الكتاب: نيل الأوطار
المؤلف: الشوكاني
الجزء: ٧
الوفاة: ١٢٥٥
المجموعة: مصادر فقهية مستقلة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٩٧٣
المطبعة:
الناشر: دار الجيل - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

نيل الأوطار
من أحاديث سيد الأخيار
شرح
منتقى الاخبار
للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني
قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي
ابن محمد الشوكاني المتوفى
سنة 1255 ه‍
الجزء السابع - 1973
دار الجيل
بيروت - لبنان
ص، ب - 8747
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الطلاق)
(باب جوازه للحاجة وكراهته مع عدمها و طاعة الوالد فيه)
1 (عن عمر بن الخطاب " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلق حفصة
ثم راجعها " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وهو لا حمد من حديث عاصم
ابن عمر * 2 وعن لقيط بن صبرة قال " قلت يا رسول الله ان لي امرأة فذكر من بذائها
قال طلقها قلت إن لها صحبة وولدا قال مرها أو قل لها فان يكن فيها خير ستفعل
ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك " رواه أحمد وأبو داود * 3 وعن ثوبان قال
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس
فحرام عليها رائحة الجنة " رواه الخمسة الا النسائي * 4 وعن ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال " أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطلاق " رواه أبو داود
وابن ماجة * 5 وعن ابن عمر قال " كانت تحتي امرأة أحبها وكان أبى
يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم فقال يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك " رواه الخمسة الا النسائي
وصححه الترمذي)
حديث عمر بن الخطاب سكت عنه أبو داود والمنذري وحديث لقيط أخرجه
أيضا البيهقي ورجاله رجال الصحيح. وحديث ثوبان حسنه الترمذي وذكر ان بعضهم
لم يرفعه. وحديث ابن عمر الأول أخرجه أيضا الحاكم وصححه ورواه أيضا أبو داود
وفي اسناد أبي داود يحيى بن سليم وفيه مقال والبيهقي مرسلا ليس فيه ابن عمر ورجح
أبو حاتم والدار قطني والبيهقي المرسل وعي اسناده عبيد الله بن الوليد الوصافي
2

وهو ضعيف ولكنه قد تابعه معرف بن واصل ورواه الدارقطني عن معاذ بلفظ
" ما خلق الله شيئا أبغض إليه من الطلاق " قال الحافظ واسناد ضعيف ومنقطع. وأخرج
ابن ماجة وابن حبان من حديث أبي موسى مرفوعا " ما بال أحدكم يلعب بحدود
الله يقول قد طلقت قد راجعت " وحديث ابن عمر الثاني. قال الترمذي بعد اخراجه
هذا حديث حسن صحيح إنما نعرفه من حديث ابن أبي ذئب انتهي: من الطلاق وهو الارسال
والترك وفلان طلق اليد بالخير أي كثير البذل وفي الشرع حل عقدة التزويج
فقط وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوي. قال امام الحرمين هو لفظ جاهلي ورد
الشرع بتقريره وطلقت المرأة بفتح الطاء وضم اللام وبفتحها أيضا وهو أفصح
وطلقت أيضا بضم أوله وكسر اللام الثقيلة فان خففت فهي خاص بالولادة والمضارع
فيهما بضم اللام والمصدر في الولادة طلقا ساكنة اللام فهي طالق فيهما ثم
الطلاق قد يكون حراما ومكروها وواجبا ومندوبا وحائزا أما الأول ففيما
إذا كان بدعيا وله صور. وأما الثاني ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال.
وأما الثالث ففي صور منها الشقاق إذا رأى ذلك الحكمان. وأما الرابع ففيما إذا
كانت غير عفيفة. وأما الخامس فنفاه النووي وصوره غيره بما إذا كان لا يريدها
ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع فقد صرح
الامام ان الطلاق في هذه الصورة لا يكره انتهى. وفي حديث عمر هذا دليل علي
أن الطلاق يجوز للزوج من دون كراهة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما
يفعل ما كان حائزا من غير كراهة ولا يعارض هذا حديث " أبغض الحلال إلى الله "
الخ لأن كونه أبغض الحلال لا يستلزم أن يكون مكروها كراهة أصولية.
قوله " طلقها فيه أنه يحسن طلاق من كانت بذية اللسان ويجوز امساكها ولا
يحل ضربها كضرب الأمة وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله " فحرام عليها رائحة
الجنة " فيه دليل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها محرم عليها
تحريما شديدا لأن من لم يرح رائحة الجنة غير داخل لها أبدا وكفى بذنب
يبلغ بصاحبه إلى ذلك المبلغ مناديا علي فظاعته وشدته: قوله " أبغض الحلال
إلى الله " الخ فيه دليل على أن ليس كل حلال محبوبا بل ينقسم إلى ما هو
3

محبوب وإلى ما هو مبغوض: " طلق امرأتك " هذا دليل صريح يقتضى انه
يجب على الرجل إذا أمراه أبوه بطلاق زوجته أن يطلقها وإن كان يحبها فليس
ذلك عذرا له في الامساك ويلحق بالأب الام لأن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قد بين ان لها من الحق على الولد ما يزيد على حق الأب كما في حديث " من
أبر يا رسول الله فقال أمك ثم سأله فقال أمك ثم سأله فقال أمك وأباك " وحديث
" الجنة تحت أقدام الأمهات " وغير ذلك *
(باب النهي عن الطلاق في الحيض وفي الطهر بهد
أن يجامعها ما لم يبن حملها)
1 (عن ابن عمر " انه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " رواه
الجماعة الا البخاري * وفي رواية عنه " انه طلق امرأة له وهي حائض فذكر ذلك
عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ثم قال ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فان بدا له أن يطلقها فليطلقها
أن يطلق لها النساء " رواه الجماعة الا الترمذي فان له منه إلى الامر بالرجعة. ولمسلم
والنسائي نحوه وفي آخره قال ابن عمرو " قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن " وفي رواية متفق عليها " وكان
عبد الله طلق تطليقة فحسبت من طلاقها " وفي رواية " كان ابن عمر إذا سئل عن ذلك
قال لأحدهم اما ان طلقت امرأتك مرة أو مرتين فان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أمرني بهذا وان كنت طلقت ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا
غيرك وعصيت الله عز وجل فيما أمرك به من طلاق امرأتك " رواه أحمد ومسلم
والنسائي * وفي رواية " انه طلق امرأته وهي حائص تطليقة فانطلق عمر فأخبر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر عبد الله فليراجعها
فإذا اغتسلت فليتركها حتى تحيض فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها
4

حتى يطلقها وان شاء ان يمسكها فليمسكها فإنها العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء "
رواه الدارقطني وفيه تنبيه على تحريم الوطئ والطلاق قبل الغسل * 2 وعن عكرمة
قال " قال ابن عباس الطلاق على أربعة أوجه وجهان حلال ووجهان حرام فأما اللذان
هما حلال فان يطلق الرجل امرأته طاهرا من غير جماع أو يطلقها حاملا مستبينا
حملها وأما اللذان هما حرام فان يطلقها حائضا أو يطلقها عند الجماع لا يدرى اشتمل
الرحم على ولد أم لا " رواه الدارقطني) *
قوله " طلق امرأته " اسمها آمنة بنت غفار كما حكاه جماعة منهم النووي
وابن باطش. وغفار بكسر الغين المعجمة وتخفيف الفاء وفي مسند أحمد ان اسمها
النوار. قوله " وهي حائض " في رواية " وهي في دمها حائض " وفي أخرى
للبيهقي " أنه طلقها في حيضها " قوله " فذكر ذلك عمر " قال ابن العربي سؤال
عمر محتمل لأن يكون ذلك لكونهم لم يروا قبلها مثلها فسأله ليعلم ويحتمل أن
يكون لما رأى في القرآن (فطلقوهن لعدتهن) ويحتمل أن يكون سمع من النبي
صلى الله عليه وآله وسلم النهى فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك. قوله " مره
فليراجعها " قال ابن دقيق العيد يتعلق بذلك مسألة أصولية وهي ان الامر بالامر
بالشئ هل هو أمر بذلك الشئ أو لا فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر مره
والمسألة معروفة في كتب الأصول والخلاف فيها مشهور. وقد ذكر الحافظ في
الفتح ان من مثل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالط فان القرينة واضحة في أن عمر
في هذه الكائنة كان مأمورا بالتبليغ ولهذا وقع في رواية أيوب عن نافع فأمره
أن يراجعها إلى آخر كلام صاحب الفتح * وظاهر الامر الوجوب فتكون
مراجعة من طلقها زوجها على تلك الصفة واجبة وقد ذهب إلي ذلك مالك وأحمد
في رواية والمشهور عنه وهو قول الجمهور الاستحباب فقط قال في الفتح واحتجوا
بان ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك لكن صحح صاحب الهداية من
الحنفية انها واجبة والحجة لمن قال بالوجوب ورود الامر بها ولان الطلاق لما
كان محرما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة واتفقوا على أنه لو طلق
قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة الا ما نقل عن زفر وحكى ابن بطال
وغيره الاتفاق إذا انقضت العدة انه لا رجعة والاتفاق أيضا علي انه إذا طلقها في
5

طهر قد مسها فيه لم يؤمر بالمراجعة وتعقب الحافظ ذلك بثبوت الخلاف فيه كما
حكاه الحناطي من الشافعية وجها. قوله " ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " ظاهره
جواز الطلاق حال الطهر ولو كان هو الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها وبه قال
أبو حنيفة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد الوجهين عن الشافعية وذهب
أحمد في أحدي الروايتين عنه والشافعية في الوجه الآخر وأبو يوسف ومحمد
إلى المنع وحكاه صاحب البحر عن القاسمية وأبي حنيفة وأصحابه وفيه نظر فان
الذي في كتب الحنفية هو ما ذكرناه من الجواز عن أبي حنيفة والمنع عن أبي
يوسف ومحمد واستدل القائلون بالجواز بظاهر الحديث وبان المنع إنما كان لا جل
الحيض فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز الطلاق في ذلك الطهر كما يجوز في
غيره من الأطهار واستدل المانعون بما في الرواية الثانية من حديث الباب المذكور
بلفظ " ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر " الخ وكذلك قوله في الرواية الأخرى
" مر عبد الله فليراجعها فإذا اغتسلت " الخ. قوله " فتغيظ " قال ابن دقيق العيد
تغيظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اما لأن المعني الذي يقتضى المنع كان ظاهرا
فكان مقتضى الحال التثبت في ذلك أو لأنه كان مقتضى الحال مشاورة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك إذا عزم عليه. قوله " ثم يمسكها " أي يستمر
بها في عصمته حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر. وفي رواية للبخاري " ثم ليدعها
حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخري فإذا طهرت فليطلقها " قال الشافعي غير نافع
إنما روى " حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها وان شاء طلق "
رواه يونس ابن جبير وابن سيرين وسالم. قال الحافظ وهو كما قال لكن رواية
الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع وقد نبه علي ذلك أبو داود والزيادة من الثقة
مقبولة ولا سيما إذا كان حافظا (وقد اختلف) في الحكمة في الامر بالامساك كذلك
فقال الشافعي يحتمل أن يكون أراد بذلك أي بما في رواية نافع أن يستبرئها بعد
الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها
اما بحمل أو بحيض أو ليكون تطليقها بعد عامه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع
أو ليرغب في الحمل إذا انكشفت حاملا فيمسكها لأجله. وقيل الحكمة في ذلك أن
لا تصير الرجعة لغرض الطلاق فإذا أمسكها زمانا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة
6

الرجعة لأنه قد يطول مقامه معها فيجامعها فيذهب ما في نفسه فيمسكها. قوله " قبل
أن يمسها " استدل بذلك على أن الطلاق في طهر جامع فيه حرام وبه صرج الجمهور
وهل يجبر على الرجعة إذا طلقها في طهر وطئها فيه كما يجبر إذا طلقها حائضا قال
بذلك بعض المالكية والمشهور عندهم الاجبار إذا طلق في الحيض لا إذا طلق في
طهر وطئ فيه وقال داود يجبر إذا طلقها حائضا لا إذا طلقها نفساء قال في الفتح
واختلف الفقهاء في المراد بقوله طاهر أهل المراد انقطاع الدم أو التطهر بالغسل
علي قولين وهما روايتان عن أحمد والراجح الثاني لما أخرجه النسائي بلفظ " مر
عبد الله فليراجعها فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها وان شاء أن
يمسكها فليمسكها " وهذا مفسر لقوله (فإذا طهرت) فليحمل عليه وقد تمسك بقوله أو حاملا
من قال بان طلاق الحامل سني وهم الجمهور. وروي عن أحمد أنه ليس بسني: قوله
" فحسبت من طلاقها " بضم الحاء المهملة من الحسبان. وفي لفظ للبخاري حسبت
على بتطليقة وأخرجه أبو نعيم كذلك وزاد يعنى حين طلق امرأته فسأل عمر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تمسك بذلك من قال بان الطلاق البدعي يقع
وهم الجمهور. وذهب الباقر والصادق وابن حزم وحكاه الخطابي عن الخوارج
والروافض إلى أنه لا يقع. وحكاه ابن القربى وغيره عن ابن علية يعني إبراهيم
ابن إسماعيل بن علية وهو من فقهاء المعتزلة. قال ابن عبد البر لا يخالف في ذلك الا
أهل البدع والضلال. قال وروى مثله عن بعض التابعين وهو شذوذ. وقد أجاب
أبن حزم عن قول ابن عمر المذكور بأنه لم يصرح بمن حسبها عليه ولا حجة في
أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعقب بأنه مثل قول الصحابة أمرنا
في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكذا فإنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال الحافظ وعندي أنه لا ينبغي أن يجئ فيه الخلاف الذي في
قول الصحابي أمرنا بكذا فان ذلك محله حيث يكون اطلاع النبي صلى الله عليه
وآله وسلم على ذلك ليس صريحا وليس كذلك في قصة ابن عمر هذه فان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم هو الآمر بالمراجعة وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا
أراد طلاقها بعد ذلك وإذا أخبر ابن عمر ان الذي وقع منه حسب عليه بتطليقة كان
احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعيدا جدا مع
7

احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك وكيف يتخيل ان ابن عمر يفعل في القصة
شيئا برأيه وهو ينقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تغيظ من صنعه حيث لم
يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة. واستدل الجمهور أيضا بما أخرجه
الدارقطني عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال هي واحدة. قال في الفتح
وهذا نص في محل النزاع يجب المصير إليه وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم
فأجابه بان قوله هي واحدة لعله ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فألزمه
بأنه نقض أصله لأن الأصل لا يدفع بالاحتمال وقد أجاب ابن القيم عن هذا الحديث
بأنه لا يدرى أقاله يعني قوله هي واحدة ابن وهب من عنده أم ابن أبي ذئب أم نافع
فلا يجوز أن يضاف إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مالا يتيقن أنه من كلامه
ولا يخفي أن هذا التجويز لا يدفع الظاهر المتبادر من الرفع و لو فتحنا باب دفع
الأدلة بمثل هذا ما سلم لنا حديث فالأولى في الجواب المعارضة لذلك بما سيأتي
(ومن حجج) الجمهور ما أخرجه الدارقطني أيضا " ان عمر قال يا رسول الله
أفتحتسب بتلك التطليقة قال نعم " ورجاله إلى شعبة ثقات كما قال الحافظ وشعبة
رواه عن أنس بن سيرين عن ابن عمر واحتج الجمهور أيضا بقوله صلى الله عليه وآله
وسلم راجعها فان الرجعة لا تكون الا بهد طلاق و أجاب ابن القيم عن ذلك بأن
الرجعة قد وقعت في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاثة معان. أحدها
بمعني النكاح قال الله تعالى (فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) ولا خلاف
بين أحد من أهل العلم ان المطلق ههنا هو الزوج الثاني وان التراجع بينها وبين الزوج
الأول وذلك كابتداء النكاح. و ثانيها الرد الحسن إلى الحالة الأولى التي كانت عليها
أولا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي النعمان بن بشير لما أنحل ابنه غلاما
خصه به دون ولده " ارجعه " أي رده فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائزة. والثالث
الرجعة التي تكون بعد الطلاق ولا يخفى أن الاحتمال يوجب سقوط الاستدلال
ولكنه يؤيد حمل الرجعة هنا على الرجعة هنا على الرجعة بعد إلي لاق ما أخرجه الدارقطني عن
ابن عمر " أن رجلا قال إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض فقال عصيت ربك
وفارقت امرأتك قال فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر ابن عمر أن
يراجع امرأته قال إنه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له وأنت لم تبق ما ترتجع
8

به امرأتك. قال الحافظ وفي هذا السياق رد على من حمل الرجعة في قصة ابن عمر على
المعني اللغوي ولكنه لا يخفي ان هذا على فرض دلالته على ذلك لا يصلح للاحتجاج
به لأن مجرد فهم ابن عمر لا يكون حجة. وقد تقرر ان معنى الرجعة لغة أعم من
المعني الاصطلاحي ولم يثبت انه ثبت فيها حقيقة شرعية يتعين المصير إليها. ومن
حجج القائلين بعدم الوقوع أثر ابن عباس المذكور في الباب ولا حجة لهم في ذلك
لأنه قول صحابي ليس بمرفوع ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم وقوع الطلاق
البدعي ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عمر بلفظ " طلق عبد الله بن
عمر امرأته وهي حائض قال عبد الله فردها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ولم يرها شيئا " قال الحافظ واسناد هذه الزيادة علي شرط الصحيح وقد صرح ابن
القيم وغيره بان هذا الحديث صحيح لأنه رواه أبو داود عن أحمد بن صالح عن عبد
الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير " أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة
يسأل ابن عمر كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال ابن عمر طلق ابن عمر امرأته
حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فقال إن عبد الله طلق امرأته وهي حائض. قال عبد الله فردها علي
ولم يرها شيئا " الحديث فهؤلاء رجال ثقات أئمة حفاظ وقد أخرجه أحمد عن روح
ابن عبادة عن ابن جريج فلم يتفرد به عبد الرزاق عن ابن جريج ولكنه قد أعل هذا
الحديث بمخالفة أبي الزبير لسائر الحفاظ. قال أبو داود روى هذا الحديث عن ابن عمر
جماعة وأحاديثهم على خلاف ما قال أبو الزبير وقال ابن عبد البر قوله ولم يرها شيئا
منكر لم يقله غير أبى الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف إذا خالفه من هو
أوثق منه ولو صح فمعناه عندي والله أعلم ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تكن عن السنة.
وقال الخطابي قال أهل الحديث لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا وقد يحتمل
أن يكون معناه ولم يرها شيئا تحرم معه المراجعة أو لم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا
في الاختيار. وقد حكى البيهقي عن الشافعي نحو ذلك ويجاب بأن أبا الزبير غير مدفوع
في الحفظ والعدالة وإنما يخشى من تدليسه فإذا قال سمعت أو حدثني زال ذلك وقد
صرح هنا بالسماع وليس في الأحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبي الزبير حتى
يصار إلى الترجيح ويقال قد نخالفه الأكثر بل غاية ما هناك الامر بالمراجعة على
(م 2 - ج 7 - نيل الأوطار)
9

فرض استلزامه لوقوع الطلاق وقد عرفت اندفاع ذلك على أنه لو سلم ذلك الاستلزام
لم يصلح لمعارضة النص الصريح أعني ولم يرها شيئا على أنه يؤيد رواية أبى الزبير
ما أخرجه سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته
وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس ذلك بشئ وقد روى ابن
حزم في المحلى بسنده المتصل إلى ابن عمر من طريق عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله
ابن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض لا يعتد
بذلك وهذا اسناد صحيح وروى ابن عبد البر عن الشعبي أنه قال إذا طلق امرأته
وهي حائض لم يعتد بها في قول ابن عمر. وقد روي زيادة أبى الزبير الحميدي في الجمع
بين الصحيحين وقد التزم أن لا يذكر فيه الا ما كان صحيحا على شرطهما. وقال ابن
عبد البر في التمهيد انه تابع أبا الزبير على ذلك أربعة عبد الله بن عمر ومحمد بن عبد العزيز
ابن أبي رواد ويحيي بن سليم وإبراهيم بن أبي حسنة ولا شك ان رواية عدم الاعتداد
بتلك الطلقة أرجح من رواية الاعتداد المتقدمة فإذا صرنا إلي الترجيح بناء على تعذر
الجمع فرواية عدم الاعتداد أرجح لما سلف ويمكن ان يجمع بما ذكره ابن عبد البر ومن
معه كما تقدم. قال في الفتح وهو متعين وهو أولي من تغليط بعض الثقات وقد رجح
ما ذهب إليه من قال بعدم الوعوع بمرجحات منها قوله تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم
النساء فطلقوهن لعدتهن) والمطلق في حال الحيض أو الطهر الذي وطئ فيه لم يطلق
بتلك العدة التي أمر الله بتطليق النساء لها كما صرح بذلك الحديث المذكور في الباب
وقد تقرر في الأصول ان الامر بالشئ نهى عن ضده والمنهي عنه نهيا لذاته أو
لجزئه أو لو صفه اللازم يقتضي الفساد والفاسد لا يثبت حكمه. ومنها قول الله تعالى
(فامساك بمعروف أو تسريح باحسان) ولا أقبح من التسريح الذي حرمه الله ومنها
قوله تعالى (الطلاق مرتان) ولم يرد الا المأذون فدل على أن ما عداه ليس بطلاق لما في
هذا التركيب من الصيغة الصالحة للحصر أعني تعريف المسند إليه باللام الجنسية. ومنها
قوله صلى الله عليه وآله وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وهو حديث
صحيح شامل لكل مسألة مخالفة لما عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومسألة
النزاع من هذا القبيل فلن الله لم يشرع هذا الطلاق ولا اذن فيه فليس من شرعه
وأمره وممن ذهب إلي هذا المذهب أ؟؟ ني عدم وقوع البدعي شيخ الاسلام ابن تيمية
10

وتلميذه ابن القيم وأطال الكلام عليها في الهدى والحافظ محمد بن إبراهيم الوزير
وألف فيها رسالة طويلة في مقدار كراستين في القطع الكامل وقد جمت فيها
رسالة مختصرة مشتملة على الفوائد المذكورة في غيرها *
(باب ما جاء في طلاق البتة وجمع الثلاث واختيار تفريقها)
1 (عن ركانة بن عبد الله " انه طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وآله وسلم بذلك فقال والله ما أردت الا واحدة فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم والله ما أردت الا واحدة قال ركانة والله ما أردت الا واحدة
فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلقها الثانية في زمان عمر بن
الخطاب والثالثة في زمن عثمان " ورواه الشافعي وأبو داود والدار قطني. وقال
قال أبو داود هذا حديث حسن صحيح) *
الحديث أخرجه أيضا الترمذي وصححه أيضا ابن حبان والحاكم قال الترمذي
لا يعرف الا من هذا الوجه وسألت محمدا عنه يعني البخاري فقال فيه اضطراب
انتهى وفي اسناده الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد وقيل إنه متروك
وذكر الترمذي عن البخاري انه يضطرب فيه تارة يقال فيه ثلاثا وتارة قيل
واحدة وأصحها انها طلقها البتة وان الثلاث ذكرت فيه على المعني. قال ابن كثير
لكن قد رواه أبو داود من وجه آخر وله طرق أخر فهو حسن إن شاء الله. وقال
ابن عبد البر في التمهيد تكلموا في هذا الحديث انتهى وهو مع ضعفه مضطرب
ومعارض أما الاضطراب فكما تقدم وقد أخرج أحمد انه طلق ركانة امرأته في
مجلس واحد ثلاثا فحزن عليها وروى ابن إسحاق عن ركانة انه " قال يا رسول
الله اني طلقتها ثلاثا قال قد علمت ارجعها ثم ثلا إذا طلقتم النساء " الآية أخرجه
أبو داود وأما معارضته فيما روي ابن عباس ان طلاق الثلاث كان واحدة وسيأتي
وهو أضح اسنادا وأوضح متنا. وروى النسائي عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام
غضبان ثم قال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال يا رسول الله
11

الا أقتله " قال ابن كثير اسناده جيد. وقال الحافظ في بلوغ المرام رواته موثقون
(وفي الباب) عن ابن عباس " قال طلق أبو ركانة أم ركانة فقال له رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم راجع امرأتك فقال إني طلقتها ثلاثا قال قد علمت راجعها "
أخرجه أبو داود ورواه أحمد والحاكم وهو معلول بابن اسحق فإنه في سنده
(والحديث) يدل على أن من طلق بلفظ البتة وأراد واحدة كانت واحدة وان أراد
ثلاثا كانت ثلاثا ورواية ابن عباس التي ذكرناها انه أعني ركانة طلقها ثلاثا فأمره
صلى الله عليه وآله وسلم بمراجعتها يدل على أن طلق ثلاثا دفعة كانت في حكم
الواحدة وسيأتي الخلاف في ذلك وبيان ما هو الحق: قوله " فقال صلى الله
عليه وآله وسلم ما أردت الا واحدة " الخ فيه دليل على أنه لا يقبل قول من
طلق زوجته بلفظ البتة ثم زعم أنه أراد واحدة الا بيمين ومثل هذا كل دعوى يدعيها
الزوج راجعة إلي الطلاق إذا كان له فيها نفع *
2 (وعن سهل بن سعد " قال لما لا عن أخو بني عجلان امرأته قال يا رسول الله
ظلمتها ان أمسكتها هي الطلاق وهي الطلاق وهي الطلاق " رواه أحمد * 3 وعن الحسن
" قال حدثنا عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ثم أراد أن
يتبعها بتطليقتين آخرتين عند القرءين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى إنك قد أخطأت السنة والسنة أن
تستقبل الطهر فتطلق لكل قره وقال فأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فراجعتها ثم قال إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك فقلت يا رسول الله أرأيت
لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها قال لا كانت تبين منك وتكون معصية " رواه
الدارقطني) *
حديث سهل بن سعد هو عند الجماعة الا الترمذي بلفظ " فاما فرغا قال
عويمر كذبت عليها يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان أمسكتها فطلقها
ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت سنة المتلاعنين "
وسيأتي في كتاب اللعان والغرض من ايراده ههنا ان الثلاث إذا وقعت
في موقف واحد وقعت كلها وبانت الزوجة وأجاب القائلون بأنها لا تقع الا
واحدة فقط عن ذلك بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما سكت عن ذلك لان
12

الملاعنة تبين بنفس اللعان فالطلاق الواقع من الزوج بعد ذلك لا محل له فكأنه
طلق أجنبية ولا يجب انكار مثل ذلك فلا يكون السكوت عنه تقريرا * وحديث
الحسن في اسناده عطاء الخراساني وهو مختلف فيه وقد وثقه الترمذي وقال النسائي
وأبو حاتم لا بأس به وكذبه سعيد بن المسيب وضعفه غير واحد. وقال البخاري
ليس فيمن روى عنه مالك من يستحق الترك غيره. وقال شعبة كان نسيا وقال ابن
حبان كان من خيار عباد الله غير أنه كان كثير الوهم سيئ الحفظ يخطئ ولا يدرى فاما كثر
ذلك في روايته بطل الاحتجاج به وأيضا الزيادة التي هي محل الحجة أعني قوله
" أرأيت لو طلقتها الخ مما تفرد به عطاء وخالف فيها الحفاظ فإنهم شاركوه في
أصل الحديث ولم يذكروا الزيادة وأيضا في اسنادها شعيب بن زريق الشامي وهو
ضعيف. وقد استدل القائلون بان الثلاث تقع بأحاديث من جملتها هذا الحديث
وأجاب عنه القائلون بأنها تقع واحده فقط بعدم صلاحيته للاحتجاج لما سلف
على أن لفظ الثلاث محتمل *
4 (وعن حماد بن زيد قال " قلت لأيوب هل علمت أحد قال في أمرك بيدك
انها ثلاث الا الحسن قال لا ثم قال اللهم غفرا الا ما حدثني قتادة عن كثير مولي ابن
سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ثلاث قال
أيوب فلقيت كثيرا مولى ابن سمرة فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته
فقال نسي " رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث لا نعرفه الا من حديث
سليمان بن حرب عن حماد بن زيد * 5 وعن زرارة بن ربيعة عن أبيه عن عثمان
" في أمرك بيدك القضاء ما قضت " رواه البخاري في تاريخه * 6 وعن علي " قال
الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره "
رواه الدارقطني * 7 وعن ابن عمر " أنه قال في الخلية البرية ثلاثا ثلاثا "
رواه الشافعي * 8 وعن يونس بن يزيد قال " سألت ابن شهاب عن رجل جعل
أمر امرأة بيد أبيه قبل ان يدخل بها فقال أبوه هي طالق ثلاثا كيف السنة
في ذلك فقال أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مولى بنى عامر بن لؤي ان
محمد بن أياس بن بكير الليثي وكان أبوه شهد بدرا أخبره ان أبا هريرة قال بانت
عنه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وانه سأل ابن عباس عن ذلك فقال مثل
قول أبي هريرة وسأل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال مثل قولهما " رواه
13

أبو بكر البرقاني في كتابه المخرج على الصحيحين * 9 وعن مجاهد قال " كنت عند
ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت انه رادها
إليه ثم قال ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول يا ابن عباس يا ابن عباس وان الله قال
(ومن يتق الله يجعل له مخرجا) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا عصيت ربك فبانت
منك امرأتك وان الله قال (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن)
رواه أبو داود * 10 وعن مجاهد عن ابن عباس " أنه سئل عن رجل طلق امرأته
مائة قال عصيت ربك وفارقت امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا " * 11 وعن
سعيد بن جبير عن ابن عباس " ان رجلا طلق امرأته ألفا قال يكفيك من ذلك
ثلاث وتدع تسعمائة وسبعا وتسعين " * 12 وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس " انه
سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال أخطأ السنة وحرمت عليه امرأته "
رواهن الدارقطني. وهذا كله يدل على اجماعهم على صحة وقوع الثلاث بالكلمة
الواحدة. وقد روى طاوس عن ابن عباس قال " كان الطلاق على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث
واحدة فقال عمر بن الخطاب ان الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو
أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم " رواه أحمد ومسلم. وفي رواية عن طاوس " ان
أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر واحدة قال قد كان ذلك فلما كان في
عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم " رواه مسلم. وفي رواية " أما علمت أن
الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبى بكر وصدرا من إمارة عمر فاما رأي الناس قد
تتايعوا فيها قال أجيزوهن عليهم " رواه أبو داود) *
حديث حماد بن زيد أخرجه أيضا النسائي. وحكى الترمذي عن
البخاري أنه قال إنما هو عن أبي هريرة موقوفا ولم يعرف حديث أبي هريرة
مرفوعا. وقال النسائي هذا حديث منكر وأما انكار الشيخ انه حدث بذلك فان
14

كان على طرقة الحزم كما وقع في رواية أبى داود بلفظ قال أيوب فقدم علينا كثير
فسألته فقال ما حدثت بهذا قط فذكرته لقتادة فقال بلى ولكنه نسي انتهى. فلا
شك انه علة قادحة وان لم تكن على طريقة الحزم بل عدم معرفة ذلك الحديث
وعدم ذكر الجملة والتفصيل بدون تصريح بالانكار كما في الرواية المذكورة في الباب
فليس ذلك مما يعد قادحا في الحديث وقد بين هذا في علم اصطلاح الحديث وقد
استدل بهذا الحديث على أن من قال لامرأته أمرك بيدك كان ذلك ثلاثا وقد اختلف
في قول الرجل لزوجته أمرك بيدك وأمرك إليك هل هو صريح تمليك للطلاق
أو كناية فحكى في البحر عن الحنفية والشافعية ومالك انه صريح فلا يقبل قول
الزوج بعد ذلك أنه أراد التوكيل وذهب المؤيد بالله والهادوية إلى أنه كناية تمليك
فيقبل قول الزوج انه أراد التوكيل: قوله " قال الخلية " الخ هذه الألفاظ من ألفاظ
الطلاق الصريح وأما كونها بمنزلة ايقاع ثلاث تطليقات فقد تقدم في لفظ البتة
ما يدل علي أنه بمنزلة الطلاق الثلاث الا أن يحلف الزوج أنه ما أراد به الا واحدة
فيمكن أن يكون علي رضي الله عنه الحق به بقية الألفاظ المذكورة وأما لفظ
الحرام فسيأتي الكلام عليه في باب من حرم زوجته أو أمته من كتاب الظهار
قوله " فطلقوهن في قبل عدتهن " هذا الأثر اسناده صحيح كما قال صاحب الفتح
وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس وذكر نحو الآثار التي عزاها المصنف
إلي الدارقطني وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر أنه رفع إليه رجل طلق امرأته
ألفا فقال له عمر أطلقت امرأتك قال لا إنما كنت ألعب فعلاه عمر بالدرة وقال إنما
يكفيك من ذلك ثلاث. وروى وكيع عن علي رضي الله عنه وعثمان نحو ذلك
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن ابن مسعود أنه قيل له إن رجلا طلق امرأته
البارحة مائة قال قلتها مرة واحدة قال نعم قال تريدان تبين منك امرأتك قال
نعم قال هو كما قلت وأتاه آخر فقال رجل طلق امرأته عدد النجوم قال قلتها
مرة واحدة قال نعم قال تريدان تبين منك امرأتك قال نعم قال هو كما قلت والله
لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله عنكم: قوله " أناة " في الصحاح انه على وزن قناة وفى
القاموس والأناة كقناة الحلم والوقار: قوله " من هناتك " جمع هن كأخ وهو الشئ
يقول هذا هنك أي شيئك هذا معني ما في القاموس فكأن أبا الصهباء قال لابن
15

عباس هات من الأشياء العلمية التي عندك: قوله " تتايع الناس " بتاء ين فوقيتين بعد الألف
مثناة تحتية بعدها عين مهملة وهو الوقوع في الشر من غير تماسك ولا توقف واعلم
أنه قد وقع الخلاف في الطلاق الثلاث إذا أوقعت في وقت واحد هل يقع جميعها
ويتبع الطلاق الطلاق أم لا فذهب جمهور التابعين وكثير من الصحابة وأئمة المذاهب
الأربعة وطائفة من أهل البيت منهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه والعاصر
والامام يحيي حكى ذلك عنهم في البحر وحكاه أيضا عن بهض الامامية إلى أن
الطلاق يتبع الطلاق وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطلاق
بل يقع واحدة فقط. وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى ورواية
عن علي عليه السلام وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زبد والهادي والقاسم
والباقر الناصر وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسي بن عبد الله ورواية
عن زيد بن علي واليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن القيم وجماعة
من المحققين وقر نقله ابن مغيث في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح ونقل الفتوى بذلك
عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي ومحمد بن عبد السلام وغيرهما ونقله ابن
المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار وحكاه ابن مغيث أيضا
في ذلك الكتاب عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير وذهب
بعض التابعين. وروى عن ابن علية وهشام بن الحكم وبه قال أبو عبيدة وبعض أهل
الضاهر وسائر من يقول إن الطلاق البدعي لا يقع لأن الثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة
منه وعدم وقوع البدعي هو أيضا مذهب الباقر والصادق والناصر وذهب جماعة من
أصحاب ابن عباس وإسحاق بن راهويه ان المطلقة ان كانت مد خولة وقعت الثلاث وان لم
تكن مدخولة فواحدة (استدل القائلون) بأن الطلاق يتبع الطلاق بأدلة منها قوله تعالي
(الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان) وظاهرها جواز ارسال الثلاث
أو الثنتين دفعة أو مفرقة ووقوعها قال الكرماني ان قوله " الطلاق مرتان " يدل على
جواز جمع الثنتين وإذا جاز جمع الثنتين دفعة جاز جمع الثلاث وتعقبه الحافظ بأنه
قياس مع الفارق لأن جمع الثنتين لا يستلزم البينونة الكبري بخلاف الثلاث. وقال الكرماني
ان التسريح باحسان عام يتناول ايقاع الثلاث دفعة وقد قيل إن هذه الآية من أدلة عدم
16

التتابع لأن ظاهرها ان الطلاق المشروع لا يكون بالثلاث دفعة بل على الترتيب المذكور
وهذا أظهر واستدلوا أيضا بظواهر سائر الآيات القرآنية نحو قوله (فان
طلقها فلا تحل له من بهد حتى تنكح زوجا غيره) وقوله تعالي (وان طلقتموهن من
قبل أن تمسوهن) وقوله تعالى (ولا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن) وقوله
تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف) ولم يفرق في هذه الآيات بين ايقاع الواحدة والثنتين
والثلاث وأجيب بأن هذه عمومات مخصصة واطلاقات مقيدة بما ثبت من الأدلة
الدالة على المنع من وقوع فوق الواحدة واستدلوا أيضا تحديث سهل بن سعد المتقدم
في قضية عويمر العجلاني وقد قدمنا الجواب عن ذلك واستدلوا أيضا بما أخرجه
عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن العلاء عن عبد الله بن الوليد الوصافي عن إبراهيم بن
عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود عن عبادة بن الصامت قال " طلق جدي
امرأة له ألف تطليقة فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك فقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أبقى الله جدك اما ثلاث فله وأما تسعمائة وسبع
وتسعون فعدوان وظلم إن شاء الله عذبه وان شاء غفر له " وفي رواية " ان
أباك لم يتق الله فيجعل له مخرجا بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبع
وتسعون إثم في عنقه " وأجيب بأن يحيى بن العلاء ضعيف وعبيد الله بن الوليد
هالك وإبراهيم بن عبيد الله مجهول فأي حجة في رواية ضعيف عن هالك عن مجهول
ثم والد عبادة بن الصامت لم يدرك الاسلام فكيف بجده واستدلوا أيضا بما في حديث
ركانة السابق ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم استحلفه انه ما أراد الا واحدة وذلك
يدل على أنه لو أراد الثلاث لوقعت ويجاب بأن أثبت ما روى في قصة ركانة انه
طلقها البتة لا ثلاثا وأيضا قد تقدم في رواية انه صلى الله عليه وآله وسلم قال لها ارجعها
بعد أن قال له انه طلقها ثلاثا. وأيضا قد تقدم فيه من المقال مالا ينتهض معه للاستدلال
(واستدل القائلون) بأنه لا يقع من المتعدد الا واحدة بما وقع في حديث ابن عباس
عن ركانة " أنه طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف طلقتها فقال ثلاثا في مجلس واحد فقال
له صلى الله عليه وسلم إنما تلك واحدة فارتجعها " أخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه
(م 3 - ج 7 نيل الأوطار)
17

وأجيب عن ذلك بأجوبة منها ان في اسناده محمد بن إسحاق ورد بأنهم قد احتجوا في غير
واحد من الاحكام بمثل هذا الاسناد ومنها معارضته لفتوى ابن عباس المذكورة في
الباب ورد بأن المعتبر روايته لا رأيه ومنها ان أبا داود رجح ان ركانة إنما طلق امرأته
البتة كما تقدم ويمكن أن يكون من روى ثلاثا حمل البتة علي معني الثلاث وفيه مخالفة
للظاهر والحديث نص في محل النزاع (واستدلوا) أيضا بحديث ابن عباس المذكور
في الباب ان الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلي آخره وقد
أجيب عنه بأجوبة منها ما نقله المصنف رحمه الله في هذا الكتاب بعد اخراجه له ولفظه
وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعض التابعين إلى ظاهره في حق من
لم يدخل بها كما دلت عليه رواية أبى داود وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ
الطلاق بأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد
وثلاث إذا قصد تكرير الايقاع فكان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي
بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغائب الفضيلة والاختيار ولم يظهر فيهم
خب ولا خداع وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد فاما رأى عمر في زمانه أمور
ظهرت وأحوالا تغيرت وفشا ايقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم
الثلاث في صورة الكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها وقد أشار إليه بقوله أن
الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. وقال أحمد بن حنبل كل أصحاب
ابن عباس رووا عنه خلاف ما قال طاوس سعيد بن جبير ومجاهد ونافع عن ابن عباس
بخلافه وقال أبو داود في سننه صار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح قال
حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد
ابن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن أياس ان ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن
عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا فكلهم قال لا تحل له حتى
تنكح زوجا غيره انتهى كلام المصنف. وقوله وتأويله بعضهم على صورة تكرير
لفظ الطلاق الخ هذا البعض الذي أشار إليه هو ابن سريج وقد ارتضى هذا الجواب
القرطبي وقال النووي انه نواه يصدق أصح الأجوبة ولا يخفي ان من جاء بلفظ يحتمل التأكيد
وادعى انه نواه يصدق في دعواه ولو في آخر الدهر فكيف بزمن خير القرون
ومن يليهم وان جاء بلفظ لا يحتمل التأكيد لم يصدق إذا ادعى التأكيد من غير
18

فرق بين عصر وعصر ويجاب عن كلام احمد المذكور بأن المخالفين لطاوس من
أصحاب ابن عباس إنما نقلوا عن ابن عباس رأيه وطاوس نقل عنه روايته فلا
مخالفة وأما ما قاله ابن المنذر من أنه لا يظن بابن عباس ان يحفظ عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم شيئا ويفتى بخلافه فيجاب عنه بان الاحتمالات المسوغة
لترك الرواية والعدول إلى الرأي كثيرة منها النسيان ومنها قيام دليل عند الراوي
لم يبلغنا ونحن متعبدون بما بلغنا دون ما لم يبلغ. وبمثل هذا يجاب عن كلام أبى داود
المذكور (ومن الأجوبة) عن حديث ابن عباس المذكور ما نقله البيهقي عن الشافعي
أنه قال يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ ويجاب بان النسخ إن كان بدليل
من كتاب أو سنة فما هو وإن كان بالاجماع فأين هو على أنه يبعد أن يستمر الناس
أيام أبي بكر وبعض أيام عمر علي أمر منسوخ وإن كان الناسخ قول عمر المذكور
فحاشاه أن ينسخ سنة ثابتة بمحض رأيه وحاشا أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أن يجيبوه إلى ذلك. ومن الأجوبة دعوى الاضطراب كما زعمه القرطبي
في الفهم وهو زعم فاسد لا وجه له. ومنها ما قاله ابن العربي ان هذا حديث
مختلف في صحته فكيف يقدم على الاجماع ويقال أين الاجماع الذي جعلته معارضا
للسنة الصحيحة ومنها انه ليس في سياق حديث ابن عباس ان ذلك كان يبلغ
النبي صلى الله عليه آله وسلم حتى يقرره والحجة إنما هي في ذلك وتعقب بان
قول الصحابة كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حكم
المرفوع على ما هو الراجح وقد عملتم بمثل هذا في كثير من المسائل الشرعية والحاصل
ان القائلين بالتتابع قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس وكلها غير
خارجة عن دائرة التعسف والحق أحق بالاتباع فان كانت تلك المحاماة لأجل
مذاهب الأسلاف فهي أحقر وأقل من أن تؤثر على السنة المطهرة وان كانت
لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول الله صلى الله عليه آله وسلم
ثم أي مسلم من المسلمين يستحسن عقله وعامه ترجيح قول صحابي على قول مصطفى
(واحتج القائلون) بأنه لا يقع شئ لا واحدة ولا أكثر منها بقوله تعالى: * (فإمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان) * (البقرة: 229) فشرط في وقوع الثالثة أن تكون في حال يصح من الزوج فيها
الامساك، إذ من حق كل مخير بينهما أن يصح كل واحد منهما، وإذا لم يصح الامساك
19

إلا بعد المراجعة لم تصح الثالثة إلا بعدها لذلك، وإذا لزم في الثالثة لزم في الثانية
كذا قيل، وأجيب بمنع كون ذلك يدل على أنه لا يقع الطلاق إلا بعد الرجعة، ومن
الأدلة الدالة على عدم وقوع شئ الأدلة المتقدمة في الطلاق البدعي، واستدلوا
أيضا بحديث: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا الطلاق ليس عليه أمر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، وأجيب بتخصيص هذا العموم بما سبق في أدلة القولين الأولين
من الحكم بوقوع الطلاق المثلث، لأنا وإن منعنا وقوع المجموع لم نمنع من وقوع الفرد،
والقائلون بالفرق بين المدخولة وغيرها أعظم حجة لهم حديث ابن عباس فإن لفظه عند
أبي داود: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها
واحدة الحديث. ووجهوا ذلك بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها: أنت
طالق، فإذا قال ثلاثا لغا العدد لوقوعه بعد البينونة، ويجاب بأن التقييد بقبل الدخول
لا ينافي صدق الرواية الأخرى الصحيحة على المطلقة بعد الدخول، وغاية ما في هذه
الرواية أنه وقع فيها التنصيص على بعض أفراد مدلول الرواية الصحيحة المذكورة
في الباب، وذلك لا يوجب الاختصاص بالبعض الذي وقع التنصيص عليه، وأجاب
القرطبي عن ذلك التوجيه بأن قوله: أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل فكيف
يصح جعله كلمتين وتعطى كل كلمة حكما؟ هذا حاصل ما في هذه المسألة من الكلام، وقد
جمعت في ذلك رسالة مختصرة.
باب ما جاء في كلام الهازل والمكره والسكران بالطلاق وغيره
1 (عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث
جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة رواه الخمسة إلا النسائي،
وقال الترمذي: حديث حسن غريب.)
الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه، وأخرجه الدارقطني وفي إسناده عبد
الرحمن بن حبيب بن أزدك وهو مختلف فيه، قال النسائي: منكر الحديث ووثقه
غيره، قال الحافظ: فهو على هذا حسن. (وفي الباب) عن فضالة بن عبيد عند الطبراني
بلفظ: ثلاث لا يجوز فيهن اللعب: الطلاق والنكاح والعتق وفي إسناده ابن لهيعة.
20

وعن عبادة بن الصامت عند الحرث بن أبي أسامة في مسنده رفعه بلفظ: لا يجوز
اللعب فيهن: الطلاق والنكاح والعتاق، فمن قالهن فقد وجبن وإسناده منقطع. وعن
أبي ذر عند عبد الرزاق رفعه: من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو
لاعب فعتقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز. وفي إسناده انقطاع أيضا.
وعن علي موقوفا عند عبد الرزاق أيضا. وعن عمر موقوفا عنده أيضا. (والحديث)
يدل على أن من تلفظ هازلا بلفظ نكاح أو طلاق أو رجعة أو عتاق كما في الأحاديث
التي ذكرناها وقع منه ذلك، أما في الطلاق فقد قال بذلك الشافعية والحنفية وغيرهم
، وخالف في ذلك أحمد ومالك فقال: إنه يفتقر اللفظ الصريح إلى النية، وبه قال
جماعة من الأئمة منهم الصادق والباقر والناصر واستدلوا بقوله تعالى: * (وإن عزموا
الطلاق) * (البقرة: 227) فدلت على اعتبار العزم، والهازل لا عزم منه. وأجاب صاحب البحر بالجمع
بين الآية والحديث فقال: يعتبر العزم في غير الصريح، لا في الصريح فلا يعتبر،
والاستدلال بالآية على تلك الدعوى غير صحيح من أصله فلا يحتاج إلى الجمع
فإنها نزلت في حق المولى.
2 (وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا طلاق
ولا عتاق في إغلاق رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وفي حديث بريدة
في قصة ماعز أنه قال: يا رسول الله طهرني، قال: مم أطهرك؟ قال: من الزنا، قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشرب خمرا؟
فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أزنيت؟ قال: نعم فأمر به فرجم رواه مسلم والترمذي وصححه. وقال عثمان: ليس
لمجنون ولا لسكران طلاق. وقال ابن عبا س: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز.
وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق فليس بشئ. وقال علي: كل الطلاق
جائز إلا طلاق المعتوه. ذكرهن البخاري في صحيحه. وعن قدامة بن إبراهيم:
أن رجلا على عهد عمر بن الخطاب تدلى يشتار عسلا فأقبلت امرأته فجلست
على الحبل فقالت: ليطلقها ثلاثا وإلا قطعت الحبل، فذكرها الله والاسلام فأبت
فطلقها ثلاثا، ثم خرج إلى عمر فذكر ذلك له فقال: ارجع إلى أهلك فليس هذا
بطلاق رواه سعيد بن منصور وأبو عبيد القاسم بن سلام) *
21

حديث عائشة أخرجه أيضا أبو يعلى والحاكم والبيهقي وصححه الحاكم وفي
إسناده محمد بن عبيد بن أبي صالح، وقد ضعفه أبو حاتم الرازي ورواه البيهقي من
طريق ليس هو فيها لكن لم يذكر عائشة، وزاد أبو داود وغيره: ولا عتاق. قوله:
في إغلاق بكسر الهمزة وسكون الغين والمعجمة وآخره قاف فسره علماء
الغريب بالاكراه روى ذلك في التلخيص عن ابن قتيبة والخطابي وابن السيد وغيرهم.
وقيل الجنون واستبعده المطرزي، وقيل الغضب وقع ذلك في سنن أبي داود وفي
رواية ابن الاعرابي وكذا فسره أحمد، ورده ابن السيد فقال: لو كان كذلك
لم يقع على أحد طلاق لأن أحدا لا يطلق حتى يغضب. وقال أبو عبيدة: الاغلاق
التضييق وقد استدل بهذا الحديث من قال إنه لا يصح طلاق المكره. وبه قال
جماعة من أهل العلم، حكى ذلك في البحر عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر والزبير
والحسن البصري وعطاء ومجاهد وطاوس وشريح والأوزاعي والحسن بن صالح
والقاسمية والناصر والمؤيد بالله ومالك والشافعي. وحكي أيضا وقوع طلاق المكره عن
النخعي وابن المسيب والثوري وعمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة وأصحابه، والظاهر ما ذهب
إليه الأولون لما في الباب ويؤيد ذلك حديث: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه أخرجه ابن ماجة وابن حبان والدارقطني والطبراني والحاكم في
المستدرك من حديث ابن عباس وحسنه النووي، وقد أطال الكلام عليه الحافظ في
باب شروط الصلاة من التلخيص فليراجع. واحتج عطاء بقوله تعالى: * إلا من أكره
وقلبه مطمئن بالايمان) * (النحل: 106) وقال: الشرك أعظم من الطلاق أخرجه سعيد بن منصور
عنه بإسناد صحيح. قوله: أبه جنون لفظ البخاري: أبك جنون وهذا طرف
من حديث يأتي إن شاء الله تعالى في الحدود، وفيه دليل على أن الاقرار من
المجنون لا يصح، وكذلك سائر التصرفات والانشاءات ولا أحفظ في ذلك خلافا.
قوله: فقال أشرب خمرا فيه دليل أيضا على أن إقرار السكران لا يصح، وكان
المصنف رحمه الله تعالى قاس طلاق السكران على إقراره، وقد اختلف أهل العلم
في ذلك، فأخرجه ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عدم وقوع طلاق السكران عن أبي
الشعثاء وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز. قال في
الفتح: وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني، واختاره الطحاوي واحتج بأنهم
22

أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع، قال: والسكران معتوه بسكره. وقال بوقوعه
طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي، وبه
قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة. وعن الشافعي قولان المصحح منهما
وقوعه، والخلاف عند الحنابلة. وقد حكي القول بالوقوع في البحر عن علي وابن عباس
وابن عمر ومجاهد والضحاك وسليمان بن يسار وزيد بن علي والهادي والمؤيد
بالله. وحكي القول بعدم الوقوع عن عثمان وجابر بن زيد ورواية عن ابن عباس
والناصر وأبي طالب والبتي وداود. (احتج) القائلون بالوقوع بقوله تعالى: * (لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى) * (النساء: 43) ونهيهم حال السكر عن قربان الصلاة يقتضي عدم زوال
التكليف، وكل مكلف يصح منه الطلاق وغيره من العقود والانشاءات. وأجيب بأن
النهي في الآية المذكورة إنما هو عن أصل السكر الذي يلزم منه قربان الصلاة
كذلك. وقيل: إنه نهى للثمل الذي يعقل الخطاب. وأيضا قوله في آخر الآية: * (حتى
تعلموا ما تقولون) * (النساء: 43) دليل على أن السكران يقول ما لا يعلم، ومن كان كذلك
فكيف يكون مكلفا وهو غير فاهم؟ والفهم شرط التكليف كما تقرر في الأصول. (احتجوا)
ثانيا بأنه عاص بفعله فلا يزول عنه الخطاب بالسكر ولا الاثم لأنه يؤمر بقضاء
الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر. وأجاب الطحاوي بأنها لا تختلف
أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره، إذ
لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه كمن
كسر رجل نفسه فإنه يسقط عنه فرض القيام، وتعقب بأن القيام انتقل إلى بدل وهو
القعود فافترقا. وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء الصلوات بأن النائم يجب عليه
قضاء الصلاة ولا يقع طلاقه لأنه غير مكلف حال نومه بلا نزاع، واحتجوا ثالثا
بأن ربط الاحكام بأسبابها أصل من الأصول المأنوسة في الشريعة، والتطليق
سبب للطلاق، فينبغي ترتيبه عليه وربطه به وعدم الاعتداد بالسكر كما في الجنايات.
وأجيب بالاستفسار عن السبب للطلاق هل هو إيقاع لفظه مطلقا؟ إن قلتم نعم
لزمكم أن يقع من المجنون والنائم والسكران الذي لم يعص بسكره إذا وقع من أحدهم
لفظ الطلاق، وإن قلتم أنه إيقاع اللفظ من العاقل الذي يفهم ما يقول فالسكران
غير عاقل ولا فاهم فلا يكون إيقاع لفظ الطلاق منه سببا. (واحتجوا) رابعا بأن
23

الصحابة رضي الله عنهم جعلوه كالصاحي ويجاب بأن ذلك محل خلاف بين الصحابة،
كما بينا ذلك في أول الكلام وكما ذكره المصنف عن عثمان وابن عباس، فلا يكون
قول بعضهم حجة علينا، كما لا يكون حجة على بعضهم بعضا، واحتجوا خامسا بأن عدم
وقوع الطلاق من السكران مخالف للمقاصد الشرعية، لأنه إذا فعل حراما واحدا
لزمه حكمه، فإذا تضاعف جرمه بالسكر وفعل المحرم الآخر سقط عنه الحكم،
مثلا لو أنه ارتد بغير سكر لزمه حكم الردة، فإذا جمع بين السكر والردة لم يلزمه حكم
الردة لأجل السكر، ويجاب بأنا لم نسقط عنه حكم المعصية الواقعة منه حال السكر
لنفس فعله للمحرم الآخر وهو السكر، فإن ذلك مما لا يقول به عاقل، وإنما أسقطنا
عنه حكم المعصية لعدم مناط التكليف وهو العقل، وبيان ذلك أنه لو شرب الخمر
ولم يزل عقله كان حكمه حكم الصاحي فلم يكن فعله لمعصية الشرب هو المسقط. ومن
الأدلة الدالة على عدم الوقوع ما في صحيح البخاري وغيره أن حمزة سكر وقال
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل عليه هو وعلي: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ في قصة
مشهورة، فتركه صلى الله عليه وآله وسلم وخرج ولم يلزمه حكم تلك الكلمة، مع أنه لو قالها
غير سكران لكان كفرا كما قال ابن القيم. وأجيب بأن الخمر كانت إذ ذاك مباحة
والخلاف إنما هو بعد تحريمها. وحكى الحافظ في الفتن عن ابن بطال أنه قال: الأصل
في السكران العقل، والسكر شئ طرأ على عقله فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو
محمول على الأصل حتى يثبت فقدان عقله انتهى. (والحاصل) أن السكران الذي
لا يعقل لا حكم لطلاقه لعدم المناط الذي تدور عليه الاحكام، وقد عين الشارع عقوبته،
فليس لنا أن نجاوزها برأينا ونقول يقع طلاقه عقوبة له فيجمع له بين غرمين. (لا يقال)
إن ألفاظ الطلاق ليست من الأحكام التكليفية بل من الأحكام الوضعية، وأحكام
الوضع لا يشترط فيها التكليف. لأنا نقول: الأحكام الوضعية تقيد بالشروط كما تقيد الأحكام التكليفية
، وأيضا السبب الوضعي هو طلاق العاقل لا مطلق الطلاق بالاتفاق،
وإلا لزم وقوع طلاق المجنون. قوله: وقال عثمان الخ، علقه البخاري ووصله ابن أبي
شيبة. قوله: وقال ابن عباس الخ وصله ابن أبي شيبة أيضا وسعيد بن منصور. وأثر على
وصله البغوي في الجعديات وسعيد بن منصور، وقد ساق البخاري في صحيحه آثارا
عن جماعة من الصحابة والتابعين. وأثر عمر بن الخطاب في قصة الرجل الذي تدلى
ليشتار عسلا إسناده منقطع، لأن الراوي له عن عمر عبد الملك بن قدامة بن محمد بن
24

إبراهيم بن حاطب الجمحي عن أبيه قدامة، وقدامة لم يدرك عمر، وقد روي ما يعارضها.
أخرج العقيلي من حديث صفوان بن عمران الطائي: أن امرأة أخذت المدية
ووضعتها على نحر زوجها وقالت: إن لم تطلقني نحرتك بهذه فطلقها، ثم استقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطلاق، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا قيلولة في
الطلاق وقد تفرد به صفوان وحمله بعضهم على من نوى الطلاق.
(باب ما جاء في طلاق العبد)
1 (عن ابن عباس قال: أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال:
يا رسول الله سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها، قال: فصعد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فقال: يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده
أمته ثم يريد أن يفرق بينهما؟ إنما الطلاق لمن أخذ بالساق رواه ابن ماجة والدار
قطني. وعن عمر بن معتب: أن أبا حسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى
ابن عباس في مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم عتقا هل يصلح له أن يخطبها؟
قال: نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه الخمسة إلا الترمذي.
وفي رواية: بقيت لك واحدة قضى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه
أبو داود. وقال ابن المبارك ومعمر: لقد تحمل أبو حسن هذا صخرة عظيمة. وقال
أحمد بن حنبل في رواية ابن منصور في عبد تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم عتقا يتزوجها
ويكون على واحدة على حديث عمر بن معتب. وقال في رواية أبي طالب في هذه
المسألة: يتزوجها ولا يبالي في العدة عتقا أو بعد العدة، قال: وهو قول ابن عباس
وجابر بن عبد الله وأبي سلمة وقتادة) *
حديث ابن عباس أخرجه أيضا الطبراني وابن عدي، وفي إسناد ابن ماجة ابن
لهيعة، وكلام الأئمة فيه معروف، وفي إسناد الطبراني يحيى الحماني وهو ضعيف، وفي
إسناد ابن عدي والدارقطني عصمة بن مالك كذا قيل. وفي التقريب: أنه صحابي
وطرقه يقوي بعضها بعضا. وقال ابن القيم: إن حديث ابن عباس وإن كان في
إسناده ما فيه فالقرآن يعضده وعليه عمل الناس، وأراد بقوله القرآن يعضده نحو
(م 4 - ج 7 - نيل الأوطار)
25

قوله تعالى: * (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) * (الأحزاب: 49) وقوله تعالى: * (إذا طلقتم النساء)
(الطلاق: 1) الآية. وحديث عمر معتب أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة، وقد ذكر أبو
الحسن المذكور بخير وصلاح، ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، غير أن الراوي
عنه عمر بن معتب، وقد قال علي بن المديني: إنه منكر الحديث، وسئل عنه أيضا
فقال مجهول لم يرو عنه غير يحيى بن أبي كثير. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال
الأمير أبو نصر: منكر الحديث. وقال الذهبي: لا يعرف. ومعتب بضم الميم وفتح العين
المهملة وتشديد المثناة الفوقية وكسرها وبعدها باء موحدة. وقد استدل بحديث
ابن عباس المذكور من قال: إن طلاق امرأة العبد لا يصح إلا منه لا من سيده.
وروي عن ابن عباس أنه يقع طلاق السيد على عبده، والحديث المروي من طريقه
حجة عليه، وابن لهيعة ليس بساقط الحديث فإنه إمام حافظ كبير ولهذا أورده
الذهبي في تذكرة الحفاظ. وقال أحمد بن حنبل: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في
كثرة حديثه وضبطه وإتقانه. وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب
طلابا للعلم. وقال يحيى بن القطان وجماعة: إنه ضعيف. وقال ابن معين: ليس بذاك
القوي. وهذا جرح مجمل لا يقبل عند بعض أئمة الجرح والتعديل. وقد قيل: إن
السبب في تضعيفه احتراق كتبه، وأنه بعد ذلك حدث من حفظه فخلط، وإن من
حدث عنه قبل احتراق كتبه كابن المبارك وغيره حديثهم عنه قوي وبعضهم يصححه
، وهذا التفصيل هو الصواب. وقال الذهبي: إنها تؤدي أحاديثه في المتابعات ولا يحتج
به. وأما يحيى الحماني فقال في التذكرة: وثقه يحيى بن معين. وقال ابن عدي: أرجو أنه
لا بأس به. وقال ابن حبان: يكذب جهارا ويسرق الأحاديث. واستدل أيضا بحديث
ابن عباس الثاني أيضا أن العبد يملك من الطلاق ثلاثا كما يملك الحر. وقال الشافعي
: إنه لا يملك من الطلاق إلا اثنتين حرة كانت زوجته أو أمة. وقال أبو حنيفة والناصر
: إنه لا يملك في الأمة إلا اثنتين لا في الحرة فكالحر. واستدلوا بحديث ابن مسعود
الطلاق بالرجال والعدة بالنساء عند الدارقطني والبيهقي وأجيب بأنه موقوف. قالوا
: أخرج الدارقطني والبيهقي أيضا عن ابن عباس نحوه. وأجيب بأنه موقوف أيضا. وكذلك
روى نحوه أحمد من حديث علي وهو أيضا موقوف. قالوا: أخرج ابن ماجة والدار
قطني والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا: طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان
26

وأجيب بأن في إسناده عمر بن شبيب وعطية العوفي وهما ضعيفان. وقال الدارقطني
والبيهقي: الصحيح أنه موقوف قالوا في السنن نحوه من حديث عائشة، وأجيب بأن
في إسناده مظاهر بن أسلم، قال الترمذي: حديث عائشة هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا
إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث، والعمل
على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول
سفيان الثوري والشافعي وإسحاق انتهى. (لا يقال) هذه الطرق تقوى على تخصيص
عموم الطلاق مرتان وغيرها من العمومات الشاملة للحر والعبد. لأنا نقول: قد دل على
أن ذلك العموم مراد غير مخرج منه العبد حديث ابن عباس المذكور في الباب فهو معارض
لما دل على أن طلاق العبد ثنتان *
(باب من علق الطلاق قبل النكاح)
1 (عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له
فيما لا يملك رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، وهو أحسن شئ روي
في هذا الباب وأبو داود وقال فيه: ولا وفاء نذر إلا فيما يملك ولابن ماجة منه: لا طلاق
فيما لا يملك. وعن مسور بن مخرمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا طلاق
قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك رواه ابن ماجة) *
حديث عمرو بن شعيب أخرجه بقية أهل السنن والبزار والبيهقي وقال: هو
أصح شئ في هذا الباب وأشهر. وحديث المسور حسنه الحافظ في التلخيص ولكنه
اختلف فيه على الزهري فروى عنه عن عروة عن المسور، وروى عنه عن عروة عن عائشة
وفي الباب عن أبي بكر الصديق وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري
وعمران بن حصين وغيرهم، ذكر ذلك البيهقي في الخلافيات. (وفي الباب) أيضا عن جابر
مرفوعا بلفظ: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك أخرجه الحاكم في
المستدرك وصححه وقال: وأنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه؟ وقد صح على
شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة و عبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر
27

انتهى. وحديث ابن عمر أخرجه أيضا ابن عدي ووثق إسناده الحافظ، وقال ابن
صاعد: غريب لا أعرف له علة. وحديث عائشة قال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه
: حديث منكر. وحديث ابن عباس في إسناده عند الحاكم من لا يعرف وله طريق
أخرى عند الدارقطني وفي إسناده ضعيف. وحديث معاذ أعل بالارسال وله طريق
أخرى عند الدارقطني وفيها انقطاع وفي إسناده أيضا يزيد بن عياض وهو متروك.
وحديث جابر صحح الدارقطني إرساله وأعله ابن معين وغيره، وفي الباب أيضا عن
علي عند البيهقي وغيره ومداره على جويبر وهو متروك. ورواه ابن الجوزي من
طريق أخرى عنه وفيها عبد الله بن زياد بن سمعان وهو متروك، وله طريق أخرى
في الطبراني. وقال ابن معين: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا طلاق قبل
نكاح وأصح شئ فيه حديث ابن المنكدر عمن سمع طاوسا عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم مرسلا. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: روي من وجوه إلا أنها عند أهل العلم
بالحديث معلول انتهى. ولا يخفى عليك أن مثل هذه الروايات التي سقناها في الباب من
طريق أولئك الجماعة من الصحابة مما لا يشك منصف أنها صالحة بمجموعها للاحتجاج
وقد وقع الاجماع على أنه لا يقع الطلاق الناجز على الأجنبية، وأما التعليق نحو أن
يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أنه
لا يقع. وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والمؤيد بالله في أحد قوليه إنه يصح التعليق مطلقا
وذهب مالك في المشهور عنه وربيعة والثوري والليث والأوزاعي وابن أبي ليلى إلى
التفصيل، وهو أنه إن جاء بحاصر نحو أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو بلد
كذا فهي طالق صح الطلاق ووقع، وإن عمم لم يقع شئ، وهذا التفصيل لا وجه له إلا مجرد
الاستحسان، كما أنه لا وجه للقول بإطلاق الصحة، والحق أنه لا يصح الطلاق
قبل النكاح مطلقا للأحاديث المذكورة في الباب، وكذلك العتق قبل الملك
والنذر بغير الملك *
(باب الطلاق بالكنايات إذا نواه بها وغير ذلك)
1 (عن عائشة قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخترناه
28

فلم يعدها شيئا. رواه الجماعة. وفي رواية: قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى
تستأمري أبويك، قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت ثم قال
إن الله عز وجل قال لي: * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا
) * (الأحزاب: 28) الآية * (وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة) * (الأحزاب: 29) الآية، قالت فقلت: في هذا
أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما فعلت رواه الجماعة إلا أبا داود) *
قوله: خيرنا في لفظ لمسلم: خير نساءه. قوله: فلم يعدها شيئا بتشديد الدال
المهملة وضم العين من العدد. وفي رواية: فلم يعدد بفك الادغام. وفي أخرى: فلم يعتد "
بسكون العين وفتح المثناة وتشديد الدال من الاعتداد. وفي رواية لمسلم: فلم يعده
طلاقا. وفي رواية للبخاري: أفكان طلاقا على طريقة الاستفهام الانكاري؟ وفي
رواية لأحمد: فهل كان طلاقا؟ وكذا للنسائي. وقد استدل بهذا من قال: إنه لا يقع
بالتخيير شئ إذا اختارت الزوج، وبه قال جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار
لكن اختلفوا فيما إذا اختارت نفسها هل يقع طلقة واحد رجعية أو بائنة؟ أو يقع
ثلاثا؟ فحكى الترمذي عن علي عليه السلام أنها إن اختارت نفسها فواحدة بائنة
وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية. وعن زيد بن ثابت: إن اختارت نفسها فثلاث، وإن
اختارت زوجها فواحدة بائنة. وعن عمرو بن مسعود: إن اختارت نفسها فواحدة
بائنة وعنهما رجعية، وإن اختارت زوجها فلا شئ. ويؤيد قول الجمهور من حيث
المعنى أن التخيير ترديد بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقا لاتحدا، فدل
على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق، واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة. وقد
أخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان قال: كنا جلوسا عند علي عليه السلام
فسئل عن الخيار فقال: سألني عنه عمر فقلت: إن اختارت نفسها فواحدة رجعية، قال
ليس كما قلت إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية، قال: ليس
كما قلت إن اختارت زوجها فلا شئ، قال: فلم أجد بدا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت
أعرف. قال علي: وأرسل عمر إلى زيد بن ثابت، قال: فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذي
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق علي نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره، وأخذ
مالك بقول زيد بن ثابت، واحتج بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها يقع
29

ثلاثا بأن معنى الخيار بت أحد الامرين: إما الاخذ أو الترك، فلو قلنا: إذا اختارت
نفسها يكون طلقة رجعية لم يعمل بمقتضى اللفظ لأنها تكون بعد في أسر الزوج
وتكون كمن خير بين شيئين فاختار غيرهما. وأخذ أبو حنيفة بقول عمر وابن
مسعود فيما إذا اختارت نفسها فواحدة بائنة. وقال الشافعي: التخيير كناية، فإذا
خير الزوج امرأته وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلق منه وبين أن تستمر
في عصمته فاختارت نفسها وأرادت بذلك الطلاق طلقت فلو قالت لم أرد باختيار
نفسي الطلاق صدقت. وقال الخطابي يؤخذ من قول عائشة فاخترناه فلم يكن
ذلك طلاقا أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقا ووافقه القرطبي في المفهم
فقال في الحديث أن المخيرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الاختيار يكون
طلاقا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدل على الطلاق قال وهو مقتبس من
مفهوم قول عائشة المذكور قال الحافظ لكن الظاهر من الآية أن ذلك بمجرده
لا يكون طلاقا بل لا بد من إنشاء الزوج الطلاق لأن فيها: * (فتعالين أمتعكن وأسرحكن)
أي بعد الاختيار ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم واختلفوا في التخيير
هل هو بمعنى التمليك أو بمعنى التوكيل وللشافعي فيه قولان المصحح عند أصحابه
أنه تمليك وهو قول المالكية بشرط المبادرة منها حتى لو تراخت بمقدار ما ينقطع
القبول عن الايجاب ثم طلقت لم يقع وفي وجه لا يضر التأخير ما دام المجلس وبه
جزم ابن القاص وهو الذي رجحته المالكية والحنفية والهادوية وهو قول الثوري
والليث والأوزاعي وقال ابن المنذر الراجح أنه لا يشترط فيه الفور بل متى طلقت
نفذ وهو قول الحسن والزهري وبه قال أبو عبيدة ومحمد بن نصر من الشافعية
والطحاوي من الحنفية واحتجوا بما في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وآله
وسلم لعائشة: إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك
وذلك يقتضي عدم اشتراط الفور في جواب التخيير. قال الحافظ: ويمكن أن يقال
يشترط الفور إلا أن يقع التصريح من الزوج بالفسحة لأمر يقتضي ذلك فيتراخى
كما وقع في قصة عائشة ولا يلزم من ذلك أن يكون كل خيار كذلك *
2 (وعن عائشة: أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك "
30

رواه البخاري وابن ماجة والنسائي وقال: الكلابية بدل ابنة الجون، وقد تمسك
به من يرى لفظة الخيار والحقي بأهلك واحدة لا ثلاثا، لأن جمع الثلاث يكره
فالظاهر أنه عليه السلام لا يفعله. وفي حديث تخلف كعب بن مالك قال: لما
مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي وإذا رسول رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل
اعتزلها فلا تقربنها، قال فقلت لامرأتي: إلحقي بأهلك متفق عليه. ويذكر فيمن قال لزوجته
أنت طالق هكذا وأشار بأصابعه. ما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: الشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني ثلاثين، ثم قال: وهكذا وهكذا
وهكذا يعني تسعا وعشرين، يقول مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين متفق عليه 5
ويذكر في مسألة من قال لغير مدخول بها: أنت طالق وطالق أو طالق ثم طالق
ما روى حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقولوا ما شاء الله وشاء
فلان، وقولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان رواه أحمد وأبو داود. ولابن ماجة معناه *
وعن قتيلة بنت صيفي قالت: أتى حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فقال يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله ندا قال: سبحان الله
وما ذاك؟ قال: تقولون: ما شاء الله وشئت قال: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم شيئا ثم قال: إنه قد قال: فمن قال ما شاء الله فليفصل بينهما ثم شئت رواه أحمد *
وعن عدي بن حاتم: أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله رواه أحمد
ومسلم والنسائي. 8 ويذكر فيمن طلق بقلبه ما روى أبو هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به
أو تكلم به متفق عليه) *
حديث حذيفة أخرجه أيضا النسائي وابن أبي شيبة والطبراني والبيهقي، وقد
الحازمي في الاعتبار بإسناده وذكر فيه قصة وهي: أن رجلا من المسلمين رأى
النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون
قال تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
31

فقال لهم: والله إن كنت لأعرفها لكم قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد وأخرج
أيضا بإسناده إلى الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لامها أنه قال: رأيت فيما يرى
النائم كأني أتيت على رهط من اليهود فقلت: من أنتم؟ فقالوا نحن اليهود
فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا: وأنتم القوم
لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، ثم أتيت على رهط من النصارى فقلت من
أنتم؟ فقالوا: نحن النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن
الله، فقالوا: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبح أخبر
بها من أخبر ثم أخبر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل أخبرت بها أحدا
قال: نعم، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
ما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا فأخبر بها من أخبر منكم وإنكم لتقولون الكلمة
يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد. وأخرج أيضا
بإسناده المتصل بابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا
حلف أحدكم فلا يقول ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت. وأخرج
أيضا بإسناده إلى عائشة أنها قالت: قالت اليهود: نعم القوم قوم محمد لولا أنهم يقولون
ما شاء الله وشاء محمد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقولوا ما شاء الله وشاء
محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده. قوله: إن ابنة الجون قيل هي الكلابية
واختلف في اسمها فقال ابن سعد: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان. وروي
عن الكلبي أنها عالية بنت ظبيان بن عمرو. وحكى ابن سعد أيضا أن اسمها عمرة
بنت يزيد بن عبيد، وقيل بنت يزيد بن الجون. وأشار ابن سعد أيضا إلى أنها
واحدة اختلف في اسمها. قال الحافظ: والصحيح أن التي استعاذت منه هي الجونية
واسمها أميمة بنت النعمان بن شراحيل، وذكر ابن سعد أنها لم تستعذ منه امرأة
غيرها. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن التي تزوجها هي الجونية، واختلفوا في سبب
فراقه لها فقال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت فطلقها. وقيل: كان بها
وضح وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذت بمعاذ وقد أعاذك الله مني
فطلقها. قال: وهذا باطل إنما قال له هذا امرأة من بني العنبر وكانت جميلة فخاف
نساؤه أن تغلبهن عليه فقلن لها إنه يعجبه أن يقال له نعوذ بالله منك ففعلت فطلقها
32

قال الحافظ: وما أدري لم حكم ببطلان ذلك مع كثرة الروايات الواردة فيه وثبوته
في حديث عائشة في صحيح البخاري. قوله: الحقي بأهلك بكسر الهمزة من الحقي
وفتح الحاء، وفيه دليل على أن من قال لامرأته إلحقي بأهلك وأراد الطلاق طلقت
فإن لم يرد الطلاق لم تطلق، كما وقع في حديث تخلف كعب المذكور، فيكون
هذا اللفظ من كنايات الطلاق، لأن الصريح لا يفتقر إلى النية على ما ذهب إليه
الشافعية والحنفية وأكثر العترة. وذهب الباقر والصادق والناصر ومالك إلى أنه
يفتقر إلى نية. وحديث ابن عمر في أخباره صلى الله عليه وآله وسلم بعدد الشهر
قد تقدم فباب ما جاء في يوم الغيم والشك من كتاب الصيام، وتقدم شرحه
هنالك. وإنما أورده المصنف ههنا للاستدلال به على صحة العدد بالإشارة
بالأصابع واعتباره من دون تلفظ باللسان، فإذا قال الرجل لزوجته أنت طالق هكذا
وأشار بثلاث من أصابعه كان ذلك ثلاثا عند من يقول إن الطلاق يتبع الطلاق
وأورد حديث حذيفة وحديث قتيلة للاستدلال بهما على أن من قال لزوجته التي
لم يدخل بها أنت طالق وطالق كان كالطلقة الواحدة لأن المحل لا يقبل غيرها
فتكون الثانية لغوا، بخلاف ما لو قال أنت طالق ثم طالق وقعت عليها الطلقة الأولى
في الحال ووقعت عليها الثانية بعد أن تصير قابلة لها، وذلك لأن الواو لمطلق الجمع
فكأنه إذا جاء بها موقع لمجموع الطلاقين عليها في حالة واحدة بخلاف ثم فإنها
للترتيب مع تراخ فيصير الزوج في حكم الموقع لطلاق بعده طلاق متراخ عنه. ولهذا
قال الشافعي في سبب نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الرجل ما شاء الله
وشئت، وإذنه له بأن يقول ما شاء الله ثم شاء فلان، أن المشيئة إرادة الله تعالى
قال الله عز وجل: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * (الانسان: 30) قال فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون
خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله، فيقال لرسوله ما شاء الله ثم شئت، ولا يقال
ما شاء الله وشئت انتهى. ولكنه يعارض هذا الاستنباط حديث عدي بن حاتم
الذي ذكره المصنف في الرجل الذي خطب بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم فإنه
أنكر عليه الجمع بين الضميرين وأرشده إلى أن يقول: * (ومن يعص الله ورسوله فدل
على أن توسيط الواو بين الله ورسوله له حكم غير حكم قوله ومن يعصهما، ولو كانت
الواو لمطلق الجمع لم يكن بين العبارتين فرق. وقد قدمنا الكلام على علة هذا النهي عند
الكلام على حديث ابن مسعود في باب اشتمال الخطبة على حمد الله من أبواب الجمعة
(م 5 - ج 7 نيل الأوطار)
33

هذا ما ظهر في بيان وجه استدلال المصنف بحديثي المشيئة وحديث الخطبة، ويمكن أن
يكون مراد المصنف بإيراد الأحاديث المذكورة مجرد التنظير لا الاستدلال، وقد قدمنا
أن الطلاق المتعدد سواء كان بلفظ واحد أو ألفاظ، من غير فرق بين أن يكون العطف بثم
أو بالواو أو بغيرهما، يكون طلقة واحدة، سواء كانت الزوجة مدخولة أو غير مدخولة.
وأورد حديث أبي هريرة للاستدلال به، على أن من طلق زوجته بقلبه ولم يلفظ بلسانه
لم يكن لذلك حكم الطلاق، لأن خطرات القلب مغفورة للعباد إذا كانت فيما فيه ذنب
فكذلك لا يلزم حكمها في الأمور المباحة، فلا يكون حكم خطور الطلاق بالقلب
أو إرادته حكم التلفظ به، وهكذا سائر الانشاءات، قال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث
ما لفظه: والعمل على هذا عند أهل العلم أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن
شئ حتى يتكلم به انتهى. وحكي في البحر عن عكرمة أنه يقع بمجرد النية *
كتاب الخلع
1 (عن ابن عباس قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إني ما أعتب عليه فخلق ولا دين
ولكني أكره الكفر في الاسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتردين
عليه حديقته؟ قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقبل الحديقة
وطلقها تطليقة رواه البخاري والنسائي. وعن ابن عباس: أن جميلة بنت
سلول أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: والله ما أعتب على ثابت في دين
ولا خلق ولكني أكره الكفر في الاسلام لا أطيقه بغضا فقال لها النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد رواه ابن ماجة. وعن الربيع
بنت معوذ: أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة
بنت عبد الله بن أبي، فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثابت فقال له: خذ الذي لها عليك
وخل سبيلها، قال: نعم، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تتربص حيضة
34

واحدة وتلحق بأهلها رواه النسائي. وعن ابن عباس: أن امرأة ثابت
بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تعتد بحيضة
رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن الربيع بنت معوذ
أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمرها النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة رواه الترمذي. وقال: حديث الربيع الصحيح
أنها أمرت أن تعتد بحيضة. وعن أبي الزبير: أن ثابت بن قيس بن شماس
كانت عنده بنت عبد الله بن أبي ابن سلول وكان أصدقها حديقة، فقال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ قالت: نعم وزيادة. فقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: أما الزيادة فلا ولكن حديقته، قالت: نعم، فأخذها له وخلى
سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم رواه الدارقطني بإسناد صحيح وقال: سمعه أبو الزبير
من غير واحد) *
حديث ابن عباس الثاني رواه ابن ماجة من طريق أزهر بن مروان
وهو صدوق مستقيم الحديث وبقية إسناده من رجال الصحيح.
وقد أخرجه النسائي وأخرجه أيضا البيهقي. وحديث الربيع بنت معوذ
الأول إسناده في سنن النسائي، هكذا حدثنا أبو علي محمد بن يحيى المروزي، أخبرني
شاذان بن عثمان أخو عبدان، حدثني أبي، حدثنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي
كثير، أخبرني محمد بن عبد الرحمن أن الربيع بنت معوذ بن عفراء أخبرته أن
ثابت بن قيس الحديث. ومحمد بن يحيى ثقة، وشاذان هو عبد العزيز بن عثمان بن
جبلة وهو من رجال الصحيح هو وأبوه. وكذلك علي بن المبارك ويحيى بن أبي
كثير. وأما محمد بن عبد الرحمن فقد روى النسائي عن جماعة من التابعين اسمهم
محمد بن عبد الرحمن وكلهم ثقات. فالحديث على هذا صحيح، وقد أخرجه أيضا
الطبراني. وحديث ابن عباس الثالث قد ذكر أنه مرسل ورواه الترمذي مسندا.
وحديث الربيع الثاني أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة من طريق محمد بن إسحاق
قال: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن الربيع بنت معوذ قالت
اختلعت من زوجي فذكرت قصة وفيها: أن عثمان أمرها أن تعتد حيضة قالت: وتبع
35

عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امرأة ثابت بن قيس.
وحديث أبي الزبير أخرجه أيضا البيهقي وإسناده قوي مع كونه مرسلا. قوله
كتاب الخلع بضم الخاء المعجمة وسكون اللام هو في اللغة فراق الزوجة على مال
مأخوذ من خلع الثوب، لأن المرأة لباس الرجل معنى، وأجمع العلماء على مشروعيته
إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي فإنه قال: لا يحل للزوج أن يأخذ من امرأته
في مقابل فراقها شيئا لقوله تعالى: * (فلا تأخذوا منه شيئا) * (النساء: 20) وأورد عليه: * (فلا جناح
عليهما فيما افتدت به) * (البقرة: 229) فادعى نسخها بآية النساء، روى ذلك ابن أبي شيبة وتعقب
بقوله تعالى: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه) * (النساء: 128) وبقوله فيهما: * (فلا جناح
عليهما أن يصالحا) * (النساء: 4) الآية. (وبأحاديث الباب) وكأنها لم تبلغه، وقد انعقد الاجماع بعده
على اعتباره. وأن آية النساء مخصوصة بآية البقرة وبآيتي النساء الآخرتين، وهو
في الشرع فراق الرجل زوجته ببدل يحصل له. قوله: امرأة ثابت بن قيس وقع في
رواية ابن عباس والربيع أن اسمها جميلة، ووقع في رواية لأبي الزبير أن اسمها زينب
والرواية الأولى أصح لاسنادها وثبوتها من طريقين، وبذلك جزم الدمياطي. وأما
ما وقع في حديث ابن عباس المذكور أنها بنت سلول، وفي حديث الربيع وأبي الزبير
المذكورين أنها بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، ووقع في رواية للبخاري أنها بنت أبي
فقيل: إنها أخت عبد الله كما صرح به ابن الأثير وتبعه النووي وجزما بأن قول من
قال إنها بنت عبد الله وهم، وجمع بعضهم باتحاد اسم المرأة وعمتها، وأن ثابتا خالع
الثنتين واحدة بعد أخرى. قال الحافظ: ولا يخفى بعده ولا سيما مع اتحاد المخرج
وقد كثرت نسبة الشخص إلى جده إذا كان مشهورا، والأصل عدم التعدد حتى
يثبت صريحا. ووقع في حديث الربيع عند النسائي وابن ماجة أن اسمها مريم وإسناده
جيد. قال البيهقي: اضطرب الحديث في تسمية امرأة ثابت، ويمكن أن يكون الخلع
تعدد من ثابت انتهى. وروى مالك في الموطأ عن حبيبة بنت سهل أنها كانت تحت
ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى صلاة
الصبح فوجدها عند بابه فقال: من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل، قال: ما شأنك؟ قالت
لا أنا ولا ثابت بن قيس، الحديث أخرجه أيضا أصحاب السنن وصححه ابن
خزيمة وابن حبان من هذا الوجه. وأخرجه أبو داود من حديث عائشة أن حبيبة
36

بنت سهل كانت عند ثابت. وأخرج البزار من حديث ابن عمر نحوه. قال ابن عبد
البر: اختلف في امرأة ثابت بن قيس فذكر البصريون أنها جميلة بنت أبي، وذكر
المدنيون أنها حبيبة بنت سهيل، قال الحافظ: الذي يظهر لي أنهما قصتان وقعتا لامرأتين
لشهرة الخبرين وصحة الطريقين، واختلاف السياقين بخلاف ما وقع من الاختلاف
في تسمية جميلة ونسبتها، فإن سياق قصتها متقارب، فأمكن رد الاختلاف فيه إلى
الوفاق انتهى. ووهم ابن الجوزي فقال: إنها سهلة بنت حبيب وإنما هي حبيبة بنت
سهل ولكنه انقلب عليه ذلك. قوله: إني ما أعتب عليه بضم الفوقية ويجوز كسرها
والعتب هو الخطاب بالادلال. قوله: في خلق بضم الخاء المعجمة واللام ويجوز إسكانها
أي لا أريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان دينه. قوله: ولكني أكره الكفر
في الاسلام أي كفران العشير والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، ويمكن
أن يكون مرادها أن شدة كراهتها له قد تحملها على إظهار الكفر لينفسخ نكاحها
منه. ووقع في الرواية الثانية: لا أطيقه بغضا وظاهر هذا مع قولها ما أعتب عليه في
خلق ولا دين أنه لم يصنع بها شيئا يقتضي الشكوى منه، ويعارضه
ما وقع في حديث الربيع المذكور أنه ضربها فكسر يده، وأجيب بأنها لم
تشكه لذلك بل لسبب آخر وهو البغض أو قبح الخلقة كما وقع عند ابن ماجة من
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعند عبد الرزاق من حديث ابن عباس:
قوله: حديقته الحديقة البستان. قوله: اقبل الحديقة قال في الفتح: هو أمر إرشاد
وإصلاح لا إيجاب. ولم يذكر ما يدل على صرف الامر عن حقيقته، وفي ذلك دليل
على أنه يجوز للرجل أخذ العوض من المرأة إذا كرهت البقاء معه. وقال أبو قلابة
ومحمد بن سيرين: أنه لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلا
روى ذلك عنهما ابن أبي شيبة واستدلا بقوله تعالى: * (ولا يحل لكم أن
تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) * (البقرة: 229) مع قوله تعالى (الا
أن يأتين بفاحشة مبينة) * (النساء: 19) وتعقب بأن آية البقرة فسرت المراد بالفاحشة، وأحاديث
الباب الصحيحة من أعظم الأدلة على ذلك ولعلها لم تبلغهما، وحمل الحافظ
كلامهما على ما إذا كانت الكراهة من قبل الرجل فقط، ولا يخالف ذلك أحاديث الباب لأن الكراهة فيها من قبل المرأة، وظاهر أحاديث الباب أن مجرد وجود الشقاق
37

من قبل المرأة كاف في جواز الخلع. واختار ابن المنذر أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق
منهما جميعا وتمسك بظاهر الآية. وبذلك قال طاوس والشعبي وجماعة من التابعين
وأجاب عن ذلك جماعة منهم الطبري بأن المراد أنها إذا لم تقم بحقوق الزوج
كان ذلك مقتضيا لبغض الزوج لها فنسبت المخالفة إليهما لذلك، ويؤيد عدم اعتبار
ذلك من جهة الزوج أنه صلى الله عليه وآله وسلم يستفسر ثابتا عن كراهته لها عند
إعلانها بالكراهة له. قوله: تتربص حيضة استدل بذلك من قال: إن الخلع فسخ
لا طلاق. وقد حكي ذلك في البحر عن ابن عباس وعكرمة والناصر في أحد قوليه
وأحمد بن حنبل وطاوس وإسحاق وأبي ثور، وأحد قولي الشافعي وابن المنذر.
وحكاه غيره أيضا عن الصادق والباقر وداود والامام يحيى بن حمزة، وحكي في
البحر أيضا عن علي عليه السلام وعمر وعثمان وابن مسعود وزيد بن علي والقاسمية
وأبي حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى وأحد قولي الشافعي أنه طلاق بائن. ووجه
الاستدلال بحديث ابن عباس وحديث الربيع أن الخلع لو كان طلاقا لم يقتصر
صلى الله عليه وآله وسلم على الامر بحيضة، وأيضا لم يقع فيهما الامر بالطلاق بل
الامر بتخلية السبيل. قال الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير: إنه بحث عن رجال
الحديثين معا فوجدهم ثقات، واحتجوا أيضا لكونه فسخا بقوله تعالى: * (الطلاق
مرتان) * (البقرة: 229) ثم ذكر الافتداء ثم عقبه بقوله تعالى، * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى
تنكح زوجا غيره) * (البقرة: 229) قالوا: ولو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له فيه إلا
بعد زوج هو الطلاق الرابع. وبحديث حبيبة بنت سهل عند مالك في الموطأ أنها قالت
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي، فقال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لثابت: خذ منها فأخذ وجلست في أهلها ولم يذكر فيه الطلاق. ولا
زاد على الفرقة. وأيضا لا يصح جعل الخلع طلاقا بائنا ولا رجعيا. أما الأول
فلأنه، خلاف الظاهر لأنها تطليقة واحدة. وأما الثاني فلأنه إهدار لمال المرأة الذي
دفعته لحصول الفرقة. (واحتج القائلون) بأنه طلاق بما وقع في حديث ابن
عباس المذكور من أمره صلى الله عليه وآله وسلم لثابت بالطلاق. وأجيب بأنه
ثبت من حديث المرأة صاحبة القصة عند أبي داود والنسائي ومالك في الموطأ بلفظ
وخل سبيلها وصاحب القصة أعرف بها. وأيضا ثبت بلفظ الامر بتخلية السبيل
38

من حديث الربيع وأبي الزبير كما ذكره المصنف. ومن حديث عائشة عند أبي داود بلفظ
وفارقها وثبت أيضا من حديث الربيع أيضا عند النسائي بلفظ وتلحق بأهلها. ورواية
الجماعة أرجح من رواية الواحد. وأيضا قد روي عن ابن عباس هذا الحديث بدون ذكر
الطلاق من طريقين كما في الباب. وأيضا ابن عباس من جملة القائلين بأنه فسخ
ويبعد منه أن يذهب إلى خلاف ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد
حكي ذلك عن ابن عباس ابن عبد البر، ولكنه ادعى شذوذ ذلك عنه قال: إذ لا
يعرف أحد نقل عنه بأنه فسخ وليس بطلاق إلا طاوس. قال في الفتح: وفيه نظر
لأن طاوسا ثقة حافظ فقيه فلا يضر تفرده، وقد تلقى العلماء ذلك بالقبول، ولا أعلم
من ذكر الاختلاف في المسألة إلا وجزم أن ابن عباس كان يراه فسخا انتهى. وقال
الخطابي في معالم السنن: أنه احتج ابن عباس على أنه ليس بطلاق بقول الله تعالى
(الطلاق مرتان) * (البقرة: 229) انتهى. وأما الاحتجاج بقول الله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء) * (البقرة: 228) فيجاب عنه أولا بمنع اندراج الخلع تحت هذا العموم لما قررناه من كونه
ليس بطلاق. وثانيا بأنا لو سلمنا أنه طلاق لكان ذلك العموم مخصصا بما ذكرنا
من الأحاديث، فيكون بعد ذلك التسليم طلاقا عدته حيضة. واحتجوا أيضا على كونه
طلاقا بأنه قول أكثر أهل العلم كما حكى ذلك الترمذي فقال: قال أكثر أهل العلم
من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم أن عدة المختلعة عدة المطلقة انتهى.
ويجاب بأن ذلك مما لا يكون حجة في مقام النزاع بالاجماع لما تقرر أن الأدلة
الشرعية. إما الكتاب أو السنة أو القياس أو الاجماع على خلاف في الأخيرين.
وأيضا قد عارض حكاية الترمذي حكاية ابن القيم فإنه قال: لا يصح عن صحابي
أنه طلاق البتة. قال ابن القيم أيضا: والذي يدل على أنه ليس بطلاق أنه تعالى رتب
على الطلاق بعد الدخول ثلاثة أحكام كلها منتفية عن الخلع. أحدها: أن الزوج
أحق بالرجعة فيه. الثاني: أنه محسوب من الثلاث فلا تحل بعد استيفاء العدد إلا بعد
دخول زوج وإصابة. الثالث: أن العدة ثلاثة قروء. وقد ثبت بالنص والاجماع
أنه لا رجعة في الخلع انتهى. قال الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير في بحث له: وقد
استدل أصحابنا يعني الزيدية على أنه طلاق بثلاثة أحاديث ثم ذكرها وأجاب عنها
بوجوه حاصلها أنها مقطوعة الأسانيد، وأنها معارضة بما هو أرجح، وإن أهل
39

الصحاح لم يذكروها وإذا تكرر لك رجحان كونه فسخا. فاعلم أن القائلين به لا يشترطون
فيه أن يكون للسنة، فيجوز عندهم أن يكون في حال الحيض، ويقول بوقوعه
منهم من لم يقل بوقوع الطلاق البدعي، لأنه لا يعد من جملة الطلاق الثلاث التي
جعله الله للأزواج. والدليل على عدم الاشتراط عدم استفصاله صلى الله عليه وآله
وسلم كما في أحاديث الباب وغيرها، ويمكن أن يقال إن ترك الاستفصال لسبق العلم
به. وقد اشترط في الخلع نشوز الزوجة الهادوية. وقال داود والجمهور: ليس بشرط وهو
الظاهر لأن المرأة اشترت الطلاق بمالها، فلذلك لم تحل فيه الرجعة على القول بأنه طلاق
قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: أن الامر المشترط فيه أن لا يقيما حدود الله هو
طيب المال للزوج لا الخلع، وهو الظاهر من السياق في قوله تعالى: * (فإن خفتم أن لا يقيما
حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * (البقرة: 229). قوله: أما الزيادة فلا استدل
بذلك من قال: إن العوض من الزوجة لا يكون إلا بمقدار ما دفع إليها الزوج لا بأكثر
منه، ويؤيد ذلك ما عند ابن ماجة والبيهقي من حديث ابن عباس: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يأخذ منها ولا يزداد. وفي رواية عبد الوهاب
عن سعيد قال أيوب: لا أحفظ فيه ولا يزداد. وفي رواية الثوري: وكره أن يأخذ
منها أكثر مما أعطى، ذكر ذلك كله البيهقي، قال: ووصله الوليد بن مسلم عن ابن
جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال أبو الشيخ: هو غير محفوظ يعني
الصواب إرساله، وبما ذكرناه يعتضد مرسل أبي الزبير، ولا سيما وقد قال الدارقطني
أنه سمعه أبو الزبير من غير واحد كما ذكره المصنف. قال الحافظ: فإن كان فيهم
صحابي فهو صحيح، وإلا فيعتضد بما ورد في معناه. وأخرج عبد الرزاق عن علي أنه
قال: لا يأخذ منها فوق ما أعطاه. وعن طاوس وعطاء والزهري مثله وهو قول أبي
حنيفة وأحمد وإسحاق والهادوية. وعن ميمون بن مهران: من أخذ أكثر مما أعطى
لم يسرح بإحسان. وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن سعيد بن المسيب. قال
ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها ليدع لها شيئا. وذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل
أن يخالع المرأة بأكثر مما أعطاها. قال مالك: لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك
لكنه ليس من مكارم الأخلاق. وأخرج ابن سعد عن الربيع قالت: كان بيني
وبين ابن عمي كلام وكان زوجها، قالت: فقلت له لك كل شئ وفارقني، قال: قد فعلت
40

فأخذ والله كل فراشي، فجئت عثمان وهو محصور فقال: الشرط أملك خذ كل شئ
حتى عقاص رأسها. وفي البخاري عن عثمان أنه أجاز الخلع دون عقاص رأسها.
وروى البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار
فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: أتردين حديقته؟ قالت
وأزيده، فخلعها فردت عليه حديقته وزادته وهذا مع كون إسناده ضعيفا ليس فيه
حجة، لأنه ليس فيه أنه قررها صلى الله عليه وآله وسلم على دفع الزيادة بل أمرها
برد الحديقة فقط، ويمكن أن يقال: إن سكوته بعد قولها وأزيده تقرير. ويؤيد الجواز
قوله تعالى: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * (البقرة: 229) فإنه عام للقليل والكثير، ولكنه
لا يخفى أن الروايات المتضمنة للنهي عن الزيادة مخصصة لهذا العموم ومرجحة على
تلك الرواية المتضمنة للتقرير لكثرة طرقها وكونها مقتضية للحصر، وهو أرجح من
الإباحة عند التعارض على ما ذهب إليه جماعة من أئمة الأصول. (وأحاديث الباب)
قاضية بأنه يجوز الخلع إذا كان ثم سبب يقتضيه، فيجمع بينها وبين الأحاديث
القاضية بالتحريم بحملها على ما إذا لم يكن ثم سبب يقتضيه. وقد أخرج أصحاب
السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث ثوبان: أيما امرأة سألت زوجها
الطلاق فحرام عليها رائحة الجنة. وفي بعض طرقه من غير ما بأس وقد تقدم الحديث
وأخرج أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة: المختلعات هن المنافقات وهو من
رواية الحسن عنه وفي سماعه منه نظر *
(كتاب الرجعة والإباحة للزوج الأول)
1 (عن ابن عباس في قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * الآية، وذلك أن الرجل
كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك الطلاق
مرتان الآية رواه أبو داود والنسائي. وعن عروة عن عائشة قالت
كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها
وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك
41

فتبيني مني ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن
تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة
حتى جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته فسكت النبي صلى الله عليه وآله
وسلم حتى نزل القرآن: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) قالت
عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يكن طلق رواه
الترمذي ورواه أيضا عن عروة مرسلا وذكر أنه أصح) *
حديث ابن عباس في إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال. وحديث
عائشة المرفوع من طريق قتيبة عن يعلى بن شبيب عن هشام بن عروة عن أبيه عنها
والموقوف من طريق أبي كريب عن عبد الله بن إدريس عن هشام بن عروة عن أبيه
ولم يذكر فيه عائشة. قال الترمذي: وهذا أصح من حديث يعلى بن شبيب. قوله
تعالى: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) فسره مجاهد بالحيض
والحمل. وأخرج الطبري عن طائفة أن المراد به الحيض. وعن ابن جرير الحمل
والمقصود من الآية أن أمر العدة لما دار على الحيض والطهر والاطلاع على ذلك
يقع من جهة النساء غالبا جعلت المرأة مؤتمنة على ذلك. وقال إسماعيل القاضي: دلت
الآية أن المرأة المعتدة مؤتمنة على رحمها من الحمل والمحيض إلا أن تأتي من ذلك
بما يعرف به كذبها فيه، والمنسوخ من هذه الآية هو قوله تعالى: * (وبعولتهن أحق
بردهن) فإن ظاهره أن للرجل مراجعة المرأة مطلقا، سواء طلقها ثلاثا أو أكثر
أو أقل، فنسخ من ذلك مراجعة من طلقها زوجها ثلاثا فأكثر فإنه لا يحل له مراجعتها
بعد ذلك، وأما إذا طلقها واحدة رجعية أو اثنتين كذلك فهو أحق برجعتها. قال
في الفتح: وقد أجمعوا على أن الحر إذا طلق الحرة بعد الدخول بها تطليقة أو تطليقتين
فهو أحق برجعتها ولو كرهت المرأة ذلك، فإن لم يراجع حتى انقضت العدة فتصير
أجنبية فلا تحل له إلا بنكاح مستأنف. (واختلف السلف) فيما يكون به الرجل مراجعا
فقال الأوزاعي: إذا جامعها فقد راجعها. ومثله أيضا روي عن بعض التابعين، وبه
قال مالك وإسحاق بشرط أن ينوي به الرجعة، وقال الكوفيون كالأوزاعي وزادوا
ولو لمسها لشهوة أو نظر إلى فرجها لشهوة. وقال الشافعي: لا تكون الرجعة إلا بالكلام
وحجة الشافعي أن الطلاق يزيل النكاح، وإلى ذلك ذهب الامام يحيى، والظاهر
ما ذهب إليه الأولون لأن العدة مدة خيار، والاختيار يصح بالقول والفعل، وأيضا
42

ظاهر قوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن) * وقوله صلى الله عليه وآله وسلم
مره فليراجعها أنها تجوز المراجعة بالفعل لأنه لم يخص قولا من فعل، ومن ادعى
الاختصاص فعليه الدليل. وقد حكي في البحر عن العترة ومالك أن الرجعة بالوطئ
ومقدماته محظورة وإن صحت، ثم قال قلت: إن لم ينوبه الرجعة فنعم لعزمه على
قبيح وإلا فلا لما مر. وقال أحمد بن حنبل: بل مباح لقوله تعالى: * (إلا على أزواجهم)
والرجعية زوجة بدليل صحة الايلاء انتهى. وحديث عائشة فيه دليل على تحريم
الضرار في الرجعة لأنه منهي عنه بعموم قوله تعالى: * (ولا تضاروهن)
والمنهي عنه فاسد فسادا يرادف البطلان، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: * (إن أرادوا
إصلاحا) * (فكل رجعة لا يراد بها الاصلاح ليست برجعة شرعية. وقد دل
الحديثان المذكوران في الباب على أن الرجل كان يملك من الطلاق لزوجته في
صدر الاسلام الثلاث وما فوقها إلى ما لا نهاية له، ثم نسخ الله الزيادة على الثلاث
بالآية المذكورة. قوله: من كان طلق أي لم يعتد من ذلك الوقت بما قد
وقع منه من الطلاق، بل حكمه حكم من لم يطلق أصلا فيملك ثلاثا كما يملكها من
لم يقع منه شئ من الطلاق *
وعن عمران بن حصين: أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم
يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة وراجعت
لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد رواه أبو داود وابن ماجة
ولم يقل ولا تعد.
الأثر أخرجه أيضا البيهقي والطبراني وزاد: واستغفر الله قال الحافظ في
بلوغ المرام: وسنده صحيح، وقد استدل به من قال بوجوب الاشهاد على الرجعة،
وقد ذهب إلى عدم وجوب الاشهاد في الرجعة أبو حنيفة وأصحابه والقاسمية
والشافعي في أحد قوليه. واستدل لهم في البحر بحديث ابن عمر السالف فإن فيه
أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: مره فليراجعها ولم يذكر الاشهاد، وقال مالك والشافعي
والناصر: إنه يجب الاشهاد في الرجعة، واحتج في نهاية المجتهد للقائلين بعدم الوجوب
بالقياس على الأمور التي ينشئها الانسان لنفسه فإنه لا يجب فيها الاشهاد. ومن
الأدلة على عدم الوجوب أنه قد وقع الاجماع على عدم وجوب الاشهاد في
43

الطلاق كما حكاه الموزعي في تيسير البيان، والرجعة قرينته فلا يجب فيها كما لا يجب
فيه، والاحتجاج بالأثر المذكور في الباب لا يصلح للاحتجاج لأنه قول صحابي في أمر
من مسارح الاجتهاد، وما كان كذلك فليس بحجة لولا ما وقع من قوله: طلقت لغير سنة
وراجعت لغير سنة. وأما قوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * (الطلاق: 2) فهو وارد عقب
قوله: * (فأمسكوهن بمعروف) * (البقرة: 231) الآية، وقد عرفت الاجماع على عدم وجوب الاشهاد
على الطلاق، والقائلون بعدم الوجوب يقولون بالاستحباب.
وعن عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده
عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: أتريدين أن ترجعي إلى
رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك رواه الجماعة. لكن لأبي داود
معناه من غير تسمية الزوجين. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: العسيلة هي الجماع رواه أحمد والنسائي. وعن ابن عمر قال: سئل نبي
الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ويتزوجها آخر فيغلق
الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها هل تحل للأول؟ قال: لا حتى
يذوق العسيلة رواه أحمد والنسائي وقال قال لا تحل للأول حتى
يجامعها الآخر.
حديث عائشة الثاني أخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية، قال الهيثمي: فيه أبو
عبد الملك لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. وحديث ابن عمر هو من رواية سفيان
الثوري عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان الأحمري عن ابن عمر. وروي أيضا من
طريق شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله عن
سعيد بن المسيب عن ابن عمر. قال النسائي: والطريق الأولى أولى بالصواب. قال
الحافظ: وإنما قال ذلك لأن الثوري أتقن وأحفظ من شعبة، وروايته أولى بالصواب
من وجهين: أحدهما أن شيخ علقمة هو رزين بن سليمان كما قال الثوري، لا سالم بن رزين
كما قال شعبة، فقد رواه جماعة عن شعبة كذلك منهم غيلان بن جامع أحد الثقات.
ثانيهما: أن الحديث لو كان عند سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا لم يخالفه سعيد
ويقول بغيره كما سيأتي. (وفي الباب) عن عائشة غير حديث الباب عند أبي داود
بنحو حديث ابن عمر، وعن ابن عباس نحوه عند النسائي. وعن أبي هريرة عند
44

الطبراني وابن أبي شيبة بنحوه. وعن أنس عند الطبراني أيضا والبيهقي بنحوه
أيضا. وعن عائشة أيضا حديث آخر عند الطبراني بإسناد رجاله ثقات: أن عمرو بن
حزم طلق العميصاء فنكحها رجل فطلقها قبل أن يمسها، فسألت النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فقال: لا حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته. قوله: امرأة رفاعة
القرظي قيل: اسمها تميمة، وقيل: سهيمة، وقيل: أميمة. والقرظي بضم القاف وفتح
الراء والظاء المعجمة نسبة إلى بني قريظة. قوله: عبد الرحمن بن الزبير بفتح
الزاي من الزبير. قوله: هدبة الثوب بفتح الهاء وسكون المهملة بعدها باء
موحدة مفتوحة هي طرف الثوب الذي لم ينسج مأخوذ من هدب العين وهو شعر
الجفن هكذا في الفتح. وفي القاموس: الهدب بالضم وبضمتين شعر أشفار العين وخمل
الثوب واحدتهما بهاء، وكذا في مجمع البحار نقلا عن النووي أنها بضم هاء وسكون
دال. وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار، واستدل به على
أن وطئ الزوج الثاني لا يكون محللا ارتجاع الزوج الأول للمرأة إلا إن كان حال
وطئه منتشرا، فلو لم يكن كذلك أو كان عنينا أو طفلا لم يكن على الأصح من قولي
أهل العلم. قوله: حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك العسيلة مصغرة في
الموضعين، واختلف في توجيهه فقيل هو تصغير العسل لأن العسل مؤنث جزم
بذلك القزاز. قال: وأحسب التذكير لغة. وقال الأزهري: يذكر ويؤنث. وقيل:
لأن العرب إذا حقرت الشئ أدخلت فيه هاء التأنيث. وقيل: المراد قطعة من
العسل، والتصغير للتقليل إشارة إلى أن القدر القليل كاف في تحصيل ذلك بأن يقع
تغييب الحشفة في الفرج، وقيل معنى العسيلة النطفة وهذا يوافق قول الحسن البصري
وقال جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن الجماع وهو تغييب حشفة الرجل في
فرج المرأة. وحديث عائشة المذكور في الباب يدل على ذلك. وزاد الحسن البصري:
حصول الانزال. قال ابن بطال: شذ الحسن في هذا وخالف سائر الفقهاء وقالوا: يكفي
ما يوجب الحد ويحصن الشخص ويوجب كمال الصداق ويفسد الحج والصوم. وقال
أبو عبيدة: العسيلة لذة الجماع والعرب تسمي كل شئ تستلذه عسلا. (وأحاديث) الباب
تدل على أنه لا بد فيمن طلقها زوجها ثلاثا ثم تزوجها زوج آخر من الوطئ فلا
تحل للأول إلا بعده. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل
45

للأول إلا سعيد بن المسيب، ثم ساق بسنده الصحيح عنه ما يدل على ذلك. قال ابن
المنذر: وهذا القول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، ولعله لم يبلغه
الحديث فأخذ بظاهر القرآن. وقد نقل أبو جعفر النحاس في معاني القرآن وعبد
الوهاب المالكي في شرح الرسالة عن سعيد بن جبير مثل قول سعيد بن المسيب،
وكذلك حكى ابن الجوزي عن داود أنه وافق في ذلك، قال القرطبي: ويستفاد
من الحديث على قول الجمهور أن الحكم يتعلق بأقل ما ينطلق عليه الاسم خلافا لمن
قال: لا بد من حصول جميعه، واستدل بإطلاق الذوق لهما على اشتراط علم الزوجين
به حتى لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم يكف ذلك ولو أنزل هو. وبالغ ابن المنذر
فنقله عن جميع الفقهاء. (واستدل) بأحاديث الباب على جواز رجوعها إلى زوجها
الأول إذا حصل الجماع من الثاني، ويعقبه الطلاق منه لكن شرط المالكية، ونقل
عن عثمان وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني ولا إرادة
تحليلها للأول، وقال الأكثر: إن شرط ذلك في العقد فسد وإلا فلا، وقد قدمنا الكلام
على التحليل، ومما يستدل بأحاديث الباب عليه أنه لا حق للمرأة في
الجماع، لأن هذه المرأة شكت أن زوجها لا يطؤها، وأن ذكره لا ينتشر، وأنه
ليس معه ما يغني عنها، ولم يفسخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نكاحها، وفي
ذلك خلاف معروف.
كتاب الايلاء
عن الشعبي عن مسروق عن عائشة: قالت آلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين الكفارة
رواه ابن ماجة والترمذي، وذكر أنه قد روي عن الشعبي مرسلا وأنه أصح.
وعن ابن عمر قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق ولا يقع عليه
الطلاق حتى يطلق يعني المولي أخرجه البخاري وقال: ويذكر ذلك عن عثمان
وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
وسلم. وقال أحمد بن حنبل في رواية أبي طالب: قال عمر وعثمان وعلي وابن عمر
46

يوقف المولي بعد الأربعة فإما أن يفئ وإما أن يطلق. وعن سليمان بن يسار
قال: أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يقفون
المولي رواه الشافعي والدارقطني. وعن سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال: سألت
اثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل
يولي قالوا: ليس عليه شئ حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق
رواه الدارقطني.
حديث الشعبي قال الحافظ في الفتح: رجاله موثقون، ولكنه رجح الترمذي
إرساله على وصله. وأثر عمر ذكره البخاري موصولا من طريق إسماعيل بن أبي
أويس عن أخيه أبي بكر بن عبد الحميد بن أبي أويس. وأثر عثمان وصله الشافعي وابن
بي شيبة وعبد الرزاق بلفظ: يوقف المولي فإما أن يفئ وإما أن يطلق وهو
من رواية طاوس عنه وفي سماعه منه نظر، لكن أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر
منقطع عنه أنه كان لا يرى الايلاء شيئا وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف. وأخرج
عبد الرزاق والدارقطني عنه خلاف ذلك ولفظه: وقال عثمان إذا مضت أربعة
أشهر فهي تطليقة بائنة. وقد رجح أحمد رواية طاوس عنه وأثر علي وصله الشافعي
وابن أبي شيبة وسنده صحيح، وكذلك روى عنه مالك أنه إذا مضت الأربعة
أشهر لم يقع عليه طلاق حتى يوقف، فإما أن يطلق وإما أن يفئ وهو منقطع لأنه
من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عنه. وأخرج نحوه عنه سعيد بن منصور بإسناد
صحيح. وأثر أبي الدرداء وصله ابن أبي شيبة ولفظه: أن أبا الدرداء قال: يوقف
في الايلاء عند انقضاء الأربعة، فإما أن يطلق وإما أن يفئ، وإسناده صحيح. وأثر
عائشة وصله عبد الرزاق مثل قول أبي الدرداء وهو منقطع لأنه من رواية قتادة
عنها، ولكنه أخرج عنها سعيد بن منصور أنها كانت لا ترى الايلاء شيئا حتى يوقف
وإسناده صحيح. وأخرج الشافعي عنها نحوه بإسناد صحيح أيضا. وأما الآثار
الواردة عن اثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجها
البخاري في التاريخ موصولة. وأثر سليمان بن يسار أخرجه أيضا إسماعيل القاضي
من طريق يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر رجلا من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: الايلاء لا يكون طلاقا حتى يوقف
47

