الكتاب: الشرح الكبير
المؤلف: عبد الرحمن بن قدامه
الجزء: ٩
الوفاة: ٦٨٢
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

الشرح الكبير
على متن المقنع، تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد
بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 682 ه‍
كلاهما على مذهب إمام الأئمة (أبي عبد الله أحمد بن محمد بن
حنبل الشيباني) مع بيان خلاف سائر الأئمة وأدلتهم رضي الله عنهم
الجزء التاسع
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب اللعان)
قيل هو مشتق من اللعن لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا.
وقال القاضي سمي بذلك لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذبا فتحصل اللعنة عليه
وهي الطرد والابعاد، والأصل فيه قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) الآيات وروى سهل ابن سعد أن عويمرا العجلاني اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا
وجد مع امرأته رجلا فيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد أنزل الله عز وجل
فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها " قال سهل فتلاعنا، وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا
2

قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها. فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق
عليه. وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس قال جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين تاب
الله عليهم - فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهجه حتى أصبح ثم غدا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا فرأيت بعيني
وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثه واشتد عليه فنزلت (والذين يرمون أزواجهم
ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم) الآيتين كلتيهما فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ابشر
يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " قال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي تبارك وتعالى، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهما وأخبرهما إن عذاب
الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال: والله لقد صدقت عليها: فقالت كذب. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لاعنوا بينهما " فقيل لهلال اشهد فقال اشهد بالله فشهد أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين
فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وان هذه الموجبة
التي توجب عليك العذاب، فقال والله لا يعذبني الله عليها فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين. ثم قيل لها: اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها
اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب
3

فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة ان غضب الله عليها إن كان من الصادقين
ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان
من غير طلاق ولا متوفى عنها، وقال " إن جاءت به أصيهب أريضخ أثيبج حمش الساقين فهو لهلال،
وإن جاءت به جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به " فجاءت به جعدا أورق
جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا الايمان لكان لي ولها شأن "
قال عكرمة فكان بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعي لأب. ولان الزوج يبتلى بقذف امرأته لنفي
العار والنسب الفاسد وتتعذر عليه البينة فجعل اللعان بينة له ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه وسلم
" أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا "
(مسألة) (إذا قذف الرجل زوجته بالزنا فله إسقاط الحد عنه باللعان)
وجملة ذلك أن الرجل إذا قذف زوجته المحصنة بالزنا وجب عليه الحد وحكم بفسقه ورد شهادته
إلا أن يأتي ببينة أو يلاعن، فإن لم يأت بأربعة شهداء وامتنع من اللعان لزمه ذلك كله وبهذا قال مالك
والشافعي، وقال أبو حنيفة يجب اللعان دون الحد فإن أبي حبس حتى يلاعن لأن الله تعالى قال (والذين
4

يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انه) الآيات فلم
يوجب بقذف الأزواج إلا اللعان
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا
تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) وهذا عام في الزوج وغيره وإنما خص الزوج بان أقام لعانه
مقام الشهادة في نفي الحد والفسق ورد الشهادة عنه ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية " البينة
والاحد في ظهرك " وقوله له لما لاعن " عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة " ولأنه قاذف فلزمه
الحد كما لو اكذب نفسه إذا لم يأت بالبينة المشروعة كالأجنبي
(مسألة) (وصفة اللعان ان يبدأ الزوج فيقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي
هذه من الزنا ويشير إليها)
ولا يحتاج مع الحضور والإشارة إلى تسمية ونسب كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود، وان لم
تكن حاضرة أسماها حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها حتى يكمل ذلك أربع مرات ثم يقول في الخامسة
وان لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا. ثم تقول هي أشهد بالله ان زوجي هذا
من الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه إن كان حاضرا وإن كان غائبا أسمته ونسبته فإذا كملت
أربع مرات تقول في الخامسة وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا لقول
5

الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآيات ولما ذكرنا من حديث عويمر العجلاني وحديث هلال بن
أمية في أول الباب
(مسألة) (فإن نقص أحدهما من الألفاظ الخمسة شيئا أو بدأت باللعان قبله أو تلاعنا بغير
حضرة الحاكم أو نائبه لم يعتد به)
وجملة ذلك أنه يشترط في صحة اللعان شروط ستة (أحدها) استكمال اللفظات الخمسة فإن نقص منها
لفظة لم يصح لأن الله تعالى علق الحكم عليها فلا يثبت بدونها ولأنها بينة فلم يجز النقص من عددها
كالشهادة (الثاني) ان يأتي كل واحد منهما باللعان بعد القائه عليه فإن بادر قبل ان يلقيه الإمام عليه
أو نائبه لم يصح كما لو حلف قبل ان يحلفه الحاكم (الثالث) أن يبدأ الزوج باللعان فإن بدأت المرأة به قبله
لم يعتد به لأنه خلاف ما ورد به الشرع وكذلك ان قدم الرجل اللعنة على شئ من الألفاظ الأربعة أو
قدمت المرأة الغضب، ولان لعان الرجل بينة الاثبات ولعان المرأة بينة الانكار فلم يجز تقديم الانكار على
الاثبات (الرابع) أن يكون بحضرة الحاكم أو نائبه لأنه يمين في دعوى فاعتبر فيه أمر الحاكم كسائر الدعاوى
(الخامس) ان يشير كل واحد منهما إلى صاحبه وإن كان حاضرا أو يسميه أو ينسبه إن كان غائبا ولا
يشترط حضورهما معا بل لو كان أحدهما غائبا عن صاحبه قبل، وان لاعن الرجل في المسجد والمرأة
على بابه لعذر جاز
6

(مسألة) (وان أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف أو لفظة اللعنة بالابعاد أو الغضب
بالسخط فعلى وجهين)
وهذا الشرط السادس وهو ان يأتي بالألفاظ على صورة ما ورد في الشرع فإن أبدل لفظا منها فظاهر
كلام الخرقي أنه يجوز ان يبدل قوله من الصادقين بقوله لقد زنت لأن معناهما واحد ويجوز لها إبدال
إنه لمن الكاذبين بقولها لقد كذب لأنه ذكر صفة اللعان كذلك واتباع لفظ النص أولى وأحسن، وان
أبدل لفظ أشهد بلفظ من ألفاظ اليمين فقال أقسم أو أحلف لم يعتد به وفيه وجه آخر أنه يعتد به
ذكره أبو الخطاب لأنه أتى بالمعنى فأشبه ما لو أبدل إني لمن الصادقين بقوله لقد زنت وللشافعي وجهان
في هذا. قال شيخنا والصحيح ان ما اعتبر فيه لفظ الشهادة لم يقم غيره مقامه كالشهادات في الحقوق
ولان اللعان يقصد فيه التغليظ واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ فلم يجز بدله، ولهذا لم يجز أن
يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام أشهد، وفيه وجه آخر أنه يعتد به لأنه أتى بالمعنى أشبه ما قبله، فإن
أبدل لفظة اللعنة بالابعاد لم يجز لأن لفظ اللعنة أبلغ في الزجر وأشد في أنفس الناس ولأنه عدل عن
المنصوص، وفيه وجه آخر أنه لا يجوز لأن معناهما واحد، وان أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة لم
يجز لأن الغضب أغلظ ولهذا اختصت المرأة به لأن إثمها أعظم والمعرة بزناها أقبح، وان أبدلتها
بالسخط خرج على وجهين فيما إذا أبدل الرجل لفظ اللعنة بالابعاد، وان ابدل الرجل لفظ اللعنة بالغضب
7

احتمل ان يجوز لأنه أبلغ واحتمل ان لا يجوز لمخالفة المنصوص، قال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة: من
الفقهاء من اشترط ان يراد بقوله من الصادقين فيما رميتها به من الزنا واشترط في نفيها عن نفسها فيما
رماني به من الزنا ولا أراه يحتاج إليه لأن الله سبحانه أنزل ذلك فبينه ولم يذكر هذا الاشتراط
(مسألة) (ومن قدر على اللعان بالعربية لم يصح منه إلا بها فإن عجز عنها لزمه تعلمها في أحد الوجهين
وفي الآخر يصح بلسانه)
إذا كان الزوجان يعرفان العربية لم يجز ان يلتعنا بغيرها لأن اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية
فلم يصح بغيرها كأذكار الصلاة، وان لم يحسنها بالعربية لزمه تعلمها في أحد الوجهين وفي الآخر يصح
بلسانه ولا يلزمه التعلم لأنه موضع حاجة كما قلنا في النكاح وهو أصح إن شاء الله تعالى، فإن كان الحاكم
يحسن لسانهما أجزأ ذلك، ويستحب ان يحضر معه أربعة يحسنون لسانهما وإن كان الحاكم لا يحسن فلا
بد من ترجمان، قال القاضي ولا يجزئ في الترجمة أقل من عدلين وهو قول الشافعي وظاهر قول الخرقي
وفيه رواية أخرى أنه يجزئ قول عدل واحد ذكرها أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وسنذكر
ذلك في كتاب القضاء إن شاء الله تعالى
(مسألة) (وإذا فهمت إشارة الأخرس أو كتابته صح لعانه بها وإلا فلا)
وجملة ذلك أن الأخرس والخرساء إذا كانا غير معلومي الإشارة والكتابة لم يصح لعانهما لأنه
8

لا يتصور منهما لعان ولا يعلم من الزوج قذف ولا من المرأة مطالبة وان كانا معلومي الإشارة والكتابة
فقد قال أحمد إذا كانت المرأة خرساء لم تلاعن لأنه لا تعلم مطالبتها وحكاه ابن المنذر عنه وعن أبي عبيد
وإسحاق وأصحاب الرأي فكذلك ينبغي أن يكون في الأخرس وذلك لأن اللعان لفظ يفتقر إلى الشهادة
فلم يصح من الأخرس كالشهادة الحقيقة ولان الحد يدرأ بالشبهات والإشارة ليست صريحة كالنطق
ولا يخلو من احتمال وتردد فلا يجب الحد بها كما لا يجب على أجنبي بشهادته
وقال القاضي وأبو الخطاب هو كالناطق في قذفه ولعانه وهو مذهب الشافعي لأنه يصح طلاقه
فصح قذفه ولعانه كالناطق وبفارق الشهادة فإنه يمكن حصولها من غيره فلم تدع الحاجة إليه فيها وفي
اللعان لا يحصل إلا منه فدعت الحاجة إلى قبوله منه كالطلاق، قال شيخنا والأول أحسن لأن موجب
القذف وجوب الحد وهو يدرأ بالشهادة، ومقصود اللعان الأصلي نفي النسب وهو يثبت بالامكان مع
ظهور انتفائه فلا ينبغي أن يشرع ما ينفيه ولا ما يوجب الحد مع الشبهة العظيمة ولذلك لم تقبل شهادته
قولهم إن الشهادة تحصل من غيره قلنا قد لا تحصل إلا منه لاختصاصه برؤية المشهود عليه أو سماعه إياه
(فصل) فإن قذف الأخرس ولاعن ثم تكلم فأنكر القذف واللعان لم يقبل انكاره للقذف لأنه قد
تعلق به حق لغيره بحكم الظاهر ولا يقبل انكاره له ويقبل انكاره للعان فيما عليه فيطالب بالحد ويلحقه
9

النسب ولا تعود الزوجية فإن قال أنا ألاعن لسقوط الحد ونفي النسب كان له ذلك لأنه إنما لزمه باقراره
أنه لم يلاعن فإذا أراد أن يلاعن كان له ذلك
(مسألة) (وهل يصح لعان من اعتقل لسانه وأيس من نطقه بالإشارة؟ على وجهين)
(أحدهما) يصح لأنه مأيوس من نطقه أشبه الأخرس (والثاني) لا يصح لأنه ليس بأخرس
فلم يكتف بإشارته كغير المأيوس ذكر هذين الوجهين أبو الخطاب، وذكر شيخنا فيما إذا قذف
وهو ناطق ثم خرس وأيس من نطقه أن حكمه حكم الأخرس الأصلي فإن رجي عود نطقه انتظر به
ذلك ويرجع فيه إلى قول عدلين من أطباء المسلمين، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وذكر أنه
يلاعن في الحالين بالإشارة لأن أمامة بنت أبي العاص أصمتت فقيل لها لفلان كذا ولفلان كذا فأشارت
ان نعم فرأوا أنها وصية، قال شيخنا وهذا لا حجة فيه لأنه لم يذكر من الراوي لذلك ولم يعلم أنه قول
من قوله حجة ولا علم هل كان ذلك لخرس يرجى زواله أولا؟
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (والسنة أن يتلاعنا قياما بمحضر جماعة في الأوقات والأماكن المعظمة)
وجملة ذلك أنه يسن في اللعان أمور (أحدهما) أن يتلاعنا قياما فيبدأ الزوج فيلتعن وهو قائم فإذا
فرغ قامت المرأة فالتعنت وهي قائمة فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية " قم فاشهد أربع
شهادات " ولأنه إذا قام شاهده الناس فكان أبلغ في شهرته وفي حديث ابن عباس فقام هلال فشهد
10

ثم قامت فشهدت (الثاني) أن يكون بمحضر جماعة من المسلمين لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن
سعد حضروا مع حداثة أسنانهم فدل على أنه حضر جمع كثير لأن الصبيان إنما يحضرون المجالس تبعا
للرجال ولان اللعان بني على التغليظ مبالغة في الردع به والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك ويستحب
أن لا ينقصوا عن أربعة لأن بينة الزنا التي شرع اللعان من أجل الرمي به أربعة وليس ينبني من
هذا واجبا وبهذا كله قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه مخالفا (الثالث) أن يكون في الأوقات
والأماكن المعظمة وهذا قول أبي الخطاب وهو مذهب الشافعي إلا أن عنده في التغليظ بالمكان قولين
(أحدهما) أن التغليظ به مستحب كالزمان (والثاني) أنه واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بينهما عند
المنبر فكان فعله بيانا للعان ومعنى التغليظ بالمكان بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلدان في جوامعها، وأما الزمان فبعد العصر لقول الله
تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله) أجمع المفسرون على أن المراد بالصلاة صلاة العصر
وقال أبو الخطاب في موضع آخر بين الأذانين لأن الدعاء بينهما لا يرد، وقال القاضي لا يستحب
التغليظ في اللعان بمكان ولا زمان، وبهذا قال أبو حنيفة لأن الله تعالى أطلق الامر بذلك ولم يقيده
بزمن ولا مكان ولا يجوز تقييده الا بدليل، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا باحضار امرأته ولم يخصه
بزمن ولو خصه بذلك لنقل ولم يهمل ولو استحب ما ذكروه لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولو فعله لنقل ولم يسع
11

تركه واهماله ولان النبي صلى الله عليه وسلم إنما دل حديثه في لعان أوس أنه إنما كان في صدر النهار لقوله في الحديث
فلم يهجه حتى أصبح ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والغدو في أول النهار، وهذا اختيار شيخنا وأما قولهم
إن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بينهما عند المنبر فليس هذا في شئ من الأحاديث المشهورة وان ثبت هذا
فلعله
كان بحكم الاتفاق لأن مجلسه كان عنده فلاعن بينهما في مجلسه، فإن كان اللعان بين كافرين فالحكم
فيه كالحكم في اللعان بين المسلمين ويحتمل أن يغلظ في المكان لقوله في الايمان وإن كان لهم مواضع
يعظمونها ويتقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها فعلى هذا يلاعن بينهم في المواضع التي يعظمونها
اليهودي في البيعة، والنصراني في الكنيسة، والمجوسي في بيت النار، وان لم يكن لهم مواضع يعظمونها
أحلفهم الحاكم في مجلسه لتعذر التغليظ بالمكان وان كانت المرأة المسلمة حائضا وقلنا إن اللعان بينهما
يكون في المسجد وقفت على بابه ولم تدخله لأن ذلك أقرب المواضع إليه
(مسألة) (فإذا كان واحدة منهما الخامسة أمر الحاكم رجلا فأمسك يده على في الرجل
وامرأة تضع يدها على في المرأة ثم يعظه فيقول اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب
الآخرة) لما روي ابن عباس في حديث المتلاعنين، قال فشهد أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين
ثم أمره به فأمسك على فيه فوعظه، وقال ويحك كل شئ أهون عليك من لعنة الله ثم أرسل فقال
لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم دعا بها فشهدت بذلك أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين ثم
12

ثم أمر بها فامسك على فيها فوعظها، وقال ويلك كل شئ أهون عليك من غضب الله أخرجه الجوزجاني
(مسألة) (وأن يكون ذلك بحضرة الحاكم أو نائبه)
قد ذكرنا من شروط صحة اللعان أن بحضرة الحاكم أو نائبه.
وهذا مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هلال بن أمية أن يستدعي زوجته إليه ولاعن بينهما
ولأنه اما يمين واما شهادة وأيهما كان فمن شرطه الحاكم فإن تراضى الزوجان بغير الحاكم فلاعن بينهما
لم يصح ذلك لأن اللعان مبني على التغليظ والتأكيد فلم يجز لغير الحاكم كالحد
وقد حكى شيخنا في آخر كتاب القضاء في كتابه المشروح: إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح
للقضاء فحكماه بينهما أنه ينفذ حكمه في اللعان في ظاهر كلام أحمد ولذلك حكاه أبو الخطاب وقيل لا ينفذ
إلا في المال فيكون فيه روايتان (إحداهما) لا ينفذ لما ذكرنا. (والثانية) ينفذ قياسا على حاكم
الإمام وسواء كان الزوجان حرين أو مملوكين في ظاهر كلام الخرقي. وقال أصحاب الشافعي للسيد أن
يلاعن بين عبده وأمته لأن له إقامة الحد عليهما
ولنا أنه لعان بين زوجين فلم يجز لغير الحاكم أو نائبه كاللعان بين الحرين ولا يسلم أن السيد
يملك إقامة الحد على أمته المزوجة ثم لا يشبه اللعان الحد لأن الحد زجر وتأديب، واللعان إما شهادة
وإما يمين، فافترقا، ولان اللعان درأ للحد وموجب له فجرى مجرى إقامة البينة على الزنا والحكم به أو نفيه
13

(مسألة) (وإن كان المرأة خفرة بعث من يلاعن بينهما)
فيبعث نائبه ويبعث معه عدولا ليلاعنوا بينهما وإن بعث نائبه وحده جاز لأن الجمع غير واجب
كما يبعث من يستحلفها في الحقوق
(مسألة) (وإذا قذف رجل نساءه فعليه أن يفرد كل واحدة بلعان وعنه يجزئه لعان واحد)
إنما لزمه لكل واحدة لعان لأنه قذفها فلزمه لها لعان مفرد كما لو لم يقذف غيرها ويبدأ بلعان
التي تبدأ بالمطالبة فإن طالبن جميعا أو تشاححن بدأ بإحداهن بالقرعة، وإن لم يتشاحن بدأ بلعان
من شاء منهن ولو بدأ بواحدة منهن من غير قرعة مع المشاحة صح
وعنه يجزئه لعان واحد لأن القذف واحد فيقول أشهد بالله اني لمن الصادقين فيما رميت به كل
واحدة من زوجاتي هؤلاء من الزنا وتقول كل واحدة أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من
الزنا لأنه يحصل المقصود بذلك والأول أصح لأن اللعان أيمان فلا يتداخل لجماعة كالايمان في الديون
وعنه إن كان القذف بكلمة واحدة أجزأ لعان واحد، لأنه قذف واحد فخرج عن عهدته بلعان
واحد كما لو قذف واحدة وإن قذفهن بكلمات أفرد كل واحدة بلعان لأنه أفرد كل واحدة بقذف
أشبه ما لو قذف كل واحدة بعد لعان الأخرى
14

(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ولا يصح إلا بشروط ثلاثة)
(أحدها) أن يكون بين زوجين عاقلين بالغين سواء كانا مسلمين أو كافرين أو رقيقين أو فاسقين
أو كان أحدهما كذلك في إحدى الروايتين. اختلف الرواية عن أحمد في ذلك فروي أنه يصح بين
كل زوجين مكلفين سواء كانا مسلمين أو كافرين أو عدلين أو فاسقين أو رقيقين أو محدودين في
قذف أو كان أحدهما كذلك، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وربيعة ومالك
وإسحاق. قال أحمد في رواية إسحاق بن منصور جميع الأزواج يلتعنون الحر من الحرة والأمة إذا
كانت زوجة وكذلك العبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية
وعن أحمد رواية أخرى لا يصح اللعان إلا بين زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف
فإن اختل شرط منها في أحدهما فلا لعان بينهما لفوات الشرط، روي هذا عن الزهري والثوري
والأوزاعي وحماد وأصحاب الرأي، وعن مكحول ليس بين المسلم والذمية لعان، وعن عطاء والنخعي
في المحدود في القذف يضرب في الحد ولا يلاعن، وروي فيه حديث ولا يثبت كذلك قال الشافعي
والساجي لأن اللعان شهادة بدليل قوله تعالى (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) فاستثنى أنفسهم من
الشهداء وقال (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) فلا تقبل ممن ليس من أهل الشهادة وإن كانت المرأة
ممن لا تحد بقذفها لم يجب اللعان لأنه يراد لاسقاط الحد بدليل قوله تعالى (ويدرأ عنها العذاب ان تشهد
15

أربع شهادات بالله) فلا حد ههنا فينتفي اللعان بانتفائه وذكر القاضي في المجرد ان من لا يجب الحد
لقذفها وهي الأمة والذمية والمحدودة في الزنا لزوجها لعانها لنفي الولد خاصة وليس له لعانها لاسقاط
حد القذف والتعزير لأن الحد لا يجب واللعان إنما يشرع لاسقاط حد أو نفي ولد فإذا لم يكن واحد
منهما لم يشرع اللعان
ولنا عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآية ولان اللعان يمين فلا يفتقر إلى ما شرطوه
كسائر الايمان ودليل أنه يمين قول النبي صلى الله عليه وسلم " لولا الايمان لكان لي ولها شأن " وأنه يفتقر إلى اسم
الله تعالى ويستوي فيه الذكر والأنثى وأما تسميته شهادة فلقوله أشهد بالله فسمي ذلك شهادة وإن كان
يمينا كما قال تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) ولان الزوج يحتاج إلى نفي الولد
فيشرع له طريقا إلى نفيه كما لو كانت امرأته ممن تحد بقذفها وهذه الرواية هي المنصوصة عن أحمد في
رواية الجماعة وما يخالفها شاذ في النقل
(فصل) ولا فرق بين كون الزوجة مدخولا بها أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها قال ابن المنذر أجمع
على هذا كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار منهم عطاء والحسن
والشعبي والنخعي وعمرو بن دينار
وقتادة ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وذلك لظاهر قول الله تعالى (والذين
يرمون أزواجهم) فإن كانت غير مدخول بها فلها نصف الصداق وعنه لا شئ لها وقد ذكر ذلك في
كتاب الصداق والله أعلم
16

(مسألة) (وان قذف أجنبية ثم تزوجها * حد ولم يلاعن)
لأنه وجب في حال كونها أجنبية فلم يملك اللعان من أجله كما لو لم يتزوجها وكذلك ان قال لها
وهي زوجته زنيت قبل ان أنكحك حد ولم يلاعن سواء كان ثم ولد أو لم يكن وهو قول مالك وأبي ثورا
وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبي وقال الحسن وزرارة بن أوفى وأصحاب الرأي له ان يلاعن
لأنه قذف امرأته فيدخل في عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) ولأنه قذف امرأته فأشبه
ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية كذلك وقال الشافعي
ان لم يكن ثم ولد يلاعن وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان
ولنا أنه قذفها بزنا مضافا إلى حال البينونة أشبه ما لو قذفها وهي بائن، وفارق قذف الزوجة لأنه
محتاج إليه لأنها غاظته وخانته، وإن كان بينهما ولد فهو محتاج لي ففيه وههنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها
فهو المفرط في نكاح حامل من الزنا فلا يشرع له طريق إلى نفيه، فاما ان قذفها ولم يتزوجها فعليه
للمحصنة الحد والتعزير لغيرها ولا لعان، ولا خلاف في هذا لأن الله تعالى قال (والذين يرمون المحصنات)
الآية خص الزوجات من عموم هذه الآية بقوله سبحانه (والذين يرمون أزواجهم) فيبقى فيما عداه على
قضية العموم، وان ملك أمة وقذفها فلا لعان سواء كانت فراشا له أو لم تكن ولا حد عليه ويعزر
17

(فصل) فإن قال لامرأته أنت طالق ثلاثا يا زانية فنقل منها قال سألت أحمد عن رجال قال لامرأته
أنت طالق يا زانية ثلاثا فقال يلاعن قلت فإنهم يقولون يحد ولا يلزمها الا واحدة فقال بئس ما يقولون
فهذا يلاعن لأنه قذفها قبل الحكم بينونتها فأشبه قذف الرجعية. فأما ان قال أنت طالق ثلاثا يا زانية
فإن كان بينهما ولد فإنه يلاعن لنفيه والا حد ولم يلاعن لأنه يتعين إضافة القذف إلى حال الزوجية
لاستحالة الزنا منها بعد طلاقه لها فصار كأنه قال لها بعد ابانها زنيت إذ كنت زوجتي على ما نذكره
(مسألة) (وان أبان زوجته ثم قذفها بزنا اضافه إلى حال الزوجية فإن كان بينهما ولد يريد
نفيه فله أن ينفيه باللعان والا حد ولم يلاعن)
وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يحد ويلحقه الولد ولا يلاعن وهو قول عطاء لأنها
أجنبية فأشبهت سائر الأجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد
ولنا ان هذا ولد يحلقه نسبه بحكم عقد النكاح فكان له نفيه كما لو كان النكاح باقيا، ويفارق إذا
لم يكن ولد فإنه لا حاجة إلى القذف لكونها أجنبية وتفارق سائر الأجنبيات فإنه لا يلحقه ولدهن فلا
حاجة به إلى قذفهن، وقال عثمان البتي في هذه المسألة له أن يلاعن وان لم يكن بينهما ولد وروي عن
ابن عباس والحسن لأنه قذف مضاف إلى حال الزوجية أشبه ما لو كانت زوجته
ولنا انه إذا كان بينهما ولد فيه حاجة لي القذف نشرع كما لو قذفها وهي زوجته وإذا لم يكن له
18

ولد فلا حاجة به إليه وقد قذفها وهي أجنبية فأشبه ما لو لم يضفه إلى حال الزوجية، ومتى لاعنها
لنفي ولدها انتفى وسقط عنه الحد، وفي ثبوت التحريم المؤبد وجهان، وهل له أن يلاعنها قبل
وضع الولد؟ فيه وجهان
(أحدها) له ذلك لأن من كان له لعانها بعد الوضع كان له لعانها قبله كالزوجة (والثاني) ليس
له ذلك وهو ظاهر قول الخرقي، لأن الولد عنده لا ينتفي في حال الحمل، ولان اللعان ههنا إنما يثبت
لأجل الولد فلم يجز أن يلاعن الا بعد تحققه بوضعه، بخلاف الزوجة فإنه يجوز لعانها مع عدم الولد وهكذا
الحكم في نفي الحمر في النكاح الفاسد
(مسألة) (وان قذفها في نكاح فاسد فهي كالمسألة التي قبلها إن كان بينهما ولد فله لعانها ونفيه
وان لم يكن بينهما ولد حد ولا لعان بينهما)
بهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلحقه الولد وليس له نفيه ولا اللعان لأنها أجنبية أشبهت سائر
الأجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد
ولنا أن هذا ولد يلحقه بحكم عقد النكاح فكان له نفيه كالنكاح الصحيح، ويفارق إذا لم يكن
ولد فإنه لا حاجة إلى القذف لكونها أجنبية، ويفارق الزوجة فإنه يحتاج إلى قذفها مع عدم لولد
لكونها خائنة وأفسدت فراشه فإذا كان له ولد فالحاجة موجودة فيهما
19

ومتى لاعن سقط الحد لأنه لعان مشروع لنفي الولد فاسقط الحد كاللعان في النكاح الصحيح
وفي ثبوت التحريم المؤبد وجهان (أحدهما) يثبت لأنه لعان صحيح أشبه لعان الزوجة (والثاني) لا
يثبت لأن الفرقة لم تحصل به فإنه لا نكاح بينهما يثبت قطعه به بخلاف لعان الزوجة فإن الفرقة
حصلت به ولو لاعنها من غير ولد لم يسقط الحد ولم يثبت التحريم المؤبد لأنه لعان فاسد فلم تثبت
أحكامه وسواء اعتقد ان النكاح صحيح أو لم يعتقد ذلك لأن النكاح في نفسه بنكاح صحيح
فأشبه ما لو لاعن أجنبية يظنها زوجته
(مسألة) (وان أبان امرأته بعد قذفها فله أن يلاعن سواء كان بينهما ولد أو لم يكن نص عليه)
وروي ذلك عن الحسن والقاسم بن محمد ومكحول ومالك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور
وابن المنذر وقال الحارث العكلي وجابر بن زيد وقتادة والحكم يجلد وقال حماد بن أبي سليمان وأصحاب
الرأي لا حد عليه ولا لعان لأن اللعان إنما يكون بين زوجين وليس هذان بزوجين ولا يحد لأنه
لم يقذف أجنبية.
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) وهذا قد رمى زوجته فيدخل في عموم الآية
وإذا لم يلاعن وجب الحد لعموم قوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة) ولأنه قاذف لزوجته فوجب أن يكون له أن يلاعن كما لو بقيا على النكاح
إلى حالة اللعان.
20

(فصل) فإن قالت قذفني قبل أن يتزوجني وقال بل بعده أو قالت قذفني بعد * ما بنت منه وقال
بل قبله فالقول قوله لأن القول قوله في أصل القذف فكذلك في وقته. وان قالت أجنبية قذفتني قال
كنت زوجتي حينئذ فأنكرت الزوجية فالقول قولها لأن الأصل عدمها
(فصل) إذا استبرأ زوجته الأمة ثم أقر بوطئها ثم أتت بولد لستة أشهر كان لاحقا به الا ان
يدعي الاستبراء فينتفي عنه لأنه ملحق به بالوطئ في الملك دون النكاح لكون الملك حاضرا فكان
كالزوج الثاني يلحق به الولد وان أمكن أن يكون من الأول، وان لم يكن أقر بوطئها أو أقر به
واتت بولد لدون ستة أشهر منذ وطئ كان ملحقا بالنكاح ان أمكن ذلك وله نفيه باللعان وهل يثبت
هذا اللعان التحريم المؤبد؟ على وجهين
(فصل) وان قذف زوجته الرجعية صح لعانها سواء كان بينهما ولد أو لم يكن قال أبو طالب
سألت أبا عبد الله عن الرجل يطلق تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال: قال ابن عباس لا يلاعن
ويجلد وقال ابن عمر يلاعن ما كانت في العدة قال وقول ابن عمر أجود لأنها زوجة وهو يرثها وترثه
فهو يلاعن وبهذا قال جابر بن زيد والنخعي والزهري وقتادة والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب
الرأي لأن الرجعية زوجة فكان له لعانها كما لو لم يطلقها
(فصل) وكل موضع قلنا لا لعان فيه فالنسب لا حق فيه ويجب بالقذف موجبه من الحد
21

والتعزير الا أن يكون القاذف صبيا أو مجنونا فلا ضرب فيه ولا لعان كذلك، وبه قال الثوري
والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر قال ولا احفظ عن غيرهم خلافهم
(مسألة) (فإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة عزر ولا لعان بينهما)
وجملة ذلك أن الزوج إذا قذف امرأته واحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما لأنه قول
تحصل به الفرقة فلا يصح من غير مكلف كالطلاق أو يمين فلا يصح من غير مكلف كسائر الايمان
ولا يخلو غير المكلف من أن يكون الزوج أو الزوجة أو هما. فإن كان الزوج فله حالان (أحدهما)
أن يكون طفلا (والثاني) أن يكون بالغا زائل العقل فإن كان طفلا لم يصح منه القذف ولا يلزمه به
جد لأن لقلم مرفوع عنه وقوله غير معتبر وان أتت امرأته بولد وكان له دون عشر سنين لم يلحقه
نسبه وكان منفيا عنه لأن العلم يحيط بأنه ليس منه فإن الله عز وجل لم يجر العادة بأن يكون له ولد
يدون ذلك فينتفي عنه كما لو أتت به المرأة لدون ستة أشهر منذ تزوجها وإن كان ابن عشر فصاعدا
فقال أبو بكر لا يلحق به الا بعد البلوغ أيضا لأن الولد لا يخلق الا من ماء الرجل والمرأة ولو انزل
لبلغ وقال ابن حامد يلحق به. قال القاضي وهو ظاهر كلام احمد وهو مذهب الشافعي لأن الولد
يلحق بالامكان وان خالف الظاهر ولهذا لو أتت بولد لستة أشهر من حين العقد لحق بالزوج وإن كان
خلاف الظاهر وكذلك يلحق به إذا أتت به لأربع سنين مع ندرته، وليس له نفيه في الحال
حتى يتحقق بلوغه بأحد أسباب البلوغ فله نفي الولد أو استلحاقه، فإن قيل فإذا ألحقتم به الولد فقد
22

حكمتم ببلوغه سمعتم نفيه ولعانه؟ قلنا الحاق لولد يكفي فيه الامكان والبلوغ لا يثبت الا بسبب
ظاهر ولان الحاق الولد به حق عليه واللعان حق له فلم يثبت مع الشك؟ فإن قيل فإن لم يكن بالغا
انتفى عنه الولد وإن كان بالغا انتفى عنه اللعان قلنا الا انه لا يجوز ان يبتدئ اليمن مع الشك في
صحتها فسقطت للشك فيها.
(الثاني) إذا كان زائل العقل لجنون فلا حكم لقذفه لأن القلم عنه مرفوع أيضا، وان أتت
امرأته بولد فنسبه لاحق به لا مكانه ولا سبيل إلى نفيه مع زوال عقله فإذا عقل فله نفي الولد حينئذ
واستلحاقه، وان ادعى أنه كان ذاهب العقل حين قذفه فأنكرت ذلك ولأحدهما بينة بما قال ثبت
قوله وان لم يكن لواحد منهما بينة ولم يكن له حال علم فيها زوال عقله فالقول قولها مع يمينها لأن
الأصل والظاهر السلامة والصحة، وان عرفت له حال جنون ولم تعرف له حال إفاقة فالقول قوله
مع يمينه، وان عرفت له حال جنون وحالة إفاقة ففيه وجهان (أحدهما) القول قولها قال القاضي وهو قياس
قول أصحابنا في الملفوف إذا ضربه فقده ثم ادعى أنه كان ميتا وقال الولي كان حيا
(الوجه الثاني) أن القول قوله لأن الأصل براءة ذمته من الحد فلا يجب بالشك ولان الحد
يسقط بالشبهة ولا يشبه هذا الملفوف لأن الملفوف قد علم أنه كان حيا ولم يعلم منه ضد ذلك فنظيره
23

في مسئلتنا أنه يعرف له حالة إفاقة ولا يعلم منه ضدها، وفي مسئلتنا قد تقدمت حاله جنون فيجوز
أن يكون قد استرت إلى حين قذفه
فإن كانت الزوجة غير مكلفة فقذفها الزوج فإن كانت طفلة لا يجامع مثلها فلا حد على قاذفها
لأنه قول يتقين كذبه فيه وبراءة عرضها منه فلم يجب به حد كما لو قال أهل الدنيا زناة ولكنه
يعزر للسب لا للقذف ولا يحتاج في التعزير إلى مطالبة لأنه مشروع لتأديبه للإمام فعله إذا رأى
ذلك فإن كانت يجامع مثلها كابنة تسع سنين فعليه الحد وليس لوليها ولا لها المطالبة به حتى تبلغ
فإذا بلغت فطالبت فلها الحد وله اسقاطه باللعان، وليس له لعانها قبل البلوغ لأن اللعان يراد لاسقاط
الحد أو نفي الولد ولا حد عليه قبل بلوغها ولا ولد فينفيه، وان أتت بولد حكم ببلوغها لأن الحمل
أحد أسباب البلوغ ولأنه لا يكون الا من نطفتها ومن ضرورته انزالها وهو من أسباب بلوغها فإن
قذف امرأته المجنونة بزنا وأضافه إلى حال إفاقتها أو قذفها وهي عاقلة ثم جنت لم يكن لها الطالبة
ولا لوليها قبل إفاقتها لأن هذا طريقه التشفي فلا ينوب عنه الولي فيه كالقصاص فإذا أفاقت فلها
المطالبة بالحد وللزوج اسقاطه باللعان، وان أراد لعانها في حال جنونها ولا ولد ينفيه لم يكن له ذلك
لعدم الحاجة إليه لأنه لم يتوجه عليه حد فيسقطه ولا نسب فينفيه، وإن كان هناك وله يريد نفيه
فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يلاعن ويلحقه الولد لأن الولد إنما ينتفى باللعان من الزوجين وهذه لا يصح
24

منها لعان، وقد نص احمد في الخرساء أن زوجها لا يلاعن فهذه أولى، وقال الخرقي فيه العاقلة
لا يعرض له حتى تطالبه زوجته وهذا قول أصحاب الرأي لأنها أحد الزوجين فلم يشرع اللعان مع
جنونه كالزوج ولان لعان الزوج وحده لا ينفى به الولد فلا فائدة في مشروعيته، وقال القاضي له
أن يلاعن لنفي الولد لأنه محتاج إلى نفيه فيشرع له طريق إليه، وقال الشافعي له أن يلاعن، وظاهر
مذهبه أن له لعانها مع عدم الولد لدخوله في عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم ولأنه زوج
مكلف قاذف لامرأته التي يولد لمثلها فكان له أن يلاعنها كالعاقلة
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (الشرط الثاني) أن يقذفها بالزنا فيقول زنيت أو يا زانية أو رأيتك
تزنين وسواء قذفها بزنا في القبل أو في الدبر لأن كل قذف يجب به الحد، وسواء في ذلك الأعمى
والبصير نص عليه احمد، وبهذا قال الثوري والشافعي وأبو ثور وهو قول عطاء وقال يحيى
الأنصاري وأبو الزناد ومالك لا يكون اللعان الا بأحد أمرين اما رؤية واما انكار الحمل لأن آية
اللعان نزلت في هلال بن أمية وكان قال رأيت بعيني وسمعت باذني فلا يثبت اللعان الا في مثله
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآية وهذا رام لزوجته فيدخل في عموم الآية
ولان اللعان معنى يتخلص به من موجب القذف فيشرع في حق كل رام لزوجته كالبينة والاخذ بعموم
25

اللفظ أولى من خصوص السبب ثم لم يعملوا به في قوله وسمعت باذني إذا ثبت ذلك فسواء قذفها بزنا في
القبل أو في الدبر وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يثبت اللعان بالقذف بالوطئ في الدبر وبناه
على أصله في أن ذلك لا يجب به الحد
ولنا انه رام لزوجته بوطئ في فرجها فأشبه ما لو قذفها بالوطئ في قبلها
(مسألة) (فإن قال وطئت بشبهة أو مكرهة فلا لعان بينهما)
لأنه لم يقذفها بما يوجب الحد وعنه إن كان ثم ولد لاعن لنفيه والا فلا لأنه محتاج إلى نفيه
(مسألة) (وان قال لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فهو ولده في الحكم ولا حد عليه لها)
لأن هذا ليس بقذف بظاهره لاحتمال ان يريد انه من زوج آخر أو من وطئ شبهة أو غير ذلك
ولكنه يسئل فإن قال زنيت فولدت هذا من الزنا هذا قذف يثبت به اللعان، وان قال أردت انه
لا يشبهني خلقا ولا خلقا فقالت بل أردت قذفي فالقول قوله لأنه اعلم بمراده لا سيما وقد صرح بقوله
لم تزن فإن قال وطئت بشبهة والولد من الواطئ فلا حد عليه أيضا لأنه لم يقذفها ولا قذف واطئها
وان قال أكرهت على الزنا فلا حد عليه لأنه لم يقذفها ولا لعان في هذه المواضع لعدم القذف الذي
هو من شرط اللعان ويلحقه نسب الولد وبهذا قال أبو حنيفة وذكر القاضي انه إذا قال أكرهت
رواية أخرى ان له اللعان لأنه محتاج إلى نفي الولد بخلاف ما إذا قال وطئت بشبهة
فإنه يمكنه نفي الولد
26

بعرضه على القافة فيستغني بذلك عن اللعان فلا يشرع كما لا يشرع لعان أمته لما أمكن نفي ولدها بدعوى
الاستبراء وهذا مذهب الشافعي
ولنا ان اللعان إنما ورد به الشرع بعد القذف لقوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم
شهداء الا أنفسهم) الآية ولما لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين هلال وامرأته وبين عويمر العجلاني وامرأته
إنما كان بعد قذفه إياها ولا يثبت الحكم الا في مثله، ولان نفي اللعان إنما ينتفي به الولد بعد تمامه
منهما ولا يتحقق اللعان من المرأة ههنا فأما ان قال وطئك فلان بشبهة وأنت تعلمين الحال فقد قذفها وله
لعانها ونفي نسب ولدها وقال القاضي ليس له نفيه باللعان وكذلك قال أصحاب الشافعي لا يمكنه نفي نسبه
بعرضه على القافة فأشبه ما لو قال واشتبه عليك أيضا
ولنا انه رام لزوجته فيدخل في عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) ولأنه رام لزوجته
بالزنا فملك لعانها ونفي ولدها كما لو قال زنى بك فلان وما ذكروه لا يصح فإنه قد لا يوجد قافة،
وقد لا يعترف الرجل بما نسب إليه أو يغيب أو يموت فلا ينتفي الولد، وان قال ما ولدته
وإنما التقطته أو استعرته فقالت بل هو ولدي منك لم يقبل قول المرأة الا ببينة وهذا قول الشافعي
وأبي ثور وأصحاب الرأي لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمها فلم تقبل
دعواها من غير بينة كالدين. قال القاضي وكذلك لا تقبل دعواها في الولادة
27

فيما إذا علق طلاقها بها ولا دعوى الأمة لها لتصير بها أم ولد ويقبل قولها فيه لتنقضي عدتها بها فعلى
هذا لا يلحقه الولد إلا أن تقيم بينة وهي امرأة مرضية تشهد بولادتها له فإذا ثبتت ولادتها لحقه نسبه
لأنه ولد على فراشه والولد للفراش وذكر القاضي في موضع آخر ان القول قول المرأة لقول الله تعالى
(ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) وتحريم كتمانه دليل على قبول قولها فيه لأنه خارج
من المرأة تنقضي به عدتها فقبل قولها فيه كالحيض ولأنه حكم معلق بالولادة فقبل قولها فيه كالحيض فعلى
هذا يلحقه النسب وهل له نفيه باللعان فيه وجهان (أحدهما) له نفيه لأن انكاره لولادتها إياه إقرار بأنها
لم تلده من زنا فلا يقبل انكاره كذلك لأنه تكذيب لنفسه (والثاني) له نفيه لأنه رام لزوجته وناف
لولدها فكان له نفيه باللعان كغيره
(مسألة) (وان قال ذلك بعد أن أبانها فشهدت امرأة مرضية انه ولد على فراشه لحقه نسبه لأن
شهادة المرأة الواحدة بالولادة مقبولة لأنها مما لا يطلع الرجال)
(مسألة) (وان ولدت توأمين فاقر بأحدهما ونفي الآخر لحقه نسبهما ويلاعن لنفي الحد
عنه وقال القاضي يحد)
28

إذا ولدت توأمين بينهما أقل من ستة أشهر فاستلحق أحدهما ونفى الآخر لحقا به لأن الحمل
الواحد لا يجوز أن يكون بعضه منه وبعضه من غيره فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر
ضرورة فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه ولم يجعل ما أقر به تابعا لما نفاه لأن النسب يحتاط لاثباته لا لنفيه
ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن كونه من غيره ألحقناه به احتياطا ولم نقطعه عنه احتياطا
لنفيه فعلى هذا إن كان قد قذف أمهما فطالبته بالحد فله اسقاطه باللعان وحكي عن القاضي أنه يحد ولا يملك
اسقاطه باللعان وهو مذهب الشافعي لأنه باستلحاقه اعترف بكونه في قذفه فلم يسمع انكاره بعد ذلك ووجه
الأول أنه لا يلزم من كون الولد منه انتفاء الزنا عنها كما لا يلزم من وجود الزنا كون الولد منه ولذلك
لو أقرت بالزنا أو قامت به بينة لم ينتف الولد عنه فلا تنافي بين لعانه وبين استلحاقه للولد فإن استلحق
أحد التوأمين وسكت عن الآخر لحقه لأنه لو نفاه للحقه فإذا سكت عنه كان أولى ولان امرأته متى
أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه باللعان وان نفى أحدهما وسكت عن الاخر لحقاه جميعا فإن قيل ألا نفيتم
المسكوت عنه لأنه قد نفى أخاه وهما حمل واحد؟ قلنا لحوق النسب مبني على التغليب وهو يثبت بمجرد
الامكان وان لم يثبت الوطئ ولا ينتفي لامكان النفي فافترقا. فإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ثم ولدت
آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول لأن اللعان يتناول الأول وحده ولا يحتاج في
نفي الثاني إلى لعان ثان ويحتمل أنه ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى لعان ثان لأنهما حمل واحد وقد
29

لاعن لنفيه مرة فلا يحتاج إلى لعان ثان ذكره القاضي فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه وان
سكت عن نفيه لحقاه أيضا فاما ان نفى الولد باللعان ثم ولد آخر بعد ستة أشهر فهو من حمل آخر فإنه
لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل فإن نفي هذا
الولد باللعان انتفى ولا ينتفي بغير اللعان لأنه حمل منفرد وان استلحقه أو ترك نفيه لحقه وان كانت
قد بانت باللعان لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول وان لاعنها قبل وضع الأول فاتت بولد
ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني لأنها بانت باللعان وانقضت عدتها بوضع الأول وكان
حملها الثاني بعد انقضاء عدتها في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه
(فصل) فإن مات أحد التوأمين أو ماتا معافله ان يلاعن لنفي نسبهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو
حنيفة يلزمه نسب الحي ولا يلاعن لنفي الحد لأن الميت لا يصح نفيه باللعان فإن نسبه قد انقطع بموته
ولا حاجة إلى نفيه باللعان كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لقطع النكاح لكونه قد
انقطع وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي لأنهما حمل واحد
ولنا ان الميت ينسب إليه ابن فلان ويلزمه تجهيزة وتكفينه فكان له نفي نسبه واسقاط
مؤنته كالحي وكما لو كان للميت ولد
(فصل) قال المنصف رضي الله عنه (الثالث) ان تكذبه به الزوجة ويستمر ذلك إلى انقضاء اللعان
لأن الملاعنة إنما تنتظم من الزوجين وإذا لم تكذبه لم تلاعنه فلا يصح اللعان فإن صدقته أو سكتت
30

لحقه النسب لأن الولد للفراش وإنما ينتفي عنه باللعان ولم يوجد اللعان لانتفاء شرطه فنفي النسب لا حق
به ولا لعان في قياس المذهب ثم إن كان تصديقها له قبل لعانه فلا لعان بينهما لأن اللعان كالبينة إنما
تقام مع الانكار فإن كان بعد لعانه لم تلاعن هي لأنها لا تحلف مع الاقرار وحكمها حكم ما لو امتنعت
من غير إقرار وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي ان صدقته قبل لعانه فعليها الحد وليس له ان يلاعن إلا
أن يكون له نسب ينفيه فيلاعن وحده وينتفي النسب بمجرد لعانه وإن كان بعد لعانه فقد انتفى النسب
ولزمها الحد بناء على أن النسب ينتفي بمجرد لعانه وتقع الفرقة ويجب الحد فإن الحد يجب باقراره مرة
وهذه الأصول تذكر في مواضعها إن شاء الله تعالى ولو أقرت أربعا وجب الحد ولا لعان بينهما إذا لم
يكن ثم نسب ينتفي وان رجعت سقط الحد عنها بغير خلاف علمناه وبه يقول الشافعي وأبو ثور وأصحاب
الرأي، قال الرجوع عن الاقرار بالحد مقبول وليس له ان يلاعن للحد فإنه لم يجب عليه لتصديقها إياه فإن أراد
لعانها لنفي نسب فليس له ذلك في جميع هذه الصور وهو ظاهر قول الخرقي وقول أصحاب الرأي وقال الشافعي
له لعانها لنفي النسب فيها كلها لأنها لو كانت عفيفة صالحة فكذبته ملك نفي ولدها فإذا كانت فاجرة فصدقته
فلان يملك نفي ولدها أولى ووجه الأول ان نفي الولد إنما يكون بلعانهما معا وقد تعذر اللعان منها
لأنها لا تستحلف على نفي ما تقر به فتعذر نفي الولد لتعذر سببه كما لو مات بعد القذف وقبل اللعان
31

(مسألة) (وان مات أحدهما قبل اللعان ورثه صاحبه ولحقه نسب الولد ولا لعان)
وجملة ذلك أنه إذا قذفها ثم مات قبل لعانهما أو قبل تمام لعانه سقط اللعان ولحقه الولد وورثته في
قول الجميع لأن اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه وان مات بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها فكذلك وقال
الشافعي تبين بلعانه ويسقط التوارث وينتفي الولد ويلزمها الحد الا ان تلتعن
ولنا انه مات قبل إكمال اللعان أشبه ما لو مات قبل إكمال التعانه وذلك لأن الشرع إنما رتب هذه الأحكام
على اللعان التام والحكم لا يثبت قبل كمال سببه وان ماتت المرأة قبل اللعان فقد ماتت على الزوجية
ويرثها في قول عامة أهل العلم وروي عن ابن عباس ان التعن لم يرث ونحو ذلك عن الشعبي وعكرمة
لأن اللعان يوجب فرقه تبين بها فيمنع التوارث كما لو التعن في حياتها
ولنا أنها ماتت على الزوجية فورثها كما لو لم يلتعن، ولان اللعان سبب الفرقة فلم يثبت حكمه بعد
موتها كالطلاق وفارق اللعان في الحياة فإنه يقطع الزوجية على أنا نقول إنه لو لاعنها ولم تلتعن هي
لم تنقطع الزوجية وسنذكر ذلك أن شاء الله تعالى فهاهنا أولى، فإن قيل فعندكم لو التعن من الولد
الميت ونفاه لم يرثه فكذلك الزوجة، قلنا لو التعن الزوج وحده دونها لم ينتف الولد ولم يثبت حكم
اللعان على ما نذكره ثم الفرق بينهما أنه إذا نفى الولد تبينا أنه لم يكن منه أصلا في حال من الأحوال
والزوجة قد كانت امرأته فيما قبل اللعان وإنما يزيل نكاحها اللعان كما يزيله الطلاق فإذا ماتت قبل
32

وجود ما يزيله فيكون موجودا حال الموت فيوجب التوارث وينقطع بالموت فلا يمكن انقطاعه مرة
أخرى فإن أراد الزوج اللعان ولم تكن طالبت بالحد في حياتها لم يكن له أن يلتعن سواء كان ثم ولد
يريد نفيه أو لم يكن، وعند الشافعي إن كان ثم ولد يريد نفيه فله أن يلتعن، وهذا ينبني على أصل
وهو أن اللعان إنما يكون بين الزوجين، فإن لعان الرجل وحده لا يثبت به حكم وعندهم بخلاف ذلك
فأما ان كانت طالبت بالحد في حياتها فإن أولياءها يقومون في الطلب به مقامها فإن طولب به فله إسقاطه
باللعان، ذكره القاضي وإلا فلا فإنه لا حاجة إليه مع عدم الطلب لأنه لا حد عليه، وقال أصحاب الشافعي
إن كان للمرأة وارث غير الزوج فله اللعان ليسقط الحد عن نفسه والا فلا
(مسألة) (وان مات الولد فله لعانها ونفيه لأن شروط اللعان تتحقق بدون الولد فلا تنتفي بموته)
(فصل) إذا مات المقذوف قبل المطالبة بالحد لم يكن لورثته الطلب به، وقال أصحاب الشافعي
يورث وان لم يكن طالب به لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من ترك حقا فلورثته) ولأنه حق ثبت له في الحياة يورث
إذا طالب به فبورث وان لم يطالب به لحق للقصاص.
ولنا أنه حد تعتبر فيه المطالبة فإذا لم يوجد الطلب من المالك لم يجب كحد القطع في السرقة والحديث
33

يدل على أن الحق المتروك يورث وهذا ليس بمتروك، وأما حق القصاص فإنه حق يجوز الاعتياض عنه
وينتقل إلى امال بخلاف هذا، فاما ان طالب به ثم مات فإنه يرثه العصبات من النسب دون غيرهم لأنه
حق ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح، وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي، ومتى
ثبت للعصبات فلهم استيفاؤه، وان طلب أحدهم وحده فله استيفاؤه وان عفا بعضهم لم يسقط وكان
للباقين استيفاؤه ولو بقي واحد كان له استيفاء جميعه لأنه حق يراد للردع والزجر فلم يتبعض كسائر
الحدود ولا يسقط باسقاط البعض لأنه يراد لدفع العار عن المقذوف وكل واحد من العصبات يقوم مقامه
في استيفائه فيثبت له جميعه كولاية النكاح، ويفارق حق القصاص لأن ذلك يفوت إلى بدل ولو أسقطناه
ههنا لسقط في غير العافي إلى غير بدل.
(فصل) وإذا قذف امرأته وله بينة تشهد بزناها فهو مخير بين لعانها وبين إقامة البينة لأنهما سببان فكانت له الخيرة في إقامة أيهما شاء كمن له بدين شاهدان وشاهد وامرأتان ولان كل واحدة
منهما يحصل بها ما لا يحصل بالا نرى فإنه يحصل باللعان نفي النسب الباطل ولا يحصل ذلك بالبينة
ويحصل بالبينة ثبوت زناها وإقامة الحد عليها ولا يحصل باللعان، فإن لاعنها ونفى ولدها ثم أراد إقامة
البينة فله ذلك فإذا أقامها ثبت موجب اللعان وموجب البينة، وان أقام البينة أو لا ثبت الزنا وموجبه ولم
ينتف عنه الولد فإنه لا يلزم من الزنا كون الولد منه، وان أراد لعانها بعد ذلك وليس بينهما ولد يريد
34

نفيه لم يكن ذلك لأن الحد قد انتفى عنه بإقامة البينة فلا حاجة إليه وإن كان بينهما ولد يريد نفيه فعلى قول القاضي له أن يلاعن وقد ذكرنا ذلك.
(فصل) وان قذفها فطالبته بالحد فأقام شاهدين على اقرارها بالزنا سقط عنه الحد لأنه ثبت
تصديقها إياه ولم يجب عليها لأنه لا يجب إلا باقرار أربع مرات ويسقط بالرجوع عن الاقرار فإن
لم يكن له بينة حاضرة فقال لي بينة غائبة أقيمها على الزنا أمهل اليومين والثلاثة لأن ذلك قريب فإن
أتى بالبينة والاحد إلا أن يلاعن إذا كان زوجا فإن قال قذفتها وهي صغيرة فقالت قذفني وأنا كبيرة
وأقام كل واحد منهما بينة بما قال فهما قذفان وكذلك ان اختلفا في الكفر والرق أو الوقت لأنه لا تنافي بينهما إلا أن يكونا مؤرخين تاريخا واحدا فيسقطان في أحد الوجهين وفي الآخر يقرع
بينهما فمن خرجت قرعته قدمت بينته
(فصل) فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانه وقذفها لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعداوته لهما وشهادة
العدو لا تقبل على عدوه، وان أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه لذلك لم تقبل لأنها ردت للتهمة فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ثم تاب وأعادها، ولو أنهما ادعيا عليه انه قذفهما ثم أبرآه
وزالت العداوة ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما لأنهما لم يردا في هذه الشهادة ولو شهدا
أنه قذف امرأته ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما بطلت شهادتهما
35

لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه وان لم يضيفاها إلى ذلك الوقت وكان ذلك قبل الحكم
بشهادتهما لم يحكم بها لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين وإن كان بعد الحكم لم تبطل لأن الحكم تم
قبل وجود المانع كظهور الفسق، وان شهدا أنه قذف امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما لأنهما ردت في البعض
للتهمة فوجب أن ترد في الكل، وان شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما وبهذا قال
مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد وقال في القديم لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو أنه
يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشئ لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه
بما لا يعترف به وان شهدا بطلاق الضرة ففيه وجهان (أحدهما) لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعا
وهو توفره على أمهما (والثاني) تقبل لأنهما لا يجران إلى أنفسهما نفعا
(فصل) ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك بالعجمية ثبتت
الشهادة لأن الاختلاف في العجمية والعربية عائد إلى الاقرار دون القذف ويجوز أن يكون القذف
واحدا والاقرار في مرتين ولذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها وشهد آخر أنه أقر
بذلك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه وان شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد آخر أنه قذفها
36

بالعجمية أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه
أقر بقذفها بالعربية أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه
أقر أنه قذفها بالعربية أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة ففيه وجهان
(أحدهما) تكمل للشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لأن الوقت ليس ذكره شرطا
في الشهادة بالقذف وكذلك اللسان فلم يؤثر الاختلاف فيه كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم
الخميس بالعربية وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية
(والثاني) لا تكمل الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم
يثبت كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة، وفارق الاقرار
بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين
(مسألة) (وان لاعن ونكلت الزوجة عن اللعان خلى سبيلها ولحقه الولد ذكره الخرقي وعن أحمد
انها تحبس حتى تقر أو تلاعن)
إذا لاعن امرأته وامتنعت من الملاعنة فلا حد عليها والزوجية بحالها، وبه قال الحسن والأوزاعي
وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن الحارث العكلي وعطاء الخراساني وذهب مكحول والشعبي ومالك
والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأبو إسحاق الجوزجاني وابن المنذر إلى أن عليها الحد لقول الله تعالى
37

(ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين) والعذاب الذي يدرؤه عنها لعلها هو
الحد المذكور في قوله تعالى (وليشهد عذابها طائفة من المؤمنين) ولأنه بلعانه حقق زناها فوجب
عليها الحد كما لو شهد عليها أربعة
ولنا أنه لم يتحقق زناها فلا يجب عليها الحد كما لو لم يلاعن ودليل ذلك أن تحقيق وزناها لا يخلو أما أن يكون
بلعان الزوج أو بنكولها لا يجوز أن يكون بلعان الزوج وحده لأنه لو يثبت زناها به لما سمع لعلنها ولا
وجب الحد على قاذفها ولأنه اما يمين واما شهادة وكلاءهم لا يثبت له الحق على غيره ولا يجوز ان
يثبت بنكولها لأن الحد لا يثبت بالنكول فإنه يدرأ بالشبهات فلا يثبت بها، وذلك لأن النكول يحتمل
أن يكون لشدة خفرها أو لثقلها على لسانها أو غير ذلك فلا يجوز اثبات الحد الذي اعتبر في بينته
من العدد ضعف ما اعتبر في سائر الحدود واعتبر في حقهم ان يصفوا صورة الفعل وان يصرحوا
بلفظه وغير ذلك مبالغة في نفي الشبهات عنه وتوسلا إلى اسقاطه، ولا يجوز ان يقضي فيه بالنكول
الذي هو في نفسه شبهة لا يقضي به في شئ من الحدود ولا العقوبات ولا ما عدا الأموال مع أن
الشافعي لا يرى القضاء بالنكول في شئ فكيف يقضي به في أعظم الأمور أبعدها ثبوتا وأسرعها
سقوطا؟ ولأنها لو أقرت بلسانها ثم رجعت لم يجب عليها الحد فلان لا يجب بمجرد امتناعها من اليمين
على براءتها أولى، ولا يجوز أن يقضي فيه بهما لأن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين
38

مع النكول كسائر الحقوق ولان ما في كل واحد منهما من الشبهة لا ينتفي بضم أحدهما إلى الآخر فإن
احتمال نكولها لفرط حيائها وعجزها عن النطق باللعان في مجمع الناس لا يزول بلعان الزوج، والعذاب
يجوز أن يكون الحبس أو غيره فلا يتعين في الحد، وان احتمل أن يكون هو المراد فلا يثبت الحد
بالاحتمال وقد يرجح ما ذكرناه بقول عمر رضي الله عنه ان الرجم على من زني وقد أحصى إذا كانت
بينة أو كان الحمل أو الاعتراف فذكر موجبات الحمل ولم يذكر اللعان
واختلفت الرواية فيما يصنع بها فروي انها تحبس حتى تلتعن أو تقر أربعا. قال احمد فإن أبت المرأة ان
تلتعن بعد التعان الزوج أجبرتها عليه وهبت ان احكم عليها بالرجم لأنها لو أقرت بلسانها لم أرجمها إذا رجعت
فكيف إذا أبت اللعان؟ ولا يسقط النسب الا بالتعانهما جميعا لأن الفراش قائم حتى تلتعن والولد للفراش
قال القاضي هذه الرواية أصح وهذا قول من وافقنا في أنه لا حد عليها وذلك لقول الله تعالى
(ويدرأ عنها العذاب ان تشهد أربع شهادات) فيدل على أنها إذا لم تشهد لا يدرأ عنها العذاب
(والرواية الثانية) يخلى سبيلها وهو قول أبى بكر لأنه لم يجب عليها الحد فيجب تخلية سبيلها
كما لو تكمل البينة، فأما الزوجية فلا تزول والولد لا ينتفي ما لم يتم اللعان بينهما في قول عامة أهل العلم
الا الشافعي فإنه قضى بالفرقة ونفي الولد بمجرد لعان الرجل على ما نذكره
39

(مسألة) (ولا يعرض للزوج حتى تطالبه امرأته فإن أراد اللعان من غير طلبها فإن كان
بينهما ولد يريد نفيه فله ذلك والا فلا)
يعني لا يتعرض له بإقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى تطالبه زوجته بذلك فإن ذلك
حق لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقها وليس لوليها المطالبة عنها ان كانت مجنونة أو محجورا
عليها ولا لولي صغيرة وسيد أمة المطالبة بالتعزير من أجلهما لأن هذا حق ثبت للتشفي فلا يقوم الغير
فيه مقام المستحق كالقصاص، فإن أراد الزوج اللعان من غير مطالبة نظرنا فإن لم يكن هناك ولد يريد
نفيه لم يكن له ان يلاعن، وكذلك كل موضع سقط فيه الحد مثل ان أقام البينة بزناها أو أبرأته من
قذفها أو حد لها ثم أراد لعانها ولا نسب هناك ينفى فإنه لا يشرع اللعان وهذا قول أكثر أهل العلم
ولا نعلم فيه مخالفا الا بعض أصحاب الشافعي قالوا له الملاعنة لإزالة الفراش والصحيح عندهم مثل قول
الجماعة لأن إزالة الفراش ممكنة بالطلاق والتحريم المؤبد ليس بمقصود شرع اللعان من اجله وإنما
حصل ضمنا. فاما إن كان هناك ولد يريد نفيه فقال القاضي له ان يلاعن وهو مذهب الشافعي لأن
هلال ابن أمية لما قذف امرأته واتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ارسل النبي صلى الله عليه وسلم إليها فلاعن بينهما ولم تكن
طالبته ولأنه محتاج إلى نفيه فيشرع له طريق إليه كما لو طالبته ولان نفي النسب الباطل حق له فلا
يسقط برضاها به كما لو طالبت باللعان ورضيت بالولد ويحتمل ان لا يشرع اللعان ههنا كما لو قذفها
فصدقته وهو قول أصحاب الرأي لأنه أحد موجبي القذف فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد
40

(فصل) فإذا تم اللعان بينهما ثبت أربعة أحكام (أحدهما) سقوط الحد عنه أو التعزير ولو
قذفها برجل بعينه سقط الحد عنه لهما
وجملة ذلك أن اللعان إذا تم سقط الحد الذي أوجبه القذف عن الزوج إذا كانت الزوجة محصنة
والتعزير ان لم تكن محصنة لأن هلال بن أمية قال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها
ولان شهادته أقيمت مقام بينته وبينته تسقط الحد كذلك لعانه ويحصل هذا بمجرد لعانه لذلك فإن
نكل عن اللعان أو عن تمامه فعليه الحد وان ضرب بعضه فقال انا ألاعن سمع ذلك منه لأن ما أسقط
كله أسقطه بعضه كالبينة، ولو نكلت المرأة عن الملاعنة ثم بذلتها سمعت منها كالرجل فإن قذفها
برجل بعينه سقط الحد عنه لهما إذا تم اللعان سواء ذكر الرجل في لعانه أو لم يذكره وان لم يلاعن
فلكل واحد منهما المطالبة وأيهما طالب حد له دون من لم يطالب كما لو قذف رجلا بالزنا بامرأة
معينة وبهذا قال أبو حنيفة ومالك الا في أنه لا يسقط حده بلعانها
وقال بعض أصحابنا: القذف للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق في المطالبة ولا الحد لأن
هلال ابن أمية قذف زوجته بشريك بن السحماء فلم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولا عزره له. وقال بعض
أصحاب الشافعي يجب الحد لهما وهل يجب حد واحد أو حدان؟ على وجهين، وقال بعضهم لا يجب الا
حد واحد قولا واحدا ولا خلاف بينهم انه إذا لاعن وذكر الأجنبي في لعانه انه يسقط حكمه عنه
وان لم يذكره فعلى وجهين
41

ولنا ان اللعان بينة في أحد الطرفين فكان بينة في الطرف الآخر كالشهادة ولان به حاجة إلى
قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد للمقذوف على
صدق قاذفة كما استدل النبي صلى الله عليه وسلم على صدق هلال بن أمية بشبه الولد لشريك بن سحماء فوجب
أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها قياسا له عليها
(فصل) فإن قذف امرأته وأجنبية أو أجنبيا بكلمتين فعليه حدان لهما فيخرج من حد الأجنبية
بالبينة خاصة ومن حد الزوجية بالبينة أو اللعان وان قذفهما بكلمة فكذلك الا انه إذا لم يلاعن ولم
تقم بينة فهل يحد لهما حدا واحدا أو حدين على روايتين
(إحداهما) يحد حدا واحدا وبه قال أبو حنيفة والشافعي في القديم وزاد أبو حنيفة سواء كان
بكلمة أو بكلمات لأنهما حدود من جنس فوجب ان تتداخل كحد الزنا
(والثانية) وان طالبوا مجتمعين فحد واحد، وان طالبوا مفترقين فلكل واحد حد لأنهم إذا
اجتمعوا في الطلب أمكن الغاؤهم بالحد الواحد وإذا تفرقوا لم يمكن جعل الحد الواحد ايفاء لمن لم
يطالب لأنه لا يجوز إقامة الحد له قبل المطالبة منه. وقال الشافعي في الجديد يقام لكل واحد حد
بكل حال لأنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون
ولنا انه إذا قذفهما بكلمة واحدة يجزئ حد واحد لأنه يظهر كذبه في قذفه وبراءة عرضهما من
42

رميه بحد واحد فأجزأ كما لو كان القذف لواحد، وإذا قذفهما بكلمتين وجب حدان لأنهما قذفان
لشخصين فوجب لكل واحد حد كما لو قذف الثاني بعد حد الأول وهكذا الحكم فيما إذا قدف
أجنبيتين أو أجنبيات والتفصيل فيه على ما ذكرناه
(فصل) وان قال لزوجته يا زانية بنت الزانية فقد قذفها وقذف أمها بكلمتين والحكم في الحد
لهما على ما مضى من التفصيل فيه فإن اجتمعتا في المطالبة ففي أيتهما يقدم وجهان
(أحدهما) الام لأن حقها آكد لكونه لا يسقط الا بالبينة ولان لها فضيلة الأمومة
(والثاني) تقدم البنت لأنه بدأ بقذفها ومتى حد لإحداهما ثم وجب عليه الحد للأخرى لم يحد
حتى يبرأ جلده من حد الأولى فإن قيل إن الحد ههنا حق لآدمي فلم لا يوالي بينهما كالقصاص فإنه
لو قطع يدي رجلين قطعنا يديه لهما ولم يؤخره؟ قلنا لأن حد القذف لا يتكرر بتكرر سببه قبل إقامة
حده فالموالاة بين حدين فيه تخرجه عن موضوعة والقصاص يجوز ان يقطع أطرافه كلها في قصاص
واحد فإذا جاز لواحد فلاثنين أولى
" مسألة " (الثاني الفرقة بينهما وعنه لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما)
وجملة ذلك أن الفرقة بين المتلاعنين لا تحصل الا بتلاعنهما جميعا وهل يعتبر تفريق الحاكم؟ فيه
روايتان (إحداهما) لا يعتبر وان الفرقة تحصل بمجرد لعانهما وهي اختيار أبي بكر وقول مالك وأبي
43

عبيد وأبي ثور وداود وزفر وابن المنذر، وروي ذلك عن ابن عباس لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا رواه سعيد: ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد فلم
يقف على حكم الحاكم كالرضاع، ولان الفرقة لو لم تحصل الا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا
كرهاه كالتفريق للعنت والاعسار ولوجب ان الحاكم إذا لم يفرق بينهما ان يبقى النكاح مستمرا،
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا سبيل لك عليها " يدل على هذا وعلى هذا تفريقة بينهما بمعنى
اعلامه لهما حصول الفرقة
(والثانية) لا تحصل الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما وهو ظاهر كلام الخرقي وقول أصحاب الرأي
لقوله ابن عباس في حديثه ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وهذا يقتضي ان الفرقة لم تحصل قبله
وفي حديث عويمر قال كذبت عليها يا رسول الله أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل ان يأمره رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهذا يقتضي امكان امساكها وأنه وقع طلاقه ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لما وقع
طلاقه ولا أمكنه امساكها ولان سبب هذه الفرقة يتوقف على الحاكم فالفرقة المتعلقة به لا تقع الا
بحكم حاكم كتفرقة العنة وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام لعانهما، وقال الشافعي تحصل
الفرقة بلعان الزوج وحده وان لم تتقين المرأة لأنها فرقة حاصلة بالقول فتحصل بقول الزوج وحده
كالطلاق. قال شيخنا ولا نعلم أحد وافق الشافعي على هذا القول
44

وحكي عن البتي انه لا يتعلق باللعان فرقة لما روي أن العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا
فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه وكلا القولين لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق
بين المتلاعنين رواه عبد الله بن عمر وسهل بن سعد أخرجهما مسلم وقال سهل فكانت سنة لمن كان
بعدهما ان يفرق بين المتلاعنين، وقال عمر المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان ابدا، واما القول
الآخر فلا يصح لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما
وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بعد تمام اللعان منهما فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكم يخالف مدلول السنة
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولان لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه اما ايمان على زناها أو شهادة بذلك ولولا
ورد الشرع بالتفريق بينهما لم تحصل الفرقة وإنما ورد الشرع بها بعد لعانهما فلا يجوز تعليقها على بعضه
كما لم يجز تعليقها على بعض لعان الزوج ولأنه فسخ ثبت لايمان مختلفين فلم يثبت يمين أحدهما كالفسخ
لتحالف المتبايعين عند الاختلاف ويبطل ما ذكروه بالفسخ بالعيب أو العتق وقول الزوج اختاري
نفسك أو امرك بيدك أو وهبتك لأهلك أو لنفسك وأشباه ذلك كثير
إذا ثبت هذا فإن قيل إن الفرقة تحصل بلعانهما فلا تحصل الا بعد اكمال اللعان بينهما وان قلنا
لا تحصيل الا بتفريق لحاكم لم يجز له ان تفريق بينهما الا بعد كمال لعانها فإن فرق قبل ذلك كان
45

تفريقه باطلا وجوده كعدمه. وبهذا قال مالك وقال الشافعي لا تقع الفرقة حتى يكمل للزوج لعانه
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن إذا فرق بينهما بعد أن لاعن كل واحد منهما ثلاث مرات أخطأ
السنة والفرقة جائزة وان فرق بينهما بأقل من ثلاث فالفرقة باطلة لأن من اتى بالثلاث فقد اتى
بالأكثر فتعلق الحكم به
ولنا انه تفريق قبل تمام اللعان فلم يصح كما لو فرق بينهما لأقل من ثلاث أو قبل لعان المرأة
ولأنها ايمان مشروعة لا يجوز للحاكم الحكم قبلها بالاجماع فإذا حكم لم يصح حكمه كايمان المختلفين في البيع وكما قبل الثلاث ولان الشرع إنما ورد بالتفريق بعد كمال السبب فلم يجز قبله كسائر الأسباب
وما ذكروه تحكم لا دليل عليه ولا أصل له ثم يبطل بما إذا شهد بالدين رجل وامرأة واحدة أو بمن
توجهت عليه اليمين إذا أتى بأكثر حروفها وبالمسابقة إذا قال من سبق إلى خمس إصابات فسبق
إلى ثلاثة وبسائر الأسباب فأما إذا تم اللعان فللحاكم أن يفرق بينهما من غير استئذانهما لأن النبي
صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين ولم يستأذنهما وروي مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في
زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما والحق الولد بالمرأة وروي
سفيان عن الزهري عن سهل بن سعد قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين أخرجهما
46

سعيد ومتى قلنا إن الفرقة لا تحصل الا بتفريق الحاكم فلم يفرق بينهما فالنكاح بحاله باق لأن ما
يبطل النكاح لم يوجد فأشبه ما لو لم يلاعن
(فصل) وفرقة اللعان فسخ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة هي طلاق لأنها فرقة من قبل
الزوج تختص النكاح فكان طلاقا كالفرقة بقوله أنت طالق
ولنا انها فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع ولان اللعان ليس بصريح
في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقا كسائر ما ينفسخ به النكاح ولأنه لو كان طلاقا لوقع
بلعان الزوج دون لعان المرأة
(فصل) ذكر بعض أهل العلم ان الفرقة إنما حصلت باللعان لأن لعنة الله وغضبه قد وقع بأحدهما
لتلاعنهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند الخامسة " انها الموجبة " أي انها توجب لعنة الله وغضبه ولا نعلم
من هو منهما يقينا ففرقنا بينهما خشبة أن يكون هو الملعون فيلعنوا امرأة غير ملعونة وهذا لا يجوز
كما لا يجوز ان يعلو المسلمة كافر ويمكن ان يقال على هذا لو كان هذا الاحتمال مانعا من دوام نكاحهما
لمنعه من نكاح غيرها فإن هذا الاحتمال متحقق فيه. ويحتمل أن يكون الموجب للفرقة وقوع اللعنة
أو الغضب بأحدهما غير معين فيفضي إلى علو ملعون غير ملعونة أو إلى امساك ملعونة مغضوبة عليها
47

ويحتمل ان سبب الفرقة النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبها فإن الرجل إن كان
صادقا فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الاشهاد وإقامتها مقام خزي وحقق عليها
الغضب وقطع نسب ولدها وإن كان كذبا فقد أضاف إلى ذلك بهتها وقذفها بهذه الفرقة العظيمة
والمرأة ان كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الاشهاد وأوجبت عليه لعنة الله وان كانت
كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها وألزمته اللعان والفضيحة وأحوجته إلى هذا المقام المخزي
فحصل لكل واحد منهما نفرة من صاحبه لما حصل إليه من إساءة لا يكاد يلتئم لهما معها حال فاقتضت
حكمة الشارع التزام الفرقة بينهما وإزالة الصحبة المتمحضة مفسدة ولأنه إن كان كاذبا عليها فلا ينبغي
ان يسلط على امساكها مع ما صنع من القبيح إليها وإن كان صادقا فلا ينبغي ان يمسكها مع علمه بحالها
ولهذا قال العجلاني كذبت عليها ان أمسكتها
" مسألة " (الثالث: التحريم المؤبد وعنه انه ان أكذبت نفسه حلت له)
ظاهر المذهب ان الملاعنة تحرم على الملاعن تحريما مؤبدا فلا تحل له وان اكذب نفسه ولا
خلافا بين أهل العلم في أنه إذا لم يكذب نفسه انها لا تحل له الا أن يكون قولا شاذا فإن اكذب
نفسه فالذي رواه الجماعة عن أحمد انها لا تحل له أيضا وجاءت الاخبار عن عمر وعلي وابن مسعود
رضي الله عنهم ان المتلاعنين لا يجتمعان ابدا وبه قال الحسن وعطاء وجابر بن زيد والنخعي والزهري
48

والحكم ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأبو يوسف، وعن أحمد رواية
أخرى انه ان اكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله وهي رواية شاذ شذ بها حنبل عن أصحابه
قال أبو بكر لا نعلم أحدا رواها غيره. قال شيخنا وينبغي ان تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق
الحاكم فاما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله، وقد ذكرنا ان مذهب البتي ان اللعان
لا يتعلق به فرقة وعن سعيد بن المسيب ان اكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب. وبه قال أبو حنيفة
ومحمد بن الحسن لأن فرقة اللعان عندهما طلاق وقال سعيد بن جبير ان اكذب نفسه ردت إليه
ما دامت في العدة.
ولنا ما روي سهل بن سعد قال مضت السنة في المتلاعنين ان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان ابدا
رواه الجوزجاني باسناده في كتابه وروي مثل هذا عن الزهري ومالك ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الحد
والتكذيب فلم يرتفع بهما كتحريم الرضاع
(مسألة) وإذا قلنا تحل له باكذاب نفسه فإن لم يكن وجد منه طلاق فهي باقية على النكاح)
لأن اللعان على هذا القول لا يحرم على التأييد وإنما يؤمر بالطلاق كما يؤمر المولى به إذا لم يأت
بالفيئة فإذا لم يأت بالطلاق بقي النكاح بحاله وزوال الاجبار على الطلاق لتكذيبه نفسه كما لو امتنع
49

المولى من الفيئة فأمر بالطلاق فعاد فأجاب إلى الفيئة، وان جاء منه طلاق دون الثلاث فله رجعتها
كالمطلقة دون الثلاث بغير عوض
(مسألة) (الرابع انتفاء الولد عنه بمجرد اللعان ذكره أبو بكر وينتفي عنه حملها وان لم يذكره
وقال الخرقي لا ينتفي حتى يذكره في اللعان)
وجملة ذلك أن الزوج إذا ولدت امرأته ولدا يمكن أن يكون منه فهو ولده في الحكم لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ولا ينتفي عنه الا ان ينفيه باللعان تام الذي اجتمعت
شروطه وهي أربعة (أحدهما) أن يوجد اللعان منهما جميعا وهذا قول عامة أهل العلم، وقال
الشافعي ينتفي بلعان الزوج وحده لأن نفي الولد إنما كان بيمينه والتعانه لا بيمين المرأة على تكذيبه
ولا معنى ليمين المرأة في نفي النسب وهي نثبته وتكذب قول من ينفيه وإنما لعانها لدرء الحد عنها
كما قال الله تعالى (ويدرأ عنها العذاب ان تشهد أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين)
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفي الولد عنه بعد تلاعنهما فلا يجوز النفي ببعضه كبعض لعان الزوج
(الثاني) ان يكمل اللعان منهما جميعا
(الثالث) أن يبدأ الزوج باللعان قبل المرأة فإن بدأت باللعان قبله لم يعتد به وبه قال أبو ثور
وابن المنذر، وقال مالك وأصحاب الرأي ان فعل أخطأ السنة والفرقة جائزة وينفى الولد عنه لأن
الله تعالى عطف لعانها على لعانه بالواو هي لا تقتضي ترتيبا ولان اللعان قد وجد منهما جميعا فأشبه
50

ما ورتب، وعند الشافعي لا يتم اللعان الا بالترتيب الا أنه يكفي عنده لعان الرجل وحده لنفي الولد
وذلك حاصل مع اخلاله بالترتيب وعدم كمال ألفاظه من المرأة
ولنا أنه أتى باللعان على غير ما ورد به القرآن والسنة فلم يصح كما لو اقتصر على لفظه واحدة
ولان لعان الرجل بينة لاثبات زناها ونفي ولدها ولعان المرأة للانكار فقدمت بينة الاثبات لتقديم
الشهود على الايمان ولان لعان المرأة لدرء العذاب عنها، ولا يتوجه عليها ذلك إلا بلعان الرجل فإذا
قدمت لعانها على لعانه فقد قدمته على وقته فلم يصح كما لو قدمته على القذف
(الرابع) أن يذكر نفي الولد في اللعان فإن لم يذكره لم ينتف إلا أن يعيد اللعان ويذكر نفيه
وهذا ظاهر كلام الخرقي واختيار القاضي ومذهب الشافعي، فإذا قال أشهد بالله اني لمن الصادقين فيما
رميتها به من الزنا يقول وما هذا الولد ولدي، وتقول هي أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا
وهذا الولد ولده في كل لفظة، وقال الشافعي لا تحتاج المرأة إلى ذكره لأنها لا تنفيه
ولنا أنها أحد الزوجين فكان ذكر الولد شرطا في لعانه كالزوج وقال أبو بكر لا يحتاج إلى ذكر
الولد ونفيه وينتفي بزوال الفراش لأن حديث سهل بن سعد الذي وصف فيه اللعان لم يذكر فيه الولد
وقال فيه ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضي ان لا يدعي ولدها لأب ولا يرمى ولدها رواه أبو داود
51

وفي حديث رواه مسلم عن عبد الله أن رجلا لاعن امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وسلم
بينهما وألحق الولد بأمه.
ولنا أن من سقط حقه باللعان كان ذكر مشرطا كالمرأة ولان غاية ما في اللعان أن يثبت زناها وذلك
لا يوجب نفي الولد كما لو أقرت به أو قامت به بينة فأما حديث سهل فقد روي فيه فكانت حاملا
فأنكر حملها من رواية البخاري، وروى ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى
من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة والزيادة من الثقة مقبولة، فعلى هذا لابد
من ذكر الولد في كل لفظة ومع اللعن في الخامسة لأنها من لفظات اللعان، وذكر الخرقي شرطا
خامسا وهو تفريق الحاكم بينهما وهذا على الرواية التي تشترط تفريق الحاكم بينهما لوقوع الأخرى
أما على الرواية الأخرى فلا يشترط تفريق الحاكم لنفي الولد كما لا يشترط لدرء الحد عنه ولا لفسخ
النكاح، وشرط أيضا شرطا سادسا وهو أن يكون قد قذفها وهذا من شروط اللعان وقد ذكرناه
(فصل) متى كان اللعان لنفي الولد اشترط ذكره وقد مضى ذلك قال يشترط أن يقول هذا
الولد من زنى وليس هو مني وهو مذهب الشافعي لأنه قد يريد بقوله ليس هو مني يعني خلقا وخلقا
ولم يقتصر على قوله هو من زنى لأنه قد يعتقد أن الوطئ في النكاح الفاسد زنا فأكدنا بذكرهما جميعا
ولنا أنه نفي الولد في اللعان فانتفى به كما لو ذكر اللفظين، وما ذكروه من التأكيد تحكم بغير دليل
52

ولا ينتفي اللعان بضم إحدى اللفظين إلى الأخرى فإنه إذا اعتقد أنه من وطئ فاسد واعتقد أن ذلك
زنا صح منه أن يقول اللفظين جميعا وقد يريد انه لا يشبهني خلقا ولا خلقا وأنه من وطئ فاسد
(مسألة) (وان نفى الحمل في التعانه لم ينتف حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن)
اختلف أصحابنا في ذلك فقال الخرقي وجماعة لا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع
وينتفي الولد فيه، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة من أهل الكوفة لأن الحمل غير مستيقن يجوز أن يكون ريحا أو
أو غيرها فيصير فيصير نفيه مشروطا بوجوده ولا يجوز تعليق اللعان بشرط، وقال مالك والشافعي وجماعة
من أهل الحجاز يصح نفي الحمل وينتفي عنه محتجين بحديث هلال بن أمية وأنه نفى حملها فنفاه عنه
النبي صلى الله عليه وسلم وألحقه بالام وبأنه كان حملا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " انظروها فإن جاءت به كذا وكذا "
قال ابن عبد البر الآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة وأوردها، ولان الحمل مظنون بامارات تدل
عليه ولهذا ثبت للحامل أحكام تخالف فيها الحائل من النفقة والفطر في الصيام وترك إقامة الحد
عليها وتأخير القصاص عنها وغير ذلك مما يطول ذكره، ويصح استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه
وهذا القول الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنا ما كان، وقال أبو بكر ينتفي الولد بزوال الفراش، ولا يحتاج إلى ذكره في اللعان احتجاجا بظاهر الأحاديث حيث لم
ينقل فيها نفي الحمل ولا التعرض لنفيه، فأما من قال إن الولد لا ينتفي إلا بنفيه بعد الوضع فإنه
53

يحتاج إلى عادة اللعان بعد الوضع، وقال أبو حنيفة ومن وافقه ان لاعنها حاملا ثم أتى بولد لزمه
ولم يتمكن من نفيه لأن اللعان لا يكون إلا بين زوجين وهذه قد بانت بلعانها في حملها وهذا فيه الزامه
ولد ليس منه وسد باب الانتفاء من أولاد الزنا، والله تعالى قد جعل له إلى ذلك سبيلا وطريقا فلا
يجوز سده وإنما تعتبر الزوجية في الحال التي أضاف إليها الزنا لأن الولد الذي يأتي به يلحقه إذا
لم ينفه فيحتاج إلى نفيه، وهذه كانت زوجة في تلك الحال فملك نفيه والله أعلم
(فصل) فإن استلحق الحمل فمن قال لا يصح نفيه قال استلحاقه وهو المنصوص عن أحمد
ومن أجاز نفيه قال يصح استلحاقه وهو مذهب الشافعي لأنه محكوم بوجوده بدليل وجوب
النفقة ووقف الميراث نصح الاقرار به كالمولود، وإذا استلحقه لم يملك نفيه بعد ذلك كما لو استلحقه
بعد الوضع، ومن قال لا يصح استلحاقه قال لو صح استلحاقه لزمه بترك نفيه كالمولود ولا يلزمه ذلك
بالاجماع ولان للشبه أثرا في الاستلحاق بدليل حديث الملاعنة وذلك مختص بما بعد الوضع فاختص
صحة الاستلحاق به فعلى هذا لو استلحقه ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك فأما ان سكت عنه فلم ينفه
ولم يستلحقه لم يلزمه عند أحد علمنا قوله لأن بتركه يحتمل أن يكون لأنه لا يتحقق وجوده الا ان
يلاعنها فإن أبا حنيفة ألزمه الولد على ما أسلفناه
54

(فصل) ومن شرط نفي الولد ان لا يوجد منه دليل على الاقرار به فإن أقر به لم يملك نفيه في
قول جماعة أهل العلم منهم الشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب
الرأي، وان أقر بتوأمه أو نفاه وسكت عن توأمه لحقه نسبه ولم يكن له نفيه وقد ذكرناه ولأنه إذا
أقر بأحدهما كان اقرارا بالآخر إذ لا يمكن ان يعلم الذي له منهما فإذا نفى الأخير كان رجوعا عن اقراره
فلا يقبل منه ومثله إذا نفاه وسكت عن توأمه
(مسألة) (وان هنئ به فسكت كان اقرارا ذكره أبو بكر) لأن السكوت صلح دالا على الرضا
في حق البكر فههنا أولى
(مسألة) (فإن امن على الدعاء لزمه في قولهم جميعا)
فإن قال أحسن الله جزاءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله لزمه الولد وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي لا يلزمه لأنه جازاه على قصده وإذا قال رزقك الله مثله فليس ذلك اقرارا ولا متضمغا
له. لنا ان ذلك جواب الراضي في العادة فكان اقرارا كالتأمين على الدعاء
(مسألة) (وان اخر نفيه مع امكانه لزمه نسبه ولم يكن له نفيه بعد ذلك)
وبهذا قال الشافعي قال أبو بكر لا يتقدر ذلك بثلاث هل هو ما جرت به العادة إن كان ليلا
فحتى يصبح وينتشر الناس وإن كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب أو ينام إن كان ناعسا أو
55

يلبس ثيابه ويسرج دابته ويركب ويصلي ان حضرت الصلاة ويحرز ماله إن كان غير محرز وأشباه
هذا من اشغاله فإن اخره بعد هذا كله لم يكن له نفيه وقال أبو حنيفة له تأخير نفيه يوما ويومين
استحسانا لأن النفي عقيب الولادة يشق فقدر باليومين لقلتهما. وقال أبو يوسف ومحمد يتقدر بمدة
النفاس لأنها جارية مجرى الولادة في الحكم. وحكي عن عطاء ومجاهد ان له نفيه ما لم يعترف
به كحالة الولادة
ولنا انه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على الفور كخيار الشفعة ولان قول النبي صلى الله عليه وسلم " الولد
للفراش " عام خرج منه ما اتفقنا عليه مع السنة الثابتة ففيما عداه يبقى على عموم الحديث، وما ذكره أبو
حنيفة يبطل بخيار الرد بالعيب والاخذ بالشفعة، وتقديره بمدة النفاس تحكم لا دليل عليه. وما قاله عطاء
يبطل أيضا بما ذكرناه ولا يلزم عليه القصاص فإنه لاستيفاء حق لا لدفع ضرر ولا الحمل لأنه لم
يتحقق ضرره؟ وهل يتقدر الخيار في النفي بمجالس العلم أو بامكان النفي، على وجهين بناء على المطالبة بالشفعة
(مسألة) (فإن قال اخرته رجاء موته لم يعذر بذلك ويبطل خياره لأنه اخر نفيه مع
امكانه لغير عذر)
56

(مسألة) (وان قال لم أعلم به أو لم اعلم أن لي نفيه أو لم اعلم أن ذلك على الفور وأمكن صدقه قبل منه)
إذا اخر نفيه ثم ادعى انه لم يعلم بالولادة وأمكن صدقه بان يكون في مكان يخفى عليه ذلك
كمن هو في محلة أخرى فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم العلم فإن لم يمكن مثل أن يكون معها
في الدار لم يقبل لأن ذلك لا يكاد يخفى عليه وان قال علمت ولادته ولم أعلم ان لي نفيه أو علمت
ذلك أو لم اعلم أنه على الفور وكان من يخفى عليه ذلك كعامة الناس قبل منه لأن هذا مما يخفى عليهم
فأشبه كما لو كان حديث عهد باسلام فإن كان فقيها لم يقبل منه لأنه مما لا يخفى عليه ذلك ويحتمل ان
يقبل منه لأن الفقيه يخفى عليه كثير من الأحكام وقال أصحابنا لا يقبل ذلك من الفقيه ويقبل من
الناشئ ببادية وحديث العهد بالاسلام ويقبل من سائر الناس وفيه وجه آخر انه لا يقبل والأول أولى
(مسألة) (وان اخره لغيبة أو مرض أو شئ يمنعه ذلك لم يسقط نفيه)
وجملة ذلك أنه إذا كان له عذر يمنعه من الحضور لنفيه كالمرض والحبس أو الاشتغال بحفظ
مال يخاف ضيعة أو بملازمة غريم يخاف فوته أو غيبته نظرت فإن كانت مدة ذلك قصيرة فاخره
إلى الحضور ليزول عذره لم يبطل نفيه لأنه بمنزلة من علم ذلك ليلا فأخره إلى الصبح وان كانت
57

تتطاول ما مكنه التنفيذ إلى الحاكم ليبعث إليه من يستوفي عليه اللعان والنفي فلم يفعل سقط نفيه وان
لم يمكنه اشهد على نفسه انه ناف لولد امرأته فإن لم يفعل بطل خياره لأنه إذا لم يقدر على نفيه قام
الاشهاد مقامه كما يقيم المريض الفيئة بالقول بدلا عن الفيئة بالجماع
(فصل) فإن قال لم أصدق المخبر به وكان مستفيضا منتشرا لم يقبل قوله وان لم يكن مستفيضا
وكان المخبر مشهور العدالة لم يقبل قوله والا قبل، وان قال لم اعلم أن علي ذلك قبل قوله لأنه مما
يخفى وان علم وهو غائب فأمكنه السير فاشتغل به لم يبطل خياره وان أقام من غير حاجة بطل لأنه
اخر لغير عذر، وان كانت له حاجة تمنعه من السير فهو على ما ذكرنا من قبل وان اخره من غير عذر
بطل وفي كل موضع لزمه الولد لم يكن له نفيه بعد ذلك في قول جماعة أهل العلم مالك والشافعي
وابن المنذر وأصحاب الرأي وقال الحسن له أن يلاعن لنفيه ما دامت أمه عنده يصير لها الولد ولو
أقر به والذي عليه الجمهور أولى فإن أقر به فلم يملك جحده كما لو بانت منه أمه ولأنه أقر بحق عليه
فلم يقبل منه جحده كسائر الحقوق
58

(مسألة) (ومتى اكذب نفسه بعد نفيه لحقه نسبه ولزمه الحد ان كانت المراة محصنة أو
التعزير ان لم تكن محصنة)
إذا لاعن الرجل امرأته ونفى ولده ثم اكذب نفسه لحقه الولد إذا كان حيا غنيا كان أو
فقيرا بغير خلاف بين أهل العلم وكذلك إن كان ميتا. وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال الثوري
إذا استلحق الولد الميت وكان إذا مال لم يلحقه لأنه إنما يدعي مالا وان لم يكن له مال لحقه وقال أصحاب
الرأي إن كان الولد الميت ترك ولدا ثبت نسبه من المستلحق وتبعه نسب ابنه وان لم يكن ترك ولدا
لم يصح استلحاقه ولم يثبت نسبه ولا يرث منه المدعي شيئا لأن نسبه منقطع بالموت فلم يصح استلحاقه
فإذا كان له ولدا كان مستلحقا لولده وتبعه نسب الميت
ولنا ان هذا ولد نفاه باللعان فكان له استلحاقه كما لو كان حيا أو كان له ولد ولان ولد الولد
يتبع نسب الولد وقد جعل أبو حنيفة نسب الولد تابعا لنسب ابنه فجعل الأصل تابع للفرع وذلك
باطل فأما قول الثوري انه إنما يدعي مالا قلنا إنما يدعي النسب والميراث تبع له فإن قيل فهو متهم
في أن غرضه في حصول الميراث قلنا النسب لا يمنع التهمة لحوقه بدليل انه لو كان له أخ يعاديه فأقر
بابن لزمه وسقط ميراث أخيه ولو كان الابن حيا غنيا والأب فقيرا فاستلحقه فهو متهم في ايجاب
59

نفقته على ابنه ويقبل قوله كذلك ههنا ثم كان ينبغي ان يثبت ههنا لأنه حق للولد ولا تهمة فيه ولا
يثبت الميراث المختص بالتهمة ولا يلزم من انقطاع البيع انقطاع الأصل
قال القاضي يتعلق باللعان أربعة أحكام حقان عليه وجوب الحد ولحوق النسب. وحقان له الفرقة
والتحريم المؤبد فإذا اكذب نفسه قبل قوله فيما عليه فلزمه الحد والنسب ولم يقبل فيما له فلم تزل
الفرقة ولا التحريم المؤبد
(فصل) فإن لم يكذب نفسه ولكن لم تكن له بينة ولا لاعن أقيم عليه الحد فإن أقيم عليه بعضه
فأراد اللعان وقال أنا ألاعن قبل منه لأن اللعان يسقط جميع الحد فيسقط بعضه كالبينة فإن ادعت
زوجته أنه قذفها بالزنا فأنكر فأقامت عليه بينة أنه قذفها بالزنا فقال صدقت البينة وليس ذلك قذفا
لأن القذف الرمي بالزنا كذبا وأنا صادق فيما رميتها به ولم يكن ذلك اكذابا لنفسه لأنه مصر على رميها
بالزنا وله اسقاط الحد باللعان ومذهب الشافعي في هذا الفصل كمذهبنا فأما ان قال ما زنت ولا رميتها
بالزنا فقامت البينة عليه بقذفها لزمه الحد ولم تسمع بينته ولا لعانه، نص عليه أحمد لأن قوله ما زنت
تكذيب للبينة واللعان فلا يثبت له حجة قد أكذبها وجرى هذا مجرى قوله في الوديعة إذا ادعيت عليه
فقال ما أودعتني فقامت عليه البينة بالوديعة فادعى الرد أو التلف لم يقبل ولو أجاب بأنه ما له عندي
شئ أو لا يستحق علي شيئا فقامت عليه البينة فادعى الرد أو التلف قبل منه
60

(مسألة) (ويلزمه الحد إذا اكذب نفسه سواء أكذبها قبل لعانها أو بعده)
وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا لأن اللعان أقيم مقام
البينة في حق الزوج فإذا اكذب نفسه بان ان لعانه كذب وزيادة في هتكها وتكرار لقذفها فلا أقل
من أن يجب الحد الذي كان واجبا بالقذف المجرد فإن عاد عن اكذاب نفسه وقال لي بينة
أقيمها بزناها أو أراد اسقاط الحد عنه باللعان لم تسمع لأن البينة واللعان لتحقيق ما قاله وقد أقر
بكذب نفسه فلا يسمع منه خلافه. وهذا إذ كانت المقذوفة محصنة فإن كانت غير
محصنة فعليه التعزير.
(فصل) فيما يلحق من النسب، من أتت امرأته بولد يمكن كونه منه وهو ان يأتي به بعد ستة
أشهر منذ أمكن اجتماعه بها ولاقل من أربع سنين منذ أبانها وهو ممن يولد لمثله كابن عشر سنين
لحقه الولد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " ولان مع ذلك يمكن كونه منه وقدرناه بعشر سنين
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " وقال القاضي يلحق به إذا
أتت
له تسعة أعوام ونصف مدة الحمل قياسا على الجارية وقال أبو بكر لا يلحقه حتى يبلغ لأن الولد إنما
يكون من الماء ولا ينزل حتى يبلغ
61

ولنا انه زمن يمكن البلوغ فيه فيلحقه الولد كالبالغ. وقد روي أن عمرو بن العاص وابنه لم
يكن بينهما الا اثنا عشر عاما وامر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم دليل على امكان الوطئ
الذي هو سبب الولادة. واما قياس الغلام على الجارية فغير صحيح فإن الجارية يمكن
الاستمتاع بها لتسع عادة وقد تحيض لتسع والغلام لا يمكنه الاستمتاع لتسع ما عهد
بلوغ غلام لتسع.
(مسألة) فاما ان أتت به لدون ستة أشهر منذ تزوجها أو لأكثر من أربع سنين منذ أبانها لم
يلحق الزوج لأنا علمنا أنها علقت به قبل النكاح ولا يحتاج إلى نفيه باللعان لأن اللعان يمين واليمين
جعلت لتحقيق أحد الجائزين ونفي أحد المحتملين وما لا يجوز لا يحتاج إلى نفيه
(مسألة) (وان أقرت بانقضاء عدتها بالقروء ثم أتت به لأكثر من ستة أشهر لم يلحق بالزوج)
وهذا قول أبي العباس ابن شريح وقال غيره من أصحاب الشافعي يلحق به لأنه يمكن أن يكون
منه والولد يحلق بالامكان
62

ولنا انها أتت به بعد الحكم بانقضاء عدتها في وقت يمكن ان لا يكون منه فلم يلحقه كما لو
انقضت عدتها بوضع الحمل وإنما يعتبر الامكان مع بقاء الزوجية أو العدة واما بعدهما فلا يكتفي بالامكان
للحاقه وإنما يكتفى بالامكان لنفيه وذلك لأن الفراش سبب ومع وجود السبب يكتفى بامكان الحكمة
واحتمالها فإذا انتفى السبب واثاره انتفى الحكم لانتفائه ولا يلتفت إلى مجرد الامكان. فأما ان طلقها
فأعدت بالأقراء ثم ولدت ولدا قبل مضي ستة أشهر من آخر أقرائها لحق الزوج لأنا تيقنا
انها لم تحمله بعد انقضاء عدتها ويعلم انها كانت حاملا به في زمن رؤية الدم فيلزم ان لا يكون الدم
حيضا فلم تنقض عدتها به.
(مسألة) (فإن طلقها وهي حامل فولدت ثم ولدت آخر قبل مضي ستة أشهر فهو من الزوج)
لأنا نعلم أنهما حمل واحد فإذا كان أحدهما منه فالآخر منه وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر
لم يلحق بالزوج وانتفى عنه من غير لعان لأنه لا يمكن أن يكون الولدان حملا واحدا وبينهما
مدة الحمل فعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية وانقضاء العدة وكونها أجنبية فهي كسائر الأجنبيات
(مسألة) (أو مع العلم بأنه لم يجتمع بها)
63

كالذي يتزوجها بحضرة الحاكم ويطلقها في المجلس قبل غيبته عنهم ثم أتت المراة بولد لستة أشهر
أو يتزوجها وبينهما مسافة لا يصل إليها في المدة التي ولدت فيها كمشرقي يتزوج بمغربية ثم مضت
ستة أشهر واتت بولد لم يلحقه وبذلك قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يلحقه نسبه لأن الولد
إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل الا ترى انكم قلتم إذ امضى زمان الامكان لحق الولد وان علم أنه
لم يحصل منه الوطئ.
ولنا انه لم يحصل امكان الوطئ في هذا العقد فلم يلحق به الولد كزوجية الطفل أو كما لو ولدته
لدون ستة أشهر وفارق ما قاسوا عليه فإن الامكان إذا وجد لم يعلم أنه ليس منه قطعا لجواز أن يكون
وطئها من حيث لا نعلم ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطئ فعلقنا الحكم على امكانه في النكاح
ولم يجز حذف الامكان عن الاعتبار لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه فلم يجز الحاقه بدفع
يقين كونه ليس منه.
64

(مسألة) (أو صبي دون عشر سنين أو مقطوع الذكر والأنثيين)
اما الصبي الذي له دون عشر سنين فقد ذكرناه في أول الفصل. واما مقطوع الذكر والأنثيين
فلا يلحق به الولد في قول عامة أهل العلم لأنه يستحيل منه الايلاج والانزال. فإن قطعت أنثياه
دون ذكره فكذلك لأنه لا ينزل ماء يخلق منه الولد وقال أصحابنا يلحقه وفيه بعد قالوا لأنه يتصور
منه الايلاج وينزل ماء رقيقا
ولنا ان هذا لا يخلق منه الولد عادة ولا وجد ذلك فأشبه ما لو قطع ذكره معهما ولا اعتبار
بايلاج لا يخلق منه الولد فهو كما لو أولج إصبعه. فأما ان قطع ذكره وحده فقد قيل يلحقه الولد لأنه
يمكن ان يساحق فينزل ما يخلق منه الولد فيدخل الماء إلى فرج المرأة ولهذا الحقنا ولد الأمة بسيدها
إذا اعترفت بوطئها فيما دون الفرج
65

ولأصحاب الشافعي اختلاف في ذلك كنحو ما ذكرنا من الاختلاف عندنا. وقال ابن اللبان
لا يلحقه الولد في هاتين الصورتين في قول الجمهور وقال بعضهم يلحقه بالفراش وهو غلط لأن الولد
إنما يلحق بالفراش إذا أمكن، الا ترى انها إذا ولدت بعد شهر منذ تزوجها لم يلحقه وههنا لا يمكن
لفقد المني من المسلول وتعذر اتصال المني إلى قعر الرحم من المجبوب ولا معنى لقول من قال يجوز
ان تستدخل المرأة مني الرجل فتحبل لأن الولد مخلوق من مني الرجل والمراة جميعا ولذلك يأخذ
الشبه منهما وإذا استدخلت المني بغير جماع لم يحدث لها لذة تمني بها فلا يختلط منهما، ولو صح ذلك
لكان الأجنبيان الرجل والمراة إذا تصادقا انها استدخلت منيه وان الولد من ذلك المني يحلقه نسبه
وما قال ذلك أحد، والذي ذكره ابن اللبان إنما يصح إذا استدخلت منيه من غير مباشرة فأما
مع المباشرة والمساحقة فيمكن ان يحدث لها شهوة ينزل المني معها فتحبل فلا يشبه ما ذكره من الأصل والله أعلم
(مسألة) (وان طلقها طلاقا رجعيا فولدت لأكثر من أربع سنين منذ طلقها ولاقل من أربع
سنين منذ انقضت عدتها ففيه وجهان)
(أحدهما) لا يلحقه بنسبه وينتفي عنه بغير لعان لأنها علقت به بعد طلاقه فأشبهت البائن
66

(والثاني) يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والايلاء والحل
في رواية فأشبهت ما قبل الطلاق، فأما ان وضعته لأكثر من أربع سنين منذ انقضت العدة لم يلحق
به لأنها حلت به بعد زوال الفراش وكذلك إن كان الطلاق بائنا فوضعته لأكثر من أربع سنين من
حين الطلاق فإنه ينتفي عنه بغير لعان ولا يحلقه لذلك
(فصل) إذا غاب عن زوجته سنين فبلغها وفاته فاعتدت ونكحت نكاحا صحيحا في الظاهر
ودخل بها الثاني وأولدها أولادا ثم قدم الأول فسخ نكاحا الثاني وردت إلى الأول وتعتد من
الثاني ولها عليه صداق مثلها والأولاد له لأنهم ولدوا على فراشه، روي ذلك عن علي رضي الله عنه
وهو قول الثوري وأهل العراق وابن أبي ليلى ومالك وأهل الحجاز والشافعي وإسحاق وأبي يوسف
وغيرهم من أهل العلم إلا أبا حنيفة، قال الولد للأول لأنه صاحب الفراش لأنه نكاحه صحيح ثابت
ونكاح الثاني غير ثابت فأشبه الأجنبي
ولنا أن الثاني انفرد بوطئها في نكاح يلحق النسب في مثله فكان الولد له كوالد الأمة من زوجها
يلحقه دون سيدها وفارق الأجنبي فإنه ليس له نكاح
67

(فصل) ولو وطئ رجل امرأة لا زوج لها بشبهة فأتت بولد لحقه نسبه وهو قول الشافعي وأبي
حنيفة، وقال القاضي وجدت بخط أبي بكر أنه لا يلحق به لأن النسب لا يلحق إلا في نكاح صحيح
أو فاسد أو ملك أو شبهة ملك ولم يوجد شئ من ذلك، ولأنه وطئ لا يسند إلى عقد فلم يلحق الولد
فيه الواطئ كالزنا، والصحيح في المذهب الأول، قال أحمد كل من درأت عند الحد ألحقت به الولد
ولأنه وطئ اعتقد الواطئ حله فلحق به النسب كالوطئ في النكاح الفاسد، وفارق وطئ الزنا
فإنه لا يعتقد الحل فيه.
(فصل) ولو تزوج رجلان أختين فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة منهما إلى زوج
الأخرى فوطئها وحملت منه لحق الولد بالواطئ لأنه يعتقد حله فلحق به النسب كالواطئ في نكاح
فاسد وقال أبو بكر لا يكون الولد للواطئ وإنما يكون للزوج وهو الذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة
لأن الولد للفراش.
ولنا أنه الواطئ انفرد بوطئها فيما يلحق به النسب فلحق به كما لو لم تكن ذات زوج وكما
68

لو تزوجت امرأة المفقود عند الحكم بوفاته ثم بان حيا والخبر مخصوص بهذا فنقيس عليه
ما كان في معناه.
(فصل) وان وطئت امرأته أو أمته بشبهة في طهر لم يصبها فيه فاعتزلها حتى أتت بولد لستة
أشهر من حين الوطئ لحق الواطئ وانتفى عن الزوج من غير لعان، وعلى قول أبي بكر وأبي حنيفة
يلحق الزوج لأن الولد للفراش، وان أنكر الواطئ الوطئ فالقول قوله بغير يمين ويلحق نسب الولد
بالزوج لأنه لا يمكن الحاقه بالمنكر ولا تقبل دعوى الزوج في قطع نسب الولد، وان أتت بالولد لدون
ستة أشهر من حين الوطئ لحق الزوج بكل حال لأننا نعلم أنه ليس من الواطئ، فإن اشتركا في وطئها
في طهر فأتت بولد يمكن أن يكون منهما لحق الزوج لأن الولد للفراش وقد أمكن كونه منه وان ادعى
الزوج أنه من الواطئ فقال بعض أصحابنا يعرض على القافة معهما فيلحق بمن ألحقته به منهما فإن
ألحقته بالواطئ لحقه ولم يملك نفيه عن نفسه وانتفى عن الزوج بغير لعان وان ألحقته بالزوج لحق
ولم يملك نفيه باللعان في أصح الروايتين وان ألحقته بهما لحق بهما ولم يملك الواطئ نفيه عن نفسه، وهل يملك
الزوج نفيه باللعان؟ على روايتين، فإن لم يوجد قافة أو اشتبهه عليهم لحق الزوج لأن المقتضي للحاق
69

النسب به متحقق ولم يوجد ما يعارضه فوجب اثبات حكمه، ويحتمل أن يلحق الزوج بكل حال لأن
دلالة قول القافة ضعيفة ودلالة الفراش قوية فلا يجوز ترك دلالته لمعارضة دلالة ضعيفة
(فصل) فإن أتت امرأته بولد فادعى أنه من زوج قبله نظرنا فإن كانت تزوجت بعد انقضاء
العدة لم يلحق بالأول بحال، وإن كان بعد أربع سنين منذ بانت من الأول لم يلحق به أيضا وان
وضعته لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني لم يلحق به وينتفي عنهما وإن كان لأكثر من ستة
أشهر فهو ولده، وإن كان لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ولاقل من أربع سنين من طلاق
الأول ولم يعلم انقضاء العدة عرض على القافة وألحق بمن ألحقته به منهما فإن ألحقته بالأول انتفى
عن الزوج بغير لعان وان ألحقته بالزوج انتفى عن الأول ولحق بالزوج وهل له نفيه باللعان؟ على روايتين
(فصل) قال رضي الله عنه (ومن اعترف بوطئ أمته في الفرج أو دونه فأتت بولد لستة أشهر
لحقه نسبه وان ادعى العزل الا أن يدعي الاستبراء وهل يحلف؟ على وجهين)
من اعترف بوطئ أمته في الفرج صارت فراشا له فإذا أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطئ لحقه نسبه وبهذا قال
70

مالك والشافعي وقال الثوري وأبو حنيفة لا تصير فراشا حتى يقر بولدها فإذا أقر به صارت فراشا ولحقه
أولاده بعد ذلك لأنها لو صارت فراشا بالوطئ لصارت فراشا بإباحته كالزوجة
ولنا أن سعدا نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، فقال هو أخي وابن وليدة أبي ولد على
فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر " متفق عليه، وروى
ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قال ما بال رجال يطؤن ولائدهم ثم يعزلون لا تأتيني وليدة يعترف سيدها
أنه ألم بها الا ألحقت به ولدها فاعتزلوا بعد ذلك أو اتركوا، ولان الوطئ يتعلق به تحريم المصاهرة
فإذا كان مشروعا صارت به المرأة فراشا كالنكاح، ولأن المرأة إنما سميت فراشا تجوزا اما لمضاجعته
لها على الفراش واما لكونها تحته في حال المجامعة وكلا الامرين يحصل في الجماع، وقياسهم الوطئ على
الملك لا يصح لأن الملك لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا تنعقد في محل يحرم الوطئ فيه، كالمجوسية والوثنية
وذوات محارمه. إذا ثبت هذا فإنه إذا أراد نفي ولد أمته التي يلحقه ولدها فطريقه أن يدعي أنه
استبرأها بعد وطئه لها بحيضة فينتفي بذلك وان ادعى أنه كان يعزل عنها لحقه النسب ولم ينتف عنه
71

بذلك لما روى جابر قال جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية وأنا أطوف
عليها وأنا أكره أن تحمل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " اعزل عنها ان شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها " رواه
أبو داود ولما ذكرنا من حديث عمر وروي عن أبي سعيد أنه قال كنت أعزل عن جاريتي فولدت
أحب الخلق إلى يعني ابنه، ولأنه حكم تعلق بالوطئ فلم يعتبر معه الاعتزال كسائر الأحكام وقد قيل إنه
ينزل من الماء ما لا يحس به، فأما ان أقر بالوطئ دون الفرج أو في الدبر لم تصر بذلك فراشا لأنه
ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص
وروي عن أحمد أنها تصير فراشا لأنه قد يجامع فيسبق الماء إلى الفرج، ولأصحاب الشافعي وجهان
كهذين، وإذا ادعى الاستبراء قبل قوله بغير يمين في أحد الوجهين لأن من قبل قوله في الاستبراء قبل
بغير يمين كالمرأة تدعي انقضاء عدتها، وفي الآخر يستحلف وهو مذهب الشافعي لقوله عليه الصلاة
والسلام " ولكن اليمين على المدعى عليه " ولان الاستبراء غير مختص به فلم يقبل قوله فيه بغير يمين
كسائر الحقوق، ومتى لم يدع الاستبراء لحقه ولدها ولم ينتف عنه وقال الشافعي في أحد قوليه له نفيه
باللعان لأنه ولد لم يرض به فأشبه ولد المرأة
72

ولنا قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) فخص بذلك الأزواج ولأنه ولد يلحقه نسبه من غير
الزوجة فلم يملك نفيه باللعان كما لو وطئ أجنبية بشبهة فألحقت الفاقة ولدها به ولان له طريقا إلى نفي
الولد بغير اللعان فلم يحتج إلى نفيه باللعان فلا يشرع ولأنه لو وطئ أمته ولم يستبرئها فأتت بولد
احتمل أن يكون منه فلم يجز له نفيه لكون النسب يلحق بالامكان فكيف مع الظهور ووجود نسبه؟
فإن ادعى الاستبراء فأتت بولدين فأقر بأحدهما ونفى الآخر لحقاه معا لأنه لا يمكن جعل أحدهما منه
والآخر من غيره وهما حمل واحد ولا يجوز نفي الولد المقر به عنه مع اقراره به فوجب الحاقهما به
معا وكذلك لو أتت التي لم يعترف بوطئها بولدين توأمين فاعترف بأحدهما ونفى الآخر
(مسألة) (وان أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولد لدون ستة أشهر من حين
العتق أو البيع فهو ولده)
لأنها حملت به وهي فراش لأن أقل الحمل ستة أشهر فإذا أتت به لأقل من ذلك علم أن حملها
73

كان قبل بيعها فيلحق النسب به كما لو لم يبعها وتصير أم ولد والبيع باطل لأنها صارت أم ولد
(مسألة) (وكذلك ان لم يستبرئها فأتت به لأكثر من ستة أشهر فادعى المشتري انه منه
سواء ادعاه البائع أو لم يدعه)
لأنه وجد منه سببه وهو الوطئ ولم يوجد ما يعارضه ولا يمنعه فتعين إحالة حكمه عليه والحاق الولد
بمن وجد السبب منه سواء ادعاه البائع أو لا
(مسألة) (وان استبرئت ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر لم يلحقه نسبه)
لأن الاستبراء يدل على براءتها من الحمل وقد أمكن أن يكون من غيره لوجود مدة الحمل
بعد الاستبراء مع قيام الدليل على ذلك، فاما ان أتت به لأقل من ستة أشهر فقد علمنا أنها
كانت حاملا في زمن الاستبراء فيكون الاستبراء غير صحيح وتكون بمنزلة من لم يستبرئها وكذلك
ان لم يستبرئ ولم يقر المشتري له به ولد أمة المشتري فلا تقبل دعوى غيره له الا باقرار من المشتري
74

(مسألة) (فاما ان لم يكن البائع أقر بوطئها قبل بيعها لم يلحقه الولد بحال سواء ولدته
لستة أشهر أو لأقل منها)
لأنه يحتمل أن يكون من غيره وان اتفقا على أنه ولد البائع لحقه لأن الحق لهما فيثبت باتفاقهما
(مسألة) (وان ادعاه البائع فهو عبد للمشتري)
لا يقبل دعوى البائع في الايلاد لأن الملك انتقل إلى المشتري في الظاهر فلا يقبل قول البائع
فيما يبطل حقه كما لو باع عبدا ثم أقر انه كان أعتقه والقول قول المشتري مع يمينه لأنه منكر. وهل
يلحق البائع نسبه؟ على وجهين (أحدهما) يلحقه مع كونه عبدا للمشتري لأنه يجوز أن يكون
ابنا لواحد مملوكا لآخر كولد الأمة المزوجة (والثاني) لا يلحقه لأن فيه ضررا على المشتري فإنه لو
أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه
(مسألة) (وان وطئ المجنون من لا ملك له عليها ولا شبهة ملك فأتت بولد لم يلحقه نسبه
لأنه لا يسند إلى ملك ولا اعتقاد إباحة فإن أكرهها على الوطئ فعليه مهر مثلها كالمكلف لأن الضمان
يستوي فيه المكلف وغيره والله أعلم
75

كتاب العدد
الأصل في وجوب العدة الكتاب والسنة والاجماع اما الكتاب فقوله (والمطلقات يتربصن
بأنفسهن ثلاثة قروء)، وقوله سبحانه (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة
أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن) وقوله سبحانه (والذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) واما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل
لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تحد على ميت فوق ثلاث الا على زوج أربعة أشهر وعشر " وقال
لفاطمة بنت قيس " اعتدي في بيت ابن أم مكتوم " في آي وأحاديث كثيرة واجتمعت الأمة على وجوب
العدة في الجملة وإنما اختلفوا في أنواع فيها
(مسألة) (كل امرأة فارقها زوجها في الحياة قبل المسيس والخلوة بها فلا عدة عليها)
أجمع العلماء على ذلك لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنان ثم طلقتموهن
من قبل ان تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) ولأن العدة إنما وجبت في الأصل
لبراءة الرحم وقد تيقناها ههنا
76

(فصل) وتجب العدة على الذمية من الذمي والمسلم. وقال أبو حنيفة ان لم يكن من دينهم لم
يلزمها لأنهم لا يخاطبون بفروع الاسلام
ولنا عموم الآيات ولأنها بائن بعد الدخول اشبهت المسلمة. وعدتها كعدة المسلمة في قول
علماء الأمصار منهم الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي وهو قول مالك. وروي عنه
أنه قال تعتد من الوفاة بحيضة
ولنا عموم قوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا)
ولأنها معتدة من الوفاة اشبهت المسلمة
(مسألة) (وان خلا بها وهي مطاوعة فعليها العدة سواء كان بهما أو بأحدهما مانع من
الوطئ كالاحرام والصيام والحيض والنفاس والمرض والجب والعنة أو لم يكن الا ألا يعلم بها
كالأعمى والطفل فلا عدة عليها)
وجملة ذلك أن العدة تجب على من خلا بها زوجها ولم يمسها ولا خلاف بين أهل العلم في
وجوبها على المطلقة بعد المسيس فاما ان خلا بها ولم يصبها ثم طلقها فإن العدة تجب عليها روي ذلك
عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر وبه قال عروة وعلي بن الحسين وعطاء والزهري والثوري
والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في قديم قوله وقال في الجديد لا عدة عليها لقوله تعالى
77

(يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل ان تمسوهن فما لكم عليهن من عدة
تعتدونها) وهذا نص ولأنها مطلقة لم تمس فأشبهت من لم يخل بها
ولنا اجماع الصحابة فروى الإمام أحمد والأثرم باسنادهما عن زرارة بن أوفى قال قضى الخلفاء
الراشدون ان من أرخى سترا أو غلق بابا فقد وجب المهر ووجبت العدة ورواه الأثرم أيضا عن
عمر وعلى. وعن سعيد بن المسيب عن عمر وزيد بن ثابت وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت
اجماعا وضعف احمد ما روي في خلاف ذلك وقد ذكرناه في الصداق ولأنه عقد على المنافع فالتمكين
فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام المتعلقة كعقد الإجارة والآية مخصوصة بما ذكرناه ولا يصح
القياس على من لم يخل بها لأنه لم يوجد منها التمكين ولا فرق بين ان يخلو بها مع المانع من الوطئ
أو مع عدمه وسواء كان المانع حقيقيا كالجب والعنه والرتق أو شرعيا كالصوم والاحرام والحيض
والنفاس والظهار لأن الحكم علق ههنا على الخلوة التي هي مظنة الإصابة دون حقيقتها ولهذا لو خلا
بها فأتت بولد لمدة الحمل لحقه نسبه وان يطأ وقد روي عن أحمد ان الصداق لا يكمل مع وجود
المانع فكذلك يخرج في العدة. وروي عنه ان صوم شهر رمضان يمنع كمال الصداق مع الخلوة وهذا
يدل على أن المانع متى كان متأكد كالاحرام وشبهه مع كمال الصداق ولم تجب العدة لأن الخلوة إنما
أقيمت مقام المسيس لأنها مظنة له ومع المانع لا تتحقق المظنة
78

(مسألة) (الا ألا يعلم بها كالأعمى والطفل فلا عدة عليها ولا يكمل صداقها لأن المظنة
لا تتحقق وكذلك ان كانت صغيرة لا يوطأ مثلها أو لم تكن مطاوعة لعدم تحقق المظنة مع ظهور استحالة
المسيس والمعتدات على ستة اضرب (أحدها) أولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن حرائر كن
أو إماء من فرقة الحياة أو الممات)
كل امرأة حامل من زوج إذا فارقت زوجها بطلاق أو فسخ أو موته حرة كانت أو أمة مسلمة أو
كافرة فعدتها بوضع الحمل لقول الله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وهذا إجماع أهل المدينة
إلا أنه روي عن ابن عباس وعن علي من وجه أن المتوفي عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين وقاله أبو السنابل بن
بعكك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وقد روي أن ابن عباس رجع إلى قول الجماعة
لما بلغه حديث سبيعة وكره الحسن والشعبي إن تنكح في دمها، وحكي عن إسحاق وحماد أن عدتها لا تنقضي
حتى تطهر وأبى سائر أهل العلم هذا القول وقالوا لو بعد ساعة من وفاة زوجها حل لها أن تتزوج، ولكن
لا يطؤها زوجها حتى تطهر من نفاسها وتغتسل وذلك لقول الله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن
حملهن) وروي عن أبي كعب قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) للمطلقة
ثلاثا والمتوفي عنها زوجها، قال " هي للمطلقة ثلاثا والمتوفي عنها وقال ابن مسعود من شاء باهلته
79

أو لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) نزلت
بعد التي في سورة البقرة (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) يعني أن هذه الآية هي الأخيرة
فتقدم على ما خالفها من عموم الآية المتقدمة ويختص بها عمومها. وروى عبد الله بن الأرقم أن سبيعة
الأسلمية أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تلبث أن
وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال
ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ انك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر
قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت على ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك
فأفناني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي. متفق عليه. قال ابن عبد البر
هذا حديث حسن صحيح قد جاء من وجوه شتى كلها ثابتة إلا ما روي عن ابن عباس وروي عن
علي من وجه منقطع ولأنها معتدة حامل فتنقضي عدتها بوضعه كالمطلقة يحققه أن العدة إنما شرعت
لمعرفة براءتها من الحمل ووضعه أدل الأشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي به العدة ولأنه لا خلاف
في بقاء العدة ببقاء الحمل فوجب أن تنقضي به كما في حق المطلقة
(فصل) وإذا كان الحمل واحدا انقضت العدة بوضعه وانفصال جميعه وان ظهر بعضه فهي في
عدتها حتى ينفصل باقيه لأنها لا تكون واضعة لحملها حتى يخرج كله وإن كان الحمل اثنين أو أكثر
80

لم تنقض عدتها إلا بوضع الآخر لأن الحمل هو الجميع، هذا قول جماعة أهل العلم إلا أبا قلابة وعكرمة
فإنهما قالا تنقضي عدتها بوضع الأول ولا تتزوج حتى تضع الآخر
وذكر ابن أبي شيبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال إذا وضعت أحدهما فقد انقضت عدتها قيل له
أفتزوج؟ قال لا قال قتادة خصم العبد، وهذا قول شاذ يخالف ظاهر الكتاب وقول أهل العلم والمعنى
أن العدة شرعت لمعرفة البراءة من الحمل فإذا علم وجود الحمل فقد تبين وجود الموجب للعدة وانتفت
البراءة الموجبة لانقضائها ولأنها لو انقضت عدتها بوضع الأول لأبيح لها النكاح كما لو وضعت الآخر
فإن وضعت ولدا وشكت في وجود ثان لم تنقض عدتها حتى تزول الربية وتتيقن أنه لم يبق معها حمل
لأن الأصل بقاؤها فلا يزول بالشك
(مسألة) (والحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شئ من خلق الانسان فإن وضعت مضغة
لا يتبين فيها شئ من ذلك فذكر ثقات من النساء انه مبتدأ خلق آدمي فهل تنقضي به العدة؟ على روايتين)
وجملة ذلك أن المرأة إذا ألقت بعد فرقة زوجها شيئا لم تخل من خمسة أحوال
(أحدهما) أن تضع ما بان فيه خلق آدمي من الرأس واليد والرجل فتنقضي به العدة بغير خلاف
بينهم، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن عدة المرأة تنقضي بالقسط إذا علم أنه
81

ولد وممن نحفظ عنه ذلك الحسن وابن سيرين وشريح والشعبي والنخعي والزهري والثوري ومالك
والشافعي وأحمد وإسحاق، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله إذا نكس في الخلق الرابع يعني تنقضي به
العدة فقال إذا نكس في الخلق الرابع فليس فيه اختلاف ولكن إذا تبين خلقه هذا أدل
وذلك لأنه إذا بان فيه شئ من خلق الآدمي علم أنه حمل فيدخل في عموم قوله تعالى (وأولات
الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)
(الحال الثاني) ألقت نطفة أو دما لا تدري هل هو ما يخلق منه آدمي أو لا فهذا لا يتعلق به شئ
من الأحكام لأنه لم يثبت أنه ولد بالمشاهدة ولا بالبينة
(الحال الثالث) ألقت مضغة لم تبن فيها الخلقة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية بان
بها أنها خلقة آدمي فهذا في حكم الحال والأول
(الحال الرابع) ألقت مضغة لا صورة فيها فشهد ثقات من القوابل أنه مبتدأ خلق آدمي فاختلفت
الرواية عن أحمد فنقل مهنا وأبو طالب أن عدتها لا تنقضي به ولا تصير به أم ولد لأنه لم يبن فيه
خلق آدمي أشبه الدم، وقد ذكر هذا قولا للشافعي وهو اختيار أبي بكر، ولقل الأثرم عن أحمد أن
عدتها لا تنقضي به ولكن تصير أم ولد لأنه مشكوك في كونه ولدا فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة بأمر
مشكوك فيه ولم يجز بيع الأمة الوالدة له مع الشك في رقها فيثبت كونها أم ولد احتياطا ولا تنقضي
82

العدة احتياطا وقال حنبل انها تصير أم ولد ولم يذكر العدة فقال بعض أصحابنا على هذا تنقضي به العدة وهو
قول الحسن وظاهر مذهب الشافعي لأنهم شهدوا بأنه خلقة آدمي أشبه ما لو تصور، قال شيخنا والصحيح ان
هذا ليس برواية في العدة لأنه لم يذكرها ولم يتعرض لها
(الحال الخامس) أن تضع مضغة لا صورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدمي فلا تنقضي
به العدة ولا تصير به الأمة أم ولد لم يثبت كونه ولدا ببينة ولا مشاهدة فأشبه العلقة ولا تنقضي
العدة بوضع ما قبل المضغة بحال سواء كان نطفة أو علقة وسواء قيل إنه بدء خلق آدمي أو لم يقل
نص عليه احمد فقال: أما إذا كان علقا فليس بشئ إنما هود. لا نقضي بها عدة ولا نعتق بها أمة ولا نعلم في هذا مخالفا
الا الحسن فإنه قال: إذا علم أنها حمل انقضت به العدة، وفيه الغرة والأول أصح وعليه الجمهور
(مسألة) (وان أتت بولد لا يلحقه نسبه كامرأة الطفل لم تنقض به العدة وعنه تنقضي وفيه بعد)
إذا أتت بولد بعد أربع سنين منذ مات أو بانت منه بطلاق أو فسخ أو انقضاء عدتها ان كانت
رجعية لم يلحقه ولدها لأنا نعلم أنها علقت به بعد زوال النكاح والبينونة منه وكونها قد صارت أجنبية
منه فأشبهت سائر الأجنبيات، فعلى هذا لا تنقضي به العدة وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ينتفي عنه بغير
لعان فلم تنقض عدتها به كما لو أتت به لأقل من ستة أشهر منذ نكحها، وقال أبو الخطاب هل تنقضي
83

به العدة؟ على وجهين، وذكر القاضي أن عدتها تنقضي به وهو مذهب الشافعي لأنه ولد يمكن أن
يكون منه بعد نكاحه بأن يكون قد وطئها بشبهة أو جدد نكاحها فوجب أن تنقضي به العدة وان لم
يلحق، به كالولد المنفي باللعان، وبهذا فارق الذي أتت به لأقل من ستة أشهر فإنه ينتفي عنه يقينا، ثم
ناقضوا قولهم فقالوا لو تزوجت في عدتها وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين دخل بها الثاني
ولاكثر من أربع سنين من حين بانت من الأول فالولد منتف عنهما ولا تنقضي عدتها بوضعه عن
واحد منهما، وهذا أصح فإن احتمال كونه منه لم يكف في اثبات نسب الولد منه مع أنه يثبت بمجرد
الامكان فلان لا يكفي في انقضاء العدة أولى وأحرى، وما ذكروه منتقض بما سلموه، وما ذكروه من الفرق
بين هذا وبين الذي أتت به قبل ستة أشهر غير صحيح فإنه يحتمل أن يكون أصابها قبل نكاحها بشبهة
أو نكاح غير هذا النكاح الذي أتت بالولد فيه فاستويا، واما المنفي بلعان فإننا نفينا الولد عن الزوج بالنسبة
إليه ونفينا حكمه في كونه منه بالنسبة إليها حتى أوجبنا الحد على قاذفها وقاذف ولدها وانقضاء العدة
من الأحكام المتعلقة بها دونه مثبت
(فصل) فاما امرأة الطفل الذي لا يولد لمثله إذا مات عن زوجة فولدت لم يلحقه نسبه ولم تقض
به عدتها وتعتد بالأشهر وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة ان مات وبها حمل ظاهر اعتدت
عنه بالوضع فإن ظهر الحمل بها بعد موته لم تعتد به، وقد روي عن أحمد في الصبي مثل قول أبي حنيفة
84

وذكره ابن أبي موسى قال أبو الخطاب وفيه بعد، وهكذا الخلاف فيما إذا تزوج امرأة دخل بها وأتت
بولد لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح فإنها لا تعتد بوضعه عندنا وعنده تعتد به، واحتج بقوله سبحانه
(وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)
ولنا أن هذا حمل منفي عنه يقينا فلم تعتد بوضعه كما لو ظهر بعد موته والآية واردة في المطلقات
ثم هي مخصوصة بالقياس الذي ذكرناه. إذا ثبت هذا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل من الوطئ الذي
علقت به منه سواء كان هذا الولد ملحقا بغير الصغير مثل أن يكون من عقد فاسد أو وطئ بشبهة أو
كان من زنا لا يلحق بأحد لأن العدة تجب من كل وطئ فإذا وضعته اعتدت من الصبي بأربعة أشهر
وعشر لأن العدة من رجلين لا يتداخلان، وان كانت الفرقة في الحياة بعد الدخول كزوجة كبير
دخل بها ثم طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر منذ تزوجها فإنها تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء، وكذلك
إذا طلق الخصي المجبوب امرأته أو مات عنها فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض عدتها بوضعه وتنقضي
به عدة الوطئ ثم تستأنف عدة الطلاق أو عدة الوفاة على ما بيناه، وذكر القاضي أن ظاهر كلام احمد
أن الولد يلحق به لأنه قد يتصور منه الانزال بأن يحك موضع ذكره بفرجها فينزل، فعلى هذا القول
يحلق به الولد وتنقضي به العدة، والصحيح أن هذا لا يحلق به ولد لأنه لم تجر به عادة فلا يلحق به ولدها
كالصبي الذي لم يبلغ تسع سنين، وكذلك إذا تزوج امرأة بحضرة الحاكم ثم طلقها في المجلس أو تزوج
85

المشرقي بالمغربية ثم أتت بولد لم يلحقه ولا تنقضي به العدة وقد ذكرناه في الباب الذي قبله وذكرنا
الخلاف فيه، وانقضاء العدة مبني على لحوق النسب
(مسألة) (وأقل مدة الحمل ستة أشهر وغالبها تسعة وأكثرها أربع سنين وعنه سنتان)
إنما كان أقل مدة الحمل ستة أشهر لما روى الأثرم باسناده عن أبي الأسود أنه رفع إلى عمر أن
امرأة ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فقال له علي ليس لك ذلك قال الله تعالى (والوالدات
يرضعن وأولادهن حولين كاملين) وقال الله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) فحولان وستة أشهر ثلاثون
شهرا لا رجم عليها فخلى عمر سبيلها وولدت مرة أخرى لذلك الحد، ورواه الأثرم أيضا عن عكرمة ان
ابن عباس قال ذلك قال عاصم الأحول قلت لعكرمة انه بلغنا ان عليا قال هذا قال فقال عكرمة لا
ما قال هذا الا ابن عباس، وذكر ابن قتيبة في المعارف ان عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر،
وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم غالبه تسعة أشهر لأن غالب النساء كذلك وهذا
أمر معروف بين الناس، وأكثر مدة الحمل أربع سنين هذا ظاهر المذهب وبه قال الشافعي وهو
المشهور عن مالك، وروي عن أحمد ان أقصى مدته سنتان روي ذلك عن عائشة وهو مذهب الثوري
وأبي حنيفة لما روت جميلة بنت سعد عن عائشة لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل، ولان التقدير إنما
يعلم بتوقيف أو اتفاق ولا توقيف ههنا والاتفاق إنما هو على ما ذكرنا، وقد وجد ذلك فإن الضحاك بن مزاحم
86

وهرم بن حبان حملت أم كل واحد منهما به سنتين، وقال الليث أقصاه ثلاثة سنين حملت مولاة
لعمر بن عبد الله ثلاث سنين، وقال أبو عبيد ليس لاقصاءه وقت يوقف عليه وقال عباد بن العوام خمس
سنين وعن الزهري قال قد تحمل المرأة ست سنين وسبع سنين
ولنا أن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد الحمل أربع سنين فروى الوليد بن مسلم
قال قلت لمالك حديث جميلة بنت سعد عن عائشة لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل قال مالك سبحان
الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد، وقال الشافعي
بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين قال أحمد نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة
عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين وبقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي في
بطن أمه أربع سنين وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي حكى ذلك أبو الخطاب وإذا تقرر وجوده وجب
أن يحكم به ولا يزاد عليه لأنه ما وجد ولان عمر ضرب لامرأة المفقود أربع سنين ولم يكن ذلك الا لأنه
غاية الحمل، وروي ذلك عن عثمان وعلي وغيرهما. إذا ثبت هذا فإن المرأة إذا ولدت لأربع سنين فما دون
من يوم موت الزوج أو طلاقه ولم تكن تزوجت ولا وطئت ولا انقضت عدتها بالقروء، ولا بوضع
الحمل فإن الولد لاحق بالزوج وعدتها تنقضي به
87

(مسألة) (وأقل ما يتبين به الولد أحد وثمانون يوما وهو أقل ما تقضي به العدة من الحمل وهو أن
تضعه بعد ثمانين يوما منذ أمكنه وطؤها)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان خلق أحدكم ليجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوما ثم يكون علقة مثل
ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك " ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن يكون بعد الثمانين فاما
بعد أربعة أشهر فليس فيه اشكال لأنه يستكمل الخلق في الرابع
(فصل) الضرب الثاني المتوفي عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشر ان كانت حرة وشهران
وخمسة أيام ان كانت أمة وسواء ما قبل الدخول وبعده
أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر
مدخولا بها أو غير مدخول بها سواء كانت بالغة أو لم تبلغ لقول الله تعالى (والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث الا على زوج أربعة أشهر وعشرا " متفق عليه فإن
قيل الا حملتم الآية على المدخول بها كما قلتم في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
قلنا إنما خصصنا هذه بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن
88

تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) ولم يرد تخصيص عدة الوفاة ولا أمكن قياسا على المطلقة
في التخصيص لوجهين (أحدهما) ان النكاح عقد عمر فإذا مات انتهى والشئ إذا انتهى تقررت أحكامه
كتقرر أحكام الصيام بدخول الليل وأحكام الإجارة بانقضائها والعدة من أحكامه
(الثاني) ان المطلقة إذا أتت بولد يمكن الزوج تكذيبها ونفيه باللعان وهذا ممتنع في حق الميت
فلا يأمن أن يأتي بولد فيلحق الميت نسبه وما له من ينفيه فاحتطنا بايجاب العدة عليها لحفظها عن التصرف
والميت في غير منزلها حفظا لها إذا ثبت هذا فإنه لا يعتبر وجود الحيض في عدة الوفاة في قول عامة
أهل العلم، وحكي عن مالك انها إذا كانت مدخولا بها وجبت أربعة أشهر وعشر فيها حيضة واتباع
الكتاب والسنة أولى ولأنه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر ثلاثة قروء كالمطلقة وهذا الخلاف مختص
بذات القروء فأما الآيسة والصغيرة فلا خلاف فيهما
وأما الأمة المتوفى عنها فعدتها شهرين وخمسة أيام في قول عامة أهل العلم منهم سعيد بن المسيب
وعطاء وسليمان بن يسار والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي
وغيرهم الا ابن سيرين فإنه قال ما أرى عدة الأمة الا كعدة الحرة الا أن تكون قد مضت في ذلك سنة فإن
السنة أحق أن تتبع وأخذ بظاهر اللفظ وعمومه
89

ولنا اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أن عدة الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة فكذلك عدة الوفاة
(فصل) والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال فيجب عشرة أيام مع الليالي وبه قال مالك والشافعي
وأبو عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي يجب عشر ليال وتسعة أيام لأن العشرة
تستعمل في الليالي دون الأيام وإنما دخلت الأيام اللاتي في أثناء الليالي تبعا. قلنا العرب تغلب حكم
التأنيث في العدد خاصة على المذكر فتطلق لفظ الليالي وتريد الليالي بأيامها كما قال الله تعالى لزكريا
(آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) يريد بأيامها ولو نذر اعتكاف العشر الأخير من رمضان لزمه
الليالي والأيام ويقول القائل: سرنا عشرا يريد الليالي بأيامها فلم يجز نقلها عن العدة إلى الإباحة بالشك
(مسألة) (وإن مات زوج الرجعية في عدتها استأنفت عدة الوفاة من حين موته وسقطت عدة الطلاق)
وهذا لا خلاف فيه، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك لأن الرجعية
زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه فاعتدت للوفاة كغير المطلقة، وحكى في المحرر أنها تعتد أطول
الأجلين وهو بعيد.
(مسألة) (وإن طلقها في الصحة طلاقا بائنا ثم مات في عدتها لم تنتقل عن عدتها وتبني على
عدة الطلاق ولا تعتد للوفاة)
وهذا قول مالك والشافعي وأبي عبيد وابن المنذر، وقال الثوري وأبو حنيفة عليها أطول الأجلين
كما لو طلقها في مرض موته
90

ولنا قوله سبحانه (والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء) ولأنها أجنبية منه في نكاحه وميراثه
والحل له ووقوع طلاقه وظهاره وتحل له أختها وأربع سواها فلم تعتد لوفاته كما لو انقضت
عدتها. وذكر القاضي في المطلقة في المرض أنها إذا كانت حاملا تعتد أطول الأجلين وليس بشئ
فإن الحمل تنقضي بوضعه كل عدة ولا يجوز أن يجب عليها الاعتداد بغير الحمل لما ذكرناه والله أعلم
(مسألة) (وإن كان الطلاق في مرض موته اعتدت أطول الأجلين من عدة الطلاق وعدة الوفاة)
نص على هذا أحمد وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وقال مالك والشافعي وأبو عبيد
وأبو ثور وابن المنذر: تبني على عدة الطلاق لأنه مات وليست زوجة له لأنها بائن من النكاح فلا تكون
منكوحة. عن أحمد مثل ذلك، وعنه رواية ثالثة أنها تعتد عدة الوفاة فقط ذكرها هاتين في المحرر
لأنها ترثه أشبهت الرجعية والأولى ظاهر المذهب ووجه ذلك أنها وارثه فتجب عليها عدة الوفاة كالرجعية
ويلزمها عدة الطلاق لما ذكروه في دليلهم
(فصل) وإن مات المريض المطلق بعد انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كان
طلاقه قبل الدخول فليس عليها عدة لموته، وقال القاضي عليها عدة الوفاة إذا قلنا ترثه فتجب عليها عدة
الوفاة كما لو مات بعد الدخول قبل قضاء العدة ورواه أبو طالب عن أحمد في التي انقضت عدتها،
91

وذكر ابن أبي موسى فيها روايتين، والصحيح انها لا عدة عليها لأن الله تعالى قال (إذا نكحتم
المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) وقال (والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وقال (واللائي يئسن من الحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة
أشهر واللائي لم تحضن) فلا يجوز تخصيص هذه النصوص بالتحكم ولأنها أجنبية تحل للأزواج ويحل
للمطلق نكاح أختها وأربع سواها فلم تجب عليها عدة لموته كما لو تزوجت وتخالف التي مات زوجها في
عدتها فإنها لا تحل لغيره في هذه الحال ولم تنتقض عدتها وتمنع انها ترثه لأنها لو ورثته لا أفضي إلى أن
يرث الرجل ثماني زوجات فاما إن تزوجت إحدى هؤلاء فلا عدة عليها بغير خلاف نعلمه ولا ترثه فإن
كانت المطلقة البائن لا ترث كالأمة أو الحرة يطلقها العبد أو الذمية يطلقها المسلم والمختلعة أو فاعلة
ما يفسخ نكاحها لم يلزمها عدة سواء مات زوجها في عدتها أو بعدها على قياس قول أصحابنا لأنهم عللوا
نقلها إلى عدة الوفاة بإرثها وهذه ليست وارثة فأشبهت المطلقة في الصحة
(مسألة) (وان ارتابت المتوفي عنها لظهور امارات الحمل من الحركة وانتفاخ البطن وانقطاع
الحيض قبل أن تنكح لم تزل في عدتها حتى تزول الربية وإن تزوجت قبل زوالها لم يصح النكاح وإن
ظهر بها ذلك بعد نكاحها لم يفسد به لكن إن أتت بولد لأقل من ستة أشهر منذ نكحها فهو باطل وإلا فلا)
92

وجملة ذلك أن المعتدة إذا ارتابت في عدتها بأن ترى امارات الحمل من حركة أو نفخة أو نحوهما وشكت
هل هو حمل أم لا؟ لم تخل من ثلاثة أحوال
(أحدهما) أن تحدث بها الريبة قبل انقضاء عدتها فإنها تبقى في حكم الاعتداد حتى تزول الريبة
فإن بان حملا انقضت عدتها بوضعه فإن زال وبان أنه ليس بحمل تبينا أن عدتها انقضت بالشهور أو
بالأقراء إن كان فارقها في الحياة فإن تزوجت قبل زوال الريبة فالنكاح باطل لأنها تزوجت وهي في
حكم المعتدات في الظاهر، ويحتمل أنه إذا تبين عدم الحمل انه يصح النكاح إذا كان بعد انقضاء العدة
(الثاني) أن تظهر الريبة بعد قضاء عدتها والتزوج فالنكاح صحيح لأنه وجد بعد قضاء العدة
ظاهرا والحمل مع الريبة مشكوك فيه فلا يزول ما حكمنا بصحته لكن لا يحل لزوجها وطؤها لأننا شككنا
في صحة النكاح ولأنه لا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره ثم ينظر فإن وضعت
الولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ووطئها فنكاحه باطل لأنه نكاحها وهي حامل وإن أتت به
لأكثر من ذلك فالولد لاحق به.
(الثالث) ظهرت الريبة بعد قضاء العدة وقبل النكاح ففيه وجهان (أحدهما) لا يحل لها ان تتزوج وان
فعلت لم يصح النكاح لأنها تتزوج مع الشك في انقضاء العدة فلم تصح كما لو وجدت الريبة في العدة
ولأننا لو صححنا النكاح لوقع موقوفا ولا يجوز كون النكاح موقوفا ولهذا لو أسلم وتخلفت امرأته في
الشرك لم يجز أن يتزوج أختها لأن نكاحها يكون موقوفا على إسلام الأولى
93

(والثاني) يحل لها النكاح ويصح لأنا حكمنا بانقضاء العدة وحل النكاح وسقوط النفقة والسكنى
فلا يجوز زوال ما حكمنا به بالشك الطارئ ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير اجتهاده ورجوع الشهود
(فصل) وإذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها أخرجت بالقرعة وعليها العدة دون غيرها وتحسب
عدتها من حين طلق لا من حين خرجت القرعة وان طلق واحدة بعينها وأنسيها ففي قول أصحابنا
الحكم فيها كذلك. والصحيح انه يحرم عليه الجميع وهو اختيار شيخنا وقد ذكرناه في باب الشك
في الطلاق فإن مات فعلى الجميع الاعتداد بأقصى الأجلين من عدة الطلاق أو الوفاة لأن النكاح كان
بائنا بيقين وكل واحدة منهن يجوز أن تكون المطلقة ويجوز أن تكون زوجة فوجب أقصى الأجلين
إن كان الطلاق بائنا ليسقط الفرض بيقين كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه ان يصلي خمس
صلوات لكن ابتداء القرء من حين طلق وابتداء عدة الوفاة من حين الموت وهذا مذهب الشافعي
وان طلق الجميع ثلاثا بعد ذلك فعليهن كلهن تكميل عدة الطلاق من حين طلقهن، وإن طلق
ثلاثا وأنسيهن فهو كما لو طلق واحدة
(مسألة) (وإذا مات عن امرأة نكاحها فاسد فقال القاضي عليها عدة الوفاة نص عليه وقال
ابن حامد لا عدة عليها للوفاة لذلك فإن كان النكاح مجمعا على بطلانه لم تعتد للوفاة من أجله وجها واحدا)
أما إذا كان النكاح مجمعا على بطلانه مثل أن ينكح ذات محرمه أو معتدة يعلم حالها وتحريمها
فلا حكم لعقدها والخلوة بها كالخلوة بالأجنبية لا توجب عدة وكذلك الموت عنها لا يوجب
عدة الوفاة وان وطئها اعتدت لوطئها بثلاثة قروء منذ وطئها سواء فارقها أو مات عنها كالمزني بها من
94

غير عقد فأما ان نكحها نكاحا مختلفا فيه فهو فاسد مات عنها فنقل جعفر بن محمد أن عليها عدة الوفاة
وهو اختيار أبي بكر وقال أبو عبد الله بن حامد ليس عليها عدة الوفاة وهو مذهب الشافعي لأنه نكاح
لا يثبت فأشبه الباطل فعلى هذا إن كان قبل الدخول فلا عدة عليها وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء
ووجه الأول أنه نكاح يلحق به النسب فوجبت به العدة كالنكاح الصحيح بخلاف الباطل فإنه لا يلحق
به النسب وان فارقها في الحياة بعد الإصابة اعتدت بعد فرقته بثلاثة قروء ان كانت من ذوات الأقراء
أو بثلاثة أشهر إن لم تكن ولا خلاف في ذلك، وإن كان قبل الخلوة فلا عدة عليها بغير خلاف لأن
المفارقة في الحياة في النكاح الصحيح لا عدة عليها ففي الفاسد أولى، وإن كان بعد الخلوة قبل الإصابة
فالمنصوص عن أحمد أن عليها العدة لأنه أجري مجرى النكاح الصحيح في لحوق النسب فكذلك في العدة
وقال الشافعي لا عدة عليها لوجهين (أحدهما) انها خلوة في غير نكاح صحيح أشبهت التي نكاحها
باطل (والثاني) أن الخلوة عنده في النكاح الصحيح لا توجب العدة ففي الفاسد أولى، وهذا
مقتضى قول ابن حامد.
(فصل) (الثالث ذات القروء التي فارقها في الحياة بعد دخوله بها عدتها ثلاثة قروء ان كانت
حرة وقرءان كانت أمة) أما الحرة من ذوات القروء فعدتها ثلاثة قروء بغير خلاف بين أهل العلم لقول الله تعالى (والمطلقات
95

يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وأما الأمة فعدتها بالقرء قرءان في قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي
وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وعبد الله بن عتبة والقاسم وسالم والزهري وقتادة ومالك والثوري
والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وعن ابن سيرين عدتها عدة الحرة الا أن تكون قد
مضت بذلك سنة وهو قول داود لقول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " قرء الأمة حيضتان " ولأنه قول من ذكرنا من الصحابة ولم نعرف لهم
مخالفا في الصحابة فكان اجماعا وهذا يخص عموم الآية ولأنه معنى ذو عدد بني على التفاضل فلا تساوي
الأمة فيه الحرة كالحد وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفا كما كان حدها على النصف من حد
الحرة الا أن الحيض لا يتبعض فكمل حيضتين، ولهذا قال عمر رضي الله عنه أو أستطيع أن أجعل
العدة حيضة ونصفا لفعلت
(مسألة) (والقرء الحيض في أصح الروايتين (والثانية) هي الأطهار)
القرء في كلام العرب يقع على الحيض والطهر جميعا فهو من الأسماء المشتركة قال أحمد بن يحيى ثعلب
القروء الأوقات الواحد قرء وقد يكون حيضا وقد يكون طهرا لأن كل واحد منهما يأتي لوقت قال الشاعر:
كرهت العقر عقر بني تميم * * إذا هبت لقارئها الرياح
يعني لوقتها وقال الخليل بن أحمد يقال أقرأت المرأة إذا دنا حيضها وأقرأت إذا دنا طهرها وفي
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة أيام أقرائك فهذا الحيض " وقال الشاعر:
مورثة عزا وفي الحي رفعة * * لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فهذا الطهر، واختلف أهل العلم في المراد في قوله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) واختلفت
96

الرواية عن أحمد في ذلك فروي أنها الحيض روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وسعيد بن المسيب
والثوري والأوزاعي والعنبري وإسحاق وأبي عبيد وأصحاب الرأي وروي أيضا عن أبي بكر الصديق
وعثمان ابن عفان وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء قال القاضي الصحيح عن أحمد ان
الأقراء الحيض واليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالأطهار فقال في رواية النيسابوري كنت أقول إنه
الأطهار وانا اذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض وقال في رواية الأثرم كنت أقول إنه الأطهار
ثم وقفت لقول الأكابر.
(والرواية الثانية) عن أحمد ان القروء الأطهار وهو قول زيد وابن عمر وعائشة وسليمان بن يسار
والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والشافعي وأبي ثور، وقال
أبو بكر بن عبد الرحمن ما أدركت أحدا من فقهائنا الا وهو يقول ذلك قال ابن عبد البر رجع احمد
إلى القرء والأطهار قال في رواية الأثرم رأيت الأحاديث عمن قال القرء الحيض تختلف والأحاديث
عمن فال انه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديثها صحاح قوية واحتج من قال ذلك بقول
الله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) أي في عدتهن كقوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي
في يوم القيامة وإنما أمر بالطلاق في الطهر لا في الحيض ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن
97

عمر " فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء طلق وان شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله
ان تطلق لها النساء " متفق عليه، وفي رواية ابن عمر: فطلقوهن في قبل عدتهن ولأنها عدة عن طلاق
مجرد مباح فوجب ان تعتبر عقيب الطلاق كعدة الآيسة والصغيرة، ووجه الرواية الأولى قول الله
تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر اللائي لم يحضن)
فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر فيدل ذلك على أن الأصل الحيض كما قال تعالى (فإن
لم تجدوا ماء فتيمموا) ولان المعهود في لسان الشارع استعمال القرء بمعنى فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تدع
الصلاة أيام أقرائها " رواه أبو داود، وقال لفاطمة بنت أبي حبيش " انظري فإذا أتى قرؤك فلا
تصلى وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلى ما بين القرء إلى القرء " رواه النسائي ولم يعهد في لسانه استعماله
بمعني الطهر في موضع فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان " رواه أبو داود وغيره فإن قالوا هذا يرويه مظاهر بن أسلم
وهو منكر الحديث قلنا قد رواه عبد الله بن عيسى عن عطية العوفي عن ابن عمر كذلك أخرجه ابن
ماجة في سننه وأبو بكر الخلال في جامعه وهو نص في عدة الأمة فكذلك عدة الحرة ولان ظاهر قوله
تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وجوب التربص ثلاثة كاملة ومن جعل القروء الأطهار لم يوجب
98

ثلاثة بل يكتفي بطهرين وبعض الثالث فيخالف ظاهر النص ومن جعله الحيض أوجبه ثلاثة كاملة
فيوافق ظاهر النص فيكون أولى من مخالفته ولأن العدة استبراء فكانت بالحيض كاستبراء الأمة،
وذلك لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل والذي يدل عليه الحيض فوجب أن يكون الاستبراء
به فإن قيل لا نسلم ان استبراء الأمة بالحيضة لذلك قال ابن عبد البر وإنما هو بالطهر الذي قبل الحيضة
وقال قولهم ان استبراء الأمة حيضة باجماع ليس كما ظنوا بل جائز لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في
الحيضة واستيقنت أن دمها دم حيض كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين دخل
عليه في مناظرته إياه، قلنا هذا يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حامل حتى تستبرئ
بحيضة " ولان الاستبراء تعرف براءة الرحم وإنما يحصل بالحيضة لا بالطهر الذي قبلها ولأن العدة تتعلق
بخروج خارج من الرحم فوجب أن تتعلق بالحيض كوضع الحمل يحققه ان العدة مقصودها براءة المرأة
من الحمل فتارة تحصل بوضعه وتارة تحصل بما ينافيه وهو الحيض الذي لا يتصور وجوده معه فأما قوله تعالى
(فطلقوهن لعدتهن) فيجوز انه أراد قبل عدتهن إذ لا يمكن حمله على الطلاق في العدة ضرورة ان
الطلاق يسبق العدة لكونه سببها والسبب يتقدم الحكم ولا يؤخذ الحكم قبله والطلاق في الطهر تطليق
قبل العدة إذا كانت الأقراء بالحيض
(مسألة) (ولا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها حتى تأتي بثلاث كاملة بعدها
99

لا نعلم في ذلك خلافا بين أهل العلم لأن الله تعالى أمر بثلاثة قروء فيتناول ثلاثة كاملة والتي طلق
فيها لم يبق ما تتم به مع اثنتين ثلاثة كاملة فلا تعتد بها ولان الطلاق إنما حرم في الحيض لما فيه من تطويل
العدة عليها فلو احتسب بتلك الحيضة قرءا كان أقصر لعدتها وأنفع لها فلم يكن محرما
(مسألة) (ولا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها، وإذا طهرت من الحيضة الثالثة حلت في إحدى
الروايتين، ولأخرى لا تحل حتى تغتسل)
حكى هاتين الروايتين أبو عبد الله بن حامد (إحداهما) انها في العدة ما لم تغتسل يباح لزوجها
ارتجاعها ولا يحل لغيره نكاحها قال قال احمد وعمر وعلي وابن مسعود يقولون قبل أن تغتسل من
الحيضة الثالثة روي ذلك عن سعيد بن المسيب والثوري وإسحاق، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق
وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهم قال شريك له الرجعة، وان فرطت
في الغسل عشرين سنة قال أبو بكر روي عن أبي عبد الله انها في عدتها ولزوجها رجعتها حتى يمضي
وقت الصلاة التي قد طهرت في وقتها وهذا قول الثوري، وقال أبو حنيفة إذا انقطع الدم لدون أكثر
الحيض، وان انقطع لأكثره انقضت العدة بانقطاعه، ووجه اعتبار الغسل أنه قول الأكابر من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون اجماعا، ولأنها ممنوعة من الصلاة بحكم
حدث الحيض فأشبهت الحائض
100

(والرواية الثانية) أن العدة تنقضي بطهرها من الحيضة الثالثة، وانقطاع دمها. اختاره
أبو الخطاب وهو قول سعيد بن جبير والأوزاعي والشافعي في القديم لقول الله تعالى (يتربصن
بأنفسهن ثلاثة قروء) وقد كملت القروء بوجوب الغسل عليها ووجوب الصلاة وفعل الصيام وصحته
منها ولأنه لم يبق حكم العدة في الميراث ووقوع الطلاق بها واللعان النفقة وكذلك فيما نحن فيه قال
القاضي إذا شرطنا الغسل أفاد عدمه الرجعة وتحريمها على الأزواج فأما سائر الأحكام فلها تنقطع بانقطاع دمها
(فصل) ومن قال القرء الأطهار احتسب لها بالطهر الذي طلقها فيه قرءا، وان بقي منه لحظة
حسبها قرءا، هذا قول كل من قال إن القروء الأطهار الا الزهري فإنه قال تعتد بثلاثة قروء سوى
الطهر الذي طلقها فيه، وحكي عن أبي عبيد أنه إن كان جامعها في الطهر لم تحتسب ببقيته لأنه زمن حرم
فيه الطلاق فلم تحتسب به من العدة كزمن الحيض
ولنا أن الطلاق حرم في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها فلو لم تحتسب ببقية الطهر قرءا
كان الطلاق في الطهر أضر بها وأطول عليها وما ذكر عن أبي عبيد لا يصح لأن تحريم الطلاق في
الحيض لكونها لا تحتسب ببقيته فلا يجوز أن تجعل العلة في عدم الاحتساب تحريم الطلاق فتصير العلة معلولا
وإنما تحريم الطلاق في الطهر الذي أصابها فيه لكونها مرتابة ولكونه لا يأمن الندم بظهور حملها فأما
انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر فإن الطلاق يقع في أول الحيضة ويكون محرما ولا تحتسب
بتلك الحيضة من عدتها وتحتاج أن تعتد بثلاث حيض أو ثلاثة أطهار على الرواية الأخرى ولو قال
101

لها أنت طالق في آخر جزء من طهرك أو في آخر جزء من طهرك فإنها لا تحتسب الذي وقع فيه الطلاق لأن
العدة لا تكون الا بعد وقوع الطلاق وليس بعده طهر تعتد به ولا يجوز الاعتداد بما قبله ولا بما
قارنه، ومن جعل القرء الحيض اعتد لها بالحيضة التي تلي الطلاق لأنها حيضة كاملة لم يقع فيها طلاق
فوجب أن تعتد بها قرءا فإن اختلفا فقال الزوج وقع الطلاق في أول الحيض وقالت بل في آخر الطهر
أو قال انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر وقالت بل قد بقي منه بقية فالقول قولها لأن قولها
مقبول في الحيض وفي انقضاء العدة
(مسألة) (والرواية الثانية القروء الأطهار وتعتد بالطهر الذي طلقها فيه قرءا فإذا طعنت
في الحيضة الثالثة حلت
إذا طلقها وهي طاهر انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الثالثة، وان طلقها حائضا انقضت برؤية
الدم من الحيضة الرابعة وهذا قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبان بن
عثمان ومالك وأبي ثور وهو ظاهر مذهب الشافعي وحكي عنه قول آخر لا تنقضي العدة حتى يمضي من الدم
يوم وليلة لجواز أن يكون الدم دم فساد فلا يحكم بانقضاء العدة حتى يزول الاحتمال، وحكى القاضي هذا
الاحتمال في مذهبنا أيضا. ولنا أن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء فالزيادة عليها مخالفة للنص فلا يعول
عليه ولأنه قول من سمينا من الصحابة رواه الأثرم عنهم باسناده ولفظ حديث زيد بن ثابت إذا دخلت
102

في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها وقولهم ان الدم يجوز أن
يكون دم فساد قلنا قد حكم بكونه حيضا في ترك الصلاة وتحريمها على الزوج وسائر أحكام الحيض
فكذلك في انقضاء العدة ثم إن كل التوقف عن الحكم بانقضاء العدة للاحتمال فإذا تبين أنه حيض
علمنا أن العدة قد انقضت حين رأت الدم كما لو قال لها ان حضت فأنت طالق اختلف القائلون بهذا
القول فمنهم من قال اليوم والليلة من العدة لأنه دم تكمل به العدة فكان منها كالذي في أثناء الأطهار
ومنهم من قال ليس منها إنما يتبين به انقضاؤها لأننا لو جعلناه منها أوجبنا الزيادة على ثلاثة قروء
ولكننا نمنعها من النكاح حتى يمضي يوم وليلة، ولو راجعها زوجها فيها لم تصح الرجعة وهذا أصح الوجهين
(فصل) وكل فرقة بين زوجين في الحياة بعد الدخول فعدة المرأة منها عدة الطلاق سواء كانت
يخلع أو لعان أو رضاع أو فسخ بعيب أو اعسار أو اعتاق أو اختلاف دين أو غيره في قول أكثر أهل
العلم، وروي عن ابن عباس أن عدة الملاعنة تسعة أشهر وأبى ذلك سائر أهل العلم وقالوا عدتها عدة
الطلاق لأنها مفارقة في الحياة أشبهت المطلقة وأكثر أهل العلم يقولون عدة المختلفة عدة المطلقة منهم
سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز والحسن الشعبي والنخعي
والزهري وقتادة وحلاس بن عمرو وأبو عياض ومالك والليث والأوزاعي والشافعي، وروي عن
عثمان بن عفان وابن عمر وابن عباس وابان بن عثمان وإسحاق وابن المنذر أن عدة المختلعة حيضة،
103

ورواه ابن القاسم عن أحمد لما روي ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم
عدتها حيضة. رواه النسائي، وعن ربيع بنت معوذ مثل ذلك ولان عثمان قضى به رواه النسائي وابن ماجة
ولنا قول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة
فكانت ثلاثة قروء كغير الخلع، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " قرء الأمة حيضتان " عام وحديثهم يرويه عكرمة
مرسلا قال أبو بكر هو ضعيف مرسل، وقول عثمان وابن عباس وقد خالفة قول عمر وعلي فإنهما
قالا: عدتها ثلاث حيض وقولهما أولى، وأما ابن عمر فقد روي مالك عن نافع عنه أنه قال عدة المخلعة
عدة المطلقة وهو أصح عنه
(فصل) الرابع اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر ان كن حرائر
وان كن إماء فشهران وعنه ثلاثة أشهر وعنه شهر ونصف أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة الآيسة
الصغيرة التي لم تحض ثلاثة أشهر لقوله الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم
فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) فإن كان الطلاق في أول الشهر اعتبر ثلاثة أشهر بالأهلة
لقول الله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) وقال سبحانه (ان عدة الشهور
عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ولم يختلف الناس
في أن الأشهر الحرم معتبرة بالأهلة وان وقع الطلاق في أثناء شهر اعتدت بقية ثم اعتدت شهرين
104

بالأهلة ثم اعتدت من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما، وهذا مذهب مالك والشافعي وقال أبو حنيفة تحسب
بقية الأول وتعتد من الرابع بقدر ما فاتها من الأول تاما كان أو ناقصا لأنه لو كان من أول الهلال
كانت العدة بالأهلة فإذا كان من بعض الشهر وجب قضاء ما فات منه وخرج أصحابنا وجها ثانيا
أن جمع الشهور محسوبة بالعدد وهو قول ابن بنت الشافعي لأنه إذا حسب الأول بالعدد كان ابتداء
الثاني من نصف الشهر وكذلك الثالث
ولنا أن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى الثلاثين ولذلك إذا غم الشهر كمل ثلاثين والأصل الهلال ماذا
أمكن اعتبار الهلال اعتبر وإذا تعذر رجع إلى العدد وفي هذا انفصال عما ذكر لأبي حنيفة وأما التخريج
الذي ذكر لأصحابنا فإنه لا يلزم إتمام الشهر الأول من الثاني ويجوز أن يكون تمامة من الرابع
(فصل) وتحسب العدة من الساعة التي فارقها زوجها فيها فلو فارقها نصف النهار أو نصف الليل
اعتدت من ذلك الوقت إلى مثله في قول أكثر أهل العلم وقال ابن حامد لا تحتسب بالساعات وإنما
يحتسب بأول الليل والنهار فإذا طلقها نهارا احتسبت من أول الليل الذي يليه وان طلقها ليلا احتسبت
من أول النهار الذي يليه وهذا قول مالك لأن حساب الساعات يشق فسقط اعتباره
ولنا قول الله تعالى (فعدتهن ثلاثة أشهر) فلا تجوز الزيادة عليها بغير دليل وحساب الساعات ممكن
105

اما يقينا واما استظهارا فلا وجه للزيادة على ما أوجبه الله تعالى، واختلفت الرواية في عدة الأمة
فأكثر الروايات عنه أنها شهران وهو الذي ذكره الخرقي رواه عنه جماعة من أصحابه واحتج فيه
بقول عمر رضي الله عنه عدة أم الولد حيضتان ولو لم تحض كانت عدتها شهرين، رواه الأثرم عنه
باسناده وهذا قول عطاء والزهري وإسحاق وأحد أقوال الشافعي، ولان الأشهر بدل من القروء وعدة
ذات القروء قرآن فبدلهما شهران ولأنها معتدة بالشهور من غير الوفاة فكان عددها كعدد القروء
ولو كانت ذات قروء كالحرة
(والرواية الثانية) أن عدتها شهر ونصف، نقلها الميموني والأثرم واختارها أبو بكر وهذا
قول علي رضي الله عنه، وروي ذلك عن ابن عمر وابن المسيب وسالم والشعبي الثوري وأصحاب
الرأي وهو قول ثان للشافعي لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة وعدة الحرة وعدة الحرة ثلاثة أشهر فنصفها شهر
ونصف وأنما كملنا لذات الحيض حيضتين لتعذر تبعيض الحيضة فإذا صرنا إلى الشهور أمكن النصيف
فوجب المصير إليه كما في عدة الوفاة ويصير هذا كالمحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مد مكيل
أخرجه فإن أراد الصيام مكانه صام يوما كاملا ولأنها عدة أمكن تنصيفها فكانت على النصف من عدة
الحرة كعدة الوفاة.
(والثالثة) أن عليها ثلاثة أشهر روي ذلك عن الحسن ومجاهد وعمر بن عبد العزيز ويحيى الأنصاري
وربيعة ومالك، وهو القول الثالث للشافعي لعموم قوله تعالى (فعدتهن ثلاثة أشهر) ولان اعتبار الشهور
106

ههنا للعلم ببراءة رحمها ولا يحصل هذا بدون ثلاثة أشهر في الحرة والأمة جميعا لأن الحمل يكون نطفة أربعين
يوما وعلقه أربعين يوما ثم يصير مضغة ثم تتحرك ويعلو بطن المرأة فيظهر الحمل، وهذا معنى لا يختلف
بالرق والحرية ومن رد هذه الرواية قال هي مخالفة لاجماع الصحابة لأنهم اختلفوا على القولين الأولين ومتى
اختلف الصحابة على قولين لم يجز احداث قول ثالث لأنه يفضي إلى تخطئتهم وخروج الحق عن قول
جميعهم ولا يجوز ذلك ولأنها معتدة بغير الحمل فكانت دون عدة الحرة كذات القروء المتوفى عنها زوجها
(مسألة) (وعدة أم الولد عدة الأمة لأنها أمة مملوكة وعدة المعتق بعضها بالحساب من عدة حرة
وأمة اما إذا اعتدت بالحمل أو بالقروء فعدتها كعدة الحرة)
لأن عدة الحامل لا تختلف بالرق والحرية وعدة الأمة بالقروء قرآن فأدنى ما يكون فيها من
الحرية يوجب قرءا ثالثا لأنه لا يتبعض وان كانت عدتها بالشهور للوفاة وكان نصفها حرا اعتدت
بثلاثة شهور وثمانية أيام وإذا كان نصفها حرا فعدتها ثلاثة أرباع عدة الحرة فإن قلنا عدة الأمة
شهران فعدتها شهران ونصف وان قلنا شهر ونصف فعدتها شهران وسبعة أيام ونصف وان قلنا
عدتها ثلاثة أشهر فهي كالحرة
(مسألة) (وحد الإياس خمسون سنة وعنه أن ذلك حده في نساء العجم وحده في نساء العرب
ستون سنة) اختلف عن أحمد في السن الذي تصير به المرأة من الآيسات فعنه أوله خمسون سنة لأن
107

عائشة رضي الله عنها قالت لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد خمسين سنة وعنه ان كانت من نساء العجم
فخمسون سنة وان كانت من نساء العرب فستون لأنهن أقوى جبلة وطبيعة وقد ذكر الزبير بن بكار
في كتاب النسب ان هند ابنة أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن
حسن بن علي بن أبي طالب ولها ستون سنة وقال يقال إنه لن تلد خمسين سنة إلا عربية ولا تلد
لستين إلا قرشية وللشافعي قولان
(أحدهما) يعتبر السن الذي بتيقن أنها إذا بلغته لم تحض، قال بعضهم هو اثنان وستون سنة
(والثاني) يعتبر السن الذي ييئس فيه نساء عشيرتها لأن الظاهر أن نشأها كنشئهن وطبعها كطبعهن
وقال شيخنا الصحيح إن شاء الله أنه متى بلغت المرأة خمسين سنة فانقطع حيضها عن عادتها مرات
لغير سبب فقد صارت آيسة لأن وجود الحيض في حق هذه نادر بدليل قول عائشة وقلة وجوده فإذا
انضم إلى هذا انقطاعه عن العادات مرات حصل اليأس من وجوده فلها حينئذ أن تعتد بالأشهر وان
انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه على ما نذكره إن شاء الله تعالى
وان رأت الدم بعد الخمسين على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض في الصحيح لأن دليل الحيض
الوجود في زمن الامكان وهذا يمكن وجود الحيض فيه وإن كان نادرا وان رأته بعد الستين فقد
تيقن أنه ليس بحيض فعند ذلك لا تعتد به وتعتد بالأشهر كالتي لا ترى دما، أما أقل سن تحيض له
108

المرأة فقد ذكرناه في باب الحيض وذكرنا دليله فإن رأته قبل ذلك اعتدت بالأشهر وان رأته بعد ذلك
فالمعتبر من ذلك ما تكرر ثلاث مرات في حال الصحة وان لم يوجد ذلك لم تعتد به
(مسألة) (وان حاضت الصغيرة في عدتها انتقلت إلى القروء ويلزمها اكمالها)
وجملة ذلك أن الصغيرة التي لم تحض إذا اعتدت بالشهور فحاضت قبل انقضاء عدتها ولو بساعة لزمها
استئناف العدة بالأقراء في قول عامة فقهاء الأمصار منهم سعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وقتادة والشعبي
والنخعي والزهري والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي وأهل المدينة وأهل
البصرة وذلك لأن الشهور بدل عن الحيض فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل كالتيمم مع الماء ويلزمها
أن تعتد بثلاث حيض ان قلنا القروء الحيض وان قلنا القروء الأطهار فهل تعتد بما مضى من الطهر
قبل الحيض قرءا؟ فيه وجهان
(أحدهما) تعتد به لأنه طهر انتقلت منه إلى حيض فأشبه الطهر بين الحيضتين
(الثاني) لا تعتد به وهو ظاهر كلام الشافعي لأن القرء هو الطهر بين حيضتين وهذا لم يتقدمه
حيض فأما ان حاضت بعد انقضاء عدتها بالشهور ولو بلحظة لم يلزمها استئناف العدة لأنه حدث بعد انقضاء
العدة فأشبه ما لو حدث بعد طول الفصل ولا يمكن منع هذا الأصل لأنه لو صح منعه لم يحصل للصغيرة
الاعتداد بالشهور بحال.
109

(مسألة) (وان يئست ذات القروء في عدتها انتقلت إلى عدة الآيسات ثلاثة أشهر)
لأن العدة لا تلفق من جنسين وقد تعذر اتمامها بالحيض فوجب تكميلها بالأشهر لأنها عجزت عن
الأصل فانتقلت إلى البدل كمن عجز عن الماء ينتقل إلى التراب
فإن ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم ما مضى وبان لنا أن ما رأته من الدم لم يكن حيضا لأن
الحامل لا تحيض ولو حاضت ثلاث حيض ثم ظهر بها حمل فولدت لأقل من ستة أشهر منذ انقضت الحيضة
الثانية تبينا أن الدم ليس بحيض لأنها كانت حاملا مع رؤية الدم والحامل لا تحيض فأما ان حاضت ثلاث حيض
ثم ظهر بها حمل يمكن حدوثه بعد العدة بأن تلد لستة أشهر منذ انقضت عدتها لم يلحق الزوج وحكما بصحة
الاعتداد وكان هذا الولد حادثا
(مسألة) (وان عتقت الأمة الرجعية في عدتها بنت على عدة حرة وان كانت بائنا بنت على عدة
أمة) هذا قول الحسن والشعبي والضحاك وإسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد أقوال الشافعي والقول
الثاني تكمل عدة أمة سواء كانت بائنا أو رجعية وهو قول مالك وأبي ثور لأن الحرية طرأت بعد وجوب
العدة عليها فلا يغير حكمها كما لو كانت بائنا أو كما لو طرأت بعد وجوب الاستبراء ولأنه معنى يختلف
بالرق والحرية فكان الاعتبار بحالة الوجوب كالحد وقال عطاء والزهري وقتادة تبني على عدة حرة
بكل حال وهو القول الثالث للشافعي لأن سبب العدة الكاملة إذا وجد في أثناء العدة انتقلت إليها وان
كانت بائنا كما لو اعتدت بالشهور ثم حاضت
110

ولنا أنها إذا أعتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة تعتد عدة الوفاة لو مات فوجب
أن تعتد عدة الحرائر كما لو أعتقت قبل الطلاق، وإن أعتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في الزوجية
فلم تجب عليها عدة الحرائر كما لو عتقت بعد مضي القرأين ولان الرجعية تنتقل إلى عدة الوفاة لو مات
فتنتقل إلى عدة الحرائر، والبائن لا تنتقل إلى عدة الوفاة فلا تنتقل إلى عدة الحرائر كما لو انقضت
عدتها وما ذكره مالك يبطل بما إذا مات زوج الرجعية فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة والفرق بين ما نحن فيه
وبين ما إذا حاضت الصغيرة أن الشهور بدل عن الحيض فإذا وجد المبدل زال حكم البدل كالتيمم يجد الماء،
وليس كذلك ههنا فإن عدة الأمة ليست ببدل ولذلك تبني الأمة على ما مضى من عدتها اتفاقا وإذا
حاضت الصغيرة استأنفت العدة فافترقا وتخالف الاستبراء فإن الحرية لو قاربت سبب وجوبه لم يكمل
ألا ترى أن أم الولد إذا مات سيدها عتقت لموته ووجب الاستبراء كما يجب على التي لم تعتق ولان
الاستبراء لا يختلف بالرق والحرية بخلاف مسئلتنا
(فصل) إذا عتقت الأمة تحت العبد فاختارت نفسها اعتدت عدة الحرة لأنها بانت من زوجها
وهي حرة وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بريرة أن تعتد عدة الحرة وإن طلقها العبد طلاقا رجعيا
فأعتقها سيدها بنت على عدة حرة سواء فسخت أو أقامت على النكاح لأنها عتقت في عدة رجعية وإن
لم يفسخ فراجعها في عدتها فلها الخيار بعد رجعتها فإن اختارت الفسخ قبل المسيس فهل تستأنف العدة
أو تبنى على ما مضى من عدتها؟ على وجهين فإن قلنا تستأنف فإنها تستأنف عدة حرة، وان قلنا تبني
بنت على عدة حرة.
(فصل) (الخامس من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه تعتد سنة تسعة أشهر للحمل وثلاثة للعدة)
وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق زوجته وهي من ذوات الأقراء فلم ترى الحيض في عادتها ولم تدر
111

ما رفعه فإنها تعتد سنة تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة رحمها لأن هذه غالب مدة الحمل فإذا لم يبن
الحمل فيها علم براءة الرحم ظاهرا فتعتد بعد ذلك عدة لآيسات ثلاثة أشهر، هذا قول عمر رضي الله
عنه. قال الشافعي هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منهم منكر علمناه، وبه قال مالك
والشافعي في أحد قوليه، وروي ذلك عن الحسن، وقال الشافعي في قول آخر تتربص أربع سنين
أكثر مدة الحمل ثم تعتد بثلاثة أشهر لأن هذه المدة هي التي تتيقن بها براءة رحمها فوجب اعتبارها
احتياطا. وحكى شيخنا مثل ذلك في المذهب، وقال الشافعي في الجديد تكون في عدة أبدا حتى
تحيض أو تبلغ سن الإياس فتعتد حينئذ بثلاثة أشهر وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وطاوس والشعبي
والنخعي والزهري والثوري وأبي عبيد وأهل العراق ولان الاعتداد بالأشهر جعل بعد الإياس فلم يجز
قبله وهذه ليست آيسة ولأنها ترجو عود الدم فلم تعتد بالشهور كما لو تباعد حيضها لعارض
ولنا الاجماع الذي ذكرناه حكاه الشافعي ولان الغرض بالاعتداد معرفة براءة رحمها وهذا يحصل به
براءة رحمها فاكتفي به ولهذا اكتفي في حق ذات القروء بثلاثة قروء وفي حق الآيسة بثلاثة أشهر
ولو روعي اليقين لاعتبر أقصى مدة الحمل ولان عليها في تطويل العدة ضررا فإنها تمنع من الأزواج
وتحبس دائما ويتضرر الزوج بايجاب السكنى والنفقة عليه وقد قال ابن عباس لا تطولوا عليها الشقة كفاها تسعة أشهر، فإن قيل فإذا مضت تسعة أشهر فقد علم براءة رحمها ظاهر فلم اعتبرتم بثلاثة
أشهر بعدها؟ قلنا الاعتداد بالقروء والأشهر إنما يكون عند عدم الحمل وقد تجب العدة مع العلم ببراءة
رحمها بدليل ما لو علق طلاقها بوضع الحمل فوضعته وقع الطلاق ولزمها العدة
(مسألة) (وإن كانت أمة اعتدت أحد عشر شهرا تسعة أشهر للحمل وشهرين للعدة)
وهذا مبني على أن الحرة تعتد بتسعة أشهر للحمل وثلاثة للعدة على ما ذكرنا في المسألة قبلها وأن عد
112

الأمة شهران لأن مدة الحمل تتساوى فيها الحرة والأمة لكونه أمرا حقيقيا فإذا يئست من الحمل
اعتدت عدة آيسة شهرين وعلى قولنا ان عدة الأمة شهر ونصف تكون عدتها عشرة أشهر ونصفا ومن
جعل عدتها ثلاثة أشهر فهي كالحرة سواء
(فصل) فإن عاد الحيض إليها في السنة ولو في آخرها أو عاد إلى الأمة قبل انقضاء عدتها على
ما فيها من الاختلاف لزمها الانتقال إلى القروء لأنها الأصل فبطل بها حكم البدل وان عاد بعد مضيها
ونكاحها لم تعد إلى القروء لأن عدتها انقضت وحكمنا بصحة نكاحها فلم تبطل كما لو اعتدت الصغيرة
بثلاثة أشهر وتزوجت ثم حاضت، وان حاضت بعد السنة وقبل نكاحها ففيه وجهان (أحدهما) لا تعود
لأن العدة انقضت بالشهور فلم تعتد كالصغيرة (والثاني) تعود لأنها من ذوات القروء وقد قدرت على
المبدل قبل تعلق حق زوج بها فلزمها العود كما لو حاضت في السنة
(فصل) فإن حاضت حيضة ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فهي كالمسألة التي قبلها تعتد سنة من
وقت انقطاع الحيض وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة
أو حيضتين فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه تجلس تسعة أشهر فإن لم يتبين بها حمل تعتد بثلاثة أشهر
فذلك سنة ولا نعلم له مخالفا. قال ابن المنذر قضى به عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منكر، وقال
113

الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يطلق امرأته فتحيض حيضة ثم ترتفع حيضتها؟ قال
أذهب إلى حديث عمر إذا رفعت حيضتها فلم تدر مما ارتفعت فإنها تنتظر سنة، قيل له فحاضت دون
السنة؟ فقال ترجع إلى الحيض، قيل له فإن ارتفعت حيضتها لا تدري مما ارتفعت؟ قال تقعد سنة أخرى
وهذا قول كل من وافقنا في المسألة قبلها وذلك لأنها لما ارتفعت حيضتها حصلت مرتابة فوجب أن تنتقل
إلى الاعتداد بسنة كما لو ارتفع حيضها حين طلقها ووجب عليها سنة كاملة، لأن العدة لا تبني على عدة
أخرى ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست انتقلت إلى ثلاثة أشهر كاملة ولو اعتدت الصغيرة
شهرا أو شهرين ثم حاضت انتقلت إلى ثلاثة قروء
(فصل) فإن كان عادة المرأة أن يتباعد ما بين حيضتيها لم تنقض عدتها إلا بثلاث حيضات، وإن
طالت لأن هذه لم يرتفع حيضها ولم يتأخر عن عادتها فهي من ذوات القروء باقية على عادتها فأشبهت
من لم يتباعد حيضها ولا نعلم فيه مخالفا
(مسألة) (وعدة الجارية التي أدركت فلم تحض والمستحاضة اليائسة ثلاثة أشهر وعنه سنة)
إذا بلغت الجارية سنا تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض كخمس عشرة سنة فعدتها ثلاثة أشهر وهو
ظاهر قول الخرقي وقول أبو بكر وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وضعف أبو بكر الرواية
المخالفة لهذا وقال رواه أبو طالب فخالف فيها أصحابه فروى أبو طالب عن أحمد أنها تعتد سنة، وقال
114

القاضي هذه الرواية أصح لأنه متى أتى عليها زمان الحيض فلم تحض حصلت مرتابة يجوز أن يكون بها
حمل منع حيضها فيجب أن تعتد بسنة كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده
ولنا قول الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي
لم يحضن) وهذه من اللائي لم يحضن، ولأن الاعتبار بحال المعتدة لا بحال غيرها ولهذا لو حاضت قبل
بلوغ سن تحيض لمثله النساء في الغالب مثل أن تحيض لعشر سنين اعتدت بالحيض، وفارق من ارتفع
حيضها فإنها من ذوات القروء
(مسألة) (وهكذا حكم المستحاضة الناسية)
وجملة ذلك القول في المستحاضة وهي لا تخلو اما أن تكون لها حيض محكوم بعادة أو تمييز أولا
فإن كان لها محكوم به فحكمها فيه حكمها غير المستحاضة إذا مرت لها ثلاثة قروء فقد انقضت عدتها. قال
أحمد المستحاضة تعتد أيام أقرائها التي تعرف فإن علمت أن لها في كل في شهر حيضة ولم تعلم موضعها فعدتها
ثلاثة أشهر، وإن شكت في شئ تربصت حتى تستيقن أن القروء الثلاث قد انقضت، وإن كانت مبتدأة
لا تمييز لها أو ناسية لا تعرف لها وقتا ولا تمييزا فعن أحمد فيها روايتان
(إحداهما) أن عدتها ثلاثة أشهر وهو قول عكرمة وقتادة وأبي عبيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حمنة
115

بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة فجعل لها حيضة كل شهر، ولأننا نحكم لها بحيضة
في كل شهر تترك فيها الصلاة والصيام ونثبت فيها سائر أحكام الحيض فيجب أن تنقضي بها العدة لأن
ذلك من أحكام الحيض
(والرواية الثانية) تعتد سنة بمنزلة من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، قال أحمد إذا كانت اختلطت
ولم تعلم اقبال الدم وادباره اعتدت سنة لحديث عمر لأن به يتبين الحمل وهو قول مالك وإسحاق لأنها
لم تتيقن لها حيضا مع أنها من ذوات القروء فكانت عدتها سنة كالتي ارتفع حيضها، وعلى الرواية الأولى
ينبغي أن يقال اننا متى حكمنا بأن حيضها سبعة أيام من كل شهر فمضى لها شهران بالهلال وسبعة أيام
من أول الثالث فقد انقضت عدتها، وإن قلنا القروء الأطهار فطلقها في آخر شهر ثم مضى لها شهران
وهل الثالث انقضت عدتها وهذا مذهب الشافعي
(مسألة) (فأما التي عرفت ما رفع الحيض من مرض ورضاع ونحوه فلا تزال في عدة حتى
يعود الحيض فتعتد به)
أما إذا عرفت ارتفاع الحيض بعارض من مرض أو نفاس أو رضاع فإنها تنتظر زوال العارض
وعود الدم وإن طال إلا أن تصير في سن الإياس وقد ذكرناه فتعتد حينئذ عدة الآيسات وقد روى
الشافعي في مسنده باسناده عن حبان بن منفذ أنه طلق امرأته طلقة واحدة وكان لها منه بنيه
ترضعها فتباعد حيضها ومرض حبان فقيل له انك إن مت ورثتك فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد
116

ابن ثابت فسأله عن ذلك فقال عثمان لعلي وزيد ما تريان فقالا نرى أنها ان ماتت ورثها وان مات
ورثته لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ولا من الابكار اللائي لم يبلغن المحيض فرجع
حبان إلى أهلة فانتزع البنت منها فعاد إليها الحيض فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة فورثها
عثمان رضي الله عنه.
وروى الأثرم باسناده عن محمد بن يحيي بن حبان أنه كانت عند جده امرأتان هاشمية وأنصارية
فطلق الأنصارية وهي مرضع فمرت بها سنة ثم هلك ولم تحض فقالت الأنصارية لم أحض فاختصموا
إلى عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال: هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا بهذا يعني
علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(فصل) (السادس امرأة المفقود الذي انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله أو في
مفازة مهلكة أو بين الصفين إذا قتل قوم أو من غرق مركبه ونحو ذلك فإنها تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة)
وجملة ذلك أنه إذا غالب الرجل عن امرأته لم يخل من حالين
أحدهما أن تكون غيبة ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله ليلا ونهارا أو يخرج إلى الصلاة
فلا يرجع أو يمضي إلى مكان قريب ليقضي حاجة ويرجع فلا يظهر له خبر أو يفقد بين الصفين أو
من انكسر مركبه فيغرق بعض رفقته أو يفقد في مهلكة كبرية الحجاز ونحوها فمذهب أحمد الظاهر عنه أن
117

زوجته تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للأزواج قال
الأثرم قيل لأبي عبد الله تذهب إلى حديث عمر وقال هو أحسنها يروى عن عمر من ثمانية وجوه ثم
قال زعموا أن عمر رجع عن هذا هؤلاء الكذابين، قلت فروى من وجه ضعيف أن عمر قال بخلاف
هذا قال لا الا أن يكون انسان يكذب، وقلت له مرة ان انسانا قال لي ان أبا عبد الله قد ترك قوله في
المفقود بعدك فضحك ثم قال من ترك هذا القول أي شئ يقول؟ وهذا قول عمر عثمان وعلي وابن
عباس وابن الزبير قال أحمد خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز والحسن
والزهري وقتادة والليث وعلي بن المديني وعبد العزيز بن أبي سلمة وبه يقول مالك والشافعي في القديم
الا أن مالكا قال ليس في انتظار من يفقد في القتال وقت، وقال سعيد بن المسيب في امرأة المفقود بين
الصفين تتربص سنة لأن غلبة هلاكه ههنا أكثر من غلبة غيره لوجود سببه، وقد نقل عن أحمد أنه قال
كنت أقول إذا تربصت أربع سنين ثم اعتدت أربعة أشهر وعشرا تزوجت وقد ارتبت فيها وهبت
الجواب فيها لما اختلف الناس فكأني أحب السلامة، وهذا توقف يحتمل الرجوع عما قاله وتتربص
أبدا، ويحتمل التورع ويكون المذهب ما قاله أولا، قال القاضي أكثر أصحابنا على أن المذهب رواية
واحدة وعندي أن المسألة على روايتين، وقال أبو بكر الذي أقول به ان صح الاختلاف في المسألة ان
لا نحكم بحكم ثان الا بدليل على الانتقال، وان ثبت الاجماع فالحكم فيه على ما نص عليه. وظاهر المذهب
118

على ما حكيناه أولا نقله عن أحمد الجماعة وقد أنكر أحمد رواية من روى عنه الرجوع على ما حكيناه من رواية الأثرم
وقال أبو قلابة والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وأصحاب الرأي والشافعي في الجديد لا تتزوج
امرأة المفقود حتى تتيقين موته أو فراقه لما روى المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " امرأة المفقود امرأته
حتى يأتيها زوجها " وروي الحكم وحماد عن علي لا تتزوج امرأة المفقود حتى يأتي موته أو طلاقه،
ولأنه شك في زوال الزوجية فلم تثبت به الفرقة كما لو كان ظاهرها السلامة
ولنا ما روي الأثرم والجوزجاني باسنادهما عن عبيد بن عمير قال: فقد رجل في عهد عمر فجاءت
امرأته إلى عمر فذكرت ذلك له فقال انطلقي فتربصي أربع سنين ففعلت ثم أتته فقال انطلقي فاعتدي
أربعة أشهر وعشرا ففعلت ثم أتته فقال أين ولي هذا الرجل؟ فجاء وليه فقال طلقها ففعل فقال لها عمر
انطلقي فتزوجي من شئت فتزوجت ثم جاء زوجها الأول فقال له عمر أين كنت؟ فقال يا أمير المؤمنين
استهوتني الشياطين قال فوالله ما أدري في أي أرض الله، كنت عند قوم يستعبدونني حتى غزاهم قوم
مسلمون فكنت فيمن غنموه فقالوا لي أنت رجل من الانس وهؤلاء الجن فما لك وما لهم؟ فأخبرتهم خبري
فقالوا بأية أرض الله تحب أن تصبح قلت المدينة هي أرضي فأصبحت وأنا أنظر إلى الحرة فخيره عمر إن
119

شاء امرأته وإن شاء الصداق فاختار الصداق وقال قد حبلت لا حاجة لي فيها. قال أحمد يروى عن عمر
من ثمانية وجوه ولم يعرف في الصحابة له مخالف
وروي الجوزجاني وغيرهم باسنادهم عن علي امرأة المفقود تعتد أربع سنين ثم تطلقها ولي زوجها
وتعتد بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا فإن جاء زوجها المفقود بعد ذلك خير بين الصداق وبين امرأته
وقضي به عثمان أيضا، وقضي به ابن الزبير في مولاة لهم وهذه قضايا انتشرت في الصحابة فلم تنكر
فكانت اجماعا، فأما الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يثبت ولم يذكره أصحاب السنن وما رووه
عن علي فيرويه الحكم وحماد مرسلا والمسند عنه مثل قولنا، ثم يحمل ما رووه على المفقود الذي ظاهر
غيبته السلامة جمعا بينه وبين ما رويناه وقولهم انه شك في زوال الزوجية ممنوع فإن الشك ما يتساوي
فيه الأمران والظاهر في مسئلتنا الهلاك
(فصل) وهل يعتبر ان يطلقها ولي زوجها ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة قروء؟ فيه روايتان (إحداهما)
يعتبر ذلك لأنه في حديث عمر الذي رويناه، وقد قال أحمد هو أحسنها، وذكر في حديث علي أنه
يطلقها ولي زوجها (الثانية) لا يعتبر كذلك قاله ابن عمر وابن عباس وهو القياس فإن ولي الرجل لا
ولاية له في طلاق امرأته ولأننا حكمنا عليها بعدة الوفاة فلا يجب عليها مع ذلك عدة الطلاق كما لو
120

تيقنت وفاته ولأنه قد وجد دليل هلاكه على وجه أباح التزويج لها وأوجب عليها عدة الوفاة فأشبه
ما لو شهد به شاهدان
(مسألة) (وهل تفتقر إلى رفع الامر إلى الحاكم ليحكم بضرب المدة وعدة الوفاة؟ على روايتين)
(إحداهما) تفتقر لأنها مدة تختلف فيها فافتقرت إلى ضرب الحاكم كمدة العنة، فعلى هذا يكون
ابتداء المدة من آن ضربها الحاكم
(والثانية) لا تفتقر لأنها تعتبر لإباحة النكاح فلم تفتقر إلى الحاكم كمدة من ارتفع حيضها لا
تدري ما رفعه فيكون ابتداء المدة من حين انقطع خيره وبعده اثره ولان هذا ظاهر في موته فكان
ابتداء المدة منه كما لو شهد به شاهدان وللشافعية وجهان كالروايتين
(مسألة) (وإذا حكم الحاكم بالفرقة نفد حكمه في الظاهر دون الباطن فلو طلق الأول صح طلاقه)
لأنا حكمنا بالفرقة على أن الظاهر هلاكه فإذا ثبتت حياته انتقض ذلك الظاهر ولم يبطل طلاقه كما لو
شهدت به بينة كاذبة ولذلك خير في أخذها وكذلك إن ظاهر أو آلى أو قذف لأن نكاحه باق بدليل
تخييره في أخذها، وقال أبو الخطاب القياس أننا إذا حكمنا بالفرقة نفذ ظاهرا وباطنا فتكون امرأة
121

الثاني ولا خيار للأول لأنها بانت منه بفرقة الحاكم في محل مختلف فيه فنفذ حكمه في الباطن كما لو فسخ
نكاحها لعسرته أو عيبه فلهذا لم يقع طلاقه وان لم يحكم بفرقته باطنا فهي امرأة الأول ولا خيار له
(مسألة) (فإذا فعلت ذلك يعني تربصت أربع سنين واعتدت عدة الوفاة ثم تزوجت ثم قدم
زوجها الأول فإن كان قبل أن تتزوج فهي امرأته)
وقال بعض أصحاب الشافعي إذا ضربت لها المدة فانقضت بطل نكاح الأول والذي ذكرنا أولى
لأننا إنما أبحنا لها التزويج لأن الظاهر موته فإذا بان حيا انخرم ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله كما لو
شهدت البينة بموته فبان حيا ولأنه أحد المالكين فأشبه مالك المال فإن قدم بعد التزويج وكان قبل
دخول الثاني بها فكذلك ترد إليه وليس على الثاني صداق لأننا تبينا أن النكاح باطل ولم يتصل به
دخول، أحمد أما قبل الدخول فهي امرأته وإنما تخير بعد الدخول، وهذا قول عطاء والحسن
وخلاس بن عمرو النخعي وقتادة ومالك وإسحاق، وقال القاضي فيه رواية أخرى أنه يخير اخذه
من عموم قول أحمد إذا تزوجت امرأته فجاء خير بين الصداق وبين امرأته، والصحيح أن عموم
كلام أحمد يحمل على خصوصه في رواية الأثرم وأنه لا يتخير الا بعد الدخول فتكون زوجة الأول
رواية واحدة لأن النكاح إنما صح في الظاهر دون الباطن فإذا قدم تبينا أن النكاح كان باطلا لأنه
صادف امرأة ذات زوج فكان باطلا كما لو شهدت بينة بموته، وتعود إلى الزوج بالعقد الأول كما لو لم تتزوج
122

(مسألة) (وان قدم بعد دخول الثاني بها خير الأول بين أخذها فتكون امرأته بالعقد الأول
وبين صداقها وتكون زوجة الثاني)
وهذا قول مالك لاجماع الصحابة عليه فروي معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر
وعثمان قالا إن جاء زوجها الأول خير بين المرأة وبين الصداق الذي ساق هو رواه الجوزجاني والأثرم
وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم وقال على ذلك في الحديث الذي رويناه ولم يعرف لهم مخالف في
عصرهم فكان اجماعا. فعلى هذا ان أمسكها الأول فهي زوجته بالعقد الأول، والمنصوص عن أحمد ان
الثاني لا يحتاج إلى طلاق لأن نكاحه كان باطلا في الباطن وقال القاضي قياس قوله أنه يحتاج إلى طلاق
لأن هذا نكاح مختلف في صحته فكان مأمورا بالطلاق ليقطع حكم العقد الثاني كسائر الا نكحة الفاسدة
ويجب على الأول اعتزالها حتى تقضي عدتها من الثاني، وان لم يخترها الأول فإنها تكون مع الثاني
ولم يذكروا لها عقدا جديدا. قال شيخنا: والصحيح أنه يجب أن تستأنف لها عقدا لأننا تبينا بطلان
عقده بمجئ الأول ويحمل قول الصحابة على هذا لقيام الدليل عليه فإن زوجة الانسان لا تصير
زوجة لغيره بمجرد تركه لها
(مسألة) (ويأخذ منه صداقها) أي يأخذ الزوج الأول من الزوج الثاني إذا تركها له صداقها
لقضاء الصحابة بذلك
(مسألة) (وهل يأخذ منه صداقها الذي أعطاها أو الذي أعطاها الثاني؟ على روايتين)
123

اختلف عن أحمد فيما يرجع به فروي عنه أنه يرجع بالصداق الذي أصدقها هو وهو اختيار
أبي بكر وقول الحسن والزهري وقتادة وعلي بن المديني لقضاء علي وعثمان أنه يخير بينها وبين الصداق
الذي ساق إليها هو ولأنه أتلف عليه المعوض فرجع عليه بالعوض كشهود الطلاق إذا رجعوا عن
الشهادة، فعلى هذا إن كان لم يدفع إليها الصداق لم يرجع بشئ وإن كان دفع بعضه رجع بما دفع ويحتمل
أن يرجع عليه بالصداق وترجع المرأة عليه بما بقي عليه من صداقها، وعن أحمد أنه يرجع عليه بالمهر
الذي أصدقها الثاني لأن الاتلاف من جهته والرجوع عليه بقيمته والبضع لا يتقوم الا على زوج أو من
جرى مجراه فيجب الرجوع عليه بالمسمى الثاني دون الأول وهل يرجع الزوج الثاني على الزوجة بما
أخذ منه؟ فيه روايتان ذكر ذلك أبو عبد الله بن حامد
(إحداهما) يرجع به لأنها غرامة لزمت الزوج بسبب وطئه لها فرجع بها كالمغرور، ولان ذلك يقضي
إلى أن يلزمه مهران بوطئ واحد
(والثانية) لا يرجع لأن الصحابة لم يقضوا بالرجوع فإن سعيد بن المسيب روى أن عليا وعثمان
قضيا في المرأة التي لا تدري ما مهلك زوجها أن تتربص أربع سنين ثم تعتد عدة المتوفي عنها زوجها أربعة
أشهر وعشرا ثم تتزوج ان بدا لها، فإن جاء زوجها خير اما امرأته واما الصداق فإن اختار الصداق
فالصداق على زوجها الآخر وتثبت عنده، وان اختار امرأته عزلت من زوجها الآخر حتى تنقضي
124

عدتها، وان قدم زوجها وقد توفي زوجها الآخر ورثت واعتدت عدة المتوفي عنها زوجها وترجع إلى
إلى الأول رواه الجوزجاني ولأن المرأة لا تعزير منها فلم يرجع عليها بشئ كغيرها وان قلنا يرجع عليها
فإن كان قد دفع إليها الصداق رجع به وإن كان لم يدفعه إليها دفعه إلى الأول ولم يرجع عليها بشئ وإن كان
قد دفع بعضه رجع بما دفع، وان قلنا لا يرجع عليها وكان قد دفع إليها الصداق لم يرجع به وان
لم يكن دفعه إليها لزمه دفعه ويدفع إلى الأول صداقا آخر
(فصل) قال شيخنا (والقياس أن ترد إلى الأول ولا خيار)
لأن زوجها لم يطلقها ولم ينفسخ نكاحه فردت إليه كما لو تزوجت لبينة قامت بوفاته ثم تبين كذبها
بقدومه الا أن يفرق الحاكم بينهما ونقول بوقوع الفرقة باطنا فينفسخ نكاح الأول لأن نكاحه انفسخ
بحكم حاكم ووقوع نكاح الثاني بعد بطلان نكاح الأول وقضاء عدتها فأشبه ما لو طلقها الأول فتكون زوجة
الثاني بكل حال لذلك وعن أحمد التوقف في أمره وقد ذكرناه فيما مضى والمذهب الأول أولى
(فصل) إذا فقدت الأمة زوجها لغيبة ظاهرها الهلاك تربصت أربع سنين ثم اعتدت للوفاة شهرين
وخمسة أيام، وهذا اختيار أبي بكر، وقال القاضي تتربص نصف تربص الحرة ورواه أبو طالب عن
125

أحمد وهو قول الأوزاعي والليث لأنها مدة مضروبة للمرأة لعدم زوجها فكانت الأمة فيه على النصف
من الحرة كعدة الوفاة.
ولنا أن الأربع السنين مضروبة لكونها أكثر مدة الحمل في الأمة والحرة سواء فاستويا في التربص
لها كالتسعة الأشهر في حق من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه وكالحمل نفسه، وبهذا ينتقض قياسهم
فأما العبد فإن كانت زوجته حرة فتربصها كتربص تحت الحر، وان كانت أمة فهي كالأمة تحت
الحر لأن العدة معتبرة بالنساء دون الرجال وكذلك مدة التربص، وحكي عن الزهري ومالك أنه يضرب
له نصف أجل الحرة، والأولى ما قلناه لأنه تربص مشرع في حق المرأة لفرقة زوجها فأشبهت العدة
(الثاني) من انقطع خبره لغيبية ظاهرها السلامة كسفر التجارة في غير مهلكة وإباق العبد وطلب العلم
والسياحة فإن امرأته تبقى أبدا حتى تتقين موته روى ذلك عن علي واليه ذهب ابن شبرمة وابن أبي ليلى
وأبو حنيفة والشافعي في الجديد، وروي عن أبي قلابة والنخعي وأبي عبيد وقال مالك، والشافعي
126

في القديم تتربص أربع سنين وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للأزواج لأنه إذا جاز الفسخ لتعذر
الوطئ بالعنة وتعذر النفقة بالاعسار فلان يجوز ههنا لتعذر الجميع أولى. واحتجوا بحديث عمر الذي ذكرناه
في المفقود مع موافقة الصحابة وتركهم انكاره ونقل أحمد بن اصرم عن أحمد إذا مضى عليه تسعون
سنة قسم ماله، وهذا يقضي ان زوجته تعتد عده الوفاة ثم تتزوج، قال أصحابنا إنما اعتبر تسعين سنة من
يوم ولادته لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر منها فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب الحكم بموته كما لو كان
فقده لغيبة ظاهرها الهلاك، والمذهب الأول لأن هذه غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قبل أربع
سنين أو كما قبل التسعين ولان هذا التقدير بغير توقيف فلا ينبغي ان يصار إليه إلا بالتوقيف ولان تقدير
هذا بتسعين سنة من يوم ولادته يقضي إلى اختلاف العدة في حق المرأة ولا نظير لهذا وخبر عمر ورد
فيمن غيبته ظاهرها الهلاك فلا يقاس عليه غيره
(فصل) فإن كانت غيبة غير منقطعة يعرف خبره ويأتي كتابه فهذا ليس لامرأته ان تتزوج في
قول أهل العلم أجمعين إلا أن تتعذر الانفاق عليها من ماله فلها ان تطلب فسخ النكاح فيفسخ نكاحه.
وأجمعوا ان امرأة الأسير لا تنكح حتى يعلم يقين وفاته هذا قول النخعي والزهري ويحيى الأنصاري
ومكحول والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور وإسحاق وأصحاب الرأي، وان أبق العبد فزوجته على الزوجية
حتى تعلم موته أو ردته وبه قال الأوزاعي والثوري والشافعي وإسحاق وقال الحسن إباقه طلاقه
127

ولنا أنه ليس بمفقود فلم ينفسخ نكاحه كالحر ومن تعذر الانفاق من ماله على زوجته فحكمه في
الفسخ حكم ما ذكرنا إلا أن العبد نفقة زوجته على سيده أو في كسبه فيعتبر تعذر الانفاق في محل الوجوب
(فصل) إذا تزوج الرجل امرأة لها ولد من غيره فمات ولدها فإن أحمد قال يعتزل امرأته
حتى تحيض حيضة وهذا يروى عن علي بن أبي طالب والحسن ابنه ونحوه عن عمر بن الخطاب وعن
الحسين بن علي والصعب بن جثامة وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز والنخعي ومالك وإسحاق وأبو عبيد
قال عمر بن عبد العزيز حتى ينظر بها حمل أولا، وإنما قالوا ذلك لأنها ان كانت حاملا حين موته ورثه
حملها وان حدث الحمل بعد الموت لم يرثه وإن كان للميت ولد أو أب أو جد لم يحتج إلى استبرائها لأن
الحمل لا ميراث له وان كانت حاملا فقد تبين حملها فلم يحتج إلى استبرائها لأن الحمل معلوم، وان كانت آيسة
لم يحتج إلى استبرائها لليأس من حملها، وان كانت ممن يمكن حملها ولم يتبين بها حمل ولم يعتزلها زوجها فأتت
بولد قبل ستة أشهر ورث وان أتت به بعد ستة أشهر من حين وطئها بعد موت ولدها لم يرث لأنا لا نتيقن
وجوده حال موته وهذا يروى عن سفيان وهو قياس قول الشافعي
(مسألة) ومن مات عنها زوجها أو طلقها وهو غائب فعدتها من يوم مات أو طلق وان لم تجتنب
ما تجتنبه المعتدات وعنه ان ثبت ذلك بينة فكذلك وإلا فعدتها من يوم بلغها الخبر)
والمشهور في المذهب أنه متى مات عنها أو طلقها زوجها فعدتها من يوم موته وطلاقه قال أبو بكر لا خلاف
128

عن أبي عبد الله علمه ان العدة تجب من حين الموت والطلاق إلا ما رواه إسحاق بن إبراهيم وهذا
قول ابن عمر وابن عباس وابن مسعود ومسروق وعطاء وجابر بن زيد وابن سيرين ومجاهد وسعيد بن
جبير وعكرمة وطاوس وسليمان بن يسار وأبي قلابة وأبي العالية والنخعي ونافع ومالك والثوري والشافعي
وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد ان قامت بذلك بينة فكما ذكرنا وإلا فعدتها
من يوم يأتيها الخبر وروي ذلك عن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز ويروى عن علي والحسن وقتادة
وعطاء وخلاس بن عمرو ان عدتها من يوم يأتيها الخبر لأن العدة من اجتناب أشياء وما اجتنبها
ولنا أنها لو كانت حائلا فوضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لا نقضت عدتها فكذلك سائر أنواع
العدد ولأنه زمان عقيب الموت أو الطلاق فوجب ان تعتد به كما لو كان حاضرا ولان القصد غير معتبر
في العدة بدليل الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتهما من غير قصد ولم يعدم ههنا إلا القصد وسواء في هذا
اجتنبت ما تجتنبه المعتدات أو لم تجتنبه فإن الاحداد الواجب ليس بشرط في العدة فلو تركته قصدا
أو عن غير قصد لا نقضت عدتها فإن الله تعالى قال (يتربص بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا - وقال يتربصن
بأنفسهن ثلاثة قروء - وقال - فعدتهن ثلاثة أشهر - وقال - وأولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن)
وفي الاشتراط الاحداد مخالفة هذه النصوص فوجب ان تشترط
129

(مسألة) (وعده الموطوءة بشبهة عدة المطلقة وكذلك المزني بها وعنه أنها تستبرأ بحيضة)
وبهذا قال الشافعي لأن وطئ الشبهة وفي النكاح الفاسد في شغل الرحم ولحوق النسب كالوطئ في النكاح
الصحيح فكان مثله فيما تحصل به البراءة وان وطئت المزوجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل قضاء عدتها
كيلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وله الاستمتاع منها بما دون الفرج في أحد الوجهين
لأنها زوجة حرم وطؤها لعارض يختص بالفرج فأبيح الاستمتاع منها بما دونه كالحيض (والثاني) لا تحل لأن
ما حرم الوطئ حرم دواعيه كالاحرام (فصل) كذلك المزني بها عدتها عدة الموطوءة بشبهة وبهذا قال الحسن والنخعي وعن أحمد
رواية أخرى أنها تستبرأ بحيضة ذكرها ابن أبي موسى وهو قول مالك لأن المقصود به معرفة البراءة
من الحمل فأشبه استبراء الأمة، وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لا عدة عليها وهو قول الثوري
والشافعي وأصحاب الرأي لأن العدة لحفظ النسب وقد روي عن علي رضي الله عنه ما يدل على ذلك
ولنا انه وطئ يقتضي شغل الحرم فوجبت العدة منه كوطئ الشبهة ولنا وجوبها كعدة المطلقة فلأنها
حرة فأشبهت الموطوءة بشبهة، وقولهم إنما تجب لحفظ النسب قلنا لو وجب لذلك لما وجب على الملاعنة
المنفي ولدها والآيسة والصغيرة ولما وجب استبراء الأمة التي لا يلحق ولدها بالبائع ولو وجب كذلك
130

كان استبراء الأمة على البائع ثم لو ثبت أنها وجبت فالحاجة إليها داعية فإن المزني بها إذا تزوجت قبل
الاعتداد اشتبه ولد الزوجة بالولد من الزنا فلا يحصل حفظ النسب
(فصول تتعلق بالمفقود)
إذا اختارت امرأة المفقود المقام والصبر حتى يتبين أمره فلها النفقة ما دام حيا وينفق عليها من ماله
لأنها محكوم لها بالزوجية فيجب لها النفقة كما لو علمت حياته، فإذا تبين أنه كان حيا وقدم فلا كلام وان
تبين أنه مات أو فارقها فلها النفقة إلى يوم موته أو بينونتها منه ويرجع عليها بالباقي لأننا تبينا أنها أنفقت
مال غيره أو أنفقت من ماله وهي غير زوجة له، وان رفعت أمرها إلى الحاكم فضرب لها مدة فلها النفقة
في مدة التربص ومدة العدة لأن مد العدة لم يحكم فيها ببينونتها من زوجها فهي محبوسة عليه بحكم
الزوجية فأشبه ما قبل العدة واما مدة العدة فإنها غير منتفية بخلاف عدة الوفاة فإن موته متقين، وما بعد
العدة ان تزوجت أو فرق الحاكم بينهما سقطت نفقتها لأنها أسقطتها بخروجها عن حكم نكاحه وان
لم تتزوج ولا فرق الحاكم بينهما فنفقتها باقية لأنها لم تخرج من نكاحه، فإن قدم الزوج بعد ذلك وردت
إليه عادت نفقتها من حين الرد، وقد روى الأثرم والجوزجاني عن ابن عمر وابن عباس قالا تنتظر امرأة
المفقود أربع سنين قال ابن عمر ينفق عليها من مال زوجها وقال ابن عباس إذا يجحف ذلك بالورثة
ولكنها تستدين فإذا جاء زوجها أخذت من ماله وان مات اخذت من نصيبها. من الميراث وقالا ينفق عليها
131

بعد في العدة بعد الأربع سنين مال زوجها جميعه أربعة أشهر وعشرا، وان قلنا ليس لها ان تتزوج لم
تسقط نفقتها ما لم تتزوج، فإن تزوجت سقطت نفقتها لأنها بالتزوج تخرج عن يديه وتصير ناشزا، وان
فرق بينهما فلا نفقة لها ما دامت في العدة فإذا انقضت فلم تعد إلى مسكن زوجها فلا نفقة لها أيضا لأنها
باقية على النشوز وان عادت إلى مسكنه احتمل ان تعود النفقة لأن النشوز المسقط لنفقتها قد زال ويحتمل
انها لا تعود لأنها ما سلمت نفسها إليه، وان عاد فتسلمها عادت نفقتها، ومتى أنفق عليها ثم بان ان الزوج كان
قد مات قبل ذلك حسب عليها ما أنفق عليها من حين موته من ميراثها فإن لم يرث شيئا فهو عليها لأنها
أنفقت من مال الوارث ما لا تستحقه، فاما نفقتها على الزوج الثاني فإن قلنا لها ان تتزوج فنكاحها صحيح
حكمه في النفقة حكم الأنكحة الصحيحة وان قلنا ليس لها ان تتزوج فلا نفقة لها فإن أنفق لم يرجع
بشئ لأنه متطوع إلا أن يجبره الحاكم على ذلك فيحتمل ان يرجع بها لأنه ألزمه أداء ما لم يكن واجبا
عليه ويحتمل ان لا يرجع به لأن ما حكم به الحاكم لا يجوز نقضه ما لم يخالف كتابا أو سنة أو اجماعا فإن
فارقها بتفريق الحاكم أو غيره فلا نفقة لها، إلا أن تكون حاملا فينبني وجوب النفقة على الروايتين في النفقة
هل هي للحمل أولها من اجله؟ فإن قلنا هي للحمل فلها النفقة لأن نسب الحمل لاحق به فيجب عليه الانفاق
على ولده وان قلنا لها من اجله فلا نفقة لها لأنها في غير نكاح صحيح فأشبه حمل الموطوءة بشبهة، وإذا
أتت بولد يمكن كونه من الثاني لحقه نسبه لأنها صارت فراشا له وقد علمنا أن الولد ليس من الأول لأنها
132

تربصت بعد فقده أكثر من مدة الحمل وتنقضي عدتها من الثاني بوضعه لأن الولد منه، وعليها ان ترضعه اللبأ
لأن الولد لا يقوم بدنه إلا به فإن ردت إلى الأول فله منعها من رضاعه كما له ان يمنعها من رضاع
أجنبي لأن ذلك يشغلها عن حقوقه إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه التلف فليس له منعها من رضاعه لأن
هذا حال ضرورة فإن أرضعته في بيت المال الزوج الأول لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته ويده وان أرضعته في
غير بيته بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها ناشز وإن كان باذنه خرج على الروايتين فيما إذا سافرت باذنه
(فصل) في ميراثها من الزوجين وتوريثهما منها، متى مات زوجها الأول أو ماتت قبل تزويجها للثاني
ورثته وورثها وكذلك ان تزوجت الثاني فلم يدخل بها لأننا تبينا أنه متى قدم قبل الدخول بها ردت
إليه بغير تخيبر، وذكر القاضي فيها رواية أنه يخير فيها، فعلى هذه الرواية حكمها حكم ما لو دخل بها الثاني
فأما إذا دخل بها الثاني وقدم زوجها الأول فاختارها ردت إليه وورثها وورثته ولم ترث الثاني ولم يرثها
لأنه لا زوجية بينهما، وان مات أحدهما قبل اختيارها اما في الغيبة أو بعد قدومه فإن قلنا أن لها أن
تتزوج ورثت الزوج الثاني وورثها ولم ترث الأول لم يرثها، ولان من خير بين شيئين فتعذر أحدهما
تعين الآخر، وان ماتت قبل اختيار الأول خير فإن اختارها ورثها وان يخترها ورثها الثاني، هذا ظاهر
قول أصحابنا. وأما على ما اختاره شيخنا فإنها لا ترث الثاني ولا يرثها بحال إلا أن يجدد لها عقدا أو لا يعلم
أن الأول كان حيا ومتى علم أن الأول كان حيا ورثها وورثته الا أن يختار تركها فتبين منه بذلك فلا
133

ترثه ولا يرثها، وعلى قول أبي الخطاب ان حكمنا بوقوع الفرقة بتفريق الحاكم ظاهر أو باطنا ورثت
الثاني وورثها دون الأول وان لم يكن يحكم بوقوع الفرقة باطنا ورثت الأول وورثها دون الثاني، فأما عدتها
منهما فمن ورثته اعتدت لوفاته عدة الوفاة، وان مات الثاني في موضع لا ترثه فالمنصوص عن أحمد أنها
تعتد عدة الوفاة في النكاح الفاسد، فعلى هذا عليها عدة الوفاة لوفاته وهو اختيار أبي بكر، وقال ابن
حامد لا عدة عليها لوفاته لكن تعتد من وطئه بثلاثة قروء، فإن ماتا معا اعتدت لكل واحد منهما وبدأت
بعدة الأول فإن أكملتها اعتدت للآخر، وان مات الأول أولا فكذلك، وان مات الثاني أولا بدأت بعدته
فإن مات الأول انقطعت عدة الثاني ثم ابتدأت عدة الأول فإذا أكملتها أتمت عدة الثاني، وان علم موت
أحدهما وجهل موت الآخر أو جهل موتهما فعليها أن تعتد عدتين من حين تيقنت الموت وتبدأ بعدة
الأول لأنه أسبق وأولى وان كانت حاملا فبوضع الحمل تنقضي عدة الثاني لأن الولد منه ثم تبتدى، بعدة
الوفاة أربعة أشهر وعشر.
(فصل) إذا تزوجت امرأة المفقود في وقت ليس لها أن تتزوج فيه نحو أن تتزوج قبل مضي
المدة التي يباح لها التزوج بعدها أو كانت غيبة زوجها ظاهرها السلامة أو ما أشبه هذا فنكاحها باطل
وقال القاضي ان تبين أن زوجها قد مات وانقضت عدتها منه أو فارقها وانقضت عدتها ففي صحة نكاحها وجهان
(أحدهما) هو صحيح لأنها ليست في نكاح ولا عدة فصح تزويجها كما لو علمت ذلك
134

(والثاني) لا يصح لأنها معتقدة تحريم نكاحها وبطلانه، وأصل هذا من باع عينا في يده
يعتقدها لموروثة فبان موروثه ميتا والعين مملوكة له بالإرث هل يصح البيع؟ فيه وجهان كذا ههنا ومذهب
الشافعي مثل هذا.
ولنا أنها تزوجت في مدة منعها الشرع النكاح فيها فلم يصح كما لو تزوجت المعتدة في عدتها
والمرتابة قبل زوال الريبة.
(فصل) وان غاب رجل عن زوجته فشهد ثقات بوفاته فاعتدت زوجته للوفاة أبيح لها أن تتزوج
فإن عاد الزوج بعد ذلك فحكمه حكم المفقود يخير زوجها بين أخذها وتركها وله الصداق، وكذلك ان
تظاهرت الاخبار بموته، وقد روى الأثرم باسناده عن أبي المليح عن سهية أن زوجها صيفي بن فشيل
نعى لها من قيذائيل فتزوجت بعده ثم إن زوجها الأول قدم فاتينا عثمان وهو محصور فأشرف علينا ثم
ثم قال كيف اقضي بينكما وأنا على هذه الحال؟ فقلنا قد رضينا بقولك فقضى أن يخير الزوج الأول بين
الصداق وبين المرأة فلما قتل عثمان أتينا عليا فخير الزوج الأول بين الصداق والمرأة فاختار الصداق
فأخذ مني الفين ومن زوجي الآخر الفين فإن حصلت الفرقة بشهادة محصورة فما حصل من غرامة
فعليهما لأنهما سبب في إيجابها وان شهدا بموت رجل فقسم ماله ثم قدم فما وجده من ماله أخذه وما
تلف منه أو تعذر رجوعه فيه فله تضمين الشاهدين لأنهما سبب الاستيلاء عليه وللمالك تضمين المتلف
لأنه أتلف ماله بغير إذنه.
135

(فصل) وان وطئت المعتدة بشبهة أو غيرها أتت عدة الأول ثم استأنف العدة من الوطئ، إنما كان
كذلك لأن العدتين من رجلين لا يتداخلان لكونهما حقين لرجلين أشبه الدينين فتم عدة الأول وتجب
للثاني عدة كاملة بعد قضاء عدة الأول
(مسألة) (وان كانت بائنا فأصابها المطلق عمدا فكذلك)
لأنها قد صارت أجنبية منه فأشبه وطئ الأجنبي، وان أصابها بشبهة استأنفت العدة من الوطئ ودخلت فيها
بقية الأولى لأن الوطئ بالشبهة يلحق به النسب فدخلت بقية الأولى في العدة الثانية
(مسألة) (وان تزوجت في عدتها لم تنقطع عدتها حتى تدخل بها فتنقطع حينئذ)
وجملة ذلك أن المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها اجماعا لقول تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح
حتى يلغ الكتاب أجله) ولأن العدة إنما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم لئلا يفضي إلى اختلاط المياه
واشتباه الأنساب فإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها ممنوعة من النكاح لحق الزوج الأول فكان نكاحا
باطلا كما لو تزوجت وهي في نكاحه، ويجب أن يفرق بينه وبينها فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها لا تنقطع بالعقد
الثاني لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشا ولا يستحق عليه بالعقد شئ وتسقط نفقتها وسكناها عن الزوج
الأول لأنها ناشز، وان وطئها انقطعت العدة سواء علم التحريم أو جهله، وقال أبو حنيفة لا ينقطع لأن كونها
فراشا لغير من له العدة لا يمنعها كما لو وطئت بشبهة وهي زوجة فإنها تعتد وان كانت فراشا للزوج،
136

وقال الشافعي ان وطئها عالما بأنها معتدة وانه محرم فهو زان فلا تنقطع العدة بوطئه لأنها لا تصير به فراشا
ولا يلحق به نسب، وإن كان جاهلا أنها معتدة أو بالتحريم انقطعت العدة بالوطئ لأنها تصير به فراشا، والعدة
تراد للاستبراء وكونها فراشا ينافي ذلك فوجب ان يقطعها فأما طريانه عليها فلا يجوز
ولنا ان هذا وطئ بشبهة نكاح فتنقطع به العدة كما لو جهل، وقولهم إنها لا تصير به فراشا قلنا لكنه
لا يحلق الولد الحادث من وطئه بالزوج الأول فهما سيان، إذا ثبت هذا فعليه فراقها فإن لم يفعل
وجب التفريق بينهما.
(مسألة) (ثم إذا فارقها بنت على عدة الأول ثم استأنفت العدة من الثاني إنما بنت على عدة الأول
لأن حق أسبق ولان عدته وجبت عن وطئ في نكاح صحيح فإذا كملت عدة الأول وجب عليها أن تعتد من
الثاني ولا تتداخل العدتان لأنهما من رجلين، وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة تتداخلان فتأتي
بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني تكون عن بقية عدة الأول وعدة للثاني لأن القصد معرفة براءة الرحم وهذا يحصل
به براءة الرحم منهما جميعا.
ولنا ما روى مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن طليحة كانت تحت
رشيد الثقفي فطلقها ونكحت في عدتها فضربها عمر رضي الله عنه وضرب زوجها ضربات بمحفقة وفرق
137

بينهما ثم قال. أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها يفرق بينهما ثم
اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبدا وروى باسناده عن علي انه
قضي في التي يتزوج في عدتها في أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتكمل ما أفسدت من عدة
الأول وتعتد من الآخر وهذان قولا سيدين من الخلفاء لم يعرف لها في الصحابة مخالف ولأنهما حقان
مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين واليمينين ولأنه حبس يستحقه الرجال على النساء فلم يجز أن تكون
المرأة في حبس رجلين كالزوجة
(مسألة) (وكل معتدة من غير النكاح الصحيح كالزانية والموطوءة بشبهة أو في نكاح فاسد فقياس
المذهب تحريم نكاحها على الواطئ وغيره)
قال شيخنا والأولى حل نكاحها لمن هي معتدة منه إن كان يلحقه نسب والدها لأن العدة لحفظ
مائه وصيانة نسبه ولا يصان ماؤه المحترم عن مائه المحترم ولا يحفظ نسبه عنه ولذلك أبيح للمختلعة نكاح
من خالعها ومن لا يلحقه نسب ولدها كالزانية لا يحل له نكاحها لأنه يقضي إلى اشتباه النسب فالواطئ كغيره
في أن النسب لا يلحق بواحد منهما.
(مسألة) (وان أتت بولد من أحدهما انقضت عدتها منه ثم اعتدت للآخر أيهما كان)
138

وجملة ذلك أن التي تزوجت في عدتها إذا كانت حاملا انقضت عدتها بوضع حملها لقول الله تعالى (وأولات
الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن) فإن كان يمكن أن تكون من الأول دون الثاني هو ان تأتى به لدون
ستة أشهر من وطئ الثاني وأربع سنين فما دونها من فراق الأول فإنه يلحق بالأول وتنقضي عدتها منه بوضعه
ثم تعتد بثلاثة قروء عن الثاني وان أمكن كونه من الثاني دون الأول وهو ان تأتي به لستة أشهر فما
زاد إلى أربع سنين من وطئ الثاني ولاكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول فهو ملحق بالثاني
وحده تنقضي به عدتها منه ثم تتم عدة الأول وتقدم عدة الثاني ههنا لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من
إنسان والعدة من غيره
(مسألة) (وان أمكن أن يكون منهما وهو ان تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطئ الثاني
ولأربع سنين فما دونها من بينونتها من الأول اري القافة معهما فإن الحقه بالأول لحق به كما لو أمكن أن يكون
منه دون الثاني وان ألحقته بالثاني لحق به وكان الحكم كما لو أمكن أن يكون من الثاني دون الأول
فإن ألحقته بهما لحق بهما)
ومقتضي المذهب ان تنقضي عدتها به منهما جميعا لأن نسبه ثبت منهما كما تنقضي عدتها به من الواحد
الذي ثبت نسبه منهما فاما ان نفته القافة عنهما فحكمه حكم ما لو أشكل امره فعلى هذا تعتد بعد وضعه بثلاثة
قروء لأنه إن كان من الأول فقد أتت بما عليها من عدة الثاني وإن كان من الثاني فعليها ان تكمل عدة
139

الأول لتسقط الفرض بيقين ولا ينفي الولد عنهما لقول القافة لأن عمل القافة ترجيح أحد صاحبي
الفراش لا في النفي عن الفراش كله ولهذا لو كان صاحب الفراش واحدا فنفته القافة عنه لم ينتف بقولها
فاما ان ولدت لدون ستة أشهر من وطئ الثاني ولاكثر من أربع سنين من فراق الأول لم يلحق بواحد منهما
ولا تنقضي عدتها منه لأنا نعلم أنه من وطئ آخر فتنقضي به عدتها من ذلك الوطئ ثم تتم عدة الأول وتستأنف
عدة الثاني لأنه قد وجد ما يقتضي عدة ثالثة وهو الوطئ الذي حملت منه فيجب عليها عدتان واتمام العدة الأولى
(مسألة) (وللثاني ان ينكحها بعد انقضاء العدتين وعنه انها تحرم عليه على التأبيد)
اما الزوج الأول فإن كان طلق ثلاثا لم تحل له بهذا النكاح وان وطئ فيه لأنه نكاح باطل وان طلق
دون الثلاث فله نكاحها بعد العدتين وان كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه
وأما الزوج الثاني ففيه روايتان (إحداهما) تحرم عليه على التأبيد وبه قال مالك والشافعي في القديم
لقول عمر رضي الله عنه لا ينكحها ابدا ولأنه استعجل الحق في غير وقته فحرمه في وقته كالوارث
إذا قتل موروثه ولأنه يفسد النسب فيوقع التحريم المؤبد كاللعان (والثانية) تحل له قال الشافعي في الجديد
له نكاحها بعد قضاء عدة الأول ولا يمنع من نكاحها في عدتها منه لأنه وطئ يلحق به النسب فلا
يمنع من نكاحها في عدتها منه كالوطئ في النكاح ولأن العدة إنما شرعت حفظا للنسب وصيانة للماء
140

والنسب لاحق به ههنا فأشبه ما لو خالعها ثم نكحها في عدتها، قال شيخنا وهذا قول حسن موافق النظر
ولنا على اباحتها بعد العدتين انه لا يخلوا اما أن يكون تحريمها بالعقد أو بالوطئ في النكاح الفاسد
أو بهما وجميع ذلك لا يقتضي التحريم بدليل ما لو نكحها بلا ولي ووطئها ولأنه لو زنى بها لم تحرم عليه
على التأبيد فهذا أولى ولان آيات الإباحة عامة كقول تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم - وقوله - والمحصنات
من المؤمنات) فلا يجوز تخصيصها بغير دليل وما روى عن عمر في تحريمها فقد خالفه على فيه وروى عن
عمر انه رجع عن قوله في التحريم إلى قول علي فإن عليا قال إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب
فقال عمر: وردا الجهالات إلى السنة ورجع إلى قول علي وقياسهم يبطل بما إذا زنى بها فإنه قد استعجل
وطأها ولا تحرم عليه على التأبيد ووجه تحريمها قبل قضاء عدة الثاني عليه قول الله تعالى (ولا تعزموا عقدة
النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) ولأنه وطئ يفسد به النسب فلم يجز النكاح في العدة منه كوطئ الأجنبي
(فصل) إذا تزوج معتدة وهما عالمان بالعدة وبتحريم النكاح فيها ووطئها فمها زانيان عليهما حد
الزنا ولا مهر لها ولا يلحقه النسب وإن كانا جاهلين بالعدة أو بالتحريم ثبت النسب وانتفى الحد ووجب
المهر وان علم هو دونها فعليه الحد والمهر ولا يلحقه النسب وان علمت هي دونه فعليها الحد ولا مهر لها
ويلحقه النسب وإنما كان كذلك لأن هذا نكاح متفق على بطلانه فأشبه نكاح ذوات المحارم
141

(مسألة) (وان وطئ رجلان امرأة فعليها عدتان لها الحديث عمر وعلي الذي ذكرناه فيما
إذا تزوجت في عدتها ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلان كالدينين)
(فصل) إذا خالع الرجل امرأته أو فسخ نكاحه فله أن يتزوجها في عدتها في قول الجمهورية قال
سعيد بن المسيب وعطاء والزهري والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وشذ بعض المتأخرين فقال
لا يحل له نكاحها ولا خطبتها لأنها معتدة
ولنا أن العدة لحفظ نسبه وصيانة مائه ولا يصان ماؤه عن مائه إذا كانا من نكاح صحيح فإذا تزوجها انقطعت
العدة لأن المرأة تصير فراشا له بعقده ولا يجوز أن تكون زوجته معتدة
(فصل) إذا طلقها واحدة فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية بنت على ما مضى من العدة لأنهما طلاقان لم
يتخللهما وطئ ولا رجعة فأشبها الطلقتين في وقت واحد
(مسألة) (وان راجعها ثم طلقها بعد دخوله بها استأنفت العدة من الطلاق الثاني لأنه طلاق من
نكاح اتصل به المسيس
(مسألة) (وان طلقها قبل دخوله بها فهل تبني أو تستأنف؟ على روايتين)
(أولاهما) أنها تستأنف لأن الرجعة أزالت شعث الطلاق الأول ورد بها إلى النكاح الأول فصار
الطلاق الثاني طلاقا من نكاح اتصل به المسيس
(والثانية) تبني لأن الرجعة لا تزيد على النكاح الجديد، ولو نكحها ثم طلقها قبل المسيس لم يلزمها
142

لذلك الطلاق عدة فكذلك الرجعة فإن فسخ النكاح قبل الرجعة يخلع أو غيره احتمل أن يكون حكمه حكم
الطلاق لأن موجبها في العدة موجب الطلاق ولا فرق بينهما واحتمل أن تستأنف العدة لأنهما جنسان
بخلاف الطلاق وان لم يرتجعها بلفظه لكنه وطئها في عدتها فهل تحصل بذلك رجعة؟ فيه روايتان
(إحداهما) تحصل فيكون حكمها حكم من ارتجعها بلفظة ثم وطئها سواء
(والثانية) لا تحصل الرجعية به ويلزمها استئناف عدة لأنه وطئ في نكاح تشعت فهو كوطئ الشبهة
وتدخل بقية عدة الطلاق فيها لأنهما من رجل واحد، وان حملت من هذا الوطئ فهل تدخل فيها
بقية الأولى؟ على وجهين
(أحدهما) تدخل لأنهما من رجل واحد (والثاني) لا تدخل لأنهما من جنسين فعلى هذا إذا
وضعت حملها أتمت عدة الطلاق، وان وطئها وهي حامل ففي تداخل العدتين وجهان، وان قلنا تتداخلان
فانقضاؤها معا بوضع الحمل وان قلنا لا تتداخلان فانقضاء عدة الطلاق بوضع الحمل وتستأنف عدة الوطئ بالقروء
(مسألة) (وان طلقها طلاقا بائنا ثم نكحها في عدتها ثم طلقها قبل دخوله بها فعلى روايتين) (إحداهما) تستأنف، وهو قول أبي حنيفة لأنه طلاق لا يخلو من عدة فأوجب عدة مستأنفة
كالأول (والثانية) لا يلزمها استئناف عدة، اختارها شيخنا، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأنه طلاق
في نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة لعموم قوله سبحانه (ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم)
143

عليهن من عدة تعتدونها)، وذكر القاضي في كتاب الروايتين أنه لا يلزمها استئناف العدة رواية واحدة لكن
يلزمها اتمام بقية العدة الأولى لأن اسقاطها يفضي إلى اختلاط المياه لأنه تتزوج امرأة ويطؤها ويخلعها ثم
يتزوجها ويطلقها في الحال ويتزوجها الثاني في يوم واحد
(فصل) وان خلعها حاملا ثم طلقها وهي حامل انقضت عدتها بوضع الحمل على كلتا الروايتين ولا
نعلم فيه مخالفا ولا تنقضي عدتها قبل وضع حملها بغير خلاف نعلمه، وان وضعت حملها قبل النكاح الثاني فلا
عدة عليها للطلاق من النكاح الثاني بغير خلاف أيضا لأنه نكحها بعد قضاء عدة الأول، وان وضعته بعد النكاح
الثاني وقبل طلاقه فمن قال يلزمها استئناف عدة أوجب عليها الاعتداد بعد طلاق الثاني بثلاثة قروء
ومن قال لا يلزمها استئناف عدة لم يوجب عليها ههنا عدة لأن العدة الأولى انقضت بوضع الحمل إذ
لا يجوز أن تعتد الحامل بغير وضعه وان كانت من ذوات القروء أو الشهور فنكحها الثاني بعد مضي قرء
أو شهر ثم مضي قرآن أو شهران قبل طلاقه من النكاح الثاني فقد انقطعت العدة بالنكاح الثاني وان
قلنا تستأنف العدة فعليها عدة تامة بثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر وان قلنا تبنى أتمت العدة الأولى بقرأين أو شهرين
(فصل) فإن طلقها طلاقا رجعيا فنكحت في عدتها من وطئها فقد ذكرنا أنها تبني على عدة
الأول ثم تستأنف عدة الثاني ولزوجها الأول رجعتها في بقية عدتها منه، لأن الرجعة إمساك للزوجة
وطريان الوطئ من أجنبي على النكاح لا يمنع الزوج إمساك زوجته كما لو كانت في صلب النكاح، وقيل
144

ليس له رجعتها لأنها محرمة عليه فلم يصح له ارتجاعها كالمرتدة. والصحيح الأول فإن التحريم لا يمنع
الرجعة كالاحرام، ويفارق الردة لأنها جارية إلى بينونة بعد الرجعة بخلاف العدة، وإذا انقضت عدتها
منه فليس له رجعتها في عدة الثاني لأنها ليست منه وإذا ارتجعها في عدتها من نفسه وكانت بالقروء أو
بالأشهر انقطعت عدته بالرجعة وابتدأت عدة من الثاني ولا يحل له وطؤها حتى تنقضي عدة الثاني كما لو
وطئت بشبهة في صلب نكاحه، وإن كانت معتدة بالحمل لم يكن شروعها في عدة الثاني قبل وضع الحمل لأنها
بالقروء فإذا وضعت حملها شرعت في عدة الثاني وتتقدم عدة الثاني عن الأول فإذا أكملتها شرعت في إتمام
عدة الأول، وله حينئذ أن يرتجعها لأنها في عدته، وإن أحب أن يرتجعها فحال حملها ففيه وجهان:
(أحدهما) ليس له ذلك لأنها ليست في عدته وهي محرمة عليه فأشبهت الأجنبية أو المرتدة.
(الثاني) له رجعتها لأن عدتها منه لم تنقض وتحريمها لا يمنع رجعتها كالمحرمة.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ويجب الاحداد على المعتدة من الوفاة وهل يجب على البائن؟
على روايتين، ولا يجب على الرجعية والموطوءة بشبهة أو زنا أو في نكاح فاسد أو يملك اليمين)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في وجوب الاحداد على المتوفي عنها زوجها إلا عن الحسن فإنه قال
لا يجب الاحداد هو قول شذ به عن أهل العلم وخالف فيه السنة فلا يعرج عليه.
145

(مسألة) (ويستوي في وجوبه الحرة والأمة والمسلمة والذمية والكبيرة والصغيرة وقال
أصحاب الرأي لا إحداد على ذمية ولا صغيرة لأنهما غير مكلفين)
ولنا عموم الأحاديث التي نذكرها إن شاء الله ولان غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات
كالخمر والزنا وأنما يفترقان في الاثم فكذلك الاحداد ولان حقوق الذمية في النكاح كحقوق
المسلمة فكذلك فيما عليها.
(مسألة) (وهل يجب على البائن؟ على روايتين)
(إحداهما) يجب عليها وهو قول سعيد بن المسيب وأبي عبيد وأبى ثور وأصحاب الرأي.
(والثانية) لا يجب عليها وهو قول عطاء وربيعة ومالك وابن المنذر ونحوه قال الشافعي لأن النبي صلى الله
عليه وسلم
قال " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر
وعشرا " وهذه عدة الوفاة فيدل على أن الاحداد أنما يجب في عدة الوفاة، ولأنها معتدة من غير وفاة
فلم يجب عليها الاحداد كالرجعية والموطوءة بشبهة، ولان الاحداد في عدة الوفاة لاظهار الأسف على
فراق زوجها وموته فاما الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معني لتكلفها الحزن عليه
ولان المتوفي عنها لو أتت بولد لحق الزوج وليس له من ينفيه فاحتيط عليها بالاحداد لئلا يلحق بالميت
من ليس منه بخلاف المطلقة فإن زوجها باق فهو يحتاط عليها بنفسه وينفي ولدها إذا كان من غيره، ووجه
146

الرواية الأولى أنها معتدة بائن من نكاح فلزمها الاحداد كالمتوفى عنها زوجها وذلك لأن العدة تحرم
النكاح فحرمت دواعيه بخلاف الرجعية فإنها زوجة والموطوءة بشبهة ليست معتدة من نكاح فلم تكمل
الحرمة فأما الحديث فإنما مدلوله تحريم الاحداد على ميت غير الزوج ونحن نقول به، ولهذا جاز
الاحداد ههنا بالاجماع، فإذا قلنا يلزمها الاحداد فحكمها حكم المتوفي عنها زوجها من توقي الطيب والزينة
في نفسها على ما نذكره إن شاء الله
وذكر شيخنا في كتاب الكافي أن المختلعة كالبائن فيما ذكرنا من الخلاف والصحيح أنه لا يجب
عليها لأنها يحل لزوجها الذي خالعها أن يتزوجها في عدة بخلاف البائن بالثلاث
(مسألة) (ولا إحداد على الرجعية بغير خلاف نعلمه)
لأنها في حكم الزوجات لها أن تتزين لزوجها وتستشرف له ليرغب فيها وتنفق عنده كما تفعل في
صلب النكاح ولا إحداد على المنكوحة نكاحها فاسدا لأنها ليست زوجة على الحقيقة ولا لها من كانت
تحل له وتحزن على فقده كذلك الموطوءة بشبهة والمزني بها، ولا إحداد على غير الزوجات كأم الولد
إذا مات سيدها والأمة التي يطؤها سيدها إذا مات عنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا "
(مسألة) (والاحداد اجتناب الطيب والزينة والتحسين كلبس الحلي والملون من الثياب للتحسين)
147

وجملة ذلك أن الحادة يجب عليها اجتناب ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها ويحسنها وذلك
أربعة أمور (أحدهما) الطيب ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الاحداد لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" ولا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها نبذة من قسط أو أظفار " متفق عليه
وردت زينب بنت أم سلمة قالت دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان
فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضها وقالت والله ما لي
بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر
ان تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " متفق عليه ولان الطيب يحرك
الشهوة ويدعو إلى المباشرة، ولا يحل لها استعمال الادهان المطيبة كدهن الورد والبنفسج والياسمين والبان
وما أشبهه لأنه استعمال للطيب، فاما الادهان بغير المطيب كالزيت والشيرج والسمن فلا بأس به لأنه ليس
بطيب (الثاني) اجتناب الزينة وذلك واجب في قول عامة أهل العلم منهم ابن عمرو ابن عباس وعطاء وجماعة
أهل العلم يكرهون ذلك وينهون عنه وهو ثلاثة أقسام (أحدها) الزينة في نفسها فيحرم عليها ان تختضب
وان تحمر وجهها بالكلكون وان تبيضه باسفيداج العرائس وان تجعل عليه صبرا يصفره وان تنفش
وجهها وبدنها وان تخفف وجهها وما أشبهه مما يحسنها وان تكتحل بالإثمد من غير ضرورة لما روت أم سلمة
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " المتوفي عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلى ولا تختضب
148

ولا تكتحل " رواه النسائي وأبو داود وروت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تحد المرأة
فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب
ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قسط أو أظفار "
متفق عليه وعن أم سلمة قالت جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان ابنتي توفي عنها
زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا " مرتين أو ثلاثا متفق عليه وروت
أم سلمة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا فقال " ماذا
يا أم سلمة " قلت إنما هو صبر ليس فيه طيب قال " انه يشب الوجه لا تجعلنه إلا بالليل وتنزعينه بالنهار
ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب " قالت قلت بأي شئ امتشط؟ قال " بالسدر وتغلفين به
رأسك " ولان الكحل من أبلغ الزينة والزينة تدعو إليها وتحرك الشهوة فهي كالطيب وأبلغ منه، وحكي
عن بعض الشافعية ان للسوداء ان تكتحل وهو مخالف للخبر والمعنى فإنه يزنيها ويحسنها. فإن اضطرت
الحادة إلى الكحل بالإثمد للتداوي به فلها ان تتكحل ليلا وتمسحه نهارا، ورخص فيه عند الضرورة
عطاء والنخعي ومالك وأصحاب الرأي لما روت أم حكيم بنت أسد عن أمها أن زوجها توفي وكانت
تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء فقالت لا تكتحل
ألا ما لابد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار. رواه أبو داود والنسائي وإنما تمنع
149

من الكحل بالإثمد لأنه الذي يحصل به الزينة، فاما الكحل بالتوتيا والغزروت ونحوهما فلا بأس به لأنه
لا زينة فيه بل يفتح العين ويزيدها مرها ولا تمنع من جعل الصبر على وجهها من بدنها لأنه إنما منع
منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " انه يشب الوجه " ولا تمنع من التنظيف
بتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به
لحديث أم سلمة ولأنه يراد للتنظيف لا للطيب (القسم الثاني) زينة الثياب فتحرم عليها الثياب المصبغة
للتحسين كالمعصفر والمزعفر وسائر الأحمر وسائر الملون للتحسين كالأزرق الصافي والأخضر الصافي والأصفر
فلا يجوز لبسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تلبس ثوبا مصبوغا " وقوله لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق
فاما ما لا يقصد بصيغة حسنة كالكحلي والأسود والأخضر المشبع فلا يمنع منه لأنه ليس بزينة، وما صبغ
غزله ثم نسج ففيه احتمالان (أحدهما) يحرم لبسه لأنه أحسن وأرفع ولأنه مصبوغ للحسن فأشبه
ما صبغ بعد نسجه (والثاني) لا يحرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة " إلا ثوب عصب قال
القاضي هو ما صبغ غزله قبل نسجه ولأنه لم يصبغ وهو ثوب فأشبه ما كان حسنا من الثياب غير مصبوغ
والأول أصح، واما العصب فالصحيح انه نبت تصبغ به الثياب قال صاحب الروض: الورس والعصب
بنتان باليمن لا ينبتان إلا به فأرخص النبي صلى الله عليه وسلم للحادة في لبس ما صبغ بالعصب لأنه في معنى ما صبغ
لغير التحسين اما ما صبغ غزله للتحسين كالأحمر والأصفر فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه
كحصولها بما صبغ بعد نسجه
150

(القسم الثالث) الحلي فيحرم عليها لبس الحلي كله حتى الخاتم في قوله عامة أهل العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" ولا الحلي " وقال عطاء يباح حلي الفضة دون الذهب ولا يصح لعموم النهي ولان الحلى يزيدها حسنا
ويدعو إلى مباشرتها قال الشاعر
وما الحلي إلا زينة لنقيصة * * تتم من حسن إذا الحسن قصرا
(مسألة) (ولا يحرم عليها الأبيض من الثياب وإن كان حسنا)
سواء كان من قطن أو كتان أو صوف أو إبريسم لأن حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغييره كما أن
المرأة إذا كانت حسنة الخلقة لا يلزمها ان تغير لونها وتشوه نفسها ولا الملون لدفع الوسخ كالكحلي
والأسود والأخضر المشبع لأنه لا يراد للزينة أشبه الأبيض، قال الخرقي وتجتنب النقاب وما في في معناه
مثل البرقع ونحوه لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة والمحرمة تمنع من ذلك فإن احتاجت إلى ستر وجهها سدلت
عليه كما تفعل المحرمة، ويحتمل ان لا تمنع من ذلك لأنه ليس بمنصوص عليه ولا هو في معني المنصوص وإنما
منعت منه المحرمة لأنها ممنوعة من تغطية وجهها بخلاف الحادة ولان المحرمة يحرم عليها لبس القفازين
بخلاف الحادة، ويجوز لها لبس الثياب المزعفرة وغيرها من الثياب المصبوغة والحلي، والحادة يحرم عليها
ذلك فلا يصح القياس ولان المبتوتة لا يحرم عليها النقاب فإن وجب عليها الاحداد فكذلك المتوفي عنها زوجها
(فصل) وتجب عدة الوفاة في المنزل الذي وجبت فيه روي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر
151

وابن مسعود وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق قال
ابن عبد البر وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر، وقال جابر بن زيد والحسن
وعطاء تعتد حيث شاءت روي ذلك عن علي وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم قال ابن عباس
نسخت هذه الآية عدتها أهله وسكتت في وصيتها وان شاءت خرجت لقول الله تعالى (فإن خرجن
فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف) قال عطاء ثم جاء الميراث فنسخ السكنى تعتد حيث
شاءت رواهما أبو داود
ولنا ما روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد انها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته
ان زوجها خرج في طلب أعبد له ابقوا فقتلوه بطرف القدوم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أرجع إلى
أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " قالت فخرجت
حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدنيت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف
قلت " فرددت عليه القصة فقال " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " فاعتدت فيه أربعة أشهر
وعشرا فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلى فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضي به رواه مالك في موطئه
والأثرم وهو حديث صحيح قضي به عثمان في جماعة الصحابة فلم ينكروه إذا ثبت هذا فإنه يجب
الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به سواء كان لزوجها أو بإجارة أو عارية لأن النبي
152

صلى الله عليه وسلم قال لفريعة " امكثي في بيتك " ولم تكن في بيت يملكه زوجها وفي بعض ألفاظه " اعتدي في
البيت الذي اتاك فيه نعي زوجك " وفي لفظ " اعتدي حيث أتاك الخبر " فإن اتاها الخبر في غير مسكنها
رجعت إلى مسكنها أو اعتدت فيه وقال سعيد بن المسيب والنخعي لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي
زوجها اتباعا للفظ الخبر الذي رويناه
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " امكثي في بيتك " واللفظ الآخر قضية في عين والمراد به هذا
فإن قضايا الأعيان لا عموم لها ثم لا يمكن حمله على العموم فإنه لا يلزمها الاعتداد في السوق والطريق
والبرية إذا أتاها الخبر وهي فيها
(مسألة) (إلا أن تدعو ضرورة إلى خروجها منه بان يحولها مالكه أو تخشى على نفسها)
وجملة ذلك أنها إذا خافت هدما أو غرما أو عدوا أو نحو ذلك أو حولها صاحب المنزل لكونه عارية
153

رجع فيها أو بإجارة انقضت مدتها أو منعها السكنى تعديا أو امتنع من اجارته أو طلب به أكثر من اجر
المثل أو لم تجد ما تكتري به أو لم تجد إلا من مالها فلها ان تنتقل لأنها حال عذر ولا يلزمها بذل أجرة
المسكن وإنما الواجب عليها السكنى لا تحصيل المسكن وإذا تعذرت السكنى سقطت وتسكن حيث شاءت
ذكره القاضي وذكر أبو الخطاب أنها تنتقل إلى أقرب ما يمكنها النقلة إليه وهو مذهب الشافعي لأنه
قرب إلى موضع الوجوب أشبه من وجبت عليه الزكاة في موضع لا يجد فيه أهل السهمان فإنه ينقلها
إلى موضع يجدهم فيه
ولنا أن الواجب سقط لعذر ولم يرد الشرع له ببدل فلا يجب كما لو سقط الحج للعجز عنه وفوات
شرط والمعتكف إذا لم يقدر على الاعتكاف في المسجد ولان ذكروه اثبات حكم بلا نص ولا معنى
نص فإن معنى الاعتداد في بيتها لا يوجد في السكنى فيما قرب منه ويفارق أهل السهمان فإن القصد نفع
الأقرب وفي نقلها إلى أقرب موضع يجده نفع الأقرب
154

(فصل) ولا سكنى للمتوفي عنها إذا كانت حائلا رواية واحدة وان كانت حاملا فعلى روايتين،
وللشافعي فيها قولان (أحدهما) لها السكنى لقوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية
لأزواجهم متاعا إلى الحول غير اخراج) فنسخ بعض المدة وبقي باقيها على الوجوب ولان النبي صلى الله عليه وسلم
أمر فريعة بالسكنى في بيتها من غير استئذان الورثة ولو لم تجب السكنى لم يكن لها أن تسكن الا باذنهم
كما أنها ليس لها أن تتصرف في مال زوجها بغير اذنهم
ولنا أن الله تعالى إنما جعل للزوجة ثمن التركة أو ربعها وجعل باقيها لسائر الورثة والمسكن من
التركة فوجب أن لا تستحق منه أكثر من ذلك، وأما إذا كانت حاملا وقلنا لها السكنى فلأنها حامل من
زوجها فوجبت لها السكنى قياسا على المطلقة فأما الآية التي احتجوا بها فإنها منسوخة، وأما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم فريعة بالسكنى فقضية في عين يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن الوارث يأذن في ذلك أو تكون
السكنى واجبة عليها ويتقيد ذلك بالامكان واذن الوارث من جملة ما يحصل به الامكان فإذا قلنا لها
155

السكنى فهي أحق بسكنى المسكن الذي كانت تسكنه من الورثة والغرماء من رأس مال المتوفي ولا
يباع في دينه بيعا يمنعها السكنى حتى تقضي العدة وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء
وان تعذر ذلك المسكن فعلى الوارث أن يكتري لها مسكنا من مال الميت فإن لم يفعل أجبره الحاكم
وليس لها أن تنتقل الا لعذر كما ذكرنا، وان اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه لم يجز لأن
السكنى ههنا يتعلق لها حق الله سبحانه وتعالى فلم يجز اتفاقهما على ابطالها بخلاف سكنى النكاح فإنه حق
لهما ولان السكنى ههنا من الاحداد فلم يجز الانفاق على تركها كسائر خصال الاحداد وليس لهم اخراجها
الا ان تأتي بفاحشة مبينة لقول الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة
مبينة) وهو أن يطول لسانها على أحمائها وتؤذيهم بالسب ونحوه روي ذلك عن ابن عباس وهو قول
الأكثرين وقال ابن مسعود والحسن هي الزنا لقول الله تعالى (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم
فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) واخراجهن هو لإقامة حد الزنا ثم ترد إلى مكانها
156

ولنا أن الآية تقتضي الاخراج من المسكن وهذا لا يتحقق فيما قالاه، وأما الفاحشة فهي اسم
للزنا وغيره من الأقوال الفاحشة يقال أفحش الرجال في قوله ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالت له
عائشة يا رسول الله قلت لفلان بئس أخو العشيرة - ثم ألنت له القول لما دخل قال - يا عائشة ان الله لا
يحب الفحش ولا التفحش " إذا ثبت هذا فإن الورثة يخرجونها عن ذلك المسكن إلى مسكن آخر من
الدار ان كانت كبيرة تجمعهم فإن كانت لا تجمعهم أو لم يكمن نقلها إلى غيرها في الدار أو لم يتخلصوا من
أذاها بذلك فلهم نقلها وقال بعض أصحابنا ينتقلون هم عنها لأن سكناها واجب في المكان وليس
بواجب عليهم والنص يدل على أنها تخرج فلا يعرج على ما خالفه ولان الفاحشة منها فكان الاخراج
لها، وإن كان أحماؤها هم الذين يؤذونها ويفحشون عليها نقلوهم دونها فإنها لم تأت بفاحشة فلا تخرج
بمقتضى النص ولان الذنب لهم فيخصون بالاخراج، وإن كان المسكن لغير الميت فيتبرع صاحبه باسكانها
فيه لزمها الاعتداد به، وان أبى أن يسكنها الا بالأجرة وجب بذلها من مال الميت الا أن يتبرع انسان
157

ببدلها ويلزمها الاعتداد به فإن حولها مالك المكان أو طلب أكثر من أجر المثل فعلى الورثة اسكانها
إن كان للميت تركة يستأجر لها به مسكن لأنه حق لها يقدم على الميراث فإن اختارت النقلة عن المسكن
الذي ينقلونها إليه فلها ذلك لأن سكناها به حق لها وليس بواجب عليها فإن المسكن الذي كان تجب
عليها السكنى به هو الذي تسكنه حين موت زوجها وقد سقطت عنها السكنى به وسواء كان المسكن
الذي كانت به لأبويها أو لأحدهم أو لغيرهم، وان كانت تسكن في دار لها فاختارت الإقامة فيها والسكنى
بها متبرعة أو بأجرة تأخذها من التركة جاز وعلى الورثة بذل الأجرة إذا طلبتها وان طلبت أن تسكنها
غيرها وتنتقل عنها فلها ذلك لأنه ليس عليها أن تؤجر دارها ولا تعيرها وعليهم اسكانها
(فصل) فأما إذا قلنا ليس لها السكنى فتطوع الورثة باسكانها في مسكن زوجها أو السلطان أو أجنبي
لزمها الاعتداد به وان منعت السكنى أو طلبوا منها الأجرة فلها أن تنتقل عنه إلى غيره كما ذكرنا فيما
إذا أخرجها المؤجر عند انقضاء الإجارة وسواء قدرت على الأجرة أو عجرت لأنه إنما تلزمها السكنى
158

لا تحصيل المسكن، وان كانت في مسكن لزوجها فأخرجها الورثة منه وبذلوا لها مسكنا آخر لم تلزمها
السكنى به ولذلك ان أخرجت من المسكن الذي هي به أو خرجت لأي عارض كان لم تلزمها السكنى
في موضع معين سواه سواء بذله الورثة أو غيرهم لأنها إنما يلزمها الاعتداد في بيتها الذي كانت فيه لا
في غيره، وكذلك إذا قلنا لها السكنى فتعذر سكناها في مسكنها وبذل لها سواه وان طلبت مسكنا بأجرة
أو بغيرها لزم الورثة تحصيله ان خلف الميت تركة تفي بذلك وتقدم على الميراث لأنه حق على الميت
فأشبه الدين، فإن كان على الميت دين يسترق تركته ضربت بأجرة المسكن لأن حقها مساو لحقوق
الغرماء وتستأجر بما يخصها موضعها تسكنه، وكذلك الحكم في المطلقة إذا حجر على الزوج قبل أن
يطلقها ثم طلقها فإنها تضرب بأجرة المسكن كمدة العدة مع الغرماء إذا كانت حاملا فإن قيل فهل لا
قدمتم حق الغرماء لأنه أسبق؟ قلنا لأن حقها ثبت عليه بغير اختياره فشاركت الغرماء فيه كما لو أتلف
المفلس مالا لانسان أو جنى عليه، وإن مات وهي في مسكنه لم يجز اخراجها منه لأن حقها تعلق
159

بين المسكن قبل تعلق حقوق الغرماء بعينه فكان حقها مقدما كحق المرتهن، وإن طلب الغرماء بيع
هذا المسكن وتترك السكنى لها مدة العدة لم يجز لأنها إنما تستحق السكنى إذا كانت حاملا ومدة الحمل
مجهولة فتصير كما لو باعها واستثنى نفعها مدة مجهولة، وإن أراد الورثة قسمة مسكنها على وجه يضر بها
في السكنى لم يكن لهم ذلك، وإن أرادوا التعليم بخطوط من غير نقض ولا بناء جاز لأنه لا ضرر عليها فيه
(فصل) إذا قلنا إنها تضرب مع الغرماء بقدر مدة عدتها فإنها تضرب بمدة عادتها في وضع الحمل ان
كانت حاملا وإن كانت مطلقة من ذوات القرء وقلنا لها السكنى ضربت بمدة عادتها في القرء فإن لم تكن
لها عادة ضربت بغالب عادات النساء وهي تسعة أشهر للحمل وثلاثة أشهر لكل قرء شهر أو بما بقي من
ذلك إن كان قد مضى من مدة حملها شئ لأنه لا يمكن تأخير القسمة لحق الغرماء فإذا ضربت بذلك
فوافق الصواب لم يزد ولم ينقص استقر الحكم ويستأجر بما يحصل لها مكانا تسكنه فإذا تعذر ذلك
سكنت حيث شاءت، وإن كانت المدة أقل مما ضربت مثل ان وضعت حملها لستة أشهر أو تربصت
160

ثلاثة قروء في شهرين فعليها رد الفضل وتضرب فيه بحصتها منه، وإن طالت العدة أكثر من ذلك
مثل أن وضعت حملها في عام أو رأت ثلاثة قروء في نصف عام رجعت بذلك على الغرماء كما يرجعون
عليها في صورة النقص، ويحتمل أن لا ترجع به وتكون في ذمة زوجها لأننا قدرنا ذلك مع تجويز
الزيادة فلم يكن لها الزيادة عليه
(مسألة) (ولا تخرج ليلا وتخرج نهارا لحوائجها سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها)
لما روى جابر قال طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجذ نخلها فلقيها رجل فنهاها فذكرت ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال " أخرجي فجذي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا " رواه النسائي وأبو داود،
وروى مجاهد قال استشهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن يا رسول نستوحش
بالليل أفنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحدثن عند إحداكن
161

حتى إذا أردتن فلتؤب كل واحدة إلى بيتها " وليس لها المبيت في غير بيتها ولا الخروج ليلا الا لضرورة
ولان الليل مظنة الفساد بخلاف النهار فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه، وإن
وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه الا بها كاليمين والحد وكانت ذات خدر بعث إليها الحاكم من يستوفي
الحق منها في منزلها، وإن كانت برزة جاز احضارها لاستيفائه وترجع إلى منزلها إذا فرغت
(فصل) والأمة كالحرة في الاحداد والاعتداد في منزلها إلا أن سكناها في العدة كسكناها في حياة
زوجها للسيد امساكها نهار أو يرسلها ليلا فإن أرسلها ليلا ونهارا اعتدت زمانها كله في المنزل وعلى
الورثة اسكانها كالحرة سواء.
(فصل) والبدوية كالحضرية في الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنه فيه فإن انتقلت
الحلة انتقلت معهم لأنها لا يمكنها المقام وحدها، وان انتقل غير أهلها لزمها المقام مع أهلها، وان انتقل
162

أهلها انتقلت معهم الا أن يبقى من الحلة من لا تخاف على نفسها معهم فتخير بين الإقامة والرجل والرحيل، وان
هرب أهلها فخافت هربت معهم فإن أمنت أقامت لقضاء العدة في منزلها
(فصل) فإن مات صاحب السفينة وامرأته في السفينة ولها مسكن في البر فحكمها حكم المسافرة
في البر على ما نذكره، وإن لم يكن لها مسكن سواها وكان لها فيها بيت يمكنها السكنى فيه بحيث
لا تجتمع مع الرجال وأمكنها المقام فيه بحيث تأمن على نفسها ومعها محرمها لزمها أن تعتد به، وإن
كانت ضيقة وليس معها محرمها أو لا يمكنها الإقامة فيها إلا بحيث تختلط بالرجال ولزمها الانتقال عنها إلى غيرها
(مسألة) (وان أذن لها زوجها في النقلة إلى بلد للسكنى فيه فمات قبل مفارقة البنيان لزمها العود
إلى منزلها، وان مات بعده فلها الخيار بين البلدين)
إذا أذن للمرأة زوجها في النقلة من بلد إلى بلد أو من دار إلى دار أخرى فمات قبل انتقالها من الدار وقبل
خروجها من البلد لزمها الاعتداد في الدار وكذلك ان مات قبل خروجها من الدار لأنها بيتها وسواء مات قبل نقل
163

متاعها من الدار أو بعده لأنها مسكنها ما لم تنتقل عنها وان مات بعد انتقالها إلى الثانية اعتدت فيها لأنها مسكنها وكذلك
ان مات بعد وصولها إلى البلد الآخر على قياس ذلك، وان مات وهي بينهما فهي مخيرة لأنها لا مسكن لها منهما فإن
الأولى خرجت عنها منتقلة فخرجت عن كونها مسكنا لها والثانية لم تسكن بها فهما سواء وكذلك ان مات بعد
خروجها من البلد لما ذكرناه وقيل يلزمها الاعتداد في الثانية لأنها المسكن الذي أذن لها زوجها في السكنى به وهذا
يمكن في الدارين، فأما إذا كانا بلدين لم يلزمها الانتقال إلى البلد الثاني بحال لأنها إنما كانت تنتقل لغرض
زوجها في صحبتها إياه وإقامتها معه فلو ألزمناها ذلك بعد موته لكلفناها السفر الشاق والتغرب عن وطنها
وأهلها والمقام مع غير محرمها والمخاطرة بنفسها مع فوات الغرض وظاهر حال الزوج أنه لم علم أنه يموت
لما نقلها فصارت الحياة مشروطة في النقلة. فأما ان انتقلت إلى الثانية ثم عادت إلى الأولى لنقل متاعها
فمات زوجها وهي بها فعليها الرجوع إلى الثانية لأنها صارت مسكنها بانتقالها وإنما عادت إلى الأول
لحاجة والاعتبار بمسكنها دون موضعها، وان مات وهي في الثانية فقالت أذن لي زوجي في السكنى بهذا
164

المكان وأنكر ذلك الورثة أو قالت إنما أذن لي زوجي في المجئ إليه لا في الإقامة به وأنكر ذلك
لورثة فالقول قولها لأنها أعرف بذلك منهم، وكل موضع قلنا يلزمها السفر عن بلدها فهو مشروط بوجود
محرم يسافر معها والا من على نفسها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر
أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم من أهلها " أو كما قال
(مسألة) (وان سافر بها فمات في الطريق وهي قريبة لزمها العود)
لأنها في حكم الإقامة وان. تباعدت خيرت بين البلدين لأن البلدين تساويا فكانت الخيرة إليها فيما
المصلحة لها فيه لأنها أخبر بمصلحتها.
(فصل) وان أذن لها زوجها في السفر لغير النقلة فخرجت ثم مات زوجها فالحكم في ذلك كالحكم
في سفر الحج على ما نذكره من التفصيل وإذا مضت إلى مقصدها فلها الإقامة حتى تقضي ما خرجت إليه
وتنقضي حاجتها من تجارة أو غيرها فإن كان خروجها لنزهة أو زيادة ولم يكن قدر لها مدة فإنها تقيم إقامة
165

المسافر ثلاثا وإن كان قدر لها مدة فلها إقامتها لأن سفرها بحكم اذنه فكان لها إقامة ما أذن لها فيه
فإذا مضت مدتها أو قضت حاجتها ولم يمكنها الرجوع لخوف أو غيره أتمت العدة في مكانها وان أمكنها
الرجوع لكن لا يمكنها الوصول إلى منزلها حتى تنقضي عدتها لزمها الإقامة في مكانها لأن الاعتداد
وهي مقيمة أولى من الاتيان به في السفر، وان كانت تصل وقد بقي من عدتها شئ لزمها العود
لتأتي بالعدة في مكانها.
(مسألة) (وان أذن لها في الحج فأحرمت به ثم مات فخشيت فوات الحج مضت في سفرها وان
لم تخش وهي في بلدها أو قرية يمكنها العود أقامت لتقضي العدة في منزلها والا مضت في سفرها وان لم
تكن أحرمت به أو أحرمت بعد موته فحكمها حكم من لم تخش الفوات)
وجملة ذلك أن المعتدة ليس لها أن تخرج إلى الحج ولا غيره روي ذلك عن عمر وعثمان وبه قال
166

سعيد بن المسيب ومالك والشافعي والثوري وأصحاب الرأي فإن خرجت فمات زوجها في الطريق رجعت
ان كانت قريبة لأنها في حكم الإقامة، وان تباعدت مضت في سفرها، وقال مالك ترد ما لم تحرم،
والصحيح ما ذكرنا لأنه يضر بها وعليها مشقة ولابد لها من سفر وان رجعت، ويحد القريب بما لا تقصر
إليه الصلاة والبعيد بما تقصر فيه قاله القاضي وهو قول أبي حنيفة الا انه لا يرى القصر الا في مدة ثلاثة
أيام، فعلى قوله متى كان بينها وبين مسكنها دون ثلاثة أيام لزمها الرجوع إليه، وإن كان فوق ذلك لزمها
المضي إلى مقصدها إذا كان بينها وبينه دون ثلاثة أيام، وإن كان بينها وبينه ثلاثة أيام وفي موضعها
الذي هي به مكان يمكنها الإقامة فيه لزمتها والإقامة وإلا مضت إلى مقصدها، وقال الشافعي ان فارقت
البينان فلها الخيار بين الرجوع والتمام لأنها صارت في موضع أذن لها زوجها فيه وهو السفر فأشبه ما لو بعدت
ولنا على وجوب الرجوع على القريبة ما روى سعيد باسناده عن سعيد بن المسيب قال توفى
أزواج نساؤهن حاجات أو معتمرات فردهن عمر من ذي الحليفة حتى يعتددن في بيوتهن ولأنه أمكنها
الاعتداد في منزلها قبل أن تعتد فلزمها كما لو لم تفارق البنيان.
167

وعلى أن البعيدة لا يلزمها الرجوع لأن عليها مشقة وتحتاج إلى سفر طويل في رجوعها أشبهت
من بلغت مقصدها، وان اختارت البعيدة الرجوع فلها ذلك إذا كانت تصل إلى منزلها في عدتها، ومتى
كان عليها في الرجوع خوف أو ضرر فلها المضي في سفرها كالبعيدة ومتى رجعت وقد بقي عليها
شئ من عدتها لزمها أن تأتي به في منزل زوجها بلا خلاف بينهم لأنه أمكنها الاعتداد فيه فهو
كما لو لم تسافر منه
(فصل) ولو كان عليها حجة الاسلام فمات زوجها لزمتها العدة في منزلها، وان فاتها الحج لأن
العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها والحج يمكن الاتيان به بعدها، وان مات زوجها بعد احرامها بحج الفرض
أو بحج أذن لها فيه وكان وقت الحج متسعا لا يخاف فوته ولا فوت الرفقة لزمها الاعتداد في
منزلها لامكان الجمع بين الحقين، وان خشيت فوات الحج لزمها المضي فيه وهو قول الشافعي وقال
أبو حنيفة يلزمها المقام، وإن فاتها لأنها معتدة فلم يجز أن تنشئ سفرا كما لو أحرمت بعد وجوب العدة عليها
168

ولنا أنهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الأسبق منهما كما لو سبقت
العدة ولان الحج آكد لأنه أحد أركان الاسلام والمشقة بتفويته تعظم فوجب تقديمه كما لو مات زوجها
بعد أن بعد سفرها إليه، وإن أحرمت بالحج بعد موت زوجها وخشيت فواته احتمل أن يجوز لها
المضي إليه لما في بقائها على الاحرام من المشقة واحتمل أن تلزمها العدة في منزلها لأنها أسبق ولأنها
فرطت وغلظت على نفسها فإذا قضت العدة وأمكنها السفر إلى الحج لزمها ذلك فإن أدركته والا
تحللت بعمرة وحكمها في القضاء حكم من فاته الحج وإن لم يمكنها السفر فهي كالمحصرة التي يمنعها
زوجها من السفر وحكم الاحرام بالعمرة كذلك إذا خيف فوات الرفقة أو لم يخف
(مسألة) (وأما المبتوتة فلا تجب عليها عدة الوفاة في منزله وتعتد حيث شاءت نص عليه قال
169

أصحابنا لا يتعين الموضع الذي تسكنه المبتوتة في الطلاق سواء قلنا لها السكنى أو لم نقل بل يتخير الزوج
بين اقرارها في موضع طلاقها وبين نقلها إلى مسكن مثلها لحديث فاطمة بنت قيس يذكر في النفقات
إن شاء الله تعالى.
والمستحب اقرارها لقوله سبحانه (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة
مبينة) ولان فيه خروجا من الخلاف فإن الذين يرون لها السكنى يوجبون عليها الاعتداد في منزلها فإن
كان في بيت يملك الزوج سكناه يصلح لمثلها اعتدت فيه فإن ضاق عنهما انتقل عنها لأنه يستحب سكناها في البيت
الذي طلقها فيه وان اتسع الموضع لهما وأمكنهما السكنى في موضع منفرد كالحجرة وعلو الدار وبينهما باب مغلق
جاز وسكن الزوج في الباقي كالحجرة بين المتجاورين وإن لم يكن بينهما باب مغلق لكن لها موضع
تستتر فيه بحيث لا يراها ومعها محرم تتحفظ به جاز وتركه أولى ولا يجوز مع عدم المحرم لأن الخلوة
لأجنبية محرمة وإن امتنع من إسكانها وكانت ممن لها عليه السكنى أجبره الحاكم فإن لم يكن ثم
170

حاكم رجعت على الزوج وإن وجد الحاكم ففي رجوعها روايتان فإن كان الزوج حاضرا ولم يمنعها
المسكن فاكترت لنفسها مسكنا أو سكنت في موضع تملكه لم ترجع لأنها تبرعت بذلك وإن عجز الزوج
عن اسكانها لعسرته أو غيبة أو امتنع منه مع المقدرة سكنت حيث شاءت.
(باب في استبراء الإماء)
ويجب الاستبراء في ثلاثة مواضع:
(أحدهما) إذا ملك أمة لم يحل له وطؤها ولا الاستمتاع بها بمباشرة أو قبلة حتى يستبرئها إلا
المسبية هل له الاستمتاع منها بما دون الفرج؟ على روايتين)
من ملك أمة بسبب من أسباب الملك كالبيع والهبة والإرث وغير ذلك لم يحل له وطؤها حتى
يستبرئها بكرا كانت أو ثيبا صغيرة أو كبيرة ممن تحمل أو ممن لا تحمل هذا قول الحسن وابن سيرين
171

وأكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال ابن عمر لا يجب استبراء البكر وهو
قول داود لأن الغرض بالاستبراء معرفة براءتها من الحمل وهذا معلوم في البكر فلا حاجة إلى الاستبراء
وقال الليث إن ان ممن لا يحمل مثلها لم يجب استبراؤها لذلك وقال عثمان البتي يجب الاستبراء على
البائع دون المشتري لأنه لو زوجها لكان الاستبراء على السيد دون الزوج كذلك ههنا.
ولنا ما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام أو طاس أن توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل
حتى تحيض رواه أحمد في المسند.
وعن رويفع بن ثابت قال انني لا أقول إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول " لا يحل
لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة " رواه أبو داود
وفي لفظ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يقول " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه
زرع غيره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة " رواه
172

الأثرم ولأنه ملك جارية محرمة عليه فلم تحل له قبل استبرائها كالبنت التي تحمل ولأنه سبب وجب
للاستبراء فلم تفترق الحال فيه بين البكر والثيب والتي لا تحمل كالعدة قال أبو عبد الله قد
بلغني أن العذراء تحمل فقال له بعض أهل المجلس نعم قد كان في جيراننا. وذكره بعض أصحاب
الشافعي وما ذكروه يبطل بما إذا اشتراها من امرأة أو صبي أو من تحرم عليه برضاع أو غيره وما ذكره
البتي لا يصح لأن الملك قد يكون بالسبي والإرث والوصية فلو لم يستبرئها المشتري أفضى إلى اختلاط
المياه واشتباه الأنساب والفرق بين البيع والتزويج أن التزويج لا يراد الا للاستمتاع فلا يجوز الا
فيمن تحل له فوجب ان يتقدمه الاستبراء ولهذا لا يصح تزويج معتدة ولا مرتدة ولا مجوسية ولا
وثنية ولا محرمة بالرضاع ولا المصاهرة والبيع يراد لغير ذلك فصح قبل الاستبراء ولهذا صح في هذه
المحرمات ووجب الاستبراء على المشتري لما ذكرناه
(مسألة) (ويحرم الاستمتاع بالقبلة والنظر لشهوة)
173

والاستمتاع بها فيما دون الفرج إذا لم تكن مسبية رواية واحدة وقال الحسن لا يحرم من المستبرأة
الا فرجها وله ان يستمتع منها بما شاء ما لم يمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الوطئ ولأنه تحريم للوطئ مع
ثبوت الملك فاختص بالفرج كالحيض.
ولنا انه استبراء يحرم الوطئ فحرم الاستمتاع كالعدة ولأنه لا يأمن كونها حاملا من بائعها فتكون
أم ولد فلا يصح بيعها فيكون مستمتعا بأم ولد غيره وبهذا فارق الحائض فاما المسبية ففيها روايتان (إحداهما)
تحريم مباشرتها وهو ظاهر كلام الخرقي وهو الظاهر عن أحمد إذا كان لشهوة قياسا على العدة ولأنه
داعية إلى الوطئ المحرم المفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب فأشبهت المبيعة والرواية الثانية لا يحرم
لما روي عن ابن عمر أنه قال وقع في سهمي يوم جلولاء جارية كان عنقها إبريق فضة فما ملكت نفسي
ان قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون ولأنه لا نص في المسبية ولا يصح قياسها على المبيعة لأنها تحتمل أن تكون
أم ولد للبائع فيكون مستمتعا بأم ولد غيره ومباشر لمملوكة غيره والمسبية مملوكة له على كل حال
وإنما حرم وطؤها لئلا يسقى ماءه زرع غيره.
(مسألة) (وسواء ملكها من صغير أو كبير أو رجل أو امرأة أو مجبوب أو من رجل قد استبرأها
ثم لم يطأها لقوله عليه الصلاة والسلام " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " ولأنه
يجوز أن تكون حاملا من غير البائع فوجب استبراؤها كالمسبية من امرأة.
174

