل الدخول بها فاستحق الرجوع في نصفه وقد أفلست ووجد عين ماله فهو أحق بها لما ذكرنا
(فصل) وإنما يستحق الرجوع في السلعة بشروط خمسة (أحدها) أن يكون المفلس حيا فإن مات
469

فالبائع أسوة الغرماء سواء علم بفلسه قبل الموت فحجر عليه ثم مات أو مات فتبين فلسه وبهذا قال
مالك، وإسحاق، وقال الشافعي له الفسخ واسترجاع العين لما روى ابن خلدة الزرقي قاضي المدينة قال:
أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال أبو هريرة هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " رواه أبو داود وابن
ماجة ولان هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فسخه لتعذر العوض كما لو تعذر المسلم فيه، ولان الفلس
سبب لاستحقاق الفسخ فجاز الفسخ به بعد الموت كالعيب
ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المفلس " فإن
مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء " رواه أبو داود وروى أبو اليمان عن الزبيدي عن الزهري عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما امرئ مات وعنده مال امرى بعينه اقتضى
470

من ثمنه شيئا أولم يقتض فهو أسوة الغرماء " رواه ابن ماجة ولأنه تعلق به حق غير المفلس والغرماء وهم
الورثة فأشبه الموهوب وحديثهم مجهول الاسناد قاله ابن المنذر، وقال ابن عبد البر يرويه أبو المعتمر
عن الزرقي وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم، ثم هو غير معمول به اجماعا فإنه جعل المتاع لصاحبه
بمجرد موت المشتري من غير شرط فلسه ولا تعذر وفائه ولا عدم قبض ثمنه، والامر بخلاف ذلك عند
جميع العلماء الا ما حكي عن الإصطخري من أصحاب الشافعي أنه قال لصاحب السلعة ان يرجع فيها إذا
مات المشتري، وان خلف وفاء وهذا شذوذ عن أقوال أهل العلم وخلاف للسنة لا يعرج على مثله ويفارق
حال الحياة حالة الموت لا مرين (أحدهما) ان الملك في الحياة للمفلس وههنا لغيره (الثاني) ان ذمة
المفلس خربت ههنا خرابا لا يعود واختصاص هذا بالعين يضر بالغرماء كثيرا بخلاف حال الحياة
(الشرط الثاني) ان لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئا فإن كان قد قبض بعض ثمنها سقط حق الرجوع
471

وبهذا قال إسحاق والشافعي في القديم. وقال في الجديد له أن يرجع في قدر ما بقي من الثمن لأنه سبب
ترجع به العين كلها إلى العاقد فجاز أن يرجع في بعضها كالفرقة قبل الدخول في النكاح، وقال مالك هو
مخير ان شاء رد ما قبضه ورجع في جميع العين وان شاء حاص الغرماء ولم يرجع
ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى
من ماله شيئا فهو له " رواه الإمام أحمد ورواه أبو بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئا
فهي له وإن كان قبض من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء " رواه أبو داود وابن ماجة ولان في الرجوع
في قسط ما بقي تبعيضا للصفقة على المشتري واضرارا به وليس ذلك للبائع، فإن قيل لا ضرر عليه في
ذلك لأن ماله يباع ولا يبقى له فيزول عنه الضرر قلنا لا يندفع الضرر بالبيع فإن قيمة الشقص تنقص
ولا يرغب فيها مشقصا فيتضرر المفلس والغرماء بنقص القيمة ولأنه سبب يفسد به البيع فلم يجز تشقيصه
كالرد بالعيب والخيار وقياس البيع على البيع أولى من قياسه على النكاح، ولا فرق بين كون المبيع
عينا واحدة أو عينين لما ذكرنا من الحديث والمعنى، فإن قيل حديثكم يرويه أبو بكر بن عبد الرحمن عن
النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ولا حجة في المراسيل قلنا قد رواه مالك وموسى بن عقبة عن الزهري
عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة كذلك ذكره ابن عبد البر وأخرجه أبو داود وابن ماجة
والدار قطني في سننهم متصلا فلا يضر إرسال من أرسله على أن حديثنا الأول يكفي في الدلالة وهو
متصل رواه الإمام أحمد.
(فصل) الشرط الثالث أن تكون السلعة باقية بعينها لم يتلف بعضها فإن تلف جزء منها كبعض أطراف
العبد أو ذهبت عينه أو تلف بعض الثوب أو انهدم بعض الدار أو اشترى شجرا مثمرا لم تظهر ثمرته فتلفت
472

الثمرة أو نحو هذا لم يكن للبائع الرجوع وكان أسوة الغرماء وبهذا قال إسحاق، وقال مالك والأوزاعي
والشافعي والعنبري له الرجوع في الباقي ويضرب مع الغرماء بحصة التالف لأنها عين يملك الرجوع في
جميعها فملك الرجوع في بعضها كالذي له الخيار وكالأب فيما وهب لولده
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه عند انسان قد أفلس فهو أحق به " بشرط
أن يجده بعينه وهذا لم يجده بعينه، ولأنه إذا أدركه بعينه حصل له بالرجوع فصل الخصومة وانقطاع ما
بينهما من المعاملة بخلاف ما إذا وجد بعضه، ولا فرق بين أن يرضى بالموجود بجميع الثمن أو يأخذ بقسطه
منه لأنه فات شرط الرجوع، وإن كان المبيع عينين كعبدين أو ثوبين تلف أحدهما أو نقص ففي جواز
الرجوع في الباقي منهما روايتان (إحداهما) لا يرجع نقلها منه أبو طالب قال لا يرجع ببقية العين ويكون
أسوة الغرماء لأنه لم يجد المبيع بعينه فأشبه ما لو كان عينا واحدة، ولان بعض المبيع تالف فلم يملك
الرجوع فيه كما لو قطعت يد العبد، ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد إن كان ثوبا واحدا فتلف
بعضه فهو أسوة الغرماء، وإن كان رزما فتلف بعضها فإنه يأخذ بقيتها إذا كان بعينه لأن السالم من
المبيع وجده البائع بعينه فيدخل في عموم الحديث المذكور، ولأنه مبيع وجده بعينه فكان للبائع
الرجوع فيه كما لو كان جميع المبيع، فإن باع بعض المبيع أو وهبه أو وقفه فهو بمنزلة تلفه لأن
البائع ما أدرك ماله بعينه
(فصل) فإن تغيرت صفتها بما يزيل اسمها فطحن الحنطة أو زرعها أو خبز الدقيق أو عمل الزيت
صابونا أو قطع الثوب قميصا، أو نسج الغزل ثوبا أو نجر الخشبة أبوابا، أو عمل الشريط إبرا أو شيئا
فصل به ما أزال سقط حق الرجوع، وقال الشافعي فيه قولان (أحدهما) به أقول يأخذ عين ماله
473

ويعطي قيمة عمل المفلس فيها لأن عين ماله موجودة، وإنما تغير اسمها فأشبه ما لو كان المبيع حملا فصار
كبشا أو وديا فصار نخلا. ولنا أنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له الرجوع كما لو تلف والأصل الذي
قاسوا عليه ممنوع وإن سلم فإنه لم يتغير اسمه بخلاف مسئلتنا
(فصل) فإن كان حبا فصار زرعا أو بالعكس أو نوى فنبت شجرا أو بيضا فصار فرخا سقط
الرجوع، وقال القاضي لا يسقط وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي المنصوص عليهما لأن الزرع
نفس الحب والفرخ نفس البيضة. ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يرجع كما لو أتلفه متلف فأخذ قيمته،
ولان الحب أعيان ابتدأها الله تعالى لم تكن موجودة عند البيع، وكذلك أعيان الزرع والفرخ، ولو
استأجر أرضا واشترى بذرا وماء فزرع وسقى واستحصد وأفلس فالمؤجر وبائع البذر والماء غرماء
لاحق لهم في الرجوع لأنهم لم يجدوا أعيان أمواله، وعلى قول من قال له الرجوع في الزرع تكون
عليه غرامة الأجرة وثمن الماء أو قيمة ذلك
{مسألة} (ولم يتعلق بها حق من شفعة أو جناية أو رهن)
وهذا هو الشرط الرابع وهو أن لا يتعلق بها حق الغير فإن رهنها المفلس أو وهبها لم يملك البائع
الرجوع كما لو باعها أو أعتقها لأن الرجوع أضرار بالمرتهن ولان يزال الضرر بالضرر، ولان النبي
صلى الله عليه وسلم قال " من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " وهذا لم يجده عند
المفلس ولا نعلم في هذا خلافا، فإن كان دين المرتهن دون قيمة الرهن بيع كله فقضي منه دين المرتهن
والباقي يرد على مال المفلس يشترك فيه الغرماء، والبيع بعضه فباقيه لهم يباع أيضا ولا يرجع به
البائع، وقال القاضي له الرجوع وهو مذهب الشافعي لأنه عين ماله وهذا مثل تلف بعض المبيع وقد
ذكرناه وما ذكره القاضي لا يخرج على المذهب لأن تلف بعض المبيع يمنع الرجوع فكذلك ذهاب
474

بعضه بالبيع، ولو رهن بعض العبد لم يكن للبائع الرجوع في باقيه لما ذكرنا، فإن كان المبيع عينين
فرهن إحداهما فهل يملك البائع الرجوع في الأخرى؟ على وجهين بناء على الروايتين فيما إذا تلفت
إحدى العينين، فإن فك الرهن قبل فلس المشتري أو أبرأه من دينه فللبائع الرجوع لأنه أدرك عين
ماله عند المشتري، وإن أفلس وهو رهن فأبرأ المرتهن المشتري من دينه أو قضى الدين عن غيره
فللبائع الرجوع أيضا لذلك
(فصل) فإن كان المبيع شقصا مشفوعا ففيه أوجه ثلاثة (أحدها) البائع أحق به هذا قول ابن حامد
للخبر ولأنه إذا رجع فيه عاد الشقص إليه فيزول الضرر عن الشفيع لأنه عاد كما كان قبل البيع (والثاني)
أن الشفيع أحق وهو الذي ذكره شيخنا ههنا وحكاه أبو الخطاب لأن حقه أسبق فكان أولى لأن حق
البائع ثبت بالحجر وحق الشفيع ثبت بالبيع، ولان حقه آكد لأنه يستحق انتزاع الشقص من المشتري
وممن نقله إليه، وحق البائع إنما يتعلق بالعين ما دامت في يد المشتري ولا يزول الضرر عنه برده إلى
البائع بدليل ما لو باعه المشتري من بائعه أو وهبه إياه أو أقاله فإنه لا يسقط حق الشفيع (والوجه
الثالث) أن الشفيع إن كان طالب بالشفعة فهو أحق لتأكد حقه بالمطالبة وإن لم يكن طالب فالبائع
أولى. ولأصحاب الشافعي وجهان كالأولين، وهم وجه ثالث أن الثمن يؤخذ من الشفيع فيخص به
البائع جمعا بين الحقين فإن غرض الشفيع في عين الشقص المشفوع وغرض البائع في ثمنه فيحصل ذلك
بما ذكرنا، وليس هذا جيدا لأن حق البائع إنما يثبت في العين، فإذا صار الامر إلى وجوب الثمن
تعلق بذمته فساوى الغرماء فيه
(فصل) فإن كان المبيع عبدا فأفلس المشتري بعد تعلق أرش الجناية برقبته ففيه وجهان (أحدهما)
ليس للبائع الرجوع لأن تعلق الرهن به يمنع الرجوع وأرش الجناية يقدم على حق المرتهن فأولى أن
475

يمنع وهذا ذكره أبو الخطاب (والثاني) لا يمنع الرجوع لأنه حق لا يمنع تصرف المشتري فيه بخلاف
الرهن، فإن قلنا لا يرجع فحكمه حكم الرهن، وان قلنا له الرجوع فهو مخير ان شاء رجع فيه ناقصا
بأرش الجناية، وان شاء ضرب بثمنه مع الغرماء، وان أبرأ الغرماء من الجناية فللبائع الرجوع لأنه
وجد متاعه بعينه خاليا من تعلق حق غيره به
(فصل) فإن أفلس بعد خروج المبيع من ملكه ببيع أو عتق أو وقف أو غير ذلك لم يكن للبائع
الرجوع لأنه لم يدرك متاعه بعينه عند المفلس سواء كان المشتري يمكنه استرجاع المبيع بخيار له أو
عيب في ثمنه أو رجوعه في هبة ولده أو غير ذلك لما ذكرنا، فإن أفلس بعد رجوع ذلك إلى ملكه
ففيه أوجه ثلاثة (أحدها) له الرجوع للخبر، ولأنه أدرك عين ماله خاليا عن حق غيره أشبه ما لو
لم يبعه (الثاني) لا يرجع لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه ذكر أصحابنا الوجهين،
ولأصحاب الشافعي مثل ذلك (والثالث) انه إن عاد إليه بسبب جديد كبيع أو هبة أو ارث أو وصية لم
يكن للبائع الرجوع لأنه لم يصل إليه من جهته، وإن عاد إليه بفسخ كالإقالة والرد بعيب أو خيار ونحوه
فللبائع الرجوع لأن هذا الملك استند إلى السبب الأول فإن فسخ العقد الثاني لا يقتضي ثبوت الملك
وإنما زال السبب المزيل لملك البائع فثبت الملك بالسبب الأول فملك استرجاع ما ثبت الملك فيه ببيعه
{مسألة} (ولم تزد زيادة متصله كالسمن وتعلم صنعة)
وهذا هو الشرط الخامس وهو أن لا يكون المبيع زاد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم الكتابة
أو القرآن ونحو ذلك فيمنع الرجوع وهذا اختيار الخرقي، وروى الميموني عن أحمد أنها لا تمنع وهو
مذهب مالك والشافعي لأن مالكا يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها به، واحتجوا
بالخبر وبأنه فسخ لا تمنع منه الزيادة المنفصلة فلم تمنع المتصلة كالرد بالعيب وفارق الطلاق فإنه ليس
476

بفسخ، ولان الزوج يمكنه الرجوع في قيمة العين فيصل إلى حقه تاما وههنا لا يمكنه الرجوع في الثمن
ولنا أنه فسخ بسبب حادث فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائدة زيادة متصلة كفسخ النكاح
بالاعسار أو الرضاع، ولأنها زيادة في ملك المفلس فلم يستحق البائع أخذها كالمنفصلة وكالحاصل بفعله،
ولان النماء لم يصل إليه من البائع فلم يستحق أخذه منه كغيره من أمواله وفارق الرد بالعيب
لوجهين (أحدهما) أن الفسخ فيه من المشتري فهو راض باسقاط حقه من الزيادة وتركها للبائع بخلاف
مسئلتنا (الثاني) أن الفسخ لمعنى قارن العقد وهو العيب القديم والفسخ ههنا حادث فهو أشبه بفسخ
النكاح الذي لا يستحق به استرجاع العين الزائدة، وقولهم ان الزوج إنما لم يرجع في العين
لكونه يندفع عنه الضرر بالقيمة لا يصح فإن اندفاع الضرر عنه بطريق آخر لا يمنعه من أخذ حقه
من العين ولأنه لو كان مستحقا للزيادة لم يسقط حقه منها بالقدرة على أخذ القيمة كمشتري المعيب،
ثم كان ينبغي أن يأخذ قيمة العين زائدة لكون الزيادة مستحقة له فلما لم يكن كذلك علم أن المانع من
الرجوع كون الزيادة للمرأة، ولأنه لا يمكن فصلها فكذلك ههنا بل أولى فإن الزيادة ههنا يتعلق بها
حق المفلس والغرماء فمنع البائع من أخذ زيادة ليست له أولى من تفويتها على الغرماء الذين لم يصلوا
إلى تمام حقوقهم والمفلس المحتاج إلى تبرئة ذمته عند اشتداد حاجته، وأما الخبر فمحمول على من وجد
متاعه على صفته ليس بزائد ولم يتعلق به حق آخر وههنا قد تعلق به حقوق الغرماء لما فيه من الزيادة
لما ذكرنا من الدليل. يحققه أنه إذا كان تلف بعض المبيع مانعا له من الرجوع من غير ضرر
يلحق بالمفلس ولا الغرماء فلان تمنع الزيادة فيه مع تفويتها بالرجوع عليهم أولى، ولأنه إذا
رجع في الناقص فما رجع إلا فيما باعه وخرج منه، فإذا رجع في الزائد أخذ ما لم يبعه واسترجع
ما لم يخرج عنه فكان بالمنع أحق
477

{مسألة} (فأما الزيادة المنفصلة والنقص بهزال أو نسيان صنعة فلا يمنع الرجوع والزيادة
للمفلس وعنه للبائع)
وجملة ذلك أن الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب لا تمنع الرجوع بغير خلاف بين أصحابنا
وهو قول مالك والشافعي وسواء نقص بها المبيع أو لم ينقص إذا كان نقص صفة والزيادة للمفلس
وهذا ظاهر كلام الخرقي لأنه منع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس فالمنفصلة أولى وهو قول
ابن حامد والقاضي وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، وقال أبو بكر الزيادة للبائع
وهو مذهب مالك، ونقل حنبل عن أحمد في ولد الجارية ونتاج الدابة هو للبائع لأنها زيادة فكانت
للبائع كالمتصلة. ولنا أنها زيادة في ملك المشتري فكانت له كما لو رده بعيب، ولأنه فسخ استحق به
استرجاع العين فلم يستحق الزيادة المنفصلة كفسخ البيع بالعيب أو الخيار والإقالة وفسخ النكاح
بسبب من أسباب الفسخ، ولان قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " يدل على أن النماء والغلة
للمشتري لكون الضمان عليه وقياسهم على الزيادة المتصلة الأصل فيه ممنوع، ثم لو سلم ثم فالفرق ظاهر
فإن المتصلة تتبع في الفسوخ والرد بالعيب بخلاف المنفصلة. قال شيخنا: ولا ينبغي أن يقع في هذا
خلاف لظهوره، وكلام أحمد في رواية حنبل يحمل على أنه باعهما في حال حملهما فيكونان بسببين،
ولهذا خص هذين بالذكر دون بقية النماء
(فصل) فإن نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه كعبد هزل أو نسي صناعة أو كتابة
أو كبر أو تغير عقله أو كان ثوبا فخلق لم يمنع الرجوع لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين ماله
لكنه يخير بين أخذه ناقصا بجميع حقه وبين أن يضرب مع الغرماء بكمال ثمنه لأن الثمن لا يتقسط
على صفة السلعة من سمن أو هزال أو علم أو نحوه فيصير كنقصه لتغير الأسعار، ولو كان المبيع أمة
478