وأثر سهيل بن أبي صالح إسناده في سنن الدارقطني، هكذا أخبرنا أبو بكر النيسابوري،
أخبرنا أحمد بن منصور، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله
بن عمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه فذكره، ويشهد له ما تقدم. وأخرج
إسماعيل القاضي عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال: أدركنا الناس يقفون
الايلاء إذا مضت الأربعة. (وفي الباب) من المرفوع عن أنس عند البخاري: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم آلى من نسائه الحديث. وعن أم سلمة عند البخاري بنحوه
. وعن ابن عباس عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا.
وعن جابر عند مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتزل نساءه شهرا. قوله: آلى
الايلاء في اللغة الحلف، وفي الشرع الحلف الواقع من الزوج أن لا يطأ زوجته.
ومن أهل العلم من قال: الايلاء الحلف على ترك كلامها أو على أن يغيظها أو يسوءها
أو نحو ذلك. ونقل عن الزهري أنه لا يكون الايلاء إيلاء إلا أن يحلف المرء بالله فيما يريد أن
يضاربه امرأته من اعتزالها، فإذا لم يقصد الاضرار لم يكن إيلاء. وروي عن علي وابن
عباس والحسن وطائفة أنه لا إيلاء إلا في غضب، فأما من حلف أن لا يطأها بسبب
الخوف على الولد الذي يرضع منها من الغيلة فلا يكون إيلاء. وروي عن القاسم بن محمد
وسالم فيمن قال لامرأته: إن كلمتك سنة فأنت طالق، قالا: إن مضت أربعة أشهر ولم يكلمها
طلقت، وإن كلمها قبل سنة فهي طالق. وروي عن يزيد بن الأصم أن ابن عباس
قال له: ما فعلت امرأتك فعهدي بها سيئة الخلق، فقال: لقد خرجت وما أكلمها، قال:
أدركها قبل أن تمضي أربعة أشهر فإن مضت فهي تطليقة. قوله: وحرم في
الصحيحين أن الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه هو العسل
وقيل تحريم مارية وسيأتي. وروى ابن مردويه من طريق عائشة ما يفيد الجمع
بين الروايتين، وهكذا الخلاف في تفسير قوله تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل
الله لك) * (التحريم: 1) الآية. ومدة إيلائه صلى الله عليه وآله وسلم من نسائه شهر كما ثبت في
صحيح البخاري. واختلف في سبب الايلاء فقيل سببه الحديث الذي أفشته
حفصة كما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس واختلف أيضا في ذلك الحديث
الذي أفشته وقد وردت في بيانه روايات مختلفة. وقد اختلف في مقدار مدة الايلاء
فذهب الجمهور إلى أنها أربعة أشهر فصاعدا قالوا: فإن حلف على أنقص منها لم
48

يكن موليا. وقال إسحاق: إن حلف أن لا يطأها يوما فصاعدا ثم لم يطأها حتى
مضت أربعة أشهر فصاعدا كان إيلاء. وجاء عن بعض التابعين مثله. وحكي صاحب البحر
عن ابن مسعود وابن سيرين وابن أبي ليلى وقتادة والحسن البصري والنخعي وحماد بن
عيينة أنه ينعقد بدون أربعة أشهر، لأن القصد مضارة الزوجة وهي حاصلة في
دونها. (واحتج الأولون) بقوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص
أربعة أشهر) * (البقرة: 226) وأجاب الآخرون عنها بأن المراد بها المدة التي تضرب للمولى فإن
فاء بعدها وإلا طلق حتما لا أنه لا يصح الايلاء بدون هذه المدة. ويؤيد ما قالوه
ما تقدم من إيلائه صلى الله عليه وآله وسلم من نسائه شهرا، فإنه لو كان ما في القرآن
بيانا لمقدار المدة التي لا يجوز الايلاء دونها لم يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم
ذلك. وأيضا الأصل أن من حلف على شئ لزمه حكم اليمين فالحالف من وطء
زوجته يوما أو يومين مول. وأخرج عبد الرزاق عن عطاء أن الرجل إذا حلف
أن لا يقرب امرأته سمى أجلا أو لم يسمه، فإن مضت أربعة أشهر ألزم حكم الايلاء.
وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن البصري أنه إذا قال لامرأته: والله لا أقربها
الليلة فتركها أربعة أشهر من أجل يمينه تلك فهو إيلاء. وأخرج الطبراني والبيهقي
من حديث ابن عباس قال: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين فوقت الله لهم أربعة
أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء. قوله: فإما أن يفئ
الفئ الرجوع قاله أبو عبيدة وإبراهيم النخعي في رواية الطبري عنه قال: الفئ
الرجوع باللسان. ومثله عن أبي قلابة وعن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة
الفئ الرجوع بالقلب لمن به مانع عن الجماع وفي غيره بالجماع. وحكي ذلك في
البحر عن العترة والفريقين. وحكاه صاحب الفتح عن أصحاب ابن مسعود. وعن
ابن عباس الفئ الجماع. وحكي مثله عن مسروق وسعيد بن جبير والشعبي. قال
الطبري: اختلافهم في هذا من اختلافهم في تعريف الايلاء، فمن خصه بترك الجماع قال
: لا يفئ إلا بفعل الجماع. ومن قال الايلاء الحلف على ترك كلام المرأة أو على أن يغيظها
أو يسوءها أو نحو ذلك لم يشترط في الفئ الجماع بل رجوعه بفعل ما حلف أنه لا يفعله
. قال في البحر فرع: ولفظ الفئ ندمت على يميني ولو قدرت الآن لفعلت أو رجعت
عن يميني ونحوه انتهى. وقد ذهب الجمهور إلى أن الزوج لا يطالب بالفئ قبل
49

مضي الأربعة الأشهر. وقال ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن أبي ليلى والثوري
وأبو حنيفة: إنه يطالب فيها لقراءة ابن مسعود: * (فإن فاؤوا فيهن) * قالوا: وإذا جاز
الفئ جاز الطلب إذ هو تابع ويجاب بمنع الملازمة وبنص: * (للذين يؤلون من
نسائهم تربص أربعة أشهر) * (البقرة: 226) فإن الله سبحانه شرع التربص هذه المدة فلا
يجوز مطالبة الزوج قبلها، واختياره للفئ قبلها إبطال لحقه من جهة نفسه فلا
يبطل بإبطال غيره. وذهب الجمهور إلى أن الطلاق الواقع من الزوج في الايلاء
يكون رجعيا، وهكذا عند من قال: إن مضي المدة يكون طلاقا وإن لم يطلق. وقد
أخرج الطبري عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت أنها إذا مضت أربعة أشهر ولم
يف ء طلقت طلقة بائنة. وأخرج أيضا عن جماعة من التابعين من الكوفيين
وغيرهم كابن الحنفية وقبيصة بن ذؤيب وعطاء والحسن وابن سيرين مثله. وأخرج
أيضا من طريق سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وربيعة ومكحول والزهري
والأوزاعي أنها تطلق طلقة رجعية. وأخرج سعيد بن منصور عن جابر بن
زيد أنها تطلق بائنا. وروى إسماعيل القاضي في أحكام القرآن بسند صحيح عن
ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود مثله.
كتاب الظهار
عن سلمة بن صخر قال: كنت امرأ قد أوتيت من جماع
النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ
رمضان فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتايع في ذلك إلى أن يدركني
النهار وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف
إلي منها شئ فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرته خبري وقلت لهم:
انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بأمري، فقالوا: والله
لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت واصنع ما بدا لك، فخرجت حتى أتيت
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته خبري فقال لي: أنت بذاك؟ فقلت: أنا بذاك،
50

فقال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، فقال: أنت بذاك؟ قلت: نعم ها أنا ذا فامض في حكم
الله عز وجل فأنا صابر لقال: أعتق رقبة، فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا
والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: فصم شهرين متتابعين، قال قلت: يا رسول
الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم؟ قال: فتصدق، قال قلت: والذي بعثك بالحق
لقد بتنا ليلتنا وحشا ما لنا عشاء، قال: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له
فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا ثم استعن بسائره عليك
وعلى عيالك، قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت
عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السعة والبركة، وقد أمر لي بصدقتكم
فادفعوها إلي، قال: فدفعوها إلي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال:
حديث حسن.
الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه ابن خزيمة وابن الجارود، وقد أعله
عبد الحق بالانقطاع، وأن سليمان بن يسار لم يدرك سلمة. وقد حكى ذلك الترمذ عن
البخاري وفي إسناده أيضا محمد بن إسحاق. قوله: ظاهرت من امرأتي الظهار
بكسر الظاء المعجمة اشتقاقه من الظهر، وهو قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي
. قال في الفتح: وإنما خص الظهر بذلك دون سائر الأعضاء لأنه محل الركوب غالبا
، ولذلك سمي المركوب ظهرا، فشبهت الزوجة بذلك لأنها مركوب للرجل. وقد
ذهب الجمهور إلى أن الظهار يختص بالأم كما ورد في القرآن. وفي حديث خولة
التي ظاهر منها أوس فلو قال: كظهر أختي مثلا لم يكن ظهارا، وكذا لو قال: كظهر أبي.
وفي رواية عن أحمد أنه ظهار وطرده في كل من يحرم عليه وطؤه حتى في البهيمة.
وحكي في البحر عن أبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح
وزيد بن علي والناصر والامام يحيى والشافعي في أحد قوليه: إنه يقاس المحارم
على الام ولو من رضاع إذ العلة التحريم المؤبد. وعن ابن القاسم من أصحاب الشافعي:
ولو من الرجال. وعن مالك وأحمد والبتي وغير المؤبد فيصح بالأجنبيات. قوله
: فرقا بفتح الفاء والراء. قوله: فأتتايع بتاءين فوقيتين وبعد الألف ياء
وهو الوقوع في الشر. قوله: فقال لي: أنت بذاك لعل هذا التكرير للمبالغة في
الزجر لا أنه شرط في إقرار المظاهر، ومن ههنا يلوح أن مجرد الفعل لا يصح الاستدلال
51

به على الشرطية كما سيأتي في الاقرار بالزنا. قوله: أعتق رقبة ظاهره عدم اعتبار
كونها مؤمنة، وبه قال عطاء والنخعي وزيد بن علي وأبو حنيفة وأبو يوسف، وقال
مالك والشافعي وأكثر العترة: لا يجوز ولا يجزي إعتاق الكافر، لأن هذا مطلق
مقيد بما فكفارة القتل من اشتراط الايمان. وأجيب بأن تقييد حكم بما في حكم
آخر مخالف له لا يصح، وتحقيق الحق في ذلك محرر في الأصول، ولكنه يؤيد
اعتبار الاسلام حديث معاوية بن الحكم السلمي: فإنه لما سأل النبي صلى الله عليه
وآله وسلم عن إعتاق جاريته عن الرقبة التي عليه قال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء،
فقال: من أنا؟ فقالت: رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة ولم يستفصله عن الرقبة التي
عليه، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وظاهر إطلاق
الرقبة أنها تجزي المعيبة. وقد حكاه في البحر عن أكثر العترة وداود، وحكي
عن المرتضى والفريقين ومالك أنها لا تجزي. قوله: فصم شهرين ظاهره أن حكم
العبد حكم الحر في ذلك. وقد نقل ابن بطال الاجماع على أن العبد إذا ظاهر لزمه
وأن كفارته بالصيام شهران كالحر، واختلفوا في الاطعام والعتق فقال الكوفيون
والشافعي والهادوية: لا يجزيه إلا الصيام فقط. وقال ابن القاسم عن مالك: إذا أطعم
بإذن مولاه أجزأه، قال: وما ادعاه ابن بطال من الاجماع مردود، فقد نقل الشيخ
الموفق في المغني عن بعضهم أنه لا يصح ظهار العبد لأن الله تعالى قال: * (فتحرير رقبة
) * (النساء: 92) والعبد لا يملك الرقاب، وتعقب بأن تحرير الرقبة إنما هو على من يجدها فكان كالمعسر
ففرضه الصيام. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن إبراهيم أنه لو صام
العبد شهرا أجزأ عنه. قوله: وحشا لفظ أبي داود وحشين، قال في النهاية: يقال
رجل وحش بالسكون إذا كان جائعا لا طعام له وقد أوحش إذا جاع. قوله: بني
زريق بتقديم الزاي على الراء. قوله: ستين مسكينا فيه دليل على أنه يجزي من لم يجد رقبة
ولم يقدر على الصيام لعلة أن يطعم ستين مسكينا. وقد حكي صاحب البحر الاجماع على ذلك.
وحكي أيضا الاجماع على أن الكفارة في الظهار واجبة على الترتيب. وظاهر الحديث
أنه لا بد من إطعام ستين مسكينا ولا يجزي إطعام دونهم. وإليه ذهب الشافعي ومالك
والهادوية. وقال زيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه والناصر: أنه يجزي إطعام واحد ستين
يوما. قوله: فأطعم عنك منها وسقا. في رواية: فأطعم عرقا من تمر ستين مسكينا
52

وسيأتي الاختلاف في العرق في حديث خولة. وقد أخذ بظاهر حديث الباب الثوري
وأبو حنيفة وأصحابه والهادوية والمؤيد بالله فقالوا: الواجب لكل مسكين صاع
من تمر أو ذرة أو شعير أو زبيب أو نصف صاع من بر. وقال الشافعي وهو مروي
عن أبي حنيفة أيضا: أن الواجب لكل مسكين مد، وتمسكوا بالروايات التي فيها ذكر العرق
وتقديره بخمسة عشر صاعا وسيأتي، واختلفت الرواية عن مالك، وظاهر الحديث أن
الكفارة لا تسقط بالعجز عن جميع أنواعها لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أعانه بما يكفر به بعد أن أخبره أنه لا يجد رقبة ولا يتمكن من إطعام ولا يطيق الصوم،
وإليه ذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه، وذهب قوم إلى السقوط، وذهب آخرون إلى
التفصيل فقالوا: تسقط كفارة صوم رمضان لا غيرها من الكفارات.
وعن سلمة بن صخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المظاهر
يواقع قبل أن يكفر قال: كفارة واحدة رواه ابن ماجة والترمذي. وعن أبي
سلمة عن سلمة بن صخر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاه مكتلا فيه
خمسة عشر صاعا فقال: أطعمه ستين مسكينا وذلك لكل مسكين مد رواه
الدارقطني وللترمذي معناه. وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها فقال: يا رسول الله
إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر، فقال: ما حملك على ذلك
يرحمك الله؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله
رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي، وهو حجة في تحريم الوطئ قبل التكفير
بالاطعام وغيره. ورواه أيضا النسائي عن عكرمة مرسلا وقال فيه: فاعتزلها حتى
تقضي ما عليك وهو حجة في ثبوت كفارة الظهار في الذمة.
حديث سلمة الأول حسنه الترمذي. وحديثه الثاني أخرجه أيضا الحاكم
والبيهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن
سلمة بن صخر البياضي الحديث. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا الحاكم وصححه،
قال الحافظ: ورجاله ثقات لكن أعله أبو حاتم والنسائي بالارسال. وقال ابن حزم:
رواته ثقات ولا يضره إرسال من أرسله، وأخرج البزار شاهدا له من طريق
خصيف عن عطاء عن ابن عباس: أن رجلا قال: يا رسول الله إني ظاهرت من
53

امرأتي فرأيت ساقها في القمر فواقعتها قبل أن أكفر، فقال: كفر ولا تعد. وقد
بالغ أبو بكر بن العربي فقال: ليس في الظهار حديث صحيح قوله: قال كفارة
واحدة قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وهو قول سفيان
الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال بعضهم: إذا واقعها قبل أن يكفر
فعليه كفارتان وهو قول عبد الرحمن بن مهدي. قوله: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك
الله فيه دليل على أنه يحرم على الزوج الوطئ قبل التكفير وهو الاجماع، وأن الكفارة
واجبة عليه لا تسقط بالوطئ قبل إخراجها. وروى سعيد بن منصور عن الحسن
وإبراهيم أنه يجب على من وطأ قبل التكفير ثلاث كفارات. وذهب الزهري
وسعيد بن جبير وأبو يوسف إلى سقوط الكفارة بالوطئ. وروي عن عبد الله بن
عمرو بن العاص أنه يجب عليه كفارتان، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي كما سلف.
وذهب الجمهور إلى أن الواجب كفارة واحدة مطلقا، وهو مذهب الأئمة الأربعة
وغيرهم كما تقدم. (واختلف) في مقدمات الوطئ هل تحرم مثل الوطئ إذا أراد أن
يفعل شيئا منها قبل التكفير أم لا؟ فذهب الثوري والشافعي في أحد قوليه إلى أن
المحرم هو الوطئ وحده لا المقدمات. وذهب الجمهور إلى أنها تحرم كما يحرم الوطئ
، واستدلوا بقوله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) * (المجادلة: 3) وهو يصدق على الوطئ ومقدماته، وأجاب
من قال بأن حكم المقدمات مخالف لحكم الوطئ بأن المسيس كناية عن الجماع، وقد
قدمنا الكلام على ذلك في أبواب الوضوء، واعلم أنها تجب الكفارة بعد العود
إجماعا لقوله تعالى: * (ثم يعودون لما قالوا) * (المجادلة: 3) واختلفوا هل العلة في وجوبها العود
أو الظهار؟ فذهب إلى الأول ابن عباس وقتادة والحسن وأبو حنيفة وأصحابه والعترة
. وذهب إلى الثاني مجاهد والثوري. وقال الزهري وطاوس ومالك وأحمد بن حنبل
وداود والشافعي: بل العلة مجموعهما. وقال الامام يحيى: أن العود شرط كالاحصان
مع الزنا، واختلفوا في العود ما هو؟ فقال قتادة وسعيد بن جبير وأبو حنيفة وأصحابه
والعترة: أنه أراد المس لما حرم بالظهار، لأنه إذا أراد فقد دعا عن عزم الترك إلى
عزم الفعل سواء فعل أم لا، وقال الشافعي: بل هو إمساكها بعد الظهار وقتا يسع
الطلاق ولم يطلق، إذ تشبيهها بالأم يقتضي إبانتها وإمساكها نقيضه. وقال مالك
54

وأحمد: بل هو العزم على الوطئ فقط وإن لم يطأ. وقال الحسن البصري وطاوس
والزهري: بل هو الوطئ نفسه. وقال داود وشعبة: بل إعادة لفظ الظهار.
عن خولة بنت مالك بن ثعلب قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت
فجئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وآله
سلم يجادلني فيه ويقول: اتقي الله فإنه ابن عمك، فما برح حتى نزل القرآن * (قد
سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) * (المجادلة: 1) إلى الغرض فقال: يعتق رقبة، قالت: لا يجد،
قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال:
فليطعم ستين مسكينا، قالت: ما عنده من شئ يتصدق به، قال: فأتي ساعتئذ بعرق من
تمر قالت: يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر، قال: قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما
عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك، والعرق ستون صاعا رواه أبو داود.
ولأحمد معناه لكنه لم يذكر قدر العرق وقال فيه: فليطعم ستين مسكينا وسقا من
تمر. ولأبي داود في رواية أخرى: والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعا وقال: هذا
أصح. وله عن عطاء عن أوس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاه خمسة
عشر صاعا من شعير إطعام ستين مسكينا وهذا مرسل. قال أبو داود: عطاء
لم يدرك أوسا
. حديث خولة سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده محمد بن إسحاق،
وسيأتي تمام الكلام على الاسناد. وأخرج ابن ماجة والحاكم نحوه من حديث
عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شئ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة
ويخفى علي بعضه وهي تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت
الحديث، وأصله في البخاري من هذا الوجه إلا أنه لم يسمها. وأخرج أيضا أبو
داود والحاكم عن عائشة من وجه آخر قالت: كانت جميلة امرأة أوس بن الصامت
وكان امرأ به لمم فإذا اشتد لممه ظاهر من امرأته. وحديث أوس أعله أبو داود
بالارسال كما ذكر المصنف. قوله: خولة بنت مالك وقع في تفسير أبي حاتم خولة
بنت الصامت، قال الحافظ: وهو وهم والصواب زوج ابن الصامت، ورجح غير واحد
أنها خولة بنت الصامت بن ثعلبة. وروى الطبراني في الكبير والبيهقي من حديث
ابن عباس أن المرأة خولة بنت خويلد وفي إسناده أبو حمزة اليماني وهو ضعيف.
55

وقال يوسف بن عبد الله بن سلام: إنها خويلة، وروي أنها بنت دليح، كذا في
الكاشف. وفي رواية عائشة المتقدمة أنها جميلة. قوله: والعرق ستون صاعا
هذه الرواية تفرد بها معمر بن عبد الله بن حنظلة، قال الذهبي: لا يعرف، ووثقه ابن
حبان. وفيها أيضا محمد بن إسحاق وقد عنعن، والمشهور عرفا أن العرق يسع خمسة عشر
صاعا كما روى ذلك الترمذي بإسناد صحيح من حديث سلمة نفسه، والكلام على ما يتعلق
بحديث خولة من الفقه قد تقدم
. باب من حرم زوجته أو أمته
عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة متفق عليه. وفي لفظ: أنه أتاه رجل
فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما، فقال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا: * (يا أيها
النبي لم تحرم ما أحل الله لك عليك) * (التحريم: 1) أغلظ الكفارة عتق رقبة رواه النسائي.
وعن ثابت عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له أمة يطؤها
فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل * (يا أيها النبي لم تحرم
ما أحل الله لك) * إلى آخر الآية، رواه النسائي.
الرواية الثانية من حديث ابن عباس أخرجها ابن مردويه من طريق
سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عنه. وحديث أنس قال الحافظ: سنده صحيح
وهو أصح طرق سبب نزول الآية، وله شاهد مرسل عند الطبراني بسند صحيح
عن زيد بن أسلم التابعي المشهور قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم إبراهيم
ولده في بيت بعض نسائه فقالت: يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي؟ فجعلها عليه
حراما، فقالت: يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها، فنزلت
* (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) *. (وفي الباب) عن عائشة عند الترمذي وابن ماجة
بسند رجاله ثقات قالت: آلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحرم فجعل الحرام
حلالا، وجعل في اليمين كفارة وقد تقدم في كتاب الايلاء. وعن ابن عباس غير
حديث الباب عند البيهقي بسند صحيح عن يوسف بن ماهك أن أعرابيا أتى
56

ابن عباس فقال: إني جعلت امرأتي حراما، قال: ليست عليك بحرام، قال: أرأيت قول
الله تعالى: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * (آل عمران: 93) الآية،
فقال ابن عباس: إن إسرائيل كان به عرق الإنسي فجعل على نفسه إن شفاه الله أن
لا يأكل العروق من كل شئ وليست بحرام يعني على هذه الأمة. (وقد اختلف)
العلماء فيمن حرم على نفسه شيئا، فإن كان الزوجة فقد اختلف فيه أيضا على أقوال
بلغها القرطبي المفسر إلى ثمانية عشر قولا. قال الحافظ: وزاد غيره عليها. وفي مذهب
مالك فيها تفاصيل يطول استيفاؤها. قال القرطبي قال بعض علمائنا: سبب الاختلاف
أنه لم يقع في القرآن صريحا ولا في السنة نص ظاهر صحيح يعتمد عليه في حكم
هذه المسألة فتجاذبها العلماء، فمن تمسك بالبراءة قال: لا يلزمه شئ، ومن قال: إنها يمين
أخذ بظاهر قوله تعالى: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * (التحريم: 2) بعد قوله: * (يا أيها النبي لم
تحرم ما أحل الله لك) * (التحريم: 1) ومن قال: تجب الكفارة وليست بيمين بناه على أن معناه
معنى اليمين فوقعت الكفارة على المعنى. ومن قال: يقع به طلقة رجعية حمل اللفظ على
أقل وجوهه الظاهرة، وأقل ما تحرم به المرأة طلقة ما لم يرتجعها. ومن قال: بائنة
فلاستمرار التحريم بها ما لم يجدد العقد. ومن قال: ثلاثا حمل اللفظ على منتهى وجوهه.
ومن قال: ظهار نظر إلى معنى التحريم وقطع النظر عن الطلاق فانحصر الامر عنده
في الظهار انتهى. ومن المطولين للبحث في هذه المسألة الحافظ ابن القيم فإنه تكلم
عليها في الهدى كلاما طويلا وذكر ثلاثة عشر مذهبا أصولا تفرعت إلى عشرين
مذهبا، وذكر في كتابه المعروف بإعلام الموقعين خمسة عشر مذهبا وسنذكر ذلك
على طريق الاختصار ونزيد عليه فوائد المذهب الأول: أن قول القائل لامرأته:
أنت علي حرام لغو وباطل لا يترتب عليه شئ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس،
وبه قال مسروق وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء والشعبي وداود وجميع أهل
الظاهر وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد قولي المالكية، واختاره أصبغ بن الفرج
منهم واستدلوا بقوله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال
وهذا حرام) * (التحريم: 1) وبقوله تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * (النحل: 116) وسبب نزول هذه
الآية ما تقدم وبالحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من عمل عملا
ليس عليه أمرنا فهو رد وقد تقدم في كتاب الصلاة. القول الثاني: أنها ثلاث تطليقات
57

وهو قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن عمر والحسن البصري
ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وحكاه في البحر عن أبي هريرة، واعترض
ابن القيم الرواية عن زيد بن ثابت وابن عمر وقال: الثابت عنهما ما رواه ابن حزم
أنهما قالا: عليه كفارة يمين، ولم يصح عنهما خلاف ذلك. وروى ابن حزم عن علي
عليه السلام الوقف في ذلك. وعن الحسن أنه قال: إنه يمين واحتج أهل هذا القول
بأنها لا تحرم عليه إلا بالثلاث، فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما. الثالث
: أنها بهذا القول حرام عليه قال ابن حزم وابن القيم في أعلام الموقعين: صح عن
أبي هريرة والحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة قال: لم يذكر هؤلاء
طلاقا بل أمروه باجتنابها فقط، قال: وصح أيضا عن علي عليه السلام، فإما أن يكون
عنه روايتان أو يكون أراد تحريم الثلاث، وحجة هذا القول إن لفظه إنما اقتضى
التحريم ولم يتعرض لعدد الطلاق فحرمت عليه بمقتضى تحريمه. الرابع: الوقف فيها
، قال ابن القيم: صح ذلك عن علي عليه السلام وهو قول الشعبي، وحجة هذا القول إن
التحريم ليس بطلاق، والزوج لا يملك تحريم الحلال إنما يملك السبب الذي تحرم
به وهو الطلاق، وهذا ليس بصريح في الطلاق ولا هو مما له عرف الشرع في تحريم
الزوجة فاشتبه الامر فيه. الخامس: إن نوى به الطلاق فهو طلاق وإن لم ينوه كان
يمينا، وهو قول طاوس والزهري والشافعي ورواية عن الحسن، وحكاه أيضا في الفتح عن
النخعي وإسحاق وابن مسعود وابن عمر، وحجة هذا القول إنه كناية في الطلاق، فإن نواه كان
طلاقا، وإن لم ينوه كان يمينا لقوله تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * إلى قوله
: * (تحلة أيمانكم) * (التحريم: 1 2). السادس: أنه إن نوى الثلاث فثلاث، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة، وإن
نوى يمينا فهو يمين، وإن لم ينو شيئا فهو كذبة لا شئ فيها، قاله سفيان وحكاه النخعي عن أصحابه،
وحجة هذا القول إن اللفظ محتمل لما نواه من ذلك فتتبع نيته. السابع: مثل هذا
الا أنه إذا لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها وهو قول الأوزاعي، وحجة هذا القول ظاهر قوله
تعالى: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * فإذا نوى به الطلاق لم يكن يمينا، فإذا أطلق ولم ينو
شيئا كان يمينا. الثامن: مثل هذا أيضا إلا أنه إن لم ينو شيئا فواحدة بائنا إعمالا للفظ
التحريم، هكذا في أعلام الموقعين ولم يحكه عن أحد، وقد حكاه ابن حزم عن إبراهيم
النخعي. التاسع: أفيه كفارة ظهار، قال ابن القيم: صح عن ابن عباس وأبي قلابة
58

وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وعثمان البتي وهو إحدى الروايات عن أحمد، وحجة
هذا القول أن الله تعالى جعل التشبيه بمن تحرم عليه ظهارا فالتصريح منه بالتحريم
أولى، قال ابن القيم: وهذا أقيس الأقوال، ويؤيده أن الله تعالى لم يجعل للمكلف
التحليل والتحريم وإنما ذلك إليه تعالى، وإنما جعل له مباشرة الأقوال والأفعال
التي يترتب عليها التحريم، فإذا قال: أنت علي كظهر أمي، أو أنت علي حرام، فقد قال المنكر
من القول والزور وكذب على الله تعالى، فإنه لم يجعلها عليه كظهر أمه ولا جعلها عليه حراما،
فقد أوجب بهذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين وهي كفارة الظهار. العاشر:
أنها تطليقة واحدة وهو إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب وقول حماد بن أبي
سليمان شيخ أبي حنيفة، وحجة هذا القول إن تطليق التحريم لا يقتضي التحريم
بالثلاث بل يصدق بأقله والواحدة متيقنة فحمل اللفظ عليها. الحادي عشر: أنه ينوي
ما أراد من ذلك في إرادة أهل الطلاق وعدده، وإن نوى تحريما بغير طلاق فيمين
مكفرة. قال ابن القيم: وهو قول الشافعي، وحجة هذا القول إن اللفظ صالح لذلك كله
فلا يتعين واحدة منها إلا بالنية، وقد تقدم أن مذهب الشافعي هو القول الخامس،
وهو الذي حكاه عنه في فتح الباري بل حكاه عنه ابن القيم نفسه. الثاني عشر: أنه
ينوي أيضا ما شاء من عدد الطلاق، إلا أنه إذا نوى واحدة كانت بائنة، وإن لم ينو
شيئا فإيلاء، وإن نوى الكذب فليس بشئ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه هكذا
قال ابن القيم. وفي الفتح عن الحنفية أنه إذا نوى اثنتين فهي واحدة بائنة، وإن لم
ينو طلاقا فهو يمين ويصير مواليا. وفي رواية عن أبي حنيفة أنه إذا نوى الكذب دين
ولم يقبل في الحكم ولا يكون مظاهرا عنده نواه أو لم ينوه، ولو صرح به فقال: أعني به
الظهار لم يكن مظاهرا، وحجة هذا القول احتمال اللفظ. الثالث عشر: أنه يمين يكفره
ما يكفر اليمين على كل حال، قال ابن القيم: صح ذلك عن أبي بكر وعمر بن
الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة
وعطاء وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وجابر بن
زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور وخلق سواهم، وحجة هذا
القول ظاهر القرآن، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الايمان عقب تحريم الحلال
فلا بد أن يتناوله يقينا. الرابع عشر: أنه يمين مغلظة يتعين بها عتق رقبة، قال ابن القيم:
59

صح أيضا عن ابن عباس وأبي بكر وعمر وابن مسعود وجماعة من التابعين، وحجة
هذا القول إنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها. الخامس عشر: أنه طلاق ثم
أنها إن كانت غير مدخول بها فهو ما نواه من الواحدة فما فوقها، وإن كانت مدخولا
بها فهو ثلاث وإن نوى أقل منها، وهو إحدى الروايتين عن مالك، ورواه في نهاية
المجتهد عن علي وزيد بن ثابت، وحجة هذا لقول إن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب
أن يترتب عليه حكمه، وغير المدخول بها تحرم بواحدة، والمدخول بها لا تحرم إلا
بالثلاث. (واعلم) أنه قد رجح المذهب الأول من هذه المذاهب جماعة من
العلماء المتأخرين، وهذا المذهب هو الراجح عندي إذا أراد تحريم العين، وأما إذا أراد
به الطلاق فليس في الأدلة ما يدل على امتناع وقوعه به. أما قوله تعالى: * (ولا تقولوا
لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) * (النحل: 116) وكذلك قوله تعالى: * (يا أيها
النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * فنحن نقول بموجب ذلك، فمن أراد تحريم عين زوجته
لم تحرم، وأما من أراد طلاقها بذلك اللفظ فليس في الأدلة ما يدل على اختصاص
الطلاق بألفاظ مخصوصة وعدم جوازه بما سواها وليس في قوله تعالى: * (فإن
طلقها فلا تحل له من بعد) * (البقرة: 230) ما يقضي بانحصار الفرقة في لفظ الطلاق، وقد ورد
الاذن بما عداه من ألفاظ الفرقة كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لابنة الجون: إلحقي
بأهلك قال ابن القيم: وقد أوقع الصحابة الطلاق بأنت حرام، وأمرك بيدك،
واختاري، ووهبتك لأهلك، وأنت خلية وقد خلوت مني، وأنت برية وقد أبرأتك
، وأنت مبرأة، وحبلك على غاربك، انتهى. وأيضا قال الله تعالى: * (فإمساك بمعروف
أو تسريح بإحسان) * (البقرة: 229) وظاهره أنه لو قال: سرحتك لكفى في إفادة معنى الطلاق. وقد ذهب
جمهور أهل العلم إلى جواز التجوز لعلاقة مع قرينة في جميع الألفاظ إلا ما خص،
فما الدليل على امتناعه في باب الطلاق؟ وأما إذا حرم الرجل على نفسه شيئا غير زوجته
كالطعام والشراب فظاهر الأدلة أنه لا يحرم عليه شئ من ذلك، لأن الله لم يجعل
إليه تحريما ولا تحليلا فيكون التحريم الواقع منه لغوا، وقد ذهب إلى مثل هذا الشافعي،
وروي عن أحمد أن عليه كفارة يمين.
60

كتاب اللعان
عن نافع عن ابن عمر: أن رجلا لاعن امرأته وانتفى من ولدها
ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة رواه الجماعة. وعن
سعيد بن جبير: أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن المتلاعنان أيفرق بينهما؟
قال: سبحان الله نعم، إن أول من سأل عن ذلك فلان ابن فلان، قال: يا رسول الله
أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم،
وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجبه،
فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله عز وجل
هؤلاء الآيات في سورة النور: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء) * (النور: 6) فتلاهن
عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال:
لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها وأخبرها أن عذاب الدنيا
أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل
فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة
أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما. وعن ابن عمر قال:
فرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أخوي بني عجلان وقال: الله
يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب ثلاثا؟ متفق عليهما. وعن سهل بن
سعد: أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله
أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: قد نزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها، قال سهل
: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغ قال عويمر:
كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين رواه الجماعة
إلا الترمذي. وفي رواية متفق عليها: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
61

ذاكم التفريق بين كل متلاعنين. وفي لفظ لأحمد ومسلم: وكان فراقه إياها
سنة في المتلاعنين.
قوله: لاعن امرأته قال في الفتح: اللعان مأخوذ من اللعن لأن الملاعن يقول
في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، واختير لفظ اللعن دون الغضب
في التسمية لأنه قول الرجل وهو الذي بدئ به في الآية، وهو أيضا يبدأ به،
وقيل: سمي لعانا لأن اللعن الطرد والابعاد وهو مشترك بينهما، وإنما خصت المرأة
بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها ثم قال: وأجمعوا على أن اللعان مشروع،
وعلى أنه لا يجوز مع عدم التحقق، واختلف في وجوبه على الزوج، وظاهر أحاديث
الباب أن اللعان إنما يشرع بين الزوجين، وكذلك قوله تعالى: * (والذين يرمون
أزواجهم) * (النور: 6) الآية، فلو قال أجنبي لأجنبية: يا زانية وجب عليه حد القذف. قوله: ففرق
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما استدل به من قال: إن الفرقة بين
المتلاعنين لا تقع بنفس اللعان حتى يوقعها الحاكم، وأجاب من قال: إن الفرقة تقع
بنفس اللعان أن ذلك بيان حكم لا إيقاع فرقة، واحتجوا بما وقع منه صلى الله عليه
وآله وسلم في رواية بلفظ: لا سبيل لك عليها وتعقب بأن الذي وقع جواب
لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه. وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ وهو
نكرة في سياق النفي فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسلطه عليها بوجه من
الوجوه، ووقع في حديث لأبي داود عن ابن عباس: وقضى أن ليس عليه قوت
ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها وهو ظاهر في أن
الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان، وسيأتي تمام الكلام في الفرقة في الباب الذي
بعد هذا. قوله: وألحق الولد بالمرأة قال الدارقطني: تفرد مالك بهذه الزيادة. وقال
ابن عبد البر: ذكروا أن مالكا تفرد بهذه اللفظة وقد جاءت من أوجه أخر،
وقد جاءت في حديث سهل بن سعد عند أبي داود بلفظ: فكان الولد ينسب
إلى أمه. ومن رواية أخرى: وكان الولد يدعى إلى أمه ومعنى قوله: ألحق
الولد بأمه أي صيره لها وحدها ونفاه عن الزوج فلا توارث بينهما، وأما الام
فترث منه ما فرض الله لها. وقد وقع في رواية من حديث سهل بن سعد بلفظ: وكان
ابنها يدعى لامه ثم جرت السنة في ميراثهما أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله لهما.
62

وقيل: معنى إلحاقه بأمه أنه صيرها له أبا وأما فترث جميع ماله إذا ليكن له وارث
آخر من ولده ونحوه، وهو قول ابن مسعود وواثلة وطائفة ورواية عن أحمد، وروي
أيضا عن ابن القاسم، وقيل: إن عصبة أمه تصير عصبة له وهو قول علي وابن عمر وهو
المشهور عن أحمد وبه قالت الهادوية، وقيل: ترثه أمه وأخته منها بالفرض والرد
وهو قول أبي عبيد ومحمد بن الحسن ورواية عن أحمد قال: فإن لم يرثه ذو فرض
بحال فعصبته عصبة أمه، واستدل بحديث ابن عمر المذكور على مشروعية اللعان
لنفي الولد، وعن أحمد ينتفي الولد بمجرد اللعان وإن لم يتعرض الرجل لذكره في
اللعان. قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو استلحقه لحقه، وإنما يؤثر اللعان دفع حد القذف
عنه وثبوت زنا المرأة. وقال الشافعي: إن نفي الولد في الملاعنة انتفى، وإن لم يتعرض
له فله أن يعيد اللعان لانتفائه، ولا إعادة على المرأة وإن أمكنه الرفع إلى الحاكم
فأخر بغير عذر وحتى ولدت لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة، واستدل به أيضا
على أنه لا يشترط في نفي الولد التصريح بأنها ولدته من زنا ولا بأنه استبرأها بحيضة،
وعن المالكية يشترط ذلك. قوله: أرأيت لو وجد أحدنا أي أخبرني عن حكم
من وقع له ذلك. قوله: على فاحشة اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلا
وتحقق وجود الفاحشة منهما فقتله هل يقتل به أم لا؟ فمنع الجمهور الاقدام وقالوا
يقتص منه إلا أن يأتي ببينة الزنا أو يعترف المقتول بذلك بشرط أن يكون محصنا
، وقيل: بل يقتل به لأنه ليس له أن يقيم الحد بغير إذن الإمام، وقال بعض السلف:
لا يقتل أصلا ويعذر فيما فعله إذا ظهرت أمارات صدقه، وشرط أحمد وإسحاق ومن
تبعهما أن يأتي بشاهدين أنه قتله بسبب ذلك، ووافقهم ابن القاسم وابن حبيب من
المالكية لكن زاد أن يكون المقتول قد أحصن، وعند الهادوية أنه يجوز للرجل
أن يقتل من وجده مع زوجته وأمته وولده حال الفعل وأما بعده فيقاد به إن كان بكرا.
قوله: ووعظه وذكره فيه دليل على أنه يشرع للامام موعظة المتلاعنين قبل اللعان
تحذيرا لهما منه وتخويفا لهما من الوقوع في المعصية. قوله: فبدأ بالرجل فيه دليل على
أنه يبدأ الامام في اللعان بالرجل، وقد حكى الإمام المهدي في البحر الاجماع على
أن السنة تقديم الزوج واختلف في الوجوب، فذهب الشافعي ومن تبعه وأشهب
من المالكية ورجحه ابن العربي إلى أنه واجب، وهو قول المؤيد بالله وأبي طالب
63

وأبي العباس والامام يحيى. وذهبت الحنفية ومالك وابن القاسم إلى أنه لو وقع الابتداء
بالمرأة صح واعتد به واحتجوا بأن الله تعالى عطف في القرآن بالواو وهو لا يقتضي
الترتيب. (واحتج الأولون) أيضا بأن اللعان يشرع لدفع الحد عن الرجل، ويؤيده
قوله صلى الله عليه وآله وسلم لهلال: البينة وإلا حد في ظهرك وسيأتي، فلو بدأ
بالمرأة لكان دفعا لأمر لم يثبت. قوله: بين أخوي بني عجلان بفتح العين المهملة
وسكون الجيم وهو ابن حارثة بن ضبيعة من بني بكر بن عمرو، والمراد بقوله أخوي
الرجل وامرأته، واسم الرجل عويمر كما في الرواية المذكورة، واسم المرأة خولة بنت
عاصم بن عدي العجلاني قاله ابن منده في كتاب الصحابة وأبو نعيم، وحكى القرطبي
عن مقاتل بن سليمان أنها خولة بنت قيس، وذكر ابن مردويه أنها بنت أخي عاصم
المذكور، والرجل الذي رمى عويمر امرأته به هو شريك ابن سحماء ابن عم عويمر، وفي
صحيح مسلم من حديث أنس أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك ابن سحماء
وكان أخا البراء بن مالك لامه وسيأتي، وكان أول رجل لاعن في الاسلام. قال النووي
في شرح مسلم: السبب في نزول آية اللعان قصة عويمر العجلاني، واستدل على ذلك
بقوله صلى الله عليه وآله وسلم له: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا وقال
الجمهور، السبب قصة هلال بن أمية لما تقدم من أنه كان أول رجل لاعن في الاسلام.
وقد حكى أيضا الماوردي عن الأكثر من أن قصة هلال أسبق من قصة عويمر.
وقال الخطيب والنووي وتبعهما الحافظ: يحتمل أن يكون هلال سأل أولا ثم سأل عويمر
فنزلت في شأنهما معا، وقال ابن الصباغ في الشامل: قصة هلال بن أمية نزلت فيها
الآية، وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعويمر: إن الله قد أنزل فيك وفي صاحبتك
فمعناه ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع الناس، واختلف في الوقت الذي
وقع فيه اللعان، فجزم الطبري وأبو حاتم وابن حبان أنه كان في شهر شعبان سنة
تسع، وقيل كان في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما وقع
في البخاري عن سهل بن سعد أنه شهد قصة المتلاعنين وهو ابن خمس عشرة سنة،
وقد ثبت عنه أنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة
، وقيل: كانت القصة في سنة عشر ووفاته صلى الله عليه وآله وسلم في سنة إحدى عشرة
. قوله: فطلقها ثلاثا. وفي رواية أنه قال: فهي الطلاق فهي الطلاق فهي الطلاق
64

وقد استدل بذلك من قال: إن الفرقة بين المتلاعنين تتوقف على تطليق الرجل كما
تقدم نقله عن عثمان البتي. وأجيب بما في حديث سهل نفسه من تفريقه صلى الله عليه
وآله وسلم بينهما. وبما في حديث ابن عمر كما ذكر ذلك المصنف فإن ظاهرهما أن الفرقة
وقعت بتفريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما طلقها عويمر لظنه أن اللعان لا
يحرمها عليه فأراد تحريمها بالطلاق فقال هي طالق ثلاثا، فقال له النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: لا سبيل لك عليها أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاقك. قال الحافظ
: وقد توهم أن قوله لا سبيل لك عليها وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم عقب قول
الملاعن هي طالق. وأنه موجود كذلك في حديث سهل. وإنما وقع في حديث ابن
عمر عقب قوله: الله يعلم أن أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها انتهى. وقد قدمنا في باب
ما جاء في طلاق البتة الجواب عن الاستدلال بهذا الحديث على أن الطلاق المتتابع
يقع. قوله: فكانت سنة المتلاعنين زاد أبو داود: عن القعنبي عن مالك فكانت
تلك وهي إشارة إلى الفرقة. وفي الرواية الأخرى المذكورة: ذا كم التفريق بين كل
متلاعنين. وقال مسلم: أن قوله وكان فراقه إياها سنة بين المتلاعنين مدرج، وكذا ذكر
الدارقطني في غريب مالك اختلاف الرواة على ابن شهاب ثم على مالك في تعيين
من قال: فكان فراقهما سنة هل هو من قول سهل أو من قول ابن شهاب؟ وذكر ذلك
الشافعي وأشار إلى أن نسبته إلى ابن شهاب لا تمنع نسبته إلى سهل. ويؤيد ذلك
ما وقع في رواية لأبي داود عن سهل قال: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ما صنع عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة وسيأتي قريبا. وفي نسخة الصغاني: قال أبو
عبد الله قوله ذلك تفريق بين المتلاعنين من قول الزهري وليس من الحديث.
باب لا يجتمع المتلاعنان أبدا
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمتلاعنين: حسابكما
على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله مالي، قال: لا مال لك، إن كنت صدقت
عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها متفق عليه، وهو
65

حجة في أن كل فرقة بعد الدخول لا تؤثر في إسقاط المهر. وعن سهل بن سعد في خبر
المتلاعنين قال: فطلقها ثلاث تطليقات فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وكان ما صنع عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة، قال سهل: حضرت هذا عند النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أيفرق بينهما ثم لا يجتمعان
أبدا رواه أبو داود. وعن سهل بن سعد في قصة المتلاعنين: ففرق رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بينهما وقال: لا يجتمعان أبدا. وعن ابن عباس: أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا. وعن
علي قال: مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعان أبدا. وعن علي وابن
مسعود قالا: مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان رواهن الدارقطني.
حديث سهل بن سعد الأول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال
الصحيح. وحديثه الثاني في إسناده عياض بن عبد الله، قال في التقريب: فيه لين ولكنه
قد أخرج له مسلم. وحديث ابن عباس أخرج نحوه أبو داود في قصة طويلة في
إسنادها عباد بن منصور وفيه مقال. وحديث علي وابن مسعود أخرجهما أيضا
عبد الرزاق وابن أبي شيبة. (وفي الباب) عن عمر نحو حديثهما أخرجه أيضا عبد الرزاق
وابن أبي شيبة. قوله: أحدكما كاذب قال عياض إنه قال هذا الكلام بعد فراغهما
من اللعان، فيؤخذ منه عرض التوبة على المذنب بطريق الاجمال وأنه يلزم من
كذب التوبة من ذلك. وقال الداودي: قال ذلك قبل اللعان تحذيرا قوله: لا لهما منه، قال
الحافظ: والأول أظهر، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك سبيل لك عليها
فيه دليل على أن المرأة تستحق ما صار إليها من المهر بما استحل الزوج من فرجها،
وقد تقدم أن هذه الصيغة تقتضي العموم لأنها نكرة في سياق النفي، وأراد بقوله
مالي الصداق الذي سلمه إليها يريد أن يرجع به عليها، فأجابه صلى الله عليه وآله
وسلم بأنها قد استحقته بذلك السبب، وأوضح له استحقاقها له بذلك التقسيم على
فرض صدقه وعلى فرض كذبه، لأنه مع الصدق قد استوفى منها ما يوجب استحقاقها
له، وعلى فرض كذبه كذلك، مع كونه قد ظلمها برميها بما رماها به، وهذا مجمع
عليه في المدخولة. وأما في غيرها فذهب الجمهور إلى أنها تستحق النصف كغيرها من
المطلقات قبل الدخول، وقال حماد والحكم وأبو الزناد إنها تستحقه جميعه. وقال
66

الزهري ومالك: لا شئ لها. قوله: فطلقها قد تقدم الكلام عليه. قوله: لا يجتمعان
أبدا فيه دليل على تأبيد الفرقة، وإليه ذهب الجمهور. وروي عن أبي حنيفة ومحمد
أن اللعان لا يقتضي التحريم المؤبد لأنه طلاق زوجة مدخولة بغير عوض لم ينو به
التثليث فيكون كالرجعي. ولكن المروي عن أبي حنيفة أنها إنما تحل له إذا أكذب
نفسه لا إذا لم يكذب نفسه فإنه يوافق الجمهور كما ذكره صاحب الهدى عنه. وعن
محمد وسعيد بن المسيب: والأدلة الصحيحة الصريحة قاضية بالتحريم المؤبد، وكذلك
أقوال الصحابة وهو الذي يقتضيه حكم اللعان ولا يقتضي سواه، فإن لعنة الله وغضبه
قد حلت بأحدهما لا محالة، وقد وقع الخلاف هل اللعان فسخ أو طلاق؟ فذهب
الجمهور إلى أنه فسخ، وذهب أبو حنيفة ورواية عن محمد إلى أنه طلاق.
باب إيجاب الحد بقذف الزوج وأن اللعان يسقطه
عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بشريك ابن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: البينة
أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق
يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك،
فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد،
فنزل جبريل وأنزل عليه: * (والذين يرمون أزواجهم) * (النور: 6) فقرأ حتى بلغ: * (إن كان من
الصادقين) * فانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليهما فجاء هلال فشهدا
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟
ثم قامت فشهدت فلما كان عند الخامسة وقفوها فقالوا: إنها موجبة، فتلكأت
ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين
خدلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء، فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن رواه الجماعة
إلا مسلما والنسائي.
67

قوله: البينة أوحد في ظهرك فيه دليل على أن الزوج إذا قذف امرأته
بالزنا وعجز عن إقامة البينة وجب عليه حد القاذف، وإذا وقع اللعان سقط
وهو قول الجمهور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن اللازم بقذف الزوج
إنما هو اللعان فقط ولا يلزمه الحد، والحديث وما في معناه حجة عليه. قوله: فنزل
جبريل الخ فيه التصريح بأن الآية نزلت في شأن هلال وقد تقدم
الخلاف في ذلك. قوله: إن الله يعلم الخ فيه مشروعية تقديم الوعظ للزوجين قبل
اللعان كما يدل على ذلك. قوله: ثم قامت فإن ترتيب القيام على ذلك مشعر بما ذكرنا،
وقد تقدم الإشارة إلى الخلاف. قوله: وقفوها أي أشاروا عليها بأن ترجع، وأمروها
بالوقف عن تمام اللعان حتى ينظروا في أمرها، فتلكأت وكادت أن تعترف ولكنها
لم ترض بفضيحة قومها، فاقتحمت وأقدمت على الامر المخوف الموجب للعذاب
الآجل مخافة من العار، لأنه يلزم قومها من إقرارها العار بزناها، ولم يردعها عن
ذلك العذاب العاجل وهو حد الزنا. وفي هذا دليل على أن مجرد التلكئ من
أحد الزوجين والتكلم بما يدل على صدق الآخر دلالة ظنية لا يعمل به، بل المعتبر
هو التصريح من أحدهما بصدق الآخر، والاعتراف المحقق بالكذب إن كان
الزوج، أو الوقوع في المعصية إن كانت المرأة. قوله: انظروها فإن جاءت به الخ
، فيه دليل على أن المرأة كانت حاملا وقت اللعان. وقد وقع في البخاري التصريح
بذلك، وسيأتي التصريح به أيضا في باب ما جاء في اللعان على الحمل. قوله: أكحل العينين
الأكحل الذي منابت أجفانه سود كأن فيها كحلا. قول: سابغ الأليتين بالسين المهملة
وبعد الألف باء موحدة ثم غين معجمة أي عظيمهما قوله: خدلج الساقين بفتح الخاء
والدال المهملة وتشديد اللام أي ممتلئ الساقين والذراعين. قوله: فجاءت به كذلك
في رواية للبخاري: فجاءت به على الوجه المكروه. وفي أخرى له: فجاءت به على النعت الذي
نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذلك روايات أخرى ستأتي. قوله: لولا
ما مضى من كتاب الله في رواية للبخاري: من حكم الله والمراد أن اللعان يدفع الحد
عن المرأة، ولولا ذلك لأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها الحد
من أجل ذلك الشبه الظاهر بالذي رميت به، ويستفاد منه أنه صلى الله عليه
وآله وسلم كان يحكم بالاجتهاد فيما ينزل عليه فيه وحي خاص، فإذا نزل الوحي
68

بالحكم في تلك المسألة قطع النظر وعمل بما نزل وأجرى الامر على الظاهر، ولو قامت
قرينة تقتضي خلاف الظاهر.
باب من قذف زوجته برجل سماه
عن أنس: أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك ابن سحماء وكان أخا
لبراء بن مالك لامه، وكان أول رجل لاعن في الاسلام قال: فلاعنها فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضئ العينين
فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أكحل جعد أحمش الساقين فهو لشريك ابن
سحماء، قال: فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعد أحمش الساقين رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وفي رواية: أن أول لعان كان في الاسلام أن هلال بن أمية قذف شريك ابن السحماء
بامرأته، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك فقال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: أربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك، يردد ذلك عليه مرارا، فقال له هلال:
والله يا رسول الله إن الله عز وجل ليعلم أني لصادق، ولينزلن الله عليك ما يبرئ ظهري
من الحد، فبينما هم كذلك إذ نزلت عليه آية اللعان: * (والذين يرمون أزواجهم) * (النور: 6) إلى آخر
الآية وذكر الحديث رواه النسائي.
الرواية الأخرى من هذا الحديث رجالها رجال الصحيح، ويشهد لصحتها حديث
ابن عباس المتقدم في الباب الذي قبل هذا، فإن سياقه وسياق هذا الحديث
متقاربان. قوله: وكان أول رجل لاعن في الاسلام قد تقدم الكلام على هذا.
قوله: سبطا بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة بعدها طاء مهملة وهو
المسترسل من الشعر وتام الخلق من الرجال. قوله: قضئ العينين بفتح القاف وكسر
الضاد المعجمة بعدها همزة على وزن حذر وهو فاسد العينين، والأكحل قد تقدم
الكلام عليه. والجعد بفتح الجيم وسكون المهملة بعدها دال مهملة أيضا. قال في القاموس:
الجعد من الشعر خلاف السبط أو القصير منه. قوله: حمش الساقين بالحاء
المهملة ثم معجمة وهو لغة في أحمش. قال في القاموس: حمش الرجل حمشا وحمشا
صار دقيق الساقين فهو أحمش الساقين، وحمشهما بالفتح وسوق حماش وقد حمشت
69

الساق كضرب وكرم حموشة انتهى. قوله: إن أول لعان كان في الاسلام قد
تقدم الكلام على ذلك، وظاهر الحديث أن حد القذف يسقط باللعان ولو كان قذف
الزوجة برجل معين.
باب في أن اللعان يمين
عن ابن عباس قال: جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين
خلفوا، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا، فذكر حديث تلاعنهما إلى
أن قال: ففرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وقال: إن جاءت به أصيهب
أريسح حمش الساقين فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين
سابغ الأليتين فهو للذي رميت به، فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين
سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا الايمان لكان لي ولها
شأن رواه أحمد وأبو داود.
الحديث أورده أبو داود مطولا وفي إسناده عباد بن منصور وقد تكلم فيه
غير واحد. وقد قيل إنه كان قدريا داعية. قوله: أصيهب تصغير الأصهب وهو من الرجال
الأشقر، ومن الإبل الذي يخالط بياضه حمرة. قوله: أريسح تصغير الأرسح بالسين
والحاء المهملتين، وروي بالصاد المهملة بدلا من السين، ويقال الأرصع بالصاد والعين
المهملتين، وهو خفيف لحم الفخذين والأليتين. وقد تقدم تفسير حمش الساقين
والجعد وخدلج الساقين وسابغ الأليتين. قوله: أورق هو الأسمر. قوله: جماليا بضم
الجيم وتشديد الميم هو العظيم الخلق كأنه الجمل. قوله: لولا الايمان استدل به من
قال إن اللعان يمين، وإليه ذهبت العترة والشافعي والجمهور، وذهب أبو حنيفة وأصحابه
ومالك والامام يحيى والشافعي في قول إنه شهادة. واحتجوا بقوله تعالى: * (فشهادة
أحدهم أربع شهادات بالله) * (النور: 6) وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ابن عباس
السابق في الباب الأول: فجاء هلال فشهد ثم قامت فشهدت وقيل: إن اللعان شهادة
فيه شائبة يمين وقيل بالعكس. وقال بعض العلماء: ليس بيمين ولا شهادة، حكى هذه
الثلاثة المذاهب صاحب الفتح. وقال: الذي تحرر لي أنها من حيث الجزم بنفي
70

الكذب وإثبات الصدق يمين، لكن أطلق عليها شهادة لاشتراط أن لا يكتفي في
ذلك بالظن، بل لا بد من وجود علم كل منهما بالامرين علما يصح معه أن يشهد.
باب ما جاء في اللعان على الحمل والاعتراف به
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاعن على
الحمل رواه أحمد. وفي حديث سهل: وكانت حاملا وان ابنها ينسب إلى أمه وقد
ذكرناه. وفي حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاعن بين
هلال بن أمية وامرأته وفرق بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى
ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرا على
مصر وما يدعى لأب رواه أحمد وأبو داود. وقد أسلفنا في غير حديث أن تلاعنهما
قبل الوضع. وعن قبيصة بن ذؤيب قال: قضى عمر بن الخطاب في رجل أنكر
ولد امرأته وهو في بطنها ثم اعترف به وهو في بطنها حتى إذا ولد أنكره فأمر به
عمر فجلد ثمانين جلدة لفريته عليها ثم ألحق به ولدها رواه الدارقطني.
حديث ابن عباس الأول هو بمعناه في الصحيحين من حديثه بلفظ: لاعن
بين هلال بن أمية وزوجته وكانت حاملا ونفى الحمل وحديث سهل هو في البخاري
كما قدمنا ولم يذكره المصنف فيما سلف صريحا. وحديث ابن عباس الثاني هو من
حديثه الطويل الذي ساقه أبو داود وفي إسناده عباد بن منصور كما تقدم، وأثر
عمر أخرجه أيضا البيهقي وحسن الحافظ إسناده. (وقد استدل بأحاديث) الباب من
قال إنه يصح اللعان قبل الوضع مطلقا ونفي الحمل. وقد حكاه في الهدى عن الجمهور
وهو الحق للأدلة المذكورة، وذهبت الهادوية وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا يصح
قبل الوضع مطلقا لاحتمال أن يكون الحمل ريحا. ورد بأن هذا احتمال بعيد، لان
للحمل قرائن قوية يظن معها وجوده ظنا قويا وذلك كاف في اللعان، كما جاز العمل
بها في إثبات عدة الحامل وترك قسمة الميراث، ولا يدفع الامر المظنون بالاحتمال
البعيد. وذهب أبو حنيفة والمزني وأبو طالب إلى أنه لا يصح اللعان والنفي قبل
الوضع إلا مع الشرط لعدم اليقين، ورد بأنه مشروط إن لم يلفظ به. وأثر عمر المذكور
71

استدل به من قال: إنه لا يصح نفي الولد بعد الاقرار به وهم العترة وأبو حنيفة
وأصحابه، ويؤيده أنه لو صح الرجوع بعده لصح عن كل إقرار فلا يتقرر حق
من الحقوق والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله
. باب الملاعنة بعد الوضع لقذف قبله وإن شهد الشبه لأحدهما
عن ابن عباس أنه ذكر التلاعن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال
عاصم بن عدي في ذلك قولا ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه وجد مع
أهله رجلا، فقال عاصم: ما ابتليت بهذا إلا لقولي فيه، فذهب به إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرا
قليل اللحم سبط الشعر، وكان الذي ادعي عليه أنه وجد عند أهله خدلا آدم
كثير اللحم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم بين، فوضعت شبيها
بالذي ذكر زوجها أنه وجده عندها، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما،
فقال رجل لابن عباس في المجلس: أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
: لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه؟ فقال ابن عباس: لا تلك امرأة كانت تظهر في
الاسلام السوء متفق عليه.
قوله: فقال عاصم في ذلك قولا أي كلاما لا يليق به كالمبالغة في الغيرة وعدم
الرجوع إلى إرادة الله وقدرته. وقال الحافظ: إن المراد بالقول المذكور هو ما
وقع في حديث سهل بن سعد أنه سأل عن الحكم الذي أمره عويمر أن يسأل عنه. قوله:
فأتاه رجل من قومه قال في الفتح: هو عويمر ولا يمكن تفسيره بهلال بن أمية لأنه
لا قرابة بينه وبين عاصم. قوله: ما ابتليت بهذا إلا لقولي أي بسؤالي عما لم يقع، فكأنه
عرف أنه عوقب بذلك وإنما جعله ابتلاء، لأن امرأة عويمر هي بنت عاصم المذكور
واسمها خولة بنت عاصم كما ذكره ابن الكلبي، وذكر ابن مردويه أنها بنت أخي
عاصم. وروى ابن أبي حاتم في التفسير عن مقاتل بن حيان أن الزوج وزوجته
والرجل الذي رمى بها ثلاثتهم بنو عم عاصم. قوله: مصفرا بضم أوله وسكون الصاد
المهملة وفتح الفاء وتشديد الراء أي قوي الصفرة، وهذا لا يخالف ما في حديث سهل
72

أنه كان أحمر أو أشقر، لأن ذلك لونه الأصلي والصفرة عارضة، والمراد بقليل اللحم
نحيف الجسم والسبط قد تقدم تفسيره. قوله: خدلا بالخاء المعجمة والدال المهملة
قال في القاموس: الخدل الممتلئ، وساق خدلة بينة الخدل محركة ثم قال: والخدلة
المرأة الغليظة الساق وممتلئة الأعضاء لحما في رقة عظام انتهى. وقال في الفتح: خدلا
بفتح المعجمة وتشديد اللام أي ممتلئ الساقين. وقال أبو الحسن بن فارس: ممتلئ
الأعضاء. وقال الطبري: لا يكون إلا مع غلظ العظم مع اللحم. قوله: آدم بالمد أي لونه
قريب من السواد. قوله: كثير اللحم أي في جميع جسده. قال في الفتح: يحتمل أن
يكون صفة شارحة لقوله خدلا بناء على أن الخدل الممتلئ البدن. قوله: اللهم بين قال
ابن العربي: ليس معنى هذا الدعاء طلب ثبوت صدق أحدهما فقط، بل معناه أن تلد
ليظهر الشبه ولا يمتنع ولادها بموت الولد مثلا فلا يظهر البيان، والحكمة في البيان
المذكور ردع من شاهد ذلك عن التلبس بمثل ما وقع لما يترتب عليه من القبح.
قوله: فلاعن الخ، ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة وعلى ذلك بوب
المصنف، وقد تقدم في حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع. ورواية
ابن عباس هذه هي القصة التي في حديث سهل كما تقدم، فعلى هذا تكون الفاء في
قوله فلاعن لعطف لاعن على فأخبره بالذي وجد عليه امرأته ويكون ما بينهما اعتراضا.
قوله: فقال رجل لابن عباس هو عبد الله بن شداد بن الهاد، وهو ابن خالة ابن عباس
سماه أبو الزناد كما ذكره البخاري في الحدود. قوله: كانت تظهر في الاسلام السوء
أي كانت تلعن بالفاحشة، ولكنه لم يثبت ذلك عليها ببينة ولا اعتراف. قال الداودي:
فيه جواز غيبة من يسلك مسالك السوء، وتعقب بأنه لم يسمها، فإن أراد إظهار
الغيبة على طريق الابهام فمسلم.
باب ما جاء في قذف الملاعنة وسقوط نفقتها
عن ابن عباس في قصة الملاعنة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قضى أن لا قوت لها ولا سكنى من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها
رواه أحمد وأبو داود. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله
73

صلى الله عليه وآله وسلم في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن رماها به جلد
ثمانين، ومن دعاه ولد زنا جلد ثمانين رواه أحمد.
حديث ابن عباس هو طرف من حديثه الطويل الذي ساقه أبو داود وفي إسناده
عباد بن منصور وفيه مقال كما تقدم. وحديث عمرو بن شعيب أشار إليه في التلخيص
ولم يتكلم عليه وقد قدمنا الاختلاف في حديثه. وقال في مجمع الزوائد: في إسناده
ابن إسحاق وهو مدلس وبقية رجاله قوله: أن لا قوت ولا سكنى فيه دليل
على أن المرأة المفسوخة باللعان ثقات لا تستحق في مدة العدة نفقة ولا سكنى، لأن النفقة
إنما تستحق في عدة الطلاق لا في عدة الفسخ وكذلك السكنى ولا سيما إذا كان الفسخ
بحكم كالملاعنة، ومن قال إن اللعان طلاق كأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن محمد
فلعله يقول بوجوب النفقة والسكنى والحديث حجة عليه. قوله: أنه يرث أمه وترثه
فيه دليل على أن قرابة الولد المنفي قرابة أمه، وقد قدمنا الكلام على ذلك في
أول كتاب اللعان. قوله: ومن رماها به جلد ثمانين فيه دليل على أنه يجب الحد
على من رمى المرأة التي لاعنها زوجها بالرجل الذي اتهمها به، وكذلك يجب
على من قال لولدها إنه ولد زنا، وذلك لأنه لم يتبين صدق ما قاله الزوج، والأصل
عدم الوقوع في المحرم، ومجرد وقوع اللعان لا يخرجها عن العفاف والاعراض محمية
عن الثلب ما لم يحصل اليقين.
باب النهي أن يقذف زوجته لأنها ولدت ما يخالف لونهما
عن أبي هريرة قال: جاء رجل من بني فزارة إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فقال: ولدت امرأتي غلاما أسود وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه، فقال
له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر،
قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقا، قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى
أن يكون نزعه عرق، قال: فهذا عسى أن يكون نزعه عرق، ولم يرخص
له في الانتفاء منه رواه الجماعة. ولأبي داود في رواية أن امرأتي ولدت غلاما أسود
وإني أنكره.
قوله: جاء رجل اسمه ضمضم بن قتادة. قوله: يعرض بأن ينفيه وجه التعريض
74

أنه قال غلام أسود أي وأنا أبيض فكيف يكون مني؟ وفيه دليل على أن
التعريض بالقذف لا يكون قذفا وإليه ذهب الجمهور. وعن المالكية يجب به الحد
إذا كانوا يفهمونها، وكذلك قالت الهادوية إلا أنهم اشترطوا أن يقر بأن قصده
القذف، وأجابوا عن حديث الباب بأنه لا حجة فيه، لأن الرجل لم يرد قذفا بل
جاء سائلا مستفتيا عن الحكم بما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل أذعن. وقال
المهلب: التعريض إذا كان على سبيل السؤال لا حد فيه، وإنما يجب الحد في التعريض
إذا كان على سبيل المواجهة، وقال ابن المنير: الفرق بين الزوج والأجنبي في
التعريض أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة، والزوج يعذر بالنسبة إلى صيانة
النسب. قوله: من أورق هو الذي يميل إلى الغبرة ومنه قيل للحمامة ورقاء.
قوله: فأنى ذلك بفتح النون الثقيلة أي من أين أتاها اللون الذي خالفها هل
هو بسبب فحل من غير لونها طرأ عليها أو لأمر آخر؟. قوله: نزعه عرق المراد
بالعرق الأصل من النسب تشبيها بعرق الشجرة، ومنه قولهم فلان عريق في الأصالة
أي أن أصله متناسب، وكذا معرق في الكرم، وهو ضرب مثل لتعريف السائل وتوضيح
البيان بتشبيه المجهول بالمعلوم وهو من قياس التشبيه كما قال الخطابي. قال ابن العربي:
فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير، وتوقف فيه ابن دقيق العيد فقال:
هو تشبيه في أمر وجودي، والنزاع إنما هو في التشبيه في الأحكام الشرعية من
طريق واحدة قوية (وفي الحديث) دليل على أنه لا يجوز للأب أن ينفي ولده بمجرد
كونه مخالفا له في اللون، وقد حكى القرطبي وابن رشد الاجماع على ذلك، وتعقبهما
الحافظ بأن الخلاف في ذلك ثابت عند الشافعية فقالوا: إن لم ينضم إلى المخالفة
في اللون قرينة زنا لم يجز النفي، فإن اتهمها فأتت بولد على لون الرجل الذي اتهمها
به جاز النفي على الصحيح عندهم، وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقا.
باب أن الولد للفراش دون الزاني
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الولد
للفراش وللعاهر الحجر رواه الجماعة إلا أبا داود. وفي لفظ للبخاري: لصاحب
75

الفراش. وعن عائشة قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي
وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله
ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شبهه فرأى شبها
بينا بعتبة فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه
يا سودة بنت زمعة، قال: فلم ير سودة قط رواه الجماعة إلا الترمذي. وفي رواية أبي
داود ورواية للبخاري: هو أخوك يا عبد. وعن ابن عمر: أن عمر قال:
ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعتزلونهن لا يأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد ألم
بها إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا رواه الشافعي.
حديث الولد للفراش مروي من طريق بضعة وعشرين نفسا من الصحابة
كما أشار إليه الحافظ قوله: الولد للفراش اختلف في معنى الفراش فذهب
الأكثر إلى أنه اسم للمرأة وقد يعتبر به عن حالة الافتراش، وقيل إنه اسم للزوج
روي ذلك عن أبي حنيفة. وأنشد ابن الاعرابي مستدلا على هذا المعنى قول جرير:
باتت تعانقه وبات فراشها. وفي القاموس: أن الفراش زوجة الرجل، قيل ومنه
* (فرش مرفوعة) * (الواقعة: 34) والجارية يفترشها الرجل انتهى. قوله: وللعاهر الحجر العاهر
الزاني يقال عهر أي زنى، قيل ويختص ذلك بالليل، قال في القاموس: عهر المرأة
كمنع عهرا ويكسر ويحرك، وعهارة بالفتح وعهورا وعهورة وعاهرها عهارا أتاها
ليلا للفجور أو نهارا انتهى. ومعنى له الحجر الخيبة أي لا شئ له في الولد، والعرب
تقول له الحجر وبفيه الترب يريدون ليس له إلا الخيبة. وقيل المراد بالحجر أنه
يرجم بالحجارة، إذا زنى، ولكنه لا يرجم بالحجارة كل زان بل المحصن فقط. وظاهر
الحديث أن الولد إنما يلحق بالأب بعد ثبوت الفراش، وهو لا يثبت إلا بعد إمكان
الوطئ في النكاح الصحيح أو الفاسد، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وروي عن أبي
حنيفة أنه يثبت بمجرد العقد، واستدل له بأن مجرد المظنة كافية، ورد بمنع حصولها
بمجرد العقد بل لا بد من إمكان الوطئ، ولا شك أن اعتبار مجرد العقد في ثبوت الفراش
جمود ظاهر، فإنه قد حكى ابن القيم عن أبي حنيفة أنه يقول: بأن نفس العقد وإن علم أنه لم
يجتمع بها بل لو طلقها عقبه في المجلس تصير به الزوجة فراشا، وهذا يدل على أنه لا يلاحظ
76

المظنة أصلا، ويؤيد ذلك أنه روى عنه في الغيث أنه يقول بثبوت الفراش ولحوق الولد،
وإن علم أنه ما وطئ بأن يكون بينه وبين الزوجة مسافة طويلة لا يمكن وصوله إليها في مقدار
مدة الحمل، وذهب ابن تيمية إلى أنه لا بد من معرفة الدخول المحقق، وذكر أنه أشار إليه أحمد،
ورجحه ابن القيم وقال: وهل يعد أهل اللغة والعرف المرأة فراشا قبل البناء بها؟
وكيف تأتي الشريعة بإلحاق نسب من لم يبن بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع
بها بمجرد إمكان ذلك؟ وهذا الامكان قد قطع بانتفائه عادة، فلا تصير المرأة فراشا
إلا بدخول محقق انتهى. وأجيب بأن معرفة الوطئ المحقق متعسرة، فاعتبارها
يؤدي إلى بطلان كثير من الأنساب وهو يحتاط فيها، واعتبار مجرد الامكان يناسب
ذلك الاحتياط، ولابد في ثبوت نسب الولد أن تأتي المرأة به بعد مضي أقل مدة
الحمل من وقت إمكان الوطئ عند الجمهور، أو العقد عند أبي حنيفة، أو معرفة الوطئ
المحقق عند ابن تيمية، وهذا مجمع عليه، فلو ولدت قبل مضيها حصل القطع بأن الولد
من قبل فلا يلحق. وظاهر الحديث أيضا أن فراش الأمة كفراش الحرة لأنه
يدخل تحت عموم الفراش، وحديث عائشة المذكور نص في ذلك، فإن النزاع بين
عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص في ابن وليدة زمعة، وقد ذهب الجمهور إلى أنه
لا يعتبر في ثبوت فراش الأمة الدعوة، وروي عن أبي حنفية والثوري وهو مذهب
الهادوية أن الأمة لا يثبت فراشها إلا بدعوة الولد ولا يكفي الاقرار بالوطئ، فإن
لم يدعه كان ملكا له. وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألحق ولد زمعة به
ولم يستفصل هل ادعاه زمعة أم لا، بل جعل العلة في الالحاق أنه صاحب الفراش،
وأما قولهم إنه لم يلحقه بعبد بن زمعة على أنه أخ له وإنما جعله مملوكا له كما في
قوله: هو لك يا عبد بن زمعة واللام للتمليك، ويؤيد ذلك ما في آخر الحديث من
أمره صلى الله عليه وآله وسلم لسودة بالاحتجاب منه، ولو كان أخا لها لم تؤمر
بالاحتجاب منه وما وقع في رواية احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك فقد أجيب عنه
بأن اللام في قوله صلى الله عليه وآله وسلم هو لك للاختصاص لا للتمليك، ويؤيد
ذلك ما في الرواية الأخرى المذكورة بلفظ: هو أخوك يا عبد، وبأن أمره لسودة
بالاحتجاب على سبيل الاحتياط والورع والصيانة لأمهات المؤمنين لما رآه من الشبه
بعتبة بن أبي وقاص كما في حديث كيف وقد قيل. قال ابن القيم بعد ذكر هذا
77

الجواب أو يكون مراعاة للشيئين وإعمالا للدليلين: فإن الفراش دليل لحوق النسب،
والشبه بغير صاحبه دليل نفيه، فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعي، وأعمل
الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة وهذا من أحسن الاحكام
وأبينها وأوضحها ولا يمنع ثبوت النسب من وجه دون وجه انتهى. وأما الرواية
التي فيها: احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك فقد طعن البيهقي في إسنادها وقال فيها
جرير وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيها يوسف مولى آل الزبير وهو
غير معروف. قوله: اختصم سعد وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لم يذكر ما وقع فيه الاختصام، ولعل هذا اللفظ أحد الألفاظ التي روى بها
هذا الحديث، وفي بقية الألفاظ في الصحيحين وغيرهما التصريح بأن الاختصام وقع
في غلام. قوله: وقال عبد بن زمعة الخ فيه دليل على أنه يجوز لغير الأب أن
يستلحق الولد مثل استلحاق عبد بن زمعة للأخ، وكذلك للوصي الاستلحاق، لأنه
صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على سعد الدعوى المذكورة، وقد أجمع العلماء على
أن للأب أن يستلحق واختلفوا في الجد. قوله: فرأى شبها بينا بعتبة سيأتي
الكلام على العمل بالشبه والقافة قريبا. قوله: يعترف سيدها أن قد ألم بها فيه
تقوية لمذهب الجمهور من أنه لا يشترط في فراش الأمة الدعوة بل
يكفي مجرد ثبوت الفراش.
باب الشركاء يطؤون الأمة في طهر واحد
عن زيد بن أرقم قال: أتي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو باليمن
في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين فقال: أتقران لهذا بالولد؟
قالا: لا، ثم سأل اثنين أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، فجعل كلما سأل اثنين أتقران لهذا
بالولد قالا لا، فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي أصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية،
فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه رواه الخمسة
إلا الترمذي. ورواه النسائي وأبو داود موقوفا على علي بإسناد أجود من إسناد
المرفوع. وكذلك رواه الحميدي في مسنده وقال فيه: فأغرمه ثلثي قيمة
الجارية لصاحبيه.
78

الحديث في إسناده يحيى بن عبد الله الكندي المعروف بالأجلح. قال المنذري:
لا يحتج بحديثه. وقال في الخلاصة: وثقه يحيى بن معين والعجلي. وقال ابن عدي: يعد
في الشيعة مستقيم الحديث وضعفه النسائي. قال المنذري: ورواه بعضهم مرسلا. وقال
النسائي: هذا صواب. وقال الخطابي: وقد تكلم في إسناد حديث زيد بن أرقم انتهى. وقد رواه
أبو داود من طريقين: الأولى من طريق عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم عنه. والثانية
من طريق عبد خير عن زيد عنه. قال المنذري: أما حديث عبد خير فرجال
إسناده ثقات غير أن الصواب فيه الارسال انتهى. وعلى هذا لم تخل كل
واحدة من الطريقين من علة، فالأولى فيها الأجلح، والثانية معلولة بالارسال
، والمراد بالارسال ههنا الوقف كما عبر عن ذلك المصنف لا ما هو الشائع في الاصطلاح
من أنه قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والحديث يدل على أن الابن
لا يلحق بأكثر من أب واحد قاله الخطابي، وقال أيضا: وفيه إثبات القرعة في إلحاق الولد
انتهى. وقد أخذ بالقرعة مطلقا مالك والشافعي وأحمد والجمهور، حكى ذلك عنهم ابن
رسلان في كتا ب العتق من شرح سنن أبي داود، وقد ورد العمل بها في مواضع:
منها في إلحاق الولد، ومنها في الرجل الذي أعتق ستة أعبد فجزأهم رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم كما في حديث عمران بن حصين
عند مسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة. ومنها في تعيين المرأة من
نسائه التي يريد أن يسافر بها كما في حديث عائشة عند البخاري ومسلم. وهكذا
ثبت اعتبار القرعة في الشئ الذي وقع فيه التداعي، إذا تساوت البينتان، وفي
قسمة المواريث مع الالتباس لأجل إفراز الحصص بها، وفي مواضع أخر.
فمن العلماء من اعتبر القرعة في جميعها، ومنهم من اعتبرها في بعضها، وممن قال بظاهر
حديث الباب إسحاق بن راهويه وقال: هذه السنة في دعوى الولد حكى ذلك عنه
الخطابي وقال إنه كان الشافعي يقول به في القديم، وقيل لأحمد في حديث زيد بن
أرقم هذا فقال: حديث القافة أحب إلي وسيأتي قريبا ويأتي الكلام على الجمع
بينهما. وقد قال بعضهم: إن حديث القرعة منسوخ. وقال المقبلي في الأبحاث: إن
حديث الالحاق بالقرعة إنما يكون بعد انسداد الطرق الشرعية انتهى. ومن المخالفين
في اعتبار القرعة الحنفية وكذلك الهادوية وقالوا: إذا وطئ الشركاء الأمة
79

المشتركة في طهر واحد وجاءت بولد وادعوه جميعا ولا مرجح للالحاق بأحدهم كان
الولد ابنا لهم جميعا يرث كل واحد منهم ميراث ابن كامل، ومجموعهم أب يرثونه
ميراث أب واحد.
باب الحجة في العمل بالقافة
عن عائشة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل
علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن
حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن هذه الاقدام بعضها من بعض رواه الجماعة. وفي
لفظ أبي داود وابن ماجة ورواية لمسلم والنسائي والترمذي: ألم تري أن مجززا
المدلجي رأى زيدا وأسامة قد غطيا رؤوسهما بقطيفة وبدت أقدامهما فقال: إن هذه
الاقدام بعضها من بعض. وفي لفظ قالت: دخل قائف والنبي صلى الله عليه
وآله وسلم شاهد وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان فقال: إن هذه الاقدام
بعضها من بعض، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعجبه وأخبر به
عائشة متفق عليه. قال أبو داود: كان أسامة أسود وكان زيد أبيض.
قوله: تبرق أسارير الأسارير جمع سرر أو سرارة بفتح أولهما ويضمان وهما في
الأصل خطوط الكف كما في القاموس، أطلق على ما يظهر على وجه من سره
أمر من الإضاءة والبريق. قوله: أن مجززا هو بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي
الأولى اسم فاعل من الجز لأنه جز نواصي قوم، هكذا قيده جماعة من الأئمة. وذكر
الدارقطني وعبد الغني عن ابن جريج أنه محرز بالحاء المهملة بعدها راء ثم زاي
على صيغة اسم الفاعل. قال الخطابي: في هذا الحديث دليل على ثبوت العمل بالقافة
وصحة الحكم بقولهم في إلحاق الولد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لا يظهر السرور إلا بما هو حق عنده، وكان الناس قد ارتابوا في زيد بن حارثة
وابنه أسامة، وكان زيد أبيض وأسامة أسود كما وقع في الرواية المذكورة، فتمارى
الناس في ذلك وتكلموا بقول كان يسوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما
سمع قول المدلجي فرح به وسرى عنه، وقد أثبت الحكم بالقافة عمر بن الخطاب
وابن عباس وعطاء والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد، وذهبت العترة والحنفية
80

إلى أنه لا يعمل بقول القائف بل يحكم بالولد الذي ادعاه اثنان لهما. واحتج لهم
صاحب البحر بحديث الولد للفراش وقد تقدم. ووجه الاستدلال به أن تعريف
المسند إليه واللام الداخلة على المسند للاختصاص يفيد أن الحصر، ويجاب بأن
حديث الباب بعد تسليم الحصر المدعي مخصص لعمومه فيثبت به النسب في مثل
الأمة المشتركة إذا وطئها المالكون لها. وروي عن الامام يحيى أن حديث القافة
منسوخ، ويجاب بأن الأصل عدم النسخ، ومجرد دعواه بلا برهان كما لا ينفع
المدعي لا يضر خصمه. وأما ما قيل من أن حديث مجزز لا حجة فيه لأنه إنما يعرف
القائف بزعمه أن هذا الشخص من ماء ذاك لا أنه طريق شرعي فلا يعرف إلا بالشرع،
فيجاب بأن في استبشاره صلى الله عليه وآله وسلم من التقرير ما لا يخالف فيه
مخالف، ولو كان مثل ذلك لا يجوز في الشرع لقال له إن ذلك لا يجوز. (لا يقال) أن
أسامة قد ثبت فراش أبيه شرعا، وإنما لما وقعت القالة بسبب اختلاف اللون وكان
قول المدلجي المذكور دافعا لها لاعتقادهم فيه الإصابة وصدق المعرفة استبشر صلى
الله عليه وآله وسلم بذلك، فلا يصح التعلق بمثل هذا التقرير على إثبات أصل النسب
. لأنا نقول: لو كانت القافة لا يجوز العمل بها إلا في مثل هذه المنفعة مع مثل أولئك
الذين قالوا مقالة السوء لما قرره صلى الله عليه وآله وسلم على قوله: هذه الاقدام
بعضها من بعض وهو في قوله هذا ابن هذا، فإن ظاهره أنه تقرير للالحاق بالقافة
مطلقا لا إلزام للخصم بما يعتقده. ولا سيما والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينقل
عنه إنكار كونها طريقا يثبت بها النسب حتى يكون تقريره لذلك من باب التقرير
على مضي كافر إلى كنيسة ونحوه مما عرف منه صلى الله عليه وآله وسلم إنكاره قبل
السكوت عنه، ومن الأدلة المقوية للعمل بالقافة حديث الملاعنة المتقدم حيث أخبر صلى الله
عليه وآله وسلم بأنها إن جاءت به على كذا فهو لفلان، وإن جاءت به على كذا فهو لفلان،
فإن ذلك يدل على اعتبار المشابهة. لا يقال: لو كان ذلك معتبرا لما لاعن بعد أن جاءت
بالولد مشابها لأحد الرجال وتبين له صلى الله عليه وآله وسلم ذلك حتى قال: لولا الايمان
لكان لي ولها شأن. لأنا نقول: إن النسب كان ثابتا بالفراش وهو أقوى ما يثبت
به فلا تعارضه القافة لأنها إنما تعتبر مع الاحتمال فقط، ولا سيما بعد وجود الايمان التي
شرعها الله تعالى بين المتلاعنين ولم يشرع في اللعان غيرها، ولهذا جعلها صلى الله
81

عليه وآله وسلم مانعة من العمل بالقافة، وفي ذلك إشعار بأنه يعمل بقول القائف
مع عدمها. ومن المؤيدات للعمل بالقافة ما تقدم من جوابه صلى الله عليه وآله وسلم
على أم سليم حيث قالت: أو تحتلم المرأة؟ فقال: فيم يكون الشبه. وقال: إن ماء الرجل
إذا سبق ماء المرأة كان الشبه له الحديث المتقدم. لا يقال: إن بيان سبب الشبه لا يدل
على اعتباره في الالحاق. لأنا نقول: إن إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بذلك يستلزم
أنه مناط شرعي وإلا لما كان للاخبار فائدة يعتد بها، وأما عدم تمكينه صلى الله عليه
وآله وسلم لمن ذكر له أن ولده أسود من اللعان كما تقدم فلمخالفته لما يقتضيه الفراش
الذي لا يعارضه العمل بالشبه إذا تقرر هذا، فاعلم أنه لا معارضة بين حديث
العمل بالقافة وحديث العمل بالقرعة الذي تقدم، لأن كل واحد منهما
دل على أن ما اشتمل عليه طريق شرعي فأيهما حصل وقع به الالحاق، فإن
حصلا معا فمع الاتفاق لا إشكال، ومع الاختلاف الظاهر أن الاعتبار بالأول
منهما لأنه طريق شرعي يثبت به الحكم ولا ينقضه طريق آخر يحصل بعده. قوله
: دخل قائف قال في القاموس: والقائف من يعرف الآثار الجمع قافة وقاف أثره تبعه
كقفاه واقتفاه انتهى.
باب حد القذف
عن عائشة قالت: لما أنزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا
حدهم رواه الخمسة إلا النسائي. وعن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: من قذف مملوكه يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما
قال متفق عليه. وعن أبي الزناد أنه قال: جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في فرية
ثمانين، قال أبو الزناد: فسألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك فقال: أدركت عمر
بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جر ما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر
من أربعين رواه مالك في الموطأ عنه.
حديث عائشة حسنه الترمذي وقال: لا يعرف إلا من حديث محمد بن إسحاق. قال
82

المنذري: وقد أسنده ابن إسحاق مرة وأرسله أخرى انتهى. وقد عنعن ههنا، وقد
قدمنا أنه لا يحتج بعنعنته لتدليسه. وقد أشار إلى الحديث البخاري في صحيحه.
والأثر الذي رواه أبو الزناد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أخرجه أيضا البيهقي
ورواه أيضا الثوري في جامعه. قوله: لما أنزل عذري أي براءتي مما نسب إلي أهل
الإفك. والمراد بالمنزل قوله تعالى: * (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة) * إلى قوله: * (ورزق
كريم) * (النور: 11) هكذا رواه ابن أبي حاتم والحاكم من مرسل سعيد بن المسيب. وفي البخاري:
إلى قوله تعالى: * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * وعن الزهري: إلى قوله تعالى: * (والله
غفور رحيم) *. قوله: أمر برجلين وامرأة الرجلان حسان بن ثابت ومسطح
والمرأة حمنة بنت جحش. وأخرج الحاكم في الإكليل أن من جملة من حده
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة الإفك عبد الله بن أبي رأس المنافقين
. (والحديث) يرد على الماوردي حيث قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لم يحد قذفة عائشة ولا مستند له إلا توهم أن الحد إنما يثبت بالبينة أو الاقرار،
وغفل عن النص القرآني المصرح بكذبهم وصحة الكذب تستلزم ثبوت الحد.
(وقد أجمع العلماء) على ثبوت حد القذف، وأجمعوا أيضا على أن حده ثمانون جلدة
لنص القرآن الكريم بذلك. واختلفوا هل ينصف الحد للعبد أم لا؟ فذهب الأكثر
إلى الأول. وذهب ابن مسعود والليث والزهري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز
وابن حزم إلى أنه لا ينصف لعموم الآية. وأجاب الأولون بأن العبد مخصص من ذلك
العموم بالقياس على حد الزنا، ويؤيده فعل أكابر الصحابة رضي الله عنهم. وقد تعقب
القياس المذكور بأن حد الزنا إنما نصف في العبد لعدم أهليته للعفة وحيلولة الملك بينه
وبين التحصن بخلاف الحر، وبأن القذف حق لآدمي وهو أغلظ، واعلم أنه لا فرق بين
قاذف الرجل والمرأة في وجوب حد القذف عليه. ولا يعرف في ذلك خلاف بين
أهل العلم، وقد نازع الجلال في وجوبه على قاذف الرجل، واستدل على عدم الوجوب
بما تقدم عنه صلى الله عليه وآله وسلم في اللعان أنه لم يحد هلال بن أمية لقذفه شريك
ابن سحماء، ولم يحد أهل الإفك إلا لعائشة فقط لا لصفوان بن المعطل، ولو كان
يجب على قاذف الرجل لحد أهل الإفك حدين. وقد أطال الكلام على ذلك في
ضوء النهار، والبسط ههنا يقود إلى تطويل يخرج عن المقصود. قوله: يقام عليه الحد
83

يوم القيامة فيه دليل على أنه لا يحد من قذف عبده، لأن تعليق إيقاع
الحد عليه بيوم القيامة مشعر بذلك، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحد قاذف العبد
مطلقا. وحكى صاحب البحر عن داود أنه يحد. وأجاب عليه بأنه مخالف للاجماع.
وذهب الجمهور أيضا إلى أنه لا يحد قاذف أم الولد إلحاقا لها بالقن. وقال مالك: يحد
مطلقا. وقال محمد: يحد إن كان معها ولد، ولعل مالكا يجعل المحصنات المذكورات في
الآية هن العفائف لا الحرائر
باب من أقر بالزنا بامرأة لا يكون قاذفا لها
عن نعيم بن هزال قال: كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فأصاب
جارية من الحي فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما صنعت
لعله يستغفر لك، فأتاه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله، فأعرض
عنه فعاد فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه
ثم أتاه الثالثة فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله، ثم أتاه الرابعة فقال:
يا رسول الله إنني زنيت فأقم علي كتاب الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة، قال: ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: جامعتها؟
قال: نعم، فأمر به أن يرجم، فخرج به إلى الحرة فلما رجم فوجد مس الحجارة جزع
فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد أعجز أصحابه فنزع بوظيف بعير فرماه به
فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب
الله عليه رواه أحمد وأبو داود.
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وحسنه الحافظ، وفي صحبة نعيم بن هزال
خلاف. وروى أبو داود من طريق محمد بن إسحاق قال: ذكرت لعاصم بن قتادة قصة
ماعز بن مالك فقال لي: حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال: حدثني
ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهلا تركتموه من شئتم من
رجال أسلم ممن لا أتهم، قال: ولا أعرف الحديث، قال: فجئت جابر بن عبد
الله فقلت: إن رجالا من أسلم يحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم حين
ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته: ألا تركتموه؟ وما أعرف الحديث،
84

قال: يا ابن أخي أنا أعلم الناس بهذا الحديث، كنت فيمن رجم الرجل، إنا لما خرجنا
به فرجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني به ليستثبت
رسول الله منه؟ فأما لترك حد فلا، قال: فعرفت وجه الحديث. وأخرجه النسائي وفي
إسناده محمد بن إسحاق، وقد اتفق الشيخان على طرف من هذا الحديث، وسيأتي
الكلام على حديث ماعز هذا في أبواب حد الزاني إن شاء الله تعالى، وإنما أورده
المصنف ههنا للاستدلال به على أنه لا يلزم من أقر بالزنا حد القذف إذا قال: زنيت
بفلانة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلب منه تعيين من زنى بها فعينها
ثم لم يحده للقذف، وإلى ذلك ذهبت الشافعية والحنفية والهادوية، وقال مالك: يحد،
والحديث يرد عليه، وسيأتي تمام الكلام وتحقيق ما هو الحق في باب من أقر أنه
زنى بامرأة فجحدت من أبواب الحدود. قوله: بوظيف بفتح الواو وكسر
الظاء المعجمة ثم ياء تحتية ساكنة بعدها فاء وهو دقيق الساق من الجمال والخيل،
وفي النهاية خف الجمل هو الوظيف، وسيأتي في باب ما يذكر في الرجوع عن الاقرار
من حديث أبي هريرة بلفظ: فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه به
وضربه الناس حتى مات.
كتاب العدد
باب أن عدة الحامل بوضع الحمل
عن أم سلمة: أن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها
فتوفي عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه فقال: والله
ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين، فمكثت قريبا من عشر ليال ثم نفست
ثم جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: انكحي رواه الجماعة إلا أبا داود
85

وابن ماجة. وللجماعة إلا الترمذي معناه من رواية سبيعة وقالت فيه: فأفتاني
بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويد، إن بدا لي. وعن ابن مسعود
في المتوفى عنها زوجها وهي حامل قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟
أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)
* (الطلاق: 4). رواه البخاري والنسائي. وعن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله * (وأولات
الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها؟ فقال: هي للمطلقة
ثلاثا وللمتوفى عنها رواه أحمد والدارقطني. وعن الزبير بن العوام: أنها كانت
عنده أم كلثوم بنت عقبة فقالت له وهي حامل: طيب نفسي بتطليقة، فطلقها
تطليقة ثم خرج إلى الصلاة فرجع وقد وضعت فقال: ما لها خدعتني خدعها الله؟
ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: سبق الكتاب أجله اخطبها إلى نفسها
رواه ابن ماجة.
حديث أبي بن كعب أخرجه أيضا أبو يعلى والضياء في المختارة وابن مردويه.
قال في مجمع الزوائد في إسناده المثنى بن الصباح: وثقه ابن معين وضعفه الجمهور
انتهى. وأخرج نحوه عنه من وجه آخر ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه
والدارقطني. وحديث الزبير إسناده في سنن ابن ماجة، هكذا حدثنا محمد بن عمر بن هياج،
حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان عن عمرو بن ميمون عن أبيه عن الزبير فذكره،
وكلهم من رجال الصحيح إلا محمد بن عمر بن هياج وهو صدوق لا بأس به، وفيه انقطاع
لأن ميمونا هو ابن مهران ولم يسمع من الزبير. قوله: العدد جمع العدة قال في الفتح
: العدة اسم لمدة تتربص بها المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها أو فراقه لها إما بالولادة
أو بالأقراء أو الأشهر. قوله: سبعية بضم السين المهملة تصغير سبع، وقد ذكرها
ابن سعد في المهاجرات وهي بنت أبي برزة الأسلمي. قوله: كانت تحت زوجها هو
سعد بن خولة العامري من بني عامر بن لؤي وقيل إنه من حلفائهم. قوله: فتوفي
عنها نقل ابن عبد البر الاتفاق أنه توفي في حجة الوداع، وقد قيل إنه قتل في
ذلك الوقت وهي رواية شاذة. قوله: أبو السنابل بمهملة ونون ثم موحدة جمع
سنبل، وقد اختلف في اسمه فقيل عمرو، وقيل عامر، وقيل حبة بمهملة ثم موحدة،
وقيل أصرم، وقيل عبد الله، وبعكك بموحدة فمهملة فكافين بوزن جعفر وهو ابن
86

الحرث، وقيل ابن الحجاج من بني عبد الدار. قوله: فقال والله ما يصلح أن تنكحي
الخ. قال عياض: والحديث مبتور نقص منه قولها: فنفست بعد ليال فخطبت الخ. قال
الحافظ: وقد ثبت المحذوف في رواية ابن ملحان عن يحيى بن بكير شيخ البخاري
ولفظه: فمكثت قريبا من عشرين ليلة ثم نفست. وقد وقع للبخاري اختصار المتن
في طريق بأخصر من هذه الطريق، ووقع له في تفسير سورة الطلاق مطولا بلفظ:
أن سبيعة بنت الحرث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة
الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب
فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال: ما لي أراك
تجملت للخطاب؟ فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت
سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني
بالتزويج. وظاهر هذا يخالف ما في حديث الباب حيث قال: فمكثت قريبا من
عشر ليال ثم جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإن قولها: فلما قال لي ذلك جمعت
ثيابي حين أمسيت يدل على أنها توجهت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في مساء ذلك اليوم الذي قال لها فيه أبو السنابل ما قال، ويمكن الجمع بينهما بحمل
قولها حين أمسيت على إرادة وقت توجهها، ولا يلزم منه أن يكون ذلك اليوم
الذي قال لها فيه ما قال. قوله: ثم نفست بضم النون وكسر الفاء أي ولدت.
قوله: قريبا من عشر ليال وفي رواية لأحمد: فلم أمكث إلا شهرين حتى وضعت
وفي رواية للبخاري: فوضعت بعد موته بأربعين ليلة. وفي أخرى للنسائي: بعشرين
ليلة أو خمس عشرة. وفي رواية للترمذي والنسائي: فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة
وعشرين يوما أو خمسة وعشرين يوما. ولابن ماجة: ببضع وعشرين. وفي
ذلك روايات أخر مختلفة. قال في الفتح بعد أن ساقها: والجمع بين هذه الروايات
متعذر لاتحاد القصة، ولعل هذا هو السر في إبهام من أبهم المدة، إذ محل الخلاف
أن تضع لدون أربعة أشهر وعشر وهنا كذلك، فأقل ما قيل في هذه الروايات
نصف شهر، وأما ما وقع في بعض الشروح أن في البخاري عشر ليال، وفي رواية
للطبراني ثمان أو سبع فهو في مدة إقامتها بعد الوضع إلى أن استفتت النبي صلى الله
87

عليه وآله وسلم لا في مدة بقية الحمل، وأكثر ما قيل فيه بالتصريح شهران وبغيره
دون أربعة أشهر. وقد ذهب جمهور أهل العلم من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار
إلى أن الحامل إذا مات عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل. وأخرج سعيد بن
منصور وعبد بن حميد عن علي بسند صحيح أنها تعتقد بآخر الأجلين. ومعناه أنها
إن وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها، وإن انقضت المدة
قبل الوضع تربصت إلى الوضع، وبه قال ابن عباس وروي عنه أنه رجع. وروي
عن ابن أبي ليلى أنه أنكر على ابن سيرين القول بانقضاء عدتها بالوضع، وأنكر أن
يكون ابن مسعود قال بذلك، وقد ثبت عن ابن مسعود من عدة طرق أنه كان
يوافق الجمهور حتى كان يقول: من شاء لاعنته على ذلك. وقد حكى صاحب البحر
عن الشعبي والقاسمية والمؤيد بالله والناصر موافقة علي على اعتبار آخر الأجلين،
وأما أبو السنابل فهو وإن كان في حديث الباب ما يدل على أنه يذهب إلى اعتبار
آخر الأجلين لكنه قد روى عنه الرجوع عن ذلك. وقد نقل المازري وغيره
عن سحنون من المالكية أنه يقول بقول علي، قال الحافظ: وهو مردود لأنه إحداث
خلاف بعد استقرار الاجماع، والسبب الذي حمل القائلين باعتبار آخر الأجلين
الحرص على العمل بالآيتين أعني قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * (البقرة: 234) فإن ظاهر ذلك أنه عام في كل
من مات عنها زوجها سواء كانت حاملا أو غير حامل. وقوله تعالى: * (وأولات الأحمال
أجلهن أن يضعن حملهن) * (الطلاق: 4) عام يشمل المطلقة والمتوفى عنها، فجمعوا بين العمومين
بقصر الآية الثانية على المطلقة بقرينة ذكر عدد المطلقات كالآيسة والصغيرة قبلها،
ولم يهملوا ما تناولته من العموم فعملوا بها وبالتي قبلها في حق المتوفى عنها. قال
القرطبي: هذا نظر حسن، فإن الجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول، لكن
حديث سبيعة وسائر الأحاديث المذكورة في الباب نص بأنها تنقضي عدة المتوفى
عنها بوضع الحمل. وفي ذلك أحاديث أخر: منها ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي
شيبة وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كنت
أنا وابن عباس وأبو هريرة فجاء رجل فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها
88

بأربعين ليلة، فقال ابن عبا س: تعتد آخر الأجلين، وقلت أنا: * (وأولات الأحمال أجلهن
أن يضعن حملهن) * قال ابن عباس: ذلك في الطلاق. وقال أبو سلمة: أرأيت لو أن
امرأة أخرت حملها سنة فما عدتها؟ قال ابن عباس: آخر الأجلين، قال أبو هريرة: أنا
مع ابن أخي يعني أبا سلمة، فأرسل ابن عباس غلامة كريبا إلى أم سلمة يسألها هل
مضت في ذلك سنة؟ فذكرت أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد موت زوجها بأربعين
ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن أبي شيبة
وعبد بن حميد وابن مردويه من حديث أبي السنابل أن سبيعة وضعت بعد موت
زوجها بثلاثة وعشرين يوما فقال صلى الله عليه وآله وسلم: قد حل أجلها. وأخرج
ابن أبي شيبة وابن مردويه من حديث سبيعة نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن
أبي شيبة وعبد بن حميد من حديث المسور بن مخرمة نحو ذلك. وأخرج عبد الرزاق
وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن ماجة
عن ابن مسعود أنه بلغه أن عليا يقول: تعتد آخر الأجلين، فقال: من شاء لاعنته، إن
الآية التي في سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا. وأخرج
عبد بن حميد عنه أنها نسخت ما في البقرة، وأخرج ابن مردويه عنه أنها نسخت
سورة النساء الصغرى كل عدة. وأخرج ابن مردويه عن ابن سعيد الخدري قال:
نزلت سورة النساء بعد التي في البقرة بسبع سنين. (وهذه الأحاديث) والآثار
مصرحة بأن قوله تعالى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * (الطلاق: 4) عامة في جميع
العدد، وأن عموم آية البقرة مخصص بها. (والحاصل) أن الأحاديث الصحيحة
الصريحة حجة لا يمكن التخلص عنها بوجه من الوجوه على فرض عدم اتضاح الامر
باعتبار ما في الكتاب العزيز، وأن الآيتين من باب تعارض العمومين، مع أنه قد تقرر
في الأصول أن الجموع المنكرة لا عموم فيها فلا تكون آية البقرة عامة، لأن قوله: ويذرون
أزواجا من ذلك القبيل فلا إشكال. وحديث أبي بن كعب والزبير بن العوام يدلان على
أنها تنقضي عدة المطلقة بالوضع للحمل من الزوج وهو مجمع عليه، حكي ذلك في البحر
لدخولها تحت عموم قوله تعالى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * وإنما تعتد
بوضعه حيث لحق وإلا فلا عند الشافعي والهادي، وقال أبو حنيفة: بل تعتد بوضعه
ولو كان من زنا لعموم الآية.
89

باب الاعتداد بالأقراء وتفسيرها
عن الأسود عن عائشة قالت: أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض رواه
ابن ماجة. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير بريرة
فاختارت نفسها وأمرها أن تعتد عدة الحرة رواه أحمد والدارقطني. وقد أسلفنا
قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المستحاضة: تجلس أيام أقرائها. وروي عن عائشة
: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان
رواه الترمذي وأبو داود. وفي لفظ: طلاق العبد اثنتان وقرء الأمة حيضتان
رواه الدارقطني. وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان رواه ابن ماجة والدارقطني
وإسناد الحديثين ضعيف، والصحيح عن ابن عمر قوله: عدة الحرة ثلاث حيض
وعدة الأمة حيضتان.
حديث عائشة الأول قال الحافظ في بلوغ المرام: رواته ثقات لكنه معلول.
وحديث ابن عباس أخرج أيضا الطبراني في الأوسط. قال في مجمع الزوائد: ورجال
أحمد رجال الصحيح، ويشهد له ما أخرجه أحمد من حديث بريرة بنحوه. والحديث
الذي أشار إليه المصنف في المستحاضة تقدم في أبواب الحيض وتقدم في معناه
أحاديث. وحديث عائشة الثاني أخرجه أيضا البيهقي قال أبو داود: هو حديث
مجهول، وقال الترمذي: حديث غريب ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث مظاهر بن
أسلم، ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث اه. وحديث ابن عمر أخرجه
أيضا مالك في الموطأ والشافعي وفي إسناده عمرو بن شبيب وعطية العوفي وهما
ضعيفان وصحح الدارقطني الموقوف. وقد ذكر المصنف هذه الأحاديث للاستدلال
بها، على أن عدة المطلقة ثلاثا أقراء وعلى أن الأقراء هي الحيض. أما الأول فهو
صريح قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * (البقرة: 229) وإنما وقع الخلاف في
الأقراء المذكورة في الآية هل هي الأطهار أو الحيض؟ فظاهر قوله صلى الله عليه وآله
وسلم: تعتد بثلاث حيض. وقوله: تجلس أيام أقرائها. وقوله: وعدتها حيضتان أن الأقراء هي
90

الحيض وقراءة الجمهور قروء بالهمز. وعن نافع بتشديد الواو بغير همز، قال الأخفش:
أقرأت المرأة إذا صارت ذات حيض. وعن أبي عبيد أن القرء يكون بمعنى الطهر
وبمعنى الضم والجمع وجزم به ابن بطال. وفي القاموس: القرء ويضم الحيض والطهر
انتهى. وزعم كثير أن القرء مشترك بين الحيض والطهر، وقد أنكر صاحب الكشاف
إطلاقه على الطهر. وقال ابن القيم: إن لفظ القرء لم يستعمل في كلام الشارع
إلا للحيض، ولم يجئ عنه في موضع واحد استعماله للطهر، فحمله في الآية على المعهود
المعروف من خطاب الشارع أولى بل يتعين، فإنه قد قال للمستحاضة: دعي الصلاة
أيام أقرائك وهو صلى الله عليه وآله وسلم المعبر عن الله وبلغة قومه نزل القرآن، فإذا
أورد المشترك في كلامه على أحد معنييه وجب حمله في سائر كلامه عليه إذا لم يثبت
إرادة الآخر في شئ من كلامه البتة ويصير هو لغة القرآن التي خوطبنا بها، وإن
كان له معنى آخر في كلام غيره، وإذا ثبت استعمال الشارع للقرء في الحيض علم أن
هذا لغته فيتعين حمله عليها في كلامه، ويدل على ذلك ما في سياق الآية من قوله
تعالى: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * (البقرة: 228) وهذا هو الحيض والحمل
عند عامة المفسرين، والمخلوق في الرحم إنما هو الحيض الوجودي، وبهذا قال
السلف والخلف ولم يقل أحد أنه الطهر، وأيضا فقد قال سبحانه: * (واللائي يئسن
من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) * (الطلاق: 4) فجعل كل
شهر بإزاء حيضة، وعلق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر والحيض، وقد أطال الكلام
ابن القيم وأطاب فليراجع. وحكي في البحر عن العترة أن القرء بفتح القاف وضمها
حقيقة في الحيض مجاز في الطهر. وعن بعض أصحاب الشافعي عكس ذلك. وعن
الأكثر أنه مشترك. وعن الأخفش الصغير أنه اسم لانقضاء الحيض. ثم قال في البحر
: ولا خلاف أن المراد بالآية أحدهما لا مجموعهما. قال: فعن أمير المؤمنين علي وابن
مسعود وأبي موسى والعترة والحسن البصري والأوزاعي والثوري والحسن بن
صالح وأبي حنيفة وأصحابه المراد به في الآية الحيض. وعن ابن عمر وزيد بن ثابت
وعائشة والصادق والباقر والامامية والزهري وربيعة ومالك والشافعي وفقهاء المدينة.
ورواية عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه الأطهار ثم رجح القول الأول
واستدل له، وقد أخذ بظاهر حديث عائشة وابن عمر المذكورين في الباب الشافعي
91

فقال: لا يملك العبد من الطلاق إلا اثنتين: حرة كانت زوجته أو أمة. وقال الناصر
وأبو حنيفة: إلا اثنتان في الأمة لا في الحرة فكالحر، وقالوا: كلهم عدة الحرة منه
ثلاثة قروء وعدة الامرة قرآن. وذهبت الهادوية وغيرهم أن العبد يملك من الطلاق
ما يملكه الحر، والعدة منه كالعدة من الحر مطلقا. وتمسكوا بعموم الأدلة الواردة
في ذلك فإنها شاملة للحر والعبد، ويجاب بأن ما في البا ب مخصص لذلك العموم، ويؤيده
ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن مسعود وابن عباس مرفوعا: الطلاق
بالرجال، والعدة بالنساء والاعلال بالوقف غير قادح لأن الرفع زيادة. وأيضا قد روى
أحمد عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه نحو ذلك.
باب إحداد المعتدة
عن أم سلمة: أن امرأة توفي زوجها فخشوا على عينها فأتوا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستأذنوه في الكحل فقال: لا تكتحل كانت إحداكن
تمكث في شر أحلاسها أو شر بيتها فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة فلا حتى
أربعة أشهر وعشر متفق عليه. وعن حميد بن نافع عن زينب بنت أم
سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفي
أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية
ثم مست بعارضيها ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب: ثم
دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: والله ما لي
بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر: لا يحل
لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر
وعشرا قالت زينب: وسمعت أمي أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت
عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا، مرتين أو ثلاثا كل
92

ذلك يقول لا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية
ترمي بالبعرة على رأس الحول. قال حميد: فقلت لزينب وما ترمي بالبعرة على رأس
الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها
ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتقتض
به فقلما تقتض بشئ إلا مات، ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت
من طيب أو غيره أخرجاه. وعن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق
ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا أخرجاه. واحتج به من لم
يرد الاحداد على المطلقة.
قوله: أن امرأة هي عاتكة بنت نعيم بن عبد الله كما أخرجه ابن وهب
عن أم سلمة والطبراني أيضا. قوله: لا تكتحل فيه دليل على تحريم الاكتحال
على المرأة في أيام عدتها من موت زوجها سواء احتاجت إلى ذلك أم لا، وجاء في
حديث أم سلمة في الموطأ وغيره: اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار. ولفظ أبي داود:
فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار. قال في الفتح: ووجه الجميع بينهما أنها إذا لم
تحتج إليه لا يحل، وإذا احتاجت لم يجز بالنهار ويجوز بالليل مع أن الأولى تركه،
فإذا فعلت مسحته بالنهار، وتأول بعضهم حديث الباب على أنه لم يتحقق الخوف
على عينها، وتعقب بأن في حديث الباب المذكور: فخشوا على عينها. وفي رواية لابن
منده: وقد خشيت على بصرها. وفي رواية لابن حزم: إني أخشى أن تنفقئ عينها
قال لا وإن انفقأت. قال الحافظ: وسنده صحيح ولهذا قال مالك في رواية عنه
بمنعه مطلقا، وعنه يجوز إذا خافت على عينها بما لا طيب فيه، وبه قالت الشافعية مقيدا
بالليل. وأجابوا عن قصة المرأة باحتمال أنه كان يحصل لها البرء بغير الكحل
كالتضميد بالصبر. ومنهم من تأول النهي على كحل مخصوص وهو ما يقتضي
التزين به، لأن محض التداوي قد يحصل بما لا زينة فيه، فلم ينحصر فيما فيه زينة.
وقال طائفة من العلماء: يجوز ذلك ولو كان فيه طيب وحملوا النهي على التنزيه
جمعا بين الأدلة. قوله: في شر أحلاسها المراد بالأحلاس الثياب وهي بمهملتين
جمع حلس بكسر ثم سكون وهو الثوب أو الكساء الرقيق يكون تحت البرذعة.
93

قوله: أو شر بيتها هو أضعف موضع فيه كالأمكنة المظلمة ونحوها والشك من
الراوي. قوله: فمر كلب رمت ببعرة البعرة بفتح الباء الموحدة وسكون العين
المهملة ويجوز فتحها. وفي رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك: ترمي ببعرة
من بعر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالا لها. وظاهر رواية
الباب أن رميها بالبعرة يتوقف على مرور الكلب سواء طال زمن انتظار مروره
أم قصر وبه جزم بعض الشراح. وقيل: ترمي بها من عرض من كلب أو غيره تري
من حضرها أن مقامها حولا أهون عليها من بعرة ترمي بها كلبا أو غيره. واختلف
في المراد برمي البعرة فقيل: هو إشارة إلى أنها رمت العدة رمي البعرة. وقيل
: إشارة إلى أن الفعل الذي فعلنه من التربص والصبر على البلاء الذي كانت فيه كان
عندها بمنزلة البعرة التي رمتها استحقارا له وتعظيما لحق لزوجها. وقيل: بل ترميها
على سبيل التفاؤل لعدم عودها إلى مثل ذلك. قوله: حتى تمضي أربعة أشهر وعشر
قيل: الحكمة في ذلك أنها تكمل خلقة الولد وينفخ فيه الروح بعد مضي مائة وعشرين
يوما وهي زيادة على أربعة أشهر لنقصان الأهلة، فجبر الكسر إلى العقد على طريق
الاحتياط، وذكر العشر مؤنثا لإرادة الليالي، والمراد مع أيامها عند الجمهور، فلا تحل حتى
تدخل الليلة الحادية عشرة. وعن الأوزاعي وبعض السلف تنقضي بمضي الليال العشر
بعد الأشهر وتحل في أول اليوم العاشر، واستثنيت الحامل كما تقدم شرح حالها. ويعارض
أحاديث الباب ما أخرجه أحمد وابن حبان وصححه من حديث أسماء بنت عميس
قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن
أبي طالب فقال: لا تحدي بعد يومك هذا وسيأتي. قال العراقي في شرح الترمذي:
ظاهره أنه لا يجب الاحداد على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث، لأن أسماء بنت عميس
كانت زوج جعفر بالاتفاق وهي والدة أولاده. قال: بل ظاهر النهي أن الاحداد
لا يجوز. وأجاب بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة وقد أجمعوا على
خلافه. وأجاب الطحاوي بأنه منسوخ وأن الاحداد كان على المعتدة في بعض
عدتها في وقت ثم وقع الامر بالاحداد أربعة أشهر وعشرا، واستدل على النسخ
بأحاديث الباب وليس فيها ما يدل على ذلك، وقيل: المراد بالاحداد المقيد بالثلاث
قدر زائد على الاحداد المعروف فعلته أسماء مبالغة في حزنها على جعفر فنهاها
94