(مسألة) (وان أعتقها قبل استبرائها لم يحل له نكاحها حتى يستبرئها ولها نكاح غيره ان لم يكن بائعها يطؤها)
إذا اشترى أمة فاعتقها قبل استبرائها لم يجز ان يتزوجها حتى يستبرئها وبه قال الشافعي وقال أصحاب الرأي
له ذلك ويروى ان الرشيد اشترى جارية فتاقت نفسه إلى جماعها قبل استبرائها وأمره أبو يوسف ان
يعتقها ويتزوجها ويطأها قال أبو عبد الله وبلغني ان المهدي اشترى جارية فأعجبته فقيل له أعتقها
وتزوجها قال أبو عبد الله ما أعظم هذا ابطلوا الكتاب والسنة جعل الله على الحرائر العدة من أجل
الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها الا وتعتد من اجل الحمل وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبراء
الأمة بحيضة من أجل الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقها على المكان ثم يتزوجها فيطؤها يطؤها رجل
اليوم ويطؤها الآخر غدا فإن كانت حاملا كيف يصنع؟ هذا نقض الكتاب والسنة قال النبي صلى الله عليه وسلم
" لا توطأ الحامل حتى تضع ولا غير الحامل حتى تحيض " وهذا لا يدري أهي حامل أم لا؟ ما أسمج هذا
قيل له ان قوما يقولون هذا فقال قبح الله هذا وقبح من يقوله وفيما نبه عليه أبو عبد الله من الأدلة
كفاية إذا ثبت هذا فليس له تزويجها لغيره قبل استبرائها إذا لم يعتقها لأنها ممن يجب استبراؤها فلم
يجز ان تتزوج كالمعتدة وسواء في ذلك المستبرأة من رجل يطؤها أو من رجل قد اشتراها ثم لم يطأها
أو ممن لا يمكنه الوطئ كالصبي والمجبوب والمرأة وقال الشافعي إذا اشترها ممن لا يطؤها فله تزويجها
سواء أعتقها أو لم يعتقها وله ان يتزوجها إذا أعتقها لأنها ليست فراشا وقد كان لسيدها تزويجها قبل
175

بيعها فجاز ذلك بعد بيعها ولأنها لو عتقت على البائع باعتاقه أو غيره لجاز لكل أحد نكاحها
فكذلك إذا أعتقها المشتري.
ولنا عموم قوله عليه السلام " لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة ولأنها أمة يحرم عليه وطؤها قبل استبرائها
فحرم عليه تزويجها والتزوج بها كما لو كان بائعها يطؤها فأما ان أعتقها في هذه الصورة فله تزويجها لغيره
لأنها حرة لم تكن فراشا فأبيح لها النكاح كما لو أعتقها البائع وفارق الموطوءة فإنها فراش يجب عليها استبراء
نفسها فحرم عليها النكاح كالمعتدة وفارق ما إذا أراد سيدها نكاحها فإنه لم يكن له وطؤها بملك اليمين فلم
يكن له ان يتزوجها كالمعتدة ولان هذا يتخذ حيلة على ابطال الاستبراء فحرم بخلاف تزويجها لغيره
(مسألة) (والصغيرة لا يوطأ مثلها هل يجب استبراؤها؟ على وجهين)
(أحدهما) يجب وهو ظاهر كلام احمد في أكثر الروايات عنه فإنه قال تستبرأ وان كانت في المهد
وتحرم مباشرتها على هذه الرواية كالكبيرة لأن الاستبراء يجب عليها بالعدة كذلك هذا
وروي عنه أنه قال إن كانت صغيرة تأتى شيئا يسيرا إذا كانت رضيعة وقال في رواية أخرى تستبرأ
بحيضة ان كانت تحيض وإلا ثلاثة أشهر ان كانت ممن يوطأ ويحبل فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها
ولا تحرم مباشرتها وهذا اختيار ابن أبي موسى وقول مالك وهو الصحيح لأن سبب الإباحة متحقق
وليس على تحريمها دليل فإنه لا نص فيه ولا معنى نص ولا يراد لبراءة الرحم ولا يوجد الشغل في حقها
176

(مسألة) (وان اشترى زوجته لم يلزمه استبراؤها لأنها فراش له)
فلم يلزمه استبراؤها من مائه لكن يستحب ذلك ليعلم هل الولد من النكاح ليكون عليه ولاء له لأنه
عتق بملكه ولا تصير به الجارية أم ولد أو هو حادث في ملك يمينه فلا يكون عليه ولاء تصير به الأمة أم ولد
ومتى تبين حملها فله وطؤها لأنه قد تبين الحمل وزال الاشتباه
(مسألة) (أو عجزت مكاتبته حلت لسيدها بغير استبراء)
وبهذا قال أبو حنيفة وكذلك ان ارتدت أمته ثم أسلمت أو زوج الرجل أمته فطلقها الزوج لم يلزم
السيد استبراؤها وقال الشافعي يجب عليه الاستبراء في هذا كله لأنه زال ملكه عن استمتاعها ثم عاد
فأشبهت المشتراه.
ولنا انه لم يتجدد ملكه عليها فأشبهت المحرمة إذا حلت وان فك أمته من الرهن حلت بغير استبراء
بغير خلاف فكذلك هذا ولان الاستبراء إنما شرع لمعنى مظنته تجديد الملك فلا يشرع مع تخلف المظنة والمعنى
(مسألة) (أو أسلمت أمته المجوسية أو المرتدة أو الوثنية التي حاضت عنده أو كان هو المرتد
فاسلم فهي حلال بغير استبراء)
إذا ملك مجوسية أو وثنية فأسلمت قبل استبرائها لم تحل حتى يستبرئها أو يتم ما بقي من استبرائها لما
مضى فإن استبرأها ثم أسلمت بغير استبراء وقال الشافعي لا تحل حتى يجدد استبراءها بعد اسلامها
لأن ملكه تجدد على استمتاعها فأشبه من تجدد ملكه على رقبتها.
177

ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة " وهذا ورد في سبايا أو طاس وهن
مشركات ولم يأمر في حقهن بأكثر من حيضة ولأنه لم يتجدد ملكه عليها ولا أصابها وطئ من غيره
فلم يلزمه استبراؤها كما لو حلت المحرمة، ولان الاستبراء إنما وجب كيلا يفضى إلى اختلاط المياه واشتباه
الأنساب ومظنة ذلك تجديد الملك على رقبتها ولم يوجد.
(مسألة) (أو اشترى مكاتبه ذوات رحمه فحضن عنده ثم عجز أو اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها
ثم أخذها سيده منه فإنها تحمل بغير استبراء لأن ملكه ثابت على ما في يد عبده فقد حصل استبراؤها في ملكه)
وأما إذا اشترى مكاتبه أمة فاستبرأها ثم صارت إلى سيده ولم تكن من ذوات رحم المكاتب فعلى
السيد استبراؤها لأن ملكه تجدد عليها إذ ليس للسيد ملك ما في يد مكاتبه فإن كانت من ذوات محارمه
فإنها تباح للسيد بغير استبراء كذلك ذكره أصحابنا لأنه يصير حكمها حكم المكاتب ان رق رقت وان
عتق عتقت والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
(فصل) فإن وطئ الجارية التي يلزمه استبراؤها قبل استبرائها اثم والاستبراء باق بحاله لأنه حق
عليه فلا يسقط بعدوانه فإن لم تعلق منه استبرأها بما كان يستبرئها به قبل الوطئ وتبني على ما مضى
من الاستبراء وان علقت منه فمتى وضعت حملها استبرأها بحيضة ولا يحل له الاستمتاع بها في حال حملها
178

لأنه لم يستبرئها، وان وطئها وهي حامل حملا كان موجودا حين البيع من غير البائع فمتى وضعت حملها
انقضى استبراؤها قال احمد ولا يلحق بالمشتري ولا يبيعه ولكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد
في الولد وقد روى أبو داود باسناده عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بامرأة مجح على فسطاط
فقال " لعله يريد ان يلم بها؟ - قالوا نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لقد هممت ان العنه لعنا يدخل معه
قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له أو كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ " ومعناه انه ان استلحقه وشركه
في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده وان اتخذه مملوكا له لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيد في
الولد وعن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وطئ الحبالى حتى يضعن ما في بطونهم رواه النسائي.
(مسألة) (وان وجد الاستبراء في يد البائع قبل القبض أجزأ ويحتمل ان لا يجزئ)
لا يكون الاستبراء إلا بعد ملك المشتري لجميع الأمة فلو ملك بعضها ثم ملك باقيها لم يحتسب الاستبراء
إلا من حين ملك باقيها فإن ملكها ببيع فيه الخيار انبنى على نقل الملك في مدته فإن قلنا ينتقل فابتداء
الاستبراء من حين البيع وان قلنا لا ينتقل فابتداؤه من حين انقطع الخيار وإن كان البيع معيبا فابتداؤه
من حين البيع لأن العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلاف، فإن ابتدأ الاستبراء بعد البيع وقبل القبض أجزأ
في أظهر الوجهين لأن الملك ينتقل به والثاني لا يجزئ لأن القصد معرفة براءتها من مال البائع ولا
يحصل ذلك مع كونها في يده.
(مسألة) (وان باع أمته ثم عادت إليه بفسخ أو غيره بعد القبض وجب استبراؤها وإن كان قبله فعلى روايتين)
أما إذا عادت إليه بعد القبض وافتراقهما لزمه استبراؤها لأنه تجديد ملك سواء كان المشتري لها
179

رجل أو امرأة وإن كان ذلك قبل افتراقهما أو قبل غيبة المشتري بالجارية فعليه الاستبراء أيضا في إحدى
الروايتين، وهو مذهب الشافعي لأنه تجديد ملك والثانية ليس عليه استبراء وهذا قول أبي حنيفة إذا
تقايلا قبل القبض لأنه لا فائدة في الاستبراء مع يقين البراءة
(مسألة) (وإذا اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج قبل الدخول وجب استبراؤها)
نص عليه أحمد وقال هذه حيلة وضعها أهل الرأي لابد من استبراء لأنها تجدد الملك فيها ولم
يحصل استبراؤها في ملكه فلم تحل بغير استبراء كما لو لم تكن مزوجة ولان اسقاطه ههنا ذريعة إلى
اسقاط الاستبراء في حق من أراد اسقاطه بان يزوجها عند بيعها ثم يطلقها زوجها بعد تمام البيع والحيل حرام
(مسألة) (وإن كان بعده لم يجب في أحد الوجهين)
أما إذا كان الزوج دخل بها ثم طلقها فعليها العدة ولا يلزم المشتري استبراؤها لأن ذلك قد حصل
بالعدة ولأنها لو عتقت لم يجب عليها مع العدة استبراء ولأنها قد استبرأت نفسها ممن كانت فراشا له فأجزأ
ذلك كما لو استبرأت نفسها من سيدها إذا كانت خالية من زوج، وان استبرأها وهي معتدة من زوجها
لم يجب عليه الاستبراء لأنها لم تكن فراشا لسيدها وقد حصل الاستبراء من الزوج بالعدة ولذلك لو عتقت
في هذه الحال لم يجب عليها استبراء وقال أبو الخطاب في المزوجة هل يدخل الاستبراء في العدة؟ على
وجهين وقال القاضي في المعتدة يلزم السيد استبراؤها بعد قضاء العدة ولا يتداخلان لأنهما من رجلين
180

ومفهوم كلام أحمد ما ذكرناه أولا لأنه عدل فيما قبل الدخول بأنها حيلة وضعها أهل الرأي ولا يوجد
ذلك ههنا ولا يصح قولهم ان الاستبراء من رجلين فإن السيد ههنا ليس له استبراء.
(فصل) إذا كانت الأمة لرجلين فوطئاها ثم باعاها لرجل آخر أجزأ استبراء واحد لأنه يحصل به
معرفة البراءة، فإن قيل فلو أعتقاها ألزمتموها استبراءين قلنا وجوب الاستبراء في حق المعتقة معلل بالوطئ
ولذلك لو أعتقها وهي ممن لا يطؤها لم يلزمها استبراء وقد وجد الوطئ من اثنين فلزمها حكم وطئها وفي
مسئلتنا هو معلل بتجديد الملك لا غير ولهذا يجب على المشتري الاستبراء سواء كان سيدها يطؤها أو
لم يكن والملك واحد فوجب ان يتجدد الاستبراء الثاني إذا وطئ أمته ثم أراد تزويجها لم يجزئ حتى
يستبرئها، وان أراد بيعها فعلى روايتين، وان لم يكن بائعها يطؤها لم يجب استبراؤها في الموضعين. أما إذا
أراد تزويجها وكان يطؤها وجب عليه استبراؤها قبل تزويجها وجها واحدا لأن الزوج لا يلزمه
استبراء فيفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وهو قول الثوري والشافعي وقال أصحاب الرأي
ليس عليها استبراء لأن له بيعها فكان له تزويجها كالتي لا يصيبها وتستبرئ بحيضة وقال عطاء وقتادة عدتها
حيضتان كعدة الأمة المطلقة.
ولنا انها فراش لسيدها فلم يجز ان تنتقل إلى فراش غيره بغير استبراء كما لو مات عنها ولأنها
موطؤة وطأ له حق فلزمه استبراؤها قبل التزويج كالموطوء بشبهة، ولأنه يفضي إلى أن يطأها سيدها اليوم
وزوجها غدا فيفضي إلى اختلاط المياه وهذا لا يحل ويفارق البيع فإنها لا تصير للمشتري فراشا حتى
يستبرئها فلا يفضي إلى اختلاط المياه، ولهذا يصح بيع المزوجة والمعتدة بخلاف تزويجها على أن لنا
181

في البيع منعا أيضا أنه لا يجوز، فإن أراد بيعها وكان لا يطؤها أو كانت آيسة فليس عليه استبراؤها
لكن يستحب ذلك ليعلم خلوها من الحمل فيكون أحوط للمشتري وأقطع للنزاع، قال أحمد وان كانت
لامرأة فاني أحب أن لا تبيعها حتى تستبرئها بحيضة فهو أحوط لها وإن كان يطؤها أو كانت آيسة
فليس عليه استبراء لأن انتفاء الحمل معلوم وان كانت ممن يحمل وجب عليه استبراؤها في أصح
الروايتين، وبه قال النخعي والثوري والثانية لا يجب عليه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن
عبد الرحمن بن عوف باع جارية كان يطؤها قبل استبرائها ولان الاستبراء على المشتري فلا يجب
على البائع ولان الاستبراء في حق الحرة آكد ولا يجب قبل النكاح وبعده كذلك لا يجب في الأمة
قبل البيع وبعده.
ولنا أن عمر أنكر على عبد الرحمن بن عوف بيع جارية كان يطؤها قبل استبرائها فروي
عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: باع عبد الرحمن جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها فظهر بها حمل
عند الذي اشتراها فخاصموه إلى عمر فقال له عمر كنت تقع عليها؟ قال نعم قال فبعتها قبل أن تستبرئها؟
قال نعم قال ما كنت لذلك بخليق قال فدعا القالة فنظروا إليه فألحقوه به ولأنه تجب على المشتري
الاستبراء لحفظ مائه فكذلك البائع ولأنه قبل الاستبراء مشكوك في صحة البيع وجوازه لاحتمال أن
تكون أم ولد فيجب الاستبراء لإزالة الاحتمال ولأنه قد يشتريها من لا يستبرئها فيفضي إلى اختلاط المياه
واشتباه الأنساب فإن باع فالبيع صحيح في الظاهر لأن الأصل عدم الحمل ولان عمر وعبد الرحمن لم يحكما
بفساد البيع في الأمة التي باعها قبل استبرائها إلا بلحاق الولد به ولو كان البيع باطلا قبل ذلك لم يحتج
182

إلى ذلك، قال شيخنا وذكر أصحابنا الروايتين في كل أمة يطؤها من غير تفريق بين الآيسة وغيرها
والأولى أن ذلك لا يجب في الآيسة لأن علة الوجوب احتمال الحمل وهو وهم بعيد والأصل عدمه
فلا يثبت به حكم بمجرده.
(فصل) إذا اشترى جارية فظهر بها حمل لم يخل من أحوال خمسة
(أحدهما) أن يكون البائع أقر بوطئها عند البيع أو قبله وأتت بولد لدون ستة أشهر أو يكون
البائع ادعى الولد فصدقه المشتري فإن الولد يكون للبائع والجارية أم ولد له والبيع باطل
(والثاني) أن يكون أحدهما استبرأها ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين وطئها المشتري
فالولد للمشتري والجارية أم ولد له
(الحال الثالث) أن تأتي به لأكثر من ستة أشهر بعد استبراء أحدهما لها ولاقل من ستة أشهر
منذ وطئها المشتري فلا يلحق نسبه بواحد منهما، يكون ملكا للمشتري ولا يملك فسخ البيع لأن
الحمل تجدد في ملكه ظاهرا فإن ادعاه كل واحد منهما فهو للمشتري لأنه ولد في ملكه مع احتمال
كونه منه، وان ادعاه البائع وحده فصدقه المشتري لحقه وكان البيع باطلا وان كذبه فالقول قول المشتري
في ملك الولد لأن الملك انتقل إليه ظاهرا فلا تقبل دعوى البائع فيما يبطل حقه كما لو أقر بعد البيع
أن الجارية مغصوبة أو معتقة وهل يثبت نسب الولد مع البائع؟ فيه وجهان
(أحدهما) يثبت لأنه نفع للولد من غير ضرر على المشترى فيقبل قوله فيه كما لو أقر لولده بمال
(والثاني) لا يقبل لأن فيه ضررا على المشتري فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بماله منه ميراثا وكذلك
لو أقر عبد ان كل واحد منهما باخوة صاحبه لم يقبل إلا ببينة
183

(الحال الرابع) أن تأتي به بعد ستة أشهر منذ وطئها المشتري وقبل استبرائها فنسبه لاحق
بالمشتري فإن ادعاه البائع فأقر له المشتري لحقه وبطل البيع وان كذبه فالقول قول المشتري، وان
ادعى كل واحد منهما أنه من الآخر عرض على القافة فألحق بمن ألحقته به لحديث عبد الرحمن بن عوف
ولأنه يحتمل أن يكون من كل واحد منهما فإن ألحقته بهما لحق بهما وينبغي أن يبطل البيع فتكون
الجارية أم ولد للبائع لأنا نتبين أنها كانت حاملا منه قبل بيعها.
(الحال الخامس) أتت به لأقل من ستة أشهر منذ باعها ولم يكن أقر بوطئها فالبيع صحيح في الظاهر
والولد مملوك للمشتري فإن ادعاه البائع فالحكم فيه كما ذكرنا في الحال الثالث سواء (الموضع الثالث)
إذا أعتق أم ولده أو أمته التي كان يصيبها أو مات عنها لزمها الاستبراء لأنها صارت فراشا له فلم تحل
لغيره قبل استبرائها لئلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب إلا أن تكون مزوجة أو معتدة فلا
يلزمها استبراء وإذا زوج أم ولده ثم مات عتقت ولم يلزمها استبراء لأنها محرمة على المولى وليست له
فراشا وإنما هي فراش للزوج فلم يلزمها الاستبراء ممن ليست له فراشا ولأنه لم يزوجها حتى استبرأها
فإن لا يحل له تزويجها قبل استبرائها، وفيه خلاف ذكرناه، وكذلك ان أعتقها أو مات عن أمة كان
يطؤها أو أعتقها فهي على ما ذكرنا، فإن زوجها فطلقها الزوج قبل دخوله بها فلا عدة عليها أيضا لأنه
لم يوجد في حقها ما يوجب الاستبراء فإن طلقها بعد المسيس أو مات عنها قبل ذلك أو بعده فلها عدة
حرة كاملة ولأنها قد صارت حرة في حال وجوب العدة عليها، وان مات سيدها وهي في عدة الزوج
184

عتقت ولم يلزمها استبراء لما ذكرناه ولأنه زال فراشه عنها قبل موته فلم يلزمها استبراء من أجله كغير
أم الولد إذا باعها ثم مات وتبني على عدة أمة إن كان طلاقها بائنا وكانت متوفى عنها وان كانت
رجعية بنت على عدة حرة على ما ذكرناه، وان بانت من الزوج قبل الدخول بطلاق أو بانت بموت
زوجها أو طلاقه بعد للدخول فأتمت عدتها ثم مات سيدها فعليها الاستبراء لأنها عادت إلى فراشه
وقال أبو بكر لا يلزمها استبراء لا أن يردها السيد إلى نفسه لأن فراشه قد زال بتزويجها ولم يتجدد لها
ما يردها إليه فأشبهت الأمة التي لم يطأها.
(مسألة) (وان مات زوجها وسيدها ولم يعلم السابق منهما وبين موتهما أقل من شهرين وخمسة
أيام لزمها بعد موت الآخر منهما عدة الوفاة حسب وليس عليها استبراء)
لأن السيد إن كان مات أولا فقد مات وهي زوجة وإن كان مات آخرا فقد مات وهي معتدة وليس
عليها استبراء في هاتين الحالتين وعليها أن تعتد بعد موت الآخر منهما عدة حرة لأنه يحتمل أن
سيدها مات أولا ثم مات زوجها وهي حرة فلزمتها عدة الحرائر لتخرج من العدة بيقين وكذلك
على قول أبي بكر لأنه ليس عليها عدة استبراء لأن فراش سيدها قد زال عنها ولم تعد إليه فتلزمها
عدة حرة لما ذكرنا.
(مسألة) (وإن كان بينهما أكثر من ذلك أو جهلت المدة فعليها بعد موت الآخر منهما أطول
185

الأجلين من أربعة أشهر وعشر واستبراء بحيضة)
لأنه يحتمل أن السيد مات أولا فيكون عليها عدة الحرة من الوفية ويحتمل أنه مات آخرا بعد انقضاء
عدتها من الزوج وعودها إلى فراشه فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين قال ابن عبد البر وعلى
هذا جميع القائلين من العلماء بان عدة أم الولد من سيدها حيضة ومن زوجها شهران وخمس ليال
وقول أصحابنا الشافعي في هذا الفصل كقولنا وكذلك قول أبي حنيفة وأصحابه الا أنهم جعلوا مكان
الحيضة ثلاث حيضات بناء على أصلهم في استبراء أم الولد وقال ابن المنذر حكمها حكم الإماء وعليها
شهران وخمسة أيام ولا أنقلها إلى حكم الحرائر الا بإحاطة أن لزوج مات بعد المولى وقيل إن هذا
قول أبي بكر عبد العزيز أيضا والذي ذكرناه أحوط
(فصل) فأما الميراث فإنها لا ترث من زوجها شيئا لأن الأصل الرق والحرية مشكوك فيها فلم
ترث مع الشك والفرق بين العدة والإرث ان إيجاب العدة عليها استظهار لا ضرر فيه على غيرها وإيجاب
الإرث إسقاط لحق غيرها ولان الأصل تحريم النكاح عليها فلا يزول إلا بيقين والأصل عدم الميراث
لها فلا يزول إلا بيقين فإن قيل أليس زوجة المفقود لو مات وقف ميراثه مع الشك في إرثه؟ قلنا الفرق
بينهما أن الأصل ههنا الرق والشك في زواله وحدوث الحال التي يرث فيها والمفقود الأصل حياته
والشك في موته وخروجه عن كونه وارثا فافترقا.
(فصل) فإن أعتق أم ولده أو أمته التي كان يصيبها أو غيرهما ممن تحل له إصابتها ثم أراد أن
يتزوجها فله ذلك في الحال من غير استبراء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها
وقال صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن
186

تعليمها ثم أعتقها وتزوجها، ولم يذكر استبراء ولان الاستبراء لصيانة مائه وحفظ نسبه عن الاختلاط
بماء غيره ولا يصان ماؤه عن مائه ولهذا كان له أن يتزوج مختلفة في عدتها.
وقد روي عن أحمد في الأمة التي لا يطؤها: إذا أعتقها لا يتزوجها بغير استبراء، لأنه لو باعها لم تحل
للمشتري بغير استبراء، والصحيح أنها لا تحل له لأنه يحل له وطؤها بملك اليمين فكذلك بالنكاح كالتي
كان يصيبها ولان النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها ولم يقل إنه كان قد أصابها، والحديث الآخر يدل
على حلها له بظاهره لدخولها في العموم ولأنها تحل لمن يتزوجها سواه فله أولى ولأنه لو استبرأها ثم
أعتقها ثم تزوجها في الحال كان جائزا حسنا فكذلك هذه فإنه تارك لوطئها ولان وجوب الاستبراء
في حق غيره إنما كان لصيانة مائه عن الاختلاط بغيره ولا يوجد ذلك ههنا وكلام أحمد محمول على من
استبرأها ثم تزوجها قبل استبرائها.
(فصل) إذا كانت له أمة يطؤها فاستبرأها ثم أعتقها لم يلزمها استبراء لأنها خرجت عن كونها
فراشا باستبرائها وإن باعها فأعتقها المشتري قبل وطئها لم تحتج إلى استبراء لذلك وان باعها قبل استبرائها
فأعتقها المشتري قبل وطئها واستبرائها فعليها استبراء نفسها فإن مضى بعض الاستبراء في ملك المشتري لزمها
اتمامه بعد عتقها ولا ينقطع بانتقال الملك فيها لأنها لم تصر فراشا للمشتري ولم يلزمها استبراء باعتاقه
(مسألة) (وإن اشترك رجلان في وطئ أمة لزمها استبراءان)
وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين يلزمها استبراء واحد لأن القصد معرفة براءة الرحم
ولذلك لا يجب استبراء بأكثر من حيضة واحدة وبراءة الرحم تعلم باستبراء واحد
ولنا أنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالعدتين ولأنهما استبراءان من رجلين فأشبها
العدتين وما ذكروه يبطل بالعدتين من رجلين
(فصل) قال شيخنا رحمه الله (والاستبراء يحصل بوضع الحمل إن كانت حاملا)
187

ولا خلاف في ذلك بحمد الله لقول الله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وقول
النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع حملها " ولان عدة الحرة والأمة والمتوفي عنها والمطلقة واستبراء
كل أمة إذا كانت حاملا بوضع حملها ولان المقصود من العدة والاستبراء معرفة براءة الرحم من
الوضع وهذا يحصل بوضعه ومتى كانت حاملا بأكثر من واحد فلا ينقضي استبراؤها حتى تضع آخر
حملها على ما ذكرناه في المعتدة
(مسألة) (أو بحيضة إن كانت ممن تحيض)
وقد اختلف أهل العلم في أم الولد مات عنها سيدها ولم تكن حاملا فالمشهور عن أحمد أن
استبراءها يحصل بحيضة روي ذلك عن ابن عمر وعثمان وعائشة والحسن والشعبي والقاسم بن محمد
وأبي قلابة ومالك والشافعي وأبي ثور وروي عن أحمد أنها تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر
وعشرا، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وخلاس بن عمرو وعمر بن
ابن عبد العزيز والزهري والأوزاعي وإسحاق لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال لا تفسدوا علينا
سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا توفي عندها سيدها أربعة أشهر وعشر رواه أبو داود ولأنها حرة
تعتد للوفاة فكانت عدتها أربعة أشهر وعشر كالزوجة الحرة. وحكى أبو الخطاب رواية ثالثة أنها
تعتد شهرين وخمسة أيام.
قال شيخنا ولم أجد هذه الرواية عن أحمد في الجامع ولا أظنها صحيحة عن أحمد وروى ذلك عن
عطاء وطاوس وقتادة لأنها حين الموت أمة فكانت عدتها عدة أمة كما لو مات رجل عن زوجته الأمة فعتقت
بعد موته ويروى عن علي وابن مسعود وعطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي ان عدتها ثلاث
حيض لأنها حرة تستبرئ فكان استبراؤها ثلاث حيض كالحرة المطلقة
ولنا انه استبراء لزوال الملك عن الرقبة فكان حيضة في حق من تحيض كسائر استبراء المعتقات
والمملوكات ولأنه استبراء الغير لزوجات والموطوءات فأشبه ما ذكرنا قال القاسم بن محمد سبحان الله
يقول الله تعالى في كتابه (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) ما هن بأزواج واما حديث عمرو بن
188

العاص فضعيف قال ابن المنذر ضعف احمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص وقال محمد بن موسى
سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص فقال لا يصح وقال الميموني رأيت أبا عبد الله يعجب
من حديث عمرو بن العاص هذا ثم قال أين سنة النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم في هذا؟ وقال أربعة شهر وعشر
إنما هي عدة الحرة من النكاح وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية ويلزم من قال بهذا ان يورثها
وليس لقول من قال تعتد بثلاث حيض وجه وإنما تعتد بذلك المطلقة وليست هذه مطلقة ولا في معنى المطلقة
وأما قياسهم إياها على الزوجات فلا يصح فإنها ليست زوجة ولا في حكم لزوجة ولا مطلقة ولا في حكم المطلقة
(فصل) ولا يكفي في الاستبراء طهر ولا بعض حيضة وهو قول أكثر أهل العلم وقال بعض أصحاب
مالك متي طعنت في الحيضة فقد تم استبراؤها وزعم أنه مذهب مالك وقال الشافعي في أحد قوليه
يكفي طهر واحد إذا كان كاملا وهو ان يموت في حيضها فإذا رأت الدم من الحيضة الثانية وتم
استبراؤها وهكذا الخلاف في الاستبراء كله وبنوا هذا على أن القروء الأطهار وهذا يرده قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " وقال رويفع بن ثابت سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر " من كان يؤمر بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة "
رواه الأثرم وهذا صريح فلا يعول على ما خالفه ولان الواجب الذي يدل على البراءة هو الحيض لأن
الحامل لا تحيض فأما الطهر فلا دلالة فيه على البراءة فلا يجوز ان يعول في الاستبراء على ما لا دلالة فيه
عليه دون ما يدل عليه وبناؤهم قولهم هذا على أن القروء الأطهار وبناء للخلاف على الخلاف وليس ذلك
بحجة ثم لم يمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه فجعلوا الطهر الذي طلقها فيه قرءا ولم يجعلوا الطهر
الذي مات فيه سيد أم الولد قرءا فخالفوا الحديث والمعني فإن قالوا إن بعض الحيضة المقترن بالطهر يدل
على البراءة قلنا فيكون الاعتماد حينئذ على بعض الحيضة وليس ذلك قرءا عند أحد إذا تقرر هذا فمات
عنها وهي طاهر فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة حلت فإن كانت حائضا لم تعتد ببقية ملك الحيضة
ولكن متى طهرت من الحيضة الثانية حلت لأن الاستبراء هذه بحيضة فلا بد من حيضية كاملة
(مسألة) (أو يمضي شهر ان كانت آيسة أو صغيرة وعنه بثلاثة أشهر اختارها الخرقي)
يروى عن أحمد رحمه الله في ذلك ثلاث روايات (أحدهما) ثلاثة أشهر وهو قول الحسن وابن
سيرين والنخعي وأبي قلابة واحد قولي الشافعي وسأل عمر بن العزيز أهل المدينة والقوابل فقالوا
189

لا تستبرئ الحبلى في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه قولهم، والثانية انها تستبرأ بشهر وهو قول
ثان للشافعي لأن الشهر قائم مقام القرء في حق الحرة والأمة المطلقة فكذلك في الاستبراء وذكر
القاضي رواية ثالثة انها تستبرأ بشهرين كعدة الأمة المطلقة قال شيخنا ولم أر لذلك وجها ولو كان
استبراؤها بشهرين لكان استبراء ذات القرء بقرأين ولم نعلم به قائلا وقال سعيد بن المسيب وعطاء
والضحاك والحكم في الأمة التي لا تحيض تستبرأ بشهر ونصف ورواه حنبل عن أحمد أنه قال. قال
عطاء ان كانت لا تحيض فخمس وأربعون ليلة قال عمي كذلك اذهب لأن عدة الأمة المطلقة الآيسة
كذلك والمشهور عن أحمد الأول قال أحمد بن القسم قلت لأبي عبد الله كيف جعلت
ثلاثة أشهر مكان حيضة وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرا؟ فقال إنما قلنا أشهر من أجل
الحمل فإنه لا يبين في أقل من ذلك فإن عمر بن العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل
فأخبروا ان الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك ثم قال الا تسمع قول ابن مسعود ان النطفة
أربعين يوما ثم علقه أربعين يوما ثم مضغة بعد ذلك قال أبو عبد الله فإذا خرجت الثمانون صار بعدها
مضغة وهي لحم فتبين حينئذ وقال لي هذا معروف عند النساء فاما شهر فلا معنى فيه ولا نعلم به قائلا
ووجه استبرائها بشهر ان الله تعالى جعل الشهر مكان الحيضة وكذلك اختلفت الشهور باختلاف
الحيضات فكانت عدة الحرة الآيسة ثلاثة أشهر مكان ثلاثة قروء وعدة الأمة شهرين مكان قرأين
وللأمة المستبرأة التي ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه عشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة
فيجب أن يكون مكان الحيضة ههنا شهرا كما في حق من ارتفع حيضها
فإن قيل فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تسعة أشهر قلنا وههنا ما يدل على البراءة وهو الإياس فاستويا
(مسألة) (ومن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة)
وفي هذه المسألة روايتان: (إحداهما) أنها تستبرأ بعشرة أشهر (والثانية) بسنة، تسعة أشهر للحمل لأنه غالب
عادات النساء في الحمل، وثلاثة أشهر مكان الثلاثة التي تستبرأ بها الآيسات
وقد ذكرنا أن المختار عند احمد في الآيسة استبراؤها بثلاثة أشهر واختار ههنا أن جعل مكان
190

الحيضة شهرا لأن اعتبار تكرارها في الآيسة لنعلم براءتها من الحمل وقد علمت براءتها منه ههنا بمضي
غالب مدته فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس، فأما ان علمت ما رفع حيضها من مرض أو غيره
فإنها لا تزال في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرئ نفسها بحيضة إلا أن تصير آيسة فتستبرئ نفسها
استبراء الآيسات فإن ارتابت بنفسها فهي كالحرة المستبرئة وقد ذكرنا حكمها في العدد والله سبحانه وتعالى أعلم
كتاب الرضاع
الأصل في التحريم بالرضاع الكتاب والسنة والاجماع اما الكتاب فقول الله سبحانه وتعالى
(وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) ذكرهما الله سبحانه في جملة المحرمات
واما السنة فما روت عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " متفق عليه
وفي
لفظ " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " رواه النسائي وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت
حمزة " لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة " متفق عليه في
اخبار كثيرة نذكر أكثرها في تضاعيف الباب إن شاء الله تعالى وأجمع علماء الأمة على التحريم بالرضاع
إذا ثبت ذلك فإن تحريم الام والأخت ثبت بنص الكتاب وتحريم البنت بالبينة فإنه إذا حرمت الأخت
فالبنت أولى وسائر المحرمات ثبت تحريمهن بالسنة وتثبت المحرمية لأنها فرع على التحريم إذا كان
191

بسبب مباح وأما بقية أحكام النسب من النفقة والإرث والعتق ورد الشهادة وغير ذلك فلا يتعلق به لأن النسب
أقوى منه فلا يقاس عليه في جميع أحكامه وإنما شبه به فيما نص عليه فيه
(مسألة) (إذا حملت المرأة من رجل ثبت نسب ولدها منه فثاب لها لبن فأرضعت به طفلا صار
ولدا لهما في تحريم النكاح وإباحة النظر والخلوة وثبوت المحرمية وأولاده وان سلفوا أولاد أولادهما
وصار أبويه وآباؤهما أجداده وجداته وأخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته وأخوة الرجل وأخواته
أعمامه وعماته وتنتشر حرمة الرضاع من المرتضع إلى أولاده وأولاد أولاده وان سفلوا فيصيرون أولادا لهما)
وجملة ذلك أن المرأة إذا حملت من رجل يثبت نسب ولدها منه وثاب لها منه لبن فأرضعت به
طفلا رضاعا محرما صار الطفل المرضع ابنا للمرضعة بغير خلاف وصار أيضا ابنا لمن نسب الحمل إليه
فصار في التحريم وإباحة النظر والخلوة ولدا لهما وأولاده من البنين والبنات وأولاد أولادهما وان نزلت
درجتهم وجميع أولاد المرأة المرضعة من زوجها ومن غيره وجميع أولاد الرجل الذي نسب الحمل إليه
من المرضعة وغيرها اخوة المرتضع وأخواته وأولاد أولادهما أولاد اخوته وأخواته وان نزلت درجتهم
وأم المرضعة جدته وأبوها جده وأخوتها أخواله وأخواتها خالاته وأبو الرجل جده وأمه جدته واخوته
أعمامه وأخواته عماته وجميع أقاربهما ينسبون إلى المرتضع كما ينسبون إلى ولدهما من النسب لأن اللبن
الذي ثاب للمرأة مخلوق من ماء الرجل والمرأة فنشر التحريم إليهما ونشر الحرمة إلى الرجل وإلى
192

أقاربه وهو الذي يسمى لبن الفحل وفي التحريم به اختلاف ذكر في باب المحرمات في النكاح، والحجة
فيه ما روت عائشة ان أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما أنزل الحجاب فقلت والله لا آذن له حتى
استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ان الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني المرأة فقال
" ائذني له فإنه عمك تربت يمينك " قال عروة فبذلك كانت عائشة تأخذ بقول " حرموا من الرضاع
ما تحرموا من النسب " متفق عليه وسئل ابن عباس عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية
والأخرى غلاما هل يتزوج الغلام الجارية؟ فقال لا اللقاح واحد. قال مالك اختلف قديما في الرضاعة من
قبل الأب ونزل برجال من أهل المدينة في أزواجهم منهم محمد بن المنكدر وابن أبي حبيبة فاستفتوا
في ذلك فاختلف عليهم ففارقوا زوجاتهم، فاما الولد المرتضع فإن الحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وان نزلوا
(مسألة) (ولا ينتشر إلى من في درجته من أخوته وأخواته ولا من هو أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه
وعماته وأخواله وخالاته فلا تحرم المرضعة على أبي المرتضع ولا أخيه، ولا تحرم أم المرتضع ولا أخته على
أبيه من الرضاع ولا أخيه فيجوز للمرضعة نكاح أبي الطفل المرتضع وأخيه وعمه وخاله، ولا يحرم على
زوج المرضعة نكاح أم الطفل المرتضع ولا أخته ولا عمته ولا خالته، ولا بأس ان يتزوج أولاد المرضعة
وأولاد زوجها اخوة الطفل المرتضع وأخواته)
193

قال أحمد لا بأس ان يتزوج الرجل أخت أخيه من الرضاع ليس بينهما رضاع ولا نسب وإنما
الرضاع بين الجارية وأخيه
(مسألة) (وان أرضعت بلبن ولدها من الزنا طفلا صار ولدا لها وحرم على الزاني تحريم المصاهرة
ولم تثبت حرمة الرضاع في حقه في قول الخرقي وقال أبو بكر تثبت)
قال أبو الخطاب وكذلك الولد المنفي باللعان الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح ان من شرط
ثبوت الحرمة بين المرتضع وبين الرجل الذي ثاب اللبن بوطئه أن يكون لبن حمل ينسب إلى الواطئ
كالوطئ في نكاح أو وطئ يملك يمين أو شبهة، فاما لبن الزاني والولد المنفي باللعان فلا ينشر الحرمة بينهما
في مفهوم كلام الخرقي وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي، وقال أبو بكر عبد العزيز ينشر الحرمة بينهما
لأنه معنى ينشر الحرمة فاستوى فيه مباحه ومحظوره كالوطئ، يحققه ان الوطئ حصل منه لبن وولد ثم إن
الولد ينشر الحرمة بينه وبين الواطئ كذلك اللبن، ولأنه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة فينشرها إلى
الواطئ كصورة الاجماع، ووجه القول الأول ان التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة فلما لم تثبت حرمة
الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها، ويفارق تحريم ابنته من الزنا لأنها من نطفته حقيقة بخلاف مسئلته، ويفارق
تحريم المصاهرة فإن التحريم ثم لا يقف على ثبوت النسب ولهذا تحرم أم زوجته وابنتها من غير نسب
وتحريم الرضاع مبني على النسب ولهذا قال عليه الصلاة السلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "
194

وقال أبو الخطاب في الولد المنفي باللعان انه في تحريم الرضاع على الملاعن كتحريم ولد الزنا على
الزاني، قال شيخنا ويحتمل ان لا يثبت حكم الرضاع في حق الملاعن بحال لأنه ليس بولده حقيقة
ولا حكما، فاما المرضعة فإن الطفل المرتضع محرم عليها ومنسوب إليها عند الجميع وكذلك يحرم جميع
أولادها وأقاربها الذين يحرمون على أولادها على هذا المرتضع كما في الرضاعة باللبن المباح، وإن كان
المرتضع جارية حرمت على الملاعن بغير خلاف أيضا لأنها ربيبته فإنها بنت امرأته من الرضاع وتحرم
على الزاني عند من برى تحريم المصاهرة وكذلك تحريم بناتها وبنات المرضع من العلماء كذلك
(مسألة) (وان وطئ رجلان امرأة بشبهة فاتت بولد فأرضعت بلبنه طفلا صار ابنا لمن يثبت
نسب المولود منه سواء ثبت بالقافة أو بغيرها)
لأن تحريم الرضاع فرع على ثبوت النسب وان الحق بهما كان المرتضع ابنا لهما لأن المرتضع في
كل موضع تبع للمناسب فمتى لحق المناسب بشخص فالمرتضع مثله وان لم يلحق بواحد منهما ثبت التحريم
بالرضاع في حقهما وإذا لم يثبت نسبه منهما لتعذر القافة أو لاشتباهه عليهم أو نحو ذلك حرم عليهما
تغليبا للحظر فإنه يحتمل أن يكون منهما ويحتمل أن يكون ابن أحدهما فيحرم عليه أقاربه دون أقارب
195

الآخر فقد اختلطت أخته بغيرها فحرم الجميع كما لو علم أخته بعينها ثم اختلطت بأجنبيات، وان انتفى
عنهما جميعا بان تأتي به لدون ستة أشهر من وطئهما أو لأكثر من أربع سنين من وطئ الآخر انتفى
المرتضع عنهما أيضا، فإن كان المرتضع جارية حرمت عليهما تحريم المصاهرة وتحرم أولادهما عليهما
أيضا لأنها ابنة موطوءتهما فهي ابنة لهما
(مسألة) (وان ثاب لامرأة لبن من غير حمل تقدم لم ينشر الحرمة نص عليه في لبن البكر وعنه
ينشرها ذكرها ابن أبي موسى)
قال شيخنا والظاهر أنه قول ابن حامد ومذهب مالك والثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب
الرأي وابن المنذر لقول الله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم
كما لو ثاب بوطئ ولان ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال وإن كان هذا نادرا فجنسه معتاد (والرواية
الثانية) لا ينشر الحرمة لأنه نادر لم تجر العادة به لتغذية الأطفال فأشبه لبن الرجال والأول أصح
(مسألة) (ولا ينشر الحرمة غير لبن المرأة فلو ارتضع طفلان من رجل أو بهيمة أو خنثى مشكل
لم ينشر الحرمة وقال ابن حامد يوقف أمر الخنثى حتى يتبين امره)
وجملة ذلك أن ابنين لو ارتضعا من بهيمة لم يصيرا أخوين في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي
196

وابن القاسم وأبو ثور وأصحاب الرأي وكذلك لو ارتضعا من رجل لم يصيرا أخوين ولم تنشر الحرمة
بينه وبينهما في قول علمتهم وقال الكرابيسي يتعلق به التحريم لأنه لبن آدمي أشبه لبن المرأة، وحكي
عن بعض السلف أنهما إذا ارتضعا من لبن بهيمة صارا أخوين وليس ذلك صحيحا لأن هذا لا يتعلق
به تحريم الأمومة فلا يثبت به تحريم الاخوة لأن الاخوة فرع على الأمومة، وكذلك لا يتعلق به تحريم
الأبوة ولان هذا اللبن لم يخلق لغذاء المولود الآدمي فلم يتعلق به التحريم كسائر الطعام، فإن ثاب لخنثى
مشكل لبن لم يثبت به التحريم لأنه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك، وقال ابن حامد
يقف الامر حتى ينكشف أمر الخنثى، فعلى هذا يثبت التحريم إلى أن يتقين كونه رجلا لأنه لا يأمن كونه محرما
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ولا تثبت الحرمة بالرضاع الا بشرطين)
(أحدهما) أن يرتضع في الحولين فلو ارتضع بعدهما بلحظة لم يثبت هذا قول أكثر أهل العلم روي
نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى
عائشة واليه ذهب الشعبي وابن شبرمة والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور
ورواية عن مالك، وروي عنه إن زاد شهرا جاز، وروي شهران وقال أبو حنيفة: يحرم الرضاع
في ثلاثين شهرا لقوله سبحانه (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء لأنه يكون
سنتين فعلم أنه أراد الحمل في الفصال، وقال زفر: مدة الرضاع ثلاث سنين وكانت عائشة رضي الله عنها
197

ترى رضاعة الكبير تحرم ويروى هذا عن عطاء والليث وداود لما روي أن سهلة بنت سهيل قالت:
يا رسول الله انا كنا نرى سالما ولدا فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا
وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " أرضعيه " فأرضعته خمس رضعات فكان
بمنزلة ولدها فبذلك كانت عائشة تأخذ: تأمر بنات أخواتها وبنات اخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها
ويدخل عليها وإن كان كبيرا، وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن
بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها رخصة من النبي
صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس رواه النسائي وأبو داود وغيرهما
ولنا قول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)
فجعل تمام الرضاعة حولين كاملين فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما، وعن عائشة رضي الله عنها أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله انه أخي من الرضاع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة " متفق عليه وعن أم سلمة
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحرم من الرضاع الا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام " أخرجه
الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعند هذا يتعين حمل خبر أبي حذيفة على أنه خاص له دون الناس
كما قال سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقول أبي حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب والسنة وقول الصحابة
198

فقد روينا عن ابن عباس أن المراد بالحمل البطن وبه استدل على أن أقل الحمل ستة أشهر، وقد
دل على هذا قول الله تعالى (وفصاله في عامين) فلو حمل على ما قاله أبو حنيفة لكان مخالفا لهذه
الآية: إذا ثبت هذا فالاعتبار بالعامين لا بالفطام فلو فطم قبل الحولين ثم ارتضع فيهما حصل التحريم
ولو لم يفطم حتى يجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم، وقال ابن القاسم صاحب
مالك لو ارتضع بعد الفطام في الحولين لم يحرم لقوله عليه الصلاة والسلام " وكان قبل الفطام "
ولنا قوله سبحانه (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) وروي عنه عليه الصلاة والسلام
" لا رضاع الا ما كان في الحولين " والفطام معتبر بمدته لا بنفسه
(مسألة) (فلو ارتضع بعدهما بلحظة لم يثبت التحريم وقال أبو الخطاب إذا ارتضع بعد الحولين
بساعة لم يحرم وقال القاضي لو شرع في الخامسة فحال الحول قبل كمالها لم يثبت التحريم)
ولا يصح هذا لأن ما وجد من الرضعة في الحولين كاف في التحريم بدليل ما لو انفصل مما بعده فلا
ينبغي أن يسقط حكمه باتصال ما لا اثر له به
(الثاني) (أن يرتضع خمس رضعات وعنه ثلاث يحرمن وعنه واحدة) الصحيح من المذهب أن الذي
يتعلق به التحريم خمس رضعات فصاعدا روي هذا عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير وعطاء وطاوس
وهو قول الشافعي، وعن أحمد رواية ثانية ان قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره وروي ذلك عن
199

على وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن ومكحول والزهري وقتادة والحكم وحماد ومالك
والأوزاعي والثوري والليث وأصحاب الرأي وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع
وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم، واحتجوا بقول الله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم
وأخواتكم من الرضاعة) وقوله عليه الصلاة والسلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وعن
عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي اهاب فجاءت سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكرت
ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ " متفق عليه ولأنه فعل يتعلق به تحريم
مؤبد فلم يعتبر فيه العدد كحريم أمهات النساء ولا يلزم اللعان لأنه قول (والرواية الثالثة) لا يحرم
الا ثلاث رضعات وبه قال أبو ثور وأبو عبيد وداود وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحرم المصة
ولا المصتان " وعن أم الفضل بنت الحارث قالت قال نبي الله صلى الله عليه وسلم " لا تحرم الا ملاجة ولا الاملاجتان "
رواهما مسلم ولان ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث، وروي عن حفصة لا يحرم دون عشر
رضعات وروي ذلك عن عائشة لأن عروة روي في حديث سهلة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا
" أرضعيه عشر رضعات فيحرم بلبنها "
ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات
يحرمن فنسخ من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والامر
200

على ذلك رواه مسلم، وروى مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة عن سهلة بنت سهيل " ارضعي
سالما خمس رضعات " فتحرم بلبنها ولأنها فسرتها السنة وبينت الرضاعة المحرمة وصريح ما رويناه يخص
مفهوم ما رووه فيجمع بين الاخبار بحملها على الصريح الذي رويناه
(مسألة) (ومتى أخذ الثدي فامتص منه ثم تركه أو قطع فهي رضعة فإن عاد فأخذه فهي
رضعة أخرى بعد ما بينهما أو قرب)
يشترط أن تكون الرضعات متفرقات، وبه قال الشافعي والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف
لأن الشرع ورد به مطلقا ولم يحدها بزمن ولا مقدار فدل على أنه ردهم إلى العرف فإذا ارتضع الصبي وقطع
قطعا بينا باختياره كان ذلك رضعة فإذا عاد كانت رضعة أخرى فاما ان قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدي
إلى ثدي أو لشئ يلهيه أو قطعت عليه المرضعة فإن لم يعد قريبا فهي رضعة فإن عاد في الحال ففيه وجهان
(أحدهما) أن الأول رضعة فإذا عاد فهي رضعة أخرى وهذا اختيار أبي بكر وظاهر كلام أحمد
في رواية حنبل فإنه قال اما ترى الصبي يرضع من الثدي فإذا أدركه النفس أمسك عن الثدي ليتنفس
ويستريح؟ فإذا فعل ذلك فهي رضعة وذلك لأن الأولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة وان عاد
كما لو قطع باختياره
201

(والوجه الآخر) أن جميع ذلك رضعة وهو مذهب الشافعي الا فيما إذا قطعت عليه المرضعة
ففيه وجهان لأنه لو حلف لا اكلت اليوم الا أكلة واحدة فاستدام الاكل زمنا أو قطع لشرب ماء
أو انتقال من لون إلى لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام لم يعد الا اكلة واحدة فكذا ههنا
والأولى أولى لأن اليسير من السعوط والوجور رضعة فكذا هذا، وقال ابن حامد إن قطع لعارض
وعاد في الحال فهي رضعة وان تباعدوا وانتقل من امرأة إلى أخرى فهما رضعتان كما ذكرنا في الاكل
(مسألة) (والسعوط والوجور كالرضاع في أحدى الروايتين)
السعوط أن يصيب في أنفه اللبن من إناء أو غيره فيدخل والوجور أن يصيب في حلقه من غير الثدي)
واختلفت الرواية في التحريم بها فأصبح الروايتين أن التحريم يثبت بهما كما يثبت بالرضاع، وهو
قول الشعبي والثوري وأصحاب الرأي وبه قال مالك في الوجور (والثانية) لا يثبت التحريم بهما
وهو اختيار أبي بكر ومذهب داود وعطاء الخراساني في السعوط لأن هذا ليس برضعا وإنما حرم
الله تعالى ورسوله بالرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع فأشبه مال وحصل من جرح في بدنه
ولنا ما روي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم " رواه أبو داود
ولان هذا يصل إليه اللبن كما يصل بالارتضاع ويحصل به من انبات اللحم وانشاز العظم
ما يحصل بالرضاع فيجب أن يساويه في التحريم والأنف سبيل لفطر الصائم فكان سبيلا للتحريم كالرضاع بالفم
202

(فصل) وإنما يحرم من ذلك كالذي يحرم بالرضاع وهو خمس في الرواية المشهورة فإنه فرع
على الرضاع فيأخذ حكمه فإن ارتضع دون الخمس وكمل الخمس بسعوط ووجور أو أسعط وأوجر وكمل
الخمس برضاع ثبت التحريم لأنا جعلناه كالرضاع في أصل التحريم فكذلك في اكمال العدد ولو حلب
في اناء لبنا دفعة واحدة ثم سقي الغلام في خمسة أوقات فهو خمس رضعات فإنه لو أكل من طعام خمس
دفعات متفرقات لكان قد أكل خمس أكلات وان حلب في إناء خمس حلبات في خمسة أوقات
ثم سقي دفعة واحدة كان رضعة واحدة كما لو جعل الطعام في إناء واحد في خمسة أوقات ثم أكله دفعة
واحدة كان أكلة واحدة، وحكي عن الشافعي في الصورتين عكس ما قلناه اعتبارا بخروجه من المرأة
لأن الاعتبار بالرضاع والوجور فرعه
ولنا أن الاعتبار بشرب الصبي له لأنه المحرم ولهذا يثبت التحريم به من غير رضاع، ولو ارتضع
بحيث يصل إلى فيه ثم مجه لم يثبت التحريم فكان الاعتبار به وما وجد منه إلا دفعة واحدة فكان
رضعة واحدة وان سقاه في أوقات فقد وجد في خمسة أوقات فكان خمس رضعات فاما ان سقاه
اللبن المجموع جرعة بعد جرعة متتابعة، فظاهر قول الخرقي أنه رضعة واحدة لأن المعتبر في الرضعة العرف
وهم لا يعدون هذا رضعات فأشبه ما لو أكل الطعام لقمة بعد لقمة فإنه لا يعد أكلات ويحتمل أن يخرج
على ما إذا قطعت عليه المرضعة الرضاع على ما قدمناه
203

(فصل) فإن عمل اللبن جبنا ثم أطعمه الصبي ثبت به التحريم، وبه قال الشافعي وقال أبو
حنيفة لا يحرم به لزوال الاسم، وكذلك على الرواية التي نقول لا يثبت التحريم بالوجور لا يثبت
ههنا بطريق الأولى.
ولنا أنه واصل من الحلق يحصل به انبات اللحم وانشاز العظم فحصل به التحريم كما لو شربه
(مسألة) (ويحرم لبن الميتة واللبن المشوب ذكره الخرقي وقال أبو بكر لا يثبت التحريم بهما)
المنصوص عن أحمد في رواية إبراهيم الحربي في لبن الميتة إنه ينشر الحرمة، وهو اختيار أبي بكر
وقول أبي ثور والأوزاعي وابن القاسم وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال أبو بكر الخلال لا ينشر
الحرمة وتوقف عنه أحمد في رواية مهنأ، وهو مذهب الشافعي لأنه لبن ممن ليس هو بمحل للولادة فلم
يتعلق به التحريم كلبن الرجل
ولنا أنه وجد الرضاع على وجه يثبت اللحم وينشز العظم من امرأة فأثبت التحريم كحال الحياة
ولأنه لا فارق بين شربه في حياتها وموتها الا الحياة والموت أو النجاسة وهذا لا أثر له فإن اللبن لا يموت
والنجاسة لا تؤثر كما لو حلب في إناء نجس ولأنه لو حلب منها في حياتها فشربه به بعد موتها لنشر
الحرمة وبقاؤه في ثديها لا يمنع ثبوت الحرمة لأن ثديها لا يزيد على الاتاء في عدم الحياة وهي لا تزيد على عظم الميتة في ثبوت النجاسة
204

(فصل) ولو حلبت المرأة لبنها في إناء ثم ماتت فشربه صبي نشر الحرمة في قول كل من جعل
الوجور محرما، وبه قال أبو ثور والشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأنه لبن امرأة حلب في حياتها فأشبه
ما لو شربه وهي في الحياة.
(مسألة) (ويحرم اللبن المشوب)
ذكره الخرقي والمشوب المختلط بغيره وسواء اختلط بطعام أو شراب أو غيره في قول الخرقي
وبه قال الشافعي وقال أبو بكر قياس قوله أحمد أنه لا يحرم لأنه وجور وقال ابن حامد إن غلب اللبن
حرم وإلا فلا وهو قول أبي ثور والمزني لأن الحكم للأغلب ولأنه يزول بذلك الاسم والمعنى، ونحوه
قول أصحاب الرأي وزادوا فقالوا ان كانت النار مست اللبن حتى انضجت الطعام أو حتى تغير فليس
برضاع ووجه الأول أن اللبن متى كان ظاهرا فقد حصل شربه ويحصل به انبات اللحم وانشاز العظم
فحرم كما لو كان غالبا وهذا فيما إذا كانت صفات اللبن باقية فأما ان صب في ماء كثير لم يتغير به لم
يثبت به التحريم لأن هذا ليس بمشوب ولا يحصل به التغذي ولا انبات اللحم وانشاز العظم، وحكي
عن القاضي أن التحريم يثبت به وهو قول الشافعي لأن أجزاء اللبن حصلت في بطته أشبه ما لو كان لونه ظاهرا
ولنا أن هذا ليس برضاع ولا في معناه فوجب أن لا يثبت حكمه فيه
(فصل) فإن حلب من نسوة وسقي الصبي فهو كما لو ارتضع من كل واحدة منهن لأنه لو شيب
205

بماء أو عسل لم يخرج عن كونه رضاعا محرما فكذلك إذا شيب بلبن آخر
(مسألة) (والحقنة لا تنشر الحرمة نص عليه وقال ابن حامد ينشرها)
المنصوص عن أحمد ان الحقنة لا تحرم قاله أبو الخطاب وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وقال ابن حامد
وابن أبي موسى يحرم وهو من مذهب الشافي لأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر فتعلق به التحريم كالرضاع
ولنا أن هذا ليس برضاع ولا يحصل به التغذي فلم ينشر الحرمة كما لو قطر في إحليله ولأنه ليس
برضاع ولا في معناه فلم يجز اثبات حكمه ويفارق فطر الصائم فإنه لا يعتبر فيه اثبات اللحم ولا انشاز
العظم وهذا لا يحرم فيه إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم ولأنه وصل اللبن إلى الباطن من غير الحلق أشبه
ما لو وصل من جرح.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا تزوج كبيرة لم يدخل بها وثلاث صغائر فأرضعت الكبيرة
إحداهن في الحولين حرمت الكبيرة على التأبيد وثبت نكاح الصغيرة وعنه ينفسخ نكاحهما)،
إذا تزوج كبيرة وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة قبل دخوله بها فسد نكاح الكبيرة في الحال
وحرمت على التأبيد وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي نكاح
الكبيرة ثابت وتنزع منه الصغيرة ولا يصح ذلك فإن الكبيرة صارت من أمهات النساء فتحرم ابدا
206

لقول الله (وأمهات نسائكم) ولم يشترط دخوله بها فأما الصغيرة ففيها روايتان
(إحداهما) نكاحها ثابت لأنها ربيبة ولم يدخل بأمها فلا تحرم لقول الله (فإن لم تكونوا
دخلتهم بهن فلا جناح عليكم)
(والرواية الثانية) ينفسخ نكاحها، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة لأنهما صارتا إماء وبنتا
واجتمعتا في نكاحه والجمع بينهما محرم فانفسخ نكاحهما كما لو صارتا أختين وكما لو عقد عليهما بعد
الرضاع عقدا واحدا
ولنا أنه أمكن إزالة الجمع بانفساخ نكاح الكبيرة وهي أولى به لأن نكاحها محرم على التأبيد
فلم يبطل نكاحهما به كما لو ابتدأ العقد على أخته وأجنبية ولان الجمع طرأ على نكاح الام والبنت فاختص
الفسخ بنكاح الام كما لو أسلم وتحته امرأة وبنتها وفارق الأختين لأنه ليست إحداهما أولى بالفسخ من
الأخرى وفارق ما لو ابتدأ العقد عليهما لأن الدوام أقوى من الابتداء
(مسألة) (وان أرضعت اثنتين منفردتين انفسخ نكاحهما على الرواية الأولى وعلى الثانية ينفسخ
نكاح الأولى ويثبت نكاح الثانية)
أما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما صارتا أختين واجتمعتا في الزوجية فينفسخ نكاحهما كما لو
207

أرضعتها معا، وهذا على الرواية الأولى التي تقول ينفسخ نكاح الكبيرة وحدها فأما على الرواية التي تقول
ينفسخ نكاحهما معا فإنه يثبت نكاح الأخيرة من الصغيرتين لأن الكبيرة لما أرضعت الصغيرة أولا
انفسخ نكاحها ثم أرضعت الأخرى فلم تجتمع معهما في النكاح فلم ينفسخ نكاحها
(فصل) إذا أرضعت الصغيرة أجنبية انفسخ نكاحهما أيضا، وهذا قول أبي حنيفة والمزني وهو
أحد قولي الشافعي وقال في الآخر ينفسخ نكاح الأخيرة وحدها لأن سبب البطلان حصل بها وهو
الجمع فأشبه ما لو تزوج إحدى الأختين بعد الآخرى
ولنا أنه جمع بين الأختين في النكاح فانفسخ نكاحهما كما لو أرضعتهما معا وفارق ما لو عقد على
واحدة بعد أخرى فإن عقد الثانية لم يصح فلم يصير به جامعا بينهما وههنا حصل الجمع برضاع الثانية ولا
يمكن القول بأنه لم يصح فحصلتا معا في نكاحه وهما أختان لا محالة
(مسألة) (وان أرضعت الثلاث متفرقات انفسخ نكاح الأولتين وثبت نكاح الثالثة على الرواية
الأولى وعلى الثانية ينفسخ نكاح الجميع لأنهما صارتا أختين في نكاحه وثبت نكاح الثالثة لأن رضاعها
بعد انفساخ نكاح الكبيرة والصغيرتين اللتين قبلها فلم يصادف اخوتها جمعا في النكاح)
(مسألة) (وإن أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعدها معا بأن تلقم كل واحدة منهما ثديا
فيمتصان معا أو تحلب من لبنها في إناء فتسقيهما معا انفسخ نكاح الجميع لأنهن صرن أخوات في نكاحه)
208

لأنها إذا أرضعت إحداهن منفردة لم ينفسخ نكاحها لأنها منفردة ثم إذا أرضعت اثنتين بعد ذلك
مجتمعات انفسخ نكاح الجميع لأنهن أخوات في النكاح، هذا على الرواية الأولى، وعلى الثانية ينفسخ
نكاح الام والأولى بالاجتماع ثم ينفسخ نكاح الاثنتين لكونهما صارتا أختين معا.
(مسألة) (وله أن يتزوج من شاء من الأصاغر)
لأن تحريمهن تحريم جمع لا تحريم تأبيد فإنهن ربائب لم يدخل بأمهن وإن كان دخل بالام حرم
الكل عليه على الأبد لأنهن ربائب مدخول بأمهن.
(مسألة) (وكل امرأة تحرم ابنتها عليه كأمه وأخته وجدته وربيبته إذا أرضعت طفلة حرمتها عليه)
لأنها تصير ابنتها وكل رجل تحرم ابنته كأخيه وابنه وأبيه إذا أرضعت امرأته بلبنه طفلة حرمتها عليه
وفسخت نكاحها لأنها صارت ابنة من تحرم ابنته عليه، وان أرضعتها امرأة أحد هؤلاء بلبن غيره لم
تحرم عليه لأنها صارت ربيبة زوجها، وان أرضعتها من لا تحرم بنتها كعمته وخالته لم تحرمها عليه،
ولو تزوج بنت عمه فأرضعت جدتهما أحدهما صغيرا انفسخ النكاح لأنها ان أرضعت الزوج صار عم
زوجته وان أرضعت الزوجة صارت عمته وان أرضعتهما جميعا صار عمها وصارت عمته.
وان تزوج بنت عمته فأرضعت جدتهما أحدهما صغيرا انفسخ النكاح لأنها ان أرضعت الزوج صار
خالها وان أرضعت الزوجة صارت عمته. وان تزوج بنت خاله فأرضعت جدتهما الزوج صار عم زوجته
209

وان أرضعتها صارت خالته، وان تزوج ابنة خالته فأرضعت الزوج صار خال زوجته وان أرضعتها صارت خالة زوجها
(فصل) وكل من أفسد نكاح امرأة برضاع قبل الدخول فإن الزوج يرجع عليه نصف مهرها
الذي يلزمه لها لأنه قرره عليه بعد أن كان بعرض السقوط وفرق بينه وبين زوجته فلزمه ذلك كشهود
الطلاق إذا رجعوا وإنما لزمه نصف مهر الصغيرة لأن نكاحها انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها
والفسخ إذا جاء من أجنبي كان كطلاق الزوج في وجوب الصداق عليه
(مسألة) (وان أفسدت نكاحها قبل الدخول فلا مهر لها
لأن فسخ نكاحها بسبب من وجهتها فسقط صداقها كما لو ارتدت وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا، فعلى هذا إذا أرضعت امرأته الكبرى الصغرى فانفسخ نكاح الصغرى
فعلى الزوج نصف مهر الصغرى يرجع به على الكبرى لما ذكرنا، وبهذا قال الشافعي وحكي عن بعض
أصحابه أنه يرجع بجميع صداقها لأنها أتلفت البضع فوجب ضمانه، وقال أصحاب الرأي ان كانت
المرضعة أرادت الفساد رجع عليها بنصف الصداق والا فلا يرجع بشئ وقال مالك لا يرجع بشئ
ولنا على أنه يرجع عليها بالنصف انها قررته عليه وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته فوجب
عليها الضمان كما لو أتلفت عليه المبيع.
210

ولنا على أبي حنيفة أن ما ضمن في العدة ضمن في الخطأ كالمال ولأنها أفسدت نكاحه وقررت عليه
نصف الصداق فأشبه ما لو قصدت الافساد.
ولنا على أن الزوج إنما يرجع بالنصف انه لم يغرم إلا النصف فلم يجب لم أكثر مما غرم ولأنه
بالفسخ رجع إليه بدل النصف الآخر فلم يجب له بدل ما أخذ بدله مرة أخرى، ولان خروج البضع
من ملك الزوج لا قيمة له وإنما ضمنت المرضعة ههنا لما ألزمت الزوج ما كان معرضا للسقوط بسبب
يوجد من الزوجة فلم يرجع ههنا أكثر مما ألزمته.
(فصل) والواجب نصف المسمى لا نصف مهر المثل لأنه إنما يرجع بما غرم والذي غرم نصف
ما فرض لها فرجع به وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي يرجع بنصف مهر المثل لأنه ضمان متلف
فكان الاعتبار بقيمته دون ما ملكه به كسائر الأعيان
ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له بدليل ما لو قتلت نفسها أو ارتدت أو أرضعت
من ينفسخ نكاحها بارضاعه فإنها لا نغرم له شيئا إنما الرجوع ههنا بما غرم فلا يرجع بغيره ولأنه لو
رجع بقيمة المتلف لرجع بمهر المثل كله ولم يختص بالنصف ولان شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا
لزمهم نصف المسمى كذلك ههنا.
(مسألة) وان أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول لم يسقط مهرها ويجب على زوجها وان أفسده
211

غيرها وجب مهرها ولم يرجع به على أحد ونص احمد على أنه يرجع بالمهر كله)
قال القاضي وهو مذهب الشافعي لأن المرأة تستحق المهر كله على زوجها فيرجع بما لزمه كنصف المهر في
غير المدخول بها، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله انه لا يرجع على من أفسده بعد الدخول بشئ
لأنه لم يقرر على الزوج شيئا ولم يلزمه إياه فلم يرجع عليه بشئ كما لو أفسدت المرأة نكاح نفسها ولأنه
لو ملك الرجوع بالصداق بعد الدخول لسقط إذا كانت المرأة هي المفسدة للنكاح كما قبل الدخول
ولان خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم على ما ذكرناه فيما مضى وكذلك لا يجب مهر المثل
وإنما رجع الزوج بنصف المسمى قبل الدخول لأنها قررته عليه وكذلك يسقط إذا كانت هي المفسدة
لنكاحها قبل الدخول ولم يوجد ذلك ههنا وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ولأنه لو رجع بالمهر
بعد الدخول لم يخل اما أن يكون رجوعه ببدل البضع الذي فوتته أو بالمهر الذي أداه: لا يجوز أن يكون
ببدل البضع لأنه لو وجب بدله لوجب له على الزوجة إذا فات بفعلها أو بقتلها ولكان الواجب لها مهر مثلها
ولا يجوز ان يجب لها بدل ما أداه إليها لذلك ولأنها ما أوجبته ولا لها اثر في ايجابه ولا تقريره
(مسألة) (وان أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول لم يسقط مهرها)
212

قال شيخنا لا نعلم بينهم خلافا في ذلك وان الزوج لا يرجع عليها بشئ إذا كان أداه إليها ولا في أنها
إذا أفسدته قبل الدخول انه يسقط وانه يرجع عليها بما أعطاها
(مسألة) (فإذا أرضعت امرأته الكبرى الصغرى فانفسخ نكاحها فعليه نصف مهر الصغرى
يرجع به على الكبرى) ولا مهر للكبرى إن كان قبل الدخول لأنها أفسدت نكاح نفسها وقد ذكرنا
وجه ذلك أن كان المفسدة غيرهما
(مسألة) (فلو دبت الصغرى إلى الكبرى وهي نائمة فارتضعت منها خمس رضعات انفسخ نكاح
الكبيرة وحرمت على التأبيد، فإن كان دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ولا مهر للصغيرة)
لأنها فسخت نكاح نفسها وعليه مهر الكبيرة يرجع به على الصغيرة عند أصحابنا ولا يرجع به على
ما اخترناه وان لم يكن دخل بالكبيرة فعليه نصف صداقها يرجع به في مال الصغيرة لأنها فسخت نكاحها،
وان ارتضعت الصغيرة منها رضعتين وهي نائمة ثم انتبهت الكبيرة فأنمت لها ثلاث رضعات فقد حصل
الفساد بفعليهما فينقسط الواجب عليهما وعليه مهر الكبيرة وثلاثة أعشار مهر الصغيرة ويرجع به على الكبيرة
وان لم يكن دخل بالكبيرة فعليه خمس مهرها يرجع به على الصغيرة وهل ينفسخ نكاح الصغيرة؟ على روايتين
213

(فصل) وان أرضعت بنت الكبيرة الصغيرة فالحكم في التحريم والفسخ حكم ما لو أرضعتها
الكبيرة لأنها صارت جدتها والرجوع بالصداق على المرضعة التي أفسدت النكاح، وان أرضعتها أم الكبيرة
انفسخ نكاحهما معا لأنهما صارتا أختين، فإن كان لم يدخل بالكبيرة فله ان ينكح من شاء منهما
ويرجع على المرضعة بنصف صداقها وإن كان دخل بالكبيرة فله نكاحها لأن الصغيرة لا عدة عليها
وليس له نكاح الصغيرة حتى تنقضي عدة الكبيرة لأنها قد صارت أختها فلا ينكحها في عدتها وكذلك الحكم
ان أرضعتها جدة الكبيرة لأنها تصير عمة الكبيرة أو خالتها والجمع بينهما محرم، وكذلك ان أرضعتها
أختها أو زوجة أخيها بلبنه لأنها صارت بنت أخت الكبيرة أو بنت أخيه وكذلك ان أرضعتها أختها أو بنت أختها
ولا يحرم في شئ من هذا واحدة منهن على التأبيد لأنه تحريم جمع الا إذا أرضعتها بنت الكبيرة وقد دخل بأمها
(مسألة) (وإذا كان لرجل خمس أمهات أولاد لهن منه لبن فأرضعن امرأة الصغرى كل واحدة
منهن رضعة حرمت عليه في أحد الوجهين)
لأنها ارتضعت من لبنه خمس رضعات فكمل رضاعها من لبنه فصار أبا لها كما لو أرضعتها واحدة
منهن والوجه الثاني لا يصير أبا لها لأنه رضاع لم تثبت به الأمومة فلم يثبت به الأبوة كلبن البهيمة ولا تحرم
أمهات الأولاد لأنه لم يثبت لهن أمومة
(فصل) فإن أرضعن طفلا كذلك لم يصرن أمهات له وصار المولى أبا له وهذا قول ابن حامد لأنه
214

ارتضع من لبنه خمس رضعات، وفيه وجه آخر لا نثبت الأبوة لأنه رضاع لم يثبت الا مرمة فلم
يثبت الأبوة كالارتضاع بلبن الرجل، والأول أصح لأن الأبوة إنما تثبت لكونه رضع من لبنه
لا لكون المرضعة أما له، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا قلنا بثبوت الأبوة حرمت عليه المرضعات
لأنه ربيبهن وهن موطوءات أبيه.
(فصل) وإن كان لرجل خمس بنات فأرضعن طفلا كل واحدة رضعة لم يصرن أمهات له وهل
يصير الرجل جدا له وأولاده أخوالا له وخالات؟ على وجهين:
(أحدهما) يصير جدا وأخوهن خالا لأنه قد كمل للمرتضع خمس رضعات من لبن بناته فأشبه ما لو كان
من واحدة (والآخر) لا يثبت ذلك لأن كونه جدا فرع كون ابنته أما وكونه خالا فرع كون أخته
أما ولم يثبت فلا يثبت ذلك الفرع، وهذا الوجه يترجح في هذه المسألة لأن الفرعية متحققه بخلاف التي
قبلها. فإن قلنا يصير أخوهن خالا لم تثبت الخؤولة في حق واحدة منهن لأنه لم يرتضع من لبن أخواتها
خمس رضعات ولكن يحتمل التحريم لأنه قد اجتمع من بنت المحرم خمس رضعات، ولو كمل للطفل
خمس رضعات من أمه وأخته وابنته وزوجته وزوجه أبيه من كل واحدة رضعة خرج على الوجهين
(فصل) إذا كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت به طفلا ثلاث رضعات وانقطع لبنها فتزوجت آخر فصار
215

لها منه لبن فأرضعت منه الصبي رضعتين صارت أما له بغير خلاف علمناه عند القائلين بأن الخمس
محرمات ولم يصيروا حد من الزوجين أبا له لأنه لم يكمل عدد الرضاع من لبنه ويحرم على الرجلين لكونه
ربيبهما لا لكونه ولدهما
(مسألة) (ولو كان له ثلاث نسوة لهن لبن منه فأرضعن امرأة له صغرى كل واحدة رضعتين لم
تحرم المرضعات) لأنه لم تكمل عدد الرضعات لكل واحدة منهن وهل تحرم الصغرى؟ على وجهين
أصحهما تحرم لأنها ارتضعت من لبنه خمس رضعات وعليه نصف مهرها يرجع به عليهن على قدر
رضاعهن يقسم بينهن أخماسا لأن الرضعات الخمس محرمة وقد وجد من الأولى رضعتان ومن الثانية
رضعتان والخامسة وجدت من الثانية فيجب على الأولى خمس مهرها وعلى الثانية خمس وعلى الثالثة عشر
(مسألة) (فإن كل لرجل ثلاث بنات امرأة لهن لبن فأرضعن ثلاث نسوة له صغار حرمت الكبيرة)
لأنها من جدات النساء وجدة الزوجة محرمة ولم ينفسخ نكاح الصغار لأنهن لسن أخوات وإنما
هن بنات خالات ولبن الربيبة لا يحرم إلا بالدخول بالام وإن كان دخل بالام حرم الصغار أيضا
لأنهن ربائب مدخول بأمهن وان لم يكن دخل بها فهل ينفسخ نكاح من كمل رضاعها أولا؟ على روايتين
بناء على ما إذا أرضعت زوجته الكبرى زوجته الصغرى فإن الكبرى تحرم وهل ينفسخ نكاح الصغرى؟
على روايتين ذكرنا توجيههما فيما مضى
216

(مسألة) (وان أرضعن واحدة كل واحدة منهن رضعتين فهل تحرم الكبرى بذلك؟ على وجهين)
(أحدهما) تحرم لأنها صارت جدة بكون الصغيرة قد كمل لها خمس رضعات من لبن بناتها (والثاني)
لا تصير جدة ولا ينفسخ نكاحها لأن كونها جدة فرع على كون ابنتها اما ولم تثبت الأموة فما هو فرع
عليها أولى ان لا يثبت وهذا أولى والله أعلم
(فصل) إذا تزوج كبيرة ثم طلقها فأرضعت صغيرة بلبنه صارت بنتا له وان أرضعتها بلبن غيره
صارت ربيبته فإن كان قد دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة على التأبيد وإن كان لم يدخل بها لم تحرم لأنها
ربيبة لم يدخل بأمها وان تزوج صغيرة ثم طلقها فأرضعت امرأة له حرمت المرضعة على التأبيد لأنها من
أمهات نسائه وان تزوج كبيرة وصغيرة ثم طلق الصغيرة فأرضعتها الكبيرة حرمت الكبيرة وانفسخ نكاحها
فإن كان لم يدخل بها فلا مهر لها وله نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها فلها مهرها وتحرم هي والصغيرة
على التأبيد وان طلق الكبيرة وحدها قبل الرضاع فأرضعت الصغيرة ولم يكن دخل بالكبيرة ثبت نكاح
الصغيرة وإن كان دخل بها حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ويرجع على الكبيرة بنصف صداقها وان
طلقهما جميعا فالحكم في التحريم على ما مضى
(فصل) ولو تزوج رجل كبيرة وآخر صغيرة ثم طلقاهما ونكح كل واحد منهما زوجة الآخر ثم
217

أرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت الكبيرة عليهما وانفسخ نكاحها وإن كان زوج الصغيرة دخل بالكبيرة
حرمت عليه وانفسخ نكاحها وإلا فلا
(فصل) قال الشيخ رحمه الله إذا طلق امرأته ولها منه لبن فتزوجت بصبي فأرضعته بلبنه انفسخ
نكاحها منه لأنها صارت أمه من الرضاع وحرمت عليه لأنها صارت أمه من الرضاع وان تزوجت بآخره دخل
بها ومات عنها لم يجز ان يتزوجها الأول لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به
(مسألة) (ولو تزوجت الصبي أولا ثم فسخت نكاحه لعيب ثم تزوجت كبيرا فصار لها منه لبن فأرضعت به
الصبي حرمت عليهما على الأبد على الزوج الثاني لأنها صارت من حلائل أبنائه وعلى الصبي لأنها صارت أمه
(فصل) ولو زوج رجل أم ولده أو أمته بصبي مملوك فأرضعته بلبن سيدها خمس رضعات انفسخ نكاحه
وحرمت على سيدها على التأبيد لأنها صارت من حلائل أبنائه فإن كان الصبي حرا لم يتصور هذا الفرع
عندنا لأنه لا يصح نكاحه لأن من شرط نكاح الحر للأمة خوف العنت ولا يوجد ذلك في الطفل فإن
تزوج بها كان النكاح فاسدا وان أرضعته لم تحرم على سيدها لأنه ليس بزوج في الحقيقة
(فصل) قال الشيخ رحمه الله فإن أفسد النكاح جماعة يسقط المهر عليهم فلو جاء خمس فسقين زوجة
صغيرة من لبن أم الزوج خمس مرات انفسخ نكاحها ولزمهن نصف مهرها بينهن فإن سقتها واحدة
شربتين وأخرى ثلاثا فعلى الأولى الخمس وعلى الثانية خمس وعشر وان أسقاها واحدة شربتين وسقاها
218

ثلاث ثلاث شربات فعلى الأولى الخمس وعلى كل واحدة من الثلاث عشر وإن كان له ثلاث نسوة كبار
وواحدة صغيرة فأرضعت كل واحدة من الثلاث الصغيرة أربع رضعات ثم حلبن في اناء وسقينه الصغيرة
حرم الكبار وانفسخ نكاحهن فإن لم يكن دخل بهن فنكاح الصغيرة ثابت على إحدى الروايتين وعليه
لكل واحدة منهن ثلث صداقها ترجع به على ضرتيها لأن فساد نكاحها حصل بفعلها وفعلهما فسقط
ما قابل فعلها وهو سدس الصداق وبقي عليه الثلث فرجع به على ضرتيها فإن كان صداقهن متساويا
سقط ولم يجب شئ لأنه يتقاص ما لها على الزوج بما يرجع به عليها إذ لا فائدة في أن يجب لها عليه
ما يرجع به عليها وإن كان مختلفا وهو من جنس واحد تقاص منه بقدر أقلهما ووجبت الفضلة لصاحبها
وإن كان من أجناس ثبت التراجع على ما ذكرنا وإن كان قد دخل بإحدى الكبار حرمت الصغيرة
أيضا وانفسخ نكاحها ووجب لها نصف صداقها ترجع به عليهن أثلاثا وللتي دخل بها المهر كاملا وفي
الرجوع به ما أسلفناه من الخلاف. وان حلبن في اناء فسقته إحداهن الصغيرة خمس مرات كان
صداق ضراتها يرجع به عليها إن كان قبل الدخول بهن لأنها أفسدت نكاحهن ويسقط مهرها ان لم يكن
219

دخل بها وإن كان دخل بها فلها مهرها لا يرجع به على أحد وان كانت كل واحدة من الكبار أرضعت
الصغيرة خمس رضعات حرم الثلاث فإن كان لم يدخل بهن فلا مهر لهن عليه وإن كان دخل بهن فعليه لكل
واحدة مهرها لا يرجع به على أحد وتحرم الصغيرة ويرجع بما لزمه من صداقها على المرضعة الأولى لأنها
التي حرمتها عليه وفسخت نكاحها ولو أرضع الثلاث الصغيرة بلبن الزوج فأرضعتها كل واحدة رضعتين
صارت بنتا لزوجها في الصحيح وينفسخ نكاحها وترجع بنصف صداقها عليهن على المرضعتين الأولتين
أربعة أخماسه وعلى الثالثة خمسه لأن رضعتها الأولى هي التي حصل بها التحريم والثانية لا أثر لها ولا
ينفسخ نكاح الأكابر لأنهن لم يصرن أمهات لها. فإن قيل فلم لا ترجع به عليهن على عددهن لكون
الرضاع مفسدا فيستوى قليله وكثيرة كما لو طرح الجماعة نجاسة في مائع في حالة واحدة؟ قلنا لأن التحريم
يتعلق بعدد الرضعات فكان الضمان متعلقا بالعدد بخلاف النجاسة فإن التنجيس لا يتعلق بقدر فيستوي
قليله وكثيرة لكون الكثير والقليل سواء في الافساد فنظير ذلك أن يشرب في الرضعة من إحداهما
أكثر ما يشرب من الأخرى
(فصل) وان كانت له زوجة أمة فأرضعت امرأته الصغيرة فحرمتها عليه وفسخت نكاحها كان ما لزمه
من صداق الصغيرة له في رقبة الأمة لأن ذلك من جنايتها وان أرضعتها أم ولده أفسدت نكاحها وحرمتها
220

عليها لأنها ربيبته دخل بأمها وتحرم أم الولد عليه ابدا لأنها من أمهات نسائه ولا غرامة عليها لأنها أفسدت
على سيدها وان كانت مكاتبته رجع عليها لأن المكاتبة يلزمها أرش جنايتها وان أرضعت أم امرأة
ابنه بلبنه فسخت نكاحها وحرمتها عليه لأنها صارت أخته وان أرضعت زوجة أبيه بلبنه حرمتها عليه
لأنها صارت بنت ابنه ويرجع الأب على ابنه بأقل الامرين مما غرمه لزوجتها أو قيمتها لأن ذلك من جناية
أم ولده. وان أرضعت واحدة منهما بغير لبن سيدها لم تحرمها لأن كل واحدة منهما صارت بنت أم ولده
(فصل) قال رضي الله عنه إذا شك في الرضاع أو عدده بني على اليقين فلم يحرم لأن الأصل
عدم الرضاع في مسألة الأولى وعدم وجود الرضاع المحرم في الثانية فهو كما لو شك في وجود الطلاق أو عدده
(مسألة) (وان شهدت به امرأة مرضية ثبت بشهادتها وعنه أنها ان كانت مرضية استحلفت فإن
كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها وذهب فيه إلى قول ابن عباس)
وجملة ذلك أن الرضاع إذا شهدت به امرأة مرضعة حرم النكاح وثبت الرضاع بشهادتها وعنه
رواية أخرى كالتي ذكرناها عن ابن عباس فإن ابن عباس قال في امرأة زعمت أنها أرضعت رجلا
وأهله قال إن كانت مرضية استحلفت وفارق أهله وقال إن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها
أي يصيبها فيهما برص عقوبة على كذبها وهذا لا يقتضيه القياس ولا يهتدي إليه رأي فالظاهر أنه
لا يقوله إلا توقيفا وممن ذهب إلى أن شهادة المرأة الواحدة مقبوله في الرضاع إذا كانت مرضية طاوس
221

والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وسعيد بن عبد العزيز، وعن أحمد رواية أخرى لا تقبل إلا
شهادة امرأتين، وهو قول الحكم لأن الرجال أكمل من النساء ولا تقبل إلا شهادة رجلين فالنساء أولى
وقال عطاء والشافعي لا يقبل من النساء أقل من أربع لأن كل امرأتين كرجل، وقال أصحاب الرأي لا يقبل
فيه إلا رجلان أو رجل وامرأتان، وروي ذلك عن عمر لقول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان)
ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد
أرضعتكما فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " وكيف وقد زعمت ذلك " متفق عليه، وفي لفظ رواه
النسائي قال فأتيته من قبل وجهه فقلت إنها كاذبة فقال " وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟ خل سبيلها "
وهذا يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة، وقال الزهري فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان بشهادة امرأة
في الرضاع، وقال الشعبي كان القضاء يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع ولأن هذه
شهادة على عورة فتقبل فيه شهادة المنفردات كالولادة وعلى الشافعي أنه معنى يقبل فيه قول
222

النساء المنفردات فيقبل فيه امرأة منفردة كالخبر
(فصل) وتقبل فيه شهادة المرضعة على فعل نفسها لما ذكرنا من حديث عقبة من أن الام السوداء
قالت قد أرضعتكما فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادتها ولأنه فعل لا يحصل لها به نفع مقصود ولا يدفع عنها به
ضررا فقبلت شهادتها كفعل غيرها فإن قيل فإنها تستبيح الخلوة به والسفر معه وتصير محرما له قلنا
ليس هذا من الأمور المقصودة التي ترد بها الشهادة ألا ترى أن رجلين لو شهدا أن فلانا طلق زوجته
أو أعتق أمته قبلت شهادتهما وان حل لهما نكاحها بذلك
(مسألة) (وان تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول هي أختي من الرضاع انفسخ النكاح فإن
صدقته فلا مهر لها وان كذبته فلها نصف المهر
وجملته أن التزوج إذا أقر أن زوجته أخته من الرضاع انفسخ نكاحه ويفرق بينهما وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة إذا قال وهمت أو أخطأت قبل قوله ذلك يتضمن أنه لم يكن بينهما نكاح
ولو جحد النكاح ثم أقر به قبل كذلك ههنا
223

ولنا أنه أقر بما يتضمن تحريمها عليه فلم يقبل رجوعه عنه كما لو أقر بالطلاق ثم رجع أو أقر أن أمته
أخته من النسب وما قاسوا عليه ممنوع وهذا الكلام في الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني ذلك
على علمه بصدقه فإن علم أن الامر كما قال فهي محرمة عليه ولا نكاح بينهما وان علم كذب نفسه فالنكاح
باق بحاله وقوله كذب لا يحرمها عليه لأن المحرم حقيقة الرضاع لا القول وان شك في ذلك لم يزل عن
اليقين بالشك وقيل في حلها له إذا علم كذب نفسه روايتان، والصحيح ما قلناه لأن قوله ذلك إذا
كان كذبا لم يثبت التحريم كما لو قال لها وهي أكبر منه هي ابنتي من الرضاعة إذا ثبت هذا فإنه إن كان
قبل الدخول وصدقته المرأة فلا شئ لها لأنهما اتفقا على أن النكاح باطل من أصله لا تستحق فيه مهرا
فأشبه ما لو ثبت ذلك ببينة وان أكذبته فالقول قولها لأن قوله غير مقبول عليها في اسقاط حقوقها فلزمه
اقراره فيما هو حق له وهو يحرمها عليه وفسخ نكاحه ولم يقبل قوله فيما عليه من المهر
(فصل) وان قال ذلك بعد الدخول انفسخ النكاح لما ذكرنا ولها المهر بكل حال لأن
المهر يستقر بالدخول "
224

(فصل) وان قال هي عمتي أو خالتي أو ابنة أخي أو أختي أو أمي من الرضاع وأمكن صدقه
فالحكم فيه كما لو قال هي أختي، وان لم يمكن صدقه مثل أن يقول لهن هي مثله هذه أمي أو لأكبر منه
أو لمثله هذه ابنتي لم تحرم عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد تحرم عليه لأنه أقر بما يحرمها
فقبل كما لو أمكن
ولنا أنه أقر بما يتحقق كذبه فأشبه ما لو قال أرضعتني وإياها حواء أو كما قال هذه حواء وما
ذكروه تنتقض بهذه الصور، ويفارق ما إذا أمكن فإنه لا يتحقق كذبه والحكم في لاقرار بقرابة
من النسب تحرمها عليه كالحكم في لاقرار بالرضاع لأنه في معناه
(فصل) إذا ادعى أن زوجته أخته من الرضاع فأنكرته فشهدت بذلك أمه أو ابنته لم تقبل شهادتهما
لأن شهادة الولد لوالده والوالد لولده لا تقبل، وان شهدت بذلك أمها أو ابنتها قبلت وعنه لا تقبل بناء
على شهادة الوالد على ولده والد على والده وهي مقبولة في أصح الروايتين، وان ادعت ذلك المرأة
وأنكرها الزوج فشهدت لها أمها أو ابنتها لم تقبل وان شهدت لها أم الزوج أو ابنته قبل في أصح الروايتين
(مسألة) (وان كانت هي التي قبلت هو أخي من الرضاع وأكذبها فهي زوجته في الحكم
لأنه لا يقبل قولها في فسخ النكاح)
225

لأنه حق عليها فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لأنها تقر بأنها لا تستحقه وان كانت قد قبضته لم يكن المزوج
أخذه منها لأنه يقر بأنه حق لها، وإن كان بعد الدخول فأقرت أنها كانت عالمة بأنها أخته وبتحريمها عليه
وطاوعته في الوطئ فلا مهر لها أيضا لاقرارها بأنها زانية مطاوعة، وان أنكرت شيئا من ذلك فلها المهر
لأنه وطئ بشبهة وهي زوجته في ظاهر الحكم لأن قولها غير مقبول، فأما فيما بينها وبين الله تعالى
فإن علمت صحة ما أقرت به لم يحل لها مساكنته وتمكينه من وطئها وعليها أن تفر منه وتفتدي نفسها بما
أمكنها لأن وطأه لها زنا فعليها التخلص منه مهما أمكنها كما قلنا في التي علمت أن زوجها طلقها ثلاثا وأنكر
وينبغي أن يكون الواجب لها من المهر بعد الدخول أقل الأمرين من المسمى أو مهر المثل لأنه إن كان
المسمى أقل فلا يقبل قولها في وجوب زائد عليه، وإن كان الأقل مهر المثل لم يستحق أكثر منه لاعترافها
بان استحقاقها له بوطئها لا بالعقد فلا تستحق أكثر منه، وإن كان اقرارها باخوته قبل النكاح لم يجز لها
نكاحه ولا يقبل رجوعها عن اقرارها في ظاهر الحكم لأن اقرارها لم يصادف زوجية عليها يبطلها
فقبل اقرارها على نفسه بتحريمه عليها، وكذلك لو أقر الرجل أن هذه أخته من الرضاع أو محرمة عليه
برضاع أو غيره وأمكن صدقه لم يحل له تزوجها فيما بعد ذلك في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني
على علمه بحقيقة الحال على ما ذكرنا
(مسألة) (ولو قال الزوج هي ابنتي من الرضاع وهي في سنه أو أكبر منه لم تحرم) لتحققنا
كذبه وقد ذكرناه.
(مسألة) (ولو تزوج رجل امرأة لها لبن من زوج قبله فحملت منه ولم يزد لبنها فهو للأول وان
226

زاد لبنها فأرضعت به طفلا صار ابنا لهما وان انقطع من الأول ثم ثاب بحملها من الثاني فكذلك عند أبي بكر
وعند أبي الخطاب هو ابن الثاني وحده)
وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق زوجته ولها منه لبن فتزوجت آخر لم يخل من خمسة أحوال (أحدها)
أن يبقى الأول بحاله لم يزد ولم ينقص ولم تلد من الثاني فهو للأول سواء حملت من الثاني أو لم تحمل
لا نعلم فيه خلافا لأن اللبن كان للأول ولم يتجدد ما يجعله من الثاني فبقي للأول (الثاني) أن لا تحمل
من الثاني فهو للأول سواء زاد أو لم يزد أو انقطع ثم عاد أو لم ينقطع
(الثالث) أن تلد من الثاني فاللبن له خاصة، قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من أحفظ عنه وهو
قول أبي حنيفة والشافعي سواء زاد أو لم يزد انقطع أو لم ينقطع، لأن لبن الأول ينقطع بالولادة من
الثاني فإن حاجة المولود تمنع كونه لغيره (الرابع) أن يكون لبن الأول باقيا وزاد بالحمل من الثاني
فاللبن منهما جميعا في قول أصحابنا، وقال أبو حنيفة هو للأول ما لم تلد من الثاني، وقال الشافعي ان لم
ينته الحمل إلى حال ينزل به اللبن فهو للأول وان بلغ إلى حال ينزل به اللبن فزاد به ففيه قولان (أحدهما)
هو للأول والثاني هو لهما
ولنا أن زيادته عند حدوث الحمل ظاهر في أنها منه وبقاء لبن الأول يقتضي كون أصله منه فيجب
أن يضاف إليهما كما لو كان الولد منهما (الحال الخامس) انقطع من الأول ثم ثاب بالحمل من
الثاني فقال أبو بكر هو منهما وهو أحد أقوال الشافعي إذا انتهى الحمل إلى حال ينزل
به اللبن وذلك لأن اللبن كان للأول فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أن لبن الأول ثاب بسبب الحمل
227

الثاني فكان مضافا إليهما كما لو يقطع، واختار أبو الخطاب أنه من الثاني وهو القول الثاني للشافعي
لأن ليس الأول انقطع فزال حكمه بانقطاعه وحدث بالحمل من الثاني فكان له كما لو لم يكن لها لبن من
الأول، وقال أبو حنيفة هو للأول ما لم تلد من الثاني وهو القول الثالث للشافعي لأن الحمل لا يقتضي
اللبن وإنما يخلفه الله تعالى للولد عند وجوده لحاجته إليه وقد سبق الكلام عليه
(فصل) وإذا ادعى أحد الزوجين على الآخر انه أقر انه أخو صاحبه من الرضاع فأنكر لم يقبل
في ذلك شهادة النساء المنفردات لأنها شهادة على الاقرار والاقرار مما يطلع عليه الرجال فلم يحتج
فيه إلى شهادة النساء المنفردات فلم يقبل ذلك بخلاف الرضاع نفسه
(فصل) كره أبو عبد الله الارتضاع بلبن الفجور والمشركات وقال عمر بن الخطاب وعمر بن
عبد العزيز رضي الله عنهما: اللبن يشتبه فلا تستق من يهودية ولا نصرانية ولا زانية ولا يقل أهل
الذمة المسلمة ولا يرى شعورهن، ولان لبن مفاجرة ربما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور ويجعلها اما
لولده فيتعير بها ويتضرر طبعا وتعيرا والارتضاع من المشركة يجعلها اما لها حرمة الام مع شركها وربما
مال إليها في محبة دينها، وبكره الارتضاع بلبن الحمقاء كيلا يشبهها الولد في الحمق فإنه يقال إن الرضاء يغير الطباع
228

(كتاب النفقات)
(يجب على الرجال نفقة زوجته وما لا غناء لها عنه وكسوتها ومسكنها بما يصلح مثلها)
نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والاجماع اما الكتاب فقول الله سبحانه وتعالى (لينفق
ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) ومعنى قدر
ضيق وقال سبحانه (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت ايمانهم)، واما السنة فما روى جابر
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال " اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله
واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف " رواه مسلم ورواه الترمذي
باسناده عن عمرو بن الأحوص قال " إلا أن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فاما حقكم على
نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم ان تحسنوا
إليهن في كسوتهن وطعامهن " وقال حديث حسن صحيح وجاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت
يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال " خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف " متفق عليه وفيه دلالة على وجوب النفقة لها على زوجها وان ذلك مقدر بكفايتها
229

وان نفقة ولده عليه دونها مقدر بكفايتهم وان ذلك بالمعروف وان لها ان تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه
إذا لم يعطها إياه، واتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين
إلا الناشز منهن ذكره ابن المنذر وغيره وفيه ضرب من العبرة وهو المرأة محبوسة على الزوج يمنعها
من التصرف والاكتساب فلا بد من أن ينفق عليها كالعبد مع سيده، فمتى سلمت نفسها إلى الزوج
على الوجه الواجب عليها فلها عليه جميع حاجتها من مأكول وملبوس ومسكن
(مسألة) (وليس ذلك مقدرا لكنه معتبر بحال الزوجين جميعا).
هكذا ذكره أصحابنا فإن كانا موسرين فعليه لها نفقة الموسرين وان كانا معسرين فعليه نفقة
المتوسطين وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا فعليه نفقة المتوسطين أيهما كان الموسر، وقال
أبو حنيفة ومالك تعتبر حال المرأة على قدر كفايتها لقول الله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف " والمعروف الكفاية ولأنه سوى بين النفقة والكسوة على قدر حالها فكذلك الفقه وقال
النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فاعتبر كفايتها دون حال زوجها ولان نفقتها
واجبة لدفع حاجتها فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها دون حال من وجبت عليه كنفقة المماليك ولأنه
واجب للمرأة على زوجها بحكم الزوجية لم يقدر فكان معتبرا بها كمهرها، وقال الشافعي الاعتبار بحال
الزوج وحده لقول الله تعالى (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله
نفسا إلا ما آتاها)
230

ولنا ان فيما ذكرناه جمعا بين الدليلين وعملا بكلا النصين ورعاية لكلا الجانبين فكان أولى
(فصل) والنفقة مقدرة بالكفاية وتختلف باختلاف من تجب له النفقة في مقدارها، وبهذا قال
أبو حنيفة ومالك وقال القاضي هي مقدرة بمقدار لا يختلف في الكثرة والقلة، والواجب رطلان من
الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتبارا بالكفارات، وإنما يختلفان في صفته وجودته لأن الموسر
والمعسر سواء في قدر المأكول وما تقوم به البنية وإنما يختلفان في جودته فكذلك النفقة الواجبة، وقال
الشافعي نفقة المقتر مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لأن أقل ما يدفع في الكفارة مد والله سبحانه اعتبر الكفارة
بالنفقة على الأهل فقال سبحانه (من أوسط ما تطعمون أهليكم) وعلى الموسر مدان، لأن أكثر
ما أوجب الله سبحانه للواحد مدين في فدية الأذى، وعلى المتوسط مد ونصف، نصف نفقة الفقير
ونصف نفقة الموسر
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فأمرها بأخذ ما يكفيها من غير
تقدير ورد الاجتهاد في ذلك إليها، ومن المعلوم ان قدر كفايتها لا ينحصر في المدين بحيث لا يزيد عنهما
ولا ينقص ولان الله تعالى قال (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ولهن
عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وايجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف وايجاب
قدر الكفاية وإن كان أقل من مد أو رطلي خبر انفاق بالمعروف فيكون ذلك واجبا بالكتاب والسنة
231

واعتبار النفقة بالكفارة في القدر لا يصح لأن الكفارة لا تختلف باليسار والاعسار ولا هي مقدرة
بالكفاية وإنما اعتبرها الشرع بها في الجنس دون القدر ولهذا لا يجب فيها الادم
(فصل) ولا يجب فيها الحب وقال الشافعي يجب فيها الحب اعتبارا بالايجاب في الكفارة حتى لو
دفع إليها دقيقا أو سويقا أو خبزا لم يلزمها قبوله كما لا يلزم المسكين في الكفارة، وقال بعضهم يجئ
على قول أصحابنا أنه لا يجوز وان تراضيا عليه لأنه بيع حنطة بجنسها متفاضلا
ولنا قول ابن عباس في قول الله تعالى (من أوسط ما تطعمون أهليكم) قال الخبز والزيت وعن
ان عمر الخبز والسمن والخبز والزيت والخبز والتمر وأفضل ما تطعمونهن الخبز واللحم ففسر طعام
الأهل بالخبز مع غيره من الادم، ولان الشرع ورد بالايجاب مطلقا من غير تقدير ولا تقييد فوجب
ان يرد إلى العرف كما في القبض والاحراز، وأهل العرف إنما يتعارفون فيما بينهم في الانفاق على أهليهم
الخبز والادم دون الحب والنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إنما كانوا ينفقون ذلك دون ما ذكروه فكان ذلك هو
الواجب ولأنها نفقة قدرها الشرع بالكفاية فكان الواجب الخبز كنفقة العبيد ولان الحب تحتاج فيه
إلى طحنه وخبزه فمتى احتاجت إلى تكلف ذلك من مالها لم تحصل الكفاية بنفقته، وفارق الاطعام فإنها
لا تتقدر بالكفاية ولا يجب فيها الادم، فعلى هذا لو طلبت مكان الخبز حبا أو دراهم أو دقيقا أو غير ذلك
لم يلزمه بذله ولو عرض عليها بدل الواجب لها لم يلزمها قبوله لأنها معارضة فلا يجبر واحد منهما على
232

قبولها كالبيع وان تراضيا على ذلك جاز لأنه طعام وجب في الذمة لآدمي معين فجازت المعاوضة عنه
كالطعام في القرض ويفارق الطعام في الكفارة فإنه حق لله تعالى وليس هو لآدمي معين فيرضى
بالعوض عنه وان أعطاها مكان الخبز حبا أو دقيقا جاز إذا تراضيا عليه لأن هذا ليس بمعاوضة حقيقة
فإن الشارع لم يعين الواجب بأكثر من الكفاية فبأي شئ حصلت الكفاية كان ذلك هو الواجب
وإنما صرنا إلى ايجاب الخبز عند الاختلاف لترجحه بكونه القوت المعتاد
(مسألة) (فإن تنازعا رجع الامر إلى الحاكم)
وجملة ذلك أن الامر يرجع في تقدير الواجب للزوجة إلى اجتهاد الحاكم أو نائبه ان لم يتراضيا
على شئ فيفرض للمرأة قدر كفايتها من الخبز والادم فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها
من أرفع خبز البلد الذي يأكله أمثالها وللمعسرة تحت المعسر قدر كفايتها من أدنى خبز البلد وللمتوسطة
تحت المتوسط من أوسطه لكل أحد على حسب حاله على ما جرت العادة في حق أمثاله وكذلك الادم
للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها من أرفع الادم من الأرز واللحم واللبن وما ينطبخ به اللحم والدهن
على اختلاف أنواعه في بلدانه السمن في موضع والزيت في آخر والشحم في آخر والشيرج في آخر وللمعسرة
تحت المعسر من الادم أدونه كالباقلاء والخل والبقل والكامخ وما جرت به عادة أمثالهم وما يحتاج إليه
من الدهن وللمتوسطة تحت المتوسط أوسط ذلك من الخبز والإدام على حسب عادته
233

وقال الشافعي الواجب من جنس قوت البلد لا يختلف باليسار والاعسار سوى المقدار والادم
هو الدهن خاصة لأنه أصلح للأبدان وأجود في المؤنة لأنه لا يحتاج إلى طبخ وكلفة ويعتبر الادم بغالب
عادة أهل البلد كالزيت بالشام والشيرج بالعراق والسمن بخراسان ويعتبر قدر الادم بالقوت فإذا قيل إن
الرطل يكفيه الأوقية من الدهن فرض ذلك وفي كل يوم جمعة رطل لحم فإن كان في موضع يرخص
اللحم زادها على الرطل شيئا وذكر القاضي مثل هذا في الادم وهذا مخالف لقول الله تعالى (لينفق ذو سعة
من سعته ومن قدر عليه رزقة فلينفق مما آتاه الله) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف " ومتى أنفق الموسر نفقة المعسر فما أنفق من سعته ولا رزقها بالمعروف وقد فرق الله
تعالى بين الموسر والمعسر في الانفاق وفي هذا جمع بين ما فرقه الله تعالى وتقدير الادم بما ذكروه
تحكيم لا دليل عليه وخلاف العادة والعرف بين الناس في انفاقهم فلا يعرج على مثل هذا وقد قال
ابن عمر من أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم والصحيح ما ذكرناه من رد النفقة المطلقة في
الشرع إلى العرف فيما بين الناس في نفقاتهم في حق الموسر والمعسر والمتوسط كما رددناهم في الكسوة
إلى ذلك ولان النفقة من مؤنة المرأة على الزوج فاختلف جنسها باليسار والاعسار كالكسوة وحكم المكاتب
والعبد كالمعسر لأنهما ليسا بأحسن حالا منه ومن نصفه حر إن كان موسرا فحكمه حكم المتوسط لأنه
متوسط نصفه موسر ونصفه معسر
234

(مسألة) (ويجب عليه كسوتها باجماع أهل العلم) لما ذكرنا من النصوص ولأنها لا بد لها منها
على الدوام فلزمته كالنفقة وهي معتبرة بكفايتها وليست مقدرة بالشرع كما قلنا في النفقة
وهو قول أصحاب الشافعي ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم فيفرض لها قدر كفايتها على قدر
يسرها وعسرها وما جرت عادة أمثالها به من الكسوة فيجتهد الحاكم في ذلك نحو اجتهاده في المتعة
للمطلقة كما قلنا في النفقة فيفرض للموسرة تحت الموسر من أرفع ثياب البلد من الكتان والقطن والخز
والإبريسم وللمعسرة تحت المعسر غليظ القطن والكتان وللمتوسطة تحت المتوسط من ذلك وأقل ما يجب
من ذلك قميص وسراويل ومقنعة ومداس وجبة للشتاء ويزيد من عدد الثياب ما جرت العادة بلبسه
مما لا غناء عنه دون ما للتجمل والزينة وذلك لقول الله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)
والكسوة بالمعروف هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه وعليه ما يحتاج إليه للنوم من الفراش
واللحاف والوسادة كل على حسب عادته فإن كانت ممن عادته النوم في الأكسية والبسط فعليه لها لنومها
ما جرت عادتهم به ولجلوسها بالنهار البساط والزلى ولحصير الرفيع أو الخشن الموسر على حسب يساره
والمعسر على قدر اعساره والمتوسط بين ذلك على حسب العوائد
(مسألة) (وعليه ما يعود بنظافة المرأة من الدهن والسدر وثمن الماء مما تغسل به رأسها وما يعود بنظافتها)
لأن ذلك يراد للتنظيف فكان عليه كما أن على المستأجر كنس الدار وتنظيفها ولا تجب عليه الأدوية
واجرة الطبيب لأنه يراد لاصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من الدار وحفظ
أصولها وكذلك أجرة الحجام والفاصد
235

(مسألة) (فاما الطيب والخضاب والحناء ونحوه فلا يلزمه إلا أن يريد منها التزين به)
اما الخضاب فإنه ان لم يطلبه الزوج منها لم يلزمه وان طلبه منها فهو عليه واما الطيب فما يراد لقطع
السهوكة كدواء العرق يلزمه لأنه يراد للتنظيف وما يراد للتلذذ أو الاستمتاع لا يلزمه لأن الاستمتاع
حق له فلا يجب عليه ما يدعوه إليه
(فصل) ويجب لها مسكن بدليل قوله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) فإذا وجبت
السكنى للمطلقة فللتي في صلب النكاح أولى قال الله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) ومن المعروف ان
يسكنها في مسكن ولأنها لا تستغني عن المسكن للسترة عن العيون في التصرف والاستمتاع وحفظ المتاع
ويكون المسكن على قدر يسارهما واعسارهما لقول الله تعالى (من وجدكم) ولأنه واجب لها لمصلحتها
في الدوام فجري مجرى النفقة والكسوة
(مسألة) (وان احتاجت إلى من يخدمها لكون مثلها لا تخدم نفسها أو لمرضها لزمه ذلك)
لقول الله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) ومن العشرة بالمعروف ان يقم لها خادمها لأنها مما يحتاج
إليه في الدوام فأشبه النفقة
(مسألة) (فإن كان لها خادم وإلا أقام لها خادما بشراء أو كراء أو عارية ولا يلزم الزوج
ان يملكها خادما)
236

لأن المقصود الخدمة فإذا حصلت من غير تمليك جاز كما أنه إذا اسكنها دارا بأجرة جاز ولا يلزمه
تمليكها مسكنا فإن ملكها الخادم فقد زاد خيرا وان أخدمها من يلازم خدمتها من غير تمليك جاز
سواء كان له أو استأجره حرا كان أو عبدا فإن كان الخادم لها فرضيت بخدمته لها ونفقته على الزوج
جاز وان طلبت منه اجر خادمها فوافقها جاز وان أبى وقال انا آتيك بخادم سواه فله ذلك إذا اتاها
بمن يصلح لها. ولا يكون الخادم إلا ممن يحل له النظر إليها اما امرأة واما ذو رحم محرم لأن الخادم
يلزم المخدوم في غالب أحواله فلا يسلم من النظر وهل يجوز أن يكون خادم المسلمة من أهل الكتاب؟
فيه وجهان أصحهما جوازه لأن استخدامهم مباح ولأن الصحيح إباحة النظر لهم (والثاني) لا يجوز
لأن في إباحة نظرهم اختلافا وتعافهم النفس ولا يتنظفون من النجاسة
(مسألة) (وعلية نفقته بقدر نفقة الفقيرين إلا في النظافة)
يجب على الزوج نفقة الخادم وكسوته مثل ما لامرأة المعسر إلا أنه لا يجب لها المشط والدهن
والسدر لرأسها لأن ذلك مما يراد للزينة والتنظيف ولا يراد ذلك من الخادم. فإن احتاجت إلى خف
لتخرج إلى شراء الحوائج لزمه ذلك
(مسألة) (ولا يلزمه أكثر من نفقة خادم واحد، لأن المستحق خدمتها في نفسها ويحصل
ذلك بواحد)، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك إن كان لا يصلح المرأة إلا
237

أكثر من خادم فعليه أن ينفق على أكثر من خادم واحد ونحوه قال أبو ثور إذا احتمل
الزوج ذلك فرض لخادمين.
ولنا أن الخادم الواحد يكفيها لنفسها والزيادة تراد لحفظ ملكها وللتجمل وليس عليه ذلك
(مسألة) فإن قالت أنا أخدم نفسي وآخذ ما يلزمك لخادمي لم يكن لها ذلك ولم يلزمه) لأن الاجر
عليه فتعيين الخادم إليه ولان في خدمة غيرها إياها توفيرها على حقوقه وترفهها ورفع قدرها وذلك
يفوت بخدمتها لنفسها.
(مسألة) فإن قال الزوج أنا اخدمك بنفسي لم يلزمها) لأنها تحتشمه وفيه غضاضة عليها لكون
زوجها خادما وفيه وجه آخر أنه يلزمها الرضى به لأن الكفاية تحصل به
(فصل) ويلزمه نفقة المطلقة الرجعية وكسوتها ومسكنها كالزوجة سواء، لأنها زوجة بدليل قوله
سبحانه (وبعولتهن أحق بردهن) ولأنه يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه فأشبه ما قبل الطلاق وللأدلة
الدالة على وجوب نفقة الزوجة من الكتاب والسنة والاجماع
(مسألة) (وأما البائن بفسخ أو طلاق فإن كانت حاملا فلها النفقة والسكنى وإلا فلا شئ
لها وعنه لها السكنى)
وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق امرأته طلاقا بائنا إما أن يكون ثلاثا أو بخلع أو بانت بفسخ
وكانت حاملا فلها النفقة والسكنى باجماع أهل العلم لقول الله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من
من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) وفي
238

بعض ألفاظ حديث فاطمة بنت قيس " لا نفقة لك " إلا أن تكون حاملا ولان الحمل ولده فيلزمه الانفاق
عليه ولا تمكنه النفقة عليه إلا بالانفاق عليها فوجب كما وجبت أجرة الرضاع وان كانت حائلا فلا
نفقة لها وفي السكنى روايتان
(إحداهما) لا يجب لها ذلك وهو قول علي وابن عباس وجابر وبه قال عطاء وطاوس والحسن
وعمر بن ميمون وعكرمة وإسحاق وأبو ثور وداود
(والثانية) يجب لها وهو قول عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة وسعيد بن المسيب والقاسم
وسالم والفقهاء السبعة ومالك والشافعي لقول الله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن
لتضيقوا عليهن وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) فأوجب لها السكنى مطلقا ثم
خص الحامل بالانفاق عليها، وقال أكثر فقهاء العراق: لها السكنى والنفقة وبه قال ابن شبرمة وابن
أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه والبتي والعنبري ويروي ذلك عن عمر وابن
مسعود لأنها مطلقة فوجبت لها النفقة والسكنى كالرجعية وردوا خبر فاطمة بنت قيس بما روي عن عمر
أنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة وأنكرته عائشة وسعيد بن المسيب وتأولوه، قال
عروة لقد عابت عائشة ذلك أشد العيب وقالت إنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، وقال
سعيد بن المسيب تلك امرأة فتنت الناس بلسانها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى
239

ولنا ما روت فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطنه فقال والله
ما لك علينا من شئ فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " ليس لك عليه نفقة ولا سكنى " فأمرها أن
تعتد في بيت أم شريك متفق عليه وفي لفظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظري يا ابنة قيس إنما النفقة للمرأة على
زوجها ما كانت له عليها الرجعية فإذا لم يكن له عليها الرجعة فلا نفقة ولا سكنى " رواه الإمام أحمد والأثرم والحميدي،
قال ابن عبد البر من طريق الحجة وما يلزم منها: قول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأحج لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
نصا صريحا فأي شئ يعارض هذا إلا مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المبين عن الله تعالى مراده ولا شئ يدفع
ذلك ومعلوم أنه أعلم بتأويل قول الله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم)؟ وأما قول عمر
ومن وافقه فقد خالفه علي وابن عباس وجابر ومن وافقهم والحجة معهم ولو لم يخالفه أحد منهم لما
قبل قوله المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على عمر
وغيره ولم يصح عن عمر أنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة فإن أحمد أنكره وقال اما
هذا فلا فإنه قال لا نقبل في ديننا قول امرأة وهذا يرده الاجماع على قبول قول المرأة في الرواية فقد
أجد تقول فريعة وهي امرأة وتخبر عائشة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار خبر فاطمة
إذا لم تكن حاملا مثل نظر المرأة إلى الرجال وخطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن سكنت إلى
الأول وأما تأويل من تأول حديثها فليس بشئ فإنها تخالفهم في ذلك وهي أعلم بحالها ولم يتفق المتأولون
240

على شئ وقد رد على من رد عليها فقال ميمون بن مهران لسعيد بن المسيب لما قال تلك امرأة فتنت الناس
بلسانها: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فنت الناس وان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة
حسنة مع أنها أحرم الناس عليه ليس له عليها رجعة ولا بينهما ميراث، وقول عائشة انها كانت في مكان وحش
لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل بغير ذلك فقال " يا ابنة آل قيس إنما النفقة والسكنى ما كان لزوجك عليك
الرجعة " هكذا رواه الحميدي والأثرم ولو صح ما قالته عائشة ما احتاج عمر في رده إلى أن يعتذر بأنه
قول امرأة وهي أعرف بنفسها وبحالها، وأما قول عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا فقد قال إسماعيل
بن إسحاق نحن نعلم أن عمر لا يقول لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى والذي في الكتاب
أن لها النفقة إذا كانت حاملا بقوله سبحانه (وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)
وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن لاشتراطه الحمل في الامر بالانفاق وقد
روى أبو داود وغيره باسنادهم عن ابن عباس في حديث المتلاعنين قال ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما
وقضى أن لا بيت لها ولا قوت ولأن هذه محرمة عليه تحريما لا تزيله الرجعة فلم يكن لها سكنى ولا نفقة كالملاعنة
وتفارق الرجعية فإنها زوجية يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه بخلاف البائن
(فصل) ولا سكنى للملاعنة ولا نفقة ان كانت حائلا للخبر وكذلك ان كانت حاملا فنفى حملها وقلنا
241

إنه ينتفي عنه أو قلنا إنه ينتفي بزوال الفراش وان قلنا لا ينتفي أو لم ينفه وقلنا انه يلحقه نسبه فلها
السكنى والنفقة لأن ذلك للحمل أو لها بسببه وهو موجود فأشبهت المطلقة البائن، فإن نفي الحمل فأنفقت أمه
وسكنت من غير الزوج وأرضعت ثم استحقه الملاعن لحقه ولزمته النفقة وأجر المسكن والرضاع لأنها فعلت
ذلك على أنه لا أب له فإذا ثبت له أب لزمه ذلك ورجع به عليه، فإن قيل النفقة لأجل الحمل نفقة الأقارب
وهي تسقط بمضي الزمان فكيف يرجع عليه بما يسقط عنه؟ قلنا بل النفقة للحامل لأجل الحمل فلا تسقط
كنفقتها في الحياة وان سلمنا أنها للحمل إلا أنها مصروفة إليها ويتعلق به حقها فلا تسقط بمضي الزمان كنفقتها
(مسألة) (فإن طلق زوجته ولم ينفق عليها يظنها حائلا ثم تبين أنها كانت حاملا فعليه نفقة ما مضى)
لأننا تبينا استحقاقها له فرجعت به عليه كالدين
(مسألة) (وان أنفق عليها يظنها حاملا وبانت حائلا مثل من ادعت الحمل لتكون لها النفقة
أنفق عليها ثلاثة أشهر ثم أريت الفوايل بعد ذلك)
لأن الحمل يتبين بعد ثلاثة أشهر ألا أن تظهر براءتها من الحمل بالحيض أو بغيره فتنقطع نفقتها
كما تنقطع إذا قال القوابل ليست حاملا رجع عليها بما أنفق لأنها أخذت منه ما لا تستحق فرجع عليها
كما لو ادعت عليه دينا وأخذته منه ثم تبين كذبها، وعن أحمد رواية أخرى لا يرجع بشئ لأنه أنفق
عليها بحكم آثار النكاح فلم يرجع به كالنفقة في النكاح الفاسد إذا تبين فساده وان علمت براءتها من
الحمل بالحيض فكتمته فينبغي أن يرجع عليها قولا واحدا لأنها أخذت النفقة مع علمها ببراءته منها كما
لو أخذتها من ماله بغير علمه، وان ادعت الرجعية الحمل فأنفق عليها أكثر من مدة عدتها رجع عليها
242

بالزيادة ويرجع في مدة العدة إليها لأنها أعلم بها فالقول قولها فيها مع يمينها فإن قالت قد ارتفع حيضي
فلم أدر ما رفعه فعدتها سنة ان كانت حرة، وان قالت قد انقضت بثلاثة قروء وذكرت آخرها فلها النفقة
إلى ذلك ويرجع عليها بالزائد وان قالت لا أدري متى آخرها رجعنا إلى عادتها فحسبنا لها بها وان قالت
عادي تختف فتطول وتقصر انقضت العدة بالأقصر لأنه اليقين وان قالت عادتي تختلف ولا أعلم رددناها
إلى غالب عادات النساء في كل شهر قرء كما رددنا المتحيرة إلى ذلك في أحكامها كذلك هذه، فإن بان
أنها حامل من غيره مثل أن تلده لأكثر من أربع سنين فلا نفقة عليه كمدة حملها لأنه من غيره وان
كانت رجعية فلها النفقة في مدة عدتها فإن كانت انقطعت قبل حملها فلها النفقة إلى انقضائها وان حملت
في أثناء عدتها فلها النفقة إلى الوطئ الذي حملت منه ثم لا نفقة لها حتى تضع حملها ثم تكون لها النفقة
في تمام عدتها وان وطئها زوجها في العدة الرجعية حصلت الرجعة، وان قلنا لا تحصل فالنسب لاحق به
وعليه النفقة لمدة حملها، وان وطئها بعد انقضاء عدتها أوطئ البائن عالما بذلك وبتحريمه فهو زنا لا يلحقه نسب
الولد ولا نفقة له عليه من أجله وان جهل بينونتها أو انقضاء عدة الرجعية أو تحريم ذلك وهو ممن
يجهله لحقه النسب وفي وجوب النفقة عليه روايتان
243

(مسألة) (وهل تجب النفقة للحامل لحملها أو لها من أجله؟ على روايتين)
(إحداهما) تجب للحمل اختارها أبو بكر لأنها تجب بوجوده وتسقط عند انقضائه فدل على أنها
له (والثانية) تجب لها من أجله لأنها تجب مع اليسار والاعسار فكانت لها كنفقة الزوجات ولأنها
لا تسقط بمضي الزمان فأشبهت نفقتها في حياته وللشافعي قولان كالروايتين. وينبني على هذا الاختلاف
فروع (منها) أنها إذا كانت المطلقة الحامل أمة وقلنا النفقة للحمل فنفقتها على سيدها لأنه ملكه وان
قلنا لها فعلى الزوج لأن نفقتها عليه، وإن كان الزوج عبدا وقلنا هي للحمل فليس عليه نفقة لأنه لا يلزمه
نفقة ولده، وان قلنا لها فالنفقة عليه لما ذكرنا وان كانت حاملا من نكاح فاسد أو وطئ شبهة وقلنا
النفقة للحمل فعلى الزوج والوطئ لأنه ولده فلزمته نفقته كما بعد الوضع، وان قلنا للحامل فلا نفقة
عليه لأنها ليست زوجة يجب الانفاق عليها، وان نشزت امرأة إنسان وهي حامل وقلنا النفقة للحمل لم
تسقط نفقتها لأن نفقة ولده لا تسقط بنشوز أمه وان قلنا لها فلا نفقة لها لأنها ناشز
(فصل) ويلزم الزوج دفع نفقة الحامل المطلقة إليها يوما فيوما كما يلزمه دفع نفقة الرجعية وقال
الشافعي في أحد قوليه لا يلزمه دفعها إليها حتى تضع لأن الحمل غير متحقق ولهذا أوقفنا الميراث وهذا
خلاف قول الله تعالى (وان كن أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) ولأنها محكوم لها بالنفقة
فوجب دفعها إليها كالرجعية وما ذكره لا يصح فإن الحمل يثبت بالامارات وتثبت أحكامه في منع النكاح
والحد والقصاص وفسخ البيع في الجارية المبيعة والمنع من الاخذ في الزكاة ووجوب الدفع في الدية فهو
كالمتحقق، ولا يشبه هذا الميراث فإن الميراث لا يثبت بمجرد الحمل فإنه يشترط له الوضع والاستهلال بعد
244

الوضع ولا يوجد ذلك قبله ولأننا لا نعلم صفة الحمل ووجود شرط توريثه بخلاف مسئلتنا فإن النفقة تجب
بمجرد الحمل ولا تختلف باختلافه. إذا ثبت هذا فمتى ادعت الحمل فصدقها دفع إليها فإن كان حملا فقد
استوفت حقها وان بان أنها ليست حاملا رجع عليها سواء دفع إليها بحكم حاكم أو بغيره وسواء شرط
أنها نفقة أو لم يشترط وعنه لا يرجع، والصحيح الأول لأنه دفعه على أنه واجب فإذا بان أنه ليس بواجب
استرجعه كما لو قضاها دينا فبان أنه لم يكن عليه دين، وان أنكر حملها نظر النساء الثقات فرجع إلى قولهن
ويقبل قول المرأة الواحدة إذا كانت من أهل الخبرة والعدالة لأنها شهادة على ما لا يطلع عليه الرجال
غالبا أشبه الرضاع وقد ثبت الأصل بالخبر المذكور
(مسألة) (واما المتوفى عنها زوجها فإن كانت حائلا فلا سكنى لها ولا نفقة في مدة العدة لأن النكاح
قد زال بالموت وان كانت حاملا ففيها روايتان)
(إحداهما) لها السكنى والنفقة لأنها حامل من زوجها فكانت لها السكنى والنفقة كالمفارقة في الحياة
(والثانية) لا سكنى لها ولا نفقة لأنه قد صار للورثة ونفقة الحامل وسكناها إنما هو للحمل أو من أجله
ولا يلزم ذلك الورثة لأنه إن كان للميت ميراث فنفقة الحمل من نصيبه وان لم يكن له ميراث لم يلزم وارث
الميت الانفاق على حمل امرأته كما بعد الولادة قال القاضي وهذه الرواية أصح
(فصل) ولا تجب النفقة على الزوج في النكاح الفاسد لأنه ليس بينهما نكاح صحيح فإن طلقها
245

أو فرق بينهما قبل الوطئ فلا عدة عليها وإن كان بعده فعليها العدة ولا نفقة لها ولا سكنى ان كانت حائلا
لأنه إذا لم يجب ذلك قبل التفريق فبعده أولى، وان كانت حاملا فعلى ما ذكرنا فإن قلنا لها النفقة إذا
كانت حاملا فلها ذلك قبل التفريق لأنه إذا وجب بعد التفريق فقبله أولى، ومتى أنفق عليها قبل مفارقتها
أو بعدها لم يرجع عليها بشئ لأنه إن كان عالما بعدم الوجوب فهو متطوع به وان لم يكن عالما فهو
مفرط فلم يرجع به كما لو أنفق على أجنبية، وكل معتدة من وطئ من غير نكاح صحيح كالموطوءة بشبهة
وغيرها إن كان يلحق الواطئ نسب ولدها فهي كالموطوءة في النكاح الفاسد وإن كان لا يلحقه نسب
ولدها كالزاني فليس عليه نفقتها حاملا كانت أولا لأنه لا نكاح بينهما ولا بينهما ولد ينسب إليه
(فصل) ولا تجب على الزوج نفقة الناشز فإن كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها، والنشوز معصيتها
إياه فيما يجب عليها مما أوجبه الشرع بسبب النكاح، فمتى امتنعت من فراشه أو من الانتقال معه إلى
مسكن مثلها أو خرجت من منزله بغير اذنه أو أبت السفر معه إذا لم تشترط بلدها فلا نفقة لها ولا سكنى
في قول عامة أهل العلم منهم الشعبي وحماد ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور
وقال الحكم لها النفقة قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا خالف هؤلاء إلا الحكم ولعله يحتج بان نشوزها
لا يسقط مهرها فكذلك نفقتها
ولنا ان النفقة إنما تجب في مقابلة تمكينها بدليل أنها لا تجب قبل تسليمها إليه ولأنه إذا منعها النفقة
246

كان لها منعه التمكين فكذلك إذا منعته التمكين كان له منعها النفقة كما قبل الدخول، ويخالف المهر فإنه
يجب بمجرد العقد كذلك لو مات أحدهما قبل الدخول وجب المهر دون النفقة فاما نفقة ولدها منه
فهي واجبة عليه فلا يسقط حقه بمعصيتها كالكبير وعليه دفعها إليها إذا كانت هي الحاضنة له أو المرضعة
وكذلك اجر رضاعها يلزمه تسليمه إليها لأنه اجر ملكته عليه بالارضاع لا في مقابلة الاستمتاع
فلا يزول بزواله
(فصل) وإذا سقطت نفقتها بالنشوز فعادت عن النشوز والزوج حاضر عادت نفقتها لزوال المسقط
لها ووجود التمكين المقتضي لها وإن كان غائبا لم تعد نفقتها حتى يعود التسليم بحضوره أو حضور وكيله
أو حكم الحاكم بالوجوب إذا مضى زمن الامكان، ولو ارتدت سقطت نفقتها فإن عادت إلى الاسلام عادت
بمجرد عودها لأن المرتدة إنما سقطت النفقة بخروجها عن الاسلام فإذا عادت إليه زال المعنى المسقط
فعادت النفقة وفي النشوز سقطت النفقة بخروجها عن يده أو منعها له من التمكين المستحق عليها ولا يزول
ذلك إلا بعودها إلى يده وتمكينه منها ولا تحصيل ذلك في غيبته وكذلك لو بذلت تسليم نفسها قبل دخوله
بها وهو غائب لم تستحق النفقة بمجرد البذل كذا ههنا
(فصل) إذا خالعت المرأة زوجها وهي حامل ولم تبرئه من حملها فلها النفقة كالمطلقة ثلاثا وهي
حامل لأن الحمل ولده فعليه نفقته وان أبرأته من الحمل عوضا في الخلع صح سواء كان العوض كله
أو بعضه وقد ذكرناه في الخلع وذكرنا الخلاف فيه ولا تبرأ حتى تفطمه إذا كانت قدا برأته من نفقة
247

الحمل وكفالة الولد إلى ذلك أو أطلقت البراءة من نفقة الحمل وكفالة لأن البراءة المطلقة تنصرف إلى
المدة التي تستحق المرأة العوض عليه فيها وهي مدة الحمل والرضاع لأن المطلق إذا كان له عرف انصرف
إليه، وان اختلفا في مدة الرضاع انصرف إلى حولين لقول الله سبحانه (وفصاله في عامين) وقال تعالى
(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد ان يتم الرضاعة) ثم قال تعالى (فإن أرادا
فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) فدل على أنه لا يجوز فصاله قبل الحولين إلا بتراض
منهما وتشاور، وان قدرا مدة البراءة بزمن الحمل أو بعام نحو ذلك فهو على ما قدراه وهو أولى لأنه
اقطع للنزاع وابعد من اللبس والاشتباه، ولو أبرأته من نفقة الحمل انصرف ذلك إلى زمن الحمل قبل
وضعه قال القاضي إنما صح مخالعتها على نفقة الولد وهي الولد دونها لأنها في حكم المالكة لها لأنها التي
تقبضها وتستحقها وتتصرف فيها فإنها في مدة الحمل هي الآكلة لها المنتفعة بها وبعد الولادة هي اجر
رضاعها إياه وهي الآخذة لها المتصرفة فيها كملك من أملاكها فصح جعلها عوضا، فاما النفقة
الزائدة على هذا من كسوة الطفل ودهنه ونحو ذلك فلا يصح ان تعاوض به في الخلع لأنه ليس هو لها
ولا في حكم ما هو لها
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ويجب دفع النفقة إليها في صدر نهار كل يوم ذلك إذا طلعت الشمس)
248

لأنه أزل وقت الحاجة فإن اتفقا على تأخيرها أو تعجيلها لمدة قليلة أو كثيرة جاز لأن الحق لهما
لا يخرج عنهما فجاز من تعجيله وتأخيره ما أنفقا عليه كالدين ولا خلاف بين أهل العلم هذا فيما علمنا
(مسألة) (فإن طلب أحدهما دفع القيمة لم يلزم الآخر)
لأنه طلب غير الوجب فلم يلزم الآخر لأنها معاوضة فلا يجبر عليها واحد منهما كالبيع، وإن
تراضيا على ذلك جاز لأنه طعام وجب في الذمة لآدمي معين فجازت المعاوضة عنه كالطعام في القرض
(مسألة) (وعليه كسوتها في كل عام مرة)
لأنه العادة ويكون الدفع إليها في أوله لأنه أول وقت الوجوب
(مسألة) (فإذا قبضتها فسرقت أو تلفت لم يلزمه عوضها)
إذا تلفت الكسوة أو سرقت بعد قبضها لم يلزمه عوضها لأنها قبضت حقها فلم يلزمه غيره كالدين
إذا وفاها إياه ثم ضاع منها
(مسألة) (وإن انقضت السنة وهي صحيحة فعليه كسوة السنة الأخرى ويحتمل أن لا يلزمه)
وجملة ذلك أنه إذا دفع إليها كسوة العام برئ منها كما إذا دفع إليها نفقة اليوم فإن بليت قبل
ذلك لكثرة خروجها ودخولها أو استعمالها لم يلزمه ابدالها لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في
249

العرف، وإن مضى الزمان الذي يلي في مثله بالاستعمال ولم يهل فهل يلزمه بدلها؟ فيه وجهان (أحدهما)
لا يلزمه لأنها غير محتاجة إلى الكسوة (والثاني) يلزمه لأن الاعتبار بمضي الزمان دون حقيقة الحاجة
بدليل أنها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه بدلها ولو أهدى إليها كسوة لم تسقط كسوتها وكذلك لو أهدى
إليها طعام فأكلته وبقي قوتها إلى الغد لم يسقط قوتها فيه
(مسألة) (وان ماتت أو طلقها قبل مضي السنة فهل يرجع عليها بقسط بقية السنة؟ على وجهين)
(أحدهما) له الرجوع لأنه دفعها للزمان المستقبل فإذا طلقها قبل مضيه كان له استرجاعها كما لو
دفع إليها نفقة مدة ثم طلقها قبل انقضائها (والثاني) ليس له الاسترجاع لأنه دفع إليها الكسوة بعد
وجوبها عليه فلم يكن له الرجوع فيها كما لو دفع إليها النفقة بعد وجوبها ثم طلقها قبل أكلها
بخلاف النفقة المستقبلة.
(مسألة) (وإذا قبضت النفقة فلها التصرف فيها على وجه لا يضر بها ولا ينهك بدنها فيجوز لها
بيعها وهبتها والصدقة بها وغير ذلك)
لأنها حقها فملكت التصرف فيه كسائر ما لها فإن عاد ذلك عليها بضرر في بدنها ونقص في
استمتاعها فلا تملكه لأنها تفوت حقه بذلك، وكذلك الحكم في الكسوة في أحد الوجهين قياسا على
النفقة واحتمل المنع لأن له استرجاعها لو طلقها في أحد الوجهين بخلاف النفقة
250

(مسألة) (وإن غاب مدة ولم ينفق نفقة ما مضى سواء تركها لعذر أو غير عذر في أظهر الروايتين)
وبه قال الحسن والشافعي وإسحاق وابن المنذر والرواية الأخرى تسقط ما لم يكن الحاكم قد فرضها
لها وهو مذهب أبي حنيفة لأنها نفقة تجب يوما فيوما فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم كنفقة
الأقارب ولان نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها أشبهت نفقة الأقارب
ولنا أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم بأن ينفقوا
أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولأنها حق يجب مع اليسار والاعسار فلم يسقط بمضي الزمان
كأجرة العقار والديون قال ابن المنذر: هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والاجماع ولا يزول ما
وجب بهذه الحجج الا بمثلها وفارق نفقة الأقارب فإنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق والاعسار ممن
تجب له وجبت لتزجية الحال فإذا مضى زمنها استغنى عنها فأشبه ما لو استغنى عنها بيساره وهذا بخلاف
ذلك. إذا ثبت هذا فإنه إن ترك النفقة عليها مع يساره فعليه النفقة بكمالها، وإن تركها لاعساره لم يلزمه
الا نفقة المعسر لأن الزائد سقط بالاعسار
(فصل) والذمية كالمسلمة في النفقة والمسكن والكسوة في قول عامة أهل العلم وبه يقول مالك والشافعي
وأبو ثور وأصحاب الرأي لعموم النصوص والمعنى
(فصل) قال الشيخ رحمه الله إذا بذلت المرأة تسليم نفسها إليه وهي ممن يوطأ مثلها أو يتعذر
251

وطؤها لمرض أو حيض أو رتق أو نحوه لزم زوجها نفقتها سواء كان الزوج صغيرا أو كبيرا يمكنه
الوطئ أو لا يمكنه كالمجبوب والعنين والمريض)
وجملته أن المرأة إذا بذلت تسليم نفسها وهي ممن يوطأ مثلها لزم زوجها نفقتها لما روى جابر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن
بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " رواه مسلم
(مسألة) (وإن سلمت نفسها وهي ممن يتعذر وطؤها لرتق أو حيض أو نفاس أو لكونها نضوة
الخلق لا يمكنه وطؤها لذلك أو لمرضها لزمته نفقتها أيضا وإن حدث بها شئ من ذلك لم تسقط نفقتها)
لأن الاستمتاع ممكن ولا تفريط من جهتها وان منع من الوطئ فإن قيل فالصغيرة التي لا يمكن
وطؤها إذا سلمت نفسها لا تجب نفقتها قلنا الصغيرة لها حال يتمكن من الاستمتاع بها فيها استمتاعا
تاما والظاهر أنه تزوجها انتظارا لملك الحال بخلاف هؤلاء وكذلك لو طلب تسليم هؤلاء وجب تسليمهن
ولا يجب تسليم الصغيرة إذا طلبها فإن قيل فلو بذلت الصحيحة الاستمتاع مما دون الوطئ لم تجب نفقتها فكذلك
هؤلاء، قلنا تلك متعة مما يجب عليها وهؤلاء لا يجب عليهن التمكين مما فيه ضرر، فإن ادعت أن عليها ضررا
في وطئه لضيق فرجها أو قروح به أو نحو ذلك وأنكره أريت امرأة ثقة وعمل بقولها وان ادعت
252

