الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ١٢
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغني
تأليف الشيخ الإمام العلامة والحبر المدقق الفهامة شيخ الاسلام موفق الدين
* (أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة) * المتوفى سنة 620
على مختصر * (أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي) *
المتوفى سنة 334 ه‍
على مذهب إمام الأئمة ومحيي السنة الإمام * (أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل
الشيباني رضي الله عنه وعنهم وجزاهم عن أنفسهم وعن المسلمين أفضل الجزاء
الجزء الثاني عشر
..
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الشهادات
والأصل في الشهادات الكتاب والسنة والاجماع والعبرة. اما الكتاب فقول الله تعالى (واستشهدوا
شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) وقال تعالى (وأشهدوا
ذوي عدل منكم - واشهدوا إذا تبايعتم)
وأما السنة فما روى وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي هي أرضي وفي يدي
فليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي (ألك بينة؟) قال لا، قال (فلك يمينه) قال
يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ قال (ليس لك منه الا
2

ذلك) قال فانطلق الرجل ليحلف له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر (لئن حلف على ماله ليأكله
ظلما ليلقين الله تعالى وهو عنه معرض) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وروى محمد بن عبد الله العزرمي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) قال الترمذي هذا حديث في اسناده مقال والعزرمي يضعف في الحديث من قبل حفظ، ضعفه ابن المبارك وغيره إلا أن أهل العلم أجمعوا على هذا قال
الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ولان الحاجة داعية إلى الشهادة
لحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها، قال شريح القضاء جمر فنحه عنك بعودين يعني
الشاهدين وإنما الخصم داء والشهود شفاء فأفرغ الشفاء على الداء
(فصل) وتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية لقول الله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) وقال تعالى (ولا تكتموا للشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) وإنما خص القلب بالاثم لأنه
موضع العلم بها ولان الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات
إذا ثبت هذا فإن دعي إلى تحمل شهادة في نكاح أو دين أو غيره لزمته الإجابة وإن كانت
عنده شهادة فدعي إلى أدائها لزمه ذلك فإن قام بالفرض في التحمل أو الأداء اثنان سقط عن الجميع
وإن امتنع الكل أثموا وإنما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر وكانت شهادته تنفع، فإن كان عليه ضرر
3

في التحمل أو الأداء أو كان ممن لا تقبل شهادته أو يحتاج إلى التبذل في التزكية ونحوها لم يلزمه لقول
الله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) ولأنه لا يلزمه أن
يضر بنفسه لنفع غيره، وإذا كان ممن لا تقبل شهادته لم يجب عليه لأن مقصود الشهادة لا يحصل منه
وهل يأثم بالامتناع إذا وجد غير ممن يقوم مقامه؟ فيه وجهان
(أحدهما) يأثم لأنه قد تعين بدعائه ولأنه منهي عن الامتناع بقوله (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا)
(والثاني) لا يأثم لأن غيره يقوم مقامه فلم يتعين في حقه كما لو لم يدع إليها، فأما قول الله تعالى
(ولا يضار كاتب ولا شهيد) فقد قرئ بالفتح والرفع فمن رفع فهو خبر معناه النهي ويحتمل معنيين
(أحدهما) أن يكون الكاتب فاعلا أي لا يضر الكاتب والشهيد من يدعوه بان لا يجيب أو
يكتب ما لم يستكتب أو يشهد ما لم يستشهد به
(والثاني) أن يكون يضار فعل ما لم يسم فاعله فيكون معناه ومعنى الفتح واحدا أي لا يضر الكتاب
والشهيد بان يقطعهما عن شغلهما بالكتابة والشهادة ويمنعا حاجتهما
واشتقاق الشهادة من المشاهدة لأن الشاهد يخبر عما يشاهده، وقيل لأن الشاهد بخبره جعل الحاكم
كالمشاهد للمشهود عليه وتسمى بينة لأنها تبين ما التبس وتكشف الحق فيما اختلف فيه
4

(مسألة) قال (ولا يقبل في الزنا الا أربعة رجال عدول أحرار مسلمين
أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود وقد نص الله تعالى عليه بقوله سبحانه
(لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) في آي سواها
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أربعة وإلا حد في ظهرك) في أخبار سوى هذا واجمعوا
على أنه يشترط كونهم مسلمين عدولا ظاهرا وباطنا وسواء كان المشهود عليه مسلما أو ذميا وجمهور
العلماء على أنه يشترط ان يكونوا رجالا أحرارا فلا تقبل شهادة النساء ولا العبيد، وبه يقول مالك
والشافعي وأصحاب الرأي وشذ أبو ثور فقال تقبل فيه شهادة العبيد
وحكي عن عطاء وحماد انهما قالا: تجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين لأنه نقص واحد من
عدد الرجال فقام مقامه امرأتان كالأموال
ولنا ظاهر الآية وان العبد مختلف في شهادته في المال فكان ذلك شبهة في الحد لأنه بالشبهات
يندرئ ولا يصح قياس هذا على الأموال لخفة حكمها وشدة الحاجة إلى اثباتها لكثرة وقوعها والاحتياط
في حفظها ولهذا زيد في عدد شهود الزنا على شهود المال
(فصل) وفي الاقرار بالزنا روايتان ذكرهما أبو بكر وللشافعي فيه قولان (أحدهما) يثبت
بشاهدين قياسا على سائر الأقارير (والثاني) لا يثبت إلا بأربعة لأنه موجب لحد الزنا أشبه فعله
5

(مسألة) قال (ولا يقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقل من رجلين)
وهذا القسم نوعان (أحدهما) العقوبات وهي الحدود والقصاص فلا يقبل فيه الا شهادة رجلين
إلا ما روي عن عطاء وحماد أنهما قالا يقبل فيه رجل وامرأتان قياسا على الشهادة في الأموال
ولنا ان هذا مما يحتاط لدرئه واسقاطه ولهذا يندرئ بالشبهات ولا تدعو الحاجة إلى اثباته
وفي شهادة النساء شبهة بدليل قوله تعالى (ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) وأنه لا تقبل
شهادتهن وان كثرن ما لم يكن معهن رجل فوجب ان لا تقبل شهادتهن فيه ولا يصح قياس هذا على
المال لما ذكرنا من الفرق وبهذا الذي ذكرنا قال سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وحماد والزهري
وربيعة ومالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي واتفق هؤلاء وغيرهم على أنها تثبت بشهادة
رجلين ما خلا الزنا الا الحسن فإنه قال الشهادة على القتل كالشهادة على الزنا لأنه يتعلق به اتلاف
النفس فأشبه الزنا
ولنا أنه أحد نوعي القصاص فأشبه القصاص في العرف وما ذكره من الوصف لا اثر له فإن
الزنا الموجب للحد لا يثبت الا بأربعة ولان حد الزنا حق الله تعالى يقبل الرجوع عن الاقرار به. ويعتبر
6

في شهداء هذا النوع من الحرية والذكورية والاسلام والعدالة ما يعتبر في شهداء الزنا على ما سنذكره
(الثاني) ما ليس بعقوبة كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والايلاء والظهار والنسب والتوكيل
والوصية إليه والولاء والكتابة وأشباه هذا فقال القاضي المعول عليه في المذهب ان هذا لا يثبت الا
بشاهدين ذكرين ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال، وقد نص أحمد في رواية الجماعة على أنه لا تجوز
شهادة النساء في النكاح والطلاق وقد نقل عن أحمد في الوكالة ان كانت بمطالبة دين يعني تقبل
فيه شهادة رجل وامرأتين فاما غير ذلك فلا. ووجه ذلك أن الوكالة في اقتضاء الدين يقصد منها
المال فيقبل فيها شهادة رجل وامرأتين كالحوالة، قال القاضي فيخرج من هذا ان النكاح وحقوقه
من الرجعة وشبهها لا تقبل فيها شهادة النساء رواية واحدة وما عداه يخرج على روايتين، وقال أبو الخطاب
يخرج في النكاح والعتاق أيضا روايتان (إحداهما) لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين وهو قول النخعي
والزهري ومالك وأهل المدينة والشافعي وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وربيعة في الطلاق
(والثانية) تقبل فيه شهادة رجلين وامرأتين روي ذلك عن جابر بن زيد وإياس بن معاوية والشعبي
والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك في النكاح عن عطاء واحتجوا بأنه لا يسقط بالشبهة
فيثبت برجل وامرأتين كالمال
ولنا أنه ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال فلم يكن للنساء في شهادته مدخل
7

كالحدود والقصاص وما ذكروه لا يصح فإن الشبهة لا مدخل لها في النكاح وان تصور بان
تكون المرأة مرتابة بالحمل لم يصح النكاح
(فصل) وقد نقل عن أحمد رضي الله عنه في الاعسار ما يدل على أنه لا يثبت الا بثلاثة لحديث
قبيصة بن المخارق (حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة) قال احمد هكذا
جاء الحديث فظاهر هذا أنه أخذ به، وروي عنه أنه لا يقبل قوله إنه وصى حتى يشهد له رجلان
أو رجل عدل فظاهر هذا أنه يقبل في الوصية شهادة رجل واحد وقال في الرجل يوصي ولا يحضره
الا النساء قال أجيز شهادة النساء فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد
إذا لم يحضره الرجال. قال القاضي: والمذهب أن هذا كله لا يثبت إلا بشاهدين وحديث
قبيصة في حل المسألة لا في الاعسار.
(فصل) ولا يثبت شئ من هذين النوعين بشاهد ويمين المدعي لأنه إذا لم يثبت بشهادة
رجل وامرأتين فلان لا يثبت بشهادة واحد ويمين أولى قال أحمد ومالك في الشاهد واليمين: إنما يكون
ذلك في الأموال خاصة لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق ولا عتاقة ولا سرقة ولا قتل
وقد قال الخرقي إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا ونص
عليه احمد وقال في شريكين في عبد ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا معسرين
8

عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا فيخرج
مثل هذا في الكتابة والولاء والوصية والوديعة والوكالة فيكون في الجميع روايتان ما خلا العقوبات
البدنية والنكاح وحقوقه فإنها لا تثبت بشاهد ويمين قولا واحدا، قال القاضي المعمول عليه في جميع
ما ذكرناه أنه لا يثبت الا بشاهدين وهو قول الشافعي وروى الدارقطني باسناده عن أبي سلمة عن
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (استشرت جبريل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار علي في الأموال
لا تعد ذلك) وقال عمر وبن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى بالشاهد واليمين قال نعم في
الأموال، وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره رواه الإمام أحمد وغيره باسنادهم
(مسألة) قال (ولا يقبل في الأموال أقل من رجل وامرأتي ورجل عدل مع
يمين الطالب)
وجملة ذلك أن المال كالقرض والغصب والديون كلها وما يقصد به المال كالبيع والوقف والإجارة
والهبة والصلح والمساقاة والمضاربة والشركة والوصية له والجناية الموجبة للمال كجناية الخطأ وعمد
الخطأ والعمد الموجب للمال دون القصاص كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج تثبت بشهادة رجل
وامرأتين، وقال أبو بكر لا تثبت الجناية في البدن بشهادة رجل وامرأتين لأنها جناية فأشبهت
ما يوجب القصاص والأول أصح لأن موجبها المال فأشبهت البيع وفارق ما يوجب القصاص
لأن القصاص لا تقبل فيه شهادة النساء وكذلك ما يوجبه والمال يثبت بشهادة النساء وكذلك ما يوجبه
9

ولا خلاف في أن المال يثبت بشهادة السناء مع الرجال وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه بقوله
سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين - إلى قوله - واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن
لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) وأجمع أهل العلم على القول به وقد ذكرنا
خبر أبي هريرة وابن عباس فيه
(فصل) وأكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين روي ذلك عن أبي بكر
وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والحسن وشريح وإياس
وعبد الله بن عتبة وأبي سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك وابن أبي ليلى وأبي الزناد
والشافعي وقال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي والأوزاعي لا يقضى بشاهد ويمين وقال محمد بن
الحسن من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه لأن الله تعالى قال (واستشهدوا شهيدين من رجالكم
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) فمن زاد في ذلك فقد زاد في النص والزيادة في النص
نسخ ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فحصر اليمين في جانب المدعى
عليه كما حصر البينة في جانب المدعي
ولنا ما روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد
رواه سعيد بن منصور في سننه والأئمة من أهل السنن والمسانيد قال الترمذي هذا حديث حسن غريب
10

وفي الباب عن علي وابن عباس وجابر ومسروق، وقال النسائي اسناد حديث ابن عباس في اليمين
مع الشاهد اسناد جيد، ولان اليمين تشرع في حق من ظهر صدقه وقوي جانبه ولذلك شرعت في
حق صاحب اليد لقوة جنبته بها وفي حق المنكر لقوة جنبته فإن الأصل براءة ذمته والمدعي ههنا قد
ظهر صدقه فوجب أن تشرع اليمين في حقه ولا حجة لهم في الآية لأنها دلت على مشروعية الشاهدين
والشاهدين والمرأتين ولا نزاع في هذا، وقولهم إن الزيادة في النص نسخ غير صحيح لأن النسخ الرفع
والإزالة والزيادة في الشئ تقرير له لا رفع والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه
ولان الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه ولم تكن سخا وكذلك إذا انفصلت عنه ولان
الآية واردة في التحمل دون الأداء ولهذا قال (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والنزاع في
الأداء وحديثهم ضعيف وليس هو للحصر بدليل أن اليمين تشرع في حق المودع إذا ادعى الوديعة
وتلفها وفي حق الامناء لظهور جنايتهم وفي حق الملاعن وفي القسامة وتشرع في حق البائع والمشتري
إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة وقول محمد في نقض قضاء من قضى بالشاهد واليمين يتضمن القول
بنقض قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الذين قضوا به وقد قال الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) والقضاء بما قضى به
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أولى من قضاء محمد بن الحسن المخالف له
11

(فصل) قال القاضي يجوز ان يحلف على مالا تسوغ الشهادة عليه مثل ان يجد بخطه دينا له على
انسان وهو يعرف أنه لا يكتب الا حقا ولم يذكره أو يجد في رزمانج أبيه بخطه دينا له على إنسان
ويعرف من أبيه الأمانة وانه لا يكتب الا حقا فله ان يحلف عليه ولا يجوز ان يشهد به ولو أخبره
بحق أبيه ثقة فسكن إليه جاز أن يحلف عليه ولم يجز له أن يشهد به وبهذا قال الشافعي والفرق بين
اليمين والشهادة من وجهين:
(أحدهما) ان الشهادة لغيره فيحتمل أن من له الشهادة قد زور على خطه ولا يحتمل هذا فيما يحلف
عليه لأن الحق إنما هو للحالف فلا يزور أحد عليه (الثاني) ان ما يكتبه الانسان من حقوقه يكثر
فينسى بعضه بخلاف الشهادة.
(فصل) وكل موضع قبل فيه الشاهد واليمين فلا فرق بين كون المدعي مسلما أو كافرا عدلا
أو فاسقا رجلا أو امرأة نص عليه احمد لأن من شرعت في حقه اليمين لا يختلف حكمه باختلاف هذه
الأوصاف كالمنكر إذا لم تكن بينة
(فصل) قال أحمد مضت السنة أن يقضى باليمين مع الشاهد الواحد فإن أبي أن يحلف
استحلف المطلوب، وهذا قول مالك والشافعي، ويروى عن أحمد فإن أبى المطلوب ان يحلف
ثبت الحق عليه.
12

(فصل) ولا تقبل شهادة امرأتين ويمين المدعي، وبه قال الشافعي وقال مالك يقبل ذلك في الأموال
لأنهما في الأموال أقيمتا مقام الرجل فحلف معهما كما يحلف مع الرجل
ولنا ان البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل كما لو شهد أربع نسوة وما ذكروه يبطل
بهذه الصورة فإنهما لو أقيمتا مقام رجل من كل وجه لكفى أربع نسوة مقام رجلين ولقبل في غير
الأموال شهادة رجل وامرأتين ولان شهادة المرأتين ضعيفة تقوت بالرجل واليمين ضعيفه فيضم
ضعيف إلى ضعيف فلا يقبل
(فصل) إذا ادعى رجل على رجل أنه سرق نصابا من حرزه وأقام بذلك شاهدا وحلف معه
أو شهد له بذلك رجل وامرأتان وجب له المال المشهود به إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا ولا
يجب القطع لأن هذه حجة في المال دون القطع، وان ادعى على رجل أنه قتل وليه عمدا فأقام شاهدا
وامرأتين أو حلف مع شاهده لم يثبت قصاص ولادية، والفرق بين المسئلتين ان السرقة توجب
القطع والغرم معا فإذا لم يثبت أحدهما ثبت الآخر والقتل العمد موجبه القصاص عينا في إحدى الروايتين
والدية بدل عنه ولا يجب البدل ما لم يوجد المبدل
وفي الرواية الأخرى الواجب أحدهما لا بعينه فلا يجوز ان يتعين أحدهما الا بالاختيار أو التعذر
ولم يوجد واحد منهما
13

وقال ابن أبي موسى لا يجب المال في السرقة أيضا إلا بشاهدين لأنها شهادة على فعل يوجب الحد
والمال فإذا بطلت في إحداهما بطلت في الأخرى والأول أولى لما ذكرناه، وإن ادعى رجل على رجل
أنه ضرب أخاه بسهم عمدا فقتله ونفذ إلى أخيه الآخر فقتله خطأ وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو شاهدا
وحلف معه ثبت قتل الثاني لأنه خطأ موجبه المال ولم يثبت قتل الأول لأنه عمد موجبه القصاص فهما
كالجنايتين المفترقتين، وعلى قول أبي بكر لا يثبت شئ منهما لأن الجناية عنده لا تثبت الا بشاهدين سواء
كان موجبها المال أو غيره، ولو ادعى رجل على آخر أنه سرق منه وغصبه مالا فحلف بالطلاق والعتاق ما
سرق منه ولا غصبه فأقام المدعي شاهدا وامرأتين شهدا بالسرقة والغصب أو أقام شاهدا وحلف
معه استحق المسروق والمغصوب لأنه أتى ببينة يثبت ذلك بمثلها ولم يثبت طلاق ولا عتاق لأن
هذه البينة حجة في المال دون الطلاق والعتاق وظاهر مذهب الشافعي في في هذا الفصل كمذهبنا الا
فيما ذكرناه من الخلاف عن أصحابنا
(فصل) ولو ادعى جارية في يد رجل أنها أم ولده وان ابنها ابنه منها ولد في ملكه وأقام بذلك
شاهدا وامرأتين أو حلف مع شاهده حكم له بالجارية لأن أم الولد مملوكة له ولهذا يملك وطأها واجارتها
14

وتزويجها ويثبت لها حكم الاستيلاد باقراره لأن اقراره ينفذ في ملكه والملك يثبت بالشاهد والمرأتين
والشاهد واليمين ولا يحكم له بالولد لأنه يدعي نسبه والنسب لا يثبت بذلك يدعي حريته أيضا فعلى
هذا يقر الولد في يد المنكر مملوكا له وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الاخر يأخذها وولدها
ويكون ابنه لأن من ثبتت له العين ثبت له نماؤها والولد نماؤها، وذكر أبو الخطاب فيها عن أحمد
روايتين كقولي الشافعي
ولنا أنه لم يدع الولد ملكا وإنما يدعي حريته ونسبه وهذان لا يثبتان بهذه البينة فيبقيان على ما كانا عليه
(فصل) وإن ادعى رجل أنه خالع امرأته فأنكرت ثبت ذلك بشاهد وامرأتين أو يمين المدعي
لأنه يدعي المال الذي خالعت به وان ادعت ذلك المرأة لم يثبت الا بشهادة رجلين لأنها لا تقصد
منه الا الفسخ وخلاصها من الزوج ولا يثبت ذلك الا بهذه البينة
(مسألة) قال (ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع والولادة والحيض
والعدة وما أشبهها شهادة امرأة عدل)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة قال القاضي والذي تقبل
فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب كالرتق
15

والقرن والبكارة والثيابة والبرص وانقضاء العدة وعن أبي حنيفة لا تقبل شهادتهن منفردات على
الرضاع لأنه يجوز ان يطلع عليه محارم المرأة من الرجال فلم يثبت بالنساء منفردات كالنكاح
ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي اهاب فاتت أمة سوداء فقالت
قد أرضعتكما فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فاعرض عني ثم أتيته فقلت يا رسول الله انها كاذبه
قال (كيف وقد زعمت ذلك) متفق عليه ولأنها شهادة على عورة للنساء فيها مدخل فقبل فيها شهادة
النساء كالولادة وتخالف العقد فإنه ليس بعورة وحكي عن أبي حنيفة أيضا أن شهادة النساء المنفردات
لا تقبل في الاستهلال لأنه يكون بعد الولادة وخالفه صاحباه وأكثر أهل العلم لأنه يكون حال
الولادة فيتعذر حضور الرجال فأشبه الولادة نفسها
وقد روي عن علي رحمه الله أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال. رواه الإمام أحمد
وسعيد بن منصور إلا أنه من حديث جابر الجعفي وأجازه شريح والحسن والحارث العكلي وحماد
(فصل) إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فإنه تقبل فيه شهادة
16

المرأة الواحدة وقال طاوس تجوز شهادة المرأة في الرضاع وإن كانت سوداء، وعن أحمد رواية أخرى
لا يقبل فيه الا امرأتان وهو قول الحكم وابن أبي ليلى وابن شبرمة واليه ذهب مالك والثوري لأن
كل جنس يثبت به الحق كفى فيه اثنان كالرجال ولان الرجال أكمل منهن عقلا ولا يقبل منهم الا
اثنان وقال عثمان البتي يكفي ثلاث لأن كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل
وقال أبو حنيفة تقبل شهادة المرأة الواحدة في ولادة الزوجات دون ولادة المطلقة، وقال عطاء
والشعبي وقتادة والشافعي وأبو ثور لا يقبل فيه إلا أربع لأنها شهادة من شرطها الحرية فلم يقبل فيها
الواحدة كسائر الشهادات ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (شهادة امرأتين بشهادة رجل)
ولنا ما روى عقبة بن الحارث أنه قال تزوجت أم يحيى بنت أبي اهاب فجاءت أمة سوداء فقالت
قد أرضعتكما فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فاعرض عني ثم ذكرت له ذلك فقال (وكيف
وقد زعمت ذلك؟) متفق عليه، وروى حذيفة ان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة ذكره الفقهاء في
كتبهم، وروى أبو الخطاب عن ابن عمران النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجزئ في الرضاع شهادة امرأة
واحدة) ولأنه معنى يثبت بقول النساء المنفردات فلا يشترط فيه العدد كالرواية وأخبار الديانات
17

وما ذكره الشافعي من اشتراط الحرية غير مسلم وقول النبي صلى الله عليه وسلم (وسلم شهادة امرأتين بشهادة
رجل في الموضع الذي تشهد فيه مع الرجل)
(فصل) فإن شهد الرجل بذلك فقال أبو الخطاب تقبل شهادته وحده لأنه أكمل من المرأة
فإذا اكتفي بها وحدها فلان يكتفى به أولى ولان ما قبل فيه قول المرأة الواحدة قبل فيه قول الرجل كالرواية
(مسألة) قال (ومن لزمته الشهادة فعليه ان يقوم بها على القريب والبعيد لا يسعه
التخلف عن اقامتها وهو قادر على ذلك)
وجملته أداء الشهادة من فروض الكفايات فإن تعينت عليه بأن لا يتحملها من يكفي فيها
سواه لزمه القيام بها وان قام بها اثنان غيره سقط عنه أداؤها إذا قبلها الحاكم فإن كان تحملها
جماعة فأداؤها واجب على الكل إذا امتنعوا أثموا كلهم كسائر فروض الكفايات ودليل وجوبها
قول الله تعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى
بهما) وفي الآية الأخرى (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن تعدلوا
اعدلوا هو أقرب للتقوى) ولان الشهادة أمانة فلزمه أداؤها عند طلبه كالوديعة ولقول تعالى (ان الله
18

يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها) فإن عجز عن اقامتها أو تضرر بها لم تجب عليه لقول الله
تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد وان تفعلوا فإنه فسوق بكم)
(فصل) ومن له كفاية فليس له اخذ الجعل على الشهادة لأنه أداء فرض فإن فرض الكفاية
إذا قام به البعض وقع منهم فرضا، وان لم تكن له كفاية ولا تعينت عليه حل به اخذ، والنفقة على عياله
فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية فإذا اخذ الرق جمع بين الامرين وان تعينت عليه
الشهادة احتمل ذلك أيضا واحتمل ان لا يجوز لئلا يأخذ العوض عن أداء فرض عين وقال أصحاب
الشافعي لا يجوز اخذ الأجرة لمن تعينت عليه وهل يجوز لغيره؟ على وجهين
(مسألة) قال (وما أدركه من الفعل نظرا أو سمعه تيقنا وان لم ير المشهود عليه شهد به)
وجملة ذلك أن الشهادة لا تجوز الا بما علمه بدليل قوله تعالى (الا من شهد بالحق وهو يعلمون)
وقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)
وتخصيصه لهذه الثلاثة بالسؤال لأن العلم بالفؤاد وهو يستند إلى السمع والبصر ولان مدرك الشهادة
الرؤية والسماع وهما بالبصر والسمع وروي عن ابن عباس أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة
قال (هل ترى الشمس؟ - قال نعم قال - على مثلها فاشهد أو دع) رواه الخلاف في الجامع
19

باسناده. إذا ثبت هذا فإن مدرك العلم الذي تقع به الشهادة اثنان الرؤية والسماع وما عداهما من
مدارك العلم كالشم والذوق واللمس لا حاجة إليها في الشهادة في الأغلب فأما ما يقع بالرؤية فالافعال
كالغصب والاتلاف والزنا وشرب الخمر وسائر الأفعال وكذلك الصفات المرئية كالعيوب في
المبيع ونحوها فهذا لا تتحمل الشهادة فيه الا بالرؤية لأنه تمكن الشهادة عليه قطعا فلا يرجع إلى غير
ذلك واما السماع فنوعان
(أحدهما) من المشهود عليه مثل العقود كالبيع والإجارة وغيرهما من الأقوال فيحتاج إلى أن
يسمع كلام المتعاقدين ولا نعتبر رؤية المتعاقدين إذا عرفهما وتيقن انه كلامهما وبهذا قال ابن عباس والزهري
وربيعة والليث وشريح وعطاء وابن أبي ليلى ومالك وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن الشهادة لا تجوز
حتى يشاهد القائل المشهود عليه لأن الأصوات تشتبه فلا يجوز ان يشهد عليها من غير رؤية كالخط
لنا انه عرف المشهود عليه يقينا فجازت شهادته عليه كما لو رآه وجواز اشتباه الأصوات كجواز
اشتباه الصور وإنما تجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقينا وقد يحصل العلم بالسماع يقينا وقد
اعتبره الشرع بتجويزه الرواية من غير رؤية ولهذا قبلت رواية الأعمى ورواية من روى عن أزواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير محارمهن
وأما النوع الثاني فسنذكره إن شاء الله تعالى في المسألة التي تلي هذا
20

(فصل) إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه جاز ان يشهد عليه حاضرا كان أو غائبا
وان لم يعرف ذلك لم يجز أن يشهد عليه مع غيبته وجاز ان يشهد عليه حاضرا بمعرفة عينه نص عليه احمد،
قال مهنا سألت أحمد عن رجل شهد لرجل بحق له على رجل وهو لا يعرف اسم هذا ولا اسم هذا
الا أنه يشهد له فقال إذا قال أشهد ان لهذا على هذا وهما شاهدان جميعا فلا بأس وإن كان غائبا فلا
يشهد حتى يعرف اسمه
(فصل) والمرأة كالرجل في أنه إذا عرفها وعرف اسمها ونسبها جاز ان يشهد عليها مع غيبتها
وان لم يعرفها لم يشهد عليها مع غيبتها قال أحمد في رواية الجماعة لا تشهد الا لمن تعرف وعلى من تعرف
ولا يشهد إلا على امرأة قد عرفها وان كانت ممن قد عرف اسمها ودعيت وذهبت وجاءت فليشهد
ولا فلا يشهد فأما ان لم يعرفها فلا يجوز ان يشهد مع غيبتها ويجوز ان يشهد على عينها إذا عرف عينها
ونظر إلى وجهها قال أحمد ولا يشهد على امرأة حتى ينظر إلى وجهها وهذا محمول على الشهادة على من
لم يتيقن معرفتها فأما من تيقن معرفتها وتعرف بصوتها يقينا فيجوز ان يشهد عليها إذا تيقن صوتها
على ما قدمناه في المسألة قبلها فإن لم يعرف المشهود عليه فعرفه عنده من يعرفه فقد روي عن أحمد أنه قال
لا يشهد على شهادة غيره الا بمعرفته لها وقال لا يجوز للرجل ان يقول لرجل انا أشهد ان هذه
فلانة ويشهد على شهادته وهذا صريح في المنع من الشهادة على من لا يعرفه بتعريف غيره وقال القاضي
21

يجوز ان يحمل هذا على الاستحباب لتجويزه الشهادة بالاستفاضة وظاهر قوله المنع منه وقال احمد لا يشهد
على امرأة الا باذن زوجها وهذا يحتمل انه لا يدخل عليها بيتها ليشهد عليها الا باذن زوجها لما روى
عمر وبن العاص قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يستأذن على النساء الا باذن أن أزواجهن رواه أحمد في
مسنده فأما الشهادة عليها في غير بيتها فجائزة لأن اقرارها صحيح وتصرفها إذا كانت رشيدة صحيح
فجاز ان يشهد عليها به
(فصل) وإذا عرف الشاهد خطه ولم يذكر انه شهد به فهل يجوز له انى شهد بذلك؟ فيه روايتان
(أحداهما) لا يجوز ان يشهد بها قال أحمد في رواية حرب في من يرى خطه وخاتمه ولا يذكر
الشهادة قال لا يشهد الا بما يعلم وقال في رواية غيره يشهد إذا عرف خطه وكيف تكون الشهادة الا
هكذا؟ وقال في موضع آخر إذا عرف خطه ولم يحفظ فلا يشهد الا أن يكون منسوخا عنده موضوعا
تحت ختمه وحرزه فيشهد وان لم يحفظ، وقال أيضا إذا كان ردئ الحفظ فيشهد ويكتبها عنده وهذه
رواية ثالثة وهو ان يشهد إذا كانت مكتوبة عنده يخطه في حرزه ولا يشهد إذا لم تكن كذلك بمنزلة
القاضي في إحدى الروايتين إذا وجد حكمه بخطه تحت ختمه أمضاه ولا يمضيه إذا لم يكن كذلك
22

(مسألة) (قال وما تظاهرت به الاخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به كالشهادة
على النسب والولادة)
هذا النوع الثاني من السماع وهو ما يعلمه بالاستفاضة وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في
النسب والولادة قال ابن المنذر اما النسب فلا اعلم أحدا من أهل العلم منع منه ولو منع ذلك لاستحالت
معرفة الشهادة به إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ولا تمكن المشاهدة فيه ولو اعتبرت المشاهدة لما
عرف أحد أباه ولا أمه ولا أحدا من أقاربه وقال قال الله تعالى (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) واختلف أهل العلم
فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب والولادة فقال أصحابنا هو تسعة أشياء النكاح. والملك
المطلق. والوقف. ومصرفه. والموت. والعتق والولاء. والعذل. وبهذا قال أبو سعيد
الإصطخري وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم لا تجوز في الوقف والولاء والعتق والزوجية لأن
الشهادة ممكنة فيه بالقطع فإنها شهادة بعتد فأشبه سائر العقود وقال أبو حنيفة لا تقبل الا في النكاح والموت
ولا تقبل في الملك المطلق لأنها شهادة بمال أشبه الدين وقال صاحباه يقبل في الولاء مثل عكرمة مولى ابن عباس
ولنا ان هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها فجازت الشهادة
23

عليها بالاستفاضة كالنسب قال مالك ليس عندنا من يشهد على احباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا بالسماع وقال مالك السماع في الاحباس والولاء جائز وقال أحمد في رواية المروذي اشهد ان دار
بختان لبختان وان لم يشهدك وقيل له تشهد ان فلانة امرأة فلان ولم تشهد النكاح؟ فقال نعم إذا كان
مستفيضا فأشهد أقوال ان فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وان خديجة وعائشة زوجاه وكل أحد يشهد
بذلك من غير مشاهدة. فإن قيل يمكنه العلم في هذه الأشياء بمشاهدة السبب قلنا وجود السبب لا يفيد العلم
بكونه سببا يقينا فإنه يجوز ان يشتري ما ليس بملك البائع ويصطاد صيدا صاده غيره ثم انفلت منه وان تصور
ذلك فهو نادر وقول أصحاب الشافعي تمكن الشهادة في الوقت باللفظ لا يصح لأن الشهادة ليست
بالعقود ههنا وإنما يشهد بالوقف الحاصل بالعقد فهو بمنزلة الملك وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد
وكذلك الحرية والولاء وهذه جميعها لا يمكن القطع بها كما لا يمكن القطع بالملك لأنها مترتبة على الملك
فوجب ان تجوز الشهادة فيها بالاستفاضة كالملك سواء قال مالك ليس عندنا من شهد على أحباس
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الا على السماع. إذا ثبت هذا فكلام أحمد والخرقي يقتضي ان لا يشهد
بالاستفاضة حتى تكثر به الاخبار ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم لقول الخرقي: فيما تظاهرت
به الاخبار واستقرت معرفته في القلب يعني حصل العلم به وذكر القاضي في المجرد أنه يكفي أن يسمع
من اثنين عدلين ويسكن قلبه إلى خبرهما لأن الحقوق تثبت بقول اثنين وهذا قول المتأخرين من
أصحاب الشافعي والقول الأول هو الذي يقتضيه لفظ الاستفاضة فإنها مأخوذة من فيض الماء لكثرته
ولأنه لو اكتفي فيه بقول اثنين لا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة على الشهادة وإنما اكتفي بمجرد السماع
24

(فصل) فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى والإعارة
والإجارة والعمارة والهدم والبناء من غير منازع فقال أبو عبد الله بن حامد يجوزان يشهد له بملكها
وهو قول أبي حنيفة والاصطخري من أصحاب الشافعي قال القاضي ويحتمل ان لا يشهد الا بما شاهده
من الملك واليد والتصرف لأن اليد ليس منحصرة في الملك قد تكون بإجارة وإعارة وغصب وهذا
قول بعض أصحاب الشافعي. ووجه الأول ان اليد دليل الملك واستمرارها من غير منازع يقويها
فجرت مجرى الاستفاضة فجاز ان يشهد بها كما لو شاهد سبب اليد من بيع أو إرث أو هبة واحتمال
كونها عن غصب أو جارة يعارضه استمرار اليد من غير منازع فلا يبقى مانعا كما لو شاهد سبب
اليد فإن احتمال كون البائع غير مالك الوارث والواهب لا يمنع الشهادة كذا ههنا. فإن قيل فإذا
بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة الا بما يعلم. قلنا الظن يسمى علما قال الله تعالى (فإن
علمتموهن مؤمنات) ولا سبيل إلى العلم اليقيني ههنا فجازت بالظن
(فصل) وإذا سمع رجلا يقول لصبي هذا ابني جاز ان يشهد به لأنه مقر بنسبه وان سمع
الصبي يقول هذا أبي والرجل يسمعه فسكت جاز ان يشهد أيضا لأن سكوت الأب اقرار له والاقرار
يثبت النسب فجازت الشهادة به وإنما أقيم السكوت ههنا مقام الاقرار لأن الاقرار على الانتساب
الباطل جائز بخلاف سائر الدعاوى ولان النسب يغلب فيه الاثبات الا ترى أنه يحلق بالامكان في
25

النكاح؟ وذكر أبو الخطاب أنه يحتلم ان لا يشهد مع السكوت حتى يتكرر لأن السكوت ليس باقرار
حقيقي وإنما أقيم مقامه فاعتبرت تقويته بالتكرار كما اعتبرت تقوية اليد في العقار بالاستمرار
(فصل) وإذا شهد عدلان ان فلانا مات وخلف من الورثة فلانا وفلانا لا نعلم له وارثا غيرهما قبلت
شهادتهما وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والعنبري وقال ابن أبي ليلى لا تقبل حتى يبينا
أنه لا وارث له سواهما.
ولنا أن هذا مما لا يمكن علمه فيكفي فيه الظاهر مع شهاد الأصل بعدم وارث آخر قال أبو الخطاب
سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا يحتمل ان لا تقبل إلا من أهل الخبرة الباطنة لأن عدم
علمهم بوارث آخر ليس بدليل على عدمه بخلاف أهل الخبرة الباطنة فإن الظاهر أنه لو كان له وارث
آخر لم يخف عليهم وهذا قول الشافعي فاما ان قالا لا نعلم له وارثا بهذه البلدة أو بأرض كذا وكذا
لم تقبل وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يقضى به كما لو قالا لا نعلم
له وارثا وذكر ذلك مذهبا لأحمد أيضا
ولنا انه ليس بدليل على عدم الوارث لأنهما قد يعلمان أنه لا وارث له في تلك الأرض
ويعلمان له وارثا في غيرها فلم تقبل شهادتهما كما لو قالا لا نعلم له وارثا في هذا البيت
26

(مسألة) قال (من لم يكن من الرجال والنساء عاقلا مسلما بالغا عدلا لم تجز شهادته)
وجملته ان يعتبر في الشاهد سبعة شروط (أحدها) أن يكون عاقلا وتقبل شهادة من ليس
بعاقل اجماعا قاله ابن المنذر وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو طفولية وذلك لأنه ليس بمحصل
ولا تحصل الثقة بقوله ولأنه يأتم بكذبه ولا يتحرز منه (الثاني) أن يكون مسلما ونذكر هذا
فيما بعد إن شاء الله تعالى (الثالث) أن يكون بالغا فلا تقبل شهادة صبي لم يبلغ بحال يروى هذا عن
ابن عباس وبه قال القاسم وسالم وعطاء ومكحول وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والشافعي
وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى ان شهادتهم تقبل في
الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحالة التي تجارحوا عليها وهذا قول مالك
لأن الظاهر صدقهم وضبطهم فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم لأنه يحتمل ان يلقنوا قال ابن الزبير إن
أخذوا عند مصاب ذلك فبالحري ان يعقلوا ويحفظوا وعن الزهري ان شهادتهم جائزة ويستحلف
أولياء المشجوج وذكره عن مروان وروي عن أحمد رواية ثالثة ان شهادته تقبل إذا كان ابن عشر
قال ابن حامد فعلى هذه الرواية تقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص كالعبيد وروى عن علي رضي الله
27

عنه ان شهادة بعضهم تقبل على بعض وروي ذلك عن شريح والحسن والنخعي قال إبراهيم كانوا يجيزون
شهادة بعضهم على بعض فيما كان بينهم قال المغيرة وكان أصحابنا لا يجيزون شهادتهم على رجل ولا على عبد
وروى الإمام أحمد باسناده عن مسروق قال كنا عند علي فجاءه خمسة غلمة فقالوا انا كنا ستة
غلمة نتغلط فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الاثنين انهما غرقاه وشهد الاثنان على الثلاثة انهم غرقوه
فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية وجعل على الثلاثة خمسيها وقضى بنحو هذا مسروق والمذهب
ان شهادتهم لا تقبل في شئ لقول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقال - واشهدوا
ذوي عدل منكم - وقال - ممن ترضون من الشهداء - والصبي ممن لا يرضى وقال - ولا تكتموا
الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) فأخبر ان الشاهد الكاتم لشهادته آثم والصبي لا يأثم فيدل على أنه
ليس بشاهد ولان الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فيزعه عنه ويمنعه منه فلا تحصل القفة بقوله
ولان من لا يقبل قوله على نفسه في الاقرار لا تقبل شهادته على غيره كالمجنون يحقق هذا ان الاقرار
أوسع لأنه يقبل من الكافر والفساق والمرأة ولا تصح الشهادة منهم ولان من لا تقبل شهادته في
المال لا تقبل في الجراح كالفاسق ومن لا تقبل شهادته على من ليس بمثله لا تقبل على مثله كالمجنون
(الشرط الرابع) العدالة لقول الله تعالى (واشهدوا ذوي عدل منكم) ولا تقبل شهادة الفاسق
لذلك ولقول الله تعالى (ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) فأمر بالتوقف عن نبأ الفاسق والشهادة نبأ فيجب
28

التوقف عنه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الاسلام
ولا ذي غمر على أخيه) رواه أبو عبيد وكان أبو عبيد لا يراه خص بالخائن والخائنة أمانات الناس
بل جميع ما افترض الله تعالى على العباد القيام به أو اجتنابه من صغير ذلك وكبيره قال الله تعالى (انا
عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال) الآية وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا يؤسر
رجل بغير العدول ولان دين الفاسق لم يزعه عن ارتكاب محظورات الدين فلا يؤمن أن لا يزعه
عن الكذب فلا تحصل الثقة بخبره إذا تقرر هذا فالفسوق نوعان
(أحدهما) من حيث الافعال فلا نعلم خلافا في رد شهادته (والثاني) من جهة الاعتقاد وهو اعتقاد
البدعة فيوجب رد الشهادة أيضا وبه قال مالك وشريك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وقال شريك أربعة
لا تجوز شهادتهم (رافضي) يزعم أن له إماما مفترضة طاعته (وخارجي) يزعم أن الدنيا دار حرق
(وقدري) يزعم أن المشيئة إليه (ومرجئ) ورد شهادة يعقوب وقال ألا أرد شهادة من يزعم أن
الصلاة ليست من الايمان؟ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي المختلفون على ثلاثة أضرب (ضرب)
اختلفوا في الفروع فهؤلاء لا يفسقون بذلك ولا ترد شهادتهم وقد اختلف الصحابة في الفروع ومن
بعدهم من التابعين
29

(الثاني) من نفقة ولا نكفره وهو من سب القرابة كالخوارج أو سب الصحابة كالروافض
فلا تقبل لهم شهادة لذلك
(الثالث) من نكفره وهو من قال بخلق القرآن ونفي الرؤية وأضاف المشيئة إلى نفسه فلا تقبل
له شهادة، وذكر القاضي أبو يعلى مثل هذا سواء قال: وقال احمد ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة
والقدرية لمعلنة وظاهر قول الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي حنيفة وأصحابه قبول شهادة أهل
الأهواء وأجاز سوار شهادة ناس من بني العنبر ممن يرى الاعتزال قال الشافعي إلا أن يكونوا ممن
يرى الشهادة بالكذب بعضهم لبعض كالخطابية وهم أصحاب أبي الخطاب يشهد بعضهم لبعض بتصديقه
ووجه قول من أجاز شهادتهم انه اختلاف لم يخرجهم عن الاسلام أشبه الاختلاف في الفروع
ولان فسقهم لا يدل على كذبهم لكونهم ذهبوا إلى ذلك تدينا واعتقادا انه الحق ولم يرتكبوه عالمين
بتحريمه بخلاف فسق الافعال
قال أبو الخطاب ويتخرج على قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أن الفسق الذي يتدين
به من جهة الاعتقاد لا ترد الشهادة به، وقد روي عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن
داعية فكذلك الشهادة ولنا انه أحد نوعي الفسق فترد به الشهادة كالنوع الآخر، ولان
المبتدع فاسق فترد شهادته للآية والمعنى.
(الشرط الخامس) أن يكون متيقظا حافظا لما يشهد به، فإن كان مغفلا أو معروفا بكثرة
الغلط لم تقبل شهادته
(الشرط الساس) أن يكون ذا مروءة (الشرط السابع) انتفاء الموانع وسنشرح هذه الشروط
في مواضعها إن شاء الله تعالى
30

(فصل) ظاهر كلام الخرقي أن شهادة البدوي على من هو من أهل القرية وشهادة أهل القرية
على البدوي صحيحة إذا اجتمعت هذه الشروط وهو قول ابن سيرين وأبي حنيفة والشافعي وأبي
ثور واختاره أبو الخطاب
وقال الإمام أحمد أخشى ان لا تقبل شهادة البدوي عيل صاحب القرية فيحتمل هذا أن لا تقبل
شهادته وهو قول جماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح
وكقول الباقين في الجراح احتياط للدماء، واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) ولأنه متهم حيث عدل عن أن
يشهد قرويا وأشهد بدويا. قال أبو عبيد ولا أرى شهادتهم ردت إلا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله
تعالى والجفاء في الدين
ولنا أن من قبلت شهادته على أهل البدو قبلت شهادته على أهل القرية كأهل القرى ويحمل
الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب انه لا يكون له من يسأله
الحاكم فيعرف عدالته
31

(مسألة) قال (والعدل من لم تظهر منه ريبة وهذا قول إبراهيم النخعي وإسحاق)
وجملته أن العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله قال القاضي يكون ذلك في الدين والمروءة
والأحكام، أما الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة فإن الله تعالى أمر أن لا تقبل شهادة
القاذف فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة ولا يخرجه عن العدالة فعل صغيرة لقول الله تعالى (الذين
يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم) قيل اللمم صغار الذنوب ولا التحرز منها غير ممكن، جاء
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
إن تعفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما؟
أي لم يلم فإن لامع الماضي بمنزلة له مع المستقبل وقيل اللمم إن يلم بالذنب ثم لا يعود فيه
والكبائر كل معصية فيها حد والاشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله وشهادة الزور وعقوق الوالدين
وروى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الاشراك بالله وقتل النفس التي
حرم الله وعقوق الوالدين - وكان متكئا فجلس فقال - ألا وقول الزور وقول الزور) فما زال
يكررها حتى قلنا ليته سكت. متفق عليه
قال احمد ولا تجوز شهادة آكل الربا والعاق وقاطع الرحم ولا تقبل شهادة من لا يؤدي زكاة
ماله وإذا أخرج في طريق المسلمين الأسطوانة والكنيف لا يكون عدلا ولا يكون ابنه عدلا إذا ورث
أباه حتى يرد ما أخذه من طريق المسلمين ولا يكون عدلا إذا كذب الكذب الشديد لأن النبي صلى الله
عليه وسلم رد شهادة رجل في كذبه
32

وقال عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا
مجلود في حد ولا ذي غمر على أخيه في عداوة ولا القاطع لأهل البيت ولا مجرب عليه شهادة زور
ولا ضنين في ولاء ولا قرابة) وقد رواه أبو داود وفيه (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان
ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه) فاما الصغار فإن كان مصرا عليها ردت شهادته وإن كان الغالب من
أمره الطاعات لم يدر لما ذكرنا من عدم امكان التحرز منه.
وأما المروءة فاجتناب الأمور الدنيئة المزرية وبه ذلك نوعان (أحدهما) من الافعال كالأكل
في السوق يعني به الذي ينصب مائدة في السوق ثم يأكل والناس ينظرون ولا يعنى به أكل الشئ
اليسير كالكسرة ونحوها، وإن كان يكشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه أو يمد رجليه في
مجمع الناس أو يتمسخر بما يضحك الناس به أو يخاطب امرأته أو جاريته أو غيرهما بحضرة الناس
بالخطاب الفاحش أو يحدث الناس بمباضعته أهله ونحو هذا من الافعال الدنيئة ففاعل هذا لا تقبل
شهادته لأن هذا سخف ودناءة فمن رضيه لنفسه واستحسنه فليست له مروءة فلا تحصل الثقة بقوله،
قال احمد في رجل شتم بهيمة قال: الصالحون لا تقبل شهادته حتى يتوب
وقد روى أبو مسعود البدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان مما أدرك الناس من كلام النبوة
الأولى (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) يعنى من لم يستح صنع ما شاء ولان المروءة تمنع الكذب
وتزجر عنه ولهذا يمتنع منه ذو المروءة وإن لم يكن ذا دين.
33

وقد روي عن أبي سفيان أنه حين سأله قيصر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته فقال: والله لولا أني
كرهت أن يؤثر عني الكذب لكذبته، ولم يكن يومئذ ذا دين ولان الكذب دناءة والمروءة
تمنع من الدناءة وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب اعتبرت في العدالة كلدين ومن فعل شيئا
من هذا مختفيا به لم يمنع من قبول شهادته لأن مروءة لا تسقط به وكذلك إن فعله مرة أو شيئا
قليلا لم ترد شهادته لأن صغير المعاصي لا يمنع الشهادة إذا قل فهذا أولى ولان المروءة لا تختل
بقليل هذا ما لم يكن عادته.
(النوع الثاني) في الصناعات الدنيئة كالكساح والكناس لا تقبل شهادتهما لما روى سعيد
في سننه أن رجلا أتى ابن عمر فقال له اني رجل كناس قال أي شئ تكنس؟ الزبل؟ قال: لا.
قال فالعذرة؟ قال: نعم قال - منه كسبت المال ومنه تزوجت ومنه حججت؟ قال: نعم. قال
الاجر خبيث وما تزوجت خبيث حتى تخرج منه كما دخلت فيه. وعن ابن عباس مثله في الكساح
ولان هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات فأشبه الذي قبله. فأما الزبال والقراد والحجام ونحو هم ففيه وجهان
(أحدهما) لا تقبل شهادتهم لأنه دناءة يجتنبه أهل المروءات فهو كالذي قبله
(والثاني) تقبل لأن بالناس إليه حاجة فعلى هذا الوجه إنما تقبل شهادته إذا كان يتنظف للصلاة
34

في وقتها ويصليها فإن صلى بالنجاسة لم تقبل شهادته وجها واحدا واما الحيائك والحارس والدباغ
فهي أعلى من هذه الصنائع فلا ترد بها الشهادة وذكرها أبو الخطاب في جملة ما فيه وجهان
وأما سائر الصناعات التي لا دناءة فيها فلا ترد الشهادة بها الامن كان منهم يحلف كاذبا أو يعد
ويخلف وغلب هذا عليه فإن شهادته ترد وكذلك من كان منهم يؤخر الصلاة عن أوقاتها أو لا يتنزه
عن النجاسات فلا شهادة له ومن كانت صناعته محرمة كصانع المزامير والطنابير فلا شهادة له ومن
كانت صناعته يكثر فيها الربا كالصائغ والصير في ولم يتوق ذلك ردت شهادته
(فصل) في اللعب كل لعب فيه قمار فهو محرم أي لعب كان وهو من اليسير الذي أمر الله
تعالى باجتنابه ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته وما خلا من القمار وهو اللعب الذي لا عوض فيه من
الجانبين ولا من أحدهما فمنه ما هو محرم ومنه ما هو مباح فأما المحرم فاللعب بالنرد وهذا قول أبي حنيفة
وأكثر أصحاب الشافعي وقال بعضهم هو مكروه غير محرم
ولنا ما روى أبو موسى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنردشير فقد عصي الله ورسوله)
وروى بريدة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحكم الخنزير ودمه)
رواهما أبو داود وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم
إذا ثبت هذا فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته سواء لعب به قمارا أو غير قمار وهذا قول
35

أبي حنيفة ومال وظاهر مذهب الشافعي قال مالك من لعب بالنرد والشطرنج فلا أرى شهادته طائلة
لأن الله تعالى قال (فماذا بعد الحق إلا الضلال؟) وهذا ليس من الحق فيكون من الضلال
(فصل) فاما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم إلا أن النرد آكد منه في التحريم لورود النص
في تحريمه لكن هذا في معناه فيثبت فيه حكمه قياسا عليه
وذكر القاضي أبو حسين ممن ذهب إلى تحريمه علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وسعيد
ابن المسيب والقاسم وسالما وعروة ومحمد بن علي بن الحسين ومطر الوراق ومالكا وهو قول أبي حنيفة
وذهب الشافعي إلى إباحته، وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير
واحتجوا بان الأصل الإباحة ولم يرد بتحريمها نص ولا هي في معنى المنصوص عليه فتبقى على الإباحة
ويفارق الشطرنج النرد من وجهين (أحدهما) أن في الشطرنج تدبير الحرب فأشبه اللعب بالحراب
والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل
(والثاني) أن المعول في النرد على ما يخرجه الكعبتان فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج على حذته
وتدبيره فأشبه المسابقة بالسهام
ولنا قول الله تعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)
قال علي رضي الله عنه الشطرنج من الميسر. ومر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج فقال
ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ قال احمد أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه
36

وروى واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل ينظر في
كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاة فيها نصيب) رواه أبو بكر باسناده ولأنه لعب
يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة فأشبه اللعب بالنرد
وقولهم لا نص فيها قد ذكرنا فيها نصا وهي أيضا في معنى النرد المنصوص على تحريمه. وقولهم
إن فيها تدبير الحرب قلنا لا يقصد هذا منها وأكثر اللاعبين بها إنما يقصدون منها اللعب أو القمار.
وقولهم ان المعول فيها على تدبيره فهو أبلغ في اشتغاله بها وصدها عن ذكر الله والصلاة
إذا ثبت هذا فقال احمد النرد أشد من الشطرنج وإنما قال ذلك لورود النص في النرد والاجماع
على تحريمها بخلاف الشطرنج. وإذا ثبت تحريمها فقال القاضي هو كالنرد في رد الشهادة به وهذا قول
مالك وأبو حنيفة لأنه محرم مثله
وقال أبو بكر إن فعله من يعتقد تحريمه فهو كالنرد في حقه وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد
شهادته إلا أن يشغله عن الصلاة في أوقاتها أو يخرجه إلى الحلف الكاذب ونحوه من المحرمات أو يلعب
بها على الطريق أو يفعل في لعبه ما يستخف به من أجله ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة وهذا مذهب
الشافعي وذلك لأنه مختلف فيه فأشبه سائر المختلف فيه
(فصل) واللاعب بالحمام يطيرها لا شهادة له وهذا قول أصحاب الرأي وكان شريح لا يجيز
37

شهادة صاحب حمام ولا حمام وذلك لأنه سفه ودناءة وقلة مروءة ويتضمن أذى الجيران بطيره
واشرافه على دورهم ورميه إياها بالحجارة
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يتبع حماما فقال (شيطان يتبع شيطانة) وإن اتخذ الحمام لطلب
فراخها أو لحمل الكتب أو للانس بها من غير أذى يتعدى إلى الناس لم ترد شهادته. وقد روى عبادة
ابن الصامت أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الوحشة فقال (اخذ زوجا من حمام)
(فصل) فاما المسابقة المشروعة بالخيل وغيرها من الحيوانات أو على الاقدام فمباحة لا دناءة فيها
ولا ترد به الشهادة، وذكرنا مشروعية ذلك في باب المسابقة وكذلك ما في معناه من الثقاف
واللعب بالحراب وقد لعب الحبشة بالحراب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقامت عائشة خلفه تنظر
إليهم وتستتر به حتى ملت ولان في هذا تعلما للحرب فإنه من آلاته فأشبه المسابقة بالخيل والمناضلة
وسائر للعب إذا لم يتضمن ضررا ولا شغلا عن فرض فالأصل إباحته فما كان منه فيه دناءة
يترفع عنه ذوو المروءات منع الشهادة إذا فعله ظاهرا وتكرر منه، وما كان منه لا دناءة فيه لم
ترد بها الشهادة بحال
38

(فصل في الملاهي)
وهي على ثلاثة أضرب (محرم) وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور
والمعزفة والرباب ونحوها فمن أدام استماعها ردت شهادته لأنه يروى عن علي رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا ظهرت في أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء) فذكر منها
اظهار المعازف والملاهي
وقال سعيد ثنا فرج بن فضالة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: رسول الله
صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني رحمة للعالمين وأمرني بمحق المعارف والمزامير لا يحل بينهن ولا شراؤهن ولا
تعليمهن ولا التجارة فيهن وثمنهن حرام (يعني الضربات
وروى نافع قال: سمع ابن عمر مزمارا قال فوضع أصبعيه في أذنيه نأى عن الطريق وقال
لي يا نافع هل تسمع شيئا؟ قال فقلت لا، قال فرفع أصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا. رواه الخلال في جامع من طريقين، ورواه أبو داود في سننه
وقال حديث منكر
وقد احتج قوم بهذا الخبر على إباحة المزمار وقالوا لو كان حراما لمنع النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر من
سماعه ومنع ابن عمر نافعا من استماعه ولأنكر على الزامر بها قلنا أما الأول فلا يصح لأن المحرم استماعها
39

دون سماعها والاستمتاع غير السماع ولهذا فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع والمستمع ولم يوجبوا
على من سمع شيئا محرما سد أذنيه وقال الله تعالى (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) ولم يقل سدوا
آذانهم والمستمع هو الذي يقصد السماع ولم يوجد هذا من بان عمر وإنما وجد منه السماع ولان بالنبي
صلى الله عليه وسلم حاجة إلى معرفة انقطاع الصوت عنه لأنه عدل عن الطريق وسد أذنيه فلم يكن ليرجع إلى الطريق
ولا يرفع أصبعيه عن أذنيه حتى ينقطع الصوت عنه فأبيح للحاجة
وأما الانكار فلعله كان في أول الهجرة حين لم يكن الانكار واجبا أو قبل امكان الانكار
لكثرة الكفار وقلة أهل الاسلام. فإن قيل فهذا الخبر ضعيف فإن أبا داود ورواه وقال هو حديث منكر.
قلنا قد رواه الخلال باسناده من طريقين فلعل أبا داود ضعفه لأنه لم يقع له إلا من إحدى الطريقين
وضرب مباح وهو الدف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) أخرجه
مسلم. وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي أنه مكروه في غير النكاح لأنه يروى عن عمر أنه كان إذا سمع
صوت الدف بعث فنظر فإن كان في وليمة سكت وإن كان في غيرها عمد بالدرة
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة جاءته فقالت إني نذرت إن رجعت من سفرك سالما أن
أضرب على رأسك بالدف فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أوف بنذرك) رواه أبو داود. ولو كان مكروها لم
يأمرها به وإن كان منذورا
40

وروت الربيع بنت معوذ قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة بنى بي فجعلت جويريات
يضربن بدف لهن ويندبن من قتل آبائي يوم بدر إلى أن قالت إحداهن وفينا نبي يعلم ما في غد
فقال (دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين) متفق عليه
وأما الضرب به للرجال فمكروه على كل حال لأنه إنما كان يضرب به النساء والمخنثون المتشبهون بهن
ففي ضرب الرجال به تشبه بالنساء وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء
فاما الضرب بالقضيب فمكروه إذا انضم إليه محرم أو مكروه كالتصفيق والغناء والرقص وإن خلا
عن ذلك كله لم يكره لأنه ليس بآلة ولا يطرب ولا يسمع منفردا بخلاف الملاهي ومذهب الشافعي
في هذا الفصل كما قلنا
(فصل) واختلف أصحابنا في الغناء فذهب أبو بكر الخلاف وصاحبه أبو بكر عبد العزيز إلى
إباحته، قال أبو بكر عبد العزيز والغناء والنوح معنى واحد مباح ما لم يكن معه منكر ولا فيه طعن وكان
الخلال يحمل الكراهة من احمد على الافعال المذمومة لا على القول عينه
وروي عن أحمد أنه سمع عند ابنه صالح قوالا فلم ينكر عليه وقال له صالح يا أبه أليس كنت تكره
هذا؟ فقال إنه قيل لي انهم يستعملون المنكر. وممن ذهب إلى إباحته من غير كراهة سعد بن إبراهيم
وكثير من أهل المدينة والعنبري لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت عندي جاريتان
41

تغنيان فدخل أبو بكر فقال مزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعهما
فإنها أيام عيد) متفق عليه
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال الغناء زاد الراكب. اختار القاضي انه مكروه غير محرم وهو
قول الشافعي قال هو من اللهو المكروه، وقال احمد الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني
وذهب آخرون من أصحابنا إلى تحريمه، قال أحمد في من مات وخلف ولدا يتيما وجارية مغنية فاحتاج
الصبي إلى بيعها تباع ساذجة قيل له إنها تساوي مغنية ثلاثين ألفا وتساوي ساذجة عشرين دينارا
قال لاتباع إلا على أنها ساذجة. واحتجوا على تحريمه بما روي عن ابن الحنيفة في قوله تعالى (واجتنبوا
قول الزور) قال الغناء، وقال ابن عباس وابن مسعود في قوله (ومن الناس من يشتري لهو
الحديث) قال هو الغناء.
وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن شراء المغنيات وبيعهن والتجارة فيهن وأكل أثمانهن
حرام، أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث علي بن يزيد وقد تكلم فيه أهل العلم وروى
ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الغناء ينبت النفاق في القلب) والصحيح انه من قول ابن مسعود
وعلى كل حال من اتخذ الغناء صناعة يؤتى له ويأتي له أو اتخذ غلاما أو جارية مغنيين يجمع عليهما
الناس فلا شهادة له لأن هذا عند من لم يحرمه سفه ودناءة وسقوط مروءة ومن حرمه فهو مع سفهه
غاص مصر متظاهرة بفسوقه، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء
وإنما يترنم لنفسه ولا يغني الناس أو كان غلامه وجاريته إنما يغنيان له انبنى هذا على الخلاف فيه
فمن أباحه أو كرهه لم ترد شهادته ومن حرمه قال إن دوام عليه ردت شهادته كسائر الصغائر وإن
42

لم يداوم عليه لم ترد شهادته وان فعله من يعتقد حله فقياس المذهب انه لا ترد شهادته بما لا يشتهر
به منه كسائر المختلف فيه من الفروع ومن كان يغشى بيوت الغناء أو يغشاه المغنون للسماع متظاهرا
بذلك وكثر منه ردت شهادته في قولهم جميعا لأنه سفه ودناءة وإن كان معتبرا به فهو كالمغني لنفسه
على ما ذكر من التفصيل فيه.
(فصل) واما الحداء وهو الانشاد الذي تساق به الإبل فمباح لا بأس به في فعله واستماعه لما
روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد
الحداء وكان مع الرجال وكان انجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن رواحة (حرم بالقوم)
فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فاعنقت الإبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأنجشة رويدك رفقا بالقوارير) يعني
النساء وكذلك نشيد الاعراب وهو النصب لا بأس به وسائر أنواع الانشاد ما لك يخرج إلى حد
الغناء وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع إنشاد الشعر فلا ينكره. والغناء من الصوت ممدود مكسور والغنى
من المال مقصور والحداء مضموم ممدود كالدعاء والرعاء ويجوز الكسر كالنداء والهجاء والغذاء
(فصل) والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(ان من الشعر لحكما) وكان يضع لحسان منبرا يقوم عليه فيهجو من هجي رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمين وأنشده كعب بن زهير قصيدة * بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * في المسجد وقال له عمه العباس
يا رسول الله إني أريد ان أمتدحك فقال قل لا يفضض الله فاك فأنشده
من قبلها طبت في الظلال * * وفي مستودع حيث يخصف الورق
وقال عمر وبن الشريد أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أمعك من شعر أمية؟ قلت نعم فأنشدته
بيتا فقال (هيه) فأنشدته بيتا فقال (هيه) حتى أنشدته مائة قافية وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين
43

انا النبي لا كذب * * انا ابن عبد المطلب
وقد اختلف في هذا فقيل ليس بشعر إنما هو كلام موزون وقيل بل هو شعر ولكنه بيت
واحد قصير فهو كالنثر ويروى ابن أبا الدرداء قيل له مامن أهل بيت في الأنصار إلا وقد قال
الشعر قال وأنا قد قلت
يريد المرء ان يعطى مناه * ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي * وتقوي الله أفضل ما استفادا
وليس في إباحة الشعر خلاف وقد قاله الصحابة والعلماء والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة والعربية
والاستشهاد به في التفسير وتعرف معاني كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ويستدل به أيضا على
النسب والتاريخ وأيام العرب ويقال الشعر ديوان العرب فإن قيل فقد قال الله تعالى (والشعراء يتبعهم
الغاوون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا)
رواه أبو داود وأبو عبيد وقال معنى يريه يأكل جوفه يقال ورواه يريه قال الشاعر:
وراهن ربي مثل ما قد ورينني * وأحمى على أكبادهن المكاويا
قلنا أما الآية فالمراد بها من أسرف وكذب بدليل وصفه لهم بقوله (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون
وأنهم يقولون مالا يفعلون؟) ثم استثنى المؤمنين فقال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله
44

كثيرا) ولان الغالب على الشعراء قلة الدين والكذب وقذف المحصنات وهجاء الأبرياء سيما من كان
في ابتداء الاسلام ممن يهجو المسلمين ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويعيب الاسلام ويمدح الكفار فوقع الذم
على الأغلب واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة فالآية دليل على إباحته ومدح أهله
المتصفين بالصفات الجميلة
وأما الخبر فقال أبو عبيد معناه أن يغلب عليه الشعر حتى يشغله عن القرآن والفقه وقيل المراد به
ما كان هجاء وفحشا فما كان من الشعر يتضمن هجو المسلمين والقرح في أعراضهم أو التشبب بامرأة بعينها
والافراط في وصفها فذكر أصحابنا انه محرم وهذا إن أريد به انه محرم على قائله فهو صحيح وأما على رواية فلا
يصح فإن المغازي تروى فيها قصائد الكفار الذين هاجوا بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك أحد
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما
إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت الحائية، وكذلك يروى شعر قيس بن الحطيم في التشبيب بعمرة بنت
رواحة أخت عبد الله بن رواحة وأم النعمان بن بشير
وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم قصيدة كعب بن زهير وفيها التشبيب بسعاد ولم يزل الناس يروون أمثال
هذا ولا ينكر. وروينا أن النعمان بن بشير دخل مجلسا فيه رجل يغنيهم بقصيدة قيص بن الحطيم فلما
دخل النعمان سكتوه من قبل ان فيها ذكر أمه فقال النعمان دعوه فإنه لم يقل بأسا إنما قال
وعمرة من سروات النساء * تنفح بالمسك أردانها
45

وكان عمران بن طلحة في مجلس فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه فسكتوه من أجله فقال دعوه
فإن قائل هذا الشعر كان زوجها
فاما الشاعر فمتى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب أو يقذف مسلما أو مسلمة فإن شهادته ترد
وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل أعظم الناس ذنبا رجل يهاجي رجلا فيهجو القبيلة
بأسرها. وقد روينا أن أبا دلامة شهد عند قاض أظنه ابن أبي ليلى فخاف أن يرد شهادته فقال
إن الناس غطوني تغطيت عنهم * وإن بحثوا عني ففيهم مباحث
فقال القاضي ومن يبحثك يا أبا دلامة وغرم المال من عنده ولم يظهر انه رد شهادته
(فصل في قراءة القرآن بالألحان)
أما قراءته من غير تلحين فلا بأس به وإن حسن صوته فهو أفضل فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (زينو أصواتكم بالقرآن - وروي - زينوا القرآن بأصواتكم - وقال - لقد أوتي أبو
موسى مزمارا من مزامير آل داود)
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى (لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ ولقد أوتيت مزمارا
من مزامير آل داود) فقال أبو موسى لم أعلم أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا
46

وروي أن عائشة رضي الله عنها أبطأت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال (أين كنت يا عائشة؟)
فقالت يا رسول الله كنت أستمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع أحدا يقرأ أحسن من قراءته فقام النبي
صلى الله عليه وسلم فاستمع قراءته ثم قال (هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله للذي جعل في أمتي مثل هذا) وقال
صالح قلت لأبي (زينوا القرآن بأصواتكم) ما معناه؟ قال أن يحسنه وقيل له ما معني (من لم يتغن بالقرآن)
قال يرفع صوته به وهكذا قال الشافعي وقال الليث يتحزن به ويتخشع به ويتباكى به، وقال ابن عيينة
وعمر وبن الحارث ووكيع يستغني به
فأما القراءة بالتلحين فينظر فيه فإن لم يفرط في التمطيط والمد واشباع الحركات فلا بأس به
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ ورجع ورفع صوته قال الراوي أولا أن يجتمع الناس علي لحكيت لكم
قراءته. وقال عليه السلام (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وقال (ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي حسن
الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) ومعنى أذن: استمع. قال الشاعر * في سماع يأذن الشيخ له *
وقال القاضي هو مكروه على كل حال ونحوه قول أبي عبيد وقال معنى قوله (ليس منا من لم يتغن
بالقرآن) أي يستغني به قال الشاعر
وكنت امرءا زمنا بالعراق * عفيف المناخ كثر التغني
47

قال ولو كان من الغناء بالصوت لكان من لم يغن بالقرآن ليس من النبي صلى الله عليه وسلم وروي نحو
هذا التفسير عن ابن عيينة. وقال القاضي أحمد بن محمد البرني هذا قول من أدركنا من أهل العلم.
وقال الوليد بن مسلم يتغنى بالقرآن يجهر به وقيل يحسن صوته به
والصحيح ان هذا القدر من التلحين لا بأس به لأنه لو كان مكروها لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح
حمله على التغني في حديث (ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن) على الاستغناء لأن معنى
أذن استمع وإنما تستمع القراءة، ثم قال يجهر به والجهر صفة القراءة لا صفة الاستغناء. فأما إن أفرط
في المد والتمطيط وإشباع الحركات بحيث يجعل الضمة واوا والفتحة ألفا والكسرة ياء كره ذلك ومن
أصحابنا من يحرمه لأنه يغير القرآن ويخرج الكلمات عن وضعها ويجعل الحركات حروفا
وقد روينا عن أبي عبد الله ان رجلا سأله عن ذلك فقال له ما اسمك؟ قال محمد قال أيسرك ان
يقال لك يا مو حامد؟ قال لا فقال لا يعجبني ان يتعلم الرجل الألحان إلا أن يكون حرمه مثل حرم
أبي موسى فقال له رجل فيكلمون فقال لاكل ذا، واتفق العلماء على أنه تستحب قراءة القرآن بالتحزين
والترتيل والتحسين، وروى بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرؤا القرآن بالحزن فإنه نزل
بالحزن) وقال المروذي سمعت أبا عبد الله قال لرجل لو قرأت وجعل أبو عبد الله ربما تغرغرت عينه
وقال زهير بن حرب كنا عند يحيى القطان فجاء محمد بن سعيد الترمذي فقال له يحيى اقرأ فقرأ
48

فيغشي على يحيى حتى حمل فأدخل، وقال محمد بن صالح العدوي قرأت عند يحيى بن سعيد القطان
فغشي عليه حتى فاته خمس صلوات
(فصل) ولا تقبل شهادة الطفيلي وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة وبهذا قال الشافعي
ولا نعلم فيه مخالفا وذلك لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من اتى إلى طعام لم يدع إليه دخل
سارقا وخرج معيرا) ولأنه يأكل محرما ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة فإن لم يتكرر هذا
منه لم ترد شهادته لأنه من الصغائر
(فصل) ومن سأل من غير أن تحل له المسألة فأكثر ردت شهادته لأنه فعل محرما وأكل سحتا
وأتى دناءة، وقد روى قبيصة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة:
رجل اصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو - سدادا من
عيش ورجل أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت
له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ورجل تحمل حمالة فحلت له المسألة
حتى يصيبها ثم يمسك فما سوى ذلك من المسألة فهو سحت يأكله صاحبه سحتا يوم القيامة) رواه مسلم
وأما السائل ممن تباح له المسألة فلا ترد شهادته بذلك إلا أن يكون أكثر عمره سائلا أو يكثر
ذلك منه فينبغي أن ترد شهادته لأن ذلك دنائة وسقوط مروءة ومن أخذ من الصدقة ممن يجوز له
49

الاخذ من غير مسألة لم ترد شهادته لأنه فعل جائز لا دناءة فيه وان أخذ منها ما لا يجوز له وتكرر ذلك
منه ردت شهادته لأنه مصر على الحرام
(فصل) ومن فعل شيئا من الفروع مختلفا فيه معتقدا إباحته لم ترد شهادة كالمتزوج بغير ولي أو
بغير شهود وآكل متروك التسمية وشارب يسير النبيذ نص عليه أحمد في شارب النبيذ يحد ولا ترد
شهادته وبهذا قال الشافعي، وقال مالك ترد شهادته لأنه فعل ما يعتقد الحاكم تحريمه فأشبه المتفق على تحريمه
ولنا ان الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع فلم يكن بعضهم يعيب من خالفه ولا
يفسقه ولأنه نوع مختلف فيه فلم ترد شهادة فاعله كالذي يوافقه عليه الحاكم وإن فعل ذلك معتقدا
تحريمه ردت شهادته به إذا تكرر، وقال أصحاب الشافعي لا ترد شهادته به لأنه فعل لا ترد به شهادة
بعض الناس فلا ترد به شهادة البعض الآخر كالمتفق على حله
ولنا انه فعل يحرم على فاعله ويأثم به فأشبه المجمع على تحريمه وبهذا فارق معتقد حله وقد روي عن أحمد
فيمن يجب عليه الحج فلا يحج ترد شهادته وهذا يحمل على من اعتقد وجوبه على الفور، فاما من
يعتقد انه على التراخي ويتركه بنية فعله فلا ترد شهادته كسائر ما ذكرنا ويحتمل أن ترد شهادته مطلقا
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من قدر على الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا) وقال
50

عمر لقد هممت أن أنظر في الناس فمن وجدته يقدر على الحج ولا يحج ضربت عليه الجزية ثم قال
ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين
(مسألة) قال (وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم)
وجملته أنه إذا شهد بوصية المسافر الذي مات في سفره شاهدان من أهل الذمة قبلت شهادتهما
إذا لم يوجد غيرهما ويستحلفان بعد العصر ما خانا ولا كتما ولا اشتريا به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا
نكتم شهادة الله انا إذا لمن الآثمين
قال ابن المنذر وبهذا قال أكابر الماضين يعني الآية التي في سورة المائدة، وممن قاله شريح
والنخعي والأوزاعي ويحيى بن حمزة وقضى بذلك ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا تقبل لأن من لا تقبل شهادته على غير الوصية لا تقبل في الوصية
كالفاسق ولان الفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى واختلفوا في تأويل الآية فمنهم من حملها على
التحمل دون الأداء ومنهم من قال المراد بقوله من غيركم أي من غير عشيرتكم ومنهم من قال
الشهادة في الآية اليمين
51

ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان
دوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) الآية وهذا نص
الكتاب وقد قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فروى ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم
مع تميم الداري وعدي بن زيد فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة
مخوصا بالذهب فاحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام
رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتها وإن الجام لصاحبهم فنزلت فيهم
(يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) الآية
وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على
وصيته فاشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فاتيا الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته
فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحلفهما بعد العصر ما خانا
ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وانها لوصية الرجل وتركته فامضى شهادتهما. رواهما
أبو داود في سنته
وروى الخلاف حديث أبي موسى باسناده وحمل الآية على أنه أراد من غير عشيرتكم لا يصح
52

لأن الآية نزلت في قضية عدي وتميم بلا خلاف بين المفسرين وقد فسرها بما قلنا سعيد بن المسيب
والحسن وابن سيرين وعبيدة وسعيد بن جبير والشعبي وسليمان التيمي وغيرهم ودلت عليه الأحاديث
التي رويناها، ولأنه لو صح ما ذكروه لم تجب الايمان لأن الشاهدين من المسلمين لا قسامة عليهم وحملها
على التحمل لا يصح لأنه أمر باحلافهم ولا أيمان في التحمل وحملها على اليمين لا يصح لقوله (فيقسمان
بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله) الآية ولأنه عطفها على ذوي
العدل من المؤمنين وهما شاهدان
وروى أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان، قال احمد أهل
المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى من أين يعرفونه؟ فقد ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الصحابة به وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة فتعين المصير إليه والعمل به سواء
وافق القياس أو خاله
(مسألة) قال (ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك)
مذهب أبي عبد الله أن شهادة أهل الكتاب لا تقبل في شئ على مسلم ولا كافر غير ما ذكرنا
رواه عنه نحو من عشرين نفسا وممن قال لا تقبل شهادتهم الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعي ومالك
53

والشافعي وأبو ثور ونثل حنبل عن أحمد أن شهادة بعضهم على بعض لم تقبل وخطأه الخلال في نقله
هذا وكذلك صاحبه أبو بكر قال هذا غلط لا شك فيه وقال ابن حامد بل المسألة على روايتين وقال
أبو حفص البرمكي تقبل شهادة السبي بعضهم لبعض في النسب إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه
والمذهب الأول والظاهر غلط من روى خلاف ذلك، وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن شهادة
بعضهم على بعض تقبل ثم اختلفوا فمنهم من قال الكفر كله ملة واحدة فتقبل شهادة اليهودي على
النصراني والنصراني على اليهودي هذا قول حماد وسوار والثوري والبتي وأبي حنيفة وأصحابه وعن
قتادة والحكم وأبي عبيد وإسحاق تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض ولا تقبل شهادة يهودي
على نصراني ولا نصراني على يهودي وروي عن الزهري والشعبي كقولنا وكقولهم، واحتجوا بما
روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم يلي على بعض، رواه ابن ماجة ولان
بعضهم يلي على بعض فتقبل شهادة بعضهم على بعض كالمسلمين.
ولنا قول الله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقال تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) والكافر ليس بذي عدل ولا هو منا
54

ولا من رجالنا ولا ممن نرضاه ولأنه لا تقبل شهادته على غير أهل دينه فلا تقبل على أهل دينه كالحربي
والخبر يرويه مجالد وهو ضعيف وإن ثبت فيحتمل انه أراد اليمين فإنها تسمى شهادة، قال الله تعالى
في اللعان (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) وأما الولاية فمتعلقها القرابة والشفقة
وقرابتهم ثابتة وشفقتهم كشفقة المسلمين وجازت لموضع الحاجة فإن غير أهل دينهم لا يلي عليهم
والحاكم يتعذر عليه ذلك لكثرتهم بخلاف الشهادة فإنها ممكنة من المسلمين وقد روي عن معاذ
ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل شهادة أهل دين إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم
(مسألة) قال (ولا تقبل شهادة خصم ولا جار إلى نفسه ولا دافع عنها).
أما الخصم فهو نوعان (أحدهما) كل من خاصم في حق لا تقبل شهادته فيه كالوكيل لا تقبل
شهادته فيما هو وكيل فيه ولا الوصي فيما هو وصي فيه ولا الشريك فيما هو شريك فيه ولا المضارب
بمال أو حقه للمضاربة ولو غصب الوديعة من المودع وطالب بها لم تقبل شهادته فيها وكذلك
ما أشبه هذ لأنه خصم فيه فلم تقبل شهادته به كالمالك، (والثاني) العدو فشهادته غير مقبولة
على عدوه في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ربيعة والثوري وإسحاق ومالك والشافعي ويريد
55

بالعداوة ههنا العداوة الدنيوية مثل ان يشهد المقذوف على القاذف والمقطوع عليه الطريق على القاطع
والمقتول وليه على القاتل والمجروح على الجارح والزوج يشهد على امرأته بالزنا فلا تقبل شهادته
لأنه يقر على نفسه بعداوته لها لا فسادها فراشه.
فأما العداوة في الدين كالمسلم يشهد على الكافر أو المحق من أهل السنة يشهد على مبتدع فلا ترد
شهادته لأن العدالة بالدين والدين يمنعه من ارتكاب محظور دينه وقال أبو حنيفة لا تمنع العداوة
الشهادة لأنها لا تخل بالعدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة.
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة
خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه) رواه أبو داود الغمر الحقد ولان العداوة
تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة وتخالف الصداقة فإن في شهادة الصديق لصديقه بالزور
نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي
من عدوه فافترقا فإن قيل فلم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة؟ قلنا العداوة ههنا دينية
والدين لا يقتضي شهادة الزور ولا ان يترك دينه بموجب دينه.
(فصل) فإن شهد على رجل بحق فقذفه المشهود عليه لم ترد شهادته بذلك لأننا لو أبطلنا شهادته
بهذا لتمكن كل مشهود عليه من ابطال شهادة الشاهد بأن يقذفه ويفارق ما لو طرأ الفسق
56

بعد أداء الشهادة وقبل الحكم فإن رد الشهادة فيه لا يفضي إلى ذلك بل إلى عكسه ولان طريان الفسق
يورث تهمة في حال أداء الشهادة لأن اسراره فظهوره بعد أداء الشهادة يدل على أنه كان يسره
حالة أدائها وههنا حصلت العداوة بأمر لا تهمة على الشاهد فيه وأما المحاكمة في الأموال فليست بعداوة
تمنع الشهادة في غير ما حاكم فيه
وأما قوله ولا جار إلى نفسه فإن الجار إلى نفسه هو الذي ينتفع بشهادته ويجر إليه بها نفعا كشهادة
الغرماء للمفلس بدين أو عين وشهادتهم للميت بدين أو مال فإنه لو ثبت للمفلس أو الميت دين أو
مال تعلقت حقوقهم به ويفارق ما لو شهد الغرماء لحي لا حجر عليه بمال فإن شهادتهم تقبل لأن حقهم
لا يتعلق بماله وإنما يتعلق بذمته
فإن قيل إذا كان معسرا سقطت عنه المطالبة فإذا شهدا له بمال ملكا مطالبته فجروا إلى أنفسهم
نفعا. قلنا لم تثبت المطالبة بشهادتهم إنما تثبت بيساره واقراره لدعواه الحق الذي شهدوا به ولا
تقبل شهادة الوارث للموروث بالجرح قبل الاندمال لأنه قد يسري الجرح إلى نفسه فتجب الدية لهم
بشهادتهم ولا شهادة الشفيع ببيع شقص له فيه الشفعة ولا شهادة السيد لعبده المأذون له في التجارة ولا
لمكاتبه، قال القاضي ولا تقبل شهادة الأجير لمن استأجره وقال نصل عليه أحمد
57

فإن قيل فلم قبلتم شهادة الوارث لموروثه مع أنه إذا مات ورثه فقد جر إلى نفسه بشهادته نفعا
قلنا لا حق له في ماله حين الشهادة وإنما يحتمل أن يتجدد له حق وهذا لا يمنع قبول الشهادة كما لو شهد
لامرأة يحتمل أن يتزوجها أو لغريم له لمال يحتمل أن يوفيه منه أو يفلس فيتعلق حقه به وإنما المانع
ما يحصل للشاهد به نفع حال الشهادة
فإن قبل فقد منعتم قبول شهادته لموروثه بالجرح قبل الاندمال لجواز أن يتجدد له حق وإن لم
يكن له حق في الحال فانقلبتم قد انعقد سبب حقه قلنا يبطل بالشاهد لموروثه المريض بحق فإن شهادته
تقبل مع انعقاد سبب استحقاقه بدليل أن عطيته له لا تنفذ وعطيته لغيره تقف على الخروج من الثلث
قلنا إنما منعنا الشهادة لموروثه بالجرح لأنه ربما أفضى إلى الموت فتجب الدية للوارث الشاهد به ابتداء
فيكون شاهدا لنفسه موجبا له بها حقا ابتداء بخلاف الشاهد للمريض أو المجروح بمال فإنه إنما يجب
للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل ويجوز أن لا ينتقل فلم يمنع الشهادة له كالشهادة لغريمه فإن قيل فقد أجزتم
شهادة الغريم لغريمه بالجرح قبل الاندمال كما أجزتم شهادته له بماله
قلنا إنما أجزناها لأن الدية لا تجب للشاهد ابتداء إنما تجب للقتيل أو لورثته ثم يستوفي الغريم
منها فأشبهت الشهادة له بمال
58

وأما الدافع عن نفسه فمثل أن يشهد المشهود عليه بجرح الشهود أو تشهد عاقلة القاتل خطأ بجرح
الشهود الذين شهدوا به لما فيه من دفع الدية عن أنفهم فإن كان الشاهدان بالجرح فقرين احتمل
قبول شهادتهما لأنهما لا حملان شيئا من الدية واحتلم أن لا تقبل لأنه يخاف أن يوسرا قبل الحول
فيحملا وكذلك الخلاف في البعيد الذي لا يحمل لبعده فإنه لا يأمن أن يموت من هو أقرب منه قبل
الحول فيحمل ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق أو الابراء منه ولا شهادة أحد
الشفيعين على الآخر باسقاط شفعته لأنه يوفر الحق على نفسه ولا شهادة بعض غرماء المفلس على بعضهم
باسقاط دينه أو استيفائه ولا بعض من أوصي له بمال على آخر بما يبطل وصيته إذا كانت وصيته تحصل
بها مزاحمته إما لضيق الثلث عنهما أو لكون الوصيتين بمعين فهذا وأشباهه لا تقبل الشهادة فيه لأن
الشاهد به متهم لما يحصل بشهادته من نفع نفسه ودفع الضرر عنها فيكون شاهدا لنفسه
وقد قال الزهري مضت السنة في الاسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين والظنين المتهم.
وروى طلحة بن عبد الله بن عوف قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا شهادة لخصم
ولا ظنين. وممن رد شهادة الشريك لشريكه شريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي
ولا نعلم فيه مخالفا
59

(فصل) وإن شهد الشريك لشريكه في غير ما هو شريك فيه أو الوكيل لموكله في غير ما هو
وكيل فيه أو العدو لعدوه أو الوارث لموروثه بمال أو بالجرح بعد الاندمال أو شهد أحد الشفيعين بعد
أن أسقط شفعته على الآخر باسقاط شفعته أو أحد الوصيين بعد سقوط وصيه على الآخر بما يسقط
وصيته أو كانت إحدى الوصيتين لا تزاحم الأخرى ونحو ذلك مما لا تهمة فيه قبلت لأن المقتضي لقبول
الشهادة متحقق والمانع منتف فوجب قبولها عملا بالمقتضي
(مسألة) قال (ولا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة)
وجملته انه يعتبر في الشاهد أن يكون موثوقا بقوله لتحصل غلبة الظن بصدقه ولذلك اعتبرنا
العدالة ومن يكثر غلطه وتغفله لا يوثق بقوله لاحتمال أن يكون من غلطاته فربما شهد على غير من
استشهد عليه أو لغير من شهد له أو بغير ما استشهد به وإذا كان مغفلا فربما استزله الخصم بغير شهادته فلا
تحصل الثقة بقوله ولا يمنع من الشهادة وجود غلط نادر أو غفلة نادرة لأن أحدا لا يسلم من ذلك فلو
منع ذلك الشهادة لا نسد بابها فاعتبرنا الكثرة في المنع كما اعتبرنا كثرة المعاصي في الاخلال بالعدالة
60

(مسألة) قال (وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت)
روي هذا عن علي وابن عباس وبه قال ابن سيرين وعطاء والشعبي والزهري ومالك وابن أبي
ليلى وإسحاق وابن المنذر
وقال أبو حنيفة والشافعي لا تقبل شهادته وروي ذلك عن النخعي وأبي هاشم واختلف عن
الحسن وإياس وابن أبي ليلى وأجاز الشافعي شهادته بالاستفاضة والترجمة وإذا أقر عند أذنه ويد
الأعمى على رأسه ثم ضبطه حتى حضر عند الحاكم فشهد عليه ولم يجزها في غير ذلك لأن من لا تجوز
شهادته على الافعال لا تجوز على الأقوال كالصبي ولان الأصوات تشتبه فلا يحصل اليقين قلم يجز
أن شهد بها كالخط
ولنا قوله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) وسائر الآيات في الشهادة ولأنه رجل
عدل مقبول الرواية فقبلت شهادته كالبصير وفارق الصبي فإنه ليس برجل ولا عدل ولا مقبول الرواية
ولان السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين وقد يكون المشهود عليه من ألفه الأعمى وكثرت
صحبته له وعرف صوته يقينا فيجب أن تقبل شهادته فيما تيقنه كالبصير ولا سبيل إلى إنكار حصول
اليقين في بعض الأحوال
61

قال قتادة للسمع قيافة كقيافة البصر ولهذا قال أصحاب الشافعي تقبل شهادته فيما يثبت
بالاستفاضة ولا يثبت عندهم حتى يسمعها من عدلى ولا بد أن يعرفهما حتى يعرف عدالتها فإذا
صح أن يعرف الشاهدين صح أن يعرف المقر ولا خلاف في قبول روايته وجواز استماع من زوجته
إذا عرف صوتها وصحة قبوله النكاح وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور وفارق
الافعال فإن مدركها الرؤية وهي غير ممكنة من الأعمى والأقوال مدركها السمع وهو يشارك البصير
فيه وربما زاد عليه ويفارق الخط فإنه لو تيقن من كتب الخط أو رآه وهو يكتبه لم يجز أن يشهد بما
كتب فيه إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز أن يشهد إلا إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقينا فإن جوز
أن يكون صوت. غيره لم يجز أن يشهد به كما لو اشتبه على البصير المشهود عليه فلم يعرفه
(فصل) فإن تحمل الشهادة على فعل ثم عمي جاز أن يشهد به إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجوز شهادته أصلا لأنه لا يجوز أن يكون حاكما
ولنا ما تقدم ولان العمى فقد حاصة لا تخل بالتكليف فلم يمنع قبول الشهادة كالصمم ويفارق الحكم
فإنه يعتبر له من شروط الكمال مالا يعتبر للشهادة ولذلك يعتبر له السمع والاجتهاد وغيرهما فإن لم
62

يعرف المشهود عليه باسمه ونسبه لكن تيقن صوته لكثرة إلفه له صح أن يشهد به أيضا لما ذكرنا
في أول المسألة
وإن شهد عند الحاكم ثم عمي قبل الحكم بشهادته جاز الحكم بها وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف
ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يجوز الحاكم بها لأنه معنى يمنع قبول الشهادة مع صحة النطق فمنع
الحكم بها كالفسق
ولنا أنه معنى طرأ بعد أداء الشهادة لا يورث تهمة في حال الشهادة فلم يمنع قبولها كالموت وفارق
الفسق فإنه يورث تهمة حال الشهادة
(فصل) ولا تجوز شهادة الأخرس بحال نص عليه احمد رضي الله عنه فقال لا تجوز شهادة
الأخرس قيل له وإن كتبها؟ قال لا أدري وهذا قول أصحاب الرأي، وقال مالك والشافعي وابن
المنذر تقبل إذا فهمت إشارته لأنها تقوم مقامه نطقه في أحكامه من طلاقه ونكاحه وظاهره وإبلائه
فكذلك في شهادته واستدل ابن المنذر بان النبي صلى الله عليه وسلم أشار وهو جالس في الصلاة إلى
الناس وهم قيام أن اجلسوا فجلسوا
63

ولنا أنها شهادة بالإشارة فلم تجز كإشارة الناطق، يحققه أن الشهادة يعتبر فيها اليقين ولذلك لا يكتفى
بايماء الناطق ولا يحصل اليقين بالإشارة وإنما اكتفي بإشارته في أحكامه المختصة به للضرورة ولا
ضرورة ههنا ولهذا لم يجز أن يكون حاكما ولان الحاكم لا يمضي حكمه إذ وجد حكمه بخطه تحت ختمه
ولم يذكر حكمه والشاهد لا يشهد برؤية فلان لا يحكم لخط غيره أولى
وما استدل به ابن المنذر لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرا على الكلام وعمل
بإشارته في الصلاة، ولو شهد الناطق بالايماء والإشارة لم يصح اجماعا فعلم أن الشهادة مفارقة
لغيرها من الأحكام
(مسألة) (قال ولا تجوز شهادة الوالدين وان علوا للولد وان سفل ولا شهادة الولد
وان سفل لهما وان علوا)
ظاهر المذهب ان شهادة الوالد لولده لا تقبل ولا لولد ولده وان سفل وسواء في ذلك ولد
البنين وولد البنات ولا تقبل شهادة الولد لوالده ولا لوالدته ولا جده ولا جده من قبل أبيه وأمه وان
64

علوا وسواء في ذلك الآباء والأمهات وآباؤهما وأمهاتهما وبه قال شريح والسحن والشعبي والنخعي
ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي
وروي عن أحمد رحمه الله رواية ثابتة تقبل شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب له لأن مال الابن
في حكم مال الأب له ان يتملكه إذا شاء فشهادته له شهادة لنفسه أو يجربها لنفسه نفعا قال النبي
صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) وقال (ان أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان أولادكم من أطيب كسبكم
فكلوا من أموالهم) ولا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه وعنه رواية ثالثة نقبل شهادة كل واحد منهما
لصاحبه في مالا تهمة فيه كالنكاح والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنى عنه لأن كل واحد منهما
لا ينتفع بما يثبت للآخر من ذلك فلا تهمة في حقه وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان
شهادة كل واحد منهما للآخر مقبولة
وروى ذلك عن شريح وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو ثور والمزني وداود وإسحاق وابن المنذر
لعموم الآيات ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع فتقبل شهادته فيه كالأجنبي
ولنا ما روى الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي (ص أنه قال (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة
65

ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة ولا ولاء) والظنين المتهم والأب يتهم لولده لأن ماله كماله
بما ذكرنا ولان بينهما بعضية فكأنه يشهد لنفسه ولهذا قال عليه السلام (فاطمة بضعة مني يريبني
ما رابها) ولأنه متهم في الشهادة لولده كتهمة العدو في الشهادة على عدوه ولخبر أخص من الآيات فتخص به
(فصل) فأما شهادة أحدهما على صاحبه فتقبل نص عليه احمد وهذا قول عامة أهل العلم ولم أجد
عن أحمد في الجامع فيه خلافا وذلك لقول الله تعالى (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم
أو الوالدين والأقربين) فأمر بالشهادة عليهم ولو لم تقبل لما أمر بها ولأنها إنما ردت للتهمة في إيصال
النفع ولا تهمة في شهادته عليه فوجب ان تقبل كشهادة الأجنبي بل أولى فإن شهادته لنفسه لما ردت
للتهمة في ايصال النفع إلي نفسه كان اقراره عليه مقبولا وحكى القاضي في المجرد رواية أخرى ان شهادة
أحدهما لا تقبل على صاحبه لأن شهادته له غير مقبولة فلا تقبل عليه كالفاسق
وقال بعض الشافعية لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حد قذف لأنه لا يقتل بقتله
ولا يحد بقذفه فلا يلزمه ذلك والمذهب الأول لما ذكرنا ولأنه يتهم له ولا يتهم عليه فشهادته عليه أبلغ
في الصدق كاقراره على نفسه
(فصل) وان شهد اثنان بطلاق ضرة أمها وقذف زوجها لها قبلت شهادتهما لأن حق أمهما
66

لا يزداد به وسواء كان المشهود عليه أباهما أو أجنبيا وتوفير الميراث لا يمنع قبول الشهادة بدليل قبول
شهادة الوارث لموروثه
(فصل) وتجوز شهادة الرجل لأبيه من الرضاعة وأليه منها وسائر أقاربه منها لأنه لا نسب بينهما
يوجب الانفاق والصلة وعتق أحدهما على صاحبه وتبسط في ماله بخلاف قرابة النسب
(مسألة) قال (ولا السيد لعبده ولا العبد لسيده)
أما شهادة السيد لعبده فغير مقبولة لأن مال العبد لسيده فشهادته له شهادة لنفسه ولهذا قال
النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبدا ولم مال فماله للبائع الا ان يتشرطه المبتاع) ولا نعلم في هذا خلافا ولا تقبل
شهادته له أيضا بنكاح ولا لامته بطلاق لأن في طلاق أمته تخليصها له وإباحة بضعها له وفي نكاح
العبد نفع له ونفع مال الانسان نفع له ولا تقبل شهادة العبد لسيده لأنه يتبسط في مال سيده وينتفع
به ويتصرف فيه وتجب نفقته منه ولا يقطع بسرقته فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه
67

(مسألة) قال (ولا الزوج لامرأته ولا المرأة لزوجها)
وبهذا قال الشافعي والنخعي ومالك وإسحاق وأبو حنيفة وأجاز شهادة كل واحد منهما لصاحبه
شريح والحسن والشافعي وأبو ثور لأنه عقد على منفعة فلا يمنع قبول الشهادة كالإجارة، وعن أحمد
رواية أخرى كقولهم. وقال الثوري وابن أبي ليلى تقبل شهادة الرجل لامرأته لأنه لا تهمة في حقه
ولا تقبل شهادتها له لأن يساره وزيادة حقها من النفقة تحصل بشهادتها له بالمال فهي متهمة لذلك
ولنا ان كل واحد منهما يرث الآخر من غير حجب وينبسط في ماله عادة فلم تقبل شهادته لم
كالابن مع أبيه ولان يسار الرجل يزيد نفقة امرأته ويسار المرأة تزيد به قيمة بضعها المملوك لزوجها
فكان كل واحد منهما ينتفع بشهادته لصاحبه فلم تقبل كشهادته لنفسه، ويحقق هذا ان مال كل
واحد منهما يضاف إلى الآخر. قال الله تعالى (وقرن في بيوتكن) وقال (لا تدخلوا بيوت النبي)
فأضاف البيوت إليهن تارة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرى، وقال (لا تخرجوهن من بيوتهن) وقال عمر
للذي قال له ان غلامي سرق مرآة امرأتي: لا قطع عليه عبدكم سرق مالكم. ويفارق عقد
الإجارة من هذه الوجوه كلها
68

(مسألة) قال (وشهادة الأخ لأخيه جائزة)
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة روي هذا عن ابن الزبير وبه
قال شريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو عبيد وإسحاق
وأبو ثور وأصحاب الرأي
وحكي عن ابن المنذر عن الثوري انه لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم. وعن مالك انه لا تقبل
شهادته لأخيه إذا كان منقطعا إليه في صلته وبره لأنه متهم في حقه. وقال ابن المندر قال مالك لا تجوز
شهادة الأخ لأخيه في النسب وتجوز في الحقوق
ولنا عموم الآيات ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته له كالأجنبي ولا يصح القياس على الوالد
والولد لأن بينهما بعضية وقرابة قوية بخلاف الأخ
(فصل) وشهادة العم وابنه والخال وابنه وسائر الأقارب أولى بالجواز فإن شهادة الأخ إذا
أجيزت مع قربه كان تنبيها على شهادة من هو أبعد منه بطريق الأولى
69