ثيبا فوطئها المشتري ولم تحمل فله الرجوع فيها لما ذكرنا فإنها لم تنقص في ذات ولا صفات، وان
كانت بكرا فقال القاضي له الرجوع لأن فقد صفة فإنه لم يذهب منها جزء وإنما هو كالجراح، وقال
أبو بكر ليس له الرجوع لأنه اذهب منها جزأ فأشبه ما لو فقأ عينها، وان وجد الوطئ من غير
المفلس فهو كوطئ المفلس فيما ذكرنا
(فصل) وان جرح العبد أو شج فعلى قول أبي بكر لا يرجع لأنه ذهب جزء ينقص به الثمن
أشبه ما لو فقئت عين العبد، ولأنه ذهب من العين جزء له بدل فمنع الرجوع كما لو قطعت يد العبد،
ولأنه لو كان نقص صفة مجردة لم يكن مع الرجوع فيها شئ سواه كما ذكرنا في هزال العبد ونسيان
الصنعة وههنا بخلافه، ولان الرجوع في المحل المنصوص عليه يقطع النزاع ويزيل المعاملة بينهما فلا
يثبت في محل لا يثبت به هذا المقصود، وقال القاضي قياس المذهب أن له الرجوع لأنه فقد صفة
فأشبه نسيان الصنعة واستخلاق الثوب، فإذا رجع نظرنا في الجرح فإن كان مما لا أرش كله كالحاصل
بفعل الله تعالى أو فعل بهيمة أو جناية عبده أو جناية العبد على نفسه فليس له مع
الرجوع أرش، وإن كان الجرح موجبا لأرش كجناية الأجنبي فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء
بحصة ما نقص من الثمن فينظر كم نقص من قيمته فيرجع بقسط ذلك من الثمن لأنه مضمون على المشتري
للبائع بالثمن، فإن قيل فهلا جعلتم له الأرش الذي وجب على الأجنبي لأنه لو لم يجب به أرش لم يرجع
بشئ فلا يجوز أن يرجع بأكثر من الأرش؟ قلنا لما أتلفه الأجنبي صار مضمونا باتلافه للمفلس فكان
الأرش له وهو مضمون على المفلس للبائع بالثمن فلا يجوز أن يضمنه بالأرش، وإذا لم يتلفه أجنبي لم يكن
مضمونا فلا يجب بفواته شئ، فإن قيل فهلا فكان هذا الأرش للمشتري ككسبه لا يضمنه للبائع؟ قلنا
الكسب بدل منافعه ومنافعه مملوكة للمشتري بغير عوض وهذا بدل جزء من العين والعين جميعها
479

مضمونة بالعوض فلهذا ضمن ذلك للمشتري
(فصل فإن اشترى زيتا فخلطه بزيت آخر أو قمحا فخلطه بما لا يمكن تمييزه منه سقط حق
الرجوع، وقال مالك يأخذ أرشه، وقال الشافعي إن خلطه بمثله أو دونه لم يسقط الرجوع وله أن
يأخذ متاعه بالكيل والوزن، وإن خلطه بأجود منه ففيه قولان (أحدهما) يسقط حقه، قال الشافعي وبه
أقول واحتجوا بأن عين ماله موجودة من طريق الحكم فكان له الرجوع كما لو كانت منفردة ولأنه
ليس له أكثر من اختلاط ماله بغيره فلم يمنع الرجوع كما لو اشترى ثوبا فصبغه أو سويقا فلته. ولنا
أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلفت، ولان ما يأخذه عوضا عن ماله فلم يختص به دون
الغرماء كما لو تلف ماله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه " اي من قدر عليه وتمكن من
اخذه من المفلس بدليل ما لو وجده بعد زوال ملك المفلس عنه، أو كان مسامير قد سمر بها بابا أو
حجرا قد بنى عليه. أو خشبا في سقفه أو أمة استولدها وهذا إذا اخذ مثله أو قيمته إنما يأخذ عوض
ماله فهو كالثمن والقيمة وفارق المصبوغ فإن عينه يمكنه اخذها والسويق كذلك فاختلفا
{مسألة} (وان صبغ الثوب أو قصره لم يمنع الرجوع والزيادة للمفلس)
إذا صبغ المفلس الثوب أو لت السويق بزيت فقال أصحابنا لبائع الثوب والسويق الرجوع في
أعيان أموالهما وهو مذهب الشافعي لأن عين مالهما قائمة مشاهدة ما تغير اسمها ويكون المفلس شريكا
لصاحب الثوب والسويق بما زاد عن قيمتهما فإن حصل زيادة فهي له، وان حصل نقص فعليه، وإن
نقصت قيمة الثوب أو السويق، فإن شاء البائع اخذهما ناقصين ولا شئ له، وان شاء تركهما وله
أسوة الغرماء لأن هذا نقص صفة فهو كالهزال. قال شيخنا: ويحتمل ان لا يكون له الرجوع إذا
480

زادت القيمة لأنه اتصل بالمبيع زيادة للمفلس فمنعت الرجوع كسمن العبد. ولان الرجوع لا يتخلص
به البائع من المفلس ولا يحصل به المقصود من قطع المنازعة وإزالة المعاملة. بل يحصل له ضرر الشركة
فلم يكن في معنى المنصوص عليه فلا يمكن إلحاقه به
(فصل) فإن قصر الثوب لم يخل من حالين (أحدهما) ان لا تزيد قيمته بذلك فللبائع الرجوع
فيه لأن عين ماله قائمة لم يزل اسمها ولم يتلف بعضها ولا اتصلت بغيرها فكان له الرجوع كما لو علم
العبد صناعة لم تزد بها قيمته، وسواء نقصت قيمته بذلك أو لم تنقص لأن ذلك النقص نقص صفة فلا
فلا يمنع الرجوع كنسيان صناعة وهزال العبد ولا شئ له مع الرجوع (الثاني) أن تزيد قيمته بذلك
فليس للبائع الرجوع في قياس قول الخرقي لأنه زاد زيادة لا تتميز زيادتها فلم يملك البائع الرجوع فيه
كسمن العبد ولأنه لم يجد عين ماله متميزة عن غيرها فلم يملك الرجوع كبائع الصبغ إذا صبغ به،
وقال القاضي وأصحابه له الرجوع فيها لأنه أدرك متاعه بعينه ولأنه وجد عين ماله لم يتغير اسمها ولا
ذهبت عينها فملك الرجوع فيها كما لو صبغها فعلى قولهم إن كانت القصارة بعمل المفلس أو بأجرة وفاها
فهما شريكان في الثوب فإذا كانت قيمة الثوب خمسة فصار يساوي ستة فللمفلس سدسه وللبائع
خمسة أسداسه فإن اختار البائع دفع قيمة الزيادة إلى المفلس لزمه قبولها لأنه يتخلص بذلك من ضرر
الشركة من غير مضرة تلحقه فأشبه ما لو دفع الشفيع قيمة البناء إلى المشتري، وان لم يختر بيع الثوب
وأخذ كل واحد بقدر حقه، وإن كان العمل من صانع لم يستوف أجره فله حبس الثوب على استيفاء
أجره فإن كانت الزيادة بقدر الاجر دفعت إليه، وإن كانت أقل فله حبس الثوب على قدر
الزيادة ويضرب مع الغرماء بما يبقى، وان كانت أكثر مثل أن تكون الزيادة درهمين والاجر
درهم فله قدر أجره وما فضل للغرماء
481

(فصل) وان اشترى صبغا فصبغ به ثوبا أو زيتا فلت به سويقا فبائعهما أسوة الغرماء، وقال
أصحاب الشافعي له الرجوع لأنه وجد عين ماله. قالوا ولو اشتري ثوبا وصبغا فصبغ الثوب بالصبغ
رجع بائع كل شئ في عين ماله وكان بائع الثوب، وان حصل نقص فهو من
صاحب الصبغ لأنه الذي يتفرق وينقص والثوب بحاله فإذا كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ
خمسة فصارت قيمتهما اثنا عشر كان لصاحب الثوب خمسة أسداس الثوب وللآخر سدسه ويضرب مع
الغرماء بما نقص وذلك ثلاثة دراهم وذكر القاضي في موضع مثل هذا
ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلف ولان المشتري شغله بغيره على وجه البيع
فلم يملك بائعه الرجوع فيه كما لو كان حجرا فبنى عليه أو مسامير سمر بها بابا، ولو اشترى ثوبا وصبغا
من واحد فصبغه به فقال أصحابنا هو كما لو كان الصبغ من غير بائع الثوب، فعلى قولهم يرجع في الثوب
وحده ويكون المفلس شريكا له بزيادة الصبغ ويضرب مع الغرماء بثمن الصبغ، ويحتمل أن يرجع
فيهما ههنا لأنه وجد عين ماله متميزا عن غيره فكان له الرجوع فيه للخبر ولان المعنى في المحل الذي
ثبت فيه الرجوع موجود ههنا فملك الرجوع به كما يملكه ثم، ولو اشترى دفوفا ومسامير من بائع واحد
فسمرها به رجع بائعهما فيهما لذلك وكذلك ما أشبهه
(فصل) ولو اشترى أمة حاملا ثم أفلس وهي حامل فله الرجوع فيها إلا أن يكون الحمل قد
زاد بكبره وكثرت قيمتها بسببه فيكون من قبيل الزيادة المتصلة على ما مضى، وان أفلس بعد وضعها
فقال القاضي له الرجوع فيهما بكل حال من غير تفصيل. قال شيخنا والصحيح أننا إن قلنا إن الحمل
لاحكم له فالولد زيادة منفصلة لا يمنع الرجوع فيها على قول أبي بكر لأن الزيادة المنفصلة عنده للبائع
وهذه زيادة منفصلة، وعلى قول غيره يكون الولد للمفلس فيحتمل أن يمتنع الرجوع في الام لئلا يفضي
482

إلى التفريق بين الام وولدها، ويحتمل أن يرجع في الام ويدفع قيمة الولد ليكونا جميعا له وإن لم يفعل
بيعت الام وولدها جميعا وقسم الثمن على قدر قيمتهما فما خص الام فهو للبائع وما خص الولد للمفلس
وإن قلنا إن للولد حكما وهو الصحيح لما ذكرناه فيما تقدم كانت الام والولد قد زادا بالوضع فحكمه
حكم المبيع الزائد زيادة متصلة، وان لم يزيدا جاز الرجوع فيهما، وان زاد أحدهما دون الآخر خرج
على الروايتين فيما إذا كان المبيع عينين فتلف بعض إحداهما هل يمنع ذلك الرجوع في الأخرى؟ كذلك
يخرج ههنا وجهان (أحدهما) أن له الرجوع فيما لم يزد دون ما زاد فيكون حكمه حكم الرجوع في
الام دون الولد على ما فصلناه (والثاني) ليس له الرجوع في شئ منهما لأنه لم يجد المبيع إلا زائدا
فأشبه العين الواحدة، فإن كان المبيع حيوانا غير الأمة فحكمه حكمها إلا في التفريق بينهما
فإنه جائز بخلاف الأمة
(فصل) فإن اشترى حائلا فحملت ثم أفلس وهي حامل فزادت قيمتها به فهي زيادة متصلة
تمنع الرجوع على قول الخرقي ولا تمنعه على رواية الميموني، وإن أفلس بعد وضعها فهي زيادة منفصلة
فتكون للمفلس على الصحيح وتمنع الرجوع في الام دون ولدها لما فيه من التفريق بينهما وهذا أحد
قولي الشافعي، ويحتمل أن يرجع في الام على ما ذكرنا في التي قبلها، وعلى قول أبي بكر الزيادة للبائع
فيكون له الرجوع فيهما، وقال القاضي إذا وجدها حاملا انبنى على أن الحمل هل له حكم أولا؟
فإن قلنا لا حكم له جرى مجرى الزيادة المتصلة، وان قلنا له حكم فالولد في حكم المنفصل تتربص
به حتى تضع ويكون الحكم فيه كما لو وجده بعد وضعه، وإن كان الحمل في غير الآدمية جاز
التفريق بينهما كما تقدم
(فصل) فإن كان المبيع نخلا أو شجرا فأفلس المشتري لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن
483

يفلس وهي بحالها لم تزد ولم تثمر ولم يتلف بعضها فله الرجوع فيها (الثاني) أن يكون فيها ثمر ظاهر
أو طلع مؤبر فيشترطه المشتري فيأكله أو يتصرف فيه أو يذهب بجائحة ثم يفلس فهذا في حكم ما لو
اشترى عينين فتلفت إحداهما ثم أفلس فهل للبائع الرجوع في الأصول ويضرب مع الغرماء بحصة التالف
من الثمر؟ على روايتين وان تلف بعضها فهو كتلف جميعها، وان زادت أو بدا صلاحها فهذه زيادة
متصلة في إحدى العينين وقد ذكرنا بيان حكمها (الحال الثالث) أن يبيعه نخلا قد أطلعت ولم تؤبر أو
شجرا فيه ثمرة لم تظهر فهذه تدخل في مطلق البيع فإن أفلس بعد تلف الثمرة أو بعضها أو الزيادة فيها أو بدو
صلاح فحكم ذلك حكم تلف بعض المبيع وزيادته المتصلة لأن المبيع كان بمنزلة العين الواحدة ولهذا
دخل الثمر في مطلق البيع بخلاف التي قبلها (الحال الرابع) باعه نخلا حائلا فأطلعت أو شجرا فأثمر
فذلك على أربعة أضرب (أحدها) أن يفلس قبل تأبيرها فالطلع زيادة متصلة تمنع الرجوع وهو اختيار
الخرقي كالسمن ويحتمل أن يرجع في النخل دون الطلع لأنه يمكن فصله ويصح افراده بالبيع فهو كالمؤبر
بخلاف السمن وهذا قول ابن حامد، وعلى رواية الميموني لا يمنع بل يرجع ويكون الطلع للبائع كما لو
فسخ العيب وهو أحد قولي الشافعي، والقول الثاني يرجع في الأصل دون الطلع وكذلك عندهم الرد بالعيب
والاخذ بالشفعة (الضرب الثاني) أفلس بعد التأبير وظهور الثمرة فلا يمنع الرجوع والطلع للمشتري
إلا على قول أبي بكر والصحيح الأول لأن الثمرة لا تتبع في البيع الذي يثبت بتراضيهما ففي الفسخ
الحاصل بغير رضا المشتري أولى، ولو باعه أرضا فارغه فزرعها المشتري ثم أفلس فإنه يرجع في الأرض
دون الزرع وجها واحدا لأن ذلك من مال المشتري (الضرب الثالث) أفلس والطلع غير مؤبر فلم يرجع
حتى أبر لم يكن له الرجوع فيه كما لو أفلس بعد التأبير لأن العين لا تنتقل الا باختياره وهذا لم يخترها
484

إلا بعد تأبيرها. فإن ادعى البائع الرجوع قبل التأبير وأنكر المفلس فالقول قول المفلس مع يمينه لأن
الأصل بقاء ملكه، وان قال البائع بعت بعد التأبير وقال المفلس بل قبله فالقول قول البائع لهذه العلة
فإن شهد الغرماء للمفلس لم تقبل شهادتهم لأنهم يجرون إلى أنفسهم نفعا، وان شهدوا للبائع وهم عدول
قبلت شهادتهم لعدم التهمة في حقهم (الضرب الرابع) أفلس بعد أخذ الثمن أو ذهابها بجائحة أو غيرها
فله الرجوع في الأصل والثمرة للمشتري إلا على قول أبي بكر، وكل موضع لا يتبع الثمر الشجر إذا رجع
البائع فيه فليس له مطالبة المفلس بقطع الثمرة قبل أوان الجزاز، وكذلك إذا رجع في الأرض وفيها
زرع للمفلس فليس له المطالبة بأخذه قبل أوان الحصاد لأن المشتري زرع في أرضه بحق فطلعه على
الشجر بحق فلم يلزمه أخذه قبل كماله كما لو باع الأصل وعليه الثمرة أو الأرض وفيها زرع وليس على
صاحب الزرع أجر لأنه زرع في أرضه زرعا يحب تبقيته فكأنه استوفى منفعة الأرض فلم يكن عليه
ضمان ذلك، إذا ثبت هذا فإن اتفق المفلس والغرماء على التبقية أو القطع فلهم ذلك، وان اختلفوا
فطلب بعضهم القطع وبعضهم التبقية وكان مما لا قيمة له مقطوعا أو قيمته يسيرة لم يقطع لأن قطعه سفه
وإضاعة مال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته وإن كانت قيمته كثيرة قدم قول من طلب
القطع في أحد الوجهين لأن في تبقيته غررا ولان طالب القطع إن كان المفلس فهو يقصد تبرئة ذمته
وإن كان الغرماء فهم يطلبون تعجيل حقوقهم وذلك حق لهم وهذا قول القاضي وأكثر الشافعية
(الثاني) ينظر ما فيه الحظ فيعمل به لأن ذلك أنفع للجميع والظاهر سلامته، ولهذا يجوز أن يزرع
للمولي عليه، وفيه وجه آخر إن كان الطالب القطع الغرماء وجب اجابتهم لأن حقوقهم حالة فلا يلزمهم
تأخيرها مع إمكان ايفائها، وإن كان الطالب المفلس دونهم وكان التأخير أحظ لم يقع لأنهم رضوا
485

بتأخير حقوقهم لحظ يحصل لهم وللمفلس، والمفلس يطلب ما فيه ضرر بنفسه ومنع الغرماء من استيفاء
القدر الذي يحصل من الزيادة بالتأخير فلا يلزم الغرماء اجابته إلى ذلك
(فصل) فإن أقر الغرماء بالطلع أو الزرع للبائع ولم يشهدوا به أو شهدوا به وليسوا عدولا أو
لم يحكم بشهادتهم حلف المفلس وثبت الطلع له ينفرد به دونهم لأنهم يقرون أنه لا حق لهم فيه، فإن
أراد دفعه إلى أحدهم أو تخصيصه بثمنه فله ذلك لاقرار باقيهم أنه لا حق لهم فيه فإن امتنع ذلك
الغريم من قبوله أجبر عليه أو على الابراء من قدره من دينه وهذا مذهب الشافعي لأنه محكوم به
للمفلس فكان له أن يقضي دينه منه كما لو أدى المكاتب نجوم كتابته إلى سيده فقال سيده هي حرام
وأنكر المكاتب، إن أراد قسمه على الغرماء لزمهم قبوله أو الا براء لما ذكرنا، فإن قبضوا الثمرة بعينها
لزمهم ردها إلى البائع لأنهم مقرون له بها فلزمهم دفعها إليه كما لو أقروا بعتق عبد ثم اشتروه، فإن باع
الثمرة وقسم ثمنها فيهم أو دفعه إلى بعضهم لم يلزمه رد ما أخذ من ثمنها لأنهم اعترفوا بالعين لا بثمنها
وإن شهد بعضهم دون بعض، أو أقر بعضهم دون بعض لزم الشاهد أو المقر الحكم الذي ذكرناه
دون غيره، وإن عرض عليهم المفلس الثمرة بعينها فأبوا أخذها لم يلزمهم ذلك لأنهم إنما يلزمهم الاستيفاء
من جنس ديونهم إلا أن يكون فيهم من له من جنس الثمر أو الزرع كالمقرض والمسلم فيلزمه أخذ
ما عرض عليه إذا كان بصفة حقه، ولو أقر الغرماء، بأن المفلس أعتق عبدا له قبل فلسه فأنكر ذلك لم
يقبل قولهم إلا أن يشهد منهم عدلان باعتاقه ويكون حكمهم في قبض العبد وأخذ ثمنه إن عرضه عليهم
حكم ما لو أقروا بالثمرة للبائع، وكذلك إن أقروا بعين ما في يديه أنها غصب أو عارية أو نحو ذلك
فالحكم كما ذكرنا سواء، وان أقروا بأنه أعتق عبده بعد فلسه انبنى ذلك على صحة عتق المفلس، فإن
486