عيالة ذكره وعظمه جاز أن تنظر المرأة إليهما حال اجتماعهما لأنه موضع حاجة ويجوز النظر
إلى العورة للحاجة والشهادة.
(مسألة) (وان أسلمت نفسها وهي صغيرة وجبت عليه نفقتها إذا كانت كبيرة يمكن وطؤها)
وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر لا نفقة لها وهو قول
مالك لأن الزوج لا يتمكن من الاستمتاع بها فلم يلزمه نفقتها كما لو كانت صغيرة
ولنا أنها سلمت نفسها تسليما صحيحا فوجبت لها النفقة كما لو كان الزوج كبيرا ولان الاستمتاع
بها ممكن وإنما تعذر من جهة الزوج فهو كما لو تعذر لغيبته بخلاف ما إذا كانت صغيرة فإنها لم تسلم نفسها
تسليما صحيحا ولم تبذل ذلك وكذلك إذ كان يتعذر عليه الوطئ إذا كان مريضا أو مجبوبا أو عنينا لأن
التمكين وجد من جهتها وإنما تعذر من جهته فوجبت النفقة كما لو سلمت إليه نفسها وهو كبير فهرب، إذا
ثبت هذا فإن الولي يجبر على نفقتها من مال الصبي لأن النفقة عليه وإنما الولي ينوب عنه في أداء الواجبات
عليه كما يؤدي أروش جناياته وزكواته
(مسألة) (فإن كانت صغيرة لا يمكن وطؤها لم تجب نفقتها ولا تسليمها إليه إذا طلبها)
وبهذا قال الحسن وبكر بن عبد الله المزني والنخعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وهو
نص الشافعي وقال في موضع لو قيل لها النفقة كان مذهبا وهو قول الثوري لأن تعذر الوطئ لم يكن
بفعلها ولم يمنع وجوب النفقة كالمرض.
253

ولنا أن النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع ولا يتصور ذلك مع تعذر الاستمتاع فلم تجب نفقتها
كما لو منعه أولياؤها من تسليم نفسها وبهذا يبطل ما ذكروه وتفارق المريضة فإن الاستمتاع بها ممكن
وإنما نقص بالمرض ولان من لا تمكن الزوج من نفسها لا تلزمه نفقتها فهذه أولى لأن تلك يمكن الزوج
قهرها ووطؤها كرها وهذه لا يمكن فيها ذلك بحال وعلى هذا لا يجب على الزوج تسلمها ولا تسليمها إليه إذا
طلبها لأنه لا يمكنه استيفاء حقه منها.
(مسألة) (وان بذلته والزوج غائب لم يفرض لها حتى يراسله الحاكم ويمضي زمن يمكن
أن يقدم في مثله).
وجملة ذلك أن المرأة بذلت التسليم والزوج غائب لم تستحق النفقة لأنها بذلته في حال لا يمكنه
التسليم فيه فإن مضت إلى الحاكم فبذلت التسليم كتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي هو فيه ليستدعيه ويعلمه
ذلك فإن سار إليها أو وكل من يسلمها إليه فوصل وتسلمها هو أو نائبه وجبت النفقة حينئذ وان لم يفعل
فرض الحاكم عليه نفقتها من الوقت الذي كان يمكن الوصول إليها وتسلمها فيه لأن الزوج امتنع من
تسلمها وإمكان ذلك وبذلها إياه له فلزمته نفقتها كما لو كان حاضرا فاما ان غاب الزوج بعد تمكينها ووجوب
نفقتها عليه لم تسقط عنه بل تجب عليه في زمن غيبة لأنها استحقت النفقة بالتمكين ولم يوجد منها ما يسقطها
(فصل) فإن سلمت الصغيرة التي يمكن وطؤها نفسها أو المجنونة فتسلمها لزمته نفقتها كالكبيرة وان
254

لم يتسلمها لمنعها نفسها أو لمنع أوليائها فلا نفقة لها عليه كالكبيرة وان غاب الزوج فبذل وليها تسليمها
فهو كما لو بذلت المكلفة التسليم لأن وليها يقوم مقامها وان بذلت هي دون وليها لم يفرض الحاكم
لها نفقة لأنه لا حكم لكلامها
(مسألة) (وان منعت نفسها أو منعها أهلها فلا نفقة لها وان تساكنا بعد العقد فلم تبذل ولم يطلب
فلا نفقة لها وان طال مقامها على ذلك)
فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق إلا بعد دخوله
ولم يلتزم نفقتها لما مضى ولان النفقة تجب في مقابلة التمكين المستحق بعقد النكاح فإذا وجد استحقت
وإذا فقد لم تستحق شيئا
(فصل) ولو بذلت تسليمها غير تام بان تقول أسلم إليك نفسي في منزلي دون غيره أو في المنزل
الفلاني دون غيره لم تستحق شيئا إلا أن تكون قد اشترطت ذلك في العقد لأنها لم تبذل التسليم الواجب
بالعقد فلم تستحق النفقة كما لو قال البائع أسلم إليك السلعة على أن تتركها في موضعها أو في مكان يعينه
فإن شرطت دارها أو بلدها فسلمت نفسها في ذلك استحقت النفقة لأنها فعلت الواجب عليها ولذلك
لو سلم السيد أمته المزوجة في الليل دون النهار استحقت النفقة بخلاف الحرة فإنها لو بذلت نفسها في
بعض الزمان لم تستحق شيئا لأنها لم تسلم التسليم الواجب بالعقد وكذلك ان أمكنته من استمتاع ومنعته
استمتاعا لم تستحق شيئا كذلك
(مسألة) (إلا أن تمنع نفسها قبل الدخول حتى تقبض صداقها الحال فلها ذلك وتجب نفقتها)
255

وجملة ذلك أن امرأة تمنع نفسها حتى تتسلم صداقها لأن تسليم نفسها قبل صداقها يفضى
إلى أن يتسلم منفعتها المعقود عليها بالوطئ ثم لا يسلم صداقها فلا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها بخلاف
المبيع إذا سلمه المشتري ثم أعسر بالثمن فإنه يمكنه الرجوع فيه فلهذا ألزمناه تسليم صداقها أولا وجعلنا
لها ان تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض صداقها لأنه إذا سلم إليها الصداق ثم امتنعت من التسليم أمكن
الرجوع فيه. إذا ثبت هذا فمتى امتنعت من تسليم نفسها لتقبض صداقها فلها نفقتها لأنها امتنعت لحق
فإن قيل فلو امتنعت لصغر أو مرض لم يلزمه نفقتها، قلنا الفرق بينهما ان امتناعها لمرض لمعنى من جهتها
وكذلك الامتناع لصغر وههنا الامتناع لمعنى من جهة الزوج هو منعه لما وجب عليه فأشبه ما لو تعذر
الاستمتاع لصغر الزوج فإنه لا يسقط نفقتها عنه ولو تعذر لصغرها لم يلزمه نفقتها
(مسألة) (وإن كان بعد الدخول فكذلك في أحد الوجهين قياسا على ما قبل الدخول (والثاني)
ليس لها ذلك كما لو سلم المبيع إلى المشتري ثم أراد منعه بعد ذلك
(مسألة) (فاما الصداق المؤجل فليس لها منع نفسها حتى تقبضه كالثمن المؤجل في البيع وقد
ذكرنا هذه المسائل في كتاب الصداق بأبسط من هذا وذكرنا الخلاف فاختصرنا ههنا)
(مسألة) (وان سلمت الأمة نفسها ليلا أو نهارا فهي كالحرة في وجوب النفقة)
وجملة ذلك أن زوج الأمة لا يخلو اما أن يكون حرا أو عبدا أو بعضه حر وبعضه عبد فإن كان حرا فنفقتها
256

عليه للنص ولاتفاق أهل العلم على وجوب نفقة الزوجات على أزواجهن البالغين والأمة داخلة في عمومهن
ولأنها زوجة ممكنة من نفسها فوجب على زوجها نفقتها كالحرة، وإن كان زوجها مملوكا فالنفقة واجبة
لزوجته كذلك، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على العبد نفقة زوجته هذا
قول الشعبي والحكم والشافعي وبه قال أصحاب الرأي إذا بوأها بينا، وحكي عن مالك أنه قال ليس عليه
نفقتها لأن النفقة مواساة وليس هو من أهلها وكذلك لا يجب عليه نفقة أقاربه ولا زكاة ماله
ولنا أنه عوض واجب في النكاح فوجب على العبد كالمهر، والدليل على أنها عوض أنها تجب في مقابلة
التمكين ولهذا تسقط عن الحر بفوات التمكين، وبذلك فارقت نفقة الأقارب. إذا ثبت وجوبها على العبد
فإنها تلزم سيده لأن السيد أذن في النكاح المفضي إلى ايجابها، وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى
أنها تجب في كسب العبد وهو قول أصحاب الشافعي لأنه لم يمكن ايجابها في ذمته ولا رقبته ولا ذمة سيده
ولا اسقاطها فلم يبق إلا أن تتعلق بكسبه، وقال القاضي تتعلق برقبته لأن الوطئ في النكاح بمنزلة الجناية
وأرش جناية العبد يتعلق برقبته يباع فيها أو يفديه سيده وهذا قول أصحاب الرأي
ولنا أنه اذن السيد فيه فيلزم ذمته كالذي استدانه وكيله وقولهم انه في مقابلة الوطئ لا يصح فإنه
يجب من غير وطئ ويجب للرتقاء والحائض والنفساء وزوجة المجبوب والصغيرة وإنما تجب بالتمكين وليس
257

ذلك بجناية ولا قائم مقامها، وقول من قال إنه تعذر ايجابها في ذمة السيد غير صحيح فإنه لا مانع من
ايجابها وقد ذكرنا وجود مقتضيه فلا معنى لدعوى التعذر
(مسألة) (وان كانت تأوى إليه ليلا وعند السيد نهارا فعلى كل واحد منهما النفقة بقدر مقامها عنده)
وقد تقدم ذكر هذه المسألة، وقد ذكرنا ان النفقة تجب في مقابلة التمكين وقد وجد منها في الليل
فيجب على الزوج النفقة فيه والباقي منها على السيد بحكم أنها مملوكته ولم تجب نفقتها على غيره في هذا
الزمن، فعلى هذا على كل واحد منهما نصف النفقة وهذا أحد قولي الشافعي وقال الآخر لا نفقة
لها على الزوج لأنها لم تمكن من نفسها في جميع الزمان فلم يجب لها شئ من النفقة كالحرة إذا بذلت
نفسها في زمن دون غيره
ولنا أنه وجد التمكين الواجب بعقد النكاح فاستحقت النفقة كالحرة إذا أمكنت من نفسها في غير
أوقات الصلوات المفروضات والصوم الواجب والحج المفروض، وفارق الحرة إذا امتنعت في أحد
الزمانين فإنها لم تبذل الواجب فتكون ناشزا وهذه ليست ناشزا ولا عاصية
(فصل) وإذا طلق الأمة طلاقا رجعيا فلها النفقة في العدة لأنها زوجة فإن أبانها وهي حائل فلا
نفقة لها لأنها لو كانت حرة لم تجب لها نفقة فالأمة أولى وان كانت حاملا فلها النفقة لقول الله تعالى
258

(وان كن أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) نص على هذا أحمد وبه قال إسحاق وقد
ذكرنا في نفقة الحامل هل هي للحمل أو للحامل؟ على روايتين عن أحمد رحمه الله إحداهما أنها للحمل
فعلى هذا لا تجب للمملوكة الحامل البائن لأن الحمل مملوك لسيدها فنفقته عليه وعلى الرواية الأخرى
تجب وللشافعي في هذا قولان كالروايتين
(فصل) فإن كان المطلق عبدا فطلقها ثانيا وهي حامل انبنى وجوب النفقة على الروايتين في
النفقة هل هي للحمل أو للحامل؟ فإن قلنا هي للحمل فلا نفقة على العبد وبه قال مالك وروي ذلك عن
الشعبي لأنه لا يجب عليه نفقة ولده وان قلنا هي للحامل بسببه وجبت لها النفقة وهذا قول الأوزاعي
للآية ولأنها حامل فوجبت لها النفقة كما لو كان زوجها حرا
(فصل) والمعتق بعضه عليه من نفقة امرأته بقدر ما فيه من الحرية وباقيها على سيده أو في ضريته
أو في رقبته على ما ذكرنا في العبد القن، والقدر الذي يجب عليه بالحرية يعتبر فيه حاله إن كان موسرا
فنفقة الموسرين وإن كان معسرا فنفقة المعسرين والباقي يجب فيه نفقة المعسرين، لأن النفقة مما يتبعض
وما يتبعض بعضناه في حق المعتق بعضه كالميراث والديات وما لا يتبعض فهو فيه كالعبد لأن الحرية إما
شرط فيه أو سبب له ولم يكمل وهذا اختيار المزني، وقال الشافعي حكمه حكم القن في الجميع إلحاقا
لاحد الحكمين بالآخر.
259

ولنا أنه يملك بنصفه الحر ملكا تاما ولهذا يورث عنه ويكفر بالاطعام ويجب فيه نصف دية الحر
فوجب أن تتبعض فنفقته لأنها من جملة الأحكام القابلة للتبعيض
(فصل) وحكم المكاتب في نفقة الزوجات حكم العبد القن لأنه عبد ما بقي عليه درهم ويجب عليه
نفقة زوجته من كسبه، لأن نفقة الزوجة واجبة بحكم المعاوضة مع اليسار والاعسار ولذلك وجبت
على العبد فعلى المكاتب أولى، ولان نفقة المرأة لا تسقط عن أحمد من الناس إذا لم يوجد منها ما يسقط
نفقتها ولا يمكن إيجابها على سيده لأن نفقة المكاتب لا تجب على سيده فنفقة امرأته أولى
(مسألة) (وإذا نشزت المرأة أو سافرت بغير إذنه أو تطوعت بحج أو صوم أو أحرمت بحج
منذور في الذمة بغير إذنه فلا نفقة لها)
لا تجب نفقة الناشز في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر لا نعلم أحدا خالف فيه إلا الحكم ولعله
قاسه على المهر ولا يصح القياس، لأن النفقة وجبت في مقابلة التمكين من نفسها فإذا لم يوجد منها التمكين
لا تستحقها بخلاف المهر فإنه يجب بمجرد العقد، وكذلك لو مات أحدهما قبل الدخول وجب المهر دون
النفقة وقد ذكرناه، فأما إذا سافرت المرأة بغير اذن زوجها فإن نفقتها تسقط لأنها ناشز وكذلك ان
انتقلت من منزله بغير إذنه وان سافرت في حاجة نفسها باذنه سقطت نفقتها، ذكره الخرقي لأنها فوتت
التمكين لحظ نفسها وقضاء إربها فأشبه ما لو استنظرته قبل الدخول مدة فأنظرها إلا أن يكون مسافرا
260

معها متمكنا من استمتاعها فلا تسقط نفقتها لأنها لم تفوت التمكين فأشبهت غير المسافرة، ويحتمل أن
لا تسقط نفقتها وان لم يكن معها لأنها مسافرة باذنه أشبه ما لو سافرت في حاجته وسواء كان سفرها للتجارة
أو حج تطوع أو زيارة وان أحرمت بحج تطوع بغير إذنه سقطت نفقتها لأنها في معنى المسافرة فإن
أحرمت به باذنه فقال القاضي لها النفقة والصحيح أنها كالمسافرة لأنها باحرامها مانعة له من التمكين
(مسألة) (وان بعثها في حاجته فهي على نفقتها)
لأنها سافرت في شغله ومراده وان أحرمت بالحج الواجب أو العمرة الواجبة في الوقت الواجب
من الميقات فلها النفقة لأنها فعلت الواجب عليها بأصل الشرع في وقته فلم تسقط نفقتها كصيام رمضان،
وان قدمت الاحرام على الميقات أو قبل الوقت خرج فيها من القول مثل ما في المحرمة بحج التطوع
لأنها فوتت عليه التمكين بشئ تستغنى عنه، فإن اعتكفت فالقياس أنه كفرها إن كان بغير اذنه فهي
ناشز لخروجها من منزل زوجها بغير اذنه فيما ليس واجبا بأصل الشرع وإن كان باذنه فلا نفقة لها على
قول الخرقي وعند القاضي لها النفقة، وان صامت رمضان لم تسقط نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع لا يملك
منعها منه فهو كالصلاة، ولأنه يكون صائما معها فيمتنع الاستمتاع لمعنى وجد فيه، وإن كان تطوعا تسقط
261

نفقتها لأنها لم تأت ما يمنعه من استمتاعها فإنه يمكنه تفطيرها ووطؤها إلا أن يريد ذلك منها فتمنعه
فتسقط نفقتها بامتناعها من التمكين الواجب.
(مسألة) (وان أحرمت بمنذور معين في وقته فعلى وجهين)
(أحدهما) لها النفقة، ذكره القاضي لأن أحمد نص على أنه ليس له منعها (والثاني) أنه إن كان
نذرها قبل النكاح أو كان النذر باذنه لم تسقط نفقتها لأنه كان واجبا عليها بحق سابق على نكاحه
أو واجب اذن في سببه وإن كان النذر في نكاحه بغير اذنه فلا نفقة لها لأنها فوتت عليه حقه من الاستمتاع
باختيارها بالنذر الذي لم يوجبه الشرع عليها ولا ندبها إليه وإن كان النذر مطلقا أو كان صوم كفارة
فصامت باذنه فلها النفقة لأنها أدت الواجب باذنه فأشبه ما لو صامت المعين باذنه في وقته وان صامت
بغير اذنه فقال القاضي لا نفقة لها لأنها يمكنها تأخيره فإنه على التراخي، وحق الزوج على الفور وإن كان
قضاء رمضان قبل ضيق وقته فكذلك وإن كان وقته مضيقا مثل ان قرب رمضان آخر فعليه نفقتها
لأنه واجب مضيق بأصل الشرع أشبه أداء رمضان
(مسألة) (وان اختلفا في نشوزها فادعى أنها نشزت وأنكرت الزوجة فالقول قولها مع
يمينها) لأن الأصل عدم النشوز
(مسألة) (وكذلك ان ادعى تسليم النفقة فأنكرته فالقول قولها كذلك)
262

(مسألة) (وان اختلفا في بذل التسليم فقالت بذلت لك تسليم نفسي فأنكرها فالقول قوله)
لأنه منكرا والأصل عدم التسليم
(فصل) وان أعسر الزوج بنفقتها أو بعضها أو بالكسوة خيرت بين فسخ النكاح والمقام وتكون
النفقة دينا في ذمته، وعن أحمد ما يدل على أنها لا تملك الفسخ باعساره، والأول المذهب، إذا منع الرجل
نفقة امرأته لعسرته وعدم ما ينفقه خيرت بين الصبر عليه وبين فراقه روي نحو ذلك عن عمر وعلي وأبي
هريرة وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز وربيعة وحماد ومالك وعبد الرحمن بن مهدي
والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وعن أحمد أنها لا تملك الفسخ بالاعسار والأول المذهب وذهب
عطاء والزهري وابن شبرمة وأبو حنيفة وصاحباه إلى أنها لا تملك فراقه بذلك ولكن يرفع يده عنها
لتكتسب لأنه حق لها عليه فلا يفسخ النكاح لعجزه عنه كالدين، وقال العنبري يحبس إلى أن ينفق
ولنا قول الله تعالى (فامساك بمعروف أو تسريح باحسان) وليس الامساك مع ترك الانفاق امساكا
بمعروف فتعين التسريح، وروى سعيد عن سفيان عن أبي الزنا وقال سألت سعيد بن المسيب عن الرجل
لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قال نعم قلت سنة قال سنة؟ وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا من نسائهم
فأمرهم بان ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى، ولأنه إذا ثبت الفسخ بالعجز عن الوطئ
263

والضرر فيه أقل لأنه إنما هو فقد لذة وشهوة يقوم البدن بدونه، فلان يثبت بالعجز عن النفقة التي لا يقوم
البدن الا بها أولى إذا ثبت هذا فإنه متى ثبت الاعسار بالنفقة على الاطلاق فللمرأة المطالبة بالفسخ
من غير انظار، وهذا أحد قولي الشافعي، وقال حماد بن أبي سليمان يؤجل سنة قياسا على العنين، وقال
عمر بن عبد العزيز اضربوا له شهرا أو شهرين، وقال مالك الشهر ونحوه، وقال الشافعي في القول الآخر
يؤجل ثلاثا لأنه قريب.
ولنا ظاهر حديث عمر رضي الله عنه ولأنه معنى يثبت الفسخ ولم يرد الشرع بالانظار فيه فأثبت
الفسخ في الحال كالعيب ولان سبب الفسخ الاعسار وقد وجد فلا يلزم التأخير
(فصل) فإن لم يجد الا نفقة يوم بيوم فليس ذلك اعسارا يثبت به الفسخ، لأن ذلك هو الواجب
عليه وقد قدر عليه، وان وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعشيها لم يكن لها الفسخ لأنها تصل
إلى كفايتها وما يقوم به بدنها وإن كان صانعا يعمل في الأسبوع ما يبيعه يوم بقدر كفايتها في الأسبوع
كله لم يثبت الفسخ، لأن هذا يحصل الكفاية في جميع زمانه وان تعذر عليه الكسب في بعض زمانه
أو تعذر البيع لم يثبت الفسخ لأنه يمكنه الاقتراض إلى زوال العارض وحصول الاكتساب وكذلك
ان عجز عن الاقتراض أياما يسيرة، ولان ذلك يزول عن قريب ولا يكاد يسلم منه كثير من الناس، وان
مرض مرضا يرجى برؤه في أيام يسيرة فلم يفسخ لما ذكرناه وإن كان ذلك يطول فلها الفسخ لأن
264

الضرر الغالب يلحقها ولا يمكنها الصبر وكذلك إن كان لا يجد من النفقة الا يوما دون يوم لأنها لا يمكنها
الصبر على هذا فهو كمن لا يجد الا بعض الفوت وان أعسر ببعض نفقة المعسر ثبت لها الخيار لأن البدن
لا يقوم بما دونها فإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر فلا خيار لها لأن تلك الزيادة تسقط باعساره ويمكن الصبر عنها
(مسألة) (وإن رضيت بالمقام معه مع عسرته وترك المطالبة جاز)
لأن الحق لها وتكون النفقة دينا في ذمته ثم إن بدا لها الفسخ أو تزوجت معسرا عالمة بحاله
راضية بعسرته وترك انفاقه أو شرط عليها أن لا ينفق عليها ثم عن لها الفسخ فلها ذلك وبه قال
الشافعي وقال القاضي: كلام أحمد أنه ليس لها الفسخ ويبطل خيارها في الموضعين وهو قول مالك لأنها
رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به فلم تملك الفسخ كما لو تزوجت عنينا عالمة بعيبه أو قالت بعد
العقد قد رضيت به عنينا
ولنا أن وجوب النفقة تتجدد كل يوم فتجدد لها الفسخ ولا يصح اسقاط حقها فيما لم يجب
لها كاسقاط شفعتها قبل البيع، وكذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة لم تسقط ولو أسقطها أو
أسقطت المهر قبل النكاح لم يسقط وإذا لم يسقط وجوبها لم يسقط الفسخ الثابت به وان أعسر بالمهر
وقلنا لها الفسخ لاعساره به فرضيت بالمقام لم يكن لها الفسخ لأن وجوبه لم يتجدد بخلاف النفقة فإن
265

تزوجته عالمة باعساره بالمهر راضية فينبغي أن لا تملك الفسخ باعساره لأنها رضيت بذلك في وقت
لو أسقطته فيه سقط.
(فصل) وإذا رضيت بالمقام مع ذلك لم يلزمها التمكين من الاستمتاع لأنه لم يسلم إليها عوضه فلم
يلزمها تسليمه كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها
وتحصل ما تنفقه عليها لأن في حبسها بغير نفقة اضرارا بها، وإن كانت موسرة لم يكن له حبسها لأنه
إنما يملك حبسها إذا كفاها المؤنة وأغناها عما لابد لها منه ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب له عليها
فإذا انتفي الامر ان لم يملك حبسها
(مسألة) (وإن أعسر بنفقة الخادم أو النفقة الماضية أو نفقة الموسر أو المتوسط أو الادم فلا
فسخ لها وتكون النفقة دينا في ذمته، وقال القاضي تسقط)
إذا أعسر بالنفقة الماضية لم يكن لها الفسخ لأنها دين يقوم البدن بدونها فأشبهت سائر الديون
وكذلك إن أعسر بنفقة الموسر أو المتوسط فلا فسخ لها لأن الزيادة تسقط باعساره ويمكن الصبر عنها
وكذلك إن أعسر بنفقة الخادم أو الادم كذلك
(مسألة) (ويثبت ذلك في ذمته، وكذلك إن أعسر بالسكن وقلنا لا يثبت لها الفسخ)
وبهذا قال الشافعي، وقال القاضي لا يثبت لأنه من الزوائد فلم يثبت في ذمته كالزوائد عن الواجب عليه
266

ولنا أنها نفقة تجب على سبيل العوض فتثبت في الذمة كالنفقة الواجبة للمرأة قوتا وهذا فيما عدا
الزائد على نفقة المعسر فإن ذلك يسقط بالاعسار
(مسألة) (وإن أعسر بالسكنى أو المهر فهل لها الفسخ؟ يحتمل وجهين)
إذا أعسر بأجرة المسكن فلها الخيار في أحد الوجهين لأنه مما لابد منه أشبه النفقة والكسوة
(والثاني) لا خيار لها لأن البينة تقوم بدونه، وهذا الوجه الذي ذكره القاضي، وإن أعسر بالصداق
ففيه ثلاثة أوجه (أحدهما) ليس لها الفسخ اختاره ابن حامد (والثاني) لها الفسخ اختاره أبو بكر
لأنه أعسر بالعوض فكان لها الرجوع في المعوض كما لو أعسر بثمن مبيعها (والثالث) إن أعسر قبل
الدخول فلها الفسخ كما لو أفلس المشتري والمبيع بحاله، وإن كان بعد الدخول لم يملك الفسخ لأن
المعقود عليه قد استوفي فأشبه ما لو أفلس المشتري بعد تلف المبيع أو بعضه وهذا المشهور في المذهب
واختار شيخنا الرواية الأولى لأنه دين فلم يفسخ النكاح، للاعسار به كالنفقة الماضية ولان تأخيره ليس
فيه ضرر ومجحف فأشبه نفقة الخادم ولأنه لا نص فيه ولا يصح قياسه على الثمن في المبيع لأن الثمن
كل مقصود البائع والعادة تعجيله والصداق فضلة ونحلة ليس هو المقصود في النكاح وكذلك لا يفسد
النكاح بفساده ولا بترك ذكره والعادة تأخيره ولان أكثر من يشتري بثمن حال يكون موسرا به
يشتري بثمن حال يكون موسرا به
وليس الأكثر أن من يتزوج بمهر يكون موسرا به ولا يصح قياسه على النفقة لأن الضرورة لا تندفع
267

إلا بها بخلاف الصداق فأشبه شئ به النفقة الماضية وللشافعي نحو هذه الوجوه، وإنما قلنا لها الفسخ
للاعسار به فتزوجته عالمة بعسرته فلا خيار لها وجها واحدا لأنها رضيت به كذلك، وكذا إن علمت
عسرته فرضيت بالمقام سقط حقها من الفسخ لأنها رضيت باسقاط حقها بعد وجوبه فسقط كما لو رضيت بعثته
(مسألة) (وإن أعسر زوج الأمة فرضيت لم يكن لسيدها الفسخ ويحتمل أن له ذلك)
وجملة ذلك أن نفقة الأمة المزوجة حق لها ولسيدها لأن كل واحد منهما ينتفع بها ولكل واحد
منهما طلبها إذا امتنع الزوج من أدائها ولا يملك واحد منهما اسقاطها لأن في سقوطه باسقاط إحداهما
ضررا بالآخر فعلى هذا إن أعسر الزوج فلها الفسخ لأنه عجز عن نفقتها فملكت الفسخ كالحرة، وإن
لم تفسخ فقال القاضي: لسيدها الفسخ لأن عليه ضررا في عدمها لما يتعلق بفواتها من فوات ملكه
وتلفه فإن أتفق عليها سيدها محتسبا بالرجوع فله الرجوع بها على الزوج رضيت بذلك أو كرهت
لأن الدين خالص حقه لا حق لها فيه وإن تعلق حقها بالنفقة الحاضرة لوجوب صرفها إليها وقوام
بدنها به بخلاف الماضية، وقال أبو الخطاب وأصحاب الشافعي ليس لسيدها الفسخ لعسرة زوجها
بالنفقة لأنها حق لها فلم يملك سيدها الفسخ دونها كالفسخ للعنة فإن كانت معتوهة أنفق المولى وتكون
النفقة دينا في ذمة الزوج، وإن كانت عاقلة قال لها السيد: إن أردت النفقة فافسخي النكاح
وإلا فلا نفقة لك عندي
(مسألة) (وان أعسر زوج الصغيرة أو المجنونة لم يكن لوليهما الفسخ)
268

لأنه فسخ نكاحها فلم يكن له ذلك كالفسخ بالعيب، ويحتمل أن يملك الفسخ لأنه فسخ لفوات
العوض فملكه كفسخ لتعذر الثمن
(فصل) وإن اختلف الزوجان في الانفاق عليها أو في تقبيضها نفقتها فالقول قول المرأة لأنها
منكرة والأصل معها، وإن اختلفا في يساره فادعته المرأة ليفرض لها نفقة الموسرين أو قالت كنت
موسرا وأنكر ذلك فإن عرف له مال فالقول قولها وإلا فالقول قوله وبهذا كله قال الشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي، وان اختلفا في فرض الحاكم للنفقة أو في وقتها فقال فرضها منذ شهرين قالت بل
منذ عام فالقول قوله، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك إن كان مقيما معها فالقول قوله
وإن كان غائبا عنها فالقول قول المرأة من يوم رفعت أمرها إلى الحاكم
ولنا أن قوله يوافق الأصل فقدم كما لو كان مقيما معها وكل من قلنا القول قوله فلخصمه عليه اليمين
لأنها دعاو في المال فأشبهت دعوى الدين ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولكن اليمين على المدعى عليه " وإن
دفع الزوج إلى امرأته نفقة وكسوة أو بعث به إليها فقالت إنما فعلت ذلك تبرعا وهبة قال بل وفاء
للواجب علي فالقول قوله لأنه أعلم بنية أشبه ما لو قضى دينه فاختلف هو وغريمه في نيته، وإن طلق
امرأته وكانت حاملا فوضعت فقال طلقتك حاملا فانقضت عدتك بوضع الحمل وانقطعت نفقتك
ورجعتك قالت بل بعد الوضع فلي النفقة ولك الرجعة فالقول قولها لأن الأصل بقاء النفقة وعدم المسقط
269

لها وعليها العدة ولا رجعة للزوج لاقراره بعدمها، وإن رجع فصدقها فله الرجعة لأنها مقرة لديها،
ولو قال طلقتك بعد الوضع فلي الرجعة ولك النفقة قالت بل وأنا حامل فالقول قولها فيها فإن عاد
فصدقها سقطت رجعته ووجبت لها النفقة هذا في ظاهر الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى فيبني على
ما يعلمه من حقيقة الامر دون ما قاله
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن منعها النفقة أو بعضها مع اليسار وقدرت له على مال أخذت
منه ما يكفيها ويكفي ولدها بالمعروف بغير إذنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند حين قالت إن أبا سفيان رجل
شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
وجملة ذلك أن الزوج إذا لم يدفع إلى زوجته ما يجب لها عليه من النفقة والكسوة أو دفع إليها
أقل من كفايتها فلها أن تأخذ من ماله الواجب أو تمامه باذنه وبغير إذنه لما ذكرنا من حديث هند
وهو اذن لها في الاخذ من ماله بغير اذنه ورد لها إلى اجتهادها في قدر كفايتها وكفاية ولدها وهو
متناول لاخذ تمام الكفاية فإن ظاهر الحديث دل على أنه كان يعطيها بعض الكفاية ولا يتممها لها
فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها في أخذ تمام الكفاية بغير علمه لأنه موضع حاجة فإن النفقة لا غنى عنها ولا
قوام إلا بها فإذا لم يدفعها الزوج ولم تأخذها أفضى إلى ضياعها وهلاكها فرخص لها في أخذ قدر
نفقتها دفعا لحاجتها ولان النفقة تتجدد بتجدد الزمان شيئا فشيئا فتشق الرافعة إلى الحاكم والمطالبة
270

بها في كل الأوقات فلذلك رخص لها في أخذها بغير إذن من هي عليه وذكر القاضي بينها وبين الدين
فرقا آخر وهو ان نفقة الزوجة تسقط بفوات وقتها عند بعض أهل العلم ما لم يكن الحاكم فرضها لها فلو
لم تأخذ حقها أفضى إلى سقوطها والاضرار بها بخلاف الدين فإنه لا يسقط عند أحد بترك المطالبة فلا
يؤدي ترك الاخذ إلى الاسقاط
(مسألة) (فإن لم تقدر أجبره الحاكم وحبسه فإن صبر على الحبس ولم ينفق أخذ الحاكم النفقة
من ماله فدفعها إلى المرأة فإن لم يجد إلا عروضا أو عقارا باعه في ذلك)
وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة النفقة في ماله من الدنانير والدراهم
ولا يبيع عرضا لأن بيع مال الانسان لا ينفذ إلا باذنه أو إذن وليه ولا ولاية على الرشيد
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك " ولم يفرق ولان ذلك مال له فتؤخذ منه النفقة
كالدراهم والدنانير وللحاكم ولاية عليه إذا امتنع بدليل ولايته على دراهمه ودنانيره وان تعذرت
النفقة في حال غيبته وله وكيل فحكم وكيله حكمه في المطالبة والاخذ من المال عند امتناعه وان لم يكن
له وكيل ولم تقدر المرأة على الاخذ أخذ لها الحاكم من ماله ويجوز بيع عقاره وعروضه في ذلك إذا
لم يجد ما ينفق سواه وينفق على المرأة يوما بيوم وبه قال الشافعي ويحيى بن آدم وقال أصحاب الرأي
يفرض لها في كل شهر
271

ولنا ان هذا تعجيل للنفقة قبل وجوبها فلم يجز كما لو عجل لها أكثر من شهر
(مسألة) (فإن غيب ماله وصبر على الحبس فلها الفسخ إذا لم يقدر الحاكم له على مال يأخذه
أو لم يقدر على النفقة من مال الغائب في ظاهر قول الخرقي واختيار أبي الخطاب)
واختار القاضي أنها لا تملك الفسخ وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن الفسخ في المعسر لعيب الاعسار
ولم يوجد ههنا ولان الموسر في مظنة الاخذ من ماله وإذا امتنع فربما لا يمتنع في غده بخلاف المعسر
ولنا ان عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا أو هذا
إجبار على الطلاق عند الامتناع من الانفاق ولان الانفاق عليها من ماله متعذر فكان لها الخيار كحال
الاعسار بل هذا أولى بالفسخ فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور فعلى غيره أولى، ولان في الصبر ضررا
أمكن إزالته بالفسخ فوجبت إزالته دفعا للضرر ولأنه نوع تعذر يجوز الفسخ فلم يفترق الحال بين المعسر
والموسر كأداء ثمن المبيع فإنه لا فرق في جواز لفسخ بين أن يكون المشتري معسرا وبين أن يهرب قبل
أداء الثمن ولان عيب الاعسار إنما جوز الفسخ لتعذر الانفاق بدليل أنه لو اقترض ما ينفق عليها أو تبرع
له إنسان بدفع ما ينفقه لم تملك الفسخ، وقولهم إنه يحتمل أن ينفق فيما بعد هذا قلنا وكذلك المعسر يحتمل
أن يعينه الله تعالى وأن يقترض أو يعطي ما ينفقه فاستويا
(مسألة) (وان غاب زوجها ولم يترك لها نفقة فإن قدرت له على مال أخذت بقدر حاجتها
272

لحديث هند، وان لم تقدر ولا قدرت على الاستدالة عليه فلها الفسخ إلا عند القاضي فيما إذا لم يثبت اعساره
وهذا ظاهر مذهب الشافعي، لأن الفسخ ثبت لعيب الاعسار ولم يثبت الاعسار ههنا وقد دللنا على جواز الفسخ في المسألة التي قبلها، وهذه مثلها بل هي أولى لأن الحاضر ربما إذا أطال عليه الحبس اتفق
وهذا قد تكون غيبته بحيث لا يعلم خبره فيكون الضرر فيه أكثر
(فصل) ومن وجب عليه نفقة زوجته وكان له عليها دين فأراد أن يحتسب عليها بدينه مكان
نفقتها فله ذلك أن كانت موسرة لأن من له عليه حق فله أن يقتضيه من أي أمواله وشاء وهذا من ماله
وان كانت معسرة لم يكن له ذلك لأن قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من قوته وهذا لا يفضل عنها
ولان الله تعالى أمر بانظار المعسر بقوله سبحانه (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) فيجب انظارها بما عليها
(فصل) إذا أنفقت المرأة على نفسها من مال زوجها الغائب ثم بان أنه قد مات قبل انفاقها حسب
عليها ما أنفقته من ميراثها سواء أنفقته بنفسها أو بأمر الحاكم، وبه قال أبو العالية وابن سيرين والشافعي
وابن المنذر ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لأنها أنفقت ما لا تستحق وان فضل لها شئ أخذته وان
فضل عليها شئ وكان لها صداق أو دين على زوجها حسب منه وان لم يكن لها شئ كان الفضل
دينا عليها والله أعلم.
273

(مسألة) (ولا يجوز الفسخ في ذلك كله إلا بحكم الحاكم)
كل موضع وجب لها الفسخ لأجل النفقة لم يجز إلا بحكم حاكم لأنه فسخ مختلف فيه فافتقر إلى
الحاكم كالفسخ بالعنة ولا يجوز له الفسخ إلا أن تطلب المرأة ذلك لأنه لحقها فلم يجز من غير طلبها
كالفسخ للعنة فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخ لا رجعة له فيه، وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وقال
مالك هو تطليقة وهو أحق بها ان أيسر في عدتها لأنه تفريق لامتاع، من الواجب عليه لما فأشبه تفريقه
بين المولى وامرأته إذا امتنع من العنة والطلاق
ولنا أنها فرقة لعجزه عن الواجب عليه أشبهت فرقة العنة، فأما ان أجبره الحاكم على الطلاق فطلق
أقل من ثلاث فله الرجعة عليها ما دامت في العدة فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الانفاق عليها ولم
يمكن الاخذ من ماله فطلبت المرأة الفسخ فللحاكم الفسخ لبقاء المقتضي له أشبه ما قبل الطلاق
(باب نفقة الأقارب والمماليك)
يجب على الانسان نفقة والدية وولده بالمعروف إذا كانوا فقراء وله ما ينفق عليهم فاضلا عن نفقة
نفسه وامرأته، والأصل في وجوب نفقة الوالدين والمولودين الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب
فقول الله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وقال سبحانه (وقضى ربك أن لا تعبدوا
274

إلا إياه وبالوالدين إحسانا) ومن الاحسان الانفاق عليهما عند حاجتهما، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم
لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه، وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان أطيب
ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه " رواه أبو داود، وأما الاجماع فحكاه ابن المنذر وقال
أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين الذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد، وأجمع
كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم، ولان ولد
الانسان بعضه والده كما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصله، إذا
ثبت هذا فإن الام تجب نفقتها ويجب عليها نفقة ولدها إذا لم يكن له أب، وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وحكي عن مالك انه لا نفقة لها ولا عليها لأنها ليست عصبة لولدها
ولنا قوله سبحانه (وبالوالدين إحسانا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله من أبر؟ قال " أمك ثم
أمك ثم أمك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب " رواه أبو داود ولأنها أحد الولدين فأشبهت الأب ولان
بينهما قرابة توجب رد الشهادة ووجوب العفو فأشبهت الأب فإن أعسر الأب وجبت النفقة على الام
ولم ترجع بها عليه ان أيسر، وقال أبو يوسف ومحمد ترجع عليه
ولنا ان من وجب عليه الانفاق بالقرابة لم يرجع به كالأب
275

(مسألة) (ويلزمه نفقة سائر آبائه وان علوا وأولاده وان سلفوا)
وبذلك قال الشافعي والثوري وأصحاب الرأي، وقال مالك لا تجب النقة عليهم ولا لهم لأن
الجد ليس بأب حقيقي.
ولنا قوله سبحانه (وعلى الوارث مثل ذلك) ولا يدخل في مطلق اسم الولد والولد بدليل
ان الله تعالى قال (يوصيكم الله في أولادكم الذكر مثل حظ الاثنين) فيدخل فيهم ولد البنين وقال
(ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) وقال (ملة أبيكم إبراهيم) ولان بينهما
قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأشبه الولد والوالدين القريبين
(فصل) ويشترط لوجوب الانفاق ثلاثة شروط (أحدهما) ان يكونوا فقراء لا مال لهم ولا كسب
يستغنون به عن انفاق غيرهم فإن كانوا موسرين بمال أو كسب يكفيهم فلا نفقة لهم لأنها تجب على
سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة (الثاني) أن يكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم فاضلا
عن نفقة نفسه اما من ماله واما من كسبه فأما من لا يفضل عنه شئ فلا يجب عليه شئ لما روى جابر
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى
قرابته " وفي لفظ " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " حديث صحيح وروى أبو هريرة أن رجلا جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عندي دينار قال " تصدق به على نفسك " قال عندي آخر قال " تصدق به على
276

ولدك " قال عندي آخر قال " تصدق به على زوجك " قال عندي آخر قال " تصدق به على خادمك "
قال عندي آخر قال " أنت أبصر " رواه أبو داود ولأنها مواساة فلا تجب على المحتاج كالزكاة
(والثالث) أن يكون المنفق وارثا لقول الله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) ولان بين المتوارثين
قرابة يقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس فينبغي ان يختص بوجوب صلته بالنفقة
دونهم فإن لم يكن وارثا لعدم القرابة لم تجب عليه النفقة كذلك
(فصل) ولا يشترط في نفقة الوالدين والمولودين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام في ظاهر المذهب
وهو ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي لا يشترط ذلك في الوالدين وهل يشترط ذلك في الولد؟ فكلام
أحمد يقتضي روايتين (إحداهما) تلزم نفقته لأنه فقير (والثانية) أنه إن كان يكتسب فينفق على نفسه
لم تلزم نفقته وهذا القول يرجع إلى أن الذي لا يقدر على كسب ما يقوم به تلزم نفقته رواية واحدة سواء
كان ناقص الأحكام كالصغير والمجنون أو ناقص الخلقة كالزمن، وإنما الروايتان فيمن لا حرفة له ممن
يقدر على الكسب بيديه، وقال الشافعي يشترط نقصانه اما من طريق الحكم أو من طريق الخلقة وقال
أبو حنيفة ينفق على الغلام حتى يبلغ فإذا بلغ صحيحا انقطعت نفقته، ولا تسقط نفقة الجارية حتى
277

تزوج ونحوه قال مالك إلا أنه قال ينفق على النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن الأزواج ثم لا نفقة لهن
وان طلقن قبل البناء بهن فهن على نفقتهن
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ولم يستثن منهم صحيحا ولا
بالغا ولأنه والد أو ولد فقير فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني كما لو كان زمنا، ووافق أبو حنيفة
على وجوب نفقة الوالد وإن كان صحيحا إذا لم يكن ذا كسب وللشافعي في ذلك قولان
ولنا أنه والد محتاج فأشبه الزمن
(مسألة) (وتلزمه نفقة كل من يرثه بفرض أو تعصيب ممن سواهم سواء ورثه الآخر لولا
كعمته وعتيقه وحكي عنه ان لم يرثه الآخر فلا نفقة له)
ظاهر المذهب ان النفقة تجب على كل وارث لورثته إذا اجتمعت الشروط التي تقدم ذكرها
وهو الذي ذكره الخرقي، وبه قال الحسن ومجاهد والنخعي وقتادة والحسن بن صالح وابن أبي ليلى
وأبو ثور، وحكى ابن المنذر عن أحمد في الصبي المرضع لا أب له نفقته واجر رضاعه على الرجال دون
النساء وكذلك روي عن أبيه عن أحمد النفقة على العصبات وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وذلك لما روي
عن عمر رضي الله عنه أنه قضى على بني عم منفوس بنفقة احتج به أحمد قال ابن المنذر وروي عن عمر
أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء، ولأنها مواساة ومعونة تختص القرابة فاختصت
بالعصبات كالعقل، وقال أصحاب الرأي تجب النفقة على كل ذي رحم محرم ولا تجب على غيرهم
278

لقول الله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال مالك والشافعي وابن المنذر
لا نفقة إلا على المولودين والوالدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عندي دينار قال " أنفقه على
نفسك - قال عندي آخر قال - أنفقه على ولدك - قال عندي آخر قال - أنفقه على زوجك - قال
عندي آخر قال - أنفقه على خادمك - قال عندي آخر قال - أنت أبصر " رواه أبو داود ولم يأمره
بانفاقه على غير هؤلاء ولان الشرع إنما ورد بنفقة الوالدين والمولودين ومن سواهم لا يحلق بهم في
الولادة وأحكامها فلا يصح قياسه عليهم
ولنا قول الله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ثم قال (وعلى الوارث مثل
ذلك) فأوجب على الأب نفقة الرضاع ثم عطف الوارث عليه وأوجب على الوارث مثل ما أوجب
على الوالد وروي ان رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم من ابر؟ قال " أمك واباك وأختك واخاك " وفي لفظ
" ومولاك الذي هو أدناك حقا واجبا ورحما موصولا " رواه أبو داود وهذا نص لأن النبي صلى الله عليه وسلم
ألزمه الصلة والبر والنفقة من الصلة جعلها حقا واجبا، وما احتج به أبو حنيفة حجة عليه فإن اللفظ عام
في كل ذي رحم محرم فيكون حجة عليه فيمن عدا الرحم المحرم وقد اختصت بالوارث في الإرث فكذلك
في الانفاق وأما خبر أصحاب الشافعي فقضية في عين يحتمل انه لم يكن له غير من أمر بالانفاق عليه
ولهذا لم يذكر الوالد والأجداد وأولاد الأولاد، وقولهم لا يصح القياس قلنا إنما أثبتناه بالنص ثم
إنهم قد الحقوا أولاد الأولاد بالأولاد مع التفاوت ما قالوا. إذا ثبت هذا فإنه يختص بالوارث
بفرض أو تعصيب لعموم الآية ولا يتناول ذوي الأرحام على ما نذكره
(فصل) فإن كان اثنان يرث أحدهما قريبه ولا يرثه الآخر كالرجل مع عمته أو ابنة عمه وابنة
أخيه والمرأة مع ابنة بنتها وابن بنتها فالنفقة على الوارث دون الموروث نص عليه أحمد في رواية
279

ابن زياد فقال يلزم الرجل نفقة بنت عمه ولا يلزمه نفقة بنت أخته، وذكر أصحابنا رواية أخرى
لا تجب النفقة على الوارث ههنا لأنها قرابة ضعيفة لكونها لا يثبت التوارث من الجهتين لقول أحمد
العمة والخالة لا نفقة لهما إلا أن القاضي قال: هذه الرواية محمولة على العمة من الام فإنه لا يرثها
لكونها ابن أخيها من أمها، وذكر الخرقي أن على الرجل نفقة معتقه لأنه وارث، ومعلوم
أن المعتق لا يرث معتقه ولا يلزمه نفقته فعلى هذا يلزم الرجل نفقة عمته لأبويه أو لأبيه وابنة عمه
وابنة أخيه كذلك ولا يلزمهن نفقته وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول سبحانه وتعالى
(وعلى الوارث مثل ذلك) وكل واحد من هؤلاء وارث
(مسألة) (فأما ذوو الأرحام فلا نفقة عليهم رواية واحدة ذكره القاضي وقال أبو الخطاب
يخرج في وجوبها عليهم روايتان)
أما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فإن كانوا من غير عمودي النسب فلا
نفقة عليهم نص عليه أحمد فقال الخالة والعمة لا نفقة عليهما قال القاضي لا نفقة لهم رواية واحدة لأن
قرابتهم ضعيفة وإنما يأخذون ماله عند عدم الوارث فهم كسائر المسلمين فإن المال يصرف إليهم إذا
لم يكن للميت وارث وذلك الذي يأخذه بيت المال ولذلك يقدم الرد عليهم
وقال أبو الخطاب يخرج في وجوبها عليهم رواية أخرى أن النفقة تلزمهم عند عدم العصبات
280

وذوي الفرض لأنهم وارثون في تلك الحال. قال ابن أبي موسى هذا يتوجه على معنى قوله،
والأول هو المنصوص عنه، وأما عمود النسب فذكر القاضي ما يدل على أنه يجب الانفاق عليهم
سواء كانوا من ذوي الأرحام كأبي الام وابن البنت أو من غيرهم وسواء كانوا محجوبين أو وارثين
وهذا مذهب الشافعي وذلك لأن قرابتهم قرابة جزئية وبعضية تقتضي رد الشهادة وتمنع جريان
القصاص على الوالد بقتل الولد، وإن سفل فأوجبت النفقة على كل حال كقرابة الأب الأدنى
(مسألة) (وإن كان للفقير وارث فنفقته عليهم على قدر ميراثهم منه لأن الله تعالى رتب
النفقة على الإرث لقوله سبحانه وعلى الوارث مثل ذلك فيجب أن يترتب في المقدار عليه)
وجملة ذلك أن الصبي إذا لم يكن له أب فالنفقة على وارثه لما ذكرنا فإن كان له وارثان فالنفقة عليهما
على قدر إرثهما منه، وإن كانوا ثلاثة أو أكثر فالنفقة عليهم على قدر ارثهم منه
(مسألة) (فإذا كان له أم ولد فعلى الام الثلث والباقي على الجد)
لأنهما يرثانه كذلك، وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي النفقة كلها على الجد لأنه يتفرد
بالتعصيب فأشبه الأب، وقد ذكرنا عن أحمد رواية أخرى أن النفقة على العصبات خاصة،
ووجه الأول ما ذكرنا من الآية والام وارثة فكان عليها بالنص ولأنه معنى يستحق بالنسب فلم
يختص به العصبة دون الام كالوراثة
281

(فصل) فإن اجتمع ابن وبنت فالنفقة بينهما أثلاثا كالميراث، وقال أبو حنيفة النفقة عليهما
سواء لاستوائهما في القرب، وان كانت أم وابن فعلى الام السدس والباقي، إن كانت
بنت وابن ابن فالنفقة عليهما نصفين، وعند أبي حنيفة هي على البنت لأنها أقرب، وقال الشافعي
في المسائل الثلاث: النفقة على الابن لأنه العصبة فإن كانت له أم وبنت فالنفقة عليهما أرباعا كميراثهما
منه وبه قال أبو حنيفة، وعند الشافعي النفقة على البنت لأنهما تكون عصبة مع أخيها فإن كان له بنت
وابن بنت فالنفقة على البنت، وقال أصحاب الشافعي النفقة على الابن في أحد الوجهين لأنه ذكر
ولنا قول الله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) فرتب النفقة على الإرث فيجب أن تترتب
في المقدار عليه وإيجابها على ابن البنت يخالف النص والمعنى فإنه ليس بعصبة ولا وارث فلا معنى
لايجابها عليه دون البنت الوارثة
(مسألة) (وإن اجتمع جدة وأخ فعلى الجدة السدس والباقي على الأخ لأن ميراثهما منه
كذلك وعلى هذا المعنى حساب النفقات)
يعني أن ترتيب النفقات على ترتيب الميراث فكما أن للجدة السدس من الميراث فكذلك
عليها سدس النفقة والباقي على الأخ لأن باقي الميراث له وعند من لا يرى النفقة على غير عمودي
النسب يجعل النفقة كلها على الجدة وهذا أصل قد سبق الكلام فيه فإن اجتمع بنت وأخت
282

أو بنت وأخ أو بنت وعصبة أو أخت وعصبة أو أخت وأم أو بنت وبنت ابن أو أخت لأبوين
وأخت لأب أو ثلاث أخوات متفرقات فالنفقة بينهم على قدر الميراث في ذلك سواء كان في المسألة
رد أو عول أو لم يكن، وعلى هذا تحسب ما آتاك من المسائل. فإن اجتمع أم أم وأم أب فهما
سواء في النفقة لاستوائهما في الميراث
(فصل) فإن اجتمع معها أبو أم فالنفقة على أم الام لأنها الوارثة، وإن اجتمع أم أب وأبوان
فعلى الأب السدس والباقي على الجد، وإن اجتمع جد وأخ فهما سواء، وإن اجتمعت أم وجد وأخ
فالنفقة عليهم أثلاثا وعند الشافعي النفقة على الجد في هذه المسائل كلها إلا المسألة الأولى فالنفقة عليهما
بالسوية وقد مضى الكلام في هذا
(فصل) فإن كان فيمن عليه النفقة خنثى مشكل فالنفقة عليه على قدر ميراثه فإن انكشف بعد
ذلك حاله فبان أنه أنفق. أكثر من الواجب عليه رجع بالزيادة على شريكه في الانفاق، وإن بان
أنه أنفق أقل رجع عليه فلو كان للرجل ابن وولد خنثى عليهما نفقته فأنفقا عليه ثم بان أن الخنثى ابن
رجع عليه أخوه بالزيادة، وإن بان بنتا رجعت على أخيها بفضل نفقتها لأن من له الفضل أدى ما لا
يجب عليه أداؤه معتقدا وجوبه فإذا تبين خلافه رجع بذلك كما لو أدى ما يعتقده دينا فبان خلافه
(مسألة) (إلا أن يكون له أب فتكون النفقة عليه وحده)
283

لأن الله تعالى قال (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن - وقال - وعلى المولود رزقهن وكسوتهن)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فجعل النفقة عليه دونها ولا خلاف في هذا
نعلمه إلا أن لأصحاب الشافعي فيما إذا اجتمع للفقير أب وابن موسران وجهين (أحدهما) أن النفقة
على الأب وحده (والثاني) عليهما لأنهما سواء في القرب
ولنا أن النفقة على الأب منصوص عليها فيجب اتباع النص وترك ما عداه
(مسألة) (ومن له ابن فقير وأخ موسر فلا نفقة له عليهما وهكذا ذكره القاضي وأبو الخطاب)
لأن الابن لا نفقة عليه لعسرته والأخ لا نفقة عليه لعدم ارثه ولان قرابته ضعيفة لا تمنع شهادته
له فإذا لم يكن وارثا لم تجب عليه النفقة كذوي الرحم. قال شيخنا ويتخرج في كل وارث لولا الحجب
إذا كان من يحجبه معسرا وجهان (أحدهما) لا نفقة عليه لأنه غير وارث أشبه الأجنبي (والثاني) عليه النفقة لوجود القرابة المقتضية للإرث والانفاق والمانع من الإرث لا يمنع من الانفاق لأنه معسر
لا يمكنه الانفاق فوجوده بالنسبة إلى الانفاق كعدمه
(مسألة) (ومن له أم فقيرة وجدة موسرة فالنفقة عليها يعني على الجدة)
وجملة ذلك أن الوارث القريب إذا كان معسرا وكان البعيد الموسر من عمودي النسب كهذه
المسألة وجبت نفقته على الموسر ذكر القاضي في أب معسر وجد موسر أن النفقة على الجد، وقال في
284

أم معسرة وجدة موسرة النفقة على الجدة وقد قال أحمد لا تدفع الزكاة إلى ولد ابنته لقول النبي
صلى الله عليه وسلم للحسن " ان ابني هذا سيد " فسماه ابنه وهو ابن بنته وإذا منع من دفع الزكاة إليهم لقرابتهم
يجب أن تلزمه نفقتهم مع حاجتهم وهذا مذهب الشافعي
(فصل) فإن كان له قرابتان موسران وأحدهما محجوب عن ميراثه بفقير فقد ذكرنا أن المحجوب إذا كان من عمودي النسب فالظاهر أن الحجب لا يسقط النفقة عنه في المسألة قبل هذا الفصل، وإن
كان من غيرهما فلا نفقة عليه في الظاهر فعلى هذا إذا كان له أبوان وجد والأب معسر فالأب
كالمعدم فيكون على الام ثلث النفقة والباقي على الجد، وإن كان معهم زوجة فكذلك، وإن قلنا
لا نفقة على المحجوب فليس على الام ههنا الأربع النفقة ولا شئ على الجد، وإن كان أبوان وأخوان
وجد والأب معسر فلا شئ على الأخوين لأنهما محجوبان وليسا من عمودي النسب ويكون على الام
الثلث والباقي على الجد كما لو لم يكن أحد غيرهما ويحتمل أن لا يجب على الام الا السدس لأنه لو كان
الأب معدوما لم يرث إلا السدس، وإن قلنا إن كل محجوب لا نفقة عليه فعلى الام السدس حسب ولا
شئ على غيرها وان لم يكن في المسألة جد فالنفقة كلها على الام على القول الأول وعلى الثاني ليس
عليها الا السدس وان قلنا إن على المحجوب بالعسر النفقة وإن كان من غير عمودي النسب فعلى
الام السدس والباقي على الجد والأخوين أثلاثا كما يرثون إذا كان الأب معدوما فإن كان بعض من
285

عليه النفقة غائبا وله مال حاضر أنفق الحاكم منه حصته وان لم يوجد له مال حاضر فأمكن الحاكم
الاقتراض عليه اقترض فإذا قدم فعليه وفاؤه
(مسألة) (ومن كان صحيحا مكلفا لا حرفة له سوى الوالدين فهل تجب نفقة؟ على روايتين)
(إحداهما) تجب إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب لعموم قول النبي صلى لله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف " ولم يستثن بالغا ولا صحيحا ولأنه ولد فقير فاستحق النفقة على والده الغني
كالزمن (والثانية) لا يجب وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الولد الذكر فأما الجارية فقال أبو حنيفة
لا تسقط نفقتها حتى تتزوج ونحوه قول مالك لأنه في مظنة الكسب يقدر عليه غائبا أشبه الغني والأول أولى
(مسألة) (ومن لم يفضل عنده لا نفقة شخص واحد بدأ بالأقرب فالأقرب فإن كان له أبوان ان جعله بينهما)
إذا لم يفضل عن الرجل إلا نفقة شخص واحد وله امرأة فالنفقة لها دون الأقارب لقول النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث جابر " إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان له فضل فعلى عياله فإن كان له فضل
فعلى قرابته " ولان نفقة القريب مواساة ونفقة المرأة تجب على سبيل المعارضة فقدمت على مجرد
المواساة وكذلك وجبت مع يساره وإعساره بخلاف نفقة القريب ثم بعدها نفقة الرقيق لأنها تجب
مع اليسار والاعسار فقدمت على مجرد المواساة ثم من بعد ذلك الأقرب فالأقرب
(مسألة) (فإن كان له أبوان فهو بينهما)
286

هذا أحد الوجوه لتساويهما في القرب (والثاني تقدم الام لأنها أحق بالبر ولها فضيلة الحمل
والرضاع والتربية وزيادة الشفقة وهي أضعف وأعجز (والثالث) يقدم الأب لفضيلته وانفرده بالولاية
على ولده واستحقاق الاخذ من ماله وإضافة النبي صلى الله عليه وسلم الولد وماله إليه بقوله " أنت ومالك
لأبيك " والأول أولى
(مسألة) (وإن كان معهما ابن فقال القاضي إن كان الابن صغيرا أو مجنونا قدم)
لأن نفقة وجبت بالنص مع أنه عاجز عن الكسب والكبير في مظنة الكسب وإن كان الابن
كبيرا والأب زمن فهو أحق لأنه لأن حرمته آكد وحاجته أشد ويحتمل تقديم لابن لأن نفقته وجبت
بالنص وان كانا صحيحين فقيرين ففيه ثلاثا أوجه (أحدها) التسوية لتساويهما في القرب (والثاني)
تقديم الابن لوجوب نفقته بالنص (والثالث) تقديم الوالد لتأكد حرمته
(مسألة) (وإن كان له أب وجد أو ابن وابن ابن فالأب والابن أحق)
وقال أصحاب الشافعي يستوى الأب والجد في أحد الوجهين وكذلك الابن وابنه لتساويهم
في الولادة والتعصيب
ولنا ان الابن والأب أقرب وأحق بميراثه فكانا أحق الأب مع الأخ
(فصل) وان أجتمع ابن وجد أو أب ابن ابن احتمل وجهين (أحدهما) تقديم الابن والأب
287

لأنهما أقرب فإنما يليانه بنبر واسطة ولا يسقط ارثهما بحال والجد وابن الابن بخلافهما ويحتمل التسوية
بينهما لأنهما سواء في الإرث والتعصيب والولادة والأول أولى فإن اجتمع جد وابن ابن فهما سواء
لتساويهما في القرب والإرث والولادة والتعصيب ويحتمل تقديم الابن لأن نفقة ثبتت بالنص ولأنه
يسقط تعصيب الجد ويحتمل تقدم الجد لتأكد حرمته بالأبوة وان اجتمع جد وأخ احتمل التسوية
بينهما لتساويهما في استحقاق الميراث والصحيح تقديم الجد لأن له مزية الولادة والأبوة ولان ابن ابنه
يرثه ميراث ابن والأخ ميراث أخ وميراث الابن آكد فالنفقة الواجبة به تكون آكد وإن كان مكان
الأخ ابن أخ أو عم فالجد أحق بكل حال لأنه يقدم عليهما في الميراث
(مسألة) (ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين)
وقبل في عمودي النسب روايتان ذكرهما القاضي (إحداهما) تجب مع اختلاف الدين وهو مذهب
الشافعي لأنها نفقة مع اتفاق الدين فتجب مع اختلافه كنفقة لزوجة والمملوك ولأنه يعتق عليه فيجب
عليه الانفاق عليه كما لو أنفق دينهما
ولنا انها مواساة على سبيل البر والصلة فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب
ولأنهما لا يتوارثان فلم يجب لأحدهما على الاخر نفقة القرابة كما لو كان أحدهما رقيقا ويفارق نفقة
الزوجات لأنها عوض يجب مع الاعسار فلم ينافها اختلاف الدين كالصداق والأجرة وكذلك يجب
288

مع الرق فبهما أو في أحدهما وكذلك النفقة المماليك ولأن هذه النفقة صلة ومواساة فلا تجب مع اختلاف
الدين كأداء زكاته إليه ونقله عنه وارثه منه
(مسألة) (وان ترك الانفاق الواجب مدة لم يلزمه عوضه)
لأن نفقة القريب وجبت لدفع الحاجة واحياء النفس وتزجية الحال وقد حصل له ذلك في الماضي
بدونها فإن كان الحاكم قد فرضها فينبغي أن تلزمه لأنها تأكدت بفرض الحاكم فلزمته كنفقة الزوجة
(فصل) ويلزم الرجل اعفاف أبيه إذا احتاج إلى النكاح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولهم
في اعفاف الأب الصحيح وجه أنه لا يجب، وقال أبو حنيفة لا يلزم الرجل اعفاف أبيه سواء وجبت
نفقته أو لم تجب لأن ذلك من املاذ فلم تجب للأب كالحلوى، ولأنه أحد الأبوين فلم يجب ذلك له كالأم
ولنا أن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده فلزم ابنه له كالنفقة ولا يشبه الحلوى فإنه
لا يستضر بفقدها وإنما يشبه الطعام والادم، وأما الام فإن اعفافها إنما هو بتزويجها إذا طلبت ذلك
وخطبها كف ء لها ونحن نقول بوجوبه عليه وهم يوافقوننا في ذلك إذا ثبت ذلك. فإنه يجب اعفاف
من وجبت نفقته من الآباء والأجداد فإن اجتمع جدان ولم يكن الا اعفاف أحدهما قدم الأقرب إلا
أن يكون أحدهما من جهة الأب والآخر من جهة الام فيقدم الذي من جهة الأب وان بعد لأنه عصبة
والشرع قد اعتبر جهته في التوريث والتعصيب فكذلك في الانفاق والاستحقاق
289

(فصل) وإذا وجب عليه اعفاف أبيه فهو مخير ان شاء زوجه وان شاء ملكه أمة أو دفع إليه
ما يتزوج به حرة أو يشتري به أمة وليس للأب التخيير عليه إلا أن الأب إذا عين امرأة وعين الابن
أخرى وصداقهما واحد قدم تعيين الأب لأن النكاح له والمؤنة واحد فقدم قوله كما لو عينت البنت
كفؤا ولأب غيره قدم تعينها فإن اختلفا في الصداق لم يلزم الابن الأكثر لأنه إنما يلزمه أقل ما يحصل
به الكفاية وليس له أن يزوجه قبيحة ولا يملكه إياها ولا كبيرة لا استمتاع فيها ولان يزوجه أمة
لأن فيه ضررا بارقاق ولده والنقص في استمتاعه فإن رضي الأب بذلك لم يجز لأن الضرر يلحق
بغيره وهو الولد وكذلك لم يكن للموسر أن يتزوج أمة، ومتى أيسر الأب لم يكن للولد استرجاع
ما دفعه إليه ولا عرض ما زوجه به لأنه دفعه إليه في حال وجوبه عليه فلم يملك استرجاعه كالزكاة فإن
زوجه أو ملكه أمة فطلق لزوجة أو أعتق الأمة لم يكن عليه أن يزوجه أو يملكه ثانيا لأنه فوت ذلك
على نفسه فإن ماتتا فعليه اعفافه ثانيا لأنه لا صنع له في ذلك، وعلى الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته
وكان محتاجا إلى الاعفاف ذكره أصحابنا وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم لا يجب ذلك.
ولنا أنه من عمودي نسبه فلزمه نفقته فيلزمه إعفافه عند حاجته إليه كأبيه، قال القاضي
وكذلك يجئ في كل من لزمته نفقته من أخ وعم وغيرهم، لأن أحمد نص في العبد يلزمه أن يزوجه
إذا طلب ذلك والا بيع عليه.
290

(مسألة) (ومن لزمته نفقة رجل فهل يلزمه نفقة امرأته؟ على روايتين)
كل من لزمه اعفاف رجل لزمته نفقة امرأته. لأنه لا يتمكن من الاعفاف إلا بذلك، وقد روي
عن أحمد أنه لا يلزم الأب نفقة زوجة الابن وهذا محمول على أن الابن كان يجد نفقتها.
(فصل) والواجب في نفقة القريب قدر الكفاية من الخبز والادم والكسوة بقدر العادة كما
ذكرنا في الزوجة لأنها وجبت للحاجة فتقدرت بما تندفع به الحاجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي
ما يكفيك وولدك بالمعروف " فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفارة فإن احتاج إلى خادم فعليه إخدامه
كقولنا في الزوجة لأن ذلك من تمام الكفاية
(فصل) ويجب على المعتق نفقة عتيقه على قولنا إن النفقة تجب على الوارث على ما قررناه والمعتق
وارث عتيقه فوجبت عليه نفقته إذا كان فقيرا ولمولاه يسار ينفق عليه منه وقال مالك والشافعي وأصحاب
الرأي لا تجب عليه نفقته بناء على أصولهم المذكورة
ولنا قوله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمك وأباك، وأختك وأخاك،
ثم أدناك أدناك ومولاك الذي يلي ذاك، حقا واجبا ورحما موصولا " ولأنه يرثه بالتعصيب فكانت عليه
نفقته كالأب، ويشترط في وجوب الانفاق عليه الشروط المذكورة في غيره
291

(فصل) فإن مات مولاه فالنفقة على الوارث من عصباته على ما ذكرناه في الولاء ويجب على
السيد نفقة أولاد عتيقه إذا كان له عليهم ولاء لأنه عصبتهم ووارثهم وعليه نفقة أولاد معتقيه إذا كان أبوهم
عبدا كذلك فإن أعتق أبوهم فاتجر الولاء إلى معتقه صار ولاؤهم لمعتق أبيهم ونفقتهم عليه إذا كملت
الشروط وليس على العتيق نفقة معتقة وإن كان فقيرا لأنه لا يرثه، فإن كان واحد منهما مولى الآخر
فعلى كل واحد منهما نفقة الآخر لأنه يرثه
(فصل) وليس على العبد نفقة ولده حرة كانت الزوجة أو أمة لأن الحرة ولدها أحرار وليس
على العبد نفقة أقاربه الأحرار لأن نفقتهم تجب على سبيل المواساة وليس هو من أهلها وان كانت زوجته
مملوكة فولدها عبيد لسيدها لأنهم يتبعونها فتكون نفقتهم على مالكهم
(فصل) ونفقة أولاد المكاتب الأحرار وأقاربه لا تجب عليه لأنها تجب على سبيل المواساة
وليس هو من أهلها وكذلك لا تجب عليه الزكاة في ماله فإن كانت زوجته حرة فنفقة أولادها عليها
لأنهم يتبعونها في الحرية، وإن كان لهم أقارب أحرار كجد وأخ حر مع الام أنفق كل واحد منهم بحسب
ميراثه والمكتب كالمعدوم بالنسبة إلى النفقة، فأما ولد المكاتب من أمته فنفقتهم عليه لأن ولده من
أمته تابع له يعتق بعتقه فجرى مجرى نفسه في النفقة فكما أنه ينفق على نفسه فكذلك على ولده الذي هذا
حاله وهذا الولد ليس له من ينفق عليه سوى أبيه فإن أمه أمة للمكاتب وليس له من الأحرار أقارب
292

فيتعين على المكاتب الانفاق عليه كأنه ولأنه لا ضرر على السيد في انفاق المكاتب على ولده من أمته
لأنه إذا أدى وعتق فقد في مال الكتابة وليس للسيد أكثر منه وان عجز ورق عاد إليه المكاتب
وولده الذي أنفق عليه فكأنه إنما أنفق على عبده وتصير نفقته عليه كنفقته على سائر رقيقه
(فصل) فأما ولد المكاتب إذا كان من زوجته المكاتبة فإنهم يتبعونها في الكتابة ويكون حكمهم
حكمها ان رقت رقوا وان عتقت بالأداء. عتقوا فتكون نفقتهم عليها مما في يديها في حكم نفسها
ونفقتها على نفسها مما في يدها فكذلك نفقة ولدها، وأما زوجها المكاتب فليس عليه نفقتهم لأنهم عبيد
لسيد المكاتبة فإن أراد المكاتب التبرع بالنفقة على ولده من أمة أو مكاتبة لغير سيده أو حرة فليس
له ذلك لأن فيه تغريرا بمال سيده، وإن كان من أمة لسيده جاز لأنه مملوك لسيده فهو ينفق عليه من
المال الذي تعلق به حق سيده وإن كان من مكاتبة لسيده احتمل الجواز لأنه في الحال بمنزلة أمه وأمه
مملوكة لسيدها واحتمل أن لا يجوز لأن فيه تغريرا ويحتمل أن يعجز هو وتؤدي المكاتبة فيعتق ولدها
فيحصل الانفاق عليه من مال سيده ويصير حرا
(فصل) ويجب نفقة ظئر الصبي على من تلزمه نفقته، لأن نفقة ظئر الصغير كنفقة الكبير ويختص
وجوب النفقة بالأب وحده كالكبير
(مسألة) (وليس له منع المرأة من رضاع ولدها إذا طلبت ذلك)
293

إذا طلبت الام رضاع ولدها بأجر مثلها فهي أحق به سواء كانت في حال الزوجية أو بعدها وسواء
وجد الأب مرضعة متبرعة أو لم يجد، وقال أصحاب الشافعي ان كانت في حبال الزوج فلزوجها منعها من
رضاعه لأنه يفوت حق الاستمتاع بها في بعض الأحيان، وان استأجرها على رضاعه لم يجر لأن النافع
حق له فلا يجوز ان يستأجر ما هو أو بعضه حق له، وان أرضعت الولد فهل لها اجر المثل؟ على وجهين
وان كانت مطلقة فطلبت أجر المثل فأراد انتزاعه منها ليسلمه إلى من يرضعه باجر المثل أو أكثر لم
يكن له ذلك، وان وجد متبرعة أو مرضعة بدون اجر المثل فله انتزاعه منها في ظاهر المذهب لأنه
لا يلزمه التزام المؤنة مع دفع حاجة الولد بدونها، وقال أبو حنيفة ان طلبت الأجرة لم يلزم الأب بذلها
ولا يسقط حقها من الحضانة وتأتي المرضعة ترضعه عندها لأنه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز الاخلال بأحدهما
ولنا قوله سبحانه (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فقدمهن على غيرهن وهذا
خبر يراد به الامر وهو عام في كل والدة وقوله فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن)
ولنا على جواز الاستئجار انه عقد إجارة يجوز مع غير الزوج إذا اذن فيه فجاز مع الزوج
كإجارة نفسها للخياطة، وقولهم ان المنافع مملوكة له لا يصح لأنه لو ملك منفعة الحضانة لملك اجبارها
عليها ولم يجز إجارة نفسها لغيره باذنه ولكانت الأجرة له وإنما امتنع إجارة نفسها لأجنبي بغير
اذنه لما فيه من تفويت الاستمتاع في بعض الزمان ولهذا جازت باذنه وإذا استأجرها فقد
اذن لها في إجارة نفسها فصح كما يصح من الأجنبي، اما الدليل على وجوب تقديم الام إذا
294

طلبت أجر المثل على المتبرعة فما ذكرنا من الآيتين، ولان الام حتى وأشفق ولبنها أمرأ من لبن
غيرها فكانت أحق به من غيرها كما لو طلبت الأجنبية رضاعه. بأجر مثلها ولان في رضاع غيرها
تفويتا لحق الام من الحضانة واضرارا بالولد ولا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب والاضرار
بالولد لغرض اسقاط حق أوجبه الله تعالى على الأب، وقول أبي حنيفة يفضي إلى تفويت حق الولد
من لبن أمه وتفويت الام في إرضاعه لبنها فلم يجز ذلك كما لو تبرعت برضاعه. فأما إن طلبت الام
أكثر من أجر مثلها ووجد الأب من يرضعه باجر مثلها أو متبرعة جاز انتزاعه منها لأنها أسقطت
حقها باشتطاطها وطلبها ما ليس لها فدخلت في قوله تعالى (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) وان لم
يجد مرضعة الا بتلك الأجرة فالأم أحق لأنهما تساوتا في الاجر فقدمت الام كما لو طلبت كل
واحدة منهما أجر مثلها
(فصل) وإن طلبت المزوجة بأجنبي ارضاع ولدها بأجر مثلها باذن زوجها ثبت حقها وكانت
أحق به من غيرها لأن الام إنما منعت من الارضاع لحق الزوج فإذا أذن فيه زال المانع فصارت
كغير ذات الزوج وان منعها الزوج سقط حقها لتعذر وصولها إليه
(فصل) وان أرضعت المرأة ولدها وهي في حبال والده فاحتاجت إلى زيادة نفقة لزمه لقول الله
295

تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ولأنها تستحق عليه قدر كفايتها فإذا زادت
حاجتها زادت كفايتها
(مسألة) (وان امتنعت من رضاعه لم تجب الا أن يضطر إليها ويخشى عليه)
ليس للزوج اجبار أم الولد على ارضاعه دنية كانت أو شريفة وسواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة
قال شيخنا ولا نعلم في عدم إجبارها على ذلك إذا كانت مفارقة خلافا وكذلك إن كانت مع الزوج
عندنا، وبه يقول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح له اجبارها
على ذلك وهو قول أبي ثور ورواية عن مالك لقول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) والمشهور عن مالك أنها إن كان شريفة لم تجر عادة مثلها بالرضاع
لولدها لم تجبر عليه وان كانت ممن ترضع في العادة أجبرت عليه
ولنا قول الله تعالى (وإن تعاسرهم فسترضع له أخرى) وإذا اختلفا فقد تعاسرا ولان الاجبار
على الرضاع إما أن يكون لحق الولد أو لحق الزوج أو لهما لا يجوز أن يكون لحق الزوج فإنه لا
يملك اجبارها على رضاع ولده من غيرها ولا على خدمته فيما يختص به، ولا يجوز أن يكون لحق الولد
لأنه لو كان له للزمها بعد الفرقة ولأنه مما يلزم الوالد لولده فلزم الأب على الخصوص كالنفقة أو
كما بعد الفرقة، ولا يجوز أن يكون لهما لأن مالا مناسبة فيه لا يثبت الحكم بانضمام بعضه إلى بعض
296

ولأنه لو كان لهما لثبت الحكم به بعد الفرقة والآية محمولة على حالة الانفاق وعدم التعاسر فأما ان
اضطر الولد إليها بأن لا توجد مرضعة سواها أو لا يقبل الولد الارتضاع من غيرها وجب عليها التمكين
من ارضاعه لأنها حال ضرورة وحفظ لنفس ولدها كما لو لم يكن أحد غيرها
(مسألة) (ولا يجب عليه أجرة الظئر لما زاد على الحولين لقول الله تعالى (والوالدات يرضعن
أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)
(مسألة) (وإن تزوجت المرأة فلزوجها منعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليها)
وجملة ذلك أن للزوج منع امرأته من رضاع ولدها من غيره ومن رضاع ولد غيرها إلا أن يضطر
إليها لأن عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان من كل الجهات سوى أوقات
الصلوات والرضاع يفوت عليه الاستمتاع في بعض الأوقات فكان له منعها كالخروج من منزله فأما
ان اضطر إليه بأن لا توجد من ترضعه غيرها أو لا يقبل الارتضاع من غيرها وجب التمكين من ارضاعه
لأنها حال ضرورة وحفظ لنفس ولدها فقدم على حق الزوج كتقديم المضطر على المالك إذا لم يكن
بالمالك مثل ضرورته.
(فصل) فإن أرادت إرضاع ولدها فكلام الخرقي يحتمل وجهين:
297

(أحدهما) له منعها لعموم لفظه في هذه المسألة وهو قول الشافعي لأنه يخل بالاستمتاع منها فأشبه
ولد غيرها (والثاني) ليس له منعها فإنه قال إلا أن تشاء الام أن ترضعه بأجر مثلها فتكون أحق به من
غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة وذلك لقول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين) وهو خبر يراد به الامر وهو عام في كل والدة، وقال أصحاب الشافعي يحمل على
المطلقات ولا يصح ذلك لأنه جعل لهن رزقهن وكسوتهن وهم لا يجيزون جعل ذلك أجر الرضاع ولا
غيره وقولنا في الوجه الأول انه يخل باستمتاعه. قلنا: ولكن لايفاء حق عليه وليس ذلك ممتنعا
كما أن قضاء دينه بدفع ما له فيه واجب لا سيما إذا تعلق به حق الولد مع كونه مع أمه وحق
الام في الجميع بينهما وبين ولدها، وهذا الوجه ظاهر كلام ابن أبي موسى والأول ظاهر كلام
القاضي أبي يعلى.
(فصل) فإن أجرت المرأة نفسها للرضاع ثم تزوجت صح النكاح ولم يملك الزوج فسخ الإجارة
ولا منعها من الرضاع حتى تمضي المدة لأن منافعها ملكت بعقد سابق على نكاحه أشبه ما لو اشترى
أمة مستأجرة، وان نام الصبي أو اشتغل بغيرها فللزوج الاستمتاع وليس لولي الصبي منعه وبهذا
قال الشافعي وقال مالك ليس له وطؤها إلا برضى الولي لأن ذلك ينقص اللبن
ولنا أن وطئ الزوج مستحق بالعقد فلا يسقط بأمر مشكوك فيه كما لو أذن فيه الولي، ولأنه
298

يجوز له الوطئ مع اذن الولي فجاز مع عدمه لأنه ليس للولي الاذن فيما يضر بالصبي ويسقط حقه
(فصل) فإن أجرت المرأة المزوجة نفسها للرضاع باذن زوجها جاز ولزم العقد لأن الحق لهما
لا يخرج عنهما. وإن أجرتها بغير اذنه لم يصح لتضمنه تفويت حق زوجها وهذا أحد الوجهين
لأصحاب الشافعي، والآخر يصح لأنه يتأول محلا غير محل النكاح لكن للزوج فسخه لأنه يفوت
به الاستمتاع ويختل. ولنا انه عقد يفوت به حق من ثبت له الحق بعقد سابق فلم يصح كإجارة المستأجر
(فصل) قال الشيخ رحمه الله وعلى السيد الانفاق على رقيقه قدر كفايتهم وكسوتهم بالمعروف نفقة
المملوكين على ملاكهم ثابتة بالسنة والاجماع أما السنة فروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اخوانكم
خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا
تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه " متفق عليه. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " رواه الشافعي في مسنده.
وأجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده، ولأنه لابد له من نفقة ومنافعه لسيده وهو أخص
الناس به فوجبت نفقته عليه كبهيمته
(فصل) والواجب من ذلك قدر كفايته من غالب قوت البلد سواء كان قوت سيده أو دونه
أو فوقه وأدم مثله بالمعروف لحديث أبي هريرة، والمستحب أن يطعمه من جنس طعامه لقوله " فليطعمه
299

مما يأكل فجمعنا بين الخبرين فحملنا خبر أبي هريرة على الاجزاء وحديث أبي ذر على الاستحباب
والسيد مخير بين أن يجعل نفقته من كسبه إن كان له كسب وان ينفق عليه من ماله ويأخذ كسبه
أو يجعله برسم نفقة خدمته وينفق عليه من ماله لأن الكل ماله فإن جعل نفقته في كسبه وكانت
وفق الكسب صرفها إليه وان فضل من الكسب شئ فهو لسيده وان أعوز فعليه تمامه، وأما
الكسوة فبالمعروف من غالب الكسوة لأمثال العبد في ذلك البلد الذي هو به والمستحب أن يلبسه
من لباسه لحديث أبي ذر، ويستحب أن يستوي بين عبيده الذكور في الكسوة والاطعام وبين
إمائه إن كن للخدمة أو للاستمتاع وإن كان فيهن من هو للخدمة ومن هو للاستمتاع فلا بأس بزيادة
من هي للاستمتاع في الكسوة لأنه للعرف ولان غرضه تجميل من يستمتع بها بخلاف الخادمة
(مسألة) (وعليه تزويجهم إذا طلبوا ذلك)
وهذا أحد قولي الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يجبر عليه لأن فيه ضررا عليه وليس مما
تقوم به البنية فلم يلزمه كاطعام الحلواء
ولنا قول الله تعالى (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) والامر يقتضي
الوجوب ولا يجب الا عند الطلب وروى عكرمة عن ابن عباس قال من كانت له جارية فلم يزوجها
ولم يصبها أو عبد فلم يزوجه فما صنعا من شئ كان على السيد ولولا وجوب اعفافهما لما لحق السيد
300

الاثم بفعلهما ولأنه مكلف محجور عليه دعى إلى تزويجه فلزمت اجابته كالمحجور عليه للسفه ولان
النكاح مما تدعوا الحاجة إليه غالبا ويتضرر بفواته فاجبر عليه كالنفقة ولأنه يخاف من ترك اعفافه
الوقوع في المحظور بخلاف الحلواء. إذا ثبت هذا فالسيد مخير بين تزويجه أو تملكيه أمة يتسراها
وله ان يزوجه أمة لأن النكاح الأمة مباح للعبد من غير شرط ولا يجب عليه تزويجه الا عند طلبه
لأن هذا مما يختلف الناس فيه وفي الحاجة إليه ولا نعلم حاجته الا بطلبه ولا يجوز تزويجه الا باختياره
إذا كان عبدا كبيرا وإذا كان للعبد زوجة فعلى سيده تمكينه من الاستمتاع بها ليلا لأن اذنه في
النكاح اذن في الاستمتاع المعتاد والعادة جارية بذلك ليلا وعليه نفقة زوجته على ما قدمناه
(مسألة) (الا الأمة إذا كان يستمتع بها)
وجملته ان السيد مخير في الأمة بين تزويجها إذا طلبت ذلك وبين الاستمتاع بها فيغنيها
باستمتاعه عن غيره لأن المقصود قضاء الحاجة وإزالة ضرر الشهوة وذلك يحصل بأحدهما فلم يتعين الآخر
(مسألة) (ولا يكلفهم من العمل ما لا يطيقون)
وهو ما يشق عليه ويقرب من العجز عنه لحديث أبي ذر ولان ذلك يضر به ويؤذيه وهو
ممنوع من ذلك
(مسألة) (ويريحهم وقت القيلولة والنوم وأوقات الصلوات)
301

لأن العادة جارية بذلك ولان عليهم في ترك ذلك ضررا ولا يحل الاضرار بهم
(مسألة) (ويداويهم إذا مرضوا)
إذا مرض المملوك أو زمن أو عمي أو انقطع كسبه فعلى سيده القيام به والانفاق عليه لأن
نفقته تجب بالملك ولهذا تجب مع الصغر والملك باق مع المرض والعمى والزمانة فتجب نفقته معهما
لعموم النصوص المذكورة
(مسألة) (وإذا ولي أحدهم طعامه أطعمه معه فإن أبى أطعمه منه)
لما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كفى أحدكم خادمه حره ودخانه فليدعه وليجلسه
معه فإن أبى فليروغ له اللقمة واللقمتين " رواه البخاري ومعنى ترويغ اللقمة غمسها في المرق والدسم
وترويتها بذلك ودفعها إليه ولأنه يشتهيه لحضوره فيه وتوليه إياه وقد قال الله تعالى (وإذا حضر
القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) ولان نفس الحاضر تتوق ما لا
تتوق نفس الغائب
(مسألة) (ولا يسترضع الأمة لغير ولدها الا أن يكون فيها فضل عن ريه)
لأن فيه اضرارا بولدها لنقصه في كفايته وصرف اللبن المخلوق له إلى غيره مع حاجته إليه
فلم يجز كما لو أراد ان ينقص الكبير عن كفايته ومؤنته فإن كان فيها فضل عن ري ولدها جاز لأنه
302

ملكه وقد استغنى عنه الولد فكان له استبقاؤه كالفاضل من كسبه أو كما لو مات ولدها وبقي لبنها
(مسألة) (ولا يجبر العبد على المخارجة وان اتفقا عليها جاز)
معنى المخارجة أن يضرب عليه خراجا معلوما يؤديه إلى سيده وما فضل للعبد لأن ذلك عقد
بينهما فلا يجبر عليه كالكتابة، وإن طلب العبد ذلك وأباه السيد لم يجبر عليه لما ذكرنا فإن اتفقا
على ذلك جاز لما روي أن أبا طيبة حجم النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه أجرة وأمر مواليه أن يخلفوا عنه من
خراجه وكان كثير من الصحابة يضربون على رقيقهم خراجا فروي أن الزبير كان له الف مملوك
على كل واحد منهم كل يوم درهم
وجاء أبو لؤلؤة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله أن يسأل المغيرة بن شعبة
يخفف عنه من خراجه، ثم ينظر فإن كان ذا كسب فجعل عليه بقدر ما يفضل عن كسبه عن نفقته
وخراجه شئ جاز فإن لهما به نفعا فإن العبد يحرص على الكسب وربما فضل معه شئ يزيده في النفقة
ويتسع به، وان وضع عليه أكثر من كسبه بعد نفقته لم يجز وكذلك ان كلف من لا كسب له المخارجة
لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا تكلفوا الصغير الكسب فإنكم متى كلفتموه الكسب
سرق ولا تكلفوا المرأة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم متى كلفتموها الكسب كسبت بفرجها
ولأنه متى كلف غير ذي الكسب خراجا كلفه ما يغلبه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تكلفوهم ما يغلبهم
وربما حمله ذلك على أن يأتي به من غير وجهه فلم يكن للسيد أخذه
303

(مسألة) (ومتى امتنع السيد من الواجب عليه وطلب العبد البيع لزمه بيعه)
وجملة ذلك أن السيد إذا امتنع مما يجب للعبد عليه من نفقة أو كسوة أو تزويج فطلب العبد البيع
أجبر سيده عليه سواء كان امتناع السيد من ذلك لعجزه عنه أو مع قدرته عليه لأن بقاء ملكه عليه
مع الاخلال بسد خلاته اضرار به وإزالة الضرر واجبة فوجب إزالته وكذلك أبحنا للمرأة فسخ النكاح
عند عجز زوجها عن الانفاق عليها وقد روي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه أنه قال " عبدك يقول
أطعمني والا فبعني وامرأتك تقول أطعمني أو طلقني وهذا يدل بمفهومه على أن السيد متى وفى بحقوق
عبده وطلب العبد لم يجبر السيد عليه، وقد روى أبو داود عن أحمد أنه قبل له استباعت المملوكة
وهو يكسوها مما يكتسي ويطعمها مما يأكل؟ قال لاتباع وان أكثرت من ذلك إلا أن تحتاج إلى زوج
فتقول زوجني، وقال عطاء وإسحاق في العبد يحسن إليه سيده وهو يستبيع لا يبعه لأن الملك للسيد
واعتق له فلا يجبر على إزالته من غير ضرر بالعبد كما لا يجبر على طلاق زوجته مع القيام بما يجب لها ولا
على بيع بهيمته مع الانفاق عليها.
(مسألة) (وله تأديب رقيقه بما يؤدب به ولده وامرأته)
له تأديب عبده وأمته إذا أذنبا بالتوبيخ والضرب الخفيف كما يؤدب ولده وامرأته في النشوز
وليس له ضربه على غير ذنب ولا أن يضربه ضربا مبرحا وان أذنب ولا لطمه في وجهه، وقد روي
304

عن ابن مقرن المزني قال قد رأيتني سابع سبعة ما لنا إلا خادم واحد فلطمها أحدنا فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم
باعتاقها وروي عن أبي مسعود قال كنت أضرب غلاما لي وإذا رجل من خلفي يقول اعلم أبا مسعود
اعلم أبا مسعود فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول " اعلم أبا مسعود الله أقدر عليك منك على هذا الغلام "
(مسألة) (وللعبد التسري باذن سيده ولو ملكه سيده جارية لم يكن له التسري بها إلا باذنه)
هذا هو المنصوص عن أحمد في رواية الجماعة وهو قول ابن عمر وابن عباس والشعبي والنخعي
والزهري، ومالك والأوزاعي وأبي ثور، وكره ذلك ابن سيرين وحماد بن أبي سليمان والثوري وأصحاب
الرأي، وللشافعي فيه قولان مبنيان على أن العبد هل يملك بتمليك سيده أو لا، وقال القاضي يجب
أن يكون في مذهب أحمد في تسري العبد وجهان مبنيان على الروايتين في ثبوت الملك بتمليك سيده
واحتج من منع ذلك بأن العبد لا يملك المال ولا يجوز الوطئ إلا في نكاح أو تمليك يمين لقول الله تعالى
(إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)
ولنا قول ابن عمر وابن عباس ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا، وروى الأثرم عن ابن عمر
باسناده أنه كان لا يرى بأسا أن يتسرى العبد ونحوه عن ابن عباس، ولان العبد يملك في النكاح
فملك التسري كالحر، وقولهم إن العبد لا يملك المال ممنوع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من باع عبدا وله
مال " فجعل المال له ولأنه آدمي فيملك المال كالحر وذلك لأنه بآدميته يتمهد لأهلية الملك إذ كان الله
305

تعالى خلق الأموال للآدميين ليستعينوا بها على القيام بوظائف التكليف وأداء العبادات، قال الله
تعالى (خلق لكم ما في الأرض جميعا) والعبد داخل في العموم ومن أهل التكاليف والعبادات فيكون
أهلا للملك وكذلك ملك في النكاح، وإذا ثبت الملك للجنين مع كونه نطفة لا حياة فيها باعتبار ما له
إلى الآدمية فالعبد الذي هو آدمي مكلف أولى
ولا يجوز له التسري إلا باذن سيده ولو ملكه سيده جارية لم يكن له وطؤها حتى يأذن له فيه
لأن ملكه ناقص ولسيده نزعه منه متى شاء من غير فسخ قد فلم يكن له التصرف فيه إلا باذن سيده
فإن اذن له فقال تسراها أو أذنت لك في وطئها أو ما دل عليه أبيح له، وما ولد له من التسري فحكمه حكم
ملكه لأن الجارية مملوكة له فكذلك ولدها وان تسرى بغير اذن سيده فالولد ملك لسيده
(فصل) وإذا اذن له السيد في أكثر من واحدة فله التسري بما شاء نص عليه أحمد لا زمن جاز
له التسري جاز له بغير حصر كالحر وان اذن له وأطلق فله التسري واحدة وكذلك إذا اذن له في
في التزويج ولم يجز ان يتزوج أكثر من واحدة وبهذا قال أصحاب الرأي، وقال أبو ثور إذا اذن له
في التزويج فعقد على اثنتين في عقد جاز
ولنا ان الاذن الطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم يقينا وما زاد مشكوك فيه فيبقى على الأصل
306

كما لو اذن له في طلاق امرأته لم يكن له ان يطلق أكثر من طلقة ولان الزائد عن الواحدة يحتمل أن يكون
غير مراد فيبقى على أصل التحريم كما لو شك في أصل الاذن
(فصل) نقل محمد بن ماهان عن أحمد لا بأس للعبد ان يتسرى إذا اذن له سيده فإن رجع السيد
فليس له أن يرجع إذا اذن له مرة وتسري وكذلك نقل عنه إبراهيم بن هانئ ويعقوب بن بختان ولم
307

أو عنه خلاف هذا فظاهره انه إذا تسرى باذن السيد لم يملك السيد الرجوع لأنه يملك به البضع فلم
يملك سيده فسخه قياسا على النكاح، وقال القاضي يحتمل أنه أراد بالتسري ههنا التزويج وسماه تسريا
308

مجازا ويكون للسيد الرجوع فيما ملك عبده وظاهر كلام أحمد خلاف هذا وذلك لأنه ملكه بضعا أبيح
له وطؤه فلم يملك رجوعه فيه كما لو زوجه
309

(فصل) وعليه اطعام بهائمه وسقيها والقيام بها والانفاق عليها وما تحتاج إليه من علفها وسقيها لو
310

إقامة من يرعاها لما روي ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا
فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض " متفق عليه
311

(مسألة) (ولا يحملها ما لا تطيق)
لأنها في معنى العبد وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم تكليف العبد ما لا يطيق، ولان فيه تعذيب الحيوان الذي
312

له حرمة في نفسه ولا يحلب من لبنها ما يضرب ولدها لأن كفايته واجبة على مالكه ولن أمه مخلوق
313

له فأشبه ولد الأمة فإن امتنع عن الانفاق عليهما أجبر على ذلك فإن أبى أو عجز أجبر على بيعها أو ذبحها
ان كانت مما تذبح، وقال أبو حنيفة لا يجبره السلطان بل يأمره به كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر
314

لأن البهيمة لا يثبت لها حق من جهة الحكم ألا ترى أنه لا يصح منها الدعوى ولا ينصب عنها خصم
فصارت كالزرع والشجر
315

ولنا أنها نفقة حيوان واجبة عليه فكان للسلطان اجباره عليها كنفقة العبد فإن عجز عن الانفاق
316

وامتنع من البيع بيعت عليه كما يباع العبد إذا طلب البيع عند إعسار سيده بنفقة وكما يفسخ نكاحه
317

إذا أعسر بنفقة امرأته فإن عطبت البهيمة فلم ينتفع بها فإن كانت مما لا يؤكل أجبر على الانفاق عليها
كالعبد الزمن وان كانت مما يؤكل خير بين ذبحها والانفاق عليها على ما ذكرناه
(كتاب الجنايات)
الجنايات كل فعل عدوان على نفس أو مال لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على
الأبدان وسموا الجنايات على الأموال غصبا ونهبها وسرقة وخيانة واتلافا واجمع المسلمون على تحريم
القتل بغير حق والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع اما الكتاب فقول الله تعالى (ولا تقتلوا النفس
التي حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) وقال (وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمنا
إلا خطأ) وقال (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) الآية واما السنة فروى عبد الله بن مسعود قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا آله إلا الله واني رسول الله إلا بإحدى
ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه والمفارق للجماعة " متفق عليه وروي عثمان وعائشة
318

عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في آي واخبار كثيرة ولا خلاف بين الأمة في تحريمه فإن فعله إنسان متعمدا فسق
وأمره إلى الله ان شاء عذبه وان شاء غفر له وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم وقال ابن عباس
لا تقبل توبته للآية التي ذكرناها وهي في آخر ما نزل ولم ينسخها شئ ولان لفظ لآية لفظ الخبر
والاخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقا
ولنا قول الله تعالى (ان الله لا يغفر ان يشترك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فجعله داخلا
في المشيئة وقال تعالى (ان الله يغفر الذنوب جميعا) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " ان رجلا قتل مائه
رجل ظلما ثم سئل هل له من توبة؟ فدل على عالم فسأل فقال ومن يحول بينك وبين التوبة ولكن
اخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها فخرج تائبا فأدركه الموت في الطريق فاختصمت
فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فبعث الله عز وجل ملكا فقال قيسوا ما بين القريتين فإلى أيهما
أقرب فاجعلوه من أهلها فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر فجعلوه من أهلها " أخرجه مسلم ولان
التوبة تصح من الكفر فمن القتل أولى والآية محمولة على من قتله مستحلا ولم يتب أو على أن هذا
جزاؤه ان جازاه الله وله العفو ان شاء وقوله لا يدخلها النسخ قلنا يدخلها التخصيص والتأويل
(مسألة) (والقتل على أربعة اضرب عمد وشبه وخطأ وما أجري مجرى الخطأ)
أكثر أهل العلم يرون القتل منقسما إلى عمد وشبه عمد وخطأ روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال
319

الشعبي والنخعي وقتادة وحماد وأهل العراق والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأنكر مالك شبه
العمد وقال ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فاما شبه العمد فلا يعلم به عندنا وجعله من قسم
العمد وحكي عنه مثل قول الجماعة وهو الصواب لما روي عبد الله بن عمر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" ألا ان في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصى مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها "
رواه أبو داود وفي لفظ " قتيل خطأ العمد، وهذا نص يقدم على ما ذكره وقسمه شيخنا في هذا الكتاب
أربعة أقسام فزاد ما أجري مجرى الخطأ على ما ذكرناه وكذلك قسمه أبو الخطاب وهو ان ينقلب
النائم على شخص فيقتله ومن يقتل بالسبب كحفر البئر ونحوه وكذلك قتل غير المكلف وهذه الصور
عند الأكثرين من قسم الخطأ اعطوه حكمه
(مسألة) (والعمد ان يقتله بما يغلب على الظن موته به عالما بكونه آدميا معصوما وهو تسعة أقسام)
(أحدهما) ان يجرحه بما له مور في البدن من حديد أو غيره مثل ان يجرحه بسكين أو يغزره بمسلة
أو ما في معناه مما يحدد ويجرح من الحديد والنخاس والرصاص الذهب والفضة والزجاج والحجر
والخشب والقصب والعظم فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا فمات فهو قتل عمد لا اختلاف فيه بين
العلماء فيما علمنا فاما ان جرحه جرحا صغيرا كشرطة الحجام أو غرزه بإبرة أو شوكة أو جرحه جرحا
صغيرا بكبر في غير مقتل فمات في الحال ففي كونه عمدا وجهان (أحدهما) لا قصاص فيه قاله ابن حامد
لأن الظاهر أنه لم يمت منه ولأنه لا يقتل غلبا أشبه العصى والسوط
320

(والثاني) فيه القصاص لأن لمحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل به بدليل ما لو قطع شحمة
اذنه أو أنملته ولأنه لما لم تكن إدارة الحكم وضبطه بغلبة الظن وجب ربطه بكونه محددا ولا يعتبر ظهور
الحكمة في آحاد صور المظنة بل يكفي احتمال الحكمة ولذلك ثبت الحكم به فيما إذا بقي ضمنا مع أن
العمد لا يختلف مع اتحاد لآية والفعل بسرعة الافضاء وابطائه ولان في البدن مقاتل خفية وهذا له
سراية وصور فأشبه الجرح الكبير وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يفرق بين الصغير والكبير وهذا
مذهب أبي حنيفة وللشافعي من التفصيل نحو مما ذكرنا
(مسألة) (فإن بقي من ذلك ضمنا حتى مات أو كان الغرز بها في مقتل كالفؤاد والخصيتين فهو عمد محض)
أما إذا كان الجرح في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة والصدغ أو أصل الاذن فمات فهو عمد
محض يجب به القصاص وكذلك ان بالغ في إدخال الإبرة ونحوها في البدن لأنه يشتد ألمه ويفضي إلى
القتل كالكبير، وان بقي من ذلك ضمنا حتى مات ففيه القود لأن الظاهر أنه مات به قاله أصحابنا
وقيل لا يجب به القصاص لأن لما احتمل حصول الموت بغيره ظاهرا كان شبهة في درء القصاص ولو
كانت العلة ان القتل لا يحصل به غالبا لما افترق بين موته في الحال وموته الحال وموته ومتراخيا كسائر ما لا يجب به قصاص
(مسألة) (وان قطع سلعة من أجنبي بغير اذنه فمات فعليه القود لأنه جرحه بغير اذنه جرحا لا يجوز له
321

فكان عليه القود إذا تعمد كغيره وان قطعها حاكم من صغير أو وليه فمات فلا قود لأن له فعل ذلك
وقد فعله لمصلحته فأشبه ما لو ختنه
(الثاني) ان يضربه بمثقل فوق عمود الفسطاط أو بما يغلب على الظن موته به كاللت والكوذين
والسندان أو حجر كبير أو يلقي عليه حائطا أسقفا أو يلقيه من شاهق أو يكرر الضرب بصغير أو
يضربه في مقتل أو في حال ضعف قوة من مرض أو صغر أو كبر أو برد أو نحوه
وجمله ذلك أنه إذا قتله بغير محدد يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهو عمد موجب للقصاص
وبه قال النخعي والزهري وابن سيرين وجماد وعمرو بن دينار وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وإسحاق
وأبو يوسف وأبو محمد وقال الحسن لا قود في ذلك وروي ذلك عن الشعبي وقال ابن المسيب وعطاء
وطاوس العمد ما كان بالسلاح وقال أبو حنيفة لا قود إلا أن يكون قتله بالنار وعنه في مثقل الحديد
روايتان، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من
الإبل " فسماه عمدا لخطأ وأوجب فيه الدية دون القصاص ولان العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب
ضبطه بمظنته ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالبا لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير فوجب ضبطه بالجرح
ولنا قول الله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) وهذا مقتول ظلما وقوله سبحانه
(كتب عليكم القصاص في القتلى) وروى أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لما بحجر فقتله رسول
322

الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين متعق عليه، وروى أبو هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ومن قتل له
قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودي وإما ان يقاد " متفق عليه ولأنه يقتل غالبا أشبه المحدد وأما الحديث
فمحمول على المثل الصغير لأنه ذكر العصى والسوط وقرن به الحجر فدل على أنه أراد ما أشبههما
وقولهم لا يمكن ضبطه ممنوع فاما توجب القصاص بما يتقين حصول الغلبة به وإذا شككنا لم نوجبه
مع الشك والجرح الصغير قد سبق القول فيه ولأنه لا يصح ضبطه بالجرح بدليل ما لو قتله بالنار، والمراد
بعمود الفسطاط الذي ذكره ههنا العمد التي تتخذها العرب لبيوتها وفيها دتة وإنما حد الواجب للقصاص
بفوق عمود الفسطاط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المرأة التي ضربت جاريتها بعمود الفسطاط فقتلتها
وجنينها قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة وقضى بالدية على عاقلتها والغافلة لا تحمل العمد فدل
على أن القتل بعمود الفسطاط ليس بعمد، وإن كان أعظم منه بعمد الخيام فهو كبير يقتل غالبا فيجب
فيه القصاص، ومن هذا النوع أن يلقى عليه جدارا أو صخرة أو خشبة عظيمة أو يلقيه من شاهق
فيهلكه ففيه القود لأنه يقتل غالبا، ومن ذلك أن يضربه بمقتل صغير أو حجر صغير أو يلكزه بيده
في مقتل أو في حال ضعف المضروب لمرض أو صغر أو في حر مفرط أو برد شديد بحيث يقتله بتلك
الضربة أو كرر الضرب حتى قتله بما يقتل غالبا فقتله ففيه القود لأنه قتله بما يقتل غالبا أشبه المثقل
323

الكبير وان لم يكن كذلك ففيه الدية لأنه عمد الخطأ إلا أن يصغر جدا كالضربة بالقلم والإصبع في غير
مقتل ونحو هذا مما لا يتوهم القتل به فلا قود فيه ولا دية لأنه لم يمت به وكذلك ان مسه بالكبير ولم يضربه
به لأن الدية إنما تجب بالقتل فليس هذا قتلا
(النوع الثالث) (ألقاه في زبية أسد أو أنهشه كلبا أو سبعا أو حية أو السعة عقربا من القواتل
ونحو ذلك فقتله فيجب به القصاص)
إذا جمع بينه وبين أسد أو نحو في مكان ضيق كزبية أو نحوها فقتله فهو عمد فيه القصاص إذا فعل
به السبع فعلا يقتل مثله وان فعل وان فعل به فعلا لو فعله الآدمي لم يكن عمدا لم يجب القصاص به لأن السبع
صار آلة للآدمي فكان فعله كفعله فإن ألقاه مكتوفا بين يدي الأسد أو النمر في فضاء فقتل فعليه القود
وكذلك ان جمع بينه وبين حية في مكان ضيق فنهشته فقتلته فعليه القود، وقال القاضي لا ضمان عليه في
الصورتين وهو قول أصحاب الشافعي لأن الأسد والحية يهربان من الآدمي، ولان هذا سبب غير ملجئ
ولنا أن هذا يقتل غالبا فكان عمدا محضا كسائر الصور، وقولهم إنهما يهربان لا يصح فإن الأسد
يأخذ الآدمي المطلق فكيف يهرب من مكتوف ألقي له ليأكله؟ والحية إنما تهرب في مكان واسع أما
إذا ضاق المكان فالغالب أنها تدفع عن نفسها بالهش على ما هو العادة، وقد ذكر القاضي فيمن ألقي
324

مكتوفا في أرض مسبعة أو ذات حياة فقتلته ان في وجوب القصاص روايتين وهذا تناقص شديد
فإنه نفى الضمان بالكلية في صورة كان القتل فيها أغلب وأوجب القصاص في صورة كان فيها أنذر، والصحيح
أنه لا قصاص ههنا ويجب الضمان لأنه فعل به فعلا متعمدا تلف به لأنه يقتل مثله غالبا وان أنهشه حية
أو سبعا فقتله فعليه القود إذا كان ذلك مما يقتل غالبا فإن كان مما لا يقتل غالبا كثعبان الحجاز أو سبع
صغير ففيه وجهان (أحدهما) فيه القود لأن الجرح لا يعتبر فيه غلبة حصول القتل به وهذا جرح
ولان الحية من جنس ما يقتل غالبا
(والثاني) هو شبه عمد لأنه لا يقتل غالبا أشبه الضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير وان السعة
عقربا من القواتل فقتلته فهو كما لو أنهشته حية يوجب القصاص لأنه يقتل غالبا، فإن كتفه وألقاه في ارض
غير مسبعة فأكله سبع أو نهشته حية فمات فهو شبه عمد وقال أصحاب الشافعي هو خطأ محض
ولنا انه فعل به فعلا لا يقتل مثله غالبا فافضى إلى إهلاكه أشبه ما لو ضربه بعصا فمات وكذلك ان
ألقاه مشدودا في موضع لم يعهد وصول زيادة الماء إليه فإن كان في موضع يعلم وصول زيادة الماء إليه
في ذلك الوقت فمات به فهو عمد محض وان كانت الزيادة غير معلومة اما لكونها تحتمل الوجود وعدمه
أو لا تعهد أصلا فهو شبه عمد
(النوع الرابع) ألقاه في ماء يغرقه أو نار لا يمكنه التخلص منها اما لكثرة الماء والنار واما لعجزه
325

عن التخلص لمرض أو ضعف أو صغر أو كونه في حفرة لا يقدر على الصعود منها ونحو هذا أو ألقاه
في بئر ذات نفس فمات عالما بذلك فهذا كله عمد لأنه يقتل غالبا، وان ألقاه في ماء يسير فقدر على الخروج
منه فلبث فيه اختيارا حتى مات فلا شئ فيه لأن هذا الفعل لم يقتله وإنما حصل موته بلبثه فيه وهو
فعل نفسه فلم يضمنه غيره، فإن تركه في نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو كونه في طرف منها يمكنه الخروج
بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود لأن هذا لا يقتل غالبا وهل يضمنه؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يضمنه لأنه مهلك لنفسه بإقامته فلم يضمنه كما لو ألقاه في ماء يسير لكن يضمن
ما أصابت النار منه
(والثاني) يضمنه لأنه جان بالالقاء المفضي إلى الهلاك وترك التخلص لا يسقط الضمان كما لو
فصده فترك شد فصاده مع امكانه أو جرحه فترك مداواة جرحه، وفارق الماء اليسير لأنه لا يهلك بنفسه
ولهذا يدخله الناس للغسل والسباحة واما النار فيسيرها مهلك وإنما تعلم قدرته على التخلص بقوله أنا قادر
على التخلص أو نحو هذا لأن النار لها حرارة شديدة فربما أزعجته حرارتها عن معرفة ما يتخلص به
أو أذهبت عقله بألمها وروعتها
(الخامس) (خنقه بحبل أو غيره أو سد فمه وانفه أو عصر خصيتيه حتى مات)
إذا منع خروج نفسه بأن يخنقه بحبل أو غيره وهو نوعان (أحدهما) ان يخنقه بان يجعل في عنقه
326

خراطة ثم يعلقه في خشبة أو شئ بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت فهذا عمد سواء مات
في الحال أو بقي زمنا لأن هذا أوحى أنواع الخنق وهو الذي جرت العادة بفعله في اللصوص
وأشباههم من المفسدين
(الثاني) ان يخنقه وهو على الأرض بيديه أو حبل أو يغمه بوسادة أو شئ يضعه على فيه وانفه
أو يضع يديه عليهما فيموت فهذا ان فعل به ذلك في مدة يموت في مثلها غالبا فمات فهو عمد فيه القصاص
وبه قال عمر بن عبد العزيز والنخعي والشافعي، وإن كان في مدة لا يموت في مثلها غالبا فهو عمد الخطأ
ويلتحق بذلك ما لو عصر خصيته عصرا شديدا فقتله بعصر يقتل مثله غالبا، وان لم يكن كذلك فهو شبه عمد
الا أن يكون ذلك يسيرا في الغاية بحيث لا يتوهم الموت منه فلا يوجب ضمانا لأنه بمنزلة لمسه، ومتى خنقه
وتركه متألما حتى مات ففيه القود لأنه مات من سراية جناية كسراية الجرح وان تنفس وصح ثم
مات فلا قود لأن الظاهر أنه لم يمت منه فأشبه ما لو اندمل الجرح ثم مات
(السادس) حبسه ومنعه الطعام أو الشرب حتى مات جوعا وعطشا في مدة يموت في مثلها غالبا
فعليه القود لأن هذا يقتل غالبا، وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال فإذا عطشه في شدة
الحرمات في الزمن القليل وإن كان ريان والزمن بارد أو معتدل لم يمت الا في زمن طويل فيعتبر هذا
فيه، فإن كان في مدة يموت في مثلها غالبا ففيه القود إن كان في مدة لا يموت في مثلها غالبا فهو عمد الخطأ
327

وان شككنا فيها لم يجب القود لأنا شككنا في السبب ولا يثبت الحكم مع أشك في سببه سيما القصاص
الذي يسقط بالشبهات
(السابع) سقاه سما لا يعلم به أو خلطه بطعام فاطعمه أو خلطه بطعامه فأكله وهو لا يعلمه فمات
فعليه القود إذا كان مثله يقتل غالبا وقال الشافعي في أحد قوليه لا قود عليه لأنه أكله مختارا فأشبه
ما لو قدم إليه سكينا فطعن بها نفسه، ولان أنس بن مالك روى أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة
مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم وبشر بن البراء فلم يقتلها النبي صلى الله عليه وسلم قال وهل تجب الدية؟ فيه
قولان، قلنا حديث اليهودية حجة لنا فإن أبا سلمة قال فيه فمات بشر فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت
أخرجه أبو داود ولان هذا يقتل غالبا ويتخذ طريقا إلى القتل كثيرا فأوجب القصاص كما لو أكرهه
على شربه، فاما حديث انس فلم يذكر فيه ان أحدا مات منعه ولا يجب القصاص إلا أن يقتل به ويجوز
أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها قبل ان يموت بشر فلما مات أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فاعترفت فقتلها
فنقل أنس صدر القصة دون آخرها، ويتعين حمله عليه جميعا بين الخبرين ويجوز ان يترك قتلها لكونها
ما قصدت قتل بشر إنما قصدت قتل النبي صلى الله عليه وسلم فاختل العمد بالنسبة إلى بشر، وفارق تقديم السكين فإنها
لا تقدم إلى الانسان ليقتل بها نفسه إنما تقدم إليه لينتفع وهو عالم بمضرتها ونفعها فأشبه ما لو قدم
328

إليه السم وهو عالم به فأما ان أكله وهو عالم به وهو بالغ عاقل فلا ضمان عليه كما لو قدم إليه سكينا
فوجأ بها نفسه
(مسألة) (فإن خلط السم بطعام نفسه فدخل إنسان منزله فأكله فلا ضمان عليه)
لأنه لم يفعله وإنما الداخل قتل نفسه فأشبه ما لو حفر في داره بئرا فدخل رجل فوقع فيها وسواء
قصد بذلك قتل الداخل مثل ان يعلم أن ظالما يريد هجوم داره فترك السم في الطعام ليقتله فهو كما لو
حفر بئرا في داره ليقع فيها اللص إذا دخل ليسرق منها ولو دخل رجل باذنه فأكل الطعام المسموم
بغير اذنه لم يضمنه لذلك
(مسألة) (وان ادعى القاتل بالسم إنني لم أعلم أنه سم قاتل لم يقبل قوله في أحد الوجهين)
لأن السم من جنس ما يقتل غالبا فأشبه ما لو جرحه وقال لم أعلم أنه يموت منه (والثاني) لا قود
عليه لأنه لا يجوز ان يخفي عليه أنه قاتل وهذا شبهة ليسقط به القود فيكون شبه عمد
(فصل) فإن سقي إنسانا سما أو خلطه بطعامه فأكل وهو لا يعلم به وهو مما لا يقتل مثله غالبا فهو
شبه عمد فإن اختلف فيه هل يقتل غالبا أولا وثم بينة تشهد عمل بها وان قالت تقتل النضو الضعيف
دون القوي أو غير ذلك عمل على حسب ذلك فإن لم يكن مع أحدهما بينة فالقول قولا الساقي لأن
329

الأصل عدم وجوب القصاص فلا يثبت بالشك ولأنه أعلم بصفة ما يسقي فإن ثبت انه قاتل فقال
لم أعلم به ففيه الوجهان المذكوران
(الثامن) ان يقتله بسحر يقتل غالبا فيلزمه القود لأنه قتله بما يقتل غالبا فأشبه قتله بالسكين وإن كان
مما لا يقتل غالبا أو كان مما يقتل ولا يقتل ففيه الدية دون القصاص لأنه عمد الخطأ فأشبه ضرب العصا
(التاسع) ان يشهدا على رجل بقتل عمد أو زنا أو ردة فيقتل بذلك ثم يرجعا ويقولا عمدنا قتله
أو يقول الحاكم علمت كذبهما وعمدت قتله أو يقول ذلك الولي فهذا فكله عمد محض موجب للقصاص
إذا كلمت شروطه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قصاص عليهما لأنه بسبب غير ملجئ فلا
وجب القصاص كحفر البئر
ولنا ما روى القاسم بن عبد الرحمن ان رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق
فقطعه ثم رجعان عن شهادتهما فقال علي لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده ولأنهما
توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فوجب عليهما القصاص كالمكره وكذلك الحاكم إذا حكم على
على رجل بالقتل عالما بذلك متعمدا فقتله واعترف بذلك وجب القصاص والكلام فيه كالكلام
في الشاهدين ولو أن الولي الذي باشر قتله أقر بعلمه بكذب الشهود وتعمد قتله فعليه القصاص لا نعلم
330

فيه خلافا فإن أقر الشاهدان والحاكم والولي جميعا بذلك فعلى الولي القصاص لأنه باشر القتل عمدا وعدوانا
وينبغي ان لا يجب على غيره شئ لأنهم متسببون والمباشرة تبطل حكم التسبب كالدافع مع الحافر
ويفارق هذا ما إذا لم يقر لأنه لم يثبت حكم مباشرة القتل في حقه ظلما فكان وجوده كعدمه ويكون
القصاص على الشاهدين والحاكم لأن الجمع متسببون وان صار الامر إلى الدية فهي عليهم أثلاثا
ويحتمل ان يتعلق الحكم بالحاكم وحده لأن سببه أخص من سببهم فإن حكمه واسطة بين شهادتهم
وقتله فأشبه المباشر مع المتسبب فإن كان الولي المقر بالتعمد لم يباشر القتل وإنما وكل فيه فأقر الوكيل
بالعلم وتعمد القتل ظلما فهو القاتل وحده لأنه المباشر للقتل عمدا ظلما من غير اكراه فتعلق الحكم به
كما لو قتل في غيره هذه الصورة وان لم يعترف بذلك فالحكم يتعلق بالولي كما لو باشره
(فصل) قال رضي الله عنه وشبه العمد ان يقصد الجناية بما لا يقتل غالبا فيقتل اما لقصد العدوان
عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير أو يلكزه بيده أو
يلقيه في ماء يسير أو يقتله بسحر لا يقتل غالبا وسائر ما لا يقتل غالبا أو يصيح بصبي أو معتوه وهما على
سطح فيسقطان أو يغتفل عاقلا فيصيح به فيسقط فهو شبه عمد إذا قتل لأنه قصد الضرب دون القتل
ويسمي خطأ العمد وعمد الخطأ لاجتماع العمد والخطأ فيه فإنه عمد الفعل واخطأ في القتل فهذا لا قود
فيه والدية على العاقلة في قول أكثر أهل العلم وجعله مالك عمدا في بعض ما حكي عنه موجبا للقصاص
331

لأنه ليس في كتاب الله الا العمد والخطأ فمن زاد قسما ثالثا زاد على النص ولأنه قبله بفعل عمده فكان
عمدا كما لو غرزه بإبرة وحكي عنه مثل قول الجماعة وقال أبو بكر عبد العزيز تجب الدية في مال القاتل
وهو قول ابن شبرمة لأنه موجب فعل عمد فكان في مال القاتل كسائر جنايات العمد
ولنا ما روى أبو هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها
وما في بطنها يقضى النبي صلى الله عليه وسلم " ان دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها " متفق
عليه فأوجب ديتها على العاقلة، والعاقلة لا تحمل العمد وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الا ان في قتل خطأ
العمد قتيل السوط والحجر والعصى مائة من الإبل " وفي لفظ ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " عقل شبه العمد تغلظ مثل
عقل العمد ولا يقتل صاحبه " رواه أبو داود وهذا نص وقوله هذا قسم ثالث قلنا نعم هذا ثبت بالسنة والقسمان
الأولان ثبتا بالكتاب ولأنه قتل لا يوجب القود فكانت ديته على العاقلة كقتل الخطأ
(فصل) والخطأ على ضربين (أحدهما) ان يرمي الصيد ويفعل ماله فعله فيتول إلى اتلاف انسان
معصوم فعليه الكفارة والدفع على العاقلة بغير خلاف قال ابن المنذر أجمع كل من تحفظ عنه من أهل
العلم ان القتل الخطأ ان يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره لا أعلمهم يختلفون فيه هذا قول عمر بن
عبد العزيز وقتادة والنخعي والزهري وابن شبرمة والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي
والأصل في وجوب الدية والكفارة قول الله سبحانه وتعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة
332

مؤمنه ودية مسلمة إلى أصله الا ان يصدقوا) وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا له عهد لقول الله تعالى
(فإن كان من قول بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) ولا قصاص في شئ
من هذا لأن الله تعالى أوجب به الدية ولم يذكر قصاصا وقال النبي صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه، ولأنه لم يوجب القصاص في عمد الخطأ ففي الخطأ أولى
(الضرب الثاني) ان يقتل في دار الحرب من يظنه حربيا ويكون مسلما أو يرمي إلى صف الكفار
فيصيب مسلما أو يتترس من الكفار بمسلم ويخاف على المسلمين ان لم يرمهم فيرميهم فيقتل المسلم فهذا
تجب به الكفارة روي ذلك عن ابن عباس وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والأوزاعي
وأبو حنيفة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان
(إحداهما) تجب وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة
مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله أن يصدقوا) وقال عليه السلام " ألا إن في قتيل خطأ العمد قتيل السوط
والعصى مائة من الإبل " ولأنه قتل مسلما خطأ فوجبت ديته كما لو كان في دار الاسلام (والثانية) لا تجب
الدية لقول الله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ولم يذكر دية
وتركه ذكرها في هذا القسم مع ذكرها في الذي قبله وبعد ظاهر في أنها غير واجبة وذكره لهذا
قسما مفردا يدل على أنه لم يدخل في عموم في الآية التي احتجوا بها ويخص بها عموم الخبر الذي رووه
وهذا ظاهر المذهب.
333

(مسألة) (والذي أجري مجرى الخطأ كالنائم ينقلب على إنسان فيقتله أو يقتل بالسبب مثل أن
يحفر بئرا أو ينصب سكينا أو حجرا فيؤول إلى اتلاف إنسان وعمد الصبي والمجنون) فهذا كله لا قصاص
فيه والدية على العاقلة وعليه الكفارة في ما له لأنه خطأ فيكون هذا حكمه لما ذكرناه
(فصل) قال رحمه الله (ويقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهم لو انفرد أوجب
القصاص عليه، روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن
وأبو سلمة وعطاء وقتادة وهو مذهب مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب
الرأي، وعن أحمد رواية أخرى لا يقتلون وتجب الدية عليهم والمذهب الأول يروي ذلك عن ابن الزبير
والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وداود وابن المنذر وحكاه ابن أبي
موسى عن ابن عباس وروي ذلك عن معاذ وابن الزبير والزهري أنه يقتل منهم واحد ويأخذ من
الباقين حصصهم من الدية لأن كل واحد منهم مكافئ له فلا يستوفي أبدا إلا ببدل واحد كما لا تجب ديات
لمقتول واحد ولان الله تعالى قال (الحر بالحر) (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ومقتضاه
أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة ولان التفاوت في الأوصاف يمنع بدليل أن الحر لا يؤخذ
بالعبد فالتفاوت في العدد أولى قال ابن المنذر لا حجة مع من أوجب قتل الجماعة بواحد
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم فروى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من
334

أهل صنعاء قتلوا رجلا وقال لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعا وعن علي أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلا
وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعا لأنها عقوبة تجب
للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف ويفارق الدية فإنها تتبعض والقصاص
لا يتبعض ولان القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به فيؤدي إلى إسقاط
حكمة الردع والزجر.
(مسألة) (وان جرحه أحدهما جرحا والآخر مائة فهما سواء في القصاص والدية)
جملة ذلك أنه لا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه فلو جرحه أحدهما جرحا
والآخر مائة أو أوضحه أحدهما وشجه الآخر آمه أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة فمات كانا سواء
في القصاص والدية لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد جرحان
يتساويان من كل وجه ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم، لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ولا يكتفي
باحتمال الوجود بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في اسقاط الحكم لأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت
منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الأمة ومن غير الجائفة دون الجائفة ولان الجراح
335

إذا صارت نفسا سقط اعتبارها فكان حكم الجماعة كحكم الواحد ألا ترى أنه لو قطع أطرافه كلها فمات
وجبت دية واحدة كما لو قطع طرفه فمات
(فصل) إذا اشترك ثلاثة في قتل رجل فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه ثالث فمات
فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل واحد ثلثها وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه
ثلث الدية ويقتل الآخرين وان يعفوا عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث وان برأت
جراحة أحدهم ومات من الجرحين الآخرين فله أن يقتص من الذي برأ جرحه بمثل جرحه ويقتل
الآخرين أو يأخذ منهما دية كاملة أو يقتل أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية وله أن يعفوا عن
الذي برأ جرحه ويأخذ منه دية جرحه وان ادعى الموضح أن جرحه برأ قبل موته وكذبه شريكاه
نظرت في الولي فإن صدقه ثبت حكم البرء بالنسبة إليه فلا يملك قتله والا مطالبته بثلث الدية وله أن يقتص
منه موضحة أو يأخذ منه أرشها ولم يقبل قوله في حق شريكيه، لأن الأصل عدم البرء فيها لكن ان
اختار الولي القصاص فلا فائدة لهما في انكار ذلك لأن له أن يقتلهما سواء برأت أو لم تبرأ وان اختار
الدية لم يلزمهما أكثر من ثلثيها وان كذبه الولي حلف وله الاقتصاص منه أو مطالبته بثلث الدية ولم
يكن له مطالبة شريكه بأكثر من ثلثيها وان شهد له شريكاه ببرئها لزمهما الدية كاملة لاقرارهما بوجوبها
وللولي أخذها منهما ان صدقهما وان لم يصدقهما وعفى إلى الدية لم يكن له أكثر من ثلثها لأنه يدعي
336

أكثر من ذلك وتقبل شهادتهما ان كانا قد تابا وعدلا لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بذلك نفعا فيسقط القصاص
ولا يلزمه أكثر من أرش موضحة
(مسألة) (وان قطع أحدهما يده من الكوع والآخر من المرفق فهما قاتلان)
أما إذا أبرأت جراحة الأول قبل قطع الثاني فالقاتل الثاني وحده وعليه القود أو الدية كاملة ان عفا عن قتله
فله قطع يد الأول أو نصف الدية، وان لم تبرأ فهما قاتلان وعليهما القصاص في النفس أو الدية ان عفا
عنهما وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة القاتل هو الثاني وحده ولا قصاص على الأول في النفس
لأن قطع الثاني قطع سراية قطعه ومات بعد زوال جناية فأشبه ما لو اندمل جرحه، وقال مالك ان
قطعه الثاني عقيب قطع الأول قتلا جميعا وان عاش بعد قطع الأول حتى أكل وشرب ومات عقيب قطع
الثاني فالقاتل هو الثاني وحده وان عاش بعدهما حتى أكل وشرب فللأولياء أن يقسموا على أيهما شاء ويقتلوه
ولنا أنهما قطعان لو مات بعد كل واحد منهما وحده لوجب عليه القصاص فإذا مات بعدهما وجب
عليهما القصاص كما لو كانا في يدين ولان القطع الثاني لا يمنع حياته بعده فلا يسقط حكم ما قبله كما لو كانا
في يدين ولا نسلم زوال جنايته ولا قطع سرايته فإن الألم الحاصل بالقطع الأول لم يزل وإنما انضم
إليه الألم الثاني فضعفت النفس عن احتمالهما فزهقت بهما فكان القتل بهما، ويخالف الاندمال فإنه لا يبقى
337

معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فافترقا، وان ادعى الأول أن جرحه اندمل فصدقه الولي سقط
عنه القتل ولزمه القصاص في اليد أو نصف الدية وان كذبه شريكه واختار الولي القصاص فلا فائدة
له في تكذيبه لأن قتله واجب، وان عفا عنه إلى الدية فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه أكثر من نصف
الدية وان كذب الولي الأول حلف وكان له قتله، لأن الأصل عدم ما ادعاه وان ادعى الثاني اندمال جرحه
فالحكم فيه كالحكم في الأول إذا ادعى ذلك
(مسألة) (وان فعل أحدهما فعلا لا تبقى معه الحياة كقطع حشوته أو مريئه أو ودجية ثم ضرب
عنقه آخر فالقاتل هو الأول يعزر الثاني، وان شق الأول بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثاني عنقه فالثاني
هو القاتل وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص والدية)
وجملة ذلك أنه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل
قطع حشوته وابنها منه أو ذبحه ثم ضرب عنقه الثاني فالأول هو القاتل لأنه لا يبقى مع جنايته وحياة والقود عليه خاصة
ويعزر الثاني كما لو جنى على ميت وان عفا الولي إلى الدية فهي على الأول وحده، وإن كان جرح الأول تبقى الحياة معه
مثل شق البطن من غير إبانة الحشوة أو قطع طرف ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأنه لم يخرج
بجرح الأول عن حكم الحياة فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس والدية كاملة ان
عفا عنه ثم ينظر في جرح الأول فإن كان موجبا للقصاص كقطع الطرف فالولي مخير بين قطع طرفه
338

والعفو على ديته أو العفو مطلقا، وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة ونحوها فعليه الأرش وإنما جعلنا
عليه القصاص لأن الثاني بفعله قطع سراية الأول فصار كالمندمل الذي لا يسري وهذا مذهب الشافعي
ولا أعلم فيه مخالفا، ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة الا أنه لا يخرج به من حكم الحياة
وتبقى معه الحياة المستقرة مثل خرق المعى أو أم الدماغ فضرب الثاني عنقه فالقاتل هو الثاني لأنه
فوت حياة مستقرة وقتل من هو في حكم الحياة بدليل أن عمر رضي الله عنه لما جرح دخل عليه
الطبيب فسقاه لبنا فخرج يصلد فعلم الطبيب أنه ميت فقال أعهد إلى الناس فعهد إليهم وأوصى وجعل
الخلافة إلى أهل الشورى فقبل الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه لما كان حكم الحياة باقيا كان
الثاني مفوتا لها فكان هو القاتل كما لو قتل عليلا لا يرجى برء علته
(مسألة) (فإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقصاص على الثاني)
لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حياة ييئس فيها من حياته فأشبه ما لو رماه انسان بسهم قاتل فقطع آخر
عنقه قبل وقوع السهم به أو ألقى عليه صخرة فأطار آخر رأسه بالسيف قبل وقوعها عليه وبهذا قال
الشافعي ان رماه من مكان يجوز أن يسلم منه وان رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان (أحدهما)
كقولنا (والثاني) الضمان عليهما بالقصاص والدية عند سقوطه لأن كل واحد منهما سبب للاتلاف
ولنا أن الرمي سبب والقتل مباشرة فانقطع حكم السبب كالدافع مع الحافر والجارح مع الذابح
وكالصور التي ذكرناها وما ذكروه باطل بالأصول المذكورة
(مسألة) (وان ألقاه في لجة فالتقمه الحوت فالقود على الرامي في أحد الوجهين)
إذا كانت اللجة لا يمكنه التخلص منها فالقود على الرامي لأنه ألقاه في مهلكة هلك بها من غير
339

واسطة يمكن إحالة الحكم عليها أشبه ما لو مات بالغرق أو هلك بوقوعه على صخرة (والثاني) لا قود عليه
لأنه لم يهلك بها أشبه ما لو قتله آدمي آخر، فأما ان ألقاه في ماء يسير فأكله سبع أو التقمه حوت أو
تمساح فلا قود عليه لأن الذي فعله لا يقتل غالبا وعليه ضمانه لأنه هلك بفعله
(مسألة) (وان أكره انسانا على القتل فقتل فالقصاص عليهما)
وقال أبو حنيفة يجب القصاص على الآمر دون المأمور لأن المأمور صار بالاكراه بمنزلة الآلة
والقصاص إنما يجب على مستعمل الآلة لا على الآلة، وقال أبو يوسف لا يجب على واحد منهما لأن
الآمر غير مباشر إنما هو متسبب والقصاص لا يجب على المتسبب مع المباشر دليله الدافع مع الحافر
والمأمور مسلوب الاختيار، وقال زفر يجب على المأمور ولا يجب على الآمر لأن المأمور مباشر فيجب
عليه وحده كالدافع مع الحافر
ولنا على أبي حنيفة أن المأمور قاتل فوجب عليه القصاص كما لو لم يأمر، والدليل على أنه
قاتل أنه ضرب بالسيف ولان القتل جرح أو فعل يتعقبه الزهوق وهذا كذلك ولأنه يأثم اثم
القاتل قولهم انه بمنزلة الآلة لا يصح فإنه يأثم والآلة لا تأثم قولهم انه مسلوب الاختيار لا يصح فإنه
قصد استبقاء نفسه بقتل هذا، وهذا يدل على قصده واختيار نفسه ولا خلاف في أنه
يأثم ولو سلم الاختيار لم يأثم كالمجنون، والدليل على أن الآمر قاتل أنه تسبب إلى قتله بما
340

يفضي إليه غالبا فوجب عليه القصاص كما لو أنهشه حية أو أسدا أو رماه بسهم ولأنه ألجأه إلى الهلاك
أشبه ما لو ألقاه عليه.
(مسألة) (وإن أمر من لا يميز أو مجنونا أو عبده الذي لا يعلم أن القتل محرم فالقصاص على الآمر)
إذا أمر عبده بقتل رجل وكان العبد ممن لا يعلم تحريم القتل كمن نشأ في غير بلاد الاسلام
وجب القصاص على الآمر، فأما إن أقام في بلاد الاسلام بين أهله فلا يخفى عليه تحريم القتل ولا
يعذر في فعله، ومتى كان عالما بذلك فالقصاص على العبد، ويؤدب سيده لأمر بما أفضى إلى القتل بما
يراه الإمام من الحبس والتعزير وإذا لم يكن عالما أدب العبد، نقل أبو طالب عن أحمد قال: يقتل
المولى ويحبس العبد حتى يموت لأن العبد سوط المولى وسيفه، كذا قال علي وأبو هريرة قال علي
رضي الله عنه يستودع السجن، وممن قال بهذه الجملة الشافعي وممن قال إن السيد يقتل علي وأبو هريرة
وقال قتادة يقتلان جميعا وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن يديه ويعاقب ويحبس لأنه
لم يباشر القتل ولا ألجأ له إليه فلم يجب عليه القصاص كما لو علم العبد خطر القتل
ولنا أن العبد إذا لم يكن عالما بخطر القتل فهو معتقد إباحته وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده
صيدا فرماه فقتل انسانا ولان حكمة القصاص الزجر والردع ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة وإذا
لم يجب عليه وجب على السيد لأنه آلة لا يمكن إيجاب القصاص عليه فوجب على المتسبب به كما لو أنهشه
341

حية فقتلته أو ألقاه في زبية أسد فأكله، ويفارق هذا ما إذا علم خطر القتل فالقصاص على العبد
لامكان ايجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدافع مع الحافر، ولو أمر صبيا لا يميز أو
مجنونا أو أعجميا لا يعلم خطر القتل فقتل فالحكم فيه كالحكم في العبد يقتل الآمر دون المباشر، فأما
ان أمره بزنا أو سرقة ففعل لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب الا على المباشر والقصاص
يجب بالتسبب ولذلك وجب على المكره والشهود في القصاص
(مسألة) (وان أمر كبيرا عاقلا عالما بتحريم القتل به فقتل فالقصاص على القاتل)
لا نعلم فيه خلافا لأنه قاتل ظلما فوجب عليه القصاص كما لو لم يؤمر
(مسألة) (وإن أمر السلطان بقتل انسان بغير حق من يعلم ذلك فالقصاص على القاتل
وان لم يعلم فعلى الآمر)
إذا كان المأمور يعلم أن المأمور بقتله لا يستحق القتل فالقصاص عليه لأنه غير معذور في فعله
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " من أمركم
من الولاة بمعصية الله فلا تطيعوه " فلزم القصاص كما لو أمره غير السلطان وان لم يعلم ذلك فالقصاص
على الآمر دون المأمور لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام في غير المعصية، والظاهر أنه لا يأمر
الا بالحق وإن كان الآمر غير السلطان فالقصاص على القاتل بكل حال علم أو لم يعلم لأنه لا يلزمه
342