(فصل) وتقبل شهادة أحد الصديقين لصاحبه في قول عامة العلماء إلا مالكا قال لا تقبل شهادة
الصديق الملاطف لأنه يجر إلى نفسه نفعا بها فهو متهم فلم تقبل شهادته كشهادة العدو على عدوه
ولنا عموم أدلة الشهادة وما قاله يبطل شهادة الغريم للمدين قبل الحجر وإن كان ربما قضاه دينه
منه فجر إلى نفسه نفعا أعظم مما يرجى ههنا بين الصديقين. فاما العداوة فسببها محظور وفي الشهادة عليه
شفاء غيظه منه فخالفت الصداقة
(مسألة) قال (وتجوز شهادة العبد في كل شئ الا في الحدود، وتجوز شهادة الأمة
فيما تجوز فيه شهادة النساء)
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (أحدها) في قبول شهادة العبد فيما عدا الحدود
والقصاص فالمذهب انها مقبولة روي ذلك عن علي وأنس رضي الله عنهما. قال إنس ما علمت أن
أحدا رد شهادة العبد وبه قال عروة وشريح وإياس وابن سيرين والبتي وأبو ثور وداود وابن المنذر
وقال عطاء ومجاهد والحسن ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو عبيد لا تقبل
70

شهادته لأنه غير ذي مروءة ولأنها مبنية على الكمال لا تتبعض فلم يدخل فيها العبد كالميراث. وقال
الشعبي والنخعي والحكم تقبل في الشئ اليسير
ولنا عموم آيات الشهادة وهو داخل فيها فإنه من رجالنا وهو عدل يقبل روايته وفتياه وأخباره
الدينية. وروى عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي اهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد
أرضعتكما فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (وكيف وقد زعمت ذلك؟) متفق عليه وفي رواية
أبي داود فقلت يا رسول الله انها لكاذبة قال (وما يدريك وقد قالت ما قالت دعها عنك) ولأنه
عدل غير متهم فتقبل شهادته كالحر. ولا نسلم انه غير ذي مروءة فإنه كالحر يقسم إلى من له مروءة
ومن لا مروءة له وقد يكون منهم الامراء والعلماء والصالحون والأتقياء
سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبيد فقال إنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب وكان منهم زياد
ابن أبي زياد مولى ابن عباس من العلماء لزهاد وكان عمر بن العزيز يرفع قدره ويكرمه ومنهم عكرمة
ومولى ابن عباس أحد العلماء الثقات وكثير من العلماء الموالي كانوا عبيدا أو أبناء عبيد لم يحدث فيهم
بالاعتاق إلا الحرية والحرية لا تغير طبعا ولا تحدث علما ولا مروءة ولا يقبل منهم إلا من كان ذا مروءة
ولا يصح قياس الشهادة على الميراث فإن الميراث خلاف للموروث في ماله وحقوقه العبد لا تمكنه الخلافة
71

لأن ما يصير إليه يملكه سيده فلا يمكن أن يخلف فيه ولان الميراث يقتضي التمليك والعبد لا يملك
ومبنى الشهادة على العدالة التي هي مظنة الصدق وحصول الثقة من القول والعبد أهل لذلك
فوجب ان تقبل شهادته
(الفصل الثاني) ان شهادته لا تقبل في الحد وفي القصاص احتمالان (أحدهما) تقبل شهادته فيه
لأنه حق آدمي لا يصح الرجوع عن الاقرار به فأشبه الأموال (والثاني) لا تقبل لأنه عقوبة بدينة تدرأ
بالشبهات فأشبه الحد. وذكر الشريف وأبو الخطاب في العقوبات كلها من الحدود والقصاص روايتين
(إحداهما) تقبل لما ذكرنا ولأنه رجل عدل فتقبل شهادته فيها كالحر [والثانية] لا تقبل وهو ظاهر المذهب
لأن الاختلاف في قبول شهادته في الأموال نقص وشبهة فلم تقبل شهادته فيما يدرأ بالشبهات ولأنه
ناقص الحال فلم تقبل شهادته في الحد والقصاص كالمرأة
(الفصل الثالث) شهادة الأمة جائزة فيما تجوز فيه شهادة النساء لأن النساء لا تقبل شهادتهن في
الحدود والقصاص وإنما تقبل في المال أو سببه والأمة كالحرة فيما عداهما فساوتهن في الشهادة وقد دل
عليه حديث عقبة بن الحارث
(فصل) وحكم المكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق بعضه حكم القن فيما ذكرنا لأن الرق فيهم
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا تجوز شهادة المكاتب وبه قال عطاء والشعبي والنخعي
72

ولنا ما ذكرناه في العبد. وإذا ثبت الحكم في القن ففي هؤلاء أولى لأنهم أكمل منه
لوجود أسباب الحرية فيهم
(مسألة) قال (وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره).
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والحسن والشعبي والزهري والشافعي وإسحاق وأبو
عبيد وأبو حنيفة وأصحابه وقال مالك والليث لا تجوز شهادته في الزنا وحده لأنه متهم فإن العادة في من
فعل قبيحا انه يحب أن يكون له نظراء وحكي عن عثمان أنه قال ودت الزانية ان النساء كلهن زنين.
ولنا عموم الآيات وانه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا فقبل في الزنا كغيره ومن قبلت شهادته
في القبل قبلت في الزنا كولد لرشدة، قال ابن المنذر وما احتجوا به غلط من وجوه (أحدها) ان
ولد الزنا لم يفعل فعلا قبيحا يحب أن يكون له نظراء فيه، (والثاني) انني لا اعلم ما ذكر عن عثمان
ثابتا عنه وأشبه ذلك أن لا يكون ثابتا عنه وغير جائز ان يطلق عثمان كلاما بالظن عن ضمير امرأة
لم يسمعها تذكره (الثالث) ان الزاني لو تاب لقبلت شهادته وهو الذي فعل الفعل القبيح فإذا
قبلت شهادته مع ما ذكروه فغير أولى فإنه لا يجوز ان يلزم ولده من وزره أكثر مما لزمه وما يتعدى
73

الحكم إلى غيره من غير أن يثبت فيه مع أن ولده لا يلزمه شئ من وزره لقول الله تعالى (ولا تزر
وازرة وزر أخرى) وولد الزنا لم يفعل شيئا يستوجب به حكما.
(مسألة) قال (وإذا تاب القاذف قبلت شهادته)
وجملته ان القاذف إن كان زوجا فحقق قذفه ببينة أو لعان أو كان أجنبيا فحققه بالبينة أو باقرار
المقذوف لم يتعلق بقذفه فسق ولا حدولا رد شهادة، وان لم يحقق قذفه بشئ من ذلك تعلق به وجوب
الحد عليه والحكم بفسقه ورد شهادته لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا وأولئك هم الفاسقون) فإن تاب لم يسقط عنه
لحد وزال الفسق بلا خلاف وتقبل شهادته عندنا وروي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وابن عباس
وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري وعبد الله بن عتبة وجعفر بن أبي ثابت وأبو
الزناد ومالك والشافعي والبتي وإسحاق وأبو عبيد وابن المنذر وذكره ابن عبد البر عن يحيى بن سعيد
وربيعة وقال شريح والحسن والنخعي وسعيد بن جبير والثوري وأصحاب الرأي لا تقبل شهادته إذا
جلد وإن تاب وعند أبي حنيفة لا ترد شهادته قبل الجلد وإن لم يتب فالخلاف معه في فصلين
74

(أحدهما) انه عندنا تسقط شهادته بالقذف إذا لم يحققه وعند أبي حنيفة ومالك لا تسقط إلا بالجلد
(والثاني) انه إذا تاب قبلت شهادته وإن جلد وعند حنيفة لا تقبل وتعلق بقول الله تعالى
(ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) وروى ابن ماجة باسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا محدود في الاسلام) واحتج في الفصل الآخر بأن
القذف قبل حصول الجلد يجوز أن تقوم به البينة فلا يجب به التفسيق.
ولنا في الفصل الأول إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان
يقول لأبي بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة تب أقبل شهادتكم ولم ينكر ذلك منكر فكان اجماعا
قال سعيد بن المسيب شهد على المغيرة ثلاثة رجال أبو بكرة ونافع بن الحارث وشبل بن معبد ونكل
زياد فجلد عمر الثلاث وقال لهم توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهم وأبي أبو بكرة
فلم يقبل شهادته وكان قد عاد مثل النصل من العبادة ولأنه تائب من ذنبه فقبلت شهادته كالتائب
من الزنا يحققه ان الزنا أعظم من القذف به، وكذلك قتل النفس التي حرم الله وسائر الذنوب إذا
تاب فاعلها قبلت شهادته فهذا أولى وأما الآية فهي حجة لنا فإنه استثنى التائبين بقوله تعالى (إلا
الذين تابوا) والاستثناء من النفي اثبات فيكون تقديره) (إلا الذين تابوا) فاقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين
75

فإن قالوا إنما يعود الاستثناء إلى الجملة التي تليه بدليل انه لا يعود إلى الجد، قلنا بل يعود إليه أيضا
لأن هذه الجمل معطوف بعضها على بعض بالواو وهي للجمع تجعل الجمل كلها كالجملة الواحدة فيعود
الاستثناء إلى جميعها إلا ما منع منه مانع ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا يجلس
على تكرمته إلا باذنه) عاد الاستثناء إلى الجملتين جميعا ولان الاستثناء يغاير ما قبله فعاد إلى الجمل
المعطوف بعضها على بعض بالواو كالشرط فإنه لو قال امرأته طالق وعبده حران لم يقم عاد الشرط
إليهما كذا الاستثناء بل عود الاستثناء إلى رد الشهادة أولى لأن رد الشهادة هو المأمور به فيكون
هو الحكم والتفسيق خرج مخرج الخبر والتعليل لرد الشهادة فعود الاستثناء إلى الحكم المقصود أولى
من رده إلى التعليل وحديثهم ضعيف يرويه الحجاج ابن أرطأة وهو ضعيف قال ابن عبد البر: لم يرفعه
من روايته حجة وقد روي من غير طريقه ولم تذكر فيه هذه الزيادة فدل ذلك على أنها من غلطه
ويدل على خطائه قبول شهادة كل محدود في غير القذف بعد توبته ثم لو قدر صحته فالمراد به من لم
يتب بدليل كل محدود تائب سوى هذا
وأما الفصل الثاني فدليلنا فيه الآية فإنه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أيضاء إيجاب الجلد ورد
الشهادة والفسق فيجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لم يمكنه تحقيقه كالجد ولان الرمي
هو المعصية والذنب الذي يستحق به العقوبة وتثبت به المعصية الموجبة لرد الشهاد والحد كفارة وتطهير
76

فلا يجوز تعليق رد الشهادة به وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف فيثبتان جميعا به وتخلف استيفاء أحدهما
لا يمنع ثبوت الآخر وقولهم إنما يتحقق بالجلد لا يصح، لأن الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه فلا
يستوفى قبل تحقق القذف وكيف يجوز ان يستوفى حد قبل تحقق سببه ويصير متحققا بعده؟ هذا باطل.
(فصل) والقاذف في الشتم ترد شهادته وروايته حتى يتوب والشاهد بالزنا إذا لم تكمل البينة
تقبل روايته دون شهادته وحكي عن الشافعي ان شهادته لا ترد.
ولنا أن عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة وقال له تب أقبل شهادتك وروايته مقبولة ولا نعلم خلافا
في قبول رواية أبي بكرة مع رد عمر شهادته.
(مسألة) قال (وتوبته أن يكذب نفسه)
ظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف إكذاب نفسه فيقول كذبت فيما قلت وهذا منصوص
الشافعي واختيار الإصطخري من أصحابه ابن عبد البر ومن قال هذا سعيد بن المسيب وعطاء
وطاوس والشعبي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر عن
77

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى (الا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) قال توبته كذاب
نفسه ولان عرض المقذوف تلوث بقذفه فاكذابه نفسه يزيل ذلك التلويث فتكون التوبة به وذكر القاضي أن
القذ ف إن كان سباقا لتوبة منه اكذاب نفسه وإن كان شهادة والتوبة منه أن يقول القذ ف حرام باطل ولن أعود
إلى ما قلت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي قال وهو المذهب لأنه قد يكون صادقا فلا يؤمر بالكذب
والخبر محمول على الاقرار بالبطلان لأنه نوع إكذاب
والأولى انه متى علم من نفسه الصدق فيما قذف به فتوبته الاستغفار والاقرار ببطلان ما قاله
وتحريمه وانه لا يعود إلى مثله وان لم يعلم صدق نفسه فتوبته إكذاب نفسه سواء كان القذف بشهادة
أو سب لأنه قد يكون كاذبا في الشهادة صادقا في السبب
ووجه الأول ان الله تعالى سمى القاذف كاذبا إذا لم يأت بأربعة شهداء على الاطلاق بقوله
سبحانه (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون)
فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله وإن كان في نفس الامر صادقا
(فصل) وكل ذنب تلزم فاعله التوبة منه متى تاب منه قبل الله توبته بدليل قوله تعالى
(والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا
الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم) الآية وقال (ومن يعمل
78

سواءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (التائب من
الذنب كمن لا ذنب له) وقال عمر رضي الله عنه بقبة عمر المؤمن لا قيمة له يدرك فيه ما فات ويحيي
فيه ما أمات ويبدل الله سيئاته حسنات
والتوبة على ضربين باطنة وحكمية، فأما الباطنة فهي ما بعينه وبين ربه تعالى فإن كانت المعصية
لا توجب حقا عليه في الحكم كقبلة أجنبية أو الخلوة بها وشرب مسكر أو كذب فالتوبة منه الندم
والعزم على أن لا يعود وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الندم توبة) وقيل التوبة النصوح تجمع
أربعة أشياء الندم بالقلب والاستغفار باللسان وإضمار ان لا يعود ومجانبة خلطاء السوء وإن كانت توجب
عليه حقا لله تعالى أو لآدمي كمنع الزكاة والنصف فالتوبة منه بما ذكرنا وترك المظلمة حسب امكانه
بان يؤدي الزكاة ويرد المغصوب أو مثله إن كان مثليا والا قيمته وان عجز عن ذلك نوى رده
متى قدر عليه فإن كان عليه فيها حق في البدن فإن كان حقا لآدمي كالقصاص وحد القذف اشترط
في التوبة التمكين من نفسه وبذلها للمستحق وإن كان حقا لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر فتوبته
أيضا بالندم والعزم على ترك العود ولا يشترط الاقرار به فإن كان ذلك لم يشتهر عنه فالأولى له ستر
نفسه والتوبة فيما بينه وبين الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أتى شيئا من هذه القاذورات
فليستتر بستر الله تعالى فإنه من ابدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد) فإن الغامدية حين أقرت بالزنا لم
79

نكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وان كانت معصية مشهورة فذكر القاضي ان الأول الاقرار به ليقام
عليه الحد لأنه إذا كان مشهورا فلا فائدة في ترك إقامة الحد عليه والصحيح ان ترك الاقرار أولى
لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض للمقر عنده بالرجوع عن الاقرار فعرض لما عز وللمقر عنده بالسرقة بالرجوع
مع اشتهاره عنه باقراره وكره الاقرار حتى أنه قيل لما قطع السارق كأنما اسف وجهه رمادا ولم يرد
الامر بالاقرار ولا الحث عليه في كتاب ولا سنة ولا يصح له قياس إنما ورد الشرع بالستر والاستتار
والتعريض للمقر بالرجوع عن الاقرار، وقال لهزال وكان هو الذي أمر ماعزا بالاقرار (يا هزال
لو سترته بثوبك كان خيرا لك)
وقال أصحاب الشافعي توبة هذا إقراره ليقام عليه الحد وليس بصحيح لما ذكرنا ولان التوبة
توجد حقيقتها بدون الاقرار وهي تجب ما قبلها كما ورد في الاخبار مع ما دلت عليه الآيات في مغفرة
الذنوب بالاستغفار وترك الاصرار. وأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها والرجوع عنها
واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها
(فصل) ظاهر كلام أحمد والخرقي انه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة
ولايته في النكاح اصلاح العمل وهو أحد القولين للشافعي وفي القول الآخر يعتبر اصلاح العمل
إلا أن يكون ذنبه الشهادة بالزنا ولم يكمل عدد الشهود فإنه يكفي مجرد التوبة من غير اعتبار اصلاح
80

وما عداه فلا تكفي التوبة حتى تمضي عليه سنة تظهر فيها توبته ويتبين فيها صلاحه. وذكر أبو الخطاب
هذا رواية لأحمد لأن الله تعالى قال (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) وهذا نص فإنه نهى
عن قبول شهادتهم ثم استثنى التائب المصلح، ولان عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغا أمر بهجرانه
حتى بلغته توبته فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة
ولنا قوله عليه السلام (التوبة تجب ما قبلها) وقوله (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ولان
المغفرة تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ولان التوبة من الشرك بالاسلام لا تحتاج إلى اعتبار
ما بعده وهو أعظم الذنوب كلها فما دونه أولى فاما الآية فيحتمل أن يكون الاصلاح هو التوبة وعطفه
عليها لاختلاف اللفظين ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة تب اقبل شهادتك ولم يعتبر أمرا آخر
ولان من كان غاصبا فرد ما في يديه أو مانعا الزكاة فأداها وتاب إلى الله تعالى قد حصل منه الاصلاح
وعلم نزوعه من معصيته بأداء ما عليه ولو لم يرد التوبة ما أدى ما في يديه ولان تقييده بالسنة تحكم لم
يرد الشرع به والتقدير إنما يثبت بالتوقيف وما ورد عن عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة
وكانت توبته بسبب الضرب والهجران فيحتمل انه أظهر التوبة تسترا بخلاف مسئلتنا
وقد ذكر القاضي أن التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع
قال ومن علامة توبته أن يجتنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة
81

والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة بفعل يشبه الاكراه كتوبة صبيغ فيعتبر
له مدة تظهر أن توبته على اخلاص لا عن اكراه وللحاكم أن يقول للمتظاهر بالمعصية تب أقبل شهادتك
قال مالك لا أعرف هذا، قال الشافعي وكيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة وقاله عمرة لأبي بكرة؟
(مسألة) قال (ومن شهد بشهادة قد كان شهد بها وهو غير عدل وردت عليه لم تقبل
منه في حال عدالته)
وجملته أن الحاكم إذا شهد عنده فاسق فرد شهادته لفسقه ثم تاب وأصلح وأعاد تلك الشهادة لم
يكن له أن يقبلها وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور والمزني وداود تقبل، قال ابن
المنذر والنظر يدل على هذا لأنها شهادة عدل فتقبل كما لو شهد وهو كافر فردت شهادته ثم شهد
بها بعد اسلامه.
ولنا أنه متهم في أدائها لأنه يعير بردها ولحقته غضاضة لكونها ردت بسبب نقص يتغير به
وصلاح حاله بعد ذلك من فعله يزول به العار فلحقه تهمة في أنا قصد اظهار العدالة وإعادة الشهادة لتقبل
فيزول ما حصل تردها ولان الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد فعند ذلك نقول شهادة
مردودة بالاجتهاد فلا تقبل بالاجتهاد لأن ذلك يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وفارق ما إذا
82

ردت شهادة كافر لكفره أو صبي لصغره أو عبد لرقه ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي وعتق العبد وأعادوا
تلك الشهادة فإنها لا ترد لأنها لم ترد أولا بالاجتهاد وإنما ردت باليقين ولان البلوغ والحرية ليسا من
فعل الشاهد فيتهم في أنه فعلهما لتقبل شهادته والكافر لا يرى كفره عارا ولا يترك دينه من أجل
شهادة ردت عليه
وقد روي عن النخعي والزهري وقتادة وأبي الزناد ومالك أنها ترد أيضا في حق من أسلم وبلغ
وعن أحمد رواية أخرى كذلك لأنها شهادة مردودة فلم تقبل كشهادة من كان فاسقا وقد ذكرنا
ما يقتضي فرقا بينهما فيفرقان، وروى عن أحمد في العبد إذا ردت شهادته لرقه ثم عتق وادعى
تلك الشهادة روايتان، وقد ذكرنا الأولى ان شهادته تقبل لأن العتق من غير فعله وهو أمر
يظهر بخلاف الفسق
(فصل) وإن شهد السيد لمكاتبه فردت شهادته أو شهد وارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال
فردت شهادته ثم عتق المكاتب وبرأ الجرح وأعادوا تلك الشهادة ففي قبولها وجهان
(أحدهما) تقبل لأن زوال المانع ليس من فعلهم فأشبه زوال الصبي بالبلوغ ولان ردها بسبب
لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها بخلاف الفسق
(والثاني لا تقبل لأنه ردها باجتهاده فلا ينقضها باجتهاده ولأول أشبه بالصحة فإن الأصل
83

قبول شهادة العدل ما لم يمنع منه مانع ولا يصح القياس على الشهادة المردودة للفسق لما ذكرنا بينهما من
الفرق ويخرج على هذا كل شهادة مردودة إما للهمة أو لعدم الأهلية إذا أعادها بعد زوال التهمة
ووجود الأهلية فهل تقبل؟ على وجهين
(مسألة) قال (وإن كان لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا قبلت منه)
وذلك لأن التحمل لا تعتبر فيه العدالة ولا البلوغ ولا الاسلام لأنه لا تهمة في ذلك وإنما يعتبر
ذلك في الأداء فإذا رأى الفاسق شيئا أو سمعه ثم عدل وشهد به قبلت شهادته بغير خلاف نعلمه
وهكذا الصبي والكافر إذا شهد بعد الاسلام والبلوغ قبلت وكذلك الرواية ولذلك كان الصبيان
في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يروون عنه بعد أن كبروا كالحسن والحسين وابن عباس والنعمان
ابن بشير وابن الزبير وابن جعفر والشهادة في معنى الرواية ولذلك اعتبرت لها العدالة وغيرها من
الشروط المعتبرة للشهادة
(مسألة) قال (ولو شهد وهو عدل فلم يحكم بشهادته حتى حدث منه مالا تجوز شهادته
معه مل يحكم بها
وجملة ذلك أن الشاهدين إذا شهدا عند الحاكم وهما ممن تقبل شهادته ولم يحكم بها حتى فسقا أو
84

كفرا لم يحكم بشهادتهما وبهذا قال أبو يوسف والشافعي، وقال أبو ثور المزني يحكم بها لأن بقاء
أهلية الشهادة ليس شرطا في الحكم بدليل ما لو ماتا ولان فسقهما تجدد بعد أداء الشهادة فأشبه ما لو
تجدد بعد الحكم بها ووجه ذلك من طريقين (أحدهما) أن عدالة الشاهد شرط للحكم فيعتبر دوامها
إلى حين الحكم لأن الشروط لا بد من وجودها في المشروط وإذا فسق انتفي الشرط فلم يجز الحكم
(والثاني) أن ظهور فسقه وكفره يدل على تقدمه لأن إعادة أن الانسان يسر الفسق ويظهر
العدالة، والزنديق يسر كفره ويظهر اسلامه فلا نأمن كونه كافرا أو فاسقا حين أداء الشهادة فلم
يجز الحكم بها مع الشك فيها، فاما إن حدث هذا منه بعد الحكم بشهادته لم ينقض لأن الحكم وقع
صحيحا لاستمرار شرطه إلى انتهائه ولأنه قد وجد مقرونا بشرطه ظاهرا فلا ينقض بالشك كما لو
رجع عن الشهادة وكما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء لكن إن كان ذلك قبل الاستيفاء وكان حدا لله
تعالى لم يجز استيفاؤه بالشبهات لأنه يدرأ وهذا شبهة فيه فأشبه ما لو رجع عن الاقرار به قبل استيفائه وإن
كان مالا استوفي لأن الحكم قد تم وثبت الاستحقاق بأمر ظاهر الصحة فلا يبطل بأمر محتمل ولذلك لم
يبطل رجوعه عن اقراره وإن كان حد قذف أو قصاصا احتمل وجهين
(أحدهما) يستوفى وهذا قول أبي حنيفة لأنه حق آدمي مطالب به أشبه المال
85

(والثاني) لا يستوفى وهو قول محمد لأنه عقوبة على البدن تدرء بالشبهات أشبه الحد وللشافعي
وجهان كهذين، وأما ما حدث بعد الاستيفاء فلا يؤثر في حد ولا حق لأن الحق استوفي بما ظاهره
المصحة وسوغ الشرع استيفاءه فلم يؤثر فيه ما طرأ بعده كما لو لم يظهر شئ
(فصل) فاما إن أديا الشهادة وهما من أهلها ثم ماتا قبل الحكم بها حكم الحاكم بشهادتهما سواء
ثبتت عدالتهما في حياتهما أو بعد موتهما وسواء كان المشهود به حدا أو غيره وكذلك إن جنوا أو
أغمي عليهم وبهذا قال الشافعي لأن الموت لا يؤثر في شهادته ولا يدل على الكذب فيها ولا يحتمل أن
يكون موجودا حال أداء الشهادة والجنون والاغماء في معناه بخلاف الفسق والكفر (مسألة) قال (وشهادة العلد على شهادة العدل جائزة في كل شئ الا في الحدود إذا
كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا)
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (أحدها) في جوازها (والثاني) في موضعها (والثالث)
في شرطها. اما الأول فإن الشهادة على الشهادة جائزة باجماع العلماء، وبه يقول مالك والشافعي
وأصحاب الرأي قال أبو عبيد أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على امضاء الشهادة على الشهادة
في الأموال ولان الحاجة داعية إليها فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الوقف وما يتأخر اثباته عند
86

الحاكم ثم يموت شهوده وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل.
(الفصل الثاني) انها تقبل في الأموال وما يقصد به المال بالجماع كما ذكر أبو عبد ولا تقبل في
حد وهذا قول النخعي والشعبي وأبي حنيفة وأصحابه وقال مالك والشافعي في قوله وأبو ثور: تقبل في الحدود
وكل حق لأن ذلك يثبت بشهادة الأصل فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال
ولنا ان الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات والاسقاط بالرجوع عن الاقرار والشهادة
على الشهادة فيها شبهة فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال
ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل انها لا تقبل
مع القدرة على شهود الأصل فوجب ان لا تقبل في ما يندرئ بالشبهات ولأنها إنما تقبل للحاجة ولا حاجة
إليها في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على الأموال
لما بينهما من الفرق في الحاجة والتساهل فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا من الفرق
فبطل إثباتها، وظاهر كلام احمد انها لا تقبل في القصاص أيضا ولاحد القذف لأنه قال إنما تجوز في
الحقوق أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة
وقال مالك والشافعي وأبو ثور تقبل وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله: في كل شئ إلا في الحدود لأنه
حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن الاقرار به ولا يستحب ستره فأشبه الأموال، وذكر أصحابنا هذا
87

رواية عن أحمد لأن ابن منصور نقل ان سفيان قال شهادة رجل مكان رجل في الطلاق جائزة قال
احمد ما أحسن ما قال؟ فجعله أصحابنا رواية في القصاص وليس هذا برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص
والمذهب انها لا تقبل فيه لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات وتبنى على الاسقاط فأشبهت الحدود فأما
ما عدا الحدود والقصاص والأموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت الا بشاهدين فنص احمد
على قبولها في الطلاق والحقوق فيدل على قولها في جميع هذه الحقوق وهو قول الخرقي
وقال ابن حامد لا تقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل الا في المال وما يقصد
به المال وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت الا بشاهدين فأشبه حد القذف، ووجه الأول انه حق
لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود
(الفصل الثالث في شروطها) ولها ثلاثة شروط [أحدها] أن تتعذر شهادة الأصل لموت أو
غيبة أو مرض أو حبس أو خوف من سلطان أو غيره وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي. وحكي
عن أبي يوسف ومحمد جوازها مع القدرة على شهادة الأصل قياسا على الرواية وأخبار الديانات.
وروي عن الشعبي أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فكانا
كالحاضرين. وعن أحمد مثل هذا إلا أن القاضي تأوله على الموت وما في معناه من الغيبة البعيدة ونحوها
ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا فيزول هذا الخلاف
88

ولنا على اشتراط تعذر شهادة شاهد الأصل انه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل
استغنى عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع وكان أحوط للشهادة فإن سماعه منهما معلوم وصدق
شاهدي الفرع مظنون والعمل باليقين مع إمكانه أولى من ابتاع الظن، ولان شهادة الأصل تثبت
نفس الحق وهذه إنما تثبت الشهادة عليه ولان في شهادة الفرع ضعفا لأنه يتطرق إليها احتمالان:
احتمال غلط شاهدي الأصل واحتمال غلط شاهدي الفرع فيكون ذلك وهنا فيها ولذلك لم تنتهض
لاثبات الحدود والقصاص فينبغي أن لا تثبت إلا عند عدم شاهدي الأصل كسائر الابدال ولا يصح
قياسها على أخبار الديانات لأنه خفف فيها ولهذا لا يعتبر فيها العدد ولا الذكورية ولا الحرية ولا اللفظ
والحاجة داعية إليها في حق عموم الناس بخلاف مسئلتنا
ولنا على قبولها عند تعذرها بغير الموت انه تعذرت شهادة الأصل فتقبل شهادة الفرع كما لو
مات شاهد الأصل ويخالف الحاضرين فإن سماع شهادتهما ممكن فلم يجز غير ذلك
إذا ثبت هذا فذكر القاضي ان الغيبة المشترطة لسماع شهادة الفرع أن يكون شاهد الأصل
بموضع لا يمكنه أن يشهد ثم يرجع من يومه وهذا قاله أبو يسوف وأبو حامد من أصحاب الشافعي لأن
الشاهد تشق عليه المطالبة بمثل هذا السفر وقد قال الله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) وإذا لم
يكلف الحضور تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع
89

وقال أبو الخطاب تعتبر مسافة القصر وهو قول أبي حنيفة وأبي الطيب الطبري مع اختلافهم في
مسافة القصر كل على أصله لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر في الترخص وغيره بخلاف مسافة القصر
ويعتبر دوام هذا الشرط إلى الحكم فلو شهد شاهدا الفرع فلم يحكم بشهادتهما حتى حضر شاهدا
الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهما لأن قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فلم يجز العمل به كالمتيمم
يقدر على الماء قبل الصلاة ولان حضورهما لو وجد قبل أداء شهادة الفرع منع فإذا طرأ قبل احكم منع منه كالفسق
(الشرط الثاني) ان يتحقق شروط الشهادة من العدالة وغيرها في كل واحد من شهود الأصل
والفرع على الوجه الذي ذكرنا لأن الحكم ينبني على الشاهدين جميعا فاعتبرت الشروط في كل واحد
منهما ولا خلاف في هذا نعلمه فإن عدل شهود الفرع شهود الأصل فشهدا بعدالتهما وعلى شهادتهما
جاز بغير خلاف نعلمه وإن لم يشهدا بعدالتهما جاز ويتولى الحاكم ذلك فإن علم عدالتهما حكم وإن لم
يعرفها بحث عنها وبهذا قال الشافعي
وقال الثوري وأبو يوسف إن لم يعدل شاهدا الفرع شاهدي الأصل لم يسمع الحاكم شهادتهما
لأن ترك تعديله يرتاب به الحاكم وليس بصحيح لأنه يجوز أن لا يعرفا ذلك فيرجع فيه إلى بحث الحاكم
ويجوز أن يعرفا عدالتهما ويتركاها اكتفاء بما يثبت عند الحاكم من عدالتهما ولا بد من استمرار هذا
الشرط ووجود العدالة في الجميع إلى انقضاء الحكم لما ذكرنا في شاهد الأصل قبل هذا، وان مات
90

شهود الأصل والفرع لم يمنع الحكم وكذلك لو مات شهود الأصل قبل أداء الفروع شهادتهم لم يمنع
من أدائها والحكم بها لأن موتهم من شرط سماع شهادة الفروع والحكم فلا يجوز جعله مانعا وكذلك
إن جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم
(الشرط الثالث) أن يعينا شاهدي الأصل ويسمياهما، وقال ابن جرير إذا قالا ذكرين حرين
عدلين جاز، وإن لم يسميا لأن الغرض معرفة الصفات دون العين وليس بصحيح لجواز أن يكونا
عدلين عندهما مجروحين عند غيرهما ولان المشهود عليه ربما أمكنه رجح الشهود فإذا لم يعرف
أعيانهما تعذر عليه ذلك
(الشرط الرابع) أن يسترعيه شاهد الأصل الشهادة فيقول اشهد على شهادتي أني أشهد أن لفلان
على فلان كذا أو أقر عندي بكذا، أو سمع شاهدا يسترعي آخر شهادة يشهده عليها فيجوز لهذا السامع
أن يشهد بها لحصول الاسترعاء ويحتمل أن لا يجوز له أن يشهد إلا أن يسترعيه بعينه وهو قول أبي
حنيفة، قال احمد لا تكون شهادة إلا أن يشهدك فأما إذا سمعته يتحدث فإنما ذلك حديث وبما ذكرناه
قال الشافعي وأصحاب الرأي وأبو عبيد فأما إن سمع شاهدا يشهد عند الحاكم بحق أو سمعه يشهد بحق
يعزيه إلى سبب نحو أن يقول أشهد أن لفلان على فلان ألفا من ثمن مبيع فهل يشهد به؟ قال
أبو الخطاب فيه روايتان
91

وذكر القاضي أن له الشهادة به وهو مذهب الشافعي لأنه بالشهادة عند الحاكم ونسبته للحق إلى
سببه يزول الاحتمال ويرتفع الاشكال فتجوز له الشهادة على شهادته كما لو استرعاه
(والرواية الأخرى) لا يجوز أن يشهد على شهادته وهو قول أبي حنيفة وأبي عبيد لأن الشهادة
على الشهادة فيها معنى النيابة فلا ينوب عنه إلا باذنه ومن نصر الأول قال هذا ينقل شهادته ولا ينوب
عنه لأنه لا يشهد مثل شهادته وإنما يشهد على شهادته، فأما إن قال اشهد أني اشهد على فلان بكذا
فالأشبه أن يجوز أن يشهد على شهادته وهذا قول أبي يوسف لأن معنى ذلك اشهد على شهادتي
وقال أبو حنيفة لا يجوز إلا أن يقول اشهد على شهادتي اني اشهد لأنه إذا قال اشهد فقد أمره
بالشهادة ولم يسترعه وما عدا هذه المواضع لا يجوز أن يشهد فيها على الشهادة، فإذا سمعه يقول اشهد
أن لفلان على فلان ألف درهم لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه لم يسترعه الشهادة فيحتمل أن يكون
وعده بها وقد يوصف الوعد بالوجوب مجازا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (العدة دين) ويحتمل أن يريد
بالشهادة العلم فلم يجز لسامعه الشهادة به، فإن قيل فلو سمع رجلا يقول لفلان علي ألف درهم جاز أن
يشهد بذلك فكذا هذا قلنا الفرق بينهما من وجهين:
(أحدهما) أن الشهادة تحتمل العلم ولا تحتمل الاقرار
92

(الثاني) أن الاقرار أوسع في لزومه من الشهادة بدليل صحته في المجهول وانه لا يراعى فيه العدد
بخلاف الشهادة ولان الاقرار قول الانسان على نفسه وهو غير متهم عليها فيكون أقوى منها ولهذا
لا تسمع الشهادة في حق المقر ولا يحكم بها ولو قال شاهد الأصل انا أشهد أن لفلان على فلانا ألفا
فاشهد به أنت عليه لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه ما استرعاه شهادته فيشهد عليها ولا هو شاهد
بالحق لأنه ما سمع الاعتراف به ممن هو عليه ولا شاهد سببه
(فصل) فأما كيفية الأداء إذا كان قد استرعاه الشهادة فإنه يقول أشهد أن فلان بن فلان وقد
عرفته بعينه واسمه ونسبه وعدالته أشهدني انه يشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا
أو أن فلانا أقر عندي بكذا، وإن لم يعرف عدالته لم يذكرها وإن سمعه يشهد غيره قال أشهد ان
فلان بن فلان اشهد على شهادته أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا وإن كان سمعه
يشهد عند الحاكم قال أشهد أن فلان بن فلان شهد على فلان بن فلان عند الحاكم بكذا، وإن كان
نسب الحق إلى سببه قال اشهد أن فلان بن فلان قال اشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان
كذا وكذا من جهة كذا وكذا، وإذا أراد الحاكم أن يكتب ذلك كتبه على ما ذكرنا في الأداء
(فصل) واختلفت الرواية في شرط خامس وهو الذكورية في شهود الفرع فعن أحمد أنها
شرط فلا يقبل في شهود الفرع نساء بحال سواء كان الحق مما تقبل فيه شهادة النساء أولى وهذا
93

قول مالك والثوري والشافعي لأنهم يثبتون بشهادتهم شهادة شهود الأصل دون الحق وليس ذلك
بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال فأشبه القصاص والحد.
(والثانية) للنساء مدخل فيما لو كان المشهود به يثبت بشهادتهن في الأصل قال حرب قيل لأحمد
فشاهدة امرأتين على شهادة امرأتين تجوز؟ قال نعم يعني إذا كان معهما رجل وذكر الأوزاعي قال
سمعت نمير بن أوس يجيز شهادة المرأة على شهادة المرأة. ووجهه ان المقصود بشهادة الفروع اثبات
الحق الذي يشهد به شهود الأصل فقبلت فيه شهادتهن كالبيع ويفارق الحد والقصاص فإنه ليس القصد
من الشهادة به اثبات مال بحال فاما شهود الأصل فيدخل النساء فيه فيجوز ان يشهد رجلان على شهادة
رجل وامرأتين في كل حق يثبت بشهادتهن مع الرجال في قول أكثر أهل العلم وذكر أبو الخطاب
في المنع منه رواية أخرى لأن في الشهادة على الشهادة ضعفا لما ذكرنا من قبل فلا مدخل للنساء فيها
لأنها يزداد بشهادتهن ضعفا.
ولنا ان شهود الفرع ان كانوا يثبتون شهادة الأصل فهي تثبت بشهادتهم وان كانوا يثبتون
نفس الحق فهي تثبت بشهادتهم ولأن النساء شهدن بالمال أو ما يقصد به المال فيثبت بشهادتهن كما
لو أدينها عند الحاكم وما ذكر للرواية الأخرى لا أصل له.
(فصل) ويجوز انى شهد على كل واحد من شاهدي الأصل شاهد فرع فيشهد شاهدا فرع
94

على شاهدي أصل قال القاضي لا يختلف كلام أحمد في هذا وهو قول شريح والشعبي والحسن
وابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري وإسحاق والبتي والعنبري ونمير بن (بياض في أصل الكتاب؟؟؟)
أهل العلم على هذا حتى جاء هؤلاء وقال أحمد وشاهد على شاهد يجوز لم يزل الناس على ذا شريح
فمن دونه الا ان أبا حنيفة أنكره وذهب أبو عبد الله بن بطة إلى أنه لا يقبل على كل شاهد أصل إلا
شاهدا فرع وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن شاهدي الفرع يثبتان شهادة شاهدي الأصل
فلا يثبت شهادة كل واحد منهما بأقل من شاهدين كما لا يثبت اقرار مقرين بشهادة اثنين يشهد
على كل واحد منهما واحد.
ولنا ان هذا يثبت بشاهدين وقد شهد اثنان بما يثبته فيثبت كما لو شهدا بنفس الحق ولان
شاهدي الفرع بدل من شهود الأصل فيكفي في عددها ما يكفي في شهادة الأصل ولان هذا اجتماع
على ما ذكره أحمد وإسحاق ولان شاهدي الفرع لا ينقلان عن شاهدي الأصل حقا عليهما فوجب
ان يقبل فيه قول واحد كاخبار الديانات فإنهم إنما ينقلون الشهادة وليست حقا عليهم ولهذا لو أنكراها
لم يعد الحاكم عليهما ولم يطلبها منهما وهذا الجواب عما ذكروه. فإذا ثبت هذا فمن اعتبر لكل
شاهد أصل شاهدي فرع أجاز ان يشهد شاهدان على كل واحد من شاهدي الأصل وبهذا قال
95

مالك وأصحاب الرأي قال الشافعي ورأيت كثيرا من الحكام والفتين يجيزه وخرجه على قولين
(أحدهما) جوازه والآخر لا يجوز حتى يكون شهود الفرع أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع.
واختاره المزني لأن من يثبت به أحد طرفي الشهادة لا يثبت به الطرف الآخر كما لو شهد أصل مع
شاهد ثم شهد مع آخر على شهادة شاهد الأصل الآخر.
ولنا أنهما شهدا على قولين فوجب أن يقبل كما لو شهدا باقرارين بحقين أو باقرار اثنين وإنما لم
يجز ان يشهد شاهد الأصل فرعا لأنه يؤدي إلى أن يكون بدل أصلا في شهادة بحق وذلك لا يجوز
ولأنهم يثبتون بشهادتهم شهادة الأصل وليست شهادة أحدهم ظرفا لشهادة الاخر فعلى قول الشافعي
ان يثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين وجب أن يكون شهود الفرع ستة وإن كان حق يثبت بأربع نسوة
فوجب أن يكون شهود الفرع ثمانية وإن كان المشهود به زنا خرج فيه خمسة أقوال (أحدها) لا مدخل
لشهادة الفرع في اثباته.
(والثاني) يجوز ويجب أن يكون شهود الفرع ستة عشر فيشهد على شهادة كل واحد من شهود الأصل
أربعة (الثالث) يكفي ثمانية (والرابع) يكونون أربعة يشهدون على كل واحد (والخامس) يكفي
شاهدان يشهدان على كل واحد من شهود الأصل وهذا اثبات لحد الزنا بشاهدين وهو بعيد
(فصل) وإن شهد بالحق شاهدا أصل وشاهدا فرع يشهدان على شهادة أصل أخر جاز، وإن
شهد شاهد أصل وشاهد فرع خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا من قبل، وإن شهد شاهد أصل ثم
96

شهد هو وآخر فرعا على شهاد أصل آخر لم تفد شهادته الفرعية شيئا وكان حكم ذلك حكم ما لو
شهد على شهادته شاهد واحد
(مسألة) قال (ويشهد على من سمعه يقر بحق وان لم يقل للشاهد اشهد علي)
اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فالمذهب ما ذكره الخرقي وبه قال الشعبي والشافعي
وعن أحمد رواية ثانية لا يشهد حتى يقول له المقر اشهد علي كما أنه لا يجوز ان يشهد على شهادة رجل
حتى يسترعيه إياها ويقول له اشهد على شهادتي، وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض لا يشهد
وإذا سمعه يقر بدين يشهد لأن المقر بالدين معترف انه عليه والمقر بالقرض لا يعترف بذلك لجواز
أن يكون اقترض منه ثم وفاه، وعنه رواية رابعة إذا سمع شيئا فدعي إلى الشهادة فهو بالخيار ان
شاء شهد وإن شاء لم يشهد قال ولكن يجب عليه إذا اشهد ان يشهد إذا دعي (ولا يأب الشهداء
إذا ما دعوا) قال إذا اشهدوا وقال ابن أبي موسى: إذا سمع رجلا يقر لرجل بحق ولم يقل اشهد
علي بذلك وسمع الشاهد فله ان يشهد عليه فيقول اشهد اني حضرت اقرار فلان بكذا ولا يقول اشهد
على اقراره وان سمعه يقول اقترضت من فلان أو قبضت من فلان لم يجز ان يشهد به، والصحيح
97

الأول لأن الشاهد يشهد بما علمه وقد حصل له العلم بسماعه فجاز ان شهد به كما يجوز ان يشهد بما
رآه من الافعال، وذكر القاضي أن في الافعال روايتين
(إحداهما) لا يشهد به حتى يقول المشهود عليه اشهد وهذا ان أراد به العموم في جميع الأفعال
فلا يصح لأن ذلك يؤدي إلى منع الشهادة عليها بالكلية فإن الغاصب لا يقول لاحد اشهد على
أني اغصب ولا السارق ولا الزاني ولا القاتل وأشباه هؤلاء وقد شهد أبو بكر وأصحابه على المغيرة
بالزنا فلم يقل عمر هل أشهدكم أولا؟ ولا يقل هذا أحد من الصحابة ولا من غيرهم ولا قاله الذين
شهدوا على قدامة بشرب الخمر وقاله عمر للذين شهدوا على الوليد بن عقبة وان أراد به الافعال
التي تكون بالتراضي كالقرض والقبض فيه وفي الرهن والبيع والافتراق ونحو ذلك جاز
(فصل) ولو حضر شاهدان حسابا بين اثنين شرطا عليهما ان لا يحفظا عليهما شيئا كان
للشاهدين ان شهدا بما سمعاه منهما ولم يسقط ذلك شرطهما لأن للشاهد ان يشهد بما سمعه أو علمه
وذلك قد حصل له سواء اشهده أو سمعه وكذلك يشهدان على العقود بحضورها وعلى الجنايات
بمشاهدتها ولا يحتاجان إلى الشهاد وبهذا قال ابن سيرين ومالك والثوري والشافعي
(فصل) والحقوق على ضربين
(أحدهما) حق لآدمي معين كالحقوق المالية والنكاح وغيره من العقود والعقوبات كالقصاص
98

وحد القذف والوقف على آدمي معين فلا تسمع الشهادة فيه الا بعد الدعوى لأن الشهادة فيه حق
لآدمي فلا تستوفى الا بعد مطالبته واذنه ولأنها حجة على الدعوى ودليل لها فلا يجوز تقدمها عليها
(الضرب الثاني) ما كان حقا لآدمي غير معين كالوقف على الفقراء والمساكين أو جميع المسلمين
أو على مسجد أو سقاية أو مقبرة مسبلة أو الوصية لشئ من ذلك ونحو هذا أو ما كان حقا لله تعالى
كالحدود الخالصة لله تعالى أو الزكاة أو الكفارة فلا تفتقر الشهادة به إلى تقدم الدعوى لأن ذلك ليس
له مستحق معين من الآدميين يدعيه ويطالب به ولذلك شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة وشهد
الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر وشهد الذين شهدوا على الوليد بن عقبة
بشرب الخمر أيضا من غير تقدم دعوى فأجيزت شهادتهم ولذلك لم يعتبر في ابتداء الوقف قبول
من أحد ولا رضى منه، وكذلك ما لا يتعلق به حق أحد الغريمين كتحريم الزوجة بالطلاق أو
الظهار أو اعتاق الرقيق تجوز الحسبة به ولا تعتبر فيه دعوى ولو شهد شاهدان بعتق عبد أو أمة
ابتداء ثبت ذلك سواء صدقهما المشهود بعتقه أو لم يصدقهما وبهذا قال الشافعي وبه قال أبو حنيفة
في الأمة وقال في العبد لا يثبت ما لم يصدق العبد به ويدعيه لأن العتق حقه فأشبه سائر حقوقه
ولنا انها شهادة بعتق فلا تفتقر إلى تقدم الدعوى كعتق الأمة ويخالف سائر الحقوق لأنه حق
لله تعالى ولهذا لا يفتقر إلي قبول المعتق ودليل ذلك الأمة وما ذكروه يبطل بعتق الأمة فإن قيل
99

الأمة يتعلق باعتاقها تحريم الوطئ قلنا هذا لا اثر له فإن المنع يوجب تحريمها عليه ولا تسمع الشهادة
به الا بعد الدعوى
(فصل) ومن كانت عنده شهادة لآدمي لم يخل اما أن يكون عالما بها أو غير عالم فإن كان عالما بها لم
يجز للشاهد أداؤها حتى يسأله ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون ويشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون) رواه
البخاري ولان أداءها حق للمشهود له فلا يستوفى الا برضاه كسائر حقوقه وإن كان المشهود له
غير عالم بها جاز للشاهد أداؤها قبل طلبها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا أنبئكم بخير الشهداء؟: الذي يأتي
بشهادته قبل ان يسألها) رواه مسلم وأبو داود ومالك وقال مالك هو الذي يأتي بشهادته ولا يعلم بها الذي
هي له وهذا الحديث وإن كان مطلقا فإنه يتعين حمله على هذه الصور جمعا بين الحديثين ولأنه إذا لم
يكن عالما بها فتركه طلبها لا يدل على أنه لا يريد اقامتها بخلاف العالم بها وهذا مذهب الشافعي.
(فصل) ويعتبر لفظ الشهادة في أدائها فيقول اشهد أنه أقر بكذا ونحوه ولو قال ألم أو أحق
وأتيقن أو أعرف لم يعتد به لأن الشهادة مصدر شهد يشهد شهادة فلا بد من الاتيان بفعلها المشتق
منها ولان فيها معنى لا يحصل في غيرها من اللفظات بدليل أنها تستعمل في اليمين فيقال اشهد بالله
ولهذا تستعمل في اللعان ولا يحصل ذلك من غيرها وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا
100

(مسألة) قال (وتجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلا)
المستخفي هو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليسمع اقراره ولا يعلم به مثل من يجحد الحق
علانية ويقر به سرا فيختبئ شاهدان في موضع لا يعلم بهما ليسمعها اقراره به ثم يشهدا به فشهادتهما
مقبولة على الرواية الصحيحة وبهذا قال عمرو بن حريث وقال كذلك يفعل بالخائن والفاجر وروي
مثل ذلك عن شريح وهو قول الشافعي وروي عن أحمد رواية أخري لا تسمع شهادته وهو اختيار أبي
بكر وابن أبي موسى وروي ذلك عن شريح والشعبي لأن الله تعالى قال (ولا تجسسوا) وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (من حدث بحديث ثم التفت فهي أمانة) يعني أنه لا يجوز لسامعه ذكره عنه لالتفاته
وحذره، وقال: مالك إن كان المشهود عليه ضعيفا ينخدع لم يقبلا عليه وان لم يكن كذلك قبلت
ولنا أنهما شهدا بما سمعاه يقينا فقبلت شهادتهم كما لو لم علم بها
(كتاب الأقضية)
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (وإذا هلك رجل وخلف ولدين ومائتي درهم
فاقر أحدهما بمائة درهم دينا على أبيه لأجنبي دفع إلى المقر له نصب ما في يده من إرثه عن
أبيه الا أن يكون المقر عدلا فيشاء الغريم ان يحلف مع شهادة الابن ويأخذ مائة وتكون
المائة الباقية بين الابنين)
101

هذه المسألة في الاقرار من بعض الورثة وقد ذكرناها في باب الاقرار وانه إنما يلزم المقر من الدين
بقدر ميراثه منه وميراثه ههنا النصف فيكون عليه نصف الدين وهو نصف المائة ونصفها الباقي يشهد
به على أخيه فإن كان عدلا فشاء الغريم حلف مع شهادته واستحق الباقي لأنه لا تهمة في حق الابن
المقر فإنه لا يجر إلى نفسه بهذه الشهادة نفعا ولا يدفع بها ضرا وان شهد أجنبي مع الوارث المقر كملت الشهادة
وحكم للمدعي بما شهدا به له إذا كانا عدلين وأديا الشهادة بلفظ الشهادة ولا يكتفى بلفظ الاقرار في الشهادة لما
ذكرنا من قبل وإن كان الاقرار من اثنين من الورثة عدلين مثل ان يخلف ثلاثة بنين فيقر اثنان منهم بالدين
ويشهدان به فإن شهادتهما تقبل ويثبت باقي الدين في حق المنكر وبهذا كله قال الحسن والشعبي
والشافعي وابن المنذر وقال حماد وأصحاب الرأي المقر به كله في نصيب المقر وهو قول الشعبي وعلى
هذا ينبغي ان لا يتقبل شهادة المقر بالدين لأنه يجر بشهادته نفعا إلى نفسه وهو اسقاط بعض ما أقر به
عن نفسه والاقرار بوصية تخرج من الثلث كالاقرار بالدين فيما ذكرناه
(فصل) ولو ثبت لرجل على رجل دين ببينة لم يمنع ذلك قبول شهادته عليه بدين أو وصية في
قول عامة أهل العلم الا ابن أبي ليلى قال لا تقبل شهادته على غريمه الميت بذلك فيحتمل انه منع من
ذلك لئلا يواطئ من يشهد له بدين فيحاص الغرماء بما شهد له به ثم يقاسمه
ولنا أنه عدل غير متهم فتقبل شهادته له كغيره وذلك لأنه لا يجر بشهادته إلى نفسه نفعا ولا
102

يدفع بها ضرا بل يضر نفسه بها لكون المشهود له يزاحمه في الاستيفاء وينقص ما يأخذه فهو أقرب
إلى الصدق وأحرى ان تقبل شهادته وما ذكرناه له من الاحتمال يوجد في الأجنبي فلم يمنع قبول شهادته
(مسألة) قال (ولو هلك رجل عن ابنين وله حق بشاهد وعليه من الدين ما يستغرق
ميراثه فأبى الوارث أن يحلفا مع الشاهد لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت ويستحق
فإن حلف الوارثان مع الشاهد حكم بالدين فدفع إلى الغريم)
وجملته ان الرجل إذا مات مفلسا وادعى ورثته دينا له على رجل فأنكر فأقاموا شاهدا عدلا
وحلفوا معه حكم بالدين للميت ثم تقضى منه ديونه ثم تنفذ وصاياه من الثلث الا ان يجيز الورثة فإن
أبي الورثة ان يحلفوا لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت وبهذا قال إسحاق وأبو ثور والشافعي
في الجديد وقال في القديم للغريم ان يحلف ويستحق وهذا قول مالك لأن حقه متعلق به بدليل أنه
لو ثبت المال قدم حقه على الورثة وكانت له اليمين كالوارث
ولنا ان الدين للورثة دون الغريم فلم يكن له ان يحلف عليه كما لو لم يستغرق الدين ميراثا والدليل
على أنه للوارث أنه يكتفى بيمينه ولو كان لغيره ما اكتفي بها ولان حق الغريم في ذمة الميت والدين
للميت ولهذا يشهد الشاهد بان الدين للميت والذي يحلف معه إنما يحلف على هذا ولا يجوز للغريم ان يحلف لي
103

في ذمة المدعى عليه دينا بالاتفاق فلم يجز ان يحلف على دين غيره الذي لا فعل له فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما جعل اليمين للمالك ولا يلزم على هذا الوكيل لأنه يحلف على فعل نفسه ولان الغريم لو حلف مع
الشاهد ثم أبرأ الميت من الدين لرجع الدين إلى الورثة ولو كان قد ثبت له بيمينه لم يرجع إليهم
وهكذا لو وصى الميت لانسان ثم لم يحلف الورثة لم يكن للموصى له ان يحلف لما ذكرناه
(فصل) فإن حلف أحد الابنين مع الشهادة لم يثبت من الدين الا قدر حصته وهكذا إلا ادعى الورثة
وصية لأبيهم أو دينا وأقاموا شاهدا لم يثبت جميعه الا بايمان جميعهم، وان حلف بعضهم ثبت من الدين
والوصية بقدر حقه ولا يشاركه فيه باقي الورثة لأنه لا يثبت لهم حق بدون أيمانهم ولا يجوز أن يستحقوا
بيمين غيرهم ويقضي من دين أبيه بقدر ما ثبت له فإن كان في الورثة صغير أو معتوه وقف حقه
حتى يبلغ الصغير ويعقل المعتوه لأنه لا يمكن ان يحلف على حاله ولا يحلف وليه لكون اليمين لا تدخلها
النيابة وإن كان فيهم أخرس مفهوم الإشارة حلف وأعطي حصته وان لم تفهم إشارته وقف حقه
أيضا فإن مات أو مات الصبي والمعتوه قام ورثتهم مقامهم في اليمين والاستحقاق فإن طالب أولياؤهما
في حياتهما بحبس المدعى عليه حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون ويعقل الأخرس الإشارة أو بإقامة كفيل
لم يجابوا إلى ذلك لأن الحبس عذاب لا يستحق على من لم يثبت عليه حق
(فصل) وتركة الميت يثبت الملك فيها لورثته وسواء كان عليه دين أو لم يكن نص عليه أحمد
104

فيمن أفلس ثم مات قال قد انتقل المبيع إلى الورثة وحصل ملكا لهم وبهذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة إن كان الدين يستغرق التركة منع نقلها إلى الورثة فإن كان لا يستغرقها لم يمنع انتقال شئ منها
وقال أبو سعيد الإصطخري يمنع بقدره وقد أومأ احمد إلى مثل هذا فإنه قال في أربعة بنين
ترك أبوهم دارا وعليه دين فقال أحد البنين أنا أعطي ودعوا لي الربع فقال احمد هذه الدار للغرماء
لا يرثون شيئا حتى يؤدوا الدين وهذا يدل على أنها لم تنتقل إليهم عنده لأنه يمنع الوارث من امساك
الربع بدفع قيمته لأن الدين لم يثبت في ذمم الورثة فيجب أن يتعلق بالتركة والمذهب الأول ولهذا
قلنا إن الغريم لا يحلف على دين الميت وذلك لأن الدين محله الذمة وإنما يتعلق بالتركة فيتخير الورثة
بين قضاء الدين منها أو من غيرها كالرهن والجاني ولهذا لا يلزم الغرماء نفقة العبيد ولا يكون نماء
التركة لهم ولأنه لا يخلو من أن تنتقل إلى الورثة أو إلى الغرماء أو تبقى للميت أو لا تكون لاحد، لا يجوز
أن تنتقل إلى الغرماء لأنها لو انتقلت إليهم لزمهم نفقة الحيوان وكان نماؤها لهم غير محسوب من دينهم
ولا يجوز أن تبقى للميت لأنه لم يبق أهلا للملك ولا يجوز أن لا تكون لاحد لأنها مال مملوك فلا بد
من مالك ولأنها لو بقيت بغير مالك لأبيحت لمن يتملكها كسائر المباحات فثبت أنها انتقلت إلى
الورثة فعلى هذا إذا نمت التركة مثل أن غلت الدار وأثمرت النخيل ونتجت الماشية فهو للوارث
ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء لأنه نماء ملكه فأشبه كسب الجاني ويحتمل أن يتعلق به الغرماء
105

كنماء الرهن ومن اختار الأول قال تعلق الحق بالرهن آكد لأنه ثبت باختيار المالك ورضاه ولهذا
منع التصرف فيه وهذا يثبت بغير رضى المالك ولم يمنع التصرف فكان أشبه بالجاني
وعلى الرواية الأخرى يكون نماء التركة حكمه حكم التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها، وإن
تصرف الورثة في التركة ببيع أو هبة أو قسمة فعلى الرواية الأولى تصرفهم صحيح فإن قضوا الدين
وإلا نقضت تصرفاتهم كما لو تصرف السيد في العبد الجاني ولم يقض دين الجناية، وعلى الرواية الأخرى
تصرفاتهم فاسدة لأنهم تصرفوا فيما لم يملكوه
(فصل) إذا حلف ثلاثة بنين وأبوين فادعى البنون ان أباهم وقف داره عليهم في صحته وأقاموا
بذلك شاهدا واحدا حلفوا معه وصارت وقفا عليهم وسقط حق الأبوين وإن لم يحلفوا معه ولم يكن
على الميت دين ولا له وصية حلف الأبوان وكان نصيبهما طلقا لهما ونصيب البنين وقفا عليهم باقرارهم
لأنه ينفذ باقرارهم، وإن كان على الميت دين أو وصى بشئ قضي دينه ونفذت وصيته وما بقي بين
الورثة فما حصل للبنين كان وقفا عليهم باقرارهم، وإن حلف واحد منهم كان ثلث الدار وقفا عليه
والباقي يقضى منه الدين وما فضل يكون ميراثا فما حصل للابنين منه كان وقفا عليهما ولا يرث الحالف
شيئا لأنه يعترف انه لا يستحق منها شيئا سوى ما وقف عليه، وإن حلفوا كلهم فثبت الوقف عليهم لم
يخل من أن يكون الوقف مرتبا على بطن ثم على بطن بعد بطن أبدا أو مشتركا فإن كان مرتبا فإذا
انقرض الأولاد الثلاثة انتقل الوقف إلى البطن الثاني بغير يمين لأنه قد ثبت كونه وقفا بالشاهدين
106

ويمين الأولاد فلم يحتج من أنتقل إليه إلى بينة كما لو ثبت بشاهدين وكالمال الموروث وكذلك إذا
انقرض الأولاد ورجع إلى المساكين لم يحتاجوا في ثبوته لهم إلى يمين لما ذكرناه
وإن انقرض أحد الأولاد انتقل نصيبه منه إلى اخوته أو إلى من شرط الواقف انتقاله إليه بغير
يمين لما ذكرنا فإن امتنع البطن الأول من اليمين فقد ذكرنا أن نصيبهم يكون وقفا عليهم باقرارهم فإذا
انقرضوا كان ذلك وقفا على حسب ما أقروا به فإن كان اقرارهم انه وقف عليهم ثم على أولادهم فقال
أولادهم نحن نحلف مع شاهدنا لتكون جميع الدار وقفا لنا فلهم ذلك لأنهم ينقلون الوقف من الواقف
فلهم اثباته كالبطن الأول، فأما إن حلف أحد البين ونكل اخواه ثم مات الحالف نظرت فإن مات
بعد موت اخوته صرف نصيبه إلى أولاده وجها واحدا وإن مات في حياة اخوته ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) ينصرف إلى اخوته لأنه لا يثبت للبطن الثاني شئ مع بقاء أحد من البطن الأول
(والثاني) ينتقل إلى أولاده لأن أخويه أسقاطا حقهما بنكولها فصارا كالمعدومين
(والثالث) يصرف إلى أقرب عصبة الواقف لأنه لم يمكن صرفه إلى الأخوين ولا إلى البطن
الثاني لما ذكرنا فيصرف إلى أقرب عصبة الواقف إلى أن يموت الاخوان ثم يعود إلى البطن الثاني
والأول أصح لأن الأخوين لم يسقطا حقوقهما وإنما امتنعا من إقامة الحجة عليه ولذلك لو اعترف لهما
الأبوان ثبت الوقف من غير يمين وههنا قد حصل الاعتراف من البطن الثاني فوجب أن ينصرف
إليهما لحصول الاتقان من الجميع على استحقاقهما له
107

فإن قيل فإذا كان البطن الثاني صغارا فما حصل الاعتراف منهم قلنا قد حصل الاعتراف من
الحالف الذي ثبتت الحجة بيمينه وبالبينة التي ثبت بها الوقف وبها يستحق البطن الثاني فاكتفي
بذلك في انتقاله إلى الأخوين كما يكتفى به في انتقاله إلى البطن الثاني بعد انقراض الأخوين، ويدل
على صحة هذا اننا اكتفينا بالبينة في أصل الوقف وفي كيفيته وصفته وترتيبه فيما عدا هذا المختلف فيه
فيجب أن يكتفى به فيه. فأما إن كان شرط الواقف ان من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إليه انتقل
إلى أولاده وجها واحدا لأنه لا منازع لهم فيه، وان مات من غير ولد انتقل إلى أخويه على الوجه الصحيح
ويخرج فيه الوجهان الآخران
(الحال الثاني) إذا كان الوقف مشتركا وهو ان يدعوا ان أباهم وقف داره على ولده وولد
ولده ما تناسلوا فقد شرك بين البطون ففي هذه الحال إذا حلف أولاده الثلاثة مع شاهدهم ولم يكن
أحد من أولادهم معهم موجودا ثبت الوقف عى الثلاثة، وإن كان من أولادهم أحد موجودا فهو
شريكهم فإن كان كبيرا حلف واستحق وان لم يحلف كان نصيبه ميراثا تقضى منه الديون وتنفذ
الوصايا وباقيه للورثة لأنه يأخذ الوقف ابتداء من الواقف بغير واسطة فهو كأحد البنين، وإن كان
صغيرا أو حدث لاحد البنين ولد يشاركهم في الوقف أو كان احمد البنين صغيرا وقف نصيبه من
الوقف عليه ولا يسلم إلى وليه حتى يبلغ فيحلف أو يمتنع لأنه يتلقى الوقف من غير واسطة
فإن قيل فلم لم يستحق بغير يمين لكون البنين المستحق معترفين له بذلك فيكتفى باعترافهم كما لو
108

كان في أيديهم دار فاعترفوا لصغير منها بشرك فإنه يسلم لي وليه؟ قلنا الفرق بينهما ان الدار التي في
أيديهم لم يكن لهم فيها منازع ولا يوجب على أحد منهم فيها يمين وهذه ينازعهم فيها الأبوان وأصحاب
الديون والوصايا وإنما يأخذونها بأيمانهم فإذا أقروا بمشارك لهم فقد اعترفوا بأنه كواحد منهم
لا يستحق إلا بيمينه كما لا يستحق واحد منهم إلا باليمين، ويفارق ما إذا كان الوقف مرتبا على بطن
بعد بطن فإنه لا يشاركهم أحد من البطن الثاني، فإذا بلغ الصغير الموقوف نصيبه فحلف كان له، وان
امتنع نظرت فإن كان موجودا حين الدعوى أو قبل حلفهم كان نصيبه ميراثا كما لو كان بالغا فامتنع
من اليمين، فإن حدث بعد أيمانهم وثبوت الوقف نماء كان له نصيبه أيضا لأن الوقف ثبت في جميع
الدار بأيمان البنين فلا يبطل بامتناع من حدث الا انه ان أقر انها ليست وقفا وكذب البنين في ذلك
كان نصيبه من الغلة ميراثا حكمه حكم نماء الميراث وإن لم يكذبهم فنصيبه وقف له
وقال القاضي ان امتنع من اليمين رد نصيبه إلى الأولاد الثلاثة ولم يفرق بين من كان موجودا
حال الدعوى والحادث بعدها لأنه لا يجوز أن يستحق شيئا بغير يمينه ولا يجوز أن يبطل الوقف
الثابت بأيمانهم فتعين رد نصيبه إليهم
ولنا انه إن كان موجودا حال الدعوى وحلفهم فهو شريكهم حين يثبت الوقف فلم يجز ان يثبت
الوقف في نصيبه بغير يمينه كالبالغ، وإن كان حادثا بعد ثبوت الوقف بأيمانهم فهم مقرون له بنصيبه
وهو يصدقهم في إقرارهم فلم يجز لهم أخذ نصيبه كما لو أقروا له بمال ولأنهم يقرون بأنهم لا يستحقون
109

أكثر من ثلاثة أرباع الوقف فلا يجوز لهم أخذ أكثر من ذلك، وان مات الصغير قبل بلوغه قام وارثه
مقامه فيما ذكرنا وان مات أحد البنين البالغين قبل بلوغ الصغير وقف أيضا نصيبه مما كان لعمه
الميت وكان الحكم فيه كالحكم في نصيبه الأصلي
وقال القاضي ان بلغ فامتنع من اليمين فالربع موقوف إلى حين موت الثالث ويقسم بين البالغين
وورثة الميت لأنه كان بين الثلاثة ونصيبه من الميت للبالغين الحيين خاصة لأنهما مستحقا الوقف
(مسألة) قال (ومن ادعى دعوى وذكر أن بينته بالبعد منه فحلف المدعى عليه ثم أحضر
المدعي بينته حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق)
وجملته ان المدعي إذا ذكر ان بينته بعيدة أنه أو لا يمكنه احضارها أو لا يريد اقامتها فطلب
اليمين من المدعى عليه أحلف له فإذا حلف ثم أحضر المدعي ببينة حكم له وبهذا قال شريح والشعبي
ومالك والثوري والليث والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وإسحاق وحكي عن ابن أبي ليلى وداوود
ان بينته لا تسمع لأن اليمين حجة المدعى عليه فلا تسمع بعدها حجة المدعي كما لا تسمع يمين
المدعى عليه بعد بينة المدعي.
ولنا قول عمر رضي الله عنه البينة الصادقة أحب إلي من اليمين الفاجرة وظاهر هذه البينة الصدق ويلزم من
110

صدقها فجوز اليمين المتقدمة فتكون أولى ولان كل حالة يجب عليه الحق فيها باقراره يجب عليه بالبينة كما قبل اليمين
وما ذكروه لا يصح لأن البينة الأصل واليمين بدل عنها ولهذا لا تشرع الا عند تعذرها والبدل يبطل
بالقدرة على المبدل كبطلان التيمم بالقدرة على الماء ولا يبطل الأصل بالقدرة على البدل ويدل على الفرق
بينهما أنهما حال اجتماعهما وإمكان سماعهما تسمع البينة ويحكم بها ولا تسمع اليمين ولا يسأل عنهما
(فصل) فإن طلب المدعي حبس المدعى عليه أو إقامة كفيل به إلى أن تحضر بينته البعيدة لم
يقبل منه ولم يكن له ملازمة خصمه نص عليه احمد لأنه لم يثبت له قبله حق يحبس به ولا يقسم به
كفيلا ولان الحبس عذاب فلا يلزم معصوما لم يتوجه عليه حق ولأنه لو جاز ذلك لتمكن كل ظالم من
حبس من شاء من الناس بغير حق، وإن كانت بينته قريبة فله ملازمته حتى يحضرها لأن ذلك من
ضرورة اقامتها فإنه لو لم يتمكن من ملازمته لذهب من مجلس الحاكم ولا تمكن اقامتها إلا بحضرته،
ولأنه لما تمكن من احضاره مجلس الحاكم ليقيم البينة عليه تمكن من ملازمته فيه حتى تحضر البينة
وتفارق البينة البعيدة أو من لا يمكن حضورها فإن إلزامه الإقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حبس
أو ما يقوم مقامه ولا سبيل إليه
(فصل) ولو أقام المدعي شاهدا واحدا ولم يحلف معه وطلب يمين المدعى عليه أحلف له ثم إن
أحضر شاهدا آخر بعد ذلك كملت بينته وقضي بها لما ذكرنا في التي قبلها، وإن قال المدعي لي بينة
حاضرة وأريد احلاف المدعى عليه ثم أقيم البينة عليه ففيه وجهان
111

(أحدهما) له ذلك ويستحلف خصمه لأنه يملك استحلافه إذا كانت بينته بعيدة فكذلك إذا
كانت قريبة، ولأنه لو قال لا أريد إقامة بينتي القريبة ملك استحلافه فكذلك إذا أراد إقامتها
(الثاني) لا يملك استحلافه لأن في البينة غنية عن اليمين فلم تشرع معها ولان البينة أصل واليمين
بدل فلا يجمع بين البدل والأصل كالتيمم مع الماء وفارق البعيدة فإنها في الحال كالمعدومة للعجز عنها
وكذلك التي لا يربد اقامتها لأنه قد تكون عليه مشقة في احضارها أو عليها في الحضور مشقة فيسقط
ذلك للمشقة بخلاف التي يريد اقامتها
(مسألة) قال (واليمين التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله وإن كان الحالف كافرا)
وجملته أن اليمين المشروعة في الحقوق التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله في قول عامة أهل
العلم إلا أن مالكا أحب ان يحلف بالله الذي لا إله الا هو، وإن استحلف حاكم بالله أجزأ، قال ابن
المنذر هذا أحب إلي لأن ابن عباس روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف رجلا فقال له (قل والله
الذي لا إله إلا هو ماله عندك شي ء) رواه أبو داود وفي حديث عمر حين حلف لأبي قال والله الذي
لا إله إلا هو إن النخل لنخلي وما لأبي فيها شئ
وقال الشافعي إن كان المدعى قصاصا أو عتاقه أو حدا أو مالا يبلغ نصابا غلظت اليمين فيحلف
112

بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وقال
في القسامة عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهذا اختيار أبي الخطاب. وذكر القاضي ان هذا في
ايمان القسامة خاصة وليس بشرط
ولنا قول الله تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله ان ارتبتم لا نشتري به ثمنا) وقال
تعالى (فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما) وقال تعالى في اللعان (فشهادة أحدهم أربع شهادات
بالله انه لمن الصادقين) وقال تعالى (واقسموا بالله جهد أيمانهم) قال بعض أهل التفسير من أقسم
بالله فقد أقسم جهد اليمين
واستحلف النبي صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد بزيد في الطلاق فقال (آالله ما أردت إلا واحدة) وفي حديث
الحضرمي والكندي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألك بينة؟) قال لا ولكن أحلفه والله ما يعلم أنها أرضي
غصبنيها. رواه أبو داود
وقال عثمان لابن عمر تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ولان في الله كفاية فوجب أن يكتفى
باسمه في اليمين كالموضع الذي سلموه فأما حديث ابن عباس وعمر فإنه يدل على جواز الاستحلاف كذلك
وما ذكرناه يدل عل الاكتفاء باسم الله وحده وما ذكره الباقون فتحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه
إذا ثبت هذا فإن اليمين في حق المسلم والكافر جميعا بالله تعالى لا يحلف أحد بغيره لقول الله
تعالى (فيقسمان بالله) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)
113

(فصل) وتشرع اليمين في حق كل مدعى عليه سواء كان مسلمان أو كافرا عدلا أو فاسقا امرأة
أو رجلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اليمين على المدعى عليه)
وروى شقيق عن الأشعث بن قيس قال: قال كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني
فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل لك بينة؟) قلت لا، قال لليهودي (احلف)
قلت إذا يحلف فيذهب بمالي فأنزل الله عز وجل (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) إلى
آخر الآية رواه البخاري وأبو داود وابن ماجة. وفي حديث الحضرمي قلت إنه رجل فاجر لا يبالي
على ما حلف عليه قال ليس لك منه إلا ذلك
(مسألة) قال (الا أنه إن كان يهوديا قبل له قن والله الذي انزل التوراة على موسى وإن
كان نصرانيا قيل له قل والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان لهم مواضع يعظمونها
ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها)
ظاهر كلام الخرقي رحمه الله أن اليمين لا تغلظ إلى في حق أهل الذمة ولا تغلظ في حق المسلمين
ونحو هذا قال أبو بكر ووجه تغليظها في حقهم ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني
114

لليهود (نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى؟) رواه أبو داود
وكذلك قال الخرقي تغلظ بالمكان فيحلف في المواضع التي يعظمها ويتوقى الكذب فيها ولم يذكر التغليظ
بالزمان، وقال أبو الخطاب إن رأى التغليظ في اليمين في اللفظ بالزمان والمكان فله ذلك قال وقد أومأ
إليه احمد في رواية الميموني وذكر التغليظ في حق المجوسي قال فيقال له قل والله الذي خلقني ورزقني وإن
كان وثنيا حلفه بالله وحده وكذلك إن كان لا يعبد الله لأنه لا يجوز أن يحلف بغير الله لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) ولان هذا إن لم يكن يعتد هذه يمينا فإنه يزداد بها
اثما وعقوبة وربما عجلت عقوبته فيتعظ بذلك ويعتبر به غير وهذا كله ليس بشرط في اليمين وإنما
للحاكم فعله إذا رأى
وممن قال يستحلف أهل الكتاب بالله وحده مسروق وأبو عبيدة بن عبد الله وعطاء وشريح
والحسن وإبراهيم بن كعب بن سور ومالك والثوري وأبو عبيد
وممن قال لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق مسلم أبو حنيفة وصاحباه وقال مالك والشافعي
تغلظ ثم اختلفا فقال مالك يحلف في المدينة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف قائما ولا يحلف قائما الا
على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستحلفون في غير المدينة في مساجد الجماعات ولا يحلف عند المنبر الاعلى
ما يقطع فيه السارق فصاعدا وهو ثلاثة دراهم وقال الشافعي يستحلف المسلم بين الركن والمقام بمكة
وفي المدينة عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر وعند الصخرة في بيت
115

المقدس وتغلظ في الزمان في الاستحلاف بعد العصر ولا تغلظ في المال الا في نصاب فصاعدا وتغلظ
في الطلاق والعتاق والحد والقصاص وهذا اختيار أبي الخطاب وقال ابن جرير تغلظ في القليل
والكثير واحتجوا بقول الله تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله) قيل أراد بعد العصر
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من حلف عن منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار)
فثبت أنه يتعلق بذلك تأكيد اليمين وروى مالك قال اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع في دار كانت
بينهما إلى مرة ان بن الحكم فقال زيد أحلف له مكاني فقال مروان لا والله الا عند مقاطع الحقوق قال
فجعل زيد يحلف ان حقه لحق ويأبى ان يحلف عند المنبر فجعل مروان يعجب
ولنا قول الله تعالى (فآخران يقومان مقامها من الذين استحق عليهما الأوليان فيقسمان بالله
لشهادتنا أحق من شهادتهما) ولم يذكر مكانا ولا زمنا ولا زيادة في اللفظ واستحلف النبي صلى الله عليه وسلم
ركانة في الطلاق فقال (آالله ما أردت الا واحدة؟) قال آالله ما أردت الا واحدة ولم يغلظ يمينه
بزمن ولا مكان ولا زيادة لفظ وسائر ما ذكرنا في التي قبلها وحلف عمر لأبي حين تحاكما إلى زيد
في مكانه وكانا في بيت زيد وقال عثمان لابن عمر تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه؟ وفي ما ذكروه
تقييد لمطلق هذه النصوص ومخالفة الاجماع فإن ما ذكرنا عن الخليفتين عمر وعثمان مع من حضرهما
لم ينكر وهو في محل الشهرة فكان اجماعا وقوله تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاة) وإنما كان في حق
أهل الكتاب في الوصية في السفر وهي قضية خولف فيها القياس في مواضع منها قبول شهادة أهل
116

الكتاب على المسلمين ومنها استحلاف الشاهدين ومنها استحلاف خصومهما عند العثور على استحقاقهما
الاثم وهم لا يعلمون بها أصلا فكيف يحتجون بها، ولما ذكر ايمان المسلمين أطلق اليمين ولم يقيدها
والاحتجاج بهذا أولى من المصير إلى ما خولف فيه القياس وترك العمل به واما حديثهم فليس فيه
دليل على مشروعية اليمين عند المنبر إنما فيه تغليظ اليمين على الحالف عنده ولا يلزم من هذا
الاستحلاف عنده. وأما قصة مروان فمن العجب احتجاجهم بها وذهابهم إلى قول مروان في قضية
خالفه زيد فيها وقول زيد ففيه الصحابة وقاضيهم وأفرضهم أحق ان يحتج به من قول مروان فإن
قول مروان لو انفرد ما جاز الاحتجاج به فكيف يجوز الاحتجاج به على مخالفة إجماع الصاحبة؟
وقول أتمهم وفقهائهم ومخالفته فعل النبي صلى الله عليه وسلم واطلاق كتاب الله تعالى وهذا ما لا يجوز وإنما
ذكر الخرقي التغليظ بالمكان واللفظ في حق الذمي لاستحلاف النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بقوله (نشدتكم
بالله الذي أنزل التوراة على موسى) ولقول الله تعالى في حق الكتابيين (تحبسونهما من بعد الصلاة)
ولأنه روي عن كعب ابن سور في نصراني قال اذهبوا به إلى المذهب واجعلوا الإنجيل في حجره
والتوراة على رأسه وقال الشعبي في نصراني اذهب به إلى البيعة فاستحلفه بما يستحلف به مثله
وقال ابن المنذر لا أعلم حجة توجب أن يستحلف في مكان بعينه ولا بيمين غير الذي يستحلف بها
المسلمون وعلى كل حال فلا خلاف بين أهل العلم في أن التغليظ بالزمان والمكان والألفاظ غير واجب
117

الا ان ابن الصباغ ان ذكر في وجوب التغليظ بالمكان قولين للشافعي وخالفه ابن العاص فقال لا
خلاف بين أهل العلم في أن القاضي حيث استحلف المدعى عليه في عمله وبلد قضائه جاز وإنما التغليظ
بالمكان فيه اختيار فيكون التغليظ عند من رآه اختيارا واستحسانا
(فصل) قال ابن المنذر ولم نجد أحدا يوجب اليمين بالمصحف وقال الشافعي رأيتهم يؤكدون
بالمصحف ورأيت ابن مازن وهو قاض بصنعاء يغلظ اليمين المصحف قال أصحابه فيغلظ عليه باحضار
المصحف لأنه يشتمل على كلام الله تعالى وأسمائه وهذا زيادة على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين
وفعله الخلفاء الراشدون وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها ولا يترك فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعل ابن مازن ولا غيره
(مسألة) قال (ويحلف الرجل فيما عليه على البت ويحلف الوارث على دين الميت على العلم)
معنى البت القطع اي يحلف بالله ماله على شئ. وجملة الامر ان الايمان كلها على البت والقطع
إلا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال الشعبي والنخعي
كلها على العلم وذكره ابن أبي موسى رواية عن أحمد وذكر احمد حديث الشيباني عن القاسم
ابن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تضطروا الناس في ايمانهم ان يحلفوا على مالا يعلمون) ولأنه لا
يكلف مالا علم له به وقال ابن أبي ليلى كلها على البت كما يحلف على فعل نفسه
118

ولنا حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم استحلف رجلا فقال له (قل والله الذي لا اله الا هو
ماله عليك حق) وروى الأشعث بن قيس ان رجلا من كندة ورجلا من حضر موت اختصما إلى
النبي صلى الله عليه وسلم في أرض من الثمن فقال الحضرمي يا رسول الله ان أرضي اغتصبنيها أبو هذا وهي في
يده قال (هل لك بينة؟) قال لا ولكن احلفه والله العظيم ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه فتهيأ الكندي
لليمين رواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكروه لا يصح لأنه يمكنه الإحاطة بفعل
نفسه ولا يمكنه ذلك في فعل غيره فافترقا في اليمين كما افترقت الشهادة فإنها تكون بالقطع فيما يمكن
القطع فيه من العقود وعلى الظن فيما لا يمكن فيه القطع من الاملاك والأنساب وعلى نفي العلم فيما لا
تمكن الإحاطة بانتفائه كالشهادة على أنه لا وارث له غير فلان وفلان، وحديث القاسم بن عبد الرحمن
محمول على اليمين على نفي فعل الغير
إذا ثبت هذا فإنه يحلف فيما عليه على البت نفيا كان أو اثباتا، وأما ما يتعلق بفعل غيره فإن كان
اثباتا مثل ان يدعي انه اقرض أو باع ويقيم شاهدا بذلك فإنه يحلف مع شاهده على البت والقطع
وإن كان على نفي العلم مثل ان يدعى عليه دين أو غصب أو جناية أو فإنه يحلف على نفي العلم لا
غير وإن حلف عليه على البت كفاه وكان التقدير فيه العلم كما في الشاهد إذا شهد بعدد الورثة
وقال ليس له وارث غيرهم سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه، ولو ادعى عليه ان عبده جنى أو
استدان فأنكر ذلك فيمينه على نفي العلم لأنها يمين على نفي فعل الغير فأشبهت يمين الوارث على نفي الموروث
119

(فصل) قال ابن أبي موسى اختلف قول احمد في من باع سلعة وظهر المشتري على عيب بها
وانكره البائع هل اليمين على البتات أو على علمه؟ على روايتين ولو ابق عند المشتري فادعى على البائع
انه ابق عنده فأنكر هل يلزمه ان يحلف انه لم يأبق قط أو على نفي علمه؟ على روايتين الا أن يكون
ولده فيحلف انه لم يأبق قط، ووجه كون اليمين على علمه انها على نفي فعل الغير فأشبه ما لو ادعى
عليه ان عبده جنى، ووجه الأخرى انه إذا ادعى عليه انه باعه معيبا يستحق به رده عليه فلزمته اليمين
على البت كما لو كان اثباتا
(فصل) ومن توجهت عليه يمين هو فيها صادق أو توجهت له أبيح له الحلف ولا شئ عليه
من اثم ولا غيره لأن الله تعالى شرع اليمين ولا يشرع محرما وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقسم على
الحق في ثلاثة مواضع من كتابه وحلف عمر لأبي علي نخيل ثم وهبته له وقال خفت ان لم احلف
ان يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم فتصير سنة وقال حنبل بلي أبو عبد الله بنحو هذا جاء إليه
ابن عمه فقال لي قبلك حق من ميراث أبي وأطالبك بالقاضي وأحلفك فقيل لأبي عبد الله ما ترى؟
قال احلف له إذا لم يكن له قبلي حق وانا غير شاك في ذلك حلفت له وكيف لا أحلف وابن عمر
قد حلف وانا من أنا وعزم أبو عبد الله على اليمين فكفاه الله ذلك ورجع الغلام عن تلك المطالبة
واختلف في الأولى فقال قوم الحلف أولى من افتداء يمينه لأن عمر حلف ولا في الحلف فائدتين
(أحدهما) حفظ ماله عن الضياع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته (والثانية) تخليص أخيه الظالم
120

من ظلمه واكل المال بغير حقه وهذا من نصيحته ونصرته بكفه عن ظلمه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم
على رجل ان يحلف ويأخذ حقه وقال أصحابنا الأفضل افتداء يمينه فإن عثمان افتدى يمنه وقال
خفت ان تصادف قدرا فيقال حلف فعوقب، أو هذا شؤم يمينه
وروى الخلال باسناده ان حذيفة عرف جملا سرق له لخاصم فيه إلى قاضي المسلمين فصارت
اليمين على حذيفة فقال لك عشرة دراهم فأبى فقال لك عشرون فأبى فقال لك ثلاثون فأبى فقال
لك أربعون فأبى فقال حذيفة أتراني اترك جملي؟ فحلف بالله أنه له ما باع ولا وهب ولان في اليمين عند
الحاكم تبذل ولا يامن أن يصادق قدرا فينسب إلى الكذب وانه عقوب بحلفه كاذبا وفي ذهاب
ماله له اجر وليس هذا تضييعا للمال فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة
وأما عمر فإنه خاف الاستنان به وترك الناس الحلف على حقوقهم فيدل على أنه لولا ذلك لما
حلف وهذا أولى والله تعالى أعلم
(فصل) فأما الحلف الكاذب ليقته مع به مال أخيه ففيه اثم كبير وقد قيل إنه من الكبائر لأن الله
تعالى وعد عليه العذاب الأليم فقال سبحانه (ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك
لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم) قال
الأشعث بن قيس نزلت هذه الآية كان لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
(بينتك أو يمينه) قلت إذا يحلف عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين هو فيها فاجر
ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) أخرجه البخاري
121

وروى ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين صبر يقطع بها مال امرئ
مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو على غضبان) متفق عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الكندي
(لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض) وهو حديث حسن صحيح وقد روي
في حديث أن يمين الغموس تذر الديار بلاقع ويستحب للحاكم أن يخوف المدعى عليه من اليمين
الفاجرة ويقرأ عليه الآية والاخبار
(فصل) ومن ادعي عليه دين وهو معسر به لم يحل له أنى حلف انه لا حق له علي وبهذا قال
المزني. وقال أبو ثور له ذلك لأن الله تعالى قال (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولأنه
لا يستحق مطالبته به في الحال ولا يجب عليه أداؤه إليه. ولنا ان الدين في ذمته وهو حق له عليه ولو لم يكن
عليه حق لم يجب إنظاره به
(فصل) ويمين الحالف على حسب جوابه فإذا ادعى عليه أنه غصبه أو استودعه وديعة أو اقترض
منه نظرا في جواب المدعى عليه فإن قال ما غصبتك ولا استودعتني ولا أقرضتني كلف أن يحلف
على ذلك فال قال مالك علي حق أو لا تستحق علي شيئا، أو لا تستحق علي ما ادعيته ولا شيئا منه
كان جوابا صحيحا ولا يكلف الجواب عن الغصب والوديعة والقرض لأنه يجوز أن يكون غصب منه
ثم رده عليه فلو جلف جحد ذلك كان كاذبا وإن أقر به ثم ادعى الرد لم يقبل منه فإذا طلب منه
اليمين حلف على حسب ما أجاب
122

ولو ادعى انني ابتعت منك الدار التي في يدك فأنكره وطلب يمينه نظرنا في جوابه فإن أجاب
بأنك لا تستحقها حلف على ذلك ولم يلزمه ان يحلف انه ما ابتاعها لأنه قد يبتاعها منه ثم يردها عليه
وان أجاب بأنك لم تبتعها مني حلف على ذلك
قال احمد في رجل ادعى على رجل انه أودعه فأنكره هل يحلف ما أودعتني؟ قال إذا حلف
مالك عندي شئ ولا لك في يدي شئ فهن يأتي على ذلك، وهذا يدل على أنه لا يلزمه الحلف على
حسب الجواب وانه متى حلف مالك قبلي حق برئ بذلك، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
(فصل) ولا تدخل اليمين النيابة ويحلف أحد عن غيره فلو كان المدعى عليه صغيرا أو مجنونا
لم يحلف عنه وقف الامر حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ولم يحلف عنه وليه، ولو ادعى الأب
لابنه الصغير حقا أو ادعاه الوصي أو الأمين له فأنكر المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه فإن نكل
قضي عليه ومن لم ير القضاء بالنكول ورأي رد اليمين على المدعي لم يحلف الولي عنهما ولكن تقف
اليمين ويكتب الحاكم محضرا بنكول المدعى عليه، وان ادعى على العبد دعوى نظرت فإن كانت
مما يقبل قول العبد فيها على نفسه كالقصاص والطلاق والقذف فالخصومة معه دون سيده فإن قلنا إن
اليمين تشرع في هذا أحلف العبد دون سيده وان نكل لم يحلف غيره، وإن كان مما لا يقبل قول
العبد فيه كاتلاف مال أو جناية توجب المال فالخصم السيد واليمين عليه ولا يحلف العبد فيها بحال
(فصل) وإذا نكل من توجهت عليه اليمين عنها وقال لي بينة أقيمها أو حساب استثبته لاحلف
123

على ما أتيقن فذكر أبو الخطاب انه لا يمهل وان لم يحلف جعل ناكلا وقيل لا يكون ذلك نكولا ويمهل مدة قريبة
وان قال ما أريد ان احلف أو سكت فلم يذكر شيئا نظرنا في المدعى فإن كان مالا أو المقصود منه
المال قضي عليه بنكوله ولم ترد اليمين على المدعي نص عليه احمد فقال إنا لا أرى رد اليمين ان
حلف المدعى عليه والا دفع إليه حقه وبهذا قال أبو حنيفة واختار أبو الخطاب ان له رد اليمين
على المدعي ان ردها حلف المدعي وحكم له بما ادعاه قال وقد صوبه أحمد فقال ما هو ببعيد يحلف
ويستحق وقال هو قول أهل المدينة. روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال شريح والشعبي والنخعي
وابن سيرين ومالك في المال خاصة وقاله الشافعي في جميع الدعاوى لما روي عن نافع عن ابن عمر
أن النبي (ص) رد اليمين على طالب الحق رواه الدارقطني ولأنه إذا نكل ظهر صدق المدعي
وقوي جانبه فتشرع اليمين في حقه كالمدعى عليه قبل نكوله وكالمدعي إذا شهد له شاهد واحد
ولان النكول قد يكون لجهله بالحال وتورعه عن الحلف على ما لا يتحققه أو للخوف من عاقبة
اليمين أو ترفعا عنها مع علمه بصدقه في إنكاره ولا يتعين بنكوله صدق المدعي فلا يجوز الحكم
له من غير دليل فإذا حلف كانت يمينه دليلا عند عدم ما هو أقوى منها كما في موضع الوفاق وقال
ابن أبي ليلي لا ادعه حتى يقر أو يحلف
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على جانب المدعى عليه) فحصرها في جانب المدعى عليه
وقوله (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) فجعل جنس اليمين في جنبة المدعى عليه كما جعل
124

جنس النبية في جنبة المدعي وقال احمد قدم ابن عمر إلى عثمان في عبد له فقال له احلف انك ما
بعته وبه عيب علمته فأبى ابن عمر ان يحلف فرد العبد عليه ولم يرد اليمين على المدعي ولأنها بينة
في المال فحكم فيها بالنكول كما لو مات من لا وارث له فوجد الإمام في دفتره دينا له على انسان
فطالبه به فأنكره وطلب منه اليمين فأنكره فإنه لا خلاف ان اليمين لا ترد وقد ذكر أصحاب الشافعي
في هذا انه يقضى بالنكول في أحد الوجهين وفي الآخر يحبس المدعى عليه حتى يقرأ ويحلف،
وكذلك لو ادعى رجل على ميت أنه وصى إليه بتفريق ثلثه وأنكر الورثة ونكلوا عن اليمين قضى
عليهم والخبر لا تعرف صحته ومخالفة ابن عمر له في القصة التي ذكرناها تدل على ضعفه فإنه لم
يرد اليمين على المدعى ولا ردها عثمان فعلى هذا إذا نكل عن اليمين قال له الحاكم ان حلفت والا
قضيت عليك ثلاثا فإن حلف والا قضى عليه وعلى القول الآخر يقول له لك رد اليمين على المدعي
فإن ردها حلف وقضي له وان نكل عن اليمين سئل عن سبب نكوله فإن قال لي بينة أقيمها أو
حساب استثبته لا حلف على ما أتقنه أخرت الحكومة وان قال ما أريد ان احلف سقط حقه من
اليمين فلو بذلها في ذلك المجلس بعد هذا لم تسمع منه إلى أن يهود في مجلس آخر فإن قيل فالمدعى
عليه لو امتنع من اليمين ثم بذلها سمعت منه فلم منعتم سماعها ههنا؟ قلنا اليمين في حق المدعى
عليه هي الأصل فمتى قدر عليها أو بذلها وجب قبولها والمصير إليها كالمبدلات مع ابدالها وأما يمين
المدعي فهي بدل فإذا امتنع منها لم ينتقل الحق إلى غيره فإذا امتنع منها سقط حقه منها لضعفها،
125

وأما إذا حلف وقضى له فعاد المدعى عليه وبذل اليمين لم يسمع منه وهكذا لو بذلها بعد الحكم
عليه بنكوله لم يسمع لأن الحكم قد تم فلا ينقض كما لو قامت به بينة، فأما غير المال وما لا يقصد
به المال فلا يقضى فيه بالنكول نص عليه أحمد في القصاص
ونقل عنه في رجل ادعى على رجل انه قذفه فقال استحلفون فإن قال لا احلف أقيم عليه قال
أبو بكر هذا قول قديم والمذهب انه لا يقضى في شئ من هذا بالنكول ولا فرق بين القصاص
في النفس والقصاص في الطرف وبهذا قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يقضى بالنكول في
القصاص فيما دون النفس وعن أحمد مثله والأول هو المذهب لأن هذا أحد نوعي القصاص فأشبه
النوع الآخر فعلى هذا ما يصنع به فيه وجهان (أحدهما) يخلى سبيله لأنه لم يثبت عليه حجة وتكون
فائدة شرعية اليمين الردع والزجر (والثاني) يحبس حتى يقر أو يحلف، وأصل الوجهين المرأة
إذا نكلت عن اللعان
(فصل) وإذا حلف فقال إن شاء الله تعالى أعيدت عليه اليمين لأن الاستثناء يزيل حكم اليمين
وكذلك أن وصل يمينه بشرط أو كلام غير مفهوم، وان حلف قبل ان يستحلفه الحاكم أعيدت
عليه ولم يعتد بما حلف قبل الاستحلاف، وكذلك أن استحلفه الحاكم قبل ان يسأله المدعي
استحلافه لم يعتد بها
(فصل) ولو ادعى على رجل دينا أو حقا فقال قد أبرأتني منه أو استوفيته مني فالقول قول
من ينكر الابراء والاستيفاء مع يمينه ويكفيه ان يحلف بالله ان هذا الحق ويسميه تسمية يصير بها
معلوما ما برئت ذمتك منه ولا من شئ منه أو ما برئت ذمتك من ذلك الحق ولا من شئ منه وان
ادعى استيفاءه أو البراءة بجهة معلومة حلف على تلك الجهة وحدها وكفاه
126

(فصل) والحقوق على ضربين (أحدهما) ما هو حق لآدمي (والثاني) ما هو حق الله تعالى
فحق الآدمي ينقسم قسمين (أحدهما) ما هو مال أو المقصود منه المال فهذا تشرع فيه اليمين بلا
خلاف بين أهل العلم فإذا لم تكن للمدعي بينة حلف المدعى عليه وبرئ وقد ثبت هذا في قصة
الحضرمي والكندي الذين اختلفا في الأرض وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على المدعى
عليه) (القسم الثاني) ما ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو كل ما يثبت الا بشاهدين كالقصاص
وحد القذف والنكاح والطلاق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاد والولاء والرق ففيه روايتان
(إحداهما) لا يستحلف المدعى عليه ولا تعرض عليه اليمين قال أحمد لم اسمع من مضى جوزوا
الايمان الا في الأموال والعروض خاصة وهذا قول مالك ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال لا يستحلف
في النكاح وما يتعلق به من دعوى الرجعة والفيئة في الايلاء ولا في الرق وما يتعلق به من الاستيلاد
والولاء والنسب لأن هذه الأشياء لا يدخلها البدل وإنما بعرض اليمين فيما يدخله البدل فإن المدعى
عليه مخير بين ان يحلف أو يسلم ولأن هذه الأشياء لا تثبت الا بشاهدين ذكرين فلا تعرض فيها
اليمين كالحدود (والرواية الثانية) يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف وقال الخرقي إذا قال
ارتجعتك فقال انقضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها، وإذا اختلفا في مضي الأربعة
أشهر فالقول قوله مع يمينه فيخرج من هذا انه يستحلف في كل حق لآدمي وهذا قول الشافعي
وأبي يوسف ومحمد لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قول دماء قول وأموالهم
ولكن اليمين على المدعى عليه) أخرجه مسلم وهذا عام في كل مدعى عليه وهو ظاهر في دعوى الدماء
لذكرها في الدعوى مع عموم الأحاديث ولأنها دعوى صحيحة في حق لادمي فجاز ان يحلف فيها
المدعى عليه كدعوى المال. (الضرب الثاني) حقوق الله تعالى وهي نوعان (أحدهما) الحدود فلا
تشرع فيها يمين ولا نعلم في هذا خلافا لأنه لو أقر ثم رجع عن اقراره قبل منه وخلي من غير يمين
127