قلنا لا يصح عتقه فلا أثر لاقرارهم، وإن قلنا بصحته فهو كاقرارهم بعتقه قبل فلسه فإن حكم الحاكم
بصحته أو بفساده نفذ حكمه لأنه فصل مجتهد فيه فلزم ما حكم به الحاكم ولا يجوز نقضه ولا تغييره
(فصل) فإن صدق المفلس البائع في الرجوع قبل التأبير وكذبه الغرماء لم يقبل اقراره لأن
حقوقهم تعلقت بالثمرة ظاهرا فلم يقبل اقراره كما لو أقر بالنخيل وعلى الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون أن
البائع رجع قبل التأبير لأن هذه اليمين لا ينوبون فيها عن المفلس بل هي ثابتة في حقهم ابتداء بخلاف
ما لو ادعى حقا وأقام شاهدا فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا مع الشاهد لأن اليمين على المفلس فلو حلفوا
حلفوا ليثبتوا حقا لغيرهم ولا يحلف الانسان ليثبت لغيره حقا ولا يجوز أن يكون نائبا فيها لأن الايمان
لا تدخلها النيابة وفي مسئلتنا الأصل أن هذا الطلع قد تعلقت حقوقهم به لكونه في يد غريمهم ومتصل
بنخله، والبائع يدعي ما يزيل حقوقهم عنه فأشبه سائر أعيان ماله ويحلفون على نفي العلم لأنه يمين
على فعل غيرهم فكانت على نفي العلم كيمين الوارث على نفي الدين على الميت، ولو أقر المفلس بعين من
أعيان ماله لأجنبي أو لبعض الغرماء فأنكر الباقون فالقول قولهم وعليهم اليمين أنهم لا يعلمون ذلك
ومثله لو أقر بغريم آخر يستحق مشاركتهم فأنكروه حلفوا أيضا على نفي العلم لذلك وان أقر بعتق
عبده انبنى على صحة عتق المفلس فإن قلنا بصحة عتقه صح اقراره وعتق لأن من ملك شيئا ملك
الاقرار به وان قلنا لا يصح عتقه لم يقبل إقراره وعلى الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون ذلك، وكل موضع
قلنا على الغرماء اليمين فهي على جميعهم فإن حلفوا والا قضي للمدعي الا أن نقول برد اليمين على المدعي
فيحلف ويستحق، وان حلف بعضهم دون بعض أخذ الحالف نصيبه وحكم الناكل على ما ذكرنا
(فصل) وان أقر المفلس أنه أعتق عبده منذ سنة وكان العبد قد اكتسب بعد ذلك مالا وأنكر
487

الغرماء فإن قلنا لا يقبل اقراره حلفوا واستحقوا العبد وكسبه، فإن قلنا يقبل اقراره لم يقبل في كسبه
كان للغرماء أن يحلفوا أنهم لا يعلمون أنه أعتقه قبل الكسب ويأخذون كسبه لأن اقراره إنما قبل
في العتق دون غيره لصحته منه لكونه ينبني على التغليب والسراية فلا يقبل في المال لعدم ذلك
فيه ولأننا نزلنا اقراره منزلة اعتاقه في الحال فلم نثبت به الحرية فيما مضى فيكون كسبه محكوما به
لسيده كما لو أقر بعتقه ثم أقر له بعين في يده
{مسألة} (وإن غرس الأرض أو بنى فيها فله الرجوع ودفع قيمة الغراس والبناء فيملكه الا
أن يختار المفلس والغرماء القلع ومشاركته بالنقص)
إذا كان المبيع أرضا فبناها المشتري أو غرسها ثم أفلس فأراد البائع الرجوع في الأرض نظرت
فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس والبناء فلهم ذلك لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا قلعوه
فللبائع الرجوع في أرضه لأنه وجد عين ماله، فإن أراد الرجوع قبل القلع فله ذلك وهو مذهب
الشافعي لأنه أدرك متاعه بعينه وفيه مال المشتري على وجه البيع فلم يمنعه الرجوع كما لو صبغ الثوب
ويحتمل أن لا يستحقه الا بعد القلع لأنه قبل القلع لم يدرك متاعه الا مشغولا بملك المشتري فأشبه
ما لو كان مسامير في باب المشتري، فإن قلنا له الرجوع قبل القلع فقلعوه لزمهم تسوية الأرض
وأرش نقص الأرض الحاصل به لأن ذلك نقص حصل لتخليص ملك المفلس فكان عليه كما لو دخل فصيل
دار انسان فكبر فأراد صاحبه اخراجه فلم يمكن الا بهدم بابها فإن الباب يهدم ليخرج ويضمن صاحبه
ما نقص بخلاف ما إذا وجد البائع عين ماله ناقصة فرجع فيها فإنه لا يرجع في النقص فإن النقص كان
488

في ملك المفلس وههنا حدث بعد رجوعه في العين فلهذا ضمنوه، ويضرب بالنقص مع الغرماء، وان
قلنا ليس له الرجوع قبل القلع لم يلزمهم تسوية الحفر ولا أرش القص لأنهم فعلوا ذلك في أرض
المفلس قبل رجوع البائع فيها فلم يضمنوا النقص كما لو قلعه المفلس قبل فلسه فإن امتنع المفلس والغرماء
من القلع لم يجبروا عليه لأنه غرس بحق، ومفهوم قوله عليه السلام " ليس لعرق ظالم حق " أنه ان لم
يكن ظالما فله حق فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء ليملكه أو قال أنا أقلع وأضمن النقص فله ذلك
أن قلنا له الرجوع قبل القلع لأن البناء والغراس حصل في ملكه لغيره بحق فكان له أخذه بقيمته أو
قلعه وضمان نقصه كالشفيع إذا أخذ الأرض وفيها غراس أو بناء للمشتري والمعير إذا رجع في أرضه
بعد غرس المستعير، وان قلنا ليس له الرجوع قبل القلع لم يكن له ذلك لأنه بناء المفلس وغرسه فلم
يجبر على بيعه لهذا البائع ولا على قلعه كما لو لم يرجع في الأرض
{مسألة} (فإن أبوا القلع وأبى دفع القيمة سقط الرجوع)
وهذا قول ابن حامد وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وقال القاضي يحتمل أن له الرجوع
وهو قول للشافعي لأنه أدرك متاعه بعينه متصلا بملك المشتري على وجه التبع فلم يمنع الرجوع
كالثوب إذا صبغه المشتري
489

ولنا أنه لم يدرك متاعه على وجه يمكنه أخذه منفردا عن غيره فلم يكن له أخذه كالحجر في البناء
والمسامير في الباب ولان في ذلك ضررا على المشتري والغرماء، و لا يزال الضرر بالضرر ولأنه
لا يحصل بالرجوع ههنا انقطاع النزاع والخصومة بخلاف ما إذا وجدها غير مشغولة بشئ، وأما الثوب
إذا صبغه فلا نسلم أن له الرجوع، وان سلمنا فالفرق بينهما من وجهين (أحدهما) أن الصبغ تفرق في
الثوب فصار كالصفة بخلاف البناء والغراس فإنهما أعيان متميزة وأصل في نفسه (الثاني) أن الثوب
لا يراد للبقاء بخلاف الأرض والبناء فإذا قلنا لا يرجع فلا كلام، وان قلنا يرجع فرجع واتفق الجميع على
بيعهما بيعا لهما كذا ههنا، ويحتمل أن لا يجبر لأنه يمكن طالب البيع أن يبيع ملكه منفردا بخلاف الثوب
المصوغ فإن بيعا لهما قسم الثمن على قدر القيمتين فتقوم الأرض لا شجر فيها ولا بناء ثم تقوم وهما فيها
فما كان قيمة الأرض بغير غراس ولا بناء فللبائع قسطه من الثمن والزائد للمفلس والغرماء، وان قلنا
لا يجبر على البيع أو لم يطلب أحدهما البيع فإن اتفقا على كيفية كونهما بينهما جاز ما اتفقا عليه،
وان اختلفا كانت الأرض للبائع والغراس والبناء للمفلس والغرماء ولهم دخول الأرض لسقي الشجر
وأخذ الثمرة وليس لهم دخولها للتفرج أو لغير حاجة، وللبائع دخولها للزرع ولما شاء لأن الأرض
ملكه، فإن باعوا الشجر والبناء لانسان فحكمه في ذلك حكمهم، فإن بذل المفلس والغرماء أو المشتري
490

للبائع قيمة الأرض ليدعها لهم لم يلزمه ذلك لأن الأرض أصل فلا يجبر على بيعها بخلاف الغراس والبناء
(فصل) فإن اشترى غراسا فغرسه في أرضه ثم أفلس ولم يزد الغراس فله الرجوع فيه لأنه أدرك
متاعه بعينه، فإذا اخذه فعليه تسوية الأرض وأرش نقصها الحاصل بقلعه لأنه نقص حصل لتخليص
ملكه من ملك غيره، وان بذل المفلس والغرماء قيمته له ليملكوه لم يجبر على قبولها لأنه إذا اختار
اخذ ماله وتفريغ ملكهم وإزالة ضرره عنهم لم يكن لهم منعه كالمشتري إذا غرس في الأرض المشفوعة
وإن امتنع من القلع فبذلوا له القيمة ليملكه المفلس أو أرادوا قلعه وضمان النقص فلهم ذلك، وكذلك
لو أرادوا قلعه من غير ضمان النقص لأن المفلس إنما ابتاعه مقلوعا فلم يجب عليه ابقاؤه في أرضه، وقيل
ليس لهم قلعه من غير ضمان النقص لأنه غرس بحق فأشبه غرس المفلس في الأرض التي ابتاعها إذا رجع
بائعها فيها، والفرق بينهما ظاهر فإن ابقاء الغراس في هذه الصورة حق عليه فلم يجب عليه بفعله، وفي التي
قبلها ابقاؤه حق له فوجب له بغراسه في ملكه، فإن اختار بعضهم القلع وبعضهم التبقية قدم قول من
طلب القلع سواء كان المفلس أو الغرماء أو بعض الغرماء لأن الابقاء ضرر غير واجب فلم يلزم الممتنع
من الإجابة إليه، وإن زاد الغراس في الأرض فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع إلا على رواية الميموني
491

(فصل) وان اشترى أرضا من رجل وغراسا من آخر فغرسه فيها ثم أفلس ولم يزد الشجر فلكل
واحد منهما الرجوع في عين ماله، ولصاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان النقص بالقلع كما ذكرنا
لأن البائع إنما باعه مقلوعا فلا يستحقه إلا كذلك، وإن أراد بائعه قلعه من الأرض فقلعه فعليه تسوية
الأرض وضمان نقصها الحاصل به لما تقدم، فإن بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لصاحبها ليملكها لم
يجبر على ذلك لأن الأرض أصل لا يجبر على بيعها تبعا، وإن بذل صاحب الأرض قيمة الغراس لصاحبها
ليملكه إذا امتنع من القلع فله ذلك لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه غرس المفلس في ارض
البائع، ويحتمل أن لا يملك ذلك لأنه لا يجبر على ابقائه إذا امتنع مع دفع قيمته أو أرش نقصه فلا
يكون له أن يتملكه بالقيمة بخلاف التي قبلها والأول أولى وهذا منتقض بغرس الغاصب
(فصل) فإن كان المبيع صيدا فأفلس المشترى والبائع محرم لم يرجع فيه لأنه تملك للصيد فلم يجز
في الاحرام كشرائه، وإن كان البائع حلالا في الحرم والصيد في الحل فأفلس المشتري فللبائع الرجوع
فيه لأن الحرم إنما يحرم الصيد الذي فيه وهذا ليس من صيده فلا يحرمه، ولو أفلس المحرم وفي ملكه
صيد بائعه حلال فله أخذه لأن المانع غير موجود فيه
(فصل) إذا أفلس وفي يده عين دين بائعها مؤجل وقلنا لا يحل الدين بالفلس فقال أحمد في رواية
الحسن بن ثواب يكون موقوفا إلى أن يحل دينه فيختار البائع الفسخ أو الترك وهو قول بعض أصحاب
الشافعي، والمنصوص عن الشافعي أنه يباع في الديون الحالة ويتخرج لنا مثل ذلك لأنها حقوق حالة
فقدمت على الدين المؤجل كدين من لم يجد عين ماله والقول الأول أولى للخبر، ولان حق هذا البائع
تعلق بالعين فقدم على غيره، وإن كان مؤجلا كالمرتهن والمجني عليه
492

(فصل) قال أحمد في رجل ابتاع طعاما نسيئة ونظر إليه وقلبه وقال أقبضه غدا فمات البائع وعليه
دين فالطعام للمشتري ويتبعه الغرماء بالثمن وإن كان رخيصا، وكذلك قال الثوري وإسحاق لأن الملك
ثبت للمشتري فيه بالشراء وزال ملك البائع عنه فلم يشاركه غرماء البائع فيه كما لو قبضه
(فصل) ورجوع البائع فسخ للبيع لا يحتاج إلى معرفة المبيع ولا القدرة على تسليمه، فلو رجع في
المبيع الغائب بعد مضي مدة يتغير فيها ثم وجده على حاله لم يتلف شئ منه صح رجوعه، وان رجع
في العبد بعد إباقه أو الجمل بعد شروده صح وصار ذلك له فإن قدر عليه أخذه، وإن ذهب كان من
ماله، وإن تبين أنه كان تالفا حال استرجاعه بطل الاسترجاع وله أن يضرب مع الغرماء في الموجود
من ماله، وان رجع في المبيع واشتبه بغيره واختلفوا في عينه فالقول قول المفلس لأنه منكر لاستحقاق
ما ادعاه البائع والأصل معه
{فصل} قال رحمه الله تعالى (الحكم الثالث بيع الحاكم ماله وقسم ثمنه وينبغي أن يحضره ويحضر
الغرماء ويبيع كل شئ في سوقه)
إذا حجر على المفلس باع الحاكم ماله لما ذكرنا من حديث معاذ، ولأنه مقصود الحجر ويستحب
احضار المفلس لمعان أربعة (أحدها) احصاء ثمنه وضبطه (الثاني) أنه أعرف بثمن متاعه وجيده ورديئه
فإذا حضر تكلم عليه وعرف الغبن من غيره (الثالث) أن الرغبة تكثر فيه فإن شراءه من صاحبه
أحب إلى المشترين (الرابع) انه أطيب لقلبه، ويستحب احضار، الغرماء لأمور أربعة (أحدها)
ان يباع لهم (الثاني) أنهم ربما رغبوا في شئ فزادوا في ثمنه فيكون أصلح لهم وللمفلس (الثالث)
493

انه أطيب لقلوبهم وابعد عن التهمة (الرابع) لعل فيهم من يجد عين ماله فيأخذها، فإن باعه من
غير حضورهم كلهم جاز لأن ذلك مفوض إليه وموكول إلى اجتهاده فربما أداه اجتهاده إلى خلاف
ذلك والمبادرة إلى البيع قبل احضارهم ويأمرهم ان يقيموا مناديا ينادي على المتاع، فإن تراضوا بثقة
أمضاه الحاكم وإن لم يكن ثقة رده، فإن قيل لم يرده وقد اتفق عليه أصحاب الحق فأشبه ما لو اتفق
المرتهن والراهن على أن يبيع الرهن غير ثقة لم يكن للحاكم الاعتراض؟ قلنا الحاكم ههنا له نظر
واجتهاد لأنه قد يظهر غريم آخر فيتعلق حقه به بخلاف الرهن فإنه لا نظر للحاكم فيه، فإن اختار المفلس
رجلا واختار الغرماء آخر أقر الحاكم الثقة منهما فإن كانا ثقتين قدم المتطوع منهما لأنه أوفر، فإن كانا
متطوعين ضم أحدهما إلى الآخر، وإن كانا بجعل قدم أوثقهما وأعرفهما، فإن تساويا قدم من يرى
منهما فإن وجد متطوعا بالنداء وإلا دفعت الأجرة من مال المفلس لأن البيع حق عليه لكونه طريق
وفاء دينه، وقيل يدفع من بيت المال لأنه من المصالح، وكذلك الحكم في أجر من يحفظ المتاع والثمن
وأجر الحمالين ونحوهم، ويستحب بيع كل شئ في سوقه لأنه أحوط وأكثر لطلابه ومعرفة قيمته،
فإن باع في غير سوقه بثمن المثل جاز لأن الغرض تحصيل الثمن وربما أدى الاجتهاد إلى أنه أصلح،
ولهذا لو قال بع ثوبي بثمن كذا في سوق عينه فباعه بذلك في غيره جاز ويبيع بنقد البلد لأنه أصلح،
فإن كان في البلد نقود باع بغالبها فإن تساوت باع بجنس الدين، فإن زاد في السلعة أحد في مدة الخيار
لزم الأمين الفسخ لأنه أمكنه بيعه بثمن فلم يبيعه بدونه كما لو زيد فيه قبل العقد، وان زاد بعد لزوم
العقد استحب للأمين سؤال المشتري الإقالة واستحب للمشتري الإجابة لتعلقه بمصلحة المفلس وقضاء دينه
494

{مسألة} (ويترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم)
لاتباع دار المفلس التي لا غنى له عن سكناها، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق والخادم في معنى الدار
إذا كان محتاجا إليه، وقال شريح ومالك والشافعي تباع ويكترى له بدلها. اختاره ابن المنذر لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال لغرمائه " خذوا ما وجدتم " وهذا مما
وجدوه، ولأنه عين مال المفلس فوجب صرفه في دينه كسائر ماله. ولنا أن هذا مما لا غنى للمفلس
عنه فلم يصرف في دينه كثيابه وقوته والحديث قضية في عين يحتمل أنه لم يكن له عقار ولا خادم،
ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خذوا ما وجدتم " مما تصدق به عليه والظاهر أنه لم يتصدق
عليه بدرا وهو يحتاج إلى سكناها ولا خادم وهو محتاج إلى خدمته، ولان الحديث مخصوص بثياب
المفلس وقوته فنقيس عليه محل النزاع وقياسهم منتقض بذلك بأجر المسكن وسائر ماله يستغنى عنه بخلاف
مسئلتنا، فإن كان له داران يستغني بإحداهما بيعت الأخرى لأن به غنى عن سكناها، وإن كان مسكنه
واسعا يفضل عن سكنى مثله بيع واشترى له مسكن مثله ورد الفضل على الغرماء، وكذلك الثياب
التي له إذا كانت رفيعة لا يلبس مثله مثلها
(فصل) فإن كان المسكن والخادم الذي لا يستغني عنهما عين مال بعض الغرماء أو كان جميع
ماله أعيان أموال أفلس بأثمانها ووجدها أصحابها فلهم أخذها بالشرائط المذكورة، لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " ولان حقه تعلق بالعين فكان
أقوى سببا من المفلس ولان الاعسار بالثمن سبب يستحق به الفسخ فلم يمنع منه تعلق حاجة المشتري
495

