الكتاب: سبل السلام
المؤلف: محمد بن اسماعيل الكحلاني
الجزء: ٣
الوفاة: ١١٨٢
المجموعة: مصادر فقهية مستقلة
تحقيق: مراجعة وتعليق : الشيخ محمد عبد العزيز الخولي
الطبعة: الرابعة
سنة الطبع: ١٣٧٩ - ١٩٦٠ م
المطبعة:
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - محمود نصار الحلبي وشركاه - خلفاء
ردمك:
ملاحظات: سبل السلام تأليف السيد محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير/ شرح بلوغ المرام،من جمع أدلة الأحكام لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني العسقلاني القاهري/ويليه متن نخبة الفكر،في مصطلح أهل الأثر/مع تعليقات مختارة للإمام ابن حجر

سبل السلام
تأليف
السيد الإمام محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير
(1059 م - 1182 ه‍)
شرح بلوع المرام، من جمع الاحكام
للحافظ شهاب الدين أبى الفضل
أحمد بن علي بن حجر الكناني العسقلاني القاهري
(773 - 852 ه‍)
ويليه
متن نخبة الفكر، في مصطلح أهل الأثر
مع تعليقات مختارة للإمام ابن حجر
الجزء الثالث
ملت زم الطبع والنشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصره
محمود نصار الجلبي وشركاه خلفاء
1

راجعه وعلق عليه المرسوم الشيخ
محمد عبد العزيز الخولي
الأستاذ بدار العلوم بالقاهرة
الطبعة الرابعة
2

نصر الله أمرا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها
حديث شريف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحل لعبادة البيع والشراء، وحرم عليهم المكاسب الخبيثة والربا، والصلاة
والسلام على من عرف الأمة الاحكام، وأبان لها مناهج الحلال والحرام، وعلى آله الذين
شروا غرف دار السلام بطاعة مولا هم في كل مرام.
وبعد: فقد أعان الله وله الحمد على إتمام الجزء الأول من شرح بلوغ المرام، وها
نحن آخذون في شرح الجزء الثاني، ونسأل من الله الإعانة على التمام. قال المصنف رحمه
الله تعالى:
كتاب البيوع
اعلم أن الحكمة في شرعية البيع كما قاله المصنف في فتح الباري أن حاجة الانسان تتعلق
بما في يد صاحبه غالبا وصاحبه قد لا يبذله، ففي شرعية البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير
حرج انتهى. وإنما جعه دلالة على اختلاف أنواعه وهي ثمانية 2، ولفظه البيع الشراء
يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الآخر فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة.
وحقيقة البيع لغة: تمليك مال بمال، وزاد الشرع قيد التراضي. وقيل هو إيجاب وقبول
في مالين فيهما معنى التبرع المعاطاة. وقيل مبادلة مال بمال لا على وجه التبرع
فتدخل فيه المعاطاة. والدليل على اشتراط الايجاب والقبول أنه تعالى قال تجارة عن تراض
3

وأخرج ابن حبان وبن ماجة عنه صلى الله عليه وسلم (إنما البيع عن تراض) ولما كان
الرضا أمرا خفيا لا يطلع عليه وجب تعلق الحكم بسبب ظاهر يدل عليه وهر الصيغة ولابد أن
يكون على صيغة الجزم لفظها لتم معرفة الرضا، وقد استثنى المحقر من ذلك لجرى عادة
المسلمين فيه بالدخول من غير لفظ وهذا عند الجماهير من علماء الأمة، وذهبت الشافعية
إلى أنه لا بد من اللفظين كغيره، وقد اختار النووي وأكثر المتأخرين من الشافعية عد اشتراط
العقد في المحقر. والمحقر ما دون ربع المثقال، وقيل التافه من البقول والرطب والخبر، وقيل
ما دون نصاب الرقة والأشبه اتباع العرف. ثم الحق أنه لم يتم دليل على اشتراط الايجاب والقبول
بل حقيقة البيع المبادلة الصادرة عن تراض كما أفادت الآية والحديث، نعم الرضا أمر خفى يناط
بقرائن منها الايجاب والقبول، ولا ينحصر فيهما بل متى انسلخت النفس عن المبيع والثمن
بأي لفظ كان. وعلى هذا معاملات الناس قديما وحديثا إلا عن عرف المذاهب وخاف نقض
الحاكم للبيع لاحظ الايجاب والقبول.
باب شروطه وما نهى عنه
يعنى بالشروط البيع. والشرط في عرف الفقهاء ما يلزم من عدمه عدم حكم أو
سبب سواء علق بكلمة شرط أولا. وله في عرف النحاة معنى آخر. وقد جعلوا شروط
البيع أنواعا: منها في العاقد، وهو أن يكون عاقلا مميزا. ومنها في الآلة، وهو أن يكون بلفظ
الماضي. ومنها في الحمل، وهو أن يكون مالا متقوما وأن يكون مقدور التسليم. ومنها التراضي
ومنها شرط النفاذ، وهو الملك أو الولاية، وقوله (وما نهى عنه) أي من البيوع وستأتي الأحاديث
في الذي نهى عن بيعه.
1 - (عن رفاعة بن برافع) هو زرقي أنصاري شهد بدرا، وأبو رافع أحد النقباء
الاثني عشر، وكان أول من قدم المدينة بسورة يوسف. وشهد رفاعة المشاهدة كلها، وشهد
مع علي الجمل وصفين. وتوفى أول زمن معاوية (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الكسب
أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده) ومثله المرأة (وكل بيع مبرور) هو ما خلص
عن اليمين الفاجرة لتنفيق السلعة وعن الغش في المعاملة (رواه البزار وصححه الحاكم) ورواه
المصنف في التخليص عن رافع بن خديج ومثله في المشكاة عزاه لأحمد، وأخرجه السيوطي
في الجامع أيضا عن رافع ذكره في مسنده قيل ويحتمل أنه أريد برفاعة رفاعة بن رافع
ابن خديج، فقد رواه الطبراني عن عباية بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده، وعباية
ابن خديج، بن رافع بن خديج فيكون سقط من لمصنف قوله عن أبيه. والحديث دليل
على تقرير ما جبلت عليه الطبائع من كسب المكاسب، إنما سئل صلى الله عليه وسلم عن
أطيبها: أي أحلها وأبركها. وتقديم عمل اليد على البيع المبرور دال على أنه الأفضل، ويدل
له حديث البخاري الآتي، ودل على أطيبية التجارة الموصوفة. وللعلماء خلاف في أفضل
4

المكاسب قال الماوردي. أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة. قال: والأشبه بمذهب
الشافعي أن أطيبها التجارة. قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة لأنها أقرب إلى التوكل.
وتعقب بما أخرجه البخاري من حديث المقدام مرفوعا (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من
أن يأكل من عمل يده، وإن الله داود كان يأكل من عمل يده قال النووي:
إن أطيب المكاسب ما كان بعمل اليد، وإن كان زراعة فهو أطيب المكاسب لما يشتمل
عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه التوكل، ولما فيه من النفع، العام للآدمي والدواب والطير،
قال الحافظ ابن حجر: وفوق ذلك ما يكسب من أموال الكفار بالجهاد وهو مكسب النبي
صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى انتهى. قيل
وهو داخل في كسب اليد.
2 - (وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
عام الفتح) كان الفتح في رمضان سنة ثمان من الهجرة (وهو بمكة: إن الله ورسوله
حرم) وقع في رواية الصحيحين هكذا بافراد الضمير، وفي بعض الطرق (إن الله حرم)
وفى رواية في غيرهما (إن الله ورسوله حرما) وتقدم وجه الكلام على الضميرين في باب الآنية
(بيع الخمر والميتة) بفتح الميم: ما زالت عنه الحياة لا بذكاة شرعية (والخنزير
والأصنام) قال الجوهري: هو الوثن، وقال غيره: الوثن ماله جثة، والضم ما كان
مصورا (فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود
ويستصبح بها الناس؟ قال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند
ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه) بفتح الجيم والميم:
أي أذابوه (ثم باعوه فأكلوا ثمنه. متفق عليه) في الحديث دليل على تحريم ما ذكر،
قيل والعلة في تحريم بيع الثلاثة الأولى هي النجاسة ولكن الأدلة على نجاسة الخمر غير ناهضة
وكذا نجاسة الميتة والخنزير، فمن جعل العلة النجاسة عدى الحكم إلى تحريم بيع كل نجس
وقال جماعة يجوز بيع الأزبال النجسة، وقيل يجوز ذلك للمشترى دون البائع لاحتياج
المشترى دونه وهي علة عليلة، وهذا كله عند من جعل العلة النجاسة، والأظهر أنه لا ينهض
دليل على التعليل ذلك بل العلة التحريم، كله عند من العلة التحريم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم لما حرمت عليهم
الشحوم فجعل العلة نفس التحريم ولم يدكر علة. هذا، ولا يدخل في الميتة شعرها وصوفها
ووبرها لأنها لا تحلها الحياة ولا يصدق عليها اسم الميتة، وقيل إن الشعور، متنجسة وتطهر
بالغسل، وجواز بيعها مذهب الجمهور، وقيل إلا الثلاثة التي هي نجسة الذات. وأما
علة تحريم بيع الأصنام فقيل لأنها لا منفعة فيها مباحة، وقيل إن كانت بحيث إذا كسرت تنفع
بأكسارها 2 جاز بيعها، والأولى أن يقال: لا يجوز بيعها وهي بيعها وهي أصنام للنهي، ويجوز بيع
كسرها إذ هي ليست بأصنام، ولا وجه لمنع بيع الاكسار أصلا. ولما أطلق صلى الله على
5

وسلم تحريم بيع الميتة جوز السامع أنه قد يخص من العام بعض ما يصد عليه فقال
السائل: أرأيت شحوم الميتة؟ وذكر لها ثلاث منافع: أي أخبرني عن الشحوم هل تخص
من التحريم لنفعها أم لا؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم أنه حرام، فأبان له أنها غير خارجه
عن الحكم والضمير في قوله هو حرام يحتمل أن للبيع: أي بيع الشحوم حرام، وهذا هو الأظهر
لان الكلام مسوق له ولأنه قد أخرج الحديث أحمد، وفيه (فما ترى في بيع شحوم الميتة)
الحديث: ويحتمل أنه للانتفاع المدلول عليه بقوله (فإنها تطلى بها السفين) إلى آخره، وحمله
الأكثر عليه فقالوا: لا ينتفع من الميتة بشئ إلا بجلدها إذا دبغ لدليله الذي مضى في أول الكتاب،
فهو بخص هذا العموم وهو مبنى على عود الضمير إلى الانتفاع. من قال الضمير يعود إلى
البيع استدل بالاجماع على جواز إطعام الميتة الكلاب ولو كانت الكلاب ولو كانت كلاب الصيد لمن ينتفع
بها، وقد عرفت أن الأقرب عود الضمير إلى البيع فيجوز الانتفاع بالنجس مطلقا ويحرم
بيعه لما عرفت، وقد يزيده قوة قوله في ذم اليهود (إنهم جملوا الشحم ثم باعوه وأكلوا ثمنه)
فإنه ظاهر في توجه النهى إلى البيع الذي ترتب عليه أكل الثمن، وإذا كان التحريم للبيع
جاز الانتفاع بشحوم الميتة والادهان المتنجسة في كل شئ وجاز إطعام شحوم الميتة الكلاب وإطعام
العسل المتنجس النحل وإطعامه الدواب وجوز جميع ذلك مذهب الشافعي، ونقله القاضي
عياض عن مالك وأكثر أصحابه وأبي حنيفة أصحاب والليث، ويؤيد جواز الانتفاع ما رواه
الطحاوي (أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في صمن فقال: إن كان جامدا
فألقوها وما حولها، إن كان مانعا فاستصبحوا به أو انتفعوا به) قال الطحاوي: إن رجاله
ثقاب، وروى ذل عن جماعة من الصحابة منهم علي رضي الله عنه وابن عمر أبو موسى
ومن التابعين القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وهذا هو الواضح دليلا. وأما التفرقة بين
الاستهلاكات وغيرها فلا دليل لها بل هو رأى محض، وأما المتنجس فإن كان يمكن تطهيره
فلا كلام في جواز بيعه، وأن لا يمكن فيحرم بيعه قالته الهادوية وابن حنبل. وفى الحديث
دليل على أنه إذا حرم بيع شئ حرم ثمنه، كل حيلة يتوصل بها إلى تحليل محرم
فهي باطلة.
3 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول:
إذا اختلف المتبايعان) في رواية البيعان) وليس بينهما بينة فالقول ما يقول
رب السلعة أو يتتاركان) وفي رواية يترادان) زاد ابن ماجة في رواية والمبيع قائم
بعينه ولأحمد " والسعلة كما " هي وأما رواية والمبيع مستهلك فهي مضعفة (رواه الخمسة
وصححه الحاكم) وللعلماء كلام كثير على صحة الحديث 1، وهو دليل على أنه إذا وقع
6

اختلاف بين البائع والمشترى في الثمن أو المبيع أو في شرط من شروطهما، فالقول قول البائع
مع يمينه لما عرف من القواعد الشرعية أن من كان القول قوله فعلية اليمين. وللعلماء في هذا
الحكم الذي أفاده الحديث ثلاثة أقوال: الأول للهادي أن القول قول البائع مطلقا وهو ظاهر
حديث الباب. الثاني للفقهاء أنهما يتحالفان ويترادان المبيع. والثالث فيه تفصيل، وفرق بين
الاختلاف في النوع أو الجنس أو الصفة وبين غيرها، وهو تفصيل بلا دليل مستوفى في كتب
الفروع ونقله في الشرح، ويعنى بالتحالف أن يحلف البائع ما بعت منك كذا، ويحلف
المشترى ما اشتريت منك كذا، وقيل غير ذلك. والوجه في التحالف، أو كل واحد مدعى
عليه، فيجب على كل واحد منهما اليمين لنفى ما ادعى عليه وهذا مفهوم من قوله صلى الله
عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على المنكر).
والحاصل أن هذا حديث مطلق مقيد بأدلة الدعاوي وسيأتي.
4 - (وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
ثمن الكب ومهر البغي) بفتح الموحدة وكسر الغبن المعجمة وتشديد المثناة التحتية: أريد
بها الزائية (وحلوان) بضم الحاء المهملة (الكاهن. متفق عليه) والأصل في النهى التحريم
والصحابي قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم نهى: أي أتى بعبارة تفيد النهى وإن لم يذكرها
وهو دال على تحريم ثلاثة أشياء: الأول تحريم ثمن الكلب بالنص، ويدل على تحريم بيعه
باللزوم وهو عام الكل كلب من معلم وغيره وما يجوز اقتناؤه وما لا يجوز: وعن عطا،
والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد لحديث جابر (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
ثمن الكلب إلا كلب الصيد) أخرجه النسائي برجال ثقاب إلا أنه طعن في صحته، فان صح
خصص عموم النهى. والثاني تحرم مهر البغي وهو ما تأخذه الزانية في مقابل الزنا، سماه
مهر مجازا فهذا ما حرام، وللفقهاء تفاصيل في حكمه تعود إلى كيفية أخذه، والذي اختاره
ابن القيم أنه في جميع كيفياته يجب التصدق به، ول يرد إلى الدافع لأنه دفعه باختياره في مقابل
عوض لا يمكن صاحب العوض استرجاعه فهو كسب خبيث يجب التصديق به ولا يعان
صاحب المعصية بحصول غرضه ورجوع ماله. والثالث حلوان الكاهن، وهو مصدر حلوته
حلوانا إذا أعطيته وأصله من الحلاوة، شبه بالشئ الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلا بللا كلفة.
وأجمع العلماء على تحريم حلوان الكاهن، والكاهن، والكاهن الذي يدعى علم الغيب ويخير الناس عن
الكوائن وهو شامل لكل من يدعى ذلك من منجم وضراب بالحصباء ونحو ذلك، فكل
هؤلاء داخل تحت حكم الحديث، ولا يحل له ما يعطاه ولا يحل لاحد تصديقه فيما يتعاطاه، 5 - (وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان على جمل له قد أعيان) أي كل
عن السير (فأراد أن يسيبه قال: فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار
7

سيرا لم ير مثله، فقال: بعنيه بأوقية، قلت لا، ثم قال: بعنيه، فبعته بأوقية
واشترطت حملانه) بضم الحاء المهملة: أي الحمل عليه (إلى أهلي، فلما بلغت أتية بالجمل
فنقدني ثمنه ثم رجعت، فأرسل في أثرى فقال: أتراني) بضم الثناة الفوقية: أي تظنني
(ما كستك) المماكسة: المكالمة في النقص عن الثمن (لآخذ جملك خذ جملك
ودراهمك فهو لك. متفق عليه، وهذا السياق المسلم) فيه دليل على أنه لا بأس بطلبه
البيع من الرجل لسلعته ولا بالمماكسة، وأنه يصح البيع للدابة واستثناء ركوبها، ولكن
عارضه حديث النهى عن بيع الثنيا وسيأتي وعن بيع وشرط، ولما تعارضتا اختلف العلماء
في ذلك على أقوال: الأول لأحمد أنه يصح ذلك، وحديث بيع الثنيا فيه (إلا أن يعلم ذلك)
وهذا منه فقد علمت الثنيا فصلح البيع، وحديث النهى عن بيع وشرط فيه مقال مع احتمال
وحمل حديث جابر على هذا. الثالث أن لا يجوز مطلقا، وحديث جابر مؤول بأنه قصة عين
موقوفة يتطرق إليها الاحتمالات، قالوا ولأنه صلى الله عليه وسلم أراد. ن يعطيه الثمن ولم يرد
حقيقة البيع، قالوا ويحتمل أن الشرط ليس في نفس العقد فلعله كان سابقا فلم يؤثر، ثم
تبرع صلى الله عليه وسلم باركابه. وأظهر الأقوال الأول وهو صحة مثل هذا الشرط، وكل
شرط يصح إفراده بالعقد كايصال المبيع إلى المنزل وخياطة الثوب وسكنى الدار. وقد روى
عن عثمان أنه باع دار واستثنى سكناها شهرا. ذكره الشفاء.
6 - (وعنه) أي عن جابر (قال: أعتق رجل منا) أي من الأنصار (عبدا له عن
دبر) بضم الدال المهملة وضم الموحدة أيضا (ولم يكن له مال غيره، فدعا به النبي صلى الله
عليه وسلم فباعه. متفق عليه) وأخرجه أبو داود والنسائي عن جابر أيضا وسميا فيه العبد والرجل
ولفظه عن جابر (أن رجلا من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غلاما له يقال له
أبو يعقوب عن دبر لم يكن له مال غيره، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم بقال: من
يشتريه؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بن النحام بثمانمائة درهم فدفعها إليه) زاد الإسماعيلي وعليه
دين وقد ترجم له البخاري في باب الاستقراض فقال (من باع مال الغرماء وقسمه بين
الغرماء أو أعطاه إياه حتى ينفقه على نفسه) فأشار إلى علة بيعه وهو الاختيار إلى ثمنه
واستدل به بعضهم على منع المفلس عن التصرف في ماله، وعلى أن للامام أن يبيع عنه،
وسيأتي بقية أبحاثه في بابه إن شاء الله تعالى.
7 - (وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن فأرة وقعت في سمن فماتت فيه،
فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألقوها وما حولها وكلوه. ورآه البخاري، وزاد
أحمد النسائي: في سمن جامد) دل أمره صلى الله عليه وسلم بالقاء ما حولها، وهو ما لامسته
من السمن على نجاسة الميتة، لان المراد بما حولها ما لاقاها، قال المصنف في فتح الباري
لم يأت في طريق صحيحة تحديد ما يلقى لكن أخرج ابن أبي شبية من مرسل عطاء أن يكون
8

قد الكف وسنده جيد لولا إرساله. ودل مفهوم قوله (جامدا) أن لو كان مائعا تنجس
كله لعدم تميز ما لاقاها مما لم يلاقها. ودل أيضا على أنه لا ينتفع بالدهن المتنجس في شئ من
الانتفاعات، إلا أنه تقدم الكلام في ذلك وأنه يباح لانتفاع به غير الأكل ودهن الآدمي
فيحمل هذا وما يأتي من قوله فلا تقربوه على الأكل والدهن للآدمي جمعا بين مقتضى الأدلة،
نعم وأما مباشرة النجاسة فهو وإن كان غيره جائز إلا لازالتها عما وجب أو ندب إزالتها عن فإنه
لا خلاف في جوازه لأنه لدفع مفسدتها، وبقي الكلام في مباشرتها لتسجير التنور وإصلاح
الأرض بها، فقيل هو طلب مصلحتها وأنه يقاس جواز المباشرة له على المباشرة لإزالة مفسدتها،
والأقرب أنها تدخل إزالة مفسدتها، تحت جلب مصلحتها، فتسجير التنور بها يدخل فيه
الامر أن إزالة مفسدة بقاء عينها وجلب المصلحة لنفعها في التسخير، وحينئذ فجواز المباشرة
للانتفاع لا إشكال فيه.
8 - (وعن هريرة رضى الله عن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا
وقعت الفارة في السمن فإن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا
فلا تقربوه. رواه أحمد وأبو داود، وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم) وذلك لأنه
قال الترمذي: سمعت البخاري يقول: هو خطأ والصواب الزهري عن عبد الله عن ابن عباس
رضي الله عنهما عن ميمونة رضي الله عنها، فرأى البخاري أن ثابت عن ميمونة، فحكم
بالوهم على الطريق المروية عن أبي هريرة، وجزم ابن حبان في صحيحة بأنه ثابت من الوجهين.
واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو لتصحيح اللفظ الوارد، وأما الحكم فهو ثابت وأن طرحها
وما حولها والانتفاع بالباقي لا يكون إلا في الجامد وهو ثابت أيضا في صحيح البخاري بلفظ
خذوها وما حولها وكلوا سمنكم) ويفهم منه أن الذائب يلقى جميعه، إذ العلة مباشرة الميتة
ولا اختصاص في الذائب بالمباشرة، وتميز البعض عن البعض، وظاهر الحديث أنه لا يقرب
السمن المائع ولو كان في غاية الكثرة، وقد تقدم وجه الجمع بينه وبين حديث الطحاوي
قال الامام يحيى وقواه المهدى، وقال: إذ لم عن السلف منعها انهى. قلت: بل واجب
قال الامام يحيى وقواه المهدى وقال: إذ لم يعهد عن السلف منعها انتهى قلت. بل واجب
إن لم يطعمه غيرها كما يدل له حديث (إن امرأة دخلت النار في هرة) وعلله بأنها لم تطعمها
ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض) وفى خشاش الأرض ما هو محرم على المكلف وغيره.
فالحديث دل على أن أحد الامرين إطعامها أو تركها تأكل من خشاش الأرض واجب
وبسبب تركه عذبت المرأة. وخشاش الأرض بالخاء المعجمة المفتوحة فشين معجمة: هي
هوام الأرض وحشراتها كما في النهاية:
9 - (وعن أبي الزبير) هو أبو الزبير محمد بن مسلم المكي تابعي، روى عن جابر
ابن عبد الله كثيرا (قال: سألت جابرا عن ثمن السنور) بكسر المهملة وتشديد النون: هو
الهر والنسائي، وزاد: إلا كلب صيد) وأخرج مسلم هذا من حديث جابر ورافع بن خديج
وزاد النسائي في رواية استثناء الصيد ثم قال: هذا منكر قال المصنف في التخليص
9

إنه ورد الاستثناء من حديث جابر ورجاله ثقاب انهى: ورواية جابر هذه رواها أحمد
والنسائي وفيها استثناء الكلب المعلم، إلا أنه قال المناوي في شرح الجامع الصغير متعقبا
لقول لمصنف: إن رجالها ثقاب بأنه قال ابن الجوزي فيه الحسين بن أبي حفصة: قال
يحيى: ليس بشئ وضعفه أحمد. وقال ابن حبان: هذا الخبر بهذا اللفظ باطل لا أصل له،
نعم الثابت جواز افتاء الكلب للصيد من غير نقص من عمل من اقتناه، لقوله صلى الله عليه
وسلم من اقتنى كلبا إلا كلب صد نقص من أجره كل يوم قيراطان) قيل قيراط من عمل
الليل وقيراط من عمل النهار، وقيل من الفرض والنفل. هذا، والنهى عن ثمن الكلب متفق
عليه من حديث ابن مسعود، وانفرد مسلم برواية النهى عن ثمن السنور، وأصل النهى التحريم.
والجمهور على تحريم بيع الكلب مطلقا واختلفوا في السنور، وقد ذهب إلى تحريم بيع السنور
أبو هريرة وطاوس ومجاهد، وذهب الجمهور إلى جواز بيعه إذا كان له نفع، وحملوا النهى
على التنزيه، وهو خلاف ظاهر الحديث، والقول بأنه حديث ضعيف مردود أيضا بأنه
أخرجه مسلم عن معقل بن عبد الله عن أبي الزبير،
فهذان ثقتان رويا عن أبي الزبير،
وهو ثقته أيضا.
10 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة) بفتح الباء الموحدة ورائين
بينهما مثناة تحتية، مولاة لعائشة (فقالت: إني كاتبت) من المكاتبة، وهي العقد بين
السيد وعبده (أهلي) هم ناس من الأنصار كما هو عند النسائي (على تسع أواق في كل عام
أوقية فأعينيني) بصيغة الامر للمؤنث بريرة إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عند هم
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن
يكون لهم الولاء فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم) قال الشافعي والمزني يعنى اشترطي عليهم فاللام بمعنى
على (الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم
في الناس الله تعالى، ما كان من شرط ليس في كتاب الله) أي في شرعة الذي كتبة على
العباد، وحكمه أعم من ثبوته بالقرآن أو السنة (فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله
أحق) بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الله (وشرط الله أوثق وإنما الولاء، لمن
أعتق. متفق عليه والفظ للبخاري، وعند مسلم: قال اشتريها وأعتقيها واشترطي
لهم الولاء) الحديث دليل على مشروعية الكتابة وهي عقد بين السيد وعبده على رقبته
10

وهي مشتقة من الكتب وهو الفرض والحكم كما في قوله - كتب عليكم الصيام عليك الصيام - وهي مندوبة.
وقال عطاء وداود. واجبة إذا طلبها العبد بقدر قيمته لظاهر الامر في - فكاتبوهم - وهو
الأصل في الامر. قلت: إلا أنه تعالى قيد الوجوب بقوله - إن علمتم فيهم خيرا - نعم بعد علم
الخبر فيهم الكتابة. وفى تفسير الخير أقوال للسلف: الأول ما جاء في حديث مرسل
ومرفوع عند أبي داود أنه قال صلى الله عليه وسلم إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلا
على الناس. الثاني لابن عباس قال خيرا المال. الثالث عنه أمانة ووفاء. الرابع عنه إن
علمت أن مكاتبك يقضيك، وقولها (في كل عام أوقية)، وفى تقريره صلى الله عليه
وسلم لذلك دليل على جواز التنجم لا على تحتمه وشرطيته كما ذهب إليه الشافعي والهادي
وغير هما. وقالوا التنجيم في الكتابة شرط وأقله نجمان. واستدلوا بروايات عن السلف لا تنهض
دليلا. وذهب الجمهور وأحمد ومالك إلى جواز عقد الكتابة على نجم لقوله - فكاتبوهم - ولم
يفصل وهو ظاهر، والقول بأنه قيد إطلاقها الآثار عن السلف غير صحيح، إذ ليس باجماع
وتقييد الآيات بآراء العلماء باطل، ودل قوله صلى الله عليه وسلم (خذيها) على جواز
بيع المكاتب عند تعسر الايفاء بمال الكتابة. وللعلماء في جواز بيع المكاتب ثلاثة أقوال:
الأول جوازه وهو مذهب أحمد ومالك وحجتهم صلى الله عليه وسلم (المكاتب) رق ما بقي
عليه درهم) أخرجه أبو داود وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والثاني
أنه يجوز بيعه برضاه إلى من يعتقه محتجين يظاهر حديث بريرة. والقول الثالث أنه لا يجوز
بيعه مطلقا وهو لأبي حنيفة وجماعة، قالوا لأنه خرج عن ملك السيد، وتأولوا الحديث بأن
قالوا: إن بريرة عجزت نفسها وفسخوا عقد كتابها، والقول الأول أظهر، لان التقييد بالواقع
في قصة بريرة ليس فيه دليل على أنه شرط وإنما كان الواقع كذلك فمن أين أنه شرط. وأما
القول بأن بيعه يوجب سقوط حق الله، فجوابه أنه حق الله تعالى ما ثبت، فإنه لا يثبت إلا
بالايفاء والفرض أنه عجز المكاتب عنه، وقوله (واشترطي لهم الولاء) إن جعلت اللام بمعنى
على من باب قوله وإن أسأتم فلها. ويخرون للأذقان - كما قاله الشافعي فلا إشكال إلا أنه
قد ضعف بأنه لو كان كذلك لم ينكر عليهم اشتراط الولاء، ويجاب عنه بأن الذي أنكره
اشتراطهم له أول الأمر. وقيل أراد بذلك الزجر والتوبيخ لهم، لأنه صلى الله عليه وسلم
كان قد بين لهم حكم الولاء وأن هذا الشرط لا يحل، فلما ظهرت منهم، منهم المخالفة قال لعائشة
ذلك، ومعناه لا تبالي لان اشتراطهم مخالف للحق فلا يكون ذلك للإباحة بلا المقصود الإهانة
وعدم المبالاة بالاشتراط وأن وجوده كعدمه. وبعد معرفة هذه الوجوه والتأويل يزول الاشكال
بأنه كيف وقع منه صلى الله عليه وسلم الاذن لعائشة بالشرط فإنه ظاهر أنه خداع،
وغرر للبائع من حيث إنه يعتقد عند البيع أنه بقي له بعض المنافع وانكشف الامر على خلافه
ولكن بعد تحقق وجوه التأويل يذهب الاشكال، وفى قوله (وإنما الولاء لمن أعتق) دليل
على حصر الولاء فيمن أعتق لا يتعداه إلى غيره. 11 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد
11

فقال: لاتباع ولا توهب ولا تورث، يستمتع بها ما بدا له فإذا مات نهى حرة. رواه مالك
والبيهقي وقال: رفعه الرواة فوهم) وقال الدارقطني: الصحيح وقفه على عمر ومثله
قال عبد الحق. صاحب الامام: المعروف فيه الوقف الذي رفعه ثقة، وفى الباب
آثار عن الصحابة، وقد أخرج الحاكم وابن عساكر وابن المنذر الذي رفعه ثقة، وفى الباب
جالسا عند عمر إذ سمع صائحا قال: يا يرفأ انظر ما هذا الصوت، فنظر ثم جاء فقال:
جارية من قريش تباع أمها، فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار، فلم يمكث ساعة
حتى امتلأت الدار والحجرة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فهل كان فيما جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟ قالوا لا، قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية
ثم قرأ - فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم - ثم قال: وأي قطيعة
أقطع من أن تباع أم امرى منكم وقد أوسع الله لكم، قالوا فاصنع ما بدا لك، فكتب إلى
الآفاق أن لا تباع أم حر فإنها قطيعة وإنه لا يحل، فهذا ونحوه من الآثار، والحديث دليل على
أن الأمة إذا ولدت من سيدها حرم بيعها، سواء كان الولد باقيا أولا، وإلى هذا ذهب
أكثر الأئمة، على هذه المسألة في مفرد قال: وتلخص لي عن الشافعي فيها أربعة أقوال،
وفى المسألة من حيث هي ثمانية أقوال، وقد ذهب الناصر والامامية وداود إلى جواز بيعها
لما أفاده الحديث الآتي:
12 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى
الله عليه وسلم حي لا يرى بذلك بأسا: رواه النسائي وابن ماجة والدار فطني وصححه
ابن حبان) وأخرجه أحمد والشافعي والبيهقي أبو داود والحاكم، وزاد، في زمن أبى بكر)
وفيه فلما كان عمر نهانا فانتهينا) ورواه الحاكم من حديث أبي سعيد وإسناده ضعيف
قال بيهقي: ليس شئ من اطرف أنه صلى الله عليه وسلم الطلع على ذلك وأقر هم عليه
وترده رواية النسائي التي فيها والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى بذلك بأسا) واستدل القائلون بجواز بيعها أيضا بأنه صح عن علي عليه السلام أنه رجع عن تحريم بيعها إلى جوازه
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني المرادي قال:
سمعت عليا يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بعد ذلك
أن يبعن الحديث. وهو معدود في أصح الأسانيد: وأجاب في الشرح عن هذه الأدلة بأنه
يحتمل أن حديث جابر كان في أول الأمر وأن ما ذكر ناسخ، وأيضا فإنه راجع إلى التقرير
وما ذكر قول، وعند التعارض القول أرجح. قلت: ولا يخفى ضعف هذا الجواب لأنه
لا نسخ بالاحتمال، فللقائل بجواز، بيعها أن يقلب الاستدلال ويقول: يحتمل أن حديث
ابن عمر كان أول الأمر ثم نسخ بحديث جابر وإن كان احتمالا بعيدا، ثم قوله إن حديث
جابر راجع إلى التقرير، وحديث ابن عمر قول والقول أرجح عند التعارض يقال عليه: القول
12

لم يمح رفعه بل صرح المصنف وغيره أن رفعه وهم، وليس في منع بيعها إلا رأى عمر رضي
الله عنه لا غير، ومن شاوره من الصحابة وليس باجماع، فليس، على أنه لو كان
في المسألة نص لما احتاج عمر والصحابة إلى الرأي.
13 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
فضل الماء رواه مسلم، وزاد في رواية: وعن بيع ضراب الجمل) وأخرجه أصحاب السنن
من حديث إياس بن عبد وصححه الترمذي. وقال أبو الفتح القشيري: هو على شرطهما
والحديث دليل على أنه لا يجوز بيع ما فضل من الماء عن كفاية صاحبه. قال العلماء: وصورة
ذلك أن ينبع في أرض مباحة فيسقى الأعلى ثم يفضل عن كفايته فليس له المنع، وكذا إذا
اتخذ حفرة في أرض مملوكة يجمع فيها الماء أو حفر البئر فيسقى منه ويسقى أرضه، فليس له
منع ما فضل. وظاهر الحديث يدل على أنه يجب عليه بذل ما فضل عن كفاية لشرب أو
طهور أو سقى زرع، وسواء كان في أرض مباحة أو مملوكة، وقد ذهب إلى هذا العموم
ابن القيم في الهدى وقال: إنه يجوز دخول الأرض المملوكة لاخذ الماء والكلأ لان له حقا
في ذلك، ولا يمنع استعمال ملك الغير، وقال، إنه نص أحمد على جواز الرعي في أرض
غير مباحة للراعي، وإلى مثله ذهب المنصور بالله والامام يحي بالله والامام يحيى في الحطب والحشيش، ثم
قال: إنه لا فائدة لاذن صاحب الأرض ليس له منعه من الدخول بل يجب عليه تمكينه
ويحرم عليه منعه فلا يتوقف دخوله على الاذن، وإنما يحتاج إلى الاذن في الدخول في الدار
إذا كان فيها سكن لوجوب الاستئذان، وأما إذا لم يكن فيها سكن فقد قال تعالى - ليس
عليكم جناح أن تدخلوا بيوتها غير مسكونة فيها متاع لكم - ومن احتفر بئرا أو نهرا فهو أحق
بمائه ولا يمنع الفضلة عن غيره سواء قلنا: إن الماء حق للحافر لا ملك، كما هو قول جماعة من
العلماء، أو قلنا: هو ملك فان عليه بذل الفضلة لغيره لما أخرجه أبو داود أنه قال رجل
يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال الماء، قال: يا نبي الله ما الشئ الذي لا يخل
منه؟ قال: الملح وأفاد أن في حكم الماء الملح وما شاكله ومثله الكلاء، فمن سبق بدوابه
إلى أرض مباحة فيها عشب فهو أحق برعية ما دامت فيه دوابه، فإذا خرجت منه فليس
له بيعه. هذا، وأما الحرز في الأسقية والظروف فهو مخصص من ذلك بالقياس على الحطب،
فقد قال صلى الله عليه وسلم لان يأخذ أحد كم حيلا فيأخذ حزمة من حطب فيبيع ذلك
فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطى أو منع) فيجوز بيعه ولا يجب بذله
إلا المطر، وكذلك بيع البئر والعين أنفسهما فإنه جائز، فقد قال صلى الله عليه وسلم
من يشترى بئر رومة يوسع بها على المسلمين فله الجنة فاشتراها عثمان والقصة معروفة
وقوفه (وعن ضراب الجمل أي ونهى عن أجرة ضراب الجمل وقد عبر عنه بالعسب
في الحديث الآتي:
14 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
13

عسب الفحل) وهو بفتح العين المهملة وسكون السين المهملة فباء موحدة (رواه
البخاري) وفيه وفيما قبله دليل على تحريم استئجار الفحل للضراب والأجرة حرام.
وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز ذلك إلا أنه يستأجره للضراب مدة معلومة أو تكون
الضربات معلومة، قالوا لان الحاجة تدعو إليه وهي منفعة مقصودة، وحملوا النهى على
التنزيه وهو خلاف أصله.
15 - (وعنه) أي ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل
الحبلة) بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة فيهما (وكان بيعا يبتاعه أهل الجاهلية) وفسره
قوله (كان الرجل يبتاع الجزور) بفتح الجيم وضم الزاي: أي البعير ذكرا كان أو أنثى
وهو مؤنث وإن أطلق على مذكر تقول هذا الجزور (إلى أن تنتج الناقة) بضم أوله وفتح ثالثة:
أي تلد الناقة وهذا الفعل لم يأت في لغة العرب إلا على بناء الفعل للمجهول (ثم تنتج التي
في بطنها) وهذا التفسير من قوله وكان بيعا الخ مدرج في الحديث من كلام نافع، وقيل:
من كلام ابن عمر (متفق عليه واللفظ للبخاري) ووقع في رواية حمل ولد الناقة من دون
اشتراط الانتاج. وفى رواية أن تنتج الناقة ما في بطنا من دون أن يكون نتاجها قد حمل
أو أنتج. والحبل مصدر حبلت حبلت تحبل سمى به المحبول، والحبلة جمع حابل مثل ظلمة في ظالم
وكتبة في كاتب ويقال حابل وحابلة بالتاء. قال في غيره. والحديث دليل على تحريم هذا البيع.
واختلف العلماء في هذا المنهى عنه لاختلاف الروايات هل هو من حيث يؤجل بثمن الجزور
إلى أن يحصل النتاج المذكور أو أنه يبيع منه النتاج؟ ذهب إلى الأول مالك والشافعي وجماعة
قالوا: وعلة النهى جهالة الاجل، وذهب إلى الثاني أحمد وإسحاق وجماعة من أئمة الله وبه
جزم الترمذي. قالوا: وعلة النهى هو كونه بيع معدوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه وهو
داخل في بيع الغرر، وقد أشار إلى هذا البخاري حيث صدر الباب ببيع الغرر وأشار على تسليمه وهو
التفسير الأول. ورجحه أيضا في تفسير السلم بكونه موافقا للحديث وإن كان كلام أهل
اللغة موافقا للثاني، نعم ويتحصل من الخلاف أربعة أقوال لأنه يقال هل المراد البيع إلى
أجل أو بيع الجنين؟ وعلى الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها؟ وعلى الثاني
هل المراد بيع الجنين الأول أو جنين؟ فصارت أربعة أقوال. هذا، وحكى عن ابن
كيسان وأبى العباس المبرد أن المراد بالحبلة الكرمة، وأنه نهى عن بيع ثمر العنب قبل أن يصلح.
فأصله على هذا بسكون الباء الموحدة لكن الروايات بالتحريك إلا أنه قد حكى في الحبلة
بمعنى الكرمة فتحها.
16 - (وعنه) أي ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء)
14

بفتح الواو (وعن هبته. متفق عليه) والولاء هو ولاء العتق. أي وهو إذا مات المعتق ورثه
معتقة كانت العرب تهبه وتبيعه فهي عنه لان الولاء كالنسب لا يزول بالإزالة، ذكره في النهاية.
17 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. رواه مسلم) اشتمل الحديث على النهى عن صورتين من
صور البيع. الأولى بيع الحصاة. واختلف في تفسير بيع الحصاة، قيل هو أن يقول: ارم
بهذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم، وقيل هو أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت
إليه رمية الحصاة، وقيل هو أن يقبض على كف من حصا ويقول لي بعدد ما خرج في القبضة
من الشئ المبيع أو يبيعه ويقبض على كف من حصا ويقول لي بكل حصاة درهم، وقيل.
أن يمسك أحدهما حصاة بيده ويقول: أي وقت سقطت الحصاة فقد وجب البيع، وقيل هو
أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول: أي شاة أصابتها فهي لك بكذا، وكل
هذه متضمنة للغرر لما في الثمن أو المبيع من الجهالة، ولفظ الغرر يشملها، وإنما أفردت
لكونها كانت مما يبتاعها الجاهلية فنهى صلى الله عليه وسلم عنها، وأضيف البيع إلى الحصاة
للملابسة لاعتبار الحصاة فيه. والثانية بيع الغرر بفتح الغين المعجمة والراء المتكررة، وهو
بمعنى مغرور اسم مفعول، إضافة المصدر إليه من إضافته إلى المفعول ويحتمل غير هذا
ومعناه الخداع الذي هو مظنة أن لا رضا به عند تحققه، فيكون من أكل المال بالباطل،
ويتحقق في صور إما بعدم القدرة على تسليمه كبيع العبد الآبق والفرس النافر، أو بكونه
معدوما أو مجهولا، أو لا يتم ملك البائع له كالسمك في الماء الكثير ونحو ذلك من الصور
وقد يحتمل بعض الغرر فيصح معه البيع إذا دعت إليه الحاجة كالجهل بأساس الدار وكبيع
الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها، فان ذلك مجمع عليه، وكذا على جواز إجارة الدار والدابة
شهرا مع أنه قد يكون الشهر ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين، وعلى دخول الحمام بالأجرة
مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وقدر مكثهم، وعلى جواز الشرب في السقاء بالعوض
مع الجهالة، وأجمعوا على عدم صحة بيع الأجنة في البطون والطيران في الهواء، واختلفوا في صور
كثيرة اشتملت عليها كتب الفروع.
18 - (وعنه) أي أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى
طعاما فلا بيعه حتى يكتاله. رواه. مسلم) وقد ورد الطعام أنه لا يبيعه من اشتراه
حتى يستوفيه من حديث جماعة من الصحابة، وورد في أعم من الطعام حديث حكيم
ابن حزام عند أحمد قال: (قلت رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم
علي؟ قال: إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه وأخرج الدارقطني وأبو داود من حديث
زيد بن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يحوزها
التجار إلى رحالهم وأخرجه السبعة إلا الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه) قال ابن عباس: ولا أحسب كل شئ
إلا مثله، فدلت الأحاديث أنه لا يجوز بيع أي سعلة شريت إلا بعد قبض البائع لها واستيفائها
15

وذهب قوم إلى أنه يختص هذا الحكم بالطعام لا غيره من المبيعات، وذهب أبو حنيفة إلى
أنه يختص ذلك بالمنقول دون غيره لحديث زيد بن ثابت فإنه في السلع. والجواب أن ذكر
حكم الخاص لا يخص به العام، وحديث حكيم عام فالعمل عليه وإليه ذهب الجمهور،
وأنه لا يجوز البيع للمشترى قبل القبض مطلقا، وهو الذي دل له حديث حكيم واستنبطه
ابن عباس.
(فائدة) أخرج الدارقطني من حديث جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشترى) ونحوه للبزار من حديث أبي
هريرة باسناد حسن فذل على أنه إذا اشترى الشئ مكايلة وقبضه ثم باعه لم يجز تسليمه
بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وبذلك قال الجمهور. وقال عطاء:
يجوز بيعه بالكيل الأول: وكأنه لم يبلغه الحديث، ولعل علة الامر بالكيل ثانيا التحقق بيع الجزاف، إلا أن في حديث ابن عمر أنهم كانوا يبتاعون الطعام جزافا، ولفظه كنا
نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله)
أخرجه الجماعة إلا الترمذي. قال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا،
وإذا ثبت جواز بيع الجزاف خمل حديث الصاعين على أن المراد أنه إذا اشترى الطعام كيلا
وأريد فلا بد من إعادة كيله للمشترى.
19 - (وعنه) أي أبي هريرة (قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين
في بيعة. رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان. ولأبي داود) من حديث أبي هريرة
(من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) قال الشافعي: له تأويلان:
أحدهما أن يقول بعتك بألفين نسيئة وبألف نقدا، فأيهما شئت أخذت به، وهذا بيع فاسد
لأنه إيهام وتعليق. والثاني أن يقول: بعتك عبدي على أن تبيعني فرسك انتهى. وعلة النهى
على الأول عدم استقرار الثمن ولزوم الربا عند من يمنع بيع الشئ بأكثر من سعر يومه لأجل
النساء، وعلى الثاني لتعليقه بشرط مستقبل يجوز وقوعه وعدم وقوعه فلم يستقر الملك، وقوله
فله أو كسبهما أو الربا) يعنى أنه إذا فعل ذلك فهو لا يخلو عن أحد الامرين: إما الأوكس الذي هو أخذ الأقل أو الربا وهذا مما يؤيد التفسير الأول.
20 - (وعن عمره بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع
ما ليس عندك. ورآه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وأخرجه) أي
الحاكم (في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ: نهى عن بيع
وشرط، ومن هذا الوجه) يعنى الذي أخرجه الحاكم (أخرجه الطبراني في الأوسط وهو
غريب) وقد رواه جماعة واستغربه النووي. والحديث اشتمل على أربع صور نهى عن البيع
على صفتها: الأولى سلف وبيع وصورة ذلك حيث يريد الشخص أن يشترى سلعة بأكثر
16

من ثمنها لأجل النساء وعنده، أو ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليعجله
إليه حيله. الثانية شرطان في بيع اختلف في تفسير هما، فقيل هو أن يقول: بعت هذا نقدا
بكذا وبكذا نسيئة، وقيل هو أن يشرط البائع على المشترى أن لا يبيع السلعة ولا يهبها،
وقيل هو أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا، ذكره
في الشرح نقلا عن الغيث. وفى النهاية لا يحل سلف وبيع، وهو مثل أن يقول: بعتك هذا
العبد بألف على أن تسلفني ألفا في متاع، أو على أن تقرضني، ألفا، لأنه يقرضه ليحابيه
في الثمن فيدخل في حد الجهالة، ولان كل قرض جر منفعة فهو ربا، ولان في العقد شرطا
ولا يصح، وقوله، ولا شرطا في بيع) فسره في النهاية بأنه كقولك: بعتك هذا الثوب
نقدا بدينار وسيئة بدينارين، وهو كالبيعتين، في بيعة. والثالثة قوله (ولا ربح ما لم يضمن)
قبل معناه ما لم يملك وذلك هو الغصب فإنه غير ملك للغاصب، فإذا باعه وربح في ثمنه
لم يحل له الربح، وقيل معناه ما لم يقبض، لان السلعة قبل قبضها ليست في ضمان المشترى
إذا تلفت تلفت من مال البائع. والرابعة قوله (ولا بيع ما ليس عندك) قد فسرها حديث حكيم
ابن حزام عن أبي عن داود والنسائي أنه قال: قلت: يا رسول يأتيني الرجل فيريد منى
المبيع ليس عندي فأبتاع له من السوق، قال: لا تبع ما ليس عندك) فدل على أنه لا يحل
بيع الشئ قبل أن يملكه.
21 - (وعنه) أي عمرو بن شعيب (قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
العربان) بضم العين المهملة وسكون المراء والباء الموحدة، ويقال أربان ويقال عربون (رواه
مالك قال: بلغني عن عمرو بن شعيب به) وأخرجه أبو داود وابن ماجة وفيه راو
لم بسم، وسمى في رواية فإذا هو ضعيف وله طرق لا تخلو عن مقال. فبيع العربان فسره مالك
قال هو أن يشترى الرجل العبد أو الأمة ويكترى، ثم يقول للذي اشترى منه أو أكتري
منه: أعطيتك دينارا أو درهما على أنى إن أخذت السلعة فهو من ثمنها وإلا فهو لك. واختلف
الفقهاء في جواز هذا البيع، فأبطله مالك والشافعي لهذا النهى، ولما فيه من الشرط الفاسد
والغرر ودخوله في أكل المال بالباطل، وروى عن عمر وابنه وأحمد جوازه.
22 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ابتعت زيتا في السوق، فلما استوجبته
لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا، فأردت أن أضرب على يد الرجل) يعنى يعقد له البيع
فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتقت فإذا هو زيد بن ثابت قال: لاتبعه حيث ابتعته حتى
تجوزه إلى رحلك فان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى
يجوزها التجار إلى رحالهم. رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وصححه ابن حبان والحاكم)
الحديث دليل على أنه لا يصح من المشترى أن يبيع ما يبيع ما اشتراه قبل أن يجوزه إلى رحله
والظاهر أن المراد به القبض، لكنه عبر عنه بما ذكر لما كان غالب قبض المشترى الحيازة
17

إلى المكان الذي يختص به وأما نقله من مكان إلى مكان لا يختص به فعند المجهور أن ذلك
قبض، فصل الشافعي فقال: إن كان يتناول باليد كالدرهم والثوب فقبضه نقل، وما
ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان آخر، وما كان لا ينقل
كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية. قوله (فلما استوجبته) في رواية أبى داود استوفيته
وظاهر اللفظ أنه قبض ولم يكن قد جازه إلى رحله، ويدل له قوله (نهى أن تباع السلعة.
حيث تبتاع حتى يجوزها التجار إلى رحالهم).
23 - (وعنه) أي ابن عمر (قال: قلت يا رسول الله إني الدنانير، آخذ هذا من أو أعطى هذا من هذا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا
وبينكما شئ. رواه الخمسة وصححه الحاكم) هو دليل على أنه يجوز أن يقضى عن الذهب
الفضة، وعن القضة الذهب، ل. ن ابن عمر كان يبيع بالدنانير فيلزم المشترى في ذمته له
دنانير وهي المثن ثم يقبض عنها الدراهم وبالعكس، وبوب بالدنانير فيلزم المشترى في ذمته له
الورق ولفظه (كتب أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدنانير وآخذ الدراهم، وآخذ
الدنانير، وأنه سأل رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها
ما لم تفرقا وبينكما شئ وفيه دليل على أن فعلا ذلك فحقه أن لا يفترقا إلا وقد قبض ما هو
فبين صلى الله عليه وسلم الحكم بأنهما إذا فعلا ذلك فحقه أن لا يفترقا إلا وقد قبض ما هو
لازم عوض ما في الذمة، فلا يجوز أن يقبض البعض من الذهب ويبقى البعض في ذمة من
عليه الدنانير، عوضا عنها ولا العكس لان ذلك من باب الصرف، والشرط فيه أن لا يفترقا
وبينهما شئ، وأما قوله في رواية أبى داود (بسعر يومها) فالظاهر أنه غير شرط وإن كان
أمرا أغلبيا في الواقع يدل ذلك قوله (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا
كان ياد بيد).
24 - (وعنه) أي ابن عمر (قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش)
بفتح النون وسكون الجيم بعدها شين معجمة (متفق عليه) النجش لغة: تنفير الصيد واستثارته
من مكانه ليصاد. الزيادة في ثمن السلعة المعروفة للبيع لا ليشتريها بل ليغر
بذلك غيره. وسمى الناجش في السلعة ناجشا لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها. قال ابن بطال:
أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، فقال طائفة
من أئمة الحديث: البيع فاسد، وبه قال أهل الظاهر وهو المشهور في مذهب الحنابلة،
ورواية عن مالك إلا أن الحنابلة يقولون بفساده إن كان مواطأة من البائع: أو منه. وقالت
المالكية: يثبت له الخيار وهو قول الهادوية قياسا على المصراة، والبيع صحيح عندهم وعند
الحنفية قالوا: لأنه النهى عائد إلى أمر مفارق للبيع وهو قصد الخداع فلم يقتض الفساد. وأما
ما نقل عن ابن عبد البر وابن العربي وابن حزم أن التحريم إذا كانت الزيادة المذكورة فوق
ثمن المثل، فلو أن رجلا رأى سلعة تباع بدو قيمتها فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشا
عاصيا بل يؤجر على ذلك بنيته قالوا: لان من النصحية فهو مردود بأن النصيحة تحصل
18

بغير إيهام أنه يريد الشراء، وأما مع هذا فهو خداع وغرر، وبأنه أخرج البخاري من حديث
ابن أبي أوفى سبب نزول قوله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا -
الآية: قال: أقام رجل سلعته بالله لعد أعطى بها ما لم فنزلت. قال ابن أبي أوفى:
الناجش آكل ربا خائن. فجعل ابن أبي أوفى من أخبر بأكثر ممن اشترى به أنه ناجش
لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في ضرر الغير، فاشتركا في الحكم
لذلك، وحيث كان الناجش غير البائع فقد يكون آكل ربا إذا جعل له البائع جعلا.
25 - (وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة)
مفاعلة بالحاء المهملة والقاف (والمزابنة) بزنتها بالزاي بعد الألف موحدة فنون (والمخابرة)
بزنتها بالخاء المعجمة فألف فموحدة فراء (وعن الثنيا) بالمثلثة مضمومة فنون مفتوحة فمثناة
تحتية برنة 1 الاستثناء (إلا أن تعلم) عائد الأخير (رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه
الترمذي) اشتمل الحديث على أربع صور نهى الشارع عنها. الأولى المحاقلة وفسرها
جابر راوي الحديث بأنها بيع الرجل من الرجل الزرع بمائة فرق 2 من الحنطة، وفسرها
أبو عبيد بأنها بيع الطعام في سنبله، وفسرها مالك بأن تكرى الأرض ببعض ما تنبت
وهذه هي المخابرة، ويبعد هذا التفسير عطفها عليها في هذه الرواية وبأن الصحابي أعرف
بتفسير ما روى، وقد فسرها جابر بما عرف كما أخرجه عنه الشافعي: والثانية المزابنة
مأخوذة من الزبن بفتح الزاي وسكون الموحدة. هو الدفع الشديد، كأن كل واحد من
المتبايعين يدفع الآخر عن حقه، وفسرها ابن عمر كما رواه مالك ببيع التمر، أي رطبا بالتمر
كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا، وأخرجه عنه الشافعي في الامام وقال: تفسير المحاقلة
كيلا وبيع العنب كيلا، وأخرجه عن الشافعي في الأم وقال: تفسير المحاقلة
والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم منصوصا ويحتمل أنه
ممن رواه، والعلة النهى عن ذلك هو الربا العدم العلم بالتساوي. والثالثة المخابرة وهي من
المزارعة وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع ويأتي الكلام
عليها في المزارعة والرابعة الثنيا منهى عنها إلا أن تعلم. وصورة ذلك أن يبيع شيئا ويستثنى
بعضه، ولكنه إذا كان ذلك البعض معلوما صحت نحو أن يبيع أشجارا أو أعنابا ويستثنى
واحدة معينة، فان ذلك يصح اتفاقا قالوا: لو قال إلا بعضها فلا يصح لان الاستثناء
مجهول. وظاهر الحديث أنه إذا علم القدر المستثنى صح مطلقا وقيل لا يصح أن يستثنى
ما يزيد على الثلث. هذا الوجه في النهى عن الثنيا هو الجهالة وما كان معلوما فقد انتفت العلة
فخرج عن حكم النهى وقد نبه النص عن العلة بقوله إلا أن تعلم.
19

26 - (وعن آنس رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة
والمخاضرة) بالخاء والضاد معجمتين مفاعلة في الحضرة (والملامسة والمنابذة) بالذال المعجمة
(والمزابنة. رواه البخاري) اشتمل الحديث على خمس صور من البيع منهى عنها:
الأولى المحاقلة وتقدم الكلام فيها. والثانية المخاضرة، وهي بيع الثمار والحبوب قبل أتن يبدو
صلاحها، وقد اختلف العلماء فيما يصح بيعه من الثمار والزرع فقال طائفة: إذا كان قد
بلغ حدا ينتفع به ولو لم يكن قد أخذ الثمر ألوانه واشتد الحب صح البيع بشرط القطع،
وأما إذا شرط البقاء فلا يصح اتفاقا لأنه شغل الملك البائع أو لأنه صفقتان في صفقة وهو
إعارة أو إجارة وبيع. وأما إذا بلغ حد الصلاح فاشتد الحب وأخذ الثمر ألوانه فبيعه صحيح
وفافا إلا أن يشترط المشترى بقاءه، فقيل لا يصح البيع، وقيل يصح، وقيل إن كانت
المدة معلومة صح وإن كان غير معلومة لم يصح، فلو كان قد صلح بعض منه دون بعض
فبيعه غير صحيح. وللحنفية تفاصيل ليس عليها دليل. والثالثة الملامسة، وبينها ما أخرجه
البخاري عن الزهري أنها لمس الرجل الثوب بيده بالليل أو النهار. وأخرج النسائي من حديث أبي
هريرة (هي أن يقول الرجل للرجل أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر أحد منهما إلى ثوب
الآخر ولكنه يلمسه) لما أخرج أحمد عن عبد الرزاق عم معمر (الملامسة أن يلمس الثوب
بيده ولا ينشره ولا يقلبه إذا مسه وجب البيع). ومسلم من حديث أبي هريرة (أن يلمس
كل واحد منهما ثوب صاحبه من غير تأمل). والرابعة المنابذة فسرها ما أخرجه ابن ماجة
من طريق سفيان عن الزهري: المنابذة أن يقول ألق إلى ما معك وألقى إليك ما معي
والنسائي من حديث أبي هريرة أن يقول: أنبذ ما معي وتنبذ ما معك ويشترى كل واحد
منهما من الآخر ولا يدرى كل واحد منهما كم مع الآخر. وأحمد عن عبد الرزاق عن
معمر المنابذة: أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع. ومسلم من حديث أبي
هريرة المنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر لم ينظر كل واحد منهما إلى ثوب
صاحبه: وعلمت من قوله (فقد وجب البيع) أن بيع الملامسة والمنابذة جعل فيه نفس
اللمس والنبذ بيعا بغير صيغته وظاهر النهى التحريم وللفقهاء تفاصيل في هذا لا تليق
بهذا المختصر.
(فائدة) استدل يقوله لا ينظر إليه أنه لا يصح بيع الغائب وللعلماء ثلاثة أقوال: الأول
لا يصح وهو قول الشافعي. الثاني يصح ويثبت له الخيار إذا رآه وهو للهادوية والحنفية.
والثالث إن وصفه صح وإلا فلا هو قول مالك وأحمد وآخرين، واستدل به على بطلان
بيع الأعمى وفيه أيضا ثلاثة أقوال. الأولى بطلانه وهو قول معظم الشافعية حتى من أجاز
منهم بيع الغائب لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك. الثاني يصح إن وصف له. والثالث يصح
مطلقا وهو للهادوية والحنفية.
27 - (وعن طاوس بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه
20

وسلم: لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد. قلت لابن عباس ما قوله: ولا يبع
حاضر لباد؟ قال لا يكون له سمسار. متفق عليه، واللفظ للبخاري) اشتمل الحديث على
النهى عن صورتين من صور البيع. الأولى النهى عن تلقيا لركبان. أي الدين يجلبون
إلى البلد أرزاق العباد للبيع سواء كانوا ركبانا أو مشاة جماعة أو واحدا، وإنما خرج الحديث
على الأغلب في أن الجالب يكون عددا، وأما ابتداء التلقي فيكون ابتداؤه من خارج السوق
الذي تباع فيه السلعة. وفى حديث ان عمر (كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام
فنهانا رسول الله صلى عليه وسلم أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام) وفي لفظ آخر بيان
أن التلقي لا يكون في السوق قال ابن عمر: كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في
مكانه فنها هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه أخرجه البخاري،
فدل على أن القصد إلى أعلى السوق لا يكون تلقيا أن منتهى التلقي ما فوق السوق.
وقالت الهادوية والشافعية: إنه لا يكون التلقي إلا خارج البلد، وكأنهم نظروا إلى المعنى
المناسب للمنع وهو تغرير الجالب، فإنه إذا قدم إلى البلد أمكنه معرفة السعر وطلب الحظ
لنفسه فإن لم يفعل ذلك فهو من تقصيره. واعتبرت لمالكية وأحمد وإسحاق السوق مطلقا
عملا بظاهر الحديث: والنهى ظاهر في التحريم حيث كان قاصدا التلقي عالما بالنهي
عنه. وعن أبي حنيفة والأوزاعي أن يجوز التلقي إذا لم يضر بالناس فان ضر كره،
فان تلقاه فاشترى صح البيع عند الهادوية والشافعية، وثبت الخيار عند الشافعي للبائع
لما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن حزيمة من حديث أبي هريرة بلفظ لا تلقوا
الجلب قان تلقاه انسان فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق) ظاهر الحديث أن العلة في
النهى نفى البائع وإزالة الضرر عنه، وقيل نفع أهل السوق لحديث ابن عمر (لا تلقوا السلع
حتى تهبطوا بها السوق). واختلف العلماء هل البيع معه صحيح أو فاسد؟ فعند من ذكرناه
قريبا أنه صحيح لان النهى لم يرجع إلى نفس العقد ولا إلى وصف ملازم له فلا يقتضى
النهى الفساد. وذهب طائفة من العلماء إلى أنه فاسد لان النهى يقتضى الفساد مطلقا وهو
الأقرب. وقد اشترط جماعة من العلماء لتحريم التلقي شرائط، فقيل يشترط في التحريم أن
يكذب المتلقى في سعر البلد ويشترى منهم بأقل من ثمن المثل، وقيل أن يخبرهم بكثرة المؤنة
عليهم في الدخول، وقيل أن يخبر هم بكساد ما معهم ليغبنهم وهذه تقييدات لم يدل عليها دليل
بل الحديث أطلق النهى، والأصل فيه التحريم مطلقا. الصورة الثانية ما أفاده قوله (ولا
يبع حاضر لباد) وقد فسره ابن فسره ابن عباس بقوله: لا يكون له سمسار بسينين مهملتين، وهو
في الأصل القيم بالأمر والحافظ، ثم اشتهر في متولى البيع والشراء لغيره بالأجرة كذا قيده
البخاري، وجعل حديث ابن عباس مقيدا لما أطلق من الأحاديث. وأما بغير أجرة
فجعله من باب النصيحة والمعاونة فأجازه، وظاهر أقوال العلماء، أن النهى شامل لما كان
بأجرة وما كان بغير أجرة، وفسر بعضهم صورة بيع الحاضر للبادي بأن يجئ البلد غريب
بسلعة يريد بسعر الوقت في الحال، فيأتيه الحاضر، فيقول ضعه عندي لأبيعه لك على
21

التدرج بأعلى من هذا السعر، ثم من العلماء من حض هذا الحكم بالبادي وجعله قيد
ومنهم من الحق به الحاضر إذا شاركه في عدم معرفة السعر وقال: ذكر البادى في الحديث
خرج مخرج الغالب. فأما أهل القرى الذين يعرفون الأسعار فليسوا بداخلين في ذلك،
ثم منهم من قيد ذلك بشرط العلم بالنهي وأن يكون المتاع المجلوب مما تعم به الحاجة وأن
يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع. وكل هذه
القيود لا يدل عليها الحديث بل استنبطوها من تعليلهم للحديث بعلل متصيدة من الحكم. ثم
قد عرفت أن الأصل في النهى التحريم وإلى هنا ذهبن طائفة من العلماء. وقال آخرون:
إن الحديث منسوخ وإنه جائز مطلقا كتوكيله والحديث النصيحة، ودعوى النسخ غير
صحيحة لافتقارها إلى معرفة إلى معرفة التاريخ ليعرف المتأخر. وحديث النصيحة إذا استنصح أحد كم
أخاه فلينصح له) مشروط فيه أنه إذا استنصحه نصحه بالقول لا أنه يتولى له البيع، وهذا
في حكم بيع الحاضر للبادي، وكذا الحكم في الشراء له فلا يشترى حاضر لباد. وقد قال
البخاري (باب لا يشترى حاضر لباد بالسمسرة) قال ابن حبيب المالكي: الشراء للبادي
كالبيع لقوله صلى الله عليه وسلم لا يبع بعضكم على بيع بعض فان معناه الشراء، أخرج
أبو عوانة في صحيحة عن ابن سيرين قال: (لقيت أنس بن مالك فقلت: لا يبع حاضر لباد
أما نهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟ قال: نعم) وأخرجه أبو داود، وعن ابن سيرين عن أنس
كان يقال لا بيع حاضر لباد وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له شيئا. فان قيل
قد لوحظ في النهى عن تلقى الجنوبة عدم غبن البادى، ولو حظ في النهى عن بيع الحاضر البادى
الرفق بأهل البلد واعتبر فيه غبن البادى وهو كالتناقض. فالجواب أن الشارع يلاحظ مصلحة
الناس ويقدم مصلحة الجماعة على الواحد لا الواحد على الجماعة. ولما كان البادى إذا باع
لنفسه انتفع جميع أهل السوق، واشتروا رخيصا فانتفع به جميع سكان البلد لاحظ الشارع نفع
أهل البلد على نفع البادى، ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقى خاصة وهو واحد لم يكن في
إباحة التلقي مصلحة لا سيما وقد تنضاف إلى ذلك علة ثانية وهي لحوق النصر بأهل السوق
في انفراد التلقي عنهم في الرخص وقطع الموارد عليهم وهم أكثر من المتلقى. نظر الشارع
لهم فلا تناقض بين المسألتين بل هما صحيحتان في الحكمة والمصلحة.
28 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا تلقوا الجلب) بفتح اللام مصدر بمعنى المجلوب (فمن تلقى فاشترى منه فإذا
أتى سيده فهو الخيار. رواه مسلم) تقدم الكلام عليه وأنه دليل على ثبوت الخيار
للبائع، وظاهر ولو شراه المتلقى بسعر السوق فان الخيار. ثابت.
29 - (وعنه) أي أبي هريرة (قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع
محاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبيح الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة)
22

بكسر الحاء المعجمة، وأما في الجمعة وغيرها فبضمها (أخيه ولا تسأل المرأة طلاق
أختها لتكفأ ما في إنائها) كفأت الاناء كبيته وقبلته (متفق عليه. ولمسلم لا يسوم المسلم
على سوم المسلم) اشتمل الحديث على مسائل منهى عنها. الأولى نهى عن بيع الحاضر للبادي
وقد تقدم. الثانية ما يفيده قوله (ولا تناجشوا) وهو معطوف في المعنى على قوله نهى، لان
معناه لا بيع حاضر لباد ولا تناجشوا وتقدم الكلام عليه قريبا في حديث ابن عمر (نهى
رسوله الله صلى عليه وسلم عن النجش) الثالثة قوله (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)
يروى برفع المضارع على أن لا نافية وبجزمه على أنها ناهية وإثبات الياء يقوى الأول، وعلى
الثاني فبأنه عومل المجزوم معاملة غير المجزوم فتركت الياء، وفى رواية بحذفها فلا إشكال.
وصورة البيع على البيع أن يكون قد وقع البيع وبالخيار فيأتي في مدة الخيار رجل فيقول للمشترى
افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص منه ثمنه أو أحسن منه، وكذا الشراء على الشراء هو
أن يقول للبائع في مدة الخيار افسخ البيع أونا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن. وصورة السوم
أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقد فيقول آخر للبائع أنا أشتريه
مك بأكثر بعد أن كانا اتفقا على المثن. وقد أجمع العلماء على تحريم هذه الصورة كلها
وأن فاعلها عاص. وأما بيع المزايدة وهو البيع ممن يزيد فليس من المنهى عنه. وقد بوب
البخاري (باب بيع المزايدة) وورد في ذلك صريحا ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن واللفظ
للترمذي، وقال حسن عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحا وقال، من
يشترى هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل آخذ هما بدرهم، فقال من يزيد على درهم؟ فأعطوه
رجل درهمين فباعهما منه) وقال ابن عبد البر: إنه لا يحرم البيع ممن يزيد اتفاقا، وقيل
إنه يكره. واستدل لقائله بحديث عن سفيان بن وهب أنه قال (سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى عن بيع المزايدة) لكنه من رواية ابن الهيعة وهو ضعيف. الرابعة قوله (ولا
يخطب على خطبة أخيه) زاد في مسلم إلا أن أن يأذن له) وفى رواية حتى يأذن
والنهى يدل على تحريم ذلك. وقد أجمع العلماء على تحريم العلماء على تحريمها إذا كان قد صرح بالإجابة ولم
بأذن ولم يترك، فان تزوج والحال هذه عصى اتفاقا وصح عند الجمهور. قال داود:
بفسخ النكاح، ونعم ما قال وهي رواية عن مالك وإنما اشتراط التصريح بالإجابة وإن كان
النهى مطلقا الحديث فاطمة بنت قيس فإنها قالت (خطبني أبو جهم ومعاوية) فلم ينكر
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض بل خطبها مع ذلك لأسامة) والقول
بأنه يحتمل أنه لم يعلم أحدهما بخطبة الآخر وأنه صلى الله عليه وسلم أشار بأسامة لا أنه خطب
خلاف الظاهر، وقوله أخيه) أي في الدين، ومفهومه. ن لو كان غير أخ كأن يكون
كافرا فلا يحرم وهو حيث تكون المرأة كتابية وكان تستجير نكاحها وبه قال الأوزاعي،
23

اعتبار المفهومة. الخامسة ولا تسأل المرأة يروى مرفوعا ومجزوما وعليه فكسر اللام
لالتقاء الساكنين، والمراد أن المرأة الأجنبية لا تسأل الرجل أن يطلق وينكحها ويصبر
ما هو لها من النفقة والشعرة لها. وعبر عن ذلك بالاكفاء لما في الصحفة من باب التمثيل كأن
ما ذكر لما كان معدا في حكم ما قد جمعة في الصحفة من باب التمثل كأن
ما ذكر لما كان معدا للزوجة فهو في حكم ما قد جمعته في الصحفة لتنتفع به، فإذا ذهب
عنها فكأنما قد كفئت الصحفة وخرج ذلك عنها، فعبر عن ذلك المجموع المركب بالمركب
المذكور للشبه بينهما.
30 - (وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: من فرق بين والدة وولد ها فرق الله بينه وبين أحبته يوم
القيامة. رواه أحمد وصحة الترمذي والحاكم لكن في إسناده مقال) لان فيه حيى بن
عبد الله المعافري مختلف فيه (وله شاهد) كأنه يريد حديث عبادة بن الصامت (لا يفرق
بين الأم وولدها، قيل إلى متى؟ قال حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية) أخرجه الدارقطني
والحاكم، وفى سنده عندهما عبد الله بن عمرو الواقفي وهو ضعيف، ولا يخفى أن هذا الحديث
والذي بعده كان يحسن ضمهما إلى عمر الذي تقدم في النهى عن بيع أمهات
الأولاد أو يؤخر هو إلى هنا، وهذا الحديث ظاهر في تحريم التفريق بين الوالدة والدها،
وظاهره عام في الملك والجهات، إلا أن لا يعلم أنه ذهب أحد إلى هذا العموم فهو محمول
على التفريق في الملك وهو صريح في حديث على الآتي، وظاهره أيضا تحريم التفريق ولو
بعد البلوغ إلا أنه يقيده بحديث عبادة. وفى الغيث أنه خصه في الكثير الاجماع كما في العتق
وكأن البلوغ إلا أنه يقيده بحديث عبادة. وفى الغيث أنه خصه في الكبير الاجماع كما في العتق
عليه سائر الأرحام المحارم بجامع الرحامة وكذلك ورد النص في الاخوة وهو ما أفاده قوله:
31 - (وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما ففرقت بينهما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
فقال: أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما إلا جميعا. رواه أحمد ورجاله ثقاب. وقد
في العلل عن أبيه إنما سمعه الحكم من ميمون بين أبى شبيب وهو يرويه عن علي رضي الله عنه
وميمون لم يدرك عليا. والحديث دليل على بطلان هذا البيع، ودل على تحريم
التفريق كما دل عليه الحديث الأول إلا أن الأول دل على التفريق بأي وجه متن الوجوه
. وهذا الحديث نص في في تحريمه بالبيع وألحقوا به تحريم التفريق بسائر الانشاءات كالهبة والنذر
وهو ما كان باختيار المفرق. وأما التفريق بالقسمة فليس باختياره، فان سبب الملك قهري
وهو الميراث، وحديث علي رضي الله عنه قد دل على بطلان البيع، ولكنه عارضه الحديث
الأول حديث أبي أيوب فإنه دل على صحة الاخراج عن الملك بالبيع. ونحوه المستحق للعقوبة
إذ لو كان لا الاخراج عن الملك لم يتحقق التفريق فلا عقوبة، ولذا اختلف العد
24

في ذلك. فذهب أبو حنيفة إلى أنه ينعقد مع العصيان، قالوا: والامر بالارتجاع للغلامين
يتحمل أن يعقد جديد برضا المشترى.
(فائدة) في التفريق بين البهيمة وولدها وجهان: لا يصح لنهيه صلى الله عليه وسلم عن
تهذيب البهائم. ويصح قياسا على الذبح وهو الأولى.
32 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر) الغلاء ممدود: وهو ارتفاع
السعر على معتاده (في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول
الله غلا السعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر) يعنى
يفعل ذلك هو وحده بإرادته (القابض) أي المقتر (الباسط) الموسع مأخوذ من قوله تعالى
- والله يقبض ويبسط - (الرازق، إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم
يطلبني بمظلمة في دم ولا مال. رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان)
وأخرجه ابن ماجة والدارمي والبزار وأبو يعلى من حديث. أنس وإسناده على شرط مسلم
وصححه الترمذي. الحديث دليل على أن التسعير مظلمة، وإذا مظلمة فهو محرم
وإلى هذا ذهب أكثر العلماء. وروى عن مالك أن يجوز التسعير ولو في القوتين. والحديث
دال على تحريم التسعير لكل متاع، وإن كان سياقه في خاص، وقال المهدى، طن استحسن
الأئمة المتأخرين تسعير ما عدا القوتين كاللحم والسمن رعاية المصلحة الناس ودفع الضرر
عنهم. وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة في منحة الغفار، وبسطنا القول هناك بما لا مزيد عليه
33 - (وعن معمر بن عبد الله) هو بفتح الميم وسكون العين وفتح الميم، ويقال له
معمر بن أبي معمر. أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة، وتأخرت هجرته إلى المدينة ثم هاجر
إليها وسكن بها (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحتكر إلا خاطئ) بالهمزة
هو العاصي الآثم (رواه مسلم) وفى الباب أحاديث دالة على تحريم الاحتكار، وفى النهاية
على قوله صلى الله عليه وسلم، من احتكر طعاما قال أي اشتراه وحسبه ليقل فيعلوا.
وظاهر حديث مسلم تحريم الاحتكار للطعام وغيره إلا أن يدعى أن لا يقال احتكر إلا
في الطعام. وقد ذهب أبو يوسف إلى عمومه فقال: كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار
وإن كان ذهبا أو ثيابا، وقيل لا احتكار إلا في قوت الناس وقوت البهائم وهو قول الهادوية
والشافعية، ولا يخفى أن الأحاديث الواردة في منع الاحتكار وردت مطلقة ومقيدة بالطعام
وما كان من الأحاديث على هذا الأسلوب فإنه عند الجمهور لا يقيد فيه المطلق بالمقيد لعدم
التعارض بينهما بل يبقى المطلق على إطلاقه وهذا يقتضى أنه يعمل بالمطلق في منع الاحتكار
مطلقا، ولا يقيد بالقوتين إلا على رأى أبي ثور. وقد رده أئمة الأصول، وكأن المجهور
خصوه بالقوتين نظرا إلى الحكمة المناسبة للتحريم، وهي دفع الضرر عن عامة الناس، والأغلب
في دفع الضرر عن العامة إنما يكون في القوتين، فقيدوا الاطلاق بالحكمة المناسبة أو أنهم
قيدوه بمذهب الصحابي الراوي، فقد أخرج مسلم عن سعيد بن المسبب أن كان يحتكر،
25

فقيل له فإنك تحتكر، فقال: لان معمرا راوي الحديث كان يحتكر. قال ابن عبد البر:
كانا يحتكران الزيت. وهذا ظاهر أن سعيدا قيد الاطلاق بعمل الراوي، وأما معمر فلا يعلم
بم قيده؟ ولعله بالحكمة المناسبة التي قيد بها المجهور.
34 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصروا
بضم المثناة الفوقية وفتح الصاد المهملة من صرى يصري على الأصلح (الإبل والغنم عمن
ابتاعها بعد فهو بخير النظرين) الرأيين (بعد أن يحلبها إن شاء أمسك
وإن شاء ردها وصاعا) عطف على ضمير المفعول في ردها على تقدير ويعطى (من
تمر. متفق عليه، ولمسلم) أي عن أبي هريرة (فهو بالخيار ثلاثة أيام. وفى رواية له
علقها البخاري، ورد معها صاعا من طعام إلا سمراء. قال البخاري والتمر أكثر) أصل
التصرية حبس الماء، يقال صريت الماء إذا حبسته. وقال الشافعي: هي ربط أخلاف
حي الحديث البقر والحكم واحد لحديث (نهى عن التصرية للحيوان إذا أريد بيعه) لأنه قد
ورد تقييده في رواية النسائي بلفظ (ولا تصروا الإبل والغنم للبيع) وفى رواية له إذ باع
أحد كم الشاة أو اللقحة فليحلبها، وهذا هو الراجح عند المجهور، ويدل عليه التعليل
بالتدليس والغرر كذا قيل، إلا أنى لم التعليل بهما منصوصا. وأما التصرية لا لبيع بل
ليجتمع الحليب لنفع لمالك فهو وإن كان فيه إيذاء للحيوان إلا أنه ليس فيه إضرار فيجوز،
وظاهر الحديث أنه لا يثبت الخيار إلا بعد الحلب، ولو ظهرت التصرية بغير حلب فالخيار
ثابت، وثبوت الخيار قاض بصحة بيع المصراة. وفى الحديث دليل على أن الرد بالتصرية
فورى، لان الفاء في قوله (فهو بخير النظرين) تدل على التعقيب من غير تراخ وإليه ذهب
بعض الشافعية، وذهب الأكثر إلى أنه على التراخي لقوله (فله الخيار ثلاثا). أجيب من
طرف القائل بالفور أن ذلك محمول على ما إذا لم يعلم أنها مصراة إلا في الثالث لان الغالب أنها
لا تعلم في أقل من ذلك الجواز النقصان باختلاف العلف ونحوه، ولان في رواية أحمد والطحاوي
(فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يجوزها أو يردها) وأما ابتداء الثلاث ففيه خلاف، قيل من بعد تبين التصرية، وقيل من عند العقد، وقيل من التفريق. ودل الحديث أنه يرد
عوض اللبن صاعا من تمر. وأما الرواية التي علقها البخاري بذكر صاعا من طعام، فقد
رجح البخاري رواية التمر لكونه أكثر 2، وإذا ثبت أنه يرد المشترى صاعا من تمر في
المسألة ثلاثة مذاهب: الأول للجمهور من الصحابة والتابعين باثبات الردة للمصراة ورد صاع
من تمر سواء كان اللبن كثيرا أو قيلا والتمر قوتا لأهل البلد أولا. والثاني للهادوية فقالوا: ترد
المصراة، ولكنهم قالوا: يرد اللبن بعينه إن كان باقيا، أو مثله إن كان تالفا أو قيمته يوم
26

الرد حيث لم يوجد المثل قالوا: وذلك لأنه تقرر أن ضمان المتلف إن كان مثليا فبالمثل وإن كان
بذلك فكيف يضمن بالتمر أو الطعام؟ قالوا وأيضا فإنه كان الواجب أن يختلف الضمان بقدر اللبن
ولا يقدر بصاح قل أكثر. وأجيب بأن هذا القياس تضمن العموم في جميع المتلفات وهذا
خاص ورد النص والخاص مقدم على العام. أما تقدير الصاع، فإنه قدره الشارع ليدفع
التشاجر لعدم الوقوف على حقيقة قد اللبن الجواز اختلاطه بحادث بعد البيع، فقطع الشارع
النزاع وقدره بحد لا يبعد رفعا للخصومة، وقدره بأقرب شئ اللبن، فإنهما كانا قوتين
في ذلك الزمان، ولهذا الحكم نظائر في الشريعة وهو ضمان الجنايات كالموضحة فان أرشها 2
مقدر مع الاختلاف في الكبر والصغر والغرة 3 في الجنين مع اختلافه. والحكمة في ذلك كله
دفع التشاجر. والثالث للحنفية، فخالفوا 4 فخالفوا في أصل المسألة وقالوا: لا يرد البيع بعيب التصرية
فلا يجب رد الصاع من التمر واعتذروا عن الحديث بأعذار كثيرة بالقدح في الصحابي
27

الراوي للحديث وبأنه حديث مضطرب 1 وبأنه منسوخ 2 بأنه معارض بقوله تعالى
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به - وكلها أعذار مردودة، وقالوا: الحديث خالف
قياس الأصول من جهات. الأولى من حيث إن اللبن التأليف إذا كان موجودا عند العقد فقد
نقص جزء من المبيع فيمتنع الرد وإن كان حادثا عند المشترى فهو غير مضمون. أجيب
28

أولا بأن الحديث أصل مستقل برأسه ولا يقال إنه خالف قياس الأصول. ثانيا بأن
النقص إنما يمنع الرد إذا لم يكن لاستعلام العيب وهو هنا لاستعلام العيب، فلا يمنع
والثانية من حيث إنه جعل الخيار فيه ثلاثا مع أن خيار العيب وخيار المجلس وخيار الرؤية
لا يقدر شئ منها بالثلاث. وأجيب بأن المصراة انفردت بالمدة المذكورة لأنه لا يتبين حكم
التصرية في الأغلب إلا بها بخلاف غيرها. والثالثة أنه يلزم ضمان الأعيان مع بقائها حيث كان
اللبن موجودا. وأجيب عنه بأنه غير موجود متميز، لأنه مختلط باللبن، الحادث فقد تقذر رده
بعينه بسبب الاختلاط، فيكون مثل ضمان العبد الآبق المغصوب. والرابعة من حيث إنه يلزم
إثبات الرد بغير عيب، لأنه لو كان نقصان البن عيبا لثبت به الرد من دون تصرية ولا
اشتراط لأنه لم يشترط الرد. وأجيب بأنه في حكيم خيار الشرط من حيث المعنى، فان المشترى
لما رأى ضرعها مملوءا فكأن البائع شرط له أن ذلك عادة لها، وقد ثبت لهذا نظائر مثل
ما تقدم في تلقى الجلوبة. وإذا تقرر عندك ضعف القولين الآخرين علمت أن الحق هو
الأول، وعرفت أن الحديث أصل في النهى عن الغش وفى ثبوت الخيار لمن دلس عليه، وفى أن التدليس لا يفسد أصل القعد، وفى تحريم التصرية للمبيع وثبوت الخيار بها. وقد
أخرج أحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود مرفوعا بيع المحفلان خلابة ولا تحل الخلابة
لسلم، وفى إسناده ضعف، ورواه ابن أبي شيبة موقوفا بسند صحيح، والمحفلات جمع محفلة
الحاء المهملة والفاء التي تجمع لبنها في ضروعها، والخلابة بكسر الخاء المعجمة وتخفيف
اللام بعدها موحدة الخداع.
35 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا
رواه البخاري، وزاد الإسماعيلي: من تمر) لم يرفعه المصنف بل وقفه على ابن مسعود، لان
البخاري لم يرفعه، وقد تقدم الكلام على معناه مستوفى.
36 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة)
الصبرة بضم الصاد المهملة وسكون الموحدة، الكوفة المجموعة من الطعام (من طعام فأدخل
يده فيها فنالت أصابعة بللا فنالت أصابت بللا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام، قال أصابته السماء
يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس
منى رواه مسلم) قال النووي: كذا في الأصول منى بياء المتكلم وهو صحيح، ومعناه:
ليس ممن اهتدى بهدى واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقي. وقال سفيان بن عيينة: يكره
تفسير مثل هنا ونقول: نمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر.
والحديث دليل على تحريم الغش وهو مجمع على تحريمة شرعا مذموم فاعله عقلا
37 - (وعن عبد السلام بن بريدة) هو أبو سهل عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي
قاضي مرو تابعي ثقة، سمع أباه وغيره (عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: من حبس العنب أيام القطاف) الأيام يقطف فيها (حتى
29

يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة) أي على علم بالسبب
الموجب لدخول (رواه الطبراني في الأوسط باسناد حسن) وأخرجه البيهقي في شعب الايمان
من حديث بريدة بريدة بزيادة (حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يعلم أنه تتخذه خمرا فقد
تقحم في النار على بصيرة والحديث دليل على تحريم بيع العنب يتخذه خمرا يتخذه خمرا لوعيد البائع
بالنار وهو مع القصد محرم إجماعا. وأما مع عدم القصد فقال الهادوية: يجوز البيع مع الكراهة
ويؤول بأن ذلك مع الشك في جعله خمرا. وأما إذا علمه فهو محرم. ويقاس على ذلك
كان يستعان في معصية. وأما مالا يفعل إلا لمعصية كالمزامير ونحوها فلا يجوز
بيعها ولا شراؤها إجماعا، وكذلك بيع السلاح والكراع من الكفار والبغاة إذا كانوا
ويستعينون بها على حرب المسلمين، فإنه لا يجوز إلا أن بأفضل منه جاز.
38 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الخراج بالضمان. رواه الخمسة وضعفه البخاري) لان فيه مسلم بنه خالد الزنجي وهو
ذاهب الحديث (وأبو داود وصححه والترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم
وابن القطان) الحديث أخرجه الشافعي أصحاب السنن بطوله، وهو (أن رجلا اشترى
غلاما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عنده ما شاء الله ثم رده من عيب
وجد فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم برده بالعيب، فقال المقضى عليه قد
استعمله، فقال رسول الله صلى عليه وسلم: الخراج بالضمان، والخراج هو النغلة
والكراء، ومعناه أن المبيع إذا كان له وغلة فان مالك الرقبة الذي هو ضامن لها يملك
خراجها لضمان أصلها، فإذا ابتاع رجل فاستعملها أو ماشية فنتجها أو دابة فركبها
أو عبدا فاستخدمه ثم وجد به عيبا فله أن يرد الرقبة ولا شئ عليه فيما انتفع به، لأنها
لو تلفت ما بين مدة الفسخ والعقد لكانت في ضمان المشترى فوجب أن يكون الخراج له. وقد
اختلف العلماء الحديث وما وجد من الفوائد الأصلية والفرعية فهو للمشترى ويرد المبيع ما لم يكن
ناقصا عما أخذه. الثاني للهادوية أنه يفرق بين الفوائد الأصلية والفرعية فيستحق المشترى
الفرعية. وأما الأصلية فتصير أمانة في يده، فان رد المشترى المبيع بالحكم وجب الرد ويضمن
التلف، وإن كان بالتراضي لم يردها. الثالث للحنفية أن المشترى يستحق الفوائد الفرعية
كالكراء. وأما الفوائد الأصلية كالثمر فان كانت باقية ردها الأصل، وإن كانت تالفة
امتنع الرد واستحق الأرش. الرابع المالك أن يفرق الفوائد الأصلية كالصوف والشعر
فيستحقه المشترى والولد يرده مع أمه وهذا ما لم تكن متصلة بالمبيع وقت الرد، فان كانت
متصلة وجب الرد لها إجماعا هذا ما قاله المذكورون، والحديث ظاهر فيها ذهب إليه الشافعي
وأما إذا وطئ المشترى الأمة ثم وجد فيها عيبا فقد اختلف العلماء في دلك، فقالت: الهادوية
وأهل الرأي والثوري وإسحاق الرد لان الوطئ جناية، لأنه لا يحل وطئ الأمة لأصل
30

المشترى ولا لفصله فقد عيبها بذلك، قالوا وكذا مقدمات الوطئ يمتنع الرد بعدها لذلك
قالوا ولكنه يرجع على البائع بأرش العيب، وقيل يردها ويرد معها مثلها. ومنهم من
فرق بين الثيب والبكر. وقد استوفى الخطابي ذلك ونقله الشارح، والكل أقوال عارية عن
الاستدلال، ودعوى أن الوطئ جناية دعوى غير صحيحة، والتعليل بأنه حرمها به على أصوله
وفصوله. فكانت جناية عليهما فإنه لم ينحصر المشترى لها فيهما.
39 - (وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا
يشترى به أضحية أو شاة فاشترى به شاتين فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا
له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى ترابا بالربح فيه. رواه الخمسة إلا النسائي، وقد أخرجه
البخاري ضمن حديث ولم يسق لفظه، وأورد له الترمذي شاهدا من حديث حكيم بن حزام)
الحديث في إسناده سعيد بن زيد أخو حماد مختلف فيه. قال المنذري والنووي: إسناده حسن
صحيح وفيه كلام كثير. وقال المصنف: الصواب أنه متصل في إسناده مبهم. وفى الحديث
دلالة على أن عروة شرى ما لم يوكل بشرائه وباع كذلك، لأنه أعطاه دينارا الشراء أضحية،
فلو وقف على الامر لشرى ببعض الدينار الأضحية ورد البعض، وهذا الذي فعله هو الذي
تسميه الفقهاء العقد الموقوف الذي ينفذ بالإجازة الذي ينفذ بالإجازة وقد وقعت هنا، وللعلماء فيه خد أقوال:
الأول أنه يصح العقد الموقوف، وذهب إلى هذا جماعة من السلف والهادوية عملا بالحديث
والثاني أن لا يصح وإليه ذهب الشافعي وقال: إن الإجارة لا تصحيحه محتجا بحديث لا تبع
ما ليس عندك) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وهو شامل للمعدوم وملك الغير، وتردد
الشافعي في صحة حديث عروة، وعلق القول به على صحته. ولثالث على صحة. والثالث التفصيل لأبي حنيفة،
فقال: يجوز البيع لا الشراء. وكأنه فرق بينهما. بأن البيع اخراج عن ملك المالك، وللمالك
حق في استبقا. ملكه، فإذا أجاز فقد أسقط حقه بخلاف الشراء فإنه إثبات الملك، فلا بد من
تولى المالك لذلك. والرابع لمالك وهو عكس ما قاله أبو حنيفة، وكأنه أراد الجمع بين
الحديثين، حديث (لا تبع ما ليس عندك) وحديث عروة، فيعمل به ما لم يعارض.
والخامس أنه يصح إذا وكل بشراء شئ فيشترى بعضه وهو للجصاص بعضه وهو للجصاص، إذا صح حديث
عروة فالعمل به هو الراجح. وفيه على صحة بيع الأضحية وإن تعينت بالشراء لابدال
المثل، ولا تطيب زيادة الثمن، ولذا أمره بالتصدق بها، وفى دعائه صلى الله عليه وسلم له
بالبركة دليل على أن شكر الصنيع لمن فعل المعروف لمن فعل المعروف ومكافأته مستحبة ولو بالدعاء.
40 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن شراء ما في بطون الانعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو
آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص،
رواه ابن ماجة والبزار والدار قطني باسناد ضعيف) لأنه من حديث شهر بن حوشب، وشهر
تكلم فيه جماعة كالنضر بن شميل والنسائي وابن عدي وغير هم. وقال البخاري: شهر حسن
31

الحديث، وقوى أمره. وروى عن أحمد أنه قال: ما أحسن حديثه. والحديث اشتمل على
ست صور منهى عنها: الأولى بيع ما في بطون الحيوان وهو مجمع على تحريمه. والثانية اللبن
في الضروع وهو مجمع عليه أيضا وقد تقدم. والثالثة العبد الآبق، وذلك لتعذر تسليمه،
والرابعة شراء المغانم قبل القسمة، وذلك لعدم الملك. والخامسة شراء الصدقات قبل القبض،
فإنه لا يستقر ملك المتصدق عليه إلا بعد القبض، إلا أن استثنى الفقهاء من ذلك بيع المصدق
للصدقة قبل بعد التخلية فإنه يصح، لأنهم جعلوا التخلية كالقبض في حقه. السادسة
ضربة الغائص وهو أن يقول: أغوص في البحر غوصة بكذا فما خرج فهو لك، والعلة
في ذلك هو الغرر.
41 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر. رواه أحمد، وأشار إلى أن الصواب وقفه) وهو
دليل على حرمة بيع السمك في الماء وقد علله بأنه غرر، وذلك لأنه تختفى في الماء حقيقته
ويرى الصغير كبيرا وعكسه، وظاهره النهى عن ذلك مطلقا. وفصل الفقهاء في ذلك فقالوا:
إن كان في ماء كثير لا يمكن أخذه إلا بتصيد، ويجوز عدم أخذه فالبيع غير صحيح، وإن
كان في ماء لا يفوت فيه ويؤخذ بتصيد فالبيع صحيح ويثبت فيه الخيار بعد التسليم وإن كان
لا تحتاج إلى تصيد فالبيع صحيح ويثبت فيه خيار الرؤية، وهذا التفصيل يؤخذ من الأدلة
والتعليل المقتضى للالحاق يخصص عموم النهى.
42 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال. نهى رسول الله صلى عليه
وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم) بضم المثناة الفوقية وكسر العين يبدو صلاحها (ولا
يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع. رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني، وأخرجه
أبو داود في المرسل لعكرمة) وهو الراجح (وأخرجه أيضا موقوفا على ابن عباس باسناد
قوى ورجحه البيهقي) اشتمل الحديث على ثلاث مسائل: الأولى النهى عن بيع الثمرة
حتى يبدو صلاحها ويطيب أكلها ويأتي الكلام في ذلك. الثانية النهى عن بيع الصوف على
الظهر، وفيه قولان للعلماء: الأول أنه لا يصح عملا بالحديث، ولأنه يقع الاختلاف
في موضع القطع من الحيوان فيقع الاضرار به وهذا قول الهادوية والشافعي وأبي حنيفة. والقول
الثاني أنه يصح البيع لأنه مشاهد يمكن تسليمه فيصح كما صح من المذبوح، وهذا قول
مالك ومن وافقه قالوا: والحديث موقوف على ابن عباس، والقول الأول أظهر، ولحديث
قد تعاضد فيه المرسل والموقوف، وقد صح النهى عن الغرر والغرر حاصل فيه. والثالثة النهى
عن بيع اللبن في الضرع لما فيه من الغرر. وذهب سعيد بن جبير إلى جوازه قال لأنه
صلى الله عليه وسلم سمى الصرع خزانة في قوله فيمن يحلب فيمن يحلب شاة أخيه بغير إذنه (يعمد
أحد لم إلى خزانة أخيه ويأخذ ما فيها) وأجيب بأن تسميته خزانة مجاز، ولئن سلم فبيع ما
في الخزانة، بيع غرر، ولا يدرى بكميته وكيفيته.
43 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
32

بيع المضامين) المراد بهما ما في بطون الإبل (والملاقيح) هو ما في ظهور الجمال (رواه
البزار وفى إسناده ضعف) لان في رواية صالح بن أبي الأخضر عن الزهري وهو ضعيف،
ورواه مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا قال الدارقطني في العلل: تابعه معمر ووصله عمر بن
قيس عن الزهري وقول مالك هو الصحيح وفى الباب عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق باسناد
قوى. والحديث دليل على عدم صحة بيع المضامين والملاقيح، وقد تقدم وهو إجماع.
44 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من
أقال مسلما بيعته أقال الله عثرته. رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه، ابن حبان
والحاكم) وهو عند لفظه (من أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة) قال أبو الفتح
القشيري: هو على شرطهما. وفى الباب ما يشده من الأحاديث الدالة على فضل الإقالة.
وحقيقتها شرعا رفع العقد الواقع بين المتعاقدين وهي مشروعة إجماعا، ولا بد من لقظ يدل
عليها وهو أقلت أو ما يفيد معناه عرفا. وللإقالة شرائط ذكرت في كتب الفروع لا دليل عليها،
إنما دل الحديث على أنها تكون بين المتبايعين لقوله (بيعته). وأما كون المقال مسلما فليس
بشرط، وإنما ذكر لكونه حكما أغلبيا، إلا فثواب الإقالة ثابت في إقالة غير المسلم، وقد
ورد بلفظ (من أقال نادما) أخرجه البزار.
باب الخيار
الخيار بكسر الخاء المعجمة اسم من الاختيار أو التخيير وهو طلب خير الامرين
من إمضاء البيع أو فسخه وهو أنواع: ذكر المصنف في هذا الباب خيار الشرط وخيار المجلس.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله (ص) قال: إذا
تبايع الرجلان فكل اي أوقعا العقد بينهما الا تساوما من غير عقد (فكل واحد منهما
بالخيار ما لم يتفرقا) وفي لفظ يفترقا والمراد بالأبدان (وكانا جميعا، أو يخير) من
التخيير (أحدهما الآخر) فإن خير أحدهما الآخر أي إذا اشترط أحدهما الخيار مدة
معلومة فإن الخيار لا ينقضي بالتفرق بل يبقى حتى تمضي مدة الخيار التي شرطها. وقيل
المراد إذا اختار إمضاء البيع قبل التفرق لزمه البيع حينئذ وبطل اعتبار التفرق ويدل لهذا
قوله: (فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع) أي نفذ وتم
(وإن تفرقا) بالأبدان (بعد أن تبايعا) أي عقدا عقد البيع (ولم يترك واحد
منهما البيع فقد وجب البيع متفق عليه واللفظ لمسلم). الحديث دليل على ثبوت
33

خيار المجلس للمتبايعين وأنه يمتد إلى أن يحصل التفرق بالأبدان. وقد اختلف العلماء
في ثبوته على قولين: الأول: ثبوته وهو لجماعة من الصحابة منهم علي عليه السلام وابن عباس
وابن عمر وغيرهم، وإليه ذهب أكثر التابعين والشافعي وأحمد وإسحاق والامام يحيى قالوا:
والتفرق الذي يبطل له الخيار ما يسمى عادة تفرقا ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما،
وفي الكبير بالتحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث ودل على أن هذا تفرق
فعل ابن عمر المعروف. فإن قاما معا أو ذهبا معا فالخيار باق وهذا المذهب دليله
هذا الحديث المتفق عليه. القول الثاني: للهادوية والحنفية ومالك والامامية: أنه لا يثبت
خيار المجلس بل متى تفرق المتبايعان بالقول فلا خيار إلا ما شرط مستدلين: بقوله تعالى:
* (وتجارة عن تراض) * وبقوله: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) *. قالوا: والاشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق
الامر وإن وقع قبله لم يصادف محله وحديث: إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع
ولم يفصل. وأجيب بأن الآية مطلقة قيدت بالحديث
. وكخيار الشرط. وكذلك الحديث
وآية الاشهاد يراد بهما عند العقد ولا ينافيه ثبوت خيار المجلس كما لا ينافيه سائر الخيارات.
قالوا: والحديث منسوخ بحديث: المسلمون على شروطهم والخيار بعد لزوم العقد يفيد
الشرط. ورد بأن الأصل عدم النسخ ولا يثبت بالاحتمال. قالوا: ولأنه من رواية مالك
ولم يعمل به. وأجيب بأن مخالفة الراوي لا توجب عدم العمل بروايته لان عمله مبني على
اجتهاده وقد يظهر له ما هو أرجح عنده مما رواه وإن لم يكن أرجح في نفس الامر.
قالوا: وحديث الباب يحمل على المتساومين فإن استعمال البائع في المساوم شائع. وأجيب
عنه بأنه إطلاق مجازي والأصل الحقيقة. وعورض بأنه يلزم أيضا حمله على المجازي على
القول الأول فإنه على تقدير القول بأن المراد التفرق بالأبدان هو بعد تمام الصيغة
وقد مضى فهو مجاز في الماضي. وردت هذه المعارضة بأنا لا نسلم أنه مجاز في الماضي
بل هو حقيقة فيه كما ذهب إليه الجمهور بخلاف المستقبل فمجاز اتفاقا. قالوا: المراد التفرق
بالأقوال. والمراد بالتفرق فيما هو ما بين قول البائع بعتك بكذا أو قول المشتري اشتريت.
قالوا فالمشتري بالخيار في قوله اشتريت أو تركه والبائع بالخيار إلى أن يوجب المشتري.
ولا يخفى ركاكة هذا القول وبطلانه فإنه إلغاء للحديث عن الفائدة إذ من المعلوم يقينا أن
كلا من البائع والمشتري في هذه الصورة على الخيار إذ لا عقد بينهما فالاخبار به لاغ عن
الإفادة ويرده لفظ الحديث كما لا يخفى. فالحق هو القول الأول وأما معارضة حديث
الباب بالحديث الآتي، وهو قوله:
2 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما أن النبي (ص) قال:
34

البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن
يفارقه خشية أن يستقيله رواه الخمسة إلا ابن ماجة ورواه الدارقطني وابن خزيمة
وابن الجارود. وفي رواية: حتى يتفرقا عن مكانهما) وبحديث أبي داود عن ابن عمرو
بلفظ: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه
خشية أن يستقيله. قالوا فقوله أن يستقيله دال على نفوذ البيع فقد أجيب عنه بأن
الحديث دليل خيار المجلس أيضا لقوله: بالخيار ما لم يتفرقا. وأما قوله: أن يستقيله فالمراد
به الفسخ لأنه لو أريد الاستقالة حقيقة لم يكن للمفارقة معنى فتعين حملها على الفسخ وعلى
ذلك حمله الترمذي وغيره من العلماء فقالوا: معناه لا يحل له أن يفارقه بعد البيع خشية أن
يختار فسخ المبيع فالمراد بالاستقالة فسخ النادم. وحملوا نفي الحل على الكراهة لأنه لا يليق
بالمروءة وحسن معاشرة المسلم لان اختيار الفسخ حرام. وأما ما روي عن ابن عمر
(أنه كان إذا بايع رجلا فأراد أن يتم بيعته قام يمشي هنيهة فرجع إليه) فإنه محمول على أن
ابن عمر لم يبلغه النهي. وقال ابن حزم: حمل حديث ابن عمرو هذا على التفرق بالأقوال
تذهب معه فائدة الحديث لأنه يلزم معه حل التفرق سواء خشي أن يستقيله أو لا لان الإقالة
تصح قبل التفرق وبعده. قال ابن عبد البر: قد أكثر المالكية والحنفية من الكلام برد
الحديث بما يطول ذكره وأكثره لا يحصل منه شئ وإذا ثبت لفظ مكانهما لم يبق للتأويل
مجال وبطل بطلانا ظاهرا حمله على تفرق الأقوال.
3 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رجل لرسول الله (ص) أنه يخدع في البيوع فقال: إذا بايعت فقل لا خلابة متفق عليه. (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رجل) هو حبان بفتح الحاء بن منقد
المهملة والباء الموحدة (للنبي (ص) أنه يخدع في البيوع فقال: إذا بايعت
فقل لا خلابة) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام وبموحدة أي لا خديعة (متفق
عليه). زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير و عبد الأعلى عنه: ثم أنت بالخيار في كل سلعة
ابتعتها ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فاردد فبقي ذلك الرجل حتى أدرك
زمان عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة فكثر الناس في زمان عثمان فكان إذا اشترى
شيئا فقيل له إنك غبنت فيه رجع فيشهد له رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قد جعل له الخيار ثلاثا فيرد له دراهمه. والحديث دليل على خيار الغبن في البيع والشراء إذا
حصل الغبن. واختلف فيه العلماء على قولين: الأول: ثبوت الخيار بالغبن وهو قول أحمد
ومالك ولكن إذا كان الغبن فاحشا لمن لا يعرف ثمن السلعة. وقيده بعض المالكية بأن
يبلغ الغبن ثلث القيمة ولعلهم أخذوا التقييد مما علم من أنه لا يكاد يسلم أحد من مطلق الغبن
في غالب الأحوال، ولان القليل يتسامح به في العادة وأنه من رضى بالغبن بعد معرفته
فإن ذلك لا يسمى غبنا، وإنما يكون من باب التساهل في البيع الذي أثنى صلى الله عليه وسلم
على فاعله وأخبر أن الله يحب الرجل سهل البيع سهل الشراء. وذهب الجماهير من العلماء
35

إلى عدم ثبوت الخيار بالغبن لعموم أدلة البيع ونفوذه من غير تفرقة بين الغبن أولا، قالوا:
وحديث الباب إنما كان الخيار فيه لضعف عقل ذلك الرجل إلا أنه ضعف لم يخرج به عن
حد التمييز فتصرفه كتصرف الصبي المأذون له ويثبت به الخيار مع الغبن. قلت: ويدل
لضعف عقله ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن من حديث أنس بلفظ: إن رجلا كان يبايع
وكان في عقله أي إدراكه - ضعف. ولأنه لقنه صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا خلابة "
اشتراط عدم الخداع فكان شراؤه وبيعه مشروطا بعدم الخداع ليكون من باب خيار
الشرط. قال ابن العربي: إن الخديعة في هذه القصة يحتمل أن تكون في العيب أو في الملك
أفي الثمن أو في العين فلا يحتج بها في الغبن بخصوصه وهي خاصة لا عموم فيها.
قلت: في رواية ابن إسحاق أنه شكا إلى النبي (ص) ما يلقى من الغبن وهي ترد
ما قاله ابن العربي. وقال بعضهم: إنه إذا قال الرجل البائع أو المشتري لا خلابة ثبت
الخيار وإن لم يكن فيه غبن. ورد بأنه مقيد بما في الرواية أنه كان يغبن. وأثبت الهادوية
الخيار بالغبن في صورتين، الأولى: من تصرف عن الغير. والثانية: في الصبي المميز محتجين
بهذا الحديث. وهو دليل لهم على الصورة الثانية إذا ثبت أنه كان في عقله ضعف دون الأولى
باب الربا
الربا - بكسر الراء مقصورة - من ربا يربو، ويقال الرماء - بالميم والمد - بمعناه. والربية - بضم
الراء والتخفيف - وهو الزيادة، ومنه قوله تعالى (اهتزت وربت) ويطلق الربا على كل بيع
محرم وقد أجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل. والأحاديث
النهي عنه وذم فاعله ومن أعانه كثيرة جدا وردت بلعنه ومنها:
1 - (عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله (ص) آكل
الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء رواه مسلم. وللبخاري
نحوه من حديث أبي جحيفة) أي دعا على المذكورين بالابعاد عن الرحمة. وهو دليل على
إثم من ذكر وتحريم ما تعاطوه وخص الأكل لأنه الأغلب في الانتفاع وغيره مثله،
والمراد من موكله الذي أعطى الربا لأنه ما تحصل الربا إلا منه فكان داخلا في الاثم. وإثم
الكاتب والشاهدين لإعانتهم على المحظور وذلك إذا قصدا وعرفا بالربا وورد في رواية
لعن الشاهد بالافراد على إرادة الجنس: فإن قلت حديث: اللهم ما لعنت من لعنة فاجعلها
رحمة أو نحوه وفي لفظ: ما لعنت فعلى من لعنت يدل على أنه لا يدل اللعن منه صلى
الله عليه وسلم على التحريم وأنه لم يرد به حقيقة الدعاء على من أوقع عليه اللعن؟ قلت:
36