عن ذلك بعد الثلاث، ويحتمل أنها كانت حاملا فوضعت بعد ثلاث فانقضت عدتها،
ويحتمل أنه أبانها بالطلاق قبل استشهاده فلم يكن عليها إحداد، وقد أعل البيهقي
الحديث بالانقطاع فقال: لم يثبت سماع عبد الله بن شداد من أسماء وتعقب بأنه قد
صححه أحمد، وقد ورد معنى حديث أسماء من حديث ابن عمر بلفظ: لا إحداد فوق
ثلاث قال أحمد: هذا منكر والمعروف عن ابن عمر من رأيه، ويحتمل أن يكون هذا
لغير المرأة المعتدة فلا نكارة فيه بخلاف حديث أسماء. قوله: لا يحل استدل
بذلك على تحريم الاحداد على غير الزوج وهو ظاهر، وعلى وجوب الاحداد على
المرأة التي مات زوجها وتعقب بأن الاستثناء وقع بعد النفي، وهو يدل على مجرد
الجواز لا الوجوب، ورد بأن الوجوب استفيد من دليل آخر كالاجماع، وتعقب بأن
المنقول عن الحسن البصري أن الاحداد لا يجب كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة. وروي
أيضا عن الشعبي أنه كان لا يعرف الاحداد، وقيل: إن السياق دال على الوجوب.
قوله: لامرأة تمسك بمفهومه الحنفية فقالوا: لا يجب الاحداد على الصغيرة، وخالفهم
الجمهور فأوجبوه عليها كالعدة، وأجابوا عن التقييد بالمرأة بأنه خرج مخرج الغالب،
وظاهر الحديث عدم الفرق بين المدخولة وغيرها والحرة والأمة. قوله: تؤمن
بالله واليوم الآخر استدل به الحنفية وبعض المالكية على عدم وجوب الاحداد
على الذمية، وخالفهم الجمهور وأجابوا بأنه ذكر للمبالغة في الزجر فلا مفهوم له. وقال
النووي: التقييد بوصف الايمان لأن المتصف به هو الذي ينقاد للشرع، ورجح
ابن دقيق العيد الأول، وقد أجاب ابن القيم في الهدى عن هذا التقييد بما فيه كفاية
فراجعه. قوله: تحد بضم أوله وكسر ثانيه من الرباعي، ويجوز بفتح أوله وضم
ثانيه من الثلاثي، قال أهل اللغة: أصل الاحداد المنع ومنه تسمية البواب حدادا لمنعه
الداخل، وتسمية العقوبة حدا لأنها تردع عن المعصية. قال ابن درستويه: معنى الاحداد منع المعتدة نفسها الزينة وبدنها الطيب ومنع الخطاب خطبتها. وحكى الخطابي أنه يروى
بالجيم والحاء والحاء أشهر، وهو بالجيم مأخوذ من جددت الشئ إذا قطعته فكأن
المرأة انقطعت عن الزينة. قوله: على ميت استدل به من قال إنه لا إحداد على
امرأة المفقود لعدم تحقيق وفاته خلافا للمالكية، وظاهره أنه لا إحداد على المطلقة،
فأما الرجعية فإجماع، وأما البائنة فلا إحداد عليها عند الجمهور. وقال أبو حنيفة
95

وأبو عبيد وأبو ثور وبعض المالكية والشافعية وحكاه أيضا في البحر عن أمير
المؤمنين علي وزيد بن علي والمنصور بالله والثوري والحسن بن صالح أنه يلزمها
الاحداد، والحق الاقتصار على مورد النص عملا بالبراءة الأصلية فيما عداه، فمن
ادعى وجوب الاحداد على غير المتوفى عنها فعليه الدليل، وأما المطلقة قبل الدخول
فقال في الفتح إنه لا إحداد عليها اتفاقا. قوله: فوق ثلاث فيه دليل على جواز
الاحداد على غير الزوج من قريب ونحوه ثلاث ليال فما دونها وتحريمه فيما زاد
عليها، وكأن هذا القدر أبيح لأجل حظ النفس ومراعاتها وغلبة الطباع البشرية.
وأما ما أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم رخص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام وعلى من سواه ثلاثة
أيام، فلو صح لكان مخصصا للأب من هذا العموم لكنه مرسل، وأيضا عمرو بن
شعيب ليس من التابعين حتى يدخل حديثه في المرسل، وقال الحافظ: يحتمل أن
أبا داود لا يخص المرسل برواية التابعي. قوله: والله ما لي بالطيب من حاجة
إشارة إلى أن آثار الحزن باقية عندها لكنها لم يسعها إلا امتثال الامر. قوله: وقد
اشتكت عينها قال ابن دقيق العيد: يجوز فيه وجهان: ضم النون على الفاعلية على
أن تكون العين هي المشتكية، وفتحها على أن يكون في اشتكت ضمير الفاعل،
ويرجح الأول أنه وقع في مسلم عيناها وعليها اقتصر النووي. قوله: أفنكحلها
بضم الحاء. قوله: حفشا بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء بعدها معجمة فسره
أبو داود في روايته من طريق مالك أنه البيت الصغير. قوله: فتقتض به بفاء
ثم مثناة من فوق ثم قاف ثم مثناة فوقية ثم ضاد معجمة فسره مالك بأنها تمسح
به جلدها، وفي النهاية فرجها، وأصل القض الكسر أي تكسر ما كانت فيه وتخرج
منه بما فعلت بالدابة. وفي رواية للنسائي: تقبص بعد القاف باء موحدة ثم صاد
مهملة، والقبص الاخذ بأطراف الأنامل. قال الأصبهاني وابن الأثير: هو كناية
عن الاسراع أي تذهب بسرعة إلى منزل أبويها لكثرة جفائها بقبح منظرها أو
لشدة شوقها إلى الأزواج لبعد عهدها. قال ابن قتيبة: سألت الحجازيين عن
الاقتضاض فذكروا أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا
ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تقتض أي تكسر ما كانت فيه من العدة
96

بطائر تمسح به قبلها فلا يكاد يعيش ما تقتض به. قال الحافظ: وهذا لا يخالف
تفسير مالك لكن أخص منه لأنه أطلق الجلد، فتبين أن المراد به جلد القبل،
والافتضاض بالفاء الاغتسال بالماء العذب لإزالة الوسخ حتى تصير بيضاء نقية كالفضة.
باب ما تجتنب الحادة وما رخص لها فيه
عن أم عطية قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على
زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا
ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة
من كست أظفار أخرجاه. وفي رواية: قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها لا تكتحل
ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط
أو أظفار متفق عليه. وقال فيه أحمد ومسلم: لا تحد على ميت فوق ثلاث إلا المرأة
فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا. وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي
ولا تختضب ولا تكتحل رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعن أم سلمة قالت: دخل
علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرا فقال:
ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب قال: إنه يشب الوجه
فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعينه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب
، قالت قلت: بأي شئ أمتشط يا رسول الله؟ قال: بالسدر تغلفين به رأسك رواه
أبو داود والنسائي. وعن جابر قال: طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجد نخلا لها
فلقيها رجل فنهاها، فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال: أخرجي
فجدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا رواه أحمد ومسلم وأبو داود
وابن ماجة والنسائي. وعن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر أتانا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال: تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت. وفي رواية قالت: دخل
علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر فقال:
97

لا تحدي بعد يومك هذا رواهما أحمد، وهو متأول على المبالغة في الاحداد
والجلوس للتعزية.
حديث أم سلمة الأول قال البيهقي روي موقوفا والمرفوع من رواية إبراهيم
بن طهمان وهو ثقة من رجال الصحيحين وقد ضعفه ابن حزم ولا يلتفت إلى ذلك، فإن
الدارقطني قد جزم بأن تضعيف من ضعفه إنما هو من قبل الارجاء. وقد قيل إنه رجع عن
ذلك. وحديثها الثاني أخرجه أيضا الشافعي وفي إسناده المغيرة بن الضحاك عن أم حكيم
بنت أسيد عن أمها عن مولى لها عن أم سلمة، وقد أعله عبد الحق والمنذري بجهالة حال
المغيرة ومن فوقه، قال الحافظ: وأعل بما في الصحيحين عن زينب بنت أم سلمة
سمعت أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي
توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها الحديث وقد تقدم، وقد حسن إسناد
حديثها المذكور في الباب الحافظ في بلوغ المرام. وحديث أسماء بنت عميس أخرجه
ابن حبان وصححه وقد تقدم الكلام عليه في الباب الذي قبل هذا. قوله: ننهى
بضم أوله. قوله: ولا نكتحل قد تقدم الكلام عليه. قوله: ولا نتطيب
فيه تحريم الطيب على المعتدة وهو كل ما يسمى طيبا ولا خلاف في ذلك، وقد
استثنى صاحب البحر اللينوفر والبنفسج والعرار وعلل ذلك بأنها ليست بطيب ثم
قال: أما البنفسج ففيه نظر. قوله: ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب
بمهملتين مفتوحتين ثم ساكنة ثم موحدة وهو بالإضافة برود اليمن يعصب غزلها
أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج معصوبا فيخرج موشى لبقاء ما عصب منه أبيض لم
ينصبغ وإنما ينصبغ السدي دون اللحمة. وقال السهيلي: إن العصب نبات لا ينبت
إلا باليمن وهو غريب، وأغرب منه قول الداودي أن المراد بالثوب العصب الخضرة
وهي الحبرة. قال ابن المنذر أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة
ولا المصبغة إلا ما صبغ بسواد، فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ للزينة
بل هو من لباس الحزن. وقال الامام يحيى: لها لبس البياض والسواد والأكهب وما
يلي صبغه والخاتم والزقر والودع. وكره عروة العصب أيضا، وكره مالك غليظه،
قال النووي: الأصح عند أصحابنا تحريمه مطلقا والحديث حجة عليهم. قال النووي:
ورخص أصحابنا ما لا يتزين به ولو كان مصبوغا. واختلف في الحرير فالأصح عند
98

الشافعية منعه مطلقا مصبوغا أو غير مصبوغ لأنه من ثياب الزينة وهي ممنوعة منها.
قال في البحر مسألة: ويحرم من اللباس المصبوغ للزينة ولو بالمغرة والحرير وما في
منزلته لحسن صنعته، والمطرز والمنقوش بالصبغ والحلي جميعا. قال في الفتح: وفي التحلي
بالذهب والفضة واللؤلؤ ونحوه وجهان: الأصح جوازه وفيه نظر لأنه من الزينة،
ويصدق عليه أيضا اسم الحلي المنهي عنه في حديث أم سلمة المذكور. قوله: في نبذة
بضم النون وسكون الموحدة بعدها معجمة وهي القطعة من الشئ، وتطلق على الشئ اليسير.
قوله: من كست أظفار بضم الكاف وسكون المهملة وبعدها مثناة فوقية. وفي
رواية من قسط بقاف مضمومة كما في الرواية الأخرى المذكورة وهو بالإضافة
إلى أظفار. وفي الرواية الأخرى من قسط أو أظفار وهو أصوب، وخطأ القاضي
عياض رواية الإضافة. قال النووي: القسط والأظفار نوعان معروفان من البخور
وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة
تتبع به أثر الدم لا للتطيب. وقال البخاري: القسط والكست مثل الكافور والقافور
انتهى. وروي كسط بالطاء بإبدال الكاف من القاف. قال في النهاية:
وقد تبدل الكاف من القاف، وقد استدل بهذا على أنه يجوز للمرأة استعمال ما فيه
منفعة لها من جنس ما منعت منه. قوله: ولا الممشقة أي المصبوغة بالمشق وهو
المغرة. قوله: يشب الوجه بفتح أوله وضم الشين المعجمة أي يجمله. وظاهر
حديث أم سلمة هذا أنه يجوز للمرأة المعتدة عن موت أن تجعل على وجهها الصبر
بالليل وتنزعه بالنهار لأنه يحسن الوجه، فلا يجوز فعله في الوقت الذي تظهر فيه
الزينة وهو النهار، ويجوز فعله بالليل لأنها لا تظهر فيه. قوله: ولا تمتشطي بالطيب
ولا بالحناء فيه دليل على أنه لا يجوز للمرأة أن تمتشط بشئ من الطيب أو بما
فيه زينة كالحناء ولكنها تمتشط بالسدر. قوله: تغلفين به رأسك الغلاف في
الأصل الغشاوة، وتغليف الرأس أن يجعل عليه من الطيب أو السدر ما يشبه
الغلاف. قال في القاموس: تغلف الرجل واغتلف حصل له غلاف. قوله: تجد
بفتح أوله وضم الجيم بعدها دال مهملة أي تقطع نخلا لها، وظاهر إذنه صلى الله
عليه وآله وسلم لها بالخروج لجد النخل يدل على أنه يجوز لها الخروج لتلك
الحاجة ولما يشابهها بالقياس. وقد بوب النووي لهذا الحديث فقال: باب جواز خروج
99

المعتدة البائن من منزلها في النهار للحاجة إلى ذلك ولا يجوز لغير حاجة. وقد ذهب
إلى ذلك علي رضي الله عنه وأبو حنيفة والقاسم والمنصوب الله، ويدل على اعتبار الغرض
الديني أو الدنيوي تعليله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بالصدقة أو فعل الخير، ولا معارضة
بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: * (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) * (الطلاق: 1) الآية، بل الحديث
مخصص لذلك العموم المشعور به من النهي، فلا يجوز الخروج إلا للحاجة لغرض من
الأغراض. وذهب الثوري والليث ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يجوز لها الخروج
في النهار مطلقا وتمسكوا بظاهر الحديث وليس فيه ما يدل على اعتبار الحاجة وغايته اعتبار
أن يكون الخروج لقربة من القرب كما يدل على ذلك آخر الحديث، ومما يؤيد مطلق
الجواز في النهار القياس على المتوفى عنها كما سيأتي. قوله: تسلبي بفتح أوله وبعده
سين مهملة مفتوحة وتشديد اللام أي البسي السلاب وهو ثوب الاحداد، وقيل هو
ثوب أسود تغطي به رأسها، وقد قدمنا الكلام على حديث أسماء هذا وكيفية الجمع
بينه وبين الأحاديث القاضية بوجوب الاحداد.
باب أين تعتد المتوفى عنها
عن فريعة بنت مالك قالت: خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدركهم في طرف
القدوم فقتلوه فأتاني نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالا
ورثته وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي وإخوتي لكان أرفق لي في بعض شأني، قال:
تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني أو أمر بي فدعيت فقال: امكثي في بيتك
الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر
وعشرا قالت: وأرسل إلي عثمان فأخبرته فأخذ به رواه الخمسة وصححه الترمذي، ولم
يذكر النسائي وابن ماجة إرسال عثمان. وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى
: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج)
* (البقرة: 240) نسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله لها من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول أن
جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا رواه النسائي وأبو داود.
100

حديث فريعة أخرجه أيضا مالك في الموطأ والشافعي والطبراني وابن حبان
والحاكم وصححاه، وأعله ابن حزم وعبد الحق بجهالة حال زينب بنت كعب بن
عجرة الرواية له عن الفريعة، وأجيب بأن زينب المذكورة وثقها الترمذي وذكرها
ابن فتحون وغيره في الصحابة. وأما ما روي عن علي بن المديني بأنه لم يرو عنها
غير سعد بن إسحاق فمردود بما في مسند أحمد من رواية سليمان بن محمد بن كعب
بن عجرة عن عمته زينب في فضل الإمام علي رضي الله عنه، وقد أعل الحديث
أيضا بأن في إسناده سعد بن إسحاق، وتعقبه ابن القطان بأنه قد وثقه النسائي
وابن حبان انتهى. ووثقه أيضا يحيى بن معين والدارقطني، وقال أبو حاتم: صالح الحديث،
وروى عنه جماعة من أكابر الأئمة ولم يتكلم فيه بجرح، وغاية ما قاله فيه ابن حزم
وعبد الحق أنه غير مشهور وهذه دعوى باطلة، فإن من يروي عنه مثل سفيان الثوري
وحماد بن زيد ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد والدراوردي وابن جريج والزهري
مع كونه أكبر منه وغير هؤلاء الأئمة كيف يكون غير مشهور؟ وحديث ابن عباس
سكت عنه أبو داود وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال، ولكنه قد رواه
النسائي من غير طريقه. قوله: عن فريعة بضم الفاء وفتح الراء وبعدها تحتية
ساكنة ثم عين مهملة ويقال لها الفارعة وهي بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد
الخدري وشهدت بيعة الرضوان. وقد استدل بحديثها هذا على أن المتوفى عنها تعتد
في المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه ولا تخرج منه إلى غيره. وقد ذهب إلى
ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقد أخرج ذلك عبد الرزاق عن عمر
وعثمان وابن عمر. وأخرجه أيضا سعيد بن منصور عن أكثر أصحاب ابن مسعود
والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسعيد بن المسيب وعطاء. وأخرجه حماد عن ابن
سيرين، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم والأوزاعي وإسحاق
وأبو عبيد، قال ابن عبد البر: وقد قال بحديث الفريعة جماعة من فقهاء الأمصار بالحجاز
والشام والعراق ومصر ولم يطعن فيه أحد منهم. وقد روى جواز خروج المتوفى
عنها للعذر عن جماعة منهم عمر أخرج عنه ابن أبي شيبة أنه رخص للمتوفى عنها
أن تأتي أهلها بياض يومها. وأن زيد بن ثابت رخص لها في بياض يومها. وأخرج
عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان له ابنة تعتد من وفاة زوجها فكانت تأتيهم بالنهار
101

فتحدث إليهم، فإذا كان بالليل أمرها أن ترجع إلى بيتها. وأخرج أيضا عن ابن مسعود
في نساء نعي إليهن أزواجهن وتشكين الوحشة فقال ابن مسعود: يجتمعن بالنهار
ثم ترجع كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل. وأخرج سعيد بمنصور عن علي رضي
الله عنه أنه جوز للمسافرة الانتقال. وروى الحجاج بن منهال أن امرأة سألت أم سلمة
بأن أباها مريض وأنها في عدة وفاة فأذنت لها في وسط النهار. وأخرج الشافعي
وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلا: أن رجالا استشهدوا بأحد فقال نساؤهم: يا رسول الله
إنا نستوحش في بيوتنا أفنبيت عند إحدانا؟ فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن
فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها وحكي في البحر عن علي رضي الله
عنه وابن عباس وعائشة وجابر والقاسمية أنه يجوز لها الخروج من موضع عدتها لقوله
: * (يتربصن) * ولم يخص مكانا والبيان لا يؤخر عن الحاجة. وعن زيد بن علي والشافعية
والحنفية أنه لا يجوز، ثم قال فرع: ولها الخروج نهارا ولا تبيت إلا في منزلها إجماعا
انتهى. وحكاية الاجماع راجعة إلى مبيتها في منزلها لا إلى الخروج نهارا فإنه محل
الخلاف كما عرفت. وحديث فريعة لم يأت من خالفه بما ينتهض لمعارضته فالتمسك
به متعين، ولا حجة في أقوال أفراد الصحابة، ومرسل مجاهد لا يصلح للاحتجاج
به على فرض انفراده عند من لم يقبل المراسيل مطلقا، وأما إذا عارضه مرفوع
أصح منه كما في مسألة النزاع فلا يحل التمسك به بإجماع من يعتد به من أهل العلم،
وقد استدل بحديث ابن عباس المذكور في الباب من قال: إن المتوفى عنها لا تستحق
السكنى والنفقة والكسوة، قال الشافعي: حفظت عمن أرضى به من أهل العلم أن
نفقة المتوفى عنها زوجا وكسوتها حولا منسوختان بآية الميراث، ولم أعلم مخالفا في
نسخ نفقة المتوفى عنها وكسوتها سنة أو أقل من سنة، ثم قال ما معناه: إنه يحتمل أن
يكون حكم السكنى حكمهما لكونها مذكورة معهما، ويحتمل أنها تجب لها السكنى.
وقال الشافعي أيضا في كتاب العدد: الاختيار لورثة الميت أن يسكنوها، لأن قول
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث فريعة: امكثي في بيتك وقد ذكرت أنه
لا بيت لزوجها يدل على وجوب سكناها في بيت زوجها إذا كان له بيت بالطريق
الأولى. وأجيب عن الاستدلال لا بحديث ابن عباس بأن نسخ بعض المدة إنما يستلزم
نسخ نفقة المنسوخ وكسوته وسكناه دون ما لم ينسخ وهو أربعة أشهر وعشر.
102

وأجيب عن الاستدلال بحديث فريعة بأنه مخالف للقياس لأنها قالت: وليس المسكن
له ولم يدع نفقة ولا مالا، فأمرها بالوقوف فيما لا يملكه زوجها، وملك الغير لا يستحق
غيره الوقوف فيه، فيكون ذلك قضية عين موقوفة. وقد حكي في البحر القول
بوجوب نفقة المتوفى عنها عن ابن عمر والهادي والقاسم والناصر والحسن بن صالح،
وعدم الوجوب عن الشافعية والحنفية ومالك والوجوب للحامل لا الحائل عن
مولانا علي رضي الله عنه وابن مسعود وأبي هريرة وشريح وابن أبي ليلى. وحكي
أيضا القول بوجوب السكنى عن ابن عمر وأم سلمة ومالك والامام يحيى والشافعي،
وعدمه عن مولانا علي رضي الله عنه وعمر وابن مسعود وعثمان وعائشة وأبي
حنيفة وأصحابه. وقد أخرج أحمد والنسائي من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما النفقة والسكنى للمرأة، إذا كان لزوجها عليها
الرجعة. وفي لفظ آخر: إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة،
فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى. وسيأتي هذا الحديث في باب النفقة
والسكنى للمعتدة الرجعية، وهو نص في محل النزاع، والقرآن والسنة إنما دلا على
أنه يجب على المتوفى عنها لزومها لبيتها وذلك تكليف لها. وحديث الفريعة إنما
دل على هذا، فهو واضح في أن السكنى والنفقة ليستا من تكليف الزوج، ويؤيد
هذا أن الذي في القرآن في سورة الطلاق هو إيجاب النفقة لذات الحمل لا غير، وفي
البقرة إيجابها للمطلقات. وقد خرج من عمومهن البائنة بحديث فاطمة بنت قيس
إلا أن تكون حاملا لذكر ذلك في حديثها كما سيأتي، وخرجت أيضا المطلقة قبل
الدخول بآية الأحزاب فخرجت المتوفى عنها من ذلك وكذلك لا سكنى لها لان
قوله تعالى: * (لا تخرجوهن من بيوتهن) * (الطلاق: 1) وقوله: * (أسكنوهن من حيث سكنتم) * (الطلاق: 6) في الرجعيات
لظاهر السياق، كما سيأتي تحقيق ذلك، إذا تقرر هذا علمت أنه لم يكن في القرآن
ما يدل على وجوب النفقة أو السكنى للمتوفى عنها كما علمت أن السنة قاضية بعدم
الوجوب. وأما حديث الفريعة وحديث ابن عباس فقد استدل بهما من قال بعدم
الوجوب، كما استدل بهما من قال بالوجوب، لما فيهما من الاحتمال والمحتمل لا تقوم
به الحجة، وقد أطال صاحب الهدي الكلام في هذه المسألة، وحرر فيها المذاهب
تحريرا نفيسا، فمن رام الوقوف على تفاصيلها فليراجعه.
103

باب ما جاء في نفقة المبتوتة وسكناها
عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في المطلقة ثلاثا قال: ليس لها سكنى ولا نفقة رواه أحمد ومسلم. وفي رواية عنها
قالت: طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سكنى ولا نفقة
رواه الجماعة إلا البخاري. وفي رواية عنها أيضا قالت: طلقني زوجي ثلاثا فأذن لي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أعتد في أهلي رواه مسلم. وعن عروة
بن الزبير أنه قال لعائشة: ألم تري إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها البتة فخرجت
فقالت: بئسما صنعت، فقال: ألم تسمعي إلى قول فاطمة؟ فقالت: أما أنه لا خير لها في ذلك
متفق عليه. وفي رواية: أن عائشة عابت ذلك أشد العيب وقالت: إن فاطمة كانت
في مكان وحش فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم رواه البخاري وأبو داود وابن ماجة. وعن فاطمة بنت قيس
قالت: قلت يا رسول الله زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم علي فأمرها فتحولت
رواه مسلم والنسائي. وعن الشعبي أنه حدث بحديث فاطمة بنت قيس أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود بن
يزيد كفا من حصى فحصبه به وقال: ويلك تحدث بمثل هذا؟ قال عمر: لا نترك كتاب
الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت رواه مسلم. وعن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: أرسل مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة فسألها فأخبرته
أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الإمام علي
بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن، فخرج معه زوجها فبعث إليها
بتطليقة كانت بقيت لها، وأمر عياش بن أبي ربيعة والحرث بن هشام أن ينفقا
عليها فقالا: والله مالها نفقة إلا أن تكون حاملا، فأتت النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فقال: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا، واستأذنته في الانتقال فأذن لها
فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ فقال: عند ابن أم مكتوم وكان أعمى تضع ثيابها
عنده ولا يبصرها، فلم تزل هناك حتى مضت عدتها فأنكحها النبي صلى الله عليه
104

وآله وسلم أسامة، فرجع قبيصة إلى مروان فأخبره ذلك فقال مروان: لم نسمع هذا
الحديث إلا من امرأة فسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة حين
بلغها ذلك: بيني وبينكم كتاب الله قال الله * (فطلقوهن لعدتهن حتى قال لا ندري
لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * (الطلاق: 6) فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ رواه أحمد وأبو داود
والنسائي ومسلم بمعناه.
قوله: ألم تري إلى فلانة بنت الحكم اسمها عمرة بنت عبد الرحمن بن الحكم، فهي
بنت أخي مروان بن الحكم، ونسبها عروة في هذه الرواية إلى جدها قوله: بئسما
صنعت في رواية للبخاري: بئسما صنع أي زوجها في تمكينها من ذلك أو أبوها في
موافقتها. قوله: أما إنه لا خير لها في ذلك كأنها تشير إلى أن سبب الاذن في انتقال
فاطمة ما في الرواية الثانية المذكورة من أنها كانت في مكان وحش، أو إلى ما وقع
في رواية لأبي داود إنما كان ذلك من سوء الخلق. قوله: وحش بفتح الواو وسكون
المهملة بعدها معجمة أي مكان لا أنيس به. (وقد استدل) بأحاديث الباب من قال إن
المطلقة بائنا لا تستحق على زوجها شيئا من النفقة والسكنى، وقد ذهب إلى ذلك
أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأتباعهم، وحكاه في البحر عن ابن عباس والحسن
البصري وعطاء والشعبي وابن أبي ليلى والأوزاعي والامامية والقاسم، وذهب الجمهور
كما حكى ذلك صاحب الفتح عنهم إلى أنه لا نفقة لها ولها السكنى، واحتجوا لاثبات
السكنى بقوله تعالى: * (واسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) * (الطلاق: 6) ولاسقاط النفقة بمفهوم
قوله تعالى: * (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) * (الطلاق: 6) فإن مفهومه أن
غير الحامل لا نفقة لها وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر فائدة. وذهب عمر بن الخطاب
وعمر بن عبد العزيز والثوري وأهل الكوفة من الحنفية وغيرهم والناصر والامام
يحيي إلى وجوب النفقة والسكنى، واستدلوا بقوله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء
فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن) * (الطلاق: 1) فإن آخر
الآية وهو النهي عن إخراجهن يدل على وجوب النفقة والسكنى، ويؤيده قوله
تعالى: * (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) * الآية. وذهب الهادي والمؤيد بالله
وحكاه في البحر عن أحمد بن حنبل إلى أنها تستحق النفقة دون السكنى، واستدلوا على
وجوب النفقة بقوله تعالى: * (وللمطلقات متاع بالمعروف) * (البقرة: 241) الآية، وبقوله تعالى: * (لا تضاروهن
105

) * (الطلاق: 6) وبأن الزوجة المطلقة بائنا محبوسة بسبب الزوج، واستدلوا على عدم وجوب السكنى
بقوله تعالى: * (اسكنوهن من حيث سكنتم) * فإنه أوجب أن تكون حيث الزوج وذلك لا يكون
في البائنة، وأرجح هذه الأقوال الأول لما في الباب من النص الصحيح الصريح. وأما ما قيل
من إنه مخالف للقرآن فوهم، فإن الذي فهمه السلف من قوله تعالى: * (لا تخرجوهن من
بيوتهن) * هو ما فهمته فاطمة من كونه في الرجعية لقوله في آخر الآية: * (لعل الله
يحدث بعد ذلك أمرا) * لأن الامر الذي يرجى إحداثه هو الرجعة لا سواه، وهو الذي
حكاه الطبري عن قتادة والحسن والسدي والضحاك، ولم يحك عن أحد غيرهم خلافه.
قال في الفتح: وحكي غيره أن المراد بالامر ما يأتي من قبل الله تعالى من نسخ أو
تخصيص أو نحو ذلك فلم ينحصر انتهى. ولو سلم العموم في الآية لكان حديث
فاطمة المذكور مخصصا له، وبذلك يظهر أن العمل به ليس يترك للكتاب العزيز
كما قال عمر فيما أخرجه عنه مسلما أخبر بقول فاطمة المذكور: لا نترك كتاب
ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أم نسيت. (فإن قلت) إن
قوله وسنة نبينا يدل على أنه قد حفظ في ذلك شيئا من السنة يخالف قول فاطمة
لما تقرر أن قول الصحابي من السنة كذا له حكم الرفع. قلت: صرح الأئمة بأنه لم
يثبت شئ من السنة يخالف قول فاطمة، وما وقع في بعض الروايات عن عمر أنه
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لها السكنى والنفقة فقد قال
الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر، وقال الدارقطني: السنة بيد فاطمة قطعا، وأيضا
تلك الرواية عن عمر من طريق إبراهيم النخعي ومولده بعد موت عمر بسنتين. قال
العلامة ابن القيم: ونحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه أن هذا كذب على
عمر، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينبغي أن لا يحمل الانسان
فرط الانتصار للمذاهب والتعصب على معارضة السنن النبوية الصريحة الصحيحة
بالكذب البحث، فلو يكون هذا عند عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخرست
فاطمة وذووها ولم ينبزوا بكلمة ولا دعت فاطمة إلى المناظرة انتهى. (فإن قلت) أن
ذلك القول من عمر يتضمن الطعن على رواية فاطمة لقوله: لقول امرأة لا ندري لعلها
حفظت أو نسيت قلت: هذا مطعن باطل بإجماع المسلمين للقطع بأنه لم ينقل عن أحد
من العلماء أنه رد خبر المرأة لكونها امرأة، فكم من سنة قد تلقتها الأمة بالقبول عن
106

امرأة واحدة من الصحابة، وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من علم السنة، ولم
ينقل أيضا عن أحد من المسلمين أنه يرد الخبر بمجرد تجويز نسيان ناقله، ولو كان
ذلك مما يقدح به لم يبق حديث من الأحاديث النبوية إلا وكان مقدوحا فيه، لان
تجويز النسيان لا يسلم منه أحد، فيكون ذلك مفضيا إلى تعطيل السنن بأسرها، مع
كون فاطمة المذكورة من المشهورات بالحفظ، كما يدل على ذلك حديثها الطويل في
شأن الدجال، ولم تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا مرة واحدة
يخطب به على المنبر فوعته جميعه، فكيف يظن بها أن تحفظ مثل هذا وتنسى أمرا
متعلقا بها مقترنا بفراق زوجها وخروجها من بيته؟ واحتمال النسيان أمر مشترك
بينها وبين من اعترض عليها، فإن عمر قد نسي تيمم الجنب وذكره عمارة فلم يذكر
، ونسي قوله تعالى: * (وآتيتم إحداهن قنطارا) * (النساء: 2) حتى ذكرته امرأة. ونسي: * (إنك ميت وإنهم
ميتون) * (الزمر: 30) حتى سمع أبا بكر يتلوها، وهكذا يقال في إنكار عائشة، وهكذا قول مروان:
سنأخذ بالعصمة، وهكذا إنكار الأسود بن يزيد على الشعبي لما سمعه يحدث بذلك
ولم يقل أحد منهم أن فاطمة كذبت في خبرها، وأما دعوى أن سبب خروجها كان
لفحش في لسانها كما قال مروان لما حدث بحديثها: إن كان بكم شر فحسبكم ما بين
هذين من الشر، يعني أن خروج فاطمة كان لشر في لسانها، فمع كون مروان ليس
من أهل الانتقاد على أجلاء الصحابة والطعن فيهم، فقد أعاذ الله فاطمة عن ذلك
الفحش الذي رماها به، فإنها من خيرة نساء الصحابة فضلا وعلما ومن المهاجرات
الأولات، ولهذا ارتضاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحبه وابن حبه أسامة،
وممن لا يحملها رقة الدين على فحش اللسان الموجب لاخراجها من دارها، ولو صح
شئ من ذلك لكان أحق الناس بإنكار ذلك عليها رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم. قوله: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا فيه دليل على وجوب النفقة للمطلقة
بائنا إذا كانت حاملا، ويدل بمفهومه على أنها لا تجب لغيرها ممن كان على صفتها في
البينونة، فلا يرد ما قيل إنه يدخل تحت هذا المفهوم المطلقة الرجعية إذا لم تكن
حاملا، ولو سلم الدخول لكان الاجماع على وجوب نفقة الرجعية مطلقا مخصصا
لعموم ذلك المفهوم. قوله: واستأذنته في الانتقال فأذن لها فيه دليل على أنه يجوز
للمطلقة بائنا الانتقال من المنزل الذي وقع عليها الطلاق البائن وهي فيه، فيكون
107

مخصصا لعموم قوله تعالى: * (ولا يخرجن) * (الطلاق: 1) كما خصص ذلك حديث جابر المتقدم في
باب ما تجتنب الحادة، ولا يعارض هذا حديد الفريعة المتقدم لأنه في عدة الوفاة،
وقد قدمنا الخلاف في جواز الخروج وعدمه للمطلقة بائنا
باب النفقة والسكنى للمعتدة الرجعية
عن فاطمة بنت قيس قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقلت: إن زوجي فلانا أرسل إلي بطلاق وإني سألت أهله النفقة والسكنى فأبوا علي،
قالوا: يا رسول الله إنه أرسل إليها بثلاث تطليقات، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة رواه أحمد والنسائي.
وفي لفظ: إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة، فإذا لم
تكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى رواه أحمد.
الحديث تفرد برفعه مجالد بن سعيد وهو ضعيف، كما بينه الخطيب في المدرج،
وقد تابعه في رفعه بعض الرواة، قال في الفتح: ولكنه أضعف من مجالد، وهو في أكثر
الروايات موقوف عليها، والرفع زيادة بتعين قبولها كما بيناه في غير موضع، ورواية
الضعيف مع الضعيف توجب الارتفاع عن درجة السقوط إلى درجة الاعتبار.
(والحديث) يدل بمنطوقه على وجوب النفقة والسكنى على الزوج للمطلقة رجعيا وهو
مجمع عليه، ويدل بمفهومه على عدم وجوبهما لمن عداها إلا إذا كانت حاملا لما تقدم
في الباب الأول، وقد قدمنا تحقيق ذلك فلا نعيده.
باب استبراء الأمة إذا ملكت
عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في سبي أوطاس:
لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة رواه أحمد وأبو داود.
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أتى على امرأة مجح على
باب فسطاط فقال: لعله يريد أن يلم بها، فقالوا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له
108

؟، كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ رواه أحمد ومسلم وأبو داود، ورواه أبو داود
الطيالسي وقال: كيف يورثه وهو لا يحل له؟ وكيف يسترقه وهو لا يحل له؟ والمجح
هي الحامل المقرب.
حديث أبي سعيد أخرجه أيضا الحاكم وصححه وإسناده حسن، وهو عند
الدارقطني من حديث أبو عباس وأعل بالارسال. وعند الطبراني من حديث
أبي هريرة بإسناد ضعيف. وأخرج الترمذي من حديث العرباض بن سارية أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم وطئ السبايا حتى يضعن ما في بطونهن
وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة من حديث علي بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أن توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة وفي إسناده
ضعف وانقطاع. قوله: أوطاس هو واد في ديار هوازن، قال القاضي عياض: وهو
موضع الحرب بحنين وبه قال بعض أهل السير. قال الحافظ: والراجح أن وادي أوطاس
غير وادي حنين، وهو ظاهر كلام ابن إسحاق في السيرة. قوله: مجح بضم الميم
ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة وهي الحامل التي قد قاربت الولادة على ما فسره
المصنف. (والحديثان) يدلان على أنه يحرم على الرجل أن يطأ الأمة المسبية إذا
كانت حاملا حتى تضع حملها. والحديث الأول منهما يدل أيضا على أنه يحرم على
الرجل أن يطأ الأمة المسبية إذا كانت حائلا حتى تستبرأ بحيضة، وقد ذهب إلى
ذلك العترة والشافعية والحنفية والثوري والنخعي ومالك. وظاهر قوله: ولا غير
حامل أنه يجب الاستبراء للبكر، ويؤيده القياس على العدة فإنها تجب مع العلم ببراءة
الرحم. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الاستبراء إنما يجب في حمن لم تعلم
براءة رحمها، وأما من علمت براءة رحمها فلا استبراء في حقها. وقروي عبد الرزاق
عن ابن عمر أنه قال: إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء وهو في صحيح
البخاري عنه وسيأتي، ويؤيد هذا حديث رويفع الآتي فإن قوله فيه فلا ينكحن
ثيبا من السبايا حتى تحيض يرشد إلى ذلك. ويؤيده أيضا حديث علي الآتي قريبا،
فيكون هذا مخصصا لعموم قوله: ولا غير حامل أو مقيدا له. وقد روي ذلك عن
مالك. قال المازري من المالكية: القول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل
فلا يلزم فيها الاستبراء، وكل من غلب على الظن أنها حامل أو شك في حملها أو
109

تردد فيه، فالاستبراء لازم فيها، وكل من غلب على الظن براءة رحمها لكنه يجوز
حصوله، فإن المذهب فيه على وجهين: في ثبوت الاستبراء وسقوطه، ومن القائلين بأن
الاستبراء إنما هو للعلم ببراءة الرحم فحيث تعلم البراءة لا يجب، وحيث لا يعلم ولا يظن
يجب، أبو العباس بن سريج وأبو العباس بن تيمية وابن القيم، ورجحه جماعة من
المتأخرين منهم الجلال والمقبلي والمغربي والأمير وهو الحق لا العلة معقولة، فإذا
لم توجد المئنة كالحمل ولا المظنة كالمرأة المزوجة فلا وجه لايجاب الاستبراء والقول
بأن الاستبراء تعبدي، وأنه يجب في حق الصغيرة، وكذا في حق البكر، والآيسة
ليس عليه دليل.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقعن
رجل على امرأة وحملها لغيره رواه أحمد. وعن رويفع بن ثابت عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره
رواه أحمد والترمذي وأبو داود وزاد: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع
على امرأة من السبي حتى يستبرئها وفي لفظ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض رواه أحمد ومفهومه أن البكر لا تستبرأ.
وقال ابن عمر: إذا وهبت الوليدة التي توطأ أو بيعت أو أعتقت فلتستبرأ بحيضة ولا
تستبرأ العذراء، حكاه البخاري في صحيحه. وقد جاء في حديث عن علي رضي الله عنه
ما الظاهر حمله على مثل ذلك، فروى بريدة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عليا إلى خالد يعني إلى اليمن ليقبض الخمس فاصطفى علي منه سبية فأصبح وقد اغتسل
فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا وكنت أبغض عليا؟ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ذكرت له ذلك فقال يا بريدة أتبغض عليا؟ فقلت: نعم، فقال: لا تبغضه فإن له
في الخمس أكثر من ذلك رواه أحمد والبخاري. وفي رواية قال: أبغضت عليا بغضا
لم أبغضه أحدا، وأحببت رجلا من قريش لم أحببه إلا على بغضه عليا، قال: فبعث ذلك
الرجل على خيل فصحبته فأصبنا سبايا قال: فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ابعث إلينا من يخمسه، قال: فبعث إلينا عليا، وفي السبي وصيفة هي من أفضل
السبي، قال: فخمس وقسم فخرج ورأسه يقطر، فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟ قال: ألم تروا
إلى الوصيفة التي كانت في السبي؟ فإني قسمت وخمست فصارت في الخمس ثم صارت
110

في أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم صارت في آل علي ووقعت بها. قال:
فكتب الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: ابعثني فبعثني مصدقا، فجعلت
أقرأ الكتاب وأقول: صدق، قال: فأمسك يدي والكتاب وقال: أتبغض عليا؟
قلت: نعم، قال: فلا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حبا، فوالذي نفس محمد بيده
لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة، قال: فما كان من الناس أحد بعد قول
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحب إلي من علي رواه أحمد وفيه بيان
أن بعض الشركاء يصح توكيله في قسمة مال الشركة، والمراد بآل علي رضي
الله عنه نفسه.
حديث أبي هريرة أخرجه أيضا الطبراني وإسناده ضعيف كما تقدمت الإشارة
إلى ذلك. قال في مجمع الزوائد في إسناده بقية والحجاج به أرطأة وكلاهما مدلس
اه. ولكنه يشهد لصحته حديث رويفع المذكور بعده والأحاديث المذكورة
قبله وحديث رويفع أخرجه أيضا ابن أبي شيبة والدارمي والطبراني والبيهقي
والضياء المقدسي وابن حبان وصححه والبزار وحسنه. واللفظ الآخر أخرجه
أيضا الطحاوي. (وفي الباب) عن ابن عباس عند الحاكم: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم نهى يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم قال: لا تسق ماءك زرع غيرك
وأصله في النسائي. وعن رجل من الأنصار عند أبي داود قال: تزوجت امرأة بكرا
في سترها فدخلت عليها فإذا هي حبلى فذكر الحديث، قال: ففرق النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بينهما وقد استدل من قال بوجوب الاستبراء للمسبية إذا كانت حاملا أو حائلا
يجوز عليها الحمل فقط لا مع عدم التجويز كالبكر والصغيرة بحديث أبو هريرة ورويفع
المذكورين، وقد تقدم الكلام على ذلك، واستدل بالأثر المذكور عن ابن عمر من
قال بوجوب الاستبراء على واهب الأمة وبائعها، وقد حكي ذلك في البحر عن الهادي
والناصر والنخعي والثوري ومالك ولم يفرقوا بين أن يكون البائع أو الواهب رجلا
أو امرأة، وبين كون المبيعة بكرا أو ثيبا صغيرة أو كبيرة. وقال الشافعي والمؤيد
بالله وزيد بن علي والامام يحيى: لا يجب. وقال أبو حنيفة: يستحب فقط. استدل القائلون
بالوجوب بالقياس على عدة الزوجة بجامع ملك الوطئ فلا يملكه غيره إلا بعد
الاستبراء. وأجيب بالفرق بين الأصل والفرع بوجوه: أحدها أن العدة إنما تكون
111

بعد الطلاق وهذا الاستبراء قبل البيع. ومنها: تنافي أحكام الملك والنكاح وإلا لزم أن
لا يصح الجمع بين الأختين في الملك قياسا على عدم صحة النكاح. ومنها: أن العدة إنما
تجب على المرأة لا على الزوج. ومنها: أن العدة إنما تجب على الزوجة بعد الدخول أو
الخلوة، ويجب الاستبراء عندهم في الأمة مطلقا، فالحق أن مثل هذا القياس المبني على غير أساس
لا يصلح لاثبات تكليف شرعي على جميع الناس، وكما أن لا وجه للايجاب لا وجه للاستحباب
لأن كل واحد منهما حكم شرعي، والبراءة الأصلية مستصحبة حتى ينقل عنها ناقل
صحيح، وليس في كلام ابن عمر المذكور ما يدل على أن الاستبراء على البائع ونحوه
بل ظاهره أنه على المشتري، ولو سلم فليس في كلامه حجة على أحد، واختلف في
وجوب الاستبراء على المشتري والمتهب ونحوهما، فذهب الجمهور إلى الوجوب،
واحتجوا بالقياس على المسبية بجامع تجدد الملك في الأصل والفرع. وذهب داود
والبتي إلى أنه لا يجب الاستبراء في غير السبي. أما داود فلأنه لا يقول بثبوت الحكم
الشرعي بمجرد القياس. وأما البتي فلأنه جعل تجدد الملك بالشراء والهبة كابتداء
النكاح، وهو لا يجب على من تزوج امرأة أن يستبرئها بعد العقد، ورد بالفرق بين
النكاح والملك، فإن النكاح لا يقتضي ملك الرقبة كذا في البحر، ولا يخفى أن
ملك الرقبة مما لا دخل له في محل النزاع فلا يقدح به في القياس، واستدل في
البحر للجمهور بقول علي رضي الله عند: من اشترى جارية فلا يقربها حتى تستبرئ
بحيضة قال: ولم يظهر خلافه، وقد عرفناك غير مرة أن السكوت في المسائل الاجتهادية
لا يدل على الموافقة لعدم وجوب الانكار فيها على المخالف، والأولى التعويل
في الاستدلال للموجبين على عموم حديث رويفع وأبي هريرة، فإن ظاهرهما شامل
للمسبية والمستبرأة ونحوهما، والتصريح في آخر الحديث بقوله: فلا ينكحن ثيبا من
السبايا ليس من باب التقييد للمطلق أو التخصيص للعام بل من التنصيص على
بعض أفراد العام، ويمكن أن يقال إن قوله في الحديث من السبايا مفهوم صفة،
فلا يكون من التنصيص المذكور إلا عند من لم يعمل به، وأوضح من ذلك حديث
أبي سعيد المتقدم، فإن قوله: لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة
يشمل المستبرأة ونحوها، وكون السبب في ذلك سبايا أوطاس لا يدل على
قصر اللفظ العام عليهن لما تقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيكون
112

ذلك عاما لكل من لم تجوز خلو رحمها لا من كان رحمها خاليا بيقين كالصغيرة والبكر
كما تقدم تحقيق ذلك، وظاهر حديث رويفع وما قبله أنه لا فرق بين الحامل من
زنا وغيرها، فيجب استبراء الأمة التي كانت قبل ثبوت الملك عليها تزني إن كانت
حاملا فبالوضع، وإن كانت غير حامل فبحيضة، ويؤيد هذا حديث الرجل من
الأنصار الذي ذكرناه في أول الباب. قوله: فاصطفى علي منه سبية الخ، يمكن حمل
هذا على أن السبية التي أصابها كانت بكرا أو صغيرة، أو كان قد مضى عليها من بعد
السبي مقدار مدة الاستبراء، لأنها قد دخلت في ملك المسلمين من وقت السبي،
والمصير إلى مثل هذا متعين للجمع بينه وبين الأحاديث المذكورة في الباب، وظاهر
هذا الحديث وسائر أحاديث الباب أنه لا يشترط في جواز وطئ المسبية الاسلام،
ولو كان شرطا لبينه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبينه، ولا يجوز تأخير البيان عن
وقت الحاجة وذلك وقتها، ولا سيما وفي المسلمين في يوم حنين وغيره من هو حديث
عهد بالاسلام يخفى عليهم مثل هذا الحكم، وتجويز حصول الاسلام من جميع السبايا
وهي في غاية الكثرة بعيد جدا، فإن إسلام مثل عدد المسبيات في أوطاس دفعة
واحدة من غير إكراه لا يقول بأنه يصح تجويزه عاقل، ومن أعظم المؤيدات لبقاء
المسبيات على دينهن ما ثبت من رده صلى الله عليه وآله وسلم لهن بعد أن جاء إليه
جماعة من هوازن وسألوه أن يرد إليهم ما أخذ عليهم من الغنيمة فرد إليهم السبي
فقط. وقد ذهب إلى جواز وطئ المسبيات الكافرات بعد الاستبراء المشروع جماعة
منهم طاوس وهو الظاهر لما سلف. وفي الحديث الآخر منقبة ظاهرة لعلي رضي الله
عنه، ومنقبة لبريدة لمصير علي أحب الناس إليه، وقد صح أنه لا يحبه إلا مؤمن
ولا يبغضه إلا منافق كما في صحيح مسلم وغيره.
كتاب الرضاع
باب عدد الرضعات المحرمة
عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تحرم المصة ولا
113

المصتان رواه الجماعة إلا البخاري. وعن أم الفضل أن رجلا سأل النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أتحرم المصة؟ فقال: لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان.
وفي رواية: قالت: دخل أعرابي على نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيتي
فقال: يا نبي الله إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى فزعمت امرأتي الأولى
أنها أرضعت امرأتي الحدثي رضعة أو رضعتين، فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: لا تحرم الاملاجة ولا الاملاجتان رواهما أحمد ومسلم. وعن عبد الله
بن الزبير: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تحرم من الرضاعة المصة
والمصتان رواه أحمد والنسائي والترمذي.
حديث عبد الله بن الزبير أخرجه أيضا ابن حبان، وقال الترمذي: الصحيح عن
أهل الحديث من رواية ابن الزبير عن عائشة كما في الحديث الأول، وأعله ابن جرير
الطبري بالاضطراب، فإنه روى عن ابن الزبير عن أبيه، وجمع ابن حبان بينهما بإمكان
أن يكون ابن الزبير سمعه من كل منهم وفي الجمع بعد كما قال الحافظ. ورواه النسائي
من حديث أبي هريرة، وقال ابن عبد البر: لا يصح مرفوعا. قوله: الرضعة هي
المرة من الرضاع كضربة وجلسة وأكلة، فمتى التقم الصبي الثدي فامتص منه ثم
تركه باختياره لغير عارض كان ذلك رضعة. وفي القاموس: رضع أمه كسمع وضرب
رضعا ويحرك ورضاعا ورضاعة ويكسران ورضعا ككتف فهو راضع إلى أن قال:
امتص ثديها. ثم قال في مادة مصصته أنه بمعنى شربته شربا رفيقا. وفي الضياء أن
المصة الواحدة من المص وهي أخذ اليسير من الشئ. قوله: الاملاجة ولا
الاملاجتان الاملاجة الا رضاعة الواحدة مثل المصة، وفي القاموس: ملج الصبي أمه
كنصر وسمع تناول ثديها بأدنى فمه، وامتلج اللبن امتصه، وأملجه أرضعه،
والمليج الرضيع انتهى. والأحاديث المذكورة تدل على أن الرضعة الواحدة
والرضعتين والمصة الواحدة والمصتين والاملاجة والاملاجتين لا يثبت بها
حكم الرضاع الموجب للتحريم. وتدل هذه الأحاديث بمفهومها على أن الثلاث
من الرضعات أو المصات تقتضي التحريم. وقد حكي صاحب البحر هذا المذهب
عن زيد بن ثابت وأبي ثور وابن المنذر انتهى. وحكاه في البدر التمام عن أبي
عبيدة وداود الظاهري وأحمد في رواية، ولكنه يعارض هذا المفهوم القاضي بأن
114

ما فوق الاثنتين يقتضي التحريم ما سيأتي من أن الرضاع المقتضي للتحريم هو الخمس
الرضعات، وسيأتي تحقيق ذلك وذكر من قال به، نعم هذه الأحاديث دافعة لقول من
قال: إن الرضاع المقتضي للتحريم هو الواصل إلى الجوف، ولا شك أن المصة الواحدة
تصل إلى الجوف فكيف ما فوقها؟ وسيأتي ذكر ما تمسكوا به.
وعن عائشة أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات
يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهن فيما يقرأ
من القرآن رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وفي لفظ قالت وهي تذكر الذي
يحرم من الرضاعة نزل في القرآن عشر رضعات معلومات ثم نزل أيضا خمس
معلومات رواه مسلم. وفي لفظ قالت: أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخ من
ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم على ذلك رواه الترمذي. وفي لفظ: كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن
ثم سقط لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات رواه ابن ماجة. وعن عائشة أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر امرأة أبي حذيفة فأرضعت سالما خمس رضعات، وكان
يدخل عليها بتلك الرضاعة رواه أحمد. وفي رواية: أن أبا حذيفة تبنى سالما وهو مولى
لامرأة من الأنصار كما تبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيدا، وكان من تبنى رجلا في
الجاهلية دعاه الناس ابنه وورث ميراثه حتى أنزل الله عز وجل: * (أدعوهم لآبائهم هو
أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) * (الأحزاب: 5) فردوا إلى آبائهم معي فمن لم
يعلم له أب فمولى وأخ في الدين فجاءت سهلة فقالت يا رسول الله كنا نرى سالما ولدا يأوي معي
ومع أبي حذيفة ويراني فضلى وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت فقال: أرضعيه
خمس رضعات فكان بمنزلة ولده من الرضاعة رواه مالك في الموطأ وأحمد.
حديث عائشة في قصة سالم أخرج الرواية الأولى منه النسائي عن جعفر بن
ربيعة عن الزهري كتاب عن عروة عنها. ورواه الشافعي في الام عن مالك عن الزهري
عن عروة مرسلا. ورواه أيضا عبد الرزاق. وأخرج الرواية الثانية عنها أبو داود.
وأخرجها أيضا البخاري في المغازي من صحيحه من طريق عقيل عن الزهري
عن عروة عنها إلى قوله: فجاءت سهلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فذكر
الحديث ولم يسق بقيته، وساقها البيهقي في سننه من هذا الوجه كرواية أبي داود
115

، ورواها أيضا البخاري من رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عنها وساق
منها إلى قوله: وقد أنزل الله فيه ما قد علمت. قوله: معلومات فيه إشارة إلى أنه لا يثبت
حكم الرضاع إلا بعد العلم بعدد الرضعات، وأنه لا يكفي الظن بل يرجع معه ومع الشك
إلى الأصل وهو العدم. قوله: وهن فيما يقرأ بضم الياء وفيه إشارة إلى أنه تأخر إنزال
الخمس الرضعات فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم وهن قرآن يقرأ. قوله: فضلى بضم الفاء والضاد
المعجمة قال الخطابي: أي مبتذلة في ثياب مهنتها انتهى. والفضل من الرجال والنساء
الذي عليه ثوب واحد بغير إزار. وقال ابن وهب: أي مكشوف الرأس. وقد استدل
بأحاديث الباب من قال إنه لا يقتضي التحريم من الرضاع إلا خمس رضعات
معلومات وقد تقدم تحقيق الرضعة. وإلى ذلك ذهب ابن مسعود وعائشة وعبد الله
بن الزبير وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والليث بن سعد
والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وإسحاق وابن حزم وجماعة من أهل العلم. وقد
روي هذا المذهب عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وذهب الجمهور إلى أن
الرضاع الواصل إلى الجوف يقتضي التحريم وإن قل، وقد حكاه صاحب البحر
عن الإمام علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر والثوري والعترة وأبي حنيفة
وأصحابه ومالك وزيد بن أوس انتهى. وروي أيضا عن سعيد بن المسيب والحسن
والزهري وقتادة والحكم وحماد والأوزاعي. قال المغربي في البدر: وزعم الليث بن
سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم منه ما يفطر الصائم وهو
رواية عن الإمام أحمد انتهى. وحكى ابن القيم عن الليث أنه لا يحرم إلا خمس رضعات
كما قدمنا ذلك فينظر في المروي عنه من حكاية الاجماع فإنه يبعد كل البعد أن يحكي
العالم الاجماع في مسألة ويخالفها. وقد أجاب أهل القول الثاني عن أحاديث الباب
التي استدل بها أهل القول الأول بأجوبة: منها أنها متضمنة لكون الخمس الرضعات قرآنا
والقرآن شرطه التواتر ولم يتواتر محل النزاع. وأجيب بأن كون التواتر شرطا ممنوع، والسند
ما أسلفنا عن أئمة القراءات كالجزري وغيره في باب الحجة في الصلاة بقراءة ابن
مسعود وأبي من أبواب صفة الصلاة، فإنه نقل هو وجماعة من أئمة القراءات الاجماع
على ما يخالف هذه الدعوى، ولم يعارض نقله ما يصلح لمعارضته كما بينا ذلك هنالك.
وأيضا اشتراط التواتر فيما نسخ لفظه على رأي المشترطين ممنوع. وأيضا انتفاء
116

قرآنيته لا يستلزم انتفاء حجيته على فرض شرطية التواتر، لأن الحجة ثبت بالظن
ويجب عنده العمل، وقد عمل الأئمة بقراءة الآحاد في مسائل كثيرة منها قراءة
ابن مسعود: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وقراءة أبي: وله أخ أو أخت من أم. ووقع
الاجماع على ذلك ولا مستند له غيرها. وأجابوا أيضا بأن ذلك لو كان قرآنا لحفظ
لقوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9) وأجيب بأن كونه غير محفوظ
ممنوع، بل قد حفظه الله برواية عائشة له، وأيضا المعتبر حفظ الحكم، ولو سلم انتفاء
قرآنيته على جميع التقادير لكان سنة لكون الصحابي راويا له عنه صلى الله عليه
وآله وسلم لوصفه له بالقرآنية وهو يستلزم صدوره عن لسانه، وذلك كاف في الحجية
لما تقرر في الأصول من أن المروي آحاد إذا انتفى عنه وصف القرآنية لم ينتف وجوب
العمل به كما سلف. واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) * (النساء: 23) وإطلاق
الرضاع يشعر بأنه يقع بالقليل والكثير، ومثل ذلك حديث: يحرم من الرضاع ما يحرم
من النسب. ويجاب بأنه مطلق مقيد بما سلف، واحتجوا بما ثبت في الصحيحين عن
عقبة بن الحرث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب الذي سيأتي في باب شهادة
المرأة الواحدة بالرضاع، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستفصل عن الكيفية
ولا سأل عن العدد. ويجاب أيضا بأن أحاديث الباب اشتملت على زيادة على ذلك
المطلق المشعور به من ترك الاستفصال فيتعين الاخذ بها، على أنه يمكن أن يكون ترك
الاستفصال لسبق البيان منه صلى الله عليه وآله وسلم للقدر الذي يثبت به التحريم
. (فإن قلت) حديث: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء يدل على عدم اعتبار الخمس
لأن الفتق يحصل بدونها. قلت: سيأتي الجواب عن ذلك في شر الحديث، فالظاهر ما
ذهب إليه القائلون باعتبار الخمس. وأما حديث: لا تحرم الرضعة والرضعتان وكذلك
سائر الأحاديث المتقدمة في الباب الأول وقد سبق ذكر من ذهب إلى العمل بها،
فمفهومها يقتضي أن ما زاد عليها يوجب التحريم، كما أن مفهوم أحاديث الخمس أن
ما دونها لا يقتضي التحريم فيتعارض المفهومان ويرجع إلى الترجيح، ولكنه قد
ثبت عند ابن ماجة بلفظ: لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس كما ذكره المصنف، وهذا
مفهوم حصر وهو أولى من مفهوم العدد. وأيضا قد ذهب بعض علماء البيان
كالزمخشري إلى أن الاخبار بالجملة الفعلية المضارعية يفيد الحصر، والاخبار عن الخمس
117

الرضعات بلفظ يحرمن كذلك ولو سلم استواء المفهومين وعدم انتهاض أحدهما كان
المتوجه تساقطهما، وحمل ذلك المطلق على الخمس لا على ما دونها إلا أن يدل عليه
دليل، ولا دليل يقتضي أن ما دون الخمس يحرم إلا مفهوم قولت: لا تحرم الرضعة
والرضعتان والمفروض أنه قد سقط، نعم لا بد من تقييد الخمس الرضعات بكونها في
زمن المجاعة لحديث عائشة الآتي في الباب الذي بعد هذا. وأما حديث ابن مسعود
عند أبي داود مرفوعا: لا رضاع إلا ما انتشر العظم وأنبت اللحم فيجاب بأن الانبات
والانشار إن كانا يحصلان بدون الخمس، ففي حديث الخمس زيادة يجب قبولها والعمل
بها وإن كانا لا يحصلان إلا بزيادة عليها، فيكون حديث الخمس مقيدا بهذا الحديث
لولا أنه من طريق أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود. وقد قال أبو حاتم:
إن أبا موسى وأباه مجهولان. وقد أخرجه البيهقي من حديث أبي حصين عن أبي
عطية قال: جاء رجل إلى أبي موسى فذكره بمعناه، وهذا على فرض أنه يفيد
ارتفاع الجهالة عن أبي موسى لا يفيد ارتفاعها عن أبيه، فلا ينتهض الحديث
لتقييد أحاديث الخمس بإنشار العظم وإنبات اللحم. وفي حديث عائشة
المذكور في قصة سالم دليل على أن إرضاع الكبير يقتضي التحريم وسيأتي
تحقيق ذلك.
باب ما جاء في رضاعة الكبير
عن زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل
عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي، فقالت عائشة: أما لك في رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة؟ وقالت: إن امرأة أبي حذيفة
قالت: يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة
منه شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرضعيه حتى يدخل عليك
رواه أحمد ومسلم. وفي رواية عن زينب عن أمها أم سلمة: أنها قالت: أبى سائر
أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة وقلن
لعائشة: ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسالم خاصة
118

فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا. رواه أحمد ومسلم والنسائي
وابن ماجة.
هذا الحديث قد رواه من الصحابة أمهات المؤمنين، وسهلة بنت سهيل وهي
من المهاجرات، وزينب بنت أم سلمة وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه
من التابعين القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وحميد بن نافع. ورواه عن هؤلاء
الزهري وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة. ثم
رواه عن هؤلاء أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة ومالك
وابن جريج وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومعمر وسليمان بن بلال وغيرهم،
وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم. ثم رواه عنهم الجم الغفير والعدد
الكثير. وقد قال بعض أهل العلم: إن هذه السنة بلغت طرقها نصاب التواتر، وقد
استدل بذلك من قال: إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم وهو مذهب أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما حكاه عنه ابن حزم. وأما ابن عبد البر فانكار
الرواية عنه في ذلك وقال لا يصح. وإليه ذهبت عائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن
أبي رباح والليث بن سعد وابن علية، وحكاه النووي عن داود الظاهري وإليه
ذهب ابن حزم، ويؤيد ذلك الاطلاقات القرآنية كقوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي
أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) * (النساء: 23) وذهب الجمهور إلى أن حكم الرضاع إنما يثبت
في الصغير، وأجابوا عن قصة سالم بأنها خاصة به، كما وقع من أمهات المؤمنين لما
قالت لهن عائشة لذلك محتجة به. وأجيب بأن دعوى الاختصاص تحتاج إلى دليل،
وقد اعترفن بصحة الحجة التي جاءت بها عائشة ولا حجة في آبائهن لها، كما أنه لا حجة
في أقوالهن، ولهذا سكتت أم سلمة لما قالت لها عائشة: أما لك في رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أسوة حسنة؟ ولو كانت هذه السنة مختصة بسالم لبينها رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم كما بين اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز، واختصاص خزيمة بأن
شهادته كشهادة رجلين. وأجيب أيضا بدعوى نسخ قصة سالم المذكورة، واستدل على ذلك
بأنها كانت في أول الهجرة عند نزول قوله تعالى: * (ادعوهم لآبائهم) * (الأحزاب: 5) وقد ثبت اعتبار الصغر
من حديث ابن عباس ولم يقدم المدينة إلا قبل الفتح. ومن حديث أبي هريرة ولم يسلم
إلا في فتح خيبر. ورد ذلك بأنهما لم يصرحا بالسماع من النبي، وأيضا حديث ابن عباس
119

مما لا تثبت به الحجة كما سيجئ ولو كان النسخ صحيحا لما ترك التشبث به أمهات المؤمنين.
ومن أجوبتهم أيضا حديث: لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام. وحديث:
إنما الرضاعة من المجاعة وسيأتي الجواب عن ذلك، كما سيأتي الجواب عن حديث
لا رضاع إلا ما كان في الحولين وقد اختلفوا في تقدير المدة التي يقتضي الرضاع فيها
التحريم على أقوال. الأول: أنه لا يحرم منه إلا ما كان في الحولين وقد حكاه في
البحر عن عمر وابن عباس وابن مسعود والعترة والشافعي وأبي حنيفة والثوري
والحسن بن صالح ومالك وزفر ومحمد اه. وروي أيضا عن أبي هريرة وابن عمر
وأحمد وأبي يوسف وسعيد بن المسيب والشعبي وابن شبرمة وإسحاق وأبي عبيد
وابن المنذر. القول الثاني: أن الرضاع المقتضي للتحريم ما كان قبل الفطام وإليه
ذهبت أم سلمة. وروي عن علي ولم يصح عنه. وروي عن ابن عباس وبه قال
الحسن والزهري والأوزاعي وعكرمة وقتادة. القول الثالث: أن الرضاع في
حال الصغر يقتضي التحريم ولم يحده القائل بحد. وروي ذلك عن أزواج النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ما خلا عائشة، وعن ابن عمر وسعيد بن المسيب.
القول الرابع: ثلاثون شهرا وهو رواية عن أبي حنيفة وزفر. القول الخامس:
في الحولين وما قاربهما روي ذلك عن مالك، وروي عنه أن الرضاع بعد الحولين لا يحرم
قليله ولا كثيره كما في الموطأ. القول السادس: ثلاث سنين وهو مروي عن جماعة من
أهل الكوفة وعن الحسن بن صالح. القول السابع: سبع سنين روى ذلك عن عمر بن
عبد العزيز. القول الثامن: حولان واثنا عشر يوما روي عن ربيعة. القول التاسع:
أن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغني
عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه، وإليه ذهب شيخ الاسلام ابن تيمية
وهذا هو الراجح عندي، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، وذلك بأن تجعل قصة سالم
المذكورة مخصصة لعموم: إنما الرضاع من المجاعة. ولا رضاع إلا في الحولين. ولا رضاع
إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام ولا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم وهذه
طريق متوسطة بين طريقة من استدل بهذه الأحاديث، على أنه حكم لرضاع الكبير
مطلقا، وبين من جعل رضاع الكبير كرضاع الصغير مطلقا، لما يخلو عنه كل واحدة من هاتين
الطريقتين من التعسف كما سيأتي بيانه. ويؤيد هذا أن سؤال سهلة امرأة أبي حذيفة
كان بعد نزول آية الحجاب، وهي مصرحة بعدم جواز ابداء الزينة
120

لغير من في الآية، فلا يخص منها غير من استثناه الله تعالى إلا بدليل كقضية
سالم وما كان مماثلا لها في تلك العلة التي هي الحاجة إلى رفع الحجاب، من غير أن
يقيد ذلك بحاجة مخصوصة من الحاجات المقتضية لرفع الحجا ب، ولا بشخص من
الاشخاص، ولا بمقدار من عمر الرضيع معلوم. وقد ثبت في حديث سهلة أنها قالت للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم: إن سالما ذو لحية فقال: أرضعيه. وينبغي أن يكون الرضاع
خمس رضعات لما تقدم في الباب الأول. قوله: الغلام الأيفع هو من راهق عشرين
سنة على ما في القاموس.
وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحرم من
الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام رواه الترمذي وصححه. وعن
ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: لا رضاع إلا ما كان في الحولين رواه الدارقطني وقال: لم يسنده عن ابن عيينة
غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ. وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام رواه أبو داود الطيالسي في مسنده.
وعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعندي رجل
فقال: من هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة، قال: يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة
من المجاعة رواه الجماعة إلا الترمذي.
حديث أم سلمة أخرجه أيضا الحاكم وصححه وأعل بالانقطاع، لأنه من رواية
فاطمة بنت المنذر بن الزبير الأسدية عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئا لصغر سنها إذ
ذاك. وحديث ابن عباس رواه أيضا سعيد بن منصور والبيهقي وابن عدي وقال:
يعرف بالهيثم وغيره وكان يغلط، وصحح البيهقي وقفه، ورجح ابن عدي الموقوف. وقال
ابن كثير في الارشاد: رواه مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد عن ابن عباس موقوفا
وهو أصح، وكذا رواه غير ثور عن ابن عباس. وحديث جابر قدمناه في باب علامات
البلوغ من كتاب التفليس عند الكلام على حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه
بلفظ: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتم بعد احتلام الحديث، أن
المنذري قال: وقد روى هذا الحديث يعني حديث علي من رواية جابر بن عبد الله
وأنس بن مالك وليس فيها شئ يثبت اه. وهو يشير برواية جابر بن عبد الله إلى حديثه
هذا. ولا يخفى أن حديث ابن عباس المذكور ههنا يشهد له، وكذلك يشهد له حديث
121

علي المتقدم هناك. قوله: إلا ما فتق الأمعاء أي سلك فيها، والفتق الشق، والأمعاء
جمع المعى بفتح الميم وكسرها. قوله: في الثدي أي في زمن الثدي وهو لغة معروفة،
فإن العرب تقول: مات فلان في الثدي أي في زمن الرضاع قبل الفطام، كما وقع التصريح
بذلك في آخر الحديث. قوله: انظرن من إخوانكن هو أمر بالتأمل فيما وقع من
الرضاع، هل هو رضاع صحيح مستجمع للشروط المعتبرة؟ قال المهلب: المعنى انظرن
ما سبب هذه الاخوة؟ فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حيث تسد الرضاعة المجاعة.
وقال أبو عبيد معناه أن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع هو
الصبي لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع. قوله: فإنما الرضاعة من المجاعة هو تعليل
للباعث على إمعان النظر والتفكر بأن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة هي حيث يكون
الرضيع طفلا يسد اللبن جوعته، وأما من كان يأكل ويشرب فرضاعه لا عن مجاعة
لأن في الطعام والشراب ما يسد جوعته بخلاف الطفل الذي لا يأكل الطعام. ومثل
هذا المعنى حديث: لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم فإن إنشار العظم وإنبات
اللحم إنما يكون لمن كان غذاؤه اللبن، وقد احتج بهذه الأحاديث من قال: إن رضاع
الكبير لا يقتضي التحريم مطلقا وهم الجمهور كما تقدم. وأجاب القائلون بأن رضاع
الكبير يقتضي التحريم مطلقا، وهم من تقدم ذكره عن هذه الأحاديث فقالوا: أما حديث
لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء فأجابوا عنه: بأنه منقطع كما تقدم، ولا يخفى
أن تصحيح الترمذي والحاكم لهذا الحديث يدفع علة الانقطاع، فإنهما لا يصححان
ما كان منقطعا إلا وقد صح لهما اتصاله، لما تقرر في علم الاصطلاح أن المنقطع من قسم
الضعيف. وأجابوا عن حديث: لا رضاع إلا ما كان في الحولين بأنه موقوف
كما تقدم ولا حجة في الموقوف، وبما تقدم من اشتهار الهيثم بن جميل بالغلط وهو
المنفرد برفعه، ولا يخفى أن الرفع زيادة يجب المصير إليها على ما ذهب إليه أئمة الأصول
وبعض أئمة الحديث إذا كانت ثابتة من طريق ثقة والهيثم ثقة كما قاله الدارقطني
مع كونه مؤيدا بحديث جابر المذكور. وأجابوا عن حديث فإنما الرضاعة من المجاعة
بأن شرب الكبير يؤثر في دفع مجاعته قطعا، كما يؤثر في دفع مجاعة الصغير أو قريبا منه.
وأورد عليهم أن الامر إذا كان كما ذكرتم من استواء الكبير والصغير فما الفائدة
في الحديث؟ وتخلصوا عن ذلك بأن فائدته إبطال تعلق التحريم بالقطرة من اللبن
والمصة التي لا تغني من جوع، ولا يخفى ما في هذا من التعسف، ولا ريب أن سد الجوعة
122

باللبن الكائن في ضرع المرضعة إنما يكون لمن لم يجد طعاما ولا شرابا غيره. وأما
من كان يأكل ويشرب فهو لا تسد جوعته عند الحاجة بغير الطعام والشراب، وكون
الرضاع مما يمكن أن يسد به جوعة الكبير أمر خارج عن محل النزاع، فإنه ليس النزاع
فيمن يمكن أن تسد جوعته به إنما النزاع فيمن لا تسد جوعته إلا به، وهكذا
أجابوا عن الاحتجاج بحديث: لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم فقالوا:
إنه يمكن أن يكون الرضاع كذلك في حق الكبير ما لم يبلغ أرذل العمر، ولا يخفى ما
فيه من التعسف، والحق ما قدمنا من أن قضية سالم مختص بمن حصل له ضرورة
بالحجاب لكثرة الملابسة، فتكون هذه الأحاديث مخصصة بذلك النوع، فتجتمع
حينئذ الأحاديث ويندفع التعسف من الجانبين. وقد احتج القائلون باشتراط الصغر
بقوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)
* (البقرة: 233) قالوا: وذلك بيان للمدة التي تثبت فيها أحكام الرضاع، ويجاب بأن هذه الآية مخصصة
بحديث قصة سالم الصحيح.
باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب
عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أريد على ابنة حمزة فقال:
إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم وفي
لفظ من النسب متفق عليه. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يحرم
من الرضاعة ما يحرم من الولادة رواه الجماعة ولفظ ابن ماجة من النسب. وعن
عائشة: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن
نزل الحجاب قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أخبرته بالذي صنعت فأمرني أن آذن له رواه الجماعة. وعن الإمام علي رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب
رواه أحمد والترمذي وصححه.
قوله: أريد بضم الهمزة والذي أراد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
يتزوجها هو علي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم، وقد اختلف في اسم ابنة حمزة على
123

أقوال: أمامة وسلمى وفاطمة وعائشة وأمة الله وعمارة ويعلى، وإنما كانت ابنة أخي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه صلى الله عليه وآله وسلم رضع من ثويبة وقد كانت
أرضعت حمزة. قوله: أفلح بالفاء والحاء المهملة وهو مولى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وقيل مولى أم سلمة، والقعيس بضم القاف وبعين وسين مهملتين
مصغرا. (وقد استدل) بأحاديث الباب على أنه يحرمن الرضاع ما يحرم من النسب
، وذلك بالنظر إلى أقارب المرضع لأنهم أقارب للرضيع، وأما أقارب الرضيع فلا
قرابة بينهم وبين المرضع. والمحرمات من الرضاع سبع: الام والأخت بنص القرآن
والبنت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، لأن هؤلاء الخمس يحرمن من
النسب، وقد وقع الخلاف هل يحرم بالرضاع ما يحرم من الصهار؟ وابن القيم قد حقق
ذلك في الهدى بما فيه كفاية فليرجع إليه. وقد ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه
يحرم نظير المصاهرة بالرضاع، فيحرم عليه أم امرأته من الرضاعة وامرأة أبيه
من الرضاعة، ويحرم الجمع بين الأختين من الرضاعة، وبين المرأة وعمتها وبنتها، وبين
خالتها من الرضاعة، وقد نازعهم في ذلك ابن تيمية كما حكاه صاحب الهدى. وحديث
عائشة في دخول أفلح عليها فيه دليل على ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة
وأقاربه كالمرضعة. وقد ذهب إلى هذا جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين
وسائر العلماء، وقد وقع التصريح بالمطلوب في رواية لا بداود بلفظ قالت عائشة:
دخل علي أفلح فاستترت منه فقال: أتستترين مني وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك
امرأة أخي، قلت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، فدخل علي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فحدثته فقال: إنه عمك فليلج عليك. وروي عن عائشة وابن
عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة وسعيد بن المسيب وأبي
سلمة بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار
والشعبي والنخعي وأبي قلابة وإياس بن معاوية القاضي أنه لا يثبت حكم الرضاع
للزوج. حكى ذلك عنهم ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبد الرزاق وابن المنذر.
وروي أيضا هذا القول عن ابن سيرين وابن علية والظاهرية وابن بنت الشافعي.
وقد روي ما يدل على أنه قول جمهور الصحابة، فأخرج الشافعي عن زينب بنت أبي سلمة
أنها قالت: كان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط أرى أنه أبي وأن ولده إخوتي لأن امرأته
124

أسماء أرضعتني، فلما كان بعد الحرة أرسل إلى عبد الله بن الزبير يخطب ابنتي أم كلثوم على
أخيه حمزة بن الزبير وكان للكلبية فقلت: وهل تحل له؟ فقال: إنه ليس لك بأخ إنما
إخوتك من ولدت أسماء دون من ولد الزبير من غيرها، قالت: فأرسلت فسألت
والصحابة متوافرون وأمهات المؤمنين فقالوا: إن الرضاع لا يحرم شيئا من قبل الرجل
فأنكحتها إياه. وأجيب بأن الاجتهاد من بعض الصحابة والتابعين لا يعارض النص
ولا يصح دعوى الاجماع لسكوت الباقين. لأنا نقول: نحن نمنع أولا أن هذه الواقعة
بلغت كل المجتهدين منهم. وثانيا أن السكوت في المسائل الاجتهادية لا يكون دليلا
على الرضا. وأما عمل عائشة بخلاف ما روت فالحجة روايتها لا رأيها، وقد تقرر في
الأصول أن مخالفة الصحابي لما رواه لا تقدح في الرواية، وقد صح عن علي القول
بثبوت حكم الرضاع للرجل، وثبت أيضا عن ابن عباس كما في البخاري.
باب شهادة المرأة الواحدة بالرضاع
عن عقبة بن الحرث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة
سوداء فقالت: قد أرضعتكما، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعرض
عني قال: فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما فنهاه
عنها رواه أحمد والبخاري. وفي رواية: دعها عنك رواه الجماعة إلا مسلما
وابن ماجة.
في رواية للبخاري: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيف وقد قيل ففارقها
عقبة ونكحت زوجا غيره. قوله: أم يحيى اسمها غنية بفتح الغين المعجمة
وكسر النون بعدها تحتية مشددة. وقيل: اسمها زينب، وإهاب بكسر الهمزة وآخره
باء موحدة، وقد استدل بالحديث على قبول شهادة المرضعة ووجوب العمل بها
وحدها، وهو مروي عن عثمان وابن عباس والزهري والحسن وإسحاق والأوزاعي
وأحمد بن حنبل وأبي عبيد ولكنه قال: يجب العمل على الرجل بشهادتها فيفارق
زوجته ولا يجب الحكم على الحاكم. وروي ذلك عن مالك. وفي رواية عنه أنه لا يقبل
في الرضاع إلا شهادة امرأتين، وبه قال جماعة من أصحابه. وقال جماعة منهم
125

بالأول، وذهبت العترة والحنفية إلى أنه لا بد من رجلين أو رجل وامرأتين كسائر
الأمور، ولا تكفي شهادة المرضعة وحدها، بل لا تقبل عند الهادوية لأن فيها تقريرا
لفعل المرضعة، ولا تقبل عندهم الشهادة إذا كانت كذلك مطلقا، ولكنه حكي في البحر
عن الهادوية والشافعية والحنفية أنه يجب العمل بالظن الغالب في النكاح تحريما، ويجب
على الزوج الطلاق إن لم تكمل الشهادة، واستدل لهم على ذلك بهذا الحديث. وقال
الامام يحيى: الخبر محمول على الاستحباب، ولا يخفى أن النهي حقيقة في التحريم كما
تقرر في الأصول فلا يخرج عن معناه الحقيقي إلا لقرينة صارفة، والاستدلال على
عدم قبول المرأة المرضعة بقوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * (البقرة: 282) لا يفيد
شيئا لأن الواجب بناء العام على الخاص، ولا شك أن الحديث أخص مطلقا. وأما
ما أجاب به عن الحديث صاحب ضوء النهار من أنه مخالف للأصول فيجاب عنه
بالاستفسار عن الأصول، فإن أراد الأدلة القاضية باعتبار شهادة عدلين أو رجل
وامرأتين فلا مخالفة لأن هذا خاص وهي عامة، وإن أراد غيرها فما هو؟ وأما ما
رواه أبو عبيد عن علي وابن عباس والمغيرة أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين
بذلك، فقد تقرر أن أقوال بعض الصحابة ليست بحجة على فرض عدم معارضتها
لما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم فكيف إذا عارضت ما هو كذلك؟ وأما ما قيل
من أمره صلى الله عليه وآله وسلم من باب الاحتياط فلا يخفى مخالفته لما هو الظاهر،
ولا سيما بعد أن قرر السؤال أربع مرات كما في بعض الروايات والنبي صلى الله عليه
وآله وسلم يقول له في جميعها كيف؟ وقد قيل: وفي بعضها دعها عنك كما في حديث
الباب. وفي بعضها: لا خير لك فيها. مع أنه لم يثبت في رواية أنه صلى الله عليه وآله وسلم
أمره بالطلاق، ولو كان ذلك من باب الاحتياط لامره به. فالحق وجوب العمل بقول
المرأة المرضعة حرة كانت أو أما، حصل الظن بقولها أو لم يحصل، لما ثبت في رواية أن
السائل قال: وأظنها كاذب، فيكون هذا الحديث الصحيح هادما لتلك القاعدة المبنية
على غير أساس، أعني قولهم: إنها لا تقبل شهادة فيها تقرير لفعل الشاهد ومخصصا
لعمومات الأدلة كما خصصها دليل كفاية العدلة في عورات النساء عند
أكثر المخالفين.
126

باب ما يستحب أن تعطى المرضعة عند الفطام
عن حجاج بن حجاج رجل من أسلم قال قلت: يا رسول الله
ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: غرة عبد أو أمة رواه الخمسة إلا ابن ماجة
وصححه الترمذي.
الحديث سكت عنه أبو داود. وقال المنذري: إنه الحجاج بن الحجاج بن مالك
الأسلمي سكن المدينة. وقيل: كان ينزل العرج ذكره أبو القاسم البغوي وقال: ولا أعلم
للحجاج بن مالك غير هذا الحديث. وقال أبو عمر النمري: له حديث واحد. وقال
الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح، هكذا رواه يحيى بن سعيد القطان وحاتم
بن إسماعيل وغير واحد عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج بن حجاج عن أبيه
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن
أبيه عن حجاج بن حجاج عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث ابن
عيينة غير محفوظ، والصحيح ما رواه هؤلاء عن هشام بن عروة، وهشام بن عروة يكنى
أبا المنذر وقد أدرك جابر بن عبد الله وابن عمر وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن
العوام هي أم هشام بن عروة انتهى كلامه. وقد بوب أبو داود على هذا الحديث
باب في الرضخ عند الفصال، وبوب عليه الترمذي باب ما يذهب مذمة الرضاع،
وقد استدل بالحديث على استحباب العطية للمرضعة عند الفطام وأن
يكون عبدا أو أمة، والمراد بقوله: ما يذهب عني مذمة الرضاع أي ما يذهب
عني الحق الذي تعلق بي للمرضعة لأجل إحسانها لي بالرضاع، فإني إن
لم أكافئها على ذلك صرت مذموما عند الناس بسبب عدم المكافأة
والله أعلم.
127

كتاب النفقات
باب نفقة الزوجة وتقديمها على نفقة الأقارب
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين،
ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك رواه أحمد
ومسلم. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: ابدأ
بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شئ فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شئ فلذي
قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شئ فهكذا وهكذا رواه أحمد ومسلم
وأبو داود والنسائي. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: تصدقوا، قال رجل: عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي
دينار آخر، قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على
ولدك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر،
قال: أنت أبصر به رواه أحمد والنسائي، ورواه أبو داود لكنه قدم الولد على الزوجة،
واحتج به أبو عبيد في تحديد الغني بخمسة دنانير ذهبا تقوية بحديث ابن مسعود
في الخمسين درهما.
حديث أبي هريرة الآخر أخرجه أيضا الشافعي وابن حبان والحاكم.
قال ابن حزم: اختلف يحيى القطان والثوري فقدم يحيى الزوجة على
الولد، وقدم سفيان الولد على الزوجة، فينبغي أن لا يقدم أحدهما على الآخر،
بل يكونان سواء، لأنه قد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا
تكلم تكلم ثلاثا، فيحتمل أن يكون في إعادته إياه مرة قدم الولد ومرة قدم الزوجة
فصارا سواء، ولكنه يمكن ترجيح تقدم الزوجة على الولد بما وقع من تقديمها في
حديث جابر المذكور في الباب، وهكذا قال الحافظ في التلخيص. وحديث أبي هريرة
الأول فيه دليل على أن الانفاق على أهل الرجل أفضل من الانفاق في سبيل الله،
ومن الانفاق في الرقاب، ومن التصدق على المساكين. وحديث جابر فيه دليل على
128

أنه لا يجب على الرجل أن يؤثر زوجته وسائر قرابته بما يحتاج إليه في نفقة نفسه،
ثم إذا فضل عن حاجة نفسه شئ فعليه إنفاقه على زوجته، وقد انعقد الاجماع على
وجوب نفقة الزوجة، ثم إذا فضل عن ذلك شئ فعلى ذوي قرابته، ثم إذا فضل عن
ذلك شئ فيستحب له التصدق بالفاضل، والمراد بقوله هكذا وهكذا أي يمينا وشمالا
كناية عن التصدق. واعلم أنه قد وقع الاجماع على أنه يجب على الولد الموسر مؤنة
الأبوين المعسرين كما حكي ذلك في البحر واستدل له بقوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا)
* (البقرة: 83) ثم قال: ولو كانا كافرين لقوله تعالى: * (وإن جاهداك) * (لقمان: 15) وأنت ومالك لأبيك ثم حكى
بعد حكاية الاجماع المتقدم عن العترة والفريقين أن الام المعسرة كالأب في وجوب نفقتها.
(واستدل) بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أمك ثم أمك الخبر. وحكي عن مالك الخلاف
في ذلك لعدم الدليل. وأجاب عليه بأن هذا الخبر دليل، وعلى فرض عدم الدليل
فبالقياس على الأب، ثم قال: وكذا الخلاف في الجد أبي الأب. ثم حكي عن عمرو بن أبي
ليلى والحسن بن صالح والعترة وأحمد بن حنبل وأبي ثور أنها تجب النفقة لكل معسر
على كل موسر إذا كانت ملتهما واحدة وكانا يتوارثان، واستدل لذلك بقوله تعالى
: * (وعلى الوارث مثل ذلك) * (البقرة: 233) واللام للجنس. وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه أنها إنما
تلزم للرحم المحرم فقط. وعن الشافعي وأصحابه: لا تجب إلا للأصول والفصول
فقط. وعن مالك: لا تجب إلا للولد والوالد فقط. وقد أجيب عن الاستدلال بالآية
المذكورة بمنع دلالتها على المطلوب، ودعوى أن الإشارة بقوله ذلك إلى عدم المضارة
وعلى التسليم فالمراد وارث الأب بعد موته. والأولى أن يقال لفة الوارث فيه
احتمالات: أحدها أن يراد المولود له المذكور في صدر الآية وهو المولود وقد قال
بهذا قبيصة بن ذؤيب. الثاني: أن يراد وارث المولود وبه قال الجمهور من السلف وأحمد
وإسحاق وأبو ثور. الثالث: أن يراد به الباقي من الأبوين بعد الآخر وبه قال سفيان
وغيره، فحينئذ لفظ الوارث مجمل، لا يحمل حمله على أحد هذه المعاني إلا بدليل، مع أنه
لا يصح الاستدلال بالآية على وجوب نفقة كل معسر على من يرثه من قرابته الموسرين،
لأن الكلام في الآية في رزق الزوجات وكسوتهن، ولكنه يدل على المطلوب عموم
فلذي قرابتك. قوله: تصدق به على ولد ك فيه دليل على أنه يلزم الأب نفقة ولده
المعسر، فإن كان الولد صغيرا فذلك إجماع كما حكاه صاحب البحر، وإن كان كبيرا فقيل
129

نفقته على الأب وحده دون الام، وقيل عليهما حسب الإرث، ويأتي بقية الكلام على
نفقة الأقارب في باب النفقة على الأقارب. قوله: تصدق به على خادمك فيه دليل
على وجوب نفقة الخادم، وسيأتي الكلام على ذلك في باب نفقة الرقيق. قوله:
بخمسة دنانير ذهبا قد قدمنا الكلام على هذا في الزكاة.
باب اعتبار حال الزوج في النفقة
عن معاوية القشيري قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
فقلت: ما تقول في نسائنا؟ قال: أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تكتسون، ولا
تضربوهن ولا تقبحوهن رواه أبو داود.
الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة والحاكم وابن حبان وصححاه، وعلق
البخاري طرفا منه، وصححه الدارقطني في العلل، وقد ساقه أبو داود في سننه
من ثلاث طرق في كل واحدة منها بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وهو معاوية
القشيري المذكور، قال المنذري: وقد اختلف الأئمة في الاحتجاج بهذه النسخة يعني نسخة
بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، فمنهم من احتج بها، ومنهم من أبى ذلك،
وخرج الترمذي منها شيئا وصححه. (وفي الحديث) دليل على أنه يجب على الزوج
أن يطعم امرأته مما يأكل ويكسوها مما يكتسي، وأنه لا يجوز له ضربها ولا تقبيحها،
وقد تقدم الحديث وشرحه في باب إحسان العشرة، وقد استدل المصنف بهذا
الحديث على أن العبرة بحال الزوج في النفقة، ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى: * (لينفق
ذو سعة من سعته) * (الطلاق: 7) وإلى ذلك ذهبت العترة والشافعية وبعض الحنفية، وذهب أكثر
الحنفية ومالك إلى أن الاعتبار بحال الزوجة. واستدلوا بقصة هند امرأة سفيان
الآتية، وأجيب عن ذلك بأنه أمرها بالأخذ بالمعروف ولم يطلق لها الاخذ على
مقدار الحاجة.
130

باب المرأة تنفق من مال الزوج بغير علمه إذا منعها الكفاية
عن عائشة: أن هندا قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن
أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو
لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف رواه الجماعة إلا الترمذي.
قوله: إن هندا هي بنت عتبة بن ربيعة، والرواية بالصرف، ووقع في
رواية للبخاري بالمنع، وأبو سفيان اسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن
عبد مناف. قوله: شحيح أي بخيل حريص وهو أعم من البخل، لأن البخل
مختص بمنع المال، والشح يعم منع كل شئ في جميع الأحوال كذا في الفتح. قوله:
خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف قال القرطبي: هذا أمر إباحة بدليل ما وقع في
رواية للبخاري بلفظ: لا حرج والمراد بالمعروف القدر الذي عرف بالعادة أنه
الكفاية، قال: وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظا فهي مقيدة معنى كأنه قال: إن
صح ما ذكرت. (والحديث) فيه دليل على وجوب نفقة الزوجة على زوجها وهو مجمع
عليه كما سلف، وعلى وجوب نفقة الولد على الأب، وأنه يجوز لمن وجبت له النفقة شرعا على
شخص أن يأخذ من ماله ما يكفيه إذا لم يقع منه الامتثال وأصر على التمرد، وظاهره
أنه لا فرق في وجوب نفقة الأولاد على أبيهم بين الصغير والكبير لعدم الاستفصال وهو
ينزل منزلة العموم، وأيضا قد كان في أولادها في ذلك الوقت من هو مكلف كمعاوية
رضي الله عنه فإنه أسلم عام الفتح وهو ابن ثمان وعشرين سنة، فعلى هذا يكون مكلفا
من قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وسؤال هند كان في عام
الفتح. وذهبت الشافعية إلى اشتراط الصغر أو الزمانة، وحكاه ابن المنذر عن الجمهور
والحديث يرد عليهم، ولم يصب من أجاب عن الاستدلال بهذا الحديث على وجوب
نفقة الأولاد بأنه واقعة عين لا عموم لها، لأن خطاب الواحد كخطاب الجماعة كما تقرر
في الأصول. وفي رواية متفق عليها: ما يكفيك ويكفي وليدك وقد أجيب عن
الحديث أيضا بأنه من باب الفتيا لا من القضاء وهو فاسد لأنه صلى الله عليه وآله
وسلم لا يفتي إلا بحق. واستدل بالحديث أيضا من قدر نفقة الزوجة بالكفاية، وبه قال
131

الجمهور وقال الشافعي: إنها تقدر بالامداد، فعلى الموسر كل يوم مدان، والمتوسط مد
ونصف، والمعسر مد. وروي نحو ذلك عن مالك، والحديث حجة عليهم كما اعترف
بذلك النووي، وللحديث فوائد لا يتعلق غالبها بالمقام، وقد استوفاها ففتح الباري
، واستوفى طرق الحديث واختلاف ألفاظه.
باب إثبات الفرقة للمرأة إذا تعذرت النفقة بإعسار ونحوه
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير الصدقة
ما كان منها عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. فقيل: من
أعول يا رسول الله؟ قال: امرأتك ممن تعول تقول: أطعمني وإلا فارقني. جاريتك تقول:
أطعمني واستعملني. وولدك يقول: إلى من تتركني؟ رواه أحمد والدارقطني بإسناد صحيح.
وأخرجه الشيخان في الصحيحين وأحمد من طريق آخر وجعلوا الزيادة
المفسرة فيه من قول أبي هريرة. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: يفرق بينهما
رواه الدارقطني.
حديث أبي هريرة الأول حسن إسناده الحافظ، وهو من رواية عاصم عن
أبي صالح عن أبي هريرة، وفي حفظ عاصم مقال. ولفظ الحديث الذي أشا إليه
المصنف في البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول،
تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني. ويقول العبد: أطعمني واستعملني.
ويقول الابن: أطعمني وإلى من تدعني. قالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم؟ قال لا هذا من كيس أبي هريرة. وحديث أبي هريرة الآخر أخرجه
أيضا البيهقي من طريق عاصم القاري عن أبي صالح عن أبي هريرة وأعله أبو حاتم. وفي
الباب عن سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور والشافعي وعبد الرزاق في الرجل
لا يجد ما ينفق على أهله قال: يفرق بينهما. قال أبو الزناد: قلت لسعيد: سنة؟ قال: سنة.
وهذا مرسل قوي. وعن عمر عند الشافعي وعبد الرزاق وابن المنذر أنه كتب إلى
132

أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم: إما أن ينفقوا وإما أن يطلقوا ويبعثوا
نفقة ما حبسوا. قوله: ما كان عن ظهر غنى فيه دليل على أن صدقة من كان غير
محتاج لنفسه إلى ما تصدق به بل مستغنيا عنه أفضل من صدقة المحتاج إلى ما تصدق
به، ويعارضه حديث أبي هريرة عند أبي داود والحاكم يرفعه: أفضل الصدقة جهد
من مقل. وقد فسره في النهاية بقدر ما يحتمله حال قليل المال، وحديث أبي هريرة
أيضا عند النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال على
شرط مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سبق درهم مائة ألف
درهم، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه
مائة ألف درهم فتصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق بها
فهذا تصدق بنصف ماله. الحديث، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: * (ويؤثرون على أنفسهم
ولو كان بهم خصاصة) * (الحشر: 9) ويؤيد الأول قوله تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا
تبسطها كل البسط) * (الاسراء: 29) ويمكن الجمع بأن الأفضل لمن كان يتكفف الناس إذا تصدق
بجميع ماله أن يتصدق عن ظهر غنى، والأفضل لمن يصبر على الفاقة أن يكون
متصدقا بما يبلغ إليه جهده وإن لم يكن مستغنيا عنه، ويمكن أن يكون المراد بالغنى
غنى النفس كما في حديث أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما: ليس الغنى عن كثرة
العرض ولكن الغنى غنى النفس. قوله: اليد العليا هي يد المتصدق واليد السفلى يد
المتصدق عليه هكذا في النهاية. وسيأتي في باب النفقة على الأقارب ما يدل على هذا
التفسير. قوله: وابدأ بمن تعول أي بمن تجب عليك نفقته. قال في الفتح: يقال عال
الرجل أهله إذا مانهم أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وفيه دليل على وجوب
نفقة الأولاد مطلقا. وقد تقدم الخلاف في ذلك وعلى وجوب نفقة الأرقاء وسيأتي.
قوله: تقول أطعمني وإلا فارقني استدل به وبحديث أبي هريرة الآخر على أن الزوج
إذا أعسر عن نفقة امرأته واختارت فراقه فرق بينهما. وإليه ذهب جمهور العلماء كما
حكاه في فتح الباري، وحكاه صاحب البحر عن الإمام علي رضي الله عنه وعمر وأبي
هريرة والحسن البصري وسعيد بن المسيب وحماد وربيعة ومالك وأحمد بن حنبل
والشافعي والامام يحيى. وحكى صاحب الفتح عن الكوفيين أنه يلزم المرأة الصبر
وتتعلق النفقة بذمة الزوج. وحكاه في البحر عن عطاء والزهري والثوري والقاسمية
133

وأبي حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي، ومن جملة ما احتج به الأولون قوله
تعالى: * (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) * (البقرة: 231) وأجا ب الآخرون عن الأحاديث المذكورة بما
سلف من إعلالها، وأما ما في الصحيحين فهو من قول أبي هريرة كما وقع التصريح
به منه حيث قال: إنه من كيسه بكسر الكاف أي من استنباطه من المرفوع، وقد وقع في
رواية الأصيلي بفتح الكاف أي من فطنته. وأما قول عمر فليس مما يحتج به. وأجابوا
عن الآية بأن ابن عباس وجماعة من التابعين قالوا: نزلت فيمن كان يطلق فإذا كادت
العدة تنقضي راجع. ويجاب عن ذلك بأن الأحاديث المذكورة يقوي بعضها بعضا،
مع أنه لم يكن فيها قدح يوجب الضعف فضلا عن السقوط، والآية المذكورة وإن
كان سببها خاصا كما قيل فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأما استدلال
الآخرين بقوله تعالى: * (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه
الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * (الطلاق: 7) قالوا: وإذا أعسر ولم يجد سببا يمكنه به تحصيل النفقة
فلا تكليف عليه بدلالة الآية، فيجاب عنه بأنا لم نكلفه النفقة حال إعساره، بل
دفعنا الضرر عن امرأته وخلصناها من حباله لتكتسب لنفسها أو يتزوجها رجل
آخر، واحتجوا أيضا بما في صحيح مسلم من حديث جابر: أنه دخل أبو بكر وعمر على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجداه حوله نساءه واجما ساكتا، وهن يسألنه
النفقة فقام كل واحد منهما إلى ابنته أبو بكر إلى عائشة وعمر إلى حفصة فوجآ أعناقهما
فاعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك شهرا فضربهما لابنتيهما في
حضرته صلى الله عليه وآله وسلم لأجل مطالبتهما بالنفقة التي لا يجدها يدل على
عدم التفرقة لمجرد الاعسار عنها، قالوا: ولم يزل الصحابة فيهم الموسر والمعسر، ومعسروهم
أكثر. ويجاب عن الحديث المذكور بأن زجرهما عن المطالبة بما ليس عند رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدل على عدم جواز الفسخ لأجل الاعسار، ولم
يرو أنهن طلبنه ولم يجبن إليه، كيف وقد خيرهن صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك
فاخترنه، وليس محل النزاع جواز المطالبة للمعسر بما ليس عنده وعدمها، بل محله
هل يجوز الفسخ عند التعذر أم لا؟ وقد أجيب عن هذا الحديث بأن أزواج النبي صلى
الله عليه وآله وسلم لم يعد من النفقة بالكلية، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قد استعاذ من الفقر المدقع، ولعل ذلك إنما كان فيما زاد على قوام البدن مما يعتاد الناس
134

النزاع في مثله. وهكذا يجاب عن الاحتجاج بما كان عليه الصحابة من ضيق
العيش. وظاهر الأدلة أنه يثبت الفسخ للمرأة بمجرد عدم وجدان الزوج لنفقتها
بحيث يحصل عليها ضرر من ذلك. وقيل: إنه يؤجل الزوج مدة، فروي عن مالك أنه يؤجل
شهرا، وعن الشافعية ثلاثة أيام، ولها الفسخ في أول اليوم الرابع. وروي عن حماد أن
الزوج يؤجل سنة ثم يفسخ قياسا على العنين، وهل تحتاج المرأة إلى الرفع إلى الحاكم؟
روي عن المالكية في وجه لهم أنها ترافعه إلى الحاكم ليجبره على الانفاق أو يطلق
عنه. وفي وجه لهم آخر أنه ينفسخ النكاح بالاعسار، لكن بشرط أن يثبت إعساره
عند الحاكم والفسخ بعد ذلك إليها. وروي عن أحمد أنها إذا اختارت الفسخ رافعته
إلى الحكم، والخيار إليه بين أن يجبره على الفسخ أو الطلاق. وروي عن عبد الله
بن الحسن العنبري أن الزوج إذا أعسر عن النفقة حبسه الحاكم حتى يجدها وهو في
غاية الضعف، لأن تحصيل الرزق غير مقدور له إذا كان ممن أعوزته المطالب وأكدت
عليه جميع المكاسب، اللهم إلا أن يتقاعد عن طلب أسباب الرزق والسعي له مع
تمكنه من ذلك فلهذا القول وجه. وذهب ابن حزم إلى أنه يجب على المرأة الموسرة
إنفاق على زوجها المعسر ولا ترجع عليه إذا أيسر. وذهب ابن القيم إلى التفصيل
وهو أنها إذا تزوجت به عالمة بإعساره أو كان حال الزواج موسرا ثم أعسر فلا
فسخ لها. وإن كان هو الذي غرها عند الزواج بأنه موسر ثم تبين لها إعساره كان لها الفسخ.
(واعلم) أنه لا فسخ لأجل الاعسار بالمهر على ما ذهب إليه الجمهور. وذهب بعض
الشافعية وهو مروي عن أحمد إلى أنه يثبت الفسخ لأجل ذلك والظاهر الأول
لعدم الدليل الدال على ذلك. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأن
النساء عوان في يد الأزواج كما تقدم أي حكمهن حكم الاسراء، لأن العاني الأسير،
والأسير لا يملك لنفسه خلاصا من دون رضا الذي هو في أسره فهكذا النساء، ويؤيد
هذا حديث: الطلاق لمن أمسك بالساق فليس للزوجة تخليص نفسها من تحت
زوجها إلا إذا دل الدليل على جواز ذلك، كما في الاعسار عن النفقة ووجود العيب
المسوغ للفسخ، وهكذا إذا كانت المرأة تكره الزوج كراهة شديدة، وقد قدمنا
الخلاف في ذلك.
135

باب النفقة على الأقارب ومن يقدم منهم
عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله أي الناس أحق مني بحسن
الصحبة؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك
متفق عليه. ولمسلم في رواية: من أبر؟ قال: أمك. وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال
قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال قلت: ثم من؟ قال: أمك. قال قلت: يا رسول الله
ثم من؟ قال: أمك. قال قلت: ثم من؟ قال: أباك ثم الأقرب فالأقرب رواه أحمد
وأبو داود والترمذي. وعن طارق المحاربي قال: قدمت المدينة فإذا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر، يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا
وأبدأ بمن تعول: أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك رواه النسائي.
وعن كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول
الله من أبر؟ قال: أمك وأباك وأختك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم
موصولة رواه أبو داود.
حديث بهز بن حكيم أخرجه أيضا الحاكم وحسنه أبو داود. وحديث طارق
المحاربي أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني وصححاه. وحديث كليب بن منفعة
أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وقد أخرجه البغوي وابن قانع والطبراني
في الكبير والبيهقي ورجال إسناد أبي داود لا بأس بهم. (وفي الباب) عن المقدام
بن معد يكرب عند البيهقي بإسناد حسن: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول
: إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بآبائكم ثم بالأقرب فالأقرب. وأخرج
البخاري في الأدب المفرد وأحمد وابن حبان والحاكم وصححاه بلفظ: إن الله
يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب
وأخرج الحاكم من حديث أبي رمثة بلفظ: أمك أمك وأباك ثم أختك
وأخاك ثم أدناك أدناك. قوله: أمك فيه دليل على أن الام أحق بحسن الصحبة من
الأب وأولى منه بالبر، حيث لا يتسع مال الابن إلا لنفقة واحد منهما، وإليه ذهب
الجمهور، كما حكاه القاضي عياض فإنه قال: ذهب الجمهور إلى أن الام تفضل في البر على
136

الأب، وقيل إنهما سواء، وهو مروي عن مالك وبعض الشافعية. وقد حكى الحارث
المحاسبي الاجماع على تفضيل الام على الأب. قوله: ثم الأقرب فالأقرب فيه
دليل على وجوب نفقة الأقارب على الأقارب، سواء كانوا وارثين أم لا، وقد قدمنا
تفصيل الخلاف في ذلك، واستدل من اعتبر الميراث بقوله تعالى: * (وعلى الوارث مثل ذلك)
* البقرة: 233). قوله: يد المعطي العليا هو تفسير للحديث المتقدم بلفظ: إليه العليا خير من
اليد السفلى. قوله: وابدأ بمن تعول قد تقدم تفسيره. قوله: ثم أدناك
أدناك هو مثل قوله: ثم الأقرب فالأقرب. وفي ذلك دليل على أن القريب
الأقرب أحق بالبر والانفاق من القريب الأبعد، وإن كانا جميعا فقيرين حيث لم يكن
مال المنفق إلا مقدار ما يكفي أحدهما فقط بعد كفايته. قوله: ومولاك الذي
يلي ذاك قيل: أراد بالمولى هنا القريب، ولعل وجه ذلك أنه جعله واليا للام والأب
والأخت والأخ، ولا بد أن يكون الوالي لهم من جنسهم في قرابة النسب. والظاهر أن
المراد بالمولى هو المولى لغة وشرعا، وجعله واليا لمن ذكر لا يستلزم أن يكون من جنسهم
في القرابة، بل المراد أنه يليهم في استحقاق النفقة حيث لم يوجد معهم من هو مقدم
عليه، ولا يلزم من قوله بعد ذلك ورحم موصولة أن تكون الرحامة موجودة فجميع
المذكورين، بل يكفي وجودها في البعض كالأم والأب والأخت والأخ.
باب من أحق بكفالة الطفل
عن البراء بن عازب: أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد، فقال
علي: أنا أحق بها هي ابنة عمي. وقال جعفر: بنت عمي وخالتها تحتي. وقال زيد
: ابنة أخي. فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخالتها وقال: الخالة بمنزلة
الام متفق عليه. ورواه أحمد أيضا من حديث علي وفيه: والجارية عند خالتها
فإن الخالة والدة.
حديث علي رضي الله عنه أخرجه أيضا أبو داود والحاكم والبيهقي بمعناه. قوله:
وخالتها تحتي الخالة المذكورة هي أسماء بنت عميس. قوله: وقال زيد: ابنة
أخي إنما سمى حمزة أخاه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخى بينه وبينه.
137

قوله: الخالة بمنزلة الام فيه دليل على أن الخالة في الحضانة بمنزلة الام، وقد
ثبت بالاجماع أن الام أقدم الحواضن، فمقتضى التشبيه أن تكون الخالة أقدم من غيرها
من أمهات الام وأقدم من الأب والعمات. وذهبت الشافعية والهادي إلى تقديم
الأب على الخالة. وذهب الشافعي والهادوية إلى تقدم أم الام وأم الأب على الخالة
أيضا. وذهب الناصر والمؤيد بالله وأكثر أصحاب الشافعي وهو رواية عن أبي
حنيفة إلى أن الأخوات أقدم من الخالة. والأولى تقديم الخالة بعد الام على سائر
الحواضن لنص الحديث وفاء بحق التشبيه المذكور وإلا كان لغوا. وقد قيل إن
الأب أقدم من الخالة بالاجماع وفيه نظر، فإن صاحب البحر قد حكى عن
الإصطخري أن الخالة أولى منه، ولم يحك القول بتقديم الأب عليها إلا عن الهادي
والشافعي وأصحابه. وقد طعن ابن حزم في حديث البراء المذكور بأن في إسناده
إسرائيل وقد ضعفه علي بن المديني ورد عليه بأنه قد وثقه سائر أهل الحديث،
وتعجب أحمد من حفظه وقال ثقة. وقال أبو حاتم: هو أتقن أصحاب أبي إسحاق، وكفى
باتفاق الشيخين على إخراج هذا الحديث دليلا. واستشكل كثير من الفقهاء وقوع
القضاء منه صلى الله عليه وآله وسلم لجعفر وقالوا: إن كان القضاء له فليس بمحرم لها،
وهو وعلي سواء في قرابتها، وإن كان القضاء للخالة فهي مزوجة. وسيأتي أن زواج
الام مسقط لحقها من الحضانة فسقوط حق الخالة بالزواج أولى. وأجيب عن ذلك
بأن القضاء للخالة والزواج لا يسقط حقها من الحضانة مع رضا الزوج كما ذهب إليه
أحمد والحسن البصري والامام يحيى وابن حزم. وقيل: إن النكاح إنما يسقط
حضانة الام وحدها حيث كان المنازع لها الأب، ولا يسقط حق غيرها ولا حق الام
حيث كان المنازع لها غير الأب، وبهذا يجمع بين حديث الباب وحديث: أنت أحق
به ما لم تنكحي الآتي وإليه ذهب ابن جريج.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن
ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه
مني، فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي رواه أحمد وأبو داود لكن في لفظه: وإن
أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني.
الحديث أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه، وهو من حديث عمرو بن
138

شعيب عن أبيه عن جده. قوله: وعاء بفتح الواو والمد وقد يضم وهو الظرف.
وقرأ السبعة: * (قبل وعاء أخيه) * (يوسف: 76) بالكسر. والحواء بكسر الحاء والمد اسم لكل شئ
يحوي غيره أي يجمعه. والسقاء بكسر السين أي يسقى منه اللبن. ومراد الام بذلك
أنها أحق به لاختصاصها بهذه الأوصاف دون الأب. قوله: أنت أحق به فيه
دليل على أن الام أولى بالولد من الأب ما لم يحصل مانع من ذلك كالنكاح لتقييده
صلى الله عليه وآله وسلم للأحقية بقوله: ما لم تنكحي وهو مجمع على ذلك كما حكاه
صاحب البحر، فإن حصل منها النكاح بطلت حضانتها، وبه قاما لك والشافعية
والحنفية والعترة. وقد حكى ابن المنذر الاجماع عليه. وروي عن عثمان أنها
لا تبطل بالنكاح، وإليه ذهب الحسن البصري وابن حزم واحتجوا بما روي أن أم
سلمة تزوجت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبقي ولدها في كفالتها، وبما تقدم في حديث
ابنة حمزة. ويجاب عن الأول بأن مجرد البقاء مع عدم المنازع لا يصح للاحتجاج
به على محل النزاع لاحتمال أنه لم يبق له قريب غيرها. وعن الثاني بأن ذلك في الخالة
ولا يلزم في الام مثله. وقد ذهب أبو حنيفة والهادوية إلى أن النكاح إذا كان
بذي رحم محرم للمحضون لم يبطل به حق حضانتها. وقال الشافعي: يبطل مطلقا
لأن الدليل لم يفصل وهو الظاهر، وحديث ابنة حمزة لا يصلح للتمسك به لأن جعفرا
ليس بذي رحم محرم لابنة حمزة. وأما دعوى دلالة القياس على ذلك كما زعمه
صاحب البحر فغير ظاهرة. وقد أجاب ابن حزم عن حديث الباب بأن في إسناده
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولم يسمع أبوه من جده وإنما هو صحيفة كما سبق
تحقيقه، ورد بأن حديث عمرو بن شعيب قبله الأئمة وعملوا به. (وقد استدل) لمن قال
بأن النكاح إذا كان بذي رحم للمحضون لم يبطل حق المرأة من الحضانة بما رواه
عبد الرزاق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنها جاءته امرأة إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فقالت: إن أبي أنكحني رجلا لا أريده وترك عم ولدي فأخذ مني ولدي،
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أباها ثم قال لها: اذهبي فانكحي عم
ولدك وهذا مع كونه مرسلا في إسناده رجل مجهول، ولم يقع التصريح فيه بأنه
أرجح الولد إليها عند أن زوجها بذي رحم له.
وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير غلاما بين
139

أبيه وأمه رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. وفي رواية: أن امرأة
جاءت فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي
عنبة وقد نفعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: استهما عليه، فقال زوجها: من
يحاقني في ولدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد
أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به رواه أبو داود وكذلك النسائي ولم يذكر
فقال استهما عليه ولأحمد معناه لكنه قال فيه: جاءت امرأة قد طلقها
زوجها ولم يذكر فيه قولها قد سقاني ونفعني. وعن عبد الحميد بن جعفر
الأنصاري عن جده: أن جدة أسلم وأبت امرأته أن تسلم فجاء بابن له صغير لم يبلغ
قال: فأجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأب ههنا والام ههنا ثم خيره وقال
: اللهم اهده فذهب إلى أبيه رواه أحمد والنسائي. وفي رواية عن عبد الحميد بن
جعفر قال: أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم،
فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: ابنتي وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع:
ابنتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقعد ناحية وقال لها اقعدي ناحية
فأقعد الصبية بينهما ثم قال: ادعوها فمالت إلى أمها فقال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها رواه أحمد
وأبو داود وعبد الحميد، هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن
سنان الأنصاري.
حديث أبي هريرة رواه باللفظ الأول أيضا أبو داود، ورواه بنحو اللفظ الثاني
بقية أهل السنن وابن أبي شيبة وصححه الترمذي وابن حبان وابن القطان. وحديث
عبد الحميد باللفظ الآخر أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة والدارقطني وفي إسناده
اختلاف كثير وألفاظ مختلفة، ورجح ابن القطان رواية عبد الحميد بن جعفر، وقال
ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال ولكنه قد صححه الحاكم. وذكر
الدارقطني أن البنت المخيرة اسمها عميرة. وقال ابن الجوزي: رواية من روى أنه كان
غلاما أصح. وقال ابن القطان: لو صح رواية من روى أنها بنت لاحتمل أنهما قصتان
لاختلاف المخرجين. قوله: خير غلاما إلخ، فيه دليل على أنه إذا تنازع الأب
والام في ابن لهما كان الواجب هو تخييره فمن اختاره ذهب به. وقد أخرج البيهقي
140