طاعته وليس له القتل بحال بخلاف السلطان فإن إليه القتل في الردة والزنا وقطع الطريق إذا قتل القاطع
ويستوفي القصاص للناس وهذا ليس إليه شئ من ذلك
(فصل) إذا أكرهه السلطان على قتل أحد أو جلده بغير حق فمات فالقصاص عليهما وقد
ذكرناه وإن وجبت الدية كانت عليهما فإن كان الإمام يعتقد جواز القتل دون المأمور كمسلم قتل ذميا
أو حر قتل عبدا فقتله فقال القاضي الضمان عليه دون الإمام لأن الإمام أمره بما أدى اجتهاده إليه والمأمور
يعتقد تحريمه فلم يكن له أن يقبل أمره فإذا قبله لزمه الضمان لأنه قتل من لا يحل له قتله. قال شيخنا
وينبغي أن يفرق بين العامي والمجتهد فإن كان مجتهدا فالحكم فيه على ما ذكره القاضي وإن كان مقلدا
فلا ضمان عليه لأن له تقليد الإمام فيما رآه وإن كان الإمام يعتقد تحريمه والقاتل يعتقد حله فالضمان على
الآمر كما لو أمر السيد عبده الذي لا يعتقد تحريم القتل به
(مسألة) (وان أمسك انسانا لآخر فقتله قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين)
أما وجوب القصاص على القاتل فلا خلاف فيه لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق وأما الممسك فإن لم يعلم أن
القاتل بقتله فلا شئ لأنه متسبب والقاتل مباشر فيسقط حكم المتسبب، وان أمسكه له ليقتله مثل ان أمسكه
حتى ذبحه فاختلفت الرواية فيه عن أحمد فروي عنه انه يحبس حتى يموت وهذا قول عطاء وربيعة وروي ذلك عن
343

علي وروي عن أحمد انه يقتل أيضا وهو قول مالك قال سليمان بن موسى الاجتماع فينا ان يقتلا لأنه لو لم
يمسكه ما قدر على قتله وبامساكه تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما
القصاص كما لو جرحاه، وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يعاقب ويأثم ولا يقتل لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله " والممسك غير قاتل ولان الامساك سبب
غير ملجئ فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو لم يعلم الممسك انه يقتله
ولنا ما روى الدارقطني باسناده عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أمسك الرجل وقتله الآخر
يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك لأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن
الطعام والشراب حتى مات فانا نفعل به ذلك حتى يموت.
(فصل) فإن اتبع رجلا ليقتله فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله فإن كان
الأول حبسه بالقطع ليأتيه الثاني فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك
لأنه حبسه على القتل، وان لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القاتل كالذي أمسكه غير عالم وفيه وجه آخر
ليس عليه إلا القطع بكل حال، والأول أصح لأنه الحابس له بفعله فأشبه الحابس بامساكه، فإن قيل فلم
اعتبرتم قصد لا مسك ههنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الجارح قلنا إذا مات من الجرح فقد مات
344

من سرايته وأثره فيعتبر قصد الجرح الذي هو السبب دون قصد الأثر وفي مسئلتنا إنما كان موته بأمر
غير السراية والفعل ممكن له فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه.
(مسألة) (وان كتفه وطرحه في أرض مسبعة أو ذات حياة فقتلته فحكمه حكم الممسك)
ذكره القاضي وقد مضى الكلام فيه قال شيخنا والصحيح انه لا قصاص فيه لأنه مما لا يقتل غالبا
وتجب فيه الدية لأنه فعل به فعلا متعمدا لا يقتل غالبا لتلف به فهو شبه عمد وهكذا ذكره في كتابه الكافي
(فصل) وان اشترك في القتل اثنان لا يجب القصاص على أحدهما كالأب والأجنبي في قتل
الولد والحر والعبد في قتل العبد والخاطئ والعامد ففي وجوب القصاص على الشريك روايتان أظهرهما
وجوبه على شريك الأب والعبد وسقوطه عن شريك الخاطئ ظاهر المذهب وجوب القصاص على
شريك الأب وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وعن أحمد رواية أخرى لا قصاص على واحد منهما
وهو قول أصحاب الرأي لأنه قتل تركب من موجب وغير موجب فلم يوجب كقتل العامد والخاطئ
والصبي والبالغ والمجنون والعاقل
ولنا أنه شارك في القتل العمد العدوان فيمن يقتل به لو انفرد بقتله فوجب عليه القصاص
كشريك الأجنبي وقولهم ان فعل الأب غير موجب ممنوع فإنه يقتضي الايجاب لكونه تمحض عمدا
345

عدوانا والجناية أعظم اثما وأكبر جرما ولذلك خصه الله تعالى بالنهي فقال (ولا تقتلوا أولادكم) ثم قال
(ان قتلهم كان خطأ كبيرا) ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنب قال " ان تجعل لله ندا وهو خلقك ثم إن
تقتل ولدك خشية ان يطعم معك " فجعله أعظم الذنوب بعد الشرك ولأنه قطع للرحم التي أمر الله
بوصلها ووضع الإساءة موضع الاحسان فهو أولى بايجاب العقوبة والزجر عنه وإنما امتنع الوجوب في
حق الأب لمعنى مختص بالمحل لا لقصور في السبب الموجب فلا يمنع عمله في المحل الذي لا مانع فيه
واما شريك الخاطئ ففيه روايتان (إحداهما) يجب القصاص فهو كمسئلتنا ومع التسليم فامتناع الوجوب
فيه لقصور السبب عن الايجاب فإن فعل الخاطئ غير موجب للقصاص ولا صالح له والقتل منه ومن
شريكه غير متمحض عمد الوقوع الخطأ في الفعل الذي حصل به زهق الروح بخلاف مسئلتنا وكذلك
كل شريكين امتنع القصاص في حق أحدهما لمعنى فيه من غير قصور في السبب فهو في وجوب
القصاص على شريكه كالأب وشريكه كالمسلم والذمي في قتل ذمي والحر والعبد في قتل العبد إذا
كان القتل عدوانا فإن القصاص لا يجب على المسلم ولا على الحر ويجب على الذمي والعبد إذا قلنا بوجوبه
على شريك الأب لأن امتناع القصاص عن المسلم لاسلامه وعن الحر لحريته وانتفاء مكافأة المقتول
له وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعل شريكه فلم يسقط القصاص عنه وقد روي عن أبي عبد الله انه سئل
عن حر وعبد قتلا عبدا عمدا قال اما الحر فلا يقتل بالعبد والعبد ان شاء سيده أسلمه والا فداه
346

بنصف قيمة العبد وظاهر هذا ان لا قصاص على العبد فيخرج مثل هذا في كل قتل شارك فيه من
لا يجب عليه القصاص
(فصل) فإن اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ فالصحيح من المذهب انه لا قصاص على
البالغ وبهذا قال الحسن والأوزاعي وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد
رواية أخرى أن القود يجب على البالغ العاقل حكاه ابن المنذر عن أحمد وحكي ذلك عن مالك وهو
القول الثاني للشافعي وروي عن قتادة والزهري وحماد لأن القصاص عقوبة يجب عليه جزاء لفعله
فمتى كان فعله عمدا وعدوانا وجب عليه القصاص ولا نظر إلى فعل شريكه بحال ولأنه شارك في القتل
عمدا عدوانا فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وذلك لأن الانسان إنما يؤخذ بفعل نفسه لا بفعل
غيره فعلى هذا يعتبر فعل الشريك منفردا فمتى تمحض عمدا عدوانا وكان المقتول مكافئا له وجب عليه القصاص
وبني الشافعي قوله على أن عمد الصبي والمجنون إذا تعمداه عمد لأنهما يقصدان القتل وإنما سقوط القصاص
عنهما لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم يقتض سقوطه عن شريكهما كالأبوة
ولنا أنه شارك من لا اثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ ولان الصبي والمجنون
ليس لهما قصد صحيح ولهذا لا يصح اقرارهما فكان حكم فعلها حكم الخطأ ولهذا تحمله العاقلة فيكون
الأولى عدم وجوب القصاص
347

(فصل) ولا يجب القصاص على شريك الخاطئ في قول أكثر أهل العلم وبه قال الشافعي وأصحاب
الرأي وعن أحمد أن عليه القصاص وحكي عن مالك لأنه شارك في القتل عمدا عدوانا فأشبه شريك
العامد ولان مؤاخذته بفعله وفعله عمد عدوان
ولنا أنه قتل لم يتمحض عمدا فلم يجب به القصاص كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا وخطأ
ولان كل واحد من الشريكين مباشر ومتسبب فإذا كانا عابدين فكل واحد متسبب إلى فعل موجب
للقصاص فقام فعل شريكه مقام فعله لتسببه إليه وههنا إذا أقمنا فعل الخاطئ مقام فعل العامد صار كأنه
قتله بعمد وخطأ وهذا غير موجب والله أعلم
(مسألة) (وفي شريك السبع وشريك نفسه وجهان)
وصورة ذلك أن يجرحه أسد أو نمر أو جرحه انسان ثم جرح هو نفسه متعمدا فهل يجب على
شريكه؟ قصاص فيه وجهان ذكرهما أبو عبد الله بن حامد واختلف فيه عن الشافعي وقال أصحاب الرأي
لا قصاص عليه لأنه شارك من لا قصاص عليه فلم يلزمه القصاص كشريك الخاطئ ولأنه قتل تركب
من يوجب وغير موجب فلم يوجب كالقتل الحاصل من عمد وخطأ ولأنه إذا لم يجب على شريك
الخاطئ وفعله مضمون فلان لا يجب على شريك من لا يضمن فعله أولى (والوجه الثاني) عليه القصاص
وهو قول أبي بكر، وروي عن أحمد أنه قال إذا جرحه رجل ثم جرح الرجل نفسه فمات فعلى شريكه
348

القصاص لأنه قتل عمد متمحض فوجب القصاص على الشريك فيه كشريك الأب فأما ان جرح الرجل
نفسه خطأ منه كأن أراد ضرب غيره فأصاب نفسه فلا قصاص على شريكه في أصح الوجهين وفيه وجه
آخر أن عليه القصاص بناء على الروايتين في شريك الخاطئ
(مسألة) (ولو جرحه انسان عمدا فداوى جرحه بسم أو خاطه في اللحم أو فعل ذلك وليه أو
الإمام فمات ففي وجوب القصاص على الجارح وجهان)
إذا جرحه انسان فتداوى بسم وكان سم ساعة يقتل في الحال فقد قتل نفسه وقطع سراية الجرح وجرى
مجرى من ذبح نفسه بعد أن جرح وينظر في الجرح فإن كان موجبا للقصاص فلوليه استيفاؤه وان لم
يكن موجبا فلوليه الأرش وإن كان السم لا يقتل غالبا وقد يقتل ففعل الرجل في نفسه عمد خطأ والحكم
في شريكه كالحكم في شريك الخاطئ وإذا لم يجب القصاص فعلى الجارح نصف الدية وإذا كان السم يقتل
غالبا بعد مدة احتمل أن يكون عمد الخطأ أيضا لأنه لم يقصد القتل إنما قصد التداوي فيكون كالذي
قبله واحتمل أن يكون في حكم العمد فيكون في شريكه الوجهان المذكوران في المسألة قبلها وان جرح
رجلا فخاط جرحه أو أمر غيره فخاطه له وكان ذلك مما يجوز أن يقتل فحكمه حكم ما لو شرب سما
يجوز أن يقتل على ما مضى فيه، وان خاطه غيره بغير إذنه كرها فهما قاتلان عليهما القود وان خاطه وليه
والإمام وهو ممن لا ولاية عليه فهما كالأجنبي وإن كان لهما عليه ولاية فلا قود عليهما، لأن فعلهما جائز
إذ لهما مداوته فيكون ذلك خطأ وهل على الجارح القود؟ فيه وجهان
349

باب شروط القصاص
وهي أربعة (أحدهما) أن يكون الجاني مكلفا فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما، لا خلاف
بين أهل العلم في أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمغمى
عليه ونحوها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي
حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق " ولان القصاص عقوبة مغلظة فلم تجب على الصبي وزائل العقل كالحدود
ولأنهم ليس لهم قصد صحيح فهم كالعقل خطأ
(فصل) فإن اختلف الجاني وولي الجناية فقال الجاني كنت صبيا حال الجناية، وقال ولي الجناية
كنت بالغا فالقول قول الجاني مع يمينه إذا احتمل الصدق، لأن الأصل الصغر وبراءة ذمته من
القصاص وان قال قتلته وأما مجنون وأنكر الولي جنونه فإن عرف له حال جنون فالقول قوله مع يمينه
أيضا لذلك، وان لم يعرف له حال جنون فالقول قول الولي لأن الأصل السلامة وكذلك ان عرف له
حال جنون ثم عرف زواله قبل القتل وان ثبت لأحدهما بما ادعاه بينة حكم له وان أقاما بينتين تعارضتا فإن شهدت
البينة أنه كان زائل العقل فقال الولي كنت سكران وقال القاتل كنت مجنونا فالقول قول القاتل مع يمينه لأنه أعرف
بنفسه، ولان الأصل براءة ذمته واجتناب المسلم فعل ما يحرم عليه فأما ان قتله وهو عاقل ثم جن لم
350

يسقط عنه سواء ثبت ذلك ببينة أو اقرار، لأن رجوعه غير مقبول ويقتص منه في حال جنونه ولو ثبت
عليه الحد باقراره ثم جن لم يقم عليه حال جنونه لأن رجوعه يقبل فيحتمل أنه لو كان صحيحا رجع
(مسألة) (وفي السكران وشبهه روايتان (أصحهما) وجوبه عليه)
إذا قتل السكران وجب عليه القصاص، ذكره القاضي وذكر أبو الخطاب أن وجوب القصاص
عليه مبني على طلاقه وفيه روايتان فيكون في وجوب القصاص عليه وجهان (أحدهما) لا يجب عليه لأنه
زائل العقل أشبه المجنون ولأنه غير مكلف فأشبه الصبي.
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم أقاموا سكره مقام قذفه فأوجبوا عليه حد القاذف فلولا ان قذفه
موجب للحد عليه لما وجب الحد بمظنته وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى ولأنه
حكم لو لم يوجب عليه القصاص والحد لأفضي إلى أن من أراد أن يعصي الله تعالى شرب ما يسكره ثم
يقتل ويزني ويسرق ولا يلزمه عقوبة ولا مأثم ويصير عصيانه سببا لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة
عنه ولا وجه لهذا وفارق الطلاق لأنه قول يمكن إلغاؤه بخلاف القتل فإن شرب أو أكل ما يزيل عقله
غير الخمر على وجه محرم فإن زال عقله بالكلية بحيث صار مجنونا فلا قصاص عليه وإن كان يزول قريبا
ويعود من غير تداو فهو كالسكران على ما فصل فيه
(فصل) (الثاني) أن يكون المقتول معصوما فلا يجب القصاص بقتل حربي لا نعلم فيه خلافا ولا
351

يجب بقتله دية ولا كفارة لأنه مباح الدم على الاطلاق أشبه الخنزير، ولان الله تعالى أمر بقتله فقال
تعالى (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وسواء كان القاتل مسلما أو ذميا لما ذكرنا وكذلك المرتد
لا يجب بقتله قصاص ولا دية ولا كفارة وان قتله ذمي، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم
يجب القصاص على الذمي بقتله والدية إذا عفي عنه لأنه لا ولاية له في قتله، وقال بعضهم يجب القصاص
دون الدية لأنه لا قيمة له.
ولنا أنه مباح الدم أشبه الحربي ولان من لا يضمنه المسلم لا يضمنه الذمي كالحربي وليس على
قاتل الزاني المحض قصاص ولا دية ولا كفارة، وهذا ظاهر مذهب الشافعي وحكى بعضهم وجها أن
على قاتله القود ان قتله إلى الإمام فيجب القتل على من قتله سواه كمن عليه القصاص إذا قتله غير مستحقه
ولنا أنه مباح الدم قتله متحتم فلم يضمن كالحربي ويبطل ما قاله بالمرتد وفارق القاتل فإن قتله غير
متحتم وهو مستحق على طريق المعاوضة فاختص بمستحقه وههنا يجب قتله لله تعالى فأشبه المرتد وكذلك
الحكم في المحارب الذي تحتم قتله
(مسألة) (وان قطع مسلم أو ذمي يد مرتد أو حربي فأسلم ثم مات فلا شئ على القاطع لأنه
لم يجن على معصوم وان رمى حربيا فأسلم قبل، أن يقع السهم فلا شئ عليه لأنه رمى رميا مأمورا به
352

وان رمى مرتدا فأسلم قبل وقوع السهم به فلا قصاص لأنه رمى من ليس بمعصوم أشبه الحربي
وفي وجوب الدية وجهان) (أحدهما) لا تجب قياسا على الحربي (والثاني) تجب لأن الذمي ههنا محرم
لما فيه من الافتيات على الإمام.
(مسألة) (ولو قطع يد مسلم فارتد ثم مات فلا شئ على القاطع في أحد الوجهين)
لأنها نفس مرتد غير معصوم ولا مضمون وكذلك لو قطع يد ذمي فصار حربيا ثم مات من جراحه
وأما اليد فالصحيح أنه لا قصاص فيها، وذكر القاضي وجها في وجوب القصاص فيها، لأن القطع
مستقر حكمه بانقطاع حكم سرايته فأشبه ما لو قطع طرفه ثم قتله أو جاء آخر فقتله وللشافعي في
وجوب القصاص قولان.
ولنا أنه قطع صار قتلا لم يجب به القتل فلم يجب به القطع كما لو قطع من غير مفصل، وفارق ما قاسوا
عليه فإن القطع لم يصر قتلا وهل تجب دية الطرف؟ فيه وجهان (أحدهما) لا ضمان فيه لأنه قتل لغير
معصوم (والثاني) يجب لأن سقوط حكم سراية الجرح لا يسقط ضمانه كما لو قطع طرف رجل ثم
قتله آخر، فعلى هذا هل يجب ضمانه بدية المقطوع أو بأقل الامرين من ديته أو دية النفس فيه وجهان
353

(أحدهما) تجب دية المقطوع فلو قطع يديه ورجليه ثم ارتد ومات ففيه ديتان، لأن الردة قطعت
حكم السراية فأشبه انقطاع حكمها باندمالها أو بقتل الآخر له (والثاني) يجب أقل الأمرين لأنه لو لم
يرتد، لم يجب أكثر من دية النفس فمع الردة أولى ولأنه قطع صار قتلا فلا يوجب أكثر من دية كما لو
لم يرتد وفارق الوجه الأول فإنه لم يصر قتلا، ولان الاندمال والقتل منع وجود السراية والردة منعت
ضمانها ولم يمنع جعلها قتلا وللشافعي من التفصيل نحو ما قلنا
(مسألة) (وان عاد إلى الاسلام ثم مات وجب القصاص على قاتله)
نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وقال القاضي يتوجه عندي ان زمن الردة إن كان مما
تسري فيه الجناية لم يجب القصاص في النفس: وهل يجب في الطرف الذي قطع في اسلامه؟ على وجهين
وهذا مذهب الشافعي لأن القصاص يجب بالجناية والسراية كلها فإذا لم يوجد جميعها في الاسلام لم يجب
القصاص كما لو جرحه أحدهما في الاسلام والآخر في الردة فمات منهما
ولنا أنه مسلم حال الجناية والموت فوجب القصاص بقتله كما لو لم يرتد واحتمال السراية حال الردة
لا يمنع لأنها غير معلومة فلا يجوز ترك السبب المعلوم احتمال المانع كما لو لم يرتد فإنه يحتمل ان يموت
بمرض أو سبب آخر أو بالجرح مع شئ آخر يؤثر في الموت، فاما الدية فتجب كاملة ويحتمل وجوب
نصفها لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة فيوجب نصف الدية كما لو جرحه إنسان
354

وجرح نفسه فمات منهما، فاما إن كان زمن الردة لا تسري في مثله الجناية ففيه الدية والقصاص وقال
الشافعي في أحد قوليه لا قصاص فيه لأنه انتهى إلى حال لو مات لم يجب القصاص
ولنا انهما متكافئان في حال الجناية والسراية والموت فأشبه ما لو لم يرتد، وإن كان الجرح خطأ
وجبت الكفارة بكل حال لأنه فوت نفسا معصومة
(فصل) وان جرحه وهو مسلم فارتد ثم جرحه جرحا آخر ثم أسلم ومات منهما فلا قصاص فيه لأنه
مات من جرحين مضمون وغير مضمون ويجب فيه نصف الدية لذلك، وسواء تساوى الجرحان أو زاد
أحدهما مثل ان قطع يديه وهو مسلم فارتد فقطع رجله أو كان بالعكس لأن الجرح في الحالين كجرح
رجلين، وهل يجب القصاص في الطرف الذي قطعه في حال اسلامه؟ يحتمل وجهين بناء على من قطع طرفه
وهو مسلم فارتد ومات في ردته، ولو قطع طرفه في ردته أولا فاسلم ثم قطع طرفه الآخر ومات منهما
فالحكم فيها كالتي قبلها
(فصل) وان قطع مسلم يد نصراني فتمجس وقلنا لا يقر فهو كما لو جنى على مسلم فارتد وان قلنا يقر
عليه وجبت دية مجوسي وان قطع يد مجوسي فتنصر ثم مات وقلنا يقر وجبت دية نصراني، ويجئ على
قول أبي بكر والقاضي ان تجب دية نصراني في الأولى ودية مجوسي في الثانية كقولهم فيمن جنى على
عبد ذمي فاسلم وعتق ثم مات من الجناية ضمة بقيمة عبد ذمي اعتبارا بحال الجناية وسنذكر ذلك أن شاء الله تعالى
355

(فصل) الثالث أن يكون عليه مكافئا للجاني وهو ان يساويه في الدين والحرية أو الرق
فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم ذكرا كان أو أنثى لقول الله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر
بالحر والعبد بالعبد)
(مسألة) (ويقتل العبد المسلم بالعبد المسلم تساوت قيمتهما أو اختلفت)
هذا قول أكثر أهل العلم روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز وسالم والنخعي والشعبي والزهري
وقتادة والثوري ومالك والشافعي وأبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى ان من شرط القصاص تساوي
قيمتهم وان اختلفت قيمتهم لم يجر بينهم قصاص، وينبغي ان يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر فإن
كانت أقل فلا وهذا قول عطاء وقال ابن عباس ليس في العبيد قصاص في نفس ولا جرح لأنهم أموال
ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد)
وهذا نص الكتاب فلا يجوز خلافه ولان تفاوت القيمة كتفاوت الدية والفضائل فلا يمنع القصاص
كالعلم والشرف والذكورية والأنوثية
(فصل) ويجري القصاص بينهم فيما دون النفس به قال عمر بن عبد العزيز وسالم والزهري وقتادة
ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى لا يجري القصاص بينهم فيما دون
النفس وهو قول الشعبي والنخعي والثوري وأبي حنيفة لأن الأطرف مال فلا يجري القصاص فيها
كالبهائم ولان التساوي في الأطراف معتبر في جريان القصاص بدليل انه لا يأخذ الصحيحة بالشلاء
ولا كاملة الأصابع بالناقصة وأطراف العبيد لا تتساوى
356

ولنا قول الله تعالى (وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس والعين بالعين) الآية ولأنه أحد
أنواع القصاص فجرى بين العبيد كالقصاص في النفس (فصل) وإذا وجب القصاص في طرف العبيد فللعبد استيفاؤه والعفو عنه دون السيد
(فصل) ويقتل البعد القن بالمكاتب والمكاتب به ويقتل كل واحد منهما بالمدبر وأم الولد ويقتل المدبر
وأم الولد بكل واحد منهم لأن الكل عبيد فيدخلون في قوله تعالى (والعبد بالعبد) وقد دل على كون المكاتب
عبدا قول النبي صلى الله عليه وسلم " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " وسواء كان قد أدى من كتابته شيئا أو
لم يؤد وسواء ملك ما يؤدي أو لم يملك إلا إذا قلنا أنه إذا ملك ما يؤدي صار حرا فلا يقتل بالعبد
لأن الحر لا يقتل بالعبد وان أدى ثلاثة أرباع الكتابة لم يقتل أيضا إذا قلنا إنه يصيرا حرا ومن لم
يحكم بحريته إلا بأداء جميع الكتابة قال يقتل به، وقال أبو حنيفة إذا قتل العبد مكاتب له وفا ووارث
سوى مولاه لم يقتل به لأنه حين الجرح كان المستحق المولى وحين الموت الوارث ولا يجب القصاص
إلا لمن يثبت حقه في الطرفين
ولنا قوله تعالى (النفس بالنفس) وقوله (العبد بالعبد) ولأنه لو كان قتل لوجب بقاء القصاص
فإذا كان مكاتبا كان أولى كما لو لم يخلف وارثا وما ذكروه فشئ بنوه على أصولهم ولا نسلمه
(فصل) إذا قتل الكافر الحر عبدا مسلما لم يقتل لأن الحر لا يقتل بالعبد لعدم التكافؤ ولأنه
357

لا يحد بقذفه فلا يقتل به كالأب مع الابن وعليه قيمته ويقتل لنقض العهد ان قلنا ينتقض عهده وفيه
روايتان ذكرناهما في موضع ذلك وعلى الرواية الأخرى لا يقتل وعليه قيمته ويؤدب بما يراه الإمام أو نائبه
(فصل) وان قتل عبد مسلم حرا كافرا لم يقتل به لأن المسلم لا يقتل بالكافر وان قتل من نصفه
حر عبدا لم يقتل به لأنا لا يقتل نصف الحر بعبد وان قتله حر لم يقتل به لأن النصف الرقيق لا يقتل
به الحر وان قتل من نصفه حر مثله قتل به لأن القصاص يقع بين الجمعتين من غير تفصيل وهما متساويان
(مسألة) ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر)
هذا قول عامة أهل العلم انهم النخعي والشعبي والزهري وعمر بن عبد العزيز ومالك وأهل المدينة
والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال يقتل الرجل بالمرأة
ويعطي أولياؤه نصف الدية رواه سعيد وروي نحوه عن أحمد وحكي ذلك عن الحسن وعطاء وحكي
عنهما مثل قوله الجماعة ولعل من ذهب إلى القول الثاني يحتج بقول علي
ولنا قول الله تعالى (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر) مع عموم سائر النصوص وقد ثبت ان النبي
صلى الله عليه وسلم قتل يهوديا رض رأس جارية من الأنصار وروي أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن وان الرجل
يقتل بالمرأة وهو كتاب مشهور عند أهل العلم متلقى بالقبول عندهم، ولأنهما شخصان يحد كل واحد
منهما بقذف صاحبه فقتل كل واحد منهما بالآخر كالرجلين ولا يجب مع القصاص شئ لأنه قصاص
358

واجب فلم يجب معه شئ على المقتص كسائر القصاص واختلاف الابدال لا عبرة به في القصاص بدليل
ان الجماعة يقتلون بالواحد والنصراني مؤخذ بالمجوسي مع اختلاف دينهما ويؤخذ العبد بالعبد مع
اخلاف قيمتهما وقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى ويقتل بهما لأنه لا يخلو اما أن يكون
رجلا أو امرأة
(مسألة) (وعن أحمد لا يقتل العبد بالعبد لا ان تستوي قيمتهما، ولا عمل عليه وقد ذكرناه)
(مسألة) (ويقتل الكافر بالمسلم)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي الذي رض رأس جارية من الأنصار على ارضاح لها ولأنه إذا
قتل بمثل فيمن هو فوفه أولى وكذلك يقتل العبد بالحرة المرتد بالذمي وان عاد إلى لاسلام نص عليه لذلك
(فصل) ويقتل المرتد بالذمي ويقدم القصاص على القتل بالردة لأنه حق آدمي وان عفا عنه لي
القصاص فله دية المقتول فإن أسلم المرتد فهو في ذمته وان قتل بالردة أو مات تعلقت بماله وان قطع
طرفا من مسلم أو ذمي فعليه القصاص فيه أيضا وقال بعض أصحاب الشافعي لا يقتل المرتد بالذمي
ولا يقطع طرفه بطرفه لأن أحكام الاسلام في حقه باقية بدليل وجوب العبادات عليه ومطالبته بالاسلام
359

ولنا انه كافر فيقتل بالذمي الأصلي وقولهم ان أحكام باقية غير صحيح فإنه قد زالت
عصمته وحرمته وحل نكاح المسلمات وشراء العبيد المسلمين وصحة العبادات وغيرهما، واما مطالبته
بالاسلام فهو حجة عليهم لأنه يدل على تغليظ كفره وانه لا يقر على ردته لسوء حالة فإذا قال بالذمي مثله
فمن هو دونه أولى ولا يمنع اسلامه وجوب القصاص عليه لأنه بعد استقرار وجوب القصاص عليه
والأصل في كل واجب بقاؤه فأشبه ما لو قتله وهو عاقل ثم جن
(مسألة) (ولا يقتل مسلم بكافر أي كافر كان)
هذا قول أكثر أهل العلم وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله
عنهم وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن وعكرمة والزهري وابن شبرمة ومالك والثوري
والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر، وقال النخعي والشعبي وأصحاب
الرأي يقتل المسلم بالذمي خاصة قال احمد الشعبي والنخعي قالا: دية المجوسي والنصراني مثل دية المسلم
وان قتله يقتل به سبحان الله هذا عجب يصير المجوسي مثل المسلم ما هذا القول؟ واستبشعه وقال: النبي صلى الله عليه وسلم
يقول " لا يقتل مسلم بكافر " وهو يقول يقتل بكافر فأي شئ أشد من هذا؟ واحتجوا بالعمومات التي ذكرناها
لقول تعالى (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر) وبما روى ابن البيلماني ان النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلما بذمي وقال
" انا أحق من وفي بذمته " ولأنه معصوم عصمة مؤبدة فيقتل به قاتله كالمسلم
360

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون متكافأ دماؤهم ويسعي بذمتهم أدناهم لا يقتل مؤمن بكافر " رواه
أحمد وأبو داود وفي لفظ " لا يقتل مسلم بكافر " رواه البخاري وأبو داود وعن علي أنه قال من السنة
ان لا يقتل مؤمن بكافر رواه الإمام أحمد ولأنه منقوص بالكفر فلا يقتل به المسلم كالمستأمن والعمومات
مخصوصات بحديثنا وحديثهم ليس له اسناد قاله احمد وقال الدارقطني: يرويه ابن البيلماني وهو ضعيف
إذا أسند فكيف إذا ارسل؟ والمعنى في المسلم انه مكافئ للمسلم بخلاف الذمي ووافق أبو حنيفة الجماعة
في المستأمن ان المسلم لا يقاد به وهو المشهور عن أبي يوسف وعنه يقتل به لما سبق في الذمي
ولنا انه ليس بمحقون الدم على التأبيد فأشبه الحربي مع ما ذكرنا من الأدلة في الأدلة التي قبلها
(فصل) ويقتل الذمي بالذمي سواء اتفقت أديانهم أو اختلفت فيقتل النصراني باليهودي والمجوسي
نص عليه احمد في النصراني يقتل بالمجوسي إذا قتله قتل فكيف يقتل به وأديانهما مختلفة؟ قال اذهب إلى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل بامرأة يعني انه قتله بها مع اختلاف دينهما ولأنهما تكافئا في العصمة بالذمة
ونقيصة الكفر فجرى مجرى القصاص بينهما كما لو تساوى دينهما وهذا مذهب الشافعي
(مسألة) (ولا يقتل حر بعبد)
روي هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال الحسن وعطاء وعمر بن عبد
العزيز وعكرمة وعمر وبن دينار ومالك والشافعي إسحاق وأبو ثور وروي ذلك عن الشعبي وروي عن سعيد بن
361

المسيب والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي انه يقتل به لعموم الآيات والاخبار لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " ولأنه آدمي معصوم أشبه الحر
ولنا ما روى الإمام أحمد باسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال من السنة ان لا يقتل حر بعبد
وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتل حر بعبد " رواه الدارقطني ولأنه لا يقطع طرفه بطرفه مع
التساوي في السلامة فلا يقتل به كالأب مع ابنه ولان العبد منقوص بالرق فلم يقتل به كالمكاتب إذا
ملك ما يؤدي والعمومات مخصوصة بهذا فنقيس عليه
(مسألة) (إلا أن يجرحه وهو مثله أو يقتله ثم يسلم القاتل أو الجارح أو يعتق فيموت
المجروح فإنه يقتل به)
وجملة ذلك أن الاعتبار في التكافؤ بحالة الوجوب كالحد فعلى هذا إذا قتل ذمي ذميا أو جرحه ثم
أسلم الجارح ومات المجروح أو قتل عبد عبدا أو جرحه ثم عتق القاتل أو الجارح ومات المجروح وجب
القصاص لأنهما متكافئان حال الجناية ولان القصاص قد وجب فلا يسقط بما طرأ كما لو جن
(فصل) ولا يقتل السيد بعبده في قول أكثر أهل العلم وحكي عن النخعي وداود انه يقتل به
لما روى قتادة عن الحسن عن سمرة قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل عبده قتلناه ومن جدعه
جدعناه " رواه سعيد والإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب مع العمومات والمعني في التي قبلها
362

ولنا ما ذكرناه في التي قبلها وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لو لم اسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" لا يقاد الملوك من مولاه والوالد من ولده لاقدته منك " رواه النسائي وعن علي رضي الله عنه ان رجلا
قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه عاما ومحي اسمه من المسلمين رواه سعيد والخلال قال احمد
ليس بشئ من قبل إسحاق بن أبي فروة وراه عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده عن أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما قالا " من قتل عبده جلد مائه وحرم سهمه مع المسلمين " فاما حديث سمرة فلم يثبت قال
أحمد: الحسن لم يسمع من سمرة إنما هي صحيفة وقال غيره: إنما سمع الحسن من سمرة ثلاثة أحاديث
ليس هذا منها ولان الحسن أفتى بخلافه فإنه يقول لا يقتل الحر بالعبد وقال إذا قتل السيد عبده يضرب
ومخالفته له تدل على ضعفه
(فصل) ولا يقطع طرف الحر بطرف العبد بغير خلاف علمناه بينهم ويقتل العبد بالحر وسيده
لأنه إذا قتل بمثله هو أكمل منه أولى مع عموم النصوص الواردة في ذلك ومتى وجب القصاص على
العبد فعفا ولي الجناية إلى المال فله ذلك ويتعلق أرشها برقبته لأنه موجب جنايته فتعلق برقبته
كالقصاص فإن شاء سيده ان يسلمه إلى ولي الجناية لم يلزمه أكثر من ذلك لأنه سلم إليه ما تعلق
حقه به وان قال ولي الجناية معه وادفع إلي ثمنه لم يلزمه ذلك لأنه لم يتعلق بذمته شئ وإنما يتعلق
بالرقبة التي سلمها فبرئ منها وفيه وجه آخر انه يلزمه ذلك كما لو يلزمه بيع الرهن، وان امتنع من تسليمه
363

واختار فداءه فهل تلزمه قيمته أو أرش الجناية؟ على روايتين تذكران في غير هذا الموضع
(مسألة) (وان جرح مسلم كافرا فأسلم المجروح ثم مات مسلما بسراية الجرح لم يقتل به قاتله
لعدم التكافؤ حال الجناية وعليه دية مسلم لأن اعتبار الأرش بحال استقرار الجناية وهذا قول ابن حامد
بدليل ما لو قطع يدي رجل ورجليه فسرى إلى نفسه ففيه دية واحدة ولو اعتبر حال الجناية وجب ديتان
ولو قطع حر يد عبد ثم عتق مات لم يجب القود لعدم التكافؤ حال الجناية وعلى الجاني دية حر
اعتبارا بحال الاستقرار وهو قول ابن حامد كالمسألة قبلها ومذهب الشافعي وللسيد أقل الأمرين من
نصف قيمته أو نصف دية حر والباقي لورثته لأن نصف قيمته ان كانت أقل فهي التي وجدت في ملكه
فلا يكون له أكثر منها لأن الزائد حصل بحريته ولا حق له فيما حصل بها وإن كان الأقل الدية لم
يستحق أكثر منها لأن نقص القيمة حصل بسبب من جهة السيد وهو العتق وذكر القاضي ان احمد
نص في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم عتق ومات ان على الجاني قيمته للسيد وهذا يدل على أن
الاعتبار بحال الجناية وهو اختيار أبي بكر والقاضي وأبي الخطاب
قال أبو الخطاب من قطع يد ذمي ثم أسلم ومات ضمنه بدية ذمي ولو قطع يد عبد فأعتقه
سيده ومات فعلى الجاني قيمته للسيد لأن حكم القصاص معتبر بحال الجناية دن حال السراية
364

وكذلك الدية والأول أصح إن شاء الله تعالى قاله شيخنا لأن سراية الجرح مضمونة فإذا أتلفت حرا
مسلما وجب ضمانه بدية كاملة كما لو قتله بجرح ثان وقول أحمد فيمن فقأ عيني عبد عليه قيمته للسيد
لا خلاف فيه وإنما الخلاف في وجوب الزائد على القيمة من دية الحر للورثة ولم يذكره احمد ولان
الواجب مقدر بما تقضي إليه السراية دون ما تتلفه الجناية بدليل ان من قطعت يداه ورجلاه فسرى
القطع إلى نفسه لم يلزم الجاني أكثر من دية ولو قطع إصبعا فسرى إلى نفسه لوجبت الدية كاملة فكذلك
إذا سرت إلى نفس حر مسلم تجب دية كاملة فاما ان قطع يد مرتد أو حربي فسرى ذلك إلى نفسه
لم يجب قصاص ولا دية ولا كفارة سوا أسلم قبل السراية أو لم يسلم لأن الجراح غير مضمون فلم
تضمن سرايته بخلاف التي قبلها
(مسألة) (وان رمي مسلم ذميا عبدا فلم يقع السهم به حتى عتق واسلم فلا قود وعليه دية حر
مسلم إذا مات من الرمية)
هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي وقال أبو بكر يجب القصاص لأنه قتل مكافئا له عمدا
عدوانا فوجب القصاص كما لو كان حرا مسلما كذلك حال الرمي يحققه أن الاعتبار بحال الإصابة
بدليل ما لو رمى فلم يصبه حتى ارتد أو مات لم يلزمه شئ، ولو رمى عبدا كافرا فعتق أو أسلم
غرمه بدية حر مسلم.
365

ولنا على درء القصاص أنه لم يقصد إلى نفس مكافئة فلم يجب عليه قصاص كما لو رمى حربيا
أو مرتدا فأسلم وقال أبو حنيفة يلزمه في العبد دية عبد لمولاه لأن الإصابة ناشئة عن ارسال السهم
فكان الاعتبار بها كحالة الجرح
ولنا أن الإصابة حصلت في حر فكان ضمانه ضمان الأحرار كما لو قصد هدفا أو طائرا فأصاب
حرا ثم يبطل، بما إذا رمى حيا فأصابه ميتا أو عبدا صحيحا فأصابه بعد قطع يديه لم تجب ديته
لورثته وعنده تجب لمولاه ولو رمى كافرا فأصابه السهم بعد أن أسلم كانت ديته لورثته المسلمين وعند
أبي حنيفة لورثته الكفار
ولنا أنه مات مسلما حرا فكانت ديته للمسلمين كما لو كان حال الرمي فوجوب المال معتبر
بحال الإصابة لأنه يدل على المحل فيعتبر عن المحل الذي فات بها فيجب بقدره وقد فات بها نفس مسلم
حر والقصاص جزء الفعل فيعتبر الفعل فيه والإصابة معا لأنهما طرفاه فلذلك لم يجب القصاص بقتله
(فصل) ولو قطع يد عبد ثم عتق ومات أو يد ذمي ثم أسلم ومات ففيه وجهان
(أحدهما) الواجب دية حر مسلم لورثته ولسيده منها أقل الأمرين من ديته أو أرش جنايته
اعتبارا بحال استقرار الجناية وقال القاضي وأبو بكر تجب قيمة العبد بالغة ما بلغت مصروفة إلى
السيد اعتبارا بحال الجناية لأنها الموجب للضمان فاعتبرت حال وجودها ومقتضى قولهما ضمان
الذمي الذي أسلم بدية ذمي ويلزمها على هذا أن يصرفاها إلى ورثته من أهل الذمة وهو غير صحيح لأن الدية
366

لا تخلو من أن تكون مستحقة للمجني عليه أو لورثته فإن كانت له وجب أن تكون لورثته المسلمين كسائر
أمواله واملاكه كالذي كسبه بعد جرحه، وان كانت تحدث على ملك ورثته فورثته هم المسلمون دون الكفار
(فصل) وإن قطع ألف عبد قيمته ألف دينار فاندمل ثم أعتقه السيد وجبت قيمته بكمالها للسيد،
وإن أعتقه ثم اندمل فكذلك لأنه إنما استقر بالاندمال ما وجب بالجناية والجناية كانت في ملك سيده
وإن مات من سراية الجرح فكذلك في قول أبي بكر والقاضي وهو قول المزني لأن الجناية يراعى
فيها حال وجودها وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم أعتق ومات
ففيه قيمته لا الدية ومقتضى قول الخرقي أن الواجب فيه دية حر وهو مذهب الشافعي لأن اعتبار
الجناية بحالة الاستقرار وقد ذكرناه
(فصل) فإن قطع يد عبد فاعتق عاد فقطع رجله واندمل القطعان فلا قصاص في اليد لأنها
قطعت في حال رقه ويجب فيها نصف قيمته أو ما نقصه العبد لسيده إذ فلما ان العبد يضمن بما نقصه
ويجب القصاص في الرجل التي قطعها حال حريته أو نصف الدية ان عفا عن القصاص لورثته وان
اندمل قطع اليد وسرى قطع الرجل إلى نفسه ففي الولد نصف القيمة لسيده وعلى القاطع القصاص
في النفس أو الدية كاملة لورثته وان اندمل لرجل وسرى قطع اليد ففي الرجل القصاص بقطعها
أو نصف الدية لورثته ولا قصاص في اليد ولا في سرايتها وعلى الجاني دية حر لسيده منها قل لامرين
من أرش القطع أو دية الحر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر والقاضي تجب قيمة العبد لسيده
367

اعتبارا بحال جنايته وان سرى الجرحان لم يجب القصاص في النفس ولا اليد لأنه مات من جرحين
موجب وغير موجب فلم يجب القصاص كما لو جرحه جرحين خطأ وعمدا ولكن يجب القصاص في
الرجل لأنه قطعها من حر فإن اقتص منه وجب نصف الدية لأنه مات من جنايته وقد استوفى منه
ما يقابل نصف الدية وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية فإن زاد نصف الدية على
نصف القيمة كان الزائد للورثة وان عفا ورثته عن القصاص فلهم أيضا نصف الدية فإن كان قاطع
الرجل غير قاطع اليد واندمل الجرحان فعلى قاطع اليد نصف القيمة لسيده وعلى قاطع الرجل القصاص
فيها أو نصف الدية وان سرى الجرحان إلى نفسه فلا قصاص على الأول لأنه قطع يد عبد وعليه
نصف دية حر لأن المجني عليه حر في حال استقرار الجناية وعلى الثاني القصاص في النفس إذا كانا
عمدا القطع لأنه شارك في القتل عمدا عدوانا فهو كشريك الأب ويتخرج ان لا قصاص عليه في
النفس لأن الروح خرجت من سراية قطعين موجب وغير موجب بناء على شريك الأب وان عفا
عنه إلى الدية فعليه نصف دية حر وان قلنا بوجوب القصاص في النفس خرج في وجوبه في الطرف
روايتان وان قلنا لا يجب في النفس وجب في الرجل
(فصل) وإن قطع عين عبد ثم عتق قطع آخر يده ثم قطع آخر رجله فلا قوه على الأول
سواه اندمل جرحه أو سرى وأما الآخران فعليهما القصاص في الطرفين ان وقف قطعهما أو ديتهما
368

ان عفا عنهما، وان سرت الجراحات كلها فعليهما القصاص في النفس لأن جنايتهما صارت أنفسا وفي
ذلك وفي القصاص في الطرف اختلاف ذكرناه وان عفا عنهما فعليهما الدية أثلاثا وفيما يستحقه السيد
وجهان (أحدهما) أقل الأمرين من نصف القيمة أو ثلث الدية على قياس قول أبي بكر لأنه بالقطع
استحق نصف القيمة فإذا صارت نفسا وجب فيها ثلث الدية فكان له أقل الأمرين
(والثاني) له أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية لأن الجناية إذا صارت نفسا كان الاعتبار
بما آلت إليه الا ترى أنه لو جنى الجانيان الآخران قبل العتق أيضا لم يكن على الأول الا ثلث
القيمة ولا يزيد حقه بالعتق كما لو قلع رجل عينه ثم باعه سيده ثم قطع آخر يده وآخر رجله ثم مات
فإنه يكون للأول ثلث القيمة وإن كان أرش الجناية نصف القيمة فإذا قلنا بالوجه الأول قطع أصبعه
أو هشمه، أو الجانيان في الحرية قطعا يديه فالدية عليهم أثلاثا للسيد منها أقل الأمرين من أرش
الإصبع وهو عشر القيمة أو ثلث الدية، ولو كان الجاني في حال الرق قطع يديه والجانيان في الحرية
قطعا رجليه وجبت الدية أثلاثا وكان للسيد منها أقل الأمرين من جميع قيمته أو ثلث الدية وعلى
الوجه الآخر يكون له في الفرعين أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية
(فصل) فإن كان الجانيان في حال الرق والواحد في حال الحرية فمات فعليهم الدية وللسيد من
ذلك من أحد الوجهين أقل الأمرين من أرش الجنايتين أو ثلثي الدية وعلى الآخر أقل الأمرين من
ثلثي القيمة أو ثلثي الدية.
(فصل) فإن كان الجناة أربعة واحد في الرق وثلاثة في الحرية ومات كان للسيد في أحد الوجهين
369

الأقل من أرش الجناية أو ربع الدية، وإن كان الثلاثة في الرق والواحد في الحرية كان للسيد أقل الأمرين
من أرش الجنايات أو ثلاثة أرباع الدية في أحد الوجهين وفي الآخر الأقل من ثلاثة أرباع القيمة أو
ثلاثة أرباع الدية، ولو كانوا عشرة واحد في الرق وتسعة في الحرية فالدية عليهم فللسيد فيها بحساب
ما ذكرنا على اختلاف الوجهين
(فصل) وإن قطع يده ثم عتق فقطع آخر رجله ثم عاد الأول فقتله بعد الاندمال فعليه القصاص
للورثة ونصف القيمة للسيد وعلى الآخر القصاص للورثة في الرجل أو نصف الدية فإن كان قبل
الاندمال فعلى الجاني الأول القصاص في النفس دون اليد لأنه قطعها في رقه، فإن اختار الورثة القصاص
في النفس سقط حق السيد لأنه لا يجوز أن يستحق عليه النفس وأرش الطرف قبل الاندمال فإن
الطرف داخل في النفس في الأرش، فإن اختاروا العفو فعليه الدية دون أرش الطرف لأن أرش الطرف
يدخل في النفس، وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو أرش الطرف والباقي للورثة، وأما الثاني
فعليه القصاص في الرجل لأن القتل قطع سرايتها فصار كما لو اندملت، فإن عفا عنه فعليه نصف الدية
وإن كان الثاني هو الذي قتله قبل الاندمال فعليه القصاص في النفس وهل يقطع طرفه؟ على روايتين
فإن عفا الورثة فعليه دية واحدة وأما الأول فعليه نصف القيمة للسيد ولا قصاص عليه، وإن كان
القاتل ثالثا فقد استقر القطعان ويكون على الأول نصف القيمة لسيده وعلى الثاني القصاص في الرجل
أو نصف الدية لورثته وعلى الثالث القصاص في النفس أو الدية
(فصل) وإذا قطع رجل يد عبد ثم أعتقه ثم اندمل جرحه فلا قصاص عليه ولا ضمان لأنه إنما
370

قطع يد عبده وإنما استقر بالاندمال ما وجب بالجراح، وان مات بعد العتق بسراية الجرح فلا قصاص
فيه لأن الجناية كانت على مملوكة، وفي وجوب الضمان وجهان (أحدهما) لا يجب شئ لأنه مات بسراية
جرح غير مضمون أشبه ما لو مات بسراية القطع في الحد وسراية القود، ولأننا تبينا أن القطع كان
قتلا فيكون قاتلا لعبده فلا يلزمه ضمانه كما لو يعتقه، وهذا مقتضى قول أبي بكر (والثاني) يضمنه بما
زاد على أرش القطع من الدية لأنه مات وهو حر بسراية قطع عدوان فيضمن كما لو كان القاطع
أجنبيا لكن يسقط أرش القطع لأنه في ملكه ويجب الزائد لورثته فإن لم يكن وارث سواه وجب
لبيت المال ولا يرث السيد شيئا لأن القاتل لا يرث
(مسألة) (ولو قتل من يعرفه ذميا عبدا فبان أنه قد عتق وأسلم فعليه القصاص)
لأنه قتل من يكافئه بغير حق أشبه ما لو علم حاله
(مسألة) (وإن كان يعرفه مرتدا فكذلك عند أبي بكر)
لما ذكرنا قال ويحتمل أن لا يلزمه الا الدية لأنه لم يقصد قتل معصوم فلم يلزمه قصاص كما لو قتل في دار
الحرب من يظنه حربيا فبان أنه بعد أن أسلم
(فصل) (الرابع أن لا يكون أبا للمقتول فلا يقتل الوالد بولده وان سفل والأب والام في ذلك سواء)
وجملة ذلك أن الأب لا يقتل بولده ولا بولد ولده وإن نزلت درجته وسواء في ذلك ولد البنين
371

وولد البنات، وممن نقل عنه أن الوالد لا يقتل بولده ولده عمر بن الخطاب وبه قال ربيعة
والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال ابن نافع وابن عبد الحكم وابن المنذر
يقتل به لظاهر آي الكتاب والاخبار الموجبة للقصاص، ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص
فوجب أن يقتل كما واحد منهما بصاحبه كالأجنبيين، وقال ابن المنذر قد رووا في هذا الباب أخبارا
وقال مالك إن قتله حذفا بالسيف ونحوه لم يقتل به، وان ذبحه أو قتله قتلا لا يشك في أنه عمد إلى
قتله دون تأديبه أقيد به.
ولنا ما روى عمر بن الخطاب وان عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتل والد بولده "
أخرج النسائي حديث عمر ورواهما ابن ماجة وذكرهما ابن عبد البر وقال هو حديث مشهور عند أهل
العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الاسناد فيه حتى يكون
الاسناد في مثله مع شهرته تكلفا ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنت ومالك لأبيك " وقضية هذه الإضافة
تمليكه إياه فإذا لم تثبت حقيقة الملكية ثبتت الإضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ بالشبهات ولأنه
سبب ايجاده فلا ينبغي أن يتسلط بسببه على إعدامه وما ذكرناه يخص العمومات، ويفارق الأب سائر
الناس فإنهم لو قتلوا بالخذف بالسيف وجب عليهم القصاص والأب بخلافه.
372

(فصل) والجد إن علا كالأب في هذا وسواء كان من قبل الأب أو من قبل الام في قول أكثر
مسقطي القصاص عن الأب، وقال الحسن بن حي يقتل به
ولنا أنه والد فيدخل في عموم النص ولان ذلك حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب
والبعيد كالمحرمية والعتق إذا تملكه، والجد من قبل الام كالذي من قبل الأب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم
" ان ابني هذا سيد "
(فصل) ويستوي في ذلك الأب والام في الصحيح من المذهب وعليه العمل عند مسقطي القصاص
عن الأب، وعن أحمد ما يدل على أنه لا يسقط عن الام فإن مهنأ نقل عنه في أم ولد قتلت سيدها
عمدا تقتل قال من يقتلها؟ قال ولدها وخرجها أبو بكر على روايتين
(إحداهما) أن الام تقتل بولدها لأنها لا ولاية لها عليه أشبه الأخ، والصحيح الأول لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " لا يقتل والد بولده ولأنها أحد الأبوين فأشبهت الأب ولأنها أولى بالبر فكانت أولى بنفي
القصاص عنها والولاية غير معتبرة بدليل انتفاء القصاص عن الأب بقتل ولده الكبير الذي لا ولاية
له عليه وعن الأب المخالف في الدين أو الرقيق، والجدة وإن علت في ذلك كالأم وسواء في ذلك من
قبل الأب أو من قبل الام لما ذكرنا في الجد
(فصل) وسواء في ذلك اتفاقهما في الدين والحرية واختلافهما فيه لأن انتفاء القصاص لشرف
373

الأبوة وهو موجود في كل حال فلو قتل الكافر ولده المسلم أو قتل المسلم أباه الكافر أو قتل العبد
ولده الحر أو قتل الحر ولده العبد لم يجب القصاص لشرف الأبوة فيما إذا قتل ولده وانتفاء
المكافأة فيما إذا قتل والده
(فصل) إذا تداعى نفسان نسب صغير مجهول النسب ثم قتلاه قبل الحاقه بواحد منهما فلا قصاص
عليهما لأنه يجوز أن يكون ابن كل واحد منهما أو ابنهما وإن ألحقه القافة بأحدهما ثم قتلاه لم يقتل
أبوه وقتل الآخر لأنه شريك الأب في قتل الابن، وإن رجعا جميعا عن الدعوى لم يقبل رجوعهما
لأن النسب حق للولد فلم يقبل رجوعهما عن اقرارهما به كما لو أقرا له بحق سواه أو كما لو ادعاه
واحد فألحق به ثم جحده، وان رجع أحدهما صح رجوعه وثبت نسبه من الآخر لأن رجوعه لا
يبطل نسبه ويسقط القصاص عن الذي لم يرجع ويجب على الراجع لأنه شارك الأب، وان عفا
عنه فعليه نصف الدية، ولو اشترك رجلان في وطئ امرأة في طهر واحد وأتت بولد يمكن أن يكون
منهما فقتلاه قبل الحاقه بأحدهما لم يجب القصاص، وإن نفيا نسبه لم ينتف بقوله لأنه لحق بالفراش
فلا ينتفي الا باللعان وفارق التي قبلها من وجهين
(أحدهما) أن أحدهما إذا رجع عن دعواه لحق الآخر وههنا لا يلحق بذلك
374

(والثاني) ان ثبوت نسبه ثم بالاعتراف فيسقط بالجحد وههنا ثبت بالاشتراك فلا ينتفي بالجحد
ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا سواء
(مسألة) (ويقتل الولد بكل واحد منهما في أظهر الروايتين)
هذا قول جماعة أهل العلم منهم مالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكي بعض أصحابنا
عن أحمد ان الابن لا يقتل بأبيه لأنه لا تقبل شهادته له بحق النسب فلا يقتل به كالأب مع ابنه، والصحيح
أنه يقتل به للآيات والاخبار وموافقة القياس ولان الأب أعظم حرمة وحقا من الأجنبي فإذا قتل
بالأجنبي فبالأب أولى ولأنه يجد بقذفه فيقتل به كالأجنبي، ولا يصح قياس الابن على الأب لأن حرمة
الوالد على الولد آكد والابن مضاف إلى أبيه بلام التمليك بخلاف الولد مع الوالد، وقد ذكر أصحابنا
حديثين متعارضين عن سراقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يقاد الأب من ابنه ولا الابن من أبيه "
والثاني: أنه كان يقيد الأب من ابنه ولا يقيد لابن من أبيه، وهذا الحديث لا نعرفه ولم تجده في كتاب
السنن المشهورة ولا ظن له أصلا فهما متعارضان ومتدافعان يجب اطراحهما والعمل بالنصوص الواضحة
الثابتة والاجماع الذي لا تجوز مخالفته
(مسألة) (ومتى ورث ولده القصاص أو شيئا منه أو ورث القاتل شيئا من دمه سقط القصاص
فلو قتل أحد الزوجين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص)
375

لأنه لو وجب لوجب لولده ولا يجب للولد قصاص على أبيه لأنه إذا لم بالجناية عليه فلان لا يجب
له بالجناية على غيره أولى وسواء كان الولد ذكرا أو أنثى أو كان لعقول ولد سواه أو من يشاركه
في الميراث أو لم يكن لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه وإذا لم يثبت بعضه سقط
كله لأنه لا يتبعض وصار كما لو عفا بعض مستحقي القصاص عن نصيبه منه، فإن لم يكن للمقتول ولد منهما
وجب القصاص في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن عبد العزيز والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي، وقال الزهري لا يقتل الزوج بامرأته لأنه ملكها بعقد النكاح أشيه الأمة
ولنا عموم النصوص ولأنهما شخصان متكافئان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فقتل به
كالأجنبيين، قوله إنها ملكه غير صحيح فإنها حرة وإنما ملك منفعة الاستمتاع فأشبه المستأجرة ولهذا
تجب عليه ديتها ويرثها ورثتها ولا يرث منها إلا قدر ميراثه ولو قتلها غيره كانت ديتها أو القصاص
لورثتها بخلاف الأمة
(مسألة) (ولو قتل رجل أخا زوجته فورثته ثم ماتت فورثها ولده سقط عنه القصاص وسواء
كان لها ولد من غيره أو لا)
لأن القصاص فيما ورثه ولده فيسقط جميعه لأن القصاص لا يتبعض فأشبه ما لو عفا أحد الشريكين
وكذلك لو قتلت المرأة أخا زوجها فصار القصاص أو جزء منه لابنها سقط القصاص سواء صار إليه
ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو من غيره لما ذكرنا
376

(فصل) ولو قتل رجل أخاه فورثه ابن القاتل أو أحد يرث ابنه منه شيئا لم يجب القصاص لما ذكرنا
(فصل) وإذا قتل أحد أبوي المكاتب المكاتب أو عبدا له لم يجب القصاص لأن الوالد لا يقتل
بولده ولا يثبت للولد على والد قصاص، وان اشترى المكاتب أحد أبويه ثم قتله لم يجب القصاص
لأن السيد لا يقتل بعبده
(مسألة) (ولو قتل أباه أو أخاه فورثه أخواه ثم قتل أحدهما صاحبه سقط القصاص عن الأول
لأنه ورث بعض دم نفسه)
(مسألة) (وان قتل أحد الابنين أباه والآخر أمه وهي زوجة الأب سقط القصاص عن الأول
لذلك وله ان يقتص من أخيه ويرثه لأن القتل بحق لا يمنع الميراث)
إذا قتل أحد الابنين أباه والآخر أمه والزوجية بينهما موجودة حال قتل الأول فالقصاص على
القاتل الثاني دون الأول لأن القتيل الثاني ورث جزء من دم الأول فلما قتل ورثه قاتل الأول فصار
له جزء من دم نفسه فسقط القصاص ووجب له القصاص على أخيه فإن قتله ورثه ان لم يكن له وارث
سواه لأنه قتل بحق وان عفا عنه إلى الدية وجبت وتقاصا بما بينهما وما فضل لأحدهما فهو على أخيه
377

(فصل) وان لم تكن زوجة الأب فعلى كل واحد منهما القصاص لأخيه لأنه ورث الذي قتله أخوه
وحده دون قاله، فإن بادر أحدهما فقتل أخاه فقد استوفى حقه وسقط عنه القصاص لأنه يرث أخاه
لكونه فلا يحق فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن ابن يحجب القاتل فيكون له قتل
عمه ويرثه ان لم يكن له وارث سواه فإن تشاحا في المبتدئ منهما بالقتل احتمل ان يبدأ بقتل القاتل
الأول لأنه أسبق واحتمل ان يقرع بينهما وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنهما تساويا في الاستحقاق
فصرنا إلى القرعة وأيهما قتل صاحبه أولا اما بمبادرة أو قرعة ورثه في قياس المذهب ان لم يكن له وارث
سواه وسقط عنه القصاص وإن كان محجوبا عن ميراثه كله فلو ارث القتيل قتل الآخر وان عفى أحدهما
عن الآخر ثم قتل المعفو عنه العافي ورثه أيضا وسقط عنه ما وجب عليه من الدية وان تعافيا جميعا على
الدية تقاصا بما استويا فيه ووجب لقاتل الام الفضل على قاتل الأب لأن عقلها نصف عقل الأب ويتخرج
ان يسقط القصاص عنهما في استحقاقه كسقوط الديتين إذا تساوتا ولأنه لا سبيل إلى استيفائهما معا
واستيفاء أحدهما دون الآخر حيف لا يجوز فتعين السقوط وإن كان لكل واحد منهما ابن يحجب عمه
عن ميراث أبيه فإذا قتل أحدهما صاحبه ورثه ابنه وللابن ان يقتل عمه ويرثه ابنه ويرث كل واحد
من الابنين مال أبيه ومال جده الذي قتله عمه دون الذي قتله أبوه وإن كان لكل واحد منهما بنت
فقتل أحدهما صاحبه سقط القصاص عنه لأنه ورث نصف مال أخيه ونصف قصاص نفسه فسقط عنه
378

القصاص وورث مال أبيه الذي قتله أخره ونصف مال أخته ونصف مال أبيه الذي قتله هو وورثت
البنت التي قتل أبوها نصف مال أبيها ونصف مال جدها الذي قتله عمها ولها على عمها نصف دية قتيله
(فصل) أربعة أخوة قتل الأول والثاني والثالث والرابع فالقصاص على الثالث لأنه لما قتل الرابع
لم يرثه وورثه الأول وحده وقد كان للرابع نصف قصاص الأول فرجع نصف قصاصه إليه فسقط
ووجب الثالث نصف الدية وكان للأول قتل الثالث لأنه لم يرث من دم نفسه شيئا فإن قتله ورثه في
ظاهر المذهب ويرث ما يرثه عن أخيه الثاني فإن عفا عنه إلى الدية وجبت عليه بكمالها يقاصه بنصفها
وإن كان لهما ورثة كل فيها من التفصيل مثل الذي في التي قبلها
(مسألة) (وان قتل من لا يعرفه وادعى كفره لم يقبل)
لأنه محكوم باسلامه بالدار ولهذا يحكم باسلام اللقيط ويكون القول قول الولي وكذلك ان ادعى
رقه لأن الأصل الحرية والرق طارئ وكذلك لو ضرب ملفوفا فقده وادعى أنه كان ميتا لم يقبل لأن
الأصل الحياة وان قطع طرف انسان وادعى شلله لم يقبل لأن الأصل السلامة
(مسألة) (وان قتل رجلا في داره وادعى أنه دخل يكابره على أهله أو ماله فقتله دفعا عن
نفسه وأنكر وليه فالقول قول الولي)
379

وجملة ذلك أنه إذا قتل رجلا وادعى أنه وجده مع امرأته أو أنه قتله دفعا عن نفسه أو أنه دخل
منزله يكابره على ماله فلم يقدر على دفعه الا بقتله لم يقبل قولا الا ببينة ولزمه القصاص إذا أنكر وليه
روي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر ولا أعلم فيه مخالفا وسواء
وجد في دار القاتل أو في غيرها وجد معه سلاح أو لم يوجد لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل
عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله فقال إن يأت بأربعة شهداء فليعط برمته ولان الأصل عدم ما يدعيه
فلا يثبت بمجرد الدعوى فاما ان اعترف الولي بذلك فلا قصاص عليه ولا دية لما روي عن عمر رضي
الله عنه أنه كان يوما يتغدى إذ جاء رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم ووراءه قوم يعدون خلفه
فجاء حتى جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالوا يا أمير المؤمنين ان هذا قتل صاحبنا فقال له عمر ما يقولون؟
فقال يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال عمر ما يقول؟ قالوا
يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة فأخذ عمر سيفه فهزه ثم دفعه إليه
وقال إن عادوا فعد رواه سعيد في سننه وروي عن الزبير انه كان يوما قد تخلف عن الجيش ومعه
جارية له فأتاه رجلان فقالا أعطنا شيئا فأعطاهما طعاما كان معه فقالا خل عن الجارية فضربهما بسيفه
فقطعهما بضربة واحدة ولان الخصم اعترف بما يبيح قتله فسقط حقه كما لو أقر بقتله قصاصا أو في حد
يوجب قتله وان ثبت فكذلك
380

(مسألة) (وان تخارج اثنان وادعى كل واحد منهما انه جرح صاحبه دفعا عن نفسه وأنكر الآخر
وجب القصاص والقول قول المنكر)
لأن سبب القصاص قد وجد وهو الجرح والأصل عدم ما يدعيه الاخر وقال شيخنا يجب الضمان لذلك
والقول قول كل واحد منهما مع يمينه في نفي القصاص لأن ما يدعيه محتمل فيندرئ به القصاص لأنه
يندرئ بالشبهات هذا الذي ذكره في كتاب الكافي والأول أقيس لأنه لو كان دعوى ما يمنع القصاص
إذا احتمل مانع منه لما وجب القصاص في المسائل المتقدمة والحكم بخلافه والله أعلم
(فصل) أجمع أهل العلم على أن القود لا يجب الا بالعمد ولا نعلم في وجوبه بقتل العمد إذا اجتمعت شروطه
وانتفت الموانع خلافا وقد دل عليه الآيات والاخبار بعمومها فقال تعالى ومن (قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه طعاما
فلا يسرف في القتل) وقال تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) وقال تعالى (ولكم في القصاص
حياة) يريد والله أعلم أن وجوب القصاص يمنع الاقدام على القتل خوفا على نفسه من القتل فتبقى
الحياة فيمن أريد قتله، وقال تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من
قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل واما أن يفدى " متفق عليه وروى أبو شريح الخزاعي قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أصيب بدم فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه
ان يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية " رواه أبو داود
(فصل) وأجمع أهل العلم على أن الحر المسلم يقاد به قاتله وإن كان مجدع الأطراف معدوم الحواس
381

والقاتل صحيح سوى الخلق أو كان بالعكس وكذلك ان تفاوتا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة
والمرض والقوة والضعف والكبر والصغر ونحو ذلك لا يمنع القصاص بالاتفاق وقد دلت عليه العمومات
التي تلوناها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " ولان اعتبار التساوي في الصفات والفضائل
يفضي إلى اسقاط القصاص بالكلية وفوات حكمة الردع والزجر فوجب أن يسقط اعتباره كالطول
والقصر والسواد والبياض.
(فصل) ويجري القصاص بين الولاة والعمال وبين رعيتهم لعموم الآيات والاخبار التي ذكرناها
لا نعلم في هذا خلافا وثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه عاملا أنه قطع يده ظلما
لئن كنت صادقا لأقدتك منه وثبت أن عمر كان يقيد من نفسه وروي أبو داود قال خطب عمر فقال إني
لم أبعث عما لي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه
فقال عمرو بن العاص لو أن رجلا أدب بعض رعيته أتقصه منه؟ قال إي والذي نفسي بيده أقصه وقد
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه ولان المؤمنين تتكافأ دماؤهم وهذان حران مسلمان ليس
بينهما إيلاد فيجري القصاص بينهما كسائر الرعية
(فصل) ولا يشترط في وجوب القصاص كون القتل في دار الاسلام بل متى قتل في دار الحرب
مسلما عالما باسلامه عامدا فعليه القود سواء كان قد هاجر أو لم يهاجر، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
382

لا يجب القصاص بالقتل في غير دار الاسلام فإن لم يكن المقتول هاجر لم يضمنه بقصاص ولا دية عمدا
قتله أو خطأ، وإن كان قد هاجر ثم عاد إلى دار الحرب كرجلين مسلمين دخلا دار الحرب بأمان فقتل
أحدهما صاحبه ضمنه بالدية ولم يجب القود وحكي عن أحمد رواية كقوله ولو قتل رجل أسيرا مسلما
في دار الحرب لم يضمنه إلا بالدية ولم يجب القود عمدا قتله أو خطأ
ولنا ما ذكرنا من الآيات والاخبار ولأنه قتل من يكافئه عمدا ظلما فوجب عليه القود كما لو
قتله في دار الاسلام ولان كل دار يجب فيها القصاص إذا كان فيها إمام يجب وان لم يكن إمام كدار الاسلام
(فصل) وقتل الغيلة وغيره سواء في القصاص والعفو وذلك للولي دون السلطان، وبه قال أبو
حنيفة والشافعي وابن المنذر، وقال مالك الامر عندنا ان يقتل به وليس لولي الدم أن يعفو عنه وذلك
إلى السلطان والغلية عنده أن يخدع الانسان فيدخل بيتا أو نحوه فيقتل أو يؤخذ ماله ولعله يحتج بحديث
عمر رضي الله عنه في الذي قتل غيلة لو تمالا عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وبقياسه على المحارب
ولنا عموم قوله تعالى (فقد جعلنا لوليه سلطانا)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فأهله بين خيرتين " ولأنه
قتيل في غير المحاربة فكان أمره إلى وليه كسائر القتلى، وقول عمر لأقدتهم به أي أمكنت الولي
من استيفاء القود منهم.
باب استيفاء القصاص
ويشترط له ثلاثة شروط (أحدهما) أن يكون من يستحقه مكلفا فإن كان صبيا أو مجنونا لم يجز
استيفاؤه ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون إذا كان من يستحق القصاص واحدا غير
مكلف صغيرا أو مجنونا كصبي قتلت أمه وليست زوجة لأبيه فالقصاص له وليس لأبيه ولا لغيره استيفاؤه
وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك له استيفاؤه وكذلك الحكم في الوصي والحاكم في الطرف
دون النفس، وذكر أبو الخطاب في موضع في الأب روايتين وفي موضع وجهين (أحدهما) كقولهما
ولان القصاص أحد بدلي النفس فكان للأب استيفاؤه كالدية
383

ولنا أنه لا يملك ايقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص له كالوصي ولان القصد التشفي
ودرك الغيظ ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب فافترقا
ولان الدية إنما يملك استيفاءها إذا تعينت والقصاص لا يتعين فإنه يجوز العفو إلى الدية والصلح إلى مال
أكثر منها أو أقل والدية بخلاف ذلك
(فصل) وكل موضع يجب تأخير الاستيفاء فإن القاتل يحبس حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ويقدم
الغائب، وقد حبس معاوية هدية بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل في عصر الصحابة فلم ينكر
ذلك وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها فإن قيل فلم لا يخلى
سبيله كالعسر بالدين قلنا لأن في تخليته تضييعا للحق لأنه لا يؤمن هربه والفرق بينه وبين المعسر من
وجوه (أحدهما) أن قضاء الدين لا يجب مع الاعسار فلا يحبس بما لا يجب والقصاص ههنا واجب وإنما
تعذر المستوفي (الثاني) أن المعسر إذا حبسناه تعذر الكسب لقضاء الدين فلا يفيد بل يضر من الجانبين
وههنا الحق نفسه يفوت بالتخلية لا بالحبس (الثالث) أنه قد استحق قتله وفيه تفويت نفسه ونفعه فإذا
تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لامكانه فإن قبل فلم يحبس من أجل الغائب وليس للحاكم عليه
ولاية إذا كان مكلفا رشيدا ولذلك لو وجد بعض ماله مغصوبا لم يملك انتزاعه؟ قلنا لأن في القصاص حقا
للميت وللحاكم عليه ولاية ولهذا ينفذ وصاياه من الدية ويقضي ديونه منها فنظيره أن يجد الحاكم من تركة
384

الميت في يد إنسان شيئا غصبا والوارث غائب فإنه يأخذه، ولو كان القصاص لحي في طرفه لم يتعرض
لمن هو عليه فإن أقام القاتل كفيلا بنفسه ليخلي سبيله له لم يجز لأن الكفالة لا تصح في القصاص فإن
فائدتها استيفاء الحق من الكفيل، فإن تعذر إحضار المكفول به فلا يمكن استيفاؤه من غير القاتل فلم
تصح الكفالة به كالحد ولان فيه تغريرا بحق المولى عليه فإنه ربما خلى سبيله فهرب فضاع الحق
(مسألة) (وان كانا محتاجين إلى النفقة فهل لوليهما الفعو إلى الدية؟ يحتمل وجهين)
إذا وجب القصاص لصغير أو مجنون فليس لوليه العفو عن القصاص إلى غير مال لأنه لا يملك اسقاط
حقه وكذلك ان عفا إلى مال وكان الصبي في كفاية وقد ذكرناه، فإن كان فقيرا محتاجا إلى النفقة جاز
ذلك في أحد الوجهين، قال القاضي وهو الصحيح (والثاني) لا يجوز لأنه لا يملك اسقاط قصاصه
ونفقته في بيت المال، والصحيح الأول فإن وجوب النفقة في بيت المال لا يغنيه إذا لم يحصل، وأما إذا
كان مستحق القصاص مجنونا فقيرا فلوليه العفو إلى المال لأنه ليست له حالة معتادة ينتظر فيها افاقته
ورجوع عقله بخلاف الصبي
(مسألة) (فإن قتلا قاتل أبيهما أو قطعا قاطعهما قهرا احتمل أن يسقط حقهما واحتمل أن تجب
دية أبيهما لهما في مال الجاني ويرجع ورثة الجاني على عاقلتهما)
إذا وثب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله أو على القاطع فقطعه ففيه وجهان:
385

(أحدهما) يصير مستوفيا لحقه لأنه عين حقه أتلفه فأشبه ما لو كانت وديعة عند رجل (والثاني)
لا يصير مستوفيا لحقه لأنه ليس من أهل الاستيفاء فتجب له دية أبيه في مال الجاني لأن عمد الصبي
خطأ وعلى عاقلته دية القاتل كما لو أتلف أجنبيا بخلاف الوديعة فإنها لو تلفت من غير تعد برئ منها
المودع ولو هلك من غير فعل لم يبرأ من الجناية
(مسألة) (وان اقتصا ممن لا تحمل ديته العاقلة كالعبد سقط حقهما وجها واحدا لأنه لا يمكن ايجاب
ديته على العاقلة فلم يكن الا سقوطه
(فصل) الثاني اتفاق جميع الأولياء على استيفائه وليس لبعضهم الاستيفاء دون بعض) لأنه يكون
مستوفيا لحق غيره بغير اذنه ولا ولاية عليه فأشبه الدين
(مسألة) (فإن فعل فلا قصاص عليه)
وبه قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي والقول الآخر عليه القصاص لأنه ممنوع من قتله
وبعضه غير مستحق له وقد يجب القصاص باتلاف بعض النفس بدليل ما لو اشترك الجماعة في قتل واحد
ولنا انه مشارك في استحقاق القتل فلم يجب عليه القصاص كما لو كان مشاركا في ملك الجارية
ووطئها ولأنه محل يملك بعضه فلم تجب العقوبة المقدرة باستيفائه كالأصل، ويفارق إذا قتل الجماعة واحد
فانا لم نوجب القصاص بقتل بعض النفس وإنما نجعل كل واحد منهم قاتلا لجميعها وان سلمنا وجوبه
386

عليه لقتل بعض النفس فمن شرطه المشاركة لمن فعله كفعله في العمد والعدوان ولا يتحقق ذلك ههنا
(مسألة) (وعليه لشركائه حقهم من الدية ويسقط عن الجاني في أحد الوجهين وفي الآخر
لهم ذلك في تركة الجاني ويرجع ورثة الجاني على قاتله)
وجملة ذلك أنه يجب للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره
فأشبه ما لو مات القاتل أو عفا بعض الأولياء، وهل يجب ذلك على قاتل الجاني أو في تركة الجاني؟
فيه وجهان وللشافعي قولان
(أحدهما) يرجع على قاتل الجاني لأنه أتلف محل حقه فكان الرجوع عليه بعض نصيبه كما لو
كانت له وديعة فأتلفها (والثاني) يرجع في تركة الجاني كما لو أتلفه أجنبي أو عفا شريكه عن القصاص،
وقولنا أتلف محل حقه يبطل بما إذا أتلف مستأجره أو غريمه أو امرأته أو كان المتلف أجنبيا، ويفارق الوديعة
فإنها مملوكة لهما فوجب عوض ملكه أما الجاني فليس بمملوك للمجني عليه وإنما عليه حق فأشبه ما لو
أتلف غريمه، فعلى هذا يرجع ورثة الجاني على قاتله بدية مورثهم الا قدر حقه منها، فعلى هذا لو كان
الجاني أقل دية من قاتله مثل امرأة قتلت رجلا له ابنان قتلها أحدهما بغير اذن الآخر فللآخر نصف
دية أبيه في تركة المرأة التي قتلته ويرجع ورثتها بنصف ديتها على قاتلها وهو ربع دية الرجل وعلى
الوجه الأول يرجع الابن الذي لم يقتل على أخيه بنصف دية المرأة لأنه لم يفوت على أخيه الا نصف
387

المرأة ولا يمكن ان يرجع على ورثة المرأة بشئ لأن أخاه الذي قتلها أتلف جميع الحق، وهذا يدل على
ضعف هذا الوجه، ومن فوائده أيضا صحة ابراء من حكمنا بالرجوع عليه وملك مطالبته وان قلنا يرجع
على ورثة الجاني صح ابراؤهم وملكوا الرجوع على قاتل موروثهم بقسط أخيه العافي وان قلنا يرجع
على شريكه ملك مطالبته وصح ابراؤهم ولم يكن لورثة الجاني مطالبته بشئ (ومنها) اننا إذا قلنا يرجع
على تركة الجاني وله تركة فله الاخذ منها سواء أمكن ورثته أن يستوفوا من الشريك أو لم يمكنهم وان
قلنا يرجع على شريكه لم يكن له مطالبته ورثة الجاني سواء كان شريكه موسرا أو معسرا
(فصل) وان عفا سقط القصاص وإن كان العافي زوجا أو زوجة، أجمع أهل العلم على
إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل لما نذكره. والقصاص حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب
والأسباب الرجال والنساء والصغار والكبار فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص ولم يكن لاحد
عليه سبيل وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والنخعي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة
والشافعي وروى معنى ذلك عن عمر وطاوس والشعبي وقال الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث
والأوزاعي ليس للنساء عفو والمشهور عن مالك انه موروث للعصبات خاصة وهو وجه لأصحاب
الشافعي لأنه ثبت لدفع النار فاختص به العصبات كولاية النكاح ولهم وجه ثالث انه لذوي الأنساب
دون الزوجين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين ان يقتلوا أو يأخذوا العقل "
388

وأهله ذوو رحمه وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص لا يسقط بعفو بعض الشركاء وقيل هو رواية عن
مالك لأن حق غير العافي لم يرض باسقاطه وقد تؤخذ النفس ببعض النفس بدليل قتل الجماعة بالواحد
ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام " فأهله بين خيرتين " وهذا عام في جميع أهله والمرأة من أهله بدليل قول
النبي صلى الله عليه وسلم " من يعذرني من رجل بلغ اذاه في أهلي وما علمت على أهلي الا خيرا وما كان يدخل علي أهلي
الا معي " يريد عائشة وقال له أسامة يا رسول الله أهلك ولا نعلم الا خيرا وروى زيد بن وهب أن عمر أتي
برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل قد عفوت عن حقي
فقال عمر الله أكبر عتق القتيل رواه أبو داود، وفي رواية عن زيد قال دخل رجل على امرأته فوجد
عندها رجلا فقتلها فقال بعض إخوتها قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية وروى قتادة ان عمر رفع
إليه رجل قتل رجلا فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم فقال عمر لابن مسعود ما تقول؟ فقال إنه قد
أحرز من القتل فضرب على كتفه فقال كتيف ملئ علما، والدليل على أن القصاص لجميع الورثة ما ذكرناه
في مسألة القصاص بين الصغير والكبير ولان من ورث الدية ورث القصاص كالعصبة وإذا عفا بعضهم
صح عفوه كعفوه عن سائر حقوقه، وزوال الزوجية لا يمنع استحقاق القصاص كما لو يمنع استحقاق
الدية وسائر حقوقه الموروثة، ومتى ثبت انه حق مشترك بين جميعهم سقط باسقاط من كان من أهل الاسقاط
389

منهم لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه فإذا سقط سقط جميعه لأنه مما لا يتبعض كالطلاق والعتاق ولان
القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض مبناه على الدور والاسقاط فإذا أسقط بعضهم سرى إلى الباقي
كالعتق، والمرأة أحد المستحقين فسقط باسقاطها كالرجل، ومتى عفا أحدهم فللباقين حقهم من الدية سواء
عفا مطلقا أو إلى الدية وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم لهم مخالفا ممن قال بسقوط القصاص وذلك
لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فيثبت له البدل كما لو ورث القاتل بعض دمه أو مات ولما ذكرنا
من خبر عمر رضي الله عنه
(مسألة) (وان قتله الباقون عالمين بالعفو وسقوط القصاص به فعليهم القود والا فلا
قود وعليهم ديته)
وجملة ذلك أنه إذا قتله الشريك الذي لم يعف عالما بعفو شريكه وسقوط القصاص به فعليه
القصاص سواء حكم به الحاكم أو لم يحكم وبهذا قال أبو حنيفة وأبو ثور وهو الظاهر من مذهب الشافعي
وقيل له قول آخر لا يجب القصاص لأن فيه شبهة لوقوع الخلاف فيه.
ولنا انه قتل معصوما مكافئا له عمدا يعلم أن لا حق له فيه فوجب عليه القصاص كما لو حكم بالعفو
حاكم والاختلاف لا يسقط القصاص فإنه لو قتل مسلما بكافر قتلناه به مع الاختلاف في قتله، فأما ان
قتله قبل العلم بالعفو فلا قصاص عليه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه عليه القصاص
390

لأنه قتل عمد عدوان لمن لا حق له في قتله
ولنا انه معتقد ثبوت حق فيه مع أن الأصل بقاؤه فلم يلزمه قصاص كالوكيل إذا قتل بعد عفو
الموكل قبل علمه بعفوه، ولا فرق بين أن يكون الحاكم قد حكم بالعفو أو لم يحكم به لأن الشبهة موجودة
مع انتفاء العلم معدومة عند وجوده، وقال الشافعي متى قتله بعد حكم الحاكم لزمه القصاص علم بالعفو
أو لم يعلم وقد بينا الفرق بينهما، ومتى حكمنا عليه بوجوب الدية اما لكونه معذورا واما للعفو عن
القصاص فإنه يسقط عنه منها ما قابل حقه على القاتل قصاصا ويجب عليه الباقي، فإن كان الولي عفا
إلى غير مال فالواجب لورثة القاتل ولا شئ عليه وإن كان عفا إلى الدية فالواجب لورثة القاتل وعليهم
نصيب العافي من الدية وقيل فيه ان حق العافي من الدية على القاتل ولا يصح لأن الحق لم يبق متعلقا
بعينه وإنما الدية واجبة في ذمته فلم تنقل إلى القاتل كما لو قتل غريمه
(مسألة) (وسواء كان الجميع حاضرين أو بعضهم غائب لما ذكرناه)
(فصل) فإن كان القاتل هو العافي فعليه القصاص سواء عفا مطلقا أو إلى مال وبهذا قال عكرمة
والثوري ومالك والشافعي وابن المنذر وروي عن الحسن تؤخذ منه الدية ولا يقتل وقال عمر بن
عبد العزيز الحكم فيه إلى السلطان
ولنا قوله تعالى (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم) قال ابن عباس وعطاء والحسن وقتادة في
391

تفسيرها أي بعد أخذه الدية وعن الحسن عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أعفي من
قتل بعد أخذه الدية " ولأنه قتل معصوما مكافئا فوجب عليه القصاص كما لو لم يكن قتل
(فصل) وإذا عفا عن القاتل مطلقا صح ولم يلزمه عقوبة وبهذا قال الشافعي وإسحاق وابن
المنذر وأبو ثور وقال مالك والليث والأوزاعي يضرب ويحبس سنة
ولنا أنه إنما كان عليه حق واحد وقد أسقطه مستحقه فلم يجب عليه شئ آخر كما لو أسقط
الدية عن القاتل خطأ
(مسألة) (وإن كان بعضهم صغيرا أو مجنونا فليس للبالغ العاقل استيفاء حتى يصيرا مكلفين
في المشهور وعنه له ذلك)
وجملة ذلك أن ورثة القتيل إذا كانوا أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود الا باذن
الباقين فإن كان بعضهم غائبا انتظر قدومه ولم يجز للحاضر الاستقلال بالاستيفاء بغير خلاف علمناه
وإن كان بعضهم صغيرا أو مجنونا فظاهر مذهب احمد انه ليس لغيرهما الاستيفاء حتى يبلغ الصغير
ويفيق المجنون وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف وإسحاق ويروى ذلك عن
عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وعن أحمد رواية أخرى للكبار والعقلاء استيفاؤه وبه قال حماد
ومالك والأوزاعي والليث وأبو حنيفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قصاصا
392

وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك ولان ولاية القصاص هي استحقاق استيفائه وليس للصغير هذه الولاية
ولنا انه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة معينين فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالا كما لو كان لحاضر
وغائب ولأنه أحد بدلي النفس فلم ينفرد به بعضهم كالدية والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقا أربعة أمور
(أحدهما) أنه لو كان منفردا لاستحقه ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفردا كولاية النكاح
(الثاني) أنه لو بلغ لاستحق ولو لم يكن مستحقا عند الموت لم يكن مستحقا بعده كالرقيق
إذا أعتق بعد موت أبيه
(الثالث) انه لو صار الامر إلى المال لاستحق ولو لم يكن مستحقا للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي
(الرابع) انه لو مات الصغير لاستحق ورثته ولو لم يكن حقا له لم يرثه كسائر ما لا يستحقه
وأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله لكفره لأنه قتل عليا مستحلا لدمه معتقدا كفره متقربا إلى الله
تعالى بذلك وقيل قتله لسعيه في الأرض بالفساد واظهار السلاح فيكون كقاطع الطريق إذا قتله وقتله
متحتم وهو إلى الإمام والحسن هو الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة ولا خلاف بيننا في
وجوب انتظارهم وان قدرنا انه قتله قصاصا فقد اتفقنا على خلافه فكيف يحتج به بعضنا على بعض؟
(مسألة) (وكل من ورث المال ورث القصاص على حسب ميراثه من المال حتى الزوجين
وذوي الأرحام)
لأنه حق يستحقه الوارث من جهة مورثه فأشبه المال
393

(مسألة) (ومن لا وارث له وليه الإمام ان شاء اقتص وان شاء عفا فله ان يفعل من ذلك
ما يرى فيه المصلحة للمسلمين فإن أحب القصاص فله ذلك وان أحب العفو إلى مال فله ذلك وان أحب
العفو إلى غير مال لم يملكه لأن ذلك للمسلمين ولاحظ لهم في هذا، وهذا قول أصحاب الرأي لأنهم لا يرون
العفو إلى مال الا برضى الجاني
(فصل) وإذا اشترك جماعة في قتل واحد فعفي عنهم إلى الدية فعليهم دية واحدة وان عفى عن
بعضهم فعلى العفو عنه قسطه من الدية لأن الدية بدل المحل وهو واحد فتكون ديته واحدة سواء
أتلفه واحد أو جماعة وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى ان على كل واحد دية كاملة لأن له قتل
كل واحد منهم فكان على كل واحد منهم دية نفس كاملة كما لو قلع الأعور عين صحيح فإنه يجب عليه
دية عينه وهو دية كاملة والصحيح الأول لأن الواجب بدل المتلف ولا يختلف باختلاف المتلف
ولذلك لو قتل عبد قيمته الفان حرا لم يملك العفو على أكثر من الدية واما القصاص فهو عقوبة
على الفعل فيتعدد بعدده
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (الثالث) ان يؤمن في الاستيفاء التعدي إلى غير القاتل فلو وجب
القصاص على حامل أو حملت بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبن لا نعلم في ذلك خلافا
وسواء كان القصاص في النفس أو في الطرف اما في النفس فلقول الله تعالى (فلا يسرف في القتل) وقتل
394

الحامل قتل لغير الحامل اسرافا وروى ابن ماجة باسناده عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنا
نساء ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالوا إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها ان كانت حاملا وحتى تكفل ولدها
وان زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها " وهذا نص ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال للغامدية
المقرة بالزنا " ارجعي حتى تضعي ما في بطنك - ثم قال لها - ارجعي حتى ترضعيه " ولان هذا اجماع من أهل
العلم لا نعلم فيه اختلافا وأما لا قصاص في الطرف فلا لنا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى الجاني
والى زيادة في حقه فلان تمنع منه خشية السراية إلى غير الجاني وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى
ولان في القصاص منها قتلا لغير الجاني وهو حرام وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبن لأن
الولد يتضرر لتركه ضررا كبيرا ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجئ أو ان فطامه
لما ذكرنا من الخبرين ولأنه لما أخر الاستيفاء لحفظه وهو حمل فلان يؤخر لحفظه بعد وضعه أولى الا
أن يكون القصاص فيما دون النفس ويكون الغالب بقاؤها وعدم ضرر الاستيفاء منها فيستوفى وان
وجد له مرضعة راتبة جاز الاستيفاء منها لأنه يستغني عنها بلبن المرضعة وكذلك ان كانت مترددة
أو نساء يتناوبنه يرضعنه أو أمكن أن يسقى من لبن شاة أو نحوها ويستحب للولي تأخيرها لما على
الولد من الضرر في اختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة
395

(مسألة) (وحكم الحد في ذلك حكم القصاص لما ذكرنا من الحديث ولأنه في معنى القصاص
(مسألة) وان ادعت الحمل ففيه وجهان
(أحدهما) تحبس حتى يبين حملها لأن للحمل امارات خفية تعلمها من نفسها ولا يعلمها غيرها فوجب
ان يحتاط للحمل حتى يتبين انتفاء ما ادعته ولأنه أمر يختصها فقبل قولها فيه كالحيض (والثاني) انها ترى
أهل الخبرة ذكره القاضي فإن شهدن بحملها أخرت وان شهدن ببراءتها لم تؤخر لأن الحق حال عليها
فلا يؤخر بمجرد دعواها فإن أشكل على القوابل أو لم يوجد من يعرف ذلك أخرت حتى يتبين لأننا
إذا أسقطنا القصاص من خوف الزيادة فتأخيره أولى
(مسألة) (وان اقتص من حامل وجب ضمان جنبيها على قاتلها)
وقال أبو الخطاب يجب على السلطان الذي مكنه من الاستيفاء وعليهما الاثم ان كانا عالمين أو
كان منهما تفريط وان علم أحدهما أو فرط فالاثم عليه فإن لم تلق الولد فلا ضمان فيه لأنا لا نعلم وجوده
وحياته وان انفصل ميتا أو حيا لوقت لا يعيش فيه مثله ففيه غرة وان انفصل حيا لوقت يعيش مثله فيه
ثم مات من الجناية وجبت ديته وينظر فإن كان الإمام والولي عالمين بالحمل وتحريم الاستيفاء أو جاهلين
بالامرين أو بأحدهما أو كان الولي عالما بذلك دون الممكن له من الاستيفاء فالضمان عليه وحده لأنه
مباشر والحاكم الذي مكنه صاحب سبب فكان الضمان على المباشر دون المسيب كالحافر مع الدافع
396

فإن علم الحاكم دون الولي فالضمان على الحاكم وحده لأن المباشر معذور فكان الضمان على المسبب
كالسيد إذا أمر عبده الأعجمي الذي لا يعرف تحريم القتل به وكشهود القصاص إذا ارجعوا عن الشهادة
بعد الاستيفاء وقال القاضي إن كان أحدهما عالما وحده فالضمان عليه وحده وان كانا غير عالمين فالضمان
على الحاكم لأنه الذي يعرف الأحكام والولي إنما يرجع إلى حكمه واجتهاده وان كانا جاهلين ففيه
وجهان (أحدهما) الضمان على الإمام كما لو كانا عالمين (والثاني) على الولي وهو مذهب الشافعي وقال
أبو الخطاب الضمان على الحاكم ولم يفرق وقال المزني الضمان على الولي في كل حال لأنه المباشر
والسبب غير ملجئ فكان الضمان عليه كالدافع مع الحافر وكما لو أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل وقد
ذكرنا ما يقتضي التفريق وهو اختيار شيخنا
(فصل) قال الشيخ رحمه الله ولا يستوفي القصاص الا بحضرة السلطان وحكاه عن أبي بكر
وهو مذهب الشافعي لأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد ويحرم الحيف فيه فلا يؤمن الحيف مع قصد التشفي
فإن استوفاه من غير حضرة السلطان وقع الموقع ويعزر لافتياته بفعل ما منع فعله ويحتمل ان يجوز
الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص في النفس لأن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يقوده
بنسعة فقال إن هذا قتل أخي فاعترف بقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فاقتله " رواه مسلم بمعناه ولان
اشتراط حضور السلطان لا يثبت إلا بنص أو اجماع أو قياس ولم يثبت ذلك ويستحب ان يحضر
شاهدين لئلا يجحد المجني عليه الاستيفاء
(مسألة) (وعليه تفقد الآلة فإن كانت كآلة منعة الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول)
وقد روى شداد بن أوس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان الله كتب الاحسان على كل شئ
397

فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ليحد أحدكم شفرته وليرح ذبحته " رواه مسلم
ويمنعه من الاستيفاء بآلة مسمومة لأنها تفسد البدن وربما منعت غسله فإن عجل فاستوفي بآلة كآلة أو مسمومة
عزر لفعله ما لا يجوز
(مسألة) (وبنظر السلطان في الولي فإن كان يحسن الاستيفاء ويقدر عليه بالقوة والمعرفة مكنه منه)
لقول الله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) وقال عليه الصلاة
والسلام " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان أحبوا اخذوا الدية " ولأنه حق له
متميز فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق ولان المقصود التشفي وتمكينه منه أبلغ في ذلك
(مسألة) (وإن كان الولي لا يحسن الاستيفاء امره بالتوكيل)
لأنه عاجز عن استيفاء حقه فيوكل من يحسن فإن ادعى الولي المعرفة بالاستيفاء فامكنه السلطان
من ضرب عنقه فضرب عنقه فأبانه فقد استوفى حقه وان أصاب غيره وأقر بتعمد ذلك عزر فإن قال
أخطأت وكانت الضربة قريبا من العنق كالرأس والمنكب قبل قوله مع يمينه لأن هذا مما يجوز الخطأ
في مثله وإن كان بعيدا كالوسط والرجلين لم يقبل قوله لأن مثل هذا لا يقع الخطأ فيه ثم إن أراد العود
ففيه وجهان (أحدهما) لا يمكن منه لأنه ظهر منه انه لا يحسن الاستيفاء ويحتمل ان يعود إلى مثل فعله
(والثاني) يمكن منه قاله القاضي لأن الظاهر تحرزه عن مثل ذلك ثانيا
398

(مسألة) (فإن احتاج الوكيل إلى اجرة فمن مال الجاني فقد قيل يؤخذ العوض من بيت المال)
قال بعض أصحابنا يرزق من بيت المال رجل يستوفى الحدود والقصاص لأن هذا من مصالح
العامة فإن لم يحصل ذلك فالأجرة على الجاني لأنها اجرة لايفاء الحق الذي عليه فكانت الأجرة عليه
كأجرة الكيال في بيع المكيل ويحتمل أن تكون على المقتص لأنه وكيله فكانت الأجرة على موكله
كسائر الموضع والذي على الجاني لتمكين دون الفعل ولهذا لو أراد ان يقتص منه نفس لم يمكن منه
ولأنه لو كانت عليه أجرة الوكيل ألزمته أجرة الولي إذا استوفى بنفسه وان قال الجاني انا اقتص لك
من نفسي لم يلزم تمكينه ولم يجز له ذلك قال الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) ولان معنى القصاص
ان يفعل به كما فعل ولان القصاص حق عليه لغيره فلم يكن هو المستوفي له كالبائع لا يستوفي من نفسه
(مسألة) (والولي مخير بين الاستيفاء بنفسه إن كان يحسن وبين التوكيل)
لأن الحق له فيتصرف فيه على حسب اختياره كسائر الحقوق وقيل ليس له ان يستوفي في الطرف
بنفسه بحال لأنه لا يؤمن ان يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه
لأنه أحد نوعي القصاص فيمكن منه كالقصاص في النفس
(مسألة) (وان تشاح أولياء المقتول في الاستيفاء قدم أحدهم بالقرعة)
إذا تشاح الأولياء في المتولي للاستيفاء أمروا بتوكيل واحد منهم أو من غيرهم ولم يجز ان يتولاه
399

جميعهم لما فيه من تعذيب الجاني وتعدد أفعالهم فإن لم يتفقوا على أحد وتشاحوا وكان كل واحد منهم
يحسن الاستيفاء أقرع بينهم لأن الحقوق إذا تساوت وعدم الترجيح صرنا إلى القرعة كما لو تشاحوا
في تزويج موليتهم فمن خرجت له القرعة أمر الباقون بتوكيله ولا يجوز له الاستيفاء بغير اذنهم فإن لم
يتفقوا على التوكيل منعوا الاستيفاء حتى يوكلوا
(فصل) قال رحمه الله ولا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف في إحدى الروايتين والأخرى
يفعل به كما فعل فلو قطع يديه ثم قتله فعل به كذلك وان قتله بحجر أو غرقة أو غير ذلك فعل به مثل
فعله وان قطع يده من مفصل أو غيره أو أوضحه فمات فعل به كفعله فإن مات وإلا ضربت عنقه
وقال القاضي يقتل ولا يزاد على ذلك رواية واحدة وجملة ذلك أن الرجل إذا جرح رجلا ثم ضرب
عنقه فالكلام في المسألة في حالين أحدهما ان يختار لمولي القصاص فاختلفت الرواية عن أحمد في كيفية
الاستيفاء فروي عنه لا يستوفي إلا بالسيف في العنق وبه قال عطاء والثوري وأبو يوسف ومحمد لما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا قود إلا بالسيف " رواه ابن ماجة ولان القصاص أحد بدلي النفس
فدخل
الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الامر إلى الدية لم يجب الا دية النفس ولان القصد من القصاص
في النفس تعطيل واتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعذيبه باتلاف أطرافه كما لو
قتله بسيف كال فإنه لا يقتل بمثله (والرواية الثانية) عن أحمد أنه قال إنه لا حل ان يفعل به كما فعل
400

يعني ان للمستوفي ان يقطع أطرافه ثم يقتله وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبي
حنيفة وأبي ثور لقول الله تعالى (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقوله سبحانه (فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ولان النبي صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي لرضه رأس جارية
من لا يصار بين حجرين ولان الله تعالى قال (والعين بالعين) وهذا قد قلع عينه فيجب ان يقلع
عينه للآية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه " ولان القصاص
موضوع على المماثلة ولفظه مشعر به فيجب ان يستوفى منه مثل ما فعل كما لو ضرب العنق آخر غيره فاما
حديث " لا قود لا بالسيف " فقال أحمد ليس اسناده بجيد (الحال الثاني) أن يصير الامر إلى الدية اما بعفو
الولي أو كون الفعل خطأ أو شبه عمد أو غير ذلك فالواجب دية واحد وهو ظاهر مذهب الشافعي
وقال بعضهم تجب دية الأطراف المقطوعة ودية النفس لأنه لما قطع سراية الجرح بقتله صار كالمستقر
فأشبه ما لو قتله غيره
ولنا انه قاتل قبل استقرار الجرح فدخل أرش الجراحة في أرش النفس كما لو سرت إلى نفسه
والقصاص في الأطراف لا يجب على إحدى الروايتين وان وجب فإن القصاص لا يشبه الدية لأن سراية
الجرح لا تسقط القصاص فيه وتسقط ديته
401

(فصل) وإذا قلنا للولي أن يستوفي مثل ما فعل بوليه فأحب أن يقتصر على ضرب عنقه فله ذلك
وهو أفضل وان قطع أطرافه التي قطعها الجاني أو بعضها ثم عفا عن قتله جاز لأنه تارك بعض حقه وان
قطع بعض أطرافه ثم عفا إلى الدية لم يكن له ذلك لأن جميع ما فعل به لم يجب به إلا دية واحدة فلا
يجوز أن يستوفي بعضه ويستحق كمال الدية، فإن فعل فله ما بقي من الدية فإن لم يبق منها شئ فلا شئ له وان
قلنا ليس له أن يستوفي إلا بضرب العنق فاستوفى بمثل ما فعل فقد أساء ولا شئ عليه سوى المأثم لأن
فعل الجاني في الأطراف لم يوجب شيئا يختص بها فكذلك فعل المستوفى وان قطع طرفا واحدا ثم عفا
إلى الدية لم يكن له إلا تمامها وان قطع ما يجب به أكثر من الدية ثم عفا احتمل أنه يلزمه ما زاد على
الدية لأنه لا يستحق أكثر من الدية وقد فعل ما يوجب أكثر منها فكانت الزيادة عليه، واحتمل أن لا يلزمه
شئ فإذا ترك قتله وعفا عنه فأولى أن لا يلزمه شئ ولأنه فعل بعض ما فعل موليه فلم يلزمه شئ لأنه
لو قتله لم يلزمه شئ كما لو قلنا إن له أن يستوفي مثل ما فعل به
(فصل) فإن قطع يديه أو رجليه أو جرحه جرحا يوجب القصاص إذا انفرد فسرى إلى النفس
فله القصاص في النفس، وهل له أن يستوفى القطع قبل القتل؟ على روايتين ذكرهما القاضي وبناهما على
الروايتين المذكورتين في المسألة (إحداهما) ليس له قطع الطرف وهو مذهب أبي حنيفة، لأن ذلك
يفضي إلى الزيادة على جناية الأول والقصاص يعتمد المماثلة فمتى خيف فيه الزيادة سقط كما لو قطع يده
402

من نصف الذراع (والثانية) يجب القصاص في الطرف فإن مات وإلا ضربت عنقه، وهذا مذهب الشافعي
لما ذكرناه في أول المسألة، وذكر أبو الخطاب أنه لا يقتص منه في الطرف رواية واحدة وانه لا يصح
تجرحه على الروايتين في المسألة لافضاء هذا إلى الزيادة بخلاف المسألة، قال شيخنا والصحيح تخريجه
على الروايتين وليس هذا بزيادة لأن فوات النفس بسراية فعله وسراية فعله كفعله فأشبه ما لو
قطعه ثم قتله، ولان زيادة الفعل في الصورة محتمل في الاستيفاء كما لو قتله بضربة فلم يمكن قتله
في الاستيفاء إلا بضربتين.
(فصل) فإن جرحه جرحا لا قصاص فيه ولا يلزم فوات الحياة به كالجائفة أو قطع اليد من نصف
الذراع أو الرجل من نصف الساق فمات منه أو قطع يدا ناقصة الأصابع أو شلاء أو زائدة ويد القاطع
أصلية صحيحة فالصحيح في المذهب أنه ليس له فعل ما فعل ولا يقتص إلا بالسيف في العنق ذكره
أبو بكر والقاضي، وقال غيرهما فيه رواية أخرى أن له أن يقتص بمثل فعله لأنه صار قتلا فكان له
القصاص بمثل فعله كما لو رض رأسه بحجر فقتله به، والصحيح الأول لأن هذا لو انفرد لم يكن فيه قصاص
فلم يجز القصاص فيه مع القتل كما لو قطع يمينه ولم يكن للقاطع يمين لم يكن له أن يقطع يساره، وفارق ما إذا
رض رأسه فمات لأن ذلك الفعل قتل مفرد وههنا قطع وقتل والقطع لا يوجب قصاصا فبقي مجرد القتل فإذا
403

جمع المستوفي بينهما فقد زاد قطعا لم يرد الشرع باستيفائه فيكون حراما وسواء في هذا ما إذا قطع ثم
قتل عقيبه وبين ما إذا قطع فسرى إلى النفس
(فصل) فاما ان قطع اليمنى ولا يمنى للقاطع أو اليد ولا يد له أو قطع العين ولا عين له فمات
المجني عليه فإنه يقتل بالسيف في العنق ولا قصاص في طرفه لا أعلم فيه خلافا، لأن القصاص إنما يكون في
مثل العضو المتلف وهو ههنا معدوم ولان القصاص فعل مثل ما فعل الجاني ولا سبيل إليه ولأنه لو قطع ثم
عفا عن القتل لصار مستوفيا رجلا ممن لم يقطع له مثلها وهذا غير جائز
(فصل) وان قتله بغير السيف مثل ان قتله بحجر أو هدم أو تغريق أو خنق فهل يستوفى القصاص
بمثل ما فعله على روايتين (إحداهما) يستوفى وهو قول مالك والشافعي (والثانية) لا يستوفى إلا بالسيف
في العنق، وهو مذهب أبي حنيفة فيما إذا قتله بمثقل الحديد على إحدى الروايتين عنده أو جرحه فمات
ووجه الروايتين ما تقدم في أول المسألة ولان هذا لا يؤمن معه الزيادة على ما فعله القاتل فلا يجب
القصاص بمثل آلته كما لو قطع الطرف بآلة كآلة أو مسمومة أو بالسيف فإنه لا يستوفي بمثله ولان هذا
لا يقتل به المرتد فلا يستوفى به القصاص كما لو قتله بتجريع الخمر أو السحر ولا تفريع على هذه
الرواية، فأما على الرواية الأخرى فإنه إذا فعل به مثل فعله فلم يمت قتله بالسيف، وهذا أحد قولي
الشافعي (والقول الثاني) أنه يكرر عليه ذلك الفعل حتى يموت به لأنه قتله بذلك فله قتله بمثله
404

ولنا أنه قد فعل به مثل فعله فلم يزد عليه كما لو جرحه جرحا أو قطع منه طرفا فاستوفى منه الولي
مثله فلم يمت به فإنه لا يكرر عليه الجرح بغير خلاف ويعدل إلى ضرب عنقه
(مسألة) (فإن قتله بمحرم في نفسه كتجريع الخمر واللواط ونحوه قتل بالسيف رواية واحدة)
إذا قتله بما يحرم لعينه كتجريع الخمر واللواط أو سحره لم يقتل بمثله اتفاقا ويقتل بالسيف، وحكى
أصحاب الشافعي فيمن قتله باللواط وتجريع الخمر وجها أنه يدخل في دبره خشبة يقتله بها
ويجرعه الماء حتى يموت
ولنا أن هذا محرم لعينه فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف كما لو قتله بالسحر وان حرقه فقال
بعض أصحابنا لا يحرق لأن التحريق محرم لحق الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يعذب بالنار الا رب
النار " وهذا داخل في عموم الخبر وهذا مذهب أبي حنيفة وقال القاضي الصحيح أن فيه روايتين كالتغريق
(إحداهما) يحرق وهو مذهب الشافعي لما روى البراء بن عازب قال من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه
وحملوا الحديث الأول على غير القصاص
(مسألة) (ولا يجوز الزيادة على ما أتى به رواية واحدة ولا قطع شئ من أطرافه فإن فعل فلا
قصاص فيه وتجب فيه ديته سواء عفا عنه أو قتله)
إذا زاد مستوفى القصاص في النفس على حقه مثل أن يقتل وليه فيقطع المقتص أطرافه أو بعضها
405

نظرنا فإن عفا عنه بعد قطع طرفه فعليه ضمان ما أتلف بديته وبهذا قال أبو حنيفة، وقال مالك والشافعي
وابن المنذر وأبو يوسف ومحمد لا ضمان عليه ولكن قد أساء ويعزر وسواء عفا عن القاتل أو قتله لأنه قطع
طرفا من جملة استحق اتلافها فلم يضمنه كما لو قطع أصبعا من يد استحق قطعها
ولنا أنه قطع طرفا له قيمة حال القطع بغير حق فوجب عليه ضمانه كما لو عفا عنه ثم قطعه أو كما
لو قطعه أجنبي، فأما ان قطعه ثم قتله احتمل أن يضمنه أيضا لأنه يضمنه إذا عفا عنه فكذلك إذا لم
يعف لأن العفو احسان فلا يكون موجبا للضمان واحتمل أن لا يضمنه وهو قول أبي حنيفة لأنه لو
قطع متعديا ثم قتل لم يضمن الطرف فلان لا يضمنه إذا كان القتل مستحقا أولى، فأما القصاص فلا يجب في الطرف
بحال ولا نعلم فيه خلافا، لأن القصاص عقوبة تدرأ بالشبهات والشبهة ههنا متحققه لأنه مستحق لاتلاف
هذا الطرف ضمنا لاستحقاقه اتلاف الجملة ولا يلزم من سقوط القصاص أن لا تجب الدية بدليل
امتناعه لعدم المكافأة، فأما إن كان الجاني قطع طرفه ثم قتله فاستوفى منه بمثل فعله فقد ذكرناه
فيما مضى وان قطع طرفا غير الذي قطعه الجاني كان الجاني قطع يده فقطع المستوفي رجله
احتمل أن يكون بمنزلة ما لو قطع يده لاستواء ديتهما واحتمل أن تلزمه دية الرجل لأن الجاني لم
يقطعها فأشبه ما لو لم يقطع يده.
(فصل) فأما ان كانت الزيادة في الاستيفاء من الطرف مثل أن يستحق قطع أصبع فقطع اثنتين
406

فحكمه حكم القاطع ابتداء إن كان عمدا من مفصل أو شجة يجب في مثلها القصاص فعليه القصاص
في الزيادة وإن كان خطأ أو جرحا لا يوجب القصاص مثل من يستحق موضحة فاستوفى هاشمة فعليه
أرش الزيادة إلا أن يكون ذلك بسبب من الجاني كاضطرابه حال الاستيفاء فلا شئ على المقتص لأنه
حصل بفعل الجاني، قال اختلفا هل فعله عمدا أو خطأ؟ فالقول قول المختص مع يمينه لأن هذا مما لا يمكن
الخطأ فيه وهو أعلم بمقصده، وإن قال المقتص حصل هذا باضطرابك أو فعل من جهتك فالقول قول
المقتص منه لأنه منكر فإن سرى الاستيفاء الذي حصلت فيه الزيادة إلى نفس المقتص منه أو إلى بعض
أعضائه مثل أن قطع أصبعه فسرى إلى جميع يده أو اقتص منه بآلة كآلة أو مسمومة أو في حال حر
مفرط أو برد شديد فسرى فقال القاضي على المقتص نصف الدية لأنه تلف بفعلين جائز ومحرم
ومضمون وغير مضمون فانقسم الواجب عليها نصفين كما لو جرحه جرحا في ردته وجرحا بعد اسلامه
فمات منهما وهذا كله مذهب الشافعي. قال شيخنا: ويحتمل أن يلزمه ضمان السراية كلها فيما إذا اقتص
بآلة مسمومة أو كآلة لأن الفعل كله محرم بخلاف قطع الإصبعين
(فصل) فأما إن قطع بعض أعضائه ثم قتله بعد أن برأت الجراح مثل من قطع يديه ورجليه فبرأت
جراحته ثم قتله فقد استقر حكم القطع ولولي القتيل الخيار ان شاء عفا وأخذ ثلاث ديات لنفسه ويديه
ورجليه لكل واحد دية وإن شاء قتله قصاصا بالقتل وأخذ ديتين لاطرافه. وإن أحب قطع أطرافه
407

الأربعة وأخذ دية لنفسه، وإن أحب قطع يديه وأخذ ديتين لنفسه ورجليه، وإن أحب قطع طرفا
واحدا وأخذ دية الباقي وكذلك سائر فروعها لأن حكم القطع استقر قبل القتل بالاندمال فلم يتغير
حكمه بالقتل الحادث بعده كما لو قتله أجنبي ولا نعلم خلافا في هذا
(فصل) فإن اختلف الجاني والولي في اندمال الجرح قبل القتل وكانت المدة بينهما يسيرة لا
يحتمل اندماله في مثلها فالقول قول الجاني بغير يمين، وان اختلفا في مضي المدة فالقول قول الجاني مع
يمينه لأن الأصل عدم مضيها، وان كانت المدة مما يحتمل البرء فيها فالقول قول الولي مع يمينه لأنه قد
وجد سبب وجوب دية اليدين بقطعهما والجاني يدعي سقوط ديتهما بالقتل والأصل عدم ذلك، فإن كانت
للجاني بينة ببقاء المجني عليه ضمنا حتى قتله حكم له ببينته، وان كانت للولي ببرئه حكم له أيضا فإن
تعارضتا قدمت بينة الولي لأنها مثبتة للبرء ويحتمل أن يكون القول قول الجاني إذا لم يكن لهما بينة لأن
الأصل بقاء الجراحة وعدم اندمالها، وان قطع أطرافه فمات واختلفا هل برأ قبل الموت أو مات
بسراية الجرح أو قال الولي انه مات بسبب آخر كأن لدغ أو ذبح نفسه أو ذبحه غيره فالحكم فيما إذا
مات بغير سبب كالحكم فيما إذا قتله سواء، وأما إذا مات بقتل أو سبب آخر ففيه وجهان
(أحدهما) تقديم قول الجاني لأن الظاهر ابقاء الجناية والأصل عدم سبب آخر فيكون الظاهر معه
(والثاني) القول قول ولي الجناية لأن الأصل بقاء الديتين اللتين وجد سببهما حتى يوجد ما يزيلهما
408

فإن كانت دعواهما بالعكس فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك القصاص في النفس فقال الجاني
بل اندملت جراحته قبل موته أو ادعى موته بسبب آخر فالقول قول الولي مع يمينه لأن الجرح
سبب للموت وقد تحقق والأصل عدم الاندمال وعدم سبب آخر يحصل الزهوق به وسواء كان الجرح
مما يجب به القصاص في الطرف كقطع اليد من مفصل أو لا يوجبه كالجائفة والقطع من غير مفصل
وهذا كله مذهب الشافعي
(فصل) فإن قتل واحد جماعة فرضوا بقتله قتل لهم ولا شئ لهم سواه
وجملة ذلك أنه إذا قتل واحد اثنين أو أكثر فاتفق أولياؤهم على قتله بهم قتل لهم لأن الحق لهم
وقد رضوا به ولا شئ لهم سواه لأن الحق لا يتسع لأكثر من واحد فإن أراد أحدهم القود
والآخرون الدية قتل لمن اختار القود وأعطي الباقون دية قتلاهم من مال القاتل سواء كان المختار
للقود الأول أو الثاني أو من بعده وسواء قتلهم دفعة واحدة أو دفعتين أو دفعات فإن بادر أحدهم
فقتله وجب للباقين دية قتلاهم في ماله أيهم كان وقال أبو حنيفة ومالك يقتل بالجماعة وليس لهم إلا ذلك
فإن طلب بعضهم الدية فليس له وان بادر أحدهم فقتله سقط حق الباقين لأن الجماعة لو قتلوا واحدا
قتلوا به فكذلك إذا قتلهم واحد قتل بهم كالواحد بالواحد وقال الشافعي لا يقتل الا بواحد سواء
409

اتفقوا على الطلب للقصاص أو لم يتفقوا لأنه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتراكهم في
المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق
ولنا على أبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم " فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان
أحبوا أخذوا العقد " فظاهر هذا أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا
على القتل وجب لهم وان اختار بعضهم الدية وجبت له بظاهر الخبر ولا نهما جنايتان لا تتداخلان إذا
كانتا خطأ أو إحداهما فلم تتداخل في العمد كالجناية على الأطراف وقد سلموها
ولنا على الشافعي انه محل تعلقت به حقوق لا يتسع لها مع رضى المستحقين به عنها فيكتفي به كما
لو قتل عبد عبيدا خطأ فرضي سيدهم بأخذه عنهم ولأنهم رضوا بدون حقهم فجاز كما لو رضي صاحب
الصحيحة بالشلاء وولي الحر بالعبد والمسلم بالكافر وفارق ما إذا كان القتل خطأ فإن أرش الجناية
يجب في الذمة والذمة تتسع لحقوق كثيرة وما ذكره أبو حنيفة ومالك فلا يصح لأن الجماعة إنما قتلوا
بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى اسقاط القصاص تغليظا للقصاص ومبالغة في الزجر وفي مسئلتنا
ينعكس هذا فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد ولا يزاد بقتل الثاني والثالث بادر إلى
قتل من يريد قتله فيصير هذا كاسقاط القصاص عنه ابتداء مع الدية
(مسألة) (وان تشاحوا فيمن يقتله منهم على الكمال أقيد للأول)
410

لأن حقه أسبق ولان المحل صار مستحقا له بالقتل الأول فإن عفى ولي الأول فلولي الثاني قتله
وان طالب ولي الثاني قبل طلب الأول بعث الحاكم إلى ولي الأول فأعلمه، وان بادر الثاني فقتله فقد
أساء وسقط حق الأول إلى الدية فإن كان ولي الأول غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر، وإن عفى
أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك فإن قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفي أقرع بينهم فيقدم من
تقع له القرعة لتساوي حقوقهم فإن بادر غيره فقتله استوفى حقه وسقط حق الباقين إلى الدية فإن قتلهم
متفرقا وأشكل الأول وادعى ولي كل واحد أنه الأول ولا بينه لهم فأقر القاتل لأحدهم قدم باقراره
والا أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم.
(مسألة) (وإن قتل وقطع طرفا قطع طرفه أولا ثم قتل لولي المقتول سواء تقدم القتل أو تأخر)
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يقتل ولا يقطع لأنه إذا قتل تلف الطرف فلا فائدة
في القطع فأشبه ما لو كان لواحد
ولنا أنهما جنايتان على رجلين فلم تداخلا كقطع يدي رجلين وما ذكره من القياس لا يصح
فإنه قد قال لو قطع يد رجل ثم قتله يقصد المثلة به قطع ونحن نوافقه على هذا في رواية فقد
حصل الاجماع منا ومنه على انتفاء التداخل في الأصل فكيف نقيس عليه؟ ولكنه ينقلب دليلا عليه
فنقول قطع وقتل فيستوفي منه مثل ما فعل كما لو فعله برجل واحد يقصد المثلة ويثبت الحكم في محل
411

النزاع بطريق التنبيه فإنه إذا لم يتداخل حق الواحد فحق الاثنين أولى ويبطل بهذا فإنه ما فإنه من المعنى
(فصل) فاما ان قطع يد رجل ثم قتل آخر ثم سرى القطع إلى نفس المقطوع فمات فهو قاتل
لهما فإذا تشاحنا في المستوفي لقتل قتل بالذي قتله لأن وجوب القتل عليه به أسبق فإن القتل بالذي قطعه
إنما وجب عند السراية وهي متأخرة عن قتل الآخر وأما القطع فإن قلنا إنه يستوفي منه مثل ما فعل فإنه
يقطع له أولا ثم يقتل للذي قتله ويجب للأول نصف الدية وان قلنا لا يستوفي القطع وجبت له الدية
كاملة ولم يقطع طرفه ويحتمل أن يجب له القطع على كل حال لأن القطع إنما يدخل في القتل عند استيفاء
القتل فإذا تعذر استيفاء القتل وجب استيفاء الطرف لوجود مقتضيه وعدم المانع من استيفائه كما لو لم يسرف
(فصل) وان قطع أصبعا من يمين لرجل ويمينا لاخر وكان قطع الإصبع أسبق قطعت أصبعه
قصاصا وخير الآخر بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الإصبع، ذكره القاضي وهو
اختيار ابن حامد ومذهب الشافعي لأنه وجد بعض حقه فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود
كمن أتلف مثليا لرجل فوجد بعض المثل وقال أبو بكر يتخير بين القصاص ولا شئ له معه وبين الدية
هذا قياس قوله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية كالنفس، وإن كان
قطع اليد سابقا على قطع الإصبع قطعت يمينه قصاصا ولصاحب الإصبع أرشها ويفارق هذا ما إذا قتل
رجلا ثم قطع يد آخر حيث قدمنا استيفاء القطع مع تأخره لأن قطع اليد لا يمنع التكافؤ في النفس
412

بدليل اننا نأخذ كامل الأطراف بناقصها فإن ديتهما واحدة وبعض الإصبع يمنع التكافؤ في اليد بدليل
أنا لا نأخذ الكاملة بالناقصة واختلاف ديتهما، وإن عفا صاحب اليد قطعت الإصبع لصاحبها إن اختار قطعها
(مسألة) (وإن قطع أيدي جماعة فحكمهم حكم القتل على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف)
إلا أن أصحاب الرأي قالوا إذا قطع يميني رجلين يقاد لهما جميعا ويغرم لهما دية اليد في ماله نصفين وهذا لا يصح
لأنه يفضي إلى ايجاب القود في بعض العضو والدية في بعضه والجمع بين البدل والمبدل في محل واحد
ولم يرد الشرع به ولا نظير له يقاس عليه
باب العفو عن القصاص
أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وانه أفضل والأصل في ذلك الكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فقوله تعالى في سياق قوله (كتب عليكم القصاص في القتلى) (فمن عفي له من أخيه شئ
فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحسان) وقال تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية إلى قوله
(فمن تصدق به فهو كفارة له) قيل في تفسيره فهو كفارة للجاني بعفو صاحب الحق عنه وقيل فهو
كفارة للعافي بصدقته.
وأما السنة فإن أنس بن مالك قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه من شئ فيه قصاص إلا أمر
413

فيه بالعفو رواه أبو داود، وفي حديثه في قصة الربيع بنت النضر حين كسرت سن جارية فأمر النبي
صلى الله عليه وسلم بالقصاص فعفا القوم
(مسألة) (والواجب بقتل أحد شيئين القصاص أو الدية في ظاهر المذهب والخيرة في
ذلك إلى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا إلى غير شئ والعفو أفضل لما ذكرنا)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في موجب العمد فروي عنه ان موجبه القصاص عينا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " من قتل عمدا فهو قود " ولقوله سبحانه (كتب عليكم القصاص) والمكتوب
لا يتخير فيه ولأنه متلف يجب به البدل فكان معينا كسائر أبدال المتلفات وبه قال النخعي ومالك
وأبو حنيفة، قالوا ليس للأولياء إلا القتل إلا أن يصطلحا على الدية برضى الجاني، والمشهور في
المذهب ان الواجب أحد شيئين وان الخيرة في ذلك إلى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية
وإن شاء قتل البعض إذا كان القاتلون جماعة لأن كل من لهم قتله فلهم العفو عنه كالمنفرد ولا يسقط
القصاص عن البعض بعفو البعض لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما باسقاطه عن الآخر
كما لو قتل واحد رجلا، ومتى اختار الأولياء أخذ الدية من القاتل أو من بعض القتلة فإن لهم هذا
متى رضى الجاني وبهذا قال سعيد بن المسيب وابن سيرين وعطاء ومجاهد والشافعي وإسحاق وأبو ثور
وابن المنذر وهي رواية عن مالك لقول الله تعالى (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء
414

إليه باحسان) قال ابن عباس كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فأنزل الله تعالى هذه
الآية (كتب عليكم القصاص في القتلى) الآية، (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء
إليه باحسان) والعفو أن يقبل في العمد الدية فاتباع بالمعروف يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب
باحسان (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) مما كتب على من قبلكم رواه البخاري، وروى أبو هريرة قال
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد "
متفق عليه. وروى أبو شريح ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل "
وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية "
رواه أبو داود وغيره ولان القتل المضمون إذا سقط فيه القصاص من غير ابراء ثبت المال كما لو عفا
بعض الورثة ويخالف سائر المتلفات لأن بدلها يجب من جنسها وههنا يجب في الخطأ وعمد الخطأ من
غير الجنس فإذا رضي في العمد ببدل الخطأ كان له ذلك لأنه أسقط بعض حقه، ولان القاتل أمكنه
احياء نفسه ببذل الدية فلزمه وينتقض ما ذكروه بما إذا كان رأس الشاج أصغر أو يد القاطع أنقص
فإنهم سلموا فيهما، وأما الخبر الذي ذكروه فالمراد به وجوب القود ونحن نقول به وللشافعي قولان
كالروايتين فإذا قلنا موجبه القصاص فله العفو إلى الدية والعفو مطلقا فإذا عفا مطلقا لم يجب شئ
وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم تجب الدية لئلا يطل الدم وليس بشئ لأنه لو عفا عن الدية
بعد وجوبها صح عفوه فمتى عفا عن القصاص مطلقا إلى غير مال لم يجب شئ إذا قلنا الواجب القصاص
عينا، فإن عفا عن الدية لم يصح عفوه لأنها لم تجب وإن قلنا الواجب أحد شيئين لا بعينه فعفا عن
415

القصاص مطلقا أو إلى الدية وجبت الدية لأن الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما تعين الآخر
وان اختار الدية سقط القصاص ولم يملك طلبه لأن الواجب أحد شيئين فإذا تعين أحدهما سقط الآخر
فإن اختار القصاص تعين لذلك فإن اختار بعد ذلك العفو إلى الدية فله ذلك ذكره القاضي لأن القصاص
أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى ويكون بدلا عن القصاص وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في
الرواية الأولى ان الواجب القصاص عينا وله العفو إلى الدية ويحتمل انه ليس له ذلك لأنه أسقطها
باختياره القود فلم يعد إليها عنه ان الواجب القصاص عينا وله العفو إلى الدية وإن سخط الجاني لما ذكرنا
(فصل) إذا جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه المجني عليه بأرش الجناية سقط
القصاص لأن عدو له إلى الشراء اختيار للمال ولا يصح الشراء لأنهما إن لم يعرفا قدر الأرش فالثمن
مجهول وإن عرفا عدد الإبل وأسنانها فصفتها مجهولة والجهل بالصفة كالجهل بالذات في فساد البيع،
ولذلك لو باعه شيئا بحمل جذع غير معروف الصفة لم يصح فإن قدر الأرش بذهب أو فضة فباعه به صح
(فصل) ومتى كان القصاص لمجنون أو لصغير لم يجز العفو إلى غير مال للولي لأنه لا يملك إسقاط
حقه وقد ذكرناه.
(فصل) ويصح عفو المفلس والمحجور عليه لسفه عن القصاص لأنه ليس بمال، وإن أراد المفلس
416

القصاص لم يكن. لغرمائه إجباره على تركه، وإن أحب العفو عنه إلى مال فله ذلك لأن فيه حظا
للغرماء وإن أراد العفو إلى غير مال انبنى على الروايتين إن قلنا إن الواجب القصاص عينا فله ذلك
لأنه لم يثبت له مال يتعلق به حق الغرماء، وإن قلنا الواجب أحد شيئين لم يملكه لأن المال يجب
بقوله عفوت عن القصاص فقوله على غير مال اسقاط له بعد وجوبه وتعينه ولا يملك ذلك وهكذا
الحكم في السفيه ووارث المفلس، وإن عفا المريض على غير مال فذكر القاضي في موضع انه يصح
سواء خرج من الثلث أو لم يخرج وذكر ان أحمد نص على ذلك وقال في موضع يعتبر خروجه من
ثلثه ولعله ينبني على الروايتين في موجب العمد على ما مضى
(مسألة) (وان مات القاتل وجبت الدية في تركته)
لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير اسقاط فوجبت الدية كقتل غير المكافئ وان لم يخلف تركة
سقط الحق لتعذر استيفائه
(مسألة) (وان قطع إصبعا عمدا فعفا عنه ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على مال
فله تمام الدية وان عفا على غير مال فلا شئ له على ظاهر كلامه ويحتمل ان له تمام الدية وان عفا مطلقا
انبنى على الروايتين في موجب العمد)
417

وجملة ذلك أنه إذا جنى على إنسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص كالإصبع فعفا عن القصاص
ثم سرت الجناية إلى نفسه فمات لم يجب القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك ان
القصاص يجب لأن الجناية صارت نفسا ولم يعف عنها
ولنا أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفا عنه فسقط في النفس كما لو عفا بعض الأولياء
ولان الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع امكانه لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد فاسلم ثم مات منها
ثم ينظر فإن كان عفا على مال فله الدية كاملة وان عفا على غير مال وجبت الدية إلا أرش الجرح
الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تجب الدية كاملة لأن الجناية صارت نفسا وحقه في
النفس لا فيما عفا عنه وأنما سقط القصاص للشبهة، وان قال عفوت عن الجناية لم يجب شئ لأن الجناية
لا تختص القطع وقال القاضي فيما إذا عفا عن القطع ظاهر كلام أحمد ال لا يجب شئ وبه قال أبو يوسف
ومحمد لأنه قطع غير مضمون فكذلك سرايته
ولنا أنها سراية جناية أوجبت الضمان فكانت مضمونة كما لو لم يعف وإنما سقطت دينها بعفوه
عنها فيختص السقوط بما عفا عنه دون غيره والعفو عنه عشر الدية لأن الجناية أوجبته فإذا عفا سقط
ما وجب دون ما لم يجب فإذا صارت نفسا وجب بالسراية ما لم يعف عنه ولم يسقط أرش الجرح
إذا لم يعف وإنما تكملت الدية بالسراية
418

(فصل) فإن كان الجرح لا قصاص فيه كالجائفة ونحوها فعفا عن القصاص فيه ثم سرى إلى النفس
فلوليه القصاص لأن القصاص لم يجب في الجرح فلم يصح العفو عنه وإنما وجب القصاص بعد عفوه وله
العفو عن القصاص وله كمال الدية، وإن عفا عن دية الجرح صح وله بعد السراية دية النفس الأرش
الجرح، ولا يمتنع وجوب القصاص في النفس مع أنه لا يجب كمال الدية بالعفو عنه كما لو قطع يدا فاندملت
واقتص منها ثم انتقضت وسرت إلى النفس فله القصاص في النفس وليس له العفو إلا على نصف
الدية، فإن قطع يده من نصف الساعد فعفا عن القصاص ثم سرى فعلى قول أبي بكر لا يسقط قصاص
في النفس لأن القصاص لم يجب فهو كالجائفة ومن جزر القصاص من الكوع أسقط القصاص في النفس
كما لو كان القطع من الكوع، وقال المزني لا يصح العفو عن دية الجرح قبل اندماله فلو قطع يدا فعفا عن
ديتها وقصاصها ثم اندملت لم تسقط ديتها وسقط قصاصها لأن القصاص قد وجب فيها فصح العفو
عنه بخلاف الدية ولا يصح لأن دية الجرح إنما وجبت بالجناية إذ هي السبب ولهذا لو جنى على طرف
عبد ثم باعه قبل برئه كان أرش الطرف لبائعه لا لمشتريه وتأخير المطالبة به لا يلزم منه عدم الوجوب
وامتناع صحة العفو كالدين المؤجل لا يملك المطالبة به ويصح إسقاطه كذا ههنا
(فصل) وإن قطع إصبعا فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت إلى الكف ثم اندمل لم يجب
القصاص لما ذكرنا في النفس ولان القصاص سقط في الإصبع بالعفو فصارت اليد ناقصة لا تؤخذ بها
419

الكاملة ثم إن كان العفو إلى الدية وجبت دية اليد كاملة، وإن كان على غير مال خرج فيه من الخلاف
ما ذكرنا فيما إذا سرت إلى النفس، فعلى هذا يجب ههنا دية الكف الا دية الإصبع ذكره أبو الخطاب
وهو مذهب الشافعي، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شئ وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن
العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها وقد قال القاضي إن القياس فيما إذا قطع اليد ثم سرى إلى النفس
إن يجب نصف الدية فيلزمه إن يقول مثل ذلك ههنا
(فصل) فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح ولم يكن له في سرايتها قصاص، ولا دية في كلام أحمد
(مسألة) (وإن قال الجاني عفوت مطلقا أو عفوت عنها وعن سرايتها قال بل عفوت إلى مال
أو عفوت عنها دون سرايتها فالقول قول المجني عليه أو وليه أن كان الخلاف معه)
لأن الأصل عدم العفو عن الجميع وقد ثبت العفو عن البعض بإقراره فيكون القول في عدم سواء قوله
(مسألة) (وإن قتل الجاني العافي عمدا فلوليه القصاص أو الدية كاملة وقال القاضي له
القصاص أو تمام الدية)
إذا قطع يده فعفا عنه ثم عاد الجاني فقتل العافي فلوليه القصاص وهو ظاهر مذهب الشافعي،
وقال بعضهم لا قصاص لأن العفو حصل عن بعضه فلا يقتل به كما لو سرى القطع إلى نفسه
ولنا إن القتل إنفرد عن القطع فعفوه عن القطع لا يمنع ما وجب بالقتل كما لو كان القاطع غيره
420

وإن اختار الدية فقال القاضي إن كان العفو عن الطرف إلى غير دية فله بالقتل نصف الدية وهو ظاهر
مذهب الشافعي لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال كان كالسراية ولذلك لو لم يعف لم يجب
أكثر من دية والقطع يدخل في القتل في الدية دون القصاص، ولذلك لو أراد القصاص كان له أن يقطع
ثم يقتل ولو صار الامر إلى الدية لم يجب إلا دية واحدة وقال أبو الخطاب له العفو إلى دية كاملة وهو
قول بعض أصحاب الشافعي لأن القطع منفرد عن القتل فلم يدخل حكم أحدهما في الاخر كما لو اندمل
ولان القتل موجوب للقتل فأوجب الدية كاملة كما لو لم يتقدمه عفو، وفارق السراية فإنها لم توجب
قتلا ولان السراية عفى عن سببها والقتل لم يعف عن شئ منه ولا عن سببه وسواء فيما ذكرنا كان
العافي عن الجرح أخذ دية طرفه أو لم يأخذها
(مسألة) (وإذا وكل رجلا في القصاص ثم عفا ولم يعلم الوكيل حتى اقتص فلا شئ. عليه وهل
يضمن العافي؟ يحتمل وجهين ويتخرج ان يضمن الوكيل ويرجع به على الموكل في أحد الوجهين لأنه غره
والآخر لا يرجع به ويكون الواجب حالا في ماله، وقال أبو الخطاب يكون على عاقلته)
إذا وكل من يستوفى القصاص صح نص عليه أحمد فإن وكله ثم غاب وعفا الموكل عن القصاص واستوفى
الوكيل نظرنا فإن كان عفوه بعد القتل لم يصح لأنه حقه قد أستوفي وإن كان قبله وقد علم الوكيل به
فقد قتله ظلما فعليه القود كما لو قتله ابتداء وإن كان قتله قبل العلم بعفو الموكل فقال أبو بكر لا ضمان
421

على الوكيل فإنه لا تفريط منه فإن العفو حصل على وجه لا يمكن الوكيل استدراكه فلم تلزمه ضمان كما لو
عفا بعد ما رماه وهل يلزم الموكل الضمان؟ فيه قولان
(أحدهما) لا ضمان عليه لأن عفوه لم يصح لما ذكرنا من حصوله في حال لا يمكنه استدراك الفعل
فوقع القتل مستحقا له فلم يلزمه ضمان ولان العفو إحسان فلا يقتضي وجوب والضمان (والثاني) عليه الضمان
لأن قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب المباشر فيه فكان الضمان على الآمر كما لو
أمره عبده الأعجمي بقتل معصوم، وقال غير أبي بكر يخرج في صحة العفو وجهاز بناء على الروايتين
وهل تعزل بعزل الموكل قبل علمه أو لا؟ وللشافعي قولان كالوجهين، فإن قلنا لا يصح العفو فلا ضمان
على أحد لأنه قتل من يجب قتله بأمر مستحقه وإن قلنا يصح العفو فلا قصاص فيه لأن الوكيل
قتل من يعتقد إباحة قتله بسبب هو معذور فيه فأشبه ما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا
وتجب الدية على الوكيل لأنه لو علم لوجب عليه القصاص فإذا لم يعلم تعلق به الضمان كما لو قتل مرتدا
قبل علمه بإسلامه ويرجع بها على الموكل لأنه غره بتسليطه على القتل وتفريطه في ترك أعلامه بالعفو
فيرجع عليه كالغار في النكاح بحرية أمة ويحتمل أن لا يرجع عليه، لأن العفو إحسان منه فلا يقتضي
الرجوع عليه بخلاف الغار بالحرية، فعلى هذا تكون الدية في مال الوكيل اختاره القاضي وتكون حالة
لأنه متعمد للقتل لكونه قصده وإنما سقط عنه القصاص لمعنى آخر فهو كقتل الأب، وقال أبو الخطاب
422

تكون على عاقلته لأنه أجري مجرى الخطأ فأشبه ما لو قتل في دار الحرب مسلما يعتقده حربيا، وهذا
ظاهر كلام الخرقي لأنه ليس بعمد محض ولهذا لم يجب به القصاص فيكون عمدا لخطأ فتحمله العاقلة وهذا
اختيار شيخنا وقد دل على ذلك خبر المرأة التي قتلت جارتها وجنينها بمسطح فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية
على عاقلتها، فعلى قول القاضي إن كان الموكل عفا إلى الدية فله الدية في تركة الجاني ولورثة الجاني مطالبة
الوكيل بديته وليس للموكل مطالبة الوكيل بشئ، فإن قيل فلم قلتم فيما إذا كان القصاص لأخوين فقتله
أحدهما فعليه نصف الدية ولأخيه مطالبته به في وجه؟ قلنا ثم أتلف حقه فرجع ببدله عليه ههنا أتلفه
بعد سقوط حق الموكل عنه فافترقا، وإن قلنا إن الوكيل يرجع على الموكل احتمل أن يسقط الديتان لأنه
لا فائدة في أن يأخذها الورثة من الوكيل ثم يدفعوها إلى الموكل ثم يردها الموكل إلى الوكيل فيكون
تكليفا لكل واحد منهم بغير فائدة ويحتمل أن يجب ذلك، لأن الدية الواجبة في ذمة الوكيل لغير من
للوكيل الرجوع عليه وإنما يتساقط الديتان إذا كان لكل واحد من الغريمين على صاحبه مثل ما له عليه
ولأنه قد يكون الديتان مختلفتين بأن يكون أحد المقتولين رجلا والآخر امرأة، فعلى هذا يأخذ ورثة
الجاني ديته من الوكيل ويدفعون إلى الموكل دية وليه ثم يرد الموكل إلى الوكيل قدر ما غرمه، وإن
أحال ورثة الجاني على الوكيل صح فإن كان الجاني أقل دية مثل أن يكون امرأة قتلت رجلا فقتلها
الوكيل فلورثتها إحالة الموكل بديتها لأنه القدر الواجب لهم على الوكيل فيسقط عن الوكيل والموكل جميعا
423