كما قبل القبض وكالعيب والخيار، ولان منعهم من أخذ أموالهم يفتح باب الحيل بأن يشتري من لامال
له في ذمته ثيابا يلبسها ودارا يسكنها، أو خادما يخدمه وفرسا يركبها وطعاما له ولعائلته ويمتنع على
أربابها أخذها لتعلق حاجته بها فتضيع أموالهم ويستغنى هو بها، فعلى هذا يؤخذ ذلك ولا يترك له منه
شئ لأنه أعيان أموال الناس فكانوا أحق بها منه كما لو كانت في أيديهم أو أخذها منهم غصبا
{مسألة} (وينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه)
وجملة ذلك أنه إذا حجر على المفلس، فإن كان ذا كسب يفي بنفقته ونفقة من تلزمه مؤنته فهي
في كسبه فإنه لا حاجة إلى اخراج ماله مع غناه بكسبه فلم يجز كالزيادة على النفقة، وإن كان كسبه دون
نفقته كملت من ماله، وان لم يكن ذا كسب أنفق عليه من ماله مدة الحجر وان طال لأن ملكه باق،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " ومعلوم ان فيمن يعوله من تجب عليه نفقته
ويكون دينا عليه وهي زوجته، فإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة فكذلك على حق الغرماء، ولان تجهيز
الميت يقدم على دينه بالاتفاق والحي آكد حرمة من الميت لأنه مضمون بالاتلاف، ويقدم أيضا نفقة من
تلزمه نفقته من أقاربه مثل الوالد والولد وغيرهم ممن تجب نفقته لأنهم يجرون مجرى نفسه في كون ذوي
رحمه منهم يعتقون إذا ملكهم كما يعتق إذا ملك نفسه فكانت نفقتهم كنفقته، وكذلك نفقة زوجته
لأن نفقتها آكد من نفقة الأقارب، وممن أوجب الانفاق على المفلس وزوجته وأولاده أبو حنيفة
ومالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافا، وتجب كسوتهم لأن ذلك مما لابد منه، والواجب من النفقة
والكسوة أدنى ما ينفق على مثله بالمعروف وأدنى ما يكتسى مثله، وكذلك كسوته من جنس ما يكتسبه
496

مثله، وكسوة امرأته ونفقتها مثل ما يفرض على مثله، وأقل ما يكفيه من اللباس قميص وسراويل
وشئ يلبسه على رأسه قلنسوة أو عمامة أو غيرهما مما جرت عادته ولرجله حذاء إن كان يعتاده،
وجبة أو فروة في الشتاء لدفع البرد، فإن كانت له ثياب لا يلبس مثله مثلها بيعت واشتري له
كسوة مثله ورد الفضل على الغرماء، فإن كانت إذا بيعت واشترى له كسوة مثله لا يفضل منها شئ
تركت لعدم الفائدة في بيعها
(فصل) وان مات المفلس كفن من ماله لأن نفقته كانت واجبة من ماله في حال حياته فوجب
تجهيزه منه بعد الموت كغيره، وكذلك يجب كفن من يمونه لأنهم بمنزلته ولا يلزم كفن زوجته لأن
نفقتها تجب في مقابلة الاستمتاع وقد فات بموتها فسقطت بخلاف الأقارب فإن قرابتهم باقية، ويلزمه
تكفين من مات من عبيده وتجهيزه لأن نفقته ليست في مقابلة الانتفاع به بدليل وجوب نفقة الصغير
والمبيع قبل التسليم، ويكفن في ثلاث أثواب كما كان يلبس في حياته، ويحتمل أن يكفن في ثوب يستره
لأنه يكفيه فلا حاجة إلى الزيادة، وفارق حال الحياة لأنه لابد من تغطية رأسه وكشفه يؤذيه
بخلاف الميت، ويمتد الانفاق المذكور إلى حين فراغه من القسمة بين الغرماء لأنه لا يزول ملكه إلا
بذلك ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا في هذا الفصل
(فصل) فإن كان المفلس ذا صنعة يكسب ما يمونه ويمون من تلزمه مؤنته أو كان يقدر على أن
يكسب ذلك من المباحات ما يكفيه أو يؤجر نفسه أو يتوكل بجعل يكفيه لم يترك له شئ من ماله
للنفقة، وإن لم يقدر على شئ ما ذكرناه ترك له من ماله قدر ما يكفيه. قال أحمد رحمه الله في رواية
497

أبي داود: يترك له قوت يتقوته، وإن كان له عيال ترك له قوام، وقال في رواية الميموني يترك له
قدر ما يقوم به معاشه ويباع الباقي وهذا في حق الشيخ الكبير وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم
التصرف بأبدانهم، وينبغي أن يجعل مما لا يتعلق به حق بعضهم بعينه لأن من تعلق حقه بالعين أقوى
سببا من غيره كما ذكرنا في الدار والخادم
(فصل) وإذا تلف شئ من ماله تحت يد الأمين أو بيع شئ من ماله وأودع ثمنه فتلف عند
المودع فهو من ضمان المفلس وبهذا قال الشافعي. وقال مالك العروض من ماله والدراهم والدنانير
من مال الغرماء، وقال المغيرة الدنانير من مال أصحاب الدنانير والدراهم من مال أصحاب الدراهم
ولنا أنه من مال المفلس ونمائه فكان تلفه ماله كالعروض من
{مسألة} (ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد من الطعام الرطب)
لأن بقائه يتلفه بيقين، ثم ببيع الحيوان لأنه معرض للاتلاف ويحتاج إلى مؤنة في بقائه ثم ببيع
الإناث لأنه يخاف عليه وتناله اليد، ثم ببيع العقار آخرا لأنه لا يخاف تلفه بقاؤه أشهر له وأكثر لطلابه
{مسألة} (ويعطي المنادي أجرته من المال)
لأن البيع حق على المفلس لكونه طريق وفاء دينه، وقيل هو من بيت المال لأنه من المصالح
{مسألة} (ويبدأ بالمجني عليه فيدفع إليه الأقل من الأرش أو ثمن الجاني)
وقد ذكرنا ذلك في الرهن هذا إذا كان عبده الجاني، فعلى هذا يبدأ ببيعه وما فضل من ثمنه صرف
إلى الغرماء، وإن كان المفلس هو الجاني فالمجني عليه أسوة الغرماء لأن حقه يتعلق بالذمة بخلاف
جناية العبد وقد ذكرناه
498

{مسألة} (ثم بمن له رهن فيخص بثمنه)
يباع الرهن ويختص المرتهن بثمنه إذا كان ثمنه بقدر دينه أو أقل منه سواء كان المفلس حيا أو
ميتا لأن حقه متعلق بعين الرهن وذمة الراهن معا وسائرهم يتعلق حقه بالذمة دون العين فكان حقه
أقوى. لا نعلم في هذا خلافا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي، فإن كان ثمن الرهن فضل عن
دين المرتهن أعطى قدر دينه ورد الباقي على الغرماء، وان فضل شئ من دينه ضرب بالفاضل مع الغرماء
(فصل) ولو باع شيئا أو باعه وكيله وقبض الثمن فتلف وتعذر رده وخرجت السلعة مستحقة
ساوى المشتري الغرماء لأن حقه لم يتعلق بعين المال فهو بمنزلة أرش جناية المفلس، وذكر القاضي
احتمالا أنه يقدم على الغرماء لأنه لم يرض بمجرد الذمة فكان أولى كالمرتهن ولأنه لو لم يقدم على
الغرماء لامتنع الناس من شراء مال المفلس خوفا من ضياع أموالهم فتقل الرغبات فيه ويقل ثمنه فكان
تقديم المشتري بذلك على الغرماء أنفع لهم وهذا وجه لأصحاب الشافعي
ولنا أن هذا حق لم يتعلق بعين المال فلم يقدم كالذي جنى عليه المفلس وفارق المرتهن فإن حقه
تعلق بالعين وما ذكروه من المعنى الأول منتقض بأرش جناية المفلس (والثاني) مصلحة لا أصل لها
فلا يثبت الحكم بها، فإن كان الثمن موجودا يمكن رده وجب رده وينفرد به صاحبه لأنه عين ماله
لم يتعلق به حق أحد من الناس وكذلك صاحب السلعة المستحقة يأخذها، ومتى باع وكيل المفلس أو
العدل أو باع الرهن وخرجت السلعة مستحقة فالعهدة على المفلس ولا شئ على العدل لأنه أمين
(فصل) ومن استأجر دارا أو بعيرا بعينه أو شيئا غيرهما بعينه ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أحق
499

بالعين التي استأجرها من الغرماء حتى يستوفي حقه لأن حقه متعلق بعين المال والمنفعة مملوكة له في
هذه المدة فكان أحق بها كما لو اشترى منه شيئا فإن هلك البعير أو انهدمت الدار قبل انقضاء المدة
انفسخت الإجارة ويضرب مع الغرماء ببقية الأجرة، وان استأجر جملا في الذمة ثم أفلس المؤجر
فالمستأجر أسوة الغرماء لأن حقه لم يتعلق بالعين وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا، وان أجر
دارا ثم أفلس فاتفق الغرماء والمفلس على البيع قبل انقضاء مدة الإجارة فلهم ذلك ويبيعونها
مستأجرة فإن اختلفوا قدم قول من طلب البيع في الحال لأنه أحوط من التأخير. فإذا استوفى المستأجر
سلم المشتري فإن اتفقوا على تأخير البيع حتى تنقضي مدة الإجارة فلهم ذلك لأن الحق لا يخرج عنهم
(فصل) ولو باع سلعة ثم أفلس قبل تقبيضها فالمشتري أحق بها من الغرماء سواء كانت من المكيل
والموزون أو لم تكن لأن المشتري قد ملكها وثبت ملكه فيها فكان أحق بها كما لو قبضها، ولا فرق
بين ما قبل قبض الثمن وبعده وإن كان عليه سلم فوجد المسلم الثمن قائما فهو أحق به لأنه وجد عين ماله
وان لم يجده فهو أسوة الغرماء لأنه لم يتعلق حقه بعين ماله ولا يثبت ملكه فيه ويضرب مع الغرماء
بالمسلم فيه لأنه الذي يستحقه دون الثمن. فإن كان في المال جنس حقه أخذ منه بقدر ما يستحقه،
وإن لم يكن فيه جنس حقه عزل له قدر حقه فيشتري به المسلم فيه فيأخذه وليس له أن يأخذ المعزول
بعينه لئلا يكون بدلا عما في الذمة من المسلم فيه وذلك لا يجوز لقول النبي عليه السلام " من أسلف
في شئ فلا يصرفه إلى غيره " فإن أمكن أن يشتري بالمعزول أكثر مما قدر له لرخص المسلم فيه
اشترى له بقدر حقه ورد الباقي على الغرماء
مثاله رجل أفلس وله دينار وعليه لرجل دينار ولآخر قفيز حنطة من سلم قيمته دينار فإنه يقسم
500

دينار المفلس نصفين لصاحب السلم نصفه فإن رخصت الحنطة فصار قيمة القفيز نصف دينار تبينا أن
حقه مثل نصف حق صاحب الدينار فلا يستحق من دينار المفلس إلا ثلثه يشترى له به ثلثا قفيز
فيأخذه ويرد سدس الدينار على الغريم الآخر، وإن غلا المسلم فيه فصار قيمة القفيز دينارين تبينا أنه
يستحق مثلي ما يستحقه صاحب الدينار فيكون له من دينار المفلس ثلثاه فيشترى له بالنصف المعزول
ويرجع على الغريم بسدس دينار يشترى له به أيضا لأن المعزول ملك للمفلس وإنما للغريم قدر حقه
فإن زاد فللمفلس وإن نقص فعليه
{مسألة} (ثم بمن له عين مال يأخذها بالشروط المذكورة)
وقد ذكرنا ذلك ثم يقسم الباقي بين باقي الغرماء على قدر ديونهم لتساويهم في الاستحقاق فإن
كانت ديونهم من جنس الأثمان أخذوها، وإن كان فيهم من دينه من غير جنس الأثمان كالقرض
لغير الأثمان فرضي أن يأخذ عوض حقه من الأثمان جاز وإن امتنع وطلب جنس حقه اشتري له
بحصته من الثمن من جنس دينه، ولو أراد الغريم الاخذ من المال المجموع، وقال المفلس لا أقضيك إلا
من جنس دينك قدم قول المفلس لأن هذه معاوضة فلا تجوز إلا بتراضيهما
{مسألة} (فإن كان فيهم من له دين مؤجل لم يحل وعنه أنه يحل فيشاركهم)
لا يحل الدين المؤجل بفلس من هو عليه ذكره القاضي رواية واحدة، وحكى أبو الخطاب فيه
رواية أخرى أنه يحل وهو قول مالك، وعن الشافعي كالمذهبين، واحتجوا بأن الافلاس يتعلق به الدين
بالمال فأسقط الاجل كالموت. ولا أن الاجل حق للمفلس فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ولأنه
501

لا يوجب حلول ماله فلا يوجب حلول ما عليه كالجنون والاغماء ولأنه دين مؤجل على حي فلم يحل قبل
أجله كغير المفلس، والأصل المقيس عليه ممنوع وان سلم فالفرق بينهما أن ذمته خربت بخلاف المفلس
إذا ثبت هذا فإنه إذا حجر على المفلس، فقال أصحابنا لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة أصحاب
الديون الحالة ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله فإن لم يقسم الغرماء حتى حل الدين شارك الغرماء
كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته فإن أدرك بعض المال بل قسمته شاركهم فيه بجميع دينه، ويضرب
مع باقي الغرماء ببقية ديونهم، وان قلنا يحل الدين فهو كأصحاب الديون الحالة سواء
{مسألة} (من مات وعليه دين مؤجل لم يحل إذا وثق الورثة وعنه أنه يحل)
اختلفت الرواية في حلول الدين بالموت على من هو عليه فروي أنه لا يحل اختاره الخرقي بشرط
أن يوثق الورثة وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد، والرواية الأخرى
أنه يحل بالموت وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأنه
لا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة أو يتعلق بالمال، ولا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر
مطالبته بها ولا ذمة الورثة لأنهم لم يلتزموها ولا رضي صاحب الدين بذممهم وهي مختلفة متباينة، ولا
يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه. أما الميت
فلان النبي صلى الله عليه وسلم قال " الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه " وأما صاحبه فيتأخر حقه، وقد
502

تتلف العين فيسقط حقه، وأما الورثة فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها، وان حصلت لهم منفعة
فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم.
ولنا ما ذكرنا في المفلس ولان الموت ما جعل مبطلا للحقوق وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على
الوراثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك حقا أو مالا فلورثته " وما ذكروه اثبات حكم بالمصلحة المرسلة لم
يشهد لها شاهد الشرع باعتبار، فعلى هذا يبقى الدين في ذمة الميت كما كان ويتعلق بعين ماله كتعلق
حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه فإن أحب الورثة التزام أداء الدين ويتصرفون في المال
لم يكن لهم ذلك الا ان يرضى الغريم أو يوثقوا الحق بضمين ملئ أو رهن يثق به لوفاء حقه فإنهم قد
لا يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم فيؤدي إلى فوات الحق، وذكر القاضي أن الحق ينتقل إلى ذمم
الورثة بموت موروثهم من غير أن يشترط التزامهم له فلا ينبغي أن يلزم الانسان دين لا يلتزمه ولم يتعاط
سببه ولو لزمهم ذلك بموت موروثهم للزمهم وان لم يخلف وفاء، فإن قلنا الدين يحل بالموت فأحب
الورثة القضاء من غير التركة فلهم ذلك، وإن اختاروا القضاء منها فلهم ذلك وإن امتنعوا من القضاء
باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين، وإن مات مفلس وله غرماء بعض ديونهم مؤجلة، قلنا
يحل المؤجل بالموت اقتسموا التركة على قدر ديونهم، وان قلنا لا يحل فأوثق الورثة لصاحب
المؤجل اختص أصحاب الحال بالتركة، وان امتنع الورثة من التوثيق حل دينه وشارك أصحاب الحال
لئلا يفضي إلى اسقاط دينه بالكلية
(فصل) وذكر بعض أصحابنا فيمن مات وعليه دين هل يمنع اليد نقل التركة إلى الورثة؟
503

روايتين (إحداهما) لا يمنعه للخبر المذكور ولان تعلق الدين بالمال لا يزيل الملك في العبد الجاني
والرهن والمفلس فلم يمنع نقله فعلى هذا ان تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره صح تصرفهم ولزمهم
أداء الدين فإن تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم كما لو باع السيد عبده الجاني (والثانية) يمنع نقل التركة إليهم
لقول الله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين) فجعل التركة للوارث بعد الدين والوصية فلا يثبت
لهم الملك قبلهما، فعلى هذا لا يصح تصرف الورثة لأنهم تصرفوا في غير ملكهم الا أن يأذن لهم الغرماء
وان تصرف الغرماء لم يصح الا باذن الورثة
{مسألة} (وإن ظهر له غريم بعد قسم ماله رجع على الغرماء بقسطه)
وبهذا قال الشافعي وحكي عن مالك وحكي عنه لا يحاصهم لأنه نقض لحكم الحاكم
ولنا أنه غريم يقاسمهم لو كان حاضرا، فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم كغريم الميت يظهر بعد قسم
ماله وليس قسم الحاكم ماله حكما إنما هو قسمة بان الخطأ فيها فأشبه ما لو قسم أرضا بين شركاء ثم ظهر
شريك آخر وقسم الميراث ثم ظهر وارث سواه
(فصل) ولو أفلس وله دار مستأجرة فانهدمت بعد قبض المفلس الأجرة انفسخت الإجارة
فيما بقي من المدة وسقط من الأجرة بقدر ذلك ثم إن وجد عين ماله أخذ منه بقدر ذلك، وان
لم يجده ضرب مع الغرماء بقدره وإن كان ذلك بعد قسم ماله رجع على الغرماء بحصته لأن سبب
وجوبه قبل الحجر ولذلك يشاركهم إذا وجب قبل القسمة، ولو باع سلعة وقبض ثمنها ثم أفلس فوجد
بها المشتري عيبا فردها به أو ردها بخيار أو اختلاف في الثمن ونحوه ووجد عين ماله أخذها لأن
504

البيع لما انفسخ زال ملك المفلس عن الثمن كزوال ملك المشتري عن المبيع، وإن كان بعد تصرفه
فيه شارك المشتري الغرماء.
{مسألة} (وان بقيت على المفلس بقية وله صنعة فهل يجبر على ايجار نفسه لقضائها على روايتين)
(إحداهما) لا يجبر وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
ميسرة) ولما روى أبو سعيد أن رجلا أصيب في ثمرة ابتاعها فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" تصدقوا عليه " فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا ما وجدتم وليس
لكم الا ذلك " رواه مسلم ولأنه تكسب للمال فلم يجبر عليه كقبول الهبة والصدقة، وكما لا تجبر المرأة
على التزويج لتأخذ المهر.
(والثانية) يجبر على الكسب وهو قول عمر بن عبد العزيز وسوار والعنبري وإسحاق لما روي
505

أن النبي صلى الله عليه وسلم باع سرقا في دينه وكان سرق دخل المدينة وذكر أن وراءه مالا فداينه الناس
فركبته ديون ولم يكن وراءه مال فسماه سرقا وباعه بخمسة أبعرة. رواه الدارقطني بمعناه من رواية
خلد بن مسلم الربحي الا أن فيه كلاما والحر لا يباع ثبت أنه باع منافعه، ولان المنافع، ولان المنافع تجري مجرى
الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم اخذ الزكاة وثبوت الغنى بها فكذلك في وفاء الدين منها، ولان الإجارة
عقد معاوضة فجاز اجباره عليه كبيع ماله، ولأنها إجارة لما يملك اجارته فيجبر عليها لوفاء دينه كإجارة
أم ولده. فإن قيل حديث سرق منسوخ لأن الحر لا يباع والبيع وقع على رقبته بدليل ان في الحديث
ان الغرماء قالوا لمشتريه ما تصنع به؟ قال أعتقه، قالوا: لسنا بأزهد منك في اعتاقه فأعتقوه قلنا هذا
اثبات فسخ بالاحتمال ولا يجوز، ولم يثبت أن بيع الحر كان جائزا في شريعتنا وحمل بيعه على بيع
منافعه أسهل من حمله على بيع رقبته المحرم، فإن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه كثير في القرآن
506