ذلك فيما إذا كان من أوقع عليه اللعن غير فاعل لمحرم معلوم أو كان اللعن في حال غضب
منه (ص).
2 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: الربا
ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى
الربا عرض الرجل المسلم رواه ابن ماجة مختصرا والحاكم بتمامه وصححه) وفي معناه
أحاديث وقد فسر الربا في عرض المسلم بقول السبتان بالسبة وفيه دليل على أنه يطلق
الربا على الفعل المحرم وإن لم يكن من أبواب الربا المعروفة وتشبيه أيسر الربا بإتيان الرجل
أمه لما فيه من استقباح ذلك عند العقل.
3 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال:
لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا) بضم المثناة الفوقية فشين معجمة
مكسورة ففاء مشددة أي لا تفضلوا (بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق
إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)
بالجيم والزاي أي حاضر (متفق عليه). الحديث دليل على تحريم بيع الذهب بالذهب
والفضة بالفضة متفاضلا سواء كان حاضرا أو غائبا لقوله: إلا مثلا بمثل فإنه استثنى من
أعم الأحوال كأنه قال لا تبيعوا ذلك في حال من الأحوال إلا في حال كونه مثلا بمثل
أي متساويين قدرا. وزاده تأكيدا بقوله: ولا تشفوا أي لا تفاضلوا وهو من الشف بكسر
الشين وهي الزيادة هنا. وإلى ما أفاده الحديث ذهبت الجلة من العلماء: الصحابة والتابعين
والعترة والفقهاء فقالوا: يحرم التفاضل فيما ذكر غائبا كان أو حاضرا. وذهب ابن عباس
وجماعة من الصحابة إلى أنه لا يحرم الربا إلا في النسيئة مستدلين بالحديث الصحيح " لا ربا
إلا في النسيئة " وأجاب الجمهور بأن معناه: لا ربا أشد إلا في النسيئة فالمراد نفي الكمال
لا نفي الأصل ولأنه مفهوم وحديث أبي سعيد منطوق ولا يقاوم المفهوم المنطوق فإنه
مطروح مع المنطوق. وقد روى الحاكم أن ابن عباس رجع عن ذلك القول أي بأنه لا ربا
إلا في النسيئة واستغفر الله من القول به. ولفظ الذهب عام لجميع ما يطلق عليه من مضروب
وغيره وكذلك لفظ الورق. وقوله: لا تبيعوا غائبا منها بناجز المراد بالغائب ما غاب عن
مجلس البيع مؤجلا كان أو لا والناجز الحاضر.
4 - (وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله (ص)
الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح
بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا
كيف شئتم إذا كان يدا بيد رواه مسلم) لا يخفى ما أفاده من التأكيد بقوله مثلا
بمثل وسواء بسواء. وفيه دليل على تحريم التفاضل فيما اتفقا جنسا من الستة المذكورة التي
37

وقع عليها النص. وإلى تحريم الربا فيها ذهبت الأمة كافة واختلفوا فيما عداها فذهب
الجمهور إلى ثبوته فيما عداها مما شاركها في العلة ولكن لما لم يجدوا علة منصوصة اختلفوا
فيها اختلافا كثيرا يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا
إلا في الستة المنصوص عليها. وقد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميتها: القول
المجتبى واعلم أنه اتفق العلماء على جواز بيع ربوي بربوي لا يشاركه في الجنس مؤجلا
ومتفاضلا كبيع الذهب بالحنطة والفضة بالشعير وغيره من المكيل واتفقوا على أنه لا يجوز
بيع الشئ بجنسه وأحدهما مؤجل.
5 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
الذهب بالذهب وزنا بوزن) نصب على الحال (مثلا بمثل، والفضة بالفضة
وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا رواه مسلم) فيه دليل على
تعين التقدير بالوزن لا بالخرص والتخمين بل لا بد من التعيين الذي يحصل بالوزن وقوله:
فمن زاد أي أعطى الزيادة أو استزاد أي طلب الزيادة فقد أربى أي فعل الربا المحرم
واشترك في إثمه الآخذ والمعطي.
6 - (وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله (ص)
استعمل رجلا) اسمه سواد بفتح السين المهملة وتخفيف الواو ودال مهملة - ابن غزية - بفتح الغين
المعجمة وكسر الزاي ومثناة تحتية - بزنة عطية وهو من الأنصار (على خيبر فجاءه بتمر جنيب)
بالجيم المفتوحة والنون - بزنة عظيم يأتي ببيان معناه (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل تمر
خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة
فقال النبي (ص): لا تفعل بع الجمع بفتح الجيم وسكون الميم التمر
الردئ بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وقال في الميزان مثل ذلك. متفق عليه.
ولمسلم: وكذلك الميزان). الجنيب: قيل الطيب، وقيل الصلب، وقيل الذي أخرج منه
حشفه ورديئه وقيل هو الذي لا يختلط بغيره، وقد فسر الجمع بما ذكرناه آنفا وفسر
في رواية لمسلم بأنه الخليط من التمر ومعناه مجموع من أنواع مختلفة. والحديث دليل على أن
بيع الجنس بجنسه يجب فيه التساوي سواء اتفقا في الجودة والرداءة أو اختلفا وأن الكل جنس
واحد. وقوله: وقال في الميزان مثل ذلك أي قال فيما كان يوزن إذا بيع بجنسه مثل ما قال
في المكيل إنه لا يباع متفاضلا وإذا أريد مثل ذلك بيع بالدراهم وشري ما يراد بها والاجماع
قائم على أنه لا فرق بين المكيل والموزون في ذلك الحكم. واحتجت الحنفية بهذا الحديث على
أنه ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم مكيلا لا يصح أن يباع ذلك بالوزن متساويا بل لا بد
من اعتبار كيله وتساويه كيلا وكذلك الوزن. وقال ابن عبد البر: إنهم أجمعوا أن ما كان أصله
الوزن لا يصح أن يباع بالكيل بخلاف ما كان أصله الكيل فإن بعضهم يجيز فيه الوزن
38

ويقول إن المماثلة تدرك بالوزن في كل شئ. وغيرهم يعتبرون الكيل والوزن بعادة البلد ولو
خالف ما كان عليه في ذلك الوقت فإن اختلفت العادة اعتبر بالأغلب فإن استوى الأمران
كان له حكم المكيل إذا بيع بالكيل وإن بيع بالوزن كان له حكم الموزون.
واعلم أنه لم يذكر في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم أمره برد البيع بل ظاهرها أنه قرره
وإنما أعلمه بالحكم وعذره للجهل به. إلا أنه قال ابن عبد البر: إن سكوت الراوي عن رواية
فسخ العقد ورده لا يدل على عدم وقوعه وقد أخرج من طريق أخرى وكأنه يشير إلى
ما أخرج من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد نحو هذه القصة فقال (هذا الربا فردوه) قال:
ويحتمل تعدد القصة وأن التي لم يقع فيها الرد كانت متقدمة. وفي الحديث دلالة على
جواز الترفيه على النفس باختيار الأفضل.
7 - (وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى
من التمر رواه مسلم). دل الحديث على أنه لا بد من التساوي بين الجنسين وتقدم
اشتراطه وهو وجه النهي.
8 - (وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: إني كنت أسمع رسول الله (ص)
يقول: الطعام بالطعام مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير،
رواه مسلم) ظاهر لفظ الطعام أنه يشمل كل مطعوم ويدل على أنه لا يباع متفاضلا،
وإن اختلف الجنس. والظاهر أنه لا يقول أحد بالعموم وإنما الخلاف في البر والشعير كما
سيأتي عن مالك ولكن معمر خص الطعام بالشعير وهذا من التخصيص بالعادة الفعلية
حيث لم يغب الاسم وقد ذهب إلى التخصيص بها الحنفية. والجمهور لا يخصصون بها إلا
إذا اقتضت غلبة الاسم وإلا حمل اللفظ على العموم ولكنه مخصوص بما تقدم من قوله فإذا
اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم بعد عده للبر والشعير فدل على أنهما صنفان وهو
قول الجماهير. وخالف ذلك مالك والليث والأوزاعي فقالوا: هما صنف واحد لا يجوز
بيع أحدهما بالآخر متفاضلا وسبقهم إلى ذلك معمر بن عبد الله راوي الحديث فأخرج
مسلم عنه أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال: بعه ثم اشتر به شعيرا. فذهب الغلام فأخذ
صاعا وزيادة بعض صاع فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا تأخذن إلا
مثلا بمثل فإني سمعت رسول الله (ص) ثم ساق هذا الحديث المذكور. فقيل
له: فإنه ليس مثله. فقال: إني أخاف أن يضارع. وظاهره أنه اجتهاد منه ويرد عليهم ظاهر
الحديث. ونص حديث أبي داود والنسائي من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله (ص)
: لا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد.
9 - (وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر
دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت
39

ذلك للنبي (ص) فقال: لا تباع حتى تفصل. رواه مسلم). الحديث قد
أخرجه الطبراني في الكبير بطرق كثيرة بألفاظ متعددة حتى قيل إنه مضطرب. وأجاب
المصنف أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه
وهو النهي عن بيع ما لم يفصل وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب
الاضطراب. وحينئذ فينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة
رواية أحفظهم وأضبطهم فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة وهو كلام حسن يجاب
به فيما يشابه هذا مثل حديث جابر وقصة جمله ومقدار ثمنه. والحديث دليل على أنه لا يجوز
بيع ذهب مع غيره بذهب حتى يفصل ويباع الذهب بوزنه ذهبا ويباع الآخر بما زاد
ومثله غيره من الربويات فإنه (ص) قال: لا تباع حتى تفصل فصرح
ببطلان العقد وأنه يجب التدارك له. وقد اختلف في هذا الحكم فذهب كثير من السلف
والشافعي وأحمد وغيرهم إلى العمل بظاهر الحديث. وخالف في ذلك الهادوية والحنفية
وآخرون وقالوا بجواز ذلك بأكثر مما فيه من الذهب ولا يجوز بمثله ولا بدونه. قالوا: وذلك
لأنه حصل الذهب في مقابلة الذهب والزائد من الذهب في مقابلة المصاحب له فصح العقد.
قالوا لأنه إذا احتمل العقد وجه صحة وبطلان حمل على الصحة. قالوا: وحديث القلادة
الذهب فيها أكثر من اثني عشر دينارا لأنها إحدى الروايات في مسلم وصححها أصحاب أبي علي
الغساني. والتي لفظها: قلادة فيها اثنا عشر دينارا هي أيضا كرواية الأكثر في الحكم.
وهو على التقديرين لا يصح لأنه لا بد أن يكون المنفرد أكثر من المصاحب ليكون ما زاد
من المنفرد في مقابلة المصاحب. وأجاب المانعون بأن الحديث فيه دلالة على علة النهي وهو
عدم الفصل حيث قال: لا تباع حتى تفصل وظاهره الاطلاق في المساوي وغيره. فالحق
مع القائلين بعدم الصحة ولعل حكمة النهي هو سد الذريعة إلى وقوع التفاضل
في الجنس الربوي ولا يكون إلا بتمييزه بفصل واختبار المساواة بالكيل أو الوزن وعدم
الكفاية بالظن في التغليب. ولمالك قول ثالث في المسألة وهو أنه يجوز بيع السيف
المحلى بالذهب إذا كان الذهب في البيع تابعا لغيره وقدره بأن يكون الثلث فما دونه وعلل
لقوله بأنه إذا كان الجنس المقابل بجنسه الثلث فما دونه فهو مغلوب ومكثور للجنس المخالف
والأكثر ينزل في غالب الاحكام منزلة الكل فكأنه لم يبع ذلك الجنس بجنسه ولا تخفى
ركته وضعفه. وأضعف منه القول الرابع وهو جواز بيعه بالذهب مطلقا مثلا بمثل أو أقل
أو أكثر ولعل قائله ما عرف حديث القلادة.
10 - (وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن النبي (ص) نهى عن
40

بيع الحيوان بالحيوان نسيئة رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن الجارود). وأخرجه أحمد
وأبو يعلى والضياء في المختارة كلهم من حديث الحسن عن سمرة. وقد صححه الترمذي وقال
غيره رجاله ثقات إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله لما في سماع الحسن من سمرة من النزاع
لكن رواه ابن حبان والدارقطني من حديث ابن عباس ورجاله ثقات أيضا. إلا أنه رجح
البخاري وأحمد إرساله. وأخرجه الترمذي عن جابر بإسناد لين وأخرجه عبد الله بن أحمد
في زوائد المسند عن جابر بن سمرة والطحاوي والطبراني عن ابن عمر. وهو يعضد بعضه بعضا
وفيه دليل على عدم صحة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إلا أنقد عارضه رواية أبي رافع أنه
صلى الله عليه وسلم استسلف بعيرا بكرا وقضى رباعيا وسيأتي. فاختلف العلماء في الجمع
بينه وبين حديث سمرة فقيل: المرا بحديث سمرة أن يكون نسيئة من الطرفين معا فيكون من
بيع الكالئ بالكالئ وهو لا يصح وبهذا فسره الشافعي جمعا بينه وبين حديث أبي رافع.
وذهبت الهادوية والحنفية والحنابلة إلى أن هذا ناسخ لحديث أبي رافع. وأجيب عنه بأن
النسخ لا يثبت إلا بدليل والجمع أولى منه وقد أمكن بما قاله الشافعي. ويؤيده آثار عن
الصحابة أخرجها البخاري قال: اشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها
صاحبها بالربذة واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين وأعطاه أحدهما وقال آتيك
بالآخر غدا. وقال ابن المسيب لا ربا في البعير بالبعيرين والشاة بالشاتين إلى أجل.
واعلم أن الهادوية يعللون منع بيع الحيوان الموجود بالحيوان المفقود بأن المبيع القيمي لا بدأن
يكون موجودا عند العقد في ملك البائع له والحيوان قيمي مبيع مطلقا فيجب كونه موجودا
وإن لم يكن حاضرا مجلس العقد فلا بد أن يكون مميزا عند البائع إما بإشارة أو لقب أو وصف
وكذلك عللوا منع قرض الحيوان بعدم إمكان ضبطه. وحديث أبي رافع يزعمون نسخه
ويأتي تحقيق الكلام في شرح الحديث الرابع عشر.
11 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (ص)
يقول: إذا تبايعتم بالعينة) بكسر العين المهملة وسكون المثناة التحتية وأخذتم أذناب
البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا) بضم الذال
المعجمة والكسر: الاستهانة والضعف (لا ينزعه شئ حتى ترجعوا إلى دينكم رواه
أبو داود من رواية نافع عنه وفي إسناده مقال). لان في إسناده أبا عبد الرحمن الخراساني
اسمه إسحاق عن عطاء الخراساني قال الذهبي في الميزان: هذا من مناكيره. (ولأحمد نحوه
من رواية عطاء ورجاله ثقات وصححه ابن القطان). قال المصنف: وعندي أن الحديث
الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كونه رجاله ثقات أن يكون صحيحا لان
الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء وعطاء يحتمل أن يكون هو الخراساني،
41

فيكون من تدليس التسوية بإسقاط نافع بن عطاء وابن عمر فيرجع إلى الحديث
الأول وهو المشهور اه‍. والحديث له طرق عديدة عقد له البيهقي بابا وبين عللها.
واعلم أن بيع العينة هو أن يبيع سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها من المشتري بأقل
ليبقى الكثير في ذمته وسميت عينة لحصول العين أي النقد فيها ولأنه يعود إلى البائع
عين ماله. وفيه دليل على تحريم هذا البيع وذهب إليه مالك وأحمد وبعض الشافعية عملا
بالحديث قالوا ولما فيه من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا وسد الذرائع
مقصود. قال القرطبي: لان بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا
ويكون الثمن لغوا. وأما الشافعي فنقل عنه أنه قال بجوازه أخذا من قوله (ص)
في حديث أبي سعيد وأبي هريرة الذي تقدم: بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا. قال فإنه دال
على جواز بيع العينة فيصح أن يشتري ذلك البائع له ويعود له عين ماله لأنه لما لم
يفصل ذلك في مقام الاحتمال دل على صحة البيع مطلقا سواء كان من البائع أو غيره.
وذلك لان ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجري مجرى العموم في المقال. وأيد ما
ذهب إليه الشافعي بأنه قد قام الاجماع على جواز البيع من البائع بعد مدة لا لأجل التوصل إلى
عوده إليه بالزيادة. وقالت الهادوية: يجوز البيع من البائع إذا كان غير حيلة ولا
فرق بين التعجيل والتأجيل وبأن المعتبر في ذلك وجود الشرط في أصل العقد وعدمه
فإذا كان مشروطا عند العقد أو قبله على عوده إلى البائع فالبيع فاسد أو باطل على الخلاف
وإن كان مضمرا غير مشروط فهو صحيح ولعلهم يقولون: حديث العينة فيه مقال فلا
ينتهض دليلا على التحريم. وقوله: وأخذتم أذناب البقر كناية عن الاشتغال عن الجهاد
بالحرث. والرضا بالزرع كناية عن كونه قد صار همهم وهمتهم وتسليط الله كناية عن
جعلهم أذلاء بالتسليط لما في ذلك من الغلبة والقهر. وقوله: حتى ترجعوا إلى دينكم أي
ترجعوا إلى الاشتغال بأعمال الدين. وفي هذه العبارات زجر بالغ وتقريع شديد حتى جعل
ذلك بمنزلة الردة وفيه الحث على الجهاد.
12 - (وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: من شفع
لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا
رواه أحمد وأبو داود وفي إسناده مقال). فيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة
وظاهره سواء كان قاصدا لذلك عند الشفاعة أو غير قاصد لها. وتسميته ربا من باب
الاستعارة للشبه بينهما وذلك لان الربا هو الزيادة في المال من الغير لا في مقابلة عوض وهذا
مثله. ولعل المراد إذا كانت الشفاعة في واجب كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ المظلوم
من يد الظالم أو كانت في محظور كالشفاعة عنده في تولية ظالم على الرعية فإنها في
الأولى واجبة فأخذ الهدية في مقابلها محرم والثانية محظورة فقبضها في مقابلها محظور.
42

وأما إذا كانت الشفاعة في أمر مباح فعله جائز أخذ الهدية لأنها مكافأة على إحسان غير
واجب ويحتمل أنها تحرم لان الشفاعة شئ يسير لا تؤخذ عليه مكافأة. وإنما قال المصنف
وفي إسناده مقال لأنه رواه القاسم عن أبي أمامة وهو عبد الرحمن مولاهم الأموي الشامي
فيه مقال قاله المنذري. قلت: في الميزان قال الإمام أحمد: روى عنه علي بن زيد أعاجيب
وما أراها إلا من قبل القاسم. وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله
(ص) المعضلات ثم إنه وثقة ابن معين وقال الترمذي ثقة انتهى.
13 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله (ص)
الراشي والمرتشي رواه أبو داود والترمذي وصححه). ورواه أحمد في القضاء وابن
ماجة في الاحكام والطبراني في الصغير وقال الهيثمي رجاله ثقات. وذكر المصنف
هذا الحديث في أبواب الربا لأنه أفاد لعن من ذكر لأجل أخذ المال الذي يشبه الربا
كذلك أخذ الربا، وقد تقدم لعن آخذه أول الباب. وحقيقة اللعن البعد عن مظان الرحمة
ومواطنها وقد ثبت اللعن عنه (ص) لأصناف كثيرة تزيد على العشرين
وفيه دلالة على جواز لعن العصاة من أهل القبلة. وأما حديث المؤمن ليس باللعان
فالمراد به لعن من لا يستحق ممن لم يلعنه الله ولا رسوله أو ليس بالكثير اللعن كما تفيده
صيغة فعال. والراشي هو الذي يبذل المال ليتوصل به إلى الباطل مأخوذ من الرشاء
وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء في البئر فعلى هذا بذل المال للتوصل إلى الحق
لا يكون رشوة. والمرتشي آخذ الرشوة وهو الحاكم. واستحقا اللعنة جميعا لتوصل الراشي
بماله إلى الباطل والمرتشي للحكم بغير الحق. وفي حديث ثوبان زيادة والرائش
وهو الذي يمشي بينهما.
14 - (وعنه): أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا
فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، قال: فكنت آخذ البعير بالبعيرين
إلى إبل الصدقة رواه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات). ذكر المصنف له هنا لان الحديث
يدل أن لا ربا في الحيوانات وإلا فبابه القرض. وفي الحديث دليل على جواز اقتراض الحيوان
وفيه أقوال ثلاثة: الأول: جواز ذلك وهو قول الشافعي ومالك وجماهير العلماء من السلف
والخلف عملا بهذا الحديث وبأن الأصل جواز ذلك إلا جارية لمن يملك وطأها فإنه
لا يجوز، ويجوز لمن لا يملك وطأها كمحارمها والمرأة. والثاني: يجوز مطلقا مطلقا للجارية وغيرها
وهو لابن جرير وداود. الثالث: للهادوية والحنفية أنه لا يجوز قرض شئ من الحيوانات
وهذا الحديث يرد قولهم وتقدم دعواهم النسخ وعدم صحته
واعلم أنه قد وقع في الشرح أن حديث ابن عمرو في قرض الحيوان كما ذكرناه وراجعنا
كتب الحديث فوجدنا في سنن البيهقي ما لفظه بعد سياقه بإسناده: قال عمرو بن حريش
لعبد الله بن عمرو بن العاص: إنا بأرض ليس فيها ذهب ولا فضة أفأبيع البقرة بالبقرتين
والبعير بالبعيرين والشاة بالشاتين فقال: أمرني رسول الله (ص) أن أجهز
43

جيشا - الحديث المصدر في الكتاب. وفي لفظ: فأمره النبي (ص) أن يبتاع
ظهرا إلى خروج المصدق. فسياق الأول واضح أنه في البيع ولفظ الثاني صريح في ذلك.
إذا عرفت هذا فحمله على القرض خلاف ما دل عليه من بيع الحيوان بالحيوان نسيئة "
وقد عارضه حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة كما تقدم في الحديث العاشر
وقد علمت ما قيل فيه. والأقرب من باب الترجيح أن حديث ابن عمرو أرجح من
حيث الاسناد فإنه قد قال الشافعي في حديث سمرة إنه غير ثابت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كما رواه عنه البيهقي. وقرض الحيوان بالحيوان قد صح عنه صلى الله عليه وسلم
جوازه أيضا.
15 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما) وكان قياس قاعدة المصنف وعنه (قال
نهى رسول الله (ص) عن المزابنة) وفسرها بقوله: (أن يبيع ثمر حائطه
إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان
زرعا أن يبيعه بكيل طعام. نهى عن ذلك كله. متفق عليه). تقدم الكلام على
تفسير المزابنة واشتقاقها ووجه التسمية. وقوله ثمر بالمثلثة وفتح الميم فشمل الرطب وغيره
والمراد ما كان في أصله رطبا من هذه الأمور المذكورة وأراد بالكرم العنب. وقد اختلف
العلماء في تفسير المزابنة وتقدم أن المعول عليه في تفسيرها ما فسرها به الصحابي لاحتمال أنه
مرفوع وإلا فهو أعرف بمراد الرسول (ص). قال ابن عبد البر: لا مخالف
لهم أن مثل هذا مزابنة وإنما اختلفوا هل يلحق بذلك كل ما لا يجوز بيعه إلا مثل بمثل
فالجمهور على الالحاق في الحكم للمشاركة في العلة في ذلك وهو عدم العلم بالتساوي مع
الاتفاق في الجنس والتقدير. وأما تسمية ما ألحق مزابنة فهو إلحاق في الاسم فلا يصح إلا على
رأي من أثبت اللغة بالقياس.
16 - (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص)
يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم،
فنهى عن ذلك، رواه الخمسة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان والحاكم) وإنما صححه
ابن المديني وإن كان مالك علقه عن داود بن الحصين لان مالكا لقي شيخه بعد ذلك. فحدث
به مرة عن داود ثم استقر رأيه على التحديث به عن شيخه. قال ابن المديني: إن والده حدث
به عن مالك بتعليقه عن داود إلا أن سماع والده عن مالك قديم ثم حدث به مالك عن
شيخه فصح من طريق مالك. ومن أعله بجهالة خالد بن عياش فقد رد عليه بأن الدارقطني
قال إنه ثبت ثقة وقال المنذري قد روى عنه ثقات وقد اعتمده مالك مع شدة نقده
قال الحاكم: ولا أعلم أحدا طعن فيه. والحديث دليل على عدم جواز بيع الرطب بالتمر
لعدم التساوي كما تقدم.
17 - (وعن ابن عمر: أن النبي (ص) نهى عن بيع
44

الكالئ بالكالئ يعني الدين بالدين، رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف " ورواه الحاكم
والدارقطني من دون تفسير لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف. قال
أحمد: لا تحل الرواية عندي عنه ولا أعرف هذا الحديث لغيره. وصحفه الحاكم فقال
موسى بن عتبة فصححه على شرط مسلم وتعجب البيهقي من تصحيفه على الحاكم. قال
أحمد: ليس في هذا حديث يصح لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين. وظاهر
الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع. والكالئ من كلأ الدين كلوءا فهو كالئ إذا تأخر وكلأته
إذا أنسأته وقد لا يهمز تخفيفا. قال في النهاية: هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل فإذا
حل الاجل لم يجد ما يقضي به فيقول بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شئ فيبيعه ولا يجري
بينهما تقابض. والحديث دل على تحريم ذلك وإذا وقع كان باطلا.
باب الرخصة في العرايا
وبيع أصول الثمار
1 - (عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) رخص في العرايا
أن تباع بخرصها كيلا متفق عليه. ولمسلم رخص في العرية يأخذها أهل البيت
بخرصها تمرا يأكلونها رطبا) الترخيص في الأصل التسهيل والتيسير. وفي عرف المتشرعة
ما شرع من الاحكام لعذر مع بقاء دليل الايجاب والتحريم لولا ذلك العذر. وهذا دليل
على أن حكم العرايا مخرج من بين المحرمات مخصوص بالحكم. وقد صرح باستثنائه في حديث
جابر عند البخاري بلفظ: نهى رسول الله (ص) عن بيع الثمر حتى يطيب ولا
يباع شئ منه إلا بالدنانير والدراهم إلا العرايا. وفي قوله: في العرايا مضاف محذوف أي
في بيع ثمر العرايا لان العرية هي النخلة وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة
كانت العرب في الجدب يتطوع أهل النخل منهم بذلك على من لا ثمر له كما كانوا يتطوعون
بمنيحة الشاة والإبل. وقال مالك: العرية أن يعري الرجل الرجل النخلة ثم يتأذى المعري
بدخول المعرى عليه فرخص له أن يشتريها أي رطبها منه بتمر أي يابس. وقد وقع اتفاق
الجمهور على جواز رخصة العرايا وهو بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر يقدر كيله من التمر
خرصا فيما دون خمس أوسق بشرط التقابض وإنما قلنا فيما دون خمسة أوسق لحديث أبي هريرة
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله رخص في بيع
العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق متفق عليه). وبين مسلم أن الشك
فيه من داود بن الحصين. وقد وقع الاتفاق بين الشافعي ومالك على صحته فيما دون الخمسة
وامتناعه فيما فوقها والخلاف بينهما فيها. والأقرب تحريمه فيها لحديث جابر: سمعت رسول الله
(ص) يقول حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: الوسق والوسقين
والثلاثة والأربعة أخرجه أحمد. وترجم له ابن حبان: الاحتياط على أن لا يزيد على أربعة
أوسق. وأما اشتراط التقابض فلان الترخيص إنما وقع في بيع ما ذكر مع عدم تيقن التساوي
45

فقط. وأما التقابض فلم يقع فيه ترخيص فبقي على الأصل من اعتباره. ويدل لاشتراطه
ما أخرجه الشافعي من حديث زيد بن ثابت: أنه سمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا
إلى رسول الله (ص) ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلون مع الناس
وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر. وفيه مأخذ
لمن يشترط التقابض وإلا لم يكن لذكر وجود التمر عندهم وجه.
واعلم أن الحديث ورد في الرطب بالتمر على رؤوس الشجر. وأما شراء الرطب بعد قطعه
بالتمر فقال بجوازه كثير من الشافعية إلحاقا له بما على رؤوس الشجر كما بوب بذلك البخاري
لان محل الرخصة هو الرطب نفسه مطلقا أعم من كونه على رؤوس النخل أو قد قطع فيشمله
النص ولا يكون قياسا ولا منع إذ قد تدعو حكمة الترخيص إلى شراء الرطب الحاصل فإنه
قد تدعو إليه الحاجة في الحال وقد يكون مع المشتري تمر فيأخذه به فيدفع به قول ابن
دقيق العيد إن ذلك لا يجوز وجها واحدا لان أحد المعاني في الرخصة أن يأكل الرطب على
التدريج طريا وهذا القصد لا يحصل مما على وجه الأرض.
3 - (وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نهى رسول الله (ص) عن بيع
الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع متفق عليه، وفي رواية: كان إذا سئل عن
صلاحها قال حتى تذهب عاهتها) وهي الآفة والعيب. اختلف السلف في المراد ببدو
الصلاح على ثلاثة أقوال: الأول: أنه يكفي بدو الصلاح في جنس الثمار بشرط أن يكون
الصلاح متلاحقا وهو قول الليث والمالكية. والثاني: أنه لا بد أن يكون في جنس تلك الثمرة
المبيعة وهو قول لأحمد. والثالث: أنه يعتبر الصلاح في تلك الشجرة المبيعة وهو قول الشافعية.
ويفهم من قوله: يبدو أنه لا يشترط تكامله فيكفي زهو بعض الثمرة وبعض الشجرة مع حصول
المعنى المقصود وهو الأمان من العاهة. وقد جرت حكمة الله أن لا تطيب الثمار دفعة واحدة
لتطول مدة التفكه بها والانتفاع. والحديث دليل على النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها.
والاجماع قائم على أنه لا يصح بيع الثمار قبل خروجها لأنه بيع معدوم وكذا بعد خروجها
قبل نفعها. إلا أنه روى المصنف في الفتح أن الحنفية أجازوا بيع الثمار قبل بدو الصلاح
وبعده بشرط القطع وأبطلوه بشرط البقاء قبله وبعده. وأما بعد صلاحها ففيه تفاصيل
فإن كان بشرط القطع صح إجماعا. وإن كان بشرط البقاء كان بيعا فاسدا إن جهلت المدة.
فإن علمت صح عند الهادوية ولا غرر. وقال المؤيد: لا يصح للنهي عن بيع وشرط وإن
أطلق صح عند الهادوية وأبي حنيفة إذ المتردد بين الصحة والفساد يحمل على الصحة إذ هي
الظاهر إلا أن يجري عرف ببقائه مدة مجهولة فيفسده. وأفاد نهي البائع والمبتاع أما البائع
فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل وأما المشتري فلئلا يضيع ماله. والعاهة هي الآفة التي
تصيب الثمار. وقد بين ذلك حديث زيد بن ثابت قال: كان الناس في عهد رسول الله
(ص) يتبايعون الثمار فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب
46

الثمر الدمان - وهو فساد الطلع، وسواده - أصابه مراض أصابه قشام عاهات يحتجون بها فقال رسول الله
(ص) لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: فأما لا فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح
الثمرة كالمشورة يشير بها لكثرة خصوماتهم انتهى وأفهم قوله كالمشورة أن النهي
للتنزيه لا للتحريم كأنه فهمه من السياق وإلا فأصله التحريم وكان زيد لا يبيع ثمار أرضه
حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر. وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعا
إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهة من كل بلد. والنجم الثريا والمراد طلوعها صباحا
وهو في أول الصيف وذلك عند اشتداد الحر ببلاد الحجاز وابتداء نضج الثمار
وهو المعتبر حقيقة وطلوع الثريا علامة.
4 - (وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي (ص) نهى عن بيع الثمار حتى
تزهى، قيل) في رواية النسائي قيل: يا رسول الله، فأفاد أن التفسير مرفوع (وما زهوها)
بفتح الزاي (قال: تحمار وتصفار. متفق عليه واللفظ للبخاري). يقال: أزهى يزهى
إذا احمر واصفر، وزها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته. وقيل: هما بمعنى الاحمرار والاصفرار.
ومنهم من أنكر يزهو، ومنهم من أنكر يزهى، كذا في النهاية. قال الخطابي في هذه الرواية:
هي الصواب ولا يقال في النخل يزهو إنما يقال يزهى لا غير. ومنهم من قال زها إذا طال واكتمل
وأزهى إذا احمر واصفر قال الخطابي قوله: تحمار وتصفار لم يرد بذلك اللون الخالص
من الحمرة والصفرة إنما أراد حمرة أو صفرة بكمودة فلذلك قال تحمار وتصفار قال:
ولو أراد اللون الخالص لقال تحمر وتصفر. قال ابن التين: أراد بقوله تحمار وتصفار
ظهور أوائل الحمرة والصفرة قبل أن ينضج قال: وإنما يقال يفعال في اللون المتغير إذا
كان يزول ذلك وقيل لا فر. إلا أنه قد يقال في هذا المحل المراد به ما ذكر بقرينة
الحديث الآتي، وهو قوله:
5 - (وعن أنس رضي الله عنه) قياس قاعدته وعنه (أن النبي (ص)
نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد رواه الخمسة إلا النسائي
وصححه ابن حبان والحاكم). والمراد باسوداد العنب واشتداد الحب بدو صلاحه. قال النووي:
فيه دليل لمذهب الكوفيين وأكثر العلماء في أنه يجوز بيع السنبل المشتد وأما مذهبنا ففيه
تفصيل إن كان السنبل شعيرا أو ذرة أو مما في معناهما مما ترى حباته خارجة صح بيعه
وإن كان حنطة أو نحوها مما يستر حباته بالقشور التي تزال في الدياس ففيه قولان للشافعي
الجديد أنه لا يصح وهو أصح قوليه والقديم أنه يصح. وأما قبل الاشتداد فلا يصح إلا
47

بشرط القطع كما ذكرنا فإذا باع الزرع قبل الاشتداد مع الأرض بلا شرط، صح تبعا للأرض
وكذا الثمار قبل الصلاح إذا بيعت مع الشجر جاز بلا شرط تبعا. هكذا حكم القول في الأرض
لا يجوز بيعها دون الزرع إلا بشرط القطع وكذا لا يصلح بيع البطيخ ونحوه قبل بدو صلاحه
وفروع المسألة كثيرة وقد نقحت مقاصدها في روضة الطالبين وشرح المهذب وجمعت فيها
جملة مستكثرة وبالله التوفيق.
6 - (وعن جابر بن ذ عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله (ص):
لو بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة) هي آفة تصيب الزرع (فلا يحل لك
أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ رواه مسلم،
وفي رواية: أن النبي (ص) أمر بوضع الجوائح). الجائحة مشتقة من
الجوح وهو الاستئصال ومنه حديث: إن أبي يجتاح مالي. وفي الحديث دليل على أن
الثمار التي على رؤوس الشجر إذا باعها المالك وأصابتها جائحة أن يكون تلفها من مال البائع
وأنه لا يستحق على المشتري في ذلك شيئا. وظاهر الحديث فيما باعه بيعا غير منهي عنه وأنه
وقع البيع بعد بدو الصلاح لأنه منهي عن بيعه قبل بدوه. ويحتمل وروده أي حديث
وضع الجوائح قبل النهي. يدل له ما وقع في حديث زيد بن ثابت أنه قال: قدم النبي
(ص) ونحن نبتاع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وسمع خصومة فقال: ما هذا؟
فذكر الحديث وأنه نهى عن بيعها قبل بدو صلاحها فأفاد مع ذكر سبب النهي تاريخ
ذلك فيكون حديث وضع الجوائح متأخرا، فيحمل - أي حديث وضع الجوائح - على البيع بعد
بدو الصلاح. وقد اختلف العلماء في وضع الجوائح فذهب الأقل إلى أن الجائحة إذا
أصابت الثمر جميعه أن يوضع الثمن جميعه وأن التلف من مال البائع عملا بظاهر الحديث.
وذهب الأكثر إلى أن التلف من مال المشتري وأنه لا وضع لأجل الجائحة إلا ندبا واحتجوا له
بحديث أبي سعيد: أنه (ص) أمر الناس أن يتصدقوا على الذي أصيب في ثماره
وسيأتي. قالوا: ووجه تلفه من مال المشتري أن التخلية في العقد الصحيح بمنزلة القبض،
وقد سلمه البائع للمشتري بالتخلية فكأنه قبضه. وأجيب عنه بأن قوله: فلا يحل لك أن تأخذ
منه شيئا الحديث دال على التحريم وأنه تلف على البائع لقوله مال أخيك إذ يدل أنه
لم يستحق منه الثمن وأنه مال أخيه لا ماله، وحديث التصدق محمول على الاستحباب بقرينة
قوله: لا يحل لك. وفائدة الامر بالتصدق الارشاد إلى الوفاء بغرضين: جبر البائع
وتعريض المشتري لمكارم الأخلاق كما يدل له قوله في آخر الحديث لما طلبوا الوفاء: ليس
لكم إلا ذلك فلو كان لازما لأمرهم بالنظرة إلى ميسرة.
7 - (وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي (ص) قال: من
ابتاع نخلا) هو اسم جنس يذكر ويؤنث والجمع نخيل (بعد أن تؤبر) والتأبير:
التشقيق والتلقيح وهو شق طلع النخلة الأنثى ليذرفها شئ من طلع النخلة الذكر
48

(فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع متفق عليه). دل الحديث على أن الثمرة
بعد التأبير للبائع وهذا منطوقه. ومفهومه أنها قبله للمشتري وإلى هذا ذهب جمهور العلماء
عملا بظاهر الحديث. وقال أبو حنيفة: هي للبائع قبل التأبير وبعده فعمل بالمنطوق ولم
يعمل بالمفهوم بناء على أصله من عدم العمل بمفهوم المخالفة. ورد عليه بأن الفوائد المستترة تخالف
الظاهرة في البيع فإن ولد الأمة المنفصل لا يتبعها والحمل يتبعها. وفي قوله إلا أن يشترط
المبتاع دليل على أنه إذا قال المشتري اشتريت الشجرة بثمرتها كانت الثمرة له. ودل الحديث
على أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يفسد البيع فيخص النهي عن بيع وشرط وهذا
النص في النخل ويقاس عليه غيره من الأشجار.
أبواب السلم والقرض والرهن
1 - (ذ عن ابن عباس قال: قدم النبي (ص) المدينة وهم
يسلفون في الثمار السنة والسنتين) منصوبان بنزع الخافض أي إلى السنة والسنتين (فقال:
من أسلف في ثمر) روي بالمثناة والمثلثة فهو بها أعم (فليسلف في كيل معلوم)
إذا كان مما يكال (ووزن معلوم) إذا كان مما يوزن (إلى أجل معلوم متفق عليه
وللبخاري من أسلف في شئ). السلف بفتحتين هو السلم وزنا ومعنى، قيل وهو
لغة أهل العراق والسلم لغة أهل الحجاز. وحقيقته شرعا: بيع موصوف في الذمة ببدل يعطى
عاجلا. وهو مشروع إلا عند ابن المسيب. واتفقوا على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع ح وعلى
تسليم رأس المال في المجلس إلا أنه أجاز مالك تأجيل الثمن يوما أو يومين ولا بد من أن
يقدر بأحد المقدارين كما في الحديث. فإن كان مما لا يكال ولا يوزن فقال المصنف
في فتح الباري: فلا بد فيه من عدد معلوم رواه ابن بطال وادعى عليه الاجماع. وقال
المصنف: أو ذرع معلوم فإن العدد والذرع يلحقان بالوزن والكيل للجامع بينهما وهو
ارتفاع الجهالة بالمقدار. واتفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه بالكيل كصاع الحجاز
وقفيز العراق وأردب مصر فإذا أطلق انقلب إلى الأغلب في الجهة التي وقع فيها عقد السلم.
واتفقوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشئ المسلم في صفة تميزه عن غيره ولم يتعرض له
في الحديث لأنهم كانوا يعلمون به. وظاهر الحديث أن التأجيل شرط في السلم فإن كان حالا
لم يصح أو كان الاجل مجهولا وإلى هذا ذهب ابن عباس وجماعة من السلف. وذهب
آخرون إلى عدم شرطية ذلك وأنه يجوز السلم في الحال، والظاهر أنه لم يقع في عصر النبوة
إلا في المؤجل وإلحاق الحال بالمؤجل قياس على ما خالف القياس لان السلم خالف القياس
إذا هو بيع معدوم وعقد غرر. واختلفوا أيضا في شرطية المكان الذي يسلم فيه فأثبته جماعة
49

على الكيل والوزن والتأجيل وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه وفصلت الحنفية فقالت:
إن كان لحمله مؤونة فيشترط وإلا فلا. وقالت الشافعية إن عقد حيث لا يصلح للتسليم
كالطريق فيشترط وإلا فقولان. وكل هذه التفاصيل مستندها العرف.
2 - (وعن عبد الرحمن بن أبزى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة
وفتح الزاي الخزاعي. سكن الكوفة واستعمله علي بن أبي طالب عليه السلام على خراسان
وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه. (قال: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام). هم من العرب دخلوا في العجم والروم
فاختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم سموا بذلك لكثرة معرفتهم بإنباط الماء أي استخراجه.
(فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب - وفي رواية والزيت إلى أجل مسمى. قيل أكان
لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. رواه البخاري). الحديث دليل على صحة السلف
في المعدوم حال العقد إذ لو كان العقد من شرط وجود المسلم فيه لاستفصلوهم وقد قالا: ما كنا
نسألهم. وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال وقد ذهب إلى هذا
الهادوية والشافعية ومالك واشترطوا إمكان وجوده عند حلول الأجل ولا يضر انقطاعه قبل
حضور الاجل لما عرفت من ترك الاستفصال كذا في الشرح. قلت: وهو استدلال بفعل
الصحابي أو تركه ولا دليل على أنه (ص) علم ذلك وأقره. وأحسن منه
في الاستدلال أنه (ص) أقر أهل المدينة على السلم سنة وسنتين والرطب ينقطع
في ذلك. ويعارض ذلك حديث ابن عمر عند أبي داود: ولا تسلفوا في النخل حتى يبدو
صلاحه " فإن صح ذلك كان مقيدا لتقريره لأهل المدينة على سلم السنة والسنتين وأنه
أمرهم بأن لا يسلفوا حتى يبدو صلاح النخل ويقوى ما ذهب إليه الناصر وأبو حنيفة من أنه
يشترط في المسلم فيه أن يكون موجودا من العقد إلى الحلول.
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي (ص) قال: من أخذ
أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله
رواه البخاري). التعبير بأخذ أموال الناس يشمل أخذها بالاستدانة وأخذها لحفظها. والمراد
من إرادته التأدية قضاؤها في الدنيا. وتأدية الله عنه يشمل تيسيره تعالى لقضائها في الدنيا بأن
يسوق إلى المستدين ما يقضي به دينه وأداؤها عنه في الآخرة بإرضائه غريمه بما شاء تعالى.
وقد أخرج ابن ماجة وابن حبان والحاكم مرفوعا: ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه
إلا أداه الله عنه في الدنيا والآخرة. وقوله: يريد إتلافها الظاهر أنه من يأخذ بالاستدانة
مثلا لا لحاجة ولا لتجارة بل لا يريد إلا إتلاف ما أخذ على صاحبه ولا ينوي قضاءها.
وقوله: أتلفه الله الظاهر إتلاف الشخص نفسه في الدنيا بإهلاكه وهو يشمل ذلك ويشمل
إتلاف طيب عيشه وتضييق أموره وتعسر مطالبه ومحق بركته ويحتمل إتلافه في الآخرة
بتعذيبه. قال ابن بطال: فيه الحث على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن
التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء يكون من جنس العمل. وأخذ منه الداودي أن من
50

عليه دين فليس له أن يتصدق ولا يعتق وفيه بعد. وفي الحديث الحث على حسن النية
والترهيب عن خلافه وبيان أن مدار الأعمال عليها وأن من استدان ناويا الايفاء أعانه الله
عليه. وقد كان عبد الله بن جعفر يرغب في الدين فيسأل عن ذلك فقال سمعت رسول الله
(ص) يقول: إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه رواه ابن ماجة والحاكم
وإسناده حسن إلا أنه اختلف فيه على محمد بن علي، ورواه الحاكم من حديث عائشة
بلفظ: ما من عبد كانت له نية في وفاء دينه إلا كان له من الله عون قالت - يعني عائشة:
فأنا ألتمس ذلك العون. فإن قلت: قد ثبت حديث: (إنه يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)
وحديث: الآن بردت جلدته قاله لمن أدى دينا عن ميت مات عليه دين. قلت: يحتمل
أن معنى لا يغفر للشهيد الدين أنه باق عليه حتى يوفيه الله عنه يوم القيامة ولا يلزم من
بقائه عليه أن يعاقب في قبره ومعنى قوله: بردت جلدته خلصته من بقاء الدين عليه
ويحتمل أن ذلك فيمن استدان ولم ينو الوفاء.
4 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن فلانا قدم له بز
من الشام فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة، فبعث إليه فامتنع. أخرجه الحاكم
والبيهقي ورجاله ثقات). فيه دليل على بيع النسيئة وصحة التأجيل إلى ميسرة وفيه ما كان
عليه (ص) من حسن معاملة العباد وعدم إكراههم على الشئ وعدم الالحاح عليهم.
وهذه من باب الا رهن وهو لغة الاحتباس من قولهم رهن الشئ إذا دام وثبت، ومنه - كل نفس بما كسبت رهينة - وفي الشرع جعل مال وثقة على دين ويطلق على العين المرهونة. 5 - (وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص):
الظهر يركب) بالبناء للمفعول ومثله يشرب (بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر)
بفتح الدال المهملة وتشديد الراء وهو اللبن تسمية بالمصدر قيل هو من إضافة الشئ إلى
نفسه وقيل من إضافة الموصوف إلى صفته (يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى
الذي يركب ويشرب النفقة رواه البخاري). فاعل يركب ويشرب هو المرتهن بقرينة
العوض وهو الركوب وإن كان يحتمل أنه الراهن إلا أنه احتمال بعيد لان النفقة لازمة له
فإن المرهون ملكه وقد جعلت في الحديث على الراكب والشارب وهو غير المالك إذ النفقة
لازمة للمالك على كل حال. والحديث دليل على أنه يستحق المرتهن الانتفاع بالرهن في مقابلة
نفقته وفي المسألة ثلاثة أقوال: الأول: ذهب أحمد وإسحاق إلى العمل بظاهر الحديث
وخصوا ذلك بالركوب والدر فقالوا ينتفع بهما بقدر قيمة النفقة ولا يقاس غيرهما عليهما.
والثاني: للجمهور قالوا: لا ينتفع المرتهن بشئ قالوا: والحديث خالف القياس من وجهين
أولهما تجويز الركوب والشرب لغير المالك بغير إذنه وثانيهما تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة
قال ابن عبد البر: هذا الحديث عند جمهور الفقهاء ترده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف
في صحتها ويدل على نسخه حديث ابن عمر: لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه أخرجه
51

البخاري في أبواب المظالم. قلت: أما النسخ فلا بد له من معرفة التاريخ على أنه لا يحمل عليه
إلا إذا تعذر الجمع ولا تعذر هنا إذ يخص عموم النهي بالمرهونة. وأما مخالفة القياس
فليست الأحكام الشرعية مطردة على نسق واحد بل الأدلة تفرق بينهما في الاحكام والشارع
حكم هنا بركوب المرهون وشرب لبنه وجعله قيمة النفقة. وقد حكم الشارع ببيع الحاكم
عن المتمرد بغير إذنه وجعل صاع التمر عوضا عن اللبن وغير ذلك. وقال الشافعي: المراد
أنه لا يمنع الراهن من ظهرها ودرها فجعل الفاعل الراهن وتعقب بأنه ورد بلفظ المرتهن
فتعين الفاعل. والقول الثالث: للأوزاعي والليث أن المراد من الحديث أنه إذا امتنع الراهن من
الانفاق على المرهون فيباح حينئذ الانفاق على الحيوان حفظا لحياته وجعل له في مقابل النفقة
الانتفاع بالركوب أو شرب اللبن بشرط أن لا يزيد قدر ذلك أو قيمته على قدر علفه
وقوى هذا القول في الشرح. ولا يخفى أنه تقييد للحديث بما لم يقيده به الشرع وإنما قيده
بالضابط المتصيد من الأدلة وهو أن كل عين في يده لغيره بإذن الشارع فإنه ينفق عليها
بنية الرجوع على المالك وله أن يؤجرها أو يتصرف في لبنها في قيمة العلف إلا أنه إذا
كان في البلد حاكم ولم يستأذنه فلا رجوع بما أنفق ويلزمه غرامة المنفعة واللبن فإن لم
يكن في البلد حاكم أو كان يتضرر الحيوان بمدة الرجوع فله أن ينفق ويرجع بما أنفق إلا أنه
قد يقال إنها قاعدة عامة فتخص بحديث الكتاب.
6 - (وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله (ص) لا يغلق)
بفتح حرف المضارعة وغين معجمة ساكنة ولام مفتوحة وقاف يقال غلق الرهن إذا خرج
عن ملك الراهن واستولى عليه المرتهن بسبب عجزه عن أداء ما رهنه فيه وكان هذا عادة
العرب فنهاهم النبي (ص) (الرهن من صاحبه الذي رهنه له
غنمه) زيادته (وعليه غرمه) هلاكه ونفقته (رواه الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات
إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله). قال الحافظ ابن عبد البر: اختلف في قوله:
له غنمه وعليه غرمه فقيل هي مدرجة من قول سعيد بن المسيب قال ورفعها ابن
أبي ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن أبي ذئب
ووقفها غيرهم. وقد روى ابن وهب هذا الحديث فجوده وبين أن هذه اللفظة من قول
ابن المسيب وكذا أبو داود في المراسيل قوى أنه من قوله. ومعنى يغلق لا يستحقه المرتهن
إذا عجز صاحبه عن فكه والحديث ورد لابطال ما كان عليه في الجاهلية عن غلق الرهن عند
المرتهن وبيان أن زيادته للراهن ونفقته عليه كما سلف فيما قبله.
وهو من أحاديث باب القرض والأحاديث في فضله والحث عليه كثيرة.
7 - (وعن أبي رافع أن النبي (ص) استسلف من رجل بكرا) بفتح الموحدة
وسكون الكاف من الإبل (فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن
يقضي الرجل بكره قال: لا أجد إلا خيارا رباعيا) هو بفتح الراء الذي يدخل في السنة
السابعة وتبقى رباعيته (فقال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء رواه مسلم)
52

تقدم الكلام على الخلاف في قرض الحيوان. والحديث دليل على جوازه وأنه يستحب لمن
عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من الذي عليه وأن ذلك من مكارم الأخلاق
المحمودة عرفا وشرعا ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعا لأنه لم يكن مشروطا من المقرض
وإنما ذلك تبرع من المستقرض. وظاهره العموم للزيادة عددا أو صفة وقال مالك
الزيادة في العدد لا تحل. 8 - (وعن علي قال: قال رسول الله (ص): كل
قرض جر منفعة فهو ربا رواه الحارث بن أبي أسامة وإسناده ساقط) لان
في إسناده سوار بن مصعب الهمداني المؤذن الأعمى وهو متروك. (وله شاهد ضعيف عن
فضالة بن عبيد عند البيهقي) أخرجه البيهقي في المعرفة بلفظ: كل قرض جر منفعة فهو
وجه من وجوه الربا. (وآخر موقوف عن عبد الله بن سلام عند البخاري) لم أجده في البخاري
في باب الاستقراض ولا نسبه المصنف في التلخيص إلى البخاري بل قال إنه رواه البيهقي
في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عبا س موقوفا عليهم
انتهى فلو كان في البخاري لما أهمل نسبته إليه في التلخيص. والحديث بعد صحته لا بد
من التوفيق بينه وبن ما تقدم وذلك بأن هذا محمول على أن المنفعة مشروطة من المقرض
أو في حكم المشروطة وأما لو كانت تبرعا من المقتر ض فقد تقدم أنه يستحب له أن
يعطي خيرا مما أخذه.
باب التفليس والحجر
هو لغة مصدر فلسته نسبته إلى الافلاس الذي هو مصدر أفلس أي صار إلى حالة
لا يملك فيها فلسا. والحجر لغة مصدر حجر أي منع وضيق وشرعا قول الحاكم
للمديون حجرت عليك التصرف في مالك.
1 - (عن أبي بكر بن عبد الرحمن) أي ابن الحارث بن هشام المخزومي قاضي المدينة
تابعي سمع عائشة وأبا هريرة روى عنه الشعبي والزهري (عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أدرك ماله بعينه). لم يتغير
بصفة من الصفات لا بزيادة ولا نقصان. (عند رجل قد أفلس فهو أحق به
من غيره متفق عليه، ورواه أبو داود ومالك من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلا).
وقد وصله أبو داود من طريق أخرى فيها إسماعيل بن عياش لأنها من روايته عن الشاميين
وروايته عنهم صحيحة: (بلفظ: أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي
باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع
أسوة الغرماء ووصله البيهقي وضعفه تبعا لأبي داود). راجعنا سنن أبي داود فلم نجد فيها
تضعيفا للرواية هذه بل قال في هذه الرواية بعد اخراجه لها من طريق مالك: وحديث مالك
53

أصح، يريد أنه أصح من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن التي ساقها أبو داود وفيها قال
أبو بكر: قضى رسول الله (ص) أن من توفي وعنده سلعة رجل بعينها لم يقض
من ثمنها شيئا فصاحب السلعة أسوة الغرماء فيها ولم يتكلم الشارح رحمه الله على هذا بشئ
(ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمر بن خلدة) بفتح الخاء المعجمة واللام ودال مهملة
(قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله
(ص): من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به وصححه
الحاكم وضعفه أبو داود وضعف أيضا هذه الزيادة في ذكر الموت). سكت عليه الشارح
وقد راجعت سنن أبي داود فلم أجد فيها تضعيفا لرواية عمر بن خلدة بل قال البيهقي بعد
رواية حديث أبي بكر بن عبد الرحمن المرسلة التي ساق لفظها المصنف هنا بلفظ أيما رجل
إلى آخره أنه قال الشافعي رواية عمر بن خلدة أولى من رواية أبي بكر هذه قال لأنها
موصولة جمع فيها النبي (ص) بين الموت والافلاس. قال: وحديث ابن
شهاب يريد به رواية أبي بكر بن عبد الرحمن المذكورة منقطع وساق في ذلك كلاما
كثيرا يرجح به رواية عمر بن خلدة فلينظر. هذا الحديث اشتمل على مسائل: الأولى: أنه
إذا وجد البائع متاعه عند من شراه منه وقد أفلس فإنه أحق بمتاعه من سائر الغرماء
فيأخذه إذا كان له غرماء وعموم قوله من أدرك ماله يعم من كان له مال عند الآخر
بقرض أو بيع وإن كان قد وردت أحاديث مصرحة بلفظ البيع فقد أخرج ابن خزيمة
وابن حبان وغيرهما الحديث بلفظ: إذا ابتاع الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو
أحق بها من الغرماء. فقد عرف في الأصول أن الخاص الموافق للعام لا يخصص العام إلا عند
أبي ثور وقد زيفوا ما ذهب إليه من ذلك ولذلك ذهب الشافعي وآخرون إلى أن المقرض أولى
بماله في القرض كما أنه أولى به في البيع. وذهب غيره إلى أنه يختص ذلك بالبيع للتصريح
به في أحاديث الباب لكن قد عرفت أن ذلك لا يخص عموم حديث الباب. المسألة الثانية
أفاد قوله بعينه أنه إذا وجده وقد تغير بصفة من الصفات بزيادة أو نقصان فإنه
ليس صاحبه أولى به بل يكون أسوة الغرماء. وقد اختلف العلماء في ذلك فذهبت
الهادوية والشافعي إلى أنه إذا تغيرت صفته بعيب فللبائع أخذه ولا أرش له وإن تغير بزيادة
كان للمشتري غرامة تلك الزيادة وهي ما أنفق عليه حتى حصلت. وكذلك الفوائد للمشتري
ولو كانت متصلة لأنها إنما حدثت في ملكه ويلزم له قيمة ما لا حد لبقائه كالشجرة إذا
غرسها وإبقاء ماله حبلا أجرة كالزرع. وكذلك إذا نقصت العين فله أخذ الباقي بحصته
من الثمن والحديث يتناوله لان الباقي مبيع باق بعينه. المسألة الثالثة: دل لفظ أبي بكر بن عبد الرحمن
المرسل أن البائع إذا كان قد قبض بعض الثمن فليس له حق في استرجاع المبيع بل يكون أسوة
الغرماء وبهذا أخذ جمهور العلماء وعند الهادوية وهو راجح قولي الشافعي أنه لا يصير
المبيع بقبض بعض ثمنه أسوة الغرماء بل البائع أولى به وكأن الشافعي ذهب إلى هذا لأنه
لم يصح الحديث عنده بل قال إنه منقطع فمن قال بصحة الحديث وأنه موصول قال بما قاله
54

الجمهور ومن لا فلا. وفي وصله وعدمه خلاف: منهم من رجح إرساله وهم أكثر الحفاظ
المسألة الرابعة: قوله: فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء فيه حذف تقديره
فمتاع صاحب المتاع أسوة الغرماء وهذا دال على التفرقة بين الموت والافلاس وإلى
التفرقة بينهما ذهب مالك وأحمد عملا بهذه الرواية قالوا: لان الميت برئت ذمته وليس للغرماء
محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك بخلاف المفلس، وسواء خلف الميت وفاء أو لا. وذهب
الهادوية إلى أنه إذا خلف وفاء فليس البائع أولى بمتاعه بل يسلم الورثة الثمن من التركة
وحجتهم أنه قد ورد في حديث أبي بكر بن عبد الرحمن زيادة لفظ: إلا إن ترك صاحبها وفاء.
لكن قال الشافعي يحتمل أن الزيادة من رأي أبي بكر بن عبد الرحمن وقرينة الاحتمال أن
الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت وكذلك الذين رووه عن أبي هريرة. وذهب
الشافعي إلى أنه لا فرق بين الموت والافلاس وأن صاحب المتاع أولى بمتاعه عملا بعموم
من أدرك ماله عند رجل - الحديث متفق عليه. قال: ولا فرق بين الموت والافلاس والتفرقة
بينهما برواية أبي بكر بن عبد الرحمن وقوله فيها فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء
غير صحيحة لان الحديث مرسل لم يصح وصله فلا يعمل به بل في رواية عمر بن خلدة
التسوية بين الموت والافلاس وهو حديث حسن يحتج بمثله.
2 - (وعن عمرو بن الشريد عن أبيه رضي الله عنه) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء تابعي
سمع ابن عباس وغيره (عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لي) بفتح اللام
ثم مثناة تحتية مشددة مصدر لوى يلوي أي مطل أضيف إلى فاعله وهو الواجد
بالجيم يعني من الوجد بالضم أي القدرة (يحل) بضم حرف المضارعة (عرضه
وعقوبته رواه أبو داود والنسائي وعلقه البخاري وصححه ابن حبان). وأخرجه أحمد
وابن ماجة والبيهقي وفسر البخاري حل العرض بما علقه عن سفيان قال: يقول مطلني
وعقوبته حبسه وهو دليل لزيد بن علي أنه يحبس حتى يقضي دينه. وأجاز الجمهور
الحجز وبيع الحاكم عنه ماله وهذا أيضا داخل تحت لفظ عقوبته لا سيما وتفسيرها بالحبس
ليس بمرفوع. ودل الحديث على تحريم مطل الواجد ولذا أبيحت عقوبته وإنما اختلف
العلماء هل يبلغ إلى حد الكبيرة فيفسق وترد شهادته بمطله مرة واحدة أم لا؟. فذهبت الهادوية
إلى أنه يفسق بذلك واختلفوا في قدر ما يفسق به فقال الجمهور منهم إنه يفسق بمطل
عشرة دراهم فما فوق قياسا على نصاب السرقة وفي كلام الهادي عليه السلام ما يقضي بأنه
يفسق بدون ذلك. وكذلك ذهبت إلى هذا المالكية والشافعية إلا أنهم ترددوا في اشتراط
التكرار ومقتضى مذهب الشافعي اشتراطه. ثم يدل بمفهومه على أن مطل غير الواجد وهو
المعسر لا يحل عرضه ولا عقوبته والحكم كذلك عند الجماهير وهو الذي دل على قوله
تعالى: * (فنظرة إلى ميسرة) *.
3 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله
(ص) في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله (ص)
55

تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك رواه مسلم) تقدم
الكلام في الجمع بين هذا الحديث وحديث جابر قوله: فلا يحل لك أن تأخذ بأن هذا
على جهة الاستحباب والحث على جبر من حدث عليه حادث. ويدل أيضا قوله: وليس
لكم إلا ذلك على أن الثمرة غير مضمونة إذ لو كانت مضمونة لقال وما بقي فنظرة إلى
ميسرة أو نحوه إذ الدين لا يسقط بإعسار المدين وإنما تتأخر عنه المطالبة في الحال ومتى
أيسر وجب عليه القضاء.
4 - (وعن ابن كعب بن مالك) اسمه عبد الرحمن، سماه عبد الرزاق (عن أبيه أن النبي
(ص) حجر على معاذ ماله، وباعه في دنيا كان عليه. رواه الدارقطني وصححه
الحاكم، وأخرجه أبو داود مرسلا ورجح إرساله). قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل
وقال ابن الصلاح في الاحكام: هو حديث ثابت. كان ذلك في سنة تسع وجعل لغرمائه
خمسة أسباع حقوقهم فقالوا: يا رسول الله بعه لنا فقال: ليس لكم إليه سبيل. وأخرجه
البيهقي من طريق الواقدي وزاد أن النبي (ص) بعثه بعد ذلك إلى اليمن ليجبره
والحديث دليل على أنه يحجر الحاكم، على المدين التصرف في ماله ويبيعه عنه لقضاء غرمائه.
والقول بأنه حكاية فعل غير صحيح فإن هذا فعل لا يتم إلا بأقوال تصدر عنه صلب الله عليه
وسلم يحجر بها تصرفه وألفاظ يبيع بها ماله وألفاظ يقضي بها غرماءه وما كان بهذه المثابة
لا يقال إنه حكاية فعل إنما حكاية الفعل مثل حديث خلع نعله فخلعوا نعالهم كما لا يخفى.
ظاهر الحديث أن ماله كان مستغرقا بالدين فهل يلحق به من لم يستغرق ماله في الحجر
والبيع عنه كالواجد إذا مطل اختلف العلماء في ذلك. فقال جمهور الهادوية والشافعي: إنه
يلحق به فيحجر عليه ويباع ماله لأنه قد حصل المقتضي لذلك وهو عدم المسارعة بقضاء
الدين. وقال زيد بن علي والحنفية إنه لا يلحق به فلا يحجر عليه ولا يباع عنه بل يجب حبسه
حتى يقضي دينه لحديث: إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه ولقوله تعالى: * (إلا
أن تكون تجارة عن تراض) * ومقتضى الحجر والبيع اخراج المال من غير طيبة من نفسه ولا
رضاه. (والجواب) عنه بأن الحديث والآية عامان خصصا بحديث معاذ لا يتم، لان حديث معاذ
ليس إلا في المستغرق ماله بدينه والكلام في غيره وهو الواجد الماطل. فالأولى أن يقال أنهما
خصصا بقياس الماطل الواجد، على من استغرق دينه ماله إلا أنه لا يخفى عدم نهوض القياس.
نعم في حديث: لي الواجد يحل عرضه وعقوبته دليل على أنه يحجر عليه ويباع عنه ماله
فإنه داخل تحت مفهوم العقوبة وتفسيرها بالحبس فقط مجرد رأي من قائله. هذا وقد
حكم عمر في أسيفع جهينة كحكمه صلى الله عليه وسلم في معاذ فأخرج مالك في الموطأ
بسند منقطع ورواه الدارقطني في غرائب مالك بإسناد متصل: أن رجلا من جهينة كان
يشتري الرواحل فيغالي فيها فيسرع المسير فيسبق الحاج فأفلس فرفع أمره إلى عمر بن
الخطاب فقال: أما بعد أيها الناس فإن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه
وأمانته
56

أن يقال سبق الحاج وفيه: إلا أنه أدان معرضا فأصبح وقد دين به - أي أحاط به
الدين - فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة فنقسم ماله بين غرمائه وإياك والدين فإن أوله
هم وآخره حرب انتهى. وأما قصة جابر مع غرماء أبيه وهي أنه لما قتل أبوه في أحد
وعليه دين فاشتد الغرماء في حقوقهم قال: أتيت النبي (ص) فسألهم أن يقبلوا
ثمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم النبي (ص) حائطي وقال سنغدوا عليك
فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمره بالبركة فجذذتها فقضيتهم وبقي
لنا من ثمرها فإن فيها دليلا على أن انتظار الغلة والتمكن منها لا يعد مطلا. قيل ويؤخذ
منها أن من كان له دخل ينظر إلى دخله وإن طالت مدته إذ لا فرق بين المدة الطويلة
والقصيرة في حق الآدمي ومن لا دخل له لا ينظر ويبيع الحاكم ماله لأهل الدين. نعم وأما
الحجر على البالغ لسفه وسوء تصرف فقال به الشافعي ولم يقل به زيد بن علي ولا
أبو حنيفة وبوب له البيهقي في السنن الكبرى باب الحجر على البالغين بالسفه وذكر فيه
بسنده: أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضا بستمائة ألف درهم فهم علي وعثمان أن يحجرا
عليه، قال: فلقيت الزبير فقال ما اشترى أحد بيعا أرخص مما اشتريت، قال فذكر
له عبد الله الحجر قال: لو أن عندي مالا لشاركتك قال: فأنا أقرضك نصف المال
قال: فأنا شريكك فأتاهما علي وعثمان وهما يتراوضان قالا: ما تراوضان؟ فذكر له الحجر على
عبد الله بن جعفر قال: أتحجران على رجل أنا شريكه قالا: لا لعمري قال: فأنى
شريكه وفي رواية قال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير. قال "
الشافعي: فعلي لا يطلب الحجر إلا وهو يراه والزبير لو كان الحجر باطلا لقال لا يحجر
على بالغ وكذلك عثمان بل كلهم يعرف الحجر ثم ساق حديث عائشة وإرادة عبد الله
بن الزبير الحجر عليها وغير ذلك من الأدلة من أفعال السلف. ويستدل له بالحديث
الصحيح وهو النهي عن إضاعة المال فإن السفيه يضيعه بسوء تصرفه فيجب الانكار
عليه بحجره عنه. قال النووي: والصغير لا ينقطع عنه حكم اليتم بمجرد علو السن ولا بمجرد
البلوغ بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا
وعشرين سنة يجب تسليم ماله إليه وإن كان غير ضابط.
5 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي (ص)
يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس
عشرة سنة فأجازني. متفق عليه، وفي رواية للبيهقي فلم يجزني ولم يرني بلغت وصححها
ابن خزيمة). وجه ذكر الحديث هنا أن من لم يبلغ خمس عشرة سنة لا تنفذ تصرفاته من
بيع وغيره. ومعنى قوله لم يجزني لم يجعل لي حكم الرجال المتقاتلين في إيجاب الجها د علي
وخروجي معه. وقوله فأجازني أي رآني فيمن يجب عليه الجهاد ويؤذن له في الخروج
إليه وفيه دليل على أن من استكمل خمس عشرة سنة صار مكلفا بالغا له أحكام الرجال ومن
57

كان دونها فلا ويدل له قوله: (ولم يرني بلغت). وناقش في الاستدلال به على البلوغ
بعض المتأخرين قائلا إن الاذن في الخروج للحرب يدور على الجلادة والأهلية فليس له
في رده دليل على أنه لأجل عدم البلوغ، وفهم ابن عمر ليس بحجة. قلت: وهو احتمال
بعيد والصحابي أعرف بما رواه. وفيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع والقول بأنها
سنة خمس يرده هذا الحديث ولأنهم أجمعوا أن أحدا كانت سنة ثلاث.
6 - (وعن عطية القرظي رضي الله عنه) بضم القاف فراء نسبة إلى بني قريظة
(قال: عرضنا على النبي (ص) يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم
ينبت خلي سبيله فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي. رواه الأربعة وصححه ابن حبان
والحاكم وقال: على شرط الشيخين). وهو كما قال إلا أنهما لم يخرجا لعطية. والحديث دليل
على أنه يحصل بالانبات البلوغ فتجري على من أنبت أحكام المكلفين ولعله إجماع.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما أن رسول الله (ص)
قال: لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها. وفي لفظ لا يجوز للمرأة أمر في مالها
إذا ملك زوجها عصمتها رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي وصححه الحاكم. وقال
الخطابي: حمله الأكثر على حسن العشرة واستطابة النفس أو يحمل على غير الرشيدة وقد
ثبت عن النبي (ص) أنه قال للنساء تصدقن فجعلت المرأة تلقي القرط
والخاتم وبلال يتلقاه بردائه وهذه عطية بغير إذن الزوج انتهى. وهذا مذهب الجمهور
مستدلين بمفهومات الكتاب والسنة ولم يذهب إلى معنى الحديث إلا طاوس فقال إن
المرأة محجورة عن مالها إذا كانت مزوجة إلا فيما أذن لها فيه الزوج. وذهب مالك إلى
أن تصرفها من الثلث.
8 - (وعن قبيصة) بفتح القاف فموحدة فمثناة تحتية فصاد مهملة (ابن مخارق) بضم
الميم فخاء معجمة فراء مكسورة (قال: قال رسول الله (ص): إن المسألة
لا تحل إلا لاحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة بفتح الحاء المهملة وتخفيف الميم
فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت
ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة
حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة
فحلت له المسألة رواه مسلم). فقد تقدم بلفظه في باب قسمة الصدقات ولعل إعادته
هنا أن الرجل الذي تحمل حمالة قد لزمه دين فلا يكون لحكم المفلس في الحجر عليه
بل يترك حتى يسأل الناس فيقضي دينه وهذا يستقيم على القواعد إذا لم يكن قد ضمن ذلك المال.
باب الصلح
قد قسم العلماء الصلح أقساما: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح
بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتقاضيين، والصلح في الجراح كالعفو على مال،
58

والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت في الاملاك والحقوق وهذا القسم هو المراد هنا وهو
الذي يذكره الفقهاء في باب الصلح.
1 - (عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله (ص)
قال: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما
والمسلمون) وفي لفظ أبي داود والمؤمنون (على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا
أو أحل حراما رواه الترمذي وصححه وأنكروا عليه لأنه من رواية كثير بن عبد الله بن
عمرو بن عوف وهو ضعيف) كذبه الشافعي وتركه أحمد وفي الميزان عن ابن حبان: له عن
أبيه عن جده نسخة موضوعة وقال الشافعي وأبو داود: هو ركن من أركان الكذب
واعتذر المصنف عن الترمذي بقوله: (وكأنه اعتبره بكثرة طرقه. وقد صححه ابن حبان من
حديث أبو هريرة). فيه مسألتان: الأولى: في أحكام الصلح وهو أن وضعه مشروط فيه
المراضا لقوله: جائز أي أنه ليس بحكم لازم يقضى به وإن لم يرض به الخصم، وهو جائز
أيضا بين غير المسلمين من الكفار فتعتبر أحكام الصلح بينهم وإنما خص المسلمون بالذكر
لأنهم المعتبرون في الخطاب المنقادون لاحكام السنة والكتاب. وظاهره عموم صحة الصلح
سواء كان قبل اتضاح الحق للخصم أو بعده. ويدل للأول قصة الزبير والأنصاري فإنه
(ص) لم يكن قد أبان للزبير ما استحقه وأمره أن يأخذ بعض ما يستحقه على
جهة الاصلاح فلما لم يقبل الأنصاري الصلح وطلب الحق أبان رسول الله صلى الله عليه
وسلم للزبير قدر ما يستحقه كذا قال الشارح. والثابت أن هذا ليس من الصلح مع الانكار
بل من الصلح مع سكوت المدعى عليه وهي مسألة مستقلة وذلك لان الزبير لم يكن عالما
بالحق الذي له حتى يدعه بالصلح بل هذا أول التشريع في قدر السقيا. والتحقيق أنه لا يكون
الصلح إلا هكذا وأما بعد إبانة الحق للخصم فإنما يطلب من صاحب الحق أن يترك لخصمه
بعض ما يستحق. وإلى جواز الصلح على الانكار ذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة وخالف
في ذلك الهادوية والشافعي وقالوا: لا يصح الصلح مع الانكار ومعنى عدم صحته أنه
لا يطيب مال الخصم مع إنكار المصالح وذلك حيث يدعي عليه آخر عينا أو دينا فيصالح
ببعض العين أو الدين مع إنكار خصمه فإن الباقي لا يطيب له بل يجب عليه تسليمه لقوله صلى
الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقوله تعالى: * (عن تراض) *.
وأجيب بأنها قد وقعت طيبة النفس بالرضا بالصلح وعقد الصلح قد صار في حكم عقد
المعاوضة فيحل له ما بقي. قلت: الأولى أن يقال إن كان المدعي يعلم أن له حقا عند
خصمه جاز له قبض ما صولح عليه وإن كان خصمه منكرا. وإن كان يدعي باطلا فإنه
يحرم عليه الدعوى وأخذ ما صولح به. والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه وإنما ينكر
لغرض وجب عليه تسليم ما صولح به عليه. وإن كان يعلم أنه ليس عنده حق جاز له إعطاء
جزء من ماله في دفع شجار غريم وأذيته وحرم على المدعي أخذه وبهذا تجتمع الأدلة فلا
يقال الصلح على الانكار لا يصح ولا أنه يصح على الاطلاق بل يفصل فيه. (المسألة الثانية
59

ما أفادها قوله والمسلمون على شروطهم - أي ثابتون عليه واقفون عندها وفي تعديته بعلى
ووصفهم بالاسلام أو الايمان دلالة على علو مرتبتهم وأنهم لا يخلو بشروطهم وفيه دلالة
على لزوم الشرط إذا شرطه المسلم إلا ما استثناه في الحديث وللمفرعين تفاصيل في الشروط
وتقاسيم: منها ما يصح ويلزم حكمه، ومنها ما لا يصح ولا يلزم، ومنها ما يصح ويلزم منه
فساد العقد، وهي هنالك مبسوطة بعلل ومناسبات. وللبخاري في كتاب الشروط تفاصيل
كثيرة معروفة. وقوله: إلا شرطا حرم حلالا ذلك كاشتراط البائع أن لا يطأ الأمة أو أحل
حراما مثل أن يشترط وطئ الأمة التي حرم الله عليها وطأها.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: لا يمنع)
يروى بالرفع على الخبر والجزم على النهي (جار جاره أن يغرز خشبة) بالافراد وفي
لفظ خشبه بالجمع (في جداره ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله
لأرمين بها بين أكتافكم) بالتاء جمع كتف (متفق عليه) وفي لفظ لأبي داود فنكسوا
رؤوسهم. ولأحمد حين حدثهم بذلك فطأطأوا رؤوسهم والمراد المخاطبون وهذا قاله
أبو هريرة أيام إمارته على المدينة في زمن مروان فإنه كان يستخلفه فيها فالمخاطبون ممن يجوز
أنهم جاهلون بذلك وليسوا بصحابة وقد روى أحمد وعبد الرزاق من حديث ابن عباس
: لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يضع خشبة في حائط جاره. والحديث فيه دليل على أنه
ليس للجار أن يمنع جاره من وضع خشبة على جداره، وأنه إذا امتنع عن ذلك أجبر لأنه
حق ثابت لجاره، وإلى هذا ذهب أحمد وإسحاق وغيرهما عملا بالحديث. وذهب إليه
الشافعي في القديم وقضى به عمر في أيام وفور الصحابة. وقال الشافعي: إن عمر
لم يخالفه أحد من الصحابة. وهو فيما رواه مالك بسند صحيح: أن الضحاك بن خليفة سأله
محمد بن مسلمة أن يسوق خليجا له فيجريه في أرض محمد بن مسلمة فامتنع فكلمه
عمر في ذلك فأبى فقال: والله ليمرن به ولو على بطنك. وهذا نظير قصة حديث أبي هريرة
وعممه عمر في كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من جاره وأرضه. وذهب آخرون إلى
أنه لا يجوز أن يضع خشبة إلا بإذن جاره فإن لم يأذن لم يجز. قالوا لان أدلة أنه لا يحل مال
امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه تمنع هذا الحكم فهو للتنزيه وأجيب عنه بما قاله البيهقي:
لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا ينكر أن يخصها وقد حمله
الراوي على ظاهره من التحريم وهو أعلم بالمراد بدليل قوله: ما لي أراكم عنها معرضين فإنه
استنكار لاعراضهم دال على أن ذلك للتحريم. قال الخطابي معنى قوله: بين أكتافكم
إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها أي الخشبة على رقابكم كارهين: قال
وأراد بذلك المبالغة. قلت: والذي يتبادر أن المراد لأرمين بها أي هذه السنة المأمور بها
بينكم بلاغا لما تحملته منها وخروجا عن كتمها وإقامة الحجة عليكم بها.
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (ص):
60

لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيبة نفس منه رواه الحاكم وبن
حبان في صحيحيهما). وفي الباب أحاديث كثيرة في معناه، أخرج الشيخان من حديث عمر
: لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه وأخرج أبو داود والترمذي والبيهقي من حديث عبد الله
بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده بلفظ: لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا "
والأحاديث دالة على تحريم مال المسلم إلا بطيبة من نفسه وإن قل. والاجماع واقع على ذلك
وإيراد المصنف لحديث أبي حميد عقيب حديث أبي هريرة إشارة إلى تأويل حديث أبي هريرة
وأنه محمول على التنزيه كما هو قول الشافعي في الجديد ويرد عليه أنه إنما يحتاج إلى التأويل
إذا تعذر الجمع وهو هنا ممكن بالتخصيص فإن حديث أبي هريرة خاص وتلك الأدلة
عامة كما عرفت. وقد أخرج من عمومها أشياء كثيرة كأخذ الزكاة كرها وكالشفعة وإطعام
المضطر ونفقة القريب المعسر والزوجة وكثير من الحقوق المالية التي لا يخرجها المالك برضاه
فإنها تأخذ منه كرها وغرز الخشبة منها على أنه مجرد انتفاع والعين باقية.
باب الحوالة والضمان
الحوالة بفتح الحاء - وقد تكسر - حقيقتها عند الفقهاء: نقل دين من ذمة إلى ذمة. واختلفوا
هل هي بيع دين بدين رخص فيه وأخرج من النهي عن بيع الدين بالدين أو هي استيفاء.
وقيل هي عقد إرفاق مستقل. ويشترط فيها لفظها ورضا المحيل بلا خلاف والمحال عند
الأكثر والمحال عليه عند البعض وتماثل الصفات وأن تكون في الشئ المعلوم. ومنهم من
خصها بما دون الطعام لأنه بيع طعام قبل أن يستوفى.
1 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مطل الغني) إضافة للمصدر إلى الفاعل أي مطل الغني غريمه وقيل إلى المفعول أي
مطل الغريم للغني (ظلم) وبالأولى مطله الفقير (وإذا أتبع) بضم الهمزة وسكون
المثناة الفوقية وكسر والموحدة (أحدكم على ملئ) مأخوذ من الملاء بالهمزة يقال ملؤ
الرجل أي صار مليئا (فليتبع) بإسكان المثناة الفوقية أيضا مبني للمجهول كالأول
أي إذا أحيل فليحتل (متفق عليه). دل الحديث على تحريم المطل من الغني. والمطل هو
المدافعة والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر من قادر على الأداء. والمعنى على
تقدير أنه من إضافة المصدر إلى الفاعل أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد
استحقاقه بخلا ف العاجز. ومعناه على التقدير الثاني: أنه يجب وفاء الدين ولو كان مستحقه
غنيا فلا يكون غناه سببا لتأخير حقه وإذا كان ذلك في حق الغني ففي حق الفقير أولى
ودل الامر على وجوب قبول الإحالة وحمله الجمهور على الاستحباب ولا أدري
ما الحامل على صرفه عن ظاهره. وعلى الوجوب حمله أهل الظاهر وتقدم البحث في أن
المطل كبيرة يفسق صاحبه فلا نكرره. وإنما اختلفوا هل يفسق قبل الطلب أو لا بد منه
61

والذي يشعر به الحديث أنه لا بد من الطلب لان المطل لا يكون إلا معه. ويشمل المطل
كل من لزمه حق كالزوج لزوجته والسيد في نفقة عبده ودل الحديث بمفهوم المخالفة
أن مطل العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم ومن لا يقول بالمفهوم يقول لا يسمى العاجز
ماطلا. والغني الغائب عنه ماله كالمعدوم. ويؤخذ من هذا أن المعسر لا يطالب حتى يوسر.
قال الشافعي: لو جازت مؤاخذته لكان ظالما والفرض أنه ليس بظالم لعجزه. ويؤخذ منه
أنه إذا تعذر على المحال عليه التسليم لفقر لم يكن للمحتال الرجوع إلى المحيل لأنه لو كان له الرجوع لم يكن لاشتراط الغنى
فائدة فلما شرطه الشارع علم أنه انتقل انتقالا لا رجوع له كما لو عوض في دينه بعوض
ثم تلف العوض في يد صاحب الدين. وقالت الحنفية يرجع عند التعذر وشبهوا الحوالة
بالضمان وأما إذا جهل الافلاس حال الحوال فله الرجوع.
2 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: توفي رجل منا فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم
أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطا ثم قال: عليه
دين؟ قلنا: ديناران فانصرف) أي عن الصلاة عليه (فتحملهما أبو قتادة فأتيناه
فقال أبو قتادة: الديناران علي فقال رسول الله (ص) حق الغريم
منصوب على المصدر مؤكد لمضمون قوله الديناران علي أي حق عليك الحق وثبت عليك
وكنت غريما. (وبرئ منهما الميت قال: نعم فصلى عليه. رواه أحمد وأبو داود
والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم). وأخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع
إلا أن في حديثه ثلاثة دنانير. وكذلك أخرجه أبو داود والطبراني وجمع بينه وبين قوله
ديناران أن في حديث الكتاب أنهما كانا ديناران وشطرا فمن قال ثلاثة جبر الكسر
ومن قال ديناران ألغاه. أو كان الأصل ثلاثة فقضى قبل موته دينارا فمن قال ثلاثة
اعتبر أصل الدين ومن قال ديناران اعتبر الباقي. ويحتمل أنهما قصتان وإن كان بعيدا.
وفي رواية الحاكم أنه (ص) جعل إذا لقي أبا قتادة يقول: ما صنعت الديناران
حتى كان آخر ذلك أن قال: قضيتهما يا رسول الله قال: الآن بردت جلدته. وروى
الدارقطني من حديث علي عليه السلام: كان رسول الله (ص) إذا أتي
بجنازة لم يسأل عن شئ من عمل الرجل ويسأل عن دينه فإن قيل عليه دين كف
وإن قيل ليس عليه دين صلى، فأتى بجنازة فلما قام ليكبر سأل: هل عليه دين؟ فقالوا:
ديناران فعدل عنه فقال علي: هما علي يا رسول الله وهو برئ منهما، فصلى عليه ثم
قال: جزاك الله خيرا وفك الله رهانك - الحديث. قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى
صحة هذه الكفالة عن الميت ولا رجوع له في مال الميت. وفي الحديث دليل على أنه يصح
أن يحتمل الواجب غير من وجب عليه وأنه ينفعه ذلك. ويدل على شدة أمر الدين فإنه
صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة عليه لأنها شفاعة وشفاعته مقبولة لا ترد والدين لا يسقط إلا
بالتأدية. وفي الحديث دليل على أنه لا يكتفى بالظاهر من اللفظ بل لا بد للحاكم في الالزام
بالحق من تحقق ألفاظ العقود والاقرارات وأنه إذا ادعى من عليه الحكومة أنه قصد باللفظ
62

معنى يحتمله وإن بعد الاحتمال لا يحكم عليه بظاهر اللفظ وعطف وبرئ منهما الميت على
ذلك مما يؤيد ذلك المعنى المستنبط.
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله (ص) كان يؤتى
بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه
ترك وفاء صلى عليه وإلا قال: صلوا على صاحبكم فلما فتح الله عليه الفتوح قال:
أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه متفق
عليه. وفي رواية للبخاري: فمن مات ولم يترك وفاء). إيراد المصنف له عقيب الذي
قبله إشارة إلى أنه (ص) نسخ ذلك الحكم لما فتح عليه صلى الله عليه وسلم
واتسع الحال بتحمله الديون عن الأموات فظاهر قوله: فعلي قضاؤه أنه يجب عليه القضاء
وهل هو من خالص ماله أو من مال المصالح؟ محتمل. قال ابن بطال: وهكذا يلزم المتولي
لأمر المسلمين أن يفعله فيمن مات وعليه دين فإن لم يفعل فالاثم عليه. وقد ذكر الرافعي
في آخر الحديث: قيل: يا رسول الله وعلى كل إمام بعد ك؟ قال: وعلى كل إمام بعدي.
وقد وقع معناه في الطبراني الكبير من حديث زاذان عن سليمان قال: أمرنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن نفدي سبايا المسلمين ونعطي سائلهم ثم قال: من ترك مالا فلورثته ومن
ترك دينا فعلي وعلى الولاة من بعدي في بيت مال المسلمين وفيه راو متروك ومتهم.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (ص):
لا كفالة في حد رواه البيهقي بإسناد ضعيف) وقال إنه منكر: وهو د ليل على أنه
لا تصح الكفالة في الحد. قال ابن حزم: لا تجوز الضمانة بالوجه أصلا لا في مال ولا حد
ولا في شئ من الأشياء لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. ومن طريق النظر أن
نسأل من قال بصحته عمن تكفل بالوجه فقط فغاب المكفول عنه ماذا تصنعون بالضامن
بوجه أتلزمونه غرامة ما على المضمون؟ فهذا جور وأكل مال بالباطل لأنه لم يلتزمه قط.
أم تتركونه؟ فقد أبطلتم الضمان بالوجه. أم تكلفونه طلبه؟ فهذا تكليف الحرج وما لا طاقة
له به وما لم يكلفه الله إياه قط. وأجاز الكفالة بالوجه جماعة من العلماء واستدلوا بأنه
صلى الله عليه وسلم كفل في تهمة. قال: وهو خبر باطل لأنه من رواية إبراهيم بن خيثم
بن عراك وهو وأبوه في غاية الضعف لا تجوز الرواية عنهما ثم ذكر آثارا عن عمر
بن عبد العزيز وردها كلها بأنه لا حجة فيها إذ الحجة في كلام الله ورسوله لا غيره
وهذه الآثار قد سردها في الشرح.
باب الشركة
والوكالة الشركة بفتح أوله وكسر الراء وبكسره مع سكونها وهي بضم الشين اسم للشئ
المشترك والشركة الحالة التي تحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدا. وإن أريد الشركة بين
63

الورثة في المال الموروث حذفت (بالاختيار). والوكالة بفتح الواو وقد تكسر مصدر وكل
مشددا بمعنى التفويض والحفظ وتخفف فتكون بمعنى التفويض وهي شرعا إقامة
الشخص غيره مقام نفسه مطلقا ومقيدا.
1 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): قال الله
تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من
بينهما رواه أبو داود وصححه الحاكم. وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان
وقد رواه عنه ولده أبو حيان بن سعيد. لكن ذكره ابن حبان في الثقات وذكر أنه روى
عنه الحارث بن شريد إلا أنه أعله الدارقطني بالارسال فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال إنه
الصواب. ومعناه أن الله معهما أي في الحفظ والرعاية والامداد بمعونتهما في مالهما وإنزال
البركة في تجارتهما فإذا حصلت الخيانة نزعت البركة من مالهما وفيه حث على التشارك
مع عدم الخيانة وتحذير منه معها.
2 - (وعن السائب بن يزيد المخزومي رضي الله عنه أنه كان شريك النبي (ص)
قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: مرحبا بأخي وشريكي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة)
قال ابن عبد البر: السائب بن أبي السائب من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه وكان من
المعمرين عاش إلى زمن معاوية وكان شريك النبي صلى الله عليه وسلم في أول الاسلام
في التجارة فلما كان يوم لفتح قال: مرحبا بأخي وشريكي كان لا يماري ولا يداري.
وصححه الحاكم. ولابن ماجة: كنت شريكي في الجاهلية. والحديث دليل على أن الشركة
كانت ثابتة قبل الاسلام ثم قررها الشارع على ما كانت.
3 - (وعن عبدا لله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما
نصيب يوم بدر الحديث) تمامه: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشئ (رواه
النسائي). فيه دليل على صحة الشركة في المكاسب وتسمى شركة الأبدان وحقيقتها أن
يوكل كل صاحبه أن يتقبل ويعمل عنه في قدر معلوم ويعينان الصنعة وقد ذهب إلى صحتها
الهادوية وأبو حنيفة. وذهب الشافعي إلى عدم صحتها لبنائها على الغرر إذ لا يقطعان بحصول
الربح لتجويز تعذر العمل وبقوله قال أبو ثور وابن حزم. وقال ابن حزم: لا تجوز الشركة
بالأبدان في شئ من الأشياء أصلا فإن وقعت فهي باطلة لا تلزم ولكل واحد منهما
ما كسب فإن اقتسماه وجب أن يقضي له ما أخذه وإلا بدله لأنها شرط ليس في كتاب الله
فهو باطل. وأما حديث ابن مسعود فهو من رواية ولده أبي عبيدة بن عبد الله وهو خبر
منقطع لان أبا عبيدة لم يذكر عن أبيه شيئا فقد رويناه من طريق وكيع عن شعبة عن عمرو
بن مرة قال: قلت لأبي عبيدة: أتذكر عن عبد الله شيئا قال: لا. ولو صح لكان حجة
على من قال بصحة هذه الشركة لأنه أول قائل معنا ومع سائر المسلمين إن هذه الشركة
لا تجوز وإنه لا ينفرد أحد من أهل العسكر بما يصيب دون جميع أهل العسكر إلا السلب
للقاتل على الخلاف فإن فعل فهو غلول من كبائر الذنوب ولأن هذه الشركة لو صح
64

حديثها فقد أبطلها الله عز وجل وأنزل: * (قل الأنفال لله وللرسول) * الآية فأبطلها الله تعالى
وقسمها هو بين المجاهدين ثم إن الحنفية لا يجيزون الشركة في الاصطياد ولا يجيزها
المالكية في العمل في مكانين فهذه الشركة في الحديث لا تجوز عندهم اه‍. هذا وقد
قسم الفقهاء الشركة إلى أربعة أقسام أطالوا فيها وفي فروعها في كتب الفروع فلا نطيل بها.
قال ابن بطال: أجمعوا على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد مثل ما أخرج صاحبه
ثم يخلط ذلك حتى لا يتميز ثم يتصرفا جميعا إلا أن يقيم كل منهما الآخر مقام نفسه وهذه
تسمى شركة العنان. وتصح إن أخرج أحدهما أقل من الآخر من المال ويكون الربح
والخسران على قدر مال كل واحد منهما. وكذلك إذا اشتريا سلعة بينهما على السواء أو
ابتاع أحدهما أكثر من الآخر منهما فالحكم في ذلك أن يأخذ كل من الربح والخسران
بمقدار ما أعطى من الثمن. وبرهان ذلك أنهما إذا خلطا المالين فقد صارت تلك الجملة
مشاعة بينهما فما ابتاعا بها فمشاع بينهما وإذا كان كذلك فثمنه وربحه وخسرانه مشاع
بينهما ومثله السلعة التي اشترياها فإنها بدل من الثمن.
4 - (وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: أردت الخروج إلى خيبر فأتيت
النبي (ص) فقال: إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر
وسقا رواه أبو داود وصححه). تمام الحديث: فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته.
وفي الحديث دلالة على شرعية الوكالة. والاجماع على ذلك. وتعلق الاحكام بالوكيل.
وتمام الحديث فيه دليل على العمل بالقرينة في مال الغير وأنه يصدق بها الرسول لقبض
العين. وقد ذهب إلى تصديق الرسول في القبض جماعة من العلماء وقيده المهدي في الغيث:
مع غلبة ظن صدقه. وعند الهادوية أنه لا يجوز تصديق الرسول لأنه مال الغير فلا يصح
التصديق فيه وقيل عنهم إلا أن يحصل الظن بصدق الرسول جاز الدفع إليه.
5 - (وعن عروة البارقي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله (ص) بعث معه
بدينار يشتري له أضحية الحديث. رواه البخاري في أثناء حديث وقد تقدم). أي
في كتاب البيع وتقدم الكلام على ما فيه من الاحكام.
6 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله (ص) عمر
على الصدقة الحديث، متفق عليه). تمامه فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس
عم رسول الله (ص) فقال رسول الله (ص): ما ينقم ابن جميل
إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعتاده
في سبيل الله وأما العباس فهي علي ومثلها معها. والظاهر أنه (ص) بعث عمر
لقبض الزكاة وابن جميل من الأنصار كان منافقا ثم تاب بعد ذلك. قال المصنف: وابن
جميل لم أقف على اسمه. وقوله: ما ينقم بكسر القاف ما ينكر إلا أنه كان فقيرا فأغناه
الله وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم لأنه إذا لم يكن له عذر إلا ما ذكره فلا عذر
له وفيه التعريض بكفران النعمة والتقريع بسوء الصنيع. وقوله أعتاده جمع عتد بفتحتين
65

وهو ما يعده الرجل من السلاح والدواب وقيل الخيل خاصة وحمل البخاري معناه على أنه
جعلها زكاة ماله وصرفها في سبيل الله وهو بناء على أنه يجوز اخراج القيمة عن الزكاة.
وقوله: فهي علي ومثلها معها يفيد أنه (ص) تحملها عن العباس تبرعا وفيه
صحة تبرع الغير بالزكاة ونظيره حديث أبي قتادة في تبرعه بتحمل الدين عن الميت وهذا
أقرب الاحتمالات وقد روي بألفاظ أخر تحتمل احتمالات كثيرة وقد بسطها المصنف
في الفتح وتبعه الشارح. وأما حديث أنه (ص) كان يتعجل منه زكاة عامين
فقد روي من طريق لم يسلم شئ منها من مقال. وفي الحديث دليل على توكيل الامام للعامل
في قبض الزكاة ولأجل هذا ذكره المصنف هنا. وفيه أن بعث العمال لقبض الزكاة سنة
نبوية. وفيه أنه يذكر الغافل بما أنعم الله عليه بإغنائه بعد أن كان فقيرا ليقوم بحق الله. وفيه
جواز ذكر من منع الواجب في غيبته بما ينقصه. وفيه تحمل الامام عن بعض المسلمين والاعتذار
عن البعض وحسن التأويل.
7 - (وعن جابر رضي الله عنه: أن النبي (ص) نحر ثلاثا وستين وأمر
عليا أن يذبح الباقي الحديث، رواه مسلم). تقدم الكلام عليه في كتاب الحج
وفيه دلالة على صحة التوكيل في نحر الهدي وهو إجماع إذا كان الذابح مسلما فإن كان
كافرا كتابيا صح عند الشافعي بشرط أن ينوي صاحب الهدي عند دفعه إليه أو عند ذبحه.
8 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العسيف) بعين وسين مهملتين فمثناة
تحتية ففاء: الأجير وزنا ومعنى (قال النبي (ص): اغد يا أنيس على امرأة
هذا فإن اعترفت فارجمها الحديث. متفق عليه). سيأتي في الحدود مستوفى. وذكر
هنا بناء على أن المأمور وكيل عن الامام في إقامة الحد. وبوب البخاري باب الوكالة
في الحدود وأورد هذا الحديث وغيره. وقال المصنف في الفتح: والامام لما لم يتول إقامة
الحد بنفسه وولاه غيره كان ذلك بمنزلة توكيله للغير.
باب الاقرار الاقرار
لغة: الاثبات، في الشرع: إخبار الانسان بما عليه وهو ضد الجحود.
1 - (عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي (ص):
قل الحق ولو كان مرا صححه ابن حبان من حديث طويل). ساقه الحافظ المنذري
في الترغيب والترهيب وفيه وصايا نبوية ولفظه: قال: أوصاني خليلي رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من فوقي، وأن أحب المساكين،
وأن أدنو منهم، وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني، وأن أقول الحق ولو كان مرا، وأن
لا أخاف في الله لومة لائم، وأن لا أسأل أحدا شيئا، وأن أستكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله
فإنها من كنوز الجنة. وقوله قل الحق يشمل قوله على نفسه وعلى غيره وهو مأخوذ من
66

قوله تعالى: * (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين) * ومن قوله
تعالى: * (ولا تقولوا على الله إلا الحق) * وباعتبار شموله ذكره المصنف هنا تبعا للرافعي فإنه
ذكره في باب الاقرار. وفيه دلالة على اعتبار إقرار الانسان على نفسه في جميع الأمور وهو
أمر هام لجميع الاحكام لان قول الحق على النفس والاخبار بما عليها مما يلزمها
التخلص منه بمال أو بدن أو عرض. وقوله: ولو كان مرا من باب التشبيه لان الحق
قد يصعب إجراؤه على النفس كما يصعب عليها إساغة المر لمرارته ويأتي في باب الحدود
والقصاص أحاديث في الاقرار.
باب العارية
العارية بتشديد المثناة التحتية وتخفيفها ويقال عارة وهي مأخوذة من عار الفرس
إذا ذهب لان العارية تذهب من يد المعير أو من العار لأنه لا يستعير أحد إلا وبه عار
وحاجة. وهي في الشرع عبارة عن إباحة المنافع من دون ملك العير.
1 - (عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله (ص):
على اليد ما أخذت حتى تؤديه رواه أحمد والأربعة وصححه الحاكم). بناء منه على
سماع الحسن من سمرة لان الحديث من رواية الحسن عن سمرة وللحفاظ في سماعه منه ثلاثة مذاهب. الأول: أنه سمع منه
مطلقا وهو مذهب علي بن المديني والبخاري والترمذي.
والثاني: لا، مطلقا وهو مذهب يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وابن حبان. والثالث: لم
يسمع منه إلا حديث العقيقة وهو مذهب النسائي واختاره ابن عساكر وادعى عبد الحق
أنه الصحيح. والحديث دليل على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره ولا يبرأ إلا
بمصيره إلى مالكه أو ما يقوم مقامه لقوله: حتى تؤديه ولا تتحقق التأدية إلا بذلك. وهو
عام في الغصب والوديعة والعارية وذكره في باب العارية لشموله لها وربما يفهم منه أنها
مضمونة على المستعير. وفي ذلك ثلاث أقوال. الأول: أنها مضمونة مطلقا وإليه ذهب
ابن عباس وزيد بن علي وعطاء وأحمد وإسحاق والشافعي لهذا الحديث ولما يأتي مما يفيد معناه.
والثاني: للهادي وآخرين معه أن العارية لا يجب ضمانها إلا إذا شرط مستدلين بحديث صفوان
ويأتي الكلام عليه. والثالث: للحسن وأبي حنيفة وآخرين أنها لا تضمن وإن ضمنت لقوله
(ص): ليس على المستعير غير المغل ولا على المستودع غير المغل ضمان "
أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر وضعفاه وصححا وقفه على شريح. وقوله: المغل بضم
الميم فغين معجمة قال في النهاية: أي إذا لم يخن في العارية والوديعة فلا ضمان عليه من
الأغلال وهو الخيانة. وقيل المغل: المستغل وأراد به القابض لأنه بالقبض يكون مستغلا
والأول أولى. وحينئذ فلا تقوم به حجة. على أنه لا تقوم به الحجة ولو صح رفعه لان
المراد ليس عليه ذلك من حيث هو مستعير لأنه لو التزم الضمان للزمه. وحديث الباب
كثيرا ما يستدلون منه بقوله: على اليد ما أخذت حتى تؤديه على التضمين ولا دلالة فيه
67

صريحا فإن اليد الأمينة أيضا عليها ما أخذت حتى تؤدى ولذلك قلنا (وربما يفهم). ولم يبق
دليل على تضمين العارية إلا قوله (ص) عارية مضمونة في حديث صفوان
فإن وصفها بمضمونة يحتمل أنها صفة موضحة وأن المراد من شأنها الضمان فيدل على ضمانها
مطلقا ويحتمل أنها صفة للتقييد وهو الأظهر لأنها تأسيس ولأنها كثيرة. ثم ظاهره أن المراد
عارية قد ضمناها لك وحينئذ يحتمل أن يلزم ويحتمل أنه غير لازم بل كالوعد وهو
بعيد فيتم الدليل بالحديث للقائل إنها تضمن - وهو الأظهر - بالتضمين إما بطلب صاحبها
له أو بتبرع المستعير.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (ص):
أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك رواه الترمذي وأبو داود وحسنه
وصححه الحاكم واستنكره أبو حاتم الرازي وأخرجه جماعة من الحفاظ وهو
شامل للعارية) والوديعة ونحوهما وأنه يجب أداء الأمانة كما أفاده قوله تعالى: * (إن الله يأمركم
أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) *. وقوله: لا تخن من خانك دليل على أنه لا يجازي بالإساءة
من أساء وحمله الجمهور على أنه مستحب لدلالة قوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * * (وإن
عاقبتم) * على الجواز. وهذه هي المعروفة بمسألة الظفر وفيها أقوال
للعلماء. هذا القول الأول وهو الأشهر من أقوال الشافعي وسواء كان من جنس ما أخذ
عليه أو من غيره جنسه. والثاني: يجوز إذا كان من جنس ما أخذ عليه لا من غيره لظاهر قوله
* (بمثل ما عوقبتم به) * وقوله: * (مثلها) * وهو رأي الحنفية والمؤيد. والثالث: لا يجوز ذلك إلا بحكم
الحاكم لظاهر النهي في الحديث ولقوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * وأجيب
أنه ليس أكلا بالباطل والحديث يحمل فيه النهي على التنزيه. الرابع: لابن حزم أنه يجب
عليه أن يأخذ بقدر حقه سواء كان من نوع ما هو له أو من غيره ويعينه ويستوفي حقه
فإن فضل على ما هو له رده له أو لورثته وإن نقص بقي في ذمة من عليه الحق فإن لم يفعل
ذلك فهو عاص لله عز وجل إلا أن يحلله ويبرئه فهو مأجور فإن كان الحق الذي له لا بينة
له عليه وظفر بشئ من مال من عنده له الحق أخذه فإن طولب أنكر فإن استحلف حلف
وهو مأجور في ذلك. قال: وهذا هو قول الشافعي وأبي سليمان وأصحابهما وكذلك عندنا
كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه وإنصاف المظلوم منه واستدل بالآيتين بقوله
تعالى: * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) * وبقوله تعالى: * (والذين إذا أصابهم
68

البغي هم ينتصرون) * وبقوله تعالى - والحرمات قصاص - وبقوله تعالى - فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم - وبقوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان: خذي
ما يكفيك وولدك ب المعروف لما ذكرت له أن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني
ما يكفيني وبني فه علي من جناح أن آخذ من ماله شيئا ولحديث البخاري: إن نزلتم بقوم
فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف. واستدل
لكونه إذا لم يفعل يكون عاصيا بقوله تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم
والعدوان) * قال: فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو أو مسلم أو ذمي فلم يزله عن يد الظالم ويرد إلى
المظلوم حقه فهو أحد الظالمين ولم يعن على البر والتقوى بل أعان على الاثم والعدوان. وكذلك
أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من رأى منكرا أن يغيره بيده إن استطاع فمن قدر على
قطع الظلم وكفه وإعطاء كل ذي حق حقه فلم يفعل فقد قدر على إنكار المنكر ولم يفعل
فقد عصى الله ورسوله ثم ذكر حديث أبي هريرة فقال: هو من رواية طلق بن غنام عن
شريك وقيس بن الربيع وكلهم ضعيف قال: ولئن صح فلا حجة فيه لأنه ليس انتصاف
المرء من حقه خيانة بل هو حق واجب وإنكار منكر وإنما الخيانة أن يخون بالظلم والباطل
من لا حق له عنده. قلت ويؤيد ما ذهب إليه حديث: انصر أخاك ظالما أو مظلوما
فإن الامر ظاهر في الايجاب، ونصر الظالم باخراجه عن الظلم وذلك بأخذ ما في يده لغيره ظلما
3 - (وعن يعلى بن أمية) ويقال منيه بضم الميم وفتح النون وتشديد التحتية المثناة
صحابي مشهور (قال: قال لي رسول (ص): إذا أتتك رسلي فأعطهم
ثلاثين درعا قلت: يا رسول الله أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال: بل
عارية مؤداة رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان). المضمونة: التي تضمن
إن تلفت بالقيمة، والمؤداة: التي تجب تأديتها مع بقاء عينها فإن تلفت لم تضمن بالقيمة.
والحديث دليل لمن ذهب إلى أنها لا تضمن العارية إلا بالتضمين وتقدم أنه أوضح الأقوال.
4 - (وعن صفوان بن أمية) قرشي من أشراف قريش هرب يوم الفتح واستؤمن
له فعاد وحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا والطائف كافرا ثم أسلم وحسن إسلامه
(أن النبي (ص) استعار منه دروعا يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ قال:
بل عارية مضمونة رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الحاكم وأخرج له شاهدا
ضعيفا عن ابن عباس) ولفظه بل عارية مؤداة وفي عدد الدروع روايات فلأبي داود
كانت ما بين الثلاثين إلى الأربعين، وللبيهقي في حديث مرسل: كانت ثمانين. وللحاكم من
حديث جابر: كانت مائة درع وما يصلحها. وزاد أحمد والنسائي في رواية ابن عباس: فضاع
بعضها فعرض عليه النبي (ص) أن يضمنها له فقال: أنا اليوم يا رسول الله
أرغب في الاسلام. وقوله مضمونة تقدم الكلام عليها وأن أصل الوصف التقييد وأنه
الأكثر فهو دليل على ضمانها بالتضمين كما أسلفنا لا أنه محتمل ويكون مجملا كما قيل، قاله الشارح
69

باب الغصب
1 - (عن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اقتطع شبرا من الأرض)) أي من أخذه وهو أحد ألفاظ الصحيحين (ظلما طوقه الله يوم
القيامة إياه من سبع أرضين متفق عليه). اختلف في معنى التطويق فقيل معناه يعاقب
بالخسف إلى سبع أرضين فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقا في عنقه ويؤيده أن
في حديث ابن عمر: (خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين). وقيل يكلف نقل ما ظلمه منها
يوم القيامة في المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة ويؤيده حديث: أيما
رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين ثم يطوقه حتى
يقضي بين الناس أخرجه الطبراني وابن حبان من حديث يعلى بن مرة مرفوعا. ولأحمد
والطبراني: من أخذ أرضا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر. وفيه قولان آخران
والحديث دليل على تحريم الظلم والغصب وشدة عقوبته وإمكان غصب الأرض وأنه من
الكبائر وأن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى تخوم الأرض وله منع من أراد أن يحفر تحتها
سربا أو بئرا وأنه من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة أو أبنية أو معادن
وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر من يجاوره وأن الأرضين السبع متراكمة لم يفتق
بعضها من بعض لأنها لو فتقت لاكتفي في حق هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها
عما تحتها. وفيه دلالة على أن الأرض تصير مغصوبة بالاستيلاء عليها. وهل تضمن إذا
تلفت بعد الغصب؟ فيه خلاف: فقيل لا تضمن لأنه إنما يضمن ما أخذ لقوله صلى الله عليه
وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه). قالوا: ولا يقاس ثبوت اليد في غير المنقول على النقل
في المنقول لاختلافهما في التصرف. وذهب الجمهور إلى أنها تضمن بالغصب قياسا على
المنقول المتفق على أنه يضمن بعد النقل بجامع الاستيلاء الحاصل في نقل المنقول وفي ثبوت
اليد على غير المنقول بل الحق أن ثبوت اليد استيلاء وإن لم ينقل، يقال استولى الملك على
البلد واستولى زيد على أرض عمرو. وقوله شبرا وكذا ما فوقه بالأولى وما دونه داخل
في التحريم وإنما لم يذكر لأنه قد لا يقع إلا نادرا. وقد وقع في بعض ألفاظه عند البخاري
(شيئا) عوضا عن (شبرا) فعم. إلا أن الفقهاء يقولون إنه لا بد أن يكون المغصوب له قيمة فألزموا
أنه حينئذ يأكل الرجل صاع تمر أو زبيب على واحدة واحدة فلا يضمن فيأكل عمره من المال
الحرام فلا يضمن وإن أثم كأكلة من الخبز واللحم على لقمة لقمة من غير استيلاء على الجميع.
2 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) كان عند بعض
نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين) سماها ابن حزم زينب بنت جحش (مع خادم
لها) قال المصنف لم أقف على اسم الخادم (بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت
القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول
70