فلان لا يستحلف مع عدم الاقرار أولى ولأنه يستحب ستره والتعريض للمقر به بالرجوع عن اقراره
وللشهود بترك الشهادة والستر عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم لهزال في قصة ماعز (يا هزال لو سترته بثوبك
لكان خيرا لك) فلا تشرع فيه يمين بحال. (النوع الثاني) الحقوق المالية كدعوى الساعي
الزكاة على رب المال وان الحول قد تم وكمل النصاب فقال احمد القول قول رب المال من غير يمين
ولا يستحلف الناس على صدقاتهم وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد يستحلف لأنها دعوى
مسموعة أشبه حق الآدمي.
ولنا أنه حق لله تعالى أشبه الحد ولان ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة ولو ادعى عليه
ان عليه كفارة يمين أو ظهار أو نذر صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفي ذلك من غير يمين ولا تسمع
الدعوى في هذا ولا في حد لله تعالى لأنه لا حق للمدعي فيه ولا ولاية له عليه فلا تسمع منه دعواه كما
لو ادعى حقا لغيره من غير اذنه ولا ولاية له عليه فإن تضمنت دعواه حقا له مثل ان يدعي سرقة ماله
ليضمن السارق أو يأخذ منه ما سرقه أو يدعي عليه الزنا بجاريته ليأخذ منها منه سمعت دعواه
ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله تعالى.
128

(مسألة) قال (وإذا شهد من الأربعة اثنان ان هذا زنى بها في هذا البيت وشهد الآخران
انه زنى بها في البيت الآخر فالأربعة قذفة وعليهم الحد)
وجملته ان من شرط صحة الشهادة على الزنا اجتماع الشهود الأربعة عل فعل واحد فإن لم يجتمعوا
لم تكمل الشهادة وكان الجميع قذفه وعليهم الحد فإذا شهد اثنان انه زنى بها في هذا البيت واثنان
أنه زنى بها في بيت آخر فما اجتمعوا على الشهادة بزنا واحد لأن الزنا في هذا البيت غير الزنا في
الآخر فلم تكمل شهادتهم ويحدون حد القذف، بهذا قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وقال
أبو بكر تكمل شهادتهم ويحد المشهود عليه واستبعده أبو الخطاب وقال هذا سهو من الناقل لأنه يخالف
الأصول والاجماع والحد يدرأ بالشبهات فكيف يجب بها؟
وقال النخعي وأصحاب الرأي وأبو ثور والشافعي في قول لا حد على الشهود لأنهم كملوا أربعة ولا
على المشهود عليه لأنهم لم يشهد بزنا واحد يجب الحد به
ولنا انهم لم يشهدوا بزنا واحد فلزمهم الحد كما لو شهد اثنان انه زنى بامرأة واثنان انه زنى
بغيرها. ولأنه لا يخلو من أن تكون شهادتهم بزنا واحد أو باثنين فإن كانت بفعل واحد مثل ان
يعين الجميع وقتا واحدا لا يمكن زناه فيه في الموضعين فاثنان منهم كاذبان يقينا واثنان منهم لو خلوا
129

عن المعارضة لشهادتهم لكانا قذفة فمع التعارض أولى، وإن كانت شهادتهم بفعلين كانوا قذفة كما لو عينوا
في شهادتهم انه زنى مرة أخرى، وما ذكروه يبطل بالأصل الذي ذكرناه
(فصل) وكذلك كل شهادة على فعلين مثل ان يشهد اثنان انه زنى بامرأة وآخران انه زنى بأخرى
أو يشهدان انه زنى بها في يوم وآخران أنه زنى بها في آخر أو يشهدان انه زنى بها ليلا وآخران انه زنى بها
نهارا أو يشهدان انه زنى بها غدوة ويشهد آخران انه زنى بها عشيا وأشباه هذا فإنهم قذفة في هذه
المواضع وعليهم الحد لما ذكرناه، فإن شهد اثنان انه زنى بها في زاوية بيت وشهد آخران انه زنى بها
في زاوية منه أخرى وكانتا متباعدتين فالحكم فيه كما ذكرنا وقال أبو حنيفة تقبل شهادتهم ويحد المشهود
عليه استحسانا وهو قول أبي بكر
ولنا انهما مكانان لا يمكن وقوع الفعل الواحد فيهما ولا يصح نسبته إليهما فاشبها البيتين. وأما
إن كانتا متقاربتين تمكن نسبته إلى كل واحدة منهما لقربه منها كملت الشهادة لامكان صدقهم
في نسبته إلى الزاويتين جميعا
(فصل) ومتى كانت الشهادة على فعل فاختلف الشاهدان في زمنه أو مكانه أو صفة له تدل على
تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما مثل ان يشهد أحدهما انه غصبه دينارا يوم السبت ويشهد الآخر انه
غصبه دينارا يوم الجمعة أو يشهد أحدهما انه غصبه بدمشق ويشهد الآخر انه غصبه بمصر، أو يشهد
130

أحدهما انه غصبه دينارا ويشهد الآخر انه غصبه ثوبا فلا تكمل الشهادة لأن كل فعل لم يشهد به
شاهدان. وهكذا ان اختلفا في زمن القتل أو مكانه أو صفته أو في شرب الخمر أو القذف لم تكمل
الشهادة لأن ما شهد به أحد الشاهدين غير الذي شهد به الآخر فلم يشهد بكل واحد من الفعلين إلا
شاهد واحد فلم يقبل إلا على قول أبي بكر فإن هذه الشهادة لم تكمل ويثبت المشهود به إذا اختلفا في
الزمان والمكان، فأما ان اختلفا في صفة الفعل فشهد أحدهما انه سرق مع الزوال كيسا أبيض وشهد
آخر انه سرق مع الزوال كيسا أسود، أو شهد أحدهما أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد الآخر
انه سراقة عشيا لم تكمل الشهادة ذكره ابن حامد وقال أبو بكر تكمل والأول أصح لأن كل فعل لم
يشهد به إلا واحد على ما قدمناه
وان اختلفا في صفة المشهود به اختلافا يوجب تغايرهما مثل أن يشهد أحدهما بثوب والآخر
بدينار فلا خلاف في أن الشهادة لا تكمل لأنه لا يمكن ايجابهما جميعا لأنه يكون ايجابا بالحق عليه
بشهادة واحد، ولا ايجاب أحدهما بعينه لأن الآخر لم يشهد به وليس أحدهما أولى من الآخر، فأما
ان شهد بكل فعل شاهدان واختلفا في الزمان أو المكان أو الصفة ثبتا جميعا لأن كل واحد منهما قد
شهدت به بينة عادلة لو انفردت أثبتت الحق وشهادة الأخرى لا تعارضها لامكان الجمع بينهما الا أن يكون
الفعل مما لا يمكن تكرره كقتل رجل بعينه فتتعارض البينتان لعلمنا ان إحداهما كاذبة ولا نعلم
131

أيتهما هي بخلاف ما يتكرر ويمكن صدق البينتين فيه فإنهما جميعا يثبتان ان ادعاهما، وان لم يدع الا
إحداهما ثبت له ما ادعاه دون ما لم يدعه
وان شهد اثنان انه سرق مع الزوال كيسا اسود وشهد آخران انه سرق مع الزوال كيسا
أبيض أو شهد اثنان انه سرق هذا الكيس غدوة وشهد آخران انه سرقه عشيا فقال القاضي:
يتعارضان وهو مذهب الشافعي كما لو كان المشهود به قتلا والصحيح ان هذا لا تعارض فيه لأنه يمكن
صدق البينتين بأن يسرق عند الزوال كيسين ابيض وأسود فتشهد كل بينة يا أحدهما ويمكن ان
يسرق كيسا قدوة ثم يعود إلى صاحبه أو غيره فيسرقه عشيا ومع إمكان الجمع لا تعارض، فعلى هذا
ان ادعاهما المشهود له ثبتا له في الصورة الأولى، وأما في الصورة الثانية فيثبت له الكيس المشهود به
حسب فإن المشهود به وإن كان فعلين لكنهما في محل واحد فلا يجب أكثر من ضمانه وان لم يدع
المشهود له الا أحد الكيسين ثبت له ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه، وان شهد له شاهد بسرقة
كيس في يوم وشهد آخر بسرقة كيس في يوم آخر أو شهد أحدهما في مكان وشهد آخر بسرقة
في مكان آخر أو شهد أحدهما بغصب كيس ابيض وشهد آخر بغصب كيس اسود فادعاهما المشهود
له فله ان يحلف مع كل واحد منهما ويحكم له به لأنه مال قد شهد له به شاهد، وإن لم يدع الا أحدهما ثبت
له ما ادعاه ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه
132

(فصل) فأما الشهادة على الاقرار مثل أن يشهد أحدهما انه أقر عندي يوم الخميس بدمشق انه
قتله أو قذفه أو غصبه كذا أو ان له في ذمته كذا ويشهد آخر انه أقر عندي بها يوم السبت بحمص
كملت شهادتهما وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال زفر لا تكمل شهادتهما لأن كل اقرار لم يشهد
به إلا واحد فلم تكمل الشهادة فأشبه الشهادة على الفعل
ولنا أن المقر به واحد وقد شهد اثنان بالاقرار فكملت شهادتهما كما لو كان الاقرار بهما واحدا
وفارق الشهادة على الفعل فإن الشهادة فيها على فعلين مختلفين فنظيره من الاقرار أن يشهد أحدهما
انه أقر عندي انه قتله في يوم الخميس وشهد الآخر انه أقر أنه قتله يوم الجمعة فإن شهادتهما لا تقبل ههنا
ويحقق ما ذكرناه انه لا يمكن جمع الشهود لسماع الشهادة في حق كل واحد والعادة جارية بطلب الشهود في
أماكنهم لا في جمعهم إلى المشهود له فيمضي إليهم في أوقات متفرقة وأماكن مختلفة فيشهدهم على اقراره
وإن كان الاقرار على فعلين مختلفين مثل أن يقول أحدهما أشهد انه أقر عندي انه قتله يوم الخميس
وقال الآخر اشهد أنه أقر عندي انه قتله يوم الجمعة أو قال أحدهما أشهد انه أقر عندي انه قذفه
بالعربية، وقال الآخر أشهد انه أقر عندي انه قذفه بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن الذي شهد به أحدهما
غير الذي شهد به صاحبه فلم تكمل الشهادة كما لو شهد أحدهما انه أقر انه غصبه دنانير وشهد الآخر
انه أقر انه غصبه دراهم لم تكمل الشهادة، وعلى قول أبي بكر تكمل الشهادة في القتل والقذف لأن
القذف بالعربية أو العجمية، والقتل بالبصرة أو الكوفة ليس من المقتضي فلا يعتبر في الشهادة ولم
يؤثر والأول أصح
133

(فصل) فإن شهد أحدهما انه باع أمس وشهد الآخر انه باع اليوم أو شهد أحدهما انه طلقها
أمس وشهد الآخر انه طلقها اليوم فقال أصحابنا تكمل الشهادة وقال الشافعي لا تكمل لأن كل واحد
من البيع والطلاق لم يشهد به إلا واحد أشبه ما لو شهد بالغصب في وقتين
ووجه قول أصحابنا ان المشهود به شئ واحد يجوز ان يعاد مرة بعد أخرى ويكون واحدا
فاختلافهما في الوقت ليس باختلاف فيه فلم يؤثر كما لو شهد أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية
(فصل) وكذلك الحكم في كل شهادة على قول فالحكم فيه كالحكم في البيع إلا النكاح فإنه كالفعل
الواحد فإذا شهد أحدهما انه تزوجها أمس وشهد الآخر انه تزوجها اليوم لم تكمل الشهادة في قولهم
جميعا لأن النكاح أمس غير النكاح اليوم فلم يشهد بكل واحد من العقدين الا شاهد واحد فلم
يثبت كما لو كانت الشهادة على فعل وكذلك القذف فإنه لا تكمل الشهادة الا ان يشهدا على قذف واحد
(فصل) فإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد وشهد الآخر أنه أقر بغصبه منه كملت الشهادة وحكم
بها لأنه يجوز أن يكون الغصب الذي أقر به هو الذي شهد الشاهد به فلم يختلف الفعل وكملت
الشهادة كما لو شهدا في وقتين على اقراره بالغصب وقال القاضي لا تكمل الشهادة ولا يحكم بها وهو
قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون ما أقربه غير ما شهد به الشاهد وهذا يبطل بالشهادة على اقرارين
فإنه يجوز أن يكون ما أقر به عند أحد الشاهدين غير ما أقربه عند الآخر إذا كانا في وقتين مختلفين
ولأنه إذا أمكن جعل الشهادة على واحد لم تحمل على اثنين كالاقرارين وكما لو شهد بالعصب اثنان
134

وشهد على الاقرار به اثنان وان شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد من زيد أو أنه أقر بغصبه منه
وشهد الاخر أنه ملك زيد لم تكمل شهادتهما لأنهما لم يشهدا على شئ واحد وان شهد أنه أخذه
من يديه ألزمه الحاكم رده إلى يديه لأن اليد دليل الملك فترد إلى يده لتكون دلالتها ثابتة له قال
منها سألت أبا عبد الله عن رجل ادعى دارا في يد رجل وأقام شاهدين شهد أحدهما ان هذه الدار لفلان
وقال الآخر اشهد ان هذه الدار دار فلان قال شهادتهما جائزة
(فصل) ومن شهد بالنكاح فلا بد من ذكر شروطه لأن الناس يختلفون في شروطه فيجب ذكرها لئلا
يكون الشاهد يعتقد ان النكاح صحيح وهو فاسد، وان شهد بعقد سواه كالبيع والإجارة فهل يشترط ذكر
شروطه؟ على روايتين (أحدهما) يشترط ذكرها لأن الناس يختلفون في شروطه فاشترط ذكرها كالنكاح
(والثانية) لا يشترط ذكر شروطه لأنه لا يشترط ذكرها في الدعوى فكذلك في الشهادة به بخلاف النكاح
وان شهد بالرضاع فلا بد من ذكر أنه شرب من ثديها أو من لبن حلب منه وعدد الرضعات لأن
الناس يختلفون في عدد الرضعات وفي الرضاع المحرم وان شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف لاختلاف
الناس فيما يصير به ابنها ولا بد من ذكر ان ذلك كان في الحولين وان شهد بالقتل فلا بد من وصف
القتل فيقول جرحه فقتله أو ضربه بكذا فقتله ولو قال ضربه فمات لم يحكم بذلك لجواز أن يكون مات
بغير هذا وقد روي عن شريح انه شهد عنده رجل فقال أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات فقال له
شريح فمات منه أو فقتله؟ فأعاد القول الأول وأعاد عليه شريح سؤاله فلم يقل فقتله ولا فمات منه فقال له
شريح قم فلا شهادة لك رواه سعيد ومن شهد بالزنا فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها ومكان الزنا
135

وصفته لأن اسم الزنا يطلق على مالا يوجب الحد وقد يعتقد الشاهد ما ليس بزنا زنا فاعتبر ذكر صفته
ليزول الاحتمال واعتبر ذكر المرأة لئلا تكون ممن تحل له أوله في وطئها شبهة وذكر المكان لئلا تكون
الشهادة منهم على فعلين ومن أصحابنا من قال لا يحتاج إلى ذكر المزني بها ولا ذكر المكان لأنه محل
للفعل فلم يعتبر ذكره كالزمان وان شهد بالسرقة فلا بد من ذكر سرقة نصاب من الحرز وذكر المسروق
منه وصفة السرقة وان شهد بالقذف فلا بد من ذكر المقذوف وصفة القذف وان شهد بمال احتاج
إلى تحريره بمثل ما ذكرنا في الدعوى وان ترك الشاهد ذكر شئ يحتاج إلى ذكره سأله الحاكم
عنه كما سأل شريح الشاهد الذي شهد عنده أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات، وان حرر المدعي دعواه
أو حرر أحد الشاهدين شهادته وشهد بها وقال الآخر اشهد بمثل ذلك أو قال حين حرر المدعي
دعواه أشهد بذلك أو بهذا أجزأه
(مسألة) قال (ولو جاء أربعة متفرقون والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبل
شهادتهم وان جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفه وعليهما الحد)
هذه المسألة قد ذكرناها في كتاب الحدود بما أغنى عن اعادتها هنا
(مسألة) قال (ومن حكم بشهادتهما بجرح أو قتل ثم رجعا وقالا عمدنا اقتص منهما
وان قالا أخطأنا غرما الدية أو أرش الجرح)
وجملة الأمران الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد أدائها لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها)
136

ان يرجعوا قبل الحكم بها في قول عامة أهل العلم وحكي عن أبي ثور أنه شذ عن
أهل العلم وقال يحكم بها لأن الشهادة قد أديت فلا تبطل برجوع من شهد بها كما لو رجعها بعد الحكم
وهذا فاسد لأن الشهادة شرط الحكم فإذا زالت قبله لم يجز كما لو فسقا ولان رجوعهما يظهر به كذبهما
فلم يجز الحكم بها كما لو شهدا بقتل رجل ثم علم حياته ولأنه زال ظنه في أن ما شهد به حق فلم يجز
له الحكم به كما لو تغير اجتهاده وفارق ما بعد الحكم فإنه تم بشرطه ولان الشك لا يزيل ما حكم
به كما لو تغير اجتهاده. (الحال الثاني) ان يرجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فينظر فإن كان المحكوم
به عقوبة كالحد والقصاص لم يجز استيفاؤه لأن الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعهما من أعظم الشبهات
ولان المحكوم به عقوبة ولم يتعين استحقاقها ولا سبيل إلى جبرها فلم يجز استيفاؤها كما لو رجعا
قبل الحكم وقارق المال فإنه يمكن جبره بالزام الشاهدين عوضه والحد والقصاص لا ينجبر بايجاب
مثله على الشاهدين لأن ذلك ليس بجبر ولا يحصل لمن وجب له منه عوض وإنما شرع للزجر والتشفي
والانتقام لا للجبر فإن قيل فقد قلتم انه إذا حكم بالقصاص ثم فسق الشاهدان استوفي في أحد
الوجهين قلنا الرجوع أعظم في الشبهة من طريان الفسق لأنهما يقران ان شهادتهما زور وانهما كانا
فاسقين حين شهدا وحين حكم الحاكم بشهادتهما وهذا الذي طرأ فسقه لا يتحقق كون شهادته كذبا
ولا أنه كان فاسقا حين أدى الشهادة ولا حين الحكم بها ولهذا لو فسق بعد الاستيفاء لم يلزمه شي ء
والراجعان تلزمهما غرامة ما شهدا به فافترقا وإن كان المشهود به مالا استوفي ولم ينقض حكمه في قول
137

أهل الفتيا من علماء الأمصار وحكي عن سعيد بن المسيب والأوزاعي أنهما قالا ينقض الحكم وان
استوفي الحق لأن الحق ثبت بشهادتهما فإذا رجعا زال ما ثبت به الحكم فنقض الحكم كما لو
تبين أنهما كانا كافرين
ولنا أن حق المشهود له وجب له فلا يسقط بقولهما كما لو ادعياه لأنفسهما. يحقق هذا ان حق
الانسان لا يزول إلا ببينة أو اقرار ورجوعهما ليس بشهادة ولهذا لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ولا هو
اقرار من صاحب الحق وفارق ما إذا تبين انهما كانا كافرين لأننا تبينا انه لم يوجد شرط الحكم وهو
شهادة العدول وفي مسئلتنا لم يتبين ذلك بجواز أن يكونا عدلين صادقين في شهادتهما وإنما كذبا في
رجوعهما ويفارق العقوبات حيث لا تستوفى فإنها تدرأ بالشبهات
(الحال الثالث) أن يرجعا بعد الاستيفاء فإنه لا يبطل الحكم ولا يلزم المشهود له شئ سواء
كان المشهود به مالا أو عقوبة لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به ووصول الحق إلى مستحقه ويرجع
به على الشاهدين ثم ينظر فإن كان المشهود به اتلافا في مثله القصاص كالقتل والجرح نظرنا في رجوعها
فإن قالا عمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل أو يقطع فعليهما القصاص وبهذا قال ابن شبرمة وابن أبي
ليلى والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد
وقال أصحاب الرأي لاقود عليهما لأنهما لم يباشرا الاتلاف فأشبها حافر البئر وناصب السكين
إذا تلف بهما شئ
138

ولنا ان عليا رضي الله عنه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه ثم عادا فقالا أخطأنا ليس
هذا هو السارق فقال علي لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا مخالف له في الصحابة فيكون اجماعا
ولأنهما تسببا إلى قتله أو قطعه بما يفضي إليه غالبا فلزمهما القصاص كالمكره وفارق الحفر وننصب
السكين فإنه لا يفضي إلى القتل غالبا
وقد ذكرنا هذه المسألة في القصاص فأما إن قالا عمدنا الشهادة عليه ولا نعلم أنه يقتل بهذا وكانا
ممن يجوز أن يجهلا ذلك وجت الدية في أموالهما مغلظة لأنه شبه عمد ولم تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافهما
والعاقلة لا تحمل اعترافا، وإن قال أحدهما عمدت قتله وقال الآخر أخطأت فعلى العامد نصف دية
مغلظة وعلى الآخر نصف دية مخففة ولا قصاص في الصحيح من المذهب لأنه قتل عمد وخطأ
وإن قال كل واحد منهما عمدت واخطأ صاحبي احتمل أن يجب القصاص عليهما لاعتراف كل
واحد منهما بعمد نفسه واحتمل وجوب الدية لأن كل واحد منهما إنما اعترف بعمد شارك فيه مخطئا
وهذا لا يوجب القصاص والانسان إنما يؤاخذ باقراره لا باقرار غيره فعلى هذا تجب عليهما دية مغلظة
وإن قال أحدهما عمدنا جميعا وقال الآخر عمدت واخطأ صاحبي فعلى الأول القصاص وفي الثاني
وجهان كالتي قبلها
وإن قالا جميعا أخطأنا فعليهما الدية مخففة في أموالهما لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف، وإن قال
أحدهما عمدنا معا وقال الآخر أخطأنا معا فعلى الأول القصاص وعلى الثاني نصف دية مخففة لأن كل
139

منهما يؤاخذ بحكم اقراره، وإن قال كل واحد منهما عمدت ولا أدري ما فعل صاحبي؟ فعليهما القصاص
لا قرار كل واحد منهما بالعمد ويحتمل أن لا يجب عليهما القصاص لأن اقرار كل واحد منهما لو انفرد
لم يجب عليه قصاص وإنما يؤاخذ الانسان باقراره لا باقرار صاحبه، وإن قال أحدهما عمدت ولا
أدري ما قصد صاحبي سئل صاحبه فإذا قال عمدت ولا أدي ما قصد صاحبي فهي كالتي قبلها وإن قال عمدنا
فعليه القصاص وفي الأول وجهان، وإن قال أخطأت أو أخطأنا فلا قصاص على واحد منهما، وإن جهل
حال الآخر بان يجن أو يموت أو لا يقذر عليه فلا قصاص على المقر وعليه نصيبه من الدية المغلظة
(فصل) وإن رجع أحد الشاهدين وحده فالحكم فيه كالحكم في رجوعهما في أن الحاكم لا يحكم
بشهادتهما إذا كان رجوعه قبل الحكم وفي أنه لا يستوفي العقوبة إذا رجع قبل استيفائها لأن الشرط يختل
برجوعه كاختلاله برجوعهما، وإن كان رجوعه بعد الاستيفاء لزمه حكم اقراره وحده فإن أقر بما يوجب القصاص
وجب عليه، وإن أقر بما يوجب دية مغلظة وجب عليه قسطه منها، وإن أقر بالخطأ وجب عليه نصيبه من
الدية المخففة وإن كان الشهود أكثر من اثنين في الحقوق المانية أو القصاص ونحوه فما ثبت بشاهدين أو أكثر
من أربعة فرجع الزائد منهم قبل احكم والاستيفاء لم يمنع ذلك الحكم ولا الاستيفاء لأن ما بقي من البينة
كاف في اثبات الحكم واستيفائه وإن رجع بعد الاستيفاء فعليه القصاص إن أقر بما يوجبه أو قسطه من
الدية أو من المفوت بشهادتهم إن كان غير ذلك وفي ذلك اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى
140

(مسألة) قال (وان كانت شهادتهما بمال غرماه ولم يرجع به على المحكوم له به سواء كان المال قائما أو تالفا)
أما كونه لا يرجع به على المحكوم له به فلا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا سواء ما حكيناه عن سعيد بن
المسيب والأوزاعي وقد ذكرنا الكلام معهما فيما مضى، فأما الرجوع به على الشاهدين فهو قول أكثر
أهل العلم منهم مالك وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي القديم وقال في الجديد لا يرجع عليهما بشئ إلا
أن يشهدا بعتق عبد فيضمنا قيمته لأنه لم يوجد منهما اتلاف للمال ولا يد عايدة عليه فلم يضمنا
كما لو ردت شهادتهما
ولنا انهما أخرجا ماله من يده بغير حق وحالا بينه وبينه فلزمهما الضمان كما لو شهدا بعتقه ولأنهما
أزالا يد السيد عن عبده بشهادتهما المرجوع عنها عنها فأشبه ما لو شهدا بحريته ولأنهما تسببا إلى اتلاف حقه
بشهادتهما بالزور عليه فلزمها الضمان كشاهدي القصاص يحقق هذا انه إذا ألزمهما القصاص الذي يدرأ
بالشبهات فوجب المال أولى. وقولهم انهما ما أتلفا المال يبطل بما إذا شهدا بعتقه فإن الرق في الحقيقة
لا يزول بشهادة الزور وإنما حالا بين سيده وبينه وفي موضع إتلاف المال فهما تسببا إلى تلفه فيلزمهما
ضمان ما تلف بسببهما كشاهدي القصاص وشهود الزنا وحافر البئر وناصب السكين
141

(مسألة) قال (وإن كان المحكوم به عبدا أو أمة غرما قيمته)
أما إذا شهدا بالعبد أو الأمة لغير مالكه فالحكم في ذلك كالحكم في الشهادة بالمال على ما ذكرنا من
الخلاف فيه لأنها من جملة المال وإن شهدا بحريتهما ثم رجعا عن الشهادة لزمهما غرامة قيمتهما لسيدهما
بغير خلاف بينهم فيه فإن المخالف في التي قبلها هو الشافعي وقد وافق ههنا وهو حجة عليه فيما خالف
فيه فإن اخراج العبد عن يد سيده بالشهادة بحريته كاخراجه عنها بالشهادة به لغير مالكه فإذا لزمه
الضمان ثم لزمه ههنا وغرما القيمة لأن العبيد من المتقومات لا من ذوات الأمثال
(فصل) وإن شهدا بطلاق امرأة تبين به فحكم الحاكم بالفرقة ثم رجعا عن الشهادة وكان قبل
الدخول فالواجب عليهما نصف المسمى وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي في أحد قوليه يجب مهر المثل لأنهما أتلفا عليه البضع فلزمهما عوضه وهو مهر المثل
وفي القول الآخر لزمهما نصف مهر المثل لأنه إنما ملك نصف البضع بدليل انه إنما يجب عليه نصف المهر
ولنا أن خرج البضع من ملك الزوج غير متقوم بدليل ما لو أخرجته من ماله بردتها أو اسلامها
أو قتلها نفسها فإنها لا تضمن شيئا، ولو فسخت نكاحها قبل الدخول برضاع من ينفسخ به نكاحها
لم يغرم شيئا وإنما وجب عليهما نصف المسمى لأنهما ألزماه للزوج بشهادتهما وقرراه عليه فرجع عليهما
كما يرجع به على من فسخ نكاحه برضاع أو غيره
142

وقوله انه ملك نصف البضع غير صحيح فإن البضع لا يجوز تمليك نصفه ولان العقد ورد على
جميعه والصداق واجب جميعه ولهذا تملكه المرأة إذا قبضته ونماؤه لها وتملك طلبه إذا لم نقبضه وإنما
يسقط نصفه بالطلاق، وأما إن كان الحكم بالفرقة بعد الدخول فلان ضمان عليهما وبه قال أبو حنيفة
وعن أحمد رواية أخرى عليهما ضمان المسمى في الصداق لأنهما فوتا عليه نكاحا وجب عليه به
عوض فكان عليهما ضمان ما وجب به كما لو شهدا بذلك قبل الدخول
وقال الشافعي يلزمهما له مهر المثل لأنهما أتلفا البضع عليه وقد سبق الكلام معه في هذا ولا يصح
القياس على ما قبل الدخول لأنهما قرارا عليه نصف المسمى وكان بعرض السقوط وههنا قد تقرر المهر
كله بالدخول فلم يقررا عليه شيئا ولم يخرجا من ملكه متقوما فأشبه ما لو أخرجاه من ملكه بقتلها
أو أخرجته هي بردتها
(فصل) وان شهدا على امرأة بنكاح فحكم به الحاكم ثم رجعا نظرت فإن طلقها الزوج قبل
دخوله بها لم يغرما شيئا لأنهما لم يفوتا عليهما شيئا وان دخل بها وكان الصداق المسمى بقدر مهر
المثل أو أكثر منه ووصل إليها فلا شئ عليهما لأنهما اخذت عوض ما فوتاه عليهما وإن كان دونه
فعليهما ما بينهما وان لم يصل إليهما فعليهما ضمان مهر مثلها لأنه عوض ما فوتاه عليها
(فصل) وان شهدا بكتابة عبده ثم رجعا نظرت فإن عجز ورد في الرق فلا شئ عليهما فإن
أدى وعتق فعليهما ضمان جميعه لأنهما فوتاه عليه بشهادتهما ويحتمل ان يلزمهما ما بين قيمته وما
143

قبضه من كتابته والأول أولى لأن ما قبضه من كسب عبده فلا يحسب عليه وان أراد تغريمهما
بشهادتهما ويحتمل أن يلزمهما قبل انكشاف الحال فينبغي ان يغرمهما ما بين قيمته سليما ومكاتبا
وان شهدا باستيلاد أمته ثم رجعا فينبغي أن يرجع عليهما بما نقصتها الشهادة من قيمتها وان عتقت
بموته رجع الورثة بما بقي من قيمتها
(فصل) وكل موضع وجب الضمان على الشهود بالرجوع وجب ان يوزع بينهم على عددهم قلوا أو
كثروا قال احمد في رواية إسحاق بن منصور إذا شهد بشهادة ثم رجع وقد أتلف مالا فإنه ضامن
بقدر ما كانوا في الشهادة فإن كانوا اثنين فعليه النصف وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وعلى هذا لو
كانوا عشرة فعليه العشر وسواء رجع وحده أو رجعوا جميعا وسواء رجع الزائد عن القدر الكافي
في الشهادة أو من ليس بزائد فلو شهد أربعة بالقصاص فرجع واحد منهم وقال عمدنا قتله فعليه
القصاص وإن قال أخطأنا فعليه ربع الدية وان رجع اثنان فعليهما القصاص أو نصف الدية وان شهد
ستة بالزنا على محصن فرجم بشهادتهم ثم رجع واحد فعليه القصاص أو سدس الدية وإن رجع اثنان فعليهما
القصاص أو ثلث الدية وبهذا قال أبو عبيد، وقال أبو حنيفة إن رجع واحد أو اثنان فلا شئ عليهما لأن
بينة الزنا قائمة فدمه غير محقون وان رجع ثلاثة فعليهم ربع الدية وان رجع أربعة فعليهم نصف الدية وإن رجع
خمسة فعليهم ثلاثة أرباعها وإن رجع الستة فعلى كل واحد منهم سدسها ومنصوص الشافعي فيما إذا
رجع اثنان كمذهب أبي حنيفة واختلف أصحابه فيما إذا شهد بالقصاص ثلاثة فرجع أحدهم فقال
144

أبو إسحاق لا قصاص عليه لأن بينة القصاص قائمة وهل يجب عليه ثلث الدية؟ على وجهين وقال
ابن الحداد عليه القصاص وفرق بينه وبين الراجع من شهود الزنا إذا كان زائدا فإن دم المشهود
عليه بالزنا غير محقون وهذا دمه محقون وإنما أبيح دمه لولي القصاص وحده، واختلفوا فيما إذا شهد
بالمال ثلاثة فرجع أحدهم على وجهين (أحدهما) يضمن الثلث (والثاني) لا شئ عليه
ولنا أن الاتلاف حصل بشهادتهم فأراجع مقر بالمشاركة فيه عمدا عدوانا لمن هو مثله في ذلك
فلزمه القصاص كما لو أقر بمشاركتهم في مباشرة قتله ولأنه أحد من قتل المشهود عليه بشهادته فأشبه
الثاني من شهود القصاص والرابع من شهود الزنا ولأنه أحد من حصل الاتلاف بشهادته فلزمه من
الضمان بقسطه كما لو رجع الجميع ولان ما تضمنه كل واحد مع اتفاقهم على الرجوع يضمنه إذا انفرد
بالرجوع كما لو كانوا أربعة، وقولهم إن دمه غير محقون غير صحيح فإن الكلام فيما إذا قتل ولم يبق
له دم يوصف بحقن ولا عدمه وقيام الشهادة لا يمنع وجوب القصاص كما لو شهدت لرجل باستحقاق
القصاص فاستوفاه ثم أقر بأنه قتله ظلما وأن الشهود شهدوا بالزور، والتفريق بين القصاص والرجم
بكون دم القاتل غير محقون لا يصح لأنه غير محقون بالنسبة إلى من قتله ولان كل واحد مؤاخذ
باقراره ولا يعتبر قول شريكه ولهذا لو أقر أحد الشريكين بعمدهما وقال الآخر أخطأنا وجب
القصاص على المقر بالعمد
(فصل) وإذا حكم الحاكم في المال بشهادة رجل وامرأتين ثم رجعوا عن الشهادة توزع الضمان
عليهم على الرجل نصفه وعلى كل امرأة ربعه، وإن رجع أحدهم وحده فعليه من الضمان حصته، وإن كان
الشهود رجلا وعشر نسوة فرجعوا فعلى الرجل السدس وعلى كل امرأة نصف السدس وبهذا قال
أبو حنيفة والشافعي لأن كل امرأتين. كرجل فالعشر كخمسة رجال ويحتمل ان يجب عليهن النصف
وعلى الرجل النصف وبهذا قال أبو يوسف ومحمد لأن الرجل نصف البينة بدليل أنه لو رجع وحده
145

قبل الحكم كان كرجوعهن كلهن فيكون الرجل حزبا والنساء حزبا، فإن رجع بعض النسوة وحده
أو الرجل فعل الرجل فعلى الراجع مثله ما عليه إذا رجع الجميع وعند أبي حنيفة وأصحابه متى رجع من النسوة ما
زاد على اثنين فليس على الراجعات شئ وقد مضى الكلام معهم في هذا
(فصل) وإذا شهد أربعة بأربعمائة فحكم الحاكم بها ثم رجع واحد عن مائة وآخر عن مائتين
والثالث عن ثلاثمائة والرابع عن أربعمائة فعلى كل واحد مما رجع عنه بقسطه فعلى الأول خمسة
وعشرون وعلى الثاني خمسون وعلى الثالث خمسة وسبعون وعلى الرابع مائة لأن كل واحد منهم
مقر بأنه فوت على المشهود عليه ربع ما رجع عنه ويقتضي مذهب أبي حنيفة أن لا يلزم الراجع عن
الثلاثمائة والأربعمائة أكثر من خمسين خمسين لأن المائتين لا تلزم الراجع عن الثلاثمائة لأن المائتين
التي رجعا عنهما قد بقي بها شاهدان
(فصل) وإذا شهد أربعة بالزنا واثنان بالاحصان فرجم ثم رجعوا عن الشهادة فالضمان على
جميعهم، وقال أبو حنيفة لا ضمان على شهود الاحصان لأنهم شهدوا بالشرط دون السبب الموجب
للقتل وإنما يثبت ذلك بشهادة الزنا ولا صاحب الشافعي وجهان كالمذهبين
ولنا ان قتله حصل بمجموع الشهادتين فتجب الغرامة على الجميع كما لو شهدوا جميعهم بالزنا وفي
كيفية الضمان وجهان
(أحدهما) يوزع عليهم على عدد رؤوسهم كشهود الزنا لأن القتل حصل من جميعهم (والثاني) على شهاد
الزنا النصف وعلى شهود الاحصان النصف لأنهم حزبان فلكل حزب نصف، فإن شهد أربعة بالزنا واثنان
منهم بالاحصان ثم رجعوا فعلى الوجه الأول على شاهدي الاحصان الثلثان وعلى الآخرين الثلث لأن على
شاهدي لاحصان الثلث لشهادتهما به والثلث لشهادتهما بالزنا وعلى الآخرين الثلث لشهادتهما بالزنا وحده
وعلى الوجه الثاني على شهود الاحصان ثلاثة أرباع الدية لأن عليهما النصف لشهادتهما بالاحصان
ونصف الباقي لشهادتهما بالزنا ويحتمل ان لا يجب على شاهدي الاحصان الا النصف لأن كل واحد
146

منهما جنى جنايتين وجنى كل واحد من الآخرين جناية واحدة فكانت الدية بينهم على عدد رؤوسهم
لا على عدد جناياتهم كما لو قتل اثنان واحدا جرحه أحدهما جرحا والآخر جرحين
(فصل) وإذا شهد شاهدان انه أعتق هذا العبد على ضمان مائة درهم وقيمة العبد مائتان فحكم
الحاكم بشهادتهما ثم رجعا رجع السيد على الشاهدين بمائة لأنها تمام القيمة وكذلك لو شهدا على رجل
انه طلق زوجته قبل الدخول على مائة ونصف المسمى مائتان غرما للزوج مائة لأنهما فوتاها
بشهادتهما المرجوع عنها
(فصل) وإذا شهد رجلان على رجل بنكاح امرأة بصداق ذكراه وشهد آخران بدخوله بها
ثم رجعوا بعد الحكم عليه بصداقها فعلى شهود النكاح الضمان لأنهم ألزموه المسمى ويحتمل أن يكون
عليهم النصف وعلى الآخرين النصف لأنهما قراره وشاهدا النكاح أوجباه فقسم بين الأربعة أرباعا
وإن شهد مع هذا شاهدان بالطلاق لم يلزمهما شئ لأنهما لم يفوتا عليه شيئا يدعيه ولا أوجبا عليه
ما لم يكن عليه واجبا
(فصل) وإن شهد شاهدا فرع على شاهدي أصل فحكم الحاكم بشهادتهما رجع شاهدا الفرع
فعليهما الضمان لا أعلم بينهم في ذلك خلافا، وإن رجع شاهدا الأصل وحدهما لزمهما الضمان أيضا وبه
قال الشافعي ومحمد بن الحسن
وحكي أبو الخطاب عن القاضي انه لا ضمان عليهما وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأن الحكم تعلق
بشهادة شاهدي الفرع بدليل انهما جعلا شهادة شاهدي الأصل شهادة فلم يلزم شاهدي الأصل ضمان لعدم
147

تعلق الحكم بشهادتهما. لنا أن الحق ثبت بشهادة شاهدي الأصل بدليل اعتبار عدالتهما فإذا رجعا
ضمنا كشاهدي الفرع
(فصل) وإذا حكم الحاكم بشاهد ويمين فرجع الشاهد غرم جميع المال نص عليه احمد في رواية
جماعة، وقال مالك والشافعي: يلزمه النصف لأنه أحد حجتي الدعوى فكان عليه النصف
كما لو كانا شاهدين
ولنا أن الشاهد حجة الدعوى فكان الضمان عليه كالشاهدين يحققه أن اليمين قول الخصم وقول
الخصم ليس بحجة على خصمه وإنما هو شرط الحكم فجرى مجرى مطالبته الحاكم بالحكم وبهذا ينفصل
عما ذكروه ولو سلمنا أنها حجة لكن إنما جعلها حجة شهادة الشاهد ولهذا لم يجز تقديمها على شهادته
بخلاف شهادة الشاهد الآخر، قال أبو الخطاب ويتخرج أن لا يلزمه إلا النصف المحكوم به إذا
قلنا ترد اليمين على المدعي
(فصل) وإذا رجعوا عن الشهادة بعد الحكم وقالوا عمدنا ووجب عليهم القصاص لم يعزروا لأن
القصاص يغني عن تعزيرهم، وإن كان في مال عزروا وغرموا لأنهم جنوا جناية كبيرة وارتكبوا
جريمة عظيمة وهي شهادة الزور ويحتمل أن لا يعزروا لأن رجوعهم توبة منهم فيقسط عنهم التعزير
ولان شرعية تعزيرهم تمنعهم الرجوع، خوفا منه فلا يشرع، وإن قالوا أخطأنا لم يعزروا لأن الله تعالى
قال (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) هذا إن كان قولهم يحتمل الصدق
في الخطأ وإن لم يحتمله عزروا ولم يقبل قولهم
148

(مسألة) قال (وإذا قطع الحاكم يد السارق بشهادة اثنين ثم بان أنهما كافران أو
فاسقان كانت دية اليد في بيت المال)
وجملته أن الحاكم إذا حكم بشهادة اثنين في قطع أو قتل وأنفذ ذلك ثم بان أنهما كافران أو فاسقان
أو عبدان أو أحدهما فلا ضمان على الشاهدين لأنهما مقيمان على أنها صادقان فيما شهدا به وإنما الشرع
منع قبول شهادتهما بخلاف الراجعين عن الشهادة فإنهما اعترفا بكذبهما وتجب الضمان على الحاكم أو
الإمام الذي تولى ذلك لأنه حكم بشهادة من لا يجوز له الحكم بشهادته ولا قصاص عليه لأنه مخطئ
وتجب الدية وفي محلها روايتان
(إحداهما) في بيت المال لأنه نائب للمسلمين ووكيلهم وخطأ الوكيل في حق موكله عليه ولان
خطأ الحاكم يكثر لكثرة تصرفاته وحكوماته فايجاب ضمان ما يخطئ فيه على عاقلته اجحاف بهم فاقتضى
ذلك التخفيف عنه بجعله في بيت المال وهذا المعنى حملت العاقلة دية الخطأ عن القاتل
(والرواية الثانية) هي على عاقلته مخففة مؤجلة لما روي أن امرأة ذكرت عند عمر بسوء
فأرسل إليهما فأجهضت ذا بطنها فبلغ ذلك عمر فشاور الصحابة فقال بعضهم لا شئ عليك إنما أنت
مؤدب وقال علي عليك الدية فقال عمر عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك يعني قريشا لأنهم
عاقلة عمر ولو كانت في بيت المال لم يقسمها على قومه يو لأنه من خطائه فتحمله عاقلته كخطائه في غير الحكومة
وللشافعي قولان كالروايتين فإذا قلنا إن الدية على عاقته لم تحمل إلا الثلث فصاعدا ولا تحمل الكفارة لأن
العاقلة لا تحمل الكفارة في محل الوفاق كذا ههنا وتكون الكفارة في ماله وإذا قلنا إنه في بيت المال فينبغي
أن يكون فيه القليل والكثير لأن جعله في بيت المال لعلة انه نائب عنهم وخطأ النائب على مستنيبا وهذه يدخل
149

يكثر خطؤه فجعل الضمان في ماله يجحف به وان قل لكثرة تكرره وسواء تولى الحاكم الاستيفاء
بنفسه أو أمر من تولاه قال أصحابنا وإن كان الولي استوفاه فعل كما لو استوفاه الحاكم لأن الحاكم
سلطه على ذلك ومكنه منه والولي يدعي انه حقه، فإن قيل فإذا كان الولي استوفى حقه فينبغي أن يكون
الضمان عليه كما لو حكم له بمال فقبضه ثم بان فسق شهوده كان الضمان على المستوفي دون الحاكم كذا
ههنا قلنا ثم حصل في يد المستوفي مال المحكوم عليه بغير حق فوجب عليه رده أو ضمانه إن أتلف
وههنا لم يحصل في يده شئ وإنما أتلف شيئا بخطأ الإمام وتسليطه عليه فافترقا
(فصل) وان شهد بالزنا أربعة فزكاهم اثنان فرجم المشهود عليه ثم بان ان الشهود فسقة أو عبيد أو بعضهم فلا
ضمان على الشهود لأنهم يزعمون أنهم محقون ولم يعلم كذبهم يقينا والضمان على المزكين وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي، وقال القاضي الضمان على الحاكم لأنه حكم بقتله من غير تحقق شرطه ولا ضمان على المزكين لأن
شهادتهما شرط وليست الموجبة وقال أبو الخطاب في رؤوس المسائل الضمان على الشهود الذي شهدوا بالزنا
ولنا ان المزكين شهدوا بالزور شهادة أفضت إلى قتله فلزمهما الضمان كشهود الزنا إذا رجعوا
ولا ضمان على الحاكم لأنه أمكن إحالة الضمان على الشهود فأشبه ما إذا رجعوا عن الشهادة وقوله ان
شهادتهم شرط لا يصح لأن من أصلنا ان شهود الاحصان يلزمهم الضمان وان لم يشهدوا بالسبب
وقد نص عليه أحمد وقول أبي الخطاب لا يصح لأن شهود الزنا لم يرجعوا ولا علم كذبهم بخلاف
المزكين فإنه تبين كذبهم وأنهم شهدوا بالزور، وأما ان تبين فسق المزكين فالضمان على الحاكم
لأن التفريط منه حيث قبل شهادة فاسق من غير تزكية ولا بحث فيلزمه الضمان كما لو قبل شهادة شهود الزنا
من غير تزكية ثم تبين فسقهم
(فصل) ولو جلد الإمام إنسانا بشهادة شهود ثم بان أنهم فسقة أو كفرة أو عبيد فعلى الإمام
ضمان ما حصل من أثر الضرب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه
150

ولنا أنها جناية صدرت عن خطأ الإمام فكانت مضمونة عليه كما لو قطعه أو قتله
(فصل) ولو حكم الحاكم بمال بشهادة شاهدين ثم بان أنها فاسقان أو كافران فإن الإمام ينقض
حكمه ويرد المال إن كان قائما وعوضه إن كان تالفا فإن تعذر ذلك لاعساره أو غيره فعلى الحاكم
ضمانه ثم يرجع على المشهود له، وعن أحمد رواية أخري لا ينقض حكمه إذا كانا فاسقين ويرغم الشهود
المال وكذلك الحكم إذا شهد عنده عدلان ان الحاكم قبله حكم بشهادة فاسقين ففيه روايتان لا يغرم
الشهود المال وكذلك الحاكم إذا شهد واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضا ولا خلاف بين الجميع في أنه
ينقض حكمه إذا كانا كافرين وينقض حكم غيره إذا ثبت عنده أنه حكم بشهادة كافرين فقيس على ذلك
ما إذا حكم بشهادة فاسقين فإن شهادة الفاسقين مجمع على ردها وقد نص الله تعالى على التبين فيها
فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وأمر بالشهاد العدول وقال (واشهدوا
ذوي عدل منكم) واعتبر الرضا بالشهداء فقال تعالى (ممن ترضون من الشهداء) فيجب نقض الحكم
لفوات العدالة كما يجب نقضه لفوات الاسلام ولان الفسق معنى لو ثبت عند الحاكم قبل الحكم
منعه فإذا شهد شاهدان أنه كان موجودا حالة الحكم وجب نقض الحكم كالكفر والرق في العقوبات
إذا ثبت هذا فإن أبا حنيفة قال لا يسمع الحاكم الشهادة بفسق الشاهدين لا قبل الحكم ولا بعده،
ومتى رجح المشهود عليه البينة لم تسمع بينته بالفسخ ولكن يسأل عن الشاهدين ولا تسمع على الفسق
شهادة لأن الفسق لا يتعلق به حق أحد فلا تسمع فيه الدعوى والبينة
ولنا أنه معنى يتعلق الحكم به فسمعت فيه الدعوى والبينة كالتزكية وقوله لا يتعلق به حق أحد
ممنوع فإن المشهود عليه يتعلق حقه بفسقه في منع الحكم عليه قبل الحكم ونقضه بعده وتبرئته من
أخذ ماله أو عقوبته بغير حق فوجب ان تسمع فيه الدعوى والبينة كما لو ادعى رق الشاهدين ولم يدعه
لنفسه ولأنه إذا لم تسمع البينة الفسق أدى إلى ظلم المشهود عليه لأنه يمكن ان لا يعرف فسق الشاهدين
151

الا شهود المشهود عليه فإذا لم تسمع شهادتهم وحكم عليه بشهادة الفاسقين كان ظالما له، فاما ان قامت
البينة أنه حكم بشهادة والدين أو ولدين أو عدوين نظر في الحاكم لذي حكم بشهادتهما فإن كان ممن يرى الحكم
به لم ينقض حكمه لأنه حكم باجتهاده فيما يسوغ فيه الاجتهاد ولم يخالف نصا ولا اجماعا، وإن كان ممن لا يرى
الحكم بشهادتهم نقضه لأن الحاكم به يعتقد بطلانه والفرق بين المال والاتلاف ان المال إن كان باقيا وجب
رده إلى صاحبه لأن كل واحد أحق بماله، وإن كان تالفا وجب ضمانه على آخذه لأنه أخذه بغير اذن
صاحبه ولا استحقاق لاخذه، أما الاتلاف فإنه لم يحصل به في يد المتلف شئ برده ولم يمكن تضمينه
لأنه إنما أتلفه بحكم الحاكم وتسليطه عليه وهو لا يقر بعدوانه بل يقول استوفيت حقي ولم يثبت
خلاف دعواه ولم يمكن تضمين الشهود لأنهم يقولون شهدنا بما علمنا وأخبرنا بما رأينا وسمعنا ولم نكتم شهادة
الله تعالى التي لزمنا أداؤها ولم يثبت كذبهم فوجب إحالة الضمان على الحاكم لأنه حكم من غير وجود شرط الحكم
ومكن من اتلاف المعصوم من غير يحث عن عدالة الشهود وكان التفريط منه فوجب إحالة الضمان عليه.
(مسألة) قال (وإذا ادعى العبد ان سيد، أعتقه حلف مع شاهده وصار حرا)
روي عن أحمد في هذا روايتان (إحداهما) ان العتق ثبت بشاهد ويمين وهو اختيار أبي بكر لأنه إزالة
ملك فيثبت بشاهد ويمين كالبيع والهبة ولأنه اتلاف للمال فيقبل فيه شاهد ويمين كالاتلاف بالفعل وإفضاؤه إلى
تكميل لا تكميل الأحكام لا يمنع ثبوته بشاهد ويمين بدليل ان الولادة تثبت بشهادة النساء وينبني عليها النسب
الذي لا يثبت بشهادتهن (والرواية الثانية) لا تثبت الحرية إلا بشاهدين عدلين ذكرين لأنها ليست
بمال ولا المقصود منها المال ويطلع عليها الرجال في غالب الأحوال فأشبهت الحدود والقصاص والله أعلم
152

(مسألة) قال (ومن شهد بشهادة زور أدب وأقيم للناس في المواضع التي يشتهر انه
شاهد زور إذا تحقق تعمده لذلك)
وجملة ذلك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر قد نهي الله عنها في كتابه مع نهيه عن الأوثان
فقال تعالى (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) وقد روي عن خريم بن فاتك ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال (عدلت شهادة الزور الاشراك بالله) ثلاث مرات، ثم تلى قول تعالى (فاجتنبوا الرجس
من الأوثان واجتنبوا قول الزور)) رواه أبو داود، وروي هذا عن ابن مسعود من قوله وروي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال (الاشراك بالله وعقوق
الوالدين) وكان متكئا فجلس فقال (ألا وقول الزور وشهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت
متفق عليه. وروى أبو حنيفة عن محار بن دثر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (شاهد
الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار) فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل انه شهد بزور عمدا عزره
وشهره في قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه يقول شريح والقاسم بن محمد
وسالم بن عبد الله والأوزاعي وابن أبي ليلى ومالك والشافعي و عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة
وقال أبو حنيفة لا يعزر ولا يشهر لأنه قول منكر وزور فلا يعزر به كالظهار وروى عنه الطحاوي
انه يشهر وأنكره المتأخرون.
ولنا انه قول محرم يضر به الناس فأوجب العقوبة على قائله كالسب والقذف ويخالف الظهار
من وجهين (أحدهما) انه يختص بضرره (والثاني) انه أوجب كفارة شاقة هي أشد من التعزير
ولأنه قول عمر رضي الله عنه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا. وإذا ثبت هذا فإن تأديبه غير مقدور
153

وإنما هو مفوض إلى رأي الحاكم إن رأى ذلك بالجلد جلده وإن رآه بحبس أو كشف رأسه وإهانته
وتوبيخه فعل ذلك ولا يزيد في جلده على عشر جلدات وقال الشافعي لا يزيد على تسع وثلاثين لئلا
يبلغ به أدنى الحدود وقال ابن أبي ليلى يجلد خمسة وسبعين سوطا وهو أحد قولي أبي يوسف، وقال
الأوزاعي في شاهدي الطلاق: يجلدان مائة مائة ويغرمان الصداق
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى) متفق عليه
وقال القاسم وسالم يخفق سبع خفقات، وقال شريح يجلد أسواطه فأما شهرته بين الناس فإنه يوقف
في سوقه إن كان من أهل السوق أو قبيلته إن كان من أهل القبائل أو في مسجد إن كان من أهل
المساجد ويقول الموكل به إن الحاكم يقرأ عليكم السلام ويقول هذا شاهد زور فاعرفوه وهذا مذهب
الشافعي واتي الوليد بن عبد الملك بشاهد الزور فأمر بقطع لسانه وعنده القاسم وسالم فقالا سبحان
الله بحسبه أن يخفق سبع خفقات ويقام بعد العصر فيقال هذا أبو قبيس وجدناه شاهد زور ففعل ذلك
به ولا يسخم وجهه ولا يركب ولا يكلف أن ينادي على نفسه وقد روي عن عمر رضي الله عنه انه
يجلد أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطال حبسه رواه الإمام أحمد، وقال سوار يلبب ويدار به على
حلق المسجد فيقول من رآني فلا يشهد بزور، وروي عن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة انه أمر
بحلق نصف رؤوسهم وتسخيم وجوههم ويطاف بهم في الأسواق والذي شهدوا له معهم
ولنا ان هذا مثلة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثلة وما روي عن عمر فقد روي عنه خلافه وانه حبسه
يوما وخلى سبيله، وفي الجملة ليس في هذا تقدير شرعي فما فعل الحاكم مما يراه ما لم يخرج إلى مخالفة نص أو معنى نص
فله ذلك ولا يفعل به شئ من ذلك حتى يحقق أنه شاهد زور وتعمد ذلك إما باقراره أو يشهد على رجل بفعل
في الشام في وقت ويعلم أن المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق أو يشهد بقتل رجل وهو حي أو
ان هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلاثة أعوام وسنها أقل من ذلك أو يشهد على رجل انه فعل شيئا في
وقت وقد مات قبل ذلك الوقت أو لم يولد إلا بعده وأشباه هذا مما يتيقن به كذبه ويعلم تعمده لذلك
فأما تعارض البينتين أو ظهور فسقه أو غلطه في شهادته فلا يؤدب به لأن الفسق لا يمنع الصدق والتعارض
لا يعلم به كذب إحدى البينتين بعينها والغلط قد يعرض للصادق العدل ولا يتعمده فيعفى عنه، وقد
قال الله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (عفي
لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
(فصل) ومتى علم أن الشاهدين شهدا بالزور تبين ان الحكم كان باطلا ولزم نقضه لأنا تبينا
كذبهما فيما شهدا به وبطلان ما حكم به فإن كان المحكوم به مالا رد إلى صاحبه، وإن كان إتلافا
154

فعلى الشاهدين ضمانه لأنهما سبب إتلافه إلا أن يثبت ذلك باقرارهما على أنفسهما من غير موافقة
المحكوم له فيكون ذلك رجوعا منهما عن شهادتهما وقد بينا حكم ذلك
(فصل) فإذا تاب شاهد الزور وأتت على ذلك مدة تظهر فيها توبته وتبين صدقه فيها وعدالته
قبلت شهادته وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وقال مالك لا تقبل شهادته ابدا لأن ذلك لا يؤمن منه
ولنا انه تائب من ذنبه فقبلت توبته كسائر التائبين. وقوله لا يؤمن منه ذلك. قلنا مجرد الاحتمال لا
يمنع قبول الشهادة بدليل سائر التائبين فإنه لا يؤمن منهم معاودة ذنوبهم ولا غيرها وشهادتهم مقبولة والله أعلم
(مسألة) قال (وإذا غير العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها أو نقص قبلت
منه ما لم يحكم بشهادته)
وهذا مثل ان يشهد بمائة ثم يقول هي مائة وخمسون أو يقول بل هي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه
ويحكم بما شهد به أخيرا وبهذا قال أبو حنيفة والثوري وسليمان بن حبيب المحاربي وإسحاق. وقال
الزهري لا تقبل شهادته الأولى ولا الآخرة لأن كل واحدة منهما ترد الأخرى وتعارضها. ولان
الأولى مرجوع عنها والثانية غير موثوق بها لأنها من مقر بغلطه وخطئه في شهادته فلا يؤمن أن يكون
في الغلط كالأولى. وقال مالك: يؤخذ بأقل قوليه لأنه أدى الشهادة وهو غير متهم فلم يقبل
رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحكم
ولنا ان شهادته الآخر فشهادة من عدل غير متهم لم يرجع عنها فوجب الحكم بها كما لو لم يتقدمها
ما يخلفها ولا تعارضها الأولى لأنها قد بطلت برجوعه عنها ولا يجوز الحكم بها لأنها شرط الحكم فيعتبر
استمرارها إلى انقضائه ويفارق رجوعه بعد الحكم لأن الحكم قد تم باستمرار شرطه فلا ينقض بعد تمامه
(فصل) وان شهد بألف ثم قال قبل الحكم قضاه منه خمسمائة فسدت شهادته ذكره أبو الخطاب
فقال إذا شهد أن عليه ألفا ثم قال أحدهما قضاه منه خمسمائة بطلت شهادته وذلك أنه شهد بان الألف
جميعه عليه وإذا قضاه خمسمائة لم تكن الألف كله عليه فيكون كلامه متناقضا فتفسد شهادته، وفارق هذا
ما لو شهد بألف ثم قال بل بخمسمائة لأن ذلك رجوع عن الشهادة بخمسمائة واقرار بغلط نفسه وهذا
لا يقول هذا على سبيل الرجوع، والمنصوص عن أحمد أن شهادته تقبل بخمسمائة فإنه قال إذا شهد بألف
ثم قال أحدهما قبل الحكم قضاه منه خمسمائة أفسد شهادته والمشهود له ما اجتمعا عليه وهو خمسمائة
فصحح شهادته في نصف الألف الباقي وابطلها في النصف الذي ذكر انه قضاه لأن ذلك بمنزلة الرجوع
عن الشهادة به فأشبه ما لو قال أشهد بألف بل بخمسمائة
قال احمد ولو جاء بعد هذا المجلس فقال اشهد أنه قضاه منه خمسمائة لم يقبل منه لأنه قد أمضى
155

الشهادة فهذا يحتمل انه أراد به انه إذا جاء بعد الحكم فشهد بالقضاء لم يقبل منه لأن الألف قد وجب
بشهادتهما وحكم الحاكم ولا تقبل شهادته بالقضاء لأنه لا يثبت بشاهد واحد، فاما ان شهد انه اقرضه
ألفا ثم قال قضاه منه خمسمائة قبلت شهادته في باقي الألف وجها واحدا لأنه لا تناقض في كلامه ولا اختلاف
(مسألة) قال (وإذا شهد شاهد بألف وآخر بخمسمائة حكم لمدعي الألف بخمسمائة
وحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى ان أحب
وجملة ذلك أنه إذا شهد أحد الشاهدين بشئ وشهد الآخر ببعضه صحت الشهادة وثبت ما
اتفقا عليه وحكم به وهذا قول شريح ومالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وإسحاق
وأبي عبيد، وحكي عن الشعبي أنه شهد عنده رجلان شهد أحدهما أنه طلقها تطليقة وشهد الآخر أنه
طلقها تطليقتين فقال قد اختلفتما قوما، وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا شهد شاهد أنه أقر بألف وشهد آخر
أنه أقر بألفين لم تصح الشهادة لأن الاقرار بالألف غير الاقرار بالألفين فلم يشهد بكل اقرار إلا واحد
ولنا أن الشهادة قد كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يزد أحدهما على صاحبه وما ذكره
من أن كل اقرار إنما يشهد به واحد يبطل بما إذا شهد أحدهما أنه أقر بألف غدوة وشهد الآخر
أنه أقر بألف عشيا فإن الشهادة تكمل مع أن كل اقرار إنما يشهد به واحد فأما ما انفرد به أحدهما
فإن للمدعي أن يحلف معه ويستحق وهذا قول من يرى الحكم بشاهد ويمين وهذا فيما إذا أطلقا
الشهادة أو لم تختلف الأسباب والصفات فأما إن اختلفت مثل أن يشهد شاهد بألف من قرض وشاهد
بخمسمائة من ثمن مبيع ويشهد شاهد بألف بيض وآخر بخمسمائة سود أو يشهد شاهد بألف دينار
والآخر بخمسمائة درهم لم تكمل البينة وكان له أن يحلف مع كل واحد منهما ويستحقها ويحلف مع
أحدهما ويستحق ما شهد به
(فصل) فإن شهد له شاهدان بألف وشاهدان بخمسمائة ولم تختلف الأسباب والصفات دخلت
الخمسمائة في الألف ووجب له بالشهادتين مائة وان اختلفت الأسباب والصفات وجب له الألف
والخمسمائة ولم يدخل أحدهما في الآخر لأنهما مختلفان
(فصل) وإن شهد له شاهد أنه باعه هذا العبد بألف وشهد آخر أنه باعه إياه بخمسمائة لم تكمل البينة
لاختلافهما في صفة البيع وله أن يحلف مع أحدهما ويثبت له ما حلف عليه وإن شهد له بكل عقد شاهدان
ثبت البيعان وإن أضافا البيع إلى وقت واحد مثل أن يشهد أنه باعه هذا العبد مع الزوال بألف وشهد الآخر
أنه باعه إياه مع الزوال بخمسمائة تعارضت البينتان وسقطتا لأنه لا يمكن اجتماعهما وكل بينة تكذب
156

الأخرى وإن شهد بكل واحد من هذين شاهد واحد كان له أن يحلف مع أحدهما ولا يتعارضان
لأن التعارض إنما يكون بين البينتين الكاملتين
(فصل) وإن شهد أحدهما أنه غصبه ثوبا قيمته درهمان وشهد آخر أن قيمته ثلاثة ثبت له ما اتفقا
عليه وهو درهمان وله أن يحلف مع الآخر على درهم لأنهما اتفقا على درهمين وانفرد أحدهما بدرهم فأشبه ما لو
شهد أحدهما بألف وآخر بخمسمائة وإن شهد شاهدان أن قيمته درهمان وشاهدان أن قيمته ثلاثة ثبت له درهمان
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة له ثلاثة لأنه قد شهد بها شاهدان وهما حجة فيجب الاخذ
بهما كما يؤخذ بالزيادة في الاخبار وكما لو شهد له شاهدان بألف وشاهدان بألفين فإنه يجب له
ألفان قال القاضي ويتوجه لنا مثل هذا بناء على مسألة الألف وخمسمائة
ولنا أن من شهد أن قيمته درهمان ينفي أن تكون قيمته ثلاثة فقد تعارضت البينتان في
الدرهم وتخالف الزيادة في الاخبار فإن من يروي الناقص لا ينفي الزيادة وكذلك من شهد بألف
لا ينفي أن عليه ألفا آخر فإن قيل فلم قلتم انه إذا شهد بكل واحد من القيمتين شاهدان تعارضتا
وإن شهد واحد لم تتعارضا وكان له ان يحلف مع الشاهد بالزيادة عليها قلنا لأن الشاهدين حجة
وبينة فإذا كملت من الجانبين تعارضت الحجتان لتعذر الجمع بينهما، واما الشاهد الواحد فليس بحجة
وحده وإنما يصير حجة مع اليمين فإذا حلف مع أحدهما كملت الحجة بيمينه ولم يعارضهما ما ليس بحجة
كما لو شهد بأحدهما شاهدان وبالآخر شاهدي واحد
(مسألة) قال (ومن ادعى شهادة عدل فأنكر أن تكون عنده ثم شهد بها بعد ذلك
وقال كنت أنسيتها قبلت منه)
وجملة ذلك أن العدل إذا أنكر أن تكون عنده شهادة ثم شهد بها وقال كنت أنسيتها قبلت ولم
ترد شهادته وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأنه يجوز أن يكون
نسيها وإذا كان ناسيا لها فلا شهادة عنده فلا نكذبه مع امكان صدقه ولا يشبه هذا إذا ما قال لا بينة لي
ثم أتى ببينة حيث لا تسمع فإن ذلك اقرار منه على نفسه بعدم البينة والانسان يؤاخذ باقراره وقول الشاهد
لا شهادة عندي ليس بقرار فإن الشهادة ليست له إنما هي حق عليه فيكون منكرا لها فإذا اعترف
بها كان اقرارا بعد الانكار وهو مسموع بخلاف الانكار بعد الانكار ولان الناسي للشهادة لا
شهادة له عنده فهو صادق في إنكاره فإذا ذكرها صارت عنده فلا تنافي بين القولين وصار هذا كمن
أنكر أن يكون عنده شهادة قبل ان يستشهد ثم استشهد بعد ذلك فصارت عنده بخلاف من أنكر
أن له بينة فإنه لا يخرج عن أن يكون له بينة بنسيانها
157

(مسألة) قال (ومن شهد بشهادة يجر إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل)
وجملته أن من شهد بشهادة له بعضها مثل أن يشهد الشريك لشريكه بمال من الشركة أو يشهد
على زيد بدار له ولعمرو فإن شهادته تبطل في الكل وقال الشافعي فيها قولان (أحدهما) كقولنا (والثاني)
تصح شهادته لغيره لأنه أجنبي فتصح شهادته له كما لو لم يكن له فيها شرك ويتخرج لنا مثل هذا بناء على
قولنا في عبد بين ثلاثة اشترى نفسه منهم بثلاثمائة درهم فادعى أنهم قبضوها منه فأنكر أحدهم أن يكون أخذ
شيئا فأقر له اثنان وشهدا على المنكر بالقبض فإن شهادتهما تقبل عليه ويشاركهما فيما أخذا من المال
ولنا أنها شهادة رد بعضها للتهمة فترد جميعها كما لو شهد المضارب لرب المال بمال من المضاربة
ولو شهد بدين لأبيه وأجنبي أو شهد بشهادة ترد في بعض ما شهد به بطلت كلها
(مسألة) قال (وإذا مات رجل وخلف ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت ألف درهم
وصدقه الأب وادعى آخر مثل ذلك وصدقه الابن فإن كان في مجلس واحد كان
الألف بينهما وإن كان في مجلسين كان الألف للأول ولا شئ للثاني)
وجملته ان الميت إذا خلف وارثا وتركة فأقر الوارث لرجل بدين على الميت يستغرق ميراثه
فقد أقر بتعليق دينه بجميع التركة واستحقاقه لجميعها فإذا أقر بعد ذلك لآخر نظرت فإن كان في
المجلس صح الاقرار واشتركا في التركة لأن حالة المجلس كلها كحالة واحدة بدليل القبض فما يعتبر
القبض فيه وامكان الفسخ في البيع ولحوق الزيادة في العقد فكذلك في الاقرار، وإن كان في مجلس
آخر لم يقبل اقراره لأنه يقر بحق على غيره فإنه يقر بما يقتضي مشاركة الأول في التركة ومزاحمته
فيها وتنقيص حقه منها ولا يقبل إقرار الانسان على غيره، وقال الشافعي يقبل اقراره ويشتركان فيها
لأن الوارث يقوم مقام الموروث ولو أقر الموروث لهما لقبل فكذلك الوارث ولان منعه من الاقرار
يفضي إلى اسقاط حق الغرماء فإنه قد لا يتفق حضورهم في مجلس واحد فيبطل حقه بغيبته ولان من
قبل اقراره أولا قبل اقراره ثانيا إذا لم يتغير حاله كالموروث.
ولنا انه أقر بما يتعلق بمحل تعلق به حق غيره على وجه يضر به تعلقا يمنع صحة تصرفه فيه فلم
يقبل كاقرار الراهن بجناية عبده المرهون أو الجاني، وأما الموروث فإن أقر في صحته صح لأن الدين
لا يتعلق بماله وإنما يتعلق بذمته، وإن أقر في مرضه لم يحاص المقر له غرماء الصحة لذلك، وان أقر
في مرضه لغريم يستغرق دينه تركته ثم أقر لآخر في مجلس آخر صح وشارك الأول والفرق بينة
158

وبين الوارث ان اقراره الأول لم يمنعه التصرف في ماله ولا أن يتعلق به دين آخر بأن يستدين دينا
آخر فلم يمنع ذلك تعلق الدين بتركته بالاقرار بخلاف الوارث فإنه لا يملك أن يعلق بالتركة دينا
آخر بفعله فلا يملكه بقوله ولا يملك التصرف في التركة ما لم يلتزم قضاء الدين.
(فصل) وإن مات وترك ألفا فأقر به ابنه لرجل ثم أقر به لغيره فهو للأول ولا شئ للثاني فيه
سواء كان في مجلس أو مجلسين لأنه باعترافه للأول ثبت له الملك فيه فصار اقراره للثاني اقرارا له بملك غيره
فلم يقبل وتلزم المقر غرامته للثاني لأنه فوته عليه باقراره به لغيره فأشبه ما لو غصبه منه فدفعه إلى غيره.
(مسألة) قال (ومن ادعى دعوى على المريض فأومأ برأسه أي نعم لم يحكم بها
حقي يقول بلسانه)
وجملته ان إشارة المريض لا تقوم مقامه نطقه وسواء كان عاجزا عن الكلام أو قادرا عليه وبهذا
قال الثوري، وقال الشافعي يقبل اقراره بإشارته إذا كان عاجزا عن الكلام لأنه اقرار بالإشارة
من عاجز عن الكلام فأشبه اقرار الأخرس
ولنا أنه غير مأيوس من نطقه لم تقم إشارته مقام نطقه كالصحيح وبهذا فارق الأخرس فإنه
مأيوس من نطقه ولهذا لو ارتج عليه في الصلاة لم تصح صلاته بغير قراءة بخلاف الأخرس، والآيسة
يفرق بينهما وبين من ارتفع حيضها مع امكانه في العدة ولان عجزه عن النطق غير متحقق فإنه يحتمل
ان يترك الكلام لصعوبته عليه ومشقته لا لعجزه وان صار إلى حال يتحقق الا ياس من نطقه لم يوثق
بإشارته لأن المرض الذي أعجزه عن النطق لم يختص بلسانه فيجوز أن يكون أثر في عقله أو في سمعه
فلم يدر ما قيل له بخلاف الأخرس ولان الأخرس قد تكررت إشارته حتى صارت عند من يعاشره
كاليقين ومما ثلة النطق وهذا لم تتكرر إشارته فلعله لم يرد الاقرار إنما أراد الانكار أو اسكات
من يسأله ومع هذه الفروق لا يصح القياس
(مسألة) قال (ومن ادعى دعوى وقال لا بينة لي ثم أتى بعد ذلك بينة لم
تقبل لأنه مكذب لبينته)
وبهذا قال محمد بن الحسن وقال أبو يوسف وابن المنذر تقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه يجوز
أن ينسى أو يكون الشاهدان سمعا منه وصاحب الحق لا يعلم فلا يثبت بذلك أنه كذب بينته وقال بعض أصحاب
الشافعي وإن كان الاشهاد أمرا تولاه بنفسه لم تسمع بينته لأن أكذبها وإن كان وكيله أشهد على المدعى عليه
159

أو شهد من غير علمه أو من غير أن يشهدهم سمعت بينته لأنه معذور في نفيه إياها وهذا القول حسن
ولنا أنه أكذب بينته باقراره أنه لا يشهد له أحد فإذا شهد له انسان كان تكذيبا له ويفارق الشاهد
إذا قال لا شهادة عندي ثم قال كنت نسيتها لأن ذلك اقراره لغيره بعد الانكار وههنا هو مقر لخصمه
بعدم البينة فلم يقبل رجوعه عنه والحكم في ما إذا قال كل بينة لي زور كالحكم في مال إذا قال لا بينة
لي على ما ذكرنا من الخلاف فيه
(فصل) وان قال ما أعلم لي بينة ثم أتي بينة سمعت لأنه يجوز أن تكون له بينة لم يعلمها ثم علمها
قال أبو الخطاب ولو قال ما أعلم لي بينة فقال شاهدان نحن نشهد لك سمعت بينته
(مسألة) قال (وإذا شهد الوصي على من هو موصى عليهم قبلت شهادته وان شهد
لهم لم يقبل إذا كانوا في حجره)
أما شهادته عليهم فمقبولة لا نعلم فيه خلافا فإنه لا يتهم عليهم ولا يجر بشهادته عليهم نفعا ولا يدفع
عنهم بها ضرارا وأما شهادته لهم إذا كانوا في حجره فعير مقبولة وهذا قول أكثر أهل العلم منهم
الشعبي والثوري ومالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وأجاز شريح وأبو ثور
شهادته لهم إذا كان الخصم غيره لأنه أجنبي منهم فقبلت شهادته لهم كما بعد زوال الوصية
ولنا أنه شهد بشئ هو خصم فيه فإنه الذي يطالب بحقوقهم ويخاصم فيها ويتصرف فيها فلم
تقبل شهادته كما لو شهد بمال نفسه ولأنه يأخذ من مالهم عند الحاجة فيكون متهما في الشهادة به
فاما قوله إذا كانوا في حجره فإنه يعني أنه لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم قبلت شهادته لزوال
المعنى الذي منع قبولها والحكم في امين الحاكم يشهد للأيتام الذين هم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء
(مسألة) قال) (وإذا شهد من يخنق في الأحيان قبلت شهادته في افاقته)
قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وممن حفظنا عنه ذلك مالك والثوري
والشافعي وإسحاق وأبو ثور ولا أحسبه الا مذهب أهل الكوفة وذلك لأن الاعتبار في الشهادة
بحال أدائها وهو في وقت الأداء من أهل التحصيل والعقل الثابت فقبلت شهادته كالصبي إذا كبر
ولأنه عدل غير متهم فقبلت شهادته كالصحيح وزوال عقله في غير حال الشهادة لا يمنع قبولها كالصحيح
الذي ينام والمريض الذي يغمى عليه في بعض الأحيان
160

(مسألة) قال (وتقبل شهادة الطبيب في الموضحة إذا لم يقدر على طبيبين وكذلك
البيطار في داء الدابة)
وجملته انه إذا اختلف في الشجة هل هي موضحة أو لا أو فيما كان أكثر منهما كالهاشمة والمنقلة
والآمة والدامغة أو أصغر منها كالباضعة والمتلاحمة والسمحاق أو في الجائفة وغيرها من الجراح التي
لا يعرفها إلا الأطباء أو اختلفا في داء يختص بمعرفته الأطباء أو في داء الدابة فظاهر كلام الخرقي انه
إذا قدر على طبيبين أو بيطارين لا يجزئ واحد لأنه مما يطلع عليه الرجال فلم تقبل فيه شهادة
واحد كسائر الحقوق فإن لم يقدر على اثنين أجزأ واحد لأنه مما لا يمكن كل واحد أن يشهد به لأنه
مما يختص به أهل الخبرة من أهل الصنعة فاجتزئ فيه بشهادة واحد بمنزلة العيوب تحت الثياب يقبل
فيها قول المرأة الواحدة فقبول قول الرجل الواحد أولى
(فصل) قال احمد رحمه الله إذا قال اشهد على مائة درهم ومائة درهم فشهد على مائة دون مائة
كره إلا أن يقول اشهدوا لي على مائة ومائة يحكيه كله للحاكم كما كان، وقال احمد إذا شهد على ألف
وكان الحاكم لا يحكم إلا على مائة ومائتين فقال له صاحب الحق أريد أن تشهد لي على مائة لم يشهد
إلا بألف قال القاضي وذلك أن على الشاهد نقل الشهادة على ما شهد قال الله تعالى (ذلك أدنى أن
يأتوا بالشهادة على وجهها) ولأنه لو ساغ للشاهد أن يشهد ببعض ما أشهد عليه لساغ للقاضي أن يقتضي
ببعض ما شهد به الشاهد
وقال أبو الخطاب عندي يجوز أن يشهد بذلك لأن من شهد بألف فقد شهد بمائة فإذا شهد
بمائة لم يكن كاذبا في شهادته فجاز كما لو كان قد أقرضه مائة مرة وتسعمائة مرة أخرى والأول
أصح لما ذكره القاضي ولان شهادته بمائة ربما أو همت ان هذه المائة غير التي شهدت بأصله فيؤدي
إلى إيجابها عليه مرتين
(فصل) قال احمد إذا شهد بألف درهم ومائة دينار فله من دراهم ذلك البلد ودنانيره قال القاضي
لأنه لما جاز أن يحمل مطلق العقد على ذلك جاز أن تحمل الشهادة عليه والله أعلم
161

كتاب الدعاوى والبينات
الدعوى في اللغة إضافة الانسان إلى نفسه شيئا ملكا أو استحقاقا أو صفقة أو نحو ذلك وهي في
الشرع اضافته إلى نفسه استحقاق شئ في يد غيره أو في ذمته والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق
شئ عليه. وقال ابن عقيل الدعوى الطلب قال الله تعالى (ولهم ما يدعون) وقيل المدعي من إذا
ترك لم يسكت والمدعى عليه من إذا ترك سكت وقد يكون كل واحد منهما مدعيا ومدعى عليه بان
يختلفا في العقد فيدعي كل واحد منهما أن الثمن غير الذي ذكره صاحبه. والأصل في الدعوى قول
النبي صلى الله عليه وسلم (لو أعطي الناس بدعواهم لا دعى قول دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على
المدعى عليه) رواه مسلم وفي حديث (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) ولا تصح الدعوى
إلا من جائز التصرف
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (ومن ادعى زوجية امرأة فأنكرته ولم تكن له
بينة فرق بينهما ولم يحلف)
وجملته أن النكاح لا يستحلف فيه رواية واحدة ذكره القاضي وهو قول أبي حنيفة، ويتخرج
162

أن يستحلف في كل حق لآدمي وهو قول الشافعي وابن المنذر ونحوه قول أبي يوسف ومحمد لقول
النبي (ص) (ولكن اليمين على المدعى عليه) ولأنه حق لآدمي فيستحلف فيه كالمال، ثم اختلفوا فقال
أبو يوسف ومحمد يستحلف في النكاح فإن نكل ألزم النكاح، وقال الشافعي وإن نكل ردت اليمين
على الزوج فحلف وثبت النكاح
ولنا أن هذا مما لا يحل بذله فلم يستحلف فيه كالحد يحقق هذا أن الابضاع مما يحتاط فيها فلا تباح
بالنكول ولا به وبيمين المدعي كالحدود وذلك لأن النكول ليس بحجة قوية إنما هو سكوت مجرد
يحتمل أن يكون لخوفه من اليمين أو للجهل بحقيقة الحال أو للحياء من الحلف والتبذل في مجلس الحاكم
ومع هذه الاحتمالات لا ينبغي أن يقضى به فيها يحتاط له ويمين المدعي إنما هي قول نفسه لا ينبغي أن
يعطى بها أمرا فيه خطر عظيم واثم كبير ويمكن من وطئ امرأة يحتمل أن تكون أجنبية منه
وأما الحديث فإنما تناول الأموال والدماء فلا يدخل النكاح فيه، ولو دخل فيه كل دعوى لكان
مخصوصا بالحدود فالنكاح في معناه بل النكاح أولى لأنه لا يكاد يخلو من شهود لكون الشهادة
شرطا في انعقاده أو من اشتهاره فيشهد فيه بالاستفاضة والحدود بخلاف ذلك إذا ثبت هذا فإنه
يفرق بينهما ويحال بينه وبينهما ويخلى سبيلها، وإن قلنا إنها تحلف على الاحتمال الآخر فنكلت لم يقض
بالنكول وتحبس في أحد الوجهين حتى تقر أو تحلف وفي الآخر يخلى سبيلها وتكون فائدة شرع اليمين
التخويف والردع لتقر إن كان المدعي محقا أو تحلف تبرأ إن كان مبطلا
163

(فصل) وإذا ادعى رجل نكاح امرأة احتاج إلى ذكر شرائط النكاح فيقول تزوجتها بولي
مرشد وشاهدي عدل ورضاها ان كانت ممن يعتبر رضاها وهذا منصوص الشافعي، وقال أبو حنيفة
ومالك لا يحتاج إلى ذكر شرائطه لأنه نوع ملك فأشبه ملك العبد الا ترى أنه لا يحتاج ان يقول وليست
معتدة ولا مرتدة.
ولنا ان الناس اختلفوا في شرائط النكاح فمنهم من يشترط الولي والشهود ومنهم من لا يشترط
ومنهم من يشترط اذن البكر البالغ لأبيها في تزويجها ومنهم من لا يشترطه وقد يدعي نكاحا يعتقده
صحيحا والحاكم لا يرى صحته ولا ينبغي ان يحكم بصحته مع جهله بها ولا يعلم بها ما لم تذكر الشروط وتقوم
البينة بها وتفارق المال فإن أسبابه تنحصر وقد يخفى على المدعي سبب ثبوت حقه والعقود تكثر شروطها ولذلك
اشترطنا لصحة البيع شروطا سبعة وربما لا يحسن المدعي عدها ولا يعرفها والأموال مما يتساهل فيها
ولذلك افترقا في اشتراط الولي والشهود في عقوده فافترقا في الدعوى، وعدم العدة والردة لم يختلف
الناس فيه والأصل عدمها ولا تختلف به الأغراض فإن كانت المرأة أمة والزوج حرا فقياس ما ذكرناه
أنه يحتاج إلى ذكر عدم الطول وخوف العند لأنهما من شرائط صحة نكاحها، وأما ان ادعى استدامة
الزوجية ولم يدع العقد لم يحتج إلى ذكر الشروط في أحد الوجهين لأنه يثبت بالاستفاضة ولو اشترط ذكر
الشروط لاشترطت الشهادة به ولا يلزم ذلك في شهادة الاستفاضة وفي الثاني يحتاج إلى ذكر الشروط
لأنه دعوى نكاح فأشبه دعوى العقد
164

(فصل) وان ادعت المرأة النكاح على زوجها وذكرت معه حقا من حقوق النكاح كالصداق
والنفقة ونحوها سمعت دعواها بغير خلاف نعلمه لأنها تدعي حقا لها تضيفه إلى سببه فتسمع دعواها
كما لو ادعت ملكا اضافته إلى الشراء، وان أفردت دعوى النكاح فقال القاضي تسمع دعواها
أيضا لأنه سبب لحقوق لها فتسمع دعواها فيه كالبيع، وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر لا تسمع
دعواها فيه لأن النكاح حق للزوج عليها فلا تسمع دعواها حقا لغيرها فإن قلنا بالأول سئل الزوج
فإن أنكر ولم تكن بينة فالقول قوله من غير يمين لأنه إذا لم تستحلف المرأة والحق عليها فلان لا يستحلف
من الحق له وهو ينكره أولى ويحتمل ان يستحلف لأن دعواها إنما سمعت لتضمنها دعوى حقوق
مالية نشرع فيها اليمين، وان قامت البينة بالنكاح ثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها فاما اباحتها
له فتنبني على باطن الامر فإن علم أنها زوجته حلت له لأن انكاره النكاح ليس بطلاق ولا نوى به
الطلاق، وان علم أنها ليست امرأته اما لعدم العقد أو لبينونتها منه لم تحل له وهل يمكن منها في الظاهر
يحتمل وجهين (أحدهما) يمكن منها لأن الحاكم قد حكم بالزوجية (والثاني) لا يمكن منهما لاقراره
على نفسه بتحريمها عليه فيقبل قوله في حق نفسه دون ما عليه كما لو تزوج امرأة ثم قال هي أختي من
الرضاعة فإذا ثبت هذا فإن دعواها النكاح كدعوى الزوج فيما ذكرنا من الكشف عن سبب
النكاح وشرائط العقد ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا في هذا الفصل
165

(فصل) فاما سائر العقود غير النكاح كالبيع والإجارة والصلح وغيرها فلا يفتقر إلى الكشف
وذكر الشروط في أصح الوجهين لأنها لا يحتاط لها ولا تفتقر إلى الولي والشهود فلم تفتقر إلى
الكشف كدعوى العين وسواء كان البيع جارية أو غيرها لأنها مبيع فأشبهت الجارية وكذلك إذا
كان المدعى عينا أو دينا لم يحتج إلى ذكر السبب لأن أسباب ذلك تكثر ولا تنحصر وربما خفي
على المستحق سبب استحقاقه فلا يكلف بيانه ويكفيه ان يقول أستحق هذه العين التي في يده أو
استحق كذا كذا في ذمته ويقول في البيع اني اشتريت منه هذه الجارية بألف درهم أو بعتها منه
بذلك ولا يحتاج ان يقول وهي ملكه أو وهي ملكي ونحن جائز الامر وتفرقنا عن تراض
وذكر أبو الخطاب في العقود وجها آخر أنه يشترط ذكر شروطها قياسا على النكاح وذكر أصحاب
الشافعي هذين الوجهين ووجها ثالثا انه إن كان البيع جارية اشترط ذكر شروط البيع لأنه عقد يستباح
به الوطئ فأشبه النكاح، وإن كان البيع غيرها لم يشترط لعدم ذلك والأول أولى لأنها دعوى فيما
لا يشترط فيه الولي والشهود أشبه دعوى العين، وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكره سأله الحاكم
عنه لتصير الدعوى معلومة فيمكن الحاكم الحكم بها وقد ذكرنا سائر الدعاوى فيما سبق بما أغنى عن اعادته ههنا
166

(مسألة) قال (ومن ادعى دابة في يد رجل فأنكر وأقام كل واحد منهما بينة حكم
بها للمدعي ببينته ولم يلتفت إلى بينة المدعى عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بسماع بينة المدعي ويمين
المدعى عليه وسواء شهدت بينة المدعى عليه أنها له أو قالت ولدت في ملكه عليه)
وجملة ذلك أن من ادعى شيئا في يد غيره فأنكره ولكل واحد منهما بينة فإن بينة المدعي
تسمى بينة الخارج وبينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل، وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيما إذا
تعارضتا فالمشهور عنه تقديم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعى عليه بحال وهذا قول إسحاق وعنه
رواية ثانية ان شهدت بينة الداخل بسبب الملك وقال نتجت في ملكه أو اشتراها أو نسجها أو
كانت بينته أقدم تاريخا قدمت والا قدمت بينة المدعي وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور في النتاج
والنساج فيما لا يتكرر نسجه فأما ما يتكرر نسجه كالصوف والخز فلا تسمع بينته لأنها إذا شهدت
بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده اليد، وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان
في دابة أو بغير فأقام كل واحد منهما البينة بأنها له أنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في
يده، وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة أن بينة المدعى عليه تقدم بكل حال وهو قول شريح والشعبي
والنخعي والحكم والشافعي وأبي عبيد وقال هو قول أهل المدينة وأهل الشام وروي عن طاوس
وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد وقال لا تقبل بينة الداخل إذا لم تفد إلا ما أقادته يده
رواية واحدة واحتج من ذهب إلى ذهب القول بان جنبة المدعى عليه أقوي لأن الأصل معه ويمينه
167

تقدم على يمين المدعي فإذا تعارضت البينتان وجب ابقاء يده على ما فيها وتقديمه قالوا لم تكن بينة لواحد
منهما وحديث جابر يدل على هذا فإنه إنما قدمت بينته ليده
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) فجعل جنس البينة في
جنبة المدعي فلا يبقى في جنبة المدعى عليه بينة ولان بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم
بينة الجرح على التعديل ودليل كثرة فائدتها انها تثبت شيئا لم يكن وبينة المنكر إنما تثبت ظاهرا
تدل اليد عليه فلم تكن مفيدة ولان الشهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتصرف فإن
ذلك جائز عند كثير من أهل العلم فصارت البينة بمنزلة اليد المفردة فتقدم عليها بينة المدعي كما
تقدم على اليد كما أن شاهدي الفرع لما كانا مبنيين على شاهدي الأصل لم تكن لهما مزية عليهما
(فصل) وأي البينتين قدمناها لم يحلف صاحبها معها، وقال الشافعي في أحد قوليه يستحلف
صاحب اليد لأن البينتين سقطتا بتعارضهما فصارا كمن لا بينة لهما فيحلف الداخل كما لو لم تكن
لواحد منهما بينة
ولنا ان إحدى البينتين راجحة فيجب الحكم بها منفردة كما لو تعارض خبران خاص وعام
أو أحدهما أرجح بوجه من الوجود، ولا نسلم أن البينة الراجحة تسقط وإنما ترجح ويعمل بها وتسقط المرجوحة
(فصل) فإن كانت البينة لأحدهما دون الآخر نظرت فإن كانت البينة للمدعي وحده حكم
بها ولم يحلف بغير خلاف في المذهب وهو قول أهل الفتيا من أهل الأمصار منهم الزهري وأبو حنيفة
168

ومالك والشافعي وقال شريح وعون بن عبد الله والنخعي والشعبي وابن أبي ليلى يستحلف الرجل مع
بينته قال شريح لرجل لو أثبت عندي كذا وكذا شاهدا ما قضيت لك حتى تحلف
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي (بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة
على المدعي واليمين على المدعى عليه) ولان البينة إحدى حجتي الدعوى فيكتفى بها كاليمين. قال
أصحابنا ولا فرق بين الحاضر والغائب والحي والميت والصغير والكبير والمجنون والمكلف
وقال الشافعي إذا كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه أحلف المشهود له لأنه لا يمكنه أن يعبر عن
نفسه في دعوى القضاء والابراء فيقوم الحاكم مقامه في ذلك لتزول الشبهة وهذا حسن فإن قيام البينة
للمدعي بثبوت حقه لا ينفي احتمال القضاء والابراء بدليل أن المدعى عليه لو ادعاه سمعت دعواه وبينته
فإن كان حاضرا مكلفا فسكوته عن دعوى ذلك دليل على انتفائه فيكتفى بالبينة، وإن كان غائبا أو ممن
لا قول له نفي احتمال ذلك من غير دليل يدل على انتفائه فتشرع اليمين لنفيه وإن لم تكن للمدعي
بينة وكانت للمنكر بينة سمعت بينته ولم يحتج إلى الحلف معها لأنا إن قلنا بتقديمها مع التعارض وانه
لا يحلف معها فمع انفرادها أولى، وإن قلنا بتقديم بينة المدعى عليه فيجب أن يكتفى بها عن اليمين
لأنها أقوى من اليمين فإذا اكتفي باليمين فيما هو أقوى منها أولى ويحتمل أن تشرع اليمين أيضا
لأن البينة ههنا يحتمل أن تكون مستندها اليد والتصرف فلا تفيد إلا ما أفادته اليد والتصرف وذلك
لا يغني عن اليمين فكذلك ما قام مقامه
169

(فصل) وإن ادعى الخارج أن الدابة ملكه وانه أودعها للداخل أو أعاره إياها أو آجرها منه
ولم يكن لواحد منهما بينة فالقول قول المنكر مع يمينه ولا نعلم فيه خلافا وإن كان لكل واحد منهما
بينة فبينة الخارج مقدمة وهذا قول الشافعي
وقال القاضي بينة الداخل مقدمة لأنه هو الخارج في المعنى لأنه ثبت أن المدعي صاحب اليد
وأن يد الداخل نائبة عنه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي) ولان اليمين في حق المدعى عليه فتكون البينة للمدعي
كما لو لم يدع الايداع، يحققه أن دعواه الايداع زيادة في حجته وشهادة لبينة بها تقوية لها فلا يجوز أن
تكون مبطلة لبينته، وإن ادعى الخارج أن الداخل غصبه إياها وأقام بينتين فهي للخارج ويقتضي
قول القاضي أنها للداخل والأولى ما ذكرناه
(فصل) فإن كان في يد رجل جلد شاة مسلوخة ورأسها وسواقطها وباقيها في يد آخر فادعاها
كل واحد منهما كلها ولا بينة لواحد منهما فلكل واحد منهما ما في يده مع يمينه وإن أقام بينتين
وقلنا تقدم بينة الخارج فلكل واحد منهما ما في يد صاحبه وإن قلنا تقدم بينة الداخل فلكل واحد
منهما ما في يده من غير يمين
(فصل) فإن كان في يد كل واحد منهما شاة فادعى كل واحد منهما أن الشاة التي في يد صاحبه
170

له ولا بينة لهما حلف كل واحد منهما لصاحبه وكانت الشاة التي في يده له وإن أقاما بينتين فلكل
واحد منهما الشاة التي في يد صاحبه ولا تعارض بينهما، وإن كان كل واحد منهما قال هذه الشاة
التي في يدك لي من نتاج شاتي هذه فالتعارض في النتاج لا في الملك إذا يستحيل أن يكون كل واحد
منهما يثبت الأخرى والحكم على ما تقدم، وإن ادعى كل واحد منهما أن الشاتين لي دون صاحبي
وأقام بينتين تعارضتا وانبنى ذلك على القول في بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الخارج جعل
لكل واحد منهما ما في يد الآخر ومن قدم بينة الداخل أو قدمها إذا شهدت بالنتاج جعل لكل
واحد منهما ما في يده
(فصل) وإذا ادعى زيد شاة في يد عمرو وأقام بها بينة فحكم له بها حاكم ثم ادعاها عمرو على
زيد وأقام بها بينة فإن قلنا بينة الخارج مقدمة لم تسمع بينة عمرو لأن بينة زيد مقدمة عليها، وإن قلنا
بينة الداخل مقدمة نظرنا في الحكم كيف وقع فإن كان حكم بها لزيد لأن عمرا لا بينة له ردت إلى
عمرو لأنه قد قامت له بينة واليد كانت له وإن حكم بها لزيد لأنه يرى تقديم بينة الخارج لم ينقض
حكمه لأنه حكم بما يسوغ الاجتهاد فيه وإن كانت بينة عمرو قد شهدت له أيضا وردها الحاكم لفسقها
ثم عدلت لم ينقض الحكم أيضا لأن الفاسق إذا ردت شهادته لفسقه ثم أعادها بعد لم تقبل وإن لم
يعلم الحكم كيف كان لم ينقض لأن حكم الحاكم الأصل جريانه على العدل والانصاف والصحة فلا
171

ينقض بالاحتمال فإن جاء ثالث فادعاهما وأقام بها بينة فبينته وبينة زيد متعارضان ولا يحتاج زيد إلى إقامة
بينته لأنها قد شهدت مرة وهما سواء في الشهادة حال التنازع فلم يحتج إلى اعادتها كالبينة إذا شهدت
ووقف الحكم على الحث عن حالها ثم بانت عدالتها فإنها تقبل ويحكم من غير إعادة شهادتهما كذا ههنا
(فصل) وإذا كان في يد رجل شاة فادعاها رجل أنها له منذ سنة وأقام بذلك بينة وادعى
الذي هي في يده أنها في يده منذ سنتين وأقام بذلك بينة فهي للمدعي بغير خلاف لأن بينته تشهد
له بالملك وبينة الداخل تشهد باليد خاصة فلا تعارض بينهما لامكان الجمع بينهما بأن تكون اليد على
غير ملك فكانت بينة الملك أولى فإن شهدت بينة بأنها ملكه منذ سنتين فقد تعارض ترجيحان
تقدم التاريخ من جهة بينة الداخل وكون الأخرى بينة الخارج ففيه روايتان
(إحداهما) تقدم بينة الخارج وهو قول أبي يوسف ومحمد وأبي ثور ويقتضيه عموم كلام الخرقي
لقوله صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي) ولان بينة لداخل يجوز أن يكون مستندها اليد فلا تفيد أكثر مما
تفيد، اليد أشبهت الصورة التي قبلها
(والثانية) تقدم بينة الداخل وهو قول أبي حنيفة والشاعي لأنها تضمنت زيادة فإن كانت
بالعكس فشهدت بينة الداخل انه يملكها منذ سنة وشهدت بينة الخارج أنه يملكها منذ سنتين قدمت
بينة الخارج الا على الرواية التي تقدم فيها بينة الداخل فيخرج فيها وجهان بناء على الروايتين في التي
172

قبلها وظاهر مذهب الشافعي تقديم بينة الداخل على كل حال وقال بعضهم فيها قولان، وإن ادعى
الخارج أنها ملكه منذ ستة وادعى الداخل أنه اشتراها منه منذ سنتين وأقام كل واحد منهما بينة
قدمت بينة الداخل ذكره القاضي وهو قول أبي ثور فإن اتفق تاريخ السنين إلا أن بينة الدخل تشهد
بنتاج أو بشراء أو غنيمة أو إرث أو هبة من مالك أو قطيعة من الإمام أو سبب من أسباب الملك
ففي أيهما تقدم روايتان ذكرناهما، وإن ادعي أحدهما أنه اشتراها من الآخر قضي له بها لأن بينة
الابتياع شهدت بأمره حدث خفي على البينة الأخرى فقدمت عليهما كتقديم بينة الجرح على بينة التعديل
(مسألة) قال (ولو كانت الدابة في أيديهما فأقام أحدهما البينة انهما له وأقام الآخر
البينة انها له نتجت في ملكه سقطت البينتان وكانا كمن لا بينة لهما وكانت اليمين لكل واحد
منهما على صاحبه في النصف المحكوم له به)
وجملته أنه إذا تنازع رجلان في عين في أيديهما فادعى كل واحد منهما انها ملكه دون صاحبه
ولم تكن لهما بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وجعلت بينهما نصفين لا نعلم في هذا خلافا لأن يد
كل واحد منهما على نصفها والقول قول صاحب اليد مع يمينه وإن نكلا جميعا عن اليمين فهي بينهما
أيضا لأن كل واحد منهما يستحق ما في يد الآخر بنكوله، وان نكل أحدهما وحلف الاخر قضي له
173