وفي كلام العرب كقوله تعالى (وأشربوا في قلوبهم العجل واسأل القرية) وغير ذلك، وكذلك قوله
أعتقه أي من حقي عليه يدل على ذلك قوله فأعتقوه يعني الغرماء وهم لا يملكون الا الدين الذي عليه،
وأما قوله تعالى (فنظرة إلى ميسرة) فيمكن منع دخوله تحت عمومها لما ذكرنا من أنه في حكم الأغنياء
في حرمان الزكاة وسقوط نفقته عن قريبه ووجوب نفقة قريبه عليه، وحديثهم قضية عين لا يثبت
حكمها الا في مثلها ولم يثبت أن لذلك الغريم كسا يفضل عن قدر نفقته. أما قبول الهدية والصدقة
فمضرة تأباها قلوب ذوي المروءات لما فيها من المنة. فعلى هذا لا يجبر على الكسب الا من كسبه يفضل
عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته لما تقدم.
(فصل) ولا يجبر على قبول صدقة، ولا هدية، ولا وصية، ولا قرض، ولا المرأة على التزويج
ليأخذ مهرها لأن في ذلك ضررا للحوق المنة في الهدية والصدقة والوصية والعوض في القرض وتملك
الزوج للمرأة في النكاح وجوب حقوقه عليها، ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فالخيار بحاله ولا يجبر على
ما فيه الحظ من الرد والامضاء لأن الفلس يمنعه من احداث عقد أما من امضائه وتنفيذ عقود فلا
(فصل) وان جني على المفلس جناية توجب المال ثبت وتعلقت حقوق الغرماء به ولا يصح عفوه
فإن كانت موجبة للقصاص فهو مخير بين القصاص والعفو ولا يجبر على العفو على مال لأن ذلك يفوت
القصاص الذي يجب لمصلحة الزحر، فإن اقتص لم يجب للغرماء شئ، وان عفا على مال ثبت وتعلق به
حقوق الغرماء، وإن عفا مطلقا انبنى على الروايتين في موجب العمد ان قلنا القصاص خاصة لم يثبت
شئ، وان قلنا أحد أمرين ثبتت الدية أو تعلقت بها حقوق الغرماء، وان عفا على غير مال وقلنا القصاص
هو الواجب عينا لم يثبت شئ، وان قلنا أحد الامرين يثبت الدية ولم يصح إسقاطه لأن عفوه عن
القصاص يثبت له الدية ولا يصح إسقاطها، وإن وهب هبة بشرط الثواب ثم أفلس فبذل له الثواب لزمه
قبوله ولم يكن له اسقاطه لأنه أخذه على سبيل العوض عن الموهوب كالثمن في المبيع وليس له إسقاط
شئ من ثمن مبيع أو اجرة إجارة ولا قبض ردئ، ولا قبض المسلم فيه دون صفاته الا باذن غرمائه
ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرنا
507

{مسألة} (ولا ينفك عنه الحجر الا بحكم حاكم)
لأنه ثبت بحكمه فلا يزول الا بحكمه كالمحجور عليه لسفه، وفيه وجه آخر أنه يزول بقسمة ماله
لأنه حجر عليه لأجله فإذا زال ملكه عنه زال سبب الحجر فزال الحجر كزوال حجر المجنون لزوال
جنونه والأول أولى وفارق الجنون فإنه يثبت بنفسه فزال بزواله بخلاف هذا ولان فراغ ماله يحتاج
إلى معرفة وبحث فوقف ذلك على الحاكم بخلاف الجنون
(فصل) وإذا فك الحجر عنه فليس لأحد مطالبته وملازمته حتى يملك مالا، فإن جاء الغرماء
عقيب فك الحجر عنه فادعوا أن له مالا لم يقبل إلا ببينة، فإن جاءوا بعد مدة فادعوا أن في
يده مالا أو ادعوا ذلك عقيب فك الحجر عنه وبينوا سببه أحضره الحاكم وسأله، فإن أنكر فالقول
قوله مع يمينه لأنه ما فك الحجر عنه حتى لم يبق له شئ، وان أقر وقال هو لفلان وأنا وكيله أو
مضاربة وكان المقر له حاضرا سأله الحاكم فإن صدقه فهو له ويستحلفه الحاكم لجواز ان يكونا
تواطأ على ذلك ليدفع المطالبة عن المفلس. وان لم يصدقه عرفنا كذب المفلس فيصير كأنه أقر
ان المال له فيعاد الحجر عليه ان طلب الغرماء ذلك، فإن أقر لغائب أقر في يديه حتى يحضر الغائب
ثم يسأل كما حكمنا في الحاضر
{مسألة} (ومتى فك عنه الحجر فلزمته ديون وظهر له مال فحجر عليه شارك غرماء الحجر
الأول غرماء الحجر الثاني)
إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم والآخرين يضربون بجميعها، وبهذا قال الشافعي وقال
مالك: لا يدخل غرماء الحجر الأول على هؤلاء الذين تجددت حقوقهم حتى يستوفوا الا أن يكون
له فائدة من ميراث أو يجني عليه جناية فيتحاص الغرماء فيه. ولنا أنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في
ذمته فتساووا في الاستحقاق كالذين ثبتت حقوقهم في حجر واحد وكتساويهم في الميراث وأرش
الجناية، ولان كسبه مال له فتساووا فيه كالميراث
{مسألة} (وإن كان للمفلس حق له به شاهد فأبى أن يحلف معه لم يكن لغرمائه أن يحلفوا)
المفلس في الدعوى كغيره فإذا ادعى حقه له به شاهد عدل وحلف مع شاهده ثبت المال وتعلقت
به حقوق الغرماء وان امتنع لم يجبر لأنا لا نعلم صدق الشاهد، ولو ثبت الحق بشهادته لم يحتج إلى يمين معه
508

فلا نجبره على مالا نعلم صدقه كغيره فإن قال الغرماء نحن نحلف مع الشاهد لم يكن لهم ذلك وبهذا قال الشافعي
في الجديد، وقال في القديم يحلفون معه لأن حقوقهم تعلقت بالمال فكان لهم ان يحلفوا كالورثة يحلفون
على مال موروثهم، ولنا أنهم يثبتون ملكا لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز لهم ذلك كالمرأة
تحلف لاثبات ملك زوجها لتتعلق نفقتها به وكالورثة قبل موت موروثهم وفارق ما بعد الموت فإن المال
انتقل إليهم فهم يثبتون بأيمانهم ملكا لا نفسهم.
{فصل} قال رحمه الله (الحكم الرابع انقطاع المطالبة عن المفلس فمن أقرضه شيئا أو باعه إياه لم
يملك مطالبته حتى يفك الحجر عنه)
إذا تصرف المحجور عليه في ذمته بشراء أو افتراض صح لأنه أهل للتصرف والحجر إنما
تعلق بماله وقد ذكرناه وليس للبائع ولا للمقرض مطالبته في حال الحج لأن حق الغرماء تعلق بعين
ماله الموجود حال الحجر وبما يحدث له من المال فقدموا على غيرهم ممن لم يتعلق حقه بعين المال
كتقديم حق المرتهن بثمن الرهن، وتقديم حق المجني عليه بثمن العبد الجاني فلا يشارك أصحاب
هذه الديون الغرماء لما ذكرنا، ولان من علم منهم بفلسه فقد رضي بذلك ومن لم يعلم فهو مفرط ويتبعونه
بعد فك الحجر عنه كما لو أقر لانسان بمال بعد الحجر عليه وفي اقراره خلاف ذكرناه فيما مضى فإن
وجد البائع والمقرض أعيان أموالهما فهل لهم الرجوع فيها؟ على وجهين (أحدهما) لهما ذلك للخبر (والثاني)
لا فسخ لهما لأنهما دخلا على بصيرة بخراب الذمة فأشبه من اشترى معيبا يعلم عيبه وقد ذكرنا ذلك
{فصل} قال الشيخ رحمه الله (الضرب الثاني المحجور عليه لحظه وهو الصبي والمجنون والسفيه)
الحجر على هؤلاء الثلاثة حجر عام لأنهم يمنعون التصرف في أموالهم وذممهم والأصل في الحجر عليهم
قول الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) (وابتلوا اليتامى) الآية
قال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مال اليتيم عندك لا تؤته إياه وأنفق عليه وإنما أضاف الأموال إلى
الأولياء وهي لغيرهم لأنهم قوامها، ومدبروها، وقوله (وابتلوا اليتامى) اختبروهم في حفظهم لأموالهم
{مسألة} (فلا يصح تصرفهم قبل الاذن) لأن تصحيح تصرفهم يفضي إلى ضياع أموالهم وفيه ضرر عليهم
{مسألة} (ومن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض رجع فيه ما كان باقيا)
لأنه عين ماله وتصرفهم فاسد فإن أتلفه واحد منهم فهو من ضمان مالكه، وكذلك ان تلف
509

في يده لأنه سلطه عليه برضاه وسواء علم بالحجر على السفيه أو لم يعلم لأنه ان علم فقد فرط وان لم يعلم
فهو مفرط أيضا إذ كان في مظنة الشهرة هذا إذا كان صاحبه قد سلطه عليه، فاما ان حصل في يده
باختيار صاحبه من غير تسليط كالوديعة والعارية فاختار القاضي انه يلزمه الضمان ان أتلفه أو تلف
بتفريطه إن كان سفيها لأنه أتلفه بغير اختيار صاحبه فأشبه ما لو كان القبض بغير اختياره، ويحتمل أن
لا يضمن لأنه عرضها لا تلافه وسلطه عليها فأشبه المبيع أما ما أخذه بغير اختيار المالك كالغصب
والجناية فعليه ضمانه لأنه لا تفريط من المالك وكذلك الحكم في الصبي والمجنون فإن أودع عند
الصبي والمجنون أو أعارهما فلا ضمان عليهما فيما تلف بتفريطهما لأنهما ليسا من أهل الحفظ، وان
أتلفاه ففيه وجهان نذكرهما في الوديعة
{مسألة} (ومتى عقل المجنون وبلغ الصبي ورشدا انفك الحجر عنهما بغير حكم حاكم ودفع
إليهما ما لهما ولا ينفك قبل ذلك بحال)
إذا عقل المجنون ورشد انفك الحجر عنه ولا يحتاج إلى حكم حاكم بغير خلاف وكذلك الصبي إذا
بلغ ورشد وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك لا يزول الا بحكم حاكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه
موضع اجتهاد ونظر فإنه يحتاج في معرفة البلوغ والرشد إلى اجتهاد فيوقف ذلك على حكم حاكم كزوال
الحجر عن السفيه. ولنا قوله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) أمر بدفع أموالهم إليهم
عند البلوغ وايناس الرشد فاشتراط حكم الحاكم زيادة تمنع الدفع عند وجود ذلك حتى يحكم الحاكم وهذا مخالف
لظاهر النص، ولأنه حجر ثبت بغير حكم الحاكم فيزول بغير حكمه كالحجر على المجنون ولان الحجر عليه
إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظا لماله عليه فمتى بلغ ورشد زال الحجر لزوال
سببه، السفيه لنا فيه منع، فعلى هذا الحجر منقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يزول بغير حكم الحاكم وهو الحجر
للجنون، وقسم لا يزول الا بحكم حاكم وهو الحجر للسفه، وقسم فيه الخلاف وهو الحجر على الصبي
510

(فصل) ومتى انفك الحجر عنهما دفع إليهما مالهما لقول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا
إليهم أموالهم) فقال ابن المنذر اتفقوا على ذلك ولان منعه من التصرف إنما كان لعجزه عن التصرف
حفظا لماله فإذا صار أهلا للتصرف زال الحجر لزوال سببه
(فصل) ولا ينفك عنه الحجر ولا يدفع إليه ماله قبل البلوغ والرشد، ولو صار شيخا وهو قول
الأكثرين قال ابن المنذر أكثر علماء الأمصار من أهل العراق والحجاز والشام ومصر يرون الحجر
على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيرا وبه قال القاسم بن محمد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد
وروى الجوزجاني في كتابه قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش ذي أهل ومال فلا
يجوز له أمر في ماله دونه لضعف عقله قال ابن إسحاق رأيته شيخا يخضب وقد جاء إلى القاسم بن
محمد فقال يا أبا محمد ادفع إلي مالي فإنه لا يولى علي مثلي فقال. إنك فاسد فقال امرأته طالق البتة وكل
مملوك له حر إن لم تدفع إلي مالي، فقال القاسم بن محمد وما يحل لنا أن ندفع إليك مالك على حالك هذه
فبعث إلى امرأته وقال: هي حرة مسلمة وما كنت لأحبسها عليك وقد فهت بطلاقها فأرسل إليها
فأخبرها ذلك وقال أما رقيقك فلا عتق لك ولا كرامة فحبس رقيقه. وقال ابن إسحاق ما كان يعاب
على الرجل الا سفهه وقال أبو حنيفة لا يدفع ماله إليه قبل خمس وعشرين سنة، وان تصرف نفذ
تصرفه فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة فك الحجر عنه ودفع إليه ماله لقول الله تعالى (ولا تقربوا مال
اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) وهذا قد بلغ أشده ويصلح أن يكون جدا ولأنه حر بالغ
عاقل مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد
ولنا قول الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) أي أموالهم وقوله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى
إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) علق الدفع على شرطين والحكم المعلق
على شرطين لا يثبت بدونهما وقال تعالى (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن
يمل هو فليملل وليه بالعدل) فأثبت الولاية على السفيه ولأنه مبذر فلم يجز دفع ماله إليه كمن له دون
ذلك، وأما الآية التي احتجوا بها فإنما تدل بدليل خطابها وهو لا يقول به ثم هي مخصصة فيما قبل
511

خمس وعشرين بالاجماع لعلة السفه وهو موجود بعد خمس وعشرين فيجب أن يخص به أيضا كما
أنها لما خصصت في حق المجنون لجنونه فيما قبل خمس وعشرين خصصت بعدها، وما ذكرنا من المنطوق
أولى مما يستدل به من المفهوم المخصص وقوله انه صار يصلح جدا لا معنى تحته يقتضي الحكم ولا
له أصل يشهد له في الشرع فهو اثبات للحكم بالتحكم ثم هو متصور ممن هو دون هذا السن فإن المرأة
تكون جدة لاحدى وعشرين سنة وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة فما أوجب الحجر
قبلها يوجبه بعدها، إذا ثبت هذا فإنه لا يصح تصرفه ولا إقراره، وقال أبو حنيفة يصح بيعه واقراره
لأن البالغ عنده لا يحجر عليه وإنما لم يسلم إليه للآية
ولنا أنه لا يدفع إليه ماله لعدم رشده فلم يصح تصرفه واقراره كالصبي والمجنون ولأنه إذا نفذ
تصرفه واقراره تلف ماله ولم يفد منعه من ماله شيئا ولان تصرفه لو كان نافذا لسلم إليه ماله كالرشيد
فإنه إنما منع ماله حفظا له فإذا لم يحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الأصل
{مسألة} (والبلوغ يحصل بالاحتلام وبلوغ خمس عشرة سنة ونبات الشعر الخشن حول القبل،
وتزيد الجارية بالحيض والحمل)
يثبت البلوغ في حق الجارية والغلام بأحد الأشياء الثلاثة المذكورة وهي: خروج المني من القبل
وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد كيفما خرج في يقظة أو منام بجماع أو احتلام أو غير ذلك
يحصل به البلوغ لا نعلم فيه خلافا لقول الله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) وقوله
(والذين لم يبلغوا الحلم منكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حيت يحتلم " رواه أبو
داود، وقال ابن المنذر أجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل، وعلى المرأة بظهور
الحيض منها (الثاني) السن وهو بلوغ خمس عشرة سنة في حق الغلام والجارية وبهذا قال الأوزاعي
والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال داود لاحد للبلوغ من السن لقوله عليه السلام " رفع القلم عن
512

ثلاث عن الصبي حتى يحتلم " واثبات البلوغ لغيره يخالف الخبر وهذا قول مالك، وقال أصحابه سبع
عشرة أو ثماني عشرة، وعن أبي حنيفة في الغلام روايتان (إحداهما) سبع عشرة (والثاني) ثماني
عشرة والجارية سبع عشرة بكل حال لأن الحد لا يثبت إلا بتوقيف أو اتفاق ولا توقيف فيما دون
هذا ولا اتفاق. ولنا أن ابن عمر قال عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في
القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني متفق عليه، وفي لفظ عرضت عليه يوم أحد وأنا
ابن أربع عشرة فردني ولم يرني بلغت وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني
فأخبر بهذا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله أن لا تفرضوا الا لمن بلغ خمس عشرة رواه الشافعي
في مسنده والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ولان السن معنى يحصل به البلوغ يشترك فيه الجارية
والغلام فاستويا فيه كالانزال وما احتج به مالك وداود لا يمنع اثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت
بالدليل ولهذا كان انبات الشعر علما عليه (الثالث) نبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل وفرج
المرأة، فأما الزغب الضعيف فلا اعتبار به فإنه يثبت في حق الصغير وبهذا قال مالك والشافعي في قول
وقال في الآخر هو بلوغ في حق المشركين وهل هو بلوغ في حق المسلمين؟ فيه قولان، وقال أبو
حنيفة لا اعتبار به لأنه نبات شعر أشبه سائر شعر البدن
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم بأن يقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم
فأمر بأن يكشف عن مؤتزريهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت الحقوه بالذرية. قال عطية القرظي
عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا في فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلي هل أنبت بعد؟
513

فنظروا إلي فلم يجدوني أنبت بعد فألحقوني بالذرية. متفق على معناه، وكتب عمر رضي الله عنه إلى
عامله أن لا تأخذ الجزية الا ممن جرت عليه المواسي، وروى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاما من
الأنصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر فلم يجده أنبت فقال. لو أنبت لحددتك، ولأنه خارج
يلازمه البلوغ غالبا يستوي فيه الذكر والأنثى فكان علما على البلوغ كالاحتلام، ولان الخارج ضربان
متصل ومنفصل، فلما كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ كذلك المتصل وما كان بلوغا في حق المشرك
كان بلوغا في حق المسلم كالاحتلام والسن
{فصل} والحيض علم على البلوغ في حق الجارية لا نعلم فيه خلافا، وقد دل ذلك عليه قول النبي صلى الله
عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض الا بخمار " رواه الترمذي وقال حديث حسن، وكذلك الحمل
يحصل به البلوغ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولد إنما يخلق من ماء الرجل وماء المرأة، قال الله
تعالى (فلينظر الانسان مم خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب) وأخبر
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث، فعلى هذا يحكم ببلوغها في الوقت الذي حملت فيه
(فصل) إذا وجد خروج المني من الخنثى المشكل فهو علم على بلوغه وكونه رجلا، وان خرج
من فرجه أو حاض كان علما على بلوغه وكونه امرأة. وقال القاضي: ليس واحد منهما علما على البلوغ
فإن اجتمعا فقد بلغ وهو مذهب الشافعي لجواز أن يكون الفرج الذي خرج ذلك منه خلقة زائدة.
ولنا أن خروج البول من أحد الفرجين دليل على ذكوريته أو أنوثيته فخروج المني والحيض أولى
514