وحبس المكسورة - رواه البخاري والترمذي وسمى الضاربة عائشة وزاد فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: طعام بطعام وإناء بإناء وصححه) واتفقت مثل هذه القصة من عائشة
في صحفة أم سلمة فيما أخرجه النسائي عن أم سلمة: أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة "
الحديث. وقد وقع مثلها لحفصة وأن عائشة كسرت الاناء. ووقع مثلها لصفية مع عائشة،
والحديث دليل على أن من استهلك على غيره شيئا كان مضمونا بمثله وهو متفق عليه
في المثلى من الحبوب وغيرها. وأما في القيمي ففيه ثلاثة أقوال: الأول للشافعي والكوفيين
أنه يجب فيه المثل حيوانا كان أو غيره ولا تجزئ القيمة إلا عند عدمه. والثاني للهادوية
أن القيمي يضمن بقيمته. وقال مالك والحنفية: أما ما يكال أو يوزن فمثله وما عدا ذلك
من العروض والحيوانات فالقيمة. واستدل الشافعي ومن معه بقول النبي صلى الله عليه وسلم
: إنا بإناء وطعام بطعام وبما وقع في رواية ابن أبي حاتم: من كسر شيئا فهو له وعليه
مثله زاد في رواية الدارقطني فصارت قضية: أي من النبي (ص) أي حكما
عاما لكل من وقع له مثل ذلك فاندفع قول من قال إنها قضية عين لا عموم فيها ولو كانت
كذلك لكان قوله صلى الله عليه وسلم: طعام بطعام وإناء بإناء كافيا في الدليل. على أن ذكره
للطعام واضح في التشريع العام لأنه لا غرامة هنا للطعام بل الغرامة للاناء. وأما الطعام فهو
هدية له صلى الله عليه وسلم فإن عدم المثل فالمضمون له مخير بين أن يمهله حتى يجد المثل
وبين أن يأخذ القيمة. واستدل في البحر وغيره لمن قال بوجوب القيمة بأنه صلى الله عليه
وسلم قضى على من أعتق شركا له في عبد أن يقوم عليه باقيه لشريكه قالوا فقضى صلى
الله عليه وسلم بالقيمة. وأجيب بأن المعتق نصيبه من عبد بينه وبين آخر لم يستهلك شيئا
ولا غصب شيئا ولا تعدى أصلا بل أعتق حصته التي أباح الله له عتقها ثم إن المستهلك بزعم
المستدل هنا هو الشقص من العبد ومناظرة شقص لشقص تبعد فيكون النقد أقرب وأبعد
من الشجار. على أن التقوي لغة يشمل التقدير بالمثل أو بالقيمة وإنما خص اصطلاحا
بالقيمة وكلام الشارع يفسر باللغة لا بالاصطلاح الحادث. واستدل بإمساكه صلى الله
عليه وسلم أكسار القصعة في بيت التي كسرت الهادوية والحنفية القائلين بأن العين المغصوبة
إذا زال بفعل الغاصب اسمها ومعظم نفعها تصير ملكا للغاصب. قال ابن حزم: إنه ليس
في تعليم الظلمة أكل أموال الناس أكثر من هذا فيقال لكل فاسق: إذا أردت أخذ قمح
يتيم أو غيره أو أكل غنمه أو استحلال ثيابه فقطعها ثيابا على رغمه واذبح غنمه واطبخها
وخذ الحنطة واطحنها وكل ذلك حلالا طيبا وليس عليك إلا قيمة ما أخذت وهذا
خلاف القرآن في نهيه تعالى أن يؤكل أموال الناس بالباطل وخلاف المتواتر عن رسول الله
(ص): إن أموالكم عليك حرام " واحتج المخالف بقضية القصة، وقد تقدم
71

الكلام فيها، واحتجروا بخبر الشاة المعروف، وهو أن امرأة دعته صلى الله عليه وسلم إلى طعام
فأخبرته أنها أرادت ابتياع شاة فلم تجدها فأرسلت إلى جارة لها أن ابعثي لي الشاة التي لزوجك
فبعثت بها إليها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة أن تطعم الأسارى. قالوا: فهذا
يدل على أن حق صاحب الشاة قد سقط عنها إذا شويت. وأجيب بأن الخبر لا يصح. فإن
صح فهو حجة عليهم لأنه خلاف قولهم إذ فيه أنه (ص) لم يبق ذلك اللحم
فملك التي أخذتها بغير إذن مالكها وهم يقولون إنه للغاصب وقد تصدق بها صلى الله
عليه وسلم بغير إذنها وخبر شاة الأسارى قد بحثنا فيه في منحة الغفار.
3 - (وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): من الزرع شئ وله نفقته
رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وحسنه الترمذي، ويقال إن البخاري ضعفه) هذا القول
عن البخاري ذكره الخطابي وخالفه الترمذي فنقل عن البخاري تحسينه إلا أنه قال أبو زرعة
وغيره: لم يسمع عطاء بن أبي رباح من رافع بن خديج. وقد اختلف فيه الحفاظ اختلافا
كثيرا وله شواهد تقويه وهو دليل على أن غاصب الأرض إذا زرع الأرض لا يملك الزرع
وأنه لمالكها وله ما غرم على الزرع من النفقة والبذر وهذا مذهب أحمد بن حنبل
وإسحاق ومالك وهو قول أكثر علماء المدينة والقاسم بن إبراهيم وإليه ذهب أبو محمد
بن حزم ويدل له حديث: ليس لعرق ظالم حق وسيأتي إذ المراد به من غرس أو زرع
أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة. وذهب أكثر الأمة إلى أن الزرع لصاحب
البذر الغاصب وعليه أجرة الأرض واستدلوا بحديث الزرع للزارع وإن كان غاصبا
إلا أنه لم يخرجه أحد قال في المنار: وقد بحثت عنه فلم أجده والشارح نقله وبيض
لمخرجه واستدلوا بحديث: ليس لعرق ظالم حق ويأتي وهو لأهل القول الأول
أظهر في الاستدلال.
4 - (وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إن رجلين اختصما إلى رسول الله (ص) في أرض غرس أحدهما
فيها نخلا والأرض للآخر فقضى رسول الله (ص) بالأرض لصاحبها وأمر
صاحب النخل أن يخرج نخله فقال: ليس لعرق ظالم) بالإضافة ولتوصيف، وأنكر الخطابي
الإضافة (حق رواه أبو داود وإسناده حسن. وآخره عند أصحاب السنن من رواية عروة
عن سعيد بن زيد واختلف في وصله وإرساله وفي تعيين صحابيه). فرواه أبو داود من طريق
عروة مرسلا ومن طريق آخر متصلا من رواية محمد بن إسحاق وقال: فقال رجل من
أصحاب النبي (ص) وأكثر ظني أنه أبو سعيد. وفي الباب عن عائشة أخرجه
أبو داود الطيالسي. وعن سمرة عند أبي داود والبيهقي وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند
الطبراني. واختلفوا في تفسير (عرق ظالم) فقيل هو أن يغرس الرجل في أرض فيستحقها
بذلك. وقال مالك: كل ما أخذ واحتفر وغرس بغير حق. وقال ربيعة: العرق الظالم يكون
72

ظاهرا ويكون باطنا فالباطن: ما احتفر الرجل من الآبار واستخرجه من المعادن والظاهر
ما بناه أو غرسه. وقيل الظالم من بنى أو زرع أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة
وكل ما ذكر من التفاسير متقارب ودليل على أن الزارع في أرض غيره ظالم ولا حق له
بل يخير بين اخراج ما غرسه وأخذ نفقته عليه جمعا بين الحديثين من غير تفرقة بين زرع
وشجر. والقول بأنه دليل على أن الزرع للغاصب حمل له على خلاف ظاهره. وكيف يقول
الشارع (ليس لعرق ظالم حق) ويسميه ظالما وينفي عنه الحق ونقول بل له الحق. 5 - (وعن أبي بكرة رضي الله عنه: أن النبي (ص) قال في خطبته يوم
النحر بمنى: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا
في شهركم هذا في بلدكم هذا متفق عليه). وما دل عليه واضح وإجماع ولو بدأ
به المصنف في أول باب الغصب لكان أليق أساسا وأحسن افتتاحا.
باب الشفعة
الشفعة بضم الشين المعجمة وسكون الفاء. في اشتقاقها ثلاثة أقوال: قيل من الشفع وهو
الزوج، وقيل من الزيادة، وقيل من الإعانة. وهي شرعا انتقال حصة إلى حصة بسبب
شرعي كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى. وقال أكثر الفقهاء إنها ورادة على
خلاف القياس لأنها تؤخذ كرها ولان الأذية لا تدفع عن واحد بضرر آخر. وقيل
خالفت هذا القياس ووافقت قياسات أخر يدفع فيها ضرر الغير بضرر الآخر ثم يؤخذ حقه
كرها كبيع الحاكم عن المتمرد والمفلس ونحوهما.
1 - (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قضى رسول الله (ص)
بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت) بضم الصاد المهملة وتشديد الراء
ففاء معناه بينت مصارف (الطرق) وشوارعها (فلا شفعة متفق عليه واللفظ للبخاري
وفي رواية مسلم) أي من حديث جابر (الشفعة في كل شرك) أي مشترك (في أرض أو ربع)
بفتح الراء وسكون الموحد الدار ويطلق على الأرض (أو حائط لا يصلح - وفي لفظ
لا يحل - أن يبيع) الخليط دلالة السياق عليه (حتى يعرض على شريكه وفي رواية
الطحاوي أي من حديث جابر قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شئ
ورجاله ثقات). الألفاظ في هذا الحديث قد تضافرت في الأدلة على ثبوت الشفعة للشريك
في الدور والعقار والبساتين وهذا مجمع عليه إذا كان مما يقسم. وفيما لا يقسم كالحمام
73

الصغير ونحوه خلاف. وذهب الهادوية - وفي البحر العترة - إلى صحة الشفعة في كل شئ.
ومثله في البحر عن أبي حنيفة وأصحابه ويدل له حديث الطحاوي. ومثله عن ابن عباس
عن الترمذي مرفوعا الشفعة في كل شئ وإن قيل إن رفعه خطأ فقد ثبت إرساله عن
ابن عباس وهو شاهد لرفعه. على أن مرسل الصحابي إذا صحت عنه الرواية حجة. وعن
المنصور أنه لا شفعة في المكيل والموزون لأنه لا ضرر فيه. فأجيب بأن فيه ضررا وهو اسقاط
حق الجوار ولأنا لا نسلم أن العلة الضرر. وذهب الأكثر على عدم ثبوتها في المنقول مستدلين
بقوله: فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فإنه دل على أنها لا تكون إلا في العقار
وتلحق به الدار لقوله في حديث مسلم: أو ربع. قالوا: ولان الضرر في المنقول. وأجيب
بأن ذكر حكم بعض أفراد العام لا يقصر عليه قالوا: ولأنه أخرج البزار من حديث
جابر والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ الحصر فيهما. الأول: لا شفعة إلا في ربع أو حائط "
ولفظ الثاني: لا شفعة إلا في دار أو عقار. إلا أنه قال البيهقي بعد سياقه له: الاسناد ضعيف.
وأجيب بأنها لو ثبتت لكانت مفاهيم ولا تقاوم منطوق في كل شئ. ومنهم من استثنى من
المنقول الثياب فقال تصح فيها الشفعة. ومنهم من استثنى منه الحيوان فقال تصح فيه الشفعة.
وفي حديث مسلم دليل على أنه لا يحل للشريك بيع حصته حتى يعرض على شريكه وأنه محر
عليه البيع قبل عرضه، ومن حمله على الكراهة فهو حمل على خلاف أصل النهي بلا دليل
. واختلف العلماء هل للشريك الشفعة بعد أن آذنه شريكه ثم باعه من غيره فقيل له ذلك
ولا يمنع صحتها تقدم إيذانه وهو قول الأكثر. وقال الثوري والحكم وأبو عبيد وطائفة من
أهل الحديث تسقط شفعته بعد عرضه عليه وهو الأوفق بلفظ الحديث وهو الذي اخترناه
في حاشية ضوء النهار. وفي قوله: أن يبيع ما يشعر بأنها إنما تثبت فيما كان بعقد البيع وهذا
مجمع عليه، وفي غيره خلاف. وقوله في كل شئ يشمل الشفعة في الإجارة وقد منعها
الهادوية وقالوا إنما تكون في عين لا منفعة وضعف قولهم لان المنفعة تسمى شيئا وتكون مشتركة
فشملها في كل شرك أيضا إذ لو لم تكن شيئا ولا مشتركة لما صح التأجير فيها ولا القسمة
بالمهايأة ونحو ذلك وهي بيع مخصوص فيشملها: لا يحل له أن يبيع. فالحق ثبوت الشفعة فيها
لشمول الدليل له ولوجود علة الشفعة فيها. وظاهر قوله: في كل شرك أي مشترك ثبوتها
للذمي على المسلم إذا كان شريكا له في الملك وفيه خلاف. والأظهر ثبوتها للذمي في غير
جزيرة العرب لأنهم منهيون عن البقاء فيها.
2 - (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله (ص):
جار الدار أحق بالدار رواه النسائي وصححه ابن حبان وله علة). وهي أنه أخرجه أئمة
من الحفاظ عن قتادة عن أنس وآخرون أخرجوه عن الحسن عن سمرة قالوا وهذا هو
المحفوظ وقيل هما صحيحان جميعا قاله ابن القطان وهو الأولى. وهذا وإن كان فيه علة
فالحديث الآتي صحيح وهو قوله:
3 - (وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
74

الجار أحق بصقبه) بالصاد المهملة مفتوحة وفتح القاف: القرب (أخرجه البخاري.
وفيه قصة). وهي أنه قال أبو رافع للمسور بن مخرمة: ألا تأمر هذا - يشير إلى سعد أن
يشتري مني بيت اللذين في داره فقال له سعد: والله لا أزيدك على أربعمائة دينار مقطعة
أو منجمة فقال أبو رافع: سبحان الله لقد منعتهما من خمسمائة نقدا فلولا أني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: الجار أحق بصقبه ما بعتك. والحديث وإن كان ذكره
أبو رافع في البيع فهو يعم الشفعة فذهب إلى ثبوتها الهادوية والحنفية وآخرون لهذه الأحاديث
ولغيرها كحديث الشريد بن سويد قال: قلت: يا رسول الله أرض لي ليس لأحد فيها شرك
ولا قسم إلا الجوار قال: الجار أحق بصقبه أخرجه ابن سعد عن عمرو
بن شعيب عن الشريد وحديث جابر الآتي. وذهب والشافعي وأحمد
وإسحاق وغيرهم إلى أنه لا شفعة بالجوار. قالوا: والمراد بالجار في الحديث الشريك، قالوا
ويدل على أن المراد به ذلك حديث أبي رافع فإنه سمى الخليط جارا واستدل بالحديث وهو
من أهل اللسان وأعرف بالمراد والقول بأنه لا يعرف في اللغة تسمية الشريك جارا غير صحيح
فإن كل شئ قارب شيئا فهو جار. وأجيب بأن أبا رافع غير شريك لسعد بل جار له لأنه
كان يملك بيتين في دار سعد لا أنه كان يملك شقصا شائعا من منزل سعد. واستدلوا
أيضا بما سلف من أحاديث الشفعة للشريك وقوله: إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق
فلا شفعة ونحوه من الأحاديث التي فيها حصر الشفعة قبل القسمة. وأجيب عنها بأن
غاية ما فيها إثبات الشفعة للشريك من غير تعرض للجار لا بمنطوق ولا مفهوم. ومفهوم
الحصر في قوله: إنما جعل النبي (ص) الشفعة الحديث إنما هو فيما قبل
القسمة للمبيع بين المشتري والشريك فمدلوله أن القسمة تبطل الشفعة وهو صريح رواية
وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم. وأحاديث إثبات الشفعة
للخليط لا تبطل ثبوتها للجار بعد قيام الأدلة عليها التي منها ما سلف ومنها الحديث الآتي:
4 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: رسول الله (ص):
الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا.
رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات). أحسن المصنف بتوثيق رجاله وعدم إعلاله وإلا فإنهم
قد تكلموا في هذه الرواية بأنه انفرد بزيادة قوله: إذا كان طريقهما واحدا عبد الملك بن
أبي سليمان العرزمي. قلت: وعبد الملك ثقة مأمون لا يضر انفراده كما عرف في الأصول
وعلوم الحديث. والحديث من أدلة شفعة الجار إلا أنه قيده بقوله: إذا كان طريقهما
واحدا وقد ذهب إلى اشتراط هذا بعض العلماء قائلا بأنها تثبت الشفعة للجار إذا اشتركا
في الطريق. قال في الشرح: ولا يبعد اعتباره أما من حيث الدليل فللتصريح به في حديث
جابر هذا. ومفهوم الشرط أنه إذا كان مختلفا فلا شفعة. وأما من حيث التعليل فلان
شرعية الشفعة لمناسبة دفع الضرر والضرر بحسب الأغلب إنما يكون مع شدة الاختلاط
وشبكة الانتفاع وذلك إنما هو مع الشريك في الأصل أو في الطريق ويندر الضرر مع
75

عدم ذلك. وحديث جابر المقيد بالشرط لا يحتمل التأويل المذكور أولا، لأنه إذا كان
المراد بالجار الشريك ففائدة لاشتراط كون الطريق واحدا. قلت: ولا يخفى أنه قد آل
الكلام إلى الخليط لأنه مع اتحاد الطريق تكون الشفعة للخلطة فيها وهذا هو الذي قررناه
في منحة الغفار حاشية ضوء النهار. قال ابن القيم: وهو أعدل الأقوال وهو اختيار شيخ
الاسلام ابن تيمية. وحديث جابر هذا صريح فيه فإنه أثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق
ونفاها به في حديثه الآخر مع اختلافها حيث قال: فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق
فلا شفعة. فمفهوم حديث جابر هذا هو بعينه منطوق حديثه المتقدم فأحدهما يصدق الآخر
ويوافقه لا يعارضه ولا يناقضه وجابر روى اللفظين فتوافقت السنن وائتلفت بحمد الله انتهى
بمعناه. وقوله: ينتظر بها دال على أنها لا تبطل شفعة الغائب وإن تراخى وأنه لا يجب عليه
السير حين يبلغه الشراء لأجلها، وأما الحديث الآتي وهو قوله:
5 - (وعن ابن عمر رضي الله عنه: الشفعة كحل عقال. رواه ابن ماجة والبزار،
وزاد: ولا شفعة لغائب وإسناده ضعيف). فإنه لا تقوم به حجة لما ستعرفه ولفظه من
روايتهما: لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل عقال وضعفه البزار وقال ابن حبان
لا أصل له وقال أبو زرعة منكر وقال البيهقي ليس بثابت. وفي معناه أحاديث كلها
لا أصل لها. اختلف الفقهاء في ذلك فعند الهادوية والشافعية والحنابلة أنها على الفور ولهم
تقادير في زمان الفور لا دليل على شئ منها. ولا شك أنه إذا كان وجه شرعيتها دفع لضرر
فإنه يناسب الفورية يقال كيف يبالغ في دفع ضرر الشفيع ويبالغ في ضرر المشتري
ببقاء مشتراه معلقا. إلا أنه لا يكفي هذا القدر في إثبات حكم والأصل عدم اشتراط الفورية
وإثباتها يحتاج إلى دليل ولا دليل. وقد عقد البيهقي بابا في السنن الكبرى لألفاظ منكرة يذكرها
بعض الفقهاء وعد منها الشفعة كحل عقال ولا شفعة لصبي ولا لغائب، والشفعة
لا ترث ولا تورث، والصبي على شفعته حتى يدرك ولا شفعة لنصراني وليس لليهودي
ولا للنصراني شفعة، فعد منها حديث الكتاب.
باب القراض
القراض بكسر القاف وهو معاملة العامل بنصيب من الربح. وهذه تسميته في لغة
أهل الحجاز. وتسمى مضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض لما كان الربح يحصل
في الغالب بالسفر أو من الضرب في المال وهو التصرف.
1 - (عن صهيب رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: ثلاث فيهن
البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع رواه
ابن ماجة بإسناد ضعيف). وإنما كانت البركة في ثلاث لما في البيع إلى أجل من المسامحة
76

والمساهلة والإعانة للغريم بالتأجيل. وفي المقارضة لما في ذلك من انتفاع الناس بعضهم
ببعض. وخلط البر بالشعير قوتا لا للبيع لأنه قد يكون فيه غرر وغش.
2 - (وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة أن
لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت
شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي رواه الدارقطني ورجاله ثقات. وقال مالك في الموطأ عن
العلاء بن عبد الرحمن بن يعقو ب عن أبيه عن جده: إنه عمل في مال لعثمان على أن الربح
بينهما وهو موقوف صحيح) لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وأنه مما كان
في الجاهلية فأقره الاسلام وهو نوع من الإجارة إلا أنه عفى فيها عن جهالة الاجر.
وكانت الرخصة في ذلك الموضع الرفق بالناس. ولها أركان وشروط: فأركانها العقد
بالايجاب أو ما في حكمه والقبول أو ما في حكمه وهو الامتثال بين جائزي التصرف
إلا من مال مسلم لكافر على مال نقد عند الجمهور. ولها أحكام مجمع عليها: منها أن الجهالة
مغتفرة فيها. ومنها أنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد. واختلفوا إذا
كان دينا فالجمهور على منعه: قيل لتجويز إعسار العامل بالدين فيكون من تأخيره عنه
لأجل الربح فيكون من الربا المنهي عنه. وقيل لان ما في الذمة يتحول عن الضمانة
ويصير أمانة. وقيل لان ما في الذمة ليس بحاضر حقيقة فلم يتعين كونه ما المضاربة.
ومن شرط المضاربة أن تكون على مال من صاحب المال. واتفقوا أيضا على أنه إذا اشترط
أحدهما من الربح لنفسه شيئا زائدا معينا فإنه لا يجوز ويلغو. ودل حديث حكيم على أنه
يجوز لمالك المال أن يحجر العامل عما شاء فإن خالف ضمن إذا تلف المال وإن
سلم المال فالمضاربة باقية فيما إذا كان يرجع إلى الحفظ. وأما إذا كان الاشتراط لا يرجع
إلى الحفظ بل كان يرجع إلى التجارة وذلك بأن ينهاه أن لا يشتري نوعا معينا ولا يبيع من
فلان فإنه يصير فضوليا إذا خالف فإن أجاز المالك نفذ البيع وإن لم يجز لم ينفذ.
باب المساقاة والإجارة
1 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله (ص) عامل أهل خيبر
بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع متفق عليه. وفي رواية لهما: فسألوه أن يقرهم بها
77

على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله (ص): نقركم
بها على ذلك ما شئنا فقروا بها حتى أجلاهم عمر. ولمسلم أن رسول الله
(ص) دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم
شطر ثمرها) الحديث دليل على صحة المساقاة والمزارعة وهو قول علي عليه السلام وأبي بكر
وعمر وأحمد وابن خزيمة وسائر فقهاء المحدثين أنهما تجوزان مجتمعتين وتجوز كل واحدة
منفردة. والمسلمون في جميع الأمصار والاعصار مستمرون على العمل بالمزارعة. وقوله
ما شئنا دليل على صحة المساقاة والمزارعة وإن كانت المدة مجهولة وقال الجمهور:
لا تجوز المساقاة والمزارعة إلا في مدة معلومة كالإجازة وتأولوا قوله: ما شئنا على مدة
العهد وأن المراد نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا ثم نخرجكم إذا شئنا لأنه صلى الله
عليه وسلم كان عازما على اخراج اليهود من جزيرة العر ب وفيه نظر. وأما المساقاة فإن
مدتها معلومة لأنها إجارة وقد اتفقوا على أنها لا تجوز إلا بأجل معلوم. وقال ابن القيم
في زاد المعاد: في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع
لأنه (ص) عامل أهل خيبر على ذلك واستمر في ذلك إلى حين وفاته ولم
ينسخ البتة. واستمر عمل خلفائه الراشدين عليه وليس هذا من باب المؤاجرة في شئ بل
من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء، فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرق بين
متماثلين فإنه (ص) دفع إليهم الأرض على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع
إليها البذر ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعا فدل على أن هديه عدم اشتراط
كون البذر من رب الأرض وأنه يجوز أن يكون من العامل وهذا كان هديه صلى الله
عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين من بعده وكما أنه هو المنقول فهو الموافق للقياس فإن
الأرض بمنزلة رأس المال في المضاربة والبذر يجري مجرى سقي الماء ولهذا يموت
في الأرض ولا يرجع إلى صاحبه ولو كان بمنزلة رأس المال في المضاربة لاشترط عوده
إلى صاحبه وهذا يفسد المزارعة فعلم أن القياس الصحيح هو الموافق لهدي رسول الله
(ص) وخلفائه الراشدين انتهى. وقد أشار في كلامه إلى ما يذهب إليه
الحنفية والهادوية من أن المساقاة والمزارعة لا تصح وهي فاسدة وتأولوا هذا الحديث بأن
خيبر فتحت عنوة فكان أهلها عبيدا له صلى الله عليه وسلم فما أخذه فهو له وما تركه
فهو له وهو كلام مردود لا يحسن الاعتماد عليه.
2 - (وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه) هو الزرقي الأنصاري من ثقات أهل
المدينة (قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: لا بأس به
إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات) بذال
معجمة مكسورة ثم مثناة تحتية ثم ألف ونون ثم ألف ثم مثناة فوقية هي مسايل المياه
وقيل ما ينبت حول السواقي (وأقبال الجداول) بفتح الهمزة فقاف فموحدة أوائل الجداول
(وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك
78

زجر عنه فأما شئ معلوم مضمون فلا بأس به. رواه مسلم، وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من
إطلاق النهي عن كراء الأرض). مضمون الحديث دليل على صحة كراء الأرض بأجرة
معلومة من الذهب والفضة ويقاس عليهما غيرهما من سائر الأشياء المتقومة ويجوز بما
يخرج منها من ثلث وربع لما دل عليه الحديث الأول. وحديث ابن عمر قال " قد
علمت أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء
وشئ من التبن لا أدري ما هو أخرجه مسلم. وأخرج أيضا أن ابن عمر كان يعطي أرضه
بالثلث والربع ثم تركه. ويأتي ما يعارضه وقوله على الأربعاء جمع ربيع وهي الساقية
الصغيرة ومعناه هو وحديث الباب أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر
من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على مسايل المياه ورؤوس الجداول أو هذه
القطعة والباقي للعامل فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر فربما هلك ذا دون ذاك.
3 - (وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) نهى
عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة. رواه مسلم). وأخرج مسلم أيضا أن عبد الله بن عمر كان يكري
أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء المزارع فلقيه
عبد الله فقال: يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله (ص) في كراء الأرض؟
فقال رافع لعبد الله: سمعت عمي وكانا شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فقال عبد الله: لقد كنت أعلم في عهد رسول الله
(ص) أن الأرض تكرى ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله
عليه وسلم أحدث في ذلك شيئا لم يكن فترك كراء الأرض. وفي النهي عن المزارعة أحاديث
ثابتة وقد جمع بينها وبين الأحاديث الدالة على جوازها بوجوه: أحسنها أن النهي كان
في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليس لهم أرض فأمر الأنصار بالتكرم
بالمواساة. ويدل له ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: كان لرجال من الأنصار فضول
أرض وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له
أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسكها. وهذا كما نهوا عن ادخار لحوم
الأضحية ليتصدقوا بذلك - ثم بعد توسع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيح لهم المزارعة
وتصرف المالك في ملكه بما شاء من إجارة وغيرها. ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة
في عهده (ص) وعهد الخلفاء من بعده ومن البعيد غفلتهم عن النهي وترك
إشاعة رافع له في هذه المدة وذكره في آخر خلافة معاوية. قال الخطابي: قد عقل المعنى
ابن عباس وأنه ليس المراد تحريم المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض وإنما أريد بذلك أن
يتمانحوا وأن يرفق بعضهم ببعض انتهى. وعن زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع أنا والله أعلم
بالحديث منه، إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اختلفا فقال: إن كان هذا شأنكم فلا
تكروا المزارع كأن زيدا يقول إن رافعا اقتطع الحديث فروى النهي غير راو أوله
فأخل بالمقصود. وأما الاعتذار عن جهالة الأجرة فقد صح في المرضعة بالنفقة والكسوة مع
79

الجهالة قدرا أو لأنه كالمعلوم جملة لان الغالب تقارب حال الحاصل وقد حد بجهة الكمية
أعني النصف والثلث وجاء النص فقطع التكلفات.
4 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: احتجم رسول الله (ص)
وأعطى الذي حجمه أجره ولو كان حراما لم يعطه رواه البخاري). وفي لفظ في البخاري
" ولو علم كراهية لم يعطه. وهذا من قول ابن عباس كأنه يريد الرد على من زعم أنه لا يحل
إعطاء الحجام أجرته وأنه حرام. وقد اختلف العلماء في أجرة الحجام فذهب الجمهور
إلى أنه حلال احتجوا بهذا الحديث وقالوا: هو كسب فيه دناءة وليس بمحرم وحملوا
النهي على التنزيه ومنهم من ادعى النسخ وأنه كان حراما ثم أبيح وهو صحيح إذا عرف
التاريخ. وذهب أحمد وآخرون إلى أنه يكره للحر الاحتراف بالحجامة ويحرم عليه الانفاق
على نفسه من أجرتها ويجوز له الانفاق على الرقيق والدواب وحجتهم ما أخرجه مالك
وأحمد وأصحاب السنن برجال ثقات من حديث محيصة: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن كسب الحجام فنهاه فذكر له الحاجة فقال: اعلفه نواضحك. وأباحوه
للعبد مطلقا. وفي جواز التداوي باخراج الدم وغيره وهو إجماع.
5 - (وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
كسب الحجام خبيث رواه مسلم). الخبيث ضد الطيب وهل يدل على تحريمه؟ الظاهر
أنه لا يدل له فإنه تعالى قال: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * فسمى رذال المال خبيثا ولم
يحرمه وأما حديث: من السحت كسب الحجام فقد فسره هذا الحديث وأنه أريد
بالسحت عدم الطيب. وأيد ذلك إعطاؤه (ص) الحجام أجرته. قال ابن العربي
يجمع بينه وبين إعطائه (ص) الحجام أجرته بأن محل الجواز ما إذا كانت الأجرة
على عمل معلوم ومحل الزجر ما إذا كانت الأجرة على عمل مجهول. قلت: هذا بناء على
أن ما يأخذه حرام. وقال ابن الجوزي: إنما كرهت لأنها من الأشياء التي تجب على المسلم
للمسلم إعانته بها عند الاحتياج فما كان ينبغي أن يأخذ على ذلك أجرا.
6 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): قال
الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر،
ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه
أجره رواه مسلم). فيه دلالة على شدة جرم من ذكر وأنه تعالى يخصمهم يوم القيامة
نيابة عمن ظلموه. وقوله: أعطى بي أي حلف باسمي وعاهد أو أعطى الأمان باسمي
وبما شرعته من ديني. وتحريم الغدر والنكث مجمع عليه وكذا بيع الحر مجمع على تحريمه
80

وقوله استوفى منه أي استكمل منه العمل ولم يعطه الأجرة فهو أكل لماله بالباطل
مع تعبه وكده.
7 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) قال: إن
أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله أخرجه البخاري). وقد عارضه ما أخرجه
أبو داود من حديث عبادة بن الصامت ولفظه: علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن
فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت: ليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله فأتيته
فقلت: يا رسول الله أهدي إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست لي بمال
فأرمي عليها في سبيل الله. فقال: إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها " فاختلف
في العمل بالحديثين: فذهب الجمهور ومالك والشافعي إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن
سواء كان المتعلم صغيرا أو كبيرا ولو تعين تعليمه على المعلم عملا بحديث ابن عباس ويؤيده
ما يأتي في النكاح من جعله (ص) تعليم الرجل لامرأته القرآن مهرا لها. قالوا:
وحديث عبادة لا يعارض حديث ابن عباس إذ حديث ابن عباس صحيح وحديث عبادة
في رواته مغيرة بن زياد مختلف فيه واستنكر أحمد حديثه وفيه الأسود بن ثعلبة فيه
مقال فلا يعارض الحديث الثابت. قالوا: ولو صح فإنه محمول على أن عبادة كان
متبرعا بالاحسان وبالتعليم غير قاصد لاخذ الأجرة فحذره النبي (ص) من إبطال
أجره وتوعده. وفي أخذ الأجرة من أهل الصفة بخصوصهم كراهة ودناءة لأنهم ناس
فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه. وذهب الهادوية والحنفية
وغيرهما إلى تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن مستدلين بحديث عبادة وفيه ما عرفت فيه
قريبا. نعم استطرد البخاري ذكر أخذ الأجرة على الرقية في هذا الباب فأخرج من حديث
أبي سعيد في رقية بعض الصحابة لبعض العرب وأنه لم يرقه حتى شرط عليه قطيعا من غنم
فتفل عليه وقرأ عليه * (الحمد لله رب العالمين) * فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به
قلبة أي علة فأوفاه ما شرط ولما ذكروا ذلك لرسول الله قال:
قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهما. وذكر البخاري لهذه القصة في هذا لباب وإن
لم تكن من الأجرة على التعليم وإنما فيها دلالة على جواز أخذ العوض فمقابلة قراءة
القرآن لتأييد جواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن تعليما أو غيره، إذ لا فرق بين قراءته
للتعليم وقراءته للطب.
8 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه رواه ابن ماجة. وفي الباب عن
أبي هريرة عند أبي يعلى والبيهقي وجابر عند الطبراني وكلها ضعاف). لان في حديث ابن عمر شرقي
81

بن قطامي ومحمد بن زياد الراوي عنه وكذا في مسند أبي يعلى والبيهقي. وتمامه عند
البيهقي: وأعلمه أجره وهو في عمله قال البيهقي عقيب سياقه بإسناده: وهذا ضعيف.
9 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي (ص) قال: من استأجر
أجيرا فليسم له أجرته رواه عبد الرزاق وفيه انقطاع ووصله البيهقي من طريق
أبي حنيفة). قال البيهقي: كذا رواه أبو حنيفة وكذا في كتابي عن أبي هريرة وقيل من
وجه آخر ضعيف عن ابن مسعود. وفي الحديث دليل على ندب تسمية أجرة الأجير على
عمله، لئلا تكون مجهولة فتؤدي إلى الشجار والخصام.
باب إحياء الموات
الموات بفتح الميم والواو الخفيفة الأرض التي لم تعمر شبهت العمارة بالحياة
وتعطيلها بعدم الحياة وإحياؤها عمارتها.
واعلم أن الاحياء ورد عن الشارع مطلقا وما كان كذلك وجب الرجوع فيه إلى العرف
لأنه قد بين مطلقات الشارع كما في قبض المبيعات والحرز في السرقة مما يحكم به العرف.
والذي يحصل به الاحياء في العرف أحد خمسة أسباب: تبييض الأرض، وتنقيتها للزرع، وبناء
الحائط على الأرض، وحفر الخندق القعير الذي لا يطلع من نزله إلا بمطلع. هذا
كلام الامام يحيى.
1 - (عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) قال:
من عمر أرضا) بالفعل الماضي ووقع أعمر في رواية والصحيح الأول (ليست لاحد
فهو أحق بها قال عروة: وقضى به عمر في خلافته. رواه البخاري). وهو دليل
على أن الاحياء تملك إن لم يكن ملكها مسلم أو ذمي أو ثبت فيها حق للغير. وظاهر
الحديث أنه لا يشترط في ذلك إذن الإمام وهو قول الجمهور. وعن أبي حنيفة أنه لا بد من
إذنه. ودليل الجمهور هذا الحديث والقياس على ماء البحر والنهر وما صيد من طير
وحيوان وأنهم اتفقوا على أنه لا يشترط فيه إذن الإمام. وأما ما تقدم عليه يد لغير معين
كبطون الأودية فلا يجوز إلا بإذن الامام مما ليس فيه ضرر لمصلحة عامة ذكره بعض
الهادوية. وقال المؤيد وأبو حنيفة: لا يجوز إحياؤها بحال لجريها مجرى الاملاك لتعلق سيول
المسلمين بها إذ هي مجرى السيول. وقال الإمام المهدي - وهو قوي -: فإن تحول عنها جري
الماء جاز إحياؤها بإذن الامام لانقطاع الحق وعدم تعين أهله وليس للامام الاذن مع
ذلك إلا لمصلحة عامة لا ضرر فيها. ولا يجوز الاذن لكافر بالاحياء لقوله صلى الله عليه وسلم
82

" عاري الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم والخطاب للمسلمين. وقوله: وقضى به عمر
، قيل: هو مرسل لان عروة ولد في آخر خلافة عمر.
2 - (وعن سعيد بن زيد) تقدمت ترجمته في كتاب الوضوء (عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: من أحيا أرضا ميتة فهي له. رواه الثلاثة وحسنه الترمذي وقال: روي
مرسلا وهو كما قال واختلف في صحابيه) أي في راويه من الصحابة: (فقيل جابر وقيل عائشة
وقيل عبد الله بن عمر. والراجح) من الثلاثة الأقوال (الأول): وفيه أن رجلين اختصما إلى
رسول الله (ص) غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض
بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال: فلقد رأيتها وإنها تضرب أصولها
بالفؤوس وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها. وتقدم الكلام على فقهه وأنه: ليس
لعرق ظالم حق "
3 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب) بفتح الصاد المهملة وسكون العين
المهملة فموحدة (ابن جثامة) بفتح الجيم فمثلثة مشددة (أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: لا حمى إلا لله ولرسوله. رواه البخاري). الحمى يقصر ويمد والقصر أكثر وهو
المكان المحمي وهو خلاف المباح ومعناه أن يمنع الامام الرعي في أرض مخصوصة لتختص
برعيها إبل الصدقة مثلا. وكان في الجاهلية إذ أراد الرئيس أن يمنع الناس من محل يريد
اختصاصه استعوى كلبا من مكان عال فإلى حيث ينتهي صوته حماه من كل جانب
فلا يرعاه غيره ويرعى هو مع غيره فأبطل الاسلام ذلك وأثبت الحمى لله ولرسوله. وقال
الشافعي يحتمل الحديث شيئين: أحدهما: ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا مما حماه النبي
(ص). والآخر: معناه إلا على مثل ما حماه عليه رسول الله (ص). فعلى
الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول
الله (ص) وهو الخليفة خاصة. ورجح هذا الثاني بما ذكره البخاري عن الزهري
تعليقا: أن عمر حمى الشرف والربذة. وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن نافع عن ابن عمر
أن عمر حمى الربذة لإبل الصدقة. وقد ألحق بعض الشافعية ولاة الأقاليم في أنهم يحمون
لكن بشرط أن لا يضر بكافة المسلمين. واختلف هل يحمي الامام لنفسه أو لا يحمي إلا
لما هو للمسلمين؟ فقال المهدي: كان له صلى الله عليه وسلم أن يحمي لنفسه لكنه
لم يملك لنفسه ما يحمي لأجله.. وقال الامام يحيى والفريقان 3 لا يحمي إلا لخيل المسلمين
ولا يحمي لنفسه ويحمي لإبل الصدقة ولمن ضعف من المسلمين عن الانتجاع لقوله " لا حمى
إلا لله الحديث. ولا يخفى أنه لا دليل فيه على الاختصاص أما قصة عمر فإنها دالة على
83

الاختصاص ولفظها فيما أخرجه أبو عبيد وابن أبي شيبة والبخاري والبيهقي عن أسلم أن عمر
بن الخطاب استعمل مولى له يسمى هنيا على الحمى فقال له: يا هني اضمم جناحك
عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة. وأدخل رب الصريمة ورب
الغنيمة وإياك ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل
وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه يقول يا أمير
المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق. وأيم الله إنهم
يرون أني ظلمتهم وإنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الاسلام والذي
نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على الناس في بلادهم) انتهى
هذا صريح أنه لا يحمى الامام لنفسه.
4 - (وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): لا ضرر
ولا ضرار، رواه أحمد وابن ماجة. وله) أي: لابن ماجة (من حديث أبي سعيد مثله، وهو
في الموطأ مرسل). وأخرجه ابن ماجة أيضا والبيهقي من حديث عبادة بن الصامت،
وأخرجه مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرسلا بزيادة: من ضار ضاره الله ومن
شاق شاق الله عليه. وأخرجه بها الدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعا. وأخرجه
عبد الرزاق وأحمد عن ابن عباس أيضا وفيه زيادة: وللرجل أن يضع خشبته في حائط
جاره والطريق الميتاء سبعة أذرع. وقوله لا ضرر: الضرر ضد النفع يقال ضره يضره
وضرارا وأضر به يضر إضرارا ومعناه: لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه.
والضرار فعال من الضر أي لا يجازيه بإضراره بإدخال الضر عليه فالضر ابتداء الفعل،
والضرر الجزاء عليه. قلت: يبعده جواز الانتصار لمن ظلم * (ولمن انتصر بعد ظلمه) * الآية *
- وجزاء سيئة سيئة مثلها) *. وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به، والضرار أن
تضره من غير أن تنتفع وقيل: هما بمعنى وتكرارهما للتأكيد. وقد دل الحديث على تحريم
الضرر لأنه إذا نفى ذاته دل على النهي عنه لان النهي لطلب الكف عن الفعل وهو يلزم
منه عدم ذات الفعل فاستعمل اللازم في الملزوم. وتحريم الضرر معلوم عقلا وشرعا
إلا ما دل الشرع على إباحته رعاية للمصلحة التي تربو على المفسدة وذلك مثل إقامة الحدود
ونحوها وذلك معلوم في تفاصيل الشريعة. ويحتمل أن لا تسمى الحدود من القتل والضرب
ونحوه ضررا من فاعلها لغيره لأنه إنما امتثل أمر الله له بإقامة الحد على العاصي فهو عقوبة من
الله تعالى لا أنه إنزال ضرر من الفاعل ولذا لا يذم الفاعل لإقامة الحد بل يمدح على ذلك.
5 - (وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله (ص): من أحاط
حائطا على أرض فهي له رواه أبو داود وصححه ابن الجارود). وتقدم أن من أعمر أرضا
84

ليست لاحد فهي له. وهذا الحديث بين نوعا من أنواع العمارة ولا بد من تقييد
الأرض بأنه لا حق فيها لاحد كما سلف.
6 - (وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: من
حفر بئرا فله أربعون ذراعا عطنا بفتح العين المهملة وفتح الطاء فنون. في القاموس
العطن محركة وطن الإبل ومبركها حول الحوض لماشيته رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف)
لان فيه إسماعيل بن سلم وقد أخرجه الطبراني من حديث أشعث عن الحسن. وفي الباب
عن أبي هريرة عند أحمد: حريم البئر البدئ خمسة وعشرون ذراعا وحريم البئر العادي
خمسون ذراعا. وأخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن المسيب عنه وأعله بالارسال وقال:
من أسنده فقد وهم، وفي سنده محمد بن يوسف المقري شيخ شيخ الدارقطني وهو متهم
بالوضع. ورواه البيهقي من طريق يونس عن الزهري عن ابن المسيب مرسلا وزاد فيه
" وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها. وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة
موصولا ومرسلا والموصول فيه عمر بن قيس ضعيف. والحديث دليل على ثبوت الحريم
للبئر والمراد بالحريم ما يمنع منه المحيي والمحتفر لاضراره. وفي النهاية سمي بالحريم لأنه يحرم
منه صاحبه منه ولأنه يحرم على غيره التصرف فيه والحديث نص في حريم البئر وظاهر
حديث عبد الله أن العلة في ذلك هي ما يحتاج إليه صاحب البئر عند سقي إبله لاجتماعها على
الماء. وحديث أبي هريرة دال على أن العلة في ذلك هو ما يحتاج إليه البئر لئلا تحصل المضرة
عليها بقرب الاحياء منها ولذلك اختلف الحال في البدئ والعادي. والجمع بين الحديثين
أنه يقدم ما يحتاج إليه إما لأجل السقي للماشية أو لأجل البئر. وقد اختلف العلماء في ذلك
فذهب الهادي والشافعي وأبو حنيفة إلى أن حريم البئر الاسلامية أربعون وذهب أحمد إلى
أن الحريم خمسة وعشرون. وأما العيون فذهب الهادي إلى أن حريم العين الكبيرة الفوارة
خمسمائة ذراع من كل جانب استحسانا. قيل: وكأنه نظر إلى أرض رخوة تحتاج إلى ذلك
القدر وأما الأرض الصلبة فدون ذلك. والدار المنفردة حريمها فناؤها وهو مقدار طول
جدار الدار وقيل: ما تصل إليه الحجارة إذا انهدمت وإلى هذا ذهب زيد بن علي وغيره
وحريم النهر قدر ما يلقى منه كسحه وقيل: مثل نصفه من كل جانب وقيل: بل بقدر أرض
النهر جميعا. وحريم الأرض ما تحتاج إليه وقت عملها وإلقاء كسحها وكذا المسيل حريمه مثل
البئر على الخلاف. وكل هذه الأقوال قياس على البئر بجامع الحاجة وهذا في الأرض
المباحة. وأما الأرض المملوكة فلا حريم في ذلك بل كل يعمل في ملكه ما شاء.
7 - (وعن علقمة بن وائل عن أبيه: أن النبي (ص) أقطعه أرضا بحضرموت
رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان)، وصححه أيضا الترمذي والبيهقي. ومعناه أنه خصه
85

ببعض الأرض الموات فيختص بها ويصير أولى بها بإحيائه ممن لم يسبق إليها بالاحياء
واختصاص الاحياء بالموات متفق عليه في كلام الشافعية والهادوية وغيرهم. وحكى القاضي
عياض: أن الاقطاع تسويغ الامام من مال الله شيئا لمن يراه أهلا لذلك. قال: وأكثر
ما يستعمل في الأرض وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه إما بأن يملكه إياه فيعمره
وإما بأن يجعل له غلتها مدة. قال السبكي والثاني: هو الذي يسمى في زماننا هذا إقطاعا ولم أر أحدا من
أصحابنا ذكره، وتخريجه على طريقة فقهية مشكل والذي يظهر أنه يحصل للمقطع بذلك
اختصاص كاختصاص المتحجر ولكنه لا يملك الرقبة بذلك انتهى. وبه جزم المحب الطبري.
وادعى الأوزاعي نفي الخلاف في جواز تخصيص الامام بعض الجند بغلة أرض إذا كان مستحقا
لذلك. قال ابن التين: إنما يسمى إقطاعا إذا كان من أرض أو عقار وإنما يقطع من الفئ
ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد. قال: وقد يكون الاقطاع تمليكا وغير تمليك. وأما
ما يقطع في أرض اليمن في هذه الأزمنة المتأخرة من إقطاع جماعة من أعيان الآل قرى من
البلاد العشرية يأخذون زكاتها وينفقونها على أنفسهم مع غناهم فهذا شئ محرم لم تأت
به الشريعة المحمدية بل أتت بخلافه وهو تحريم الزكاة على آل محمد وتحريمها على الأغنياء
من الأمة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
8 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي (ص) أقطع الزبير حضر)
بضم الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة فراء (فرسه) أي ارتفاع الفرس في عدوه (فأجرى
الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه فقال: أعطوه حيث بلغ السوط رواه أبو داود وفيه
ضعف) لان فيه العمري المكبر وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر
بن الخطاب وفيه مقال. وأخرجه أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر وفيه أن الاقطاع
كان من أموال بني النضير. قال في البحر: وللامام إقطاع الموات لاقطاع النبي صلى الله عليه
وسلم الزبير حضر فرسه ولفعل أبي بكر وعمر.
9 - (وعن رجل من الصحابة قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته
يقول: الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ) مهموز ومقصور (والماء والنار رواه
أحمد وأبو داود ورجاله ثقات). وروى ابن ماجة من حديث أبي هريرة مرفوعا: ثلاث
لا يمنعن: الكلأ والماء والنار وإسناده صحيح. وفي الباب روايات كثيرة لا تخلو عن مقال،
ولكن الكل ينهض على الحجية. ويدل للماء بخصوصه أحاديث في مسلم وغيره. والكلأ
النبات رطبا كان أو يابسا وأما الحشيش والهشيم فمختص باليابس وأما الخلا مقصور غير
مهموز فيختص بالرطب ومثله العشب. والحديث دليل على عدم اختصاص أحد من الناس
بأحد الثلاثة وهو إجماع في الكلأ في الأرض المباحة والجبال التي لم يحرزها أحد فإنه لا يمنع
من أخذ كلئها أحد إلا ما حماه الامام كما سلف. وأما النابت في الأرض المملوكة والمتحجرة
86

ففيه خلاف بين العلماء فعند الهادوية وغيرها أن ذلك مباح أيضا وعموم الحديث دليل
لهم. وأما النار فاختلف في المراد بها فقيل: أريد بها الحطب الذي يحطبه الناس وقيل أريد
الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها وقيل: الحجارة التي تورى منها النار إذا كانت في موات
. والأقرب أنه أريد بها النار حقيقة فإن كانت من حطب مملوك فقيل: حكمها حكم أصلها. وقيل
يحتمل أنه يأتي فيها الخلاف الذي في الماء وذلك لعموم الحاجة وتسامح الناس في ذلك.
وأما الماء فقد تقدم الكلام فيه وأنه يحرم منع المياه المجتمعة من الأمطار في أرض مباحة وأنه
ليس أحد أحق بها من أحد إلا لقرب أرضه منها، ولو كان في أرض مملوكة فكذلك إلا أن
صاحب الأرض المملوكة أحق به يسقيها ويسقي ماشيته ويجب بذله لما فضل من ذلك. فلو كان
في أرضه أو داره عين نابعة أو بئر احتفرها فإنه لا يملك الماء بل حقه فيه تقديمه في الانتفاع
به على غيره وللغير دخول أرضه كما سلف. فإن قيل: فهل يجوز بيع العين والبئر نفسهما؟
قيل: يجوز بيع العين والبئر لان النهي وارد عن بيع فضل الماء لا البئر والعيون في قرارهما فلا
نهي عن بيعهما والمشتري لهما أحق بمائهما بقدر كفايته وقد ثبت شراء عثمان لبئر رومة
من اليهودي بأمره صلى الله عليه وسلم وسبلها للمسلمين. فإن قيل: إذا كان الماء لا يملك
فكيف تحجر اليهودي البئر حتى باعها من عثمان؟ قيل: هذا كان في أول الاسلام حين قدم
النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل تقرر الاحكام على اليهودي، والنبي صلى الله عليه وسلم
أبقاهم أول الأمر على ما كانوا عليه وقررهم على ما تحت أيديهم.
باب الوقف
الوقف لغة الحبس يقال وقفت كذا أي حبسته وهو شرعا جنس مال يمكن
الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح.
1 - (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله (ص) قال: إذا مات ابن
آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع
به، أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم). ذكره في باب الوقف لأنه فسر العلماء
الصدقة الجارية بالوقف وكان أول وقف في الاسلام وقف عمر رضي الله عنه الآتي
حديثه. كما أخرجه ابن أبي شيبة: أن أول حبس في الاسلام صدقة عمر، قال الترمذي:
لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل الفقه خلافا في جواز وقف الأرضين. وأشار الشافعي
أنه من خصائص الاسلام لا يعلم في الجاهلية. وألفاظه: وقفت وحبست وسبلت وأبدت، فهذه
صرائح ألفاظه. وكنايته: تصدقت واختلف في (حرمت) فقيل صريح وقيل غير صريح.
وقوله أو علم ينتفع به: المراد النفع الأخروي فيخرج ما لا نفع فيه كعلم النجوم من
حيث أحكام السعادة وضدها. ويدخل فيه من ألف علما نافعا أو نشره فبقي من يرويه
عنه وينتفع به. أو كتب علما نافعا ولو بالأجرة مع النية أو وقف كتبا. ولفظ الولد
87

شامل للأنثى والذكر وشرط صلاحه ليكون الدعاء مجابا. والحديث دليل على أنه ينقطع أجر
كل عمل بعد الموت إلا هذه الثلاثة فإنه يجري أجرها بعد الموت ويتجدد ثوابها. قال العلماء
لان ذلك كسبه. وفيه دليل على أن دعاء الولد لأبويه بعد الموت يلحقهما وكذلك غير
الدعاء من الصدقة وقضاء الدين وغيرهما.
واعلم أنه قد زيد على هذه ثلاثة ما أخرجه ابن ماجة بلفظ: إن مما يلحق المؤمن من
عمله وحسناته بعد موته علما نشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه
أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه
بعد موته. ووردت خصال أخر تبلغ عشرا ونظمها الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى قال:
إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من فعال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوى إليه أو بناء محل ذكر
2 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أصاب عمر أرضا بخيبر) في رواية النسائي
" أنه كان لعمر مائة رأس فاشترى بها مائة سهم من خيبر (فأتى النبي (ص)
يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي
منه فقال (ص): إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال: فتصدق بها عمر
وأنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب فتصدق بها في الفقراء وفي القربى) أي
ذوي قربى عمر (وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من
وليها أن يأكل بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول مالا متفق عليه
واللفظ لمسلم وفي رواية للبخاري: تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولكن ينفق ثمره). أفادت
رواية البخاري أن كونه لا يباع ولا يوهب من كلامه (ص) وأن هذا شأن الوقف
وهو يدفع قول أبي حنيفة بجواز بيع الوقوف. قال أبو يوسف: إنه لو بلغ أبا حنيفة هذا
الحديث لقال به ورجع عن بيع الوقف. قال القرطبي: رد الوقف مخالف للاجماع فلا يلتفت
إليه. وقوله: أن يأكل منها من وليها بالمعروف قال القرطبي: جرت العادة أن العامل يأكل من
ثمر الوقف حتى لو اشترط الواقف أن لا يأكل منه لاستقبح ذلك منه. والمراد بالمعروف القدر
الذي جرت به العادة وقيل: القدر الذي يدفع الشهوة وقيل: المراد أن يأخذ منه بقدر عمله
والأول أولى. وقوله: غير متمول أي غير متخذ منها مالا أي ملكا والمراد لا يتملك
شيئا من رقابها ولا يأخذ من غلتها ما يشتري بدله ملكا بل ليسله إلا ما ينفقه. وزاد أحمد
في روايته: أن عمر أوصى بها إلى حفصة أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من آل عمر، ونحوه
عند الدارقطني.
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله (ص) عمر
88

على الصدقة، الحديث وفيه: وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله. متفق
عليه). تقدم تفسير الأعتاد، والحديث دليل على صحة وقف العين عن الزكاة وأنه يأخذ بزكاته
آلات للحرب للجهاد في سبيل الله وعلى أنه يصح وقف العروض. وقال أبو حنيفة:
لا يصح لان العروض تبذل وتغير والوقف موضوع على التأبيد والحديث حجة عليه،
ودل على صحة وقف الحيوان لأنها قد فسرت الأعتاد بالخيل وعلى جواز صرف الزكاة
إلى صنف واحد من الثمانية. وتعقب ابن دقيق العيد جميع ما ذكر بأن القصة محتملة لما
ذكر ولغيره فلا ينتهض الاستدلال بها على شئ مما ذكر قال: ويحتمل أن يكون تحبيس
خالد إرصادا وعدم تصرف ولا يكون وقفا.
باب الهبة، والعمرى، والرقبى
الهبة بكسر الهاء: مصدر وهبت وهي شرعا تمليك عين بعقد على غير عوض
معلوم في الحياة ويطلق على الشئ الموهوب ويطلق على أعم من ذلك.
1 - (عن النعمان بن بشير: أن أباه أتى به رسول الله (ص) فقال: إني نحلت
ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله (ص): أكل ولدك نحلته
مثل هذا؟ فقال لا، فقال رسول الله (ص): فأرجعه وفي لفظ:
فانطلق أبي إلى النبي (ص) ليشهده على صدقتي فقال: أفعلت هذا
بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم فرجع أبي
فرد تلك الصدقة. متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: فأشهد على هذا غيري ثم قال
أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن). الحديث دليل على
وجوب المساواة بين الأولاد في الهبة وقد صرح به البخاري وهو قول أحمد وإسحاق
والثوري وآخرين. وأنها باطلة مع عدم المساواة وهو الذي تفيده ألفاظ الحديث من أمره
(ص) بإرجاعه، ومن قوله: اتقوا الله، وقوله: اعدلوا بين أولادكم، وقوله
فلا إذن، وقوله: لا أشهد على جور. واختلف في كيفية التسوية فقيل: بأن تكون
عطية الذكر والأنثى سواء وهو ظاهر قوله في بعض ألفاظه عند النسائي: ألا سويت بينهم؟ "
وعند ابن حبان: سووا بينهم ولحديث ابن عباس: سووا بين أولادكم في العطية فلو كانت
مفضلا أحدا لفضلت النساء أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي بإسناد حسن. وقيل
بل التسوية أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب التوريث. وذهب الجمهور إلى
أنها لا تجب التسوية بل تندب وأطالوا في الاعتذار عن الحديث وذكر في الشرح عشرة
89

أعذار كلها غير ناهضة. وقد كتبنا في ذلك رسالة جواب سؤال أوضحنا فيها قوة القول
بوجوب التسوية وأن الهبة مع عدمها باطلة.
2 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي (ص):
العائد في هبته كالكلب يقئ ثم يعود في قيئه متفق عليه. وفي رواية للبخاري:
ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يقئ ثم يرجع في قيئه). فيه دلالة على تحريم
الرجوع في الهبة وهو مذهب جماهير العلماء وبوب له البخاري - باب لا يحل لاحد أن يرجع
في هبته وصدقته -. وقد استثنى الجمهور ما يأتي من الهبة للولد ونحوه. وذهبت الهادوية
وأبو حنيفة إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة إلا الهبة لذي رحم. قالوا: والحديث المراد به
التغليظ في الكراهة. قال الطحاوي: قوله كالعائد في قيئه وإن اقتضى التحريم لكن الزيادة
في الرواية الأخرى وهو قو له: كالكلب تدل على عدم التحريم لان الكلب غير متعبد
فالقئ ليس حراما عليه والمراد التنزه عن فعل يشبه فعل الكلب. وتعقب باستبعاد التأويل
ومنافرة سياق الحديث له وعرف الشرع في مثل هذه العبارة الزجر الشديد كما ورد النهي
في الصلاة عن إقعاء الكلب ونقر الغراب والتفات الثعلب ونحوه ولا يفهم من المقام إلا
التحريم والتأويل البعيد لا يلتفت إليه ويدل على التحريم الحديث الآتي وهو:
3 - (وعن ابن عمر وابن عباس عن النبي (ص) قال:
لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي
ولده رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم). فإن قوله لا يحل
ظاهر في التحريم والقول بأنه مجاز عن الكراهة الشديدة صرف له عن ظاهره. وقوله إلا
الوالد دليل على أنه يجوز للأب الرجوع فيما وهبه لابنه كبيرا كان أو صغيرا واختصه
الهادوية بالطفل وهو خلاف ظاهر الحديث. وفرق بعض العلماء فقال: يحل الرجوع
في الهبة دون الصدقة لان الصدق يراد بها ثواب الآخرة وهو فرق غير مؤثر في الحكم.
وحكم الأم حكم الأب عند أكثر العلماء. نعم وخص الهادي ما وهبته الزوجة لزوجها من
صداقها بأنه ليس لها الرجوع في ذلك، ومثله رواه البخاري عن النخعي وعمر بن عبد العزيز
تعليقا. وقال الزهري: يرد إليها إن كان خدعها. وأخرج عبد الرزاق بسند منقطع: إن
النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت.
4 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يقبل
الهدية ويثيب عليها رواه البخاري). فيه دلالة على أن عادته (ص) كانت جارية
بقبول الهدية والمكافأة عليها. وفي رواية لابن أبي شيبة: ويثيب عليها ما هو خير منها. وقد
استدل به على وجوب الإثابة على الهدية إذ كونه عادة له (ص) مستمرة يقتضي
لزومه ولا يتم به الاستدلال على الوجوب لأنه قد يقال إنما فعله (ص) مستمرا
90

لما جبل عليه من مكارم الأخلاق لا لوجوبه. وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب المكافأة
بحسب العرف قالوا: لان الأصل في الأعيان الأعواض. قال في البحر: ويجب تعويضها
حسب العرف. وقال الامام يحيى: المثلي مثله والقيمي قيمته ويجب له الايصاء بها وقال
الشافعي في الجديد: الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لأنها بيع بثمن مجهول ولان موضع الهبة
التبرع فلو أوجبناه لكان في معنى المعاوضة وقد فرق الشرع والعر ف بين الهبة والبيع
فما يستحق العوض أطلق عليه لفظ البيع، بخلاف الهبة. قيل وكأن من أجازها للثواب جعل
العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها. وقال بعض المالكية: يجب الثواب على الهبة
إذا أطلق الواهب أو كان مما يطلب مثله الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى.
فإذا لم يرض الواهب بالثواب فقيل: تلزم الهبة إذا أعطاه الموهوب له القيمة وقيل: لا تلزم
إلا أن يرضيه، والأول المشهور عن مالك رحمه الله ويرده الحديث الآتي وهو:
5 - (وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: وهب رجل لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ناقة فأثابه عليها فقال: رضيت؟ قال: لا، فزاده فقال: رضيت؟ قال: لا، فزاده فقال:
رضيت؟ قال نعم، رواه أحمد وصححه ابن حبان). ورواه الترمذي وبين أن العوض كان ست
بكرات. وفيه دليل على اشتراط رضا الواهب وأنه إن أسلم إليه قدر ما وهب ولم يرض زيد
له وهو دليل لاحد القولين الماضيين وهو قول ابن عمر. قالوا: فإذا اشترط فيه الرضا فليس
هناك بيع انعقد.
6 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): العمرى)
بضم المهملة وسكون الميم وألف مقصورة (لمن وهبت له متفق عليه ولمسلم) أي من
حديث جابر: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمري فهي للذي أعمرها
حيا وميتا ولعقبه. وفي لفظ: إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها. (ولأبي داود
والنسائي) أي: من حديث جابر (لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقب شيئا أو أعمر
شيئا فهو لورثته). الأصل في العمرى والرقبى أنه كان في الجاهلية يعطي الرجل الرجل
الدار ويقول: أعمرتك إياها أي أبحتها لك مدة عمرك فقيل لها عمري لذلك. كما أنه قيل
لها رقبى لان كلا منهما يرقب موت الآخر. وجاءت الشريعة بتقرير ذلك، ففي الحديث
دلالة على شرعيتها وأنها مملكة لمن وهب له وإليه ذهب العلماء كافة إلا رواية عن داود أنها
لا تصح. واختلف إلى ماذا يتوجه التمليك. فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقبة كغيرها من
الهبات. وعند الشافعي ومالك إلى المنفعة دون الرقبة. وتكون على ثلاثة أقسام: مؤبدة
إن قال أبدا. ومطلقة عند عدم التقييد. ومقيدة بأن يقول ما عشت فإذا مت رجعت إلي.
91

واختلف العلماء في ذلك والأصح أنها صحيحة في جميع الأحوال وأن الموهوب له يملكها
ملكا تاما يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات وذلك لتصريح الأحاديث بأنها لمن
أعمرها حيا وميتا. وأما قوله: فإذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها فلأنها بهذا
القيد قد شرط أن تكون إلى الواهب بعد موته فيكون لها حكم ما إذا صرح بذلك الشرط وهي
كما لو أعمره شهرا أو سنة فإنها عارية إجماعا. وقوله: أمسكوا أموالكم وقوله: لا ترقبوا
محمول على الكراهة والارشاد لهم إلى حفظ أموالهم لأنهم كانوا يعمرون ويرقبون ويرجع إليهم
إذا مات من أعمروه وأرقبوه فجاء الشرع بمراغمتهم وصحح العقد وأبطل الشرط المضاد لذلك
فإنه أشبه الرجوع في الهبة وقد صح النهي عنه. وأخرج النسائي من حديث ابن عباس
يرفعه: العمرى لمن أعمرها والرقبى لمن أرقبها والعائد في هبته كالعائد في قيئه. وأما إذا
صرح بالشرط كما في الحديث وقال: ما عشت، فإنها عارية مؤقتة لا هبة. ومر حديث
" العائد في هبته كالعائد في قيئه ومثله الحديث الآتي وهو:
7 - (وعن عمر رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه صاحبه
فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله (ص) عن ذلك فقال: لا تبتعه وإن
أعطاكه بدرهم الحديث، متفق عليه). تمامه: فإن العائد في صدقته كالكلب يعود
في قيئه. وقوله: فأضاعه أي قصر في مؤنته وحسن القيام به وقوله: لا تبتعه أي لا تشتره
وفي لفظ: ولا تعد في صدقتك، فسمى الشراء عودا في الصدقة قيل: لان العادة جرت
بالمسامحة في ذلك من البائع للمشتري فأطلق على القدر الذي يقع به التسامح رجوعا.
ويحتمل أنه مبالغة وأن عودها إليه بالقيمة كالرجوع. وظاهر النهي التحريم وإليه ذهب
قوم. وقال الجمهور: إنه للتنزيه. وتقدم أن الرجوع في الهبة محرم وأنه الأقوى دليلا إلا
ما استثني. قال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب، وما إذا
كان الواهب الوالد لولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب، لثبوت الاخبار
باستثناء ذلك. ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة. قلت: هذا في الرجوع
في الهبة فأما شراؤها وهو الذي فيه سياق هذا الحديث فالظاهر أن النهي للتنزيه، وإنما
التحريم في الرجوع فيها. ويحتمل أنه لا فرق بينهما للنهي وأصله التحريم.
8 - (وعن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: تهادوا
تحابوا رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن). وأخرجه البيهقي وغيره
وفي كل رواته مقال والمصنف قد حسن إسناده وكأنه لشواهده التي منها الحديث وإن كان
ضعيفا وهو قوله: 9 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): تهادوا
فإن الهدية تسل السخيمة) بالسين المهملة مفتوحة فخاء معجمة فمثناة تحتية
في القاموس السخيمة والسخيمة بالضم: الحقد (رواه البزار بإسناد ضعيف) لان في روايته
من ضعف وله طرق كلها لا تخلو عن مقال وفي بعض ألفاظه: تذهب وحر الصدر "
92

بفتح الواو والحاء المهملة وهو الحقد أيضا. والأحاديث وإن لم تخل عن مقال فإن للهدية
في القلوب موقعا لا يخفى.
10 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): يا نساء
المسلمات) قال القاضي: الأشهر نصب النساء على أنه منادى مضاف إلى المسلمات من
إضافة الصفة وقيل غير هذا (لا تحقرن) بالحاء المهملة ساكنة وفتح القاف وكسرها
(جارة لجارتها ولو فرسن شاة) بكسر الفاء وسكون الراء وكسر السين المهملة آخره
نون وهو من البعير بمنزلة الحافر من الدابة وربما استعير للشاة (متفق عليه). في الحديث
حذف تقديره لا تحقرن جارة لجارتها هدية ولو فرسن شاة والمراد من ذكره المبالغة في الحث
على هدية الجارة لجارتها لا حقيقة الفرسن لأنه لم تجر العادة بإهدائه. وظاهره النهي للمهدي،
اسم فاعل عن استحقار ما يهديه بحيث يؤدي إلى ترك الاهداء. ويحتمل أنه للمهدى إليه،
والمراد لا يحقرن ما أهدى إليه ولو كان حقيرا. ويحتمل إرادة الجمع وفيه الحث على التهادي،
سيما بين الجيران ولو بالشئ الحقير لما فيه من جلب المحبة والتأنيس.
11 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: من
وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب عليها رواه الحاكم وصححه، والمحفوظ من رواية
ابن عمر عن عمر قوله). قال المصنف: صححه الحاكم وابن حزم، وفيه دليل على جواز
الرجوع في الهبة التي لم يثب عليها، وعدم جواز الرجوع في الهبة التي أثاب عليها الموهوب
له الواهب. وتقدم الكلام في ذلك وفي حكم الهبة للثواب والمكافأة. وما أحسن ما قيل في ذلك
إن الفاعل لا يفعل إلا لغرض، فالهبة للأدنى كثيرا ما تكون كالصدقة وهي غرض معهم.
وللمساوي معاشرة لجلب المودة وحسن العشرة وهي مثل عطية الأدنى، إلا أن في عطية
الأدنى توهم الصدقة. والعرف جار بتخالف الهدايا باعتبار حال المهدي والمهدى إليه فإذا
كان الغرض الطمع والتحصيل كما يهدي المتكسب للملك يتحفه بشئ يرجو فضله فلو
اقتصر الملك على قدر قيمتها لذم والذم دليل الرجوع بل إما أن يردها أو يعطيه خيرا منها.
وإن كان غرض المهدي تحصى الاتصال بينهما والمخالفة الحسنة وتصفية ذات البين أجزأه
من المكافأة أدنى شئ قل أو كثر بل الأقل أنسب لاشعاره بأن ليس الغرض المعاوضة بل
تكميل المودة وأنه لا فرق بين ما تملكه أنت وما أملكه أنا.
باب اللقطة
اللقطة بضم اللام وفتح القاف قيل: لا يجوز غيره وقال الخليل: القاف ساكنة لا غير
وأما بفتحها فهو اللاقط. قيل: وهذا هو القياس إلا أنه أجمع أهل اللغة والحديث على الفتح
ولذا قيل: لا يجوز غيره.
1 - (عن أنس قال: مر النبي (ص) بتمرة في الطريق
93

فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها متفق عليه). دل على
جواز أخذ الشئ الحقير الذي يتسامح به، ولا يجب التعريف به وأن الآخذ يملكه بمجرد الاخذ
له. وظاهر الحديث أنه يجوز ذلك في الحقير وإن كان مالكه معروفا. وقيل: لا يجوز إلا إذا
جهل. وأما إذا علم فلا يجوز إلا بإذنه وإن كان يسيرا. وقد أورد عليه أنه (ص)
كيف تركها في الطريق مع أن على الامام حفظ المال الضائع وحفظ ما كان من الزكاة
وصرفه في مصارفه. ويجاب عنه بأنه لا دليل على أنه (ص) لم يأخذها للحفظ
وإنما ترك أكلها تورعا أو أنه تركها عمدا ليأخذها من يمر ممن تحل له الصدقة. ولا يجب
على الامام إلا حفظ المال الذي يعلم طلب صاحبه له لا ما جرت العادة بالاعراض عنه
لحقارته. وفيه حث على التورع عن أكل يجوز فيه أنه حرام.
2 - (وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه) هو أبو طلحة أو أبو عبد الرحمن نزل الكوفة ومات
بها سنة ثمان وسبعين وهو ابن خمسين وثمانين سنة وروى عنه جماعة (قال: جاء رجل
إلى النبي (ص)) لم يقم برهان على تعيين الرجل فسأله عن اللقطة) أي عن
حكمها شرعا (فقال: اعرف عفاصها بكسر العين المهملة ففاء وبعد الألف صاد مهملة
وعاءها ووقع في رواية خرقتها ووكاءها بكسر الواو ممدودا ما يربط به (ثم
عرفها) بتشديد الراء سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال: فضالة الغنم)
الضالة تقال على الحيوان. وما ليس بحيوان يقال له لقطة (قال: هي لك أو لأخيك أو
للذئب قال: فضالة الإبل قال: ما لك ولها معها سقاؤها أجوفها وقيل عنقها
(وحذاؤها) بكسر الحاء المهملة فذال معجمة أي خفها ترد الماء وتأكل الشجر
حتى يلقاها ربها متفق عليه). اختلف العلماء في الالتقاط هل هو أفضل أم الترك فقال
أبو حنيفة: الأفضل الالتقاط لان من الواجب على المسلم حفظ ما أخيه ومثله قال الشافعي.
وقال مالك وأحمد: تركه أفضل لحديث: ضالة المؤمن حرق النار ولما يخاف من التضمين
والدين. وقال قوم: بل الالتقاط واجب وتأولوا الحديث بأنه فيمن أراد أخذها للانتفاع بها
من أول الأمر قبل تعريفه بها. هذا وقد اشتمل الحديث على ثلاثة مسائل: الأولى: في حكم
اللقطة وهي الضائعة التي ليست بحيوان - فإن ذلك يقال له ضالة - فقد أمر صلى الله عليه
وسلم لا لملتقط أن يعرف وعاءها وما تشد به وظاهر الامر وجوب التعرف لما ذكر
ووجوب التعريف ويزيد الأخير عليه دلالة قوله:
3 - (وعنه) أي عن زيد بن خالد (قال: قال رسول الله (ص): من
آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها رواه مسلم). فوصفه بالضلال إذا لم يعرف بها. وقد
اختلف في فائدة معرفتهما. فقيل: لترد للواصف لها وأنه يقبل قوله بعد اخباره بصفتها ويجب
94

ردها إليه كما دل له ما هنا. وما في رواية البخاري: فإن جاء أحد يخبرك بها وفي لفظ
" بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه وإلى هذا ذهب أحمد ومالك واشترطت المالكية
زيادة صفة الدنانير والعدد قالوا: لورود ذلك في بعض الروايات وقالوا: لا يضره الجهل بالعدد
إذا عرف العفاص والوكاء. فأما إذا عرف إحدى العلامتين المنصوص عليهما من العفاص
والوكاء وجهل الأخرى فقيل: لا شئ له إلا بمعرفتهما جميعا. وقيل: تدفع إليه بعد الانظار
مدة. ثم اختلف هل تدفع إليه بعد وصفه لعفاصها ووكائها بغير يمينه أم لا بد من اليمين؟
فقيل: تدفع إليه بغير يمين لأنه ظاهر الأحاديث. وقيل: لا ترد إلا بالبينة. وقال من
أوجب البينة: إن فائدة أمر الملتقط بمعرفتها لئلا يلتبس بماله لا لأجل ردها لمن وصفها فإنها
لا ترد إليه إلا بالبينة. قالوا: وذلك لأنه مدع وكل مدع لا يسلم إليه ما ادعاه إلا بالبينة،
وهذا أصل مقرر شرعا لا يخرج عنه بمجرد وصف المدعى للعفاص والوكاء. وأجيب: بأن ظاهر
الأحاديث وجوب الرد بمجرد الوصف فإنه قال (ص): فأعطها إياه "
وفي حديث الباب مقدر بعد قوله فإن جاء صاحبها: أي فأعطه إياها وإنما حذف جواب
الشرط للعلم به. وحديث البينة على المدعي ليست البينة مقصورة على الشهادة بل هي
عامة لكل ما تبين به الحق ومنها وصف العفاص والوكاء. على أنه قد قال من اشترط
البينة: إنها إذا ثبتت الزيادة وهي قوله فأعطها إياه كان العمل عليها والزيادة قد صحت كما
حققه المصنف فيجب العمل بها ويجب الرد بالوصف. وكما أوجب (ص)
التعرف بها فقد حد وقته بسنة فأوجب التعريف بها سنة وأما ما بعدها: فقيل: لا يجب التعريف
بها بعد السنة وقيل: يجب والدليل مع الأول. ودل على أنه يعرف بها سنة لا غير، حقيرة
كانت أو عظيمة. ثم التعريف يكون في مظان اجتماع الناس من الأسواق وأبواب المساجد
والمجامع الحافلة. وقوله: وإلا فشأنك بها نصب شأنك على الاغراء ويجوز رفعه على الابتداء
وخبره بها وهو تفويض له في حفظها أو الانتفاع بها. واستدل به على جواز تصرف الملتقط
فيها أي تصرف، إما بصرفها على نفسه غنيا كان أو فقيرا أو التصدق بها إلا أنه قد أورد من
الأحاديث ما يقتضي أنه لا يتملكها. فعند مسلم: ثم عرفها سنة فإن لم يجئ صاحبها كانت
وديعة عندك. وفي رواية: ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن
جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ولذلك اختلف العلماء في حكمها بعد السنة. قال
في نهاية المجتهد: إنه اتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي والشافعي على أنه يتملكها،
ومثله عن عمر وابنه وابن مسعود وابن مسعود: وقال أبو حنيفة: ليس له إلا أن يتصدق بها، ومثله يروى
عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها
إلا أهل الظاهر فقالوا: تحل وتصير بعد السنة له مالا من ماله ولا يضمنها إن جاء صاحبها.
قلت: ولا أدري ما يقولون في حديث مسلم ونحوه الدال على وجوب ضمانها. وأقرب الأقوال
95

ما ذهب إليه الشافعي ومن معه لأنه أذن (ص) في استنفاقه لها ولم يأمره
بالتصدق بها ثم أمره بعد الاذن في الاستنفاق أن يردها إلى صاحبها إن جاء يوما من الدهر
وذلك تضمين لها. المسألة الثانية: في ضالة الغنم فقد اتفق العلماء على أن لواجد الغنم
في المكان القفر البعيد عن العمران أن يأكلها لقوله (ص): هي لك أو لأخيك
أو للذئب فإن معناه أنها معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أو أخوك والمراد به ما هو
أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر والمراد من الذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع.
وفيه حث على أخذه إياها، وهل يجب عليه ضمان قيمتها لصاحبها أو لا؟ فقال الجمهور:
إنه يضمن قيمتها. والمشهور عن مالك أنه لا يضمن واحتج بالتسوية بين الملتقط والذئب.
والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط. وأجيب بأن اللام ليست للتمليك لان الذئب لا يملك
وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط فهي باقية على ملك صاحبها.
والمسألة الثالثة: في ضالة الإبل وقد حكم (ص) بأنها لا تلتقط بل
تترك ترعى الشجر وترد المياه حتى يأتي صاحبها. قالوا: وقد نبه (ص) على أنها
غنية غير محتاجة إلى الحفظ بما ركب الله في طباعها من الجلادة على العطش وتناول الماء
بغير تعب لطول عنقها وقوتها على المشي فلا تحتاج إلى الملتقط بخلا ف الغنم. وقالت
الحنفية وغيرها: الأولى التقاطها. قال العلماء: والحكمة في النهي عن التقاط الإبل أن
بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال الناس.
4 - (وعن عياض) بكسر المهملة آخره ضاد معجمة (ابن حمار) بلفظ الحيوان
المعروف صحابي معروف (قال: قال رسول الله (ص): من وجد لقطة
فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها ووكاءها، ثم لا يكتم ولا يغيب، فإن جاء
ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء رواه أحمد والأربعة إلا
الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان). تقدم الكلام في اللقطة والعفاص والوكاء
وأفاد هذا الحديث زيادة وجوب الاشهاد بعدلين على التقاطها، وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة
وهو أحد قولي الشافعي فقالوا: يجب الاشهاد على اللقطة وعلى أوصافها. وذهب الهادي
ومالك وهو أحد قولي الشافعي إلى أنه لا يجب الاشهاد قالوا: لعدم ذكر الاشهاد في الأحاديث
الصحيحة فيحمل هذا على الندب. وقال الأولون: هذه الزيادة بعد صحتها يجب العمل بها
فيجب الاشهاد ولا ينافي ذلك عدم ذكره في غيره من الأحاديث. والحق وجوب الاشهاد.
في قوله: فهو مال الله يؤتيه من يشاء دليل للظاهرية في أنها تصير ملكا للملتقط ولا يضمنها.
وقد يجاب بأن هذا مقيد بما سلف من إيجاب الضمان. وأما قوله (ص) يؤتيه
من يشاء فالمراد أنه يحل انتفاعه بها بعد مرور سنة التعريف.
5 - (وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه) هو قرشي وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله
صحابي وقيل: إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وليست له رؤية وأسلم يوم الحديبية،
96

وقيل يوم الفتح وقتل مع ابن الزبير (أن النبي (ص) نهى عن لقطة الحاج.
رواه مسلم). أي عن التقاط الرجل ما ضاع للحاج والمراد ما ضاع في مكة لما تقدم من
حديث أبي هريرة أنها لا تحل لقطتها إلا لمنشد وتقدم أنه حمله الجمهور على أنه نهي عن
التقاطها للتملك لا للتعريف بها فإنه يحل. قالوا: وإنما اختصت لقطة الحاج بذلك لامكان
إيصالها إلى أربابها لأنها إن كانت لمكي فظاهر وإن كانت لآفاقي فلا يخلو أفق في الغالب
من رواد منه إليها فإذا عرفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها، قاله ابن
بطال. وقال جماعة: هي كغيرها من البلاد وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لان الحاج
يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط إلى المبالغة في التعريف بها. والظاهر القول الأول
وأن حديث النهي هذا مقيد بحديث أبي هريرة بأنه لا يحل التقاطها إلا لمنشد فالذي اختصت
به لقطة مكة بأنها لا تلتقط إلا للتعريف بها أبدا فلا تجوز للتملك ويحتمل أن هذا الحديث
في لقطة الحاج مطلقا في مكة وغيرها لأنه هنا مطلق ولا دليل على تقييده بكونها في مكة.
6 - (وعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا
لا يحل ذو ناب من السباع ولا الحمار الأهلي ولا اللقطة من مال معاهد إلا أن
يستغني عنها. رواه أبو داود). يأتي الكلام على تحريم ما ذكر في باب الأطعمة وذكر
الحديث هنا لقوله: ولا اللقطة من مال معاهد فدل على أن اللقطة من ماله كاللقطة من مال
المسلم وهذا محمول على التقاطها من محل غالب أهله أو كلهم ذميون وإلا فاللقطة لا تعرف
من مال أي انسان عند التقاطها. وقوله: إلا أن يستغني عنها مؤول بالحقير كما سلف
في التمرة ونحوها، أو بعدم معرفة صاحبها بعد التعريف بها كما سلف أيضا. وعبر عنه بالاستغناء
لأنه سبب عدم المعرفة في الأغلب فإنه لو لم يستغن عنها لبالغ في طلبها أو نحو ذلك.
(فائدة) قال النووي في شرح المهذب: اختلف العلماء فيمن مر ببستان أو زرع
أو ماشية فقال الجمهور: لا يأخذ منه شيئا إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي
والجمهور. وقال بعض السلف: لا يلزمه شئ. وقال أحمد: إذا لم يكن للبستان حائط
جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج إلى ذلك، وفي الأخرى إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالين. وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث. قال
البيهقي: يعني حديث ابن عمر مرفوعا: إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة "
أخرجه الترمذي واستغربه. قال البيهقي: لم يصح وجاء من أوجه أخر غير قوية. قال
المصنف: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح وقد احتجوا في كثير من الاحكام
بما هو دونها وقد بينت ذلك في وفي المسألة خلاف كتابي المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة " اه‍
وأقاويل كثيرة قد نقلها الشارع عن المذهب ولم يتلخص البحث لتعارض
97

الأحاديث في الإباحة والنهي، فلم يقو نقل أحاديث الإباحة على نقل الأصل وهو حرمة
مال الآدمي وأحاديث النهي أكدت ذلك الأصل.
باب الفرائض
الفرائض جمع فريضة وهي فعلية بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض وهو القطع،
وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى * (نصيبا مفروضا) * أي مقدارا معلوما. وقد
وردت أحاديث كثيرة في الحث على تعلم الفرائض وورد أنه أول علم يرفع.
1 - (عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألحقوا الفرائض بأهلها) والمراد بها الست المنصوص عليها وهو أهلها في القرآن (فما بقي
فهو لاولى رجل ذكر) اختلف في فائدة وصف الرجل بالذكر والأقرب أنه تأكيد،
ونقل في الشرح كلاما كثيرا وفائدته قليلة (متفق عليه). والفرائض المنصوصة في القرآن ست:
النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما. والمراد من أهلها من
يستحقها بنص كتاب الله قال ابن بطال: المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد
أهل الفرائض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد، فإن استووا
اشتركوا. ولم يقصد من يدلي بالآباء والأمهات مثلا لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره
إذا استووا في المنزلة. وقال غيره: المراد به العمة مع العم وبنت الأخ مع ابن الأخ وبنت
العم مع ابن العم وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب فإنهم يرثون بنص قوله تعالى
* (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) *. وأقرب العصبات البنون ثم
بنوهم وإن سلفوا ثم الا ب ثم الجد أبو الأب وإن علوا وتفاصيل العصبات وسائر أهل
الفرائض مستوفى في كتا ب الفرائض. والحديث مبني على وجود عصبة من الرجال فإذا
لم توجد عصبة من الرجال أعطي بقية الميراث من لا فرض له من النساء كما يأتي في بنت
وبنت ابن وأخت.
2 - (وعن أسامة بن زيد أن النبي (ص) قال: لا يرث المسلم
الكافر ولا يرث الكافر المسلم متفق عليه). المسلم في صدر الحديث فاعل والكافر
مفعول وفي آخره بالعكس، وإلى ما أفاده الحديث ذهب الجماهير. وروي خلافه عن معاذ
ومعاوية ومسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم وإسحاق وذهب إليه الإمامية والناصر
قالوا: إنه يرث المسلم من الكافر من غير عكس. واحتج معاذ بأنه سمع النبي صلى الله عليه
وسلم يقول: الاسلام يزيد ولا ينقص أخرجه أبو داود وصححه الحاكم. وقد أخرج مسدد
98

" أنه اختصم إلى معاذ أخوان مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديا فحاز ابنه اليهودي ميراثه فنازعه
المسلم فورث معاذ المسلم. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن مغفل قال: ما رأيت
قضاء أحسن من قضاء معاوية نرث أهل الكتاب ولا يرثوننا كما يحل لنا النكاح منهم
ولا يحل لهم منا. وأجاب الجمهور بأن الحديث المتفق عليه نص في منع التوريث، وحديث
معاذ ليس فيه دلالة على خصوصية الميراث إنما فيه الاخبار بأن دين الاسلام يفضل غيره
من سائر الأديان ولا يزال يزداد ولا ينقص.
3 - (وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في بنت وبنت ابن وأخت: قضى النبي صلى الله
عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت رواه البخاري).
فيه دلالة على أن الأخت مع البنت وبنت الابن عصبة تعطى بقية الميراث، وهو مجموع على أن
الأخوات مع البنات عصبة. وقد أفتى أبو موسى أن للأخت النصف ثم أمر السائل
أن يسأل ابن مسعود فقضى ابن مسعود بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو موسى
لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. ضبط أئمة اللغة الحبر بكسر الحاء وفتحها ورواية
المحدثين جميعا له بفتحها. قال أبو عبيد: هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه وقيل سمي حبرا لما
يبقى من أثر علومه - زاد الراغب - في قلوب الناس ومن آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها.
4 - (وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
لا يتوارث أهل ملتين رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وأخرجه الحاكم بلفظ أسامة
وروى النسائي حديث أسامة بهذا اللفظ). والحديث دليل على أنه لا توارث بين أهل ملتين
مختلفتين بالكفر أو بالاسلام والكفر. وذهب الجمهور إلى أن المراد بالملتين الكفر والإسلام
فيكون كحديث لا يرث المسلم الكافر - الحديث. قالوا: وأما توريث ملل الكفر بعضهم من
بعض فإنه ثابت ولم يقل بعموم الحديث للملل كلها إلا الأوزاعي فإنه قال: لا يرث
اليهودي من النصراني ولا عكسه وكذلك سائر الملل. والظاهر من الحديث مع الأوزاعي وهو
مذهب الهادوية والحديث مخصص للقرآن في قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) * فإنه عام في الأولاد
فيخص منه الولد الكافر بأنه لا يرث من أبيه المسلم والقرآن يخص بأخبار الآحاد كما عرف
في الأصول.
5 - (وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي (ص) فقال:
إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس فلما ولى دعاه فقال: لك
سدس آخر فلما ولى دعاه فقال: إن السدس الآخر طعمة رواه أحمد
والأربعة وصححه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري عن عمران، وفي سماعه خلاف
قيل: إنه لم يسمع منه. قال قتادة: لا أدري مع أي شئ ورثه، وقال: أقل شئ ورث الجد السدس. وصورة هذه
المسألة أنه ترك الميت بنتين وهذا السائل - وهو الجد - فللبنتين الثلثان وبقي ثلث فدفع النبي
(ص) إلى السائل السدس بالفرض لأنه فرض الجد هنا ولم يدفع إليه السدس
99

الآخر لئلا يظن أن فرضه الثلث وتركه حتى ولي أي ذهب فدعاه فقال لك سدس آخر
وهو بقية التركة فلما ذهب دعاه فقال إن الآخر - بكسر الخاء - طعمة أي زيادة
على الفريضة والمراد من ذلك إعلامه بأنه زائد على الفرض الذي له فله سدس فرضا
والباقي تعصيبا.
6 - (وعن ابن بريدة رضي الله عنه عن أبيه رضي الله عنه) هو بريدة بن الحصيب
(أن النبي (ص) جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم رواه أبو داود
والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وقواه ابن عدي). فيه عبد الله العتكي مختلف فيه،
وثقه أبو حاتم. والحديث دليل على أن ميراث الجدة السدس سواء كانت أم أم أو أم أب،
ويشترك فيه الجدتان فأكثر إذا استوين فإن اختلفن سقطت البعدى من الجهتين بالقربى.
ولا يسقطهن إلا الأم والأب كل منهما يسقط من كان من جهته.
7 - (وعن المقدام بن معديكرب رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه
وسلم: الخال وارث من لا وارث له أخرجه أحمد والأربعة سوى الترمذي وحسنه
أبو زرعة الرازي وصححه ابن حبان والحاكم). فيه دليل على توريث الخال عند عدم من يرث
من العصبة وذوي السهام والخال من ذوي الأرحام. وقد اختلف العلماء في توريث ذوي
الأرحام فذهبت طائفة كثيرة من علماء الآل وغيرهم إلى توريثهم فمن خلف عمته
وخالته ولا وارث له سواهما كان للعمة الثلثان وللخالة الثلث واستدلوا بهذا الحديث وبقوله
تعالى: * (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) *. وخالفت طائفة من الأئمة وقالوا: لا يثبت
لذوي الأرحام ميراث لان الفرائض لا تثبت إلا بكتاب الله أو سنة صحيحة أو إجماع
والكل مفقود هنا. وأجابوا عن حديث الباب أنه نص في الخال لا في غيره، والآية مجملة
ومسمى أولى الأرحام فيهما غير مسماه في عرف الفقهاء. وقد وردت أحاديث بأنه لا ميراث
للعمة والخالة وإن كان فيها مقال لكنها معتضدة بأن الأصل عدم الميراث حتى يقوم الدليل
الناهض مما ذكرناه. والقائلون بأنه لا ميراث لذوي الأرحام يقولون يكون مال من لا وارث له
لبيت المال إذا كان منتظما وهو إذا كان في يد إمام عادل يصرفه في مصارفه، أو كان
في البلد قاض قائم بشروط القضاء مأذون له في التصرف في مال المصالح دفع إليه ليصرفه
فيها. وتفاصيل بقية مواريث ذوي الأرحام على القول به مستوفى في كتب هذا الفن
فلا نطول بها.
8 - (وعن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه قال: كتب عمر إلى أبي عبيدة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من
لا وارث له رواه أحمد والأربعة سوى أبي داود وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان).
الحديث يرد قول من قال إن المراد بالخال في حديث المقدام السلطان ولو كان كذلك لقال
" أنا وارث من لا وارث له. وقد أخرج أبو داود وصححه ابن حبان: أنا وارث من لا وارث له
أعقل عنه وأرثه. فالجمع بينه وبين حديث المقدام وحديث أبي أمامة الدالين على ثبوت
100

ميراث الخال حيث لا وارث له أنه أراد به أنه (ص) وارث من لا وارث له في جميع
الجهات من العصبات وذوي السهام والخال. والمراد من إرثه (ص) أنه يصير
المال لمصالح المسلمين. وأنه لا يكون المال لبيت المال إلا عند عدم جميع من ذكر من
الخال وغيره.
9 - (وعن جابر رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: إذا
استهل المولود ورث رواه أبو داود وصححه ابن حبان. والاستهلال روي في تفسيره
حديث مرفوع ضعيف: الاستهلال العطاس أخرجه البزار. وقال ابن الأثير: استهل
المولود إذا بكى عند ولادته وهو كناية عن ولادته حيا وإن لم يستهل بل وجدت منه
أمارة تدل على حياته. والحديث دليل على أنه إذا استهل السقط ثبت له حكم غيره في أنه
يرث. ويقاس عليه سائر الأحكام من الغسل والتكفين والصلاة عليه ويلزم من قتله القود
أو الدية. واختلفوا هل يكفي في الاخبار باستهلاله عدلة أو لا بد من عدلين أو أربع. الأول
للهادوية والثاني للهادي والثالث للشافعي. وهذا الخلاف يجري في كل ما يتعلق بعورات
النساء. وأفاد مفهوم الحديث أنه إذا لم يستهل لا يحكم بحياته فلا يثبت له شئ من الاحكام
التي ذكرناها.
10 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ليس للقاتل من الميراث شئ رواه النسائي والدارقطني، وقواه ابن عبد البر
وأعله النسائي. والصواب وقفه على عمرو. والحديث له شواهد كثيرة لا تقصر عن العمل
بمجموعها. وإلى ما أفاده من عدم إرث القاتل عمدا كان أو خطأ ذهب الشافعي وأبو حنيفة
وأصحابه وأكثر العلماء. قالوا: لا يرث من الدية ولا من المال. وذهبت الهادوية ومالك إلى
أنه إن كان القتل خطأ ورث من المال دون الدية ولا يتم لهم دليل ناهض على هذه التفرقة
بل أخرج البيهقي عن خلاس: أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك، فأراد نصيبه
من ميراثها فقال له إخوته: لا حق لك. فارتفعوا إلى علي عليه السلام فقال له علي عليه
السلام: حقك من ميراثها الحجر فأغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئا. وأخرج أيضا عن
جابر بن زيد قال: أيما رجل قتل رجلا أو امرأة عمدا أو خطأ ممن يرث فلا ميراث له منهما
وأيما امرأة قتلت رجلا أو امرأة عمدا أو خطأ فلا ميراث لها منهما. وإن كالقتل عمدا فالقود
إلا أن يعفو أولياء المقتول فإن عفوا فلا ميراث له من عقله ولا من ماله قضى بذلك عمر
بن الخطاب وعلي وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين.
11 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان رواه أبو داود والنسائي
101

وابن ماجة وصححه ابن المديني وابن عبد البر). المراد بإحراز الوالد أو الولد أن ما صار مستحقا
لهما من الحقوق فإنه يكون للعصبة ميراثا، والحديث فيه قصة. ولفظه في السنن: أن رئاب
ابن حذيفة تزوج امرأة فولدت له ثلاثة غلمة فماتت أمهم فورثوها رباعها وولاء مواليها،
وكان عمرو بن العاص عصبة بنيها فأخرجهم إلى الشام فماتوا فقدم عمرو بن العاص ومات
مولى لها وترك مالا فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب فقال عمر: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما أحرز - الحديث - قال فكتب له كتابا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف
وزيد بن ثابت ورجل آخر. والحديث دليل على أن الولاء لا يورث وفيه خلاف. وتظهر
فائدة الخلاف فيما إذا أعتق رجل عبدا ثم ما ت ذلك الرجل وترك أخوين أو ابنين ثم مات
أحد الابنين وترك ابنا أو أحد الأخوين وترك ابنا. فعلى القول بالتوريث ميراثه بين الابن
وابن الابن أو الأخ وابن الأخ. وعلى القول بعدمه يكون للابن وحده.
12 - (وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله (ص): الولاء
لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب رواه الحاكم من طريق الشافعي عن محمد
ابن الحسن عن أبي يوسف وصححه ابن حبان وأعله البيهقي). وللعلماء كلام كثير
في طرق الحديث وصحته وعدمها، وقد تقدم في كتاب البيع ودل على أن الولاء لا يكتسب
ببيع ولا هبة ولا يقاس عليهما سائر التمليكات من النذر والوصية لأنه قد جعله كالنسب،
والنسب لا ينتقل بعوض ولا بغير عوض.
13 - (وعن أبي قلابة) بكسر القاف وتخفيف اللام بعد ألفه موحدة تابعي جليل
(عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): أفرضكم زيد
ابن ثابت أخرجه أحمد والأربعة سوى أبي داود وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم
وأعل بالارسال). بأن أبا قلابة لم يسمع هذا الحديث من أنس وإن كان سماعه لغيره من
الأحاديث عن أنس ثابتا. وهذا الذي ذكر قطعة من الحديث فإنه حديث طويل فيه
ذكر سبعة من الصحابة يختص كل منهم بخصلة خير، فذكر المصنف منه ما له تعلق بباب
الفرائض لأنه شهادة لزيد بن ثابت بأنه أعلم المخاطبين بالمواريث. فيؤخذ منه أنه يرجع إليه
عند الاختلاف واعتمده الشافعي في الفرائض ورجحه على غيره.
باب الوصايا
الوصايا جمع وصية كهدايا وهدية وهي شرعا: عهد خاص يضاف إلى ما بعد الموت.
102

1 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) قال: ما حق
امرئ مسلم له شئ يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة
عنده متفق عليه). كلمة ما نافية بمعنى ليس وحق اسمها وخبرها ما بعد إلا والواو زائدة
في الخبر لوقوع الفصل بإلا. قال الشافعي: معناه ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون
وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شئ يريد أن يوصي فيه لأنه لا يدري متى تأتيه منيته فتحول
بينه وبين ما يريد من ذلك. وقال غيره: الحق لغة الشئ الثابت ويطلق شرعا على
ما يثبت به الحكم والحكم الثابت أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا ويطلق على المباح
بقلة فإن اقترن به على ونحوه كان ظاهرا في الوجوب وإلا فهو على الاحتمال.
وفي قوله: يريد أن يوصي ما يدل على أن الوصية ليست بواجبة عليه وإنما ذلك عند
إرادته. وقد أجمع المسلمون على الامر بها وإنما اختلفوا هل هي واجبة أم لا. فذهب
الجماهير إلى أنها مندوبة. وذهب داود وأهل الظاهر إلى وجوبها. وحكي عن الشافعي
في القديم، وادعى ابن عبد البر الاجماع على عدم وجوبها مستدلا من حيث المعنى بأنه لو لم
يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالاجماع فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهم
ينوب عن الوصية. والأقرب ما ذهب إليه الهادوية وأبو ثور من وجوبها على من عليه حق
شرعي يخشى أن يضيع إن لم يوص به كوديعة ودين لله تعالى أو لآدمي. ومحل الوجوب
فيمن عليه حق ومعه مال ولم يمكنه تخليصه إلا إذا أوصى به وما انتفى فيه واحد من ذلك
فلا وجوب. وقوله: ليلتين للتقريب لا للتحديد وإلا فقد روي ثلاث ليال. وقال الطيبي:
في تخصيص الليلتين والثلاث تسامح في إرادة المبالغة أي لا ينبغي أن يبيت زمانا وقد
سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي أن يتجاوز ذلك. وروى مسلم عن ابن عمر راوي
الحديث أنه قال: ولم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي. وأما ما أخرجه ابن المنذر
بسند صحيح عن نافع أنه قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي قال: أما مالي فالله أعلم
ما كنت أصنع فيه فيجمع بينه وبين ما قبله بأنه كان يكتب وصيته ويتعاهدها وينجز
ما كان يوصي به حتى وفد عليه الموت ولم يكن له شئ يوصي به. وفي قوله: أما مالي فالله
أعلم ما كنت أصنع فيه ما يدل لهذا الجمع. واستدل بقوله: مكتوبة عنده على جواز
الاعتماد على الكتابة والخط وإن لم يقترن بشهادة. وقال بعض أئمة الشافعية إن ذلك خاص
بالوصية وأنه يجوز الاعتماد على الخط فيها من دون شهادة لثبوت الخبر فيها ولان الوصية
لما أمر الشارع بها وهي تكون مما يلزم من حقوق ولوازم كان حقها أن تجدد في الأوقات
واستصحاب الاشهاد في كل لازم يريد أن يتخلص منه خشية مفاجأة الاجل متعسر بل
متعذر في بعض الأوقات فيلزم منه عدم وجود الوصية أو شرعيتها بالكتابة من دون
شهادة إذ لا فائدة في ذلك وقد ثبت الامر المذكور في الحديث بها فدل على قبولها من
غير شهادة. وقال الجماهير: المراد مكتوبة بشرطها وهو الشهادة واستدلوا بقوله تعالى:
103

* (شهادة أحدكم إذا حضر أحدكم الموت) * إنه دال على اعتبار الاشهاد في الوصية. وأجيب
بأنه لا يلزم من ذكر الاشهاد في الآية أنها لا تصح الوصية إلا به. والتحقيق أن المعتبر معرفة
الخط فإذا عرف خط الموصي عمل به ومثله خط الحاكم وعليه عمل الناس قديما وحديثا.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الكتب يدعو فيها العباد إلى الله تعالى وتقوم عليهم
الحجة بذلك ولم يزل الناس يكتب بعضهم إلى بعض في المهمات من الدينيات والدنيويات
ويعملون بها وعليه العمل بالوجادة كل ذلك من دون إشهاد. والحديث دليل على الايصاء
بشئ يتعلق بالحقوق ونحوها لقوله: له شئ يريد أن يوصي. وأما كتب الشهادتين
ونحوهما مما جرت به عادة الناس فلا يعرف فيه حديث مرفوع وإنما أخرج عبد الرزاق
بسند صحيح عن أنس موقوفا قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن
الرحيم. هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن
محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى
من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين
وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم
مسلمون. وضمير كانوا عائد إلى الصحابة إذ المخبر صحابي. واختلف العلماء هل أوصى
رسول الله (ص) أو لم يوص لاختلاف الروايات في ذلك. ففي البخاري عن
ابن أبي أوفى أنه لم يوص قالوا: لأنه لم يترك مالا وأما الأرض قد كان سلبها وأما
السلاح والبغلة فقد كان أخبر أنها لا تورث كما ذكره النووي وفي المغازي لابن إسحاق أنه
صلى الله عليه وسلم لم يوص عند موته إلا بثلاث لكل من الداريين والرهاويين والأشعريين
بجاد مائة وسق من خيبر وألا يترك في جزيرة العرب دينان وأن ينفذ بعث أسامة.
وأخرج مسلم من حديث ابن عباس أوصى (ص) بثلاث: أجيزوا الوفد بمثل
ما كنت أجيزهم - الحديث. وفي حديث ابن أبي أوفى أوصى بكتاب الله. وفي حديث
أنس عند النسائي وأحمد وابن سعد كانت وصيته (ص) حين حضره الموت
الصلاة وما ملكت أيمانكم. وقد ثبتت وصيته بالأنصار وبأهل بيته ولكنها ليست عند الموت
وروي غير ذلك. وقد ثبت أنه (ص) أراد في مرضه أن يكتب كتابا وهو
وصيته للأمة إلا أنه حيل بينه وبينه كما أخرجه البخاري.
2 - (وعن سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أنا ذو مال) وقع في رواية
" كثير (ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي قال: لا قلت: أفأتصدق
بشطر مالي؟ قال: لا قلت أفأتصدق بثلثه قال: الثلث والثلث كثير إنك أن)
يروى بفتح الهمزة وكسرها فالفتح على تقدير لام التعليل والكسر على أنها شرطية وجوابه
104

خير على تقدير فهو خير (تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة)
جمع عائل هو الفقير (يتكففون) يسألون (الناس) بأكفهم (متفق عليه). اختلف متى
وقع هذا الحكم فقيل: في حجة الوداع بمكة فإنه مرض سعد فعاده (ص)
فذكر ذلك وهو صريح في رواية الزهري. وقيل: في فتح مكة أخرجه الترمذي عن ابن عيينة
واتفق الحفاظ أنه وهم وأن الأول هو الصحيح وقيل: وقع ذلك في المرتين معا. وأخذ من
مفهوم قوله كثير أنه لا يوصي من مال قليل روي هذا عن علي وابن عباس وعائشة،
وقوله: لا ير ثني إلا ابنة لي أي لا يرثني من الأولاد وإلا فإن سعدا كان من بني زهرة وهم
عصبته وكان هذا قبل أن يولد له الذكور وإلا فإنه ذكر الواقدي أنه ولد لسعد بعد ذلك
أربعة بنين وقيل أكثر من عشرة ومن البنات اثنتا عشرة بنتا. وقوله: أفأتصدق يحتمل
أنه استأذنه في تنجيز ذلك في الحال أو أراد بعد الموت إلا أنه في رواية بلفظ: أوصي "
وهي نص في الثاني فيحمل الأول عليه. وقوله: بشطر مالي أراد به النصف وقوله
والثلث كثير يروى بالمثلثة وبالموحدة على أنه شك من الراوي وقع ذلك في البخاري
ومثله وقع في النسائي وأكثر الروايات بالمثلثة. ووصف الثلث بالكثرة بالنسبة إلى ما دونه.
وفي فائدة وصفه بذلك احتمالان: الأول بيان أن الأولى الاقتصار عليه من غير زيادة
وهذا هو المتبادر وفهمه ابن عباس فقال: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع
في الوصية. والثاني بيان أن التصدق بالثلث وهو الأكمل أي كثير أجره ويكون من
الوصف بحال المتعلق. وفي الحديث دليل على منع الوصية بأكثر من الثلث لمن له وارث
وعلى هذا استقر الاجماع. وإنما اختلفوا هل يستحب الثلث أو أقل؟ فذهب ابن عباس
والشافعي وجماعة إلى أن المستحب ما دون الثلث لقوله والثلث كثير قال قتادة: أوصى
أبو بكر بالخمس وأوصى عمر بالربع والخمس أحب إلي. وذهب آخرون إلى أن المستحب
الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في حسناتكم "
وسيأتي قريبا أنه حديث ضعيف. والحديث ورد فيمن له وارث فأما من لا وارث له فذهب
مالك إلى أنه مثل من له وارث فلا يستحب له الزيادة على الثلث. وأجاز ت الهادوية
والحنفية له الوصية بالمال كله وهو قول ابن مسعود فلو أجاز الوارث الوصية بأكثر من
الثلث نفذت لاسقاطهم حقهم وإلى هذا ذهب الجمهور وخالفت الظاهرية والمزني وسيأتي
في حديث ابن عباس: إلا أن يشاء الورثة وأنه حسن يعمل به. نعم فلو رجع الورثة عن
الإجازة فذهب جماعة إلى أنه لا رجوع لهم في حياة الموصي ولا بعد وفاته. وقيل: إن رجعوا
بعد وفاته فلا يصح لان الحق قد انقطع بالموت بخلاف حال الحياة فإنه يتجدد لهم الحق.
وسبب الخلاف الاختلاف في المفهوم من قوله (ص): إنك أن تذر إلى آخره "
هل يفهم منه علة المنع من الوصية بأكثر من الثلث وأن السبب في ذلك رعاية حق الوارث
وأنه إذا انتفى ذلك انتفى الحكم بالمنع؟ أو أن العلة لا تتعدى الحكم؟ أو يجعل المسلمون بمنزلة
105