ويرجع الموكل على ورثتها بنصف دية وليه وإن كان الجاني رجلا قتل امرأة فقتله الوكيل فلورثة الجاني
إحالة الموكل بدية المرأة، لأن الموكل لا يستحق عليهم أكثر من ديتها ويطالبون الوكيل بنصف دية
الجاني ثم يرجع به على الموكل.
(مسألة) (وإن عفا قاتله بعد الجرح صح وسواء عفا بلفظ العفو أو الوصية)
لأن الحق له فصح العفو عنه كما له وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك وطاوس والحسن
وقتادة والأوزاعي فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها ولم يكن له في سرايتها قصاص ولا دية
في كلام أحمد، وقال أصحاب الشافعي إذا قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها ففيه قولان (أحدهما)
أنه وصيه فينبني على الوصية للقاتل وفيه قولان (أحدهما) لا يصح فتجب دية النفس إلا دية الجرح
(والثاني) يصح فإن خرج من الثلث سقطت وإلا سقط منها بقدر الثلث ووجب الباقي (والقول الثاني)
ليس بوصية لأنه إسقاط في الحياة فلم يصح ويلزمه دية النفس إلا دية الجرح
ولنا أنه أسقط حقه بعد انعقاد سببه فسقط كما لو أسقط الشفعة بعد البيع، إذا ثبت هذا فلا فرق
بين أن يخرج من الثلث أو لا يخرج لأن موجب العمد القود في إحدى الروايتين أو أحد شيئين في الرواية
الأخرى فما تعينت الدية ولا تعينت الوصية بمال ولذلك صح العفو من المفلس إلى غير مال، وأما جناية
الخطأ فإذا عفا عنها ويحدث منها أعتبر خروجها من الثلث سواء عفا بلفظ العفو أو الوصية أو
424

الابراء أو غير ذلك، فإن خرجت من الثلث صح عفوه عن الجميع وإن لم تخرج من الثلث سقط عنه
من ديتها ما احتمله الثلث وبهذا قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ونحوه قال عمر بن عبد العزيز
والأوزاعي وإسحاق لأن الوصية ههنا بمال
(مسألة) (وإن أبرأه من الدية أو وصى له بها فهي وصية لقاتل هل تصح لقاتل؟ على روايتين)
(أحداهما) تصح لكونها له لأنها بدل عنه وتعتبر من الثلث كبقية أمواله هكذا ذكره في كتاب
المقنع ولم يفرق بين العمد والخطأ والذي ذكره في كتاب المغني ما ذكر في التي قبل هذه المسألة
(مسألة) (ولا يحتمل أن يصح عفوه عن المال ولا وصية، به لقاتل ولا غيره إذا قلنا أنه
يحدث على ملك الورثة لأنه يكون مال غيره فلم يكن له التصرف فيه كسائر أموال الورثة)
(مسألة) (وإن أبرأه القاتل من الدية الواجبة على عاقلته أو العبد من الجناية المتعلق أرشها برقبته لم يصح)
لأنه أبرأه من حق على غيره أشبه ما لو أبرأ زيدا من دين على عمرو، وإن أبرأ العاقلة أو السيد صح لأنه أبرأهما من حق عليهما فصح كالدين الواجب عليهما
(مسألة) (وإن وجب لعبد قصاص في الطرف أو جرح أو تعزير قذف فله طلبه والعفو عنه)
لأنه مختص به وليس ذلك لسيده لأنه ليس يحق له إلا أن يموت العبد فإذا مات العبد انتقل
عنه إلى السيد وصح عفوه عنه.
425

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس
كل من أقيد بغيره في النفس أقيد به فيما دونها ومن لا فلا لأن النفس أعلى فإذا أقيد في الأعلى
ففي الأدنى بطريق الأولى وعنه لا قصاص بين العبيد في الأطراف لأنها أموال وقد ذكرناه والمذهب
الأول، ومن لا يجري القصاص بينهما في الطرف كالأب مع ابنه والحر مع
العبد والمسلم مع الكافر فلا يقطع طرفه بطرفه لعدم المكافأة فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم والعبد
بالعبد والذمي بالذمي والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر ويقطع الناقص بالكامل كالعبد بالحر والكافر
بالمسلم وبهذا قال مالك والثوري والشافعي وأبو ثور وإسحاق وابن المنذر وقال أبو حنيفة لا قصاص في
الطرف بين مختلفي البدل فلا يقطع الكامل بالناقص والا الناقص بالكامل ولا الرجل بالمرأة ولا
المرأة بالرجل ولا الحر بالعبد ولا العبد بالحر ولا العبد بالعبد ويقطع المسلم بالكافر والكافر بالمسلم
لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل إن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ولا الكاملة بالناقصة فلذا لا يؤخذ
طرف الرجل بطرف المرأة ولا طرفها بطرفه كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى
ولنا إن من جرى القصاص بينهما في النفس جرى في الطرف كالحرين وما ذكروه يبطل بالقصاص
في النفس فإن التكافؤ معتبر بدليل إن المسلم لا يقتل بمستأمن يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة لأن
426

المماثلة قد وجدت وزيادة فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع
وأما اليسار واليمنى فيجريان مجرى النفسين لاختلاف محليهما ولهذا يستوي بدلهما فعلم إنها ليست بناقصة
عنها شرعا ولا العلة فيهما ذلك
(مسألة) (ولا يجب إلا بمثل الموجب في النفس وهو العمد المحض كما لا يجب في النفس إلا بذلك
ووجوب القصاص فيما دون النفس والأطراف إذا أمكن ثابت بالنص والاجماع)
أما النص فقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس
والعين بالعين) الآية. وروى أنس بن مالك إن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم
الأرش فأبوا إلا القصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله نكسر ثنية الربيع؟ والذي
بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا أنس كتاب الله القصاص " فإن فعفا القوم فقال النبي
صلى الله عليه وسلم " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لابره " متفق عليه. وأجمع المسلمون على جريان
القصاص فيما دون النفس إذا أمكن ولان ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان
كالنفس في وجوبه.
(فصل) فأما الخطأ فلا قصاص فيه إجماعا لأنه لا يوجب القصاص في النفس وهي الأصل ففيما
427

دونها أولى ولا يجب في شبه العمد وهو أن يقصد ضربه بما لا يفضي إلى ذلك غالبا مثل أن يضربه
بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لأنه شبه عمد ولا يجب القصاص إلا بالعمد المحض
وقال أبو بكر يجب به القصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية والصحيح الأول والآية مخصوصة
بالخطأ فكذلك هذا ولأنه لا يجب به القصاص في النفس فكذلك الجراح
(مسألة) (وهو نوعان) (أحدهما) الأطراف فتؤخذ العين بالعين والأنف بالأنف والاذن بالاذن
والسن بالسن والجفن بالجفن والشفة بالشفة واليد باليد والرجل بالرجل
أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف وقد ثبت ذلك بالآية وبخبر الربيع الذي ذكرناه
(مسألة) (ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط (أحدهما) أن يكون القطع من مفصل أو
له حد ينتهي إليه كما إن الانف وهو ما لأن منه فإن قطع القصبة أو قطع من نصف الساعد أو الساق فلا
قصاص في أحد الوجهين وفي الآخر يقتص من حد المارن ومن الكوع والكعب وهل يجب له أرش
الباقي؟ على وجهين
أجمعوا على جريان القصاص في الانف للآية والمعنى ويؤخذ الكبير بالصغير والأقنى بالأفطس وأنف الأشم
بأنف الأخشم الذي لا شم له لأن ذلك لعلة في الدماغ والأنف صحيح كما تؤخذ أذن السميع بأذن الأصم فإن
428

كان بأنفه جذام أخذ به الانف الصحيح ما لم يسقط منه شئ لأن ذلك مرض فإن سقط منه شئ لم يؤخذ به
الصحيح إلا أن يكون من أحد جانبيه فيؤخذ من الصحيح مثل ما بقي منه أو يأخذ أرش ذلك والذي يجب
فيه القصاص أو الدية هو المارن وهو ما لأن منه دون القصبة لأن ذلك حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب
القصاص فيما انتهى إلى الكوع فإن قطع الأنف كله مع القصبة فعليه القصاص في المارن وحكومة
للقصبة هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي، وفيه وجه آخر أنه لا يجب مع القصاص حكومة كيلا
يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية وقياس قول أبي بكر أنه لا يجب القصاص ههنا لأنه يضع الحديدة
في غير الموضع الذي وضعها الجاني فيه فلم يملك ذلك لقوله فيمن قطع اليد من نصف الذراع أو الكف
: وذكر القاضي ههنا كقول أبي بكر وفي نظائره مثل قول ابن حامد ولا يصح التفريق مع التساوي،
وإن قطع بعض الانف قدر بالاجزاء وأخذ منه بقدر ذلك ولا يؤخذ بالمساحة لئلا يفضي إلى قطع
جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه لكبره ويؤخذ المنخر الأيمن بالأيمن والأيسر بمثله
ويؤخذ الحاجز بالحاجز لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى حد
(فصل) وتؤخذ العين بالعين للآية ولا يشترط التساوي في الصغر والكبر والصحة والمرض لأن
اعتبار ذلك يفضي إلى سقوط القصاص بالكلية
429

(فصل) وتؤخذ الاذن بالاذن، أجمع أهل العلم على أن الاذن تؤخذ بالاذن وقد دلت الآية على
ذلك ولأنها تنتهي إلى حد فاصل فأشبهت اليد وتؤخذ الكبيرة بالصغيرة وتؤخذ أذن السميع بمثلها
وبأذن الأصم وتؤخذ أذن الأصم بكل واحد منهما لتساويهما فإن ذهاب السمع نقص في الرأس لأنه
محله وليس بنقص فيهما وتؤخذ الصحيحة بالمثقوبة لأن الثقب ليس بعيب وإنما يفعل في العادة للقرط
والتزين به فإن كان الثقب في غير محله أو كانت مخرومة أخذت بالصحيحة ولم تؤخذ الصحيحة بها لأن
الثقب إذا انخرم صار نقصا فيها والثقب في غير محله عيب ويخير المجني عليه بين أخذ الدية إلا قدر
النقص وبين أن يقتص فيما سوى المعيب ويتركه من إذن الجاني وقد وجوب الحكومة له في قدر النقص
وجهان، وإن قطعت بعض أذنه فله أن يقتص من أذن الجاني بقدر ما قطع من أذنه ويقدر ذلك
بالاجزاء فيؤخذ النصف بالنصف وعلى حسب ذلك، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يجري القصاص
في البعض لأنه لا ينتهي إلى حد
ولنا أنه يمكن تقدير المقطوع وليس فيها كسر عظم فجرى القصاص في بعضها كالذكر وبهذا ينتقض ما ذكروه
(فصل) وتؤخذ الاذن المستخشفة بالصحيحة، وهل تؤخذ الصحيحة بها؟ فيه وجهان (أحدهما)
لا تؤخذ بها لأنها ناقصة معيبة فلم تؤخذ بها الصحيحة كاليد الشلاء وسائر الأعضاء
430

(والثاني) تؤخذ بها لأن المقصود منها جمع الصوت وحفظ محل السمع والجمال، وهذا يحصل بها
كحصوله بالصحيحة بخلاف سائر الأعضاء
(فصل) فإن قطع أذنه فأبانها فألصقها صاحبها فالتصقت وثبتت فقال القاضي يجب القصاص وهو قول
الثوري والشافعي وإسحاق لأنه وجب بالإبانة وقد وجدت، وقال أبو بكر لا قصاص فيها وهو قول
مالك لأنها لم تبن على الدوام فلم يستحق إبانة أذن الجاني دواما فإن سقطت بعد ذلك قريبا أو بعيدا
فله القصاص ويرد ما أخذ وعلى قول أبي بكر إذا لم تسقط له دية الأذن وهو قول أصحاب الرأي،
وكذلك قول الأولين إذا أختار الدية وقال مالك لا عقل لها إذا عادت مكانها فأما إن قطع بعض أذنه
فالتصق فله أرش الجرح ولا قصاص فيه، وإن قطع أذن انسان فاستوفى منه فألصق الجاني أذنه
فالتصقت فطلب المجني عليه إبانتها لم يكن له ذلك لأن الإبانة قد حصلت والقصاص قد أستوفي فلم يبق
قبله حق فأما إن كان المجني عليه لم يقطع جميع الاذن إنما قطع بعضها فالتصق كان للمجني عليه قطع
جميعها لأنه استحق إبانة جميعها ولم يكن أبانه والحكم في السن كالحكم في الاذن
(فصل) ومن ألصق أذنه بعد إبانتها أو سنه فهل تلزم إبانتها؟ فيه وجهان مبنيان على الروايتين
فيما بأن من الادمي هل هو نجس أو طاهر؟! إن قلنا هو نجس لزمته إزالتها ما لم يخف الضرر بذلك
كما لو جبر ساقه بعظم نجس، وإن قلنا بطهارتها لم تلزمه إزالتها أختاره أبو بكر. وهو قول عطاء بن
431

أبي رباح وعطاء الخراساني وهو الصحيح لأنه جزء آدمي طاهر في حياته وموته فكان طاهرا
كحالة اتصاله فأما إن قطع بعض إذنه فالتصقت لم يلزمه إبانتها على الروايتين جميعا لأنها لم تصر ميتة
لعدم إبانتها ولا قصاص فيها قاله القاضي وهذا مذهب الشافعي لأنه لا تمكن المماثلة في المقطوع منها
(مسألة) (وتقطع العين بالعين)
اجتمع أهل العلم على القصاص في العينين يروى ذلك عن مسروق والحسن وابن سيرين والشعبي
والزهري والثوري ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، وروي عن علي رضي الله عنه لقول
الله تعالى (والعين بالعين) ولأنها تنتهي إلى مفصل فجرى القصاص كاليد وتؤخذ عين الشاب بعين
الشيخ المريضة وعين الكبير بعين الصغير والأعمش ولا تؤخذ الصحيحة بالقائمة لأنه يأخذ أكثر من
حقه وتؤخذ القائمة بالصحيحة لأنها دون حقه كما تؤخذ الشلاء بالصحيحة ولا أرش له معها لأن التفاوت في الصفة
(فصل) فإن قلع عينه بأصبعه لم يجز أن يقتص بإصبعه لأنه لا تمكن المماثلة فيه فإن لطمه فأذهب
ضوء عينه لم يجز أن يقتص منه باللطمة لأن المماثلة فيها غير ممكنة ولهذا لو انفردت من إذهاب الضوء لم يجب فيها
قصاص ويجب القصاص في البصر فيعالجه بما يذهب بصره من غير أن يقلع عينه وسنذكر ذلك وذكر
القاضي أنه يقتص منه باللطمة فيلطمه المجني عليه مثل لطمته فإن ذهب ضوء عينه والا كان له أن
يذهبه بما نذكره وهو مذهب الشافعي ولا يصح هذا فإن اللطمة لا يقتص منها منفردة فلا يقتص منها
432

إذا سرت إلى العين كالشجة دون الموضحة ولان اللطمة إذا لم تكن في العين لا يقتص منها بمثلها مع
الامن من إفساد العضو ففي العين مع وجود ذلك أولى ولأنه قصاص فيما دون النفس فلم يجز بغير الآلة
المعدة له كالموضحة، وقال القاضي لا يجب القصاص الا أن تكون اللطمة تذهب بذلك غالبا فإن كانت
لا تذهب بالنظر غالبا فذهبت بها فهو شبه عمد لا قصاص فيه وهو قول الشافعي لأنه فعل لا يفضي إلى الفوات
غالبا فلم يجب به القصاص بكل حال لعموم قوله تعالى (والعين بالعين) ولان اللطمة إذا أسالت العين كانت
بمنزلة الجرح ولا يعتبر فيه الافضاء إلى التلف غالبا
(فصل) فإن لطم عينه فذهب بصرها أو ابيضت وشخصت فإن أمكن معالجة عين الجاني حتى
يذهب بصرها وتبيض وتشخص من غير جناية على الحدقة فعل ذلك وإن لم يمكن الا ذهاب بعض ذلك مثل
ذهاب البصر دون إن تبيض وتشخص فعليه حكومة للذي لم يمكن القصاص فيه كما لو جرحه هاشمة فإنه
يقتص موضحة ويأخذ أرش باقي جرحه، وعلى قول أبي بكر لا يستحق مع القصاص أرش قال القاضي
إذا لطمه مثل لطمته فذهب ضوء عينه ولم تبيض ولم تشخص فإن أمكن معالجتها حتى تبيض وتشخص
من غير ذهاب الحدقة فعله فإن تعذر ذلك فلا شئ عليه كما لو اندملت موضحة المجني عليه وحشة قبيحة
وموضحة الجاني حسنة جميلة لم يجب شئ كذلك ههنا وبناء هذا على إن اللطمة حصل بها القصاص
كما حصل بجرح الموضحة وقد بينا فساد هذا
433

(مسألة) (ويؤخذ السن بالسن)
وهو اجتماع أهل العلم للآية وحديث الربيع ولان القصاص فيها ممكن لأنها محدودة في نفسها وتؤخذ
الصحيحة بالصحيحة والمكسورة بالصحيحة لأنه يأخذ بعض حقه وهل له أرش الباقي؟
فيه وجهان ذكرناهما
(فصل) ولا يقتص إلا من سن من أثغر اي سقطت رواضعه ثم نبتت يقال لمن سقطت رواضعه ثغر
فهو مثغور فإذا نبتت قيل إثغر وإتغر لغتان، وإن قلع سن من لم يثغر لم يقتص من الجاني في الحال
وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأنها تعود بحكم العادة فلا يقتص منها كالشعرة، فإن عاد
بدل السن في محلها مثلها على صفتها فلا شئ على الجاني كما لو قلع شعره ثم نبت، وإن عادت مائلة عن محلها
أو متغيرة عن صفتها كان عليه حكومة لأنها لو لم تعد ضمن السن فإذا عادت ناقصة ضمن ناقص وإن عادت قصيرة
ضمن ما نقص بالحساب ففي ثلثها ثلث ديتها وعلى هذا الحساب، وإن عادت والدم يسيل ففيها حكومة لأنه نقص
حصل بفعله، وإن مضى زمن عودها ولم تعد سئل أهل العلم بالطب فإن قالوا قد يئس من عودها فالمجني عليه
مخير بين القصاص أو الدية، فإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها فلا قصاص لأن الاستحقاق له
غير متحقق فيكون ذلك شبهة في درئه وتجب الدية لأن القلع موجود والعود مشكوك فيه ويحتمل إنه
إذا مات قبل مجئ وقت عودها إن لا يجب شئ لأن العادة عودها فأشبه ما لو حلق شعره فمات قبل
434

نباته، فأما إن قلع سن من قد أثغر وجب القصاص له في الحال لأن الظاهر عدم عودها وهذا قول
بعض أصحاب الشافعي، وقال القاضي يسئل أهل الخبرة فإن قالوا لا تعود فله القصاص في الحال وإن قالوا
يرجى عودها إلى وقت ذكروه لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنها
تحتمل العود فأشبهت سن من لم يثغر. إذا ثبت هذا فإنها إن لم تعد فلا كلام وإن عادت لم يجب قصاص
ولا دية وهذا قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يسقط الأرش لأن هذه السن
لا تستخلف عادة فإذا عادت كانت هبة مجددة ولذلك لا ينتظر عودها في الضمان
ولنا إنها سن عادت فسقط الأرش كسن من لم يثغر وندرة وجودها لا يمنع ثبوت حكمها إذا وجدت
فعلى هذا أن كان أخذ الأرش رده وإن كان استوفى القصاص لم يجز قلع هذه قصاصا لأنه لم يقصد
العدوان، وإن عادت سن الجاني دون من المجني عليه لم تقلع في أحد الوجهين لئلا يأخذ سنين بسن
وإنما قال الله تعالى (السن بالسن) والثاني تقلع وإن عادت مرات أعدم سنه بالقلع فكان له إعدام
سنه ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(فصل) فإن قلع سنا فاقتص منه ثم عادت سن المجني عليه فقلعها الجاني ثانية فلا شئ عليه
لأن سن المجني عليه لما عادت وجب للجاني عليه دية سنه فلما قلعها وجب على الجاني ديتها للمجني عليه
فقد وجب لكل واحد منهما دية سن فيتقاصان
435

(مسألة) (ويؤخذ الجفن بالجفن)
لقوله تعالى والجروح قصاص ولأنه يمكن الاقتصاص فيه لانتهائه إلى مفصل وهذا مذهب الشافعي
ويؤخذ جفن البصير بمثله وبجفن الضرير ويؤخذ جفن الضرير بمثله وبجفن البصير لأنهما تساويا في
السلامة من النقص وعدم البصير نقص في غيره لا يمنع أخذ أحدهما بالآخر كاذن الأصم
(مسألة) (وتؤخذ الشفة بالشفة)
وهي ما جاوز الذقن والخدين علوا وسفلا لقول الله تعالى والجروح قصاص ولان لها حدا تنتهى
إليه يمكن القصاص منه فوجب كاليدين
(فصل) ويؤخذ اللسان باللسان للآية ولان له حدا ينتهي إليه فاقتص منه كالعين ولا نعلم في هذا
خلافا ولا يؤخذ لسان ناطق بأخرس لأنه أفضل منه ويؤخذ الأخرس بالناطق لأنه دون حقه ويؤخذ
بعض اللسان بالبعض لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كالسن ويقدر ذلك بالاجزاء
ويؤخذ منه بالحساب
(مسألة) (وتؤخذ اليد باليد)
لقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقد أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف للآية
ولحديث الربيع ويشترط لذلك ثلاثة شروط
436

(أحدها) (1) الامن من الحيف وهو إن يكون القطع من مفصل فإن كان من غير مفصل فلا قصاص
فيه من موضع القطع بغير خلاف نعلمه لما روى نمر بن جابر عن أبيه إن رجلا ضرب رجلا على ساعده
بالسيف فقطعها من غير مفصل فاستعدى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية فقال أنى أريد القصاص
فقال " خذ الدية بارك الله لك فيها " ولم يقض له بالقصاص رواه ابن ماجة.
وفي قطع اليد ثمان مسائل (أحدها) قطع الأصابع من مفاصلها فالقصاص واجب فيها لأن لها مفاصل
ويمكن القصاص فيها من غير حيف وإن أختار الدية فله نصفها لأن في كل أصبع عشر الدية
(الثانية) قطعها من نصف الكف فليس له القصاص من موضع القطع لأنه ليس بمفصل فلا يؤمن
الحيف فيه، وإن أراد قطع الأصابع ففيه وجهان
(أحدهما) ليس له ذلك أختاره أبو بكر لأنه يقتص من غير موضع الجناية فلم يجز كما لو كان
القطع، من الكوع، يحققه أن امتناع قطع الأصابع إذا قطع من الكوع إنما كان لعدم المقتضي أو وجود مانع وأيهما كان فهو متحقق إذا كان القطع من نصف الكف (والثاني) له قطع الأصابع ذكره
أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه يأخذ دون حقه لعجزه عن استيفاء حقه فأشبه ما لو شجه هاشمة
فاستوفى موضحة، ويفارق ما إذا قطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء حقه فلم يجز العدول إلى غيره وهل له
حكومة في نصف الكف؟ فيه وجهان
437

(أحدهما) ليس له ذلك لأنه يجمع بين القصاص والأرش في عضو واحد فلم يجز كما لو قطع من
الكوع (والثاني) له أرش نصف الكف لأنه حق تعذر استيفاؤه فوجب أرشه كسائر ما هذا حاله، وإن أختار
الدية فله نصفها لأن قطع اليد من الكوع لا يوجب أكثر من نصف الدية فما دونه أولى
(الثالثة) قطع من الكوع فله قطع يده من الكوع لأنه مفصل وليس له قطع الأصابع لأنه غير
محل الجناية ولا يستوفي منه مع إمكان الاستيفاء من محلها
(الرابعة) قطع من نصف الذارع فليس له أن يقطع من ذلك الوضع ليس بمفصل وقد
ذكرنا الخبر الوارد فيه وله نصف الدية وحكومة في المقطوع من الذراع وهل له القطع من الكوع؟
فيه وجهان كما ذكرنا فيمن قطع من نصف الكف، ومن جوز القطع من الكوع فعنده في وجوب
الحكومة لما قطع من الذراع وجهان، ويخرج أيضا في جواز قطع الأصابع وجهان فإن قطع منها لم يكن
له حكومة في الكف لأنه أمكنه أخذه قصاصا فلم يكن له طلب أرشه كما لو كانت الجناية من الكوع
(الخامسة) قطع من المرفق فله القصاص منه لأنه مفصل وليس له القطع من الكوع لأنه أمكنه
استيفاء حقه بكماله والاقتصاص من محل الجناية عليه فلم يجز العدول إلى غيره، وإن عفا إلى الدية فله
دية اليد وحكومة للساعد
(السادسة) قطعها من العضد فلا قصاص فيها في أحد الوجهين وله دية اليد وحكومة للساعد
438

وبعض العضد (والثاني) له القصاص من المرفق وهل له حكومة في الزائد؟ على وجهين، وهل له القطع
من الكوع؟ يحتمل وجهين
(السابعة) قطع من المنكب فالواجب القصاص لأنه مفصل إذا لم يخف جائفة وإن اختار
الدية فله دية اليد وحكومة لما زاد
(الثامنة) خلع عظم المنكب ويقال له مشط الكتف فيرجع فيه إلى اثنين من ثقات أهل الخبرة
فإن قالوا، يمكن الاستيفاء من غير أن تصير جائفة استوفى وإلا صار الامر إلى الدية وفي جواز الاستيفاء من
المرفق أو إما دونه مثل ما ذكرنا في نظائره، ومثل هذه المسائل في الرجل فالساق كالذراع، والفخذ كالعضد
والورك كعظم الكتف، والقيام كالكف، فتقاس عليها للنص والمعنى
(مسألة) (ويؤخذ كل واحد من الأصابع والكف والمرفق والذكر والأنثيين بمثله)
لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولما ذكرنا في اليد باليد ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في إن القصاص
يجري في الذكر ولان له حدا ينتهي إليه ويمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص كالأنف
ويستوي في ذلك ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب والذكر والكبير والصغير والصحيح والمريض
لأن ما وجب فيه القصاص من الأطراف لم يختلف بهذه المعاني كذلك الذكر، ويؤخذ كل واحد من
المجبوب والأغلف بصاحبه لأن الغلفة زيادة يستحق إزالتها فهي كالمعدومة ويؤخذ كل واحد من الخصي
439

والعنين بمثله لتساويهما كما يؤخذ العبد بالعبد والذمي بالذمي، ويؤخذ بعضه ببعض ويعتبر بالاجزاء دون
المساحة فيؤخذ النصف بالنصف وما زاد ونقص فحساب ذلك كالأنف والاذن على ما ذكرناه
(مسألة) (ويجري القصاص في الأنثيين لما ذكرنا من النص والمعني)
ولا نعلم فيه خلافا فإن قطع أحداهما وقال أهل الخبرة إنه يمكن أخذها مع سلامة الأخرى جاز
وإن قالوا لا يؤمن تلف الأخرى لم يقتص منها خشية الحيف ويجب فيها نصف الدية وإن أمن تلف
الأخرى أخذت اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى كاليدين
(مسألة) (وهل يجري القصاص في الالية والشفر؟ على وجهين)
يجب في القصاص الأليين النابتين بين الفخذ والظهر بجانبي الدبر في أحد الوجهين وهو ظاهر مذهب
الشافعي والوجه الثاني لا يجب وهو قول المزني لأنهما لحم متصل بلحم. أشبه لحم الفخذ، ووجه الأول
قوله تعالى (والجروح قصاص) ولان لهما حدا ينتهيان إليه فجرى القصاص فيهما كالذكر
(مسألة) (وفي القصاص في شفري المرأة وجهان)
(أحدهما) لا قصاص فيهما لأنه لحم لا مفصل له ينتهي إليه فأشبه لحم الفخذين وهو قول القاضي
(والثاني) فيهما القصاص لأن انتهاءهما معروف فأشبها الشفتين وجفني العينين وهو قول أبي الخطاب
ولا أصحاب الشافعي وجهان كهذين
440

(فصل) فإن قطع ذكر خنثى مشكل أو أنثييه أو شفريه فطلب القصاص لم يجب إليه في الحال
ونقف الامر حتى تبين حاله لأننا لا نعلم أن المقطوع عضو أصلي وإن أختار الدية وكان يرجى انكشاف
حاله أعطيناه اليقين وتكون له حكومة في المقطوع وإن كان قطع جميعها فله دية امرأة في الشفرين
وحكومة في الذكر والأنثيين وإن يئس من انكشاف حاله أعطي نصف دية الذكر والأنثيين ونصف
دية الشفرين وحكومة في نصف ذلك كله
(مسألة) (وإذا وضح إنسانا فذهب ضوء عينه أو سمعه أو شمه فإنه يوضحه فإنه جرح يمكن
الاقتصاص منه من غير حيف)
لأنه له حدا ينتهي إليه ثم إن ذهب ذلك وإلا أستعمل فيه ما يذهبه من غير أن يجني على حدقته
أو أذنه أو أنفه لأنه يستوفي حقه من غير زيادة فيعالج بما يذهب بصره من غير أن يقلع عينه كما روى
يحيي بن جعدة أن أعرابيا قدم بجلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان رضي الله عنه فنازعه
فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان: هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه؟ فأبى فرفعهما إلى علي رضي الله
عنه فدعا علي بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها حتى سال
إنسان عينه، وإن وضع فيها كافورا يذهب بضوئها من غير أن يجبني على الحدقة جاز، وكذلك
السمع والشم، وإن لم يمكن إلا بالجناية على هذه الأعضاء سقط القصاص لتعذر المماثلة ولان توهم الزيادة
يسقط القود فحقيقته أولى
441

(فصل) وإن شجه دون الموضحة فأذهب ضوء عينه لم يقتص منه مثل شجته بغير خلاف علمناه
لأنها لا قصاص فيها إذا لم يذهب ضوء العين فكذلك إذا ذهب ويعالج ضوء العين بمثل لما ذكرنا فإن
كانت الشجة فوق الموضحة فله أن يقتص موضحة فإن ذهب ضوء العين والا استعمل فيه ما يزيله من
غير أن يجبني على الحدقة، واختلف أصحاب الشافعي في القصاص في البصر في هذه المواضع فقال
بعضهم لا قصاص فيه لأنه لا يجب بالسراية عندهم كما لو قطع أصبعه فسرى القطع إلى التي تليها فأذهبها
وقال بعضهم يجب القصاص ههنا قولا واحدا لأن ضوء العين لا تمكن مباشرته بالجناية فيقتص منه
بالسراية كالنفس فيقتص من البصر بما ذكرنا في مثل هذا
(فصل) (الشرط الثاني في المماثلة في الموضع) فيؤخذ كل واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى
من الشفتين والأجفان بمثلها لأن القصاص يعتمد المماثلة هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي
وأصحاب الرأي، وحكي عن ابن سيرين وشريك أن أحداهما تؤخذ بالأخرى لاستوائهما في الخلقة والمنفعة
ولنا أن كل واحدة منهما تختص باسم فلا تؤخذ أحداهما بالأخرى كاليد مع الرجل، وكذلك
كل ما انقسم إلى يمين ويسار كاليدين والرجلين والأذنين والمنخرين والثديين والأليتين والأنثيين لا
تؤخذ أحداهما بالأخرى، وكذلك كل ما انقسم إلى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين لا يؤخذ الاعلى
بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لذلك
442

(مسألة) (وتؤخذ الإصبع والسن والأنملة بمثلها في الموضع والاسم ولا تؤخذ أنملة بأنملة إلا أن
يتفقا في الموضع والاسم) ولا تؤخذ عليا بسفلى ولا وسطى والوسطى والسفلى لا تؤخذان بغيرهما
(مسألة) فلو قطع أنملة رجل العليا وقطع الوسطى من آخر ليس له عليا فصاحب الوسطى مخير
بين أخذ عقل أنملة وبين أن يصبر حتى تقطع العليا ثم يقتص من الوسطى) لأنه يستوفي حقه بذلك
(فصل) فإن قطع من ثالث السفلى فللأول أن يقتص من العليا ثم للثاني أن يقتص من الوسطى
ثم للثالث أن يقتص من السفلى سواء جاءوا جميعا أو واحدا بعد واحد، وبهذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة لا قصاص إلا في العليا لأنه لم يجب في غيرها حال الجناية لتعذر استيفائه فلم يجب بعد ذلك
كما لو كان غير مكافئ حال الجناية صار مكافئا بعده
ولنا أن تعذر القصاص لاتصال محله بغيره لا يمنعه إذا زال الاتصال كالحامل إذا جنت ثم وضعت
ويفارق عدم التكافؤ لأنه تعذر لمعنى فيه ههنا تعذر لاتصال غيره به فأما إن جاء صاحب الوسطى أو
السفلى يطلب القصاص قبل صاحب العليا لم يجب إليه لأن في استيفائه إتلاف أنملة لا يستحقها وقيل
لهما أما أن تصبرا حتى تعلما ما يكون من الأول فإن اقتص فلكما القصاص، وإن عفا فلا قصاص لكما
وإما إن ترضيا بالعقل فإن جاء صاحب العليا فاقتص فللثاني الاقتصاص وحكم الثالث مع الثاني حكم
الثاني مع الأول فإن عفا فلكما العقل وإن قالا نحن نصبره وتنتظر بالقصاص أن تسقط العليا بمرض أو
443

نحوه ثم نقتص لم يمنعا من ذلك فإن قطع صاحب الوسطى الوسطى والعليا فعليه دية لعليا تدفع إلى
صاحب العليا، وإن قطع الإصبع كلها فعليه القصاص في الأنملة الثالثة وعليه أرش العليا للأول وأرش
السفلى على الجاني لصاحبها، وإن عفا الجاني عن قصاصها وجب أرشها يدفعه إليه ليدفعه إلى المجني عليه
(فصل) فإن قطع أنملة رجل العليا ثم قطع أنملتي آخر العليا والوسطى من تلك الإصبع فللأول
قطع العليا لأن حقه أسبق ثم يقطع الثاني الوسطى ويأخذ أرش العليا من الجاني فإن بادر الثاني
فقطع الأنملتين فقد استوفى حقه وتعذر استيفاء القصاص للأول وله الأرش على الجاني، وإن كان
قطع الأنملتين أولا قدمنا صاحبهما في القصاص ووجب لصاحب العليا أرشها، وإن بادر صاحبها فقطعها
فقد استوفى حقه وتقطع الوسطى للأول ويأخذ الأرش للعليا ولو قطع أنملة رجل العليا ولم يكن للقاطع
عليا فاستوفى الجاني من الوسطى فإن عفا إلى الدية تقاضا وتساقطا لأن ديتهما واحدة، وإن اختار
الجاني القصاص فله ذلك ويدفع أرش العليا ويجئ على قول أبي بكر أن لا يجب القصاص لأن ديتهما
واحدة واسم الأنملة يشملهما فتساقطا كقوله في إحدى اليدين بدلا عن الأخرى
(مسألة) (ولا تؤخذ أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية ولا زائدة بزائدة في غير محلها لعدم
التماثل وإن تراضيا عليه لم يجز)
وجملة ذلك أن ما لا يجوز أخذه قصاصا لا يجوز بتراضيهما لأن الدماء لا تستباح بالإباحة
444

والبذل ولذلك لو بذلها ابتداء لم يحل له أخذها ولا يحل لاحد قتل نفسه ولا قطع طرفه فلا يحل لغيره ببذله
(مسألة) (فلو تراضيا على قطع إحدى اليدين بدلا عن الأخرى فقطعها المقتص سقط القود)
لأن القود سقط في الأولى بإسقاط صاحبها وفي الثانية بإذن صاحبها في قطعها وديتهما متساوية
وهذا قول أبي بكر وكذلك لو قطعها تعديا سقط القصاص لأنهما تساويا في الدية والألم والاسم فتقاصا
وتساقطا ولان إيجاب القصاص يفضي إلى قطع يدي كل واحد منهما وإذهاب منفعة الجنس والحاق الضرر
العظيم بهما جميعا ولا تفريع على هذا القول لوضوحه وكل واحد من القطعين مضمون سرايته لأنه
عدوان وقال ابن حامد إن كان أحدهما عدوانا فلكل واحد منهما القصاص على صاحبه وإن أخذها
بتراضيهما فلا قصاص في الثانية لرضى صاحبها ببذلها وإذنه في قطعها وفي وجوبه في الأولى وجهان
(أحدهما) يسقط لما ذكرناه (والثاني) لا يسقط لأنه رضي بتركه بعوض لم يثبت له فكان له
الرجوع إلى حقه كما لو باعه سلعة بخمر وقبضه إياه فعلى هذا له القصاص بعد اندمال الأخرى وللجاني
دية يده فإذا وجب للمجني عليه دية يده وكانت الديتان واحدة تقاصا وإن كانت أحداهما أكثر
من الأخرى كالرجل مع المرأة وجب الفضل لصاحبه
(مسألة) (وإن قال له أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها أجزأت على قول أبي بكر
سواء قطعها عالما بها أو جاهلا)
445

وعلى قول ابن حامد، وإن أخرجها عمدا عالما أنها يساره وأنها لا تجزئ فلا ضمان على قاطعها
ولا قود لأنه بذلها بإخراجه لها لا على سبيل العوض وقد يقوم الفعل في ذلك مقام النطق بدليل أنه
لا فرق بين قوله خذ هذا فكله وبين استدعاء ذلك منه فيعطيه إياه ويفارق هذا ما إذا قطع يد
إنسان وهو ساكت لأنه لم يوجد منه البذل وينظر في المقتص فإن فعل ذلك عالما بالحال عزر لأنه
ممنوع منه لحق الله تعالى وهل يسقط القصاص في اليمنى؟ على وجهين (أحدهما) يسقط لأن قاطع اليسار
تعدى بقطعها فلم يملك قطع اليد الأخرى كما لو قطع يد السارق اليسرى مكان يمينه فإنه لا يملك قطع يمينه
(والوجه الثاني) لا يسقط وهو مذهب الشافعي وفرقوا بين القصاص وقطع السارق من وجوه ثلاثة
(أحدها) أن الحد مبني على الاسقاط بخلاف القصاص (الثاني) أن اليسار لا تقطع في السرقة وإن عدمت
يمينه لأنه يفوت منفعة الجنس بخلاف القصاص (الثالث) أن اليد لو سقطت بأكلة أو قصاص
سقط القطع في السرقة فجاز أن يسقط بقطع اليسار بخلاف القصاص فإنه لا يسقط وينتقل إلى البدل
ولكن لا تقطع يمينه حتى تندمل يساره لئلا يؤدي إلى ذهاب نفسه فإن قيل أليس لو قطع يمين
رجل ويسار آخر لم يؤخر أحدهما إلى اندمال الآخر؟ قلنا الفرق بينهما أن القطعين مستحقان قصاصا
فلهذا جمعنا بينهما وفي مسئلتنا أحدهما غير مستحق فلا نجمع بينهما فإذا اندملت اليسار قطعنا اليمين
فإن سرى قطع اليسار إلى نفسه كانت هدرا ويجب في تركته دية اليمنى لتعذر الاستيفاء فيها بموته
446

(مسألة) (وإن أخرجها دهشة أو ظنا منه أنها تجزئ فعلى القاطع ديتها إن علم أنها يسار
وأنها لا تجزئ ويعزر)
وقال بعض الشافعية عليه القصاص لأنه قطعها مع العلم إنه ليس له قطعها
ولنا أنه قطعها ببذل صاحبها فلم يجب عليه القصاص كما لو علم باذلها وإن كان جاهلا فلا تعزير
عليه وعليه الضمان بالدية لأنه بذلها له على وجه البذل فكانت مضمونة عليه لأنه كان عالما بها كانت
مضمونة عليه وما وجب ضمانه في العمد وجب في الخطأ كاتلاف المال والقصاص باق له في اليمين ولا
يقتص حتى تندمل اليسار فإن عفا وجب بدلها ويتقاصان وإن سرت اليسار إلى نفسه كانت مضمونة
بدية كاملة وقد تعذر قطع اليمنى ووجب له نصف الدية فيتقاصان به ويبقى نصف الدية لورثة الجاني،
فإن اختلفا في بذلها فقال الجاني إنما بذلها بدلا عن اليمين، وقال المجني عليه بذلتها بغير عوض أو قال
أخرجتها دهشة قال بل عالما فالقول قول الجاني لأنه أعلم بنيته، ولان الظاهر أن الانسان لا يبذل
طرفه للقطع تبرعا مع أن عليه قطعا مستحقا، وهذا مذهب الشافعي.
(مسألة) (وإن كان من عليه القصاص مجنونا مثل من يجن بعد وجوب القصاص عليه
447

فعلى قاطعها القود إن كان عالما بها وإنها لا تجزئ لأنه قطعها تعديا بغير حق وإن جهل أحدهما فعليه
الدية لأن بذل المجنون ليس بشبهة)
(مسألة) (وإن كان من له القصاص مجنونا ومن عليه القصاص عاقلا فأخرج إليه يساره
أو يمينه فقطعها ذهبت هدرا)
لأنه لا يصح منه الاستيفاء ولا يجوز البذل له ولا ضمان عليه لأنه أتلفها ببذل صاحبها لكن
إن كان المقطوع اليمنى فقد تعذر استيفاء القصاص فيها لتلفها فتكون المجنون ديتها
(فصل) فإن وثب المجنون عليه فقطع يده التي لا قصاص فيها فعلى عاقلته ديتها وله القصاص
في الأخرى وإن قطع الأخرى فهو مستوف حقه في أحد الوجهين، لأن حقه متعين فيها فإذا أخذها
قهرا سقط حقه كما لو أتلف وديعته (والثاني) لا يسقط حقه وله عقل يده وعقل يد الجاني على عاقلته
لأن المجنون لا يصح منه الاستيفاء ويفارق الوديعة إذا أتلفها لأنها تلفت بغير تفريط وليس لها بدل إذا
تلفت بذلك واليد بخلافه فإنها لو تلفت بغير تفريط كانت عليه ديتها وكذلك الحكم في الصغير فإن اقتصا
مما لا تحمله العاقلة سقط حقهما وجها واحدا وقد ذكرناه
(فصل) الثالث استواؤهما في الصحة والكمال لأن القصاص يعتمد المماثلة فلا تؤخذ صحيحة بشلاء
448

ولا كاملة الأصابع بناقصة ولا ذات أظفار بما لا أظفار لها ولا عين صحيحة بقائمة ولا لسان ناطق
بأخرس، لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بوجوب قطع يد أو رجل أو لسان صحيح بأشل إلا ما حكى داود
أنه أوجب ذلك لاشتراكهما في الاسم فأخذ به كالأذنين
ولنا أن الشلاء لا نفع فيها سوى الجمال فلا تؤخذ بما فيه نفعه كالعين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة
وما ذكر له قياس وهو لا يقول بالقياس وإذا لم يوجب القصاص في العينين مع قوله تعالى (والعين
بالعين) لأجل تفاوتهما في الصحة والعمى فلان لا يوجب ذلك فيما لا نص فيه أولى
(فصل) ولا تؤخذ يد كاملة الأصابع بناقصة الأصابع فلو قطع من له خمس أصابع يد من له أربع
أو ثلاث أو قطع من له أربع أصابع يد من له ثلاث لم يجب القصاص لأنها فوق حقه، وهل له أن يقطع
من أصابع الجاني بعدد أصابعه؟ فيه وجهان ذكرناهما فيما إذا قطع من نصف الكف، وإن قطع
ذو اليد الكاملة يدا فيها أصبع شلاء وباقيها صحاح لم يجز أخذ الصحيحة بها لأنه أخذ كامل بناقص،
وفي الاقتصاص مع الأصابع الصحاح وجهان؟ فإن قلنا له أن يقتص فله الحكومة في الشلاء وأرش
ما تحتها من الكف وهل يدخل ما تحت الأصابع الصحاح في قصاصها أو تجب به حكومة؟ فيه وجهان:
449

(فصل) وإن قطع اليد الكاملة ذو يد فيها أصبع زائدة وجب القصاص فيها ذكره ابن حامد
لأن الزائدة عيب ونقص في المعنى فلم يمنع وجودها القصاص منها كالسلعة فيها والجراح، وأختار
القاضي أنها لا تقطع بها وهو مذهب الشافعي لأنها زيادة، فعلى هذا إن كان للمجني عليه أيضا أصبع
زائدة في محل الزائدة من الجاني وجب القصاص لاستوائهما وإن كانت في غير محلها ولم يكن للمجني
عليه أصبع زائدة لم تؤخذ يد الجاني وهل يملك قطع الأصابع؟ ينظر فإن كانت الزائدة ملصقة بإحدى
الأصابع فليس له قطع تلك الإصبع لأن في قطعها إضرارا بالزائدة وهل له قطع الأصابع الأربع؟ على
وجهين وإن لم تكن ملصقة بواحدة منهن فهل له قطع الخمس؟ على وجهين، وإن كانت الزائدة نابتة في أصبع
في أنملتها العليا لم يجز قطعها وإن كانت نابتة في السفلى أو الوسطى فله قطع ما فوقها من الأنامل في أحد
الوجهين ويأخذ أرش الأنملة التي تعذر قطعها في أحد الوجهين ويتبع ذلك خمس الكف
450

(فصل) وإن قطع ذو يد لها أظفار يد من لا أظفار له لم يجز القصاص لأن الكاملة لا تؤخذ
بالناقصة وإن كانت المقطوعة ذات أظفار إلا أنها خضراء أو مستحشفة أخذت بها السليمة لأن ذلك
علة ومرض والمرض لا يمنع القصاص بدليل إنا نأخذ الصحيح بالسقيم
(مسألة) (ولا تؤخذ عين صحيحة بقائمة ولا لسان ناطق بأخرس ولا ذكر صحيح بأشل)
لأنها ليست مماثلة لها ولأنه يأخذ أكثر من حقه فأشبهت اليد الصحيحة بالشلاء لا تؤخذ بها
(مسألة) (ولا يؤخذ ذكر فحل بذكر خصي ولا عنين)
ذكره الشريف وهو قول مالك لأنه لا منفعة فيهما فإن ذكر العنين لا يوجد منه وطئ ولا إنزال
والخصي لا يولد له ولا يكاد يقدر على الوطئ ولا ينزل فهما كالأشل، ولان كل واحد منهما ناقص
فلا يؤخذ به الكامل كاليد الناقصة بالكاملة، ويحتمل أن يؤخذ بهما قال أبو الخطاب يؤخذ غيرهما
بهما في أحد الوجهين وهو مذهب الشافعي لأنهما عضوان صحيحان ينقبضان به وينبسطان فيؤخذ بهما
غيرهما كذكر الفحل غير العنين وإنما عدم الانزال لذهاب الخصية والعنة لعلة في الظهر فلم يمنع ذلك
451

من القصاص بهما كأذن الأصم وأنف الأخشم، وقال القاضي لا يؤخذ ذكر الفحل بالخصي لتحقق
نقصه والإياس من برئه وفي أخذ بذكر العنين وجهان (أحدهما) يؤخذ به الصحيح لأنه غير مأيوس
من زوال عنته ولذلك يؤجل سنة بخلاف الخطأ، والصحيح الأول لأنه إذا ترددت الحال بين كونه
مساويا للآخر وعدمه لم يجب القصاص لأن الأصل عدمه فلا يجب بالشك سيما وقد حكمنا بانتفاء التساوي
لقيام الدليل على عنته وثبوت عنته، ويؤخذ كل واحد من الخصي والعنين بمثله لتساويهما كما يؤخذ العبد
بالعبد والذمي بالذمي
(مسألة) (الا مارن الأشم الصحيح فإنه يؤخذ بأنف الأخشم الذي لا يشم)
لأن ذلك لعلة في الدماغ والأنف صحيح كما تؤخذ إذن السميع بإذن الأصم لكون ذهاب السمع
نقص في الرأس لأنه محله وليس بنقص في الاذن، ويؤخذ الصحيح بالمحروم والمستحشف لأن كونه
مستحشفا مرض فلا يمنع من أخذه به لأنه يقوم مقام الصحيح
(مسألة) (وتؤخذ إذن السميع بإذن الأصم لما ذكرنا)
وتؤخذ الاذن المستحشفة بالصحيحة وهل تؤخذ بها الصحيحة؟ كاليد الشلاء وسائر الأعضاء
والثاني تؤخذ بها لأن المقصود جمع الصوت وحفظ محل السمع والجمال وهذا يحصل بها كحصوله
بالصحيحة بخلاف سائر الأعضاء
452

(مسألة) (ويؤخذ المعيب من ذلك كله بالصحيح وبمثله إذا أمن من قطع الشلاء التلف)
إذا كان القاطع أشل والمقطوعة سالمة فإن شاء المجني عليه أخذ الدية فله أخذ دية لا نعلم فيه خلافا
لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد وهذا قول
أبي حنيفة ومالك والشافعي، وإن اختار القصاص سئل أهل الخبرة فإن قالوا إنه إذا قطع لم تنسد
العروق، ويدخل الهواء إلى البدن فيفسده سقط القصاص لأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف، وإن أمن
هذا فله القصاص لأنه رضي بدون حقه فكان له ذلك كما لو رضي المسلم القصاص من الذمي والحر من
العبد ولا يجب له مع القصاص أرش لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت في الصفة فلم يكن
له أرش كالصورتين المذكورتين. وإختار أبو الخطاب أن له الأرش مع القصاص على قياس
قوله في عين الأعور إذا قلعت لأنه أخذ الناقص بالزائد والأول أصح، وهو اختيار الخرقي فإن إلحاق
هذا الفرع بالأصول المتفق عليها أولى من إلحاقه بفرع مختلف فيه خارج عن الأصول مخالف للقياس
(فصل) تؤخذ الشلاء بالشلاء إذا أمن في الاستيفاء الزيادة، وقال أصحاب الشافعي لا تؤخذ بها في
أحد الوجهين لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما
ولنا أنهما متماثلان في ذات العضو وصفته فجاز أخذ إحداهما بالأخرى كالصحيحة بالصحيحة
453

(مسألة) (وتؤخذ الناقصة بالناقصة إذا تساويا فيه بأن يكون المقطوع من يد الجاني كالمقطوع
من يد المجني عليه)
لأنهما تساوتا في الذات والصفة، فإن اختلفا فكان المقطوع من يد أحدهما الابهام ومن
الأخرى أصبع غيرها لم يجب القصاص لأن فيه أخذ أصبع بغيرها وإن كانت إحداهما ناقصة أصبعا
والأخرى ناقصة تلك الإصبع وغيرها جاز أخذ الناقصة إصبعين بالناقصة أصبعا وهل له أخذ أصبعه
الزائد؟ فيه وجهان، ولا يجوز أخذ الأخرى بها لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة
(مسألة) (وتؤخذ الناقصة بالكاملة لأنها دون حقه وهل له أخذ دية الأصابع الناقصة؟ على وجهين)
(أحداهما) له ذلك وهو قول الشافعي واختيار ابن حامد (والثاني) ليس له مع القصاص
أرش، وهو مذهب أبي حنيفة وقياس قول أبي بكر لئلا يفضي إلى الجمع بين قصاص ودية في عضو واحد
وقال القاضي قياس قوله سقوط القصاص كقوله فيمن قطعت يده من نصف الذراع وليس هذا
كذلك لأنه يقتص من موضع الجناية ويضع الحديدة في موضع وضعها الجاني فملك ذلك كما لو جنى عليه
فوق الموضحة أو كان رأس الشاج أصغر أو أخذ الشلاء بالصحيحة، ويفارق القاطع من نصف الذراع
لأنه لا يمكنه القصاص من موضع الجناية هكذا حكاه الشريف عن أبي بكر
454

(فصل) وإن كانت يد القاطع والمجني عليه كاملتين وفي يد المجني عليه إصبع زائدة فعلى قول
ابن حامد لا عبرة بالزائدة لأنها بمنزلة الخراج والسلعة وعلى قول غيره له قطع يد الجاني وله حكومة
في الزائدة؟ على وجهين، وإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وإصبع
زائدة أو قطع من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية فلا قصاص في
الصورة الأولى لأن الأصلية لا تؤخذ بالزائدة وله القصاص في الصورة الثانية في قول ابن حامد لأن الزائدة
لا عبرة بها، وقال غيره إن لم تكن الزائدة في محل الأصلية فلا قصاص أيضا لأن الإصبعين مختلفان،
وإن كانت في محل الأصلية فقال القاضي يجري القصاص وهو مذهب الشافعي ولا شئ له لنقص الزائدة،
قال شيخنا وهذا فيه نظر لأنها متى كانت في محل الأصلية كانت أصلية لأن الزائدة هي التي زادت عن
عدد الأصابع أو كانت في غير محل الأصابع وهذا له خمس أصابع في محلها فكانت كلها أصلية، فإن
قالوا معنى كونها زائدة إنها ضعيفة مائلة عن سمت الأصابع، قلنا ضعفها لا يوجب كونها زائدة كذكر العنين
وأما ميلها عن سمت الأصابع فإنها إن لم تكن نابته من محل الإصبع المعدونة فسد قولهم إنها في محلها
وإن كانت نابته في موضعها وإنما مال رأسها أو أعوجت فهو مرض لا يخرجها عن كونها أصلية
(فصل) إذا قطع أصبعه فأصابه من جرحها أكلة في يده وسقطت من مفصل ففيها القصاص على
ما نذكره في سراية الجناية وإن بادر صاحبها فقطعها من الكوع لئلا تسري إلى سائر جسده ثم اندمل
455

جرحه فعلى الجاني القصاص في الإصبع والحكومة فيما تأكل من الكف ولا شئ عليه فيما قطعه المجني عليه لأنه
تلف بفعله، وإن لم تندمل ومات من ذلك فالجاني شريك نفسه فيحتمل وجوب القصاص عليه ويحتمل إن
لا يجب بحال لأن فعل المجني عليه إنما قصد به المصلحة فهو عمد الخطأ وشريك الخاطئ لا قصاص عليه
ويكون عليه نصف الدية، وإن قطع المجني عليه موضع الاكلة نظرت فإن قطع لحما ميتا ثم سرت الجناية
فالقصاص على الجاني لأنه سراية جرحه خاصة وإن كان في لحم حي فمات فهو كما لو قطعها خوفا
من سرايتها وقد ذكرناه
(فصل) إذا قطع أنملة لها طرفان إحداهما زائدة والأخرى أصلية فإن كانت أنملة القاطع ذات
طرفين أيضا أخذت بها وإن لم تكن ذات طرفين قطعت وعليه حكومة في الزائدة وإن كانت المقطوعة
ذات طرف واحد وأنملة القاطع ذات طرفين أخذت بها في قول ابن حامد، وعلى قول غيره لا قصاص
فيها وله دية أنملة وإن ذهب الطرف الزائد فله الاستيفاء وإن قال إنا أصبر حتى يذهب الزائد ثم اقتص
فله ذلك لأنه القصاص حقه فلا يجبر على تعجيل استيفائه
(مسألة) (وإن اختلفا في شلل العضو وصحته فالقول قول المجني عليه في أحد الوجهين)
لأن الظاهر من الناس سلامة الأعضاء وخلق الله تعالى لهم بصفة الكمال، والثاني القول قول الجاني
لأن الأصل براءة ذمته من دية عضو سالم ولأنه لو كان سالما يخف لأنه يظهر فيراه الناس
456

(فصل) قال رحمه الله وإن قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله
يقدر بالاجزاء كالنصف والثلث والربع لقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقال أبو الخطاب لا يؤخذ
بعض اللسان بالبعض ذكره صاحب المحرر
ولنا إنه يؤخذ جميعه بجميعه فأخذ بعضه ببعضه كالأنف ولا يؤخذ بالمساحة لأنه يفضى إلى أخذ
لسان الجاني جميعه ببعض لسان المجني عليه
(مسألة) (وإن كسر بعض سنه برد من سن الجاني مثله إذا أمن قلعها)
يجري القصاص في بعض السن لحديث الربيع حين كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص
ويقدر بذلك بالاجزاء النصف بالنصف وكل جزء بمثله ولا يؤخذ بالمساحة لئلا يفضي إلى أخذ جميع
سن الجاني ببعض سن المجني عليه ويكون القصاص بالمبرد لتؤمن الزيادة فإما لو أخذناها بالكسر لم
نأمن أن ينصدع أو ينقلع أو ينكسر من غير موضع القصاص ولا يقتص حتى يقول أهل الخبرة إنه
يؤمن انقلاعها أو السواد فيها لأن توهم الزيادة يمنع القصاص في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير
مفصل فإن قيل فقد أجزتم القصاص في الأطراف مع توهم سرايتها إلى النفس فلم منعتم منها لتوهم السراية
منه إلى بعض العضو قلنا وهم السراية إلى النفس لا سبيل إلى التحرز منه فلو اعتبرناه في المنع أفضى إلى
457

سقوط القصاص في الأطراف بالكلية فسقط اعتباره أما السراية إلى بعض العضو فتارة نقول إنما يمنع
القصاص فيها احتمال الزيادة في الفعل لا في السراية مثل من يستوفي من بعض الذراع فإنه يحتمل أكثر
مما فعل به وكذلك من كسر سنا ولم يصدعها فكسر المستوفي سنه وصدعها أو قطعها أو كسر أكثر
مما كسر من سنه فقد زاد على المثل والقصاص يعتمد المماثلة وتارة نقول إن السراية في بعض العضو إنما
تمنع إذا كانت ظاهرة ومثل هذا يمنع في النفس ولهذا منعناه من الاستيفاء بآلة كآلة أو مسمومة وفي
وقت إفراط الحر والبرد تحرزا من السراية
(فصل) وإن قلع سنا زائدة وهي التي تنبت فضلة في غير سمت الأسنان خارجة عنها إلى داخل
الفم أو إلى الشفة وكانت للجاني مثلها في موضعها فللمجني عليه القصاص أو حكومة في سنه وإن لم
لم يكن له مثلها في محلها فليس له الا الحكومة وإن كانت إحدى الزائدتين أكبر من الأخرى ففيه
وجهان (أحدهما) لا تؤخذ بها لأن الحكومة فيها أكثر فلا يقلع بها ما هو أقل قيمة منها (والثاني) تؤخذ
بها لأنهما سنان متساويتان في الموضع فتؤخذ كل واحدة منهما بالأخرى كالأصليتين ولان الله تعالى
قال (والسن بالسن) وهو عام فيدخل فيه محل النزاع وإن قلنا يثبت القياس في الزائدتين بالاجتهاد
فالثابت بالاجتهاد معتبر بما ثبت بالنص واختلاف القيمة لا يمنع القصاص بدليل جريانه بين العبد وبين
الذكر والأنثى في النفس والأطراف على إن كبر السن لا يوجب كبر قيمتها فإن السن الزائدة نقص
458

وعيب وكثرة العيب زيادة في النقص لا في القيمة ولان كبر السن الأصلية لا يزيد في قيمتها فالزائدة كذلك
(مسألة) (ولا يقتص من السن حتى ييئس من عودها وهي سن من قد أثغر أي سقطت رواضعه
ثم نبتت فإن قلع سن من لم يثغر لم يقتص من الجاني في الحال لأنها تعود بحكم العادة فلم يجب ضمانها كالشعر
(مسألة) (فإن عاد بدل السن على صفتها في موضعها فلا شئ على الجاني وإن مضى زمن عودها
ولم تعد سئل أهل الخبرة فإن قالوا قد يئس من عودها خير المجي عليه بين القصاص وبين دية السن
(مسألة) (وإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها فلا قصاص)
لأن الاستحقاق غير متحقق فيكون ذلك شبهة في درء القصاص وتجب الدية لأن القطع موجود
والعود مشكوك فيه
(مسألة) (فإن قطع سن كبير فقال القاضي يسأل أهل الخبرة) فإن قالوا لا تعود فله القصاص في
الحال وإن قالوا يرجي عودها إلى وقت معلوم لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت فإن لم تعد وجب القصاص
(مسألة) (وإن اقتص من سن فعادت غرم سن الجاني لأنه قد تبين إن القصاص لم يكن
يجب ويضمنها بالدية دون القصاص لأنه لم يقصد التعدي وإن عادت سن الجاني رد ما أخذ إذا لم
تعد سن المجني عليه
(مسألة) (وإن عادت سن المجني عليه قصيرة أو معيبة فعلى الجاني أرش نقصها بالحساب)
459

ففي نصفها نصف ديتها ونحو ذلك وإن عادت والدم يسيل منها أو مائلة عن محلها ففيها حكومة لأنه
نقص حصل بفعله، وقد ذكرنا هذه المسائل في مسألة ويؤخذ السن بالسن
(فصل) قال رحمه الله النوع الثاني الجراح فيجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم
كالموضحة وجرح العضد والفخذ الساق والقدم لقول الله تعالى (والجروح قصاص) فيجب في
كل جرح ينتهي إلى عظم يمكن استيفاؤه من غير زيادة كالموضحة في الرأس والوجه وذلك لأن
الله تعالى نص على القصاص في الجروح فلو لم يجب ههنا لسقط حكم الآية وفي معنى الموضحة كل
جرح ينتهي إلى عظم فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والفخذ والساق يجب فيه القصاص
في قول أكثر أهل العلم وهو منصوص الشافعي وقال بعض أصحابه لا قصاص فيها لأنه لا مقدر فيها
وهو غير صحيح لمخالفته قول تعالى (والجروح قصاص) ولأنه أمكن استيفاؤه بغير حيف ولا زيادة
لكونه ينتهي إلى عظم فأشبه الموضحة والتقدير في الموضحة ليس هو المقتضي للقصاص ولا عدمه
مانعا وإنما كان التقدير في الموضحة لكثرة شينها وشرف محلها ولهذا قدر ما فوقها من شجاج
الرأس والوجه ولا قصاص فيه.
(فصل) ولا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف ولا بآلة يخشى منها الزيادة سواء كان
الجرح بها أو بغيرها، لأن القتل إنما استوفي بالسيف لأنه آلته وليس ثم شئ يخشي التعدي إليه
460

فيجب أن يستوفي فيما دون النفس بآلته ويتوقى ما يخشى منه الزيادة إلى محل لا يجوز استيفاؤه ولأنا
منعنا القصاص بالكلية فيما تخشى الزيادة في استيفائه فلان نمنع الآلة التي يخشى منها ذلك أولى
فإن كان الجرح موضحة أو ما أشبهها فبالموسى أو حديدة ماضية معدة لذلك ولا يستوفي إلا من له
علم بذلك كالجرائحي ومن أشبهه، فإن لم يكن للولي علم بذلك أمر بالاستنابة، وإن كان له علم فقال القاضي
ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص فيمكن من استيفائه إذا كان يحسن كالقتل
ويحتمل أن لا يمكن من استيفائه بنفسه ولا يليه إلا نائب الإمام أو من يستنيبه ولي الجناية وهو
مذهب الشافعي لأنه لا يؤمن مع العداوة وقصد التشفي أن يحيف في الاستيفاء بما لا يمكن تلافيه
وربما أفضى إلى النزاع والاختلاف بأن يدعي الجاني الزيادة وينكرها المستوفي
(مسألة) (ولا يجب القصاص فيما سوى ذلك من الشجاج والجروح كما دون الموضحة
أو أعظم منها وممن روي عنه منع القصاص فيما دون الموضحة الحسن وأبو عبيد وأصحاب الرأي
ومنعه فيما فوقها عمر بن العزيز وعطاء والنخعي والزهري والحكم وابن شبرمة والثوري ومالك
والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا أوجب القصاص فيما فوق الموضحة إلا ما روي عن ابن
461

الزبير أنه أقاد من المنقلة وليس بثابت عنه، قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا خالف ذلك ولأنها جراحات
لا تؤمن الزيادة فيها فأشبه الجائفة وأما دون الموضحة فقد روي عن مالك أن القصاص يجب
في الدامية والباضعة والسمحاق وروي نحوه عن أصحاب الرأي
ولنا أنها جراحة لا تنتهي إلى عظم فلم يجب فيما قصاص كالجائفة ولأنه لا يؤمن فيما الزيادة
فأشبه كسر العظام وبيان ذلك أنه أن اقتص من غير تقدير أفضي إلى أن يأخذ أكثر من حقه وإن
إعتبر مقدار العمق أفضى إلى أن يقتص من الباضعة والسمحاق موضحة ومن الباضعة سمحاقا لأنه
قد يكون لحم المشجوج كثيرا بحيث يكون عمق باضعته كعمق موضحة الشاج أو سمحاقه ولأننا لم
نعتبر في الموضحة قدر عمقا فكذلك في غيرها
(فصل) ولا قصاص في المأمومة من شجاج الرأس ولا في الجائفة، والمأمومة هي التي تصل
إلى جلدة الدماغ والجائفة هي التي تصل إلى الجوف وليس فيهما قصاص عند أحد من أهل العلم نعلمه
إلا ما روي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة فأنكر الناس عليه وقالوا ما سمعنا أحدا أقص منها
قبل ابن الزبير، وروي عن علي رضي الله عنه لا قصاص في المأمومة وهو قول مكحول والزهري
والشعبي وقال عطاء والنخعي لا قصاص في الجائفة، وروي ابن ماجة في سننه عن العباس بن عبد المطلب
462

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة " ولأنهما جرحان لا تؤمن الزيادة
فيهما فلم يجب فيهما قصاص ككسر العظام "
(مسألة) (إلا أن تكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص موضحة
بغير خلاف بين أصحابنا).
وهو مذهب الشافعي لأنه يقتصر على بعض حقه ويقتص من محل جنايته فإنه إنما وضع السكين
في موضع وضعها الجاني، لأن سكين الجاني وصلت إلى العظم ثم تجاوزته بخلاف قاطع الساعد فإنه
لم يضع سكينه في الكوع.
(مسألة) (ولا شئ له مع القصاص على قول أبى بكر)
لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين قصاص ودية كما لو قطع الشلاء بالصحيحة وكما في الأنفس
إذا قتل الكافر بالمسلم والعبد بالحر، وقال ابن حامد له ما بين دية موضحة ودية تلك الشجة، وهو
مذهب الشافعي لأنه تعذر القصاص فيه فانتقل إلى البدل كما لو قطع أصبعيه فلم يمكن الاستيفاء إلا
من واحدة وفارق الشلاء بالصحيحة فإن الزيادة ثم من حيث المعنى وليست مميزة بخلاف مسئلتنا
فيأخذ في الهاشمة خمسا من الإبل وفي المنقلة عشرا
(مسألة) (ويعتبر قدر الجرح بالمساحة فلو أوضح إنسانا في بعض رأسه، مقدار ذلك البعض
جميع رأس الشاج وزيادة كان له أن يوضحه في جميع رأسه وفي الأرش للزائد وجهان)
463

وجملة ذلك إنه أراد الاستيفاء من موضحة وشبهها فإن كان على موضعها شعر أزاله ويعمد
إلى موضع الشجة من رأس المشجوج فيعلم طولها وعرضها بخشبة أو خيط ويضعها على رأس الشاج
ويعلم طرفيه بسواد أو غيره ويأخذ حديدة عرضها كعرض الشجة فيضعها في أول الشجة ويجرها
إلى آخرها فيأخذها مثل الشجة طولا وعرضا ولا يراعي العمق لأن حدة العظم ولو روعي لتعذر
الاستيفاء، لأن الناس يختلفون في قلة اللحم وكثرته وهذا كما يستوفي الطرف بمثله وإن اختلفا
في الصغر والكبر والرقة والغلظة فإن كان رأس الشاج والمشجوج سواء استوفي قدر الشجة وإن
كان رأس الشاج أصغر لكنه يتسع للشجة استوفيت وإن استوعبت رأس الشاج كله لأنه استوفاها
بالمساحة ولا يمنع الاستيفاء زيادتها على مثل موضعها من رأس الجاني لأن الجميع رأس وإن كان قدر
الشجة يزيد على رأس الجاني فإنه يستوفي الشجة في جميع رأس الشاج ولا يجوز أن تنزل إلى جبهته
لأنه يقتص في عضو آخر غير العضو المجني عليه ولا ينزل إلى قفاه لما ذكرنا ولا يستوفي بقية الشجة
في موضع آخر من رأسه لأنه يكون مستوفيا موضحتين واضعا للحديدة في غير الموضع الذي وضعها
فيه الجاني واختلف أصحابنا فيماذا يصنع؟ فذكر القاضي إن ظاهر كلام أبى بكر أنه لا أرش له فيما بقي
كيلا يجمع بين قصاص ودية في جرح واحد، وهذا مذهب أبي حنيفة فعلى هذا يتخير بين الاستيفاء
في جميع رأس الشاج ولا أرش له وبين العفو إلى دية موضحة، وقال ابن حامد وبعض أصحابنا
464

له أرش ما بقي وهو مذهب الشافعي، لأن القصاص تعذر فيما جني عليه فكان له أرش كما لو تعذر
في الجميع، فعلى هذا تقدر شجة الجاني من الشجة في رأس المجني عليه ويستوفي أرش الباقي فإن كانت
بقدر ثلثيها فله أرش ثلث موضحة وإن زادت على هذا أو نقصت فبالحساب من أرش الموضحة
ولا يجب له أرش موضحة كاملة لئلا يفضي إلى إيجاب القصاص ودية موضحة وإن أوضحه في جميع
رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه إن يوضح منه بقدر مساحة موضحة من أي الطرفين شاء
لأنه جنى عليه في ذلك الموضع كله وإن استوفي قدر موضحته ثم تجاوزها واعترف أنه عمد ذلك
فعليه القصاص في ذلك القدر، فإذا اندملت موضحته استوفي منه القصاص في موضع الاندمال لأنه
موضع الجناية، وإن ادعى الخطأ فالقول قوله لأنه محتمل وهو أعلم بقصده وعليه أرش موضحة، فإن
قيل فهذه الموضحة كلها لو كانت عدوانا لم يجب فيها إلا دية موضحة فكيف يجب في بعضها دية
موضحة قلنا لأن المستوفي لم يكن جناية إنما الجناية الزائد، والزائد لو إنفرد لكان موضحة فكذلك
إذا كان معه ما ليس بجناية بخلاف ما إذا كانت كلها عدوانا فإن الجميع جناية واحدة
(فصل) إذا أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فأراد أن يستوفى القصاص بعضه من مقدم
الرأس وبعضه من مؤخره منع ذلك لأنه يأخذ موضحتين بواحدة وديتهما مختلفة، ويحتمل
465

الجواز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها، فإن أهل الخبرة إن في ذلك زيادة ضرر أو شين
لم يجز ولأصحاب الشافعي كهذين القولين، فإن كان رأس المجني عليه أكبر فأوضحه الجاني في مقدمه
ومؤخره موضحتين قدرهما جميع رأس الجاني فله الخيار بين أن يوضحه موضحة واحدة في جميع
رأسه أو يوضحه موضحتين يقتصر في كل واحدة منهما على قدر موضحته ولا أرش لذلك وجها
واحدة لأنه ترك استيفاء مع إمكانه، وإن عفا إلى الأرش فله أرش موضحتين، وإن شاء اقتص
من إحداهما وأخذ أرش الأخرى
(فصل) فإن كانت الجناية في غير الرأس والوجه وكانت في ساعد فزادت على ساعد الجاني لم ينزل
إلى الكف ولم يصعد إلى العضد وإن كانت في الساق لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ لأنه عضو
آخر فلا يقتص منه كما لم ينزل من الرأس إلى الوجه ولم يصعد من الوجه إلى الرأس
(فصل) إذا شج في مقدم رأسه أو مؤخره عرضا شجة لا يتسع لها مثل موضعها من رأس
الشاج فأراد أن يستوفي من وسط الرأس فيما بين الاذنين لكونه يتسع لمثل تلك الشجة ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز لأنه غير الموضع الذي شجة فيه فلم يجز له الاستيفاء منه كما لو أمكنه استيفاء حقه
من محل الشجة، واحتمل الجواز لأن الرأس عضو واحد فإذا لم يمكنه استيفاء حقه من محل شجته
466

جاز من غيره كما لو شجة في مقدم رأسه شجة قدرها جميع رأس الشاج جاز إتمام استيفائها من مؤخر
رأس الجاني، وهذا منصوص الشافعي وهكذا يخرج فيما إذا كان الجرح في موضع من الساق والقدم
والذراع والعضد، وإن أمكن الاستيفاء من محل الجناية لم يجز العدول عنه وجها واحدا
(فصل) قال (وإذا اشترك جماعة في قطع طرف أو جرح موجب للقصاص وتساوت أفعالهم مثل
أن يضعوا الحديدة على يده ويتحاملوا عليها جميعا حتى تبين فعلى جميعهم القصاص في أشهر الروايتين
وهي التي ذكرها الخرقي)
وبذلك قال مالك وأبو ثور وقال الحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي وابن المنذر لا يقطع
يدان بيد واحدة وهي الرواية الأخرى لأنه روي عنه أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، وهذا تنبيه على
أن الأطراف لا تؤخذ بطرف واحد لأن الأطراف يعتبر التساوي فيها بدليل إنا لا نأخذ الصحيحة
بالشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصة ولا أصلية بزائدة ولا يمينا بيسار ولا يسارا بيمين، ولا تساوي بين
الطرف والأطراف فوجب امتناع القصاص بينهما ولا يعتبر التساوي في النفس فإنا نأخذ الصحيح
بالمريض وصحيح الأطراف بمقطوعها وأشلها ولأنه يعتبر في القصاص في الأطراف التساوي في نفس
467

القطع بحيث لو قطع كل واحد من جانب الآخر لم يجب القصاص بخلاف النفس ولان الاشتراك
الموجب للقصاص في النفس يقع كثيرا فوجب القصاص زجرا عنه كي لا يتخذ وسيلة إلى كثرة القتل
والاشتراك المختلف فيه ولا يقع إلا في غاية الندرة فلا حاجة إلى الزجر عنه، ولان إيجاب القصاص على
المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك أو عن الاشتراك المعتاد وإيجابه على المشركين في
الطرف لا يحصل به الزجر عن الاشتراك المعتاد ولا عن شئ من الاشتراك إلا عن صورة نادرة الوقوع
بعيدة الوجود يحتاج في وجودها إلى تكلف فإيجاب القصاص الزجر عنها يكون منعا لشئ لا يكاد يقع
لصعوبته وإطلاقا في القطع السهل المعتاد بنفي القصاص عن فاعله وهذا لا فائدة فيه بخلاف الاشتراك في
النفس، يحققه أن وجوب القصاص في الطرف والنفس على الجماعة بواحد على خلاف الأصل لكونه
أخذ في الاستيفاء زيادة على ما فوت عليه ويخل بالتماثل المنصوص على النهي عما عداه، وإنما خولف
هذا الأصل زجرا عن الاشتراك الذي يقع القتل به غالبا ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم
ولان النفس أشرف من الطرف ولا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها بذلك
ولنا ما روي أن شاهدين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم جاءا بآخر فقالا
468

هو السارق وأخطأنا في الأول فرد شهادتهما على الثاني وغرمهما دية يد الأول وقال لو علمت أنكما
تعمدتما لقطعتكما فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحدة، ولأنه أحد نوعي
القصاص فيؤخذ فيه الجماعة بالواحد كالأنفس، وأما اعتبار التساوي فمثله في الأنفس فإنا نعتبر التساوي
فيها فلا نأخذ مسلما بكافر ولا حرا بعبد، وأما أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها فلان الطرف
ليس هو من النفس المقتص منها وإنما يؤخذ تبعا ولذلك كانت ديتهما واحدة بخلاف اليد الناقصة
والشلاء مع الصحيحة فإن ديتهما مختلفة، وأما اعتبار التساوي في الفعل فإنما إعتبر في اليد لأنه يمكن
مباشرتهما بالقطع فإذا قطع كل واحد منهما من جانب فإن فعل كل واحد منهما متميزا عن فعل الآخر
فلا يجب على إنسان قطع محل لم يقطع مثله، وأما النفس فلا يمكن مباشرتها بالفعل وإنما أفعالهم في البدن
فيفضي ألمه إليها فيزهق ولا تميز ألم فعل أحدهما من ألم فعل الآخر فكانا كالقاطعين في محل واحد
ولذلك لا يستوفي من الطرف إلا في المفصل الذي قطع الجاني منه ولا يجوز تجاوزه في النفس لو قتله
بجرح في جنبه أو بطنه أو غير ذلك كان الاستيفاء من العنق دون المحل الذي وقعت الجناية فيه. إذا
469

ثبت هذا فإن الجناية إنما تجب على المشتركين في الطرف إذا اشتركوا فيه على وجه لا يتميز فعل أحدهم
من فعل الآخر إما بأن شهدوا عليه بما يوجب قطعه فيقطع ثم يرجعوا عن الشهادة أو يكرهوا إنسانا
على قطع طرف فيجب قطع المكرهين والمكره أو يلقوا صخرة على طرف إنسان فيقطعه أو يقطعوا يدا
أو يقلعوا عينا بضربة واحدة أو يضعوا حديدة على مفصل ويتحاملوا عليها جميعا أو يمدوها فتبين ونحو ذلك
(مسألة) (وإن تفرقت أفعالهم أو قطع كل واحد من جانب فلا قصاص عليهم رواية واحدة)
لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك في قطع جميعها وإن كان فعل كل واحد منهم يمكن
الاقتصاص بمفرده اقتص منه وهذا مذهب الشافعي
(مسألة) (وسراية الجناية مضمونة بالقصاص أو الدية)
سراية الجناية مضمونة بغير خلاف لأنها أثر جناية والجناية مضمونة فكذلك أثرها ثم إن سرت
إلى النفس أو ما لا يمكن مباشرته بالاتلاف مثل أن هشمه في رأسه فيذهب ضوء عينه وجب القصاص
فيه ولا خلاف في ذلك في النفس، وفي ضوء العين خلاف ذكرناه فيما مضي، وإن سرت إلى ما يمكن
مباشرته بالاتلاف مثل أن قطع أصبعا فتأكلت أخرى وسقطت ففيه القصاص أيضا في قول إمامنا
470

وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وقال أكثر الفقهاء لا قصاص في الآنية وتجب ديتها لأن ما أمكن مباشرته
بالجناية لا يجب القود فيه بالسراية كما لو رمى سهما إلى شخص فمرق منه إلى آخر
ولنا أن ما وجب فيه القود بالجناية وجب بالسراية كالنفس ولأنه أحد نوعي القصاص فأشبه
ما ذكرنا، وفارق ما ذكروه فإن ذلك فعل وليس بسراية ولأنه لو قصد ضرب رجل فأصاب آخر لم
يجب القصاص ولو قصد قطع إبهامه فقطع سبابته وجب القصاص، ولو ضرب إبهامه فمرق إلى سبابته
وجب القصاص فيها فافترقا، ولان الثانية تلفت بفعل أوجب القصاص فوجب القصاص فيها كما لو رمى
أحدهما فمرق إلى الأخرى
(مسألة) (وإن شل ففيه ديته)
وبهذا قال الشافعي قالوا يجب الأرش في الثانية التي شلت والقصاص في الأولى، وقال
471

أبو حنيفة لا يجب القصاص فيها ويجب أرشهما جميعا لأن الحكم السراية لا ينفرد عن الجناية بدليل ما لو
سرت إلى النفس فإذا لم يجب القصاص في إحداها لم يجب في الأخرى. ولنا أنها جناية موجبة
للقصاص لو لم تسرفا وجبته إذا سرت كالتي تسري إلى سقوط أخرى وكما قطع يد حبلي فسرى
إلى جنينها وبهذا يبطل ما ذكره، وارق الأصل لأن السراية مقتضية للقصاص كاقتضاء الفعل له
فاستوى حكمهما وههنا بخلافه ولان ما ذكره غير صحيح فإن القطع إذا سرى إلى النفس وجب القصاص
في النفس وسقط في القطع فخالف حكم الجناية حكم السراية فسقط ما قاله. إذا ثبت ذلك فإن الأرش
يجب في ماله فلا تحمله العاقلة لأنه جناية عمد وإنما لم يجب القصاص فيه لعدم المماثلة في القطع فإذا قطع
أصبعه فشلت أصابعه الباقية وكفه فعفا عن القصاص وجب له نصف الدية وإن اقتص من الإصبع
فله في الأصابع الباقية أربعون من الإبل ويتبعها ما حاذاها من الكف وهو أربعة أخماسه فيدخل
أرشه فيها ويبقي خمس الكف فيه وجهان (أحدهما) يتبعها في الأرش فلا شئ له فيه (والثاني)
472

فيه الحكومة لأن ما يقابل الأربع يتبعها في الأرش لاستوائهما في الحكم وحكم التي اقتص منها مخالف
لحكم الأرش فلم يتبعها
(مسألة) (وسراية القود غير مضمونة فلو قطع اليد قصاصا فسرى إلى النفس
فلا شئ على القاطع) وبهذا قال الحسن وابن سيرين ومالك والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وابن المنذر
وري ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وقال عطاء وطاوس وعمرو بن دينار والحادث
العكلي والشعبي والنخعي والزهري وأبو حنيفة: عليه الضمان قال أبو حنيفة عليه كمال الدية في ماله،
وقال غيره هي على عاقلته لأنه فوت نفسه ولا يستحق الا طرفه فلزمته ديته كما لو ضرب عنقه
473

ولأنها سراية قطع مضمون فكانت مضمونة كسراية الجناية والدليل على أنه مضمون أنه مضمون
بالقطع الأول لأنه في مقابلته
ولنا أن عمر وعليا رضي الله عنهما قال من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله رواه سعيد
بمعناه ولأنه قطع مستحق مقدر فلا تضمن سرايته كقطع السارق وفارق ما قاسوا عليه فإنه ليس
ما فعله مستحقا: إذا ثبت هذا فلا فرق بين سرايته إلى النفس بأن يموت منها أو إلى ما دونها مثل أن يقطع
أصبعا فتسري إلى كفه
(مسألة) (ولا يقتص في الطرف إلا بعد برئه)
في قول أكثر أهل العلم منهم النخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأبو ثور وروي
ذلك عن عطاء والحسن قال ابن المنذر كل من أحفظ عنه من أهل العلم يرى الانتظار بالجرح حتى يبرأ
ويتخرج لنا أنه يجوز الاقتصاص قبل البرء وبناء على قولنا أنه إذا سرى إلى النفس يفعل به كما لو
474

فعل وهذا قول الشافعي قال ولو سأل القود ساعة قطعت أصبعه أقدته لما روي جابر أن رجلا طعن
رجلا بقرن في ركبته فقال يا رسول الله أقدني قال " حتى تبرأ " فأني وعجل فاستقاد له رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعييت رجل المستقيد وبرأت رجل المستقيد منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ليس لك شئ إنك عجلت " رواه
سعيد مرسلا ولان القصاص في الطرف لا يسقط بالسراية فوجب أن يملكه في الحال كما لو برأ
ولنا ما روي جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد من الحرج حتى يبرأ المجروح رواه الدارقطني
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ولان الجرح لا يدري أقتل هو أو لا فينبغي
أن ينتظر ليعلم ما حكمه فقد رواه وفي سياقه فقال يا رسول الله عرجت فقال " قد نهيتك فعصيتني فأبعدك
الله وبطل عرجك " ثم نهى أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه وهذه زيادة يجب قبولها وهي متأخرة
475

عن الاقتصاص فتكون ناسخة له وفي نفس الحديث ما يدل على أن استقادته قبل البرء معصية لقوله
" قد نهيتك فعصيتني " وما ذكروه ممنوع وهو مبنى الخلاف
(مسألة) (فإن فعل ذلك سقط حقه من سرايته فلو سرى إلى نفسه كان هدرا ولو سرى
القصاص إلى نفس الجاني كان هدرا أيضا وقال الشافعي هي مضمونة لأنها سراية جناية فكانت
مضمونة كما لو لم يقتص)
ولنا الخبر المذكور ولأنه استعجل ما لم يكن له استعجاله فبطل حقه كقاتل موروثه. وبهذا فارق من لم
يقتص فعلى هذا لو سرى القطعان جميعا فمات الجاني والمستوفي فهما هدر. وقال أبو حنيفة يجب ضمان كل واحد
منهما لأن سراية كل واحد منهما مضمونة ثم يتقاصان وقال الشافعي إن مات المجني عليه أولا ثم مات
الجاني كان قصاصا به لأنه مات من سراية القطع فقد مات بفعل المجني عليه وإن مات الجاني فكذلك
في أحد الوجهين وفي الآخر يكون موت الجاني هدرا ولولي المجني عليه نصف الدية فلما إن
476

سرى أحد القطعين دون صاحبه فعندنا هو هدر لا ضمان فيه وعند أبي حنيفة يجب ضمان
سرايته وعند الشافعي إن سرت الجناية فهي مضمونة وإن سرى الاستيفاء لم يجب ضمانه ومبني ذلك
على ما تقدم من الخلاف
(فصل) وإن اندمل جرح الجناية فاقتص منه ثم انتقض فسرى فسرايته مضمونة وسراية
الاستيفاء غير مضمونة لأنه اقتص بعد جواز القصاص فعلى هذا لو قطع يدي رجل فبرأ فاقتص ثم
انتقض جرح المجني عليه فمات فلوليه الجاني لأنه مات من جنايته وقال ابن أبي موسى إذا جرحه
فبرأ ثم انتقض فمات فلا قود فيه
ولنا أن الجناية لو سرت إلى النفس قبل الاندمال وجب القصاص فكذلك بعده وإن عفا إلى
الدية فلا شئ له لأنه استوفى بالقطع ما قيمته دية وهو يداه وإن سرى الاستيفاء لم يجب أيضا شئ
لأن القصاص قد سقط بموته والدية لا يمكن إيجابها لما ذكرنا وإن كان المقطوع بالجناية يدا قوليه بالخيار
477

بين القصاص في النفس وبين العفو إلى نصف الدية ومتى سقط القصاص بموت الجاني أو غيره وجب نصف
الدية في تركة الجاني أو ماله إن كان حيا
(فصل) ولو قطع كتابي يد مسلم فبرأ واقتص ثم انتقض جرح المسلم ومات فلوليه قتل الكتابي
والعفو إلى أرش الجرح وفي قدره وجهان:
(أحدهما) نصف الدية لأنه قد استوفى بدل يده بالقصاص وبدلها نصف ديته فبقي له نصفها
كما لو كان القاطع مسلما
(والثاني) له ثلاثة أرباعها لأن يد اليهودي تعدل نصف ديته وذلك ربع دية المسلم فقد استوفى
ربع ديته وبقي له ثلاثة أرباعها وإن كان قطع يدي المسلم فاقتص منه ثم مات المسلم فعفا وليه إلى مال انبنى
على الوجهين وإن قلنا تعتبر قيمة يد اليهودي فله ههنا نصف الدية وإن قلنا الاعتبار بقيمة يد المسلم
فلا شئ له ههنا لأنه قد استوفى بدل يديه وهما جميع ديته ولو كان القطع في يديه ورجليه فعفا إلى
478

الدية لم يكن له شئ وجهان واحدا لأن دية لك دية المسلم ولو كان الجاني امرأة فالحكم على ما ذكرنا
سواء لأن ديتها نصف دية الرجل
(فصل) إذا قطع يد رجل من الكوع ثم قطعها آخر من المرفق فمات بسرايتهما فللولي قتل
القاطعين وليس له أن يقطع طرفيهما في أحد الوجهين وفي الآخر له قطع يد القاطع من الكوع فإن
قطعها ثم عفا عنه فله نصف الدية، وأما الآخر فإن كانت يده مقطوعة من الكوع قطعها من
479

المرفق ثم عفا فله دية إلا قدر الحكومة في الذراع ولو كانت يد القاطع من المرفق صحيحة لم يجز قطعها
رواية واحدة لأنه يأخذ صحيحة بمقطوعة وإن قطع أيديهما وهما صحيحان أو قطع رجلان يديه فقطع
أيديهما ثم سرت الجناية فمات من قطعهما فليس لوليهما العفو إلى الدية لأنه قد استوفى ما قيمته دية
وإن اختار قتلهما فله ذلك
(كتاب الديات)
الأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى (ومن قتل
مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) وأما السنة فروى أبو بكر بن محمد
ابن عمر بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن
والديات وقال فيه " وفي النفس مائة من الإبل " رواه النسائي في سننه ومالك وفي موطئه قال ابن عبد البر
وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الاسناد
480

لأنه أشبه المتواتر في مجيئه في أحاديث كثيرة تأتي في مواضعها من الباب إن شاء الله تعالى وأجمع أهل
العلم على وجوب الدية في الجملة
(مسألة) (كل من أتلف إنسانا أو جزأ منه بمباشرة أو سبب فعليه ديته وسواء كان مسلما أو
ذميا أو مستأمنا أو مهادنا
لما ذكرنا من الآية وفيها (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله) وعبر عن الذمة
بالميثاق وحديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حين كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى أهل اليمن ذكر
فيه الديات وأجمع أهل العلم عن ذلك في الجملة
(مسألة) (فإن كان القتل عمدا محضا فهي في مال الجاني حالة)
أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة، وهذا يقتضيه الأصل
وهو إن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية على الجاني قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجني جان إلا
على نفسه " وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ولده " ابنك هذا؟ - قال نعم قال - أما إنه لا
لا يجني عليك ولا تجني عليه " ولان موجب الجناية أثر فعل الجاني فيجب أن يختص بضررها كما
يختص بنفعها فإنه لو كسب كان كسبه لغيره وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والأكساب، وإنما
خولف هذا الأصل في قتل الحر المعذور فيه لكثرة الواجب وعجز الجاني في الغالب عن تحمله مع
481

وجوب الكفارة عليه وقيام عذره تخفيفا عنه ورفقا به والعامد لا عذر له فلا يستحق التخفيف ولا
يوجد فيه المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ. إذا ثبت هذا فإنها تجب حالة وبهذا قال مالك والشافعي
وقال أبو حنيفة تجب في ثلاث سنين لأنها دية آدمي فكانت مؤجلة كدية شبه العمد
ولنا أن ما وجب بالعمد المحض كان حالا كالقصاص وأرش أطراف العبد ولا يشبه شبه العمد لأن
القاتل معذور لكونه لم يقصد القتل وإنما أفضى إليه من غير اختيار منه فأشبه الخطأ ولهذا تحمله العاقلة
ولان القصد التخفيف عن العاقلة الذين لم يصدر منهم جناية وحملوا إداء مال مواساة فلاق بحالهم
التخفيف عنهم، وهذا موجود في الخطأ وشبه العمد على السواء، وأما العمد فإنما يحمله الجاني في غير
حال العذر فوجب أن يكون ملحقا ببدل سائر المتلفات ويتصور الخلاف معه فيما إذا قتل ابنه أو قتل
أجنبيا وتعذر استيفاء القصاص لعفو بعضهم أو غير ذلك
(مسألة) (وإن كان شبه عمد أو خطأ أو ما جرى مجراه فعلى عاقلته)
دية شبه العمد على العاقلة في ظاهر المذهب وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري
وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال ابن سيرين والزهري وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور: هي على
القاتل في ماله وإختاره أبو بكر عبد العزيز لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلة كالعمد المحض ولأنها
482

دية مغلظة فأشبهت دية العمد وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك لأن شبه العمد عنده من باب العمد
ولنا ما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها
وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه، ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا
فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ، ويخالف العمد لأنه يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وإرادته القتل،
وعمد الخطأ يغلظ من وجه وهو قصده الفعل ويخفف من وجه وهو كونه لم يرد القصاص فاقتضى تغليظها
من وجه وهو الانسان وتخفيفها من وجه وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها، ولا نعلم في أنها تجب
مؤجلة خلافا بين أهل العلم، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال الشعبي
والنخعي وقتادة وأبو هاشم وعبيد الله بن عمر ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقد
حكي عن قوم من الخوارج أنهم قالوا الدية حالة لأنها بدل متلف ولم ينقل إلينا ذلك عمن يعد خلافه
خلافا، وتخالف الدية سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجاني على سبيل المواساة له فاقتضت الحكمة
تخفيفها عليهم، وقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين
ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعا، وأما دية الخطأ فلا نعلم خلافا في أنها على العاقلة، قال ابن المنذر
أجمع على هذا كل من تحفظ عنه من أهل العم، وقد ثبتت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى
483

بدية الخطأ على العاقلة وأجمع أهل العلم على القول به ولان النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية عمد الخطأ على العاقلة
بما قد روينا من الحديث وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ والحكمة في ذلك أن جنايات
الخطأ تكثر ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به فاقتضت الحكمة إيجابها على
العاقلة على سبيل المواساة للقاتل وللاعانة تخفيفا عنه إذا كان معذورا في فعله
(فصل) فأما الكفارة ففي مال القاتل لا يدخلها تحمل وقال أصحاب الشافعي تكون في بيت المال
في أحد الوجهين لأنها تكثر فإيجابها عليه يجحف به
ولنا أنه كفارة فاختصت بمن وجد منه سببها كسائر الكفارات وكما لو كانت صوما ولان الكفارة
شرعت للتكفير عن الجاني ولا يكفر عنه بفعل غيره وتفارق الدية فإنها إنما شرعت لجبر المحل وذلك
يحصل بها كيفما كان ولان النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالدية على العاقلة لم يكفر عن العاقلة، وما ذكروه
لا أصل له، ولا يصح قياسه على الدية لوجوه
(أحدها) أن الدية لم تجب في بيت المال إنما وجبت على العاقلة ولا يجوز أن يثبت حكم الفرع مخالفا لحكم الأصل
(الثاني) أن الدية كثيرة فإيجابها على القاتل بجحف به والكفارة بخلافها
(الثالث) أن الدية وجبت مواساة للقاتل وجعل حظ القاتل من الواجب الكفارة فإيجابها على غيره
قطع للمواساة ويوجب على الجاني أكثر مما وجب عليه وهذا لا يجوز
484

(فصل) ولا يلزم القاتل شئ من دية الخطأ وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة هو
كواحد من العاقلة لأنها وجبت عليهم إعانة له فلا يزيدون عليه فيها
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه وهذا يقتضي
أنه قضى عليهم جميعها ولأنه قاتل لم تلزمه الدية فلم يلزمه بعضها كما لو أمره الإمام بقتل رجل فقتله
يعتقد أنه لحق فبان مظلوما، ولان الكفارة تلزم القاتل في ماله وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر منه
فلا حاجة إلى إيجاب شئ من الدية عليه
(مسألة) (وإن ألقى إنسانا على أفعى أو ألقاها عليه فقتلته أو طلب إنسانا بسيف مجرد فهرب
فوقع في شئ تلف به بصيرا أو ضريرا، أو حفر بئرا في فنائه أو وضع حجرا أو صب ماء في طريقه
أو بالت فيها دابته ويده عليها أو رمى فيها قشر بطيخ فتلف به إنسان وجبت عليه ديته)
يجب الضمان بالسبب كما يجب بالمباشرة فإذا ألقى إنسانا على أفعى أو ألقاها عليه فقتلته فعليه ضمانه
لأنه تلف بعدوانه فأشبه ما لو جنى عليه
(مسألة) (فإن طلب إنسانا بالسيف مشهورا فهرب منه فتلف في هربه ضمنه)
سواء سقط من شاهق أو انخسف به سقف أو خر في بئرا ولقيه سبع فافترسه أو غرق في ماء أو احترق بنار
وسواء كان المطلوب صغيرا أو كبيرا أعمى أو بصيرا عاقلا أو مجنونا، وقال الشافعي لا يضمن البالغ العاقل
485

البصير إلا أن ينخسف به سقف فإن فيه وفي الصغير والمجنون والأعمى قولين لأنه هلك بفعل نفسه
فلم يضمنه الطالب كما لو لم يطلبه
ولنا إنه هلك بسبب عدوانه فضمنه كما لو حفر له بئرا أو نصب له سكينا أو سم طعامه
ووضعه وما ذكروه يبطل بهذه الأصول، وإن طلبه بشئ يخفيه به كالكلب ونحوه فهو كما لو
طلبه بسيف مشهور لأنه في معناه.
(فصل) ولو شهر سيفا في وجه إنسان أو دلاه من شاهق فمات من روعته أو ذهب عقله فعليه
ديته، فإن صاح بصبي أو مجنون صيحة شديدة فخر من سطح أو نحوه فمات أو ذهب عقله، أو تغفل
عاقلا فصاح به فأصابه ذلك فعليه ديته تحملها العاقلة فإن تعمد ذلك فهو شبه عمد وإلا فهو خطأ
ووافق الشافعي في الصبي وله في البالغ قولان، ولنا إنه تسبب إلى إتلافه فضمنه كالصبي
(فصل) وإن قدم إنسانا إلى هدف يرميه الناس فأصابه سهم من غير تعمد فضمانه على عاقله
الذمي قدمه، لأن الرامي كالحافر والذي قدمه كالدافع فكان الضمان على عاقلته وإن عمد الرامي
رميه فالضمان عليه لأنه باشر وذلك متسبب فأشبه الممسك والقاتل، وإن لم يقدمه أحد فالضمان على
الرامي وتحمله عاقلته وإن كان خطأ لأنه قتله.
486

(مسألة) (وإن حفر في فنائه بئرا لنفسه أو في طريق لغير مصلحة المسلمين أو في ملك غيره
بغير إذنه أو وضع في ذلك حجرا أو صب فيه ماء، أو رمى قشر بطيخ فهلك به إنسان ضمنه)
لأنه تلف بعدوانه وروي عن شريح أنه ضمن رجلا حفر بئرا فوقع فيها رجل فمات، وروي
ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق
(مسألة) (وإن بالت فيها دابته فزلق به حيوان فمات به فقال أصحابنا على صاحب الدابة
الضمان إذا كان راكبا أو قائدا أو سائقا)
لأنه تلف حصل من جهة دابته التي يده عليها فأشبه ما لو جنت بيدها أو فمها، وقياس المذهب
أنه لا يضمن ما تلف بذلك لأنه لا يدله على ذلك ولا يمكن التحرز منه فهو كما لو أتلفت برجلها، ويفارق
ما إذا تلفت بيدها أو فمها لأنه يمكنه حفظهما.
(مسألة) (وإن حفر بئر أو وضع آخر مجرا أو نصب سكينا فعثر بالحجر فوقع في البئر
أو على على السكين فالضمان على واضع الحجر وناصب السكين دون الحافر، لأن الحجر كالدافع له وإذا
اجتمع الحافر والدافع فالضمان على الدافع وحده)
وبهذا قال الشافعي ولو وضع رجل حجرا ثم حفر آخر عنده بئرا أو نصب سكينا فعثر بالحجر فسقط
عليهما فهلك احتمل أن يكون الحكم كذلك لما ذكرنا واحتمل أن يضمن الحافر وناصب السكين لأن
487

فعلهما متأخر عن فعله فأشبه ما لو كان زق فيه مائع وهو واقف فحل وكاء إنسان وأماله آخر فسال
ما فيه كان الضمان على الآخر منهما، وإن وضع إنسان حجرا أو حديدة في ملكه وحفر فيه بئرا فدخل
إنسان بغير إذنه فهلك به فلا ضمان على المالك لأنه لم يتعد وإنما الداخل هلك بعد وإن نفسه وإن وضع حجرا
في ملكه ونصب أجنبي فيه سكينا أو حفر بئرا بغير إذنه فعثر رجل بالحجر فوقع على السكين أو في
البئر فالضمان على الحافر وناصب السكين لتعديهما إذا لم يتعلق الضمان بواضع الحجر لانتفاء عدوانه
وإن اشترك جماعة في عدوان تلف به شئ فالضمان عليهم فلو وضع اثنان حجرا وواحد حجرا فعثر بهما إنسان فهلك
فالدية على عواقلهم أثلاثا في قياس المذهب وهو قول أبي يوسف لأن السبب حصل من الثلاثة أثلاثا
فوجب الضمان عليهم سواء، وإن اختلفت أفعالهم كما لو جرحه واحد جرحين وجرحه اثنان جرحين
فمات بها، وقال زفر على الاثنين النصف وعلى واضع الحجر وحده النصف لأن فعله مساو لفعلهما وإن
حفر إنسان بئرا ونصب آخر فيها سكينا فوقع إنسان في البئر على السكين فمات فقال ابن حامد الضمان
على الحافر لأنه بمنزلة الدافع:، وهذا قياس المسائل التي قبلها ونص أحمد على إن الضمان عليهما قال أبو
بكر لأنهما في معنى الممسك والقاتل الحافر كالممسك وناصب السكين كالقاتل فيخرج من هذا إن يجب
الضمان على جميع المتسببين في المسائل السابقة
(فصل) وإن حفر بئرا في ملك نفسه أو في ملك غيره بإذنه فلا ضمان عليه لأنه غير متعد وكذلك
488

إن حفرها في موات أو وضع حجرا أو نصب شركا أو شبكة أو منجلا ليصيد بها لأنه لم يتعد بذلك
وإن فعل شيئا من ذلك في طريق ضيق فعليه ضمان ما تلف به لأنه متعد وسواء أذن له الإمام أو لم يأذن
لأنه ليس للإمام أن يأذن فيما يضر بالمسلمين ولو فعل ذلك الإمام لضمن ما يتلف به فإن كان الطريق
واسعا فحفر في مكان منها يضر بالمسلمين ضمن وإن حفر في مكان لا يضر بالمسلمين وكان حفرها لنفسه ضمن
ما تلف بها سواء حفرها بإذن الإمام أو بغير إذنه وقال أصحاب الشافعي إن حفرها بإذن الإمام لم يضمن لأن
للإمام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل إنه يجوز أن يأذن في القعود فيه ويقطعه لمن يبتاع فيه
ولنا إنه تلف بحفر حفرة في حق مشترك بغير إذن أهله لغيره مصلحتهم فضمن كما لو لم يأذن الإمام
ولا نسلم إن للإمام أن يأذن في هذا فإنما يأذن في القعود لأن ذلك لا يدوم ويمكن إزالته في الحال
فأشبه القعود في المسجد ولان القعود جائز من غير إذن الإمام فكذلك الحفر
(فصل) وإن حفر بئرا في ملك مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه ضمن ما تلف به جميعه وهذا
قياس مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يضمن ما قابل نصيب شريكه فلو كان شريكان ضمن ثلثي التالف
لأنه تعدي في نصيب شريكه وقال أبو يوسف عليه نصف الضمان لأنه تلف بجهتين فكان الضمان نصفين
كما لو جرحه أحدهما جرحا وجرحه الآخر جرحين
489

ولنا إنه متعد بالحفر فضمن الواقع فيها كما لو كان في ملك غيره والشركة أوجب تعدية لجميع الحفر
فكان موجب الجميع الضمان ويبطل ما ذكره أبو يوسف بما لو حفره في طريق مشترك فإن له فيها حقا
ومع ذلك يضمن الجميع والحكم فيما إذا أذن له بعض الشركاء في الحفر دون بعض كالحكم فيما إذا
حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره لكونه لا يباح الحفر ولا التصرف حتى يأذن الجميع
(فصل) وإن حفر إنسان في ملكه بئرا فوقع فيها إنسان أو دابة فهلك به وكان الداخل دخل
بغير إذنه فلا ضمان على الحافر لأنه لا عدوان منه وإن دخل بإذنه والبئر ظاهرة مكشوفة والداخل
بصير يبصرها فلا ضمان أيضا لأن الواقع هو الذي أهلك نفسه فأشبه ما لو قدم إليه سكينا فقتل بها نفسه
فإن كان الداخل أعمى أو كانت في ظلمة لا يبصرها الداخل أو غطى رأسها فلم يعلم الداخل حتى وقع فيها
ضمنه وبهذا قال شريح والشعبي والنخعي وحماد ومالك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقالوا في
الآخر لا يضمنه لأنه هلك بفعل نفسه
ولنا أنه تلف بسببه فضمنه كما لو قدم له طعاما مسموما فأكله وبهذا ينتقض ما ذكروه، وإن
اختلفا فقال صاحب الدار ما أذنت لك في الدخول وادعى ولي الهالك أنه أذن له فالقول قول المالك
لأنه منكر، وإن قال كانت مكشوفة وقال الآخر كانت مغطاة فالقول قول ولي الواقع لأن الظاهر معه
490

فإن الظاهر إنها كانت مكشوفة لم يسقط فيها ويحتمل أن القول قول المالك لأن الأصل براءة ذمته
فلا تشتغل بالشك.
(مسألة) (وإن غصب صغيرا فنهشته حية أو أصابته صاعقة ففيه الدية وإن مات بمرض فعلى وجهين)
لأنه تلف في يده العادية
(أحدهما) يضمنه كالعبد الصغير، (والثاني) لا يضمنه لأنه حر لا نثبت اليد عليه في الغصب أشبه الكبير
(مسألة) (وإن اصطدم نفسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر)
روي هذا عن علي رضي الله ولا يجب القصاص سواء كان اصطدامها عمدا أو خطأ لأن الصدمة
لا تقتل غالبا فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ ولا فرق بين البصيرين، والأعميين، والبصير
والأعمى، فإن كان امرأتين حاملين فهما كالرجلين فإن أسقطت كل واحدة منهما جنبيا فعلى كل واحدة
نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها لأنهما اشتركتا في قتله وعلى كل واحدة منهما عتق
ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها واثنتان لمشاركتها في الجنينين، فإن أسقطت إحداهما دون الأخرى
اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة منهما عتق رقبتين، وإن اصطدم راكب وماش فهو كما لو كانا ماشيين
وإن اصطدم راكبان فماتا فهو كما لو كانا ماشيين
(مسألة) (وإن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما قيمة دابة الآخر)
491

وجملة ذلك أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال
سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره مقبلين
كانا أو مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق، وقال مالك والشافعي على كل واحد منهما
نصف قيمة ما تلف من الآخر لأن التلف حصل بفعلهما فكان الضمان منقسما عليهما كما لو جرح إنسان
نفسه وجرحه غيره فمات منهما
ولنا أن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها
كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن تساوتا تقاصتا وسقطتا وان
كانت أحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزيادة وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها
وإن نقصت فعليه نقصها فإن كل أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه الثاني فصدمة فماتت الدابتان
أو إحداهما فالضمان على اللاحق لأنه الصادم والآخر مصدوم
(مسألة) (إلا أن يكون أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر ضمان الواقف ودابته)
نص أحمد على هذا لأن السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه فإن مات هو أو دابته فهو
هدر لأنه أتلف نفسه ودابته، وإن انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين لأن
التلف حصل من فعلهما
492

(مسألة) (إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه فيه وعليه ضمان ما تلف به)
إذا كان الواقف متعديا بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر لأن التلف
حصل بتعديه فكان الضمان عليه كما لو وضع حجرا في الطريق أو جلس في طريق ضيق فعثر به إنسان
(مسألة) (وإن أركب صبيين لا ولاية له عليهما فاصطدما فماتا فعلى عاقلته ديتهما)
لأنه متعد بذلك وتلفهما بسبب جنايته
(مسألة) (وإن رمى ثلاثة بمنجنيق فقتل الحجر إنسانا فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث ديته)
لا يخلو ذلك من حالين (أحدهما) أن يكون المقتول واحدا منهم (والثاني) أن يكون من غيرهم فإن
كان من غيرهم فالدية على عواقلهم أثلاثا لأن العاقلة تحمل الثلث فما زاد وسواء قصدوا رمي واحد بعينه
أو قصدوا رمي جماعة أو لم يقصدوا ذلك لأنهم إن لم يقصدوا قتل آدمي معصوم فهو خطأ ديته دية
الخطأ، وإن قصدوا رمي جماعة أو واحدا بعينه فهو شبه عمد لأن قصد الواحد بالمنجنيق لا يكاد
يفضي إلى إتلافه فيكون شبه عمد تحمله العاقلة في ثلاث سنين وعلى قول أبي بكر لا تحمل العاقلة
شبه العمد فلا تحمله ههنا.
(الحال الثاني) أن يصيب واحدا منهم فعلى كل واحد كفارة ولا تسقط عمن أصابه الحجر لأنه
شارك في قتل نفس مؤمنة والكفارة إنما تجب لحق الله تعالى فوجبت عليه بالمشاركة في نفسه كوجوبها
بالمشاركة في قتل غيره، وأما الدية ففيها ثلاثة أوجه
493

(أحدهما) إن على عاقلة كل واحد منهم ثلث دية المقتول لورثته لأن كل واحد منهم مشارك في قتل
نفس مؤمنة خطأ فلزمته ديتها كالأجانب وهذا ينبني على أن جناية المرء على نفسه وأهله خطأ تتحمل عقلها عاقلته
(الوجه الثاني) إن ما قابل فعل المقتول ساقط لا يضمنه أحد لأنه شارك في إتلاف حقه فلم
يضمن ما قابل فعله كما لو شارك في قتل بهيمته أو عبده، وهذا الذي ذكره القاضي في المجرد ولم يذكر
غيره وهو مذهب الشافعي
(الثالث) أن يلغى فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين نصفين. قال
أبو الخطاب هذا قياس المذهب بناء على مسألة المتصادمين قال شيخنا والذي ذكره القاضي أحسن
وأصح في النظر، وقد روي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه في مسألة القارضة والقابضة والواقصة
قال الشعبي وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فارن فركبت إحداهن على عتق أخرى وقرصت الثالثة
المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت عنقها فماتت فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقضى بالدية
أثلاثا على عواقلهن وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة لأنها أعانت على قتل نفسها وهذا شبيهة
بمسئلتنا ولان المقتول شارك في القتل فلم تكمل الدية على شريكيه كما لو قتلوا واحدا من غيرهم فإن رجع
الحجر فقتل اثنين من الرماة فعلى الوجه الأول تجب ديتهما على عواقلتهم أثلاثا وعلى كل واحد
منهم كفارتان، وعلى الوجه الثاني يجب على عاقلة الحي منهم لكل ميت ثلث ديته وعلى عاقلة كل واحد
494

من الميتين ثلث دية صاحبه ويلغى فعل نفسه وعلى الوجه الثالث على عاقلة الحي لكل واحد منهم نصف
الدية وتجب على عاقلة كل واحد من الميتين نصف الدية لصاحبه
(مسألة) (وإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة في أموالهم في الصحيح من الذهب إلا على
الوجه الذي اختاره أبو الخطاب فإنهم إذا كانوا أربعة فقتل الحجر أحدهم فإنه يجب على عاقلة كل
واحد من الثلاثة الباقين ثلث الدية لأنهم يحملونها كلها فأما إن كانوا أكثر من أربعة أو كان المقتول
من غيرهم وهم أربعة فإن الدية حالة في أموالهم لأن المقتول يلغي فعله في نفسه ويكون هدرا لأنه لا
يجب عليه لنفسه شئ ويكون باقي الدية في أموال شركائه حالا لأن التأجيل في الديات إنما يكون فيما
تحمله النافية وهذا دون الثلث والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث، وذكر أبو بكر فيها رواية أخرى أن
العاقلة تحملها لأن الجناية فعل واحد أوجب دية تزيد على الثلث والصحيح الأول لأن كل واحد منهم
يختص بموجب فعله دون فعل شركائه وحمل العاقلة إنما شرع لتخفيف على الجاني فيما يشق ويثقل
وما دون الثلث يسير على ما تذكره والذي يلزم كل واحد أقل من الثلث وقوله إنه لعل واحد قلنا بل هي
أفعال فإن فعل واحد غير فعل الآخر وإنما موجب الجميع واحد فأشبه ما لو حرمه كل واحد
جرحا فماتت النفس بجميعها إذا ثبت هذا فالضمان معلق بمن مد الحبال ورمى الحجر دون من وضعه
في الكفة وأمسك الخشب اعتبارا بالمباشر كمن وضع سهما في قوس إنسان ورماه صاحب القوس
فالضمان على الرمي دون الواضع
495

(مسألة) (وإن جنى إنسان على نفسه أو طرفه خطأ فلا شئ له وعنه على عاقلته ديته لورثته
ودية طرفه لنفسه)
أما إذا كانت الجناية عمدا فلا شئ له إجماعا وإن كانت خطأ فكذلك في إحدي الروايتين
قياسا على العمد ولما روي أن عامر بن الأكوع يوم خيبر رجع سيفه عليه فقتله ولم ينقل أن النبي
صلى الله عليه وسلم قضى فيه بدية ولا غيرها ولو كانت واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم ولنقل ظاهرا (والرواية الثانية)
أن ديته على عاقلته لورثته ودية طرفه لنفسه وهو ظاهر كلام الخرقي ذكره فيما إذا رمى ثلاثة
بالمنجنيق فرجع الحجر فقتل أحدهم لما روي أن رجلا ساق حمارا فضربه بعصا كانت معه فطارت
منها شظية فأصابت عينه ففقأتها فجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ديته على عاقلته وقال هي يد من
أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد لم يعرف له مخالف ولأنه قتل خطأ فكانت ديته على عاقلته
كما لو قتل غيره والأول أصح في القياس، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة ومالك والثوري
والشافعي وأصحاب الرأي لما ذكرنا من حديث عامر بن الأكوع حين رجع سيفه عليه يوم خيبر
فمات ولان وجوب الدية على العاقلة على خلاف الأصل مواساة للجاني وتخفيفا عنه وليس ههنا على
الجاني شئ يخفف عنه ولا يقتضي النظر أن تكون جنايته على نفسه على غيره ويفارق هذا ما إذا كانت
الجناية على غيره فإنه لو لم تحمله العاقلة لا * جحف به وجوب الدية لكثرتها وقال القاضي الرواية الثانية
496

أظهر عنه فعلى هذه الرواية إن كانت العاقلة هي الوارثة لم يجب شئ لأنه لا يجب للانسان شئ على
نفسه فإن كان بعضهم وإرثا سقط عن الوارث ما يقابل ميراثه فإن كانت جنايته على نفسه شبه عمد
فهو كالخطأ في أحد الوجهين وفي الآخر لا تحمله العاقلة بحال
(مسألة) (وإن نزل رجل في بئر فخر عليه آخر فمات الأول من سقطه فعلى عاقلته ديته)
وجملة ذلك أنه إذا نزل رجل في بئر فسقط عليه آخر فقتله فعليه ضمانه كما لو رمي عليه حجرا
ثم ينظر فإن كان عمد رمي نفسه عليه وهو مما يقتل غالبا فعليه القصاص، وإن كان مما لا يقتل غالبا
فهو شبه عمد، وإن وقع خطأ فالدية على عاقلته محققة، وإن مات الثاني بوقوعه على الأول فدمه
هدر لأنه مات بفعله، وقد روى علي بن رباح اللخمي إن رجلا كان يقود أعمى فوقعا في بئر
خر البصير فوقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى بنشد في الموسم
يا أيها الناس لقيت منكرا * هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا؟ * خرا معا كلاهما تكسرا
وهذا قول ابن الزبير وشريح والنخعي والشافعي وإسحاق قال شيخنا: ولو قال قاتل ليس
على الأعمى ضمان البصير لأنه الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه وكان سبب وقوعه عليه ولذلك لو
فعله قصدا لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى إلا أن يكون مجمعا عليه فلا يجوز مخالفة
الاجماع، ويحتمل إنه إنما لم يجب الضمان على القائد لوجهين
497

(أحدهما) أنه مأذون فيه من جهة الأعمى فلم يضمن ما تلف به كما لو حفر له بئرا في داره بإذنه فتلف بها
(الثاني) أنه فعل مندوب إليه مأمور به فأشبه ما لو حفر بئرا في سابلة ينتفع بها المسلمون فإنه لا
يضمن ما تلف، بها وإن مات الثاني فدمه هدر لأنه لا صنع لغيره في هلاكه
(مسألة) (وإن وقع عليهما ثالث فمات الثاني به فعلى عاقلة الثالث ديته)
لأنه تلف من سقطته، وإن مات الأول من سقطتهما فديته على عاقلتهما لأنه مات بوقوعهما عليه
ودية الثاني على الثالث لأنه إنفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته، ودم الثالث هدر لأنه لا صنع لغيره
في هلاكه هذا إذا كان الوقوع هو الذي قتله، فإن كان البئر عميقا يموت الواقع بمجرد وقوعه لم
يجب ضمان على أحد لأن كل واحد منهم مات بوقعته لا بفعل غيره، وإن أحتمل الامرين فكذلك
لأن الأصل عدم الضمان.
(مسألة) (وإن كان الأول جذب الثاني وجذب الثاني الثالث فلا شئ على الثالث)
لأنه لا فعل له ووجبت ديته على الثاني في أحد الوجهين لأنه هو جذبه وباشره بذلك والمباشرة
تقطع حكم المتسبب كالحافر مع الدافع (والثاني) ديته على الأول والثاني نصفين لأن الأول جذب الثاني
الجاذب للثالث فصار مشاركا للثاني في إتلافه، ودية الثاني على عاقلة الأول في أحد الوجهين لأنه هلك
بجذبته، وإن هلك بسقوط الثالث عليه فقد هلك بجذبة الأول وجذبة نفسه للثالث فسقط فعل نفسه
498

كالمصطدمين وتجب ديته بكمالها على الأول ذكره القاضي (والوجه الثاني) يجب على الأول نصف ديته ويهدر نصفها في مقابلة فعل نفسه وهذا مذهب الشافعي، ويتخرج وجه ثالث وهو وجوب نصف ديته
على عاقلته لورثته كما قلنا فيما إذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فقتل الحجر أحدهم، وأما الأول إذا مات بوقوعهما
عليه ففيه الأوجه الثلاثة لأنه مات من جذبته وجذبة الثاني للثالث فتجب ديته كلها على عاقلة الثاني
ويلغى فعل نفسه على الوجه الأول وعلى الثاني يهدر نصف ديته المقابل لفعل نفسه ويجب نصفها على
الثاني وعلى الثالث يجب نصفها على عاقلته لورثته
(فصل) وإن جذب الثالث رابعا فمات جميعهم بوقوع بعضهم على بعض فلا شئ على الرابع لأنه
لم يفعل شيئا في نفسه ولا غيره وفي ديته وجهان (أحدهما) أنها على عاقلة الثالث المباشر لجذبه
(والثاني) على عاقلة الأول والثاني والثالث لأنه مات من جذب الثلاثة فكانت ديته على عواقلهم، وأما
الأول فقد مات بجذبته وجذبة الثاني وجذبة الثالث ففيه ثلاثة أوجه
(أحدهما) أنه يلغى فعل نفسه وتجب ديته على عاقلة الثاني والثالث نصفين
(والثاني) يجب على عاقلتهما ثلثاها ويسقط ما قابل فعل نفسه
(والثالث) يجب ثلثها على عاقلته لورثته وأما الجاذب فقد مات بالافعال الثلاثة وفيه هذه
الأوجه الثلاثة المذكورة في الأول سواء، وأما الثالث ففيه مثل هذه الأوجه الثلاثة ووجهان آخران
499

(أحدهما) أن ديته بكمالها على الثاني لأنه المباشر لجذبه فسقط فعل غيره بفعله (والثاني) أن على
عاقلته نصفها ويسقط النصف الثاني في مقابلة فعله في نفسه
(فصل) وإن وقع بعضهم على بعض فماتوا نظرت فإن كان موتهم بغير وقوع بعضهم على بعض
مثل أن يكون البئر عميقا يموت الواقع فيه بنفس الوقوع أو كان فيه ما يغرق الواقع فيقتله أو أسد
يأكلهم فليس على بعضهم ضمان بعض لعدم تأثير فعل بعضهم في هلاك بعض، وإن شككنا في ذلك لم
يضمن بعضهم بعضا لأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك، وإن كان موتهم بوقوع بعضهم على
بعض فدم الرابع هدر لأن غيره لم يفعل فيه شيئا وإنما هلك بفعله وعليه دية الثالث لأنه قتله بوقوعه
عليه ودية الثاني عليه وعلى الثالث نصفين ودية الأول على الثلاثة أثلاثا
(مسألة) (وإن خر رجل في زبية أسد فجذب آخر وجذب الثاني، ثالثا وجذب الثالث رابعا
فقتلهم الأسد فالقياس أن دم الأول هدر وعلى عاقلته دية الثاني وعلى عاقلة الثاني دية الثالث
وعلى عاقلة الثالث دية الرابع، وفيه وجه آخر أن دية الثالث على عاقلة الأول والثاني نصفين ودية
الرابع على عاقلة الثلاثة أثلاثا)
الحكم في هذه المسألة أنه لا شئ على الرابع لأنه لم يفعل شيئا وديته على عاقلة الثالث في أحد الوجهين
وفي الثاني على عواقل الثلاثة أثلاثا ودم الأول هدر وعلى عاقلته دية الثاني، وأما دية الثالث فعلى الثاني
500

في أحد الوجهين وفي الآخر على الأول والثاني نصفين هذه تسمى مسألة الزبية وقد روى حنش الصنعاني أن
قوما من أهل اليمن حفروا زبية للأسد فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد فجذب ثانيا وجذب الثاني ثالثا
ثم جذب الثالث رابعا فقتلهم الأسد فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال للأول ربع الدية لأنه
هلك فوقه ثلاثة وللثاني ثلث الدية لأنه هلك فوق اثنان وللثالث نصف الدية لأنه هلك فوقه واحد وللرابع كمال
الدية وقال فإني أجعل الدية على من حضر رأس البئر فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هو كما قال رواه سعيد
بن منصور ثنا أبو عوانة وأبو الأحوص عن سماك بن حرب عن أنس بنحو هذا المعنى قال أبو الخطاب
فذهب أحمد إلى ذلك توقيفا على خلاف القياس وقد ذكر بعض أهل العلم إن هذا الحديث لا يثبته أهل النقل
وإنه ضعيف والقياس ما قلناه فلا ينتقل عنه إلى ما لا يدرى ثبوته ولا معناه
(مسألة) (ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه وليس به مثل ضروره فمنعه حتى مات
ضمنه نص عليه)
وجمله ذلك إن من أخذ طعام انسان أو شرابه في برية أو مكان لا يقدر فيه على طعام وشراب
فهلك بذلك أو هلكت بهيمته فعليه ضمان ما تلف به لأنه سبب هلاكه وكذلك إن اضطر إلى طعام
وشراب لغيره فطلبه منه فمنعه إياه مع غناه عنه في تلك الحال فمات بذلك ضمنه المطلوب منه لما روي
عن عمر رضي الله عنه إنه قضى بذلك ولأنه إذا اضطر فصار أحق به ممن هو في يده وله أخذه قهرا فإذا
501

منعه إياه تسبب إلى هلاكه بمنعه ما يستحقه فلزمه ضمانه كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك وظاهر
كلام أحمد أن الدية في ماله لأنه تعمد هذا الفعل الذي يقتل مثله غالبا وقال القاضي يكون على عاقلته
لأن هذا لا يوجب القصاص فيكون شبه عمد وإن لم يطلبه منه لم يضمنه لأنه لم يمنعه ولم يوجد منه فعل
تسبب به إلى هلاكه، وخرج عليه أو الخصاب كل من أمكنه إنجاء إنسان من مهلكة فلم ينجه منها
مع قدرته على ذلك إنه يجب عليه ضمانه قياسا على ما إذا طلب الطعام فمنعه إياه مع غناه عنه حتى هلك
ولنا إن هذا لم يهلكه ولم يكن سببا في هلاكه فلا يضمنه كما لو لم يعلم بحاله، وقياس هذا على المسألة
التي ذكرها غير صحيح لأنه في الأولى منعه منعا كان سببا في هلاكه فيضمنه بفعله الذي تعدى به وههنا
لم يفعل شيئا يكون سببا
(مسألة) (وإن أفزع إنسانا فأحدث بغائط فعليه ثلث ديته وعنه لا شئ عليه)
وجملة ذلك إنه إذا ضرب إنسانا حتى أحدث فإن عثمان رضي الله عنه قضى فيه بثلث الدية قال
أحمد لا أعرف شيئا يدفعه وبه قال إسحاق وعنه لا شئ عليه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن
الدية إنما تجب لاتلاف منفعة أو عضو أو إزالة جمال وليس ههنا شئ من ذلك وهذا هو القياس وإنما
ذهب من ذهب إلى إيجاب الثلث لقضية عثمان لأنه في مظنة الشهرة ولم ينقل خلافهما فيكون إجماعا
ولان قضاء الصحابي فيما يخالف القياس يدل على أنه توقيف وسواء كان الحديث ببول أو غائط أو ريح قاله
القاضي وكذلك الحكم فيما إذا أفزعه حتى أحدث والأولى إن شاء الله التفريق بين الريح وغيرها إن كان
قضاء عثمان في الغائط والبول لأن ذلك أفحش فلا يقاس عليه
502

(فصل) إذا أكره رجلا على قتل إنسان فقتله فصار الامر إلى الدية فهي عليهما لأنهما كالشريكين
ولو أكره رجل امرأة على الزنا فحملت وماتت من الولادة ضمنها لأنها ماتت بسبب فعله وتحمله العاقلة
إلا إن لا يثبت ذلك إلا باعترافه فتكون الدية عليه لأن العاقلة لا تحمل اعترافا ولذلك إن شهد شاهدان
على رجل بقتل عمد فقتل ثم رجعا عن الشهادة لزمهما الضمان كالشريكين في الفعل ويكون الضمان في مالهما
لا تحمله العاقلة لأنها الاعتراف وهذا ثبت باعترافهما
(فصل) إذا قتل رجلا وادعى إنه كان عبدا أو القى عليه حائطا وادعى انه كان ميتا وأنكر وليه
فالقول قول الولي مع يمينه وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر القول قول الجاني لأن الأصل
براءة ذمته وما ادعاه محتمل فلا يزول عن اليقين بالشك
ولنا أن الأصل حياة المجني عليه وحريته فيجب الحكم ببقائه كما لو قتل مسلما وادعى أنه ارتد
قبل قتله وبهذا يبطل ما ذكره، وإن قطع عضو أو ادعى شلله أو قلع عينا وادعى عماها وأنكر المجني عليه
فالقول قوله لأن الأصل السلامة وهكذا لو قطع ساعدا وادعى إنه لم يكن عليه كف أو ساقا وادعى
إنه لم يكن لها قدم، وقال القاضي ان اتفقا على أنه كان بصيرا فالقول قول المجني عليه وإلا فالقول قول
الجاني وهذا مذهب الشافعي لأن هذا مما يتعذر إقامة البينة عليه فإنه لا يخفى على أهله وجيرانه ومعامليه
503

وصفة أداء الشهادة عليه إنه كان يتبع الشخص بسره يتوقى ما يتوقاه البصير ويتجنب البئر وأشباهه في
طريقه ويعدل في العطفات * خف من يطلبه
ولنا إن الأصل السلامة فكان القول قول من يدعيها كما لو اختلفا في إسلام المقتول في دار الاسلام
وفي حياته، قولهم لا يتعذر إقامة البينة عليه قلنا وكذلك لا يتعذر إقامة البينة على ما يدعيه الجاني فإيجابها
عليه أولى من إيجابها على من يشهد له الأصل، ثم البطل بسائر المواضع التي سلموها، فإن قالوا ههنا ما يثبت
أن الأصل وجود البصر، قلنا الظاهر يقوم مقام الأصل ولهذا رجحنا قول من يدعى حريته وإسلامه
(فصل) ومن أدب ولده أو امرأته في النشوز أو المعلم صبيه أو السلطان رعيته ولم يسرف فأفضى
إلى تلفه لم يضمنه لأنه أدب مأذون فيه شرعا فلم يضمن ما تلف به كالحد والتعزير
(مسألة) (ويتخرج وجوب الضمان على ما قاله إذا أرسل السلطان إلى امرأة ليحضرها
فأجهضت جنينا أو ماتت فعلى عاقلته الدية)
وجملة ذلك إن السلطان إذا بعث إلى امرأة ليحضرها فأسقطت جنينا فمات ضمنه لما روي إن
عمر رضي الله عنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت يا ويلها ما لها ولعمر فبينا هي في الطريق
إذ فزعت فضر بها الطلق فألقت ولدا فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
فأشار بعضهم إن ليس عليك شئ إنما أنت وال ومؤدب وصمت علي فأقبل عليه عمر فقال ما تقول يا أبا
504

الحسن فقال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأوا رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك
لأنك أفزعتها فألقته فقال عمر أقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك، ولو فزعت المرأة
فماتت وجبت ديتها أيضا ووافق الشافعي في ضمان الجنين وقال لا تضمن المرأة لأن ذلك ليس
بسبب لهلاكه في العادة
ولنا إنها نفس هلكت بإرساله إليها فضمنها كجنينها أو نفس هلكت بسببه فعزمها كما لو ضربها فماتت.
قوله إنه ليس بسبب عادة قلنا إذا كانت حاملا فهو سبب للاسقاط والاسقاط سبب للهلاك ثم لا يعتبر
في الضمان كونه سببا معتاد فإن الضربة والضربتين بالسوط ليست سببا للهلاك في العادة ومتى أفضت
إليه وجب الضمان وإن استعدى إنسان على المرأة فألقت جنينها أو ماتت فزعا فعلى عاقلة المستعدي
الضمان إن كان ظالما لها وإن كانت هي الظالمة فأحضرها عند الحاكم فينبغي أن لا يضمنها لأنها سبب
إحضارها بظلمها فلا يضمنها غيرها ولأنه استوفى حقه فلم يضمن ما تلف به كالقصاص ولكن يضمن
جنينها لأنه تلف بفعله فأشبه ما لو اقتص منها
(مسألة) (وإن سلم ولده إلى السابح ليعلمه فغرق لم يضمنه ويحتمل إن تضمنه العاقلة)
إما إذا سلم ولده الصغير إلى السابح ليعلمه السباحة فغرق فالضمان على عاقلته السابح لأنه سلمه إليه
505

ليحتاط في حفظه فإذا غرق نسب إلى التفريط في حفظه وقال القاضي قياس المذهب أنه لا يضمنه لأنه
فعل ما جرت العادة به لمصلحته فلم يضمن ما تلف به كما إذا ضرب العلم الصبي ضربا معتادا فتلف به
فأما الكبير إذا غرق فليس على السابح شئ إذا لم يفرط لأن الكبير في يد نفسه لا ينسب التفريط
في هلاكه إلى غيره
(مسألة) (وإن أمر إنسانا أن ينزل بئرا أو يصعد شجرة فهلك بذلك لم يضمنه) لأنه لم يجن
ولم يتعد فأشبه ما لو أذن له ولم يأمره إلا أن يكون الآمر السلطان فهل يضمنه؟ على وجهين
(أحدهما) لا يضمنه كغيره (والثاني) يضمنه لأنه يخاف منه إذا خالفه وهو مأمور بطاعته إلا
أن يكون المأمور صغير إلا يميز فيضمنه لأنه تسبب إلى إتلافه
(مسألة) (وإن وضع جرة على سطحه أو حائطه أو حجرا فرمته الريح على إنسان فقتله أو
شئ أتلفه لم يضمنه)
لأن ذلك بغير فعله ووضعه ذلك كان في ملكه، ويحتمل أن يضمن إذا وضعها متطرفة لأنه تسبب
إلى إلقائها وتعدى بوضعها فأشبه ما لو بنى حائطا مائلا
(مسألة) (وإن أخرج جناحا إلى الطريق أو ميزابا فسقط على إنسان فأتلفه ضمنه)
لأن إخراج الجناح إلى الطريق غير جائز لأنه تصرف في غير ملكه إذا كان الطريق نافذا أو غير
نافذ ولم يأذن فيه أصحابه إذا سقط على شئ فأتلفه ضمنه لأنه تلف بعدوانه فضمنه كما لو وضع البناء
على أرض الطريق وكذلك الحكم في الميزاب وفي ذلك اختلاف وتفصيل ذكرناه في الغصب والله أعلم
506

باب مقادير ديات النفس
دية الحر المسلم مائة من الإبل أو مائتا بقرة أو ألفا شاة ألف مثقال أو إثنا عشر ألف درهم
فهذه الخمس أصول في الدية إذا أحضر من عليه الدية شيئا منها لزم قبوله
وجملة ذلك أنا إذا قلنا إن هذه الخمس أصول في الدية إذا أحضر من عليه الدية من القاتل أو العاقلة
شيئا منها لزم الولي أخذه ولم يكن له المطالبة بغيره سواء كان من أهل ذلك النوع أو لم يكن لأنها
أصول في قضاء الواجب يجزئ واحد منها فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه كخصال الكفارة
وشاتي الجيران في الزكاة مع الدراهم وكذلك الحكم في الحال إذا قلنا إنها أصل
(فصل) ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن الإبل أصول في الدية وأن دية الحر المسلم مائة من
الإبل وقد دلت عليه الأحاديث الواردة منها حديث عمرو بن حزم وحديث عبد الله بن عمر وفي دية
خطأ العمد وحديث ابن مسعود في دية الخطأ وسنذكرها إن شاء الله تعالى.
قال القاضي لا يختلف المذهب ان أصول الدية الإبل والذهب والورق والبقر والغنم فهذه خمسة
لا يختلف المذهب فيها، وهذا قول عمر وعطاء وطاوس والفقهاء السبعة، وبه قال الثوري وابن أبي ليلي
وأبو يوسف، ومحمد بن عمرو بن حزم روى في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن " وان في النفس
507

المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الورق ألف دينار " رواه النسائي وروى ابن عباس أن رجلا من
بني عدي قبل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا، رواه أبو داود وابن ماجة وروى الشعبي أن
عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار، وعن عمرو بن شيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيبا
فقال: ألا ان الإبل قد غلت قال فقوم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا
وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء الفي شاة وعلى أهل الحال مائتي حلة رواه أبو داود
(مسألة) (وفي الحلل روايتان)
(إحداهما) ليست أصلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا ان في قيل عمد الخطأ قيل السوط والعصا مائة
من الإبل. (الثانية) أنها أصل لما ذكرنا من قول عمر حين قام خطيبا فجعل على أهل الحلل مائتي
حلة رواه أبو داود وهذا كان بمحضر من الصحابة فكان اجماعا وكل حلة بردان
(مسألة) (وعن أحمد رحمه الله أن الإبل هي الأصل خاصة)
وهذا ظاهر كلام الخرقي وذكرها أبو الخطاب عن أحمد وهو قول طاوس والشافعي وابن المنذر
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا ان في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط مائة من الإبل " ولان النبي صلى الله عليه وسلم فرق
بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها ولا يتحقق هذا في غير الإبل ولأنه بدل متلف حقا
لآدمي فكان متعينا كعوض الأموال وحديث ابن عباس يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الورق بدلا
508

عن الإبل وإنما الخلاف في كونها أصلا وحديث عمرو بن شعيب يدل على أن الأصل الإبل فإن ايجابه
لهذه المذكورات على سبيل التقويم لغلاء الإبل ولو كانت أصولا بنفسها لم يكن ايجابها تقويما للإبل،
ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك ولا لذكره معنى. وقد روي أنه كان يقوم الإبل قبل أن تغلو
ثمانية آلاف درهم ولذلك قيل إن دية الذمي أربعة آلاف وديته نصف الدية فكان ذلك أربعة آلاف
حين كانت الدية ثمانية آلاف
(فصل) إذا قلنا إن الأصول خمسة فإن قدرها ما ذكرنا في المسألة في أول الباب ولم يختلف
القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب ولا من سائرها إلا الورق فإن الثوري وأبا حنيفة قالوا:
قدرها من الورق عشرة آلاف، وحكي ذلك عن ابن شبرمة لما روى الشعبي أن عمر جعل على أهل
الورق عشرة آلاف ولان الدينار معدول في الشرع بعشرة دراهم بدليل أن نصاب الذهب عشرون
مثقالا ونصاب الفضة مائتا درهم وبما ذكرناه قال الحسن وعروة مالك والشافعي في قول وروي ذلك
عن عمر وعلي وابن عباس لما ذكرنا من حديث ابن عباس وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
عن عمر ولان الدينار معدول باثني عشر درهما بدليل أن عمر فرض الجزية على الغني أربعة دنانير أو
ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط دينارين أو أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير دينارين أو اثني عشر درهما
وهذا أولى مما ذكروه في نصاب الزكاة لأنه لا يلزم أن يكون نصاب أحدهما معدولا بنصاب الآخر
509