بجميعها لأنه يستحق ما في يده بيمينه وما في يد صاحبه اما بنكوله وإما بيمينه التي ردت عليه عند
نكول صاحبه، وان كانت لإحداهما بينة دون الآخر حكم له بها لا نعلم في هذا خلافا، وان أقام كل
واحد منهما بينة وتساوتا تعارضت البينتان وقسمت العين بينهما نصفين وبهذا قال الشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي لما روى أبو موسى رضي الله عنه ان رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعين
فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين رواه أبو داود ولان
كل واحد منهما داخل في نصف العين خارج عن نصفها فتقدم بينة كل واحد منهما فيما في يده عند
من يقدم بينة الداخل وفيما في يد صاحبه عند من يقدم بينة الخارج فيستويان على كل واحد من القولين
وذكر أبو الخطاب فيها رواية أخري أنه يقرع بينهما فمن خرجت قرعته حلف أنها لاحق للآخر
فيها وكانت العين له كما لو كانت في يد غيرهما والأول أصح للخبر والمعنى واختلفت الرواية هل
يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين فروي أنه يحلف وهذا
ذكره الخرقي لأن البينتين لما تعارضتا من غير ترجيح وجب اسقاطها كالخبرين إذا تعارضا وتساويا
وإذا سقطا صار المختلفان كمن لا بينة لهما ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به وهذا
أحد قولي الشافعي بناء على أن اليمين تجب على الداخل مع بينته وكل واحد منهما داخل في نصفها
فيحكم له بيه ببينته ويحلف معها في أحد القولين والرواية الأخرى ان العين نقسم بينهما من غير يمين
174

وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وهو أصح للخبر والمعنى الذي ذكرناه ولا يصح
قياس هاتين البينتين على الخبرين المتساويين لأن كل بينة راجحة في نصف العين على كل واحد من
القولين وقد ذكرنا ان البينة الراجحة يحكم بها من غير حاجة إلى يمين فاما ان شهدت إحدى البينتين
بان العين لهذا وشهدت الأخرى أنها لهذا الآخر نتجت في ملكه فقد ذكرنا في الترجيح بهذا
روايتين (أحداهما) لا يرجع به وهو اختيار الخرقي لأنهما تساويا في ما يرجع إلى المختلف فيه وهو
ملك العين الآن فوجب تساويهما في الحكم (والثانية) تقدم بينة النتاج وما في معناه وهو مذهب
أبي حنيفة لأنها تتضمن زيادة على وهو معرفة السبب والأخرى خفي عليها ذلك فيحتمل أن تكون
شهادتهما مستندة إلى مجرد اليد والتصرف فتقدم الأولى عليها كتقدم بينة الجرح على التعديل وهذا
قول القاضي فيما إذا كانت العين في يد غيرهما
(فصل) فإن شهدت إحداهما أنها له منذ سنة وشهدت الأخرى أنها له منذ سنتين فظاهر
كلام الخرقي التسوية بينهما وهو أحد قولي الشافعي وقال القاضي قياس المذهب تقديم اقدمهما تاريخا
وهو قول أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي لأن المتقدمة التاريخ أثبتت الملك له في وقت لم تعارضه
في البينة الأخرى فيثبت الملك فيه ولهذا له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان وتعارضت البيتان في الملك
في الحال فسقطتا وبقي ملك السابق تجب استدامته وان لا يثبت لغيره ملك الا من جهته ووجه قول
175

الخرقي ان الشاهد بالملك الحادث أحق بالترجيح لجواز ان يعلم به دون الأول ولهذا لو ذكر أنه
اشتراه من الاخر أو وهبه له لقدمت بينته اتفاقا فإذا لم يرجح بهذا فلا أقل من التساوي، وقولهم
إنه يثبت الملك في الزمن الماضي من غير معارضة قلنا إنما يثبت تبعا لثبوته في الحال ولو انفرد بان
يدعي الملك في الماضي لم تسمع دعواه ولا بينته فإن وقتت إحداهما واطلقت الأخرى فهما سواء ذكره
القاضي وقال أبو الخطاب يحتمل أن يحكم به لمن لم يوقت وهو قول أبي يوسف ومحمد
ولنا أنه ليس في إحداهما ما يقتضي الترجيح من تقدم الملك ولا غيره فوجب استواؤهما كما
لو اطلقتا أو استوى تاريخهما
(فصل) ولا ترجح إحدى البينتين بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي
ويتخرج ان ترجح بذلك مأخوذا من قول الخرقي ويتبع الأعمى أوثقهما في نفسه وهذا قول مالك
لأن أحد الخبرين يرجح بذلك فكذلك الشهادة لأنها خبر ولان الشهادة إنما اعتبرت لغلبة الظن
بالمشهود به وإذا كثر العدد أو قويت لعدالة كان الظن به أقوى وقال الأوزاعي يقسم على عدد الشهود
فإذا شهد لأحدهما شاهدان وللآخر أربعة قسمت لعين بينهما أثلاثا لأن الشهادة سبب الاستحقاق
فيوزع الحق عليها
176

ولنا أن الشهادة مقدرة بالشرع فلا تختلف بالزيادة كالدية وتخالف الخبر فإنه مجتهد في قبول خبر
الوحد دون العدد فرجح بالزيادة والشهادة يتفق فيها على خبر الاثنين فصار الحكم متعلقا بهما دون
اعتبار الظن ألا ترى انه لو شهد النساء منفردات لا تقبل شهادتهن وإن كثرن حتى صار الظن
بشهادتهن أغلب من شهادة الذكرين؟ وعلى هذا لا ترجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين
في المال لأن كل واحدة من البينتين حجة في المال فإذا اجتمعتا تعارضتا فأما إن كان لأحدهما شاهدان
وللآخر شاهد فبذل يمينه معه ففيه وجهان
(أحدهما) يتعارضان لأن كل واحد منهما حجه بمفرده فاشبها الرجلين مع الرجل والمرأتين
(والثاني) يقدم الشاهدان لأنهما حجة متفق عليها والشاهد واليمين مختلف فيهما ولان اليمين
قوله لنفسه والبينة الكاملة شهادة الأجنبيين فيجب تقديمها كتقديمها على يمين المنكر وهذا الوجه أصح
إن شاء الله وللشافعي قولان كالوجهين
(فصل) وإذا كان في أيديهما دار فادعاها أحدهما كلها وادعى الآخر نصفها ولا بينة لهما فهي
بينهما نصفين نص عليه احمد وعلى مدعي النصف اليمين لصاحبه ولا يمين على الآخر لأن النصف
المحكوم له به لا منازع له فيه ولا نعلم في هذا خلافا إلا أنه حكي عن ابن شبرمة ان لمدعي الكل ثلاثة
أرباعها لأن النصف له لا منازع فيه والنصف الآخر يقسم بينهما على حسب دعواهما فيه
ولنا ان يد مدعي النصف على ما يدعيه فكان القول قوله فيه مع يمينه كسائر الدعاوى فإن كان
177

لكل واحد منهما بينة بما يعديه فقد تعارضت بينتهما فالنصف لمدعي الكل والصف الآخر ينبني
على الخلاف في أي البينتين تقدم وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي فتكون الدار كلها لمدعي الكل
وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه فإن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها فالنصف لصاحب لكل لا منازع
له فيه ويقرع بينهما في النصف الآخر فمن خرجت له القرعة حلف وكان له وإن كان لكل واحد
بينة تعارضتا وسقطتا وصارا كمن لا بينة لهما، وإن قلنا تستعمل البينتان أقرع بينهما وقد تقع له
القرعة في أحد الوجهين
(والثاني) يقسم النصف المختلف فيه بينهما فيصير لمدعي الكل ثلاثة أرباعها
(فصل) فإن كانت الدار في يد ثلاثة ادعى أحدهم نصفها وادعى الآخر ثلثها وادعى الآخر
سدسها فهذا اتفاق منهم على كيفية ملكهم وليس ههنا اختلاف ولا تجاحد فإن ادعى كل واحد منهم
أن باقي الدار وديعة أو عارية معي وكانت لكل واحد منهم بما ادعاه من الملك بينة قضي له به لأن بينته تشهد
له بما ادعاه ولا معارض لها، وإن لم تكن لواحد منهما بينة حلف كل واحد منهم وأقر في يده ثلثها
(فصل) فإن ادعى أحدهم جميعها وادعى الآخر نصفها والآخر ثلثها فإن لم تكن لواحد منهم
بينة قسمت بينهم أثلاثا وعلى كل واحد منهم اليمين على ما حكم له به لأن يد كل واحد منهم على ثلثها وإن
178

كانت لأحدهم بينة نظرت فإن كانت لمدعي الجميع فهي له وإن كانت لمدعي النصف أخذه والباقي
بين الآخرين نصفين لمدعي الكل السدس بغير يمين ويحلف على نصف السدس ويحلف الآخر على
الربع الذي يأخذه جميعه فإن كانت البينة لمدعي الثلث أخذه والباقي بين الآخرين لمدعي الكل
السدس بغير يمين ويحلف على السدس الآخر ويحلف الآخر على جميع ما يأخذه وإن كانت لكل واحد
بما يدعيه بينة فإن قلنا تقدم بينة صاحب اليد قسمت بينهم أثلاثا لأن يد كل واحد منهم على الثلث
وإن قلنا تقدم بينة الخارج فينبغي أن تسقط بينة صاحب الثلث لأنها داخلة ولمدعي النصف السدس
لأن بينته خارجة فيه ولمدعي الكل خمسة أسداس لأن له السدس بغير بينة لكونه لا منازع له فيه
فإن أحدا لا يدعيه وله الثلثان لكون بينته خارجة عنهما وقيل بل لمدعي الثلث السدس لأن بينة
مدعي الكل ومدعي النصف تعارضتا فيه فتساقطتا وبقي لمن هو في يده ولا شئ لمدعي النصف
لعدم ذلك فيه وسواء كان لمدعي الثلث بينة أو لم تكن وإن كانت العين في يد غيرهم واعترف انه
لا يملكها ولا بينة لهم فانصف لمدعي الكل لأنه ليس منهم من يعيه والقرع بينهم في النصف الباقي
فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو لصاحب النصف حلف وأخذه، وإن خرجت لصاحب
الثلث حلف وأخذ الثلث ثم يقرع بين الآخرين في السدس فمن قرع صاحبه حلف وأخذه
وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه فالنصف لمدعي الكل لما ذكرنا والسدس الزائد يتنازعه
179

مدعي الكل ومدعي النصف والثلث يدعيه الثلاثة وقد تعارض البينات فيه فإن قلنا تسقط البينات
أقرعنا بين المتنازعين فيما تنازعوا فيه فمن قرع صاحبه حلف وأخذه ويكون الحكم فيه كما لو لم تكن
لهم بينة وهذا قول أبي عبيد وقول الشافعي إذا كان بالعراق
وعلى الرواية التي نقول إذا تعارضت البينات قسمت العين بين المتداعين فلمدعي الكل النصف
ونصف السدس الزائد عن الثلث وثلث الثلث ولمدعي النصف نصف السدس وثلث الثلث ولمدعي
الثلث ثلثه وهو التسع فتخرج المسألة من ستة وثلاثين سهما لمدعي الكل النصف ثمانية عشر سهما
ونص السدس ثلاثة والتسع أربعة فذلك خمسة وعشرون سهما ولصاحب النصف سبعة ولمدعي
الثلث أربعة وهو التسع وهذا قياس قول قتادة والحارث العكلي وابن شبرمة وحماد وأبي حنيفة
وهو قول للشافعي، وقال أبو ثور يأخذ مدعي الكل النصف ويوقف الباقي حتى يتبين ويروى هذا
عن مالك وهو قول للشافعي
وقال ابن أبي ليلى وقوم من أهل العراق تقسم العين بينهم على حسب عول الفرائض لصاحب
الكل ستة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحبه الثلث سهمان فتصح من أحد عشر سهما
وسئل سهل بن عبد الله بن أبي أوس عن ثلاثة ادعوا كيسا وهو بأيديهم ولا بينة لهم
وحلف كل واحد منهم على ما ادعاه، ادعى أحدهم جميعه، وادعى آخر ثلثيه، وادعى آخر نصفه
فأجاب فيهم بشعر يقول:
180

نظرت أبا يعقوب في الحسب التي * طرت فأقامت منهم كل قاعد
فللمدعي الثلثين ثلث وللذي * استلاط جميع المال عند التحاشد
من المال نصف غير ما سينوبه * وحصته من نصف ذا المال زائد
وللمدعي نصفا من المال ربعه * ويؤخذ نصف السدس من كل واحد
وهذا قول من قسم المال بينهم على حسب العول فكان المسألة عالت من ستة إلى ثلاثة عشر وذلك أنه
أخذ مخرج الكسور وهي سنة فجعلها لمدعي الكل وثلثاها أربعة لمدعي الثلثين ونصفها ثلاثة
لمدعي النصف صارت ثلاثة عشر
(فصل) فإن كانت الدار في أيدي أربعة فادعى أحدهم جميعها والثاني ثلثيها والثالث نصفها والرابع
ثلثها ولا بينة لهم حلف كل واحد وله ربعها لأنها في يده فالقول قول صاحب اليد مع يمينه وإن أقام
كل واحد منهم بما ادعاه بينة قسمت بينهم أرباعا أيضا لأننا إن قلنا تقدم بينة الداخل فكل واحد منهم
داخل في ربعها فتقدم بينته فيه وإن قلنا قدم بينة الخارج فإن الرجلين إذا ادعيا عينا في يد غيرهما
فأنكرهما وأقام كل واحد منهم بينة بدعواه تعارضتا وأقر الشئ في يد من هو في يده وإن كانت
الدار في يد خامس لا يدعيها ولا بينة لواحد منهم بما ادعاه فالثلث لمدعي الكل لأن أحدا لا ينازعه
فيه ويقرع بينهم في الباقي فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو لمدعي الثلثين أخذه وإن وقعت
181

لمدعي النصف اخذه وأقرع بين الباقين في الباقي وإن وقعت لصاحب الثلث اخذه وأقرع بين الثلاثة
في الثلث الباقي وهذا قول أبي عبيد والشافعي إذ كان بالعراق الا أنهم عبروا عنه بعبارة أخرى
فقالوا لمدعي الكل الثلث ويقرع بينه وبين مدعي الثلثين في السدس الزائد عن النصف ثم يقرع
بينهما وبين مدعي النصف في السدس الزائد عن الثلث ثم يقرع بين الأربعة في الثلث الباقي ويكون
الاقرار في ثلاثة مواضع، وعلى الرواية الأخرى الثلث لمدعي الكل ويقسم السدس الزائد عن النصف
بينه وبين مدعي الثلثين ثم يقسم السدس الزائد عن الثلث بينهما وبين مدعي النصف أثلاثا ثم
يقسم الثلث الباقي بين الأربعة أرباعا وتصح المسألة من ستة وثلاثين سهما لصاحب الكل ثلثها اثنا
عشر ونصف السدس الزائد على النصف ثلاثة وثلث السدس الزائد عن الثلث سهمان وربع الثلث
الباقي ثلاثة فيحصل له عشرون سهما وهي خمسة أتساع الدار ولمدعي الثلثين ثمانية أسهم تسعان وهي
مثل ما لمدعي الكل بعد الثلث الذي انفرد به ولمدعي النصف خمسة أسهم تسع وربع تسع ولمدعي
الثلث ثلاثة نصف السدس، وعلى قول من قسمها على العول هي من خمسة عشر لصاحب الكل
ستة ولصاحب الثلثين أربعة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان وعلى قول أبي ثور
لصاحب الكل الثلث ويوقف الباقي حتى يتبين
182

(مسألة) قال (ولو كانت الدابة في يد غيرهما واعترف أنه لا يملكها وانها لأحدهما
(لا يعرفه عينا قرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه)
وجملته ان الرجلين إذا تداعيا عينا في يد غيرهما ولا بينة لهما فأنكرهما فالقول قوله مع يمينه بغير
خلاف نعلمه وإن اعترف انه لا يملكها وقال لا اعرف صاحبها أو قال هي لاحدكما لا أعرفه عينا
أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف أنها له وسلمت إليه لما روى أبو هريرة ان رجلين تداعيا عينا لم
تكن لواحد منهما بينة فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم ان يستهما على اليمين أحبا أم كرها رواه أبو داود ولأنهما
تساويا في الدعوى ولا بينة لواحد منهما ولا يد والقرعة تميز عند التساوي كما لو أعتق عبيدا لا مال
له غيرهم في مرض موته، واما ان كانت لأحدهما بينة حكم بها بغير خلاف نعلمه وإن كانت لكل
واحد منهما بينة ففيه روايتان ذكرهما أبو الخطاب
(إحداهما) تسقط البينتان ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة وهذا الذي ذكره
القاضي وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ذكر القرعة ولم يفرق بين أن تكون معهما بينة أو لم تكن وروي
هذا عن ابن عمر وابن الزبير وبه قال إسحاق وأبو عبيد وهو رواية عن مالك وقديم قولي الشافعي
وذلك لما روى ابن المسيب أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر وجاء كل منهما بشهود
183

عدول على عدة واحدة فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما رواه الشافعي في مسنده ولان البينتين حجتان تعارضتا
من غير ترجيح لإحداهما على الأخرى فسقطتا كالخبرين
(والرواية الثانية) تستعمل البينتان وفي كيفية استعمالهما روايتان (إحداهما) تقسم العين بينهما
وهو قول الحارث العكي وقتادة وابن شبرمة وحماد وأبي حنيفة وقول للشافعي لما روى أبو موسى
ان رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير وأقام كل واحد منهما البينة انه له فقضى رسول
الله
صلى الله عليه وسلم به بينهما نصفين ولأنهما تساويا في دعواه فيتساويان في قسمته
(والرواية الثانية) تقدم إحداهما بالقرعة وهو قول الشافعي وله قول رابع يوقف الامر حتى
يتبين وهو قول أبي ثور لأنه اشتبه الامر فوجب التوقف كالحاكم إذا لم يتضح له الحكم في قضيته.
ولنا الخبران وان تعارض الحجتين لا يوجب التوقف كالخبرين بل إذا تعذر الترجيح أسقطناهما
ورجعنا إلى دليل غيرهما. إذا ثبت هذا فإننا إذا قلنا إن البينتين تسقطان أقرع بينهما فمن خرجت
له قرعته حلف وأخذها كما لو لم تكن لهما بينة، وان قلنا يعمل بالبينتين ويقرع بينهما فيمن خرجت
له القرعة أخذها من غير يمين وهذا قول الشافعي لأن البينة تغني عن اليمين، وقال أبو الخطاب عليه
اليمين مع البينة ترجيحا لها وعلى هذا القول تكون هذه الرواية كالأولى في هذا الحكم وإنما يظهر
الفرق بينهما في شئ آخر سنذكره إن شاء الله تعالى.
184

(فصل) فإن أنكرهما من العين في يده وكانت لأحدهما بينة حكم له بها وإن أقام كل واحد
منهما بينة فإن قلنا تستعمل البينتان أخذت العين من يده وقسمت بينهما على قول من يرى القسمة
أو تدفع إلى من تخرج له القرعة على قول من يرى ذلك وان قلنا تسقط البينتان حلف صاحب اليد
وأقرت في يده كما لو لم تكن لهما بينة وان أقر بها بعد ذلك لهما أو لأحدهما قبل اقراره وان أقر بها
في الابتداء لأحدهما صار المقر له صاحب اليد لأن من هي في يده مقربان يده نائبة عن يده، وان أفر
لهما جميعا فاليد لكل واحد منهما في الجزء الذي أقر له به لذلك.
(فصل) وان تداعيا عينا في يد غيرهما فقال هي لاحدكما لا أعرفه عينا أو قال لا أعرف صاحبها
أهو أحدكما أو غيركما أو قال أودعنيها أحدكما أو رجل لا أعرفه عينا فادعى كل واحد منهما انك تعلم
أني صاحبها أو اني الذي أودعتكها أو طلبت يمينه لزمه ان يحلف له لأنه لو أقر له لزمه تسليمها إليه
ومن لزمه الحق مع الاقرار لزمته اليمين مع الانكار ويحلف على ما ادعاه من نفي العلم وان صدقاه فلا
يمين عليه وان صدقه أحدهما حلف للآخر وان أقر بها لواحد منهما أو غيرهما صار المقر له صاحب
اليد فإن قال غير المقر له احلف لي ان العين ليس ملكي أو اني لست الذي أودعتكها لزمه اليمين
على ما ادعاه من ذلك لما ذكرنا وان نكل عن اليمين قضي عليه بقيمتها وان اعترف بها لهما كان الحكم
فيها كما لو كانت في أيديهما ابتداء وعليه اليمين لكل واحد منهما في النصف المحكوم به لصاحبه وعلى كل
واحد منهما اليمين لصاحبه في النصف المحكوم له به.
185

(فصل) وإذا كان في يد رجل دار فادعاها نفسان قال أحدهما آجرتكها وقال الآخر هي داري
أعرتكها أو قال هي داري ورثتها من أبي أو قال هي داري ولم يذكر شيئا آخر فأنكرهما صاحب
اليد وقال هي داري فالقول قوله مع يمينه وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها، وإن أقام كل واحد
منهما بما ادعاه بينة تعارضتا وكان الحكم على ما ذكرنا فيما مضى الا على الرواية التي تقدم فيها البينة
الشاهدة بالسبب فإن بينة من ادعى انه ورثها مقدمة لشهادتها بالسبب وان أقام أحدهما بينة انه
غصبها منه وأقام الآخر بينة انه أقر له بها فهي للمغصوب منه ولا تعارض بينهما لأن الجمع بينهما
ممكن بان يكون غصبها من هذا وأقر بها لغيره واقرار الغاصب باطل وهذا مذهب الشافعي فتدفع
إلى المغصوب منه ولا يغرم للمقر له شيئا لأنه ما حال بينة وبينها وإنما حالت البينة بينهما ولو أقر بها
لأحدهما أو أقر انه غصبها من غيره لزمه تسليمها إلى من أقر له بها أولا ولزمه غرامتها للآخر لأنه
حال بينه وبينها باقراره الأول.
(فصل) نقل ابن منصور عن أحمد في رجل أخذ من رجلين ثوبين أحدهما بعشرة والآخر بعشرين ثم لم
يدر أيهما ثوب هذا من ثوب هذا فادعى أحدهما ثوبا من هذين الثوبين يعني وادعاه الآخر يقرع
بينهما فأيهما اصابته القرعة حلف وكان الثوب الجيد له والآخر للآخر، وإنما قال ذلك لأنهما
تنازعا عينا في يد غيرهما
186

فصل إذا تداعيا عينا فقال كل واحد منهما هذه العين لي اشتريتها من زيد بمائة ونقدته إياها
ولا بينة لواحد منهما فإن أنكرهما زيد حلف وكانت العين له وان أقربها لأحدهما سلمها إليه
وحلف للآخر وان أقر لكل واحد منهما بنصفها سلمت إليهما وحلف لكل واحد منهما على نصفها
وان قال لا أعلم لمن هي منكما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واخذها وان حلف البائع
انها له ثم أقر بها لأحدهما سملت إليه ثم إن أقر بها للآخر لزمته غرامتها وان أقام كل واحد منهما
بما ادعاه بينة نظرنا فإن كانت البينتان مؤرختين بتاريخين مختلفين مثل ان يدعي أحدهما انه اشتراها
في المحرم وادعى الآخر انه اشتراها في صفر وشهدت بينة كل واحد منهما للآخر بدعواه فهي للأول
لأنه ثبت انه باعها للأول فزال ملكه عنها فيكون بيعه في صفر باطلا لكونه باع ما لا يملكه
ويطالب برد الثمن وان كانتا مؤرخين بتاريخ واحد أو مطلقتين أو إحداهما مطلقة والأخرى
مؤرخة تعارضتا لتعذر الجمع فينظر في العين فإن كانت في يد أحدهما انبنى ذلك على الخلاف في بينة
الداخل والخارج فمن قدم بينة الداخل جعلها لمن هي في يده ومن قدم بينة الخارج جعلها للخارج
وان كانت في يد البائع وقلنا تسقط البينتان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لهما وكانت له وان
أقر لأحدهما سلمت إليه وحلف للآخر وان أقر لهما فهي بينهما ويحلف لكل واحد منهما على
نصفها كما لو لم تكن لهما بينة وان قلنا لا تسقط البينتان لم يلتفت إلى إنكاره ولا اعترافه وهذا
187

وهذا قول القاضي وأكثر أصحاب الشافعي لأنه قد ثبت زوال ملكه وأن يده لا حكم لها فلا حكم لقوله
فمن قال يقرع بينهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة فهي له مع يمينه وهذا قول القاضي لم يذكر
شيئا سوى هذا ومن قال تقسم بينهما قسمت وهذا ذكره أبو الخطاب
وقد نص عليه احمد في رواية الكوسج في رجل أقام البينة انه اشترى سلعة بمائة وأقام الآخر بينة
انه اشتراها بمائتين فكل واحد منهما يستحق النصف من السلعة بنصف الثمن فيكونان شريكين
وحمل القاضي هذه الرواية على أن العين في أيديهما أو على أن البائع أقر لهما جميعا واطلاق الرواية
يدل على صحة قول أبي الخطاب
فعلى هذا إن كان المبيع مما لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه فلكل واحد منهما الخيار لأن
الصفقة تبعضت عليه فإن اختارا الامساك رجع كل واحد منهما بنصف الثمن وإن اختار الفسخ رجع
كل واحد منهما بجميع الثمن وإن اختار أحدهما الفسخ توفرت السلعة كلها على الآخر إلا أن
يكون الحاكم قد حكم له بنصف السلعة ونصف الثمن فلا يعود النصف الآخر إليه. وهذا قول
الشافعي في كل مبيع
(فصل) فإن ادعى أحدهما انه اشتراها من زيد بمائة وهي ملكه وادعى الآخر انه اشتراها
من عمرو وهي ملكه وأقام كل واحد منهما بدعواه بينة فهذه تشبه التي قبلها في المعنى فإن كانت في
188

يد أحد المشتريين انبنى ذلك على الروايتين في تقديم بينة الداخل والخارج وإن كانت في يديهما
قسمت بينهما لأن بينة كل واحد منهما داخلة في أحد النصفين خارجة في النصف الآخر وإن كانت
في يد أحد البائعين فأنكرهما وادعاها لنفسه فإن قلنا تسقط البينتان حلف وكانت له وإن أقر بها
لأحدهما صار الداخل إلا أن يقر له بعد أن حلف انها له وإن قلنا تقدم إحداهما بالقرعة فهي لمن
تخرج له القرعة مع يمينه، وإن قلنا تقسم بينهما قسمت رجع كل واحد منهما بنصف ثمنها وإن كان
المبيع مما يدخل في ضمان المشتري بنفس العقد أو كان المشتري مقرا بقبضه فلا خيار لواحد منهما
ولا رجوع بشئ من الثمن لاعترافه بسقوط الضمان على البائع وإن كان من الكيل والموزون ولم
يقبض فلكل واحد منهما الخيار في الفسخ والامضاء فإن اختار أحدهما الفسخ لم يتوفر المبيع على
الآخر لأن البائع اثنان بخلاف التي قبلها
(فصل) ولو كان في يد رجل دار فادعى عليه رجلان كل واحد منهما يزعم أنه غصبها منه
وأقام بذلك بينة فالحكم في هذه الحكم فيما إذا ادعى كل واحد منهما أنني اشتريتها منه على ما مضى
من التفصيل فيه. وإن اتفق تاريخهما أو كانتا مطلقتين أو إحداهما تعارضتا، وإن قدم تاريخ إحداهما
فهل ترجح بذلك على وجهين فاما إن شهدت البينة انه أقر بغصبها من كل واحد منهما لزمه دفعها
إلى الذي أقر له بها أولا ويغرم قيمتها للآخر
(فصل) فإن ادعى كل واحد منهما أنك اشتريتها مني بألف وأقام بذلك بينة واتفق تاريخهما
189

مثل أن يقول كل واحد منهما اشتراها مني مع الزوال يوم كذا ليوم واحد فهما متعارضتان فإن قلنا
تسقطان رجع إلى قول المدعى عليه فإن أنكرهما حلف لهما وبرئ وإن أقر لأحدهما فعليه الثمن
ويحلف للآخر، وإن أقر لهما معا فعليه لكل واحد منهما الثمن لأنه يحتمل أن يشتريها من أحدهما ثم
يهبها للآخر ويشتريها منه. وإن قال اشتريتها منكما صفقة واحدة بألف فقد أقر لكل واحد منهما
بنصف الثمن وله ان يحلفه على الباقي وإن قلنا يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة وجب له الثمن
ويحلف للاخر ويبرأ وإن قلنا تقسم قسم الثمن بينهما ويحلف لكل واحد منهما على الباقي فإن كان
التاريخان مختلفين أو كانتا مطلقتين أو أشداهما مطلقة والأخرى مؤرخة ثبت العقدان ولزمه الثمنان
لأنه يمكن ان يشتريها من أحدهما يملكها الآخر فيشتريها منه وإذا أمكن صدق البينتين والجمع
بينهما وجب تصديقهما، فإن قيل فلم قلتم انه إذا كان البائع واحدا والمشتري اثنان فأقام أحدهما بينة
انه اشتراها في المحرم وأقام الآخر بينة انه اشتراها في صفر يكون الشراء الثاني باطلا؟ قلنا لأنه إذا
ثبت الملك للأول لم يبطله بان يبيعه الثاني ثانيا وفي مسئلتنا ثبوت شرائه من كل واحد منهما يبطل
ملكه لأنه لا يجوز أن يشتري ثانيا ملك نفسه ويجوز ان يبيع البائع ما ليس له فافترقا، فإن قيل فإذا
كانت البينتان مطلقتين أو إحداهما مطلقة احتمل أن يكون تاريخهما واحدا فيتعارضان والأصل
براءة ذمة المشهود عليه فلا تشتغل بالشك قلن انه متى أمكن صدق البينتين وجب تصديقهما ولم
190

يكن ثم شك وإنما يبقى الوهم والوهم لا تبطل به البينة لأنها لو بطلت به لم يثبت بها حق أصلا لأنه مامن
بينة الا ويحتمل أن تكون كاذبة أو غير عادلة أو متهمة أو معارضة ولم يلتفت إلى هذا أوهم كذا ههنا
(فصل) وإذا مات رجل فشهد رجلان ان هذا الغلام ابن هذا الميت لا نعلم له وارثا سواه
وشهد آخران لآخران هذا الغلام ابن هذا الميت لا نعلم له وارثا سواه فلا تعارض بينهما وثبت نسب
الغلامين منه ويكون الإرث بينهما لأنه يجوز ان تعلم كل بينة ما لم تعلمه الأخرى
(فصل) وإذا ادعى رجل عبدا في يد آخر انه اشتراه منه وادعى العبد أن سيده أعتقه ولا
بينة لهما فأنكرهما حلف لهما والعبد له وان أقر لأحدهما ثبت ما أقر له به ويحلف للآخر وان أقام أحدهما
بينة بما ادعاه ثبت وان أقام كل واحد منهما بينة بدعواه وكانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين قدمنا
الأولى وبطلت الأخرى لأنه ان سبق العتق لم يصح البيع، لأن بيع الحر لا يصح وإن سبق البيع
لم يصح العتق لأنه أعتق عبد غيره فإن قيل يحتمل انه عاد إلى ملكه فاعتقه قلنا قد ثبت الملك
للمشتري فلا يبطله عتق البائع، وان كانتا مؤرختين بتاريخ واحد أو مطلقتين أو إحداهما مطلقة
تعارضتا لأنه لا ترجيح لإحداهما على الاخر فإن كان في يد المشتري انبنى ذلك على الخلاف في تقديم
بينة الداخل والخارج فإن قدمنا بينة الداخل فهو للمشتري وان قدمنا بينة الخارج قدم العتق لأنه
191

خارج وإن كان في يد البائع وقلنا إن البينتين تسقطان بالتعارض صار كمن لا بينة لهما ويرجع إلى
السيد فإن أنكرهما حلف لهما وان أقر بالعتق ثبت ولم يحلف العبد لأنه لو أقر بأنه ما أعتقه لم يلزمه
شئ فلا فائدة في احلافه ويحلف البائع للمشتري وإن أقر للمشتري ثبت الملك ولم يحلف العبد لأنه
أنه لو أقر له أنه كان أعتقه لم يلزمه غرم فلا فائدة في احلافه، وإن قلنا يستعملان فاعترف لأحدهما لم يرجح
باعترافه لأن ملكه قد زال فإن فإن قلنا ترجح إحدى البينتين بالقرعة أقرعنا بينهما فمن خرجت قرعته
قدمناه قال أبو بكر هذا قياس قول أبي عبد الله فعلى هذا يحلف من خرجت له القرعة في أحد
الوجهين وان قلنا يقسم قسمنا العبد فجعلنا نصفه مبيعا ونصفه حرا ويسري العتق إلى جميعه إن كان
البائع موسرا لأن البينة قامت عليه بأنه أعتقه مختارا وقد ثبت العتق في نصفه بشهادتهما
(فصل) إذا ادعى رجل زوجية امرأة فأقرت بذلك قبل اقرارها لأنها أقرت على نفسها وهي غير
متهمة فإنها لو أردت ابتداء النكاح لم تمنع منه وان ادعاها اثنان فأقرت لأحدهما لم يقبل منها لأن
الآخر يدعي ملك نصفها وهي معترفة أن ذلك قد ملك عليها فصار اقرارها بحق غيرها ولأنها
متهمة فإنها لو أردت ابتداء تزويج أحد المتداعيين لم يكن لها ذلك قبل الانفصال من دعوى الآخر
فإن قيل فلو تداعيا عينا في يد ثالث فأقر لأحدهما قبل. قلنا لا يثبت الملك باقراره في العين وإنما
يجعله كصاحب اليد فيحلف والنكاح لا يستحق باليمين فلم ينفع الاقرار به ههنا فإن كان لاحد
192

المتداعيين بينة حكم له بها لأن البينة حجة في النكاح وغيره وإن أقاما بينتين تعارضتا وسقطتا وحيل
بينهما وبينهما ولا يرجح أحد المتداعيين باقرار المرأة لما ذكرنا ولا بكونها في بيته ويده لأن اليد لا
تثبت على حرة ولا سبيل إلي القسمة ههنا ولا إلى القرعة لأنه لا بد مع القرعة من اليمين ولا
مدخل لها في النكاح
(فصل) إذا قال السيد لعبده ان قتلت فأنت حر ثم مات فادعى العبد أنه قتل وأنكر الورثة
فالقول قولهم مع أيمانهم لأن الأصل عدم القتل، فإن أقام بينة بدعواه عتق وان أقام الورثة بينة
بموته قدمت بينة العبد في أحد الوجهين لأنها تشهد بزيادة وهي القتل (والثاني) تتعارضان لأن
إحداهما تشهد بضد ما شهدت به الأخرى فيبقى على الرق وان قال إن مت في رمضان فعبدي سالم
حر وان مت في شوال فعبدي غانم حر ثم مات فادعى كل واحد منهما موته في الشهر الذي يعتق
بموته فيه وأنكرهما الورثة فالقول قولهم مع أيمانهم، وأن أقروا لأحدهما عتق باقرارهم وان أقام كل
واحد منهما بينة بموجب عتقه فنيه ثلاثة أوجه
(أحدها) تقدم بينة سالم سالم لأن معها زيادة علم فإنها أثبتت ما يجوز ان يخفى على البينة الأخرى
وهو موته في رمضان
193

(والثاني) يتعارضان ويبقى العبدان على الرق لأنهما سقطا فصارا كمن لا بينة لهما
(والثالث) يقرع بينهما فيعتق من تقع له القرعة، وان قال إن برئت من مرضي هذا فسالم حر
وان مت منه فغانم حر فمات وادعى كل واحد منهما موجب عتقه أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة
عتق لأنه لا يخلو من أن يكون برئ أو لم يبرأ فيعتق أحدهما على كل حال ولم تعلم عينه فيخرج
بالقرعة كما لو أعتق أحدهما فاشكل علينا ويحتمل انى قدم قول غانم لأن الأصل عدم البرء، وان
أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه فقال أصحابنا يتعارضا ويبقى العبدان على الرق وهذا مذهب
الشافعي لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى وتثبت زيادة تنفيها الأخرى ولا يصح هذا القول
لأن التعارض أثره في اسقاط البينتين ولو لم يكونا أصلا لعتق أحدهما فكذلك إذا سقطتا وذلك لأنه لا يخلو من إحدى الحالتين اللتين علق على كل واحدة منهما عتق أحدهما فيلزم وجوده كما لو
قال إن كان هذا الطائر غرابا فسالم حر وان لم يكن غرابا فغانم حر ولم يعلم حاله ولكن يحتمل وجهين
(أحدهما) أن يقرع بينهما كما في مسألة الطائر لأن البينتين إذا تعارضتا قدمت إحداهما بالقرعة في
رواية (والثاني) تقدم بينة سالم لأنها شهدت بزيادة وهي البرء وان أقر الورثة لأحدهم عتق باقرارهم
ولم يسقط حق الآخر مما ذكرنا الا ان يشهد اثنان عدلان منهم بذل مع انتفاء التهمة ويعتق
وحده إذا لم تكن للآخر بينة
(فصل) وإذا ادعى سالم أن سيده أعتقه في مرض موته وادعى عبده الاخر غانم انه أعتقه
194

في مرض موته وكل واحد منهما ثلث ماله فأقام كل واحد منهما بدعواه بينة فلا تعارض بينهما لأن
ما شهدت به كل بينة لا ينفي ما شهدت به الأخرى ولا تكذب إحداهما الأخرى فيثبت اعتاقه لهما
ثم ينظر فإن كانت البينتان مؤرخين بتاريخين مختلفين عتق الأول منهما ورق الثاني الا ان يجز
الورثة لأن المريض إذا تبرع بتبرعات يعجز ثلثه عن جميعها قدم الأول فالأول وان اتفق تاريخهما
أو أطلقتا أو إحداهما فهما سواء لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فيستويان ويقرع بينهما فمن
خرجت له القرعة عتق ورق الاخر الا ان يجيز الورثة لأنه لا يخلو إما أن يكون اعتقهما معا فيقرع
بينهما كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العبيد الستة الذين أعتقهم سيدهم عند موته ولم يكن له مال غيرهم أو يكون
أعتق أحدهما قبل صاحبه وأشكل علينا فيخرج بالقرعة كما في مسألة الطائر وقيل يعتق من كل
واحد نصفه وهو قول الشافعي لأنه أقرب إلى التعديل بينهما فإن في القرعة قد يرق السابق المستحق
للعتق ويعتق الثاني المستحق للرق وفي القسمة لا يخلو المستحق للعتق من حرية ولا المستحق للرق
من رق ولذلك قسمنا المختلف فيه على إحدى الروايتين إذا تعارضت به بينتان والأول المذهب
لأنه لا يخلو من شبهة بإحدى الصورتين اللتين ذكرناهما والقرعة ثابتة في كل واحدة منهما وقولهم
ان في القرعة احتمال إرقاق نصف الحر قلنا وفي القسمة ارفاق نصف الحر يقينا وتحرير نصف الرقيق
195

يقينا وهو أعظم ضررا وان كانت قيمة أحدهما الثلث وقيمة الآخر دون الثلث فكان الأول أو
الذي خرجت قرعته الثلث عتق ورق لآخر وإن كان هو الناقص عن الثلث عتق وعتق من الآخر
تمام الثلث وإن كان لأحدهما بينة ولا بينة للآخر أو بينته فاسقة عتق صاحب البينة العادلة ورق
الآخر، وإن كان لكل واحد منهما بينة عادلة إلا أن إحداهما تشهد انه أعتق سالما في مرضه والأخرى
تشهد بأنه وصى بعتق غانم وكان سالم ثلث المال عتق وحده ووقف عتق غانم على إجارة الورثة، لأن
التبرع يقدم على الوصية وإن كان سالم أهل من الثلث عتق من غانم تمام الثلث وإن شهدت إحداهما
انه وصى بعتق سالم وشهدت الأخرى انه وصى بعتق غانم فهما سواء ويقرع بينهما سواء اتفق
تاريخهما أو اختلف لأن الوصية يستوي فيها المتقدم والتأخر وقال أبو بكر وابن أبي موسى يعتق نصف
كل واحد منهم بغير قرعة، لأن القرعة إنما تجب إذا كان أحدهما عبدا والآخر حرا ولا كذلك
ههنا فيجب ان تقسم الوصية بينهما ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر وصيته كما لو وصى لاثنين
بمال والأول قياس المذهب، لأن الاعتاق بعد الموت كالاعتاق في مرض الموت وقد ثبت في الاعتاق
في مرض الموت انه يقرع بينهما لحديث عمران بن حصين فكذلك بعد أموت، ولان المعنى المقتضي
لتكميل العتق في أحدهما في الحياة موجود بعد الممات فيثبت فأما إن صرح فقال إذا مت فنصف كل
واحد من سالم وغانم حر أو كان في لفظه ما يقتضيه أو دلت عليه قرينة ثبت ما اقتضاه
196

(فصل) فإن خلف المريض ابنين لا وارث له سواهما فشهدا انه أعتق سالما في مرض موته
وشهد أجنبيان أنه أعتق غانما في مرض موته وكل واحد ثلث ماله ولم يطعن الابنان في شهادتهما وكانت
البينتان عادلتين فالحكم فيه كالحكم فيما إذا كانا أجنبيين سواء لأنه قد ثبت أنه الميت أعتق العبدين
فإن طعن الاثنان في شهادة الأجنبيين وقالا ما أعتق غانما في مرض موته وكل واحد ثلث ماله إنما
أعتق سالما لم يقبل قولهما في رده شهادة الأجنبية لأنها بينة عادلة مثبتة والأخرى نافية وقول المثبت
يقدم على قول النافي ويكون حكم ما شهدت به حكم ما إذا لم يطعن الورثة في شهادتهما في أنه يعتق ان
تقدم تاريخ عتقه أو خرجت له القرعة ويرق إذا تأخر تاريخه أو خرجت القرعة لغيره واما الذي شهد به الابنان
فيعتق كله لاقرارهما باعتاقه وحده واستحقاقه للحرية، وهذا قول القاضي وقيل يعتق ثلثاه ان حكم
بعتق سالم وهو ثلث الباقي، لأن العبد الذي شهد به الأجنبيان كالغصوب من التركة وكالذاهب من
التركة بموت أو تلف فيعتق ثلث الباقي وهو ثلثا غانم والأول أصح لأن المعتبر خروجه من الثلث حال
الموت وحال الموت في قول الابنين لم يعتق سالم غنما عتق بالشهادة بعد الموت فيكون ذلك بمنزلة موته
بعد موت سيده فلا يمنع من عتق من خرج من الثلث قبل موته فإن كان الابنان فاسقين ولم يردا
شهادة الأجنبية ثبت العتق لسالم ولم يزاحمه من شهد له الابنان لفسقهما لأن شهادة الفاسق كعدمها
فلا يقبل قولهما في اسقاط حق ثبت ببينة عادلة وقد أقر الابنان بعتق غانم فينظر فإن تقدم تاريخ عتقه
أو أقرع بينهما فخرجت القرعة له عتق كله كما قلنا في التي قبلها، وإن تأخر تاريخ عتقه أو خرجت
197

القرعة لغيره لم يعتق منه شئ لأن الابنين لو كانا عدلين لم يعتق منه شئ فإذا كانا فاسقين أولى
وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي يعتق نصفه في الأحوال كلها لأنه استحق العتق باقرار
الورثة مع ثبوت العتق للآخر بالبينة العادلة فصار بالنسبة كأنه أعتق العبدين فيعتق منه نصفه وهذا
لا يصح فإنه لو أعتق العبدين لأعتقنا أحدهما بالقرعة لأنه في حال تقدم تاريخ عتق من شهدت له البينة
لا يعتق منه شئ ولو كانت بينته عادلة فمع فسوقها أولى، وإن كذبت الورثة الأجنبية فقالت ما أعتق
فإنما إنما أعتق سالما عتق العبدان وقيل يعتق من سلام ثلثا والأول أولى
(فصل) فإن شهد عدلان أجنبيان انه وصى بعتق سالم وشهد عدلان وارثان أنه رجع عن الوصية
بعتق سالم ووصى بعتق غانم وقيمتهما سواء أو كانت قيمة غانم أكثر قبلت شهادتهما وبطلت وصية سالم لأنهما
لا يجران إلى أنفسهما نفعا ويدفعان عنها ضرارا فإن قيل فهما يثبتان لأنفسهما ولاء غانم قلنا وهما يسقطان ولاء
سالم وعلى أن الولاء اثبات سبب الميراث وهذا لا يمنع قبول الشهادة بدليل ما لو شهدا بعتق غانم من غير معارض
ثبت عتقه ولهما ولاؤه ولو شهدا بثبوت نسب أخ لهما قبلت شهادتهما مع ثبوت سبب الإرث لهما وتقبل
شهادة المرأة لأخيه بالمال وإن جاز أن يرثه فإن كان الوارثان فاسقين لم تقبل شهادتهما في الرجوع
ويلزمهما اقرارهما لما ثم فيعتق سالم بالبينة العادلة ويعتق غانم باقرار الورثة بالوصية باعتاقه وحده
198

وذكر القاضي وأصحاب الشافعي انه إنما يعتق ثلثاه لأنه لما أعتق سالم بشهادة الأجنبيين صار
كالمغصوب فصار غانم نصف التركة فيعتق ثلثاه وهو ثلث التركة
ولنا ان الوارثة تقر بأنه حين الموت ثلث التركة وأن عتق سالم إنما كان بشهادتهما بعد الموت
فصار كالمغصوب بعد الموت ولو غصب بعد الموت لم يمنع عتق غانم كله فكذلك الشهادة بعتقه. وقد
ذكر القاضي فيما إذا شهادت بينة عادلة باعتاق سالم في مرضه ووارثة فاسقه باعتاق غانم في مرضه وانه
لم يعتق سالما ان غانما يعتق كله وهذا مثله
فأما ان كانت قيمة غانم أقل من قيمة سالم فالوارثة متهمة لكونها ترد إلى الرق من كثرت
قيمته فترد شهادتهما في الرجوع كما ترد شهادتهما بالرجوع عن الوصية ويعتق سالم وغانم كله أو ثلثاه
وهو ثلث الباقي على ما ذكرنا من الاختلاف فيما إذا كانت فاسقة وإن لم تشهد الوارثة بالرجوع عن
عتق سالم لكن شهدت بالوصية بعتق غانم وهي بينة عادلة ثبتت الوصيتان سواء كانت قيمتهما سواء
أو مختلفة فيعتقا ان خرجا من الثلث وإن لم يخرجا من الثلث أفرع بينهما فيعتق من خرجت له القرعة
ويعتق ثم الثلث من الآخر سواء تقدمت إحدى الوصيتين على الأخرى أو استوتا لأن المتقدم
والمتأخر من الوصايا سواء
(فصل) ولو شهدت بينة عادلة انه وصى لزيد بثلث ماله وشهدت بينة أخرى انه رجع عن
199

الوصية لزيد ووصى لعمرو بثلث ماله وشهدت بينة ثالثة انه رجع عن الوصية لعمرو ووصى لبكر بثلث
ماله صحت الشهادات كلها وكانت الوصية لبكر سواء كانت البينتان من الورثة أو لم تكن لأنه لا تهمة
في حقهم وإن كانت شهادة البينة الثالثة انه رجع عن إحدى الوصيتين لم تقد هذه الشهادة شيئا لأنه
قد ثبت بالبينة الثانية انه رجع عن وصية زيد وهي إحدى الوصيتين فعلى هذا تثبت الوصية لعمرو
وإن كانت البينة الثانية شهدت بالوصية لعمرو ولم تشهد بالرجوع عن وصية زيد فشهدت الثالثة
بالرجوع عن إحدى الوصيتين لا بعينها فقال القاضي لا تصح الشهادة وهذا مذهب الشافعي لأنهما لم
يمينا المشهود عليه ويصير كما لو قالا نشهد أن لهذا على أحد هذين ألفا وان لاحد هذين على هذا ألفا
ويكون الثلث بين الجميع أثلاثا
وقال أبو بكر قياس قول أبي عبد الله انه يصح الرجوع عن إحدى الوصيتين ويقرع بينهما فمن
خرجت له قرعة الرجوع عن وصيته بطلت وصيته وهذا قول ابن أبي موسى وإذا صح الرجوع عن
إحداهما بغير تعيين صحت الشهادة به كذلك ووجه ذلك أن الوصية تصح بالمجهول وتصح الشهادة
فيها بالمجهول فجازت في الرجوع من غير تعيين المرجوع عن وصيته
(فصل) وان شهد شاهدان أنه وصى لزيد بثلث ماله وشهد واحد أنه وصى لعمرو بثلثه ماله
انبنى هذا على أن الشاهد واليمين هل يعارض الشاهدين أولا؟ فيه وجهان
200

(أحدهما) يعارضهما فيحلف عمرو مع شاهده ويقسم الثلث بينهما لأن الشاهد واليمين حجة
في المال فأشبه الشاهدين
(والثاني) لا يعارضهما لأن الشاهدين أقوى فيرجحان على الشاهد فعلى هذا ينفرد
زيد بالثلث وتقف وصية عمرو على إجازة الورثة، فأما ان شهد واحد أنه رجع عن وصية زيد ووصى
لعمرو بثلثه فلا تعارض بينهما ويحلف عمرو مع شاهده وتثبت الوصية لعمرو، والفرق بين المسئلتين
أن في الأولى تقابلت البينتان فقدمنا أقواهما وفي الثانية لم يتقابلا وإنما يثبت الرجوع وهو يثبت بالشاهد
واليمين لأن المقصود به المال وهذا مذهب الشافعي والله أعلم
(مسألة) قال (ولو كان في يده دار فادعاها رجل فاقر بها لغيره فإن كان المقر له بها
حاضرا جعل الخصم فيها وإن كان غائبا وكانت للمدعي بينة حكم بها للمدعي ببينته وكان الغائب
على خصومته متي حضر)
وجملته أن الانسان إذا ادعى دارا في يده غيره فقال الذي هي في يده ليس لي إنما هي لفلان
وكان المفر له بها حاضرا سئل عن ذلك فإن صدقه صار الخصم فيها وكان صاحب اليد لأن من
201

هي في يده اعترف أن يده نائبة عن يده واقرار الانسان بما في يده اقرار صحيح فيصير خصما للمدعي
فإن كانت للمدعي بينة حكم له بها وان لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه وان قال المدعي
احلفوا لي المقر الذي كانت العين في يده انه لا يعلم أنها لي فعليه اليمين لأنه لو أقر له بها بعد
اعترافه لزمه الغرم كما لو قال هذه العين لزيد ثم قال هي لعمرو فإنها تدفع إلى زيد ويدفع قيمتها لعمرو
ومن لزمه الغرم مع الاقرار لزمته اليمين مع الانكار، فإن رد المقر له الاقرار وقال ليست لي وإنما
هي للمدعي حكم له بها وان لم يقل هي للمدعي ولكن قال ليس لي فإن كانت للمدعي بينة حكم
له بها وان لم تكن له بينة ففيه وجهان
(أحدهما) تدفع إلى المدعي لأنه يدعيها ولا منازع له فيها ولان من هي في يده لو ادعاها ثم
نكل قضينا بها للمدعي فمع عدم ادعائه لها أولى
(والثاني) لا تدفع إليه لأنه لم يثبت لها مستحق لأن المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد
معترف أنها ليست له فيأخذها الإمام فيحفظها لصاحبها وهذا الوجه الثاني ذكره القاضي والأول
أولى لما ذكرنا من دليله ولا صحاب الشافعي وجها كهذين ووجه ثالث ان المدعي يحلف أنها له
وتسليم إليه ويتخرج لنا مثله بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه، وان قال المقر له هي
لثالث انتقلت الخصومة إليه وصار بمنزلة صاحب اليد لأنه أقر له بها من اليد له حكما وأما ان
أقربها المدعى عليه لمجهول قيل له ليس هذا بجواب فإن أقررت بها لمعروف والا جعلناك ناكلا
202

وقضينا عليك فإن أصر قضي عليه بالنكول وان أقر بها لغائب أو لغير مكلف معين كالصبي والمجنون
صارت الدعوى عليه فإن لم تكن للمدعي بينة لم يقض له بها لأن الحاضر يعترف أنها ليست له ولا يقضى
على الغائب بمجرد الدعوى ويقف الامر حتى يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفا فتكون الخصومة
معه فإن قال المدعي احلفوا لي المدعى عليه أحلفناه لما تقدم وان أقر بها للمدعي لم تسلم إليه لأنه اعترف
انها لغيره ويلزمه ان يغرم له قيمتها لأنه فوتها عليه باقراره بها لغيره وإن كان مع المدعي بينة سمعها
الحاكم وقضى بها وكان الغائب على خصومته متى حضر له ان يقدح في بينة المدعي وأن يقيم بينة
تشهد بانتقال الملك إليه من المدعي وان أقام بينة انها ملكه فهل يقضى بها؟ على وجهين بناء على
تقديم بينة الداخل والخارج فإن قلنا تقدم بينة الخارج فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج أو
سبب من أسباب الملك فهل تسمع بينته ويقضى بها؟ على وجهين وإن كان مع المقر بينة تشهد بها
للغائب سمعها الحاكم ولم يقض بها لأن البينة للغائب والغائب لم يدعها هو ولا وكيله وإنما سمعها الحاكم
لما فيها من الفائدة وهو زوال التهمة عن الحاضر وسقوط اليمين عنه إذا ادعى عليه انك تعلم أنها لي
ويتخرج ان يقضى بها إذا قلنا بتقديم بينة الداخل وان للمودع المخاصمة في الوديعة إذا غصبت ولأنها
بينة مسموعة فيقضى بها كبينة المدعي إذا لم تعارضها بينة أخرى فإن ادعى من هي في يده انها معه
بإجارة أو عارية وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض لوجهين (أحدهما) ان ثبوت الإجارة والعارية يترتب على
203

الملك للمؤجر بهذه البينة فلا تثبت الإجارة المترتبة عليها (والثاني) أن بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل
ويخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل وكون الحاضر له فيها حق فإنه يقضي بها وجها واحدا
ومتى عاد المقر بها لغيره وادعاها لنفسه لم تسمع دعواه لأنه أقر بأنه لا يملكها فلا يسمع منه الرجوع عن
اقراره والحكم في غير المكلف كالحكم في الغائب على ما ذكرنا
(فصل) وإذا طلب المدعي ان يكتب له محضرا بما جرى لزمته إجابته فيكتب له محضرا
حضر القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام فلان بن فلان الفلاني أو خليفة القاضي
فلان بن فلان إن كان نائبا، فلان بن فلان الفلاني واحضر معه فلان بن فلان الفلاني فادعى دارا في يديه
ويعينها ويذكر حدودها وصفتها فاعترف بها المدعى عليه لفلان بن فلان الفلاني وهو حينئذ غائب
عن بلد القاضي فأقام المدعي بينة وهي فلان بن فلان الفلاني وفلان بن فلان الفلاني فشهدا عنده
للمدعي بما ادعاه وعرف الحاكم عدالتهما بما يسوغ معه قبول شهادتهما أو شهد عنده بعدالتهما فلان وفلان
فقبل شهادتهما فقضى بها على الغائب جعل كل ذي حجة على حجته فإن كان الغائب قد قدم ولم يأت
بحجة زاد وقدم الغائب المقر له بها فلان ولم يأت بحجة تدفع المدعي عن دعواه وإن أقام عند
حضوره بينة زاد وأقام بينة وكانت بينة المدعي مقدمة على بينته لأنها بينة خارج
204

(فصل) وإذا ادعي إنسان أن أباه مات وخلفه وأخا له غائبا ولا وارث له سواهما وترك دارها
في يد هذا الرجل فأنكر صاحب اليد فأقام المدعي بينة بما ادعاه ثبتت الدار للميت وانتزعت الدار
من يد المنكر ودفع نصفها إلى المدعي وجهل النصف الآخر في يد أمين للغائب يكريه له وكذلك أن
كان المدعى مما ينقل ويحول، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان مما ينقل ولا يحول أو مما ينحفظ
ولا يخاف هلاكه لم ينزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه لأن الغائب لم يدعه هو ولا وكيله فلم ينزع
من يد من هو في يده كما لو ادعى أحد الشريكين دارا مشتركة بينه وبين أجنبي فإنه يسلم إلى المدعي
نصيبه ولا ينزع نصيب الغائب كذا ههنا
ولنا أنها تركة ميت ثبتت بينة فوجب أن ينزع نصيب الغائب كالمنقول وكما لو كان أخوه
صغيرا أو مجنونا، ولان فيما قاله ضرارا لأنه قد يتعذر على الغائب إقامة البينة وقد يموت الشاهدان
أو يغيبا أو تزول عنهما عدالتهما ويعزل الحاكم فيضيع حقه فوجب أن يحفظ بانتزاعه كالمنقول ويفارق
الشريك الأجنبي إجمالا وتفصيلا أما الاجمال فإن المنقول ينتزع نصيب شريكه في الميراث ولا ينتزع نصيب
شريكه الأجنبي وأما التفصيل فإن البينة ثبت بها الحق للميت بدليل انه يقضى منه ديونه وتنفذ منه
وصاياه ولان الأخ يشاركه فيما أخذه إذا تعذر عليه أخذ الباقي فأما إن كان دينا في ذمة إنسان فهل
يقبض الحاكم نصيب الغائب فيه وجهان (أحدهما) يقبضه كما يقبض العين
(والثاني) لا يقبضه لأنه إذا كان في ذمة من هو عليه كان أحوط من أن يكون أمانة في يد الأمين
205

لأنه لا يؤمن عليه التلف إذا قبضه والأول، لأنه في الذمة أيضا يعرض للتلف بالفلس والموت
وعزل الحاكم وتعذر البينة إذا ثبت هذا فإننا إذا دفعنا إلى الحاضر نصف الدار أو الدين لم نطالبه
بضمين لأننا دفعناه بقول الشهود والمطالبة بالضمين طعن عليهم، قال أصحابنا سواء كان الشاهدان
من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا ويحتمل أن لا تقبل شهادتهما في نفي وارث آخر حتى يكونا من
أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة، لأن من ليس من أهل المعرفة ليس جهله بالوارث دليلا على
عدمه ولا يكتفى به وهذا قول الشافعي فعلى هذا تكون الدار موقوفة ولا يسلم إلى الحاضر نصفها
حتى يسأل الحاكم ويكشف عن المواضع التي كان يطوفها ويأمر مناديا ينادي إن فلانا مات فإن كان
له وارث فليأت فإذا غلب على ظنه انه لو كان له وارث لظهر دفع إلى الحاضر نصيبه وهل يطلب منه ضمينا؟ يحتمل
وجهين وهكذا الحكم إذا كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة ولكن لم يقولا ولا نعلم له وارثا سواه فإن
كان مع الابن ذو فرض فعلى ظاهر المذهب يعطى فرضه كاملا وعلى هذا التخريج يعطى اليقين فإن كانت
له زوجة أعطيت ربع الثمن لجواز أن يكون له أربع نسوة وإن كانت له جدة ولم يثبت موت أمه لم
تعط شيئا وإن ثبت موتها أعطيت ثلث السدس لجواز أن يكون له ثلاث جدات ولا تعطى العصبة
شيئا فإن كان الوارث أخا لم يعط شيئا لجواز أن يكون للميت وارث يحجبه وإن كان معه أم أعطيت
السدس عائلا والمرأة ربع الثمن عائلا والزوج الربع عائلا لأنه اليقين فإن المسألة قد تعول مع وجوده
206

الزوج مثل أن يخلف أبوين وزوجا، فإذا كشف الحاكم أعطى الزوج نصيبه وكمل
لذوي الفروض فروضهم
(فصل) وإذا اختلف في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة ان هذه الدار كانت أمس ملكه
أو منذ شهر فهل تسمع هذه البينة ويقضى بها؟ على وجهين (أحدهما) تسمع ويحكم بها لأنها تثبت
الملك في الماضي وإذا ثبت أستديم حتى يعلم زواله
(والثاني) لا تسمع قال القاضي هو الصحيح لأن الدعوى لا تسمع ما لم يدع المدعي الملك في الحال
فلا تسمع بينة على ما لم يدعه لكن إن انضم إلى شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديها فقالا نشهد
انها كانت ملكه أمس فقبضها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت
وقضي بها لأنها إذا لم تبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلالة اليد
لجواز أن تكون ملكه أمس ثم تنتقل إلى صاحب اليد فإذا ثبت ان سبب اليد عدوان خرجت عن
كونها دليلا فوجب القضاء باستدامة الملك السابق وإن أقر المدعى عليه انها كانت ملكا للمدعي أمس
أو فيما مضى سمع اقراره وحكم به في الصحيح لأنه حينئذ يحتاج إلى بيان سبب انتقالها إليه فيصير هو
المدعي فيحتاج إلى البينة ويفارق البينة من وجهين
(أحدهما) انه أقوى من البينة لكونه شهادة من الانسان على نفسه ويزول به النزاع بخلاف
البينة ولهذا يسمع في المجهول ويقضى به بخلاف البينة (والثاني) ان البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه
207

والدعوى يجب أن تكون معلقة بالحال والاقرار يسمع ابتداء وإن شهدت البينة انها كانت في يده
أمس ففي سماعها وجهان، وإن أقر المدعى عليه بذلك فالصحيح أنها تسمع ويقضى به لما ذكرنا
(فصل) وإن ادعى أمة انها له وأقام بينة فشهدت انها ابنة أمته أو ادعى ثمرة فشهدت له
البينة انها تمرة شجرته لم يحكم له بها لجواز أن تكون ولدتها قبل تملكها وأثمرت الشجرة هذه الثمرة
قبل ملكه إياها، وإن قالت البينة ولدتها في ملكه أو أثمرتها في ملكه حكم له بها لأنها شهدت انها
نماء ملكه ونماء ملكه ملكه ما لم يرد سبب ينقله عنه فإن قيل فقد قلتم لا تقبل شهادته بالملك
السابق على الصحيح وهذه شهادة بملك سابق قلنا الفرق بينهما على تقدير التسليم ان النماء تابع للملك
في الأصل فاثبات ملكه في الزمن الماضي على وجه التبع وجرى مجرى ما لو قال ملكته منذ سنة وأقام
البينة بذلك فإن ملكه يثبت في الزمن الماضي تبعا للحال ويكون له النماء فيما مضى ولان البينة ههنا
شهدت بسبب الملك وهو ولادتها أو وجودها في ملكه فقويت بذلك ولهذا لو شهدت بالسبب في
الزمن الماضي فقالت أقرضه ألفا أو باعه ثبت الملك وإن لم يذكره فمع ذكره أولى
وإن شهدت له البينة أن هذا الغزل من قطنه وهذا الدقيق من حنطته وان هذا الطائر من
بيضته حكم له به وإن لم يضفه إلى ملكه لأن العزل عين القطن وإنما تغيرت صفته والدقيق أجزاء
208

الحنطة تفرقت والطير هو أجزاء البيضة استحال وكان البينة قالت هذا غزله ودقيقه وطيره وليس
كذلك الولد والثمرة فإنهما غير الام والشجرة ولو شهد ان هذه البيضة من طيره لم يحكم له بها حتى
يقولا باضها في ملكه لأن البيضة غير الطير وإنما هي من نمائه فهي كالولد ومذهب الشافعي في هذا
الفصل كله كما ذكرنا
(فصل) وإذا كانت في يد زيد دار فادعاها عمرو وأقام بينة انه اشتراها من خالد بثمن مسمى
نقده إياه أو ان خالدا وهبه تلك الدار لم تقبل بينته بهذا حتى يشهد ان خالدا باعه إياها أو وهبها له
وهو يملكها أو يشهد انها دار عمرو اشتراها من خالد أو يشهد انه باعها أو وهبها له وسلمها إليه وإنما
لم تسمع البينة بمجرد الشراء والهبة لأن الانسان قد ببيع مالا يملكه ويهبه فلا تقبل شهادتهم به فإن
انضم إلى ذلك الشهادة للبائع بالملك أو شهدوا للمشتري بالملك أو شهدوا بالتسليم فقد شهدوا بتقدم
اليد أو بالملك للمدعي أو لمن باعه فالظاهر أنه ملكه لأن اليد تدل على الملك وهذا مذهب الشافعي
وإنما قبلناها وهي شهادة بملك ماض لأنها شهدت بالملك مع السبب والظاهر استمراره بخلاف ما إذا
لم يذكر السبب
209

(فصل) وإذا كان في يد رجل طفل لا يعبر عن نفسه فادعى انه مملوكه قبلت دعواه ولم يحل
بينه وبينه لأن اليد دليل الملك والصبي ما لم يعبر عن نفسه فهو كالبهيمة والمتاع الا ان يعرف ان سبب
يده غير الملك مثل ان يلتقطه فلا تقبل دعواه لرقه لأن اللقيط محكوم بحريته وأما غيره فقد وجد فيه
دليل الملك من غير معارض فيحكم برقه فإذا بلغ فادعى الحرية لم تقبل دعواه لأنه محكوم برقه قبل
دعواه وان لم يدع ملكه لكنه كان يتصرف فيه بالاستخدام وغيره فهو كما لو ادعى رقه ويحكم
له برقه لأن اليد دليل الملك فإن ادعى أجنبي نسبه لم يقبل لما فيه من الضرر على السيد لأن النسب
مقدم على الولاء في الميراث فإن أقام البينة بنسبه ثبت ولم يزل الملك عنه لأنه يجوز أن يكون ولده
وهو مملوك بان يتزوج بأمة أو يسبى الصغير ثم يسلم أبوه الا أن يكون الأب عربيا فلا يسترق ولده
في رواية وهو قول الشافعي القديم وان أقام بينة أنه ابن حرة فهو حر لأن ولد الحرة لا يكون إلا حرا
وإن كان الصبي مميزا يعبر عن نفسه فادعى من هو في يده رقه ولم يعرف تقدم اليد عليه قبل تمييزه
الا أننا إن رأيناه في يده وهما يتنازعان ففيه وجهان (إحداهما) لا يثبت ملكه عليه لأنه معرب عن
نفسه ويدعي الحرية أشبه البالغ (والثاني) يثبت ملكه عليه لأنه صغيرا دعى رقه وهو في يده فأشبه
الطفل فاما البالغ إذا ادعي رقه فأنكر لم يثبت رقه الا ببينة وان لم تكن بينة فالقول قوله مع يمينه
في الحرية لأنها الأصل وهذا الفصل بجميعه مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي الا ان أصحاب
210

الرأي قالوا متى انسان بينة انه ولده ثبت النسب والحرية لأن ظهور الحرية في ولد الحر أكثر
من احتمال الرق الحاصل باليد لا سيما إذا لم يعرف من الرجل كفر ولا تزوج بأمة فلا ينفى احتمال
الرق وهذا القول هو الصواب إن شاء الله
(فصل) وان ادعى اثنان رق بالغ في أيديهما فأنكرهما فالقول قوله مع يمينه، وان اعترف
لهما بالرق ثبت رقه فإن ادعاه كل واحد منهما لنفسه فاعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له، وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة يكون بينهما نصفين لأن يدهما عليه فأشبه الطفل والثوب
ولنا انه إنما حكم برقه باعترافه فكان مملوكا لمن اعترف له كما لو لم تكن يده عليه ويخالف الثوب
والطفل فإن الملك حصل فيهما باليد وقد تساويا فيه وههنا حصل بالاعتراف وقد اختص به أحدهما
فكان مختصا به، فإن أقام كل واحد منهما بينة انه مملوكه تعارضتا وسقطتا ويقرع بينهما أو يقسم
بينهما على ما مضى من التفصيل فيه فإن قلنا بسقوطهما ولم يعترف لهما بالرق فهو حر، وان اعترف
لأحدهما فهو لمن اعترف له، وان أقر لهما معا فهو بينهما لأن البينتين سقطتا وصارتا كالمعدومتين
فإن قلنا بالقرعة أو القسمة فأنكرهما لم يلتفت إلى إنكاره وان اعترف لأحدهما لم يلتفت إلى اعترافه
لأن رقه ثابت بالبينة فلم تبق له يد على نفسه كما قلنا فيما إذا ادعى رجلان دارا في يد ثالث وأقام كل
واحد منهما بينة انها ملكه واعترف انها ليست له ثم أقر انها لأحدهما لم يرجح باقراره
211

(فصل) ولو كان في يده صغيرة فادعى نكاحها لم يقبل منه ولا يخلى بينها وبينه ولو ادعى
رقها قبل منه إذا كانت طفلة لا تعبر عن نفسها، لأن اليد دليل الملك وأما المدعي النكاح
فهو مقر بحريتها أو بأنها غير مملوكة له واليد لا تثبت على الحر فإذا كبرت فاعترفت له
بالنكاح قبل اقرارها
(فصل) ولو ادعى ملك عين وأقام به بينة وادعي آخر انه باعها منه أو وهبها إياه أو وقفها
عليه أو ادعت امرأته انه أصدقت إياها أو أعتقها وأقام بذلك بينة قضي له بها بغير خلاف نعلمه لأن
بينة هذا شهدت بأمر خفي على البينة الأخرى والبينة الأخرى شهدت بالأصل فيمكن انه كان ملكه ثم صنع
به ما شهدت به البينة الأخرى، ولو مات رجل وترك دارا فادعى ابنه انه خلفها ميراثا وادعت
امرأته ان أصدقها إياها وأقاما بذلك بينتين حكم بها للمرأة ولأنها تدعي أمر زائدا خفي
على بينة الابن وسواء شهدت البينة بالشراء وما في معناه بأنه باع ملكه أو ما في يده أو لم تشهد
بذلك وسواء شهدت بالبيع والقبض أو لم تذكر القبض وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يثبت
الملك للمشتري ولا تزال يد البائع الا أن تشهد البينة بأنه باع ملكه أو ما في يده لأن البيع المطلق
ليس بحجة لأنه قد يبيع ما لا يملك
ولنا أن بينة البائع أثبتت الملك له فإذا أقامت بينة الشراء عليه كانت حجة عليه في إزالة ملكه
عنها إلى المشتري فوجب القضاء له بها، ولو ادعى انسان دارا في يد رجل انها لي منذ سنة وأقام بهذا
212

بينة فجاء ثالث فادعى أنه اشتراها من مدعيها منذ سنتين وأقام بهذا بينة ثبت لمدعي الشراء وليس في
شهادة البينة الأولى أنه تملكها منذ سنة ما يبطل أنها له منذ سنتين لأنه لا تنافي بين ملكها منذ سنتين
وملكها منذ سنة فإن المالك منذ سنتين يستمر ملكه في السنة الثانية فإن قالت بينة الشراء هو
مالكها ثبت الملك بغير خلاف وان لم تقل ذلك كان فيه من الخلاف ما قد ذكرناه
(فصل) ولو ادعى رجل ملك دار في يد آخر وادعى صاحب اليد أنها في يده منذ سنتين وأقام
كل واحد منهما بينة بدعواه فهي لمدعي الملك بلا خلاف نعلمه لأنه لا تنافي بين الدعوتين ولا
البينتين لأنها قد تكون ملكا له وهي في يد الآخر، وان ادعى دابة أنها له منذ عشر سنين وأقام
بهذا بينة فوجدت الدابة لها أقل من عشر سنين فالبينة كاذبة والدابة لمن هي في يده
(فصل) وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أقر لفلان بألف وشهد أحدهما أنه قضاه ثبت الاقرار فإن
حلف مع شاهده على القضاء ثبت والا حلف المقر له انه لم يقضه ويثبت له الألف وان شهد أحدهما أن
له عليه ألفا وشهد الآخر أنه قضاه ألفا تثبت عليه الألف لأن شاهد القضاء لم يشهد بألف عليه وإنما
تضمنت شهادته أنها كانت عليه والشهادة لا تقبل الا صريحة بخلاف المسألة الأولى فإن البينة أثبتت
الألف بشهادتها الصريحة بها ولو ادعى أنه اقرضه ألفا فقال لا يستحق علي شيئا فأقام بينة بالقرض
وأقام المدعى عليه بينة أنه قضاه ألفا ولم يعرف التاريخ برئ بالقضاء لأنه لم يثبت عليه الا ألف
213

واحد ولا يكون القضاء الا لما عليه فلهذا جعل القضاء للألف الثابتة وان قال ما أقرضتني ثم أقام بينة
بالقضاء لم تقبل بينته في أنه قضاه للقرض لأنه بانكاره القرض تعين صرفها إلى قضاء غيره ولو لم
ينكره القرض الا ان بينة القضاء كانت مؤرخة بتاريخ سابق على القرض لم يجز صرفها إلى القضاء القرض
لأنه لا يقضي القرض قبل وجوده
(مسألة) قال (ولو مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى المسلم أن أباه
مات مسلما وادعى الكافر أن أباه مات كافرا فالقول قول الكافر مع يمينه لأن المسلم باعترافه
بأخوة الكافر يعترف بان أباه كان كافرا مدعيا لاسلامه وان لم يعترف باخوة الكافر ولم
تكن بينة باخوته كان الميراث بينهما نصفين لتساوي أيديهما)
وجملته أنه إذا مات رجل لا يعرف دينة وخلف تركة وابنين يعترفان أنه أبوهما أحدهما مسلم
والآخر كافر فادعى كل واحد منهما أنه مات على دينه وان الميراث له دون أخيه فالميراث للكافر
لأن دعوى المسلم لا تخلو من أن يدعي كون الميت مسلما أصليا فيجب كون أولاده مسلمين ويكون
أخوه الكافر مرتدا وهذا خلاف الظاهر فإن المرتد لا يقر على ردته في دار الاسلام أو يقول إن
أباه كان كافرا فاسلم قبل موته فهو معترف بان الأصل ما قاله اخوه مدع زواله وانتقاله والأصل
214

بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت زواله وهذا معنى قوله الخرقي ان المسلم باعترافه باخوة
الكافر معترف أن أباه كان كافرا مدعيا لاسلامه وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنهما في
الدعوى سواء فالميراث بينهما نصفين كما لو تنازع اثنان عينا في أيديهما ويحتمل أن يكون الميراث للمسلم
منهما وهو قول أبي حنيفة لأن الدار دار الاسلام يحكم باسلام لقطها ويثبت الميت فيها إذا لم يعرف أصل
دينه حكم الاسلام في الصلاة عليه ودفنه وتكفينه من الوقت الموقوف على أكفان موتى المسلمين ولان هذا
حكمه حكم الموتى المسلمين في تغسيله والصلاة عيه ودفنه في مقابر المسلمين وسائر أحكامه فكذلك في ميراثه
ولان الاسلام يعلو ولا يعلى عليه ويجوز أن يكون أخوه الكافر مرتدا لم تثبت عند الحاكم ردته ولم بينته
إلى الإمام خبره وظهور الاسلام بناء على هذا أكثر من ظهور الكفر بناء على كفر أبيه ولهذا جعل
الشرع أحكامه أحكام المسلمين فيما عدا المتنازع فيه وقال القاضي قياس المذهب انا ننظر فإن كانت
التركة في أيديهما قسمت بينهما نصفين وان لم تكن في أيديهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف
واستحق كما قلنا فيما إذا تداعيا عينا ويقتضي كلامه انها إذا كانت في يد أحدهما فهي له مع يمينه وهذا
لا يصلح لأن كل واحد منهما يعترف ان هذه التركة تركة هذا الميت وانه إنما يستحقها بالميراث فلا حكم
ليده، وقال أبو الخطاب يحتمل أن يقف الامر حتى يعرف أصل دينه أو يصطلحا وهذا قول الشافعي.
215

ولنا ما ذكرناه من الدليل على ظهور كفره وعند ذلك يتعين الترجيح لقوله وصرف الميراث إليه
وأما ظهور حكم الاسلام في الصلاة عليه فلان الصلاة لا ضرر فيها على أحد وكذلك تغسيله ودفنه،
وأما قوله ان الاسلام يعلو ولا يعلى فإنما يعلو إذا ثبت والنزاع في ثبوته وهذا فيما إذا لم يثبت فأما إن ثبت
أصل دينه فالقول قول من ينفيه عليه مع يمينه وهذا قول الشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وقال أبو حنيفة
القول قول المسلم على كل حال لما ذكرنا في التي قبلها
ولنا ان الأصل بقاء ما كان عليه وكان القول قول من يدعيه كسائر المواضع فأما ان لم يعترف
المسلم باخوة الكافر وادعى كل واحد منهما ان الميت أبوه دون الآخر فهما سواء في الدعوة لتساوي
أياهما ودعاويهما فإن المسلم والكافر في الدعوى سواء ويقسم ميراثه نصفين كما لو كان في أيديهما دار
فادعاها كل واحد منهما ولا بينة لهما ويحتمل أن يقدم قول المسلم لما ذكرنا والله أعلم.
(مسألة) قال (وان أقام المسلم بينة انه مات مسلما وأقام الكافر بينة انه مات كافرا
أسقطت البينتان وكانا كمن لا بينة لهما وان قال شاهدان نعرفه كان كافرا وقال شاهدان
نعرفه كان مسلما فالميراث للمسلم لأن الاسلام يطرأ على الكفر إذا لم يؤرخ شهود معرفتهم)
وجملة ذلك أنه إذا خلف الميت ولدين مسلما وكافرا فادعى المسلم انه مات مسلما وأقام بذلك
بينة وأقام الكافر بينة من المسلمين انه مات كافرا ولم يعرف أصل دينه فهما متعارضتان وإن عرف
216

أصل دينه نظرنا في لفظ الشهادة فإن شهدت كل واحدة منهما انه كان آخر كلامه التلفظ بما شهدت
به فهما متعارضتان وإن شهدت إحداهما انه ملت على دين الاسلام وشهدت الأخرى انه مات على
دين الكفر قدمت بينة من يدعي انتقاله عن دينه لأن البقية له على أصل دينه ثبتت شهادتها على
الأصل الذي تعرفه لأنهما إذا عرفا أصل دينه ولم يعرفا انتقاله عنه جاز لهما أن يشهدا انه مات على
دينه الذي عرفاه والبينة الأخرى معها علم لم تعلمه الأولى فقدمت عليها كما لو شهدا بأن هذا العبد
كان ملكا لفلان إلى أن مات وشهد آخران انه أعتقه أو باعه قبل موته قدمت بينة العتق والبيع.
فأما إن قال شاهدان نعرفه قبل موته قد كان مسلما وقال شاهدان نعرفه كان كافرا نظرنا في
تاريخهما فإن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين عمل بالآخرة منهما لأنه ثبت أنه انتقل عما شهدت به
الأولى إلى ما شهدت به الآخرة، وإن كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة قدمت بينة المسلم لأن المسلم
لا يقر على الكفر في دار الاسلام وقد يسلم الكافر فيقر وإن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد نظرت
في شهادتهما فإن كانت على اللفظ فهما متعارضتان وان لم تكن على اللفظ ولم يعرف أصل دينه فهما
متعارضتان وان كانت على اللفظ فهما متعارضتان وان لم تكن على اللفظ ولم يعرف أصل دينه فهما
متعارضتان وان عرف أصل دينه قدمت الناقلة له عن أصل دينه وكل موضع تعارضت البينتان فقال
الخرقي تسقط البينتان ويكونان كمن لا بينة لهما وقد ذكرنا روايتين آخرتين (إحداهما) يقرع
بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذ (والثانية) تقسم بينهما ونحو هذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
217

تقدم بينة الاسلام على كل حال وقد مضي الكلام معه وقول الخرقي فيما إذا قال شاهدان نعرفه كان مسلما
وقال شاهدان نعرفه كان كافرا محمول على من لم يعرف أصل دينه أو علم أن أصل دينه الكفر، أما من
كان مسلما في الأصل فينبغي أن تقدم بينة الكفر لأن بينة الاسلام يجوز أن تستند إلى ما كان عليه في الأصل
(فصل) وان خلف ابنا مسلما وأخا كافرا فاختلفا في دينه حال الموت فالحكم فيها كالتي قبلها
ويختلفون في دينه فإن كون الأبوين كافرين بمنزلة معرفة أصل دينه لأن الولد قبل بلوغه محكوم له
بدين أبويه فثبت انه كان كافرا وان الابنين يدعيان اسلامه فيكون القول قول الأبوين وإن كانا
مسلمين فالقول قولهما في اسلامه لأن كفره ينبني على أنه كان مسلما فارتد أو ان أبويه كانا كافرين
فأسلما بعد بلوغه والأصل خلافه.
(فصل) ولو مات مسلم وخلف زوجة وورثة سواها وكانت الزوجة كافرة ثم أسلمت فادعت
انها أسلمت قبل موته فأنكرها الورثة فالقول قول الورثة لأن الأصل عدم ذلك وان لم يثبت أنها كافرة
فادعى عليها الورثة انها كانت كافرة فأنكرتهم فالقول قولها لأن الأصل عدم ما ادعوه عليها،
وان ادعوا أنه طلقها قبل موته فأنكرتهم فالقول قولها وان اعترفت بالطلاق وانقضاء العدة وادعت
أنه راجعها فالقول قولهم وان اختلفوا في انقضاء عدتها فالقول قولها في أنها لم تنقض لأن الأصل بقاؤها
ولا نعلم في هذا كله خلافا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور ولو خلف ولدين مسلمين
اتفقا على أن أحدهما كان مسلما حين موت أبيه وادعى الآخر أنه أسلم في حياة أبيه وجحده اخوه
فالميراث للمتفق عليه لأن الأصل بقاء الكفر إلى أن يعلم زواله وعلى أخيه اليمين ويكون على نفى العلم
لأنها على نفي فعل أخيه الا أن يكون ثبت أنه كان مسلما قبل القسمة فإن من أسلم على ميراث قبل ان
يقسم قسم له وإن كان أحدهما حرا والآخر رقيقا ثم عتق واختلفا في حريته عند الموت فالقول قول
من ينفيها وان لم يثبت أنه كان رقيقا ولان كافرا فادعى عليه انه كان كذلك فأنكر فالقول قوله
والميراث بينهما لأن الأصل الحرية والاسلام وعدم ما سواهما
218

(فصل) وان أسلم أحد الابنين في غرة شعبان وأسلم الآخر في غرة رمضان واختلفا في موت أبيهما
فقال الأول منهما مات في شعبان فورثته وحدي وقال الآخر مات في رمضان فالميراث بينهما لأن الأصل
بقاء حياته حتى يعلم زوالها فإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه ففيه وجهان (أحدهما) يتعارضان (والثاني)
تقدم بينة موته في شعبان لأن معها زيادة علم لأنها بينت موته في شعبان ويجوزان يخفى ذلك على البينة الأخرى
(فصل) وإن اختلفا في دار فادعى أحدهما ان هذه داري ورثتها من أبي وادعى الآخر أنها
داره ورثها من أبيه وليس أحدهما أخا للاخر وكانت في يد أحدهما فهي للذي هي في يده سواء
كان مسلما أو كافرا وان كانت في أيديهما فهي بينهما وإن كان لكل واحد منهما بينة وهي
في أيديهما تعارضتا وكان الحكم فيها على ما قدمنا في مثلها
(مسألة) قال (وإذا ماتت امرأة وابنها فقال زوجها ماتت قبل ابنها فورثناها
ثم مات ابني فورثته وقال أخوها مات ابنها فورثته ثم مات فورثناها حلف كل واحد
منهما على إبطال دعوى صاحبه وكان ميراث الابن لأبيه وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين)
وجملته أنه إذا مات جماعة يرث بعضهم بعضا واختلف الاحياء من ورثتهم في اسبقهم بالموت
كامرأة وابنها ماتا فقال الزوج ماتت المرأة أولا فصار ميراثها كله لي ولابني ثم مات ابني فصار ميراثه
لي وقال أخوها مات ابنها أو لا فورثت ثلث ماله ثم ماتت فكان ميراثها بيني وبينك نصفين حلف كل
واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وجعلنا ميراث كل واحد منهما للاحياء من ورثته دون من مات
معه لأن سبب استحقاق الحي من موروثه موجود وإنما يمتنع لبقاء موروث الآخر بعده وهذا أمر
مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك فيكون ميراث الابن لأبيه لا مشارك له فيه وميراث
المرأة بين أخيها وزوجها نصفين وهذا مذهب الشافعي فإن قيل فقد أعطيتم الزوج نصف ميراث
219

المرأة وهو لا يدعي الا الربع قلنا بل هو مدع له كله ربعه بميراثه منها وثلاثة أرباعه بإرثه من ابنه قال
أبو بكر وقد ثبتت البنوة بيقين فلا يقطع ميراث الأب منه الا ببينة تقوم للأخ وهذا تعليل لقول
الخرقي في هذه المسألة وذكر قولا آخر أنه يحتمل ان الميراث بينهما نصفين قال وهذا اختاري ان كل رجلين
ادعيا مالا يمكن صدقهما فيه فهو بينهما نصفين وهذا لا يدرى ما أراد به ان أراد ان مال المرأة بينهما
نصفين فهو قول الخرقي وليس بقول آخر وان أراد ان مالها ومال الابن بينهما نصفين لم يصح لأنه
يقضي إلى اعطاء الأخ مالا يدعيه ولا يستحقه يقينا لأنه لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه
ولا يمكن ان يستحق أكثر منه وان أراد ان ثلث مال الابن يضم إلى مال المرأة فيقتسمانه نصفين
لم يصح لأن نصف ذلك للزوج باتفاق منهما لا ينازعه الأخ فيه وإنما النزاع بينهما في نصفه
ويحتمل أن يكون هذا مراده كما لو تنازع الأخ فيه وإنما النزاع بينهما خفي كما لو
تنازع رجلان دارا في أيديهما فادعاها أحدهما كلها وادعى الآخر نصفها فإنها تقسم بينهما
نصفين وتكون اليمين على مدعي النصف الا أن الفرق بين هذه المسألة وتلك ان الدار
في أيديهما فكل واحد منهما في يده نصفها فمدعي النصف يدعيه وهي في يده فقبل قوله فيه مع يمينه
وفي مسئلتنا يعترفان أن هذا ميراث عن الميتين فلا يد لأحدهما عليه لاعترافهما بأنه لم يكن لهما وإنما هو
ميراث يدعيانه عن غيرهما وان أرادا أن يضم سدس مال الابن إلى نصف مال المرأة فيقسم بينهما نصفين
فله وجه لأنهما تساويا في دعواه فيقسم بينهما كما لو تنازعا دابة في أيديهما وعلى كل واحد منهما اليمين
فيما حكم له به والذي يقتضيه قول أصحابنا في الغرقى والهدمى أن يكون سدس ميراث الابن للأخ
وباقي الميراثين للزوج لأننا نقدر ان المرأة ماتت أولا فيكون ميراثها لابنها وزوجها ثم مات الابن
فورث الزوج كل ما في يده فصار ميراثها كله لزوجها ثم نقدر ان الابن مات أولا فورثه أبواه لامه
الثلث ثم ماتت فصار الثلث بين أخيها وزوجها نصفين لكل واحد منهما السدس فلم يرث الأخ الا
سدس مال الابن كما ذكرنا ولعل هذا القول يختص بمن جهل موتهما واتفق وراثهما على الجهل
220

به والقولان المتقدمان قول الخرقي وقول أبي بكر فيما إذا ادعى ورثة كل ميت انه مات أخيرا وان
الآخر مات قبله فإن كان لأحدهما بينة بما ادعاه حكم بها وان أقام بينتين تعارضتا وهل تسقطان أو
تستعملان فيقرع بينهما أو يقتسمان ما اختلفا فيه؟ يخرج على الروايات الثلاث والله أعلم
(فصول) ولو كان في يد رجل دار فادعت امرأته أنه أصدقها إياها أو أنها اشترتها منه فأنكرها
فالقول قوله مع يمينه لأن القول قول المنكر مع يمينه وان أقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة المرأة
لأنها تشهد بزيادة خفيت على بينة الزوج وان مات الرجل وخلف ابنا فادعى الابن انه خلف الدار
ميراثا وادعت المرأة أنه أصدقها إياها أو باعها إياها وأقاما بينتين قدمت بينة المرأة لذلك فإن لم تكن
بينة فالقول قول الابن مع يمينه لا نعلم في هذا خلافا
(فصل) وإذا ادعى رجل انه اكترى بيتا من دار لرجل شهرا بعشرة فادعى الرجل انه اكترى
الدار كلها بعشرة ذلك الشهر ولا بينة لواحد منهما فقد اختلفا في صفة العقد في قدر المكترى
فيتحالفان وقد مضى حكم التحالف في البيع وذكر أبو الخطاب فيما إذا ادعى البائع أنه باعه عبده
هذا بعشرة وقال المشتري بل هو والعبد الآخر بعشرة فالقول قول البائع مع يمينه ولم بجعل بينهما
تحالفا لأن المشتري يدعي بيعا في العبد الزائد ينكره البائع والقول قول المنكر وهذا مثله فعلى
هذا يكون القول قول المكري مع يمينه إذا عدمت البينة وان أقام أحدهما بدعواه بينة حكم له وإن كان مع
كل واحد بينة تعارضتا سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين بتاريخ واحد أو إحداهما مؤرخة والأخرى
مطلقة لأن العقد على البيت مفردا وعلى الدار كلها في زمن واحد محال فإن قلنا تسقطان فالحكم فيه كما
لو لم يكن بينهما بينة وان قلنا يقرع بينهما قدمنا قول من تقع له القرعة وهذا قول القاضي وظاهر
مذهب الشافعي وعلى قول أبي الخطاب تقدم بينة المكتري لأنها تشد بزيادة وهو قول بعض
أصحاب الشافعي فإن قيل فهلا أوجبتم الأخريين معا على المكتري كما قلتم فيما إذا قامت البينة انه تزوجها
يوم الخميس بألف فقامت بينة أخرى انه تزوجها يوم الجمعة بمائة يجب المهران قلنا ثم يجوز أن يكون
221

المهران مستقرين بان يتزوجها يوم الخميس ويدخل بها ثم يخالعها ثم يتزوجها يوم الجمعة واما الأجرة
فلا تستقر الا يمضي الزمان فإذا عقد عقدا قبل مضي المدة لم يجز ان تجب الأجرتان
(مسألة) قال (ولو شهد شاهدان على رجل أنه أخذ من صبي ألفا وشهد آخران على
رجل آخر انه أخذ من الصبي ألفا كان على ولي الصبي ان يطالب أحدهما بالألف الا أن تكون
كل بينة لم تشهد بالألف الذي شهدت به الأخرى فيأخذ الولي الألفين)
أما إذا كانت كل بينة شهدت بألف غير معين فإن الولي يطالب بالألفين جميعا لأن كل واحد من
الرجلين ثبت عليه أحد الألفين فيلزمه أداؤها وعلى الولي ان يطالب بها كما لو أقر كل واحد منهما
بألف وأما إن كان المشهود به ألفا معينا فشهدت بينة أن هذا الرجل هو الآخذ لها لم يجب إلا الف
واحد وللولي مطالبة أيهما شاء لأنه قد ثبت ان كل واحد منهما أخذ الألف فإن كان لم يرده فقد استقر
في ذمته وإن كان رده إلى الصبي لم تبرأ ذمته برده إليه لأنه ليس له قبض صحيح فإن غرمه الذي لم يرده
لم يرجع على أحد لأنه استقر عليه وان غرمه الراد له رجع على الذي لم يرده فإن غرمه أحدهما فادعي
222

ان الضمان استقر على صاحبه ليرجع عليه فالقول قول الآخر مع يمينه، لأن الأصل عدم استقراره عليه
(مسألة) قال (ولو أن رجلين حربيين جاءا من أرض الحرب فذكر كل واحد
منهما أنه أخو صاحبه جعلناهما أخوين وان كانا سبيا فادعيا ذلك بعد أن أعتقا فميراث كل
واحد منهما لمعتقه إذا لم يصدقهما الا أن تقدم بما ادعياه بينة من المسلمين فيثبت النسب
ويورث كل واحد منهما من أخيه)
وجملته أن أهل الحرب إذا دخلوا إلينا مسلمين أو غير مسلمين فأقر بعضهم بنسب بعض ثبت
نسبهم كما يثبت نسب أهل دار الاسلام من المسلمين وأهل الذمة باقرارهم ولأنه اقرار لا ضرر على
أحد فيه فقبل كاقرارهم بالحقوق المالية ولا نعلم في هذا خلافا، وان كانوا سبيا فأقر بعضهم بنسب بعض
وقامت بذلك بينة من المسلمين ثبت أيضا سواء كان الشاهد أسيرا عندهم أو غير أسير ويسمى الواحد
من هؤلاء حميلا أي محمولا كما يقال للمقتول قتيل والمجروح جريح لأنه حمل من دار الكفر وقيل سمي حميلا
لأنه حمل نسبه على غيره وان شهد بنسبه الكفار لم تقبل وعن أحمد رواية أخرى ان شهادتهم في ذلك
تقبل لتعذر شهادة المسلمين به في الغالب فأشبه شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم
والمذهب الأول لأننا إذا لم تقبل شهادة الفاسق فشهادة الكافر أولى وإنما لم يقبل إقرارهم لما في ذلك
من الضرر على السيد بتفوت ارثه بالولاء على تقدير العتق وان صدقهما معتقهما قبل، لأن الحق له وان لم
يصدقهما ولم تقم بينة بذلك لم يرث بعضهم من بعض وميراث كل واحد منهما لمعتقه وهذا قول الشافعي
فيما إذا أقر بنسب أب أو أخ أو جد أو ابن عم وان أقر بنسب ففيه ثلاثة أوجه.
223

(أحدها) لا يقبل (والثاني) يقبل لأنه يملك أن يستولد فملك الاقرار به (والثالث) ان أمكن
ان يستولد بعد عتقه قبل لأنه يملك الاستيلاد بعد عتقه والا لم يقبل لأنه لا يملك قبل عتقه أو يستولد
قبل عتقه ويروى عن ابن مسعود ومسروق والحسن وابن سيرين ان اقراره بقبل فيما يقبل فيه
الاقرار من الأحرار الأصليين وبه قال أبو حنيفة لأنه مكلف أقر بنسب وارث مجهول النسب يمكن
صدقه فيه ووافقه المقر له فيه فقبل كما لو أقر من له أخ بنسب ابن وبهذا الأصل يبطل ما ذكروه.
ولنا ما روى الشعبي ان عمر رضي الله عنه كتب إلى شريح أن لا تورث حميلا حتى تقوم به بينة
رواه سعيد، وقال أيضا حدثنا سفيان عن ابن جدعان عن سعيد بن المسيب قال كتب عمر بن
الخطاب ان لا تورث حميلا الا بينة، ولان اقراره يتضمن اسقاط حق معتقه من ميراثه فلم يقبل كما
لو أقر انه مولى لغيره فإن غيره شريكه في ولائه وفارق الاقرار من الحر الذي له أخ، لأن الولاء
نتيجة الملك فجرى مجراه، ولان الولاء ثبت عن عوض والاخوة بخلافه الا ترى انه لو قال لغيره
أعتق عبدك عني وعلي ثمنه صح ولم يثبت له الا الولاء؟ وإذا ثبت انه بعوض كان أقوى من النسب
وإنما قدمنا النسب في الميراث لقربه لا لقوته كما نقدم ذوي الفروض على العصبة مع قربهم.
(فصل) وإذا كانا مختلفي الدين لم يثبت النسب باقرارهما وان لم يتوارثا لأنه يحتمل ان يسلم
الكافر منهما فيرث ولذلك لو اقرا بالنسب في حال رقهما لم يثبت لاحتمال التوارث بالعتق وان ولد
لكل واحد منهما ابن من حرة فأقر كل واحد منهما للآخر انه ابن عمه احتمل أن يقبل اقراره
لأنه لا ولاء عليه فيقبل اقراره لوجود المقتضي لقبوله وانتفاء المعارض واحتمل ان لا يقبل لأنه يرثه
المسلمون ولأنه إذا لم يقبل اقرار الأصول فالفروع أولى فإن قلنا يقبل اقرارهما فاقر أحدهما
لأبي الاخر انه عمه لم يثبت الاقرار بالنسبة إلى أنه ابن أخيه لأنه لو ثبت لورث عمه دون مولاه المعتق له وهل
يثبت بالنسبة إلى العم فيرث ابن أخيه؟ يحتمل أن يثبت لانتفاء الولاء عن ابن الأخ فلا تفضي صحة
الاقرار إلى اسقاط الولاء والأولى انه لا يثبت لأنه لم يثبت بالنسبة إلى أحد الطرفين فلم يثبت في الآخر.
224

(مسألة) قال (وإذا كان الزوجان في البيت فافترقا أو ماتا فادعى كل واحد منهما
ما في البيت أنه له أو ورثته حكم بما كان يصلح للرجال الرجل وما كان يصلح للنساء للمرأة
وما كان يصلح أن يكون لهما فهو بينهما نصفين)
وجملة ذلك أن الزوجين إذا اختلفا في متاع البيت أو في بعضه فقال كل واحد منهما جميعه لي أو
قال كل واحد منهما هذه العين لي وكانت لأحدهما بينة ثبت له بلا خلاف وإن لم يكن لواحد منهما
بينة فالمنصوص عن أحمد أن ما يصلح للرجال من العمائم وقمصانهم وجبابهم والأقبية والطيالسة والسلاح
وأشباه ذلك القول فيه قول الرجل مع يمينه وما يصلح للنساء كحليهن وقمصهن ومقانعهن ومغازلهن
فالقول قول المرأة مع يمينها وما يصلح لهما كالمفارش والأواني فهو بينهما وسواء كان في أيديهما من
طريق المشاهدة أو من طريق الحكم وسواء اختلفا في حال الزوجية أو بعد البينونة وسواء اختلفا أو
اختلف ورثتهما أو أحدهما وورثة الآخر
قال احمد في رواية الجماعة منهم يعقوب بن بختان في الرجل يطلق زوجته أو يموت فتدعي المرأة
المتاع: فما كان يصلح للرجل فهو للرجل وما كان من متاع النساء فهو للنساء وما استقام أن يكون بين
الرجال والنساء فهو بينهما وإن كان المتاع على يدي غيرهما قمن أقام البينة دفع إليه وإن لم تكن لهما بينة
أقرع بينهما فمن كانت له القرعة حلف وأعطي المتاع، وقال في رواية مهنا: وكذلك إن اختلفا
وأحدهما مملوك وبهذا قال الثوري وابن أبي ليلى
وقال القاضي هذا إنما هو فيما إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم أما ما كان في يد أحدهما
من طريق المشاهدة فهو له مع يمينه، وإن كان في أيديهما قسم بينهما نصفين سواء كان يصلح لهما أو
لأحدهما وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن إلا أنهما قالا ما يصلح لهما ويدهما عليه من طريق الحكم فالقول فيه
قول الرجل مع يمينه، وإذا اختلف أحدهما وورثة الآخر فالقول قول النافي منهما لأن اليد المشاهدة أقوى من
اليد الحكمية بدليل انه لو تنازع الخياط وصاحب الدار في الإبرة والنقص كانت للخياط
وقال أبو يوسف القول قول المرأة فيما جرت العادة انه قدر جهاز مثلها، وقال مالك ما صلح لكل
225