عن عمر أنه خير غلاما بين أبيه وأمه. وأخرج أيضا عن علي أنه خير عمارة الجذامي
بين أمه وعمته وكان ابن سبع أو ثمان سنين، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه
وإسحاق بن راهويه وقال: أحب أن يكون مع الام إلى سبع سنين ثم يخير، وقيل: إلى
خمس. وذهب أحمد إلى أن الصغير إلى دون سبع سنين أمه أولى به، وإن بلغ سبع
سنين فالذكر فيه ثلاث روايات. يخير وهو المشهور عن أصحابه وإن لم يختر أقرع
بينهما. والثانية: أن الأب أحق به. والثالثة: أن الأب أحق بالذكر والام بالأنثى
إلى تسع ثم يكون الأب أحق بها. والظاهر من أحاديث الباب أن التخيير في حق من
بلغ من الأولاد إلى سن التمييز هو الواجب من غير فرق بين الذكر والأنثى. وحكي
في البحر عن مذهب الهادوية وأبي طالب وأبي حنيفة وأصحابه ومالك أنه لا تخيير،
بل متى استغنى بنفسه فالأب أولى بالذكر والام بالأنثى. وعن مالك: الأنثى للام
حتى تزوج وتدخل، والأب للذكر حتى يبلغ. وحد الاستغناء عند أبي حنيفة
وأصحابه وأبي العباس وأبي طالب أن يأكل ويشرب ويلبس. وعند الشافعي
والمؤيد بالله والامام يحيى هو بلوغ السبع. وتمسك النافون للتخيير بحديث: أنت
أحق به ما لم تنكحي ويجاب عنه بأن الجمع ممكن وهو أن يقال: المراد بكونها
أحق به فيما قبل السن التي يخير فيها لا فيما بعدها بقرينة أحاديث الباب. قوله:
استهما عليه فيه دليل على أن القرعة طريق شرعية عند تساوي الامرين، وأنه
يجوز الرجوع إليها كما يجوز الرجوع إلى التخيير. وقد قيل: إنه يقدم التخيير عليها،
وليس في حديث أبي هريرة المذكور ما يدل على ذلك بل ربما دل على عكسه، لأن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أمرهما أولا بالاستهام ثم لما لم يفعلا خير الولد. وقد قيل
إن التخيير أولى لاتفاق ألفاظ الحديث عليه وعمل الخلفاء الراشدين به. قوله: من
يحاقني الحقاق والاحتقاق الخاصم والاختصام كما في القاموس أي من يخاصمني في
ولدي. قوله: فمالت إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم اهدها استدل
بذلك على جواز نقل الصبي إلى من اختار ثانيا، وقد نسبه صاحب البحر إلى القائلين
بالتخيير واستدل بحديث عبد الحميد المذكور على ثبوت الحضانة للام الكافرة لان
التخيير دليل ثبوت الحق، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن القاسم وأبو ثور.
وذهب الجمهور إلى أنه لا حضانة للكافرة على ولدها المسلم، وأجابوا عن الحديث بما
141

تقدم من المقال وبما فيه من الاضطراب، ويجاب بأن الحديث صالح للاحتجاج به،
والاضطراب ممنوع باعتبار محل الحجة. وأما احتجاجهم بمثل قوله تعالى: * (ولن يجعل
الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * (النساء: 141) وبنحو حديث: الاسلام يعلو فغير نافع لأنه
عام وحديث الباب خاص. واعلم أنه ينبغي قبل التخيير والاستهام ملاحظة ما فيه
مصلحة للصبي، فإذا كان أحد الأبوين أصلح للصبي من الآخر قدم عليه من غير
قرعة ولا تخيير، هكذا قال ابن القيم واستدل على ذلك بأدلة عامة نحو قوله تعالى
: * (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * (التحريم: 6) وزعم أن قول من قال بتقديم التخيير
أو القرعة مقيد بهذا. وحكى عن شيخه ابن تيمية أنه قال: تنازع أبوان صبيا عند الحاكم
فخير الولد بينهما فاختار أباه فقالت أمه: سله لأي شئ يختاره؟ فسأله فقال: أمي
تبعثني كل يوم للكاتب والفقيه يضرباني وأبي يتركني ألعب مع الصبيان فقضى به للام،
ورجح هذا ابن تيمية، واستدل له بنوع من أنواع المناسب. ولا يخفى أن الأدلة
المذكورة في خصوص الحضانة خالية عن مثل هذا الاعتبار مفوضة حكم الأحقية
إلى محض الاختيار، فمن جعل المناسب صالحا لتخصيص الأدلة أو تقييدها فذاك، ومن
أبي ووقف على مقتضاها كان في تمسكه بالنص وموافقته له أسعد من غيره.
باب نفقة القيق والرفق بهم
عن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟
قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كفى بالمرء
إثما أن يحبس عمن يملك قوته رواه مسلم. وعن أبي هرير عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق
رواه أحمد ومسلم. وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: هم
إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يعده فليطعمه مما
يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه متفق
عليه. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أتى أحدكم
خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين، فإنه
142

ولي حره وعلاجه رواه الجماعة. وعن أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه الصلاة وما ملكت
أيمانكم رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
حديث أنس أخرجه أيضا النسائي وابن سعد، وله عند النسائي أسانيد منها
ما رجاله رجال الصحيح وله شاهد من حديث علي عند أبي داود وابن ماجة زاد فيه:
والزكاة بعد الصلاة. (وأحاديث الباب) فيها دليل على وجوب نفقة المملوك
وكسوته وهو مجمع على ذلك كما حكاه صاحب البحر وغيره، وظاهر حديث عبد الله
بن عمرو وحديث أبي هريرة أنه لا يتعين على السيد إطعامه مما يأكل بل الواجب الكفاية
بالمعروف، وظاهر حديث أبي ذر أنه يجب على السيد إطعامه مما يأكل وكسوته مما
يلبس، وهو محمول على الندب والقرينة الصارفة إليه الاجماع على أنه لا يجب على
السيد ذلك، وذهب ت العترة والشافعي إلى أن الواجب الكفاية بالمعروف كما وقع في رواية،
فلا يجوز التقتير الخارج عن العادة، ولا يجب بذل فوق المعتاد قدرا وجنسا وصفة. قوله
ولا يكلف من العمل ما لا يطيق فيه دليل على تحريم تكليف العبيد والإماء
فوق ما يطيقونه من الأعمال وهذا مجمع عليه. قوله: إذا أتى أحدكم خادمه
بنصب أحدكم ورفع خادمه والخادم يطلق على الذكر والأنثى وهو أعم من الحر
والمملوك. قوله: فإن لم يجلسه أي لم يجلس المخدوم الخادم. قوله: لقمة أو
لقمتين بضم اللام وهي العين المأكولة من الطعام وروي بفتح اللام والصواب
الأول إذا كان المراد العين وهو ما يلتقم. والثاني إذا كان المراد الفعل وهكذا قوله:
أكلة أو أكلتين وهو شك من الراوي، وفي هذا دليل على أنه لا يجب إطعام
المملوك من جنس ما يأكله المالك، بل ينبغي أن يناوله منه ملء فمه للعلة المذكورة
آخرا وهي توليه لحره وعلاجه، ويدفع إليه ما يكفيه من أي طعام أحب على
حسب ما تقتضيه العادة لما سلف من الاجماع. وقد نقله ابن المنذر فقال: الواجب
عند جميع أهل العلم إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك
البلد، وكذلك الادام والكسوة، وللسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك وإن كان الأفضل
المشاركة. وقال الشافعي بعد أن ذكر الحديث: هذا عندنا على وجهين: الأول أن
إجلاسه معه أفضل فإن لم يفعل فليس بواجب. الثاني أنه يكون الخيار إلى السيد
بين أن يجلسه أو يناله ويكون اختيارا غير حتم. قوله: كانت عامة وصية رسول الله
143

صلى الله عليه وآله وسلم فيه دليل على وقوع الوصية منه صلى الله عليه وآله وسلم،
وقد قدمنا الكلام على ذلك في كتاب الوصايا. قوله: يغرغر بغينين معجمتين
وراءين مهملتين مبني للمجهول. قوله: الصلاة وما ملكت أيمانكم أي حافظوا على
الصلاة وأحسنوا إلى المملوكين.
باب نفقة البهائم
عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: عذبت امرأة في هرة
سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها
تأكل من خشاش الأرض وروى أبو هريرة مثله. وعن أبي هريرة: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا
فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل:
لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفة ماء
ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن
لنا في البهائم أجرا؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر متفق عليهن. وعن سراقة
بن مالك قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الضالة من الإبل
تغشى حياضي قد لطتها للإبل هل لي من أجر في شأن ما أسقيها؟ قال: نعم في كل ذات
كبد حراء أجر رواه أحمد.
حديث سراقة أخرجه أيضا ابن ماجة وأبو يعلى والبغوي والطبراني
في الكبير والضياء في المختارة. قوله: عذبت امرأة قال الحافظ: لم أقف على
اسمها، ووقع في رواية أنها حميرية، وفي أخرى أنها من بني إسرائيل كما في مسلم والجمع ممكن،
لأن طائفة من حمير دخلوا في اليهودية فيكون نسبتها إلى بني إسرائيل لأنهم أهل
دينها، وإلى حمير لأنهم قبيلتها. قوله: في هرة أي بسبب هرة، والهرة أنثى السنور.
قوله: خشاش الأرض بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها وبعدها معجمتان
بينهما ألف، والمراد هوام الأرض وحشراتها. قال النووي: وروي بالحاء المهملة والمراد
نبات الأرض، قال: وهو ضعيف أو غلط. وفي رواية من حشرات الأرض. وقد استدل
144

بهذا الحديث على تحريم حبس الهرة وما يشابهها من الدواب بدون طعام ولا شراب
لأن ذلك من تعذيب خلف الله وقد نهى عنه الشارع. قال القاضي عياض: يحتمل أن
تكون عذبت في النار حقيقة أو بالحساب لأن من نوقش الحساب عذب، ولا يخفى
أن قوله فدخلت فيها النار يدل على الاحتمال الأول، وقد قيل: إن المرأة كانت كافرة
فدخلت النار بكفرها وزيد في عذابها لأجل الهرة. قال النووي: والأظهر أنها كانت
مسلمة وإنما دخلت النار بهذه المعصية. قوله: يلهث قال في القاموس: اللهثان العطشان
وبالتحريك العطش كاللهث واللهاث، وقد لهث كسمع وكغراب حر العطش وشدة
الموت، قال: ولهث كمنع لهثا ولهاثا بالضم أخرج لسانه عطشا أو تعبا أو إعياء كاللهث،
واللهثة بالضم التعب والعطش انتهى. قوله: الثرى هو التراب الندي كما في القاموس.
قوله: في كل كبد رطبة الرطب في الأصل ضد اليابس، وأريد به هنا الحياة لأن الرطوبة
في البدن تلازمها، وهي كذلك الحرارة في الأصل ضد البرودة، وأريد بها هنا
الحياة لأن الحرارة تلازمها، وقد استدل بأحاديث الباب على وجوب نفقة الحيوان
على مالكه، وليس فيها ما يدل على الوجوب المدعي. أما حديث ابن عمر وحديث أبي
هريرة الأول الذي أشار إليه المصنف فليس فيهما إلا وجوب إنفاق الحيوان
المحبوس على حابسه وهو أخص من الدعوى، اللهم إلا أن يقال: إن مالك الحيوان
حابس له في ملكه، فيجب الانفاق على كل مالك لذلك ما دام حابسا له لا إذا سيبه فلا
وجوب عليه لقوله في الحديث: ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض كما وقع
التصريح بذلك في كتب الفقه، ولكن لا يبرأ بالتسييب إلا إذا كان في مكان معشب
يتمكن الحيوان فيه من تناول ما يقوم بكفايته. وأما حديث أبي هريرة الثاني فليس
فيه إلا أن المحسن إلى الحيوان عند الحاجة إلى الشراب ويلحق به الطعام مأجور،
وليس النزاع في استحقاق الاجر بما ذكر إنما النزاع في الوجوب، وكذلك حديث
سراقة بن مالك ليس فيه إلا مجرد الاجر للفاعل وهو يحصل بالمندوب، فلا يستفاد
منه الوجوب، غاية الأمر أن الاحسان إلى الحيوان المملوك أولى من الاحسان إلى
غيره، لأن هذه الأحاديث مصرحة بأن الاحسان إلى غير المملوك موجب للاجر،
وفحوى الخطاب يدل على أن المملوك أولى بالاحسان لكونه محبوسا عن منافع
نفسه بمنافع مالكه، وأما أن المحسن إليه أولى بالاجر من المحسن إلى غير المملوك
145

فلا، فأولى ما يستدل به على وجوب إنفاق الحيوان المملوك حديث الهرة لأن السبب
في دخول تلك المرأة النار ليس مجرد ترك الانفاق بل مجموع الترك والحبس، فإذا
كان هذا الحكم ثابتا في مثل الهرة فثبوته في مثل الحيوانات التملك أولى لأنها مملوكة
محبوسة مشغولة بمصالح المالك. وقد ذهبت العترة والشافعي وأصحابه إلى أن مالك
البهيمة إذا تمرد عن علفها أو بيعها أو تسييبها أجبر كما يجبر مالك العبد بجامع كون
كل منهما مملوكا ذا كبد رطبة مشغولا بمصالح مالكه محبوسا عن مصالح نفسه. وذهب أبو
حنيفة وأصحابه إلى أن مالك الدابة يؤمر بأحد تلك الأمور استصلاحا لا حتما.
قالوا: إذ لا يثبت لها حق ولا خصومة ولا ينصب عنها فهي كالشجرة، وأجيب بأنها
ذات روح محترم فيجب حفظه كالآدمي. وأما الشجر فلا يجبر على إصلاحه إجماعا
لكونه ليس بذي روح فافترقا. والتخيير بين الأمور الثلاثة المذكورة إنما هو في
الحيوان الذي دمه محترم، وأما الحيوان الذي يحل أكله فيخير المالك بين تلك الأمور
الثلاثة أو الذبح. قوله: قد لطتها بضم اللام وبالطاء المهملة وهو في الأصل اللزوم
والستر وإلا لصاق كما حققه صاحب القاموس، والمراد هنا إصلاح الحياض،
يقال: لاط حوضه يليطه إذا أصلحه بالطين والمدر ونحوهما، ومنه قيل: اللائط
لمن يفعل الفاحشة.
كتاب الدماء
باب إيجاب القصاص بالقتل العمد وأن مستحقه
بالخيار بينه وبين الدية
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل دم
امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس
بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه الجماعة. وعن عائشة: لا يحل دم امرئ
مسلم إلا من ثلاثة: إلا من زنى بعدما أحصن، أو كفر بعدما أسلم، أو قتل نفس فقتل بها رواه
أحمد والنسائي ومسلم بمعناه. وفي لفظ: لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال:
146

زان محصن فيرجم ورجل يقتل مسلما متعمدا، ورجل يخرج من الاسلام فيحارب
الله عز وجل ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض رواه النسائي وهو حجة
في أنه لا يؤخذ مسلم بكافر.
حديث عائشة باللفظ الآخر أخرجه أيضا أبو داود والحاكم وصححه. قوله:
امرئ مسلم فيه دليل على أن الكافر يحل دمه لغير الثلاث المذكورة، لأن التوصيف
بالمسلم يشعر بأن الكافر يخالفه في ذلك، ولا يصح أن تكون المخالفة إلى عدم حل دمه
مطلقا. قوله: يشهد أن لا إله إلا الله الخ، هذا وصف كاشف لأن المسلم لا يكون مسلما
إلا إذا كان يشهد تلك الشهادة. قوله: إلا بإحدى ثلاث مفهوم هذا يدل على أنه
لا يحل بغير هذه الثلاث، وسيأتي ما يدل على أنه يحل بغيرها، فيكون عموم هذا المفهوم
مخصصا بما ورد من الأدلة الدالة على أنه يحل دم المسلم بغير الأمور المذكورة. قوله:
الثيب الزاني هذا مجمع عليه على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. قوله: والنفس بالنفس
المراد به القصاص، وقد يستدل به من قال: إنه يقتل الحر بالعبد، والرجل بالمرأة،
والمسلم بالكافر، لما فيه من العموم، وسيأتي تحقيق الخلاف وما هو الحق في هذه
المواطن. قوله: والتارك لدينه ظاهره أن الردة من موجبات قتل المرتد بأن نوع
من أنواع الكفر كانت، والمراد بمفارقة الجماعة مفارقة جماعة الاسلام، ولا يكون
ذلك إلا بالكفر لا بالبغي والابتداع ونحوهما، فإنه وإن كان في ذلك مخالفة
للجماعة فليس فيه تر ك للدين، إذ المراد الترك الكلي، ولا يكون إلا بالكفر لا مجرد
ما يصدق عليه اسم الترك، وإن كان لخصلة من خصال الدين للاجماع، على أنه لا يجوز
قتل العاصي بتر ك أي خصلة من خصال الاسلام، اللهم إلا أن يراد أنه يجوز قتل
الباغي ونحوه دفعا لا قصدا، ولكن ذلك ثابت في كل فرد من الافراد، فيجوز لكل
فرد من أفراد المسلمين أن يقتل من بغى عليه مريدا لقتله أو أخذ ماله، ولا يخفى
أن هذا غير مراد من حديث الباب بل المراد بالترك للدين والمفارقة للجماعة
الكفر فقط، كما يدل على ذلك قوله في الحديث الآخر: أو كفر بعدما أسلم. وكذلك
قوله: أو رجل يخرج من الاسلام. قوله: يخرج من الاسلام هذا مستثنى من قوله مسلم،
باعتبار ما كان عليه لا باعتبار الحال الذي قتل فيه فإنه قد صار كافرا فلا يصدق
عليه أنه امرؤ مسلم. قوله: فيقتل أو يصلب أو ينفى هذه الأفعال الثلاثة أوائلها
147

مضمومة مبنية للمجهول، وفيه دليل على أنه يجوز أن يفعل بمن كفر وحارب أي نوع
من هذه الأنواع الثلاثة، ويمكن أن يراد بقوله: ورجل يخرج من الاسلام المحارب،
ووصفه بالخروج عن الاسلام لقصد المبالغة، ويدل على إرادة هذا المعنى تعقيب الخروج
عن الاسلام بقوله: فيحارب الله ورسوله لما تقرر من أن مجرد الكفر يوجب القتل
وإن لم ينضم إليه المحاربة، ويدل على إرادة ذلك المعنى أيضا ذكر حد المحارب عقب
ذلك بقوله: فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض فإن هذا هو الذي أمر الله به في
حق المحاربين بقوله: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا
أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا
من الأرض)
* (المائدة: 33). وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قتل له قتيل
فهو بخير النظرين: إما أن يفتدي وإما أن يقتل رواه الجماعة لكن لفظ الترمذي:
إما أن يعفو وإما أن يقتل. وعن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار
بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو، فأراد رابعة فخذوا على يديه
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل
القصاص ولم يكن فيهم الدية فقال الله تعالى لهذه الأمة * (كتب عليكم القصاص في القتلى
الحر بالحر) * (البقرة: 178) الآية * (فمن عفي له من أخيه شئ) * (البقرة: 179) قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية،
والاتباع بالمعروف يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان ذلك
تخفيف من ربكم ورحمة فيما كتب على من كان قبلكم رواه البخاري والنسائي
والدارقطني.
حديث أبي شريح الخزاعي في إسناده محمد بن إسحاق وقد أورده معنعنا وهو معروف
بالتدليس، فإذا عنعن ضعف حديثه كما تقدم تحقيقه غير مرة، وفي إسناده أيضا سفيان بن أبي
العرجاء السلمي، قال أبو حاتم الرازي: ليس بالمشهور. وقد أخرج الحديث المذكور النسائي
وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة بمعناه كما في حديثه المذكور، وأبو شريح
بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية وبعدها حاء مهملة اسمه خويلد بن
عمرو، ويقال كعب بن عمرو، ويقال هانئ، ويقال عبد الرحمن بن عمرو، وقيل غير ذلك،
148

والأول هو المشهور. قوله: بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل ظاهره
أن الخيار إلى الأهل الذين هم الوارثون للقتيل، سواء كانوا يرثونه بسبب أو نسب،
وهذا مذهب العترة والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه. وقال الزهري ومالك: يختص
بالعصبة إذ شرع لنفي العار كولاية النكاح فإن عفوا فالدية كالتركة. وقال ابن سيرين:
يختص بالورثة من النسب إذ شرع للتشفي، والزوجية ترتفع بالموت فلا تشفي، وأجيب
بأنه شرع لحفظ الدماء * (ولكم في القصاص حياة) * (البقرة: 179) ظاهر الحديث أن القصاص
والدية واجبان على التخيير وإليه ذهب الهادوية والناصر وأبو حامد والشافعي في
قول له وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه والناصر والداعي
والطبري أن الواجب بالقتل هو القصاص لا الدية فليس للولي اختيارها لقوله تعالى
: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 178) ولم يذكر الدية، ويجاب بأن عد الذكر في الآية
لا يستلزم عدم الذكر مطلقا، فإن الدية قد ذكرت في حديثي الباب وأيضا تقدير الآية، فمن
اقتص فالحر بالحر، ومن عفي له من أخيه شئ فالدية، ويدل على ذلك تفسير ابن عباس
المذكور. وظاهر الحديث أيضا أن الولي إذا عفا عن القصاص لم تسقط الدية بل
يجب على القاتل تسليمها. وروي عن مالك وأبي حنيفة والشافعي في قول له
والمؤيد بالله في قول له أيضا: أنها تتبع القصاص في السقوط، ويؤيد عدم السقوط
قوله تعالى: * (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)
* (البقرة: 178) وأجاب القائلون بالسقوط بأن المعروف والاحسان التفضل لا الوجوب
كما تقتضيه العبارة، لأن الوجوب يقتضي العقاب على الترك، والمعروف
والاحسان لا يقتضيان ذلك بدليل قوله تعالى: * (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة)
* (البقرة: 178) ورد بأن التخفيف المذكور هو بالتخيير بين القصاص والدية لهذه الأمة بعد أن كان
الواجب على بني إسرائيل هو القصاص فقط ولم يكن فيهم الدية، ولا شك أن التخيير
بين أمرين أوسع وأخف من تعيين واحد منهما كما في كلام ابن عباس المذكور في
الباب، ويدل على عدم سقوط الدية بسقوط القصاص حديث أبي هريرة وأبي شريح
المذكوران. وقد أخرج الترمذي وابن ماجة حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
بلفظ: من قتل متعمدا أسلم إلى أولياء المقتول، فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل
ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة في بطونها أولادها. وفي الكشاف في تفسير
149

الآية المذكورة ما لفظه: * (فاتباع بالمعروف) * فليكن اتباع أو فالامر اتباع، وهذه توصية
للمعفو عنه والعافي جميعا، يعني فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف عليه
وأن لا يطالبه إلا مطالبة جميلة، وليؤد إليه القاتل بدل دم المقتول أداء بإحسان بأن
لا يمطله ولا يبخسه ذلك الحكم المذكور من العفو والدية تخفيف من ربكم ورحمة،
لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية،
وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمة بين الثلاث:
القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيرا انتهى. والمراد بقوله في حديث أبي
شريح: فإن أراد رابعة فخذوا على يديه أي إذا أراد زيادة على القصاص أو الدية
أو العفو، ومن ذلك قوله تعالى: * (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)
* (البقرة: 178). باب ما جاء لا يقتل مسلم بكافر والتشديد في قتل
لا لذمي وما جاء في الحر بالعبد
عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شئ من الوحي ليس في القرآن؟
فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه
الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر
رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود والترمذي. وعن علي رضي الله عنه:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم
ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده رواه أحمد
والنسائي وأبو داود، وهو حجة في أخذ الحر بالعبد. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى أن لا يقتل مسلم بكافر رواه أحمد
وابن ماجة والترمذي. وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقتل
مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده رواه أحمد وأبو داود.
حديث علي الآخر أخرجه أيضا الحاكم وصححه، وحديث عمرو بن شعيب
سكت عنه أبو داود والمنذري وصاحب التلخيص ورجاله رجال الصحيح إلى عمرو بن
150

شعيب. (وفي الباب) عن ابن عمر عند ابن حبان في صحيحه وأشار إليه الترمذي وحسنه.
وعن ابن عباس عند ابن ماجة. وروى الشافعي من حديث عطاء وطاوس ومجاهد والحسن
مرسلا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الفتح: لا يقتل مؤمن بكافر
وروى البيهقي من حديث عمران بن حصين نحو ما في الباب، وكذلك رواه البزار من حديثه
. وروى أبو داود والنسائي والبيهقي من حديث عائشة نحوه. وقال الحافظ في الفتح بعد أن
ذكر حديث علي الآخر وحديث عمرو بن شعيب وحديث عائشة وابن عباس: لان
طرقها كلها ضعيفة إلا الطريق الأولى والثانية فإن سند كل منهما حسن انتهى. وروى
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه: أن مسلما قتل رجلا من أهل الذمة
فرفع إلى عثمان فلم يقتله وغلظ عليه الدية. قال ابن حزم: هذا في غاية الصحة فلا يصح عن
أحد من الصحابة شئ غير هذا إلا ما رويناه عن عمر: أنه كتب في مثل ذلك أن يقاد به
ثم ألحقه كتابا فقال: لا تقتلوه ولكن اعتقلوه. قوله: هل عندكم الخطاب لعلي ولكنه
غلبه على غيره من أهل البيت لحضوره وغيبتهم أو للتعظيم. قال الحافظ: وإنما سأله أبو
جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن لأهل البيت لا سيما علي
اختصاصا بشئ من الوحي لم يطلع عليه غيرهم، وقد سأل عليا عن هذه المسألة قيس بن
عبادة والأشتر النخعي، قال: والظاهر أن المسؤول عنه هنا ما يتعلق بالأحكام الشرعية
من الوحي الشامل للكتاب والسنة، فإن الله سبحانه سماها وحيا إذا فسر قوله
تعالى: * (وما ينطق عن الهوى) * (النجم: 3) بما هو أعم من القرآن، ويدل على ذلك قوله: وما في
هذه الصحيفة فإن المذكور فيها ليس من القرآن بل من أحكام السنة. وقد أخرج
أحمد والبيهقي أن عليا كان يأمر بالامر فيقال قد فعلناه فيقول: صدق الله ورسوله
فلا يلزم منه نفي ما ينسب إلى علي من علم الجفر ونحوه، أو يقال: هو مندرج تحت
قوله: إلا فهما يعطيه الله تعالى رجلا في القرآن فإنه ينسب إلى كثير ممن فتح الله
عليه بأنواع العلوم أنه يستنبط ذلك من القرآن. ومما يدل على اختصاص علي بشئ
من الاسرار دون غيره حديث المخدج المقتول من الخوارج يوم النهر وأن كما
في صحيح مسلم وسنن أبي داود فإنه قال يومئذ: التمسوا فيهم المخدج. يعني في القتلى
فلم يجدوه، فقام الإمام علي بنفسه حتى أتى أناسا قد قتل بعضهم على بعض فقال:
أخرجوهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر وقال: صدق الله وبلغ رسوله، فقام
151

إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت
هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: أي والله الذي لا إله إلا هو حتى
استحلفه ثلاثا وهو يحلف. والمخدج المذكور هو ذو الثدية، وكان في يده مثل ثدي
المرأة، على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي، عليه شعرات مثل سبالة السنور. قوله: إلا
فهما هكذا في رواية بالنصب على الاستثناء. وفي رواية بالرفع على البدل، والفهم بمعنى
المفهوم من لفظ القرآن أو معناه. قوله: وما في هذه الصحيفة أي الورقة
المكتوبة والعقل الدية، وسميت بذلك لأنهم كانوا يعطون الإبل ويربطونها بفناء دار
المقتول بالعقال وهو الحبل. وفي رواية الديات أي تفصيل أحكامها. قوله: وفكاك
الأسير بكسر الفاء وفتحها أي أحكام تخليص الأسير من يد العدو والترغيب فيه. قوله:
وأن لا يقتل مسلم بكافر دليل على أن المسلم لا يقاد بالكافر، أما الكافر الحربي
فذلك إجماع كما حكاه صاحب البحر. وأما الذمي فذهب إليه الجمهور لصدق اسم الكافر
عليه. وذهب الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقتل المسلم بالذمي، واستدلوا
بقوله في حديث علي وعمرو بن شعيب: ولا ذو عهد في عهده ووجهه أنه معطوف على قوله
مؤمن فيكون التقدير: ولا ذو عهد في عهده بكافر كما في المعطوف عليه، والمراد بالكافر
المذكور في المعطوف هو الحربي فقط بدليل جعله مقابلا للمعاهد، لأن المعاهد يقتل بمن
كان معاهدا مثله من الذميين إجماعا، فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي كما قيد
في المعطوف، لأن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقا فيكون التقدير: لا يقتل مؤمن
بكافر حربي، ولا ذو عهد في عهده بكافر حربي، وهو يدل بمفهومه على أن المسلم يقتل
بالكافر الذمي، ويجاب أولا بأن هذا مفهوم صفة، والخلاف في العمل به مشهور بين
أئمة الأصول، ومن جملة القائلين بعدم العمل به الحنفية فكيف يصح احتجاجهم به
؟ وثانيا: بأن الجملة المعطوفة أعني قوله: ولا ذو عهد في عهده لمجرد النهي عن قتل المعاهد
فلا تقدير فيها أصلا، ورد بأن الحديث مسوق لبيان القصاص لا للنهي عن القتل، فإن
تحريم قتل المعاهد معلوم من ضرورة أخلاق الجاهلية فضلا عن الاسلام، وأجيب عن
هذا الرد بأن الأحكام الشرعية إنما تعرف من كلام الشارع، وكون تحريم قتل المعاهد
معلوما من أخلاق الجاهلية لا يستلزم معلوميته في شريعة الاسلام، كيف والأحكام الشرعية
جاءت بخلاف القواعد الجاهلية، فلا بد من معرفة أن الشريعة الاسلامية
152

قررته، ويؤيد ذلك أن السبب في خطبته صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح بقوله:
لا يقتل مسلم بكافر ما ذكره الشافعي في الام حيث قال: وخطبته يوم الفتح
كانت بسبب القتيل الذي قتلته خزاعة وكان له عهد فخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقالت: لو قتلت مسلما بكافر لقتلته به. وقال: لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد
في عهده فأشار بقوله: لا يقتل مسلم بكافر إلى تركه الاقتصاص من الخزاعي بالمعاهد
الذي قتله. وبقوله: ولا ذو عهد في عهده إلى النهي عن الاقدام على ما فعله القاتل المذكور،
فيكون قوله: ولا ذو عهد في عهده كلاما تاما لا يحتاج إلى تقدير، وسيما وقد تقرر أن
التقدير خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا ضرورة كما قررناه. ويجاب ثالثا
بأن الصحيح المعلوم من كلام المحققين من النحاة وهو الذي نص عليه الرضي أنه
لا يلزم اشتراك المعطوف والمعطوف عليه إلا في الحكم الذي لأجله وقع العطف،
وهو هنا النهي عن القتل مطلقا من غير نظر إلى كونه قصاصا أو غير قصاص،
فلا يستلزم كون إحدى الجملتين في القصاص أن تكون الأخرى مثلها حتى
يثبت ذلك التقدير المدعي، وأيضا تخصيص العموم بتقدير ما أضمر في المعطوف
ممنوع لو سلمنا صحة التقدير المتنازع فيه كما صرح بذلك صاحب المنهاج وغيره من
أهل الأصول. (ومن جملة) ما احتج به القائلون بأنه يقتل المسلم بالذمي عموم
قوله تعالى: * (النفس بالنفس) * (المائدة: 45) ويجاب بأنه مخصص بأحاديث الباب، ومن أدلتهم
ما أخرجه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن البيلماني أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال: أنا أكرم من وفى بذمته وأجيب عنه بأنه
مرسل ولا تثبت بمثله حجة، وبأن ابن البيلماني المذكور ضعيف لا تقوم به حجة إذا
وصل الحديث فكيف إذا أرسله؟ كما قال الدارقطني. قال أبو عبيد القاسم بن سلام:
هو حديث ليس بمسند، ولا يجعل مثله إماما تسفك به دماء المسلمين، وأما ما وقع في
رواية عمار بن مطر عن ابن البيلماني عن ابن عمر فقال البيهقي: هو خطأ من وجهين:
أحدهما وصله بذكر ابن عمر. والآخر أنه رواه عن إبراهيم عن ربيعة، وإنما رواه
إبراهيم عن ابن المنكدر والحمل فيه على عمار بن مطر الرهاوي فقد كان يقلب
الأسانيد ويسرق الأحاديث حتى كثر ذلك في رواياته وسقط عن حد الاحتجاج
به. وروي عن البيهقي أنه قال: لم يسنده غير ابن أبي يحيى يعني إبراهيم المذكور، وقد
153

ذكرنا في غير موضع من هذا الشرع أنه لا يحتج بمثله لكونه ضعيفا جدا، وقد قال
علي بن المديني: أن هذا الحديث إنما يدور على إبراهيم بن أبي يحيى، وقيل: إن كلام
ابن المديني هذا غير مسلم، فإن أبا داود قد أخرجه في المراسيل وكذلك الطحاوي
من طريق سليمان بن بلال عن ربيعة عن أبي البيلماني فلم يكن دائرا على إبراهيم. ويجاب
بأن ابن المديني إنما أراد أن الحديث المسند بذكر ابن عمر يدور على إبراهيم بن
أبي يحيى فقط، ولم يرد أن المسند والمرسل يدوران عليه فلا استدراك. وقد أجاب
الشافعي في الام عن حديث ابن البيلماني المذكور بأنه كان في قصة المستأمن الذي
قتله عمرو بن أمية، فلو ثبت لكان منسوخا لأن حديث: لا يقتل مسلم بكافر خطب
به النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح كما في رواية عمرو بن شعيب،
وقصة عمرو بن أمية متقدمة على ذلك بزمان. واستدلوا بما أخرجه الطبراني: أن
عليا أتى برجل من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة فقامت عليه البينة فأمر بقتله فجاء
أخوه فقال: إني قد عفوت، قال: فلعلهم هددوك وفرقوك وقرعوك، قال لا، ولكن قتل لا يرد على
أخي وعرضوا لي ورضيت، قال: أنت أعلم من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا،
وهذا مع كونه قول صحابي ففي إسناده أبو الجنوب الأسدي وهو ضعيف الحديث
كما قال الدارقطني. وقد روى علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: أنه لا يقتل مسلم بكافر كما في حديث الباب، والحجة إنما هي في روايته.
وروي عن الشافعي في هذه القضية أنه قال: ما دلكم أن عليا يروي عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم شيئا ويقول بخلافه، واستدلوا أيضا بما رواه البيهقي عن عمر في
مسلم قتل معاهدا فقال: إن كانت طيرة في غضب فعلى القاتل أربعة آلاف، وإن كان
القاتل لصا عاديا فيقتل. ويجاب عن هذا أولا بأنه قول صحابي ولا حجة فيه. وثانيا
بأنه لا دلالة فيه على محل النزاع لأنه رتب القتل على كون القاتل لصا عاديا وذلك
خارج عن محل النزاع، وأسقط القصاص عن القاتل في غضب وذلك غير مسقط لو
كان القصاص واجبا. وثالثا بأنه قال الشافعي في القصص المروية عن عمر في القتل
بالمعاهد أنه لا يعمل بحرف منها لأن جميعها منقطعات أو ضعاف أو تجمع الانقطاع
والضعف، وقد تمسك بما روي عن عمر مما ذكرنا مالك والليث فقالا: يقتل المسلم
بالذمي إذا قتله غيلة. قال: والغيلة أن يضجعه فيذبحه، ولا متمسك لهما في ذلك لما
154

عرفت، إذا تقرر هذا علم أن الحق ما ذهب إليه الجمهور. ويؤيده قوله تعالى: * (ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * (النساء: 141) ولو كان للكافر أن يقتص من المسلم
لكان في ذلك أعظم سبيل، وقد نفى الله تعالى أن يكون له عليه السبيل نفيا مؤكدا.
وقوله تعالى: * (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) * (الحشر: 20). ووجهه أن الفعل الواقع في
سياق النفي يتضمن النكرة فهو في قوة لا استواء فيعم كل أمر من الأمور إلا ما خص
. ويؤيد ذلك أيضا قصة اليهودي الذي لطمه المسلم لما قال: لا والذي اصطفى موسى
على البشر فلطمه المسلم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يثبت له الاقتصاص كما
في الصحيح، وهو حجة على الكوفيين لأنهم يثبتون القصاص باللطمة. ومن ذلك حديث:
الاسلام يعلو ولا يعلى عليه وهو وإن كان فيه مقال لكنه قد علقه البخاري في
صحيحه. قوله: المؤمنون تتكافأ دماؤهم أي تتساوى في القصاص والديات. والكف ء
النظير والمساوي ومنه الكفاءة في النكاح، والمراد أنه لا فرق بين الشريف والوضيع
في الدم، بخلاف ما كان عليه الجاهلية من المفاضلة وعدم المساواة. قوله: وهم يد
على من سواهم أي هم مجتمعون على أعدائهم لا يسعهم التخاذل بل يعاون بعضهم
بعضا. قوله: ويسعى بذمتهم أدناهم يعني أنه إذا أمن المسلم حربيا كان أمانه أمانا من
جميع المسلمين ولو كان ذلك المسلم امرأة بشرط أن يكون مكلفا فيحرم النكث من
أحدهم بعد أمانه.
وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من
قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وأن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما رواه
أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة. وعن أبي هرير عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: إلا من قتل نفسا معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر
ذمة الله ولا يرح رائحة الجنة، وأن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفا رواه
ابن ماجة والترمذي وصححه.
حديث أبي هريرة قال الترمذي بعد أن قال إنه حسن صحيح: إنه قد روي
عن أبي هريرة من غير وجه مرفوعا. قوله: معاهدا المعاهد هو الرجل من أهل
دار الحرب يدخل إلى دار الاسلام بأمان فيحرم على المسلمين قتله بلا خلاف بين
أهل الاسلام حتى يرجع إلى مأمنه، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: * (وإن أحد
155

من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) * (التوبة: 6). قوله: لم يرح
رائحة الجنة بفتح الأول من يرح وأصله راح الشئ أي وجد ريحه، ولم يرحه
أي لم يجد ريحه، ورائحة الجنة نسيمها الطيب، وهذا كناية عن عدم دخول من قتل
معاهدا الجنة، لأنه إذا لم يشم نسيمها وهو يوجد من مسيرة أربعين عاما لم يدخلها
. قوله: فقد أخفر ذمة الله بالخاء والفاء والراء أي نقض عهده وغدر. (والحديثان)
اشتملا على تشديد الوعيد على قاتل المعاهد لدلالتهما على تخليده في النار وعدم خروجه
عنها وتحريم الجنة عليه، مع أنه قد وقع الخلاف بين أهل العلم في قاتل المسلم هل يخلد
فيها أم يخرج عنها؟ فمن قال إنه يخلد تمسك بقوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا
فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * (النساء: 93) الآية، ومن قال بعدم تخليده على الدوام قال الخلود في
اللغة اللبث الطويل ولا يدل على الدوام وسيأتي الكلام عليه. وأما قاتل المعاهد
فالحديثان مصرحان بأنه لا يجد رائحة الجنة وذلك مستلزم لعدم دخولها أبدا، وهذان
الحديثان وأمثالهما ينبغي أن يخصص بهما عموم الأحاديث القاضية بخروج الموحدين
من النار ودخولهم الجنة بعد ذلك. وقال في الفتح: إن المراد بهذا النفي وإن كان
عاما التخصيص بزمان ما لتعاضد الأدلة العقلية والنقلية أن من مات مسلما وكان
من أهل الكبائر فهو محكوم بإسلامه غير مخلد في النار ومآله إلى الجنة ولو عذب
قبل ذلك انتهى. وقد ثبت في الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: سبعين خريفا
ومثله روى أحمد عن رجل من الصحابة، وفي رواية للطبراني من حديث أبي هريرة
بلفظ: مائة عام. وفي أخرى له عن أبي بكرة بلفظ: خمسمائة عام ومثله في الموطأ.
وفي رواية في مسند الفردوس من حديث جابر بلفظ: ألف عام. وقد جمع صاحب
الفتح بين هذه الأحاديث.
وعن الحسن عن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: من قتل عبده قتلنا، ومن جدع عبده جدعناه رواه الخمسة. وقال الترمذي: حديث
حسن غريب. وفي رواية لأبي داود والنسائي: ومن خصى عبده خصيناه
قال البخاري: قال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بحديثه: من
قتل عبده قتلناه وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل السيد بعبده، وتأولوا الخبر
على أنه أراد من كان عبده لئلا يتوهم تقدم الملك مانعا. وقد روى الدارقطني
156

بإسناد عن إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:
أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفاه سنة ومحا
سهمه من المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة وإسماعيل بن عياش فيه ضعف،
إلا أن أحمد قال: ما روي عن الشاميين صحيح، وما روي عن أهل الحجاز فليس بصحيح
، وكذلك قول البخاري فيه.
حديث سمرة قال الحافظ في بلوغ المرام: أن الترمذي صححه
والصواب ما قاله المصنف هنا، فإنا لم نجد في نسخ من الترمذي إلا لفظ حسن
غريب كما قال المصنف. والزيادة التي ذكرها أبو داود والنسائي صححها
الحاكم وفي إسناد الحديث ضعف لأنه من رواية الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه
خلاف طويل، فقال يحيى بن معين: أنه لم يسمع منه شيئا، وقال علي بن المديني:
أن سماعه منه صحيح كما حكى ذلك المصنف عنه، وعن بعض أهل العلم أنه لم يسمع
منه إلا حديث العقيقة المتقدم فقط، وقد قدمنا الخلاف في سماعه وعدمه بما هو
أطول من هذا. وقد روى أبو داود عن قتادة بإسناد شعبة أن الحسن نسي هذا
الحديث فكان يقول: لا يقتل حر بعبد. (وحديث الباب) مروي من طريق
قتادة عنه. وحديث إسماعيل بن عياش رواه عن الأوزاعي، كما ذكره المصنف
والأوزاعي شامي دمشقي، وإسماعيل قوي في الشاميين لكن دونه محمد بن عبد العزيز
الشامي قال فيه أبو حاتم: لم يكن عندهم بالمحمود وعنده غرائب. (وفي الباب) عن
عمر عند البيهقي وابن عدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقاد
مملوك من مالك ولا ولد من والده وفي إسناده عمر بن عيسى الأسلمي وهو منكر
الحديث كما قال البخاري. وعن ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي مرفوعا:
لا يقتل حر بعبد وفيه جويبر وغيره من المتروكين. وعن علي قال: من السنة
لا يقتل حر بعبد ذكره صاحب التلخيص وأخرجه البيهقي، وفي إسناده جابر
الجعفي وهو ضعيف. وأخرج البيهقي عن علي قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
برجل قتل عبده متعمدا فجلده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به وهو شاهد لحديث
عمرو بن شعيب المذكور في الباب. وأخرج البيهقي أيضا من حديث عبد الله بن
عمرو في قصة زنباع لما جب عبده وجدع أنفه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
157

وسلم: من مثل بعبده أو حرقه بالنار فهو حر وهو مولى الله ورسوله، فأعتقه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقتص من سيده. وفي إسناده المثنى بن
الصباح وهو ضعيف لا يحتج به. وله طريق أخرى فيها الحجاج بن أرطأة وهو
أيضا ضعيف. وله أيضا طريق ثالثة فيها سواد بن حمزة وليس بالقوي. وفي سنن
أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل مستصرخ
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال حادثة لي يا رسول فقال: ويحك يا مالك فقال:
شر أبصر لسيده جارية فغار فجب مذاكيره، فقال رسول الله صل ء الله عليه وآله
وسلم: علي بالرجل فطلب فلم يقدر عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذهب
فأنت حر، فقال: يا رسول الله على من نصرتي؟ قال: على كل مؤمن أو قال على كل
مسلم. وأخرج أحمد وابن أبي شيبة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن
أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد. وأخرج البيهقي عن أبي جعفر عن
بكير أنه قال: مضت السنة بأن لا يقتل الحر المسلم بالعبد وإن قتله عمدا. وكذلك
أخرج عن الحسن وعطاء والزهري من قولهم. (وقد اختلف) أهل العلم في
قتل الحر بالعبد. وحكى صاحب البحر الاجماع على أنه لا يقتل السيد بعبده إلا
عن النخعي، وهكذا حكي الخلاف عن النخعي وبعض التابعين الترمذي. وأما قتل
الحر بعبد غيره فحكاه في البحر عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وحكاه صاحب
الكشاف عن سعيد بن المسيب، والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأبي حنيفة
وأصحابه. وحكى الترمذي عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وبعض أهل
العلم أنه لس بين الحر والعبد قصاص لا في النفس ولا فيما دون النفس. قال: وهو
قول أحمد وإسحاق. وحكاه صاحب الكشاف عن عمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء
وعكرمة ومالك والشافعي. وحكاه في البحر عن علي وعمر وزيد بن ثابت وابن
الزبير والعترة جميعا والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل. وروى الترمذي في المسألة
مذهبا ثالثا فقال: وقال بعضهم إذا قتل عبده لا يقتل به، وإذا قتل عبد غيره قتل
به، وهو قول سفيان الثوري انتهى. (وقد احتج) المثبتون للقصاص بين الحر والعبد
بحديث سمرة المذكورة وهو نص في قتل السيد بعبده، ويدل بفحوى الخطاب على
أن غير السيد يقتل بالعبد بالأولى. وأجاب عنه النافون أولا بالمقال الذي تقدم
158

فيه وثانيا بالأحاديث القاضية بأنه لا يقتل حر بعبد، فإنها قد رويت من طرق
متعددة يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج. وثالثا بأنه خارج مخرج التحذير.
ورابعا بأنه منسوخ، ويؤيد دعوى النسخ فتوى الحسن بخلافه. وخامسا بأن النهي
أرجح من غيره كما تقرر في الأصول. (والأحاديث) المذكورة في أنه لا يقتل حر
بعبد مشتملة عليه. وسادسا بأنه يفهم من دليل الخطاب في قوله تعالى: * (الحر بالحر
والعبد بالعبد) * (البقرة: 178) أنه لا يقتل الحر بالعبد، ولا يخفى أن هذه الأجوبة يمكن مناقشة
بعضها، وقد عكس دعوى النسخ المثبتون فقالوا: إن الآية المذكورة منسوخة بقوله
تعالى: * (النفس بالنفس) * (المائدة: 45) واستدلوا أيضا بالحديث المتقدم في أول الباب عن علي:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم. ويجاب عن الاحتجاج
بالآية المذكورة أعني قوله: * (النفس بالنفس) * بأنها حكاية لشريعة بني إسرائيل لقوله
تعالى في أول الآية: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * (المائدة: 45) بخلاف قوله تعالى
: * (الحر بالحر والعبد بالعبد) * (البقرة: 178) فإنها خطاب لامة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشريعة
من قبلنا إنما تلزمنا إذا لم يثبت في شرعنا ما يخالفها، وقد ثبت ما هو كذلك، على
أنه قد اختلف في التعبد بشرع من قبلنا من الأصل كما ذلك معروف في كتب
الأصول، ثم إنا لو فرضنا أن الآيتين جميعا تشريع لهذه الأمة لكانت آية البقرة
مفسرة لما أبهم في آية المائدة، أو تكون آية المائدة مطلقة وآية البقرة مقيدة،
والمطلق يحمل على المقيد، وقد أيد بعضهم عدم ثبوت القصاص بأنه لا يقتص من
الحر بأطراف العبد إجماعا فكذا النفس، وأيد آخر ثبوت القصاص فقال: إن العتق
يقارن المثلة فيكون جناية على حر في التحقيق حيث كان الجاني سيده، ويجاب عن
هذا بأنه إنما يتم على فرض بقاء المجني عليه بعد الجناية زمنا يمكن فيه أن يتعقب
الجناية العتق ثم يتعقبه الموت، لأنه لا بد من تأخر المعلول عن العلة في الذهن
وإن تقارنا في الواقع، وعلى فرض أن العبد يعتق بنفس المثلة لا بالمرافعة وهو محل
خلاف. وقد أجاب صاحب المنحة عن هذا لاشكال فقال: إنه يتم في صورة جدعه وخصيه لا في صورة
قتله انتهى. وهذا وهم لأن المراد بالمثلة في كلام
المورد للتأييد هي المثلة بالعبد الموجبة لعتقه بالضرب واللطم ونحوهما، لا المثلة
المخصوصة التي سرى ذهن صاحب المنحة إليها. وقد أور على المستدلين بقوله تعالى
159

: * (الحر بالحر والعبد بالعبد) * (البقرة: 178) أنه يلزم على مقتضى ذلك أن لا يقتل العبد بالحر، وأجيب
بأن قتل العبد بالمجمع عليه فلا يلزم التساوي بينهما في ذلك. وأورد أيضا بأنه
يلزم أن لا يقتل الذكر بالأنثى ولا الأنثى بالذكر، وسيأتي الجواب عن ذلك.
باب قتل الرجل بالمرأة والقتل بالمثقل
وهل يمثل بالقاتل إذا مثل أم لا
عن أنس: أن يهوديا ر ض رأس جارية بين حجرين فقيل لها: من
فعل بك هذا فلان أو فلان حتى سمي اليهودي؟ فأومأت برأسها فجئ به فاعترف،
فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض رأسه بحجرين رواه الجماعة.
قوله: رض رأس جارية في رواية لمسلم: فقتلها بحجر فجئ بها إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وبها رمق. وفي رواية أخرى: قتل جارية من الأنصار
على حلي لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة فأمر به أن يرجم حتى يموت
فرجم حتى مات والحديث يدل على أنه يقتل الرجل بالمرأة وإليه ذهب الجمهور. وحكى
ابن المنذر الاجماع عليه إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء، ورواه البخاري عن أهل
العلم. وروي في البحر عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعكرمة وعطاء ومالك
وأحد قولي الشافعي إنه لا يقتل الرجل بالمرأة وإنما تجب الدية. وقد رواه أيضا عن الحسن
البصري وأبو الوليد الباجي والخطابي. وحكي هذا القول صاحب الكشاف عن الجماعة
الذين حكاه صاحب البحر عنهم ولكنه قال: وهو مذهب مالك والشافعي ولم يقل وهو
أحد قولي الشافعي كما قال صاحب البحر. وقد أشار السعد في حاشيته على الكشاف
إلى أن الرواية التي ذكرها الزمخشري وهم محض، قال: ولا يوجد في كتب المذهبين يعني
مذهب مالك والشافعي تردد في قتل الذكر بالأنثى انتهى. وأخرج البيهقي عن أبي الزناد
أنه قال: كان من أدركته من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم منهم سعيد بن المسيب وعروة
بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت
وعبيد الله بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة جلة من سواهم من
نظرائهم أهل فقه وفضل أن المرأة تقاد من الرجل عينا بعين وأذنا بأذن، وكل شئ
160

من الجراح على ذلك، وإن قتلها قتل بها. ورويناه عن الزهري وغيره. وعن النخعي
والشعبي وعمر بن عبد العزيز. قال البيهقي: وروينا عن الشعبي وإبراهيم خلافه فيما
دون النفس. واختلف الجمهور هل يتوفى ورثة الرجل من ورثة المرأة أم لا؟ فذهب
الهادي والقاسم والناصر وأبو العباس وأبو طالب إلى أنهم يتوفون نصف دية الرجل.
وحكاه البيهقي عن عثمان البتي وحكاه أيضا السعد في حاشية الكشاف عن مالك.
وذهبت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والامام يحيى إلى أنه يقتل الرجل
بالمرأة ولا توفية. وقد احتج القائلون بثبوت القصاص بقوله تعالى: * (النفس بالنفس)
* (المائدة: 45) ويجاب عن ذلك بما قدمنا في الباب الأول من أن هذه الآية حكاية عن بني
إسرائيل كما يدل على ذلك قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها) * (المائدة: 45) أي في التوراة. وقد صرح
صاحب الكشاف بأنها واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها، فتكون هذه
الآية مفسرة أو مقيدة أو مخصصة بقوله تعالى: * (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)
* (البقرة: 178) وهذه الآية تدل على اعتبار الموافقة ذكورة وأنوثة وحرية وقد أجاب السعد
عن هذا في حاشيته على الكشاف بوجوه. الأول: أن القول بالمفهوم إنما هو على
تقدير أن لا يظهر للقيد فائدة، وههنا الفائدة أن الآية إنما نزلت
لذلك. والثاني: أنه لو اعتبر ذلك لزم أن لا تقتل الأنثى بالذكر نظرا إلى مفهوم
بالأنثى، قال: وهذا يرد على ما ذكرنا أيضا ويدفع بأنه يعلم بطريق الأولى.
والثالث: أنه لا عبرة بالمفهوم في مقابلة المنطوق الدال على قتل النفس
بالنفس كيفما كانت. (لا يقال) تلك حكاية عما في التوراة لا بيان للحكم في شريعتنا.
لأنا نقول: شرائع من قبلنا لا سيما إذا ذكرت في كتابنا حجة، وكم مثلها في أدلة
أحكامنا حتى يظهر الناسخ، وما ذكر هنا يعني في البقرة يصلح مفسرا فلا يجعل ناسخا.
وأما أن تلك يعني آية المائدة ليست ناسخة لهذه فلأنها مفسرة بها فلا تكون هي
منسوخة بها. ودليل آخر على عدم النسخ أتلك أعني النفس بالنفس حكاية
لما في التوراة، وهذه أعني الحر بالحر الخطاب لنا وحكم علينا فلا ترفعها تلك،
وإلى هذا أشار يعني الزمخشري بقوله: ولا تلك عطفا على مضمون قوله ويقولون
هي مفسرة، لكنهم يقولون إن المحكي في كتابنا من شريعة من قبلنا بمنزلة المنصوص
المقرر فيصلح ناسخا، وما ذكرنا من كونه مفسرا إنما يتم لو كان قولنا النفس بالنفس
161

مبهما ولا إبهام بل هو عام، والتنصيص على بعض الافراد لا يدفع العموم، سيما
والخصم يدعي تأخر العام حيث يجعله ناسخا، لكن يرد عليه أنه ليس فيه رفع شئ
من الحكم السابق بل إثبات زيادة حكم آخر، اللهم إلا أن يقال: إن في قوله * (الحر بالحر
) * الآية دلالة على وجوب اعتبار المساواة في الحرية والذكورة دون الرق والأنوثة
، انتهى كلام السعد. (والحاصل) أن الاستدلال بالقرآن على قتل الحر بالعبد أو عدمه
أو قتل الذكر بالأنثى أو عدمه لا يخلو عن إشكال يفت في عضد الظن الحاصل بالاستدلال
، فالأولى التعويل على ما سلف من الأحاديث القاضية بأنه لا يقتل الحر بالعبد، وعلى
ما ورد من الأحاديث والآثار القاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى، منها حديث الباب
وإن كان لا يخلو عن إشكال لأن قتل الذكر الكافر بالأنثى المسلمة لا يستلزم قتل
الذكر المسلم بها لما بينهما من التفاوت، ولو لم يكن إلا ما أسلفنا من الأدلة القاضية بأنه
لا يقتل المسلم بالكافر. ومنها ما أخرجه مالك والشافعي من حديث عمرو ابن حزم:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن أن الذكر
يقتل بالأنثى وهو عندهما عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم
أن الذكر يقتل بالأنثى ووصله نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن عبد
الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه عن جده وجده محمد بن عمرو بن حزم ولد في
عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن لم يسمع منه كما قال الحافظ. وكذا
أخرجه عبد الرزاق عن معمر ومن طريقه الدارقطني. ورواه أبو داود والنسائي
من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري مرسلا. ورواه أبو داود في المراسيل
عن ابن شهاب قال: قرأت في كتا ب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو
بن حزم حين بعثه إلى نجران وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم. ورواه النسائي
وابن حبان والحاكم والبيهقي موصولا مطولا من حديث الحكم بن موسى عن يحيى
بن حمزة عن سليمان بن داود حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
عن أبيه عن جده، وفرقه الدارمي في مسنده عن الحكم مقطعا. قال الحافظ: وقد اختلف أهل
الحديث في صحة هذا الحديث فقال أبو داود في المراسيل: قد أسند هذا الحديث
ولا يصح، والذي في إسناد سليمان بن داود وهم إنما هو سليمان بن أرقم. وقال في موضع
162

آخر: لا أحدث به، وقد وهم الحكم بن موسى في قوله سليمان بن داود، وقد حدثني محمد
بن الوليد الدمشقي أنه قرأ في أصل يحيى بن حمزة سليمان بن أرقم، وهكذا قال أبو
زرعة الدمشقي أنه الصواب، وتبعه صالح بن محمد جزرة وأبو الحسن الهروي وغيرهما.
وقال صالح جزرة: حدثنا دحيم قال: قرأت في كتاب يحيى بن حمزة حديث عمرو
بن حزم فإذا هو عن سليمان بن أرقم، قال صالح: كتب عني هذه الحكاية مسلم
بن الحجاج. قال الحافظ أيضا: ويؤيد هذه الحكاية ما رواه النسائي عن الهيثم بن
مروان عن محمد بن بكار عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري وقال:
هذا أشبه بالصواب. وقال ابن حزم في المحلى: صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا تقوم
بها حجة وسليمان بن داود متفق على تركه. وقال عبد الحق: سليمان بن داود الذي
يروي هذه النسخة عن الزهري ضعيف ويقال إنه سليمان بن أرقم وتعقبه ابن
عدي فقال: هذا خطأ إنما هو سليمان بن داود وقد جوده الحكم بن موسى. وقال
أبو زرعة: عرضت على أحمد فقال: سليمان بن داود اليمامي ضعيف، وسليمان بن داود
الخولاني ثقة وكلاهما يروي عن الزهري، والذي روى حديث الصدقات هو الخولاني،
فمن ضعفه فإنما ظن أن الراوي هو اليمامي، وقد أثنى على سليمان بن داود الخولاني هذا أبو زرعة
وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ. وحكى الحاكم عن أبي حاتم أنه سأل عن
عمرو بن حزم فقال: سليمان بن داود عندنا ممن لا بأس به، وقد صحح هذا الحديث
ابن حبان والحاكم والبيهقي ونقل عن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحا، وصححه
أيضا من حيث الشهرة لا من حيث الاسناد جماعة من الأئمة منهم الشافعي فإنه قال
في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه
عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الاسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس
له بالقبول والمعرفة. قال: ويدل على شهرته ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث
بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم
يذكرون أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال العقيلي: هذا حديث
ثابت محفوظ إلا أنا نرى أنه كتاب غير مسموع عمن فوق الزهري. وقال يعقوب
ابن أبي سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن
163

حزم هذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين يرجعون إليه
ويدعون رأيهم. قال الحاكم: قد شهر عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري
بالصحة لهذا الكتاب ثم ساق ذلك بسنده إليهما، وسيأتي لفظ هذا الحديث في أبواب
الديات، هذا غاية ما يمكن الاستدلال به للجمهور. ومما يقوي ما ذهبوا إليه قوله
صلى الله عليه وآله وسلم: وهم يقتلون قاتلها وسيأتي في باب أن الدم حق لجميع الورثة
من الرجال والنساء. ووجهه ما فيه من العموم الشامل للرجل والمرأة. ومما يقوي
ما ذهبوا إليه أيضا أنا قد علمنا أن الحكمة في شرعية القصاص هي حقن الدماء
وحياة النفوس كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: * (لكم في القصاص حياة) * (البقرة: 179) وترك
الاقتصاص للأنثى من الذكر يفضي إلى إتلاف نفوس الإناث لأمور كثيرة: منها
كراهية توريثهن. ومنها مخافة العار لا سيما عند ظهور أدنى شئ منهن لما بقي في
القلوب من حمية الجاهلية التي نشأ عنها الوأد. ومنها كونهن مستضعفات لا يخشى من
رام القتل لهن أن يناله من المدافعة ما يناله من الرجال، فلا شك ولا ريب أن
الترخيص في ذلك من أعظم الذرائع المفضية إلى هلاك نفوسهن، ولا سيما في مواطن
الاعراب المتصفين بغلظ القلوب وشدة الغيرة والأنفة اللاحقة بما كانت عليه
الجاهلية. (لا يقال) يلزم مثل هذا في الحر إذا قتل عبدا لأن الترخيص في القود
يفضي إلى مثل ذلك الامر. لأنا نقول: هذه المناسبة إنما تعتبر مع عدم معارضتها
لما هو مقدم عليها من الأدلة فلا يعمل بها في الاقتياد للعبد من الحر لما سلف
من الأدلة القاضية بالمنع، ويعمل بها في الاقتياد للأنثى من الذكر لأنها لم تعارض
ما هو كذلك بل جاءت مظاهرة للأدلة القاضية بالثبوت. (وفي حديث الباب)
دليل على أنه يثبت القصاص في القتل بالمثقل وسيأتي بيان الخلاف فيه. وفيه
أيضا دليل على أنه يجوز القود بمثل ما قتل به المقتول وإليه ذهب الجمهور، ويؤيد
ذلك عموم قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (النحل: 126) وقوله تعالى: * (فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194) وقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى:
40) وما أخرجه
البيهقي والبزار عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث البراء وفيه: ومن حرق حرقناه
، ومن غرق غرقناه. قال البيهقي: في إسناده بعض من يجهل وإنما قاله زياد في خطبته،
وهذا إذا كان السبب الذي وقع القتل به مما يجوز فعله لا إذا كان لا يجوز كمن
164

قتل غيره بإيجاره الخمر أو اللواط به. وذهبت العترة والكوفيون ومنهم أبو حنيفة
وأصحابه إلى أن الاقتصاص لا يكون إلا بالسيف. واستدلوا بحديث النعمان بن
بشير عند ابن ماجة والبزار والطحاوي والطبراني والبيهقي بألفاظ مختلفة. منها
: لا قود إلا بالسيف وأخرجه ابن ماجة أيضا والبزار والبيهقي من حديث أبي بكرة.
وأخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة. وأخرجه الدارقطني من
حديث علي. وأخرجه البيهقي والطبراني من حديث ابن مسعود. وأخرجه ابن أبي
شيبة عن الحسن مرسلا. وهذه الطرق كلها لا تخلو واحدة منها من ضعيف أو
متروك حتى قال أبو حاتم: حديث منكر. وقال عبد الحق وابن الجوزي: طرقه
كلها ضعيفة. وقال البيهقي: لم يثبت له إسناد. ويؤيد معنى هذا الحديث الذي يقوي
بعض طرقه بعضا حديث شداد بن أوس عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم
فأحسنوا الذبحة وإحسان القتل يحصل بغير ضرب العنق بالسيف كما يحصل
به، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بضرب عنق من أراد قتله حتى صار
ذلك هو المعروف في أصحابه، فإذا رأوا رجلا يستحق القتل قال قائلهم: يا رسول
الله دعني أضرب عنقه، حتى قيل: إن القتل بغير ضرب العنق بالسيف مثلة، وقد
ثبت النهي عنها كما سيأتي. وأما حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: يقتل القاتل ويصبر الصابر أخرجه البيهقي والدارقطني وصححه
ابن القطان. فالأشهر فيه رواية معمر عن إسماعيل بن أمية مرسلا. وقد قال
الدارقطني: الارسال فيه أكثر. وقال البيهقي: الموصول غير محفوظ. وأما حديث
أنس المذكور في الباب فقد أجيب عنه بأنه فعل لا ظاهر له، فلا يعارض ما ثبت
من الأقوال في الامر بإحسان القتلة والنهي عن المثلة وحصر القود في السيف.
وعن حمل بن مالك قال: كنت بين امرأتين فضربت أحداهما الأخرى
بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جنينها بغرة وأن
تقتل بها رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن أنس قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة رواه النسائي.
وعن عمران بن حصين قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
165

خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة رواه أحمد. وله مثله من
رواية سمرة.
الحديث الأول أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة والمغيرة بن شعبة
ولكن بدون زيادة قوله: وأن تقتل بها التي هي المقصود من ذكر الحديث ههنا، وقد
قال المنذري: إن هذه الزيادة لم تذكر في غير هذه الرواية. وحديث أنس رجال
إسناده ثقات فإن النسائي قال: أخبرنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الصمد، حدثا هشام
عن قتادة عن أنس فذكره. وحديث عمران بن حصين قال في مجمع الزوائد: رواه
الطبراني في الكبير وفيه من لم أعرفهم انتهى. وأحاديث النهي عن المثلة أيضا أصلها
في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري، وفي غيره من حديث
ابن عباس، قال الترمذي: وفي الباب يعني في النهي عن المثلة عن عبد الله بن مسعود
وشداد بن أوس وسمرة والمغيرة ويعلى بن مرة وأبي أيوب انتهى. قوله: بمسطح
بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة أيضا بعدها حاء مهملة. قال أبو
داود: قال النضر بن شميل المسطح هو الصولج انتهى. والصولج الذي يرقق به
الخبز. وقال أبو عبيد: هو عود من أعواد الخباء. وقد استدل المصنف رحمه الله بحديث
حمل بن مالك المذكور على أنه يثبت القصاص في القتل بالمثقل وإليه ذهب الجمهور،
ومن أدلتهم أيضا حديث أنس المذكور أول الباب. وحكي في البحر عن الحسن
البصري والشعبي والنخعي وأبي حنيفة أنه لا قصاص بالمثقل، واحتجوا بما أخرجه
البيهقي من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
: كل شئ خطأ إلا السيف ولكل خطأ أرش. وفي لفظ: كل شئ سوى الحديدة
خطأ ولكل خطأ أرش وهذا الحديث يدور على جابر الجعفي وقيس بن الربيع
ولا يحتج بهمم، وأيضا هذا الدليل أخص من الدعوى، فإن أبا حنيفة يوجب القصاص
بالمحدد ولو كان حجرا أو خشبا، ويوجبه أيضا بالمنجنيق لكونه معروفا بقتل
الناس وبالالقاء في النار، فالراجح ما ذهب إليه الجمهور لأن المقصود بالقصاص صيانة
الدماء من الاهدار، والقتل بالمثقل كالقتل بالمحدد في إتلاف النفوس، فلو لم يجب به
القصاص كان ذلك ذريعة إلى إزهاق الأرواح، والأدلة الكلية القاضية بوجوب القصاص
كتابا وسنة. وردت مطلقة غير مقيدة بمحدد أو غيره، وهذا إذا كانت الجناية بشئ
166

يقصد به القتل في العادة وكان الجاني عامدا، لا لو كانت بمثل العصا والسوط والبندقة
ونحوها فلا قصاص فيها عند الجمهور وهي شبه العمد على ما سيأتي تحقيقه، وسيأتي
أيضا بقية الكلام على حديث حمل بن مالك في باب دية الجنين من أبواب
الديات. (وقد استدل) بالأحاديث المذكورة في النهي عن المثلة القائلون بأنه
لا يجوز الاقتصاص بغير السيف، وقد قدمنا الخلاف في ذلك. قال الترمذي: وكره
أهل العلم المثلة.
باب ما جاء في شبه العمد
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو
الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح رواه أحمد
وأبو داود. وعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد، قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الإبل
منها أربعون في بطونها أولادها رواه الخمسة إلا الترمذي. ولهم من حديث عبد
الله بن عمر مثله.
حديث عمرو بن شعيب في إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد
تكلم فيه غير واحد ووثقه غير واحد. والحديث الثاني أخرجه أيضا البخاري في
التاريخ وساق اختلاف الرواة فيه، وأخرجه الدارقطني في سننه وساق أيضا فيه
الاختلاف وقد صححه ابن حبان. وقال ابن القطان: هو صحيح ولا يضره الاختلاف.
وحديث عبد الله بن عمر الذي أشار إليه المصنف لفظه في سنن أبي داود قال: خطب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح على درجة البيت أو الكعبة وذكر مثل
الحديث الذي قبله، وذكر له طرقا في بعضها علي بن زيد بن جدعان ولا يحتج بحديثه، وسيأتي
في باب أجناس مال الدية حديث عقبة بن أوس عن رجل من الصحابة وهو مثل
حديث عبد الله بن عمرو الثاني. (وفي الباب) عن علي عند أبي داود أنه قال في
شبه العمد أثلاثا: ثلاث وثلاثون حقة. وثلاث وثلاثون جذعة. وأربع وثلاثون
167

ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة. وفي إسناده عاصم بن ضمرة وقد تكلم فيه غير
واحد. وعن علي أيضا عند أبي داود: قال في الخطأ أرباعا خمس وعشرون حقة،
وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات
مخاض. وعن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت عند أبي داود قالا: في المغلظة أربعون
جذعة خلفة، وثلاثون
حقة، وثلاثون بنات لبون. وفي الخطأ: ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكورا، وعشرون بنات مخاض. وأخرج أبو داود
عن علقمة والأسود أنهما قالا: قال عبد الله في شبه العمد خمس وعشرون حقة،
وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض.
(وقد استدل) بأحاديث الباب من قال: إن القتل على ثلاثة أضرب: عمد، وخطأ
، وشبه عمد. وإليه ذهب زيد بن علي والشافعية والحنفية والأوزاعي والثوري
وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجماهير من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
فجعلوا في العمد القصاص. وفي الخطأ الدية التي سيأتي تفصيلها. وفي شبه العمد
وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة كالعصا والسوط والإبرة كونه قاصدا للقتل
دية مغلظ وهي مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. وقال ابن أبي ليلى:
إن قتل بالحجر أو العصا فإن كرر ذلك فهو عمد وإلا فخطأ. وقال عطاء وطاوس:
شرط العمد أن يكون بسلاح. وقال الجصاص: القتل ينقسم إلى عمد وخطأ وشبه
العمد وجار مجرى الخطأ وهوما ليس إنهاء كفعل الصلحاء. قال الامام يحيى: ولا
ثمرة للخلاف إلا في شبه العمة. وقال مالك والليث والهادي والناصر والمؤيد بالله
وأبو طالب: إن القتل ضربان عمد وخطأ، فالخطأ ما وقع بسبب من الأسباب أو من
غير مكلف أو غير قاصد للمقتول أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة، والعمد ما عداه
والأول لا قود فيه. وقد حكى صاحب البحر الاجماع على ذلك والثاني فيه القود.
ولا يخفى أن أحاديث الباب صالحة للاحتجاج بها على إثبات قسم ثالث وهو شبه
العمد وإيجاب دية مغلظة على فاعله، وسيأتي تفصيل الديات وذكر أجناسها إن شاء
الله تعالى.
168

باب من أمسك رجلا وقتله آخر
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أمسك الرجل
الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك رواه الدارقطني.
وعن علي رضي الله عنه أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر
قال: يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى موت رواه الشافعي.
حديث ابن عمر أخرجه الدارقطني من طريق الثوري عن إسماعيل بن أمية
عن نافع عن ابن عمر، ورواه معمر وغيره عن إسماعيل. قال الدارقطني: والارسال
أكثر. وأخرجه أيضا البيهقي ورجح المرسل وقال: إنه موصول غير محفوظ. قال
الحافظ في بلوغ المرام: ورجاله ثقات وصححه ابن القطان. وقد روي أيضا عن
إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعا والصواب عن إسماعيل قال: قضى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث. ورواه ابن المبارك عن معمر عن سفيان
عن إسماعيل يرفعه قال: اقتلوا القاتل وأصبروا الصابر يعني احبسوا الذي أمسك.
وأثر علي رضي الله عنه هو من طريق سفيان عن جابر عن عامر عنه. (والحديث)
فيه دليل على أن الممسك للمقتول حال قتل القاتل له لا يلزمه القود، ولا يعد فعله
مشاركة حتى يكون ذلك من باب قتل الجماعة بالواحد بل الواجب حبسه فقط.
وقد حكى صاحب البحر هذا القول عن العترة والفريقين يعني الشافعية والحنفية.
(وقد استدل) لهم بالحديث والأثر المذكورين وبقوله تعالى: * (فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194) وحكي في البحر أيضا عن النخعي
ومالك والليث أنه يقتل الممسك كالمباشر للقتل لأنهما شريكان، إذ لولا الامساك لما
حصل القتل. وأجيب بأن ذلك تسبيب مع مباشرة ولا حكم له معها وألحق العمل
بمقتضى الحديث المذكور، لأن إعلاله بالارسال غير قادح على ما ذهب إليه أئمة
الأصول وجماعة من أئمة الحديث وهو الراجح، لأن الاسناد زيادة مقبولة يتحتم
الاخذ بها، والحبس المذكور جعله الجمهور موكولا إلى نظر الامام في طول المدة
وقصرها، لأن الغرض تأديبه وليس بمقصود استمراره إلى الموت، وقد أخذ بما
169

روي عن علي رضي الله عنه من الحبس إلى الموت ربيعة.
باب القصاص في كسر السن
عن أنس أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا
الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأبوا إلا القصاص،
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله
أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره رواه البخاري والخمسة
إلا الترمذي.
قوله: الربيع بضم الراء وهي بنت النضر. قوله: فطلبوا إليها العفو أي طلب أهل
الجانية إلى المجني عليها العفو فأبى أهل المجني عليها. وفي رواية للبخاري: فطلبوا إليهم
العفو فأبوا أي إلى أهل المجني عليها. قوله: فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الخ، فيه دليل على وجوب القصاص في السن، وقد حكى صاحب البحر الاجماع على ذلك
وهو نص القرآن، وظاهر الحديث وجوب القصاص ولو كان ذلك كسرا لا قلعا، ولكن
بشرط أن يعرف مقدار المكسور ويمكن أخذ مثله من سن الكاسر فيكون الاقتصاص
بأن تبرد سن الجاني إلى الحد الذاهب من سن المجني عليه كما قال أحمد بن حنبل.
وقد حكى الاجماع على أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه الهلاك. وحكي عن الليث
والشافعي والحنفية أنه لا قصاص في العظم الذي ليس بسن، لأن المماثلة متعذرة لحيلولة
اللحم والعصب والجلد. قال الطحاوي: اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس فيلحق
به سائر العظام، وتعقب بأنه مخالف لحديث الباب فيكون فاسد الاعتبار، وقد تأول من
قال بعدم القصاص في العظم مطلقا إذا كسر هذا الحديث بأن المراد بقوله كسرت
ثنية جارية أي قلعتها وهو تعسف. قوله: لا والذي بعثك بالحق الخ، قيل لم يرد
بهذا القول رد حكم الشرع وإنما أراد التعريض بطلب الشفاعة، وقيل: إنه وقع منه
ذلك قبل علمه بوجوب القصاص إلا أن يختار المجني عليه أو ورثته الدية أو العفو،
170

وقيل غير ذلك، وجميع ما قيل لا يخلو من بعد، ولكنه يقربه ما وقع منه صلى الله عليه
وآله وسلم من الثناء عليه بأنه ممن أبر الله قسمه، ولو كان مريدا بيمينه رد ما حكم الله
به لكان مستحقا لأوجع القول وأفظعه. قوله: كتاب الله الأشهر فيه الرفع
على أنه مبتدأ والقصاص خبره، ويجوز فيه النصب على المصدرية لفعل محذوف كما في
صبغة الله ووعد الله، ويكون القصاص مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأشار صلى الله
عليه وآله وسلم بذلك إلى قوله تعالى: * (والجروح قصاص) * (المائدة: 45) وقيل: إلى قوله تعالى: * (والسن
بالسن) * (المائدة: 45) وهو الظاهر. باب من عض يد رجل فانتزعها فسقطت ثنيته
عن عمران بن حصين: أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه
فوقعت ثنيتاه فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يعض أحدكم يد
أخيه كما يعض الفحل لا دية لك رواه الجماعة إلا أبا داود. وعن
يعلى بن أمية قال: كان لي أجير فقاتل إنسانا فعض أحدهما صاحبه فانتزع
أصبعه فأندر ثنيته فسقط ت، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فأهدر ثنيته وقال: أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟ رواه الجماعة
إلا الترمذي.
في رواية مسلم عن عمران بن حصين أنه قال: قاتل يعلى بن أمية رجلا فعض
أحدهما صاحبه ظاهره يخالف ما في حديث يعلى المذكور من قوله: كان لي أجير فقاتل
إنسانا وسيأتي الجمع. قوله: عض يد رجل في رواية لمسلم: عض ذراع رجل. وفي
رواية للبخاري: فعض أصبع صاحبه وقد جمع بتعدد القصة، وقيل: رواية
الذراع أرجح من رواية الإصبع لأنها من طريق جماعة كما حقق ذلك صاحب الفتح.
قوله: ثنيتاه هكذا في رواية البخاري عند الأكثر. وفي رواية للكشميهني: ثناياه بصيغة
الجمع. وفي رواية: بصيغة الافراد كما وقع في حديث يعلى، ويجمع بين ذلك بأنه أريد
بصيغة الافراد الجنس، وجعل صيغة الجمع مطابقة لصيغة التثنية عند من يجيز إطلاق
صيغة الجمع على المثنى، ولكنه وقع في رواية للبخاري إحدى ثنيتيه وهي مصرحة
171

بالافراد، والجمع بتعدد الواقعة بعيد. قوله: فاختصموا في رواية بصيغة التثنية.
قوله: يعض أحدكم بفتح أوله وبفتح العين المهملة بعدها ضاد معجمة مشددة لان
أصله ع بكسر الضاد الأولى يع بفتحها ثم أدغمت ونقلت الحركة التي
عليها إلى ما قبلها، والمراد بالفحل الذكر من الإبل. قوله: فعض أحدهما صاحبه لم
يصرح بالفاعل، وقد ورد في بعض الروايات أن رجلا من بني تميم قاتل رجلا فعض يده، ويعلى
هو من بني تميم ويدل على ذلك رواية مسلم المتقدمة، واستبعد القرطبي وقوع مثل
ذلك من مثل يعلى، وأجيب باحتمال أن يكون ذلك في أول الاسلام. قال النووي:
إن الرواية الأولى من صحيح مسلم تدل على أن المعضوض يعلى. وفي الرواية الثانية
والثالثة منه أن المعضوض أجير يعلى، وقد رجح الحافظ أن المعضوض أجير يعلى، قال:
ويحتمل أنهما قصتان وقعتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين، وقد تعقب الزين العراقي
في شرح الترمذي ما قاله النووي بأنه ليس في رواية مسلم ولا غيره من الكتب الستة ولا
غيرها ما يدل على أن يعلى هو المعضوض لا صريحا ولا إشارة، قال: فيتعين أن يكون يعلى
هو العاض انتهى. ولكنه يشكل على ذلك ما في حديث يعلى المذكور في البا ب من أن
المقاتلة وقعت بين أجيره وإنسان آخر فلا بد من الجمع بتعدد القصة كما سلف. قوله: فأندر
بالنون والدال المهملة والراء أي أزال ثنيته. قوله: يقضمها (البقرة: 179) بسكون القاف وفتح الضاد
المعجمة على الأفصح وهو الامساك بأطراف الأسنان. (والحديثان) يدلان على أن
الجناية إذا وقعت على المجني عليه بسبب منه كالقصة المذكورة وما شابهها فلا قصاص
ولا أرش، وإليه ذهب الجمهور ولكن بشرط أن لا يتمكن المعضوض مثلا من إطلاق
يده أو نحوها بما هو أيسر من ذلك، وأن يكون ذلك العض مما يتألم به المعضوض،
وظاهر الدليل عدم الاشتراط، وقد قيل: إنه من باب التقييد بالقواعد الكلية، وفي وجه
للشافعية أنه يهدر مطلقا. وروي عن مالك أنه يجب الضمان في مثل ذلك وهو محجوج
بالدليل الصحيح، وقد تأول أتباعه ذلك الدليل بتأويلات في غاية السقوط
وعارضوه بأقيسة باطلة. وما أحسن ما قال يحيى بن يعمر: لو بلغ مالكا هذا
الحديث لم يخالفه، وكذا قال ابن بطال.
172

باب من اطلع من بيت قوم مغلق عليهم بغير إذنهم
عن سهل بن سعد: أن رجلا اطلع في حجر في باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم مدري يرجل به رأسه
فقال له: لو أعلم أنك تنظر طعنت به في عينك إنما جعل الاذن من أجل البصر.
وعن أنس: أن رجلا اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بمشقص أو بمشاقص فكأني أنظر إليه
يختل الرجل ليطعنه. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان
عليك جناح متفق عليهن. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه رواه أحمد.
وفي رواية: من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فلا دية له ولا
قصاص رواه أحمد والنسائي.
اللفظ الآخر من حديث أبي هريرة الآخر أخرجه أيضا ابن حبان وصححه.
قوله: مدري المدري بكسر الميم وسكون الدال المهملة عود يشبه أحد أسنان المشط
وقد يجعل من حديد. قوله: بمشقص بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح
القاف بعدها صاد. قال في القاموس: المشقص كمنبر نصل عريض أو سهم فيه ذلك
، والنصل الطويل أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش. قوله: يختل بفتح الياء
التحتية وسكون الخاء المعجمة بعدها مثناة مكسورة وهو الخدع والاختفاء على ما في
القاموس. قوله: ليطعنه بضم العين وقد تفتح. قوله: فخذفته الخذف بالخاء
المعجمة الرمي بالحصاة، وأما بالحاء المهملة فهو بالعصا لا بالحصا. (وقد استدل)
بأحاديث الباب من قال: إن من قصد النظر إلى مكان لا يجوز له الدخول إليه بغير
إذن جاز للمنظور إلى مكانه أن يفقأ عينه ولا قصاص عليه ولا دية للتصريح بذلك
في الحديث الآخر ولقوله: فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه ومقتضى الحل أنه لا
يضمن ولا يقتص منه ولقوله: ما كان عليك من جناح وإيجاب القصاص أو
173

الدية جناح، ولان قوله صلى الله عليه وآله وسلم المذكور: لو أعلم أنك تنظر طعنت
به في عينك يدل على الجواز. وقد ذهب إلى مقتضى هذه الأحاديث جماعة من
العلماء منهم الشافعي. وخالفت المالكية هذه الأحاديث فقالت: إذا فعل صاحب
المكان بمن اطلع عليه ما أذن به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجب عليه القصاص
أو الدين، وساعدهم على ذلك جماعة من العلماء، وغاية ما عولوا عليه قولهم: إن
المعاصي لا تدفع بمثلها، وهذا من الغرائب التي يتعجب المنصف من الاقدام على
التمسك بمثلها في مقابلة تلك الأحاديث الصحيحة، فإن كل عالم يعلم أن ما أذن
فيه الشارع ليس بمعصية، فكيف يجعل فق ء عين المطلع من باب مقابلة المعاصي
بمثلها؟ ومن جملة ما عولوا عليه قولهم: إن الحديث وارد على سبيل التغليظ والارهاب
، ويجاب عنه بالمنع والسند أن ظاهر ما بلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم محمول على
التشريع إلا لقرينة تدل على إرادة المبالغة، وقد تخلص بعضهم عن الحديث بأنه مؤول
بالاجماع على أن من قصد النظر إلى عورة غيره لم يكن ذلك مبيحا لفق ء عينه ولا سقوط
ضمانها، ويجاب أولا بمنع الاجماع وقد نازع القرطبي في ثبوته وقال: إن الحديث
يتناول كل مطلع، قال: لأن الحديث المذكور إنما هو لمظنة الاطلاع على العورة فبالأولى
نظرها المحقق، ولو سلم الاجماع المذكور لم يكن معارضا لما ورد به الدليل لأنه
في أمر آخر فإن النظر إلى البيت ربما كان مفضيا إلى النظر إلى الحر وسائر
ما يقصد صاحب البيت ستره عن أعين الناس. وفرق بعض الفقهاء بين من كان
من الناظرين في الشارع وفي خالص ملك المنظور إليه، وبعضهم فرق بين من رمى
الناظر قبل الانذار وبعده، وظاهر أحاديث الباب عدم الفرق. (والحاصل) أن
لأهل العلم في هذه الأحاديث تفاصيل وشروطا واعتبارات يطول استيفاؤها وغالبها
مخالف لظاهر الحديث وعاطل عن دليل خارج عنه، وما كان هذا سبيله فليس في
الاشتغال ببسطه ورده كثير فائدة، وبعضها مأخوذ من فهم المعنى المقصود
بالأحاديث المذكورة، ولا بد أن يكون ظاهر الإرادة واضح الاستفادة وبعضها
مأخوذ من القياس، وشرط تقييد الدليل به أن يكون صحيحا معتبرا على سنن
القواعد المعتبرة في الأصول.
174

باب النهي عن الاقتصاص في الطرف قبل الاندمال
عن جابر: أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح رواه الدارقطني. وعن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أقدني، فقال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه فقال: أقدني
فأقاده، ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله عرجت، قال: قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل
عرجك، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ
صاحبه رواه أحمد والدارقطني.
حديث جابر أخرجه أيضا أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب عن
عمرو بن دينار عنه. وأخرجه أيضا عثمان بن أبي شيبة بهذا الاسناد. وقال أبو الحسن
الدارقطني: أخطأ فيه ابنا أبي شيبة، وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره فرووه عن
ابن علية عن أيوب عن عمرو مرسلا، وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار
عنه وهو المحفوظ يعني المرسل، وأخرجه أيضا البيهقي من حديث جابر
مرسلا بإسناد آخر. وقال: تفرد به عبد الله الأموي عن ابن جريج وعنه يعقوب
بن حميد، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: تقاس الجراحات ثم يتأنى بها سنة ثم يقضى فيها بقدر ما انتهت
إليه وفي إسناده ابن لهيعة، وكذا رواه جماعة من الضعفاء عن أبي الزبير من
وجهين آخرين عن جابر ولم يصح شئ من ذلك. وحديث عمرو بن شعيب. قال
الحافظ في بلوغ المرام: وأعل بالارسال، وقد تقدم الخلاف في سماع عمرو بن شعيب
واتصال إسناده. وأخرجه أيضا الشافعي والبيهقي من طريق عمرو بن دينار عن
محمد بن طلحة. (وقد استدل) بالحديثين المذكورين من قال: إنه يجب الانتظار
إلى أن يبرأ الجرح ويندمل ثم يقتص المجروح بعد ذلك، وإليه ذهبت العترة
وأبو حنيفة ومالك، وذهب الشافعي إلى أنه يندب فقط وتمسك بتمكينه صلى الله
عليه وآله وسلم الرجل المطعون بالقرن المذكور في حديث الباب من القصاص قبل
175

البرء. واستدل صاحب البحر على الوجوب بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اصبروا
حتى يسفر الجرح. وأصله: أن رجلا طعن حسان بن ثابت فاجتمعت الأنصار
ليأخذ لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم القصاص فقال: انتظروا حتى يبرأ صاحبكم
ثم أقتص لكم فبرأ حسان ثم عفا. وهذا الحديث إن صح فحديث عمرو بن
شعيب قرينة لصرفه من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، كما أنه قرينة لصرف النهي
المذكور في حديث جابر إلى الكراهة. وأما ما قيل من أن ظهور مفسدة التعجيل
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قرينة أن أمره الأنصار بالانتظار للوجوب لأن دفع
المفاسد واجب كما قال في ضوء النهار، فيجاب عنه بأنه محل الحجة هو إذنه صلى
الله عليه وآله وسلم بالاقتصاص قبل الاندمال، وهو لا يأذن إلا بما كان جائزا،
وظهور المفسدة غير قادح في الجواز المذكور، وليس ظهورها بكلي ولا أكثري
حتى تكون معلومة عند الاقتصاص قبل الاندمال أو مظنونة، فلا يجب ترك الاذن
دفعا للمفسدة الناشئة منه نادرا، نعم قوله: ثم نهى أن يقتص من جرح الخ،
يدل على تحريم الاقتصاص قبل الاندمال، لأن لفظ ثم يقتضي الترتيب فيكون
النهي الواقع بعدها ناسخا للاذن الواقع قبلها.
باب في أن الدم حق لجميع الورثة من الرجال والنساء
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثوا منها إلا ما فضل عن ورثتها،
وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن
عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول
وإن كانت امرأة رواه أبو داود والنسائي. وأراد بالمقتتلين أولياء المقتول الطالبين القود،
وينحجزوا أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كان امرأة. وقوله: الأول فالأول أي
الأقرب فالأقرب.
حديث عمرو بن شعيب في إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد وثقه
غير واحد وتكلم فيه غير واحد، وهو حديث طويل هذا طرف منه، وقد بسطه أبو داود
176

في سننه. وحديث عائشة في إسناده حصن بن عبد الرحمن ويقال ابن محصن
أبو حذيفة الدمشقي. قال أبو حاتم الرازي: لا أعلم روى عنه غير الأوزاعي ولا أعلم
أحدا نسبه. قوله: أن يعقل العقل الدية، والمراد ههنا بقوله إن يعقل أن يدفع عن
المرأة ما لزمها من الدية عصبتها، والعصبة محركة الذين يرثون الرجل عن كلالة
من غير الوالد ولا ولد، فأما في الفرائض فكل من لم تكن له فريضة مسماة فهو عصبة
إن بقي بعد الفرض أحد، وقوم الرجل الذين يتعصبون له، كذا في القاموس. قوله:
أن ينحجزوا بحاء مهملة ثم جيم ثم زاي وقد فسره أبو داود بما ذكره المصنف،
وقد استدل المصنف بالحديثين المذكورين على أن المستحق للدم جميع ورثة القتيل
من غير فرق بين الذكر والأنثى والسبب والنسب فيكون القصاص إليه جميعا.
وإليه ذهبت العترة والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، وذهب الزهري ومالك إلى أن
ذلك يختص بالعصبة قالا: لأنه مشروع لنفي العار كولاية النكاح، فإن وقع العفو من
العصبة فالدية عندهما كالتركة. وقال ابن سيرين: إنه يختص بدم المقتول الورثة من النسب
إذ هو مشروع للتشفي، والزوجية ترتفع بالموت، ورد بأنه شرع لحفظ الدماء، واستدل
لذلك في البحر بقوله تعالى: * (ولكم في القصاص حياة) * (المائدة: 29) وبقول عمر حين عفت أخت المقتول
عتق عن القتل ولم يخالف، وسيأتي في باب ما تحمله العاقلة بيان كيفية العفو واختلاف
الأدلة في ثبوته إن شاء الله تعالى.
باب فضل العفو عن الاقتصاص والشفاعة في ذلك
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ما عفا رجل عن
مظلمة إلا زاده الله بها عزا رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. وعن أنس قال:
ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو
رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقول: ما من رجل يصاب بشئ في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة
وحط به عنه خطيئة رواه ابن ماجة والترمذي. وعن عبد الرحمن بن عوف: أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفا عليهن: لا
177

ينقص مال من صدقة فتصدقوا. ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله عز وجل
إلا زاده الله بها عزا يوم القيامة ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب
فقر رواه أحمد.
حديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري وإسناده لا بأس به. وحديث أبي الدرداء
هو من رواية أبي السفر عن أبي الدرداء، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا
من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء، وأبو السفر اسمه سعيد بن
أحمد ويقال ابن محمد الثوري، وحيث عبد الرحمن بن عوف أخرجه أيضا أبو يعلى
والبزار وفي إسناده رجل لم يسم. وأخرجه البزار من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن
بن عوف عن أبيه وقال: إن الرواية هذه أصح، ويشهد لصحته ما ورد من الأحاديث
في الترغيب في الصدقة والتنفير عن المسألة وقد تقدمت، وأما فضل العفو المذكور فيه
فهو مثل حديث أبي هريرة المذكور في الباب، والترغيب في العفو
ثابت بالأحاديث الصحيحة ونصوص القرآن الكريم، ولا خلاف في مشروعية
العفو في الجملة وإنما وقع الخلاف فيما هو الأولى للمظلوم هل العفو عن
ظالمه أو الترك؟ فمن رجح الأول قال: إن الله سبحانه لا يندب عباده إلى العفو إلا
ولهم فيه مصلحة راجحة على مصلحة الانتصاف من المظالم، فالعافي له من الاجر
بعفوه عن ظالمه فوق ما يستحقه من العوض عن تلك المظلمة من أخذ أجر أو وضع
وزر لو لم يعف عن ظالمه. ومن رجح الثاني قال: إنا لا نعلم هل عوض المظلمة أنفع
للمظلوم أم أجر العفو؟ ومع التردد في ذلك ليس إلى القطع بأولوية العفو طريق. ويجاب
بأن غاية هذا عدم الجزم بأولوية العفو لا الجزم بأولوية الترك الذي هو الدعوى
، ثم الدليل قائم على أولوية العفو، لأن الترغيب في الشئ يستلزم راجحيته، ولا سيما
إذا نص الشارع على أنه من موجبات رفع الدرجات وحط الخطيئات وزيادة العز
كما وقع في أحاديث الباب، ونحن لا ننكر أن للمظلوم الذي لم يعف عن ظلامته
عوضا عنها فيأخذ من حسنات ظالمه أو يضع عليه من سيئاته، ولكنه لا يساوي
الاجر الذي يستحقه العافي، لأن الندب إلى العفو والارشاد إليه والترغيب فيه يستلزم
ذلك، وإلا لزم أن يكون ما هو بتلك الصفة مساويا أو مفضولا، فلا يكون للدعاء
إليه فائدة على فرض المساواة، أو يكون مضرا بالعافي على فرض أن
178

العفو مفضول لأنه كان سببا في نقصان ما يستحق من عوض المظلمة، واللازم
باطل فالملزوم مثله.
باب ثبوت القصاص بالاقرار
عن وائل بن حجر قال: إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ
جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله هذا قتل أخي، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: أقتلته؟ فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، قال: نعم قتلته، قال:
كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته، فقال له النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك من شئ تؤديه عن نفسك؟ قال: مالي مال إلا كسائي
وفأسي، قال: فترى قومك يشترونك، قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فرمى إليه
بنسعته وقال: دونك صاحبك، قال: فانطلق به الرجل فلما ولى قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: إن قتله فهو مثله، فرجع فقال: يا رسول الله بلغني أنك قلت إن
قتله فهو مثله وأخذته بأمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما تريد
أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ فقال: يا نبي الله لعله قال بلى، قال: فإن ذلك كذلك،
فرمى بنسعته وخلى سبيله رواه مسلم والنسائي. وفي رواية: جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بحبشي فقال: إن هذا قتل أخي، قال: كيف قتلته؟ قال: ضربت
رأسه بالفأس ولم أرد قتله، قال: هل لك مال تؤدي ديته؟ قال: لا، قال: أفرأيت إن
أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته؟ قال: لا، قال: فمواليك يعطونك ديته؟ قال: لا، قال للرجل:
خذه، فخرج به ليقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنه إن قتله كان
مثله، فبلغ به الرجل حيث سمع قوله فقال: هو ذا فمر فيه ما شئت، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: أرسله يبوء بإثم صاحبه وإثمه فيكون من أصحاب
النار رواه أبو داود.
هذه الرواية الآخرة سكت عنها أبو داود والمنذري وعزاها إلى مسلم والنسائي،
ولعله باعتبار اتفاقها في المعني هي والرواية الأولى. وفي رواية أخرى من حديث
وائل بن حجر أخرجها أبو داود والنسائي، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه
179

وآله وسلم إذ جئ برجل قاتل في عنقه النسعة قال: فدعا ولي المقتول فقال: أتعفو؟
قال لا، قال: أفتأخذ الدية؟ قال لا، قال: أفتقتل؟ قال نعم، قال: اذهب به فلما كان في
الرابعة قال: أما إنك إن عفوت عنه فإنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه، قال: فعفا عنه، قال
: فأنا رأيته يجر النسعة. قوله: بنسعة بكسر النون وسكون السين بعدها عين
مهملة. قال في القاموس: النسع بالكسر سير ينسج عريضا على هيئة أعنة البغال
تشد به الرحال، والقطعة منه نسعة، وسمي نسعا لطوله، الجمع نسع بالضم ونسع
بالكسر كعنب وأنساع ونسوع. قوله: نحتطب من الاحتطاب. ووقع في نسخة
نختطب من الاختباط. قوله: إن قتله فهو مثله قد استشكل هذا بعد إذنه صلى
الله عليه وآله وسلم بالاقتصاص وإقرار القاتل بالقتل على الصفة المذكورة، والأولى
حمل هذا المطلق على المقيد بأنه لم يرد قتله بذلك الفعل. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقال
ابن قتيبة في قوله إن قتله فهو مثله لم يرد أنه مثله في المأثم، وكيف يريده والقصاص
مباح؟ ولكن أحب له العفو فعرض تعريضا أوهمه به أنه إن قتله كان مثله في الاثم
ليعفو عنه، وكان مراده أنه يقتل نفسا كما أن الأول قتل نفسا وإن كان الأول
ظالما والآخر مقتصا. وقيل معناه كان مثله في حكم البواء فصارا متساويين لا فضل
للمقتص إذا استوفي على المقتص منه. وقيل أراد ردعه عن قتله لأن القاتل ادعى
أنه لم يقصد قتله، فلو قتله الولي كان في وجوب القود عليه مثله لثبت منه قصد
القتل، يدل عليه ما روى أبو هريرة قال: قتل رجل في عهد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فدفع القاتل إلى وليه فقال القاتل: يا رسول الله والله ما أردت قتله،
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنه إن كان صادقا فقتلته دخلت النار فخلاه
الرجل وكان مكتوفا بنسعة فخرج يجر نسعته قال: فكان يسمى ذا النسعة رواه أبو
داود وابن ماجة والترمذي وصححه انتهى. وأخرج هذا الحديث أيضا النسائي
وهو مشتمل على زيادة وهي تقييد الاقرار بأنه لم يرد القتل بذلك الفعل فيتعين
قبولها، ويحمل المطلق على المقيد كما تقدم، فيكون عدم قصد القتل موجبا لكون
القتل خطأ، ولكنه يشكل على قول من قال إن عدم قصد القتل إنما يصير القتل من
جنس الخطأ إذا كان بما مثله لا يقتل في العادة لا إذا كان مثله يقتل في العادة فإنه
يكون عمدا وإن لم يقصد به القتل، وإلى هذا ذهبت الهادوية، والحديث يرد عليهم.
180

(لا يقال الحديث) مشكل من جهة أخرى وهي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أذن لولي
المجني عليه بالاقتصاص، ولو كان القتل خطأ لم يأذن له بذلك، إذ لا قصاص في قتل
الخطأ إجماعا كما حكاه صاحب البحر وهو صريح القرآن والسنة. لأنا نقول: لم يمنعه
صلى الله عليه وآله وسلم من الاقتصاص بمجرد تلك الدعوى لاحتمال أن يكون
المدعي كاذبا فيها، بل حكم على القاتل بما هو ظاهر الشرع، ورهب ولي الدم عن
القود بما ذكره معلقا لذلك على صدقه. قوله: أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك
أما كون القاتل يبوء بإثم المقتول فظاهر، وأما كونه يبوء بإثم وليه فلأنه لما قتل
قريبه وفرق بينه وبينه كان جانيا عليه جناية شديدة لما جرت به عادة البشر من
التألم لفقد القريب والتأسف على فراق الحبيب ولا سيما إذا كان ذلك بقتله، ولا شك
أن ذلك ذنب شديد ينضم إلى ذنب القتل، فإذا عفا ولي الدم عن القاتل كانت
ظلامته بقتل قريبه وإحراج صدره باقية في عنق القاتل فينتصف منه يوم القيامة
بوضع ما يساويها من ذنوبه عليه فيبوء بإثمه. قوله: قال يا نبي الله لعله أي لعله أن لا يبوء
بإثمي وإثم صاحبي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم بلى يعني بلى يبوء بذلك. وأما قوله
في الرواية الأخرى بإثم صاحبه وإثمه فلا إشكال فيه، وهو مثل ما حكاه الله في
القرآن عن ابن آدم حيث قال: * (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) * (البقرة: 282) والمراد بالبواء
الاحتمال. قال في القاموس: وبذنبه وبواء احتمله أو اعترف به ودمه بدمه عدله
وبفلان قتل به فقاومه انتهى. وقد استدل المصنف رحمه الله بحديث وائل بن
حجر على أنه يثبت القصاص على الجاني بإقراره وهو مما لا أحفظ فيه خلافا
إذا كان الاقرار صحيحا متجردا عن الموانع.
باب ثبوت القتل بشاهدين
عن رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولا فانطلق
أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا ذلك له فقال: لكم شاهدان
يشهدان على قتل صاحبكم؟ فقالوا: يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين، وإنما هم
يهود قد يجترئون على أعظم من هذا، قال: فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فوداه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب عن
181

أبيه عن جده: أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته، فقال: يا رسول
الله ومن أين أصيب شاهدين؟ وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم، قال: فتحلف خمسين
قسامة، فقال: يا رسول الله فكيف أحلف على ما لم أعلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: فاستحلف منهم خمسين قسامة، فقال: يا رسول الله كيف نستحلفهم
وهم اليهود؟ فقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ديته عليهم وأعانهم
بنصفها رواه النسائي.
الحديث الأول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح إلا
الحسن بن علي بن راشد وقد وثق. والحديث الثاني في إسناده عمرو بن شعيب وقد
تقدم الكلام عليه، والراوي عنه عبيد الله بن الأخنس وقد حسن الحافظ في الفتح
إسناد هذا الحديث، والكلام على ما اشتمل عليه الحديثان من أحكام القسامة يأتي
في بابها، وأوردهما المنصف ههنا للاستدلال بهما على أنه يثبت القتل بشهادة
شاهدين، ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه يقول باشتراط زيادة على شهادة
شاهدين في القصاص، ولكنه وقع الخلاف في قبول شهادة النساء في القصاص
كالمرأتين مع الرجل، فحكى صاحب البحر عن الأوزاعي والزهري أن القصاص
كالأموال فيكفي فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وظاهر اقتصاره على حكاية
ذلك عنهما فقط أن من عداهما يقول بخلافه، والمعروف من مذهب الهادوية أنها
لا تقبل في القصاص إلا شهادة رجلين أصلين لا فرعين، والمعروف في مذهب الشافعية
أنه يكفي في الشهادة على المال والعقود المالية شهادة رجلين أو رجل وامرأتين،
وفي عقوبة لله تعالى كحد الشرب وقطع الطريق أو لآدمي كالقصاص رجلان. قال
النووي في المنهاج ما لفظه: ولمال وعقد مالي كبيع وإقالة وحوالة وضمان وحق مالي
كخيار رجلان أو رجل وامرأتان ولغير ذلك من عقوبة لله تعالى أو لآدمي وما
يطلع عليه رجال غالبا كنكاح وطلاق ورجعة وإسلام وردة وجرح وتعديل
وموت وإعسار ووكالة ووصاية وشهادة على شهادة رجلان انتهى. واستدل
الشارح المحلي للأول بقوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا
رجلين فرجل وامرأتان) * (البقرة: 282) قال: وعموم الاشخاص مستلزم لعموم الأحوال المخرج منه
182

ما يشترط فيه الأربعة وما لا يكتفي فيه بالرجل والمرأتين. واستدل للثاني بما رواه
مالك عن الزهري قال: مضت السنة أنه لا يجوز شهادة النساء في الحدود ولا في
النكاح والطلاق وقال: وقيس على الثلاثة باقي المذكورات بجامع أنها ليست بمال
ولا يقصد منها مال، والقصد من الوكالة والوصاية الراجعتين إلى المال الولاية والخلافة
لا المال انتهى. وقد أخرج قول الزهري المذكور ابن أبي شيبة بإسناد فيه الحجاج
بن أرطأة وهو ضعيف، مع كون الحديث مرسلا لا تقوم بمثله الحجة، فلا يصلح لتخصيص
عموم القرآن باعتبار ما دخل تحت نصه فضلا عما لم يدخل تحته بل ألحق به بطريق
القياس. وأما الحديثان المذكوران في الباب فليس فيهما إلا مجرد التنصيص على
شهادة الشاهدين في القصاص، وذلك لا يدل على عدم قبول شهادة رجل وامرأتين،
وغاية الامر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلب ما هو الأصل الذي لا يجزي عنه
غيره إلا مع عدمه، كما يدل عليه قوله تعالى: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان)
* (آل عمران: 97) والأصل مع إمكانه متعين لا يجوز العدول إلى بدله مع وجوده، فذلك هو النكتة
في التنصيص في حديثي الباب على شهادة الشاهدين. قوله: إن ابن محيصة بضم الميم
وفتح الحاء المهملة وكسر التحتانية وتشديدها وفتح الصاد المهملة. قوله: برمته
بضم الراء وتشديد الميم وهي الحبل الذي يقاد به. قوله: فقسم ديته عليهم هو
مخالف لما في المتفق عليه الآتي وسيأتي الكلام على ذلك.
باب ما جاء في القسامة
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر
القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن سهل
بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهو يومئذ
صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهي تشحط في دمه قتيلا فدفنه،
ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: كبر كبر وهو أحدث
183

القوم فسكت فتكلما قال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا: وكيف
نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا، فقالوا: كيف نأخذ أيمان
قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده رواه الجماعة.
وفي رواية متفق عليها: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقسم خمسون منكم
على رجل منهم فيدفع برمته، فقالوا: أمر لم نشهده، كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود
بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله قوم كفار وذكر الحديث بنحوه، وهو
حجة لمن قال: لا يقسمون على أكثر من واحد. وفي لفظ لأحمد: فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ثم تسلمه
وفي رواية متفق عليها: فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا من بينة، قال:
فيحلفون؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة.
قوله: ما جاء في القسامة بفتح القاف وتخفيف السين المهملة وهي مصدر أقسم
والمراد بها الايمان، واشتقاق القسامة من القسم كاشتقاق الجماعة من الجمع. وقد حكى
إمام الحرمين أن القسامة عند الفقهاء اسم للايمان، وعند أهل اللغة اسم للحالفين،
وقد صرح بذلك في القاموس، وقال في الضياء: إنها الايمان. وقال في المحكم: إنها في
اللغة الجماعة ثم أطلقت على الايمان. قوله: أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية
القسامة في الجاهلية قد أخرج البخاري والنسائي صفتها عن ابن عباس أن أول قسامة
كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من بني قريش
من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة
جوالقه فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالا
فشد به عروة جوالقه فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا فقال الذي
استأجره: ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين
عقاله؟ فحذفه بعصا كان فيه أجله، فمر به رجل من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؟
قال: ما أشهده وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال:
نعم فإذا شهدت فناد يا قريش فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم فإن أجابوك
فسل عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر، فلما قدم
184

الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام
عليه ووليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حينا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه
أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال يا قريش، قالوا هذه قريش قال: يا آل بني هاشم قالوا
هذه بنو هاشم. قال أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلغك
رسالة أن فلانا قتله في عقال، فأتاه أبو طالب فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن
شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من
قومك أنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فأخبرهم فقالوا نحلف، فأتته امرأة
من بني هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت: يا أبا طالب أحب أن
تجير ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصير يمينه حيث تصير الايمان، ففعل فأتاه
رجل منهم فقال: يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل
فيصيب كل رجل منهم بعيران هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصير يميني حيث
تصير الايمان، فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا، قال ابن عباس: فوالذي نفسي
بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعون عين تطرف انتهى. وقد أخرج البيهقي
من طريق سليمان بن يسار عن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوا
على اليهود. قوله: عن سهل بن أبي حثمة قال انطلق هكذا في كثير من روايات
البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: عن رجال من كبراء قومه. وفي أخرى له: عن
رجل من كبراء قومه. قوله: ومحيصة قد تقدم ضبطه في الباب الذي قبل هذا
وهو ابن عم عبد الله بن سهل. قوله: يتشحط في دمه بالشين المعجمة والحاء
المهملة المشددة بعدها طاء مهملة أيضا وهو الاضطراب في الدم. كما في القاموس.
قوله: وحويصة بضم الحاء المهملة وفتح الواو وتشديد الياء مصغرا وقد روي
التخفيف فيه وفي محيصة. قوله: كبر كبر أي دع من هو أكبر منك سنا يتكلم،
هكذا في رواية يحيى بن سعيد أن الذي تكلم هو عبد الرحمن بن سهل وكان
أصغرهم، وفي رواية: أن الذي تكلم هو محيصة وكان أصغر من حويصة. قوله:
أتحلفون وتستحقون صاحبكم فيه دليل على مشروعية القسامة، وإليه ذهب جمهور
185

الصحابة والتابعين والعلماء من الحجاز والكوفة والشام، حكى ذلك القاضي عياض،
ولم يختلف هؤلاء في الجملة إنما اختلفوا في التفاصيل على ما سيأتي بيانه. وروى القاضي
عياض عن جماعة من السلف منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة
وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد وعمر بن عبد العزيز
في رواية عنه أن القسامة غير ثابتة لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه. منها: أن
البينة على المدعي واليمين على المنكر في أصل الشرع. ومنها: أن اليمين لا يجوز إلا
على ما علمه الانسان قطعا بالمشاهدة الحسية أو ما يقوم مقامها، وأيضا لم يكن في
حديث الباب حكم بالقسامة، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية فتلطف لهم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ليريهم كيف بطلانها. وإلى عدم ثبوت القسامة أيضا ذهب
الناصر كما حكاه عنه صاحب البحر. وأجيب بأن القسامة أصل من أصول الشريعة
مستقل لورود الدليل بها فتخصص بها الأدلة العامة وفيها حفظ للدماء وزجر
للمعتدين، ولا يطرح سنة خاصة لأجل سنة عامة، وعدم الحكم في حديث سهل
بن أبي حثمة لا يستلزم عدم الحكم مطلقا، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قد عرض
على المتخاصمين اليمين وقال: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب كما في رواية
متفق عليها، وهو لا يعرض إلا ما كان شرعا، وأما دعوى أنه قال ذلك للتلطف بهم وإنزالهم
من حكم الجاهلية فباطلة، كيف وفي حديث أبي سلمة المذكور في الباب أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقد قدمنا صفة
الواقعة التي وقعت لأبي طالب مع قاتل الهاشمي. وقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي
سعيد قال: وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتيلا بين قريتين فأمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فذرع ما بينهما فوجده أقرب إلى أحد الجانبين بشبر
فألقى ديته عليهم قال البيهقي: تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما. وقال
العقيلي: هذا الحديث ليس له أصل. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي
عن الشعبي أن قتيلا وجد بين وادعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا
ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم عمر خمسين يمينا كل رجل ما قتلته ولا
علمت قاتله ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا
أموالنا دفعت عن أيماننا، فقال عمر: كذلك الحق. وأخرج نحوه الدارقطني والبيهقي
186

عن سعيد بن المسيب وفيه أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله
عليه وآله وسلم. قال البيهقي: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم منكر، وفيه عمر
بن صبيح أجمعوا على تركه. وقال الشافعي: ليس بتكذيب إنما رواه الشعبي عن الحرث
الأعور. وقال البيهقي: روي عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر. وروي عن
مطرف عن أبي إسحاق عن الحرث بن الأزمع لكن لم يسمعه أبو إسحاق من الحرث.
وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي عن سليمان بن يسار وعراك
بن مالك أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا فوطئ على أصبع رجل من
جهينة فمات، فقال عمر للذين ادعى عليهم: أتحلفون خمسين يمينا ما مات منها؟ فأبوا،
فقال للآخرين: احلفوا أنتم فأبوا، فقضى عمر بشطر الدية على السعديين. وسيأتي
حكمه صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود بالدية. قوله: فيدفع برمته قد تقدم ضبط
الرمة وتفسيرها في الباب الأول، وقد استدل بهذا من قال إنه يجب القول بالقسامة، وإليه
ذهب الزهري وربيعة وأبو الزناد ومالك والليث والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه،
وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ومعظم الحجازيين، وحكاه مالك عن ابن الزبير،
واختلف في ذلك على عمر بن عبد العزيز. وحكي في البحر عن أمير المؤمنين رضي
الله عنه ومعاوية والمرتضى والشافعي في أحد قوليه إنه لا يجب القود بالقسامة،
وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين وكثير من البصريين وبعض
المدنيين والثوري والأوزاعي والهادوية، بل الواجب عندهم جميعا اليمين، فيحلف خمسون
رجلا من أهل القرية خمسين يمينا ما قتلناه لا علمنا قاتله ولا يمين على المدعي، فإن
حلفوا لزمتهم الدية عند جمهورهم. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أن أبا
بكر وعمر والجماعة الأولى لم يكونوا يقتلون بالقسامة. وأخرج عبد الرزاق وابن
أبي شيبة والبيهقي عن عمر أن القسامة إنما توجب العقل ولا تشيط الدم. وقال عبد
الرزاق في مصنفه: قلت لعبيد الله بن عمر العمري أعلمت أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت:
فعمر؟ قال: لا، قلت: فلم تجترؤون عليها؟ فسكت. وقد استدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: تقسم
خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته أحمد ومالك في المشهور عنه أن القسامة
إنما تكون على رجل واحد. وقال الجمهور: يشترط أن تكون على معين سواء كان
187