كما أن السائمة من بهيمة الأنعام ليس نصاب شئ منها معدولا بنصاب غيره قال ابن عبد البر: ليس
في جعل الدية عشرة آلاف عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مرسل ولا مسند وحديث الشعبي عن عمر يخالفه
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه جده عنه
(مسألة) (وإذا قلنا إن الإبل هي الأصل خاصة فعلى من عليه الدية تسليمها إلى مستحقها سليمة
من العيوب وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه)
لأن الحق متعين فيها فاستحقت كالمثل في المتلفات المتلفة، وان اعوزت الإبل أو لم توجد الا
بأكثر من ثمن المثل فله العدول إلى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم وهذا قول الشافعي في القديم
وقال في الجديد تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لحديث عمرو بن شعيب عن عمر في تقويم الإبل ولان
ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته عند تعذره كذوات الأمثال ولان الإبل إذا أجزأت إذا قلت
قيمتها فينبغي أن تجب، وان كثرت قيمتها كالدنانير إذا غلت أو رخصت وهكذا ينبغي أن يقول إذا
غلت الإبل كلها فأما ان كانت الإبل موجودة بثمن مثلها الا أن هذا لم يجدها لكونها في غير ولده فإن
عمر قوم الدية من الدراهم باثني عشر ألفا ومن الذهب ألف دينار
(مسألة) (فإن كان القتل عمدا أو شبه عمد وجبت أرباعا خمس وعشرون بنت مخاض وخمس
510

وعشرون لبون بنت وخمس وعشرون حقه وخمس جذعة وعنه أنها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة
وأربعون خلفة في بطونها أولادها)
اختلفت الرواية عن أحمد في مقدارها فروى جماعة عن أحمد أنها أرباع وكذلك ذكره الخرقي
وهو قول الزهري وربيعة ومالك وسليمان بن يسار وأبي حنيفة وروي ذلك عن أبو مسعود رضي الله
عنه، وروي جماعة عن أحمد أنها ثلاثون حقه وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها،
وبهذا قال عطاء ومحمد بن الحسن والشافعي وروي ذلك عن عمر وزيد وأبي موسى والمغيرة رضي الله عنهم
لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قتل مؤمنا متعمدا دفع
إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وان شاءوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون
خلفة " وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل رواه الترمذي وقال هو حديث حسن غريب وعن عبد الله بن
عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة
في بطونها أولادها " رواه الإمام أحمد وأبو داود وعن عمرو بن شعيب ان رجلا يقال له قتادة حذف
ابنه بالسيف فقتله فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقه وثلاثين جذعة وأربعين خلفة رواه مالك في
الموطأ. ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرباعا خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا وعشرين بنت لبون وعشرين مخاض
511

ولأنه حق يتعلق بجنس الحيوان فلا يعتبر فيه الحمل كالزكاة والأضحية والخلفة الحامل وقول النبي صلى الله عليه وسلم
" في بطونها أولادها " تأكيد وهل يعتبر في الخلفات كونها ثنايا؟ على وجهين (أحدهما) لا يعتبر لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الخلفات ولم يقيدها فأي فاقة حملت فهي خلفة تجزئ في الدية واعتبار السن تقييد
لا يصار إليه إلا بدليل (والثاني) يشترط لأن في بعض ألفاظ الحديث " أربعون خلفة ما بين ثنية عامها إلى
بازل " ولان سائر أنواع الإبل مقدره السن فكذلك الخلفة والذي ذكره القاضي هو الأول والثنية
التي لها خمس سنين ودخلت السادسة وقلما تحمل الأثنية ولو أحضرها خلفة سقطت قبل قبضها فعليه بدلها
(فصل) فإن اختلفا في حملها رجع إلى أهل الخبرة كما يرجع إلى حمل المرأة في القوابل وان تسلمها
الولي ثم قال لم تكن حوامل وقد ضمرت أجوافها فقال الجاني بل قد ولدت عندك نظرت فإن قبضها
بقول أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الظاهر إصابتهم وان قبضها بغير قولهم فالقول قول
الولي لأن الأصل عدم الحمل.
(مسألة) (وإن كان القتل خطأ وجبت أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون
بنت لبون وعشرون حقة وعشرون جزعة)
لا يختلف المذهب ان دية الخطأ أخماس كما ذكرنا وهذا قول ابن مسعود والنخعي وأصحاب
الرأي وابن المنذر وقال عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري والليث وربيعة ومالك والشافعي
512

هي أخماس إلا انهم جعلوا مكان بني مخاض بني لبون، وهكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي عن ابن مسعود
قال الخطابي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ودي الذي قتل بخيبر بمائة من أبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة
ابن مخاض، وروي عن علي والحسن والشعبي والحارث العكلي وإسحاق أنها أرباع كدية العمد سواء
وعن زيد أنها ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض، قال طاوس
ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وثلاثون بنت مخاض وعشر بني لبون ذكور لما روى عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ان من قتل خطأ فديته من الإبل ثلاثون بنت مخاض
وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشر بني لبون ذكور، رواه أبو داود وابن ماجة، وقال أبو ثور
الديات كلها أخماس كدية الخطأ لأنها بدل متلف فلا يختلف بالعمد والخطأ كسائر المتلفات وحكي عنه
ان دية العمد مغلظة ودية شبه الخطأ والعمد أخماس لأن شبه العمد تحمله العاقلة فكان أخماسا كدية الخطأ
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون
جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بني مخاض وعشرون بنت لبون " رواه أبو داود والنسائي
وابن ماجة ولان ابن لبون يجب على طريق البدل عن ابنة مخاض في الزكاة إذا لم يجدها فلا يجمع بين البدل
والمبدل في واجب ولان موجبهما واحد فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض، ولان ما قلناه الأقل والزيادة
513

عليه لا نثبت إلا بتوقيف على من ادعاه الدليل، فاما قتيل خيبر فلا حجة لهم فيه لأنهم لم يدعوا القتل إلا
عمدا فتكون ديته دية العمد وهي من أسنان الصدقة والخلاف في دية الخطأ، وقول أبي ثور يخالف
الآثار المروية التي ذكرناها فلا يعول عليه
(مسألة) (ويؤخذ في البقر النصف مسنات والنصف أتبعة وفي الغنم النصف ثنايا والنصف اجذعة
إذا كانت الغنم ضأنا) لأن دية الإبل من الأسنان من المقدرة في الزكاة فكذلك للبقر والغنم
(مسألة) (ولا تعتبر القيمة في شئ من ذلك إذا كان سليما من العيوب وقال أبو الخطاب تعتبر
أن تكون القيمة لكل بعير مائة وعشرين درهما، وظاهر هذا أنه يعتبر في الأصول كلها ان تبلغ دية
من الأثمان والأول أولى)
الصحيح أنه لا تعتبر قيمة الإبل بل متى وجدت على الصفة المشروطية وجب أخذها وهو ظاهر
كلام الخرقي وسواء قلت قيمتها أو كثرت وهو ظاهر مذهب الشافعي وذكر أصحابنا ان مذهب أحمد ان
تؤخذ مائة من الإبل قيمة كل بعير منها مائة وعشرون درهما فإن لم يقدر على ذلك أدى اثنى عشر ألف درهم
أو ألف دينار لأن عمر قوم الإبل على أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثنى عشر
ألف درهم فدل على أن ذلك قيمتها ولأن هذه أبدال محل واحد فيجب ان تتساوى في القيمة كالمثل
والقيمة في بدل القرض المتلف في المثليات
514

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " وهذا مطلق فتقييده يخالف اطلاقه
فلم يجب الا بدليل ولأنها كانت تؤخذ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقيمتها ثمانية آلاف، وقول عمر في حديثه
ان الإبل قد غلت فقومها على أهل الورق اثنى عشر ألفا دليل على أنها في حال رخصها أقل قيمة من
ذلك وقد كانت تؤخذ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر مع رخصها وقلة قيمتها
ونقصها عن مائة وعشرين فايجاب ذلك فيها خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين
دية الخطأ والعمد فغلظ دية العمد وخفف دية الخطأ وأجمع عليه أهل العلم، واعتبارها بقيمة واحدة
تسوية بينهما وجمع بين ما فرق الشارع وإزالة التخفيف والتغليظ جميعا بل هو تغليظ لدية الخطأ لأن
اعتبار ابنة مخاض بقيمة ثنية أو جذعة يشق جدا فيكون تغليظا لدية الخطأ وتخفيفا لدية العمد وهذا
خلاف ما قصده الشارع وورد به، ولان العادة نقص قيمة بنات المخاض عن قيمة الحقاق والجذعات
فلو كانت تؤدى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيمة واحدة ويعتبر فيها ذلك النقل ولم يجز الاخلال به لأن
ما ورد الشرع به مطلقا إنما يحمل على العرف والعادة فإذا أريد به ما يخالف العادة وجب بيانه وايضاحه
لئلا يكون تلبيسا في الشريعة وإيهامهم ان حكم الله خلاف ما هو حكمه على الحقيقة والنبي صلى الله عليه وسلم
بعث للبيان قال الله تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم) فكيف يحمل قولهم على الالباس والألغاز هذا
لا يحل لو حمل الامر على ذلك لكان ذكر الأسنان عبثا غير مفيد فإن فائدة ذلك إنما هو لكون
515

اختلاف أسنانها مظنة لاختلاف القيم فأقيم مقامه ولان الإبل الأصل في الدية فلا يعتبر قيمتها بغيرها
كالذهب والورق، ولأنها أصل في الوجوب فلا تعتبر قيمتها كالإبل في السلم وشاة الجيران، وحديث عمرو بن شعيب
حجة لنا فإن الإبل كانت تؤخذ قبل ان تغلو ويقومها عمر وقيمتها أكثر من اثنى عشر ألفا وقد قيل إن
قيمتها كانت ثمانية آلاف ولذلك قال عمر دية الكتابي أربعة آلاف، وقولهم انها أبدال محل واحد فلنا
ان نمنع ونقول البدل إنما هو الإبل وغير ها معتبر بها وان سلمنا فهو منتقض بالذهب والورق فإنه لا يعتبر
تساويهما، وينتقض أيضا بشاة الجيران مع الدراهم، وأما بدل القرض والمتلف فإنما هو المثل خاصة والقيمة
بدل عنه ولذلك لا تجب الا عند المعجز عنه بخلاف مسئلتنا، فإن قيل فهذا حجة عليكم لقولكم ان الإبل
هي الأصل وغيرها بدل عنها فيجب ان يساويهما كالمثل والقيمة، قلنا إذا ثبت لنا هذا ينبغي ان يقوم
غيرها بها ولا تقوم هي بغيرها لأن البدل يتبع الأصل ولا يتبع الأصل البدل على انا نقول إنما صير إلى التقدير بهذا
لأن عمر رضي الله عنه قومها في وقته بذلك فوجب المصير إليه كيلا يؤدي إلى التنازع والاختلاف في قيمة الإبل
الواجبة كما قدر لبن المصراة بصاع من التمر نفيا للتنازع في قيمته فلا يوجب هذا أن يرد الأصل إلى
التقويم فيفضي إلى عكس حكمة الشرع ووقوع التنازع في قيمة الإبل مع وجودها بعينها على أن المعتبر في بدلي القرض مساواة المقرض فاعتبر كل واحد من بدليه به والدية غير معتبرة بقيمة المتلف ولهذا
لا تعتبر صفاته، وهكذا قول أصحابنا في تقويم البقر والشاء والحلل يجب أن يكون مبلغ الواجب من
516

كل صنف منها اثني ألفا فتكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهما وقيمة كل شاة ستة دراهم
لتتساوى الابدال كلها.
(مسألة) (ويؤخذ في الحلل المتعارف من ذلك باليمن)
وهي مائتا حلة كل بردان فتكون أربعمائة بردة، فإن تنازعا جعلت قيمة كل حلة ستين درهما
ليبلغ قيمة الجميع اثني ألف درهم.
(فصل) ولا يقبل في الإبل معيب ولا أعجف ولا يعتبر فيها أن تكون من جنس إبله ولا إبل
بلده. وقال القاضي وأصحاب الشافعي الواجب عليه من جنس إبله سواء كان القاتل أو العاقلة لأن
وجوبها على سبيل المواساة فيجب كونها من جنس مالهم كالزكاة فإذا كان عند بعض العاقلة عراب
وعند بعضهم نجاتي أخذ من كل واحد من جنس ما عنده وإن كان عند واحد صنفان ففيه وجهان
(أحدهما) يؤخذ من كل صنف بقسطه (والثاني) يؤخذ من الأكثر فإن استويا دفع من أيهما شاء فإن
دفع من غير إبله خيرا من إبله أو مثلها جاز كما لو أخرج في الزكاة خيرا من الواجب، وان أدون
لم يقبل الا أن يرضى المستحق، وان لم يكن له إبل فمن غالب إبل البلد فإن لم يكن في البلد إبل وجبت
من غالب إبل أقرب البلاد إليه فإن كانت إبله عجافا أو مراضا كلف تحصيل صحاح من صنف ما عنده
لأنه بدل متلف فلا يؤخذ فيه معيب كقيمة الثوب المتلف ونحو هذا قال أصحابنا في البقر والغنم
517

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في النفس المؤمنة مائة من الإبل أطلق الإبل فمن قيدها احتاج إلى دليل ولأنها بدل
متلف فلم يختص بجنس ماله كبدل سائر المتلفات، ولأنها حق ليس سببه المال فلم يعتبر فيه كونه من
جنس ما * له كالمسلم فيه والقرض ولان المقصود بالدية جبر المفوت والجبر لا يختص بجنس مال من
وجب عليه، وفارق الزكاة فإنها وجبت على سبيل المواساة ليشارك الفقراء الأغنياء فيما أنعم الله عليهم به
فاقتضى كونه من جنس أموالهم وهذا بدل متلف فلا وجه لتخصيصه بماله وقولهم انها مواساة لا يصح
وإنما وجبت جبرا للفائت كبدل المال المتلف، وإنما العاقلة تواسي القاتل فيما وجب بجناية ولهذا لا
تجب من جنس أموالهم إذا لم يكونوا ذوي إبل والواجب بجنايته إبل مطلقة فتواسيه في تحملها
ولأنها لو وجبت من جنس مالهم لوجبت المريضة من المراض والصغيرة من الصغار كالزكاة
(فصل) ودية المرأة نصف دية الرجل، إذا كانت المرأة حرة مسلمة فديتها نصف دية الحر المسلم
أجمع على ذلك أهل العلم ذكره ابن المنذر وابن عبد البر وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا
ديتها كدية الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " وهذا قول شاذ
يخالف اجماع الصحابة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن في كتاب عمرو بن حزم دية المرأة على النصف من دية
الرجل وهو أخص مما ذكروه وهما في كتاب واحد فيكون ما ذكرنا مفسرا لما ذكروه مخصصا له
(مسألة) (وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى ثلث الدية فإذا زادت صارت على النصف)
518

روي هذا عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة والزهري
وقتادة وربيعة ومالك قال ابن عبد البر وهو قول فقهاء المدينة السبعة وجمهور أهل المدينة وحكي عن
الشافعي في القديم وقال الحسن يستويان إلى النصف، وروي عن علي رضي الله عنه أنها على النصف
فيما قل أو أكثر، وروي ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري والليث وابن أبي ليلى وابن شبرمة
وأبي حنيفة وأصحابه والشافعي في ظاهر مذهبه. واختاره ابن المنذر لأنهما شخصان تختلف ديتهما
فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم والكافر ولأنهما جناية لها أرش فكان من المرأة على النصف من
الرجل كاليد، وروي عن ابن مسعود أنه قال تعاقل المرأة الرجل إلى نصف عشر الدية فإذا زاد
على ذلك فهي على النصف كأنها تساويه في الموضحة، وروي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها " أخرجه النسائي وهو
نص يقدم على ما سواه قال ربيعة قلت لسعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال عشر قلت ففي إصبعين
قال عشرون قلت ففي ثلاث أصابع؟ قال ثلاثون قلت ففي أربع قال عشرون قال فقلت لما عظمت
مصيبتها قل عقلها؟ قال هكذا السنة يا ابن أخي وهذا مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه سعيد ولأنه
اجماع الصحابة رضي الله عنهم إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك الا عن علي ولا نعلم ثبوت ذلك عنه ولان
ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه دية الذكر والأنثى، فأما الثلث
519

نفسه ففيه روايتان (إحداهما) يستويان فيه لأنه لم يعتبر حد القلة ولهذا صحت الوصية به (والثانية)
يختلفان فيه وهو الصحيح لقوله عليه الصلاة والسلام " حتى يبلغ الثلث " وحتى للغاية ويجب أن تكون
مخالفة لما قبلها لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية) ولان الثلث في حد الكثرة لقوله عليه
الصلاة والسلام " والثلث كثير " ولان العاقلة تحمله فدل على أنه مخالف لما دونه، فأما دية نساء
سائر أهل الأديان فقال أصحابنا تساوي دياتهن ديات رجالهم إلى الثلث لعموم قوله عليه الصلاة والسلام
" عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها " ولان الواجب دية امرأة فساوت دية
الرجل من أهل ديتها كالمسلمين ويحتمل أن تساوي المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل المسلم لأنه
القدر الكثير الذي ثبت له النصيف في الأصل وهو دية وهكذا أرش جراحة المسلمين
(مسألة) (ودية الخنثى المشكل نصف دية ذكر ونصف دية أنثى وذلك ثلاثة أرباع دية الذكر
لأنه يتحمل الذكورية والأنوثية)
وهذا قول أصحاب الرأي وعند الشافعي الواجب دية أنثى لأنها اليقين فلا يجب الزائد بالشك
ولنا أنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالا واحدا وقد يئسنا من انكشاف حاله فيجب التوسط
بينهما والعمل بكلا الاحتمالين
520

(فصل) ويقاد به الذكر والأنثى لأنهما لا يختلفان في القود ويقاد هو بكل واحد منهما فأما جراحه
فإن كانت دون الثلث استوى الذكر والأنثى لأن أدنى حاليه أن يكون امرأة وهي تساوي الذكر على
ما بينا وفيما زاد ثلاثة أرباع حر ذكر
(فصل) ودية الكتابي نصف دية المسلم إذا كان حرا ونساؤهم على النصف من دياتهم هذا ظاهر
المذهب وهو قول عمر بن عبد العزيز وعروة ومالك وعمرو بن شعيب عنه أنها ثلث دية المسلم إلا أنه
رجع عنها فروى عنه صالح أنه قال: كنت أقول دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف وأنا اليوم أذهب
إلى نصف دية المسلم حديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان الذي يرويه الزهري عن سالم عن أبيه وهذا
صريح في الرجوع عنه، وروي عن عمر وعثمان أن ديته أربعة آلاف درهم، وبه قال سعيد بن المسيب
وعطاء وعكرمة وعمرو بن دينار والشافعي وإسحاق وأبو ثور لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف " وروي أن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي
والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة درهم
وقال علقمة ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: ديته كدية المسلم، وروي ذلك عن
عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية رضي الله عنهم، وقال ابن عبد البر هو قول سعيد بن المسيب والزهري
521

لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال " دية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم " ولان
الله سبحانه ذكر في كتابه دية المسلم وقال (ودية مسلمة إلى أهله) قال في الذمي مثل ذلك ولم يفرق
فدل لي أن ديتهما واحدة ولأنه حر ذكر معصوم فتكمل ديته كالمسلم
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دية المعاهد نصف دية المسلم "
وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين رواه الإمام أحمد
وفي لفظ دية المعاهد نصف دية الحر قال الخطابي ليس في دية أهل الكتاب شئ أبين من هذا
ولا بأس باسناده وقد قال به أحمد وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى. فأما حديث عبادة فلم يذكره
أصحاب السنن والظاهر أنه ليس بصحيح وحديث عمر إنما كان ذلك حين كانت الدية ثمانية آلاف
فأوجب فيه نصفها أربعة آلاف ودليل ذلك ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة
الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يؤمئذ النصف
فهذا بيان وشرح يزيل الاشكال وفيه جمع للأحاديث فيكون دليلا لنا ولو لم يكن كذلك لكان قول
النبي صلى الله عليه وسلم مقدما على قول عمر وغيره بغير اشكال فقد كان عمر رضي الله عنه إذا بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم
سنة ترك قوله وعمل بها فكيف يسوغ لاحد أن يحتج بقوله في ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما
ما احتج به الآخرون فإن الصحيح من حديث عمرو بن شعيب ما رويناه أخرجه الأئمة في كتبهم
دون ما رووه، وأما ما رووه من قول الصحابة فقد روي عنهم خلافه فيحمل قولهم في ايجاب الدية
522

كاملة على سبيل التغليظ. قال أحمد إنما غلظ عثمان الدية عليه لأنه كان عمدا فلما ترك القود غلظ عليه
وكذلك حديث معاوية، ومثل هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه حين انتحر رقيق حاطب ناقة لرجل
مزني فقال عمر لحاطب: اني أراك تجمعهم لأغرمنك غرما يشق عليك فغرمه مثلي قيمتها.
(مسألة) (وجراحاتهم على النصف من دياتهم كجراحات المسلمين من دياتهم قياسا عليهم)
قال الأثرم قيل لأبي عبد الله جني على مجوسي في عينه وفي يده؟ قال يكون بحساب ديته كما أن
المسلم يؤخذ بالحساب فكذلك هذا قيل قطع يده؟ قال بالنصف من ديته
(مسألة) (ونساؤهم على النصف من دياتهم)
لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ولأنه
لما كان دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم كذلك نساء أهل الكتاب قياسا عليهم.
(مسألة) (ودية المجوسي والوثني ثمان مائة درهم)
ذهب أكثر أهل العلم في دية المجوسي قال أحمد ما أقل من اختلف في دية المجوسي وممن قال
ذلك عمر وعثمان وابن مسعود وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء وعكرمة والحسن ومالك
والشافعي وإسحاق ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " سنوا بهم سنة أهل الكتاب "، وقال النخعي والشعبي وأصحاب الرأي: ديته
كدية المسلم لأنه آدمي حر معصوم فأشبه المسلم
523

ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان اجماعا وقوله " سنوا بهم
سنة أهل الكتاب " يعني في اخذ جزيتهم وحقن دمائهم بدليل أن ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا ولا يجوز
اعتباره بالمسلم ولا بالكتابي لنقصان ديته وأحكامه عنهما فينبغي أن تنقص ديته كنقص المرأة عن دية
الرجل وسواء كان المجوسي ذميا أو مستأمنا لأنه محقون الدم، ونساؤهم على النصف من دياتهم وجراح
كل واحد معتبرة من ديته كالمسلم
(مسألة) (فأما عبدة الأوثان وسائر من ليس له كتاب كالترك ومن عبد ما استحسن فلا ذمة لهم
وإنما تحقن دماؤهم بالأمان) فإذا قتل من له أمان منهم فديته دية مجوسي لأنها أقل الديات فلا ينقص عنها
ولأنه كافر ذو عهد لا تحل مناكحته فأشبه المجوسي
(مسألة) (ومن لم تبلغه الدعوة فلا ضمان فيه)
من لم تبلغه الدعوة من الكفار ان وجد لم يجز قتله حتى يدعى فإن قتل الدعوة من غير أن
يعطى أمانا فلا ضمان فيه لأنه لا عهد له ولا ايمان فأشبه امرأة الحربي وابنه الصغير وإنما حرم قله
لتبلغه الدعوة وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو الخطاب إن كان ذا دين فديته دية أهل دينه وهو مذهب
الشافعي لأنه محقون الدم أشبه من له أمان والأول أولى فإن هذا ينتقض بصبيان أهل الحرب ومجانينهم
524

ولأنه كافر لا عهد له فلم يضمن كالصبيان فاما إن كان له عهد ففيه دية أهل ديته فإن لم يعرف ديته
ففيه دية المجوسي لأنه اليقين والزيادة مشكوك فيها
(فصل) ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة وعنه لا يبلغ بها دية الحر أجمع أهل العلم على أن في العبد الذي
لا تبلغ قيمة دية الحر قيمته فإن بلغت قيمته دية أو زادت عليهما فذهب أحمد رحمه الله في المشهور عنه إلى أن فيه
قيمته بالغة ما بلغت عمدا كان القتل أو خطأ سواء ضمن باليد أو بالجناية وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن
وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز وإياس بن معاوية والزهري ومكحول ومالك والأوزاعي والشافعي
وإسحاق وأبي يوسف وقال النخعي والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد لا يبلغ به دية الحر وحكاها
أبو الخطاب رواية عن أحمد وقال أبو حنيفة ينقص عن دية الحر دينارا وعشرة دراهم القدر الذي
يقطع به السارق هذا إذا ضمن بالجناية وان ضمن باليد مثل ان يعصب عبدا فيموت في يده فإن قيمته
تجب وان زادت على دية الحر واحتجوا بأنه ضمان آدمي فلم يزد على دية الحر كضمان الحر وذلك
لأن الله تعالى لما أوجب في الحر دية لا نزيد وهو أشرف لخلوه عن نقص الرق كان تنبيها على أن العبد
المنقوص لا يزاد عليها فتجعل مالية العبد معيارا للقدر الواجب فيه ما لم يزد على الدية فإن زاد علمنا خطأ
ذلك فنرده إلى دية الحر كأرش ما دون الموضح يجب فيه ما تخرجه الحكومة ما لم يزد على أرش
الموضحة فنرده إليها
525

ولنا انه مال متقوم فيضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت كالفرس أو مضمون بقيمته فكانت جميع القيمة
مضمونة كما لو ضمنه باليد ويخالف الحر فإنه ليس مضمونا بالقيمة وإنما ضمن بما قدره الشرع فلم يتجاوزه ولان ضمان
الحر ليس بضمان مال ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته وهذا ضمان مال يزيد بزيادة المالية وينقص بنقصانها فاختلفا
(فصل) ولا فرق في هذا الحكم بين القن من العبيد والمدبر والمكاتب وأم الولد قال الخطابي
أجمع عوام الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جنايته والجناية عليه الا إبراهيم النخعي
فإنه قال في المكاتب يودى بقدر ما أدى من كتابة دية الحر وما بقي دية العبد وروي في ذلك شئ عن
علي رضي الله عنه وقد روى أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده حدثنا محمد بن عبد الله ثنا
هشام بن أبي عبد الله قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال قضي رسول الله
صلى الله عليه وسلم في المكاتب يقتل أنه يودى ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي دية العبد وقال
الخطابي إذا صح الحديث وجب القول به إذا لم يكن منسوخا أو معارضا بما هو أولى منه
(مسألة) (وفي جراحه ان لم يكن مقدرا ما في الحر ما نقصه بعد التئام الجرح كسائر الأموال وإن كان
مقدرا في الحر فهو مقدر في العبد من قيمته ففي يده نصف قيمته وفي موضحة نصف عشر قيمته نقصته
الجناية أقل من ذلك أو أكثر وعنه انه يضمن بما نقص اختاره الخلال وجملة ذلك أن الجناية على العبد يجب
ضمانها بما نقص من قيمته لأن الواجب إنما وجب جبرا لما فات بالجناية ولا تجبر الا بايجاب ما نقص
526

من القيمة فيجب ذلك كما لو كانت الجناية على غيره من الحيوانات وسائر المال ولا يجب زيادة على
ذلك لأن حق المجني عليه قد انجبر فلا تجب له زيادة على ما فوته الجاني عليه هذا هو الأصل ولا نعلم
فيه خلافا فيما ليس فيه مقدر شرعي فإن كان الفائت بالجناية مؤقتا في الحر كيده وموضحته ففيه عن أحمد
روايتان (إحداهما) ان فيه أيضا ما نقصه بالغا ما بلغ وذكر أبو الخطاب انه اختيار الخلال وروى
الميموني عن أحمد أنه قال أنما يأخذ قيمة ما نقص منه على قول ابن عباس وروي هذا عن مالك فيما عدا
موضحته ومنقلته وهاشمته وجائفته لأن ضمانه ضمان الأمور فيجب فيه ما نقص كالبهائم ولان ما ضمن
بالقيمة بالغا ما بلغ ضمن نقصه بما نقص كسائر الأموال ولان مقتضي الدليل ضمان الفائت بما نقص
خالفناه فيما وقت الحر كما خالفناه في ضمان نفسه بالدية المؤقتة ففي الوقت يبقي فيهما على مقتضي الدليل
والرواية الأخرى ان ما كان موقتا في الحر فهو موقت في العبد من قيمته ففي يده أو عينه أو شفته نصف
قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وما أوجب الدية في الحر كالأنف واللسان واليدين والرجلين
والعينين والأذنين أوجب قيمة العبد مع العبد بقاء ملك السيد عليه وروي هذا عن علي رضي الله عنه وروي
نحوه عن سعيد بن المسيب وبه قال ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز والشافعي والثوري قال أحمد هذا قول
سعيد بن المسيب وقال آخرون ما أصيب به العبد فهو على ما نقص من قيمته والظاهر أن هذا لو كان
قول علي لما احتج احمد إلا به دون غيره الا ان أبا حنيفة والثوري قالا ما أوجب الدية من الحر
527

يتخير سيد العبد فيه بين ان يغرمه قيمته ويصير ملكا للجاني وبين ان لا يضمنه شيئا لئلا يؤدي إلى اجتماع
البدل والمبدل لرجل واحد وروي عن اياس بن معاوية فيمن قطع يد عبد عمدا أو قلع عينه هو له
وعليه ثمنه ووجه هذه الرواية قول علي رضي الله عنه ولم يعرف له من الصحابة مخالف ولأنه آدمي يضمن
بالقصاص والكفارة فكان في أطرافه مقدر كالحر ولان أطرافه فيها مقدر من الحر فكان فيها مقدر
من العبد كالشجاج الأربع عند مالك وما وجب في شجاجه مقدر وجب في أطرافه كالحر وعلى أبي
حنيفة قول علي وان هذه الأعضاء فيها مقدر فوجب ذلك مع بقاء ملك السيد في العبد كاليد الواحدة
وسائر الأعضاء وقولهم انه اجتمع البدل والمبدل لواحد لا يصح لأن القيمة ههنا بدل العضو واحدة
والرواية الأولى أقيس وأولى إن شاء الله تعالى ولم يثبت ما روي عن علي وان ثبت فقد روي عن
ابن عباس خلافه فلا يبقي حجة والقياس على الحر لا يصح لأنهم لم يسووا بينه وبين الحر فيما ليس فيه
مقدر شرعي فإنهم أوجبوا فيه ما نقصه وإن كان في عضو فيه مقدر شرعي فإنهم أوجبوا فيه ما نقصه وإن كان
في عضو فيه مقدر كالجناية على الإصبع من غير قطع إذا نقصت قيمته العشر أو أكثر بخلاف الحر
وقد ذكرنا دليل ذلك في صدر المسألة
(فصل) والأمة مثل العبد فيما ذكرنا وفيه من الخلاف ما فيه الا أنها تشبه بالحرة ولا تفريع على
الرواية الأولى فاما على الثانية فإن بلغت قيمتها احتمل ان ترد إلى النصف فيكون في ثلاثة أصابع ثلاثة
528

أعشار قيمتها وفي أربعة أصابع خمسها كما أن المرأة تساوي الرجل في الجراح إلى ثلث ديتها فإذا بلغت
الثلث ردت إلى النصف والأمة امرأة فيكون أرشها من قيمتها كأرش الحرة، ويحتمل ان لا ترد إلى النصف
لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل لكون الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية وان كل ما زاد نقصها
وضررها زاد في ضمانها فإذا خولف في الحرة بقينا في الأمة على وفق الأصل
(مسألة) (ومن نصفه حر ففيه نصف دية حر ونصف قيمته وكذلك في جراحة)
وجملة ذلك أن من نصفه حرا إذا جنى عليه الحر فلا قود عليه لأنه ناقص بالرق فأشبه ما لو كان كله
رقيقا وإن كان قاتله عبدا أقيد منه لأنه أكمل من الجاني، وإن كان نصف القاتل حرا وجب القود
لتساويهما وان كانت الحرية في القاتل أكثر لم يجب القود لعدم المساواة بينهما، وفي ذلك كله إذا لم يكن
القاتل عبدا فعليه نصف دية حر ونصف قيمته إذا كان عمدا وإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته
لأن العاقلة لا تحمل العبد والنصف على العاقلة لأنها دية حر في الخطأ، وهكذا الحكم في جراحة إذا كان
قدر الدية من أرشها يبلغ ثلث الدية مثل ان يقطع أنفه أو يديه وان قطع إحدى يديه فالجميع على
الجاني لأن نصف دية اليد ربع ديته فلا تحملها العاقلة لنقصها عن الثلث
(مسألة) (وإذا قطع خصيتي عبد أو أنفه أو اذنية لزمته قيمته للسيد ولم يزل ملك السيد عنه
وان قطع ذكره ثم خصاه لزمته قيمته لقطع الذكر وقيمته مقطوع الذكر وملك سيده باق عليه)
529

وفي ذلك اختلاف ذكرناه وعلى الرواية الأخرى يلزمه ما نقص من قيمته ودليلهما ما سبق
(فصل) (ودية الجنين الحر المسلم إذا سقط ميتا غرة عبدا أو أمة قيمتها خمس من الإبل مورثة عنه
كأنه سقط حيا ذكرا أو أنثى، وهو نصف عشر الدية)
يقال غرة عبد بالصفة وغرة عبد بالإضافة والصفة أحسن لأن الغرة اسم للعبد نفسه قال مهلهل
كل قتيل في كليب غرة * حتى ينال القتل آل مره
وجملة ذلك أن في جنين المسلمة غرة هذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر رضي الله عنه وعطاء
والشعبي والنخعي والزهري ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وقد روي أن
عمر استشار الناس في املاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد
أو أمة قال لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة، وعن أبي هريرة قال اقتتلت امرأتان من
هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ان دية جنينها عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم متفق عليه، والغرة عبد
أو أمة سميا بذلك لأنهن أنفس الأموال، والأصل في الغرة الخيار، فإن قيل فقد روي في هذا الخبر " أو فرس
أو بغل " قلنا هذا لم يثبت رواه عيسى بن يونس ووهم فيه قاله أهل النقل والحديث الصحيح إنما فيه عبد أو أمة
530

(فصل) وإنما تجب الغرة إذا سقط من الضربة، ويعلم ذلك بان يسقط عقيب الضرب أو تبقى منها
متألمة إلى أن يسقط، ولو قتل حاملا ولم يسقط جنينها أو ضرب من في جوفها حركة أو انتفاخ فسكن
الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين وبهذا قال مالك وقتادة والأوزاعي والشافعي وابن المنذر وحكي عن
الزهري ان عليه غرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين فوجبت الغرة كما لو أسقطت
ولنا انه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه ولذلك لا يصح له وصية ولا ميراث ولان الحركة يجوز أن تكون
لريح في البطن سكنت فلا يجب الضمان بالشك، وأما إذا ألقته ميتا فقد تحقق والظاهر تلفه من
الضربة فيجب ضمانه سواء ألقته في حياتها أو بعد موتها وبهذا قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة ان
ألقته بعد موتها لم يضمنه لأنه يجري مجرى أعضائها وبموتها سقط حكم أعضائها
ولنا أنه جنين تلف بجنايته وعلم ذلك بخروجه كما لو سقط في حياتها ولأنه لو سقط حيا ضمنه
فكذلك إذا سقط ميتا كما لو أسقطته في حياتها، وما ذكروه غير صحيح لأنه لو كان كذلك لكان إذا
سقط ميتا ثم ماتت لم يضمنه كامضائها ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمه كما لو خرج حيا، فإن
ظهر بعضه من بطن أمه ولم يخرج باقية ففيه الغرة وبه قال الشافعي، وقال مالك وابن المنذر لا تجب
531

حتى تلقيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الغرة في الجنين الذي ألقته المرأة وهذه لم تلق شيئا فأشبه
ما لم يظهر منه شئ.
ولنا أنه قاتل لجنينها فلزمته الغرة كما لو ظهر جميعه، ويفارق ما لو لم يظهر منه شئ فإنه لم يتيقن قتله
ولا وجوده وكذلك إن ألقت يدا أو رجلا أو رأسا أو جزءا من أجزاء الآدمي تجب الغرة لأنا تيقنا أنه
من جنين، وإن ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة لأن ذلك يجوز أن يكون من جنين واحد ويجوز
أن يكون من جنينين فلم تجب الزيادة مع الشك لأن الأصل براءة الذمة ولذلك لم يجب ضمانه إذا لم يظهر، فإن
أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا شئ فيه لأنه لا يعلم أنه جنين، وإن ألقت مضغة فشهد ثقات
من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه
وجهان (أصحهما) لا شئ فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه شئ كالعلقة ولان الأصل براءة الذمة فلا نشغلها
بالشك (والثاني) فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه ما لو تصور وهذا يبطل بالمضغة والعلقة
(فصل) والغرة عبد أو أمة وهو قول أكثر أهل العلم وقال عروة وطاوس ومجاهد عبد أو أمة
أو فرس لأن الغرة اسم لذلك وقد جاء في حديث أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين
بغرة أو أمة أو فرس أو بغل، وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة ونحوه قال الشعبي لأنه روي
في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل في ولدها مائة شاة رواه أبو داود، وروي عن عبد الملك
532

ابن مروان أنه قضى في الجنين إذا أملص بعشرين دينارا فإذا كان مضغة فأربعين فإذا كان عظما
فستين فإذا كان العظم قد كسي لحما فثمانين فإن تم خلفه وكسي شعره فمائة دينار، وقال قتادة إذا كان
علقة فثلث غرة وإذا كان مضغة فثلثي غرة
ولنا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في املاص المرأة بعبد أو أمة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قاضية على ما خالفها، وذكر الفرس والبغل وهم انفرد به عيسى بن يونس عن سائر الرواة وهو متروك
في البغل بغير خلاف فكذلك في الفرس والحديث الذي ذكرناه أصح ما روي فيه وهو متفق عليه وقد
قاله به أكثر أهل العلم فلا يلتفت إلى ما خالفه وقول عبد الملك بن مروان تحكم بتقدير لم يرد به
الشرع وكذلك قتادة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع من قولهما إذا ثبت هذا فإنه
يلزمه الغرة فإن أراد دفع بدلها ورضي المدفوع إليه جاز لأنه حق آدمي فجاز ما تراضيا عليه وأيهما
امتنع من قبول البدل فله ذلك لأن الحق لهما فلا يقبل بدلها الا برضاهما
(فصل) وقيمة الغرة خمس من الإبل وذلك نصف عشر الدية روي ذلك عن عمر وزيد رضي
الله عنهما، وبه قال النخعي والشعبي وربيعة ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ولان ذلك
أقل ما قدره الشرع في الجنايات وهو أرش موضحة ودية السن فرددناه إليه، فإن قيل فقد وجب في
533

الأنملة ثلاثة أبعرة وثلث ذلك دون ما ذكروه قلنا الذي نص عليه صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم
أرش الموضحة وهو خمس من الإبل، وإذا كان أبوا الجنين كتابيين ففيه غرة قيمتها نصف قيمة
الغرة الواجبة في المسلم، وفي جنين المجوسية غرة قيمتها أربعون درهما فاما تعذر وجود غرة بهذه الدراهم
وجبت الدراهم لأنه موضع حاجة وإذا اتفق نصف عشر الدية من الأصول كلها بان تكون قيمتها خمسا
من الإبل وخمسين دينارا أو ستمائة درهم فلا كلام، وان اختلفت قيمة الإبل ونصف عشر الدية من
غيرها مثل ان كانت قيمة الإبل أربعين دينارا أو أربعمائة درهم فظاهر كلام الخرقي أنها تقوم بالإبل
لأنها الأصل، وعلى قول غيره من أصحابنا تقوم بالذهب أو الورق فتجعل قيمتها خمسين دينارا أو
ستمائة درهم فإن اختلفا قومت على أهل الذهب به وعلى أهل الورق به، فإن كان من أهل الذهب
والورق جميعا قوما من هي عليه بما شاء منهما لأن الخيرة إلى الجاني في دفع ما شاء من سائر الأصول
ويحتمل أن تقوم بأدناهما على كل حال لذلك وإذا لم يجد الغرة أنتقل إلى خمس من الإبل على قول الخرقي
وعلى قول غيره ينتقل إلى خمسين دينارا أو ستمائة درهم
(فصل) والغرة موروثة عنه كأنه سقط حيا لأنها دية له وبدله عنه فيرثها ورثته كما لو قتل بعد
الولادة وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي، وقال الليث: لا تورث بل يكون بدله لامه كعضو من
أعضائها فأشبه يدها.
ولنا أنها دية آدمي حر فوجب أن تكون موروثة عنه كما لو ولدته حيا ثم مات وقوله انه كعضو
534

من أعضائها لا يصح لأنه لو كان عضو لدخل بدله في دية أمه كيدها ولما منع من القصاص
من أمه وإقامة الحد عليها من أجله ولما وجبت الكفارة من أجله بقتله ولما صح عتقه دونها ولا عتقها
دونه، ولان كل نفس تضمن بالدية تورث كدية الحي، فعلى هذا إذا أسقطت جنينا ميتا ثم ماتت فإنها
ترث نصيبها من الغرة ثم يرثها ورثتها، وان أسقطته حيا ثم مات قبلها ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من
ديته ثم يرثها ورثتها، وإن ماتت قبله ثم ألقته ميتا لم يرث أحدهما صاحبه، وإن خرج حيا
ثم ماتت قبله ثم مات، أو ماتت ثم خرج حيا ثم مات ورثها ثم يرثه ورثته، وإن اختلف
ورائهما في أولهما موتا فحكمهما حكم الغرقى على ما ذكر في موضعه، ويجئ على قول الخرقي في المسألة
التي ذكرها إذا ماتت امرأة وابنها أن يحلف ورثة كل واحد منهما ويختصوا بميراثه، وإن ألقت جنينا
ميتا أو حيا ثم مات ثم ألقت آخر حيا ففي الميت غرة وفي الحي الأول دية إذا كان سقوطه لوقت
يعيش مثله ويرثهما الآخر يرثه ورثته ان مات، وإن كانت الام قد ماتت بعد الأول وقبل الثاني
فإن دية الأول ترث منها الام والجنين الثاني ثم إذا ماتت الام ورثها الثاني ثم يصير ميراثه لورثته فإن
ماتت الام بعدهما ورثتهما جميعا
(فصل) إذا ضرب بطن امرأة فألقت أجنة ففي كل واحد غرة وبهذا قال الزهري ومالك والشافعي
وإسحاق وابن المنذر قال لا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه ضمان آدمي فتعدد بتعدده كالديات
535

وإن ألقتهم أحياء لوقت يعيشون في مثله ثم ماتوا ففي كل واحد منهم دية كاملة، وإن كان بعضهم
حيا فمات وبعضهم ميتا ففي الحي دية وفي الميت غرة
(فصل) ويستوي في ذلك الذكر والأنثى في أنه يجب في كل واحد غرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى في الجنين بغرة وهو يطلق على الذكر والأنثى ولأن المرأة تساوي الذكر فيما دون الثلث
(مسألة) (ولا يقبل في الغرة خنثى ولا معيب ولا من له دون سبع سنين)
وجملة ذلك أن الغرة تجب سليمة من العيوب وان قل العيب لأنه حيوان يجب بالشرع فم يقبل
فيه المعيب كالشاة في الزكاة ولان الغرة الخيار والمعيب ليس من الخيار، ولا يقبل فيها هرمة ولا معيبة
ولا خنثى ولا خصي وإن كثرت قيمته لأن ذلك عيب، ولا من له دون سبع سنين قاله القاضي
وأبو الخطاب وأصحاب الشافعي لأنه محتاج إلى من يكفله ويحضنه وليس من الخيار، وظاهر كلام
الخرقي أن سنها غير مقدر وهو قول أبي حنيفة وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لا يقبل فيها غلام بلغ
خمس عشرة سنة لأنه لا يدخل على النساء ولا ابنة عشرين لأنها تتغير وهذا تحكم لم يرد الشرع به فيجب أن لا
يقيل وما ذكروه من الحاجة إلى الكفاية بأصل بمن له فوق السبع ولان بلوغه قيمة الكبير مع صغره يدل على أنه
خيار ولم يشهد لما ذكروه نص ولا له أصل يقاس عليه والشاب البالغ أكمل من الصبي عقلا وبنية وأقدر على التصرف
وأنفع في الخدمة وأقضى للحاجة، وكونه لا يدخل على النساء ان أريد به النساء الأجنبيات فلا حاجة إلى
536

دخوله عليهن، وإن أريد به سيدته فليس بصحيح فإن الله تعالى قال (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم
والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات) إلى قوله (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون
عليكم بعضكم على بعض) ثم لو لم يدخل على النساء لحصل من منعه أضعاف ما يحصل من دخوله وفوات
شئ إلى ما هو أنفع منه لا يعد فواتا كمن اشترى بدرهم ما يساوي درهمين لا يعد فواتا ولا خسرانا
(فصل) ولا يعتبر لون الغرة، وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أن الغرة لا تكون إلا بيضاء ولا
يقبل عبد أسود ولا جارية سوداء
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بعبد أو أمة وأطلق والسواد غالب على عبيدهم وإمائهم ولأنه حيوان
تجب ديته فلم يعتبر لونه كالإبل في الدية
(مسألة) (وإن كان الجنين مملوكا ففيه عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى)
وجملته أنه إذا كان جنين الأمة مملوكا فسقط من الضربة ميتا ففيه عشر قيمة أمه هذا قول الحسن
وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وبنحوه قال النخعي والزهري. وقال زيد بن أسلم
يجب فيه عشر قيمة غرة وهو خمسة دنانير، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يجب فيه نصف عشر قيمته
إن كان ذكرا أو عشر قيمته إن كان أنثى لأن الغرة الواجبة في جنين الحرة هي نصف عشر دية الرجل
537

وعشر دية الأنثى وهذا متلف فاعتباره بنفسه أولى من اعتباره بأمه ولأنه جنين مضمون تلف بالضربة
فكان فيه نصف الواجب إذا كان ذكرا كبيرا أو عشر الواجب إذا كان أنثى كجنين الحرة،
وقال محمد بن الحسن: مذهب أهل المدينة يفضي إلى أن يجب في الجنين الميت أكثر من قيمته إذا كان حيا
ولنا أنه جنين مات بالجناية في بطن أمه فلم يختلف ضمانه بالذكورية والأنوثية كجنين الحرة،
ودليلهم نقلبه عليهم فنقول جنين مضمون تلف بالجناية فكان الواجب فيه عشر ما يجب في أمة كجنين
الحرة، وما ذكروه من مخالفة الأصل معارض بأن مذهبهم يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر وهو خلاف
الأصول ولأنه لو اعتبر بنفسه لوجبت قيمته كلها كسائر المضمونات بالقيمة ومخالفتهم أشد من مخالفتنا
لأننا اعتبرناه إذا كان ميتا بأمه وإذا كان حيا بنفسه فجاز أن تزيد قيمة الميت على الحي مع اختلاف
الجهتين كما جاز أن يزيد البعض على الكل في أن من قطع أطراف انسان الأربعة كان الواجب عليه
أكثر من دية النفس كلها وهم فضلوا الأنثى على الذكر مع اتحاد الجهة وأوجبوا فيما يضمن بالقيمة
عشر قيمة أمه تارة ونصف عشر أخرى وهذا لا نظير له إذا ثبت هذا فإن قيمة أمه معتبرة يوم الجناية
عليها وهذا منصوص الشافعي، وقال بعض أصحابه حين أسقطت لأن الاعتبار في ضمان الجناية
بالاستقرار ويتخرج لنا وجه مثل ذلك
ولنا أنه لم يتخلل بين الجناية وحال الاستقرار ما يوجب تغيير بدل النفس فكان الاعتبار بحال
538

الجناية كما لو جرح عبدا ثم نقصت السوق لكثرة الجلب ثم مات فإن الاعتبار بقيمته يوم الجناية ولان
قيمتها تتغير بالجناية وتنقص فلم تقوم في حال نقصها الحاصل بالجناية كما لو قطع يدها فمات من سرايتها أو
قطع يدها فمرضت بذلك ثم اندملت جراحتها
(فصل) وولد المدبرة والمكاتبة والمعتقة بصفة وأم الولد إذا حملت من غير مولاها حكمه حكم ولد
الأمة لأنه مملوك فأما جنين المعتق بعضها فهو مثلها فيه من الحرية مثل ما فيها وإذا كان نصفها حرا فتصفه
حر فيه نصف غرة لورثته وفي النصف الباقي نصف عشر قيمة أمه لسيده
(فصل) وان وطئ أمه بشبهة أو غر بأمة فتزوجها وأحبلها فضربها ضارب فألقت جنينا فهو حر
وفيه غرة موروثة عنه لورثته وعلى الوطئ عشر قيمتها لسيدها لأنه لولا اعتقاد الحرية لكان هذا
الجنين مملوكا لسيده على ضاربه عشر قيمة أمه فلما انعتق بسبب الوطئ فقد حال بين سيدها وبين هذا
القدر فألزمناه ذلك للسيد سواء كان بقدر الغرة أو أكثر منها أو أقل
(فصل) إذا أسقط جنين ذمية قد وطئها مسلم وذمي في طهر واحد وجب فيه اليقين وهو ما في
الجنين الذمي فإن الحق بعد ذلك بالذمي فقد وفى ما عليه وان الحق بمسلم فعليه تمام الغرة وان ضرب بطن
نصرانية فأسقطت فادعت أو ادعى ورثته انه من مسلم حملت به من وطئ شبهة أو زنا فاعترف الجاني
فعليه غرة كاملة وإن كان مما تحمله العاقلة فاعترفت أيضا فالغرة عليها وان أنكرت حلفت وعليها ما في جنين
539

الذميين والباقي على الجاني لأنه ثبت باعترافه والعاقلة لا تحمل اعترافا وان اعترفت العاقلة دون الجاني فالغرة
عليها مع دية أمه وان أنكر الجاني والعاقلة فالقول قولهم مع ايمانهم انا لا نعلم أن هذا الجنين من مسلم
ولا يلزمهما اليمين مع البت لأنها يمين على النفي في فعل الغير فإذا اختلفوا وجبت دية ذمي لأن الأصل
ان ولدها تابع لها ولان الأصل براءة الذمة وإن كان مما لا تحمله العاقلة فالقول قول الجاني وحده
مع يمينه ولو كانت النصرانية امرأة مسلم فادعى الجاني ان الجنين من ذمي بوطئ شبهة أو زنا فالقول
قول ورثة الجنين لأن الجنين محكوم باسلامه فإن الولد للفراش
(فصل) إذا كانت الأمة بين شريكين فحملت بمملوك فضربها أحدهما فأسقطت فعليه كفارة لأنه
أتلف آدميا ويضمن لشريكه نصف عشر قيمة أمه ويسقط ضمان نصيبه لأنه ملكه وان أعتقها الضارب
بعد ضربها وكان معسرا ثم أسقطت عتق نصيبه منه ومن ولدها وعليه لشريكه نصف عشر قيمة الام
وعليه نصف غرة من أجل النصف الذي صار حرا يورث عنه بمنزلة مال الجنين ترث أمه منه بقدر
ما فيها من الحرية والباقي لورثته هذا قول القاضي وقياس قول ابن حامد وهو مذهب الشافعي وقياس
قول أبي بكر وأبي الخطاب لا يجب على الضارب ضمان ما أعتقه لأنه حين الجناية لم يكن مضمونا عليه
والاعتبار في الضمان بحال الجناية وهي الضرب ولهذا اعتبرنا قيمة الام حال الضرب وهذا قول بعض
أصحاب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن الاتلاف حصل بفعل غير مضمون فأشبه ما لو جرح
540

حربيا فأسلم ثم مات بالسراية ولان موته يحتمل أن يكون قد حصل بالضرب فلا يتجدد ضمانه بعد موته
والأصل براءة ذمته وإن كان المعتق موسرا سرى العتق إليها وإلى جنينها وفي الضمان الوجهان فعلى
قول القاضي في الجنين غرة. موروثة عنه وعلى قياس قول أبي بكر عليه ضمان نصيب شريكه من الجنين
بنصف عشر قيمة أمه ولا يضمن أمه لأنه قد ضمنها باعتاقها فلا يضمنها بتلفها وإن كان المعتق الشريك
الذي لم يضرب وكان معسرا فلا ضمان على الشريك في نصيبه لأن العتق لم يسر إليه وعليه في نصيب
شريكه من الجنين نصف غرة يرثها ورثته على قول القاضي وعلى قياس قول أبي بكر يضمن نصيب
شريكه بنصف عشر قمية أمه ويكون لسيده اعتبارا بحال الجناية وكذلك الحكم في ضمان الام إذا
ماتت من الضربة وإن كان المعتق موسرا سرى العتق إليهما وصارا حرين وعلى المعتق ضمان نصف الام
ولا يضمن نصف الجنين لأنه يدخل في ضمان الام كما يدخل في بيعها وعلى الضارب ضمان الجنين بغرة
موروثة عنه على قول القاضي وعلى قياس قول أبي بكر يضمن نصيب الشريك بنصف عشر قيمة أمه
وليس عليه ضمان نصيبه لأنه ملكه حال الجناية عليه وأما ضمان الام ففي أحد الوجهين فيها دية حرة
لسيدها منها أقل الأمرين من ديتها أو قيمتها وعلى الآخر يضمنها بقيمتها لسيدها كما تقدم من قطع يد
عبد ثم عتق ومات
(فصل) ولو ضرب بطن أمته ثم أعتقها ثم أسقطت جنينا ميتا لم يضمنه في قياس قول أبي بكر لأن
541

جنايته لم تكن مضمونة في ابتدائها فلم تضمن سرايتها كما لو جرح مرتدا فاسلم ثم مات ولان موت
الجنين يحتمل انه حصل بالضربة في مملوكة ولم يتجدد بعد العتق ما يوجب الضمان وعلى قول ابن حامد
عليه غرة لا يرث منها شيئا لأن اعتبار الجناية بحال استقرارها، ولو كانت الأمة لشريكين فضرباها ثم
أعتقاها معا فولدت جنينا ميتا فعلى قول أبي بكر على كل واحد منهما نصف عشر قيمة أمه لشريكه لأن
كلا منهما جنى عليه الجنين ونصفه لشريكه فسقط عنه ضمانه ولزمه ضمان نصفه الذي لشريكه بنصف عشر
قيمة أمه اعتبارا بحال الجناية وعلى قول ابن حامد على كل واحد منهما نصف الغرة للام منها الثلث
وباقيها للورثة ولا يرث القاتل منها شيئا
(مسألة) (وان ضرب بطن أمه فعتقت ثم أسقطت الجنين ففيه غرة)
على قول ابن حامد والقاضي لأنه كان حرا اعتبارا بحال الاستقرار وعلى قول أبي بكر وأبي
الخطاب فيه عشر قيمة أمه اعتبارا بحال الجناية لأنها كانت في حال كونه عبدا ويمكن منع كونه صار
حرا لأن الظاهر تلفه بالجناية وبعد تلفه لا يمكن تحريره فعلى قول هذين يكون الواجب فيه لسيده
وعلى قول ابن حامد يكون الواجب فيه أقل الأمرين من الغرة وعشر قيمة أمه لأن الغرة ان كانت
أكثر لم يستحق الزيادة لأنها زادت بالحرية الحاصلة لزوال ملكه وان كانت أقل لم يكن له أكثر منها
لأن النقص حصل باعافه فلا يضمن له كما لو قلع يد عبد فاعتقه سيده ثم مات بسراية الجناية كان له
542

أقل الأمرين من دية حر أو نصف قيمته وما فضل عن حق السيد لورثة الجنين فاما ان ضرب بطن
الأمة فاعتق السيد جنينها وحده نظرت فإن أسقطته حيا لوقت يعيش مثله ففيه دية حر نص عليه احمد
وإن كان لوقت لا يعيش مثله ففيه غرة لأنه حر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر عليه عشر قيمة
أمه وان أسقطته ميتا ففيه عشر قيمة أمه لأننا لا نعلم كونه حيا حال اعتاقه ويحتمل ان تجب عليه الغرة
لأن الأصل بقاء حياته ما لو أعتق أمه
(فصل) إذا ضرب ابن المعتقة الذي أبوه عبد بطن امرأة ثم عتق أبوه ثم أسقطت جنينا وماتت
احتمل أن تكون ديتهما في مال الجاني على ما تقدم ذكره واحتمل أن تكون الدية على مولى الام
وعصباته في قياس قول أبي بكر اعتبارا بحال الجناية وعلى قياس ابن حامد على مولى الأب وأقاربه
اعتبارا بحال الاسقاط وان ضرب ذمي بطن امرأته الذمية ثم أسلم ثم أسقطت لم تحمله عاقلته وان ماتت
معه فكذلك لأن عاقلته المسلمين لا يعقلون عنه لأنه كان حين الجناية ذميا وأهل الذمة لا يعقلون عنه
لأنه حين الاسقاط مسلم ويحتمل أن يكون عقله على عاقلته من أهل الذمة في قياس قول أبي بكر
اعتبارا بحال الجناية ويكون في الجنين ما يجب في الجنين الكافر لأنه حين الجناية محكوم بكفره وعلى
قياس قول ابن حامد يجب فيه غرة كاملة ويكون عقله وعقل أمه على عاقلته المسلمين اعتبارا بحال الاستقرار
(مسألة) (وإن كان الجنين محكوما بكفره ففيه عشر دية)
543

وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر لم أحفظ عن غيرهم خلافهم لأن جنين
الحرة المسلمة مضمون بعشر دية أمه فكذلك جنين الكافرة إلا أن أصحاب الرأي يرون دية الكافرة
كدية المسلمة فلا يتحقق عندهم بينهما اختلاف
(مسألة) (وإن كان أحد أبويه كتابيا والآخر مجوسيا اعتبر أكثرهما دية فيجب عشر دية
كتابية على كل حال)
لأن ولد المسلم من الكافرة يعتبر بأكثرهما دية كذا ههنا ولأن الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب
وفي الآخر ما يسقط غلب الايجاب بدليل ما لو قتل المحرم صيدا متولدا من مأكول وغيره ولا فرق فيما
ذكرنا بين الذكر والأنثى لأن السنة لم تفريق بينهما وبه يقول الشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب
الرأي وعامة أهل العلم
(فصل) لو ضرب بطن كتابية حامل من كتابي فاسلم أحد أبويه ثم أسقطته ففيه الغرة في قول
ابن حامد والقاضي وهو ظاهر كلام أحمد ومذهب الشافعي لأن الضمان بحال استقرار الجناية والجنين
محكوم باسلامه عند استقرارها وفي قول أبي بكر وأبي الخطاب فيه عشر دية كتابية لأن الجناية عليه في حال كفره
(مسألة) (وان سقط الجنين حيا ثم مات ففيه دية حر إن كان لحرا أو قيمته إن كان مملوكا)
إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله وهو ان تضعه لستة أشهر فصاعدا وإلا فحكمه حكم الميت هذا
544

قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في الجنين يسقط حيا
من الضرب دية كاملة منهم زيد بن ثابت وعروة والزهري والشعبي وقتادة ابن شبرمة ومالك والشافعي
وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته في وقت يعيش لمثله فأشبه
قتله بعد وضعه في هذه المسائل ثلاثة فصول
(أحدهما) انه إنما يضمن بالدية إذا وضعته حيا فمن علمت حياته ثبت له هذا الحكم سواء ثبت
باستهلاله أو ارتضاعه أو تنفسه أو عطاسه أو غير ذلك مما تعلم به حياته هذا ظاهر قول الخرقي وهو
مذهب الشافعي، وروي عن أحمد أنه لا يثبت له حكم الحياة إلا بان يستهل وهذا قول الزهري وقتادة
ومالك وإسحاق وروي معنى ذلك عن عمرو ابن عباس والحسن بن علي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا استهل المولود ورث وورث " مفهومه أنه لا يرث إذا لم يستهل، والاستهلال
الصياح قاله ابن عباس والقاسم والنخعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من مولود يولد لا مسه الشيطان
فيستهل صارخا إلا مريم وابنها) فلا يجوز غير ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصل في تسمية الصياح
استهلال ان من عادة الناس إذا رأو الهلال صاحوا وأراه بعضهم بعضنا فسمي صياح المولود استهلالا
لأنه في ظهوره بعد خفائه كالهلال وصياحه كصياح من يتراءاه
545

ولنا أنه قد علمت حياته فأشبه المستهل والخبر يدل بمعناه وتنبيهه على ثبوت الحكم في سائر الصور
فإن شربه اللبن أدل على حياته من صياحه وعطاسه ضرب منه فهو كصياحه، واما الحركة والاختلاج
المنفرد فلا يثبت به حكم الحياة لأنه قد يتحرك بالاختلاج وبسبب آخر وهو خرجه من مضيق فإن
اللحم يختلج سيما إذا عصر ثم ترك فلم نثبت بذلك حياته
(الفصل الثاني) انه إنما يجب ضمانه إذا علم موته بسبب الضربة ويحصل ذلك بسقوطه في الحال
أو موته أو بقاؤه متألما إلى أن يموت أو بقاء أمه متألمة إلى أن تسقطه فيعلم بذلك موته بالجناية كما لو
ضرب رجلا فمات عقيب ضربه أو بقي ضمنا حتى مات، وان ألقته حيا فجاء آخر فقتله وكانت فيه حياة
مستقرة فعلى الثاني القصاص إذا كان عمدا أو الدية كاملة وان لم تكن فيه حياة مستقرة بل كانت
حركته كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول وعليه الدية كاملة يؤدب الثاني وان بقي الجنين حيا وبقي
زمنا سالما لا ألم به لم يضمنه الضارب لأن الظاهر أنه لم يمت من جنايته
(الفصل الثالث) ان الدية إنما تجب فيه إذا كان سقوطه لستة أشهر فصاعدا فإن كان لدون ذلك
ففيه غرة كما لو سقط ميتا وبهذا قال المزني، وقال الشافعي فيه دية كاملة لأننا علمنا حياته وقد تلف من جنايته
ولنا أنه لم تعلم فيه حياة يتصور بقاؤه بها فلم تجب فيه دية كما لو ألقته ميتا وكالمذبوح، وقولهم انا علمنا
حياته قلنا وإذا أسقط ميتا وله ستة أشهر فقد علمنا حياته أيضا
546

(مسألة) (وان اختلفا في حياته ولا بينة لهما ففي أيهما يقدم قوله؟ وجهان)
(أحدهما) يقدم قول الولي لأن الأصل حياته فإن الجنين إذا بلغ أربعة أشهر نفخ فيه الروح
(والثاني) قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته من الدية الكاملة
(فصل) إذا دعت المرأة على رجل أنه ضربها فأسقط جنينها فأنكر الضرب فالقول قوله مع يمينه
لأن الأصل عدم الضرب، وإن أقر بالضرب أو قامت به بينة وأنكر أن تكون أسقطت فالقول قوله
أيضا مع يمينه لأنه لا يعلم أنها أسقطت، ولا يلزمه اليمين على البت لأنها يمين على نفي فعل الغير والأصل
عدمه، وإن ثبت الاسقاط والضرب ببينة أو اقرار فادعى أنها أسقطته من غير ضربه فإن كانت أسقطته
عقيب ضربه فالقول قولها لأن الظاهر أنه منه لوجوده عقيب شئ يصلح أن يكون سببا له، وإن ادعى
أنها ضربت نفسها أو شربت دواء أو فعل ذلك غيرها فحصل الاسقاط فأنكرته فالقول قولها مع يمينها
لأن الأصل عدم ذلك، وإن أسقطت بعد الضرب بأيام وكانت متألمة إلى حين الاسقاط فالقول قولها،
وإن لم تكن متألمة فالقول قوله مع يمينه كما لو ضرب انسانا فلم يبق متألما ولا ضمنا ومات بعد أيام،
وإن اختلفا في وجود التألم فالقول قوله لأن الأصل عدمه، وإن كانت متألمة في بعض المدة فدعى أنها
برأت وزال ألمها وأنكرت ذلك فالقول قولها لأن الأصل بقاؤه، وإن ثبت اسقاطها من الضربة
547

فادعت سقوطه حيا وأنكرها فالقول قوله مع يمينه الا أن تقوم لها بينة باستهلاله لأن الأصل عدم ذلك
وإن ثبتت حياته فادعت أنه لوقت يعيش مثله فأنكرها فالقول قولها مع يمينها لأن ذلك لا يعلم الا من
جهتها ولا يمكن إقامة البينة عليه فقيل قولها فيه كانقضاء عدتها ووجود حيضها وطهرها، وإن أقامت
بينة باستهلاله وأقام الجاني بينة بخلافها قدمت بينتها لأنها مثبتة فقدمت على النافية لأن المثبتة معها زيادة
اعلم، وإن ادعت أنه مات عقيب اسقاطه وادعى أنه عاش مدة فالقول قولها لأن الأصل عدم حياته،
وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه قدمت بينة الجاني لأن معها زيادة علم، وإن ثبت أنه عاش مدة
فما دعت أنه بقي متألما حتى مات أنكر فالقول قوله لأن الأصل عدم التألم، فإن أقاما بينتين قدمت بينتها
الان معها زيادة علم، ويقبل في استهلال الجنين وسقوطه وبقائه متألما وبقاء أمه متألمة قول امرأة واحدة
لأنه مما لا يطلع عليه الرجال غالبا لأن الغالب أنه لا يشهد الولادة الا النساء والاستهلال يتصل بها، وهن
يشهدن حال المرأة وولادتها وحال الطفل ويعرفن علله وأمراضه وقوته وضعفه دون الرجال، وإن
اعترف الجاني باستهلاله أو ما يوجب فيه دية كاملة فالدية في مال الجاني لا تحمله العاقلة لأنها لا تحمل
اعترافا، وأن كانت مما تحمل العاقلة فيه الغرة فهي على العاقلة وباقي الدية في مال القاتل
(فصل) وإن انفصل منها جنينان ذكر وأنثى فاستهل أحدهما واتفقوا على ذلك واختلفوا في المستهل
فقال الجاني هو الأنثى وقال وارث الجنين هو الذكر فالقول قول الجاني مع يمينه لأن أصل براءة
548

ذمته من الزائد على دية الأنثى، فإن كان لأحدهما بينة قدم بها وإن كان لهما بينتان وجبت دية الذكر
لأن البينة قد قامت باستهلاله والبينة المعارضة لها نافية له والاثبات مقدم على النفي، فإن قيل فينبغي أن
تجب ديتهما، قلنا لا تجب دية الأنثى لأن المستحق لها لم يدعها وهو مكذب للبينة الشاهدة بها فإن ادعى
الاستهلال منها ثبت ذلك بالبينتين، وإن لم تكن بينة فاعترف الجاني باستهلال الذكر فأنكرت العاقلة
فالقول قولهم مع أيمانهم فإذا حلفوا كان عليهم دية الأنثى وغرة ان كانت تحمل الغرة، وعلى الضارب
تمام دية الذكر وهو نصف الدية لا تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافه، وإن اتفقوا على أن أحدهما استهل
ولم يعرف بعينه لزم العاقلة دية أنثى لأنها متيقنة وتمام دية الذكر مشكوك فيه والأصل براءة الذمة منه
فلم يجب بالشك وتجب الغرة في الذي لم يستهل
(فصل) إذا ضربها فألقت يدا ثم ألقت جنينا فإن كان القاؤهما متقاربا أو بقيت المرأة متألمة إلى
أن ألقته دخلت اليد في ضمان الجنين لأن الظاهر أن الضرب قطع يده وسرى إلى نفسه فأشبه ما لو
قطع يد رجل فسرى القطع إلى نفسه، ثم إن كان الجنين سقط ميتا أو حيا لوقت لا يعيش مثله ففيه
غرة، وان ألقته حيا لوقت يعيش لمثله ففيه دية كاملة، وإن بقي حيا فلم يمت فعلى الضارب ضمان اليد
بديتها بمنزلة من قطع يد رجل فاندملت، وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي يسئل القوابل فإن
قلن انها يد من لم تخلق فيه الحياة ففيها نصف الغرة وإن قلن يد من خلقت فيه الحياة ففيها نصف الدية
549

ولنا أن الجنين إنما يتصور بقاء الحياة فيه إذا كان حيا قبل ولادته بمدة طويلة أقلها شهران على
ما دل عليه حديث الصادق الصدوق في أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وأقل ما يبقي بعد ذلك
شهران لأنه لا يحي إذا وضعته لأقل من ستة أشهر، والكلام فيما إذا لم يتخلل بين الضربة والاسقاط
مدة طويلة تزيل ظن سقوطه بها فيعلم حينئذ أنها كانت بعد وجود الحياة فيه، وأما ان ألقت اليد
وزال الألم ثم ألقت الجنين ضمن اليد وحدها بمنزلة من قطع يدا فاندملت ثم مات صاحبها ثم ينظر فإن
ألقته ميتا أو لوقت لا يعيش لمثله ففي اليد نصف غرة لأن في جميعه غرة ففي يده نصف ديته، وإن
ألقته حيا لوقت يعيش لمثله ثم مات أو عاش وكان بين القاء اليد وبين القائه مدة يحتمل أن تكون الحياة
لم تخلق فيه قبلها أري القوابل ههنا، فإن قلن انها يد من لم تخلق فيه الحياة وجب نصف غرة وإن قلن
انها يد من خلقت فيه الحياة ولم يمض له ستة أشهر وجب فيه نصف الغرة لأنها يد من لا يجب فيه أكثر
من غرة فأشبهت يد من لم تنفخ فيه الروح، وإن أشكل الامر عليهن وجب نصف الغرة لأنه اليقين
وما زاد مشكوك فيه فلا يجب بالشك
(فصل) وإذا شربت الحامل دواه فألقت جنينا فعليها غره لا ترث منها شيئا لا نعلم بين أهل العلم
خلافا في ذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها فلزمها ضمانه بالغرة كما لو جني عليه غيرها ولا ترث
550

من الغرة شيئا لأن القاتل لا يرث من دية المقتول ويرثها سائر ورثته، فإن كان الجاني المسقط للجنين
أباه أو غيره فعليه غرة لا يرث منها شيئا لما ذكرنا
(فصل) وأن جني على بهيمة فألقت جنينها ففيه ما نقصها في قول عامة أهل العلم، وحكي عن أبي بكر
أن فيه عشر قيمة أمه لأنها جناية على حيوان يملك بيعه أسقطت جنينه أشبه جنين الأمة وهذا لا يصح
لأن الجناية على الأمة تقدر من قيمتها في ظاهر المذهب ففي يدها نصف قيمتها وفي موضحتها نصف
عشر قيمتها وقد وافق أبو بكر على ذلك فقدر جنينها من قيمتها كبعض أعضائها. والبهيمة إنما يجب
بالجناية عليها قدر نقصها فكذلك في جنينها ولان الأمة آدمية ألحقت بالاحرار في تقدير أعضائها
من قيمتها بخلاف البهيمة
(فصل) ودية الأعضاء كدية النفس فإن كان الواجب من الذهب والورق لم تختلف بعمد ولا
خطأ، وأن كان من الإبل وجبت في العمد أرباعا على إحدى الروايتين، وفي الأخرى يجب خمس
وعشرون حقه وخمس وعشرون جذعة وخمساها خلفات وفي الخطأ تجب أخماسا فإن لم تمكن قيمته
مثل أن يوضحه عمدا فإنه يجب أربعة أرباعا والخامس من أحد الأجناس الأربعة قيمته ربع قيمة
الأربع، وإن قلنا بالرواية الأخرى وجب خلفتان وحقه وجذعة ويعتبر قيمته نصف قيمة حقة ونصف
قيمة جذعة، وإن كانت خطأ وجب الخمس من الأجناس الخمسة من كل جنس بعير، وإن كان
551

الواجب دية أنملة وقلنا تجب من ثلاثة أجناس وجب بعير وثلث من الخلفات وحقة وجذعة وإن قلنا
أرباعا وجب ثلاثة وثلث قيمتها نصف قيمة الأربعة وثلثها، وإن كان خطأ فقيمتها ثلثا قيمة الخمس وعند
أصحابنا أن قيمة كل بعير مائة وعشرون درهما أو عشرة دنانير فلا فائدة في تعيين أسنانها، وإن اختلفت
قيمة الدنانير والدراهم مثل أن كانت العشرة الدنانير تساوي مائة درهم فقياس قولهم إذا جاء بما
قيمته عشرة دنانير لزم المجني عليه قبوله لأنه لو جاءه بالدنانير لزمه قبولها فلزمه قبول ما يساويها
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وذكر أصحابنا ان القتل تغلظ ديته بالحرم والاحرام والأشهر
الحرم الرحم المحرم فيزاد لكل واحد ثلث الدية فإذا اجتمعت الحرمات الأربع وجب ديتان وثلث)
وجملة ذلك أن الدية تغلظ بثلاثة أشياء: إذا قتل في الحرم والأشهر الحرم وإذا قتل محرما، ونص احمد
على التغليظ فيما إذا قتل محرما في الحرم وفي الشهر الحرام، فأما إن قتل ذا رحم محرم فقال أبو بكر
تغلظ ديته، وقال القاضي ظاهر كلام احمد انها لا تغلظ، وقال أصحاب الشافعي تغلظ بالحرم والأشهر
الحرم وذي الرحم، وفي التغليظ بالاحرام وجهان، وممن روي عنه التغليظ عثمان وابن عباس والسعيدان
وعطاء وطاوس ومجاهد وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وقتادة والأوزاعي ومالك والشافعي وإسحاق
واختلف القائلون بالتغليظ في صفته فقال أصحابنا يغلظ لكل واحد من الحرمات ثلث الدية فإذا
اجتمعت الحرمات الأربع وجبت ديتان وثلث
552

قال احمد في رواية ابن منصور فيمن قتل محرما في الحرم في الشهر الحرام فعليه أربعة وعشرون
ألفا وهذا قول التابعين القائلين بالتغليظ. وقال أصحاب الشافعي صفة التغليظ إيجاب دية العمد في
الخطأ ولا يتصور التغليظ في غير الخطأ ولا يجمع بين تغليظين وهذا قول مالك إلا أنه يغلظ في العمد
فإذا قتل ذا رحم محرم عمدا فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وتغليظها في الذهب
الفضة أن ينظركم قيمة أسنان الإبل غير مغلظة وقيمتها مغلظة؟ ثم يحكم بزيادة ما بينهما كانت قيمتها مخففة ستمائة
وفي العمد ثمانمائة وذلك ثلث الدية المخففة، وعند مالك تغلظ في الأب والام والجد دون غيرهم واحتجا
على صفة التغليظ بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه حين حذفه بالسيف
ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ولم يزد عليه في العدد شيئا وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر
فكانت اجماعا، ولان ما أوجب التغليظ أوجبه في الأسنان دون القدر كالضمان ولا يجمع بين تغليظين
لأن ما أوجب التغليظ بالضمان إذا اجتمع سببان تداخلا كالحرام والاحرام في قتل الصيد وعلى أنه
لا يغلظ بالاحرام لأن الشرع لم يرد بتغليظه. واحتج أصحابنا بما روي ابن أبي نجيح أن امرأة وطئت
في الطواف فقضي عثمان رضي الله عنه فيها آلاف وألفين تغليظا للحرم
وعن ابن عمر أنه قال: من قتل في الحرم أو ذا رحم أو في الشهر الحرام فعليه دية وثلث
553

وعن ابن عباس أن رجلا في الشهر الحرام وفي البلد الحرام فقال ديته اثنا عشر ألفا
وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف وهذا مما يظهر وينتشر ولم ينكر فثبت
اجماعا وهذا فيه الجمع بين تغليظات ثلاث ولأنه قول التابعين والقائلين بالتغليظ واحتجوا على التغليظ
في العمد أنه إذا غلظ الخطأ مع العذر فيه ففي العمد مع عدم العذر أولى وكل من غلظ الدية أوجب التغليظ
في بدل الطرف بهذه الأسباب لأن ما أوجب تغليظ دية النفس أوجب تغليظ دية الطرف
(مسألة) (وظاهر كلام الخرقي أن الدية لا تغلظ لشئ من ذلك وهو قول الحسن والشعبي
والنخعي وأبي حنيفة وابن المنذر)
وروي ذلك عن الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " في النفس
المؤمنة مائة من الإبل " لم يزد على ذلك، وعلى أهل الذهب ألف مثقال. وفي حديث ابن شريح
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقلة فمن قتل له قتيل
بعد ذلك فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " وهذا القتيل كان بمكة في حرم
الله تعالى ولم يزد النبي صلى الله عليه وسلم على الدية ولم يفرق بين الحرم وغيره. وقال الله تعالى (ومن قتل
مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وهذا يقتضي أن تكون الدية واحدة في كل
مكان وكل حال ولان عمر أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه لم يزد على مائة
554

وروى الجوزجاني باسناده عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع الفقهاء فكان مما
أحيا من تلك السنن بقول فقهاء المدينة السبعة ونظرائهم ان تاسا كانوا يقولون إن الدية تغلظ في
الشهر الحرام أربعة آلاف فتكون ستة عشر ألفا فألغى عمر ذلك بقول الفقهاء وأثبتها اثني عشر ألف
درهم في الشهر الحرام والبلد الحرام وغيرهم. قال ابن المنذر وليس بثابت ما روي عن الصحابة في
هذا ولو صح ففعل عمر في حديث قتادة أولى وهو مخالف لغيره فيقدم على قول من خالفه وهو أصح
في الرواية مع موافقة الكتاب والسنة والقياس
(فصل) ولا تغلظ الدية بموضع غير حرم مكة وقال أصحاب الشافعي تغلظ الدية بالقتل في
المدينة على قوله القديم لأنها مكان يحرم صيده فأشبهت حرم مكة ولا يصح القياس لأنها ليست
محلا للمناسك فأشبهت سائر البلدان. ولا يصح قياسها على الحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أي بلد
هذا؟ أليست البلدة - قال - فإن دماءكم وأموالكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا
في بلدكم هذا " وهذا يدل على أنه أعظم البلاد حرمة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ان أعتى الناس على الله
رجل قتل في الحرم، ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بدخل في الجاهلية " وتحريم الصيد ليس هو العلة
في التغليظ وإن كان من جملة المؤثر فقد خالف تحريمه تحريم الحرم فإنه لا يجب الجزاء على من قتل فيه
صيدا ولا يحرم الرعي فيه ولا الاحتشاش منه ولا ما يحتاج إليه من الرحل والعارضة والقائمة وشبهه
555

(مسألة) (وإن قتل مسلم كافرا عمدا ضعفت الدية على قاتله لإزالة القود كما حكم عثمان
رضي الله عنه)
روى احمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلا قتل رجلا من
أهل الذمة فرفع إلى عثمان فلم يقتله وغلظ عليه ألف دينار فذهب إليه احمد رحمه الله وله نظائر في
مذهبه فإنه أوجب على الأعور إذا قلع عين صحيح مماثلة لعينه دية كاملة لما درأ عنه القصاص وأوجب
على سارق التمر المعلق مثلي قيمته لما درأ عنه القطع. وذهب جمهور العلماء إلى أن دية الذمي في العمد
والخطأ واحد لعموم الاخبار فيها وكما لو قتل حرا عبدا عمدا فإنه لا تضعف القيمة عليه ولأنه بدل
متلف فلم يتضاعف بالعمد كسائر الابدال
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن جنى العبد خطأ فسيده بالخيار بين فدائه بالأقل
من قيمته أو أرش جنايته أو تسليمه ليباع في الجناية)
وجملة ذلك أن جناية إذا كانت موجبة للمال أو كانت موجبة للقصاص فعفا عنها إلى المال
تتعلق برقبته لأنه لا يخلو من أن تتعلق برقبته أو ذمة سيده أو لا يجب شئ ولا يمكن إلغاؤها
لأنها جنايتها آدمي فوجب اعتبارها كجناية الحر، ولان جناية الصغير والمجنون غير ملغاة مع عذره
وعدم تكليفه فالعبد أولى ولا يمكن تعليقها بذمته لأنه يفضي إلى إلغائها أو تأخير حق المجني عليه
556

إلى غير غاية ولا بذمة السيد لأنه لمم يجن فتعين تعليقها برقبة العبد ولأن الضمان موجب جنايته فتعلق
برقبته كالقصاص ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمته أو أقل أو أكثر فإن كان بقدرها
فما دون فالسيد مخير بين ان يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه وبهذا قال الثوري
ومحمد بن الحسن وإسحاق، وروي ذلك عن الشعبي وعطاء ومجاهد وعروة والحسن والزهري وحماد
لأنه إن دفع أرش الجناية فهو الذي وجب للمجني عليه فلم يملك المطالبة بأكثر منه، وإن سلم العبد
فقد أدى المحل الذي تعلق الحق به ولان حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها
وإن طالب المجني عليه السيد بتسليمه إليه لم يجبر عليه السيد لما ذكرنا
(مسألة) (وان كانت الجناية أكثر من قيمته ففيه روايتان)
(إحداهما) هي كالتي قبلها يخير بين تسليمه أو أن يفديه بقيمته أو أرش جنايته لأنه إذا أدى
قيمته فقد أدى قدر الواجب عليه فلم يلزمه أكثر من ذلك كما لو كانت الجناية بقدر قيمته والرواية
الثانية يلزمه تسليمه أو أن يفديه بأرش الجناية بالغة ما بلغت وهذا قول مالك لأنه إذا عرض للبيع ربما رغب
فيه راغب بأكثر من قيمته فإذا أمسكه فقد فوت تلك الزيادة على المجني عليه وللشافعي قولان كالروايتين
ووجه الرواية الأولى أن الشرع قد جعل له فداءه فكان الواجب قدر قيمته كسائر المتلفات
557

(مسألة) (وان سلمه إليه السيد فأبى ولي الجناية الجناية قبوله وقال بعه أنت وادفع ثمنه إلي فهل
يلزم السيد ذلك؟ على روايتين)
(إحداهما) لا يلزمه لأنه إذا سلم العبد فقد أدى المحل الذي تعلق الحق به، ولان حق المجني
عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة، وقد أدها. (والثانية) يلزمه لأن الجناية تقتضي وجوب
أرشها وأرشها هو قيمة العبد
(مسألة) (وان جنى عمدا فعفا الولي على القصاص على رقبته فهل يملكه بغير رضا السيد؟ على روايتين)
(إحداهما) لا يملكه لأنه إذا لم يملكه بالجناية فلان لا يملكه بالعفو أولى، ولأنه أحد من
عليه قصاص فلا يملك بالعفو كالحر ولأنه إذا عفا عن القصاص انتقل حقه إلى المال فصار كالجاني
جناية موجبة للمال (والثانية) إنه يملكه لأنه مملوك استحق اتلافه فاستحق ابقاء على ملكه كعبده الجاني عليه
(فصل) قال أبو طالب سمعت أبا عبد الله يقول إذا أمر غلامه فجنى فعليه ما جنى، وإن كان
أكثر من ثمنه، وان قطع يد حر فعليه يد الحر، وإن كان ثمنه أقل وان أمره سيده أن يجرح
رجلا فما جنى فعليه قيمة جناية، وإن كان أكثر من ثمنه، وان قطع يد حر لأنه بأمره وكان
علي وأبو هريرة يقولان إذا أمر عبده أن يقتل فإنما هو سوطه يقتل الولي ويحبس العبد، وقال
أحمد بن بهز ثنا حماد بن سلمة ثنا قتادة عن حلاس ان عليا قال: إذا أمر الرجل عبده فقل إنما هو
558

كسوطه أو كسيفه يقتل المولي، والعبد يستودع السجن ولأنه فوت شيئا بأمره فكان على السيد
ضماه كما لو استدان بأمره
(مسألة) (وان جنى على اثنين خطأ اشتركا فيه بالحصص وإن كان بعضها بعد بعض)
وبهذا قال الحسن وحماد ربيعة وأصحاب الرأي والشافعي، وعن شريح أنه قال يقضى لآخرهم
وبه قال الشعبي وقتادة لأنها جناية وردت على محل مستحق فقدم صاحبها على المستحق قبله كجناية
المملوك الذي لم يجز، وقال شريح في عبد شج رجلا ثم آخر ثم آخر فقال شريح يدفع إلى الأول إلا أن
يفديه مولاه ثم يدفع إلى الثاني ثم يدفع إلى الثالث
ولنا انهم تساووا في سبب تعلق الحق فتساووا في الاستحقاق كما لو جنى عليهم دفعة واحدة بل
لو قدم بعضهم كان الأول أولى لأن حقه أسبق
(مسألة) (وان عفا أحدهما أو مات المجني عليه فعفا بعض ورثته فهل يتعلق حق الباقين
بجميع العبد أو بحصتهم منه؟ على وجهين)
(أحدهما) يستحق جميع العبد لأن سبب استحقاقه موجود وإنما امتنع ذلك لمزاحمة الآخر له وقد
زال المزاحم فثبت له الحق جميعه لوجود المقتضي وزوال المانع فهو كما لو جنى عليه انسان ففداه سيده ثم جنى
559

على آخر (والثاني) لا يستحق الا حصته لأنه لم يثبت له قبل العفو الا حصته فكذلك بعده لأن العفو
عما يلزم السيد عفو عنه لا عن غيره
(فصل) فإن أعتق السيد عبده الجاني عتق وضمن ما تعلق به من الأرش لأنه أتلف محل الجناية
على من تعلق حقه به فلزمه غرامته كما لو قتله وينبني قدر الضمان على الروايتين فيما إذا اختار امساكه
بعد الجناية لأنه منع من تسليمه باعتاقه فهو بمنزلة امتناعه من تسليمه باختيار فدائه، ونقل ابن
منصور عن أحمد انه أعتقه عالما بجنايته فعليه دية المقتول، وان لم يكن عالما بها فعليه قيمة العبد
لأنه إذا أعتقه مع العلم كان مختارا لفدائه بخلاف ما إذا لم يعلم فإنه لم يختر الفداء لعدم علمه به
فلم يلزمه أكثر من قيمة ما فوته
(فصل) وان باعه أو وهبه صح لما ذكرنا في البيع ولم يزل تعلق الجناية عن رقبته فإن كان
المشتري عالما بحاله فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة وينتقل الخيار في فدائه وتسليمه إليه كالسيد الأول
وان لم يعلم فله الخيار بين امساكه ورده كسائر المعيبات
(مسألة) (وان جرح العبد حرا فعفا عنه ثم مات من الجراحة ولا مال له وقيمة العبد عشر دية
الحر واختار السيد فداءه وقلنا يفديه بقيمته صح العفو في ثلثه)
لأنه ثلث ما مات عنه ويبقي الثلثان للورثة، وان قلنا يفديه بديته صح العفو في خمسة أسداسه
560

وللورثة سدسه لأن العفو صح في شئ من قيمته وله بزيادة الفداء تسعة أشياء بقي للورثة الف الا
عشرة أشياء تعدل شيئين أجبر وقابل يصر ألف يعدل اثنى عشر شيئا فالشئ إذا يعدل نصف
سدس الدية وللورثة شيئان فتعدل السدس والله أعلم.
(فصل في الجناية على العبد) إذا قتل عبد مثله عمدا فسيد المقتول مخير بين القصاص والعفو
فإن عفا إلى مال تعلق المال برقبة القاتل لأنه وجب بجنايته وسيده مخير بين فدائه وتسليمه فإن اختار
فداه بأقل الامرين من قيمته أو قيمة المقتول لأنه إن كان الأقل قيمته لم يلزمه أكثر منها لأنها
بدل عنه وإن كان الأقل قيمة المقتول فليس لسيده أكثر منها لأنها بدل عبده وعنه رواية أخرى
أن سيده ان اختار فداءه بأرش الجناية بالغا ما بلغ وقد ذكرناه
(فصل) فإن قتل عشرة اعبد عبدا عمدا فعليهم القصاص فإن اختار السيد قتلهم فله ذلك وان عفا
إلى مال تعلقت قيمة عبده برقابهم على كل واحد منهم عشرها يباع منه بقدرها أو يفديه سيده وان
اختار قتل بعضهم والعفو عن البعض فله ذلك لأن له قتل الجميع والعفو عنهم، وان قتل عبد عبدين لرجل
واحد فله قتله والعفو عنه فإن قتله سقط حقه وان عفا إلى مال تعلقت قيمة العبدين برقبته فإن كانا
لرجلين فكذلك إلا أن القاتل يقتل بالأول منهما لأن حقه أسبق فإن عفا عنه الأول قتل بالثاني وان
561

قتلهما دفعة واحدة أقرع بين السيدين فمن وقعت له القرعة اقتص وسقط حق الآخر وان عفا عن
القصاص أو عفا سيد القتيل الأول إلى مال تعلق برقبة العبد وللثاني ان يقتص لأن تعلق المال بالرقبة
لا يسقط حق القصاص كما لو جنى العبد المرهون فإن قتله الآخر سقط حق الأول من القيمة لأنه لم
يبق محل يتعلق به وان عفا الثاني تعلقت قيمة القتيل الثاني برقبته أيضا ويباع فيهما ويقسم ثمنه على
قدر القيمتين ولم يقدم الأول بالقيمة كما قدمناه بالقصاص لأن القصاص لأن يتبعض بينهما والقيمة يمكن
تبعيضها، فإن قيل فحق الأول أسبق قلنا لا يراعى السبق كما لو أتلف أموالا لجماعة واحدا بعد واحد
(فصل) فإن قتل العبد عبدا بين شريكين كان لهما القصاص والعفو فإن عفا أحدهما سقط القصاص
وينتقل حقهما إلى القيمة لأن القصاص لا يتبعض فإن قتل عبدين لرجل واحد فله ان يقتص منه لأحدهما
أيهما كان وسقط حقه من الاخر وله ان يعفو عنه إلى مال وتتعلق قيمتهما جميعا برقبته
562

(باب ديات الأعضاء ومنافعها)
وهي نوعان (أحدهما) الشجاج وهي ما كان في الرأس والوجه وسنذكرها في بابها (الثاني)
ما كان في سائر البدن وينقسم قسمين (أحدهما) قطع عضو (والثاني) قطع لحم والمضمون في الآدمي
ضربان (أحدهما) ما ذكرنا (والثاني) تفويت منفعة كاذهاب السمع والبصر والشم والذوق والعقل ونحو ذلك
(من تلف ما في الانسان منه شئ واحد ففيه الدية، وهو الذكر والأنف واللسان الناطق
ولسان الصبي الذي يحركه بالبكاء)
وجملة ذلك أن كل عضو لم يخلق الله سبحانه منه إلا واحدا كالأنف واللسان فيه دية كاملة
لأن في اتلافه اذهاب منفعة الجنس واذهابها كالنفس
(مسألة) (وما فيه منه شيئان ففيهما الدية وفي أحدهما نصفهما كالعينين والأذنين والشفتين واللحيين
وثديي المرأة وتندوتي الرجل واليدين والرجلين والخصيتين والأليتين)
لأن في اتلافهما اذهاب منفعة الجنس فكان فيهما الدية وفي أحدهما نصفها وهذه الجملة مذهب
الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا وقد روى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن أبيه عن
جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له وكان في كتابه " وفي الانف إذا أوعب جذعه الدية وفي اللسان الدية
وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل
563

الواحدة نصف الدية " رواه النسائي ورواه ابن عبد البر وقال كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء
وما فيه متفق عليه الا قليلا، وعن أحمد في الشفة السفلى ثلثا الدية وفي العليا ثلثها يروى هذا عن زيد بن ثابت
لأن النفع بالسفلى أعظم لأنها تدور لأنها تدور وتتحرك وتحفظ الريق والطعام، والأولى أصح لقول أبي بكر الصديق
وعلي رضي الله عنهما ولان كل شيئين وجبت الدية فيهما وجب نصفها في أحدهما كاليدين ولا عبرة
بزيادة النفع كاليمنى مع اليسري
(مسألة) (وفي المنخرين ثلثا الدية وفي الحاجز ثلثها وعنه في المنخرين الدية وفي الحاجز حكومة)
وجملة ذلك أن ما في البدن منه ثلاثة ففيها الدية وفي كل واحد ثلثها وذلك المنخران والحاجز
بينهما وبهذا قال إسحاق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء من
جنس فتوزعت الدية على عددها كسائر ما فيه عدد من الأصابع والأجفان، وعنه المنخرين الدية
وفي الحاجز حكومة حكاها أبو الخطاب قال أحمد في كل زوجين من الانسان الدية وهو الوجه الثاني
لأصحاب الشافعي لأن المنخرين ليس في البدن لهما ثالث فأشبها اليدين ولأنه بقطع المنخرين اذهب
الجمال كله والمنفعة فأشبه قطع اليدين، فعلى هذا الوجه في قطع أحد المنخرين نصف الدية وإن قطع
معه الحاجز ففيه حكومة، وإن قطع نصف الحاجز أو أقل أو أكثر لم يزد على حكومة، وعلى الأول
في قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز نصف الدية وفي قطع جميعه مع المنخر ثلثا الدية وفي قطع
564

جزء من الحاجز أو أحد المنخرين بقدره من ثلث الدية يقدر بالمساحة، وان أشق الحاجز ففيه حكومة
وان بقي منفرجا فالحكومة فيه أكثر والأول أظهر لأن ما كان فيه ثلاثة أشياء ينبغي أن يوزع على
جميعها كما وزعت الدية أرباعا على ما هو أربعة أشياء كأجفان العينين وانصافا على ما هو اثنان كاليدين
(مسألة) (وفي الأجفان الأربعة الدية وفي كل واحد ربعها) كما ذكرنا فيما فيه منه اثنان
(مسألة) وفي أصابع اليدين الدية وكذلك أصابع الرجلين وفي كل أصبع عشرها)
لأنها عشر الدية على عددها كما قسمت على عدد الأجفان
ولما روى ابن عباس قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وفي لفظ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه وهذه سواء " يعني الابهام والخنصر أخرجه البخاري
(مسألة) (وفي كل أنملة ثلث عقلها)
لأن في كل أصبع ثلاث أنامل فتقسم دية الإصبع عليها كما قسمت دية اليد على الأصابع بالسوية
الا الابهام فإنها مفصلان ففي كل مفصل نصف عقلها وهو خمس من الإبل
(مسألة) (وفي الظفر خمس دية الإصبع وهكذا ذكره أبو الخطاب)
يعني إذا قلعه ولم يعد والتقديرات يرجع فيها إلى التوقيف فإن لم يكن فيها توقيف فالقياس أن فيه
حكومة كسائر الجراح التي ليس فيها مقدر
565

(مسألة) وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد أثغر يعني ألقى أسنانه ثم عادت والأضراس
والأنياب كالأسنان ويحتمل أن يجب فيها دية واحدة)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الأسنان خمس خمس في كل سن، وقد روي ذلك عن عمرو بن الخطاب
وابن عباس ومعاوية وسعيد بن المسيب وعروة وعطاء وطاوس وقتادة والزهري ومالك والثوري
والشافعي وإسحاق وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم
" في السن خمس من الإبل " رواه النسائي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن البني صلى الله
عليه وسلم قال " في الأسنان خمس خمس " رواه أبو داود، فأما الأضراس فأكثر أهل العلم على أنها مثل
الأسنان منهم عروة وطاوس وقتادة والزهري ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو حنيفة ومحمد
ابن الحسن، وروي ذلك عن ابن عباس ومعاوية، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الأضراس
ببعير بعير، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: لو كنت أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين
فتلك الدية سواء رواه مالك في موطئه وعن عطاء نحوه، وحكي عن أحمد أن فيها دية واحدة فيتعين
حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد للاجماع على أن في كل سن خمسا من الإبل وورود الحديث به
فيكون في الأسنان والأنياب ستون بعيرا لأن فيه أربع ثانيا وأربع رباعيات وأربعة أنياب فيها خمس خمس
وفيه عشرون ضرسا في كل جانب عشرة خمسة من فوق وخمسة من أسفل فيكون فيها أربعون بعيرا
566

في كل ضراس بعيران فتكمل الدية وحجة من قال هذا أنه ذو عدد تجب فيه الدية فلم تزد ديته على دية
الانسان كالأصابع والأجفان وسائر مال في البدن ولأنها تشتمل على منفعة جنس فلم تزد ديتها على الدية
كسائر منافع الجنس ولان الأضراس تختص بالمنفعة دون الجمال والأسنان فيها منفعة وجمال فاختلفا في الأرش
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الأصابع سواء
الثنية والضرس سواء والأسنان سواء هذه وهذه سواء " وهذا نص وقوله في الأحاديث المتقدمة " في الأسنان
خمس خمس " ولم يفصل يدخل في عمومها الأضراس لأنها أسنان ولان كل دية وجبت في جملة كانت
مقسومة على العدد دون المنافع كالأصابع والأجفان، وقد أومأ ابن عباس إلى هذا فقال لا أعتبرها
بالأصابع، فأما ما ذكروه من المعنى فلا بد من مخالفة القياس فيه فمن ذهب إلى قولنا خالف المعنى الذي
ذكروه ومن ذهب إلى قولهم خالف التسوية الثانية بقياس سائر الأعضاء من جنس واحد فكان ما
ذكرناه مع موافقة الاخبار وقول أكثر أهل العلم أولى، وأما على قول عمر ان في كل ضرس بعيرا
فيخالف القياس والاخبار جميعا فإنه لا يوجب الدية كاملة وإنما يوجب ثمانين بعيرا ويخالف بين
الأعضاء المتجانسة والله أعلم
(مسألة) قال (إذا قلعت ممن قد ثغر وهو الذي ابدل أسنانه وبلغ حدا إذا قلعت سنه لم يعد بدلها)
يقال ثغر واثغر إذا كان كذلك فأما سن الصبي الذي لم يثغر فلا يجب بقلعها في الحال شئ
567

هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأن العادة عود سنه فلم يجب
فيها في الحال شئ كنتف شعره لكن ينظر عودها فإن مضت مدة يئس من عودها وجبت ديتها قال
أحمد يتوقف سنة لأنها الغالب في نباتها وقال القاضي إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت الدية،
وإن نبت مكانها أخرى لم تجب ديتها كما لو نتف شعره فعاد مثله لكن ان عادت قصيرة أو مشوهة
ففيها حكومة لأن الظاهر أن ذلك بسبب الجناية عليها فإن أمكن تقدير نقصها عن نظيرتها ففيها ديتها
بقدر ما نقص وكذلك إن كانت فيها ثلمة أمكن تقديرها ففيه بقدر ما ذهب منها كما لو كسر من سنة
ذلك القدر، وإن نبتت أطول من أخواتها ففيها حكومة لأن ذلك عيب وقيل لا شئ فيها لأن هذا
زيادة والصحيح الأول لأن ذلك شين حصل بسبب الجناية فأشبه نقصها، وإن نبتت مائلة عن صف
الأسنان حيث لا ينتفع بها ففيها ديتها لأن ذلك كذهابها، وإن كانت ينتفع بها ففيها حكومة للشين الحاصل
بها ونقص نفعها وإن نبتت صفراء أو حمراء أو متغيرة ففيها حكومة لنقص جمالها، وإن نبتت سوداء، أو
خضراء ففيها روايتان حكاهما القاضي (إحداهما) فيها دية (والثانية) حكومة كما لو سودها من غير
قلعها وإن مات الصبي قبل اليأس من عودها فعلى وجهين (أحدهما) لا شئ له لأن الظاهر أنه لو عاش
عادت فلم يجب فيها شئ كما لو نتف شعره (والثاني) فيه الدية لأنه قلع سنا يئس من عودها فوجبت
ديتها كما لو مضى زمن تعود في مثله فلم تعد، وإن قلع سن من قد ثغر وجبت ديتها في الحال لأن الظاهر
568

أنها لا تعود فإن عادت لم تجب الدية وإن كان قد أخذها ردها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك
لا يرد شيئا لأن العادة أنها لا تعود فمتى هبة من الله مجددة فلا يسقط بذلك ما وجب له بقلع
سنه وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا انه عادله في مكانها مثل التي قلعت فلم يجب له شئ كالذي لم يثغر وان عادت ناقصة أو مشوهة
فحكمها حكم سن الصغير إذا عادت على ما ذكرنا ولو قلع سن من لم يثغر فمضت مدة يئس من عودها
وحكم بوجوب الدية فعادت بعد ذلك فهي كسن الكبير إذا عادت
(فصل) وان قلع سنا مضطربة لكبر أو مرض فكانت منافعها باقية من المضغ وحفظ الطعام
والريق وجبت ديتها وكذلك ان ذهب بعض منافعها وبقي بعضها لأن جمالها وبعض منافعها باق فكملت
ديتها كاليد المريضة ويد الكبير وان ذهبت منافعها كلها فهي كاليد الشلاء على ما نذكره إن شاء الله تعالى،
وان قلع سنا فيها داء آكلة فإن لم يذهب شئ من اجزائها ففيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد المريضة،
وان سقط من اجزائها شئ سقط من ديتها بقدر الذاهب منها ووجب الباقي وان كانت أحد ثنيتيه قصيرة
نقص من ديتها بقدر نقصها كما لو نقصت بكسرها
(فصل) وان جنى على سنه جان فاضطربت وطالت عن الأسنان وقيل إنها تعود إلى مدة إلى
569

ما كانت عليه انتظرت إليها فإن ذهبت وسقطت وجبت ديتها، وان عادت كما كانت فلا شئ فيها كما لو
جني على يد فمرضت ثم برأت، وان بقي فيها اضطراب ففيها حكومة وان قلعها قالع فعليه ديتها كاملة كما
ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا وعلى الأول حكومة لجنايته، وان مضت المدة ولم تعد إلى ما كانت
عليه ففيها حكومة وان قلعها قالع فعليه ديتها كما ذكرنا وان قالوا يرجى عودها من غير تقدير مدة وجبت
الحكومة فيها لئلا يفضي إلى اهدار الجناية وان عادت سقطت الحكومة كما ذكرنا في غيرها
(مسألة) (وتجب دية اليد والرجل في قطعهما من الكوع والكعب فإن قطعهما من فوق ذلك
لم يزد على الدية وقال القاضي في الزائد حكومة
أجمع أهل العلم على وجوب الدية في اليدين والرجلين ووجوب نصفها في إحداهما وقد روي عن
معاذ بن جبل ان النبي صلى الله على وسلم قال " في اليدين الدية وفي الرجلين الدية " وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو
ابن حزم " وفي اليد خمسون من الإبل " واليد التي تجب فيها الدية من الكوع لأن اسم اليد عند الاطلاق
ينصرف إليها لأن الله تعالى لما أمر بقطع يد السارق كان الواجب قطعها من الكوع فإن قطع يده من فوق
الكوع فقطعها من المرفق أو نصف الساعد فليس عليه إلا دية واحدة نص عليه في رواية أبي طالب
وهذا قول عطاء وقتادة وابن أبي ليلى ومالك وهو قول بعض أصحاب الشافعي وظاهر مذهبه عند أصحابه
انه يجب مع دية اليد حكومة لما زاد لأن اسم اليد لها إلى الكوع ولان المنفعة المقصودة في اليد من
570

البطش والاخذ والدفع بالكف وما زاد تابع للكف والدية تجب في قطعها من الكوع فيجب في
الزائد حكومة قال أبو الخطاب وهو قول القاضي
ولنا ان اليد اسم للجميع إلى المنكب بدليل قوله تعالى (وأيديكم إلى المرفق) ولما نزلت آية التيمم
مسح الصحابة إلى المناكب وقال ثعلب اليد إلى المنكب وفي عرف الناس ان جميع ذلك يسمى يدا
فإذا قطعها من فوق الكوع فما قطع الا يدا فلا يلزمه أكثر من ديتها فأما قطعها في السرقة فلان
المقصود يحصل به وقطع بعض الشئ يسمى قطعا له كما يقال قطع ثوبه إذا قطع جانبا منه وقولهم
ان الدية تجب في قطعها من الكوع قلنا ولذلك تجب بقطع الأصابع منفردة ولا يجب بقطعها من الكوع
أكثر مما يجب بقطع الأصابع والذكر يجب في قطعه من أصله مثل ما يجب في قطع حشفته وأما إذا قطع
يده من الكوع ثم قطعها من المرفق وجب في المقطوع ثانيا حكومة لأنه وجبت عليه دية اليد بالقطع
الأول فوجب بالثاني حكومة كما لو قطع الأصابع ثم قطع الكف أو كما لو فعل ذلك اثنان
(فصل) وإن كان له كفان في ذراع أو يدان على عضد وإحداهما بطشة دون الأخرى أو إحداهما
أكثر بطشا أو في سمت الذراع والأخرى منحرفة عنه أو إحداهما تامة والأخرى ناقصة فالأولى هي
الأصلية والأخرى زائدة ففي الأصلية ديتها والقصاص بقطعها عمدا وفي الزائد حكومة سواء قطعها
مفردة أو مع الأصلية وعلى قول ابن حامد لا شئ فيها لأنها عيب فهي كالسلعة في اليد وان استويا من
571

كل الوجوه وكانتا غير باطشتين ففيهما ثلث دية اليد أو حكومة ولا تجب دية اليد كاملة لأنهما لا نفع فيهما
فهما كاليد الشلاء وان كانتا باطشتين ففيهما جميعا دية اليد وهل تجب حكومة مع ذلك؟ على وجهين بناء
على أن الزائدة هل فيها حكومة أو لا؟ وان قطع إحداهما فلا قود لاحتمال أن تكون هي الزائدة فلا تقطع
الأصلية بها وفيها نصف ما فيهما لتساويهما وان قطع أصبعا من إحداهما وجب أرش نصف أصبع وفي
الحكومة وجهان وان قطع ذو اليد التي لها طرفان وجب القصاص فيهما على قول ابن حامد لأن هذا نقص
لا يمنع القصاص كالسلعة في اليد وعلى قول غيره لا يجب لئلا يأخذ يدين بيد واحدة ولا نقطع إحداهما
لأننا لا نعرف الأصلية فنأخذها زائدة بأصلية
(فصل) وفي الرجلين الدية خلاف وفي إحداهما نصفها لما ذكرنا من الحديث والمعنى في اليدين
وفي تفصيلها كما ذكرنا من التفصيل في اليدين ومفصل الكعبين ههنا مثل مفصل الكوعين في اليدين
وفي قدم الأعرج ويد الأعسم الدية لأن العرج لمعنى في غير القدم والعسم اعوجاج في الرسغ وليس
ذلك عيبا في قدم ولا كف فلم يمنع كمال الدية فيهما وذكر أبو بكر ان في كل واحد منهما ثلث الدية
كاليد الشلاء ولا يصح لأنهما لم تبطل منفعتهما فلم تنقص ديتهما بخلاف اليد الشلاء فإن كان له قدمان
في رجل واحدة فالحكم على ما ذكرنا في اليدين وان كانت إحدى القدمين أطول من الأخرى وكان
الطويل مساويا للرجل الأخرى فهو الأصلي وإن كان زائدا عنها والآخر مساو للرجل الأخرى فهو
572

الأصلي وإن كان له في كل رجل قدمان يمكنه المشي على الطويلتين مشيا مستقيما فيهما الأصليتان وإن لم
يمكنه فقطع وأمكنه المشي على القصيرين فيهما الأصليان والآخران زائدين فإن أشل الطويلين ففيهما الدية
لأن الظاهر أنهما الأصليان فإن قطعهما قاطع فأمكنه المشي على القصيرين تبين انهما الأصليان وان لم
يمكنه فالطويلان هما الأصليان
(مسألة) (وفي مارن الانف وحشفة الذكر وحلمتي الثديين دية العضو كاملة)
في الانف الدية إذا قطع مارنه بغير خلاف بينهم حكاه ابن المنذر وابن عبد البر عمن يحفظه
من أهل العلم وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وفي الانف إذا أوعب
جدعا الدية وفي رواية مالك في الموطأ إذا أوعى جدعا يعني استوعب واستوصل ولأنه عضو فيه جمال
ومنفقة ليس في البدن منه الا شئ واحد فأشبه اللسان
(فصل) وإنما الدية في مارنه وهو مالان منه هكذا قال الخليل وغيره ولأنه يروى عن طاوس
أنه قال: كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانف إذا أوعب مارنه جدعا الدية وفي بعضه إذا قطع
بقدره من الدية يمسح ويعرف قدر ذلك يروى هذا عن عمر بن عبد العزيز والشعبي والشافعي
(مسألة) (ويحتمل ان يجب على من استوعب الانف جدعا دية وحكومة في القصبة)
إذا قطع المارن مع القصبة ففيه الدية في قياس المذهب ويحتمل ان يجب في المارن الدية وحكومة
573

في القصبة وهذا مذهب الشافعي لأن المارن وحده موجب للدية فوجبت الحكومة في الزائد كما لو
قطع القصبة وحدها مع قطع لسانه
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " في الانف إذا أوعب جدعا الدية " ولأنه عضو واحد فلم يجب
فيه أكثر من دية واحدة كالذكر إذا قطع من أصله وبهذا يبطل ما ذكروه ويفارق إذا قطع لسانه
وقصبته لأنهما عضوان فلا تدخل دية أحدهما في الآخر أما العضو الواحد فلا يبعد ان يجب في جميعه ما يجب
في بعضه كالذكر تجب في حشفته الدية التي تجب في جميعه وفي الثدي كله ما في حلمته، فأما إن قلع الانف وما تحته
من اللحم ففي اللحم حكومة لأنه ليس من الانف فأشبه ما لو قطع الذكر واللحم الذي تحته
(مسألة) (وفي الذكر الدية) أجمع أهل العلم على ذلك لأن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الذكر
الدية " وذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب سواء في الدية لعموم الحديث وسواء قدر على الجماع أو لم يقدر
وفي حشفة الذكر الدية وهو قول جماعة من أهل العلم ولا نعلم فيه مخالفا لأن منفعته تكمل بالحشفة كما
574

تكمل منافع اليد بالأصابع فكملت الدية بقطعها كالأصابع، وإن قطع الذكر كله أو الحشفة وبعض
العصبة لم يجب أكثر من الدية كما لو قطع الأصابع وبعض الكف
(مسألة) (وفي الثديين الدية)
ولا نعلم خلافا في أن في ثديي المرأة وفي الواحد منهما نصف الدية قال ابن المنذر أجمع كل
من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة نصف الدية وفي الثديين الدية وممن حفظنا عنه
ذلك الحسن والشعبي والزهري ومكحول وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولان
فيهما جمالا ونفعا فأشبها اليدين والرجلين
(مسألة) (وفي قطع حلمتي الثديين ديتهما)
نص عليه احمد وروي نحو هذا عن الشعبي والنخعي والشافعي وقال مالك والثوري إن ذهب
اللبن وجبت ديتهما وإلا وجبت حكومة بقدر شينه. ونحوه قال قتادة: إذا ذهب الرضاع
بقطعهما ففيهما الدية
ولنا انه ذهب منهما ما تذهب المنفعة بذهابه فوجبت ديتهما كالأصابع مع الكف وحشفة الذكر
وبيان ذهاب المنفعة ان بهما يشرب الصبي ويرتضع فهما كالأصابع في الكف وإن قطع الثديين كلهما
فليس فيهما إلا دية كما لو قطع الذكر كله وإن حصل مع قطعهما جائفة وجب فيها ثلث الدية مع ديتهما
575

وإن ضربهما فأشلهما ففيهما الدية كما لو أشل يديه، وإن جنى عليهما من صغيرة ثم ولدت فلم ينزل لها
لبن سئل أهل الخبرة فإن قالوا إن الجناية سبب قطع اللبن فعليه ما على من ذهب باللبن بعد وجوده
وإن قالوا ينقطع بغير الجناية لم يجب عليه أرشه لأن الأصل براءة ذمته فلا يجب فيها شئ بالشك
وإن جنى عليهما فنقص لبنهما أو جنى على ثديين ناهدين فكسرهما أو صار بهما مرض ففيه حكومة
لنقصه الذي نقصهما
(مسألة) (وفي ثديي الرجل وهما التندوتان الدية)
وبه قال إسحاق وحكي ذلك قولا للشافعي لأنه ذهب بالجمال من منفعة فلم يجب دية كما لو أتلف
العين القائمة واليد الشلاء، وقال الزهري في حلمة الرجل خمس من الإبل، وعن زيد بن ثابت
فيه ثمن الدية.
ولنا ان ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه الرجل كسائر الأعضاء ولأنهما عضوان في
البدن يحصل بهما الجمال ليس في البدن غيرهما. من جنسهما فوجب فيهما الدية كاليدين ولأنه أذهب
الجمال على الكمال فوجبت فيهما الدية كالشعور الأربعة عند أبي حنيفة وكأذني الأصم وأنف الأخشم
عند الجميع ويفارق العين القائمة لأنه ليس فيهما جمال كامل ولأنها عضو قد ذهب منه ما تجب فيه الدية
فلم تكمل ديته كاليدين إذا شلتا بخلاف مسئلتنا
576

وما في اللثة منها يسمى سنخا فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السنخ ففي السن ديتها وفي السنخ
حكومة كما لو قطع انسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه، وإن قلعها الأول بسنخها لم يجب فيها أكثر
من ديتها كما لو قطع اليد من كوعها، وإن فعل ذلك في مرتين فكسر السن ثم عاد فقلع السنخ ففيه
ديتها وحكومة لأن ديتها وجبت بالأول ثم وجب عليه بالثاني حكومة كما لو فعله غيره وكذلك لو
قطع الأصابع ثم قطع الكف، وإن كسر بعض الظاهر ففيه من دية السن بقدره إن كان ذهب
النصف وجب نصف الأرش وإن كان الذاهب الثلث وجب الثلث، وإن جاء آخر فكسر بقيتها
فعليه بقية الأرش، فإن قلع الثاني سنخها نظرنا فإن كان الأول كسرها عرضا فليس على الثاني للسنخ
شئ لأنه تابع لما قلعه من ظاهر السن فصار كما لو قطع الأول من كل أصبع من أصابعه أنملة ثم قطع
الثاني يده من الكوع، وإن كان الأول كسر نصف السن طولا دون سنخه فجاء الثاني فقلع الباقي
بالسنخ كله فعليه دية النصف الباقي وحكومة لنصف السنخ الذي بقي من كسر الأول كما لو قطع
الأول إصبعين من يد ثم جاء الثاني فقطع الكف كله، فإن اختلف الثاني والمجني عليه فيما قلعه الأول
فالقول قول المجني عليه لأن الأصل سلامة السن، وانكشفت اللثة عن بعض السن فالدية في قدر
الظاهر عادة دون ما انكشف على خلاف العادة، وإن اختلفا في قدر الظاهر اعتبر ذلك بأخواتها فإن
577

لم يكن لها شئ تعتبر به ولم يكن ان يعرف ذلك من أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الأصل براءة
ذمته ويحتمل أن يجب على من استوعب جدعا دية وحكومة في القصبة وهذا مذهب الشافعي وقد
ذكر كقطع اليد من نصف الساعد
(مسألة) (وفي العينين الدية)
أجمع أهل العلم على ذلك وعلى ان في العين الواحدة نصفها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وفي العينين الدية "
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي العين الواحدة خمسون من الإبل " رواه مالك في الموطأ ولان
العينين من أعظم الجوارح نفعا فكانت فيهما الدية وفي أحدهما نصفها كاليدين. إذا ثبت هذا فيستوي
في ذلك الصغيرتان والكبيرتان والمليحتان والقبيحتان والصحيحتان والمريضتان والحولاء والرمصاء
فإن كان فيهما بياض لا ينقص البصر لم تنقص الدية وإن نقص من البصر نقص من الدية بقدره
(مسألة) (وفي الاذنين الدية)
روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال عطاء ومجاهد والحسن وقتادة والثوري والأوزاعي والشافعي
وأصحاب الرأي ومالك في إحدى الروايتين عنه، وقال في الأخرى فيها حكومة لأن الشرع لم يرد
فيهما بتقدير ولا يثبت التقدير بالقياس
ولنا أن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الاذنين الدية " ولان عمر وعليا قضيا
فيهما بالدية، فإن قيل فقد روي عن أبي بكر الصديق أنه قضى في الاذنين بخمسة عشر بعيرا قلنا لم يثبت
578

ذلك قاله ابن المنذر ولان ما كان في البدن منه عضوان كان فيهما الدية وفي أحدهما نصف الدية بغير
خلاف بين القائلين بوجوب الدية فيهما
(مسألة) (وفي اللحيين الدية)
وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى لأن فيهما نفعا وجمالا وليس في البدن مثلهما فكانت
فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان، وفي أحدهما نصفها كإحدى اليدين والرجلين ونحوهما مما في
البدن منه شيئان
(مسألة) (وفي الأليتين الدية)
قال ابن المنذر كل من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون في الأليتين الدية وفي كل واحد منهما
نصفها منهم عمرو بن شعيب والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي ولأنهما عضوان من جنس فيهما جمال
ظاهر ومنفعة كاملة فإنه يجلس عليهما كالوسادتين فوجبت فيهما الدية وفي إحداهما نصفها كاليدين،
والأليتان هما ما علا وأشرف عن الظهر وعن استواء الفخذين وفيهما الدية إذا أخذتا إلى العظم الذي
تحتهما، وفي ذهاب بعضهما بقدره لأن ما وجب فيه الدية وجب في بعضه بقدره فإن جهل المقدار وجبت
حكومة لأنه نقص لم يعرف قدره
579

(مسألة) (وفي الأنثيين الدية)
لا نعلم في هذا خلافا وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي البيضتين " الدية ولان
فيهما الجمال المنفعة فإن النسل يكون بهما فاشبها اليدين، وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أنه
قال مضت السنة أن في الصلب الدية وفي الأنثيين الدية وفي إحداهما نصف الدية في قول
أكثر أهل العلم وحكي عن سعيد بن المسيب أن في اليسرى ثلثي الدية وفي اليمنى ثلثها لأن نفع اليسرى
أكثر لأن النسل يكون منها
ولنا أن ما وجبت الدية في شيئين منه وجب في أحدهما نصفها كاليدين وسائر الأعضاء ولأنهما
ذوا عدد تجب فيه الدية فاستوت ديتهما كالأصابع وما ذكروه ينتقض بالأصابع، وكذلك الأجفان
تستوي ديتهما مع اختلاف نفعهما ثم يحتاج إلى إثبات الذي ذكره وان رض أنثييه أو أشلهما كملت
ديتهما كما لو أشل يديه أو ذكره وان قطع أنثييه فذهب نسله لم يجب أكثر من دية لأن ذلك نفعهما
فلم تزدد الدية بذهابه معهما كالبصر مع ذهاب العينين وان قطع إحداهما فذهب النسل لم يجب أكثر
من نصف الدية لأن ذهابه غير متحقق
(مسألة) (وفي اسكتي المرأة الدية)
والإسكتان هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم وأهل اللغة يقولون الشفران
580

حاشيتا الإسكتان كما أن أشفار العينين أهدابهما وفيهما دية المرأة إذا قطعا، وبهذا قال الشافعي وقاله
الثوري إذا لم يقدر على جماعها وقضى به محمد بن سفيان إذا بلغا العظم وذلك لأن فيهما جمالا ومنفعة
وليس في البدن غيرهما من جنسهما فوجبت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان، وفي إحداهما
نصف الدية كما ذكرنا في غيرهما، وان جنى عليهما فأشلهما وجبت ديتهما كما لو جنى على شفتيه فأشلهما
ولا فرق بين كونهما غليظتين أو دقيقتين قصيرتين أو طويلتين من بكر أو ثيب أو صغيرة أو كبيرة أو
محفوظة أو غير محفوظة لأنهما عضوان فيهما الدية فاستوى فيه جميع ما ذكرنا كسائر أعضائها ولا
فرق بين الرتقاء وغيرها لأن الرتق عيب في غيرهما فلم ينقص ذلك من ديتهما كما أن الصمم لم ينقص
دية الاذنين والحفظ هو الختان في حق المرأة
(مسألة) (وفي ركب المرأة حكومة وهو عانة المرأة وكذلك عانة الرجل)
لأنه لا مقدر فيه ولا هو نظير لما قدر فيه فإن أخذ منه شئ مع فرج المرأة وذكر الرجل ففيه
الحكومة مع الدية كما لو أخذ مع الانف أو الشفتين من اللحم الذي حولها
(مسألة) (وفي اللسان الدية إذا كان ناطقا)
أجمع أهل العلم على وجوب الدية في لسان الناطق، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن
مسعود رضي الله عنهم، وبه قال أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الرأي وأهل الحديث وغيرهم
581

وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي اللسان الدية " ولان فيه جمالا ومنفعة فأشبه الانف فاما
الجمال فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمال فقال " في اللسان " ويقال جمال الرجل في لسانه والمرء
بأصغريه قلبه ولسانه ويقال ما الانسان لولا اللسان الا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة، وأما النفع فإن به
تبلغ الأغراض وتستخلص الحقوق وتدفع الآفات وتقتضي الحاجات وتتم العبادات في القراءة
والذكر والشكر والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم والدلالة على الحق البين والصراط
المستقيم وبه يذوق الطعام ويستعين في مضغه وتقليبه وتنقية الفم وتنظيفه فهو أعظم الأعضاء نفعا
وأتمها جمالا فايجاب الدية في غيره تنبيه على إيجابها فيه. وإنما تجب الدية في اللسان الناطق وأما الأخرس
فسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى
(فصل) فإن قطع لسان صغير لم يتكلم لطفوليته وجبت ديته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا
يجب لأنه لسان لا كلام فيه فأشبه الأخرس
ولنا أن ظاهره السلامة وإنما لم يتكلم لأنه لا يحسن الكلام فوجبت به الدية كالكبير ويخالف
الأخرس فإنه علم أن لسانه أشل الا ترى ان أعضاءه لا يبطش بها وتجب فيها الدية؟ فإن بلغ حدا
يتكلم مثله فلم يتكلم فقطع لسانه فلم تجب فيه الدية لأن الظاهر أنه لا يقدر على الكلام فهو كلسان
الأخرس وان كبر فنطق ببعض الحروف وجبت فيه بقدر ما ذهب من الحروف لأننا تبينا أنه كان
ناطقا وإن كان قد بلغ إلى حد يتحرك بالكباء وغيره فلم يتحرك فقطعه فلا دية فيه لأن الظاهر
أنه لو كان صحيحا لتحرك، وان لم يبلغ إلى حد يتحرك ففيه الدية لأن الظاهر سلامته وان
582

قطع لسان كبير وادعى أنه كان اخرس ففيه ما ذكرنا فيما إذا اختلفا في شلل العضو بعد
قطعه من الخلاف.
(فصل) وفي أجفان العينين الدية وفي أحدهما ربع الدية لأن كل عدد تجب في جميعه الدية يجب
في الواحد منها بحصته كالأصابع وهذا قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وعن مالك انه لا مقدر
فيها بل يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم
ولنا انها أعضاء فيها جمال ظاهر ونفع كامل فإنها تكن العين وتقيها وتحفظها من الحر والبرد
ولولاها لقبح منظرها فوجبت فيها الدية كاليدين وعن الشعبي انه يجب في الأعلى ثلثا الدية وفي
الأسفل ثلثها لأنه أكثر نفعا
ولنا ان كل عدد تجب الدية في جميعه تجب بالحصة في الواحد منه كالأصابع فإن قلع العينين
بأشفارهما وجبت ديتان لأنهما جنسان تجب الدية بكل واحد منهما منفردا فوجب باتلافهما جملة
ديتان كاليدين والرجلين، وتجب الدية في أشفار عين الأعمى وهي الأجفان لأن ذهاب
بصره عيب في غير الأجفان فلم يمنع وجوب الدية فيهما كذهاب الشم لا يمنع وجوب
الدية في الانف.
(مسألة) (وفي قطع بعض المارن والاذن والحلم واللسان والشفة والحشفة والأنملة وشق الحشفة
طولا بالحساب من ديته يقدر بالاجزاء كالثلث والربع ثم يؤخذ مثله من الدية)
لأن ما وجبت الدية في جميعه وجبت في بعضه فإن كان الذاهب النصف وجب نصف الدية
وإن كان الثلث وجب ثلثها، وإن كان أقل أو أكثر وجب بحساب ذلك كما بقسط دية
اليد على الأصابع.
583

(مسألة) (وفي شلل العضو واذهاب نفعه والجناية على الشفتين بحيث لا يطبقان على الأسنان الدية)
لأنه عطل نفعهما فأشبه ما لو أشل يده وكذلك ان استرختا فصارتا لا ينفصلان عن الأسنان
لأنه عطل جمالها.
(فصل) وان جنى على يديه فأشلهما وجبت ديتهما لأنه فوت منفعتهما فهو كما لو أعمى عينيه
أو أخرس لسانه وان أشل الذكر ففيه ديته لأنه ذهب بنفعه أشبه ما لو أشل لسانه وكذلك ان أشل
أنثييه كما لو أشل يديه وكذلك إن جنى على الإسكتين فأشلهما ففيهما الدية كما لو جنى على الشفتين
فأشلهما ففيهما الدية وكذلك الأصابع إذا أشلهما لما ذكرنا وسائر الأعضاء الا الاذن والأنف
وسنذكرهما إن شاء الله تعالى
(مسألة) (وفي تسويد السن والظفر بحيث لا يزول ديته وعنه في تسويد السن ثلث ديتها
وقال أبو بكر فيها حكومة)
إذا جنى على سنه فسودها فحكي عن أحمد في ذلك روايتان
584

(إحداهما) تجب ديتهما كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي ويروى عن زيد بن ثابت وبه
قال سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنخعي ومالك
والليث والثوري وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي (والرواية الثانية) عن أحمد أنه ان أذهب
منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها وان لم يذهب نفعها ففيها حكومة وهذا قول القاضي والقول الثاني
للشافعي وهو المختار عند أصحابه وهو أقيس لأنه لم يذهبها بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرت وهذا قول أبي بكر
ولنا أنه قول زيد بن ثابت ولم يعرف له مخالف من الصحابة فكان إجماعا ولأنه أذهب الجمال على
الكمال فكلمت ديتها كما لو قطع اذن الأصم وأنف الأخشم والظفر كذلك قياسا على السن وعن أحمد
(رواية ثالثة) ان في تسويد السن ثلث ديتها والتقدير لا يثبت إلا بالتوقيف
(فصل) فاما ان اصفرت أو احمرت لم تكمل ديتها لأنه لم يذهب الجمال على الكمال وفيها حكومة
وان اخضرت احتمل أن يكون كتسويدها لأنه ذهب بجمالها واحتمل ان لا يكون فيه إلا حكومة لأن
ذهاب جمالها لتسويدها أكثر فلم يلحق به غيرها كما لو حمرها فعلى قول من أوجب ديتها متى قلعت بعد
تسويدها ففيها ثلث ديتها أو حكومة على ما نذكره إن شاء الله تعالى وعلى قول من لم يوجب فيها إلا
حكومة يجب في قلعها ديتها كما لو صفرها
585

(فصل) فإن جني على سنه فذهبت حدتها وكلت ففي ذلك حكومة وعلى قالعها بعد ذلك دية كاملة
لأنها سن صحيحة كاملة فكملت ديتها كالمضطربة وان ذهب منها جزء ففي الذاهب بقدره وان قلعها
قالع نقص من ديتها بقدر ما ذهب كما لو كسر منها جزءا
(مسألة) (وفي العضو الأشل من اليد والرجل والذكر والثدي ولسان الأخرس والعين القائمة
وشحمة الاذن وذكر الخصي والعينين والسن السوداء والثدي دون حلمته والذكر دون حشفته
وقصبة الانف واليد والإصبع الزائدتين حكومة وعنه ثلث ديته)
أما اليد الشلاء وهي اليابسة التي ذهبت منها منفعة البطش وكذلك الرجل مثلها في الحكم قياسا
عليها والعين القائمة التي ذهب بصرها وصورتها باقية كصورة الصحيحة والسن السوداء فعن احمد رحمه
الله فيهن حكومة لأنه لا يمكن دية كاملة لكونها قد ذهبت منفعتها ولا مقدر فيها فتجب الحكومة
كاليد الزائدة وعنه فيهن ثلث الدية كما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث ديتها وفي السن السوداء إذا
قلعت بثلث ديتها رواه النسائي وأخرجه أبو داود في العين وحدها وهو قول عمر ورواه قتادة عن
خلاس عن عبد الله بن جريدة عن يحيى بن يعمر عن أبيه عن ابن عباس ان عمر رضي الله عنه قضى
في العين القائمة إذا قلعت واليد الشلاء إذا قطعت والسن السوداء إذا كسرت بثلث دية كل واحد منهن
ولأنها كاملة الصورة فكان فيها مقدر كالصحيحة وقولهم لا يمكن ايجاب مقدر ممنوع فإننا قد ذكرنا التقدير وبيناه
586

(فصل) قال القاضي قول أحمد في السن السوداء ثلث ديتها محمول على سن ذهبت منفعتها بحيث
لا يمكنه ان بعض بها شيئا أو كانت تتفتت فاما ان كانت منفعتها باقية ولم يذهب منها إلا لونها ففيه كمال
ديتها سواء قلت منفعتها بان يعجز عن عض الأشياء الصلبة أو لم يعجز لأنها باقية المنفعة فكملت ديتها
كسائر الأعضاء وليس على من سودها إلا حكومة وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا والصحيح من
مذهب أحمد ما يوافق ظاهر كلامه لظاهر الاخبار وقضاء عمر وقول أكثر أهل العلم ولأنه ذهب جمالها
بتسويدها فكملت ديتها على من سودها كتسويد الوجه ولم يجب على متلفها أكثر من ثلث ديتها كاليد
الشلاء وكالسن البيضاء إذا انقلعت ونبتت مكانها سوداء لمرض فيها فإن القاضي وأصحاب الشافعي
سلموا انها لا تكمل ديتها
(فصل) فإن نبتت أسنان صبي سوداء ثم ثغر ثم عادت سوداء فديتها تامة لأن هذا جنس خلق على
هذه الصورة أشبه من خلق اسود الجسم والوجه جميعا وان نبتت أولا بيضاء ثم ثغر ثم عادت سوداء
سئل أهل الخبرة فإن قالوا ليس السوداء لعلة ولا مرض ففيها كمال ديتها وان قالوا ذلك لمرض فعلى قالعها
ثلث ديتها أو حكومة وقد سلم القاضي وأصحاب الشافعي الحكم في هذه الصورة وهو حجة عليهم فيما
خالفوا فيه ويحتمل أن يكون الحكم فيما كانت سوداء من ابتداء الخلقة هكذا لأن المرض قد يكون في
فيه من ابتداء خلقته فيثبت حكمه في نقص ديتها كما لو كان طارئا
587

(فصل) وفي لسان الأخرس روايتان أيضا كاليد الشلاء وكذلك كل عضو ذهبت منفعته وبقيت
صورته كالرجل الشلاء والإصبع والذكر إذا شلا وذكر الخصي والعينين إذا قلنا لا تكمل ديتهما
وأشباه هذا كله يتخرج على روايتين (إحداهما) فيه ثلث الدية والأخرى حكومة
(فصل) فاما اليد والرجل والإصبع أو السن الزوائد ونحو ذلك فليس فيه إلا حكومة وقال
القاضي هو في معنى اليد الشلاء فيخرج على الروايتين والذي ذكره شيخنا أصح لأنه لا تقدير في
هذا ولا هو في معنى المقدر ولا يصح قياس هذا على العضو الذي ذهبت منفعته وبقي جماله لأن هذه الزوائد
لا جمال فيها إنما هي شين في الخلقة وعيب يرد به المبيع وتنقص بالقيمة فيكيف يصح قياسه على ما يحصل
به الجمال؟ ثم لو حصل به جمال ما لكنه يخالف جمال العضو الذي يحصل به تمام الخلقة ويختلف في نفسه
اختلافا كثيرا فوجبت فيه الحكومة ويحتمل ان لا يجب فيه شئ لما ذكرنا
(فصل) قد ذكرنا ان في الإصبع الزائدة حكومة وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي
وعن زيد بن ثابت ان فيها ثلث دية الإصبع وذكر القاضي انه قياس المذهب على رواية ايجاب ثلث
دية اليد في اليد الشلاء والأول أصح على ما ذكرنا ولا يصح قياسها على اليد الشلاء لما ذكرنا من
الفرق بينهما والله أعلم
(فصل) واختلفت الرواية في قطع الذكر دون حشفته وعلى قياسيه الثدي دون حلمته وقطع الكف
بعد أصابعه فروى أبو طالب عن أحمد فيه ثلث ديته وكذلك شحمة الأذن وعن أحمد في ذلك كله
588

حكومة وهذا هو الصحيح لعدم التقدير فيه وامتناع قياسه على ما فيه تقدير لأن الأشل بقيت صورته
وهذا لم تبق صورته إنما بقي بعض ما فيه الدية أو أصل ما فيه الدية فاما قطع الذراع بعد قطع الكف
والساق بعد قطع القدم فينبغي ان تجب الحكومة فيه وجها واحدا لأن ايجاب ثلث دية اليد فيه يفضي
إلى أن يكون الواجب فيه مع بقاء الكف والقدم وذهابهما واحدا مع تفاوتهما وعدم النص فيهما
(مسألة) (وعنه في ذكر الخصي والعنين كمال ديته)
أما ذكر العنين فأكثر أهل العلم على وجوب الدية فيه لأن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم
" وفي الذكر الدية " ولأنه غير مأيوس من جماعه وهو عضو سليم في نفسه فكملت ديته كذكر الشيخ وذكر
القاضي فيه عن أحمد روايتين (إحداهما) تجب فيه الدية لذلك (والثانية) لا تكمل ديته وهو قول
قتادة لأن منفعة الانزال والاحبال والجماع وقد عدم ذلك منه في حال الكمال فلم تكمل ديته كالأشل
وبهذا فارق ذكر الصبي والشيخ واختلفت الرواية في ذكر الخصي فعنه فيه دية كاملة وهو قول سعيد
ابن عبد العزيز والشافعي وابن المنذر للخبر ولان منفعة الذكر الجماع وهو باق فيه (والثانية) لا يجب فيه
وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأي وقتادة وإسحاق لما ذكرنا في ذكر العنين ولان المقصود
منه تحصيل النسل ولا يوجد ذلك منه فلم تكمل ديته كالأشل والجماع يذهب في الغالب بدليل ان البهائم
يذهب جماعها بخصائها والفرق بين ذكر العنين وذكر الخصي ان الجماع في ذكر العنين أبعد منه
في ذكر الخصي واليأس من الانزال متحقق في ذكر الخصي دون ذكر العنين
589

(مسألة) (فإذا قلنا لا تكمل الدية في قطع ذكر الخصي ان قطع الذكر والأنثيين دفعة واحدة
أو قطع الذكر ثم قطع الأنثيين لزمته ديتان وإن قطع الأنثيين ثم قطع الذكر لزمته دية واحدة للأنثيين
وفي الذكر حكومة أو ثلث الدية)
قال القاضي ونص احمد على هذا وان قطع نصف الذكر بالطول فقال أصحابنا فيه نصف الدية
والأولى ان تجب الدية كاملة لأنه ذهب بمنفعة الجماع به فوجبت الدية كاملة كما لو أشله أو كسر
صلبه فذهب جماعه وان قطع قطعة منه مما دون الحشفة وكان البول يخرج على ما كان عليه وجب بقدر
القطعة من جميع الذكر من الدية وان خرج البول من موضع القطع وجب الأكثر من حصة القطعة
من الدية أو الحكومة وان ثقب ذكره فيما دون الحشفة فصار البول يخرج من الثقب ففيه حكومة لذلك
(مسألة) (وان أشل الانف أو الاذن أو عوجهما ففيه حكومة وفي قطع الأشل منهما كمال الدية)
إذا ضرب انفه فأشله ففيه حكومة وان قطعه قاطع بعد ذلك ديته وكذلك الاذن إذا جنى عليها
فاستحشفت واستحشافها كشلل سائر الأعضاء ففيها حكومة وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر في
ذلك ديتها وكذلك قوله في الانف إذا أشله لأن ما وجبت ديته بقطعه وجبت بشلله كاليد والرجل
ولنا ان نفع الاذن باق بعد استحشافها وجمالها فإن نفعها جمع الصوت ومنع دخول الماء والهوام
590