الورثة كما هو أحد قولي الشافعي؟. والأظهر أن العلة متعدية وأنه ينتفي الحكم في حق من ليس
له وارث معين.
3 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا) جاء مبينا أنه سعد بن عبادة (أتى النبي
(ص) فقال يا رسول الله إن أمي افتلتت) بضم المثناة بعد الفاء الساكنة
وكسر اللام (نفسها) أخذت فلتة (ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن
تصدقت عنها؟ قال: نعم متفق عليه واللفظ لمسلم). في الحديث دليل على أن الصدقة من
الولد تلحق الميت ولا يعارضه قوله تعالى: * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) * لثبوت حديث
" إن أولادكم من كسبكم ونحوه فولده من سعيه وثبوت أو ولد صالح يدعو له وقد قدمنا
الكلام في ذلك في آخر كتاب الجنائز.
4 - (وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث رواه أحمد
والأربعة إلا النسائي وحسنه أحمد والترمذي وقواه ابن خزيمة وابن الجارود، ورواه
الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وزاد في آخره إلا أن يشاء الورثة وإسناده حسن)
وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي. وعن أنس عند ابن ماجة وعن عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني. وعن جابر عنده أيضا وقال: الصواب
إرساله. وعن علي عند ابن أبي شيبة ولا يخلو إسناد كل واحد منها عن مقال لكن مجموعها
ينهض على العمل به. بل جزم الشافعي في الأم أن هذا المتن متواتر فإنه قال: إنه نقل
كافة عن كافة وهو أقوى من نقل واحد. قلت: الأقرب وجوب العمل به لتعدد طرقه
ولما قاله الشافعي وإن نازع في تواتره الفخر الرازي ولا يضر ذلك بثبوته فإنه متلقى بالقبول
من الأمة كما عرف. وقد ترجم له البخاري فقال: باب لا وصية لوارث وكأنه لم يثبت
على شرطه فلم يخرجه ولكنه أخرج بعده عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا
في تفسير الآية وله حكم المرفوع. والحديث دليل على منع الوصية للوارث وهو قول
الجماهير من العلماء. وذهب الهادي وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى: * (كتب عليكم
إذا حضر أحدكم الموت) * الآية قالوا: ونسخ الوجوب لا ينافي بقاء الجواز. قلنا نعم
لو لم يرد هذا الحديث فإنه ناف لجوازها إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث كما قال
ابن عباس: كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب،
فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة
الثمن والربع وللزوج الشطر والربع. وقوله إلا أن يشاء الورثة دل على أنها تصح
وتنفذ الوصية للوارث إن أجازها الورثة وتقدم الكلام في إجازة الورثة ما زاد على الثلث
هل ينفذ بها أو لا؟ وأن الظاهرية ذهبت إلى أنه لا أثر لاجازتهم والظاهر معهم لأنه صلى
الله عليه وسلم لما نهى عن الوصية للوارث قيدها بقوله: إلا أن يشاء الورثة وأطلق لما
منع عن الوصية بالزائد على الثلث وليس لنا تقييد ما أطلقه. ومن قيد هنالك قال: إنه
106

يؤخذ القيد من التعليل بقوله: إنك أن تذر الخ. فإنه دل على أن المنع من الزيادة على الثلث
كان مراعاة لحق الورثة فإن أجازوا سقط حقهم ولا يخلو عن قوة. هذا في الوصية
للوارث. واختلفوا إذا أقر المريض للوارث بشئ من ماله فأجازه الأوزاعي وجماعة مطلقا،
وقال أحمد لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقا واحتج بأنه لا يؤمن بعد المنع من الوصية
لوارثه أن يجعلها إقرارا. واحتج الأول بما يتضمن الجواب عن هذه الحجة فقال: إن التهمة
في حق المحتضر بعيدة وبأنه وقع الاتفاق أنه لو أقر بوارث آخر صح إقراره مع أنه يتضمن
الاقرار بالمال وبأن مدار الاحكام على الظاهر فلا يترك إقراره للظن المحتمل فإن أمره
إلى الله. قلت: وهذا القول أقوى دليلا. واستثنى مالك ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها
من غير الولد كابن العم قال: لأنه يتهم في أنه يزيد لابنته وينقص ابن العم. وكذلك استثنى
ما إذا أقر لزوجته المعروف بمحبته لها وميله إليها وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد لا سيما
إذا كان له منها ولد في تلك الحال. قلت: والأحسن ما قيل عن بعض المالكية واختاره
الروياني من الشافعية أن مدار الامر على التهمة وعدمها فإن فقدت جاز وإلا فلا وهي
تعرف بقرائن الأحوال وغيرها وعن بعض الفقهاء أنه لا يصح إقراره إلا للزوجة بمهرها.
5 - (وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم
رواه الدارقطني، وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء وابن ماجة من حديث
أبي هريرة، وكلها ضعيفة لكن قد يقوي بعضها بعضا، والله أعلم). وذلك لان في إسناده إسماعيل
بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان وإن كان لهم في رواية إسماعيل تفصيل
معروف. والحديث دليل على شرعية الوصية بالثلث وأنه لا يمنع منه الميت. وظاهره الاطلاق
حق من له مال كثير ومن قل ماله وسواء كانت لوارث أغيره. ولكن يقيده ما سلف من
الأحاديث التي هي أصح منه فلا تنفذ للوارث وإليه ذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم
والمؤيد بالله. وروى عن زيد بن علي. وذهبت الهادوية إلى نفوذها للوارث وادعى فيه إجماع
أهل البيت ولا يصح هذا. واعلم أن قوله تعالى: * (من بعد وصية يوصين بها أو دين) *
يقتضي ظاهره أنه يخرج الدين والوصية من تركة الميت على سواء فتشارك الوصية الدين
إذا استغرق المال. وقد اتفق العلماء على أنه يقدم اخراج الدين على الوصية لما أخرجه
أحمد والترمذي وغيرهما من حديث علي عليه السلام من رواية الحارث الأعور عنه قال
قضى محمد (ص) أن الدين قبل الوصية وأنتم تقرأون الوصية قبل الدين "
وعلقه البخاري وإسناده ضعيف. لكن قال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم،
وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه وقد أورد له شاهدا، ولم
يختلف العلماء أن الدين يقدم على الوصية. فإن قيل: فإذا كان الامر هكذا فلم قدمت الوصية
على الدين في الآية؟. قلت: أجاب السهيلي بأنها لما كانت الوصية تقع على وجه البر والصلة
والدين يقع بتعدي الميت بحسب الأغلب بدأ بالوصية لكونها أفضل. وأجاب غيره: بأنها
107

إنما قدمت الوصية لأنها شئ يؤخذ بغير عوض والدين يؤخذ بعوض فكان اخراج
الوصية أشق على الوارث من اخراج الدين وكان أداؤها مظنة التفريط بخلاف الدين،
قدمت الوصية لذلك، لأنها حظ الفقير والمسكين غالبا والدين حظ الغريم يطلبه بقوة وله
مقال، ولان الوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه فقدمت تحريضا على العمل بها
بخلا ف الدين فإنه مطلوب منه ذكر أو لم يذكر. أو لان الوصية ممكنة من كل أحد تتعلق
بذمته إما ندبا أو وجوبا فيشترك فيها جميع المخاطبين وتقع بالمال وبالعمل وقل ما يخلو
عن ذلك بخلاف الدين، وما يكثر وقوعه أهم بأن يذكر أولا مما يقل وقوعه.
باب الوديعة
الوديعة هي العين التي يضعها مالكها أو نائبه عند آخر ليحفظها وهي مندوبة إذا وثق
من نفسه بالأمانة لقوله تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى * وقوله صلى الله عليه وسلم:
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه أخرجه مسلم. وقد تكون واجبة إذا لم يكن
من يصلح لها غيره وخاف الهلاك عليها إن لم يقبلها.
1 - (عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (ص) قال:
من أودع وديعة فليس عليه ضمان أخرجه ابن ماجة وإسناده ضعيف). وذلك
أن في رواته المثنى بن الصباح وهو متروك. وأخرجه الدارقطني بلفظ: ليس على المستعير
غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان وفي إسناده ضعيفان. قال الدارقطني:
وإنما يوري هذا عن شريح غير مرفوع وفسر المغل في رواية الدارقطني بالخائن وقيل
هو المستغل. وفي الباب آثار عن أبي بكر وعلي وابن مسعود وجابر أن الوديعة أمانة
وفي بعضها مقال. ويغني عن ذلك الاجماع فإنه وقد على أنه ليس على الوديع ضمان
إلا ما يروى عن الحسن البصري أنه إذا اشترط الضمان فإنه يضمن وقد تؤول بأنه
مع التفريط. والوديعة قد تكون باللفظ كاستودعتك ونحوه من الألفاظ الدالة على الاستحفاظ
ويكفي القبول لفظا. وقد تكون بغير لفظ كأن يضع في حانوته وهو حاضر ولم يمنعه من
ذلك أو في المسجد وهو غير مصل وأما إذا كان في الصلاة فلا لأنه لا يمكنه إظهار
الكراهة. وفي باب الوديعة تفاصيل في الفروع كثيرة. قوله: (وباب قسم الصدقات)
بين الأصناف الثمانية (في آخر الزكاة) وهو أليق بالاتصال به (وباب قسم الفئ
والغنيمة يأتي عقب الجهاد إن شاء الله) وهو أولى بأن يلي الجهاد لأنه من توابعه. وإنما
ذكر المصنف هذا لأنها جرت عادة كتب فروع الشافعية على جعل هذين البابين قبيل كتاب النكاح والمصنف خالفهم فألحقهما بما هو أليق بهما.
108

كتاب النكاح
النكاح لغة الضم والتداخل ويستعمل في الوطئ: وفي العقد قيل مجاز من إطلاق
اسم المسبب على السبب وقيل إنه حقيقة فيهما وهو مراد من قال إنه مشترك فيهما،
وكثر استعماله في العقد فقيل إنه فيه حقيقة شرعية ولم يرد في الكتاب العزيز إلا في العقد.
1 - (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة) بالباء الموحدة والهمزة والمد (فليتزوج
فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه
لو وجاء) بكسر الواو والجيم والمد (متفق عليه). وقع الخطاب منه للشباب لأنهم مظنة
الشهوة للنساء. واختلف العلماء في المراد بالباءة والأصح أن المراد بها الجماع فتقديره من
استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنة النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن
مؤنته فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر مائه كما يقطع الوجاء. ووقع في رواية ابن حبان
مدرجا تفسير الوجاء بأنه الاخصاء وقيل الوجاء رض الخصيتين والاخصاء سلبهما
والمراد أن الصوم كالوجاء. والامر بالتزوج يقتضي وجوبه مع القدرة على تحصيل مؤنته
وإلى الوجوب ذهب داود وهو رواية عن أحمد. وقال ابن حزم: وفرض على كل قادر على
الوطئ إن وجد أن يتزوج أو يتسرى فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم وقال:
إنه قول جماعة من السلف. وذهب الجمهور إلى أن الامر للندب مستدلين بأنه تعالى خير بين
التزوج والتسري بقوله: * (فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * والتسري لا يجب إجماعا فكذا
النكاح لأنه لا تخيير بين واجب وغير واجب إلا أن دعوى الاجماع غير صحيحة لخلاف
داود وابن حزم. وذكر ابن دقيق العيد أن من الفقهاء من قال بالوجوب على من خاف العنت
وقدر على النكاح وتعذر عليه التسري وكذا حكاه القرطبي فيجب على من لا يقدر على
ترك الزنا إلا به. ثم ذكر من يحرم عليه ويكره ويندب له ويباح. فيحرم على من يخل
بالزوجة في الوطئ والانفاق مع قدرته عليه وتوقانه إليه. ويكره في حق مثل هذا حيث لا إضرار
بالزوجة. والإباحة فيما إذا انتفت الدواعي والموانع. ويندب في حق كل من يرجى منه النسل
ولو لم يكن له في الوطئ شهوة لقوله (ص): فإني مكاثر بكم الأمم ولظواهر
الحث على النكاح والامر به. وقوله: فعليه بالصوم إغراء بلزوم الصوم. وضمير عليه يعود
إلى من فهو مخاطب في المعنى. وإنما جعل الصوم وجاء لأنه بتقليل الطعام والشراب يحصل
للنفس انكسار عن الشهوة ولسر جعله الله تعالى في الصوم فلا ينفع تقليل الطعام
وحده من دون صوم. واستدل به الخطابي على جواز التداوي لقطع الشهوة بالأدوية،
وحكاه البغوي في شرح السنة ولكن ينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة ولا يقطعها
109

بالأصالة لأنه قد يقوى على وجدان مؤن النكاح بل قد وعد الله من يستعف أن يغنيه من
فضله لأنه جعل الاغناء غاية للاستعفاف ولأنهم اتفقوا على منع الجب والاخصاء
فلحق بذلك ما في معناه. وفيه الحث على تحصيل ما يغض به البصر ويحصن الفرج.
وفيه أنه لا يتكلف للنكاح بغير الممكن كالاستدانة. واستدل به العراقي على أن التشريك
في العبادة لا يضر بخلاف الرياء لكنه يقال إن كان المشرك عبادة كالمشرك فيه فلا يضر،
فإنه يحصل بالصوم تحصين الفرج وغض البصر. وأما تشريك المباح كما لو دخل إلى الصلاة
لترك خطاب من يحل خطابه فهو محل نظر يحتمل القياس على ما ذكر ويحتمل عدم صحة
القياس. نعم إن دخل في الصلاة لترك الخوض في الباطل أو الغيبة وسماعها كان مقصدا صحيحا
واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه لو كان مباحا لأرشد إليه لأنه أسهل،
وقد أباح الاستمناء بعض الحنابلة وبعض الحنفية.
2 - (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي (ص) حمد الله وأثنى
عليه وقال: لكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن
سنتي فليس مني متفق عليه) هذا اللفظ لمسلم وللحديث سبب وهو أنه قال
أنس: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته صلى الله
عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: أين نحن من رسول الله (ص)
قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا،
وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج، فجاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له
ولكني أنا أصلي وأنام وأصوم - الحديث. وهو دليل على أن المشروع هو الاقتصاد في العبادات
دون الانهماك والاضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها وأن هذه الملة المحمدية مبنية شريعتها
على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) *
قال الطبري: في الحديث الرد على من منع استعمال الحلال من الطيبات مأكلا وملبسا.
قال القاضي عياض: هذا مما اختلف فيه السلف فمنهم من ذهب إلى ما قاله الطبري،
ومنهم من عكس واستدل بقوله تعالى: * (أذهبتكم طيباتكم في حياتكم الدنيا) *. قال: والحق أن الآية
في الكفار وقد أخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالامرين، والأولى التوسط في الأمور وعدم
الافراط في ملازمة الطيبات فإنه يؤدي إلى الترفه والبطر ولا يأمن من الوقوع في الشبهات
فإن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا فلا يستطيع الصبر عنه فيقع في المحظور. كما أن من منع
من تناول ذلك أحيانا قد يفضي به إلى التنطع وهو التكلف المؤدي إلى الخروج عن السنة
المنهي عنه ويرد عليه صريح قوله تعالى: * (قل من حرم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات
من الرزق) *. كما أن الاخذ بالتشديد في العبادة يؤدي إلى الملل القاطع لأصلها. وملازمة الاقتصار
على الفرائض مثلا وترك النفل يفضي إلى البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخيار الأمور
110

أوسطها. وأراد (ص) بقوله: فمن رغب عن سنتي عن طريقتي فليس مني
أي ليس من أهل الحنيفية السهلة بل الذي يتعين عليه أن يفطر ليقوى على الصوم وينام ليقوى
على القيام وينكح النساء ليعف نظره وفرجه. وقيل: إن أراد من خالف هديه صلى الله
عليه وسلم وطريقته أن الذي أتى به من العبادة أرجح مما كان عليه (ص) فمعنى
ليس مني أي ليس من أهل ملتي لان اعتقاد ذلك يؤدي إلى الكفر.
3 - (وعنه) أي عن أنس (قال: كان رسول الله (ص) يأمرنا بالباءة
وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول: تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم
يوم القيامة رواه أحمد وصححه ابن حبان، وله شاهد عند أبي داود والنسائي وابن حبان
من حديث معقل بن يسار). التبتل الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعا إلى
عبادة الله. وأصل البتل القطع ومنه قيل لمريم البتول وفاطمة عليها السلام البتول
لانقطاعهما عن نساء زمانهما دينا وفضلا ورغبة في الآخرة. والمرأة الولود كثيرة الولادة،
ويعرف ذلك في البكر بحال قرابتها. والودود المحبوبة بكثرة ما هي عليه من خصال الخير
وحسن الخلق والتحبب إلى زوجها. والمكاثرة المفاخرة وفيه جوازها في الدار الآخرة.
ووجه ذلك أن من أمته أكثر فثوابه أكثر لان له مثل أجر من تبعه.
4 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: تنكح المرأة
لأربع) أي: الذي يرغب في نكاحها ويدعو إليه خصال أربع (لمالها وحسبها وجمالها
ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك. متفق عليه) بين الشيخين (مع بقية السبعة)
الذي تقدم ذكرهم في خطبة الكتاب. الحديث إخبار أن الذي يدعو الرجال إلى التزوج أحد
هذه الأربع وآخرها عندهم ذات الدين فأمرهم (ص) أنهم إذا وجدوا ذات الدين
فلا يعدلوا عنها. وقد ورد النهي عن نكاح المرأة لغير دينها فأخرج ابن ماجة والبزار والبيهقي
من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن ولا لمالهن
فلعله يطغيهن وانكحوهن للدين، ولأمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل. وورد في صفة خير
النساء ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أي النساء
خير؟ قال: التي تسره إن نظر وتطيعه إن أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره. والحسب
هو الفعل الجميل للرجل وآبائه. وقد فسر الحسب بالمال في الحديث الذي أخرجه الترمذي
وحسنه من حديث سمرة مرفوعا: الحسب المال، والكرم التقوى. إلا أنه لا يراد به المال
في حديث الباب لذكره بجنبه فالمراد فيه المعنى الأول. ودل الحديث على أن مصاحبة أهل
الدين في كل شئ هي الأولى لان مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وطرائقهم ولا
سيما الزوجة فهي أولى من يعتبر دينه لأنها ضجيعته وأم أولاده وأمينته على ماله ومنزله وعلى
111

نفسها. وقوله: تربت يداك أي التصقت بالتراب من الفقر وهذه الكلمة خارجة
مخرج ما يعتاده الناس في المخاطبات لا أنه (ص) قصد بها الدعاء.
5 - (وعنه) أي: أبي هريرة (أن النبي (ص) كان إذا رفأ) بالراء وتشديد
الفاء فألف مقصورة (إنسانا إذا تزوج قال: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما
في خير رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان). الرفاء الموافقة
وحسن المعاشرة وهو من رفأ الثوب وقيل: من رفوت الرجل إذا سكنت ما به من ورع
فالمراد إذا دعا (ص) للمتزوج بالموافقة بينه وبين أهله وحسن العشرة بينهما قال
ذلك. وقد أخرج بقي بن مخلد عن رجل من بني تميم قال: كنا نقول في الجاهلية بالرفاء والبنين
فعلمنا رسول الله (ص) فقال قولوا: الحديث. وأخرج مسلم من حديث جابر
" أنه (ص) قال له: تزوجت؟ قال: نعم قال: بارك الله لك وزاد الدارمي
" وبارك عليك. وفيه أن الدعاء للمتزوج سنة فيسن له أن يفعل ويدعو
بما أفاده حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (ص): إذا أفاد
أحدكم امرأة أو خادما أو دابة فليأخذ بناصيتها وليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير
ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
6 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم التشهد في الحاجة) زاد فيه ابن كثير في الارشاد: في النكاح وغيره (إن الحمد لله نحمده
ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ويقرأ ثلاث آيات.
رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي والحاكم. والآيات: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي
خلقكم من نفس واحدة - إلى - ريبا -، والثانية - يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته -
إلى آخرها. والثالثة: - يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا -
إلى قوله - عظيما - كذا في الشرح. وفي الارشاد لابن كثير عد الآيات في نفس الحديث.
وقوله: في الحاجة عام لكل حاجة ومنها النكاح وقد صرح به في رواية كما ذكرناه.
وأخرج البيهقي أنه قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: هذه خطبة النكاح وغيرها قال: في كل
حاجة. وفيه دلالة على سنية ذلك في النكاح وغيره ويخطب بها العاقد بنفسه حال العقد
وهي من السنن المهجورة. وذهبت الظاهرية إلى أنها واجبة ووافقهم من الشافعية أبو عوانة
وترجم في صحيحه باب وجوب الخطبة عند العقد. ويأتي في شرح الحديث التاسع ما يدل
على عدم الوجوب.
7 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
112

خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها
فليفعل). وتمامه: قال جابر فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى
نكاحها فتزوجتها. (رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وصححه الحاكم وله شاهد عند
الترمذي والنسائي عن المغيرة) ولفظه: أنه قال له وقد خط ب امرأة: انظر إليها فإنه أحرى أن
يؤدم بينكما. (وعند ابن ماجة وابن حبان من حديث محمد بن مسلمة ولمسلم عن
أبي هريرة أن النبي (ص) قال لرجل تزوج امرأة): أي أراد ذلك: (أنظرت
إليها؟ قال: لا قال: اذهب فانظر إليها). دلت الأحاديث على أنه يندب تقديم النظر
إلى من يريد نكاحها وهو قول جماهير العلماء. والنظر إلى الوجه والكفين لأنه يستدل
بالوجه على الجمال أو ضده. والكفين على خصوبة البدن أو عدمها. وقال الأوزاعي:
ينظر إلى مواضع اللحم. وقال داود: ينظر إلى جميع بدنها. والحديث مطلق فينظر إلى
ما يحصل له المقصود بالنظر إليه ويدل على فهم الصحابة لذلك ما رواه عبد الرزاق وسعيد
بن منصور: أن عمر كشف عن ساق أم كلثوم بنت علي لما بعث بها إليه لينظرها. ولا
يشترط رضا المرأة بذلك النظر بل له أن يفعل ذلك على غفلتها كما فعله جابر. قال أصحاب
الشافعي: ينبغي أن يكون نظره إليها قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلافه
بعد الخطبة وإذا لم يمكنه النظر إليها استحب له أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره
بصفتها، فقد روى أنس: أنه (ص) بعث أم سليم إلى امرأة فقال: انظري إلى
عرقوبها وشمي معاطفها أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي وفيه كلام وفي رواية: شمي
عوارضها وهي الأسنان التي في عرض الفم وهي ما بين الثنايا والأضراس واحدها عارض
والمراد اختبار رائحة النكهة. وأما المعاطف فهي ناحيتا العنق ويثبت مثل هذا الحكم للمرأة
فإنها تنظر إلى خاطبها فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها كذا قيل ولم يرد به حديث. والأصل
تحريم نظر الأجنبي والأجنبية إلا بدليل كالدليل على جواز نظر الرجل لمن يريد خطبتها.
8 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
: لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) تقدم أنها بكسر الخاء (حتى يترك الخاطب
قبله أو يأذن له متفق عليه واللفظ للبخاري). النهي أصله التحريم إلا لدليل
يصرفه عنه وادعى النووي الاجماع على أنه له. وقال الخطابي النهي للتأديب وليس
للتحريم وظاهره أنه منهي عنه سواء أجيب الخاطب أم لا وقدمنا في البيع أنه لا يحرم إلا
بعد الإجابة والدليل حديث فاطمة بنت قيس وتقدم. والاجماع قائم على تحريمه بعد الإجابة.
والإجابة من المرأة المكلفة في الكفء ومن ولي الصغيرة. وأما غير الكفء فلا بد من إذن
الولي على القول بأن له المنع وهذا في الإجابة الصريحة وأما إذا كانت غير صريحة فالأصح
عدم التحريم وكذلك إذا لم يحصل رد ولا إجابة. ونص الشافعي أن سكوت البكر رضا
113

بالخاطب فهو إجابة. وأما العقد مع تحريم الخطبة فقال الجمهور: يصح. وقال داود يفسخ
النكاح قبل الدخول وبعده. وقوله: أو يأذن له دل على أنه يجوز له الخطبة بعد الاذن
وجوازها للمأذون له بالنص ولغيره بالالحاق لان إذنه قد دل على إضرابه فتجوز خطبتها
لكل من يريد نكاحها وتقدم الكلام على قوله أخيه وأنه أفاد التحريم على خطبة المسلم
لا على خطبة الكافر وتقدم الخلاف فيه. وأما إذا كان الخاطب فاسقا فهل يجوز للعفيف
الخطبة على خطبته؟ قال الأمير الحسين في الشفاء: إنه يجوز الخطبة على خطبة الفاسق ونقل
عن ابن القاسم صاحب مالك ورجحه ابن العربي وهو قريب فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة
فيكون الفاسق غير كف ء لها فتكون خطبته كلا خطبة. ولم يعتبر الجمهور بذلك إذا
صدرت عنها علامة القبول.
9 - (وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال جاءت امرأة) قال المصنف
في الفتح لم أقف على اسمها (إلى رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله جئت
أهب لك نفسي) أي أمر نفسي لان الحر لا تملك رقبته (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه
وسلم) فصعد النظر فيها وصوبه) في النهاية: ومنه الحديث فصعد في النظر وصوبه أي نظر
أعلاي وأسفلي وتأملني وهو من أدلة جواز النظر إلى من يريد زواجها وقال المصنف إنه
تحرر عنده أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره
(ثم طأطأ رسول الله (ص) رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من الصحابة)
قال المصنف لم أقف على اسمه (فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال:
فهل عندك من شئ؟ فقال: لا والله يا رسول الله، قال: اذهب إلى أهلك فانظر
هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: نظر ولو خاتما) أي ولو نظرت خاتما (من حديد فذهب ثم رجع
فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد) أي موجود فخاتم مبتدأ حذف خبره
(ولكن هذا إزاري - قال) سهل بن سعد الراوي (ماله رداء - فلها نصفه. فقال رسول الله
(ص): ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته) أي كله (لم يكن عليها منه
شئ وإن لبسته) أي كله (لم يكن عليك منه شئ) ولعله بهذا الجواب بين له
أن قسمة الرداء لا تنفعه ولا تنفع المرأة (فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول
الله (ص) موليا فأمر به فدعي به فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال
معي سورة كذا وسورة كذا عددها فقال: تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم.
قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن متفق عليه واللفظ لمسلم. وفي
رواية قال: انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن وفي رواية للبخاري أمكناكها بما
معك من القرآن ولأبي داود عن أبي هريرة قال:) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما تحفظ؟
114

قال سورة البقرة والتي تليها قال: قم فعلمها عشرين آية). دل الحديث على مسائل عديدة
وقد تتبعها ابن التين وقال: هذه إحدى وعشرين فائدة بوب البخاري على أكثرها. قلت:
ولنأت بأنفسها وأوضحها. الأولى: جواز عرض المرأة نفسها على رجل من أهل الصلاح.
وجواز النظر من الرجل وإن لم يكن خاطبا لإرادة التزوج يريد: أنه ليس جواز النظر خاصا
للخاطب بل يجوز لمن تخطبه المرأة فإن نظره (ص) إليها أنه أراد زواجها
بعد عرضها عليه نفسها وكأنها لم تعجبه فأضرب عنها. والثانية: ولاية الامام على المرأة التي لا قريب
لها إذا أذنت، إلا أن في بعض ألفاظ الحديث أنها فوضت أمرها إليه وذلك توكيل. وأنه
يعقد للمرأة من غير سؤال عن وليها هل هو موجود أو لا، حاضر أو لا، وسؤالها هل
هي في عصمة رجل أو عدمه. قال الخطابي: وإلى هذا ذهب جماعة حملا على ظاهر الحال.
وعند الهادوية أنها تحلف الغريبة احتياطا. الثالثة: أن الهبة لا تثبت إلا بالقبول. الرابعة أنه
لا بد من الصداق في النكاح وأنه يصح أن يكون شيئا يسيرا فإن قوله: ولو خاتما من حديد "
مبالغة في تقليله فيصح بكل ما تراضى عليه الزوجان أو من إليه ولاية العقد مما فيه منفعة.
وضابطه أن كل ما يصلح أن يكون قيمة وثمنا لشئ يصح أن يكون مهرا. ونقل القاضي
عياض الاجماع على أنه لا يصح أن يكون مما لا قيمة له ولا يحل به النكاح. وقال ابن حزم:
يصح بكل ما يسمى شيئا ولو حبة من شعير لقوله (ص) هل تجد شيئا
. وأجيب بأن قوله (ص) ولو خاتما من حديد مبالغة في التقليل وله قيمة.
وبأن قوله في الحديث: (من استطاع منكم الباءة) ومن لم يستطع دل على أنه شئ لا يستطيعه
كل واحد وحبة الشعير مستطاعة لكل أحد وكذلك قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا) *
وقوله تعالى: * (أن تبتغوا بأموالكم) * دال على اعتبار المالية في الصداق حتى قال بعضهم: أقله
خمسون وقيل أربعون وقيل خمسة دراهم وإن كانت هذه التقادير لا دليل على اعتبارها
بخصوصها. والحق أنه يصح بما يكون له قيمة وإن تحقرت. والأحاديث والآيات يحتمل أنها
خرجت مخرج الغالب وأنه لا يقع الرضا هنا من الزوجة إلا بكونه مالا له صورة ولا يطيق
كل أحد تحصيله. الخامسة: أنه ينبغي ذكر الصداق في العقد لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة،
فلو عقد بغير ذكر صداق صح العقد ووجب لها مهر المثل بالدخول وأنه يستحب تعجيل
المهر. السادسة: أنه يجوز الحلف وإن لم يكن عليه اليمين وأنه يجوز الحلف على ما يظنه لأنه
صلى الله عليه وسلم قال له بعد يمينه: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فدل أن يمينه
كانت على ظنه ولو كانت لا تكون إلا على العلم لم يكن للامر بذهابه إلى أهله فائدة.
السابعة: أنه لا يجوز للرجل أن يخرج من ملكه ما لا بد له منه كالذي يستر عورته أو يسد خلته
من الطعام والشراب لأنه صلى الله عليه وسلم علل منعه عن قسمة ثوبه بقوله: (إن لبسته
لم يكن عليك منه شئ). الثامنة: اختبار مدعي الاعسار فإنه (ص) لم يصدقه
في أول دعواه الاعسار حتى ظهر له قرائن صدقه وهو دليل على أنه لا يسمع اليمين
من مدعي الاعسار حتى تظهر قرائن إعساره. التاسعة: أنها لا تجب الخطبة للعقد لأنها لم تذكر
115

في شئ من طرق الحديث وتقدم أن الظاهرية تقول بوجوبها وهذا يرد قولهم. وأنه يصح
أن يكون الصداق منفعة كالتعليف إنه منفعة ويقاس عليه غيره ويدل عليه قصة موسى مع
شعيب. وقد ذهب إلى جواز كونه منفعة الهادوية وخالفت الحنفية وتكلفوا لتأويل
الحديث وادعوا أن التزوج بغير مهر من خواصه صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الأصل.
العاشرة: قوله بما معك من القرآن، يحتمل كما قاله القاضي عياض وجهين: أظهرهما أن يعلمها
ما معه من القرآن أو قدرا معينا منه ويكون ذلك صداقا ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة
" فعلمها من القرآن وفي بعضها تعيين عشر من الآيات، ويحتمل أن الباء للتعليل وأنه زوجه
بها بغير صداق إكراما له لكونه حافظا لبعض من القرآن. ويؤيد هذا الاحتمال قصة أم سليم
مع أبي سليم وذلك أنه خطبها فقالت: والله ما مثلك يرد ولكنك كافر وأنا مسلمة
ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهرك ولا أسألك غيره فأسلم فكان ذلك مهرها
أخرجه النسائي وصححه عن ابن عباس وترجم له النسائي: باب التزويج على الاسلام.
وترجم على حديث سهل هذا بقوله باب التزويج على سورة البقرة وهذا ترجيح منه
للاحتمال الثاني والاحتمال الأول أظهر كما قاله القاضي لثبوت رواية: فعلمها من القرآن.
الحادية عشرة: أن النكاح ينعقد بلفظ التمليك وهو مذهب الهادوية والحنفية ولا يخفى أنها قد
اختلفت الألفاظ في الحديث فروي بالتمليك وبالتزويج وبالامكان. قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة اختلفت مع اتحاد مخرج الحديث والظاهر أن الواقع
من النبي (ص) لفظ واحد فالمرجع في هذا إلى الترجيح. وقد نقل عن الدارقطني
أن الصواب رواية من روى قد زوجتكها وأنهم أكثر وأحفظ وأطال المصنف في الفتح
الكلام على هذه الثلاثة الألفاظ ثم قال: فرواية التزويج والانكاح أرجح. وأما قول ابن التين
إنه اجتمع أهل الحديث على أن الصحيح رواية زوجتكها وأن رواية ملكتكها " وهم
فيه فقد قال المصنف: إن ذلك مبالغة منه. وقال البغوي: الذي يظهر أنه كان بلفظ
التزويج على وفق قول الخاطب زوجنيها إذ هو الغالب في لفظ العقود إذ قلما يختلف
فيه لفظ المتعاقدين. وقد ذهبت الهادوية والحنفية والمشهور عن المالكية إلى جواز العقد
بكل لفظ يفيد معناه إذا قرن به الصداق أو قصد به النكاح كالتمليك ونحوه ولا يصح
بلفظ العارية والإجارة والوصية.
10 - (وعن عامر بن عبد الله بن الزبير) عامر تابعي سمع أباه وغيره مات سنة
أربع وعشرين ومائة (عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعلنوا النكاح
رواه أحمد وصححه الحاكم). وفي الباب عن عائشة: أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال "
أي الدف أخرجه الترمذي وفي رواته عيسى بن ميمون ضعيف كما قاله الترمذي
وأخرجه ابن ماجة والبيهقي وفي إسناده خالد بن إياس منكر الحديث. قال أحمد: وأخرج
الترمذي أيضا من حديث عائشة وقال حسن غريب: أعلنوا هذا النكاح واجعلوه
في المساجد واضربوا عليه بالدفوف وليولم أحدكم ولو بشاة فإذا خطب أحدكم امرأة
116

وقد خضب بالسواد فليعلمها لا يغرها. دلت الأحاديث على الامر بإعلان النكاح والاعلان
خلاف الاسرار. وعلى الامر بضرب الغربال وفسره بالدف والأحاديث فيه واسعة وإن
كان في كل منها مقال إلا أنها يعضد بعضها بعضا ويدل على شرعية ضرب الدف
لأنه أبلغ في الاعلان من عدمه. وظاهر الامر الوجوب ولعله لا قائل به فيكون مسنونا
ولكن بشرط أن لا يصحبه محرم من التغني بصوت رخيم من امرأة أجنبية بشعر فيه مدح
القدود والخدود بل ينظر الأسلوب العربي الذي كان في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم فهو
المأمور به. وأما ما أحدثه الناس من بعد ذلك فهو غير المأمور به ولا كلام في أنه في
هذه الاعصار يقترن بمحرمات كثيرة فيحرم لذلك لا لنفسه.
11 - (وعن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله (ص):
لا نكاح إلا بولي رواه أحمد والأربعة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان
وأعله بإرساله). قال ابن كثير: قد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم من
حديث إسرائيل وأبو عوانة وشريح القاضي وقيس بن الربيع ويونس بن أبي إسحاق وزهير
بن معاوية كلهم عن أبي إسحاق كذلك قال الترمذي. ورواه شعبة والثوري عن أبي إسحاق
مرسلا قال: والأول عندي أصح هكذا صححه عبد الرحمن بن مهدي فيما حكاه ابن خزيمة
عن أبي المثنى عنه. وقال علي بن المديني: حديث إسرائيل في النكاح صحيح وكذا صححه
البيهقي وغير واحد من الحفاظ قال: ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن جابر مرفوعا
قال الحافظ الضياء بإسناد رجاله كلهم ثقات. قلت: ويأتي حديث أبي هريرة
" لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها وحديث عائشة: إن النكاح من غير ولي
باطل. قال الحاكم: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة
وأم سلمة وزينب بنت جحش. قال: وفي الباب عن علي وابن عباس ثم سرد ثلاثين
صحابيا. والحديث دل على أنه لا يصح النكاح إلا بولي لان الأصل في النفي نفي الصحة
لا الكمال. والولي هو الأقرب إلى المرأة من عصبتها دون ذوي أرحامها. واختلف العلماء
في اشتراط الولي في النكاح فالجمهور على اشتراطه وأنها لا تزوج المرأة نفسها. وحكى
عن ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من أحد من الصحابة خلاف ذلك وعليه دلت الأحاديث.
وقال مالك: يشترط في حق الشريفة لا الوضيعة فلها أن تزوج نفسها. وذهبت الحنفية
إلى أنه لا يشترط مطلقا محتجين بالقياس على البيع فإنها تستقل ببيع سلعتها وهو قياس فاسد
الاعتبار إذ هو قياس مع نص ويأتي الكلام في ذلك مستوفى في شرح حديث أبي هريرة
" لا تزوج المرأة المرأة - الحديث. وقالت الظاهرية: يعتبر الولي في حق البكر لحديث
الثيب أولى بنفسها وسيأتي، ويأتي أن المراد منه اعتبار رضاها جمعا بينه وبين أحاديث اعتبار
الولي. وقال أبو ثور: للمرأة أن تنكح نفسها بإذن وليها لمفهوم الحديث الآتي:
12 - (وعن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله (ص):
أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها
117

المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولى لها،
أخرجه الأربعة إلا النسائي وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم). قال ابن كثير وصححه يحيى
بن معين وغيره من الحفاظ. قال أبو ثور فقوله: بغير إذن وليها يفهم منه أنه إذا
أذن لها جاز لها أن تعقد لنفسها. وأجيب بأنه مفهوم لا يقوى على معارضة المنطوق باشتراطه.
واعلم أن الحنفية طعنوا في هذا الحديث بأنه رواه سليمان بن موسى عن الزهري وسئل
الزهري عنه فلم يعرفه والذي روى هذا القدح هو إسماعيل بن علية القاضي عن ابن
جريج الراوي عن سليمان أنه سأل الزهري عنه أي عن الحديث فلم يعرفه. وأجيب عنه
بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم عليه لا سيما وقد أثنى
الزهري على سليمان بن موسى. وقد طال كلام العلماء على هذا الحديث واستوفاه البيهقي
في السنن الكبرى وقد عاضدته أحاديث اعتبار الولي وغيرها مما يأتي في شرح حديث
أبي هريرة. وفي الحديث دليل على اعتبار إذن الولي في النكاح بعقده لها أو عقد وكيله.
وظاهره أن المرأة تستحق المهر بالدخول وإن كان النكاح باطلا لقوله: فإن دخل بها فلها
المهر بما استحل من فرجها. وفيه دليل على أنه إذا اختل ركن من أركان النكاح فهو
باطل مع العلم والجهل. وأن النكاح يسمى باطلا وصحيحا ولا واسطة. وقد أثبت الواسطة
الهادوية وجعلوها العقد الفاسد. قالوا: وهو ما خالف مذهب الزوجين أو أحدهما جاهلين
ولم تكن المخالفة في أمر مجمع عليه وترتب عليه أحكام مبينة في الفروع. والضمير
في قوله: فإن اشتجروا عائد إلى الأولياء الدال عليهم ذكر الولي والسياق والمراد بالاشتجار
منع الأولياء من العقد عليها وهذا هو العضل وبه تنتقل الولاية إلى السلطان إن عضل
الأقرب، وقيل بل تنتقل إلى الأبعد وانتقالها إلى السلطان مبني على منع الأقرب الأبعد
وهو محتمل. ودل على أن السلطان ولي من لا ولي لها لعدمه أو لمنعه ومثلهما غيبة الولي
ويؤيد حديث الباب ما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا لا نكاح إلا بولي
والسلطان ولي من لا ولي له وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة فقد أخرجه سفيان في جامعة.
ومن طريقة الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن ابن عباس بلفظ: لا نكاح إلا بولي مرشد
أو سلطان ثم المراد بالسلطان من إليه الامر جائرا كان أو عادلا لعموم الأحاديث القاضية
بالأمر لطاعة السلطان جائرا أو عادلا. وقيل: بل المراد به العادل المتولي لمصالح العباد
لا سلاطين الجور فإنهم ليسوا بأهل لذلك.
13 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
لا تنكح) مغير الصيغة مجزوما ومرفوعا ومثله الذي بعده (الأيم) التي فارقت زوجها
بطلاق أو موت (حتى تستأمر) من الاستئمار طلب الامر (ولا تنكح البكر حتى
تستأذن قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت متفق عليه). فيه
أنه لا بد من طلب الامر من الثيب وأمرها فلا يعقد عليها حتى يطلب الولي الامر منها بالاذن
118

بالعقد. والمراد من ذلك اعتبار رضاها وهو معنى أحقيتها بنفسها من وليها في الأحاديث.
وقوله: البكر أراد بها البكر البالغة وعبر هنا بالاستئذان وعبر في الثيب بالاستئمار إشارة
إلى الفرق بينهما. وأنه يتأكد مشاورة الثيب ويحتاج الولي إلى صريح القول بالاذن منها
في العقد عليها. والاذن من البكر دائر بين القول والسكوت بخلاف الامر فإنه صريح في القول
وإنما اكتفي منها بالسكوت لأنها قد تستحي من التصريح. وقد ورد في رواية عائشة
قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: رضاها صماتها أخرجه الشيخان. ولكن قال
ابن المنذر يستحب أن يعلم أن سكوتها رضا. وقال ابن شعبان: يقال لها ثلاثا: إن رضيت
فاسكتي وإن كرهت فانطقي فأما إذا لم تنطق ولكنها بكت عند ذلك فقيل: لا يكون سكوتها
رضا مع ذلك وقيل: لا أثر لبكائها في المنع إلا أن يقترن بصياح ونحوه وقيل: يعتبر الدمع
هل هو حار فهو يدل على المنع أو بارد فهو يدل على الرضا. والأولى أن يرجع إلى القرائن
فإنها لا تخفى والحديث عام للأولياء من الأب وغيره في أنه لا بد من إذن البكر البالغة وإليه
ذهب الهادوية والحنفية وآخرون عملا بعموم الحديث هنا وبالخاص الذي أخرجه مسلم
بلفظ: والبكر يستأذنها أبوها. ويأتي ذكر الخلاف في ذلك واستيفاء الكلام عليه في شرح
الحديث الآتي:
14 - (وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي (ص) قال: الثيب
أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها رواه مسلم، وفي لفظ)
أي من رواية ابن عباس (ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر رواه أبو داود
والنسائي وصححه ابن حبان). تقدم الكلام على أن المراد بأحقية الثيب بنفسها اعتبار رضاها
كما تقدم على استئمار البكر وقوله: ليس للولي مع الثيب أمر أي إن لم ترض لما سلف
من الدليل على اعتبار رضاها وعلى أن العقد إلى الولي وأما قوله: واليتيمة تستأمر. فاليتيمة
في الشرع الصغيرة التي لا أب لها وهو دليل للناصر والشافعي في أنه لا يزوج الصغيرة إلا الأب
لأنه صلى الله عليه وسلم قال: تستأمر اليتيمة ولا استئمار إلا بعد البلوغ إذ لا فائدة لاستئمار
الصغيرة. وذهب الحنفية إلى أنه يجوز أن يزوجها الأولياء مستدلين بظاهر قوله تعالى: * (وإن
خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * الآية، وما ذكر في سبب نزولها في أن يكون في حجر الولي
يتيمة ليس له رغبة في نكاحها وإنما يرغب في مالها فيتزوجها لذلك، فنهوا وليس بصريح
في أن ينكحها صغيرة لاحتمال أنه يمنعها الأزواج حتى تبلغ ثم يتزوجها. قالوا: ولها بعد
البلوغ الخيار قياسا على الأمة فإنها تخير إذا أعتقت وهي مزوجة والجامع حدوث ملك
التصرف ولا يخفى ضعف هذا القول وما يتفرع من جواز الفسخ وضعف القياس.
ولهذا قال أبو يوسف: لا خيار لها مع قوله: بجواز تزويج غير الأب لها كأنه لم يقل بالخيار
لضعف القياس فالأرجح ما ذهب إليه الشافعي.
15 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول (ص):
119

لا تزوج المرأة المرأة. ولا تزوج المرأة نفسها رواه ابن ماجة والدارقطني ورجاله ثقات)
فيه دليل على أن المرأة ليس لها ولاية في الانكاح لنفسها ولا لغيرها فلا عبرة لها في النكاح
إيجابا ولا قبولا فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيره ولا تزوج غيرها بولاية ولا بوكالة
ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة وهو قول الجمهور. وذهب أبو حنيفة إلى تزويج
العاقلة البالغة نفسها وابنتها الصغيرة وتتوكل عن الغير لكن لو وضعت نفسها عند غير كف ء،
فلأوليائها الاعتراض. وقال مالك: تزوج الدنية نفسها دون الشريفة كما تقدم. واستدل
الجمهور بالحديث بقوله تعالى: * (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) * قال الشافعي: هي
أصرح آية في اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى، وسبب نزولها في معقل بن يسار: زوج
أخته فطلقها زوجها طلقة رجعية وتركها حتى انقضت عدتها ورام رجعتها فحلف أن
لا يزوجها قال ففيه نزلت هذه الآية. رواه البخاري زاد أبو داود: فكفرت عن يميني
وأنكحتها إياه. فلو كان لها تزويج نفسها لم يعاتب أخاها على الامتناع ولكان نزول الآية
لبيان أنها تزوج نفسها. وبسبب نزول الآية يعرف ضعف قول الرازي إن الضمير للأزواج،
وضعف قول صاحب نهاية المجتهد: إنه ليس في الآية نهيهم عن العضل ولا يفهم منه اشتراط
إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازا بل قد يفهم منه ضد هذا وهو أن الأولياء ليس
لهم سبيل على من يلونهم اه‍. ويقال عليه: قد فهم السلف شرط إذنهم في عصره صلى الله عليه
وسلم وبادر من نزلت فيه إلى التكفير عن يمينه والعقد ولو كان لا سبيل للأولياء لأبان
الله تعالى غاية البيان بل كرر تعالى كون الامر إلى الأولياء في عدة آيات ولم يأت حرف واحد
أن للمرأة إنكاح نفسها. ودلت أيضا أن نسبة النكاح إليهن في الآيات مثل * (حتى تنكح
زوجا غيره) * ومراد به الانكاح بعقد الولي إذ لو فهم (ص) أنها تنكح نفسها لأمرها
بعد نزول الآية بذلك ولأبان لأخيها أنه لا ولاية له ولم يبح له الحنث في يمينه والتكفير.
ويدل لاشتراط الولي ما أخرجه البخاري وأبو داود من حديث عروة عن عائشة أنها أخبرته أن
النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل
وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ثم قالت في آخره: فلما بعث محمد بالحق هدم نكاح
الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. فهذا دال أنه صلى الله عليه وسلم قرر ذلك النكاح
المعتبر فيه الولي وزاده تأكيدا بما قد سمعت من الأحاديث ويدل على نكاحه صلى الله عليه
وسلم لام سلمة وقولها إنه ليس أحد من أوليائها حاضرا ولم يقل صلى الله عليه وسلم
أنكحي أنت نفسك مع أنه مقام البيان ويدل له قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركين) * فإنه
خطاب للأولياء بأن لا ينكحوا المسلمات المشركين. ولو فرض أنه يجوز لها إنكاح نفسها لما
كانت الآية دالة على تحريم ذلك عليهن لان القائل بأنها تنكح نفسها يقول بأنه ينكحها وليها
أيضا فيلزم أن الآية لم تف بالدلالة على تحريم إنكاح المشركين للمسلمات لأنها إنما
دلت على نهي الأولياء من إنكاح المشركين لا على نهي المسلمات أن ينكحن أنفسهن منهم
وقد علم تحريم نكاح المشركين المسلمات فالامر للأولياء دال على أنه ليس للمرأة ولاية
120

في النكاح. ولقد تكلم صاحب نهاية المجتهد على الآية بكلام في غاية السقوط فقال: الآية
مترددة بين أن تكون خطابا للأولياء أو لأولي الامر ثم قال: فإن قيل هو عام والعام يشمل
أوي الامر والأولياء قلنا: هذا الخطاب إنما هو خطاب بالمنع والمنع بالشرع فيستوي فيه
الأولياء وغيرهم وكون الولي مأمورا بالمنع بالشرع لا يوجب له ولاية خاصة بالاذن، ولو
قلنا إنه خطاب للأولياء يوجب اشتراط إذنهم في النكاح لكان مجملا لا يصح به عمل لأنه ليس
فيه ذكر أصناف الأولياء ولا مراتبهم والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة اه‍ والجواب
أن الأظهر أن الآية خطاب لكافة المؤمنين المكلفين الذين خوطبوا بصدرها أعني قوله
* (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * والمراد لا ينكحهن من إليه الانكاح وهم الأولياء أو
خطاب للأولياء ومنهم الأمراء عند فقدهم أو عضلهم لما عرفت من قوله فإن اشتجروا
فالسلطان ولي من لا ولي لها فبطل قوله إنه متردد بين خطاب الأولياء وأولي الأمر. وقوله
قلنا: هذا الخطاب إنما هو خطاب بالمنع بالشرع قلنا نعم قوله: والمنع بالشرع يستوي فيه
الأولياء وغيرهم قلنا هذا كلام في غاية السقوط فإن المنع بالشرع هنا الأولياء الذين
يتولون العقد إما جواز كما تقوله الحنفية أو شرطا كما يقوله غيرهم. فالأجنبي بمعزل عن المنع لأنه لا ولاية له على بنات زيد مثلا فما معنى نهيه عن شئ ليس من تكليفه فهذا تكليف
يخص الأولياء فهو كمنع الغني من السؤال ومنع النساء عن التبرج. فالتكاليف الشرعية منها
ما يخص الذكور ومنها ما يخص الإناث ومنها ما يخص بعضا من الفريقين أو فردا منهما ومنها
ما يعم الفريقين وإن أراد أنه يجب على الأجنبي الانكار على من يزوج مسلم بمشرك،
فخروج من البحث. وقوله: ولو قلنا إنه خطاب للأولياء لكان مجملا لا يصح به عمل،
جوابه أنه ليس بمجمل إذ الأولياء معروفون في زمان من أنزلت عليهم الآية وقد كان معروفا
عندهم. ألا ترى إلى قول عائشة: يخطب الرجل إلى الرجل وليته فإنه دال على أن الأولياء
معروفون. وكذلك قول أم سلمة له صلى الله عليه وسلم ليس: أحد من أوليائي حاضرا،
وإنما ذكرنا هذا لأنه نقل الشارح رحمه الله كلام النهاية وهو طويل وجنح إلى رأي الحنفية
واستقواه الشارح ولم يقو في نظري ما قاله فأحببت أن أنبه على بعض ما فيه. ولولا محبة
الاختصار لنقلته بطوله وأبنت ما فيه. ومن الأدلة على اعتبار الولي قوله صلى الله عليه وسلم
الثيب أحق بنفسها من وليها فإنه أثبت حقا للولي كما يفيده لفظ أحق وأحقيته هي
الولاية وأحقيتها رضاها فإنه لا يصح عقده بها إلا بعده فحقها بنفسها آكد من حقه لتوقف حقه
على إذنها.
16 - (وعن نافع عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار)
فسره بقوله: (أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس
بينهما صداق متفق عليه). قال الشافعي: لا أدري التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم
أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك؟ حكاه عنه البيهقي في المعرفة. (واتفقا من وجه آخر على أن تفسير الشغار من كلام نافع). وقال الخطيب: إنه ليس
من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع وقد بين ذلك
121

ابن مهدي والقعنبي ويدل على أنه من كلام مالك أنه أخرجه الدارقطني من طريق خالد
بن مخلد عن مالك قال: سمعت أن الشغار أن يزوج الرجل إلخ. وأما البخاري فصرح في كتاب
الحيل أن تفسير الشغار من قول نافع. قال القرطبي: تفسير الشغار بما ذكر صحيح موافق
لما ذكره أهل اللغة فإن كان مرفوعا فهو المقصود وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا
لأنه أعلم بالمقال وأفقه بالحال اه‍. وإذا ثبت النهي عنه فقد اختلف الفقهاء هل هو
باطل أو غير باطل؟ فذهبت الهادوية والشافعي ومالك إلى أنه باطل للنهي عنه وهو يقتضي
البطلان. وللفقهاء خلاف في علة النهي لا نطول به فكلها أقوال تخمينية. ويظهر من قوله
في الحديث لا صداق بينهما أنه علة النهي. وذهبت الحنفية وطائفة إلى أن النكاح
صحيح ويلغو ما ذكر فيه عملا بعموم قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *
ويجاب بأنه خصه النهي.
17 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن جارية بكرا أتت النبي (ص)
فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله (ص) رواه أحمد
وأبو داود وابن ماجة وأعل بالارسال). وأجيب عنه بأنه رواه أيوب بن سويد عن الثوري عن
أيوب موصولا وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقي عن زيد بن حبان عن أيوب موصولا.
وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله فالحكم لمن وصله. قال المصنف: الطعن
في الحديث لا معنى له لأنه له طرقا يقوي بعضها بعضا اه‍. وقد تقدم حديث أبي هريرة
المتفق عليه وفيه: ولا تنكح البكر حتى تستأذن وهذا الحديث أفاد ما أفاده فدل على
تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح وغيره من الأولياء بالأولى. وإلى عدم جواز
إجبار الأب ذهبت الهادوية والحنفية لما ذكر ولحديث مسلم والبكر يستأذنها أبوها وإن
قال البيهقي: زيادة الأب في الحديث غير محفوظة فقد رده المصنف بأنها زيادة عدل يعني
فيعمل بها. وذهب أحمد وإسحاق والشافعي إلى أن للأب إجبار بنته البكر البالغة على النكاح
عملا بمفهوم الثيب أحق بنفسها كما تقدم فإنه دل أن البكر بخلافها وأن الولي أحق بها.
ويرد بأنه مفهوم لا يقاوم المنطوق وبأنه لو أخذ بعمومه لزم في حق غير الأب من
الأولياء وأن لا يخص الأب بجواز الاجبار. وقال البيهقي في تقوية كلام الشافعي: إن
حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كف ء قال المصنف: جواب
البيهقي هو المعتمد لأنها واقعة عين فلا يثبت الحكم بها تعميما. قلت: كلام هذين الامامين
محاماة عن كلام الشافعي ومذهبهم وإلا فتأويل البيهقي لا دليل عليه فلو كان كما قال
لذكرته المرأة بل قالت: إنه زوجها وهي كارهة فالعلة كراهتها فعليها علق التخيير لأنها
المذكورة فكأنه قال (ص): إذا كنت كارهة فأنت بالخيار. وقوله المصنف:
إنها واقعة عين كلام غير صحيح بل كحكم عام لعموم علته فأينما وجد ت الكراهة ثبت الحكم.
وقد أخرج النسائي عن عائشة: أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه
122

يرفع بي خسيسته وأنا كارهة قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الامر
إليها فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس
للآباء من الامر شئ. والظاهر أنها بكر ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس وقد
زوجها أبوها كفئا ابن أخيه. وإن كانت ثيبا فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام
النساء أنه ليس للآباء من الامر شئ ولفظ النساء عام للثيب والبكر وقد قالت هذا
عنده (ص) فأقرها عليه. والمراد بنفي الامر عن الآباء نفي التزويج للكراهة
لان السياق في ذلك فلا يقال هو عام لكل شئ.
18 - (وعن الحسن) هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن مولى زيد بن ثابت
ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بالمدينة وقدم البصرة بعد مقتل عثمان. وقيل إنه لقي
عليا بالمدينة وأما بالبصرة فلم تصح رؤيته إياه وكان إمام وقته علما وزهدا وورعا
مات في رجب سنة عشرة ومائة (عن سمرة رضي الله عنه عن النبي (ص): أيما امرأة
زوجها وليان فهي للأول منهما رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي). تقدم ذكر
الخلاف في سماع الحسن من سمرة. ورواه الشافعي وأحمد والنسائي من طريق قتادة عن
الحسن عن عقبة بن عامر. قال الترمذي: الحسن عن سمرة في هذا أصح. قال ابن المديني:
لم يسمع الحسن عن عقبة شيئا. والحديث دليل على أن المرأة إذا عقد لها وليان لرجلين وكان
العقد مترتبا أنها للأول منهما سواء دخل بها الثاني أو لا. أما إذا دخل بها عالما فإجماع أنه
زنا، وأنها للأول، وكذلك إن دخل بها جاهلا إلا أنه لا حد عليه. للجهل. فإن وقع العقدان
في وقت واحد بطلا وكذا إذا علم ثم التبس فإنهما يبطلان إلا أنها إذا أقرت الزوجة
أو دخل بها أحد الزوجين برضاها فإن ذلك يقرر العقد الذي أقرت بسبقه إذ الحق عليها
فإقرارها صحيح وكذا الدخول برضاها فإنه قرينة السبق لوجوب الحمل على السلامة.
19 - (وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (ص): أيما
عبد تزوج بغير إذن مواليه وأهله فهو عاهر) أي زان (رواه أحمد وأبو داود
والترمذي وصححه وكذلك) صححه (ابن حبان). ورواه من حديث ابن عمر موقوفا وأنه
وجد عبدا له تزوج بغير إذنه ففرق بينهما وأبطل عقده وضربه الحد. والحديث دليل على
أن نكاح العبد بغير إذن مالكه باطل وحكمه حكم الزنا عند الجمهور إلا أنه يسقط عنه
الحد إذا كان جاهلا للتحريم ويلحق به النسب. وذهب داود إلى أن نكاح العبد بغير إذن
مالكه صحيح لان النكاح عنده فرض عين فهو كسائر فروض العين لا يفتقر إلى إذن
السيد وكأنه لم يثبت لديه الحديث. وقال الامام يحيى: إن العقد الباطل لا يكون له حكم
123

الزنا هنا ولو كان عالما بالتحريم لأن العقد شبهة يدرأ بها الحد. وهل ينفذ عقده
بالإجازة من سيده؟ فقال الناصر والشافعي: لا ينفذه بالإجازة لأنه سماه النبي صلى الله عليه
وسلم عاهرا. وأجيب بأن المراد إذا لم تحصل الإجازة إن الشافعي لا يقول بالعقد الموقوف.
أصلا. والمراد بالعاهر أنه كالعاهر وأنه ليس بزان حقيقة.
20 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال:
لا يجمع) بلفظ المضارع المبني للمجهول ولا نافية فهو مرفوع ومعناه النهي وقد ورد
في إحدى روايات الصحيح بلفظ: نهى رسول الله (ص) أن يجمع (بين
المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها متفق عليه). فيه دليل على تحريم الجمع بين
من ذكر. قال الشافعي: يحرم الجمع بين من ذكر وهو قول من لقيته من المفتين لا خلاف
بينهم في ذلك. ومثله قال الترمذي وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم
وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج. ونقل الاجماع أيضا ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي
والنووي. ولا يخفى أن هذا الحديث خصص عموم قوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذالكم) *
الآية. قيل: ويلزم الحنفية أن يجوز والجمع بين من ذكر لان أصولهم تقديم عموم الكتاب
على أخبار الآحاد إلا أنه أجاب صاحب الهداية بأنه حديث مشهور والمشهور له حكم القطعي
سيما مع الاجماع من الأمة وعدم الاعتداد بالمخالف.
21 - (وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): لا ينكح)
بفتح حرف المضارعة من نكح (المحرم ولا ينكح) بضمه من أنكح (رواه مسلم.
وفي رواية له) أي لمسلم عن عثمان (ولا يخطب) أي لنفسه أو لغيره زاد ابن حبان: ولا
يخطب عليه). وتقدم ذلك في كتاب الحج إلا قوله: ولا يخطب عليه والمراد أنه
لا يخطب أحد منه وليته.
22 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه
وسلم ميمونة وهو محرم. متفق عليه). الحديث قد أكثر الناس فيه الكلام لمخالفة
ابن عباس لغيره. قال ابن عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم لكن الرواية أنه تزوجها
وهو حلال جاءت من طرق شتى وحديث ابن عباس صحيح الاسناد لكن الوهم إلى
الواحد أقرب من الوهم إلى الجماعة. فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من
غيرهما وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم فهو المعتمد انتهى. وقال الأثرم:
قلت لأحمد: إن أبا ثور يقول بأي شئ يدفع حديث ابن عباس أي مع صحته قال: الله
المستعان. ابن المسيب يقول: وهم ابن عباس وميمونة تقول: تزوجني وهو حلال انتهى.
يريد بقول ميمونة ما رواه عنها مسلم وهو:
23 - (ولمسلم عن ميمونة نفسها: أن النبي (ص) تزوجها وهو حلال)
124

وعضد حديثها حديث عثمان وقد تؤول حديث ابن عباس بأن معنى وهو محرم أي
داخل في الحرم أو في الأشهر الحرم جزم بهذا التأويل ابن حبان في صحيحه وهو تأويل بعيد
لا تساعد عليه الأحاديث. وقد تقدم الكلام في هذا في الحج.
24 - (وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (ص):
إن أحق الشروط أن يوفيه ما استحللتم به الفروج متفق عليه. أي أحق
الشروط بالوفاء شروط النكاح لان أمره أحوط وبابه أضيق. والحديث دليل على أن الشروط
المذكورة في عقد النكاح يتعين الوفاء بها وسواء كان الشرط عرضا أو مالا حيث كان
الشرط للمرأة. لا استحلال البضع إنما يكون فيما يتعلق بها أو ترضاه لغيرها. وللعلماء
في المسألة أقوال: قال الخطابي: الشروط في النكاح مختلف فيها. فمنها ما يجب الوفاء
به اتفاقا وهو ما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وعليه حمل بعضهم
هذا الحديث. ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كطلاق أختها لما ورد من النهي عنه. ومنها
ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا ينقلها من منزلها إلى منزله.
وأما ما يشترطه العاقد لنفسه خارجا عن الصداق فقيل: هو للمرأة مطلقا وهو قول الهادوية
وعطاء وجماعة. وقيل: هو لمن شرطه وقيل: يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء.
وقال مالك: إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر أو خارجا عنه فهو لمن وهب له.
ودليله ما أخرجه النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه بلفظ: أيما
امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة
النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم عليه الرجل ابنته أو أخته. وأخرج نحوه الترمذي من
حديث عروة عن عائشة ثم قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة منهم
عمر قال: إذا تزوج الرجل المرأة بشرط أن لا يخرجها لزم، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق.
إلا أنه قد تعقب بأن نقله عن الشافعي غريب والمعروف عن الشافعية أن المراد من الشروط
هي التي لا تنافي النكاح بل تكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراط حسن العشرة والانفاق
والكسوة والسكنى وأن لا يقصر في شئ من حقها من قسمة ونفقة وكشرطه عليها أن لا تخرج
إلا بإذنه وأن لا تتصرف في متاعه ونحو ذلك. قلت: هذه الشروط إن أرادوا أنه يحمل عليها
الحديث فقد قللوا فائدته لأن هذه أمور لازمة للعقد لا تفتقر إلى شرط وإن أرادوا غير
ذلك فما هو؟. نعم لو شرطت ما ينافي العقد كأن لا يقسم لها ولا يتسرى عليها فلا يجب الوفاء
به. قال الترمذي: قال علي رضي الله عنه: سبق شرط الله شرطها. فالمراد في الحديث
الشروط الجائزة لا المنهي عنها فأما شرطها أن لا يخرجها من منزلها فهذا شرط غير منهي
عنه فيتعين الوفاء به.
25 - (وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه
وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنها رواه مسلم. اعلم أن حقيقة المتعة كما
في كتب الامامية هي النكاح المؤقت بأمد معلوم أو مجهول وغايته إلى خمسة وأربعين يوما "
ويرتفع النكاح بانقضاء المؤقت في المنقطعة الحيض وبحيضتين في الحائض وبأربعة أشهر
125

وعشر في المتوفى عنها زوجها. ألا يثبت لها
مهر غير المشروط ولا تثبت لها نفقة ولا توارث ولا عدة إلا الاستبراء بما ذكر. ولا يثبت به نسب إلا أن يشترط وتحرم
المصاهرة بسببه، هذا كلامهم. وحديث سلمة هذا أفاد أنه (ص) رخص
في المتعة ثم نهى عنها واستمر النهي ونسخت الرخصة، وإلى نسخها ذهب الجماهير من
السلف والخلف. وقد روي نسخها بعد الترخيص في ستة مواطن: الأول: في خيبر.
الثاني: في عمرة القضاء. الثالث: عام الفتح. الرابع: عام أوطاس. الخامس: غزوة تبوك.
السادس: في حجة الوداع. فهذه التي وردت إلا أن في ثبوت بعضها خلافا. قال النووي:
الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها ثم
أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس ثم حرمت تحريما مؤبدا. وإلى هذا التحريم ذهب
أكثر الأمة وذهب إلى بقاء الرخصة جماعة من الصحابة وروي رجوعهم وقولهم بالنسخ،
ومن أولئك ابن عباس، روي عنه بقاء الرخصة ثم رجع عنه إلى القول بالتحريم. قال
البخاري: بين علي رضي الله عنه عن النبي (ص) أنه منسوخ. وأخرج ابن
ماجة عن عمر بإسناد صحيح أنه خطب فقال: إن رسول الله (ص) أذن لنا
في المتعة ثلاثا ثم حرمها والله لا أعلم أحدا تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة. وقال
ابن عمر: نهانا رسول الله (ص) وما كنا مسافحين. إسناده قوي والقول
بأن إباحتها قطعي ونسخها ظني غير صحيح لان الراوين لاباحتها رووا نسخها وذلك إما قطعي
في الطرفين أو ظني في الطرفين كذا في الشرح. وفي نهاية المجتهد أنها تواترت الاخبار
بالتحريم إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم انتهى وقد بسطنا القول في تحريمها
في حواشي ضوء النهار.
26 - (وعن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله (ص) عن
المتعة عام خيبر. متفق عليه). لفظه في البخاري: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
المتعة وعن الحمر الأهلية زمن خيبر بالخاء المعجمة أوله والراء آخره. وقد وهم من رواه
عام حنين بمهملة أوله ونون آخره أخرجه النسائي والدارقطني ونبه على أنه وهم. ثم
الظاهر أن الظرف في رواية البخاري متعلق بالامرين معا المتعة ولحوم الحمر الأهلية. وحكى
البيهقي عن الحميدي أنه كان يقول سفيان بن عيينة: في خيبر يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة.
قال البيهقي: وهو محتمل ذلك ولكن أكثر الروايات يفيد تعلقه بهما. وفي رواية لأحمد من
طريق معمر بسنده أنه بلغه: أن ابن عباس رخص في متعة النساء فقال له: إن رسول الله
(ص) نهى عنه يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية. إلا أنه قال السهيلي:
إنه لا يعرف عن أهل السير ورواة الآثار أنه نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر قال: والذي
يظهر أنه وقع تقديم وتأخير. وقد ذكر ابن عبد البر أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة
أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر. وقال
126

أبو عوانة في صحيحه: سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن
لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها وإنما نهى عنها يوم الفتح. والحامل لهؤلاء على ما
سمعت ثبوت الرخصة بعد زمن خيبر ولا تقوم لعلي الحجة على ابن عباس إلا إذا وقع
النهي أخيرا إلا أنه يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليا رضي الله عنه لم تبلغه فيها
يوم الفتح لوقوع النهي عن قرب ويمكن أن عليا عرف بالرخصة يوم الفتح ولكن فهم
توقيت الترخيص وهو أيام شدة الحاجة مع العزوبة وبعد مضي ذلك فهي باقية على
أصل التحريم المتقدم فتقوم له الحجة على ابن عباس. وأما قول ابن القيم: إن المسلمين
لم يكونوا يستمتعون بالكتابيات يريد فيقوى أن النهي لم يقع عام خيبر إذ لم يقع هناك نكاح
متعة فقد يجاب عنه بأنه قد يكون هناك مشركات غير كتابيات فإن أهل خيبر كانوا
يصاهرون الأوس والخزرج قبل الاسلام فلعله كان هناك من نساء الأوس والخزرج من
يستمتعون منهن.
27 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لعن رسول الله (ص)
المحلل والمحلل له رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وفي الباب عن علي رضي الله عنه)
ولفظه عن علي أنه صلى الله عليه وسلم " لعن المحلل والمحلل له " (أخرجه الأربعة إلا النسائي)
وصحح حديث ابن مسعود ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري. وقال الترمذي:
حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم منهم عمر وعثمان وعبد الله بن عمر وهو قول
الفقهاء من التابعين. وأما حديث علي رضي الله عنه ففي إسناده مجالد وهو ضعيف وصححه
ابن السكن وأعله الترمذي ورواه ابن ماجة والحاكم من حديث عقبة بن عامر ولفظه قال:
قال رسول الله (ص): ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله
قال: فهو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له. والحديث دليل على تحريم التحليل لأنه لا يكون
اللعن إلا على فاعل المحرم وكل محرم منهي عنه والنهي يقتضي فساد العقد. واللعن وإن
كان ذلك للفاعل لكنه علق بوصف يصح أن يكون علة الحكم. وذكروا للتحليل صورا
منها أن يقول له في العقد: إذا أحللتها فلا نكاح وهذا مثل نكاح المتعة لأجل التوقيت.
ومنها أن يقول في العقد: إذا أحللتها طلقتها. ومنها أن يكون مضمرا عند العقد بأن يتواطأ على
التحليل ولا يكون النكاح الدائم هو المقصود. وظاهر شمول اللعن فساد العقد لجميع الصور،
وفي بعضها خلاف بلا دليل ناهض فلا يشتغل بها.
28 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات). الحديث دليل على
أنه يحرم على المرأة أن تزوج بمن ظهر زناه ولعل الوصف بالمجلود بناء على الأغلب
في حق من ظهر منه الزنا وكذلك يحرم عليه أن يتزوج بالزانية التي ظهر زناها.
وهذا الحديث موافق قوله تعالى: * (وحرم ذلك على المؤمنين) * إلا أنه حمل الحديث والآية
127

الأكثر من العلماء على أن معنى لا ينكح لا يرغب الزاني المجلود إلا في مثله والزانية لا ترغب
في نكاح غير العاهر هكذا تأولوهما. والذي يدل عليه الحديث والآية النهي عن ذلك
لا الاخبار عن مجرد الرغبة وأنه يحرم نكاح الزاني العفيفة والعفيف الزانية ولا أصرح من قوله
* (وحرم ذلك على المؤمنين) * أي كاملي الايمان الذين هم ليسوا بزناة وإلا فإن الزاني لا يخرج
عن مسمى الايمان عند الأكثر.
29 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: طلق رجل امرأته ثلاثا فتزوجها رجل
ثم طلقها قبل أن يدخل بها فأراد زوجها الأول أن يتزوجها فسئل رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك فقال: لا، حتى يذوق الآخر من عسيلتها) مصغر عسل وأنث لان
العسل مؤنث وقيل إنه يذكر ويؤنث (ما ذاق الأول متفق عليه واللفظ لمسلم). اختلف
في المراد بالعسيلة فقيل: إنزال المني وأن التحليل لا يكون إلا بذلك وذهب إليه الحسن. وقال الجمهور:
ذوق العسيلة كناية عن المجامعة وهو تغييب الحشفة من الرجل في فرج المرأة ويكفي منه
ما يوجب الحد ويوجب الصداق. وقال الأزهري: الصواب أن معنى العسيلة حلاوة الجماع
التي تحصل بتغييب الحشفة. قال أبو عبيدة: العسيلة لذة الجماع والعرب تسمي كل شئ
تستلذه عسلا والحديث محتمل. وأما قول سعيد بن المسيب إنه يحصل التحليل بالعقد
الصحيح فقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا الخوارج ولعله لم يبلغه الحديث
فأخذ بظاهر القرآن. وأما رواية ذلك عن سعيد بن جبير فلا يوجد مسندا عنه في كتاب
إنما نقله أبو جعفر النحاس في معاني القرآن وتبعه عبد الوهاب المالكي في شرح الرسالة
وقد حكى ابن الجوزي مثل قول ابن المسيب عن داود.
باب الكفاءة والخيار
الكفاءة المساواة أو المماثلة والكفاءة في الدين معتبرة فلا يحل تزوج مسلمة بكافر إجماعا.
1 - (عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): العرب
بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض، إلا حائكا أو حجاما.
رواه الحاكم وفي إسناده راو لم يسم، واستنكره أبو حاتم، وله شاهد عند البزار عن معاذ
بن جبل بسند منقطع). وسأل ابن أبي حاتم عن هذا الحديث أباه فقال: هذا كذب
لا أصل له وقال في موضع آخر: باطل، ورواه ابن عبد البر في التمهيد. قال الدارقطني
في العلل: لا يصح. وحدث به هشام بن عبيد الراوي فزاد فيه بعد (أو حجاما): أو دباغا
فاجتمع عليه الدباغون وهموا به. قال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع وله طرق كلها
واهية. والحديث دليل على أن العرب سواء في الكفاءة بعضهم لبعض وأن الموالي ليسوا
أكفاء لهم. وقد اختلف العلماء في المعتبر من الكفاءة اختلافا كثيرا والذي يقوى هو
ما ذهب إليه زيد بن علي ومالك ويروى عن عمر وابن مسعود وابن سيرين وعمر بن
عبد العزيز وهو أحد قولي الناصر أن المعتبر الدين لقوله تعالى: * (أن أكرمكم عند الله أتقاكم) *
128

ولحديث: الناس كلهم ولد آدم وتمامه: وآدم من تراب أخرجه ابن سعد من حديث
أبي هريرة وليس فيه لفظ كلهم والناس كأسنان المشط لا فضل لاحد على أحد إلا بالتقوى
أخرجه ابن لآل بلفظ قريب من لفظ حديث سهل بن سعد. وأشار البخاري إلى نصرة هذا
القول حيث قال: باب الأكفاء في الدين وقوله تعالى: * (وهو الذي خلق من الماء بشرا -
الآية. فاستنبط من الآية الكريمة المساواة بين بني آدم ثم أردفه بإنكاح أبي حذيفة من سالم
بابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وسالم مولى لامرأة من الأنصار وقد تقدم
حديث: فعليك بذات الدين وقد خطب النبي (ص) يوم فتح مكة فقال
الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية - بضم المهملة وكسرها - الجاهلية وتكبرها، يا أيها
الناس إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، ثم قرأ الآية
وقال (ص): من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله. فجعل صلى الله عليه
وسلم الالتفات إلى الأنساب من عبثية الجاهلية وتكبرها فكيف يعتبرها المؤمن ويبني عليها
حكما شرعيا. وفي الحديث " أربع من أمور الجاهلية لا يتركها الناس. ثم ذكر منها الفخر
بالأنساب أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس. وفي الأحاديث شئ كثير في ذم
الالتفات إلى الترفع بها. وقد أمر (ص) بني بياضة بإنكاح أبي هند الحجام وقال
" إنما هو امرؤ من المسلمين فنبه على الوجه المقتضي لمساواتهم وهو الاتفاق في وصف الاسلام.
وللناس في هذه المسألة عجائب لا تدور على دليل غير الكبرياء والترفع ولا إله إلا الله كم
حرمت المؤمنات النكاح لكبرياء الأولياء واستعظامهم أنفسهم. اللهم إنا نبرأ إليك من شرط
ولده الهوى ورباه الكبرياء. ولقد منعت الفاطميات في جهة اليمن ما أحل الله لهن من
النكاح لقول بعض أهل مذهب الهادوية إنه يحرم نكاح الفاطمية إلا من فاطمي من غير
دليل ذكروه وليس مذهبا لامام المذهب الهادي عليه السلام بل زوج بناته من الطبريين،
وإنما نشأ هذا القول من بعده في أيام الإمام أحمد بن سليمان وتبعهم بيت رياستها فقالوا
بلسان الحال تحرم شرائفهم على الفاطميين إلا من مثلهم وكل ذلك من غير علم ولا هدى
ولا كتاب منير بل ثبت خلاف ما قالوه عن سيد البشر كما دل له:
2 - (وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أن النبي (ص) قال لها:
انكحي أسامة رواه مسلم). وفاطمة قرشية فهرية أخت الضحاك بن قيس وهي من
المهاجرات الأول كانت ذات جمال وفضل وكمال جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد أن طلقها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه فأخبرته أن معاوية
بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع
عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد - الحديث فأمرها
بنكاح أسامة مولاه ابن مولاه وهي قرشية وقدمه على أكفائها ممن ذكر ولا أعلم أنه
129

طلب من أحد أوليائها اسقاط حقه. وكأن المصنف رحمه الله أورد هذا الحديث بعد بيان
ضعف الحديث الأول للإشارة إلى أنه لا عبرة في الكفاءة بغير الدين كما أورد لذلك قوله:
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي (ص) قال: يا بني
بياضة انكحوا أبا هند) اسمه يسار وهو الذي حجم النبي (ص) وكان
مولى لبني بياضة (وأنكحوا إليه وكان حجاما، رواه أبو داود والحاكم بسند جيد). فهو
من أدلة عدم اعتبار كفاءة الأنساب وقد صح أن بلالا نكح هالة بنت عوف أخت
عبد الرحمن بن عوف وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على سلمان الفارسي.
4 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خيرت بريرة على زوجها حين عتقت،
متفق عليه في حديث طويل، ولمسلم عنها رضي الله عنها: أن زوجها كان عبدا. وفي رواية عنها: كان
حرا والأول أثبت) لأنه جزم البخاري أنه كان عبد الله ولذا قال: (وصح عن ابن عباس
عند البخاري أنه كان عبدا). ورواه علماء المدينة وإذا روى علماء المدينة شيئا رأوه فهو
أصح. وأخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ: إن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى
مغيثا فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمرها أن تعتد. وفي البخاري عن ابن عباس: ذاك
مغيث عبد بني فلان يعني زوج بريرة. وفي أخرى عند البخاري: كان زوج بريرة
عبدا أسود يقال له مغيث. قال الدارقطني: لم تختلف الرواية عن عروة عن عائشة أنه كان
عبدا. وكذا قال جعفر بن محمد عن أبيه عن عائشة. قال النووي: يؤيد قول من قال
كان عبدا قول عائشة: كان عبدا فأخبرت وهي صاحبة القصة بأنه كان عبدا. فصح
رجحان كونه عبدا قوة وكثرة وحفظا. والحديث دليل على ثبوت الخيار للمعتقة بعد عتقها
في زوجها إذا كان عبدا وهو إجماع. واختلف إذا كان حرا فقيل لا يثبت لها الخيار وهو
قول الجمهور قالوا: لان العلة في ثبوت الخيار. إذا كان عبدا هو عدم المكافأة من العبد للحرة
في كثير من الاحكام فإذا عتقت ثبت لها الخيار من البقاء في عصمته. أو المفارقة لأنها
في وقت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار. وذهبت الهادوية والشعبي وآخرون إلى أنه
يثبت لها الخيار. وإن كان حرا. احتجوا بأنه قد ورد في رواية: أن زوج بريرة كان حرا. ورده
الأولون بأنها رواية مرجوحة لا يعمل بها. قالوا: ولأنها عند تزويجها لم يكن لها اختيار. فإن
سيدها يزوجها وإن كرهت فإذا أعتقت تجدد لها حال لم يكن قبل ذلك. قال ابن القيم:
في تخييرها ثلاثة مآخذ وذكر مأخذين وضعفهما ثم ذكر الثالث وهو أرجحها.
وتحقيقه أن السيد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكا لرقبتها ومنافعها والعتق يقتضي
تمليك الرقبة والمنافع للمعتق وهذا مقصود العتق وحكمته فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها
ومنافعها ومن جملتها منافع البضع فلا يملك عليها إلا باختيارها فخيرها الشارع بين الامرين
البقاء تحت الزوج أو الفسخ منه وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة: ملكت نفسك
فاختاري. قلت: وهو من تعليق الحكم وهو الاختيار على ملكها لنفسها فهو إشارة إلى
علة التخيير وهذا يقتضي ثبوت الخيار إن كانت تحت حر. وهل يقع الفسخ بلفظ الاختيار
130

قيل: نعم كما يدل له قوله في الحديث: خيرت. وقيل: لا بد من لفظ الفسخ. ثم إذا اختارت
نفسها لم يكن للزوج الرجعة عليها وإنما يراجعها بعقد جديد إن رضيت به ولا يزال لها
الخيار بعد علمها ما لم يطأها لما أخرجه أحمد عنه (ص): إذا عتقت الأمة فهي
بالخيار ما لم يطأها إن تشأ فارقته وإن وطئها فلا خيار لها وأخرجه الدارقطني بلفظ: إن
وطئك فلا خيار لك " وأخرجه أبو داود بلفظ " إن قاربك فلا خيار لك " فدل أن الوطئ مانع
من الخيار وإليه ذهب الحنابلة.
واعلم أن هذا الحديث جليل قد ذكره العلماء في مواضع من كتبهم في الزكاة وفي العتق
وفي البيع وفي النكاح وذكره البخاري في البيع وأطال المصنف في عدة ما استخرج منه من
الفوائد حتى بلغت مائة واثنتين وعشرين فائدة فنذكر ما له تعلق بالباب الذي نحن
بصدده. (منها) جواز بيع أحد الزوجين الرقيقين دون الآخر، وأن بيع الأمة المزوجة لا يكون
طلاقا وأن عتقها لا يكون طلاقا ولا فسخا. وأن للرقيق أن يسعى في فكاك رقبته من الرق،
وأن الكفارة معتبرة في الحرية. قلت: قد أشار في الحديث إلى سبب تخييرها وهو ملكها نفسها
كما عرفت فلا يتم هذا وأن اعتبارها يسقط برضا المرأة التي لا ولي لها. ومما ذكر في قصة
بريرة أن زوجها كان يتبعها في سكك المدينة يتحدر دمعه لفرط محبته لها قالوا: فيؤخذ منه
أن الحب يذهب الحياء وأنه يعذر من كان كذلك إذا كان بغير اختيار منه فيعذر أهل
المحبة في الله إذا حصل لهم الوجد عند سماع ما يفهمون منه الإشارة إلى أحوالهم حيث يغتفر
منهم ما لا يحصل عن اختيار كالرقص ونحوه. قلت: لا يخفى أن زوج بريرة بكى من فراق
محبه فمحب الله يبكي شوقا إلى لقائه وخوفا من سخطه كما كان رسول الله (ص)
يبكي عند سماع القرآن وكذلك أصحابه ومن تبعهم بإحسان. وأما الرقص والتصفيق فشأن
أهل الفسق والخلاعة لا شأن من يحب الله ويخشاه فأعجب لهذا المأخذ الذي أخذوه من
الحديث وذكره المصنف في الفتح ثم سرد فيه غير ما ذكرناه وأبلغ فوائده إلى العدد الذي
وصفناه وفي بعضها خفاء وتكلف يليق بمثل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5 - (وعن الضحاك) تابعي معروف روى عن أبيه (ابن فيروز) بفتح الفاء وسكون
المثناة التحتية وضم الراء وسكون الواو آخره زاي هو أبو عبد الله (الديلمي) ويقال الحميري
لنزوله حمير وهو من أبناء فارس من فرس صنعاء كان ممن وفد على النبي صلى الله عليه
وسلم وهو الذي قتل العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة في سنة إحدى عشرة وأتى حين
قتله النبي (ص) وهو مريض مرض موته وكان بين ظهوره وقتله أربعة أشهر
(عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: طلق أيتهما شئت رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وصححه ابن حبان
والدارقطني والبيهقي وأعله البخاري) بأنه رواه الضحاك عن أبيه ورواه عنه أبو وهب
الجيشاني - بفتح الجيم وسكون المثناة التحتية والشين المعجمة فنون. قال البخاري: لا نعرف
سماع بعضهم من بعض. والحديث دليل على اعتبار أنكحة الكفار وإن خالفت نكاح الاسلام
131

وأنها لا تخرج المرأة من الزوج إلا بطلاق بعد الاسلام وأنه يبقى بعد الاسلام بلا تجديد عقد "
وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي وداود. وعند الهادوية والحنفية أنه لا يقر منه إلا ما وافق
الاسلام وتأولوا هذا الحديث بأن المراد بالطلاق الاعتزال وإمساك الأخت الأخرى التي
بقيت عنده بعقد جديد. ولا يخفى أنه تأويل متعسف وكيف يخاطب رسول الله صلى الله
عليه وسلم من دخل في الاسلام ولم يعرف الاحكام بمثل هذا وكذلك تأولوا مثل هذا قوله:
6 - (وعن سالم عن أبيه رضي الله عنه) عبد الله بن عمر (أن غيلان بن سلمة) هو ممن أسلم
بعد فتح الطائف ولم يهاجر وهو من أعيان ثقيف ومات في خلافة عمر (أسلم وله عشر نسوة
فأسلمن معه فأمره النبي (ص) أن يتخير منهن أربعا. رواه أحمد والترمذي
وصححه ابن حبان والحاكم وأعله البخاري وأبو زرعة). قال الترمذي: قال البخاري هذا
الحديث غير محفوظ. وأطال المصنف في التلخيص الكلام على الحديث. وأخصر منه وأحسن
إفادة كلام ابن كثير في الارشاد. قال عقب سياقه له: رواه الامامان أبو عبد الله محمد
بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجة وهذا الاسناد رجاله على شرط
الشيخين إلا أن الترمذي يقول: سمعت البخاري يقول: هذا حديث غير محفوظ والصحيح
ما روى شعيب وغيره عن الزهري قال: حدثت عن محمد بن شعيب الثقفي أن غيلان فذكره.
قال البخاري: وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه: أن رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال
له عمر: لتراجعن نساءك الحديث. قال ابن كثير: قلت: قد جمع الإمام أحمد في روايته
لهذا الحديث بين هذين الحديثين بهذا السند فليس ما ذكره البخاري قادحا وساق رواية
النسائي له برجال ثقات إلا أنه يرد على ابن كثير ما نقله الأثرم عن أحمد أنه قال: هذا
الحديث غير صحيح والعمل عليه. وهو دليل على ما دل عليه حديث الضحاك. ومن تأول
ذلك تأول هذا.
فائدة سبقت إشارة إلى قصة تطليق رجل من ثقيف نساءه. وذلك أنه اختار أربعا،
فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فلما بلغ ذلك عمر قال: إني لأظن
الشيطان مما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك وأعلمك أنك لا تمكث إلا قليلا
وأيم لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فليرجم كما رجم قبر
أبي رغال الحديث. ووقع في الوسيط ابن غيلان وهو وهم بل هو غيلان. وأشد منه
وهما ما وقع في مختصر ابن الحاجب ابن عيلان بالعين المهملة. وفي سنن أبي داود: أن
قيس بن الحرث أسلم وعنده ثمان نسوة فأمره النبي (ص) أن يختار أربعا "
وروى الشافعي والبيهقي عن نوفل بن معاوية أنه قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فارق واحدة وأمسك أربعا، فعمدت إلى أقدمهن عندي
عاقر من ستين سنة ففارقتها. وعاش نوفل بن معاوية مائة وعشرين سنة ستين في الاسلام
132

وستين في الجاهلية. وفي كلام عمر ما يدل على إبطال الحيلة لمنع التوريث وأن الشيطان قد
يقذف في قلب العبد ما يسترقه من السمع من أحواله وأنه يرجم القبر عقوبة للعاصي وإهانة
وتحذيرا عن مثل ما فعله.
7 - (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رد النبي (ص) ابنته زينب
على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحا رواه أحمد
والأربعة إلا النسائي وصححه أحمد والحاكم). قال الترمذي: حسن وليس بإسناده بأس
وفي لفظ لأحمد كان إسلامها قبل إسلامه بست سنين وعنى بإسلامها هجرتها، وإلا
فهي أسلمت مع سائر بناته صلى الله عليه وسلم، وهن أسلمن منذ بعثه الله وكانت
هجرتها بعد وقعة بدر بقليل ووقعة بدر كانت في رمضان من السنة الثانية من هجرته صلى
الله عليه وسلم وحرمت المسلمات على الكفار في الحديبية سنة ست من ذي القعدة منها،
فيكون مكثها بعد ذلك نحوا من سنتين ولهذا ورد في رواية أبي داود ردها عليه بعد سنتين،
وهكذا قرر ذلك أبو بكر البيهقي. قال الترمذي: لا يعرف وجه هذا الحديث، يشير إلى أنه
كيف ردها عليه بعد ست سنين أو ثلاث أو سنتين وهو مشكل لاستبعاد أن تبقى عدتها
هذه المدة ولم يذهب أحد إلى تقرير المسلمة تحت الكافر إذا تأخر إسلامه عن إسلامها.
نقل الاجماع في ذلك ابن عبد البر وأشار إلى أن بعض أهل الظاهر جوزه ورد بالاجماع
وتعقب بثبوت الخلاف فيه عن علي والنخعي أخرجه ابن أبي شيبة عنهما وبه أفتى حماد
شيخ أبي حنيفة فروى عن علي أنه قال: في الزوجين الكافرين يسلم أحدهم: هو أملك
لبضعها ما دامت في دار هجرتها وفي رواية: هو أولى بها ما لم تخرج من مصرها. وفي رواية
عن الزهري أنه: إن أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان.
وقال الجمهور: إن أسلمت الحربية وزوجها حربي وهي مدخول بها فإن أسلم وهي
في العدة فالنكاح باق وإن أسلم بعد انقضاء عدتها وقعت الفرقة بينهما وهذا الذي ادعى
عليه الاجماع في البحر. وادعاه ابن عبد البر كما عرفت. وتأول الجمهور حديث زينب بأن
عدتها لم تكن قد انقضت وذلك بعد نزول آية التحريم لبقاء المسلمة تحت الكافر وهو مقدار
سنتين وأشهر لان الحيض قد يتأخر مع بعض النساء فردها (ص) لما
كانت العدة غير منقضية. وقيد المراد بقوله بالنكاح الأول: أنه لم يحدث زيادة شرط ولا مهر،
ورد هذا ابن القيم وقال: لا نعرف اعتبار العدة في شئ من الأحاديث ولا كان النبي صلى
الله عليه وسلم يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا. ولا ريب أن الاسلام لو كان بمجرده
فرقة لكانت فرقة بائنة لا رجعية فلا أثر للعدة في بقاء النكاح. وإنما أثرها في منع نكاحها
للغير، فلو كان الاسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة ولكن الذي دل عليه
133

حكمه صلى الله عليه وسلم أن النكاح موقوف فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته.
وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت. وإن أحبت انتظرته فإن أسلم كانت زوجته
من غير حاجة إلى تجديد نكاح. ولا يعلم أحد جدد بعد الاسلام نكاحه البتة بل كان
الواقع أحد الامرين إما افتراقهما ونكاحها غيره وإما بقاؤهما عليه وإن تأخر إسلامه.
وأما تنجيز الفرقة ومراعاة العدة فلا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بواحد منهما
مع كثرة من أسلم في عهده. وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه. قال: ولولا
إقراره صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد
صلح الحديبية وزمن الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالاسلام من غير اعتبار عدة لقوله تعالى:
* (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) * وقوله تعالى: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * ثم سرد قضايا
توكد ما ذهب إليه وهو أقرب الأقوال في المسألة.
8 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي (ص) رد ابنته
زينب على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد. قال الترمذي حديث ابن عباس أجود
إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب). قال الحافظ ابن كثير في الارشاد: قال
الإمام أحمد: هذا حديث ضعيف وحجاج لم يسمعه من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد
بن عبد الله العزرمي والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا، قال: والصحيح حديث ابن عباس
يعني المتقدم، وهكذا قال البخاري والترمذي والدارقطني والبيهقي وحكاه عن حفاظ الحديث.
وأما: ابن عبد البر فإنه جنح إلى ترجيح رواية عمرو بن شعيب وجمع بينه وبين حديث
ابن عباس فحمل قوله في حديث ابن عباس بالنكاح الأول أي بشروطه ومعنى لم
يحدث شيئا أي لم يزد على ذلك شيئا. وقد أشرنا إليه آنفا. قال: وحديث عمرو بن
شعيب تعضده الأصول وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد ومهر جديد. والاخذ بالصريح
أولى من الاخذ بالمحتمل انتهى. قلت: يرد تأويل حديث ابن عباس تصريح ابن عباس في رواية
فلم يحدث شهادة ولا صداقا رواه ابن كثير في الارشاد ونسبه إلى اخراج الإمام أحمد له.
وأما قول الترمذي: والعمل على حديث عمرو بن شعيب فإنه يريد عمل أهل العراق، ولا
يخفى أن عملهم بالحديث الضعيف وهجر القوي لا يقوى بل يضعف ما ذهبوا
إليه من العمل.
9 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أسلمت امرأة فتزوجت فجاء زوجها
فقال: يا رسول الله، إني كنت أسلمت وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله (ص)
من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان
والحاكم). الحديث دليل على أنه إذا أسلم الزوج وعلمت امرأته بإسلامه فهي في عقد نكاحه
وإن تزوجت فهو تزوج باطل تنتزع من الزوج الآخر. وقوله: وعلمت بإسلامي يحتمل
أنه أسلم بعد انقضاء عدتها أو قبلها وأنها ترد إليه على كل حال وأن علمها بإسلامه قبل
تزوجها بغيره يبطل نكاحها مطلقا سواء انقضت عدتها أم لا، فهو من الأدلة لكلام ابن القيم
134

الذي قدمناه لان تركه (ص) الاستفصال هل علمت بعد انقضاء العدة أو
لا دليل على أنه لا حكم للعدة. إلا على كلام ابن القيم الذي قدمناه أنها بعد انقضاء عدتها
تزوج من شاءت لا تتم هذه القضية إلا على تقدير تزوجها في العدة كذا قاله الشارح رحمه الله
ولا يخفى أنه مشكل لأنه إن كان عقد الآخر بعد انقضاء عدتها من الأول فنكاحها صحيح
وإن كان قبل انقضاء عدتها فهو باطل إلا أن يقال إنه أسلم وهي في العدة وإذا أسلم وهي
فيها فالنكاح باق بينهما فتزوجها بعد إسلامه باطل لأنها باقية في عقد نكاحها فهذا أقرب.
10 - (وعن زيد بن كعب بن عجرة عن أبيه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه
وسلم العالية من بني غفار) بكسر الغين المعجمة ففاء خفيفة فراء بعد الألف قبيلة معروفة
(فلما دخلت عليه ووضعت ثيابها رأى بكشحها) بفتح الكاف فشين معجمة فحاء مهملة:
هو ما بين الخاصرتين إلى الضلع كما في القاموس (بياضا فقال: البسي ثيابك والحقي
بأهلك وأمر لها بالصداق: رواه الحاكم وفي إسناده جميل بن زيد وهو مجهول
واختلف عليه في شيخه اختلافا كثيرا). اختلف في الحديث عن جميل فقيل عنه كما قال
المصنف وقيل عن ابن عمر وقيل عن كعب بن عجرة وقيل عن كعب بن زيد.
والحديث فيه دليل على أن البرص منفر ولا يدل الحديث على أنه يفسخ به النكاح صريحا
لاحتمال قوله (ص): الحقي بأهلك أنه قصد الطلاق إلا أنه قد روى هذا
الحديث ابن كثير بلفظ: أنه (ص) تزوج امرأة من بني غفار فلما دخلت
عليه رأى بكشحها وضحا فردها إلى أهلها وقال: دلستم علي فهو دليل على الفسخ.
وهذا الحديث ذكره ابن كثير في باب الخيار في النكاح والرد بالعيب. وقد اختلف العلماء
في فسخ النكاح بالعيوب فذهب أكثر الأمة إلى ثبوته وإن اختلفوا في التفاصيل. فروي عن
علي وعمر أنها لا ترد النساء إلا من أربع: من الجنون والجذام والبرص والداء في الفرج وإسناده
منقطع. وروى البيهقي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنه: أربع لا يجزن في بيع ولا
نكاح: المجنونة والمجذومة والبرصاء والعفلاء. والرجل يشارك المرأة في ذلك ويرد بالجب والعنة
على خلاف في العنة وفي أنواع من المنفرات خلاف. واختار ابن القيم أن كل عيب ينفر
الزوج الآخر منه ولا يحل به مقصود النكاح من المودة والرحمة يوجب الخيار وهو أولى من
البيع كما أن الشروط المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من الشرط في البيع. قال: ومن
تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتملت عليه من المصالح لم
يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة. وقال: وأما الاقتصار على عيبين أو
ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساويها فلا وجه له،
فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما من أعظم المنفرات
والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش وهو مناف للدين والاطلاق إنما ينصرف إلى السلامة
فهو كالمشروط عرفا. قال: وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لمن تزوج امرأة وهو
لا يولد له: أخبرها أنك عقيم. فماذا تقول في العيوب الذي هذا عندها كمال لا نقص انتهى.
135

وذهب داود وابن حزم إلى أنه لا يفسخ النكاح بعيب البتة وكأنه لما لم يثبت الحديث به
ولا يقولون بالقياس لم يقولوا بالفسخ.
11 - (وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أيما رجل
تزوج امرأة فدخل بها فوجدها برصاء أو مجنونة أو مجذومة فلها الصداق بمسيسه إياها وهو له
على من غره منها. أخرجه سعيد بن منصور ومالك وابن أبي شيبة ورجاله ثقات). تقدم
الكلام في الفسخ بالعيب. وقوله وهو أي المهر له أي للزوج على من غره منها. أي يرجع
عليه وإليه ذهب الهادي ومالك وأصحاب الشافعي وذلك لأنه غرم لحقه بسببه. إلا أنهم
اشترطوا علمه بالعيب فإذا كان جاهلا فلا غرم عليه. وقول عمر: على من غره دال
على ذلك إذ لا غرر منه إلا مع العلم. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا رجوع إلا أن
الشافعي قال بها في الجديد. قال ابن كثير في الارشاد: وقد حكى الشافعي في القديم عن
عمر وعلي وابن عباس في المغرور يرجع بالمهر على من غره ويعتضد بما تقدم من قوله صلى
الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا. ثم قال الشافعي في الجديد: وإنما تركنا ذلك لحديث
أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من
فرجها. قال: فجعل لها الصداق في النكاح الباطل وهي التي غرته فلان يجعل لها الصداق
بلا رجوع على الغار في النكاح الصحيح الذي الزوج فيه مخير بطريق الأولى انتهى. وقد
يقال هذا مطلق مقيد بحديث الباب.
12 - (وروى سعيد أيضا) يعني ابن منصور (عن علي رضي الله عنه نحوه وزاد:
أو بها قرن بفتح القاف وسكون الراء هو العفلة بفتح العين المهملة وفتح الفاء واللام وهي
تخرج في قبل النساء وحيا الناقة كالأدرة في الرجال (فزوجها بالخيار فإن مسها فلها المهر
بما استحل من فرجها).
13 - (ومن طريق سعيد بن المسيب أيضا) أي وأخرج سعيد بن منصور من طريق
ابن المسيب: (قال: قضى عمر رضي الله عنه في العنين أن يؤجل سنة، ورجاله ثقات) بالمهملة فنون فمثناة تحتية
فنون بزنة سكين، هو من لا يأتي النساء عجزا لعدم انتشار ذكره، ولا يريدهن. والاسم
العنانة والتعنين والعنينة بالكسر ويشدد والعنة بالضم الاسم أيضا من عنن عن امرأته حكم عليه
القاضي بذلك أو منع بالسحر. وهذا الأثر دال على أنها عيب يفسخ بها النكاح بعد تحققها
واختلفوا في ذلك. والقائلون بالفسخ اختلفوا أيضا في إمهاله. ليحصل التحقيق. فقيل يمهل
سنة وهو مروي عن عمر وابن مسعود. وروي عن عثمان أنه لم يؤجله. وعن الحارث بن
عبد الله يؤجل عشرة أشهر. وذهب أحمد والهادي وجماعة إلى أنه لا فسخ في ذلك. واستدلوا
بأن الأصل عدم الفسخ وهو أثر لا حجة فيه وبأنه (ص) لم يخير امرأة
رفاعة وقد شكت منه ذلك وهو في موضع التعليم. وقد أجاب في البحر بقوله: قلنا: لعل
زوجها أنكر والظاهر معه. قلت: لا يخفى أن امرأة رفاعة لم تشك من رفاعة فإنه كان قد
136

طلقها فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فجاءت تشكو إليه صلى الله عليه وسلم وقالت: إنما معه
مثل هدبة الثوب فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى يذوق
عسيلتك وتذوقي عسيلته. وفي الموطأ: أن رفاعة طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثلاث فنكحت عبد الرحمن بن الزبير فأعرض عنها فلم يستطع أن يمسها
ففارقها فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين
الحديث. وبهذا يعرف عدم صحة الاستدلال بقصة رفاعة فإنها لم تطلب الفسخ بل فهم منها
صلى الله عليه وسلم أنها تريد أن يراجعها رفاعة فأخبرها أن عبد الرحمن حيث لم يذق عسيلتها
ولا ذاقت عسيلته لا يحلها لرفاعة. وكيف يحمل حديثها على طلبها الفسخ وقد أخرج مالك
في الموطأ: أن عبد الرحمن لم يستطع أن يمسها فطلقها فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها
الأول. فجاءت تستفتي رسول الله (ص) فأجابها بأنها لا تحل له. وأما قصة
أبي ركانة وهي: أنه نكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
ما يغني عني إلا كما تغني عني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها - ففرق بيني وبينه
فأخذت النبي (ص) حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه أترون فلانا؟
يعني ولدا له - يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا لابنه الآخر يشبه منه كذا وكذا؟
قالوا: نعم قال النبي (ص) لعبد يزيد: طلقها ففعل - الحديث أخرجه
أبو داود عن ابن عباس. والظاهر أنه لم يثبت عنده (ص) ما ادعته المرأة من
العنة لأنها خلاف الأصل. ولأنه (ص) تعرف أولاد بالقيافة وسأله عنها أصحابه
(ص) فدل أنه لم يثبت له أنه عنين فأمره الطلاق إرشادا إلى أنه ينبغي له
فراقها حيث طلبت ذلك منه لا أنه يجب عليه.
(فائدة) قال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع فقال الأكثرون. إن
وطئها بعد أن دخل بها مرة واحدة لم يؤجل أجل العنين وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة
ومالك والشافعي وإسحاق. وقال أبو ثور: إن ترك جماعها لعلة أجل لها سنة وإن كان لغير
علة فلا تأجيل. وقال عياض: اتفق كافة العلماء أن للمرأة حق في الجماع فيثبت،
الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما ويضرب للعنين سنة لاختبار
زوال ما به انتهى. قلت: ولم يستدلوا على مقدار الاجل بالسنة بدليل ناهض إنما يذكر
الفقهاء أنه لأجل أن تمر به الفصول الأربعة فيتبين حينئذ حاله.
باب عشرة النساء
بكسر العين وسكون الشين المعجمة أي عشرة الرجال أي الأزواج النساء أي الزوجات.
1 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): ملعون
137

من أتى امرأة في دبرها رواه أبو داود والنسائي واللفظ له، ورجاله ثقات، لكن أعل
بالارسال). روي هذا الحديث بلفظه من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة منهم علي بن
أبي طالب رضي الله عنه وعمر وخزيمة وعلي بن طلق وطلق بن علي وابن مسعود وجابر
وابن عباس وابن عمر والبراء وعقبة بن عامر وأنس وأبو ذر وفي طرقة جميعها كلام ولكنه
مع كثرة الطرق واختلاف الرواة يشد بعض طرقه بعضا. ويدل على تحريم إتيان النساء
في أدبارهن وإلى هذا ذهبت الأمة - إلا القليل - للحديث. هذا ولان الأصل تحريم المباشرة
إلا ما أحله الله ولم يحل تعالى إلا القبل كما دل له قوله: * (فاتوا حرثكم أنى شئتم) * وقوله: * (فأتوهن من
حيث أمركم الله) *. فأباح موضع الحرث والمطلوب من الحرث نبات الزرع فكذلك النساء
الغرض من إتيانهن هو طلب النسل لا قضاء الشهوة وهو لا يكون إلا في القبل فيحرم ما عدا موضع
الحرث ولا يقاس عليه غيرة لعدم المشابهة في كونه محلا للزرع. وأما حل الاستمتاع فيما
عدا الفرج فمأخوذ من دليل آخر وهو جواز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج وذهبت الإمامية
إلى جواز إتيان الزوجة والأمة بل المملوك في الدبر. وروي عن الشافعي أنه قال:
لم يصح في تحليله ولا تحريمه شئ والقياس أنه حلال، ولكن قال الربيع: والله الذي لا إله
إلا هو لقد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب ويقال: إنه كان يقول بحله في القديم.
وفي الهدي النبوي عن الشافعي أنه قال: لا أرخص فيه بل أنهى عنه وقال: إن من نقل عن
الأئمة إباحته فقد غلط عليهم أفحش الغلط وأقبحه وإنما الذي أباحوه أن يكون الدبر طريقا
إلى الوطئ في الفرج فيطأ من الدبر لا في الدبر فاشتبه على السامع انتهى. ويروى جواز ذلك
عن مالك وأنكره أصحابه وقد أطال الشارح القول في المسألة بما لا حاجة إلى استيفائه هنا
وقرر آخرا تحريم ذلك، ومن أدلة تحريمه قوله:
2 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا
أو امرأة في دبرها رواه الترمذي والنسائي وابن حبان وأعل بالوقف) على ابن عباس،
ولكن المسألة لا مسرح للاجتهاد فيها سيما ذكر هذا النوع من الوعيد فإنه لا يدرك
بالاجتهاد فله حكم الرفع.
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن
خلقن من ضلع) بكسر الضاء المعجمة وفتح اللام وإسكانها واحد الأضلاع (وإن
أعوج شئ من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل
أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا) أي اقبلوا الوصية فيهن والمعنى أني أوصيكم بهن
خيرا أو المعنى يوصي بعضكم بعضا فيهن خيرا (متفق عليه واللفظ للبخاري، ولمسلم:
138

فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج) هو بكسر أوله على الأرجح (وإن
ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها). الحديث دليل على عظم حق الجار وأن
من آذى الجار فليس بمؤمن بالله واليوم الآخر وهذا إن كان يلزم منه كفر من آذى جاره
إلا أنه محمول على المبالغة لان من حق الايمان ذلك فلا ينبغي لمؤمن الاتصاف به. وقد
عد أذى الجار من الكبائر فالمراد من كان يؤمن إيمانا كاملا وقد وصى الله على الجار
في القرآن. وحد الجار إلى أربعين دارا كما أخرج الطبراني أنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم
رجل فقال: يا رسول الله إني نزلت في محل بني فلان وإن أشدهم لي أذى أقربهم إلي دارا،
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرا وعمر وعليا رضي الله عنهم يأتون في المسجد فيصيحون
على أن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه. وأخرج الطبراني
في الكبير والأوسط: إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة بيت من جيرانه وهذا فيه
زيادة على الأول والأذية للمؤمن مطلقا محرمة قال تعالى: * (والذين يؤذون المؤمنين
والمؤمنات بغير ما اكتسبوا وإثما مبينا) * ولكنه في حق الجار أشد تحريما فلا
يغتفر منه شئ وهو كل ما يعد في العرف أذى حتى ورد في الحديث: أنه لا يؤذيه بقتار
قدره إلا أن يغرف له من مرقته ولا يحجز عنه الريح إلا بإذنه وإن اشترى فاكهة أهدى
إليه منها. وحقوق الجار مستوفاة في الاحياء للغزالي. وقوله: واستوصوا تقدم بيان معناه
وعلله بقوله: فإنهن خلقن من ضلع يريد خلقن خلقا فيه اعوجاج لأنهن خلقن من أصل
معوج والمراد أن حواء أصلها خلقت من ضلع آدم كما قال تعالى: * (وخلق منها زوجها) *
بعد قوله: * (خلقكم من نفس واحدة) *. وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس: إن حواء خلقت
من ضلع آدم الأقصر الأيسر وهو نائم. وقوله: وإن أعوج ما في الضلع إخبار بأنها
خلقت من أعوج أجزاء الضلع مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن. وضمير قوله: تقيمه وكسرته
للضلع وهو يذكر ويؤنث وكذا جاء في لفظ البخاري: تقيمها وكسرتها، ويحتمل أنه
للمرأة ورواية مسلم صريحة في ذلك حيث قال: وكسرها طلاقها. والحديث فيه الامر
بالوصية بالنساء والاحتمال لهن والصبر على عوج أخلاقهن وأنه لا سبيل إلى إصلاح أخلاقهن
بل لا بد من العوج فيها وأنه من أصل الخلقة وتقدم ضبط العوج هنا. وقد قال أهل اللغة
العوج: بالفتح في كل منتصب كالحائط والعود وشبههما وبالكسر ما كان في بساط أو
معاش أو دين ويقال: فلان في دينه عوج بالكسر.
4 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة،
فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل فقال صلى الله عليه وسلم: أمهلوا حتى تدخلوا ليلا
يعني عشاء - لكي تمتشط الشعثة) بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة فمثناة
139

(وتستحد) بسين وحاء مهملتين (المغيبة) بضم الميم وكسر المعجمة بعدها مثناة تحتية
ساكنة فموحدة مفتوحة التي غاب عنها زوجها (متفق عليه). فيه دليل على أنه يحسن التأني
للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع لما ذكر من تحسين هيئات من
غاب عنهن أزواجهن من الامتشاط وإزالة الشعر بالموسى مثلا من المحلات التي يحسن إزالته
منها وذلك لئلا يهجم على أهله وهم في هيئة غير مناسبة فينفر الزوج عنهن والمراد إذا سافر
سفرا يطيل فيه الغيبة كما دل له قوله. (وفي رواية البخاري) أي عن جابر (إذا أطال أحدكم
الغيبة فلا يطرق أهله ليلا) قال أهل اللغة: الطروق المجئ بالليل من سفر
وغيره على غفلة ويقال لكل آت بالليل طارق ولا يقال في النهار إلا مجازا وقوله: ليلا
ظاهره تقييد النهي بالليل وأنه لا كراهة في دخوله إلى أهله نهارا من غير شعورهم واختلف
في علة التفرقة بين الليل والنهار. فعلل البخاري في ترجمة الباب بقوله: باب لا يطرق الرجل
أهله ليلا إذا أطال الغيبة مخافة أن يتخونهم أو يتلمس عثراتهم فعلى هذا التعليل يكون الليل
جزء العلة لان الريبة تغلب في الليل وتندر في النهار وإن كانت العلة ما صرح به. وهو قوله
لكي تمتشط إلى آخره فهو حاصل في الليل والنهار. قيل: ويحتمل أن يكون معتبرا على كلا
التقديرين، فإن الغرض منه التنظيف والتزيين وتحصيل لكمال الغرض من قضاء الشهوة
وذلك في الأغلب يكون في الليل فالقادم في النهار يتأنى ليحصل لزوجته التنظيف والتزيين
لوقت المباشرة، وهو الليل بخلاف القادم في الليل. وكذلك ما يخشى منه من العثور على وجود
أجنبي، وهو في الأغلب يكون في الليل. وقد أخرج ابن خزيمة عن ابن عمر قال: نهى رسول
الله (ص) أن تطرق النساء ليلا فطرق رجلان كلاهما فوجد - يريد كل واحد
منهما - مع امرأته ما يكره. وأخرج أبو عوانة في صحيحه من حديث جابر: أن عبد الله
بن رواحة أتى امرأته ليلا وعندها امرأة تمشطها فظنها رجلا فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر
ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا. وفي الحديث الحث على البعد
عن تتبع عورات الأهل، والحث على ما يجلب التودد والتحاب بين الزوجين وعدم التعرض
لما يوجب سوء الظن بالأهل، وبغيرهم أولى. وفيه أن الاستحداد ونحوه مما تتزين به المرأة
لزوجها محبوب للشرع، وأنه ليس من تغيير خلق الله المنهي عنه.
5 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته) من
أفضى الرجل إلى المرأة جامعها أو خلا بها جامع أو لا، كما في القاموس (وتفضي إليه
ثم ينشر سرها) أي وتنشر سره (أخرجه مسلم) إلا أنه بلفظ إن من أشر الناس. قال
القاضي عياض: وأهل النحو يقولون: لا يجوز أشر وأخير وإنما يقال هو خير منه وشر منه.
قال: وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللغتين جميعا وهي حجة في جوازهما جميعا وأنهما
لغتان. والحديث دليل على تحريم إفشاء الرجل ما يقع بينه وبين امرأته من أمور الوقاع
140

ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه. وأما مجرد ذكر الوقاع
فإذا لم يكن لحاجة فذكره مكروه لأنه خلاف المروءة وقد قال صلى الله عليه وسلم: من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت. فإن دعت إليه حاجة أو ترتبت عليه
فائدة، بأن كان ينكر إعراضه عنها أو تدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة
في ذكره كما قال صلى الله عليه وسلم: إني لأفعله أنا وهذه وقال لأبي طلحة: أعرستم
الليلة وقال لجابر: الكيس الكيس. كذلك المرأة لا يجوز لها إفشاء سره، وقد ورد به النص أيضا.
6 - (وعن حكيم بن معاوية) أي ابن حيدة بفتح الحاء المهملة فمثناة تحتية ساكنة فدال
مهملة ومعاوية صحابي روى عنه ابنه حكيم وروى عن حكيم ابنه بهز بفتح الموحدة
وسكون الهاء فزاي (عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوج أحدنا) هكذا بعدم
التاء هي اللغة الفصيحة وجاء زوجة بالتاء (عليه؟، قال: تطعمها إذا أكلت
وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وعلق البخاري بعضه). حيث قال: باب هجر
النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن. ويذكر عن معاوية بن حيدة رفعه: ولا تهجر
إلا في البيت والأول أصح (وصححه ابن حبان والحاكم). دل الحديث على وجوب نفقة
الزوجة وكسوتها. وأن النفقة بقدر سعته لا يكلف فوق وسعه لقوله: إذا أكلت كذا قيل
وفي أخذه من هذا اللفظ خفاء. فمتى قدر على تحصيل النفقة وجب عليه أن لا يختص بها دون
زوجته ولعله مقيد بما زاد على قدر سد خلته لحديث ابدأ بنفسك ومثله القول في الكسوة.
وفي الحديث دليل على جواز الضرب تأديبا إلا أنه منهي عن ضرب الوجه للزوجة وغيرها
وقوله: لا تقبح أي لا تسمعها ما تكره وتقول: قبحك الله ونحوه من الكلام الجافي.
ومعنى قوله: لا تهجر إلا في البيت أنه إذا أراد هجرها في المضجع تأديبا لها كما قال
تعالى: * (واهجروهن في المضاجع) * فلا يهجرها إلا في البيت ولا يتحول إلى دار أخرى أو يحولها
إليها. إلا أن رواية البخاري التي ذكرناها دلت أنه (ص) هجر نساءه في غير
بيوتهن وخرج إلى مشربة له. وقد قال البخاري: إن هذا أصح من حديث معاوية. هذا، وقد يقال دل فعله على جواز هجرهن في غير البيوت وحديث معاوية على هجرهن في البيوت
ويكون مفهوم الحصر غير مراد واختلف في تفسير الهجر. فالجمهور فسروه بترك الدخول
عليهن والإقامة عندهن على ظاهر الآية وهو من الهجران بمعنى البعد. وقيل: يضاجعها
ويوليها ظهره. وقيل: يترك جماعها. وقيل: يجامعها ولا يكلمها. وقيل: من الهجر الاغلاظ
في القول. وقيل: من الهجار وهو الحبل الذي يربط به البعير أي أوثقوهن في البيوت قاله
الطبري واستدل له ووهاه ابن العربي.
7 - (وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل
امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت: * (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) *
متفق عليه واللفظ لمسلم). ولفظ البخاري سمعت جابرا يقول: كانت اليهود تقول: إذا
141

جامعها من ورائها - أي في قبلها كما فسرته الرواية الأولى - جاء الولد أحول فنزلت
* (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) *. واختلف الروايات في سبب نزولها على ثلاثة
أقوال. الأول: ما ذكره المصنف من رواية الشيخين أنه في إتيان المرأة من ورائها في قبلها،
وأخرج هذا المعنى جماعة من المحدثين عن جابر وغيره واجتمع فيه ستة وثلاثون طريقا
في بعضها أنه لا يحل إلا في القبل وفي أكثرها الرد على اليهود. الثاني: أنها نزلت في حل
إتيان دبر الزوجة أخرجه جماعة عن ابن عمر من اثني عشر طريقا. الثالث: أنها نزلت
في حل العزل عن الزوجة أخرجه أئمة من أهل الحديث عن ابن عباس وعن ابن عمر
وعن ابن المسيب ولا يخفى أن ما في الصحيحين مقدم على غيره فالراجح هو القول الأول.
وابن عمر قد اختلفت عنه الرواية والقول بأنه أريد بها العزل لا يناسبه لفظ الآية هذا. وقد
روي عن ابن الحنفية أن معنى قوله تعالى: * (أنى شئتم) * فهو بيان للفظ أنى وأنه معنى
إذا فلا يدل على شئ مما ذكر أنه سبب النزول على أن إتيان الزوجة موكول إلى مشيئة الزوج.
8 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): لو أن
أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب
الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان
أبدا متفق عليه). هذا لفظ مسلم والحديث دليل على أنه يكون القول قبل المباشرة عند
الإرادة وهذه الرواية تفسر رواية: لو أن أحدكم يقول حين يأتي أهله - أخرجها البخاري
بأن المراد حين يريد وضمير جنبنا للرجل وامرأته. وفي رواية الطبراني: جنبني وجنب
ما رزقتني بالافراد. وقوله: لم يضره الشيطان أبدا أي: لم يسلط عليه. قال القاضي عياض
نفي الضرر على جهة العموم في جميع أنواع الضرر غير مراد وإن كان الظاهر العموم في جميع
الأحوال من صيغة النفي مع التأبيد وذلك لما ثبت في الحديث من أن كل ابن آدم يطعن
الشيطان في بطنه حين يولد إلا مريم وابنها فإن في هذا الطعن نوع ضرر في الجملة مع أن
ذلك سبب صراخه. قلت: هذا من القاضي مبني على عموم الضرر الديني والدنيوي. وقيل
ليس المراد إلا الديني وأنه يكون من جملة العباد الذي قال تعالى فيهم: * (إن عبادي ليس لك
عليهم سلطان) * ويؤيد هذا أنه أخرج عبد الرزاق عن الحسن وفيه: فكان يرجى إن حملت
به أن يكون ولدا صالحا وهو مرسل ولكنه لا يقال من قبل الرأي. قال ابن دقيق العيد:
يحتمل أنه لا يضره في دينه ولكن يلزم منه العصمة وليست إلا للأنبياء. وقد أجيب بأن
العصمة في حق الأنبياء على جهة الوجوب وفي حق من دعي لأجله بهذا الدعاء على جهة
الجواز فلا يبعد أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمدا، وإن لم يكن ذلك واجبا له. وقيل
142

لم يضره لم يفتنه في دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته عن المعصية. وقيل: لم يضره مشاركة
الشيطان لأبيه في جماع أمه، ويؤيده ما جاء عن مجاهد: أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف
الشيطان على إحليله فيجامع معه، قيل: ولعل هذا أقرب الأجوبة. قلت: إلا أنه لم يذكر
من أخرجه عن مجاهد ثم هو مرسل ثم الحديث سيق لفائدة تحصل للولد ولا تحصل على
هذا ولعله يقول إن عدم مشاركة الشيطان لأبيه في جماع أمه فائدته عائدة على الولد أيضا.
وفي الحديث استحباب التسمية وبيان بركتها في كل حال وأن يعتصم بالله وذكره من
الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء. وفيه أن الشيطان لا يفارق ابن آدم
في حال من الأحوال إلا إذا ذكر الله.
9 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: إذا دعا
الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى
تصبح) أي وترجع عن العصيان ففي بعض ألفاظ البخاري حتى ترجع (متفق
عليه واللفظ للبخاري ولمسلم كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها)
إخبار بأنه يجب على المرأة إجابة زوجها أي إذا دعاها للجماع لان قوله إلى
فراشه كناية عن الجماع كما في قوله: الولد للفراش. ودليل الوجوب لعن الملائكة لها
إذ لا يلعنون إلا عن أمر الله ولا يكون إلا عقوبة ولا عقوبة إلا على ترك واجب. وقوله
حتى تصبح دليل على وجوب الإجابة في الليل. ولا مفهوم له لأنه خرج ذكره مخرج
الغالب وإلا فإنه يجب عليها إجابته نهارا. وقد أخرج غير مقيد بالليل ابن خزيمة وابن حبان
مرفوعا: ثلاثة لا تقبل لهم صلاة ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع
والسكران حتى يصحو والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى. وإن كان هذا في سخطه مطلقا
ولو لعدم طاعتها في غير الجماع وليس فيه لعن إلا أن فيه وعيدا شديدا يدخل فيه عدم
طاعتها له في جماعها من ليل أو نهار. وزاد البخاري في روايته في بدء الخلق: فبات غضبان
عليها أي زوجها وقيل هذه الزيادة يتجه وقوع اللعن عليها لأنها حينئذ يتحقق ثبوت
معصيتها بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك فإنها لا تستحق اللعن. وفي قوله: لعنتها الملائكة
دلالة على أن منع من عليه الحق عمن هو له وقد طلبه يوجب سخط الله تعالى على المانع سواء
كان الحق في بدن أو مال. قيل: ويدل على أنه يجوز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه
الارهاب عليه قبل أن يواقع المعصية فإذا واقعها دعي له بالتوبة والمغفرة. قال المصنف
في الفتح بعد نقله لهذا عن المهلب: ليس هذا التقييد مستفادا من الحديث بل من أدلة أخرى.
والحق أن منع اللعن أراد به معناه اللغوي وهو الابعاد من الرحمة. وهذا لا يليق أن يدعى
143

به على المسلم بل يطلب له الهداية والتوبة والرجوع عن المعصية والذي أجازه أراد معناه
العرفي وهو مطلق السب ولا يخفى أن محله إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر. ولعن
الملائكة لا يلزم منه جواز اللعن منا فإن التكليف مختلف انتهى كلامه. قلت: قول المهلب
إنه يلعن قبل وقوع المعصية للارهاب كلام مردود فإنه لا يجوز لعنه قبل إيقاعه لها أصلا لان
سبب اللعن وقوعها منه فقبل وقوع السبب لا وجه لايقاع المسبب. ثم إنه رتب في الحديث
لعن الملائكة على إباء المرأة عن الإجابة وأحاديث لعن الله شارب الخمر رتب فيها اللعن
على وصف كونه شاربا وقول الحافظ بأنه إن أريد معناه العرفي جاز: لا يخفى أنه غير مراد
للشارع إلا المعنى اللغوي. والتحقيق أن الله تعالى أخبرنا أن الملائكة تلعن من ذكر وبأنه
تعالى لعن شارب الخمر ولم يأمرنا بلعنه فإن ورد الامر بلعنه وجب علينا الامتثال ولعنه
ما لم تعلم توبته وندب لنا الدعاء له بالتوفيق للتوبة والاستغفار. وقد أخبر الله تعالى أن
الملائكة تلعن من ذكر ومعلوم أنه عن أمر الله وأخبر أنهم يستغفرون لمن في الأرض وهو
عام يشتمل من يلعنونهم من أهل الايمان
وهم المرادون في الآية، إذ المراد من عصاة أهل الايمان
لأنهم المحتاجون إلى الاستغفار لا أنها مقيدة بقوله: * (ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر
للذين تابوا) * كما قيل: لان التائب مغفور له. وإنما دعاؤهم له بالمغفرة تعبد وزيادة تنويه
بشأن التائبين. وأما شمول عمومها للكفار فمعلوم أنه غير مراد وبهذا يعرف أن الملائكة قاموا
بالامرين كما أشرنا إليه. وفي ا لحديث رعاية الله لعبده ولعن من عصاه في قضاء شهوته منه
وأي رعاية أعظم من رعاية الملك الكبير للعبد الحقير؟ فليكن لنعم مولاه ذاكرا ولأياديه شاكرا
ومن معاصيه محاذرا ولهذه النكتة الشريفة من كلام رسول الله مذاكرا.
10 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة)
بالصاد المهملة (والمستوصلة، والواشمة) بالشين المعجمة (والمستوشمة متفق عليه). الواصلة:
هي المرأة التي تصل شعرها بشعر غيرها سواء فعلته لنفسها أو لغيرها. والمستوصلة التي تطلب
فعل ذلك وزاد في الشرح: ويفعل بها ولا يدل عليه اللفظ. والواشمة فاعلة الوشم وهو أن
تغرز إبرة ونحوها في ظهر كفها أو شفتها أو نحوهما من بدنها حتى يسيل الدم ثم تحشو ذلك
الموضع بالكحل والنورة فيخضر. والمستوشمة الطالبة لذلك والحديث دليل على تحريم
الأربعة الأشياء المذكورة في الحديث. فالوصل محرم للمرأة مطلقا بشعر محرم أو غيره آدمي
أو غيره سواء كانت المرأة ذات زينة أو لا، مزوجة أو غير مزوجة. وللهادوية والشافعي
خلاف وتفاصيل لا ينهض عليها دليل بل الأحاديث قاضية بالتحريم مطلقا لوصل الشعر
واستيصاله كما هي قاضية بتحريم الوشم وسؤاله ودل اللعن أن هذه المعاصي من الكبائر.
هذا وقد علل الوشم في بعض الأحاديث بأنه تغيير لخلق الله. ولا يقال إن الخضاب بالحناء
ونحوه تشمله العلة وإن شملته فهو مخصوص بالاجماع وبأنه قد وقع في عصره صلى الله عليه
وسلم بل أمر بتغيير بياض أصابع المرأة بالخضاب كما في قصة هند. فأما وصل الشعر
بالحرير ونحوه من الخرق فقال القاضي عياض: اختلف العلماء في المسألة: فقال مالك
144

والطبري وكثيرون أو قال الأكثرون: الوصل ممنوع بكل شئ سواء وصلته بصوف أو
حرير أو خرق. واحتجوا بحديث مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: زجر أن
تصل المرأة برأسها شيئا. وقال الليث بن سعد: النهم مختص بالوصل بالشعر ولا بأس
بوصله بصوف أو خرق وغير ذلك. وقال بعضهم: يجوز بكل شئ وهو مروي عن عائشة
ولا يصح عنها. قال القاضي: وأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس
بمنهي عنه لأنه ليس بوصل ولا لمعنى مقصود من الوصل وإنما هو للتجمل والتحسين انتهى
ومراده من المعنى المناسب هو ما في ذلك من الخداع للزوج فما كان لونه مغايرا للون الشعر
فلا خداع فيه.
11 - (وعن جذامة بنت وهب رضي الله عنها) بضم الجيم وذال معجمة ويروى بالدال المهملة قيل
وهو تصحيف هي أخت عكاشة بن محصن من أمه هاجرت مع قومها وكانت تحت أنيس
بن قتادة مصغر أنس: (قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: لقد
هممت أن أنهى عن الغيلة) بكسر الغين المعجمة فمثناة تحتية (فنظرت في الروم
وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئا ثم سألوه عن
العزل فقال رسول الله (ص): ذلك الوأد الخفي رواه مسلم). اشتمل الحديث
على مسألتين: الأولى الغيلة تقدم ضبطها ويقال لها الغيل بفتح الغين مع فتح المثناة التحية والغيال بكسر الغين المراد بها مجامعة الرجل امرأته وهي ترضع كما قاله مالك والأصمعي
وغيرهما. وقيل: هي أن ترضع المرأة وهي حامل والأطباء يقولون إن ذلك داء والعرب
تكرهه وتتقيه ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليهم وبين عدم الضرر الذي زعمه
العرب والأطباء بأن فارسا والروم تفعل ذلك ولا ضرر يحدث مع الأولاد. وقوله: فإذا هم
يغيلون من أغال يغيل. والمسألة الثانية العزل وهو بفتح العين المهملة وسكون الزاي وهو
أن ينزع بعد الايلاج لينزل خارج الفرج. وهو يفعل لاحد أمرين: أما في حق الأمة
فلئلا تحمل كراهة لمجئ الولد من الأمة لأنه مع ذلك يتعذر بيعها وأما في حق الحرة فكراهة
ضرر الرضيع إن كان أو لئلا تحمل المرأة. وقوله في جواب سؤالهم عنه: أنه الوأد الخفي دال
على تحريمه لان الوأد دفن البنت حية. وبالتحريم جزم ابن حزم محتجا بحديث الكتاب.
هذا. وقال الجمهور: يجوز عن الحرة بإذنها وعن الأمة السرية بغير إذنها ولهم خلاف
في الأمة المزوجة بحر. قالوا: وحديث الكتاب معارض بحديثين: الأول عن جابر قال
كانت لنا جوار وكنا نعزل فقالت اليهود تلك الموؤودة الصغرى فسئل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ذلك فقال: كذبت اليهود ولو أراد الله خلقه لم تستطع رده أخرجه
النسائي والترمذي وصححه. والثاني أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة نحوه قال الطحاوي
والجمع بين الأحاديث: بحمل النهي في حديث جذامة على التنزيه. ورجح ابن حزم حديث
جذامة وأن النهي فيه للتحريم بأن حديث غيرها مرجح لأصل الإباحة وحديثها مانع فمن
145

ادعى أنه أبيح بعد المنع فعليه البيان. ونوزع ابن حزم في دلالة قوله صلى الله عليه وسلم
ذلك الوأد الخفي على الصراحة بالتحريم لان التحريم للوأد المحقق الذي هو قطع حياة
محققة والعزل وإن شبهه صلى الله عليه وسلم به فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة والمشبه
دون المشبه به. وإنما سماه وأدا لما تعلق به من قصد منع الحمل وأما علة النهي عن العزل
فالأحاديث دالة على أن وجهه أنه معاندة للقدر وهو دال على عدم التفرقة بين الحرة والأمة.
فائدة معالجة المرأة لاسقاط النطفة قبل نفخ الروح يتفرع جوازه وعدمه على الخلاف
في العزل ومن أجازه أجاز المعالجة ومن حرمه حرم هذا بالأولى. ويلحق بهذا تعاطي
المرأة ما يقطع الحبل من أصله وقد أفتى بعض الشافعية بالمنع وهو مشكل على قولهم
بإباحة العز مطلقا.
12 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله إن
لي جارية وأنا أعزل عنها وأكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن
العزل الموؤودة الصغرى؟ قال: كذبت اليهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت
أن تصرفه رواه أحمد وأبو داود واللفظ له والنسائي والطحاوي ورجاله ثقات).
الحديث قد عارض حديث النهي وتسميته (ص) العزل الوأد الخفي وفي هذا
كذب اليهود في تسميته الموؤودة الصغرى. وقد جمع بينهما بأن حديث النهي حمل على التنزيه
وتكذيب اليهود لأنهم أرادوا التحريم الحقيقي. وقوله: لو أراد أن يخلقه - إلى آخره - معناه
أنه تعالى إذا قدر خلق نفس فلا بد من خلقها وأنه يسبقكم الماء فلا تقدرون على دفعه ولا
ينفعكم الحرص على ذلك فقد يسبق الماء من غير شعور العازل لتمام ما قدره الله. وقد
أخرج أحمد والبزار من حديث أنس وصححه ابن حبان: أن رجلا سأل عن العزل فقال النبي
(ص): لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا
وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس وفي الأوسط له عن ابن مسعود.
13 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا نعزل على عهد صلى الله عليه
وسلم والقرآن ينزل لو كان شئ ينهى عنه لنهانا عنه القرآن. متفق عليه) إلا أن قوله: لو كان
شئ ينهى عنه إلى آخره لم يذكره البخاري وإنما رواه مسلم من كلام سفيان أحد رواته
وظاهره أنه قاله استنباطا. قال المصنف في الفتح: تتبعت المسانيد فوجدت أكثر رواته عن
سفيان لا يذكرون هذه الزيادة اه‍. وقد وقع لصاحب العمدة مثل ما وقع للمصنف هنا
فجعل الزيادة من الحديث. وشرحها ابن دقيق العيد واستغرب استدلال جابر بتقرير الله
لهم. (ولمسلم) أي عن جابر (فبلغ ذلك نبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا عنه). فدل تقريره
صلى الله عليه وسلم لهم على جوازه وقد قيل: إنه أراد جابر بالقرآن ما يقرأ أعم من المتعبد
بتلاوته أو غيره مما يوحي إليه فكأنه يقول: فعلنا في زمن التشريع ولو كان حراما لم نقر
عليه قيل: فيزول استغراب ابن دقيق العيد إلا أنه لا بد من علم النبي صلى الله عليه وسلم
بأنهم فعلوه. والحديث دليل على جواز العزل ولا ينافيه كراهة التنزيه كما دل له أحاديث النهي
146

14 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي (ص) كان يطوف على نسائه بغسل واحد أخرجاه واللفظ لمسلم. (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي (ص) كان يطوف على نسائه بغسل واحد،
أخرجاه واللفظ لمسلم). تقدم الكلام عليه في باب الغسل واستدل به على أنه لم يكن القسم
بين نسائه صلى الله عليه وسلم عليه واجبا. وقال ابن العربي: إنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم
ساعة من النهار لا يجب عليه فيها القسم وهي بعد العصر فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب
. وكأنه أخذه من حديث عائشة الذي أخرجه البخاري: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا
انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن. فقولها: فيدنو يحتمل أنه للوقاع
إلا أن في بعض رواياته من غير وقاع فهو لا يتم مأخذا لابن العربي. وقد أخرج البخاري
من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ
تسع نسوة. ولا يتم أن يراد بالليلة بعد المغرب كما قاله لأنه لا يتسع ذلك الوقت سيما مع الانتظار
لصلاة العشاء لفعل ذلك. كذا قيل: وهو مجرد استبعاد وإلا فالظاهر اتساعه لذلك فقد كان
(ص) يؤخر العشاء أو لأنه أعطى قوة في ذلك لم يعطها غيره. والحديث دليل
أنه كان لا يجب القسم عليه لنسائه وهو ظاهر قوله تعالى: * (ترجي من تشاء منهن) * الآية.
وذهب إليه جماعة من أهل العلم. والجمهور يقولون يجب عليه القسم وتأولوا هذا الحديث بأنه
كان يفعل ذلك برضا صاحبة النوبة وبأنه يحتمل فعله عند استيفاء القسم ثم يستأنف القسمة
وبأنه يحتمل أنه فعل ذلك قبل وجوب القسم. وقوله: وله يومئذ تسع نسوة وفي رواية
البخاري: وهن إحدى عشرة ويجمع بين الروايتين بأن يحمل قول من قال تسع نظرا إلى
الزوجات التي اجتمعن عنده ولم يجتمع عنده أكثر من تسع وأنه مات عن تسع كما قال
أنس أخرجه الضياء عنه في المختارة. ومن قال: إحدى عشرة أدخل مارية القبطية وريحانة
فيهن ويطلق عليهما لفظ نسائه تغليبا. وفي الحديث دلالة على أنه (ص)
كان أكمل الرجال في الرجولية حيث كان له هذه القوة وقد أخرج البخاري أنه كان له قوة ثلاثين
رجلا وفي رواية الإسماعيلي قوة أربعين ومثله لأبي نعيم في صفة الجنة وزاد من رجال
أهل الجنة. وقد أخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم: إن الرجل
في الجنة ليعطى قوة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة.
باب الصداق
الصداق بفتح الصاد المهملة وكسرها مأخوذ من الصدق لاشعاره بصدق رغبة الزوج
في الزوجة وفيه سبع لغات وله ثمانية أسماء يجمعها قوله:
صداق ومهر نحلة وفريضة حباء وأجر ثم عقر علائق
وكان الصداق في شرع من قبلنا للأولياء كما قال صاحب المستعذب على المذهب.
1 - (عن أنس رضي الله عنه عن النبي (ص): أنه أعتق صفية وجعل عتقها
صداقها متفق عليه). هي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب من سبط هارون
ابن عمران كانت تحت ابن أبي الحقيق وقتل يوم خيبر ووقعت صفية في السبي فاصطفاها
147

رسول الله (ص) فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها وماتت سنة خمسين
وقيل غير ذلك. والحديث دليل على صحة جعل العتق صداقا: أي عبارة وقعت تفيد
ذلك. وللفقهاء عدة عبارات في كيفية العبارة في هذا المعنى. وذهب إلى صحة جعل
العتق مهرا الهادوية وأحمد وإسحاق وغيرهم واستدلوا بهذا الحديث. وذهب الأكثر
إلى عدم صحة جعل العتق مهرا وأجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم أعتقها
بشرط أن يتزوجها فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها. ويرد هذا التأويل
أنه في مسلم بلفظ: ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها. وفيه: أنه قال عبد العزيز راويه: قال
ثابت لأنس بعد أن روى الحديث: ما أصدقها؟ قال: نفسها وأعتقها، فإنه ظاهر أنه
جعل نفس العتق صداقا. وأما قول من قال إن هذا شئ فهمه أنس فعبر به ويجوز أن
فهمه غير صحيح فجوابه أنه أعرف باللفظ وأفهم له وقد صرح بأنه صلى الله عليه وسلم جعل
العتق صداقا فهو راو لفعله صلى الله عليه وسلم وحسن الظن به لثقته يوجب قبول روايته
للأفعال كما يجب قبولها للأقوال وإلا لزم رد الأقوال والأفعال إذ لم ينقل الصحابة اللفظ
النبوي إلا في شئ قليل وأكثر ما يروونه بالمعنى كما هو معروف ورواية المعنى عمدتها
فهمه. وقوله: إنه لم يرفعه أنس بل قاله تظننا خلاف ظاهر لفظه فإنه قال: جعل - يريد النبي
صلى الله عليه وسلم - صداقها عتقها. وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية
قالت: أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم وجعل عتقي صداقي وهو صريح فيما رواه أنس
وأنه لم يقل ذلك، تظننا كما قيل. وإنما خالف الجمهور الحديث وتأولوه قالوا لأنه خالف
القياس لوجهين: أحدهما: أن عقدها على نفسها إما أن يقع قبل عتقها وهو محال وإما بعده
وذلك غير لازم لها. والثاني: أنا إن جعلنا العتق صداقا فإما يتقرر العتق حالة الرق وهو
محال أيضا لتناقضهما أو حالة الحرية فليزم سبقها على العقد فيلزم وجود العتق حال فرض
عدمه وهو محال لان الصداق لا بد أن يتقدم تقرره على الزوج إما نصا وإما حكما حتى تملك الزوجة طلبه ولا يتأتى مثل ذلك في العتق فاستحال أن يكون صداقا. وأجيب أولا: أنه
بعد صحة القصة لا يبالي بهذه المناسبات. وثانيا: بعد تسليم ما قالوه فالجواب عن الأول أن
العقد يكون بعد العتق وإذا امتنعت من العقد لزمها السعاية بقيمتها ولا محذور في ذلك. وعن
الثاني بأن العتق منفعة يصح المعاوضة عنها والمنفعة إذا كانت كذلك صح العقد عليها مثل سكنى
الدار وخدمة الزوج ونحو ذلك. وأما قول من قال إن ثواب العتق عظيم فلا ينبغي أن
يفوت بجعله صداقا وكان يمكن جعل المهر غيره. فجوابه أنه صلى الله عليه وسلم
يفعل المفضول لبيان التشريع ويكون ثوابه أكثر من ثواب الأفضل فهو في حقه أفضل. وأما
جعل حديث عائشة في قصة جويرية مؤيدا لحديث صفية ولفظه: أنه (ص)
قال لجويرية لما جاءت تستعينه في كتابتها: هل لك أن أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟
قالت: قد فعلت أخرجه أبو داود. فلا يخفى أنه ليس فيه تعرض للمهر ولا غيره فليس
مما نحن فيه.
148

2 - (وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه) هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري
القرشي أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالفقه بالمدينة في قول من مشاهير التابعين وأعلامهم
يقال إن اسمه كنيته. وهو كثير الحديث واسع الرواية سمع عن جماعة من الصحابة وأخذ
عنه جماعة مات سنة أربع وسبعين وقيل أربع ومائة وهو في سبعين سنة (قال: سألت
عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: كم صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية) بضم الهمزة وتشديد المثناة التحتية (ونشا)
بفتح النون وشين معجمة مشددة. (قالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا. قالت: نصف
أوقية فتلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله (ص) لأزواجه. رواه مسلم)
المراد في الحديث أوقية الحجاز وهي أربعون درهما وكان كلام عائشة هذا بناء على الأغلب
وإلا فإن صداق صفية عتقها، قيل ومثلها جورية وخديجة لم يكن صداقها هذا المقدار،
وأم حبيبة أصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم وأربعة آلاف
دينار إلا إنه كان تبرعا منه إكراما لرسول الله (ص) ولم يكن عن أمره صلى
الله عليه وسلم. وقد استحب الشافعية جعل المهر خمسمائة درهم تأسيا. وأما أقل المهر الذي
يصح به العقد فقد قدمناه أما أكثره فلا حد له إجماعا قال تعالى: * (واتيتم إحداهن قنطارا) *.
والقنطار قيل إنه ألف ومائتا أوقية ذهبا وقيل ملء مسك ثور ذهبا وقيل سبعون ألف مثقال
وقيل مائة رطل ذهبا. وقد كان أراد عمر قصر أكثره على قدر مهور أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم ورد الزيادة إلى بيت المال وتكلم به في الخطبة فردت عليه امرأة محتجة بقوله تعالى:
* (واتيتم إحداهن قنطارا) * فرجع وقال: كلكم أفقه من عمر. 3 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما تزوج علي فاطمة رضي الله عنها)
هي سيدة نساء العالمين تزوجها علي رضي الله عنه في السنة الثانية من الهجرة في شهر
رمضان وبنى عليها في ذي الحجة ولدت له الحسن والحسين والمحسن وزينب ورقية
وأم كلثوم وماتت بالمدينة بعد موته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وقد بسطنا ترجمتها
في الروضة الندية (قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطها شيئا قال: ما عندي
شئ قال: فأين درعك الحطمية؟) بضم الحاء المهملة وفتح الطاء نسبة إلى حطمة
من محارب بطن من عبد القيس كانوا يعملون الدروع (رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم)
فيه دليل على أنه ينبغي تقديم شئ للزوجة قبل الدخول بها جبرا لخاطرها وهو المعروف عند
الناس كافة ولم يذكر في الرواية هل أعطاها درعه المذكور أو غيرها. وقد وردت
روايات في تعيين ما أعطى علي فاطمة رضي الله عنهما إلا أنها غير مسندة.
4 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء) بكسر الحاء المهملة فموحدة فهمزة
ممدودة العطية للغير أو للزوجة زائد على مهرها (أو عدة) بكسر العين المهملة ما وعد
149

به الزوج وإن لم يحضر (قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة
النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم الرجل عليه ابنته أو أخته رواه
أحمد والأربعة إلا الترمذي). الحديث دليل على أن ما سماه الزوج قبل العقد فهو للزوجة.
وإن كان تسميته لغيرها من أب وأخ كذلك ما كان عند العقد وفي المسألة خلاف.
فذهب إلى ما أفاده الحديث: الهادي ومالك وعمر بن عبد العزيز والثوري. وذهب أبو حنيفة
وأصحابه إلى أن الشرط لازم لمن ذكر من أخ أو أب والنكاح صحيح. وذهب الشافعي إلى
أن تسمية المهر تكون فاسدة ولها صداق المثل. وذهب مالك إلى أنه إن كان الشرط عند
العقد فهو لابنته وإن كان بعد النكاح فهو له قال في نهاية المجتهد: وسبب اختلافهم
تشبيه النكاح في ذلك بالبيع، فمن شبهه بالوكيل ببيع السلعة وشرط لنفسه حباء قال: لا يجوز
النكاح كما لا يجوز البيع. ومن جعل النكاح في ذلك مخالفا للبيع قال: يجوز وأما تفريق
مالك فلانه اتهمه إذا كان الشرط في عقد النكاح أن يكون ذلك اشتراط لنفسه نقصانا عن
صداق مثلها ولم يتهمه إذا كان بعد انعقاد النكاح والاتفاق على الصداق انتهى وإنما
علل ذلك بما سمعت ولم يذكر الحديث لان فيه مقالا. هذا وأما ما يعطي الزوج في العرف
مما هو للاتلاف كالطعام ونحوه فإن شرط في العقد كان مهرا وما سلم قبل العقد كان إباحة
فيصح الرجوع فيه مع بقائه إذا كان في العادة يسلم للتلف وإن كان يسلم للبقاء رجع
في قيمته بعد تلفه إلا أن يمتنعوا من تزويجه رجع بقيمته في الطرفين جميعا. وإذا ماتت
الزوجة أو امتنع هو من التزويج كان له الرجوع فيما بقي وفيما سلم للبقاء وفيما تلف قبل
الوقت الذي يعتاد التلف فيه. لا فيما عدا ذلك وفيما سلمه بعد العقد هبة أو هدية على حسب
الحال أو رشوة إن لم تسلم إلا به، وإن كان الطعام الذي يفعل في وليمة العرس مما ساقه الزوج
إلى ولى الزوجة وكان مشروطا مع العقد لصغيره وفعل ذلك جاز التناول منه لمن يعتاد لمثله
كالقرابة وغيرهم لان الزوج إنما شرطه وسلمه ليفعل ذلك لا ليبقى ملكا للزوج والعرف
معتبر في هذا.
5 - (وعن علقمة) أي ابن قيس أبي شبل بن مالك من بني بكر بن النخع روى
عن عمر وابن مسعود وهو تابعي جليل اشتهر بحديث ابن مسعود وصحبته وهو عم
الأسود النخعي مات سنة إحدى وستين (عن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم
يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها لا وكس)
بفتح الواو وسكون الكاف وسين مهملة هو النقص أي لا ينقص من مهر نسائها
(ولا شطط) بفتح الشين وبالطاء المهملة وهو الجور أي لا يجار على الزوج
بزيادة مهرها على نسائها (وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل) بفتح الميم وسكون العين
المهملة وكسر القاف (ابن سنان) بكسر السين المهملة فنون فألف فنون (الأشجعي)
بفتح الهمزة وشين معجمة ساكنة ومعقل هو أبو محمد شهد فتح مكة ونزل الكوفة،
150

وحديثه في أهل الكوفة وقتل يوم الحرة صبرا (فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في بروع) بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الواو فعين مهملة (بنت واشق)
بواو مفتوحة فألف فشين معجمة فقاف (امرأة منا) بكسر الميم فنون مشددة فألف (مثل
ما قضيت ففرح بها ابن مسعود. رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وحسنه جماعة) منهم
ابن مهدي وابن حزم وقال: لا مغمز فيه لصحة إسناده ومثله قال البيهقي في الخلافيات
وقال الشافعي: لا أحفظه من وجه يثبت مثله وقال: لو ثبت حديث بروع لقلت به.
وقال في الأم: إن كان يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أول الأمور ولا حجة
في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كبر ولا شئ في قوله إلا طاعة الله
بالتسليم له ولم أحفظه عنه من وجه يثبت مثله. مرة يقال عن معقل بن سنان ومرة عن معقل
بن يسار ومرة عن بعض أشجع ولا يسمى. هذا تضعيف الشافعي بالاضطراب وضعفه
الواقدي بأنه حديث ورد إلى المدينة من أهل الكوفة فما عرفه أهل المدينة. وقد روي عن
علي رضي الله عنه أنه رده بأن معقل بن سنان أعرابي بوال على عقبيه. وأجيب بأن الاضطراب
غير قادح لأنه متردد بين صحابي وصحابي وهذا لا يطعن به في الرواية وعن قوله: إنه يروى
عن بعض أشجع فلا يضر أيضا لأنه قد فسر ذلك البعض بمعقل فقد تبين أن ذلك
البعض صحابي. وأما عدم معرفة علماء المدينة له فلا يقدح بها مع عدالة الراوي. وأما الرواية
عن علي رضي الله عنه فقال في البدر المنير: لم يصح عنه. وقد روى الحاكم من حديث
حرملة بيحيى أنه قال: سمعت الشافعي يقول: إن صح حديث بروع بنت واشق قلت
به. قال الحاكم: قلت: صح فقل به. وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل ثم قال:
وأنسبها إسنادا حديث قتادة إلا أنه لم يحفظ اسم الصحابي قلت: لا يضر جهالة اسمه على
رأي المحدثين. وما قال المصنف من أن لحديث بروع شاهدا من حديث عقبة بن عامر
أن رسول الله (ص) زوج امرأة رجلا فدخل بها ولم يفرض لها صداقا
فحضرته الوفاة فقال: أشهدكم أن سهمي بخيبر لها. أخرجه أبو داود والحاكم. فلا يخفى
أن لا شهادة له على ذلك لان هذا في امرأة دخل بها زوجها نعم فيه شاهد أنه يصح النكاح
بغير تسمية والحديث دليل على أن المرأة تستحق كمال المهر بالموت وإن لم يسم لها الزوج
ولا دخل بها وتستحق مهر مثلها. وفي المسألة قولان: الأول: العمل بالحديث وأنها تستحق
المهر كما ذكر وقول ابن مسعود اجتهاد موافق الدليل وقول أبي حنيفة وأحمد وآخرين،
والدليل الحديث وما طعن به فيه قد سمعت دفعه. والثاني: ح لا تستحق إلا الميراث لعلي
وابن عباس وابن عمر والهادي ومالك وأحد قولي الشافعي قالوا: لان الصداق عوض فإذا
لم يستو ف الزوج المعوض عنه لم يلزم قياسا على ثمن المبيع قالوا: والحديث فيه تلك المطاعن
قلنا: المطاعن قد دفعت فنهض الحديث للاستدلال فهو أولى من القياس.
6 - (وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي (ص) قال:
من أعطى في صداق امرأة سويقا) هو دقيق القمح المقلو أو الذرة أو الشعير أو غيرها
151

(أو تمرا فقد استحل. أخرجه أبو داود وأشار إلى ترجيح وقفه). وقال المصنف
في التلخيص: فيه موسى بن مسلم بن رومان وهو ضعيف وروي موقوفا وهو أقوى
انتهى. فكان عليه أن يشير إلى أن فيه ضعفا على عادته وأخرجه الشافعي بلاغا. والحديث
دليل على أنه يصح كون المهر من غير الدراهم والدنانير وأنه يجزي مطلق السويق والتمر
وظاهره وإن قل. وتقدمت أقاويل العلماء في قدر أقل المهر في شرح حديث الواهبة نفسها.
7 - (وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة) هو أبو محمد عبد الله بن عامر بن ربيعة
العنزي بفتح العين وسكون النون وبالزاي في نسبه خلا ف كثير قبض النبي
صلى الله عليه وسلم وهو في أربع سنين أو خمس. مات عبد الله المذكور سنة خمس وثمانين،
وقيل سنة تسعين (عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز نكاح امرأة على نعلين. أخرجه
الترمذي وصححه وخولف) أي الترمذي (في ذلك) أي فلتصحيح. لفظ الحديث
" أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رضيت
من نفسك ومالك بنعلين قالت: نعم فأجازه والحديث دليل على صحة جعل المهر أي
شئ له ثمن وقد أسلف أن كل ما صح جعله ثمنا صح جعله مهرا وفيه مأخذ لما ورد
في غيره من أنها لا تتصرف المرأة في مالها إلا برأي زوجها.
- 8 - (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: زوج النبي (ص) رجلا
امرأة بخاتم من حديد. أخرجه الحاكم). قد تقدم حديث سهل في الواهبة نفسها بطوله وفيه
أنه (ص) أمر من خطبها أن يلتمس ولو خاتما من حديد فلم يجده فزوجه
إياها على تعليمها شيئا من القرآن فإن كان هذا هو ذلك الحديث فلم يتم جعل المهر خاتما
من حديد كما عرفت وإن أريد غيره فيحتمل وهو بعيد لقول المصنف (وهو طرف من
الحديث الطويل المتقدم في أوائل النكاح) وعلى تقدير أنه أريد ذلك الحديث فتأويله أنه
(ص) أذن في جعل الصداق خاتما من حديد وإن لم يتم العقد عليه.
9 - (وعن علي رضي الله عنه قال: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم. أخرجه
الدارقطني موقوفا وفي سنده مقال) أي موقوف على علي رضي الله عنه. وقد روي من
حديث جابر مرفوعا ولم يصح. والحديث معارض للأحاديث المتقدمة المرفوعة الدالة على
صحة أي شئ يصح جعله مهرا كما عرفت. والمقال الذي في الحديث هو أن فيه مبشر
بن عبيد قال أحمد: كان يضع الحديث.
10 - (وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
خير الصداق أيسره أخرجه أبو داود وصححه الحاكم) فيه
دلالة على استحباب تخفيف المهر وأن غير الأيسر على خلاف ذلك وإن كان جائزا كما
أشارت إليه الآية الكريم في قوله: * (واتيتم إحداهن قنطارا من ذهب) * وتقدم أن عمر نهى عن
المغالاة في المهور فقالت امرأة: ليس ذلك إليك يا عمر إن الله يقول: * (واتيتم إحداهن قنطارا
من ذهب) *. قال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته. أخرجه عبد الرزاق. وقوله في الرواية
152

من ذهب هي قراءة ابن مسعود وله طرق بألفاظ مختلفة وتحتمل أن الخيرية بركة المرأة
ففي الحديث أبركهن أيسرهن مؤنة.
11 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن عمرة بنت الجون) بفتح الجيم وسكون الواو
فنون (تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه - تعني لما تزوجها،
فقال: لقد عذت بمعاذ) بفتح الميم ما يستعاذ به (فطلقها وأمر أسامة فمتعها بثلاثة
أثواب. أخرجه ابن ماجة وفي إسناده راو متروك. وأصل القصة في الصحيح من حديث
أبي أسيد الساعدي). وقد سماها في الحديث عمرة ووقع مع ذلك اختلاف في اسمها
ونسبها كثير لكنه لا يتعلق به حكم شرعي. واختلف في سبب تعوذها منه ففي رواية
أخرجها ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل عليها وكانت من أجمل النساء فداخل
نساءه صلى الله عليه وسلم غيرة، فقيل لها: إنما تحظى المرأة عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن تقول إذا دخلت عليه أعوذ بالله منك. وفي رواية أخرجها ابن سعد أيضا بإسناد
البخاري: إن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت مشطتاها وخضبتاها وقالت لها
إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول أعوذ بالله
منك وقيل في سببه غير ذلك. والحديث دليل على شرعية المتعة للمطلقة قبل الدخول واتفق
الأكثر على وجوبها في حق من لم يسم لها صداقا إلا عن الليث ومالك وقد قال تعالى:
* (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع
قدره وعلى القتر قدره) *. وظاهر الامر الوجوب. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن عباس
قال: المس النكاح والفريضة الصداق ومتعوهن قال: هو على الزوج يتزوج
المرأة ولم يسم لها صداقا ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره
ويسره - الحديث. وقد أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم: متعة الطلاق أعلاها
الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة. نعم هذه المرأة التي متعها (ص)
يحتمل أنه لم يسم لها صداقا فمتعها كما قضت به الآية ويحتمل أنه كان سمى لها فمتعها إحسانا
منه وفضلا. وأما تمتيع من لم يسم الزوج لها مهرا ودخل بها ثم فارقها فقد اختلف في ذلك.
فذهب علي وعمر والشافعي إلى وجوبها أيضا بقوله تعالى: * (وللمطلقات متاع بالمعروف) *
وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يجب إلا مهر المثل لا غير. قالوا: وعموم الآية مخصوص
بمن لم يكن قد دخل بها والذي خصه الآية الأخرى التي أوجب فيها المتعة لأنه شرط فيها
عدم المس وهذا قد مس. وأما قوله تعالى: * (فتعالين أمتعكن) * فإنه يحتمل نفقة العدة ولا دليل
مع الاحتمال. هذا وقد سبقت إشارة إلى أن الليث لا يقول بوجوب المتعة مطلقا واستدل
له بأنها لو كانت واجبة لكانت مقدرة ودفع بأن نفقة القريب واجبة ولا تقدير لها.
باب الوليمة
الوليمة مشتقة من الولم بفتح الواو وسكون اللام وهو الجمع لان الزوجين يجتمعان،
153

قاله الأزهري وغيره والفعل منها أولم، تقع على كل طعام يتخذ لسرور حادث ووليمة
العرس ما يتخذ عند الدخول وما يتخذ عند الاملاك.
1 - (عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي (ص) رأى على عبد الرحمن بن
عوف أثر صفرة فقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله إني تزوجت امرأة على وزن نواة من
ذهب، قال: بارك الله لك أولم ولو بشاة متفق عليه واللفظ لمسلم). جاء في الروايات
بيان الصفرة بأنها ردغ من زعفران وهو بفتح الراء ودال مهملة وغين معجمة أثر الزعفران.
فإن قلت قد علم النهي عن التزعفر فكيف لم ينكره صلى الله عليه وسلم؟ قلت: (هذا
مخصص للنهي بجوازه للعروس). وقيل: يحتمل أنها كانت في ثيابه دون بدنه بناء على جوازه
في الثوب وقد منع جوازه فيه أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما. والقول بجوازه في الثياب
مروي عن مالك وعلما المدينة واستدل لهم بمفهوم النهي الثابت في الأحاديث الصحيحة
كحديث أبي موسى مرفوعا: لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شئ من الخلوق. وأجيب
بأن ذلك مفهوم لا يقاوم النهي الثابت في الأحاديث الصحيحة وبأن قصة عبد الرحمن كانت
قبل النهي في أول الهجرة وبأنه يحتمل أنه الصفرة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من
جهة امرأته تعلقت به فكان ذلك غير مقصود له، ورجح هذا النووي وعزاه للمحققين
وبنى عليه البيضاوي. وقوله: على وزن نواة من ذهب قيل المراد واحدة نوى التمر قيل
كان قدرها يومئذ ربع دينار، ورد بأن نوى التمر يختلف فكيف يجعل معيارا لما يوزن؟
وقيل إن النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق وجزم به الخطابي واختاره
الأزهري ونقله عياض عن أكثر العلماء ويؤيده أن فرواية البيهقي وزن نواة من ذهب
قومت خمسة دراهم. وفي رواية عند البيهقي عن قتادة: قومت ثلاثة دراهم وثلثا وإسناده
ضعيف لكن جزم به أحمد وقيل في قدرها غير ذلك. وعن بعض المالكية أن النواة عند
أهل المدينة ربع دينار. والحديث دليل أنه يدعى للعروس بالبركة وقد نال عبد الرحمن بركة
الدعوة النبوية حتى قال: فلقد رأيتني لو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا أو فضة "
رواه البخاري عنه في آخر هذه الرواية وفي قوله: أولم ولو بشاة دليل على وجوب الوليمة
في العرس وإليه ذهب الظاهرية قيل: وهو نص الشافعي في الأم ويدل له: ما أخرجه أحمد
من حديث بريدة أنه (ص) قال لما خطب علي فاطمة: لا بد من وليمة وسنده
لا بأس به وهو يدل على لزوم الوليمة وهو في معنى الوجوب. وما أخرجه أبو الشيخ والطبراني
من حديث أبي هريرة مرفوعا: الوليمة حق وسنة فمن دعي ولم يجب فقد عصى والظاهر من
الحق الوجوب. وقال أحمد: الوليمة سنة. وقال الجمهور: مندوبة. وقال ابن بطال:
لا أعلم أحدا أوجبها وكأنه لم يعرف الخلاف واستدل على الندبية بما قال الشافعي: لا أعلم
أمر بذلك غير عبد الرحمن ولا أعلم أنه (ص) ترك الوليمة رواه عنه البيهقي
154

فجعل ذلك مستندا إلى كون الوليمة غير واجبة ولا يخفى ما فيه. واختلف العلماء في وقت
الوليمة هل هي العقد أو عقبه أو عند الدخول وهي أقوال في مذهب المالكية. ومنهم
من قال عند العقد وبعد الدخول. وصرح الماوردي من الشافعية بأنها عند الدخول قال
السبكي: والمنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول وكأنه يشير إلى
قصة زواج زينب بنت جحش لقول أنس: أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - عروسا
بزينب فدعا القوم، وقد ترجم عليه البيهقي باب وقت الوليمة. وأما مقدارها فظاهر الحديث
أن الشاة أقل ما تجزئ إلا أنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على أم سلمة وغيرها بأقل
من شاة وأولم على زينب بشاة. وقال أنس: لم يؤلم على غير زينب بأكثر مما أولم عليها
إلا أنه أولم على ميمونة بنت الحارث لما تزوجها بمكة عام القضية - وطلب من أهل مكة أن
يحضروا فامتنعوا - بأكثر من وليمته على زينب وكأن أنسا يريد أنه وقع في وليمة زينب بالشاة
من البركة في الطعام ما لم يقع في غيرها فإنه أشبع الناس خبزا ولحما فكأن المراد لم يشبع
أحدا خبزا ولحما في وليمة من ولائمه صلى الله عليه وسلم أكثر مما وقع في وليمة زينب. 2 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): إذا
دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها متفق عليه، ولمسلم) أي: عن ابن عمر مرفوعا: (إذا
دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه). الحديث الأول دال على وجوب
الإجابة إلى الوليمة والثاني دال على وجوبها إلى كل دعوة ولا تعارض بين الروايتين وإن
كانا عن راو واحد. وقد أخذت الظاهرية وبعض الشافعية بظاهره فقالوا: تجب الإجابة إلى
الدعوة مطلقا. وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين. ومنهم من فرق بين وليمة
العرس وغيرها فنقل ابن عبد البر وعياض والنووي الاتفاق على وجوب إجابة وليمة العرس
وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين ونص عليه مالك. وعن البعض فرض
كفاية وفي كلام الشافعي ما يدل على وجوب الإجابة في وليمة العرس وعدم الرخصة
في غيرها فإنه قال: إتيان دعوة الوليمة حق والوليمة التي تعرف وليمة العرس وكل دعوة
دعي إليها رجل وليمة فلا أرخص لاحد في تركها ولو تركها لم يتبين أنه عاص
كما تبين لي فوليمة العرس. وفي البحر للمهدي حكاية إجماع العترة على عدم وجوب
الإجابة في الولائم كلها. هذا وعلى القول بالوجوب فقد قال ابن دقيق العيد في شرح الالمام
وقد يسوغ ترك الإجابة لاعذار: منها أن يكون في الطعام شبهة أو يخص بها الأغنياء أو يكون
هناك من يتأذى بحضوره معه أو لا يليق لمجالسته أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه أو
ليعاونه على باطل أو يكون هناك منكر من خمر أو لهو أو فراش حرير أو ستر لجدران البيت
أو صورة في البيت أو يعتذر إلى الداعي فيتركه أو كانت في الثالث كما يأتي فهذه الاعذار
ونحوها في تركها على القول بالوجوب وعلى القول بالندب بالأولى. وهذا مأخوذ مما علم من
الشريعة ومن قضايا وقعت للصحابة كما في البخاري أن أبا أيوب دعاه ابن عمر فرأى في البيت
155

سترا على الجدران فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن
أخشى عليك والله لا أطعم لك طعاما فرجع، أخرجه البخاري تعليقا ووصله أحمد ومسدد
في مسنده. وأخرج الطبراني عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: عرست في عهد أبي فأذنا
الناس فكان أبو أيوب فيمن أذنا وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر فأقبل أبو أيوب فاطلع
فرآه فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر فقال أبي واستحى: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب،
فقال: من خشيت أن تغلبه النساء فذكروه. وفي رواية: فأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم يدخلون الأول فالأول حتى أقبل أبو أيوب وفيه: فقال عبد الله: أقسمت عليك لترجعن
فقال: وأنا أعزم على نفسي أن لا أدخل يومي هذا ثم انصرف. وأخرج أحمد في كتاب الزهد
أن رجلا دعا ابن عمر إلى عرس فإذا بيته قد ستر بالكرور فقال ابن عمر: يا فلان
متى تحولت الكعبة في بيتك ثم قال لنفر معه من أصحاب محمد (ص): ليهتك
كل رجل ما يليه، والحديث وما قبله دليل على تحريم ستر الجدران. وقد أخرج أبو داود
وغيره من حديث ابن عباس مرفوعا: لا تستروا الجدر بالثياب وفيه ضعف وله شاهد،
وأخرج البيهقي وغيره من حديث سلمان موقوفا أنه أنكر ستر البيت فقال: محموم بيتكم أو
تحولت الكعبة؟ ثم قال: لا أدخله حتى يهتك. والمسألة فيها خلاف: جزم جماعة بالتحريم لستر
الجدار وجمهور الشافعية على أنه مكروه. وقد أخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال
إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين وجذب الستر حتى هتكه في قصة معروفة: وقد كنا
كتبنا في هذا رسالة جواب سؤال في مدة قديمة. وقد أخرج الطبراني في الأوسط من حديث عمران
بن حصين نهى رسول الله (ص) عن إجابة طعام الفاسقين. وأخرج النسائي
من حديث جابر مرفوعا: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها
الخمر وإسناده جيد وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن جابر وفيه ضعف وأخرجه أحمد
من حديث عمر. وبالجملة الدعوة مقتضية للإجابة وحصول المنكر مانع عنها فتعارض
المانع والمقتضي والحكم للمانع.
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شر
الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها) وهم الفقراء كما يدل له حديث ابن عباس
عند الطبراني: بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الشبعان ويمنع عنها الجيعان اه‍ فلو
شملت الدعوة الفريقين زالت الشرية عنها (ويدعى إليها من يأباها) يعني الأغنياء (ومن
لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله أخرجه مسلم). المراد من الوليمة وليمة العرس
لما تقدم قريبا من أنها إذا أطلقت من غير تقييد انصرفت إلى وليمة العرس وشرية طعامها
قد بين وجهه. قوله: يدعى إليها من يأباها فإنه جملة مستأنفة بيان لوجهة شرية الطعام.
والحديث دليل على أنه يجب على من يدعى الإجابة ولو كانت إلى شر طعام وأنه يعصي الله
ورسوله من لم يجب وتقدم الكلام على ذلك.
4 - (وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله (ص): إذا دعي
156

أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم
أخرجه مسلم). فيه دليل على أنه يجب على من كان صائما أن لا يعتذر بالصوم ثم إنه قد
اختلف في المراد من الصلاة. فقال الجمهور: المراد فليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة وقيل
المراد بالصلاة المعروفة أي يشتغل بالصلاة ليحصل فضلها وينال بركتها أهل الطعام
والحاضرون وظاهره أنه لا يلزمه الافطار ليجيب. فإن كان صومه فرضا فلا خلاف أنه
يحرم عليه الافطار وإن كان نفلا جاز له. وظاهر قوله: فليطعم وجوب الأكل وقد
اختلف العلماء في ذلك والأصح عند الشافعية أنه لا يجب الأكل في طعام الوليمة ولا غيرها،
وقيل: يجب لظاهر الامر وأقله لقمة ولا تجب الزيادة. وقال من لم يوجب الأكل
الامر للندب والقرينة الصارفة إليه قوله:
5 - (وله) أي (من حديث جابر رضي الله عنه نحوه وقال: فإن شاء طعم
وإن شاء ترك) فإنه خيره والتخيير دليل على عدم الوجوب للأكل ولذلك أورده
المصنف عقيب حديث أبي هريرة.
6 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلح م:
طعام الوليمة أول يوم حق) أي واجب أو مندوب (وطعام يوم الثاني سنة وطعام
يوم الثالث سمعة ومن سمع سمع الله به رواه الترمذي واستغربه) وقال: لا نعرفه
إلا من حديث زياد بن عبد الله البكائي وهو كثير الغرائب والمناكير. قال المصنف:
كالراد على الترمذي ما لفظه: (ورجاله رجال الصحيح) إلا أنه قال المصنف إن زيادا
مختلف فيه وشيخه عطاء بن السائب اختلط وسماعه منه بعد اختلاطه انتهى. قلت:
وحينئذ فلا يصح قوله إن رجاله رجال الصحيح ثم قال: (وله شاهد عن أنس عند
ابن ماجة) وفي إسناده عبد الملك بن حسين وهو ضعيف وفي الباب أحاديث لا تخلو عن
مقال. والحديث دليل على شرعية الضيافة في الوليمة يومين ففي أول يوم واجبة كما يفيده لفظ
حق لأنه الثابت اللازم وتقدم الكلام في ذلك. وفي اليوم الثاني سنة أي طريقة مستمرة
يعتاد الناس فعلها لا يدخل صاحبها الرياء والتسميع. وفي اليوم الثالث رياء وسمعة فيكون
فعلها حراما والإجابة إليها كذلك وعليه أكثر العلماء. قال النووي: إذا أولم ثلاثا فالإجابة
في اليوم الثالث مكروهة وفي اليوم الثاني لا تجب مطلقا ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها
في اليوم الأول. وذهب جماعة إلى أنه لا تكره في الثالث لغير المدعو في اليوم الأول والثاني
لأنه إذا كان المدعوون كثيرين ويشق جمعهم في يوم واحد فدعا في كل يوم فريقا لم يكن
في ذلك رياء ولا سمعة وهذا قريب. وجنح البخاري إلى أنه لا بأس بالضيافة ولو إلى سبعة
أيام حيث قال: باب حق إجابة الوليمة والدعوة ومن أولم سبعة أيام ونحوه ولم يوقت النبي
(ص) يوما ولا يومين. وأشار بذلك إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حفصة
بنت سيرين قالت: لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام وفي رواية ثمانية أيام، وإليها
157

أشار البخاري بقوله: أو نحوه. وفي قوله: ولم يوقت ما يدل على عدم صحة حديث الباب
عنده. قال القاضي عياض: استحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوع فأخذت المالكية
بما دل عليه كلام البخاري.
7 - (وعن صفية بنت شيبة) أي ابن عثمان بن أبي طلحة الحجبي من بني عبد الدار،
قيل: إنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إنها لم تره. وجزم ابن سعد بأنها تابعية
(قالت: أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير. أخرجه البخاري)
قال المصنف: لم أقف على تعيين اسمها يعني بعض نسائه المذكورة هنا قال: وفي الباب
أحاديث تدل على أنها أم سلمة. وقيل: إنها وليمة علي بفاطمة رضي الله عنها وأراد ببعض
نسائه من تنسب إليه من النساء في الجملة وإن كان خلاف المتبادر إلا أنه يدل له
ما أخرجه الطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت: لقد أولم علي بفاطمة فما كانت
وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته رهن درعه عند يهودي بشطر شعير ولعله المراد
بمدين من شعير لا المدين نصف صاع فكأنه قال شطر صاع فينطبق على القصة التي
في الباب ويكون نسبة الوليمة إلى رسول الله (ص) مجازية إما لكونه الذي
وفى اليهودي من شعيره أو لغير ذلك. قلت: ولا يخفى أنه تكلف ولا مانع أن يؤلم صلى
الله عليه وسلم بمدين ويولم علي أيضا بمدين والمذكور في الباب وليمته صلى الله عليه وسلم.
8 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى) مغير الصيغة (عليه بصفية) أي يبنى عليه خباء جديد
بسبب صفية أو بمصاحبتها (ودعوت المسلمين إلى وليمته فما كان فيها من خبر ولا لحم
وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر والأقط). وفي القاموس الأقط
ككتف وإبل شئ يتخذ من المخيض الغنمي (والسمن) ومجموع هذه الأشياء يسمى حيسا
(متفق عليه واللفظ للبخاري) فيه إجزاء الوليمة بغير ذبح شاة والبناء بالمرأة في السفر وإيثار
الجديدة بثلاثة أيام وإن كانوا في السفر.
9 - (وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اجتمع داعيان
فأجب أقربهما بابا) زاد في التلخيص: فإن أقربهما إليك بابا أقربهما إليك جوارا (فإن
سبق أحدهما فأجب الذي سبق رواه أبو داود وسنده ضعيف). ولكن رجال إسناده موثقون ولا يدرى ما وجه ضعف سنده فإنه رواه أبو داود عن هناد بن السري عن عبد السلام
بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل هؤلاء وثقهم الأئمة إلا أبا خالد الدالاني
فإنهم اختلفوا فيه. فوثقه أبو حاتم وقال أحمد وابن معين لا بأس به وقال ابن حبان:
لا يجوز الاحتجاج به وقال ابن عدي حديثه لين وقال شريك: كان مرجئا. والحديث
على سياق المصنف ظاهره الوقف وفيه دليل على أنه إذا اجتمع داعيان فالأحق بالإجابة
الأسبق فإن استويا قدم الجار. والجار على مراتب فأحقهم أقربهم بابا فإن استويا أقرع بينهم.
158

10 (وعن أبي جحيفة قال: قال رسول الله (ص): لا آكل
متكئا رواه البخاري). الاتكاء مأخوذ من الوكاء والتاء بدل الواو والوكاء: هو
ما يشد به الكيس أو غيره فكأنه أوكأ مقعدته ويشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته ومعناه
الاستواء على وطاء متمكنا. قال الخطابي: المتكئ هنا هو المتمكن في جلوسه من التربع
وشبهه المعتمد على الوطاء تحته قال: ومن استوى قاعدا على وطاء فهو متكئ. والعامة
لا تعرف المتكئ إلا من مال على أحد شقيه ومعنى الحديث: إذا أكلت لا أقعد متكئا
كفعل من يريد الاستكثار من الأكل ولكن آكل بلغة فيكون قعودي مستوفزا. ومن
حمل الاتكاء على الميل على أحد الشقين، تأول ذلك على مذهب أهل الطب بأن ذلك فيه ضرر
فإنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا ولا يسيغه هنيئا وربما تأذى به.
11 - (وعن عمر بن أبي سلمة قال: قال لي رسول الله (ص): يا غلام
سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك متفق عليه). الحديث دليل على وجوب
التسمية للامر بها وقيل: إنها مستحبة في الأكل ويقاس عليه الشرب. قال العلماء:
ويستحب أن يجهر بالتسمية ليسمع غيره وينبهه عليها فإن تركها لأي سبب نسيان أو غيره
في أول الطعام فليقل في أثنائه: بسم الله أوله وآخره، لحديث أبي داود والترمذي وغيرهما:
قال الترمذي: حسن صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا أكل أحدكم فليذكر اسم
الله فإن نسي أن يذكر الله في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره. وينبغي أن يسمي كل واحد
من الآكلين فإن سمى واحد فقط فقد حصل بتسميته السنة، قاله الشافعي. ويستدل له بأنه
صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان يستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه فإن
ذكره واحد من الآكلين صدق عليه أنه ذكر اسم الله عليه. وفي الحديث دليل على
وجوب الأكل باليمين للامر به أيضا ويزيده تأكيدا: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن
الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وفعل الشيطان يحرم على الانسان. ويزيده تأكيدا: أن
رجلا أكل عنده (ص) بشماله فقال: كل بيمينك فقال لا أستطيع قال:
لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها إلى فيه. أخرجه مسلم ولا يدعو صلى الله عليه وسلم
إلا على من ترك الواجب. وأما كون الدعاء لتكبره فهو محتمل أيضا ولا ينافي أن الدعاء عليه
للامرين معا. وفي قوله: وكل مما يليك دليل أنه يجب الأكل مما يليه وأنه ينبغي حسن العشرة
للجليس وأن لا يحصل من الانسان ما يسوء جليسه مما فيه سوء عشرة، وترك مروءة. فقد يتقذر
جليسه ذلك لا سيما في الثريد والامراق ونحوها إلا في مثل الفاكهة. فإنه قد أخرج الترمذي
وغيره من حديث عكرا ش بن ذؤيب قال: أتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر وهو بفتح الواو
وفتح الذال المعجمة فراء جمع وذرة قطعة من اللحم لا عظم فيها فخبطت بيدي في نواحيها
وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى
ثم قال: يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد ثم أتينا بطبق فيه ألوان التمر
فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق. فقال:
159

يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد. فهذا يدل على التفرقة بين الأطعمة
والفواكه بل يدل على أنه إذا تعدد لون المأكول من طعام أو غيره فله أن يأكل من أي
جانب وكذلك إذا لم يبق تحت يد الآكل شئ فله أن يتبع ذلك ولو من سائر الجوانب.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس: أن خياط دعا النبي (ص) لطعام
صنعه قال: فذهبت مع النبي (ص) فقرب خبز شعير ومرقا فيه دباء وقديد،
فرأيت النبي (ص) يتتبع الدباء من حوالي القصعة أي جوانبها فلم أزل أتتبع
الدباء من يومئذ. وفي الحديث قال أنس: فلما رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه "
وهو دليل على تطلبه له من جميع القصعة لمحبته له.
هذا ومما نهي عنه الأكل من وسط القصعة كما يدل له الحديث الآتي وهو قوله:
12 - (وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي (ص) أتي بقصعة من
ثريد فقال: كلوا من جوانبها ولا تأكلوا من وسطها فإن البركة تنزل
في وسطها رواه الأربعة وهذا لفظ النسائي وسنده صحيح. دل على النهي عن الأكل
من وسط القصعة وعلله بأنه تنزل البركة في وسطها وكأنه إذا أكل منه لم ينزل البركة
على الطعام والنهي يقتضي التحريم وسواء كان الآكل وحده أو مع جماعة.
13 - وعن أبي هريرة قال: ما عاب رسول الله (ص)
طعاما قط، كان إذا اشتهى شيئا أكله وإن كرهه تركه متفق عليه. فيه إخبار بعدم
عيبه صلى الله عليه وسلم للطعام وذمه له فلا يقول هو مالح أو حامض أو نحو ذلك.
وحاصله أنه دل على عدم عنايته صلى الله عليه وسلم بالأكل بل ما اشتهاه أكله وما لم
يشتهه تركه وليس في تركه ذلك دليل على أنه يحرم عيب الطعام.
14 - (وعن جابر رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: لا تأكلوا
بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال رواه مسلم). تقدم أنه من أدلة تحريم الأكل بالشمال
وإن ذهب الجماهير إلى كراهته لا غير وقد ورد في الشرب كذلك أيضا وهو دليل
على أن الشيطان يأكل أكلا حقيقيا.
15 - (وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: إذا شرب
أحدكم فلا يتنفس في الاناء (ثلاثا) متفق عليه). وقد أخرج الشيخان من حديث
أنس: أنه (ص) كان يتنفس في الشراب ثلاثا أي في أثناء الشراب لا أنه
في إناء الشراب. وورد تعليل ذلك في رواية مسلم أنه أروى أي أقمع للعطش وأبرأ: أي
أكثر برأ لما فيه من الهضم ومن سلامته من التأثير في برد المعدة وأمرأ أي أكثر مراءة لما
فيه من السهولة. وقيل: العلة خشية تقذيره على غيره لأنه قد يخرج شئ من الفم فيتصل بالماء
فيقذره على غيره.
16 - (ولأبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما) أي مرفوعا (وزاد) على ما ذكر (وينفخ
160

فيه، وصححه الترمذي). فيه دلالة على تحريم النفخ في الاناء وأخرج الترمذي من حديث
أبي سعيد: أن النبي (ص) نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل: القذاة أراها
في الاناء، فقال: أهرقها. قال: فإني لا أروى من نفس واحد، قال: فأبن القدح عن فيك ثم تنفس
في الشرب ثلاث مرات. من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: لا تشربوا واحدا أي شربا واحدا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث
وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنت رفعتم وأفاد أن المرتين سنة أيضا، نعم. وقد ورد النهي
عن الشرب من فم السقاء فأخرج الشيخان من حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نهى عن الشرب من في السقاء. وأخرجا من حديث أبي سعيد قال: نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية، زاد في رواية: واختناثها أن يقلب
رأسها ثم يشرب منه. وقد عارضه حديث كبشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله
عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة فقمت إلى فيها فقطعته أي أخذته شفاء
نتبرك به ونستشفى به. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب صحيح. وأخرجه ابن ماجة، وجمع
بينهما بأن النهي إنما هو في السقاء الكبير والقربة هي الصغيرة. أو أن النهي للتنزيه لئلا
يتخذه الناس عادة دون الندرة. وعلة النهي أنها قد تكون فيه دابة فتخرج إلى في الشارب
فيبتلعها مع الماء كما ورد أنه شرب رجل من في السقاء فخرجت منه حية. وكذلك ثبت
النهي عن الشرب قائما. فأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: لا يشربن أحدكم قائما فمن نسي فليستقئ أي يتقيأ، وفي رواية عن أنس
زجر عن الشرب قائما، قال قتادة: قلنا فالاكل، قال: أشد وأخبث. ولكنه عارضه
ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من
زمزم فشرب وهو قائم. وفي لفظ: أن رسول الله (ص) شرب من زمزم وهو
قائم. وفي صحيح البخاري أن عليا رضي الله عنه شرب قائما وقال: رأيت رسول الله
(ص) فعل كما رأيتموني. وجمع بينهما بأن النهي للتنزيه فعله صلى الله عليه
وسلم بيانا لجواز ذلك فهو واجب في حقه (ص) لبيان التشريع وقد وقع منه
(ص) مثل هذا في صور كثيرة. وأما التقيؤ لمن شرب قائما فإنه يستحب للحديث
الصحيح الوارد بذلك وظاهر حديث التقيؤ أنه يستحب مطلقا لعامد وناس ونحوهما.
وقال القاضي عياض: إنه من شرب ناسيا فلا خلاف بين العلماء أنه ليس عليه أن يتقيأ،
نعم ومن آداب الشرب أنه إذا كان عند الشارب جلساء وأراد أن يعمم الجلساء أن يبدأ بمن
عن يمينه كما أخرج الشيخان من حديث أنس: أنه أعطى (ص) القدح
فشرب وعن يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي فقال عمر: أعط أبا بكر يا رسول الله،
فأعطى الاعرابي الذي عن يمينه ثم قال: الأيمن فالأيمن. وأخرجا من حديث سهل بن سعد
قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم هو
عبد الله بن عباس والأشياخ عن يساره فقال: يا غلام أتأذن أن أعطيه الأشياخ؟ فقال:
161

ما كنت لأؤثر بفضل منك أحدا يا رسول الله فأعطاه إياه. ومن مكروهات الشرب أن
لا تشرب من ثلمة القدح لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري: نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح.
باب القسم بين الزوجات
1 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يقسم
بين نسائه ويعدل ويقول: اللهم هذا قسمي) بفتح القاف (فيما أملك) وهو
المبيت مع كل واحدة في نوبتها (فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) قال الترمذي:
يعني الحب والمودة (رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم ولكن رجح الترمذي
إرساله). قال أبو زرعة: لا أعلم أحدا تابع حماد بن سلمة على وصله لكن صححه ابن حبان
من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة
موصولا. والذي رواه مرسلا هو حماد بن يزيد عن أيوب عن أبي قلابة عن عائشة. قال
الترمذي: المرسل أصح. قلت: بعد تصحيح ابن حبان الوصل فقد تعاضد الموصل
والمرسل. دل الحديث على أنه (ص) كان يقسم بين نسائه، وتقدمت الإشارة
إلى أنه هل كان واجبا عليه أم لا؟ قيل: وكان القسم عليه (ص) غير واجب لقوله
تعالى: * (ترجي من تشاء منهن) * قال بعض المفسرين: إنه أباح الله له أن يترك التسوية
والقسم بين أزواجه حتى إنه ليؤخر من شاء منهن عن نوبتها ويطأ من يشاء في غير نوبتها وأن
ذلك من خصائصه (ص) بناء على أن الضمير في منهن للزوجات. وإذا ثبت
أنه لا يجب القسم عليه (ص) فإنه كان يقسم بينهن من حسن عشرته وكمال حسن
خلقه وتأليف قلوب نسائه. والحديث يدل على أن المحبة وميل القلب أمر غير مقدور للعبد
بل هو من الله تعالى لا يملكه العبد ويدل له * (ولكن الله ألف بينهم) * بعد قوله: * (لو أنفقت
ما في الأرض جميعا ما ألفت بينهم) * وبه فسر * (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) *.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: من كانت له
امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل رواه أحمد
والأربعة وسنده صحيح). الحديث دليل على أنه يجب على الزوج التسوية بين الزوجات ويحرم
عليه الميل إلى إحداهن وقد قال تعالى: * (فلا تميلوا كل الميل) * والمراد الميل في القسم والانفاق
لا في المحبة لما عرفت من أنها مما لا يملكه العبد. ومفهوم قوله: * (كل الميل) * جواز الميل اليسير
ولكن إطلاق الحديث ينفي ذلك ويحتمل تقييد الحديث بمفهوم الآية.
3 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: من السنة إذا تزوج الرجل البكر
على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم
قسم متفق عليه واللفظ للبخاري). يريد من سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فله حكم الرفع.
162

ولذا قال أبو قلابة راويه عن أنس: ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم يريد فيكون رواية بالمعنى إذ معنى من السنة هو الرفع إلا إنه رأى المحافظة على قول
أنس أولى وذلك لان كونه مرفوعا إنما هو بطريق اجتهادي محتمل والرفع نص وليس
للراوي أن ينقل ما هو محتمل إلى ما هو نص غير محتمل كذا قاله ابن دقيق العيد. وبالجملة
إنهم لا يعنون بالسنة إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال سالم: وهل يعنون - يريد
الصحابة - بذلك إلا سنة النبي (ص)؟. والحديث قد أخرجه أئمة من المحدثين
عن أنس مرفوعا من طرق مختلفة عن أبي قلابة. والحديث دليل على إيثار الجديدة لمن
كانت عنده زوجة وقال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب
الزفاف سواء أكانت عنده زوجة أم لا واختاره النووي لكن الحديث دل على أنه فيمن
كانت عنده زوجة. وقد ذهب إلى التفرقة بين البكر والثيب بما ذكر الجمهور فظاهر
الحديث أنه واجب وأنه حق للزوجة الجديدة وفي الكل خلاف لم يقم عليه دليل يقاوم
الأحاديث. والمراد بالإيثار في البقاء عندها ما كان متعارفا حال الخطاب. والظاهر أن الايثار
يكون بالمبيت والقيلولة لا استغراق ساعات الليل والنهار عندها كما قاله جماعة. حتى قال ابن
دقيق العيد: إنه أفرط بعض الفقهاء حتى جعل مقامه عندها عذرا في اسقاط الجمعة. وتجب
الموالاة في السبع والثلاث فلو فرق وجب الاستئناف. ولا فرق بين الحرة والأمة فلو تزوج
أخرى في مدة السبع أو الثلاث فالظاهر أنه يتم ذلك لأنه قد صار مستحقا لها.
4 - (وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام
عندها ثلاثا وقال: إنه ليس بك على أهلك) يريد نفسه (هوان: إن شئت
سبعت لك) أي أتممت عندك سبعا (وإن سبعت لك سبعت لنسائي رواه مسلم)
وزاد في رواية: دخل عليها فلما أراد أن يخرج أخذت بثوبه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن شئت زدت لك وحاسبتك: للبكر سبع وللثيب ثلاث. دل ما تقدم على استحقاق
البكر والثيب ما ذكر من العدد ودلت الأحاديث على أنه إذا تعدى الزوج المدة المقدرة
برضا المرأة سقط حقها من الايثار ووجب عليها القضاء لذلك وأما إذا كان بغير رضاها
فحقها ثابت وهو مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: إن شئت. ومعنى قوله: ليس بك على
أهلك هوان أن لا يلحقك منا هوان ولا نضيع مما تستحقينه شيئا بل تأخذينه كاملا
ثم أعلمها أن إليها الاختيار بين ثلاث بلا قضاء وبين سبع ويقضي نساءه. وفيه حسن
ملاطفة الأهل وإبانة ما يجب لهم وما لا يجب والتخيير لهم فيما هو لهم.
5 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن سودة بنت زمعة) بفتح الزاي والميم وعين مهملة،
وكان (ص) تزوج سودة بمكة بعد موت خديجة وتوفيت بالمدينة سنة أربع
وخمسين (وهبت يومها لعائشة وكان النبي (ص) يقسم لعائشة يومها ويوم سودة.
متفق عليه). زاد البخاري: وليلتها وزاد أيضا في آخره: تبتغي بذلك رضا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود وذكر فيه سبب الهبة بسند رجاله رجال مسلم: أن
163

سودة حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله (ص) قالت: يا رسول الله
يومي لعائشة فقبل ذلك منها ففيها وأشباهها نزلت: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) *
الآية أخرج ابن سعد برجال ثقات من رواية القاسم بن أبي بزة مرسلا: أن النبي صلى
الله عليه وسلم طلقها يعني سودة فقعدت على طريقه وقالت: والذي بعثك بالحق مالي
في الرجال حاجة ولكني أحب أن أبعث مع نسائك يوم ألقيت فأنشدك بالذي أنزل عليك
الكتاب هل طلقتني بوجدة وجدتها علي؟ قال: لا. قالت: فأنشدك الله لما راجعتني
فراجعها قالت: فإني جعلت يومي لعائشة حبة رسول الله (ص).
وفي الحديث دليل على جواز هبة المرأة نوبتها لضرتها ويعتبر رضا الزوج لان له حقا
في الزوجة فليس لها أن تسقط حقه إلا برضاه. واختلف الفقهاء إذا وهبت نوبتها للزوج،
فقال الأكثر: تصح ويخص بها الزوج من أراد وهذا هو الظاهر وقيل: ليس له ذلك بل
تصير كالمعدومة وقيل: إن قالت له: خص بها من شئت جاز، لا إذا أطلقت له. قالوا:
ويصح الرجوع للمرأة فيما وهبت من نوبتها لان الحق يتجدد.
6 - (وعن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: يا ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا وكان قل يوم إلا وهو يطرق علينا
جميعا فيدنو من كل واحدة من غير مسيس) وفي رواية بغير وقاع فهو المراد هنا (حتى يبلغ
التي هو يومها فيبيت عندها. رواه أحمد وأبو داود واللفظ له وصححه الحاكم). فيه دليل على
أنه يجوز للرجل الدخول على من لم يكن في يومها من نسائه والتأنيس لها واللمس والتقبيل.
وفيه بيان حسن خلقه (ص) وأنه كان خير الناس لأهله. وفي هذا رد لما قاله
ابن العربي وقد أشرنا إليه سابقا أنه كان له (ص) ساعة من النهار لا يجب عليه
القسم فيها وهي بعد العصر قال المصنف: لم أجد لما قاله دليلا وقد عين الساعة التي
يدور فيها الحديث الآتي وهو قوله:
7 - (ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله (ص) إذا صلى العصر دار
على نسائه ثم يدنون منهن) أي دنو لمس وتقبيل من دون وقاع كما عرفت.
8 - (وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله (ص) كان يسأل في مرضه
الذي مات فيه: أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان
في بيت عائشة متفق عليه). وفي رواية وكان أول ما بدئ به من مرضه في بيت ميمونة
أخرجها البخاري في آخر كتاب المغازي وقوله: فأذن له أزواجه. ووقع عند أحمد عن
عائشة أنه (ص) قال: إني لا أستطيع أن أدور بيوتكن فإن شئتن أذنتن لي،
فأذن له. ووقع عند ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري أن فاطمة هي التي خاطبت
أمهات المؤمنين وقالت: إنه يشق عليه الاختلاف ويمكن أنه استأذن صلى الله عليه وسلم
واستأذنت له فاطمة رضي الله عنها فيجتمع الحديثان. ووقع في رواية: أنه دخل بيت عائشة
يوم الاثنين ومات يوم الاثنين الذي يليه والحديث دليل على أن المرأة إذا أذنت كان
164

مسقطا لحقها من النوبة وأنه لا تكفي القرعة إذا مرض كما تكفي إذا سافر كما دل له قوله.
9 - (وعنها) أي عائشة (قالت: كان رسول الله (ص) إذا أراد سفرا
أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه متفق عليه). وأخرجه ابن سعد وزاد فيه
عنها: فكان إذا خرج سهم غيري عرف فيه الكراهية. دل الحديث على القرعة بين الزوجات
لمن أراد سفرا وأراد اخراج إحداهن معه وهذا فعل لا يدل على الوجوب. وذهب الشافعي
إلى وجوبه. وذهبت الهادوية إلى أن له السفر بمن شاء وأنه لا تلزمه القرعة قال: لأنه
لا يجب عليه القسم في السفر وفعله (ص) إنما كان من مكارم أخلاقه ولطف
شمائله وحسن معاملته فإن سافر بزوجة فلا يجب القضاء لغير من سافر بها. وقال
أبو حنيفة: يجب القضاء سواء كان سفره بقرعة أو بغيرها. وقال الشافعي: إن كان بقرعة
لم يجب القضاء وإن كان بغيرها وجب عليه القضاء ولا دليل على الوجوب مطلقا ولا
مفصلا. والاستدلال بأن القسم واجب وأنه لا يسقط الواجب بالسفر جوابه أن السفر أسقط
هذا الواجب بدليل أن له أن يسافر ولا يخرج منهن أحدا فإنه لا يجب عليه بعد عوده قضاء
أيام سفره لهن اتفاقا. والاقراع لا يدل الحديث على وجوبه لما عرفت أنه فعل. وفي الحديث
دليل على اعتبار القرعة بين الشركاء ونحوهم. والمشهور عن المالكية والحنفية عدم اعتبار
القرعة قال القاضي عياض: وهو مشهور عن مالك وأصحابه لأنه من باب الحظ والقمار،
وحكي عن الحنفية إجازتها اه‍. واحتج من منع من القرعة بأن بعض النساء قد تكون أنفع
في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا نفع فيها في السفر لأضر بحال الزوج. وكذا
قد يكون بعض النساء أقوم برعاية مصالح بيت الرجل في الحضر فلو خرجت القرعة
عليها بالسفر لأضر بحال الزوج من رعاية مصالح بيت الرجل في الحضر. وقال القرطبي:
تختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا يخص واحدة فيكون ترجيحا بلا مرجح
قيل: هذا تخصيص لعموم الحديث بالمعنى الذي شرع لأجل الحكم. والجري على ظاهره
كما ذهب إليه الشافعي أقوم.
10 - (وعن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه) هو ابن الأسود بن عبد المطلب بن
أسد بن عبد العزى صحابي مشهور وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وعداده
في أهل المدينة (قال: قال رسول الله (ص): لا يجلد أحدكم امرأته
جلد العبد) بالنصب على المصدرية (رواه البخاري) وتمامه فيه ثم يجامعها وفي رواية
ولعله أن يضاجعها. وفي الحديث دليل على جواز ضرب المرأة ضربا خفيفا لقوله: جلد
العبد، ولقوله في رواية أبي داود: ولا تضرب طعينتك ضربك أمتك، وفي لفظ للنسائي: كما
تضرب العبد أو الأمة. وفي رواية للبخاري: ضرب الفحل أو العبد فإنها دالة على جواز
الضرب إلا أنه لا يبلغ ضرب الحيوانات والمماليك. وقد قال تعالى: * (واضربوهن) * ودل على جواز
ضرب غير الزوجات فيما ذكر ضربا شديدا. وقوله " ثم يجامعها " دال على أن علة النهى
أن ذلك لا يستحسنه العقلاء في مجرى العادات لان الجماع والمضاجعة إنما تليق مع ميل نفس
165

الغبة ف العشرة والمجلود غالبا ينفر عمن جلده. بخلاف التأديب المستحسن فإنه لا ينفر
الطباع، ولا ريب أن عدم الضرب والاغتفار والسماحة أشرف من ذلك كما هو أ خلاق رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج النسائي من حديث عائشة ما ضرب رسول الله صلى
الله عليه وسلم لامرأة له ولا خادما قط ولا ضرب بيده قط إلا في سبيل الله أو تنتهك محارم
الله فينتقم لله.
باب الخلع
بضم المعجمة وسكون اللام هو فراق الزوجة على مال، مأخوذ من خلع الثوب لأن المرأة
لباس الرجل مجازا وضم المصدر تفرقة بين المعنى الحقيقي والمجازي والأصل فيه قوله
تعالى: * (وإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) *.
1 - (عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس) سماها البخاري جميلة،
ذكره عن عكرمة مرسلا وأخرج البيهقي مرسلا أن اسمها زينب بنت عبد الله بن أبي ابن
سلول وقيل غير ذلك (أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس)
هو خزرجي أنصاري شهد أحدا وما بعدها وهو من أعيان الصحابة كان خطيبا
للأنصار ولرسول لله صلى الله عليه وسلم وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة
(ما أعيب) روى بالمثناة الفوقية مضمومة ومكسورة من العتب وبالمثناة التحتية ساكنة من
العيب وهو أوفق بالمراد (عليه في خلق) ضم الخاء وضم اللام ويجوز سكونها (ولا
دين ولكني أكره الكفر في الاسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين
عليه حديقته؟ فقالت: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة
وطلقها تطليقة رواه البخاري. وفي رواية له: وأمره بطلاقها، ولأبي داود
والترمذي أي: من حديث ابن عباس وحسنه: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل
النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة). قولها: أكره الكفر في الاسلام أي أكره من الإقامة
عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر. والمراد ما يضاد الاسلام من النشوز وبغض الزوج وغير ذلك
أطلقت على ما ينافي خلق الاسلام الكفر مبالغة ويحتمل غير ذلك. وقوله: حديقته أي
بستانه ففي الرواية أنه كان تزوجها على حديقة نخل. الحديث فيه دليل على شرعية الخلع
وصحته وأنه يحل أخذ العوض من المرأة. واختلف العلماء هل يشترط في صحته أن تكون المرأة
ناشزة أم لا. فذهب إلى الأول الهادي والظاهرية واختاره ابن المنذر مستدلين بقصة ثابت
هذه فإن طلب الطلاق نشوز. وبقوله تعالى: * (إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) * وقوله:
* (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *. وذهب أبو حنيفة والشافعي والمؤيد وأكثر أهل العلم إلى الثاني
166

وقالوا: يصح الخلع مع التراضي بين الزوجين وإن كانت الحال مستقيمة بينهما ويحل
العوض لقوله تعالى: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) * ولم تفرق. ولحديث: إلا بطيبة
من نفسه وقالوا: إنه ليس في حديث ثابت هذا دليل على الاشتراط والآية يحتمل أن الخوف
فيها وهو الظن والحسبان يكون في المستقبل فيدل على جوازه وإن كان الحال مستقيما بينهما
وهما مقيمان لحدود الله في الحال. ويحتمل أن يراد أن يعلما ألا يقيما حدود الله ولا يكون العلم
إلا لتحققه في الحال كذا قيل. وقد يقال إن العلم لا ينافي أن يكون النشوز مستقبلا والمراد
إني أعلم في الحال أني لا أحتمل معه إقامة حدود الله في الاستقبال وحينئذ فلا دليل على
اشتراط النشوز في الآية على التقديرين. ودل الحديث على أن يأخذ الزوج منها ما أعطاها
من غير زيادة. واختلف هل تجوز الزيادة أم لا فذهب الشافعي ومالك إلى أنها تحل
الزيادة إذا كان النشوز من المرأة قال مالك: لم أزل أسمع أن الفدية تجوز بالصداق وبأكثر
منه لقوله تعالى: * (لا جناح عليهما فيما افتدت به) *. قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أنه
يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها وقال مالك: لم أر أحدا ممن يقتدي
به منع ذلك لكنه ليس من مكارم الأخلاق. وأما الرواية التي فيها أنه قال صلى الله عليه وسلم
أما الزيادة فلا فلم يثبت رفعها. وذهب عطاء وطاوس وأحمد وإسحاق والهادوية وآخرون
إلى أنها لا تجوز الزيادة لحديث الباب. ولما ورد من رواية: أما الزيادة فلا فإنه قد أخرجها
في آخر حديث الباب البيهقي وابن ماجة عن ابن جريج عن عطاء مرسلا ومثله عند الدارقطني،
وأنها قالت لما قال لها النبي (ص): أتردين عليه حديقته؟ قالت: وزيادة، قال
النبي (ص): أما الزيادة فلا الحديث ورجاله ثقات إلا أنه مرسل. وأجاب: من قال
بجواز الزيادة أنه لا دلالة في حديث الباب على الزيادة نفيا ولا إثباتا. وحديث: أما الزيادة فلا
تقدم الجواب عنه بأنه لم يثبت رفعها وأنه مرسل وإن ثبت رفعها فلعله خرج مخرج المشورة
عليها والرأي وأنه لا يلزمها لا أنه خرج مخرج الاخبار عن تحريمها على الزوج. وأما أمره صلى الله
عليه وسلم بتطليقه لها فإنه أمر إرشاد لا إيجاب كذا قيل. والظاهر بقاؤه على أصله من الايجاب
ويدل له قوله تعالى: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * فإن المراد يجب عليه أحد الامرين
وهنا قد تعذر الامساك بمعروف لطلبها للفراق فيتعين عليه التسريح بإحسان. ثم الظاهر إنه
يقع الخلع بلفظ الطلاق وأن المواطأة على رد المهر لأجل الطلاق يصير بها الطلاق خلعا.
واختلفوا إذا كان بلفظ الخلع فذهبت الهادوية وجمهور العلماء إلى أنه طلاق وحجتهم
أنه لفظ لا يملكه إلا الزوج فكان طلاقا ولو كان فسخا لما جاز على غير الصداق كالإقالة
وهو يجوز عند الجمهور بما قل أو كثر فدل أنه طلاق. وذهب ابن عباس وآخرون إلى أنه
فسخ وهو مشهور مذهب أحمد ويدل له أنه (ص) أمرها أن تعتد بحيضة
قال الخطابي: في هذا أقوى دليل لمن قال إن الخلع فسخ وليس بطلاق إذا لو كان طلاقا
لم يكتف بحيضة للعدة. واستدل القائل بأنه فسخ أنه تعالى ذكر في كتابه الطلاق قال
* (الطلاق مرتان) * ثم ذكر الافتداء ثم قال: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا
167

غيره) *. فلو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له إلا من بعد زوج هو الطلاق الرابع
وهذا الاستدلال مروي عن ابن عباس فإنه سأله رجل طلق امرأته طلقتين ثم اختلعها
قال: نعم ينكحها فإن ينكحها فإن الخلع ليس بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع
فيما بين ذلك فليس الخلع بشئ ثم قال: * (الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان) *
ثم قرأ: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) *. وقد قررنا أنه ليس بطلاق
في منحة الغفار حاشية ضوء النهار ووضحنا هناك الأدلة وبسطناها. ثم من قال إنه طلاق
يقول إنه طلاق بائن لأنه لو كان للزوج الرجعة لم يكن للافتداء بها فائدة. وللفقهاء أبحاث
طويلة وفروع كثيرة في الكتب الفقهية فيما يتعلق بالخلع ومقصودنا شرح ما دل عليه
الحديث على أنه قد زدنا على ذلك ما يحتاج إليه.
2 - (وفي رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن ماجة أن ثابت بن قيس
كان دميما وأن امرأته قالت: لولا مخافة الله إذا دخل علي لبصقت في وجهه). وفي رواية
عن ابن عباس أن امرأة ثابت أتت رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله
لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو
أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. الحديث فصرح الحديث بسبب طلبها الخلع.
3 - (ولأحمد من حديث سهل بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة فمثلثة ساكنة (وكان
ذلك أول خلع في الاسلام) أنه أول خلع وقع في عصره (ص) وقيل إنه وقع
في الجاهلية وهو أن عامر بن الظرب بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء ثم موحدة زوج
ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث فلما دخلت عليه نفرت منه فشكا إلى أبيها فقال:
لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها. زعم بعض العلماء أن هذا
كان أول خلع في العرب.
كتاب الطلاق
هو لغة حل الوثاق. مشتق من الاطلاق وهو الارسال والترك وفلان طلق اليدين
بالخير أي كثير البذل والارسال لهما بذلك وفي الشرع حل عقدة التزويج قال إمام
الحرمين: هو لفظ جاهلي ورد الاسلام بتقريره.
1 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): أبغض
الحلال إلى الله الطلاق رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم ورجح أبو حاتم
إرساله) وكذا الدارقطني والبيهقي رجحا الارسال. الحديث فيه دليل على أن في الحلال أشياء
مبغوضة إلى الله تعالى وأن أبغضها الطلاق فيكون مجازا عن كونه لا ثواب فيه ولا قربة في فعله
ومثل بعض العلماء المبغوض من الحلال بالصلاة المكتوبة في غير المسجد لغير عذر. والحديث
دليل على أنه يحسن تجنب إيقاع الطلاق ما وجد عنه مندوحة. وقد قسم بعض العلماء
168

الطلاق إلى الأحكام الخمسة فالحرام الطلاق البدعي والمكروه الواقع بغير سبب مع استقامة
الحال وهذا هو القسم المبغوض مع حله.
2 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: مره
فليراجعها ثم ليمسكها حتى تظهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد
وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء
متفق عليه). في قوله: مره فليراجعها دليل على أن الآمر لابن عمر بالمراجعة النبي صلى الله
عليه وسلم فإن عمر مأمور بالتبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابنه بأنه مأمور
بالمراجعة. فهو نظير قوله تعالى: * (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) * فإنه صلى الله عليه
وسلم مأمور بأن يأمرنا بإقامة الصلاة فنحن مأمورون من الله تعالى. وابن عمر كذلك
مأمور من النبي (ص) فلا يتوهم أن هذه المسألة من باب مسألة هل الامر
بالأمر بالشئ أمر بذلك الشئ. وإنما تلك المسألة مثل قوله (ص): مروا أولادكم
بالصلاة لسبع الحديث لا مثل هذه. وإذا عرفت أنه مأمور منه صلى الله عليه وسلم بالمراجعة
فهل الامر للوجوب فتجب الرجعة أم لا؟ ذهب إلى الأول مالك وهو رواية عن أحمد،
وصحح صاحب الهداية من الحنفية وجوبها وهو قول داود ودليلهم الامر بها. قالوا: فإذا
امتنع الرجل منها أدبه الحاكم فإن أصر على الامتناع ارتجع الحاكم عنه. وذهب الجمهور
إلى أنها مستحبة فقط قالوا: لان ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك فكان القياس
قرينة على أن الامر للندب. وأجيب بأن الطلاق لما كان محرما في الحيض كان استدامة
النكاح فيه واجبة. وفي قوله: حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر دليل على أنه لا يطلق إلا
في الطهر الثاني دون الأول. وقد ذهب إلى تحريم الطلاق فيه مالك وهو الأصح عند
الشافعية وذهب أبو حنيفة إلى أن الانتظار إلى الطهر الثاني مندوب وكذا عن أحمد
مستدلين بقوله: (وفي رواية لمسلم) أي عن ابن عمر: (مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا
أو حاملا). فأطلق الطهر ولان التحريم إنما كان لأجل الحيض فإذا زال: زال موجب
التحريم فجاز طلاقها في هذا كما جاز في الذي بعده وكما يجوز في الطهر الذي لم يتقدمه
طلاق في حيضة ولا يخفى قرب ما قالوه. وفي قوله: قبل أن يمس دليل على أنه إذا
طلق في الطهر بعد المس فإنه طلاق بدعي محرم وبه صرح الجمهور. وقال بعض المالكية:
إنه يجبر على الرجعة فيه كما إذا طلق وهي حائض. وفي قوله: ثم تطهر وقوله: طاهرا
خلاف للفقهاء هل المراد به انقطاع الدم؟ أو لا بد من الغسل؟ فعن أحمد روايتان والراجح أنه
لا بد من اعتبار الغسل لما مر في رواية النسائي: فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها
حتى يطلقها وإن شاء أن يمسكها أمسكها وهو مفسر لقوله (طاهرا). وقوله (ثم تطهر)
وقوله (تلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) أي أذن في قوله: * (فطلقوهن لعدتهن) *.
169

وفي رواية مسلم قال ابن عمر: وقرأ النبي (ص) * (يا أيها النبي) * الآية. وفي
الحديث دليل على أن الأقراء الأطهار للامر بطلاقها في الطهر وقوله: * (فطلقوهن لعدتهن) *
أي وقت ابتداء عدتهن. وفي قوله: أو حاملا دليل على أن طلاق الحامل سني وإليه ذهب
الجمهور. وإذا عرفت أن الطلاق البدعي منهي عنه محرم فقد اختلف فيه هل يقع ويعتد
به أم لا يقع فقال الجمهور: يقع مستدلين بقوله في هذا الحديث (وفي أخرى) أي
في رواية أخرى (للبخاري وحسبت تطليقة) وهو بضم الحاء المهملة ومبني للمجهول:
من الحساب والمراد جعلها واحدة من الثلاث التطليقات التي يملكها الزوج. ولكنه لم يصرح
بالفاعل هنا فإن كان الفاعل ابن عمر فلا حجة فيه وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم
فهو الحجة. إلا أنه قد صرح بالفاعل في غير هذه الرواية كما في مسند ابن وهب بلفظ:
وزاد ابن أبي ذئب في الحديث: عن النبي (ص) وهي واحدة، وأخرجه الدارقطني
من حديث ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعا عن نافع عن ابن عمر عن النبي (ص)
قال: هي واحدة. وقد ورد أن الحاسب لها هو النبي (ص) من طرق يقوي
بعضها بعضا. (وفي رواية لمسلم قال ابن عمر) أي لما سأله سائل: (أما أنت طلقتها واحدة
أو اثنتين فإن رسول الله (ص) أمرني أن أراجعها ثم أمسكها حتى تحيض
حيضة أخرى ثم أمهلها حتى تطهر ثم أطلقها قبل أن أمسها وأما أنت طلقتها ثلاثا
فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك) دل على تحريم الطلاق في الحيض.
وقد يدل له: أمرني أن أراجعها على وقوع الطلاق إذ الرجعة فرع الوقوع وفيه بحث
وخالف فيه طاوس والخوارج والروافض وحكاه في البحر عن الباقر والصادق والناصر، قالوا
لا يقع شئ ونصر هذا القول ابن حزم ورجحه ابن تيمية وابن القيم واستدلوا بقوله: (وفي
رواية أخرى) أي لمسلم عن ابن عمر: (قال عبد الله بن عمر: فردها علي ولم يرها شيئا
وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك). ومثله في رواية أبي داود: فردها علي ولم يرها شيئا "
وإسناده على شرط الصحيح. إلا أنه قال ابن عبد البر في قوله: (ولم يرها شيئا) منكر لم يقله
غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه ولو صح لكان
معناها والله أعلم: ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تقع على السنة. وقال الخطابي: قال أهل
الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا ويحتمل أن معناه: لم يرها شيئا تحرم معه
المراجعة أو لم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار وإن كان لازما له. نقل البيهقي
في المعرفة عن الشافعي أنه ذكر رواية أبن الزبير فقال: نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت
من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا. وقد وافق نافعا غيره من أهل التثبت. قال: وحمل
170

قوله: ولم يرها شيئا على أنه لم يعدها شيئا صوابا غير خطأ بل يؤمر صاحبه ألا يقيم عليه لأنه
أمره بالمراجعة ولو كان طلقها طاهرا لم يؤمر بذلك. فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله
أو أخطأ في جوابه إنه لم يصنع شيئا أي لم يصنع شيئا صوابا. وقد أطال ابن القيم الكلام
على نصرة عدم الوقوع ولكن بعد ثبوت أنه (ص) حسبها تطليقة تطيح كل
عبارة ويضيع كل صنيع وقد كنا نفتي بعدم الوقوع وكتبنا فيه رسالة وتوقفنا مدة
ثم رأينا وقوعه.
(تنبيه) ثم إنه قوي عندي ما كنت أفتي به أولا من عدم الوقوع لأدلة قوية سقتها في رسالة
سميناها الدليل الشرعي في عدم وقوع الطلاق البدعي ومن الأدلة أنه مسمى ومنسوب إلى
البدعة وكل بدعة ضلالة والضلالة لا تدخل في نفوذ حكم شرعي ولا يقع بها بل هي
باطلة. ولان الرواة لحديث ابن عمر اتفقوا على أن المسند المرفوع في هذا الحديث غير
مذكور فيه أن النبي (ص) حسب تلك التطليقة على ابن عمر ولا قال له قد
وقعت ولا رواه ابن عمر مرفوعا. بل في صحيح مسلم ما دل على أن وقوعها إنما هو رأي
لابن عمر وأنه سئل عن ذلك فقال: وما لي لا أعتد بها وإن كنت قد عجزت واستحمقت.
وهذا يدل على أنه لا يعلم في ذلك نصا نبويا لأنه لو كان عنده لم يترك روايته ويتعلق بهذه
العلة العليلة فإن العجز والحمق لا مدخل لهما في صحة الطلاق. ولو كان عنده نص نبوي
لقال: وما لي لا أعتد بها وقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعتد بها. وقد صرح
الامام الكبير محمد بن إبراهيم الوزير بأنه قد اتفق الرواة على عدم رفع الوقوع في الرواية إليه
صلى الله عليه وسلم. وقد ساق السيد محمد ست عشر حجة على عدم وقوع الطلاق البدعي
ولخصناها في رسالتنا المذكورة وبعد هذا تعرف رجوعنا عما هنا فيلحق هذا في نسخ
سبل السلام. وأما الاستدلال على الوقوع بقوله فليراجعها ولا رجعة إلا بعد طلاق فهو
غير ناهض لان الرجعة المقيدة ببعد الطلاق عرف شرعي متأخر إذ هي لغة أعم من ذلك.
ودل الحديث على تحريم الطلاق في الحيض وبأن الرجعة يستقل بها الزوج من دون رضا
المرأة والولي لأنه جعل ذلك إليه ولقوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) *. وبأن الحامل
لا تحيض لقوله: طاهرا أو حاملا فدل على أنها لا تحيض لاطلاق الطلاق فيه. وأجيب بأن
حيض الحامل لما لم يكن له أثر في تطويل العدة لم يعتبر لان عدتها بوضع الحمل وأن الأقراء
في العدة هي الأطهار. قال الغزالي: ويستثنى من تحريم طلاق الحائض طلاق المخالعة،
لان النبي صلى الله وسلم لم يستفصل حال امرأة ثابت هل هي طاهرة أو حائض مع أمره له
بالطلاق. والشافعي يذهب إلى أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
3 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب
إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) بفتح الهمزة أي مهملة (فلو أمضيناه عليهم
فأمضاه عليهم رواه مسلم). الحديث ثابت من طرق عن ابن عباس. وقد استشكل أنه
171