واحدا أو أكثر. واختلفوا هل يختص القتل بواحد من الجماعة المعينين أو يقتل
الكل؟ وقال أشهب: لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحدا للقتل ويسجن الباقون
عاما ويضربون مائة مائة، قال الحافظ: وهو قول لم يسبق إليه. وقال جماعة من أهل العلم: إن
شرط القسامة أن تكون على غير معين، واستدلوا على ذلك بحديث سهل بن أبي حثمة
المذكور، فإن الدعوى فيه وقعت على أهل خيبر من غير تعيين. ويجاب عن هذا بأن غايته
أن القسامة تصح على غير معين، وليس فيه ما يدل على اشتراط كونها على غير معين،
ولا سيما وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية،
وقد قدمنا أن أول قسامة كانت في الجاهلية قسامة أبي طالب وهي دعوى على
معين كما تقدم. (فإن قيل) إذا كانت على معين كان الواجب في العمد القود وفي الخطأ
الدية فما وجه إيجاب القسامة؟ فيقال: لما لم يكن على ذلك المعين بينة ولم يحصل منه
مصادقة كان ذلك مجرد لوث، فإن اللوث في الأصل هو ما يثمر صدق الدعوى
وله صور ذكرها صاحب البحر. منها وجود القتيل في بلد يسكنه محصورون فإن
كان يدخله غيرهم اشترط عداوة المستوطنين للقتيل كما في قصة أهل خيبر. ومنها
وجوده في صحراء وبالقرب منه رجل في يده سلاح مخضوب بالدم ولم يكن
هناك غيره. ومنها وجوده بين صفي القتال. ومنها وجوده ميتا بين مزدحمين في سوق
أو نحوه. ومنها كون الشهاد على القتل نساء أو صبيانا لا يقدر تواطؤهم على الكذب
، هذا معنى كلام البحر. ومن صور اللوث أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان
أو هو قتلني أو نحو ذلك فإنها تثبت القسامة بذلك عند مالك والليث، وادعى مالك
أن ذلك مما أجمع عليه الأئمة قديما وحديثا، واعترض هذه الدعوى ابن العربي. وفي
الفتح أنه لم يقل بذلك غيرهما. ومنها إذا كان الشهود غير عدول أو كان الشاهد
واحدا فإنها تثبت القسامة عند مالك والليث، ولم يحك صاحب البحر اشتراط اللوث
إلا عن الشافعي. وحكي عن القاسمية والحنفية أنه لا يشترط، ورد بأن عدم الاشتراط
غفلت عن أن الاختصاص بموضع الجناية نوع من اللوث والقسامة لا تثبت بدونه.
قوله: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم أي يخلصونكم عن الايمان بأن يحلفوا
فإذا حلفوا انتهت الخصومة فلم يجب عليهم شئ وخلصتم أنتم من الايمان. والجمع
بين هذه الرواية والرواية الأخرى التي فيها تقديم طلب البينة على اليمين حيث
188

قال: يأتون بالبينة على من قتله. قالوا: ما لنا بينة بأن يقال إن الرواية الأخرى مشتملة على
زيادة وهي طلب البينة أولا ثم اليمين ثانيا. ولا وجه لما زعمه بعضهم من كون طلب البينة
وهم في الرواية المذكورة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم أن خيبر حينئذ
لم يكن بها أحد من المسلمين. قال الحافظ: إن سلم أنه لم يسكن مع اليهود أحد من
المسلمين في خيبر فقد ثبت في نفس القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون
تمرا، فيجوز أن يكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك، ثم قال: وقد وجدنا لطلب
البينة في هذه القصة شاهدا، وذكر حديث عمرو بن شعيب وحديث رافع بن
خديج المتقدمين في الباب الأول. قوله: أن يبطل دمه في رواية للبخاري: أن
يطل دمه بضم أوله وفتح الطاء وتشديد اللام أي يهدر. قوله: فوداه بمائة من إبل
الصدقة في الرواية الأولى: فعقله أي أعطى ديته. وفي رواية: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أعطى عقله والعقل الدية كما تقدم. وقد زعم بعضهم أن قوله من
إبل الصدقة غلط من سعيد بن عبيد لتصريح يحيى بن سعيد بقوله: فعقله النبي صلى
الله عليه وآله وسلم من عنده، وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون النبي
صلى الله عليه وآله وسلم اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده، أو المراد
بقوله من عنده أي من بيت المال المرصد للمصالح، وأطلق عليه صدقة باعتبار
الانتفاع به مجانا، وحمله بعضهم على ظاهره. وقد حكى القاضي عياض عن بعض
العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، واستدل بهذا الحديث وغيره. قال القاضي
عياض: وذهب من قال بالدية إلى تقديم المدعي عليهم في اليمين إلا الشافعي وأحمد
فقالا بقول الجمهور يبدأ بالمدعين. وردها إن أبوا على المدعي عليهم، وقال بعكسه أهل الكوفة
وكثير من أهل البصرة وبعض أهل المدينة. وقال الأوزاعي: يستحلف من أهل
القرية خمسون رجلا خمسين يمينا ما قتلناه ولا علمنا من قتله، فإن حلفوا برئوا،
وإن نقصت قسامتهم عن عدد أو نكول حلف المدعون على رجل واحد واستحقوا
دمه، فإن نقصت قسامتهم عادت دية. وقال عثمان البتي: يبدأ المدعي عليهم بالايمان
فإن حلفوا فلا شئ عليهم. وقال الكوفيون: إذا حلفوا وجبت عليهم الدية. قال في
الفتح: واتفقوا كلهم على أنها لا تجب القسامة بمجرد دعوى الأولياء حتى يقترن بها
شبهة يغلب على الظن الحكم بها. واختلفوا في تصوير الشبهة على سبعة أوجه ثم
ذكرها وذكر الخلاف في كل واحدة منها وهي ما أسلفناه في بيان صور اللوث.
189

قال في الفتح بعد أن ذكر السابعة من تلك الصور وهي أن يوجد القتيل في محلة
أو قبيلة: أنه لا يوجب القسامة عند الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأتباعهم إلا
هذه الصورة ولا يجب فيما سواها. وبهذا يتبين لك أن عدم اشتراط اللوث مطلقا
بعد الاتفاق على تفسيره بما سلف غير صحيح، ومن شروط القسامة عند الجميع
إلا الحنفية أن يوجد بالقتيل أثر. (والحاصل) أن أحكام القسامة مضطربة غاية
الاضطراب، والأدلة فيها واردة على أنحاء مختلفة، ومذاهب العلماء في تفاصيلها
متنوعة إلى أنواع ومتشعبة إلى شعب، فمن رام الإحاطة بها فعليه بكتب الخلاف
ومطولات شروح الحديث.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة رواه الدارقطني.
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من الأنصار:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لليهود وبدأهم يحلف منكم خمسون رجلا
فأبوا، فقال للأنصار: استحقوا، فقالوا: أنحلف على الغيب يا رسول الله؟ فجعلها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم
رواه أبو داود.
الحديث الأول أخرجه أيضا ابن عبد البر والبيهقي من حديث مسلم بن خالد عن ابن جريج
عن عمرو بن شعيب به. قال البخاري: إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، وقد روي
عن عمرو مرسلا من طريق عبد الرزاق وهو أحفظ من مسلم بن خالد وأوثق.
ورواه ابن عدي والدارقطني من حديث عثمان بن محمد بن سالم عن ابن جريج
عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ الحديث المذكور. قال الحافظ في التلخيص:
وهو ضعيف. والحديث الثاني الراوي له عن أبي سلمة وسليمان وهو الزهري،
قال المنذري في مختصر السنن بعد ذكره قال بعضهم: وهذا ضعيف لا يلتفت إليه.
وقد قيل للامام الشافعي: ما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب يعني هذا؟ فقال: مرسل
والقتيل أنصاري. والأنصاريون بالعناية أولى بالعلم به من غيرهم إذ كان كل ثقة
وكل عندنا بنعمة الله ثقة. قال البيهقي: وأظنه أراد بحديث الزهري ما روى عنه معمر
عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار وذكر هذا الحديث. وقد
190

استدل بالحديث الأول، على أن أحكام القسامة مخالفة لما عليه سائر القضايا من إيجاب
البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، فيندفع به ما أورده النافون للقسامة من
مخالفتها لما عليه سائر الأحكام الشرعية، وقد تقدم تفصيل ذلك. واستدل بالحديث الثاني
من قال بإيجاب الدية على من وجد القتيل بين أظهرهم، ويعارضه حديث عمرو بن شعيب
المتقدم في الباب الأول فإن فيه أنه أعانهم بنصف الدية، ويعارض الجميع ما في المتفق عليه من
حديث سهل بن أبي حثمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقله من عنده فإن
أمكن حمل ذلك على قصص متعددة فلا إشكال، وإن لم يمكن وكان المخرج متحدا فالمصير إلى ما
في الصحيحين هو المتعين، ولا سيما مع ما في حديث أبي سلمة المذكور في الباب. وحديث عمرو
بن شعيب المذكور في الباب الأول من الحكم بالدية بدون أيمان. قوله: فقال للأنصار
استحقوا فقال في القاموس: استحقه استوجبه اه. والمراد ههنا أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أمر الأنصار بأن يستوجبوا الحق الذي يدعونه على اليهود بأيمانهم، فأجابوا
بأنهم لا يحلفون على الغيب.
باب هل يستوفى القصاص والحدود في الحرم أم لا
عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى
رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال:
اقتلوه. وعن أبي هريرة قال: لما فتح الله على رسوله مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمسلمين، وإنها
لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي.
وعن أبي شريح الخزاعي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن
لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغد من يوم
الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، حمد الله وأثنى عليه
ثم قال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم
الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما
191

أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد
الغائب، فقيل لأبي شريح: ماذا قال لك عمرو؟ قال، قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح،
إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة. وعن ابن عباس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرام حرمه الله
يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتال
فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة متفق
على أربعتهن. وعن عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أعدى
الناس على الله عز وجل من قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية
رواه أحمد، وله من حديث أبي شريح الخزاعي نحوه. وقال ابن عمر: لو وجدت قاتل
عمر في الحرم ما هجته. وقال ابن عباس في الذي يصيب حدا ثم يلجأ إلى الحرم يقام عليه
الحد إذا خرج من الحرم، حكاهما أحمد في رواية الأثرم.
حديث عبد الله بن عمر أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه. وحديث أبي شريح
الآخر الذي أشار إليه المصنف أخرجه أيضا الدارقطني والطبراني والحاكم، ورواه
الحاكم والبيهقي من حديث عائشة بمعناه. وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس
مرفوعا: أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومتبع في الاسلام سنة جاهلية
، ومطلب دم بغير حق ليهريق دمه. والملحد في الأصل هو المائل عن الحق. وأخرج
عمر بن شبة عن عطاء بن يزيد قال: قتل رجل بالمزدلفة يعني في غزوة الفتح فذكر
القصة وفيها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وما أعلم أحدا أعتى على الله من ثلاثة:
رجل قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله أو قتل بذحل في الجاهلية. قوله: عن أنس أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة الخ، قد تقدم هذا الحديث وشرحه في باب
دخول مكة من غير إحرام من أبواب الحج. قوله: أن الله حبس عن مكة الفيل هو الحيوان
المشهور. وأشار بحبسه عن مكة إلى قضية الحبشة وهي مشهورة ساقها ابن إسحاق
مبسوطة. (وحاصل) ما ساقه أن أبرهة الحبشي لما غلب على اليمن وكان نصرانيا بنى
كنيسة وألزم الناس بالحج إليها، فعمد بعض العرب فاستغفل الحجبة وتغوط وهرب
، فغضب أبرهة وعزم على تخريب الكعبة فتجهز في جيش كثيف واستصحب معه فيلا
عظيما، فلما قرب من مكة خرج إليه عبد المطلب فأعظمه وكان جميل الهيئة فطلب منه
192

أن يرد عليه إبلا نهبت فاستقصر همته وقال: لقد ظننت أنك لا تسألني إلا في الامر
الذي جئت فيه. فقال: إن لهذا البيت ربا سيحميه، فأعاد إليه إبله. وتقدم أبرهة بجيوشه
فقدموا الفيل فأرسل الله عليهم طيرا مع كل واحدة ثلاثة أحجار: حجران في رجليه
وحجر في منقاره فألقتها عليهم فلم يبق منهم أحد إلا أصيب. وأخرج ابن مردويه
بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح
وهو بكسر المهملة ثم فاء ثم مهملة موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن، فأتاهم
عبد المطلب فقال: إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدا، فقالوا: نرجع حتى نهدمه
، فكانوا لا يقدمون الفيل قبلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاه حجارة
سودا فلما حاذتهم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك أحد منهم جلده
إلا تساقط لحمه. قال ابن إسحاق: حدثني يغوث بن عتبة قال: حدثت أن أول ما وقعت
الحصبة والجدري بأرض العرب يومئذ. وعند الطبري بسند صحيح عن عكرمة أنها
كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع. ولابن أبي حاتم
من طريق عبيد بن عمير بسند قوي: بعث الله عليهم طيرا أنشأها من البحر كأمثال
الخطاطيف. فذكر نحو ما تقدم. قوله: لعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق وكان
أميرا على دمشق من جهة عبد الملك بن مروان فقتله عبد الملك وقصته مشهورة.
قوله: ولا يعضد بها شجرة قد تقدم ضبطه وتفسيره في الحج. قوله: فإن أحد
ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها أي استدل بقتاله صلى
الله عليه وآله وسلم فيها على أن القتال فيها لغيره مرخص فيه. قوله: إن الحرم
لا يعيذ عاصيا هذا من عمرو المذكور معارضة لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم برأيه وهو مصادم للنص ولا جرم فالمذكور من عتاة الأمة النابين عن الحق.
قوله: ولا فارا بخربة بضم الخاء المعجمة ويجوز فتحها وسكون الراء بعدها باء موحدة
وهي في الأصل سرقة الإبل، وفي البخاري أنها الخيانة. وقال الترمذي: قد روي
بخزية بالزاي والياء التحتية أي بجريمة يستحي منها. قوله: إن أعدى الناس في
رواية: إن أعتى الناس وهما تفضيل أي الزائد في التعدي أو العتو على غيره والعتو
التكبر والتجبر. وقد أخرج البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال:
وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاب أن أعدى الناس
193

على الله الحديث. وأخرج من حديث سليمان بلفظ: إن أعتى الناس على الله
وأخر أيضا حديث أبي شريح بلفظ: إن أعتى الناس على الله الحديث. قوله:
بذحول الجاهلية جمع ذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة وهو الثأر
وطلب المكافأة والعداوة أيضا، والمراد هنا طلب من كان له دم في الجاهلية بعد
دخوله في الاسلام، والمراد أن هؤلاء الثلاثة أعتى أهل المعاصي وأبغضهم إلى الله،
وإلا فالشرك أبغض إليه من كل معصية كذا قال المهلب وغيره. وقد استدل بحديث
أنس المذكور، على أن الحرم لا يعصم من إقامة واجب ولا يؤخر لأجله عن وقته
كذا قال الخطابي، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وهو اختيار ابن المنذر،
ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان. وذهب
الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم والحنفية وسائر أهل العراق وأحمد ومن
وافقه من أهل الحديث والعترة إلى أنه لا يحل لأحد أن يسفك بالحرم دما ولا يقيم به حدا
حتى يخرج عنه من لجأ إليه. واستدلوا على ذلك بعموم حديث أبي هريرة وأبي شريح
وابن عباس وعبد الله بن عمر وعموم قوله تعالى: * (ومن دخله كان آمنا) * (البقرة: 191) وهو الحكم الثابت قبل
الاسلام وبعده، فإن الجاهلية كان يرى أحدهم قاتل ابنه فلا يهيجه وكذلك في الاسلام كما قاله
ابن عمر في الأثر المذكور، وكما روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو وجدت
فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وهكذا روي عن ابن عباس أنه قال: لو
وجدت قاتل أبي في الحرم ما هجته. وأما الاستدلال بحديث أنس المذكور فوهم لان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل ابن خطل في الساعة التي أحل الله له فيها القتال
بمكة، وقد أخبرنا بأنها لم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده، وأخبرنا أن حرمتها قد عادت
بعد تلك الساعة كما كانت، وأما الاستدلال بعموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود فيجاب
أولا بمنع عمومها لكل مكان وكل زمان لعدم التصريح بهما، وعلى تسليم العموم
فهو مخصص بأحاديث الباب لأنها قاضية بمنع ذلك في مكان خاص وهي متأخرة
فإنها في حجة الوداع بعد شرعية الحدود، هذا إذا ارتكب ما يوجب حدا أو قصاصا
في خارج الحرم ثم لجأ إليه، وأما إذا ارتكب ما يوجب حدا أو قصاصا في الحرم
فذهب بعض العترة إلى أنه يخرج من الحرم ويقام عليه الحد. وروى أحمد عن ابن
عباس أنه قال: من سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم. ويؤيد ذلك قوله
194

تعالى: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم)
* (البقرة: 191) ويؤيده أيضا أن الجاني في الحرم هاتك لحرمته بخلاف الملتجئ إليه، وأيضا لو
ترك الحد والقصاص على من فعل ما يوجبه في الحرم لعظم الفساد في الحرم
. وظاهر أحاديث الباب المنع مطلقا من غير فرق بين اللاجئ إلى الحرم والمرتكب لما
يوجب حدا أو قصاصا في داخله، وبين قتل النفس أو قطع العضو، والآية التي فيها الاذن
بمقاتلة من قاتل عند المسجد الحرام لا تدل إلا على جواز المدافعة لمن قاتل حال المقاتلة، كما يدل
على ذلك التقييد بالشرط. وقد اختلف العلماء في كون هذه الآية منسوخة أو محكمة، حتى قال
أبو جعفر في كتاب الناسخ والمنسوخ: إنها من أصعب ما في الناسخ والمنسوخ، فمن قال بأنها
محكمة مجاهد وطاوس وأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم تمسكا بظاهر الآية وبأحاديث
الباب. وقال في جامع البيان: إن هذا قول الأكثر، ومن القائلين بالنسخ قتادة قال: والناسخ لهما
قوله تعالى: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * (البقرة: 193) أو قيل آية التوبة كما ذكره النجري قال أبو جعفر
وهذا قول أكثر أهل النظر وإن المشركين يقاتلون في الحرم وغيره بالقرآن
والسنة قال الله تعالى: * (قاتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * (التوبة: 5) وبراءة نزلت بعد البقرة
بسنتين. وقال تعالى: * (وقاتلوا المشركين كافة) * (التوبة: 39) وأما السنة فما روي أنه صلى الله عليه وآله
وسلم دخل وعلى رأسه المغفر فقتل ابن خطل وقد اختار صاحب تيسير البيان القول الأول
وقرره ورد دعوى النسخ. أما بآية براءة فلان قوله تعالى في المائدة: * (لا تحلوا شعائر
الله ولا الشهر الحرام) * (المائدة: 2) موافق لآية البقرة، والمائدة نزلت بعد براءة في قول أكثر
أهل العلم بالقرآن، ثم إن كلمة حيث تدل على المكان فهي عامة في أفراد الأمكنة،
وآية البقرة نص في النهي عن القتال في مكان مخصوص وهو المسجد الحرام، فتكون
مخصصة لآية براءة ويكون التقدير: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * إلا أن
يكونوا في المسجد الحرام فلا تقتلوهم حتى يقاتلوكم فيه. وأما قوله تعالى: * (قاتلوهم
حتى لا تكون فتنة) * (البقرة: 193) فهو مطلق في الأمكنة والأزمنة والأحوال، وآية البقرة مقيدة ببعض
الأمكنة فيكون ذلك المطلق مقيدا بها، وإذا أمكن الجمع فلا نسخ، هذا معنى كلامه وهو
طويل، ولكن في كون العام المتأخر يخصص بالخاص المتقدم خلاف بين أهل الأصول
والراجح التخصيص، وفي كون عموم الاشخاص لا يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة
خلاف أيضا معروف بين أهل الأصول.
195

باب ما جاء في توبة القاتل والتشديد في القتل
عن ابن مسعود: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أول ما
يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء رواه الجماعة إلا أبا داود. وعن ابن مسعود
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن
آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل متفق عليه. وعن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أعان على قتل مؤمن بشطر
كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله رواه أحمد وابن
ماجة. وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كل
ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا
متعمدا رواه أحمد والنسائي. ولأبي داود من حديث أبي الدرداء
كذلك.
حديث أبي هريرة أخرجه أيضا البيهقي وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو
ضعيف، وقد روي عن الزهري مرسلا، أخرجه البيهقي من طريق فرح بن فضالة
عن الضحاك عن الزهري يرفعه، وفرح ضعيف وقد قواه أحمد. وبالغ ابن الجوزي
فذكر الحديث في الموضوعات، وسبقه إلى ذلك أبو حاتم فإنه قال في العلل إنه باطل
موضوع. وقد رواه أبو نعيم في الحلية من طريق حكيم بن نافع عن خلف بن حوشب
عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن المسيب سمعت عمر فذكره وقال: تفرد به حكيم عن خلف.
ورواه الطبراني من حديث ابن عباس نحوه، وأورده ابن الجوزي من طريق أخرى
عن أبي سعيد الخدري بلفظ: يجئ القاتل يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من
رحمة الله وأعله بعطية ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال الحافظ: ومحمد لا يستحق أن يحكم
على أحاديثه بالوضع، فأما عطية فضعيف لكن حديثه يحسنه الترمذي إذا توبع. وحديث
معاوية جميع رجال إسناده ثقات، ويشهد له ما في هذا الباب من الأحاديث القاضية
بعدم المغفرة للقاتل. وحديث أبي الدرداء الذي أشار إليه المصنف لفظه قال أبو الدرداء:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره
196

إلا من ما ت مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا. وروى أبو داود أيضا عن
عبادة بن الصامت أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من
قتل مؤمنا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا قال الخطابي: فاغتبط أي
فقتله بغير سبب، وفسره يحيى بن يحيى الغساني بأنه الذي يقتل صاحبه في الفتنة
فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله من ذلك. وهذان الحديثان سكت عنهما أبو
داود والمنذري في مختصر السنن ورجال إسناد كل واحد منهما موثقون. قوله:
أول ما يقضى بين الناس الخ، فيه دليل على عظم ذنب القتل لأن الابتداء إنما يكون
بالأهم وعائد الموصول محذوف والتقدير أول ما يقضي فيه، ويجوز أن تكون مصدرية
ويكون تقديره أول قضاء في الدماء، أو يكون المصدر بمعنى اسم المفعول أي أول مقضى
فيه الدماء. وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين الحديث الذي أخرجه أصحاب
السنن عن أبي هريرة بلفظ: أول ما يحاسب العبد عليه صلاته وأجيب بأن الأول
يتعلق بمعاملات العباد، والثاني بمعاملات الله. قال الحافظ: على أن النسائي أخرجهما
في حديث واحد أورده من طريق أبي وائل عن ابن مسعود رفعه: أول ما يحاسب العبد به
الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء. وقد استدل بحديث ابن مسعود الأول المذكور،
على أن القضاء يختص بالناس ولا يكون بين البهائم وهو غلط، لأن مفاده حصر الأولية في
القضاء بين الناس، وليس فيه نفي القضاء بين البهائم مثلا بعد القضاء بين الناس. قوله: على
ابن آدم الأول هو قابيل عند الأكثر، وعكس القاضي جمال الدين بن واصل في تاريخه
فقال: اسم المقتول قابيل اشتق من قبول قربانه، وقيل اسمه قابن بنون بدل اللام
بغير ياء، وقيل قبن مثله بغير ألف. وعن الحسن: لم يكن ابن آدم المذكور وأخوه
المقتول من صلب آدم وإنما كانا من بني إسرائيل أخرجه الطبري. وعن مجاهد
أنهما كانا ولدي آدم لصلبه وهذا هو المشهور وهو الظاهر من حديث الباب لقوله
الأول أي أول من ولد لآدم، ويقال إنه لم يولد لآدم في الجنة غيره وغير توأمته،
ومن ثم فخر على أخيه هابيل فقال: نحن من أولاد الجنة وأنتم من أولاد الأرض،
ذكر ذلك ابن إسحاق في المبتدأ. قوله: كفل من دمها بكسر الكاف وسكون
الفاء وهو النصيب وأكثر ما يطلق على الاجر كقوله تعالى: * (كفلين من رحمته)
* (النساء: 85) ويطلق على الاسم كقوله تعالى: * (من يشفع شفاعة سيئة يكون له كفل منها) * (الحديد: 28). قوله:
197

لأنه أول من سن القتل فيه دليل على أن من سن شيئا كتب له أو عليه وهو
أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام. وقد أخرج مسلم من حديث جرير: من
سن في الاسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن
سن في الاسلام سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة
وهو محمول على من لم يتب من ذلك الذنب. قوله: بشطر كلمة قال الخطابي:
قال ابن عيينة مثل أن يقول أن من قوله اقتل، وفي هذا من الوعيد الشديد ما لا يقادر
قدره، فإذا كان شطرا الكلمة موجبا لكتب الأياس من الرحمة بين عيني قائلها فكيف
بمن أراق دم المسلم ظلما وعدوانا بغير حجة نيرة؟ وقد استدل بهذا الحديث وبحديث
معاوية وأبي الدرداء المذكورين بعده على أنها لا تقبل التوبة من قاتل العمد، وسيأتي
بيان ما هو الحق إن شاء الله.
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا
تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: هذا
القاتل فما بال المقتول؟ قال: قد أراد قتل صاحبه متفق عليه. وعن جندب البجلي
: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان ممن كان قبلكم رجل به جرح فجزع
فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه
حرمت عليه الجنة أخرجاه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم
خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا
مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا
فيها أبدا. وعن المقداد بن الأسود أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت
رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة
فقال: أسلمت لله؟ أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: لا تقتله، قال فقلت: يا رسول
الله إنه قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل
أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال متفق عليهما. وعن جابر
قال: لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل ابن عمرو
وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها
198

براجمه فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة
ورآه مغطيا يديه فقال له: مصنع بك ربك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه
وآله وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها
الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
: وليديه فأغفر رواه أحمد ومسلم.
قوله: فالقاتل والمقتول في النار قال في الفتح قال العلماء: معنى كونهما في النار
أنهما يستحقان ذلك، ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر
الموحدين وإن شاء عفا عنهما أصلا. وقيل: هو محمول على من استحل ذلك، ولا حجة
فيه للخوارج ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلدون في النار لأنه لا يلزم
من قوله القاتل والمقتول في النار استمرار بقائهما فيها، واحتج به من لم ير القتال
في الفتنة وهم كل من ترك القتال مع علي في حروبه كسعد بن أبي وقاص وعبد
الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة وغيرهم وقالوا: يجب الكف حتى لو أراد
قتله لم يدفعه عن نفسه، ومنهم من قال: لا يدخل في الفتنة فإن أحد أراد قتله دفع
عن نفسه انتهى. ويدل على القول الآخر حديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم وقد
تقدم في باب دفع الصائل من كتاب الغصب وفيه: أرأيت إن قاتلني قال قاتله. ويدل على
القول الأول ما تقدم من الأحاديث في باب أن الدفع لا يلزم المصول عليه من ذلك
الكتاب. قال في الفتح: وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصرة الحق
وقتال الباغين، وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضعف عن القتال
أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق، قال: واتفق أهل السنة على وجوب منع
الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم، لأنهم
لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله عن المخطئ في الاجتهاد، بل
ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا، وأن المصيب يؤجر أجرين. قال الطبري: لو كان الواجب
في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم
حق ولا أبطل باطل، ولو وجد أهل الفسوق سبيلا إلى ارتكاب المحرمات من أخذ
الأموال وسفك الدماء وسبي الحريم بأن يحاربوهم ويكف المسلمون أيديهم ويقولوا
هذه فتنة وقد نهينا عن القتال فيها. وهذا مخالف للامر بالأخذ على أيدي السفهاء
199

اه. وقد أخرج البزار زيادة في هذا الحديث تبين المراد وهي: إذا اقتتلتم على الدنيا
فالقاتل والمقتول في النار. ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ: لا تذهب الدنيا حتى
يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل، فقيل: كيف يكون
ذلك؟ قال: الهرج القاتل والمقتول في النار قال القرطبي: فبين هذا الحديث أن القتال
إذا كان على جهل من طلب دنيا أو اتباع هوى فهو الذي أريد بقوله القاتل والمقتول
في النار. قال الحافظ: ومن ثم كان الذين توقفوا عن القتال في الجمل وصفين أقل عددا
من الذين قاتلوا وكلهم متأول مأجور إن شاء الله، بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل
على طلب الدنيا اه. وهذا يتوقف على صحة نيات جميع المقتتلين في الجمل وصفين،
وإرادة كل واحد منهم الدين لا الدنيا، وصلاح أحوال الناس لا مجرد الملك، ومناقشة
بعضهم لبعض مع علم بعضهم بأنه المبطل وخصمه المحق، ويبعد ذلك كل البعد ولا
سيما في حق من عرف منهم الحديث الصحيح أنها تقتل عمارا الفئة الباغية، فإن
إصراره بعد ذلك على مقاتلة من كان معه عمار معاندة للحق وتماد في الباطل، كما
لا يخفى على منصف وليس هذا منا محبة لفتح باب المثالب على بعض الصحابة فإنا كما
علم الله من أشد الساعين في سد هذا الباب والمنفرين للخاص والعام عن الدخول فيه، حتى
كتبنا في ذلك رسائل وقعنا بسببها مع المتظهرين بالرفض والمحبين له بدون تظهر في أمور
يطول شرحها حتى رمينا تارة بالنصب وتارة بالانحراف عن مذاهب أهل البيت،
وتارة بالعداوة للشيعة، وجاءتنا الرسائل المشتملة على العتاب من كثير من الأصحاب
والسباب من جماعة من غير ذوي الألباب. ومن رأى ما لأهل عصرنا من الجوابات
على رسالتنا التي سميناها (إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي)، وقف
على بعض أخلاق القوم وما جبلوا عليه من عداوة من سلك مسلك الانصاف
وآثر نص الدليل على مذاهب الأسلاف، وعداوة الصحابة الأخيار وعدم التقييد
بمذاهب الآل الأطهار، فإنا قد حكينا في تلك الرسالة إجماعهم على تعظيم
الصحابة رضي الله عنهم، وعلى ترك السب لأحد منهم من ثلاث عشرة طريقا،
وأقمنا الحجة على من يزعم أنه من أتباع أهل البيت ولا يتقيد بمذاهبهم
في مثل هذا الامر الذي هو مزلة أقدام المقصرين فلم يقابل ذلك بالقبول والله
المستعان، وأقول:
200

إني بليت بأهل الجهل في زمن * قاموا به ورجال العلم قد قعدوا
اه. ومما يؤيد ما تقدم من التأويل للحديث المذكور ما أخرجه مسلم عن أبي
هريرة يرفعه: من قاتل تحت راية عمية فغضب لغضبه أو يدعو إلى عصبية أو ينصر
عصبية فقتل فقتلة جاهلية وقد قدمنا ما هو أبسط من هذا الكلام في باب دفع
الصائل، وباب أن الدفع لا يلزم المصول عليه من كتاب الغصب فراجعه. قوله:
فقيل هذا القاتل فما بال المقتول القائل هو أبو بكرة كما وقع مبينا في رواية
مسلم، ومعنى ذلك أن هذا القاتل قد استحق النار بذنبه وهو الاقدام على قتل
صاحبه فما بال المقتول أي فما ذنبه؟. قوله: قال قد أراد قتل صاحبه في لفظ
للبخاري في كتاب الايمان أنه كان حريصا على قتل صاحبه. (وقد استدل)
بذلك من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم وإن لم يقع الفعل. وأجاب من لم يقل بذلك
أن في ذلك فعلا وهو المواجهة بالسلاح ووقوع القتال، ولا يلزم من كون القاتل
والمقتول في النار أن يكونا في مرتبة واحدة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل، والمقتول
يعذب على القتال فقط، فلم يقع التعذيب على العزم المجرد، ويؤيد هذا حديث: أن الله
تجاوز لامتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا. قال في الفتح: والحاصل
أن المراتب ثلاث: الهم المجرد وهو يثاب عليه ولا يؤاخذ به، واقتران الفعل بالهم أو بالعزم
ولا نزاع في المؤاخذة به، والعز وهو أقوى من الهم وفيه النزاع. قوله: يتوجأ أي
يضرب بها نفسه، وحديث جندب البجلي وأبي هريرة يدلان على أن من قتل نفسه
من المخلدين في النار، فيكون عموم إخراج الموحدين مخصصا بمثل هذا وما ورد في
معناه كما حققنا ذلك مرارا. وظاهر حديث جابر المذكور يخالفهما، فإن الرجل
الذي قطع براجمه بالمشاقص ومات من ذلك أخبر بعد موته الرجل الذي رآه
في المنام بأن الله تعالى غفر له، ووقع منه صلى الله عليه وآله وسلم التقرير لذلك بل دعا له
. ويمكن الجمع بأنه لم يرد قتل نفسه بقطع البراجم وإنما حمله الضجر وما حل به من
المرض على ذلك، بخلاف الرجل المذكور في حديث جندب فإنه قطع يده مريدا
لقتل نفسه، وعلى هذا فتكون الأحاديث الواردة في تخليد من قتل نفسه في النار
وتحريم الجنة عليه مقيدة بأن يكون مريدا للقتل. وقد أخرج الشيخان من
حديث أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لرجل ممن
201

يدعي الاسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل قتالا شديدا فأصابه
جراح فقيل: يا رسول الله الذي قلت آنفا أنه من أهل النار قد قاتل قتالا شديدا
وقد مات، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إلى النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب،
فبينما هم على ذلك إذ قيل له إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة، فلما كان من الليل
لم يصبر على الجراح فأخذ ذباب سيفه فتحامل عليه فقتل نفسه فأخبر بذلك
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله، ثم
أمر بلالا فنادى في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الله تعالى ليؤيد
هذا الدين بالرجل الفاجر. وأخرج أبو داود من حديث جابر بن سمرة قال:
أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل قتل نفسه فقال: لا أصلي عليه. قوله: أرأيت
إن لقيت رجلا في رواية للبخاري: إني لقيت كافرا فاقتتلنا فضرب يدي
فقطعها وظاهرها أن ذلك وقع والذي في نفس الامر بخلافه، وإنما سأل المقداد عن
الحكم في ذلك لو وقع كما في حديث الباب. وفي لفظ للبخاري في غزوة بدر بلفظ:
أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار الحديث. قوله: ثم لاذ مني بشجرة أي التجأ
إليها. وفي رواية للبخاري: ثم لاذ بشجرة. قوله: فقال أسلمت لله أي دخلت
في الاسلام. قوله: فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله قال الكرماني: القتل ليس
سببا لكون كل منهما بمنزلة الآخر، لكنه عند النحاة مؤول بالاخبار أي هو
سبب لاخباري لك بذلك، وعند البيانيين المراد لازما. قوله: وأنت بمنزلته قبل أن
يقول كلمته قال الخطابي معناه أن الكافر مباح الدم بحكم الدين قبل أن يسلم، فإذا أسلم
صار مصان الدم كالمسلم، فإن قتله المسلم بعد ذلك صار دمه مباحا بحق القصاص كالكافر
بحق الدين، وليس المراد إلحاقه به في الكفر كما يقوله الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة،
(وحاصله) اتحاد المنزلتين مع اختلاف المأخذ أي إنه مثلك في صون الدم وإنك مثله
في الهدر. ونقل ابن التين عن الداودي أن معناه أنك صرت قاتلا كما كان هو قاتلا،
وهذا من المعاريض لأنه أراد الاغلاظ بظاهر اللفظ دون باطنه، وإنما أراد
أن كلا منهما قاتل ولم يرد أنه صار كافرا بقتله إياه. ونقل ابن بطال عن
المهلب أن معناه أنك بقصدك لقتله عمدا آثم كما كان هو بقصده لقتلك آثما
فأنتما في حالة واحدة من العصيان. وقيل المعنى أنت عنده حلال الدم
202

قبل أن يسلم، كما كان عندك حلال الدم قبل ذلك. وقيل معناه أنه مغفور له بشهادة
التوحيد كما أنك مغفور لك بشهادة بدر. ونقل ابن بطال عن ابن القصار أن معنى
قوله: وأنت بمنزلته أي في إباحة الدم، وإنما قصد بذلك ردعه وزجره عن قتله، لان
الكافر إذا قال أسلمت حرم قتله، وتعقب بأن الكافر مباح الدم، والمسلم الذي قتله
إن لم يتعمد قتله ولم يكن عرف أنه مسلم وإنما قتله متأولا فلا يكون بمنزلته في إباحة
الدم. وقال القاضي عياض: معناه أنه مثله في مخالفة الحق وارتكاب الاثم، وإن
اختلف النوع في كون أحدهما كفرا والآخر معصية، واستدل بهذا الحديث على
صحة إسلام من قال: أسلمت لله ولم يزد على ذلك. وقد ورد في بعض طرق الحديث
أنه قال لا إله إلا الله كما في صحيح مسلم. قوله: فاجتووا المدينة أي استوخموها.
قوله: فأخذ مشاقص جمع مشقص وقد تقدم تفسيره في باب من أطلع في بيت
قوم مغلق عليهم بغير إذنهم، وقد تقدم أيضا في الحج. قوله: براجمه جمع برجمة
بضم الموحدة وسكون الراء وضم الجيم. قال في القاموس: وهي المفصل الظاهر أو
الباطن من الأصابع والإصبع الوسطى من كل طائر، أو هي مفاصل الأصابع كلها، أو ظهور
العصب من الأصابع، أو رؤوس السلاميات إذا قبضت كفك نشزت وارتفعت اه. قوله:
فشخبت بفتح الشين والخاء المعجمتين والباء الموحدة أي انفجرت يداه دما.
قوله: لن نصلح منك ما أفسدت فيه دليل على أن من أفسد عضوا من أعضائه
لم يصلح يوم القيامة بل يبقى على الصفة التي هي عليها عقوبة له.
وعن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال
وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا
ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيدكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن
وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا
فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن
شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك. وفي لفظ: فلا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.
وعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فيمن كان قبلكم رجل
قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال:
إنه قد قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل
203

عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟
فقال: نعم من يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا
يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى
إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت
ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا فقبله الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا
قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما
كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة
الرحمة متفق عليهما. وعن واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في صاحب لنا أوجب يعني النار بالقتل فقال: أعتقوا عنه يعتق
الله بكل عضو منه عضوا منه من النار رواه أحمد وأبو داود.
حديث واثلة أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم. قوله: وحوله عصابة
بفتح اللام على الظرفية. والعصابة بكسر العين الجماعة من العشرة إلى الأربعين ولا
واحد لها من لفظها وقد جمعت على عصائب وعصب. قوله: بايعوني المبايعة هنا
عبارة عن المعاهدة سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية كما في قوله تعالى: * (إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * (التوبة: 111). قوله: ولا تقتلوا أولادكم قال محمد
بن إسماعيل التيمي وغيره: خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية
بالنهي عنه آكد ولأنه كان شائعا فيهم وهو وأد البنات أو قتل البنين قوله: ولا خشية الاملاق، أو
خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم تأتوا ببهتان
البهتان الكذب الذي يبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم
الأفعال يقع بهما إذا كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي ولذا يسمون
الصنائع الأيادي، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال: هذا بما كسبت يداك. ويحتمل
أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحا وبعضكم شاهد بعضا، كما يقول: قلت كذا بين
يدي فلان، قاله الخطابي وقد تعقب بذكر الأرجل، وأجاب الكرماني بأن المراد
الأيدي وذكر الأرجل للتأكيد. (ومحصله) أن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضيا فليس
بمانع، ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأرجل والأيدي القلب لأنه هو الذي
يترجم اللسان عنه فلذلك نسب إليه الافتراء. وقال أبو محمد بن أبي جمرة: يحتمل
204

أن يكون قوله بين أيديكم أي في الحال. وقوله: وأرجلكم أي في المستقبل لأن السعي
من أفعال الأرجل، وقال غيره: أصل هذا كان في بيعة النساء وكنى به كما قال الهروي
عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلقطه إلى زوجها، ثم لما استعمل هذا اللفظ
في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولا. قوله: ولا تعصوا في
معروف هو ما عرف من الشارح حسنه نهيا وأمرا. قال النووي: يحتمل أن يكون
المراد ولا تعصوني ولا أحدا ولي الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقييد بالمعروف
متعلقا بشئ بعده. وقال غير: نبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير
معصية لله فهي جديرة بالتوقي في معصية الله. قوله: فمن وفى منكم أي ثبت على
العهد ولفظ وفى بالتخفيف وفي رواية بالتشديد وهما بمعنى. قوله: فأجره على
الله هذا على سبيل التفخيم لأنه لما ذكر المبالغة المقتضية لوجود العوض أثبت
ذكر الاجر، وقد وقع التصريح في رواية في الصحيحين بالعوض فقال بالجنة. قوله:
ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو أي العقاب كفارة له، قال النووي:
عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * (النساء: 48) فالمرتد
إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة. قال الحافظ: وهذا بناء على أن قوله
من ذلك شيئا يتناول جميع ما ذكر وهو ظاهر. وقد قيل: يحتمل أن يكون المراد
ما ذكر بعد الشرك بقرينة أن المخاطب بذلك المسلمون فلا يدخل حتى يحتاج
إلى إخراجه. ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث:
ومن أتى منكم حدا إذ القتل على الشرك لا يسمى حدا، ويجاب بأن خطاب
المسلمين لا يمنع التحذير لهم من الاشراك. وأما كون القتل على الشرك لا يسمى
حدا، فإن أراد لغة أو شرعا فممنوع، وإن أراد عرفا فذلك غير نافع، فالصواب ما
قاله النووي. وقال الطيبي: الحق أن المراد بالشرك الشرك الأصغر وهو الرياء، ويدل
عليه تنكير شيئا أي شركا أياما كان. وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد
به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به
إلا ذلك وقال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارات واستدلوا
بالحديث. ومن العلماء من وقف لأجل حديث أبي هريرة الذي أخرجه الحاكم في
المستدرك والبزار من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي
205

هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم
لا قال الحافظ: وهو صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق
عن معمر، وذكر الدارقطني أن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن
معمر فأرسله. وقد وصله الحاكم من طريق آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب فقويت رواية
معمر، قال القاضي عياض: لكن حديث عبادة أصح إسنادا، ويمكن الجمع بينهما أن
يكون حديث أبي هريرة ورد أولا قبل أن يعلمه الله ثم أعلمه بعد ذلك، وهذا جمع
حسن، لولا أن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة المذكور كان بمكة ليلة
العقبة لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيعة الأولى بمنى، وأبو
هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر فكيف يكون حديثه متقدما؟ ويمكن
أن يجاب بأن أبا هريرة لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما سمعه من
صحابي آخر كان سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قديما، ولم يسمع من النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمع عبادة، ولا يخفى ما في
هذا من التعسف، على أنه يبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه من النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك، ورجح الحافظ أن حديث عبادة
المذكور لم يقع ليلة العقبة، وإنما وقع في ليلة العقبة ما ذكره ابن إسحاق وغيره من
أهل المغازي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن حضر من الأنصار: أبايعكم
على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل
إليهم هو وأصحابه. وقد ثبت في الصحيح من حديث عبادة أنه قال: بايعنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط
والمكره الحديث ساقه البخاري في كتاب الفتن من صحيحه. وأخرج أحمد والطبراني
من وجه آخر عن عبادة أنها جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام
فقال: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على السمع والطاعة والنشاط والكسل، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى
أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا
ولنا الجنة، الحديث. قال الحافظ: والذي يقوي أن هذه البيعة المذكورة في حديث
206

عبادة وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهو قوله تعالى: * (يا أيها
النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) * (الممتحنة: 12) ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا
خلاف، والدليل على ذلك ما عند البخاري في كتاب الحدود في حديث عبادة هذا أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بايعهم قرأ الآية كلها وعنده في تفسير الممتحنة من هذا
الوجه قال قرأ النساء. ولمسلم من طريق معمر عن الزهري قال: فتلا علينا آية النساء قال: أن
لا يشركن بالله شيئا وللطبراني من هذا الحديث: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على ما بايع عليه النساء يوم الفتح. ولمسلم: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كما أخذ على النساء فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية،
بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة، وقد
أطال الحافظ في الفتح الكلام في كتاب الايمان على هذا فمن رام الاستكمال
فليراجعه. (واعلم) أن عبادة بن الصامت لم يتفرد برواية هذا المعنى، بل روى ذلك
علي بن أبي طالب وهو في الترمذي وصححه الحاكم وفيه: من أصاب ذنبا
فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة وهو
عند الطبراني بإسناد حسن ولفظه: من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو
كفارة له وللطبراني عن ابن عمر مرفوعا: ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله
كفارة لما أصاب من ذلك الذنب قال ابن التين: يريد بقوله فعوقب به أي بالقطع
في السرقة والجلد أو الرجم في الزنا، وأما قتل الولد فليس له عقوبة معلومة إلا أن
يريد قتل النفس فكنى عنه. وفي رواية الصنابحي عن عبادة في هذا لحديث
: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * (الانعام: 151) ولكن قوله في حديث الباب: فعوقب به
هو أعم من أن تكون العقوبة حدا أو تعزيزا. قال ابن التين: وحكي عن القاضي
إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو إرداع لغيره. وأما في الآخرة فالطلب
للمقتول قائم لأنه لم يصل إليه حق. قال الحافظ: بل وصل إليه حق وأي حق، فإن
المقتول ظلما تكفر عنه ذنوبه بالقتل كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان:
إن السيف محاء للخطايا. وروى الطبراني عن ابن مسعود قال: إذا جاء القتل محا كل شئ.
وللطبراني أيضا عن الحسن بن علي نحوه. وللبزار عن عائشة مرفوعا: لا يمر القتل
بذنب إلا محاه فلولا القتل ما كفرت ولو كان حد القتل إنما شرع للارداع فقط
207

لم يشرع العفو عن القاتل ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم
يتب المحدود. قال في الفتح: وهو قول الجمهور، وقيل لا بد من التوبة، وبذلك جزم
بعض التابعين وهو قول المعتزلة ووافقهم ابن حزم ومن المفسرين البغوي وطائفة
يسيرة. قوله: فهو إلى الله قال المازري: فيه رد على الخوارج الذين يكفرون
بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، لان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا بأنه تحت المشيئة ولم يقل لا بد أن يعذبه. وقال
الطيبي: فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد أو بالجنة لأحد إلا من
ورد النص فيه بعينه. قوله: إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه يشمل من تاب من ذلك
ومن لم يتب، وإلى ذلك ذهبت طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه
مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن من مكر الله لأنه لا اطلاع له هل قبلت توبته أم لا؟ وقيل:
يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب. قوله: انطلق إلى أرض كذا وكذا الخ.
قال العلماء في هذا استحباب مفارقة التائب للمواضع التي أصاب بها الذنوب والأخدان
المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة
أهل الخير والصلاح والمتعبدين الورعين. قوله: نصف الطريق هو بتخفيف
الصاد أي بلغ نصفها كذا قال النووي. قوله: فقال قيسوا ما بين الأرضين هذا
محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه الامر عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا
رجلا يمر بهم فمر الملك في صورة رجل فحكم بذلك. وقد استدل بهذا الحديث على
قبول توبة القاتل عمدا. قال النووي: هذا مذهب أهل العلم وإجماعهم ولم يخالف أحد
منهم إلا ابن عباس. وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر
والتورية لا أنه يعتقد بطلان توبته، وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا وفي
الاحتجاج به خلاف فليس هذا موضع الخلاف وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا
بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك وهذا قد ورد شرعنا به وذلك
قوله تعالى: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس) * (الفرقان: 68 70) إلى قوله: * (إلا من
تاب) * (الفرقان: 70) الآية. وأما قوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها)
* (النساء: 93) فقال النووي في شرح مسلم: إن الصواب في معناها أن جزاءه جهنم، فقد يجازى بذلك
وقد يجازى بغيره، وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا
208

تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالاجماع، وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه
فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاؤها جهنم خالدا فيها، لكن تفضل الله تعالى وأخبر
أنه لا يخلد من مات موحدا فيها، فلا يخلد هذا ولكن قد يعفى عنه، ولا يدخل النار
أصلا، وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر عصاة الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة
ولا يخلد في النار، قال: فهذا هو الصواب في معنى الآية، ولا يلزم من كونه يستحق
أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد
في جهنم، وإنما فيها أنها جزاؤه أي يستحق أن يجازى بذلك، وقيل وردت الآية
في رجل بعينه، وقيل المراد بالخلود طول المدة لا الدوام، وقيل معناها هذا جزاؤه
إن جازاه، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة لمخالفتها حقيقة لفظ الآية ثم
قال: فالصواب ما قدمناه اه كلام النووي. وينبغي أن نتكلم أولا في معنى الخلود ثم نبين
ثانيا الجمع بين هذه الآية وبين ما خالفها فنقول: معنى الخلود الثبات الدائم،
قال في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى: * (ولهم فيها أزواج مطهرة
وهم فيها خالدون) * (البقرة: 25) ما لفظه: والخلد الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا
ينقطع، قال الله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون)
* (الأنبياء: 34) وقال امرؤ القيس.
ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي وهل ينعمن من كان في العصر الخالي
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم لا يبيت على حال
وقال في القاموس: وخلد خلودا دام اه. وأما بيان الجمع بين هذه الآية
وما خالفها فنقول: لا نزاع أن قوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا) * (النساء: 93) من صيغ العموم الشاملة
للتائب وغير التائب بل للمسلم والكافر، والاستثناء المذكور في آية الفرقان أعني
قوله تعالى: * (إلا من تاب) * (الفرقان: 70) بعد قوله تعالى: * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق
) * (الفرقان: 68) مختص بالتائبين فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا) * إما على ما هو
المذهب الحق من أنه ينبني العام على الخاص مطلقا تقدم أو تأخر، أو قارن فظاهر
، وأما على مذهب من قال: إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فإذا سلمنا تأخر
قوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا) * على آية الفرقان، فلا نسلم تأخرها عن العمومات القاضية
بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله كقوله تعالى: * (يا عبادي الذين أسرفوا على
209

أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53) وقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر
أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء) * (النساء: 48) ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب
الله عليه. وما أخرجه الترمذي وصححه من حديث صفوان بن عسال قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: باب من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه
أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوح للتوبة لا يغلق
حتى تطلع الشمس من مغربها. وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال: إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. وأخرج مسلم من حديث
أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل
ليتوب مسئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها
ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده. (لا يقال) إن هذه العمومات مخصصة
بقوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * (النساء: 93) الآية. لأنا نقول: الآية أعم من وجه
وهو شمولها للتائب وغيره وأخص من وجه وهو كونها في القاتل، وهذه العمومات
أعم من وجه وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل، وأخص
من وجه وهو كونها في التائب، وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح،
ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقا أرجح لكثرتها، وهكذا أيضا
يقال: إن الأحاديث القاضية بخروج الموحدين من النار وهي متواترة فالمعنى كما
يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث تدل على خروج كل موحد سواء كان ذنبه
القتل أو غيره، والآية القاضية بخروج من قتل نفسا هي أعم من أن يكون القاتل
موحدا أو غير موحد فيتعارض عمومان وكلاهما ظني الدلالة، ولكن عموم آية
القتل قد عورض بما سمعته بخلاف أحاديث خروج الموحدين فإنها إنما عورضت
بما هو أعم منها مطلقا، كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم،
ولا حكم لهذه المعارضة أو بما هو أخص منها مطلقا، كالأحاديث القاضية بتخليد
بعض أهل المعاصي نحو من قتل نفسه وهو يبني العام على الخاص، وبما قررناه
يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب، وعدم خلوده في النار إذا لم
يتب، ويتبين لك أيضا أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان
210

مكية منسوخة بقوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * (النساء: 93) الآية كما أخرج ذلك عنه
البخاري ومسلم وغيرهما، وكذلك لا حجة له فيهما، أخرجه النسائي والترمذي عنه أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يجئ المقتول متعلقا بالقاتل يوم
القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دما يقول: يا رب قتلني هذا حتى
يدنيه من العرش. وفي رواية للنسائي: فيقول أي رب سل هذا فيم قتلني
لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل، وذلك لا يستلزم أخذ
التائب بذلك الذنب ولا تخليده في النار على فرض عدم التوبة، والتوبة النافعة ههنا
هي الاعتراف بالقتل عند الوارث إن كان له وارث، أو السلطان إن لم يكن له وارث
، والندم على ذلك الفعل، والعزم على ترك العود إلى مثله لا مجرد الندم والعزم بدون
اعتراف وتسليم للنفس، أو الدية إن اختارها مستحقها، لأن حق الآدمي لا بد فيه
من أمر زائد على حقوق الله وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به. (فإن
قلت) فعلام تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب؟
فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل يلقى الله مكتوبا بين عينيه الأياس
من الرحمة. والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله. قلت: هما محمولان على عدم
صدور التوبة من القاتل، والدليل على هذا التأويل ما في الباب من الأدلة القاضية
بالقبول عموما وخصوصا، ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة الذي
تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وحديث عبادة بن الصامت المذكور
قبله، فإنهما يلجئان إلى المصير إلى ذلك التأويل، ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر تاريخ
حديث عبادة ومع كون الحديثين في الصحيحين، بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية،
وأيضا في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل، فإنه جعل الرجل القاتل
عمدا مقترنا بالرجل الذي يموت كافرا، ولا شك أن الذي يموت كافرا مصرا على ذنبه غير
تائب منه من المخلدين في النار، فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر،
فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها. وقد قال العلامة الزمخشري في
الكشاف، إن هذه الآية يعني قوله: * (ومن يقتل مؤمنا) * فيها من التهديد والايعاد
والابراق والارعاد أمر عظيم وخطب غليظ، قال: ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي
من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة. وعن سفيان، كان أهل العلم إذا سألوا قالوا
211

لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل
ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا، ثم ذكر حديث: لزوال الدنيا
أهون على الله من قتل رجل مسلم وهو عند النسائي من حديث بريدة. وعند ابن
ماجة من حديث البراء. وعند النسائي أيضا من حديث ابن عمر. وأخرجه أيضا
الترمذي. وأما حديث واثلة بن الأسقع الذي ذكره المصنف في الرجل الذي أوجب
على نفسه النار بالقتل فأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعتقوا عنه، فهو من أدلة
قبول توبة القاتل عمدا ولا بد من حمله على التوبة، فإذا تاب القاتل عمدا فإنه يشرع
له التكفير لهذا الحديث، وهو دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد كما ذهب
إليه الشافعي وأصحابه. ومن أهل البيت القاسم والهادي والمؤيد بالله والامام
يحيى. وقد حكي في البحر عن الهادي عدم الوجوب في العمد، ولكنه نص في
الاحكام والمنتخب على الوجوب فيه، وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية
. وأما إذا اقتص منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته لحديث عبادة المذكور
في الباب. ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
القتل كفارة وهو من حديث خزيمة بن ثابت وفي إسناده ابن لهيعة، قال الحافظ:
لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسنا. ورواه الطبراني في الكبير عن
الحسن بن علي موقوفا عليه. وأما الكفارة في قتل الخطأ فهي واجبة بالاجماع
وهو نص القرآن الكريم.
أبواب الديات
باب دية النفس وأعضائها ومنافعها
عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان في كتابه أن من اعتبط مؤمنا قتلا
عن بينة فإنه قود إلا أن يرضي أولياء المقتول، وأن في النفس الدية مائة من الإبل، وأن في
الانف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين
212

الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف
الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفي
كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل،
وأن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب
ألف دينار رواه النسائي. وقال: وقد روى هذا الحديث يونس عن
الزهري مرسلا.
الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي
موصولا. وأخرجه أيضا أبو داود في المراسيل، وقد صححه جماعة من أئمة الحديث
منهم أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي، وقد قدمنا بسط الكلام عليه واختلاف
الحفاظ فيه في باب قتل الرجل بالمرأة. قوله: من اعتبط بعين مهملة فمثناة
فوقية فموحدة فطاء مهملة وهو القتل بغير سبب موجب، وأصله من اعتبط الناقة إذا
ذبحها من غير مرض ولا داء، فمن قتل مؤمنا كذلك وقامت عليه البينة بالقتل وجب
عليه القود إلا أن يرضى أولياء المقتول بالدية أو يقع منهم العفو. قوله: وأن في
النفس مائة من الإبل الاقتصار على هذا النوع من أنواع الدية يدل على أنه
الأصل في الوجوب كما ذهب إليه الشافعي، ومن أهل البيت القاسم بن إبراهيم،
قالا: وبقية الأصناف كانت مصالحة لا تقديرا شرعيا. وقال أبو حنيفة وزفر والشافعي
في قول له: بل هي من الإبل للنص، ومن النقدين تقويما إذ هما قيم المتلفات وما
سواهما صلح. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الدية من الإبل مائة، ومن البقر
مائتان، ومن الغنم ألفان، ومن الذهب ألف مثقال، واختلفوا في الفضة فذهب الهادي
والمؤيد بالله إلى أنها عشرة آلاف درهم، وذهب مالك والشافعي في قول له إلى أنها
اثني عشر ألف درهم. قال زيد بن علي والناصر: أو مائتا حلة الحلة إزار ورداء أو
قميص وسراويل، وستأتي أدلة هذه الأقوال في باب أجناس الدية، وسيأتي أيضا
الخلاف في صفة الإبل وتنوعها. قوله: وأن في الانف إذا أوعب جدعه الدية
بضم الهمزة من أوعب على البناء للمجهول أي قطع جميعه، (وفي هذا دليل) على أنه
يجب في قطع الأنف جميعه الدية، قال في البحر فصل: والأنف مركبة من قصبة ومارن
وأرنبة وروثة وفيها الدية إذا استؤصلت من أصل القصبة إجماعا، ثم قال فرع: قال الهادي:
213

وفي كل واحد من الأربع حكومة. وقال الناصر والفقهاء: بل في المارن الدية وفي بعضه حصته.
وأجاب عن ذلك بأن المارن وحده لا يسمى أنفا وإنما الدية في الانف. وربما رواه
الشافعي عن طاوس أنه قال: عندنا في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي الانف
إذا قطع مارنه مائة من الإبل. وأخرج البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده قال: قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا جدعت ثندوة الانف بنصف
العقل خمسون من الإبل وعدلها من الذهب والورق. قال في النهاية: أراد بالثندوة
هنا روثة الانف وهي طرفه ومقدمه اه. وإنما قال أراد بالثندوة هنا لأنها في الأصل
لحم الثدي أو أصله على ما في القاموس. وفي القاموس أيضا أن المارن الانف أو
طرفه أو ما لأن منه، وفيه أن الأرنبة طرف الأنف، وفيه أيضا أن الروثة طرف الأرنبة
. قال في البحر فرع: فإن قطع الأرنبة وهي الغضروف الذي يجمع المنخرين ففيه الدية
إذ هو زوج كالعينين، وفي الوترة حكومة وهي الحاجزة بين المنخرين، وفي إحداهما
نصف الدية، وفي الحاجز حكومة، فإن قطع المارن والقصبة أو المارن والجلدة التي
تحته لزمت دية وحكومة اه. والوترة هي الوتيرة. قال في القاموس: وهي حجاب
ما بين المنخرين. قوله: وفي اللسان الدية فيه دليل على أن الواجب في اللسان إذا
قطع جميعه الدية. وقد حكى صاحب البحر الاجماع على ذلك قال: فإن جنى ما أبطل
كلامه فدية، فإن أبطل بعضه فحصته، ويعتبر بعدد الحروف، وقيل بعدد حروف
اللسان فقط، وهي ثمانية عشر حرفا لا بما عداها، واختلف في لسان الأخرس إذا
قطعت فذهب الأكثر إلى أنها يجب فيها حكومة فقط، وذهب النخعي إلى أنها
يجب فيها دية قوله: وفي الشفتين الدية إلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، وقيل:
إنه مجمع عليه، قال في البحر: وحدهما من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في
عرض الوجه، ولا فضل لأحداهما على الأخرى عند أبي حنيفة والشافعي والناصر
والهادوية. وذهب زيد ابن ثابت إلى أن دية العليا ثلث والسفلى ثلثان ومثله في
المنتخب، قال في البحر: إذ منافع السفلى أكثر للجمال والامساك يعني للطعام والشراب،
وأجاب عنه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وفي الشفتين الدية ولم يفصل، ولا يخفى
أن غاية ما في هذا أنه يجب في المجموع دية، وليس ظاهرا في أن لكل واحدة
نصف دية حتى يكون ترك الفصل منه صلى الله عليه وآله وسلم مشعرا بذلك، ولا
214

شك أن في السفلى نفعا زائدا على النفع الكائن في العليا ولو لم يكن إلا الامساك
للطعام والشراب على فرض الاستواء في الجمال. قوله: وفي البيضتين الدية. وفي
رواية: وفي الأنثيين الدية ومعناهما ومعنى البيضتين واحد كما في الصحاح والضياء
والقاموس. وذكر في الغيث أن الأنثيين هما الجلدتان المحيطتان بالبيضتين، فينظر
في أصل ذلك فإن كتب اللغة على خلافه، وقد قيل إن وجوب الدية في البيضتين
مجمع عليه، وذهب الجمهور إلى أن الواجب في كل واحدة نصف الدية. وحكي في
البحر عن علي عليه السلام أن في اليسرى ثلثي الدية إذ النسل منها، وفي اليمنى ثلثها.
وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب. قوله: وفي الذكر الدية هذا مما لا يعرف
فيه خلاف بين أهل العلم، وظاهر الدليل عدم الفرق بين ذكر الشاب والشيخ
والصبي كما صرح به الشافعي والامام يحيى، وأما ذكر العنين والخصي فذهب
الجمهور إلى أن فيه حكومة، وذهب البعض إلى أن فيه الدية إذ لم
يفصل الدليل. قوله: وفي الصلب الدية قال في القاموس: الصلب بالضم
وبالتحريك عظم من لدن الكاهن إلى العجب اه. ولا أعرف خلافا في وجوب
الدية فيه وقد قيل: إن المراد بالصلب هنا هو ما في الجدول المنحدر من الدماغ
لتفريق الرطوبة في الأعضاء لا نفس المتن، بدليل ما رواه ابن المنذر عن علي عليه
السلام أنه قال: في الصلب الدية إذا منع من الجماع هكذا في ضوء النهار، والأولى حمل
الصلب في كلام الشارع على المعنى اللغوي وعلى فرض صلاحية قول علي لتقييد ما
ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، فليس من لازمه تفسير الصلب بغير المتن، بل
غايته أن يعتبر مع كسر المتن زيادة وهي الافضاء إلى منع الجماع لا مجرد الكسر
مع إمكان الجماع. قوله: وفي العينين الدية هذا مما لا أعرف فيه خلافا بين أهل
العلم، وكذلك لا يعرف الخلاف بينهم في أن الواجب في كل عين نصف الدية وإنما
اختلفوا في عين الأعور، فحكي في البحر عن الأوزاعي والنخعي والعترة والحنفية
والشافعية أن الواجب فيها نصف دية إذ لم يفصل الدليل. وحكي أيضا عن علي
عليه السلام وعمر وابن عمر والزهري ومالك والليث وأحمد وإسحاق أن الواجب
فيها دية كاملة لعماه بذهابها. وأجاب عنه بأن الدليل لم يفصل وهو الظاهر. ثم حكي
أيضا عن العترة والشافعية والحنفية أنه يقتص من الأعور إذا أذهب عين من له
215

عينان، وخالف في ذلك أحمد بن حنبل والظاهر ما قاله الأولون. قوله: وفي
الرجل الواحدة نصف الدية هذا أيضا مما لا أعرف فيه خلافا، وهكذا لا خلاف
في أن في اليدين دية كاملة. قال في البحر: وحد موجب الدية مفصل الساق واليدان
كالرجلين بلا خلاف، والحد الموجب للدية من الكوع كما حكاه صاحب البحر عن
العترة وأبي حنيفة والشافعي، فإن قطعت اليد من المنكب أو الرجل من الركبة ففي
كل واحدة منهما نصف دية وحكومة عند أبي حنيفة ومحمد والقاسمية والمؤيد بالله،
وعند أبي يوسف والشافعي في قول له أنه يدخل الزائد على الكوع ومفصل
الساق في دية اليد والرجل فلا تجب حكومة لذلك. قوله: وفي المأمومة ثلث
الدية هي الجناية البالغة أم الدماغ وهو الدماغ أو الجلدة الرقيقة التي عليه
كما حكاه صاحب القاموس، وإلى إيجاب ثلث الدية فقط في المأمومة ذهب علي وعمر
والعترة والحنفية والشافعية، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه يجب مع ثلث
الدية حكومة لغشاوة الدماغ. وحكى ابن المنذر الاجماع على أنه يجب في المأمومة
ثلث الدية إلا عن مكحول فإنه قال يجب الثلث مع الخطأ والثلثان مع العمد. قوله:
وفي الجائفة ثلث الدية قال في القاموس: الجائفة هي الطعنة التي تبلغ الجوف
أو تنفذه ثم فسر الجوف بالبطن. وقال في البحر: هي ما وصل جوف العضو من
ظهر أو صدر أو ورك أو عنق أو ساق أو عضد مما له جوف وهكذا في الانتصار،
وفي الغيث أنها ما وصل الجوف وهو من ثغرة النحر إلى المثانة اه. وهذا هو المعروف
عند أهل العلم والمذكور في كتب اللغة. وإلى وجوب ثلث الدية في الجائفة ذهب
الجمهور وحكى في نهاية المجتهد الاجماع على ذلك. قوله: وفي المنقلة خمسة عشر
من الإبل في رواية: خمس عشرة قال في القاموس: هي الشجة التي ينقل
منها فراش العظام وهي قشور تكون على العظم دون اللحم، وفي النهاية: أنها التي
تخرج صغار العظام وتنتقل عن أماكنها، وقيل: التي تنقل العظم أي تكسره، وقد
حكى صاحب البحر القول بإيجاب خمس عشرة ناقة عن علي وزيد بن ثابت
والعترة والفريقين يعني الشافعية والحنفية. قوله: وفي كل أصبع من أصابع اليد
والرجل عشر من الإبل هذا مذهب الأكثرين، وروي عن عمر أنه كان يجعل في
الخنصر ستا من الإبل، وفي البنصر تسعا، وفي الوسطى عشرا، وفي السبابة اثنتي عشرة،
216

وفي الابهام ثلاث عشرة. ثم روي عنه الرجوع عن ذلك. وروي عن مجاهد أنه
قال في الابهام خمس عشرة، وفي التي تليها عشر، وفي الوسطى عشر، وفي التي تليها
ثمان، وفي الخنصر سبع، وهو مردود بحديث الباب وبما سيأتي قريبا من حديث أبي
موسى وعمرو بن شعيب، وذهبت الشافعية والحنفية والقاسمية إلى أن في كل أنملة
ثلث دية الإصبع إلا أنملة الابهام ففيها النصف وقال مالك بل الثلث. قوله: وفي السن
خمس من الإبل ذهب إلى هذا جمهور العلماء. وظاهر الحديث عدم الفرق بين
الثنايا والأنياب والضروس لأنه يصدق على كل منها أنه سن. وروي عن علي أنه
يجب في الضرس عشر من الإبل، وروي عن عمرو ابن عباس أنه يجب في كل ثنية
خمسون دينارا، وفي الناجذ أربعون، وفي الناب ثلاثون، وفي كل ضرس خمسة
وعشرون. وروى مالك والشافعي عن عمر أن في كسر الضرس جملا، قال
الشافعي: وبه أقول لأني لا أعلم له مخالفا من الصحابة، وفي قول الشافعي
في كل سن خمس من الإبل ما لم يزد على دية النفس وإلا كفت في جميعها دية. وأجاب
عنه في البحر بأنه خلاف الاجماع، ورد بأنه لا وجد للحكم بمخالفة الاجماع
لاختلاف الناس في دية الأسنان، وسيأتي قريبا ما يدل على أن جميع الأسنان مستوية.
قوله: وفي الموضحة خمس من الإبل هي التي تكشف العظم بلا هشم، وقد ذهب
إلى إيجاب الخمس في الموضحة الشافعية والحنفية والعترة وجماعة من الصحابة.
وروي عن مالك أن الموضحة إن كانت في الانف أو اللحى الأسفل فحكومة
وإلا فخمس من الإبل. وذهب سعيد بن المسيب إلى أنه يجب في الموضحة عشر
الدية وذلك عشر من الإبل، وتقدير أرش الموضحة المذكورة في الحديث إنما هو
في موضحة الرأس والوجه لا موضحة ما عداهما من البدن فإنها على النصف من
ذلك كما هو المختار لمذهب الهادوية، وكذلك الهاشمة والمنقلة والدامية وسائر
الجنايات. وحكي في البحر عن الامام يحيى أن الموضحة والهاشمة والمنقلة إنما
أرشها المقدر في الرأس وفيها في غيره حكومة، وقيل بل في جميع البدن لحصول معناها
حيث وقعت. قال في البحر: وهو الأقرب للمذهب لكن ينسب من دية ذلك العضو
قياسا على الرأس، ففي الموضحة نصف عشر دية ما هي فيه اه. وحكي في البحر
أيضا في موضع آخر عن الامام يحيى والقاسمية وأحد قولي الشافعي أن في الموضحة
217

ونحوها في غير الرأس حكومة إذا لم يقدر الشرع أرشها إلا فيه، وحكى الشافعي
في قول له أن الحكم واحد، قال الامام يحيى: وهي غير بعيد إذ لم يفصل الخبر
اه. وهو يستفاد أيضا من العموم المستفاد من تحلية الموضحة بالألف واللام.
وأخرج البيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر قالا
في الموضحة في الوجه والرأس سواء. وأخرج البيهقي أيضا عن سليمان بن يسار
نحو ذلك. قوله: وأن الرجل يقتل بالمرأة قد تقدم الكلام على هذا مبسوطا.
قوله: وعلى أهل الذهب ألف دينار فيه دليل لمن جعل الذهب من أنواع الدية
الشرعية كما سلف.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قضى في الانف إذا جدع كله بالعقل كاملا، وإذا جدعت أرنبته فنصف
العقل، وقضى في العين نصف العقل، والرجل نصف العقل، واليد نصف العقل
، والمأمومة ثلث العقل، والمنقلة خمسة عشر من الإبل رواه أحمد. ورواه أبو داود
وابن ماجة ولم يذكرا فيه العين ولا المنقلة. وعن ابن عباس: عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: هذه وهذه سواء يعني الخنصر والبنصر والإبهام رواه
الجماعة إلا مسلما. وفي رواية قال: دية أصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل
لكل أصبع رواه الترمذي وصححه. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: الأسنان سواء الثنية والضرس سواء رواه أبو داود وابن
ماجة. وعن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الأصابع
بعشر عشر من الإبل رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في كل أصبع
عشر من الإبل، وفي كل سن خمس من الإبل والأصابع سواء، والأسنان سواء
رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال في المواضح خمس خمس من الإبل رواه الخمسة.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى
في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها، وفي اليد الشلاء إذا قطعت
بثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها رواه النسائي. ولأبي داود
218

منه قضى في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية. وعن عمر بن الخطاب:
أنه قضى في رجل ضرب رجلا فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات ذكره
أحمد بن حنبل في رواية أبي الحرث وابنه عبد الله.
حديث عمرو بن شعيب الأول في إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وقد تكلم فيه
جماعة من أهل العلم ووثقه جماعة. ولفظ أبي داود: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
الانف إذا جدع الدية كاملة، وإن جدعت ثندوته فنصف العقل خمسون من الإبل أعدلها
من الذهب أو الورق أو مائة بقرة أو ألف شاة، وفي اليد إذا قطعت نصف العقل، وفي
الرجل نصف العقل، وفي المأمومة ثلث العقل ثلاث وثلاثون وثلث أو قيمتها من
الذهب أو الورق أو البقر أو الشاة، والجائفة مثل ذلك، وفي الأصابع في كل أصبع
عشر من الإبل وهو حديث طويل. وحديث ابن عباس الثاني أخرجه أيضا
البزار وابن حبان ورجال إسناده رجال الصحيح. وحديث أبي موسى أخرجه
أيضا ابن حبان وابن ماجة وسكت عنه أبو داود والمنذري وإسناده لا بأس به.
وحديث عمرو بن شعيب الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وصاحب التلخيص
ورجال إسناده إلى عمرو بن شعيب ثقات. وحديثه الثالث أخرجه أيضا ابن خزيمة
وابن الجارود وصححاه. وحديثه الرابع سكت عنه أبو داود والنسائي ورجال
إسناده إلى عمرو بن شعيب ثقات. وأثر عمر أخرجه أيضا ابن أبي شيبة عن خالد عن
عوف سمعت شيخا في زمن الحاكم وهو ابن المهلب عم أبي قلابة قال: رمى رجل
رجلا بحجر في رأسه في زمن عمر فذهب سمعه وبصره وعقله وذكره فلم يقرب
النساء فقضى عمر فيه بأربع ديات وهو حي. وقد قدمنا الكلام المتعلق بفقه أكثر
هذه الأحاديث في شرح حديث عمرو بن حزم المذكور في أول الباب، ونتكلم
الآن على ما لم يذكر هنالك. قوله: فنصف العقل أي الدية. قوله: هذه وهذه
سواء الخ هذا نص صريح يرد القول بالتفاضل بين الأصابع، ولا أعرف مخالفا
من أهل العلم لما يقتضيه إلا ما روي عن عمر ومجاهد، وقد قدمنا أنه روي عن
عمر الرجوع. قوله: الأسنان سواء هذه جملة مستقلة لفظ الأسنان فيها مبتدأ
ولفظ سواء خبره. وقوله: الثنية مبتدأ والضرس مبتدأ آخر والخبر عنهما قوله
سواء، وإنما تعرضنا لمثل هذا مع وضوحه لأنه ربما ظن أن سواء الأولى بمعنى
219

غير، وأن الخبر عن الأسنان هو سواء الثانية، ويكون التقدير الأسنان غير الثنية
والضرس سواء، ولا شك أن هذا غير مراد، بل المراد الحكم على جميع الأسنان
التي يدخل تحتها الثنية والضرس بالاستواء والتنصيص على الثنية، والضرس إنما هو
لدفع توهم عدم دخولهما تحت الأسنان، ولهذا اقتصر في الرواية الثانية على قوله الأسنان
سواء، وبهذا يندفع قول من ذهب إلى تفضيل الثنية والضرس من الصحابة وغيرهم،
وقول من حكم في الأسنان بأحكام مختلفة كما سلف. قوله: قضى في العين
العوراء السادة لمكانها أي التي هي باقية لم يذهب إلا نورها، والمراد بالطمس
ذهاب جرمها، وإنما وجب فيه ثلث دية العين الصحيحة لأنها كانت بعد ذهاب
بصرها باقية الجمال فإذا قلعت أو فقئت ذهب ذلك. قوله: وفي اليد الشلاء الخ
، هي التي لا نفع فيها وإنما وجب فيها ثلث دية الصحيحة لذهاب الجمال أيضا. قوله:
وفي السن السوداء إلخ، نفع السن السوداء باق وإنما ذهب منها مجرد الجمال فيكون
على هذا التقدير ذهاب النفع كذهاب الجمال وبقاؤه فقط كبقائه واحد. قال في
البحر مسألة: وإذا اسود السن وضعف ففيه الدية لذهاب الجمال والمنفعة، ولقول علي
عليه السلام: إذا اسودت فقد تم عقلها أي ديتها فإن لم تضعف فحكومة. وقال الناصر
وزفر: وكذا لو اصفرت أو احمرت، وقيل لا شئ في الاصفرار إذ أكثر الأسنان
كذلك، قلنا: إذا لم يحصل بجناية اه. قوله: بأربع ديات فيه دليل على أنه يجب في
كل واحد من الأربعة المذكورة دية عند من يجعل قول الصحابي حجة، وقد
استدل بها صاحب البحر وزعم أنه لم ينكره أحد من الصحابة فكان إجماعا. وقد
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: أنه وجد في حديث معاذ في السمع الدية،
قال: وقد رواه البيهقي من طريق قتادة عن ابن المسيب عن علي رضي الله عنه. وقد
زعم الرافعي أنه ثبت في حديث معاذ أن في البصر الدية. قال الحافظ: لم أجده.
وروى البيهقي من حديث معاذ في العقل الدية وسنده ضعيف. قال البيهقي: وروينا
عن عمر وعن زيد بن ثابت مثله. وقد زعم الرافعي أن ذلك في حديث عمرو بن
حزم وهو غلط. وأخرج البيهقي عن زيد بن أسلم بلفظ: مضت السنة في أشياء من
الانسان إلى أن قال: وفي اللسان الدية وفي الصوت إذا انقطع الدية. والحاصل أنه قد
ورد النص بإيجاب الدية في بعض الحواس الخمس الظاهرة كما عرفت، ويقاس ما لم يرد
220

فيه نص منها على ما ورد فيه، وقد قيل: إنها تجب الدية في ذهاب القول بغير قطع اللسان
بالقياس على السمع بجامع فوات القوة، والأولى التعويل على النص المذكور في حديث
زيد بن أسلم، وأما ذهاب النكاح فيمكن أن يستدل لايجاب الدية فيه بالقياس
على سلس البول، فإنه قد روى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر بن محمد عن
أبيه عن جده عن علي أنه قضى بالدية لمن ضرب حتى سلس بوله، والجامع ذهاب
القوة، ولكن هذا على القول بحجية قول علي عليه السلام. قال في البحر: وفي إبطال
مني الرجل بحيث لا يقع منه حمل دية كاملة، إذ هو إبطال منفعة كاملة كالشلل، ويخالف
مني المرأة ولبنها ففيهما حكومة، إذ قد يطرأ ويزول بخلافه من الرجل فيستمر
وإذا انقطع لم يرجع اه. وهذا إذا كان ذهاب النكاح بغير قطع الذكر أو الأنثيين، فإن
كان بذلك دخلت ديته في دية ذلك المقطوع، وهكذا ذهاب البصر إذا كان بغير
قلع العينين أو فقأها، وإلا وجبت الدية للعينين ولا شئ لذهابه وهكذا السمع لو
ذهب بقطع الاذنين.
باب دية أهل الذمة
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: عقل الكافر نصف دية المسلم رواه أحمد والنسائي والترمذي. وفي
لفظ: قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى
رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. وفي رواية: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ
النصف من دية المسلم، قال: وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: إن
الإبل قد غلت، قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني
عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل
مائتي حلة، قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية رواه أبو داود.
وعن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، والمجوسي
ثمانمائة رواه الشافعي والدارقطني.
221

حديث عمرو بن شعيب حسنه الترمذي وصححه ابن الجارود. وأثر عمر
أخرجه أيضا البيهقي. وأخرج ابن حزم في الايصال من طريق ابن لهيعة عن
يزيد بن حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قال: دية المجوسي ثمانمائة درهم. وأخرجه أيضا الطحاوي وابن عدي
والبيهقي وإسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة. وروى البيهقي عن ابن مسعود
وعلي عليه السلام أنهما كانا يقولان في دية المجوسي ثمانمائة درهم. وفي إسناده
ابن لهيعة. وأخرج البيهقي أيضا عن عقبة بن عامر نحوه وفيه أيضا ابن لهيعة. وروي
نحو ذلك ابن عدي والبيهقي والطحاوي عن عثمان وفيه ابن لهيعة. قوله: عقل
الكافر نصف دية المسلم أي دية الكافر نصف دية المسلم، فيه دليل على أن دية
الكافر الذمي نصف دية المسلم وإليه ذهب مالك، وذهب الشافعي والناصر إلى أن دية
الكافر أربعة آلاف درهم. والذي في منهاج النووي أن دية اليهودي والنصراني ثلث
دية المسلم. ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم. قال شارحه المحلى: أنه قال بالأول عمر
وعثمان وبالثاني عمر وعثمان أيضا وابن مسعود. ثم قال النووي في المنهاج وكذا
وثنى له أمان يعني أن ديته دية مجوسي ثم قال: المذهب أن من لم يبلغه الاسلام إن
تمسك بدين لم يبدل فديته دية دينه وإلا فكمجوسي. وحكي في البحر عن زيد بن
علي والقاسمية وأبي حنيفة وأصحابه أن دية المجوسي كالذمي. وعن الناصر والامام
يحيى والشافعي ومالك أنها ثمانمائة درهم. وذهب الثوري والزهري وزيد بن علي وأبو
حنيفة وأصحابه والقاسمية إلى أن دية الذمي كدية المسلم. وروي عن أحمد إن
ديته مثل دية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف دية، احتج من قال إن ديته ثلث دية المسلم
بفعل عمر المذكور من عدم رفع دية أهل الذمة وأنها كانت في عصره أربعة
آلاف درهم، ودية المسلم اثني عشر ألف درهم. ويجاب عنه بأن فعل عمر ليس
بحجة على فرض عدم معارضته لما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف
وهو هنا معارض للثابت قولا وفعلا؟ وتمسكوا في جعل دية المجوسي ثلثي عشر دية
المسلم بفعل عمر المذكور في الباب، ويجاب عنه بما تقدم، ويمكن الاحتجاج لهم بحديث
عقبة بن عامر الذي ذكرناه فإنه موافق لفعل عمر لأن ذلك المقدار هو ثلثا عشر
الدية إذ هي اثنا عشر ألف درهم، وعشرها اثنا ومائة، وثلثا عشرها ثمانمائة،
ويجاب بأن إسناده ضعيف كما أسلفنا فلا يقوم بمثله حجة. (لا يقال) إن الرواية
222

الثانية من حديث الباب بلفظ: قضى أن عقل أهل الكتابين الخ مقيدة باليهود
والنصارى، والرواية الأولى منه مطلقة فيحمل المطلق على المقيد ويكون المراد بالحديث
دية اليهود والنصارى دون المجوس. لأنا نقول: لا نسلم صلاحية الرواية الثانية للتقييد ولا
للتخصيص، لأن ذلك من التنصيص على بعض أفراد المطلق أو العام، وما كان كذلك
فلا يكون مقيدا لغيره ولا مخصصا له، ويوضح ذلك أن غاية ما في قوله عقل أهل
الكتابين أن يكون من عداهم بخلافهم لمفهوم اللقب وهو غير معمول به عند الجمهور
وهو الحق، فلا يصلح لتخصيص قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عقل الكافر
نصف دية المسلم ولا لتقييده على فرض الاطلاق، ولا سيما مخرج اللفظين واحد
والراوي واحد، فإن ذلك يفيد أن أحدهما من تصرف الراوي، واللازم الاخذ بما
هو مشتمل على زيادة، فيكون المجوسي داخلا، تحت ذلك العموم، وكذلك كل من له
ذمة من الكفار، ولا يخرج عنه إلا من لا ذمة له ولا أمان ولا عهد من المسلمين
لأنه مباح الدم، ولو فرض عدم دخول المجوسي تحت ذلك اللفظ كان حكمه حكم اليهود
والنصارى والجامع الذمة من المسلمين للجميع. ويؤيد ذلك حديث: سنوا بهم
سنة أهل الكتاب واحتج القائلون بأن دية الذمي كدية المسلم بعموم قوله تعالى
: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله) * (النساء: 92) قالوا: وإطلاق الدية
يفيد أنها الدية المعهودة وهي دية المسلم، ويجاب عنه أولا بمنع كون المعهود ههنا
هو دية المسلم، لم لا يجوز أن يكون المراد بالدية الدية المتعارفة بين المسلمين لأهل
الذمة والمعاهدين؟ وثانيا بأن هذا الاطلاق مقيد بحديث الباب. واستدلوا ثانيا
بما أخرجه الترمذي عن ابن عباس وقال: غريب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ودي العامرين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكان لهما عهد من النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لم يشعر به عمرو بدية المسلمين. وبما أخرجه
البيهقي عن الزهري أنها كانت دية اليهودي والنصراني في زمن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم مثل دية المسلم، وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان، فلما
كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف وألقى النصف في بيت المال. قال: ثم
قضى عمر بن عبد العزيز بالنصف وألغى ما كان جعل معاوية. وبما أخرجه أيضا
عن عكرمة عن ابن عباس قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية
223

العامريين دية الحر المسلم وكان لهما عهد. وأخرج أيضا من وجه آخر: أنه صلى
الله عليه وآله وسلم جعل دية المعاهدين دية المسلم. وأخرج أيضا عن ابن
عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودي ذميا دية مسلم. ويجاب عن حديث ابن
عباس بأن في إسناده أبا سعيد البقال واسمه سعيد بن المرزبان ولا يحتج بحديثه
والراوي عنه أبو بكر بن عياش. وحديث الزهري مرسل ومراسيله قبيحة لأنه
حافظ كبير لا يرسل إلا لعلة. وحديث ابن عباس الآخر في إسناده أيضا أبو سعيد
البقال المذكور، وله طريق أخرى فيها الحسن بن عمارة وهو متروك. وحديث ابن
عمر في إسناده أبو كرز وهو أيضا متروك. ومع هذه العلل فهذه الأحاديث معارضة
بحديث الباب، وهو أرجح منها من جهة صحته وكونه قولا وهذه فعلا والقول أرجح
من الفعل، ولو سلمنا صلاحيتها للاحتجاج وجعلناها مخصصة لعموم حديث الباب
كان غاية ما فيها إخراج المعاهد ولا ضير في ذلك، فإن بين الذمي والمعاهد فرقا لان
الذمي ذل ورضى بما حكم به عليه من الذلة بخلاف المعاهد فلم يرض بما حكم عليه
به منها، فوجب ضمان دمه وماله الضمان الأصلي الذي كان بين أهل الكفر، وهو
الدية الكاملة التي ورد الاسلام بتقريرها، ولكنه يعكر على هذا ما وقع في رواية
من حديث عمرو بن شعيب عند أبي داود بلفظ: دية المعاهد نصف دية
الحر وتخلص عن هذا بعض المتأخرين فقال: إن لفظ المعاهد يطلق على الذمي،
فيحمل ما وقع في حديث عمرو بن شعيب عليه ليحصل الجمع بين الأحاديث،
ولا يخفى ما في ذلك من التكلف، والراجح العمل بالحديث الصحيح وطرح
ما يقابله مما لا أصل له في الصحة، وأما ما ذهب إليه أحمد من التفصيل باعتبار العمد
والخطأ فليس عليه دليل.
باب دية المرأة في النفس وما دونها
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عقل
المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته رواه النسائي والدارقطني. وعن
ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أنه قال لسعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل
224

، قلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل، قلت: فكم في ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون
من الإبل، قلت: فكم في أربع أصابع؟ قال: عشرون من الإبل، قلت: حين عظم جرحها
واشتدت مصيبتها نقص عقلها، قال سعيد: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت أو جاهل
متعلم، قال: هي السنة يا ابن أخي رواه مالك في الموطأ عنه.
حديث عمرو بن شعيب هو من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عنه.
وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة كما حكى ذلك عنه في بلوغ المرام. وحديث سعيد
بن المسيب أخرجه أيضا البيهقي، وعلى تسليم أن قوله من السنة يدل على الرفع فهو
مرسل. وقد قال الشافعي فيما أخرجه عنه البيهقي أن قول سعيد من السنة يشبه أن
يكون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن عامة من أصحابه، ثم قال: وقد كنا
نقول إنه على هذا المعنى ثم وقفت عنه وأسأل الله خيرا لأنا قد نجد منهم من يقول
السنة ثم لا نجد لقوله السنة نفاذا أنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقياس
أولى بنا فيها. وروى صاحب التلخيص عن الشافعي أنه قال: كان مالك يذكر أنه
السنة وكنت أتابعه عليه وفي نفسي منه شئ، ثم علمت أنه يريد أنه سنة أهل
المدينة فرجعت عنه. (وفي الباب) عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: دية المرأة نصف دية الرجل قال البيهقي: إسناده لا يثبت مثله. وأخرج البيهقي
عن علي عليه السلام أنه قال: دية المرأة على النصف من دية الرجل
في الكل وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه وفيه انقطاع. وأخرجه
ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه. وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه. وعن عمر
قوله: عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته فيه دليل على أن أرش
المرأة يساوي أرش الرجل في الجراحات التي لا يبلغ أرشها إلى ثلث دية الرجل، وفيما بلغ
أرشه إلى مقدار الثلث من الجراحات يكون أرشها فيه كنصف أرش الرجل لحديث
سعيد بن المسيب المذكور. وإلى هذا ذهب الجمهور من أهل المدينة منهم مالك
وأصحابه وهو مذهب سعيد بن المسيب كما تقدم في رواية مالك عنه. ورواه أيضا
عن عروة بن الزبير وهو مروي عن عمر وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز،
وبه قال أحمد وإسحاق والشافعي في قول، وصفة التقدير أن يكون على الصفة المذكورة
في حديث الباب عن سعيد بن المسيب فإنه جعل أرش أصبعها عشرا، وأرش الإصبعين
225

عشرين، وأر ش الثلاث ثلاثين، لأنها دون ثلث دية الرجل، فلما سأله السائل عن
أرش الأربع الأصابع جعلها عشرين من الإبل لأنها لما جاوزت ثلث
دية الرجل، وكان أرش الأصابع الأربع من الرجل أربعين من الإبل كان أرش الأربع
من المرأة عشرين، وهذا كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن المرأة حين عظم جرحها
واشتدت مصيبتها نقص عقلها، والسبب في ذلك أن سعيدا جعل التنصيف بعد بلوغ
الثلث من دية الرجل راجعا إلى جميع الأرش، ولو جعل التنصيف باعتبار المقدار
الزائد على الثلث لا باعتبار ما دونه فيكون مثلا في الإصبع الرابعة من المرأة خمس
من الإبل لأنها هي التي جاوزت الثلث، ولا يحكم بالتنصيف في الثلاث الأصابع،
فإذا قطع من المرأة أربع أصابع كان فيها خمس وثلاثون ناقة لم يكن في ذلك
إشكال، ولم يدل حديث عمرو بن شعيب المذكور إلا على أن أرشها في الثلث فما
دونه مثل أرش الرجل وليس في ذلك دليل، على أنها إذا حصلت المجاوزة للثلث
لزم تنصيف ما لم يجاوز الثلث من الجنايات على فرض وقوعها متعددة كالأصابع
والأسنان، وأما لو كانت جناية واحدة مجاوزة للثلث من دية الرجل فيمكن أن يقال
باستحقاق نصف أرش الرجل في الكل، فإن كان ما أفتى به سعيد مفهوما من مثل
حديث عمرو بن شعيب فغير مسلم، وإن كان حفظ ذلك التفصيل من السنة التي أشار إليها فإن
أراد سنة أهل المدينة كما تقدم عن الشافعي فليس في ذلك حجة، وإن أراد السنة الثابتة
عنه صلى الله عليه وآله وسلم فنعم، ولكن مع الاحتمال لا ينتهض إطلاق تلك السنة للاحتجاج
به، ولا سيما بعد قول الشافعي أنه علم أن سعيدا أراد سنة أهل المدينة، ومع ذلك فالمرسل
لا تقوم به حجة، فالأولى أن يحكم في الجنايات المتعددة بمثل أرش الرجل في الثلث
فمدون، وبعد المجاوزة يحكم بتنصيف الزائد على الثلث فقط، لئلا يقتحم الانسان
في مضيق مخالف للعدل والعقل والقياس بلا حجة نيرة. وحكى صاحب البحر
عن ابن مسعود وشريح أن أرش المرأة يساوي أرش الرجل حتى يبلغ أرشها
خمسا من الإبل ثم ينصف. قال في نهاية المجتهد: أن الأشهر عن ابن مسعود
وعثمان وشريح وجماعة أن دية جراحة المرأة إلا الموضحة
فإنها على النصف. وحكى في البحر أيضا عن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار أنهما
يستويان حتى يبلغ أرشها خمس عشرة من الإبل. وعن الحسن البصري يستويان إلى
226

النصف ثم ينصف، وهذه الأقوال لا دليل عليها. وذهب علي وابن أبي ليلى وابن
شبرمة والليث والثوري والعترة والشافعية والحنفية كما حكى ذلك عنهم صاحب
البحر إلى أن أرش المرأة نصف أرش الرجل في القليل والكثير واستدلوا بحديث
معاذ الذي ذكرناه، وهو مع كونه لا يصلح للاحتجاج به لما سلف يمكن الجمع بينه
وبين حديث الباب، إما بحمله على الدية الكاملة كما هو ظاهر اللفظ. وذلك
مجمع عليه كما حكاه في البحر في موضعين. حكى في أحدهما بعد حكاية
الاجماع خلافا للأصم وابن علية أن ديتها مثل دية الرجل، ويمكن الجمع بوجه
آخر على فرض أن لفظ الدية يصدق على دية النفس وما دونها وهو أن يقال: هذا
العموم مخصوص بحديث عمرو بن شعيب المذكور فتكون ديتها كنصف دية
الرجل فيما جاوز الثلث فقط.
باب دية الجنين
عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنين
امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت،
فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على
عصبتها. وفي رواية اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر
فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقضى أن دية
جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاتقها متفق عليهما. وفيه دليل
على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة. وعن المغيرة بن شعبة عن عمر: أنه استشارهم
في إملاص المرأة فقال المغيرة: قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه بالغرة عبد
أو أمة فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى به متفق عليه.
وعن المغيرة: أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها وهي حبلى فأتي فيها
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غرة،
فقال عصبتها: أندي ما لا طعم ولا شرب ولا صاح ولا استهل مثل ذلك يطل، فقال
سجع مثل سجع الاعراب رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وكذلك الترمذي ولم
227

يذكر اعتراض العصبة وجوابه. وعن ابن عباس في قصة حمل بن مالك قال:
فأسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا وماتت المرأة فقضى على العاقلة بالدية، فقال
عمها: إنها قد أسقطت يا نبي الله غلاما قد نبت شعره، فقال أبو القاتلة: إنه كاذب إنه والله
ما استهل ولا شرب فمثله يطل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أسجع الجاهلية
وكهانتها أد في الصبي غرة رواه أبو داود والنسائي، وهو دليل على أن الأب
من العاقلة.
حديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححاه.
قوله: في جنين امرأة الجنين بفتح الجيم بعده نونان بينهما ياء تحتية ساكنة
بوزن عظيم، وهو حمل المرأة ما دام في بطنها، سمي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيا
فهو ولد أو ميتا فهو سقط. وقد يطلق عليه جنين. قال الباجي في شرح رجال الموطأ:
الجنين ما ألقته المرأة مما يعرف أنه ولد، سواء كان ذكرا أم أنثى ما لم يستهل صارخا.
قوله: بغرة بضم الغين المعجمة وتشديد الراء وأصلها البياض في وجه الفرس، قال
الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا أعتق رقبة وقوله: عبد أو أمة
تفسير للغرة، وقد اختلف هل لفظ غرة مضاف إلى عبد أو منون؟ قال الإسماعيلي: قرأه
العامة بالإضافة وغيرهم بالتنوين. وحكى القاضي عياض الاختلاف وقال: التنوين
أوجه لأنه بيان للغرة ما هي، وتوجيه الإضافة إلى الشئ قد يضاف إلى نفسه لكنه
قادر قال الباجي: يحتمل أن تكون أو شكا من الراوي في تلك الواقعة المخصوصة.
ويحتمل أن تكون للتنويع وهو الأظهر. قال في الفتح: قيل المرفوع من الحديث
قوله بغرة. وأما قوله: عبد أو أمة فشك من الراوي في المراد بها. وروي عن أبي عمرو بن
العلاء أنه قال: الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء، فلا يجزي عنده في دية الجنين الرقبة
السوداء، وذلك منه مراعاة لأصل الاشتقاق، وقد شذ بذلك، فإن سائر أهل العلم يقولون
بالجواز. وقال مالك: الحمران أولى من السودان. قال في الفتح: وفي رواية ابن أبي
عاصم ما له عبد ولا أمة قال عشر من الإبل، قالوا: ما له شئ إلا أن تعينه من صدقة
بني لحيان فأعانه بها، وفي حديثه عند الحرث بن أبي أسامة. وفي الجنين غرة عبد
أو أمة أو عشر من الإبل أو مائة شاة. ووقع في حديث أبي هريرة: قضى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل وكذا وقع عند
228

عبد الرزاق عن حمل بن النابغة: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدية في
المرأة وفي الجنين غرة عبد أو أمة أو فرس. وأشار البيهقي إلى أن ذكر الفرس
في المرفوع وهم، وإن ذلك أدرج من بعض رواته على سبيل التفسير للغرة، وذكر
أنه في رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس بلفظ: فقضى أن في الجنين
غرة قال طاوس: الفرس غرة. وكذا أخرج الإسماعيلي عن عروة قال: الفرس غرة،
وكأنهما رأيا أن الفرس أحق بإطلاق الغرة من الآدمي. ونقل ابن المنذر
والخطابي عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير: الغرة عبد أو أمة أو فرس. وتوسع
داود ومن تبعه من أهل الظاهر فقالوا: يجزي كل ما وقع عليه اسم غرة. وحكي
في الفتح عن الجمهور أن أقل ما يجزي من العبد والأمة ما سلم من العيوب التي يثبت
بها الرد في البيع لأن المعيب ليس من الخيار، واستنبط الشافعي من ذلك أن يكون
منتفعا به بشرط أن لا ينقص عن سبع سنين، لأن من لم يبلغها لا يستقل غالبا بنفسه
فيحتاج إلى التعهد بالتربية فلا يجبر المستحق على أخذه، ووافقه على ذلك القاسمية
وأخذ بعضهم من لفظ الغلام المذكور في رواية أن لا يزيد على خمس عشرة ولا تزيد
الجارية على عشرين. وقال ابن دقيق العيد: إنه يجزي ولو بلغ الستين وأكثر
منها ما لم يصل إلى سن الهرم، ورجحه الحافظ، وذهب الباقر والصادق والناصر في
أحد قوليه إلى أن الغرة عشر الدية، وخالفهم في ذلك الجمهور وقالوا: الغرة ما ذكر
في الحديث. قال في الفتح: وتطلق الغرة على الشئ النفيس آدميا كان أم غيره، ذكرا
أم أنثى. وقيل: أطلق على الآدمي غرة لأنه أشرف الحيوان، فإن محل الغرة الوجه
وهو أشرف الأعضاء، قال في الفتح: واشتقاقها من غرة الشئ أي خياره. وفي القاموس
: والغرة بالضم العبد والأمة. قوله: ثم أن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت.
في الرواية الثانية: فقتلتها وما في بطنها. وفي رواية المغيرة المذكورة: فقتلتها
وهي حبلى. وفي حديث ابن عباس المذكور: فأسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا
وماتت المرأة ويجمع بين هذه الروايات بأن موت المرأة تأخر عن موت ما في
بطنها فيكون قوله: فقتلتها وما في بطنها إخبارا بنفس القتل، وسائر الروايات يدل على
تأخر موت المرأة. قوله: في إملاص المرأة وقع تفسير الإملاص في الاعتصام من
البخاري هو أن تضرب المرأة في بطنها فتلقي جنينها، وهذا التفسير أخص من قول أهل
229

اللغة أن الإملاص أن تزلقه المرأة قبل الولادة أي قبل حين الولادة، هكذا نقله أبو داود
في السنن عن ابن عبيد، وهو كذلك في الغريب له. وقال الخليل: أملصت الناقة إذا رمت ولدها.
وقال ابن القطاع: أملصت الحامل ألقت ولدها. ووقع في بعض الروايات ملاص بغير ألف
كأنه اسم فعل الولد فحذف وأقيم المضاف مقامه أو اسم لتلك الولادة كالخداج. وروى
الإسماعيلي عن هشام أنه قال: الملاص الجنين. وقال صاحب البارع: الإملاص الاسقاط.
قوله: فشهد محمد بن مسلمة زاد البخاري في رواية: فقال عمر: من يشهد معك؟
فقام محمد بن مسلمة فشهد له. وفي رواية له: أعمر قال للمغيرة: لا تبرح حتى تجئ
بالمخرج مما قلت، قال: فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد معي أنه سمع
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى به. قوله: فسطاط هو الخيمة. قوله: فقضى
فيها على عصبة القاتلة في حديث أبي هريرة المذكور: وقضى بدية المرأة على
عاقلتها. وفي حديث ابن عباس المذكور أيضا: فقضى على العاقلة بالدية وظاهر
هذه الروايات يخالف ما في الرواية الأولى من حديث أبي هريرة حيث قال: ثم
إن المرأة التي قضى عليها بالغرة ويمكن الجمع بأن نسبة القضاء إلى كونه على المرأة
باعتبار أنها هي المحكوم عليها بالجناية في الأصل فلا ينافي ذلك الحكم على عصبتها
بالدية، والمراد بالعاقلة المذكورة هي العصبة وهم من عدا الولد وذوي الأرحام.
ووقع في رواية عند البيهقي: فقال أبوها: إنما يعقلها بنوها، فاختصموا إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الدية على العصبة. وفي حديث أبي هريرة المذكور
: فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن ميراثها لزوجها وبنيها وأن العقل
على عصبتها. وسيأتي الكلام على العاقلة وضمانها لدية الخطأ في باب العاقلة وما
تحمله: (وقد استدل) المصنف بحديث أبي هريرة المذكور على أن دية شبه العمد تحملها
العاقلة، وسيأتي تكميل الكلام عليه. قوله: مثل ذلك يطل بضم أوله وفتح الطاء المهملة
وتشديد اللام أي يبطل ويهدر، يقال طل القتل يطل فهو مطلول، وروي بالباء
الموحدة وتخفيف اللام على أنه فعل ماض من البطلان. قوله: فقال سجع مثل سجع
الاعراب استدل بذلك على ذم السجع في الكلام، ومحل الكراهة إذا كان ظاهر
التكلف، وكذا لو كان منسجما، لكنه في إبطال حق أو تحقيق باطل، فأما لو كان
منسجما وهو حق أو في مباح فلا كراهة، بل ربما كان في بعضه ما يستحب مثل
230

أن يكون فيه إذعان مخالف للطاعة، وعلى هذا يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وكذا عن غيره من السلف الصالح. قال الحافظ: والذي يظهر لي
أن الذي جاء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن عن قصد إلى التسجيع وإنما
جاء اتفاقا لعظم بلاغته، وأما من بعده فقد يكون ذلك وقد يكون عن قصد وهو
الغالب ومراتبهم في ذلك متفاوتة جدا. وفي قوله في حديث ابن عباس المذكور:
أسجع الجاهلية وكهانتها دليل على أن المذموم من السجع إنما هو ما كان من ذلك
القبيل الذي يراد به إبطال شرع أو إثبات باطل أو كان متكلفا. وقد حكى النووي
عن العلماء أن المكروه منه إنما هو ما كان كذلك لا غيره. قوله: حمل بن مالك
بفتح الحاء المهملة والميم، وفي بعض الروايات حمل بن النابغة وهو نسبة إلى جده
وإلا فهو حمل بن مالك بن النابغة. قوله: فقال أبو القاتلة في رواية لمسلم
وأبي داود: فقال حمل بن النابغة وهو زوج القاتلة. وفي رواية للبخاري: فقال ولي
المرأة. وفي حديث أبي هريرة المذكور في الباب: فقال عصبتها. وفي رواية للطبراني:
فقال أخوها العلاء بن مسروح. وفي رواية للبيهقي من حديث أسامة بن عمير:
فقال أبوها. ويجمع بين الروايات بأن كل واحد من أبيها وأخيها وزوجها. قال ذلك
لأنهم كلهم من عصبتها بخلاف المقتولة فإن في حديث أسامة بن عمير أن المقتولة
عامرية والقاتلة هذلية، فيبعد أن تكون عصبة إحدى المرأتين عصبة للأخرى مع اختلاف
القبيلة. (وقد استدل) بأحاديث الباب على أنه يجب في الجنين على قاتله الغرة إن خرج
ميتا. وقد حكي في البحر الاجماع على أن المرأة إذا ضربت فخرج جنينها بعد موتها
ففيها القود أو الدية. وأما الجنين فذهبت العترة والشافعي إلى أن فيه الغرة وهو ظاهر
أحاديث الباب. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يضمن. وأما إذا مات الجنين
بقتل أمه ولم ينفصل فذهبت العترة والحنفية والشافعية إلى أنه لا شئ فيه. وقال
الزهري: إن سكنت حركته ففيه الغرة، ورد بأنه يجوز أن يكون غير آدمي فلا ضمان مع
الشك. قال في الفتح: وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتا بسبب الجناية،
فلو انفصل حيا ثم مات وجب فيه القود أو الدية كاملة انتهى. فإن أخرج الجنين رأسه
ومات ولم يخرج الباقي فذهبت الحنفية والشافعية والهادوية إلى أن فيه الغرة أيضا. وذهب
مالك إلى أنه لا يجب فيه شئ. قال ابن دقيق العيد ويحتاج من اشترط الانفصال إلى
231

تأويل الرواية وحملها على أنه انفصل، وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه، وتعقب بما في
حديث ابن عباس المذكور أنها أسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا فإنه صريح في
الانفصال، وبما في حديث أبي هريرة المذكور في الباب بلفظ: سقط ميتا. وفي لفظ
للبخاري: فطرحت جنينها قيل: وهذا الحكم مختص بولد الحرة لأن القصة وردت
في ذلك، وما وقع في الأحاديث بلفظ إملاص المرأة ونحوه فهو وإن كان فيه عموم
لكن الراوي ذكر أنه شهد واقعة مخصوصة. وقد ذهب الشافعي والهادوية وغيرهم
إلى أن في جنين الأمة عشر قيمة أمه، كما أن الواجب في جنين الحرة عشر ديتها.
باب من قتل في المعترك من يظنه كافرا فبان مسلما من أهل دار الاسلام
عن محمود بن لبيد قال: اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة
يوم أحد ولا يعرفونه فقتلوه، فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يديه
فتصدق حذيفة بديته على المسلمين رواه أحمد. وعن عروة بن الزبير قال:
كان أبو حذيفة اليمان شيخا كبيرا فرفع في الآطام مع النساء يوم أحد فخرج
يتعرض للشهادة فجاء من ناحية المشركين، فابتدره المسلمون فتوشقوه بأسيافهم وحذيفة
يقول: أبي أبي فلا يسمعونه من شغل الحرب حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم
وهو أرحم الراحمين، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بديته رواه الشافعي.
حديث محمود بن لبيد في إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس وبقية رجاله
رجال الصحيح، وأصل الحديثين في صحيح البخاري وغيره عن عروة عن عائشة
قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم فرجعت
أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله
أبي أبي، قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، قال حذيفة: غفر الله لكم، قال عروة:
فما زالت في حذيفة منه بقية خير حتى لحق بالله. وقد أخرج أبو إسحاق الفزاري
في السيرة عن الأوزاعي عن الزهري قال: أخطأ المسلمون بأبي حذيفة يوم أحد حتى
قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فبلغت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فوداه من عنده. وأخرج أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة: أن والد
حذيفة قتل يوم أحد قتله بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين، فوداه رسول
232

الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في الفتح: ورجاله ثقات مع إرساله انتهى. وهذان
المرسلان يقويان مرسل عروة المذكور في الباب في دفع أصل الدية، وإن كان حديث
عروة يدل على أنه لم يحصل منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا مجرد القضاء بالدية، ومرسل
الزهري وعكرمة يدلان على أنه صلى الله عليه وآله وسلم وداه من عنده. وحديث محمود بن
لبيد المذكور يدل على أن حذيفة تصدق بدية أبيه على المسلمين، ولا تعارض بينه
وبين تلك المرسلات، لأن غاية ما فيها أنه وقع القضاء منه صلى الله عليه وآله وسلم
بالدية أو وقع منه الدفع لها من بيت المال، وليس فيها أن حذيفة قبضها وصيرها من
جملة ماله حتى ينافي ذلك تصدقه بها عليهم. ويمكن الجمع أيضا بين تلك المرسلات
بأنه وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم القضاء بالدية ثم الدفع لها من بيت المال ثم
تعقب ذلك التصدق بها من حذيفة. (وقد استدل) المصنف رحمه الله تعالى بما
ذكره على الحكم فيمن قتله قاتل في المعركة وهو يظنه كافرا ثم انكشف مسلما.
وقد ترجم البخاري على حديث عائشة الذي ذكرناه فقال: باب إذا مات من الزحام.
وترجم عليه في باب آخر فقال: باب العفو في الخطأ بعد الموت. قال ابن بطال: اختلف
على عمر وعلي عليه السلام هل تجب الدية في بيت المال أو لا؟ وبه قال إسحاق أي
بالوجوب، وتوجيهه أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين فوجبت ديته في بيت مال
المسلمين. وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور أن رجلا زحم يوم
الجمعة فمات فوداه علي رضي الله تعالى عنه من بيت مال المسلمين. وقال الحسن
البصري، إن ديته تجب على جميع من حضر، وإلى ذلك ذهبت الهادوية. وقال الشافعي
ومن وافقه: إنه يقال لولي المقتول: ادع على من شئت واحلف فإن حلفت استحققت
الدية وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة، وتوجيهه أن الدم
لا يجب إلا بالطلب، ومنها قول مالك دمه هدر وتوجيهه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال
أن يؤخذ به أحد. قوله: الآطام جمع أطم وهو بناء مرتفع كالحصن. قوله: توشقوه
بالشين المعجمة وبعدها قاف أي قطعوه بأسيافهم، ومنه الوشيقة وهي اللحم يغلى
ثم يقدد.
233

باب ما جاء في مسألة الزبية والقتل بالسبب
عن حنش بن المعتمر عن علي رضوان الله عليه قال: بعثني رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد، فبينما هم كذلك
يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر ثم تعلق الرجل بآخر حتى صاروا فيها
أربعة فجرحهم الأسد فانتدب له رجل بحربة فقتله وماتوا من جراحتهم كلهم،
فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي رضوان الله
عليه على تفئة ذلك فقال: تريدون أن تقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
حي؟ إني أقضي بينكم قضاء إن رضيتم به فهو القضاء، وإلا حجر بعضكم على بعض
حتى تأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا
بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حضروا البئر ربع الدية وثلث الدية
ونصف الدية والدية كاملة، فللأول ربع الدية لأنه هلك من فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث الدية،
وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة، فأبوا أن يرضوا، فأتوا النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وهو عند مقام إبراهيم فقصوا عليه القصة فأجازه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد، ورواه بلفظ آخر نحو هذا وفيه: وجعل الدية على
قبائل الذين ازدحموا. وعن علي بن رباح اللخمي أن أعمى كان ينشد في
الموسم في خلافة عمر بن الخطاب، وهو يقول
: يا أيها الناس لقيت منكر أهل * يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا معا كلاهما تكسرا
وذلك أن أعمى كان يقوده بصير فوقعا في بئر، فوقع الأعمى على البصير فمات
البصير، فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى رواه الدارقطني. وفي الحديث: أن رجلا
أتى أهل أبيات فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات فأغرمهم عمر الدية حكاه أحمد في رواية
ابن منصور وقال: أقول به.
حديث حنش بن المعتمر أخرجه أيضا البيهقي والبزار قال: ولا نعلمه يروي
إلا عن علي، ولا نعلم له إلا هذه الطريقة وحنش ضعيف، وقد وثقه أبو داود، قال في
234

مجمع الزوائد، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأثر علي بن رياح أخرجه أيضا البيهقي
وهو من رواية موسى بن علي بن رباح عن أبيه. قال الحافظ: وفيه انقطاع ولفظه:
فقضى عمر بعقل البصير الحافظ على الأعمى فذكر أن الأعمى كان ينشد ثم ذكر
الأبيات. قوله: زبية للأسد الزبية بضم الزاي وسكون الموحدة بعدها تحتية وهي
حفرة الأسد، وتطلق أيضا على الرابية بالراء. قال في القاموس: والزبية بالضم الزابية
لا يعلوها ماء ثم قال وحفرة للأسد انتهى. والمقصود هنا الحفرة التي يحفرها
الناس ليقع فيها الأسد فيقتلونه، ومن إطلاق الزبية على المحل المرتفع قول عثمان
بن عفان يخاطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه أيام حصره في الدار: قد بلغ
السيل الزبى ونالني ما حسبي به وكفى. قوله: على تفئة ذلك بالتاء الفوقية المفتوحة
وكسر الفاء ثم همزة مفتوحة. قال في القاموس: تفئة الشئ حينه وزمانه. (وقد استدل)
بهذا القضاء الذي قضى به أمير المؤمنين وقرره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على أن دية المتجاذبين في البئر تكون على الصفة المذكورة، فيؤخذ من قوم الجماعة الذين
ازدحموا على البئر وتدافعوا ذلك المقدار، ثم يقسم على تلك الصفة فيعطي الأول
من المتردين ربع الدية ويهدر من دمه ثلاثة أرباع لأنه هلك بفعل المزدحمين
وبفعل نفسه وهو جذبه لمن بجنبه، فكأن موته وقع بمجموع الازدحام ووقوع
الثلاثة الأنفار عليه، ونزل الازدحام منزلة سبب واحد من الأسباب التي كان بها
موته، ووقوع الثلاثة عليه منزلة ثلاثة أسباب، فهدر من ديته ثلاثة أرباع، واستحق
الثاني ثلث الدية لأنه هلك بمجموع الجذب المتسبب عن الازدحام ووقوع الاثنين
عليه، ونزل الازدحام منزلة سبب واحد ووقوع الاثنين عليه منزلة سببين فهدر
من دمه الثلثان لأن وقوع الاثنين عليه كان بسببه، واستحق الثالث نصف الدية
لأنه هلك بمجموع الجذب ممن تحته المتسبب عن الازدحام وبوقوع من فوقه عليه
وهو واحد وسقط نصف ديته ولزم نصفها، والرابع كان هلاكه بمجرد الجذب له
فقط فكان مستحقا للدية كاملة، ولم يجعل للجناية التي وقعت من الأسد عليهم حكم
جناية من تضمن جنايته حتى ينظر في مقدار ما شاركها من الوقوع الذي كان هلاك
الواقعين بمجموعهما، والمعروف في كتب الفقه أنه إذا تجاذب جماعة في بئر بأن
سقط الأول ثم جذب من بجنبه فوقع عليه ثم كذلك حتى صار الواقعون في
235