واحد منهما فهو له وما صلح لهما كان للرجل سواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة أو من طريق
الحكم لأن البيت للرجل ويده أقوى عليه لأن عليه السكنى
وقال الشافعي وزفر والبتي كل ما في البيت بينهما نصفين فيحلف كل واحد منهما على نصفه
ويأخذه. وروي نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأنهما تساويا في ثبوت يدهما على
المدعى وعدم البينة فلم يقدم أحدهما على صاحبه كالذي يصلح لهما أو كما لو كان في يدهما من حيث
المشاهدة عند من سلم ذلك
ولنا أن أيديهما جميعا على متاع البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي كان القول قولهما وقد
يرجح أحدهما على صاحبه يدا وتصرفا فيجب أن يقدم كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر
آخذ بزمامها أو قميصا أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه أو جدارا متصلا بداريهما معقودا ببناء
أحدهما أو له عليه أزج
ولنا على أبي حنيفة والقاضي انهما تنازعا فيما في أيديهما ولا مزية لأحدهما على صاحبه أشبه إذا
كان في اليد الحكمية، فأما ما كان يصلح لهما فإنه في أيديهما ولا مزية لأحدهما على صاحبه أشبه إذا
كان في أيديهما من جهة المشاهدة والدلالة على أنه ليس للنافي أن وارث الميت قائم مقامه انبه ما لو
وكل أحدهما لنفسه وكيلا فأما إذا لم يكن لهما يد حكمية بل تنازع رجل وامرأة في عين غير قماش
بينهما فلا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له بل إن كانت في أيديهما فهي بينهما وإن كانت في يد
أحدهما فهي له وإن كانت في يد غيرهما اقترعا عليها فمن خرجت له القرعة فهي له واليمين على من
حكمنا بها له في كل المواضع لأنه ليس لهما يد حكمية فأشبها سائر المختلفين
(فصل) وإذا كان في الدكان نجار وعطار فاختلفا فيما فيها حكم بآلة كل صناعة لصاحبها فاله
العطارين للعطار وآلة النجارين للنجار وإن لم يكونا في دكان واحد لكن اختلفا في عين لم يرجح
أحدهما بصلاحية العين المختلف فيها له كما ذكرنا في الزوجين ويكون ذلك كتنازع الأجنبيين
(فصل) وإذا اختلف المكري والمكتري في شئ في الدار نظرت فإن كان مما ينقل وبحول
كالأثاث والأواني والكتب فهو للمكتري لأن العادة ان الانسان يكري داره فارغة من رحله
226

وقماشه وإن كان في شئ مما بتبع في البيع كالأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرفوف المسمرة
والسلاليم المستمرة والمفاتيح والرحا المنصوبة وحجرها التحتاني فهو للمكري لأنه من توابع الدار
فأشبه الشجرة المغروسة فيها وان كانت الزفوف موضوعة على أوتاد فقال احمد إذا اختلفا في الرفوف
فهي لصاحب الدار فظاهر هذا العموم في الرفوف كلها وقال القاضي كلام احمد محمول على المسمرة
فأما غير المسمرة فهي بينهما إذا تحالفا لأنها لا تتبع في البيع فأشبهت القماش وهذا ظاهر يشهد
للمكتري، وللمكري ظاهر يعارض هذا وهو ان المكري يترك الرفوف في الدار ولا ينقلها عنها
فإذا تعارضا الظاهران من الجانبين استويا وهذا مذهب الشافعي فعلى هذا إذا تخالفا كانت بينهما
وان حلف أحدهما ونكل الآخر فهي لمن حلف وذكر القاضي في موضع آخر وأبو الخطاب أنه إن كان
للرف شكل منصوب في الدار فهو لصاحب الدار مع يمينه وان لم يكن له شكل منصوب
تحالفا وكان بينهما لأنه إذا كان له شكل منصوب في الدار فالشكل تابع للدار فهو لصاحبها والظاهر أن
أحد الرفين لمن له الآخر وكذلك أن اختلفا في مصراع باب مقلوع فالحكم فيه كما ذكرنا لأن
أخذهما لا يستغني عن صاحبه فكان أحدهما لمن له الآخر كالحجر الفوقاني من الرحا والمفتاح مع
السكرة ووجه ظاهر كلام أحمد في أن الرفوف لصاحب الدار على كل حال ان العادة جارية بترك
الرفوف في الدار ولم تجر بنقل المكتري لها معه فكانت لصاحب الدار كالذي له شكل منصوب
ولأنها إذا كانت لها أوتاد منصوبة فالأوتاد لصاحب الدار فكذلك ما نصبت له كالحجر الفوقاني
من الرحا إذا كان السفلاني منصوبا ومفتاح الكسرة المسمرة
(فصل) وإذا كان الخياط في دار غيره فاختلفا في الإبرة والمقص فهي للخياط لأن تصرفه فيهما
أكثر وأظهر والظاهر معه لأن الانسان إذا دعا خياطا ليخيط له فالعادة انه يحمل معه إبرته ومقصه
وان اختلفا في القميص فهو لصاحب الدار إذا ليس العادة أن يحمل القميص معه يخيطه في دار غيره
وإنما العادة ان يخيط قميص صاحب الدار فيها وان اختلف صاحب الدار والنجار في القدوم والمنشار
وآلة النجارة فهي للنجار وان اختلفا في الخشبة المنجورة والأبواب والرفوف المنشورة فهي لصاحب
الدار، وان اختلف النجاد ورب الدار في قوس الندف فهو للنجاد وان اختلفا في الفرش والقطن
227

الصوف فهو لصاحب الدار وان اختلف رب الدار والسقا في القربة فهي للسقا وان اختلفا في الخابية
والجرار فهي لصاحب الدار لما ذكرنا
(فصل) وإذا تنازع رجلان دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها فالراكب أولى بها لأن
تصرفه فيها أقوى ويده آكد وهو المستوفي لمنفعتها وإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر آخذ
بزمامها فهي لصاحب الحمل لذلك وإن كان لأحدهما عليها حمل والاخر راكب عليها فهي للراكب
لأنه أقوى تصرفا وان اختلفا في الحمل فادعاه الراكب وصاحب الدابة فهو للراكب لأن يده على
الدابة والحمل معا فأشبه ما لو اختلف الساكن وصاحب الدار في قماش فيها، وان تنازع صاحب
الدابة والراكب في السرج فهو لصاحب الدابة لأن السرج في العادة يكون لصاحب الفرس، وان
تنازع اثنان في ثياب على عبد لأحدهما فهي لصاحب العبد لأن يد العبد عليها وان تنازع صاحب
الثياب والاخر في العبد للابس لها فهما سواء لأن نفع الثياب يعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب
ومذهب الشافعي في هذا الفصل والذي قبله كما ذكرنا
(فصل) فإن اختلف صاحب ارض ونهر في حائط بينهما فهو لهما ويحلف كل واحد منهما على
النصف المحكوم له به
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة هو لصاحب النهر لأنه لنفعه وقال أبو يوسف ومحمد هو
لصاحب الأرض لأنه متصل بأرضه
ولنا انه حاجز بين ملكيهما فكانت يدهما عليه فيكون لهما كما لو تنازع صاحب العلو والسفل في
السقف الذي بينهما أو حائط بين داريهما وما ذكروه من الترجيحين متقابل فيستويان وان تنازع
صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما فهو بينهما لذلك وكل موضع قلنا يقسم بينهما نصفين
فإنما يحلف كل واحد منهما على النصف الذي يحصل له دون النصف الآخر لأن ما يحصل له لا يفيده
الحلف عليه شيئا فلا يستحلف عليه كالمدعي لا يحلف على ما يأخذه المدعى عليه
(فصل) وان تنازعا عمامة طرفها في يد أحدهما وباقيها في يد لآخر أو قميصيا كمه في يد أحدهما
وباقيه مع الآخر فهما سواء فيها لأن يد الممسك بالطرف عليها بدليل انه لو كان باقيها على الأرض
228

فنازعه فيها غيره كانت له وإذا كانت في أيديهما تساويا فيها ولو كانت دار فيها أربعة أبيات وفي
أحد أبياتها ساكن وفي الثلاثة الباقية ساكن آخر فاختلفا فيها كان لكل واحد ما هو ساكن
فيه لأن كل بيت ينفصل عن صاحبه ولا يشارك الخارج منه الساكن فيه في ثبوت اليد عليه ولو تنازعا
الساحة التي يتطرق منها إلى البيوت فهي بينهما نصفين لاشتراكهما في ثبوت اليد عليها فأشبهت
العمامة في ما ذكرنا
(مسألة) قال (ومن كان له على أحد حق فمنعه منه وقدر له على مال لم يأخذ
منه مقدار حقه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اد الأمانة إلى من ائتمنك
ولا تخن من خانك رواه الترمذي)) وجملته انه إذا كان لرجل على غيره حق وهو مقربه بادل له لم يكن له ان
يأخذ من ماله الا
ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم فإن اخذ من ماله شيئا بغير اذنه لزمه رده إليه وإن كان قدر حقه
لأنه لا يجوز ان يملك عليه عينا من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة وان كانت من جنس حقه
لأنه قد يكون للانسان غرض في العين فإن أتلفها أو تلفت فصارت دينا في ذمته وكان الثابت في ذمته
من جنس حقه تقاصا في قياس المذهب والمشهور من مذهب الشافعي وإن كان مانعا له لأمر يبيح المنع
كالتأجيل والاعسار لم يجز أخذ شئ من ماله بغير خلاف وان أخذ شيئا لزمه رده إن كان باقيا أو عوضه
إن كان تالفا ولا يحصل التقاص ههنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال بخلاف التي
قبلها وإن كان مانعا له بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم أو السلطان لم يجز له الاخذ أيضا بغيره
لأنه قدر على استيفاء حقه بمن يقوم مقامه فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله وان لم يقدر على ذلك
لكونه جاحدا له ولا بينة له به أو لكونه لا يجيبه إلى المحاكمة ولا يمكنه اجباره على ذلك أو نحو
هذا فالمشهور في المذهب انه ليس له أخذ قدر حقه وهو إحدى الروايتين عن مالك قال ابن عقيل
وقد جعل أصحابنا المحدثون لجواز الاخذ وجها في المذهب أخذ امن حديث هند حين قال لها النبي
صلى الله عليه وسلم (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) وقال أبو الخطاب ويتخرج لنا جواز الاخذ فإن كان
229

المقدور عليه مع جنس حقه أخذ بقدره وإن كان من غير جنسه تحرى واجتهد في تقويمه مأخوذ
من حديث هند ومن قول أحمد في المرتهن: ير كتب ويحلب بقدر ما ينفق والمرأة تأخذ مؤنتها
وبائع السلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضا
وقال الشافعي ان لم يقدر على استخلاص حقه بسينة فله أخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه
وان كانت له بينة وقدر على استخلاصه ففيه وجهان والمشهور من مذهب مالك انه ان لم يكن لغيره
عليه دين فله ان يأخذ بقدر حقه وإن كان عليه دين لم يجز لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس
وقال أبو حنيفة له ان يأخذ بقدر حقه إن كان عينا أو ورقا أو من جنس حقه وإن كان المال
عرضا لم يجز لأن أخذ العرض عن حقه اعتياض ولا تجوز المعاوضة الا برضا من المتعاوضين قال الله
تعالى (الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) واحتج من أجاز الاخذ بحديث هند حين جاءت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني
وولدي فقال (حذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) متفق عليه وإذا جاز لها ان تأخذ من ماله ما يكفيها
بغير اذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (اد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) رواه الترمذي وقال
حديث حسن ومتى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير علمه فقد خانه فيدخل في عموم الخبر وقال صلى الله عليه وسلم
(لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه) ولأنه ان اخذ من غير جنس حقه كان معاوضة
بغير تراض وان أخذ من جنس حقه فليس له تعيين الحق بغير رضى صاحبه فإن التعيين إليه الا ترى
أنه لا يجوز له ان يقول اقضني حقي من هذا الكيس دون هذا؟ ولان كل مالا يجوز له تملكه إذا
لم يكن له دين لا يجوز له اخذه إذا كان له دين كما لو كان باذلا له وأما حديث هند فإن أحمد اعتذر
عنه بان حقها واجب عليه في كل وقت وهذا إشارة منه إلى الفرق بالشقة في المحاكمة في كل وقت
والمخاصمة كل يوم تحب فيه النفقة بخلاف الدين وفوق أبو بكر بينهما بفرق آخر وهو ان قيام الزوجية
كقيام البينة فكأن الحق صار معلوما يعلم قيام مقتضيه وبينهما فرقان آخران (أحدهما) ان للمرأة
من التبسط في ماله بحكم العادة ما يؤثر في إباحة اخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف بخلاف الأجنبي
230

(الثاني) ان النفقة تراد لاحياء النفس وابقاء المهجة وهذا مما لا يصبر عنه ولا سبيل إلى تركه فجاز أخذ
ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين حتى نقول لو صارت النفقة ماضية لم يكن لها أخذها ولو وجب
لها عليه دين آخر لم يكن لها اخذه فعلى هذا ان اخذ شيئا لزمه رده إن كان باقيا وإن كان تالفا
وجب مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان متقوما فإن كان من جنس دينه تقاصا وتساقطا في قياس
المذهب وإن كان من غير جنسه لزمه غرمه ومن جوز من أصحابنا الاخذ فإنه قال إن وجد من جنس
حقه جاز له الاخذ منه بقدر حقه من غير زيادة وليس له الاخذ من غير جنس حقه مع قدرته على اخذه
من جنسه وان لم يجد الا من غير جنس حقه فيحتمل ان لا يجوز له تملكه لأنه لا يجوز ان يبيعه
من نفسه وهذا يبيعه من نفسه وتلحقه فيه تهمة ويحتمل ان يجوز له ذلك كما قالوا: الرهن ينفق عليه
إذا كان مركوبا أو محلوبا يركب ويحلب بقدر النفقة وهي من غير الجنس واختلف أصحاب
الشافعي فمنهم من جوز له هذا ومنهم من قال يواطئ رجلا يدعي عليه عند الحاكم دينا فيقر له
بملك الشئ الذي أخذه فيمتنع من عليه الدعوى من قضاء الدين ليبيع الحاكم لشئ المأخوذ ويدفعه إليه
(فصل) إذا ادعى إنسان على إنسان حقا وأقام به شاهدين فلم يعرف لحاكم عدالتهما فسأل حبس
غريمه حتى تثبت عدالة شهوده أجيب إلى ذلك لأن الظاهر من المسلمين العدالة ولان الذي على الغريم
قد اتى به وإنما بقي ما على الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود وان أقام شاهدا واحدا وسأل
حبس غريمه ليقيم شاهدا آخر وكان الحق مما لا يثبت الا بشاهدين لم يحبس المدعى عليه لأن البينة
ما تمت والحبس عذاب فلا يتوجه عليه دون تمام البينة وإن كان الحق مما يثبت بشاهد ويمين ففيه
وجهان (أحدهما) يحبس له لأن الشاهد الواحد حجة في المال وإنما اليمين مقوية له (والثاني) لا يحبس
وهو الصحيح لأنه ان يحبس ليقيم شاهدا اخر بتم به البينة فهو كالحقوق التي لا تثبت الا بشاهدين
وان حبس ليحلف معه فلا حاجة إليه فإن الحلف ممكن في الحال فإن حلف ثبت حقه والا لم يجب
شئ ويحتمل ان يقال إن كان المدعي باذلا لليمين والتوقيف لأجل اثبات عدالة الشاهد حبس لما
231

ذكرنا في التي قبلها وإن كان التوقف عن الحكم بغير ذلك لم يحبس لم ذكرناه قال القاضي وكل
موضع حبس فيه بشاهدين أستديم الحبس حتى تثبت عدالة الشهود أو فسقهم وكل موضع حبس فيه
بشاهد واحد فإنه يقال للمشهود له ان جئت بشاهد آخر إلى ثلاث والا أطلقناه
(فصل) وإن ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام شاهدين ولم يعدلا فسأل العبد الحاكم ان يحول
بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة لشهود فعلى الحاكم ذلك ويؤجره من ثقة وينفق عليه
من كسبه ويحبس الباقي فإن عدل الشاهدان سلم إليه الباقي من كسبه وإن فسقا رد إلى سيده وإنما
حلنا بينهما لما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا ولأننا لو لم نحل بينهما أفضى إلى أن تكون أمة فيطأها
وإن أقام شاهدا واحدا وسأل ان يحال بينهما ففيه وجهان
وإن أقامت المرأة شاهدين يشهدان بطلاقها ولم تعرف عدالة الشهود حيل بين وبينها، وإن
أقامت شاهدا واحدا لم يحل بينهما لأن البينة لم تتم وهذا مما لا يثبت إلا بشاهدين فلا يثبت
بشاهد واحد الله أعلم
232

كتاب العتق
العتق في اللغة الخلوص ومنه عتقا الخيل وعتاق الطير أي خالصتها وسمي البيت الحرام عتيقا
لخلوصه من أيدي الجبابرة وهو في الشرع تحرير الرقبة وتخليصها من الرق يقال عتق العبد وأعتقه
أنا وهو عتيق ومعتق والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فقول الله تعالى (فتحرير رقبة) وقال تعالى (فك رقبة) وأما السنة روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها
إربا منه من النار حتى أنه ليعتق اليد باليد، والرجل بالرجل، والفرج بالفرج) متفر عليه في أخبار
كثيرة سوى هذا وأجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به
(فصل) والعتق من أفضل القرب القرب إلى الله تعالى لأن الله تعالى جعله كفارة للقتل والوطئ في
رمضان والايمان وجعله النبي صلى الله عليه وسلم فكاكا لمعتقه من النار ولان فيه تخليصا للآدمي المعصوم من
ضرر الرق وملك نفسه ومنافعه وتكميل أحكامه وتمكنه من التصرف في نفسه ومنافعه على حسب ارادته
واختياره واعتاق الرجل أفضل من اعتاق المرأة لما روى كعب بن مرة البهزي قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول (أيما رجل أعتق رجلا مسلما كان فكاكه من النار يجزى بكل عظم من عظامه عظما
233

من عظامه، وأيما رجل مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزى بكل عظم من عظامهما
عظما من عظامه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت المرأة مسلمة كانت فكاكها من النار تجزى بكل عظم من
عظامها عظما من عظامها)
والمستحب عتق من له دين وكسب ينتفع بالعتق فأما من يتضرر بالعتق كمن لا كسب له تسقط
نفقته عن سيده فيضيع أو يصيره كلا على الناس ويحتاج إلى المسألة فلا يستحب عتقه، وإن كان ممن
يخاف عليه المضي إلى دار الحرب والرجوع عن دين الاسلام أو يخاف عليه الفساد كعب يخاف أنه
إذا أعتق واحتاج سرق وفسق وقطع الطريق أو جارية يخاف منها الزنا والفساد كره اعتاقه وإن غلب
على الظن افضاؤه إلى هذا كان محرما لأن التوسل إلى الحرام حرام وإن أعتقه صح لأنه اعتاق صدر
من أهله في محله فصح كاعتاق غيره
(فصل) ويحصل العتق والملك والاستيلاد ونذكر ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى
ولا يحصل بالنية المجردة لأنه إزالة ملك فلا يحصل بالنية المجردة كسائر الإزالة وألفاظه تنقسم إلى
صريح وكناية. فالصريح لفظه الحرية والعتق وما تصرف منهما نحو أنت حر أو محرر أو عتيق أو
معتق أو أعتقتك لأن هذين اللفظين وردا في الكتاب والسنة وهما يستعملان في العتق عرفا فكانا
صريحين فيه فمتى أتى بشئ من هذه الألفاظ حصل به العتق وإن لم ينو شيئا عتق أيضا
قال احمد في رجل لقي امرأة في الطريق فقال تنحي يا حرة فإذا هي جاريته قال قد عتقت عليه
234

وقال في رجل قال لخدم قيام في وليمة مروا أنتم أحرار وكانت معهم أم ولد له لم يعلم بها قال هذا
عندي تعتق أم ولده ويحتمل ان لا تعتق في هذين الموضعين لأنه قصد باللفظة الأولى غير العتق فلم
تعتق بها كما لو قال عبدي حر يريد انه عفيف كريم الاخلاف وباللفظة الثانية أراد غير أم ولده فأشبه
ما لو أدى امرأة من نسائه فأجابته غيرها فقال أنت طالق يحسبها التي ناداها فإنها لا تطلق على رواية
فكذا ههنا، فأما إن قصد غير العتق كالرجال يقول عبدي هذا حر يريد عفته وكرم أخلاقه أو يقول
لعبده ما أنت إلا حر اي انك لا تعيني ولا ترى لي عليك حقا ولا طاعة فلا يعتق في ظاهر المذهب
قال حنبل سئل أبو عبد الله عن رجل قال لغلامه أنت حر وهو يعاتبه فقال إذا كان لا يريد به
العتق يقول كأنك حر ولا يريد أن يكون حرا أو كلاما نحو هذا رجوت أن لا يعتق وأنا أهاب المسألة
لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فانصرف إليه كما لو نوى بكناية العتق العتق وبهذا قال الثوري وابن المنذر
قال وان طلب استحلافه حلف وبيان احتمال اللفظ لما أراده ان المرأة الحرة تمدح بهذا فيقال امرأة حرة
يعنون عفيفة وتمدح المملوكة به أيضا ويقال للحيي الكريم الاخلاف حر، وقالت سبيعة ترثي عبد المصلب شعرا
ولا تسأما أن تبكيا كل ليلة * ويوم على حر كريم الشمائل
وأما الكناية فنحو قوله لا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك وأنت سائبة واذهب حيث
شئت وقد خليتك فهذا إن نوى به العتق عتق لأنه يحتمله وان لم ينوه به لم يعتق لأنه يحتمل غيره
235

ولم يرد به كتاب ولا سنة ولا عرف استعمال وذكر القاضي وأبو الخطاب في قوله لا سبيل لي عليك
ولا سلطان لي عليك: روايتين (إحداهما) انه صريح (والثانية) انه كناية وهو الصحيح لما ذكرناه
فأما إن قال لا رق لي عليك ولا ملك لي عليك وأنت لله فقال القاضي هو صريح نص عليه أحمد
وذكر أبو الخطاب فيه روايتين ولا خلاف في المذهب انه يعتق به إذا نوى وممن قال يعتق بقوله
أنت لله إذا نوى الشعبي والمسيب بن رافع وحماد والشافعي وقال أبو حنيفة لا يعتق به لأن مقتضاه
أنت عبد الله أو مخلوق لله وهذا لا يقتضي العتق
ولنا انه يحتمل انه حر لله أو عتيق لله أو عبد لله وحده لست بعبد لي ولا لاحد سوى الله
فإذا نوى الحرية به وقعت كسائر الكنايات وما ذكروه لا يصح لأن احتماله لما ذكروه لا يمنع احتماله
لما ذكرناه بدليل سائر الكنايات فإنها تحتمل العتق وغيره ولو لم تحتمل إلا العتق لكانت صريحة
فيه وما يحتمل أمرين انصرف إلى أحدهما بالنية وهذا شأن الكنايات وما ذكروه من الاحتمال
يدل على أن هذا ليس بصريح وإنما هو كناية، وقوله لا ملك لي عليك ولا رق لي عليك خبر عن
انتفاء ملكه ورقه لم يرد به شرع ولا عرف استعمال في العتق فلم يكن صريحا فيه كقوله ما أنت عبدي
ولا مملوكي وقوله لامرأته ما أنت امرأتي ولا زوجتي.
(فصل) وإن قال لامته أنت طالق ينوي العتق به ففيه روايتان (إحداهما) لا تعتق به وهو قول
236

أبي حنيفة لأن الطلاق لفظ وضع لإزالة الملك عن المنفعة فلم يزل به الملك عن الرقبة كفسخ الإجارة
ولان ملك الرقبة لا يستدرك بالرجعة فلا ينحل بالطلاق كسائر الاملاك (والرواية الثانية) هو كناية
تعتق به الأمة إذا نوى العتق وهو قول مالك والشافعي لأن الرق أحد الملكين على الآدمي فيزول
بلفظ الطلاق كالآخر أو فيكون اللفظ الموضوع لإزالة أحدهما كناية في إزالة الآخر كالحرية في إزالة
النكاح ولان فيه معنى الاطلاق فإذا نوى به الطلاق من ملكه فقد نوى بلفظ ما يحتمله فتحصل به
الحرية كسائر كنايات العتق
(فسل) فإن قال لأكبر منه: أو لمن لا يولد لمثله هذا ابني مثل أن يقول من له عشرون سنة
لمن له خمس عشرة سنة هذا ابني لم يعتق ولم يثبت، وقال أبو حنيفة يعتق وخرجه أبو الخطاب
وجها لنا لأنه اعترف بما تثبت به حريته فأشبه ما لو أقربها.
ولنا انه قول يتحقق كذبه فيه فلم تثبت به الحرية كما لو قال لطفل هذا أبي أو لطفلة هذه أمي
قال ابن المنذر هذا من قول النعمان شاذ لم يسبقه أحد إليه ولا تبعه أحد عليه وهو محال من الكلام
وكذب يقينا ولو جاز هذا لجاز أن يقول الرجل لطفل هذا أبي ولأنه لو قال لزوجته وهي أسن منه
هذه ابنتي أو قال لها وهو أسن منها هذه أمي لم تطلق كذا هذا.
(فصل) فإن قال لامته أنت حرام علي ينوي به العتق عتقت وذكر أبو الخطاب ان فيها رواية
237

أخرى لا تعتق كقوله لها أنت طالق والصحيح انها تعتق به لأنه يحتمل أنت حرام علي لكونك حرة
فتعتق به كقوله لا سبيل لي عليك
(فصل) ويصح العتق من كل من يجوز تصرفه في الملا وهو البالغ العاقل الرشيد سواء كان
مسلمان أو ذميا أو حربيا ولا نعلم في هذا خلافا الا عن أبي حنيفة ومن وافقه في أن عتق الحربي لا يصح
لأنه لا ملك له على التمام بدليل إباحة أخذ منه وانتفاء عصمته في نفسه وماله
ولنا انه يصح طلاقه فصح اعتاقه كالذمي ولأنه مالك بالغ عاقل رشيد فصح اعتاقه كالذمي وقولهم
لا ملك له لا يصح فإنهم قد قالوا إنهم يملكون أموال المسلمين بالقهر فلان يثبت الملك لهم في
غير ذلك أولى
(فصل) ولا يصح من غير جائز التصرف فلا يصح عتق الصبي والمجنون قال ابن المنذر هذا
قول عامة أهل العلم وممن حفظنا عنه ذلك الحس والشعبي والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي
وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم
حتى يستيقظ) ولأنه تبرع بالمال فلم يصح منهما كالهبة ولا يصح عتق السفيه المحجور عليه وهو قول
القاسم بن محمد وذكر أبو الخطاب فيه رواية أخرى انه يصح عتقه قياسا على طلاقه وتدبيره
238

ولنا انه محجور عليه في ماله لحظ نفسه فلم يصح عتقه كالصبي ولأنه تصرف في المال في
حياته فأشبه بيعه وهبته ويفارق الطلاق لأن الحجر عليه في ماله والطلاق ليس بتصرف فيه ويفارق
التدبير لأنه تصرف فيه بعد موته وغناه عنه بالموت ولهذا صحت وصيته ولم تصح هبته المنجرة
وعتق السكران مبني على طلاق وفيه من الخلاف ما فيه ولا يصح عتق المكره كما لا يصح طلاقه ولا
بيعه ولا شئ من تصرفاته
(فصل) ولا يصح العتق من غير المالك فلو أعتق عبيد ولده الصغير أو يتيمه الذي في حجرة
لم يصح وبهذا قال الشافعي وابن المنذر، وقال مالك يصح عتق عبده ولده الصغير لقوله صلى الله عليه وسلم (أنت
ومالك لأبيك) ولان له عليه ولاية وله فيه حق فصح اعتاقه كما له
ولنا انه عتق من غير مالك فلم يصح كاعتاق عبد ولده الكبير قال ابن المنذر لما ورث الله الأب
من مال ابنه السدس مع ولده دل على أنه لا حق له في سائره
وقوله صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) لم يرد به حقيقة الملك وإنما أراد المبالغة في وجوب حقه
عليك وامكان الاخذ من مالك وامتناع مطالبتك له بما أخذ منه ولهذا لا ينفذ اعتاقه لعبده ولده الكبير
الذي ورد الخبر فيه وثبوت الولاية له على مال ولده أبلغ من امتناع اعتاق عبده ولأنه إنما أثبت
الولاية عليه لحظ الصبي ليحفظ ماله عليه وينميه له ويقوم بمصالحه التي يعجز الصبي عن القيام بها وإذا
كان مقصود الولاية الحفظ اقتضت منع التضييع والتفريط باعتاق رقيقه والتبرع بماله ولو قال رجل لعبد
239

آخر أنت حر من مالي فليس بشئ فإن اشتراه بعد ذلك فهو مملوكه وشئ عليه وبهذا قال مالك
والشافعي وعامة الفقهاء ولو بلغ رجلا ان رجلا قال لعبده أنت حر من مالي فقال قد رضيت فليس
بشئ وبهذا قال الثوري وإسحاق
(مسألة قال أبو القاسم رحمه الله (وإذا كانت العبد بين ثلاثة فاعتقوه معا أو وكل
نفسان الثالث أن يعتق حقوقهما مع حقه ففعل أو أعتق كل واحد منهم حقه وهر معسر فقد
صار حرا وولاؤه بينهم أثلاثا)
وجملته ان العبد متى كان لثلاثة فأعتقوه معا اما بأنفسهم بان يتلفظوا بعتقه معا أو يعلقوا عتقه
على صفة واحدة فتوجد أو يوكلوا واحدا فيعتقه أو يوكل نفسان منهم الثالث فيعتقه فإنه يصير حرا
وولاؤه بينهم على قدر حقوقهم فنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنما الولاء لمن أعتق) وكل واحد منهم
قد أعتق حقه فيثبت له الولاء عليه وهذا لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا، فأما ان أعتقه سادته الثلاثة
واحدا بعد واحد وهم معسرون أو كان المعتقان الأولان معسرين والثالث موسرا فالصحيح فيه انه
يعتق على كل واحد منهم حقه وله ولاؤه وهذا قول أكثر أهل العلم، وحكى ابن المنذر فيما إذا أعتق
المعسر نصيبه قولين شاذين
240

(أحدهما) باطل لأنه لا يمكن ان يعتق نصفه منفردا إذا لا يمكن أن يكون انسان نصفه حر ونصفه
عبد كما لا يمكن أن يكون نصف المرأة طالقا ونصفها زوجة ولا سبيل إلى اعتاق جميعه فبطل كله
(والثاني) يعتق كله وتكون قيمة نصيب الذي لم يعتق في ذمة المعتق يتبع بها إذا أيسر كما لو
أتلفه وهذان القولان شاذان لم يقلهما من يحتج بقوله ولا يعتمد على مذهبه ويردهما قول النبي صلى الله عليه وسلم
(من أعتق شركا له في عبد فكان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطي شركاؤه
حصصهم وعتق جميع العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق) متفق عليه وإذا ثبت انه لا يعتق على المسعر إلا
نصيبه فباقي العبد على الرق وإذا أعتقه مالكه عتق باعتاقه وكان لكل واحد منهم ولاء ما أعتق لأن
الولاء لمن أعتق ويفارق العتق الطلاق لكون المرأة لا يمكن الاشتراك فيها ولا ورود النكاح على بعضها
ولا تكون إلا لواحد فنظيره إذا كان العبد لواحد فاعتق جزءا منه فإنه يعتق جميعه
(فصل) وإذا قال كل واحد من الشركاء للعبد إذا دخلت الدار فنصيبي منك حر فدخل عتق
عليهم جميعا سواء قالوا ذلك دفعة واحدة أو في دفعات متفرقة لأن العتق في أنصبائهم يقع دفعة
واحدة وإن اختلفت أوقات تعليقه
241

(مسألة) قال (ولو أعتقه أحدهم وهو موسر عتق كله وصار لصاحبه عليه قيمة ثلثيه)
وجلمته ان الشريك إذا أعتق نصيبه من العبد وهو موسر عتق نصيبه لا نعلم خلافا فيه لما فيه من
الأثر ولأنه جائز التصرف أعقت ملكه الذي لم يتعلق به حق غيره فنفذ فيه كما لو أعتق جميع العبد
المملوك له وإذا أعتق نصيبه سرى العتق إلى جميعه فصار جميعه حرا وعلى المعتق قيمة أنصباء شركائه
والولاء له وهذا قول مالك وابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري والشافعي وأبي يوسف ومحمد وإسحاق
وقال البتي لا يعتق إلا حصة المعتق ونصيب الباقين باق على الرق ولا شئ على المعتق لما روى
ابن التلب عن أبيه ان رجلا أعتق شقصا له في مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم ذكره احمد ورواه، ولأنه
لو باع نصيبه لاختص البيع به فكذلك العتق إلا أن تكون جارية نفيسة يغالى فيها فيكون ذلك بمنزلة الجناية من المعتق للضرر الذي أدخله على شريكه
وقال أبو حنيفة: لا يعتق إلا حصة المعتق ولشريكه الخيار في ثلاثة أشياء إن شاء أعتق وإن
شاء استسعى العبد وإن شاء ضمن شريكه فيعتق حينئذ
ولنا الحديث الذي رويناه وهو حديث صحيح متفق عليه. ورواه مالك في موطئه عن نافع عن
ابن عمر فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم العتق في جميعه وأوجب قيمة نصيب شريك المعتق الموسر عليه ولم يجعل
له خيرة ولا لغيره
وروى قتادة عن أبي المليح عن أبيه ان رجلا من قومه أعتق شقصا له من مملوك فرفع ذلك
242

إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خلاصه عليه في ماله وقال (ليس لله شريك) قال عبد الله الصحيح انه عن
أبي المليح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وليس فيه عن أبيه هذا معنى كلامه وقول البتي شاذ يخالف الاخبار
كلها فلا يعول عليه وحديث التلب يتعين حمله على المعسر جمعا بين الأحاديث وقياس العتق على البيع
لا يصح فإن البيع لا يسري فيما إذا كان العبد كله له والعتق يسري فإنه لو باع نصف عبده لم يسر ولو
أعتق نصفه عتق كله وإذا ثبت هذا فإن ولاءه يكون له، لأنه عتق باعتاقه من ماله وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) ولا خلاف في هذا عند من يرى عتقه عليه
(فصل) ولا فرق في هذا بين بين كون الشركاء مسلمين أو كافرين أو بعضهم مسلما وبعضهم
كافرا ذكره القاضي وهو قول الشافعي
وقال أبو الخطاب في الكافر وجه انه إذا أعتق نصيبه من مسلم انه لا يسري إلى باقيه ولا يقوم
عليه لأنه لا يصح شراء الكافر عبدا مسلما
ولنا عموم الخبر ولان ذلك ثبت لإزالة الضرر فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب والغرض
ههنا تكميل العتق ودفع الضرر عن الشريك دون التمليك بخلاف الشراء ولو قدر ان ههنا تمليكا لكان
تقديرا في أدنى زمان حصل ضرورة تحصيل العتق ولا ضرر فيه فإن قدر فيه ضرر فهو مغمور بالنسبة
إلى ما يحصل من العتق فوجده كالعدم وقياس هذا على الشراء غير صحيح لما بينهما من الفرق والله أعلم
243

(مسألة) قال (فإن أعتقاه بعد عتق الأول وقبل أخذ القيمة لم يثبت لهما فيه عتق لأنه
قد صار حرا بعتق الأول له)
يعني أن العتق يسري لي جميعه باللفظ لا بدفع القيمة فيعتق كله حين لفظ بالعتق ويصير حرا وتستقر
القيمة عليه فلا ينعتق بعد ذلك بعتق غيره، وبهذا قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري وأبو يوسف
ومحمد وإسحاق وابن المنذر والشافعي في قول له واختاره المزني وقال الزهري وعمرو بن دينار ومالك
والشافعي في قوله له: لا يعتق إلا بدفع القيمة ويكون قبل ذلك ملكا لصاحبه ينفذ عتقه فيه ولا ينفذ
تصرفه فيه بغير العتق وهذا مقتضى قول أبي حنيفة واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (قول عليه قيمة العدل
فأعطي شركاؤه حصصهم وعتق جميع العبد) وفي لفظ رواه أبو داود (فإن كان موسرا يقوم عليه قيمة
عدل لأوكس ولا شطط ثم يعتق) فجعله عتيقا بعد دفع القيمة، ولان العتق إذا ثبت بعوض ورد
الشرع به مطلقا لم يعتق إلا بالأداء كالمكاتب وللشافعي قول ثالث ان العتق مراعى فإن دفع القيمة
تبينا انه كان عتق من حين أعتق نصيبه وإن لم يدفع القيمة تبينا أنه لم يكن عتق، لأن فيه
احتياطا لهما جميعا.
ولنا حديث ابن عمر روي بألفاظ مختلفة تجتمع في الدلالة على الحرية باللفظ فمنهما لفظ رواه أيوب
244

عن النافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أعتق شركا له في عبد فكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة
العدل فهو عتيق) رواه البخاري وأبو داود والنسائي وفي لفظ رواه ابن أبي ملكية عن نافع عن
ابن عمر (فكان له مال فقد عتق كله) وفي رواية ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر (وكان للذي
يعتق ما يبلغ ثمنه فهو يعتق كله) وروى أبو داود باسناده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(من أعتق شقصا في مملوك فهو حر من ماله) وهذه نصوص في محل النزاع فإنه جعل حرا وعتيقا
باعتاقه مشروطا بكونه موسرا ولأنه عتق بالسراية فكانت حاصلة عقيب لفظه كما لو أعتق حرا من
عبيده ولان القيمة معتبرة وقت الاعتاق ولا ينفذ تصرف الشريك فيه بغير الاعتاق، وعند
الشافعي لا ينفذ بالاعتاق أيضا فدل على أن العتق حصل فيه بالاعتاق الأول فأما حديثهم فلا حجة
لهم فيه فإن الواو لا تقتضي ترتيبا وأما العطف بثم في اللفظ الآخر فلم يرد بها الترتيب فإنها قد ترد
لغير الترتيب كقوله تعالى (ثم الله شهيد على ما يفعلون) وأما العوض فإنما وجب عن المتلف بالاعتاق
بدليل اعتباره بقيمته حين الاعتاق وعدم اعتبار التراضي فيه ووجوب القيمة من غير وكس ولا
شطط بخلاف الكتابة فإذا ثبت هذا فإن الشريكين إذا أعتقاه بعد عتق الأول وقبل أخذ القيمة
لم يثبت لهما فيه عتق ولا لهما عليه ولاء وولاؤه كله للمعتق الأول وعليه القيمة لأنه صار حرا باعتاقه
245

وعند مالك يكون ولاؤه بينهم أثلاثا ولا شئ على المعتق الأول من القيمة ولو أن المعتق الأول لم
يؤد القيمة حتى أفلس عتق العبد وكانت القيمة في ذمته دينا يزاحم بها الشريكان عندنا وعند مالك
لا يعتق منه إلا ما عتق ولو كان المعتق جارية حاملا فلم تؤد القيمة حتى وضعت حملها فليس على المعتق
إلا قيمتها حين أعتقها لأنه حينئذ حررها وعند مالك يقوم ولدها أيضا ولو تلف العبد قبل أداء القيمة
مات حرا والقيمة على المعتق لأنه فوت عليه رقه وعند مالك لا شئ على المعتق ما لم يقوم ويحكم
بقيمته فهو في جميع أحكامه عبد.
(فصل) والقيمة معتبرة حين اللفظ بالعتق لأنه حين الاتلاف وهو أحدا قوال الشافعي وللشريك
مطالبة المعتق بالقيمة على الأقوال كلها فإن اختلفا في قدرها رجع إلى قول المقومين فإن كان العبد قد
مات أو غاب أو تأخر تقويمه زمنا تختلف فيه القيم ولم تكن بينة فالقول قول المعتق لأنه ينكر الزيادة
والأصل براءة ذمته منها وهذا أحد قولي الشافعي وإن اختلف في صناعة في العبد توجب زيادة القيمة
فالقول قول المعتق لذلك إلا أن يكون العبد يحسن الصناعة في الحال ولم يمض زمن يمكن تعلمها فيه
فالقول قول الشريك لأننا علمنا صدقه وان مضى زمن يمكن حدوثها فيه ففيه وجهان.
(أحدهما) القول قول المعتق، لأن الأصل برائد ذمته، (والثاني) القول قول الشريك لأن
الأصل بقاء ما كان وعدم الحدوث، وإن اختلفا في عيب ينقض القيمة كسرقة أو باق فالقول قول
246

الشريك لأن الأصل السلامة فبالجهة التي رجحنا قول المعتق في نفي الصناعة يرجح قول الشريك في نفي
العيب وإن كان العيب فيه حال الاختلاف واختلفا في حدوثه فالقول قول المعتق، لأن الأصل
براءة ذمته وبقاء ما كان على ما كان وعدم حدوث العيب فيه ويحتمل أن يكون القول قول الشريك
لأن الأصل براءته من العيب حين الاعتاق
(فصل) والمعتبر في اليسار في هذا أن يكون له فضل عن قوته يومه وليلته وما يحتاج إليه من
حوائجه الأصلية من الكسوة والمسكن وسائر مالا بدله منه يدفعه إلى شريكه ذكره أبو بكر في
التنبيه وان وجد بعض ما يفي بالقيمة قوم عليه قدر ما يملكه منه ذكره أحمد في رواية ابن منصور وهو
قول مالك وقال احمد لاتباع فيه دار ولا رباع ومقتضى هذا ان لا يباع له أصل مال وقال مالك والشافعي
يباع عليه سوار بيته وماله بال من كسوته ويقضى عليه في ذلك ما يقضى عليه في سائر الدعاوى والمعتبر
في ذلك حال تلفظه بالعتق لأنه حال الوجوب فإن أيسر المعسر بعد ذلك لم يسر إعتاقه وان اعتسر
الموسر لم يسقط ما وجب عليه لأنه وجب عليه فلم يسقط باعساره كدين الاتلاف نص على هذا احمد
(فصل) إذا قال أحد الشريكين لشريكه إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر مع نصيبك فاعتق
نصيبه عتقا معا ولم يلزم المعتق شئ وقيل يعتق كله على المعتق لأن اعتاق نصيبه شرط عتق
نصيب شريكه فيلزم أن يكون سابقا عليه والأولى أولى لأنه أمكن العمل بمقتضى شرطه فوجب حمله
247

عليه كما لو وكله في اعتاق نصيبه مع نصيبه فاعتقهما معا وان قال إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر فقال
أصحابنا إذا أعق نصيبه سرى وعتق عليه كله وقوم عليه ولا يقع اعتاق شريكه لأن السراية سبقت
فمنعت عتق الشريك ويحتمل ان يعتق عليهما جميعا لأن عتق نصيبه سبب للسراية وشرط لعتق نصيب
الشريك فلم يسبق أحدهما الآخر لوجودهما في حال واحد وقد يرجح وقوع عتق الشريك لأنه تصرف
منه في ملكه والسراية تقع في غير الملك على خلاف الأصل فكان نفوذ عتق الشريك أولى ولان
سراية العتق على خلاف الأصل لكونها اتلافا لملك المعصوم بغير رضاه والزاما للمعتق غرامة لم
يلتزمها بغير اختياره وإنما يثبت لمصلحة تكميل العتق فإذا حصلت هذه المصلحة باعتاق المالك كان
أولى وان قال إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل إعتاقك نصيبك وقعا معا إذا أعتق نصيبه وهذا
مقتضى قول أبي بكر والقاضي ومقتضى قول ابن عقيل ان يعتق كله على المعتق ولا يقع اعتاقه شريكه
لأنه أعتق في زمن ماضي ومقتضى قول ابن سرنج ومن وافقه ممن قال بسراية العتق ان لا يصح
اعتاقه لأنه يلزم من عتقه نصيبه تقدم عتق الشريك وسرايته فيمتنع اعتاق نصيب هذا ويمتنع عتق
نصيب الشريك ويفضي إلى الدور فيمتنع الجميع وقد مضى الكلام في هذا في مسائل الطلاق
والله تعالى أعلم
248

(مسألة) قال (وان أعتقه الأول وهو معسر وأعتقه الثاني وهو موسر عتق عليه نصيبه
ونصيب شريكه وكان ثلث ولائه للمعتق الأول وثلثاه للمعتق الثاني)
ظاهر المذهب ان المعسر إذا أعتق نصيبه من العبد استقر فيه العتق ولم يسر إلى نصيب شريكه
بل يبقى على الرق فإذا أعتق الثاني نصيبه وهو مسر عتق عليه جميع ما بقي منه نصيبه بالمياسرة
ونصيب شريكه الثالث بالسراية وصار له ثلثا ولائه وللأول ثلثه وهذا قول إسحاق وأبي عبيد
وابن المنذر وداود وابن جرير وهو قول مالك والشافعي على الوجه الذي بيناه من قولهما فيما مضى
عن أحمد ان المعسر إذا أعتق نصيبه استسعى العبد في قيمة حصة الباقين حتى يؤديها فيعتق وهو
قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد لما روى أبو هريرة قال. قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق شقصا له في مملوك فعليه انى عتقه كله إن كان له مال والا استسعى العبد غير
مشقوق عليه) متفق عليه ورواه أبو داود وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة فإذا استسعى في نصف
قيمته ثم أيسر معتقه رجع عليه بنصف القيمة لأنه هو الجاه إلى هذا وكلفه إياه وعن أبي يوسف ومحمد
انهما قالا يعتق جميعه وتكون قيمة نصيب الشريك في ذمته لأن العتق لا يتبعض فإذا وجد في البعض
249

سرى إلى جميعه كالطلاق ويلزم العتق القيمة لأنه المتلف لنصيب صاحبه باعتاقه فوجبت قيمته في
ذمته كما لو أتلفه بقتله، وقال أبو حنيفة لا يسري العتق وإنما يستحق به اعتاق النصيب الباقي فيتخير
شريكه بين اعتاق نصيبه ويكون الولاء بينهما وبين ان يستسعى العبد في قيمة نصيبه فإذا أداه إليه
عتق والولاء بينهما
ولنا حديث بان عمر وهو حديث صحيح ثابت عند جميع العلماء بالحديث ولان الاستسعاء
اعتاق بعضو فلم يجبر عليه كالكتابة ولان في الاستسعاء اضرار بالشريك والعبد. أما الشريك
فانا نحيله على سعاية لعله لا يحصل منها شئ أصلا وإن حصل فربما يكون يسيرا متفرقا ويفوت عليه
ملكه، وأمما العبد فانا نجبره على سعاية لم يردها وكسب لم يختره وهذا ضرر في حقهما وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) قال سليمان بن حزب أليس إنما ألزم المعتق ثمن ما بقي من العبد لئلا
يدخل على شريكه ضرر؟ فإذا أمره بالسعي واعطائه كل شهر درهمين ولم يقدر على تملكه فأي ضرر
أعظم من هذا؟ فأما حديث الاستسعاء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروة،
وأما شعبة وهشام الدستوائي فلم يذكراه وحدث به معمر ولم يذكر فيه السعاية: قال أبو داود وهام
أيضا لا يقوله قال المروذي: وضعف أبو عبد الله حديث سعيد وقال ابن المنذر لا يصح حديث الاستسعاء
250

وذكر همام ان ذكر الاستسعاء من فتيا قتادة وفرق بين الكلام الذي هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقول قتادة قال بعد ذلك فكان قتادة يقول إن لم يكن له مال استسعى، قال ابن عبد البر حديث
أبي هريرة يدور على قتادة وقد اتفق شعبة وهشام وهام على ترك ذكره وهم الحجة في قتادة فالقول
قولهم فيه عند جيع أهل العلم بالحديث إذا خالفهم غيرهم، فأما قول أبي حنيفة وقول صاحبيه الأخير
فلا شئ معهم يحتجون به من حديث قوي ولا ضعيف بل هو مجرد رأي وتحكم يخالف الحديثين
جميعا قال ابن عبد البر: لم يقل أبو حنيفة وزفر بحديث ابن عمر ولا حديث أبي هريرة على وجهه وكل
قول يخالف السنة فمردود على قائله والله المستعان
(فصل) إذا قلنا بالسعاية احتمل ألا يعتق كله وتكون القيمة في ذمة العبد دينا يستسعى في أدائها
وتكون أحكامه أحكام الأحرار، فإن مات وفي يده مال كان لسيده بقية السعاية وباقي ماله موروث
ولا يرجع العبد على أحد وهذا قولي أبي يوسف ومحمد ويحتمل أن لا يعتق حتى يؤدي السعاية فيكون
حكمه قبل أدائها حكم من بعضه رقيق إذا مات فللشريك الذي لم يعتق من ماله مثل ما يكون له على قول
من لم يقل بالسعاية لأنه اعتاق بأداء مال فلم يعتق قبل أدائه كالمكاتب وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة
يرجع العبد على المعتق إذا أيسر لأنه كلفه السعاية باعتاقه
ولنا أنه حق لزم العبد في مقابلة حريته فلم يرجع به على أحد كمال الكتابة ولأنه لو رجع به على السيد
لكان هو الساعي في العوض كسائر الحقوق الواجبة عليه
251

(مسألة) قال (ولو كان المعتق الثاني معسرا عتق نصيبه منه وكان ثلثه رقيقا لمن لم
يعتق، فإن مات وفي يده مال كان ثلثه لمن لم يعتق وثلثاه للمعتق الأول والمعتق الثاني بالولاء
إذا لم يكن له وارث أحق منهما)
إنما كان كذلك لأن المعسر لا يعتق إلا نصيبه، والأول والثاني معسران فلم يعتق على كل واحد
إلا نصيبه ونصبهما الثلثان وبقي ثلثه رقيقا للثالث فإذا خلف العبد مالا فثلثه للذي لم يعتق لأنه مالك
لثلثه وثلثاه ميراث لأنه ملكهما بجزئه الحر فإن كان له وارث نسيب يرث ماله كله أخذه لأنه أحق
من المعتق وإن لم يكن له وارث نسيب فهو للمعتقين بالولاء، وإن كان له ذو فرض يرث البعض أخذ
فرضه منه وباقيه للمعتقين وهذا القول فيما إذا لم يكن مالك ثلثه قاسم العبد في حياته كسبه ولم يهايئه
فاما ان قاسمه أو هايأه فلا حق له في تركته لأنها حصلت بالجزء الحر فتكون جميعها ميراثا لورثته دون
مالك ثلثه إذ لا حق له في الجزء الحر فلا يكون له حق فيما كسبه به ولا فيما ملكه به
(فصل) ومن قال بالسعاية فإنه يستسعى حين أعتقه الأول فإذا أعتق الثاني نصيبه انبنى ذلك
على القول في حريته هل حصلت باعتاق الأول أولا؟ فمن جعله حرا لم يصحح عتق الثاني لأنه عتق
252

باعتاق الأول ومن لم يجعله حرا صحح عتق الثاني لأنه أعتق جزءا مملوكا له من عبد وإذا مات قبل أداء
سعايته فقد مات وثلثه رقيق فيكون حكمه في الميراث حكم ما ذكرنا في القول الآخر
(فصل) وإذا حكمنا بعتق بعضه ورق باقيه فإن نفقته في حياته وفطرته وأكسابه بينه وبين سيده
على قدر ما فيه من الحرية والرق وإن تراضيا على المهايأة بينهما كانت نفقة العبد وكسبه في أيامه له
وعليه وفي أيام سيده يكون كسبه لسيده ونفقته عليه فأما الا كساب النادرة كاللقطة والهبة والوصية
فذكر القاضي أنها تدخل في المهايأة لأنها من أكسابه فأشبهت المعتادة وذكر غير همن أصحابنا وجها
آخر انها لا تدخل في المهايأة وتكون بينهما على كل حال، لأن المهايأة معاوضة فكأنه تعاوض عن
نصيبه من كسبه في يوم سيده بنصيب سيده في يومه فلا تتناول المعاوضة المجهول ومالا يغلب على الظن
وجوده فأما الميراث فلا يدخل في المهايأة ولا يستحق سيده منه شيئا لأنه إنما يرث بجزئه الحر
ويملك هذا العبد يجزئه الحر جميع أنواع الملك ويرث ويورث بقدر ما فيه من الحرية، وقد
مضى ذكر ذلك.
(فصل) ومن أعتق عبده وهو صحيح جائز التصرف صح عتقه باجماع أهل العلم، وإن أعتق
بعضه عتق كله في قول جمهور العلماء، وروي ذلك عن عمر وابنه رضي الله عنهما، وبه قال الحسن
والحكم والأوزاعي والثوري والشافعي، قال ابن عبد البر عامة العلماء بالحجاز والعراق قالوا يعتق كله
253

إذا أعتق نصفه وقال طاوس يعتق في عتقه ويرق في رقه وقال حماد وأبو حنيفة يعتق منه ما أعتق ويسعى
في باقيه وخالف أبا حنيفة أصحابه فلم يروا عليه سعاية وروي عن مالك في رجل أعتق نصف عبد ثم غفل عنه
حتى مات فقال أرى نصفه حرا ونصفه رقيقا لأنه تصرف في بعضه فلم يسر إلى باقيه كالبيع.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد فكان معه ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة
العدل وعتق عليه جميع العبد) وإذا أعتق عليه نصيب شريكه كان بينهما على عتق جميعه إذا كان كله
ملكا له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شقصا له في مملوك فهو حر من ماله) ولأنه إزالة ملك لبعض
مملوكه الآدمي فزال عن جميعه كالطلاق ويفارق البيع فإنه لا يحتاج إلى السعاية ولا ينبني على التغليب
والسراية. إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يعتق جزءا كبيرا كنصفه وثلثه أو صغيرا كعشره وعشر
عشره، ولا نعلم في هذا خلافا بين القائلين بسراية العتق إذا كان مشاعا، وان أعتق جزاءا معينا كرأسه
أو يده أو أصبعه عتق كله أيضا، وبهذا قال قتادة والشافعي وإسحاق وقال أصحاب الرأي ان أعتق
رأسه أو ظهره أو بطنه أو جسده أو نفسه أو فرجه عتق كله لأن حياته لا تبقى بدون ذلك، وإن
أعتق يده أو عضوا تبقى حياته بدونه لم يعتق لأنه يمكن إزالة ذلك مع بقائه فلم يعتق باعتاقه
كشعره أو سنه.
ولنا انه أعتق عضوا من أعضائه فيعتق جميعه كرأسه فأما إذا أعتق شعره أو سنه أو ظفره لم
254

يعتق وقال قتادة والليث في الرجل يعتق ظفر عبده يعتق كله لأنه جزء من أجزائه أشبه أصبعه
ولنا أن هذا الأشياء تزول ويخرج غيرها فأشبهت الشعر والريق وقد ذكر ذلك في الطلاق
وما ذكره في الطلاق فالعتاق مثله والله أعلم.
(مسألة) قال (وإذا كل العبدين شريكين فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق
حقه منه فإن كانا معسرين لم يقبل قول كل واحد منهما على شريكه فإن كانا عدلين كان
للعبد أنى حلف مع كل واحد منهما ويصير حرا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا)
أما إذا كان الشريكان معسرين فليس في دعوى أحدهما على صاحبه اعتاق نصيبه اعتراف
بحرية نصيبه ولا ادعاء لاستحقاق قيمته على المعتق لكون عتق المعسر يقف على نصيبه ولا يسري
إلى غيره فلم يكن في دعواه أكثر من أنه شاهد على صاحبه باعتاق نصيبه فإن لم يكونا عدلين
فلا أثر لكلامهما في الحال ولا عبرة بقولهما، لأن غير العدل لا تقبل شهادته وان كانا
عدلين فشاهدهما مقبولة، لأن كل واحد منهما لا يجر إلى نفسه بشهادته نفعا ولا
يدفع بها ضررا وقد حصل للعبد بحرية كل نصف منه شاهد عدل فإن حلف معهما
255

عتق كله وإن حلف مع أحدهما صار نصفه حرا على الرواية التي تقول ان العتق يحصل بشاهد ويمين
وإن لم يحلف مع واحد منهما لم يعتق منه شئ لأن العتق لا يحصل بشاهد من غير يمين بلا خلاف
نعلمه، وإن كان أحدهما عدلا دون الآخر فله أن يحلف مع شهادة العدل ويصير نصفه حرا ويبقى
نصفه الآخر رقيقا
(فصل) ومن قال بالاستسعاء فقد اعترف بان نصيبه قد خرج عن يده فيخرج العبد كله ويستسعى
في قيمته لاعتراف كل واحد منهما بذلك في نصيبه
(فصل) وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق عليه ولم يسر إلى النصف الذي كان له لأن
عتقه حصل باعترافه بحريته باعتاق شريكه ولا يثبت له عليه ولاء لأنه لا يدعي اعتاقه بل يعترف بان
المعتق غيره وإنما هو مخلص له ممن يسترقه ظلما فهو كمخلص الأسير من أيدي الكفار
وقال أبو الخطاب يسري لأنه شراء حصل به الاعتاق فأشبه شراء بعض ولده وإن أكذب
نفسه في شهادته على شريكه ليسترق ما اشتراه لم يقبل منه لآنه رجوع عن الاقرار بالحرية فلم يقبل
كما لو أقر بحرية عبده ثم أكذب نفسه وهل يثبت له الولاء عليه ان أعتقه. يحتمل أن لا يثبت لما
ذكرنا ويحتمل أن يثبت لأننا نعلم أن على العبد ولاء ولا يدعيه أحد سواه ولا ينازعه فيه فوجب ان
يقبل قوله فيه، وإن اشترى كل واحد منهما نصيب صاحبه صار العبد كله حرا لا ولاء عليه لواحد
256

منهما فإن أعتق كل واحد منهما ما اشتراه ثم أكذب نفسه في شهادته فهل يثبت له الولاء على من أعتقه؟
على وجهين، وإن أقر كل واحد منهما بأنه كان أعتق نصيبه وصدق الآخر في شهادته بطل البيعان
ويثبت لكل واحد منهما الولاء على نصفه لأن أحدا لا ينازعه فيه وكل واحد منهما يصدق الآخر
في استحقاق الولاء ويحتمل ان يثبت الولاء لهما وإن لم يكذب واحد منهما نفسه لأننا نعلم أن الولاء
عليه ثابت لهما ولا يخرج عنهما وانه بينهما اما بالعتق الأول واما بالثاني لأنهما إن كانا صادقين في
شهادتهما فقد ثبت الولاء لكل واحد منهما على النصف الذي أعتقه أولا وإن كانا كاذبين فقد أعتق
كل واحد منهما نصفه بعد أن اشتراه وإن كان أحدهما صادقا والآخر كاذبا فلا ولاء للصادق منهما
لأنه لم يعتق النصف الذي كان له أولا ولا صح عتقه في الذي اشتراه لأنه كان حرا قبل شرائه والولاء
كله للكاذب لأنه أعتق النصف الذي كان له ثم اشترى النصف الذي لشريكه فأعتقه وكل واحد
منهما يساوي صاحبه في الاحتمال فيقسم بينهما
(فصل) وكل من شهد على سيد عبد بعتق عبده ثم اشتراه عتق عليه، وإن شهد اثنان عليه بذلك
فردت شهادتهما ثم اشترياه أو أحدهما عتق وبهذا قال الأوزاعي ومالك والشافعي وابن المنذر وهو
قياس قول أبي حنيفة ولا يثبت للمشتري ولاء على العبد لأنه لا يدعيه ولا للبائع لأنه ينكر عتقه، ولو
كان العبد بين شريكين فادعى كل واحد منهما ان شريكه أعتق حقه منه وكانا موسرين فعتق
عليهما أو وكان معسرين عدلين فحلف العبد مع كل واحد وعتق، أو شهد مع كل واحد منهما
257

عدل آخر وعتق العبد أو ادعى عبد ان سيده أعتقه فأنكر وقامت البينة بعتقه عتق ولا ولاء
على العبد في هذه المواضع كلها لأن أحدا لا يدعيه ولا يثبت لاحد حق ينكره فإن عاد من
ثبت اعتاقه فاعترف به ثبت له الولاء لأنه لا مستحق له سواه وإنما لم يثبت له لانكاره له فإذا
اعترف زال الانكار وثبت له، وأما الموسران إذا أعتق عليهما فإن صدق أحدهما صاحبه في أنه
أعتق نصيبه وحده أو انه سبق بالعتق فالولاء له وعليه غرامة نصيب الآخر فإن اتفقا على أن كل
واحد منهما أعتق نصيبه دفعة واحدة فالولاء بينهما وإن ادعى كل واحد منهما انه المعتق وحده أو
انه السابق بالعتق تحالفا وكان الولاء بينهما نصفين
(مسألة) قال (وإن كان الشريكين موسرين فقد صار العبد حرا باعتراف كل واحد
منهما بحريته وصار مدعيا على شريكه نصف قيمته فإن لم تكن بينة قيمين كل واحد منهما الشريكة)
وجملة ذلك أن الشريكين الموسرين إذا ادعى كل واحد منهما ان شريكه أعتق نصيبه فكل
واحد منهما معترف بحرية نصيبه شاهد على شريكه بحرية نصفه الآخر لأنه يقول لشريكه أعتقت
نصيبك فسرى العتق إلى نصيبي فعتق كله عليك ولزمك لي قيمة نصيبي فصار العبد حرا لاعترافهما
258

بحريته وبقي كل واحد منهما يدعي قيمة حصته على شريكه فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن لم
تكن بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وبرئا فإن نكل أحدهما قضي عليه وإن نكلا جميعا تساقط
حقاهما لتماثلهما ولا فرق في هذه الحال بين العدلين والفاسقين والمسلمين والكافرين لتساوي العدل
والفاسق والمسلم والكافر في الاعتراف والدعوى بخلاف التي قبلها
(فصل) وإن كان أحد الشريكين موسرا والآخر معسرا عتق نصيب المعسر وحده لاعترافه
بأن نصيبه قد صار حرا باعتاق شريكه الموسر الذي يسري عتقه ولم يعتق نصيب الموسر لأنه
يدعي ان المعسر الذي لا يسري عتقه أعتق نصيبه خاصة فعتق وحده ولا تقبل شهادة المعسر عليه
لأنه يجر بشهادة إلى نفسه نفعا لكونه يوجب عليه بشهادته نصف قيمته فعلى هذا إن لم تكن للعبد
بينة سواه حلف الموسر وبرئ من القيمة والعتق جميعا ولا ولاء للمعسر في نصيبه لأنه لا يدعيه
ولا للموسر لذلك أيضا وان عاد المعسر فأعتقه وادعاه ثبت له وإن أقر الموسر باعتاق نصيبه وصدق
المعسر عتق نصيبه أيضا وعليه غرامة نصيب المعسر وثبت له الولاء، وإن كان للعبد بينة أجنبية
تشهد باعتاق الموسر وكانت عدلين ثبت العتق ووجبت القيمة للمعسر عليه، وان كانت رجلا
واحدا حلف العبد معه ويثبت العتق في إحدى الروايتين والأخرى لا يثب العتق وللمعسر أن
259

يحلف معه ويستحق قيمة نصيبه سواء حلف العبد أو لم يحلف لأن الذي يدعيه مال يقبل فيه شاهد ويمين
(فصل) وان ادعى أحد الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وأنكر الآخر وكان المدعى عليه
موسرا عتق نصيب المدعي وحده لاعترافه بحريته بسراية عتق شريكه وصار مدعيا نصف القيمة
على شريكه ولا يسري لأنه لا يعترف انه المعتق له. وإنما عتق باعترافه بحريته لا باعتاقه له ولا ولاء
له عليه لانكاره له قال القاضي وولاؤه موقوف وإن كان المدعي عدلا لم تقبل شهادته لأنه يدعي
نصف قيمته على شريكه فيجر بشهادته نفعا ومن شهد بشهادة يجر إليه بها نفعا بطلت شهادته كلها،
وأما إن كان المدعى عليه معسرا فالقول قول مع يمينه ولا يعتق منه شئ، وإن كان المدعي عدلا
حلف العبد مع شهادته وصار نصفه حرا وقال حماد إن كان المشهود عليه موسرا سعى له وإن كان
معسرا سعى لهما وقال أبو حنيفة إن كان معسرا سعي العبد وولاؤه بينهما وإن كان موسرا فولاء
نصفه موقوف فإن اعترف انه أعتق استحق الولاء وإلا كان الولاء لبيت المال
(فصل) إذا قال أحد الشريكين إن كان هذا الطائر غرابا فنصيبي حر وقال الآخر ان لم يكن
غرابا فنصيبي حر وطار ولم يعلما حاله فإن كانا موسرين عتق العبد كله وإن كان أحدهما موسرا
والآخر معسرا عتق نصيب المعسر وحده لما ذكرنا وان كانا معسرين لم يعتق نصيب واحد منهما
لأنه لم يتعين الحنث فيه فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر عتق نصفه لأننا علمنا حرية نصفه ولم
يسر إلى النصف الآخر وإن اشترى العبد أجنبي عتق نصفه لأن نصفه حر يقينا فلم يملك جميعه.
260

(مسألة) قال (وإذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين لا يملك غيرهما وهما متساويان
في القيمة فقال أحد الابنين أبي أعتق هذا وقال الآخر أبي أعتق أحدهما لا أدري من
منهما أقرع بينهما فإن وقعت القرعة على الذي اعترف الابن بعتقه عتق ثلثاه ان لم يجز
الابنان عتقه كاملا وكان الآخر عبدا وان وقعت القرعة على الآخر عتق منه ثلثه وكان
لمن قرعنا بقوله فيه سدسه ونصف العبد الآخر ولأخيه نصفه وسدس العبد الذي اعترف
ان أباه أعتقه فصار ثلث كل واحد من العبدين حرا)
هذه المسألة محمولة على أن العتق كان في مرض الموت أو بالوصية لأنه لو أعتقه في صحته
لعتق كله ولم يقف على إجازة الورثة، فأما إذا اعترفا أنه أعتق أحدهما في مرضه فلا يخلو من أربعة
أحوال: اما أن يعينا العتق في أحدهما فيعتق منه ثلثاه لأن ذلك ثلث جميع ماله الا أن يجيزا
عتق جميعه فيعتق (الثاني) أن يعين كل واحد منهما العتق في واحد غير الذي عينه أخوه فيعتق من
261

كل واحد منهما ثلثه لأن كل واحد منهما حقه نصف العبدين فيقبل قوله في عتق حقه من الذي عينه
وهو ثلثا النصف الذي له وذلك هو الثلث، ولأنه يعترف بحرية ثلثيه فيقبل قوله في حقه منهما وهو
الثلث ويبقى الرق في ثلثه فله نصفه وهو السدس ونصف العبد الذي ينكر عتقه
(والحال الثالث) أن يقول أحدهما أبي أعتق هذا، ويقول الآخر أبي أعتق أحدهما لا أدري من
منهما وهي مسألة الكتاب فتقوم القرعة مقام تعيين الذي لم يعين فإن وقعت على الذي عينه أخوه عتق
منه ثلثاه كما لو عيناه بقولهما، وان وقعت على الآخر كان كما لو عين كل واحد منهما عبدا يكون لكل
واحد منهما سدس العبد الذي عينه ونصف العبد الذي ينكر عتقه فيصير ثلث كل واحد من العبدين حرا
(الحال الرابع) أن يقولا أعتق أحدهما ولا ندري من منهما فإنه يقرع بين العبدين فمن وقعت
عليه القرعة عتق منه ثلثاه ان لم يجيزا عتق جميعه وكان الآخر رقيقا
(فصل) فإن رجع الابن الذي جهل عين المعتق فقال قد عرفته قبل القرعة فهو كما لو عينه ابتداء
من غير جهل، وكان بعد القرعة فوافقها تعيينه لم يتغير الحكم، وإن خالفها عتق من الذي عينه
ثلثه بتعيينه فإن عين الذي عينه أخوه عتق ثلثاه وإن عين الآخر عتق منه ثلثه وهل يبطل العتق في
الذي عتق بالقرعة؟ على وجهين
262

(مسألة) قال (وإذا كان لرجل نصف عبد ولآخر ثلثه ولآخر سدسه فأعتق صاحب
النصف وصاحب السدس معا وهما موسران عتق عليهما وضمنا حق شريكهما فيه نصفين وكان
ولاؤه بينهما أثلاثا لصاحب النصف ثلثاه ولصاحب السدس ثلثه)
وجملته ان العبد إذا كان مشتركا بين جماعة فأعتق اثنان منهم أو أكثر وهم موسرون سرى
عتقهم إلى باقي العبد ويكون الضمان بينهم على عدد رؤوسهم يتساوون في ضمانه وولائه وبهذا قال
الشافعي ويحتمل أن يقسم بينهم على قدر املاكهم وهو قول مالك في إحدى الروايتين عنه لأن السراية
حصلت باعتاق ملكيهما وما وجب بسبب الملك كان على قدره كالنفقة واستحقاق الشفعة
ولنا ان عتق النصيب اتلاف لرق الباقي وقد اشتركا فيه فيتساويان في الضمان كما لو جرح أحدهما
جرحا والآخر جرحين فمات منهما أو ألقى أحدهما جزاءا من النجاسة في مائع وألقى الآخر جزأين
ويفارق الشفعة فإنها تثبت لإزالة الضرر عن نصيب الذي لم يبع فكان استحقاقه على قدر نصيبه
ولأن الضمان ههنا لدفع الضرر منهما وفي الشعفة الدفع الضرر عنهما والضرر منهما يستويان في إدخاله
على الشريك وفي الشفعة ضرر صاحب النصف أعظم من ضرر صاحب السدس فاختلفا
263

وإذا ثبت هذا كان ولاؤه بينهما أثلاثا لأننا إذا حكمنا بأن الثلث معتق عليهما نصفين فنصف
الثلث سدس إذا ضممناه إلى النصف الذي لأحدهما صار ثلثين وإذا ضممنا السدس الآخر إلى
سدس المعتق صار ثلثا. وعلى الوجه الآخر يصير الولاء بينهما أرباعا: لصاحب النصف ثلاثة أرباعه
ولصاحب السدس ربعه والضمان بينهما كذلك
فأما قوله فأعتقاه معا فلانه شرط في الحكم الذي ذكرناه اجتماعهما في العتق بحيث لا يسبق
أحدهما الآخر بأن يتلفظا به معا أو يوكل أحدهما صاحبه فيعتقهما معا أو يوكلا وكيلا فيعتقهما أو
يعلقا عتقه على شرط فيوجد، فإن سبق أحدهما صاحبه عتق عليه نصيب شريكيه جميعا وكان الضمان
عليه والولاء له كله. وقوله وهما موسران شرط آخر فإن سراية العتق يشترط لها اليسار فإن كان
أحدهما موسرا وحده قوم عليه جميع نصيب من لم يعتق لأن المعسر لا يسري عتقه فيكون الضمان على
الموسر خاصة، فإن كان أحدهما يجد بعض ما يخصه قوم عليه ذلك القدر وباقيه على الآخر مثل أن يجد
صاحب السدس قيمة نصف السدس فيقوم عليه ويقوم الربع على صاحب النصف ويصير ولاؤه بينهم
أرباعا لصاحب السدس ربعه وباقيه لمعتق النصف لأنه لو كان أحدهما معسرا قوم الجميع على الآخر فإذا
كان موسرا ببعضه قوم الباقي على صاحب النصف لأنه موسر
264

(مسألة) (قال وإذا كانت الأمة بين شريكين فأصابها أحدهما وأحبلها أدب ولم
يبلغ به الحد وضمن نصف قيمتها لشريكه وصارت أم ولده لم وولده حر وإن كان معسرا
كان في ذمته نصف مهر مثلها وان لم تحبل منه فعليه نصف مهر مثلها وهي على ملكيهما)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في تحريم وطئ الجارية المشتركة لأن الوطئ يصادف ملك غيره من
غير نكاح ولم يحله الله تعالى في غير ملك ولا نكاح بدليل قوله تعالى (والذين هم لفروجهم
حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم
العادون) وأكثر أهل العلم لا يجبون فيه حدا لأن له فيها ملكا فكان ذلك شبهة دارئة للحد
وأوجبه أبو ثور لأنه وطئ محرم لأجل كونه في ملك غيره فأشبه ما لو لم يكن له فيها ملك
ولنا انه وطئ صادف ملكه فلم يوجب به حد كوطئ زوجته الحائض ويفارق مالا ملك له
فيها فإنه لا شبهة له فيها ولهذا لو سرق علينا له نصفها لم يقطع ولو لم يكن له فيها ملك قطع ولا خلاف في أنه
يعزر لما ذكرناه في حجة أبي ثور ثم لا يخلو من حالين اما أن لا تحمل منه فهي باقية على ملكهما وعليه
نصف مهر مثلها لأنه وطئ سقط فيه الحد للشبهة فأوجب مهر المثل كما لو وطئها يظنها امرأته وسواء
كانت مطاوعة أو مكرهة لما ذكرنا ولان وطئ جارية غيره يوجب المهر وان طاوعت لأن المهر
265

لسيدها فلا يسقط بمطاوعتها كما لو أدبت في قطع عضو من أعضائها ويكون الواجب نصف المهر
بقدر ملك الشريك فيها (الحال الثاني) ان يحبلها وتضع ما يتبين فيه بعض خلق الانسان فإنها تصير
بذلك أم ولد للواطئ كما لو كانت خالصة له وتخرج بذلك من ملك الشريك كما تخرج بالاعتاق
وسواء كان الواطئ موسرا أو معسرا لأن الايلاد أقوى من الاعتاق ويلزمه نصف قيمتها لأنه
اخرج نصفها من ملك الشريك فلزمته قيمته كما لو أخرجه بالاعتاق أو الاتلاف فإن كان موسرا
أداه وإن كان معسرا فهو في ذمته كما لو أتلفها والولد حر يلحق نسبه بوالده لأنه من وطئ في محل
له فيه ملك فأشبه ما لو وطئ زوجته وقال القاضي الصحيح عندي انه لا يقوم عليه نصيب شريكه
إذا كان معسرا بل يصير نصفها أم ولد ونصفها قنا باقيا في ملك الشريك لأن الاحبال كالعتق ويجري
مجراه في التقويم والسراية فاعتبر في سرايته اليسار كالعتق وهذا قول أبي الخطاب أيضا ومذهب
الشافعي فعلى هذا إذا ولدت احتمل أن يكون الولد كله حرا لاستحالة انعقاد الولد من حر وعبد
واحتمل أن يكون نصفه حرا ونصف رقيقا لأن نصف أمه أم ولد ونصفها قن لغير الواطئ فكان
نصف الولد حرا ونصفه رقيقا كولد المعتق بعضها وبهذا يتبين انه لم يستحل انعقاد الولد من حر وقن
ووجه قول الخرقي أن بعضها أم ولد فكان جميعها أم ولد كما لو كان الواطئ موسرا ويفارق الاعتاق
فإن الاستيلاد أقوى ولهذا ينفذ من جميع المال من المريض ومن الصبي والمجنون والاعتاق بخلافه
266

(فصل) قال أبو الخطاب وهل تلزمه قيمة الولد ومهر الأمة؟ على وجهين (أحدهما) لا يلزمه ذلك
وهو ظاهر قول الخرقي لأنه لم يذكرهما لأن الأمة صارت مملوكة له فلم يلزمه مهر مملوكته ولا قيمة
ولدها ولان الولد خلق حرا فلم يقوم عليه ولده الحر (والوجه الثاني) يلزمه لشريكه نصف مهر مثلها
ونصف قيمة ولدها لأن الوطئ صادف ملك غيره وإنما انتقلت بالوطئ الموجب للمهر فيكون الوطئ
سبب الملك ولا يثبت الحكم إلا بعد تمام سببه فيلزم حينئذ تقدم الوطئ على ملكه فيكون في ملك
غيره فيوجب مهر المثل وفعله ذلك منع انخلاق الولد على ملك الشريك فيجب عليه نصف قيمته
كولد المغرور، وقال القاضي ان وضعت الولد بعد التقويم فلا شئ على الواطئ لأنها وضعته في ملكه
وقت الوجوب حالة الوضع ولا حق للشريك فيها ولا في ولدها، وان وضعته قبل التقويم فهل
تلزمه قيمة نصفه؟ على روايتين ذكرهما أبو بكر واختار انه تلزمه قيمته
(فصل) ولا فرق بين أن يكون له في الأمة ملك كثير أو يسير، وقد ذكر الخرقي فيما إذا
وطئ جارية من المغنم أنها تصير أم ولد إذا أحبلها، وإن كان إنما له فيها سهم يسير من
كثر من ألف سهم:
267

(مسألة) قال (وان ملك سهما ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله
وكان لشريكه عليه قيمة حقه منه، وإن كان معسرا لم يعتق عليه الا مقدار ما ملك، وان ملك
بعضه بالميراث لم يعتق منه الا مقدار ما ملك موسرا كان أو معسرا)
قد ذكرنا فيما تقدم أن من ملك ذا رحم محرم فهو حر لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من
ملك ذا رحم محرم فهو حر)، رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وروى ضمرة عن سفيان عن
عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (من ملك ذا رحم محرم فهو حر)
وسئل أحمد عن ضرمة فقال ثقة إلا أنه روى حديثين ليس لهما أصل (أحدهما) هذا الحديث
وروى عن إبراهيم عن الأسود عن عمر أنه قال (من ملك ذا رحم محرم فهو حر) وقد ذكرنا هذا
وما فيه من الخلاف فيما تقدم فأما ان ملك سهما ممن يعتق عليه مثل أن يملك سهما من ولده فإنه
يعتق عليه ما ملك منه سواء ملكه بعوض أو بغير عوض كالهبة والاغتنام والوصية وسواء ملكه
باختياره كالذي ذكرناه أو بغير اختياره كالميراث لأن كل ما يعتق به الكل يعتق به البعض كالاعتاق
بالقول ثم ينظر فإن كان معسرا لم يسر العتق واستقر في ذلك الجزء ورق الباقي لأنه لو أعتقه بقوله لم يسر
اعتاقه مع تصريحه بالعتق وقصده إياه فههنا أولى، وإن كان موسرا وكان الملك باختياره كالملك بغير
268

الميراث سرى إلى باقيه فعتق جميع العبد ولزمه لشريكه قيمة باقيه لأنه فوته عليه، وبهذا قال مالك
والشافعي وأبو يوسف وقال قوم لا يعتق عليه إلا ما ملك سواء ملكه بشراء أو غيره لأن هذا لم
يعتقه وإنما عتق عليه بحكم الشرع عن غير اختيار منه فلم يسر كما لو ملكه بالميراث وفارق ما أعتقه
لأنه فعله باختياره قاصدا إليه
ولنا انه فعل سبب العتق اختيارا منه وقصدا إليه فسرى ولزمه الضمان كما لو وكل من أعتق
نصيبه وفارق الميراث فإنه حصل من غير قصده ولا فعله، ولان من باشر سبب السراية اختيارا
لزمه ضمانها كمن جرح إنسانا فسرى جرحه، ولان مباشرته لما يسري وتسببه إليه في لزوم حكم
السراية واحد بدليل استواء الحافر والدافع في ضمان الواقع فأما ان ملكه بالميراث لم يسر العتق
فيه واستقر في ما ملكه ورق الباقي سواء كان موسرا أو معسرا لأنه لم يتسبب إلى اعتاقه وإنما حصل
بغير اختياره، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف وعن أحمد ما يدل على أنه يسري إلى نصيب
شريكه إذا كان موسرا لأنه عتق عليه بعضه وهو موسر فسرى إلى باقيه كما لو وصى له به فقبله
والمذهب الأول لأنه لم يعتقه ولا تسبب إليه فلم يضمن ولم يسر كالأجنبي وفارق ما تسبب إليه
(فصل) وان ورث الصبي والمجنون جزئا ممن يعتق عليهما عتق ولم يسر إلى باقيه لأنه إذا لم
يسر في حق المكلف ففي حقهما أولى وان وهب لهما أو وصي لهما به هما معسران فعلى وليهما قبوله
269

لأنه نقع لهما باعتاق قريبهما من غير ضررة يلحق بهما وإن كانا موسرين ففيه وجهان مبنيان على أنه
هل يقوم عليهما باقيه إذا ملكا بعضه؟ وفيه وجهان
(أحدهما) لا يقوم ولا يسري العتق إليه لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره فأشبه ما لو ورثه
(والثاني) يقوم عليه، لأن قبول وليه يقوم مقامه قبوله فأشبه الوكيل فعليه هذا الوجه ليس
لوليه قبوله لما فيه من الضرر وعلى الأول يلزمه قبوله لأنه يقع بغير ضرر إذا كان ممن لا تلزمه نفقته
وإذا قلنا ليس له أن يقبله فقبله احتمل أن لا يصح القبول لأنه فعل ما لم يأذن الشرع فيه فأشبه ما لو
باع ماله بغبن، واحتمل أن يصح وتكون الغرامة عليه، لأنه ألزمه هذه الغرامة فكانت عليه
كنفقة الحج إذا حجه
(فصل) وإذا باع عبدا لذي رحمه وأجنبي صفقة واحدة عتق كله إذا كان ذو الرحم معسرا
وضمن لشريكه قيمة حقه منه وقال القاضي لا يضمن لشريكه شيئا، لأن ملكه لم يتم إلا بقبول
شريكه فصار كأنه أذن له في اعتاق نصيبه
ولنا أنه عتق عليه نصيبه بملكه باختياره فوجب ان يقوم عليه باقيه مع يساره كما لو انفرد بشرائه
ولا نسلم انه لا يصح قبوله إلا بقبول شريكه
(فصل) وإذا كانت أمة مزوجة ولها ابن موسر فاشتراها هو وزوجها وهي حامل منه صفقة
270

واحدة عتق نصيب الابن من أمه وسرى إلى نصيب الزوج ويقوم عليه وعتق الحمل عليهما معا لأنه ابن
الزوج وأخو الابن ولا يجب لأحدهما على الآخر شئ منه لأنه عتق عليهما في حال واحدة، ولو كانت المسألة
بحالها فوهبت لهما أو أوصي لهما بها فقبلاها في حالة واحدة فكذلك وإن قبلها أحدهما قبل الآخر نظرنا فإن قبل
الابن أولا عتقت عليه الام وحملها، حصته من الام بالملك وتبعها حصته من الحمل وسرى العتق إلى الباقي
من الام والولد وعليه قيمة باقيهما للزوج، وإن قبل الزوج أولا عتق عليه الحمل كله نصيبه بالملك وباقيه بالسراية
وقوم عليه ثم إذا قبل الابن عتقت عليه الام كلها ويتقاصان ويرد كل واحد منهما الفضل على صاحبه،
ومن قال في الوصية ان الملك لا يثبت فيها بالموت فالحكم فيه كما لو قبلاها دفعة واحدة
(فصل) وإذا كان رجل نصف عبدين متساويين في القيمة لا يملك غيرهما فأعتق أحدهما في
صحته عتق وسرى إلى نصيب شريكه لأنه موسر بالنصف الذي له من العبد الآخر فإن أعتق النصف
الآخر من العبد الآخر عتق لأن وجوب القيمة في ذمته لا يمنع صحة عتقه ولم يسر لأنه معسر وإن
أعتق الأول في مرض موته لم يسر لأنه إنما ينفذ عتقه في ثلث ماله وثلث ماله هو الثلث من العبد الذي
أعتق نصفه فإذا أعتق الثاني وقف على إجازة الورثة وإن أعتق الأول في صحته وأعتق الثاني في مرضه
لم ينفذ عتق الثاني لأن عليه دينا يستغرق قيمته فيمنع صحة عتقه إلا أن يجيز الورثة
(فصل) إذا شهد شاهدان على رجل انه أعتق شركا له في عبد فسرى إلى نصيب الشريك
وغرم له قيمة نصيبه ثم رجعا عن الشهادة غرما قيمة العبد جميعه
271

وقال بعض أصحاب الشافعي تلزمهما غرامة نصيبه دون نصيب شريكه لأنهما لم يشهدا الا بعتق
نصيبه فلم تلزمهما غرامة ما سواه
ولنا انها فوتا عليه نصيبه وقيمة نصيب شريكه فلزمهما ضمانه كما لو فوتاه بفعلهما وكما لو شهدا
عليه بجرح ثم سرى الجرح ومات المجروح فضمن الدية ثم رجعا عن شهادتهما
(فصل) وإن شهد شاهدان على ميت بعتق عبد في مرض موته وهو ثلث ماله فحكم حاكم بشهادتهما
وعتق العبد ثم شهد آخران بعتق آخر هو ثلث ماله ثم رجع الأولان عن الشهادة نظرنا في تاريخ
شهادتهما فإن كانت سابقة ولم تكذب الورثة رجوعهما عتق الأول ولم يقبل رجوعهما ولم يغرما شيئا
ويحتمل ان يلزمهما شراء الثاني واعتاقه لأنهما منعا عتقه بشهادتهما المرجوع عنها، وإن صدقوهما في
رجوعهما وكذبوهما في شهادتهما عتق الثاني ورجعوا عليهما بقيمة الأول لأنهما فوتا رقه عليهم بشهادتهم
المرجوح عنها، وإن كان تاريخها متأخرا عن الشهادة الأخرى بطل عتق المحكوم له بعتقه لأننا تبينا ان
الميت قد أعتق ثلث ماله قبل اعتاقه ولم يغرم الشاهدان شيئا لأنهما ما فوتا شيئا وإن كانتا مطلقتين أو
إحداهما أو اتفق تاريخهما أقرع بينهما فإن خرجت على الثاني عتق وبطل عتق الأول ولا شئ عن
الشاهدين لأن الأول باق على الرق، وإن خرجت قرعة الأول عتق ونظرنا في الورثة فإن كذبوا
الشاهدين الأولين في شهادتهما عتق الثاني ورجعوا على الشاهدين بقيمة الأول لأنهما فوتا رقه بغير
حق فإن كذبوهما في رجوعهما لم يرجعوا عليهما بشئ لأنهم يقرون بعتق المحكوم بعتقه
272

(مسألة) قال (وإذا كان ثلاثة أعبد فاعتقهم في مرض موته أو دبرهم أو دبر
أحدهم وأوصى بعتق الآخر بن ولم يخرج من ثلثه إلا واحد لتساوي قيمتهم أقرع بينهم
بسهم حرية وسهمي رق فمن وقع له سهم الحرية عتق دون صاحبيه)
وجملة ذلك أن العتق في مرض الموت والتدبير والوصية بالعتق يعتبر خروجه من الثلث لأن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يجز من عتق الذي أعتق ستة مملوكين في مرضه إلا ثلثهم، ولأنه تبرع بمال أشبه الهبة
فإن أعتق أكثر من الثلث لم يجز إلا الثلث. فإن أعتق عبيدا في مرضه واحدا بعد واحد بدئ
بالأول فالأول حتى يستوفى الثلث. وإن وقع العتق دفعة واحدة ولم يخرجوا من الثلث أقرع بينهم
فأخرج الثلث بالقرعة. ومسألة الخرقي فيما إذا وقع العتق دفعة واحدة ولم يكن له مال سواهم
وأما ان دبرهم استوى المقدم والمؤخر منهم لأن التدبير عتق معلق بشرط وهو الموت والشرط
إذا وجد ثبت المشروط به في وقت وحد وكذلك الموصى بعتقه يستوي هو التدبير لأن الجميع
عتق بعد الموت فمتى أعتق ثلاثة أعبد متساويين في القيمة هو جميع ماله دفعة واحدة أو دبرهم أو
وصى بعتقهم أو دبر بعضهم ووصى بعتق باقيهم ولم يجز الورثة أكثر من الثلث أقرع بينهم بسهم حرية
وسهمي رق فمن خرج له سهم الحرية عتق ورق صاحباه، وبهذا قال عمر بن عبد العزيز وابان بن
عثمان ومالك والشافعي وإسحاق وداود وابن جرير
273

وقال أبو حنيفة يعتق من كل واحد ثلثه ويستسعى في باقيه وروي نحو هذا عن سعيد بن المسيب
وشريح والشعبي والنخعي وقتادة وحماد لأنهم تساووا في سبب الاستحقاق فيتساوون في الاستحقاق
كما لو كان يملك ثلثهم وحده وهو ثلث ماله أو كما لو وصى بكل واحد منهم لرجل، وأنكر أصحاب
أبي حنيفة القرعة وقالوا هي من القمار وحكم الجاهلية ولعلهم يردون الخبر الوارد في هذه المسألة لمخالفته
قياس الأصول. وذكر الحديث لحماد فقال هذا قول الشيخ - يعني إبليس - فقال له محمد بن
ذكوان وضع القلم عن ثلاثة أحدهم المجنون حتى يفيق - يعني انه مجنون - فقال له حماد ما دعاك إلى
هذا؟ فقال محمد وأنت فما دعاك إلى هذا؟ وهذا قليل في جواب حماد وكان حريا أن يستتاب عن
هذا فإن تاب وإلا ضربت عنقه
ولنا ما روى عمران بن الحصين ان رجلا من الأنصار أعتق ستة مملوكين في مرضه لامال له
غيرهم فجزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة. وهذا نص في محل النزاع
وحجة لنا في الامرين المختلف فيهما وهما جمع الحرية واستعمال القرعة وهو حديث صحيح ثابت
رواه مسلم وأبو داود وسائر أصحاب السنن. ورواه عن عمر ان بن الحصين الحسن وابن سيرين وأبو المهاب
ثلاثة أئمة. ورواه الإمام أحمد عن إسحاق بن عيسى عن هشيم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي
زيد الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم
274

قال أحمد أبو زيد الأنصاري رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وروي نحوه عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم. ولأنه حق في تفريقه ضرر فوجب جمعه بالقرعة كقسمة الاجبار إذا طلبها أحد
الشريكين ونظيره من القسمة ما لو كانت دار بين اثنين لأحدهما ثلثاه وللآخر ثلثاها وفيها ثلاثة
مساكن متساوية لا ضرر في قسمتها فطلب أحدهما القسمة فإنه يجعل كل بيت سهما ويقرع بينهم بثلاثة
أسهم لصاحب الثلث سهم وللآخر سهمان
وقولهم ان الخبر يخالف قياس الأصول نمنع ذلك بل هو موافق له لما ذكرناه وقياسهم فاسد لأنه
إذا كان ملكه ثلثهم وحده لم يمكن جمع نصيبه والوصية لا ضرر في تفريقها بخلاف مسئلتنا. وإن
سلمنا مخالفته قياس الأصول فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع سواء وافق القياس أو خاله،
لأنه قول المعصوم الذي جعل الله تعالى قوله حجة على الخلق أجمعين وأمرنا باتباعه وطاعته وحذر
العقاب في مخالفه أمره وجعل الفوز في طاعته والضلال في معصيته. وتطرق الخطأ إلى القائس في قياسه
أغلب من تطرق الخطأ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعدهم في روايتهم على أنهم قد خالفوا
قياس الصول بأحاديث ضعيفة فأوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر ونقضوا الوضوء
بالقهقهة في الصلاة دون خارجها. وقولهم في مسئلتنا في مخالفة القياس والأصول أشدو أعظم والضرر
في مذهبهم أعظم، وذلك لأن الاجماع منعقد على أن صاحب الثلث في الوصية وما في معناها
275

لا يحصل له شئ حتى يحصل للورثة مثلاه. وفي مسئلتنا يعتقون الثلث ويستسعون العبد
في الثلثين فلا يحصل للورثة شئ في الحال أصلا ويحيلونهم على السعاية وربما لا يحصل منها
شئ أصلا، وربما لا يحصل منها في الشهر إلا درهم أو درهمان فيكون هذا في حكم من لم يحصل له
شئ وفيه ضرر على العبيد لأنهم يجبرونهم على الكسب والسعاية عن غير اختيار منهم وربما كان
المجبر على ذلك جارية فيحملها ذلك على البغاء أو عبدا فيسرق أو يقطع للطريق وفيه ضرر على الميت
حيث أفضوا بوصيته إلى الظلم والاضرار وتحقيق ما يوجب له العقاب من ربه والدعاء عليه من عبيده
وورثته، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرناه في حقه الذي فعله هذا قال (لو شهدته
لم يدفن في مقابر المسلمين) قال ابن عبد البر في قول الكوفيين ضروب من الخطأ والاضطراب مع
مخالفة السنة الثابتة وأشار إلى ما ذكرنا، وأما انكارهم للقرعة فقد جاءت في الكتاب والسنة والاجماع
قال الله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) وقال تعالى (فساهم فكان
من المدحضين). وأما السنة فقال أحمد: في القرعة خمس سنن أقرع بين نسائه وأقرع في ستة مملوكين
وقال لرجلين (استهما) وقال (مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة)
وقال (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه) وفي حديث الزبير ان صفية جاءت
بثوبين ليكفن فيهما حمزة رضي الله عنه فوجدنا إلى جنبه قتيلا فقلنا لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب فوجدناه
276

أحد الثوبين أوسع من الآخر فاقر عنا عليهما ثم كفنا كل واحد في الثوب الذي طار له، وتشاح
الناس يوم القادسية في الاذان فأقرع بينهم سعد وأجمع العلماء على استعمالها في القسمة ولا أعلم بينهم
خلافا في أن الرجل يقرع بين نسائه إذا أراد السفر بإحداهن، وإذا أراد البداية بالقسمة بينهن وبين
الأولياء إذا تساووا وتشاحوا فيمن يتولى التزويج أو من يتولى استيفاء القصاص وأشباه هذا
(فصل) في كيفية القرعة، قال أحمد قال سعيد بن جبير يقرع بينهم بالخواتيم أقرع بين اثنين
في ثوب فأخرج فأتم هذا وخاتم هذا ثم قال يخرجون بالخواتيم ثم تدفع إلى رجل فيخرج منها
واحدا قال أحمد بأي شئ خرجت مما يتفقان عليه وقع الحكم به سواء كان رقاعا أو خواتيم قال
أصحابنا المتأخرون الأولى أن يقطع رقاعا صغارا متساوية ثم تلقى في حجر رجل لم يحضر أو يغطى
عليها بثبوت ثم يقال له ادخل يدل فاخرج بندقة فينفضها ويعلم ما فيها وهذا قول الشافعي، وفي كيفية
القرعة والعتق ست مسائل (أحدها) أن يعتق عددا من العبيد لهم ثلث صحيح كثلاثة أو ستة أو
تسعة وقيمتهم متساوية ولا مال له غيرهم فيخرجون ثلاثة أجزاء جزءا للحرية وجزأين للرق وتكتب
ثلاث رقاع في واحدة حرية وفي اثنين رق ويترك في ثلاثة بنادق وتغطى بثوب ويقال لرجل لم يحضر
أخرج على اسم هذا الجزء فإن خرجت قرعة الحرية عتق ورق الجزء ان الآخران وإن خرجت قرعة
رق رق وأخرجت أخرى على جزء آخر فإن خرجت رقعة الحرية عتق ورق الجزء الثالث وإن خرجت
277

قرعة الرق رق وعتق الجزء الثالث لأن الحرية تعينت فيهم وإن شئت كتبت اسم كل أجزء في رقعة
ثم أخرجت رقعة على الحرية فإذا خرجت رقعة على الحرية عتق المسمون فيها ورق الباقون، وإن
خرجت رقعة على الرق رق المسمون فيها ثم تخرج أخرى على الرق فيرق المسلمون فيها ويعتق الجزء
الثالث وان أخرجت الثانية على الحيرة عتق المسمون فيها دون الثالث
(المسألة الثانية) أن تمكن قسمتهم أثلاثا وقيمهم مختلفة يمكن تعديلهم بالقيمة كستة قيمة اثنين
منهم ثلاثة آلاف وقيمة اثنين ألفان وقيمة اثنين ألف ألف فيجعل الاثنين الأوسطين جزئا
ويجعل اثنين قيمة أحدهما ثلاثة آلاف مع آخر قيمته ألف جزءا والآخران جزءا فيكونون ثلاثة
اجزاء متساوية في العدد والقيمة على ما قدمناه في المسألة الأولى، قيل لأحمد لم يستووا في القيمة؟
قال يقومون بالثمن.
(المسألة الثالثة) يكونون متساوين في العدد مختلفين في القيمة ولا يمكن الجمع بين تعديلهم
بالعدد والقيمة معا ولكن يمكن تعديلهم بكل واحد منهما منفردا كستة أعبد قيمة أحدهم ألف وقيمة
اثنين ألف وقيمة ثلاثة ألف فإنهم يعدلون بالقيمة دون العدد نص عليه أحمد وقال إذا كانت قيمة
واحد مثل اثنين قوم لأنه لا يجوز أن يقع العتق في أكثر من الثلث ولا أقل وفي قسمتهم بالعدد
تكرار القرعة وتبعيض العتق حتى يكمل الثلث فكان التعديل بالقيمة أولى، بيان ذلك أننا لو جعلنا
278