وإذا ثبت كونه رجلا خرج المني من ذكره، أو امرأة خرج الحيض من فرجها لزم وجود البلوغ،
ولان خروج مني الرجل من المرأة أو الحيض من الرجل مستحيل فكان دليلا على التعيين، وإذا ثبت
التعيين لزم كونه دليلا على البلوغ كما لو تعين قبل خروجه، ولأنهم سلموا أن خروجهما معا دليل عليه
فخروج أحدهما منفردا أولى لأن خروجهما معا يقتضي تعارضهما واسقاط دلالتهما إذ لا يتصور أن
يجتمع حيض صحيح ومني رجل فلزم أن يكون أحدهما فضلة خارجة من غير محلها، وليس أحدهما أولى
بذلك من الآخر فتبطل دلالتهما كالبينتين إذا تعارضتا وكالبول إذا خرج من المخرجين جميعا بخلاف
ما إذا وجد أحدهما منفردا فإن الله تعالى أجرى العادة بأن الحيض يخرج من فرج المرأة عند بلوغها
ومني الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه، فإذا وجد ذلك من غير معارض وجب أن يثبت حكمه
ويقضى بثبوت دلالته كالحكم بكونه رجلا بخروج البول من ذكره وبكونه أنثى بخروجه من فرجها
والحكم للغلام بالبلوغ بخروج المني من ذكره وللجارية بخروج الحيض من فرجها، فعلى هذا إذا خرجا جميعا
لم يثبت كونه رجلا ولا امرأة، وهل يثبت البلوغ بذلك؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت وهو اختيار
القاضي ومذهب الشافعي لأنه إن كان رجلا فقد خرج المني من ذكره، وإن كان أنثى فقد حاضت
(والثاني) لا يثبت لأن هذا يجوز أن لا يكون حيضا ولا منيا فلا يكون فيه دلالة وقد دل على ذلك
تعارضهما فانتفت دلالتهما على البلوغ كانتفاء دلالتهما على الذكورية والأنوثية
{مسألة} (والرشد الصلاح في المال)
وهذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة، وقال الحسن والشافعي وابن المنذر.
الرشد الصلاح في الدين والمال لأن الفاسق غير رشيد، ولان افساد دينه يمنع الثقة به في حفظ
515

ماله كما يمنع قبول قوله وثبوت الولاية على غيره وان لم يعرف منه كذب ولا تبذير. ولنا قول الله
تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) قال ابن عباس: يعني صلاحا في أموالهم، وقال
مجاهد إذا كان عاقلا، ولان هذا اثبات في نكرة ومن كان مصلحا لما له فقد وجد منه رشد، ولان
العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا، ولان هذا مصلح لما له
فأشبه العدل يحققه أن الحجر عليه إنما كان لحفظ ماله عليه والمؤثر فيه ما أثر في تضييع المال أو حفظه
قولهم ان الفاسق غير رشيد قلنا هو غير رشيد في دينه، أما في ماله وحفظه فهو رشيد ثم هو منتقض
بالكافر فإنه غير رشيد في دينه ولا يحجر عليه لذلك، ولا يلزم من منع قبول القول منه دفع ماله
إليه، فإن من عرف بكثرة الغلط والنسيان أو من يأكل في السوق ويمد رجليه في مجمع الناس لا تقبل
شهادتهم وتدفع أموالهم إليهم
{مسألة} (ولا يدفع ماله إليه حتى يختبر)
لأنه إنما يعرف رشده باختياره لقول الله تعالى (وابتلوا اليتامى) أي اختبروهم واختباره بتفويض
التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله إليه، فإن كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء، فإذا تكرر
منه فلم يغبن ولم يضيع ما في يديه فهو رشيد، وإن كان من أولاد الدهاقين والكبراء الذين يصان أمثالهم
عن الأسواق دفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحه فإن صرفها في مصارفها ومواقعها واستوفى على وكيله
فيما وكله واستقصى عليه دل على رشده، والمرأة يفوض إليها ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات
وتوكيلها في شراء الكتان وأشباه ذلك، فإن وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها فهي رشيدة
516

{مسألة} (وأن يحفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه)
كالغناء والقمار وشراء المحرمات، وشراء آلات اللهو والخمر وان يتوصل به إلى الفساد فهذا غير
رشيد لأنه تبذير لماله وتضييعه فيما لا فائدة فيه، فإن كان فسقه بالكذب والتهاون بالصلاة مع حفظه
لماله لم يمنع ذلك من دفع ماله إليه لما ذكرنا
{مسألة} (وعنه لا يدفع إلى الجارية مالها بعد رشدها حتى تتزوج وتلد أو تقيم في بيت الزوج سنة)
المشهور في المذهب ان الجارية إذا بلغت ورشدت دفع إليها مالها كالغلام وزال الحجر عنها وان لم
تتزوج وهذا قول عطاء والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، ونقل أبو طالب
عن أحمد أن الجارية لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج وتلد أو تقيم سنة في بيت الزوج، روي ذلك عن
عمر وبه قال شريح والشعبي وإسحاق لما روي عن شريح أنه قال. عهد إلي عمر بن الخطاب أن لا أجيز
لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد. رواه سعيد في سننه ولا يعرف له مخالف فصار
اجماعا، وقال مالك لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج ويدخل عليها زوجها لأن كل حالة جاز للأب
تزويجها من غير اذنها لم ينفك عنها الحجر كالصغيرة
ولنا عموم قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا
إليهم أموالهم) ولأنها يتيم بلغ وأنس منه الرشد فيدفع إليه ماله كالرجل، ولأنها بالغة رشيدة فجاز لها
التصرف في مالها كالتي دخل بها الزوج، وحديث عمر إن صح فلم نعلم انتشاره في الصحابة فلا يترك
به الكتاب والقياس، وعلى أن حديث عمر مختص بمنع العطية فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها
ومنعها من سائر التصرفات ومالك لم يعلم به وإنما اعتمد على اجبار الأب لها على النكاح
ولنا ان نمنعه وان سلمناه فإنما أجبرها على النكاح لأن اختبارها للنكاح ومصالحه لا يعلم الا بمباشرته
517

والبيع والشراء والمعاملات ممكنة قبل النكاح، وعلى هذه الرواية إذا لم تتزوج أصلا احتمل أن يدوم
الحجر عليها عملا بعموم حديث عمر ولأنه لم يوجد شرط دفع مالها إليها فلم يجز دفعه إليها كما لو لم ترشد
وقال القاضي عندي أنه يدفع إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال يعني كبرت
{مسألة} (وقت الاختبار قبل البلوغ في إحدى الروايتين)
وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الله تعالى قال (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن
آنستم منها رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فظاهر الآية ان ابتلاءهم قبل البلوغ لوجهين (أحدهما) أنه سماهم
يتامى وإنما يكونون يتامى قبل البلوغ (الثاني) أنه مد اختبارهم إلى البلوغ بلفظة حتى فيدل على أن الاختبار
قبله، ولان تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد لأن الحجر يمتد إلى أن
يختبر ويعلم رشده واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك فكان أولى، لكن لا يختبر إلا المراهق المميز
الذي يعرف البيع والشراء والمصلحة من المفسدة، وإذا أذن له وليه فتصرفه على ما
نذكره، وعنه ان اختباره بعد البلوغ أومأ إليه أحمد لأن تصرفه قبل ذلك تصرف ممن لم يوجد فيه
مظنة العقل ولأصحاب الشافعي نحو هذا الوجه
{فصل} قال رضي الله عنه (ولا تثبت الولاية على الصبي والمجنون الا للأب) لأنها ولاية على الصغير
فقدم فيها الأب كولاية النكاح ثم وصيته بعده لأنه نائبه أشبه وكيله في الحياة ثم للحاكم لأن الولاية
انقطعت من جهة القرابة فتثبت للحاكم كولاية النكاح ومذهب أبي حنيفة والشافعي ان الجد يقوم
مقام الأب في الولاية لأنه أب
ولنا أن الجد لا يدلي بنفسه وإنما يدلي بالأب الأدنى فلم يل مال الصغير كالأخ ولان الأب يسقط
الاخوة بخلاف الجد وترث الام معه ثلث الباقي في زوج وأم وأب وزوجة وأم أب بخلاف الجد فلا
518

يصح قياسه عليه فأما من سواهم فلا يثبت لهم ولاية لأن المال محل الجناية ومن سواهم قاصر النفقة
غير مأمون على المال فلم يله كالأجنبي، ومن شرط ثبوت الولاية على المال العدالة بغير خلاف لأن في تفويضها
إلى الفاسق تضييعا للمال فلم يجز كتفويضها إلى السفيه، وكذلك الحكم في السفيه إذا حجر عليه
صغيرا واستدام الحجر عليه بعد البلوغ
{مسألة} (وليس لوليهما التصرف في مالهما إلا على وجه الحظ لهما وما لاحظ فيه ليس له التصرف
به كالعتق والهبة والتبرعات والمحاباة)
لقول الله سبحانه وتعالى (ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن) وقوله عليه الصلاة والسلام
" لا ضرر ولا ضرار " رواه الإمام أحمد وهذا فيه اضرار فإن فعل شيئا من ذلك أو زاد على النفقة
عليهما أو على من تلزمهما مؤنته بالمعروف ضمن لأنه مفرط فضمن كتصرفه في مال غيرهما
{مسألة} (ولا يجوز أن يشتري من مالهما شيئا لنفسه ولا يبيعهما الا الأب لأنه غير
متهم عليه لكمال شفقته)
وبه قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي وزادوا الجد وقال زفر لا يجوز لأن حقوق العقد
تتعلق بالعاقد ولا يجوز ان يتعلق به حكمان متضادان، ولنا أن هذا يلي بنفسه فجاز أن يتولى طرفي العقد
كالسيد يزوج عبده أمته ولا نسلم ما ذكره من تعلق حقوق العقد بالعاقد، فأما الجد فلا ولاية له على ما
ذكرناه فهو كالأجنبي ولان التهمة بين الأب وولده منتفية إذ من طبعه الشفقة عليه والميل إليه وترك
حظ نفسه لحظه، وبهذا فارق الوصي والحكم وأمينه، فأما الحاكم والوصي فلا يجوز لهما ذلك لأنهما متهمان
في طلب الحظ لأنفسهما فلم يجز ذلك لهما بخلاف الأب
{مسألة} (ولوليهما مكاتبة رقيقهما وعتقه على مال)
519

إذا كان الحظ فيه مثل أن تكون قيمته ألفا فكاتبه بألفين أو يعتقه بهما فإن لم يكن فيها حظ لم
يصح، وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز اعتاقه لأن الاعتاق بمال تعليق له على شرط فلم يملكه ولي اليتيم
كالتعليق على دخول الدار، وقال الشافعي لا يجوز كتابته ولا اعتاقه لأن المقصود منهما العتق دون
المعاوضة فلم يجز كالاعتاق بغير عوض
ولنا أنها معاوضة لليتيم فيها حظ فملكها وليه كبيعه ولا عبرة بنفع العبد ولا يضره كونه تعليقا فإنه
إذا حصل لليتيم حظ لم يضره نفع غيره ولا كون العتق حصل بالتعليق وفارق ما قاسوا عليه فإنه لا نفع
فيه لعدم الحظ وانتفاء المقتضي لا لما ذكروه ولو قدر أن يكون في العتق بغير مال نفع كان نادرا وإن كان
العتق على مال بقدر قيمته أو أقل لم يجز لعدم الحظ فيه، وقال أبو بكر يتوجه جواز العتق بغير عوض
للحظ فيه مثل أن تكون له جارية وابنتها يساويان مائة مجتمعتين ولو أفردت إحداهما ساوت مائتين
ولا يمكن افرادها بالبيع فيعتق الأخرى لتكثر قيمة الباقية فتصير ضعف قيمتيهما
{مسألة} (وله تزويج إمائهما) إذا وجب تزويجهن بأن يطلبن ذلك أو يرى المصلحة فيه لأنه ولي
عليهن وقائم مقام مالكهن فكان له تزويجهن كالمالك.
{مسألة} (وله السفر بمالهما للتجارة فيه والمضاربة بمال اليتيم والمجنون وله أن يدفعه مضاربة
بجزء من الربح)
أبا كان أو وصيا أو حاكما أو أمين حاكم وهو أولى من تركه، وممن رأى ذلك ابن عمر والنخعي
والحسن بن صالح ومالك والشافعي وأبو ثور ويروى إباحة التجارة به عن عمر وعائشة والضحاك
ولا نعلم أحدا كرهه الا الحسن ولعله أراد اجتناب المخاطرة به ورأي خزنه احفظ له وهو قول الجمهور
لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ولي يتيما له مال
520

فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " وروي موقوفا على عمر وهو أصح من المرفوع ولان
ذلك أحفظ للمولي عليه لتكون نفقته من فاضله وربحه كما يفعله البالغون في أموالهم الا أنه لا
يتجر إلا في المواضع الآمنة ولا يدفعه الا إلى الامناء ولا يغرر به، وقد روى عن عائشة أنها
أبضعت مال محمد بن أبي بكر في البحر فيحتمل أنه كان في موضع مأمون قريب من الساحل، ويحتمل
أنها جعلت ضمانة عليها ان هلك
{مسألة} (والربح كله لليتيم)
يعني إذا أتجر بنفسه وأجاز الحسن بن صالح وإسحاق أن يأخذ الوصي مضاربة لنفسه
لأنه جاز له ان يدفعه بذلك فجاز ان يأخذه بذلك له، ويتخرج لنا مثل ذلك كما قلنا في الشريك
إذا فعل بنفسه ما يجوز له الإجارة عليه فإنه يستحق الأجرة في أحد الوجهين كذلك هذا وبه قال
أبو حنيفة، والصحيح ما قلناه لأن الربح نماء مال اليتيم فلا يستحقه غيره إلا بعقد ولا يجوز أن
يعقد الولي المضاربة لنفسه
{مسألة} (فأما ان دفعه إلى غيره فللمضارب ما جعل له الولي)
ووافقه عليه في قولهم جميعا لأن الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته، وهذا فيه مصلحته
فأشبه تصرف المالك في ماله.
(فصل) وله ابضاع ماله وهو دفعه إلى من يتجر به والربح كله لليتيم لأنه إذا جاز دفعه بجزء
من ربحه فدفعه إلى من يوفر الربح أولى
{مسألة} (ويجوز له بيعه نساء إذا كان له الحظ في ذلك)
فإنه قد يكون أكثر ثمنا وانفع لكن يحتاط على الثمن بأن يأخذ به رهنا أو كفيلا موثوقا يتحفظ الثمن به
{مسألة} (وله قرضه برهن)
521

إذا لم يكن في قرض مال اليتيم حظ له لم يجز، وإن كان في قرضه حظ لليتيم جاز. قال أحمد
لا تقرض مال اليتيم لاحد تريد مكافأته ومودته. ويقرض على النظر والشفقة كما صنع ابن عمر وقيل لأحمد
ابن عمر اقترض مال اليتيم قال: إنما استقرض نظرا لليتيم واحتياطا إن أصابه شئ غرمه. قال القاضي
ومعنى الحظ أن يكون للصبي مال في بلد فيريد نقله إلى بلد آخر فيقرضه من رجل في ذلك البلد ليقضيه
بدله في بلده يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله أو يخاف عليه الهلاك من نهب أو غرق أو غيرهما أو
يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو حديثه خير من قديمه كالحنطة ونحوها فيقرضه خوفا من السوس أو تنقص
قيمته، وأشباه هذا فيجوز القرض لأن لليتيم فيه حظا فجاز كالتجارة به، وان لم يكن فيه حظ لم يجز
لأنه تبرع بمال اليتيم فلم يجز كهبته، وان أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله، فإن أراد أن
يودع مال اليتيم فقرضه لثقة أولى من ذلك لأن الوديعة لا تضمن فإن لم يجد ثقة يستقرضه فله ايداعه
لأنه موضع حاجة، وان أودعه مع امكان قرضه جاز ولا ضمان عليه لأنه ربما رأى الايداع أولى
من القرض فلا يكون مفرطا وكل موضع قلنا له قرضه فلا يجوز إلا لملئ أمين ليأمن جحوده وتعذر
الايفاء وينبغي ان يأخذ رهنا ان أمكنه فإن تعذر عليه أخذ الرهن جاز تركه في ظاهر كلام أحمد لأن
الظاهر أن من يستقرضه لحظ اليتيم لا يبذل رهنا فاشتراط الرهن يفوت هذا الحظ، وظاهر كلام
شيخنا في هذا الكتاب المشروح أنه لا يجوز وكذلك ذكره أبو الخطاب لأن فيه احتياطا للمال،
فإن تركه احتمل ان يضمن ان ضاع المال لتفريطه واحتمل أن لا يضمن لأن الظاهر سلامته وهذا
ظاهر كلام احمد لكونه لم يذكر الرهن
(فصل) قال أبو بكر هل يجوز للوصي ان يستنيب فيما يتولى مثله بنفسه؟ على روايتين بناء
على الوكيل، وقال القاضي يجوز ذلك للوصي، وفي الوكيل روايتان وفرق بينهما بأن الوكيل يمكنه
الاستئذان والوصي بخلافه.
522

{مسألة} (وله شراء العقار لهما وبناؤه بما جرت عادة أهل بلده به)
إذا رأى المصلحة في ذلك كله لأنه مصلحة له فإنه يحصل له الفضل ويبقى الأصل والغرر فيه
أقل من التجارة لأن أصله محفوظ
(فصل) ويجوز ان يبني لهما عقارا لأنه في معنى الشراء أحظ وهو ممكن فيتعين تقديمه وإذا أراد
بناءه بناه بما يرى الحظ فيه مما جرت عادة أهل البلد به وقال أصحابنا يبنيه بالآجر والطين لا يبني
باللبن لأنه إذا هدم لا مرجوع له ولا بجص لأنه يلتصق بالآجر فلا يخلص منه فإذا انهدم فسد الآجر
لأن تخليصه منه يفضي إلى كسره وهذا مذهب الشافعي والذي قلناه أولى إن شاء الله فإنه إذا كان
الحظ له في البناء بغيره فتركه ضيع حظه وماله ولا يجوز تضييع الحظ العاجل وتحمل الضرر الناجز المتيقن
لتوهم مصلحة بقاء الاجر عند هدم البناء ولعل ذلك لا يكون في حياته ولا يحتاج إليه مع أن كثيرا من
البلدان لا يوجد فيها الآجر وكثير منها لم تجر عادتهم بالبناء به فلو كلفوا البناء به لاحتاجوا إلى غرامة
كثيرة لا يحصل منها طائل، فعلى هذا يحمل قول أصحابنا على من عادتهم البناء بالآجر كالعراق
ونحوها ولا يصح حمله في حق غيرهم وإنما يفعل ما ذكرنا من الشراء والبناء إذا رأى المصلحة فيه والحظ لهما
{مسألة} (وله شراء الأضحية لليتيم الموسر)
نص عليه إذا كان له مال كثير لا يتضرر بشرائها فيكون ذلك على وجه التوسعة في النفقة في هذا
اليوم الذي هو يوم عيد وفرج وفيه جبر قلبه وإلحاقه بمن له أب فينزل منزلة الثياب الحسنة وشراء
اللحم سيما مع استحباب التوسعة في هذا اليوم وجري العادة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " انها أيام
أكل وشرب وذكر الله عز وجل " رواه مسلم وهذا قول أبي حنيفة ومالك قال مالك إذا كان له ثلاثون
دينارا يضحي عنه بالشاة بنصف دينار. وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى لا يجوز وهو مذهب الشافعي
523