البئر مثلا أربعة فإنه يهدر من الأول سقوط الثاني عليه لأنه بسببه وهو ربع الدية
ويضمن الحافر ربع ديته والثالث والرابع نصفها، ويهدر من الثاني سقوط الثالث
عليه وحصته ثلث ديته ويضمن الأول ثلث ديته والثالث ثلثها ويهدر من الثالث وقوع
الرابع عليه وحصته نصف الدية ويضمن الباقي نصفها ويضمن الثالث جميع دية
الرابع، هذا إذا هلكوا بمجموع الوقوع في البئر وصدم بعضهم لبعض، وأما إذا لم
يتصادموا بل تجاذبوا ووقع كل واحد منهم بجانب من البئر غير جانب صاحبه فإنها
تكون دية الأول على الحافر، ودية الثاني على الأول، ودية الثالث على الثاني، ودية
الرابع على الثالث. وأما إذا تصادموا في البئر ولم يتجاذبوا فربع دية الأول على
الحافر، وعلى الثلاثة ثلاثة أرباع، ونصف دية الثاني على الثالث والنصف الآخر
على الرابع ودية الثالث على الرابع وبهدر الرابع، وهذا إذا كان الموت وقع بمجرد
المصادمة مدون أن يكون للهوى تأثير. وإلا كان على الحافر من الضمان بقدر
ذلك، ويكون الضمان في صورة التصادم والتجاذب على عاقلة الحافر. وفي أموال
المتجاذبين المتصادمين وفي صورة التجاذب فقط كذلك. وأما في صورة التصادم
فقط فعلى عواقلهم فقط، وأما إذا لم يكن تجاذب ولا تصادم فالديات كلها على عاقلة
الحافر. (والحاصل) أن من كان جانيا على غيره خطأ فما لزم بالجناية على عاقلته، ومن
كان جانيا عمدا فمن ماله، وتحمل قصة الأعمى المذكورة في الباب على أنه لم يقع على
البصير بجذبه له وإلا كان هدرا. قوله: فاستسقاهم فلم يسقوه الخ فيه دليل على
أن من منع من غيره ما يحتاج إليه من طعام أو شراب مع قدرته على ذلك فمات ضمنه لأنه متسبب بذلك لموته وسد الرمق واجب. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى
أنه إذا مات الشخص بسبب ومباشرة يكون الضمان على المباشر فقط. قال في البحر
مسألة: ومن سقط في بئر فجر آخر فماتا بالتصادم والهوي ضمن الحافر نصف
دية الأول فقط وهدر نصف إذا مات بسببين منه ومن الحافر. وقيل لا شئ على
الحافر إذ هو فاعل سبب والجذب مباشرة، وأما المجذوب فعلى الجاذب قولا واحدا
إذ هو المباشر انتهى.
236

باب أجناس مال الدية وأسنان إبلها
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون
بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن
الحجاج بن أرطأة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطائي عن ابن مسعود
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة،
وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكرا رواه الخمسة،
وقال ابن ماجة، في إسناده عن الحجاج: حدثنا زيد بن جبير قال أبو حاتم الرازي:
الحجاج يدلس عن الضعفاء فإذا قال: حدثنا فلان فلا يرتاب به.
الحديث الأول سكت عنه أبو داود وقال المنذري في إسناده عمرو بن
شعيب وقد تقدم الكلام عليه، ومن دون عمرو بن شعيب ثقات إلا محمد بن راشد
المكحولي، وقد وثقه أحمد وابن معين والنسائي وضعفه ابن حبان وأبو زرعة. قال
الخطابي: هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء. والحديث الثاني أخرجه
أيضا البزار والبيهقي والدارقطني وقال: عشرون بنو لبون مكان قوله عشرون
ابن مخاض. رواه كذلك من طريق أبي عبيدة عن أبيه يعني عبد الله بن مسعود موقوفا
وقال: هذا إسناد حسن. وضعف الأول من أوجه عديدة، وتعقبه البيهقي بأن الدارقطني
وهم فيه والجواد قد يعثر. قال: وقد رأيته في جامع سفيان الثوري عن منصور عن
إبراهيم عن عبد الله، وعن ابن إسحاق عن علقمة عن عبد الله، وعن عبد الرحمن بن
مهدي عن يزيد بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة عن عبد
الله، وعند الجميع بنو مخاض. قال الحافظ: وقد رد يعني البيهقي على نفسه بنفسه فقال: وقد
رأيته في كتاب ابن خزيمة وهو إمام من رواية وكيع عن سفيان فقال: بنو لبون
كما قال الدارقطني فانتفى أن يكون الدارقطني عثر. وقد تكلم الترمذي على حديث
ابن مسعود المذكور فقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه. وقد روي عن عبد الله
موقوفا. وقال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه روي عن عبد الله مرفوعا
237

إلا بهذا الاسناد. وذكر الخطابي أن خشف بن مالك مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث.
وعدل الشافعي عن القول به لهذه العلة ولان فيه بني مخاض، ولا مدخل لبني المخاض
في شئ من أسنان الصدقات. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة
القسامة أنه ودي قتيل خيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض.
وقال الدارقطني: هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث وبسط الكلام
في ذلك. وقال: لا نعلمه رواه الأخفش بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم
يرو عنه إلا زيد بن جبير، ثم قال: لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير إلا حجاج بن
أرطأة وهو رجل مشهور بالتدليس، وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه. ثم ذكر
أنه قد اختلف فيه على الحجاج بن أرطأة. وقال البيهقي: خشف بن مالك مجهول.
وقال الموصلي: خشف بن مالك ليس بذاك وذكر له هذا الحديث. قال المنذري بعد
أن ذكر الخلاف فيه على الحجاج: والحجاج غير محتج به، وكذا قال البيهقي، والصحيح
أنه موقوف على عبد الله كما سلف. (وقد اختلف العلماء) في دية الخطأ من الإبل
بعد الاتفاق على أنها مائة، فذهب الحسن البصري والشعبي والهادي والمؤيد بالله
وأبو طالب إلى أنها تكون أرباعا: ربعا جذاعا، وربعا حقاقا، وربعا بنات
لبون، وربعا بنات مخاض. وقد قدمنا تفسير هذه الأسنان في كتاب الزكاة. واستدلوا بحديث ذكره
الأمير الحسين في الشفاء عن السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: دية الانسان خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون
بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض. وقد أخرجه أبو داود موقوفا على علي
رضي الله عنه من طريق عاصم بن ضمرة قال: في الخطأ أرباعا فذكره. وأخرجه
أيضا أبو داود عن ابن مسعود موقوفا من طريق علقمة والأسود قالا: قال عبد الله:
في الخطأ شبه العمد خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون
بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض، ولم أجد هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في كتاب حديثي فلينظر فيما ذكره صاحب الشفاء. وذهب ابن مسعود والزهري
وعكرمة والليث والثوري وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار ومالك والحنفي
والشافعية إلى أن الدية تكون أخمسا: خمسا جذاعا، وخمسا حقاقا، وخمسا
بنات لبون، وخمسا بنات مخاض، وخمسا أبناء لبون. وحكى صاحب البحر عن أبي حنيفة أن النوع الخامس
238

يكون أبناء مخاض وهو موافق لحديث الباب عن ابن مسعود مرفوعا، والأول موافق
للموقوف عن ابن مسعود كما ذكرنا، وذهب عثمان بن عفان وزيد بن ثابت إلى أنها
تكون ثلاثين جذعة وثلاثين حقة وعشرين ابن لبون وعشرين بنت مخاض، وهذا
الخلاف في دية الخطأ المحض، وأما في دية العمد وشبهه فقد تقدم طرف من الخلاف
في ذلك، وسيأتي الكلام عليه قريبا إن شاء الله تعالى.
وعن عطاء بن أبي رياح: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قضى وفي رواية عن عطاء عن جابر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل
الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن من كان عقله
في البقر على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في الشاء ألفي شاة رواه
الخمسة إلا الترمذي.
حديث عطاء رواه أبو داود مسندا بذكر جابر ومرسلا وهو من رواية محمد
بن إسحاق عنه وقد عنعن وهو ضعيف إذا عنعن لما اشتهر عنه من التدليس، فالمرسل
فيه علتان: الارسال وكونه من طريقه. والمسند أيضا فيه علتان: العلة الأولى كونه
في إسناده محمد ابن إسحاق المذكور، والعلة الثانية كونه قال فيه: ذكر عطاء عن جابر
بن عبد الله ولم يسم من حدثه عن عطاء فهي رواية عن مجهول. وحديث عمرو بن
شعيب في إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه
جماعة. وهذا الذي ذكره ا لمصنف ههنا بعض من الحديث، وهو حديث طويل ساقه بجميعه
أبو داود في سننه، وقد استدل بحديثي الباب من قال: إن الدية من الإبل مائة، ومن
البقر مائتان، ومن الشاة ألفان، ومن الحلل مائتان، كل حلة إزار ورداء وقميص
وسراويل، وفيهما رد على من قال: إن الأصل في الدية الإبل، وبقية الأصناف
مصالحة لا تقدير شرعي، وقد قدمنا تفصيل الخلاف في ذلك في أول أبواب الديات.
ويدل على أن الدية من الذهب ألف دينار ما تقدم في حديث عمرو بن حزم بلفظ:
على أهل الذهب ألف دينار ويدل على أنها من الفضة اثنا عشر ألف درهم
ما سيأتي قريبا، وهو ما أخرجه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا من
239

بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ديته اثني عشر ألفا، قال أبو داود:
رواه ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر عن
ابن عباس. وأخرجه الترمذي مرفوعا ومرسلا، وأرسله النسائي، ورواه ابن ماجة
مرفوعا، قال الترمذي: ولا نعلم أحدا يذكر في هذا الحديث عن ابن عباس غير محمد
بن مسلم انتهى. ومحمد بن مسلم هذا هو الطائفي. وقد أخرج له البخاري في المتابعات
ومسلم في الاستشهاد، ووثقه يحيى بن معين. وقال مرة: إذا حدث من حفظه يخطئ،
وإذا حدث من كتابه فليس به بأس، وضعفه الإمام أحمد، وقد أخرجه النسائي
عن محمد بن ميمون عن ابن عيينة وقال فيه: سمعناه مرة يقول عن ابن عباس. وأخرجه
الدارقطني في سننه عن أبي محمد بن صاعد وقال فيه عن ابن عباس. وقال الدارقطني
: قال ابن ميمون وإنما قال لنا فيه عن ابن عباس مرة واحدة، وأكثر ذلك
كان يقول عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وذكره البيهقي من حديث
الطائفي موصولا وقال: رواه أيضا سفيان عن عمرو بن دينار موصولا، ومحمد بن
ميمون المذكور هو أبو عبد الله المكي الخياط روى عن ابن عيينة وغيره قال النسائي:
صالح. وقال أبو حاتم الرازي: كان أميا مغفلا ذكر لي منه أنه روى عن أبي
سعيد مولى بني هاشم عن شعبة حديثا باطلا، وما يبعد أن يكون وضع للشيخ فإنه كان
أميا. وقال في الخلاصة: وثقه ابن حبان. ويعارض هذا الحديث ما أخرجه أبو داود من
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف
من دية المسلمين، قال: فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: ألا إن
الإبل قد غلت، قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق
اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل
الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية. ولا يخفى أن
حديث ابن عباس فيه إثبات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرضها اثني عشر
ألفا وهو مثبت فيقدم على النافي كما تقرر في الأصول، وكثرة طرقه تشهد لصحته،
والرفع زيادة إذا وقعت من طريق ثقة تعين الاخذ بها.
وعن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
240

وآله وسلم: خطب رسول الله (ص) يوم فتح مكة فقال: ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا
والحجر دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون من ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة
رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا قتل فجعل
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ديته اثني عشر ألفا رواه الخمسة إلا أحمد، وروى
ذلك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا وهو أصح وأشهر.
الحديث الأول أخرجه أيضا البخاري في تاريخه الكبير وساق اختلاف
الرواة فيه، وأخرجه أيضا الدارقطني وساق أيضا الاختلاف، ويشهد له ما أخرجه
أبو داود عقبه من حديث ابن عمر بنحوه، وقد قدمنا ما يشهد لذلك أيضا في باب
ما جاء في شبه العمد. والحديث الثاني قد تقدم الكلام عليه وعلى فقهه في شرح الحديث
الذي قبل حديث عقبة ابن أوس المذكور، وتقدم أيضا الخلاف في شبه العمد، وأن
القتل ينقسم إلى عمد وشبه عمد وخطأ في باب ما جاء في شبه العمد مستوفى. قوله
: خلفة بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام بعدها فاء وهي الحامل وتجمع على خلفات
وخلائف. وقد ذهب الشافعي إلى تغليظ الدية أيضا على من قتل في
الحرم أو قتل محرما أو في الأشهر الحرم قال: لأن الصحابة رضي الله عنهم
غلظوا في هذا لأحوال وإن اختلفوا في كيفية التغليظ، ولم ينكر ذلك أحد من
الصحابة فكان إجماعا. ومن جملة من ذهب إلى التغليظ من السلف على ما حكاه في
البحر عمر وعثمان وابن عباس والزهري وقتادة وداود وابن المسيب وعطاء وجابر
بن زيد ومجاهد وسليمان بن يسار والنخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم. وقد
أخرج البيهقي من طريق مجاهد عن عمر أنه قضى فيمن قتل في الحرم أو في الشهر
الحرام أو وهو محرم بالدية وثلث الدية وهو منقطع وفي إسناده ليث بن أبي سليم
وهو ضعيف. قال البيهقي: وروي عن عكرمة عن عمر بن الخطاب ما يدل على التغليظ
في الشهر الحرام. وقال ابن المنذر: روينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: من قتل في الحرم
أو قتل محرما أو قتل في الشهر الحرام فعليه الدية وثلث الدية. وروى الشافعي والبيهقي
عن عمر أيضا من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلا أوطأ امرأة بمكة فقتلها
فقضى فيها بثمانية آلاف درهم دية وثلث. وروى البيهقي وابن حزم وعن ابن عباس
من طريق نافع بن جبير عنه قال: يزاد في دية المقتول في الأشهر الحرم أربعة آلاف،
241

وفي دية المقتول في الحرم أربعة آلاف. وروى ابن حزم عنه: أن رجلا قتل في
البلد الحرام في الشهر الحرام فقال ابن عباس: ديته اثنا عشر ألفا، وللشهر الحرام والبلد
الحرام أربعة آلاف وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى عدم التغليظ في جميع ما سلف إلا في
شبه العمد فإن أبا حنيفة يغلظ فيه.
باب العاقلة وما تحمله
صح عنه عليه السلام أنه قضى بدية المرأة المقتولة ودية جنينها
على عصبة القاتلة وروى جابر قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كل
بطن عقولة ثم كتب: أنه لا يحل أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه رواه أحمد
ومسلم والنسائي. وعن عبادة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الجنين
المقتول بغرة عبد أو أمة قال: فورثها بعلها وبنوها، قال: وكان من امرأتيه كلتيهما
ولد فقال أبو القاتلة المقضى عليه: يا رسول الله كيف أغرم من لا صاح ولا استهل
ولا شرب ولا أكل؟ فمثل ذلك بطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا
من الكهان رواه عبد الله بن أحمد في المسند. وعن جابر: أن امرأتين من
هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال عاقلة
المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ميراثها لزوجها وولدها
رواه أبو داود، وهو حجة في أن ابن المرأة ليس من عاقلتها.
الحديث الأول الذي أشار إليه المصنف بقوله: صح عنه أنه قضى الخ قد تقدم
في باب دية الجنين. وحديث عبادة قد تقدم ما يشهد له في باب دية الجنين أيضا. وحديث
جابر أخرجه أيضا ابن ماجة وصححه النووي في الروضة وفي إسناده مجالد، وهو
ضعيف لا يحتج بما انفرد به ففي تصحيحه ما فيه. وقد تكلم جماعة من الأئمة في
مجالد بن سعيد وقد اختلفت الأحاديث، ففي بعضها ما يدل على أن لكل واحدة
من المرأتين المقتتلتين زوجا غير الأخرى كما في حديث جابر المذكور في الباب،
وكما في حديث أبي هريرة عند الشيخين بلفظ: أن امرأتين من هذيل اقتتلتا ولكل
242

واحدة منهما زوج فبرأ الزوج والولد، ثم ماتت القاتلة فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ميراثها لبنيها والعقل على العصبة. وفي بعض الأحاديث ما يدل على أن المرأتين
المقتتلتين زوجهما واحد كما في حديث الباب، وكما أخرجه الطبراني من طريق أبي
المليح بن أسامة بن عمر الهذلي عن أبيه قال: كان فينا رجل يقال له حمل بن مالك
له امرأتان إحداهما هذلية والأخرى عامرية، فضربت الهذلية بطن العامرية. وأخرجه
الحرث من طريق أبي المليح فأرسله لم يقل عن أبيه ولفظه: أن حمل بن النابغة كان
له امرأتان مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن النابغة
فضربت أم عفيف مليكة. وفي رواية لابن عباس عند أبي داود: إحداهما مليكة والأخرى
أم عطيف. قوله: باب العاقلة بكسر القاف جمع عاقل وهو دافع الدية، وسميت
الدية عقلا تسمية بالمصدر لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي المقتول، ثم كثر الاستعمال
حتى أطلق العقل على الدية ولو لم تكن إبلا، وعاقلة الرجل قراباته من قبل الأب
وهم عصبته، وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول، وتحميل العاقلة الدية
ثابت بالسنة وهو إجماع أهل العلم كما حكاه في الفتح، وتضمين العاقلة مخالف لظاهر
قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الانعام: 164) فتكون الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة
مخصصة لعموم الآية لما في ذلك من المصلحة، لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن
تأتي على جميع ماله، لأن تتابع الخطأ لا يؤمن ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم
المقتول، وعاقلة الرجل عشيرته فيبدأ بفخذه الأدنى فإن عجزوا ضم إليهم الأقرب
فالأقرب المكلف الذكر الحر من عصبة النسب ثم في بيت المال. وقال الناصر: إنها
تجب على العصبة ثم السبب ثم على أهل الديوان يعني جند السلطان. وقال
أبو حنيفة: إنها تجب على أهل الديوان ولا شئ على الورثة لأن عمر جعلها على
أهل الديوان دون أهل الميراث ولم ينكر هكذا في البحر، ولا يخفى ما في
ذلك من المخالفة للأحاديث الصحيحة. وقد حكي عن الأصم وابن علية وأكثر
الخوارج أن دية الخطأ في مال القاتل ولا تلزم العاقلة. وحكي عن علقمة وابن أبي
ليلى وابن شبرمة والبتي وأبي ثور أن الذي يلزم العاقلة هو الخطأ المحض، وعمد
الخطأ في مال القاتل. قوله: على كل بطن عقولة بضم العين المهملة والقياس في مصدر
عقل أن يأتي على العقل أو العقول وإنما دخلت الهاء لإفادة المرة الواحدة. قوله:
لا يحل أن يتوالى مولى رجل الخ، فيه تحريم أن يتولى موالي الرجل مولى رجل
243

آخر، وليس المراد بقوله بغير إذنه أنه يجوز ذلك مع الاذن بل المراد التأكيد
كقوله تعالى: * (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) * (آل عمران: 130). قوله: قضى في الجنين المقتول
بغرة الخ، قد تقدم تفسير الجنين والغرة وما يتعلق بهما في باب دية الجنين. قوله: وبرأ
زوجها وولدها فيه دليل على أن الزوج والولد ليسا من العاقلة، وإليه ذهب مالك
والشافعي، وذهبت العترة إلى أن الولد من جملة العاقلة وقد تقدم كلام في ذلك.
وعن عمران بن حصين: أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام
لأناس أغنياء فأتى أهله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا نبي الله إنا
أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئا رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وفقهه أن ما تحمله
العاقلة يسقط عنهم بفقرهم ولا يرجع على القاتل.
الحديث أخرجه أيضا ابن ماجة وصحح الحافظ إسناده وهو عند أبي داود
من رواية أحمد بن حنبل عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي نضرة عن
عمران بن حصين وهذا إسناد صحيح. (وفي الحديث) دليل على أن الفقير لا يضمن
أرش ما جناه ولا يضمن عاقلته أيضا ذلك. قال البيهقي: إن كان المراد فيه الغلام
المملوك فإجماع أهل العلم على أن جناية العبد في رقبته، وقد حمله الخطابي على أن
الجاني كان حرا، وكانت الجناية خطأ، وكانت عاقلته فقرا، فلم يجعل عليهم شيئا، إما
لفقرهم وإما لأنهم لا يعقلون الجناية الواقعة من العبد على العبد على فرض أن الجاني
كان عبدا، وقد يكون الجاني غلاما حرا وكانت الجناية عمدا فلم يجعل أرشها على
عاقلته، وكان فقيرا فلم يجعل في الحال عليه شيئا، أو رآه على عاقلته فوجدهم فقراء
فلم يجعل عليهم شيئا لفقرهم، ولا عليه لكون جنايته في حكم الخطأ، هذا معنى
كلام الخطابي. وقد ذهب أكثر العترة إلى أن جناية الخطأ تلزم العاقلة وإن كانوا فقراء، قالوا:
إذا شرعت لحقن دم الخاطئ نعم الوجوب، وقال الشافعي: لا تلزم الفقير، وقال أبو حنيفة:
إذا كان له حرفة وعمل. وقد ذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أن عمد الصغير تلزم الفقير
في ماله وكذلك المجنون ولا يلزم العاقلة. وذهبت العترة وأبو حنيفة والشافعي في
أحد قوليه إلى أن عمد الصبي والمجنون على عاقلتهما، واستدل لهم في البحر بما
روي عن علي عليه السلام أنه قال: لا عمد للصبيان والمجانين. قال: وهو توقيف أو
اجتهاد اشتهر ولم ينكر، ولا بد من تأويل لفظ الغلام بما سلف لما تقدم من الاجماع
244

وسيأتي أيضا حديث أن العاقلة لا تعقل جناية العبد.
وعن عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجني جان إلا على
نفسه، لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده رواه أحمد وابن ماجة والترمذي
وصححه. وعن الخشخاش العنبري قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومعي ابن لي فقال: ابنك هذا؟ فقلت: نعم، قال: لا يجني عليك ولا تجني عليه رواه
أحمد وابن ماجة. وعن أبي رمثة قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأيت برأسه ردع حناء وقال لأبي: هذا ابنك؟ قال: نعم،
قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
* (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الانعام: 164) رواه أحمد وأبو داود. وعن ابن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه
رواه النسائي. وعن رجل من بني يربوع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وهو يكلم الناس فقام إليه الناس فقالوا: يا رسول الله هؤلاء بنو فلان
الذين قتلوا فلانا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تجني نفس على نفس
رواه أحمد والنسائي.
حديث عمرو بن الأحوص أخرجه أيضا أبو داود كما روى ذلك عنه صاحب
التلخيص ورجال إسناده ثقات إلا سليمان بن عمرو بن الأحوص وهو مقبول.
وحديث الخشخاش أورده في التلخيص وسكت عنه، وله طرق رجال أسانيدها ثقات.
وروى نحوه الطبراني مرسلا بإسناد رجاله ثقات. وحديث أبي رمثة أخرجه أيضا
النسائي والترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن الجارود والحاكم. قال الحافظ:
وأخرج نحوه أحمد والنسائي من رواية ثعلبة بن زهدم. وللنسائي وابن ماجة وابن
حبان من رواية طارق المحاربي. ولابن ماجة من رواية أسامة بن شريك انتهى.
وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا البزار ورجاله رجال الصحيح. وحديث الرجل
من بني يربوع رجال أحمد رجال الصحيح. وأحاديث الباب يشهد بعضها لبعض
ويقوي بعضها بعضا، والثلاثة الأحاديث الأولة تدل على أنه لا يضمن الولد من
جناية أبيه شيئا، ولا يضمن الوالد من جناية ابنه شيئا، أما عدم ضمان الولد فهو مخصوص
245

من ضمان العاقلة بما سلف من حديث جابر. وأما الأب فقد استدل بهذه الأحاديث
على أنه لا يضمن جناية ابنه كما أن الابن لا يضمن جناية الأب، وإلى ذلك ذهب
مالك والشافعي في الابن والأب كما تقدم، وجعلا هذه الأحاديث مخصصة لعموم
الأحاديث القاضية بضمان العاقلة على العموم، فلا يكون الأب والابن من العاقلة التي
تضمن الجناية الواقعة على جهة الخطأ، وخالفتهما في ذلك العترة كما سلف، ويمكن
الاستدلال لهم بأن هذه الأحاديث قاضية بعدم ضمان الابن لجناية الأب، والأب
لجناية الابن، سواء كانت عمدا أو خطأ، فتكون مخصصة بالأحاديث القاضية بضمان
العاقلة، وهذا وإن سلم فلا يتم باعتبار الابن لأنه قد خرج من عموم العاقلة بما تقدم
في حديث جابر: من أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل دية المقتولة على عاقلة القاتلة
وبرأ زوجها وولدها. (والحاصل) أنه قد تعارض ههنا عمومان لأن الأحاديث القاضية
بضمان العاقلة هي أعم من الأب وغيره من الأقارب كما سلف، والأحاديث المذكورة
هي أعم من جناية العمد والخطأ، وقد قيل: إن ما تحمله العاقلة في جناية الخطأ والقسامة
ليس من تحمل عقوبة الجناية، وإنما هو من باب النصرة والمعاضدة فيما بين الأقارب
، فلا معارضة بين هذه الأحاديث وأحاديث ضمان العاقلة، وقد تقدم في باب دية
الجنين من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي القاتلة:
أد في الصبي غرة وجعله المصنف دليلا على أن الأب من العاقلة كما سلف. وأما
حديث ابن مسعود وحديث الرجل الذي من بني يربوع فهما يدلان على أنه
لا يؤاخذ أحد بذنب أحد في عقوبة ولا ضمان، ولكنهما مخصصان بأحاديث ضمان
العاقلة المتقدمة لأنهما أعم مطلقا كما خصص بها عموم قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر
أخرى) * (الانعام: 164) وقد قدمنا أن ضمان العاقلة لجناية الخطأ مجمع عليه على ما حكاه صاحب
الفتح، وقد حمل المصنف رحمه الله هذه العمومات على جناية العمد كما سيأتي. قوله:
وعن الخشخاش بخاءين معجمتين مفتوحتين وشينين معجمتين الأولى ساكنة.
قوله: عن أبي رمثة بكسر الراء المهملة وبعدها ميم ساكنة وثاء مثلثة وتاء تأنيث
واسمه رفاعة بن يثربي بفتح التحتية بعدها مثلثة ساكنة ثم راء مكسورة ثم باء
موحدة ثم ياء النسبة وفي اسمه اختلاف كثير. قوله: ردع بفتح الراء وسكون
الدال المهملة بعدها عين مهملة وهو لطخ من زعفران أو دم أو حناء أو طيب أو غير
246

ذلك، وهو هنا من حناء كما وقع مبينا في الرواية. قوله: بجريرة أبيه بجيم فراء
تحتية فراء فهاء تأنيث، قال في القاموس: والجريرة الذنب والجناية.
وعن عمر قال: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة رواه
الدارقطني وحكى أحمد عن ابن عباس مثله. وقال الزهري: مضت السنة أن
العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن يشاؤوا، رواه عنه مالك في الموطأ، وعلى
هذا وأمثاله تحمل العمومات المذكورة.
أثر عمر أخرجه أيضا البيهقي، قال الحافظ: وهو منقطع وفي إسناده عبد الملك
بن حسين وهو ضعيف، قال البيهقي: والمحفوظ أنه عن عامر الشعبي من قوله. وأثر
ابن عباس أخرجه أيضا البيهقي ولفظه: لا تحمل العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا
ولا ما جنى المملوك. وقول الزهري روى معناه البيهقي عن أبي الزناد عن الفقهاء من
أهل المدينة، وفي الباب عن عبادة بن الصامت عند الدارقطني والطبراني: أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئا وفي إسناده
محمد بن سعيد المصلوب وهو كذاب. وفيه أيضا الحرث بن نبهان وهو منكر
الحديث. وقد تمسك بما في الباب من قال إن العاقلة لا تعقل العمد ولا العبد ولا الصلح
ولا الاعتراف، وقد اختلف في المجني عليه إذا كان عبدا فذهب الحكم وحماد والعترة
وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه إلى أن العاقلة تحمل العبد كالحر. وذهب مالك
والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنها لا تحمله، وقد أجيب عن قول عمر مع
كونه مما لا يحتج به لكون أقوال الصحابة لا تكون حجة إلا إذا أجمعوا أن المراد
أن العاقلة لا تعقل الجناية الواقعة من العبد على غيره، كما يدل على ذلك قول ابن
عباس الذي ذكرناه بلفظ: ولا ما جنى المملوك. (والحاصل) أنه لم يكن في الباب
ما ينبغي إثبات الأحكام الشرعية بمثله، فالمتوجه الرجوع إلى الأحاديث القاضية
بضمان العاقلة مطلقا لجناية الخطأ، ولا يخرج عن ذلك إلا ما كان عمدا، وظاهره
عدم الفرق بين كون الجناية الواقعة على جهة العمد من الرجل على غيره أو على
نفسه، وإليه ذهبت العترة والحنفية والشافعية، وذهب الأوزاعي وأحمد
وإسحاق إلى أن جناية العمد على نفس الجناني مضمونة على عاقلته، واعلم أنه
قد وقع الاجماع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة، ولكن اختلفوا في
247

مقدار الاجل، فذهب الأكثر إلى أن الاجل ثلاث سنين. وقال ربيعة: إلى خمس.
وحكي في البحر عن بعض الناس بعد حكايته للاجماع السابق أنها تكون حالة إذ
لم يرو عنه صلى الله عليه وآله وسلم تأجيلها. قال في البحر قلنا: روي عن علي رضي الله
عنه أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين. وقاله عمر وابن عباس ولم ينكرا انتهى.
قال الشافعي في المختصر: لا أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى
بالدية على العاقلة في ثلاث سنين. قال الرافعي: تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك
فمنهم من قال ورد ونسبه إلى رواية علي عليه السلام، ومنهم من قال ورد أنه
صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدية على العاقلة، وأما التأجيل فلم يرد به الخبر وأخذ
ذلك من إجماع الصحابة. وقال ابن المنذر: ما ذكره الشافعي لا نعرفه أصلا من كتاب
ولا سنة، وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال: لا نعرف فيه شيئا، فقيل: إن أبا
عبد الله يعني الشافعي رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لعله سمعه من
ذلك المدني فإنه كان حسن الظن به يعني إبراهيم بن أبي يحيى وتعقبه ابن الرفعة
بأن من عرف حجة على من لم يعرف. وروى البيهقي من طريق ابن لهيعة عن يحيى
بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين، وقد
وافق الشافعي على نقل الاجماع الترمذي في جامعه وابن المنذر فحكى كل واحد
منهما الاجماع. وقد روى التأجيل ثلاث سنين ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي
عن عمر وهو منقطع لأنه من رواية الشعبي عنه. ورواه عبد الرزاق أيضا عن ابن
جريج عن أبي وائل قال: إن عمر بن الخطاب جعل الدية الكاملة في ثلاث سنين،
وجعل نصف الدية في سنتين، وما دون النصف في سنة. وروى البيهقي
التأجيل المذكور عن أمير المؤمنين علي رضوان الله تعالى عليه وهو منقطع وفي
إسناده ابن لهيعة.
248

كتاب الحدود
باب ما جاء في رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبه
عن أبي هر وزيد بن خالد أنهما قالا: أن رجلا من الاعراب أتى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب
الله؟ وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قل، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته
وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم
فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب
الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس لرجل من
أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجمت رواه الجماعة. قال مالك: العسيف الأجير،
ويحتج به من يثبت الزنا بالاقرار مرة ومن يقتصر على الرجم. وعن أبي
هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام
وإقامة الحد عليه. وعن الشعبي: أن عليا رضي الله عنه حين رجم المرأة
ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم رواهما أحمد والبخاري. وعن عبادة بن الصامت
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا عني خذوا عني قد جعل الله
لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم رواه
الجماعة إلا البخاري والنسائي. وعن جابر بن عبد الله أن رجلا زنى بامرأة
فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجلد الحد ثم أخبر أنه محصن فأمر به فرجم
رواه أبو داود. وعن جابر بن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجم
ماعز بن مالك ولم يذكر جلدا رواه أحمد.
249

حديث جابر بن عبد الله سكت عنه أبو داود والمنذري. وقد قدمنا في
أول الكتاب أو ما سكتا عنه فهو صالح للاحتجاج به. وقد أخرجه أبو داود عنه من
طريقين ورجال إسناده رجال الصحيح، وأخرجه أيضا النسائي. وحديث جابر
بن سمرة أخرجه أيضا البيهقي، وأورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه.
وقد أخرجه أيضا البزار قال في مجمع الزوائد: في إسناده صفوان بن المغلس لم أعرفه
وبقية إسناده ثقات. وحديثه أصله في الصحيح وسيأتي. قوله: كتاب الحدود
الحد لغة المنع ومنه سمي البواب حدادا، وسميت عقوبات المعاصي حدودا لأنها
تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لأجلها في الغالب. وأصل الحد
الشئ الحاجز بين الشيئين، ويقال على ما ميز الشئ عن غيره، ومنه حدود الدار والأرض،
ويطلق الحد أيضا على نفس المعصية ومنه: * (تلك حدود الله فلا تقربوها) * (البقرة: 187). وفي الشرع
عقوبة مقدرة لأجل حق الله فيخرج التعزير لعدم تقديره، والقصاص لأنه حق
لآدمي. قوله: أنشدك الله بفتح الهمزة وسكون النون وضم المعجمة أي
أذكرك الله. قوله: إلا قضيت لي بكتاب الله أي لا أسألك إلا القضاء بكتاب الله
، فالفعل مؤول بالمصدر للضرورة أو بتقدير حرف المصدر فيكون الاستثناء مفرغا.
والمراد بكتاب الله ما حكم به الله على عباده، سواء كان من القرآن أو على لسان الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: المراد به القرآن فقط. قوله: وهو أفقه منه لعل
الراوي عرف ذلك قبل الواقعة أو استدل بما وقع منه في هذه القضية على أنه أفقه
من صاحبه. قوله قال إن ابني هذا الخ، القائل هو الآخر الذي وصفه الراوي
بأنه أفقه كما يشعر بذلك السياق. وقال الكرماني: إن القائل هو الأول، ويدل
على ذلك ما وقع في كتاب الصلح من صحيح البخاري بلفظ: فقال الاعرابي إن ابني
بعد قوله في الحديث: جاء أعرابي قال الحافظ: والمحفوظ ما في سائر الطرق. قوله
: عسيفا على هذا بفتح العين المهملة وكسر السين المهملة أيضا وتحتية وفاء كالأجير
وزنا ومعنى، وقد وقع تفسير ذلك في صحيح البخاري مدرجا كما أشار إليه المصنف،
ووقع في رواية للنسائي بلفظ: كان ابني أجيرا لامرأته ويطلق العسيف على
السائل والعبد والخادم. والعسف في أصل اللغة الجور وسمي الأجير بذلك لان
المستأجر يعسفه على العمل أي يجور عليه. ومعنى قوله على هذا: عند هذا. قوله: وإني
250

أخبرت على البناء للمجهول. قوله: جلد مائة بالإضافة في رواية الأكثرين،
وقرئ بتنوين جلد ونصب مائة. قال الحافظ: ولم يثبت رواية. قوله: والغنم رد
أي مردود. وقد استدل بذلك على عدم حل الأموال المأخوذة في الصلح مع
عدم طيبة النفس. قوله: وعلى ابنك جلد مائة حكمه صلى الله عليه وآله وسلم
بالجلد من دون سؤال عن الاحصان يشعر بأنه عالم بذلك من قبل. ووقع في رواية
بلفظ: وابني لم يحصن. قوله: يا أنيس بضم الهمزة بعدها نون ثم تحتية ثم
سين مهملة مصغرا. قال ابن عبد البر: هو ابن الضحاك الأسلمي، وقيل ابن مرشد.
وقال ابن السكن في كتاب الصحابة: لم أدر من هو ولا ذكر إلا في هذا الحديث،
وغلط بعضهم فقال: إنه أنس بن مالك وليس الامر كذلك فإن أنس بن مالك
أنصاري وهذا أسلمي كما وقع التصريح بذلك في حديث الباب. قوله: فإن اعترفت
فارجمها فيه دليل لمن قال إنه يكفي الاقرار مرة واحدة، وسيأتي الخلاف في ذلك
وبيان ما هو الحق. وقد استشكل بعثه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المرأة مع أمره لمن أتى
الفاحشة بالستر، وأجيب بأن بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها لم يكن
لأجل إثبات الحد عليها، بل لأنها لما قذفت بالزنا بعث إليها لتنكر فتطالب بحد
القذف أو تقر بالزنا فيسقط حد القذف. قوله: فأمر بها رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فرجمت في رواية الأكثرين فاعترفت فرجمها. وفي رواية مختصرة: فغدا
عليها فرجمها. وفي رواية: وأما امرأة هذا فترجم والرواية المذكورة في الباب أتم من
سائر الروايات لاشعارها بأن أنيسا أعاد جوابها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فأمر بها فرجمها. قال الحافظ: والذي يظهر أن أنيسا لما اعترفت أعلم النبي صلى الله
عليه وآله وسلم مبالغة في الاستثبات مع كونه كان علق له رجمها على اعترافها، ولكنه
لا بد من أن يقال إن أنيسا أعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه غيره ممن يصح
أن يثبت بشهادة حد الزنا، لكنه اختصر ذلك في الرواية، وإن كان قد استدل به
البعض بأنه يجوز للحاكم أن يحكم بإقرار الزاني من غير أن يشهد عليه غيره، وأنيس
قد فوض إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحكم، وقد يجاب عنه بأنها واقعة عين،
ويحتمل أن يكون أنيس قد أشهد قبل رجمها. وقد حكى القاضي عياض عن الشافعي
في قول له وأبي ثور أنه يجوز للحاكم في الحدود أن يحكم بما أقربه الخصم عنده
251

وأبى ذلك الجمهور. قوله: بنفي عام في هذا الحديث، وفي حديث أبي هريرة
المذكور قبله، وفي حديث عبادة بن الصامت المذكور بعده دليل على ثبوت التغريب
ووجوبه على من كان غير محصن. وقد ادعى محمد بن نصر في كتاب الاجماع الاتفاق
على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين. وقال ابن المنذر: أقسم النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في قصة العسيف أنه يقضي بكتاب الله تعالى. ثم قال إن عليه جلد مائة
وتغريب عام وهو المبين لكتاب الله تعالى. وخطب عمر بذلك على رؤوس المنابر
، وعمل به الخلفاء الراشدون ولم ينكره أحد فكان إجماعا. وقد حكى القول بذلك
صاحب البحر عن الخلفاء الأربعة وزيد بن علي والصادق وابن أبي ليلى والثوري
ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والامام يحيى وأحد قولي الناصر. وحكي عن
القاسمية وأبي حنيفة وحماد أن التغريب والحبس غير واجبين، واستدل لهم بقوله:
إذ لم يذكرا في آية الجلد، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا زنت أمة أحدكم
فليجلدها الحديث وهذا الاستدلال من الغرائب، فإن عدم ذكر التغريب في آية الجلد
لا يدل على مطلق العدم، وقد ذكر التغريب في الأحاديث الصحيحة الثابتة باتفاق أهل العلم
بالحديث من طريق جماعة من الصحابة، بعضها ذكره المصنف في الباب، وبعضها لم يذكر،
وليس بين هذا الذكر وبين عدمه في الآية منافاة، وما أشبه هذا الاستدلال بما استدل به
الخوارج على عدم ثبوت رجم المحصن فقالوا لأنه ليذكر في كتاب الله، وأغرب من هذا
استدلاله بعدم ذكر التغريب في قوله: إذ زنت أمة أحدكم. (والحاصل) أن أحاديث
التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبر عند الحنفية فيما ورد من السنة زائدا على
القرآن فليس لهم معذرة عنها بذلك، وقد عملوا بما هو دونها بمراحل، كحديث نقض
الوضوء بالقهقهة، وحديث جواز الوضوء بالنبيذ وهما زيادة على ما في القرآن، وليس
هذه الزيادة مما يخرج بها المزيد عليه عن أن يكون مجزئا حتى تتجه دعوى النسخ.
وقد أجاب صاحب البحر عن أحاديث التغريب بأنه عقوبة لا حد، ويجاب عن ذلك
بالقول بموجبه، فإن الحدود كلها عقوبات، والنزاع في ثبوته لا في مجرد التسمية.
وأما الاستدلال بحديث سهل بن سعد عند أبي داود: أن رجلا من بكر بن ليث
أقر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه زنى بامرأة وكان بكرا فجلده النبي صلى الله عليه
وآله وسلم مائة وسأله البينة على المرأة إذ كذبته فلم يأت بشئ فجلده حد الفرية
252

ثمانين جلدة قالوا: ولو كان التغريب واجبا لما أخل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم
. فيجاب عنه باحتمال أن يكون ذلك قبل مشروعية التغريب، غاية الأمر احتمال تقدمه
وتأخره على أحاديث التغريب، والمتوجه عند ذلك المصير إلى الزيادة التي لم تقع
منافية للمزيد، ولا يصلح ذلك للصرف عن الوجوب إلا على فرض تأخره ولم يعلم، وهكذا
يقال في حديث: إذا زنت أمة أحدكم المتقدم، وبه يندفع ما قاله الطحاوي من أنه
ناسخ للتغريب معللا ذلك بأنه إذا سقط عن الأمة سقط عن الحرة لأنها في معناها
قال ويتأكد ذلك بأحاديث: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم وقد تقدمت. قال: وإذا
انتفى عن النساء انتفى عن الرجال، قال: وهو مبني على أن العموم إذا خص سقط
الاستدلال به وهو مذهب ضعيف انتهى. وغاية الامر أنا لو سلمنا تأخر حديث
الأمة عن أحاديث التغريب كان معظم ما يستفاد منه أن التغريب في حق الإماء
ليس بواجب ولا يلزم ثبوت مثل ذلك في حق غيرها أو يقال: إن حديث الأمة
المذكور مخصص لعموم أحاديث التغريب مطلقا على ما هو الحق من أنه يبني العام
على الخاص تقدم أو تأخر أو قارن، ولكن ذلك التخصيص باعتبار عدم الوجوب
في الخاص لا باعتبار عدم الثبوت مطلقا، فإن مجرد الترك لا يفيد مثل ذلك، وظاهر
أحاديث التغريب أنه ثابت في الذكر والأنثى، وإليه ذهب الشافعي، وقال مالك
والأوزاعي: لا تغريب عن المرأة لأنها عورة وهو مروي عن أمير المؤمنين علي رضي
الله عنه، وظاهرها أيضا أنه لا فرق بين الحر والعبد، وإليه ذهب الثوري وداود
والطبري والشافعي في قول له والامام يحيى ويؤيده في قوله تعالى: * (فعليهن نصف
ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 25). وقد ذهب بعضهم إلى أنه ينصف في حق الأمة
والعبد قياسا على الحد وهو قياس صحيح. وفي قول للشافعي إنه لا ينصف فيهما.
وذهب مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق والشافعي في قول له وهو مروي عن
الحسن إلى أنه لا تغريب للرق واستدلوا بحديث: إذا زنت أمة أحدكم المتقدم، وقد
تقدم الجواب عن ذلك، وسيأتي الحديث أيضا في باب السيد يقيم الحد على رقيقه.
وظاهر الأحاديث المذكورة في الباب أن التغريب هو نفي الزاني عن محله سنة،
وإليه ذهب مالك والشافعي وغيرهما ممن تقدم ذكره. والتغريب يصدق بما يطلق عليه
اسم الغربة شرعا، فلا بد من إخراج الزاني عن المحل الذي لا يصدق عليه اسم
253

الغربة فيه، قيل: وأقله مسافة قصر. وحكي في البحر عن علي وزيد بن علي والصادق
والناصر في أحد قوليه أن التغريب هو حبس سنة، وأجاب عنه بأنه مخالف لوضع
التغريب، وتعقبه صاحب ضوء النهار بأن مخالفة الوضع لا تنافي التجوز وهما مشتركان
في فقد الأنيس، قال: ومنه بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا وجعل قرينة المجاز حديث
النهي عن سفر المرأة مع غير محرم، ويجاب عن هذا التعقب بأن الواجب حمل
الأحكام الشرعية على ما هي حقيقة فيه في لسان الشارع، ولا يعدل عن ذلك إلى المجاز
إلا لملجئ ولا ملجئ هنا، فإن التغريب المذكور في الأحاديث شرعا هو إخراج
الزاني عن موضع إقامته بحيث يعد غريبا، والمحبوس في وطنه لا يصدق عليه ذلك
الاسم، وهذا المعنى هو المعروف عند الصحابة الذين هم أعرف بمقاصد الشارع، فقد
غرب عمر من المدينة إلى الشام، وغرب عثمان إلى مصر، وغرب ابن عمر أمته إلى
فدك. وأما النهي عن سفر المرأة فلا يصلح جعله قرينة على أن المراد بالتغريب
هو الحبس. أما أولا فلان النهي مقيد بعدم المحرم. وأما ثانيا فلأنه عام مخصوص
بأحاديث التغريب. وأما ثالثا فلان أمر التغريب إلى الامام لا إلى المحدود، ونهى
المرأة عن السفر إذا كانت مختارة له، وأما مع الاكراه من الامام فلا نهي يتعلق بها. قوله:
جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله في هذا الحديث وكذلك في حديث
عبادة المذكور بعده، وحديث جابر بن عبد الله دليل على أنه يجمع للمحصن بين الجلد
والرجم. أما الرجم فهو مجمع عليه. وحكي في البحر عن الخوارج أنه غير واجب، وكذلك
حكاه عنهم أيضا ابن العربي، وحكاه أيضا عن بعض المعتزلة كالنظام وأصحابه ولا مستند
لهم إلا أنه لم يذكر في القرآن وهذا باطل. فإنه قد ثبت بالسنة المتواترة المجمع
عليها. وأيضا هو ثابت بنص القرآن لحديث عمر عند الجماعة أنه قال: كان مما أنزل
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية الرجم فقرأناها ووعيناها، ورجم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجمنا بعده، ونسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم
كما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس. وقد أخرج أحمد والطبراني في
الكبير من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء أن فيما أنزل الله من
القرآن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة. وأخرجه ابن
حبان في صحيحه من حديث أبي بن كعب بلفظ: كانت سورة الأحزاب توازي
254

سورة البقرة وكان فيها آية الرجم الشيخ والشيخة الحديث. وأما الجلد فقد ذهب
إلى إيجابه على المحصن مع الرجم جماعة من العلماء منهم العترة وأحمد وإسحاق
وداود الظاهري وابن المنذر تمسكا بما سلف. وذهب مالك والحنفية والشافعية
وجمهور العلماء إلى أنه لا يجلد المحصن بل يرجم فقط وهو مروي عن أحمد بن
حنبل، وتمسكوا بحديث سمرة في أنه صلى الله عليه وآله وسلم ليجلد ماعزا بل اقتصر
على رجمه، قالوا: وهو متأخر عن أحاديث الجلد فيكون ناسخا لحديث
عبادة بن الصامت المذكور، ويجاب بمنع التأخر المدعي فلا يصلح ترك جلد ماعز
للنسخ لأنه فرع التأخر، ولم يثبت ما يدل على ذلك، ومع عدم ثبوت تأخره لا يكون
ذلك الترك مقتضيا لابطال الجلد الذي أثبته القرآن على كل من زنى، ولا ريب أنه
يصدق على المحصن أنه زان، فكيف إذا انضم إلى ذلك من السنة ما هو صريح في
الجمع بين الجلد والرجم للمحصن كحديث عبادة المذكور، ولا سيما وهو صلى الله
عليه وآله وسلم في مقام البيان والتعليم لأحكام الشرع على العموم بعد أن أمر الناس
في ذلك المقام بأخذ ذلك الحكم عنه فقال: خذوا عني خذوا عني فلا يصلح الاحتجاج
بعد نص الكتاب والسنة بسكوته صلى الله عليه وآله وسلم في بعض المواطن أو
عدم بيانه لذلك أو إهماله للامر به، وغاية ما في حديث سمرة أنه لم يتعرض لذكر
جلده صلى الله عليه وآله وسلم لماعز، ومجرد هذا لا ينتهض لمعارضة ما هو في رتبته
فكيف بما بينه وبينه ما بين السماء والأرض. وقد تقرر أن المثبت أولى من النافي،
ولا سيما كون المقام مما يجوز فيه أن الراوي ترك ذكر الجلد لكونه معلوما من الكتاب
والسنة، وكيف يليق بعالم أن يدعي نسخ الحكم الثابت كتابا وسنة بمجرد ترك
الراوي لذلك الحكم في قضية عين لا عموم لها، وهذا أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب رضي الله عنه يقول بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم بعدة من السنين
لما جمع لتلك المرأة بين الرجم والجلد: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول
الله، فكيف يخفى على مثله الناسخ وعلى من بحضرته من الصحابة الأكابر. (وبالجملة)
أنا لو فرضنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بترك جلد ماعز وصح لنا ذلك لكان
على فرض تقدمه منسوخا، وعلى فرض التباس المتقدم بالمتأخر مرجوحا، ويتعين
تأويله بما يحتمله من وجوه التأويل، وعلى فرض تأخره غاية ما فيه أنه يدل على أن
255

الجلد لمن استحق الرجم غير واجب لا غير جائز، ولكن أين الدليل على التأخر؟
قال ابن المنذر: عارض بعضهم الشافعي فقال: الجلد ثابت على البكر بكتاب الله
، والرجم ثابت بسنة رسول الله كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد ثبت الجمع
بينهما في حديث عبادة وعمل به أمير المؤمنين علي ووافقه أبي، وليس في قصة ماعز
ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم لاحتمال أن يكون ترك ذكره
لوضوحه وكونه الأفضل انتهى. وقد استدل الجمهور أيضا بعدم ذكر الجلد في رجم
الغامدية وغيرها قالوا: وعدم ذكره يدل على عدم وقوعه، وعدم وقوعه يدل على
عدم وجوبه، ويجاب بمنع كون عدم الذكر يدل على عدم الوقوع، لم لا يقال: إن عدم
الذكر لقيام أدلة الكتاب والسنة القاضية بالجلد وأيضا عدم الذكر لا
يعارض صرائح الأدلة القاضية بالاثبات، وعدم العلم ليس علما بالعدم، ومن علم
حجة على من لم يعلم.
باب رجم المحصن من أهل الكتاب
وأن الاسلام ليس بشرط في الاحصان
عن ابن عمر: أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل وامرأة
منهم قد زنيا فقال: ما تجدون في كتابكم؟ فقالوا: تسخم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم
إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاؤوا بالتوراة وجاؤوا
بقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه فقيل له: ارفع
يدك فرفع يده فإذا هي تلوح فقال أو قالوا: يا محمد إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه
بيننا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما، قال: فلقد رأيته يجنأ عليها
يقيها الحجارة بنفسه وفي رواية أحمد: بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا.
وعن جابر بن عبد الله قال: رجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من أسلم ورجلا
من اليهود وامرأة رواه أحمد ومسلم. وعن البراء بن عازب قال: مر على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد
256

الزنا في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل
التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك
نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم ولكن كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه،
وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شئ نقيمه على الشريف
والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
اللهم إن أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: * (يا أيها
الرسولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا) *، إلى قوله: * (إن أوتيتم
هذا فخذوه) * (المائدة: 41) يقولون: ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم
بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) * قال هي في الكفار كلها رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
قوله: تسخم بسين مهملة ثم خاء معجمة قال في القاموس: السخم محركة
السواد والأسخم الأسود ثم قال: وقد تسخم عليه، وسخم بصدره تسخيما
أغضبه ووجهه سوده. قوله: ويخزيان بالخاء والزاء المعجمتين أي يفضحان
ويشهران. قال في القاموس: خزي كرضي خزيا بالكسر وقع في بلية وشهرة فذل
بذلك، وأخزاه الله فضحه. قوله: فإذا هي تلوح يعني آية الرجم. قوله: فلقد
رأيته يجنأ بفتح أوله وسكون الجيم وفتح النون بعدها همزة أي ينحني. قال في
القاموس: جنأ عليه كجعل وفرح جنوأ وجنأ أكب كأجنأ وجانأ وتجانأ وكفرح
أشرف كاهله على صدره فهو أجنأ، والمجنأ بالضم الترس لا حديد فيه انتهى. وفي
هذه اللفظة روايات كثيرة هذه أصحها على ما ذكره صاحب المشارق. قوله: رجلا
من أسلم هو ماعز بن مالك الأسلمي. قوله: وامرأة هي الجهنية ويقال لها الغامدية.
قوله: محمم بضم الميم الأولى وفتح الحاء المهملة وتشديد الميم الثانية مفتوحة اسم
مفعول أي مسود الوجه والتحميم التسويد. (وأحاديث الباب) تدل على أن
حد الزنا يقام على الكافر كما يقام على المسلم. وقد حكى صاحب البحر
الاجماع على أنه يجلد الحربي. وأما الرجم فذهب الشافعي وأبو يوسف والقاسمية
إلى أنه يرجم المحصن من الكفار. وذهب أبو حنيفة ومحمد وزيد بن علي والناصر
257

والامام يحيى إلى أنه يجلد ولا يرجم. قال الامام يحيى: والذمي كالحربي في الخلاف.
وقال مالك: لا حد عليه. وأما الحربي المستأمن فذهبت العترة والشافعي وأبو يوسف
إلى أنه يحد، وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا يحد، وقد بالغ ابن عبد البر
فنقل الاتفاق، على أن شرط الاحصان الموجب للرجم هو الاسلام، وتعقب بأن الشافعي
وأحمد لا يشترطان ذلك، ومن جملة من قال بأن الاسلام شرط ربيعة شيخ مالك
وبعض الشافعية. (وأحاديث الباب) تدل على أنه يحد الذمي كما يحد المسلم. والحربي
والمستأمن يلحقان بالذم بجامع الكفر. وقد أجاب من اشترط الاسلام عن
أحاديث الباب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما أمضى حكم التوراة على أهلها ولم يحكم
عليهم بحكم الاسلام، وقد كان ذلك عند مقدمة المدينة، وكان إذ ذاك مأمورا باتباع
حكم التوراة ثم نسخ ذلك الحكم بقوله تعالى: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم)
* (النساء: 15) ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف ونصب مثله في مقابلة أحاديث الباب
من الغرائب، وكونه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك عند مقدمة المدينة لا ينافي
ثبوت الشرعية، فإن هذا حكم شرعه الله لأهل الكتاب وقرره رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، ولا طريق لنا إلى ثبوت الاحكام التي توافق أحكام الاسلام إلا بمثل هذه
الطريقة، ولم يتعقب ذلك في شرعنا ما يبطله، ولا سيما وهو مأمور بأن يحكم بينهم بما أنزل
الله ومنهي عن اتباع أهوائهم، كما صرح بذلك القرآن، وقد أتوه صلى الله عليه وآله
وسلم يسألونه عن الحكم ولم يأتوه ليعرفهم شرعهم، فحكم بينهم بشرعه ونبههم على أن
ذلك ثابت في شرعهم كثبوته في شرعه، لا يجوز أن يقال إنه حكم بينهم بشرعهم مع مخالفته
لشرعه، لأن الحكم منه عليهم بما هو منسوخ عنده لا يجوز على مثله، وإنما أراد بقوله: فإني
أحكم بينكم بالتوراة. كما وقع في رواية من حديث أبي هريرة إلزامهم الحجة. وأما
الاحتجاج بقوله تعالى: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * فغاية ما فيه أن الله
شرع هذا الحكم بالنسبة إلى نساء المسلمين وهو مخرج على الغالب كما في الخطابات
الخاصة بالمؤمنين والمسلمين، مع أن كثيرا منها يستوي فيه الكافر والمسلم بالاجماع،
ولو سلمنا أن الآية تدل بمفهومها على أن نساء الكفار خارجات عن ذلك الحكم، فهذا
المفهوم قد عارضه منطوق حديث ابن عمر المذكور في الباب فإنه مصرح بأنه صلى الله
عليه وآله وسلم رجم اليهودية مع اليهودي، ومن غرائب التعصبات ما روي عن مالك
258

أنه قال: إنما رجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليهوديين لأن اليهود يومئذ لم يكن لهم
ذمة فتحاكموا إليه، وتعقب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أقام الحد على من لا ذمة
له فلان يقيمه على من له ذمة بالأولى، كذا قال الطحاوي. وقال القرطبي معترضا على
قول مالك: إن مجئ اليهود سائلين له صلى الله عليه وآله وسلم يوجب لهم عهدا كما
لو دخلوا للتجارة فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم. وأجاب بعضهم بأنه صلى
الله عليه وآله وسلم لما أمر برجمهما من دون استفصال عن الاحصان كان دليلا على
أنه حكم بينهم بشرعهم لأنه لا يرجم في شرعه إلا المحصن، وتعقب ذلك بأنه قد ثبت
في طريق عند الطبراني أن أحبار اليهود اجتمعوا في بيت المدراس وقد زنى رجل
منهم بامرأة بعد إحصانهما. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: زنى رجل
وامرأة من اليهود وقد أحصنا وفي إسناده رجل من مزينة لم يسم. وأخرج الحاكم
من حديث ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهودي ويهودية
قد أحصنا وأخرج البيهقي من حديث عبد الله بن الحرث الزبيدي: أن اليهود أتوا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا وقد أحصنا. وإسناده
ضعيف، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد علم الاحصان بأخبارهم له
لأنهم جاؤوا إليه سائلين يطلبون رخصة فيبعد أن يكتموا عنه مثل ذلك. (ومن جملة)
ما تمسك به من قال إن الاسلام شرط حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا: من أشرك
بالله فليس بمحصن ورجح الدارقطني وغيره الوقف. وأخرجه إسحاق ابن
راهويه في مسنده على الوجهين، ومنهم من أول الاحصان في هذا الحديث بإحصان
القذف. ولأحاديث الباب فوائد ليس هذا موضع بسطها.
باب اعتبار تكرار الاقرار بالزنا أربعا
عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردد عليه
أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
259

اذهبوا به فارجموه. قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت
فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه
متفق عليه. وهو دليل على أن الاحصان يثبت بالاقرار مرة، وأن الجواب بنعم
إقرار. وعن جابر بن سمرة قال: رأيت ماعز بن مالك حين جئ به إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وهو رجل قصير أعضل ليس عليه رداء فشهد على نفسه
أربع مرات أنه زنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلعلك؟ قال: لا والله إنه
قد زنى الآخر فرجمه رواه مسلم وأبو داود. ولأحمد: أن ماعزا جاء فأقر عند النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أربع مرات فأمر برجمه. وعن ابن عباس: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال لماعز بن مالك: أحق ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟
قال: بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان، قال: نعم فشهد أربع شهادات فأمر به فرجم
رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وفي رواية قال: جاء ماعز بن
مالك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعترف بالزنا مرتين فطرده، ثم جاء فاعترف
بالزنا مرتين فقال: شهدت على نفسك أربع مرات اذهبوا به فارجموه رواه أبو داود.
وعن أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالسا
فجاء ماعز بن مالك فاعترف عنده مرة فرده، ثم جاء فاعترف عنده الثانية فرده، ثم
جاء فاعترف عنده الثالثة فرده، فقلت له: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك، قال: فاعترف
الرابعة فحبسه، ثم سأل عنه فقالوا: ما نعلم إلا خيرا، قال: فأمر برجمه. وعن بريدة
قال: كنا نتحدث أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ماعز بن مالك
لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يرجمه وإنما رجمه عند الرابعة رواهما
أحمد. وعن بريدة أيضا قال: كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال: لو لم يرجعا بعد
اعترافهما لم يطلبهما وإنما رجمها بعد الرابعة رواه أبو داود.
قصة ماعز قد رواها جماعة من الصحابة منهم من ذكره المصنف ومنهم جماعة
لم يذكرهم، وقد اتفق عليها الشيخان من حديث أبي هريرة وابن عباس وجابر من
دون تسمية صاحب القصة، وقد أطال أبو داود في سننه واستوفى طرقها. وحديث
أبي بكر أخرجه أيضا أبو يعلى والبزار والطبراني وفي أسانيدهم كلهم جابر الجعفي
260

وهو ضعيف. وحديث بريدة الآخر أخرج نحوه النسائي وفي إسناده بشير بن مهاجر
الكوفي الغنوي. وقد أخرج له مسلم ووثقه يحيى بن معين. وقال الإمام أحمد: منكر
الحديث يجئ بالعجائب مرجئ متهم. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولكنه
يشهد لهذا الحديث حديثه الأول الذي ذكره المصنف، وحديث أبي بكر الذي
قبله، وكذلك الرواية الأخرى من حديث ابن عباس التي عزاها المصنف إلى أبي داود
لأن قوله فيها: شهدت على نفسك أربع مرات اذهبوا به فارجموه يشعر بأن ذلك
هو العلة في ثبوت الرجم، وقد سكت أبو داود والمنذري عن هذه الرواية ورجالها
رجال الصحيح. قوله: أبك جنون وقع في رواية من حديث بريدة: فسأل أبه
جنون فأخبر بأنه ليس بمجنون. وفي لفظ: فأرسل إلى قومه فقالوا ما نعلم أنه
في العقل من صالحينا. وفي حديث أبي سعيد: ما نعلم به بأسا. ويجمع بين هذه الروايات
بأنه سأله أولا ثم سأل عنه احتياطا، وفيه دليل على أنه يجب على الامام الاستفصال
والبحث عن حقيقة الحال، ولا يعارض هذا عدم استفصاله صلى الله عليه وآله وسلم
في قصة العسيف المتقدمة، لأن عدم ذكر الاستفصال فيها لا يدل على العدم لاحتمال
أن يقتصر الراوي على نقل بعض الواقع. قوله: فهل أحصنت بفتح الهمزة أي
تزوجت، وقد روي في هذه القصة زيادات في الاستفصال. منها في حديث ابن عباس
عند البخاري والنسائي وأبي داود بلفظ: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت
والمعنى أنك تجوزت بإطلاق لفظ الزنا على مقدماته. وفي رواية لهم من حديث
ابن عباس أيضا: أفنكتها؟ قال: نعم وسيأتي ذلك في باب استفسار المقر. وفي
رواية لمسلم وأبي داود من حديث بريدة: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال له: أشربت
خمرا؟ قال: لا. وفيه: فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريحا. قوله: اذهبوا به
فارجموه فيه دليل على أنه لا يجب أن يكون الامام أول من يرجم، وسيأتي الكلام
على ذلك في باب أن السنة بداءة الشاهد بالرجم وبداءة الامام به. وفيه أيضا دليل
على أنه لا يجب الحفر للمرجوم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بذلك
، وسيأتي بيان ذلك في باب ما جاء في الحفر للمرجوم. قوله: فلما أذلقته الحجارة
بالذال المعجمة والقاف أي بلغت منه الجهد. قوله: أعضل بالعين المهملة والضاد
المعجمة أي ضخم عضلة الساق. قوله: إنه قد زنى الاخر هو مقصور بوزن
261

الكبد أي الأبعد. قوله: فأقر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع مرات
قد تطابقت الروايات التي ذكرها المصنف في هذا الباب على أن ماعزا أقر أربع
مرات. ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم بلف: فاعترف ثلاث مرات ووقع عند
مسلم من طريق شعبة عن سماك قال: فرده مرتين، وفي أخرى مرتين أو ثلاثا، قال
شعبة: فذكرته لسعيد بن جبير فقال: إنه رده أربع مرات، وقد جمع بين الروايات
بجعل رواية المرتين على أنه اعترف مرتين في يوم ومرتين في يوم آخر، ويدل على
ذلك ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس قال: جاء ماعز إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فاعترف بالزنا مرتين فطرده ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين كما في الرواية المذكورة
في الباب، فلعله اقتصر الراوي على ما وقع منه في أحد اليومين. وأما رواية الثلاث
فلعله اقتصر الراوي فيها على المرات التي رده فيها فإنه لم يرده في الرابعة بل استثبت
وسأله عن عقله ثم أمر برجمه. قوله: لو رجعا بعد اعترافهما أي رجعا إلى رحالهما
، ويحتمل أنه أراد الرجوع عن الاقرار، ولكن الظاهر الأول لقوله أو قال لو لم
يرجعا، فإن المراد به لم يرجعا إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون معنى الحديث لو رجعا
إلى رحالهما ولم يرجعا إليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد كمال الاقرار لم يرجمهما. وقد
استدل بأحاديث الباب القائلون بأنه يشرط في الاقرار بالزنا أن يكون أربع مرات
، فإن نقص عنها لم يثبت الحد، وهم العترة وأبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى وأحمد
بن حنبل وإسحاق والحسن بن صالح هكذا في البحر، وفيه أيضا عن أبي بكر وعمر
والحسن البصري ومالك وحماد وأبي ثور والبتي والشافعي أنه يكفي وقوع الاقرار
مرة واحدة. وروي ذلك عن داود، وأجابوا عن أحاديث الباب بما سلف من الاضطراب
ويرد عليهم بما تقدم، واستدلوا بحديث العسيف المتقدم فإن فيه أنه صلى الله عليه
وآله وسلم قال لأنيس: واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها وبما
أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عبادة بن الصامت
أنه صلى الله عليه وآله وسلم رجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة. وسيأتي
الحديث في باب تأخير الرجم عن الحبلى. وكذلك حديث بريدة الذي سيأتي هنالك
، فإن فيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم رجمها قبل أن تقر أربعا. ولما أخرجه أبو داود
والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه: أنه كان قاعدا يعمل في السوق
262

فمرت امرأة تحمل صبيا فثار الناس معها وثرت فيمن ثار فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وهو يقول: من أبو هذا معك فسكتت، فقال شاب خذوها أنا أبوه يا رسول
الله فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض من حوله يسألهم عنه فقالوا
ما علمنا إلا خيرا، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أحصنت؟ قال نعم، فأمر به فرجم
وعن جابر بن عبد الله عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر عنده رجل
أنه زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجلد الحد ثم أخبر أنه محصن
فأمر به فرجم وقد تقدم. ومن ذلك حديث الذي أقر بأنه زنى بامرأة وأنكرت،
وسيأتي في باب من أقر أنه زنى بامرأة فجحدت. ومن ذلك حديث الرجل الذي
ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه، ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل، ففي رواية أنه
رجمه، وفي رواية أنه عفا عنه، وهو في سنن النسائي والترمذي. ومن ذلك حديث اليهوديين
فإنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كرر عليهما الاقرار، قالوا: ولو كان تربيع
الاقرار شرطا لما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه الواقعات التي يترتب عليها
سفك الدماء وهتك الحرم. وأجاب الأولون عن هذه الأدلة بأنها مطلقة قيدتها الأحاديث
التي فيها أنه وقع الاقرار أربع مرات، ورد بأن الاطلاق والتقييد من عوارض
الألفاظ، وجميع الأحاديث التي ذكر فيها تربيع الاقرار أفعال ولا ظاهر لها، وغاية
ما فيها جواز تأخير إقامة الحد بعد وقوع الاقرار مرة إلى أن ينتهي إلى أربع، ثم
لا يجوز التأخير بعد ذلك، وظاهر السياقات مشعر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إنما فعل ذلك في قصة ماعز لقصد التثبت كما يشعر بذلك قوله له، أبك جنون ثم
سؤاله بعد ذلك لقومه، فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد
صدور الاقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في ثبوت العقل واختلاله والصحو
والسكر ونحو ذلك، وأحاديث إقامة الحد بعد الاقرار مرة واحدة على من كان
معروفا بصحة العقل وسلامة إقراره عن المبطلات. وأما ما رواه بريدة من أن الصحابة
كانوا يتحدثون أنه لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يرجمه فليس
ذلك مما تقوم به الحجة، لأن الصحابي يكون فهمه حجة إذا عارض الدليل
الصحيح. ومما يؤيد ما ذكرناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قالت له الغامدية:
أتريد أن تردني كما رددت ماعزا؟ لم ينكر ذلك عليها كما سيأتي في باب تأخير الرجم
263

عن الحبلى، ولو كان تربيع الاقرار شرطا لقال لها إنما رددته لكونه لم يقر أربعا
، وهذه الواقعة من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الاقرار ليس بشرط للتصريح
فيها بأنها متأخرة عن قضية ماعز، وقد اكتفى فيها بدون أربع مرات كما سيأتي.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ابن عباس المذكور في الباب شهدت
على نفسك أربع شهادات فليس في هذا ما يدل على الشرطية أصلا، وغاية ما فيه أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بأنه قد استحق الرجم لذلك، وليس فيه ما ينفي
الاستحقاق فيما دونه، ولا سيما وقد وقع منه الرجم بدون حصول التربيع كما سلف.
وأما الاستدلال بالقياس على شهادة الزنا فإنه لما اعتبر فيه أربعة شهود اعتبر في
إقراره أن يكون أربع مرات ففي غاية الفساد. لأنه يلزم من ذلك أن يعتبر في
الاقرار بالأموال والحقوق أن يكون مرتين، لأن الشهادة في ذلك لا بد أن تكون
من رجلين، ولا يكفي فيها الرجل الواحد، واللازم باطل بإجماع المسلمين فالملزوم
مثله، وإذا قد تقرر لك عدم اشتراط الأربع عرفت عدم اشتراط ما ذهبت إليه الحنفية
والقاسمية من أن الأربع لا تكفي أن تكون في مجلس واحد بل لا بد أن تكون
في أربعة مجالس، لأن تعدد الأمكنة فرع تعدد الاقرار الواقع فيها، وإذا لم يشترط
الأصل تبعه الفرع في ذلك، وأيضا لو فرضنا اشتراط كون الاقرار أربعا لم يستلزم
كون مواضعه متعددة، إما عقلا فظاهر لأن الاقرار أربع مرات وأكثر منها في
موضع واحد من غير انتقال مما لا يخالف في إمكانه عاقل. وإما شرعا فليس في
الشرع ما يدل على أن الاقرار الواقع بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم وقع من
رجل في أربعة مواضع فضلا عن وجود ما يدل على أن ذلك شرط، وأكثر الألفاظ في
حديث ماعز بلفظ أنه أقر أربع مرات، أو شهد على نفسه أربع شهادات،
وأما الرد الواقع بعد كل مرة كما في حديث أبي بكر المذكور فليس في
ذلك أنه رد المقر من ذلك الموضع إلى موضع آخر، ولو سلم فليس الغرض في ذلك الرد هو تعدد المجالس بل الاستثبات، كما يدل على ذلك ما وقع منه صلى الله
عليه وآله وسلم من الألفاظ الدالة على أن ذلك الرد لأجله، ومما يؤيد ذلك حديث
ابن عباس المذكور في الباب فإن فيه أنه جاء اليوم الأول فأقر مرتين فطرده، ثم
جاء اليوم الثاني فأقر مرتين فأمر برجمه، وهكذا يجاب عن الاستدلال بما روى نعيم
264

بن هزال أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعرض عن ماعز في المرة الأولى والثانية
والثالثة كما أخرجه أبو داود، وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي من حديث أبي
هريرة، والاعراض لا يستلزم أن تكون المواضع التي أقر فيها المقر أربعة بلا شك
ولا ريب، ولو سلم أنه يستلزم ذلك بقرينة ما روي أنه جاءه من جهة وجهه أولا، ثم
من عن يمينه، ثم من عن شماله، ثم من ورائه، وسيأتي قريبا أنه كان يقر كل مرة في
جهة غير الجهة الأولى، فهذا ليس فيه أيضا أن الاعراض لقصد تعدد الاقرار
أو تعدد مجالسه، بل لقصد الاستثبات كما سلف لما سلف.
باب استفسار المقر بالزنا واعتبار تصريحه بما لا تردد فيه
عن ابن عباس قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت، قال: لا يا رسول الله، قال: أفنكتها؟ لا يكني. قال:
نعم، فعند ذلك أمر برجمه رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن أبي هريرة
قال: جاء الأسلمي إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهد على نفسه أنه أصاب
امرأة حراما أربع مرات، كل ذلك يعرض عنه، فأقبل عليه في الخامسة فقال: أنكتها؟
قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال: نعم، قال: فهل تدري
ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال: فما تريد بهذا
القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به فرجم رواه أبو داود والدارقطني.
حديث أبي هريرة أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده ابن الهضهاض، ذكره
البخاري في تاريخه وحكى الخلاف فيه، وذكر له هذا الحديث وقال: حديثه في أهل
الحجاز ليس يعرف إلا بهذا الواحد. قوله: أو غمزت بغين معجمة وزاي والمراد
لعلك وقع منك هذه المقدمات فتجوزت بإطلاق لفظ الزنا عليها. وفي رواية: هل
ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم. قوله: لا يكني
بفتح أوله وسكون الكاف من الكناية أي أنه ذكر هذا اللفظ صريحا ولم يكن
عنه بلفظ آخر كالجماع. قوله: المرود بكسر الميم الميل. قوله: والرشاء بكسر الراء قال
في القاموس: والرشا ككساء الحبل، وفي هذا من المبالغة في الاستثبات والاستفصال
265

ما ليس بعده في تطلب بيان حقيقة الحال، فلم يكتف بإقرار المقر بالزنا، بل استفهمه
بلفظ لا أصرح منه في المطلوب وهو لفظ النيك الذي كان صلى الله عليه وآله وسلم يتحاشى
عن التكلم به في جميع حالاته ولم يسمع منه إلا في هذا الموطن، ثم لم يكتف
بذلك بل صوره تصويرا حسيا، ولا شك أن تصوير الشئ بأمر محسوس أبلغ في
الاستفصال من تسميته بأصرح أسمائه وأدلها عليه. وقد استدل بهذين الحديثين على
مشروعية الاستفصال للمقر بالزنا، وظاهر ذلك عدم الفرق بين من يجهل الحكم ومن يعلمه،
ومن كان منتهكا للحرم ومن لم يكن كذلك، لأن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في المقال.
وذهبت المالكية إلى أنه لا يلقن من اشتهر بانتهاك الحرم. وقال أبو ثور: لا يلقن إلا من
كان جاهلا للحكم، وإذا قصر الامام في الاستفصال ثم انكشف بعد التنفيذ وجود
مسقط للحد فقيل يضمن الدية من ماله إن تعمد التقصير وإلا فمن بيت المال. وقيل
على عاقلة الامام قياسا على جناية الخطأ، قال في ضوء النهار: والحق أنه إذا تعمد التقصير
في البحث عن المسقط المجمع على إسقاطه اقتص منه، وإلا فلا يضمن إلا الدية لما عرفت
من كون الخلاف شبهة اه. وهذا إنما يتم بعد تسليم أن استفصال المقر عن المسقطات
المجمع عليها واجب على الامام، وشرط في إقامة الحد يستلزم عدمه العدم، كما هو
شأن سائر الشروط على من عرف في الأصول والواجبات، والشروط لا تثبت بمجرد فعله صلى
الله عليه وآله وسلم وليس في المقام إلا ذلك وغايته الندب، وأما الاستدلال على الوجوب
بأن الامام حاكم والحاكم يجب عليه التثبت فيمكن مناقشته بمنع الصغرى، والسند أن
الحاكم هو من يفصل الخصومات بين العباد عن الترافع إليه، ولا خصومة ههنا بل
مجرد التنفيذ لما شرعه الله على من تعدى حدوده بشهادة لسانه عليه بذلك، وكون
المانع مجوزا لا يستلزم القدح في صحة الحكم الواقع بعد كمال السبب وهو الاقرار
بشروطه، وإلا لزم ذلك في الاقرار بالأموال والحقوق، فيجب على الحاكم مثلا بعد أن
يقر عنده رجل بأنه أخذ مال رجل أن يقول له: لعلك أردت المجاز ولم يصدر منك الاخذ
حقيقة لعلك كذا لعلك كذا، واللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله، وبيان الملازمة أن
وجود المانع مجوز في الاقرار بالأموال والحقوق كما هو مجوز في الاقرار بالزنا، فتقرر لك بهذا
أن إيجاب الاستفصال على الامام في مثل الاقرار بالزنا وجعله شرطا، لإقامة الحد بمجرد
كونه حاكما غير منتهض، فالأولى التعويل على أحاديث الباب القاضية بمطلق مشروعية
266

الاستفصال في الاقرار بالزنا لا بالمشروعية المقيدة بالوجوب أو الشرطية.
باب أن من أقر بحد ولم يسمه لا يحد
عن أنس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه رجل فقال:
يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ولم يسأله، قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام إليه الرجل فقال: يا رسول
الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال:
فإن الله قد غفر لك ذنبك أو حدك أخرجاه. ولأحمد ومسلم من حديث أبي
أمامة نحوه.
لفظ حديث أبي أمامة الذي أشار إليه المصنف قال: بينا رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم في المسجد ونحن معه إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت
حدا فأقمه علي فسكت عنه، ثم أعاد فسكت، وأقيمت الصلاة فلما انصرف رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم تبعه الرجل واتبعته أنظر ماذا يرد عليه، فقال له: أرأيت حين خرجت
من بيتك أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال بلى يا رسول الله، قال: ثم شهدت الصلاة
معنا؟ قال نعم يا رسول الله، قال: فإن الله تعالى قد غفر لك حدك أو قال ذنبك. وفي الباب
عن ابن مسعود عند مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي قال: إني عالجت امرأة من
أقصى المدينة فأصبت منها ما دون أن أمسها فأنا هذا فأقم علي ما شئت، فقال عمر: لقد ستر الله
عليك لو سترت على نفسك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا، فانطلق الرجل فأتبعه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا فدعاه فتلا عليه * (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من
الليل) * (هود: 114) إلى آخر الآية فقال رجل من القوم: أله خاصة أم للناس عامة؟ فقال: للناس كافة هذا
لفظ أبي داود، وهذا الرجل هو أبو اليسر كعب بن عمرو وقيل غيره. قوله: إني
أصبت حدا قال في النهاية: أي أصبت ذنبا أوجب علي حدا أي عقوبة، قال النووي
في شرح مسلم: هذا الحديث معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعذير وهي هنا
من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة، ولو أنها كانت موجبة لحد أو غيره لم تسقط بالصلاة،
فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الموجب للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة،
267

وحكى القاضي عياض عن بعضهم أن المراد الحد المعروف، قال: وإنما لم يحده لأنه
لم يفسر موجب الحد، ولم يستفسره النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيثارا للستر، بل استحب
تلقين الرجل صريحا انتهى. ومما يؤيد ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد بالحد المطلق في
الأحاديث هو غير الزنا ونحوه من الأمور التي توجب الحد ما في حديث ابن مسعود الذي
ذكرناه من قوله: فأصبت منها ما دون أن أمسها، فإن هذا يفسر ما أبهم في حديث أنس
وأبي أمامة هذا إذا كانت القصة واحدة، وأما إذا كانت متعددة فلا ينبغي تفسير ما أبهم
في قصة بما فسر في قصة أخرى، وتوجه العمل بالظاهر والحكم بأن الصلاة تكفر ما يصدق
عليه أنه يوجب الحد، ولا شك ولا ريب أن من أقر بحد من الحدود ولم يفسره لا يطالب
بالتفسير ولا يقام عليه الحد إن لم يقع منه ذلك لأحاديث الباب ولما سيأتي من
أنها تدرأ الحدود بالشبهات بعد ثبوتها وتعيينها، فبالأولى قبل التفسير للقطع بأنها
مختلفة المقادير، فلا يتمكن الامام من إقامتها مع الابهام، ويؤيد ذلك ما سلف من
استفصاله صلى الله عليه وآله وسلم لماعز بعد أن صرح بأنه زنى.
باب ما يذكر في الرجوع عن الاقرار
عن أبي هريرة قال: جاء ماعز الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال: إنه قد زنى فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه الآخر فقال: إنه قد زنى فأعرض عنه،
ثم جاءه من شقه الآخر فقال: يا رسول الله إنه قد زنى، فأمر به في الرابعة، فأخرج إلى الحرة
فرجم بالحجارة، فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه به وضربه
الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه فر حين وجد مس الحجارة
ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هلا تركتموه رواه أحمد وابن
ماجة والترمذي وقال: حسن. وعن جابر في قصة ماعز قال: كنت فيمن رجم
الرجل أنا لما خرجنا به فرجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا يا قوم ردوني
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما
رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني
268

به ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه فأما ترك حد فلا رواه أبو داود
الحديث الأول قال الترمذي بعد أن قال إنه حديث حسن: وقد روي من
غير وجه عن أبي هريرة انتهى. ورجال إسناده ثقات، فإن الترمذي رواه من
حديث عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة. والحديث
الثاني أخرجه أيضا النسائي وأشار إليه الترمذي وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه
خلاف قد تقدم الكلام عليه. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي
سلمة بن عبد الرحمن عن جابر طرفا منه. ولفظ أبي داود قال: ذكرت لعاصم بن
عمر بن قتادة قصة ماعز بن مالك فقال لي: حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي
طالب عليه السلام قال: حدثني ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
فلا تركتموه من شئتم من رجال أسلم ممن لا أتهم، قال: ولا أعرف الحديث، قال: فجئت جابر بن
عبد الله فقلت: إن رجالا من أسلم يحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم حين
ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته: ألا تركتموه؟ وما أعرف الحديث، قال: يا ابن
أخي أنا أعلم الناس بهذا الحديث فذكره. وفي الباب عن نعيم بن هزال عن أبيه عند أبي داود
وفيه: فلما رجم وجد مس الحجارة فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه
فنزع له بوظيف بعير فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال: هلا
تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه. قوله: فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى
مر برجل معه لحي جمل الخ، ظاهر هذه الرواية ورواية نعيم بن هزال أنه وقع
منه الفرار حتى ضربه الرجل الذي معه لحي الجمل. وظاهر قوله في حديث جابر
المذكور صرخ يا قوم الخ أنه لم يفر. ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم والنسائي
وأبي داود واللفظ له قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجم ماعز
بن مالك خرجنا إلى البقيع فوالله ما أوثقناه ولا حفرنا له ولكنه قام لنا، قال أبو
كامل: فرميناه بالعظام والمدر والخزف فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض
الحرة فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت فظاهر هذه الرواية أنه إنما
فر لأجل ما في ذلك المحل الذي فر إليه من الأحجار التي تقتل بلا تعذيب، بخلاف المحل
الذي كان فيه فإنه لم يكن فيه من الأحجار ما هو كذلك، ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن
يقال إنه فر أولا من المكان الأول لأجل عدم الحجارة فيه إلى الحرة فلما وصل إليها ونصب
269

نفسه ووجد مس الحجارة التي تفضي إلى الموت قال ذلك المقال وأمرهم أن يردوه
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما لم يفعلوا هرب فلقيه الرجل الذي معه
لحي الجمل فضربه به فوقع ثم رجموه حتى مات. قوله: هلا تركتموه استدل به على
أن يقبل من المقر الرجوع عن الاقرار ويسقط عنه الحد، وإلى ذلك ذهب أحمد
والشافعية والحنفية والعترة وهو مروي عن مالك في قول له. وذهب ابن أبي ليلى والبتي
وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أنه لا يقبل منه الرجوع عن الاقرار بعد
كماله كغيره من الاقرارات. قال الأولون: ويترك إذا هرب لعله يرجع. قال في البحر
مسألة: وإذا هرب المرجوم بالبينة اتبع الرجم حتى يموت لا بالاقرار لقوله صلى الله
عليه وآله وسلم في ماعز: هلا خليتموه ولصحة الرجوع عن الاقرار ولا ضمان إذ لم
يضمنهم صلى الله عليه وآله وسلم لاحتمال كون هربه رجوعا أو غيره انتهى. وذهبت
المالكية إلى أن المرجوم لا يترك إذا هرب. وعن أشهب أن ذكر عذرا فقيل يترك
وإلا فلا. ونقله العتبي عن مالك، وحكى اللخمي عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة.
قوله: ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ، هذا من قول جابر يعني أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم إنما قال كذلك لأجل الاستثبات والاستفصال، فإن وجد
شبهة يسقط بها الحد أسقطه لأجلها، وإن لم يجد شبهة كذلك أقام عليه الحد، وليس
المراد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن يدعوه، وأن هرب المحدود من
الحد من جملة المسقطات ولهذا قال: فهلا تركتموه وجئتموني به.
باب أن الحد لا يجب بالتهم وأنه يسقط الشبهات
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاعن بين العجلاني
وامرأته، فقال شداد بن الهاد: هي المرأة التي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها؟ قال: لا، تلك امرأة كانت قد أعلنت في الاسلام
متفق عليه. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو
كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها
ومن يدخل عليها رواه ابن ماجة. واحتج به من لم يحد المرأة بنكولها عن اللعان.
270

حديث ابن عباس الثاني إسناده في سنن ابن ماجة، هكذا حدثنا العباس بن
الوليد الدمشقي قال حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد قال: حدثني الليث بن سعد عن
عبيد الله بن أبي جعفر عن أبي الأسود عن عروة عن ابن عباس فذكره. والعباس
صدوق وزيد بن يحيى ثقة وبقية رجال الاسناد رجال الصحيح. وقد ورد بألفاظ
منها ما ذكره المصنف ومنها ألفاظ أخر، وفي بعضها أنها لما أتت بالولد على النعت
المكروه قال صلى الله عليه وآله وسلم: لولا الايمان لكان لي ولها شأن أخرجه أحمد
وأبو داود من حديثه. ولفظ البخاري: لولا ما مضى من كتاب الله وقد تقدم في اللعان
ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الولد الذي كان في بطن المرأة وقت اللعان
فإنه قال: إن أتت به على الصفة الفلانية فهو لشريك ابن سحماء، وإن أتت به على
الصفة الفلانية فهو لزوجها هلال بن أمية قوله: فقال شداد بن الهاد في الفتح في
كتاب اللعان أن السائل هو عبد الله بن شداد بن الهاد وهو ابن خالة ابن عباس
قال: سماه أبو الزناد عن القاسم بن محمد في هذا الحديث كما في كتاب الحدود من
صحيح البخاري. قوله: كانت قد أعلنت في الاسلام في لفظ للبخاري: كانت تظهر في
الاسلام السوء أي كانت تعلن بالفاحشة، ولكن لم يثبت عليها ذلك ببينة ولا اعتراف
كما تقدم في اللعان. قال الداودي: فيه جواز عيب من يسلك مسالك السوء وتعقب
بأن ابن عباس لم يسمها، فإن أراد إظهار العيب على العموم فمحتمل، وقد استدل المصنف
رحمه الله بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها على أنه
لا يجب الحد بالتهم، ولا شك أن إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الاضرار به وهو قبيح عقلا
وشرعا، فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص وما أشبه ذلك بعد حصول
اليقين، لأن مجرد الحدس والتهمة والشك مظنة للخطأ والغلط، وما كان كذلك فلا
يستباح به تأليم المسلم وإضراره بلا خلاف.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ادفعوا الحدود
ما وجدتم لها مدفعا رواه ابن ماجة. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الامام أن
يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة رواه الترمذي وذكر أنه قد روي
موقوفا وأن الوقف أصح. قال: وقد روي عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم
قالوا مثل ذلك.
271

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه ابن ماجة بإسناد ضعيف لأنه من طريق
إبراهيم بن الفضل وهو ضعيف. وحديث عائشة أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي ولكن في
إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف كما قال الترمذي. وقال البخاري فيه أنه منكر الحديث.
وقال النسائي: متروك انتهى. والصواب الموقوف كما في رواية وكيع. قال البيهقي: رواية
وكيع أقرب إلى الصواب. قال: ورواه رشدين عن عقيل عن الزهري ورشدين ضعيف
. (وفي البا ب) عن علي مرفوعا: ادرؤوا الحدود بالشبهات وفيه المختار ابن نافع قال البخاري
وهو منكر الحديث، قال: وأصح ما فيه حديث سفيان الثوري عن عاصم عن أبي وائل
عن عبد الله بن مسعود قال: ادرؤوا الحدود بالشبهات ادفعوا القتل عن المسلمين
ما استطعتم. وروي عن عقبة بن عامر ومعاذ أيضا موقوفا، وروي منقطعا وموقوفا على
عمر. ورواه ابن حزم في كتاب الاتصال عن عمر موقوفا عليه. قال الحافظ: وإسناده
صحيح. ورواه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي عن عمر بلفظ: لأن أخطئ
في الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات وفي مسند أبي حنيفة للحارثي
من طريق مقسم عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: ادرؤوا الحدود بالشبهات وما في الباب
وإن كان فيه المقال المعروف فقد شد من عضده ما ذكرناه، فيصلح بعد ذلك
للاحتجاج به على مشروعية درء الحدود بالشبهات المحتملة لا مطلق الشبهة، وقد
أخرج البيهقي وعبد الرزاق عن عمر أنه عذر رجلا زنى في الشام وادعى الجهل
بتحريم الزنا، وكذا روي عنه وعن عثمان أنهما عذرا جارية زنت وهي أعجمية
وادعت أنها لم تعلم التحريم.
وعن ابن عباس قال: قال لعمر بن الخطاب: كان فيما أنزل الله آية الرجم
فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجمنا بعده فأخشى
إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى، فيضلوا بترك
فريضة أنزلها الله تعالى، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من
الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف رواه الجماعة إلا النسائي.
قوله: آية الرجم هي الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وقد قدمنا
الكلام على ذلك في أول كتاب الحدود، وهذه المقالة وقعت من عمر لما صدر
من الحج وقدم المدينة. قوله: فأخشى إن طال بالناس زمان الخ، قد وقع ما خشيه
272

رضي الله عنه حتى أفضى ذلك إلى أن الخوارج وبعض المعتزلة أنكروا ثبوت مشروعية
الرجم كما سلف. وقد أخرج عبد الرزاق والطبراني عن ابن عباس أن عمر قال: سيجئ
أقوام يكذبون بالرجم. وفي رواية للنسائي: وإن ناسا يقولون ما بال الرجم فإن ما في
كتاب الله تعالى الجلد وهذا من المواطن التي وافق حدس عمر فيها الصواب، وقد
وصفه صلى الله عليه وآله وسلم بارتفاع طبقته في ذلك الشأن كما قال: إن يكن في هذه
الأمة محدثون فمنهم عمر قوله: إذا قامت البينة أي شهادة أربعة شهود ذكور
بالاجماع. قوله: أو كان الحبل بفتح المهملة والموحدة وفي رواية الحمل، وقد استدل بذلك
من قال: المرأة تحد إذا وجدت حاملا ولا زوج لها ولا سيد ولم تذكر شبهة، وهو
مروي عن عمر ومالك وأصحابه قالوا: إذا حملت ولم يعلم لها زوج ولا عرفنا إكراهها
لزمها الحد إلا أن تكون غريبة وتدعي أنه من زوج أو سيد. وذهب الجمهور إلى أن
مجرد الحبل لا يثبت به الحد بل لا بد من الاعتراف أو البينة، واستدلوا بالأحاديث
الواردة في درء الحدود بالشبهات. (والحاصل) أن هذا من قول عمر، ومثل ذلك لا يثبت
به مثل هذا الامر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس وكونه قال في مجمع من
الصحابة ولم ينكر عليه لا يستلزم أن يكون إجماعا كما بينا ذلك في غير موضع من
هذا الشرح، لأن الانكار في مسائل الاجتهاد غير لازم للمخالف، ولا سيما والقائل
بذلك عمر، وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة وغيرهم، اللهم إلا أن يدعي أن
قوله إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف من تمام ما يرويه عن كتاب الله تعالى،
ولكنه خلاف الظاهر، لأن الذي كان في كتاب الله هو ما أسلفنا في أول كتاب
الحدود. وقد أجاب الطحاوي بتأويل ذلك، على أن المراد أن الحبل إذا كان
من زنا وجب فيه الرجم، ولا بد من ثبوت كونه من زنا، وتعقب بأنه يأبى ذلك
جعل الحبل مقابلا للبينة والاعتراف. قوله: أو الاعتراف قد تقدم الخلاف في
مقداره وما هو الحق.
باب من أقر أنه زنى بامرأة فجحدت
عن سهل بن سعد: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنه قد زنى
273

بامرأة سماها، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المرأة فدعاها فسألها عما قال
فأنكرت فحده وتركها رواه أحمد وأبو داود.
الحديث في إسناده عبد السلام بن حفص أبو مصعب المدني، قال ابن
معين: ثقة، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بمعروف. وفي الباب عن ابن عباس عند أبي
داود والنسائي: أن رجلا من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقر أنه
زنى بامرأة أربع مرات فجلده مائة وكان بكرا، ثم سأله البينة على المرأة فقالت: كذب
يا رسول الله، فجلده حد الفرية ثمانين وفي إسناده القاسم بن فياض الصنعاني تكلم فيه
غير واحد، حتى قال ابن حبان: أنه بطل الاحتجاج به، وقال النسائي: هذا حديث منكر،
وقد استدل بحديث سهل بن سعد مالك والشافعي فقالا: يحد من أقر بالزنا بامرأة معينة
للزنا لا للقذف، وقال الأوزاعي وأبو حنيفة: يحد للقذف فقط، قالا: لأن إنكارها شبهة
، وأجيب بأنه لا يبطل به إقراره، وذهبت الهادوية ومحمد وروي عن الشافعي إلى أنه يحد
للزنا والقذف، واستدلوا بحديث ابن عباس الذي ذكرناه وهذا هو الظاهر لوجهين:
الأول أن غاية ما في حديث ث سهل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحد ذلك الرجل
للقذف، وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط، لاحتمال أن يكون ذلك لعدم
الطلب من المرأة أو لوجود مسقط، بخلاف حديث ابن عباس فإن فيه أنه أقام الحد
عليه. الوجه الثاني: أن ظاهر أدلة القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج
بدليل، وقد صدق على من كان كذلك أنه قاذف، وقد تقدم طرف من الكلام في
باب من أقر بالزنا بامرأة لا يكون قاذفا من أبواب اللعان.
باب الحث على إقامة الحد إذا ثبت والنهي عن الشفاعة فيه
عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: حد يعمل به في
الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا رواه ابن ماجة والنسائي
وقال: ثلاثين، وأحمد بالشك فيهما. وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في
أمره رواه أحمد وأبو داود.
274

حديث أبي هريرة أخرج نحوه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس
مرفوعا بلفظ: وحد يقام في الأرض بحقه أزكى من مطر أربعين صباحا قال في مجمع
الزوائد: وفي إسناده زريق بن السحب ولم أعرفه، وفي إسناد حديث أبي هريرة
المذكور في الباب عند ابن ماجة والنسائي جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله
البجلي وهو ضعيف منكر الحديث، وحديث ابن عمر أخرجه أيضا الحاكم وصححه،
وأخرجه ابن أبي شيبة عنه من وجه آخر صحيح موقوفا عليه، وأخرج نحوه
الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا وقال فيه: فقد ضاد الله في ملكه.
وحديث أبي هريرة فيه الترغيب في إقامة الحدود وأن ذلك مما ينتفع به الناس
لما فيه من تنفيذ أحكام الله تعالى وعدم الرأفة بالعصاة وردعهم عن هتك حرم
المسلمين، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث عائشة في الصحيحين
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب فقال: أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم
أنه كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا الحد
عليه فإذا كان ترك الحدود والمداهنة فيها وإسقاطها عن الأكابر من أسباب الهلاك
كانت إقامتها على كل أحد من غير فرق بين شريف ووضيع من أسباب الحياة، وتبين
سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من
أن يمطروا أربعين صباحا الحديث. وحديث ابن عمر المذكور فيه دليل على تحريم
الشفاعة في الحدود والترهيب لفاعلها بما هو غاية في ذلك وهو وصفه بمضادة الله
تعالى في أمره، وقد ثبت النهي عن ذلك في الصحيحين كما في حديث عائشة في قصة
المرأة المخزومية لما شفع فيها أسامة بن زيد فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم له
: أتشفع في حد من حدود الله وفي لفظ: لا أراك تشفع في حد من حدود الله وسيأتي
في باب ما جاء في المختلس من كتاب القطع، ولكنه ينبغي أن يقيد المنع من الشفاعة بما إذا
كان بعد الرفع إلى الامام لا إذا كان قبل ذلك، لما في حديث صفوان بن أمية عند أحمد
والأربعة وصححه الحاكم وابن الجارود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له لما
أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: هلا كان قبل أن تأتيني به وأخرجه
أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
رفعه: تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب وأخرج الطبراني عن
275

عروة بن الزبير قال: لقي الزبير سارقا فشفع فيه فقيل له حتى يبلغ الامام، قال: إذا
بل الامام فلعن الله الشافع والمشفع. وأخرج ابن أبي شيبة قال الحافظ بسند
حسن: أن الزبير وعمارا وابن عباس أخذوا سارقا فخلوا سبيله فقال عكرمة فقلت:
بئس ما صنعتم حين خليتم سبيله، فقالوا: لا أم لك أما لو كنت أنت لسرك أن يخلي سبيلك. وأخرج
الدارقطني من حديث الزبير مرفوعا: اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي فإذا وصل إلى الوالي
فعفا فلا عفا الله عنه. والموقوف أصح، وقد ادعى ابن عبد البر الاجماع على أنه يجب
على السلطان الإقامة إذا بلغه الحد، وهكذا حكي الاجماع في البحر. وحكى الخطابي
عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذية الناس وغيره فقال: لا يشفع في الأول مطلقا
، وفي الثاني تحسن الشفاعة قبل الرفع لا بعده، والراجح عدم الفرق بين المحدودين،
وعلى التفصيل المذكور بين قبل الرفع وبعده تحمل الأحاديث الواردة في الترغيب
في الستر على المسلم، فيكون الستر هو الأفضل قبل الرفع إلى الامام.
باب أن السنة بداءة الشاهد بالرجم وبداءة الامام به إذا ثبت بالاقرار
عن عامر الشعبي قال: كان لشراحة زوج غائب بالشام وأنها حملت فجاء
بها مولاها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن هذه زنت
واعترفت فجلدها يوم الخميس مائة ورجمها يوم الجمعة وحفر لها إلى السرة وأنا شاهد،
ثم قال: إن الرجم سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان شهد على
هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرت
فأنا أول من رماها، فرماها بحجر ثم رمى الناس وأنا فيهم فكنت والله
فيمن قتلها رواه أحمد.
الحديث أخرجه أيضا النسائي والحاكم وأصله في صحيح البخاري ولكن
بدون ذكر الحفر وما بعده كما تقدم في أول كتاب الحدود من حديث الشعبي،
وسيأتي الكلام على الحفر قريبا، وأما كون الشاهد أول من يرمي الزانية المحصن
حيث ثبت ذلك بالشهادة فقد ذهب أبو حنيفة والهادوية إلى أن ذلك واجب عليهم،
وأن الامام يجبرهم على ذلك لما فيه من الزجر عن التساهل والترغيب في التثبيت،
276

وإذا كان ثبوت الزنا بالاقرار وجب أن يكون الامام أول من يرجم أو مأموره، لما
عند أبي داود في رواية من حديث أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم امرأة
وكان هو أول من رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال: ارموها واتقوا الوجه ويجاب بأن
مجرد هذا الفعل لا يدل على الوجوب. وأما حديث العسيف المتقدم فلا يدل قوله صلى الله
عليه وآله وسلم فيه: واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها على وجوب البداءة
بذلك منه، بل غايته الامر بنفس الرجم بالرجم الخاص الذي هو محل النزاع. وأما ما رواه
المصنف في الباب عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فإنما ينتهض للاحتجاج به على قول
من يقول بالحجية لا على من يخالف في ذلك والمقام مقام اجتهاد. ولهذا حكى صاحب
البحر عن العترة والشافعي أنه لا يلزم الامام حضور الرجم وهو الحق لعدم دليل
يدل على الوجوب، ولما تقدم في حديث ماعز أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر برجم
ماعز ولم يخرج معهم والزنا منه ثبت بإقراره كما سلف، وكذلك لم يحضر في رجم
الغامدية كما زعم البعض، قال في التلخيص: لم يقع في طرق الحديثين أنه حضر، بل
في بعض الطرق ما يدل على أنه لم يحضر، وقد جزم بذلك الشافعي قال: وأما الغامدية
ففي سنن أبي داود وغيره ما يدل على ذلك، وإذا تقرر هذا تبين عدم الوجوب
على الشهود ولا على الامام، وأما الاستحباب فقد حكى ابن دقيق العيد أن
الفقهاء استحبوا أن يبدأ الامام بالرجم إذا ثبت الزنا بالاقرار وتبدأ الشهود
به إذا ثبت بالبينة.
باب ما في الحفر للمرجوم
عن أبي سعيد قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكن
قام لنا فرميناه بالعظام والخزف فاشتكى فخرج يشتد حتى انتصب لنا في عرض الحرة
فرميناه بجلاميد الجندل حتى سكت. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال
: جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وأنه ردها، فلما كان الغد
قالت: يا رسول الله لم ترددني لعلك ترددني كما رددت ماعزا؟ فوالله إني لحبلى، قال:
277

إما لا فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته، قال
: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت: هذا
يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر
لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها
فنضخ الدم على وجه خالد فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبه إياها
فقال: مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له
، ثم أمر به فصلي عليها ودفنت رواهما أحمد ومسلم وأبو داود. وعن عبد الله بن
بريدة عن أبيه: أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال: يا رسول الله إني زنيت وإني أريد أن تطهرني فرده فلما كان الغد أتاه
فقال: يا رسول الله إني زنيت. فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إلى قومه هل تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟ قالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل
من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس
به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم رواه مسلم وأحمد وقال
في آخره: فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحفر له حفرة فجعل فيها إلى صدره ثم
أمر الناس برجمه. وعن خالد بن اللجلاج: أن أباه أخبره فذكر قصة رجل اعترف
بالزنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحصنت؟ قال: نعم، فأمر برجمه، فذهبنا
فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه بالحجارة حتى هدأ رواه أحمد وأبو داود.
حديث خالد بن اللجلاج في إسناده محمد بن عبد الله بن علاثة وهو مختلف
فيه، وقد أخرجه أيضا النسائي ولأبيه صحبة، وهو بفتح اللام وسكون الجيم وآخره
جيم أيضا وهو عامري كنيته أبو العلاء عاش مائة وعشرين سنة. قوله: والخزف بفتح
الخاء المعجمة والزاي آخره فاء وهي أكسار الأواني المصنوعة من المدر. قوله:
في عرض الحرة بضم العين المهملة وسكون الراء، والحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد
الراء وهي أرض ذات أحجار سود، وقد سمي بذلك مواضع منها موضع وقعة حنين،
وموضع بتبوك، وبنقدة، وبين المدينة والعقيق، وقبلي المدينة، وببلاد عبس، وببلاد
فزارة، وببلاد بني القين، وبالدهناء، وبعالية الحجاز، وقرب فيد، وبجبال طيئ، وبأرض
بارق، وبنجد، وببني مرة، وقرب خيبر وهي حرة النار، وبظاهر المدينة تحت وأقم
278

وبها كانت وقعة الحرة أيام يزيد، وبالبريك في طريق اليمن، وحرة غلاس ولبن ولفلف
وشوران والحمارة وجفل وميطان ومعشر وليلى وعباد والرجلاء وقمأة، مواضع
بالمدينة كذا في القاموس. قوله: بجلاميد الجلاميد جمع جلمد وهو الصخر كالجلمود،
والجندل كجعفر ما يقله الرجل من الحجارة وبكسر الدال، وكعلبط الموضع يجتمع
فيه الحجارة، وأرض جندلة كعلبط وقد تفتح كسرتها كذا في القاموس. قوله: إما
لا فاذهبي قال النووي في شرح مسلم: هو بكسر الهمزة من إما وتشديد الميم وبالإمالة،
ومعناه إذا أبيت أن تستري نفسك وتتوبي عن قولك فاذهبي حتى تلدي فترجمين
بعد ذلك انتهى. قوله: فنضخ بالخاء المعجمة وبالمهملة. قوله: صاحب مكس بفتح
الميم وسكون الكاف بعدها مهملة هو من يتولى الضرائب التي تؤخذ من الناس
بغير حق. قال في القاموس: مكس في البيع يمكس إذا جبى مالا، والمكس النقص
والظلم، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو درهم
كان يأخذه المصدق بعد فراغه من الصدقة انتهى. قوله: فصلي عليها قال القاضي
عياض: هو بفتح الصاد واللام عند جمهور رواة مسلم، ولكن في رواية ابن أبي
شيبة وأبي داود والطبراني فصلى بضم الصاد على البناء للمجهول، ويؤيده ما وقع
في رواية لأبي داود بلفظ: ثم أمرهم فصلوا عليها ووقع في حديث عمران
بن حصين عند مسلم: أنه قال عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أيصلى عليها؟ فقال:
لقد تابت توبة لو قسمت بين أهل المدينة لوسعتهم. قوله: إلا وفي العقل بفتح الواو
وكسر الفاء وتشديد الياء صفة مشبهة، وهذه الأحاديث المذكورة في الباب قد
قدمنا الكلام على فقهها، وإنما ساقها المصنف ههنا للاستدلال بها على ما ترجم الباب
به وهو الحفر للمرجوم. وقد اختلفت الروايات في ذلك، فحديث أبي سعيد المذكور
فيه أنهم لم يحفروا لماعز. وحديث عبد الله بن بريدة فيه أنهم حفروا له إلى صدره
، وقد جمع بين الروايتين بأن المنفي حفيرة لا يمكنه الوثوب منها والمثبت عكسه، أو
أنهم لم يحفروا له أول الأمر ثم لما فر فأدركوه حفروا له حفيرة فانتصب لهم فيها
حتى فرغوا منه، أو أنهم حفروا له في أول الأمر ثم لما وجد مس الحجارة خرج من
الحفرة فتبعوه، وعلى فرض عدم إمكان الجمع فالواجب تقديم رواية الاثبات على
النفي، ولو فرضنا أن ذلك غير مرجح توجه إسقاط الروايتين والرجوع إلى غيرهما
279

كحديث خالد بن اللجلاج فإن فيه التصريح بالحفر بدون تسمية المرجوم، وكذلك
حديثه أيضا في الحفر للغامدية، وقد ذهبت العترة إلى أنه يستحب الحفر إلى سرة
الرجل وثدي المرأة، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يحفر للرجل، وفي قول
للشافعي أنه إذا حفر له فلا بأس، وبه قال الامام يحيى، وفي وجه للشافعية أنه يخير
الامام، وفي المرأة عندهم ثلاثة أوجه ثالثها يحفر إن ثبت زناها بالبينة لا بالاقرار، والمروي
عن أبي يوسف وأبي ثور أنه يحفر للرجل والمرأة، والمشهور عن الأئمة الثلاثة أنه لا
يحفر مطلقا، والظاهر مشروعية الحفر لما قدمنا.
باب تأخير الرجم عن الحبلى حتى تضع وتأخير الجلد
عن ذي المرض المرجو زواله
عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءته
امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرني، فقال: ويحك ارجعي فاستغفري
الله وتوبي إليه، فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، قال: وما
ذاك؟ قالت: إنها حبلى من الزنا، قال: أنت؟ قالت: نعم، فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك،
قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه،
فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها رواه مسلم والدارقطني
وقال: هذا حديث صحيح. وعن عمران بن حصين: أن امرأة من جهينة أتت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه
علي، فدعا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وليها فقال: أحسن إليها فإذا وضعت
فأتني، ففعل فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشدت عليها ثيابها ثم
أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، فقال له عمر: نصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟ قال:
لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل
من أن جادت بنفسها لله؟ رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة، وهو دليل على أن
280

المحدود محترز تحفظ عورته من الكشف. وعن علي قال: إن أمة لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة
عهد بنفاس، فخشيت أن أجلدها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال: أحسنت أتركها حتى تماثل رواه أحمد ومسلم وأبو داود
والترمذي وصححه.
قوله: من غامد بغين معجمة ودال مهملة لقب رجل هو أبو قبيلة وهم بطن
من جهينة، ولهذا وقع في حديث عمران بن حصين المذكور امرأة من جهينة وهي
هذه، واسم غامد المذكور عمرو بن عبد الله ولقب غامدا لاصلاحه أمرا كان في قومه،
وهذه القصة قد رواها جماعة من الصحابة منهم بريدة وعمران بن حصين كما ذكره
المصنف في هذا الباب وفي الباب الأول. ومنهم أبو هريرة وأبو سعيد وجابر بن عبد الله
وجابر بن سمرة وابن عباس وأحاديثهم عند مسلم، وفي سياق الأحاديث بعض اختلاف،
ففي حديث بريدة المتقدم في الباب الأول أنها جاءت بنفسها إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم حال الحمل وعند الوضع وأخر رجمها إلى الفطام فجاءت بعد ذلك
ورجمت. وفي حديثه المذكور في هذا الباب أنه كفلها رجل من الأنصار حتى وضعت
ثم أتى فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا نرجمها وندع ولدها صغيرا، فقام
رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه فرجمت. وفي حديث عمران بن حصين المذكور
أنها لما أقرت دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليها وأمره بالاحسان إليها حتى
تضع، ثم جاء بها عند الوضع فرجمت ولم يمهلها إلى الفطام. ويمكن الجمع بأنها جاءت
عند الولادة وجاء معها وليها وتكلمت وتكلم، ولكنه يبقى الاشكال في رواية
أنه رجمها عند الولادة ولم يؤخرها، ورواية أنه أخرها إلى الفطام، وقد قيل: إنهما
روايتان صحيحتان والقصة واحدة، ورواية التأخير رواية صحيحة صريحة لا
يمكن تأويلها، فيتعين تأويل الرواية القاضية بأنها رجعت عند الولادة بأن يقال
فيها طي، وحذف التقدير أن وليها جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند
الولادة فأمر بتأخيرها إلى الفطام ثم أمر بها فرجمت، ولا يخفى أن هذا وإن تم
باعتبار حديث عمران المذكور في الباب فلا يتم باعتبار حديث بريدة المذكورة فإن
فيه أنه قام رجل من الأنصار فقال إلي رضاعه يا نبي الله فرجمها. ويبعد أن يقال
281

إن هذا لا يدل على أنه قبل قوله وكفالته، بل أخرها إلى الفطام ثم أمر برجمها
بعد ذلك لأن السياق يأبى ذلك كل الاباء، وما أكثر ما يقع مثل هذا الاختلاف
بين الصحابة في القصة الواحدة التي مخرجها متحد بالاتفاق، ثم ترتكب لأجل
الجمع بين رواياتهم العظائم التي لا تخلو في الغالب من تعسفات وتكلفات، كأن السهو
والغلط والنسيان لا يجري عليهم، وما هم إلا كسائر الناس في العوارض البشرية، فإن
أمكننا الجمع بوجه سليم عن التعسفات فذاك، وإلا توجه علينا المصير إلى الترجيح،
وحمل الغلط أو النسيان على الرواية المرجوحة إما من الصحابي أو ممن هو دونه
من الرواة، وقد مر لنا في هذا الشرح عدة مواطن من هذا القبيل مشينا فيها على
ما مشى عليه الناس من الجمع بوجوه ينفر عن قبولها كل طبع سليم، ويأبى الرضا
بها كل عقل مستقيم. قوله: أصبت حدا فأقمه علي هذا الاجمال قد وقع من المرأة
تبيينه كما في سائر الروايات، ولكنه وقع الاختصار في هذه الرواية كما يشعر
بذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم عقب ذلك: أحسن إليها فإذا وضعت فأتني وقد
قدمنا أن مجرد الاقرار بالحد من دون تعيين لا يجوز للامام أن يحد به. قوله: أحسن
إليها إنما أمره بذلك لأن سائر قرابتها ربما حملتهم الغيرة وحمية الجاهلية على
أن يفعلوا بها ما يؤذيها فأمره بالاحسان تحذيرا من ذلك قوله: فشدت في
رواية: فشكت ومعناهما واحد، والغرض من ذلك أن لا تنكشف عند وقوع الرجم
عليها لما جرت به العادة من الاضطراب عند نزول الموت وعدم المبالاة بما يبدو
من الانسان، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن المرأة ترجم قاعدة والرجل قائما لما
في ظهور عورة المرأة من الشناعة. وقد زعم النووي أنه اتفق العلماء على أن المرأة
ترجم قاعدة وليس في الأحاديث ما يدل على ذلك ولا شك أنه أقرب إلى الستر،
ولم يحك ذلك في البحر إلا عن أبي حنيفة والهادوية، وحكي عن ابن أبي ليلى وأبي
يوسف أنها تحد قائمة، وذهب مالك إلى أن الرجل يحد قاعدا. قوله: ثم صلى عليها
قد تقدم الخلاف في ذلك في كتاب الجنائز. قوله: لو قسمت بين سبعين الخ في
رواية بريدة المتقدمة في الباب الأول لو تابها صاحب مكس، ولا مانع من أن يكون
ذلك قد وقع جميعه منه صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه دليل على أن الحدود لا تسقط
بالتوبة، وإليه ذهب جماعة من العلماء منهم الحنفية والهادي، وذهب جماعة منهم إلى
282