الذي قيمته الف آخر فخرجت قرعة الحرية لهما احتجنا ان نعيد القرعة بينهما فإذا خرجت على
على القليل القيمة عتق واعتق من الذي قيمته الف تمام الثلث
وان وقعت قرعة الحرية على اثنين قيمتهما دون الثلث عتقا ثم أعيدت لتكميل الثلث فإذا وقعت
على واحد كلمت الحرية منه فحصل ما ذكرناه من التبعيض والتكرار ولان قسمتهم بين المشركين
فيهم إنما يعدلون فيها بالقيمة دون الاجزاء فعلى هذا يجعل الذي قيمته الف جزءا والاثنين اللذين قيمتها
الف جزءا والثلاثة الباقين جزءا ثم يقرع بينهما على ما ذكرنا
(المسألة الرابعة) (أمكن تعديلهم بالقيمة دون العدد كسبعة قيمة أحدهم الف وقيمة اثنين الف وقيمة
أربعة الف فيعدلون بالقيمة دون العدد كما ذكرنا
(المسألة الخامسة) أمكن تعديلهم بالعدد دون القيمة كستة اعبد قيمة اثنين الف وقيمة اثنين سبعمائة
وقيمة اثنين خمسمائة فهنا هنا نجزؤهم بالعدد لتعذر تجزئتهم بالقيمة فيجعل كل اثنين جزءا ويضم كل
واحد ممن قيمتهما قليلة إلى واحد ممن قيمتهما كثيرة ويجعل المتوسطين جزءا ويقرع بينهم فإن وقعت
قرعة الحرية على جزء قيمته أكثر من الثلث أعيدت القرعة بينهما فيعتق من تقع له قرعة الحرية
ويعتق من الآخر تتمة الثلث ورق باقيه والباقون وان وقعت الحرية على جزء أقل من الثلث عتقا
جميعا ثم يكمل الثلث من الباقين بالقرعة
279

(المسألة السادسة) لم يمكن تعديلهم بالعدد ولا القيمة كخمسة اعبد قيمة أحدهم الف واثنان الف واثنان ثلاثة آلاف احتمل أن يجزئهم ثلاثة أجزاء فيجعل أحدهم أكثرهم قيمة جزءا ويضم إلى الثاني
كثير القيمة أقل الباقين قيمة ويجعلهما جزءا والباقين جزءا ويقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق لأن
هذا أقرب إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ويعدل الثلث بالقيمة على ما تقدم واحتمل ان لا يجزئهم بل تخرج
القرعة على واحد واحد حتى يستوفى الثلث فيكتب خمس رقاع بأسماعهم ثم يخرج رقعة على الحرية فمن
خرج اسمه فيها عتق ثم يخرج الثانية فمن خرج اسمه فيها عتق منه تمام الثلث وان كانوا ثمانية قيمتهم سواء
ففيهم ثلاثة أوجه (أحدهما) ان يكتب ثمانية رقاع بأسمائهم ثم يخرج على الحرية رقعة بعد أخرى حتى
يستوفى الثلث (والثاني أن يجزئهم أربعة اجزاء ثم يقرع بينهم بسهم حرية وثلاثة رق فمن خرج له سهم الحرية
عتق ثم يقرع بين الستة بسهم حرية وسهمي رق فمن خرج له سهم الحرية أعيدت بينهما فمن خرج له سهم الحرية
كمل الثلث منه (والثالث) ان يجزئهم ثلاثة أجزاء ثلاثة وثلاثة واثنان ويقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق
فإن خرج سهم الحرية للاثنين عتقا وكمل الثلث بالقرعة من الباقين وان خرجت لثلاثة أقرع بينهم بسهم
حرية وسهمي رق ذكر هذين الوجهين الآخر بن أبو الخطاب وروي عن أحمد خمسة أو أربعة يجعل
أكثرهم قيمة مكان اثنين ان كانا قيمته والأقرع بين ثلاثة قيمتهم واحدة ثم يقرع بين الذي بقي والذي
تصيبه القرعة ينظر ما بقي من قيمته من الثلث فيعتق حصته فإن كان جميع ماله عبدين أقرعنا بينهما
بسهم حرية وسهم رق على كل حال
(فصل) وإن كان للمعتق سال غير العبد مثلا قيمة العبيد أو أكثر عتق العبيد كلهم لخروجهم
280

من الثلث وإن كان أقل من مثليهم عتق من العبد قدر ثلث المال كله فإذا كان العبيد كلهم نصف المال عتق ثلثاهم
وان كانا ثلثي المال عتق نصفهم وان كانوا ثلاثة أرباعه اتساعهم وطريقه ان تضرب قيمة العبيد في
ثلاثة ثم تنسب إليه مبلغ التركة فما خرج بالنسبة عتق من العبيد مثلها فإذا كان قيمة العبد ألفا وباقي التركة
الف ضربت قيمة العبد في ثلاثة تكن ثلاثة آلاف ثم تنسب إليها الألفين تكن ثلثيها فيعتق ثلثاهم وإن كان
قيمة العبد ثلاثة آلاف وباقي التركة الف ضربت قيمتهم في ثلاثة تكن تسعة آلاف وتنسب إليها التركة
كلها تكن أربعة اتساعها، وان قيمتهم أربعة آلاف وباقي التركة الف ضربت قيمتهم في ثلاثة تكن
اثني عشر ألف ونسب إليها خمسة آلاف تكن ربعها وسدسها فيعتق من العبيد ربعهم وسدسهم
(فصل) وإن كان على الميت دين يحيط بالتركة لم يعتق منهم شئ وإن كان يحيط ببعضها
قدم الدين لأن العتق وصية وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الدين قبل الوصية ولان قضاء الدين واجب
وهذا تبرع وتقديم الواجب متعين وإن كان الدين بقدر نصف العبيد جعلوا جزأين وكتبت رقعتان
رقعة للدين ورقعة للتركة وتخرج واحدة منهما على أحد الجزأين فمن خرجت عليه رقعة الدين بيع
فيه وكان الباقي من جميع التركة يعتق ثلثهم بالقرعة على ما تقدم وإن كان الدين بقدر ثلثهم كتبت
ثلاث رقاع رقعة للدين واثنان للتركة وإن كان بقدر ربعهم كتب أربع رقاع رقعة للدين وثلاثة للتركة
ثم يقرع بين من خرجت له رقاع التركة وان كتب رقعة للدين ورقعة للحرية ورقتان للتركة جاز
وقيل لا يجوز لئلا تخرج رقعة الحرية قبل قضاء الدين والأول أصح لأنه إنما يمنع من العتق قبل قضاء
الدين إذا لم يكن له وفاء فأما إذا كان له وفاء لم يمنع منه بدليل ما لو كان العتق في أقل من ثلث الباقي
بعد وفاء الدين فإنه لا يمنع من العتق قبل وفائه
281

(فصل) وإذا أعتق في مرض موته ثلاثة لا يملك غيرهم أو واحدا منهم غير معين فمات أحدهم
أقرعنا بين الميت والاحياء فإن وقعت على الميت حسبناه من التركة وقومناه حين الاعتاق سواء مات
في حياة سيده أو بعده قبل القرعة، وبهذا قال الشافعي وقال مالك ان مات قبل موت سيده أقرعنا
بين الحيين لأنهما جميع التركة ولهذا لا يعتق إلا ثلثهما ولا يعتبر الميت لأنه ليس بمحسوب من التركة
ولأنه لو أعتق الحيين بعد موته لأعتقنا ثلثهما.
ولنا ان الميت أحد المعتقين فوجب أن يقرع بينه وبينهم كما لو مات بعد سيده ولان المقصود
تكميل الأحكام وحصول ثواب العتق ويحصل هذا في الميت فوجب ان يدخل في القرعة كما لو مات
بعد سيده فأما ان وقعت القرعة على الحي نظرنا في الحي فإن كان الميت مات قبل موت السيد أو بعده
قبل قبض الوارث له لم نحسبه من التركة لأنه لم يصل إلى الوارث فتكون التركة الحيين فيخرج ثلثهما ممن
وقعت عليه القرعة وتعتبر قيمته حين الاعتاق لأنه حين اتلافه وتعتبر قيمة التركة بأقل الامرين
من حين الموت إلى حين قبض الوارث لأن الزيادة فائدة تجددت على ملك الوارث فلا تحسب عليه
من التركة والنقصان قبل القبض لم يحصل له ولم ينتفع به فأشبه الشارد والآبق وإنما يحسب عليه ما حصل
في يده ولا يحسب الميت من التركة لأنه ما وصل إلى الورثة فيكمل ثلث الحيين ممن وقعت عليه القرعة
وإن كان موته بعد قبض الورثة حسب من التركة لأنه وصل إليهم وجعلناه كالحي في تقويمه معهم
والحكم باعتاقه ان وقعت عليه القرعة أو من الثلثين ان وقعت القرعة على غيره وتحسب قيمته أقل الأمرين
من حين موت سيده إلى حين قبضه ونحو هذا قال الشافي.
(فصل) وان دبر الثلاثة أو وصى بعتقهم فمات أحدهم في حياته بطل تدبيره والوصية فيه وأقرع
بين الحيين فأعتق من أحدهما ثلثهما، لأن الميت لا يمكن الحكم بوقوع العتق فيه لكونه مات قبل
الوقت الذي يعتق فيه وقبل ان يتحقق شرط العتق بخلاف التي قبلها فإن العتق حصل من حين
الاعتاق وإنما القرعة تبينه وتكشفه ولهذا يحكم بعتقه من حين الاعتاق حتى يكون كسبه له وحكمه
حكم الأحرار في سائر أحواله وان مات المدبر بعد موت سيده أقرع بينه وبين الاحياء لأنه قد حصل
العتق من حين موت السيد.
282

(مسألة) قال (ولو قال لهم في مرض موته أحدكم حرا أو كلكم حر ومات فكذلك)
أما إذا قال لهم كلهم حر فهي المسألة التي تقدمت وشرحناها وأما إذا قال أحدكم حر فإنه
يقرع بينهم فيخرج أحدهم بالقرعة فيعتق ويرق الباقون وسواء كان للميت مال سواهم أو لم يكن
إذا كان يخرج من الثلث وان لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث ولو كان المعتق حيا ولم ينو
واحدا بعينه لم يكن له التعيين وأعتق أحدهم بالقرعة وان قال أردت واحدا منهم بعينه قبل منه
وتعينت الحرية فيه، وقال أبو حنيفة والشافعي له تعيين أحدهم فيعتق من عينه وان لم يكن نواه حالة
القول ويطالب المعتق بالتعيين فإذا عين أحدهم تعين حسب اختياره ولم يكن لسائر العبيد الاعتراض
عليه لأن له تعيين العتق ابتداء فإذا أوقعه غير معين كان له تعيينه كالطلاق.
ولنا ان مستحق العتق غير معين فلم يملك تعيينه كما لو أعتق الجميع في مرضه ولم يخرجوا من
الثلث وكما لو أعتق معينا ثم نسيه والطلاق كمسئلتنا فأما ان مات المعتق ولم يعين فالحكم عندنا
لا يختلف وليس للورثة التعيين بل يخرج المعتق بالقرعة وقد نص الشافعي على هذا إذا قالوا
لا ندري أيهم أعتق، وقال أبو حنيفة لهم التعيين لأنهم يقومون مقام موروثهم وقد سبق
الكلام في المعتق.
(فصل) ولو أعتق إحدى إمائه ثم وطئ إحداهن لم يتبين الرق فيها وبهذا قال أبو حنيفة وقال
الشافعي يتعين الرق فيها لأن الحرية عنده تتعين بتعينه ووطؤه دليل على تعيينه وقد سبق الكلام على
هذا الأصل ولان المعتقة واحدة فلم تتعين بالوطئ كما لو أعتق واحدة ثم نسيها
(فصل) وإذا أعتق واحدا بعينه ونسيه فقياس قول احمد أن يعتق أحدهم بالقرعة وهذا قول
الليث، وقال الشافعي يقف الامر حتى يذكر فإن مات قبل أن يتبين أقرع الورثة بينهم، وقال ابن
وهب يعتقون كلهم
وقال مالك إن أعتق عبدا له ومات ولم يبين فكانوا ثلاثة عتق منهم بقدر ثلثهم وإن كانوا أربعة
عتق منهم بقدر ربع قيمتهم وعلى هذا فيقرع بينهم فإن خرجت القرعة على من قيمته أقل من الرابع
أعيدت القرعة حتى تكمل
283

وقال أصحاب الرأي إن قال الشهود نشهد ان فلانا أعتق أحد عبيده ولم يسم عتق ثلث كل
واحد منهم وسعى في باقيه أو ربع كل واحد منهم إن كانوا أربعة، وإن قالوا نشهد ان فلانا أعتق
بعض عبيده ونسيناه فشاهدتهم باطلة ونحو هذا قول الشافعي والأوزاعي ولم يذكرا ما ذكره أصحاب
الرأي في الشهادة
ولنا ان مستحق العتق غير معين فأشبه ما لو أعتق جميعهم في مرض موته فإن أقرع بينهم فخرجت
القرعة لواحد ثم قال المعتق ذكرت ان المعتق غيره ففيه وجهان
(أحدهما برد الأول إلى الرق ويعتق الذي عينه لأنه تبين له المعتق فعتق دون غيره كما لو لم يقرع
(والثاني) يعتقان معا وهو قول الليث ومقتضى قول ابن حامد لأن الأول ثبتت الحرية فيه
بالقرعة فلا تزول كسائر الأحرار، ولان قول المعتق ذكرت من كنت نسيته يتضمن اقرارا عليه
بحرية من ذكره واقرارا على غيره فقبل اقراره على نفسه ولم يقبل على غيره، وأما إذا لم يقرع فإنه
يقبل قوله فيعتق من عينه ويرق غيره فإذا قال أعتقت هذا عتق ورق الباقون وإن قال أعتقت هذا
لا بل هذا عتقا جميعا لأنه أقر بعتق الأول فلزمه ثم أقر بعتق الثاني فلزمه ولم يقبل رجوعه عن اقراره
الأول فكذلك الحكم في اقرار الوارث
(مسألة) قال (وإذا ملك نصف عبد فدبره أو أعتقه في مرض موته فعتق بموته وكان
ثلث ماله بقي بقيمة النصف الذي لشريكه أعطي وكان كله حرا في إحدى الروايتين والأخرى
لا يعتق الا حصته وان حمل ثلث ماله قيمة حصة شريكه)
وجملته انه إذا ملك شقصا من عبد فأعتقه في مرض موته أو دبره أو وصى بعتقه ثم مات ولم
يف ثلث ماله بقيمة نصيب الشريك لم يعتق إلا نصيبه بلا خلاف نعلمه بين أهل العلم الا قولا شاذا
أو قول من يرى السعاية وذلك أنه ليس له من ماله إلا الثلث الذي استغرقته قيمة الشقص فيبقى
معسرا بمنزلة من أعتق في صحته شقصا وهو معسر، فأما إن كان ثلث ماله بقي بقيمة حصة
شريكه ففيه روايتان
284

(إحداهما) يرسي إلى نصيب الشريك فيعتق العبد جميعه ويعطى الشريك قيمة نصيبه من
ثلثه لأن ثلث المال للمعتق والملك فيه تام وله التصرف فيه بالتبرع والاعتاق وغيره فجرى مجرى مال الصحيح
فيسري عتقه كسراية عتق الصحيح الموسر (والرواية الثانية) لا يعتق الا حصته لأنه بموته يزول ملكه
إلى ورثته فلا يبقي شئ يقضى منه الشريك وبهذا قال الأوزاعي لأن الميت لا يضار
وقال القاضي ما أعتقه في مرض موته سرى وما دبره أو وصى بعتقه لم يسر وقال الرواية في
سراية العتق حال الحياة أصح والرواية في وقوفه في التدبير أصح وهذا مذهب الشافعي لأن العتق في
الحياة ينفذ في حال ملك العتق وصحة تصرفه وتصرفه في ثلثه كتصرف الصحيح في جميع ماله وأما
التدبير والوصية فإنما يحصل العتق به في حال يزول ملك المعتق وتصرفاته والله أعلم
(مسألة) قال (وكذلك الحكم إذا دبر بعضه وهو مالك لكله)
وجملته انه إذا دبر بعض عبده وهو ان يقول إذا مت فنصف عبدي حر ثم مات فإن كان النصف
المدبر ثلث ماله من غير زيادة عتق ولم يسر لأنه لو دبره كله لم يعتق منه الا ثلثه فإذا لم يدبر الا ثلثه
كان أولى وإن كان العبد كله يخرج من الثلث ففي تكميل الحرية روايتان (إحداهما) تكمل وهو قول
أكثر الفقهاء لأن أبا حنيفة وأصحابه يرون التدبير كالاعتاق في السراية وهو أحد قولي الشافعي لأنه
اعتاق لبعض عبده فعتق جميعه كما لو أعتقه في حياته (والرواية الثانية) لا يكمل العتق فيه لأنه لا يمنع
جواز البيع فلا يسري كتعليقه بالصفة
(فصل) فأما ان أعتق بعض عبده في مرضه فهو كعتق جميعه ان خرج من الثلث عتق جميعه
والا عتق منه بقدر الثلث لأن الاعتاق في المرض كالاعتاق في الصحة الا في اعتباره من الثلث
وتصرف المريض في ثلثه في حق الأجنبي كتصرف الصحيح في جميع ماله كما لو أعتق شركا له في
عبد وثلثه يحتمل جميعه وعنه لا يعتق منه الا ما عتق
(فصل) وإذا دبر أحد الشريكين حصته صح ولم يلزمه في الحال لشريكه شئ وهذا قول
285

الشافعي فإذا مات عتق الجزء الذي دبره إذا خرج من ثلث ماله وفي سرايته إلى نصيب الشريك
ما ذكرنا في المسألة وقبلها وقال مالك إذا دبر نصيبه تقاوماه فإن صار للمدبر صار مدبرا كله وإن
صار للآخر صار رقيقا كله
وقال الليث يغرم المدبر لشريكه قيمة نصيبه ويصير العبد كله مدبرا فإن لم يكن له مال سعى
العبد في قيمة نصيب الشريك فإذا أداها صار مدبرا كله، وقال أبو يوسف ومحمد يضمن المدبر
للشريك قيمة حقه موسرا كان أو معسرا ويصير المدبر له
وقال أبو حنيفة الشريك بالخيار ان شاء دبر وان شاء أعتق وان شاء استسعى العبد وان شاء
ضمن صاحبه إن كان موسرا. ولنا انه تعليق للعتق على صفة فصح في نصيبه كما لو علقه بموت شريكه
(مسألة) قال (ولو أعتقهم وثلثه يحتملهم فأعتقناهم ثم ظهر عليه دين يستفرقهم
بعناهم في دينه)
وجملته ان المريض إذا أعتق عبيده في المرض أو دبرهم أو وصى بعتقهم ومات ثم ظهر عليه دين
وهم يخرجون من ثلثه في الظاهر فأعتقناهم ثم ظهر عليه دين يستغرق التركة تبينا بطلان عتقهم وبقاء
رقهم فيباعون في الدين ويكون عتقهم وصية والدين مقدم على الوصية ولهذا قال علي رضي الله عنه
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ان الدين قبل الوصية ولان الدين مقدم على الميراث بالاتفاق ولهذا تباع
التركة في قضاء الدين وقد قال الله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) والميراث مقدم على الوصية
في الثلثين فما تقدم على الميراث يجب ان يقدم على الوصية وبهذا قال الشافعي ورد ابن أبي ليلى عبدا أعتقه
سيده عند الموت وعليه دين قال احمد أحسن بن أبي ليلى
وذكر أبو الخطاب عن أحمد رواية في الذي يعتق عبده في مرضه وعليه دين انه يعتق منه
بقدر الثلث ويرد الباقي. وقال قتادة وأبو حنيفة وإسحاق يسعى العبد في قيمة
ولنا انه تبرع في مرض موته بما يعتبر خروجه من الثلث فقدم عليه الدين كالهبة، ولأنه يعتبر
من الثلث فقدم عليه الدين كالوصية وخفاء الدين لا يمنع ثبوت حكمه ولهذا يملك الغريم استيفاءه،
فعلى هذا تبين انه أعتقهم وقد استحقهم الغريم بدينه فلم ينفذ عتقه كما لو أعتق ملك غيره، فإن قال
الورثة نحن نقضي الدين وتمضي العتق ففيه وجهان
286

(أحدهما) لا ينفذ حتى يبتدئوا العتق لأن الدين كان مانعا منه فيكون باطلا ولا يصح بزوال
المانع بعده (والثاني) ينفذ العتق لأن المانع منه إنما هو الدين فإذا سقط وجب نفوذه كما لو أسقط
الورثة حقوقهم من ثلثي التركة نفذ العتق في الجميع. ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين. وقالوا ان
أصل الوجهين إذا تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره وعلى الميت دين وقضي الدين هل ينفذ؟ فيه وجهان
(فصل) فإن أعتق المريض ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع الورثة فأعتقوا واحدا وأرقوا
اثنين ثم ظهر عليه دين يستغرق نصفهم ففيه وجهان (أحدهما) تبطل القرعة لأن الدين شريك في
الاقراع فإذا حصلت القسمة مع عدمه كانت باطلة كما لو قسم شريكان دون شريكهما الثالث
(الثاني) يصح الاقراع لأنه لا يمكن امضاء القسمة وإفراد حصة الدين من كل واحد
من النصيبين لأن القرعة دخلت لأجل العتق دون الدين فيقال للورثة اقضوا ثلثي الدين وهو بقدر قيمة
نصف العبدين اللذين بقيا إما من العبيد وإما من غيرهم، ويجب رد نصف العبد الذي عتق فإذا كان
الذي أعتق عبدين أقرعنا بينهما فإذا خرجت القرعة على أحدهما فكان بقدر سدس التركة عتق وبيع
الآخر في الدين وإن كان أكثر عتق منه بقدر السدس وإن كان أقل عتق وعتق من الآخر تمام السدس
(مسألة) قال (ولو أعتقهم وهم ثلاثة فأعتقنا منهم واحدا لعجز ثلثه عن أكثر منه ثم
ظهر له مال يخرجون من ثلثه عتق من أرق منهم)
287

وجملته انه إذا أعتق ثلاثة في مرضه لم يعرف له مال غيرهم أو دبرهم أو وصى بعتقهم له يعتق منهم
إلا ثلثهم ويرق الثلثان إذا لم يجز الورثة عتقهم فإذا فعلنا ذلك ثم ظهر له مال بقدر مثليهم تبينا انهم
قد عتقوا من حين أعتقهم أو من حين موته إن كان دبرهم لأن التدبير وتصرف المريض في ثلث
ماله جائز نافذ وقد بان انهم ثلث ماله، وخفاء ذلك علينا لا يمنع كونه موجودا فلا يمنع كون العتق
واقعا. فعلى هذا يكون حكمهم حكم الأحرار من حين أعتقهم فيكون كسبهم لهم، وان كانوا قد
تصرف فيهم ببيع أو هبة أو رهن أو تزويج بغير اذن كان ذلك باطلا، وإن كانوا قد تصرفوا فحكم
تصرفهم حكم تصرف الأحرار فلو تزوج عبد منهم بغير اذن سيده كان نكاحه صحيحا والمهر عليه
واجب وان ظهر له مال بقدر قيمته عتق ثلثاهم لأنهما ثلث جميع المال فيقرع بين الاثنين اللذين
أوقفناهما فيعتق أحدهما ويرق الآخر ان كانا متساويين في القيمة، وإن ظهر له مال بقدر
نصفهم عتق نصفهم وإن كان بقدر ثلثهم عتق أربعة أتساعهم، وكلما ظهر له مال عتق من
العبدين اللذين رقا بقدر ثلثه
(فصل) وإذا وصى بعتق عبدا له يخرج من ثلثه وجب على الوصي إعتاقه فإن أوصى بذلك
ورثته لزمهم إعتاقه فإن امتنعوا أجبرهم السلطان فإن اصروا على الامتناع أعتقه السلطان أو من
ينوب منابه كالحاكم لأن هذا حق لله تعالى وللعبد ومن وجب عليه ذلك ناب السلطان عنه أو نائبه
كالزكاة والديون فإذا أعتقه الوارث أو السلطان عتق وما اكتسبه في حياة الموصي فهو للموصي يكون
288

من جملة تركته إن بقي بعده لأنه كسب عبده القن وما كسبه بعد موته وقبل إعتاقه فهو للوارث.
وقال القاضي هو للعبد لأنه كسبه بعد استقرار سبب العتق فيه فكان له ككسب المكاتب وقال بعض
أصحاب الشافعي فيه قولان مبنيان على القولين في كسب العبد الموصى به قبل قبول الوصية
ولنا انه عبد قن فكان كسبه للوارثة كغير الموصى بعتقه وكالمعلق عتقه بصفة. وفارق المكاتب
فإنه يملك كسبه قبل عتقه فكذلك بعده. ويبطل ما ذكروه بأم الولد فإن عتقها قد استقر سببه في
حياة سيدها وكسبها له. والموصى به لا نسلمه وإن سلمناه فالفرق بينهما ان الموصى به قد تحقق فيه
سبب الملك وإنما وقف على شرط هو القبول فإذا وجد الشرط استند الحكم إلى ابتداء السبب وفي
الوصية بالعتق ما وجد السبب وإنما أوصى بايجاده وهو العتق فإذا وجد لم يجز أن يثبت حكمه سابقا
عليه ولهذا يملك الوصي له أن يقبل بنفسه وههنا لا يملك العبد ان يعتق نفسه. وان مات العبد بعد تمام
موت سيده وقبل إعتاقه فما كسبه المورثة على قولنا ولا أعلم قول من خلفنا فيه
(فصل) فإن علق عتق عبده على شرط في صحته فوجد في مرضه اعتبر خروجه من الثلث قاله
أبو بكر قال وقد نص احمد على مثل هذا في الطلاق. وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر انه يعتق من
رأس المال وهو مذهب الشافعي لأنه لا يتهم فيه فأشبه العتق في صحته
289

ولنا انه عتق في حال تعلق حق الورثة بثلثي ماله فاعتبر من الثلث كالمنجز. وقولهم لا يتهم فيه
قلنا وكذلك العتق المنجز لا يتهم فيه فإن الانسان لا يتهم بمحاباة غير الوارث وتقديمه على وارثه وإنما
منع منه لما فيه من الضرر بالورثة وهذا حاصل ههنا. ولو قال إذا قدم زيد وأنا مريض فأنت حر فقدم
وهو مريض كان معتبرا من الثلث وجها واحدا
(فصل) وإذا أعتق عبدا وله مال فماله لسيده روي هذا عن ابن مسعود وأبي أيوب وانس
ابن مالك وبه قال قتادة والحكم والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وروي ذلك عن حماد والبتي
وداود بن أبي مند وحميد وقال الحسن وعطاء والشعبي والنخعي ومالك وأهل المدينة يتبعه ماله لما
روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أعتق عبدا وله مال فالمال للعبد) رواه الإمام أحمد
باسناده وغيره وروى حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر انه كان إذا أعتق
عبدا لم يعرض لما له
ولنا ما روى الأثرم باسناده عن ابن مسعود أنه قال لغلامه عمير يا عمير اني أريد ان أعتقك عتقا
هنيئا فأخبرني بمالك فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أيما رجل أعتق عبده أو غلامه فلم يخبره
بماله فماله لسيده) ولان العبد وماله كانا جميعا للسيد فأزال ملكه عن أحدهما فبقي ملكه في الآخر
كما لو باعه وقد دل على هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه
290

المبتاع) فاما حديث ابن عمر فقال أحد يرويه عبد الله بن أبي جعفر من أهل مصر وهو ضعيف
في الحديث كان صاحب فقه فاما في الحديث فليس هو فيه بالقوي وقال أبو الوليد هذا الحديث خطأ
فاما فعل ابن عمر فإنه تفضل منه على معتقه قبل للإمام أحمد كان هذا عندك على التفضل؟ فقال اي
لعمري على التفضل قيل له فكأنه عندك للسيد؟ فقال نعم للسيد مثل البيع سواء
(مسألة) قال (وإذا قال لعبده أنت حر في وقت سماه لم يعتق حتى يأتي ذلك الوقت)
وجملة ذلك أن السيد إذا علق عتق عبده أو أمته على مجئ وقت مثل قوله أنت حر في رأس
الحول لم يعتق حتى يأتي رأس الحول وله بيعه وهبته واجارته ووطئ الأمة، وبهذا قال الأوزاعي
والشافعي وابن المنذر، قال أحمد إذا قال لغلامه أنت حر إلى أن يقدم فلان ومجئ فلان واحد
وإلى رأس السنة والى رأس الشهر إنما يريد إذا جاء رأس السنة أو جاء رأس الهلال منه وإذا قال إن
ت طالق إذا جاء الهلال إنما تطلق إذا جاء رأس الهلال وقال إسحاق كما قال احمد وحكي عن مالك
انه إذا قال لعبده أنت حر في رأس الحلول عتق في الحال والذي حكاه ابن المنذر عنه انها إذا كانت
جارية لم يطأها لأنه لا يملكها ملكا تاما ولا يهبها ولا يلحقها بسببه رق وان مات السيد قبل الوقت
كانت حرة عند الوقت من رأس المال وقد روي عن أحمد انه لا يطؤها لأن ملكه غير تام عليها
291

والأول أصح لما روي عن أبي ذر أنه قال لعبده أنت عتيق إلى رأس الحول فلولا ان العتق يتعلق
بالحول لم يعلقه عليه لعدم فائدته ولأنه علق العتق بصفة فوجب ان يتعلق بها كما لو قال إذا أديت
إلي ألفا فأنت حر واستحقاقها للعتق لا يمنع الوطئ كالاستيلاد ولا يلزم المكاتبة لأنها اشترت نفسها
من سيدها بعوض وزال ملكه عن أكسابها بخلاف مسئلتنا
(فصل) وإذا جاء الوقت وهو في ملكه عتق بغير خلاف نعلمه وان خرج عن ملكه ببيع
أو ميراث أو هبة لم يعتق، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال النخعي وابن أبي ليلى إذا قال
لعبده ان فعلت كذا فأنت حر فباعه بيعا صحيحا ثم فعل ذلك الفعل عتق وانتقض البيع قال ابن
أبي ليلى إذا حلف بالطلاق لا كلمت فلانا ثم طلقها طلاقا بائنا ثم كله حنث وعامة أهل العلم على خلاف
هذا القول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا طلاق ولا عتاق ولا بيع فيما لا يملك ابن آدم) ولأنه لا ملك له فلم
يقع طلاقه ولا عتاقه كما لو لم يكن له مال متقدم
(فصل) وإذا قال لعبده ان لم ضربك عشرة أسواط فأنت حر ولم ينو وقتا بعينه لم يعتق حتى
يموت ولم يوجد الضرب وان باعه قبل ذلك صح بيعه ولم ينفسخ في قول أكثر أهل العلم وقال مالك
ليس له بيعه فإن باعه فسخ البيع
ولنا انه باعه قبل وجود الشرط فصح ولم ينفسخ كما لو قال إذا دخلت الدار فأنت حر
وباعه قبل دخولها
292

(فصل) وإذا قال لعبده ان دخلت الدار فأنت حر فباعه ثم اشتراه ودخل الدار عتق وبهذا
قال أبو حنيفة وقال الشافعي فيها قولان
(أحدهما) لا يعتق لأن ملكه فيه متأخر عن عقد الصفة فلم يقع العتق فيه كما لو عقد الصفة
في حال زوال ملكه عنه
ولنا انه علق الصفة في ملكه وتحقق الشرط في ملكه فوجب ان يحنث كما لو لم يزل ملكه
عنه وفارق ما إذا علقها في حال زوال ملكه وتحقق الشرط في لمكة لأنه لو نجز العتق لم يقع فإذا
علقه كان أولى بعدم الوقوع بخلاف مسئلتنا فاما ان دخل الدار بعد بيعه ثم اشتراه ودخل الدار
فالمنصوص عن أحمد انه لا يعتق
وذكر عنه رواية أخرى انه يعتق وروي عنه في الطلاق انه يقع لأن التعليق والشرط وجدا في
ملكه فأشبه ما لو لم يتخللهما دخول. ووجه الأول ان العتق معلق على شرط لا يقتضي التكرار فإذا وجد
مرة انحلت اليمين وقد وجد الدخول في ملك غيره فانحلت اليمين فلم يقع العتق به بعد ذلك ويفارق
العتاق الطلاق من حيث إن النكاح الثاني ينبني على النكاح الأول بدليل ان طلاقه في النكاح الأول
يحسب عليه في النكاح الثاني وينقص به عدد طلاقه والملك باليمين بخلافه
(فصل) وإذا قال لعبد له مقيد هو حر ان حل قيده ثم قال هو حران لم يكن في قيده عشرة أرطال
293

فشهد شاهدان عند الحاكم ان وزن قيده خمسة أرطال فحكم بعتقه وأمر يحل قيده فوزن فوجد وزنه
عشرة أرطال عتق العبد بحل قيده وتبينا أنه ما عتق بالشرط الذي حكم الحاكم بعتقه به وهل يلزم
الشاهدين ضمان قيمته؟ فيه وجهان (أحدهما) انه يلزمها ضمانها لأن شهادتهما الكاذبة سبب عتقه
واتلافه فضمناه كالشهادة المرجوع عنها، ولان عتقه حصل بحكم الحاكم المبني على الشهادة الكاذبة فأشبه
الحكم بالشهادة التي يرجعان عنها وهذا قول أبي حنيفة
(والثاني) لا ضمان عليها وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن عتقه لم يحصل بالحكم المبني على شهادتهما
وإنما حصل بحل قيده ولم يشهدا به فوجب أن لا يضمنا كما لو لم يحكم الحاكم
(فصل) وإن قال لعبده أنت حر متى شئت لم يعتق حتى يشاء بالقول فمتى شاء عتق سواء كان
على الفور أو التراخي، وان قال أنت حر ان شئت فكذلك ويحتمل أن يقف ذلك على المجلس لأن
ذلك بمنزلة التخيير ولو قال لامرأته اختاري نفسك لم يكن لها الاختيار الا على الفور فإن تراخى ذلك
بطل خيارها كذا تعليقه بالمشيئة من غير أن يقرنه بزمن يدل على التراخي، وإن قال أنت حر كيف
شئت احتمل أن يعتق في الحال وهو قول أبي حنيفة لأن كيف لا تقتضي شرطا ولا وقتا ولا مكانا
فلا تقتضي توقيف العتق وإنما هي صفة للحال فتقتضي وقوع الحرية على أي حال شاء ويحتمل
294

أن لا يعتق حتى يشاء وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن لأن المشيئة تقضي الخيار فتقتضي أن لا يعتق قبل
اختياره كما لو قال أنت حرمتي شئت لأن كيف تعطي ما تعطي متى وأي فحكمها حكمها
وقد ذكر أبو الخطاب في الطلاق انه إذا قال لزوجته أنت طالق متى شئت وكيف شئت وحيث
شئت لم تطلق حتى تشاء فيجئ ههنا مثله
(فصل) وتعليق العتق على أداء شئ ينقسم ثلاثة أقسام
(أحدها) تعليقه على صفة محضة كقوله ان أديت إلي ألفا فأنت حر فهذه صفة لازمة لا سبيل
إلى إبطالها لأنه ألزمها نفسه طوعا فلم يملك ابطالها كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر ولو اتفق السيد
والعبد على إبطالها لم تبطل بذلك ولو أبرأه السيد من الألف لم يعتق بذلك ولم يبطل الشرط لأنه
لا حق له في ذمته يبرئه منه وإنما هو تعليق على شرط محض وان مات السيد انفسخت الصفة لأن ملكه
زال عنه فلا ينفذ عتقه في ملك غيره وان زال ملكه ببيع أو هبة زالت الصفة فإن عاد إلى ملكه
عاد كما ذكرنا فيما قبل ومتي وجدت الصفة عتق ولم يحتج إلى تجديد اعتاق من جهة السيد لأنه إزالة
ملك معلق على صفة وهو قابل للتعليق فيوجد بوجود الصفة كالطلاق وما يكسبه العبد قبل وجود
الشرط فهو لسيده لأنه لم يوجد عقد يمنع كون كسبه لسيده إلا أن ما يأخذه السيد منه. يحسبه من
الألف التي أداها فإذا كمل أداؤها عتق وما فضل في يده لسيده وإن كان المعلق عتقه أمة فولدت
لم يتبعها ولدها في أحد الوجهين
295

لأنها أمة قن فأشبه ما لو قال إن دخلت الدار فأنت حرة ولا تجب عليها قيمة نفسها لأنه عتق من
السيد بصفة فأشبه ما لو باشر عتقها ولا يعتق حتى يؤدي الألف بكمالها وذكر القاضي ان من أصلنا
ان العتق المعلق بصفة يوجد بوجود بعضها كما لو قال أنت حر ان أكلت رغيفا فأكل بعضه وهذا لا يصح
لوجوه أحدها ان أداء الألف شرط العتق وشروط الأحكام يعتبر وجودها بكمالها لثبوت الأحكام
وتنتفي بانتفائها بدليل سائر شروط الأحكام
(الثاني) انه إذا علقه على وصف ذي عدد فالعدد وصف في الشرط ومتي علق الحكم على شرط
؟ وصف لا يثبت ما لم توجد الصفة كما لو قال بعده ان خرجت عاريا فأنت حر فخرج لا بسالا يعتق
فكذلك العدد
(الثالث) انه متى كان في اللفظ ما يدل على الكل لم يحنث بفعل البعض وكذلك لو حلف لا صليت
صلاة لم يحنث حتى يفرغ مما يسمى صلاة ولو حلف لا صمت صياما لم يحنث حتى يصوم يوما ولو
قال لامرأته ان حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر من الحيضة، وقد ذكر القاضي
هذه المسائل ونظائرها، وذكر الألف ههنا يدل على ارادته أداء الألف كاملة
(الرابع) اننا لا نسلم هذا الأصل الذي ادعاه وانه إذا قال له أنت حر ان أكلت رغيفا لم يعتق بأكل
بعضه وإنما إذا حلف لا يفعل ففعل بعضه حنث في رواية في موضع يحتمل إرادة البعض ويتناوله
اللفظ كمن حلف لا يصلي فشرع في الصلاة أولا يصوم فشرع في الصوم
296

أولا يشرب ماء هذا الاناء فشرب بعضه ونحو هذا لأن الشارع في الصلاة والصيام قد صلى
وصام ذلك الجزء الذي شرع فيه والقدر الذي شرابه من الاناء هو ماء الاناء وقرينة حاله تقتضي
المنع من الكل فتقتضي الامتناع من الكل ومتى فعل البعض فما امتنع من الكل فحنث لذلك ولو
حلف على فعل شئ لم يبرا الا بفعل الجميع وفي مسئلتنا تعليق الحرية على أداء الألف يقتضي وجود
أدائها فلا يثبت الحكم المعلق عليها دون أدائها كمن حلف ليؤدين ألفا لم يبرأ حتى يؤديها
(الخامس) أن موضوع الشرط في الكتاب والسنة وأحكام الشريعة على أنه لا يثبت المشروط
بدون شرطه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) فلو قال بعضها مقتصرا عليه
لم يستحق الا العقوبة وقال (من أحيا أرضا ميتة فهي له) فلو شرع في الاحياء لم تكن له ولو قال
في المسابقة من سبق إلى خمس إصابات فهو سابق فسبق إلى أربع لم يكن سابقا ولو قال من رد
ضالتي فله دينار فشرع في ردها لم يستحق شيئا فكيف يخالف موضوعات الشرع واللغة بغير دليل
وإنما الذي جاء عن أحمد في الايمان فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه يحنث لأن اليمين على الترك
يقصد بها المنع فنزلت منزلة النهي والنهي عن فعل شئ يقتضي المنع من بعضه بخلاف تعليق المشروط
على الشرط والله أعلم
(القسم الثاني) صفة جمعت معاوضة وصفة والمغلب فيها حكم المعاوضة وهي الكتابة الصحيحة
297

فهي مساوية للصفة المحضة في العتق بوجودها وأنه لا يجب عليه قيمة نفسه وأن الولاء لسيده وتخالفها
في أنه لو أبرأه السيد من المال برئ منه وعتق لأن ذمته مشغولة به فبرئ منه بابرائه كثمن المبيع
ولا ينفسخ بموت السيد ولا بيع المكاتب ولا هبته لأنه عقد معاوضة لازم أشبه البيع وما كسبه قبل
الأداء فهو له وما فصل في يده بعد الأداء فهو له وولد المكاتبة الذين ولدتهم في الكتابة يعتقون بعتقها
(القسم الثالث) صفة فيها معاوضة والمغلب فيها حكم الصفة وهي الكتابة الفاسدة نحو الكتابة
على مجهول أو نجم واحد أو مع اخلال شرط من شروط الكتابة فتساوى الصفة المحضة والكتابة
في أنه لا يعتق بالأداء لأنه عتق معلق على شرط ولا تلزمه قيمة نفسه ولا يبطل بجنون المكاتب
ولا الحجر عليه لأن الحجر للرق لا يمنع صحة كتابة فلا يقتضي حدوثه ابطالها وان أدى حال
جنونه عتق لأن الصفة وجدت
وقال أبو بكر لا يعتق بذلك ويفارقهما في أن للسيد فسخها ورفعها لأنها فاسدة والفاسد يشرع
رفعه وازالته ويفارق الكتابة الصحيحة في أنها تبطل بموت السيد وجنون والحجر عليه لسفه لأنه
عقد جائز من جهته فبطل بهذه الأمور كالوكالة والمضاربة وقد قال احمد إذا وسوس فهو بمنزلة الموت
وهذا قول القاضي وقال أبو بكر لا تبطل بشئ من ذلك لأنه عقد كتابة فلم يبطل بذلك كالصحيحة
وتفارق الصفة المحضة في أن كسب العبد قبل الأداء له وما فضل في يده بعد الأداء فهو له دون سيده
298

ويتبع المكاتبة ولدها حملا لها على الكتابة الصحيحة في أحد الوجهين فيهما وفي الآخر لا يستحق
كسبه ولا يتبع المكاتبة ولدها لأن العتق حصل بالصفة لا بالكتابة واما الكتابة بمحرم كالخمر والخنزير
فقال القاضي هي كتابة فاسدة حكمها حكم ما ذكرنا ويعتق فيها بالأداء وقال أبو بكر لا يعتق فيها بالأداء
وهو ظاهر كلام احمد في رواية الميموني إذا كاتبه كتابة فاسدة فأدى ما كوتب عليه عتق ما لم تكن
الكتابة محرمة وينبغي ان يقال إن علق العتق على أداء المحرم عتق به كما لو علق العتق على السرقة
وشرب الخمر وان قال كاتبتك على خمر لم يعتق بأدائه كقول أبي بكر والله أعلم
(فصل) وإذا قال لعبده أنت حر وعليك الف عتق ولا شئ عليه لأنه أعتقه بغير شرط وجعل
عليه عوضا لم يقبله فيعتق ولم يلزمه الألف هكذا ذكر المتأخرون من أصحابنا ونقل جعفر بن محمد
قال سمعت أبا عبد الله قيل له إذا قال أنت حر وعليك ألف درهم قال جيد قيل له فإن لم يرض
العبد قال لا يعتق إنما قاله له على أن يؤدي إليه ألف درهم فإن لم يؤد فلا شئ وان قال أنت حر
على الف فكذلك في إحدى الروايتين لأن على ليست من أدوات الشرط ولا البدل فأشبه قوله
وعليك الف (والثانية) ان قبل العبد عتق ولزمته الألف وان لم يقبل لم يعتق وهذا قول مالك والشافعي
وأبي حنيفة لأنه أعتقه بعوض فلم يعتق بدون قبوله كما لو قال أنت حر بألف وهذه الرواية أصح
لأن على تستعمل للشرط والعوض قال الله تعالى (قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا)
299

وقال تعالى (فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) ولو قال في النكاح زوجتك ابنتي فلانة
على صداق خمسمائة درهم فقال الآخر قبلت صح النكاح وثبت الصداق وقال الفقهاء إذا تزوجها
على الف لها والف لأبيها كان ذلك جائزا فأما إذا قال أعتقتك على أن تخدمني سنة فقبل ففيها
روايتان كالتي قبلها وقيل إن لم يقبل العبد لم يعتق رواية واحدة فعلى هذا إذا قبل العبد عتق في الحال
ولزمته خدمته سنة فإن مات السيد قبل كمال السنة رجع على العبد بقيمة ما بقي من الخدمة بهذا وقال الشافعي
وقال أبو حنيفة تسقط قيمة العبد على خدمة السنة فيقسط منها بقدر ما مضى ويرجع عليه بما بقي من قيمته
ولنا ان العتق عقد لا يلحقه الفسخ فإذا تعذر فيه استيفاء العوض رجع إلى قيمته كالخلع في
النكاح والصلح في دم العمد وان قال أنت حر على أن تعطيني ألفا فالصحيح انه لا يعتق حتى يقبل
فإذا قبل عتق ولزمه الألف وان قال أنت حر بألف لم يعتق حتى يقبل فيعتق ويلزمه الف
(فصل) وإذا علق عتق أمته بصفة وهي حامل تبعها ولدها في ذلك لأنه كعضو من أعضائها فإن
وضعته قبل وجود الصفة ثم وجدت الصفة عتق لأنه تابع في الصفة فأشبه ما لو كان في الصفة فأشبه
ما لو كان في البطن وان كانت حائلا حين التعليق ثم وجدت الصفة وهي حامل عتقت هي وحملها لأن
العتق وجد فيها وهي حامل فتبعها ولدها كالمنجز وان حملت بعد التعليق وولدت قبل وجود الصفة
300

ثم وجدت بعد ذلك لم يعتق الولد لأن الصفة لم تتعلق به لا في التعليق ولا في حال العتق وفيه وجه
آخر أنه يتبعها في العتق قياسا على ولد المدبرة وان بطلت الصفة ببيع أو موت لم يعتق الولد لأنه
إنما يبيعها في العتق لا في الصفة فإذا لم توجد فيها لم يوجد فيه بخلاف ولد المدبرة فإنه تبعها في
التدبير فإذا بطل فيها بقي فيه
(مسألة) قال (وإذا أسلمت أم ولد النصراني منع من غشيانها والتلذذ بها واجبر على
نفقتها فإن أسلم حلت له وإذا مات عتقت)
هذه المسألة يؤخر شرحها إلى باب عتق أمهات الأولاد فإنه أليق بها
(مسألة) قال (وإذا قال لامته أول ولد تلدينه فهو حر فولدت اثنين أقرع بينهما فمن
أصابته القرعة فهو حر إذا أشكل أولهما خروجا)
إنما كان كذلك لأن أحدهما استحق العتق ولم يعلم بعينه فوجب اخراجه بالقرعة كما لو قال
لعبيده أحدكم حر وقد سبق القول في هذه المسألة فأما ان علم أولهما خروجا فهو الحر وحده وهذا قول
مالك والثوري وأبي هاشم والشافعي وابن المنذر وقال الحسن والشعبي وقتادة: إذا ولدت ولد بن
في بطن فهما حران
301

ولنا انه إنما أعتق الأول والذي خرج أولا هو أول المولودين فاختص العتق به كما لو ولدتهما في بطنين
(فصل) فإن ولدت الأول ميتا والثاني حيا فذكر الشريف انه يعتق الحي منهما وبه قال أبو حنيفة
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: لا يعتق واحد منهما وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن شرط
العتق إنما وجد في الميت وليس بمحل للعتق فانحلت اليمين به وإنما قلنا إن شرط العتق إنما وجد فيه
لأنه أول ولد بدليل انه لو قال لامته إذا ولدت ولدا فأنت حرة فولدت ولدا ميتا عتقت، ووجه
الأول ان العتق يستحيل في الميت فتعلقت اليمين بالحي كما لو قال إن ضربت فلانا فعبدي حر فضربه
حيا عتق وان ضربه ميتا لم يعتق ولأنه معلوم من طريق العادة انه قصد عقد يمينه على ولد يصح العتق
فيه وهو أن يكون حيا فتصير الحياة مشروطة فيه فكأنه قال أول ولد تلدينه حيا فهو حر
(فصل) وان قال لامته كل ولد تلدينه فهو حر عتق كل ولد ولدته في قول جمهور العلماء منهم
مالك والشافعي والأوزاعي والليث والثوري قال ابن المنذر ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم فإن باع
الأمة ثم ولدت لم يعتق ولدها لأنها ولدتهم بعد زوال ملكه
(فصل) فإن قال أول غلام أملكه فهو حر انبنى ذلك على العتق قبل الملك وفيه روايتان فإن
قلنا يصح عتق أول من يملكه فإن ملك اثنين عتق أحدهما بالقرعة في قياس قول احمد فإنه قال في
رواية مهنا إذا قال أول من يطلع من عبيدي فهو حر فطلع اثنان أو جميعهم فإنه يقرع بينهم ويحتمل
302

ان يعتقا جميعا لأن الأولية وجدت فيهما جميعا فتثبت الحرية فيهما كما لو قال في المسابقة من سبق فله عشرة
فسبق اثنان اشتركا في العشرة وقال النخعي يعتق أيهما شاء وقال أبو حنيفة لا يعتق واحد منهما
لأنه لا أول فيهما لأن كل واحد منهما مساو للآخر ومن شرط الأولية سبق الأول
ولنا ان هذين لم يسبقهما غيرهما فكانا أول كالواحد وليس من شرط الأول ان يأتي بعده ثان
بدليل ما لو ملك واحدا ولم يملك بعده شيئا وإذا كانت الصفة موجودة فيهما فاما ان يعتقا جميعا
أو يعتق أحدهما وتعينه القرعة على ما ذكرنا من قبل وكذلك الحكم فيما إذا قال أول ولد تلدينه
فهو حر فولدت اثنين وخرجا جميعا معا فالحكم فيهما كذلك
(فصل) وان قال آخر عبدا ملكه فهو حر فملك عبيدا لم يحكم بعتق واحد منهم حتى يموت
لأنه ما دام حيا فهو يحتمل ان يملك عبدا يكون هو الآخر فإذا مات عتق آخرهم وتبينا أنه
كان حرا حين ملكه فيكون أكسابه له وان كانت أمة كان أولادهما أحرارا من حين ولدتهم
لأنهم أولاد حرة وإن كان وطئها فعليه مهرها لأنه وطئ حرة أجنبية ولا يحل له ان يطأها حين
ملكها حتى يملك بعدها غيرها لأنه ما لم يملك بعدها غيرها فهي آخر في الحال وإنما يزول ذلك بملك
غيرها فوجب ان يحرم الوطئ وان ملك اثنين دفعة واحدة ثم مات فالحكم في عتقها كالحكم فيما إذا
ملك اثنين في المسألة التي قبلها
303

(مسألة) قال (وإذا قال العبد لرجل اشترني من سيدي بهذا المال فأعتقني ففعل فقد صار
حرا وعلى المشتري ان يؤدي إلى البائع مثل الذي اشتراه به وولاؤه للذي اشتراه الا أن
يكون قال له بعني بهذا المال فيكون الشراء والعتق باطلا ويكون السيد قد أخذ ماله) وجملته إلى العبد إذا دفع إلى أجنبي مالا وقال اشترني من سيدي بهذا المال فأعتقني ففعل لم يخل
من أن يشتر به بعين المال أو في ذمته ثم نفقد المال فإن اشتراه في ذمته فأعتقه فالشراء صحيح والعتق
جائز لأنه ملكه بالشراء فنفذ عتقه له وعلى المشتري أداء الثمن الذي اشتراه به لأنه لزمه الثمن بالبيع
والذي دفعه إلى السيد كان ملكا له لا يحتسب له به من الثمن فيبقى الثمن واجبا عليه يلزمه أداؤه وكان
العتق من ماله والولاء له وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وأما ان اشتراه بعين المال فالشراء باطل
304

والعتق غير واقع لأنه اشترى بعين مال غيره شيئا بغير اذنه فلم يصح الشراء ولم يقع العتق لأنه أعتق
مملوك غيره بغير اذنه ويكون السيد قد أخذ ماله لأن ما في يد العبد محكوم به لسيده
وعلى الرواية التي تقول ان النقود لا تتعين بالتعيين في العقود يصح البيع والعتق ويكون الحكم كما
لو اشتراه في ذمته ونحو هذا قال النخعي وإسحاق فإنهما قالا الشراء والعتق جائزان ويرد المشتري
مثل الثمن من غير تفريق
وقال الحسن البيع والعتق باطلان، وقال الشعبي لا يجوز ذلك ويعاقب من فعله من غير تفريق
أيضا وقد ذكرنا ما يقتضي التفريق وفيه توسط بين المذهبين فكان أولى إن شاء الله تعالى
(فصل) ولو كان العبد بين شريكين فأعطى العبد أحدهما خمسين دينارا على أن يعتق نصيبه
منه فأعتقه عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسرا ورجع عليه شريكه بنصف الخمسين وبنصف قيمة
العبد لأن ما في يد العبد يكون بين سيديه لا ينفرد به أحدهما الا أن نصيب المعتق ينفذ فيه العتق وإن
305

كان العوض مستحقا إذ لم يقع العتق على عينها وإنما سمى خمسين ثم دفعها إليه وإن أوقع العتق على
عينها يجب أن يرجع على العبد بقيمة ما أعتقه بالعوض المستحق ويسري العتق إلى نصيب شريكه فيرجع
بقيمته ويكون الولاء للمعتق
(فصل) ولو وكل أحد الشريكين شريكه في عتق نصيبه فقال الوكيل نصيبي حر عتق وسرى
إلى نصيب شريكه ويكون الولاء له، وإن أعتق نصيب الموكل عتق وسرى إلى نصيبه والولاء للموكل
وإن أعتق نصف العبد ولم ينو شيئا احتمل أن ينصرف إلى نصيبه لأنه لا يحتاج إلى نية ونصيب
شريكه يفتقر إلى النية ولم ينو ذلك واحتمل أن ينصرف إلى نصيب شريكه لأنه أمره بالاعتاق
فانصرف إلى ما أمر به، ويحتمل أن ينصرف إليهما لأنهما تساويا فانصرف إليهما وأيهما حكمنا بالعتق
عليه ضمن نصيب شريكه ويحتمل أن لا يضمن لأن الوكيل ان أعتق نصيبه فسرى إلى نصيب شريكه
لم يضمنه لأنه مأذون له في العتق وقد أعتق بالسراية فلم يضمن كم أذن له في اتلاف شئ فإنه لا يضمنه
وإن أتلفه بالسراية وإذا أعتق نصيب شريكه لم يلزم شريكه الضمان لأنه مباشر لسبب الاتلاف فلم
يجب له ضمان ما تلف به كما لو قال له أجنبي أعتق عبدك فأعتقه والله أعلم
306

كتاب التدبير
ومعنى التدبير تعليق عتق عبده بموته والوفاة دبر الحياة يقال دابر الرجل يدابر مدابرة إذا مات
فسمي العتق بعد الموت تدبيرا لأنه اعتاق في دبر الحياة والأصل فيه السنة والاجماع
أما السنة فما روى جابر أن رجلا أعتق مملوكا له عن دبر منه فاحتاج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من
يشتريه مني؟) فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه وقال (أنت أحوج منه) متفق عليه
وأما الاجماع فقال ابن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من دبر عبده أو
أمته ولم يرجع عن ذلك حتى مات والمدبر يخرج من ثلث ماله بعد قضاء دين إن كان عليه وانفاذ وصايا
إن كان وصى وكان السيد بالغا جائز الامر أن الحرية تجب له أولها
(مسألة) قال (وإذا قال لعبده أو أمته أنت أو قد دبرتك أو أنت حر بعد
موتي فقد صار مدبرا)
وجملة ذلك أنه إذا علق صريح العتق بالموت فقال أنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق بعد
موتي صار مدبرا بلا خلاف نعلمه، واما ان قال أنت مدبر أو قد دبرتك فإنه يصير مدبرا بنفس
للفظ من غير افتقار إلى نية وهذا منصوص الشافعي
307

وقال بعض أصحابه فيه قول آخر أنه ليس بصريح في التدبير ويفتقر إلى النية لأنهما لفظان لم
يكثر استعمالهما فافتقرا إلى النية كالكنايات
ولنا انهما لفظان وضعا لهذا العقد فلم يفتقر إلى النية كالبيع ويفارق الكنايات فإنها غير موضوعة
له ويشاركها فيه غيرها فافتقرت إلى النية للتعيين ويرجح أحد المحتملين بخلاف الموضوع
(فصل) ويعتق المدبر بعد الموت من ثلث المال في قول أكثر أهل العلم يروى ذلك عن علي وابن
عمر وبه قال شريح وابن سيرين والحسن وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري
وقتادة وحماد ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب
الرأي، وروي عن ابن مسعود ومسروق ومجاهد والنخعي وسعيد بن جبير انه يعتق من رأس المال
لأنه عتق فينفذ من رأس المال كالعتق في الصحة وعتق أم الولد
ولنا انه تبرع بعد الموت فكان من الثلث كالوصية ويفارق العتق في الصحة فإنه لم يتعلق به حق
غير المعتق فينفذ في الجميع كالهبة المنجزة
وقد نقل حنبل عن أحمد انه يعتق من رأس المال وليس عليها عمل قال أبو بكر هذا قول قديم
رجع عنه احمد إلى ما نقله الجماعة
308

(فصل) وإن اجتمع العتق في المرض والتدبير قدم العتق لأنه وإن اجتمع التدبير والوصية
بالعتق تساويا لأنهما جميعا عتق بعد الموت ويحتمل أن يقدم التدبير لأن الحرية تقع فيه عند الموت
والوصية تقف على الاعتاق بعده
(فصل) ويجوز التدبير مطلقا ومقيدا فالمطلق تعليق العتق بالموت من غير شرط آخر كقوله أنت
حر بعد موتي والمقيد ضربان (أحدهما) خاص نحو ان يقول إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا أو في
بلدي هذا أو عامي هذا فأنت حر فهذا جائز على ما قال إن مات على الصفة التي شرطها عتق العبد والا لم يعتق
وقال مهنا سألت احمد عمن قال لعبده أنت حر مدبر اليوم؟ قال يكون مدبرا ذلك اليوم فإن
مات ذلك اليوم صار حرا يعني إذا مات المولى
(الضرب الثاني) ان يعلق التدبير على صفة مثل أن يقول إن دخلت الدار أو ان قدم زيد أو
ان شفى الله مريضي فأنت حر مدبر أو فأنت حر بعد موتي فهذا لا يصير مدبرا في الحال لأنه علق
التدبير على شرط وإذا وجد صار مدبرا وعتق بموت سيده وإن لم يوجد الشرط في حياة السيد ووجد
بعد موته لم يعتق لأن اطلاق الشرط في حياة السيد يقتضي وجوده في الحياة بدليل ما لو لم علق عليه
عتقا منجزا فقال إذا دخلت الدار فأنت حر فدخلها بعد موته لم يعتق وكما لو قال لوكيله بع عبدي
309

فمات الموكل قبل بيعه بطلت وكالته، ولان المدبر من علق عتقه بالموت وهذا قبل الموت لم يكن مدبر
أو بعد الموت لا يمكن حدوث التدبير، وإن قال إن دخلت الدار بعد موتي فأنت حر فذكر أبو الخطاب
فيها روايتين (إحداهما) لا يعتق وهو قياس المنصوص عنه في قوله أنت حر بعد موتي بيوم أو شهر فإنه
قال لا يعتق لأنه علق العتق بصفة توجد في ملك غيره فلم يعتق كما لو قال إن دخلت الدار بعد بيعي إياك
فأنت حر ولأنه اعتاق له بعد قرار ملك غيره عليه فلم يعتق كالمنجز
(والثانية) يعتق وهو الذي ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه صرح بذلك فحمل عليه كما لو وصى
باعتاقه وكما لو وصى ببيع سلعة ويتصدق بثمنها ويفارق التصرف بعد البيع فإن الله تعالى جعل للانسان التصرف
بعد موته في ثلثه بخلاف ما بعد البيع والأول أصح إن شاء الله تعالى ويفارق الوصية بالعتق وبيع السلعة لأن الملك
لا يستقر للورثة فيه ولا يملكون التصرف فيه بخلاف مسئلتنا وقولهم حصل له التصرف في ثلثه قلنا إنما يتصرف
فيه تصرفا يثبت عقيب موته ويمنع انتقاله إلى الوارث وان ثبت للوارث فهو ثبوت غير مستقر وقد قيل
يكون مراعى فإذا قبل الموصى له تبينا ان الملك كان له من حين الموت وان لم يقبل تبينا انه كان
للوارث فعلى قولنا لا يعتق بالدخول بعد الموت للوارث التصرف فيه كيف شاء ومن صحح هذا
الشرط احتمل ان يمنع الوارث من التصرف في رقبته لأنه يستحق العتق فأشبه الموصى بعتقه واحتمل
310

ان لا يمنعه لأنه علق عتقه على صفة غير الموت فلم يمنع من التصرف فيه كما لو قال لعبده ان دخلت
الدار فأنت حر فأما كسبه قبل عتقه فهو للوارث لأن الملك فيه مستقر قبل وجود الشرط كما لو كان
الوارث هو الذي علق عتقه
(فصل) فإن قال أنت حر بعد موتي بشهر أو قال بيوم فقال احمد في رواية مهنا لا يعتق ولا
تصح هذه الصفة وقال أيضا سألت أحمد عن رجل قال لعبده أنت حر بعد موتي بشهر بألف درهم
فقال هذا كله لا يكون شيئا بعد موته وهذا اختيار أبي بكر وذكر القاضيان ابن أبي موسى
وأبو يعلى فيها رواية أخرى انه يعتق إذا وجدت الصفتان الموت ومضي المدة المذكورة، وبهذا قال
الثوري وأبو يوسف وإسحاق. ووجه الروايتين ما تقدم وقال أصحاب الرأي لا يعتق حتى يعتقه الوارث
وعلى قول من قال يعتق يكون قبل الموت ملكا للوارث وكسبه له كأم الولد والمدبر في حياة
السيد، وإن كان أمة فولدت قبل وجود الصفة فولدها بتبعها في التدبير ويعتق بوجود
الصفة كما تعتق هي.
311

(فصل) إذا قال لعبده إذا قرأت القرآن فأنت حر بعد موتي فقرأ القرآن جميعه صار مدبرا
وإن قرأ بعضه لم يصر مدبرا وإن قال إذا قرأت قرآنا فأنت حر بعد موتي فقرأ بعض القرآن
صار مدبرا لأنه في الأولى عرفه بالألف واللام المقتضية للاستغراق فعاد إلى جميعه وههنا نكره
فاقتضى بعضه، فإن قيل فقد قال الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)
وقال (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) ولم يرد
جميعه، قلنا قضية اللفظ تتناول جميعه لأن الألف واللام للاستغراق وإنما حمل على بعضه بدليل فلا
يحمل على البعض في غير ذلك الموضع بغير دليل ولان قرينة الحال تقتضي قراءة جميعه لأن الظاهر أنه
أراد ترغيبه في قراءة القرآن بتعليق الحرية به ومجازاته على قراءته بالحرية والظاهر أنه لا يجازي
بهذا الامر الكثير ولا يرغب به الا فيما يشق اما قراءته آية أو آيتين فلا
(فصل) فإن قال لعبده ان شئت فأنت حر بعد موتي أو إذا شئت أو متى شئت أو اي وقت
شئت فأنت حر بعد موتي فهو تدبير بصفة فمتى شاء في حياة سيده صار مدبرا يعتق بموت سيده كما لو قال إن
دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فدخلها في حياته وان مات السيد قبل مشيئته بطلت الصفة كما لو
مات في المسألة الأخرى قبل دخول الدار وان قال متى شئت بعد موتى فأنت حر أو أي وقت شئت
بعد موتي فأنت حر فهذا تعليق للعتق على صفة بعد الموت وقد ذكرنا انه لا يصح وان قول القاضي
312

صحته، فعلى قوله يكون ذلك على التراخي فمتى شاء بعد موت بعده عتق وما كان له من كسب قيل
مشيئته فهو لورثة سيده لأنه عبد قبل ذلك بخلاف الموصى به فإن في كسبه قبل القبول وجهين
(أحدهما) أنه يكون للموصى له لأننا تبينا انه ملكه من حين الموت وههنا لا يثبت الملك قبل
المشيئة وجها واحدا لأنه عتق معلق على شرط فلا يثبت العتق قبل الشرط وجها واحدا، وذكر
القاضي في قوله إذا شئت أو ان شئت فأنت حر بعد موتي انه على الفور فإن شاء في المجلس صار مدبرا
وان تراخت المشيئة عن المجلس بطلت ولم يصر مدبرا بالمشيئة بعده بناء على قوله اختاري نفسك فإن
الاختيار يقف على المجلس وهذا في معناه وانق ال ان شئت بعد موتي أو إذا شئت بعد موتي فأنت
حر كان على الفور أيضا فمتى شاء عقيب موت سيده أو في المجلس صار حرا وان تراخت مشيئته عن
المجلس لم تثبت فيه حرية وقد ذكر في الطلاق انه إذا قال أنت طالق ان شئت وشاء أبوك فشاءا
معا وقع الطلاق وسواء شاءا على الفور أو التراخي أو شاء أحدهما على الفور والآخر على التراخي وهذا
مثله فيخرج في كل مسألة مثل ما ذكر في الأخرى
(فصل) إذا قال لعبده إذا مت فأنت حر أولا؟ أو قال فأنت حر؟ أو لست بحر؟ لم يصر مدبرا
لأنه استفهام ولم يطع بالعتق فأشبه ما لو قال لزوجته أنت طالق أو لا؟ وقد ذكرنا ذلك في الطلاق
(فصل) وإذا دبر أحد الشريكين نصيبه لم يسر التدبير إلى نصيب شريكه موسرا كان أو
معسرا، وذكر أبو الخطاب وجها أنه يسري تدبيره إذا كان موسرا ويقوم عليه نصيب شريكه
313

وهو قول أبي حنيفة لأنه استحق العتق بموت سيده فسرى ذلك فيه كالاستيلاد وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أنه تعليق بصفة فلم يسر كتعليقه بدخول الدار ويفارق الاستيلاد فإنه آكد ولهذا
يعتق من جميع المال ولو قتلت سيدها لم يبطل حكم استيلادها ولا يجوز بيعها، والمدبر بخلاف ذلك
فعلى هذا ان مات المدبر عتق نصيبه ان خرج من الثلث وهل يسري إلى نصيب شريكه إن كان
موسرا؟ فيه روايتان ذكرهما الخرقي في غير هذا الموضع وان أعتق الشريك نصيبه قبل موت المدبر
وهو موسر عتق وسرى إلى نصيب المدبر
وذكر القاضي وأبو الخطاب فيها وجهين وللشافعي فيها قولان (أحدهما) كقولنا (والثاني)
لا يسري عتقه وهو قول أبي حنيفة لأن المدبر قد استحق الولاء على العبد بموته فلم يكن للآخر ابطاله
ولنا قوله عليه السلام (من أعتق شركا له في عبد فكان له ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة
العدل وأعطي شركاؤه حصصهم والا فقد عتق منه ما عتق) ولأنه إذا سرى إلى ابطال الملك الذي
هو آكد من الولاء فالولاء أولى، وما ذكروه لا أصل له ويبطل بما إذا علق عتق نصيبه بصفة
(فصل) وان دبر كل واحد منهما نصيبه فمات أحدهما عتق نصيبه وبقي نصيب الآخر على
التدبير ان لم يف ثلثه بقيمة حصة شريكه وإن كان يفي به فهل يسري العتق إليه؟ على روايتين، وان
قال كل واحد منهما إذا متنا فأنت حر فقال أبو بكر قال احمد إذا مات أحدهما فنصيبه حر وظاهر
314

هذا ان احمد جعل هذا اللفظ تدبيرا من كل واحد منهما لنصيبه ومعناه إذا مات كل واحد منهما فنصيبه حر
فإنه قبل الجملة بالجملة فيصرف إلى مقابلة البعض بالبعض كقوله ركب الناس دوابهم ولبسوا ثيابهم
وأخذوا رماحهم يريد لبس كل انسان ثوبه وركب دابته واخذ رمحه وكذلك إن قال أعتقوا عبيدهم
كان معناه أعتق كل واحد عبده وقال القاضي هذا تعليق للحرية بموتها جميعا وإنما قال أحمد يعتق نصيبه
بناء على أن وجود بعض الصفة يقوم مقام جميعها ولا يصح هذا لأنه لو كانت هذه العلة لعتق العبد
كله لوجود بعض صفة كل واحد منهما ولأننا قد أبطلت هذا القول بما ذكرنا من قبل ومقتضى
قول القاضي ان لا يعتق شئ منه قبل موتهما جمعا، وان قال كل واحد منهما أردت ان العبد حر بعد
آخرنا موتا انبنى هذا على تعليق الحرية على صفة توجد بعد الموت وقد ذكرنا الخلاف في ذلك فإن
قلنا بجواز ذلك عتق بعد موت الآخر منهما عليهما جميعا وان قلنا لا يصح ذلك عتق نصيب الآخر
منهما بالتدبير وفي سرايته إلى باقيه إن كان ثلثه يحتمل ذلك روايتان
وان قال كل واحد منهما إذا مت قبل شريكي فنصيبي له فإذا مات فهو حر وان مت بعده فنصيبي
حر فقد وصى كل واحد منهما للآخر فإذا مات أحدهما صار العبد كله للآخر فإذا مات عتق كله
عليه وصار ولاؤه كله له ان قلنا لا يصح تعليق العتق على صفة بعد الموت وان قلنا يصح عتق
عليهما وولاؤه بينهما
315

(مسألة) قال (وله بيعه في الدين)
ظاهر كلام الخرقي انه لا يباع في الدين وقد أو ماء إليه احمد وقال مالك لا يباع الا في دين يغلب
رقبة العبد فإذا كان العبد يساوي ألفا فكان عليه خمسمائة لم يبع العبد وروي عن أحمد أنه قال إنا أرى
بيع المدبر في الدين، وإذا كان فقيرا لا يملك شيئا رأيت أن أبيعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد باع المدبر لما
علم أن صاحبه لا يملك شيئا غيره، باعه النبي صلى الله عليه وسلم لما علم حجته وهذا قول إسحاق وأبي أيوب وأبي خيثمة
وقالا ان باعه من غير حاجة أجزناه ونقل جماعة عن أحمد جواز بيع المدبر مطلقا في الدين وغيره مع
الحاجة وعدمها قال إسماعيل بن سعيد سألت احمد عن بيع المدبر إذا كان بالرجل حاجة إلى ثمنه قال
له أن يبيعه محتاجا كان إلى ذلك أو غير محتاج وهذا هو الصحيح
وروي مثل هذا عن عائشة وعمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد وهو قول الشافعي وكره بيعه
ابن عمر وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وابن سيرين والزهري والثوري والأوزاعي والحسن
ابن صالح وأصحاب الرأي ومالك لأن ابن عمر رضي الله عنهما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يباع المدبر
ولا يشتري) ولأنه استحق العتق بموت سيده أشبه أم الولد
316

ولنا ما روى جابر رضي الله عنه أن رجلا أعتق مملوكا له عن دبر فاحتاج فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (من يشتريه مني؟) فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه وقال (أنت أحوج منه)
متفق عليه قال جابر عبد قبطي مات عام أول في امارة بن الزبير وقال أبو إسحاق الجوزجاني صحت
أحاديث بيع المدبر باستقامة الطرق والخبر إذا ثبت استغني به عن غيره من رأي الناس ولأنه عتق بصفة ثبت
بقول المعتق فلم يمنع البيع كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر ولأنه تبرع بمال بعد الموت فلم يمنع البيع في
الحياة كالوصية قال احمد هو يقولون من قال غلامي حر رأس الشهر فله بيعه قبل رأس الشهر وان
قال غدا فله بيعه اليوم وان قال إذا مت قال لا يبيعه فالموت أكثر من الاجل ليس هذا قياسا
ان جاز ان يبيعه قبل أرس الشهر فله ان يبيعه قل مجئ الموت وهم يقولون في من قال إن مت من
مرضي هذا فعبدي حر ثم لم يمت من مرضه ذلك فليس بشئ وان قال إن مت فهو حر لا يباع
هذا متناقض إنما أصله الوصية من الثلث فله ان يغير وصيته ما دام حيا فأما خبرهم فلم يصح عن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول ابن عمر وقال الطحاوي هو عن ابن عمر وليس بمسند عن النبي صلى الله عليه وسلم
ويحتمل انه أراد بعد الموت أو على الاستحباب اما أم الولد فإن فإن عتقها يثبت بغير اختيار سيدها وليس
بتبرع ويكون من جميع المال ولا يمكن ابطاله بحال والتدبير بخلافه، ووجه قول الخرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما باع المدبر عند الحاجة فلا يتجاوز به موضع الحاجة
317

(مسألة) قال (ولا تباع المدبرة في الدين الا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله
رحمه الله والرواية الأخرى الأمة كالعبد)
لا نعلم هذا التفريق بين المدبرة والمدبر عن غير إمامنا رحمه الله وإنما احتاط في رواية المنع من
بيعها لأن فيه إباحة فرجها وتسليط مشتريها على وطئها مع وقوع الخلاف في بيعها وحلها فكره الاقدام
على ذلك مع الاختلاف فيه والظاهر أن هذا المنع منه كان على سبيل الورع لا على التحريم البات
فإنه إنما قال لا يعجبني بيعها والصحيح جواز بيعها فإن عائشة باعت مدبرة لها سحرتها ولان المدبرة
في معنى المدبر فما ثبت فيه ثبت فيها
(مسألة) قال (فإن اشتراه بعد ذلك رجع في التدبير)
وجملة ذلك أن السيد إذا دبر عبده ثم باعه ثم اشتراه عاد تدبيره لأن علق عتقه بصفة فإذا باعه
ثم اشتراه عادت الصفة كما لو قال أنت حر ان دخلت الدار ثم باعه ثم اشتراه وذكر القاضي أن هذا
مبني على أن التدبير تعليق بصفة وفيه رواية أخرى أنه وصية فتبطل بالبيع ولا تعود لأنه لو وصى بشئ
ثم باعه بطلت الوصية ولم تعد بشرائه ومذهب الشافعي مثل هذا الا ان عود الصفة بعد الشراء له
فيه قولان والصحيح ما قال الخرقي لأن التدبير وجد فيه التعليق بصفة فلا يزول حكم التعليق بوجود
معنى الوصية فيه بل هو جامع للامرين وغير ممتنع وجود الحكم بسببين فيثبت حكمها فيه
318

(مسألة) قال (ولو دبره ثم قال قد رجعت في تدبيري أو قد أبطلته لم يبطل لأنه علق
العتق بصفة في إحدى الروايتين والأخرى يبطل التدبير)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في بطلان التدبير بالرجوع فيه قولا فالصحيح أنه لا يبطل لأنه
علق العتق بصفة فلا يبطل كما لو قال لعبده ان دخلت الدار فأنت حر والثانية يبطل لأنه جعل له نفسه بعد
موته فكان ذلك وصية فجاز الرجوع فيه بالقول كما لو وصى له بعبد آخر وهذا قول الشافعي القديم
وقوله الجديد كالرواية الأولى وهو الصحيح لأنه تعليق للعتق بصفة ولا يصح القول بأنه وصية
به لنفسه لأنه لا يملك نفسه وإنما تحصل فيه الحرية ويسقط عنه الرق ولهذا لا تقف الحرية على قبوله
ولا اختياره وتتنجز عقيب الموت كتنجزها عقيب سائر الشروط ولأنه غير ممتنع أن يجمع الامرين
فثبت فيه حكم التعليق في امتناع الرجوع ويجتمعان في حصول العتق بالموت
(فصل) إذا قال السيد لمدبره إذا أديت إلى ورثتي كذا فأنت حر فهو رجوع عن التدبير
وينبني على الروايتين ان قلنا له الرجوع بالقول فظاهره انه بطل التدبير ههنا وإن قلنا ليس له الرجوع
لم يؤثر القول شيئا وإن دبره كله ثم رجع في نصفه صح إذا قلنا له الرجوع في جميعه لأنه لما صح أن
يدبر نصفه ابتداء صح أن يرجع في تدبير نصفه وإن غير التدبير فكان مطلقا فجعله مقيدا صار مقيدا
319

ان قلنا بصحة الرجوع في التدبير والا فلا، وإن كان مقيدا فأطلقه صح على كل حال لأنه زيادة فلا
يمنع منها وإذا دبر الأخرس وكانت إشارته أو كتابته معلومة صح تدبيره ويصح رجوعه ان قلنا
بصحة الرجوع في التدبير لأن إشارته وكتابته تقوم مقام نطق الناطق في أحكامه وان دبر وهو ناطق
ثم صار أخرس صح رجوعه بإشارته المعلومة أو كتابته، وان لم تفهم إشارته فلا عبرة بها
لأنه لا يعلم رجوعه
(فصل) وإذا رهن المدبر لم يبطل تدبيره لأنه تعليق للعتق بصفة فإن مات السيد وهو رهن
عتق وأخذ من تركة سيده قيمته فتكون رهنا مكانه لأن عتقه بسبب من جهة سيده فأشبه ما لو
باشره بالعتق ناجزا
(فصل) وإن ارتد المدبر ولحق بدار الحرب لم يبطل تدبيره لأن ملك سيده باق عليه ويصح
تصرفه فيه بالعتق والهبة والبيعان كان مقدورا عليه فإن سباه المسلمون لم يملكوه لأنه مملوك لمعصوم
ويرد لي سيده ان علم به قبل قسمه يستتاب فإن تاب والا قتل وان لم يعلم به حتى قسم لم يرد إلى
سيده في إحدى الروايتين
(والأخرى) ان اختار سيده أخذ بالثمن الذي حسب به على آخذه أخذه وان لم يختر أخذه بطل
تدبيره ومتى عاد إلى سيده بوجه من الوجوه عاد تدبيره وان لم يعد إلى سيده بطل تدبيره كما لو بيع وكان
320

رقيقا لمن هو في يده وان مات سيده قبل سبيه عتق فإن سبي بعد هذا لم يرد إلى ورثة سيده لأن
ملكه زال عنه بحريته فصار كأحرار دار الحرب ولكن يستتاب فإن تاب وأسلم صار رقيقا يقسم
بين الغانمين وان لم يتب قتل ولم يجز استرقاقه لأنه لا يجوز اقراره على كفره. وقال القاضي لا يجوز
استرقاقه إذا أسلم وهو قول الشافعي لأن في استرقاقه ابطال ولاء المسلم الذي أعتقه
ولنا ان هذا لا يمنع قتله واذهاب نفسه وولائه فلان لا يمنع تملكه أولى ولان المملوك الذي لم يعتقه
سيده يثبت الملك فيه للغانمين إذا لم يعرف ما ملكه بعينه ويثبت فيه إذا قسم قبل العلم بمالكه والملك
آكد من الولاء فلان يثبت مع الولاء وحده أولى
فعلى هذا لو كان المدبر ذميا فلحق بدار الحرب ثم مات سيده أو أعتقه ثم قدر عليه المسلمون
فسبوه ملكوه وقسموه. وعلى قول القاضي ومذهب الشافعي لا يملكونه فإن كان سيده ذميا جاز استرقاقه
في قول القاضي ولأصحاب الشافعي في استرقاقه وجهان
(أحدهما) يجوز وهذا حجة عليهم لأن عصمة مال الذمي كعصمة مال المسلم بدليل قطع سارقه
سواء كان مسلما أو ذميا ووجوب ضمانه وتحريم تملك ماله إذا أخذه الكفار ثم قدر عليه المسلمون
فأدركه صاحبه قبل القسمة
وقال القاضي الفرق بينهما أن سيده ههنا لو لحق بدار الحرب جاز تملكه فجاز تملك عتقه بخلاف
321

المسلم قلنا إنما جاز استرقاق سيده لزوال عصمته وذهاب عاصمه وهو ذمته وعهده وأما إذا ارتد مدبره
فإن عصمة ولائه ثابتة بعصمة من له ولاؤه وهو والمسلم في ذلك سواء فإذا جاز ابطال ولاء أحدهما
جاز في الآخر مثله
(فصل) فإن ارتد سيده المدبر فذكر القاضي أن المذهب أنه يكون موقوفا فإن عاد إلى الاسلام
فالتدبير باق بحاله لأنا تبينا أن ملكه لم يزل وإن قتل أو مات على ردته لم يعتق المدبر لأنا تبينا أن
ملكه زال بردته
وقال أبو بكر قياس قول أبي عبد الله أن تدبيره يبطل بالردة فإن عاد إلى الاسلام استأنف التدبير
وقال الشافعي التدبير باق ويعتق بموت سيده لأن تدبيره سبق ردته فهو كبيعه وهبته قبل ارتداده
وهذا ينبني على القول في مال المرتد هل هو باق على ملكه أو قد زال بردته؟ وقد ذكر في باب المرتد
فأما إن دبر في حال ردته فتدبيره مراعى فإن عاد إلى الاسلام تبينا ان تدبيره وقع صحيحا وإن قتل
أو مات على ردته تبينا انه وقع باطلا ولم يعتق المدبر
وقال ابن أبي موسى تدبيره باطل وهذا قول أبي بكر لأن الملك عنده يزول بالردة وإذا أسلم
رد إليه تملكا مستأنفا
322

(مسألة) قال (وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها فولدها بمنزلتها)
وجملته أن الولد الحادث من المدبرة بعد تدبيرها لا يخلو من حالين (أحدهما) أن يكون موجودا
حال تدبيرها ويعلم ذلك بان نأتي به لأقل من ستة أشهر من حين التدبير فهذا يدخل معها في التدبير
بلا خلاف نعلمه لأنه بمنزلة عضو من أعضائها فإن بطل التدبير في الام لبيع أو موت أو رجوع بالقول
لم يبطل في الولد لأنه ثبت فيه أصلا (الحال الثاني) ان تحمل به بعد التدبير فهذا يتبع أمه في التدبير
ويكون حكمه كحكمها في العتق بموت سيدها في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن مسعود
وابن عمر وربه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم ومجاهد والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز
والزهري ومالك والثوري والحسن بن صالح وأصحاب الرأي
وذكر القاضي أن حنبلا نقل عن أحمد أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشترط المولى قال فاظهر هذا
انه لا يتبعها ولا يعتق بموت سيدها وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وللشافعي قولان كالمذهبين (أحدهما)
لا يتبعها وهو اختيار المزني لأن عتقها معلق بصفة تثبت بقول المعتق وحده فأشبهت من علق عتقها
بدخول الدار قال جابر بن زيد إنما هو بمنزلة الحائط تصدقت به إذا مت فإن ثمرته لك ما عشت ولان
التدبير وصية وولد الموصى بها قبل الموت لسيدها
323

ولنا ما روي عن عمر وابن عمر وجابر أنهم قالوا ولد المدبرة بمنزلتها ولم نعرف لهم في الصحابة
مخالفا فكان اجماعا، ولان الام استحقت الحرية بموت سيدها فيتبعها ولدها كأم الولد ويفارق التعليق
بصفة في الحياة والوصية من جهة أن التدبير آكد من كل واحد منهما لأنه اجتمع فيه الأمران وما
وجد فيه سببان آكد مما وجد فيه أحدهما وكذلك لا تبطل بالموت ولا بالرجوع عنه فعلى هذا إن
بطل التدبير في الام لمعنى اختص بها من بيع أو موت أو رجوع لم يبطل في ولدها ويعتق بموت
سيدها كما لو كانت أمه باقية على التدبير فإن لم يتسع الثلث لهما جميعا أقرع بينهما فأيهما وقعت القرعة
عليه عتق ان احتمله الثلث والا عتق منه بقدر الثلث وإن فضل من الثلث بعد عتقه شئ كمل من
الآخر كما لو دبر عبدا وأمة معا وأما الولد الذي وجد قبل التدبير فلا علم خلافا في أنه لا يتبعها لأنه
لا يتبع في العتق المنجز ولا في حكم الاستيلاد ولا في الكتابة فلان لا يتبع في التدبير أولى قال الميموني
قلت لأحمد ما كان من ولد المدبرة قبل أن تدبر يتبعها قال لا يتبعها من ولدها ما كان قبل ذلك
إنما يتبعها ما كان بعد ما دبرت
وقال حنبل سمعت عمي يقول في الرجل يدبر الجارية ولها ولد؟ قال ولدها معها، وجعل أبو
الخطاب هذه رواية في أن ولدها قبل التدبير يتبعها وهذا بعيد والظاهر أن احمد لم يرد أن ولدها قبل
التدبير معها وإنما أراد ولدها بعد التدبير على ما صرح به في غير هذه الرواية فإن ولدها الموجود
324

لا يتبعها في عتق ولا كتابة ولا استيلاد ولا بيع ولا هبة ولا رهن ولا شئ من الأسباب الناقلة
للملك في الرقبة
(فصل) فإن علق عتق أمته بصفة نظرنا فإن كانت حاملا حين التعليق تبعها فيه لأنه كعضو
من أعضائها وإن كانت حاملا حين وجود الصفة عتق معها لذلك وإن حملت بعد التعليق وولدت
قبل وجد الصفة لم يتبعها في الصفة ولم يعتق بوجودها، وفيه وجه آخر انه يعتق بها ويتبع أمه في
ذلك ولأصحاب الشافعي وجهان كهين، ووجه اتباعه إياها أنها استحقت الحرية
فتبعها ولدها كالمدبرة
ولنا انه يملكها ملكا كاملا ويباح له التصرف في رقبته بأنواع التصرفات بغير خلاف فلم يعتق
ولدها بعتقها كالموصى بعتقها أو الموكل فيه وتفارق المدبرة فإن التدبير آكد لما ذكرنا ولهذا اختلف
في جواز بيعها والتصرف فيها
(فصل) فأما ولد المدبر فحكمه حكم أمه لا نعلم فيه خلافا وهذا قول ابن عمر وعطاء والزهري
والأوزاعي والليث وذلك لأن الولد يتبع الام في الرق والحيرة وان تسرى باذن سيده فولد
له أولاد فروي عن أحمد انهم يتبعونه في التدبير
وروي ذلك عن مالك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن إباحة التسري تنبني على
325

ثبوت الملك وولد الحر من أمته يتبعه في الحرية دونها كذلك ولد المدبر من أمته يتبعه دونها ولأنه
ولد من يستحق الحرية من أمته فيتبعه في ذلك كولد المكاتب من أمته
(فصل) وإذا ولدت المدبرة فرجع في تدبيرها وقلنا بصحة الرجوع لم يتبعها ولدها لأن الولد
المنفصل لا يتبع في الحرية ولا في التدبير ففي الرجوع أولى وان رجع في تدبيره وحده جاز لأنه إذا
جاز الرجوع في الام المباشرة بالتدبير ففي غيرها أولى وان رجع في تدبيرها جاز كما لو دبرها وابنها
المنفصل وان دبرها حاملا ثم رجع في تدبيرها حال حملها لم يتبعها الولد في الرجوع لأن التدبير
اعتاق والاعتاق مبني على التغليب والسراية والرجوع عنه بعكس ذلك فلم يتبع الولد فيه وهذا كما
لو ولد له توأمان فاقر بأحدهما لزماه جميعا وان نفى أحدهما لم ينتف الآخر وان رجع فيهما جميعا جاز
وان رجع في أحدهما دون الآخر جاز وان دبر الولد دون أمه أو الام دون ولدها جاز لأنه يجوز
أنى عتق كل واحد منهما دون صاحبه فجواز ان يدبر أحدهما دون صاحبه أولى ولأنه تعليق العتق
بصفة فجاز في أحدهما دون الآخر كالتعليق بدخول الدار وان دبر أمته ثم قال إن دخلت الدار فقد
رجعت في تدبيري لم يصح لأن الرجوع لا يصح تعليقه بصفة وان قال كلما ولدت ولدا فقد رجعت
في تدبيره لم يصح لذلك.
326

(فصل) وإذا اختلف المدبرة وورثة سيدها في ولدها فقالت ولدتهم بعد تدبيري فعتقوا
معي وقال الورثة بل ولدتهم قبل تدبيرك فهم مملوكون لنا فالقول قول الورثة مع أيمانهم لأن
الأصل بقاء رقهم وانتفاء الحرية عنهم فإذا لم تكن بينة فالقول قول من يوافق قوله الأصل
(فصل) وكسب المدبر في حياة سيده لسيده وله أخذه منه لأن التدبير لا يخرج عن شبهه بالوصية
بالعتق أو بالتعليق له على صفة أو بالاستيلاد وكل هؤلاء كسبهم لسيدهم فكذلك المدبر فإن اختلف
هو وورثة سيده فيما في يده بعد عتقه فقال كسبته بعد حريتي وقالوا بل قبل ذلك فالقول قوله لأنه
327

في يده ولم يثبت ملكهم عليه بخلاف الولد فإن كان رقيقا لهم فإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه
قدمت بينة الورثة عند من يقدم بينة الخارج وبينة المدبر عند من يقدم بينة الداخل وان أقر
المدبر ان ذلك كان في يده في حياة سيده ثم تجدد ملكه عليه بعد موته فالقول قول الوارث لأن
الأصل معهم فإن أقام المدبر بينة بدعواه قبلت وتقدم على بينة الورثة ان كانت لهم بينة لأن بينة
المبر تشهد بزيادة وان لم يقر المدبر بأنه كان في يده في حياة سيده فأقام الورثة بينة به فهل تسمع
بينهم؟ على وجهين:
(مسألة) قال (وله إصابة مدبرته)
يعني له وطؤها روي عن ابن عمر أنه دبر أمتين وكان يطؤهما وممن رأى ذلك ابن عباس
وسعيد بن المسيب وعطاء والثوري والنخعي ومالك والأوزاعي والليث والشافعي قال أحمد لا أعلم
أحدا كره ذلك غير الزهري وحكي عن الأوزاعي أنه كان يقول إن كان يطؤها قبل تدبيرها فلا بأس
بوطئها بعده وإن كان لا يطؤها قبله لم يطأها بعد تدبيرها
ولنا أنها مملوكته لم تشتر نفسها منه فحل له وطؤها لقول الله تعالى (أو ما ملكت أيمانهم فإنهم
غير ملومين) وكأم الولد
328

(فصل) وابنة المدبرة كامها في حل وطئها ان لم يكن وطئ أمها وعنه ليس له وطؤها لأن حق
الحرية ثبت لها تبعا أشبه ولد المكاتبة
ولنا ان ملك سيدها تام عليها فحل له وطؤها للآية وكامها واستحقاقها للحرية لا يزيد على استحقاق
أمها ولم يمنع ذلك وطأها. وأما ولد المكاتبة فألحقت بأمها وأمها يحرم وطؤها فكذلك ابنتها وأم هذه
يحل وطؤها فيجب الحاقها بها وكلام احمد محمول على أنه وطئ أمها فحرمت عليه لذلك.
(مسألة) قال (ومن أنكر التدبير لم يحكم عليه الا بشاهدين عدلين أو شاهد يمين العبد)
وجملته أن العبد إذا ادعى على سيده انه دبره فدعواه صحيحة لأنه يدعي استحقاق العتق ويحتمل
أن لا تصح الدعوى لأن السيد إذا أنكر التدبير كان بمنزلة انكار الوصية وانكار الوصية رجوع عنها
في أحد الوجهين فيكون انكار التدبير رجوعا عنه والرجوع عنه يبطله في أحد الوجهين فتبطل الدعوى
والصحيح أن الدعوى صحيحة لأن الصحيح ان الرجوع عن التدبير لا يبطله واه ابطله فما ثبت كون
الانكار رجوعا ولو ثبت ذلك فلا يتعين الانكار جوابا للدعوى فإنه يجوز أن يكون جوابها اقرارا
فإذا ثبت هذا فإن السيد ان أقر فلا كلام وان أنكر ولم تكن للعبد بينة فالقول قول المنكر مع يمينه
329

لأن الأصل عدمه وان كانت للعبد بينة حكم بها ويقبل فيه شاهدان عدلان بلا خلاف وان لم يكن له
الا شاهد واحد وقال أنا أحلف معه أو شاهد وامرأتان ففيه روايتان:
(إحداهما) لا يحكم به وهو مذهب الشافعي لأن الثابت به الحرية وكمال الأحكام وهذا ليس
بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه النكاح والطلاق (والثانية)
يثبت بذلك لأنه لفظ يزول به ملكه عن مملوكه فأشبه البيع وهذا أجود لأن البينة إنما تراد
لاثبات الحكم على المشهود عليه وهي في حقه إزالة ملكه عن ماله فثبت بهذا وإن حصل
به غرض آخر للمشهود له فلا يمنع ذلك من ثبوته بهذه البينة ولان العتق مما يتشوف إليه ويبني
على التغليب والسراية فينبغي أن يسهل طريق اثباته وإن كان الاختلاف بين العبيد وورثة السيد بعد
موته فهو كما لو كان الخلاف مع السيد إلا أن الدعوى صحيحة بغير خلاف لأنهم لا يملكون الرجوع
وأيمانهم على نفي العلم لأن الخلاف في فعل موروثهم وايمانهم على نفي فعله وتجب اليمين على كل واحد
من الورثة ومن نكل منهم عتق نصيبه ولم يسر إلى باقيه وكذلك إن أقر لأن اعتاقه بفعل الموروث
لا بفعل المقر ولا الناكل
330

(مسألة) قال (وإذا دبر عبده ومات وله مال غائب أو دين في ذمة موسر أو معسر
عتق من المدبر ثلثه وكلما اقتضي من دينه شئ أو حضر من ماله الغائب شئ عتق من
المدبر مقدار ثلثه كذلك من يعتق الثلث حتى كله)
وجملة ذلك أن السيد إذا دبر عبده ومات وله مال سواه يفي بثلثي ماله إلا أنه غائب أو دين في
ذمة انسان لم يعتق جميع العبد لجواز ان يتلف الغائب أو يتعذر استيفاء الدين فيكون العبد جميع التركة
وهو شريك الورثة فيها له ثلثها ولهم ثلثاها فلا يجوز أن يحصل على جميعها ولكنه يتنجز عتق ثلثه
ويبقى ثلثاه موقوفين لأن ثلثه حر على كل حال لأن أسوأ الأحوال أن لا يحصل من سائر المال شئ
فيكون العبد جميع التركة فيعتق ثلثه كما لو لم يكن له مال سواه وكما اقتضي من الدين شئ أو حضر من
الغائب شئ عتق من المدبر قدر ثلثه فإذا كانت قيمته مائة وقدم من الغائب مائة عتق ثلثه الثاني فإذا قدمت
مائة أخرى عتق ثلثه الباقي وإن بقي له دين بعد ذلك أو مال غائب لم يؤثر بقاؤه لأن الحاصل من المال
يخرج المدبر كله من ثلثه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ولهم وجه آخر لا يعتق منه شئ حتى
يستوفى من الدين شئ أو يقدم من الغائب شئ فيعتق من العبد قدر نصفه لأن الورثة لم يحصل لهم
شئ والعبد شريكهم فلا يجوز أن يحصل على شئ ما لم يحصل لهم مثلاه فإن تلف الغائب ويئس من استيفاء
الدين عتق ثلثه حينئذ وملكوا ثلثيه لأن العبد صار جميع التركة وهذا لا يصح لأن ثلث العبد خارج من الثلث يقينا
331

وإنما الشك في الزيادة عليه وما خرج من الثلث يقينا يجب أن يكون يقينا حرا لأن التدبير صحيح ولا
خلاف في أنه ينفذ في الثلث ووقف هذا الثلث عن العتق مع يقين حصول العتق فيه ووجود المقتضي
له وعدم الفائدة في وقفه لا معنى له وكون الورثة لم يحصل لهم شئ لمعنى اختص بهم لا يوجب أن
لا يحصل له شئ مع عدم ذلك المعنى فيه ألا ترى انه لو أبرأ غريمه من دينه وهو جميع التركة فإنه
يبرأ من ثلثه ولم يحصل للورثة شئ؟ ولو كان الدين مؤجلا فأبرأه منه برئ من ثلثه في الحال وتأخر
استيفاء الثلثين إلى الاجل، ولو كان الغريم معسرا برئ من ثلثه في الحال وتأخر الباقي إلى الميسرة
ولان تأخير عتق الثلث لا فائدة للورثة فيه ويفوت نفعه للمدبر فينبغي أن لا يثبت فإذا ثبت هذا فإن
العبد إذا عتق كله بقدوم الغائب لو استيفاء الدين تبينا انه كان حرا حين الموت فيكون كسبه له لأنه
إنما عتق بالتدبير ووجود الشرط الذي علق عليه السيد حريته وهو الموت وإنما وقفناه للشك في خروجه
من الثلث فإذا زال الشك تبينا انه كان حاصلا قبل زوال الشك، وإن تلف المال تبينا انه كان
ثلثاه رقيقا ولم يعتق منه سوى ثلثه، وإن تلف بعض المال رق من المدبر ما زاد على قدر ثلث
الحاصل من المال
(فصل) وإن كان المدبر عبدين وله دين يخرجان من ثلث المال على تقدير حصوله أقرعنا بينهما
فيعتق ممن تخرج له القرعة قدر ثلثهما وكان باقيه والعبد الآخر موقوفا فإذا استوفي من الدين شئ
332

كمل من عتق من وقعت له القرعة قدر ثلثه وما فضل عتق من الآخر كذلك حتى يعتقا جميعا أو
مقدار الثلث منهما، وإن تعذر استيفاء الدين لم يرد العتق على قدر ثلثهما وإن خرج الذي وقعت له
القرعة مستحقا بطل العتق فيه وعتق من الآخر ثلثه
(فصل) وإذا دبر عبدا قيمته مائة وله مائة دينا عتق ثلثه ورق ثلثه ووقف ثلثه على استيفاء
الثلث الباقي وذا كانت له مئة حاضرة مع ذلك عتق من المدبر ثلثاه ووقف عتق ثلثه على استيفاء الدين
(فصل) وان دبر عبده وقيمته مائة وله ابنان وله مائتان دينا على أحدهما عتق من المدبر ثلثاه
لأن حصة الذي عليه الدين منه كالمستوفى ويسقط عن الذي عليه الدين منه نصفه لأنه قدر حصته
من الميراث ويبقى الآخر عليه مائة كلما استوفى منها شيئا عتق قدر ثلثه وان كانت المائتان دينا على
الابنين بالسوية عتق المدبر كله لأن كل واحد منهما عليه قدر حقه وقد حصل ذلك بسقوطه من ذمته
(فصل) فإن دبر عبدا قيمته مائة وخلف ابنين ومائتي درهم دينا له على أحدهما ووصى لرجل
بثلث ماله عتق من المدبر ثلثه وسقط عن الغريم مائة وكان للموصى له سدس العبد وللابنين ثلثه ويبقى
سدس العبد موقوفا لأن الحاصل من المال ثلثاه وهو العبد والمائة الساقطة عن الغريم وثلث ذلك
مقسوم بين المدبر والوصي نصفين فحصة المدبر منه ثلثه يعتق في الحال ويبقى له السدس موقوفا فكلما
اقتضي من المائة الباقية شئ عتق من المدبر قدر سدسه ويكون المستوفى بين الابنين والوصي أثلاثا
333