لأنه اخراج شئ من ماله بغير عوض فلم يجز كالهدية. قال شيخنا: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في
الروايتين على حالين فالموضع الذي منع التضحية إذا كان الطفل لا يعقل التضحية ولا يفرح بها ولا
ينكسر قلبه بتركها لعدم الفائدة فيها والموضع الذي أجازها إذا كان اليتيم يعقلها وينجبر قلبه بها وينكسر
بتركها لحصول الفائدة فيها، وعلى كل حال من ضحى عن اليتيم لم يتصدق بشئ منها ويوفرها لنفسه
لأنه لا تحل الصدقة بشئ من مال اليتيم تطوعا
(فصل) ومتى كان خلط مال اليتيم أرفق به وألين في الجبر وأمكن في حصول الادم فهو أولى،
وإن كان الافراد أرفق به أفرده لقول الله تعالى (ويسئلونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير وان
تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم) أي ضيق عليكم وشدد، من
قولهم أعنت فلان فلانا إذا ضيق عليه وشدد
{مسألة} (ويجوز تركه في المكتب وأداء الأجرة عنه بغير اذن الحاكم)
وحكي لأحمد قول سفيان: لا يسلم الوصي الصبي الا بإذن الحاكم فأنكر ذلك، وذلك لأن
المكتب من مصالحه فجرى مجرى نفقته لمأكوله وملبوسه، وكذلك يجوز أن يسلمه في صناعة إذا
كانت مصلحته في ذلك لما ذكرناه
{مسألة} (ولا يبيع عقارهم الا لضرورة أو غبطة وهو أن يزاد في ثمنه الثلث فصاعدا)
وجملة ذلك أنه لا يجوز بيع عقاره لغير حاجة لأننا نأمره بالشراء لما فيه من الحظ فبيعه إذا تفويت
للحظ فإن احتيج إلى بيعه جاز قال أحمد يجوز للوصي بيع الدور على الصغار إذا كان أحظ لهم وبه قال
الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وإسحاق قالوا يبيع إذا رأى الصلاح، قال القاضي لا يجوز بيعه
524

الا في موضعين (أحدهما) أن يكون فيه ضرورة إلى كسوة أو نفقة أو قضاء دين أو ما لابد منه وليس
له ما تندفع به حاجته (الثاني) أن يكون في بيعه غبطة وهو أن يبذل فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله،
قال أبو الخطاب كالثلث فما زاد أو يخاف عليه الهلاك بغرق أو خراب أو نحوه وهذا الذي ذكره شيخنا
في المقنع وهو قول في مذهب الشافعي وكلام أحمد يقتضي إباحة البيع في كل موضع يكون نظرا لهم ولا
يختص بما ذكروه فإن الولي قد يرى الحظ في غير هذا مثل أن يكون في مكان لا ينتفع به أو نفعه قليل
فيبيعه ويشتري له في مكان يكثر نفعه أو يرى شيئا في شرائه غبطة لا يمكنه شراؤه الا ببيع عقاره
وقد تكون داره بمكان يتضرر الغلام بالمقام فيها لسوء الجوار أو غيره فيبيعها ويشتري له بثمنها دارا
يصلح له المقام بها وأشباه هذا مما لا ينحصر وقد لا يكون له حظ في بيع عقاره وان دفع مثلا ثمنه إما
لحاجته إليه واما لأنه لا يمكن صرف ثمنه في مثله فيضيع الثمن ولا يبارك فيه فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم
" من باع دارا أو عقارا ولم يصرف ثمنه في مثله لم يبارك له فيه " فلا يجوز بيعه إذا فلا معنى
لتقييده بما ذكروه في الجواز ولا في المنع بل متى كان الحظ في بيعه جاز ومالا فلا، وهذا اختيار
شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله تعالى
{مسألة} (وان وصي لأحدهما بمن يعتق عليه ولا تلزمه نفقته لاعسار الموصى له أو غير ذلك
وجب على الولي قبول الوصية) لأنه مصلحة ليس فيها ضرر، وان كانت تلزمه نفقته لم يجز له قبولها
لما فيه من الضرر بتفويت ماله بالنفقة عليه
(فصل) قال رحمه الله (ومن فك عنه الحجر فعاوده السفه أعيد الحجر عليه) وجملة ذلك أن
المحجور عليه إذا فك عنه الحجر لرشده وبلوغه ودفع إليه ماله ثم عاد إلى السفه أعيد عليه الحجر وبه
525

قال القاسم بن محمد ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمد
وقال أبو حنيفة لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل وتصرفه نافذ، روي ذلك عن ابن سيرين والنخعي لأنه
مكلف فلم يحجر عليه كالرشيد. ولنا ما روى عروة بن الزبير ان عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا فقال على
لآتين عثمان ليحجر عليك فأتى عبد الله بن جعفر الزبير فقال قد ابتعت بيعا وان عليا يريد أن يأتي
أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر علي فقال الزبير أنا شريكك في البيع، فأتى علي عثمان فقال إن ابن
جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه فقال الزبير أنا شريكه في البيع فقال عثمان كيف أحجر على من
شريكه الزبير؟ قال أحمد لم أسمع هذا الا من أبي يوسف القاضي وهذه قضية يشتهر مثلها ولم يخالفها
أحد في عصرهم فتكون اجماعا ولأنه سفيه فحجر عليه كما لو بلغ سفيها فإن العلة التي اقتضت الحجر عليه
إذا بلغ سفيها سفهه وهو موجود ولان السفه لو قارن البلوغ منع دفع ماله إليه فإذا حدث وجب انتزاع
المال كالجنون وفارق الرشيد فإن رشده لو قارن البلوغ لم يمنع دفع ماله إليه، إذا ثبت ذلك فلا يحجر
عليه الا الحاكم وبهذا قال الشافعي وقال محمد يصير محجورا عليه بمجرد تبذيره لأن ذلك سبب الحجر
526

فأشبه الجنون، ولنا ان التبذير يختلف ويختلف فيه ويحتاج إلى الاجتهاد فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد
لم يثبت الا بحكم حاكم كالحجر على المفلس وفارق الجنون فإنه لا يفتقر إلى الاجتهاد ولا خلاف فيه
{مسألة} (ولا ينظر في ماله إلا الحاكم) لأن الحجر عليه يفتقر إلى الحاكم فكذلك النظر في ماله
{مسألة} (ولا ينفك عنه الحجر الا بحكمه)
يعني إذا رشد احتاج فك الحجر إلى حكم الحاكم وبه قال الشافعي وقيل ينفك بمجرد رشده،
قاله أبو الخطاب لأن سبب الحجر زال فيزول بزواله كما في حق الصبي والمجنون، ولنا أنه حجر ثبت
بحكم الحاكم فلا يزول الا بحكمه كالمفلس ولان الرشد يحتاج إلى تأمل واجتهاد في معرفته وزوال تبذيره
فكان كابتداء الحجر عليه وفارق الصبي والمجنون فإن الحجر عليهما بغير حكم الحاكم فيزول بغير
حكمه ولأننا لو وقفنا صحة تصرف الناس على الحاكم كان أكثر الناس محجورا عليهم، قال أحمد: والشيخ
الكبير ينكر عقله يحجر عليه يعني إذا كبر واختل عقله حجر عليه بمنزلة المجنون لأنه يعجز بذلك عن
التصرف في ماله على وجه المصلحة وحفظه فأشبه الصبي والمجنون
{مسألة} (ويستحب اظهار الحجر عليه وان يشهد عليه الحاكم ليظهر أمره فيجتنب
527

معاملته وإن رأى أن يأمر مناديا ينادي بذلك ليعرفه الناس فعل ولا يشترط الاشهاد لأنه قد ينتشر أمره لشهرته
{مسألة} (ويصح تزويجه بإذن وليه)
وبغير اذنه وهو قول أبي حنيفة واختاره القاضي، وقال أبو الخطاب لا يصح بغير اذن وليه
وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه تصرف يجب به مال فلم يصح بغير اذن وليه كالشراء، ووجه الأول
أنه عقد غير مالي فصح منه كخلعه وطلاقه ان لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن فلم يمنع صحة التصرف
(فصل) وان خالع صح خلعه لأنه إذا صح الطلاق ولا يحصل منه شئ فالخلع الذي يحصل به
المال أولى إلا أن العوض لا يدفع إليه وان دفع إليه لم يصح قبضه، وقال القاضي يصح وسنذكر ذلك
في باب الخلع فإن قلنا: لا يصح القبض فأتلفه بعد قبضه فلا ضمان عليه ولا تبرأ المرأة بدفعه إليه وهو
من ضمانها ان أتلفه أو تلف في يده لأنها سلطته عليه.
{مسألة} وهل يصح عتقه؟ على روايتين (إحداهما) لا يصح وهو قول القاسم بن محمد والشافعي (والثانية)
يصح لأنه عتق من مكلف مالك تام الملك فصح كعتق الراهن والمفلس
ولنا أنه تصرف في ماله فلم يصح كسائر تصرفاته ولأنه تبرع فأشبه هبته ووقفه ولأنه محجور عليه
لحفظ ماله عليه فلم يصح كعتق الصبي والمجنون وفارق المفلس والراهن فإن الحجر عليهما لحق غيرهما وفي
عتقهما خلاف أيضا قد ذكرناه
(فصل) ويصح تدبيره ووصيته لأن ذلك محض مصلحة لأنه تقرب إلى الله تعالى بماله بعد
غناه عنه ويصح استيلاده وتعتق الأمة المستولدة بموته لأنه إذا صح ذلك من المجنون فمن السفيه
أولى وله المطالبة بالقصاص لأنه موضع للتشفي والانتقام وهو من أهله وله العفو على مال لأنه
تحصيل للمال لا تضييع له، وإن عفا على غير مال وقلنا الواجب القصاص عينا صح عفوه لأنه لم
يتضمن تضييع المال، وإن قلنا أحد شيئين لم يصح عفوه عن المال ووجب المال كما لو سقط
القصاص بعفو أحد الشريكين
528

وان أحرم بالحج صح لأنه مكلف أشبه غيره ولأنه عبادة فصحت منه كسائر العبادات فإن كان
أحرم بفرض دفع إليه النفقة من ماله ليسقط الفرض عن نفسه وإن كان تطوعا وكانت نفقته في السفر
كنفقته في الحضر دفعت لأنه لا ضرر في إحرامه فإن زادت نفقة السفر فقال: انا أكسب تمام نفقتي
دفعت إليه أيضا لأنه لا يضر بماله وان لم يكن له كسب فلوليه تحليله لما في مضيه فيه من تضييع ما له ويتحلل
بالصيام كالمعسر لأنه ممنوع من التصرف في ماله، ويحتمل أن لا يملك وليه تحليله بناء على العبد
إذا أحرم بغير إذن سيده وان لزمه كفارة يمين أو ظهار أو قتل أو وطئ في نهار رمضان كفر بالصيام
لما ذكرنا وان أعتق أو أطعم لم يجزه لأنه ممنوع من ماله أشبه المفلس، وبهذا قال الشافعي، ويتخرج
أن يجزئه العتق بناء على قولنا بصحة عتقه وان نذر عبادة بدنية لزمه فعلها لأنه غير محجور عليه في
بدنه وان نذر الصدقة بمال لم يصح منه وكفر بالصيام فإن فك الحجر عنه قبل تكفيره في هذه المواضع
لزمه العتق إن قدر عليه ومقتضى قول أصحابنا أنه يلزمه الوفاء بنذره بناء على قولهم فيمن أقر قبل
فك الحجر عنه ثم فك الحجر عنه أنه يلزمه أداؤه وان فك بعد تكفيره لم يلزمه شئ كما لو كفر عن
يمينه بالصيام ثم فك الحجر عنه
{مسألة} (وان أقر بحد أو قصاص أو نسب أو طلق زوجته أخذ به)
وجملة ذلك أن المحجور عليه لسفه أو فلس إذا أقر بما يوجب حدا أو قصاصا كالزنا والسرقة
والقذف والقتل والشرب أو قطع اليد وما أشبههما فإنه يصح اقراره ويلزمه حكم ذلك في الحال بغير
خلاف علمناه، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن اقرار المحجور عليه على
نفسه جائز إذا كان اقراره بزنا أو سرقة أو شرب خمر أو قذف أو قتل وان الحدود تقام عليه.
وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه غير متهم
في حق نفسه والحجر إنما تعلق بماله فقبل اقراره على نفسه بمال يتعلق بالمال وان طلق زوجته نفذ
طلاقه في قول الأكثرين، وقال ابن أبي ليلى لا يقع لأن البضع يجري مجرى المال بدليل أنه يملكه
بمال ويصح أن يزول ملكه عنه بمال فلم يملك التصرف فيه كالمال
529

ولنا ان الطلاق ليس بتصرف في المال ولا يجري مجراه فلا يمنع منه كالاقرار منه بالحد والقصاص
ودليل أنه لا يجري مجرى المال أنه يصح من العبد بغير إذن سيده مع منعه من التصرف في المال ولأنه
مكلف طلق امرأته مختارا فوقع طلاقه كالعبد والمكاتب
(فصل) وان أقر بما يوجب القصاص فعفا المقر له على مال احتمل أن يجب المال لأنه عفو عن
قصاص ثابت فصح كما لو ثبت بالبينة واحتمل أن لا يصح لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الاقرار بالمال
بان يتواطأ المحجور عليه والمقر له على الاقرار بالقصاص والعفو عنه إلى مال ولأنه وجوب مال مستنده
اقراره فلم يثبت كالاقرار به ابتداء فعلى هذا القول يسقط القصاص ولا يجب المال في الحال
(فصل) وان أقر بنسب ولد قبل منه لأنه ليس باقرار بمال ولا تصرف فيه فقبل كاقراره بالحد
والطلاق وإذا ثبت النسب لزمته أحكامه من النفقة وغيرها لأن ذلك حصل ضمنا لما صح منه
فأشبه نفقة الزوجة.
{مسألة} (قال وان أقر بمال لم يلزمه. في حال حجره ويحتمل أن لا يلزمه مطلقا)
إذا أقر السفيه بمال كالدين أو ما يوجبه كجناية الخطأ وشبه العمد واتلاف المال وغصبه وسرقته
لم يقبل اقراره به لأنه محجور عليه لحظه فأشبه الصبي والمجنون ولأنا لو قبلنا اقراره في ماله لزال
فائدة الحجر لأنه يتصرف في ماله ثم يقربه فيأخذه المقر له ولأنه أقر بما هو ممنوع من التصرف فيه
فلم ينفذ كاقرار الراهن على الرهن والمفلس على المال، وظاهر قول الأصحاب أنه يلزمه ما أقربه
بعد فك الحجر عنه، وهو قول أبي ثور واختيار الخرقي لأنه مكلف أقر بما يلزمه في الحال فلزمه
بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بالدين وكاقرار الراهن على الرهن وكاقرار المفلس، ويحتمل أن لا
يصح اقراره ولا يؤخذ به في الحكم بحال، وهذا مذهب الشافعي لأنه محجور عليه لعدم رشده فلم يلزمه
حكم اقراره بعد فك الحجر عنه كالصبي والمجنون ولا المنع من نفوذ اقراره في الحال إنما ثبت لحفظ
ماله عليه ودفع الضرر عنه فلو نفذ بعد فك الحجر عنه لم يفد الا تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه
530

وفارق المحجور عليه لحق غيره فإن المانع تعلق حق الغرماء بماله فيزول المانع بزوال الحق عن
ماله فيثبت مقتضى اقراره وفي مسئلتنا انتفى الحكم لخلل في الاقرار فلم يثبت كونه سببا وبزوال
الحجر لم يكمل السبب فلا يثبت الحكم مع اختلال السبب كما لا يثبت بعد فك الحجر ولان الحجر
لحق الغير فلم يمنع تصرفهم في ذممهم فأمكن تصحيح اقرارهم في ذممهم على وجه لا يضر بغيرهم والحجر
ههنا لحظ نفسه من أجل ضعف قلبه وسوء تصرفه ولا يندفع الضرر الا بابطال اقراره بالكلية كالصبي
والمجنون. فأما صحته فيما بينه وبين الله تعالى فإن علم صحة ما أقر به كدين لزمه من جناية أو دين
لزمه قبل الحجر عليه فعليه أداؤه لأنه علم أن عليه حقا فلزمه أداؤه كما لو لم يقر به، وان علم فساد اقراره
مثل أن علم أنه أقر بدين ولا دين عليه أو بجناية لم توجد منه أو أقر بما لا يلزمه مثل أن أتلف مال
من دفعه إليه بقرض أو بيع لم يلزمه أداؤه لأنه يعلم أنه لا دين عليه فلم يلزمه كما لو لم يقر به
{مسألة} (وحكم تصرف وليه حكم تصرف ولي الصبي والمجنون على ما ذكرنا من قبل)
لأنه محجور عليه لحظه فهو كالصبي والمجنون
{مسألة} قال الشيخ رحمه الله (وللولي أن يأكل من مال المولي عليه بقدر عمله إذا احتاج إليه)
وإن كان غنيا لم يجز له ذلك إذا لم يكن أبا لقول الله تعالى (فمن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف) وإذا كان فقيرا فله أقل الأمرين أجرته أو قدر كفايته لأنه يستحقه بالعمل والحاجة جميعا
فلم يجز أن يأخذ الا ما وجدا فيه وقال ابن عقيل يأكل وإن كان غنيا قياسا على العمل في الزكاة والآية
محمولة على الاستحباب والأول أولى لظاهر الآية
{مسألة} (وهل يلزمه عوض ذلك إذا أيسر؟ على روايتين)
أما إذا كان أبا فلا يلزمه رواية واحدة لأن للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة
وعدمها وإن كان غير الأب لم يلزمه عوض ذلك في إحدى الروايتين وهذا قول الحسن والنخعي
وأحد قولي الشافعي لأن الله تعالى أمر بالاكل من غير ذكر عوض فأشبه سائر ما أمر بأكله، ولأنه عوض
عن عمله فلم يلزمه بدله كالأجير والمضارب (والثانية) يلزمه عوضه وهو قول عبيدة السلماني وعطاء
ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية لأنه استباحه بالحاجة من مال غيره فلزمه قضاؤه كالمضطر إلى
طعام غيره، والأول أصح لأنه لو وجب عليه إذا أيسر لكان واجبا في الذمة قبل اليسار فإن اليسار
ليس سببا للوجوب فإذا لم يجب بالسبب الذي هو الاكل لم يجب بعده وفارق المضطر فإن العوض
واجب عليه في ذمته، ولأنه لم يأكله عوضا عن شئ وهذا بخلافه
{مسألة} (وكذلك يخرج في الناظر في الوقف) قياسا عليه
{مسألة} (ومتى زال الحجر عنه فادعى على الولي تعديا أو ما يوجب ضمانا فالقول قول الولي)
إذا ادعى الولي الانفاق على الصبي والمجنون أو على ماله أو عقاره بالمعروف من ماله أو ادعى
531