سقوطها بها ومنهم الشافعي وقد استدل بقصة الغامدية، على أنه يجب تأخير الحد على
الحامل حتى تضع ثم حتى ترضع وتفطم، وعند الهادوية أنها لا تؤخر إلى الفطام
إلا إذا عدم مثلها للرضاع والحضانة، فإن وجد من يقوم بذلك لم تؤخر وتمسكوا
بحديث بريدة المذكورة. قوله: اتركها حتى تماثل بالمثلثة قال في القاموس: تماثل
العليل قارب البرء. وفي رواية لأبي داود: حتى ينقطع عنها الدم وسيأتي في باب حد
الرقيق بلفظ: إذا تعالت من نفاسها فاجلدها وفيه دليل على أن المريض يمهل
حتى يبرأ أو يقارب البرء. وقد حكي في البحر الاجماع على أنه يمهل البكر حتى تزول
شدة الحر والبرد والمرض المرجو، فإن كان مأيوسا فقال الهادي وأصحاب الشافعي:
أنه يضرب بعثكول إن احتمله. وقال الناصر والمؤيد بالله: لا يحد في مرضه وإن كان
مأيوسا. والظاهر الأول لحديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف الآتي قريبا. وأما المرجوم
إذا كان مريضا أو نحوه فذهبت العترة والشافعية والحنفية ومالك إلى أنه لا يمهل
لمرض ولا لغيره إذ القصد إتلافه. وقال المروزي: يؤخر لشدة الحر أو
البرد أو المرض سواء ثبت بإقراره أو بالبينة. وقال الأسفراييني: يؤخر للمرض
فقط. وفي الحر والبرد أوجه يرجم في الحال أو حيث يثبت بالبينة لا بالاقرار
أو العكس.
باب صفة سوط الجلد وكيف يجلد من به مرض لا يرجى برؤه
عن زيد بن أسلم: أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسوط فأتي بسوط
مكسور فقال: فوق هذا، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته. فقال: بين هذين، فأتي بسوط
قد لأن وركب به فأمر به فجلد رواه مالك في الموطأ عنه. وعن أبي أمامة بن سهل
عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع
الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها، فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال: اضربوه حده، قالوا: يا رسول
الله إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه، فقال: خذوا له عثكالا فيه مائة
283

شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة، قال: ففعلوا رواه أحمد وابن ماجة، ولأبي داود
معناه من رواية أبي أمامة بن سهل عن بعض الصحابة من الأنصار وفيه: ولو حملناه إليك
فتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم.
حديث زيد بن أسلم هو مرسل، وله شاهد عند عبد الرزاق عن معمر بن يحيى بن أبي كثير
نحوه، وآخر عند ابن وهب من طريق كريب مولى ابن عباس، فهذه المراسيل الثلاثة
يشد بعضها بعضا. وحديث أبي أمامة أخرجه أيضا الشافعي والبيهقي وقال: هذا هو
المحفوظ عن أبي أمامة مرسلا. ورواه الدارقطني عن فليح عن أبي سالم عن سهل بن
سعد وقال: وهم فليح والصواب عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن
أبيه. ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري وقال: إن
كانت الطرق كلها محفوظة فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة
وأرسله أخرى. ورواه أبو داود من حديث الزهري عن أبي أمامة عن رجل من
الأنصار ولفظه: أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلدة على عظم فدخلت
عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه
أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإني قد وقعت
على جارية دخلت علي، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا
: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك فتفسخت عظامه،
ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذوا له
مائة شمراخ فيضربوه به ضربة واحدة. وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة
بن سهل بن حنيف عن أبيه باللفظ الذي ذكره أبو داود وفي إسناده عبد الأعلى
بن عامر الثعلبي، قال المنذري: لا يحتج به وهو كوفي. وقال في التقريب: صدوق يهم
من السادسة. وقال الحافظ في بلوغ المرام: إن إسناد هذا الحديث حسن ولكنه
اختلف في وصله وإرساله. قوله: لم تقطع ثمرته أي عذبته وهي طرفه. قوله: وركب به
بضم الراء وكسر الكاف على صيغة المجهول أي ركب به الراكب على الدابة وضربها
به حتى لأن. قوله: رويجل تصغير رجل للتحقير. قوله: مخدج بضم الميم وسكون
الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة بعدها جيم وهو السقيم الناقص الخلق. وفي رواية
مقعد. قوله: يخبث بها بفتح أوله وسكون الخاء المعجمة وضم الموحدة وآخره
284

مثلثة أي يزني بها. قوله: عثكالا بكسر المهملة وسكون المثلثة قال في القاموس:
كقرطاس العذق والشمراخ، ويقال عثكول وعثكولة بضم العين انتهى. وجاء في
رواية اثكال وفي أخرى اثكول وهما لغتان في العثكال، وهو الذي يكون فيه
البسر. والشمراخ بكسر الشين المعجمة وسكون الميم وآخره خاء معجمة وهو
غصن دقيق. وقال في القاموس: الشمراخ بالكسر العثكال عليه بسر أو عنب
كالشمروخ انتهى. والمراد ههنا بالعثكال العنقود من النخل الذي يكون فيه أغصان
كثيرة وكل واحد من هذه الأغصان يسمى شمراخا. وحديث زيد بن أسلم فيه
دليل على أنه ينبغي أن يكون السوط الذي يجلد به الزاني متوسطا بين الجديد
والعتيق وهكذا إذا كان الجلد بعود ينبغي أن يكون متوسطا بين الكبير والصغير،
فلا يكون من الخشب التي تكسر العظم وتجرح اللحم، ولا من الأعواد الرقيقة التي
لا تؤثر في الألم، وينبغي أن يكون متوسطا بين الجديد والعتيق. وقال في البحر: وقدر
عرضه بأصبع وطوله بذراع. وحديث أبي أمامة فيه دليل على أن المريض إذا لم
يحتمل الجلد ضرب بعثكول أو ما يشابهه مما يحتمله، ويشترط أن تباشره جميع
الشماريخ. وقيل: يكفي الاعتماد، وهذا العمل من الحيل الجائزة شرعا، وقد جوز
الله مثله في قوله: * (وخذ بيدك ضغثا) * (ص: 44) الآية.
باب من وقع على ذات محرم أو عمل عمل قوم لوط أو أتى بهيمة
عن البراء بن عازب قال: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب
عنقه وآخذ ماله رواه الخمسة ولم يذكر ابن ماجة والترمذي أخذ المال.
الحديث حسنه الترمذي، وأخرجه أبو داود عن البراء أيضا بلفظ: بينما أطوف
على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل الاعراب يطيفون بي
لمنزلتي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلا فضربوا
عنقه فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه. قال المنذري، وقد اختلف في
هذا اختلافا كثيرا، فروي عن البراء، وروي عنه عن عمه، وروي عنه قال: مربي خالي
285

أبو بردة بن نيار ومعه لواء وهذا لفظ الترمذي. وروي عنه عن خاله وسماه هشيم
في حديثه الحرث بن عمرو وهذا لفظ ابن ماجة. وروي عقال: مر بنا أناس
ينطلقون. وروي عنه إني لأطوف على إبل ضلت في تلك الاحياء في عهد النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إذ جاءهم رهط معهم لواء، وهذا لفظ النسائي. وللحديث أسانيد كثيرة منها
ما رجاله رجال الصحيح. (والحديث) فيه دليل على أنه يجوز للامام أن يأمر بقتل من
خالف قطعيا من قطعيات الشريعة كهذه المسألة، فإن الله تعالى يقول: * (ولا تنكحوا
ما نكح آباؤكم من النساء) * (النساء: 25) ولكنه لا بد من حمل الحديث على أن ذلك الرجل الذي
أمر صلى الله عليه وآله وسلم بقتله عالم بالتحريم وفعله مستحلا وذلك من موجبات
الكفر، والمرتد يقتل للأدلة الآية. وفيه أيضا متمسك لقول مالك أنه يجوز التعزير
بالقتل. وفيه دليل أيضا على أنه يجوز أخذ مال من ارتكب معصية مستحلا لها
بعد إراقة دمه، وقد قدمنا في كتاب الزكاة الكلام على التأديب بالمال.
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به رواه الخمسة
إلا النسائي. وعن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس: في البكر يوجد على
اللوطية يرجم رواه أبو داود.
الحديث الذي من طريق عكرمة أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي، وقال
الحافظ: رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا. وقال الترمذي: وإنما يعرف هذا الحديث
عن ابن عبا س عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الوجه. وروى محمد بن إسحاق
هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو فقال: ملعون من عمل عمل قوم لوط ولم يذكر
القتل انتهى. وقال يحيى بن معين: عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ثقة ينكر عليه
حديث عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اقتلوا الفاعل
والمفعول به. ويجاب عن ذلك بأنه قد احتج الشيخان به وروى عنه مالك في الموطأ
، وقد استنكر النسائي هذا الحديث. والأثر المروي عن ابن عباس من طريق سعيد
بن جبير ومجاهد أخرجه أيضا النسائي والبيهقي. (وفي الباب) عن أبي هريرة عند
ابن ماجة والحاكم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به
أحصنا أو لم يحصنا وإسناده ضعيف. قال ابن الطلاع في أحكامه: لم يثبت عن رسول الله
286

صلى الله عليه وآله وسلم أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه. وثبت عنه أنه قال:
اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى. قال الحافظ:
وحديث أبي هريرة لا يصح، وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري
عن سهيل عن أبيه عنه وعاصم متروك. وقد رواه ابن ماجة من طريقه بلفظ: فارجموا
الأعلى والأسفل وأخرج البيهقي من حديث أبي موسى أنه صلى الله عليه وآله وسلم
قال: إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان وفي إسناده
محمد بن عبد الرحمن كذبه أبو حاتم، وقال البيهقي: لا أعرفه والحديث منكر بهذا
الاسناد انتهى. ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء والطبراني في الكبير من وجه
آخر عن أبي موسى وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول. وقد أخرجه أبو داود
الطيالسي في مسنده عنه. وأخرج البيهقي عن علي عليه السلام أنه رجم لوطيا، قال
الشافعي: وبهذا نأخذ يرجم اللوطي محصنا كان أو غير محصن. وأخرج البيهقي أيضا
عن أبي بكر: أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما ينكح النساء فسأل أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن
أبي طالب عليه السلام قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة
صنع الله بها ما قد علمتم نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره
أن يحرقه بالنار. وفي إسناده إرسال. وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد عن
أبيه عن علي في هذه القصة قال: يرجم ويحرق بالنار. وأخرج البيهقي أيضا عن ابن
عباس أنه سأل عن حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القربة فيرمى به منكسا ثم
يتبع الحجارة. وقد اختلف أهل العلم في عقوبة الفاعل للواط والمفعول به بعد اتفاقهم
على تحريمه وأنه من الكبائر للأحاديث المتواترة في تحريمه ولعن فاعله، فذهب
من تقدم ذكره من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو
مفعولا، وإليه ذهب الشافعي والناصر والقاسم بن إبراهيم، واستدلوا بما ذكره المصنف
وذكرناه في هذا الباب وهو بمجموعه ينتهض للاحتجاج به، وقد اختلفوا في كيفية
قتل اللوطي، فروي عن علي أنه يقتل بالسيف ثم يحرق لعظم المعصية وإلى ذلك ذهب
أبو بكر كما تقدم عنه. وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط. وذهب ابن عباس
287

إلى أنه يلقى من أعلى بناء في البلد. وقد حكى صاحب الشفاء إجماع الصحابة على
القتل. وقد حكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق أنه يرجم. وحكى
ذلك الترمذي عن مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وروي عن النخعي أنه قال:
لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم اللوطي. وقال المنذري: حرق اللوطية
بالنار أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك. وذهب سعيد بن المسيب
وعطاء بن أبي رباح والحسن وقتادة والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو طالب
والامام يحيى والشافعي في قول له إلى أن حد اللوطي حد الزاني فيجلد البكر
ويغرب ويرجم المحصن، وحكاه في البحر عن القاسم بن إبراهيم، وروى عنه المؤيد
بالله القتل مطلقا كما سلف، واحتجوا بأن التلوط نوع من أنواع الزنا لأنه إيلاج
فرج في فرج، فيكون اللائط والملوط به داخلين تحت عموم الأدلة الواردة في الزاني
المحصن والبكر وقد تقدمت، ويؤيد ذلك حديث: إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان
وقد تقدم. وعلى فرض عدم شمول الأدلة المذكورة لهما فهما لاحقان بالزاني بالقياس
. ويجاب عن ذلك بأن الأدلة الواردة بقتل الفاعل والمفعول به مطلقا مخصصة لعموم
أدلة الزنا الفارقة بين البكر والثيب على فرض شمولها للوطي، ومبطلة للقياس المذكور
على فرض عدم الشمول لأنه يصير فاسد الاعتبار كما تقرر في الأصول، وما أحق
مرتكب هذه الجريمة ومقارف هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها
عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيبا بكسر شهرة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى
بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يصلي من العقوبة بما يكون في
الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم واستأصل بذلك العذاب
بكرهم وثيبهم. وذهب أبو حنيفة والشافعي في قول له والمرتضى والمؤيد بالله إلى أنه
يعزر اللوطي فقط، ولا يخفى ما في هذا المذهب من المخالفة للأدلة المذكورة في
خصوص اللوطي والأدلة الواردة في الزاني على العموم. وأما الاستدلال لهذا
بحديث: لأن أخطئ في العفو خير من أن أخطئ في رد العقوبة فمردود بأن ذلك
إنما هو مع الالتباس والنزاع ليس هو في ذلك.
وعن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة رواه أحمد وأبو داود
288

والترمذي وقال: لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو. وروى الترمذي وأبو
داود من حديث عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس أنه قال: من أتى بهيمة فلا حد
عليه وذكر أنه أصح.
الحديث الذي رواه عكرمة أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة، قال الترمذي:
هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد رواه سفيان الثوري عن عاصم عن أبي
رزين عن ابن عباس أنه قال: من أتى بهيمة فلا حد عليه حدثنا بذلك محمد بن بشار،
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، وهذا أصح من الحديث الأول، والعمل
على هذا عند أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق انتهى. وقد روى هذا الحديث
ابن ماجة في سننه من حديث إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين
عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من
وقع على ذات محرم فاقتلوه، ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة وإبراهيم
المذكور قد وثقه أحمد، وقال البخاري: منكر الحديث، وضعفه غير واحد من الحفاظ.
وأخرجه أبو يعلى الموصلي من حديث عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير عن علي بن مسهر
عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا. وذكر
ابن عدي عن أبي يعلى أنه قال: بلغنا أن عبد الغفار رجع عنه، وذكر ابن عدي أنهم
كانوا لقنوه. وأخرج هذا الحديث البيهقي بلفظ: ملعون من وقع على بهيمة وقال
اقتلوه واقتلوها لا يقال هذه التي فعل بها كذا وكذا ومال البيهقي إلى تصحيحه. ورواه
أيضا من طريق عباد بن منصور عن عكرمة. ورواه عبد الرزاق عن إبراهيم بن
محمد عن داود بن الحصين عن عكرمة وإبراهيم ضعيف وإن كان الشافعي يقوي
أمره، إذا عرفت هذا تبين لك أنه لم يتفرد برواية الحديث عمرو بن أبي عمرو عن
عكرمة كما قال الترمذي، بل رواه عن عكرمة جماعة كما بينا. وقد قال البيهقي: رويناه
عن عكرمة من أوجه مع أن تفرد عمرو بن أبي عمرو لا يقدح في الحديث فقد
قدمنا أنه احتج به الشيخان ووثقه يحيى بن معين. وقال البخاري: عمرو صدوق
ولكنه روي عن عكرمة مناكير. والأثر الذي رواه أبو رزين عن ابن عباس
أخرجه أيضا النسائي، ولا حكم لرأي ابن عباس إذ انفرد فكيف إذا عارض المروي
289

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طريقه. وقد اختلف أهل العلم فيمن وقع
على بهيمة، فأخرج البيهقي عن جابر بن زيد أنه قال: من أتى البهيمة أقيم عليه الحد.
وأخرج أيضا عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: إن كان محصنا رجم وروي
أيضا عن الحسن البصري أنه قال: هو بمنزلة الزاني. قال الحاكم: أرى أن يجلد ولا
يبلغ به الحد، وهو مجمع على تحريم إتيان البهيمة كما حكى ذلك صاحب البحر. وقد
ذهب إلى أنه يوجب الحد كالزنا الشافعي في قول له، والهادوية وأبو يوسف،
وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قول له والمرتضى والمؤيد بالله والناصر
والامام يحيى إلى أنه يوجب التعزير فقط إذ ليس بزنا، ورد بأنه فرج محرم شرعا
مشتهى طبعا فأوجب الحد كالقبل. وذهب الشافعي في قول له إلى أنه يقتل أخذا
بحديث الباب. (وفي الحديث) دليل على أنها تقتل البهيمة، والعلة في ذلك ما روى أبو
داود والنسائي أنه قيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك إلا أنه
يكره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل. وقد تقدم أن العلة أن يقال هذه
التي فعل بها كذا وكذا. وقد ذهب إلى تحريم لحم البهيمة المفعول بها وإلى أنها تذبح
علي عليه السلام والشافعي في قول له، وذهبت القاسمية والشافعي في قول له
وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يكره أكلها تنزيها فقط. قال في البحر: إنها
تذبح البهيمة ولو كانت غير مأكولة لئلا تأتي بولد مشوه، كما روي أن راعيا أتى
بهيمة فأتت بولد مشوه انتهى. وأما حديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذبح
الحيوان إلا لاكله فهو عموم مخصص لحديث الباب.
باب فيمن وطئ جارية امرأته
عن النعمان بن بشير: أنه رفع إليه رجل غشي جارية امرأته فقال: لأقضين
فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن كانت أحلتها لك
جلدتك مائة، وإن كانت لم تحلها لك رجمتك رواه الخمسة. وفي رواية عن
النعمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في الرجل يأتي جارية
290

امرأته قال: إن كانت أحلتها له جلدته مائة، وإن لم تكن أحلتها له رجمته رواه
أبو داود والنسائي.
الحديث قال الترمذي في إسناده اضطراب، سمعت محمدا يعني البخاري يقول:
لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث إنما رواه عن خالد بن عرفطة، وأبو
بشر لم يسمع من حبيب بن سالم هذا الحديث أيضا إنما رواه عن خالد بن عرفطة
انتهى. والذي في السنن أن أبا بشر رواه عن خالد بن عرفطة عن حبيب، ولكن
الترمذي رواه في سننه عن أبي بشر عن حبيب وخالد بن عرفطة، قال أبو حاتم
الرازي: هو مجهول. وقال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عنه فقال: أنا أتقي هذا
الحديث. وقال النسائي: أحاديث النعمان هذه مضطربة. وقال الخطابي: هذا الحديث
غير متصل وليس العمل عليه انتهى. وعرفطة بضم العين وسكون الراء المهملتين
وضم الفاء وبعدها طاء مهملة مفتوحة وتاء تأنيث. (وفي الباب) عن قبيصة بن حريث
عن سلمة بن المحبق عند أبي داود والنسائي أرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها
مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها. قال النسائي: لا تصح هذه
الأحاديث. وقال البيهقي: قبيصة بن حريث غير معروف. وروينا عن أبي داود
أنه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: رواه عن سلمة بن المحبق شيخ لا يعرف، لا يحدث
عنه غير الحسن يعني قبيصة بن حريث. وقال البخاري في التاريخ: قبيصة بن حريث سمع
سلمة بن المحبق في حديثه نظر. وقال ابن المنذر: لا يثبت خبر سلمة بن المحبق. وقال الخطابي: هذا
حديث منكر وقبيصة بن حريث غير معروف والحجة لا تقوم بمثله. وكان الحسن لا يبالي أن
يروى الحديث ممن سمع. وقال بعضهم: هذا كان قبل الحدود. وقد روى أبو داود والنسائي
وابن ماجة من طريق الحسن البصري عن سلمة بن المحبق نحو ذلك إلا أنه قال: وإن كانت
طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها. (وقد اختلف) في هذا الحديث عن الحسن فقيل
عنه عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق، وقيل عنه عن سلمة من غير ذكر قبيصة،
وقيل عن جون بن قتادة عن سلمة وجون بن قتادة قال الإمام أحمد: لا يعرف،
والمحبق بضم الميم وفتح الحاء المهملة وبعدها باء موحدة مشددة مفتوحة ومن أهل
اللغة من يكسرها. والمحبق لقب واسمه صخر بن عبيد وسلمة ابنه له صحبة سكن
البصرة كنيته أبو سنان كني بابنه سنان. وذكر أبو عبد الله بن منده أن لابنه
291

سنان صحبة أيضا. وجون بفتح الجيم وسكون الواو وبعدها نون، وقد اختلف أهل
العلم في الرجل يقع على جارية امرأته فقال الترمذي: روي عن غير واحد من الصحابة
منهم أمير المؤمنين علي وابن عمر أن عليه الرجم. وقال ابن مسعود: ليس عليه حد
ولكن يعزر. وذهب أحمد وإسحاق إلى ما رواه النعمان بن بشير انتهى. وهذا هو
الراجح، لأن الحديث وإن كان فيه المقال المتقدم فأقل أحوال أن يكون شبهة
يدرأ بها الحد. قال في البحر مسألة: لو أباحت الزوجة للزوج وطئ أمتها أو
وطئ امرأة يستحق دمها حد. وقال أبو حنيفة: لا إذ هما شبهة، قلنا: لا نسلم
انتهى. وهذا منع مجرد، فإن مثل حديث النعمان إذا لم يكن شبهة فما الذي يكون شبهة
؟. قول: وإن كانت لم تحلها لك رجمتك زاد أبو داود: فوجدوه
أحلتها له فجلده مائة
. باب حد زنا الرقيق خمسون جلدة
عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: أرسلني رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد قال: فوجدتها في دمها، فأتيت
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك فقال لي: إذا تعالت من نفاسها فاجلدها
خمسين رواه عبد الله بن أحمد في المسند. وعن عبد الله بن
عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من
قريش فجلدنا ولائد من ولائد الامارة خمسين خمسين في الزنا رواه مالك
في الموطأ.
حديث أمير المؤمنين علي قد تقدم الكلام عليه في باب تأخير الرجم عن
الحبلى، وسيأتي أيضا في الباب الذي بعد هذا. وأثر عمر مؤيد لحديث الباب لوقوع
ذلك منه بمحضر جماعة من الصحابة. وروى ابن وهب عن ابن جريج عن عمرو
بن دينار أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت تجلد وليدتها
إذا زنت خمسين. ويشهد لذلك عموم قوله تعالى: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من
العذاب) * (النساء: 25) ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر. وروي عن
292

ابن عباس أنه قال: لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكا بقوله تعالى: * (فإذا أحصن) * (المائدة: 38) فإنه
تعالى علق حد الإماء بالاحصان، وأجاب عنه في البحر بأن لفظ الاحصان محتمل
لأنه بمعنى أسلمن وبلغن وتزوجن، قال: ولو سلم فخلاف ابن عباس منقوض، والأولى
الجواب بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الآتي في الباب الذي بعد هذا، فإن
فيه: أنه سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: إن زنت
فاجلدوها وهذا نص فمحل النزاع. وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي من حديث
أبي عبد الرحمن السلمي: أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه خطب فقال: يا أيها الناس
أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن. وقد وافق ابن
عباس وطاوس وعطاء وابن جرير، وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك. قوله:
إذا تعالت من نفاسها بالعين المهملة أي خرجت، وفيه دليل على أنه
يمهل من كان مريضا حتى يصح من مرضه، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب
تأخير الرجم عن الحبلى.
باب السيد يقيم الحد على رقيقه
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا زنت أمة
أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا
يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر متفق عليه. ورواه أحمد
في رواية وأبو داود وذكرا فيه الرابعة الحد والبيع. قال الخطابي: معنى لا يثرب
لا يقتصر على التثريب. وعن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: سئل النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: إن زنت فاجلدوها، ثم
إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير، قال ابن شهاب: لا أدري
أبعد الثالثة أو الرابعة؟ متفق عليه. وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أن
خادما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدثت فأمرني النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أن أقيم عليها الحد فأتيتها فوجدتها لم تجف من دمها فأتيته فأخبرته فقال: إذا
جفت من دمها فأقم عليها الحد، أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم رواه أحمد
وأبو داود.
293

حديث علي أخرجه مسلم في صحيحه والبيهقي والحاكم ووهم فاستدركه
. قوله: فتبين زناها الظاهر أن المراد تبينه بما يتبين في حق الحرة، وذلك إما بشهادة
أربعة أو بالاقرار على الخلاف المتقدم فيه، وقيل إن المراد بالتبين أن يعلم السيد
بذلك وإن لم يقع إقراره ولا قامت شهادة وإليه ذهب بعضهم، وحكي في البحر
الاجماع على أنه يعتبر شهادة أربعة في العبد كالحر والأمة حكمها حكمه، وقد ذهب
الأكثر إلى أن الشهادة تكون إلى الامام أو الحاكم، وذهب بعض أصحاب الشافعي
إلى أنها تكون عند السيد. قوله: ولا يثرب عليها بمثناة تحتية مضمومة ومثلثة
مفتوحة ثم راء مشددة مكسورة وبعدها موحدة وهو التعنيف، وقد ثبت في رواية
عند النسائي بلفظ: ولا يعنفها والمراد أن اللازم لها شرعا هو الحد فقط، فلا يضم
إليه سيدها ما ليس بواجب شرعا وهو التثريب، وقيل: إن المراد نهي السيد عن أن
يقتصر على التثريب دون الحد، وهو مخالف لما يفهمه السياق، وفي ذلك كما قال
ابن بطال دليل على أنه لا يعزر من أقيم عليه الحد بالتعنيف واللوم، ولهذا لم
يثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم سب أحدا ممن أقام عليه الحد بل نهى صلى
الله عليه وآله وسلم عن ذلك كما سيأتي من حديث أبي هريرة في كتاب حد شارب
الخمر. قوله: ثم إن زنت فيه دليل على أنه لا يقام على الأمة الحد إلا إذا زنت
بعد إقامة الحد عليها لا إذا تكرر منها الزنا قبل إقامة الحد، كما يدل على ذلك
لفظ ثم بعد ذكر الجلد. قوله: فليبعها ظاهر هذا أنها لا تحد إذا زنت بعد
أن جلدها في المرة الثانية، ولكن الرواية التي ذكرها المصنف عن أبي هريرة
وزيد بن خالد مصرحة بالجلد في الثالثة، وكذلك الرواية التي ذكرها عن أحمد
وأبي داود أنهما ذكرا في الرابعة الحد والبيع نص في محل النزاع، وبها يرد على
النووي حيث قال: إنه لما لم يحصل المقصود من الزجر عدل إلى الاخراج عن الملك
دون الجلد مستدلا على ذلك بقوله فليبعها، وكذا وافقه على ذلك ابن دقيق العيد
وهو مردود، وأما الحافظ في الفتح فقال: الأرجح أنه يجلدها قبل البيع
ثم يبيعها، وصرح بأن السكوت عن الجلد للعلم به، ولا يخفى أنه لم يسكت صلى
الله عليه وآله وسلم عن ذلك كما سلف، وظاهر الامر بالبيع أنه واجب،
وذهب الجمهور إلى أنه مستحب فقط، وزعم بعض الشافعية أن الامر بالبيع
294

منسوخ كما حكاه ابن الرفعة في المطلب ولا أعرف له ناسخا، فإن كان هو
النهي عن إضاعة المال كما زعم بعضهم فيجاب عنه أولا بأن الإضاعة إنما تكون
إذا لم يكن شئ في مقابل المبيع، والمأمور به ههنا هو البيع لا الإضاعة، وذكر الحبل
من الشعر للمبالغة، ولو سلم عدم إرادة المبالغة لما كان في البيع بحبل من شعر إضاعة،
وإلا لزم أن يكون بيع الشئ الكثير بالحقير إضاعة وهو ممنوع. وقد ذهب داود
وسائر أهل الظاهر إلى أن البيع واجب لأن ترك مخالطة الفسقة ومفارقتهم واجبان،
وبيع الكثير بالحقير جائز إذا كان البائع عالما به بالاجماع. قال ابن بطال: حمل الفقهاء
الامر بالبيع على الحض على مباعدة من تكرر منه الزنا لئلا يظن بالسيد الرضا
بذلك، ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا، قال: وحمله بعضهم على الوجوب
ولا سلف له في الأمة فلا يشتغل به انتهى. وظاهره أنه أجمع السلف على عدم
وجوب البيع، فإن صح ذلك كان هو القرينة الصارفة للامر عن الوجوب وإلا كان
الحق ما قاله أهل الظاهر. (وأحاديث الباب) فيها دليل على أن السيد يقيم الحد
على مملوكه، وإلى ذلك ذهب جماعة من السلف والشافعي. وذهبت العترة إلى أن حد
المماليك إلى الامام إن كان ثم إمام وإلا كان إلى سيده. وذهب مالك إلى أن الأمة
إن كانت مزوجة كان أمر حدها إلى الامام إلا أن يكون زوجها عبدا
لسيدها فأمر حدها إلى السيد. واستثنى مالك أيضا القطع في السرقة وهو وجه
للشافعية، وفي وجه لهم آخر يستثني حد الشرب. وروي عن الثوري والأوزاعي
إنه لا يقيم السيد إلا حد الزنا. وذهبت الحنفية إلى إنه لا يقيم الحدود على المماليك
إلا الامام مطلقا. وظاهر أحاديث الباب أنه يحد المملوك سيده من غير فرق بين أن
يكون الامام موجودا أو معدوما، وبين أن يكون السيد صالحا لإقامة الحد أم لا. وقال
ابن حزم: يقيمه السيد إلا إذا كان كافرا. وقد أخرج البيهقي عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى أنه قال: أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في
مجالسهم إذا زنت. ورواه الشافعي عن ابن مسعود وأبي بردة. وأخرجه أيضا البيهقي
عن خارجة بن زيد عن أبيه. وأخرجه أيضا عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء
الذين ينتهي إلى أقوالهم من أهل المدينة أنهم كانوا يقولون: لا ينبغي لأحد يقيم
295

شيئا من الحدود دون السلطان، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده وأمته.
وروى الشافعي عن ابن عمر: أنه قطع يد عبده وجلد عبدا له زنى وأخرج
مالك عن عائشة أنها قطعت يد عبد لها. وأخرج أيضا أن حفصة قتلت جارية لها
سحرتها وأخرج عبد الرزاق والشافعي: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم حدت جارية لها زنت. وتقدم في الباب الذي قبل هذا أنها جلدت وليدة
لها خمسين. وقد احتج من قال إنه لا يقيم الحدود مطلقا إلا الامام بما رواه الطحاوي
عن مسلم بن يسار أنه قال: كان رجل من الصحابة يقول الزكاة والحدود والفئ
والجمعة إلى السلطان. قال الطحاوي: لا نعلم له مخالفا من الصحابة، وتعقبه ابن حزم
بأنه خالفه اثنا عشر صحابيا. وظاهر أحاديث الباب أن الأمة والعبد يجلدان
سواء كانا محصنين أم لا. وقد تقدم الخلاف في ذلك في البا ب الذي قبل هذا. وقد
اختلف أهل العلم في المملوك إذا كان محصنا هل يرجم أم لا؟ فذهب الأكثر إلى
الثاني، وذهب الزهري وأبو ثور إلى الأول. (واحتج الأولون) بأن الرجم
لا يتنصف، واحتج الآخرون بعموم الأدلة. وأما المكاتب فذهبت العترة
إلى أنه لا رجم عليه ويجلد كالحر بقدر ما أدى وفي البقية كالعبد، وذهبت
الشافعية والحنفية إلى أنه يجلد كالعبد مطلقا لحديث: المكاتب عبد
ما بقي عليه درهم وقد تقدم، وتقدم الكلام على التقسيط في المكاتب في
باب الكتابة.
كتاب القطع في السرقة
باب ما جاء في كم يقطع السارق
عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع في مجن
ثمنه ثلاثة دراهم رواه الجماعة. وفي لفظ بعضهم: قيمته ثلاثة دراهم.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع يد السارق
في ربع دينار فصاعدا رواه الجماعة إلا ابن ماجة. وفي رواية: أن النبي
296

صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا رواه
أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة. وفي رواية قال: تقطع يد السارق في ربع
دينار رواه البخاري والنسائي وأبو داود. وفي رواية قال: تقطع اليد في ربع
دينار فصاعدا رواه البخاري. وفي رواية قال: اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا
فيما هو أدنى من ذلك، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر
درهما رواه أحمد. وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقطع
يد السارق مما دون ثمن المجن قيل لعائشة: ما ثمن المجن قالت: ربع الدينار رواه النسائي.
وعن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده،
قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي
دراهم متفق عليه. وليس لمسلم فيه زيادة قول الأعمش.
قوله: في مجن بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون وهو الترس، ويقال له
مجنة بكسر الميم أيضا وجنان وجنانة بضمهما. قوله: فصاعدا هو منصوب على
الحالية أي فزائدا ويستعمل بالفاء وبثم لا بالواو. وفي رواية لمسلم: لن تقطع
يد السارق إلا في ربع دينار فما فوقه. قوله: في ربع دينار هذه الرواية موافقة
لرواية الثلاثة الدراهم التي هي ثمن المجن كما في رواية النسائي المذكورة في الباب
أن ثمن المجن كان ربع دينار، وكما في رواية أحمد أنه كان ربع الدينار يومئذ ثلاثة
دراهم. قال الشافعي: وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم، وذلك أن الصرف على
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر درهما بدينار وكان كذلك بعده.
وقد تقدم: أن عمر فرض الدية على أهل الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل
الذهب ألف دينار. وأخرج أبو المنذر أنه أتي عثمان بسارق سرق أترجة فقومت
بثلاثة دراهم من حساب الدينار باثني عشر فقطع. وأخرج أيضا البيهقي من طريق
جعفر بن محمد عن أبيه أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه قطع في ربع دينار
وكانت قيمته درهمين ونصفا. وأخرج البيهقي أيضا من حديث جعفر بن محمد عن
أبيه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: القطع في ربع دينار فصاعدا. وأخرج أيضا
من طريقه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قطع يد سارق في بيضة من
297

حديد ثمنها ربع دينار ورجاله ثقات ولكنه منقطع. وقد ذهب إلى ما تقتضيه
أحاديث الباب من ثبوت القطع في ثلاثة دراهم أو ربع دينار الجمهور من السلف
والخلف ومنهم الخلفاء الأربعة، واختلفوا فيما يقوم به ما كان من غير الذهب والفضة،
فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه يكون التقويم بالدراهم لا بربع الدينار إذا
كان الصرف مختلفا. وقال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الذهب لأنه الأصل
في جواهر الأرض كلها حتى قال: إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع دينار لم
توجب القطع انتهى. قال مالك: وكل واحد من الذهب والفضة معتبر في نفسه لا يقوم
بالآخر. وذكر بعض البغداديين أنه ينظر في تقويم العروض بما كان غالبا في نقود أهل
البلد. وذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه وسائر فقهاء العراق إلى أن النصاب الموجب
للقطع هو عشرة دراهم ولا قطع في أقل من ذلك. واحتجوا بما أخرجه البيهقي
والطحاوي من حديث محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن
عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم عشرة
دراهم. وأخرج نحو ذلك النسائي عنه. وأخرج عنه أبو داود أن ثمنه كان دينارا أو
عشرة دراهم. وأخرج البيهقي عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة دراهم.
وأخرج النسائي عن عطاء مرسلا: أدنى ما يقطع فيه ثمن المجن قال وثمنه عشرة
دراهم قالوا: وهذه الروايات في تقدير ثمن المجن أرجح من الروايات الأولى وإن
كانت أكثر وأصح ولكن هذه أحوط والحدود تدفع بالشبهات، فهذه الروايات
كأنها شبهة في العمل بما دونها. وروي نحو هذا عن ابن العربي قال: وإليه ذهب سفيان
مع جلالته، ويجاب بأن الروايات المروية عن ابن عباس وابن عمرو بن العاص في
إسنادها جميعا محمد بن إسحاق وقد عنعن ولا يحتج بمثله إذا جاء بالحديث معنعنا،
فلا يصلح لمعارضة ما في الصحيحين عن ابن عمر وعائشة، وقد تعسف الطحاوي
فزعم أن حديث عائشة مضطرب ثم بين الاضطراب بما يفيد بطلان قوله، وقد
استوفى صاحب الفتح الرد عليه. وأيضا حديث ابن عمر حجة مستقلة، ولو سلمنا
صلاحية روايات تقدير ثمن المجن بعشرة دراهم لمعارضة الروايات الصحيحة لم
يكن ذلك مفيدا للمطلوب أعني عدم ثبوت القطع فيما دون ذلك لما في الباب من
298

إثبات القطع في ربع الدينار وهو دون عشرة دراهم فيرجع إلى هذه الروايات،
ويتعين طرح الروايات المتعارضة في ثمن المجن، وبهذا يلوح لك عدم صحة الاستدلال
بروايات العشرة الدراهم عن بعض الصحابة على سقوط القطع فيما دونها وجعلها
شبهة والحدود تدرأ بالشبهات لما سلف، وقد أسلفنا عن جماعة من الصحابة أنهم
قطعوا في ربع دينار وفي ثلاثة دراهم. المذهب الثالث: نقله عياض عن النخعي
أنه لا يجب القطع إلا في أربعة دنانير أو أربعين درهما وهذا قول لا دليل عليه
فيما أعلم. المذهب الرابع: حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري أنه يقطع في
درهمين وحكاه في البحر عن زياد بن أبي زياد ولا دليل على ذلك من المرفوع.
وقد أخرج ابن أبي شيبة عن أنس بسند قوي: أن أبا بكر قطع في شئ ما يساوي
درهمين. وفي لفظ: لا يساوي ثلاثة دراهم. المذهب الخامس: أربعة دراهم نقله ابن
المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد وكذلك حكاه عنهما في البحر ونقله عياض
عن بعض الصحابة وهو مردود بما سلف. المذهب السادس: ثلث دينار رواه ابن
المنذر عن الباقر. المذهب السابع: خمسة دراهم حكاه في البحر عن الناصر والنخعي
وروي عن ابن شبرمة وهو مروي عن ابن أبي ليلى والحسن البصري، واستدلوا بما
أخرجه ابن المنذر عن عمر أنه قال: لا تقطع الخمس إلا في خمس. المذهب الثامن
: دينار أو ما بلغ قيمته رواه ابن المنذر عن النخعي وحكاه ابن حزم عن طائفة.
المذهب التاسع: ربع دينار من الذهب ومن غيره في القليل والكثير وإليه ذهب ابن
حزم ونقل نحوه ابن عبد البر، واستدل ابن حزم بأن التحديد في الذهب منصوص ولم
يوجد نص في غيره فيكون داخلا تحت عموم الآية، ويجاب عن ذلك برواية النسائي
المذكورة في الباب بلفظ: لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن. ويمكن أيضا الجواب
عنه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما دون ذلك
كما في الباب لأنه يصدق على ما لم تبلغ قيمته ربع دينارا أنه دونه، وإن كان من غير
الذهب فإنه يفضل الجنس على جنس آخر مغاير له باعتبار الزيادة في الثمن، وكذلك
العرض على العرض باعتبار اختلاف ثمنهما. المذهب العاشر: أنه يثبت القطع في
القليل والكثير حكاه في البحر عن الحسن البصري وداود والخوارج واستدلوا
بإطلاق قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (يوسف: 36) ويجاب بأن إطلاق الآية
299

مقيد بالأحاديث المذكورة في الباب. واستدلوا ثانيا بحديث أبي هريرة المذكور في
الباب فإن فيه: يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده. وقد أجيب عن
ذلك أن المراد تحقير شأن السارق وخسار ما ربحه، وأنه إذا جعل السرق عادة له جرأه
ذلك على سرقة ما فوق البيضة والحبل حتى يبلغ إلى المقدار الذي تقطع به الأيدي،
هكذا قال الخطابي وابن قتيبة وفيه تعسف، ويمكن أن يقال المراد المبالغة في التنفير
عن السرقة وجعل ما لا قطع فيه بمنزلة ما فيه القطع كما في حديث: من بنى لله مسجدا
ولو كمفحص قطاة وحديث: تصدقي ولو بظلف محرق مع أن مفحص القطاة لا يكون
مسجدا، والظلف المحرق لا ثواب في التصدق به لعدم نفعه، ولكن مقام الترغيب في
بناء المساجد والصدقة اقتضى ذلك على أنه قد قيل إن المراد بالبيضة بيضة الحديد كما
وقع في الباب عن الأعمش ولا شك أن لها قيمة، وكذلك الحبل فإن في الحبال ما تزيد
قيمته على ثلاثة دراهم كحبال السفن ولكن مقام المبالغة لا يناسب ذلك، وقد تقدم
أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه قطع في بيضة حديد ثمنها ربع دينار. الحادي
عشر: أنه يثبت القطع في درهم فصاعدا لا دونه حكاه في البحر عن البتي وروي عن
ربيعة. هذه جملة المذاهب المذكورة في المسألة وقد جعلها في الفتح عشرين مذهبا
ولكن البقية على ما ذكرنا لا يصلح جعلها مذاهب مستقلة لرجوعها إلى ما حكيناه.
باب اعتبار الحرز والقطع فيما يسرع إليه الفساد
عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول: لا قطع في ثمر ولا كثر رواه الخمسة. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الثمر المعلق فقال: من أصاب منه بفيه
من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شئ عليه، ومن خرج بشئ فعليه غرامة مثليه
والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع
رواه النسائي وأبو داود. وفي رواية قال: سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن الحريسة التي توجد في مراتعها قال: فيها ثمنها مرتين
وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن،
300

قال: يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها في أكمامها، قال: من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة
فليس عليه شئ، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه
ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن رواه أحمد والنسائي. ولابن ماجة
معناه وزاد النسائي في آخره: وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامه مثليه وجلدات
نكال. وعن عمرة بنت عبد الرحمن: أن سارقا سرق أترجة في زمن عثمان بن عفان
فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر بدينار فقطع
عثمان يده رواه مالك في الموطأ.
حديث رافع بن خديج أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وصححه
البيهقي وابن حبان واختلف في وصله وإرساله. وقال الطحاوي: هذا الحديث تلقت
العلماء متنه بالقبول. وحديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا الحاكم وصححه وحسنه
الترمذي، وأثر عثمان أخرجه أيضا البيهقي وابن المنذر. (وفي الباب) عن أبي هريرة عند
أحمد وابن ماجة بنحو حديث رافع وفي إسناده سعد بن سعيد المقبري وهو ضعيف.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة حبل وهو معضل.
قوله: ولا كثر بفتح الكاف والتاء المثلثة وهو الجمار. قال في القاموس: والكثر ويحرك
جمار النخل أو طلعها، قال أيضا: والجمار كرمان شحم النخلة. قوله: خبنة بضم الخاء
المعجمة وسكون الموحدة بعدها نون قال في القاموس: خبن الثوب وغيره يخبنه خبنا
وخبانا بالكسر عطفه وخاطه ليقصر، والطعام غيبه وخبأه للشدة، والخبنة بالضم
ما تحمله في حضنك انتهى. قوله: الجرين قال في النهاية: هو موضع تجفيف التمر وهو
له كالبيدر للحنطة ويجمع على جرن بضمتين. قال في القاموس: والجرن بالضم
وكأمير ومنبر البيدر وأجرن التمر جمعه فيه انتهى. قوله: عن الحريسة بفتح الحاء
المهملة وكسر الراء وسكون التحتية بعدها سين مهملة قيل: هي التي ترعى وعليها
حرس فهي على هذا المحروسة نفسها. وقيل: هي السيارة التي يدركها الليل قبل أن
تصل إلى مأواها. وفي القاموس: حرس كضرب سرق كاحترس وكسمع عاش طويلا
والحريسة المسروقة الجمع حرائس وجدار من حجارة يعمل للغنم انتهى. قوله:
فيها ثمنها مرتين فيه دليل على جواز التأديب بالمال، وقد تقدم الكلام على ذلك
301

في الزكاة. وقوله: وضرب نكال يجوز أن يكون بالتنوين للأول وبالإضافة، وفيه جواز
الجمع بين عقوبة المال والبدن. قوله: في أكمامها جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الطلع،
وقد استدل بحديث رافع على أنه لا قطع على من سرق الثمر والكثر سواء كانا باقيين في
منبتهما أو قد أخذا منه وجعلا في غيره، وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة قال: ولا قطع في الطعام
ولا فيما أصله مباح كالصيد والحطب والحشيش، واستدل على ذلك أيضا بأن هذه الأمور
غير مرغوب فيها ولا يشح بها مالكها فلا حاجة إلى الزجر والحرز فيها ناقص. وذهبت
الهادوية إلى أنه لا قطع في الثمر والكثر والطبائخ والشواء والهرائس إذا لم تحرز، وأما إذا
أحرزت وجب فيها القطع وهو محكي عن الجمهور. وذهب الثوري إلى أن الشئ إن كان يبقى
يوما فقط كالهرائس والشواء لم يقطع سارقه وإلا قطع. وقال الشافعي: إن حديث
رافع خرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها فذلك
لعدم الحرز، فإذا أحرزت الحوائط كانت كغيرها. وقد حكى صاحب البحر
عن الأكثر أن شرط القطع الحرز. وعن أحمد وإسحاق وزفر والخوارج وهو
مروي عن الظاهرية وطائفة من أهل الحديث أنه لا يشترط. ويدل على ذلك ما سيأتي
في قطع جاحد الوديعة وفي باب تفسير الحرز، ومما يستدل به على عدم القطع في
الثمر إذا كان غير محرز حديث عمرو بن شعيب المذكور في الباب فإن فيه: إن من
أصاب من الثمر المعلق بفيه ولم يتخذ خبنة فلا قطع عليه ولا ضمان إن كان من ذوي
الحاجة، وإن خرج بشئ منه كان عليه غرامة مثليه، ومن سرق منه بعد أن
يحرز في الجرين قطع إذا بلغ ثمن المجن فهذا يدل على أن الثمر إذا أحرز قطع
سارقه، ومما يدل على اعتبار الحرز أيضا رواية النسائي وأحمد المذكورة في الباب في
سارق الحريسة والثمار، وأما أثر عثمان المذكور في الباب أنه قطع في أترجة فلا
يعارض ما ورد في اعتبار الحرز، لأن غاية ما فيه أنه لم يقع تقييد ذلك بالحرز
فيمن حمله، على أن تلك الأترجة كانت قد أحرزت، وهكذا حديث رافع فإن ظاهره
أنه لا قطع في ثمر ولا كثر مطلقا، ولكنه مطلق مقيد بحديث عمرو بن شعيب
المذكور بعده.
302

باب تفسير الحرز وأن المرجع فيه إلى العرف
عن صفوان بن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي
فسرقت، فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر بقطع
فقلت: يا رسول الله أفي خميصة ثمن ثلاثين درهما؟ أنا أهبها له أو أبيعها له، قال: فهلا كان
قبل أن تأتيني به؟ رواه الخمسة إلا الترمذي. وفي رواية لأحمد والنسائي: فقطعه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم رواه
أحمد وأبو داود والنسائي.
حديث صفوان أخرجه مالك في الموطأ والشافعي والحاكم من طرق منها عن
طاوس عن ابن عباس قال البيهقي: وليس بصحيح. ومنها عن طاوس عن صفوان
قال ابن عبد البر: سماع طاوس عن صفوان ممكن لأنه أدرك زمن عثمان. وروي
عنه أنه قال: أدركت سبعين صحابيا. ورواه مالك عن الزهري عن عبيد الله بن صفوان
عن أبيه وقد صححه ابن الجارود والحاكم، وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده قال الحافظ: وسنده ضعيف. ورواه البزار والبيهقي عن طاوس
مرسلا. ورواه أيضا البيهقي عن الشافعي عن مالك أن صفوان بن أمية الحديث.
وأخرجه أيضا البيهقي من حديث حميد بن أخت صفوان عن صفوان. وحديث ابن
عمر أخرجه أيضا مسلم بمعناه. قوله: خميصة بخاء معجمة مفتوحة وميم مكسورة
وتحتية ساكنة ثم صاد. قال في القاموس: الخميصة كساء أسود مربع له علمان. قوله:
برنسا بضم الموحدة وسكون الراء وضم النون بعده مهملة، قال في القاموس: هو
قلنسوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه دراعة كان أو جبة. وفي جامع الأصول وسنن
أبي داود وغيرهما بلفظ ترسا بالمثناة من فوق وسكون الراء بعدها مهملة وهو معروف
. قوله: صفة النساء بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء أي الموضع المختص بهن من
المسجد، وصفة المسجد موضع مظلل منه. وحديث صفوان يدل على أن العفو بعد
الرفع إلى الامام لا يسقط به الحد، وهو مجمع عليه كما قدمنا ذلك في باب الحث على
303

إقامة الحد إذا ثبت والنهي عن الشفاعة فيه. وروي عن أبي حنيفة أنه يسقط
القطع بالعفو مطلقا، والحديث يرد عليه بقوله: فهلا كان قبل أن تأتيني به الاخبار
له عما ذكره من البيع أو الهبة أنهما إنما يصحان قبل الرفع إلى الامام لا بعده، وفيه
دليل على أن القطع يسقط بالعفو قبل الرفع وهو مجمع عليه. وقد استدل بحديثي
الباب من قال بعدم اشتراط الحرز، وقد سبق ذكرهم في الباب الذي قبل هذا، ويرد بأن
المسجد حرز لما داخله من آلته وغيرها، وكذلك الصفة المذكورة في حديث ابن
عمر، ولا سيما بعد أن جعل صفوان خميصته تحت رأسه كما ثبت في الروايات. وأما جعل
المسجد حرزا لآلته فقط فخلاف الظاهر، ولو سلم ذلك كان غايته تخصيص الحرز
بمثل المسجد ونحوه مما يستوي الناس فيه لما في ترك القطع في ذلك من المفسدة. وأما
التمسك بعموم آية السرقة فلا ينتهض للاستدلال به لأنه عموم مخصوص بالأحاديث
القاضية باعتبار الحرز، ومما يؤيد اعتباره قول صاحب القاموس: السرقة والاستراق
المجئ مستترا لاخذ مال غيره من حرز، فهذا إمام من أئمة اللغة جعل الحرز جزءا من
مفهوم السرقة، وكذا قال ابن الخطيب في تيسير البيان.
باب ما جاء في المختلس والمنتهب والخائن وجاحد العارية
عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليس على خائن ولا منتهب
ولا مختلس قطع رواه الخمسة وصححه الترمذي.
الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن حبان وصححه، وفي رواية له
عن ابن جريج عن عمرو بن دينا وأبي الزبير عن جابر وليس فيه ذكر الخائن.
ورواه ابن الجوزي في العلل من طريق مكي بن إبراهيم عن ابن جريج وقال:
لم يذكر فيه الخائن غير مكي. قال الحافظ: قد رواه ابن حبان من غير طريقه فأخرجه
من حديث سفيان عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: ليس على المختلس ولا على
الخائن قطع وقال ابن أبي حاتم في العلل: لم يسمعه ابن جريج من أبي الزبير إنما
سمعه من ياسين بن معاذ الزيات وهو ضعيف، وكذا قال أبو داود. قال الحافظ
أيضا: وقد رواه المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر، وأسنده النسائي من
304

حديث المغيرة، ورواه سويد بن نصر عن ابن المبارك عن ابن جريج أخبرني أبو
الزبير، قال النسائي: ورواه عيسى بن يونس والفضل بن موسى وابن وهب ومخلد
بن يزيد وجماعة فلم يقل واحد منهم عن ابن جريج حدثني أبو الزبير ولا أحسبه
سمعه عنه، وقد أعله ابن القطان بعنعنة أبي الزبير عن جابر، وأجيب بأنه قد أخرجه عبد
الرزاق في مصنفه وصرح بسماع أبي الزبير من جابر. (وفي الباب) عن عبد الرحمن بن عوف
عند ابن ماجة بإسناد صحيح بنحو حديث الباب. وعن أنس عند ابن ماجة أيضا والطبراني
في الأوسط. وعن ابن عباس عند ابن الجوزي في العلل وضعفه، وهذه الأحاديث
يقوي بعضها بعضا، ولا سيما بعد تصحيح الترمذي وابن حبان لحديث الباب،
وياسين الزيات هو الكوفي وأصله يمامي، قال المنذري: لا يحتج بحديثه. والمغيرة
بن مسلم هو السراج خراساني كنيته أبو سلمة قال ابن معين: صالح الحديث
صدوق. وقال أبو داود الطيالسي: إنه كان صدوقا، وقد ذهب إلى أنه لا يقطع
المختلس والمنتهب والخائن العترة والشافعية والحنفية، وذهب أحمد وإسحاق وزفر
والخوارج إلى أنه يقطع وذلك لعدم اعتبارهم الحرز كما سلف، والمراد بالخائن هو
من يأخذ المال خفية ويظهر النصح للمالك. والمنتهب هو من ينتهب المال على جهة
القهر والغلبة. والمختلس الذي يسلب المال على طريقة الخلسة. وقال في النهاية: هو من
يأخذه سلفا ومكابرة.
وعن ابن عمر قال: كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بقطع يدها رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال: فأمر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقطعت يدها قال أبو داود: ورواه ابن أبي نجيح عن نافع
عن صفية بنت عبيد قال فيه: فشهد عليها. وعن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية
تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها
أسامة بن زيد فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقال له النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: يا أسامة لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل، ثم قام النبي
صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا فقال: إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف
تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد
لقطعت يدها، فقطع يد المخزومية رواه أحمد ومسلم والنسائي. وفي رواية قال: استعارت
305

امرأة يعني حليا على ألسنة ناس يعرفون ولا تعرف هي فباعته فأخذت فأتي بها النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فأمر بقطع يدها، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد وقال فيها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال رواه أبو داود والنسائي
. حديث ابن عمر أخرجه أيضا أبو عوانة في صحيحه من طريق أيوب عن نافع عنه.
وأخرجه أيضا النسائي وأبو عوانة من وجه آخر عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع
عنه أيضا بلفظ: استعارت حليا. قوله: كانت مخزومية اسمها فاطمة بنت الأسود بن
عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو هي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابي. قوله:
تستعير المتاع وتجحده في رواية لعبد الرزاق بسند صحيح إلى أبي بكر بن عبد
الرحمن: أن امرأة جاءت فقالت إن فلانة تستعير حليا فأعارتها فمكثت لا تراها فجاءت
إلى التي استعارت لها تسألها فقالت: ما استعرتك شيئا، فرجعت إلى الأخرى فأنكرت
، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعاها فسألها فقالت: والذي بعثك بالحق
ما استعرت منها شيئا فقال: اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها، فأتوه وأخذوه فأمر
بها فقطعت. قوله: فأتى أهلها أسامة فكلموه في رواية للبخاري: أن قريشا أهمتهم المرأة
المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وجاء في رواية أن المخزومية المذكورة
عاذت بأم سلمة. وأخرج الحاكم موصولا وأبو داود مرسلا أنها عاذت بزينب بنت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. واستشكل ذلك بأن زينب ماتت في شهر جمادى من
السنة السابعة من الهجرة، وقصة المخزومية في غزوة الفتح سنة ثمان. وقيل: المراد
زينب بنت أم سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكون نسبتها إليه مجازا. وجاء في رواية
لعبد الرزاق أنها عاذت بعمرو بن أبي سلمة. والجمع بين الروايات أنها عاذت بأم سلمة وابنيها
فشفعوا لها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يشفعهم فطلب الجماعة من قريش من أسامة
الشفاعة ظنا منهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبل شفاعته لمحبته له. قوله: لا أراك تشفع
في حد من حدود الله فيه دليل على تحريم الشفاعة في الحدود، وهو مقيد بما إذا كان قد وقع
الرفع إلى الامام لا قبل ذلك فإنه جائز. وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث من
مرسل حبيب بن أبي ثابت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأسامة لما تشفع:
لا تشفع في حد فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة وقد قدمنا في باب الحث
306

على إقامة الحدود والنهي عن الشفاعة فيه ما فيه أكمل دلالة على الفرق بين الشفاعة في الحد
قبل الرفع وبعده. قوله: إنما هلك من كان قبلكم. في رواية: إنما هلك بنو إسرائيل
وظاهر الحصر العموم، وأنه لم يقع الهلاك لمن قبل هذه الأمة أو لبني إسرائيل إلا بهذا
لسبب. وقيل: المراد من هلك بسبب تضييع الحدود، فيكون المراد بالعموم هذا لنوع الخاص.
وفي حديث عائشة عند أبي الشيخ أنهم عطلوا الحدود عن الأغنياء وأقاموها على الضعفاء.
ومثله ما في حديث الباب أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه الخ. وفي حديث ابن
عباس أنهم كانوا يأخذون الدية من الشريف إذا قتل عمدا والقصاص من الضعيف.
قوله: فقطع يد المخزومية فيه دليل على أنه يقطع جاحد العارية، وإليه ذهب من لم
يشترط في القطع أن يكون من حرز وهو أحمد وإسحاق وزفر والخوارج كما سلف.
وبه قال أهل الظاهر وانتصر له ابن حزم. وذهب الجمهور إلى عدم وجوب القطع
لمن جحد العارية، واستدلوا على ذلك بأن القرآن والسنة أوجبا القطع على السارق
، والجاحد للوديعة ليس بسارق، ورد بأن الجحد داخل في اسم السرقة لأنه هو
والسارق لا يمكن الاحتراز منهما بخلاف المختلس والمنتهب، كذا قال ابن القيم. ويجاب
عن ذلك بأن الخائن لا يمكن الاحتراز عنه لأنه آخذ المال خفية مع إظهار النصح
كما سلف، وقد دل الدليل على أنه لا يقطع، وأجاب الجمهور عن أحاديث الباب المذكورة
في المخزومية بأن الجحد للعارية وإن كان مرويا فيها من طريق عائشة وجابر وابن
عمر وغيرهم، لكنه ورد التصريح في الصحيحين وغيرهما بذكر السرقة. وفي رواية
من حديث ابن مسعود: أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه وأبو الشيخ وعلقه أبو داود والترمذي.
ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت أنها سرقت حليا، قالوا: والجمع ممكن بأن
يكون الحلي في القطيفة، فتقرر أن المذكورة قد وقع منها السرق، فذكر جحد
العارية لا يدل على أن القطع كان له فقط، ويمكن أن يكون ذكر الجحد لقصد التعريف
بحالها وأنها كانت مشتهرة بذلك الوصف والقطع كان للسرقة، كذا قال الخطابي وتبعه
البيهقي والنووي وغيرهما، ويؤيد هذا ما في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وآله
وسلم: إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف الخ، فإن ذكر هذا عقب ذكر المرأة
المذكورة يدل على أنه قد وقع منها السرق، ويمكن أن يجاب عن هذا بأن النبي صلى الله
307

عليه وآله وسلم نزل ذلك الجحد منزلة السرق فيكون دليلا لمن قال: إنه يصدق اسم السرق
على جحد الوديعة، ولا يخفى أن الظاهر من أحاديث الباب أن القطع كان لأجل
ذلك الجحد، كما يشعر به قوله في حديث ابن عمر بعد وصف القصة: فأمر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بقطع يدها. وكذلك بقية الألفاظ المذكورة، ولا ينافي
ذلك وصف المرأة في بعض الروايات بأنها سرقت، فإنه يصدق على جاحد
الوديعة بأنه سارق كما سلف، فالحق قطع جاحد الوديعة، ويكون ذلك
مخصصا للأدلة الدالة على اعتبار الحرز. ووجهه أن الحاجة ماسة بين الناس إلى
العارية، فلو علم المعير أن المستعير إذا جحد لا شئ عليه لجر ذلك إلى سد باب العارية
وهو خلاف المشروع.
باب القطع بالاقرار وأنه لا يكتفى فيه بالمرة
عن أبي أمية المخزومي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي
بلص فاعترف اعترافا ولم يوجد معه المتاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: ما أخالك سرقت، قال: بلى مرتين أو ثلاثا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: اقطعوه ثم جيئوا به، قال: فقطعوه ثم جاؤوا به، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: قل أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم تب عليه رواه أحمد وأبو داود
وكذلك النسائي ولم يقل فيه مرتين أو ثلاثا وابن ماجة، وذكر مرة ثانية فيه
قال: ما أخالك سرقت، قال: بلى. وعن القاسم بن عبد الرحمن عن أمير المؤمنين علي
رضي الله عنه قال: لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين حكاه أحمد في رواية
منها واحتج به.
حديث أبو أمية قال الحافظ في بلوغ المرام: رجاله ثقات. وقال الخطابي: إن في
إسناده مقالا، قال: والحديث إذا رواه رجل مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم به،
قال المنذري: وكأنه يشير إلى أن أبا المنذر مولى أبي ذر لم يرو عنه إلا إسحاق بن
عبد الله بن أبي طلحة من رواية حماد بن سلمة عنه، ويشهد له ما سيأتي في الباب
308

الذي بعد هذا، وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة. منها عن أبي الدرداء أنه
أتي بجارية سرقت فقال لها: أسرقت؟ قولي لا فقالت لا فخلى سبيلها. وعن عطاء
عند عبد الرزاق أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق فيقول: أسرقت؟ قل لا.
وسمى أبا بكر وعمر. وأخرج أيضا عن عمر بن الخطاب أتى برجل فسأله أسرقت؟
قل لا فقال لا فتركه. وعن أبي هريرة عند ابن أبي شيبة أن أبا هريرة أتي بسارق
فقال أسرقت؟ قل لا مرتين أو ثلاثا. وعن أبي مسعود الأنصاري في جامع سفيان
أن امرأ سرقت جملا فقال: أسرقت؟ قولي لا. قوله: ما أخالك سرقت بفتح
الهمزة وكسرها أي أما أظنك سرقت، وفي ذلك دليل على أنه يستحب تلقين
ما يسقط الحد. قوله: مرتين أو ثلاثا استدل به من قال: إن الاقرار بالسرقة مرة
واحدة لا يكفي بل لا بد من الاقرار مرتين أو ثلاثا، وأقل ما يلزم به القطع مرتان،
وإلى ذلك ذهبت العترة وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأحمد بن حنبل وإسحاق
وروي عن أبي يوسف. وذهب مالك والشافعية والحنفية وهو مروي عن أبي يوسف
إلى أنه يكفي الاقرار مرة، ويجاب عن الاستدلال بحديث أبي أمية المذكور أنه
لا يدل على اشتراط الاقرار مرتين، وإنما يد على أنه يندب له تلقين المسقط للحد
عنه والمبالغة في الاستثبات، ومما يدل على أن هذا هو المراد أنه صلى الله عليه وآله
وسلم قال: لا أخالك سرقت ثلاث مرات في رواية، ولا قائل بأنه يشترط ثلاث مرات،
ولو كان مجرد الفعل يدل على الشرطية لكان وقوع التكرار منه صلى الله عليه
وآله وسلم ثلاث مرات يقتضي اشتراطها، وقد تقدم في حديث المجن ورداء صفوان
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع، ولم ينقل في ذلك تكرير الاقرار. وأما
الاحتجاج بما روي عن علي عليه السلام كما ذكره المصنف فهو وإن كانت الصيغة مشعرة
باشتراط الاقرار مرتين لكنه لا تقوم به الحجة إلا عند من يرى حجية قوله كما ذهب
إليه بعض الزيدية. قوله: قل أستغفر الله فيه دليل على مشروعية أمر المحدود بالاستغفار
والدعاء له بالتوبة بعد استغفاره
309

باب حسم يد السارق إذا قطعت واستحباب تعليقها في عنقه
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بسارق
قد سرق شملة فقالوا: يا رسول الله إن هذا قد سرق، فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: ما أخاله سرق، فقال السارق: بلى يا رسول الله، فقال: اذهبوا به فاقطعوه
ثم احسموه ثم ائتوني به، فقطع فأتي به فقال: تب إلى الله، قال: قد تبت إلى الله
، فقال: تاب الله عليك رواه الدارقطني. وعن عبد الرحمن بن محيريز قال: سألنا
فضالة بن عبيد عن تعليق اليد في عنق السارق أمن السنة؟ قال: أتي رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه رواه الخمسة إلا أحمد
وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف.
حديث أبي هريرة أخرجه موصولا أيضا الحاكم والبيهقي وصححه ابن
القطان. وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان
بدون ذكر أبي هريرة، ورجح المرسل ابن خزيمة وابن المديني وغير واحد. وحديث
عبد الرحمن بن محيريز قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر
بن علي المقدمي عن الحجاج بن أرطأة، وعبد الرحمن بن محيريز هو أخو عبد الله
بن محيريز شامي انتهى. وقال النسائي: الحجاج بن أرطأة ضعيف لا يحتج بحديثه.
قال المنذري: وهذا الذي قاله النسائي قاله غير واحد من الأئمة. قوله: ثم احسموه
ظاهره أن الحسم واجب والمراد به الكي بالنار أي يكوى محل القطع لينقطع الدم،
لأن منافذ الدم تنسد به لأنه ربما استرسل الدم فيؤدي إلى التلف، وذكر في البحر أنه إذا كره
السارق الحسم لم يحسم له وجعله مندوبا فقط مع رضاه، وفي كل من الطرفين نظر،
أما الأول فلان ترك الحسم إذا كان مؤديا إلى التلف وجب علينا عدم الإجابة له
إلى ما يؤدي إلى تلفه. وأما الثاني فلان ظاهر الحديث الوجوب لكونه أمرا ولا
صارف له عن معناه الحقيقي، ولا سيما مع كونه يؤدي الترك إلى التلف فإنه يصير واجبا
من جهة أخرى قال في البحر: وثمن الدهن وأجرة القطع من بيت المال ثم من مال
السارق، فإن اختار أن يقطع نفسه فوجهان، قال الإمام يحيى: لا يمكن كالقصاص وسائر
310

الحدود، وقيل: يمكن لحصول الزجر انتهى. قوله: فعلقت في عنقه فيه دليل على
مشروعية تعليق يد السارق في عنقه، لأن في ذلك من الزجر ما لا مزيد عليه، فإن
السارق ينظر إليها مقطوعة معلقة فيتذكر السبب لذلك وما جر إليه ذلك الامر من
الخسار بمفارقة ذلك العضو النفيس، وكذلك الغير يحصل له بمشاهدة اليد على تلك
الصورة من الانزجار ما تنقطع به وساوسه الرديئة. وأخرج البيهقي: أن عليا رضي
الله عنه قطع سارقا فمروا به ويده معلقة في عنقه.
باب ما جاء في السارق يوهب السرقة بعد وجوب القطع والشفع فيه
عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تعافوا
الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب رواه النسائي وأبو داود. وعن
عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود
رواه أحمد وأبو داود. وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أن الزبير بن العوام لقي
رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال: لا حتى
أبلغ به السلطان، فقال الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع رواه مالك
في الموطأ. وعن عائشة: أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت قالوا: من يكلم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: فكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام
فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف
تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد
سرقت لقطع محمد يدها متفق عليه.
حديث عبد الله بن عمرو أخرجه أيضا الحاكم وصححه وسكت عنه أبو داود،
وهو من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال في الفتح: وسنده إلى عمرو بن
شعيب صحيح، والواقع فيما وقفنا عليه من نسخ هذا الكتاب عبد الله بن عمر بدون
واو ولعله غلط من الناسخ. وحديث عائشة الأول أخرجه أيضا النسائي وابن عدي
والعقيلي وقال: له طرق وليس فيها شئ يثبت، وذكره ابن طاهر في تخريج أحاديث
311

الشهاب من رواية عبد الله بن هارون بن موسى الفروي عن القعنبي عن ابن أبي
ذئب عن الزهري عن أنس وقال: الاسناد باطل والحمل فيه على الفروي. ورواه الشافعي
وابن حبان في صحيحه وابن عدي أيضا والبيهقي من حديث عائشة بلفظ أقيلوا
ذوي الهيئات زلاتهم ولم يذكر ما بعده. قال الشافعي: وسمعت من أهل العلم من يعرف
هذا الحديث ويقول: يتجاوز للرجل من ذوي الهيئات عثرته ما لم يكن حدا. وقال
عبد الحق: ذكره ابن عدي في باب واصل بن عبد الرحمن الرقاشي ولم يذكر له علة،
قال الحافظ: وواصل هو أبو حرة ضعيف. وفي إسناد ابن حبان أبو بكر بن نافع وقد
نص أبو زرعة على ضعفه في هذا الحديث. (وفي الباب) عن ابن عمر رواه أبو الشيخ
في كتاب الحدود بإسناد ضعيف. وعن ابن مسعود رفعه: تجاوزوا عن ذنب السخي
فإن الله يأخذ بيده عند عثراته ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف. وأثر
الزبير المذكور أخرجه أيضا الطبراني قال في الفتح: وإسناده منقطع مع وقفه، وهو
عند ابن أبي شيبة بسند حسن عن الزبير. وفي حديث عبد الله بن عمرو دليل على
مشروعية المعاناة في الحدود قبل الرفع إلى الامام لا بعده، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وحديث عائشة فيه دليل على أنه يشرع إقالة أرباب الهيئات إن وقعت منهم الزلة
نادرا، والهيئة صورة الشئ وشكله وحالته ومراده أهل الهيئات الحسنة، والعثرات
جمع عثرة والمراد بها الزلة كما وقع في الرواية المذكورة. قال الشافعي: وروي الهيئات
الذي يقالون عثراتهم الذين ليسوا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة. وقال الماوردي
في تفسير العثرات المذكورة وجهان: أحدهما الصغائر. والثاني أول معصية زل فيها
مطيع. والمراد بقوله إلا الحدود أي فإنها لا تقال بل تقام على ذي الهيئة وغيره
بعد الرفع إلى الامام، وأما قبله فيستحب الستر مطلقا لما في حديث أبي هريرة عند
الترمذي من حديث: ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة وأخرجه أيضا
الحاكم ورواه الترمذي من حديث ابن عمر ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة من
حديث مسلمة بن مخلد مرفوعا من ستر مسلما في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة
وروى ابن ماجة عن ابن عباس مرفوعا: من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته
يوم القيامة. ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته. قوله:
فلعن الله الشافع والمشفع فيه التشديد في الشفاعة في الحدود بعد الرفع، وقد تقدم
312

الكلام على حديث المخزومية الذي ذكره المصنف
. باب في حد القطع وغيره هل يستوفى في دار الحرب أم لا؟
عن بسر بن أرطأة: أنه وجد رجلا يسرق في الغزو فجلده ولم يقطع
يده وقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القطع في الغزو رواه أحمد وأبو داود
والنسائي وللترمذي منه المرفوع. وعن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قال: جاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم،
وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه.
حديث بسر بن أرطأة سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: غريب ورجال
إسناده عند أبي داود ثقات إلى بسر. وفي إسناد الترمذي ابن لهيعة، وفي إسناد
النسائي بقية بن الوليد، واختلف في صحبة بسر المذكور، وهو بضم الباء الموحدة
وسكون السين المهملة وبعدها راء قرشي عامري كنيته أبو عبد الرحمن، فقيل
له صحبة، وقيل لا صحبة له، وأن مولده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وله أخبار مشهورة، وكان يحيى بن معين لا يحسن الثناء عليه. قال المنذري: وهذا
يدل على أنه عنده لا صحبة له. ونقل في الخلاصة عن ابن معين أنه قال:
لا صحبة له وأنه رجل سوء ولي اليمن وله بها آثار قبيحة انتهى. ونقل عبد الغني
أن حديثه في الدعاء فيه التصريح بسماعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد غمزه
الدارقطني، ولا يرتاب منصف أن الرجل ليس بأهل للرواية، وقد فعل في الاسلام
أفاعيل لا تصدر عمن في قلبه مثقال حبة من إيمان، كما تضمنت ذلك كتب التاريخ
المعتبرة، فثبوت صحبته لا يرف القدح عنه على ما هو المذهب الراجح، بل هو إجماع
لا يختلف فيه أهل العلم، كما حققنا ذلك في غير هذا الموضع، وحققه العلامة محمد بن
إبراهيم الوزير في تنقيحه، ولكن إذا كان المناط في قبول الرواية هو تحري الصدق
وعدم الكذب فلا ملازمة بين القدح في العدالة وعدم قبول الرواية، وهذا يتمشى
على قول من قال: إن الكفر والفسق مظنة تهمة لا من قال إنهما سلب أهلية على
ما تقرر في الأصول. وحديث عبادة بن الصامت أخرج أوله الطبراني في الأوسط
313

والكبير، قال في مجمع الزوائد: وأسانيد أحمد وغيره ثقات، يشهد لصحته عمومات
الكتاب والسنة وإطلاقاتهما، لعدم الفرق فيها بين القريب والبعيد والمقيم والمسافر،
ولا معارضة بين الحديثين، لأن حديث بسر أخص مطلقا من حديث عبادة فيبنى
العام على الخاص، وبيانه أن السفر المذكور في حديث عبادة أعم مطلقا من الغزو
المذكور في حديث بسر، لأن المسافر قد يكون غازيا وقد لا يكون، وأيضا حديث
بسر في حد السرقة وحديث عبادة في عموم الحد. وقوله: فجلده فيه إجمال لعدم
ذكر عدد الجلد، والظاهر أن أمر ذلك إلى الامام كسائر التعزيرات.
كتاب حد شارب الخمر
عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي برجل قد شرب الخمر
فجلد بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد
الرحمن: أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي
وصححه. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الخمر بالجريد
والنعال، وجلد أبو بكر أربعين متفق عليه. وعن عقبة بن الحرث قال: جئ بالنعمان
أو ابن النعمان شاربا فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان في البيت أن
يضربوه فكنت فيمن ضربه فضربناه بالنعال والجريد. وعن السائب بن يزيد
قال: كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي إمرة أبي
بكر وصدرا من إمرة عمر، فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان
صدرا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين
رواهما أحمد والبخاري. وعن أبي هريرة قال: أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم
برجل قد شرب فقال: اضربوه، فقال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله
والضارب بثوبه، فلما انصر ف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا
لا تعينوا عليه الشيطان رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن حضين بن المنذر
قال: شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال أزيدكم، فشهد
عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها، فقال
314

عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده،
فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال: يا عبد الله بن
جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، ثم قال: جلد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا
أحب إلي رواه مسلم وفيه من الفقه أن للوكيل أن يوكل، وأن الشهادتين على شيئين
إذ آل معناهما إلى شئ واحد جمعنا جائزة كالشهادة على البيع والاقرار
به، أو على القتل والاقرار به.
قوله: قد شرب الخمر اعلم أن الخمر يطلق على عصير العنب المشتد إطلاقا حقيقيا
إجماعا، واختلفوا هل يطلق على غيره حقيقة أو مجازا؟ وعلى الثاني هل مجاز لغة كما
جزم به صاحب المحكم. قال صاحب الهداية من الحنفية: الخمر عندنا ما اعتصر من
ماء العنب إذا اشتد وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم انتهى. أو من باب
القياس على الخمر الحقيقية عند من يثبت التسمية بالقياس. وقد صرح في الراغب أن
الخمر عند البعض اسم لكل مسكر، وعند بعض للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم
لغير المطبوخ، ورجح أن كل شئ يستر العقل يسمى خمرا، لأنها سميت بذلك
لمخامرتها للعقل وسترها له، وكذا قال جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري وأبو نصر
القشيري والدينوري وصاحب القاموس، ويؤيد ذلك أنها حرمت بالمدينة، وما كان
شرابهم يومئذ إلا نبيذ البسر والتمر، ويؤيده أيضا أن الخمر في الأصل الستر، ومنه
خمار المرأة لأنه يستر وجهها والتغطية، ومنه: خمروا آنيتكم أي غطوها، والمخالطة
ومنه خامره داء أي خالطه والادراك، ومنه اختمر العجين أي بلغ وقت إدراكه،
قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمر، لأنها تركت حتى أدركت وسكنت،
فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه. ونقل عن ابن الاعرابي أنه قال:
سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى اختمرت واختمارها تغير رائحتها. قال الخطابي:
زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا
غير المتخذ من العنب خمرا عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه
انتهى. ويجاب بإمكان أن يكون ذلك الاطلاق الواقع منهم شرعيا، لا لغويا وأما
الاستدلال على اختصاص الخمر بعصير العنب بقوله تعالى: * (إني أراني أعصر خمرا) * (يوسف: 36) ففاسد
315

لأن الصيغة لا دليل فيها على الحصر المدعي، وذكر شئ بحكم لا ينفي ما عداه. وقد
روى ابن عبد البر عن أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم أن كل
مسكر خمر. وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها
وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان
من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة
وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الامر بالاجتناب تحريم كل ما يسكر
، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا
كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا ولم يستفصلوا ولم يشكل عليهم شئ من ذلك، بل بادروا
إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو
كان عندهم تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم وقد أخرج
أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من الحنطة خمر
، ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر، ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر وروي أيضا أنه
خطب عمر على المنبر وقال: ألا إن الخمر قد حرمت وهي من خمسة: من العنب والتمر
والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. وهو في الصحيحين وغيرهما وهو من
أهل اللغة. وتعقب بأن ذلك يمكن أن يكون إطلاقا للاسم الشرعي لا اللغوي فيكون
حقيقة شرعية قال ابن المنذر: القائل بأن الخمر من العنب وغيره عمر وعلي
وسعد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة. ومن غيرهم ابن
المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث. وحكاه في البحر عن الجماعة
المذكورين من الصحابة إلا أبا موسى وعائشة، وعن المذكورين من غيرهم إلا ابن
المسيب وزاد: العترة ومالكا والأوزاعي وقال: إنه يكفر مستحل خمر الشجرتين
ويفسق مستحل ما عداهما ولا يكفر لهذا الخلاف. ثم قال فرع: وتحريم سائر المسكرات
بالسنة والقياس فقط، إذ لا يسمى خمرا إلا مجازا، وقيل بهما وبالقرآن لتسميتها
خمرا في حديث: أن من التمر خمرا الخبر. وقول أبي موسى وابن عمر: الخمر ما خامر
العقل قلنا مجاز انتهى. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أحاديث منها ما هو بلفظ
كل مسكر خمر كل مسكر حرام ومنها ما هو بلفظ: كل مسكر خمر وكل خمر حرام
ومنها ما هو بلفظ: كل شراب أسكر فهو حرام وهذا لا يفيد المطلوب وهو كونها
316

حقيقة في غير عصير العنب أو مجازا، لأن هذه الأحاديث غاية ما يثبت بها أن
المسكر على عمومه يقال له خمر ويحكم بتحريمه، وهذه حقيقة شرعية لا لغوية. وقد
صرح الخطابي بمثل هذا وقال: إن مسمى الخمر كان مجهولا عند المخاطبين حتى بينه
الشارع بأنه ما أسكر، فصار ذلك كلفظ الصلاة والزكاة وغيرهما من الحقائق الشرعية،
وقد عرفت ما سلف عن أهل اللغة من الخلاف. قوله: فجلد بجريدتين نحو أربعين
الجريد سعف النخل، وفي ذلك دليل على مشروعية أن يكون الجلد بالجريد وإليه
ذهب بعض الشافعية، وقد صرح القاضي أبو الطيب ومن تبعه بأنه لا يجوز بالسوط،
وصرح القاضي حسين بتعين السوط واحتج بأنه إجماع الصحابة، وخالفه النووي
في شرح مسلم فقال: أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب ثم قال:
والأصح جوازه بالسوط. وحكى الحافظ عن بعض المتأخرين أنه يتعين السوط
للمتمردين، وأطراف الثياب والنعال للضعفاء ومن عداهم بحسب ما يليق بهم. وهذه
الرواية مصرحة بأن الأربعين كانت بجريدتين. وفي رواية للنسائي: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ضربه بالنعال نحوا من أربعين. وفي رواية لأحمد والبيهقي: فأمر نحوا من
عشرين رجلا فجلده كل واحد جلدتين بالجريد والنعال. فيجمع بأن جملة الضربات كانت
نحو أربعين إلا أن كل جلدة بجريدتين، وهذا الجمع باعتبار مجرد الضرب بالجريد
وهو مبين لما أجمل في الرواية المذكورة في حديث أنس بلفظ: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال. وكذلك ما في سائر الروايات المجملة،
ولكن الجمع بين الضرب بالجريد والنعال في روايات الباب يدل على أن الضرب
بهما غير مقدر بحد، لأنها إذا كانت الضربات بالجريد مقدرة بذلك المقدار فلم يأت
ما يدل على تقدير الضربات بالنعال إلا رواية النسائي المتقدمة فإنها مصرحة أن
الضرب كان بالنعال فقط نحوا من أربعين. وورد أيضا الضرب بالأردية كما في
رواية السائب بن يزيد المذكورة. وفي حديث علي المذكور في جلد الوليد تصريح
بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلد أربعين، وهو يخالف ما سيأتي من حديثه أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسن في ذلك سنة، ويمكن الجمع بأن المراد بالسنة
المذكورة في الحديث الآتي هي الطريقة المستمرة، وفعل الأربعين في مرة واحدة
لا يستلزم أن يكون ذلك سنة مع عدم الاستمرار كما في سائر الروايات. وقيل: تحمل
317

رواية الأربعين على التقريب دون التحديد. ويمكن الجمع أيضا بما سيأتي أنه جلد
الوليد بسوط له طرفان فكان الضرب باعتبار المجموع أربعين، وبالنظر إلى الحاصل من
كل واحد من الطرفين ثمانين، وقد ضعف الطحاوي هذه الرواية التي فيها التصريح بأن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلد أربعين لعبد الله بن فيروز، أو يجاب بأنه قد قوي
الحديث البخاري كما روي ذلك الترمذي عنه. ووثق عبد الله المذكور أبو زرعة
والنسائي، وإخراج مسلم له دليل على أنه من المقبولين. وقال ابن عبد البر: إن هذا
الحديث أثبت شئ في هذا الباب. واستدل الطحاوي على ضعف الحديث بقوله فيه
وكل سنة الخ. قال: لأن عليا لا يرجح فعل عمر على فعل النبي بناء منه، على أن قول
علي وهذا أحب إلى إشارة إلى الثمانين التي فعلها عمر، وليس الامر كذلك بل المشار
إليه هو الجلد الواقع بين يديه في تلك الحال وهو أربعون كما يشعر بذلك الظاهر
، ولكنه يشكل من وجه آخر وهو أن الكل من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وعمر لا يكون سنة بل السنة فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط. وقد قيل: إن
المراد أن ذلك جائز قد وقع لا محذور فيه، ويمكن أن يقال: إن إطلاق السنة على فعل
الخلفاء لا بأس به لما في حديث العرباض بسارية عند أهل السنن بلفظ: عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ الحديث، ويمكن أن
يقال: المراد بالسنة الطريقة المألوفة، وقد ألف الناس ذلك في زمن عمر، كما ألفوا
الأربعين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزمن أبي بكر. قوله: أخف الحدود
ثمانين هكذا ثبت بالياء، قال ابن دقيق العيد: حذف عامل النصب والتقدير اجعله ثمانين
وقيل التقدير أجده ثمانية. وقيل: التقدير أرى أن نجعله ثمانين. قوله: النعمان أو ابن
النعمان هكذا في نسخ هذا الكتاب مكبرا، وفي صحيح البخاري: النعيمان أو ابن النعيمان
بالتصغير. قوله: وعن حضين بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة. قوله: لا تعينوا
عليه الشيطان في ذلك دليل على أنه لا يجوز الدعاء على من أقيم عليه الحد لما في
ذلك من إعانة الشيطان عليه، وقد تقدم في حديث جلد الأمة النهي للسيد عن التثريب
عليها، وتقدم أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر السارق بالتوبة فلما تاب
قال: تاب الله عليك. وهكذا ينبغي أن يكون الامر في سائر المحدودين. قوله: إنه
لم يتقيأها حتى شربها فيه دليل على أنه يكفي في ثبوت حد الشرب شاهدان: أحدهم
318

يشهد على الشرب والآخر على القئ، ووجه الاستدلال بذلك أنه وقع بمجمع
من الصحابة ولم ينكر، وإليه ذهب مالك والناصر والقاسمية. وذهبت الشافعية
والحنفية إلى أنه لا يكفي ذلك للاحتمال لامكان أن يكون المتقيئ لها مكرها على
شربها أو نحو ذلك. قوله: ول حارها بحاء مهملة وبعد الألف راء مشددة قال
في القاموس: والحار من العمل شاقه وشديده اه. وقارها بالقاف وبعد الألف راء مشددة
أي ما لا مشقة فيه من الأعمال، والمراد ول الأعمال الشاقة من تولي الأعمال التي لا مشقة
فيها، استعار للمشقة الحر ولما لا مشقة فيه البرد. قوله: جمعتا بضم الجيم وفتح الميم
والعين لفظ تأكيد للشهادتين: كما يقال جمع لتأكيد ما فوق الاثنتين، وفي بعض النسخ
جميعا وهو الصواب. (والأحاديث) المذكورة في البا ب فيها دليل على مشروعية حد
الشرب، وقد ادعى القاضي عياض الاجماع على ذلك. وقال في البحر مسألة: ولا ينقص
حده عن الأربعين إجماعا. وذكر أن الخلاف إنما هو في الزيادة على الأربعين. وحكى
ابن المنذر والطبري وغيرهما عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير،
واستدلوا بالأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة
من الضرب بالجريد والنعال والأردية، وبما أخرجه عبد الرزاق عن الزهري أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض في الخمر حدا وإنما كان يأمر من حضره
أن يضربوه بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم: ارفعوا. وأخرج أبو داود والنسائي بسند
قوي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يوقت في الخمر حدا وبما
سيأتي في باب من وجد منه سكر أو ريح. وأجيب بأنه قد انعقد إجماع الصحابة على
جلد الشارب، واختلافهم في العدد إنما هو بعد الاتفاق على ثبوت مطلق الجلد،
وسيأتي في الباب المشار إليه الجواب عن بعض ما تمسكوا به. وقد ذهبت العترة ومالك
والليث وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في قوله إلى أن حد السكران ثمانون جلدة
وذهب أحمد وداود وأبو ثور والشافعي في المشهور عنه إلى أنه أربعون لأنها هي
التي كانت في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وزمن أبي بكر وفعلها علي في زمن عثمان
كما سلف، واستدل الأولون بأن عمر جلد ثمانين بعدما استشار الصحابة كما سلف،
وبما سيأتي عن علي أنه أفتى بأنه يجلد ثمانين، وبما في حديث أنس المذكور: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الخمر نحو أربعين بجريدتين. (والحاصل) أن دعوى
إجماع الصحابة غير مسلمة، فإن اختلافهم في ذلك قبل إمارة عمر وبعدها وردت
319

به الروايات الصحيحة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاقتصار على
مقدار معين، بل جلد تارة بالجرير، وتارة بالنعال، وتارة بهما فقط، وتارة بهما مع
الثياب، وتارة بالأيدي والنعال، والمنقول من المقادير في ذلك إنما هو بطريق التخمين
ولهذا قال أنس: نحو أربعين، والجزم المذكور في رواية علي بالأربعين يعارضه
ما سيأتي من أنه ليس في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة، فالأولى الاقتصار
على ما ورد عن الشارع من الأفعال وتكون جميعها جائزة، فأيها وقع فقد حصل به
الجلد المشروع الذي أرشدنا إليه صلى الله عليه وآله وسلم بالفعل والقول كما في
حديث: من شرب الخمر فاجلدوه وسيأتي، فالجلد المأمور به هو الجلد الذي وقع
منه صلى الله عليه وآله وسلم ومن الصحابة بين يديه، ولا دليل يقتضي تحتم مقدار
معين لا يجوز غيره. (لا يقال) الزيادة مقبولة فيتعين المصير إليها وهي رواية الثمانين.
لأنا نقول: هي زيادة شاذة لم يذكرها إلا ابن دحية فإنه قال في كتاب وهج الجمر
في تحريم الخمر: صح عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أكتب في المصحف أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الخمر ثمانين، وقد قال الحافظ في التلخيص: أنه
لم يسبق ابن دحية إلى تصحيحه. وحكى ابن الطلاع أن في مصنف عبد الرزاق
أنه صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الخمر أربعين، وورد من طريق لا تصح أنه جلد ثمانين
انتهى. وهكذا ما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه صلى الله عليه
وآله وسلم أمر بجلد الشارب أربعين فإنه قال ابن أبي حاتم في العلل: سأل أبي عنه
فقال: لم يسمعه الزهري عن عبد الرحمن بل عن عقيل بن خالد عنه، ولو صح لكان
من جملة الأنواع التي يجوز فعلها، إلا أنه هو المتعين لمعارضة غيره له، على أنه قد رواه
الشافعي عن عبد الرحمن المذكور بلفظ: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بشارب فقال: اضربوه فضربوه بالأيدي والنعال ومن ذلك حديث أبي سعيد عند
الترمذي. وقال حسن: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب في الخمر بنعلين
أربعين وسيأتي. ومما يؤيد عدم ثبوت مقدار معين عنه صلى الله عليه وآله وسلم طلب عمر
للمشورة من الصحابة فأشاروا عليه بآرائهم، ولو كان قد ثبت تقديره عنه صلى الله
عليه وآله وسلم لما جهله جميع أكابر الصحابة.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كنت
320

لأقيم حدا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات
وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنه متفق عليه، وهو لأبي داود وابن
ماجة وقالا فيه: لم يسن فيه شيئا إنما قلناه نحن، قلت: ومعنى لم يسنه يعني لم يقدره ويوقته
بلفظه ونطقه. وعن أبي سعيد قال: جلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
الخمر بنعلين أربعين، فلما كان زمن عمر جعل بدل كل نعل سوطا رواه أحمد. وعن عبيد الله
بن عدي بن الخيار أنه قال لعثمان: قد أكثر الناس في الوليد، فقال: سنأخذ منه بالحق إن
شاء الله تعالى، ثم دعا أمير المؤمنين عليا فأمره أن يجلده فجلده ثمانين مختصرا من البخاري،
وفي رواية له أربعين، ويتوجه الجمع بينهما بما رواه أبو جعفر محمد بن علي: أن أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام جلد الوليد بسوط له طرفان رواه الشافعي في مسنده.
وعن أبي سعيد قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجل نشوان فقال: إني
لم أشرب خمرا إنما شربت زبيبا وتمرا في دباءة، قال: فأمر به فنهز بالأيدي وخفق
بالنعال، ونهى عن الدباء، ونهى عن الزبيب والتمر يعني أن يخلطا رواه أحمد. وعن
السائب بن يزيد: أن عمر خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب
فزعم أنه شرب الطلاء وأني سائل عما شرب، فإن كان مسكرا جلدته، فجلده عمر
الحد تاما رواه النسائي والدارقطني. وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في شرب
الخمر قال: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون
جلدة رواه الدارقطني ومالك بمعناه. وعن ابن شهاب أنه سئل عن حد العبد
في الخمر فقال: بلغني أن عليه نصف حد الحر في الخمر، وأن عمر وعثمان وعبد الله
بن عمر جلدوا عبيدهم نصف الحد في الخمر رواه مالك في الموطأ.
حديث أبي سعيد الأول أخرجه الترمذي وحسنه قال: (وفي الباب) عن علي وعبد
الرحمن بن أزهر وأبي هريرة والسائب وابن عباس وعقبة بن الحرث انتهى. وأثر
أبي جعفر محمد بن علي فيه انقطاع. وحديث أبي سعيد الثاني أصله في صحيح مسلم.
وأخرج الشيخان عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن ينبذ التمر
والزبيب جميعا، وأن ينبذ الرطب والبسر جميعا وأخرج نحوه مسلم عن أبي هريرة
وابن عمر وابن عباس واتفقا عليه من حديث أبي قتادة بلفظ: نهى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع بين التمر والزهر والتمر والزبيب، ولينبذ كل منهما
321

على حدة، والنهي عن الانتباذ في الدباء أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال لوفد عبد القيس: أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير
والمقير وأخرج نحوه الشيخان من حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس. ولهما
أيضا عن أنس: نهى عن الدباء والمزفت. وللبخاري عن ابن أبي أوفى: نهى عن المزفت
والحنتم والنقير. ولهما عن علي: في النهي عن الدباء والمزفت. ولعائشة عند مسلم: نهى
وفد عبد القيس أن ينتبذوا في الدباء والنقير والمزفت والحنتم انتهى. والدباء هو القرع،
والحنتم هو الجرار الخضر، والنقير هو أصل الجذع ينقر ويتخذ منه الاناء، والمزفت
هو المطلي بالزفت، والمقير هو المطلي بالقار. وأثر عمر رواه النسائي من طريق الحرث
بن مسكين وهو ثقة عن ابن القاسم يعني عبد الرحمن صاحب مالك، وهو ثقة أيضا
عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن عمر، والسائب له صحبة. وأثر علي
الآخر أخرجه أيضا الشافعي وهو من طريق ثور بن زيد الديلي ولكنه منقطع
لأن ثورا لم يلحق عمر بلا خلاف، ووصله النسائي والحاكم فروياه عن ثور عن
عكرمة عن ابن عباس، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة ولم
يذكر ابن عباس، وقد أعل هذا بما تقدم في أول الباب أن عمر استشار الناس فقد عبد
الرحمن: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر. قال في التلخيص: ولا يقال يحتمل أن يكون
علي وعبد الرحمن أشارا بذلك جميعا لما ثبت في صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن
عقبة أنه جلده أربعين وقال: جلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين، وأبو بكر
أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة. وهذا أحب إلي، فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر
ولم يعمل، لكن يمكن أن يقال إنه قال لعمر باجتهاد ثم تغير اجتهاده، ولهذا الأثر طرق منها
ما تقدم ومنها ما أخرجه الطبري والطحاوي والبيهقي، وفيه: أن رجلا من بني كلب يقال له
ابن وبرة أخبره أن خالد بن الوليد بعثه إلى عمر وقال له: إن الناس قد انهمكوا في
الخمر واستخفوا العقوبة فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ فقال علي فذكر مثل ما تقدم
وأخرج نحوه عبد الرزاق عن عكرمة. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عبد الرحمن
السلمي عن علي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية الكريمة فاستشار
فيهم فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم ثمانين وإلا ضربت أعناقهم لأنهم
استحلوا ما حرم، فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين. وأثر ابن شهاب فيه انقطاع
322

لأنه لم يدرك عمر ولا عثمان. قوله: فإنه لو مات وديته في هذا الحديث دليل على
أنه إذا مات رجل بحد من الحدود لم يلزم الامام ونائبه الأرش ولا القصاص
إلا حد الشرب. وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل
والهادي والقاسم والناصر وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا شئ فيمن مات بحد أو
قصاص مطلقا من غير فرق بين حد الشرب وغيره. وقد حكى النووي الاجماع
على ذلك وفيه نظر، فإنه قد قال أبو حنيفة وابن أبي ليلى أنها تجب الدية على العاقلة
كما حكاه في البحر، وأجابا بأن عليا لم يرفع هذه المقالة إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بل أخرجها مخرج الاجتهاد، وكذلك يجاب عن رواية عبيد بن عمير أن
عليا وعمر قالا: من مات من حد أو قصاص فلا دية له الحق قتله. ورواه بنحوه ابن
المنذر عن أبي بكر واحتجا بأن اجتهاد بعض الصحابة لا يجوز به إهدار دم امرئ
مسلم مجمع على أنه لا يهدر. وقد أجيب عن هذا بأن الهدر ما ذهب بلا مقابل له ودم
المحدود مقابل للذنب، ورد بأن المقابل للذنب عقوبة لا تفضي إلى القتل، وتعقب
هذا الرد بأنه تسبب بالذنب إلى ما يفضي إلى القتل في بعض الأحوال فلا ضمان.
وأما من مات بتعزير فذهب الجمهور إلى أنه يضمنه الامام، وذهبت الهادوية إلى
أنه لا شئ فيه كالحد. وحكى النووي عن الجمهور من العلماء أنه لا ضمان فيمن مات
بتعزير لا على الامام ولا على عاقلته ولا في بيت المال. وحكي عن الشافعي
أنه يضمنه الامام ويكون على عاقلته. قوله: لم يسنه قد قدمنا الجمع بين هذا وبين
روايته السابقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلد أربعين. قوله: فجلده ثمانين
هذا يخالف ما تقدم في أول الباب أن عليا أمر بجلده أربعين، وظاهر هذه الرواية
أنه جلده بنفسه وأن جملة الجلد ثمانون، وقد جمع المصنف بين الروايتين بما ذكره
من رواية أبي جعفر، ولا بد من الجمع بمثل ذلك، لأن حمل ذلك على تعدد الواقعة
بعيد جدا، فإن المحدود في القصتين واحد وهو الوليد بن عقبة وكان ذلك بين يدي
عثمان في حضرة علي. قوله: نشوان بفتح النون وسكون الشين قال في القاموس:
رجل نشوان ونشيان سكران بين النشوة انتهى. قوله: في دباءة بضم
الدال وتشديد الباء الموحدة واحدة الدباء وهي الآنية التي تتخذ منه. قوله:
نهز بضم النون وكسر الهاء بعدها زاي وهو الدفع باليد، قال في القاموس:
نهزه كمنعه ضربه ودفعه. قوله: ونهى عن الزبيب والتمر يعني أن يخلطا،
323

فيه دليل على أنه لا يجوز الجمع بين الزبيب والتمر وجعلهما نبيذا، وسيأتي الكلام
على ذلك في كتا ب الأشربة إن شاء الله تعالى. قوله: فزعم أنه شرب الطلاء هي الخمرة اللذيذة
على ما في القاموس. قوله: إذا شرب سكر الخ، اعلم أن معنى هذا الأثر لا يتم إلا بعد
تسليم أن كل شارب خمر يهذي بما هو افتراء، وأن كل مفتر يجلد ثمانين جلدة والكل
ممنوع، فإن الهذيان إذا كان ملازما للسكر فلا يلازمه الافتراء لأنه نوع خاص
من أنواع ما يهذو به الانسان، والجلد إنما يلزم من افترى افتراء خاصا وهو
القذف لا كل مفتر، وهذا مما لا خلاف فيه، فكيف صح مثل هذا القياس؟ فإن قال
قائل: إنه من باب الاخراج للكلام على الغالب فذلك أيضا ممنوع، فإن أنواع
الهذيان بالنسبة إلى الافتراء وأنواع الافتراء بالنسبة إلى القذف هي الغالبة
بلا ريب، وقد تقرر في علم المعاني أن أصل إذا الجزم بوقوع الشرط، ومثل
هذا الامر النادر مما يبعد الجزم بوقوعه باعتبار كثرة الافراد المشاركة
له في ذلك الاسم وغلبتها، وللقياس شروط مدونة في الأصول لا تنطبق على مثل
هذا الكلام، ولكن مثل أمير المؤمنين رضي الله عنه ومن بحضرته من الصحابة
الأكابر هم أصل الخبرة بالأحكام الشرعية ومداركها. قوله: بلغني أن عليه نصف
حد الحر قد ذهب إلى التنصيف للعبد في حد الزنا والقذف والشرب الأكثر
من أهل العلم، وذهب ابن مسعود والليث والزهري وعمر بن عبد العزيز إلى أنه
يستوي الحر والعبد في ذلك لعموم الأدلة، ويجاب بأن القرآن مصرح في حد الزنا
بالتنصيف قال الله تعالى: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 25) ويلحق
بالإماء العبيد، ويلحق بحد الزنا سائر الحدود، وهذا قياس صحيح لا يختلف في
صحته من أثبت العمل بالقياس.
باب ما ورد في قتل الشارب في الرابعة وبيان نسخه
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شرب
الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه، قال عبد الله:
ائتوني برجل قد شرب الخمر في الرابعة فلكم علي أن أقتله رواه أحمد. وعن معاوية:
324

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إذا شربوا فاجلدوهم
ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم رواه الخمسة إلا النسائي، قال الترمذي: إنما كان هذا في
أول الأمر ثم نسخ بعد، هكذا روى محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة
فاقتلوه، قال: ثم أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة
فضربه ولم يقتله. وعن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو
الرابعة فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده،
ثم أتي به فجلده ورفع القتل وكانت رخصة رواه أبو داود وذكره الترمذي
بمعناه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن سكر
فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه رواه الخمسة
إلا الترمذي، وزاد أحمد: قال الزهري فأتي رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم بسكران في الرابعة فخلى سبيله.
حديث ابن عمرو أخرجه أيضا الحرث بن أبي أسامة في مسنده من طريق
الحسن البصري، ورواه من طريقه ابن حزم، والحسن لم يسمع من عبد الله بن
عمرو فهو منقطع، وقد جزم بعدم سماعه منه ابن المديني وغيره، ووقع في نسخة من
هذا الكتاب عبد الله بن عمر بدون واو والصواب إثباتها. وحديث معاوية قال البخاري:
هو أصح ما في هذا الباب، وأخرجه أيضا الشافعي والدارمي وابن المنذر وابن حبان
وصححه من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي سعيد
والمحفوظ أنه عن معاوية، وأخرجه أبو داود من رواية أبان العطار وفيه: فإن
شربوا يعني بعد الرابعة فاقتلوهم. ورواه أيضا أبو داود من حديث ابن عمر قال:
وأحسبه قال في الخامسة، ثم إن شربها فاقتلوه قال: وكذا في حديث غطيف في
الخامسة. وحديث جابر أخرجه أيضا النسائي. وحديث قبيصة بن ذؤيب أخرجه
أيضا الشافعي وعبد الرزاق وعلقه الترمذي. وأخرجه أيضا الخطيب عن ابن
إسحاق عن الزهري عن قبيصة، قال سفيان بن عيينة: حدث الزهري بهذا وعنده
منصور بن المعتمر ومخول بن راشد فقال لهما: كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث
325

وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة ولد عام الفتح، وقيل: إنه ولد أول سنة من
الهجرة، ولم يذكر له سماع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعده الأئمة
من التابعين وذكروا أنه سمع الصحابة، قال المنذري: وإذا ثبت أن مولده أول سنة
من الهجرة أمكن أن يكون سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد قيل: إنه أتى به النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وهو غلام يدعو له، وذكر عن الزهري أنه كان إذا ذكر قبيصة بن
ذؤيب قال: كان من علماء هذه الأمة وأما أبوه ذؤيب بن حلحلة فله صحبة انتهى ورجال
الحديث مع إرساله ثقات وأعله الطحاوي بما أخرجه من طريق الأوزاعي أن الزهري
راويه قال: بلغني عن قبيصة ولم يذكر أنه سمع منه، وعورض بأنه رواه ابن وهب عن
يونس قال: أخبرني الزهري أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، ويونس أحفظ لحديث الزهري من الأوزاعي. وأخرج عبد الرزاق عن ابن
المنكدر مثله. وأما حديث أبي هرير فقد قدمنا من أخرجه ومن صححه. وفي
الباب عن الشريد بن أوس الثقفي عند أحمد والأربعة والدارمي والطبراني وصححه
الحاكم. وعن شرحبيل الكندي عند أحمد والطبراني وابن منده ورجاله ثقات. وعن
أبي الرمداء براء مهملة مفتوحة وميم ساكنة ودال مهملة وبالمد عند الطبراني وابن
منده وفي إسناده ابن لهيعة وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بضرب عنقه وأنه ضرب
عنقه. فإن ثبت هذا كان فيه رد على من يقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعمل
به. (وقد اختلف العلماء) هل يقتل الشارب بعد الرابعة أو لا؟ فذهب بعض أهل الظاهر
إلى أنه يقتل، ونصره ابن حزم واحتج له ودفع دعوى الاجماع على عدم القتل
وهذا هو ظاهر ما في الباب عن ابن عمرو. وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل الشارب وأن
القتل منسوخ. قال الشافعي: والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره يعني حديث قبيصة
ابن ذؤيب، ثم ذكر أنه لا خلاف في ذلك بين أهل العلم. وقال الخطابي: قد يرد الامر
كالوعيد ولا يراد به الفعل وإنما يقصد به الردع والتحذير، وقد يحتمل أن يكون القتل في
الخامسة واجبا ثم نسخ بحصول الاجماع من الأمة على أنه لا يقتل انتهى. وحكى المنذري
عن بعض أهل العلم أنه قال: أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر، وأجمعوا على
أنه لا يقتل إذا تكرر منه إلا طائفة شاذة قالت: يقتل بعد حده أربع مرات للحديث
وهو عند الكافة منسوخ انتهى. وقال الترمذي: إنه لا يعلم في ذلك اختلافا بين أهل
326

العلم في القديم والحديث. وذكر أيضا في آخر كتابه الجامع في العلل أن جميع
ما فيه معمول به عند البعض من أهل العلم إلا حديث إذا سكر فاجلدوه المذكور في
الباب. وحديث الجمع بين الصلاتين. وقد احتج من أثبت القتل بأن حديث معاوية
المذكور متأخر عن الأحاديث القاضية بعدم القتل لأن إسلام معاوية متأخر.
وأجيب عن ذلك بأن تأخر إسلام الراوي لا يستلزم تأخر المروي لجواز أن يروي
ذلك عن غيره من الصحابة المتقدم إسلامهم على إسلامه. وأيضا قد أخرج الخطيب
في المبهمات عن ابن إسحاق عن الزهري عن قبيصة أنه قال في حديثه السابق: فأتى برجل
من الأنصار يقال له نعيمان فضربه أربع مرات فرأى المسلمون أن القتل قد أخر.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن سهيل وفيه قال: فحدثت به ابن المنكدر فقال: قد
ترك ذلك. وقد أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بابن النعيمان فجلده ثلاثا
، ثم أتى به الرابعة فجلده ولم يزده. وقصة النعيمان أو ابن النعيمان كانت بعد الفتح لان
عقبة بن الحرث حضرها، فهي إما بحنين وإما بالمدينة، ومعاوية أسلم قبل الفتح أو في الفتح على
الخلاف وحضور عقبة كان بعد الفتح.
باب من وجد منه سكر أو ريح خمر ولم يعترف
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقت في الخمر
حدا. وقال ابن عباس: شرب رجل فسكر فلقي يميل في الفج فانطلق به إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر
ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك وقال: أفعلها ولم يأمر فيه بشئ رواه
أحمد وأبو داود وقال: هذا مما تفرد به أهل المدينة. وعن علقمة قال: كنت بحمص
فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال عبد الله:
والله لقرأتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أحسنت، فبينما هو
يكلمه إذ وجد منه ريح الخمر فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب؟ فضربه
الحد متفق عليه.
حديث ابن عباس أخرجه أيضا النسائي وقوى الحافظ إسناده. قوله: لم يقت
327

من التوقيت أي لم يقدره بقدر ولا حده بحد. وقد استدل بهذا الحديث من قال: إن حد
السكر غير واجب وأنه غير مقدور وإنما هو تعزير فقط كما تقدم. وأجيب عن هذا
بأنه قد وقع الاجماع من الصحابة على وجوبه. وحديث ابن عباس المذكور قد
قيل إنه كان قبل أن يشرع الجلد ثم شرع الجلد، والأولى أن يقال: إن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم إنما لم يقم على ذلك الرجل الحد لكونه لم يقر لديه ولا قامت
عليه بذلك الشهادة عنده، وعلى هذا بوب المصنف، فيكون في ذلك دليل على أنه
لا يجب على الامام أن يقيم الحد على شخص بمجرد إخبار الناس له أنه فعل ما يوجبه
، ولا يلزمه البحث بعد ذلك لما قدمنا من مشروعية الستر وأولوية ما يدرأ الحد على
ما يوجبه، وأثر ابن مسعود المذكور فيه متمسك لمن يجوز للامام والحاكم، ومن صلح
أن يقيم الحدود إذا علم بذلك، وإن لم يقع من فاعل ما يوجبها إقرار ولا قامت عليه البينة
به. وقد خالف في أصل حكم الحاكم بما علم مطلقا شريح والشعبي وابن أبي ليلى
والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق والشافعي في قول له فقالوا: لا يجوز له أن يقضي
بما علم مطلقا. وقال الناصر والمؤيد بالله في قول له والشافعي في قول له أيضا: أنه يجوز للحاكم
أن يحكم بعلمه في كل شئ من غير فرق بين الحد وغيره. وذهبت العترة إلى أنه يحكم
بعلمه في الأموال دون الحدود إلا في حد القذف فإنه يحكم فيه بعلمه، ويدل على
ذلك ما أخرجه البخاري تعليقا أن عمر قال لعبد الرحمن: لو رأيت رجلا على حد فقال:
أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين قال أصبت، وصله البيهقي. ويؤيده حديث: لو كنت
راجما أحدا بغير بينة لرجمتها في قصة الملاعنة وقد تقدم، فإن ذلك يدل على أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قد علم زناها.
باب ما جاء في قدر التعزير والحبس في التهم
عن أبي بردة بن نيار أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى رواه الجماعة إلا النسائي.
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس رجلا
في تهمة ثم خلى عنه رواه الخمسة إلا ابن ماجة.
328

حديث أبي بردة مع كونه متفقا عليه قد تكلم في إسناده ابن المنذر
والأصيلي من جهة الاختلاف فيه. وقال البيهقي: قد أقام عمرو بن الحرث إسناده
فلا يضره تقصير من قصر فيه. وقال الغزالي: صححه بعض الأئمة وتعقبه الرافعي
في التذنيب فقال: أراد بقوله بعض الأئمة صاحب التقريب، ولكن الحديث أظهر
من أن تضاف صحته إلى فرد من الأئمة فقد صححه البخاري ومسلم. وحديث بهز
بن حكيم حسنه الترمذي، وقال الحاكم: صحيح الاسناد ثم أخرج له شاهدا من حديث
أبي هريرة وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس في تهمة يوما وليلة
وقد تقدم الاختلاف في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. قوله:
لا يجلد روي بفتح الياء في أوله وكسر اللام. وروي أيضا بضم الياء وفتح
اللام. وروي بصيغة النهي مجزوما، وبصيغة النفي مرفوعا. قوله: فوق عشرة أسواط
في رواية: فوق عشر ضربات. قوله: إلا في حد المراد به ما ورد عن الشارع مقدرا
بعدد مخصوص كحد الزنا والقذف ونحوهما. وقيل: المراد بالحد هنا عقوبة
المعصية مطلقا لا الأشياء المخصوصة. فإن ذلك التخصيص إنما هو من اصطلاح
الفقهاء. وعرف الشرع إطلاق الحد على كل عقوبة لمعصية من المعاصي كبيرة أو صغيرة.
ونسب ابن دقيق العيد هذه المقالة إلى بعض المعاصرين له، وإليها ذهب ابن القيم
وقال: المراد بالنهي المذكور في التأديب للمصالح كتأديب الأب ابنه الصغير،
واعترض على ذلك بأنه قد ظهر أن الشارع يطلق الحدود على العقوبات المخصوصة،
ويؤيد ذلك قول عبد الرحمن بن عوف: أن أخف الحدود ثمانون، كما تقدم في
كتاب حد شارب الخمر. وقد ذهب إلى العمل بحديث الباب جماعة من أهل
العلم منهم الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشافعية. وذهب
أبو حنيفة والشافعي وزيد بن علي والمؤيد بالله والامام يحيى إلى
جواز الزيادة على عشرة أسواط، ولكن لا يبلغ إلى أدنى الحدود. وذهب الهادي
والقاسم والناصر وأبو طالب إلى أنه يكون في كل موجب للتعزير دون حد جنسه. وإلى
مثل ذلك ذهب الأوزاعي وهو مروي عن محمد بن الحسن الشيباني. وقال أبو يوسف:
إنه ما يراه الحاكم بالغا ما بلغ. وقال مالك وابن أبي ليلى: أكثره خمسة وسبعون، هكذا
حكى ذلك صاحب البحر. والذي حكاه النووي عن مالك وأصحابه وأبي ثور
329