فإذا استوفيت كلها حصل للابن ثلثاها وثلث العبد وهو قدر حقه وكمل في المدبر عتق نصفه وحصل
للوصي سدس العبد وثلث المائة وهو قدر حقه وإن كان الدين على أجنبي لم يعتق من المدبر الا سدسه
لأن الحاصل من التركة هو العبد وثلثه بينه وبين الوصي الآخر وللوصي سدسه ولكل ابن سدسه
ويبقى ثلثه موقوفا فكلما اقتضي من الدين شئ عتق من المدبر قدر سدسه وكان المستوفى بين الابنين
والوصي أسداسا للوصي سدسه ولهما خمسة أسداسه فيحصل لكل واحد نصف المائة وثلثها وسدس
العبد وهو قدر حقه ويحصل للوصي سدس المائتين وسدس العبدين وهو قدر حقه ويعتق من المدبر
نصفه وهو قدر حقه
(مسألة) قال (وإذا دبر قبل البلوغ كان تدبيره جائزا إذا كان له عشر سنين فصاعدا
وكان يعرف التدبير وما قلته في الرجل فالمرأة مثله إذا كان لها تسع سنين فصاعدا)
وجملته ان تدبير الصبي المميز ووصيته جائزة وهذا إحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي
قال بعض أصحابه هو أصح قوليه
وروي ذلك عن عمر وشريح وعبد الله بن عتيبة، وقال الحسن وأبو حنيفة لا يصح تدبيره
كالمجنون وهو الرواية الثانية عن مالك والقول الثاني للشافعي لأنه لا يصح اعتاقه فلم يصح تدبيره كالمجنون
ولنا ما روى سعيد عن هشيم عن يحيى عن ابن سعيد عن أبي بكر بن محمد ان غلاما من الأنصار
أوصى لا خوال له من غسان بأرض يقال لها بئر جشم قومت بثلاثين ألفا فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب
فأجاز الوصية قال يحيى بن سعيد وكان الغلام ابن عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة
وروي أن قوما سألوا عمر رضي الله عنه عن غلام من غسان يافع وصى لبنت عمه فأجاز عمر
وصيته ولم نعرفه له مخالفا ولان صحة وصيته وتدبيره أحظ له بيقين لأنه ما دام باقيا لا يلزمه فإذا
مات كان ذلك صلة وأجرا فصح كوصية المحجور عليه لسفه ويخالف العتق لأن فيه تفويت ما له
عليه في حياته ووقت حاجته فاما تقييد من يصح تدبيره بمن له عشر فلقول النبي صلى الله عليه وسلم (اضربوهم
عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع) وهو الذي ورد فيه الخبر عن عمر رضي الله عنه واعتبر
المرأة بتسع لقول عائشة رضي الله عنها إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة ويروى ذلك عن
النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا ولأنه السن الذي يمكن بلوغها فيه ويتعلق به أحكام سوى ذلك
334

(فصل) ويصح منه الرجوع ان قلنا بصحة الرجوع من المكلف لأن من صحت وصيته صح
رجوعه كالمكلف وان أراد بيع المدبر قام وليه في بيعه مقامه وان اذن له وليه في بيعه فباعه صح منه
(فصل) ويصح تدبير المحجور عليه لسفه ووصيته لما ذكرنا في الصبي ولا تصح وصية المجنون
ولا تدبيره لأنه لا يصح شئ من تصرفاته وإن كان يجن يوما ويفيق يوما صح تدبيره في افاقته
(فصل) ويصح تدبير الكافر ذميا كان أو حربيا في دار الاسلام ودار الحرب لأن له ملكا
صحيحا فصح تصرفه فيه كالمسلم فإن قيل لو كان ملكه صحيحا لم يملك عليه بغير اختياره قلنا هذا
لا ينافي الملك بدليل انه يملك في النكاح ويملك زوجته عليه بغير اختياره ومن عليه الدين إذا امتنع
من قضائه أخذ من ماله بقدر ما عليه بغير اختياره وحكم تدبيره حكم تدبير المسلم على ما ذكرنا فإن
أسلم مدبر الكافر أمر بإزالة ملكه عنه وأجبر عليه لئلا يبقى الكافر مالكا للمسلم كغير المدبر،
ويحتمل ان يترك في يد عدل، ينفق عليه من كسبه فإن لم يكن له كسب أجبر سيده على الانفاق عليه
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه بناء على أن بيع المدبر غير جائز ولان في بيعه ابطال
سبب العتق وإزالة غرضيته فكل ابقاؤه أصلح فتعين كأم الولد ان قلنا ببيعه فباعه بطل تدبيره
وان قلنا يترك في يد عدل فإنه يستنيب من يتولى استعماله واستكسابه وينفق عليه من كسبه وما
فضل فلسيده وان لم يف بنفقته فالباقي على سيده وان اتفق هو وسيده على المخارجة جاز وينفق على
نفسه مما فضل من كسبه فإذا مات سيده عتق ان خرج من الثلث وإلا عتق منه بقدر الثلث وبيع
الباقي على الورثة ان كانوا كفارا وان أسلموا بعد الموت ترك وان رجع سيده في تدبيره وقلنا بصحة
الرجوع بيع عليه وإن كان المدبر كمستأمن وأراد ان يرجع به إلى دار الحرب ولم يكن أسلم لم يمنع من
ذلك وإن كان قد أسلم منع منه لأننا نحول بينه وبينه في دار الاسلام فأولى ان يمنع من التمكن به في دار الحرب
(مسألة) قال (وإذا قتل المدبر سيده بطل تدبيره)
إنما يبطل تدبيره بقتله سيده لمعنيين (أحدهما) أنه قصد استعجال العتق بالقتل المحرم فعوقب
ينقيض قصده وهو ابطال التدبير كمنع الميراث بقتل الموروث ولان العتق فائدة تحصل بالموت فتنتفي
بالقتل كالإرث والوصية (والثاني) ان التدبير وصية فتبطل بالقتل كالوصية بالمال ولا يلزم على هذا
عتق أم الولد لكونه آكد فإنها صارت بالاستيلاد بحال لا يمكن نقل الملك فيها بحال ولذلك لم يجز
335

بيعها ولا هبتها ولا رهنها ولا الرجوع عن ذلك بالقول ولاغيره والإرث نوع من النقل فلو لم
تعتق بموت سيدها لانتقل الملك فيها إلى الوارث ولا سبيل إليه بخلاف المدبر ولان سبب حرية
أم الولد الفعل والبعضية التي حصلت بينها وبين سيدها بواسطة ولدها وهذا آكد من القول ولهذا
انعقد استيلاد المجنون ولم ينفذ اعتاقه ولا تدبيره وسرى حكم استيلاد المعسر إلى نصيب شريكه
بخلاف الاعتاق وعتقت من رأس المال والتدبير لا ينفذ إلى في الثلث ولا يملك الغرماء إبطال عتقها
وإن كان سيدها مفلسا بخلاف المدبر ولا يلزم من الحكم في موضع تأكد الحكم فيما دونه كما لم
يلزمه الحاقه به في هذه المواضع التي افترقا فيها إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون القتل عمدا أو خطأ
كما لا فرق بين ذلك في حرمان الإرث وابطال وصيا القاتل
(فصل) فاما سائر جناياته غير قتل سيده فلا تبطل تدبيره لكن ان كانت جناية موجبة للمال
أو موجبة للقصاص فعفا الولي إلى مال تعلق المال برقبته فمن جوز بيعه جعل سيده بالخيار بين تسليمه
فيباع في الجناية وبين فدائه فإن سلمه في الجناية فبيع فيها بطل تدبيره وان عاد إلى سيده عاد تدبيره وان
اختار فداءه وفداه بما يفدى به العبد فهو مدبر بحاله ومن لم يجز بيعه عين فداءه على سيده كأم الولد
وان كانت الجناية موجبة للقصاص فاقتص منه في النفس بطل تدبيره وان اقتص منه في الطرف فهو
مدبر بحاله وإذا مات سيده بعد جنايته وقبل استيفائها عتق على كل حال سواء كانت موجبة للمال
أو القصاص لأن صفة العتق وجدت فيه فأشبه ما لو باشره به فإن كان الواجب قصاصا استوفي سواء
كانت جنايته على عبد أو حر لأن القصاص قد استقر وجوبه عليه في حال رقه فلا يسقط بحدوث
الحرية فيه وإن كان الواجب عليه مالا في رقبته فدي بأقل الامرين من قيمته أو أرش جنايته وان
جني على المدبر فأرش الجناية لسيده فإن كانت الجناية على نفسه وجبت قيمته لسيده وبطل التدبير
بهلاكه فإن قيل فهلا جعلتم قيمته قائمة مقامه كالعبد المرهون والموقوف إذا جني عليه؟ قلنا الفرق
بينهما من ثلاثة أوجه (أحدهما) ان كل واحد من الوقف والرهن لازم فتعلق الحق ببدله والتدبير
غير لازمه لأنه يمكن إبطاله بالبيع وغيره فلم يتعلق الحق ببدله (الثاني) ان الحق في التدبير للمدبر
فبطل حقه بفوات مستحقه والبدل لا يقوم مقامه في الاستحقاق والحق في الوقف للموقوف عليه
وفي الرهن للمرتهن وهو باق فيثبت حقه في بدل محل حقه
(الثالث) أن المدبر إنما ثبت حقه بوجود موت سيده فإذا هلك قبل سيد فقد هلك قبل ثبوت
336

الحق له فلم يكن له بدل بخلاف الرهن والوقف فإن الحق ثابت فيهما مقام بدلهما مقامهما وبين الرهن
والمدبر فرق رابع وهو ان الواجب القيمة ولا يمكن وجود التدبير فيها ولا قيامها مقام المدبر فيه وان
أخذ عبدا مكانه فليس هو البدل إنما هو بدل القيمة بخلاف الرهن فإن القيمة يجوز أن تكون رهنا
فإن قيل فهذا يلزم عليه الموقوف فإنه إذا قتل أخذت قيمته فاشتري بها عبد يكون وقفا مكانه قلنا قد
حصل الفرق بين المدبر والرهن من الوجوه الثلاثة وكونه لا يحصل الفرق بينه وبين الوقف من هذا
الوجه لا يمنع أن يحصل الفرق بينه وبين الرهن به.
(فصل) وإذا دبر السيد عبده ثم كاتبه، جاز نص عليه احمد وهذا قول ابن مسعود وأبي
هريرة والحسن ولفظ حديث أبي هريرة عن مجاهد قال دبرت امرأة من قريش خادما لها ثم أرادت
أن تكاتبه قال فكنت الرسول إلى أبي هريرة فقال كاتبيه فإن أدى كتابته فذاك وان حدث بك
حدث عتق قال وأراه قال على ما كان عليه له ولان التدبير إن كان عتقا بصفة لم يمنع الكتابة كالذي علق
عتقه بدخول الدار وإن كان وصية لم يمنعها كما لو وصى بعتقه ثم كاتبه ولان التدبير والكتابة سببان
للعتق فلم يمنع أحدهما الآخر كتدبير المكاتب، وذكر القاضي أن التدبير يبطل بالكتابة إذا قلنا
هو وصية كما لو وصى به لرجل ثم كاتبه وهذا يخالف ظاهر كلام احمد وهو غير صحيح في نفسه
ويفارق التدبير الوصية به لرجل، لأن مقصود الكتابة والتدبير لا يتنافيان إذا كان المقصود منهما
جميعا العتق فإذا اجتمعا كان آكد لحصوله فإنه إذا فات عتقه من أحدهما حصل بالآخر وأيهما
وجد قبل صاحبه حصل العتق به ومقصود الوصية به والكتابة يتنافيان، لأن الكتابة تراد للعتق
والوصية تراد لحصول الملك فيه للموصى له ولا يجتمعان إذا ثبت هذا فإنه ان أدى في حياة السيد صار
حرا بالكتابة وبطل التدبير وإن مات السيد قبل الأداء عتق بالتدبير ان خرج من الثلث وبطلت
الكتابة وان لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث وسقط من الكتابة بقدر ما عتق وكان على
الكتابة فيما بقي، فإن أدى البعض ثم مات سيده عتق كله وسقط باقي الكتابة ان خرج من
الثلث، وان لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث وسقط مما بقي من الكتابة بقدر ثلث
المال وأدى ما بقي.
337

كتاب المكاتب
الكتابة اعتاق السيد عبده على مال في ذمته يؤدى مؤجلا، سميت كتابة لأن السيد يكتب بينه وبينه
كتابا بما اتفقا عليه وقيل سميت كتابة من الكتب وهو الضم لأن المكاتب يضم بعض النجوم إلى
بعض ومنه سمي الخرز كتابا لأنه يضم أحد الطرفين إلى الآخر بخرزه وقال الحريري.
وكاتبين وما خطت أناملهم * خرفا ولا قرأوا ما خط في الكتب
وقال ذو الرمة في ذلك المعنى.
وفراء عرفته أنأي خوارزها * مشلشل صنعته بينهما الكتب
يصف قربة يسيل الماء من بين خرزها وسميت الكتيبة كتيبة لانضمام بعضها إلى بعض
والمكاتب يضم بعض نجومه إلى بعض والنجوم ههنا الأوقات المختلفة لأن العرب كانت لا نعرف
الحساب وإنما تعرف الأوقات بطلوع النجوم كما قال بعضهم.
إذا سهيل أول الليل طلع * فابن اللبون الحق والحق جذع
فسميت الأوقات نجوما والأصل في الكتابة الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله
تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا) وأما السنة فما روى
338

سعيد عن سفيان عن الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا
لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه وروى سهل بن حنيف ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من
أعان غارما أو غازيا أو مكاتبا في كتابته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله) في أحاديث كثيرة سواهما.
وأجمعت الأمة على مشروعية الكتابة
(فصل) إذا سأل العبد سيده مكاتبته استحب له اجابته إذا علم فيه خيرا ولم يجب ذلك في ظاهر
المذهب وهو قول عامة أهل العلم منهم الحسن والشعبي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي
وعن أحمد انها واجبة إذا دعا العبد المكتسب الصدوق سيده إليها فعليه إجابته وهو قول عطاء
والضحاك وعمر وبن دينار وداود وقال إسحاق اخشى ان يأثم ان لم يفعل ولا يجبر عليه ووجه
ذلك قول الله تعالى (فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا) وظاهر الامر الوجوب وروي أن سيرين
أبا محمد بن سيرين كان عبدا لانس بن مالك فسأله ان يكاتبه فأبى فأخبر سيرين عمر بن الخطاب بذلك
فرفع الدرة على أنس وقرأ عليه (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت ايمانك فكاتبوهم ان علمتم
فيهم خيرا) فكاتبه أنس
ولنا إنه إعتاق بعوض فلم يجب كالاستسعاء والآية محمولة على الندب وقول عمر رضي الله عنه
يخالف فعل أنس ولا خلاف بينهم في أن من لاخير فيه لا تجب اجابته قال أحمد الخير صدق وصلاح
339

ووفاء بمال الكتابة ونحو هذا قال إبراهيم وعمرو بن دينار وغيرهما وعبارتهم في ذلك مختلفة قال
ابن عباس غنى وإعطاء للمال وقال مجاهد غنى وأداء وقال النخعي صدق ووفاء وقال عمرو بن دينار مال
وصلاح وقال الشافعي قوة على الكسب وأمانة وهل تكره كتابة من لا كسب له أولا؟ قال القاضي
ظاهر كلام أحمد كراهيته وكان ابن عمر رضي الله عنه يكرهه وهو قول مسروق والأوزاعي وعن
أحمد رواية أخرى أنه لا يكره ولم يكره الشافعي وإسحاق وابن المنذر وطائفة من أهل العلم لأن
جويرية بنت الحارث كاتبها ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فاتت النبي صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابيها
فادى عنها كتابتها وتزوجها واحتج ابن المنذر بان بريرة كاتبت ولا حرفة لها ولم ينكر ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجه الأول ما ذكرنا في عتقه وينبغي ان ينظر في المكاتب فإن كان ممن يتضرر
بالكتابة ويضيع لعجزه من الانفاق على نفسه ولا يجد من ينفق عليه كرهت كتابته وإن كان يجد
من يكفيه مؤنته لم تكره كتابته لحصول النفع بالحرية من غير ضرر فاما جويرية فإنها كانت ذات
أهل ومال وكانت ابنة سيد قومه فإذا عتقت رجعت إلى أهلها فاخلف الله لها خيرا من أهلها فتزوجها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت إحدى أمهات المؤمنين وأعتق الناس ما كان بأيديهم من قومها حين
بلغهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير امرأة أعظم بركة على
قومها منها وأما بريرة فإن كتابتها تدل على إباحة ذلك وانه ليس بمنكر ولا خلاف فيه وإنما الخلاف
340

في كراهته وقال مسروق إذا سأل العبد مولاه المكاتبة فإن كان له مكسبة أو كان له مال فليكاتبه
وان لم يكن له مال ولا مكسبة فليحسن ملكته ولا يكلفه الا طاقته
(فصل) ولا تصح الكتابة الا ممن يصح تصرفه فاما المجنون والطفل فلا تصح مكاتبتهما
لرقيقهما ولا مكاتبة سيدهما لهما واما الصبي المميز فإن كاتب عبده بإذن وليه صح ويحتمل ان لا يصح
بناء على قولنا إنه لا يصح بيعه يأذن وليه ولان هذا عقد اعتاق فلم يصح منه كالعتق بغير مال فاما
ان لم يأذن وليه فيه فلا يصح بحال وإن كان المميز سيده صح وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي
لا يصح فيهما جميعا بحال لأنه ليس بمكلف فأشبه المجنون
ولنا انه يصح تصرفه وبيعه بأذن وليه فصحت منه الكتابة بذلك كالمكلف ودليل صحة
تصرفه قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح) والابتلاء الاختيار له بتفويض
التصرف إليه ليعلم هل يقع منه على وجه المصلحة أولا؟ وهل يغبن في بيعه وشرائه أولا؟ وايجاب السيد
لعبده المميز المكاتبة اذن له في قبولها إذا ثبت هذا فإن كان السيد المكاتب طفلا أو مجنونا
فلا حكم لتصرفه ولا قوله وان كاتب المكلف عبده الطفل أو المجنون لم يثبت لهذا التصرف حكم
الكتابة الصحيحة ولا الفاسدة لأنه لا حكم لقولهما ولكن ان قال إن أديتما إلى فأنتما حران فاديا
عتق بالصفة لا بالكتابة وما في أيديهما لسيدهما وان لم يقل ذلك لم يعتقا ذكره أبو بكر وقال القاضي
341

يعتقان، وهو مذهب الشافعي لأن الكتابة تتضمن معنى الصفة فيحصل العتق ههنا بالصفة المحضة
كما لو قال إن أديت إلى فأنت حر.
ولنا انه ليس بصفة صريحا ولا معنى وإنما هو عقد باطل فأشبه البيع الباطل.
(فصل) وإذا كاتب الذمي عبده المسلم صح لأنه عقد معاوضة أو عتق بصفة وكلاهما يصح منه
وإذا ترافعا إلى الحاكم بعد الكتابة نظر في العقد فإن كان موافقا للشرع أمضاه سواء ترافعا قبل
اسلامهما أو بعده وإن كاتب كتابة فاسدة مثل أن يكون العوض خمرا أو خنزيرا أو غير ذلك من
أنواع الفساد ففيه ثلاث مسائل.
(أحدها) أن يكونا قد تقابضا حال الكفر فتكون الكتابة ماضية والعتق حاصل لأن ما تم في
الكفر لا ينقضه الحاكم ويحكم بالعتق سواء ترافعا قبل الاسلام أو بعده.
(الثانية) تقابضا بعد الاسلام ثم ترافعا إلى الحاكم فإنه يعتق أيضا لأن هذه كتابة فاسدة ويكون
حكمها حكم الكتابة الفاسدة المعقودة في الاسلام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
(الثالثة) ترافعا قبل قبض العوض الفاسد أو قبض بعضه فإن الحاكم يرفع هذه الكتابة
ويبطلها لأنها كتابة فاسدة لم يتصل بها قبض تنبرم به ولا فرق بين اسلامهما أو اسلام أحدهما فيما
ذكرناه لأن التغليب لحكم الاسلام، وقال أبو حنيفة إذا كاتبه على خمر ثم أسلما لم يفسد العقد
342

ويؤدي قيمة الخمر لأن الكتابة كالنكاح ولو أمرها خمرا ثم أسلما بطل الخمر ولم يبطل النكاح
ولنا ان هذا عقد لو عقده المسلم كان فاسدا فإذا أسلما قبل التقابض أو أحدهما حكم بفساده
كالبيع الفاسد ويفارق النكاح فإنه لو عقده المسلم بخمر كان صحيحا وإن سلم مكاتب الذمي لم تنفسخ
الكتابة لأنها وقعت صحيحة ولا يجبر على إزالة ملكه لأنه خارج بالكتابة عن تصرف الكافر
فيه فإن عجز أجبر عن إزالة ملكه عنه حينئذ، وإن اشترى مسلما فكاتبه لم تصح الكتابة لأن الشراء
باطل ولم يثبت له به ملك وان أسلم عبده فكاتبه بعد اسلامه لم تصح كتابته لأنه يلزمه إزالة ملكه
عنه والكتابة لا تزيل الملك فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وقال القاضي له كتابته لأنه يخرج
بها عن تصرف سيده فيه فإن عجز عاد رقيقا قنا واجبر على إزالة ملكه عنه حينئذ.
(فصل) وان كاتب الحربي عبده صحت كتابته سواء كان في دار الحرب أو دار الاسلام، وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لا يصح لأن ملكه ناقص وحكي عن مالك انه لا يملك بدليل أن للمسلم تملكه عليه
ولنا قول الله تعالى (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) وهذه الإضافة إليهم تقتضي صحة أملاكهم
فتقتضي صحة تصرفاتهم فإذا ثبت هذا فإذا كاتب عبده ثم دخلا مستأمنين إلينا لم يتعرض الحاكم
لهما وان ترافعا إليه نظر بينهما فإن كانت كتابتهما صحيحة ألزمهما حكمها وان كانت فاسدة بين لهما
343

فسادها وان جاءا وقد قهر أحدهما صاحبه بطلت الكتابة لأن العبد ان قهر سيده ملكه فبطلت كتابته
لخروجه عن ملك سيده وان قهره السيد على ابطال الكتابة ورده رقيقا. بطلت لأن دار الكفر دار
قهر وإباحة ولهذا لو قهر حر حرا على نفسه ملكه وإن دخلا من غير قهر فقهر أحدهما الآخر في دار
الاسلام لم تبطل الكتابة وكانا على ما كانا عليه قبله لأن دار الاسلام دار حظر لا يؤثر فيها القهر الا
بالحق وان دخلا مستأمنين ثم أرادا الرجوع إلى دار الحرب لم يمنعا وان أرادا السيد الرجوع وأخذ
المكاتب معه فأبى المكاتب الرجوع معه لم يجبر لأنه بالكتابة زال ملكه وسلطانه عنه وإنما له في ذمته
حق ومن له في ذمة غيره حق لا يملك اجباره على السفر معه لأجله ويقال للسيدان أردت الإقامة في دار الاسلام
لتستوفي مال الكتابة فاعقد الذمة وأقم ان كانت مدتها طويلة وان أردت توكيل من يقبض لك نجوم الكتابة
فافعل فإذا أدى نجوم الكتابة عتق ثم هو مخير إن أحب أن يقيم في دار الاسلام عقد على نفسه الذمة
وإن أحب الرجوع لم يمنع وإن عجز وفسخ السيد كتابته عاد رقيقا وبرد إلى سيده والأمان له باق
لأنه من مال سيده وسيده عقد الأمان لنفسه وماله فإذا انتقض الأمان في نفسه بعوده لم ينتقض في
ماله وإن كاتبه في دار الحرب فهرب ودخل إلينا بطلت الكتابة وان ملكه زال عنه بقهره على نفسه
فأشبه ما لو قهره على غيره من ماله وسواء جاءنا مسلما أو غير مسلم، وإن جاءنا باذن سيده فالكتابة
بحالها لأنه لم يقهر سيده فإذا دخل إلينا بأمان باذن سيده ثم سبى المسلمون سيده وقتل انتقلت الكتابة
344

إلى ورثته كما لو مات حتف أنفه وإن من عليه الإمام أو فأداه أو هرب فالكتابة بحالها، وإن استرقه
الإمام فالمكاتب موقوف ان عتق سيده فالكتابة بحالها وإن مات أو قتل فالمكاتب للمسلمين مبقي على
ما بقي من كتابته يعتق بأدائه إليهم وولاؤه لهم وإن عجز فهو رقيق لهم، وإن أراد المكاتب الأداء قبل
عتق سيده وموته أدى إلى الحاكم وإلى أمينه وكان المال المقبوض موقوفا على ما ذكرناه ويعتق المكاتب
بالأداء وسيده رقيق لا يثبت له ولاء وقال أبو بكر يكون الولاء للمسلمين، وقال القاضي يكون موقوفا
فإن عتق سيده فهو له وإن مات على رقه فهو للمسلمين وإن كان استرقاق سيده بعد عتق المكاتب وثبوت
الولاء عليه فقال القاضي يكون ولاؤه موقوفا فإن عتق السيد كان الولاء له وان قتل أو مات على رقه بطل
الولاء لأنه رقيق لا يورث فيبطل الولاء لعدم مستحقه وينبغي أن يكون للمسلمين لأن مال من لا وارث له
للمسلمين فكذلك الولاء والله أعلم
(فصل) وإن كاتب المرتد عبده فعلى قول أبي بكر الكتابة باطلة لأن ملكه زال بردته وعلى
الظاهر من المذهب كتابته موقوفة ان أسلم تبينا أنها كانت صحيحة وإن قتل أو مات على ردته بطلت
وإن أدى في ردته لم يحكم بعتقه ويكون موقوفا فإن أسلم سيده تبينا صحة الدفع إليه وعتقه، وإن قتل
أو مات على ردته فهو باطل والعبد رقيق وإن كاتبه وهو مسلم ثم ارتد وحجر عليه لم يكن للعبد الدفع
إليه ويؤدي إلى الحاكم ويعتق بالأداء، وإن دفع إلى المرتد كان موقوفا كما ذكرنا وإن كاتب المسلم عبده
المرتد صحت كتابته لأنه يصح بيعه فإذا أدى عتق وإن أسلم فهو على كتابته
345

(فصل) وكتابة المريض صحيحة فإن كان مرض الموت المخوف اعتبر من ثلثه لأنه بيع ماله
بماله فجرى مجرى الهبة وكذلك يثبت الولاء على المكاتب لكونه معتقا فإن خرج من الثلث كانت
الكتابة لازمة وإن لم يخرج من الثلث لزمت الكتابة في قدر الثلث وسائره موقوف على إجازة الورثة
فإن أجازت جازت وإن ردتها بطلت وهذا قول الشافعي، وقال أبو الخطاب في رؤس المسائل تجوز
الكتابة من رأس المال لأنه عقد معاوضة أشبه البيع
(مسألة) قال (وإذا كاتب عبده أو أمته على أنجم فاديت الكتابة فقد صار العبد
حرا وولاؤه لمكاتبه)
في هذه المسألة ثلاثة فصول (أحدها) ان ظاهر هذا الكلام ان الكتابة لا تصح حالة ولا تجوز
الا مؤجلة منجمة وهو ظاهر المذهب وبه قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة تجوز حالة لأنه عقد على
عين فإذا كان عوضه في الذمة جاز أن يكون حالا كالبيع
ولنا انه روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم انهم قدوا الكتابة ولم ينقل عن واحد
منهم انه عقدها حالة ولو جاز ذلك لم يتفق جميعهم على تركه ولان الكتابة عقد معاوضة يعجز عن
أداء عوضها في الحال فكان من شرطه التأجيل كالسلم على أبي حنيفة ولأنها عقد معاوضة يلحقه الفسخ
346

من شرطه ذكر العوض فإذا وقع على وجه يتحقق فيه العجز عن العوض لم يصح كما لو أسلم في شئ
لا يوجد عند محله ويفارق البيع لأنه لا يتحقق فيه العجز عن العوض لأن المشتري يملك المبيع والعبد
لا يملك شيئا وما في يده لسيده وفي التنجيم حكمتان (إحداهما) ترجع إلى المكاتب وهي التخفيف عليه
لأن الأداء مفرقا أسهل ولهذا تقسط الديون على المعسرين عادة تخفيفا عليهم
(والأخرى) للسيد وهي ان مدة الكتابة تطول غالبا فلو كانت على نجم واحد لم يظهر عجزه
الا في آخر المدة فإذا عجزه عاد إلى الرق وفاتت منافعه في مدة الكتابة كلها على السيد من غير نفع
حصل له وإذا كانت منجمة نجوما فعجز عن النجم الأول فمدته يسيرة وإن عجز عما بعده فقد حصل
للسيد نفع بما أخذه من النجوم قبل عجزه. إذا ثبت هذا فأقله نجمان فصاعدا وهذا مذهب الشافعي
ونقل عن أحمد أنه قال: من الناس من يقول نجم واحدا ومنهم من يقول نجمان ونجما أحب
إلي وهذا يحتمل أن يكون معناه اني أذهب إلى أنه لا يجوز الا نجمان ويحتمل أن يكون المستحب
نجمين ويجوز نجم واحد
قال ابن أبي موسى هذا على طريق الاختيار وان جعل المال كله في نجم واحد جاز لأنه عقد
يشترط فيه التأجيل فجاز أن يكون إلى أجل واحد كالسلم ولان اعتبار التأجيل ليتمكن من تسليم العوض
وهذا يحصل بنجم واحد
347

زوجه دون ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال الكتابة على نجمين والايتاء من الثاني وهذا
يقتضي ان هذا أقل ما تجوز عليه الكتابة لأن أكثر من نجمين يجوز بالاجماع
وروي عن عثمان رضي الله عنه انه غضب على عبد له فقال لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين
ولو كان يجوز أقل من هذا لعاقبه به في الظاهر
وفي حديث بريرة انها أتت عائشة رضي الله عنها فقالت يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على
تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، ولان الكتابة مشتقة من الضم وهو ضم نجم إلى نجم فدل ذلك على
افتقارها إلى نجمين والأول أقيس ولا بد أن تكون النجوم معلومة ويعلم في كل نجم قدر ما يؤديه ولا
يشترط تساوي النجوم ولا قدر المؤدى في كل نجم فإذا قال كاتبتك على ألف إلى عشر سنين تؤدي
عند انقضاء كل سنة مائة أو قال تؤدي منها مائة عند انقضاء خمس سنين وباقيها عند تماما لعشرة أو
قال تؤدي في آخر العام الأول مائة وتسعمائة عند انقضاء السنة العاشرة فكل هذا جائز وان قال
تؤدي في كل عام مائة جاز ويكون أجل مائة عند انقضاء السنة وظاهر قول القاضي وأصحاب
الشافعي انه لا يصح لأنه لم يتبين وقت الأداء من العام
ولنا ان بريرة قالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية ولان الاجل إذا علق بمدة
تعلق بأحد طرفيها فإن كان بحرف إلى تعلق بأولها كقوله إلى شهر رمضان وإن كان بحرف في كان
348

إلى آخرها لأنه جعل جميعها وقتا لأدائها فإذا أدى في آخرها كان مؤديا لها في وقتها فلم يتعين عليه
الأداء قبله كتأدية الصلاة في آخر وقتها فإن قال يؤديها في عشر سنين أو إلى عشر سنين لم يجز لأنه
نجم واحد. ومن أجاز الكتابة على نجم واحد أجازه وان قال يؤدي بعضها في نصف المدة وباقيها
في آخرها لم يجز لأن البعض مجهول يقع على القليل والكثير
(الفصل الثاني) انه إذا كاتبه على أنجم مدة معلومة صحت الكتابة وعتق بأدائها سواء نوى
بالكتابة الحرية أو لم ينو وسواء قال إذا أديت إلي فأنت حر أو لم يقل وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي لا يعتق حتى يقول إذا أديت إلي فأنت حر وينوي بالكتابة الحرية ويحتمل في
مذهبنا مثل ذلك لأن لفظ الكتابة يحتمل المخارجة، ويحتمل العتق بالأداء فلا بد من تمييز أحدهما
عن الآخر ككنايات العتق
ولنا ان الحرية موجب عقد الكتابة فتثبت عند تمامه كسائر أحكامه ولان الكتابة عقد وضع
للعتق فلم يحتج إلى لفظ العتق ولا نيته كالتدبير وما ذكروه من استعمال الكتابة في المخارجة ان ثبت
فليس بمشهور فلم يمنع وقوع الحرية به كسائر الألفاظ الصريحة على أن اللفظ المحتمل ينصرف بالقرائن
إلى أحد محتمليه كلفظ التدبير في معاشه أو غير ذلك وهو صريح في الحرية فههنا أولى
(الفصل الثالث) انه لا يعتق قبل أداء جميع الكتابة، قال احمد في عبد بين رجلين كاتباه على
349

ألف فأدى تسعمائة ثم أعتق أحدهما نصيبه؟ قال لا يعتق الا نصف المائة
وقد روي عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وعائشة وسعيد بن المسيب والزهري انهم قالوا المكاتب
عبد ما بقي عليه درهم رواه عنهم الأثرم وبه قال القاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء وقتادة والثوري
وابن شبرمة ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أم سلمة
وروى سعيد باسناده عن أبي قلابة قال كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن من مكاتب ما بقي
عليه دينار وباسناده عن عطاء ان ابن عمر كاتب غلاما على ألف دينار فأدى إليه تسعمائة دينار وعجز
عن مائة دينار فرده ابن عمر في الرق، وذكر أبو بكر والقاضي وأبو الخطاب أنه إذا أدى ثلاثة أرباع
الكتابة وعجز عن ربعها عتق لأنه يجب رده إليه فلا يرد إلى الرق بعجزه عنه لأنه عجز عن أداء
حق هوله لا حق للسيد فلا معنى لتعجيزه في ما يجب رده إليه وقال علي رضي الله عنه يعتق منه بقدر
ما أدى لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب
ما عتق منه ويؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي دية عبد) رواه الترمذي وقال حديث
حسن وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما انه إذا أدى الشطر فلا رق عليه وروي ذلك عن النخعي
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا أدى قدر قيمته فهو غريم وقضى به شريح وقال الحسن
في المكاتب إذا عجز استسعى بعد العجز سنتين
350

ولنا ما روى سعيد ثنا هشيم عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (أيما رجل كاتب غلامه على مائة أوقية فعجز عن عشر أواق فهو رقيق) وعن عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) رواه
أبو داود ولأنه عوض عن المكاتب فلا يعتق قبل أدائه كالقدر المتفق عليه ولأنه لو أعتق بعضه لسرى إلى
باقيه كما لو باشره بالعتق فإن العتق لا يتبعض في الملك فاما حديث ابن عباس فمحمول على مكاتب لرجل مات
وخلف ابنين فاقر أحدهما بكتابته وأنكر الاخر فأدى إلى المقر أو ما أشبهها من الصور جمعا بين الاخبار وتوفيقا
بينهما وبين القياس ولان قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه)
دليل على اعتبار جميع ما يؤدي ويجوز ان يتوقف العتق على أداء الجميع وان جاز رد بعضه إليه كما لو قال إذا
أديت إلي ألفا فأنت حر ولله على رد ربعها إليك فإنه لا يعتق قبل أداء جميعها وان وجب عليه رد بعضها
(فصل) وتجوز الكتابة على كل مال يجوز السلم فيه لأنه مال يثبت في الذمة مؤجلا في معاوضة فجاز
ذلك فيه كعقد السلم فإن كان من الأثمان وكان في البلد نقد واحد جاز اطلاقه لأنه ينصرف بالاطلاق
إليه فجاز ذلك فيه كالبيع وإن كان فيه نقود أحدها أغلب في الاستعمال جاز الاطلاق أيضا وانصرف
إليه عند الاطلاق كما لو انفرد وان كانت مختلفة متساوية في الاستعمال وجب بيانه بجنسه وما يتميز به
من غيره من النقود وإن كان من غير الا ان وجب وصفه بما يوصف به في السلم ومالا يصح في السلم
351

فهي لا يجوز أن يكون عوضا في الكتابة لأنه عقد معاوضة يثبت عوضه في الذمة فلم يجز بعوض مجهول
؟؟؟؟؟ يصح ذكره أبو بكر وهو قول الشافعي وذكره القاضي فيه وجهين
(أحدهما) لا يجوز والآخر يجوز وهو قول أبي حنيفة ومالك لأن العتق معنى لا يلحقه الفسخ فجاز
أن يكون الحيوان المطلق عوضا فيه كالعقل
ولنا ان ما لا يجوز أن يكون عوضا في البيع والإجارة لا يجوز أن يكون عوضا في الكتابة كالثوب
المطلق ويفارق العقل لأنه بدل عن متلف مقدر في الشرع وههنا عوض في عقد فأشبه البيع ولان الحيوان
الواجب في العقل ليس بحيوان مطلق بل هو مقيد بجنسه وسنه فلم يصح الالحاق به ولان الحيوان
المطلق لا تجوز الكتابة عليه بغير خلاف بين الناس فيما علمناه وإنما الخلاف في العبد المطلق ولم يرد به
الشرع بدلا في موضع علمناه. إذا ثبت هذا فإن من صحح الكتابة به أوجب له عبدا وسطا وهو
السندي ويكون وسطا من السند بين في قيمته كقولنا في الصداق ولا تصح الكتابة على حيوان مطلق
غير العبد فيما علمناه ولا على ثوب ولا دار ولذلك لا تجوز على ثوب من ثيابه ولا عمامة من عمائمه
ولا غير ذلك من المجهولات وان وصف ذلك بأوصاف المسلم صح وممن أجاز الكتابة على العبيد
الحسن وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن سيرين ومالك وأصحاب الرأي وروي ذلك عن
أبي برزة وحفصة رضي الله عنهما
352

(فصل) وتصح الكتابة على خدمة ومنفعة مباحة لأنها أحد العوضين في الإجارة فجاز أن تكون
عوضا في الكتابة كالأثمان ويشترط العلم بها كما يشترط في الإجارة فإن كاتبه على خدمة شهر
ودينار صح ولا يحتاج إلى ذكر الشهر وكونه عقيب العقد لأن اطلاقه يقتضي ذلك وان عين الشهر
لوقت لا يتصل بالعقد مثل ان يكاتبه في المحرم على خدمته في رجب ودينار صح أيضا كما يجوز ان
يؤجره داره شهر رجب في المحرم وقال أصحاب الشافعي لا يجوز على شهر لا يتصل بالعقد ويشترطون
ذكر ذلك ولا يجوزون اطلاقه بناء على قولهم في الإجارة وقد سبق ذكر الخلاف فيه في باب الإجارة
ويشترط كون الدينار المذكور مؤجلا لأن الاجل شرط في عقد الكتابة فإن جعل محل الدينار
بعد الشهر بيوم أو أكثر صح بغير خلاف نعلمه وان جعل محله في الشهر أو بعد انقضائه صح أيضا
وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال القاضي لا يصح لأنه يكون نجما واحدا وهذا لا يصح لأن
الخدمة كلها لا تكون في وقت محل الدينار وإنما يوجد جزء منها يسير مقاربا له وسائرها فيما سواه
ولان الخدمة بمنزلة العوض الحاصل في ابتداء مدتها ولهذا يستحق عوضها جميعه عند العقد فيكون
محلها غير محل الدينار وإنما جازت حالة لأن المنع من الحلول في غيرها لأجل العجز عنه في الحال
وهذا غير موجود في الخدمة فجازت حالة وان جعل محل الدينار قبل الخدمة وكانت الخدمة غير متصلة
بالعقد بحيث يكون الدينار مؤجلا والخدمة بعده جاز وان كانت الخدمة متصلة بالعقد لم يتصور كون الدينار
قبله ولم تجز في أوله لأنه يكون حالا ومن شرطه التأجيل
353

(فصل) وان كاتبه على خدمة مفردة في مدة واحدة مثل ان كاتبه على خدمة شهر معين أو
سنة معينة فحكمه حكم الكتابة على نجم واحد على ما مضى من القول فيه ويحتمل أن يكون كالكتابة
على أنجم لأن الخدمة تستوفى في أوقات متفرقة بخلاف المال فإن جعله على شهر بعد شهر كأن كاتبه
في أول المحرم على خدمة فيه وفي رجب صح لأنه على نجمين وان كاتبه على منفعة في الذمة معلومة
كخياطة ثياب عينها أو بناء حائط وصفه صح أيضا إذا كاتبه على نجمين وان قال كاتبتك على أن تخدمني
هذا الشهر وخياطة كذا عقيب الشهر صح في قول الجمعي وان قال على أن تخدمني شهرا من وقتي هذا
وشهرا عقيب هذا الشهر صح أيضا وعند الشافعي لا يصح
ولنا أنه كاتبه على نجمين فصح كالتي قبلها
(فصل) وإذا كاتب العبد وله مال فما له لسيده الا ان يشترطه المكاتب وان كانت له سرية
أو ولد فهو لسيده وبهذا قال الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وقال الحسن
وعطاء والنخعي وسليمان بن موسى وعمرو بن دينار ومالك وابن أبي ليلى في المكاتب ماله له ووافقنا
عطاء وسليمان بن موسى والنخعي وعمرو بن دينار ومالك في الولد واحتج لهم بما روى عمر عن النبي
صلى الله عليه أنه قال (من أعتق عبدا وله مال فالمال للعبد)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبدا وله مال فماله للبائع الا ان يشترطه المبتاع) متفق عليه
354

والكتابة بيع ولأنه باعه نفسه فلم يدخل معه غيره كولده وأقاربه ولأنه هو ما له كانا لسيده فإذا
وقع العقد على أحدهما بقي الاخر على ما كان عليه كما لو باعه لأجنبي وحديثهم ضعيف قد ذكرنا ضعفه
(مسألة) قال (وولاؤه لمكاتبه)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن ولاء المكاتب لسيده إذا أدى إليه وبه يقول مالك والشافعي
وأصحاب الرأي وذلك لأن الكتابة انعام وإعتاق له لأن كسبه كان لسيده بحكم ملكه إياه
فرضي به عوضا عنه واعتق رقبته عوضا عن منفعته المستحقة له بحكم الأصل فكان معتقا له منعما
عليه فاستحق ولاءه لقوله صلى الله عليه وسلم (الولاء لمن أعتق) وفي حديث بريرة انها قالت كاتبت أهلي
على تسع أواق في كل عام أوقية فقالت عائشة ان شاء أهلك ان أعدها لهم عدة واحدة ويكون ولاؤك
لي فعلت فرجعت بريرة إلى أهلها فذكرت ذلك لهم فأبوا الا أن يكون الولاء لهم وهذا يدل على أن
ثبوت الولاء على المكاتب لسيده كان متقررا عندهم والله أعلم
(مسألة) قال (ويعطى مما كوتب عليه الربع لقول الله تعالى وآتوهم من قال الله الذي آتاكم)
الكلام في الايتاء في خمسة فصول: وجوبه وقدره وجنسه ووقت جواز ووقت وجوبه.
أما الأول فإنه يجب على السيد إيتاء المكاتب شيئا مما كوتب عليه روي ذلك عن علي رضي الله عنه
355

وبه قال الشافعي وإسحاق وقال بريدة والحسن والنخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة ليس بواجب
لأنه عقد معاوضة فلا يجب فيه الايتاء كسائر عقود المعاوضات
ولنا قول الله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) وظاهر الامر الوجوب قال علي رضي
الله عنه في تفسيرها ضعوا عنهم ربع مال الكتابة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ضعوا عنهم
من مكاتبتهم شيئا وتخالف الكتابة سائر العقود فإن القصد بها الرفق بالعبد بخلاف غيرها ولان
الكتابة يستحق بها الولاء على العبد مع المعاوضة فلذلك يجب أن يستحق العبد على السيد شيئا فإن
قيل المراد بالايتاء اعطاؤه سهما من الصدقة أو الندب إلى التصدق عليه وليس ذلك بواجب بدليل
ان العقد يوجب العوض عليه فكيف يقتضي اسقاط شئ منه؟ قلنا اما الأول فإن عليا وابن عباس
رضي الله عنهما فسراه بما ذكرناه وهما أعلم بتأويل القرآن وحمل الامر على الندب يخالف مقتضى
الامر فلا يصار إليه إلا بدليل وقولهم ان العقد يوجب عليه فلا يسقط عنه قلنا إنما يجب للرفق به
عند آخر كتابته مواساة له وشكرا لنعمة الله تعالى كما تجب الزكاة مواساة من النعم التي أنعم الله تعالى
بها على عبده ولان العبد ولي جمع هذا المال وتعب فيه فاقتضى الحال مواساته منه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم
باطعامه من الطعام الذي ولي حره ودخانه واختص هذا بالوجوب لأن فيه معونة على العتق وإعانة
لمن يحق على الله تعالى عونه فإن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة حق على
356

الله تعالى عونهم المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والنكاح الذي يريد العفاف)
أخرجه الترمذي وقال حديث حسن
(الفصل الثاني) في قدره وهو الربع ذكره الخرقي وأبو بكر وغيرهما من أصحابنا، وروي
ذلك عن علي رضي الله عنه وقال قتادة العشر وقال الشافعي وابن المنذر يجزئ ما يقع عليه الاسم وهو
قول مالك الا انه عنده مستحب لقول الله تعالى (من مال الله الذي آتاكم) و (من) للتبعيض والقليل بعض
فيكتفى به وقال ابن عباس ضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئا ولأنه قد ثبت ان المكاتب لا يعتق حتى
يؤدي جميع الكتابة بما ذكرنا من الاخبار ولو وجوب إيتاؤه الربع لوجب أن يعتق إذا أدى ثلاثة
أرباع الكتابة ولا يجب عليه أداء مال يجب رده إليه وروي عن ابن عمر انه كاتب عبدا له على خمسة
وثلاثين ألفا فأخذ منه ثلاثين وترك له خمسة
ولنا ما روى أبو بكر باسناده عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (وآتوهم من مال
الله الذي آتاكم) فقال (ربع الكتابة) وروي موقوفا على علي ولأنه مال يجب إيتاؤه مواساة بالشرع
فكان مقدرا كالزكاة ولان حكمة إيجابه الرفق بالمكاتب وإعانته على تحصيل العتق وهذا لا يحصل باليسير
الذي هو أقل ما يقع عليه الاسم فلم يجز أن يكون هو الواجب وقول الله تعالى (وآتوهم من مال الله) وان ورد
غير مقدر فإن السنة تبينه وتبين قدره كالزكاة
357

(الفصل الثالث) في جنسه ان قبض مال الكتابة ثم أعطاه منه جاز لأن الله تعالى أمر بالايتاء
منه وان وضع عنه مما وجب عليه جاز لأن الصحابة رضي الله عنهم فسروا الايتاء بذلك ولأنه أبلغ
في النفع وأعون على حصول العتق فيكون أفضل من الايتاء وتحصل دلالة الآية عليه من طريق
التنبيه وان أعطاء من جنس مال الكتابة من غيره جاز ويحتمل أن لا يلزم المكاتب قبوله وهو ظاهر كلام
الشافعي لأن الله تعالى أمر بالايتاء منه
ولنا انه لافرق في المعنى بين الايتاء منه وبين الايتاء من غيره إذا كان من جنسه فوجب أن يتساويا
في الاجزاء وغير المنصوص إذا كان في معناه الحق به وكذلك جاز الحط وليس هو بايتا لما كان في معناه وان
أتاه من غير جنسه مثل أن يكاتبه على دراهم فيعطيه دنانير أو عروضا لم يلزمه قبوله لأنه لم يؤته منه ولا من جنسه
ويحتمل الجواز لأن الرفق به يحصل به
(الفصل الرابع) في وقت جوازه وهو من حين العقد لقول الله تعالى (فكاتبوهم ان علمتهم فيهم خيرا
وآتوهم) وذلك يحتاج إليه من حين العقد وكلما عجله كان أفضل لأنه يكون أنفع كالزكاة
(الفصل الخامس) في وقت وجوبه وهو حين العتق لأن الله تعالى أمر بايتائه من المال الذي
آتاه وإذا آتي المال عتق فيجب إيتاؤه حينئذ. قال علي رضي الله عنه الكتابة على نجمين والايتاء
من الثاني فإن مات السيد قبل ايتائه فهو دين في تركته لأن حق واجب فهو كسائر ديونه وان ضافت
358

التركة عنه وعن غيره من الديون تحاصوا في التركة بقدر حقوقهم ويقدم ذلك على الوصايا لأنه دين
وقد قضي النبي صلى الله عليه وسلم ان الدين قبل الوصية والله الموفق
(مسألة) قال (وان عجلت الكتابة قبل محلها لزم السيد الاخذ وعتق من وقته في إحدى
الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى إذا ملك ما يؤدي فقد صار حرا)
الكلام في هذا المسألة في فصلين (أحدهما) فيما إذا عجل المكاتب الكتابة قبل محلها فالمنصوص عن أحمد
انه يلزم قبولها ويعتق المكاتب وذلك أبو بكر فيه رواية أخرى انه لا يلزم قبول المال الا عند نجومه لأن بقاء
المكاتب في هذه المدة في ملكه حق له ولم يرض بزواله فلم يزول كما لو علق عتقه على شرط لم يعتق قبله والصحيح
في المذهب الأول وهو مذهب الشافعي الا ان القاضي قال أطلق احمد والخرقي هذا القول وهو مقيد
بما لا ضرر في قبضه قبل محله كالذي لا يفسد ولا يختلف قديمه وحديثه ولا يحتاج إلى مؤنة في حفظه
ولا يدفعه في حال خوف يخاف ذهابه فإن اختل أحد هذه الأمور لم يلزم قبضه مثل أن يكون مما
يفسد كالعنب والرطب والبطيخ أو يخاف تلفه كالحيوان قانه ربما تلف قبل المحل ففاته مقصودة،
وإن كان مما يكون حديثه خيرا من قديمه لم يلزمه أيضا أخذه لأنه ينقص إلى حين الحلول وإن كان
359

مما يحتاج إلى مخزن كالطعام والطن لم يلزمه أيضا لأنه يحتاج في ابقائه إلى وقت المحل إلى موته
فيتضرر بها ولو كان غير هذا الا ان البلد مخوف يخاف نهبه لم يلزمه أخذه لأن في أخذه ضررا لم
يرض بالتزامه وكذلك لو سلمه إليه في طريق مخوف أو موضع يتضرر بقبضه فيه لم يلزمه قبضه ولم
يعتق المكاتب ببذله
قال القاضي والمذهب عندي ان في قبضه تفصيلا على حسب ما ذكرناه في السلم، ولأنه لا يلزم
الانسان التزام ضرر لم يقتضه العقد ولا رضي بالتزامه، وأما مالا ضرر في قبضه فإذا عجله لزم السيد
أخذه، وذكر أبو بكر انه يلزمه قبوله من غير تفصيل اعتمادا على اطلاق احمد القول في ذلك وهو
ظاهر اطلاق الخرقي لما روى الأثرم باسناده عن أبي بكر بن حزم ان رجلا أتى عمر رضي الله عنه
فقال يا أمير المؤمنين اني كاتبت على كذا وكذا واني أيسرت بالمال فأتيته به فزعم أنه لا يأخذها الا
نجوما فقال عمر رضي الله عنه يا يرفأ خذ هذا المال فاجله في بيت المال وأد إليه نجوما في كل عام وقد عتق
هذا فلما رأى ذلك سيده أخذ المال وعن عثمان بنحو هذا.
ورواه سعيد بن منصور في سننه عن عمر وعثمان جميعا قال حدثنا هشيم عن ابن عوف عن محمد بن سيرين
أن عثمان قضى بذلك ولان الاجل حق لمن عليه الدين فإذا قدمه فقد رضي باسقاط حقه فسقط كسائر
الحقوق فإن قيل إذا علق عتق عبده على فعل في وقت ففعله في غيره لم يعتق فكذلك إذا قال إذا
360

أديت إلي ألفا في رمضان فأداه في شعبان لمى يعتق قلنا تلك صفة مجردة لا يعتق الا بوجودها والكتابة
معاوضة يبرأ فيها بأداء العوض فافترقا وكذلك لو أبرأه من العوض في المكاتبة عتق ولو أبرأ من
المال في الصفة المجردة لم يعتق والأولى إن شاء الله ما قاله القاضي في أن ما كان في قبضه ضرر لم يلزمه
قبضه ولم يعتق ببذله لما ذكره من الضرر الذي لم يقتضه العقد وخبر عمر رضي الله عنه لا دلالة فيه
على وجوب قبض ما فيه ضرر ولان أصحابنا قالوا لو لقيه في بلد آخر فدفع إليه نجوم الكتابة أو
بعضها فامتنع من أخذها لضرر فيه من خوف أو مؤنة حمل لم يلزمه قبول لما عليه من الضرر فيه
وان لم يكن فيه ضرر لزمه قبضه كذا ههنا وكلام احمد رحمه الله محمول على ما إذا لم يكن في قبضه
ضرر وكذلك قول الخرقي وأبي بكر
(فصل) إذا أحضر المكاتب مال الكتابة أو بعضه ليسلمه فقال السيد هذا حرام أو غصب لا أقبله
منك سئل العبد عن ذلك فإن أقر به لم يلزم السيد قبوله لأنه لا يلزمه أخذ المحرم ولا يجوز له وان أنكر
وكانت للسيد بينة بدعواه لم يلزمه قبوله وتسمع بينته لأن له حقا في أن لا يقتضي دينه من حرام ولا
يأمن من أن يرجع صحبه عليه به وان لم تكن له بينة فالقول قول العبد مع يمينه فإن نكل عن اليمين
لم يلزم السيد قبوله أيضا، وان حلف قيل للسيد اما أن تقبضه واما أن تبرئه ليعتق فإن قبضه وكان
تمام كتابته عتق ثم ينظر فإن ادعى انه حرام مطلقا لم يمنع منه لأنه لا يقر به لاحد وإنما تحريمه فيما
بينه وبين الله تعالى، وان ادعى انه غصبه من فلان لزمه دفعه إليه إن ادعاه لأن قوله، وان لم يقبل
في حق المكاتب فإنه يقبل في حق نفسه كما لو قال رجل لعبد في يد غيره هذا حر وأنكر ذلك من
العبد في يده لم يقبل قوله عليه فإن انتقل إليه بسبب من الأسباب لزمته حريته وان أبرأه من مال
الكتابة حين امتنع المكاتب من قبضه لم يلزمه قبضه لأنه لم يبق له عليه حق وان لم يبرئه ولم يقبضه كان له
361

دفع ذلك إلى الحاكم ويطالبه بقبضه فينوب الحاكم في قبضه عنه ويعتق العبد كما رويناه عن عمر وعثمان في
قبضهما مال الكتابة حين امتنع المكاتب من قبضه
(فصل) وإذا كاتبه على جنس لم يلزمه قبض غيره فلو كاتبه على دنانير لم يلزمه قبض دراهم
ولا عرض، وان كاتبه على دراهم لم يلزمه أخذ الدنانير ولا العروض، وان كاتبه على عرض
موصوف لم يلزمه قبض غيره، وان كاتبه على نقد وأعطاه من جنسه خيرا منه وكان ينفق فيما ينفق
فيه الذي كاتبه عليه لزمه أخذه لأنه زاده خيرا وإن كان لا ينفق في بعض البلدان التي ينفق فيها ما كاتبه
عليه لم يلزمه قبوله لأن عليه في ضرارا
(الفصل الثاني) إذا ملك ما يؤدي فالصحيح انه لا يعتق حتى يؤدي روي ذلك عن عمر وابنه
وزيد وعائشة رضي الله عنهم فإنهم قالوا المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وهو قول أكثر أهل العلم وعن أحمد
رضي الله عنه رواية أخرى انه إذا ملك ما يؤدي عتق لما روى سعيد قال حدثنا سفيان عن الزهري
عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده
ما يؤدي فلتحتجب منه) ورواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح فأمرهن
بالحجاب بمجرد ملكه لما يؤديه ولأنه مالك لوفاء مال الكتابة أشبه ما لو أداه فعلى هذه الرواية يصير
حرا يملك الوفاء فمتى امتنع منه أجبره الحاكم عليه، وان هلك ما في يديه قبل الأداء صار دينا في ذمته
362

وقد صار حرا ووجه الرواية الأولى ما روى عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(المكاتب عبد ما بقي عليه درهم - وقوله - أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها الا عشر أواق فهو
عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها الا عشرة دنانير فهو عبد) رواه سعيد. وفي رواية من
كاتب عبده على مائة أوقية فأداها الا عشر أواق (أو قال) الا عشرة دراهم ثم عجز فهو رقيق) رواه
الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب ولأنه عتق علق بعوض فلم يعتق قبل أدائه كما لو قال إذا
أديت إلي ألفا فأنت حر فعلى هذه الرواية ان أدى عتق وان لم يؤد لم يعتق فإن امتنع من الأداء
فقال أبو بكر يؤديه الإمام منه ولا يكون ذلك عجزا ولا يملك السيد الفسخ وهو قول أبي حنيفة،
ويحتمل كلام الخرقي انه إذا لم يؤد عجزه السيد ان أحب فإنه قال إذا لم يؤد نجما حتى حل نجم آخر
عجزه السيد ان أحب وعاد عبدا غير مكاتب ونحوه قال الشافعي فإنه قال إن شاء عجز نفسه وامتنع
من الأداء ووجهه ان العبد لا يجبر على اكتساب ما يؤديه في الكتابة فلا يجبر على الأداء كسائر العقود
الجائزة ووجه الأول انه يثبت للعقد استحقاق الحرية بملك ما يؤدي فلم يملك ابطالها كما لو أدى فإن تلف المال
قبل أدائه جاز بعجزه واسترقاقه وجها واحدا
(مسألة) قال (وإذا أدى بعض كتابته ومات وفي يده وفاء وفضل فهو لسيده في
إحدى الروايتين والأخرى لسيده بقية كتابته والباقي لورثته)
363

يحتمل ان هذه المسألة مبنية على ما قبلها فإذا قلنا إنه لا يعتق بملك ما يؤدي فقد مات رقيقا فانفسخت
الكتابة بموته وكان ما في يده لسيده، وان قلنا إن عتق بملك ما يؤدي فقد مات حرا وعليه لسيده بقية
كتابته لأنه دين له عليه والباقي لورثته
قال القاضي الأصح انه تنفسخ الكتابة بموته وعبدا وما في يده لسيده رواه الاثم باسناده
عن عمر وزيد والزهري وبه قال إبراهيم وعمر بن عبد العزيز وقتادة والشافعي لما ذكرناه في التي قبلها
ولأنه مات قبل أداء مال الكتاب فوجب ان تنفسخ كما لو لم يكن له مال ولأنه عتق علق بشرط
مطلق فينقطع بالموت كما لو قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر
(والرواية الثانية) يعتق ويموت حرا ولسيده بقية كتابته وما ما فضل لورثته. وروي ذلك عن علي
وابن مسعود ومعاوية وبه قال عطاء والحسن وطاوس وشريح والنخعي والثوري والحسن بن صالح
ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي الا ان أبا حنيفة قال يكون حرا في آخر جزء من حياته وهذا قول
القاضي ووجه هذه الرواية ما قدمنا في التي قبلها ولأنها معاوضة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين فلا
تنفسخ بموت الآخر كالبيع ولا العبد أحد من تمت به الكتابة فلم تنفسخ بموته كالسيد والأولى أولى
وتفارق الكتابة البيع لأن كل واحد من المتعاقدين غير معقود عليه ولا يتعلق العقد بعينه فلم ينفسخ
بتلفه والمكاتب هو المعقود عليه والعقد يتعلق بعينه فإذا تلف قبل تمام الأداء انفسخ العقد كما لو تلف
المبيع قبل قبضه ولأنه مات قبل وجود شرط حريته ويتعذر وجوده بعد موته
364

(فصل) وإذا مات ولم يخلف وفاء فلا خلاف في المذهب ان الكتابة تنفسخ بموته وبموت عبدا وما في
يده لسيده وهو قول أهل الفتوى من أئمة الأمصار إلا أن يموت بعد أداء ثلاثة أرباع الكتابة عند
أبي بكر والقاضي ومن وافقهما فإنه يموت حرا في مقتضى قولهم
وقال مالك إن كان له ولد حر انفسخت الكتابة وإن كان له مملوك في كتابته أجبر على دفع المال
كله إن كان له مال وإن لم يكن له مال أجبر على الاكتساب والأداء
وقد روي عن علي رضي الله عنه انه يعتق منه بقدر ما أدى، وروي عن ابن عباس رضي الله
عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بقدر ما أدى ويؤدي المكاتب
بحصة ما أدى، وعن عمر وعلي والنخعي إذا أدى الشطر فلا رق عليه
وقال ابن مسعود إذا أدى قدر قيمته فهو غريم وقد ذكرنا الجواب عن هذه الأقوال كلها فيما تقدم
بما أغنى عن اعادته إن شاء الله تعالى
(فصل) ولا تنفسخ الكتابة بالجنون لأنها عقد لازم فلم تنفسخ بالجنون كالرهن وفارق الموت
لأن العقد على العين والموت يفوت العين بخلاف الجنون ولان القصد من الكتابة العتق والموت
365

ينافيه ولهذا لا يصح عتق الميت والمجنون لا ينافيه بدليل صحة عتق المجنون فعلى هذا إن أدى إليه
المال عتق لأن السيد إذا قبض منه فقد استوفى حقه الذي كان عليه وله أخذ المال من يده فيتضمن
ذلك برائته من المال فيعتق بحكم العقد وإن لم يؤد كان للسيد أن يحضره عند الحاكم وتثبت الكتابة
بالبينة فيبحث الحاكم عن ماله فإن وجد له مالا سلمه في الكتابة وعتق وإن لم يجد له مالا جعل له ان
يعجزه ويلزمه الانفاق عليه لأنه عاد قنا ثم إن وجد له الحاكم بعد ذلك مالا يفي بمال الكتابة أبطل
فسخ السيد لأن الباطن بان بخلاف ما حكم به فبطل حكمه كما إذا أخطأ النص وحكم بالاجتهاد الا انه
يرد على السيد ما أنفقه من حين الفسخ لأنه لم يكن مستحقا عليه في الباطن، وإن أفاق فأقام البينة انه
كان قد دفع إليه مال الكتابة بطل أيضا فسخ السيد ولا يرد عليه ما أنفقه لأنه أنفق عليه مع علمه بحريته
فكان متطوعا بذلك فلم يرجع به وينبغي أن يستحلف السيد الحاكم انه ما استوفى مال الكتابة وهذا
قول أصحاب الشافعي ولم يذكره أصحابنا وهو حسن لأنه استوفاه والمجنون لا يعبر عن نفسه فيدعيه
فيقوم الحاكم مقامه في استحلافه عليه
(فصل) وقتل المكاتب كموته في انفساخ الكتابة على ما أسلفناه من الخلاف سواء كان القاتل
السيد أو الأجنبي ولا قصاص على قاتله الحر لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فإن كان القاتل سيده
ولم يخلف وفاء انفسخت الكتابة وعاد ما في يده إلى سيده ولم يجب عليه شئ لأنه لو وجب لوجب
366

له فإن قيل فالقاتل لا يستحق بالقتل شيئا من تركة المقتول قلنا ههنا لا يرجع إليه مال المكاتب ميراثا
بل بحكم ملكه عليه لزوال الكتابة وإنما يمنع القاتل الميراث خاصة الا ترى ان من له دين مؤجل
إذا قتل من عليه الحق حل دينه وفي رواية وأم الولد إذا قتلت سيدها عتقت وإن كان المكاتب قد
خلف وفاء وقلنا إن الكتابة تنفسخ بموته فالحكم كذلك وان قلنا لا تنفسخ بموته فله القيمة على
سيده تصرف إلى ورثته كما لو كانت الجناية على بعض أطرافه في حياته فإن كان الوفاء يحصل بايجاب
القيمة ولا يحصل بدونها وجبت كما لو خلف وفاء لأن دية المقتول كتركته في قضاء ديونه منها وانصرافها
إلى وراثه بينهم على فرائض الله تعالى ولا فرق فيما ذكرنا بين ان يخلف وارثا أولا يخلف وارثا
وذكر القاضي أنه إذا لم يخلف وارثا سوى سيده لم تجب القيمة عليه بحال
ولنا ان من لا وارث له يصرف ماله إلى المسلمين ولا حق لسيده فيه لأن صرفه إلى سيده بطريق
الإرث والقاتل لا ميراث له وإن كان القاتل أجنبيا وجبت القيمة لسيده الا في الموضع الذي لا تنفسخ
الكتابة فإنها تجب لورثته والله أعلم
(مسألة) قال (وإذا مات السيد كان العبد على كتابته وما أدى فبين ورثة
سيد مقسوما كالميراث)
وجملة ذلك أن الكتابة لا تنفسخ بموت السيد لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا وذلك لأنه عقد
367

لازم من جهته لا سبيل إلى فسخ فلم ينفسخ بموته كالبيع والإجارة إذا ثبت هذا فإن المكاتب يؤدي
نجومه أو ما بقي منها إلى ورثته لأنه دين لموروثهم ويكون مقسوما بينهم على قدر مواريثهم كسائر
ديونه فإن كان له أولاد ذكور وإناث فللذكر مثل حظ الأنثيين ولا يعتق حتى يؤدي إلى كل ذي
حق حقه فإن أدى إلى بعضهم دون بعض لم يعتق كما لو كان بين شركاء فأدى إلى بعضهم فإن كان
بعضهم غائبا وكان له وكيل دفع نصيبه إلى وكيله وان لم يكن له وكيل دفع نصيبه إلى الحاكم وعتق
وإن كان موليا عليه دفع نصيبه إلى وليه إما ابنه أو وصيه أو الحاكم أو أمينه فإن كان له وصيان
لم يبرأ إلا بالدفع إليهما معا وإن كان الوارث رشيدا قبض لنفسه ولا تصح الوصية إلى غيره ليقبض
له لأن الرشيد ولي نفسه وإن كان بعضهم رشيدا وبعضهم موليا عليه فحكم كل واحد منهم حكمه
لو انفرد وان اذن بعضهم له في الأداء إلى الآخر وكان الذي اذن له في ذلك رشيدا فأدى إلى
الآخر جميع حقه عتق نصيبه فإن كان معسرا لم يسر إلى نصيب شريكه وإن كان موسرا عتق
عليه كله وقوم عليه باقيه كما لو كان بين شريكين فاعتق أحدهما نصيبه وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو
أحد قولي الشافعي وقال القاضي لا يسري عتقه وإن كان موسرا وهو (القول الثاني) للشافعي وقال
أبو حنيفة لا يعتق الا بأداء جميع مال الكتابة لأنه أدى بعض مال الكتابة فأشبه ما لو أداه إلى السيد
وان أبرأه من مال الكتابة برئ منه وعتق وان أبرأه بعضهم عتق نصيبه وكذلك أن أعتق نصيبه
منه عتق والخلاف في هذا كله كالخلاف فيما إذا أدى إلى بعضهم باذن الاخر
368

ولنا على أنه يعتق نصيب من أبرأه من حقه عليه أو استوفى نصيبه باذن شركائه أنه أبرأه من
جميع ماله عليه فوجب ان يلحقه العتق كما لو أبرأه سيده من جميع مال الكتابة وفارق ما إذا أبرأه سيده
من بعض مال الكتابة لأنه ما أبرأه من جميع حقه.
ولنا على سراية عتقه أنه إعتاق لبعض العبد الذي يجوز اعتاقه من موسر جائز التصرف غير
محجور عليه فوجب ان يسري عتقه كما لو كان قنا ولأنه عتق حصل بفعله واختياره فسرى كمحل
الوفاق قيل في السراية ضرر بالشركاء لأنه قد يعجز فيرد إلى الرق قلنا إذا كان العتق في محل
الوفاق يزيل الرق المتمكن الذي لا كتابة فيه فلان يزيل عرضية ذلك بطريق الأولى.
(مسألة) قال (وولاؤه لسيده وان عجز فهو عبد لسائر الورثة)
أما إذا عجز ورد في الرق فإنه يكون عبدا لجميع الورثة كما لو لم يكن مكاتبا
لأنه من مال موروثهم فكان بينهم كسائر المال وأما إذا أدى مال الكتابة وعتق فقال الخرقي
يكون ولاؤه لمكاتبه يختص به عصباتا دون أصحاب الفروض وهذا قول أكثر الفقهاء وهو اختيار
أبي بكر ونقله إسحاق بن منصور عن أحمد رحمه الله وإسحاق وروى حنبل وصالح بن أحمد عن أبيه قال
اختلف الناس في المكاتب يموت سيده وعليه بقية من كتابته قال بعض الناس الولاء للرجال والنساء
369

وقال بعض الناس لا ولاء للنساء لأن هذا إنما هو دين على المكاتب ولا يرث النساء من الولاء إلا
ما كاتبن أو أعتقن ولكل وجه والذي أراه ويغلب علي انهن يرثن وذلك لأن المكاتب لو عجز
بعد وفاة السيد رد رقيقا وهذا قول طاوس والزهري وذلك لأن المكاتب انتقل إلى الورثة بموت
المكاتب فكان ولاؤه لهم كما لو انتقل إلى المشتري ولأنه يؤدي إلى الورثة فكان ولاؤه لهم كما لو
أدى إلى المشتري ووجه الأول ان السيد هو المنعم بالعتق فكان الولاء له كما لو أدى إليه ولان الورثة
إنما ينتقل إليهم ما بقي للسيد وإنما بقي للسيد دين في ذمة المكاتب والفرق بين الميراث والشراء
ان السيد نقل حقه في المبيع باختياره فلم يبق له فيه حق من وجه والوارث بخلف الموروث ويقوم
مقامه ويبني على ما فعله موروثه ولا ينتقل إليه شئ أمكن بقاؤه لموروثه والولاء مما أمكن بقاؤه
للموروث فوجب ان لا ينتقل عنه
(فصل) فإن أعتقه الورثة صح عتقهم لأنه ملك لهم فصح عتقهم له ولان السيد لو أعتقه نفذ عتقه
وهم يقومون مقام موروثهم ويكون ولاؤه لهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) وان أعتق
بعضهم نصيبه فعتق عليه كله قوم عليه نصيب شركائه وكان ولاؤه له وان لم يسر عتقه لكونه معسرا
أو لغير ذلك فله ولاء ما أعتقه للخبر ولأنه منعم عليه بالعتق فكان الولاء له كنير المكاتب وقال
370

القاضي ان أعتقوه كلهم قبل عجزه كان الولاء للسيد وان أعتق بعضهم لم يسر عتقه ثم ينظر فإن أدى
إلى الباقين عتق كله وكان ولاؤه للسيد وان عجز فردوه إلى الرق كان ولاء نصيب المعتق له لأنه
لولا اعتاقه لعاد سهمه رقيقا كسهام سائر الورثة فلما أعتقه كان هو المنعم عليه فكان الولاء له دونهم
فاما ان أبرأه الورثة كلهم عتق وكان ولاؤه على الروايتين اللتين ذكرناهما فيما إذا أدى إليهم لأن
الابراء جرى مجرى استيفاء ما عليه ويحتمل أن يكون الولاء لهم لأنهم أنعموا عليه بما عتق به فأشبه
ما لو أعتقوه وان أبرأه بعضهم من نصيبه كان في ولائه ما ذكرنا من الخلاف والله أعلم
(فصل) إذا باع الورثة المكاتب أو وهبوه صح بيعهم وهبتهم لأنهم يقومون مقام المكاتب
والمكاتب يملك بيعه وهبته فكذلك ورثته ويكون عند المشتري والموهوب له مبقى على كتابته
فإن عجز فعجزه عاد رقيقا له وان أدى وعتق كان ولاؤه لمن يؤدي إليه على الرواية التي تقول ان
ولاءه للورثة إذا أدى إليهم وأما على الرواية الأخرى فيحتمل ان لا يصح بيعه ولا هبته لأن ذلك
يقتضي ابطال سبب ثبوت الولاء للسيد الذي كاتبه وليس ذلك للورثة ويحتمل ان يصح ويكون
الولاء للسيد ان عتق بالكتابة لأن السيد عقدها فعتق بها فكان ولاؤه له ويفارق ما بعه السيد لأن
السيد ببيعه أبطل حق نفسه وله ذلك بخلاف الورثة فإنهم لا يملكون ابطال حق موروثهم
371

(فصل) وان وصى السيد بمال الكتابة لرجل صح فإن سلم مال الكتابة إلى الموصى له أو وكيله
أو وليه إن كان محجورا عليه برئ منه وعتق وولاؤه لسيده الذي كاتبه لأنه المنعم عليه وان أبرأه
من المال عتق أيضا لأنه برئ من مال الكتابة فأشبه ما لو أدى وان أعتقه لم يعتق لأنه لا يملك رقبته
ولا وصى له بها وإنما وصى له بالمال الذي عليه وان عجز ورد في الرق عاد عبدا للورثة وما قبضه الوصي
الموصى له من المال فهو له لأنه قبضه بحكم الوصية الصحيحة والامر في تعجيزه إلى الورثة لأن الحق
ثبت لهم بتعجيزه ويصير العبد لهم فكانت الخيرة في ذلك أيهم وأما الموصى له فإن حقه ووصيته
تبطل بتعجيزه فلم يكن له في ذلك حق وان وصى بمال الكتابة للمساكين ووصى إلى رجل بقبضه
وتفريقه بينهم صح ومتى سلم المال إلى الوصي برئ وعتق وان أبرأه منه لم يبرأ لأن الحق لغيره وان
دفعه المكاتب إلى المساكين لم يبرأ منه ولم يعتق لأن التعيين إلى الوصي دون وان وصى بدفع المال
إلى غرمائه تعيين القضاء منه كما لو وصى به عطية له وإن كان إنما أوصى بقضاء ديونه مطلقا كان
على المكاتب ان يجمع بين الورثة والوصي بقضاء الدين ويدفعه إليهم بحضرته لأن المال للورثة
ولهم انى قضوا الدين منه ومن غيره وللوصي في قضاء الدين حق فيه لأن لهم منعهم من التصرف
في التركة قبل قضاء الدين
(فصل) إذا مات رجل وخلف ابنين وعبدا ما دعى العبد ان سيده كاتبه فصدقاه ثبتت الكتابة
372

لأن الحق لهما وان أكراه وكانت له بينة بدعواه ثبتت الكتابة وعتق بالأداء إليهما، وان عجز فلهما
رده إلى الرق، وان لم يعجزاه وصبرا عليه لم يملك الفسخ وان عجزه أحدهما وأبى الآخر تعجيزه
بقي نصفه على الكتابة وعاد نصفه الآخر رقيقا، وان لم تكن له بينة فالقول قولهما مع أيمانهما لأن الأصل
بقاء الرق وعدم الكتابة وتكون أيمانهم على نفي العلم فيحلفان بالله انهما لا يعلمان ان أباهما كاتبه لأنها
يمين على نفي فعل الغير فإن حلفا ثبت رقه وان نكلا قضي عليهما أوردت اليمين عليه على وقل من
قضى بردها فيحلف العبد وتثبت الكتابة، وان حلف أحدهما ونكل الآخر قضي برق نصفه
وكتابة نصفه وان صدقه أحدهما وكذبه الآخر ثبتت الكتابة في نصفه وعليه البينة في نصفه الآخر
فإن لم تكن له بينة وحلف المنكر صار نصفه مكاتبا ونصفه رقيقا قنا فإن شهد المقر على أخيه قبلت
شهادته لأنه لا يجر بها إلى نفسه نفعا ولا يدفعه بها ضرارا فإن كان معه شاهد آخر كملت الشهادة وثبتت
الكتابة في جميعه وان لم يشهد معه غيره فعل يحلف العبد معه على روايتين وان لم يكن عدلا أولم يحلف
العبد معه وحلف المنكر كان نصفه مكاتبا ونصفا رقيقا ويكون كسبه بينه وبين المنكر نصفين ونفقته
من كسبه لأنها على نسفه وعلى مالك نصفه فإن لم يكن له كسب كان على المنكر نصف نفقته ثم إن اتفق
هو ومالك نصف على المهايأة معاومة أو مشاهرة أو كيفما كان جاز وان طلب ذلك أحدهما وامتنع
الآخر فظاهر كلام احمد انه يجبر عليها وهو قول أبي حنيفة لأن المنافع مشتركة بينهما فإذا أراد أحدهما
373

حيازه نصيبه من غير ضرر لزم الآخر إجابته كالأعيان ويحتمل أن لا يجبر وهو قول الشافعي لأن
المهايأة تأخير حقه الحال لأن المنافع في هذا اليوم مشتركة بينهما فلا تجب الإجابة إليه كتأخير ديته
الحال فإن اقتسما الكسب مهايأة أو مناصفة فلم يف بأداء نجومه فللمقر رده في الرق وما في يده له خاصة
لأن المنكر قد أخذ حقه من الكسب وان اختلف المنكر والمقر فيما في يد المكاتب فقال المنكر هذا
كان في يده قبل دعوى الكتابة وكسبه في حياة أبينا وأنكر ذلك المقر فالقول قوله مع يمينه لأن المنكر
يدعي كسبه في وقت الأصل عدمه فيه ولأنه لو اختلف هو والمكاتب في ذلك كان القول قول المكاتب
فكذلك من يقوم مقامه وان أدى الكتابة عتق نصيب المقر خاصة ولم يسر إلى نصيب شريكه لأنه
لم يباشر العتق ولم يتسبب إليه وإنما كان السبب من أبيه وهذا حاك عن أبيه مقر بفعله فهو كالشاهد
ولان المقر يزعم أن نصيب أخيه حر أيضا لأنه قد قبض من العبد مثل ما قبض فقد حصل أداء مال
الكتابة إليهما جميعا فعتق كله بذلك وولاء هذا النصف للمقر لأن أخاه لا يدعيه وهذا المقر يدعي
انه كله قد عتق بالكتابة وهذا الولاء الذي على هذا النصف نصيبي من الولاء، وقال أصحاب الشافعي
في ذلك وجهان (أحدهما) كقولنا
(والثاني) الولاء بين الاثنين لأنه يثبت لموروثهما فكان لهما بالميراث والصحيح ما قلنا لما ذكرناه
ولا يمنع ثبوت الولاء للأب واختصاص أحد الابنين به كما لو ادعى أحدهما دينا لأبيه على انسان
374

وأنكره الآخر فإن المدعي يأخذ نصيبه من الدين ويختص به دون أخيه وإن كان يرثه عن الأب
وكذلك لو ادعياه معا وأقاما به شاهدا واحدا فحلف أحدهما مع الشاهد وأبى الآخر فإن أعتق أحدهما حصته عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسرا وهذا قول الخرقي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا
له من عبد وكان له ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطي شركاؤه حصصهم ولأنه موسرا
عتق نصيبه من عبد مشترك فسرى إلى باقيه كغير المكاتب وقال أبو بكر والقاضي لا تعتق إلا حصته
لأنه إن كان المعتق المقر فهو منفذ وإن كان المنكر لم يصر إلى نصيب المقر لأنه مكاتب لغيره وفي سراية
العتق إليه ابطال سبب الولاء عليه فلم يجز ذلك
(مسألة) قال (ولا يمنع المكاتب من السفر)
وجلمته أن المكاتب لا يمنع من السفر قريبا كان أو بعيدا وهذا قول الشعبي والنخعي وسعيد
ابن جبير والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة ولم يفرق أصحابنا بين السفر الطويل وغيره لكن
قياس المذهب أن له منعه من سفر نحل نجوم كتابته قبله لأنه يتعذر معه استيفاء النجوم في وقتها
والرجوع في وقته عند عجزه فمنع منه كالغريم الذي يحل عليه الدين قبل مدة سفره واختلف قول
الشافعي فقال في موضع له السفر وفي قول لسيس له السفر فقال بعض أصحابه فيها قولان وقال بعضهم
375

ليست على قولين إنما هي على اختلاف حالين فالموضع الذي قال له السفر إذا كان قصيرا لأنه في حكم
الحاضر والموضع الذي منع منه إذا كان بعيدا يتعذر معه استيفاء نجومه والرجوع في رقه عند عجزه
ولنا ان المكاتب في يد نفسه وإنما للسيد عليه دين فأشبه الحد الدين، وما ذكروه لا أصل
له ويبطل بالحر الغريم
(فصل) فإن شرط عليه في الكتابة ان لا يسافر فقال القاضي: الشرط باطل وهو قول
الحسن وشعيب بن جبير والشعبي والنخعي وأبي حنيفة لأنه ينافي مقتضى العبد فلم يصح شرطه كشرط
ترك الاكتساب ولأنه غريم فلم يصح شرط ترك السفر عليه كما لو اقرضه رجل قرضا بشرط ان لا
يسافر وقال أبو الخطاب يصح الشرط وله منعه من السفر وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون
على شروطهم) ولأنه شرط له فيه فائدة فلزم كما لو شرط نقدا معلوما وبيان فائدته أنه لا يأمن
إباقه وأنه لا يرجع إلى سيده فيفوت العبد والمال الذي عليه ويفارق القرض فإنه عقد جائز من جانب
المقرض متى شاء طالب بأخذه ومنع الغريم السفر قبل ايفائه فكان المنع من السفر حاصلا بدون
شرطه بخلاف الكتابة فإنه لا يمكن السيد منعه من السفر الا بشرطه وفيه حفظ عبده وماله فلا
يمنع من تحصيله وهذا أصح إن شاء الله تعالى، وأولى فعلى هذا الوجه لسيده منعه من السفر فإن
سافر بغير اذنه فله رده ان أمكنه وان لم يمكنه رده احتمل ان له تعجيزه ورده إلى الرق لأنه
376

لم يف بما شرطه عليه أشبه ما لو لم يف بأداء الكتابة واحتمل ان لا يملك ذلك لأنه مكاتب كتابة
صحيحة لم يظهر عجزه فلم يملك تعجيزه كما لو لم يشترط عليه
(فصل) وان شرط في كتابه ان لا يسأل فقال أحمد قال جابر بن عبد الله هم على شروطهم ان
ان رأيته يسأل تنهاه فإن قال لا أعود لم يرده عن كتابته في مرة فظاهر هذا ان الشرط صحيح
لازم وأنه ان خالف مرة لم يعجزه وإن خالف مرتين أو أكثر فله تعجيزه. قال أبو بكر إذا رآه
يسأل مرة في مرة عجزه كما إذا حل نجم في نجم عجزه فاعتبر المخالفة في مرتين كحلول نجمين وإنما
صح الشرط لقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) ولان له في هذا فائدة وغرضا صحيحا وهو أن
لا يكون كلا على الناس ولا يطعمه من صدقتهم وأوساخهم
وذكر أبو الخطاب أنه لا يصح الشرط لأن الله تعالى جعل للمكاتب سهما من الصدقة بقوله
تعالى (وفي الرقاب) وهم المكاتبون فلم يصح اشتراط ترك طلب ما جعله الله تعالى له
(مسألة) قال (وليس له ان يتزوج الا باذن سيده)
وهذا قول الحسن ومالك والليث وابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وأبي يوسف وقال الحسن
ابن صالح له ذلك لأنه عقد معاوضة أشبه البيع
377

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أيما عبد تزوج بغير اذن مواليه فهو عاهر) ولان على السيد فيه ضرارا
لأنه ربما عجز فيرجع إليه ناقص القيمة ويحتاج ان يؤدي المهر والنفقة من كسبه فيعجز عن تأدية
نجومه فيمنع من ذلك كالتبرع به
إذا ثبت هذا فإنه إذا تزوج لم يصح تزويجه وقال الثوري نكاحه موقوف ان أدى تبينا أنه
كان صحيحا وان عجز فنكاحه باطل
ولنا الخبر ولأنه تصرف منع منه للضرر فلم يصح كالهبة وما ذكره لا أصل له فإذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما
فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها وإن كان بعده فعليه مهر مثلها يؤدى من كسبه لأنه بمنزلة جنايته وان
أتت بولد لحقه نسبه لأنه من وطئ في نكاح فاسد فإن كانت المرأة حرة فهو حر وإن كانت أمة
فولدها رقيق لسيدها، فأما ان أذن له سيده في النكاح صح منه في قولهم جميعا فإن الخبر يدل
بمفهومه على صحة تزويجه إذا أذن له ولان المنع من نكاحه لحق سيده فإذا أذن له زال المانع ولأنه
لو أذن لعبده القن في النكاح صح منه فالمكاتب أولى
(فصل) وليس له التسري بغير اذن سيده لأن ملكه غير تام، وقال الزهري لا ينبغي لأهله
أن يمنعوه من التسري
ولنا ان ملكه ناقص وعلى السيد فيه ضرر فيمنع منه كالتزويج وبيان الضرر فيه انه ربما
378

أحبلها والحبل مخوف في بنات آدم وربما تلفت وربما ولدت فصارت أم ولد فيمتنع عليه بيعها في
أداء كتابتها وإن عجزت رجعت إلى السيد ناقصة فإذا منع من التزويج لضرره فهذا أولى، فأما ان
أذن له سيده في التسري جاز له
وقال الشافعي لا يجوز له ذلك وإن أذن فيه سيده في أحد القولين لأنه أمر يضربه وربما أفضى
إلى منعه من العتق فلم يجز وإن أذن فيه سيده ولأنه ناقص الملك فلم يجز له التسري كوطئ الجارية المشتركة
ولنا انه لو أذن لعبده القن في التسري جاز فالمكاتب أولى ولان المنع كان لأجل الضرر بالسيد
فجاز تأديبه كالتزويج. إذا ثبت هذا فإنه إذا تسرى باذن سيده أو غير اذنه فلا حد عليه لشبهة الملك
ولا مهر عليه لأنه لو وجب لوجب له ولا يجب على الانسان شئ لنفسه وإن حبلت فالنسب لا حق
به لأن الحد إذا سقط بالشبهة لحق النسب ويكون الولد مملوكا له لأنه ابن أمته ولا يعتق عليه لأن
ملكه غير تام وليس له بيعه لأنه ولده ويكون موقوفا على كتابته فإن أدى عتق وعتق الولد لأنه
ملك لأبيه الحر وإن عجز وعاد إلى الرق فولده رقيق أيضا ويكونان مملوكين للسيد فأما الأمة فإن ولدت
قبل عتقه وعجزه فإنها تصير أم ولد للمكاتب وليس له بيعها نص عليه احمد لأن ولدها له حرمة الحرية
ولا يجوز بيعه ويعتق بعتق أبيه فكذلك أمه فعلى هذا لا يجوز بيعها وتكون موقوفة على المكاتب ان
عتق فهي أم ولده وإن رق رقت
379

وقال القاضي في موضع لا تصير أم ولد بحال وله بيعها لأنها حملت بمملوك في ملك غير تام
وللشافعي قولان كهذين الوجهين وإن وضعته بعد عتقه لأقل من ستة أشهر تبينا انها حملت به في حال
رقه فالحكم على ما مضى، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر حكمنا انها حملته حرا لأننا لم نتيقن وجوده
في حال الرق وتكون أم ولد لأنها علقت بحر في ملكه وللشافعي من التفصيل نحو مما ذكرنا
(فصل) وليس للمكاتب أن يزوج عبيده وإماءه بغير اذن سيده وهذا قول الشافعي وابن
المنذر وذكر عن مالك ان له ذلك إذا كان على وجه النظر لأنه عقد على منفعة فملكه كالإجارة وهو
الذي قاله أبو الخطاب في رؤوس المسائل
وحكي عن القاضي أنه قال في الخصال له تزويج الأمة دون العبد وهو قول أبي حنيفة لأنه يأخذ
عوضا عن تزويجها بخلاف العبد ولأنه عقد ذمة على منافعها فأشبها اجارتها
ولنا ان على السيد فيه ضررا لأنه ان زوج العبد لزمته نفقة امرأته ومهرها وشغله بحقوق النكاح
ونقص قيمته وإن زوج الأمة ملك لزوج بضعها ونقصت قيمتها وقلت الرغبات فيها وربما امتنع
بيعها بالكلية وليس ذلك من جهات المكاتب فربما عجزه ذلك عن أداء نجومه وإن عجز عاد رقيقا
للسيد مع ما تعلق بهم من الحقوق ولحقهم من النقص فلم يجز ذلك له كاعتاقهم وفارق إجارة الدار
فإنها من جهات المكاسب عادة فعلى هذا ان وجب تزويجهم لطلبهم ذلك وحاجتهم إليه باعهم فإن
380

العبد متى طلب التزويج خير سيده بين بيعه وتزويجه وإن أذن له السيد في ذلك جاز لأن الحق له
والمنع من أجله فجاز باذنه
(فصل) وليس له اعتاق رقيقه الا باذن سيده وبهذا قال الحسن والأوزاعي ومالك والشافعي
وأبو حنيفة لأن فيه ضررا على سيده بتفويت ماله فيما لا يحصل له به مال فأشبه الهبة فإن أعتق لم يصح
اعتاقه ويتخرج أن يصح ويقف على اذن سيده
وقال أبو بكر هو موقوف على آخر أمر المكاتب فأي أدى عتق معتقه وإن لم يؤد رق قال القاضي
هذا قياس المذهب كقولنا في ذوي الأرحام انهم موقوفون
ولنا انه تبرع بماله بغير اذن سيده فكان باطلا كالهبة ولأنه تصرف تصرفا منع منه لحق سيده فكان
باطلا كسائر ما يمنع منه ولا يصح قياسه على ذوي أرحامه لأن عتق ذوي أرحامه ليس بتصرف منه
وإنما يعتقهم الشرع على مالكهم بملكهم والمكاتب ملكه ناقص فلم يعتق به فإذا عتق كما ملكه فعتقوا حينئذ
والمعتق إنما يعتق بالاعتاق الذي كان باطلا فلا تتيقين صحته إذا كمل الملك لأن كمال الملك في الثاني
لا يوجب كونه كاملا حين الاعتاق وكذلك لا يصح سائر تبرعاته بأدائه، فأما ان أذن فيه سيده صح
وقال الشافعي في أحد القولين لا يصح لأن تبرعه بما له يفوق المقصود من كتابته وهو العتق الذي هو حق
لله تعالى أو فيه حق له فلا يجوز تفويته ولان العتق لا ينفك من الولاء والعبد ليس من أهله ولان ملك المكاتب
ناقص والسيد لا يملك اعتاق ما في يده ولا هبته فلم يصح لأنه فيه
ولنا ان الحق لا يخرج عنهما فإذا اتفقا على التبرع به جاز كالراهن والمرتهن وما ذكروه يبطل بالنكاح
381

فإنه لا يملك ولا يملكه السيد عليه وإذا أذن له فيه جاز واما الولاء فإنه يكون موقوفا فإن عتق المكاتب كان
له وإلا فهو لسيده كما يرق مماليكه من ذوي أرحامه هذا قول القاضي وقال القاضي أبو بكر يكون لسيده لأن
اعتاقه إنما صح باذن سيده فكان كالنائب له
(فصل) والمكاتب محجور عليه في ماله فليس له استهلاكه ولا هبته وبهذا قال الحسن ومالك
والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه مخالفا لأن حق سيده لم ينقطع عنه لأنه قد يعجز فيعود إليه
ولان القصد من الكتابة تحصيل العتق بالأداء وهبة ماله تفوت ذلك وان أذن فيه سيده جاز وقال أبو حنيفة
لا يجوز لأنه يفوت المقصود بالكتابة وعن الشافعي فيه كالمذهبين
ولنا ان الحق لا يخرج عنهما فجاز باتفاقهما كالراهن والمرتهن فاما الهبة بالثواب فلا تصح وقال
الشافعي في أحد قوليه تصح لأن فيها معاوضة
ولنا ان الاختلاف في تقدير الثواب يوجب الغرر فيها ولان عوضها يتأخر فتكون كالبيع
نسيئة، وان أذن فيها السيد جازت وان وهب لسيده جاز لأن قبوله الهبة إذن فيها وكذلك أن
وهبت لابن سيده الصغير
(فصل) ولا يحابي في البيع ولا يزيد في الثمن الذي اشترى به ولا يعير دابة ولا يهدي هدية
وأجاز ذلك أصحاب الرأي ويحتمل جواز إعارة دابته وهدية المأكول ودعائه إليه لأن ذلك يجوز
382

للمأذون له ولا ينحط المكاتب عن درجته ووجه الأول انه تبرع بماله فلم يجز كالهبة ولا يوصي
بماله ولا يحط عن المشتري شيئا ولا يقرض ولا يضمن ولا تكفل بأحد وبه قال الشافعي وأصحاب
الرأي لأن ذلك تبرع بماله فمنع منه كالهبة
(فصل) وليس له أن يحج ان احتاج إلى أنفاق ماله فيه ونقل الميموني عن أحمد للمكاتب أن يحج
من المال الذي جمعه إذا لم يأت نجمه وهذا محمول على أنه يحج باذن سيده اما بغير اذنه فلا يجوز لأنه
تبرع بما ينفق مالا فيه فلم يجز كالعتق
فاما ان أمكنه الحج من غير أنفاق ماله كالذي تبرق انسان باحجاجه أو يخدم من ينفق عليه فيجوز
إذا لم يأت نجمه لأن هذا يجرى مجرى تركه وليس للكسب وليس ذلك مما يمنع منه
(فصل) وليس للمكاتب أن يكاتب الا باذن سيده وهذا قول الحسن والشافعي لأن الكتابة
نوع اعتاق فلم تجز من المكاتب كالمنجز ولأنه لا يملك الاعتاق فلم يملك الكتابة كالمأذون له في
التجارة واختار القاضي جواز الكتابة وهو الذي ذكره أبو الخطاب في رؤوس المسائل وقول
مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي لأنه نوع معاوضة فأشبه البيع، وقال أبو بكر هو موقوف
كقوله في العتق المنجز فإن أذن فيها السيد صحت وقال الشافعي فيها قولان وقد ذكرنا
ذلك فيما تقدم فإذا كاتب عبده فعجزا جميعا صار رقيقين للسيد، وان أدى المكاتب الأول ثم
383

أدى الثاني فولاء كل واحد منهما لمكاتبه وان أدى الأول وعجز الثاني صار رقيقا للأول وان عجز
الأول وادى الثاني فولاؤه للسيد الأول وان أدى الثاني قبل عتق الأول عتق قال أبو بكر وولاؤه
للسيد. وهو قول أبي حنيفة لأن العتق لا ينفك عن الولاء والولاء لا يوقف لأنه سبب يورث
به فهو كالنسب. ولان الميراث لا يقف كذلك سببه. وقال القاضي هو موقوف ان أدى
عتق والولاء له والا فهو للسيد، وهذا أحد قولي الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) ولان العبد ليس بملك له ولا يجوز أن يثبت له الولاء على من لم يعتق في ملكه،
وقولهم لا يجوز أن يقف كما لم يقف النسب والميراث فليس كذلك فإن النسب يقف على بلوغ الغلام
وانتسابه إذا لم تلحقه القافة بأحد الواطئين وكذلك الميراث يوقف على أن الفرق بين النسب والميراث
وبين الولاء لا يجوز أن يقع لشخص ثم ينتقل وهو ما يجره موالي الأب من مولى الام فجاز
أن يكون موقوفا والنسب والميراث بخلاف ذلك فإن مات المعتق قبل عتق المكاتب وقلنا الولاء
للسيد ورثه وإن قلنا هو موقوف فميراثه أيضا موقوف
(فصل) وليس له أن يبيع نسيئة وان باع السلعة بأضعاف قيمتها وهذا مذهب الشافعي لأن
فيه تغريرا بالمال وهو ممنوع من التغرير بالمال لتعلق حق السيد به
384

قال القاضي ويتخرج الجواز بناء على الضارب ان له البيع نسيئة في إحدى الروايتين فيخرج
ههنا مثله وسواء أخذ بالثمن ضمينا أو رهنا أو لم يأخذ لأن الغرر لم يزل فإن الرهن يحتمل ان يتلف
ويحتمل أن يفلس الغريم والضمين ويحتمل أن يجوز مع الرهن أو الضمين لأن الوثيقة قد حصلت به
والعوارض نادرة على خلاف الأصل فإن باع بأكثر مما يساوي حالا وجعل الزيادة مؤجلة جاز لأن
الزيادة ربح وإن اشترى نسيئة جاز لأنه لا غرر فيه ولا يجوز أن يدفع به رهنا لأن الرهن أمانة وقد
يتلف أو يجحده الغريم وليس له ان يدفع ماله سلما لأنه في معنى البيع نسيئة وله ان يستسلف في
ذمته لأنه في معنى الشراء نسيئة وليس له أن يقرض لأنه تبرع بالمال وفيه خطر به وله أن يقترض
لأنه ينتفع بالمال وليس له أن يدفع ماله مضاربة لأنه يسلمه إلى غيره فيغرر به وله أن يأخذ المال قراضا
لأنه من أنواع الكسب ومذهب الشافعي في هذا الفعل كله على ما ذكرنا
(فصل) وللمكاتب أن يبيع ويشتري باجماع من أهل العلم لأن عقد الكتابة لتحصيل العتق
ولا يحصل الا بأداء عوضه ولا يمكنه الأداء الا بالاكتساب والبيع والشراء من أقوى جهات الاكتساب
فإنه قد جاء في بعض الآثار ان تسعة أعشار الرزق في التجارة وله أن يأخذ ويعطي فيما فيه الصلاح
لماله والتوفير عليه وله أن ينفق مما في يده من المال على نفسه في مأكله ومشربه وكسوته بالمعروف مما
385