أنه باع عقارا لحظه أو بناه لمصلحته أو أنه تلف قبل قوله، وقال أصحاب الشافعي: لا يمضي الحاكم
بيع الأمين والوصي حتى يثبت عنده الحظ ببينة ولا يقبل قولهما في ذلك ويقبل قول الأب والجد.
ولنا أن من جاز له بيع العقار وشراؤه لليتيم يجب أن يقبل قوله في الحظ كالأب والجد، ولأنه يقبل
قوله في عدم التفريط فيما تصرف فيه من غير العقار فيقبل قوله في العقار كالأب، وإذا بلغ الصبي فادعى
أنه لاحظ له في البيع لم يقبل الا ببينة، فإن لم تكن بينة فالقول قول الولي مع يمينه، وان قال الولي أنفقت
عليك منذ ثلاث سنين وقال الغلام إنما مات أبي منذ سنتين فقال القاضي القول قول الغلام لأن الأصل
حياة والده واختلافهما في أمر ليس الوصي أمينا فيه فقدم قول من يوافق قوله الأصل
{مسألة} (وكذلك القول قوله في دفع المال إليه بعد رشده)
لأنه أمين فأشبه المودع، ويحتمل أن القول قول الصبي لأن أصله معه ولان الله سبحانه قال
(فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) فمن ترك الاشهاد فقد فرط فلزمه الضمان والأول المذهب
وكذلك الحكم في المجنون والسفيه
{مسألة} (وهل للزوج أن يحجر على امرأته في التبرع بما زاد على الثلث من مالها؟ على روايتين)
(إحداهما) ليس له الحجر عليها وهو قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر وهو ظاهر كلام
الخرقي (والثانية) ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض الا باذن زوجها، وبه
قال مالك وحكي عنه في امرأة حلفت بعتق جارية ليس لها غيرها فحنثت ولها زوج فرد ذلك عليها
زوجها، قال له أن يرد عليها وليس لها عتق لما روي أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي صلى الله عليه وسلم بحلي
لها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجوز للمرأة عطية حتى يأذن زوجها فهل استأذنت كعبا " فقالت نعم
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب فقال " هل أذنت لها أن تتصرف بحليها؟ " فقال نعم فقبله. رواه
ابن ماجة، وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة
خطبها " لا يجوز لامرأة عطية في مالها الا باذن زوجها إذ هو مالك عصمتها " رواه أبو داود ولفظه
عن عبد الله بن عمرو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يجوز لامرأة عطية الا باذن زوجها "
ولان حق الزوج متعلق بما لها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تنكح المرأة لما لها ودينها " والعادة
أن الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها ويتبسط فيه وينتفع به، وإذا أعسر بالنفقة أنظرته فجرى
ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال المريض
ولنا قول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا أموالهم) وهو ظاهر في فك الحجر عنهم
واطلاقهم في التصرف، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن "
وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولا استفصل، أتته زينب امرأة عبد الله وامرأة أخرى
اسمها زينب فسألته عن الصدقة هل يجزئهن أن يتصدقن على أزواجهن وأيتام لهن، فقال " نعم "
ولم يذكر لهن هذا الشرط ولان من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير
اذن كالغلام، ولان المراة من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في
532

التصرف بجميعه كأختها وحديثهم ضعيف وشعيب لم يذكر عبد الله بن عمرو فهو مرسل ويمكن حمله
على أنه لا يجوز عطيتها من ماله بغير اذنه بدليل انه يجوز عطيتها ما دون الثلث من مالها وليس
معهم حديث يدل على تحديد المنع بالثلث والتحديد بذلك تحكم ليس فيه توقيف ولا عليه دليل، ولا
يصح قياسهم على المريض لوجوه
(أحدها) ان المرض سبب يفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث والزوجية إنما تجعله من أهل
الميراث فهي أحد وصفي العلة فلا يثبت الحكم بمجردها كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا
لسائر الوراث بدون المرض (الثاني) ان تبرع المريض موقوف فإن برئ من مرضه صح تبرعه وههنا
أبطلوه على كل حال والفرع لا يزيد على أصله (الثالث) أن ما ذكروه منتقض بالمرأة فإنها تنتفع بمال
زوجها وتتبسط فيه عادة ولها النفقة منه وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بمالها وليس لها الحجر عليه
على أن هذا المعنى ليس بموجود في الأصل ومن شرط صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم
في الأصل والفرع جميعا
{فصل} في الاذن. قال الشيخ رحمه الله {يجوز لولي الصبي المميز أن يأذن له في التجارة
في إحدى الروايتين}
ويصح تصرفه بالاذن وهذا قول أبي حنيفة (والثانية) لا يصح حتى يبلغ وهو قول الشافعي لأنه
غير مكلف أشبه غير المميز. ولان العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصلح به للتصرف لخفائه
وتزايده تزايدا خفي التدريج فجعل الشارع له ضابطا وهو البلوغ فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل
وجود المظنة ولنا قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم) ومعناه اختبروهم لتعلموا رشدهم وإنما يتحقق اختبارهم بتفويض التصرف إليهم
من البيع والشراء ليعلم هل يغبن أم لا، ولأنه عاقل مميز محجور عليه فصح تصرفه بإذن وليه كالعبد
وفارق غير المميز فإنه لا تحصل المصلحة بتصرفه لعدم تمييزه ومعرفته ولا حاجة إلى اختباره لأنه قد
علم حاله، وقولهم ان العقل لا يمكن الاطلاع عليه، قلنا يعلم ذلك بآثاره وجريان تصرفاته على وفق
المصلحة كما يعلم في حق البالغ فإن معرفة رشده شرط دفع ماله إليه وصحة تصرفه، ويحتمل أن يصح
ويقف على إجازة الولي وهو قول أبي حنيفة ومبنى ذلك على ما إذا تصرف في مال غيره بغير
إذنه وقد ذكرناه فيما مضى
{مسألة} (ويجوز ذلك لسيد العبد)
بغير خلاف نعلمه لأن الحجر عليه إنما كان لحق السيد فجاز له التصرف باذنه لزوال المانع
{مسألة} (ولا ينفك عنهما الحجر الا فيما اذن لهما فيه وفي النوع الذي أمرا به
لأن تصرفه إنما جاز بأذن وليه وسيده فزال الحجر في قدر ما أذنا فيه دون غيره كالتوكيل،
533

فإن دفع السيد إلى عبده مالا يتجر فيه كان له ان يبيع ويشتري ويتجر به وان أذن له أن يشتري في
ذمته جاز، وان عين له نوعا من المال يتجر فيه لم يكن له ان يتجر في غيره وبهذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة: يجوز ان يتجر في غيره وينفك عنه الحجر مطلقا لأن اذنه اطلاق من الحجر وفك له
والاطلاق لا يبعض كبلوغ الصبي
ولنا انه متصرف بالاذن من جهة الآدمي فوجب أن يختص ما اذن له فيه كالوكيل والمضارب وما
قاله ينتقض بما إذا اذن له في شراء ثوب ليلبسه أو طعام ليأكله ويخالف البلوغ فإنه يزول به المعنى
الموجب للحجر فإن البلوغ مظنة كمال العقل الذي يتمكن به من التصرف على وجه المصلحة وههنا الرق
سبب الحجر وهو موجود فنظير البلوغ في الصبي العتق للعبد وإنما يتصرف العبد بالاذن الا ترى ان
الصبي يستفيد بالبلوغ قبول النكاح بخلاف العبد
{مسألة} (وان اذن له في جميع أنواع التجارة لم يجز ان يؤجر نفسه ولا يتوكل لغيره)
وبه قال الشافعي وجوزهما أبو حنيفة لأنه يتصرف لنفسه فملك ذلك كالمكاتب، ولنا انه عقد على
نفسه فلا يملكه بالاذن في التجارة كبيع نفسه وتزويجه وقولهم يتصرف لنفسه ممنوع إنما يتصرف لسيده
وبهذا فارق المكاتب فإن المكاتب يتصرف لنفسه ولهذا كان له أن يبتاع من سيده
{مسألة} (وهل له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه على روايتين)
(إحداهما) لا يجوز لأنه تصرف بالاذن فاختص بما أذن فيه ولم يؤذن له في التوكيل (والثانية) يجوز
لأنهم يملكون التصرف بأنفسهم فملكوه بنائبهم كالمالك الرشيد ولأنه أقامه مقام نفسه
{مسألة} (وان رآه سيده أو وليه يتجر فلم ينهه لم يصر مأذونا)
وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في العبد يصير مأذونا له لأنه سكت عن حقه فكان مسقطا له
كالشفيع إذا سكت عن طلب الشفعة
ولنا أنه تصرف يفتقر إلى الاذن فلم يقم السكوت مقام الاذن كما لو باع الراهن الرهن والمرتهن
ساكت أو باعه المرتهن والراهن ساكت وكتصرفات الأجانب ويخالف الشفعة فإنها تسقط بمضي
الزمان إذا علم لأنها على الفور
{مسألة} (وما استدان العبد فهو في رقبته يفديه سيده أو يسلمه وعنه يتعلق بذمته يتبع به بعد العتق
الا المأذون له هل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين)
يقال ادان واستدان وتداين بمعنى واحد والعبد قسمان: محجور عليه فما لزمه من الدين بغير رضا
سيده مثل ان يقترض ويشتري شيئا في ذمته ففيه روايتان (إحداهما) يتعلق برقبته اختارها الخرقي
وأبو بكر لأنه دين لزمه بغير اذن سيده فتعلق برقبته كالاتلاف (والثانية) يتعلق بذمته يتبعه الغريم
به إذا عتق وأيسر وهو مذهب الشافعي لأنه متصرف في ذمته بغير اذن سيده فتعلق بذمته كعوض
الخلع من الأمة وكالحر (والقسم الثاني) المأذون له في التصرف أو في الاستدانة فما يلزمه من الدين هل
534

يتعلق برقبته أو ذمة سيده، على روايتين (إحداهما) يتعلق برقبته وهو ظاهر قول أبي حنيفة لأنه قال
يباع إذا طالب الغرماء ببيعه وهذا معناه أنه يتعلق برقبته لأنه دين ثبت برضا من له العين فيباع فيه
كما لو رهنه (والثانية) يتعلق بذمة السيد وهو الذي ذكره الخرقي فعلى هذه الرواية يلزم مولاه
جميع ما أدان، وقال مالك والشافعي إن كان في يده مال قضيت ديونه منه، وإن لم يكن في يده
شئ تعلق بذمته يتبع به إذا عتق وأيسر لأنه دين ثبت برضا من له الدين أشبه غير المأذون
أو فوجب ان لا يتعلق برقبته كما لو اقترض بغير اذن سيده ووجه قول الخرقي أنه إذا أذن له
في التجارة فقد أغرى الناس بمعاملته واذن فيها فصار ضامنا كما لو قال لهم داينوه أو اذن في استدانة
تزيد على قيمته، ولا فرق بين الدين الذي لزمه في التجارة المأذون فيها أو فيما لم يؤذن له فيه مثل ان
اذن له في التجارة في البر فاتجر في غيره فإنه لا ينفك عن التغرير إذ يظن الناس انه مأذون له في ذلك أيضا
(فصل) فأما أروش جناياته وقيم متلفاته فهي متعلقة برقبة العبد سواء كان مأذونا له أولا رواية
واحدة وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وكل ما تعلق برقبة العبد خير السيد بين تسليمه للمبيع وبين فدائه
فإذا بيع وكان ثمنه أقل مما عليه فليس لرب الدين الا ذلك لأن العبد هو الجاني فلم يجب على غيره
شئ وإن كان ثمنه أكثر فالفضل للسيد، وذكر القاضي ان ظاهر كلام احمد ان السيد لا يرجع بالفضل
ولعله يذهب إلى أنه دفعه إليه عوضا عن الجناية فلم يبق لسيده فيه شئ كما لو ملكه إياه عوضا عن
الجناية وليس هذا صحيحا فإن المجني عليه لا يستحق أكثر من قدر أرش الجناية عليه فهو كما لو جنى عليه
حر والجاني لا يجب عليه أكثر من أرش جنايته ولان الحق تعلق بعينه فكان الفضل من ثمنه لسيده
كالرهن ولا يصح قولهم انه دفعه عوضا لأنه لو كان عوضا لملكه المجني عليه ولم يبع في الجناية وإنما
دفعه ليباع فيؤخذ منه عوض الجناية ويرد إليه الباقي وكذلك لو أتلف درهما لم يبطل حق سيده منه
منه بذلك وان عجز عن أداء الدراهم من غيره ثمنه فإن اختار السيد فداءه لزمه أقل الأمرين من قيمته
أو أرش جنايته لأن أرش الجناية إن كان أكثر فلا يتعلق بغير العبد الجاني لعدم الجناية من غيره وإنما
تجب قيمته وإن كان أقل فلم يجب بالجناية الا هو وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه أرض الجناية كله
لأنه يجوز أنه يرغب فيه راغب فيشتريه بأرش الجناية فإذا منع منه لزمه جميع الأرش لتفويته ذلك
وللشافعي قولان كالروايتين
(فصل) فإن تصرف العبد غير المأذون ببيع أو شراء بعين المال لم يصح لأنه تصرف من المحجور
عليه فيما حجر عليه فيه أشبه المفلس وقياسا على تصرف الا جني، ويتخرج أن يصح ويقف على إجازة
السيد كتصرف الفضولي، فأما شراؤه بثمن في ذمته واقتراضه فيحتمل أن لا يصح لأنه محجور عليه
أشبه السفيه، ويحتمل أن يصح لأن الحجر لحق غيره أشبه المفلس والمريض، ويتفرع عن هذين
الوجهين أن التصرف إن كان فاسدا فللبائع والمقرض أخذ ماله إن كان باقيا سواء كان في يد العبد
أو السيد، وإن كان تالفا فله قيمته أو مثله إن كان مثليا، فإن تلف في يد السيد رجع عليه بذلك
535

لأن عين ماله تلف في يده وان شاء كان ذلك متعلقا برقبة العبد لأنه الذي أخذه منه، وان تلف
في يد العبد فالرجوع عليه وهل يتعلق برقبته أو ذمته؟ على روايتين، وان قلنا التصرف صحيح
والمبيع في يد العبد فللبائع فسخ البيع وللمقرض الرجوع فيما أقرض لأنه قد تحقق اعسار المشتري
والمقترض فهو أسوأ حالا من الحر المعسر، وإن كان السيد قد انتزعه من يد العبد ملكه بذلك لأنه
أخذ من عبده مالا في يده بحق فهو كالصيد، فإذا ملكه السيد كان كهلاكه في يد العبد ولا يملك
البائع والمقرض انتزاعه من السيد بحال فإن كان قد تلف استقر ثمنه في رقبة العبد أو في ذمته
سواء تلف في يد العبد أو السيد
{مسألة} (وإذا باع السيد عبده المأذون شيئا لم يصح في أحد الوجهين)
لأنه مملوكه فلا يثبت له دين في ذمته كغير المأذون له أو كمن لا دين عليه ويصح في الآخر
إذا كان عليه دين بقدر قيمته لأنا إذا قلنا إن الدين يتعلق برقبته فكأنه صار مستحقا لأصحاب
الديون فيصير كعبد غيره.
{مسألة} (ويصح اقرار المأذون له في قدر ما اذن له فيه دون ما زاد عليه)
لأنه لم يؤذن له فيه فهو كغير المأذون له ولان الذي اذن له فيه يصح تصرفه فيه فصح اقراره به كالحر
{مسألة} (وان حجر عليه وفي يده مال ثم اذن له فيه فأقر به صح)
لأن المانع من صحة اقراره الحجر عليه وقد زال ولأنه يصح تصرفه فيه فصح اقراره به كما لو لم
يحجر عليه وقياسا على غيره من الأحرار
{مسألة} (ولا يبطل الاذن بالإباق)
وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يبطل لأنه يزيل ولاية السيد عنه في التجارة بدليل أنه
لا يجوز بيعه ولا هبته ولا رهنه فأشبه ما لو باعه. ولنا ان الإباق لا يمنع ابتداء الاذن له في التجارة
فلم يمنع استدامته كما لو غصب غاصب أو حبس بدين عليه ولا يصح ما ذكروه فإن سبب الولاية باق
وهو الرق ويجوز بيعه واجارته ممن يقدر عليه ويبطل بالمغصوب
{مسألة} (ولا يصح تبرع المأذون له بهبة الدراهم وكسوة الثياب) لأن ذلك ليس من التجارة ولا
يحتاج إليه فيها فأشبه غير المأذون له
{مسألة} (وتجوز هديته للمأكول وإعارة دابته)
واتخاذ الدعوة ما لم يكن اسرافا وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يجوز ذلك بغير اذن سيده
لأنه تبرع بمال مولاه فلم يجز كهبة الدراهم، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك
فروى أبو سعيد مولى بني أسيد أنه تزوج فحضر دعوته أناس من أصحاب رسول الله عليه وسلم
منهم عبد الله بن مسعود وحذيفة وأبو ذر فأمهم وهو يومئذ عبد رواه صالح في مسائله باسناده ولأنه مما
جرت به عادة التجارة فيما بينهم فيدخل في عموم الاذن
536

{مسألة} (وهل لغير المأذون له الصدقة من قوته بالرغيف ونحوه إذا لم يضربه؟ على روايتين)
(إحداهما) ليس له ذلك لأن المال لسيده وإنما أذن له في الاكل فلم يملك الصدقة به كالضيف
ولا يتصدق بما أذن له في أكله (والثانية) يجوز لأنه مما جرت العادة بالمسامحة فيه والاذن عرفا فجاز
كصدقة المرأة من بيت زوجها
{مسألة} (وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير اذنه بنحو ذلك؟ على روايتين)
(إحداهما) يجوز لأن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنفقت المرأة من بيت زوجها
غير مفسدة كان لها اجرها وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينقص
من أجورهم شئ " ولم يذكر اذنا، وعن أسماء انها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ليس
لي شئ الا ما ادخل علي الزبير فهل علي جناح ان ارضخ مما يدخل علي. قال: " ارضخي ما استطعت
ولا توعي فيوعي الله عليك " متفق عليهما. وروي ان امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله:
إنا كل على أزواجنا وأبنائنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال " الرطب تأكلينه وتهدينه " ولان العادة السماح بذلك
وطيب النفس به فجرى مجرى صريح الاذن كما أن تقديم الطعام بين يدي الاكلة قام مقام صريح الاذن في أكله
(والثانية) لا يجوز لما روى أبو أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا
تنفق المرأة شيئا من بيتها الا باذن زوجها " قيل يا رسول الله ولا الطعام قال " ذاك أفضل أموالنا " رواه
سعيد في سننه وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه " وقال " ان
الله حرم بينكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " ولأنه تبرع بمال غيره
بغير اذنه فلم يجز كغير الزوجة، والصحيح الأول لأن الأحاديث فيه خاصة صحيحة والخاص يقدم على
العام ويثبته ويعرف ان المراد بالعام الصورة المخصوصة والحديث الخاص للرواية الثانية ضعيف ولا
يصح قياس امرأة على غيرها لأنها بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه وتتصدق منه لحضورها
وغيبته والاذن العرفي يقوم مقام الاذن الحقيقي فصار كأنه قال لها افعلي هذا. فأما ان منعها ذلك وقال
لا تتصدقي بشئ ولا تتبرعي من مالي بقليل ولا كثير لم يجز لها ذلك لأن المنع الصريح نفي الاذن العرفي
وكذلك لو كانت امرأته ممنوعة من التصرف في بيت زوجها كالذي يطعمها بالفرض ولا يمكنها من طعامه
فهو كما لو منعها بالقول فإن كان في بيت الرجل من يقوم مقام امرأته كجاريته وأخته وغلامه المتصرف في
بيت سيده وطعامه فهو كالزوجة فيما ذكرنا لوجود المعنى فيه والله أعلم
(تم طبع الجزء الرابع بعون الله ويليه الجزء الخامس بمشيئته وأوله (كتاب الصلح)
537