كيف يصح من عمر مخالفة ما كان في عصره صلى الله عليه وسلم ثم في عصر أبي بكر ثم في أول
أيامه. وظاهر كلام ابن عباس أنه كان الاجماع على ذلك. وأجيب عنه بستة أجوبة. الأول
أنه كان الحكم كذلك ثم نسخ في عصره صلى الله عليه وسلم فقد أخرج أبو داود من طريق
يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها
وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك اه‍. إلا أنه لم يشتهر النسخ فبقي الحكم المنسوخ معمولا به إلى
أن أنكره عمر. قلت: إن ثبتت رواية النسخ فذاك. وإلا فإنه يضعف هذا قول عمر أن
الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة إلخ، فإنه واضح في أنه رأي محض لا سنة فيه،
وما في بعض ألفاظه عند مسلم أنه قال ابن عباس لأبي الصهباء: لما تتابع الناس في الطلاق
في عهد عمر فأجازه عليهم. ثانيها: أن حديث ابن عباس هذا مضطرب قال القرطبي في شرح
مسلم: وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه فظاهر سياقه أن هذا
الحكم منقول عن جميع أهل ذلك العصر والعادة تقتضي أن يظهر ذلك وينتشر ولا ينفرد
به ابن عباس فهذا يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إذا لم يقتضي القطع ببطلانه اه‍. قلت:
وهذا مجرد استبعاد فإنه كم من سنة وحادثة انفرد بها راو ولا يضر سيما مثل ابن عباس بحر
الأمة. ويؤيد ما قاله ابن عباس من أنها كانت الثلاث واحدة ما يأتي من حديث أبي ركانة
وإن كان فيه كلام وسيأتي. الثالث: أن هذا الحديث ورد في صورة خاصة هي قول المطلق
أنت طالق أنت طالق. وذلك أنه كان في عصر النبوة وما بعد النبوة وما بعده وكان حال الناس محمولا
على السلامة والصدق فيقبل قول من ادعى أن اللفظ الثاني تأكيد لا تأسيس طلاق
آخر ويصدق في دعواه فلما رأى عمر تغير أحوال الناس وغلبة الدعاوي الباطلة رأى من
المصلحة أن يجري المتكلم على ظاهر قوله ولا يصدق في دعوى ضميره. وهذا الجواب
ارتضاه القرطبي، قال النووي: هو أصح الأجوبة. قلت: ولا يخفى أنه تقرير لكون
نهي عمر رأيا محضا ومع ذلك فالناس مختلفون في كل عصر فيهم الصادق والكاذب وما يعرف
ما في ضمير الانسان إلا من كلامه فيقبل قوله وإن كان مبطلا في نفس الامر فيحكم
بالظاهر والله يتولى السرائر مع أن ظاهر قول ابن عباس طلاق الثلاث واحدة أنه كان
ذلك بأية عبارة وقعت. الرابع: أن معنى قوله كان طلاق الثلاث واحدة: أن الطلاق الذي
يوقع في عهده (ص) وعهد أبي بكر إنما كان يوقع في الغالب واحدة لا يوقع
ثلاثا فمراده أن هذا الطلاق الذي توقعونه ثلاثا كان يوقع في ذلك العهد واحدة فيكون قوله
فلو أمضيناه عليهم بمعنى لو أجريناه على حكم ما شرع من وقوع الثلاث. وهذا الجواب
يتنزل على قوله استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة تنزلا قريبا من غير تكلف، ويكون
معناه الاخبار عن اختلاف عادات الناس في إيقاع الطلاق لا في وقوعه فالحكم متقرر.
وقد رجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة وكذا البيهقي أخرجه عنه قال:
معناه أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة. قلت: وهذا يتم إن اتفق على أنه لم يقع
في عصر النبوة إرسال ثلاث تطليقات دفعة واحدة وحديث أبي ركانة وغيره يدفعه وينبو
172

عنه قول عمر: فلو أمضيناه فإنه ظاهر في أنه لم يكن مضى في ذلك العصر حتى رأى إمضاءه
وهو دليل وقوعه في عصر النبوة لكنه ليمض فليس فيه أنه كان وقوع الثلاث دفعة نادرا
في ذلك العصر. الخامس: أن قول ابن عباس: كان طلاق الثلاث ليس له حكم الرفع فهو
موقوف عليه. وهذا الجواب ضعيف لما تقرر في أصول الحديث وأصول الفقه أن كنا نفعل
وكانوا يفعلون) له حكم الرفع. السادس: أنه أريد بقوله: طلاق الثلاث واحدة هو لفظ
البتة إذا قال: أنت طالق البتة وكما سيأتي في حديث ركانة فكان إذا قال القائل ذلك قبل تفسيره
بالواحدة وبالثلاث فلما كان في عصر عمر لم يقبل منه التفسير بالواحدة. قيل: وأشار إلى هذا
البخاري فإنه أدخل في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث فيها التصريح بالثلاث
كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إذا أراد
المطلق واحدة فيقبل فروى بعض الرواة البتة بلفظ الثلاث يريد أن أصل حديث ابن
عباس كان طلاق البتة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر إلى آخره.
قلت: ولا يخفى بعد هذا التأويل وتوهيم الراوي في التبديل. ويبعده أن الطلاق بلفظ البتة في غاية
الندور فلا يحمل عليه ما وقع، كيف وقول عمر: قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة يدل
أن ذلك واقع أيضا في عصر النبوة. والأقرب أن هذا رأي من عمر ترجح له كما منع من متعة
الحج وغيرها وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله (ص) وكونه
خالف ما كان على عهده صلى الله عليه وسلم فهو نظير متعة الحج بلا ريب. والتكلفات
في الأجوبة ليوافق ما ثبت في عصر النبوة لا يليق فقد ثبت عن عمر اجتهادات يعسر تطبيقها
على ذلك نعم إن أمكن التطبيق على وجه صحيح فهو المراد.
4 - (وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه) ابن أبي رافع الأنصاري الأشهلي ولد على
عهد رسول الله (ص) وحدث عنه أحاديث قال البخاري: له صحبة وقال أبو حاتم
لا نعرف له صحبة وذكره مسلم في التابعين وكان من العلماء مات سنة ست وتسعين وقد
ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له أحاديث ليس فيها شئ صرح فيه بالسماع (قال: أخبر النبي
الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: أيلعب
بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ رواه
النسائي ورواته موثقون). الحديث دليل على أن جمع الثلاث التطليقات بدعة واختلف العلماء
في ذلك فذهب الهادوية وأبو حنيفة ومالك إلى أنه بدعة. وذهب الشافعي وحمد والامام
يحيى إلى أنه ليس ببدعة ولا مكروه. واستدل الأولون بغضبه (ص) وبقوله
" أيلعب بكتاب الله وبما أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس: أن عمر كان
إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره ضربا وكأنه أخذ تحريمه من قوله صلى الله
عليه وسلم: أيلعب بكتاب الله. استدل آخرون بقوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) * وبقوله
* (والطلاق مرتان) * وبما يأتي في حديث اللعان أنه طلقها الزوج ثلاثا بحضرته (ص)
ولم ينكر عليه. وأجيب بأن الآيتين مطلقتان والحديث صريح بتحريم الثلاث فتقيد به
173

الآيتان. وبأن طلاق الملاعن لزوجته ليس طلاقا في محله لأنها بانت بمجرد اللعان كما يأتي
واعلم أن حديث محمود لم يكن فيه دليل على أنه (ص) أمضى عليه الثلاث
أو جعلها واحدة وإنما ذكره المصنف إخبارا بأنها قد وقعت التطليقات الثلاث في عصره.
5 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلق أبو ركانة) بضم الراء وبعد الألف
نون (أم ركانة فقال له رسول الله (ص): راجع امرأتك فقال: إني طلقتها ثلاثا
قال: قد علمت، راجعها رواه أبو داود، وفي لفظ لأحمد) أي عن ابن عباس (طلق
رنانة امرأته في مجلس واحد ثلاثا فحزن عليها، فقال له رسول الله (ص): فإنها
واحدة وفي سندهما) أي حديث أبي داود وحديث أحمد (ابن إسحاق) أي محمد صاحب
السيرة (وفيه مقال) قد حققنا في ثمرات النظر في علم أهل الأثر، وفي إرشاد النقاد إلى تيسير
الاجتهاد عدم صحة القدح بما يجرح روايته (وقد روى أبو داود من وجه آخر أحسن منه
أن أبا ركانة طلق امرأته سهيمة) المهملة مضمومة تصغير سهمة (البتة فقال: والله ما أردت
إلا واحدة فردها إليه النبي (ص)). وأخرجه أبو يعلى وصححه، وطرقه كلها من
رواية محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس. وقد عمل العلماء
بمثل هذا الاسناد في عدة من الاحكام مثل حديث: أنه (ص) رد ابنته على
أبي العاص بالنكاح الأول، تقدم. وقد صححه أبو داود لأنه أخرجه أيضا من طريق أخرى
وهي التي أشار إليها المصنف بقوله أحسن منه وهي أنه أخرجه من حديث نافع بن عجير
بن عبد يزيد بن ركانة (أن ركانة) الحديث. وصححه أيضا ابن حبان والحاكم وفيه
خلاف بين العلماء بين مصحح ومضعف. والحديث دليل على أن إرسال الثلاث التطليقات
في مجلس واحد يكون طلقة واحدة. وقد اختلف العلماء في المسألة على أربعة أقوال: الأول
أنه لا يقع بها شئ لأنها طلاق بدعة وتقدم ذكرهم وأدلتهم. الثاني: أنه يقع به الثلاث وإليه
ذهب عمر وابن عباس وعائشة ورواية عن علي والفقهاء الأربعة وجمهور السلف والخلف
واستدلوا بآيات الطلاق وأنها لم تفرق بين واحدة ولا ثلاث. وأجيب بما سلف أنها مطلقات
تحتمل التقييد بالأحاديث واستدلوا بما في الصحيحين: أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا
بحضرته (ص) ولم ينكر عليه فدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها
وأجيب بأن هذا التقرير لا يدل على الجواز ولا على وقوع الثلاث لان النهي إنما هو
فيما يكون في طلاق رافع لنكاح كان مطلوب الدوام، والملاعن أوقع الطلاق على ظن أنه بقي له
إمساكها ولم يعلم أنه باللعان حصلت فرقة الأبد سواء كان فراقه بنفس اللعان أو بتفريق
الحاكم فلا يدل على المطلوب. واستدلوا بما في المتفق عليه أيضا في حديث فاطمة بنت قيس
أن زوجها طلقها ثلاثا وأنه (ص) لما أخبر بذلك قال: ليس لها نفقة وعليها
العدة. وأجيب بأنه ليس في الحديث تصريح بأنه أوقع الثلاث في مجلس واحد فلا يدل على
المطلوب قالوا: عدم استفصاله (ص) هل كان في مجلس أو مجالس دال على
174

أنه لا فرق في ذلك. ويجاب عنه بأنه لم يستفصل لأنه كان الواقع في ذلك العصر غالبا عدم
إرسال الثلاث كما تقدم. وقولنا: غالبا لئلا يقال: قد أسلفنا أنها وقعت الثلاث في عصر النبوة
لأنا نقول: نعم لكن نادرا ومثل هذا ما استدلوا به من حديث عائشة: أن رجلا طلق امرأته
ثلاثا فتزوجت فطلق الآخر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحل للأول: قال لا
حتى يذوق عسيلتها أخرجه البخاري. والجواب عنه هو ما سلف ولهم أدلة من السنة فيها
ضعف فلا تقوم بها حجة فلا نعظم بها حجم الكتاب. وكذلك ما استدلوا به من فتاوى
الصحابة أقوال أفراد لا تقوم بها حجة. القول الثالث: إنها تقع بها واحدة رجعية وهو مروي
عن علي وابن عباس وذهب إليه الهادي والقاسم والصادق والباقر ونصره أبو العباس بن
تيمية وتبعه ابن القيم تلميذه على نصره. واستدلوا بما مر من حديثي ابن عباس وهما
صريحان في المطلوب وبأن أدلة غيره من الأقوال غير ناهضة. أما الأول والثاني فلما عرفت
ويأتي ما في غيرهما. القول الرابع: أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها فتقع الثلاث على المدخول
بها وتقع على غير المدخول بها واحدة وهو قول جماعة من أصحاب ابن عباس وإليه
ذهب إسحاق بن راهويه واستدلوا بما وقع في رواية أبي داود: أما علمت أن الرجل كان
إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله (ص)
الحديث. وبالقياس فإنه إذا قال: أنت طالق بانت منه بذلك فإذا أعاد اللفظ لم يصادف
محلا للطلاق فكان لغوا. وأجيب بما مر من ثبوت ذلك في حق المدخولة وغيرها فمفهوم
حديث أبي داود لا يقاوم عموم أحاديث ابن عباس.
واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين أن يقول: أنت طالق ثلاثا أو يكرر هذا اللفظ
ثلاثا وفي كتب الفروع أقوال وخلاف في التفرقة بين الألفاظ لم يستند إلى دليل واضح.
وقد أطال الباحثون في الفروع في هذه المسألة الأقوال وقد أطبق أهل المذاهب الأربعة على
وقوع الثلاث متابعة لامضاء عمر لها واشتد نكيرهم على من خالف ذلك وصارت هذه
المسألة علما عندهم للرافضة والمخالفين، وعوقب بسبب الفتيا بها شيخ الاسلام ابن تيمية
وطيف بتلميذه الحافظ ابن القيم على جمل بسبب الفتوى بعدم وقوع الثلاث. ولا يخفى أن
هذه محض عصبية شديدة في مسألة فرعية قد اختلف فيها سلف الأمة وخلفها فلا نكير على
من ذهب إلى قول من الأقوال المختلف فيها كما هو معروف وها هنا يتميز المنصف من
غيره من فحول النظار والأتقياء من الرجال.
6 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة رواه الأربعة إلا
النسائي وصححه الحاكم، وفي رواية) عن أبي هريرة رضي الله عنه (لابن عدي من وجه آخر ضعيف
الطلاق والعتاق والنكاح) وقد بين معناها قوله:
175

7 - (وللحارث بن أبي أسامة من حديث عبادة بن الصامت رفعه: لا يجوز اللعب
في ثلاث: الطلاق والنكاح والعتاق فمن قالهن فقد وجبن. وسنده ضعيف) لان
فيه ابن لهيعة وفيه انقطاع أيضا. والأحاديث دلت على وقوع الطلاق من الهازل وأنه لا يحتاج
إلى النية في الصريح وإليه ذهب الهادوية والحنفية والشافعية. وذهب أحمد والناصر
والصادق والباقر إلى أنه لا بد من النية لعموم حديث الأعمال بالنيات. وأجيب بأنه عام
خصه ما ذكر من الأحاديث ويأتي الكلام في العتق.
8 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: إن الله تعالى
تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم متفق عليه). ورواه
ابن ماجة من حديث أبي هريرة بلفظ: عما توسوس به صدورها بدل: ما حدثت به أنفسها وزاد
في آخره وما استكرهوا عليه. قال المصنف: وأظن الزيادة هذه مدرجة كأنها دخلت على
هشام بن عمار من حديث في حديث. والحديث دليل على أنه لا يقع الطلاق بحديث النفس
وهو قول الجمهور. وروي عن ابن سيرين والزهري ورواية عن مالك بأنه إذا طلق في نفسه
وقع الطلاق وقواه ابن العربي بأن من اعتقد الكفر بقلبه ومن أصر على المعصية أثم، وكذلك من قذف مسلما بقلبه وكل ذلك من أعمال القلب دون اللسان. ويجاب عنه بأن
الحديث المذكور أخبر عن الله تعالى بأنه لا يؤاخذ الأمة بحديث نفسها وأنه تعالى قال
* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وحديث النفس يخرج عن الوسع. نعم الاسترسال مع
النفس في باطل أحاديثها يصير العبد عازما على الفعل فيخاف منه الوقوع فيما يحرم فهو
الذي ينبغي أن يسارع بقطعه إذا خطر. وأما احتجاج ابن العربي بالكفر والرياء فلا يخفى
أنهما من أعمال القلب فهما مخصوصان من الحديث. على أن الاعتقاد وقصد الرياء قد خرجا
عن حديث النفس وأما المصر على المعصية فالاثم على عمل المعصية المتقدم على الاصرار فإنه
دال على أنه لم يتب عنها واستدل به على أن من كتب الطلاق طلقت امرأته لأنه عزم بقلبه
وعمل بكتابته وهو قول الجمهور. وشرط مالك فيه الاشهاد على ذلك وسيأتي.
9 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: إن الله تعالى
وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه رواه ابن ماجة والحاكم
وقال أبو حاتم: لا يثبت). وقال النووي في الروضة في تعليق الطلاق: إنه حديث حسن
وكذا قال في أواخر الأربعين له اه‍. وللحديث أسانيد وقال ابن أبي حاتم إنه سأل أباه
عن أسانيده فقال: هذه أحاديث منكرة كلها موضوعة. وقال عبد الله بن أحمد في العلل:
سألت أبي عنه فأنكره جدا وقال: ليس يروى هذا إلا عن الحسن عن النبي (ص)
ونقل الخلال عن أحمد أنه قال: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله
وسنة رسول الله (ص) فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة. والحديث
دليل على أن الاحكام الأخروية من العقاب معفوة عن الأمة المحمدية إذا صدرت عن خطأ
176

أو نسيان أو إكراه. وأما ابتناء الاحكام والآثار الشرعية عليها ففي ذلك خلاف بين العلماء.
فاختلفوا طلاق الناسي فعن الحسن أنه كان يراه كالعمد إلا إذا اشترط أخرجه
ابن أبي شيبة عنه. وعن عطاء وهو قول الجمهور أنه لا يكون طلاقا للحديث وكذا
ذهب الجماهير أنه لا يقع طلاق الخاطئ وعن الحنفية يقع. واختلف في طلاق المكره
فعند الجماهير لا يقع. ويروى عن النخعي وبه قالت الحنفية إنه يقع واستدل الجمهور
بقوله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) *. وقال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق
وقرر الشافعي الاستدلال بأن الله تعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الاكراه وأسقط
عنه أحكام الكفر كذلك سقط عن المكره دون الكفر لان الأعظم إذا سقط سقط
ما هو دونه بطريق الأولى.
10 - (وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا حرم الرجل امرأته ليس بشئ، وقال
لقد كان لكم في رسول الله (ص) أسوة حسنة رواه البخاري، ولمسلم عن ابن عباس: إذا حرم
الرجل امرأته فهو يمين يكفرها). الحديث موقوف وفيه دليل على أن تحريم الزوجة
لا يكون طلاقا وإن كان يلزم فيه كفارة يمين كما دلت له رواية مسلم فمراده ليس بشئ
ليس بطلاق لا أنه لا حكم له أصلا. وقد أخرج عنه البخاري هذا الحديث بلفظ إذا
حرم الرجل امرأته فإنما هي يمين يكفر فدل على أنه المراد بقوله ليس بشئ أنه ليس
بطلاق. ويحتمل أنه أراد لا يلزم فيه شئ وتكون رواية أنه يمين رواية أخرى فيكون له
قولان في المسألة. والمسألة اختلف فيها السلف من الصحابة والتابعين والخلف من الأئمة
المجتهدين حتى بلغت الأقوال إلى ثلاثة عشر قولا أصولا وتفرعت إلى عشرين مذهبا.
الأول: أنه لغو لا حكم له في شئ من الأشياء وهو قول جماعة من السلف وقول الظاهرية
والحجة على ذلك أن التحريم والتحليل إلى الله تعالى كما قال تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف
ألسنتكم) * وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (لم تحرم ما أحل
الله لك) * وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم) *. قالوا: ولأنه لا فرق
بين تحليل الحرام وتحريم الحلال فلما كان الأول باطلا فليكن الثاني باطلا. ثم قوله: هي
حرام إن أراد به الانشاء فانشاء التحريم ليس إليه وإن أراد به الاخبار فهو كذب.
قالوا: ونظرنا إلى ما سوى هذا القول يعني من الأقوال التي هي في المسألة فوجدناها
أقوالا مضطربة لا برهان عليها من الله فيتعين القول بهذا. وهذا القول يدل عليه حديث
ابن عباس وتلاوته لقوله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة) * فإنه دال على
أنه لا يحرم بالتحريم ما حرمه على نفسه فإن الله تعالى أنكر على رسوله تحريم ما أحل الله
له وظاهره أنها لا تلزم الكفارة. وأما قوله تعالى: * (قد فرض لكم تحلة أيمانكم) * فإنها
كفارة حلفه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي
177

المشهور قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه
فقالت: يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي فجعلها عليه حراما فقالت: يا رسول الله
كيف تحرم الحلال؟ فحلف بالله لا يصيبها فنزلت. هذا أحد القولين فيما حرمه صلى الله
عليه وسلم وسيأتي القول الآخر في تحريم إيلائه صلى الله عليه وسلم. والحديث وإن كان
مرسلا فقد أخرج النسائي بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم
كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها فأنزل الله: * (يا أيها النبي
لم تحرم) * وهذا أصح طرق سبب النزول والمرسل عن زيد قد شهد له هذا، فالكفارة لليمين
لا مجرد التحريم. وقد فهم هذا زيد بن أسلم فقال بعد روايته القصة يقول الرجل لامرأته: أنت علي حرام: لغو، وإنما يلزمه كفارة يمين إن حلف. وحينئذ فالأسوة برسول الله صلى الله
عليه وسلم إلغاء التحريم والتكفير إن حلف وهذا القول أقرب الأقوال المذكورة وأرجحها
عندي فلم أسرد شيئا منها.
11 - (وعن عائشة رضي الله عنها أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك.
رواه البخاري). اختلف في اسم ابنة الجون المذكورة اختلافا كثيرا ونفع تعيينها قليل فلا
نشتغل بنقله. أخرج ابن سعد من طريق عبد الواحد بن أبي عون قال: قدم النعمان بن أبي الجون
الكندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أزوجك أجمل أيم في العرب
كانت تحت ابن عم لها فتوفي وقد رغبت فيك؟ قال: نعم قال: فابعث من يحملها إليك،
فبعث معه أبا أسيد الساعدي قال أبو أسيد: فأقمت ثلاثة أيام ثم تحملت بها معي
في محفة فأقبلت بها حتى قدمت المدينة فأنزلتها في بني ساعدة ووجهت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته الحديث. قال ابن أبي عون وكان
ذلك في ربيع الأول سنة سبع ثم أخرج ذلك من طريقين. وفي تمام القصة قيل لها
استعيذي منه فإنه أحظى لك عنده وخدعت لما رئي من جمالها وذكر لرسول الله صلى الله
عليه وسلم من حملها على ما قالت. قال: إنهن صواحب يوسف وكيدهن. والحديث دليل
على أن قول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك طلاق لأنه لم يرو أنه زاد غير ذلك فيكون كناية
طلاق إذا أريد به الطلاق كان طلاقا قال البيهقي: زاد ابن أبي ذئب عن الزهري الحقي
بأهلك جعلها تطليقة. ويدل على أنه كناية طلاق أنه قد جاء في قصة كعب بن مالك أنه
لما قيل له اعتزل امرأتك قال الحقي بأهلك فكوني عندهم ولم يرد الطلاق فلم تطلق وإلى
هذا ذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم. وقالت الظاهرية: لا يقع الطلاق بالحقي بأهلك. قالوا:
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد عقد بابنة الجون وإنما أرسل إليها ليخطبها إذ الروايات قد
اختلفت في قصتها ويدل على أنه لم يكن عقد بها ما في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه
وسلم قال: (هبي لي نفسك قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة فأهوى ليضع يده
178

عليها لتسكن فقالت: أعوذ بالله منك) قالوا: فطلب الهبة دال على أنه لم يكن عقد بها
ويبعد ما قالوه. قوله: (ليضع يده) ورواية (فلما دخل عليها) فإن ذلك إنما يكون مع الزوجة.
وأما قوله: هبي لي نفسك فإنه قال تطييبا لخاطرها واستمالة لقلبها ويؤيده ما سلف من
رواية: أنها رغبت فيك. وقد روي اتفاقه مع أبيها على مقدار صداقها وهذه وإن لم تكن
صرائح في العقد بها إلا أنه أقرب الاحتمالين.
12 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طلاق
إلا بعد نكاح ولا عتق إلا بعد ملك رواه أبو يعلى وصححه الحاكم) وقال: أنا
متعجب من الشيخين كيف أهملاه لقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة
وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر انتهى. (وهو معلول) بما قاله الدارقطني الصحيح
مرسل ليس فيه جابر. قال يحيى بن معين: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا طلاق
قبل نكاح. وقال ابن عبد البر: روي من وجوه إلا إنها عند أهل العلم بالحديث معلولة
انتهى. ولكنه يشهد له قوله:
13 - (وأخرج ابن ماجة عن المسور) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو
فراء (ابن مخرمة) بفتح الميم فخاء معجمة ساكنة (مثله وإسناده حسن لكنه معلول أيضا)
لأنه اختلف فيه على الزهري. قال علي بن الحسين بن واقد عن هشام عن سعيد عن الزهري
عن عروة عن المسور. وقال حماد بن خالد عن هشام عن سعيد عن الزهري عن عروة
عن عائشة وعن أبي بكر وعن أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وعمران
بن حصين وغيرهم، ذكرها البيهقي في الخلافيات. وقال البيهقي: أصح حديث فيه حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال الترمذي: هو أحسن شئ روي في هذا الباب.
ولفظه عند أصحاب السنن: ليس على رجل طلاق فيما لا يملك الحديث. قال البيهقي: قال
البخاري: أصح شئ فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ويأتي. وحديث
الزهري عن عائشة وعن علي ومداره على جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي
وجويبر متروك. ثم قال البيهقي: ورواه ابن ماجة بإسناد حسن. والحديث دليل على أنه لا يقع
الطلاق على المرأة الأجنبية فإن كان تنجيزا فإجماع وإن كان تعليقا بالنكاح كأن يقول إن
نكحت فلانة فهي طالق ففيه ثلاث أقوال: الأول: أنه لا يقع مطلقا وهو قول الهادوية
والشافعية وأحمد وداود وآخرين ورواه البخاري عن اثنين وعشرين صحابيا. ودليل هذا القول
حديث الباب وإن كان فيه مقال من قبل الاسناد فهو متأيد بكثرة الطرق وما أحسن ما قال
ابن عباس قال الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) * ولم يقل
إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن وبأنه إذا قال المطلق إن تزوجت فلانة هي طالق مطلق
لأجنبية فإنها حين أنشأ الطلاق أجنبية والمتجدد هو نكاحها فهو كما لو قال لأجنبية إن
دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وهي زوجته لم تطلق إجماعا. وذهب أبو حنيفة وهو أحد
قولي المؤيد بالله إلى أنه يصح التطليق مطلقا. وذهب مالك وآخرون إلى التفصيل فقالوا: إن
179

خص بأن يقول كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق أو قال
في وقت كذا وقع الطلاق. وإن عمم وقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق لم يقع شئ.
وقال في نهاية المجتهد: سبب الخلاف هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدما
على الطلاق بالزمان أو ليس من شرطه فمن قال هو من شرطه قال لا يتعلق الطلاق
بالأجنبية ومن قال ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط قال: يقع. قلت: دعوى الشرطية
تحتاج إلى دليل ومن لم يدعها فالأصل معه. ثم قال: وأما الفرق بين التخصيص والتعميم
فاستحسان مبني على المصلحة وذلك إذا وقع فيه التعميم فلو قلنا بوقوعه امتنع منه التزويج
فلم يجد سبيلا إلى النكاح الحلال فكان من باب النذر بالمعصية وأما إذا خصص فلا يمتنع
منه ذلك اه‍. قلت: سبق الجواب عن هذا بعدم الدليل على الشرطية. هذا والخلاف
في العتق مثل الخلاف في الطلاق فيصح عند أبي حنيفة وأصحابه وعند أحمد في أصح قوليه وعليه
أصحابه ومنهم ابن القيم فإنه فرق بين الطلاق والعتاق فأبطله في الأول وقال به في الثاني
مستدلا على الثاني بأن العتق له قوة وسراية فإنه يسري إلى ملك الغير. ولأنه يصح أن يجعل
الملك سببا للعتق كما لو اشترى عبدا ليعتقه عن كفارة أو نذر أو اشتراه بشرط العتق. ولان
العتق من باب القرب والطاعات، وهو يصح النذر به وإن لم يكن حال النذر به مملوكا
كقولك: لئن آتاني الله من فضله لأصدقن بكذا وكذا، ذكره في الهدي النبوي. قلت: ولا
يخفى ما فيه فإن السراية إلى ملك الغير تفرعت من إعتاقه لما يملكه من الشقص فحكم
الشارع بالسراية لعدم تبعض العتق وأما قوله: ولأنه يصح أن يجعل الملك سببا للعتق كما لو
اشترى عبدا ليعتقه فيجاب عنه بأنه لا يعتق هذا الذي اشتراه إلا بإعتاقه كما قال ليعتقه وهذا
عتق لما يملكه. وأما قوله: إنه يصح النذر ومثله بقوله: لئن آتاني الله من فضله فهذه فيها خلاف
ودليل المخالف أنه قال (ص) لا نذر فيما لا يملك ابن آدم كما يفيده قوله:
14 - (وعن عمرو بشعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له
فيما لا يملك أخرجه أبو داود والترمذي وصححه، ونقل عن البخاري أنه أصح ما ورد فيه)
تقدم الكلام في ذلك مستوفى.
15 - (وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي (ص): رفع القلم)
أي ليس يجري أصالة لا أنه رفع بعد وضع. والمراد برفع القلم عدم المؤاخذة لا قلم الثواب فلا
ينافيه صحة إسلام الصبي المميز كما ثبت في غلام اليهودي الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه
وسلم فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الاسلام فأسلم فقال: الحمد لله الذي أنقذه من
النار. وكذلك ثبت أن امرأة رفعت إليه صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت: ألهذا حج؟
فقال: نعم ولك أجر. ونحو هذا كثير في الأحاديث. (عن ثلاثة: عن النائم حتى
180

يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق رواه
أحمد والأربعة إلا الترمذي وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان). الحديث فيه كلام كثير
لائمة الحديث وفيه دليل على أن الثلاثة لا يتعلق بهم تكليف وهو في النائم المستغرق إجماع
والصغير الذي لا تمييز له وفيه خلاف إذا عقل وميز. والحديث جعل غاية رفع القلم عنه
إلى أن يكبر فقيل: إلى أن يطيق الصيام ويحصي الصلاة وهذا لأحمد. وقيل: إذا بلغ
اثنتي عشرة سنة وقيل: إذا ناهز الاحتلام وقيل: إذا بلغ والبلوغ يكون في حق
الذكر مع إنزال المني إجماعا وفي حق الأنثى عند الهادوية وبلوغ خمس عشرة سنة وإنبات
الشعر الأسود المتجعد في العانة بعد تسع سنين عند الهادوية وكذلك الامناء في حال اليقظة
إذا كان لشهوة وفي الكل خلاف معروف. وأما المجنون فالمراد به زائل العقل فيدخل فيه
السكران والطفل كما يدخل المجنون. وقد اختلف في طلاق السكران على قولين: الأول: أنه
لا يقع وإليه ذهب عثمان وجابر وزيد وعمر بن عبد العزيز وجماعة من السلف وهو مذهب
أحمد وأهل الظاهر لهذا الحديث ولقوله تعالى: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما
تقولون) * فجعل قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول وبأنه غير مكلف لانعقاد
الاجماع على أن من شرط التكليف العقل ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف أو بأنه كان
يلزم أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها أو غير عالم بأنها خمر ولا يقوله المخالف. الثاني
وقوع طلاق السكران ويروى عن علي وابن عباس وجماعة من الصحابة وعن الهادي
وأبي حنيفة والشافعي ومالك واحتج لهم بقوله تعالى: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * فإنه نهي
لهم عن قربانها حال السكر. والنهي يقتضي أنهم مكلفون حال سكرهم والمكلف يصح
منه الانشاءات. وبأن إيقاع الطلاق عقوبة له. وبأن ترتيب الطلاق على التطليق من باب ربط الاحكام
بأسبابها فلا يؤثر فيه السكر. وبأن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه فإنهم قالوا:
إذا شرب سكر وإذا سكر هذي فإذا هذي افترى وحد المفتري ثمانون. وبأنه أخرج
سعيد بن منصور عنه صلى الله عليه وسلم: لا قيلولة في الطلاق. وأجيب بأن الآية خطاب
لهم حال صحوهم ونهي لهم قبل سكرهم أن يقربوا الصلاة حالة أنهم لا يعلمون ما يقولون فهي
دليل لنا كما سلف. وبأن جعل الطلاق عقوبة يحتاج إلى دليل على المعاقبة للسكران بفراق
أهله فإن الله لم يجعل عقوبته إلا الحد. وبأن ترتيب الطلاق على التطليق محل النزاع. وقد قال أحمد والبتي: إنه لا يلزمه عقد ولا بيع ولا غيره. على أنه يلزمهم القول بترتيب الطلاق على
التطليق صحة طلاق المجنون والنائم والسكران غير العاصي بسكره والصبي. وبأن ما نقل عن
الصحابة بأنهم قالوا إذا شرب إلى آخره فقال ابن حزم: إنه خبر مكذوب باطل متناقض
فإن فيه إيجاب الحد على من هذي والهاذي لا حد عليه. وبأن حديث: لا قيلولة في طلاق خبر
غير صحيح وإن صح فالمراد طلاق المكلف العاقل دون من لا يعقل ولهم أدلة غير هذه
لا تنهض على المدعي.
181

كتاب الرجعة
1 - (عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أنه سئل عن الرجل يطلق ثم يراجع ولا
يشهد؟ فقال: أشهد على طلاقها وعلى رجعتها رواه أبو داود هكذا موقوفا وسنده صحيح
وأخرجه البيهقي بلفظ: أن عمران بن حصين سئل عمن راجع امرأته ولم يشهد، فقال: راجع
في غير سنة فليشهد الآن وزاد الطبراني في رواية: ويستغفر الله). دل الحديث على شرعية
الرجعة والأصل فيها قوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن) *. وقد أجمع العلماء على أن
الزوج يملك رجعة زوجته في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها ورضا
وليها إذا كان الطلاق بعد المسيس وكان الحكم بصحة الرجعة مجمعا عليه لا إذا كان مختلفا
فيه. والحديث دل على ما دلت عليه آية سورة الطلاق وهي قوله: * (وأشهدوا ذوي عدل
منكم) * بعد ذكره الطلاق. وظاهر الامر وجوب الاشهاد وبه قال الشافعي في القديم،
وكأنه استقر مذهبه على عدم وجوبه فإنه قال المرزعي في تيسير البيان: وقد اتفق الناس
على أن الطلاق من غير إشهاد جائز. وأما الرجعة فيحتمل أنها تكون في معنى الطلاق
لأنها قرينته فلا يجب فيها الاشهاد لأنها حق للزوج ولا يجب عليه الاشهاد على قبضه ويحتمل
أن يجب الاشهاد وهو ظاهر الخطاب انتهى. والحديث يحتمل أنه قاله عمران اجتهادا
إذ للاجتهاد فيه مسرح. إلا أن قوله: راجع في غير سنة قد يقال إن السنة إذا أطلقت
في لسان الصحابي يراد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعا إلا أنه لا يدل على
الايجاب لتردد كونه من سنته صلى الله عليه وسلم بين الايجاب والندب والاشهاد على الرجعة
ظاهر إذا كانت بالقول الصريح. واتفقوا على الرجعة بالقول واختلف إذا كانت الرجعة بالفعل
فقال الشافعي والامام يحيى إن الفعل محرم فلا تحل به ولأنه تعالى ذكر الاشهاد ولا إشهاد
إلا على القول. وأجيب: بأنه لا إثم عليه لأنه تعالى قال: * (إلا على أزواجهم) * وهي زوجة،
والاشهاد غير واجب كما سلف. وقال الجمهور: يصح بالفعل واختلفوا هل من شرط الفعل
النية؟. فقال مالك: لا يصح بالفعل إلا مع النية كأنه يقول لعموم الأعمال بالنيات. وقال
الجمهور: يصح لأنها زوجة شرعا داخلة تحت قوله: * (إلا على أزواجهم) * ولا يشترط النية
في لمس الزوجة وتقبيلها وغيرهما إجماعا. واختلف هل يجب عليه إعلامها بأنه قد راجعها
لئلا تتزوج غيره فذهب الجمهور من العلماء أنه يجب عليه وقيل لا يجب، وتفرع من
الخلاف لو تزوجت قبل علمها بأنه راجعها فقال الأولون النكاح باطل وهي لزوجها
الذي ارتجعها واستدلوا بإجماع العلماء على أن الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة وبأنهم
أجمعوا أن الزوج الأول أحق بها قبل أن تزوج. وعن مالك أنها للثاني دخل بها أو لم يدخل
واستدل بما رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنه قال: مضت السنة
في الذي يطلق امرأته ثم يراجعها ثم يكتمها رجعتها فتحل فتنكح زوجا غيره أنه ليس له من
أمرها شئ ولكنها لمن تزوجها. إلا أنه قيل إنه لم يرو هذا إلا عن ابن شهاب فقط وهو
182

الزهري فيكون من قوله وليس بحجة. ويشهد لكلام الجمهور حديث الترمذي عن سمرة بن
جندب أنه (ص) قال: أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول منهما. فإنه صادق
على هذه الصورة.
واعلم أنه قال تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادا إصلاحا) * أي أحق بردهن
في العدة بشرط أن يريد الزوج بردها الاصلاح وهو حسن العشرة والقيام بحقوق الزوجية. فإن
أراد بالرجعة غير ذلك كمن يراجع زوجته ليطلقها كما يفعله العامة فإنه يطلق ثم ينتقل من
موضعه فيراجع ثم يطلق إرادة لبينونة المرأة فهذا المراجعة لم يرد بها إصلاحا ولا إقامة حدود
الله فهي باطلة. إذ الآية ظاهرة في أنه لا تباح له المراجعة ويكون أحق برد امرأته إلا بشرط
إرادة الاصلاح وأي إرادة إصلاح في مراجعتها ليطلقها. ومن قال إن قوله: * (إن أرادوا
إصلاحا) * ليس بشرط للرجعة فإنه قول مخالف لظاهر الآية بلا دليل.
2 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما طلق امرأته قال النبي (ص)
لعمر: مره فليراجعها متفق عليه). تقدم الكلام عليه بما يكفي من غير زيادة.
باب الايلاء والظهار والكفارة
الايلاء لغة الحلف وشرعا الامتناع باليمين من وطئ الزوجة. (والظهار) بكسر الظاء
مشتق من الظهر لقول القائل: أنت علي كظهر أمي. (والكفارة) وهي من التكفير: التغطية.
1 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: آلى رسول الله (ص) من
نسائه وحرم، فجعل الحرام حلالا، وجعل لليمين كفارة رواه الترمذي ورجاله
ثقات). ورجح الترمذي إرساله على وصله. الحديث دليل على جواز حلف الرجل من زوجته
وليس فيه تصريح بالايلاء المصطلح عليه في عرف الشرع وهو الحلف من وطئ الزوجة
اعلم أنها اختلفت الروايات في سبب إيلائه (ص) وفي الشئ الذي حرمه
على روايات: أحدها: أنه بسبب إفشاء حفصة للحديث الذي أسره إليها. واختلف في الحديث
الذي أسره إليها، أخرجه البخاري عن ابن عباس عن عمر في حديث طويل وأجمل في رواية
البخاري هذه وفسره في رواية أخرجها الشيخان بأنه تحريمه لمارية وأنه أسره إلى حفصة
فأخبرت به عائشة. أو تحريمه للعسل. وقيل: بل أسر إلى حفصة أن أباها يلي أمر الأمة بعد
أبي بكر. وقال: لا تخبري عائشة بتحريمي مارية. ثانيها: السبب في إيلائه أنه فرق هدية
جاءت له بين نسائه فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها فزادها مرة أخرى فلم ترض
فقالت عائشة: لقد أقمت وجهك ترد عليك الهدية فقال: لأنتن أهون علي الله من أن يغمني
لا أدخل عليكن شهرا. أخرجه ابن سعد عن عمرة عن عائشة ومن طريق الزهري عن
عمرة عن عائشة نحوه وقال: ذبح ذبحا. ثالثها: أنه بسبب طلبهن النفقة. أخرجه مسلم من حديث
جابر. فهذه أسباب ثلاثة: إما لافشاء بعض نسائه السر وهي حفصة. والسر أحد ثلاثة: إما
183

تحريمة مارية أو العسل أو بتحريج صدره من قبل ما فرقه بينهن من الهدية أو تضييقهن في طلب
النفقة. قال المصنف: واللائق بمكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وكثرة صفحه
أن يكون مجموع هذه الأشياء سببا لاعتزالهن. وقولها: وحرم أي حرم مارية أو العسل
وليس فيه دليل على أن التحريم للجماع حتى يكون من باب الايلاء الشرعي فلا يوجه لجزم
ابن بطال وغيره أنه صلى الله عليه تعالى وسلم امتنع من جماع نسائه ذلك الشهر إن أخذه من هذا
الحديث ولا مستند له غيره فإنه قال المصنف لم أقف على نقل صريح في ذلك فإنه
لا يلزم من عدم دخوله عليهن أن لا تدخل إحداهن عليه في المكان الذي اعتزل فيه إلا إن كان
المكان المذكور في المسجد فيتم استلزام عدم الدخول عليهن مع استمرار الإقامة في المسجد
العزم على ترك الوطئ لامتنا الوطئ في المسجد.
2 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إذا مضت أربعة أشهر وقف المولي حتى يطلق
ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق أخرجه البخاري). الحديث كالتفسير لقوله تعالى: * (للذين
يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) *. وقد اختلف العلماء في مسائل من الايلاء: الأولى
في اليمين فإنهم اختلفوا فيها. فقال الجمهور: ينعقد الايلاء بكل يمين على الامتناع من
الوطئ سواء حلف بالله أو بغيره. وقالت الهادوية: أنه لا ينعقد إلا بالحلف بالله قالوا: لأنه
لا يكون يمينا إلا ما كان بالله تعالى فلا تشمل الآية ما كان بغيره. قلت: وهو الحق. الثانية:
في الامر الذي تعلق به الايلاء وهو ترك الجماع صريحا أو كناية أو ترك الكلام عند البعض
والجمهور على أنه لا بد فيه من التصريح بالامتناع من الوطئ لا مجرد الامتناع عن الزوجة،
ولا كلام أن الأصل في الايلاء قوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) *
الآية فإنها نزلت لابطال ما كان عليه الجاهلية من إطالة مدة الايلاء فإنه كان الرجل يولي
من امرأته سنة وسنتين فأبطل الله تعالى ذلك وأنظر المولي أربعة أشهر فإما أن يفئ أو يطلق
. الثالثة: اختلفوا في مدة الايلاء فعند الجمهور والحنفية أنه لا بد أن يكون أكثر من أربعة أشهر.
وقال الحسن وآخرون ينعقد بقليل الزمان وكثيره لقوله تعالى: * (يؤلون من نسائهم) *. ورد
بأنه لا دليل في الآية إذ قد قدر الله المدة فيها بقوله تعالى: * (أربعة أشهر) *. فالأربعة قد جعلها الله
مدة الامهال وهي كأجل الدين لأنه تعالى قال: * (فإن فاؤوا) * بفاء التعقيب وهو بعد الأربعة
فلو كان المدة أربعة أو أقل لكانت قد انقضت فلا يطالب بعدها والتعقيب للمدة لا للايلاء
لبعده. والرابعة: أن مضي المدة لا يكون طلاقا عند الجمهور. وقال أبو حنيفة: بل إذا
مضت الأربعة الأشهر طلقت المرأة، قالوا: والدليل على أنه لا يكون بمضيها طلاقا أنه تعالى
خير في الآية بين الفيئة والعزم على الطلاق فيكونان في وقت واحد وهو بعد مضي الأربعة
فلو كان الطلاق يقع بمضي الأربعة والفيئة بعدها لم يكن تخيير. لان حق المخير فيهما أن يقع
أحدهما في الوقت الذي يصح فيه الآخر كالكفارة لأنه تعالى أضاف عزم الطلاق إلى الرجل
وليس مضي المدة من فعل الرجل. ولحديث ابن عمر هذا الذي نحن في سياقه وإن كان
موقوفا فهو مقو للأدلة. الخامسة: الفيئة هي الرجوع ثم اختلفوا بماذا تكون فقيل تكون
184

بالوطئ على القادر والمعذور يبين عذره بقوله: لو قدرت لفئت لأنه الذي يقدر عليه لقوله
تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. وقيل بقوله: رجعت عن يميني وهذا للهادوية كأنهم
يقولون المراد رجوعه عن يمينه لا إيقاع ما حلف عليه. وقيل: تكون في حق المعذور بالنية لأنها
توبة يكفي فيها العزم ورد بأنها توبة عن حق مخلوق فلا بد من إفهامه الرجوع عن الامر
الذي عزم عليه. السادسة: اختلفوا هل تجب الكفارة على من فاء. فقال الجمهور: تجب
لأنها يمين قد حنث فيها فتجب الكفارة لحديث من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها
فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير. وقيل لا تجب لقوله تعالى: * (فإن فاؤوا فإن الله غفور
رحيم) * وأجيب بأن الغفران يختص بالذنب لا بالكفارة ويدل للمسألة الخامسة قوله:
3 - (وعن سليمان بن يسار رضي الله عنه) بفتح المثناة فسين مهملة مخففة بعد الألف راء هو
أبو أيوب سليمان بن يسار مولى ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أخو
عطاء بن يسار كان سليمان من فقهاء المدينة وكبار التابعين ثقة فاضلا ورعا حجة هو
أحد الفقهاء السبعة روى عن ابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة مات سنة سبع ومائة وهو ابن
ثلاث وسبعين سنة (قال: أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم كلهم يقفون المولي. رواه الشافعي). وفي الارشاد لابن كثير أنه قال الشافعي بعد
رواية الحديث: وأقل ذلك ثلاثة عشر اه‍ يريد أقل ما يطلق عليه لفظ بضعة عشر. وقوله
يقفون بمعنى يقفونه أربعة أشهر كما أخرجه إسماعيل - هو ابن أبي إدريس - عن سليمان
أيضا قال: أدركنا الناس يقفون الايلاء إذا مضت الأربعة. فإطلاق رواية الكتاب محمولة
على هذه الرواية المقيدة. وقد أخرج الدارقطني من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه
قال: سألت اثنى عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي فقالوا: ليس عليه شئ حتى
تمضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق. وأخرج إسماعيل المذكور من حديث ابن عمر
أنه قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق "
وأخرج الإسماعيلي أثر ابن عمر بلفظ أنه كان يقول: أيما رجل آلى من امرأته فإذا
مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق أو يفئ ولا يقع عليها طلاق إذا مضت حتى يوقف "
وفي الباب آثار كثيرة عن السلف كلها قاضية بأنه لا بد بعد مضي الأربعة الأشهر من إيقاف
المولي. ومعنى إيقافه هو أن يطالب إما بالفئ وإما بالطلاق. ولا يقع الطلاق بمجرد مضي
المدة وإلى هذا ذهب الجماهير وعليه دل ظاهر الآية إذ قوله تعالى: * (وإن عزموا الطلاق
فإن الله سميع عليم) * يدل قوله: * (سميع) * على أن الطلاق يقع بقول يتعلق به السمع ولو كان
يقع بمضي المدة لكفى قوله: * (عليم) * لما عرف من بلاغة القرآن وأن فواصل الآيات تشير
إلى ما دلت عليه الجملة السابقة. فإذا وقع الطلاق فإنه يكون رجعيا عند الجمهور وهو
الظاهر ولغيرهم تفاصيل لا يقوم عليها دليل.
4 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقت
الله أربعة أشهر، فإن كان أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء أخرجه البيهقي. وأخرجه
185

الطبراني أيضا عنه. وقال الشافعي: كانت العرب في الجاهلية تحلف بثلاثة أشياء. وفي لفظ
كانوا يطلقون الطلاق والظهار والايلاء فنقل تعالى الايلاء والظهار عما كان عليه الجاهلية من
إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقر عليه حكمهما في الشرع وبقي حكم الطلاق على ما كان
عليه. والحديث دليل على أن أقل ما ينعقد به الايلاء أربعة أشهر.
5 - (عنه رضي الله عنه أن رجلا ظاهر من امرأته ثم وقع عليها فأتى النبي
(ص) فقال: إني وقعت عليها قبل أن أكفر؟؟ قال: فلا تقربها حتى
تفعل ما أمرك الله به رواه الأربعة وصححه الترمذي ورجح النسائي إرساله، ورواه
البزار من وجه آخر عن ابن عباس وزاد فيه: كفر ولا تعد). هذا من باب الظهار
والحديث لا يضر إرساله كما قررناه من أن إتيانه من طريق موصولة لا يكون
علة بل يزيده قوة. والظهار مشتق من الظهر لأنه قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر
أمي فأخذ اسمه من لفظه وكنوا بالظهر عما يستهجن ذكره. وأضافه إلى الأم لأنها أم المحرمات
وقد أجمع العلماء على تحريم الظهار وإثم فاعله كما قال تعالى: * (وإنهم ليقولون منكر من القول
وزورا) *. وأما حكمه بعد إيقاعه فيأتي. وقد اتفق العلماء على أنه يقع بتشبيه الزوجة بظهر الأم
ثم اختلفوا فيه في مسائل: الأولى: إذا شبهها بعضو منها غيره فذهب الأكثر إلى أنه يكون
ظهارا أيضا وقيل يكون ظهارا إذا شبهها بعضو يحرم النظر إليه وقد عرفت أن النص
لم يرد إلا في الظهر. الثانية: أنهم اختلفوا أيضا فيما إذا شبهها بغير الأم من المحارم فقالت
الهادوية لا يكون ظهارا لان النص ورد في الأم وذهب آخرون منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة
إلى أنه يكون ظهارا ولو شبهها بمحرم من الرضاع. ودليلهم القياس فإن العلة التحريم المؤبد
وهو ثابت في المحارم كثبوته في الأم. وقال مالك وأحمد: إنه ينعقد وإن لم يكن المشبه به مؤبد
التحريم كالأجنبية. بل قال أحمد: حتى في البهيمة ولا يخفى أن النص لم يرد إلا في الأم. وما
ذكر من إلحاق غيرها فبالقياس وملاحظة المعنى ولا ينتهض دليلا على الحكم. الثالثة: أنهم
اختلفوا أيضا هل ينعقد الظهار من الكافر فقيل: نعم لعموم الخطاب في الآية وقيل: لا ينعقد
منه لان من لوازمه الكفارة وهي لا تصح من الكافر، ومن قال ينعقد منه قال: يكفر بالعتق
أو الاطعام لا بالصوم لتعذره في حقه. وأجيب بأن العتق والاطعام إذا فعلا لأجل الكفارة
كانا قربة ولا قربة لكافر. الرابعة: أنهم اختلفوا أيضا في الظهار من الأمة المملوكة فذهبت
الهادوية والحنفية والشافعية أنه لا يصح الظهار منها لان قوله تعالى: * (من نسائهم) * لا يتناول
المملوكة في عرف اللغة للاتفاق في الايلاء على أنها غير داخلة في عموم النساء وقياسا على
الطلاق. وذهب مالك وغيره إلى أنه يصح من الأمة لعموم لفظ النساء. إلا أنه اختلف
القائلون بصحته منها في الكفارة فقيل: لا تجب إلا نصف الكفارة فكأنه قاس ذلك على
الطلاق عنده. الخامسة: الحديث دليل على أنه يحرم وطئ الزوجة التي ظاهر منها قبل التكفير
وهو مجمع عليه لقوله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) * فلو وطئ لم يسقط التكفير ولا يتضاعف
186

لقوله (ص): حتى تفعل ما أمرك الله قال الصلت بن دينار: سألت عشرة من الفقهاء
عن المظاهر يجامع قبل التكفير فقالوا: كفارة واحدة وهو قول الفقهاء الأربعة. وعن ابن عمر
أن عليه كفارتين إحداهما للظهار الذي اقترن به العود والثانية للوطئ المحرم كالوطئ
في رمضان نهارا ولا يخفى ضعفه. وعن الزهري وابن جبير: أنها تسقط الكفارة لأنه فات
وقتها فإنه قبل المسيس وقد فات وأجيب بأن فوات وقت الأداء لا يسقط الثابت في الذمة
كالصلاة وغيرها من العبادات. واختلف في تحريم المقدمات فقيل حكمها حكم المسيس
في التحريم لأنه شبهها بمن يحرم في حقها الوطئ ومقدماته وهذا قول الأكثر. وعن الأقل
لا تحرم المقدمات لان المسيس هو الوطئ وحده فلا يشمل المقدمات إلا مجازا. ولا يصح أن
يرادا لأنه جمع بين الحقيقة والمجاز وعن الأوزاعي يحل له الاستمتاع بما فوق الإزار.
6 - (وعن سلمة بن صخر رضي الله عنه) هو البياضي بفتح الموحدة وتخفيف المثناة التحتية وضاد
معجمة أنصاري خزرجي كان أحد البكائين. روى عنه سليمان بن يسار وابن المسيب.
قال البخاري: لا يصح حديثه يعني هذا الذي في الظهار (قال: دخل رمضان فخفت أن
أصيب امرأتي). وفي الارشاد قال: إني كنت امرءا أصيب من النساء ما لا يصيب غيري "
(فظاهرت منها فانكشف لي منها شئ ليلة فوقعت عليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حرر رقبة فقلت ما أملك إلا رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين قلت: وهل
أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟، قال: أطعم فرقا من تمر ستين مسكينا.
أخرجه أحمد والأربعة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة وابن الجارود). وقد أعله عبد الحق
بالانقطاع بين سليمان بن يسار وسلمة لان سليمان لم يدرك سلمة حكى ذلك الترمذي عن
البخاري. وفي الحديث مسائل: الأولى: أنه دل على ما دلت عليه الآية من ترتيب خصال
الكفارة والترتيب إجماع بين العلماء. الثانية: أنها أطلقت الرقبة في الآية وفي الحديث أيضا
ولم تقيد بالايمان كما قيدت به في آية القتل. فاختلف العلماء في ذلك فذهب زيد بن علي
وأبو حنيفة وغيرهما إلى عدم التقييد وأنها تجزئ رقبة ذمية وقالوا: لا تقيد بما في آية القتل
لاختلاف السبب. وقد أشار الزمخشري إلى عدم اعتبار القياس لعدم الاشتراك في العلة فإن
المناسبة أنه لما أخرج رقبة مؤمنة من صفة الحياة إلى الموت كان كفارته إدخال رقبة مؤمنة
في حياة الحرية وإخراج عن الرقية. فإن الرق يقتضي سلب التصرف عن المملوك
فأشبه الموت الذي يقتضي سلب التصرف عن الميت فكان في إعتاقه إثبات التصرف فأشبه
الاحياء الذي يقتضي إثبات التصرف للحي. وذهبت الهادوية ومالك والشافعي إلى أنه
لا يجزئ إعتاق رقبة كافرة وقالوا: تقيد آية الظهار كما قيدت آية القتل وإن اختلف السبب
قالوا: وقد أيدت ذلك السنة فإنه لما جاءه صلى الله عليه وسلم السائل يستفتيه في عتق رقبة
187

كانت عليه سأل صلى الله عليه وسلم الجارية: أين الله؟ فقالت: في السماء فقال
من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله قال: فأعتقها فإنها مؤمنة أخرجه البخاري وغيره.
قالوا: فسؤاله صلى الله عليه وسلم لها عن الايمان وعدم سؤاله عن صفة الكفارة وسببها دال
على اعتبار الايمان في كل رقبة تعتق عن سبب لأنه قد تقرر أن ترك الاستفصال مع قيام
الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما قد تقرر. قلت: الشافعي قائل بهذه القاعدة فإن
قال بها من معه من المخالفين كان الدليل على التقييد هو السنة لا الكتاب لأنهم قرروا في الأصول
أنه لا يحمل المطلق على المقيد إلا مع اتحاد السبب ولكنه وقع في حديث أبي هريرة عند
أبي داود ما لفظه: فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة الحديث إلى آخره. قال عز الدين
الذهبي: هذا الحديث صحيح وحينئذ فلا دليل في الحديث على ما ذكر فإنه صلى الله عليه
وسلم لم يسألها عن الايمان إلا لان السائل قال: عليه رقبة مؤمنة. الثالثة: اختلف العلماء في الرقبة
المعينة بأي عيب فقالت الهادوية وداود تجزئ المعيبة لتناول اسم الرقبة لها. وذهب
آخرون إلى عدم إجزاء المعيبة قياسا على الهدايا والضحايا بجامع التقرب إلى الله. وفصل
الشافعي فقال: إن كانت كاملة المنفعة كالأعور أجزأت وإن نقصت منافعه لم تجز إذا
كان ذلك ينقصها نقصانا ظاهرا كالأقطع والأعمى إذ العتق تمليك المنفعة وقد نقصت.
وللحنفية تفاصيل في العيب يطول تعدادها ويعز قيام الأدلة عليه. الرابعة: أن قوله صلى الله عليه
وسلم فصم شهرين متتابعين دال على وجوب التتابع وعليه دلت الآية وشرطت أن تكون
قبل المسيس فلو مس فيهما استأنف وهو إجماع إذا وطئها نهارا معتمدا. وكذا ليلا عند الهادوية
وأبي حنيفة وآخرين ولو ناسيا للآية وذهب الشافعي وأبو يوسف إلى أنه لا يضر ويجوز،
لأن علة النهي إفساد الصوم ولا إفساد بوطئ الليل وأجيب بأن الآية عامة. واختلفوا إذا
وطئ نهارا ناسيا فعند الشافعي وأبي يوسف لا يضر لأنه لم يفسد الصوم وقالت الهادوية
وأبو حنيفة بل يستأنف كما إذا وطئ عامدا لعموم الآية. قالوا: وليست العلة إفساد الصوم
بل دل عموم الدليل للأحوال كلها على أنها لا تتم الكفارة إلا بوقوعها قبل المسيس. الخامسة
اختلفوا أيضا فيما إذا عرض له في أثناء صيامه عذر مأيوس ثم زال هل يبني على صومه أو
يستأنف فقالت الهادوية ومالك وأحمد إنه يبني على صومه لأنه فرقه بغير اختياره. وقال
أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي بل يستأنف لاختياره التفريق. وأجيب بأن العذر صيره
كغير المختار. وأما إذا كان العذر مرجوا فقيل: يبني أيضا وقيل: لا يبني لان رجاء زوال
العذر صيره كالمختار وأجيب بأنه مع العذر لا اختيار له. السادسة: أن ترتيب قوله صلى الله
عليه وسلم: فصم على قول السائل ما أملك إلا رقبتي يقضي بما قضت به الآية من أنه
لا ينتقل إلى الصوم إلا لعدم وجدان الرقبة فإن وجد الرقبة إلا أنه يحتاجها لخدمته للعجز فإنه
لا يصح منه الصوم. فإن قيل: إنه قد صح التيمم لواجد الماء إذا كان يحتاج إليه فهلا قستم هذا
عليه؟ قلت: لا قياس لان التيمم قد شرع مع العذر فكأن الاحتياج إلى الماء كان لعذر.
فإن قيل: فهل يجعل الشبق إلى الجماع عذرا يكون له معه العدول إلى الاطعام ويعد صاحب
188

الشبق غير مستطيع للصوم؟ قلت: هو ظاهر حديث سلمة وقوله في الاعتذار عن التكفير
بالصيام وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام وإقراره صلى الله عليه وسلم على عذره
وقوله: أطعم يدل على أنه عذر يعدل معه إلى الاطعام. السابعة: أن النص القرآني والنبوي
صريح في إطعام ستين مسكينا كأنه جعل عن كل يوم من الشهرين إطعام مسكين.
واختلف العلماء: هل لا بد من إطعام ستين مسكينا أو يكفي إطعام مسكين واحد ستين يوما.
فذهبت الهادوية ومالك وأحمد والشافعي إلى الأول لظاهر الآية. وذهبت الحنفية وهو أحد
قولي زيد بن علي والناصر إلى الثاني وأنه يكفي إطعام واحد ستين يوما أو أكثر من واحد بقدر
إطعام ستين مسكينا. قالوا: لأنه في اليوم الثاني مستحق كقبل الدفع إليه وأجيب بأن ظاهر
الآية تغاير المساكين بالذات. ويروى عن أحمد ثلاثة أقوال كالقولين هذين. والثالث: إن
وجد غير المسكين لم يجز الصرف إليه وإلا أجزأ إعادة الصرف إليه. الثامنة: اختلف في قدر
الاطعام لكل مسكين فذهبت الهادوية والحنفية إلى أن الواجب ستون صاعا من تمر أو ذرة
أو شعير أو نصف صاع من بر. وذهب الشافعي إلى أن الواجب لكل مسكين مد والمد
ربع الصاع واستدل بقوله في حديث الباب: أطعم عرقا من تمر ستين مسكينا والعرق
مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا من تمر ولأنه أكثر الروايات في حديث سلمة. هذا واستدل
الأولون بأنه ورد في رواية عبد الرزاق: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها
إليك فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا، قالوا: والوسق ستون صاعا وفي رواية لأبي داود
والترمذي: فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا وجاء في تفسير العرق أنه ستون صاعا. وفي رواية
لأبي داود أن العرق مكتل يسع ثلاثين صاعا قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين. ولما
اختلف في تفسير العرق على ثلاثة أقوال واضطربت الروايات فيه جنح الشافعي إلى الترجيح
بالكثرة. وأكثر الروايات خمسة عشر صاعا. وقال الخطابي في معالم السنن: العرق السقيفة
التي من الخوص فيتخذ منها المكاتل قال: وجاء تفسيره أنه ستون صاعا وفي رواية لأبي داود
يسع ثلاثين صاعا وفي رواية سلمة يسع خمسة عشر صاعا فذكر أن العرق يختلف في السعة
والضيق. قال: فذهب الشافعي إلى رواية الخمسة عشر صاعا. قلت: يؤيد قوله أن الأصل براءة
الذمة عن الزائد وهو وجه الترجيح. التاسعة: في الحديث دليل على أن الكفارة لا تسقط جميع
أنواعها بالعجز وفيه خلا ف. فذهب الشافعي وأحد الروايتين عن أحمد إلى عدم سقوطها
بالعجز لما في حديث أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي
أوس بن الصامت إلى أن قال لها رسول الله (ص): يعتق رقبة قالت: لا يجد
قال: يصوم شهرين متتابعين قالت: إنه شيخ كبير ما به من صيام قال: يطعم ستين
مسكينا قالت: ما عنده من شئ يتصدق به قال: فإني سأعينه بعرق الحديث فلو كان
يسقط عنه العجز لا بأنه صلى الله عليه وسلم ولم يعنه من عنده. وذهب أحمد في رواية وطائفة
إلى سقوطها بالعجز كما تسقط الواجبات بالعجز عنها وعن أبدالها. وقيل: إنها تسقط كفارة
الوطئ في رمضان بالعجز عنها لا غيرها من الكفارات. قالوا: لان النبي (ص)
189

أمر المجامع في نهار رمضان أن يأكل الكفارة هو وعياله والرجل لا يكون مصرفا لكفارته.
وقال الأولون: إنما حلت له لأنه إذا عجز وكفر عنه الغير جاز أن يصرفها إليه وهو مذهب
أحمد في كفارة الوطئ في رمضان وله في غيرها من الكفارات قولان وهو نظير ما قالته
الهادوية من أنه يجوز للامام إذا قبض الزكاة من شخص أن يردها إليه. العاشرة: قال الخطابي:
دل الحديث على أن الظهار المقيد كالظهار المطلق وهو إذا ظاهر من امرأته إلى مدة ثم
أصابها قبل انقضاء تلك المدة. واختلفوا فيه إذا بر ولم يحنث فقال مالك وابن أبي ليلى: إذا
قال لامرأته أنت علي كظهر أمي إلى الليل لزمته الكفارة وإن لم يقربها. وقال أكثر أهل
العلم لا شئ عليه إذا لم يقربها وجعل الشافعي في الظهار المؤقت قولين: أحدهما أنه
ليس بظهار.
فائدة قد يتوهم أن سبب نزول آية الظهار حديث سلمة هذا لاتفاق الحكمين
في الآية والحديث وليس كذلك بل سبب نزولها قصة أوس بن الصامت ذكره ابن كثير
في الارشاد من حديث خويلة بنت ثعلبة قالت: (في والله وفي أوس أنزل الله سورة المجادلة قالت:
كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه وقد ضجر قالت: فدخل علي يوما فراجعته
بشئ فغضب فقال أنت علي كظهر أمي قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة
ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي. قالت: قلت: كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص
إلي وقد قلت ما قلت فحكم الله ورسوله فيهما الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود
وإسناده مشهور. وأخذ منه أنه إذا قصد بلفظ الظهار الطلاق لم يقع الطلاق وكان ظهارا
وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي وغيرهما. قال الشافعي: ولو ظاهر يريد به طلاقا كان
ظهارا ولو طلق يريد ظهارا كان طلاقا. وقال أحمد: إذا قال أنت علي كظهر أمي
وعنى به الطلاق كان ظهارا ولا تطلق وعلله ابن القيم بأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية
فنسخ فلم يجز أن يعاد إلى الامر المنسوخ. وأيضا فأوس إنما نوى به الطلاق لما كان عليه
فأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق وأيضا فإنه صريح في حكمه فلم يجز في جعله كناية
في الحكم الذي أبطل الله شرعه وقضاء الله أحق وحكمه أوجب.
باب اللعان
هو مأخوذ من اللعن لأنه يقول الزوج في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين
ويقال فيه اللعان والالتعان والملاعنة. واختلف في وجوبه على الزوج فقال في الشفاء للأمير
الحسين: يجب إذا كان ثمة ولد وعلم أنه لم يقربها. وفي المهذب والانتصار أنه مع غلبة
الظن بالزنا في المرأة أو العلم يجوز ولا يجب ومع عدم الظن يحرم.
1 - (وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سأل فلان) هو عويمر العجلاني كما في أكثر
الروايات: (فقال: يا رسول الله الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟
إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك) أي على أمر عظيم (فلم يجبه،
فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. فأنزل الله الآيات
190

في سورة النور). والأكثر في الروايات أن سبب نزول الآيات قصة هلال بن أمية وزوجته
وكانت متقدمة على قصة عويمر وإنما تلاها صلى الله عليه وسلم لان حكمها عام للأمة
(فتلاهن عليه ووعظه وذكره) عطف تفسير إذ الوعظ هو التذكير (وأخبره أن عذاب
الدنيا أهون من عذاب الآخرة) الموعود به في قوله: * (لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب
عظيم) * (قال: لا. والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها. ثم دعاها فوعظها كذلك. قالت
لا. والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله، ثم ثنى بالمرأة ثم
فرق بينهما. رواه مسلم). في الحديث مسائل: الأولى: قوله فلم يجبه، ووقع عند أبي داود
فكره صلى الله عليه وسلم المسائل. وعليها قال الخطابي: يريد المسألة عما لا حاجة بالسائل
إليه. وقال الشافعي: كانت المسائل فيما لم ينزل فيه حكم زمن نزول الوحي ممنوعة لئلا
ينزل في ذلك ما يوقعهم في مشقة وتعنت كما قال تعالى: * (لا تسألوا عن أشياء) *. وفي الحديث
الصحيح: أعظم الناس جرما من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته. وقال
الخطابي: قد وجدنا المسألة في كتاب الله على وجهين: أحدهما: ما كانت على وجه التبيين
والتعليم فيما يلزم الحاجة إليه من أمر الدين. والآخر: ما كان على الطريق التعنت والتكلف. فأباح
النوع الأول وأمر به وأجاب عنه فقال: * (فاسألوا أهل الذكر) * وقال: * (فاسأل الذين يقرؤن
الكتاب من قبلك) * وأجابه تعالى في الآيات: * (يسألونك عن الأهلة) *، * (ويسألونك عن المحيض) *
وغيرها وقال في النوع الآخر: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * وقال
* (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) *. فكل ما كان من السؤال على
هذا الوجه فهو مكروه فإذا وقع السكوت عن جواب فإنما هو زجر وردع للسائل فإذا
وقع الجواب فهو عقوبة وتغليظ. الثانية: في قوله فبدأ بالرجل ما يدل على أنه يبدأ به
وهو قياس الحكم الشرعي لأنه المدعي فيقدم وبه وقعت البداءة في الآية. وقد وقع
الاجماع على أن تقديمه سنة واختلف هل تجب البداءة به أم لا؟ فذهب الجماهير إلى
وجوبها لقوله (ص) لهلال: البينة وإلا حد في ظهرك. فكانت البداءة به لدفع
الحد عن الرجل فلو بدأ بالمرأة كان دافعا لأمر لم يثبت. وذهب أبو حنيفة إلى أنها تصح
البداءة بالمرأة لان العطف فيها بالواو وهي لا تقتضي
الترتيب. وأجيب عنه بأنها وإن لم تقتض الترتيب فإنه تعالى لا يبدأ إلا بما هو الأحق في البداءة
والأقدم في العناية وبين فعله (ص) ذلك فهو مثل قوله: نبدأ بما بدأ الله
به في وجوب البداءة بالصفا. الثالثة: قوله: ثم فرق بينهما دال على أن الفرقة بينهما لا تقع
إلا بتفريق الحاكم لا بنفس اللعان. وإلى هذا ذهب كثير مستدلين بهذا اللفظ في الحديث
وأنه ثبت في الصحيح بأن الرجل طلقها ثلاثا بعد تمام اللعان وأقره النبي صلى الله عليه
وسلم على ذلك. ولو كانت الفرقة تقع بنفس اللعان لبين (ص) أن طلاقه
في غير محله. وقال الجمهور: بل الفرقة تقع بنفس اللعان وإنما اختلفوا هل تحصل الفرقة
لتمام لعانه وإن لم تلتعن هي؟ فقال الشافعي تحصل به. وقال أحمد: لا تحصل إلا بتمام
191

لعانهما، وهو المشهور عند المالكية وبه قالت الظاهرية. واستدلوا بما جاء في صحيح مسلم
من قوله (ص): (ذلكم التفريق بين كل متلاعنين). وقال ابن العربي: أخبر
(ص) بقوله: (ذلكم) عن قوله: (لا سبيل لك عليها). قال: وكذا حكم كل متلاعنين.
فإن كان الفراق لا يكون إلا بحكم فقد نفذ الحكم فيه من الحاكم الأعظم صلى الله عليه وسلم
بقوله ذلكم التفريق بين كل متلاعنين. قالوا: وقوله فرق بينهما معناه إظهار ذلك
وبيان حكم الشرع فيه لا أنه أنشأ الفرقة بينهما. قالوا: فأما طلاقه إياها فلم يكن عن أمره
صلى الله عليه وسلم وبأنه لم يزد التحريم الواقع باللعان إلا تأكيدا فلا يحتاج إلى إنكاره. وبأنه
لو كان لا فرقة إلا بالطلاق لجاز له الزواج بها بعد أن تنكح زوجا غيره. وقد أخرج أبو داود
عن ابن عباس الحديث وفيه: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا بيت لها عليه
ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها. وأخرج أبو داود من حديث
سهل بن سعد في حديث المتلاعنين قال: مضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم
لا يجتمعان أبدا. وأخرجه البيهقي بلفظ: فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال:
لا يجتمعان أبدا. وعن علي وابن مسعود قالا: مضت السنة بين المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا "
وعن عمر يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا. الرابعة: اختلف العلماء في فرقة اللعن هل هي فسخ
أو طلاق بائن فذهبت الهادوية والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنها فسخ مستدلين بأنها توجب
تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع إذ لا يجتمعان أبدا. ولان اللعان ليس صريحا
في الطلاق ولا كناية فيه. وذهب أبو حنيفة إلى أنها طلاق بائن مستدلا بأنها لا تكون إلا من زوجة
فهي من أحكام النكاح المختصة فهي طلاق إذ هو من أحاكم النكاح المختصة بخلاف الفسخ
فإنه قد يكون من أحكام غيره النكاح كالفسخ بالعيب. وأجيب بأنه لا يلزم من اختصاصه
بالنكاح أن يكون طلاقا كما أنه لا يلزم فيه نفقة ولا غيرها. الخامسة: وهي فرع الرابعة: اختلفوا
لو أكذب نفسه بعد اللعان هل تحل له الزوجة فقال أبو حنيفة: تحل له لزوال المانع وهو
قول سعيد بن المسيب فإنه قال: فإن أكذب نفسه فإنه خاطب من الخطاب. وقال ابن جبير
ترد إليه ما دامت في العدة. وقال الشافعي وأحمد: لا تحل له أبدا لقوله (ص)
لا سبيل لك عليها. قلت: قد يجاب عنه بأنه (ص) قاله لمن التعن ولم يكذب
نفسه. السادسة: في حديث لعان هلال بن أمية أنه قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم
بشريك بن سحماء الحديث عند أبي داود وغيره. قال الخطابي: فيه من الفقه أن الزوج
إذا قذف امرأته برجل بعينه ثم تلاعنا فإن اللعان يسقط عنه الحد فيصير في التقدير ذكره
المقذوف به تبعا ولا يعتبر حكمه وذلك أنه قال صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية البينة
أو حد في ظهرك فلما تلاعنا لم يتعرض لهلال بالحد. ولا يروى في شئ من الاخبار أن
شريك بن سحماء عفا عنه فعلم أن الحد الذي كان يلزمه بالقذف سقط عنه باللعان وذلك
لأنه مضطر إلى ذكر من يقذفها به لإزالة الضرر عن نفسه فلم يحمل نفسه على القصد له
بالقذف وإدخال الضرر عليه. قلت: ولا يخفى أنه لا ضرورة في تعيين من قذفها به. قال
192

وقال الشافعي: إنما يسقط الحد عنه إذا ذكر الرجل وسماه في اللعان فإن لم يفعل ذلك حد له.
وقال أبو حنيفة: الحد لازم له وللرجل مطالبته به. وقال مالك: يحد للرجل ويلاعن
للزوجة انتهى. قلت: ولا دليل في حديث هلال على سقوط الحد بالقذف لأنه حق
للمقذوف ولم يرد أنه طالب به حتى يقول له صلى الله عليه وسلم قد سقط باللعان أو يحد
القاذف فيتبين الحكم. والأصل ثبوت الحد على القاذف، واللعان إنما شرع لدفع الحد عن
الزوج والزوجة.
2 - (وعن ابن عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين:
حسابكما على الله) بينه بقوله: (أحدكما كاذب) فإذا كان أحدهما كاذبا فالله هو المتولي
لجزائه (لا سبيل لك عليها) هو إبانة للفرقة بينهما كما سلف (قال يا رسول الله مالي)
يريد به الصداق الذي سلمه إليها قال: (إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت
من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها متفق عليه). الحديث
أفاد ما سلف من الفراق بينهما وأن أحدهما كاذب في نفس الامر وحسابه على الله وأن
لا يرجع بشئ مما سلمه من الصداق لأنه إن كان صادقا في القذف فقد استحقت المال
بما استحل منها وإن كان كاذبا فقد استحقته أيضا بذلك ورجوعه إليه أبعد لأنه هضمها
بالكذب عليها فكيف يرتجع ما أعطاها.
3 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبصروها
فإن جاءت به أبيض سبطا) بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة بعدها طاء مهملة
وهو الكامل الخلق من الرجال (فهو لزوجها وإن جاءت به أكحل) بفتح الهمزة
وسكون الكاف هو الذي منابت أجفانه كلها سود كأن فيها كحلا وهي خلقة (جعدا)
بفتح الجيم وسكون العين المهملة فدال مهملة وهو من الرجال القصير (فهو للذي رماها
به) متفق عليه. ولهما في أخرى: فجاءت به على النعت المكروه. وفي الأحاديث ثبتت له
عدة صفات، وفي رواية لهما وللنسائي أنه قال (ص) بعد سرد صفات ما في بطنها
اللهم بين، فوضعت شبيها بالذي ذكر زوجها أنه وجده عندها. وفي الحديث دليل على أنه
يصح اللعان للمرأة الحامل ولا يؤخر إلى أن تضع وإليه ذهب الجمهور لهذا الحديث.
وقالت الهادوية وأبو يوسف ومحمد ويروى عن أبي حنيفة وأحمد: أنه لا لعان لنفي الحمل
لجواز أن يكون ريحا فلا يكون للعان حينئذ معنى. قلت: وهذا رأي في مقابلة النص
وكأنهم يريدون أنه لا لعان بمجرد ظن الحمل من الأجنبي لا لوجدانه معها الذي هو صورة
النص. وفي الحديث دليل على أنه ينتفي الولد باللعان وإن لم يذكر النفي في اليمين وإلى هذا
ذهب أهل الظاهر. وعند بعض المالكية وبعض أصحاب أحمد أنه لا يصح اللعان على الحمل
إلا بشرط ذكر الزوج لنفي الولد دون المرأة. وإنه يصح نفي الولد وهو حمل ويؤخر اللعان
إلى ما بعد الوضع ولا دليل عليهما. بل الحق قول الظاهرية فإنه لم يقع في اللعان عنده صلى الله
193

عليه وسلم نفي الولد ولم نره في حديث هلال ولا عويمر ولم يكن اللعان إلا منهما في عصره
صلى الله عليه وسلم. وأما لعان الحامل فقد ثبت في هذه الأحاديث وقد أخرج مالك عن
نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته وانتفى من ولده ففرق
بينهما وألحق الولد بالمرأة. وفي حديث سهل: (وكانت حاملا فأنكر حملها وذكر أنه انتفى من
ولده). ولكنه لا يدل على اشتراط نفي الولد لأنه فعله الرجل من تلقاء نفسه. وقال أبو حنيفة
لا يصح نفي الحمل واللعان عليه فإن لاعنها حاملا ثم أتت بالولد لزمه ولم يمكن من نفيه أصلا
لان اللعان لا يكون إلا بين الزوجين وهذه قد بانت بلعانهما في حال حملها. ويجاب بأن هذا رأي
في مقابلة النص الثابت في حديث الباب وفي حديث ابن عمر هذا وإن كان البخاري قد بين
أن قوله فيه وكانت حاملا من كلام الزهري لكن حديث الباب صحيح صريح. وفي الحديث
دليل على العمل بالقيافة وكان مقتضاها إلحاق الولد بالزوج إن جاءت به على صفته لأنه
للفراش لكنه بين صلى الله عليه وسلم المانع عن الحكم بالقيافة نفيا وإثباتا بقوله: لولا
الايمان لكان لي ولها شأن.
4 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) أمر رجلا أن
يضع يده عند الخامسة على فيه وقال: إنها موجبة رواه أبو داود والنسائي ورجاله
ثقات). فيه دلالة على أنه يشرع من الحاكم المبالغة في منع الحلف خشية أن يكون كاذبا
فإنه صلى الله عليه وسلم منع بالقول بالتذكير والوعظ كما سلف ثم منع ههنا بالفعل ولم يرو
أنه أمر بوضع يد أحد على فم المرأة وإن أوهمه كلام الرافعي. وقوله: إنها الموجبة أي
للفرقة ولعذاب الكاذب. وفيه دليل على أن اللعنة الخامسة واجبة. وأما كيفية التحليف
فأخرج الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس في تحليف هلال بن أمية أنه قال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: احلف بالذي لا إله إلا هو إني لصادق - يقول ذلك أربع مرات
الحديث بطوله قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري.
5 - (وعن سهل بن سعد رضي الله عنه - في قصة المتلاعنين - قال: فلما فرغا
من تلاعنهما قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله
(ص) متفق عليه). تقدم الكلام على تحقيق المقام.
6 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس قال: غربها) بالغين المعجمة والراء وباء موحدة قال
في النهي: أي أبعدها يريد الطلاق (قال: أخاف أن تتبعها نفسي قال: فاستمتع
بها رواه أبو داود والترمذي والبزار ورجاله ثقات) وأطلق عليه النووي الصحة. لكنه نقل
ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شئ
وليس له أصل فتمسك بهذا ابن الجوزي وعده في الموضوعات مع أنه أورده بإسناد صحيح
(وأخرجه النسائي من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ طلقها قال: لا أصبر عنها،
194

قال: فأمسكها). اختلف العلماء في تفسير قوله: لا ترد يد لامس على قولين: الأول: أن
معناه الفجور وأنها لا تمنع من يريد منها الفاحشة وهذا قول أبي عبيد والخلال والنسائي وابن
الاعرابي والخطابي. واستدل به الرافعي على أنه لا يجب تطليق من فسقت بالزنا إذا كان الرجل
لا يقدر على مفارقتها. والثاني: أنها تبذر بمال زوجها ولا تمنع أحدا طلب منها شيئا منه وهذا
قول أحمد والأصمعي ونقله عن علماء الاسلام وأنكر ابن الجوزي على من ذهب إلى الأول
قال في النهاية: وهو أشبه بالحديث لان المعنى الأول يشكل على ظاهر قوله تعالى: * (وحرم
ذلك على المؤمنين) * وإن كان في معنى الآية وجوه كثيرة. قلت: الوجه الأول في غاية من
البعد بل لا يصح للآية ولأنه (ص) لا يأمر الرجل أن يكون ديوثا فحمله على
هذا لا يصح. والثاني بعيد لان التبذير إن كان بمالها فمنعها ممكن وإن كان من مال الزوج
فكذلك ولا يوجب أمره بطلاقها. على أنه لم يتعارف في اللغة أن يقال فلان لا يرد يد لامس
كناية عن الجود، فالأقرب المراد أنها سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب
لا أنها تأتي الفاحشة. وكثير من النساء والرجال بهذه المثابة مع البعد من الفاحشة ولو أراد
به أنها لا تمنع نفسها عن الوقاع من الأجانب لكان قاذفا لها.
7 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله (ص) يقول - حين
نزلت آية المتلاعنين: أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من
الله في شئ ولم يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر
إليه) أي يعلم أنه ولده (احتجب الله عنه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين
أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان). وقد تفرد به عبد الله بن يونس عن
سعيد المقبري عن أبي هريرة ولا يعرف عبد الله إلا بهذا الحديث ففي تصحيحه نظر. وصححه
أيضا الدارقطني مع اعترافه بتفرد عبد الله وفي الباب عن ابن عمر عند البزار وفيه إبراهيم
بن يزيد الجوزي ضعيف وأخرج أحمد من طريق مجاهد عن ابن عمر نحوه أخرجه عبد الله
بن أحمد في زوائد المسند عن أبيه عن وكيع وقال: تفرد به وكيع، ومعنى الحديث واضح.
8 - (وعن عمر رضي الله عنه قال: من أقر بولده طرفة عين فليس له أن ينفيه
أخرجه البيهقي وهو حسن موقوف). فيه دليل على أنه لا يصح النفي للولد بعد الاقرار به وهو
مجمع عليه واختلف فيما إذا سكت بعد علمه به ولم ينفه فقال المؤيد: إنه يلزمه وإن لم يعلم
أن له النفي لان ذلك حق يبطل بالسكوت وذلك كالشفيع إذا أبطل شفعته قبل علمه
باستحقاقها. وذهب أبو طالب إلى أن له النفي متى علم إذ لا يثبت التخيير من دون علم فإن
سكت عند العلم لزم ولم يمكن من النفي بعد ذلك ولا يعتبر عنده فور ولا تراخ بل السكوت
كالاقرار. وقال الامام يحيى والشافعي: بل يكون نفيه على الفور. قال: وحد الفور ما لم
يعد تراخيا عرفا كما لو اشتغل بإسراج دابته أو لبس ثيابه أو نحو ذلك لم يعد تراخيا عرفا. ولهم
في المسألة تقادير ليس عليها دليل إلا الرأي وفروع على غير أصل أصيل.
195

9 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا) قال عبد الغني: إن اسمه ضمضم بن قتادة
(قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم،
قال: فما ألوانها؟ قال: حمر قال: هل فيها من أورق؟) بالراء والقاف - بزنة أحمر
وهو الذي في لونه سواد ليس بحالك (قال: نعم، قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه) بالنون
فزاي وعين مهملة: أي جذبه إليه (عرق، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق.
متفق عليه). (وفي رواية لمسلم) أي عن أبي هريرة (وهو) أي الرجل (يعرض بأن ينفيه، وقال
في آخره: ولم يرخص له في الانتفاء منه). قال الخطابي: هذا القول من الرجل تعريض بالريبة
كأنه يريد نفي الولد. فحكم النبي (ص) بأن الولد للفراش ولم يجعل خلاف الشبه
واللون دلالة يجب الحكم بها وضرب له المثل بما يوجد من اختلاف الألوان في الإبل ولقاحها
واحد. وفي هذا إثبات القياس وبيان أن المتشابهين حكمهما من حيث الشبه واحد ثم قال
وفيه دليل على أن الحد لا يجب في المكاني وإنما يجب في القذف الصريح. وقال المهلب:
التعريض إذا كان على جهة السؤال لا حد فيه وإنما يجب الحد في التعريض إذا كان على
المواجهة والمشاتمة. وقال ابن المنير: يفرق بين الزوج والأجنبي في التعريض أن الأجنبي
يقصد الأذية المحضة والزوج قد يعذر بالنسبة إلى صيانة النسب. وقال القرطبي: لا خلاف
أنه لا يجوز نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة كالسمرة والأدمة ولا في البياض والسواد إذا كان
قد أقر بالوطئ ولم تمض مدة الاستبراء. قال في الشرح: كأنه أراد في مذهبه وإلا فالخلاف
ثابت عند الشافعية بتفصيل وهو إن لم ينضم إليه قرينة زنا لم يجز النفي وإن اتهمها بولد على
لون الرجل الذي اتهمها به جاز النفي على الصحيح. وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة
مطلقا والخلاف إنما هو عند عدمها والحديث يحتمله لأنه لم يذكر أن معه قرينة الزنا
وإنما هو مجرد مخالفة اللون.
باب العدة والاحداد
والاستبراء، وغير ذلك بكسر العين المهملة: اسم لمدة تتربص بها المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها أو فراقه
لها إما بالولادة أو الأقراء أو الأشهر. والاحداد بالحاء بعدها دالان مهملتان بينهما
ألف: وهو لغة المنع وشرعا ترك الطيب والزينة للمعتدة عن وفاة.
1 -. (عن المسور) بكسر الميم وسكون السين المهملة فواو مفتوحة فراء (ابن مخرمة)
بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء: تقدمت ترجمته (أن سبيعة) بضم السين المهملة
فباء موحدة فمثناة تحتية: تصغير سبع وتاء التأنيث (الأسلمية نفست) بضم النون وكسر الفاء
(بعد وفاة زوجها) هو سعيد بن خولة توفي بمكة بعد حجة الوداع (بليال) وقع في تقديرها
خلاف كبير لا حاجة إلى ذكره ويأتي بعضه قريبا (فجاءت إلى النبي (ص) فاستأذنته
196

أن تنكح فأذن لها فنكحت. رواه البخاري وأصلح في الصحيحين. وفي لفظ) للبخاري
(أنها وضعت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة وفي لفظ لمسلم) أي عن المسور (قال الزهري:
ولا أرى بأسا أن تزوج وهي في دمها) أي دم نفاسها (غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر).
الحديث دليل على أن الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل وإن لم يمض
عليه أربعة أشهر وعشر ويجوز بعده أن تنكح. وفي المسألة خلاف فهذا الذي أفاده
الحديث قول جماهير العلماء من الصحابة وغيرهم لهذا الحديث ولعموم قوله تعالى: * (وأولات
الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * والآية وإن كان ما قبلها في المطلقات لكن ذلك لا يخص
عمومها. وأيد بقاء عمومها على أصله ما أخرجه عبد الله بن أحمد في رواية المسند والضياء
في المختارة وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله * (وأولات الأحمال أجلهن أن
يضعن حملهن) * هي المطلقة ثلاثا أم المتوفى عنها؟ قال: هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها "
وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والدارقطني عن أبي من وجه آخر قال: لما
نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله هذه الآية مشتركة أم مبهمة؟ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أية آية؟ قلت: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * المطلقة والمتوفى
عنها زوجها؟ قال: نعم. وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه عدة روايات دالة على قوله
بهذا. وأخرج عنه ابن مردويه قال: نسخت سورة النساء القصري كل عدة * (وأولات الأحمال
أجلهن أن يضعن حملهن) * أجل كل حامل مطلقة أو متوفى عنها زوجها أن تضع حملها "
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت سورة النساء القصري بعد التي
في البقرة بسبع سنين. وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن
المنذر وابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: وكنت أنا وابن عباس وأبو هريرة رضي
الله عنهما فجاء رجل فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة أحلت؟
قال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين، قلت أنا: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) *
قال ابن عباس: ذلك في الطلاق قال أبو سلمة: أرأيت لو أن امرأة جرت حملها سنة فما
عدتها؟ قال ابن عباس: آخر الأجلين. قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، يعني أبا سلمة
فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها أمضت في ذلك سنة؟ فقالت: قتل
زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله
(ص). وأخرجه عبد بن حميد من حديث أبي سلمة وفيه: أنهم أرسلوا إلى
عائشة فسألوها فقالت: ولدت سبيعة (مثل ما مضى) إلا أنها قالت بعد وفاة زوجها بليال "
وفي الباب عدة روايات عن السلف دالة على أن الآية باقية على عمومها في جميع العدد وأن
عموم آية البقرة منسوخ بهذه الآية الكريمة ومع تأخر نزولها كما صرحت به الروايات ينبغي
أن يكون التخصيص أو النسخ متفقا عليه. وذهبت الهادوية وغيرهم ويروى عن علي أنها
تعتد بآخر الأجلين إما وضع الحمل إن تأخر عن الأربعة الأشهر والعشر أو بالمدة المذكورة
إن تأخرت عن وضع الحمل مستدلين بقوله تعالى: * (الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن
197

بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) *. قالوا: فالآية الكريمة فيها عموم وخصوص من وجه. وقوله
* (وأولات الأحمال أجلهن) * كذلك فجمع بين الدليلين بالعمل بهما والخروج من العهدة
بيقين بخلاف ما إذا عمل بأحدهما. وأجيب عنه بأن حديث سبيعة نص في الحكم مبين بأن
آية النساء القصرى شاملة للمتوفى عنها زوجها وأيد حديثها ما سمعته من الأحاديث والآثار.
وأما الرواية عن علي رضي الله عنه فقال الشعبي: ما أصدق أن علي بن أبي طالب كان
يقول عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين. وهذا وكلام الزهري صريح أنه يعقد بها وإن
كانت لم تطهر من دم نفاسها وإن حرم وطؤها لأجل علة أخرى هي بقاء الدم. وقال النووي
في شرح مسلم: قال العلماء من أصحابنا وغيرهم سواء كان الحمل ولدا أو أكثر كامل
الخلقة أو ناقصها أو علقة أو مضغة فإنها تنقضي العدة بوضعه إذا كان فيه صورة خلقة آدمي
سواء كانت صورة خفية تختص النساء بمعرفتها أو صورة جلية يعرفها كل أحد. وتوقف
ابن دقيق العيد فيه من أجل أن الغالب في إطلاق وضع الحمل هو الحمل التام المتخلق وأما
خروج المضغة والعلقة فهو نادر والحمل على الغالب أقوى. قال المصنف: ولهذا نقل
عن الشافعي قول بأن العدة لا تنقضي بوضع قطعة لحم ليس فيها صورة بينة ولا خفية.
وظاهر الحديث والآية الاطلاق فيما يتحقق كونه حملا وأما ما لا يتحقق كونه حملا فلا، لجواز
أنه قطعة لحم والعدة لازمة بيقين فلا تنقضي بمشكوك فيه.
2 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرت) مغير الصيغة والآمر هو النبي صلى
الله عليه وسلم (بريرة أن تعتد بثلاث حيض رواه ابن ماجة ورواته ثقات لكنه معلول)
وقد ورد ما يؤيده وهو دليل على أن العد تعتبر بالمرأة عند من يجعل عدة المملوكة دون
عدة الحرة لا بالزوج، على القول الأظهر من أن زوج بريرة كان عبدا.
3 - (وعن الشعبي) هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد الله الشعبي الهمذاني
الكوفي تابعي جليل القدر فقيه كبير. قال ابن عيينة: كان ابن عباس في زمانه والشعبي
في زمانه. مر ابن عمر بالشعبي وهو يحدث بالمغازي فقال: شهدت القوم وهو أعلم بها مني
وقال الزهري: العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة والحسن البصري
بالبصرة ومكحول بالشام. ولد الشعبي في خلافة عمر كما في الكاشف للذهبي وقيل: لست
خلت من خلافه عثمان ومات سنة أربع ومائة وله اثنتان وستون سنة (عن فاطمة بنت
قيس عن النبي (ص) في المطلقة ثلاثا: ليس لها سكنى ولا نفقة رواه
مسلم). الحديث دليل على أن المطلقة ثلاثا ليس لها نفقة ولا سكنى وفي المسألة خلاف.
ذهب إلى ما أفاده الحديث: ابن عباس والحسن وعطاء والشعبي وأحمد في إحدى الروايات
القاسم والامامية وإسحاق وأصحابه وداود وكافة أهل الحديث مستدلين بهذا الحديث. وذهب
عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز والحنفية والثوري وغيرهم إلى أنها تجب لها النفقة ولا سكنى
مستدلين على الأول بقوله تعالى: * (أسكنوهن من حيث سكنتم) * وهذا في الحامل، وبالإجماع
في الرجعية على أنها تجب لها النفقة. وعلى الثاني بقوله تعالى - أسكنوهن من حيث سكنتم -
198

وذهب الهادي وآخرون إلى وجوب النفقة دون السكنى مستدلين بقوله تعالى: * (وللمطلقات
متاع) * ولأنها حبست بسببه كالرجعية. ولا يجب لها السكنى لان قوله * (من حيث سكنتم) *
يدل على أن ذلك حيث يكون الزوج وهو يقتضي الاختلاط ولا يكون ذلك إلا في حق
الرجعية. قالوا: وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه بمطاعن يضعف معها الاحتجاج به
وحاصلها أربعة مطاعن. الأول: كون الراوي امرأة ولم تقترن بشاهدين عدلين يتابعانها على
حديثها. الثاني: أن الرواية تخالف ظاهر القرآن. الثالث: أن خروجها من المنزل لم يكن لأجل
أنه لا حق لها في السكنى بل لايذائها أهل زوجها بلسانها. الرابع: معارضة روايتها برواية عمر.
وأجيب بأن كون الراوي امرأة غير قادح فكم من سنن ثبتت عن النساء يعلم ذلك من عرف
السير وأسانيد الصحابة. وأما قول عمر: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري
أحفظت أم نسيت؟ فهذا تردد منه في حفظها وإلا فإنه قد قبل عن عائشة وحفصة عدة أخبار
وتردده في حفظها عذر له في عدم العمل بالحديث ولا يكون شكه حجة على غيره. وأما
قوله إنه مخالف للقرآن وهو قوله تعالى: * (لا تخرجوهن من بيوتهن) * فإن الجمع ممكن بحمل الحديث
على التخصيص لبعض أفراد العام. وأما رواية عمر فأرادوا بها قوله: وسنة نبينا وقد عرف من
علوم الحديث أن قول الصحابي: من السنة كذا يكون مرفوعا. فالجواب أنه قد أنكر أحمد
بن حنبل الزيادة من قول عمر وجعل يقسم ويقول: وأين في كتاب الله إيجاب النفقة والسكنى
للمطلقة ثلاثا؟ وقال: هذا لا يصح عن عمر، قال ذلك الدارقطني. وأما حديث عمر: سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: لها السكنى والنفقة. فإنه من رواية إبراهيم
النخعي عن عمر وإبراهيم لم يسمعه من عمر فإنه لم يولد إلا بعد موت عمر بسنين. وأما القول بأن خروج فاطمة من بيت
زوجها كان لايذائها لأهل بيته بلسانها فكلام أجنبي عما يفيده الحديث الذي روت ولو
كانت تستحق السكنى لما أسقطه صلى الله عليه وسلم لبذاءة لسانها ولوعظها وكفها عن
إذاية أهل زوجها. ولا يخفى ضعف هذه المطاعن في رد الحديث فالحق ما أفاده الحديث
وقد أطال ابن القيم في ذلك في الهدي النبوي ناصرا للعمل بحديث فاطمة.
4 - (وعن أم عطية رضي الله عنها) اسمها نسيبة بضم النون وفتح المهملة صحابية
لها أحاديث في كتب الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحد) بضم حرف
المضارعة وكسر الحاء المهملة ويجوز ضم الدال على أن لا نافية وجزمها على أنها نهي
(امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا
مصبوغا إلا ثوب عصب) بفتح العين المهملة وسكون الصاد المهملة فباء موحدة. في النهاية
أنها برود يمنية يعصب غزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينشر فيبقى موشى لبقاء ما عصب
منه أبيض لم يأخذه الصبغ (ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة)
199

بضم النون وسكون الباء الموحدة فذال معجمة أي قطعة (من قسط) بضم القاف وسكون
السين المهملة. في النهاية أنه ضرب من الطيب وقيل العود (أو أظفار) يأت تفسيره (متفق عليه). وهذا لفظ مسلم ولأبي داود والنسائي من الزيادة ولا تختضب وللنسائي ولا
تمتشط). الحديث فيه مسائل. الأولى: تحريم إحداد المرأة فوق ثلاثة أيام على أي ميت من
أب أو غيره وجوازه ثلاثا عليه. وعلى الزوج فقط أربعة أشهر وعشرا. إلا أنه أخرج أبو داود
في المراسيل من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص
للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام وعلى من سواه ثلاثة أيام. فلو صح كان مخصصا للأب من
عموم النهي في حديث أم عطية إلا أنه مرسل لا يقوى على التخصيص. الثانية: في قوله امرأة
اخراج للصغيرة بمفهومه فلا يجب عليها الاحداد على الزوج فلا تنهى عن الاحداد على غيره
أكثر من ثلاثة وإليه ذهب الحنفية والهادي. وذهب الجمهور إلى أنها داخلة في العموم وأن
ذكر المرأة خرج مخرج الغالب والتكليف على وليها في منعها من الطيب وغيره ولأن العدة
واجبة على الصغيرة كالكبيرة ولا تحل خطبتها. الثالثة: في قوله على ميت دليل على أنه
لا إحداد على المطلقة فإن كان رجعيا فإجماع. وإن كان بائنا فذهب الجمهور إلى أنه
لا إحداد عليها وهو قول الهادي والشافعي ومالك ورواية عن أحمد لظاهر قوله على ميت. وإن
كان مفهوما فإنه يؤيده أن الاحداد شرع لقطع ما يدعو إلى الجماع، وكان هذا في حق
المتوفى عنها لتعذر رجوعها إلى الزوج. وأما المطلقة بائنا فإنه يصح أن تعود مع زوجها بعقد
إذا لم تكن مثلثة أي مطلقة ثلاثا. وذهب آخرون منهم علي وزيد بن علي وأبو حنيفة
وأصحابه إلى وجوب الاحداد على المطلقة بائنا قياسا على المتوفى عنها لأنهما اشتركتا في العدة
واختلفتا في سببها. ولأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه والقول الأول أظهر دليلا.
الرابعة: أنه لا دلالة في الحديث على وجوب الاحداد وإنما دل على حله على الزوج الميت.
وذهب إلى وجوبه أكثر العلماء لما أخرجه أبو داود من حديث سلمة أنها قالت: دخل
على سول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرا، الحديث
سيأتي ورواه النسائي. قال ابن كثير: وفي سنده غرابة قال: ولكن رواه الشافعي عن
مالك أنه بلغه عن أم سلمة فذكره وهو مما يتقوى به الحديث ويدل على أن له أصلا.
ولما أخرجه عنها أيضا أحمد وأبو داود والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المتوفى
عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل
قال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد لكن رواه البيهقي موقوفا عليها. وذهب الحسن والشعبي
أن المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتتطيبان وتتقلدان وتنتعلان
وتصبغان ما شاءتا. واستدلا بما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من حديث أسماء بنت عميس
قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب
فقال: لا تحدي بعد يومك هذا لفظ أحمد. وله ألفاظ كلها دالة على أمره صلى الله عليه
وسلم لها بعدم الاحداد بعد ثلاث وهذا ناسخ لأحاديث أم سلمة في الاحداد لأنه بعدها
200

فإن أم سلمة أمرت بالاحداد بعد موت زوجها وموته متقدم على قتل جعفر. وقد أجاب
الجمهور عن حديث أسماء بأجوبة سبعة كلها تكلف لا حاجة إلى سردها. المسألة الخامسة
في قوله: أربعة أشهر وعشرا قيل الحكمة في التقدير بهذه المدة أن الولد تتكامل خلقته وينفخ
فيه الروح بعد مضي مائة وعشرين يوما وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلة فجبر
الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط وذكر العشر مؤنثا باعتبار الليالي. والمراد مع أيامها
عند الجمهور فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة. المسألة السادسة: في قوله ثوبا
مصبوغا دليل على النهي عن كل مصبوغ بأي لون إلا ما استثناه في الحديث وقال ابن
عبد البر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبوغة إلا ما صبغ
بسواد فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ للزينة بل هو من لباس الحزن. واختلف
في الحرير فذهبت الشافعية في الأصح إلى المنع لها منه مطلقا مصبوغا أو غير مصبوغ.
قالوا: لأنه أبيح للنساء التزين به والحادة ممنوعة من التزين. وقال ابن حزم: إنها تجتنب
الثياب المصبوغة فقط ويحل لها أن تلبس ما شاءت من حرير أبيض أو أصفر من لونه الذي
لم يصبغ ويباح لها أن تلبس المنسوج بالذهب والحلي كله من الذهب والفضة والجوهر والياقوت وهذا جمود منه على لفظ النص الوارد في حديث أم عطية. وأما حديث أم سلمة
الذي فيه النهي عن لبسها الثياب المعصفرة ولا الممشقة ولا الحلي فقال: إنه لم يصح لأنه من
رواية إبراهيم بن طهمان. ورد عليه بأنه من الحفاظ الاثبات الثقات وقد صحح حديثه جماعة
من الأئمة كابن المبارك وأحمد وأبي حاتم. وابن حزم أدار التحريم على ما ثبت عنده
بالنص. وغيره من الأئمة أداره على التعليل بالزينة فبقي كلامهم أن ثوب العصب إذا كان فيه زينة
منعت منه ويخصصون الحديث بالمعنى المناسب للمنع وتقدم تفسير ثوب العصب عن
النهاية وللعلماء في تفسيره أقوال أخر. المسألة السابعة: في قوله ولا تكتحل دليل على
منعها من الاكتحال وهو قول الجمهور. وقال ابن حزم: ولا تكتحل ولذهبت عيناها
لا ليلا ولا نهارا ودليله حديث الباب وحديث أم سلمة المتفق عليه أن امرأة توفي عنها
زوجها فخافوا على عينها فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فما أذن فيه
بل قال: لا مرتين أو ثلاثا. وذهب الجمهور مالك وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجوز
الاكتحال بالأثمد للتداوي مستدلين بحديث أسلمة الذي أخرجه أبو داود أنها قالت في كحل
الجلاء لما سألتها امرأة أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينها فأرسلت إلى أم سلمة فسألتها
عن كحل الجلاء فقالت أم سلمة: لا يكتحل منه إلا من أمر لا بد منه يشتد عليك
فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار. ثم قالت أم سلمة: دخل علي رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين توفي أبو سلمة وذكرت حديث الصبر. قال ابن عبد البر: وهذا عندي وإن
كان مخالفا لحديثها الآخر الناهي عن الكحل مع الخوف على العين إلا أنه يمكن الجمع بأنه
(ص) عرف من الحالة التي نهاها أن حاجتها إلى الكحل خفيفة غير ضرورية
والإباحة في الليل لدفع الضرر بذلك. قلت: ولا يخفى أن فتوى أم سلمة قياس منها للكحل
201

على الصبر والقياس مع النص الثابت والنهي المتكرر لا يعمل به عند من قال بوجوب الاحداد.
5 - (وعن أم سلمة قالت: جعلت على عيني صبرا بعد أن توفي أبو سلمة، فقال
رسول الله (ص): إنه يشب الوجه) بفتح حرف المضارعة (فلا
تجعليه إلا بالليل وانزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب
قلت: بأي شئ أمتشط؟ قال: بالسدر رواه أبو داود والنسائي وإسناده حسن). فيه دليل
على تحريم الطيب وهو عام لكل طيب وقد ورد في لفظ لا تمس طيبا ولكنه قد استثنى
فيما سلف حال طهرها من حيضها وأذن لها في القسط والأظفار وقال البخاري القسط
والكست مثل الكافور والقافور يجوز في كل منهما القاف والكاف. قال النووي: القسط
والأظفار نوعان معروفان من البخور.
6 - (وعنها) أي أم سلمة (رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله ابنتي مات عنها زوجها
وقد اشتكت عينها أفنكحلها) بضم الحاء (قال: لا متفق عليه). تقدم الكلام
في الكحل وظاهر الحديث أنها لا تكحلها للتداوي فمن قال إنه تمنع الحادة من الكحل
بالأثمد لأنه الذي تحصل به الزينة فأما الكحل بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به لأنه
لا زينة فيه بل يصح العين، يرد عليه لفظ الحديث فإنها سألت عن كحل تداوي به العين
لا عن كحل الإثمد بخصوصه إلا أن يدعى أن الكحل إذا أطلق لا يتبادر إلا إليه.
7 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: طلقت خالتي فأرادت أن تجذ نخلها) بالجيم والذال المعجمة:
هو القطع المستأصل كما في القاموس وفي النهاية بالدال المهملة صرام النخل وهو قطع
ثمرها (فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي (ص) فقال: بلى جذي نخلك
فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا رواه مسلم) في باب جواز خروج المعتدة
البائن كما بوبه النووي. وأخرجه أبو داود والنسائي بزيادة: طلقت خالتي ثلاثا. والحديث
دليل على جواز خروج المعتدة من طلاق بائن من منزلها في النهار للحاجة إلى ذلك ولا يجوز
لغير حاجة وقد ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء وقالوا: يجوز الخروج للحاجة والعذر
ليلا ونهارا كالخوف وخشية انهدام المنزل. ويجوز اخراجها إذا تأذت بالجيران أو تأذوا بها
أذى شديدا لقوله تعالى: * (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ألا أن يأتين بفاحشة مبينة) *
وفسر الفاحشة بالبذاءة على الأحماء وغيرهم. وذهبت طائفة منهم إلى جواز خروجها نهارا
مطلقا دون الليل للحديث المذكور وقياسا على عدة الوفاة. ولا يخفى أن الحديث المذكور
علل فيه جواز الخروج برجاء أن تصدق أو تفعل معروفا وهذا عذر في الخروج وأما لغير
عذر فلا يدل عليه، إلا أن يقال إنما هذا رجاء فعل ذلك، وقد يرجى في كل خروج
في الغالب. وفيه دليل على استحباب الصدقة من التمر عند جذاذه واستحباب التعريض
لصاحبه بفعل الخير والتذكير بالمعروف.
202