وأبي يوسف ومحمد أنه إلى رأي الامام بالغا ما بلغ. وقال الرافعي: الأظهر أنها
تجوز الزيادة على العشرة، وإنما المراعى النقصان عن الحد، قال: وأما الحديث المذكور
فمنسوخ على ما ذكره بعضهم، واحتج بعمل الصحابة بخلافه من غير إنكار انتهى.
وقال البيهقي عن الصحابة آثار مختلفة في مقدار التعزير، وأحسن ما يصار إليه في
هذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ذكر حديث أبي بردة المذكور
في الباب. قال الحافظ: فتبين بما نقله البيهقي عن الصحابة أن لا اتفاق على عمل في ذلك،
فكيف يدعي نسخ الحديث الثابت ويصار إلى ما يخالفه من غير برهان؟ وسبق إلى
دعوى عمل الصحابة بخلافه الأصيلي وجماعة وعمدتهم كون عمر جلد في الخمر
ثمانين، وأن الحد الأصلي أربعون والباقية ضربها تعزيرا، لكن حديث علي السابق
يدل على أن عمر إنما ضرب ثمانين معتقدا أنه الحد، وأما النسخ فلا يثبت إلا بدليل.
وذكر بعض المتأخرين أن الحديث محمول على التأديب الصادر من غير الولاة،
كالسيد يضرب عبده، والزوج يضرب زوجته، والأب ولده، والحق العمل بما دل عليه
الحديث الصحيح المذكور في الباب، وليس لمن خالفه متمسك يصلح للمعارضة. وقد
نقل القرطبي عن الجمهور أنهم قالوا بما دل عليه. وخالفه النووي فنقل عن الجمهور
عدم القول به، ولكن إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، فلا ينبغي لمنصف التعويل على قول أحد
عند قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر
قوله: في تهمة بضم التاء وسكون الهاء وقد تفتح في لغة وهي فعلة من
الوهم والتاء بدل من الواو، واتهمته إذا ظننت فيه ما نسب إليه، وفيه دليل على أن
الحبس كما يكون حبس عقوبة يكون حبس استظهار في غير حق، بل لينكشف به
بعض ما وراءه، وقد بوب أبو داود على هذا الحديث فقال: باب في الحبس في الدين
وغيره وذكر معه حديث عمرو بن الشريد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: ولي الواجد يحل عرضه وعقوبته وقد تقدم. وذكر أيضا حديث الهرماس
بن حبيب عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغريم
لي فقال لي: ألزمه، ثم قال: يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟. وأخرجه
أيضا ابن ماجة. قال في البحر مسألة: وندب اتخاذ سجن للتأديب واستيفاء الحقوق
330

لفعل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعمر وعثمان ولم ينكر، وكذلك الدرة والسوط
لفعل عمر وعثمان. (فرع) ويجب حبس من عليه الحق للايفاء إجماعا إن طلب
لحبسه صلى الله عليه وآله وسلم من أعتق شقصا في عبد حتى غرم لشريك قيمته
وكذلك التقييد انتهى. والحديث الذي ذكره أخرجه البيهقي وهو منقطع.
باب المحاربين وقطاع الطريق
عن قتادة عن أنس: أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وتكلموا بالاسلام فاستوخموا المدينة، فأمر لهم النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها
فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي النبي
صلى الله عليه وآله وسلم واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية
الحرة حتى ماتوا على حالهم رواه الجماعة. وزاد البخاري: قال قتادة بلغنا أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة
وفي رواية لأحمد والبخاري وأبي داود قال قتادة: فحدثني ابن سيرين أن ذلك
كان قبل أن تنزل الحدود وللبخاري وأبو داود في هذا الحديث: فأمر بمسامير
فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم ثم ألقوا في الحرة يستسقون فما
سقوا حتى ماتوا. وفي رواية النسائي: فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم.
وعن سليمان التيمي عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعين أولئك
لأنهم سملوا أعين الرعاة رواه مسلم والنسائي والترمذي. وعن أبي الزناد: أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم
بالنار عاتبه الله في ذلك فأنزل: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا) * (المائدة: 33) الآية. رواه أبو داود والنسائي. وعن ابن
عباس في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم
يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم
331

من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض رواه الشافعي في مسنده.
حديث أبي الزناد مرسل، وقد سكت عنه أبو داود، ولم يذكر المنذري له علة غير
إرساله، ورجال هذا المرسل رجال الصحيح، وقد وصله أبو الزناد من طريق
عبد الله بن عبيد الله بن عمر عن عمر كما في سنن أبي داود في الحدود، ويؤيده ما
أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس: أن ناسا أغاروا على إبل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وارتدوا عن الاسلام وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم مؤمنا فبعث في آثارهم فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم قال: فنزلت
فيهم آية المحاربة. وعند البخاري وأبي داود عن أبي قلابة أنه قال في العرنيين:
فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله، وهو يشير إلى
أنهم سبب الآية. وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عمر أن الآية نزلت في العرنيين.
وأثر ابن عباس في إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وهو ضعيف عن صالح
مولى التوأمة عن ابن عباس وأخرجه البيهقي من طريق محمد بن سعيد العوفي عن آبائه
إلى ابن عباس في قوله: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * (المائدة: 33) قال: إذا حارب
فقتل فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته، فإذا حارب وأخذ المال وقتل فعليه
الصلب، وإن لم يقتل فعليه قطع اليد والرجل من خلاف، وإذا حارب وأخاف
السبيل فإنما عليه النفي ورواه أحمد بن حنبل في تفسيره عن أبي معاوية عن
عطية به نحوه. وأخرج أبو داود والنسائي بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قال
: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو
يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض إلى غفور
رحيم) * نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدروا عليه لم يمنعه
ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه وفي إسناده علي بن الحسن بن واقد وفيه مقال.
قوله: من عكل وعرينة في رواية للبخاري: من عكل أو عرينة بالشك. ورواية
الكتاب هي الصواب كما قال الحافظ. ويؤيدها ما رواه أبو عوانة والطبري من طريق
سعيد ابن بشير عن قتادة عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل. وزعم
الداودي وابن التين أن عرينة هم عكل وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايرتان، فعكل
332

من عدنان وعرينة من قحطان. وعكل بضم العين المهملة وإسكان الكاف قبيلة من
تيم الرباب، وعرينة بالعين والراء المهملتين والنون مصغرا حي من قضاعة وحي من
بجيلة والمراد هنا الثاني، كذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي، وكذا رواه الطبري
من وجه آخر عن أنس، ووقع عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة بإسناد
ساقط أنهم من بني فزارة وهو غلط، لأن بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل
ولا مع عرينة أصلا. وذكر ابن إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي
قرد وكانت في جمادى الآخرة سنة ست. وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها،
وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما. قوله: فاستوخموا المدينة في رواية: اجتووا
المدينة قال ابن فارس: اجتويت المدينة إذا كرهت المقام فيها وإن كنت في
نعمة. وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة وهو المناسب لهذه القصة. وقال القزاز
: اجتووا أي لم يوافقهم طعامها. وقال ابن العربي: الجوى داء يأخذ من الوباء، ورواية
استوخموا بمعنى هذه الرواية. وللبخاري في الطب من رواية ثابت عن أنس: أن
ناسا كان بهم سقم قالوا يا رسول الله آونا وأطعمنا فلما صحوا قالوا: إن المدينة وخمة
والظاهر أنهم قدموا سقاما فلما صحوا من السقم كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها،
فأما السقم الذي كان بهم فهو الهزال الشديد والجهد من الجوع كما رواه أبو عوانة
عن أنس أنه كان بهم هزال شديد، وعنده من رواية أبي سعيد مصفرة ألوانهم، وأما
الوخم الذي شكوا منه بعد أن صحت أجسامهم فهو من حمى المدينة كما رواه أحمد
عن أنس. وذكر البخاري في الطب عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
دعا الله أن ينقلها إلى الجحفة. قوله: فأمر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بذود وراع قد تقدم تفسير الذود في الزكاة. وفي رواية للبخاري وغيره: فأمرهم
بلقاح أي أمرهم أن يلحقوا بها. وفي أخرى له: فأمر لهم بلقاح، واللقاح بكسر اللام
وبعدها قاف وآخره مهملة النوق ذوات الألبان واحدتها لقحة بكسر اللام وإسكان
القاف. قوله: فليشربوا من أبوالها استدل به من قال بطهارة أبوال الإبل
وقاس سائر المأكولات عليها. وقد تقدم الكلام على ذلك في أوائل الكتاب. قوله:
بناحية الحرة هي أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة. قوله: وقتلوا راعي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسمه يسار بياء تحتانية ثم مهملة خفيفة كما ذكره
333

الطبراني وابن إسحاق في السيرة. وفي لفظ لمسلم: أنهم قتلوا أحد الراعيين وجاء
الآخر قد جزع فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل. قال الحافظ: ولم أقف على
اسم الراعي الآتي بالخبر والظاهر أنه راعي إبل الصدقة، ولم تختلف روايات البخاري
في أن المقتول راعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبعث الطلب في آثارهم. ذكر ابن
إسحاق عن سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث خيلا من
المسلمين أميرهم كرز بن جابر الفهري، وكرز بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي،
وفي رواية للنسائي: فبعث في طلبهم قافة أي جمع قايف، ولمسلم أنهم شباب من الأنصار
قريب من عشرين رجلا وبعث معهم قائفا يقتص آثارهم. وفي مغازي موسى بن عقبة
أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، وذكر غيره أنه سعد بن زيد الأشهلي والأول
أنصاري، ويمكن الجمع بأن كل واحد منهما أمير قومه وكرز أمير الجميع. وفي رواية
للطبراني وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بعثه في آثارهم وإسناده ضعيف، والمعروف أن جريرا تأخر إسلامه عن هذا
الوقت بمدة. قوله: فأمر بهم فيه حذف تقديره فأدركوا فأخذوا فجئ بهم فأمر
بهم. وفي رواية للبخاري: فلما ارتفع النهار جئ بهم. قوله: فسمروا أعينهم بالسين
المهملة وتشديد الميم. وفي رواية للبخاري: وسمرت أعينهم. وفي رواية لمسلم: وسمل
أعينهم بتخفيف الميم واللام، قال الخطابي: السمر لغة في السمل ومخرجهما متقارب، قال:
وقد يكون من المسمار يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت، قال: والسمل فق ء العين بأي
شئ كان، قال أبو ذؤيب الهذلي
: والعين بعدهم كأن حداقها سملت * بشوك فهي عورا تدمع
وقد وقع التصريح بمعنى السمر في الرواية المذكورة في الباب بلفظ: فأمر بمسامير
الخ. قوله: وما حسمهم أي لم يكو ما قطع منهم بالنار لينقطع الدم بل تركه
ينزف. قوله: يستسقون فما سقوا في رواية للبخاري: ثم نبذهم في الشمس حتى
ماتوا وفي أخرى له: يعضون الحجارة وفي أخرى له في الطب قال أنس: فرأيت
الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت. وفي رواية لأبي عوانة من هذا
الوجه: يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة. قوله: وصلبهم حكي
في الفتح عن الواقدي أنهم صلبوا، قال: والروايات الصحيحة ترده لكن عند أبي
334

عوانة عن أنس فصلب اثنين وقطع اثنين وسمل اثنين، وهذا يدل على أنهم ستة فقط،
وقد تقدم ما يدل على أنهم سبعة. وفي البخاري في الجهاد عن أنس: أن رهطا من
عكل ثمانية. قوله: لأنهم سملوا أعين الرعاة فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إنما فعل ذلك بهم اقتصاصا لما فعلوه بالرعاة، وإلى ذلك مال جماعة منهم ابن الجوزي وتعقبه ابن
دقيق العيد بأن المثلة وقعت في حقهم من جهات وليس في الحديث إلا السمل فيحتاج إلى
ثبوت البقية. وقد نقل أهل المغازي أنهم مثلوا بالراعي، وذهب آخرون إلى أن ذلك
منسوخ. قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصين في النهي عن المثلة: هذا
الحديث ينسخ كل مثلة. وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ
. ويجاب عن هذا التعقب بحديث أبي الزناد المذكور، فإن معاتبة الله لرسوله صلى الله
عليه وآله وسلم تدل على أن ذلك الفعل غير جائز. ويؤيده ما أخرجه البخاري في
الجهاد في حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار بعد الاذن فيه. وقصة
العرنيين قبل إسلام أبي هريرة وقد حضر الاذن ثم النهي عنه. ويؤيده أيضا ما في
الباب عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود. وأصرح من الجميع ما في
الباب عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك نهى عن المثلة وإلى
هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن الشافعي، واستشكل القاضي
عياض عدم سقيهم الماء للاجماع على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع. وأجاب
بأن ذلك لم يقع عن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا وقع منه نهي عن سقيهم
انتهى. وتعقب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك وسكت والسكوت
كاف في ثبوت الحكم. وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة له فسقي الماء
ولا غيره، ويدل عليه أن من معه ماء لطهارته فقط لا يسقي المرتد ويتيمم بل يستعمله
ولو مات المرتد عطشا. وقال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم ذلك لأنه أراد
بهم الموت بذلك، وقيل: إن الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل
التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع والوخم. قوله: وعن ابن عباس في قطاع الطريق
أي الحكم فيهم هو المذكور. وقد حكي في البحر عن ابن عباس والمؤيد بالله وأبي
طالب والحنفية والشافعية أن الآية أعني قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله) * (المائدة: 33) نزلت في قطاع الطريق المحاربين. وعن ابن عمر والهادي أنها نزلت
335

في العرنيين، ويدل على ذلك حديث أبي الزناد المذكور في الباب. وحكى المؤيد بالله
وأبو طالب عن قوم أنها نزلت في المشركين، ورد ذلك بالاجماع على أنه لا يفعل
بالمشركين كذلك، ويدفع هذا الرد بما أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن عباس
أنها نزلت في المشركين وقد دعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلم التأويل. وقد
ذهب أكثر العترة والفقهاء إلى أن المحارب هو من أخاف السبيل في غير المصر لاخذ
المال، وسواء أخاف المسلمين أو الذميين. قال الهادي وأبو حنيفة: إن قاطع الطريق
في المصر أو القرية ليس محاربا للحوق الغوث بل مختلسا أو منتهبا. وفي رواية عن
مالك: إذا كانوا على ثلاثة أميال من المصر أو القرية فمحاربون لا دون ذلك إذ يلحقه
الغوث. وفي رواية أخرى عن مالك: لا فرق بين المصر وغيره لأن الآية لم تفصل.
وبه قال الأوزاعي وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد والشافعي والناصر والامام يحيى،
وإذا لم يكن قد أحدث المحارب غير الإخافة عزره الامام فقط. قال أبو طالب وأصحاب
الشافعي: ولا نفي مع التعزير، وأثبته المؤيد بالله، فإن وقع منه القتل فقط فذهبت
العترة والشافعي إلى أنه يقتل فقط. وعن أبي حنيفة: ليس بمحارب إن قتل بمثقل،
فإن قتل وأخذ المال فذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والهادي والمؤيد
بالله وأبو طالب إلى أنه يقتل ويصلب ولا قطع لدخوله في القتل. وقال الناصر وأبو
العباس: بل يخير الامام بين أن يصلب ويقتل، أو يقتل ثم يصلب، أو يقطع ثم يقتل
، أو يقطع ويقتل ويصلب، لأن أو للتخيير. وقال مالك: إذا شهروا السلاح وأخافوا
لزمهم ما في الآية. وقال الحسن البصري وابن المسيب ومجاهد: إذا أخافوا خير الامام
بين أن يقتل فقط أو يقتل ويصلب، أو يقطع الرجل واليد فقط، أو يحبس فقط لأجل
التخيير. وقال أبو الطيب بن سلمة من الشافعية وحصله صاحب الوافي للهادي:
أنهم إذا أخذوا المال وقتلوا قطعوا للمال ثم قتلوا للقتل ثم طلبوا، للجمع بين الاخذ
والقتل. قال أبو حنيفة والهادوية: فإن قتل وجرح قتل فقط لدخول الجرح في القتل.
وقال الشافعي: بل يجرح ثم يقتل إذ هما جنايتان، والنفي المذكور في الآية هو
طرد سنة عند الهادي والشافعي وأحمد والمؤيد بالله وأبي طالب. وقال الناصر وأبو
حنيفة وأصحابه: بل الحبس فقط إذ القصد دفع أذاه. وإذا كان المحاربون جماعة
واختلفت جناياتهم فذهبت العترة والشافعي إلى أنه يحد كل واحد منهم بقدر جنايته.
336

وقال أبو حنيفة: بل يستوون إذ المعين كالقاتل. واختلفوا هل يقدم الصلب على القتل
أو العكس؟ فذهب الشافعي والناصر والامام يحيى إلى أنه يقدم الصلب على القتل، إذ المعنى
يقتلون بالسيف أو بالصلب. وقال الهادي وأبو حنيفة وهو مروي عن الشافعي
رحمه الله، أنه لا صلب قبل القتل لأنه مثله. وجعل الهادي أو بمعنى الواو ولذلك قال
بتقدم القتل على الصلب. وقال بعض أصحاب الشافعي: يصلب قبل القتل ثلاثا ثم
ينزل فيقتل. وقال بعض أصحاب الشافعي أيضا: يصلب حتى يموت جوعا وعطشا.
وقال أبو يوسف والكرخي: يصلب قبل القتل ويطعن في لبته وتحت ثديه الأيسر
ويخضخض حتى يموت. وروى الرازي عن أبي بكر الكرخي أنه لا معنى للصلب بعد
القتل. واختلفوا في مقدار الصلب فقال الهادي: حتى تنتثر عظامه. وقال ابن أبي هريرة:
حتى يسيل صديده. وقال بعض أصحاب الشافعي: ثلاثا في البلاد الباردة، وفي الحارة
ينزل قبل الثلاث. وقال الناصر والشافعي: ينزل بعد الثلاث ثم يقتل إن لم يمت ويغسل
ويصلى عليه إن تاب. وقد رجح صاحب البحر أن الآية للتخيير وتكون العقوبة
بحسب الجنايات، وأن التقدير أن يقتلوا إذا قتلوا، ويصلبوا بعد القتل إذا قتلوا وأخذوا
المال، وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا فقط، أو ينفوا من الأرض إذا
أخافوا فقط، إذ محاربة الله ورسوله بالفساد في الأرض متنوعة كذلك، وهو مثل
تفسير ابن عباس المذكور في الباب. وقال صاحب المنار: إن الآية تحتمل التخيير احتمالا
مرجوحا. قال: والظاهر أن المراد حصر أنواع عقوبة المحاربة مثل: * (إنما الصدقات
للفقراء) * (التوبة: 60) الآية. قال: وهو مثل ما قاله صاحب البحر يعني في كلامه الذي ذكرناه قبل
هذا. ورجح صاحب ضوء النهار اختصاص أحكام المحارب بالكافر لتتم فوائد
وتندفع مفاسد ثم ذكر ذلك، وهو كلام رصين لولا أنه قصر للعام على السبب
المختلف في كونه هو السبب، وللعلماء في تفصيل أحكام المحاربين أقوال منتشرة مبسوطة
في كتب الخلاف، وقد أوردنا منها في هذا الشرح طرفا مفيدا.
337

باب قتال الخوارج وأهل البغي
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان
سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون
من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن
قتلهم يوم القيامة متفق عليه. وعن زيد بن وهب: أنه كان في الجيش
الذين كانوا مع أمير المؤمنين علي الذين ساروا إلى الخوارج فقال علي: أيها الناس
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يخرج قوم من أمتي يقرؤون
القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشئ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشئ، ولا
صيامكم إلى صيامهم بشئ، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز
صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش
الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم لنكلوا
عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على عضده مثل حلمة
الثدي عليه شعيرات بيض، قال: فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء
يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم
قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله. قال سلمة بن
كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلا منزلا حتى قال: مررنا على قنطرة فلما التقينا وعلى
الخوارج يومئذ عبد بن وهب الراسبي فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من
جفونها فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا فوحشوا برماحهم
وسلوا السيوف وشجرهم الناس برماحهم، قال: وقتل بعضهم على بعض وما أصيب
من الناس يومئذ إلا رجلان، فقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: التمسوا فيهم
المخدج فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناسا قد قتل
بعضهم على بعض قال: أخروهم فوجده مما يلي الأرض فكبر ثم قال: صدق الله وبلغ
رسوله، قال: فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو
أسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال إي والله الذي
338

لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له رواه أحمد ومسلم
. قوله: باب قتال الخوارج هم جمع خارجة أي طائفة سموا بذلك لخروجهم
عن الدين وابتداعهم أو خروجهم عن خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه
الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه
يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتلته أو مواطأته كذا قال،
وهو خلاف ما قاله أهل الأخبار فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم
عثمان بل كانوا ينكرون عليه شيئا ويتبرؤون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا
سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة
اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم يتأولون القرآن على غير المراد منه
ويستبدون بآرائهم ويبالغون في الزهد والخشوع، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي
واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل
الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليا
فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان، وخرجوا إلى
البصرة يدعون الناس إلى ذلك فبلغ عليا فخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل
المشهورة، وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة وقتل الزبير بعد أن انصرف من
الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق. ثم قام معاوية
بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك، وكان علي أرسل إليه أن يبايع له
أهل الشام فاعتل بأن عثمان قتل مظلوما، وأنها تجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته
، وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد
ذلك، وعلي يقول: ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلي أحكم فيهم بالحق، فلما طال
الامر خرج علي في أهل العراق طالبا قتال أهل الشام، فخرج معاوية في أهل الشام
قاصدا لقتاله، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهم أشهرا، وكاد معاوية وأهل الشام
أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا: ندعوكم إلى كتاب الله تعالى،
وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية، فترك القتال جمع كثير ممن كان
مع علي خصوصا القراء بسبب ذلك تدينا. واحتجوا بقوله تعالى، * (ألم تر إلى
الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم) * (آل عمران: 33) الآية. فراسلوا
339

أهل الشام في ذلك فقالوا: ابعثوا حكما منكم وحكما منا ويحضر معهما من لم يباشر
القتال فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك، وأنكرت ذلك
الطائفة التي صارت خوارج وفارقوا عليا وهم ثمانية آلاف، وقيل كانوا أكثر من
عشرة آلاف، وقيل ستة آلاف، ونزلوا مكانا يقال له حروراء بفتح الحاء المهملة
وراءين مهملتين الأولى مضمومة، ومن ثم قيل لهم الحرورية، وكان كبيرهم عبد الله
بن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكري، وشيث بفتح الشين
المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي، فأرسل إليهم علي ابن عباس فناظرهم
فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم علي فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة ومعهم
رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن عليا تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه،
فبلغ ذلك عليا فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال
: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: لكم علينا ثلاث أن لا نمنعكم من المساجد ولا
من رزقكم من الفئ ولا نبدأكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا، وخرجوا شيئا بعد
شئ إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم علي في الرجوع فأصروا على الامتناع
حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضا فأرادوا قتل
رسوله، ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، واستعرضوا
الناس فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت واليا لعلي
على بعض تلك البلاد ومعه سريته وهي حامل فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ عليا
فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم في النهروان ولم ينج منهم
إلا دون العشرة، ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم، ثم انضم
إلى من بقي منهم ممن مال إلى رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم
ابن ملجم لعنه الله الذي قتل عليا رضي الله عنه بعد أن دخل في صلاة الصبح. ثم
لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال
له النخيلة وكانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه طول مدة ولاية معاوية وابنه يزيد
لعنهم الله، وظفر زياد وابنه بجماعة منهم فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات
يزيد ووقع الافتراق وولي الخلافة عبد الله بن الزبير وأطاعه أهل الأمصار إلا
340

بعض أهل الشام وثار مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام ثم مصر، فظهر
الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق وباليمامة منجدة بن عامر، وزاد نجدة
على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم،
وعظم البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن وقطعوا يد السارق
من الإبط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفروا من ترك الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرا وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة،
وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن
التعرض لهم مطلقا، وفتكوا في المنتسبين إلى الاسلام بالقتل والسبي والنهب، فمنهم
من يفعل ذلك مطلقا بغير دعوة، ومنهم من يدعو أولا ثم يفتك، ولم يزل البلاء
بهم إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم وتقلل جمعهم
، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة
منهم المغرب، وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون
بعدها فاء واسمه لوط بن يحيى كتابا لخصه الطبري في تاريخه، وصنف في أخبارهم
أيضا الهيثم بن عدي كتابا، ومحمد بن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري
خارج الصحيح كتابا كبيرا، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه الكامل
لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين من قبله، هذا خلاصة معتقد الخوارج. والسبب
الذي لأجله خرجوا وهو مجمع عليه عند علماء الاخبار وبه يتبين بطلان ما حكاه
الرافعي في كلامه السالف. وقد وردت بما ذكرنا من أصل حال الخوارج أخبار جياد،
منها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، وأخرج نحوه الطبري
عن يونس عن الزهري، وأخرج نحو ذلك ابن أبي شيبة عن أبي رزين، قال القاضي
أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان أحدهم يزعم أن عثمان وعليا وأصحاب الجمل
وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار، والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر
مخلد في النار أبدا. وقال غيره: بل الصنف الأول متفرع عن الصنف الثاني، لأن الحامل
لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم. وقال ابن حزم: ذهب نجدة
بن عامر الحروري من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عذب بغير النار ومن أدمن
341

على صغيرة فهو كمن ارتكب الكبيرة في التخليد في النار. وذكر أن منهم من غلا
في معتقدهم الفاسد فأنكر الصلوات الخمس وقال: الواجب صلاة بالغداة وصلاة
بالعشي. ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت. ومنهم من أنكر
أن تكون سورة يوسف من القرآن، وأن من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن عند
الله ولو اعتقد الكفر بقلبه. وقال أبو منصور البغدادي في المقالات: عدة فرق الخوارج
عشرون فرقة. وقال ابن حزم: أسوأهم حالا الغلاة المذكورون، وأقربهم إلى قول أهل
الحق الأباضية، وقد بقيت منهم بقية بالمغرب. قال الغزالي في الوسيط تبعا لغيره في
حكم الخوارج وجهان: أحدهما أن حكمهم حكم أهل الردة. والثاني أنه كحكم أهل
البغي، ورجح الرافعي الأول. قال في الفتح: وليس الذي قاله مطردا في كل خارجي
فإنهم على قسمين: أحدهما من تقدم وذكره. والثاني من خرج في طلب الملك لا للادعاء
إلى معتقده. وهم على قسمين أيضا: قسم خرجوا غضبا للدين من أجل جور
الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية فهؤلاء أهل حق ومنهم الحسين بن علي رضي
الله عنه وأهل المدينة في وقعة الحرة، والقراء الذين خرجوا على الحجاج. وقسم
خرجوا لطلب الملك فقط سواء كانت لهم فيه شبهة أو لا وهم البغاة، وسيأتي بيان
حكمهم. قوله: في آخر الزمان ظاهر هذا يخالف ما بعده من أحاديث الباب
من خروجهم في خلافة علي. وأجاب ابن التين بأن المراد زمان الصحابة،
قال الحافظ: وفيه نظر لأن آخر زمان الصحابة كان على رأس المائة وهم قد
خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة، ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزمان
زمان خلافة النبوة لما في حديث سفينة عند أهل السنن وابن حبان في صحيحه مرفوعا:
الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا وكانت قصة الخوارج وقتلهم بالنهروان في آخر
خلافة علي سنة ثمان وثلاثين من الهجرة وبعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بدون ثلاثين سنة. قوله: حداث الأسنان بحاء مهملة ثم دال مهملة أيضا ثم بعد
الألف مثلثة جمع حدث بفتحتين والحدث هو الصغير السن هكذا في أكثر
الروايات. وفي رواية السرخسي حداث بضم أوله وتشديد الدال. قال في المطالع:
معناه شباب. وقال ابن التين: حداث جمع حديث مثل كرام جمع كريم وكبار جمع
كبير. والحديث الجديد من كل شئ ويطلق على الصغير بهذا الاعتبار. قوله:
342

سفهاء الأحلام جمع حلم بكسر أوله والمراد به العقل والمعنى أن عقولهم رديئة.
قال النووي: يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة
التجارب وقوة العقل. قوله: يقولون من قول خير البرية قيل هو القرآن ويحتمل
أن يكون على ظاهره أي القول الحسن في الظاهر والباطن على خلافة كقولهم: لا
حكم إلا لله. قوله: لا يجاوز إيمانهم حناجرهم الحناجر بالحاء المهملة والنون ثم
الجيم جمع حنجرة بوزن قسورة وهي الحلقوم والبلعوم وكلمه يطلق على مجرى
النفس وهو طرف المرئ مما يلي الفم، والمراد أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب
وفي حديث زيد بن وهب المذكور: لا تجاوز صلاتهم تراقيهم فكأنه أطلق
الايمان على الصلاة. وفي رواية أبي سعيد الآتية: يقرؤون القرآن لا يجاوز
تراقيهم. وفي رواية لمسلم: يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم
وأشار إلى حلقه. قوله: يمرقون من الدين في رواية للنسائي والطبري:
يمرقون من الاسلام وكذا في حديث زيد بن وهب المذكور يمرقون من
الاسلام. وفي رواية للنسائي يمرقون من الحق. وفيها رد على من فسر الدين
هنا بالطباعة. قوله: كما يمرق السهم من الرمية بفتح الراء وكسر الميم
وتشديد التحتانية أي الشئ الذي يرمى به. وقيل: المراد بالرمية الغزالة المرمية مثلا.
قوله: فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة في
رواية زيد بن وهب المذكورة: لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم الخ
. قوله: لنكلوا عن العمل أي تركوا الطاعات واكتفوا بثواب قتلهم.
قوله: وآية ذلك أي علامته كما وقع في رواية الطبري. قوله: على عضده
مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض في حديث أبي سعيد الآتي: آيتهم رجل
أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة وسيأتي تفسير ذلك. والشعيرات
بالتصغير جمع شعرة واسم ذي الثدية هذا نافع كما أخرجه أبو داود من طريق
أبي مريم قال: إن كان ذلك المخدج لمعنا في المسجد كان فقيرا وقد كسوته برنسا
ورأيته شهد طعام علي وكان يسمى نافعا ذا الثدية، وكان يده مثل ثدي المرأة
على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي عليه شعيرا ت مثل سبال السنور. وفي رواية
لأبي الوضئ بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة عند أبي داود: إحدى ثدييه
343

مثل ثدي المرأة عليه شعيرات مثل شعيرات تكون على ذنب اليربوع، وسيأتي
عن بعضهم أن اسم المخدج حرقوص. قوله: في سرح الناس بفتح السين المهملة
وسكون الراء بعدها حاء مهملة وهو المال السائم. قوله: فنزلني زيد بن وهب
منزلا منزلا بفتح النون من نزلني وتشديد الزاي أي حكى لي سيرهم منزلا
منزلا. قوله: فوحشوا برماحهم بالحاء المهملة والشين المعجمة أي رموها
بعيدا قال في القاموس: وحش بثوبه كوعد رمى به مخافة. قوله: وشجرهم الناس
بفتح الشين المعجمة والجيم والراء قال في القاموس: اشتجروا تخالفوا كتشاجروا،
ثم قال وبالرمح طعنه، ثم قال: والشجر الامر المختلف اه. والرماح الشواجر المختلف
بعضها في بعض، والمراد هنا أن الناس اختلفوهم برماحهم وطعنوهم بها.
قوله: وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان هذا يخالف ما قدمنا عن أهل
التاريخ أنه قتل من أصحاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه نحو العشرة. قوله:
المخدج بخاء معجمة وجيم وهو الناقص. قوله: فقال يا أمير المؤمنين الله
الذي لا إله إلا هو الخ، قال النووي: إنما استحلفه ليؤكد الامر عند السامعين
وليظهر معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن عليا ومن معه على الحق. قال
الحافظ: وليطمئن قلب المستحلف لإزالة توهم ما أشار إليه علي أن الحرب خدعة،
فخشي أن يكون لم يسمع في ذلك شيئا منصوصا، وإلى ذلك يشير قول عائشة
لعبد الله بن شداد لما سألته ما قال علي؟ فقال سمعته يقول: صدق الله ورسوله،
قالت: يرحم الله عليا إنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله،
فيذهب أهل العراق فيكذبون عليه ويزيدون، فمن هذا أراد عبيدة التثبت في
هذه القصة بخصوصها.
وعن أبي سعيد قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم قال: يا رسول الله
إعدل، فقال: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل،
فقال عمر: يا رسول الله أتأذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال: دعه فإن له أصحابا
يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم،
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر
344

إلى رصافه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شئ، ثم
ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى
عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل
فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي
نعته. وعن أبي سعيد قال: بعث علي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذهيبة
فقسمها بين أربعة: الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي، وعيينة بن بدر الفزاري
، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب، فغضبت
قريش والأنصار قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا، قال: إنما أتألفهم، فأقبل رجل
غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية ملحوق فقال: اتق الله يا محمد،
فقال: من يطع الله إذا عصيت؟ أيأمنني على أهل الأرض فلا تأمنوني، فسأله رجل قتله
أحسبه خالد بن الوليد فمنعه، فلما ولى قال: إن من ضئضئ هذا أو في عقب هذا قوما
يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون
أهل الاسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد متفق عليهما.
وفيه دليل على أن من توجه عليه تعزير لحق الله جاز للامام تركه، وأن قوما لو أظهروا
رأي الخوارج لم يحل قتلهم بذلك، وإنما يحل إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واستعرضوا
الناس. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تكون أمتي
فرقتين فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهما بالحق وفي لفظ: تمرق مارقة
عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق رواهما أحمد ومسلم.
قوله: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقسم بفتح الأول
من يقسم ولم يذكر المقسوم، وقد ذكره في الرواية الثانية من طريق عبد الرحمن
بن أبي نعم عن أبي سعيد أن المقسوم ذهيبة بعثه علي بن أبي طالب رضي الله عنه
من اليمن فقسمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الأربعة المذكورين. قوله:
ذو الخويصرة بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وسكون الياء التحتية وكسر
الصاد المهملة بعدها راء واسمه حرقوص بن زهير التميمي، وقد ذكر حرقوصا في
345

الصحابة أبو جعفر الطبري، وذكر أن له في فتوح العراق أثرا، وإنه الذي افتتح
سوق الأهواز، ثم كان مع علي في حروبه، ثم صار مع الخوارج فقتل معهم، وزعم بعضهم
أنه ذو الثدية، ووقع نحو ذلك في رواية للطبري عن أبي مريم، قال الحافظ: وليس
كذلك. قوله: إعدل في الرواية الثانية المذكورة فقال: اتق الله يا محمد، وفي حديث ابن
عمرو عند البزار والحاكم فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل،
وفي لفظ آخر له: إعدل يا محمد. وفي حديث أبي بكرة: والله يا محمد ما تعدل. وفي لفظ: ما أراك
عدلت، ونحوه في حديث أبي برزة. قوله: ويلك في لفظ للبخاري: ويحك
وهي رواية الكشميهني، والرواية الأولى رواية شعيب والأوزاعي. قوله: فمن
يعدل إذا لم أعدل في رواية للبخاري: من يطع الله إذا عصيته. ولمسلم: أو لست
أحق أهل الأرض أن أطيع الله. وفي حديث ابن عمر: وممن يلتمس العدل بعدي
وفي رواية له: العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون. وفي حديث أبي بكرة: فغضب حتى احمرت وجنتاه. وفي حديث أبي برزة: فغضب
غضبا شديدا وقال: والله لا تجدون
بعدي رجلا هو أعدل عليكم مني. قوله: فقال عمر: أتأذن لي فيه فأضرب عنقه
في حديث أبي سعيد الآخر المذكور فسأله رجل أحسبه خالد بن الوليد، وفي
رواية لمسلم فقال خالد بن الوليد بالجزم، ويجمع بينهما بأن كل واحد منهما سأله،
ويؤيد ذلك ما وقع في مسلم بلفظ: فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألا أضرب
عنقه؟ قال: لا. قوله: دعه في رواية للبخاري: لا. وفي أخرى: ما أنا بالذي أقتل
أصحابي. قوله: فإن له أصحابا ظاهر هذا إن ترك الامر بقتله بسبب أن له
أصحابا على الصفة المذكورة، وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما واجهه، فيحتمل أن يكون لمصلحة التأليف كما
فهمه البخاري، فإنه بوب على هذا الحديث باب من ترك قتال الخوارج للتأليف
ولئلا ينفر الناس عنه، لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة من إظهار الاسلام، فلو أذن
في قتلهم لكان في ذلك تنفير عن دخول غيرهم في الاسلام. قوله: يحقر أحدكم
صلاته مع صلاتهم في رواية بصيغة الافراد: ويحقر بفتح أوله أي يستقل. قوله:
لا يجاوز تراقيهم بمثناة فوقية وقاف جمع ترقوة بفتح أوله وسكون الراء وضم
القاف وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، والمعنى: أن قراءتهم لا يرفعها الله
346

ولا يقبلها، وقيل: لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءته فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقال النووي: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على ألسنتهم لا يصل إلى
حلوقهم فضلا عن قلوبهم، لأن المطلوب تعلقه وتدبره بوقوعه في القلب. قوله:
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية تقدم تفسيره في أول الباب.
قوله: ينظر إلى نصله أي نصل السهم وهو الحديدة المركبة فيه، والمراد أنه
ينظر إلى ذلك ليعرف هل أصاب أم أخطأ؟ فإنه إذا لم يره علق به شئ من
الدم ولا غيره ظن أنه لم يصبه والفرض أنه أصابه، وإلى ذلك أشار بقوله: قد سبق الفرث
والدم أي جاوزهما ولم يتعلق به منهما شئ بل خرجا بعده. قوله: ثم ينظر إلى رصافه
الرصاف اسم للعقب الذي يلوى فوق الرغظ من السهم يقال رصف السهم شد على
رغظه عقبه كذا في القاموس. قوله: ثم ينظر إلى نضيه بفتح النون وكسر الضاد
المعجمة وتشديد الياء قال في القاموس: هو سهم فسد من كثرة ما رمي به، قال: والنضي
كغني السهم بلا نصل ولا ريش. قوله: ثم ينظر إلى قذذه جمع قذة بضم القاف
وتشديد الذال المعجمة وهي ريش السهم، والمراد أن الرامي إذا أراد أن يعرف هل أصاب أم
لا نظر إلى السهم والنصل هل بهما شئ من الدم؟ فإن لم يجد قال: إن كنت أصبت فإن بالنضي أو
الريش شيئا، فإذا نظر فلم يجد شيئا عرف أنه لم يصب، وهذا مثل ضربه النبي صلى الله
عليه وآله وسلم للخوارج أبان به أنهم يخرجون من الاسلام لا يعلق بهم منه شئ، كما أنه لم يعلق
بالسهم من الدم والفرث شئ. قوله: أو مثل البضعة بفتح الموحدة وسكون المعجمة
القطعة من اللحم. قوله: تدردر بفتح أوله ودالين مهملتين مفتوحتين بينهما
راء ساكنة وآخره راء وهو على حذف إحدى التاءين وأصله تتدردر ومعناه تتحرك
وتذهب وتجئ، وأصله حكاية صوت الماء في البطن الوادي إذا تدافع. قوله: يخرجون
على حين فرقة من الناس في كثير من الروايات حين فرقة بكسر الحاء المهملة
وآخره نون، ويؤيد هذه الرواية الرواية المذكورة في الباب عن أبي سعيد بلفظ:
عند فرقة من الناس. وفي رواية لأحمد وغيره: حين فترة من الناس بفتح الفاء وسكون
المثناة الفوقية، ووقع للكشميهني خير فرقة بفتح الحاء المعجمة وآخره راء وفرقة
بكسر الفاء والرواية الأولى هي المعتمدة. قوله: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
347

قاتلهم. في رواية للبخاري: وأشهد أن عليا قتلهم نسب القتل إلى علي لكونه كان
القائم في ذلك. قوله: بذهيبة بضم الذال المعجمة وفتح الهاء تصغير ذهبة. قوله
: وعلقمة بن علاثة العامري بضم العين المهملة وبالمثلثة. قوله: صناديد أهل نجد
جمع صنديد وهو الشجاع أو الحليم أو الجواد أو الشريف على ما في القاموس. قوله:
غائر العينين بالغين المعجمة والمراد أن عينيه منحدرتان عن الموضع المعتاد،
ووجنتيه مشرفتان أي مرتفعتان عن المكان المعتاد، وجبينه ناتئ أي بارز. قوله:
محلوق أي رأسه جميعه محلوق، وقد ورد ما يدل على أن حلق الرؤوس من علامات
الخوارج كما فحديث أبي سعيد عند أبي داود والطبراني بلفظ: قيل يا رسول الله
ما سيماهم؟ قال: التحليق. وفي رواية أخرى من حديثه بلفظ: فقام رجل فقال يا نبي الله
هل في هؤلاء القوم علامة؟ قال: يحلقون رؤوسهم. قوله: من ضئضئ بضادين
معجمتين مكسورتين بينهما همزة ساكنة وآخره همزة قال في القاموس: الضئضئ
كجرجر وجرجير، والضؤضؤ كهدهد وسرسور الأصل والمعدن أو كثرة النسل
وبركته انتهى. قوله: أولاهما بالحق فيه دليل على أن عليا ومن معه هم المحقون،
ومعاوية ومن معه هم المبطلون، وهذا أمر لا يمتري فيه منصف ولا يأباه إلا مكابر
متعسف، وكفى دليلا على ذلك هذا الحديث. وحديث: يقتل عمارا الفئة الباغية وهو في
الصحيح. وقد وردت في الخوارج أحاديث. منها ما أخرجه الطبري عن أبي بكرة يرفعه
: إن في أمتي أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا لقيتموهم فأنيموهم أي اقتلوهم.
وأخرج الطبري وأبو يعلى أيضا من رواية مسروق قال: قالت لي عائشة: من قتل
المخدج؟ قلت علي، قالت: فأين؟ قلت: على نهر يقال لأسفله النهروان، قالت: ائتني على هذا
ببينة فأتيتها بخمسين نفسا فشهدوا أن عليا قتله بالنهروان. وأخرج الطبراني في
الأوسط من طريق عامر بن سعيد قال عمار لسعد: أما سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: يخرج قوم من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلهم
علي بن أبي طالب؟ قال: أي والله. وأخرج يعقوب بن سفيان من طريق عمران بن جدير
عن أبي مجلز قال: كان أهل النهروان أربعة آلاف فقتلهم المسلمون ولم يقتل من
المسلمين سوى تسعة، فإن شئت فاذهب إلى أبي برزة فسله، فإنه شهد ذلك. وأخرج إسحاق
بن راهويه في مسنده من طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل فقلت:
348

أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي فيم فارقوه وفيم استحل قتالهم؟ قال: لما كان
بصفين استحر القتل في أهل الشام فرفعوا المصاحف فذكر قصة التحكيم، فقال
الخوارج ما قالوا ونزلوا حروراء فأرسل إليهم علي فرجعوا ثم قالوا: نكون في
ناحية فإن قبل القضية قاتلناه وإن نقضها قاتلنا معه، ثم افترقت منهم فرقة يقتلون
الناس فحدث علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم. وأخرج أحمد والطبراني
والحاكم من طريق عبد الله بن شداد أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق ليال
قتل علي فقالت له عائشة: تحدثني عن أمر هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، قال: إن عليا
لما كاتب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا
بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة وعتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص
ألبسكه الله ومن اسم سماك الله به، ثم حكمت الرجال في دين الله ولا حكم إلا لله،
فبلغ ذلك عليا فجمع الناس فدعا بمصحف عظيم فجعل يضربه بيده ويقول: أيها المصحف
حدث الناس، فقالوا: ماذا تسأل إنما هو مداد وورق ونحن نتكلم بما روينا منه، فقال:
كتاب الله بيني وبين هؤلاء، يقول الله في امرأة ورجل * (فإن خفتم شقاق بينهما) * (النساء: 35 الآية، وأمة
محمد أعظم من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية وقد كاتب رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم سهيل بن عمرو * (ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 21) ثم بعث
إليهم
ابن عباس فناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف منهم عبد الله بن الكواء، فبعث علي إلى
الآخرين أن يرجعوا فأبوا فأرسل إليهم: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا
دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب، قال عبد الله
بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام الحديث. وأخرج
النسائي في الخصائص صفة مناظرة ابن عباس لهم بطولها. وفي الأوسط للطبراني عن
جندب بن عبد الله البجلي قال: لما فارقت الخوارج عليا خرج في طلبهم فانتهينا
إلى عسكرهم فإذا له دوي كدوي النحل من قراءة القرآن، وإذا فيهم أصحاب
البرانس يعني الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة قال: فدخلني من ذلك شدة
فنزلت عن فرسي وقمت أصلي وقلت: اللهم إن كان في قتال هؤلاء القوم لك
طاعة فأذن لي فيه، فمر بي علي فقال لما حاذاني: نعوذ بالله من الشك يا جندب، فلما
جئته أقبل رجل على برذون يقول: إن كان لك بالقوم حاجة فإنهم قد قطعوا
349

النهر، قال: ما قطعوه. ثم جاء آخر كذلك، ثم جاء آخر كذلك، قال لا ما قطعوه ولا يقطعونه
وليقتلن من دونه عهد من الله ورسوله، قلت: الله أكبر ثم ركبنا فسايرته فقال لي: سأبعث
إليهم رجلا يقرأ المصحف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيهم فلا يقبل علينا
بوجهه حتى يرشقوه بالنبل، ولا يقتل منا عشرة ولا ينجو منهم عشرة. قال:
فانتهينا إلى القوم فأرسل إليهم رجلا فرماه إنسان قأقبل علينا بوجهه فقعد، وقال علي: دونكم
القوم فما قتل منا عشرة ولا نجا منهم عشرة. وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن
حميد بن هلال قال: حدثنا رجل من عبد القيس قال: لحقت بأهل النهروان مع طائفة منهم
أسيرا إذ أتينا على قرية بيننا نهر فخرج رجل من القرية مروعا فقالوا له: لا روع
عليك وقطعوا إليه النهر فقالوا: أنت ابن خباب بن الأرت صاحب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم؟ قال نعم، قالوا: فحدثنا عن أبيك فحدثهم بحديث تكون فتنة فإن استطعت
أن تكون عبد الله المقتول فكن فقدموه فضربوا عنقه ثم دعوا سريته وهي حبلى
فبقروا عما في بطنها. ولابن أبي شيبة من طريق أبي مجلز قال: قال علي لأصحابه:
لا تبدؤوهم بقتال حتى يحدثوا حدثا، قال: فمر بهم عبد الله بن خباب فذكر قتلهم له
ولجاريته وأنهم بقروا بطنها، وكانوا مروا على ساقية فأخذ واحد منها تمرة فوضعها
في فيه فقالوا له تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة
من هذه التمرة فأخذوه فذبحوه، فبلغ عليا فأرسل إليهم أفيدونا بقاتل عبد الله
بن حباب، فقالوا: كلنا قتله، فأذن حينئذ في قتالهم. وأخرج الطبري من طريق أبي مريم
قال: أخبرني أخي أبو عبد الله أن عليا سار إليهم حتى إذا كان حذاءهم على شط
النهروان أرسل يناشدهم، فلم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسوله، فلما رأى ذلك
نهض إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم كلهم. وقد روي عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى
تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف ما أسلفنا في أول الباب، فأخرج أحمد بسند جيد
عن أبي سعيد قال: جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله
إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه، فقال: اذهب إليه
فاقتله، قال: فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله فرجع، فقال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم لعمر: اذهب فاقتله فرآه يصلي على تلك الحالة فرجع، فقال: يا علي
اذهب إليه فاقتله فذهب علي فلم يره، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذا
350

وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية. قال الحافظ بعد أن قال إن إسناده
جيد له شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات. قال: ويمكن الجمع
بأن يكون هذا الرجل هو الأول، وكانت قصته هذه الثانية متراخية عن الأولى، وأذن
صلى الله عليه وآله وسلم في قتله بعد أن منع لزوال علة المنع وهي التآلف، وكأنه
استغنى عنه بعد انتشار الاسلام، كما نهى عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد
أن كان يجري عليهم أحكام الاسلام قبل ذلك، وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي
الأول عن قتل المصلين، وحملا الامر هنا على قيد أن يكون لا يصلي، فلذلك عللا عدم
القتل بوجود الصلاة أو غلبا جانب النهي. (وفي أحاديث) الباب دليل على مشروعية
الكف عن قتل من يعتقد الخروج على الامام ما لم ينصب لذلك حربا أو يستعد له
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا خرجوا فاقتلوهم. وقد حكى الطبري الاجماع
على ذلك في حق من لا يكفر باعتقاده، وقد اختلف أهل العلم في تكفير الخوارج،
وقد صرح بالكفر القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي فقال: الصحيح
أنهم كفار لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: يمرقون من الدين ولقوله: لأقتلنهم قتل
عاد. وفي لفظ: ثمود وكل منهما إنما هلك بالكفر. ولقوله: هم شر الخلق ولا يوصف
بذلك إلا الكفار. ولقوله: إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى ولحكمهم على كل من
خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم، وممن جنح إلى
ذلك من المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي فقال في فتاويه: احتج من كفر
الخوارج وغلا الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي صلى
الله عليه وآله وسلم في شهادته لهم بالجنة قال: وهو عندي احتجاج صحيح.
قال: واحتج من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يستدعي تقدم علمهم
بالشهادة المذكورة علما قطعيا وفيه نظر، لأنا نعلم تزكية من كفروه علما قطعيا
إلى حين موته، وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفرهم، ويؤيده حديث من قال
لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. وفي لفظ لمسلم: من رمى مسلما بالكفر أو قال
يا عدو الله إلا حاد عليه قال: وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر
ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم، فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع وهو
351

نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم، ونحوه ممن لا تصريح فيه بالجحود بعد أن فسروا
الكفر بالجحود، فإن احتجوا بقيام الاجماع على تكفير فاعل ذلك، قلنا: وهذه الأخبار
الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم ولو لم يعتقدوا تزكية من كفروه
علما قطعيا، ولا ينجيهم اعتقاد الاسلام إجمالا والعمل بالواجبات عن الحكم
بكفرهم، كما لا ينجي الساجد للصنم ذلك. قال الحافظ: وممن جنح إلى بعض هذا
لمحب الطبري في تهذيبه فقال بعد أن سرد أحاديث الباب: فيه الرد على قول من
قال لا يخرج أحد من الاسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد
الخروج منه عالما فإنه مبطل لقوله في الحديث: يقولون الحق ويقرؤون القرآن
ويمرقون من الاسلام ولا يتعلقون منه بشئ ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال
دماء المسلمين وأموالهم إلا لخطأ منهم فيما تأولوه من آي والقرآن على غير المراد
منه، ويؤيد القول بالكفر ما تقدم من الامر بقتالهم وقتلهم، مع ما ثبت من حديث
ابن مسعود أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وفيه التارك لدينه المفارق
للجماعة كما تقدم. وقال القرطبي في المفهم: يؤيد القول بتكفيرهم ما في الأحاديث
من أنهم خرجوا من الاسلام ولم يتعلقوا منه بشئ كما خرج السهم من الرمية
لسرعته وقوة راميه بحيث لم يتعلق من الرمية بشئ، وقد أشار إلى ذلك بقوله:
سبق الفرث والدم. وحكي في الفتح عن صاحب الشفاء أنه قال فيه وكذا انقطع
بكفر من قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تفكير الصحابة، وحكاه صاحب
الروضة في كتاب الردة عنه وأقر، وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى
أن الخوارج فساق، وأن حكم الاسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم
على أركان الاسلام، وإنما فسقوا بتكفير المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم
ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك. وقال
الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين،
وأجازوا مناكحاتهم وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل
الاسلام. وقال القاضي عياض: كادت هذه المسألة أن تكون أشد إشكالا عند المتكلمين من
غيرها، حتى سأل الفقيه عبد الحق الامام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخال كافر
في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين، قال: وقد توقف القاضي أبو بكر الباقلاني
352

قال: ولم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالا تؤدي إلى الكفر. وقال الغزالي
في كتاب التفرقة بين الايمان والزندقة: الذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد
إليه سبيلا، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك
ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد. قال ابن بطال: ذهب
جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين من جملة المسلمين. قال: وقد سئل علي
عن أهل النهروان هل كفروا؟ فقال: من الكفر فروا. قال الحافظ: وهذا إن
ثبت عن علي حمل على أنه لم يكن اطلع على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند
من كفرهم. قال القرطبي في المفهم: والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث، قال: فعلى
القول بتكفيرهم يقاتلون ويقتلون وتغنم أموالهم وهو قول طائفة من أهل الحديث
في أموال الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي إذا
شقوا العصا ونصبوا الحرب، قال: وباب التكفير باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئا.
وعن مروان بن الحكم قال: صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتلن
مدبر ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن
رواه سعيد بن منصور. وعن الزهري قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون، فأجمعوا أن لا يقاد أحد، ولا يؤخذ مال
على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه ذكره أحمد في رواية الأثرم واحتج به.
أثر مروان أخرج نحوه أيضا ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق
عبد خير عن علي بلفظ: نادى منادي علي يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف
على جريحهم. وأخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال لابن مسعود: يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي؟ قال: الله ورسوله
أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم
ولا يقتل أسيرهم وفي لفظ: ولا يذفف على جريحهم وزاد: ولا يغنم فيئهم سكت عنه
الحاكم. وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ. وقال البيهقي: ضعيف. قال
الحافظ في بلوغ المرام وصححه الحاكم فوهم لأن في إسناده كوثر بن حكيم
وهو متروك، قال: وصح عن علي من طرق نحوه موقوفا أخرجه ابن أبي شيبة
والحاكم اه. وكوثر المذكور قد صرح بتركه البخاري. وأخرج البيهقي عن أبي أمامة
353

قال: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا.
وأخرج أيضا عن أبي فاختة أن عليا أتى بأسير يوم صفين فقال: لا تقتلني صبرا،
فقال علي رضي الله عنه: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين ثم خلى سبيله،
ثم قال: أفيك خير تبايع. وأخرج أيضا أن عليا لم يقاتل أهل الجمل حتى دعا الناس
ثلاثا حتى إذا كان يوم الثالث دخل عليه الحسن والحسين و عبد الله بن جعفر
فقالوا: قد أكثروا فينا الجراح، فقال: ما جهلت من أمرهم شيئا، ثم توضأ وصلى
ركعتين حتى إذا فرغ رفع يديه ودعا ربه وقال لهم: إن ظفرتم على القوم فلا
تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا على جريح، وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة
فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم. قال البيهقي: هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئا
ولم يسلب قتيلا. وأخرج أيضا عن علي أنه كان لا يأخذ سلبا. وأخرج أيضا عن
عرفجة عن أبيه قال: لما قتل علي أهل النهروان جال في عسكرهم فمن كان
يعرف شيئا أخذه حتى بقيت قدر ثم رأيتها أخذت بعد. وأثر الزهري أخرجه
أيضا البيهقي بلفظ: هاجت الفتنة الأولى فأدركت يعني الفتنة رجالا ذوي عدد من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرا، وبلغنا أنهم يرون
أن هذا أمر الفتنة لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل،
ولا حد في سباء امرأة سبيت، ولا يرى عليها حد، ولا بينها وبين زوجها ملاعنة، ولا يرى
أن يقذفها أحد إلا جلد الحد، ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها
من زوجها الآخر، ويرى أن يرثها زوجها الأول. قوله: ولا يذفف بالذال
المعجمة المفتوحة بعده فاء مشددة ثم فاء مخففة على صيغة البناء للمجهول وهو في
معنى يجهز، قال في القاموس: ذف على الجريح ذفا وذفافا ككتاب وذففا محركة
أجهز والاسم الذفاف كسحاب، قال أيضا في مادة جهاز وجهز على الجريح كمنع،
وأجهز أثبت قتله وأسرعه وتمم عليه، وموت مجهز وجهيز سريع انتهى. وفي الأثر
المذكور دليل على أنه لا يجوز قتل من كان مدبرا من البغاة، وكذلك يدل على
ذلك الحديث المرفوع الذي ذكرناه وعلى أنه لا يجهز على جريحهم بل يترك على
ما هو عليه، إلا إذا كان المدبر أو الجريح ممن له فئة جاز قتله عند الهادوية وأبي
حنيفة والمروزي من الشافعية. وقال الشافعي: لا يجوز إذ القصد دفعهم في تلك الحال
354

وقد وقع، وهو الظاهر من إطلاق النهي في الحديث، ولكنه يدل على جواز القتل
إذا كان للباغي المذكور فئة قوله تعالى: * (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي
تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) * (الحجرات: 90) والهارب والجريح لم يحصل منهما ذلك. وأجيب بأن
المراد بالفيئة إلى أمر الله ترك الصولة والاستطالة. وقد حصل ذلك من الهارب
والجريح الذي لا يقدر على القتال. وأما ما روي عن زيد بن علي عن أبيه عن جده
عن علي أنه قال: لا تتبعوا موليا ليس بمنحاز إلى فئة فقد أجيب عن الاستدلال
بمفهومه على جواز قتل من له فئة وأتباعه بأن إمامة علي قطعية وإمامة غيره ظنية
، فلا يكون الحكم متحدا، بل المتوجه الوقوف على ظاهر النهي المرفوع إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وهو وإن كان فيه المقال السابق، ولكنه يؤيده أن
الأصل في دم المسلم تحريم سفكه، والآية المذكورة فيها الاذن بالمقاتلة إلى حصول
تلك الغاية، وربما كان ذلك الهرب من مقدماتها إن لم يكن منها. قوله: ومن أغلق
بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن استدل به على عدم جواز مقاتلة
البغاة إذا كانوا في بيوتهم أو طلبوا منا الأمان، لأنهم إذا أغلقوا على أنفسهم فليسوا
ببغاة في ذلك الوقت، واتصافهم بذلك الوصف شرط جواز مقاتلتهم كما في الآية.
وإذا طلبوا الأمان فقد فاؤوا إلى أمر الله تعالى، وهي الغاية التي أذن الله بالقتال
إلى حصولها وقد حصلت. قوله: فأجمعوا على أن لا يقاد أحد ظاهره وقوع
الاجماع منهم على عدم جواز الاقتصاص ممن وقع منه القتل لغيره في الفتنة، سواء
كان باغيا أو مبغيا عليه. وقد ذهبت الشافعية والحنفية والامام يحيى إلى أنهم لا
يضمنون ما أتلفوا أي البغاة. وحكى أبو جعفر عن الهادوية أنهم يضمنون. قوله:
لا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه فيه دليل على أنه لا يجوز
أخذ أموال البغاة إلا ما كان منها موجودا عند القتال. قال في البحر: ولا يجوز
سبيهم ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعا لبقائهم على الملة. وحكى عن أكثر العترة
أنه يجوز اغتنام ما أجلبوا به من مال وآلة حرب. وحكى عن النفس الزكية والحنفية
والشافعية أنه لا يغنم منهم شئ، ويدل على ذلك ما تقدم في الحديث المرفوع بلفظ:
ولا يغنم منهم. واعلم أن قتال البغاة جائز إجماعا كما حكي ذلك في البحر، ولا يبعد
أن يكون واجبا لقوله تعالى: * (فقاتلوا التي تبغي) * وقد حكي في البحر أيضا عن العترة
355

جميعا أن جهادهم أفضل من جهاد الكفار إلى ديارهم، إذ فعلهم في دار الاسلام
كفعل الفاحشة في المسجد، قال في البحر أيضا: والبغي فسق إجماعا.
باب الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والكف عن إقامة السيف
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من رأى
من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية.
وفي لفظ: من كره من أميره شيئا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج
من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية. وعن أبي هريرة: عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك
نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال:
فوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم متفق
عليهن.
قوله: فليصبر في رواية للبخاري: فليصبر عليه. قوله: من فارق الجماعة
شبرا بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة كناية عن معصية السلطان ومحاربته.
قال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير
ولو بأدنى شئ فكني عنها بمقدار الشبر، لأن الاخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء
بغير حق. قوله: فميتته جاهلية في رواية للبخاري: مات ميتة جاهلية. وفي رواية
له أخرى: فمات إلا مات ميتة جاهلية. وفي رواية لمسلم: فميتته ميتة جاهلية وفي أخرى
له من حديث ابن عمر: من خلع يدا من طاعة لقت الله ولا حجة له، ومن مات
وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية وفي الرواية الأخرى من حديث ابن
عباس المذكور فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية. قال الكرماني: الاستفهام هنا بمعنى
الاستفهام الانكاري، أي ما فارق الجماعة أحد إلا جرى له كذا أو حذف ما، فهي
مقدرة أو إلا زائدة أو عاطفة على رأي الكوفيين. والمراد بالميتة الجاهلية وهي
بكسر الميم أن يكون حاله في الموت كموت أهل الجاهلية على ضلال، وليس له
إمام مطاع لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك. وليس المراد أنه يموت كافرا بل يموت
عاصيا. ويحتمل أن يكون التشبيه على ظاهره ومعناه أنه يموت مثل موت الجاهلي وإن
356

لم يكن جاهليا، أو أن ذلك ورد مورد الزجر والتنفير فظاهره غير مراد. ويؤيد أن
المراد بالجاهلية التشبيه ما أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وصححه من
حديث الحرث بن الحرث الأشعري من حديث طويل وفيه: من فارق الجماعة
شبرا فكأنما خلع ربقة الاسلام من عنقه وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط
من حديث ابن عباس وفي سنده جليد بن دعلج وفيه مقال وقال: من رأسه يدل
من عنقه. قوله: فوا ببيعة الأول فالأول فيه دليل على أنه يجب على الرعية
الوفاء ببيعة الامام الأول ثم الأول، ولا يجوز لهم المبايعة للامام الآخر قبل
موت الأول. قوله: ثم أعطوهم حقهم أي ادفعوا إلى الامراء حقهم الذي لهم
المطالبة به وقبضه، سواء كان يختص بهم أو يعم، وذلك من الحقوق الواجبة في
المال كالزكاة، وفي الأنفس كالخروج إلى الجهاد، وظاهر الحديث العموم في المخاطبين.
ونقل ابن التين عن الداودي أنه خاص بالأنصار، وكأنه أخذه من كون المخاطب
بذلك الأنصار كما في حديث عبد الله بن زيد، ولا يلزم من مخاطبتهم بذلك أن يختص بهم،
فإنه يختص بهم بالنسبة إلى المهاجرين، ويختص ببعض المهاجرين دون بعض، فالمستأثر من
يلي الامر، ومن عداه هو الذي يستأثر عليه، ولما كان الامر يختص بقريش ولاحظ
للأنصار فيه خوطب الأنصار في بعض الأوقات وهو خطاب للجميع بالنسبة إلى
من لا يلي الامر. وقد ورد ما يدل على التعميم، ففي حديث يزيد بن سلمة الجعفي
عند الطبراني أنه قال: يا رسول الله إن كان علينا أمراء يأخذونا بالحق ويمنعونا
الحق الذي لنا أن نقاتلهم؟ قال لا، عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. وأخرج مسلم من
حديث أم سلمة مرفوعا: سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره برئ ومن
أنكر سلم، ولكن من رضي وبايع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال لا ما صلوا ونحوه
حديث عوف بن مالك الآتي. وفي مسند الإسماعيلي من طريق أبي مسلم
الخولاني عن أبي عبيدة بن الجراح عن عمر رفعه قال: أتاني جبريل فقال:
إن أمتك مفتتنة من بعد ك، فقلت: من أين؟ قال: من قبل أمرائهم وقرائهم يمنع
الامراء الناس الحقوق فيطلبون حقوقهم فيفتنون ويتبع القراء الامراء
فيفتنون، قلت: فكيف يسلم من سلم منهم؟ قال: بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم
أخذوه وإن منعوه تركوه.
357

وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون
عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قال، قلنا
: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة إلا من ولي عليه
وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا
من طاعة. وعن حذيفة بن اليمان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يكون
بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب
الشياطين في جثمان إنس، قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع
وتطيع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع. وعن عرفجة الأشجعي
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أتاكم وأمركم جميع على
رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه رواهن أحمد ومسلم.
وعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع
والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الامر
أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان متفق عليه. وعن أبي ذر:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أبا ذر كيف بك عند
ولاة يستأثرون عليك بهذا الفئ؟ والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي
وأضرب حتى ألحقك، قال: أو لا أدلك على ما هو خير لك من ذلك تصبر حتى تلحقني؟
رواه أحمد.
حديث أبي ذر في إسناده خالد بن وهبان، قال في التقريب: مجهول من الثالثة.
وقال في التهذيب: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو حاتم: مجهول. وفي الباب
أحاديث غير هذه بعضها تقدم في باب براءة رب المال بالدفع إلى السلطان الجائر
في كتاب الزكاة، وبعضها مذكور في غير هذا الكتاب من ذلك حديث ابن عمر
عند الحاكم بلفظ: من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه حتى يراجعه،
ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية وقد قدمنا نحوه قريبا عن
الحرث بن الحرث الأشعري، ورواه الحاكم من حديث معاوية أيضا، والبزار من حديث
ابن عباس، وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: من خرج من الطاعة وفارق
358

الجماعة فميتته جاهلية وأخرج أيضا مسلم نحوه عن ابن عمر وفيه قصة. وأخرج الشيخان
من حديث أبي موسى الأشعري بلفظ: من حمل علينا السلاح فليس منا وأخرجاه
أيضا من حديث ابن عمر. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسلمة بن الأكوع.
وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي ذر: من فارق الجماعة قدر شبر
فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه. وأخرج البخاري من حديث أنس: اسمعوا
وأطيعوا وإن استعمل عبد حبشي رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله تعالى
. وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن
عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني.
وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما
أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. وأخرج الترمذي
من حديث ابن عمر: ألا أخبركم بخير أمرائكم وشرارهم؟ خيارهم الذين تحبونهم
ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم
وتلعنونهم ويلعنونكم. وأخرج الترمذي من حديث أبي بكرة: من أهان
سلطان الله في الأرض أهانه الله تعالى. والأحاديث في هذا الباب كثيرة وهذا
طرف منها. قوله: خيار أئمتكم الخ، فيه دليل على مشروعية محبة الأئمة والدعاء لهم
، وأن من كان من الأئمة محبا للرعية ومحبوبا لديهم وداعيا لهم ومدعو له منهم فهو من
خيار الأئمة، ومن كان باغضا لرعيته مبغوضا عندهم يسبهم ويسبونه فهو من شرارهم،
وذلك لأنه إذا عدل فيهم وأحسن القول لهم أطاعوه وانقادوا له وأثنوا عليه، فلما
كان هو الذي يتسبب بالعدل وحسن القول إلى المحبة والطاعة والثناء منهم كان من خيار
الأئمة، ولما كان هو الذي يتسبب أيضا بالجور والشتم للرعية إلى معصيتهم له وسوء القالة منهم
فيه كان من شرار الأئمة. قوله: لا ما أقاموا فيكم الصلاة فيه دليل على أنه لا يجوز منابذة
الأئمة بالسيف مهما كانوا مقيمين للصلاة، ويدل ذلك بمفهومه على جواز المنابذة عند تركهم
للصلاة. وحديث عبادة بن الصامت المذكور فيه دليل على أنها لا تجوز المنابذة إلا عند
ظهور الكفر البواح وهو بموحدة فمهملة. قال الخطابي: معنى قوله بواحا يريد ظاهرا
باديا من قولهم، باح بالشئ يبوح به بوحا وبواحا إذا ادعاه وأظهره، قال: ويجوز
بوحا بسكون الواو، ويجوز بضم أوله ثم همزة ممدودة، قال: ومن رواه بالراء فهو
359

قريب من هذا المعنى. وأصل البراح الأرض القفر التي لا أنيس فيها ولا بناء، وقيل
: البراح البيان، يقال: بر الخفاء إذا ظهر. قال النووي: هي في معظم النسخ من مسلم
بالواو وفي بعضها بالراء. قال الحافظ: ووقع عند الطبراني كفرا صراحا بصاد مهملة
مضمومة ثم راء، ووقع في رواية إلا أن تكون معصية لله بواحا. وفي رواية لأحمد:
ما لم يأمرك بإثم بواحا. وفي رواية له وللطبراني عن عبادة: سيلي أموركم من بعدي
رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله
وعند ابن أبي شيبة من حديث عبادة: سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون
ويفعلون ما تنكرون فليس لأولئك عليكم طاعة. قوله: فليكره ما يأتي من معصية
الله ولا ينزعن يدا من طاعة فيه دليل على أن من كره بقلبه ما يفعله السلطان
من المعاصي كفاه ذلك ولا يجب عليه زيادة عليه. وفي الصحيح: من رأى منكم
منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فبلسانه. ويمكن حمل حديث
الباب وما ورد في معناه على عدم القدرة على التغيير باليد واللسان، ويمكن أن يجعل
مختصا بالأمراء إذا فعلوا منكرا لما في الأحاديث الصحيحة من تحريم معصيتهم
ومنابذتهم، فكفى في الانكار عليهم مجرد الكراهة بالقلب، لأن في إنكار المنكر
عليهم باليد واللسان تظهرا بالعصيان، وربما كان ذلك وسيلة إلى المنابذة بالسيف.
قوله: في جثمان إنس بضم الجيم وسكون المثلثة أي لهم قلوب كقلوب الشياطين
وأجسام كأجسام الإنس. قوله: وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع
فيه دليل على وجوب طاعة الامراء وإن بلغوا في العسف والجور إلى ضرب الرعية
وأخذ أموالهم، فيكون هذا مخصصا لعموم قوله تعالى: * (من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194). وقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40). قوله: وعن عرفجة بفتح
العين المهملة وسكون الراء وفتح الفاء بعدها جيم هو ابن شريح بضم المعجمة وفتح
الراء وسكون التحتية بعدها حاء، وقيل: ابن ضريح بضم الضاد المعجمة، وقيل: ذريح
بفتح الذال المعجمة وكسر الراء، وقيل: صريح بضم الصاد المهملة، وقيل: شراحيل
، وقيل: سريج بضم السين المهملة وآخره جيم، ويقال له الأشجعي، ويقال الكندي،
ويقال الأسلمي. قوله: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفتح العين، ورسول
فاعله. قوله: في منشطنا بفتح الميم والمعجمة وسكون النون التي بينهما أي في حال
360

نشاطنا وحال كراهتنا وعجزنا عن العمل بما نؤمر به. ونقل ابن التين عن الداودي أن المراد
الأشياء التي يكرهونها. قال ابن التين: والظاهر أنه أراد في وقت الكسل والمشقة
في الخروج ليطابق معنى منشطنا ويؤيده ما عند أحمد في حديث عبادة بلفظ في
النشاط والكسل. قوله: وأثرة علينا بفتح الهمزة والمثلثة، والمراد أن طاعتهم لمن
يتولى عليهم لا تتوقف على إيصالهم حقوقهم بل عليهم الطاعة ولو منعهم حقهم. قوله:
وأن لا ننازع الامر أهله أي الملك والامارة. زاد أحمد في رواية: وإن رأيت أن
لك في الامر حقا فلا تعمل بذلك الظن بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليكم بغير خروج عن
الطاعة. قوله: إلا أن تروا كفرا بواحا قد تقدم ضبطه تفسيره. قوله: عندكم
فيه من الله برهان أي نص آية أو خبر صريح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه
لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل. قال النووي: المراد بالكفر
هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم
إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الاسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا
عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم اه. قال في الفتح: وقال غيره إذا كانت المنازعة في
الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية
على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية
بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان
قادرا. ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن
قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم:
لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا
في جواز الخروج عليه والصحيح المنع، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه. قال
ابن بطال: إن حديث ابن عباس المذكور في أول الباب حجة في ترك الخروج على
السلطان ولو جار. قال في الفتح: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب
والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين
الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته
في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث اه. وقد استدل القائلون
بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذتهم السيف ومكافحتهم بالقتال بعمومات من
361

الكتاب والسنة في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك ولا ريب
أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب وذكرناها أخص من تلك
العمومات مطلقا وهي متواترة المعنى، كما يعرف ذلك من له أنسة بعلم السنة، ولكنه
لا ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السلف الصالح من العترة وغيرهم على
أئمة الجور، فإنهم فعلوا ذلك باجتهاد منهم، وهم أتقى لله وأطوع لسنة رسول الله
من جماعة ممن جاء بعدهم من أهل العلم، ولقد أفرط بعض أهل العلم كالكرامية
ومن وافقهم في الجمود على أحاديث الباب حتى حكموا بأن الحسين السبط رضي
الله عنه وأرضاه باغ على الخمير السكير الهاتك لحرم الشريعة المطهرة يزيد بن
معاوية لعنهم الله، فيالله العجب من مقالات تقشعر منها الجلود ويتصدع من
سماعها كل جلمود.
باب ما جاء في حد الساحر وذم السحر والكهانة
عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حد الساحر
ضربه بالسيف رواه الترمذي والدارقطني وضعف الترمذي إسناده وقال
الصحيح عن جندب موقوف. وعن بجالة بن عبدة قال: كنت كاتبا لجزء
بن معاوية عم الأحنف بن قيس فأتى كتاب عمر قبل موته بشهر أن اقتلوا كل
ساحر وساحرة، وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس وانهوهم عن الزمزمة،
فقتلنا ثلاث سواحر، وجعلنا نفرق بين الرجل وحريمه في كتاب الله تعالى رواه أحمد
وأبو داود. وللبخاري منه التفريق بين ذوي المحارم. وعن محمد بن عبد الرحمن
بن سعد بن زرارة: أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتلت
جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت رواه مالك في الموطأ
عنه. وعن ابن شهاب: أنه سئل أعلى من سحر من أهل العهد قتل قال: بلغنا
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد صنع له ذلك فلم يقتل من صنعه وكان
من أهل الكتاب أخرجه البخاري.
حديث جندب في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي. قال الترمذي بعد ذكره
362

هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف
في الحديث من قبل حفظه، وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع: هو ثقة
ويروى عن الحسن أيضا والصحيح عن جندب موقوف. قال: والعمل على هذا
عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم وهو قول مالك
بن أنس. وقال الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ
الكفر، فإذا عمل عملا دون الكفر فلم نر عليه قتلا اه. وأخرج هذا الحديث
الحاكم والبيهقي. وأثر عمر أخرجه أيضا البيهقي وعبد الرزاق. وأثر حفصة
أخرجه أيضا عبد الرزاق. وقد استدل بحديث جندب من قال إنه يقتل الساحر.
قال النووي في شرح مسلم: عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالاجماع، قال: وقد
يكون كفرا وقد لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي
الكفر كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، قال: ولا يقتل عندنا يعني الساحر،
فإن تاب قبلت توبته. وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل
توبته بل يتحتم قتله، والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق، لان
الساحر عنده كافر كما ذكرنا وعندنا ليس بكافر، وعندنا تقبل توبة المنافق
والزنديق. قال القاضي عياض: وبقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروي عن
جماعة من الصحابة والتابعين، قال أصحابنا: إذا قتل الساحر بسحره إنسانا أو
اعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص وإن مات به، ولكنه قد
يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص وتجب الدية والكفارة، وتكون الدية في ماله لا
على عاقلته، لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت ت باعتراف الجاني، قال أصحابنا: ولا يتصور
القتل بالسحر بالبينة وإنما يتصور باعتراف الساحر والله أعلم اه كلام النووي.
وحكي في البحر عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه أن السحر كفر. وحكي أيضا عن
العترة وأكثر الفقهاء أنه لا حقيقة له وتأثير لقوله تعالى: * (وما هم بضارين به من
أحد إلا بإذن الله) * (البقرة 102) وعن أبي جعفر الاستراباذي والمغربي من الشافعية أن له
حقيقة وتأثيرا، إذ قد يقتل السموم وقد يغير العقل وقد يكون بالقول فيفرق
بين المرء وزوجه لقوله تعالى: * (ومن شر النفاثات في العقد) * (الفلق: 4) أراد الساحرات، فلولا
تأثيره لما استعاذ منه، وقد يحصل به إبدال الحقائق من الحيوانات قلنا سماه الله
363

خيالا والخيال لا حقيقة له، فقال: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. قالوا: روت
عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سحر حتى كان لا يدري ما يقول، قلنا:
رواية ضعيفة اه كلام البحر. ويجاب عنه بأن الحديث صحيح كما سيأتي، ويأتي
أيضا أن مذهب جمهور العلماء أن للسحر تأثيرا وهو الحق كما يأتي بيانه انتهى.
قوله: عن الزمزمة بزايين معجمتين مفتوحتين بينهما ميم ساكنة، قال في
القاموس: الزمزمة الصوت البعيد له دوي وتتابع صوت الرعد وهو أحسنه صوتا
وأثبته مطرا وتراطن العلوج على أكلهم وهم صموت لا يستعملون لسانا ولا
شفة، لكنه صوت تديره في خياشيمها وحلوقها فيفهم بعضها عن بعض اه. قوله:
فلم يقتل من صنعه الخ، استدل به من قال: إنه لا يقتل الساحر، ويجاب عنه بما
سيأتي قريبا، وأيضا ليس في ذلك دليل لأن غايته جواز الترك لا عدم جواز
الفعل، فيمكن الجمع على فرض عد علم التاريخ بأن القتل للساحر جائز لا واجب.
وعن عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى
أنه ليخيل إليه أنه فعل الشئ وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله
ودعا ثم قال: أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته؟ قلت: وما ذاك يا رسول
الله؟ قال: جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ثم قال أحدهما
لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي
من بني زريق، قال: فيما ذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو
؟ قال: في بئر ذروان، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أناس من أصحابه
إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأن ماءها نقاعة
الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين، قلت: يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: لا، أما أنا
فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثور على الناس منه شرا، فأمر بها فدفنت
متفق عليه. وفي رواية لمسلم قالت فقلت: يا رسول الله أفلا أخرجته؟ قال: لا.
قوله: حتى أنه ليخيل إليه الخ، قال الامام المازري: مذهب أهل السنة
وجمهور علماء الأمة إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء،
خلافا لمن أنكر ذلك وأنكر حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا
حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى في كتابه، وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة
364

إلى أنه مما يكفر به، وأن يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة
له، وهذا الحديث أيضا مصرح بإثباته، وأنه أشياء دفنت وأخرجت، وهذا كله يبطل
ما قالوه، فإحالة كونه من الحقائق محال، ولا يستنكر في العقل أن الله سبحانه يخرق
العادة عند النطق بكلام أو تركيب أجسام أو المزج بين قوي على ترتيب لا يعرفه
إلا الساحر، وإذا شاهد الانسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم، ومنها مسقمة
كالأدوية الحادة، ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض، لم يستبعد عقله أن
ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة، قال: وقد
أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب آخر، فزعم أنه يحط منصب النبوة
ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، قال: وهذا الذي ادعاه
هؤلاء المبتدعة باطل، لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وعصمته فيما
يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، فأما
ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان مفضلا من أجلها وهو مما
يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ، وقد
يتخيل الانسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة ولا حقيقة له، وقيل: إنه
يخيل إليه أنه فعله وما فعله، ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله فتكون اعتقاداته على
السداد. قال القاضي عياض: وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما
تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى
قوله: حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهم، ويروى أنه يخيل إليه أي يظهر له من
نشاطه، ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذه السحر فلم يأتهن ولم
يتمكن من ذلك، وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه أنه فعل شيئا ولم يفعله
ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لا بخلل تطرق إلى العقل، وليس في ذلك
ما يدخل لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الضلالة انتهى. قال المازري: واختلف
الناس في القدر الذي يقع به السحر ولهم فيه اضطراب، فقال بعضهم: لا يزيد تأثيره
على قدر التفرقة بين المرء وزوجه لأن الله تبارك وتعالى إنما ذكر ذلك تعظيما لما
يكون عنده وتهويلا له، فلو وقع به أعظم منه لذكره، لأن المثل لا يضرب عند المبالغة
إلا بأعلى أحوال المذكور، قال: ومذهب الأشعرية أنه يجوز أن يقع به أكثر من
365

ذلك، قال: وهذا هو الصحيح عقلا، لأنه لا فاعل إلا الله تبارك وتعالى، وما يقع من
ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك، وليس بعضها بأولى
من بعض، ولو ورد الشرع بقصره على مرتبة لوجب المصير إليه، ولكن لا يوجد
شرع قاطع يوجب الاقتصار على ما قاله القائل الأول، وذكر التفرقة بين الزوجين
في الآية ليس بنص في منع الزيادة، وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا، قال: فإن قيل:
إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر فبماذا يتميز عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم؟ فالجواب: أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر، ولكن
النبي يتحدى بها الخلق ويستعجزهم عن مثلها ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة له
لتصديقه، فلو كان كاذبا لم تنخرق العادة على يديه، والولي والساحر لا يتحديان
الخلق ولا يستدلان على نبوة، ولو ادعيا شيئا من ذلك لم تنخرق العادة لهما. وأما
الفرق بين الولي والساحر فمن وجهين: أحدهما وهو المشهور إجماع المسلمين على أن
السحر لا يظهر إلا على فاسق، والكرامة لا تظهر على فاسق فإنما تظهر على ولي،
وبهذا جزم إمام الحرمين وأبو سعيد المتولي وغيرهما. والثاني أن السحر قد يكون
ناشئا بفعلها وبمزجها ومعاناة وعلاج، والكرامة لا تفتقر إلى ذلك، وفي كثير من
الأوقات يقع مثل ذلك من غير أن يستدعيه أو يشعر به والله أعلم، هكذا في شرح
مسلم للنووي. قوله: دعا الله ودعا في رواية مسلم: دعا الله ثم دعا ثم دعا
وفي ذلك دليل على استحباب الدعاء عند حصول الامر المكروه وتكريره
وحسن الالتجاء إلى الله سبحانه. قوله: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب بالطاء
المهملة وبموحدتين اسم مفعول. قال ابن الأنباري: الطب من الأضداد يقال لعلاج
الداء: طب، وللسحر طب، وهو من أعظم الأدواء، ورجل طبيب أي حاذق، سمي
طبيبا لحذقه وفطنته. قال النووي: كنوا بالطب عن السحر كما كنوا بالسليم عن
اللديغ. قوله: من بني زريق بتقديم الزاي. قوله: في مشط ومشاطة
المشط بضم الميم والشين، وبضم الميم وإسكان الشين، وبكسر الميم وإسكان الشين، وهو
الآلة المعروفة التي يسرح بها الشعر، والمشاطة بضم الميم وهي الشعر الذي يسقط
من الرأس أو اللحية عند تسريحه بالمشط، ووقع في رواية للبخاري: ومشاقة بالقاف
وهي المشاطة، وقيل: مشاقة الكتاب. قوله: وجف طلعة بالجيم والفاء وهو
366

وعاء طلع النخل أي الغشاء الذي يكون عليه، ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا
قيده في الحديث. وفي رواية لمسلم: وجب طلعة بضم الجيم وبالباء الموحدة. قال
النووي: هو في أكثر نسخ بلادنا كذلك، والطلعة النخلة، وهو بإضافة طلعة إلى
ذكر. قوله: في بئر ذروان هكذا في معظم نسخ البخاري. وفي جميع روايات
مسلم: في بئر ذي أروان، قال النووي: وكلاهما صحيح مشهور، قال: والذي في مسلم
أجود وأصح، وادعى ابن قتيبة أنه الصواب وهو قول الأصمعي وهي بئر
بالمدينة في بستان بني زريق. قوله: نقاعة الحناء بضم النون من نقاعة وهو
الماء الذي تنقع فيه الحناء والحناء ممدود. قوله: أفأخرجته في الرواية
الثانية: أفلا أخرجته. وفي رواية: أفلا أحرقته قال النووي: كلاهما صحيح
وذلك بأن يقال: طلبت منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرجه ثم يحرقه، وأخبر أن
الله قد عافاه، وأنه يخاف من إحراقه وإخراجه، وإشاعة هذا ضررا وشرا على
المسلمين كتذكر السحر أو فعله والحديث فيه، أو إيذاء فاعله، فيحمله ذلك أو يحمل
بعض أهله ومحبيه من المنافقين وغيرهم على سحر الناس وآذاهم وانتصابهم لمنابذة
المسلمين بذلك، وهذا من باب ترك مصلحة لخوف مفسدة أعظم منها وذلك من
أهم قواعد الاسلام، وبمثل هذا يجاب عن استدلال من استدل على عدم جواز قتل
الساحر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل من سحره، فإن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إذا ترك إخراج ما سحر فيه من البئر لمخافة الفتنة فبالأولى تركه
لقتل الساحر فإن الفتنة في ذلك أعظم وأشد.
وعن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاثة
لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر. وعن
أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أتى كاهنا أو عرافا
فصدقه بما يقول فقد وعن كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم
رواهما أحمد ومسلم صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله
عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أتى عرافا فسأله عن
شئ لم يقبل الله له صلاة أربعين ليلة رواه أحمد ومسلم.
قوله: لا يدخلون الجنة فيه دليل على أن بعض أهل التوحيد لا يدخلون الجنة
367

وهم من أقدم على معصية، صرح الشارع بأن فاعلها لا يدخل الجنة كهؤلاء الثلاثة،
ومن قتل نفسه، ومن قتل معاهدا، وغيرهم من العصاة الفاعلين لمعصية، ورد النص
بأنها مانعة من دخول الجنة، فيكون حديث أبي موسى المذكور وما ورد في معناه
مخصصا لعموم الأحاديث القاضية بخروج الموحدين من النار ودخولهم الجنة.
قوله: من أتى كاهنا قال القاضي عياض: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب:
أحدها يكون للانسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه ما السمع من السماء، وهذا
القسم بطل من حين بعث الله تعالى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. الثاني: أن يخبره
بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد
وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما ولا استحالة
في ذلك ولا بعد في وجوده، لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم
والسماع منهم عام. الثالث: المنجمون وهذا الضرب يخلق الله فيه لبعض الناس قوة ما،
لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي
يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض هذا
الفن ببعض في ذلك كالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلها
تسمى كهانة، وقد أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم. قال الخطابي:
العراف هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما. قال في
النهاية: الكاهن يشمل العراف والمنجم. قوله: فصدقه بما يقول زاد الطبراني
من رواية أنس: ومن أتاه غير مصدق له لم يقبل الله له صلاة أربعين ليلة
وظاهر هذا أن التصديق شرط في ثبوت كفر من أتى الكاهن والعراف. قوله:
فقد كفر ظاهره أنه الكفر الحقيقي، وقيل هو الكفر المجازي، وقيل من
اعتقد أن الكاهن والعراف يعرفان الغيب ويطلعان على الاسرار الإلهية كان
كافرا كفرا حقيقيا، كمن اعتقد تأثير الكواكب وإلا فلا. قوله: لم يقبل الله
منه صلاة أربعين ليلة قال النووي: معناه أنه لا ثواب له فيها وإن كانت مجزئة
في سقوط الفرض عنه ولا يحتاج معها إلى إعادة، ونظير هذه الصلاة في الأرض
المغصوبة فإنها مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لا ثواب فيها، كذا قاله جمهور أصحابنا
، قالوا: فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات، إذا أتى بها على وجهها الكامل ترتب
368

عليها شيئان: سقوط الفرض عنه وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة
حصل الأول دون الثاني، ولابد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء
متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة فوجب تأويله
والله أعلم اه.
وعن عائشة قالت سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناس
عن الكهانة فقال: ليسوا بشئ، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشئ
فيكون حقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تلك الكلمة من الحق
يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه يخلطون معها مائة كذبة متفق عليه.
وعن عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يأكل من خراجه فجاء يوما بشئ
فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: تدري مما هذا؟ قال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت
لانسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك
فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شئ في بطنه أخرجه
البخاري. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد رواه أحمد
وأبو داود وابن ماجة.
حديث ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناد ثقات. قوله:
ليسوا بشئ معناه بطلان قولهم وإنه لا حقيقة له، قال النووي: وفيه جواز إطلاق
هذا اللفظ على ما كان باطلا انتهى، وذلك لأنه لعدم نفعه كالمعدوم الذي لا وجود
له. قوله: تلك الكلمة من الحق يخطفها بفتح الطاء المهملة على المشهور وبه جاء
القرآن، وفي لغة قليلة كسرها ومعناه استرقه وأخذه بسرعة. قوله: فيقرها
بفتح الياء التحتية وضم القاف وتشديد الراء، قال أهل اللغة: والغريب القر ترديدك
الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه، تقول: قررته فيه أقره قرا. قال الخطابي وغيره:
معناه أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فتسمعها الشياطين. وفي رواية
للبخاري: يقرها في أذنه كما تقر القارورة. وفي رواية لمسلم: فيقرها في أذن وليه
قر الدجاجة بفتح القاف من قر، والدجاجة بالدال هي الحيوان المعروف أي
صوتها عند مجاوبتها لصواحبها، قال الخطابي: وفيه وجه آخر وهو أن تكون
369

الرواية قر الزجاجة بالزاي، يدل عليه رواية البخاري المتقدمة بلفظ كما تقر القارورة
، فإن ذكر القارورة يدل على أن الزجاجة بالزاي. قال القاضي عياض: أما
مسلم فلم تختلف الرواية عنه أنها الدجاجة بالدال، لكن رواية القارورة تصحح
الزجاجة، قال القابسي: معناه يكون لما يلقيه إلى وليه حس كحس القارورة عند
تحريكها على اليد أو على صفا. قوله: يخلطون في رواية لمسلم: يقرفون بالراء
قال النووي: هذه اللفظة ضبطوها على وجهين: أحدهما بالراء، والثاني بالذال، ووقع
في رواية الأوزاعي وابن معقل بالراء باتفاق النسخ ومعناه يخلطون فيه
الكذب وهو بمعنى يقذفون، وفي رواية يونس: يرقون، قال القاضي: ضبطناه عن
شيوخنا بضم الياء وفتح الراء وتشديد القاف، قال: ورواه بعضهم بفتح الياء وإسكان
الراء. قال في المشارق. قال بعضهم: صوابه بفتح الياء وإسكان الراء وفتح القاف، وكذا
ذكره الخطابي قال: ومعناه يزيدون، يقال: رقي فلان إلى الباطل بكسر القاف أي
رفعه وأصله من الصعود أي يدعون فيها فوق ما سمعوا، قال القاضي عياض: وقد
تصح الرواية الأولى على تضعيف هذا الفعل وتكثيره. قوله: فقاء كل شئ
في بطنه فيه متمسك لتحريم ما أخذه الكهان ممن يتكهنون له وإن دفع ذلك
بطيبة من نفسه. قوله: من اقتبس أي تعلم، يقال: قبست العلم واقتبسته إذا تعلمته،
والقبس الشعلة من النار واقتباسها الاخذ منها. قوله: اقتبس شعبة من السحر
أي قطعة، فكما أن تعلم السحر والعمل به حرام فكذا تعلم علم النجوم والكلام
فيه حرام. قال ابن رسلان في شرح السنن: والمنهي عنه ما يدعيه أهل التنجيم من
370

علم الحوادث والكوائن التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان ويزعمون أنهم
يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، وهذا تعاط لعلم
استأثر الله بعلمه، قال: وأما علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة وكم
مضى وكم بقي فغير داخل فيما نهى عنه، ومن المنهي عنه التحدث بمجئ المطر ووقوع
الثلج وهبوب الرياح وتغير الأسعار. قوله: زاد ما زاد أي زاد من علم النجوم
كمثل ما زاد من السحر، والمراد أنه إذا ازداد من علم النجوم فكأنه ازداد من
علم السحر. وقد علم أن أصل علم السحر حرام والازدياد منه أشد تحريما. فكذا
الازدياد من علم التنجيم.
وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله إني
حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالاسلام، فإن منا رجالا يأتون الكهان، قال
: فلا تأتهم، قال: ومنا رجال يطيرون، قال: ذلك بشئ يجدونه في صدورهم فلا
يصدنكم، قال قلت: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق
خطه فذاك رواه أحمد ومسلم.
هذا الحديث هو طويل حذف المصنف رحمه الله ما لا تعلله بالمقام، وقد
تقدم في الصلاة طرف منه وفي العتق طرف آخر. قوله: فلا تأتهم فيه النهي
عن إتيان الكهان وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: يطيرون بفتح التحتية
في أوله وتشديد الطاء المهملة وأصله يتطيرون أدغمت التاء الفوقية في الطاء، والتطير
التشؤم وأصله الشئ المكروه من قول أو فعل أو مرئي، وكانوا يتطيرون بالسوائح
والبوارح فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في
سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا،
فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، فنفى الشرع ذلك وأبطله، ونهى
371

عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير ينفع ولا يضر. وقد أخرج أبو داود والترمذي
وصححه وابن ماجة من حديث ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: الطيرة شرك ثلاث مرات وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل قال
الخطابي: قال محمد بن إسماعيل يعني البخاري: كان سليمان بن حرب ينكر هذا
ويقول: هذا الحرف ليس قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه قول ابن
مسعود. وحكى الترمذي عن البخاري عن سليمان بن حرب نحو هذا، وأن الذي
أنكره هو: وما منا. قال المنذري: الصواب ما قاله البخاري وغيره أن قوله وما منا الخ
من كلام ابن مسعود. قال الحافظ أبو القاسم الأصبهاني والمنذري وغيرهما: في
الحديث إضمار أي وما منا إلا وقد وقع في قلبه شئ من ذلك يعني قلوب أمته.
وقيل معناه ما منا إلا من يعتريه التطير وتسبق إلى قلبه الكراهة، فحذف اختصارا
واعتمادا على فهم السامع، وهذا هو معنى ما وقع في حديث الباب قال: ذلك بشئ
يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم. قال النووي في شرح مسلم: معناه أن كراهة ذلك
تقع في نفوسكم في العادة، ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل
هذا انتهى. وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم
نفعا أو يدفع عنهم ضررا إذا عملوا بموجبه فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، ومعنى إذهابه
بالتوكل أن ابن آدم إذا تطير وعرض له خاطر من التطير أذهبه الله بالتوكل
والتفويض إليه وعدم العمل بما خطر من ذلك، فمن توكل سلم ولم يؤاخذه الله بما
عرض له من التطير. وأخرج الشيخان وأبو داود من حديث أبي سلمة عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا عدوى ولا طيرة ولا صفر
ولا هامة، فقال أعرابي: ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير
الأجرب فيجربها؟ قال: فمن أعدى الأول. قال معمر، قال الزهري: فحدثني رجل عن
أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يوردن ممرض على
مصح، قال: فراجعه الرجل فقال: أليس قد حدثتنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: لا عدوى ولا صفر ولا هامة، قال: لم أحدثكموه قال الزهري: قال أبو سلمة قد حدث
به وما سمعت أبا هريرة بشئ حدثنا قط غيره، هذا لفظ أبي داود. وقد
أخرج حديث لا عدوى إلخ مسلم وأبو داود من طريق العلاء بن عبد الرحمن
372

عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه أيضا أبو داود من طريق أبي صالح عن أبي
هريرة. وأخرج مسلم من طريق جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: لا عدوى ولا طيرة ولا غول. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن
ماجة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا عدوى ولا طيرة ويعجبني
الفأل الصالح والفأل الصالح الكلمة الحسنة. وأخرج أبو داود عن رجل عن
أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع كلمة فأعجبته فقال: أخذنا
فالك من فيك وأخرج أبو داود عن عروة بن عامر القرشي قال: ذكرت الطيرة
عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أحسنها الفال ولا ترد مسلما فإن رأى
أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت
ولا حول ولا قوة إلا بك قال أبو القاسم الدمشقي: ولا صحبة لعروة القرشي تصح.
وذكر البخاري وغيره أنه سمع من ابن عباس، فعلى هذا يكون حديثه مرسلا. وقال
النووي في شرح مسلم: وقد صح عن عروة بن عامر الصحابي رضي الله عنه ثم ذكر
الحديث وقال في آخره: رواه أبو داود بإسناد صحيح. وأخرج أبو داود والنسائي
عن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يتطير من شئ، وكان إذا بعث
غلاما سأل عن اسمه فإذا أعجبه اسمه فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره
اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه، فإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإن أعجبه
اسمها فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رئي كراهة ذلك في
وجهه. وأخرج أبو داود عن سعد بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم كان يقول: لا هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شئ ففي الفرس
والمرأة والدار وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر
قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الشؤم في الدار والمرأة والفرس. وفي رواية
لمسلم: إنما الشؤم في ثلاث: المرأة والفرس والدار. وفي رواية له: إن كان الشؤم في شئ
ففي الفرس والمسكن والمرأة. وفي رواية له أيضا: إن كان الشؤم في شئ ففي الربع
والخادم والفرس وأخرج أبو داود وصححه الحاكم عن أنس قال: قال رجل:
يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا كثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار
أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
373

ذروها ذميمة. وأخرج مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد: جاءت امرأة إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: دار سكناها والعدد كثير والمال وافر
فقل العدد وذهب المال، فقال: دعوها فإنها ذميمة وله شاهد من حديث
عبد الله بن شداد بن الهاد أحد كبار التابعين أخرجه عبد الرزاق بإسناد
صحيح. قال النووي: اختلف العلماء في حديث الشؤم في ثلاث: فقال مالك رحمه
الله: هو على ظاهره، وأن الدار قد يجعل الله تبارك وتعالى سكناها سببا للضرر أو
الهلاك، وكذا اتخاذ المرأة المعينة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء
الله تعالى. وقال الخطابي: قال كثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة، أي الطيرة
منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم،
فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة. وقال آخرون: شؤم الدار ضيقها وسوء
جيرانها وأذاهم. وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب.
وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها وقيل حرانها وغلاء ثمنها. وشؤم الخادم سوء خلقه
وقلة تعهده لما فوض إليه. وقيل: المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة. قال القاضي
عياض: قال بعض العلماء لهذه الفصول السابقة في الأحاديث ثلاثة أقسام. أحدها
ما لم يقع الضرر به ولا اطردت به عادة خاصة ولا عامة فهذا لا يلتفت إليه وأنكر
الشرع الالتفات إليه وهو الطيرة. والثاني: ما يقع عنده الضرر عموما لا يخصه ونادرا
لا يتكرر كالوباء فلا يقدم عليه ولا يخرج منه. والثالث: يخص ولا يعم كالدار والفرس
والمرأة فهذا يباح الفرار منه اه. والراجح ما قاله مالك وهو الذي يدل عليه
حديث أنس الذي ذكرنا، فيكون حديث الشؤم مخصصا لعموم حديث لا طيرة، فهو في قوة لا طيرة
إلا في هذه الثلاث، وقد تقرر في الأصول أنه يبنى العام على
الخاص مع جهل التاريخ، وادعى بعضهم أنه إجماع والتاريخ في أحاديث الطيرة
والشؤم مجهول. وما حكاه القاضي عياض في كلامه السابق أن الوباء لا يخرج منه
ولا يقدم عليه فلعله يتمسك بحديث النهي عن الخروج من الأرض التي ظهر
فيها الطاعون والنهي عن دخولها كما في حديث أسامة بن زيد عند البخاري ومسلم
ومالك في الموطأ والترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سمعتم
بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها. وقد
374

أخرج أبو داود عن يحيى بن عبد الله بن بحير قال: أخبرني من سمع فروة بن
مسيك رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله أرض عندنا يقال لها: أر ض أبين هي
أرض ريفنا وميرتنا وإنها وبئة، أو قال: وباؤها شديد، فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: دعها عنك فإن من القرف التلف اه. والقرف بفتح القاف والراء بعده فاء
وهو ملابسة الداء ومقاربة الوباء ومداناة المرضى، وكل شئ قاربته فقد فارقته،
والتلف الهلاك، يعني من قارب متلفا يتلف إذا لم يكن هواء تلك الأرض موافقا له
فيتركها. قال ابن رسلان: وليس هذا من باب العدوي بل هو من باب الطب،
فإن استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة الأبدان، وفساد الهواء من
أسرع الأشياء إلى الأسقام، قال: واعلم أن في المنع من الدخول إلى الأرض الوبئة
حكما، أحدهما: تجنب الأسباب المؤذية والبعد منها. الثاني: الاخذ بالعافية التي هي
مادة مصالح المعاش والمعاد. الثالث: أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد
فيكون سببا للتلف. الرابع: أن لا يجاور المرضى الذين قد مرضوا بذلك فيحصل
له بمجاورتهم من جنس أمراضهم والحديث يدل على هذا اه. قال المنذري في مختصر
السنن بعد أن ذكر حديث فروة المذكور ما لفظه: في إسناده رجل مجهول. قال:
ورواه عبد الله بن معاذ الصنعاني عن معمر بن راشد عن يحيى بن عبد الله بن
بحير عن فروة وأسقط المجهول، وعبد الله بن معاذ وثقه يحيى بن معين وغيره
وكان عبد الرزاق يكذبه اه. ورجال إسناد هذا الحديث ثقات لأنه رواه أبو داود
عن مخلد بن خالد شيخ مسلم، وعباس العنبري شيخ البخاري تعليقا ومسلم قالا:
حدثنا عبد الرزاق عن معمر وهما من رجال الصحيحين عن يحيى بن عبد الله
بن بحير ذكره ابن حبان في الثقات، ومما ينبغي أن يجعل مخصصا لعموم حديث:
لا عدوى ولا طيرة ما أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجة في سننهما
من حديث الشريد بن سويد الثقفي قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل
إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنا قد بايعناك فارجع. وأخرج البخاري في
صحيحه تعليقا من حديث سعيد بن ميناء قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا عدوى ولا طيرة ولا هام ولا صفر، وفر من
المجذوم كما تفر من الأسد. ومن ذلك حديث: لا يورد ممرض على مصح الذي قدمناه.
375

قال القاضي عياض: قد اختلف ت الآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
قصة المجذوم فثبت عنه الحديثان المذكوران. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أكل مع مجذوم وقال له: كل ثقة بالله تبارك وتعالى وتوكلا عليه. وعن
عائشة قالت: كان لنا مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي
وينام على فراشي. قال: وقد ذهب عمر وغيره من السلف إلى الاكل معه، ورأوا
أن الامر باجتنابه منسوخ، والصحيح الذي قاله الأكثرون ويتعين المصير إليه أنه
لا نسخ بل يجب الجمع بين الحديثين، وحمل الامر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب
والاحتياط، وأما الاكل معه ففعله لبيان الجواز والله أعلم، كذا في شرح مسلم
للنووي. والحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أكل مع المجذوم أخرجه
أبو داود والترمذي وابن ماجة قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث
يوسف بن محمد عن المفضل بن فضالة، وهذا شيخ بصري والمفضل بن فضالة
شيخ مصري أوثق من هذا وأشهر. وروى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن
الشهيد عن أبي بريدة أن عمر أخذ بيد مجذوم وحديث شعبة أشبه عندي وأصح.
قال الدارقطني: تفرد به مفضل بن فضالة البصري أخو مبارك عن حبيب بن حبيب بن
الشهيد عنه يعني عن ابن المنكدر. وقال ابن عدي الجرجاني لا أعلم يرويه عن
حبيب بن الشهيد غير مفضل بن فضالة وقالوا: تفرد بالرواية عنه يونس بن محمد
اه. والمفضل بن فضالة البصري كنيته أبو مالك قال يحيى بن معين: ليس بذاك
وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في
الثقات. قال القاضي عياض: قال بعض العلماء في هذا الحديث وما في معناه يعني
حديث الفرار من المجذوم دليل على أنه يثبت للمرأة الخيار في فسخ النكاح إذا
وجدت زوجها مجذوما أو حدث به جذام. قال النووي: واختلف أصحابنا وأصحاب
مالك في أن أمته هل لها منع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟ قال القاضي قالوا ويمنع
من المسجد والاختلاط بالناس، قال: وكذلك اختلفوا في أنهم إذا كثروا هل يؤمرون
أن يتخذوا لأنفسهم موضعا منفردا خارجا عن الناس ولا يمنعون من التصرف
في منافعهم وعليه أكثر الناس أم لا يلزمهم التنحي؟ قال: ولم يختلفوا في القليل منهم يعني
في أنهم لا يمنعون، قال: ولا يمنعون من صلاة الجمعة مع الناس ويمنعون من غيرها. قال
376

ولو استضر أهل قرية فيهم جذمى بمخالطتهم في الماء، فإن قدروا على استنباط ماء بلا ضرر
أمروا به، وإلا استنبطه لهم الآخرون أو أقاموا من يستقي لهم وإلا فلا يمنعون. قال
النووي في شرح مسلم في حديث: لا يورد ممرض على مصح قال العلماء: الممرض صاحب
الإبل المراض، والمصح صاحب الإبل الصحاح، فمعنى الحديث: لا يورد صاحب الإبل
المراض إبله على إبل صاحب الإبل الصحاح لأنه ربما أصابها المرض بفعل الله تعالى
وقدره الذي أجرى به العادة لا بطبعها، فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها، وربما حصل له ضرر
أعظم من ذلك باعتقاد العدوي بطبعها فيكفروا الله أعلم انتهى. وأشار إلى نحو هذا
الكلام ابن بطال. وقيل: النهي ليس للعدوى بل للتأذي بالرائحة الكريهة ونحوها
حكاه ابن رسلان في شرح السنن. وقال ابن الصلاح: ووجه الجمع أن هذه الأمراض
لا تعدي بطبعها، لكن الله سبحانه جعل مخالطة المريض للصحيح سببا لأعدائه مرضه،
ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في غيره من الأسباب. قال الحافظ ابن جحر في
شرح النخبة: والأولى في الجمع أن يقال إن نفيه صلى الله عليه وآله وسلم للعدوي باق
على عمومه، وقد صح قوله لا يعدي شئ شيئا. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن
عارضه بأن البعير الأجرب يكون بين الإبل الصحيحة فيخالطها فتجرب حيث
رد عليه بقوله: فمن أعدى الأول يعني أن الله سبحانه ابتدأ ذلك في الثاني كما
ابتدأه في الأول. قال: وأما الامر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق
للشخص الذي يخالفه شئ من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداء لا بالعدوى المنفية،
فيظن أن ذلك بسبب مخالطته فيعتقد صحة العدوي فيقع في الحرج فأمر بتجنبه
حسما للمادة انتهى. والمناسب للعمل الأصولي في هذه الأحاديث المذكورة في الباب
هو أن يبنى عموم لا عدوى ولا طيرة على الخاص، وهو ما قدمنا من حديث الشؤم
في ثلاث. وحديث: فر من المجذوم. وحديث: لا يورد ممرض على مصح وما في معناها
. وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في جواب سؤال سميناه إتحاف المهرة بالكلام
على حديث لا عدوى ولا طيرة. قوله: ومنا رجال يخطون قال ابن عباس في
377

تفسير هذا الخط: هو الخط الذي يخطه الحازي. والحازي بالحاء المهملة والزي هو
الحزاء وهو الذي ينظر في المغيبات بظنه، فيأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه
حلوانا فيقول له: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام له معه مثل، ثم يأتي
إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة في أربعة أسطر عجلا، ثم يمحو منها على
مهل خطين خطين، فإن بقي خطان فهو علامة النجح، وإن بقي خط واحد فهو علامة
الخيبة، هكذا في شرح السنن لابن رسلان. قال: وهذا علم معروف فيه للناس
تصانيف كثيرة وهو معمول به إلى الآن ويستخرجون به الضمير. وقال الحربي:
الخط في الحديث هو أن يخط ثلاثة خطوط ثم يضرب عليهن ويقول: يكون كذا
وكذا وهو ضرب من الكهانة. قوله: كان نبي من الأنبياء يخط قيل: هو
إدريس عليه السلام، حكى مكي في تفسيره أن هذا النبي كان يخط بأصبعيه
السبابة والوسطى في الرمل ثم يزجر. قوله: فمن وافق خطه فذاك بنصب
الطاء على المفعولية، والفاعل ضمير يعود إلى لفظ من. قال الخطابي: هذا يحتمل
الزجر عنه إذا كان علما لنبوته، وقد انقطعت فنهينا عن التعاطي لذلك، قال القاضي
عياض: الأظهر من اللفظ خلاف هذا، وتصويب خط من يوافق خطه، لكن من
أين تعلم الموافقة والشرع منع من ادعاء علم الغيب جملة؟ وإنما معناه من وافق
خطه فذاك الذي تجدون إصابته لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله
378

بعضهم اه. ولو قيل: إن قوله فذاك يدل على الجواز لكان جوازه مشروطا
بالموافقة، ولا طريق إليها متصلة بذلك النبي فلا يجوز التعاطي.
باب قتل من صرح بسب النبي صلى الله عليه
وآله وسلم دون من عرض
عن الشعبي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أن يهودية كانت
تشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذمتها رواه أبو داود. عن ابن عباس:
أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقع فيه فينهاها فلا
تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وتشتمه فأخذ المعول فجعله في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذكر
ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلا فعل ما فعل
لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل حتى قعد بين يدي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع
فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت
بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المعول فوضعته في
بطنها واتكأت عليه حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا اشهدوا
أن دمها هدر رواه أبو داود والنسائي، واحتج به أحمد في رواية أبيه عبد الله.
وعن أنس قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السام
عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وعليك، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: أتدرون ما يقول؟ قال: السام عليك، قالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟
قال: لا إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم رواه أحمد والبخاري. وقد
سبق أن ذا الخويصرة قال: يا رسول الله إعدل، وأنه منع من قتله.
حديث الشعبي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه سكت عنه أبو داود، وقال
المنذري: ذكر بعضهم أن الشعبي سمع من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقال
379

غيره: أنه رآه، ورجال إسناد الحديث رجال الصحيح. وحديث ابن عباس سكت
عنه أيضا أبو داود والمنذري. وقال الحافظ في بلوغ المرام: أن رواته ثقات.
والحديث الذي أشار إليه المصنف أعني قوله قال: يا رسول الله إعدل، قد تقدم
في باب قتال الخوارج. (وفي الباب) عن أبي برزة عند أبي داود والنسائي
قال: كنت عند أبي بكر فتغيظ على رجل فاشتد غضبه فقلت: أتأذن لي يا خليفة رسول
الله أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي فقال:
ما الذي قلت آنفا؟ قلت: ائذن لا أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت
: نعم، قال: لا والله ما كان لبشر بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفي حديث ابن عباس
وحديث الشعبي دليل على أنه يقتل من شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نقل ابن
المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم صريحا وجب قتله. ونقل
أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الاجماع أن من سب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل،
لأن حد قذفه القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وخالفه القفال فقال: كفر بالسب
فسقط القتل بالاسلام. وقال الصيدلاني: يزول القتل ويجب حد القذف. قال الخطابي
: لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما. وقال ابن بطال: اختلف العلماء فيمن
سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن
القاسم عن مالك: يقتل من سبه صلى الله عليه وآله وسلم منهم إلا أن يسلم،
وأما المسلم فيقتل بغير استتابة. ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق
اليهودي ونحوه. وروي عن الأوزاعي ومالك في المسلم أنها ردة يستتاب منها. وعن
الكوفيين: إن كان ذميا عزر، وإن كان مسلما فهي ردة. وحكى عياض خلافا هل
كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف؟ ونقل عن بعض
المالكية أنه إنما لم يقتل اليهود الذين كانوا يقولون له السام عليك لأنهم لم تقم عليهم
البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل: إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم
ترك قتلهم، وقيل: إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل على الدعاء بالموت الذي لا بد
منه، ولذلك قال في الرد عليهم: وعليكم أي الموت نازل علينا وعليكم، فلا معنى للدعاء
به، أشار إلى ذلك القاضي عياض، وكذا من قال السأم بالهمز بمعنى السآمة هو دعاء
380

بأن يملوا الدين وليس بصريح في السب، وعلى القول بوجوب قتل من وقع منه
ذلك من ذمي أو معاهد فترك لمصلحة التأليف هل ينتقض بذلك عهده؟ محل تأمل.
واحتج الطحاوي لأصحابه بحديث أنس المذكور في الباب وأيده بأن هذا الكلام
لو صدر من مسلم لكانت ردة، وأما صدوره من اليهود فالذي هم عليه من الكفر أشد،
فلذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعقب بأن دماءهم لم تحقن إلا بالعهد،
وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن سبه منهم تعدى العهد
فينتقض فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه إلا أن يسلم، ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه
لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لم يقتلوا لأن من معتقدهم حل دماء المسلمين
، ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل، فإن قيل: إنما يقتل بالمسلم قصاصا بدليل أنه يقتل
به ولو أسلم، ولو سب ثم أسلم لم يقتل قلنا الفرق بينهما أن قتل المسلم يتعلق بحق آدمي
فلا يهدر وأما السب. فإن وجوب القتل به يرجع إلى حق الدين فيهدمه الاسلام، والذي
يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف أو لكونهم لم يعلنوا به أو لهما جميعا
وهو أولى كما قال الحافظ.
[تم]
قد تم بحمده تعالى وحسن توفيقه طبع الجزء السابع من (نيل الأوطار شرح
منتقى الاخبار من أحاديث سيد الأخيار للامام العلامة الشوكاني) وذلك باهتمام إدارة
الطباعة المنيرية لصاحبها ومديرها (محمد منير الدمشقي) ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء
الثامن وأوله (أبواب احكام الردة والاسلام) ونسأل الله سبحانه وتعالى اتمامه وتيسير
غيره من الكتب المعتمدة في الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل صلاة وأتم تحية.
381