في صماخه وهذا باق بعد شللها فإن قطعها قاطع بعد شللها ففيها ديتها لأنه قطع اذنا فيها جمالها ونفعها
فوجبت ديتها كالصحيحة وكما لو قلع عينا عمياء أو حولاء وكذلك الانف نفعه جمع الرائحة
ومنع وصول الهوام إلى دماغه وهذا باق بعد الشلل بخلاف سائر الأعضاء فإن جنى على الانف فعوجه
أو غير لونه ففيه حكومة في قولهم جميعا وكذلك الاذن إذا عوجها أو غير لونها ففيها حكومة كالأنف
(فصل) فإن قطع الأنف الا جلدة بقي معلقا بها فلم يلتحم واحتيج إلى قطع الجلدة ففيه ديته
لأنه قطع جميعه بعضه بالمباشرة وبعضه بالسبب فأشبه ما لو سرى قطع بعضه إلى قطع جميعه وان رده
فالتحم ففيه حكومة لأنه لم يبن وان أبانه فرده فالتحم فقال أبو بكر ليس فيه الا حكومة كالتي
قبلها وقال القاضي فيه ديته وهو مذهب الشافعي لأنه ابان انفه فلزمته ديته كما لو لم يلتحم ولان
ما أبين قد نجس فيلزمه ان يبينه بعد التحامه ومن قال بقول أبي بكر منع نجاسته ووجوب ابانته
لأن اجزاء الآدمي كجملته بدليل سائر الحيوانات جملته طاهرة فكذلك اجزاؤه
(مسألة) (وتجب الدية في انف الأخشم والمخزوم)
591

لأن انف الأخشم لا عيب فيه وإنما العيب في غيره فوجبت ديته كانف غير الأخشم وأما المخزوم
فأنفه كامل غير أنه معيب فأشبه العضو المريض ولذلك تجب في اذن الأصم لأن الصمم نقص في غير
الاذن فلم يؤثر في ديتها كالعمي لا يؤثر في دية الأجفان وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا
(مسألة) (وان قطع أنفه فذهب شمه وجبت ديتان لأن الشم في غير الانف فلا تدخل دية أحدهما
في الآخر وكذلك إذا قطع أذنه فذهب سمعه يجب ديتان لأن السمع في غير الاذن فهو كالبصر
مع الأجفان والنطق مع الشفتين)
(مسألة) (وسائر الأعضاء إذا أذهبها بمنفعتها لم يجب إلا دية واحدة كالعين إذا قلعت فذهب
ضوؤها لم يجب إلا دية واحدة)
لأن الضوء فيها ومثل ذلك سائر الأعضاء إذا أذهبها بنفعها لم يجب إلا دية واحدة لأن نفعها فيها فدخلت
ديته في ديتها ولان منافعها تابعة لها تذهب بذهابها فوجبت دية العضو دون المنفعة كما لو قتله لم يجب إلا ديته
(فصل) في دية المنافع قال الشيخ رحمه الله في كل حاسة دية كاملة وهي السمع والبصر والشم
والذوق لا خلاف في وجوب الدية بذهاب السمع قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على أن في السمع
الدية روي ذلك عن عمر وبه قال مجاهد وقتادة والثوري والأوزاعي وأهل الشام وأهل العراق ومالك
592

والشافعي وابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وفي السمع الدية "
وروي أبو المهلب عن أبي قلابة ان رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه
فقضى فيه عمر بأربع ديات والرجل حي ولأنها حاسة تختص بنفع فكان فيها الدية كالبصر، وان ذهب
السمع من إحدى الاذنين وجب نصف الدية كما لو ذهب البصر من إحدى العينين
(مسألة) (وفي البصر الدية)
لأن كل عضوين وجبت الدية بذهابهما وجبت باذهاب نفعهما كاليدين إذا أشلهما وفي ذهاب بصر
إحداهما نصف الدية كما لو أشل يدا واحدة، وليس في اذهابهما بنفعهما أكثر من دية واحدة كاليدين، وان
جنى على رأسه جناية ذهب بها بصره فعليه ديته لأنه ذهب بسبب جنايته وان لم يذهب بها فداواها فذهب
بالمداواة فعليه الدية ذهب بسبب فعله
(مسألة) (وفي الشم الدية)
لأنه حاسة يختص بمنفعة فكان في ذهابها الدية كسائر الحواس ولا نعلم في هذا خلافا قال القاضي
في كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي المشام الدية "
(فصل) وفي الذوق الدية وكذلك قال أبو الخطاب لأن الذوق حاسة فأشبه الشم وقياس المذهب
593

أنه لا دية فيه فإنه لا يختلف في لسان الأخرس لا دية فيه، وقد نص أحمد على أن فيه ثلث الدية
ولو وجب في الذوق دية لوجبت في ذهابه مع ذهاب اللسان بطريق الأولى، واختلف أصحابنا الشافعي
فمنهم من قال قد نص الشافعي على وجوب الدية فيه ومنهم من قال لا نص له فيه ومنهم من قال قد
نص على أن في لسان الأخرس حكومة وان ذهب الذوق بذهابه قال شيخنا: والصحيح إن شاء الله
أنه لا دية فيه لأن في اجماعهم على أن لسان الأخرس لا تكمل الدية فيه اجماعا على أنه لا تكمل
في ذهاب الذوق بمفرده لأن كل عضو لا تكمل الدية فيه بمنفعته لا تكمل في منفعته دونه كسائر
الأعضاء ولا تفريع على هذا القول
(مسألة) (وكذلك تجب في الكلام والعقل والمشي والاكل والنكاح)
إذا جني عليه فخرس وجبت ديته لأن كل ما تعلقت الدية باتلافه تعلقت باتلاف منفعته كاليد
(مسألة) (وفي ذهاب العقل الدية)
ولا نعلم فيه خلافا روي ذلك عن عمر وزيد رضي الله عنهما واليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي العقل الدية " ولأنه أكبر المعاني قدر أو أعظم الحواس نفعا فإنه
يتميز من البهيمة ويعرف به حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحة ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف
594

وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بايجاب الدية أحق من بقية الحواس
فإن نقص عقله نقصا معلوما وجب بقدره
(فصل) فإن ذهب عقله بجناية لا توجب أرشا كاللطمة والتخويف ونحو ذلك ففيه الدية لا غير وان
أذهبه بجناية توجب أرشا كالجراح أو قطع عضو وجبت الدية وأرش الجرح وبهذا قال مالك والشافعي في الجديد،
وقال أبو حنيفة والشافعي في القديم يدخل الأقل منهما في الأكثر فإن كانت الدية أكثر من أرش الجرح
وجبت وحدها وإن كان أرش الجرح أكثر كأن قطع يديه ورجليه فذهب عقله وجبت دية الجرح
ودخلت دية العقل فيه لأن ذهاب العقل تخل معه منافع الأعضاء فدخل أرشها فيه كالموت
ولنا أن هذه جناية أذهبت منفعة من غير محلها مع بقاء النفس فلم يتداخل الأرشان كما لو أوضحه
فذهب بصره أو سمعه، ولأنه لو جني على أذنه أو أنفه فذهب شمه لم يدخل أرشهما في دية الأنف
والاذن مع قربهما منهما فههنا أولى، وما ذكروه لا يصح لأنه لو دخل أرش الجرح في دية العقل لم يجب
أرشه إذا زاد على دية العقل كما أن دية الأعضاء كلها مع القتل لا يجب أكثر من دية النفس فلا يصح
قولهم ان منافع الأعضاء تبطل بذهاب العقل فإن المجنون تضمن منافعه وأعضاؤه بعد ذهاب عقله بما
تضمن به منافع الصحيح وأعضاؤه، ولو ذهبت منافعه وأعضاؤه لم تضمن كما لا تضمن منافع الميت
وأعضاؤه وإذا جاز أن تضمن بالجناية عليها بعد الجناية عليه جاز ضمانها مع الجناية عليه كما لو جنى
عليه فأذهب سمعه وبصره بجراحة في غير محلها
595

(فصل) فإن جنى عليه فاذهب عقله وشمه وبصره وكلامه وجب أربع ديات مع أرش الجرح
قال أبو قلابة رمى رجل رجلا بحجر فذهب عقله وسمعه وبصره ولسانه فقضي عليه عمر بأربع ديات
وهو حي، ولأنه أذهب منافع في كل واحد منهما دية فوجبت عليه دياتها كما لو أذهبها بجنايات فإن مات
من الجناية لم يجب الا دية واحدة لأن ديات المنافع كلها تدخل في دية النفس كديات الأعضاء
(مسألة) (وفي ذهاب المشي الدية) لأنها منفعة مقصودة فوجبت فيها الدية كالكلام
(فصل) وفي كسر الصلب الدية إذا لم ينجبر لما روي في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي
الصلب الدية " وعن سعيد بن المسيب قال: مضت السنة ان في الصلب الدية وهذا ينصرف إلى سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال زيد بن ثابت وعطاء والحسن والزهري ومالك وقال القاضي وأصحاب الشافعي
ليس في كسر الصلب دية الا أن يذهب مشيه أو جماعة فتجب الدية لتلك المنفعة لأنه عضو لم تذهب
منفعته فلم يجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء
ولنا الخبر ولأنه عضو ليس في البدن مثله فيه جمال ومنفعة فوجبت فيه الدية بمفرده كالأنف،
وإن ذهب مشيه بكسر صلبه ففيه الدية في قول الجميع ولا يجب أكثر من دية لأنها منفعة تلزم كسر
الصلب غالبا فأشبه ما لو قطع رجليه
(مسألة) (وفي ذهاب الاكل الدية) لأنها منفعة مقصودة فوجبت فيه لدية كالشم والنكاح
(مسألة) (فإن كسر صلبه فذهب نكاحه ففيه الدية)
روي ذلك عن علي رضي الله عنه لأنه نفع مقصود فأشبه ذهاب المشي، وإن ذهب جماعه ومشيه
596

وجبت ديتان في ظاهر كلام أحمد في رواية ابنه عبد الله لأنهما منفعتان تجب الدية بذهاب كل واحدة
منهما منفردة فإذا اجتمعتا وجبت ديتان كالسمع والبصر، وعن أحمد فيهما دية واحدة لأنهما نفع عضو
واحد فلم يجب فيهما أكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه، وإن جبر صلبه فعادت
أحدي المنفعتين دون الأخرى لم يجب الا دية الا أن تنقص الأخرى فتجب حكومة لنقصها أو تنقص من
جهة أخرى فيكون فيه حكومة لنقصها لذلك، وإن ادعى ذهاب جماعه فقال رجلان من أهل الخبرة
ان مثل هذه الجناية تذهب الجماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا
من جهته، وإن كسر صلبه فشل ذكره اقتضى كلام أحمد وجوب ديتين لكسر الصلب واحدة وللذكر
أخرى، وفي قول القاضي ومذهب الشافعي في الذكر دية وحكومة لكسر الصلب، وإن أذهب ماءه
دون جماعه احتمل وجوب الدية، ويروى هذا عن مجاهد قال بعض أصحاب الشافعي هو الذي يقتضيه
مذهب الشافعي لأنه ذهب بمنفعة مقصودة فوجبت الدية كما لو ذهب بجماعه أو كما لو قطع أنثييه أو
رضهما واحتمل أن لا تجب الدية كاملة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها
(مسألة) (ويجب في الحدب)
تجب الدية في الحدب لأن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الصلب الدية " ولأنه أبطل
عليه منفعة مقصودة وجمالا أشبه ما لو أذهب مشيه
597

(مسألة) (وفي الصعر الدية وهو أن يضربه فيصير الوجه إلى جانب)
وأصل الصعر داء يأخذ البعير فيلتوي منه عنقه قال الله تعالى (ولا تصعر خدك للناس) أي لا
تعرض عنهم بوجهك تكبرا كإمالة وجه البعير الذي به الصعر، فمن جنى على انسان جناية فعوج عنقه
حتى صار وجهه في جانب فعليه دية كاملة روي ذلك عن زيد ثابت رضي الله عنه وقال الشافعي:
ليس فيه الا حكومة لأنه اذهاب جمال عن غير منفعة
ولنا ما روى مكحول عن زيد بن ثابت أنه قال: وفي الصعر الدية ولم يعرف له في الصحابة مخالف
فكان اجماعا ولأنه أذهب الجمال والمنفعة فوجبت فيه دية كسائر المنافع، وقولهم لم تذهب منفعة لا يصح
فإنه لا يقدر على النظر إمامه وانقاء ما يحذره إذا مشى وإذا نابه أمر أو دهمه عدو لم يمكنه العلم به ولا
اتقاؤه ولا يمكنه لي عنقه ليتعرف ما يريد نظره ويتعرف ما يضره مما ينفعه
(فصل) فإن جنى عليه فصار الالتفات أو ابتلاع الماء عليه شاقا فيه حكومة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها
ولا يمكن تقديرها، وإن صار بحيث لا يمكنه ازدراد ريقه فهذا لا يكاد يتقى وان بقي مع ذلك ففيه
الدية لأنه تفويت منفعة ليس لها مثل في البدن
(مسألة) (وفي تسويد الوجه إذا لم يزل الدية وقال الشافعي فيه حكومة) لأنه لا مقدر
فيه ولا هو نظير لمقدر
ولنا أنه فوت الجمال على الكمال فضمنه بديته كما لو قطع أذني الأصم أو أنف الأخشم وقوله ليس
598

بنظير لمقدر ممنوع فإنه نظير لقطع الاذنين في ذهاب الجمال بل هو أعظم في ذلك فيكون بايجاب
الدية أولى، فإن زال السواد رد ما أخذه لسواده لزوال سبب الضمان، فأما ان صفر وجهه أو حمره ففيه
حكومة لأنه لم يذهب بالجمال على الكمال
(مسألة) (وإذا لم يستمسك الغائط والبول ففي كل واحد من ذلك دية كاملة)
وجملة ذلك أنه إذا ضرب بطنه فلم يستمسك الغائط أو المثانة فلم يستمسك البول وجب فيه الدية
وبهذا قال ابن جريح وأبو ثور وأبو حنيفة ولا نعلم فيه مخالفا الا أن ابن أبي موسى ذكر في المثانة رواية
أخرى أن فيها ثلث الدية لأنها باطنة فهي كافضاء المرأة، والصحيح الأول كل واحد من هذين
المحلين عضو فيه منفعة كبيرة ليس في البدن مثله فوجب في تفويت منفعته دية كاملة كسائر الأعضاء
المذكورة فإن نفع المثانة حبس البول وحبس البطن الغائط منفعة مثلها والنفع بهما كثير والضرر بفواتهما
عظيم فكان في كل واحد منهما الدية كالسمع والبصر، وإن فاتت المنفعتان بجناية واحدة وجب على
الجاني ديتان كما لو ذهب سمعه وبصره بجناية واحدة
(مسألة) (وفي نقص شئ من ذلك أن علم بقدره مثل نقص العقل بأن يجن يوما ويفيق يوما
أو ذهاب بصر إحدى العينين أو سمع إحدى الاذنين) لأن ما وجب فيه الدية وجب بعضها في
بعضه كالأصابع واليدين
599

(فصل) وإن نقص الذوق نقصا يتقدر بأن لا يدرك أحد المذاق الخمس وهي الحلاوة والحموضة
والمرارة والملوحة والعذوبة فإذا لم يدرك أحدها وأدرك الباقي ففيه خمس الدية وفي اثنين خمساها
وفي ثلاث ثلاثة أخماسها وإن لم يدرك واحدة فعليه الدية إذا قلنا تجب الدية في ذهاب الذوق والا ففيه حكومة
(مسألة) (وفي بعض الكلام بالحساب يقسم على ثمانية وعشرين حرفا) يعتبر ذلك بحروف
المعجم هي ثمانية وعشرون حرفا سوى لا فإن مخرجها مخرج الام والألف فمهما نقص من الحروف
نقص من الدية بقدره لأن الكلام تم، بجميعها فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره
من الكلام ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية وفي الحرفين نصف سبعها وفي الأربعة سبعها، ولا فرق
بين ما خف على اللسان من الحروف أو ثقل لأن كل ما وجب فيه المقدر لم يختلف لاختلاف قدره
كالأصابع ويحتمل ان تقسم الدية على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفوية وهي الباء والميم والفاء
والواو، ودون حروف الحلق السنة الهمز والحاء والخاء والعين والغين، فهذه عشرة بقي ثمانية عشر
حرفا للسان تقسم ديته عليها لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف وحدها مع بقائه
فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها بقسطه منها، ففي الواحد نصف تسع الدية
وفي الاثنين تسعها وفي الثلاثة سدسها وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وان جنى على شفته فذهب بعض
الحروف وجب فيه بقدره وكذلك ان ذهب بعض حروف الحلق بجنايته، وينبغي ان يجب بقدره من
600

ثمانية وعشرين وجها واحدا وان ذهب حرف فعجز عن كلمة لم يجب غير أرش الحرف لأن الضمان إنما
يجب لما تلف وان ذهب حرف فأبدل مكانه حرفا آخر كان كان يقول درهم فصار يقول دلهم أو دعهم
أو دبهم فعليه ضمان الحرف الذاهب لأن ما يبدل لا يقوم مقام الذاهب في القراءة ولا غيرها فإن جنى
عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضا لأنه أصل وان جنى عليه جان فاذهب بعض الحروف وجنى عليه
آخر فاذهب بقية الكلام فعلى كل واحد منهما بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى العينين وذهب
الآخر ببصر الأخرى وإن كان الثغ من غير جناية عليه فذهب انسان بكلامه كله فإن كان مأيوسا من
ذهاب لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف وإن كان غير مأيوس من زوالها كالصبي ففيه الدية الكاملة
لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته بالتعليم
(مسألة) (وان لم يعلم قدره مثل ان صار مدهوشا يفزع مما لا يفزع ويستوحش إذا خلا فهذا
لا يمكن تقديره) فيجب فيه ما تخرجه الحكومة لأنه لا تقدير فيه
(مسألة) (فإن نقص سمعه أو بصره أو شمه أو حصل في كلامه تمتمة أو عجلة أو فأفأة ففيه
حكومة لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية)
لأن المنفعة باقية فإن جني عليه جان آخر فاذهب كلامه ففيه الدية كاملة كما لو جنى على عينه جان
فعمشت ثم جنى عليه آخر فاذهب بصرها فإن نقص ذوقه نقصا غير مقدر بان يحس المذاق كله إلا أنه
لا يدركه على الكمال ففيه حكومة كما لو نقص بصره أو سمعه نقصا لا يتقدر
601

(مسألة) (وان نقص مشيه أو انحنى قليلا أو تقلست شفته بعض التقلس أو تحركت سنه أو ذهب
اللبن من ثدي المرأة ونحو ذلك ففيه حكومة) لما ذكرنا
(مسألة) (وان قطع بعض اللسان فذهب بعض الكلام اعتبر أكثرهما فلو ذهب ربع اللسان
ونصف الكلام أو ربع الكلام ونصف اللسان وجب نصف الدية)
إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه فإن استويا مثل ان يقطع ربع لسانه فيذهب ربع كلامه
وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما لو قطع إحدى عينيه فذهب بصرها وان ذهب من أحدهما أكثر
من الآخر كان قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه أو قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه وجب
بقدر الأكثر وهو نصف الدية في الحالين لأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون بالدية منفردا
فإذا انفرد نصفه بالذهاب وجب النصف الا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان شئ
وجب نصف الدية؟ ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شئ وجب نصف الدية
(مسألة) (وان قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام ثم الآخر بقيته فذهب بقية الكلام
فعلى الأول نصف الدية وعلى الثاني نصفها ويحتمل ان يجب عليه نصف الدية وحكومة لربع اللسان)
في هذه المسألة ثلاثة أوجه (أحدها على الثاني نصف الدية وهذا قول القاضي وهو أحد الوجهين
لأصحاب الشافعي لأن السالم نصف اللسان وباقيه أشل بدليل ذهاب نصف الكلام (والثاني) عليه نصف
602

الدية وحكومة للربع الأشل لأنه لو كان جميعه أشل لكانت فيه حكومة أو ثلث الدية فإذا كان بعضه
أشل ففي ذلك البعض حكومة أيضا (والثالث) عليه ثلاثة أرباع الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب
الشافعي لأنه قطع ثلاثة أرباع لسانه فذهب نصف كلامه فوجب عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو قطعه
أولا ولا يصح القول بان بعضه أشل لأن العضو متى كان فيه بعض النفع لم يكن بضعه أشل كالعين إذا
كان بصرها ضعيفا واليد إذا كان بطشها ضعيفا
(فصل) وان قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه نصف ديته وان قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع
الدية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر عليه نصف الدية لأنه لم يقطع إلا نصف لسانه
ولنا أنه ذهب بثلاثة أرباع الكلام فلزمته ثلاثة أرباع ديته كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام
بقطع نصف اللسان في الأول ولأنه لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمته ثلاثة أرباع الدية
فلان يجب بقطع نصف اللسان أولى ولو لم يقطع الثاني نصف اللسان لكن جنى عليه جنايته أذهب بقية
كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة أرباع ديته لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه ثلاثة
أرباع الدية كما لو جنى على صحيح فذهب ثلاثة أرباع كلامه مع بقاء لسانه
(فصل) إذا قطع بعض لسانه عمدا فاقتص المجني عليه من مثل ما جنى عليه فذهب من كلام الجاني
603

مثل ما ذهب من كلام المجني عليه أو أكثر فقد استوفى حقه ولا شئ في الزائد من سراية القود وهي
غير مضمونة وان ذهب أقل فللمقتص دية ما بقي لأنه لم يستوف بدله
(فصل) إذا كان للسانه طرفان فقطع أحدهما فذهب كلامه ففيه الدية لأن ذهاب الكلام بمفرده
يوجب الدية وان ذهب بعض الكلام نظرت فإن كان الطرفان متساويين وكان ما قطعه بقدر ما ذهب
من الكلام وجب فإن كان أحدهما أكثر وجب الأكثر على ما مضى وان لم يذهب من الكلام شئ
وجب بقدر ما ذهب من اللسان من الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان فهو خلقة زائدة
وفيه حكومة وان قطع جميع اللسان وجبت الدية من غير زيادة سواء كان الطرفان متساويين أو مختلفين
وقال القاضي ان كانا متساويين ففيهما الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان وجبت الدية
وحكومة في الخلقة الزائدة
ولنا ان هذه الزيادة عيب نقص يرد بها المبيع وينقص من ثمنه فلم يجب شئ كالسلعة في اليد
وربما عاد القولان إلى شئ واحد لأن الحكومة لا يخرج بها شئ إذا كانت الزيادة عيبا
(مسألة) (وان قطع لسانه فذهب نطقه وذوقه لم يجب إلا دية وان ذهبا مع بقاء اللسان وجبت ديتان)
إذا جنى على لسان ناطق فاذهب كلامه وذوقه ففيه ديتان وان قطع لسانه فذهبا معا يجب إلا
604

دية واحد لأنهما يذهبان تبعا لذهابه فوجبت ديته دون ديتهما كما لو قتل انسانا لم يجب إلا دية واحدة
ولو ذهبت منافعه مع بقائه ففي كل منفعة دية
(فصل) فإن جنى على لسانه فذهب كلامه أو ذوقه ثم عاد لم تجب الدية لأننا تبينا أنه لم يذهب ولو
ذهب لم يعد وإن كان قد قبض الدية ردها وان قطع لسانه فعاد لم تجب الدية وإن كان قد أخذها
ردها قاله أبو بكر وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرد لأن العادة لم تجر بعوده واختصاص هذا بعوده
يدل على أنها هبة مجددة
ولنا أنه عاد ما وجبت فيه الدية فوجب رد الدية كالأسنان وسائر ما يعود وان قطع انسان نصف
لسانه فذهب كلامه ثم قطع آخر بقيته فعاد كلامه لم يجب رد الدية لأن الكلام الذي كان باللسان
قد ذهب ولم يعد إلى اللسان وإنما عاد في آخر بخلاف التي قبلها وان قطع لسانه فذهب كلامه ثم
عاد اللسان دون الكلام لم يرد الدية لأنه قد ذهب ما تجب الدية فيه بانفراده وان عاد كلامه دون
لسانه لم يردها أيضا لذلك
(مسألة) (وان كسر صلبه فذهب مشيه ونكاحه ففيه ديتان لأجل ذهاب المشي والجماع)
وعن أحمد فيهما دية واحدة لأنهما نفع عضو واحد فلم يجب فيهما أكثر من دية واحدة كما لو قطع
لسانه فذهب نطقه وذوقه
605

(مسألة) (وان اختلفا في نقص سمعه وبصر فالقول قول المجني عليه مع يمينه)
لأن ذلك لا يعرف الا من جهته فيحلفه الحاكم ويوجب حكومة
(فصل) فإن ادعى ان إحدى عينيه نقص ضوء ما عصبت المريضة واطلقت الصحيحة ونصب له
شخص وتباعد عنه فكلما قال قد رأيته ووصف لونه علم صدقه حتى ينتهي فإذا انتهت رؤيته علم موضعها
ثم تشد الصحيحة وتطلق المريضة وينصب له شخص ثم يذهب حتى تنتهي رؤيته ثم يدار الشخص إلى جانب
آخر فيضع به مثل ذلك ثم يعلم عند المسافتين وتذرعان ويقابل بينهما فإن كانا سواء فقد صدق وينظركم
بين مسافة رؤية العليلة والصحيحة؟ ويحكم له من الدية بقدر ما بينهما وان اختلفت المسافتان فقد كذب
وعلم أنه قصر مسافة المريضة لكثير الواجب له فيردد حتى تستوي المسافة بين الجانبين والأصل في
هذا ما روي عن علي رضي الله عنه قال ابن المنذر أحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي أمر بعينه فعصبت
وأعطي رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم أمر فخط عند ذلك ثم أمر بعينه الأخرى
فعصبت وفتحت الصحيحة وأعطي رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم خط عند
ذلك ثم حول إلى مكان آخر ففعل مثل ذلك فوجدوه سواء فأعطاه بقدر ما نقص من بصره من مال
الآخر قال القاضي وإذا زعم أهل الطب ان بصره يقل إذا بعدت المسافة ويكثر إذا قربت وأمكن
هذا في المذارعة عمل عليه وبيانه انهم إذا قالوا إن الرجل إن كان يبصر إلى مائة ذراع ثم أراد ان يبصر
606

إلى مائتي ذراع احتاج للمائة الثانية إلى ضعفي ما يحتاج إليه للمائة الأولى من البصر فعلى هذا إذا أبصر
بالصحيحة إلى مائتين وأبصر بالعليلة إلى مائة علمنا أنه قد نقص ثلثا بصر عينه فيجب له ثلثا ديتها قال
شيخنا وهذا لا يكاد ينضبط في الغالب وكل ما لا ينضبط فيه حكومة وان جنى على عينيه فندرتا أو احولتا
أو عمشتا ففي ذلك حكومة كما لو ضرب يده فاعوجت والجناية على الصبي والمجنون كالجناية على البالغ
والعاقل لكن يفترقان في أن البالغ العاقل خصم لنفسه والخصم للصبي والمجنون وليهما فإذا توجهت اليمين
عليهما لم يحلفا ولم يحلف الولي عنهما فإن بلغ الصبي وافاق المجنون حلفا حينئذ ومذهب الشافعي في
هذا الفصل كله كمذهبنا
(فصل) فإن ادعى المجني عليه نقصا في سمع أحد اذنيه سددنا العليلة وأطلقنا الصحيحة وأقمنا من
يصح يحدثه وهو متباعد إلى جنب يقول اني لا أسمع فإذا قال ذلك غير عليه الصوت والكلام فإن بان أنه
يسمع والا فقد كذب فإذا انتهى إلى آخر سماعه قدرت المسافة وسدت الصحيحة وأطلقت المريضة وحدثه
وهو يتباعد حتى يقول اني لا أسمع فإذا قال ذلك غير عليه الكلام فإن تغيرت صفته لم يقبل قوله وان
لم تتغير صفته حلف وقبل قوله وتمسح المسافتان وينظر ما تنقص العليلة فيجب بقدره فإن قال إني اسمع
العالي ولا أسمع الخفي فهذا لا يمكن تقديره فيجب فيه حكومة
(فصل) فإن قال أهل الخبرة انه يرجى عود سمعه إلى مدة النظر إليها وان يكن لذلك غاية لم ينظر
607

(مسألة) (وان اختلفا في ذهاب بصره أري أهل الخبرة فيرجع في ذلك إلى قول مسلمين عدلين
منهم لأن لهما طريقا إلى معرفة ذلك لمشاهدتهما العين التي هي محل البصر بخلاف السمع فإن لم يوجد
أهل الخبرة أو تعذر معرفة ذلك اعتبر بان يوقف في عين الشمس ويقرب الشئ إلى عينه في أوقات غفلته
فإن طرف عينه وخاف من الذي يخوف به فهو كاذب ولا حكم له وإذا علم ذهاب بصره وقال أهل
الخبرة لا يرجي عوده وجبت الدية وان قالوا يرجى عوده إلى مدة عينوها انتظر إليها ولم يعط الدية حتى
تنقضي المدة فإن لم يعد استقرت على الجاني الدية فإن مات المجني عليه قبل العود استقرت الدية سواء
مات في المدة أو بعدها فإن جاء أجنبي فقلع عينه في المدة استقرت على الأول الدية أو القصاص لأنه
أذهب البصر فلم يعدو على الثاني حكومة لأنه أذهب عينا لا ضوء لها يرجى عود ضوئها وان قال الأول
عاد ضوؤها وأنكر الثاني فالقول قول المنكر لأن الأصل معه وان صدق المجني عليه الأول سقط حقه عنه ولم
يقبل قوله على الثاني فأما ان قال أهل الخبرة يرجى عوده لكن لا يعرف له مدة وجبت الدية أو القصاص لأن
انتظار ذلك إلى غير غاية يفضي إلى اسقاط موجب الجناية والظاهر في البصر عدم العود والأصل يؤيده
فإن عاد قبل استيفاء الواجب سقط وإن عاد بعد الاستيفاء وجب رد ما أخذ منه لأننا تبينا انه لم يكن واجبا
(مسألة) (وان اختلفا في ذهاب سمعه فإنه ينفعل ويصاح به وينتظر اضطرابه ويتأمل عند صوت
608

الرعد والأصوات المزعجة فإن ظهر منه ازعاج أو التفات أو ما يدل على السمع فالقول
قول الجاني مع يمينه)
لأن ظهور الامارات يدل على أنه سميع فغلبت جنبة المدعي وحلف لجواز أن يكون ما ظهر منه
اتفاقا وان لم يوجد شئ منه ذلك فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأن الظاهر عدم السمع وحلف لجواز
أن يكون احترز وتصبر وان ادعى ذلك في إحداهما سدت الأخرى وتغفل على ما ذكرنا
(مسألة) (وان ادعى ذهاب شمه جربناه بالروائح الطيبة والمنتنة فإن هش للطيب وتنكر للمنتن
فالقول قول الجاني مع يمينه وان لم يبن منه ذلك فالقول قول المجني عليه)
لقولنا في اختلافهم في السمع والبصر وان ادعى المجني عليه نقص شمه فالقول قوله مع يمينه لأنه
لا يتوصل إلى معرفة ذلك الا من جهته فقبل قوله فيه كما يقبل قول المرأة في انقضاء عدتها بالأقراء ويجب له من
الدية ما تخرجه الحكومة، وان ذهب شمه ثم عاد قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعد أخذها ردها لأننا
تبينا انه لم يكن ذهب وان رجي عود شمه إلى مدة أنظر إليها وان ذهب شمه من أحد منخريه
ففيه نصف الدية كما لو ذهب بصره من إحدى عينيه
(مسألة) (وان اختلفا في ذهاب ذوقه أطعم الأشياء المرة فإن عبس للطعم المر سقطت دعواه)
لظهور ما يدل على خلاف ما ادعاه والا فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يعلم الا من جهته فقبل قوله
فيه كالمسألة التي قبلها
(فصل) ولا تجب دية الجرح حتى يندمل لأنه لا يدرى أقتل هو أم ليس بقتل فينبغي ان ينتظر
حكمه وما الواجب فيه ولهذا لا يجوز الاستيفاء في العمد قبل الاندمال فكذلك لا يجوز أخذ الدية قبله
فنقول أحد موجبي الجناية فلا يجوز قبل الاندمال كالآخر
609

(مسألة) (ولا تجب دية سن ولا ظفر ولا منفعة حتى ييئس من عودها)
لأن ذلك مما يعود فلا يجب شئ مع احتمال العود كالشعر وإنما يعرف ذلك بقول عدلين
من أهل الخبرة انها لا تعود ابدا
(مسألة) (فلو قطع سن كبير أو ظفرا ثم نبت أو رده فالتحم فلم تجب الدية)
نص أحمد في السن على ذلك في رواية جعفر بن محمد وهو قول أبي بكر والظفر في معناها
وقال القاضي تجب ديتها وهو مذهب الشافعي وقد ذكرنا توجيههما فيما إذا قطع انفه فرده فالتحم
فعلى قول أبي بكر يجب عليه حكومة لنقصها ان نقصت وضعفها ان ضعفت، وان قلعها قالع بعد
ذلك وجبت ديتها لأنها ذات جمال ومنفعة فوجبت ديتها كما لو لم تنقلع، وعلى قول القاضي ينبني
حكمها على وجوب قلعها فإن قلنا يجب فلا شئ على قالعها لأنه قد أحسن بقلع ما يجب قلعه وان قلنا
لا يجب قلعها احتمل ان تؤخذ ديتها لما ذكرنا واحتمل ان لا تؤخذ ديتها لأنه قد وجبت له ديتها
مرة فلا تجب ثانية ولكن فيها حكومة، فاما ان جعل مكانها سنا أخرى أو سن حيوان أو عظما
فثبتت وجبت ديتها وجها واحد لأن سنه ذهبت بالكلية فوجبت ديتها كما لو لم يجعل مكانها
شيئا، وان قلعت هذه الثانية لم تجب ديتها لأنها ليست سنا له ولا هي من بدن ولكن يجب فيها
حكومة لأنها جناية أزالت جماله ومنفعته فأشبه ما لو خاط جرحه بخيط فالتحم فقلعه إنسان فانفتح
610

الجرح وزال التحامه، ويحتمل أن لا يجب شئ لأنه أزال ما ليس من بدنه فأشبه ما لو قلع انف الذهب
الذي جعله المجدوع مكان انفه، والأول أولى لأن هذا كان قد التحم بخلاف انف الذهب فإنه
يمكن اعادته كما كان وهذا إذا اعاده قد لا يلتحم
(مسألة) (وان ذهب سمعه أو بصره أو شمه أو ذوقه أو عقله ثم عاد سقطت ديته)
لزوال سببها وإن كان قد اخذها ردها لأنا تبينا انه اخذها بغير حق
(مسألة) (وان عاد ناقصا أو عادت السن أو الظفر قصيرا أو متغير فله أرش نقصه)
لأنه نقص حصل بجنايته أشبه ما لو نقصه مع بقائه
(مسألة) (وان قلع سنا صغيرا ويئس من عودها وجبت ديتها)
لأنه أذهبها بجنايته اذهابا مستمرا فوجبت ديتها كالسن الكبير وقال القاضي فيها حكومة لأن العادة
عودها فلم تكمل ديتها كالشعر، والصحيح الأول لأن الشعر لو لم يعد وجبت ديته مع أن العادة عوده
(مسألة) (وعنه في الظفر إذا نبت على صفته خمسة دنانير وان نبت متغيرا عشرة)
والتقديرات بابها التوقيف ولا نعلم فيه توقيفا والقياس انه لا شئ فيه إذا عاد على صفته وإن
نبت متغيرا ففيه حكومة
(مسألة) (وان مات المجني عليه فادعى الجاني عود ما أذهبه فأنكر الولي فالقول قوله)
لأن الأصل عدم العود، وان جنى على سنه اثنان فاختلفا فالقول قول المجني عليه في قدر ما أتلف
كل واحد منهما لأن ذلك لا يعرف الا من جهته فأشبه ما لو ادعى نقص سمعه أو بصره
611

(فصل) قال رضي الله عنه (وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية وهي شعر الرأس واللحية
والحاجبين وأهداب العينين)
وبهذا قال أبو حنيفة والثوري وممن أوجب في الحاجبين الدية سعيد بن المسيب وشريح والحسن وقتادة
وروي عن علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما انهما قالا في الشعر الدية وقال مالك والشافعي فيه حكومة
واختاره ابن المنذر لأنه اتلاف جمال من غير منفعة فلم تجب الدية كاليد الشلاء والعين القائمة
ولنا أنه أذهب الجمال على الكمال فوجب فيه دية كاملة كأذن الأصم وأنف الأخشم وقولهم لا منفعة
فيه ممنوع فإن الحاجب يرد العرق عين العين ويفرقه وهدب العين يرد عنها ويصونها فجرى مجرى
أجفانها وما ذكروه ينتقض بالأصل الذي قسنا عليه واليد الشلاء ليس جمالها كاملا
(مسألة) (وفي كل حاجب نصفها وفي كل هدب ربعها)
وجملة ذلك أن في إحدى الحاجبين نصف الدية لأن كل شيئين فيهما الدية في أحدهما نصفها كاليدين
وفي كل هدب ربعها لأن الدية إذا وجبت في أربعة أشياء وجب في كل واحد ربعها كالأجفان
(مسألة) (وفي بعض ذلك بقسطه من الدية يقدر بالمساحة كالأذنين ومارن الانف ولا فرق في
هذه الشعور بين كونها كثيفة أو خفيفة جميلة أو قبيحة أو كونها من صغير أو كبير) لأن سائر ما فيه الدية
من الأعضاء لا تفترق الحال فيه بذلك
612

(مسألة) (وإنما تجب ديته إذا أزاله على وجه لا يعود)
مثل ان يقلب على رأسه ماء حارا فيتلف منبت الشعر فينقطع بالكلية بحيث لا يعود وان رجي
عوده إلى مدة انتظر إليها
(مسألة) (فإن عاد سقطت الدية)
إذا عاد قبل أخذ الدية لم تجب فإن عاد بعد أخذها ردها والحكم فيه كالحكم في ذهاب السمع والبصر
فيها يرجى عوده ما لا يرجى
(مسألة) (وان بقي من لحيته ما لا جمال فيه أو من غيره من الشعور ففيه وجهان) (أحدهما) يؤخذ بالقسط لأنه محل يجب في بعضه بحصته فأشبه الاذن ومارن الانف (والثاني)
تجب الدية كاملة لأنه أذهب المقصود كله فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين ولان جنايته ربما أحوجت إلى
اذهاب الباقي لزيادته في القبح على ذهاب الكل فتكون جنايته سببا لذهاب الكل فأوجبت ديته كما لو
ذهب بسراية الفعل أو كما لو احتاج في دواء شجة الرأس إلى ما اذهب ضوء عينه
(مسألة) (ولا قصاص في شئ من هذه الشعور)
لأن اتلافها إنما يكون بالجناية على محلها وهو غير معلوم المقدار ولا تمكن المساواة فيه فلا يجب القصاص فيه
(مسألة) (وان قلع الجفن بهدبه لم يجب إلا دية الجفن)
لأن الشعور تزول تبعا لزوال الأجفان فلم يجب فيه شئ كالأصابع إذا قطع الكف وهي عليه
613

(مسألة) (وان قلع اللحيين بما عليهما من الأسنان وجبت ديتهما ودية الأسنان)
ولم تدخل دية الأسنان في الجنين كما تدخل دية الأصابع في اليد لوجوه (أحدها) ان الأسنان
ليست متصلة باللحيين وأنما هي مغرزة فيها بخلاف الأصابع (الثاني) ان أحدهما ينفرد باسمه عن الآخر
بخلاف الأصابع مع الكف فإن اسم اليد يشملهما (الثالث ان اللحيين يوجدان منفردين عن الأسنان فإنهما
يوجدان قبل وجود الأسنان ويبقيان بعد قلعهما بخلاف الكف مع الأصابع
(مسألة) (وان قطع كفا بأصابعه لم يجب إلا دية الأصابع)
لدخول الجميع في مسمى اليد وكما لو قطع ذكرا بحشفته لم يجب إلا دية الحشفة لدخولها في مسمى الذكر
(مسألة) (وان قطع كفا عليه بعض الأصابع دخل ما حاذى الأصابع في ديتها وعليه أرش باقي الكف)
لأن الأصابع لو كانت سالمة كلها لدخل أرش الكف كله في دية الأصابع فكذلك ما حاذي الأصابع
السالمة يدخل في ديتها وما حاذى المقطوعات ليس ما يدخل في ديته فوجب أرشه كما لو كانت
الأصابع كلها مقطوعة
(مسألة) (وان قطع أنملة بظفرها فليس عليه إلا ديتها) كما لو قطع كفا بأصابعها أو جفنا بهدبه
(فصل) وفي عين الأعور دية كاملة نص عليه وبذلك قال الزهري ومالك والليث وقتادة وإسحاق
وقال مسروق وعبد الله بن مغفل والنخعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي فيها نصف الدية لقوله عليه
614

الصلاة السلام " وفي العين خمسون من الإبل " وقوله عليه السلام " وفي العينين الدية " يقتضي ان
لا يجب فيها أكثر من ذلك سواء قلعهما واحد أو ثان في وقت واحد أو في وقتين وقالع الثانية قالع
عين أعور فلو وجب عليه دية لوجب فيهما دية ونصف، ولان ما يضمن بنصف الدية مع نظيره يضمن
به مع ذهابه كالاذن ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله وفي العين الواحدة نصف الدية ولم يفرق
ولنا أن عمر وعثمان وعليا وابن عمر قضوا في عين الأعور بالدية ولا نعلم لهم في الصحابة مخالفا
فتكون اجماعا ولان قلع عين الأعور يتضمن اذهاب البصر كله فوجبت الدية كما لو أذهبه من العينين،
ودليل ذلك أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك الأشياء اللطفية ويعمل أعمال
البصراء ويجوز أن يكون قاضيا ويجزي في الكفارة وفي الأضحية إذا لم تكن العين مخسوفة فوجب في
بصره دية كاملة كذي العينين: فإن قيل فعلى هذا ينبغي ان لا يجب في ذهاب إحدى العينين نصف
الدية لأنه لم ينقص، قلنا لأنه لا يلزم من وجوب شئ من دية العينين نقص دية الباقي بدليل ما لو جنى
عليهما فاحولتا أو عمشتا أو نقص ضوؤهما فإنه يجب أرش النقص ولا تنقص ديتهما بذلك ولان النقص
الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكامه ولا هو مضبوط في تفويت النفع فلم يؤثر في تنقيص الدية، قلت ولولا
ما روي عن الصحابة لكان القول الآخر أولى لظاهر النص والقياس على ذهاب سمع إحدى الاذنين
وما ذكر من المعاني فهو موجود فيما إذا ذهب سمع أحد الاذنين ولم يوجبوا في الباقي دية كاملة
615

(مسألة) (وان قلع الأعور عين صحيح مماثلة لعينه الصحيحة عمدا فلا قصاص وعليه دية كاملة)
إذا قلع الأعور عين صحيح نظرنا فإن قلع العين التي لا تماثل عينه الصحيحة أو قلع المماثلة خطأ
فليس عليه إلا نصف الدية لا نعلم فيه خلافا لأن ذلك هو الأصل، وان قلع المماثلة لعينه الصحيحة عمدا
فلا قصاص وعليه دية كاملة وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء ومالك في إحدى روايتيه وقال في
الأخرى عليه نصف الدية ولا قصاص، وقال المخالفون في المسألة الأولى له القصاص لقوله تعالى (والعين
بالعين) وان اخبار الدية فله نصفها للخبر ولأنه لو قلعها غيره لم يجب فيها إلا نصف الدية فلم يجب
فيه إلا نصفها كالعين الأخرى
ولنا عن عمر وعثمان رضي الله عنهما قضيا بمثل مذهبنا ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة فكان
اجماعا ولأننا منعناه من اتلاف ضوء يضمن بدية كاملة فوجبت عليه دية كاملة كما لو قلع عيني سليم ثم
عمي الجاني ويتحمل ان يقلع عينه ويعطى نصف الدية لأن ذلك يروي فيه أثر وقد روي عن علي رضي
الله عنه في الرجل إذا قتل امرأة يقتل بها ويعطى نصف الدية
(مسألة) (وان قلع عيني صحيح عمدا خير بين قلع عينه ولا شئ له غيرها وبين الدية)
إذا قلع الأعور عيني صحيح عمدا فإن شاء قلع عينه ولا شئ له لأن عينه له فيها دية كاملة لما ذكرنا
من قضاء الصحابة رضي الله عنهم فيها بالدية ولأنه أذهب بصره كله فلم يكن له أكثر من اذهاب بصره
616

وهو مبني على قضاء الصحابة وان عين الأعور تقوم مقام العينين وأكثر أهل العلم على أن له القصاص
ونصف الدية للعين الأخرى وهو مقتضي الدليل والله أعلم فاما ان قلعهما خطأ فليس له إلا الدية كاملة كما
لو قلعها صحيح العينين وذكر القاضي فيما إذا قلعهما عمدا ان قياس المذهب وجوب ديتين إحداهما
في العين التي استحق بها قلع عين الأعور والأخرى في الأخرى لأنها عين الأعور
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " وفي العينين الدية " ولأنه قلع عينين فلم يلزمه أكثر من الدية كما لو كان القالع
صحيحا ولأنه لم يزد على تفويت منفعة الجنس فلم يزد على الدية كما لو قطع أذنيه وما ذكره القاضي لا يصح
لأن وجوب الدية في إحدى عينيه لا يجعل الأخرى عين أعور على أن وجوب الدية بقلع إحدى العينين
قضية مخالفة للخبر والقياس صرنا إليها لاجماع الصحابة عليها فيما عدا موضع الاجماع يجب
العمل بهما والبقاء عليهما
(مسألة) (وفي يد الا * قطع نصف الدية وكذلك في رجله وعنه فيها دية كاملة وان اختار القصاص
فله ذلك) لأنه عضو أمكن القصاص في مثله فكان الواجب فيه القصاص أو دية مثله كما لو قطع اذن من له اذن واحدة
وعن أحمد رواية أخرى ان الأولى ان كانت قطعت ظلما وأخذ ديتها أو قطعت قصاصا ففيها
نصف ديتها وان قطعت في سبيل الله ففي الباقية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين جملة فأشبه
617

قلع عين الأعور والصحيح الأول لأن هذا أحد العضوين الذين تحصل بهما منفعة الجنس لا يقوم مقام
العضوين فلم يجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء وكما لو كانت الأولى أخذت قصاصا أو في غير سبيل
الله ولا يصح القياس على عين الأعور لثلاثة وجوه
(أحدها) ان عين الأعور حصل فيها ما يحصل بالعينين ولم يختلفا في الحقيقة والأحكام إلا اختلافا
يسيرا بخلاف اقطع اليد الرجل (والثاني) ان عين الأعور لم يختلف الحكم فيها باختلاف صفة ذهاب
الأولى وههنا اختلف (الثالث) ان هذا التقدير والتعيين على هذا الوجه أمر لا يصار إليه بمجرد الرأي
ولا توقيف فيه فيصار إليه ولا نظير له فيقاس عليه فالمصير إليه تحكم بغير دليل فيجب اطراحه فاما ان
قطعت اذن من قطعت اذنه أو منخر من قطع منخره لم يجب فيه أكثر من نصف الدية رواية واحدة
لأن منفعة كل اذن لا تتعلق بالأخرى بخلاف العينين
618

(باب الشجاج وكسر العظام)
الشجة اسم لجرح الرأس الوجه خاصة وهي عشر، خمس لا مقدر فيها (أولها) الحارصة وهي التي
تحرص الجلد أي تشقه قليلا ولا تدميه (ثم البازلة) وهي الدامية التي يخرج منها دم يسير (ثم الباضعة) وهي
التي تشق اللحم بعد الجلد ثم (المتلاحمة) وهي التي تترك في اللحم ثم السمحاق التي بينها وبين العظم قشرة
رقيقة فهذه الخمس فيها حكومة في ظاهر المذهب
وجملة ذلك أن الشجاع عشر خمس لا توقيت فهيا، أولها الحارصة قاله الأصمعي وهي التي تشق الجلد
قليلا يعني تقشر شيئا يسيرا من الجلد لا يظهر منه دم ومنه حرص القصار الثوب إذا شقه قليلا وقال
بعضهم هي الحرصة ثم البازلة وهي التي ينزل منها الدم أي يسيل وتسمى الدامية أيضا والدامعة لقلة
سيلان دمها تشبيها له بخروج الدمع من العين ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ثم المتلاحمة وهي
التي أخذت في اللحم يعني دخلت فيه دخولا كثيرا تزيد على الباضعة ولم تبلغ السمحاق ثم السمحاق
وهي التي تصل إلى قشرة رقيقة فوق العظم تسمى تلك القشرة سمحاقا وسميت الجراح الواصلة إليها بها
ويسميها أهل المدينة الملطا والملطاه وهي تأخذ اللحم كله حتى تخلص منه وهذه الشجاج الخمس لا توقيت
فيها في ظاهر المذهب وهو قول أكثر الفقهاء يروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي
والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد رواية أخرى ان في الدامية بعيرا وفي الباضعة بعيرين وفي
المتلاحمة ثلاثة وفي السمحاق أربعة أبعرة لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت وروي عن علي رضي
الله عنه في السمحاق مثل ذلك رواه سعيد عنهما وعن عمر وعثمان فيها نصف أرش الموضحة والصحيح
الأول فإنها جراحات لم يرد فيها توقيت في الشرع فكان الواجب فيها حكومة كجراحات البدن
619

روى عن مكحول قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيها دونها ولأنه لم يثبت فيها
مقدر له بتوقيف ولا قياس يصح فوجب الرجوع إلى الحكومة كالحارصة وذكر القاضي انه متى أمكن اعتبار
هذه الجراحات من الموضحة مثل أن يكون في رأس المجني عليه موضحة إلى جانبها قدرت هذه الجراحة
منها فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش الموضحة وإن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش وعلى
هذا الا أن تزيد الحكومة على قدر ذلك فيوجب ما تخرجه الحكومة فإذا كانت الجراحة قدر نصف
الموضحة وشينها ينقص قدر ثلثيها فيوجب ثلثي أرش الموضحة وإن نقصت الحكومة أقل من النصف
أوجب النصف فيوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة أو قدرها من الموضحة لأنه اجتمع سببان موجبان الشين
وقدرها من الموضحة فوجب فيها والدليل على ايجاب هذا المقدار ان هذا اللحم فيه مقدر فكان في بعضه
بقدره من ديته كالمارن والحشفة والشفة والجفن وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا: وهذا لا نعلمه
مذهبا لأحمد ولا يقتضيه مذهبه ولا يصح لأن هذه جراحة تجب فيها الحكومة فلا يجب فيها مقدر
كجراحات البدن ولا يصح قياس هذا على ما ذكروه فإنه لا تجب فيه الحكومة ولا نعلم لما ذكروه
نظيرا وما لم يكن فيه من الجراح توقيف ولم يكن نظيرا لما وقتت ديته ففيه حكومة أما الذي فيه توقيت
فهو الذي نص النبي صلى الله عليه وسلم عليه بين قدر ديته كقوله " في الانف وفي اللسان الدية " وأما نظيره فهو
ما كان في معناه ومقيسا عليه كالأليتين والثديين والحاجبين وقد ذكرناه فما لم يكن من الموقت ولا مما يمكن قياسه
620

كالشجاج التي دون الموضحة وجراح البدن سوى الجائفة وقطع الأعضاء وكسر العظام فليس فيه الا الحكومة
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وخمس فيها مقدر أولها الموضحة وهي التي توضح العظم أي تبرزه
والوضح البياض) يعني أنها أبدت وضح العظم أي بياضه وأجمع أهل العلم على أن أرشها مقدر قاله
ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الموضحة خمس من الإبل " وروى عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " في المواضح خمس خمس " رواه أبو داود والنسائي
والترمذي وقال حديث حسن وإنما يجب ذلك في موضحة الحر فأما موضحة العبد فقد ذكرنا الخلاف
فيها وموضحة المرأة كموضحة الرجل فيما يجب فيها عند أحمد رحمه الله لأن المرأة تساوي جراحها جراح
الرجل إلى ثلث الدية وعند الشافعي أن موضحة المرأة إنما يجب فيها نصف ما وجب في موضحة الرجل
بناء على مذهبه في أن جراح المرأة على النصف من جراح الرجل في القليل والكثير والحديث الذي
ذكرناه حجة عليه وفيه كفاية وأكثر أهل العلم على أن الموضحة في الرأس والوجه سواء وهو ظاهر
المذهب روي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وبه قال شريح ومكحول والشعبي والنخعي
والزهري وربيعة وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق، وعن أحمد أن في موضحة الوجه عشرة أبعرة روي
ذلك عن سعيد بن المسيب لأن شينها أكثر وموضحة الرأس يسترها الشعر والعمامة وقال مالك: إذا
كانت في أنف أو في اللحي الأسفل ففيها حكومة لأنها تبعد عن الدماغ فأشبهت موضحة سائر البدن
621

ولنا عموم الأحاديث وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: الموضحة في الرأس والوجه سواء
ولأنها موضحة فكان أرشها خمسا من الإبل كغيرها مما سلموه ولا عبرة بكثرة الشين بدليل التسوية
بين الكبيرة والصغيرة وما ذكرناه مالك لا يصح فإن الموضحة في الصدر أكثر ضررا وأقرب إلى القلب
ولا مقدر فيها ولان ما قاله مخالف لظاهر النص، وقد روي عن أحمد أنه قال موضحة الوجه أحرى أن
يزاد في ديتها وليس معنى هذا أنه يجب فيها أكثر إنما معناه والله أعلم أولى بايجاب الدية فإنها إذا
وجبت في موضحة الرأس مع قلة شينها واستتارها بالشعر وغطاء الرأس خمس من الإبل فلان يجب
ذلك في الوجه الظاهر الذي هو مجمع المحاسن وعنوان الجمال أولى وحمل كلام أحمد على هذا أولى من
من حمله على ما يخالف الخبر والأثر وقول أكثر أهل العلم بغير توقيف ولا قياس صحيح
(فصل) ويجب أرش الموضحة في الصغيرة والكبيرة والبارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة
يشمل الجميع وحد الموضحة ما أفضى إلى العظم ولو بقدر إبرة ذكره ابن القاسم والقاضي
(فصل) وليس في الموضحة غير الرأس والوجه مقدر في قول أكثر أهل العلم منهم إمامنا ومالك
والثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر قال ابن عبد البر ولا يكون في البدن موضحة يعني ليس فيها
مقدر، على ذلك جماعة العلماء الا الليث بن سعد قال الموضحة تكون في الجسد أيضا وقال الأوزاعي
622

في جراحة الجسد: على النصف من جراحة الرأس، وحكي نحو ذلك عن عطاء الخراساني قال في
الموضحة في سائر الجسد خمسة وعشرون دينارا
ولنا أن اسم الموضحة إنما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس وقول الخليفتين
الراشدين الموضحة في الرأس والوجه سواء يدل على أن باقي الجسد بخلافه ولان الشين فيما في الرأس
والوجه أكثر وأخطر مما في سائر البدن فلا يلحق به ثم ايجاب ذلك في سائر البدن يفضي إلى أن
يجب في موضحة العضو أكثر من ديته مثل أن يوضح أنملة ديتها ثلاثة وثلث ودية الموضحة خمس
وأما قول الأوزاعي وعطاء الخراساني فتحكم لا نص فيه ولا يقتضيه القياس فيجب اطراحه
(مسألة) (قال عمت الرأس ونزلت إلى الوجه فهل هي موضحة أو موضحتان؟ على وجهين)
إذا أوضحه في رأسه ومدها إلى وجهه فعلى وجهين (أحدهما) هي موضحة واحدة لأن الوجه
والرأس سواء في الموضحة فصارا كالعضو الواحد (والثاني) هما موضحتان لأنه أوضحه في عضوين
فكان لكل واحد منهما حكم نفسه كما لو أوضحه في رأسه ونزل إلى القفا ذكر شيخنا في الكتاب
المشروح قال: إذا عمت الرأس ولم يذكره في كتابيه المغني والكافي أطلق القول فيما إذا كان بعضها
في الرأس وبعضها في الوجه وإن لم تعم الرأس فيها الوجهان وهو الذي يقتضيه الدليل المذكور والله أعلم
(مسألة) (وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز فعليه عشرة من الإبل أرش موضحتين)
لأنهما موضحتان فإن خرق ما بينهما أو ذهب بالسراية صارا موضحة واحدة فيجب أرش موضحة
623

فصار كما لو أوضح الكل من غير حاجز فإن اندملتا ثم أزال الحاجز بينهما فعليه أرش ثلاث مواضح
لأنه استقر عليه أرش الأولتين بالاندمال ثم لزمته دية الثالثة وإن اندملت إحداهما وزال الحاجز بفعله
أو سراية الأخرى فعليه أرش موضحتين
(مسألة) (فإن خرقه أجنبي فعلى الأول أرش موضحتين وعلى الثاني أرش موضحة)
لأن فعل إحداهما لا يبني على فعل الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته وإن أزاله المجني
عليه وجب على الأول أرش موضحتين لأن ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره
(مسألة) (فإن اختلفنا فيمن خرقه فالقول قول المجني عليه)
إذا قال الجاني أنا شققت ما بينهما وقال المجني عليه بل أنا أو أزالها آخر سواك كان القول
قول المجني عليه لأن سبب أرش موضحتين قد وجد والجاني يدعي زواله والمجني عليه ينكره فالقول
قول المنكر لأن الأصل معه. ومثله لو قطع ثلاث أصابع امرأة فعليه ثلاثون من الإبل فإن قطع
الرابعة عاد إلى عشرين فإن اختلفا في قاطعها فالقول قول المجني عليه لما ذكرنا وهذا على مذهبنا لأن
عندنا أن جراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى الثلث فإذا زادت صارت إلى النصف
(مسألة) (وإن خرق ما بينهما في الباطن بأن قطع اللحم الذي بينهما وترك الجلد الذي فوقهما ففيها وجهان)
(أحدهما) يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر
624

(والثاني) أرش موضحة لاتصالهما في الباطن، وان جرحه جراحا واحدة أوضحه في طرفها وباقيها
دون الموضحة ففيه أرش موضحتين لأن ما بينهما ليس بموضحة
(مسألة) (وان شج جميع رأسه سمحاقا الا موضعا منه أوضحه فعليه أرش موضحة)
إذا شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة
لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من ذلك فلان لا يلزمه في الايضاح في البعض أكثر من ذلك أولى
وهكذا لو شجه شجة بعضها هاشمة وباقيها دونها لم يلزمه أكثر من أرش هاشمة، وإن كانت منقلة وما
دونها أو مأمومة وما دونها فعليه أرش منقلة أو مأمومة لما ذكرنا
(مسألة) (ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه ففيها عشر من الإبل)
سميت هاشمة لهشمها العظم ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها تقدير وأكثر من بلغنا قوله من أهل
العلم على أن أرشها مقدرة بعشر من الإبل روى ذلك قبيصة بن ذويب عن زيد بن ثابت وبه قال قتادة
والشافعي والعنبري ونحوه قول الثوري وأصحاب الرأي الا انهم قدروها بعشر الدية من الدراهم وذلك
على قولهم ألف درهم وكان الحسن لا يوقت فيها شيئا، وحكي عن مالك أنه قال لا اعرف الهاشمة لكن
في الايضاح خمس وفي الهشم حكومة قال ابن المنذر والنظر يدل على قول الحسن إذ لا سنة فيها ولا
إجماع ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها تقدير فوجبت فيها الحكومة كما دون الموضحة
625

ولنا قول زيد ومثل ذلك الظاهر أنه توقيف ولأنه لا يعرف له مخالف في عصره ولأنها شجة فوق
الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدر كالمأمومة
(فصل) والهاشمة في الوجه والرأس خاصة كما ذكرنا في الموضحة فإن هشمه هاشمتين بينهما
حاجز ففيهما عشرون من الإبل على ما ذكرنا من التفصيل في الموضحة وتنوى الهاشمة الصغيرة والكبيرة
كالموضحة وان شجه شجة بعضها موضحة وبعضها هاشمة وبعضها سمحاق وبعضها متلاحمة وجب أرش
الهاشمة لأنه لو كان جميعها هاشمة أجزأ أرشها ولو انفرد القدر المهشوم وجب أرشها فلا ينتقص ذلك
بما زاد من الأرش في غيرها
(مسألة) (فإن ضربه بمنقل فهشمه من غير أن يوضحه ففيه حكومة ولا تجب دية الهاشمة بغير خلاف)
لأن الأرش المقدر وجب في هاشمة معها موضحة وفي الواجب فيها وجهان
(أحدهما) حكومة لأنه كسر عظم لا جرح معه فأشبه كسر قصبة الانف (والثاني) فيها خمس من
الإبل لأنه لو أوضح وهشم لوجب عشر خمس في الايضاح وخمس في الهشم فإذا وجد أحدهما وجب
خمس كالايضاح وحده
(فصل) فإن أوضحه موضحتين هشم العظم في كل واحدة منهما واتصل الهشم في الباطن فهما
626

هاشمتان لأن الهشم إنما يكون تبعا للايضاح فإذا كانتا موضحتين كان الهشم هاشمتين بخلاف الموضحة
فإنها ليست تبعا لغيرها فافترقا
(مسألة) (ثم المنقلة وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها وفيها خمس عشرة من الإبل)
المنقلة زائدة على الهاشمة وهي التي تكسر العظام وتزيلها عن مواضعها فيحتاج إلى نقل العظم ليلتئم
وفيها خمس عشرة من الإبل باجماع من أهل العلم
حكاه ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل " وفي
تفصيلها ما في تفصيل الموضحة والهاشمة على ما مضى
(مسألة) (ثم المأمومة وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ وتسم أم الدماغ وتسمى المأمومة آمة)
قال ابن عبد البر أهل العراق يقولون الأمة وأهل الحجاز المأمومة وهي الجراحة الواصلة إلى أم
الدماغ وهي جلدة فيها الدماغ تسمى أم الدماغ لأنها تحوطه وتجمعه فإذا وصلت الجراحة إليها سميت
آمة ومأمومة وأرشها ثلث الدية في قول عامة أهل العلم الا مكحولا فإنه قال إن كانت عمدا ففيها
ثلثا الدية وان كانت خطأ ففيها ثلثها
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم " وفي المأمومة ثلث الدية " وعن ابن عمر عن النبي
صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وروي نحوه عن علي ولأنها شجة فلم يختلف أرشها بالعمد والخطأ في المقدار كسائر
627

الشجاج، ثم الدامغة وهي التي تجرح الجلد ففيها ما في المأمومة، قال القاضي لم يذكر أصحابنا الدامغة
لمساواتها المأمومة في أرشها وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق جلدة الدماغ ويحتمل انهم تركوا ذكرها
لكونها لا يسلم صاحبها في الغالب
(فصل) فإن أوضحه رجل ثم هشمه الثاني ثم جعلها الثالث منقلة ثم جعلها الرابع مأمومة فعلى
الأول أرش موضحة وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة وعلى الثالث خمس تمام أرش المنقلة وعلى
الرابع ثمانية عشر وثلث تمام أرش المأمومة
(فصل) وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى باطن الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو نحر
وهذا قول عامة أهل العلم منهم أهل المدينة والكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأي الا مكحولا قال
فيها في العمد ثلثا الدية
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم " وفي الجائفة ثلث الدية " وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثل ذلك ولأنهما جراحة فيها مقدر فلم يختلف قدر أرشها بالعمد والخطا كالموضحة ولا نعلم في
جراح البدن الحالية عن قطع الأعضاء وكسر العظام مقدرا غير الجائفة، وذكر ابن عبد البر ان مالكا
وأبا حنيفة والشافعي والتي وأصحابهم اتفقوا على أن الجائفة لا تكون إلى في الجوف وقال ابن القاسم الجائفة
ما أفضى إلى الجوف ولو بمغرز إبرة
628

(فصل) وان أجافه جائفتين بينهما حاجز فعليه ثلثا الدية وان خرق الجاني ما بينهما أو ذهب
بالسراية صارا جائفة واحدة فيها ثلث الدية لا غير، وان خرق ما بينهما أجنبي أو المجني عليه فعلى الأول
ثلثا الدية وعلى الأجنبي الثاني ثلثها ويسقط ما قابل فعل المجني عليه، وان احتاج إلى خرق ما بينهما
للمداواة فخرقها المجني عليه أو غيره بأمره أو خرقها ولي المجني عليه لذلك أو الطبيب بأمره فلا شئ
عليه في خرق الحاجز وعلى الأول ثلثا الدية
(مسألة) (وان خرقه من جانب فخرج من الجانب الآخر فهي جائفتان)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء وقتادة ومجاهد ومالك والشافعي وأصحاب الرأي قال
ابن عبد البر لا أعلمهم يختلفون في ذلك وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه قال هي جائفة واحدة
وحكي أيضا عن أبي حنيفة لأن الجائفة هي التي تنفذ من ظاهر البدن إلى الجوف وهذه الثانية إنما نفذت
من الباطن إلى الظاهر
ولنا ما روى سعيد بن المسيب ان رجلا رمى رجلا بسهم فانفذه فقضى أبو بكر رضي الله عنه
بثلثي الدية ولا مخالف له فيكون اجماعا أخرجه سعيد بن منصور في سننه وروي عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده ان عمر رضي الله عنه قضى في الجائفة إذا نفذت إلى الجوف بأرش جائفتين ولأنه انفذه
من موضعين فكان جائفتين كما لو انفذه بضربتين، وما ذكروه لا يصح فإن الاعتبار بوصول الجرح إلى
629

الجوف لا بكيفية ايصاله إذ لا أثر لصورة لفعل مع التساوي في المعنى ولان ما ذكروه من الكيفية ليس بمذكور
في خبر وإنما الغالب والعادة وقوع الجائفة هكذا فلا يعتبر كما أن العادة والغالب حصولها بالحديد ولو حصلت
بغيره لكانت جائفة ثم ينتقض ما ذكروه بما لو ادخل يده في جائفة انسان فخرق بطنه من موضع آخر
فإنه يلزمه أرش جائفة بغير خلاف نعلمه ولذلك يخرج فيمن أوضح انسانا في رأسه ثم أخرج رأس السكين
من موضع آخر فهي موضحتان وان هشمه هاشمة لها مخرجان فهي هاشمتان وكذلك ما أشبهه
(فصل) فإن ادخل أصبعه في فرج بكر فأذهب بكارتها فليس بجائفة لأن ذلك ليس بجوف
(مسألة) (وان طعنه في خده فوصل إلى فيه ففيه حكومة)
لأن باطن الفم حكمه حكم الظاهر لا حكم الباطن ويحتمل أن تكون جائفة لأن جرح وصل
إلى جوف مجوف فأشبه ما لو وصل إلى البطن
(فصل) فإن طعنه في وجنته فكسر العظم ووصل إلى فيه فليس بجائفة لما ذكرنا وقال الشافعي
في أحد قوليه هو جائفة لأنه قد وصل إلى جوف وقد ذكرنا ان باطن الفم في حكم الظاهر بخلاف
الجوف، فعلى هذا يكون عليه دية هاشمة لكسر العظم وفيما زاد حكومة، وان جرحه في أنفه فأنفذه فهو
كما لو جرح في وجنته فانفذه إلى فيه في الحكم والخلاف، وان جرحه في ذكره فوصل إلى مجرى
البول من الذكر فليس بجائفة لأنه ليس بجوف يخاف التلف من الوصول إليه بخلاف غيره
(مسألة) (وان جرحه في وركه فوصل الجرح إلى جوفه أو أوضحه فوصل الجرح إلى قفاه فعليه دية
جائفة وموضحة وحكومة لجرح القفا والورك)
630

إذا جرحه في فخذه ومد السكين حتى بلغ الورك فأجافه فيه أو جرح الكتف ومد السكين حتى
بلغ الصدر فأجافه فيه فعليه أرش الجائفة وحكومة في الجرح لأن الجرح في غير موضع الجائفة فانفردت
بالضمان كما لو لم يكن معها جائفة، وان أوضحه فوصل إلى قفاه فعليه دية موضحة لأنه أوضحه وعليه
حكومة لجرح القفا كما لو انفرد
(مسألة) (وان أجافه ووسع آخر الجرح فهما جائفتان وعلى كل واحد منهما أرش جائفة)
لأن فعل كل واحد منهما لو انفرد كان جائفة فلا يسقط حكمه بانضمامه إلى فعل غيره لأن فعل
الانسان لا ينبني على فعل غيره، وان وسعها الطبيب باذنه أو اذن وليه فلا شئ عليه
(مسألة) (وان وسع ظاهره دون باطنه أو باطنه دون ظاهره فعليه حكومة) لأن جنايته لم تبلغ الجائفة
(فصل) وان ادخل السكين في الجائفة ثم أخرجها عزر ولا شئ عليه وان خاطها فجاء آخر فقطع
الخيط وأدخل السكين فيها قبل ان تلتحم عزر أشد من التعزير الذي قبله وغرم ثمن الخيوط واجر
الخياط ولم يلزمه أرش جائفة لأنه لم يجفه
(مسألة) (وان التحمت الجائفة ففتحها آخر فهي جائفة أخرى عليه أرشها)
لأنه عاد إلى الصحة فصار كالذي لم يجرح وان التحم بعضها دون بعض ففتق ما التحم فعليه أرش
جائفة لما ذكرنا، وان فتق غير ما التحم فليس عليه أرش الجائفة وحكمه حكم من فعل مثل فعله قبل
631

ان يلتحم منها شئ، وان فتق بعض ما التحم في الظاهر دون الباطن أو الباطن دون الظاهر فعليه
حكومة كما لو وسع جرحه كذلك
(فصل) ومن وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية، ومعنى الفتق خرق ما بين مسلك
البول والمني وقيل بل معناه خرق ما بين القبل والدبر إلا أن هذا بعيد لأنه يبعد ان يذهب بالوطئ
ما بينهما من الحاجز فإنه حاجز غليظ قوي. والكلام في ذلك في أمرين (أحدهما) في أصل وجوب الضمان
(والثاني) في قدره اما الأول فإن الضمان إنما يجب بوطئ الصغيرة أو النحيفة التي لا تحمل الوطئ دون
الكبيرة المحتملة له وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي يجب الضمان في الجميع لأنه جناية فيجب الضمان
به كما لو كان في أجنبية
ولنا أنه وطئ مستحق فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة ولأنه فعل مأذون فيه ممن يصح اذنه
فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما يفضي إلى ذلك، وكقطع السارق واستيفاء
القصاص وعكسه الصغيرة والمكرهة على الزنا. إذا ثبت هذا فإنه يلزمه المهر المسمى في النكاح
مع أرش الجناية ويكون أرش الجناية في ماله إن كان عمدا محضا وهو ان يعلم أنها لا تطيقه وان وطأه
يفضيها، فاما ان علم ذلك وكان مما يحتمل ان لا يفضي إليه فهو عمد الخطأ فيكون عاقلته إلا على قول
من قال إن العاقلة لا تحمل عمد الخطأ فيكون في ماله (الثاني) في قدر الواجب وهو ثلث الدية وبه قال قتادة
632

وأبو حنيفة وقال الشافعي تجب الدية كاملة وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز لأنه أتلف منفعة الوطئ
فلزمته الدية كما لو قطع إسكتيها
ولنا ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في الافضاء بثلث الدية ولم نعرف له في
الصحابة مخالفا ولأن هذه جناية تخرق الحاجز بين مسلك البول والذكر فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة
ولا نسلم انها تمنع الوطئ وأما قطع الإسكتين فإنما أوجب الدية لأنه قطع عضوين فيهما نفع وجمال فأشبه الشفتين
(فصل) فإن استطلق بولها مع ذلك لزمته دية من غير زيادة وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي
تجب دية وحكومة لأنه فوت منفعتين فلزمه أرشهما كما لو فوت كلامه وذوقه
ولنا أنه اتلاف عضو واحد لم يفت غير منافعه فلم يضمنه بأكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه
فذهب ذوقه وكلامه وما قاله لا يصح لأنه لو أوجب دية المنفعتين لأوجب ديتين لأن استطلاق البول
موجب لدية والافضاء عنده موجب للدية منفردا ولم يقل به وإنما أوجب الحكومة ولم يوجد مقتضيها
فانا لا نعلم أحدا أوجب في الافضاء حكومة فإن اندمل الحاجز وانسد وزال الافضاء لم يحدث ثلث
الدية ووجبت حكومة لجبر ما حصل من النقص
633

(فصل) وان أكره امرأة على الزنا فأفضاها لزمه ثلث ديتها ومهر مثلها لأنه حصل بوطئ غير
مستحق ولا مأذون فيه فلزمه ضمان ما تلف به كسائر الجنايات وهل يلزمه أرش البكارة مع ذلك؟ فيه
روايتان (إحداهما) لا يلزمه لأن أرش البكارة داخل في مهر المثل فإن مهر البكر أكثر من مهر الثيب
فالتفاوت بينهما هو أرش عوض البكارة فلم يضمنه مرتين كما في حق الزوجة (والثانية) يضمنه لأنه محل
أتلفه بعدوانه فلزمه أرشه كما لو أتلفه بإصبعه فاما المطاوعة على الزنا إذا كانت كبيرة ففتقها فلا ضمان
عليه في فتقها وقال الشافعي يضمن لأن المأذون فيه الوطئ دون الفتق فأشبه كما لو قطع يدها
ولنا أنه ضرر حصل من فعل مأذون فيه فلم يضمنه كأرش بكارتها ومهر مثلها وكما لو أذنت في
قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها وفارق ما إذا أذنت في وطئها فقطع يدها لأن ذلك ليس من
المأذون فيه ولا من ضرورته.
(فصل) وان وطئ امرأة بشبهة فأفضاها فعليه أرش إفضائها مع مهر مثلها لأن الفعل إنما اذن فيه
اعتقادا ان المستوفي له هو المستحق فإذا كان غيره ثبت في حقه وجوب الضمان لما أتلف كما لو اذن
في اخذ الدين لمن يعتقد أنه مستحقه فبان أنه غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجب لها أكثر
الامرين من مهر مثلها أو أرش افضائها لأن الأرش لاتلاف العضو فلا يجمع بين ضمانه وضمان منفعته
كما لو قلع عينا
634

ولنا ان هذه جناية تنفك عن الوطئ فلم يدخل بدله فيها كما لو كسر صدرها وما ذكره غير صحيح
فإن المهر يجب لاستيفاء منفعة البضع والأرش يجب لاتلاف الحاجز فلا تدخل المنفعة فيه
(فصل) وان استطلق بول المكرهة على الزنا والموطوءة بشبهة مع افضائها فعليه ديتهما والمهر
وقال أبو حنيفة في الموطوءة بشبهة لا يجمع بينهما ويجب أكثرهما وقد سبق الكلام معه في ذلك
(فصل) وفي الضلع بعير وفي الترقوتين بعيران روى سعيد عن مطر عن قتادة عن سليمان بن عمر
وسفيان عن زيد بن أسلم عن أسلم عن عمر في الضلع جمل والترقوة جمل وقال الخرقي في الترقوة
بعيران فظاهر قوله ان في كل ترقوة بعيرين فيكون في الترقوتين أربعة أبعرة وهذا قول زيد بن ثابت
والترقوة العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف ولكل واحد ترقوتان وقال القاضي المراد
بقول الخرقي الترقوتان معا وإنما اكتفى بلفظ الواحد لادخال الألف واللام المقتضية للاستغراق فيكون
في كل ترقوة بعير وهذا قول عمر رضي الله عنه وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الملك بن
مروان وسعيد بن جبير وقتادة وإسحاق وهو قول للشافعي والمشهور من قوله عند أصحابه ان في كل
واحد مما ذكرنا حكومة وهو قول مسروق وأبي حنيفة ومالك وابن المنذر لأنه عظم باطن لا يختص
بجمال ومنفعة فلم يجب فيه أرش مقدر كسائر أعضاء البدن ولان التقدير إنما يكون بتوقيف أو قياس
صحيح وليس في هذا توقيف ولا قياس وروي عن الشعبي ان في الترقوة أربعين دينارا وقال عمرو بن
635

شعيب في الترقوتين الدية وفي إحداهما نصفها لأنهما عضوان ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما
فكملت فيها الدية كاليدين
ولنا قول عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما وما ذكروه ينتقض بالهاشمة فإنها كسر عظام باطنة وفيها
مقدر ولا يصح قولهم إنها لا تختص بجمال ومنفعة فإن جمال هذه العظام ونفعها لا يوجد في غيرها
ولا مشارك لها فيه وأما قول عمرو بن شعيب فمخالف للاجماع فانا لا نعلم أحدا قبله ولا بعده وافقه فيه
(مسألة) (وفي كل واحد من الذراع والزند والعضد والساق بعيران)
قال القاضي في الزند أربعة أبعرة لأن فيها أربعة عظام ففي كل عظم بعير وهذا يروى عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي فيه حكومة لما تقدم
ولنا ما روى سعيد ثنا هشيم أنا يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن عمرو بن العاص كتب إلى
عمر في أحد الزندين إذا كسر فكتب إليه عمر إن فيه بعيرين، وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة من
الإبل ورواه أيضا من طريق آخر مثل ذلك وهذا لم يظهر له مخالف في الصحابة فكان اجماعا
(فصل) ولا مقدر في غير هذه العظام في ظاهر قول الخرقي وهو قول أكثر أهل العلم وقال
القاضي في عظم الساق بعيران وفي الساقين أربعة أبعرة وفي الفخذ بعيران وفي الفخذين أربعة أبعرة
فهذه تسعة عظام فيها مقدر الضلع والترقوتان والزندان والساقان والفخذان وما عداهما لا مقدر فيه
636

وقال ابن عقيل وأبو الخطاب وجماعة من أصحاب القاضي في كل واحد من الذراع والعضد بعيران
وزاد أبو الخطاب عظم القدم لما روى سليمان بن يسار أن عمر قضى في الذراع والفخذ والساق والزند
إذا كسر واحد منهما فجبر ولم يكن به دحور يعني عوجا بعير وإن كان فيها دحور فبحساب ذلك وهذا
الخبر ان صح فهو مخالف لما ذهبوا إليه فلا يصلح دليلا عليه قال شيخنا: والصحيح إن شاء الله أنه لا
تقدير في غير الخمس الضلع والترقوتين والزندين لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف ومقتضى الدليل
وجوب الحكومة في هذه العظام الباطنة كلها وإنما خالفناه في هذه العظام لقضاء عمر رضي الله عنه ففي
ما عداه يبقى على مقتضى الدليل
(مسألة) (وما عدا ما ذكرنا من الجروح وكسر العظام مثل خرزة الصلب والعصعص ففيه الحكومة)
ولا نعلم فيها مخالفا، وإن خالف فيها أحد فهو قول شاذ لا يستند إلى دليل يعتمد عليه ولا يصار إليه
وخرزة الصلب ان أريد بها كسر الصلب ففيه الدية وقال القاضي فيه حكومة وهو مذهب الشافعي وقد ذكرناه
(مسألة) (والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما
نقص فله مثله من الدية فإن كان قيمته وهو صحيح عشرون وقيمته وبه الجناية تسعة عشر ففيه نصف عشر ديته)
637

وهذا الذي ذكره في تفسير الحكومة قول أهل العلم لا نعلم بينهم فيه خلافا، وبه قال الشافعي والعنبري وأصحاب
الرأي وغيرهم، قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم حكومة أن يقال إذا
أصيب الانسان بجرح لا عقل له معلوم كم قيمة هذا الجرح لو كان عبدا لم يجرح هذا الجرح؟ فإذا قيل
مائة دينار قيل وكم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه؟ قيل خمسة وتسعون فالذي يجب على
الجاني نصف عشر الدية وان قالوا تسعون فعشر الدية وان زاد أو نقص فعلى هذا المثال وإنما كان
كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة منها كما أن البيع لما كان مضمونا على البائع بالثمن كان
أرش عيبه مقدرا من الثمن فيقال كم قيمته لا عيب فيه؟ فإذا قالوا عشرة فيقال كم قيمته وفيه العيب؟ فإذا قيل تسعة علم
أنه نقص عشر قيمته فيجب أن يرد من الثمن عشرة أي قدر كان ونقدره عبدا ليمكن تقويمه ويجعل العبد أصلا
للحر فيما لا موقت فيه والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت في المشهور من المذهب.
(مسألة) الا أن يكون في شئ فيه مقدر فلا يبلغ به أرش المقدر فإن كانت في الشجاج التي دون
الموضحة لم يبلغ بها أرش الموضحة فلو جرحه في وجهه سمحاقا فنقصته عشر قيمته فمقتضى الحكومة
وجوب عشر من الإبل ودية الموضحة خمس)
638

فههنا يعلم غلظ المقوم لأن الجراحة لو كانت موضحة لم يزد على خمس مع أنها سمحاق وزيادة عليها
فلان لا يجب في بعضها زيادة على خمس أولى وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول الشافعي وأصحاب
الرأي، وحكي عن مالك أنه يجب ما تخرجه الحكومة كائنا ما كان لأنها جراحة لا مقدر فيها فوجب
فيها ما نقص كما لو كانت في سائر البدن
ولنا أنها بعض الموضحة لأنه لو أوضحه لقطع ما قطعته هذه الجراحة ولا يجوز أن يجب في بعض
الشئ أكثر مما يجب فيه ولان الضرر في الموضحة أكبر والشين أعظم والمحل واحد فإذا لم يزد أرش
الموضحة على خمس كان ذلك تنبيها على أن لا يزاد ما دونها عليها وأما سائر البدن فما كان فيه موقت
كالأعضاء والعظام المعلومة والجائفة فلا يزاد جرح عظم على ديته مثاله جرح أنملة فبلغ أرشها بالحكومة
خمسا من الإبل فإنه يرد إلى دية الأنملة وإن كان في أصبع فبلغ ما زاد على العشر بالحكومة رد إلى
العشر وان جنى عليه في جوفه دون الجائفة لم يزد على أرش الجائفة وما لم يكن كذلك وجب ما
أخرجته الحكومة لأن المحل مختلف فإن قيل فقد وجب في بعض البدن أكثر مما وجب في جميعه
ووجب في منافع اللسان أكثر من الواجب فيه قلنا إنما وجبت دية النفس دية عن الروح وليست
الأطراف بعضها بخلاف مسئلتنا هذا ذكره القاضي ويحتمل كلام الخرقي أن يختص امتناع الزيادة بالرأس
والوجه لقوله الا أن تكون الجناية في وجه أو رأس فلا يجاوز به أرش الموقت
639

(فصل) إذا خرجت الحكومة في شجاج الرأس التي دون الموضحة قدر أرش الموضحة أو زيادة
عليه فظاهر كلام الخرقي أنه يجب أرش الموضحة وقال القاضي يجب أن ينقص عنها شيئا على حسب
ما يؤدي إليه الاجتهاد وهذا مذهب الشافعي وهو الذي ذكره شيخنا في كتاب الكافي المقنع لئلا
يجب في بعضها ما يجب في جميعها ووجه قول الخرقي أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة
وإنما سقط الزائد على أرش الموضحة لمخالفته النص أو تنبيه النص ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل
ولان ما ثبت بالتنبيه يجوز ان يساوي المنصوص عليه في الحكم ولا يلزم أن يزيد عليه كما أنه لما نص
على وجوب فدية الأدنى في حق العذور لم يلزم زيادتها في حق من لا عذر له ولا يمنع أن يجب
في البعض ما يجب في الكل بدليل وجوب دية الأصابع مثل دية اليد كلها وفي حشفة الذكر مثل
ما في جميعه فإن قيل هذا وجب بالتقدير الشرعي لا بالتقويم قلنا إذا ثبت الحكم بنص الشارع لم
يمتنع ثبوت مثله بالقياس عليه والاجتهاد ما يؤدي إليه وفي الجملة فالحكومة دليل على ترك العمل بها في
الزائد لمعنى مقصود في المساوي فيجب العمل بها لعدم المعارض ثم وان صح ما ذكروه فينبغي أن ينقص
أدنى ما تزول به المساواة المحدودة ويجب الباقي عمد بالدليل الموجب له
(فصل) ولا يكون التقويم الا بعد برء الجرح لأن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد برئه
(مسألة) فإن كانت الجراحة مما لا تنقص شيئا بعد الاندمال مثل أن قطع أصبعا زائدة أو يدا أو
640

قطع لحية امرأة فلم ينقصه ذلك بل زاده حسنا فالجاني محسن بجنايته فلم يضمن كما لو قطع سلعة أو
تؤلولا أو بط خراجا ويحتمل أن يضمن قال القاضي نص أحمد على هذا لأن هذا جزء من مضمون
فلم يعر عن ضمان كما لو أتلف مقدر الأرش فزاد به جمالا أو لم ينقصه شيئا، فعلى هذا يقوم في
أقرب الأحوال إلى البرء لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد برئه قوم في أقرب الأحوال إليه كولد المغرور
لما تعذر تقويمه في البطن قوم عند الوضع لأنه أقرب الأحوال التي أمكن تقويمه إلى كونه في البطن
(مسألة) (فإن لم ينقص في تلك الحال قوم حال جريان الدم)
لأنه لابد من نقص للخوف عليه ذكره القاضي ولأصحاب الشافعي وجهان كما ذكرنا وتقوم
لحية المرأة كأنها لحية رجل في حال تنقصه ذهاب لحية وإن أتلف سنا زائدة قوم وليست له سن زائدة
ولا خلفها أصلية ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة فإن كانت المرأة إذا قدرناها ابن عشرين نقصها ذهاب
641

لحيتها يسيرا وان قدرناها ابن أربعين نقصها كثيرا قدرناها ابن عشرين لأنه أقرب الأحوال إلى حال
المجني عليه فأشبه تقويم الجرح الذي لا ينقص بعد الاندمال فإننا نقرمه في أقرب أحوال النقص إلى
حال الاندمال والأول أصح إن شاء الله تعالى فإن هذا لا مقدر فيه ولم ينقص شيئا فأشبه الضرب
وتضمين النقص الحاصل حال جريان الدم إنما هو تضمين الخوف عليه وقد زال فأشبه ما لو لطمه
فاصفر وجه حالة اللطمة أو احمر ثم زال وتقدير المرأة رجلا لا يصح لأن اللحية زين للرجل وعيب
في المرأة وتقدير ما يعيب بما يزين لا يصح وكذلك تقدير السن في حالة يراد زوالها بحالة يكره لا يجوز
فإن الشئ يقدر بنظيره ويقاس على مثله لا على ضده ومن قال بهذا الوجه فإنما يوجب أدنى ما يمكن
ايجابه وهو أقل نقص يمكن تقديره
(فصل) فإن لطمه على وجهه فلم يؤثر في وجهه فلا ضمان لأنه لم ينقص به جمال ولا منفعة ولم
يكن له حال ينقص فيها فلم يضمنه كما لو شتمه
642

(باب العاقلة وما تحمله)
(عاقلة الانسان عصباته كلهم قريبهم وبعيدهم من النسب والولاء إلا عمودي نسبه آباؤه وأبناؤه
وعنه أنهم من العاقلة أيضا)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في العاقلة فروي عنه أنهم جميع العصبات من النسب والولاء
يدخل فيهم الآباء والأبناء والاخوة وسائر العصبات من العمومة وأبنائهم اختاره أبو بكر والشريف
أبو جعفر، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ان عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا الا ما فضل عن ورثتها
وان قتلت فعقلها بين ورثتها، رواه أبو داود ولأنهم عصبة فأشبهوا سائر العصبات، يحققه ان العقل
موضوع على التناصر وهم من أهله ولان العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب
وأبناؤه وآباؤه أحق العصبات بميراثه فكانوا أولى بتحمل عقله، وفيه رواية ثانية ان الآباء والأبناء
ليسوا من العاقلة وهو قول الشافعي لما روى أبو هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما
الأخرى بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها
وورثها ولدها ومن معهم متفق عليه وفي رواية ثم ماتت القاتلة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنيها والعقل
643

على العصبة وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها وبرأ
زوجها وولدها قال فقالت عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ميراثها لزوجها وولدها "
رواه أبو داود. إذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد لأنه معناه ولان مال ولده ووالده كما له ولهذا
لم تقبل شهادتهم له ولا شهادته لهم ووجب على كل واحد منهم الانفاق على الآخر إذا كان محتاجا والآخر
موسرا فلا يجب في ماله دية كما لو تجب في مال القاتل وفيه رواية ثالثة ان الاخوة ليسوا من العاقلة كالوالد
والولد وهي ظاهر كلام الخرقي، وغيره من أصحابنا يجعلونهم من العاقلة بكل حال ولا نعلم عن غيرهم خلافهم
(فصل) فإن كان الولد ابن ابن عم أو كان الوالد والولد، مولى أو عصبة مولى فإنه يعقل في ظاهر
كلام أحمد قاله القاضي وقال أصحاب الشافعي لا يعقل لأنه والد وولد فلم يعقل كما لو لم يكن كذلك
ولنا أنه ابن ابن عم أو مولى فيعقل كما لو لم يكن ولدا وذلك لأن هذه القرابة أو الولاء سبب
يستقل بالحكم منفردا فإذا وجد مع ما لا يثبت الحكم أثبته كما لو وجد مع الرحم المجرد ولأنه يثبت حكمه
في القرابة الأخرى بدليل انه يلي نكاحها مع أن الابن لا يلي النكاح عندهم.
(فصل) وسائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا من النسب والمولى وعصبته وبهذا قال عمر
ابن عبد العزيز والنخعي وحماد ومالك والشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وذلك لأنهم عصبة يرثون
المال إذا لم يكن وارث أقرب منهم فيدخلون في العقل كالقريب، ولا يعتبر ان يكونوا وارثين في الحال بل
644

متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا لا يرثون
منها إلا ما فضل عن ورثتها ولان الموالي من العصبات فأشبهوا المناسبين.
(فصل) العاقلة من يحمل العقل والعقل الدية سميت عاقلة لأنها تعقل لسان ولي المقتول وقيل إنما
سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل والمنع العقل ولهذا سمي بعض العلوم عقلا لأنه يمنع من الاقدام
من المضار، ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة العصبات وان غيرهم من الاخوة من الام وسائر ذوي
الأرحام والزوج وكل من عد العصبات ليسوا من العاقلة ولا يعقل المولي من أسفل وبه قال أبو حنيفة وأصحاب
مالك وقال الشافعي في أحد قوليه يعقل لأنهما شخصان يعقل أحدهما صاحبه فيعقل الآخر عنه كالآخرين
ولنا انه ليس بعصبة له ولا وارث فلم يعقل عنه كالأجنبي وما ذكروه يبطل بالذكر مع الأنثى
والصغير مع الكبير والعاقل مع المجنون
(فصل) ولا يعقل مولى الموالاة وهو الذي يوالي رجلا يجعل له ولاءه ونصرته، ولا الحليف وهو
الرجل يحالف آخر على أن يتناصرا على دفع الظلم ويتضافرا على من قصدهما أو قصد أحدهما ولا العديد
وهو الذي لا عشيرة له ينضم إلى العشيرة فيعد نفسه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يعقل مولى
الموالاة ويرث وقال مالك إذا كان الرجل في غير عشيرته فعقله على القوم الذين هو معهم
645

ولنا أنه معني يتعلق بالتعصيب فلا يستحق بذلك كولاية النكاح
(فصل) ولا مدخل لأهل الديوان في العاقلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يتحملون جميع
الدية فإن عدموا فالأقارب حينئذ يعقلون لأن عمر رضي الله عنه جعل الدية على أهل الديوان في
الأعطية إلى ثلاث سنين.
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عصبة القاتلة ولأنه معني لا يستحق به الميراث فلم يحمل به العقل
كالجوار واتفاق المذاهب وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قضاء عمر على أنه صح ما ذكر عنه فيحتمل
انهم كانوا عشيرة القاتل.
(مسألة) (وليس على فقير ولا صبي ولا زائل العقل ولا امرأة ولا خنثى مشكل ولا رقيق ولا
مخالف لدين الجاني حمل شئ من الدية وعنه ان الفقير يحمل من العقل)
أكثر أهل العلم على أنه لا مدخل لاحد من هؤلاء في تحمل العقل قال ابن المنذر
أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان مع
العاقلة واجمعوا على الفقير لا يلزمه شئ وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وحكي بعض
أصحابنا عن مالك وأبي حنيفة ان للفقير مدخلا في التحمل وعن أحمد مثل ذلك وحكاها أبو الخطاب
لأنه من أهل النصرة فكان من العاقلة كالخنثى، والصحيح الأول لأن تحمل العقل مواساة فلا تلزم الفقير
646

كالزكاة ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفا على العاقل فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه وفي ايجابها
على الفقير تثقيل عليه وتكليف له ما لا يقدر عليه ولأننا أجمعنا على أنه لا يكلف أحد من العاقلة ما يثقل
عليه ويجحف به وتحميل الفقير شيئا منها يثقل عليه ويجحف بماله وربما كان الواجب عليه جميع ماله
أو أكثر منه أو لا يكون له شئ أصلا، واما الصبي والمجنون والمراة فلا يحملون منها لأن فيها معنى
التناصر وليس هم من أهل النصرة وكذلك المخالف في الدين ليس هو من أهل النصرة أيضا
(مسألة) (ويحمل الغائب كما يحمل الحاضر)
وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك يختص به الحاضر لأن التحمل بالنصرة وإنما هي من الحاضرين
ولان في قسمه على الجميع مشقة وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا الخبر وانهم استووا في التعصيب والإرث فاستووا في تحمل العقل كالحاضرين ولأنه معنى
يتعلق بالتعصيب فاستوي فيه الحاضر والغائب كالميراث والولاية
(فصل) ويعقل المريض إذا لم يبلغ حد الزمانة، والشيخ إذا لم يبلغ حد الهرم لأنهما من أهل النصرة
والمواساة، وفي الزمن والشيخ والفاني وجهان (أحدهما) لا يعقلان لأنهما ليسا من أهل النصرة ولهذا لا يجب
عليهما الجهاد ولا يقتلان إذا كانا من أهل الحرب، وكذلك يخرج في الأعمى لأنه مثلهما في هذا المعنى (والثاني)
يعقلون لأنهم من أهل المواساة ولهذا تجب عليهم الزكاة وهذا منتقض بالصبي والمجنون ومذهب
الشافعي كمذهبنا
647

(مسألة) (وخطأ الإمام والحاكم في أحكامه في بيت المال وعنه على عاقلته)
لأن خطأه يكثر في أحكامه فايجاب ما يجب به على عاقلته يجحف بهم، وبه قال الأوزاعي والثوري
وأبو حنيفة وإسحاق ولان الإمام والحاكم نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله فكان أرش جنايته
في مال الله سبحانه وللشافعي قولان كالروايتين وفيه رواية أخرى انه يجب على عاقلته لما روى أن
عمر رضي الله عنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت يا ويلها ما لها ولعمر فأسقطت ولدا فصاح
الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم
ان ليس عليك شئ إنما أنت وال ومؤدب فقال على أن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأوا رأيهم وان
كانوا في هواك فلم ينصحوا لك ان ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته فقال عمر أقسمت عليك ان
لا تبرح حتى تقسمها على قومك
(مسألة) (وهل يتعاقل أهل الذمة؟ على روايتين)
(إحداهما) يتعاقلون قياسا على المسلمين لأن قرابتهم تقتضي التوريث فاقتضت التعاقل كالمسلمين ولان
دياتهم ديات أحرار معصومين فأشبهت ديات المسلمين (والثانية) لا يتعاقلون لأن حمل العاقلة ثبت على خلاف
الأصل لحرمة قرابة المسلمين فلا يقاس عليهم غيرهم لأنهم لا يساوونهم في الحرمة
(مسألة) (ولا يعقل حربي عن ذمي ولا ذمي عن حربي)
648

لأنه لا يرث بعضهم من بعض فلا يعقل بعضهم عن بعض كغير العصبات وفي الميراث احتمال انهما يتوارثان
فيخرج في التعاقل مثل ذلك ولا يعقل يهودي عن نصراني ولا نصراني عن يهودي لأنه لا موالاة بينهم وهم أهل
ملتين مختلفتين ويحتمل ان يتعاقلا بناء على الروايتين في توارثهما فإن تهود نصراني أو تنصر يهودي
وقلنا انه يقر عقل عنه عصبته من أهل الدين الذي انتقل إليه وهل يعقل عنه الذين انتقل عن دينهم؟
على وجهين وان قلنا لا يقر لم يعقل عنه أحد لأنه كالمرتد والمرتد لا يعقل عنه أحد لأنه ليس بمسلم فيعقل
عنه المسلمون ولا ذمي فيعقل عنه أهل الذمة فتكون جنايته في ماله وكذلك كل من لا تحمل عاقلته
جنايته يكون موجبها في ماله كسائر الجنايات التي لا تحملها العاقلة
(مسألة) (ومن لا عاقلة له أو لم يكن له عاقلة تحمل الجميع فالدية أو باقيها عليه إن كان ذميا)
لأن بيت المال لا يعقل عنه وإن كان مسلما ففيه روايتان
(إحداهما) يؤدي عنه من بيت المال وهو مذهب الزهري والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودي
الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال وروي ان رجلا قتل في زحام في زمن عمر فلم يعرف قاتله فقال
علي لعمر يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرى مسلم فأدى ديته من بيت المال ولان المسلمين يرثون من لا وارث
649

له فيعقلون عنه عدم عاقلته كعصباته ومواليه (والثانية) لا يجب ذلك لأن بيت المال فيه حق النساء
والصبيان والمجانين والفقراء ومن لا عقل عليه فلا يجب صرفه فيما لا يجب عليهم ولان العقل على العصبات
وليس بيت المال عصبة ولا هو لعصبة هذا فأما قتيل الأنصار فغير لازم لأن ذلك قتيل اليهود وبيت المال
لا يعقل عن الكفار بحال وإنما النبي صلى الله عليه وسلم تفضل بذلك عليهم وقولهم انهم يرثونه قلنا ليس صرفه إلى
بيت المال ميراثا بل هو فئ ولهذا يؤخذ مال من لا وارث له من أهل الذمة إلى بيت المال ولا يرثه المسلمون
ثم إن العقل لا يجب على الوارث إذا لم يكن عصبة ويجب على العصبة وان لم يكن وارثا فعلى الرواية
الأولى إذا لم يكن له عاقلته أديت الدية كلها عنه من بيت المال وإن كان له عاقلة لا تحمل الجميع أخذ
الباقي من بيت المال وهل يؤدى من بيت المال دفعه واحدة أو في ثلاث سنين؟ على وجهين (أحدهما)
في ثلاث سنين كما يؤخذ من العاقلة (والثاني) يؤدي دفعة واحدة وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدى
دية الأنصاري دفعة واحدة وكذلك عمر ولان الدية بدل متلف لا تؤديه العاقلة فيجب كله في الحال
كسائر ابدال المتلفات وإنما أجل على العاقلة تخفيفا عنهم ولا حاجة إلى ذلك في بيت المال
ولهذا يؤدي الجميع.
(فصل) فإن لم يكن الاخذ من بيت المال فليس على القاتل شئ وهذا أحد قولي الشافعي ولان
الدية لزمت العاقلة ابتداء بدليل انها لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر تحملهم ولا رضاهم ولا تجب على غير
650

من وجبت عليه كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد كذا ههنا فعلى هذا ان وجد بعض العاقلة
حملوا بقسطهم وسقط الباقي فلا يجب على أحد قال شيخنا ويحتمل ان تجب في مال القاتل إذا تعذر
حملها عنه وهذا القول الثاني للشافعي لعموم قوله تعالى (ودية مسلمة) إلى أهله ولان قضية الدليل
وجوبها على الجاني جبرا للمحل الذي فوته وإنما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل
فإذا لم يوجد ذلك بقي واجبا عليه بمقتضي الدليل ولان الامر دائر بين ان يطل دم المقتول وبين
ايجاب ديته على المتلف لا يجوز الأول لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة وقياس أصول الشريعة فتعين الثاني
ولان اهدار الدم المضمون لا نظير له وايجاب الدية على قاتل الخطأ له نظائر وقد قالوا في المرتد
تجب الدية في ماله لما لم يكن عاقلة والذمي الذي لا عاقلة له تلزمه الدية ومن رمى سهما ثم أسلم أو كان
مسلما فارتد أو كان عليه الولاء لموالي أمه فانجر إلى موالي أبيه ثم أصاب سهمه انسانا فنقول قتيل في
دار الاسلام معصوم تعذر حمل عاقلته عقله فوجب على قاتله كهذه الصور وهذا أولى من اهدار دماء
الأحرار في غالب الأحوال فإنه لا يكاد يوجد عاقلة تحمل الدية كلها ولا سبيل إلى الاخذ من بيت المال فتضيع الدماء وتفوت حكمة ايجاب الدية قولهم ان الدية تجب على العاقلة عنه ابتداء ممنوع وإنما
تجب على القاتل ثم تحملها العاقلة وان سلمنا وجوبها عليهم ابتداء لكن مع وجودهم أما مع عدمهم فلا يمكن
القول بوجوبها عليهم ثم ما ذكروه منقوض بما أبديناه من الصور فعلى هذا تجب الدية على القاتل ان
تعذر حمل جميعها أو باقيها ان حملت العاقلة بعضها
651

(فصل) ولو رمى ذمي صيدا ثم أسلم ثم أصاب السهم آدميا فقتله لم يعقله المسلمون لأنه لم يكن مسلما
حال رميه ولا المعاهدون لأنه قتل مسلما فتكون الدية في مال الجاني وهكذا لو رمى وهو مسلم ثم ارتد
ثم قتل السهم انسانا لم يعقله أحد ولو جرح ذمي ذميا ثم أسلم الجارح ومات المجروح وكان أرش جراحه
يزيد على الثلث فعقله على عصبته من أهل الذمة وما زاد على أرش الجرح لا يحمله أحد ويكون في
مال الجاني لما ذكرنا فإن لم يكن أرش الجرح مما تحمله العاقلة فجميع الدية على الجاني وكذلك
الحكم إذا جرح مسلم ثم ارتد ويحتمل ان تحمل العاقلة الدية كلها في المسئلتين لأن الجناية وجدت
وهو ممن تحمل العاقلة جنايته ولهذا وجب القصاص في المسألة الأولى إذا قتله عمدا ويحتمل ان لا تحمل
العاقلة شيئا لأن الأرش إنما يستقر باندمال الجرح وسرايته.
(فصل) إذا تزوج عبد معتقة فأولدها أولادا فولاؤهم لمولى أمهم فإن جنى أحدهم فالعقل على مولى
أمه لأنه عصبته ووارثه فإن عتق أبوه ثم سرت الجناية أو رمى بسهم فلم يقع السهم حتى عتق أبوه لم
يحمل عقله أحد لأن موالي الام قد زال ولاؤهم عنه قبل قتله وموالي الأب لم يكن لهم عليه ولاء حال
جنايته فتكون الدية عليه في ماله إلا أن يكون أرش الجرح مما تحمله العاقلة منفردا فيخرج فيه مثل
ما قلناه في المسألة التي قبلها.
(مسألة) (ولا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون ثلث الدية ويكون
652

ذلك في مال الجاني حالا إلا غرة الجنين إذا مات مع أمه فإن العاقلة تحملها مع دية أمه وان ماتا
منفردين لم تحملهما العاقلة لنقصهما عن الثلث)
وجملة ذلك أن العاقلة لا تحمل العمد سواء كان مما يجب القصاص فيه أو لا يجب ولا خلاف في أنها
لا تحمل دية ما تجب فيه القصاص وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمد بحال وحكي عن مالك أنها
تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها كالمأمومة والجائفة وهذا قول قتادة لأنها جناية لا قصاص فيها فأشبهت جناية الخطأ
ولنا ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا
اعترافا " وروي عن ابن عباس موقوفا ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فيكون اجماعا ولأنها جناية عمد
فلا تحملها العاقلة كالموجبة للقصاص وجناية الأب على ابنه ولان حمل العاقلة إنما يثبت في الخطأ لكون
الجاني معذورا تخفيفا عنه ومواساة له والعامد غير معذور فلا يستحق المواساة ولا التخفيف فلم يوجد
فيه المقتضي وبهذا فارق العمد الخطأ ثم يبطل ما ذكروه بقتل الأب ابنه فإنه لا قصاص فيه ولا تحمله العاقلة
(فصل) فإن اقتص بحديدة مسمومة فسرى إلى النفس ففيه وجهان (أحدهما) تحمله العاقلة لأنه
فسرى إلى النفس ففيه وجهان (أحدهما) تحمله العاقلة لأنه
ليس بعمد محض أشبه عمد الخطأ (والثانية) لا تحمله لأنه قتل بالة يقتل مثلها غالبا فأشبه من له القصاص
ولو وكل في استيفاء القصاص ثم عفى عنه فقتله الوكيل من غير علم بعفوه فقال القاضي لا تحمله العاقلة
لأنه عمد قتله وقال أبو الخطاب تحمله لأنه لم يقصد الجناية ومثل هذا يعد خطأ بدليل ما لو قتل في
653

دار الحرب مسلما يظنه حربيا فإنه عمد قتله وهو أحد نوعي الخطأ وهذا أصح ولأصحاب
الشافعي وجهان كهذين
(فصل) ولا تحمل العاقلة العبد يعني إذا قتل العبد قاتل وجبت قيمته في مال القاتل ولا شئ على
عاقلته خطأ كان أو عمدا وهذا قول ابن عباس والشعبي والثوري ومكحول والنخعي والبتي ومالك
والليث وابن أبي ليلي وإسحاق وأبي ثور وقال عطاء والزهري والحكم وحماد وأبو حنيفة تحمله
العاقلة لأنه ادمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر وعن الشافعي كالمذهبين
ووافقنا أبو حنيفة في دية أطرافه
ولنا حديث ابن عباس ولان الواجب فيه قيمة تختلف باختلاف صفاته فلم تحمله العاقلة كسائر القيم
ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة دية أطرافه فلم تحمل الواجب في نفسه كالفرس
(فصل) ولا تحمل الصلح ومعناه ان يدعى عليه القتل فينكره ويصالح المدعي على مال فلا تحمله
العاقلة لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة كالذي ثبت باعترافه وقال القاضي معناه ان يصالح
الأولياء عن دم العمد إلى الدية والتفسير الأول أولى لأن هذا عمد يستغني عنه بذكر العمد وممن قال
لا تحمل العاقلة الصلح ابن عباس والزهري والشعبي والثوري والليث والشافعي وقد ذكرنا حديث
ابن عباس فيه ولأنه لو حملته العاقلة أدى إلى أن يصالح بمال غيره ويوجب عليه حقا بقوله
654

(فصل) ولا تحمل الاعتراف وهو ان يقر الانسان على نفسه بقتل خطأ أو شبه عمد فتجب الدية
عليه فلا تحمله العاقلة لا نعلم فيه خلافا وبه قال ابن عباس والشعبي والحسن وعمر بن عبد العزيز والزهري
والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه
ولأنه لو وجب عليهم لوجب باقرار غيرهم ولا يقبل إقرار شخص على غيره ولأنه متهم في أن يواطئ
من يقر له بذلك ليأخذ الدية من عاقلته فيقاسمه إياها إذا ثبت هذا فإنه يلزمه ما اعترف به وتجب
الدية عليه حالة في ماله في قول الأكثرين وقال أبو ثور وابن عبد الحكم لا يلزمه شئ ولا يصح إقراره
لأنه مقر على غيره لا على نفسه لأنه لم يثبت موجب اقراره فكان باطلا كما لو أقر على غيره بالقتل
ولنا قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) ولأنه مقر على
نفسه بالجناية الموجبة للمال فصح إقراره كما لو أقر باتلاف مال أو بما لا تحمل ديته العاقلة ولأنه محل
مضمون فيضمن إذا اعترف به كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل العاقلة لها
فإذا لم تحملها وجبت عليه كجناية المرتد
(فصل) ولا تحمل العاقلة ما دون الثلث وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء ومالك وإسحاق
وعبد العزيز بن أبي سلمة وقال الزهري لا تحمل الثلث أيضا وقال الثوري وأبو حنيفة تحمل السن والموضحة
وما فوقهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الغرة التي في الجنين على العاقلة وقيمتها نصف عشر الدية ولا تحمل
655

ما دون ذلك ولأنه ليس فيه أرش مقدر والصحيح عن الشافعي أنها تحمل القليل والكثير لأن من حمل
الكثير حمل القليل كالجاني في العمد
ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية ان لا يحمل منها شئ حتى تبلغ عقل المأمومة
ولان مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني لأنه موجب جنايته وبدل متلفه فكان عليه كسائر
الجنايات والمتلفات وإنما خولف في الثلث تخفيفا عن الجاني لكونه كثيرا يجحف به قال النبي صلى الله عليه وسلم
" الثلث كثير " ففيما دونه يبقى على قضية الأصل ومقتضى الدليل وهذا حجة على الزهري لأن النبي
صلى الله عليه وسلم جعل الثلث كثيرا فاما دية الجنين فلا تحملها العاقلة إلا إذا مات مع أمه من الضربة لكون ديتهما
جميعا موجب جناية تزيد على الثلث وان سلمنا وجوبها على العاقلة فلأنها دية ادمي كاملة
(فصل) وتحمل العاقلة دية الطرف إذا بلغ الثلث وهو قول من سمينا في الفصل الذي قبل هذا
وحكي عن الشافعي أنه قال في القديم لا تحمل ما دون الدية لأن ذلك يجرى مجرى ضمان الأموال
بدليل أنه لا يجب فيه كفارة
ولنا قول عمر رضي الله عنه ولان الواجب دية جناية على حر تزيد على الثلث فحملتها العاقلة
كدية النفس ولأنه كثير يجب ضمانا لحر أشبه ما ذكرنا وما ذكروه يبطل بما إذا جنى على الأطراف بما يوجب
الدية أو زيادة عليها
656

(فصل) وتحمل العاقلة دية المرأة بغير خلاف بينهم فيها وتحمل من جراحها ما يبلغ أرشه ثلث دية
الرجل كدية أنفها، فاما ما دون ذلك كدية يدها فلا تحمله العاقلة وكذلك الحكم في دية الكتابي
ولا تحمل دية المجوسي لأنها دون الثلث
(مسألة) (وتحمل غرة الجنين)
إذا مات مع أمه فإن العاقلة تحملها مع دية أمه نص عليه لأن ديتهما وجبت في حال واحدة بجناية
واحدة مع زيادتهما على الثلث فحملتهما العاقلة كالدية الواحدة ولا تحملها ان مات منفردا أو مات قبل
موت أمه نص عليه أحمد لأنه دون الثلث
(مسألة) (وتحمل جناية الخطأ عن الحر إذا بلغت الثلث) وحكي عن الشافعي لا تحمل ما دون
الدية وقد ذكرناه وذكرنا دليله
(مسألة) (قال أبو بكر ولا تحمل العاقلة شبه العمد ويكون في مال القاتل في ثلاث سنين)
وهي رواية عن أحمد وبه قال ابن سيرين والزهري والحارث العكلي وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور
وهي على القاتل في ماله لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلة كالعمد المحض، ولأنها دية مغلظة فأشبهت
دية العمد وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك لأن شبه العمد عنده من باب العمد (والثانية) تحملها
العاقلة ذكرها الخرقي وهي ظاهر المذهب وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وإسحاق وأصحاب
657

الرأي وابن المنذر لما روى أبو هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما
الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه،
ولأنه نوع قتل لا يوجب القصاص فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ، ويخالف العمد المحض فإنه
يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وارادته القتل، وعمد الخطأ يغلظ من وجه وهو الأسنان وهو قصده
الفعل ويخف من وجه وهو كونه لم يرد القتل فاقتضى تغليظها من وجه وهو الأسنان وتخفيفها من وجه
وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنها تجب مؤجلة روي ذلك عن عمر وعلي
وابن عباس، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وعبيد الله بن عمر ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور
وابن المنذر، وقد حكي عن قوم من الخوارج انهم قالوا الدية حالة لأنها بدل متلف ولم ينقل إلينا ذلك عمن
يعد خلافه خلافا والدية تخالف سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجاني على سبيل المواساة له فاقتضت
الحكمة تخفيفها عليهم وقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما انهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث
سنين ولا مخالف لهما في عصرهما فكان اجماعا
(مسألة) (وما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر لكن يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيحمل
كل انسان ما يسهل ولا يشق
وجملة ذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة لا تكلف من العقل ما يجحف بها ويشق عليها
658

لأنه لازم لها من غير جنايتها على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على
غيره ويجحف به كالزكاة، ولأنه لو كان الاجحاف مشروعا كان الجاني أحق به لأنه موجب جنايته وجزاء
فعله فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى، واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم فقال
احمد يحملون على قد ما يطيقون فعلى هذا لا يتقدر شرعا وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل
واحد قدرا يسهل ولا يؤذي وهذا مذهب مالك لأن التقدير لا يثبت الا بتوقيف ولا يثبت بالرأي
والتحكم ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات، وعن أحمد
رواية أخرى انه يفرض على الموسر نصف مثقال لأنه أقل ما يتقدر في الزكاة فكان معتبرا بها ويجب
على المتوسط ربع مثقال لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه بدليل قول عائشة رضي الله
عنها لا يقطع في الشئ التافه وما دون ربع دينار لا قطع فيه، وهذا اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي
وقال أبو حنيفة أكثر ما يجعل على الواحد أربعة دراهم وليس لا فله حد لأن ذلك يجب على سبيل المواساة
للقرابة فلم يتقدر أقله كالنفقة قال ويسوى بين الغني والمتوسط لذلك، والصحيح الأول لما ذكرنا من أن التقدير
إنما يصار إليه بتوقيف فيه وإنما يختلف بالغنى والتوسط كالزكاة والنفقة ولا يختلف بالبعد والقرب لذلك
(مسألة) (واختلف القائلون بالتقدير بنصف دينار وربعه فقال بعضهم يتكرر الواجب في الأحوال
الثلاثة فيكون الواجب على الغني فيها دينارا ونصفا وعلى المتوسط ثلاثة أرباع دينار)
659

لأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة فيتكرر بتكرر الحول كالزكاة وقال بعضهم لا يتكرر
لأن في الايجاب زيادة على النصف ايجاب الزيادة على أقل الزكاة فيكون مضرا، ويعتبر الغنى والتوسط
عند رأس الحول لأنه حال الوجوب فاعتبر الحول عنده كالزكاة، وان اجتمع من العاقلة في درجة
واحدة عدد كثير قسم الواجب على جميعهم فيلزم الحاكم كل انسان على حسب ما يراه وان قل، وعلى
الوجه الآخر يجعل على المتوسط نصف ما على الغنى ويعم بذلك جميعهم وهو أحد قولي الشافعي وقال
في الآخر يختص الحاكم من شاء منهم فيفرض عليهم هذا القدر الواجب لئلا ينقص عن القدر الواجب
ويصير إلى الشئ التافه ولأنه يشق فربما أصاب كل واحد قيراط فيشق جمعه
ولنا انهم استووا في القرابة فكانوا سواء كما لو قلوا كالميراث واما التعلق بمشقة الجمع فلا يصح
لأن مشقة زيادة الواجب أعظم من الجمع ثم هذا تعلق بالحكمة من غير أصل يشهد لها فلا يترك لها الدليل
ثم هي معارضة بحقه الواجب على كل واحد منهم وسهولة الواجب عليهم، ثم لا يخلو من أن يخص الحاكم
بعضهم بالاجتهاد أو بغير اجتهاد فإن خصه بالاجتهاد ففيه مشقة عليه وربما لا يحصل له معرفة الأولى منهم
بذلك فيتعذر الايجاب وان خصه بالتحكم أفضى إلى أنه يتخير بين ان يوجب على انسان شيئا بشهوته من
غير دليل وبين ان لا يوجب عليه ولا نظير له وربما ارتشى من بعضهم واتهم وربما امتنع من فرض
عليه شئ من أدائه لكونه يرى مثله لا يؤدي شيئا مع التساوي من كل الوجوه
(مسألة) (ويبدأ بالأقرب فالأقرب فمتى اتسعت أموال الأقربين لها لم يتجاوزهم والا
ننقل إلى من يليهم)
660

وجملة ذلك أنه يبدأ في قسمة الدية بين العاقلة الأقرب فالأقرب فيقسم على الاخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم ثم
أعمام الأب ثم بنيهم ثم أعمام الجد ثم بنيهم كذلك ابدا حتى إذا انقرض الناسبون فعلى المولى المعتق ثم على
عصباته ثم على مولى المولى ثم على عصباته الأقرب فالأقرب كالميراث سواء وان قلنا الآباء والأبناء من العاقلة
بدئ بهم لأنهم أقرب ومتى اتسعت أموال قوم للعقل لم يعدهم إلى من بعدهم لأنه حق يستحق بالتعصيب
فقدم الأقرب فالأقرب كالميراث وولاية النكاح، وهل يقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب؟ على
وجهين (أحدهما) يقدم كالميراث وكتقديم الأخ على ابنه (والثاني) يستويان لأن ذلك يستفاد بالتعصيب ولا أثر
لقرابة الام في التعصيب والأول أولى إن شاء الله تعالى لأن قرابة الام تؤثر في الترجيح والتقديم وقوة التعصيب
لاجتماع القرابتين على وجه لا تنفرد كل واحدة بحكم وذلك لأن القرابتين تنقسم إلى ما ينفرد كل واحدة منهما
بحكم كابن العم إذا كان أخا لام فإنه يرث بكل واحدة من القرابتين ميراثا منفردا يرث السدس بالاخوة ويرث
بالتعصب ببنوة العم، وحجب إحدى القرابتين لا يؤثر في حجب الأخرى فهذا لا يؤثر في قوة ولا
ترجيح ولذلك لا يقدم ابن العم الذي هو أخ لام على غيره، والى ما لا تنفرد كل واحدة منهما بحكم كابن
العم من أبوين من ابن عم من أب لا تنفرد إحدى القرابتين بميراث عن الآخرى فتؤثر في الترجيح وقوة
التعصيب ولذلك أثرت في التقديم في الميراث فكذلك في غيره، وبما ذكرنا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
يسوى بين القريب والبعيد ويقسم على جميعهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية المقتولة على عصبة القاتلة
ولنا انه حكم تعلق بالتعصيب فوجب ان يقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث والخبر لا حجة فيه
لأننا نقسمه على الجماعة إذا لم يف به الأقرب فنحمله على ذلك
661

(مسألة) (وان تساوى جماعة في القرب وزع القدر الذي يلزمهم بينهم)
لأنهم استووا في القرابة المقتضية للعقل عنه فتساووا في حكمه كسائر الأحكام وقد ذكرنا ذلك في
مسألة وما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر
(فصل) ولا يحمل العقل من لا يعرف نسبه من القاتل الا ان يعلم أنهم من قوم يدخلون كلهم
في العقل ومن لا يعرف ذلك منه لا يحمل وإن كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشيا لم يلزم قريشا
كلهم التحمل فإن قريشا وان كانوا كلهم يرجعون إلى أب واحد الا ان قبائلهم تفرقت وصار كل قوم
ينتسبون إلى أب يتميزون به فيقل عنهم من يشاركهم في نسبتهم إلى الأب الأدنى، الا ترى ان الناس
كلهم بنو آدم فهم راجعون إلى أب واحد لكن إن كان من فخذ يعلم أن جميعهم يتحملون وجب ان
يتحمل جميعهم سواء عرف أحدهم أو لم يعرف للعلم بأنه متحمل على أي وجه كان وان لم يثبت نسب
القاتل من أحد فالدية في بيت المال لأن المسلمين يرثونه إذا لم يكن وارث بمعنى أنه يؤخذ ميراثه لبيت
المال فلذلك يعقلونه على هذا الوجه فإن وجد له من يحمل بعض العقل فالباقي في بيت المال لذلك، فإن
قيل فهذا ينتقض بالذمي الذي لا وارث له فإن ميراثه لبيت المال ولا يعقلون عنه، قلنا إنما لم يعقلون عنه
لوجود المانع وهو اختلاف الدين ولذلك لا يعقله عصباته المسلمون
662

(مسألة) (وما تحمله العاقلة يجب مؤجلا في ثلاث سنين في كل سنة ثلثه إن كان دية كاملة)
لا خلاف بين أهل العلم في أن دية الخطأ على العاقلة حكاه ابن المنذر وانها مؤجلة في ثلاث سنين
فإن عمر وعليا رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ولا نعرف لهم في الصحابة
مخالفا واتبعهم أهل العلم على ذلك لأنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالا كالزكاة ويجب في آخر
كل حول ثلثها ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ابتداؤها من
حين حكم الحاكم لأنها مدة مختلف فيها فكان ابتداؤها من حين حكم الحاكم كمدة العنة
ولنا انه مال مؤجل فكان ابتداء اجله من حين وجوبه كالدين المؤجل والسلم ولا نسلم الخلاف
فيها فإن الخوارج لا يعتد بخلافهم
(مسألة) (وإن كان الواجب ثلث الدية وجب في رأس الحول الأول وإن كان نصفها
كدية اليد وجب في رأس الحول الأول الثلث وباقيه في رأس الحول الثاني وإن كان دية امرأة أو
كتابي فكذلك ويحتمل أن يقسم في ثلاث سنين، وإن كان أكثر من دية كما لو جنى عليه فأذهب
سمعه وبصره لم يزد في كل حول على الثلث).
وجملة ذلك أن الواجب إذا كان دية كاملة فإنها تقسم في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها سواء
كانت دية النفس أو دية الطرف كدية جدع الانف والأذنين، وإن كان دون الدية فإن نظرنا فإن
كان الثلث كدية المأمومة وجب في آخر السنة الأولى ولم يجب منه شئ حال لأن العاقلة لا تحمل
حالا وإن كان نصف الدية أو ثلثيها كدية المرأة دية المنخرين وجب الثلث في آخر السنة الأولى
663

والباقي في آخر السنة الثانية، وإن كان أكثر من دية مثل ان ذهب سمع انسان وبصره ففي كل
سنة ثلث لأن الواجب لو كان دون الدية لم ينقص في السنة عن الثلث فكذلك لا يزيد عليه إذا
زاد على الثلث، وإن كان الواجب بالجناية على اثنين وجب لكل واحد ثلث في كل سنة لأن كل واحد
له دية فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه، وإن كان الواجب دون ثلث الدية كدية الإصبع لم تحمله
العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث ويجب حالا لأنه متلف لا تحمله فكان حالا كالجناية على المال
(مسألة) (فإن كانت الدية ناقصة كدية المرأة والكتابي ففيها وجهان)
(أحدهما) تنقسم في ثلاث سنين بدل النفس فأشبهت الدية كاملة (والثاني) يجب منها في
العام الأول قدر ثلث الدية الكاملة وباقيها في العام الثاني لأن هذه تنقص عن الدية فلم تنقسم في
ثلاث سنين كأرش الطرف وهذا مذهب أبي حنيفة وللشافعي كالوجهين، فإن كانت الدية لا تبلغ
ثلث الدية الكاملة كدية المجوسي وهي ثمانمائة درهم ودية الجنين وهي خمس من الإبل لم تحمله
العاقلة لأنه ينقص عن الثلث فأشبه دية السن والموضحة الا أن يقتل الجنين مع أمه فتحمله العاقلة لأنها
جناية واحدة وتكون دية الام على الوجهين، فإن قلنا هي في عاملين كانت دية الجنين واجبة مع ثلث
دية الام في العام الأول لأنها دية أخرى ويحتمل أن يجب مع باقي دية الام في العام الثاني وان قلنا
دية الام في ثلاث سنين فهل تجب دية الجنين في ثلاثة أعوام أو لا؟ على وجهين فإذا قلنا بوجوبها في
ثلاث سنين وجبت في السنين التي وجبت فيها دية الام لأنهما ديتان لمستحقين فيجب في كل سنة
ثلث ديتها وثلث ديته، ويحتمل أن تجب في ثلاث سنين أخرى لأن تلفهما موجب جناية واحدة
664

(مسألة) (وابتداء الحول في الجرح من حين الاندمال وفي القتل من حين الموت وقال القاضي ان لم يسر الجرح إلى شئ فحوله من حين القطع)
وجملة ذلك أنه إذا كان الواجب دية نفس فابتداء حولها من حين الموت سواء كان قتلا موجبا
أو عن سراية جرح وإن كان الواجب دية جرح نظرت فإن كان عن جرح اندمل من غير
سراية مثل أن قطع يده فبرأت بعد مدة فابتداء المدة من حين القطع لأن تلك حالة الوجوب ولهذا
لو قطع يده وهو ذمي فأسلم ثم اندملت وجب نصف دية يهودي وأما إن كان الجرح ساريا مثل
أن قطع أصبعه فسرى ذلك إلى كفه ثم اندمل فابتداء المدة من حين الاندمال لأنها إذا سرت فما
استقر الأرش الا من حين الاندمال هكذا ذكره القاضي وأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب تعتبر
المدة من حين الاندمال فيهما لأن الأرش لا يستقر الا بالاندمال فيها
(مسألة) (ومن مات من العاقلة قبل الحول أو افتقر سقط ما عليه وإن مات بعد الحول لم يسقط ما عليه)
من مات من العاقلة أو افتقر أو جن قبل الحول لم يلزمه شئ لا نعلم في هذا خلافا لأنه مال
يجب في آخر الحول على سبيل المواساة فأشبه الزكاة وإن كان ذلك بعد الحول لم يسقط الواجب
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يسقط بالموت لأنه خرج عن أهلية الوجوب فأشبه ما لو مات قبل الحول
ولنا أنه حق تدخله النيابة لا يملك اسقاطه في حياته فأشبه الديون وفارق ما قبل الحول لأنه
لم يجب ولم يستمر الشرط إلى حين الوجوب فأما إن كان فقيرا عند القتل فاستغنى عند الحول
فقال القاضي يجب عليه لأنه وجد وقت الوجوب وهو من أهله ويخرج على هذا من كان صبيا
665

فبلغ أو مجنونا فأفاق عند الحول وجب عليه لذلك ويحتمل أن لا يجب لأنه لم يكن من أهل الوجوب
حالة السبب فلم يثبت الحكم فيه حالة الشرط كالكافر إذا ملك مالا ثم أسلم عند الحول لم تلزمه الزكاة فيه
(مسألة) (وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة)
لأنه لم يتحقق منه كمال القصد فتحمله العاقلة كشبه العمد ولأنه قتل لا يوجب القصاص لأجل
العذر فأشبه الخطأ وعنه في الصبي العاقل أن عمده في ماله وهو أحد قولي الشافعي لأنه عمد يجوز
تأديبه عليه فأشبه القتل من البالغ والأول أولى وما ذكروه ينتقض بشبه العمد والله سبحانه وتعالى أعلم
(باب كفارة القتل)
من قتل نفسا محرمة خطأ أو ما أجري مجرى الخطأ أو شارك فيها أو ضرب بطن امرأة فألقت
جنينا ميتا أو حيا ثم مات فعليه الكفارة
الأصل في كفارة القتل قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) الآية وأجمع أهل العلم على أن
على القاتل خطأ كفارة سواء كان المقتول ذكرا أو أنثى ويجب في قتل الصغير والكبير سواء باشره بالقتل أو
تسبب إلى قتله بسبب تضمن به النفس كحفر البئر ونصب السكين وشهادة الزور وبهذا قال مالك والشافعي
وقال أبو حنيفة لا تجب بالتسبب لأنه ليس بقتل ولأنه ضمن بدله بغير مباشرة القتل فلم تلزمه الكفارة كالعاقلة
ولنا انه كالمباشرة في الضمان فكان كالمباشرة في الكفارة ولأنه سبب لاتلاف الآدمي
يتعلق به ضمان فتعلقت به الكفارة كما لو كان راكبا فأوطأ دابته انسانا وقياسهم ينتقض بالأب
إذا أكره انسانا على قتل ابنه فإن الكفارة تجب عليه من غير مباشرة وفارق العاقلة فإنها تحمل
من غيرها ولم يصدر منها قتل ولا تسبب إليه وقولهم ليس بقتل ممنوع قال القاضي ويلزم الشهود
الكفارة سواء قالوا أخطأنا أو تعمدنا وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل
حال ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد لأنه وان قصد القتل فهو جار مجرى الخطأ في أنه لا يجب به القصاص
666

(مسألة) (ومن شارك في قتل يوجب الكفارة لزمته كفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وعكرمة والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي
وعن أحمد ان على المشتركين كفارة واحدة حكاها أبو الخطاب وهو قول أبي ثور وحكي عن الأوزاعي
وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي وأنكره سائر أصحابه واحتج لمن أوجب كفارة واحدة بقوله
تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ومن تتناول الواحد والجماعة ولم يوجب إلا كفارة
واحدة ودية، والدية لا تتعدد فكذلك الكفارة وإنها كفارة قتل فلم تتعدد بتعدد القاتلين إذا كان
المقتول واحد ككفارة الصيد الحرمي
ولنا أنها لا تتبعض وهي من موجب قتل الادمي فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص
وتخالف كفارة الصيد فإنها تجب بدلا ولهذا تجب في ابعاضه فكذلك الدية
(مسألة) (ولو ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا أو حيا ثم مات فعليه الكفارة)
تجب الكفارة بالقاء الجنين الميت إذا كان من ضرب بطنها وبه قال الحسن وعطاء والزهري والنخعي
والحكم ومالك والشافعي وإسحاق وقال أبو حنيفة لا تجب وقد مضت هذه المسألة في دية الجنين
(مسألة) (مسلما كان المقتول أو كافرا حرا أو عبدا)
تجب الكفارة بقتل الكافر المضمون سواء كان ذميا أو مستأمنا وبهذا قال أكثر أهل العلم وقال
الحسن ومالك لا كفارة فيه لقول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ) فمفهومه أنه لا كفارة في غير
667

ولنا قوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة)
والذمي له ميثاق وهذا منطوق يقدم على دليل الخطاب ولأنه آدمي مقتول ظلما فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم
(مسألة) (وتجب الكفارة بقتل العبد)
وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا تجب لأنه مضمون بالقيمة أشبه البهيمة
ولنا عموم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه يجب القصاص بقتله
فتجب الكفارة به كالحر ولأنه مؤمن فأشبه الحر ويفارق البهائم بذلك
(مسألة) (وسواء كان القاتل كبيرا عاقلا أو صبيا أو مجنونا حرا أو عبدا)
إذا كان القاتل صبيا أو مجنونا وجبت الكفارة في أموالهما وكذلك الكافر تجب عليه الكفارة
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا كفارة على واحد منهم لأنها عبادة محضة تجب بالشرع فلا
تجب على الصبي والمجنون والكافر كالصوم والصلاة وقياسا على كفارة اليمين
ولنا انه حق مالي يتعلق بالقتل فتعلقت بهم كالدية ويفارق الصوم والصلاة فإنهما عبادتان بدنيتان
وهذه مالية اشبهت نفقة الأقارب وأما كفارة اليمين فلا تجب على الصبي والمجنون لأنها تتعلق بالقول
ولا قول لهما وهذه تتعلق بالفعل وفعلهما متحقق قد أوجب الضمان عليهما ويتعلق بالفعل مالا يتعلق بالقول
بدليل ان العتق يتعلق باحبالهما دون اعتاقهما بقولهما وأما الكافر فتجب عليه وتكون عقوبة له كالحدود
والحر والعبد سواء لدخولهما في عموم الآية
(مسألة) (ويكفر العبد بالصيام لأنه) لا مال له وقد ذكرنا كفارة العبد فيما مضى
(فصل) ومن قتل في دار الحرب مسلما يعتقده كافرا أو رمى إلى صف الكفار فأصاب فيهم مسلما
فقتله فعليه كفارة لقوله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة)
668

(مسألة) (فاما القتل المباح كالقصاص والحد وقتل الباغي والصائل فلا كفارة فيه)
وجملة ذلك أن كل قتل مباح لا كفارة فيه كقتل الحربي والباغي والزاني المحض والقتل قصاصا
وحدا لأنه قتل مأمور به والكفارة لا تجب لمحو المأمور به واما الخطأ فلا يوصف بتحريم ولا
إباحة لأنه كقتل المجنون والبهيمة لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة فلذلك وجبت الكفارة فيها
وقال قوم الخطأ محرم لا اثم فيه وقيل ليس بمحرم لأن المحرم ما اثم فاعله. وقوله تعالى (وما كان لمؤمن
ان يقتل مؤمنا إلا خطأ) هذا استثناء منقطع وإلا في موضع لكن والتقدير لكن قد يقتله خطأ
وقيل الا بمعنى ولا أي ولا خطأ وهذا يبعد لأن الخطأ لا يتوجه إليه النهي لعدم امكان التحرز منه
وكونه لا يدخل تحت الوسع ولأنها لو كانت بمعنى ولا لكانت عاطفة للخطأ على ما قبله وليس قبله
ما يصلح عطفه عليه فاما قتل نساء أهل الحرب وصبيانهم فلا كفارة فيه لأنهم ليس لهم ايمان ولا أمان
وإنما منع من قتلهم لانتفاع المسلمين بهم لكونهم يصيرون بالسبي رقيقا ينتفع بهم وكذلك قتل من لم
تبلغه الدعوة لا كفارة فيه لذلك ولذلك لم يضمنوا بشئ فأشبهوا من قتله مباح
(فصل) ومن قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجب
لأن ضمان نفسه لا يجب فلم تجب الكفارة به كقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم ووجه الأول عموم
قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه آدمي مؤمن مقتول خطأ فوجبت الكفارة
على قاتله كما لو قتله غيره قال شيخنا وقول أبي حنيفة أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى فإن عامر بن
الأكوع قتل نفسه خطأ فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بكفارة فاما قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ) فإنما
669

أريد بها إذا قتل غيره بدليل قوله (ودية مسلمة إلى أهله) وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع
(مسألة) (وفي العمد وشبهه روايتان (إحداهما) لا كفارة فيه اختارها أبو بكر والقاضي
والأخرى فيه الكفارة)
المشهور في المذهب أنه لا كفارة في قتل العمد وبه قال مالك والثوري ومالك وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب
الرأي وعن أحمد رواية أخرى تجب فيه الكفاة وحكي ذلك عن الزهري وهو قول الشافعي لما روى واثلة بن
الأسقع قال اتينا النبي صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال " أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل
عضو منها عضوا منه من النار " ولأنها إذا وجبت في قتل الخطأ ففي العمد أولى لأنه أعظم جرما وحاجته
إلى تكفير ذنبه أعظم
ولنا مفهوم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ثم ذكر قتل العمد فلم يوجب
فيه كفارة وجعل جزاءه جهنم فمفهومه أنه لا كفارة فيه وروي ان سويد بن الصامت قتل رجلا فأوجب
النبي صلى الله عليه وسلم القود ولم يوجب كفارة وعمرو بن أمية الضمري قتل رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فوداهما
النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بكفارة ولأنه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كزنا المحصن وحديث واثلة
يحتمل أنه كان خطأ وسماه موجبا أي فوت النفس بالقتل ويحتمل أنه كان شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم
بالاعتاق تبرعا ولذلك أمر غير القاتل بالاعتاق وما ذكروه من المعنى لا يصح لأنها وجبت في الخطأ
لتمحو إثمه لكونه لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك ايجابها في موضع عظم الاثم فيه بحيث لا يرتفع بها.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص وما لا قصاص فيه كقتل الوالد ولده والسيد عبده
والحر العبد والمسلم الكافر لأن هذا من أنواع العمد
670

(فصل) فاما شبه العمد فقال شيخنا تجب فيه الكفارة ولم أعلم لأصحابنا فيه قولا لكن مقتضى
الدليل ما ذكرناه لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين
فجرى مجراه في وجوب الكفارة ولان القاتل إنما لم يحمل شيئا من الدية لتحمله الكفارة فلو لم تجب
عليه الكفارة لحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب شئ أصلا ولم يرد الشرع بهذا وقد ذكر
في الكتاب المشروح رواية أنه كالعمد لأن ديته مغلظة وهي اختيار أبي بكر لأن عنده ان الدية
فيه يحملها القاتل فقد أشبه العمد في ذلك فكان حكمه حكمه
(فصل) وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة بنص القرآن سواء كان القاتل أو المقتول مسلما أو كافرا
فإن لم يجدها في ملكه فاضلة عن حاجته أو يجد ثمنها فاضلا عن كفايته فصيام شهرين متتابعين توبة
من الله وهذا ثابت بالنص أيضا فإن لم يستطع ففيه روايتان (إحداهما) يثبت الصيام في ذمته ولا يجب
شئ آخر لأن الله تعالى لم يذكره ولو وجب لذكره (والثانية) يجب إطعام ستين مسكينا عند العجز
عن الصوم ككفارة الظهار والفطر في رمضان وان لم يكن مذكورا في نص القرآن فقد ذكر في
نظيره فيقاس عليه فعلى هذه الرواية ان عجز عن الاطعام ثبت في ذمته حتى يقدر عليه وللشافعي في
هذا قولان كالروايتين والله أعلم
(تم بحمد الله وعونه الجزء التاسع..)
671