8 - (وعن فريعة) بضم الفاء وفتح الراء وسكون المثناة التحتية وعين مهملة أخت
أبي سعيد الخدري شهدت بيعة الرضوان ولها رواية (بنت مالك أن زوجها خرج في طلب
أعبد له فقتلوه قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي
لم يترك لي مسكنا يملكه ولا نفقة فقال: نعم فلما كنت في الحجرة ناداني فقال:
امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا،
قالت: فقضى به بعد ذلك عثمان. أخرجه أحمد والأربعة وصححه الترمذي والذهلي) بضم
الذال المعجمة (وابن حبان والحاكم وغيرهم) أخرجوه كلهم من حديث سعد بن إسحاق
بن كعب عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة عن الفريعة. وقال ابن عبد البر: هذا
حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق وأعله عبد الحق تبعا لابن حزم بجهالة
حال زينب وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور العدالة وتعقب بأن زينب هذه من التابعيات
وهي امرأة أبي سعيد روى عنها سعد بن إسحاق وذكرها ابن حبان في كتاب الثقات
وقد روى عنها سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة فهي امرأة تابعية تحت صحابي ثم روى
عنها الثقات ولم يطعن فيها بحرف. وسعد بن إسحاق وثقه ابن معين والنسائي والدارقطني
وروى عنه حماد بن زيد وسفيان الثوري وابن جريج ومالك وغيرهم. والحديث دليل
على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها الذي نوت فيه العدة ولا تخرج منه إلى غيره وإلى
هذا ذهب جماعة من السلف والخلف. وفي ذلك عدة روايات وآثار عن الصحابة ومن
بعدهم وقال بهذا أحمد والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم. وقال ابن عبد البر: وبه يقول
جماعة من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام ومصر والعراق وقضى به عمر بمحضر من
المهاجرين والأنصار. والدليل حديث الفريعة ولم يطعن فيه أحد ولا في رواته إلا ما عرفت
وقد دفع. ويجب لها السكنى في مال زوجها لقوله تعالى: * (غير اخراج) * والآية وإن كان قد
نسخ فيها استمرار النفقة والكسوة حولا فالسكنى باق حكمها مدة العدة. وقد قرر الشافعي
الاستدلال بالآية بما فيه تطويل. وذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا سكنى للمتوفى
عنها. روى عبد الرزاق عن عروة عن عائشة أنها كانت تفتي المتوفى عنها بالخروج في عدتها.
وأخرج أيضا عن ابن عباس أنه قال: إنما قال الله تعتد أربعة أشهر وعشرا ولم يقل تعتد
في بيتها فتعتد حيث شاءت. ومثله أخرجه عن جابر بن عبد الله ومثله عن جماعة من الصحابة
وإليه ذهب الهادي فقال: لا تجب السكنى ويجب أن لا تبيت إلا في منزلها ودليلهم
ما ذكره ابن عباس من أنه تعالى ذكر مدة العدة ولم يذكر السكنى. والجواب أنه ثبت بالسنة
وهو حديث الفريعة وبالكتاب أيضا كما تقدم إلا أن حديث الفريعة صرحت فيه أن البيت
ليس لزوجها فيؤخذ منه أنها لا تخرج من البيت الذي مات وهي فيه سواء كان له أو لا.
أطال في الهدي النبوي الكلام على ما يتفرع من إثبات السكنى وهل تجب على الورثة
من رأس التركة أو لا؟ وهل تخرج من منزلها للضرورة أو لا؟ وذكر خلافا كثيرا بين العلماء
في ذلك ليس للتطويل بنقله كثير فائدة إذ ليس على شئ من تلك الفروع دليل ناهض.
203

9 - (وعن فاطمة بنت قيس قالت: قلت: يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا وأخاف
أن يقتحم) مغير الصيغة (علي) أي يهجم علي أحد بغير شعور (فأمرها فتحولت.
رواه مسلم) تقدم الكلام على حديث فاطمة وحكم ما أفاده ولا وجه لإعادة المصنف له.
10 - (وعن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا عدة أم الولد إذا
توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم وأعله
الدارقطني بالانقطاع). وذلك لأنه من رواية قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص ولم يسمع
منه. قال الدارقطني: وقال ابن المنذر: ضعفه أحمد وأبو عبيد. وقال محمد بن موسى:
سألت أبا عبد الله عنه فقال: لا يصح وقال الميموني: رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو
ابن العاص هذا ثم قال: أي سنة للنبي (ص) في هذا؟ وقال: أربعة أشهر
وعشرا إنما هي عدة الحرة عن النكاح، وإنما هذه أمة خرجت عن الرق إلى الحرية. وقال
المنذري: في إسناد حديث عمرو مطر بن طهمان أبو رجاء الوراق وقد ضعفه غير واحد.
وله علة ثالثة هي الاضطراب لأنه روي على ثلاثة وجوه. وقال أحمد: حديث منكر وقد
روى خلاس عن علي مثل رواية قبيصة عن عمرو ولكن خلاس بن عمرو قد تكلم في حديثه
كان ابن معين لا يعبأ بحديثه. وقال أحمد في روايته عن علي يقال: إنها كتاب وقال
البيهقي: رواية خلاس عن علي ضعيفة عند أهل العلم. والمسألة فيها خلاف، ذهب إلى ما أفاده
حديث عمرو: الأوزاعي والناصر والظاهرية وآخرون. وذهب مالك والشافعي وأحمد وجماعة
إلى أن عدتها حيضة لأنها ليست زوجة ولا مطلقة فليس إلا استبراء رحمها وذلك بحيضة تشبيها
بالأمة يموت عنها سيدها وذلك مما لا خلاف فيه. وقال مالك: فإن كانت ممن لا تحيض اعتدت،
بثلاثة أشهر ولها السكنى. وقال أبو حنيفة: عدتها ثلاث حيض وهو قول علي وابن مسعود
وذلك لأن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة وليست بزوجة فتعتد عدة الوفاة ولا بأمة فتعتد
عدة الأمة فوجب أن يستبرأ رحمها بعدة الحرائر. قلنا: إذا كان المراد الاستبراء كفت حيضة
إذ بها يتحقق وقال قوم: عدتها نصف عدة الحرة تشبيها لها بالأمة المزوجة عند من يرى
ذلك وسيأتي. وقال ت الهادوية: عدتها حيضتان تشبيها بعدة البائع والمشتري فإنهم يوجبون
على البائع الاستبراء بحيضة وعلى المشتري كذلك والجامع زوال الملك. قال في نهاية المجتهد
: سبب الخلاف أنها مسكوت عنها أي في الكتاب والسنة مترددة الشبه بين الأمة والحرة
فأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة انتهى.
قلت: وقد عرفت ما في حديث عمرو من المقال فالأقرب قول أحمد والشافعي أنها تعتد
بحيضة وهو قول ابن عمر وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد والشعبي والزهري لان الأصل
البراءة من الحكم وعدم حبسها عن الأزواج واستبراء الرحم يحصل بحيضة.
11 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما الأقراء الأطهار أخرجه مالك في قصة
بسند صحيح). والقصة هي ما أفاده سياق الحديث قال الشافعي: أخبرنا مالك عن ابن شهاب
عن عروة عن عائشة أنها قالت وقد جادلها في ذلك ناس وقالوا: إن الله يقول: ثلاثة قروء
204

فقالت عائشة: صدقتم وهل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار. قال الشافعي: أخبرنا
مالك عن ابن شهاب: ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا. يريد الذي قالت
عائشة انتهى.
واعلم أن هذه مسألة اختلف فيها سلف الأمة وخلفها مع الاتفاق أن القرء - بفتح القاف
وضمها - يطلق لغة على الحيض والطهر. وأنه لا خلاف أن المراد في قوله تعالى: * (وثلاثة قروء) *
أحدهما لا مجموعهما. إلا أنهم اختلفوا في الأحد المراد منهما فيها فذهب كثير من الصحابة
وفقهاء المدينة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وهو قول مالك وقال: هو الامر الذي
أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن المراد بالأقراء في الآية الكريمة الأطهار مستدلين بحديث عائشة
هذا. وقال الشافعي: إنه يدل لذلك الكتاب واللسان أي اللغة أما الكتاب فقوله تعالى
* (فطلقوهن لعدتهن) * وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: ثم تطهر ثم إن شاء
طلق فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. وفي حديث ابن عمر: لما
طلق امرأته حائضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا طهرت فليطلق أو يمسك وتلا
(ص): * (إذا طلقتم النساء) * لقبل عدتهن أو في قبل عدتهن. قال الشافعي
أنا شككت، فأخبر (ص) أن العدة الطهر دون الحيض وقرأ: فطلقوهن
لقبل عدتهن وهو أن يطلقها طاهرا وحينئذ تستقبل عدتها فلو طلقت حائضا لم تكن
مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض. وأما اللسان فهو أن القرء اسم معناه الحبس تقول العرب:
هو يقرئ الماء في حوضه وفي سقائه وتقول: يقرئ الطعام في شدقه يعني يحبس الطعام
فيه وتقول: إذا حبس الشئ أقرأه أي خبأه وقال الأعشى:
أفي كل يوم أنت جاشم غزوة * تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة عزا وفي الحي رفعة * لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فالقرء في البيت بمعنى الطهر لأنه ضيع أطهارهن في غزاته وآثرها عليهن أي آثر
الغزو على القعود فضاعت قروء نسائه بلا جماع فدل على أنها الأطهار. وذهب جماعة من
السلف كالخلفاء الأربعة وابن مسعود وطائفة كثيرة من الصحابة والتابعين إلى أنها الحيض
وبه قال أئمة الحديث وإليه رجع أحمد ونقل عنه أنه قال: كنت أقول إنها الأطهار وأنا
اليوم أذهب إلى أنها الحيض وهو قول الحنفية وغيرهم. واستدلوا بأنه لم يستعمل القرء في لسان
الشارع إلا في الحيض كقوله تعالى: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * وهذا
هو الحيض والحمل لان المخلوق في الرحم هو أحدهما وبهذا فسره السلف والخلف. وقوله
صلى الله عليه وسلم: دعي الصلاة أيام أقرائك ولم يقل أحد أن المراد به الطهر. ولقوله
صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود في سبايا أوطاس: لا توطأ حامل حتى تضع
ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة وسيأتي. وأجاب الأولون عن الآية بأن الآية أفادت
تحريم كتمان ما خلق الله في أرحامهن وهو الحيض أو الحبل أو كلاهما. ولا ريب أن الحيض
داخل في ذلك ولكن تحريم كتمانه لا يدل على أن القرء المذكور في الآية هو الحيض فإنها
205

إذا كانت الأطهار فإنها تنقضي بالطعن في الحيضة الرابعة أو الثالثة فكتمان الحيض يلزم منه
عدم معرفة انقضاء الطهر الذي تتم به العدة فتكون دلالة الآية على أن الأقراء الأطهار
أظهر. وعن الحديث الأول بأن الأصح أن لفظه كما قال الشافعي: أخبرنا مالك عن نافع
بن سليمان بن يسار عن أم سلمة أن النبي (ص) قال: لتنتظر عداد الليالي
والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم لتدع الصلاة ثم لتغتسل
ولتصل وهذه رواية نافع ونافع أحفظ من سليمان بن يسار الراوي لذلك اللفظ. هذا حاصل
ما نقل عن الشافعي من رده للحديث الأول، وعن الحديث الثاني بأنه لا شك أن الاستبراء
ورد بحيضة وهو النص عن رسول الله (ص) وهو قول جمهور الأمة والفرق بين
الاستبراء والعدة أن العدة وجبت قضاء لحق الزوج فاختصت بزمان حقه وهو الطهر،
وبأنها تتكرر فيعلم فيها البراءة بواسطة الحيض بخلاف الاستبراء.
واعلم أنه قد أكثر الاستدلال المتنازعون في المسألة من الطرفين كل يستدل على ما ذهب
إليه. وغاية ما أفادت الأدلة أنه أطلق القرء على الحيض وأطلق على الطهر وهو في الآية
محتمل كما عرفت فإن كان مشتركا كما قاله جماعة فلا بد من قرينة معينة لاحد معنييه وإن
كان في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا فالأصل الحقيقة ولكنهم مختلفون هل هو حقيقة
في الحيض مجاز في الطهر أو العكس؟ قال الأكثرون بالأول وقال الأقلون بالثاني.
فالأولون يحملونه في الآية على الحيض لأنه الحقيقة والأقلون على الطهر ولا ينهض دليل على
تعيين أحد القولين لان غاية الموجود في اللغة الاستعمال في المعنيين - وللمجاز علامات من
التبادر وصحة النفي ونحو ذلك ولا ظهور لها هنا. وقد أطال ابن القيم الاستدلال على أنه
الحيض واستوفى المقال. قال السيد رحمه الله: ولم يقهرنا دليله إلى تعيين ما قاله. ومن أدلة
القول بأن الأقراء الحيض قوله:
12 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: طلاق الأمة) المزوجة (تطليقتان وعدتها
حيضتان. رواه الدارقطني) موقوفا على ابن عمر (وأخرجه مرفوعا وضعفه) لأنه من رواية
عطية العوفي وقد ضعفه غير واحد من الأئمة وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة من
حديث عائشة) بلفظ: طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان وهو ضعيف لأنه من حديث
مظاهر بن مسلم قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث. وقال ابن معين: لا يعرف. (وصححه
الحاكم وخالفوه فاتفقوا على ضعفه) لما عرفته فلا يتم به الاستدلال للمسألة الأولى. واستدل
به هنا على أن الأمة تخالف الحرة فتبين على الزوج بطلقتين وتكون عدتها قرأين. واختلف
العلماء في المسألة على أربعة أقوال: أقواها ما ذهب إليه الظاهرية من أن طلاق العبد والحر
سواء لعموم النصوص الواردة في الطلاق من غير فرق بين حر وعبد وأدلة التفرقة كلها غير
ناهضة وقد سردها في الشرح فلا حاجة بالإطالة بذكرها مع عدم نهوض دليل قول منها عندنا.
وأما عدتها فاختلف أيضا فيها فذهبت الظاهرية إلى أنها كعدة الحرة قال أبو محمد بن حزم
لان الله علمنا العدد في الكتاب فقال: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * وقال: * (والذين
206

يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * وقال: * (واللائي يئسن من
المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن
أن يضعن حملهن) * وقد علم الله تعالى إذ أباح لنا الإماء أعليهن العدد المذكورات وما
فرق عز وجل بين حرة ولا أمة في ذلك * (وما كان ربك نسيا) *. وتعقب استدلاله بالآيات بأنها
كلها في الزوجات الحرائر فإن قوله: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * في حق الحرائر فإن افتداء
الأمة إلى سيدها لا إليها وكذا قوله: * (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) * فجعل ذلك إلى الزوجين
والمراد به العقد والمراد به العقد وفي الأمة ذلك يختص بسيدها. وكذا قوله: * (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح
عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) * والأمة لا فعل لها في نفسها. قلت: لكنها إذا لم تدخل
في هذه الآيات ولا تثبت فيها سنة صحيحة ولا إجماع ولا قياس ناهض هنا فماذا يكون حكمها
في عدتها؟ فالأقرب أنها زوجة شرعا قطعا فإن الشارع قسم لنا من أحل لنا وطأها إلى زوجة
أو ما ملكت اليمين في قوله: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) *. وهذه التي هي محل
النزاع ليست ملك يمين قطعا فهي زوجة فتشملها الآيات وخروجها عن حكم الحرائر
فيما ذكر من الافتداء والعقد والفعل بالمعروف في نفسها لا ينافي دخولها في حكم العدة لأن هذه
أحكام أخر تعلق الحق فيها بالسيد كما يتعلق في الحرة الصغيرة بالولي فالراجح أنها كالحرة
تطليقا وعدة.
13 - (وعن رويفع) تصغير رافع (بن ثابت رضي الله عنه) من بني مالك بن النجار عداده
في المصريين توفي سنة ست وأربعين (عن النبي (ص): لا يحل لامرئ
يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره أخرجه أبو داود والترمذي
وصححه ابن حبان وحسنه البزار). فيه دليل على تحريم وطئ الحامل من غير الواطئ وذلك
كالأمة المشتراة إذا كانت حاملا من غيره والمسبية. وظاهره أن ذلك إذا كان الحمل متحققا
أما إذا كان غير متحقق وملكت الأمة بسبي أو شراء أو غيره فسيأتي أنه لا يجوز وطؤها حتى
تستبرأ بحيضة. وقد اختلف العلماء في الزانية غير الحامل هل تجب عليها العدة أو تستبرأ بحيضة
فذهب الأقل إلى وجوب العدة عليها وذهب الأكثر إلى عدم وجوبها عليها والدليل غير
ناهض مع الفريقين فإن الأكثر استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش ولا دليل
فيه إلا على عدم لحوق ولد الزنا بالزاني والقائل بوجوب العدة استدل بعموم الأدلة ولا يخفى
أن الزانية غير داخلة فيها فإنها في الزوجات. نعم تدخل في دليل الاستبراء وهو قوله صلى الله
عليه وسلم: لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة. قال المصنف
في التلخيص: إنما استدلت الحنابلة بحديث رويفع على فساد نكاح الحامل من الزنا
واحتج به الحنفية على امتناع وطئها قال: وأجاب الأصحاب عنه بأنه ورد في السبي لا في مطلق
النساء وتعقب بأن العبرة بعموم اللفظ.
14 - (وعن عمر رضي الله عنه - في امرأة المفقود - تربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر
207

وعشرا أخرجه مالك والشافعي). وله طرق أخرى وفيه قصة أخرجها عبد الرزاق بسنده
في الفقيد الذي فقد قال: دخلت الشعب فاستهوتني الجن فمكثت أربع سنين فأتت
امرأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرها أن تربص أربع سنين من حين رفعت أمرها
إليه ثم دعا وليه أي ولي الفقيد فطلقها ثم أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا ثم جئت
بعد ما تزوجت فخير بن عمر بينهما وبين الصداق الذي أصدقتها ورواه ابن أبي شيبة عن
عمر ورواه البيهقي. وقصة المفقود أخرجها البيهقي وفيها أنه قال لعمر لما رجع: إني خرجت
لصلاة العشاء فسبتني الجن فلبثت فيهم زمانا طويلا، فغزاهم جن مؤمنون - أو قال مسلمون
- فقاتلوهم وظهروا عليهم فسبوا منهم سبايا فسبوني فيما سبوا منهم فقالوا نراك رجلا مسلما
لا يحل لنا سباؤك فخيروني بين المقام وبين القفول فاخترت القفول إلى أهلي فأقبلوا معي
فأما الليل فلا يحدثوني وأما النهار فإعصار ريح اتبعها. فقال له عمر: فما كان طعامك
فيهم قال: الفول وما لا يذكر اسم الله عليه قال: فما كان شرابك قال: الجدف. قال
قتادة: والجدف ما لا يخمر من الشراب. وفيه دليل على أن مذهب عمر: أن امرأة المفقود
بعد مضي أربعة سنين من يوم رفعت أمرها إلى الحاكم - تبين من زوجها. كما يفيد ظاهر رواية
الكتاب وإن كانت رواية ابن أبي شيبة دالة على أنه يأمر الحاكم ولي الفقيد بطلاق امرأته
وقد ذهب إلى هذا مالك وأحمد وإسحاق وهو أحد قولي الشافعي وجماعة من الصحابة بدليل
فعل عمر. وذهب أبو يوسف ومحمد ورواية عن أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي إلى أنها
لا تخرج عن الزوجية حتى يصح لها موته أو طلاقه أو ردته ولا بد من تيقن ذلك قالوا:
لان عقدها ثابت بيقين فلا يرتفع إلا بيقين وعليه يدل ما رواه الشافعي عن علي موقوفا
امرأة المفقود امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها يقين موته. قال البيهقي: هو عن علي مطولا
مشهور ومثله أخرجه عنه عبد الرزاق. قالت الهادوية: فإن لم يحصل اليقين بموته ولا
طلاقه تربصت العمر الطبيعي مائه وعشرين سنة وقيل مائة وخمسين إلى مائتين، وهذا كما
قال بعض المحققين قضية فلسفية طبعية يتبرأ الاسلام منها إذ الأعمار قسم من الخالق الجبار
والقول بأنها العادة غير صحيح كما يعرفه كل مميز بل هو أندر النادر، بل معترك المنايا كما أخبر
به الصادق بين الستين والسبعين. وقال الامام يحيى: ولا وجه للتربص لكن إن ترك لها الغائب
ما يقوم بها فهو كالحاضر إذ لم يفتها إلا الوطئ وهو حق له لا لها وإلا فسخها الحاكم عند
مطالبتها من دون المفقود لقوله تعالى: * (ولا تمسكوهن ضرارا) * ولحديث: لا ضرر ولا ضرار
في الاسلام والحاكم وضع لرفع المضارة في الايلاء والظهار وهذا أبلغ والفسخ مشروع
بالعيب ونحوه. قلت وهذا أحسن الأقوال وما سلف عن علي وعمر أقوال موقوفة.
وفي الارشاد لابن كثير عن الشافعي بسنده إلى أبي الزناد قال: سألت سعيد بن المسيب عن
الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: يفرق بينهما، قلت: سنة؟ قال: سنة. قال الشافعي:
الذي يشبه أن قول سعيد سنة أن يكون سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد طول الكلام في هذا
208

في حواشي ضوء النهار واخترنا الفسخ بالغيبة أو بعدم قدرة الزوج على الانفاق نعم لو ثبت قوله
15 - (وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله (ص): امرأة المفقود
امرأته حتى يأتيها البيان أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف). لكان مقويا لتلك الآثار
إلا أنه ضعفه أبو حاتم والبيهقي وابن القطان وعبد الحق وغيرهم.
16 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): لا يبيتن)
من البيتوتة وهي بقاء الليل (رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم.
أخرجه مسلم). وفي لفظ لمسلم أيضا زيادة: عند امرأة ثيب، قيل: إنما خص الثيب لأنها التي
يدخل عليها غالبا وأما البكر فهي متصونة في العادة مجانبة للرجال أشد مجانبة ولأنه يعلم
بالأولى أنه إذا نهى عن الدخول على الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها فبالأولى
البكر. والمراد من قوله: ناكحا أي متزوجا بها. وفي الحديث دليل على أنها تحرم الخلوة
بالأجنبية وأنه يباح له الخلوة بالمحرم وهذان الحكمان مجمع عليهما وقد ضبط العلماء
المحرم بأنه كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح يحرمها. فقوله: على التأبيد
احتراز من أخت الزوجة وعمتها وخالتها ونحوهن. وقوله: بسبب مباح احتراز عن أم الموطوءة
بشبهة وبنتها فإنها حرام على التأبيد لكن لا بسبب مباح فإن وطئ الشبهة لا يوصف بأنه مباح
ولا محرم ولا بغيرهما من أحكام الشرع الخمسة لأنه ليس فعل مكلف. وقوله: يحرمها
احتراز عن الملاعنة فإنها محرمة على التأبيد لا لحرمتها بل تغليظا عليها. ومفهوم قوله: لا يبيتن "
أنه يجوز له البقاء عند الأجنبية في النهار خلوة أو غيرها لكن قوله:
17 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: لا يخلون
رجل بامرأة إلا مع ذي محرم أخرجه البخاري). دل على تحريم خلوته بها ليلا أو
نهارا وهو دليل لما دل عليه الحديث الذي قبله وزيادة، وأفاد جواز خلوة الرجل
بالأجنبية مع محرمها، وتسميتها خلوة تسامح، فالاستثناء منقطع.
18 - (وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس)
اسم واد في ديار هوازن وهو موضع حرب حنين وقيل وادي أوطاس غير وادي حنين
(لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة أخرجه
أبو داود وصححه الحاكم وله شاهد عن ابن عباس) بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن توطأ حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض (في الدارقطني) إلا أنه من رواية
شريك القاضي وفيه كلام، قاله ابن كثير في الارشاد. والحديث دليل على أنه يجب على
السابي استبراء المسبية إذا أراد وطأها بحيضة إن كانت غير حامل ليتحقق براءة رحمها وبوضع
الحمل إن كانت حاملا وقيس على غير المسبية المشتراة والمتملكة بأي وجه من وجوه التملك
بجامع ابتداء التملك. وظاهر قوله: ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة عموم البكر
والثيب فالثيب لما ذكر والبكر أخذا بالعموم وقياسا على العدة فإنها تجب على الصغيرة
209

مع العلم ببراءة الرحم وإلى هذا ذهب الأكثرون. وذهب آخرون إلى أن الاستبراء إنما
يكون في حق من لم يعلم براءة رحمها أما من علم براءة رحمها فلا استبراء عليها. وهذا رواه
عبد الرزاق عن ابن عمر قال: إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء. ورواه البخاري
في الصحيح عنه وأخرج في الصحيح مثله عن علي رضي الله عنه من حديث بريدة. ويؤيد
هذا القول مفهوم ما أخرجه أحمد من حديث رويفع: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا
ينكح ثيبا من السبايا حتى تحيض وإلى هذا ذهب مالك على تفصيل أفاده قول المازري
من المالكية في تحقيق مذهبه حيث قال: إن القول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها
الحمل فلا يلزم فيها الاستبراء وكل من غلب على الظن كونها حاملا أو شك في حملها أو
تردد فيه فالاستبراء لازم فيها. وكل من غلب على الظن براءة رحمها لكنه يجوز حصوله
فالمذهب على قولين في ثبوت الاستبراء وسقوطه وأطال بما خلاصته أن مأخذ مالك في الاستبراء
إنما هو العلم بالبراءة فحيث لا تعلم ولا تظن البراءة وجب الاستبراء. وحيث تعلم أو تظن
البراءة فلا استبراء وبهذا قال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. والأحاديث الواردة في الباب تشير
إلى أن العلة الحمل أو تجويزه وقد عرفت أن النص ورد في السبايا وقيس عليه انتقال الملك
بالشراء أو غيره. وذهب داود الظاهري إلى أنه لا يجب الاستبراء في غير السبايا لأنه لا يقول
بالقياس فوقف على محل النص ولان الشراء ونحوه عنده كالتزويج.
واعلم أن ظاهر أحاديث السبايا جواز وطئهن وإن لم يدخلن في الاسلام فإنه صلى الله
عليه وسلم لم يذكر في حل الوطئ إلا الاستبراء بحيضة أو بوضع الحمل ولو كان الاسلام
شرطا لبينه وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يجوز والذي قضى به إطلاق
الأحاديث وعمل الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز الوطئ للمسبية من دون
إسلام وقد ذهب إلى هذا طاوس وغيره.
واعلم أن الحديث دل بمفهومه على جواز الاستمتاع قبل الاستبراء بدون الجماع وعليه
دل فعل ابن عمر أنه قال: وقعت في سهمي جارية يوم جلولاء كأن عنقها إبريق فضة
قال: فما ملكت نفسي أن جعلت أقبلها والناس ينظرون. أخرجه البخاري.
19 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الولد
للفراش وللعاهر الحجر متفق عليه من حديثه) أي أبي هريرة، قال ابن عبد البر:
إنه جاء عن بضع وعشرين نفسا من الصحابة. والحديث دليل على ثبوت نسب الولد بالفراش
من الأب. واختلف العلماء في معنى الفراش فذهب الجمهور إلى أنه اسم للمرأة وقد
يعبر به عن حالة الافتراش وذهب أبو حنيفة إلى أنه اسم للزوج. ثم اختلفوا بماذا يثبت
فعند الجمهور إنما يثبت للحرة بإمكان الوطئ في نكاح صحيح أو فاسد وهو مذهب الهادوية
والشافعي وأحمد. وعند أبي حنيفة أنه يثبت بنفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها بل ولو
طلقها عقيبه في المجلس. وذهب ابن تيمية إلى أنه لا بد من معرفة الدخول المحقق واختاره تلميذه
ابن القيم قال: وهل يعد أهل اللغة وأهل العرف المرأة فراشا قبل البناء بها وكيف تأتي
210

الشريعة بإلحاق نسب من لم يبن بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع بها لمجرد إمكان ذلك وهذا
الامكان قد يقطع بانتفائه عادة فلا تصير المرأة فراشا إلا بدخول محقق. قال في المنار: هذا
هو المتيقن ومن أين لنا الحكم بالدخول بمجرد الامكان فإن غايته أنه مشكوك فيه ونحن
متعبدون في جميع الأحكام بعلم أو ظن والممكن أعم من المظنون. والعجب من تطبيق
الجمهور بالحكم مع الشك فظهر لك قوة كلام ابن تيمية وهو رواية عن أحمد. هذا في ثبوت
فراش الحرة وأما ثبوت فراش الأمة فظاهر الحديث شموله له وأن يثبت الفراش للأمة بالوطئ
إذا كانت مملوكة للوطئ أو في شبهة ملك إذا اعترف السيد أو ثبت بوجه. والحديث وارد
في الأمة ولفظه في رواية عائشة قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام
فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى
شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: هو لك يا عبد بن زمعة
الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة. فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الولد
لفراش زمعة للوليدة المذكورة فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة، وهذا قول الجمهور
وإليه ذهب الشافعي ومالك والنخعي وأحمد وإسحاق. وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يثبت
الفراش للأمة إلا بدعوى الولد ولا يكفي الاقرار بالوطئ فإن لم يدعه فلا نسب له وكان
ملكا لمالك الأمة. وإذا ثبت فراشها بدعوى أول ولد منها فما ولدته بعد ذلك لحق بالسيد
وإن لم يدع المالك ذلك. قالوا: وذلك للفرق بين الحرة والأمة فإن الحرة تراد للاستفراش
والوطئ بخلاف ملك اليمين فإن ذلك تابع وأغلب المنافع غيره. وأجيب بأن الكلام في الأمة التي
اتخذت للوطئ فإن الغرض من الاستفراش قد حصل بها فإذا عرف الوطئ كانت فراشا ولا
يحتاج إلى استلحاق. والحديث دال لذلك فإنه لما قال عبد بن زمعة: ولد على فراش أبي
ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم بزمعة صاحب الفراش ولم ينظر إلى الشبه البين الذي فيه المخالفة
للملحوق به. وتأولت الحنفية والهادوية حديث أبي هريرة بتأويلات كثيرة وزعموا أنه صلى
الله عليه وسلم لم يلحق الغلام المتنازع فيه بنسب زمعة واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم
أمر سودة بنت زمعة بالاحتجاب منه وأجيب بأنه أمرها بالاحتجاب منه على سبيل الاحتياط
والورع والصيانة لأمهات المؤمنين من بعض المباحات مع الشبهة وذلك لما رآه صلى الله عليه
وسلم في الولد من الشبه بعتبة بن أبي وقاص. وللمالكية هنا مسلك آخر فقالوا:
الحديث دل على مشروعية حكم بين حكمين وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل
فيعطي أحكاما فإن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة فأعطى
الفرع حكما بين حكمين فروعي الفراش في إثبات النسب وروعي الشبه البين بعتبة
في أمر سودة بالاحتجاب. قالوا: وهذا أولى التقديرين فإن الفرع إذا دار بين أصلين
211

فألحق بأحدهما فقط فقد أبطل شبهة بالثاني من كل وجه فإذا ألحق بكل واحد منهما من
وجه فيكون هذا الحكم وهو إثبات النسب بالنظر إلى ما يجب للمدعي من أحكام البنوة ثابتا وبالنظر
إلى ما يجب للمدعى نم أحكام البنوة ثابتا والنظر إلى ما يتعلق بالغير من النظر إلى المحارم
غير ثابت. قالوا: ولا يمتنع ثبوت النسب من وجه دون وجه كما ذهب أبو حنيفة والأوزاعي
وغيرهم إلى أنه لا يحل أن يتزوج بنته من الزنا وإن كان لها حكم الأجنبية. وقد اعترض هذا
ابن دقيق العيد بما ليس بناهض. وفي الحديث دليل على أن لغير الأب أن يستلحق الولد
فإن عبد بن زمعة استلحق أخاه بإقراره بأن الفراش لأبيه وظاهر الرواية أن ذلك يصح وإن
لم يصدقه الورثة فإن سودة لم يذكر منها تصديق ولا إنكار إلا أن يقال إن سكوتها قائم
مقام الاقرار. وفي المسألة قولان: الأول: أنه إذا كان المستلحق غير الأب ولا وارث غيره
وذلك كأن يستلحق الجد ولا وارث سواه صح إقراره وثبت نسب المقر به. وكذلك إن كان
المستلحق بعض الورثة وصدقه الباقون والأصل في ذلك أن من حاز المال ثبت النسب
بإقراره واحدا كان أو جماعة وهذا مذهب أحمد والشافعي لان الورثة قاموا مقام الميت وحلوا
محله. الثاني: للهادوية أنه لا يصح الاستلحاق من غير الأب وإنما المقر به يشارك المقر
في الإرث دون النسب ولكن قوله (ص) لعبد بن زمعة هو أخوك كما أخرجه البخاري
دليل ثبوت النسب في ذلك. ثم اختلف القائلون بلحوق النسب بإقرار غير الأب: هل هو إقرار
خلافة ونيابة عن الميت فلا يشترط عدالة المستلحق بل ولا إسلامه؟ أو هو إقرار شهادة؟
فتعتبر فيه أهلية الشهادة؟ فقالت الشافعية وأحمد: إنه إقرار خلافة ونيابة. وقال المالكية:
إنه إقرار شهادة. واستدل الهادوية والحنفية بالحديث على عدم ثبوت النسب بالقيافة لقوله
الولد للفراش قالوا: ومثل هذا التركيب يفيد الحصر ولأنه لو ثبت بالقيافة لكانت قد
حصلت بما رآه من شبه المدعى بعتبة ولم يحكم به له بل حكم به لغيره. وذهب الشافعي وغيره
إلى ثبوته بالقيافة إلا أنه إنما يثبت بها فيما حصل من وطأين محرمين كالمشتري والبائع يطآن
الجارية في طهر قبل استبراء. واستدلوا بما أخرجه الشيخان من استبشاره (ص)
بقول مجزز المدلجي وقد رأى قدمي أسامة بن زيد وزيد: إن هذه الاقدام بعضها من بعض
فاستبشر صلى الله عليه وسلم بقوله وقرره على قيافته وسيأتي الكلام فيه في آخر باب الدعاوي
وبما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم في قصة اللعان: إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان
أو على صفة كذا فهو لفلان. فإنه دليل الالحاق بالقيافة ولكن منعته الايمان عن الالحاق
فدل على أن القيافة مقتض لكنه عارض العمل بها المانع وبأنه صلى الله عليه وسلم " قال
لام سليم لما قالت: أو تحتلم المرأة -: فمن أين يكون الشبه؟. ولأنه أمر سودة بالاحتجاب كما
سلف لما رأى من الشبه وبأنه قال للذي ذكر له أن امرأته أتت بولد على غير لونه: لعله نزعه
عرق فإنه ملاحظة للشبه. ولكنه لا حكم للقيافة مع ثبوت الفراش في ثبوت النسب. وقد أجاب
النفاة للقيافة بأجوبة لا تخلو عن تكلف والحكم الشرعي يثبته الدليل الظاهر والتكلف لرد
الظواهر من الأدلة محاماة عن المذهب ليس من شأن المتبع لما جاء عن الله ورسوله
212

(ص). وأما الحصر في حديث الولد للفراش فنعم هو لا يكون الولد إلا للفراش
مع ثبوته والكلام مع انتفائه ولأنه قد يكون حصرا أغلبيا وهو غالب ما يأتي من الحصر
فإن الحصر الحقيقي قليل فلا يقال: قد رجعتم إلى ما ذممتم من التأويل. وأما قوله: وللعاهر أي
الزاني الحجر فالمراد له الخيبة والحرمان وقيل له: الرمي بالحجارة إلا أنه لا يخفى أنه
يقصر الحديث على الزاني المحصن والحديث عام.
باب الرضاع
بكسر الراء وفتحها ومثله الرضاعة.
1 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (ص): لا تحرم
المصة والمصتان أخرجه مسلم). المصة الواحدة من المص وهو أخذ اليسير من الشئ
كما في الضياء وفي القاموس مصصته بالكسر أمصه ومصصته أمصه كخصصته أخصه
شربته شربا رفيقا. والحديث دل على أن مص الصبي للثدي مرة أو مرتين لا يصير به رضيعا
وفي المسألة أقوال: الأول: أن الثلاث فصاعدا تحرم وإلى هذا ذهب داود وأتباعه وجماعة من
العلماء لمفهوم حديث مسلم هذا وحديث الآخر بلفظ: لا تحرم الاملاجة والاملاجتان "
فأفاد بمفهومه تحريم ما فوق الاثنتين. القول الثاني: لجماعة من السلف والخلف وهو أن
قليل الرضاع وكثيره يحرم وهذا يروى عن علي وابن عباس وآخرين من السلف وهو
مذهب الهادوية والحنفية ومالك. قالوا: وحده ما وصل الجوف بنفسه وقد ادعى الاجماع على
أنه يحرم من الرضاع ما يفطر الصائم واستدلوا بأنه تعالى علق التحريم باسم الرضاع فحيث
وجد اسمه وجد حكمه وورد الحديث موافقا للآية فقال صلى الله عليه وسلم: يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب. ولحديث عقبة الآتي وقوله (ص): كيف وقد
زعمت أنها أرضعتكما ولم يستفصل عن عدد الرضعات. فهذه أدلتهم ولكنها اضطربت أقوالهم
في ضبط الرضعة وحقيقتها اضطرابا كثيرا ولم يرجع إلى دليل. ويجاب عما ذكروه من التعليق
باسم الرضاع أنه مجمل بينه الشارع بالعدد وضبطه به وبعد البيان لا يقال إنه ترك الاستفصال.
القول الثالث: أنها لا تحرم إلا خمس رضعات وهو قول ابن مسعود وابن الزبير والشافعي ورواية
عن أحمد. واستدلوا بما يأتي من حديث عائشة وهو نص في الخمس وبأن سهلة بنت سهيل
أرضعت سالما خمس رضعات ويأتي أيضا. وهذا إن عارضه مفهوم حديث المصة والمصتان
فإن الحكم في هذا منطوق وهو أقوى من المفهوم فهو مقدم عليه. وعائشة وإن روت أن ذلك
كان قرآنا فإن له حكم خبر الآحاد في العمل به كما عرف في الأصول وقد عضده حديث
سهل فإن فيه أنها أرضعت سالما خمس رضعات لتحرم عليه وإن كان فعل صحابية فإنه دال
أنه قد كان متقررا عندهم أنه لا يحرم إلا الخمس الرضعات ويأتي تحقيقه. وأما حقيقة الرضعة
فهي المرة من الرضاع كالضربة من الضرب والجلسة من الجلوس فمتى التقم الصبي الثدي
وامتص منه ثم ترك ذلك باختياره من غير عارض كان ذلك رضعة والقطع لعارض كنفس
213

أو استراحة يسيرة أو لشئ يلهيه ثم يعود من قريب لا يخرجها عن كونها رضعة واحدة كما أن
الآكل إذا قطع أكله بذلك ثم عاد عن قريب كان ذلك أكلة واحدة. وهذا مذهب
الشافعي في تحقيق الرضعة الواحدة وهو موافق للغة فإذا حصلت خمس رضعات على هذه
الصفة حرمت.
2 - (وعنها) أي عائشة (قالت: قال رسول الله (ص): انظرن
من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة متفق عليه). في الحديث قصة وهو أنه
صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها رجل فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك
فقالت: إنه أخي فقال: انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة. قال المصنف:
لم أقف على اسمه وأظنه ابنا لأبي القعيس. وقوله: انظرن أمر بالتحقق في أمر الرضاعة هل
هو رضاع صحيح بشرطه من وقوعه في زمن الرضاع ومقدار الارضاع فإن الحكم الذي
ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط. وقال أبو عبيد: معناه أنه الذي إذا جاع
كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع وهو تعليل لامعان
التحقق في شأن الرضاع وبأن الرضاع الذي تثبت به الحرمة وتحل به الخلوة هو حيث يكون
الرضيع طفلا يسد اللبن جوعه لان معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير جزءا
من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها. فمعناه لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة
أو المطعمة من المجاعة فهو في معنى حديث ابن مسعود الآتي: لا رضاع إلا ما أنشز العظم
وأنبت اللحم وحديث أم سلمة: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء أخرجه الترمذي
وصححه. واستدل به على أن التغذي بلبن المرضعة محرم سواء كان شرابا أو وجورا أو سعوطا
أو حقنة حيث كان يسد جوع الصبي وهو قول الجمهور. وقالت الهادوية والحنفية لا تحرم
الحقنة وكأنهم يقولون أنها لا تدخل تحت اسم الرضاع. قلت: إذا لوحظ المعنى من الرضاع
دخل كل ما ذكروا. وإن لوحظ مسمى الرضاع فلا يشمل إلا التقام الثدي ومص اللبن منه
كما تقوله الظاهرية فإنهم قالوا: لا يحرم إلا ذلك ولما حصر في الحديث الرضاعة على ما كان
من المجاعة كما قد عرفت وقد ورد.
3 - (وعنها) أي عائشة (قالت: جاءت سهلة بنت سهيل فقالت: يا رسول الله إن
سالما مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال؟ فقال: أرضعيه تحرمي
عليه رواه مسلم). وفي سنن أبي داود: فأرضعيه خمسة رضعات فكان بمنزلة ولدها من
الرضاعة معارضا لذلك. وكأنه ذكره المصنف كالمشير إلى أنه قد خصص هذا الحكم بحديث
سهلة فإنه دال على أن رضاع الكبير يحرم مع أنه ليس داخلا تحت الرضاعة من المجاعة.
وبيان القصة أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالما وزوجه وكان سالم مولى لامرأة من الأنصار
فلما أنزل الله * (ادعوهم لآبائهم) * كان من له أب معروف نسب إلى أبيه ومن لا أب
له معروف كان مولى وأخا في الدين، فعند ذلك جاءت سهلة تذكر ما نصه الحديث في الكتاب
214

وقد اختلف السلف في هذا الحكم فذهبت عائشة رضي الله عنها إلى ثبوت حكم التحريم
وإن كان الراضع بالغا عاقلا. قال عروة: إن عائشة أم المؤمنين أخذت بهذا الحديث
فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.
رواه مالك. ويروى عن علي وعروة وهو قول الليث بن سعد وأبي محمد بن حزم ونسبه
في البحر إلى عائشة وداود الظاهري وحجتهم حديث سهلة هذا وهو حديث صحيح لا شك
في صحته ويدل له أيضا قوله تعالى: * (وأمهاتكم اللائي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) * فإنه
مطلق غير مقيد بوقت. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أنه لا يحرم من
الرضاع إلا ما كان في الصغر. وإنما اختلفوا في تحديد الصغر فالجمهور قالوا: مهما كان
في الحولين فإن رضاعه يحرم ولا يحرم ما كان بعدهما مستدلين بقوله تعالى: * (حولين كاملين
لمن أراد أن يتم الرضاعة) *. وقال جماعة: الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام ولم يقدروه بزمان
وقال الأوزاعي: إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه ثم رضع في الحولين لم يحرم هذا الرضاع
شيئا وإن تمادى رضاعه ولم يفطم فيما يرضع وهو في الحولين حرم وما كان بعدهما لا يحرم
وإن تمادى إرضاعه. وفي المسألة أقوال أخر عارية عن الاستدلال فلا نطيل بها المقال. واستدل
الجمهور بحديث: إنما الرضاعة من المجاعة وتقدم، فإنه لا يصدق ذلك إلا على من يشبعه اللبن
ويكون غذاءه لا غيره، فلا يدخل الكبير سيما وقد ورد بصيغة الحصر. وأجابوا عن حديث سالم
بأنه خاص بقصة سهلة فلا يتعدى حكمه إلى غيرها كما يدل له قوله أم سلمة أم المؤمنين لعائشة
رضي الله عنهما: لا نرى هذا إلا خاصا بسالم ولا ندري لعله رخصة لسالم أو أنه منسوخ.
وأجاب القائلون بتحريم رضاع الكبير بأن الآية وحديث: إنما الرضاعة من المجاعة واردان
لبيان الرضاعة الموجبة للنفقة للمرضعة والتي يجبر عليها الأبوان رضيا أم كرها كما يرشد إليه آخر
الآية وهو قوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) * وعائشة هي الراوية
لحديث: الرضاعة من المجاعة وهي التي قالت برضاع الكبير وأنه يحرم فدل على أنها فهمت
ما ذكرناه في معنى الآية والحديث. وأما قول أم سلمة إنه خاص بسالم فذلك تظنن منها
وقد أجابت عليها عائشة فقالت: أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ فسكتت أم سلمة ولو
كان خاصا لبينه صلى الله عليه وسلم كما بين اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذعة من المعز
والقول بالنسخ يدفعه أن قصة سهل متأخرة عن نزول آية الحولين فإنها قالت سهلة لرسول
الله (ص): كيف أرضعه وهو رجل كبير فإن هذا السؤال منها استنكار
لرضاع الكبير دال على أن التحليل بعد اعتقاد التحريم. قلت: ولا يخفى أن الرضاعة لغة إنما
تصدق على من كان في سن الصغر وعلى اللغة وردت آية الحولين وحديث إنما الرضاعة
من المجاعة والقول بأن الآية لبيان الرضاعة الموجبة للنفقة لا ينافي أيضا أنها لبيان زمان الرضاعة
بل جعله الله تعالى زمان من أراد تمام الرضاعة وليس بعد التمام ما يدخل في حكم ما حكم
الشارع بأنه قد تم. والأحسن في الجمع بين حديث سهلة وما عارضه: كلام ابن تيمية فإنه قال
إنه يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن
215

دخوله على المرأة وشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة فمثل هذا الكبير الذي
أرضعته للحاجة أثر رضاعه وأما من عداه فلا بد من الصغر اه‍. فإنه جمع بين
الأحاديث حسن وإعمالها من غير مخالفة لظاهرها باختصاص ونسخ ولا إلغاء
لما اعتبرته اللغة ودلت له الأحاديث.
4 - (وعنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أن أفلح) بفتح الهمزة ففاء آخره حاء مهملة مولى
لرسول الله (ص) وقيل مولى لام سلمة (أخا أبي القعيس) بقاف مضمومة وعين
وسين مهملتين بينهما مثناة تحتية (جاء يستأذن عليها بعد الحجاب قالت: فأبيت أن آذن
له فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت فأمرني أن آذن له على،
وقال: إنه عمك متفق عليه) اسم أبي القعيس وائل بن أفلح الأشعري وقيل
اسمه الجعد فعلى الأول يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه. قال ابن عبد البر: لا أعلم لأبي
القعيس ذكرا إلا في هذا الحديث. والحديث دليل على ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة
وأقاربه كالمرضعة وذلك لان سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معا فوجب أن يكون
الرضاع منهما. كالجد لما كان سبب ولد الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده. لذلك
قال ابن عباس في هذا الحكم: اللقاح واحد. أخرجه عنه ابن أبي شيبة فإن الوطئ يدر اللبن
فللرجل منه نصيب. وإلى هذا ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وأهل المذاهب.
والحديث دليل واضح لمن ذهبوا إليه وفي رواية أبي داود زيادة تصريح حيث قالت: دخل
علي أفلح فاستترت منه فقال: أتستترين مني وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك
امرأة أخي قلت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل الحديث. وخالف في ذلك
ابن عمرو ابن الزبير و رافع بن خديج وعائشة وجماعة من التابعين وابن المنذر وداود وأتباعه، فقالوا: لا يثبت حكم الرضاع للرجل لان الرضاع إنما هو للمرأة التي اللبن منها. قالوا
ويدل عليه قوله تعالى: * (وأمهاتكم اللائي أرضعنكم) * (النساء: 23) وأجيب بأن الآية ليس فيها ما يعارض
الحديث فإذ ذكر الأمهات لا يدل على أن ما عداهن ليس كذلك ثم إن دل بمفهومه
فهو مفهوم لقب مطرح كما عرف في الأصول وقد استدلوا بفتوى جماعة من الصحابة بهذا
المذهب ولا يخفى أنه لا حجة في ذلك وقد أطال بعض المتأخرين البحث في المسألة وسبقه
ابن القيم في الهدي واستحسنه ابن تيمية والواضح ما ذهب إليه الجمهور.
5 - (وعنها) أي عائشة رضي الله عنها (قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات
يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من
القرآن. رواه مسلم). يقرأ بضم حرف المضارعة، تريد أن النسخ يخمس رضاعات تأخر إنزاله
جدا حتى إنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها
قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك
وأجمعوا على أنه لا يتلى. وهذا من نسخ التلاوة دون الحكم وهو أحد أنواع النسخ فإنه ثلاثة
أقسام: نسخ التلاوة والحكم مثل عشر رضعات يحرمن. والثاني: نسخ التلاوة دون الحكم
216

كخمس رضعات، وكالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما. والثالث: نسخ الحكم دون التلاوة
وهو كثير نحو قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) * وقد تقدم تحقيق القول
في حكم هذا الحديث وأن العمل على ما أفاده هو أرجح الأقوال. والقول بأن حديث عائشة
هذا ليس بقرآن لأنه لا يثبت بخبر الآحاد ولا هو حديث لأنها لم تروه حديثا، مردود بأنها وإن
لم تثبت قرآنيته ويجري عليه حكم ألفاظ القرآن فقد روته عن النبي صلى الله عليه وسلم فله
حكم الحديث في العمل به. وقد عمل بمثل ذلك العلماء فعمل به الشافعي وأحمد في هذا
الموضع. وعمل به الهادوية والحنفية في قراءة ابن مسعود في صيام الكفارة ثلاثة أيام متتابعات
وعمل مالك في فرض الأخ من الأم بقراءة أبي: وله أخ وأخت من أم، والناس كلهم احتجوا
بهذه القراءة. والعمل بحديث الباب هذا لا عذر عنه ولذا اخترنا العمل به فيما سلف.
6 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد) بضم الهمزة
مبني للمجهول (على ابنة حمزة) أي قيل له: لو تزوجتها (فقال: إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي
من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب متفق عليه). اختلف في اسم ابنة حمزة
على سبعة أقوال ليس فيها ما يجزم به وإنما كانت ابنة أخيه صلى الله عليه وسلم لأنه رضع
من ثويبة أمة أبي لهب وقد كانت أرضعت عمه حمزة. وأحكام الرضاع هي حرمة التناكح
وجواز النظر والخلوة والمسافرة. لا غير ذلك من التوارث ووجوب الانفاق والعتق بالملك وغيره
من أحكام النسب. وقوله صلى الله عليه وسلم: ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب يراد
به تشبيهه به في التحريم. ثم التحريم ونحوه بالنظر إلى المرجع فإن أقاربه أقارب للرضيع وأما
أقارب الرضيع ما عدا أولاده فلا علاقة بينهم وبين المرضع فلا يثبت لهم شئ من الاحكام
7 - (وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
:
لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق) بالفاء فمثناة فوقية فقاف (الأمعاء) جمع المعاء بكسر
الميم وفتحها (وكان قبل الفطام رواه الترمذي وصححه هو والحاكم). والمراد ما سلك فيها
من الفتق بمعنى الشق والمراد ما وصل إليه فلا يحرم القليل الذي لا ينفذ إليها ويحتمل أن
المراد ما وصلها وغذاها واكتفت به عن غيره فيكون دليلا على عدم تحريم رضاع الكبير.
ويدل على أن المراد هذا قوله في الحديث: وكان قبل الفطام فإنه يراد به قبل الحولين كما ورد
في هذا الحديث الآخر: إن ابني إبراهيم مات في الثدي وإن له مرضعا في الجنة وتقدم الكلام
في الامرين ويدل لهذا الأخير قوله:
8 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا رضاع إلا في الحولين رواه
الدارقطني وابن عدي مرفوعا وموقوفا ورجحا الموقوف). لأنه تفرد برفعه الهيثم بن جميل عن
ابن عيينة، قاله الدارقطني وقال: وكان ثقة حافظا ورواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة
فوقفه. قلت: وهذا ليس بعلة كما قررناه مرارا وقال ابن عدي: إن الهيثم كان يغلط
وقال البيهقي: الصحيح إنه موقوف، وروى البيهقي التحديد بالحولين عن عمر وابن مسعود
217

والحديث دال على اعتبار الحولين وأنه لا يسمى الرضاع رضاعا إلا في الحولين وقد تقدم
أنه الذي دلت عليه الآية والقول بأنها إنما دلت على حكم الواجب من النفقة ونحوها لا على
مدة الرضاع تقدم دفعه ويدل لهذا الحكم قوله:
9 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
لا رضاع إلا ما أنشز) بشين معجمة فزاي أي شد وقوي (العظم وأنبت اللحم.
أخرجه أبو داود). فإن ذلك إنما يكون هو في سن الحولين ينمو باللبن ويقوى به عظمه
وينبت عليه لحمه.
10 - (وعن عقبة بن الحارث) هو أبو سروعة عقبة بن الحارث بن عمار القريشي النوفلي
أسلم يوم الفتح يعد في أهل مكة (أنه تزوج أم يحيي بنت أبي إهاب) بكسر الهمزة
(فجاءت امرأة) قال المصنف: لم أعرف اسمها: (فقالت: قد أرضعتكما فسأل النبي صلى
الله عليه وسلم: فقال كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة فنكحت زوجا غيره. أخرجه البخاري)
الحديث دليل على أنه شهادة المرضعة وحدها تقبل، وبوب على ذلك البخاري وإليه ذهب
ابن عباس وجماعة من السلف وأحمد بن حنبل. وقال أبو عبيد: يجب على الرجل المفارقة
ولا يجب على الحاكم الحكم بذلك. وقال مالك: إنه لا يقبل في الرضاع إلا امرأتان وذهب
الهادوية والحنفية إلى أن الرضاع كغيره لا بد من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولا تكفي
شهادة المرضعة لأنها تقرر فعلها. وقال الشافعي: تقبل شهادة المرضعة مع ثلاث نسوة بشرط
أن لا تعرض بطلب أجرة. قالوا: وهذا الحديث محمول على الاستحباب والتحرز عن مظان
الاشتباه. وأجيب بأن هذا خلاف الظاهر سيما وقد تكرر سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم
أربع مرات وأجابه بقوله: كيف وقد قيل وفي بعض ألفاظه: دعها وفي رواية الدارقطني
لا خير لك فيها ولو كان من باب الاحتياط لامره بالطلاق مع أنه في جميع الروايات لم يذكر
الطلاق فيكون هذا الحكم مخصوصا من عموم الشهادة المعتبر فيها العدد وقد اعتبرتم ذلك
في عورات النساء فقلتم: يكتفى بشهادة امرأة واحدة والعلة عندهم فيه أنه قلما يطلع الرجال
على ذلك فالضرورة داعية إلى اعتباره، فكذا هنا.
11 - (وعن زياد السهمي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسترضع
الحمقاء) خفيفة العقل (أخرجه أبو داود وهو مرسل وليس لزياد صحبة) ووجه النهي
أن للرضاع تأثيرا في الطباع فيختار من لا حماقة فيها ونحوها.
باب النفقات
جمع نفقة والمراد بها الشئ الذي يبذله الانسان فيما يحتاجه هو أو غيره من الطعام
والشراب وغيرهما.
1 - (عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة) بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف
أسلمت عام الفتح في مكة بعد إسلام زوجها قتل أبوها وأخوها الوليد
218

ابن عتبة يوم بدر فشق عليها ذلك فلما قتل حمزة فرحت بذلك وعمدت إلى بطنه فشقته
وأخذت كبده فلاكتها ثم لفظتها توفيت في المحرم سنة أربع عشرة وقيل غير ذلك (امرأة
أبي سفيان) أبو سفيان بن حرب اسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس من رؤساء
قريش أسلم عام الفتح قبل إسلام زوجته حين أخذته جند النبي (ص في يوم
الفتح. وأجاره العباس ثم غدا به إلى رسول الله (ص) فأسلم وكانت وفاته
في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين (على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله
إن أبا سفيان رجل شحيح) الشح البخل مع حرص فهو أخص من البخل والبخل
يختص بمنع المال والشح بكل شئ (لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما
أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال: خذي من ماله
بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك متفق عليه). الحديث فيه دليل على جواز ذكر
الانسان بما يكره إذا كان على وجه الاشتكاء والفتيا وهذا أحد المواضع التي أجازوا فيها
الغيبة. ودل على وجوب نفقة الزوجة والأولاد على الزوج وظاهره وإن كان الولد كبيرا
لعموم اللفظ وعدم الاستفصال فإن أتى ما يخصصه من حديث آخر وإلا فالعموم قاض
بذلك. وفيه دليل على أن الواجب الكفاية من غير تقدير للنفقة وإلى هذا ذهب جماهير
العلماء منهم الهادي والشافعي وعليه دل قوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف) *. وفي قول للشافعي إنها مقدرة بالامداد فعلى الموسر كل يوم مدان والمتوسط
مد ونصف والمعسر مد. وعن الهادي كل يوم مدان وفي كل شهر درهمان. وعن أبي يعلى
الواجب من الخبز رطلان كل يوم في حق المعسر والموسر وإنما يختلفان في صفته وجودته لان المسر والمعسر مستويان في قدر المأكول، وإنما يختلفان في الجودة وغيرها. قال النووي
وهذا الحديث حجة على من اعتبر التقدير. قال المصنف تعقبا له: ليس صريحا في الرد
عليه ولكن التقدير بما ذكر محتاج إلى دليل فإن ثبت حملت الكفاية في ذلك الحديث
على ذلك المقدار. وفي قولها: إلا ما أخذت من ماله دليل على أن للأم ولاية في الانفاق
على أولادها مع تمرد الأب. وعلى أن من تعذر عليه استيفاء ما يجب له أن يأخذه لأنه صلى
الله عليه وسلم سلم أقرها على الاخذ في ذلك ولم يذكر لها أنه حرام وقد سألته هل عليها جناح؟
فأجاب بالإباحة في المستقبل وأقرها على الاخذ في الماضي. وقد ورد في بعض ألفاظه ف
ي البخاري: لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف. وقوله: خذي ما يكفيك وولدك
يحتمل أنه فتيا منه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه حكم وفيه دليل على الحكم على الغائب
من دون نصب وكيل عنه وعليه بوب البخاري باب القضاء على الغائب وذكر هذا
الحديث. لكنه قال النووي: شرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد أو متعززا
لا يقدر عليه أو متعذرا ولم يكن أبو سفيان فيه شئ من هذه بل كان حاضرا في البلد، فلا يكون
هذل من القضاء على الغائب، إلا أنه قد أخرج الحاكم في تفسير الممتحنة في المستدرك: أنه صلى
الله عليه وسلم لما اشترط في البيعة على النساء: ولا يسرقن، قالت هند: لا أبايعك على السرقة
219

إني أسرق من زوجي، فكف حتى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها منه فقال: أما الرطب
فنعم وأما اليابس فلا وهذا لمذكور يدل على أنه قضى على حاضر إلا إنه خلاف ما بوب
له البخاري. والحاصل أن القصة مترددة بين كونه فتيا وبين كونه حكما وكونه فتيا أقرب
لأنه لم يطالبها ببينة ولا استحلفها وقد قيل: إنه حكم بعلمه بصدقها فلم يطلب منها بينة ولا
يمينا فهو حجة لمن يقول إنه يحكم الحاكم بعلمه. إلا أنه مع الاحتمال لا ينهض دليلا على معين
من صور الاحتمال. إنما يتم به الاستدلال على وجوب النفقة على الزوج للزوجة وأولاده
وعلى أن لها الاخذ من ماله إن لم يقم بكفايتها. وهو الحكم الذي أراده المصنف من إيراد
الحديث هذا هنا في باب النفقات.
2 - (وعن طارق المحاربي رضي الله عنه) هو طارق بن عبد الله المحاربي بضم الميم وحاء مهملة،
روى عنه جامع بن شداد وربعي بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد
المثناة التحتية ابن حراش بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء والشين المعجمة (قال: قدمنا
المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس ويقول: يد المعطي
العليا، وابدأ بمن تعول أمك وأباك، وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك رواه
النسائي وصححه ابن حبان والدارقطني). الحديث كالتفسير لحديث اليد العليا خير من اليد
السفلى. وفسر في النهاية: بالمعطية أو المنفقة واليد السفلى بالمانعة أو السائلة. وقوله
ابدأ بمن تعول دليل على وجوب الانفاق على القريب وقد فصله بذكر الأم قبل الأب
إلى آخر ما ذكره. فدل هذا الترتيب على أن الأم أحق من الأب بالبر. قال القاضي عياض
وهو مذهب الجمهور ويدل له ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة فذكر الأم ثلاث
مرات ثم ذكر الأب معطوفا بثم فمن لا يجد إلا كفاية لاحد أبويه خص بها الأم للأحاديث
هذه. وقد نبه القرآن على زيادة حق الأم في قوله: * (ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته أمه
كرها ووضعته كرها - وفي قوله: وأختك وأخاك ثم أدناك إلى آخره دليل على وجوب
الانفاق للقريب فإنه تفصيل لقوله: وابدأ بمن تعول فجعل الأخ من عياله. وإلى
هذا ذهب عمر وابن أبي ليلى وأحمد والهادي ولكنه اشترط في البحر أن يكون القريب وارثا
مستدلا بقوله تعالى: * (وعلى الوارث مثل ذلك) *. واللام للجنس، وعند الشافعي أن النفقة تجب
لفقير غير مكتسب زمنا أو صغيرا أو مجنونا لعجزه عن كفاية نفسه. قالوا: فإن لم يكن فيه
إحدى هذه الصفات الثلاث. فأقوال أحسنها: تجب لأنه يقبح أن يكلف التكسب مع اتساع
مال قريبه. والثاني: المنع للقدرة على الكسب فإنه نازل منزلة المال. الثالث: أنه يجب نفقة
الأصل على الفرع دون العكس لأنه ليس من المصاحبة بالمعروف أن يكلف أصله التكسب
مع علو السن. وعند الحنفية يلزم التكسب لقريب محرم فقير عاجز عن الكسب بقدر الإرث
هكذا في كتب الفريقين. وفي البحر نقل عنهم ما يخالف هذا. وهذه أقوال لم يسفر فيها
وجه الاستدلال وفي قوله تعالى: * (وآتي ذا القربى حقه) * ما يشعر بأن للقريب حقا على قريبه
والحقوق متفاوتة فمع حاجته للنفقة تجب ومع عدمها فحقه الاحسان بغيرها من البر والاكرام
220

والحديث كالمبين لذوي القربى ودرجاتهم فيجب الانفاق للمعسر على الترتيب في الحديث
ولم يذكر فيه الولد والزوجة لأنهما قد علما من دليل آخر وهو الحديث الأول والتقييد
بكونه وارثا محل توقف.
واعلم أن للعلماء خلافا في سقوط نفقة الماضي فقيل: تسقط للزوجة والأقارب، وقيل
لا تسقط. وقيل: تسقط نفقة القريب دون الزوجة. وعللوا هذا التفصيل بأن نفقة القريب
إنما شرعت للمواساة لا لأجل إحياء النفس وهذا قد انتفى بالنظر إلى الماضي وأما نفقة
الزوجة فهي واجبة لأجل المواساة ولذا تجب مع غنى الزوجة ولاجماع الصحابة على عدم
سقوطها. فإن تم الاجماع فلا التفات إلى خلاف من خالف بعده وقد قال صلى الله عليه
وسلم: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. فمهما كانت الزوجة مطيعة فهذا الحق
الذي لها ثابت. وأخرج الشافعي بإسناد جيد عن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إلى أمراء
الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن يأمروهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا
بنفقة ما حبسوا وصححه الحافظ أبو حاتم الرازي. ذكره ابن كثير في الارشاد.
3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
للمملوك) والمملوكة على السيد (طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل
إلا ما يطيق رواه مسلم). الحديث دليل على ما هو مجمع عليه من وجوب نفقه المملوك
وكسوته وظاهره مطلق الطعام والكسوة فلا يجبان من عين ما يأكله السيد ويلبسه. وحديث
مسلم بالأمر بإطعامهم مما يطعم وكسوتهم مما يلبس محمول على الندب ولولا ما قيل من
الاجماع على هذا لاحتمل أن هذا يقيد مطلق حديث الكتاب ودل على أنه لا يكلفه السيد
من الأعمال إلا ما يطيقه وهذا مجمع عليه أيضا.
4 - (وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه) معاوية بن حيدة (قال: قلت:
يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا
اكتسيت الحديث، وتقدم في عشرة النساء). بتمامه ونسبه إلى
أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة وأنه علق البخاري بعضه وصححه ابن حبان والحاكم
وتقدم الكلام عليه.
5 - (وعن جابر - في حديث الحج بطوله - قال في ذكر النساء: ولهن عليكم
رزقهن وكسوتهن بالمعروف أخرجه مسلم). وهو دليل على وجوب النفقة والكسوة
للزوجة كما دلت له الآية وهو مجمع عليه وقد تقدم تحقيقه. وقوله: بالمعروف إعلام بأنه
لا يجب إلا ما تعورف من إنفاق كل على قدر حاله كما قال تعالى: * (لينفق ذو سعة من سعته
ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها - ثم الواجب لها طعام
مصنوع لأنه الذي يصدق عليه أنه نفقة ولا تجب القيمة إلا برضا من يجب عليه الانفاق
وقد طول ذلك ابن القيم في الهدي النبوي واختاره وهو الحق، فإنه قال ما لفظه: وأما فرض
221

الدراهم فلا أصل له في كتاب الله تعالى ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد
من الصحابة البتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم
من أئمة الاسلام. والله تعالى أوجب نفقة الأقارب والزوجات والرقيق بالمعروف وليس
من المعروف فرض الدراهم بل المعروف الذي نص عليه الشرع أن يكسوهم مما يلبس
ويطعمهم مما يأكل. وليست الدراهم من الواجب ولا عوضه ولا يصحح الاعتياض عما
لم يستقر ولم يملك فإن نفقة الأقارب والزوجات إنما تجب يوما فيوما ولو كانت
مستقرة لم تصح المعاوضة عنها بغير رضا الزوج والقريب فإن الدراهم تجعل عوضا عن
الواجب الأصلي وهو إما البر عند الشافعي أو المقتات عند الجمهور. فكيف يجبر على
المعاوضة على ذلك بدراهم من غير رضا ولا إجبار الشرع له على ذلك. فهذا مخالف
لقواعد الشرع ونصوص الأئمة ومصالح العباد ولكن إن اتفق المنفق والمنفق عليه جاز
باتفاقهما، على أن في اعتياض الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاعا معروفا في مذهب
الشافعي وغيره.
6 - (وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت رواه النسائي، وهو عند مسلم بلفظ: أن
يحبس عمن يملك قوته). الحديث دليل على وجوب النفقة على الانسان لمن يقوته
فإنه لا يكون آثما إلا على تركه لما يجب عليه وقد بولغ هنا في إثمه بأن جعل ذلك الاثم
كافيا في هلاكه عن كل إثم سواه. والذي يقوتهم ويملك قوتهم هم الذي يجب عليه
الانفاق عليهم وهم أهله وأولاده وعبيده على ما سلف تفصيله ولفظ مسلم خاص بقوت
المماليك ولفظ النسائي عام.
7 - (وعن جابر - يرفعه، في الحامل المتوفى عنها زوجها - قال: لا نفقة لها
أخرجه البيهقي ورجاله ثقات، لكن قال: المحفوظ وقفه، وثبت نفي النفقة في حديث
فاطمة بنت قيس رضي الله عنها كما تقدم، رواه مسلم). وتقدم أنه في حق المطلقة بائنا وأنه لا نفقة لها وتقدم
الكلام فيه والكلام هنا في نفقة المتوفى عنها زوجها وهذه المسألة فيها خلاف: ذهب
جماعة من العلماء إلى أنها لا تجب النفقة للمتوفى عنها سواء كانت حاملا أو حائلا. أما الأولى
فلهذا النص وأما الثانية فبطريق الأولى. وإلى هذا ذهبت الشافعية والحنفية والمؤيد لهذا
الحديث ولان الأصل براءة الذمة. ووجوب التربص أربعة أشهر وعشرا لا يوجب النفقة
وذهب آخرون منهم الهادي إلى وجوب النفقة لها مستدلين بقوله: * (متاعا إلى الحول) *. قالوا
ونسخ المدة من الآية لا يوجب نسخ النفقة ولأنها محبوسة بسببه فتجب نفقتها. وأجيب بأنها
كانت تجب النفقة بالوصية كما دل لها قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول) * فنسخت الوصية بالمتاع إما بقوله تعالى: * (يتربصن بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا) * وإما بآية المواريث وإما بقوله صلى الله عليه وسلم: لا وصية لوارث.
222

وأما قوله تعالى: * (وأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) * فإنها واردة في المطلقات فلا تتناول المتوفى
عنها. وفي سنن أبي داود من حديث ابن عباس أنها نسخت آية: * (والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاها إلى الحول) * بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع
والثمن ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا. وأما ذكر المصنف حديث
فاطمة بنت قيس فكأنه يريد أن البائن والمتوفى عنها حكمهما واحد بجامع البينونة والحل للغير.
8 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): اليد
العليا خير من اليد السفلى) تقدم تفسيرهما (ويبدأ) أي في البر والاحسان
(أحدكم بمن يعول، تقول المرأة أطعمني أو طلقني رواه الدارقطني وإسناده
حسن). أخرجه من طريق عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا أن في حفظ عاصم
شيئا. وأخرجه البخاري موقوفا على أبي هريرة، وفي رواية الإسماعيلي: قالوا: يا أبا هريرة شئ
تقوله عن رأيك أو عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: هذا من كيسي، إشارة إلى أنه
من استنباطه هكذا قاله الناظرون في الأحاديث. والذي يظهر بل ويتعين أن أبا هريرة
لما قال لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا: هذا شئ تقوله عن رأيك أو عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أجاب بقوله: من كيسي جواب المتهكم بهم لا مخبرا أنه
لم يكن عن رسول الله وكيف يصح حمل قوله من كيس أبي هريرة
على أنه أراد صلى الله عليه وسلم به الحقيقة. وقد قال: قال رسول الله (ص) فينسب استنباطه إلى
قول رسول الله (ص): وهل هذا إلا كذب منه على رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ وحاشا أبا هريرة من ذلك فهو من رواة حديث: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده
من النار. فالقرائن واضحة أنه لم يرد أبو هريرة إلا التهكم بالسائل ولذا قلنا إنه يتعين أن
هذا مراده. والذي أتى به المصنف من الرواية بعض حديثه على أنه قد فسر قوله: من
كيس أبي هريرة أي من حفظه وعبر عنه بالكيس إشارة إلى ما في صحيح البخاري وغيره
من أنه بسط ثوبه أو نمرة كانت عليه فأملاه رسول الله (ص) حديثا كثيرا ثم لفه
فلم ينس منه شيئا كأنه يقول: ذلك الثوب صار كيسا. وأشرنا لك إلى أنه لم يأت المصنف
بحديث أبي هريرة تاما وتمامه في البخاري: ويقول: العبد أطعمني واستعملني وفي رواية
الإسماعيلي ويقول: خادمك أطعمني وإلا بعني ويقول الابن: إلى من تدعني؟. والكل دليل
على وجوب الانفاق على من ذكر من الزوجة والمملوك والولد وقد تقدم ذلك ودل على أنه
يجب نفقة العبد وإلا وجب بيعه وإيجاب نفقة الولد على أبيه وإن كان كبيرا. قال ابن المنذر:
اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد ولا مال له ولا كسب فأوجب طائفة النفقة لجميع
الأولاد أطفالا كانوا أو بالغين إناثا أو ذكرانا إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن الآباء
وذهب الجمهور إلى أن الواجب الانفاق عليه إلى أن يبلغ الذكر وتتزوج الأنثى ثم لا نفقة
على الأب إلا إذا كانوا زمني فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب واستدل به على
أن للزوجة إذا أعسر زوجها بنفقتها طلب الفراق ويدل له قوله:
223

9 - (وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله قال:
يفرق بينهما أخرجه سعيد بن منصور عن سفيان عن أبي الزناد عنه قال:
قلت لسعيد: سنة؟ فقال: سنة. وهذا مرسل قوي). ومراسيل سعيد معمول بها
لما عرف من أنه لا يرسل إلا عن ثقة. قال الشافعي: والذي يشبه أن يكون قول سعيد سنة،
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول ابن حزم: لعله أراد سنة عمر فإنه خلاف
الظاهر وكيف يقول له السائل: سنة ويريد سؤاله عن سنة عمر؟ هذا مما لا ينبغي حمل الكلام
عليه وهل سأل السائل إلا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما قال جماعة إنه إذا
قال الراوي: من السنة كذا فإنه يحتمل أن يريد سنة الخلفاء، وأما بعد سؤال الراوي فلا يريد
السائل إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجيب المجيب إلا عنها لا عن سنة غيره
لأنه إنما سأل عما هو حجة وهو سنته (ص). وقد أخرج الدارقطني والبيهقي
من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: قال رسول الله (ص): في الرجل لا يجد
ما ينفق على امرأته، قال: يفرق بينهما. وأما دعوى المصنف إنه وهم الدارقطني فيه وتبعه
البيهقي على الوهم فهو غير صحيح وقد حققناه في حواشي ضوء النهار. وسيأتي كتاب عمر إلى
أمراء الأجناد في أنهم يأخذون على من عندهم من الأجناد أن ينفقوا أو يطلقوا. وقد اختلف
العلماء في هذا الحكم وهو فسخ الزوجية عند إعسار الزوج على أقوال: الأول: ثبوت الفسخ
وهو مذهب علي وعمر وأبي هريرة وجماعة من التابعين ومن الفقهاء مالك والشافعي وأحمد،
وبه قال أهل الظاهر مستدلين بما ذكر وبحديث لا ضرر ولا ضرار تقدم تخريجه.
وبأن النفقة في مقابل الاستمتاع بدليل أن الناشز لا نفقة لها عند الجمهور فإذا لم تجب النفقة
سقط الاستمتاع فوجب الخيار للزوجة وبأنهم قد أوجبوا على السيد بيع مملوكه إذا عجز
عن إنفاقه فإيجاب فراق الزوجة أولى لان كسبها ليس مستحقا للزوج كاستحقاق السيد
لكسب عبده. وبأنه قد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على الفسخ بالعنة، والضرر الواقع من
العجز عن النفقة أعظم من الضرر الواقع بكون الزوج عنينا وبأنه تعالى قال: * (ولا تضاروهن) *
وقال: * (وإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * وأي إمساك بمعروف وأي ضرر أشد من تركها
بغير نفقة. والثاني: ما ذهب إليه الهادوية والحنفية وهو قول للشافعي أنه لا فسخ بالاعسار
عن النفقة مستدلين بقوله تعالى: * (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما اتاه الله لا يكلف الله نفسا
إلا ما اتاها) *. قالوا: وإذا لم يكلفه الله النفقة في هذه الحال فقد ترك ما لا يجب عليه ولا يأثم بتركه
فلا يكون سببا للتفريق بينه وبين سكنه وبأنه قد ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه
وسلم لما طلب أزواجه منه النفقة قام أبو بكر وعمر إلى عائشة وحفصة فوجا أعناقهما وكلاهما
يقول: تسألن رسول الله (ص) ما ليس عنده؟ الحديث. قالوا: فهذا أبو بكر
وعمر يضربان بنتيهما بحضرته صلى الله عليه وسلم لما سألتاه النفقة التي لا يجدها. فلو كان
الفسخ لهما وهما طالبتان للحق لم يقر النبي (ص) الشيخين على ما فعلا. ولبين
224

أن لهما أن تطالبا مع الاعسار حتى تثبت على تقدير ذلك المطالبة بالفسخ. ولأنه كان في الصحابة
المعسر بلا ريب ولم يخبر النبي (ص) أحدا منهم بأن للزوجة الفسخ ولا فسخ
أحد. قالوا: ولأنها لو مرضت الزوجة وطال مرضها حتى تعذر على الزوج جماعها لوجبت
نفقتها ولم يمكن من الفسخ وكذلك الزوج. فدل أن الانفاق ليس في مقابلة الاستمتاع كما
قلتم. وأما حديث أبي هريرة فقد بين أنه من كيسه وحديثه الآخر لعله مثله وحديث
سعيد مرسل. وأجيب بأن الآية إنما دلت على سقوط الوجوب عن الزوج وبه نقول. وأما
الفسخ فهو حق للمرأة تطالب به وبأن قصة أزواجه (ص) وضرب أبي بكر
وعمر إلى آخر ما ذكرتم هي كالآية دلت على عدم الوجوب عليه (ص) وليس
فيه أنهن سألن الطلاق أو الفسخ ومعلوم أنهن لا يسمحن بفراقه فإن الله تعالى قد خيرهن
فاخترن رسول الله (ص) والدار الآخرة فلا دليل في القصة. وأما إقراره لأبي بكر
وعمر على ضربهما فلما علم من أن للآباء تأديب الأبناء إذا أتوا ما لا ينبغي ومعلوم أنه
(ص) لا يفرط فيما يجب عليه من الانفاق فلعلهن طلبن زيادة على ذلك فتخرج
القصة عن محل النزاع بالكلية. وأما المعسرون من الصحابة فلم يعلم أن امرأة طلبت الفسخ
أو الطلاق لاعسار الزوج بالنفقة ومنعها عن ذلك حتى تكون حجة بل كان نساء الصحابة
كرجالهن يصبرن على ضنك العيش وتعسره كما قال مالك: إن نساء الصحابة كن يردن
الآخرة وما عند الله تعالى ولم يكن مرادهن الدنيا فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن. وأما نساء
اليوم فإنما يتزوجن رجاء الدنيا من الأزواج والنفقة والكسوة. وأما حديث ابن المسيب فقد
عرفت أنه من مراسيله وأئمة العلم يختارون العمل بها كما سلف فهو موافق لحديث أبي هريرة
المرفوع الذي عاضده مرسل سعيد. ولو فرض سقوط حديث أبي هريرة ففيما ذكرناه غنية
عنه. والقول الثالث: أنه يحبس الزوج إذا أعسر بالنفقة حتى يجد ما ينفق وهو قول العنبري
وقالت الهادوية: يحبس للتكسب. والقولان مشكلان لان الواجب إنما هو الغداء في وقته
والعشاء في وقته فهو واجب في وقته فالحبس إن كان في خلال وجوب الواجب فهو مانع
عنه فيعود على الغرض المراد بالنقض وإن كان قبله فلا وجوب فكيف يحبس لغير واجب؟
وإن كان بعده صار كالدين ولا يحبس له مع ظهور الاعسار اتفاقا. وفي هذه المسألة قال
محمد بن داود لامرأة سألته عن إعسار زوجها فقال: ذهب ناس إلى أنه يكلف السعي
والاكتساب وذهب قوم إلى أنها تؤمر المرأة بالصبر والاحتساب فلم تفهم منه الجواب
فأعادت السؤال وهو يجيبها ثم قال: يا هذه قد أجبتك ولست قاضيا فأقضي ولا سلطانا
فأمضي ولا زوجا فأرضي. وظاهر كلامه الوقف في هذه المسألة فيكون قولا رابعا. القول
الخامس: أن الزوجة إن كانت موسرة وزوجها معسر كلفت الانفاق على زوجها ولا ترجع
عليه إذا أيسر لقوله تعالى: * (وعلى الوارث مثل ذلك) * وهو قول أبي محمد بن حزم. ورد بأن
الآية سياقها في نفقة المولود الصغير ولعله لا يرى التخصيص بالسياق. القول السادس
لابن القيم وهو أن المرأة إذا تزوجت عالمة بإعساره أو كان موسرا ثم أصابته جائحة فإنه
225

لا فسخ لها وإلا كان لها الفسخ وكأنه جعل علمها رضا بعسرته ولكن حيث كان موسرا
عند تزوجه ثم أعسر للجائحة لا يظهر وجه عدم ثبوت الفسخ لها. وإذا عرفت هذه الأقوال
عرفت أن أقواها دليلا وأكثرها قائلا هو القول الأول. وقد اختلف القائلون بالفسخ في تأجيله
بالنفقة فقال مالك: يؤجل شهرا وقال الشافعية: ثلاثة أيام وقال: حماد سنة وقيل
شهرا أو شهرين. قلت: ولا دليل على التعيين بل ما يحصل به التضرر الذي يعلم ومن قال
إنه يجب عليه التطليق قال: ترافعه الزوجة إلى الحاكم لينفق أو يطلق. وعلى القول بأنه فسخ
ترافعه إلى الحاكم ليثبت الاعسار ثم تفسخ هي وقيل: ترافعه إلى الحاكم ليجبره على الطلاق
أو يفسخ عليه أو يأذن لها في الفسخ. فإن فسخ أو أذن في الفسخ فهو فسخ لا طلاق ولا
رجعة له وإن أيسر في العدة فإن طلق كان طلاقا رجعيا له فيه الرجعة.
10 - (وعن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم
أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا أخرجه الشافعي
والبيهقي بإسناد حسن). تقدم تحقيق وجه هذا الرأي من عمر وأنه دليل على أن النفقة عنده
لا تسقط بالمطل في حق الزوجة وعلى أنه يجب أحد الامرين على الأزواج: الانفاق أو الطلاق
11 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه جاء رجل إلى رسول الله (ص)
فقال: يا رسول الله عندي دينار؟ قال: أنفقه على نفسك قال: عندي آخر، قال:
أنفقه على ولدك قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على أهلك قال عندي آخر،
قال: أنفقه على خادمك قال: عندي آخر؟ قال: أنت أعلم أخرجه الشافعي
وأبو داود واللفظ له، وأخرجه النسائي والحاكم بتقديم الزوجة على الولد). وفي صحيح مسلم من
رواية جابر تقديم الزوجة على الولد من غير تردد. وقال المصنف: قال ابن حزم: اختلف
على يحيى القطان والثوري فقدم يحيى الزوجة على الولد وقدم سفيان الولد على الزوجة
فينبغي أن لا يقدم أحدهما على الآخر بل يكونان سواء لأنه قد صح أنه صلى الله عليه وسلم
كان إذا تكلم تكلم ثلاثا فيحتمل أن يكون في إعادته قدم الولد مرة ومرة قدم الزوجة فصارا
سواء. قلت: هذا حمل بعيد فليس تكريره صلى الله عليه وسلم لما يقوله ثلاثا بمطرد بل عدم
التكرير غالب وإنما يكرر إذا لم يفهم عنه ومثل هذا الحديث جواب سؤال لا يجري فيه
التكرير لعدم الحاجة إليه لفهم السائل للجواب. ثم رواية جابر التي لا تردد فيها تقوي رواية
تقديم الأهل. والحديث قد تقدم وفيه حث على إنفاق الانسان ما عنده وأنه لا يدخر لأنه
قال له في الآخر بعد كفايته وكفاية من يجب عليه: أنت أعلم ولم يقل: ادخر لحاجتك وإن
كانت هذه العبارة تحتمل ذلك.
12 - (وعن بهز) بفتح الموحدة وسكون الهاء فزاي (ابن حكيم عن أبيه) حكيم (عن
جده) معاوية بن حيدة القشيري، صحابي تقدم ضبطه (قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟
قال: أمك قلت: ثم من؟ قال: أمك قلت: ثم من؟ قال: أمك قلت: ثم من؟
226

قال: أباك ثم الأقرب فالأقرب أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه). وأخرجه الحاكم
وتقدم الكلام عليه وأنه يقتضي تقديم الأم بالبر وأحقيتها به على الأب.
باب الحضانة
بكسر الحاء المهملة مصدر من حضن الصبي حضنا وحضانة جعله في حضنه أو رباه
فاحتضنه والحضن بكسر الحاء هو ما دون الإبط إلى الكشح والصدر أو العضدان وما بينهما
وجانب الشئ أو ناحيته كما في القاموس. وفي الشرع حفظ من لا يستقل بأمره وتربيته
ووقايته عما يهلكه أو يضره.
1 - (عن عبد الله بن عمرو) بفتح المهملة ووقع بضمها في نسخة وهو غلط (أن
امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كانت بطني له وعاء) بكسر الواو والمد وقد يضم
ويقال الإعاء الظرف كما في القاموس (وثديي له سقاء) هو ككساء جلد السخلة إذا
أجذع يكون للماء واللبن كما فيه أيضا (وحجري) بحاء مهملة مثلثة فجيم فراء حضن الانسان
(له حواء) بحاء مهملة بزنة كساء أيضا اسم المكان الذي يحوي الشئ أي يضمه ويجمعه
(وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أحق
به ما لم تنكحي رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم). الحديث دليل على أن الأم أحق
بحضانة ولدها إذا أراد الأب انتزاعه منها وقد ذكرت هذه المرأة صفات اختصت بها
تقتضي استحقاقها وأولويتها بحضانة ولدها وأقرها صلى الله عليه وسلم على ذلك وحكم لها.
ففيه تنبيه على المعنى المقتضي للحكم وأن العلل والمعاني المعتبرة في إثبات الاحكام مستقرة
في الفطر السليمة. والحكم الذي دل عليه الحديث لا خلاف فيه وقضى به أبو بكر ثم عمر،
وقال ابن عباس: ريحها وفراشها وحرها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه أخرجه
عبد الرزاق في قصة. ودل الحديث على أن الأم إذا نكحت سقط حقها من الحضانة وإليه
ذهب الجماهير. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم. وذهب
الحسن وابن حزم إلى عدم سقوط الحضانة بالنكاح واستدل بأن أنس بن مالك كان عند
والدته وهي مزوجة وكذا أم سلمة تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم وبقي ولدها
في كفالتها وكذا ابنة حمزة قضى بها النبي (ص) لخالتها وهي مزوجة. قال:
وحديث ابن عمرو المذكور فيه مقال فإنه صحيفة يريد لأنه قد قيل إن حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده صحيفة. وأجيب عنه بأن حديث عمرو بن شعيب قبله الأئمة وعملوا به البخاري
وأحمد وابن المديني والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم. فلا يلتفت إلى القدح فيه. وأما ما احتج
به فإنه لا يتم دليلا إلا مع طلب من تنتقل إليه الحضانة ومنازعته. وأما مع عدم طلبه فلا نزاع
في أن للأم المزوجة أن تقوم بولدها ولم يذكر في القصص المذكورة أنه حصل نزاع في ذلك
فلا دليل فيما ذكره على ما ادعاه.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة قالت: يا رسول الله إن زوجي يريد
227

أن يذهب بابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة) بكسر العين المهملة واحدة حبات
العنب (فجاء زوجها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام هذا أبوك وهذه أمك
فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به. رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي)
وصححه ابن القطان. والحديث دليل على أن الصبي بعد استغنائه بنفسه يخير بين الأم والأب.
واختلف العلماء في ذلك فذهب جماعة قليلة إلى أنه يخير الصبي عملا بهذا الحديث وهو
قول إسحاق بن راهويه وحد التخيير من السبع السنين. وذهبت الهادوية والحنفية إلى عدم
التخيير وقالوا: الأم أولى به إلى أن يستغني بنفسه فإذا استغنى بنفسه فالأب أولى بالذكر
والأم أولى بالأنثى ووافقهم مالك في عدم التخيير لكنه قال: إن الأم أحق بالولد ذكرا كان
أو أنثى، قيل: حتى يبلغ. وفي المسألة تفاصيل بلا دليل. واستدل نفاة التخيير بعموم حديث
أنت أحق به ما لم تنكحي. قالوا ولو كان الاختيار إلى الصغير ما كانت أحق به. وأجيب
بأنه إن كان عاما في الأزمنة أو مطلقا فيها فحديث التخيير يخصصه أو يفيده وهذا جمع بين
الدليلين. فإن لم يختر الصبي أحد أبويه فقيل: يكون للأم بلا قرعة لان الحضانة حق لها
وإنما ينقل عنها باختياره فإذا لم يخير بقي على الأصل. وقيل - وهو الأقوى دليلا -: أنه يقرع
بينهما إذ قد جاء في القرعة حديث أبي هريرة بلفظ: فقال النبي (ص):
استهما، فقال الرجل: من يحول بيني وبين ولدي فقال (ص): اختر أيهما
شئت فاختار أمه فذهبت به، أخرجه البيهقي. وظاهره تقديم القرعة على الاختيار، لكن
قدم الاختيار عليها لعمل الخلفاء الراشدين به إلا أنه قال في الهدي النبوي: إن التخيير والقرعة
لا يكونان إلا إذا حصلت به مصلحة الولد. فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت
عليه ولا التفات إلى القرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة
واللعب فإذا اختار من يساعده على ذلك فلا التفات إلى اختياره وكان عند من هو أنفع له
ولا تحتمل الشريعة غير هذا. والنبي (ص) قال: مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم
على تركها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع والله يقول: * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * فإذا كانت
الأم تتركه في المكتب أو تعلمه القرآن والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه وأبوه يمكنه من ذلك
فإنها أحق به ولا تخيير ولا قرعة وكذلك العكس انتهى. وهذا كلام حسن.
3 - (وعن رافع بن سنان رضي الله عنه أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأقعد النبي
صلى الله عليه وسلم الأم في ناحية والأب في ناحية وأقعد الصبي بينهما فمال إلى أمه فقال:
اللهم اهده فمال إلى أبيه فأخذه. أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم). إلا أنه قال
ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال وذلك لأنه من رواية عبد الحميد بن جعفر
ابن رافع ضعفه الثوري ويحيى بن معين. واختلف في هذا الصبي فقيل: إنه أنثى وقيل ذكر
والحديث ليس فيه تخيير الصبي والظاهر أنه لم يبلغ سن التخيير فإنه إنما أقعده صلى الله
عليه وسلم بينهما ودعا أن يهديه الله فاختار أباه لأجل الدعوة النبوية فليس من أدلة التخيير
228

وفي الحديث دليل على ثبوت حق الحضانة الأم الكافرة وإن كان الولد مسلما إذ لو لم يكن
لها حق لم يقعده النبي (ص) بينهما. وإلى هذا ذهب أهل الرأي والشورى.
وذهب الجمهور إلى أنه لا حق لها مع كفرها. قالوا: لان الحاضن يكون حريصا على تربية
الطفل على دينه ولان الله تعالى قطع الموالاة بين الكافرين والمسلمين وجعل المؤمنين بعضهم
أولى ببعض وقال: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) *. والحضانة ولاية لا بد
فيها من مراعاة مصلحة المولى عليه كما عرفت قريبا وحديث رافع قد عرفت عدم انتهاضه.
وعلى القول بصحته فهو منسوخ بالآيات القرآنية هذه. وكيف تثبت الحضانة للأم الكافرة
مثلا وقد اشترط الجمهور وهم الهادوية وأصحاب أحمد والشافعي عدالة الحاضنة وأنه لا حق للفاسقة فيها وإن كان شرطا في غاية من البعد، ولو كان شرطا في الحاضنة لضاع أطفال العالم
ومعلوم أنه لم ينزل منذ بعث الله رسوله (ص) إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق
بينهم يربونهم لا يتعرض لهم أحد من أهل الدنيا مع أنهم الأكثرون ولا يعلم إنه انتزع طفل
من أبويه أو أحدهما لفسقه فهذا الشرط باطل لعدم العمل به. نعم يشترط كون الحاضن
عاقلا بالغا فلا حضانة لمجنون ولا معتوه ولا طفل إذ هؤلاء يحتاجون لمن يحضنهم ويكفيهم.
وأما اشتراط حرية الحاضن فقالت به الهادوية وأصحاب الأئمة الثلاثة وقالوا لان المملوك
لا ولاية له على نفسه فلا يتولى غيره والحضانة ولاية. وقال مالك في حر له ولد من أمته:
إن الأم أحق به ما لم تبع فتنتقل فيكون الأب أحق به واستدل بعموم حديث: لا توله والدة
عن ولدها وحديث: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة
أخرج الأول البيهقي من حديث أبي بكر وحسنة السيوطي وأخرج الثاني أحمد والترمذي،
والحاكم من حديث أبي أيوب وصححه الحاكم. قال: ومنافعها وإن كانت مملوكة للسيد فحق
الحضانة مستثنى وإن استغرق وقتا من ذلك كالأوقات التي تستثنى للمملوك في حاجة
نفسه وعبادة ربه.
4 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي (ص) قضى في ابنة
حمزة لخالتها وقال: الخالة بمنزلة الأم أخرجه البخاري، وأخرجه أحمد من حديث علي رضي
الله عنه فقال: والجارية عند خالتها فإن الخالة والدة). والحديث دليل على ثبوت
الحضانة للخالة وأنها كالأم ومقتضاه أن الخالة أولى من الأب ومن أم الأم ولكن خص
ذلك الاجماع. وظاهره أن حضانة المرأة المزوجة أولى من الرجال فإن عصبة المذكورة
من الرجال موجودون طالبون للحضانة كما دلت له القصة واختصام علي رضي الله عنه
وجعفر وزيد بن حارثة وقد سبقت وأنه قضى بها للخال و قال: الخالة بمنزلة الأم. وقد
وردت رواية في القصة أنه (ص) قضى بها لجعفر فاستشكل القضاء بها لجعفر
فإنه ليس محرما وهو وعلي رضي الله عنهما سواء في القرابة لها، وجوابه أنه صلى الله عليه وسلم
قضى بها لزوجة جعفر وهي خالتها فإنها كانت تحت جعفر لكن لما كان المنازع جعفرا
229

وقال في محل الخصومة: بنت عمي وخالتها تحتي أي زوجتي قضى بها لجعفر لما كان هو المطالب ظاهرا وقال: الخالة بمنزلة الأم إبانة بأن القضاء للخالة. فمعنى قوله: قضى بها
لجعفر قضى بها لزوجة جعفر وإنما أوقع القضاء عليه لأنه المطالب فلا إشكال في هذا.
إلا أنه استشكل ثانيا بأن الخالة مزوجة ولا حق لها في الحضانة لحديث أنت أحق به ما لم
تنكحي. والجواب عنه أن الحق في المزوجة للزوج وإنما تسقط حضانتها لأنها تشتغل بالقيام
بحقه وخدمته فإذا رضي الزوج بأنها تحضن من لها حق في حضانته وأحب بقاء الطفل
في حجره لم يسقط حق المرأة من الحضانة وهذه القصة دليل الحكم وهذا مذهب الحسن والامام
يحيى وابن حزم وابن جرير. ولان النكاح للمرأة إنما يسقط حضانة الأم وحدها حيث كان
المنازع لها الأب وأما غيرها فلا يسقط حقها من الحضانة بالتزويج أو الأم والمنازع لها غير
الأب. يؤيده ما عرف من أن المرأة المطلقة يشتد بغضها للزوج المطلق ومن يتعلق به فقد
يبلغ بها الشأن إلى إهمال ولدها منه قصدا لإغاظته وتبالغ في التحبب عند الزوج الثاني
بتوفير حقه. وبهذا يجتمع شمل الأحاديث والقول بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بها لجعفر "
وأنه دال على أن للعصبة حقا في الحضانة بعيد لأنه وعليا رضي الله عنهما سواء في ذلك لان
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: الخالة أم صريح أن ذلك علة القضاء ومعناه أن الأم لا تنازع
في حضانة ولدها فلا حق لغيرها.
5 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
أتى أحدكم) مفعول مقدم (خادمه) فاعل (بطعامه) فليجلسه معه (فإن لم يجلسه
معه فليناوله لقمة أو لقمتين متفق عليه واللفظ للبخاري). الخادم يطلق على
الذكر والأنثى أعم من أن يكون مملوكا أو حرا. وظاهر الامر الايجاب وأنه يناوله من الطعام
ما ذكر مخيرا. وفيه بيان أن الحديث الذي فيه الامر بأن يطعمه مما يطعم ليس المراد به
مؤاكلته ولا أن يشبعه من عين ما يأكل بل يشركه فيه بأدنى شئ من لقمة أو لقمتين. قال
ابن المنذر عن جميع أهل العلم: إن الواجب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه
مثله في تلك البلدة وكذا الادام والكسوة وأن للسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك وإن كان
الأفضل المشاركة. وتمام الحديث: فإنه ولي حره وعلاجه فدل على أن ذلك يتعلق
بالخادم الذي له عناية في تحصيل الطعام فيندرج في ذلك الحامل للطعام لوجود المعنى فيه
وهو تعلق نفسه به.
6 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: عذبت
امرأة) قال المصنف: لم أقف على اسمها وفي رواية: أنها حميرية وفي رواية: من بني
إسرائيل (في هرة) هي أنثى السنور والهر الذكر (سجنتها حتى ماتت فدخلت النار
فيها لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من
خشاش الأرض) بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها وشينين معجمتين بينهما ألف
230

والمراد هوام الأرض (متفق عليه). والحديث دليل على تحريم قتل الهرة لأنه لا عذاب إلا على
فعل محرم ويحتمل أن المرأة كافرة فعذبت بكفرها وزيدت عذابا بسبب ذلك. وقال
النووي: أنها كانت مسلمة إنما دخلت النار بهذه المعصية. وقال أبو نعيم في تاريخ
أصبهان: كانت كافرة، ورواه البيهقي في البعث والنشور عن عائشة فاستحقت العذاب
بكفرها وظلمها. وقال الدميري في شرح المنهاج: إن الأصح أن الهرة يجوز قتلها حال
عدوها دون هذه الحال. وجوز القاضي قتلها في حال سكونها إلحاقا لها بالخمس الفواسق.
وفي الحديث دليل على جواز اتخاذ الهرة وربطها إذا لم يهمل إطعامها. قلت: ويدل على أنه
لا يجب إطعام الهرة بل الواجب تخليتها تبطش بنفسها.
كتاب الجنايات
هي جمع جناية مصدر من جنى الذنب يجنيه جناية أي جره إليه وجمعت وإن كانت
مصدرا لاختلاف أنواعها فإنها قد تكون في النفس وفي الأطراف وتكون عمدا وخطأ.
1 - (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) هو تفسير لقول
مسلم (إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني) أي المحصن بالرجم (والنفس بالنفس
والتارك لدينه) أي المرتد عنه (المفارق للجماعة متفق عليه). فيه دليل على أنه لا يباح
دم المسلم إلا بإتيانه بإحدى الثلاث والمراد من النفس بالنفس القصاص بشرطه وسيأتي.
والتارك لدينه يعم كل مرتد عن الاسلام بأي ردة كانت فيقتل إن لم يرجع إلى الاسلام. وقوله
المفارق للجماعة يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما كالخوارج إذا
قاتلوا وأفسدوا. وقد أورد على الحصر أنه يجوز قتل الصائل وليس من الثلاثة. وأجيب بأنه
داخل تحت قوله: المفارق للجماعة أو أن المراد من هؤلاء من يجوز قتلهم قصدا والصائل
لا يقتل قصدا بل دفعا. وفيه دليل على أنه لا يقتل الكافر الأصلي لطلب إيمانه بل لدفع شره
وقد بسطنا القول في ذلك في حواشي ضوء النهار. وقد يقال إن الكافر الأصلي داخل تحت
التارك لدينه لأنه ترك فطرته التي فطر عليها كما عرف في محله.
2 - (وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله (ص) قال: لا يحل
قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال) بينها بقوله: (زان محصن) يأتي تفسيره
(فيرجم، ورجل يقتل مسلما متعمدا) قيد ما أطلق في الحديث الأول
(فيقتل، ورجل يخرج من الاسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب
أو ينفى من الأرض رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم). الحديث أفاد ما أفاده
الحديث الأول الذي قبله. وقوله: فيحارب الله ورسوله بعد قوله: يخرج من الاسلام "
231

بيان لحكم خاص لخارج عن الاسلام خاص وهو المحارب وله حكم خاص هو ما ذكر من
القتل أو الصلب أو النفي فهو أخص من الذي أفاده الحديث الذي قبله. والنفي الحبس عند
أبي حنيفة وعند الشافعي النفي من بلد إلى بلد لا يزال يطلب وهو هارب فزع وقيل: ينفي
من بلده فقط. وظاهر الحديث والآية أيضا أن الامام مخير بين هذه العقوبات في كل محارب
مسلما كان أو كافرا.
3 - (وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء متفق عليه). فيه دليل على عظم
شأن دم الانسان فإنه لا يقدم في القضاء إلا الأهم. ولكنه يعارضه حديث: أول ما يحاسب
العبد عليه صلاته أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة. ويجاب بأن حديث الدماء
فيما يتعلق بحقوق المخلوق وحديث الصلاة فيما يتعلق بعبادة الخالق وبأن ذلك في أولية القضاء
والآخر في أولية الحساب. كما يدل له ما أخرجه النسائي من حديث ابن مسعود بلفظ أول
ما يحاسب عليه العبد صلاته وأول ما يقضى بين الناس في الدماء وقد أخرج البخاري من
حديث علي رضي الله عنه وغيره: أنه رضي الله عنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة
يوم القيامة في قتلى بدر - الحديث. فبين فيه أول قضية يقضي فيها وقد بين الاختصام،
حديث أبي هريرة: أول ما يقضى بين الناس في الدماء، ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه يقول:
يا رب سل هذا فيم قتلني - الحديث. وفي حديث ابن عباس يرفعه: يأتي المقتول معلقا رأسه
بإحدى يديه ملببا قاتله بيده الأخرى تشحط أوداجه دما حتى يقفا بين يدي الله تعالى
وهذا في القضاء في الدماء. وفي القضاء بالأموال ما أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر يرفعه
من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته. وفي معناه عدة أحاديث وأنها إذا فنيت
حسناته قبل أن يقضي ما عليه طرح عليه من سيئات خصمه وألقي في النار. وقد استشكل
ذلك بأنه كيف يعطى الثواب وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو يتناهى؟ يعني على القول
بخروج الموحدين من النار. وأجاب البيهقي: بأنه يعطى من حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته من
غير المضاعفة التي يضاعف الله تعالى بها الحسنات لان ذلك من محض الفضل الذي يخص
الله تعالى به من يشاء من عباده وهذا فيمن مات غير ناو لقضاء دينه. وأما من مات وهو
ينوي القضاء فإن الله يقضي عنه كما قدمناه في شرح الحديث الثالث من أبواب السلم.
4 - (وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): من
قتل عبده قتلناه. ومن جدع) بالجيم والدال المهملة (عبده جدعناه رواه
أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وهو من رواية الحسن البصري عن سمرة وقد اختلف
في سماعه منه) على ثلاثة أقوال. قال ابن معين: لم يسمع الحسن منه شيئا وإنما هو كتاب
وقيل: سمع منه حديث العقيقة وأثبت ابن المديني سماع الحسن من سمرة (وفي رواية أبي داود
232

والنسائي بزيادة: ومن خصى عبده خصيناه وصحح الحاكم هذه الزيادة). والحديث دليل
على أن السيد يقاد بعبده في النفس والأطراف إذ الجدع: قطع الأنف أو الاذن أو اليد أو الشفة
كما في القاموس. ويقاس عليه إذا كان القاتل غير السيد بطريق الأولى والمسألة فيها
خلاف. ذهب النخعي وغيره إلى أنه يقتل الحر بالعبد مطلقا عملا بحديث سمرة وأيده عموم
قوله تعالى: * (النفس بالنفس) *. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقتل به إلا إذا كان سيده عملا بعموم
الآية وكأنه يخص السيد بحديث: لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده أخرجه البيهقي
إلا أنه من رواية عمر بن عيسى يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث. وأخرج البيهقي أيضا
من حديث ابن عمرو في قصة زنباع لما جب عبده وجدع أنفه أنه صلى الله عليه وسلم قال
من مثل بعبده وحرق بالنار فهو حر وهو مولى الله ورسوله فأعتقه صلى الله عليه وسلم
ولم يقتص من سيده إلا أن فيه المثنى بن الصباح ضعيف. ورواه عن الحجاج بن أرطاة
من طريق آخر ولا يحتج به. وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة وذهبت الهادوية والشافعي
ومالك وأحمد إلى أنه لا يقاد الحر بالعبد مطلقا مستدلين بما يفيده قوله تعالى: * (الحر بالحر) * فإن
تعريف المبتدأ يفيد الحصر وأنه لا يقتل الحر بغير الحر. ولأنه تعالى قال في صدر الآية
* (كتب عليكم القصاص) * وهو المساواة * (الحر بالحر) * تفسير وتفصيل لها وقوله تعالى
في آية المائدة: * (النفس بالنفس) * مطلق وهذه الآية مقيدة مبينة وهذه صريحة لهذه الأمة
وتلك سيقت في أهل الكتاب. وشريعتهم وإن كانت شريعة لنا لكنه وقع في شريعتنا التفسير
بالزيادة والنقصان كثيرا فيقرب أن هذا التقييد من ذلك وفيه مناسبة إذ فيه تخفيف ورحمة
وشريعة هذه الأمة أخف من شرائع من قبلها فإنه وضع عنهم فيها الآصار التي كانت على
من قبلهم. والقول بأن آية المائدة نسخت آية البقرة لتأخرها مردود بأنه لا تنافي بين الآيتين إذ
لا تعارض بين عام وخاص ومطلق ومقيد حتى يصار إلى النسخ ولان آية المائدة متقدمة
حكما فإنها حكاية لما حكم الله تعالى به في التوراة وهي متقدمة نزولا على القرآن. وأخرج
ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان
الحر بالعبد. وأخرج البيهقي من حديث علي رضي الله عنه: من السنة أن لا يقتل حر بعبد
وفي إسناده جابر الجعفي ومثله عن ابن عباس وفيه ضعف وأما حديث سمرة فهو ضعيف
أو منسوخ بما سردناه من الأحاديث. هذا وأما قتل العبد بالحر فإجماع وإذا تقرر أن
الحر لا يقتل بالعبد فيلزم من قتله قيمته على خلاف فيها معروف ولو بلغت ما بلغت وإن
جاوزت دية الحر وقد بيناه في حواشي ضوء النهار. وأما إذا قتل السيد عبده ففيه حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلا قتل عبده صبرا متعمدا فجلده النبي صلى الله
عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة "
5 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص)
يقول: لا يقاد الوالد بالولد رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه ابن الجارود والبيهقي
وقال الترمذي: إنه مضطرب). قال الترمذي: وروي عن عمرو بن شعيب مرسلا وهذا
233

حديث فيه اضطراب والعمل عليه عند أهل العلم انتهى، وفي إسناده عنده الحجاج
بن أرطأة. وجه الاضطراب أنه اختلف على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقيل عن
عمر وهي رواية الكتاب وقيل: عن سراقة وقيل: بلا واسطة وفيها المثنى بن الصباح وهو
ضعيف. قال الشافعي: طرق هذا الحديث كلها منقطعة، وقال عبد الحق: هذه الأحاديث
كلها معلولة لا يصح فيها شئ. والحديث دليل على أنه لا يقتل الوالد بالولد. قال الشافعي:
حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أن لا يقتل الوالد بالولد. وبذلك أقول. وإلى هذا ذهب
الجماهير من الصحابة وغيرهم كالهادوية والحنفية والشافعية وأحمد وإسحاق مطلقا للحديث
قالوا: لان الأب سبب لوجود الولد فلا يكون الولد سببا لاعدامه وذهب البتي إلى أنه يقاد
الوالد بالولد مطلقا لعموم قوله تعالى: * (النفس بالنفس) * وأجيب بأنه مخصص بالخبر، وكأنه لم
يصح عنده. وذهب مالك إلى أنه يقاد بالولد إذا أضجعه وذبحه قال: لان ذلك عمد حقيقة
لا يحتمل غيره فإن الظاهر في مثل استعمال الجارح في المقتل هو قصد العمد والعمدية أمر
خفي لا يحكم بإثباتها إلا بما يظهر من قرائن الأحوال. وأما إذا كان على غير هذه الصفة فيما
يحتمل عدم إزهاق الروح بل قصد التأديب من الأب وإن كان في حق غيره يحكم فيه
بالعمد. وإنما فرق بين الأب وغيره لما للأب من الشفقة على ولده وغلبة قصد التأديب
عند فعله ما يغضب الأب فيحمل على عدم قصد القتل وهذا رأي منه وإن ثبت النص لم
يقاومه شئ. وقد قضى به عمر في قصة المدلجي وألزم الأب الدية ولم يعطه شيئا وقال:
ليس لقاتل شئ. فلا يرث من الدية إجماعا ولا من غيرها عند الجمهور. والجد والأم كالأب
عندهم في سقوط القود.
6 - (وعن أبي جحيفة قال: قال لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شئ من
الوحي غير القرآن؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم) استثناء من لفظ شئ
مرفوع على البدلية (يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة) أي الورقة
المكتوبة: (قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل) أي الدية سميت عقلا لأنهم كانوا
يعقلون الإبل التي هي دية بفناء دار المقتول (وفكاك) بكسر الفاء وفتحها (الأسير وأن لا يقتل
مسلم بكافر رواه البخاري وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من وجه آخر عن علي رضي الله
عنه وقال فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم) أي تتساوى في الدية والقصاص (ويسعى بذمتهم
أدناهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده وصححه
الحاكم). قال المصنف: إنما سأل أبو جحيفة عليا رضي الله عنه عن ذلك لان جماعة من
الشيعة كانوا يزعمون أن لأهل البيت عليهم السلام لا سيما علي رضي الله عنه اختصاصا بشئ
من الوحي لم يطلع عليه غيره وقد سأل عليا رضي الله عنه عن هذه المسألة غير أبي جحيفة
أيضا. ثم الظاهر أن المسؤول عنه هو ما يتعلق بالأحكام الشرعية من الوحي الشامل لكتاب
الله المعجز وسنة النبي (ص) فإن الله تعالى سماها وحيا إذ فسر قوله تعالى
234

* (وما ينطق عن الهوى) * بما هو أعم من القرآن. ويدل عليه قوله: وما في هذه الصحيفة
فلا يلزم منه نفي ما نسب إلى علي رضي الله عنه من الجفر وغيره وقد يقال: إن هذا
داخل تحت قوله: إلا فهم يعطيه الله تعالى رجلا في القرآن. فإنه كما نسب إلى كثير ممن فتح
الله عليه بأنواع العلوم ونور بصيرته أنه يستنبط ذلك من القرآن. والحديث قد اشتمل على
مسائل: الأولى: العقل وهو الدية ويأتي تحقيقها. والثانية: فكاك الأسير، أي حكم تخليص الأسير
من يد العدو، وقد ورد الترغيب في ذلك. والثالثة: عدم قتل المسلم بالكافر قودا وإلى هذا
ذهب الجماهير وأنه لا يقتل ذو عهد في عهده، فذو العهد الرجل من أهل دار الحرب
يدخل علينا بأمان فإن قتله محرم على المسلم حتى يرجع إلى مأمنه. فلو قتله مسلم فقالت
الحنفية: يقتل المسلم بالذمي إذا قتله بغير استحقاق ولا يقتل بالمستأمن. واحتجوا بقوله
في الحديث: ولا ذو عهد في عهده فإنه معطوف على قوله: مؤمن فلا بد من تقييد
في الثاني كما في الطرف الأول فيقدر: ولا ذو عهد في عهده بكافر ولا بد من تقييد
الكافر في المعطوف بلفظ الحربي لان الذمي يقتل بالذمي ويقتل بالمسلم. وإذا كان التقييد
لا بد منه في المعطوف وهو مطابق للمعطوف عليه فلا بد من تقدير مثل ذلك في المعطوف عليه
فيكون التقدير: ولا يقتل مؤمن بكافر حربي ومفهوم حربي أنه يقتل بالذمي بدليل مفهوم
المخالفة وإن كانت الحنفية لا تعمل بالمفهوم فهم يقولون إن الحديث يدل على أنه لا يقتل
بالحربي صريحا. وأما قتله بالذمي فبعموم قوله تعالى: * (النفس بالنفس) * ولما أخرجه البيهقي من
أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال: أنا أكرم من وفى بذمته وهو حديث
مرسل من حديث عبد الرحمن بن البيلماني وقد روي مرفوعا. قال البيهقي: وهو خطأ،
وقال الدارقطني: ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما
يرسله؟. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: هذا الحديث ليس بمسند ولا يجعل مثله إماما
تسفك به دماء المسلمين. وذكر الشافعي في الأم: إن حديث ابن البيلماني كان في قصة
المستأمن الذي قتله عمرو بن الضميري قال: فعلى هذا لو ثبت لكان منسوخا لان حديث
لا يقتل مسلم بكافر خط ب به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح كما في رواية عمرو
بن شعيب وقصة عمرو بن أمية متقدمة قبل ذلك بزمان. هذا وأما ما ذكرته الحنفية من
التقدير فقد أجيب عنه بأنه لا يجب التقدير لان قوله: ولا ذو عهد في عهده كلام تام فلا
يحتاج إلى إضمار لان الاضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة فيكون نهيا عن قتل
المعاهد. وقولهم: إن قتل المعاهد معلوم وإلا لم يكن للعهد فائدة فلا حاجة إلى الاخبار به.
235

جوابه أنه محتاج إلى ذلك إذ لا يعرف إلا بطريق الشارع وإلا فإن ظاهر العمومات يقضي
بجواز قتله ولو سلم تقدير الكافر في الثاني فلا يسلم استلزام تخصيص الأول بالحربي لان
مقتضى العطف مطلق الاشتراك لا الاشتراك من كل وجه. ومعنى قوله: ويسعى بذمتهم
أدناهم أنه إذا أمن المسلم حربيا كان أمانه أمانا من جميع المسلمين ولو كان ذلك المسلم امرأة
كما في قصة أم هانئ ويشترط كون المؤمن مكلفا فإنه يكون أمانا من الجميع فلا يجوز نكث
ذلك وقوله: وهم يد على من سواهم أي هم مجتمعون على أعدائهم لا يحل لهم التخاذل بل
يعين بعضهم بعضا على جميع من عاداهم من أهل الملل كأنه جعل أيديهم يدا واحدة
وفعلهم فعلا واحدا.
7 - (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين
فسألوها: من صنع بك هذا؟ فلان فلان؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي
فأقر، فأمر رسول الله (ص) أن يرض رأسه بين حجرين متفق عليه واللفظ
لمسلم). الحديث دليل على أنه يجب القصاص بالمثل كالمحدد وأنه يقتل
الرجل بالمرأة وأنه يقتل بما قتل به فهذه ثلاث مسائل: الأولى: وجوب القصاص بالمثقل وإليه ذهب الهادوية
والشافعي ومالك ومحمد بن الحسن عملا بهذا الحديث والمعنى المناسب ظاهر قوي وهو
صيانة الدماء من الاهدار. ولان القتل بالمثل كالقتل بالمحدد في إزهاق الروح. وذهب
أبو حنيفة والشعبي والنخعي إلى أنه لا قصاص في القتل بالمثل واحتجوا بما أخرجه البيهقي من
حديث النعمان بن بشير مرفوعا: كل شئ خطأ إلا السيف ولكل خطأ أرش وفي لفظ
كل شئ سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش. وأجيب بأن الحديث مداره على جابر
الجعفي وقيس بن الربيعة ولا يحتج بهما فلا يقاوم حديث أنس هذا. وجواب الحنفية عن
حديث أنس بأنه حصل في الرض الجرح أو بأن اليهودي كان عادته قتل الصبيان فهو من
الساعين في الأرض فسادا: تكلف. وأما إذا كان القتل بآلة لا يقصد بمثلها القتل غالبا كالعصا
والسوط واللطمة ونحو ذلك فعند الهادوية والليث ومالك يجب فيها القود. وقال الشافعي:
وأبو حنيفة وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: لا قصاص فيه وهو شبه العمد
وفيه الدية مائة من الإبل مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها لما أخرجه أحمد وأهل
السنن إلا الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
ألا وإن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل فيها أربعون في بطونها
أولادها. قال ابن كثير في الارشاد: في إسناده اختلاف كثير ليس هذا موضع بسطه.
قلت: إذا صح الحديث فقد اتضح الوجه وإلا فالأصل عدم اعتبار الآلة في إزهاق الروح
بل ما أزهق الروح أوجب القصاص. المسألة الثانية: قتل الرجل بالمرأة وفيه خلاف ذهب
إلى قتله بها أكثر أهل العلم وحكى ابن المنذر الاجماع على ذلك لهذا الحديث، وعن
الحسن البصري أنه لا يقتل الرجل بالأنثى وكأنه يستدل بقوله تعالى: * (الأنثى بالأنثى) *. ورد
بأنه ثبت في كتاب عمرو بن حزم الذي تلقاه الناس بالقبول أن الذكر يقتل بالأنثى فهو أقوى
من مفهوم الآية: وذهبت الهادوية إلى أن الرجل يقاد بالمرأة ويوفى ورثته نصف ديته،
236

قالوا لتفاوتهما في الدية ولأنه تعالى قال: * (والجروح قصاص) *. ورد بأن التفاوت في الدية لا يوجب
التفاوت في النفس ولذا يقتل عبد قيمته ألف بعبد قيمته عشرون وقد وقعت المساواة
في القصاص لان المراد بالمساواة في الجروح أن لا يزيد المقتص على موقع فيه من الجرح.
المسألة الثالثة: أن يكون القود بمثل ما قتل به وإلى هذا ذهب الجمهور وهو الذي يستفاد
من قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * وقوله: * (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم) * وبما أخرجه البيهقي من حديث البراء عنه (ص): من غرض غرضنا له
ومن حرق حرقناه ومن غرق غرقناه أي من اتخذه غرضا للسهام. وهذا يقيد بما إذا كان
السبب الذي قتل به يجوز فعله. وأما إذا كان لا يجوز فعله كمن قتل بالسحر فإنه لا يقتل به
لأنه محرم وفيه خلاف، قال بعض الشافعية: إذا قتل باللواط أو بإيجار الخمر أنه يدس فيه
خشبة ويوجر الخل وقيل يسقط اعتبار المماثلة. وذهب الهادوية والكوفيون وأبو حنيفة
وأصحابه إلى أنه لا يكون الاقتصاص إلا بالسيف واحتجوا بما أخرجه البزار وابن عدي من
حديث أبي بكرة عنه (ص) أنه قال: لا قود إلا بالسيف إلا أنه ضعيف قال
ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة. واحتجوا بالنهي عن المثلة وبقوله (ص): إذا
قتلتم فأحسنوا القتلة. وأجيب بأنه مخصص بما ذكر. وفي قوله: فأقر دليل على أنه يكفي
الاقرار مرة واحدة إذ لا دليل على أنه كرر الاقرار.
8 - (وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء،
فأتوا النبي (ص) فلم يجعل لهم شيئا رواه أحمد والثلاثة بإسناد صحيح). الحديث
فيه دليل على أنه لا غرامة على الفقير إلا أنه قال البيهقي: إن كان المراد بالغلام فيه المملوك
فإجماع أهل العلم أن جناية العبد في رقبته. فهو يدل والله أعلم أن جنايته كانت خطأ وأن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يجعل عليه شيئا لأنه التزم أرش جنايته فأعطاه من عنده متبرعا
بذلك. وقد حمله الخطابي على أن الجاني كان حرا وكانت الجناية خطأ وكانت عاقلته فقراء
فلم يجعل عليهم شيئا إما لفقرهم وإما لأنه لا يعقلون الجناية الواقعة على العبد إن كان المجني
عليه مملوكا - كما قال البيهقي. وقد يكون الجاني غلاما حرا غير بالغ وكانت جنايته عمدا فلم
يجعل علي في الحال أو رآه على عاقلته فوجدهم فقراء
فلم يجعله عليه لكون جنايته في حكم الخطأ ولا عليهم لكونهم فقراء والله أعلم انتهى.
وقوله: ولم يجعل أرشها على عاقلته هذا مذهب الشافعي أن عمد الصغير يكون في ماله
ولا تحمله العاقلة وقوله: أو رآه على عاقلته يعني مع احتمال أنه خطأ وهذا اتفاق، ومع
احتمال أنه عمد كما ذهب إليه الهادوية وأبو حنيفة ومالك.
9 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته،
فجاء إلى النبي (ص) فقال أقدني، فقال:
حتى تبرأ ثم جاء إليه فقال: أقدني فأقاده ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله عرجت، فقال: قد نهيتك فعصيتني
فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى رسول الله (ص) أن يقتص من
237

جرح حتى يبرأ صاحبه. رواه أحمد والدارقطني وأعل بالارسال. بناء على أن شعيبا لم يدرك
جده وقد دفع بأنه ثبت لقاء شعيب لجده وفي معناه أحاديث تزيده قوة. وهو دليل
على أنه لا يقتص من الجراحات حتى يحصل البرء من ذلك وتؤمن السراية. قال الشافعي:
إن الانتظار مندوب بدليل تمكينه صلى الله عليه وسلم من الاقتصاص قبل الاندمال. وذهب
الهادوية وغيرهم إلى أنه واجب وإذنه صلى الله عليه وسلم بالاقتصاص
كان قبل علمه (ص) بما يؤول إليه من المفسدة.
10 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما
الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن دية جنينها غرة) بضم الغين المعجمة وتشديد الراء منون
(عبد أو وليدة) هما بدل من غرة وأو للتقسيم لا للشك (وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها
ولدها من معهم). في سنن أبي داود أن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول
الله (ص) أن ميراثها لبنيها والعقل على عصبتها، ومثله في مسلم فضمير ورثها
يعود إلى القاتلة وقيل: يعود إلى المقتولة وذلك أن عاقلتها قالوا: إن ميراثها لنا فقال: لا
فقضى بديتها لزوجها وولدها. (فقال حمل) بفتح الحاء المهملة وفتح الميم (ابن النابغة)
بالنون بعد الألف موحدة فغين معجمة وهو زوج المرأة القاتلة: (الهذلي: يا رسول الله كيف
يغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل) الاستهلال رفع الصوت يريد أنه لم تعلم
حياته بصوت نطق أو بكاء (فمثل ذلك يطل) بالمثناة التحتية مضمومة وتشديد اللام على أنه
مضارع مجهول من طل ومعناه يهدر ويلغى ولا يضمن. ويروى بالموحدة وتخفيف اللام
على أنه ماض من البطلان (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذ) أي هذا القائل
(من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع. متفق عليه). وفي الحديث مسائل:
الأولى: فيه دليل على أن الجنين إذا مات بسبب الجناية وجبت فيه الغرة مطلقا سواء انفصل
عن أمه وخرج ميتا أو مات في بطنها. فأما إذا خرج حيا ثم مات ففيه الدية كاملة ولكنه
لا بد أن يعلم أنه جنين بأن تخرج منه يد أو رجل وإلا فالأصل براءة الذمة وعدم وجوب الغرة
وقد فسر الغرة في الحديث بعبد أو وليدة وهي الأمة. قال الشعبي: الغرة خمسمائة درهم،
وعند أبي داود والنسائي من حديث بريدة مائة شاة وقيل خمس من الإبل إذ هي الأصل
في الديات وهذا في جنين الحرة وأما جنين الأمة فقيل: يخصص بالقياس على ديتها فكما أن
الواجب قيمتها في ضمانها فيكون الواجب في جنينها الأرش منسوبا إلى القيمة. وقياسه على جنين
الحرة فإن اللازم فيه نصف عشر الدية فيكون اللازم فيه نصف عشر قيمتها. الثانية: قوله
وقضى بدية المرأة على عاقلتها يدل على أنه يجب القصاص في مثل هذا وهو من أدلة
238

من يثبت شبه العمد وهو الحق، فإن ذلك القتل كان بحجر صغير أو عود صغير لا يقصد
به القتل بحسب الأغلب فتجب فيه الدية على العاقلة ولا قصاص فيه والحنفية تجعله من
أدلة عدم وجوب القصاص بالمثقل. الثالثة: في قوله: على عاقلتها دليل على أنها تجب الدية على
العاقلة، والعاقلة هم العصبة وقد فسر ت بمن عدا الولد وذوي الأرحام كما أخرجه البيهقي من
حديث أسامة بن عمير فقال أبو هريرة: إنما يعقلها بنوها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: الدية على العصبة وفي الجنين غزة ولهذا بوب البخاري: باب جنين
المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد. قال الشافعي: لا أعلم خلافا في أن العاقلة
العصبة وهم القرابة من قبل الأب وفسر بالأقرب فالأقرب من عصبة الذكر الحر المكلف
وفي ذلك خلاف يأتي في القسامة. وظاهر الحديث وجوب الدية على العاقلة وبه قال الجمهور
. وخالف جماعة في وجوبها عليهم فقالوا: لا يعقل أحد عن أحد مستدلين بما عند أحمد وأبي داود
والنسائي والحاكم: أن رجلا أتى إلى النبي (ص) فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم: من هذا؟ قال: ابني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يجني
عليك ولا تجني عليه وعند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث عمرو بن الأحوص أنصلي الله عليه وسلم
قال: لا يجني جان إلا على نفسه ولا يجني جان على ولده. وجمع بينهما وبين وجوب الدية على
العاقلة بأن المراد به الجزاء الأخروي أي لا يجني عليه جناية يعاقب بها في الآخرة وعلى
القول بأن الوالد والولد ليسا من العاقلة كما قاله الخطابي فلا يتم به الاستدلال. الرابعة: قوله صلى
الله عليه وسلم: إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع يظهر أن قوله من
أجل سجعه " مدرج فهم الراوي ففيه دليل على كراهة السجع قال العلماء: إنما كرهه
من هذا الشخص لوجهي أحدهما: أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله. الثاني: أنه
تكلفه في مخاطبته وهذان الوجهان من السجع مذمومان. وأما السجع الذي ورد منه صلى
الله عليه وسلم في بعض الأوقات وهو كثير في الحديث فليس من هذا لأنه لا يعارض حكم
الشرع ولا يتكلفه فلا نهي عنه.
11 - (وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن عمر سأل
من شهد قضاء رسول الله (ص) في الجنين؟ قال: فقام حمل بن النابغة) المذكور
في الحديث الذي قبله: (فقال: كنت بين يدي امرأتين فضربت إحداهما الأخرى فذكره
مختصرا وصححه ابن حبان والحاكم). وأخرجه أبو داود بلفظ: أن عمر سأل الناس عن إملاص
المرأة فقال المغيرة: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها بغرة عبد أو أمة فقال:
ائتني بمن يشهد معك قال: فأتاه محمد بن مسلمة فشهد له. ثم قال أبو داود: قال أبو عبيد
إملاص المرأة إنما سمي إملاصا لأن المرأة تزلقه قبل وقت الولادة وكذلك كل ما زلق من اليد
وغيرها فقد ملص انتهى. ولا بد من أن يعلم أن الجنين قد تخلق وجرى فيه الروح ليتصف
بأنه قتلته الجناية، والشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي من يد وأصبع وغيرهما. فإن
لم تظهر فيه الصورة ويشهد أهل الخبرة بأن ذلك أصل الآدمي فحكمه كذلك إذا كانت
239

الصورة خفية. وإن شك أهل الخبرة لم يجب فيه شئ اتفاقا. وفيه دليل على أن في الجنين
غرة ذكرا كان أو أنثى لاطلاق الحديث.
12 - (وعن أنس رضي الله عنه أن الربيع) بضم الراء والباء الموحدة المفتوحة فمثناة
تحتية مشددة مكسورة أخت أنس (بنت النضر عمته) أي عمة أنس بن مالك وهي غير
الربيع بنت معوذ ووقع في سنن البيهقي بنت معوذ قال المصنف: إنه غلط (كسرت ثنية
جارية) أي شابة من الأنصار كما في رواية (فطلبوا) أي قرابة الربيع (إليها) أي إلى الجارية
(العفو فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر
ثنية الربيع؟ لا، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا أنس كتاب الله القصاص فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره متفق عليه واللفظ للبخاري). فيه
مسائل: الأولى: أن فيه دليلا على وجوب الاقتصاص في السن بأن كانت بكمالها فهو مأخوذ
من قوله تعالى: * (والسن بالسن) * وقد ثبت على قلع السن بالسن في العمد وأما كسر
السن فقد دل هذا الحديث على القصاص فيه أيضا. قال العلماء: وذلك إذا عرفت المماثلة
وأمكن ذلك من دون سراية إلى غير الواجب قال أبو داود: قلت لأحمد - يريد أحمد بن
حنبل -: كيف في السن؟ قال تبرد أي يبرد من سن الجاني بقدر ما كسر من سن المجني
عليه وقال بعضهم: إن الحديث محمول على القلع وأنه أراد بقوله كسرت: قلعت وهو بعيد.
وأما العظم غير السن فقد قام الاجماع على أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه ذهاب
النفس إذا لم تتأت فيه المماثلة بأن لا يوقف على قدر الذاهب. وقال الليث والشافعي والحنفية
لا قصاص في العظم غير السن لان دون العظم حائلا من جلد ولحم وعصب فيتعذر معه
المماثلة فلو أمكنت لحكمنا بالقصاص ولكن لا نصل إلى العظم حتى ننال ما دونه مما لا يعرف
قدره. الثانية: قوله: أتكسر ثنية الربيع ظاهر الاستفهام الانكار وقد تؤول بأنه لم يرد
به الحكم والمعارضة وإنما أراد به أن يؤكد للنبي (ص) طلب الشفاعة منهم وأكد
طلبه من النبي (ص) بالقسم. وقيل: بل قاله قبل أن يعلم أن القصاص حتم وظن
أنه يخير بينه وبين الدية أو العفو. ويرشد إليه قوله في جوابه: يا أنس كتاب الله القصاص
وقيل: إنه لم يرد الانكار بل قاله توقعا ورجاء من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا
أو يقبلوا الأرش وقد وقع الامر على ما أراد. وفي إلهامهم العفو وفي تقريره صلى الله عليه
وسلم على الحلف دليل على أنه يجوز الحلف فيما يظن وقوعه. الثالثة: قوله (ص):
كتاب الله القصاص المشهور الرفع على أنه مبتدأ وخبر. ويجوز النصب في الأول على
المصدر وفعله محذوف أي كتب كتاب الله وفي الثاني على أنه مفعول للكتاب أو للفعل
المقدر ويحتمل وجوها أخر. قيل أراد بالكتاب الحكم أي حكم الله القصاص وقيل أشار
إلى قوله تعالى: * (والجروح قصاص) * أو إلى * (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * أو إلى * (والسن بالسن) *.
240

وفي قوله (ص): إن من عباد الله من لو أقسم - إلى آخره تعجب منه صلى الله عليه
وسلم بوقوع مثل هذا من حلف أنس على نفي فعل الغير واصرار الغير على إيقاع ذلك الفعل
وكأن قضية العادة في ذلك أن يحنث في يمينه فألهم الله تعالى الغير العفو فبر قسم أنس، وأن هذا
الاتفاق وقع إكراما من الله تعالى لأنس ليبر في يمينه وأنه من جملة عباد الله الذين يعطيهم الله
تعالى أربهم ويجيب دعاءهم وفيه جواز الثناء على من وقع له مثل ذلك عند أمن الفتنة عليه.
13 - (وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
من قتل في عميا) بكسر العين المهملة وتشديد الميم والياء المثناة من تحت بالقصر فعيلى
من العماء. قوله: (أو رميا) بزنته مصدر يراد به المبالغة (بحجر أو سوط أو عصا
فعقله عقل الخطأ ومن قتل عمدا فهو قود ومن حال دونه فعليه
لعنه الله أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة بإسناد قوي). قال في النهاية في تفسير اللفظين
المعنى أن يوجد بينهم قتيل يعمى أمره ولا يتبين قاتله فحكمه حكم قتيل الخطأ تجب فيه الدية.
الحديث فيه مسألتان: الأولى أنه دليل على أن من لم يعرف قاتله فإنها تجب فيه الدية وتكون
على العاقلة وظاهره من غير أيمان قسامة. وقد اختلف في ذلك: فقالت الهادوية: إن كان
الحاضرون الذين وقع بينهم القتل منحصرين لزمت القسامة وجرى فيها حكمها من الايمان
والدية. وإن كانوا غير منحصرين لزمت الدية في بيت المال. وقال الخطابي: اختلف هل تجب
الدية في بيت المال أو لا؟ قال إسحاق بالوجوب وتوجيهه من حيث المعنى أنه مسلم مات
بفعل قوم من المسلمين فوجبت ديته في بيت مال المسلمين. وذهب الحسن إلى أن ديته تجب
على جميع من حضر وذلك لأنه مات بفعلهم فلا تتعداهم إلى غيرهم وقال مالك: إنه يهدر لأنه
إذا لم يوجد قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وللشافعي قول: إنه يقال لوليه ادع على من
شئت واحلف فإن حلف استحق الدية وإن نكل حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة
وذلك لان الدم لا يجب إلا بالطلب. وإذا عرفت هذا الاختلاف وعدم المستند القوي في أي
هذه الأقوال وقد عرفت أن سند الحديث قوي كما قاله المصنف: علمت أن القول به أولى
الأقوال. المسألة الثانية: في قوله: ومن قتل عمدا فهو قود دليل على أن الذي يوجبه القتل عمدا
هو القود عينا. وفي المسألة قولان: الأول: أنه يجب القود عينا وإليه ذهب زيد بن علي
وأبو حنيفة وجماعة ويدل له قوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص) * وحديث: كتاب الله
القصاص. قالوا: وأما الدية فلا تجب إلا إذا رضي الجاني ولا يجبر الجاني على تسليمها.
والثاني: للهادوية وأحمد ومالك غيرهم. وقول للشافعي إنه يجب بالقتل عمدا أحد أمرين:
القصاص أو الدية لقوله صلى الله عليه وسلم: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقيد
وإما أن يدي أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم. وأجيب عنه بأن المراد من الحديث أن ولي
المقتول مخير بشر أن يرضى الجاني أن يغرم الدية قالوا: وفي هذا التأويل جمع بين الدليلين.
قلنا: الاقتصار في الآية وفي بعض الأحاديث على بعض ما يجب لا يدل على أنه لا يجب غير
241

مما قام الدليل على وجوبه. وقد أخرج أحمد وأبو داود عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح -
فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو. فإن أراد الرابعة
فخذوا على يديه فإن قبل من ذلك شيئا ثم عدا بعد ذلك فإن له النار.
14 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: إذا
أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك،
رواه الدارقطني موصولا ومرسلا، وصححه ابن القطان، ورجاله ثقات. إلا أن البيهقي رجح
المرسل). قال الحافظ ابن كثير في الارشاد: وهذا الاسناد على شرط مسلم. قلت: إشارة
إلى إسناد الدارقطني فإنه رواه من حديث أبي داود الحفري عن الثوري عن إسماعيل بن أمية
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (ص): الحديث ثم قال: قال الحافظ
البيهقي: ما رواه غير أبي داود الحفري عن الثوري وغيره عن إسماعيل بن أمية مرسلا وهذا
هو الصحيح. والحديث دليل على أنه ليس على الممسك سوى حبسه ولم يذكر قدر مدته
فهي راجعة إلى نظر الحاكم وأن القود أو الدية على القاتل وإلى هذا ذهبت الهادوية والحنفية
والشافعية للحديث ولقوله تعالى: * (فمن اعتدى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) *.
وذهب مالك والنخعي وابن أبي ليلى إلى أنهما يقتلان جميعا إذ هما مشتركان في قتله، فإنه لولا
الامساك ما قتل. وأجيب بأن النص منع الالحاق فإن حكم ذلك حكم الحافر للبئر والمردي
إليها فإن الضمان على المردي دون الحافر اتفاقا ولكن الحديث الآتي دليل للأولين.
15 - (وعن عبد الرحمن بن البيلماني رضي الله عنه) بفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية وفتح
اللام ضعفه جماعة فلا يحتج بما انفرد به إذا وصل فكيف إذا أرسل فكيف إذا خالف، وفيه
إبراهيم بن محمد بن أبي ليلى ضعيف (أن النبي (ص) قتل مسلما بمعاهد
وقال: أنا أولى من وفي بذمته أخرجه عبد الرزاق هكذا مرسلا ووصله الدارقطني
بذكر ابن عمر فيه وإسناده الموصول واه) تقدم الكلام في الحديث.
16 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قتل غلام غيلة) بكسر الغين المعجمة
وسكون المثناة التحتية أي سرا: (فقال عمر رضي الله عنه: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم
به. أخرجه البخاري) وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن نافع: أن عمر قتل سبعة من
أهل صنعاء برجل، وأخرجه في الموطأ بسند آخر من حديث ابن المسيب: أن عمر قتل
خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة وقال: لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وللحديث
قصة أخرجها الطحاوي والبيهقي عن ابن وهب قال: حدثني جرير بن حازم أن المغيرة
بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه: أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها وترك في حجرها ابنا
له من غيرها غلاما يقال له أصيل فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلا فقالت له: إن هذا
الغلام يفضحنا فاقتله فأبى فامتنعت منه فطاوعها فاجتمع على قتل الغلام الرجل
242

ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوا أعضاءه وجعلوه في عيبة وطرحوه في ركية
في ناحية القرية ليس فيها ماء - وذكر القصة وفيها - فأخذ خليلها فاعترف ثم اعترف الباقون
فكتب يعلى وهو يومئذ أمير شأنهم إلى عمر رضي الله عنه فكتب عم بقتلهم جميعا وقال
والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين. وفي هذا دليل أن رأي عمر رضي الله
عنه أنه تقتل الجماعة بالواحد وظاهره ولو لم يباشره كل واحد ولذا قلنا إن فيه دليلا لقول
مالك والنخعي وقول عمر: لو تمالا أي توافق دليل على ذلك وفي قتل الجماعة بالواحد
مذاهب: الأول: هذا وإليه ذهب جماهير فقهاء الأمصار وهو مروي عن علي رضي الله عنه
وغيره وقد أخرج البخاري: عن علي رضي الله عنه في رجلين شهدا على رجل بالسرقة
فقطعه علي رضي الله عنه ثم أتياه بآخر فقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول فلم يجز
شهادتهما على الآخر وأغرمهما دية الأول وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا فرق
بين القصاص في الأطراف والنفس. والثاني: للناصر والشافعي وجماعة ورواية عن مالك أنه يختار
الورثة واحدا من الجماعة وفي رواية عن مالك يقرع بينهم فمن خرجت عليه القرعة قتل،
ويلزم الباقون الحصة من الدية وحجتهم أن الكفاءة معتبرة ولا تقتل الجماعة بالواحد
كما لا يقتل الحر بالعبد وأجيب بأنهم لم يقتلوا لصفة زائدة في المقتول بل لان كل واحد منهم
قاتل. والثالث: لربيعة وداود أنه لا قصاص على الجماعة بل الدية رعاية للمماثلة ولا وجه
لتخصيص بعضهم. هذه أقوال العلماء في المسألة. والظاهر قول داود لأنه تعالى أوجب
القصاص وهو المماثلة وقد انتفت هنا ثم موجب القصاص هو الجناية التي تزهق الروح
بها فإن زهقت بمجموع فعلهم فكل فرد ليس بقاتل فكيف يقتل عند الجمهور وإنما يصح
على قول النخعي وإن كان كل واحد قاتلا بانفراده لزم توارد المؤثرات على أثر واحد
والجمهور يمنعونه على أنه لا سبيل إلى معرفة أنه مات بفعلهم جميعا أو بفعل بعضهم فإن فرض
معرفتنا بأن كل جناية قاتلة بانفرادها لم يلزم أنه مات بكل منها فلا عبرة بالأسبق كما قيل. وأما
حكم عمر رضي الله عنه ففعل صحابي لا تقوم به الحجة. ودعوى أنه إجماع غير مقبولة وإذا
لم يجب قتل الجماعة بالواحد فإنها تلزمهم دية واحدة لأنها عوض عن دم المقتول. وقيل: تلزم
كل واحد ونسب قائله إلى خلاف الاجماع. هذا ما قررناه هنا ثم قوي لنا قتل الجماعة
بالواحد وحررنا دليله في حواشي ضوء النهار وفي ذيلنا على الأبحاث المسددة.
17 - (وعن أبي شريح رضي الله عنه) بضم الشين المعجمة وسكون المثناة التحتية فحاء مهملة
(الخزاعي) بضم الخاء المعجمة فزاي بعد الألف عين مهملة واسمه عمرو بن خويلد وقيل
غيره (قال: قال رسول الله (ص): فمن قتل له قتيل بعد مقالتي
هذه فأهله بين خيرتين) بالخاء المعجمة فراء تثنية خيرة، بينهما بقوله: (إما أن يأخذوا
243

العقل أو يقتلوا أخرجه أبو داود والنسائي، وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة
بمعناه). أصل الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم في أثناء كلامه: ثم إنكم معشر خزاعة
قتلتم هذا الرجل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له - الحديث وتقدم حديث أبي شريح فيه
التخيير بين إحدى ثلاث ولا منافاة. قال في الهدي النبوي: إن الواجب أحد الشيئين إما
القصاص أو الدية والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء: العفو مجانا، أو العفو إلى
الدية أو القصاص، ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة. والرابعة المصالحة إلى أكثر من
الدية وفيه وجهان. أحدهما: أشهرهما مذهبا أي للحنابلة جوازه. الثاني: ليس له العفو
على مال إلا الدية أو دونها وهذا أرجح دليلا. فإن اختار الدية سقط القود ولم يملك طلبه
بعد وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك. وتقدم القول الثاني أن موجبه القود
عينا وليس له العفو إلى الدية إلا برضا الجاني وتقدم المختار.
باب الديات
الديات بتخفيف المثناة التحتية جمع دية كعدات جمع عدة. أصل دية ودية بكسر الواو
مصدر ودي القتيل يديه إذا أعطى وليه ديته حذفت فاء الكلمة وعوضت عنها تاء التأنيث
كما في عدة. وهي اسم لأعم مما فيه القصاص وما لا قصاص فيه.
1 - (وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم) بالحاء المهملة مفتوحة وسكون الزاي
وهو تابعي ولي القضاء في المدينة لعمر بن عبد العزيز اسمه كنيته (عن أبيه عن جده)
عمرو بن حزم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن فذكر الحديث) أوله
من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل
ذي رعين أما بعد إلى آخر ما هنا (وفيه: أن من اعتبط) بالعين المهملة بعدها مثناة
فوقية ثم موحدة آخرها طاء مهملة أي من قتل قتيلا بلا جناية منه ولا جريرة توجب قتله
(مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول) فيه دليل على
أنهم مخيرون كما قررناه. (وإن في النفس الدية مائة من الإبل) بدل من الدية. (وفي الانف إذا أوعب) بضم الهمزة وسكون والواو وكسر العين المهملة فموحدة (جدعه)
أي قطع جميعه (الدية وفي اللسان الدية) إذا قطع من أصله أو ما يمنع منه الكلام.
(وفي الشفتين الدية، وفي الذكر الدية) إذا قطع من أصله. (وفي البيضتين الدية،
وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية) إذا
قطعت من مفصل الساق. (وفي المأمومة) هي الجناية التي بلغت أم الرأس وهي الدماغ
أو الجلدة الرقيقة عليها: (ثلث الدية). (وفي الجائفة) قال في القاموس: هي الطعنة تبلغ
الجوف ومثله في غيره: (ثلث الدية). (وفي المنقلة) اسم فاعل من نقل مشدد القاف
وهي التي تخرج منها صغار العظام وتنتقل من أماكنها وقيل التي تنقل العظم أي تكسره
244

(خمس من الإبل وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من
الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة) اسم فاعل من أوضح وهي التي توضح
العظم وتكشفه. (خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب
ألف دينار أخرجه أبو داود في المراسيل والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان وأحمد
واختلفوا في صحته). قال أبو داود في المراسيل قد أسند هذا ولا يصح. والذي قال في إسناده
سليمان بن داود وهم: إنما هو ابن أرقم. وقال أبو زرعة: عرضته على أحمد فقال: سليمان
بن داود هذا ليس بشئ. وقال ابن حبان: سليمان بن داود اليماني ضعيف وسليمان
بن داود الخولاني ثقة وكلاهما يرويان عن الزهري. والذي روى حديث الصدقات هو
الخولاني فمن ضعفه إنما ظن أن الراوي هو اليماني. وقال الشافعي: لم ينقلوا هذا الحديث
حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر: هذا كتاب
مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تغني شهرتها عن الاسناد لأنه أشبه
المتواتر لتلقي الناس إياه بالقبول والمعرفة. قال العقيلي: حديث ثابت محفوظ إلا أنا نرى أنه
كتاب غير مسموع عمن فوق الزهري. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في الكتب المنقولة
كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم فإن الصحابة والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم.
قال ابن شهاب: قرأت في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه
إلى نجران وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، وصححه الحاكم وابن حبان والبيهقي. وقال
أحمد: أرجو أن يكون صحيحا. وقال الحافظ ابن كثير في الارشاد بعد نقله كلام أئمة الحديث
فيه ما لفظه: قلت وعلى كل تقدير فهذا الكتاب متداول بين أئمة الاسلام قديما وحديثا
يعتمدون عليه ويفزعون في مهمات هذا الباب إليه ثم ذكر كلام يعقوب بن سفيان. وإذا
عرفت كلام العلماء هذا عرفت أنه معمول به وأنه أولى من الرأي المحض. وقد اشتمل على
مسائل فقهية: الأولى: فيمن قتل مؤمنا اعتباطا أي بلا جناية منه ولا جريرة توجب قتله
كما قدمناه وقال الخطابي: اعتبط بقتله أي قتله ظلما لا عن قصاص. وقد روى
الاغتباط بالغين المعجمة كما يفيده تفسيره في سنن أبي داود فإنه قال: إنه سئل يحيى بن
يحيى الغساني عن الاغتباط فقال: القاتل الذي يقتل في الفتنة فيرى أنه في هدى لا يستغفر الله
تعالى منه. فهذا يدل أنه من الغبطة الفرح والسرور وحسن الحال. فإذا كان المقتول مؤمنا
وفرح بقتله فإنه داخل في هذا الوعيد ودل على أنه يجب القود إلا أن يرضى أولياء المقتول
فإنهم مخيرون بينه وبين الدية كما سلف. الثانية: أنه دل على أن قدر الدية مائة من الإبل.
وفيه دليل أيضا على أن الإبل هي الواجبة وأن سائر الأصناف ليست بتقدير شرعي بل هي
مصالحة وإلى هذا ذهب القاسم والشافعي وأما أسنانها فسيأتي في حديث بعد هذا بيانها
إلا أن قوله في هذا الحديث وعلى أهل الذهب ألف دينار ظاهره أنه أصل أيضا على أهل
الذهب، والأب أصل على أهل الإبل. ويحتمل أن ذلك مع عدم الإبل وأن قيمة المائة منها
245

ألف دينار في ذلك العصر. ويدل لهذا ما أخرجه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم دية الخطأ على أهل القرى
أربعمائة دينار أو عدلها من الورق ويقومها على وبلغت أثمان الإبل إذا غلت رفع من قيمتها وإذا
هاجت ورخصت نقص من قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما بين أربعمائة إلى ثمانمائة وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم. قال: وقضى على أهل البقر
مائتي بقرة ومن كان دية عقله في الشاء بألفي شاة. وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله
عنهما: أن رجلا من بني عدي قتل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته
اثني عشر ألفا ومثله عند الشافعي وعند الترمذي وصرح بأنها اثنا عشر ألف درهم. وعند
أهل العراق أنها من الورق عشرة آلاف درهم ومثله عن عمر رضي الله عنه وذلك بتقويم
الدينار بعشرة دراهم واتفقوا على تقويم المثقال بها في الزكاة. وأخرج أبو داود عن عطاء أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل
البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وعلى أهل القمح
شيئا لم يحفظه محمد بن إسحاق. وهذا يدل على تسهيل الامر وأنه ليس يجب على من لزمته
الدية إلا من النوع الذي يجده ويعتاد التعامل به في ناحيته وللعلماء هنا أقاويل مختلفة وما
دلت عليه الأحاديث أولى بالاتباع وهذه التقديرات الشرعية كما عرفت. وقد استبدل الناس
عرفا في الديات وهو تقديرها بسبعمائة قرش ثم إنهم يجمعون عروضا يقطع فيها بزيادة كثيرة
في أثمانها فتكون الدية حقيقة نصف الدية الشرعية ولا أعرف لهذا وجها شرعيا فإنه أمر صار
مأنوسا ومن له الدية لا يعذر عن قبول ذلك حتى أنه صار من الأمثال قطع دية إذا قطع
شئ بثمن لا يبلغه. المسألة الثالثة: قوله: وفي الانف إذا أوعب جدعه أي استؤصل وهو
أن يقطع من العظم المنحدر من مجمع الحاجبين فإن فيه دية وهذا حكم مجمع عليه.
واعلم أن الانف مركب من أربعة أشياء: من قصبة ومارن وأرنبة وروثة فالقصبة هي
العظم المنحدر من مجمع الحاجبين والمارن هو الغضروف الذي يجمع المنخرين والروثة
بالراء وبالمثلثة طرف الأنف وفي القاموس المارن الانف أو طرفه أو ما لان منه. واختلف
إذا جنى على أحد هذه فقيل: تلزم حكومة عند الهادي وذهب الناصر والفقهاء إلى أن
في المارن دية لما رواه الشافعي عن طاوس قال: عندنا في كتب رسول الله صلى الله عليه
وسلم: في الانف إذا قطع مارنه مائة من الإبل قال الشافعي: وهذا أبين من حديث آل
حزم. وفي الروثة نصف الدية لما أخرجه البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا قطعت ثندوة الانف بنصف العقل خمسون من
الإبل أو عدلها من الذهب أو الورق. قال في النهاية: الثندوة هنا روثة الانف وهي
طرفه ومقدمه. المسألة الرابعة: قوله: وفي اللسان الدية أي إذا قطع من أصله كما هو ظاهر
الاطلاق وهذا مجمع عليه وكذا إذا قطع منه ما يمنع الكلام. وأما إذا قطع ما يبطل بعض
الحروف فحصته معتبرة بعدد الحروف وقيل بحروف اللسان فقط وهي ثمانية عشر حرفا
246

لا حروف الحلق وهي ستة وحروف الشفة وهي أربعة. والأول أولى لان النطق لا يتأتى إلا
باللسان. المسألة الخامسة: قوله: وفي الشفتين الدية واحدتهما شفة بفتح الشين وتكسر كما
في القاموس وحد الشفتين من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض الوجه وفي طوله
من أعلى الذقن إلى أسفل الخدين وهو مجمع عليه. واختلف إذا قطع إحداهما فذهب
الجمهور إلى أن كل واحدة نصف الدية على السواء. وروي عن زيد بن ثابت أن في العليا
ثلثا وفي السفلى ثلثين إذ منافعها أكثر لحفظها للطعام والشراب. السادسة: قوله وفي الذكر
الدية هذا إذا قطع من أصله وهو مجمع عليه فإن قطع الحشفة ففيها الدية عند مالك
وبعض الشافعية واختاره المهدي كمذهب الهادوية وظاهر الحديث أنه لا فرق بين العنين
وغيره والكبير والصغير وإليه ذهب الشافعي. وعند الأكثر أن في ذكر الخصي والعنين حكومة
السابعة: قوله: وفي البيضتين الدية وهو حكم مجمع عليه وفي كل واحدة نصف الدية.
وفي البحر عن علي رضي الله عنه وعن ابن المسيب رضي الله عنه أن في البيضة اليسرى
ثلثي الدية لان الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية. الثامنة: أن في الصلب الدية وهو
إجماع والصلب بالضم والتحريك عظم من لدن الكاهل إلى العجب بفتح العين المهملة
وسكون الجيم أصل الذنب كالصالبة قال تعالى: * (يخرج من بين الصلب والترائب) * فإن ذهب
المني مع الكسر فديتان. التاسعة: أفاد أن في العينين الدية وهو مجمع عليه وفي إحداهما نصف
الدية وهذا في العين الصحيحة واختلف في الأعور إذا ذهبت عينه بالجناية فذهبت الهادوية
والحنفية والشافعية إلى أنه يجب فيها نصف الدية إذ لم يفصل الدليل وهو هذا الحديث وقياسا
على من له يد واحدة فإنه ليس له إلا نصف الدية وهو مجمع عليه. وذهب جماعة من الصحابة
ومالك وأحمد إلى أن الواجب فيها دية كاملة لأنها في معنى العينين واختلفوا إذا جنى على عين
واحدة فالجمهور على ثبوت القود لقوله تعالى: * (والعين بالعين) * وعن أحمد أنه لا قود فيها.
العاشرة: قوله وفي الرجل الواحدة نصف الدية وحد الرجل التي تجب فيها الدية من مفصل
الساق فإن قطع من الركبة لزم الدية وحكومة في الزائد.
واعلم أنه ذكر البيهقي عن الزهري أنه قرأ في كتاب عمرو بن حزم: وفي الاذن خمسون من
الإبل قال: وروينا عن عمر وعلي أنهما قضيا بذلك. وروى البيهقي من حديث معاذ أنه
قال: وفي السمع مائة من الإبل وفي العقل مائة من الإبل وقال البيهقي: إسناده ليس
بقوي. قال ابن كثير: لأنه من رواية رشدين بن سعد المصري وهو ضعيف. قال زيد
ابن أسلم: مضت السنة أن في العقل إذا ذهب: الدية. رواه البيهقي. الحادية عشرة: أنه دل على
أن في المأمومة والجائفة وتقدم تفسيرهما في كل واحدة ثلث الدية قال الشافعي: لا أعلم خلافا
أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: قال في الجائفة ثلث الدية ذكره ابن كثير في الارشاد
وقال في نهاية المجتهد: اتفقوا على أن الجائفة من جراح الجسد لا من جراح الرأس وأنه لا يقاد منها
وأن فيها ثلث الدية وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن واختلفوا إذا وقعت في غير ذلك
من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه. فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة
247

إلى تجويف عضو من الأعضاء أي عضو كان ذلك العضو ثلث الدية واختار مالك. وأما سعيد
فإنه قاس ذلك على الجائفة على نحو ما روي عن عمر رضي الله عنه في موضحة الجسد. الثانية
عشرة: وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وتقدم تفسيرها. الثالثة عشرة: أفاد أن في كل أصبع عشرا
من الإبل سواء كانت من اليدين أو الرجلين فإن فيها عشرا وهو رأي الجمهور. وفي حديث
عمرو بن شعيب مرفوعا بلفظ: والأصابع سواء أخرجه أحمد وأبو داود. وقد كان لعمر
في ذلك رأي آخر ثم رجع إلى الحديث لما روي له. الرابعة عشرة: أنه يجب في كل سن خمس
من الإبل وعليه الجمهور وفيه خلاف ليس له دليل يقاوم الحديث. الخامسة عشرة: أنه يلزم في الموضحة
خمس من الإبل وإليه ذهب الهادوية والفريقان وفيه خلاف ليس له ما يقاوم النص.
فائدة روى البيهقي عن زيد بن ثابت أن في الهاشمة عشرا من الإبل وحكاه البيهقي عن
عدد من أهل العلم. وروى عبد الله بن أحمد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى
في رجل ضرب فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه بأربع ديات. رواه عبد الله بن أحمد.
وروى النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت
بثلث ديتها وفي السن السوداء إذا نزعت ب ثلث ديتها. ذكره ابن كثير في الارشاد. وأما قوله: وإن الرجل
يقتل بالمرأة فتقدم الكلام فيه.
2 - (وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دية
الخطأ أخماسا) أي تؤخذ أو تجب، بينه بقوله (عشرون حقة وعشرون جذعة
وعشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون بني لبون أخرجه
الدارقطني وأخرجه الأربعة بلفظ: وعشرون بنو مخاض بدل بني لبون وإسناد
الأول أقوى) أي من إسناد الأربعة فإن فيه خشف بن مالك الطائي قال الدارقطني: إنه
رجل مجهول وفيه الحجاج بن أرطاة.
واعلم أنه اعترض البيهقي على الدارقطني وقال: إن جعله لبني اللبون غلط منه ثم قال
البيهقي: والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن مسعود. والصحيح عن عبد الله أنه جعل أحد
أخماسها بني المخاض لا كما توهم شيخنا الدارقطني رحمه الله تعالى. والحديث دليل على أن دية
الخطأ تؤخذ أخماسا كما ذكر وإليه ذهب الشافعي ومالك وجماعة من العلماء وإلى أن
الخامس بنو لبون. وعن أبي حنيفة أنه بنو مخاض كما في رواية الأربعة. وذهب الهادي
وآخرون إلى أنها تؤخذ أرباعا بإسقاط بني اللبون واستدل له بحديث له لم يثبته الحفاظ وذهبوا
إلى أنها أرباع مطلقا. وذهب الشافعي ومالك إلى أن الدية تختلف باعتبار العمد وشبه العمد
والخطأ فقالوا: أنها في العمد وشبه العمد تكون أثلاثا كما في الخطأ. وأما التغليظ في الدية فإنه ثبت
عن عمرو عثمان رضي الله عنهما فيمن قتل في الحرم بدية وثلث تغليظ في الدية وثبت عن جماعة
القول بذلك ويأتي الكلام فيه. (وأخرجه) - أي حديث ابن مسعود - (ابن أبي شيبة من وجه آخر
موقوفا) على ابن مسعود (وهو أصح من المرفوع)،
248

3 - (وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (الدية ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة
في بطونها أولادها) وقد تقدم تفسير هذه الأسنان في الزكاة.
4 - (وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: إن أعتى)
بفتح الهمزة وسكون العين المهملة فمثناة فوقية فألف مقصورة اسم تفضيل من العتو وهو
التجبر (الناس على الله ثلاثة: من قتل في حرم الله، أو قتل غير قاتله،
أو قتل لذحل) بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة الثأر وطلب المكافأة بجناية
جنيت عليه من قتل أو غيره (الجاهلية. أخرجه ابن حبان في حديث صححه). الحديث دليل
على أن هؤلاء الثلاث أزيد في العتو على غيرهم من العتاة. الأول من قتل في الحرم فمعصية قتله
تزيد على معصية من قتل في غير الحرم وظاهره العموم لحرم مكة والمدينة، ولكن الحديث
ورد في غزاة الفتح في رجل قتل بالمزدلفة إلا أن السبب لا يخص به إلا أن يقال: الإضافة عهدية
والمعهود حرم مكة. وقد ذهب الشافعي إلى التغليظ في الدية على من وقع منه قتل الخطأ
في الحرم أو قتل محرما من النسب أو قتل في الأشهر الحرم. قال: لان الصحابة غلظوا في هذه
الأحوال. وأخرج السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه
إلا أن رجلا لو هم بعدن أن يقتل رجلا بالبيت الحرام إلا أذاقه الله تعالى من عذاب أليم "
وقد رفعه في رواية. قلت: وهذا مبني على أن الظرف في قوله تعالى: * (ومن يرد بإلحاد
بظلم نذقه من عذاب أليم) * متعلق بغير الإرادة بل بالالحاد وإن كانت الإرادة في غيره والآية
محتملة. وورد في التغليظ في الدية حديث عمرو بن شعيب مرفوعا بلفظ: عقل شبه العمد
مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء
في غير ضغينة ولا حمل سلاح رواه أحمد وأبو داود. والثاني: من قتل غير قاتله أي من كان
له دم عند شخص فيقتل رجلا آخر غير من عنده له الدم سواء كان له مشاركة في القتل
أو لا. الثالث قوله: أو قتل لذحل الجاهلية تقدم تفسير الذحل وهو العداوة أيضا وقد
فسر الحديث حديث أبي شريح الخزاعي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أعتى الناس من قتل غير
قاتله أو طلب بدم في الجاهلية من أهل الاسلام أو بصر عينه ما لم تبصر أخرجه البيهقي.
5 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله (ص) قال: ألا
إن دية الخطأ وشبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها
أربعون في بطونها أولادها أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان). قال
ابن القطان وهو صحيح ولا يضره الاختلاف. وتقدم الكلام في الحديث وإنما ذكره المصنف
تفسيرا للحديث الذي سلف من حديث عمرو بن شعيب وفيه تغليظ عقل الخطأ ولم
يبينه هنالك فبينه هنا.
6 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: هذه
249

وهذه سواء يعني الخنصر والابهام رواه البخاري ولأبي داود والترمذي) أي من
حديث ابن عباس (دية الأصابع سواء) هذا أعم من الأول (والأسنان سواء)
زاده بيانا بقوله: (الثنية والضرس سواء) فلا يقال الدية على قدر النفع والضرس أنفع
في المضغ (ولابن حبان) أي من حديث ابن عباس: (دية أصابع اليدين والرجلين سواء عشرة
من الإبل لكل إصبع) وقد قدمنا الكلام فهذا مستوفى.
7 - (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم رفعه قال: من تطبب) أي تكلف
الطب ولم يكن طبيبا كما يدل له صيغة تفعل. (ولم يكن بالطب معروفا فأصاب نفسا فما
دونها فهو ضامن أخرجه الدارقطني وصححه الحاكم وهو عند أبي داود والنسائي وغيرهما
إلا أن من أرسله أقوى ممن وصله). الحديث دليل على تضمين المتطبب ما أتلفه من نفس فما
دونها سواء أصاب بالسراية أو المباشرة وسواء كان عمدا أو خطأ وقد ادعي على هذا الاجماع.
وفي نهاية المجتهد: إذا أعنت أي المتطبب كان عليه الضرب والسجن والدية في ماله وقيل: على العاقلة.
واعلم أن المتطبب هو من ليس له خبرة بالعلاج وليس له شيخ معروف والطبيب الحاذق
هو من له شيخ معروف وثق من نفسه بجودة الصنعة وإحكام المعرفة. قال ابن القيم في الهدي
النبوي: إن الطبيب الحاذق هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمرا وسردها هنالك. قال
والطبيب الجاهل إذا تعاطى علم الطب أو علمه ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على ما لا يعلمه فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان وهذا
إجماع من أهل العلم. قال الخطابي: لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض
كان ضامنا والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه متعد، فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية
وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض. وجناية الطبيب على قول عامة أهل
العلم على عاقلته اه‍. وأما إعنات الطبيب الحاذق فإن كان بالسراية لم يضمن اتفاقا لأنها
سراية فعل مأذون فيه من جهة الشرع ومن جهة المعالج وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد
الفاعل في سببه كسراية الحد وسراية القصاص عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه
فإنه أوجب الضمان بها. وفرق الشافعي بين الفعل المقدر شرعا كالحد وغير المقدر كالتعزير
فيضمن في المقدر ويضمن في غير المقدر لأنه راجع إلى الاجتهاد فهو في مظنة العدوان. وإن
كان الإعنات بالمباشرة فهو مضمون عليه إن كان عمدا، وإن كان خطأ فعلى العاقلة.
8 - (وعنه) أي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أنه صلى الله عليه وسلم قال:
في المواضح) جمع موضحة (خمس خمس من الإبل رواه أحمد والأربعة. وزاد أحمد:
والأصابع سواء كلهن عشر عشر من الإبل وصححه ابن خزيمة وابن الجارود)
وهو يوافق ما تقدم في حديث كتاب عمرو بن حزم وموضحة الوجه والرأس سواء بالاجماع
إذ هما كالعضو الواحد.
9 - (وعنه) أي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (قال: قال رسول الله صلى
250

الله عليه وسلم: عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين رواه أحمد والأربعة
ولفظ أبي داود: دية المعاهد نصف دية الحر، وللنسائي: عقل المرأة مثل
عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها وصححه ابن خزيمة). لكنه قال ابن كثير
إنه من رواية إسماعيل بن عياش وهو إذا روى عن غير الشاميين لا يحتج به عند جمهور الأئمة
وهذا منه. قلت: تعنتوا في إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين وقبوله
في الشاميين والذي يرجح عند الظن قبوله مطلقا لثقته وضبطه وأنه لذلك صحح ابن
خزيمة هذه وهي عن إسماعيل عن ابن جريج وابن جريج ليس بشامي.
واعلم أنه اشتمل الحديث على مسألتين: الأولى في دية أهل الذمة، وههنا للعلماء ثلاثة
أقوال: الأول: أنها نصف دية المسلم كما أفاده الحديث. قال الخطابي في معالم السنن: ليس
في دية أهل الكتاب شئ أبين من هذا وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير
وهو قول مالك وابن شبرمة وأحمد بن حنبل. غير أن أحمد قال إذا كان القتل خطأ فإن
كان عمدا لم يقد به وتضاعف عليه اثني عشر ألفا. وقال أصحاب الرأي وسفيان الثوري:
ديته دية المسلم وهو قول الشعبي والنخعي ويروى ذلك عن عمر وابن مسعود وقال
الشافعي وإسحاق بن راهويه: ديته الثلث من دية المسلم اه‍. فعرفت أن دليل القول الأول
حديث الكتاب، واستدل للقول الثاني وهو قول الحنفية وإليه ذهب الهادوية بقوله تعالى: * (وإن
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله) * قالوا: فذكر الدية والظاهر فيها
الاكمال وبما أخرجه البيهقي عن ابن جريج عن الزهري عن أبي هريرة قال: كانت دية
اليهودي والنصراني في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل دية المسلمين، الحديث. وأجيب
بأن الدية مجملة وحديث الزهري عن أبي هريرة مرسل ومراسيل الزهري قبيحة وذكروا
آثارا كلها ضعيفة الاسناد. ودليل القول الثالث هو مفهوم قوله في حديث عمرو بن حزم
وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل فإنه دل على أن غير المؤمنة بخلافها وكأنه جعل بيان
هذا المفهوم ما أخرجه الشافعي نفسه عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قضى في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف وفي دية المجوسي بثمانمائة. ومثله عن عثمان
رضي الله عنه فجعل قضاء عمر رضي الله عنه مبينا للقدر الذي أجمله مفهوم الصفة. ولا
يخفى أن دليل القول الأول أقوى لا سيما وقد صحح الحديث إمامان من أئمة أهل السنة. المسألة الثانية
ما أفاده قوله: وللنسائي أي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: عقل المرأة مثل
عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها. وهو دليل على أن أرش جراحات المرأة يكون كأرش
الرجل إلى الثلث وما زاد عليه كان جراحتها مخالفة لجراحاته. والمخالفة بأن يلزم فيها
نصف ما يلزم في الرجل وذلك لان دية المرأة على النصف من دية الرجل لقوله صلى الله
عليه وسلم في حديث معاذ: دية المرأة على النصف من دية الرجل. وهو إجماع فيقاس عليه
مفهوم المخالفة من أرش جراحة المرأة على الدية الكاملة. وإلى هذا ذهب الجمهور من الفقهاء
251

وهو قول عمر وجماعة من الصحابة. وذهب علي رضي الله عنه والهادوية والحنفية والشافعية
إلى أن دية المرأة وجراحاتها على النصف من دية الرجل. وأخرج البيهقي عن علي أيضا أنه
كان يقول: جراحات النساء على النصف من دية الرجل فيما قل وكثر. ولا يخفى أنه قد صحح
ابن خزيمة حديث: إن عقل المرأة كعقل الرجل حتى يبلغ الثلث فالعمل به متعين والظن
به أقوى وبه قال فقهاء المدينة السبعة وجمهور أهل المدينة وهو مذهب مالك وأحمد ونقله
أبو محمد المقدسي عن عمر وابنه وقال: لا نعلم لهما مخالفا من الصحابة إلا عن علي رضي الله
عنه ولا نعلم ثبوته عنه. قال ابن كثير: قلت: هو ثابت عنه. وفي المسألة أقوال أخر بلا دليل ناهض.
10 - (وعنه) أي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد) بينه في حديث
أبي داود بلفظ مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها وتقدم (ولا يقتل
صاحبه) وبين شبه العمد بقوله: (وذلك أن ينزو الشيطان) النزو بفتح النون فزاي فواو
أي يثب (فتكون دماء بين الناس في غير ضغينة ولا حمل سلاح أخرجه
الدارقطني وضعفه). وأخرجه البيهقي بإسناده ولم يضعفه. والحديث دليل أنه إذا وقع الجراح
من غير قصد إليه ولم يكن بسلاح بل بحجر أو عصا أو نحوهما فإنه لا قود فيه وأنه شبه العمد
فيلزم فيه الدية مغلظة كما تقدم في دية العمد. وقد تقدم أن الدية في العمد وشبه العمد
تكون أثلاثا عند الشافعي ومالك وأنها أرباع عند الهادوية وتقدم ذلك. وأما أنها تكون
أخماسا كما أفاده حديث ابن مسعود الماضي في الخطأ فتقدم أنه قال به أصحاب الرأي وغيرهم،
وفيه دليل على إثبات شبه العمد وقدمنا أنه الحق.
- 11 (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قتل رجل رجلا على عهد رسول الله
(ص) فجعل النبي (ص) ديته اثنى عشر ألفا) بين البيهقي أن
المراد درهما. (رواه الأربعة ورجح النسائي وأبو حاتم إرساله). وقد أخرج البيهقي عن علي
رضي الله عنه وعائشة وأبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم مثل هذا. وإنما
رجح النسائي وأبو حاتم إرساله لما قاله البيهقي: إن محمد بن ميمون رواه عن سفيان بن عيينة
عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، إنما قال لنا فيه: عن ابن عباس مرة واحدة
وأكثر ما كان يقول: عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. قلت: وزيادة العدل
مقبولة وكونه مرة واحدة كاف في الرفع فإنه لو اقتصر عليها لحكم برفع الحديث فإرساله
مرارا لا يقدح في رفعه مرة واحدة. وإلى هذا ذهب أكثر العلماء. وذهب الهادوية وأهل
العراق أنها عشرة آلاف درهم واستدل له في البحر بقوله: لقول علي به وهو توقيف انتهى
إلا أنه لم يطرد هذا فيما ينقله عن علي رضي الله عنه بل تارة يقول مثل هذا وتارة يقول إن قول
علي اجتهاد ولا يلزمنا، ودعوى التوقيف غير صحيحة إذ مثل هذا فيه للاجتهاد مسرح.
12 - (وعن أبي رمثة) بكسر الراء وسكون الميم وبالمثلثة اسمه رفاعة بن يثربي بفتح
252

المثناة التحتية وسكون المثلثة فراء فموحدة فياء النسبة، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم،
وعداده في أهل الكوفة: (قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابني فقال: من هذا؟
فقلت: ابني وأشهد به قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه رواه النسائي
وأبو داود وصححه ابن خزيمة و ابن الجارود) وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث
عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يجني جان إلا
على نفسه ولا يجني جان على ولده. في الباب روايات أخر تعضده. والجناية الذنب
أو ما يفعله الانسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص. وفيه دلالة على أنه لا يطالب أحد
بجناية غيره سواء كان قريبا كالأب والولد وغيرهما، أو أجنبيا. فالجاني يطلب وحده بجنايته
ولا يطالب بجنايته غيره. قال الله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * فإن قلت: قد أمر
الشارع بتحمل العاقلة الدية في جناية الخطأ والقسامة. قلت: هذا مخصص من الحكم العام
وقيل: إن ذلك ليس من تحمل الجناية بل من باب التعاضد والتناصر فيما بين المسلمين.
باب دعوى الدم والقسامة
القسامة بفتح القاف وتخفيف المهملة مصدر أقسم قسما وقسامة. وهي الايمان تقسم
على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم وخص القسم على الدم بالقسامة.
قال إمام الحرمين: القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون وعند الفقهاء اسم للايمان.
وفي القاموس: القسامة الجماعة يقسمون على الشئ ويأخذونه أو يشهدون. وفي الضياء
القسامة الايمان تقسم على خمسين رجلا من أهل البلد أو القرية التي يوجد فيها القتيل لا يعلم
قاتله ولا يدعي أولياؤه قتله على أحد بعينه.
1 - (عن سهل بن أبي حثمة) بفتح المهملة وسكون المثلثة واسم أبي حثمة: عبد الله بن
ساعدة بن عامر أوسي أنصاري (عن رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة)
بضم الميم فحاء مهملة فمثناة تحتية مشددة فصاد مهملة (ابن مسعود خرجا إلى خيبر من جهد)
بضم الجيم وفتحها المشقة هنا (أصابهم فأتى محيصة) مغير الصيغة (فأخبر أن عبد الله بن
سهل قد قتل وطرح) مغيران أيضا (في عين فأتى) أي محيصة (يهود) اسم جنس يجمع
على يهدان فقال: أنتم والله قتلتموه قالوا والله ما قتلناه فأقبل هو وأخوه حويصة)
بضم المهملة وفتح الواو فمثناة تحتية فصاد مهملة مشددة (وعبد الرحمن بن سهل فذهب
محيصة ليتكلم) وكان أصغر من حويصة وفي رواية فبدأ عبد الرحمن يتكلم وكان أصغر
القوم: (فقال رسول الله صلى الله وسلم: كبر كبر) بلفظ الامر فيهما والثاني
تأكيد للأول (يريد السن) مدرج تفسير لقوله: كبر أي يتكلم من كان أكبر سنا (فتكلم
حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله (ص): إما أن يدوا) أي اليهود
(صاحبكم) أي عبد الله بن سهل (وإما أن يأذنوا بحرب فكتب) أي رسول الله
253

(ص): (إليهم في ذلك) أي فيما ذكر من أنهم قتلوا عبد الله (فكتبوا) أي اليهود
(إنا والله ما قتلناه فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم: (لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن
بن سهل: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم قالوا: لا) وفي رواية عند مسلم
قالوا: لم نحضر ولم نشهد. وفي بعض ألفاظ البخاري أنه قال لهم: تأتون بالبينة؟ قالوا: ما لنا
بينة فقال: أتحلفون؟ (قال: فتحلف لكم يهود قالوا: ليسوا مسلمين) وفي لفظ
قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. وفي لفظ: كيف نأخذ بأيمان كفار (فوداه رسول الله صلى
الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم مائة ناقة. قال سهل فلقد ركضتني منها ناقة حمراء.
متفق عليه). اعلم أن هذا الحديث أصل كبير في ثبوت القسامة عند القائلين بها وهم الجماهير
فإنهم أثبتوها وبينوا أحكامها. ونتكلم على مسائل: الأولى: أنها لا تثبت القسامة بمجرد دعوى
القتل على المدعى عليهم من دون شبهة إجماعا وقد روي عن الأوزاعي وداود ثبوتها من
غير شبهة، ولا دليل لهما. واختلف العلماء في الشبهة التي تثبت بها القسامة فمنهم من جعل
الشبهة اللوث وهو كما في النهاية أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت أن
فلانا قتلني أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما أو تهديد له منه أو نحو ذلك. ومن اللوث
التلطخ ومنهم من لم يشترطه كالهادوية والحنفية فإنهم قالوا: وجود الميت وبه أثر القتل
في محل يختص بمحصورين تثبت به القسامة عندهم إذا لم يدع المدعي على غيرهم. قالوا
لان الأحاديث وردت في مثل هذه الحالة، ورد بأن حديث الباب أصح ما ورد وفيه
دليل على اللوث وحقيقته شبهة يغلب الظن بالحكم بها كما فصله في النهاية وهو هنا العداوة.
فلهذا ذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يثبت بهذا قسامة إلا إذا كان بين المقتول والمدعى عليهم
عداوة كما كان في قصة خيبر قالوا: فإنه يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محل طائفة لينسب
إليهم. وقد عدوا من صور اللوث قول المقتول قبل وفاته: قتلني فلان. وقال مالك: إنه يقبل
قوله وإن لم يكن به أثر أو يقول جرحني ويذكر العمد. وادعى مالك أنه مما أجمع عليه الأئمة
قديما وحديثا ورده ابن العربي بأنه لم يقله من فقهاء الأمصار غيره وتبعه عليه الليث. واحتج
مالك بقصة بقرة بني إسرائيل فإنه أحيي الرجل وأخبر بقاتله. وأجيب: بأن ذلك معجزة لنبي
وتصديقها قطعي. قلت: ولأنه أحياه الله بعد موته فعين قاتله فإذا أحيا الله مقتولا بعد موته
وعين قاتله قلنا به ولا يكون ذلك أبدا. واحتج أصحابه بأن القاتل يطلب غفلة الناس فلو لم
يقبل خبر المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبا وأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق
ويتجنب الكذب والمعاصي ويتحرى التقوى والبر فوجب قبول قوله ولا يخفى ضعف
هذه الاستدلالات. وقد عدوا صور اللوث مبسوطة في كتبهم. المسألة الثانية: أنه بعد ثبوت
ما ذكر من القتل وكل على أصله تثبت دعوى أولياء القتيل القسامة فتثبت أحكامها فمنها
القصاص عند كمال شروطها لقوله في الحديث: تستحقون قتيلكم أو صاحبكم بأيمان خمسين
منكم على رجل منهم فيدفع برمته وقوله: دم صاحبكم في لفظ مسلم: يقسم خمسون
منكم على رجل منهم فيدفع برمته وإن كان قوله: إما أن بدوا صاحبكم الحديث، يشعر
254

بعدم القصاص إلا أن هذا التصريح في رواية مسلم أقوى في القول بالقصاص وهذا مذهب
أهل المدينة فإن كانت الدعوى على واحد معين ثبت القود عليه وإن كانت على جماعة
حلفوا وثبتت عليهم الدية عند الشافعية. وفي قول يجب عليهم القصاص والأول الصحيح
عنه. فإن كان الوارث واحدا حلف خمسين يمينا فإن الايمان لازمة للورثة ذكورا كانوا
أو إناثا عمدا كان أو خطأ، هذا مذهب الشافعي. ومنها أن يبدأ بأيمان المدعي في القسامة
بخلاف غيرها من الدعاوي كما في هذه الرواية ويدل له حديث أبي هريرة: البينة على
المدعي واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة وفي إسناده لين إلا أنه قد أخرجه
البيهقي من حديث عمرو بن شعيب ولم يتكلم فيه. قالوا: ولان جنبة المدعي إذا قويت
بشهادة أو شبهة صارت اليمين له وهنا الشبهة قوية فصار المدعي في القسامة مشابها للمدعى
عليه المتأيد بالبراءة الأصلية. وذهبت الهادوية والحنفية وآخرون إلى أنه يحلف المدعى عليه
ولا يمين على المدعين فيحلف خمسون رجلا من أهل القرية ما قتلناه ولا علمنا قاتله وإلى
هذا جنح البخاري وذلك لان الروايات اختلفت في ذلك في قصة الأنصار ويهود خيبر
فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه من أن اليمين على المدعى عليه. فإن حلفوا فهل تلزمهم الدية أم لا؟
ذهبت الهادوية إلى أنها تلزمهم الدية بعد الايمان. وذهب آخرون إلى أنهم إذا حلفوا خمسين
يمينا برئوا ولادية عليهم وعليه تدل قصة أبي طالب الآتية. واستدل الجماعة المذكورة ومن
معهم في إيجاب الدية بأحاديث لا تقوم بها حجة لعدم صحة رفعها عند أئمة هذا الشأن وقوله
فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده. وفي لفظ: إنه وداه من إبل الصدقة
فقيل: المراد به أنه اقترضها منها وأنه لما تحملها صلى الله عليه وسلم للاصلاح بين الطائفتين كان
حكمها حكم القضاء عن الغارم لما غرمه لاصلاح ذات البين فلم يأخذها صلى الله عليه وعلى وسلم
لنفسه فإن الصدقة لا تحل له ولكن جرى إعطاء الدية منها مجرى إعطائها في الغرم لاصلاح
ذا ت البين. وأما من قال: إنه صلى الله عليه وسلم أعطى ذلك من سهم الغارمين فلا يصح
فإن غارم أهل الذمة لا يعطى من الزكاة كذا قيل. قلت: وفيه نظر فإن اليهود لم تلزمهم الدية
لأنه لم يحلف المدعون كما عرفت فما وداه صلى الله عليه وسلم إلا تبرعا منه لئلا يهدر دمه.
وأما رواية النسائي: أنه صلى الله عليه وسلم قسمها على اليهود وأعانهم ببعضها فقال ابن القيم:
إن هذا ليس بمحفوظ فإنه الدية لا تلزم المدعى عليهم بمجرد دعوى القتيل بل لا بد من إقرار
أو بينة أو أيمان لمدعين ولم يوجد هنا شئ من ذلك. وقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
على المدعين أن يحلفوا فأبوا فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى؟ انتهى. قلت: ويظهر
لي أنه ليس في هذا الحديث حكم منه صلى الله عليه وسلم بالقسامة أصلا كما أفاده الحديث،
وإنما دل الحديث على حكاية للواقع لا غير وذكر لهم (ص) قصة الحكم على
التقديرين ومن ثمة كتب إلى يهود بعد أن دار بينهم الكلام المذكور وسيأتي تحقيقه. وقوله
فكتبوا إنا والله ما قتلناه فيه دليل على الاكتفاء بالمكاتبة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة.
فائدة اختار مالك إجراء هذه الدعوى في الأموال فأجاز شهادة المسلوبين على
255

السالبين وإن كانوا مدعين قال: لان قاطع الطريق إنما يفعل ذلك مع الغفلة والانفراد عن
الناس انتهى. ولا يخفى أنه لا يتم هذا إلا بعد ثبوت أنه (ص) حكم بالقسامة
وعرفناك هنا عدم نهوض ذلك وسنزيده بيانا عن قريب. وإذا ثبت فهذا قياس مالك
مصادم لنص البينة على المدعي واليمين على المنكر إلا أن يكون مذهبه جواز تخصيص عموم
النص بالقياس وللعلماء كلام في حجية العام بعد تخصيصه.
2 - (وعن رجل من الأنصار: أن رسول الله (ص) أقر القسامة على ما كانت
عليه في الجاهلية وقضى بها رسول الله (ص) بين ناس من الأنصار في قتيل
ادعوه على اليهود رواه مسلم). قوله: على ما كانت عليه في الجاهلية كأنه أشار إلى ما أخرجه
البخاري في قصة الهاشمي في الجاهلية وفيها أن أبا طالب قال للقاتل: اختر منا إحدى
ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا خطأ وإن شئت حلف
خمسون من قومك أنك لم تقتله وإن أبيت قتلناك به. وفيه دليل على ثبوت القتل بالقسامة
واعلم أنا قد أشرنا إلى أنه لم يثبت القسامة إلا الجماهير كما قررناه عنهم. وذهب سالم
بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وأبو قلابة وابن علية والناصر إلى عدم شرعيتها لمخالفتها الأصول
المقررة شرعا. فإن الأصل أن البينة على المدعي عليه. وبأن الايمان
لا تأثير لها في إثبات الدماء وبأن الشرع ورد بأنه لا يجوز الحلف إلا على ما علم قطعا أو
شوهد حسا. وبأنه (ص) لم يحكم بها وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف بهم
رسول الله (ص) ليريهم كيف لا يجري الحكم بها على أصول الاسلام. وبيان
أنه لم يحكم بها أنهم لما قالوا له: وكيف نحلف ولم نحضر ولم نشاهد؟ لم يبين لهم أن هذا
الحلف في القسامة من شأنه ذلك وأنه حكم الله فيها وشرعه بل عدل إلى قوله: يحلف لكم
يهود؟ فقالوا: ليسوا بمسلمين فلم يوجب صلى الله عليه وسلم عليهم ويبين لهم أن ليس لكم
إلا اليمين من المدعى عليهم مطلقا مسلمين كانوا أو غيرهم بل عدل إلى إعطائه الدية من عنده
صلى الله عليه وسلم. ولو كان الحكم ثابتا بها لبين وجهه لهم بل تقريره صلى الله عليه وسلم لهم
على أنه لا حلف إلا على شئ مشاهد مرئي دليل على أنه لا حلف في القسامة. ولأنه لم يطلب
صلى الله عليه وسلم اليهود للإجابة عن خصومهم في دعواهم. فالقصة منادية بأنه لم تخرج
مخرج الحكم الشرعي إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فهذا أقوى دليل بأنها
ليست حكما شرعيا. وإنما تلطف صلى الله عليه وسلم في بيان أنها ليست بحكم شرعي بهذا
التدريج المنادي بعدم ثبوتها شرعا وأقرهم صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يحلفون على ما لا يعلمونه
ولا شاهدوه ولا حضروه. ولم يبين لهم بحرف واحد أن أيمان القسامة من شأنها أن تكون على
ما لا يعلم. وبذا تعرف بطلان القول بأن في القصة دليلا على الحكم على الغائب إذ لا حكم فيها
أصلا. وبطلان الجواب عن كونها مخالفة للأصول بأنها مخصصة من الأصول لان القسامة
سنة مستقلة بنفسها منفردة مخصصة للأصول كسائر المخصصات للحاجة إلى شرعيتها حياطة
256

لحفظ الدماء وردع المعتدين. ووجه بطلانه أنه فرع ثبوت الحكم بها عن الشارع فلو ثبت
الحكم بها لكان هذا جوابا حسنا. وأما ما في حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم: أقر القسامة
على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود
فهو إخبار عن القصة التي في حديث سهل بن أبي حثمة وقد عرفت أنه صلى الله عليه
وسلم لم يقض بها فيه كما قررناه. وقد عرفت من حديث أبي طالب أنها كانت في الجاهلية
على أن يؤدي الدية القاتل لا العاقلة كما قال أبو طالب: (إما أن تؤدي مائة من الإبل) فإنه
ظاهر أنها من ماله لا من عاقلته أو يحلف خمسون من قومك أو تقتل. وهنا في قصة خيبر
لم يقع شئ من ذلك فإن المدعى عليهم لم يحلفوا ولم يسلموا الدية ولم يطلب منهم الحلف.
وليس هذا قدحا في رواية الراوي من الصحابة بل في استنباطه لأنه قد أفاد حديثه أنه استنبط
قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة من قصة أهل خيبر وليس في تلك القصة قضاء
وعدم صحة الاستنباط جائز على الصحابي وغيره اتفاقا وإنما روايته للحديث بلفظه أو بمعناه
هي التي يتعين قبولها. وأما قول أبي الزناد: قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون إني لأرى أنهم
ألف رجل فما اختلف منهم اثنان فإنه قال في فتح الباري: إنما نقله أبو الزناد عن خارجة
بن زيد بن ثابت كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن
أبيه وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرة من الصحابة فضلا عن ألف اه‍. قلت:
لا يخفى أنه تقرير لما رواه أبو الزناد لثبوت ما رواه عن خارجة بن زيد الفقيه وإنما دلس
أبو الزناد بقوله قتلنا: وكأنه يريد معشر المسلمين وإن لم يحضرهم ثم لا يخفى أن غايته بعد
ثبوته عن خارجة فعل جماعة من الصحابة وليس بإجماع حتى يكون حجة. ولا شك
في ثبوت فعل عمر بالقسامة وإن اختلف عنه في القتل بها وإنما نزاعنا في ثبوت حكمه صلى الله
عليه وسلم بها فإنه لم يثبت.
باب قتال أهل البغي
البغي مصدر بغى عليه بفتح المعجمة بغيا بفتح الموحدة وسكون المعجمة علا وظلم
وعدل عن الحق وله معان كثيرة وذكر الشارح رحمه الله معناه الاصطلاحي هنا وساقه
على اصطلاح الهادوية وقد أبنا ما فيه في حواشي ضوء النهار ولم نذكره هنا لعدم انطباق
الأحاديث عليه.
1 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): من
حمل علينا السلاح فليس منا متفق عليه). أي من حمله لقتال المسلمين بغير حق
كني بحمله عن المقاتلة إذ القتل لازم لحمل السيف في الأغلب ويحتمل أنه لا كناية فيه
257

وأن المراد حمله حقيقة لإرادة القتال ويدل له قوله: علينا وقوله: فليس منا تقدم بيانه بأن
المراد ليس على طريقتنا وهدينا. فإن طريقته صلى الله عليه وسلم نصر المسلم والقتال دونه
لا ترويعه وإخافته وقتاله. وهذا في غير المستحل فإن استحل القتال للمسلم بغير حق فإنه
يكفر باستحلاله المحرم القطعي. والحديث دليل على تحريم قتال المسلم والتشديد فيه وأما قتال
البغاة من أهل الاسلام فإنه خارج من عموم هذا الحديث بدليل خاص.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من
خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فميتته ميتة) بكسر الميم مصدر نوعي
(جاهلية أخرجه مسلم). قوله عن الطاعة: أي طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه
وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الاسلامية
من أثناء الدولة العباسية بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم. إذ لو حمل الحديث على
خليفة اجتمع عليه أهل الاسلام لقلت فائدته. وقوله: وفارق الجماعة أي خرج عن
الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم واجتمعت به كلمتهم وحاطهم عن عدوهم
. قوله: فميتته ميتة جاهلية أي منسوبة إلى أهل الجهل والمراد به من مات على الكفر قبل
الاسلام وهو تشبيه لميتة من فارق الجماعة بمن مات على الكفر بجامع أن الكل لم يكن
تحت حكم إمام فإن الخارج عن الطاعة كأهل الجاهلية لا إمام له. وفي الحديث دليل على
أنه إذا فارق أحد الجماعة ولم يخرج عليهم ولا قاتلهم أنا لا نقاتله لنرده إلى الجماعة ويذعن
للامام بالطاعة. بل نخليه وشأنه لأنه لم يأمر (ص) بقتاله بل أخبر عن حال
موته وأنه كأهل الجاهلية ولا يخرج بذلك عن الاسلام. ويدل له ما ثبت من قول علي رضي
الله عنه للخوارج: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا
ولا تظلموا أحدا فإن فعلتم نفذت إليكم بالحرب. وهذا ثابت عنه بألفاظ مختلفة. أخرجه
أحمد والطبراني والحاكم من طريق عبد الله بن شداد. قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم
حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام. فدل على أن مجرد الخلاف على الامام لا يوجب
قتال من خالفه.
3 - (وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (ص): تقتل
عمارا الفئة الباغية رواه مسلم). تمامه في مسلم: يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار.
قال ابن عبد البر: تواترت الاخبار بهذا وهو من أصح الحديث، وقال ابن دحية: لا مطعن
في صحته ولو كان غير صحيح لرده معاوية. وإنما قال معاوية: قتله من جاء به ولو كان
فيه شك لرده وأنكره حتى أجاب عمرو بن العاص على معاوية فقال: فرسول الله صلى الله
عليه وسلم قتل حمزة؟. وأمما نقله المصنف في التلخيص وتبعه الشارح في نقله من أنه نقل
ابن الجوزي عن خلاد في العلل أنه حكى عن أحمد أنه قال: قد روي هذا الحديث من
258

ثمانية وعشرين طريق ليس فيها طريق صحيح. وحكى أيضا عن أحمد وابن معين وابن أبي
خيثمة أنهم قالوا: لم يصح. فقد أجاب السيد محمد بن إبراهيم الوزير عن هذا بقوله:
الاسترواح إلى ذكر هذا الخلاف الساقط من غير بيان لبطلانه من مثل ابن حجر عصبية
شنيعة. فأما ابن الجوزي فلم يعرف هذا الشأن وقد ذكر الذهبي في ترجمته في التذكرة كثرة
خطئه في مصنفاته فهو أجهل وأحقر من أن ينتهض لمعارضة أئمة الحديث وفرسانه وحفاظه
كابن عبد البر والبخاري ومسلم والحميدي. وقد رواه كاملا أبو داود والترمذي والذهبي والحاكم
وابن خزيمة والقرطبي والإسماعيلي والبرقاني وأمثالهم، وقد ذكر جملة منهم تواتره وصحته وجماعة
منهم إجماع أهل السنة وأهل الفقه وأهل العلم على ذلك. وذكره القرطبي في آخر تذكرته
والحاكم في علوم الحديث له وحكاه ابن خزيمة - المعروف بإمام الأئمة - ولم يحك أحد
عنهم خلافا في ذلك. وأما الذهبي فإنه حقق صحة دعواه بما أورده من الطرق الصحيحة الجمة.
والمنع من الصحة بمجرد العصبية من غير حجة صنيع من لا علم له بل من لا عقل له ولا حياء.
انتهى. قلت: ولا يخفى أن ابن الجوزي نقل عن أحمد عدم صحته وليس له هو قدح في صحته
حتى يقال إنه أحقر من أن ينتهض لمعارضة أئمة الحديث وفرسانه وحفاظه. فالأولى في الجواب
عن نقل أب أن الجوزي ما قاله السيد محمد أيضا أنه قد روى يعقوب بن شيبة الامام الثقة
الحافظ عن أحمد بن حنبل أنه قال فيه: إنه حديث صحيح سمعه عنه يعقوب وقد سئل عنه.
ذكره الذهبي في ترجمة عمار في النبلاء. ويؤيده أنه رواه أحمد عن جماعة كثير من الصحابة
وكان يرى الضرب على روايات الضعاف والمنكرات وهذا يدل على بطلان ما حكاه ابن
الجوزي وإلا فغايته أنه قد تعارض عن أحمد القولان فيطرح، وفي تصحيح غيره ما يغني
عنه كما لا يخفى. وأما الحكاية عن ابن معين وابن أبي خيثمة فإنه رواها المصنف بصيغة
التمريض ولم ينسبها إلى راو فيتكلم عليها. والحديث دليل على أن الفئة الباغية معاوية ومن
في حزبه. والفئة المحقة علي رضي الله عنه ومن في صحبته، وقد نقل الاجماع من أهل السنة
بهذا القول جماعة من أئمتهم كالعامري وغيره وأوضحناه في الروضة الندية.
4 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): هل
تدري يا ابن أم عبد) هو ابن مسعود لأنه المعروف بذلك وكأنه رواه عنه ابن عمر
رضي الله عنهما أو سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه (كيف حكم الله فيمن بغى
من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم قال: لا يجهز على جريحها) أي لا يتمم
قتل من كان جريحا من البغاة (ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم
فيؤها. رواه البزار والحاكم وصححه فوهم فإن في إسناده كوثر) بفتح الكاف وسكون الواو
ومثلثة مفتوحة فراء (ابن حكيم وهو متروك وصح عن علي نحوه من طرق موقوفا. أخرجه
ابن أبي شيبة والحاكم). في الميزان: كوثر بن حكيم عن عطاء ومكحول وهو كوفي نزل حلب
قال ابن معين: ليس بشئ وقال أحمد بن حنبل: أحاديثه بواطيل انتهى. قال ابن عدي
259

هذا حديث غير محفوظ وأما الرواية عن علي عليه السلام فرواها البيهقي وغيره. وفي الحديث
مسائل: الأولى: جواز قتال البغاة وهو إجماع لقوله تعالى: * (فقاتلوا التي تبغي) *. قلت: والآية
دالة على الوجوب وبه قالت الهادوية ولكن شرطوا ظن الغلبة. وعند جماعة من العلماء أن
قتالهم أفضل من قتال الكفار. قالوا: لما يلحق المسلمين من الضرر منهم.
واعلم أنه يتعين أولا قبل قتالهم دعاؤهم إلى الرجوع عن البغي وتكرير الدعاء كما فعل
علي رضي الله عنه في الخوارج فإنهم لما فارقوه أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع منهم
أربعة آلاف وكانوا ثمانية آلاف وبقي أربعة أبوا أن يرجعوا وأصروا على فراقه فأرسل إليهم
كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا "
فقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بقروا بطن سريته وهي
حبلى وأخرجوا ما في بطنها فبلغ عليا كرم الله وجهه فكتب إليهم: أقيدونا بقاتل عبد الله
بن خباب فقالوا: كلنا قتله، فأذن حينئذ في قتالهم وهي روايات ثابتة ساقها المصنف
في فتح الباري. المسألة الثانية: أنه لا يجهز على جريحها، وهو من أجهز على الجريح وجهز
أي بت قتله وأسرعه وتمم عليه ودليله قوله: ولا يجهز على جريحها. وأخرج البيهقي أن
عليا عليه السلام قال لأصحابه يوم الجمل: إذا ظهرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجهزوا
على جريح وانظروا ما حضرت به الحرب من آلته فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثته قال
البيهقي: هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا. ودل الحديث أيضا على
أنه لا يقتل أسير البغاة قالوا: وهذا خاص بالبغاة لان قتالهم إنما هو لدفعهم عن المحاربة.
ودل الحديث أيضا على أنه لا يطلب هاربها وظاهره ولو كان متحيزا إلى فئة وإلى هذا
ذهب الشافعي. قال: لان القصد دفعهم في تلك الحال وقد وقع. وذهبت الهادوية والحنفية
إلى أن الهارب إلى فئة يقتل إذ لا يؤمن عوده، والحديث يرد هذا القول وكذا ما تقدم من
كلام علي عليه السلام. المسألة الثالثة: قوله: لا يقسم فيؤها أي لا يغنم فيقسم، دال على أن
أموال البغاة لا تغنم وإن أجلبوا بها إلى دار الحرب وإلى هذا ذهبت الشافعية والحنفية وأيد
هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه. وقد صحح
البيهقي أن عليا عليه السلام لم يأخذ سلبا فأخرجه عن الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه
عليا عليه السلام: كان لا يأخذ سلبا. وأخرج أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جعفر بن محمد
عن أبيه: أن عليا عليه السلام يوم البصرة لم يأخذ من متاعهم شيئا. وأخرج عن أبي أمامة قال
شهدت يوم صفين وكانوا لا يجهزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا. وذهبت
الهادوية إلى أنه يغنم ما أجلبوا به من مال وآلة حرب ويخمس لقول علي عليه السلام: لكم
المعسكر وما حوى. وأجيب بأن الحديث مصرح بأنها لا تغنه وبأن ما ذكرناه عن علي عليه السلام
مما يوافق الحديث أكثر وأقوى طريقا. المسألة الرابعة: يؤخذ من اطلاق قوله: ولا يجهز على
جريحها أنه لا يضمن البغاة ما أتلفوا في القتال من الدماء والأموال وإليه ذهب الامام يحيى
260

والحنفية واستدل أيضا بقوله تعالى: * (حتى تفئ إلى أمر الله) * ولم يذكر ضمانا وبما أخرجه
البيهقي عن ابن شهاب قال: هاجت الفتنة الأولى فأدركت الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم كانوا يرون أن يهدر أمر
الفتنة ولا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سباء امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينها وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها
أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد فتنقضي عدتها من زوجها
الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول. قلت: وهذا وإن لم يكن إجماعا فإنه مقو للبراءة
الأصلية إذا الأصل أن أموال المسلمين ودماءهم معصومة. وذهب الشافعي وحكي عن
الهادوية إلى أنه يقتص ممن قتل من البغاة واستدلوا بعموم الآيات والأحاديث نحو * (ومن قتل
مظلوما وقد جعلنا لوليه سلطانا) * وحديث: من اعتبط مسلما بقتل عن بينة فهو قود وأجيب
بأنها عمومات خصت بما ذكر من أدلة أهل القول الأول.
5 - (وعن عرفجة) بضم العين وسكون الراء وضم الفاء وجيم (ابن شريح)
بالشين المعجمة مصغر شرح وقيل بالمهملة (قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقوله: من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه أخرجه
مسلم). ورواه مسلم بلفظ: سمعت رسول الله (ص) يقول: ستكون هنات وهنات
فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان. وفي لفظ
فاقتلوه وفي لفظ: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق
جماعتكم فاقتلوه. وأخرج الشيخان واللفظ للبخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال
من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة
جاهلية. وفي لفظ: من خرج عن السلطان شبرا مات ميتة جاهلية. دلت هذه الألفاظ على
أن من خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين والمراد أهل قطر - كما قلناه - فإنه قد
استحق القتل لادخاله الضرر على العباد. وظاهره سواء كان جائرا أو عادلا وقد جاء
في أحاديث تقييد ذلك بما أقاموا الصلاة. وفي لفظ: ما لم تروا كفرا بواحا. وقد حققنا هذه
المباحث في منحة الغفار حاشية ضوء النهار تحقيقا تضرب إليه آباط الإبل والحمد الله المنعم
المتفضل.
باب قتال الجاني وقتل المرتد
1 - (عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ص):
من قتل دون ماله فهو شهيد رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه)
وأخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأخرجه أصحاب السنن وابن حبان
والحاكم من حديث سعيد بن زيد. وفي الحديث دليل على جواز المقاتلة لمن قصد أخذ مال
261

غيره بغير حق قليلا كان المال أو كثيرا وهذا قول الجماهير. وقال بعض المالكية:
لا يجوز القتال على أخذ القليل من المال. قال القرطبي: سبب الخلاف في ذلك هل القتال
لدفع المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال
في ذلك؟. وحكى ابن المنذر عن الشافعي رضي الله عنه: أن من أريد ماله أو نفسه أو حريمه
ولم يمكنه الدفع إلا بالقتل فله ذلك وليس عليه قود ولا دية ولا كفارة. لكن ليس له أن
يقصد القتل من غير تفصيل. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما
ذكر إذا أريد ظلما بغير تفصيل إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين
على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيامة عليه. وفرق الأوزاعي
بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها. وأما في حال الخلاف والفرقة
فليستسلم ولا يقاتل أحدا. قلت: ويؤيد ما قاله ابن المنذر عن أهل العلم ما أخرجه مسلم
من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه.
قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن
قتلته؟ قال: فهو في النار. وظاهر الحديث إطلاق الأحوال. قلت: هذا في جواز قتال من
يأخذ المال فهل يجوز له أي لمن يراد أخذ ماله ظلما الاستسلام وترك المنع بالقتال الظاهر
جوازه. ويدل له حديث: فكن عبد الله المقتول فإنه دال على جواز الاستسلام في النفس
والمال بالأولى فيحمل قوله هنا: ولا تعطه على أنه نهي لغير التحريم.
2 - (وعن عمران بن حصين قال: قاتل يعلى بن أمية رجلا فعض أحدهما صاحبه
فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
أيعض أحدكم) بفتح حرف المضارعة والعين المهملة ماضية عضض بكسر الضاء
الأولى يعضض بفتحها في المضارع فأدغمت ونقلت حركتها إلى ما قبلها (أخاه كما
يعض الفحل) أي الذكر من الإبل (لا دية له متفق عليه واللفظ لمسلم). اختلف
في العاض والمعضوض منهما فقال الحافظ: الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى لا يعلى
قيل: فيتعين أن يكون يعلى هو العاض. وفي الحديث دليل على أن هذه الجناية التي وقعت
لأجل الدفع عن الضرر تهدر ولا دية على الجاني وإلى هذا ذهب الجمهور. وقالوا: لا يلزمه
شئ لأنه في حكم الصائل. واحتجوا أيضا بالاجماع على أن من شهر على آخر سلاحا ليقتله
فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شئ عليه. قالوا: ولو جرحه المعضوض في محل آخر
من بدنه لم يلزمه شئ. وشرط الاهدار أن يتألم المعضوض وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك
من ضرب شدقه أو فك لحييه ليرسلهما ومهما أمكن التخلص بدون ذلك فعدل عنه إلى
الأثقل لم يهدر. وللشافعية وجه أنه يهدر على الاطلاق ودليل شرط الاهدار بما ذكر
مأخوذ من القواعد الكلية في الشرع وإلا فلا يفيده الحديث. فإن كان لعض في موضع آخر
من البدن جرى فيه هذا الحكم قياسا.
262

3 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:
لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن
عليك جناح متفق عليه). دل الحديث على تحريم الاطلاع على الغير بغير إذنه وعلى
أن من اطلع قاصدا للنظر إلى محل غيره مما لا يجوز الدخول إليه إلا بإذن مالكه فإنه يجوز
للمطلع عليه دفعه بما ذكر، وإن فقأ عينه فإنه لا ضمان عليه (وفي لفظ لأحمد والنسائي وصححه
ابن حبان: فلا دية له ولا قصاص). وأما إذا كان مأذونا بالنظر فالجناح غير مرفوع على من
جنى على الناظر. وكذا لو كان المنظور إليه في محل لا يحتاج إلى الاذن ولو نظر منه ما لا يحل
له النظر إليه لان التقصير من المنظور إليه وإلى هذا ذهب الشافعي وغيره. والخلاف فيه
للمالكية قال يحيى بن يعمر من المالكية: لعل مالكا لم يبلغه الخبر. وقال ابن دقيق العيد: تصرف الفقهاء في الحكم بأنواع من التصرفات: منها: أنه يفرق بين أن يكون هذا الناظر واقعا
في الشارع أو في خالص ملك المنظور إليه أو في سكة منسدة الأسفل اختلفوا فيه: والأشهر أنه
لا فرق. ولا يجوز مد العين إلى حرم الناس بحال وفي وجه للشافعية أنه لا تفقأ إلا عين
من وقف في ملك المنظور إليه والحديث مطلق. ومنها: أنه هل يجوز رمي الناظر قبل الانذار
والنهي؟ فيه وجهان للشافعية أحدهما: لا، والثاني: نعم. قلت: وهو الذي يدل له الحديث
ويؤيده الحديث الآخر: أنه صلى الله عليه وسلم جعل يختل المطلع عليه ليطعنه. والختل
فسره في النهاية بقوله: يراوده ويطلبه من حيث لا يشعر. وفي الحديث دليل أنه إنما يباح له
قصد العين بشئ خفيف كالمدرى والبندقة والحصاة لقوله: (فحذفته). قال الفقهاء: فأما لو رماه
بالنشاب أو بحجر يقتله فقتله فهذا قتيل يتعلق به القصاص أو الدية. ومما تصرف فيه الفقهاء
أن هذا الناظر إذا كان له محرم في الدار أو زوجة أو متاع لم يجز قصد عينه لأنه له في النظر
شبهة. وقيل: لا يكفي إذا كان له في الدار محرم بل إنما يمتنع قصد عينه إذا لم يكن في الدار إلا
محارمه. ومنها: إذا لم يكن في الدار إلا صاحبها فله الرمي إن كان مكشوف العورة ولا ضمان
وإلا فوجهان: أظهرهما لا يجوز رميه. ومنها: أن الحريم إذا كن في الدار مستترات أو في بيت
ففي وجه لا يجوز قصد عينه لأنه لا يطلع على شئ قال بعض الفقهاء: والأظهر الجواز
لاطلاق الاخبار، وأنه لا تنضبط أوقات الستر والتكشف، والاحتياط حسم الباب. ومنها أن
ذلك إنما يكون إذا لم يقصر صاحب الدار فإن كان بابه مفتوحا أو ثم كوة واسعة أو ثلمة
مفتوحة فينظر، فإن كان مجتازا لم يجز قصده وإن كان وقف وتعمد فقيل: لا يجوز قصده
لتفريط صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة. وقيل: يجوز لتعديه بالنظر. وأجرى هذا
الخلاف فيما إذا نظر من سطح بيته أو نظر المؤذن من المئذنة لكن الأظهر ههنا عندهم
جواز الرمي لأنه لا تقصير من صاحب الدار ثم قال: واعلم أن ما كان من هذه التصرفات
الفقهية داخلا تحت إطلاق الحديث فهو مأخوذ منها، وما ا فبعضه مأخوذ من فهم المعنى
المقصود بالحديث، وبعضه مأخوذ من القياس وهو قليل فيما ذكر انتهى كلامه.
263

واعلم أنه يؤخذ من هذا الحديث صحة قول الفقهاء إنها تهدم الصوامع المحدثة المعورة
وكذا تعلية الملك إذا كانت معورة وهو محكي عن القاسم الرسي وهو رأي عمر، فإنه
أخرج عنه ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن يزيد بن أبي حبيب قال: أول من بنى غرفة
بمصر خارجة بن حذافة فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى عمرو
بن العاص: سلام عليك أما بعد، فإنه بلغني أن خارجة بن حذافة بنى غرفة ولقد أراد
أن يطلع على عورات جيرانه فإذا أتاك كتابي هذا فاهدمها إن شاء الله تعالى والسلام.
4 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قضى رسول الله (ص)
أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية
ما أصابت ماشيتهم بالليل رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن حبان، وفي إسناده
اختلاف). مداره على الزهري وقد اختلف عليه فإنه روي من طرق كلها عن الزهري
عن حزام عن البراء وحزام لم يسمع من البراء قاله عبد الحق تبعا لابن حزم. وأخرجه
البيهقي من طرق وفيها الاختلاف. إلا أنه قال الشافعي رحمه الله: أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة
رجاله. قال البيهقي: ورويناه عن الشعبي عن شريح أنه كان يضمن ما أفسدته الغنم بالليل
ولا يضمن ما أفسدته بالنهار ويتأول هذه الآية * (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ
نفشت فيه غنم القوم) *. وكان يقول: النفش بالليل، وروي مرة عن مسروق: * (إذ نفشت فيه
غنم القوم) * قال: كان كرما فدخلت فيه ليلا فما تركت فيه خضرا. فدل الحديث أنه لا يضمن
مالك البهيمة ما جنته في النهار لأنه يعتاد إرسالها في النهار ويضمن ما جنته بالليل لأنه يعتاد
حفظها بالليل وإلى هذا ذهبت الهادوية ومالك والشافعي ودليلهم الحديث والآية. وذهب
أبو حنيفة إلى أنه لا ضمان على أهل الماشية مطلقا وحجته حديث: العجماء جرحها
جبار أخرجه أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة، وأحمد والنسائي وابن ماجة عن عمرو
بن عوف وفيه زيادة. ولكنه قال الطحاوي: مذهب أبي حنيفة أنه لا ضمان إذا أرسلها
مع حافظ. وأما إذا أرسلها من دون حافظ فإنه يضمن، وكذا المالكية يقيدون ذلك
بما إذا سرحت الدواب في مسارحها المعتادة للرعي وأما إذا كانت في أرض مزروعة
لا مسرح فيها فإنهم يضمنون ليلا أو نهارا. وفي المسألة أقوال أخر لا تناسب النص هذا ولا دليل
لها يقاومه.
5 - (وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه في رجل أسلم ثم تهود: لا أجلس حتى يقتل.
قضاء الله ورسوله). جوز في قضاء رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ونصبه على أنه مصدر
حذف فعله وهو يشير إلى حديث: من بدل دينه فاقتلوه وسيأتي من أخرجه. (فأمر به
فقتل. متفق عليه. وفي رواية لأبي داود: وكان قد استتيب قبل ذلك). الحديث دليل على
أنه يجب قتل المرتد وهو إجماع وإنما وقع الخلاف هل تجب استتابته قبل قتله أو لا؟ ذهب
الجمهور إلى وجوب الاستتابة لما في رواية أبي داود هذه، وله في رواية أخرى: فدعاه
264

أبو موسى عشرين ليلة أو قريبا منها وجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه. وذهب
الحسن وطاوس وأهل الظاهر وآخرون إلى عدم وجوب استتابة المرتد وأنه يقتل في الحال
مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه يعني والفاء تفيد التعقيب كما
لا يخفى، ولان حكم المرتد حكم الحربي الذي بلغته الدعوة فإنه يقاتل من دون أن يدعى: وإنما
شرعت الدعوى لمن خرج عن الاسلام لا عن بصيرة وأما من خرج عن بصيرة فلا. وعن
ابن عباس وعطاء إن كان أصله مسلما لم يستتب وإلا استتيب نقله عنهما الطحاوي.
ثم للقائلين بالاستتابة خلاف آخر وهو أنه هل يكفي مرة أو لا بد من ثلاث في مجلس أو في يوم
أو في ثلاثة أيام؟. ويروى عن علي عليه السلام: يستتاب شهرا.
6 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
من بدل دينه فاقتلوه رواه البخاري). الحديث دليل على قتل من بدل دينه
كما تقدم وهو عام للرجل والمرأة والأول إجماع وفي الثاني خلاف. ذهب الجمهور إلى أنها
تقتل المرأة المرتدة لان كلمة من هنا تعم الذكر والأنثى ولأنه أخرج ابن المنذر عن ابن
عباس راوي الحديث أنه قال: تقتل المرأة المرتدة. ولما أخرجه هو والدارقطني: أن أبا بكر
رضي الله عنه قتل امرأة مرتدة في خلافته والصحابة متوافرون ولم ينكر عليه أحد وهو حديث
حسن. أخرج أيضا حديثا مرفوعا في قتل المرأة ولكنه حديث ضعيف. وقد وقع في حديث
معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أنه قال له: أيما رجل ارتد عن الاسلام
فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الاسلام فادعها فإن عادت وإلا
فاضرب عنقها وإسناده حسن وهو نص في محل النزاع. وذهب الحنفية إلى أنها لا تقتل
المرأة إذا ارتدت قالوا: لأنه قد ورد عنه (ص) النهي عن قتل النساء لما رأى
امرأة مقتولة وقال: ما كانت هذه لتقاتل. رواه أحمد. وأجاب الجمهور بأن النهي إنما
هو عن قتل الكافرة الأصلية كما وقع في سياق قصة النهي فيكون النهي مخصوصا بما فهم
من العلة وهو لما كانت لا تقاتل فالنهي عن قتلها إنما هو لتركها المقاتلة فكان ذلك
في دين الكفار الأصليين المتحزبين للقتال وبقي عموم قوله: من بدل دينه سالما عن
المعارض. وأيدته الأدلة التي سلفت.
واعلم أن ظاهر الحديث إطلاق التبديل فيشمل من تنصر بعد أن كان يهوديا وغير ذلك
من الأديان الكفرية وإلى هذا ذهبت الشافعية. وسواء كان من الأديان التي تقر بالجزية
أم لا لاطلاق هذا اللفظ. وخالفت الحنفية في ذلك وقالوا: ليس المراد إلا تبديل الكفر
بعد الاسلام، قالوا: وإطلاق الحديث متروك اتفاقا في حق الكافر إذا أسلم مع تناول الاطلاق
له وبأن الكفر ملة واحدة فالمراد من بدل دين الاسلام بدين آخر، فإنه قد أخرج الطبراني
من حديث ابن عباس مرفوعا: من خالف دينه دين الاسلام فاضربوا بعنقه فصرح بدين
الاسلام.
265

7 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى ا عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي، فلما كان ذات ليلة أخذ المعول) بكسر الميم وعين
مهملة وفتح الواو (فجعله في بطنها واتكأ عليه فقتلها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: ألا اشهدوا فإن دمها هدر رواه أبو داود ورواته ثقات). الحديث دليل على أنه
يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ويهدر دمه فإن كان مسلما كان سبه له صلى الله
عليه وسلم ردة فيقتل. قال ابن ابطال: من غير استتابة. ونقل ابن المنذر عن الأوزاعي
والليث أنه يستتاب، وإن كان من العهد فإنه يقتل إلا أن يسلم. ونقل ابن المنذر عن
الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق أنه يقتل أيضا من غير استتابة. وعن الحنفية أنه يعزر
المعاهد ولا يقتل، واحتج الطحاوي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهود الذين قالوا: السام
عليك. ولو كان هذا من مسلم لكان ردة ولان ما هم عليه من الكفر أشد من السب.
قلت: يؤيده أن كفرهم به صلى الله عليه وسلم معناه أنه كذاب وأي سب أفحش من هذا
وقد أقروا عليه، إلا أن يقال: إن هذا النص في حديث الأمة يقاس عليه أهل الذمة. وأما القول
بأن دماءهم إنما حقنت بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه
منهم انتقض عهده فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه. فقد يجاب عنه أن عهدهم تضمن إقرارهم
على تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم وهو أعظم سب، إلا أن يقال: يخص من بين غيره من
السب والله أعلم.
266