لا غناء له عنه وعلى رقيقه والحيوان الذي له وله تأديب عبيده وتعزيرهم إذا فعلوا ما يستحقون ذلك
لأنه من مصلحة ملكه فملكته كالنفقة عليهم ولا يملك إقامة الحد عليهم لأن هذا موضع ولاية وليس
هو من أهلها وله المطالبة بالشفعة والاخذ بها لأنه نوع شراء فإن كان المشتري للشقص سيده فله
أخذه منه لأن له ان يشتري منه، وان اشترى المكاتب شقصا لسيده فيه شركة فله أخذه من
المكاتب بالشفعة لأنه مع سيده في باب البيع والشراء كالأجنبي، وان وجبت للسيد على مكاتبه شفعة
فادعى المكاتب ان سيده عفا عنها سمعت دعواه وان أنكره السيد كان عليه اليمين وإن أذن السيد
لمكاتبه في البيع بالمحاباة صح منه وكان لسيده الاخذ بالشفعة لأن بيعه بالمحاباة مع اذن سيده فيه صحيح
ويصح اقرار المكاتب بالبيع والشراء والعيب والدين لأنه يصح تصرفه فيه بذلك، ومن ملك
شيئا فله الاقرار به
(مسألة) قال (ولا يبيعه سيده درهما بدرهمين)
وجملته ان الربا يجري بين العبد وبين سيده فلم يجز ان يبيعه درهما بدرهمين كالأجنبيين وقال
ابن أبي موسى لا ربا بينهما لأنه عبد في الأظهر من قوله ولا ربا بين العبد وسيده ولهذا جار ان
يعجل لسيده ويضع عنه بعض كتابته وله وطئ مكاتبته إذا شرط ولو حملت منه صارت له بذلك أم
386

ولد، ووجه قول الخرقي ان السيد مع مكاتبه في باب المعاملة كالأجنبي بدليل ان لكل واحد منهما الشفعة
على صاحبه ولا يملك كل واحد منهما التصرف فيما في يد صاحبه وإنما يتعلق لسيده حق فيما بيده
لكونه بمرضية ان يعجزه فيعود إليه وهذا لا يمنع جريان الربا بينهما كالأب مع ابنه فعلى هذا القول
لا يجوز التفاضل بينهما فيما يحرم التفاضل فيه بين الأجنبيين ولا النساء فيما يحرم النساء فيه بين الأجانب
(فصل) فإن كان لكل واحد منهما على صاحبه دين مثل إن كان للسيد على المكاتب دين من
الكتابة أو غيرها وللمكاتب على سيده دين وكانا نقدا من جنس واحد حالين أو مؤجلين أجلا واحدا
تقاضا وتساقطا لأنهما إذا تساقطا بين الأجانب فمع السيد ومكاتبه أولى، وإن كانا نقدين من جنسين
كدراهم ودنانير فقال ابن أبي موسى لو كان له على سيده ألف درهم ولسيده عليه مائة دينار فجعلها
قصاصا بها جاز بخلاف الحرين
وقال القاضي لا يجوز هذا لأنه بيع دين بدين وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين ولأنه
لا يجوز بين الأجنبيين فلم يجز بين المكاتب وسيده كسائر المحرمات وفارق العبد القن فإنه باق في
تصرف سيده وما في يده ملك خالص لسيده له أخذه والتصرف فيه فعلى هذا لا يجوز مع التراضي
به وعلى قول أبي موسى يجوز إذا تراضيا بذلك وتبايعاه ولا يثبت التقابض قبل تراضيهما به لأنه بيع
فأما ان كانا عرضين أو عرضا ونقدا لم تجز المقاصة فيهما بغير تراضيهما بحال سواء كان القرض من
387

جنس حقه أو غير جنسه وان تراضيا بذلك لم يجز أيضا لأنه بيع دين بدين، وان قبض أحدهما من
الآخر حقه ثم دفعه إلى الآخر عوضا عن ماله في ذمته جاز إذا لم يكن الثابت في الذمة عن سلم فإذا
ثبت عن سلم لم يجز أخذ عوضه قبل قبضه وفي الجملة ان حكم المكاتب مع سيده في هذا حكم
الأجانب الا على قول ابن أبي موسى الذي ذكرناه والله أعلم
(مسألة) قال (وليس للرجل أن يطأ مكاتبه إلا أن يشترط)
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) في وطئها بغير شرط وهو حرام في قول أكثر أهل
العلم منهم سعيد بن المسيب والحسن والزهري ومالك والليث والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب
الرأي وقيل له وطؤها في الوقت الذي لا يشغلها الوطئ عن السعي عما هي فيه لأنها ملك يمينه فتدخل
في عموم قوله تعالى (أو ما ملكت أيمانهم)
ولنا ان الكتابة عقد أزال ملك استخدامها وملك عوض منفعة بضعها فيما إذا وطئت بشبهة
فأزال حل وطئها كالبيع والآية مخصوصة بالمزوجة فنقيس عليها محل النزاع ولان الملك ههنا ضعيف
لأنه قد زال عن منافعها جملة ولهذا لو وطئت بشبهة كان المهر لها وتفارق أم الولد فإن ملكه باق عليها
388

وإنما يزول بموته فأشبهت المدبرة والموصى بها وإنما امتنع البيع لأنها استحقت العتق بموته استحقاقا
لازما لا يمكن زواله
(الفصل الثاني) إذا شرط وطأها فله ذلك وبه قال سيعد بن المسيب وقال سائر من ذكرنا ليس
له وطؤها لأنه لا يملكه مع اطلاق العقد فلم يملكه بالشرط كما لو زوجها أو أعتقها
وقال الشافعي إذا شرط ذلك في عقد الكتابة فسد لأنه شرط فاسد فأفسد العتق كما لو شرط
عوضا فاسدا، وقال مالك لا يفسد العقد به لأنه لا يخل بركن العقد ولا شرطه فلم يفسده كالصحيح
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند شروطهم) ولأنها مملوكة له شرط نفعها فصح كشرط
استخدامها يحقق هذا ان منعه من وطئها مع بقاء ملكه عليها ووجود المقتضي لحل وطئها إنما كان
لحقها فإذا شرطه عليها جاز كالخدمة ولأنه استثنى بعض ما كان له فصح كاشتراط الخدمة وفارق البيع
لأنه يزيل ملكه عنها
(فصل) فإن وطئها مع الشرط فلا حد عليه ولا تعزير ولا مهر وطئ يملكه ويباح له فأشبه
وطأها قبل كتابتها وان وطئها من غير شرط فقد أساء وعليه التعزير لأنه وطئ محرم ولا حد عليه في
قول عامة الفقهاء لا نعلم فيه خلافا الا عن الحسن والزهري فإنهما قالا عليه الحد لأنه عقد عليها عقد
معاوضة يحرم الوطئ فأوجب الحد بوطئها كالبيع
389

ولنا انها مملوكته فلم يجب الحد بوطئها كأمته المستأجرة والمرهونة وتخالف البيع فإنه يزيل الملك
والكتابة لا تزيله بدليل قوله عليه السلام (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) وعليه مهرها لها لأنه
استوفى منفعتها الممنوع من استيفائها فكان عليه عوضها كمنافع بدنها
(فصل) وان أولدها صارت أم ولد له سواء وطئها بشرط أو بغير شرط لأنه أحبلها بحر في ملكه فكانت
أم ولده كغير المكاتبة والولد حر لأنه ولده من مملوكته ويلحقه نسبه لذلك ولأنه من وطئ سقط فيه الحد
للشبهة فأشبه ولد المغرور ولا تلزمه قيمته لأنها وضعته في ملكه
(فصل) وليس له وطئ بنتها لأنها تابعة لامها موقوفة معها فلم يبح وطؤها كامها ولا يباح ذلك
بالشرط لأن حكم الكتابة ثبت فيها تبعا ولم يكن وطؤها مباحا حال العقد بشرطه فإن وطئها فلا حد
عليه لأنها ملكه ويأثم ويعزر لأنه وطئ فرجا محرما ولها مهر عليه حكمه حكم كسبها يكون لامها تستعين به في
كتابتها لأن ذلك سبب حريتها وان أحبلها صارت أم ولد له والولد حر لأنه أحبلها بحر في ملكه ويلحقه نسبه
ولا تجب عليه قيمتها لأن أمها لا تملكه ولا قيمة ولدها لأنها وضعته في ملكه
(فصل) وليس له وطئ جارية مكاتبته ولا مكاتبه اتفاقا فإن فعل اثم وعزر ولا حد عليه لشبهة
الملك لأنه يملك مالكها وعليه مهرها لسيدها وولده منها حر يلحقه نسبه لأن الحد سقط لشبهة
390

الملك وتصر أم ولد له وعليه قيمتها لسيدها لأنه أخرجها بوطئه عن ملكه وكان عليه قيمتها لسيده
ولا تجب عليه قيمة الولد لأنها وضعته في ملكه ويحتمل أن تلزمه قيمته لأنه أخرجه بوطئه عن أن يكون
مملوكا لسيدها فأشبه ولد المغرور
(فصل) ولا يملك اجبار مكاتبته ولا ابنتها ولا أمتها على التزويج لأنه زال ملكه بعقد الكتابة
عن نفعها ونفع بضعها وعن عوضه وليس لواحدة منها التزويج بغير اذن لأن عليه ضرارا في ذلك فإنه
يثبت للزوج حقا فيها فربما عجزت وعادت إليه على وجه لا يملك وطأها فإن تراضيا بذلك جاز لأن الحق لا يخرج
عنهما وهو وليها وولي ابنتها وجاريتها جميعا لأن الملك له فأشبه الجارية القن والمهر للمكاتبة على
ما ذكرنا في مهرهن إذا وطئهن السيد
(مسألة) قال (فإن وطئها ولم يشترط أدب ولم يبلغ به حد الزاني وكان عليه مهر مثلها)
وجملة الأمران السيد إذا وطئ مكاتبته من غير شرط فقد ذكرنا انه لاحد عليه لكن ان كانا
عالمين بالتحريم عزرا وان كانا جاهلين عزرا وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا عزر العالم وعزر الجاهل
ولا يخرج بالوطئ عن الكتابة وقال الليث ان طاوعته فقد فسخت كتابتها وعادت قنا
ولنا انه عقد لازم فلم ينفسخ بالمطاوعة على الوطئ كالإجارة والبيع بعد لزومه فاما المهر فإنه يجب
391

لها أكرها أو طاوعته وبه قال الحسن والثوري والحسن بن صالح والشافعي، وقال قتادة يجب
إذا أكرهها ولا يجب إذا طاوعته ونقله المزني عن الشافعي لأن المطاوعة بذلت نفسها بغير عوض
فصارت كالزانية ومنصوص الشافعي وجوبه في الحالين وأنكر أصحابه ما نقله المزني وقالوا لا يعرف
وقال مالك لا شي ء عليه لأنها ملكه
ولنا أنه عوض منفعتها فوجب لها كعوض بدنها ولان المكاتبة في يد نفسها ومنافعها لها ولهذا
لو وطئها أجنبي كان المهر لها وإنما وجب في حال المطاوعة لأن الحد يسقط عنه لشبهة الملك فوجب
لها المهر كما لو وطئ امرأة بشبهة عقد مطاوعة فإن تكرر وطؤها وكان قد أدى مهر الوطئ الأول فللثاني
مهر أيضا لأن الأداء قطع حكم الوطئ الأول وان لم يكن أدى عن الأول لم يجب الا مهر واحد لأن هذا
عن وطئ الشبهة فلم يكن إلا مهرا واحدا كالوطئ في النكاح الفاسد
(فصل) وإذا وجب لها المهر فإن كان لم يحل عليها نجم فلها المطالبة وإن كان قد حل عليها فكان المهر
من غير جنسه فلها المطالبة به أيضا وإن كان من جنسه تقاضا وأخذ ذو الفضل فضله
(مسألة) قال (فإن علقت منه فهي مخيرة بين العجز وتكون أم ولد وبين المضي
على كتابتها فإن أدت عتقت وان عجزت عتقت بموته وان مات قبل عجزها انعتقت لأنها
من أمهات الأولاد ويسقط عنها ما بقي من كتابتها وما في يدها لورثة سيدها)
392

وجملته ان السيد إذا استولد مكاتبته فالولد حر لأنه من مملوكته ونسبه لاحق به ولا تجب
قيمته لذلك وتصير أم ولد له لذلك ولا تبطل كتابتها لأنه عقد لازم من جهة سيدها، وقد اجتمع
لها سببان يقتضيان العتق أيهما سبق صاحبه ثبت حكه. هذا قول الزهري ومالك والثوري
والليث والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال الحكم تبطل كتابتها لأنها سبب للعتق
فتبطل بالاستيلاد كالتدبير
ولنا انه معاوضة فلا تبطل بالوطئ كالبيع ولأنها سبب للعتق لا يملك السيد الرجوع عنه فلم
تبطل بذلك كالتعليق بصفة وما ذكروه يبطل بالتعليق بالصفة وتقارق الكتابة التدبير من وجوه
(أحدها) ان حكم التدبير والاستيلاد واحد وهو العتق عقيب الموت والاستيلاد أقوى لأنه يعتبر من رأس
المال ولا سبيل إلى إبطاله بحال فاستغني به عن التدبير والكتابة سبب يتعجل بها العتق بالأداء ويكون
ما فضل من كسبها لها ويملك بها منافعها وكسبها وتخرج عن تصرف سيدها وهذا لا يحصل بالاستيلاد
فيجب ان تبقى لبقاء فائدتها (والثاني) ان الكتابة أقوى من التدبير للزومها وكونها لا تبطل بالرجوع
عنها ولا ببيع المكاتب ولا هبته
(الثالث) ان التدبير تبرع والكتابة عقد معاوضة لازم فإذا ثبت هذا فإنه يجتمع لها سببان
كل واحد منهما يقتضي الحرية فأيهما تم قبل صاحبه ثبتت الحرية به كما لو انفرد لأن انضمام أحدهما
393

إلى الآخر مع كونه لا ينافيه لا يمنع ثبوت حكمه فإن أدت عتقت بالكتابة وما فضل من كسبها فهو لها لأن
المعتق بالكتابة له ما فضل من نجومه وان عجزت وردت في الرق بطل حكم الكتابة وبقي لها حكم
الاستيلاد منفردا كما لو لم تكن مكاتبة وله وطؤها وتزويجها وإجارتها وتعتق بموته وما في يدها لورثة
سيدها وإذا مات سيدها قيل عجزها انعتقت لأنها أم ولد وتسقط الكتابة لأن الحرية حصلت فسقط العوض
المبذول في تحصيلها كما لو باشرها سيدها بالعتق وما في يدها لورثة سيدها في قول الخرقي وأبي الخطاب لأنها
عتقت بحكم الاستيلاد وبطل حكم الكتابة فأشبهت غير المكاتبة وقال القاضي في المجرد وابن عقيل
في كتابه ما فضل في يدها لها وهو قول الشافعي لأن العتق إذا وقع في الكتابة لا يبطل حكمها
كالابراء من نجوم الكتابة ولان ملكها كان ثابتا على ما في يدها ولم يحدث الا ما يزيل حق سيدها
عنها فيقتضي زوال حقه عما في يدها وتقرير ملكها وخلوصه لها كما اقتضى ذلك في نفسها وهذا أصح والله أعلم
(فصل) وان أعتقها سيدها عتقت وسقطت كتابتها وما في يدها لها في قول القاضي ومن وافقه
فأما على قول الخرقي ومن وافقه فقياسه أن يكون لسيدها كما لو عتقت بالاستيلاد ويحتمل أن يكون
لها على قولهم أيضا لأن السيد أعتقها برضاه فيكون رضا منه باعطائها مالها بخلاف العتق بالاستيلاد فإنه
394

حصل بغير رضا الورثة واختيارهم ولأنه لو كان مال المكاتب يصير للسيد باعتاقه لتمكن السيد من
أخذ مال المكاتب متى شاء فمتى كان له غرض في أخذ ماله اما لكثرته وفضله عن نجوم كتابته
وإما لغرض له في بعض أعيان ماله أعتقه وأخذ ماله وهذا ضرر على المكاتب لم يرد الشرع به ولا
يقتضيه عقد الكتابة فوجب ان لا يشرع
(فصل) وان أتت بولد من غير سيدها بعد استيلادها فله حكمها في العتق بكل واحد من
السببين أيهما سبق عتق به كالأم سواء لأنه بائع لها فيثبت له ما يثبت لها وان ماتت المكاتبة بقي للولد
سبب الاستيلاد وحده وان اختلفا في ولدها فقالت ولدته بعد كتابتي أو بعد ولادتي وقال السيد
بل قبله فقال أبو بكر القول قول السيد مع يمينه
وهذا قول الشافعي لأن الأصل كون الأمة وولدها رقيقا لسيدهما التصرف فيهما وهي تدعي
ما يمنع التصرف وان زوج مكاتبه أمته ثم باعها منه واختلفا في ولدها فقال السيد هو لي لأنها ولدته قبل
بيعها لك وقال المكاتب بل بعده فالقول قول المكاتب لأنهما اختلفا في ملكه ويد المكاتب عليه
فكان القول قول صاحب اليد مع يمينه كسائر الأموال ويفارق ولد المكاتبة لأنها لا تدعي ملكه
(فصل) إذا كانت الأمة بين شريكين فكاتباها ثم وطئها أحدهما أدب فوق أدب الواطئ لمكاتبته
الخالصة له لأن الوطئ ههنا حرم من وجهين الشركة والكتابة فهو آكد واثمه أعظم وأدبه أكثر
395

وعليه مهر مثلها على ما أسلفناه فيما إذا كان السيد واحدا فإن لم يكن حل نجم قبضت المهر فإذا حل نجمها
سلمته إليهما وان حل نجمها وهو من جنس مال الكتابة وكان في يدها بقدره دفعته إلى الذي لم يطأها واحتسبت
على الواطئ بالمهر وان لم يكن في يدها شئ وكان بقدر نجمها أو دونه أخذت من الواطئ نصفه وسلمته
إلى الآخر وان لم يكن من جنس مال الكتابة فاتفقا على أخذه عوضا عن مال الكتابة فالحكم
فيه كما لو كان من جنسها وان لم يتفقا قبضته ودفعته مما عليها من مال الكتابة من عوضه أو غيره وان
عجزت فسخا الكتابة وكان في يدها يقدر المهر أخذه الذي لم يطأ وسقط المهر من ذمة الواطئ
وان لم يكن في يدها شئ كان للذي لم يطأ أن يرجع على الواطئ بنصفه لأنه وطئ جارية مشتركة
بينهما فإن حبلت منه صارت أم ولد له وعليه نصف قيمتها لشريكه مع نصف المهر الواجب لها موسرا
كان أو معسرا إلا أنه إن كان موسرا أداه في الحال، وإن كان معسرا فهو في ذمته هذا ظاهر كلام
الخرقي ذكر مثل هذا في باب العتق فعلى هذا تصير أم ولد للواطئ ومكاتبته له كأنه اشتراها وتكون
مبقاة على ما بقي من كتابتها وتعتبر قيمتها بما تساوي مكاتبته مبقاة على ما بقي عليها من كتابتها واختار
القاضي انه إن كان معسرا لم يسر الاحبال لأنه بمنزلة الاعتاق بالقول يعتبر اليسار في سرايته ونصيب
الواطئ قد ثبت له حكم الاستيلاد وحكم الكتابة ونصيب شريكه لم يثبت له إلا حكم الكتابة
396

فإن أدت إليهما عتقت وبطل حكم الاستيلاد وان عجزت وفسخا الكتابة ثبت لنصفها حكم الاستيلاد
ونصفها قن لا يقوم على الوارث وإن كان موسرا لأنه ليس بمعتق، وإن مات الواطئ قبل عجزها
عتق نصيبه وسقط حكم الكتابة فيه وكان الباقي مكاتبا وإن كان الواطئ موسرا فقد ثبت لنصفها
حكم الاستيلاد ونصفها الآخر موقوف فإن أدت إليهما عتقت كلها وولاؤها لهما، وان عجزت
وفسخا الكتابة قومناها حينئذ على الواطئ فيدفع إلى شريكه قيمة نصيبه وتصير جميعها أم ولد له
فإن مات عتقت عليه وكان ولاؤها له وهذا مذهب الشافعي وله قول آخر انها تقوم على الموسر
وتبطل الكتابة في نصف الشريك وتصير جميعها أم ولد ونصفها مكاتبا للواطئ فإن أدت نصيبه
إليه عتقت وسرى إلى الباقي لأنه ملكه وعتق جميعها، وان عجزت ففسخ الكتابة كانت أم ولد
له خاصة فإذا مات عتقت كلها
ولنا ان بعضها أم ولد فكان جميعها كذلك كما لو كان الشريك موسرا يحقق هذا أن الولد
حاصل من جميعها وهو كله من الواطئ ونسبه لا حق به فيجب أن يثبت ذلك لجميعها ويفارق الاعتاق
فإنه أضعف على ما بينا من قبل
ولنا على أن الكتابة لا تبطل بالتقويم انها عقد لازم فلا تبطل مع بقائها بفعل صدر منه كما
لو استولدها وهي في ملكه وكما لو لم تحبل منه فاما الولد فإنه حر لأنه من وطئ فيه شبهة ونسبه لا حق
به كذلك ولا يلزمه قيمته لأنها وضعته في ملكه
397

وروي عن أحمد في روايتان (إحداهما) لا تجب قيمته لأن نصيب شريكه انتقل إليه من
حين العلوق وفي تلك الحال لم تكن له قيمة فلم يضمنه (والثانية) عليه نصف قيمته لأنه كان من سبيل
هذا النصف أن يكون مملوكا لشريكه فقد تلف رقه عليه فكان عليه نصف قيمته، وقال القاضي هذه
الرواية أصح على المذهب وذكر هاتين الروايتين أبو بكر واختار انها ان وضعته بعد التقويم فلا شئ
على الواطئ، وإن وضعته قبل التقويم غرم نصف قيمته فإن ادعى الواطئ الاستبراء وأتت بالولد
لأكثر من ستة أشهر من حين الاستبراء لم يلحق به ولم تصر أم ولد وكان حكم ولدها حكمها،
وإن أتت به لأقل من ستة أشهر من حين الاستبراء لحق به كما لو كان قبل الاستبراء لأنا تبينا انها
كانت حاملا وقت الاستبراء فلم يكن ذلك استبراء
(فصل) وان وطئاها جميعا فقد وجب لها على كل واحد منهما مهر مثلها فإن كانت في الحالين
على صفة واحدة فهما سواء في الواجب عليهما وإن كانت بكرا حين وطئها الأول فعليه مهر بكر وعلى
الاخر مهر ثيب فإن كان نجمها لم يحل فلها مطالبتهما بالمهرين وإن كان النجم قد حل وهو من جنس المهر
تقاضا على ما ذكرنا في المقاصة فإن أدت إليهما عتقت وكان لهما المطالبة بالمهرين وان عجزت عن نفسها وفسخا
الكتابة بعد قبضها المهرين لم يملك أحدهما مطالبة الاخر بشئ لأنها قبضتهما وهي مستحقة لذلك فإن كانا
في يدها اقتسماهما وان تلفا أو بعضهما فلا شئ لهما لأن السيد لا يثبت له دين على مملوكه وإن كان الفسخ قبل قبض
398

المهرين وهما سواء سقط عن كل واحد ما عليه وإن كان أحدهما أكثر من الآخر تقاص منهما بقدر
أقلهما على الآخر بنصف الزيادة وان قبضت البعض من أحدهما دون الآخر رجع المقبوض منه على
الآخر بنصف ما عليه وان قبضت البعض من أحدهما دون الآخر أو قبضت من أحدهما أكثر
من الآخر رجع من قبض منه الأكثر على الآخر بنصف الزيادة التي أداها وان أفضاها أحدهما
بوطئه فعليه لها ثلث قيمتها لأن الافضاء في الحرة يوجب ثلث ديتها فوجب في الأمة ثلث قيمتها مع المهر
(فصل) ويحتمل أن يلزمه في الافضاء قدر نقصها، وقال القاضي تلزمه قيمتها وهو مذهب الشافعي
والخلاف في ذلك فرع على الواجب في افضاء الحرة وقد ذكرناه فإن فسخت الكتابة رجع من لم يفضها
على الآخر بنصف قيمة الافضاء على الخلاف الذي ذكرناه، وان ادعى كل واحد منهما على الآخر
انه الذي أفضاها أو وطئها حلف كل واحد منهما وبرئ، وان نكل أحدهما قضي عليه وإن كان
الخلاف في ذلك قبل عجزها فادعت على أحدهما فالقول قوله مع يمينه وان ادعت على أحدهما غير
معين لم تسمع الدعوى
(فصل) فإن أولدها كل واحد منهما واتفقا على السابق منهما فعلى قول الخرقي تصير أم ولد له
وولده حر لا حق النسب به والخلاف في ذلك كالخلاف فيما إذ انفرد بايلادها سواء
وأما الثاني فعلى قول الخرقي قد وطئ أم ولد غيره بشبهة وأولدها فلا تصير أم ولد له لأنها
399

مملوكة غيره فأشبه ما لو باعها ثم أولدها وعليه مهرها لها لأن الكتابة لم تبطل والولد حر لأنه من
وطئ شبهة وعليه قيمته للأول لأنه فوت رقه عليه فكان من سبيله أن يكون رقيقا له حكمه حكم أمه
فتلزمه قيمته على هذه الصفة وقد ذكرنا في وجوب نصف قيمة الأول خلافا فإن قلنا بوجوبها تقاضا
بما لكل لواحد منهما على صاحبه في القدر الذي تساويا فيه ويرجع ذو الفضل بفضله وتعتبر القيمة يوم
الولادة لأنها أول حال أمكن التقويم فيها وذكر القاضي في هذه المسألة أربعة أحوال
(أحدها) ان يكونا موسرين فالحكم على ما ذكرنا إلا أنه جعل المهر الواجب على الثاني للأول
وهذا مذهب الشافعي ولا يصح لأن الكتابة لا تبطل بالاستيلاد ومهر المكاتبة لها دون سيدها ولان
سيدها لو وطئها لوجب عليه المهر لها فلان لا يملك المهر الواجب على غيره أولى، ولأنه عوض نفعها
فكان لها كأجرتها
(الثاني) أن يكون الأول موسرا والثاني معسرا فيكون كالحال الذي قبله سواء قال القاضي:
الا ان ولده يكون مملوكا لاعساره بقيمته وهذا غير صحيح لأن الولد لا يرق لاعساره والده بدليل
ولد المغرور من أمة والوطئ بشبهة وكل موضع حكمنا بحرية الولد لا يختلف بالاعسار واليسار وإنما
يعتبر اليسار في سراية العتق وليس عتق هذا بطريق السراية إنما هو لأجل الشبهة في الوطئ فلا وجه
لاعتبار اليسار فيه والصحيح انه حر وتجب قيمته في ذمة أبيه
400

(الحال الثالث) ان يكونا معسرين فإنها تصير أم ولد لها جميعا نصفها أم ولد للأول ونصفها أم
ولد للثاني قال وعلى كل واحد منهما نصف مهرها لصاحبه وفي ولد كل واحد منهما وجهان (أحدهما)
أنه يكون كله حرا وفي ذمة أبيه نصف قيمته لشريكه
(والثاني) نصفه حر وباقيه عبد لشريكه الا أن نصف ولد الأول عبد قن لأنه تابع للنصف
الباقي من الام، وأما النصف الباقي من ولد الثاني فحكمه حكم أمه لأنه ولد منها بعد أن ثبت لنصفها
حكم الاستيلاد للأول فكان نصفه الرقيق تابعا لها في ذلك ولعل القاضي أراد ما إذا عجزت وفسخت
الكتابة، فأما إذا كانت باقية على الكتابة فإن لها المهر كاملا على كل واحد منهما وإذا حكم برق نصف
ولدها وجب أن يكون له حكمها في الكتابة لأن ولد المكاتبة يكون تابعا لها
(الحال الرابع) أن يكون الأول معسرا والثاني موسرا فحكمه حكم الثالث سواء إلا أن
ولد الثاني حر لأن الحرية ثبتت لنصفه بفعل أبيه وهو موسر فسرى إلى جميعه وعليه نصف قيمته
لشريكه ولم تقوم عليه الام لأن نصفها أم ولد للأول ولو صح هذا لوجب ان لا يقوم عليه نصف الولد
لأن حكمه حكم أمه في هذا فإذا منع حكم الاستيلاد السراية في الام منعه فيما هو تابع لها ومذهب
الشافعي في هذه المسألة قريب مما ذكر القاضي
401

(فصل) وإن اختلفا في السابق منهما فادعى كل واحد منهما انه السابق فعلى قولنا لها المهر على كل واحد منهما
وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة الجارية لأنه يقول صارت أم ولد لي باحبالي إياها ووجب
لشريكي علي نصف قيمتها ولي عليه قيمة ولده لأنه يقول أولدتها بعد أن صارت أم ولد لي وهل يكون
مقرا له بنصف قيمة ولده؟ على وجهين سبق ذكرهما فعلى هذا ان استوى ما يدعيه وما يقر به تقاصا
وتساقطا ولا يمين لواحد منهما على صاحبه لأنه يقول لي عليك مثل مالك علي والجنس واحد فتساقطا
وان زاد ما يقر به فلا شئ عليه لأن خصمه يكذبه في إقراره، وإن زاد ما يدعيه فله اليمين على صاحبه
في الزيادة، ويثبت للأمة حكم العتق في نصيب كل واحد منهما بموته لاقراره بذلك ولا يقبل قوله
على شريكه في اعتاق نصيبه
وقال أبو بكر في الأمة قولان (أحدهما) يقرع بينهما فتكون أم ولد لمن تقع القرعة له (والثاني)
تكون أم ولد لهما ولا يطؤها واحد منهما قال وبالأول أقول، وأما القاضي فاختار انهما ان كانا موسرين
فكل واحد منهما يدعي المهر على صاحبه ويقر له بنصفه وهذا مذهب الشافعي لأن المهر عندهم لسيدها
دونها ولا يعتق شئ منها بموت الأول لاحتمال أن تكون أم ولد للآخر، وأما إذا مات الآخر عتقت
لأن سيدها قد مات يقينا وإن كانا معسرين فكل واحد منهما مقربان نصفها أم ولده ويصدقه الآخر
لأن الاستيلاد لا يسري مع الاعسار وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف المهر والآخر يصدقه
402

فيتقاصان ان تساويا وان فضل أحدهما صاحبه نظرت فإن كان كل واحد منهما يدعي الفضل تحالفا
وسقط وإن كان كل واحد منهما يقر للآخر بالفضل سقط لتكذيب المقر له به، وفي الولد وجهان
(أحدهما) يكون حرا فيكون كل واحد منهما يدعي على الآخر نصف قيمة الولد (والوجه الثاني)
نصفه حر فيقر بأن نصف الولد مملوك لشريكه فيكون الولدان بينهما من غير يمين وعلى الوجه الأول
يتقاصان ان تساوت قيمة الولدين ولا يمين في الموضعين فأيهما مات عتق نصيبه وولاؤه له وإن كان
أحدهما موسرا والآخر معسرا فالموسر يقر للمعسر بنصف المهر ونصف قيمة الولد ونصف مهرها ويدعي
عليه جميع المهر وقيمة الولد والمعسر يقر للموسر بنصف المهر ونصف قيمة الولد فيسقط إقرار الموسر للمعسر
بنصف قيمة الجارية لكونه لا يدعيه ولا يصدقه فيه ويتقاصان بالمهر لاستوائهما فيه ويدفع المعسر إلى الموسر
نصف قيمة الولد لاقراره به ويحلف على ما يدعيه عليه من الزيادة لأنه ادعى عليه جميع قيمة الولد فأقر له
بنصفها ويحلف له الموسر على نصف قيمة الولد الذي ادعاه المعسر عليه
فاما الجارية فإن نصيب الموسر منها أم ولد بغير خلاف بينهما فيه وباقيها يتنازعانه فإن مات الموسر
أولا عتق نصيبه وولاؤه لورثته فإذا مات المعسر عتق باقيها وان مات المعسر أولا لم يعتق منها شي ء
فإذا مات الموسر عتق جميعها ويجئ على قول أبي بكر أن يقرع بينهما في النصف المختلف فيه
403

(فصل) فإن وطئاها معا فأتت بولد لم يخل من ثلاثة أقسام (أحدها) أن لا يمكن أن
يكون من واحد منهما مثل أن تأتي به بعد استبرائها منها أو بعد أربع سنين منذ وطئها كل واحد
منهما أو قبل مضي ستة أشهر منذ وطئها كل واحد منهما فإن الولد منفي عنهما وهو مملوك لهما حكمه حكم
أمه في العتق بأدائها، وإذا ادعى كل واحد منهما الاستبراء قبل منه لأن دعوى الاستبراء في الأمة كاللعان في الحرة
(القسم الثاني) أن يكون من أحدهما بعينه دون صاحبه فالحكم فيه كالحكم فيما إذا ولدت من
أحدهما بعينه من وجوب المهر لها وقيمة نصفها لشريكه مع الخلاف في ذلك. وأما الذي لم يحبل من
وطئه فإن كان الأول فعلية المهر لها وإن كان هو الثاني فقد وطئ أم ولد غيره فإن كانت الكتابة
باقية فعليه المهر لها أيضا وان كانت الكتابة قد فسخت فالمهر للذي استولدها وقد وجب للثاني على
الأول نصف قيمتها، وفي قيمة نصف الولد روايتان فإن كان المهر للأول تقاصا بقدر أقل الحقين
وإن كان المهر لها رجع بحقه على الذي أحبلها وأما القاضي فقال في هذا القسم الحكم في الأول كالحكم فيه إذا
انفرد بالوطئ على ما مضى من التفصيل والتطويل
وأما الثاني فإن وطئها بعد ولادتها من الأول نظرنا فإن وطئها بعد الحكم بكونها أم ولد للأول فعليه مهر
404

مثلها فإن كان فسخ الكتابة في حق نفسه لعجزها فالمهر له لأنها أم ولده وإن كان لم يفسخ فالمهر بينه وبينها
نصفين وان وطئها بعد زوال الكتابة في حقه وقبل الحكم بأنها أم ولد للأول سقط عنه نصف مهرها
لأن نصفها قن له وعليه النصف لها ان لم يكن الأول فسخ الكتابة أو له إن كان فسخ وإن كان الأول
معسرا فنصيبه منها أم ولد له ولها عليهما المهران والحكم فيما إذا عجزت أو أدت قد تقدم فاما إن كان
الولد من الثاني فالحكم في وطئ الأول كالحكم فيه إذا وطئ منفردا فلم يحبلها
وأما الثاني فإن كان موسرا قوم عليه نصيب شريكه عند العجز فإن فسخا الكتابة قومناها عليه
وصارت أم ولد له وإن رضي الثاني بالمقام على الكتابة قومنا عليه نصيب الأول وصارت كلها أم ولد له
ونصفها مكاتب ويرجع الأول على الثاني بنصف المهر ونصف قيمة الولد على إحدى الروايتين ويرجع
الثاني على الأول بنصف المهر فيتقاصان به إن كان باقيا عليهما وإن كان الثاني معسرا فالحكم فيه كما لو ولدت
من الأول وكان معسرا الأفضل بين المسئلتين
(القسم الثالث) أمكن أن يكون الولد من كل واحد منهما فإنه يرى القافة معهما فيلحق بمن
ألحقوه به منهما فمن ألحق به فحكمه حكم ما لو عرف انه منه بغير قافة
405

(مسألة) قال (وإذا كاتب نصف عبد فادى ما كوتب عليه ومثله لسيده صار حرا بالكتابة
إن كان الذي كاتبه معسرا وإن كان موسرا عتق عليه كله وصار نصف قيمه على الذي كاتبه لشريكه)
وجملته ان الرجل إذا كان له نصف عبد كانت له مكاتبة وتصح منه سواء كان باقيه حرا أو
مملوكا لغيره وسواء أذن فيه الشريك أو لم يأذن هذا ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر وقول الحكم وابن
أبي ليلى، وحكي ذلك عن الحسن البصري والحسن بن صالح ومالك والعنبري وكره الثوري وحماد
كتابته بغير اذن شريكه
وقال الثوري ان فعل رددته إلا أن يكون نقده فيضمن لشريكه نصف ما في يده، وقال أبو
حنيفة تصح باذن الشريك ولا تصح بغير اذنه وهذا أحد قولي الشافعي إلا أن أبا حنيفة قال اذنه فيما
مضى في ذلك يقتضي الاذن في تأدية مال الكتابة من جميع كسبه ولا يرجع الآذن بشئ منه، وقال
أبو يوسف ومحمد يكون جميعه مكاتبا
وقال الشافعي في أحد قوليه إن كان باقيه حرا صحت كتابته وإن كان باقيه ملكا لم تصح كتابته
سواء أذن فيه الشريك أم لم يأذن لأن كتابته تقتضي اطلاقه في رد الكسب والمسافرة وملك نصفه
406

يمنع ذلك ويمنعه أخذ نصيبه من الصدقات لئلا يصير كسبا له ويستحق سيده نصفه، ولأنه إذا أدى
عتق جميعه فيؤدي إلى أن يؤدي نصف كتابته ويعتق جميعه
ولنا انه عقد معاوضة على نصفه فصح كبيعه ولأنه ملك له يصح بيعه وهبته فصحت كتابته كما
لو ملك جميعه ولأنه ينفذ اعتاقه فصحت كتابته كالعبد الكامل وكما لو كان باقيه حرا عند الشافعي
أو أذن فيه الشريك عند الباقين
وقولهم انه يقتضي المسافرة والكسب وأخذ الصدقة قلنا أما المسافرة فليست من المقتضيات الأصلية
فوجود مانع منها لا يمنع أصل العقد وأما الكسب وأخذ الصدقة فإنه لا يمنع كسبه وأخذه الصدقة يجزئه بالمكاتبة
ولا يستحق الشريك شيئا منه لأنه إنما استحق ذلك بالجزء المكاتب ولا حق للشريك فيه فكذلك
فيما حصل به كما لو ورث شيئا بجزئه الحر وأما الكسب فإن هايأه مالك نصفه فكسب في نوبته شيئا لم
يشاركه فيه أيضا وإن لم يهايئه فكسب بجملته شيئا كان بينهما له بقدر ما فيه من الجزء المكاتب ولسيده
الباقي لأنه كسبه يجزئه المملوك فيه فأشبه ما لو كسب قبل كتابته فيقسم بين سيديه
وقولهم انه يفضي إلى أن يؤدي بعض الكتابة فيعتق جميعه قلنا يبطل هذا بما لو علق عتق نصيبه
على أداء مال فإنه يؤدي عوض البعض ويعتق الجميع على أننا نقول لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة
فإن جميع الكتابة هو الذي كاتبه عليه مالك نصفه ولم يبق منها شئ فلا يعتق حتى يؤدي جميعا،
407

ولأنه لا يعتق الجميع بالأداء وإنما يعتق الجزء المكاتب لا غير وباقيه إن كان المكاتب معسرا لم يعتق
وإن كان موسرا عتق بالسراية لا بالكتابة ولا يمنع هذا كما لو أعتق بعضه عتق جميعه فإذا جاز
جميعه باعتاق بعضه بطريق السراية جاز ذلك فيما يجزي مجرى العتق
إذا ثبت هذا فإنه إذا كاتب نصيبه لم تسر الكتابة ولم يتعد الجزء الذي كاتبه لأن الكتابة عقد
معاوضة فلم يسر كالبيع وليس للعبد ان يؤدي إلى مكاتبه شيئا حتى يؤدي إلى شريكه مثله سواء
أذن الشريك في كتابته أو لم يأذن لأنه إنما اذن في كتابة نصيبه وذلك يقتضي أن يكون نصيبه
باقيا له ولا يقتضي أن يكون معروفا في الكتابة هذا إذا كان الكسب بجميعه فإن أدى الكتابة من
جميع كسبه لم يعتق لأن الكتابة الصحيحة تقتضي العتق ببراءته من العوض وذلك لا يحصل بدفع ما ليس
له وان أدى إليهما جميعا عتق كله لأن نصفه يعتق بالأداء فإذا عتق سرى إلى سائره وإن كان الذي
كاتبه موسرا لأن عتقه بسبب من جهته فلزمته قيمته كما لو باشره بالعتق أو كما لو علق عتق نصيبه على
صفة فعتق بها ويرجع الشريك على المكاتب بنصف قيمته كما لو باشره بالعتق، فأما ان ملك العبد
شيئا بجزئه المكاتب مثل ان هايأه سيده فكسب شيئا في نوبته أو أعطي من الصدقة من سهم الرقاب
أو من غيره فلا حق لسيده فيه وله أداء جميعه في كتابته لأنه إنما استحق ذلك بما فيه من الكتابة
فأشبه النصف الباقي بعد اعطاء الشريك حقه فلو كان ثلثه حرا وثلثه مكاتبا وثلثه رقيقا فورث بجزئه
408

الحر ميراثا وأخذ بجزئه المكاتب من سهم الرقاب فله دفع ذلك كله في كتابته لأنه ما استحق بجزئه
الرقيق شيئا منه فلا يستحق مالكه منه شيئا وإذا أدى جميع كتابته عتق فإذا كان الذي كاتبه
معسرا لم يسر العتق ولم يتعد نصيبه كما إذا واجهه بالعتق الا على الرواية التي نقول فيها بالاستسعاء فإنه
يستسعى في نصيب الذي لم يكاتب وإن كان موسرا سرى إلى باقيه
(فصل) وإذا كان العبد كله ملكا لرجل فكاتب بعضه جاز قاله أبو بكر لأنها معاوضة
فصحت في بعضه كالبيع فإذا أدي جميع كتابته عتق كله لأنه إذا سرى العتق فيه إلى ملك غيره فإلى
ملكه أولى ويجب ان يؤدي إلى سيده مثلي كتابته لأن نصف ما يكسبه يستحقه سيده بما فيما من الرق
ونصفه يؤدي في الكتابة الا ان يرضي سيده بتأدية لجميع في الكتابة فيصح وإذا استوفي المال كله
عتق نصفه بالكتابة وباقية بالسراية
(فصل) وإذا كان العبد لرجلين فكاتباه معا جاز سواء تساويا في العوض أو اختلفا فيه وسواء
اتفق نصيباهما فيه أو اختلف وسواء كان في عقد واحد أو عقد بن وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي لا يجوز ان يتفاضلا في المال مع التساوي في الملك ولان التساوي في المال منع
التفاضل في الملك لأن ذلك يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بمال الآخر لأنه إذا دفع إلى أحدهما أكثر
من قدر ملكه ثم عجز رجع عليه الآخر بذلك
ولنا ان كل واحد منهما يعقد على نصيبه عقد معاوضة فجاز ان يختلفا في العوض كالبيع وما ذكروه
409

لا يلزم لا انتفاع أحدهما بمال الآخر إنما يكون عند العجز وليس ذلك من مقتضيات العقد وإنما يكون
عند زواله فلا يضر ولأنه إنما يؤدي إليهما على التساوي وإذا عجز قسم ما كسبه بينهما على قدر الملكين
فلم يكن أحدهما منتفعا الا بما يقابل ملكه وعاد الامر بعد زوال الكتابة إلى حكم الرق كأنه لم يزل
فإن قيل فالتساوي في الملك يقتضي التساوي في أدائه إليهما ويلزم منه وفاء كتابة أحدهما قبل الآخر
فيعتق نصيبه ويسري إلى نصيب صاحبه ويرجع عليه الآخر بنصف قيمته قلنا يمكن أداء كتابته
إليهما دفعة واحدة فيعتق عليهما ويمكن ان يكاتب أحدهما على مائة في نجمين في كل نجم خمسون ويكاتب
الآخر على مائتين في نجمين في النجم الأول خمسون
وفي الثاني مائة وخمسون ويكون وقتها واحد فيؤدي إلى كل واحد منهما حقه على أن أصحابنا قالوا
لا يسرى العتق إلى نصيب الآخر ما دام مكاتبا فعلى هذا القول لا يفضي إلى ما ذكروه على أنه وان قدر افضاؤه
إليه فلا مانع فيه من صحة الكتابة فإنه لا يخل بمقصود الكتابة وهو العتق بها ويمكن وجود سراية العتق
من غير ضرر بأن يكاتبه على مثلي قيمته فإذا عتق عليه غرم لشريكه نصف قيمته وسلم له باقي المال
وحصل له ولاء العبد ولا ضر في هذا ثم لو كان فيه ضرر لكن قد رضي به حين كتابته على أقل
مما كاتبه به شريكه والضرر المرضي به من جهة المضرور لا عبرة به كما لو باشره بالعتق أو أبرأه من مال
الكتابة فإنه يعتق عليه ويسرى عتقه ويغرم لشريكه وهو جائز فهذا أولى بالجواز ولا يجوز ان يختلفا
410

في التنجيم ولا في أن يكون لأحدهما في النجوم قبل النجم الأخير أكثر من الآخر في أحد الوجهين
لأنه لا يجوز ان يؤدي إليهما الا على السواء ولا يجوز تقديم أحدهما بالأداء على الآخر واختلافها في
ميقات النجوم وقدر المؤدى فيهما يفضي إلى ذلك
(والثاني) يجوز لأنه يمكن ان يعجل لمن تأخر نجمه قبل محله ويعطي من قل نجمه أكثر من
الواجب له ويمكن ان يأذن له أحدهما في الدفع إلى الآخر قبله أو أكثر منه ويمكن ان ينظره من
حل نجمه أو يرضى من له الكثير بأخذ دون حقه وإذا أمكن افضاء العقد إلى مقصوده فلا نبطله
باحتمال عدم الافضاء إليه.
(فصل) وليس للمكاتب ان يؤدي إلى أحدهما أكثر من الآخر ولا يقدم أحدهما على الآخر
ذكره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا اعلم فيه خلافا لأنهما سواء فيه فيستويان في كسبه
وحقهما متعلق بما في يده تعلقا واحدا فلم يكن له ان يخص أحدهما بشئ منه دون الآخر ولأنه ربما
عجز فيعود إلى الرق ويتساويان في كسبه فيرجع أحدهما على الآخر بما في يده من الفضل بعد انتفاعه
به مدة فإن قبض أحدهما دون الآخر شيئا لم يصح القبض وللآخر ان يأخذ من حصته إذا لم يكن
اذن في القبض وان اذن فيه ففيه وجهان ذكرهما أبو بكر (أحدهما) يصح لأن المنع لحقه فجاز باذنه
كما لو اذن المرتهن للراهن في التصرف فيه أو اذن البائع للمشتري في قبض البيع قبل توفيقه ثمنه أو
411

اذنا للمكاتب في التبرع ولأنهما لو اذنا له في الصدقة بشئ صح قبض المتصدق عليه له كذلك ههنا
(والثاني) لا يجوز وهذا اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة واحد قولي الشافعي واختيار المزني
لأن ما في يد المكاتب ملك له فلا ينفذ اذن غيره فيه وإنما حق سيده في ذمته الأول أصح إن شاء الله
تعالى لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا اتفقوا على شئ فلا وجه للمنع وقولهم انه ملك للمكاتب تعليق
على العلة ضد ما تقتضيه لأن كونه ملكا له يقتضي جواز تصرفه فيه على حسب اختياره وإنما المنع
لتعلق حق سيده به فإذا اذن زال المانع فصح التقبيض لوجود مقتضيه وخلوه من المانع ثم يبطل لما
ذكرنا من المسائل فعلى هذا الوجه إذا دفع إلى أحدهما مال الكتابة باذن صاحبه عتق نصيبه من
المكاتب لأنه استوفى حقه ويسري العتق إلى باقيه وعليه قيمة حصة شريكه لأن عتقه بسببه هذا
قول الخرقي ويضمنه في الحال بنصف قيمته مكاتبا مبقى على ما بقي عليه من كتابته وولاؤه كله
له وما في يده من المال لذي لم يقبض منه بقدر ما قبضه صاحبه والباقي بين العبد وبين سيده الذي عتق
عليه لأن نصفه عتق بالكتابة ونصفه بالسراية فحصة ما عتق بالكتابة للعبد وحصة ما عتق بالسراية
لسيده وعلى ما اخترناه يكون الباقي كله للعبد لأن الكسب كان ملكا له فلا يزول ملكه عنه بعتقه
كما لو عتق بالأداء وقال أبو بكر والقاضي لا يسري العتق في الحال وإنما يسري عند عجزه فعلى
قولهما يكون باقيا على الكتابة فإن أدى إلى الآخر عتق عليهما وولاؤه لهما وما بقي في يده من كسبه
412

فهو له وان عجز وفسخت كتابته قوم على الذي أدى وكان ولاء جميعه له وتنفسخ الكتابة في
نصفه وان مات فقد مات ونصفه حر ونصفه رقيق ولسيده الذي لم يعتق نصيبه ان يأخذ مما خلفه مثل
ما أخذه شريكه من مال الكتابة وله نصف ما يبقى والباقي لورثة العبد فإن لم يكن له وارث من نسبه
فهو للذي أدى إليه بالولاء وان قلنا لا يصح القبض فما أخذه القابض بينه وبين شريكه ولا تعتق
حصته من المكاتب لأنه لم يستوف عوضه ولغير القابض مطالبة القابض بنصيبه مما قبضه كما لو قبضه
بغير اذنه سواء وان لم يرجع غير القابض بنصيبه حتى أدى المكاتب إليه كتابته صح وعتق عليهما
جميعا وان مات العبد قبل استيفاء الآخر حقه فقد مات عبدا ويستوفي الذي لم يقبض من كسبه
بقدر ما اخذه صاحبه والباقي بينهما قال احمد في رواية بن منصور في عبد بين رجلين كاتباه فادى
إلى أحدهما كتابته ثم مات وهو يسعى للآخر لمن ميراثه؟ قال احمد كلما كسب العبد في كتابته فهو
بينهما ويرجع هذا على الآخر بنصيبه مما اخذ وميراثه بينهما قال ابن منصور قال إسحاق بن راهويه كما قال
(فصل) وان عجز مكاتبهما فلهما الفسخ والامضاء فإن فسخا جميعا أو امضيا الكتابة جاز
ما اتفقا عليه وان فسخ أحدهما وامضى الآخر جاز وعاد نصفه رقيقا قنا ونصفه مكاتبا وقال القاضي
تنفسخ الكتابة في جميعه وهو مذهب الشافعي لأنه الكتابة لو بقيت في نصفه لعاد ملك الذي
فسخ الكتابة إليه ناقصا
413

ولنا انها كتابة في ملك أحدهما فلم تنفسخ بفسخ الآخر كما لو انفرد بكتابته ولأنهما عقدان
مفردان فلم ينفسخ أحدهما بفسخ الآخر كالبيع وما حصل من النقص لا يمنع لأنه إنما حصل ضمنا
لتصرف الشريك في نصيبه فلم يمنع كاعتاق الشريك ولان من أصلنا انه تصح مكاتبة أحدهما نصيبه
فإذا لم يمنع العقد في ابتدائه فلان يبطل في دوامه أولى ولان ضرره حصل بعقده وفسخه فلا يزول
بفسخ غيره ولان في فسخ الكتابة ضررا بالمكاتب وسيده وليس دفع الضرر عن الشريك الذي
فسخ بأولى من دفع الضرر عن الذي لم يفسخ بل دفع الضرر عن الذي لم يفسخ أولى لوجوه ثلاثة
(أحدها) ان ضرر الذي فسخ حصل ضمنا لبقاء عقد شريكه في ملك نفسه وضرر شريكه يزول عقده
وفسخ تصرفه في ملكه (والثاني) ان ضرر الذي فسخ لم يعتبره الشرع في موضع ولا أصل لما
ذكروه من الحكم ولا يعرف له نظير فيكون بمنزلة المصلحة المرسلة التي وقع الاجمال على اطراحها
وضرر شريكه بفسخ عقده معتبر في سائر عقوده من بيعه وهبته ورهنه وغير ذلك فيكون أولى (الثالث)
ان ضرر الفسخ يتعدى إلى المكاتب فيكون ضررا باثنين وضرر الفاسخ لا يتعداه ثم لو قدر تساوي
الضررين لوجب ابقاء الحكم على ما كان عليه ولا يجوز احداث الفسخ من غير دليل راجح
414

(مسألة) قال (وإذا عتق المكاتب استقبل بما في يده من المال حولا ثم زكاه إن كان
نصابا)
وجملته ان المكاتب لا زكاة عليه بلا خلاف نعلمه فإذا عتق صار من أهل الزكاة حينئذ فيبتدئ حول
الزكاة من يوم عتق فإذا ثم الحول وجبت الزكاة إن كان نصابا وان لم يكن نصابا فلا شئ فيه ويصير هذا
كالكافر إذا أسلم وفي يده مال زكوي يبلغ نصابا فإنه يستقبل به حولا من حين أسلم لأنه صار حينئذ من أهل
الزكاة وكذلك العبد إذا عتق وفي يده مال أبقاه له سيده
(مسألة) قال (وإذا لم يؤد نجما حتى حل نجم آخر عجزه السيد ان أحب وعاد عبدا
غير مكاتب)
وجملته ان الكتابة عقد لازم لا يملك السيد فسخها قبل عجز المكاتب بغير خلاف نعلمه وليس
له مطالبة المكاتب قبل حول النجم لأنه إنما ثبت في العقد مؤجلا وإذا حل النجم فللسيد مطالبته
بما حل من نجومه لأنه دين له حل فأشبه دين على الأجنبي وله الصبر عليه وتأخيره به سواء كان
قادرا على الأداء أو عاجزا عنه لأنه حق له سمح بتأخيره أشبه دينه على الأجنبي فإن اختار الصبر
415

عليم لم يملك العبد الفسخ بعير خلاف نعلمه قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن
المكاتب إذا حل عليه نجم أو نجمان أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحاله أن الكتابة
لا تنفسخ ماداما ثابتين على العقد الأول فإن اجله به ثم بدا له الرجوع فله ذلك لأن الدين الحال لا يتأجل
بالتأجيل كالقرض وان حل عليه نجمان فعجز عنهما فاختار السيد فسخ كتابته ورده إلى الرق فله ذلك
بغير حضور حاكم ولا سلطان ولا تلزمه الاستتابة فعل ذلك ابن عمر وهو قول شريح والنخعي وأبي حنيفة
والشافعي، وقال ابن أبي ليلى لا يكون عجزه إلا عند قاض وحكي نحو هذا عن مالك وقال الحسن إذا عجز
استؤني بعد العجز سنتين وقال الأوزاعي شهرين ونحو ذلك
ولنا ما روى سعيد باسناده عن ابن عمر أنه كاتب غلاما له على ألف دينار فأدى إليه تسعمائة
دينار وعجزه عن مائة دينار فرده إلى الرق، باسناده عن عطية العوفي عن ابن عمر أنه كاتب عبده
على عشرين ألفا فأدى عشرة آلاف ثم أتاه فقال إني قد طفت العراق والحجاز فردني في الرق فرده
وروي عنه انه كاتب عبدا له على ثلاثين ألفا فقال له أنا عاجز فقال له امح كتابتك فقال امح
أنت، وروى سعيد باسناده عن عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال
(أيما رجل كاتب غلامه على مائة أوقية فعجز عن عشر أواق فهو رقيق) ولأنه عقد عجز عن
416

عوضه فملك مستحقه فسخه كالسلم إذا تعذر المسلم فيه ولأنه فسخ عقد مجمع عليه فلم يفتقر إلى الحاكم
كفسخ المعتق تحت العبد فإن قيل فلم كانت الكتابة لازمة من جهة العبد؟
قلنا هي لازمة من جهة الطرفين ولا يملك العبد فسخها بحال وإنما له أن يعجز نفسه ويمتنع من
الكسب وإنما كان له ذلك لوجهين (أحدهما) ان الكتابة تتضمن اعتاقا بصفة ومن علق عتق
عبده بصفة لم يملك ابطالها ويلزم وقوع العتق بالصفة ولا يلزم العبد الاتيان بالصفة ومن علق عتق
عبده بصفة لم يملك ابطالها ويلزم وقوع العتق بالصفة ولا يلزم العبد الاتيان بالصفة ولا يجير عليها
(الثاني) ان الكتابة لحظ العبد دون سيده وكان العقد لازما لمن ألزم نفسه حظ غيره وصاحب الحظ بالخيار
فيه كمن ضمن لغيره شيئا أو كفل له أو رهن عنده رهنا
(فصل) فاما ان حل نجم واحد فعجز عن أدائه فظاهر كلام الخرقي انه ليس للسيد الفسخ حتى
يحل نجمان قبل أدائهما وهي إحدى الروايتين عن أحمد قال القاضي وهو ظاهر كلام أصحابنا وروي
ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الحكم وابن أبي ليلى وأبي يوسف والحسن بن صالح
وقال ابن أبي موسى: وروي عن أحمد انه لا يعود رقيقا حتى يقول قد عجزت وقيل عنه إذا
أدى أكثر مال الكتابة لم يرد الرق واتبع بما بقي
(والرواية الثانية) انه إذا عجز عن نجم واحد فلسيده فسخ الكتابة وهو قول الحارث العكلي
417

وأبي حنيفة والشافعي لأن السيد دخل على أن يسلم له مال الكتابة على الوجه الذي كاتبه عليه ويدفع
إليه المال في نجومه فإذا لم يسلم له لم يلزمه عتقه ولما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا، ولأنه عجز عن
أداء النجم في وقته فجاز فسخ كتابته كالنجم الأخير
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا يرد المكاتب في الرق حتى يتوالى عليه نجمان ولان
ما بين النجمين محل لأداء الأول فلا يتحقق العجز عنه حتى يفوت محله بحلول الثاني
(فصل) وإذا حل النجم وما له حاضر عنده طولب بأدائه ولم يجز الفسخ قبل الطلب كما لا يجوز
فسخ البيع والسلم بمجرد وجوب الدفع قبل الطلب فإن طلب منه فذكر انه غائب عن المجلس في ناحية
من نواحي البلد أو قريب منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة يمكن احضاره قريبا لم يجز فسخ الكتابة
وأمهل بقدر ما يأتي به إذا طلب الامهال لأن هذا يسير لا ضرر فيه وإن كان معه مال من غير جنس
مال الكتابة فطلب الامهال ليبيعه بجنس مال الكتابة أمهل وإن كان المال غائبا أكثر من مسافة القصر
لم يلزم الامهال وهذا قول الشافعي
وقال أبو حنيفة إن كان له مال حاضر أو غائب يرجو قدومه استؤني يومين وثلاثة لأزيده على
ذلك لأن الثلاثة آخر حد القلة والقرب لما بينا فيما مضى وما زاد عليها في حد الكثرة وهذا كله قريب
بعضه من بعض فأما إذا كان قادرا على الأداء واجدا لما يؤديه فامتنع من أدائه وقال قد عجزت
418

فقال الشريف أبو جعفر وجماعة من أصحابنا المتأخرين يملك السيد فسخ الكتابة وهو ظاهر كلام الخرقي
لقوله إذا حل نجم فلم يؤده حتى حل نجم آخره عجزه السيد إن أحب فعلق جواز الفسخ على عدم
الأداء وهذا مذهب الشافعي
وقال أبو بكر بن جعفر ليس له ذلك ويجبر على تسليم العوض وهو قول أبي حنيفة ومالك
والأوزاعي وقد ذكرنا هذا فيما تقدم فاما إن كان قادرا على أداء المال كله ففيه رواية أخرى انه يصير
حرا بملك ما يؤدي وقد سبق ذكرها
(فصل) وإذا حل النجم والمكاتب غائب بغير اذن سيده فله الفسخ وإن كان سافر باذنه لم
يكن له أن يفسخ لأنه إذن في السفر المانع من الأداء ولكن يرفع أمره إلى الحاكم ويثبت عنده حلول
مال الكتابة ليكتب الحاكم إلى المكاتب فيعلم بما ثبت عنده فإن كان عاجزا عن أداء المال كتب بذلك
إلى الحاكم الكاتب ليجعل للسيد فسخ الكتابة وإن كان قادرا على الأداء طالبه بالخروج إلى البلد
الذي فيه السيد ليؤدي مال الكتابة أو يوكل من يفعل ذلك فإن فعله في أول حال الامكان عند
خروج القافلة إن كان لا يمكنه الخروج إلا معها لم يجز الفسخ وإن أخره عن حال الامكان ومضى
زمن المسير ثبت للسيد خيار الفسخ فإن وكل السيد في بلد المكاتب من يقبض منه مال الكتابة لزمه
الدفع إليه فإن امتنع من الدفع ثبت للسيد خيار الفسخ وإن كان قد جعل للوكيل الفسخ عند امتناع
419

المكاتب من الدفع إليه جاز وله الفسخ إذا ثبتت وكالته ببينة بحيث يأمن المكاتب انكار السيد
وكالته وإن لم يثبت ذلك لم يلزم المكاتب الدفع إليه وكان له عذر يمنع جواز الفسخ لأنه لا يأمن أن
يسلم إليه فينكر السيد وكالته ويرجع على المكاتب بالمال وسواء صدقه في أنه وكيل أو كذبه وإن
كتب حاكم البلد الذي فيه السيد إلى حاكم البلد الذي فيه المكاتب ليقبض منه المال لم يلزمه ذلك لأن
هذا توكيل لا يلزم الحاكم الدخول فيه فإن الحاكم لا يكلف القبض للبالغ الرشيد فإن اختار القبض جرى
مجرى الوكيل ومتى قبض منه المال عتق
(فصل) قال وإذا دفع العوض في الكتابة فبان مستحقا تبين انه لم يعتق وكان هذا الدفع كعدمه لأنه لم يؤد
الواجب عليه وقيل له ان أديت الآن وإلا فسخت كتابتك وإن كان قد مات بعد الأداء فقد مات عبدا فإن بان
معيبا مثل أن كاتبه على عروض موصوفة فقبضها فأصاب بها عيبا بعد قبضها نظرت فإن كان قد رضي بذلك
وأمسكها استقر العتق فإن قيل كيف يستقر العتق ولم يعطه جميع ما وقع عليه العقد؟ فإن ما يقابل العيب
لم يقبضه فأشبه ما لو كاتبه على عشرة فأعطاه تسعة قلنا امساكه المعيب راضيا به رضا منه باسقاط حقه
فجرى مجرى ابرائه من بقي كتابته وإن اختار امساكه وأخذ أرش العيب أورده فله ذلك قال أبو بكر
وقياس قول احمد رحمه الله أنه لا يبطل العتق وليس له الرد وله الأرش لأن العتق اتلاف واستهلاك فإذا
حكم بوقوعه لم يبطل كعقد الخلع ولأنه ليس المقصود منه المال فأشبه الخلع
420

وقال القاضي يتوجه أن له الرد ويحكم بارتفاع العتق الواقع لأن العتق إنما استقر باستقرار الأداء
وقد ارتفع الأداء فارتفع العتق وهذا مذهب الشافعي لأن الكتابة عقد معاوضة يلحقه الفسخ
بالتراضي فوجب بن يفسخ بوجود العيب كالعيب، وان اختار امساكه وأخذ الأرش فله ذلك وتبطن
ان العتق لم يقع ولأننا تبينا ان ذمته لم تبرأ من مال الكتابة ولا يعتق قبل ذلك وظن وقوع
العتق لا يوقعه إذا بان الامر بخلافه كما لو بان العوض مستحقا، وإن تلفت العين عند السيد أو حدث
بها عنده عيب استقر أرش العيب والحكم في ارتفاع العتق على ما ذكرناه فيما مضى ولو قال السيد لعبده
ان أعطيتني عبدا فأنت حر فأعطاه عبدا فبان حرا أو مستحقا لم يعتق بذلك لأن معناه ان أعطيته ملكا
ولم يعطه إياه ملكا ولم يملكه إياه
(فصل) وإذا دفع إليه مال الكتابة ظاهرا فقال له السيد أنت حر ثم بان العوض
مستحقا لم يعتق بذلك لأن ظاهره الاخبار عما حصل له بالأداء ولو ادعى المكاتب أن سيده قصد بذلك
عتقه وأنكر السيد فالقول قول السيد مع يمينه لأن الظاهر معه وهو أخبر بما نوى
(مسألة) قال (وما قبض من نجوم كتابته استقبل بزكاته حولا)
وجملته أن ما يأخذه من نجوم كتابته كمال استفاده بكسب أو غيره فيملكه بأخذه ويستقبل به حولا لأنه
421

لا يملك ما في يد مكاتبه ولهذا جرى الربا بينهما ولا زكاة عليه في الدين الذي على المكاتب لأن ملكه عليه غير تام
فوجب أن يستقبل بما يأخذه منه حولا كما لو أخذه من أجنبي
(مسألة) قال (وإذا جنى المكاتب بدئ بجنايته قبل كتابته فإن عجز كان سيده مخيرا
بين أن يفديه بقيمته ان كانت أقل من جنايته أو يسلمه)
وجملة ذلك أن المكاتب إذا جنى جناية موجبة للمال تعلق أرشها برقبته ويؤدي من المال الذي
في يده وبهذا قال الحسن والحكم وحماد والأوزاعي ومالك والحسن بن صالح والشافعي وأبو ثور
وقال عطاء والنخعي وعمرو بن دينار جنابته على سيده قال عطاء ويرجع سيده بها عليه وقال الزهري إذا قتل
رجلا خطأ كانت كتابته وولاؤه لولي المقتول إلا أن يفديه سيده
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجني جان إلا على نفسه) ولأنها جناية عبد فلم تجب في ذمة سيده
كالقن إذا ثبت هذا فإنه يبدأ بأداء الجناية قبل الكتابة سواء حل عليه نجم أولم يحل وهذا المنصوص عليه عن أحمد
والمعمول به في المذهب وذكر أبو بكر قولا آخر ان السيد يشارك ولي الجناية فيضرب بقدر ما حل من
نجوم كتابته لأنهما دينان فيتحاصان كسائر الديون
ولنا أن أرش الجناية من العبد يقدم على سائر الحقوق المتعلقة به ولذلك قدمت على حق المالك
422

وحق المرتهن وغيرهما فوجب ان يقدم ههنا يحققه ان أرش جنايته مقدم على ملك السيد في عبده
فيجب تقديمه على عوضه وهو مال الكتابة بطريق الأولى لأن الملك فيه قبل الكتابة كان مستقرا
ودين الكتابة غير مستقر فإذا قدم على المستقر فعلى غيره أولى لأن أرش الجناية مستقر فيجب تقديمه على الكتابة
التي ليست مستقرة. إذا ثبت هذا فإنه يفدي نفسه بأقل الامرين من قيمته أو أرش جنايته لأنه إن كان أرش
الجناية أقل فلا يلزمه أكثر من موجب جنايته وهو أرشها وإن كان أكثر لم يكن عليه أكثر من قيمته لأنه لا يلزمه
أكثر من بدل المحل الذي تعلق به الأرش فإن بدأ بدفع المال إلى ولي الجناية فوفى بما يلزمه من
أرش الجناية والا باع الحاكم منه بما بقي من أرش الجناية وباقيه باق على كتابته وان اختار الفسخ فله
ذلك ويعود عبدا غير مكاتب مشتركا بين السيد وبين المشتري فإن أبقاه على الكتابة فأدى عتق
بالكتابة وسرى العتق إلى باقيه إن كان المكاتب موسرا ويقوم عليه وإن كان معسرا عتق منه ما
عتق وباقيه رقيق وان لم يكن في يده مال ولم يف بالجناية الا قيمته كلها بيع كله فيها وبطلت كتابته
وان بدأ بدفع المال إلى سيده نظرنا فإن كان ولي الجناية سأل الحاكم فحجر على المكاتب ثبت الحجر
عليه وكان النظر فيه إلى الحاكم فلا يصح دفعه إلى سيده ويرتجعه الحاكم بدفعه إلى ولي الجناية فإن
وفي والا كان الحكم فيه على ما ذكرنا من قبل وان لم يكن الحاكم حجر عليه صح دفعه إلى سيده لأنه
يقضي حقا عليه فجاز كما لو قضى بعض غرماته قبل الحجر عليه ثم إن كان ما دفعه إليه جميع مال الكتابة
423

عتق ويكون الأرش في ذمته فيضمن ما كان عليه قبل العتق وهو أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته
لأنه لا يلزمه أكثر مما كان واجبا بالجناية وان أعتقه السيد فعليه فداؤه بذلك لأنه أتلف محل الاستحقاق
فكان عليه فداؤه كما لو قتله وان عجز ففسخ السيد كتابته فداه أيضا بما ذكرناه وقال أبو بكر فيما إذا
فداه سيده قولان يعني روايتين (أحداهما) يفديه بأقل الامرين (والثانية) يفديه بأرش جنايته بالغة ما بلغت
(فصل) وإذا جنى الكاتب جنايات تعلقت برقبته واستوى الأول والآخر في الاستيفاء ولم
يقدم الأول على الثاني لأنها تعلقت بمحل واحد وكذا إن كان بعضها في حال كتابته وبعضها بعد
تعجيزه فهي سواء ويتعلق جميعها بالرقبة فإن كان فيها ما يوجب القصاص فلولي الجناية استيفاؤه وتبطل
حقوق الآخرين وان عفا إلى مال صار حكمه حكم الجناية الموجبة للمال فإن أبرأه بعضهم استوفى
الباقون لأن حق كل واحد يتعلق برقبته يستوفيه إذا انفرد فإذا اجتمعوا تزاحموا فإذا أبرأه بعضهم
سقط حقه وتزاحم الباقون كما لو انفردوا كما في الوصايا وان أدى وعتق فالضمان عليه وان أعتقه
سيده فالضمان عليه وأيهما ضمن فالواجب عليه أقل الأمرين كما ذكرنا في الجناية الواحدة ولأنه لو
عجزه الغرماء وعاد قنا بيع وتحاصوا في ثمنه كذلك ههنا فاما ان عجزه سيده فعاد قنا خير بين فدائه
وتسليمه فإن اختار فداءه ففيه روايتان:
424

(إحداهما) يفديه بأقل الامرين كما لو أعتقه أو قتله (والثانية) يلزمه أرش الجنايات كلها بالغة ما
بلغت لأنه لو سلمه احتمل ان يرغب فيه راغب بأكثر من قيمته فقد فوت تلك الزيادة باختيار
امساكه فكان عليه جميع الأرش ويفارق ما إذا أعتقه أو قتله لأن المحل فيهما تلفت ماليته فلم يمكن تسليمه
ولم يجب أكثر من قيمته والمحل باق وههنا يمكن تسليمه وبيعه وان أراد المكاتب فداء نفسه قبل تعجيزه
أو عتقه ففيه روايتان: (إحداهما) يفدي نفسه بأقل الامرين (والثاني) بأرش الجنايات بالغة ما بلغت لأن
محل الأرش قائم غير تالف ويمكن تعجيز نفسه في كل جناية يباع فيها فأشبه ما لو عجزه سيده
(فصل) وان جنى المكاتب على سيده فيما دون النفس فالسيد خصمه فيها فإن كانت موجة
للقصاص وجب كما تجب على عبده القن لأن القصاص يجب للزجر فيحتاج إليه العبد في حق سيده
وان عفا على مال أو كانت موجبة للمال ابتداء وجب له لأن المكاتب مع سيده كالأجنبي يصح ان
يبايعه ويثبت له في ذمته المال والحقوق كذلك الجناية ويفدى نفسه بأقل الامرين في إحدى الروايتين
والأخرى يفديها بأرش الجناية بالغة ما بلغت فإن وفى ما في يده بما عليه فلسيده مطالبته به وأخذه وان لم
يف به فلسيده تعجيزه فإذا عجزه وفسخ الكتابة سقط عنه مال الكتابة وأرش الجناية لأنه عاد عبدا
425

قنا ولا يثبت للسيد على عبده القن مال وان أعتقه سيده ولا مال في يده سقط الأرش لأنه كان متعلقا
برقبته وقد أتلفها فسقط وإن كان في يده مال لم يسقط لأن الحق كان متعلقا بالذمة وما في يده من المال
فإذا تلف الرقبة بقي الحق متعلقا بالمال فاستوفي منه كما لو عتق بالأداء وهل يجب أقل الأمرين أو
أرش الجناية كله؟ على وجهين ويستحق السيد مطالبته بأرش الجناية قبل أداء مال الكتابة لما ذكرنا من
قبل في حق الأجنبي وان اختار تأخير الأرش والبداية بقبض مال الكتابة جاز ويعتق إذا قبض
مال الكتابة كله وقال أبو بكر لا يعتق بالأداء قبل أرش الجناية لوجوب تقديمه على مال الكتابة
ولنا أن الحقين جميعا للسيد فإذا تراضيا على تقديم أحدهما على الآخر جاز لأن الحق لهما لا يخرج
عنهما ولأنه لو بدأ بأداء الكتابة قبل أرش لجناية في حق الأجنبي عتق ففي حق السيد أولى،
ولان أرش الجناية لا يلزم أداؤه قبل اندمال الجرح فيمكن تقدم وجوب الأداء عليه فإذا ثبت هذا
فإنه إذا أدى عتق ويلزمه أرش الجناية سواء كان في يده مال أو لم يكن لأن عتقه بسبب من جهته فلم
يسقط ما عليه بخلاف ما إذا أعتقه سيده فإنه أتلف محل حقه وههنا بخلاف وهل يلزمه قل الامرين أو
جميع الأرش؟ على وجهين
وإن كانت جنايته على نفس سيده فلورثته القصاص في العمد أو العفو على مال وفي الخطأ المال وفيما
يفدي به نفسه روايتان وحكم الورثة مع المكاتب حكم سيده معه لأن الكتابة انتفلت إليهم
426

والعبد لو عاد قنا لكان لهم، وان جنى على موروث سيد في ورثه سيده فالحكم فيه كما لو كانت الجناية
على سيده فيما دون النفس على ما مضى
(فصل) وإن اجتمع على المكاتب أرش جناية وثمن مبيع أو عوض قرض أو غيرهما من الديون
مع مال الكتابة وفي يده مال يفي بها فله أن يؤديها ويبدأ بما شاء منها كالحر وإن لم يفي بها ما في يده
وكلها حالة ولم يحجر الحاكم عليه فخص بعضهم بالقضاء صح كالحر وإن كان فيها مؤجل فعله بغير اذن سيده
لم يجز لأن تعجيله تبرع فلم يجز بغير اذن سيده كالهبة وإن كان يأذن سيده جاز كالهبة وإن كان التعجيل
للسيد فقبوله بمنزلة اذنه وإن كان الحاكم قد حجر عليه بسؤال غرمائه فالنظر إلى لحاكم وإنما بحجر عليه
بسؤالهم فإن حجر عليه بغير سؤالهم لم يصح لأن الحق لهم ولا يستوفى بغير اذنهم، وإن سأله سيده
الحجر عليه لم يجبه إلى ذلك لأن حقه غير مستقر فلا يحجر عليه من أجله فإذا حجر عليه بسؤال الغرماء
فقال القاضي عندي انه يبدأ بقضاء ثمن المبيع وعوض القرض يسوي بينهما ويقدمهما على أرش الجناية
ومال الكتابة لأن أرش الجناية محل الرقبة فإذا لم يحصل مما في يده استوفى من رقبته وهذا مذهب
الشافعي واتفق أصحابنا والشافعي على تقديم أرش الجناية على مال الكتابة على ما مضى بيانه
(فصل) وإذا جنى بعض عبيد المكاتب جناية توجب القصاص فللمجني عليه الخيار بين
القصاص والمال فإن اختار المال أو كانت الجناية خطأ أو شبه عمد أو اتلاف مال تعلق أرشها
427

برقبته وللمكاتب فداؤه بأقل الامرين من قيمته أو أرش جنابته لأنه بمنزلة شرائه وليس له فداؤه
بأكثر من قيمته كما لا يجوز له أن يشتريه بذلك إلا أن يأذن فيه سيده فإن كان الأرش أقل من قيمته
لم يكن له تسليمه لأنه تبرع بالزيادة، وإن زاد الأرش على قيمته فهل يلزمه تسليمه أو يفديه بأقل
الامرين؟ على روايتين
(فصل) فإن ملك المكاتب ابنه أو بعض ذوي رحمه المحرم أو ولد له ولد من أمته فجني جناية
تعلق أرشها برقبته وللمكاتب فداؤه بغير اذن سيده كما يفدي غيره من عبيده
وقال القاضي في المجرد ليس له فاؤه بغير اذنه وهو مذهب الشافعي لأنه اتلاف لماله فإن ذوي
رحمه ليسوا بمال له ولا يتصرف فيهم فلم يجز له اخراج ماله في مقابلتهم ولان شراءهم كالتبرع ويفارق
العبد الأجنبي فإنه ينتفع به وله صرفه في كتابته فكان له فداؤه وشراؤه كسائر الأموال لكن إن
كان لهذا الجاني كسب فدي منه وإن لم يكن له كسب بيع في الجناية استغرقت قيمته وإن لم تستغرقها
بيع بعضه فيها وما بقي للمكاتب
ولنا انه بعد له جنى فملك فداءه كسائر عبيده ولا نسلم انه لا يملك شراءه وقولهم لا يتصرف
فيه قلنا إلا أن كسبه له، وإن عجزه المكاتب صار رقيقا معه لسيده وان أدى المكاتب لم يتضرر السيد
بعتقهم وانفع به المكاتب وإذا دار أمره بين نفع وانتفاء ضرر وجب أن لا يمنع منه وفارق التبرع فإنه
428

يفوت المال على السيد فإن قيل بل فيه مضرة وهو منعه من أداء الكتابة فإنه إذا صرف المال فيه ولم
يقدر على صرفه في الكتابة عجز عنها قلنا هذا الضرر لا يمنع المكاتب منه بدليل ما لو ترك الكسب مع
امكانه أو امتنع من الأداء مع قدرته عليه فإنه لا يمنع منه ولا يجبر على كسب ولا أداء فكذلك
لا يمنع مما هو في معناه ولا مما يفضي إليه ولان غاية الضرر في هذا المنع من اتمام الكتابة وليس اتمامها
واجبا عليه فأشبه ترك الكسب بل هذا أولى لوجهين
(أحدهما) ان هذا فيه نفع للسيد لمصيرهم عبيدا له (والثاني) أن فيه نفعا للمكاتب باعتاق
ولده وذوي رحمه ونفعهم بالاعتاق على تقدير الأداء فإذا لم يمنع مما يساويه في المضرة من غير نفع
فيه فلان لا يمنع مما فيه نفع لازم لاحدى الجهتين أولى وولد المكاتبة يدخل في كتابتها والحكم في
جنايته كالحكم في ولد المكاتب سواء
(فصل) وان جنى بعض عبيد المكاتب على بعض جناية موجبها المال لم يثبت لها حكم لأنه
لا يجب للسيد على عبده مال وإن كان موجبها قصاصا فقال أبو بكر ليس له القصاص لأنه اتلاف لماله
باختياره وهذا الذي ذكره أبو الخطاب في رؤوس المسائل وقال القاضي له القصاص لأنه من مصلحة
ملكه فإنه لو لم يستوفه أفضى إلى اقدام بعضهم على بعض وليس له العفو على مال لما ذكرنا، ولا
يجوز بيعه في أرش الجناية لأن الأرش لا يثبت له في رقبة عبده فإن كان الجلاني من عبيده ابنه لم
429

يجر بيعه لذلك، وقال أصحاب الشافعي يجوز بيعه في أحد الوجهين لأنه لا يملك بيعه قبل جنايته
فيستفيد بالجناية ملك بيعه
ولنا انه عبده فلم يجب له عليه أرش كالأجنبي وما ذكروه ينتقض بالرهن إذا جنى على راهنه
(فصل) وان جنى عبد المكاتب عليه جناية موجبها المال كانت هدرا لما ذكرنا وإن كان موجبها
القصاص فله أن يقتص إن كان فيما دون النفس لأن العبد يقتص منه لسيده وان عفا على مال سقط القصاص
ولم يجب المال فإن كان الجاني أباه لم يقتص منه لأن الوالد لا يقتل بولده وان جنى المكاتب عليه لم يقتص
منه لأن السيد لا يقتص منه لعبده وقال القاضي فيه وجه آخر أنه يقتص منه لأن حكم الأب معه حكم
الأحرار بدليل أنه لا يملك بيعه والتصرف فيه وجعلت حريته موقوفة على حريته قال ولا نعلم موضعا يقتص
فيه المملوك من مالكه سوى هذا الموضع
(فصل) وإذا جني على المكاتب فيما دون النفس فأرش الجناية له دون سيده لثلاثة معان
(أحدها) ان كسبه له وذلك عوض عما يتعطل بقطع يده من كسبه (والثاني) ان المكاتبة تستحق
المهر في النكاح لتعلقه بعوض من أعضائها كذلك بدل العضو (والثالث) ان السيد يأخذ مال الكتابة بدلا
عن نفس المكاتبة فلا يجوز أن يستحق عنه عوضا آخر ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال
(أحدها) أن يكون الجاني سيده فلا قصاص عليه لمعنيين (أحدهما) أنه حر والمكاتب عبد
430

(والثاني) انه مالكه ولا يقتص من المالك لمملوكه ولكن يجب الأرش ولا يجب الا باندمال الجرح
على ما ذكرنا في الجنايات ولأنه قبل الاندمال لا تؤمن سرايته إلى نفسه فيسقط أرشه فإذا ثبت هذا
فإنه ان سرى الجرج إلى نفسه انفسخت الكتابة وكان الحكم فيه كما لو قتله وان اندمل الجرح
وجب أرشه له على سيده فإن كان من جنس مال الكتابة وقد حل عليه نجم تقاصا وإن كان من غير
جنس مال الكتابة أو كان النجم لم يحل لم يتقاصا ويطالب كل واحد منهما بما يستحقه وان اتفقا على
أن يجعل أحدهما عوضا عن الآخر وكانا من جنسين لم يجز لأنه بيع دين بدين فإن قبض أحدهما
حقه ثم دفعه إلى الآخر عوضا عن حقه جاز وان رضي المكاتب بتعجيل الواجب له عما لم يحل من
نجومه جاز إذا كان من جنس مال الكتابة
(الحال الثانية) إذا كان الجاني أجنبيا حرا فلا قصاص أيضا لأن الحر لا يقتل بالعبد ولكن ينظر
ان سرى الجرح إلى نفسه انفسخت الكتابة وعلى الجاني قيمته لسيده وان اندمل الجرح فعليه أرشه
له فإن أدى الكتابة وعتق ثم سرى الجرح إلى نفسه وجبت ديته لأن اعتبار الضمان بحالة الاستقرار
ويكون ذلك لورثته فإن كان الجاني السيد أو غيره من الورثة لم يرث منه شيئا لأن القاتل لا يرث
ويكون لبيت المال إن لم يكن له وارث، ومن اعتبر الجناية بحالة ابتدائها أوجب على الجاني
قيمته ويكون لورثته أيضا
431

(الحال الثالث) إذا كان الجاني عبدا أو مكاتبا فإن كان موجب الجناية القصاص وكانت على النفس انفسخت
الكتابة وسيده مخير بين القصاص والعفو على مال يتعلق برقبة الجاني وان كانت فيما دون النفس مثل أن يقطع يده
أو رجله فللمكاتب استيفاء القصاص وليس لسيده منعه كما أن المريض يقبض ولا يعترض عليه ورثته والمفلس
يقبض ولا يعترض عليه غرماؤه وإن عفا على مال ثبت له وإن عفا مطلقا أو إلى غير مال انبنى ذلك
على الروايتين في موجب العمد ان قلنا موجبه القصاص عينا صح ولم يثبت له مال وليس للسيد مطالبته
باشتراط مال لأن ذلك تكسب ولا يملك السيد اجباره على الكسب وان قلنا الواجب أحد أمرين ثبتت
له دية الجرح لأنه لما سقط القصاص تعين المال ولا يصح عفوه عن المال لأنه لا يملك التبرع به غير
اذن سيده وإن صالح على بعض الأرض فحكمه حكم العفو إلى غير مال
(فصل) وإذا مات المكاتب وعليه ديون وأروش جنايات ولم يكن ملك ما يؤدى في كتابته
انفسخت كتابته وسقط أرش الجنايات لأنها متعلقة برقبته وقد تلفت ويستوفي دينه مما كان في يده
فإن لم يف بها سقط الباقي
قال احمد ليس على سيده قضاء دينه هذا كان يسعى لنفسه وإن كان قد ملك ما يؤدي في كتابته
انبنى ذلك على الروايتين في عتق المكاتب بملك ما يؤديه وقد ذكرنا فيه روايتين الظاهر منهما انه
لا يعتق بذلك فتنفسخ الكتابة أيضا ويبدأ بقضاء الدين على ما ذكرنا في الحال الأول وهذا قول زيد
432

ابن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن وشريح وعطاء وعمرو بن دينار وأبي الزناد ويحيى النصاري
وربيعة والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي (والرواية الثانية) انه إذا ملك ما يؤدي فقد صار حرا فعلى
هذا يضرب السيد مع الغرماء بما حل من نجومه
وروي نحو هذا عن شريح والنخعي والشعبي والحكم وحماد وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن
صالح لأنه دين له حال فيضرب به كسائر الديون ويجئ على قول من قال إن الدين يحل بالموت أن يضرب
بجميع مال الكتابة لأنه قد صار حالا والمذهب الأول الذي نقله الجماعة عن أحمد
وقد روى سعيد في سننه حدثنا هشيم انا منصور وسعيد عن قتادة قال ذكرت لسعيد بن المسيب
قول شريح في المكاتب إذا مات وعليه دين وبقية من مكاتبته ان شريحا قضى أن مولاه يضرب
مع الغرماء؟ فقال سعيد أخطأ شريح قضى زيد بالدين قبل المكاتبة
(مسألة) قال (وإذا كاتبه ثم دبره فإذا أدى صار حرا وان مات السيد قبل الأداء عتق
بالتدبير ان حمل الثلث ما بقي من كتابته والا عتق منه بمقدار الثلث وسقط من الكتابة
بمقدار ما عتق وكان على الكتابة فيما بقي)
وجملة ذلك أن تدبير المكاتب صحيح لا نعلم فيه خلافا لأنه تعليق عتق بصفة وهو يملك اعتاقه
433

وإن كان وصية فهو وصية باعتاقه وهو يملكه فعند هذا ان أدى عتق بالأداء لأنه سبب للعتق ويبطل
التدبير للغنى عنه وما في يده له وإن عجز وفسخت الكتابة بطلت كتابته وصار مدبرا غير مكاتب
فإذا مات السيد عتق ان خرجت من الثلث وما في يده لسيده وان لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر
الثلث وإن مات السيد قبل أدائه وعجزه عتق بالتدبير ان حمله الثلث وإن لم يخرج من الثلث عتق
منه بقدر الثلث وسقط من الكتابة بقدر ما عتق لأن مال الكتابة عوض عنه فإذا عتق نصفه وجب
أن يسقط نصف الكتابة لأنه لم تبق الكتابة إلا في نصفه فلم يبق عليه من مالها إلا بقدر ذلك وهو على
الكتابة فيما بقي وما في يده له وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
وقال أصحابنا إذا عتق بالتدبير بطلت الكتابة وكان ما في يده لسيده كما لو بطلت الكتابة بعجزه
لأنه عبد عتق بالتدبير فكان ما في يده لسيده كغير المكاتب والصحيح الأول إن شاء الله تعالى لأنه مكاتب
برئ من مال الكتابة فعتق بذلك وكان ما في يده له كما لو أبرأه سيده يحققه أن ملكه كان ثابتا على ما في
يده ولم يحدث ما يزيله وإنما الحادث مزيل لملك سيده عنه فيبقى ملكه كما لو أعتق بالأداء
(فصل) إذا قال السيد لمكاتبه متى عجزت بعد موتي فأنت حر فهذا تعليق للحرية على صفة
تحدت بعد الموت وقد ذكرنا فيه اختلافا فيما مضى فإن قلنا لا يصح فلا كلام وإن قلنا يصح فمتى
عجز بعد الموت صار حرا بالصفة فإن ادعى العجز قبل حلول النجم لم يعتق لأنه لم يجب عليه شئ
434

يعجز عنه وإن ادعى ذلك بعد حلول نجمه ومعه ما يؤديه لم يصح قوله لأنه ليس بعاجز وإن لم يكن
معه مال ظاهر فصدقه الورثة عتق وان كذبوه فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم المال وعجزه فإذا
حلف عتق وإذا عتق بهذه الصفة كان ما في يده له ان لم تكن كتابته فسخت لأن العجز لا تنفسخ به
الكتابة وإنما يثبت به استحقاق الفسخ والحرية تحصل بأول وجوده فتكون الحرية قد حصلت له في
حال كتابته فيكون ما في يده له كما لو عتق بالابراء من مال الكتابة ومقتضى قول بعض أصحابنا ان
تبطل كتابته ويكون ما بيده لورثة سيده
(فصل) وإذا كاتب عبدا في صحته ثم أعتقه في مرض موته أو أبرأه من مال الكتابة فإن كان
يخرج من ثلثه الأقل من قيمته أو مال كتابته عتق مثل أن يكون له سوى المكاتب مائتان وقيمة
المكاتب مائة ومال الكتابة مائة وخمسون فانا تعتبر قيمته دون مال الكتابة وهي تخرج من الثلث
ولو كان مال الكتابة مائة وقيمته مائة وخمسون اعتبرنا مال الكتابة ونفذ العتق ويعتبر الباقي من مال
الكتابة دون ما أدي منها وإنما اعتبرنا الأقل لأن قيمته ان كانت أقل فهي قيمة ما أتلف بالاعتاق ومال
الكتابة ما استقر عليه فإن للعبد اسقاطه بتعجيز نفسه أو يمتنع من أدائه فلا يجبر عليه فلم يحتسب له به
وإن كان عوض الكتابة أقل اعتبرناه لأنه يعتق بأدائه ولا يستحق السيد عليه سواه وقد ضعف ملكه
فيه وصار عوضه، وان كل واحد منهما لا يخرج من الثلث مثل أن يكون ماله سوى المكاتب
435

قيمته مائة فإننا نضم الأقل من قيمته أو مال كتابته إلى ماله ونعلم بحسابه فيعتق منه ثلثاه ويبقى ثلثه
مال الكتابة فإن أداه عتق وإلا رق منه ثلثه
ويحتمل انه إذا كان مال الكتابة مائة وخمسين فيفي ثلثه بخمسين فأداها أن يقول قد زاد مال
الميت لأنه حسب على الورثة بمئة وحصل لهم بثلثه خمسون فقد زاد مال الميت فينبغي أن يزيد ما عتق منه
لأن هذا المال يحصل لهم بعقد السيد والإرث عنه ويجب أن يكون المعتبر من مال الكتابة ثلاثة أرباعه
لأن ربعه يجب ايتاؤه للمكاتب فلا يحسب من مال الميت فعلى هذا إذ كان ثلاثة أرباع مال المكاتب
مئة وخمسين وقيمة العبد مائة وللميت مائة أخرى عتق من العبد ثلثاه وحصل للورثة من كتابة العبد
خمسون عن ثلث العبد المحسوب عليهم بثلث المائة فقد زاد لهم ثلث الخمسين فيعتق من العبد قدر
ثلثها وهو تسع الخمسين وذلك نصف تسعه فصار العتق ثابتا في ثلثيه ونصف تسعه وحصل للورثة
المائة وثمانية اتساع الخمسين وهو مثلا ما عتق من فإن قيل لم أعتقتم بعضه وقد بقي عليه بعض مال
الكتابة وقد قلتم ان المكاتب لا يعتق منه شئ حتى يؤدي جميع مال الكتابة؟ قلنا إنما أعتقنا بعضه ههنا
باعتاق سيده لا بالكتابة ولما كان العتق في مرض موته نفذ في ثلث ماله وبقي باقيه لحق الورثة والموضع
الذي لا يعتق الا بأداء جميع الكتابة إذا كان عتقه بها لأنه إذا بقي عليه شئ فما حصل الاستيفاء ويختص
المعاوضة فلم تثبت الحرية في العوض
436

(فصل) وان وصى سيده باعتاقه أو ابرائه من الكتابة وكان يخرج من ثلثه أقل الأمرين من قيمت
أو مال كتابته فالحكم فيه كالحكم فيما إذا أعتقه في مرضه أو أبرأ الا أنه يحتاج ههنا إلى ايقاع العتق
لأنه أوصى به وان لم يخرج الأقل منهما من ثلثه أعتق منه بقدر الثلث ويسقط من الكتابة بقدر ما
عقت ويبقي باقيه على باقي الكتابة فإن أداه عتق جميعه وان عجز عتق منه بقدر الثلث ورق الباقي وقياس
المذهب أن يتنجز عتق ثلثه في الحال كقولنا فيمن دبر عبدا له وله مال غائب أو دين في ذمة موسر
أو معسر انه يعتق ثلثه في الحال وان لم يحصل للورثة في الحال شئ ولان حق الورثة متحقق الحصول
فإنه ان أدى ولا عاد الباقي قنا، وذكر القاضي فيه وجها آخر انه لا يتنجز عتق شئ منه إذا لم يكن
للميت مال سواه لئلا يتنجز للوصية ما عتق منه ويتأخر حق الوارث وكذلك لو كان له مال غائب أو دين
حاضر لم تتنجز وصيته من الحاضر والأول أصح لما ذكرناه واما الحاضر والغائب فإنه إن كان أوصى له
بالحاضر اخذ ثلثه في الحال ووقف الباقي على قدوم الغائب فقد حصل للموصي له ثلثه الحاضر ولم يحصل
للورثة شئ في الحال فهو كمسئلتنا ولم يكمل له جميع وصيته لأن الغائب غير موثوق بحصوله فإنه ربما
تلف بخلاف ما نحن فيه فاما الزيادة الحاصلة بزيادة مال الكتابة فإنها تقف على أداء مال الكتابة
(مسألة) قال (وإذا ادعى المكاتب وفاء كتابته واتى بشاهد حلف مع
شاهده وصار حرا)
وهذا قول الشافعي رضي الله عنه لأن النزاع بينهما في أداء المال والمال يقبل فيه الشاهد واليمين
437

فإن قيل: القصد بهذه الشهادة العتق وهو ما لا يثبت بشاهد ويمين. قلنا بل يثبت بشاهد ويمين في
رواية. وان سلمنا انه لا يثبت بذلك لكن الشهادة ههنا إنما هي بأداء المال والعتق يحصل عند أدائه
بالعقد الأول ولم يشهد الشاهد به ولا بينهما فيه نزاع، ولا يمتنع أن يثبت بشهادة الواحد ما يترتب
عليه أمر لا يثبت إلا بشاهدين كما أن الولادة تثبت بشهادة المرأة الواحدة ويترتب عليها ثبوت النسب
الذي لا يثبت بشهادة النساء ولا بشاهد واحد
(فصل) فإن لم يكن للعبد شاهد وأنكر السيد فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر وان قال العبد
لي شاهد غائب أنظر ثلاثا فإن جاء به وإلا حلف السيد، ثم متى جاء شاهده وأدى الشهادة ثبتت حريته
وان جاء بشاهد فجرح فقال لي شاهد غائب عدل أنظر ثلاثا لما ذكرنا
(فصل) وإن أقر السيد بقبض مال الكتابة عتق العبد إذا كان ممن يصح إقراره وان أقر بذلك
في مرض موته قبل لأنه إقرار لغير وارث وإقرار المريض لغير وارثه مقبول. وإذا قال استوفيت
كتابتي كلها عتق العبد. وان قال استوفيتها كلها إن شاء الله تعالى وان شاء زيد عتق ولم يؤثر
الاستثناء لأن هذا الاستثناء لا مدخل له في الاقرار
قال احمد في رواية أبي طالب إذا قال له علي الف إن شاء الله كان مقرا بها. ولان هذا الاستثناء
تعليق بشرط والذي يتعلق بالشرط إنما هو المستقبل وأما الماضي فلا يمكن تعليقه لأنه قد وقع على
438

صفة لا يتغير عنها بالشرط وإنما يدل الشرط فيه على الشك فيه فكأنه قال استوفيت كتابتي وأنا
أشك فيه فيلغو الشك ويثبت الاقرار. وان قال استوفيت آخر كتابتي وقال إنما أردت اني
استوفيت النجم الآخر دون ما قبله، وادعى العبد اقراره باستيفاء الكل فالقول قول السيد لأنه أعرف بمراده
(فصل) إذا أبرأه السيد من مال الكتابة برئ وعتق لأن ذمته خلت من مال الكتابة فأشبه
ما لو أداه، وان أبرأه من بعضه برئ منه وكان على الكتابة فيما بقي لأن الابراء كالأداء. وإن كاتبه
على دنانير فأبرأه من دراهم. أو على دراهم فأبرأه من دنانير لم تصح البراءة لأنه أبرأه مما لا يجب له
عليه إلا أن يريده بقدر ذلك مما لي عليك فإن اختلفا فقال المكاتب إنما أردت من قيمة ذلك وقال
السيد بل ظننت ان لي عليك النقد الذي أبرأتك منه فلم تقع البراءة موضعها فالقول قول السيد مع
يمينه لأنه اعترف بنيته وان مات السيد واختلف المكاتب مع ورثته فالقول قولهم مع ايمانهم انهم
لا يعلمون موروثهم أراد ذلك، وان مات المكاتب واختلف ورثة وسيده فالقول قول السيد لما ذكرنا
(مسألة) قال (ولا يكفر الكاتب بغير الصوم)
وجملته ان المكاتب إذا لزمته كفارة ظهار أو جمع في نهار رمضان أو قتل أو كفارة يمين لم
يكن له التكفير بالمال لأنه عبد ولأنه في حكم المعسر بدليل انه لا تلزمه زكاة ولا نفقة قريب وله أخذ
439

الزكاة لحاجته. وكفارة العبد والمعسر الصيام. وان اذن له سيده في التكفير بالمال جاز لأنه بمنزلة
التبرع ويجوز له التبرع باذن سيده ولان المنع لحقه وقد اذن فيه ولا يلزم التكفير بالمال إذا اذن
فيه السيد لأن عليه ضررا فيه لما يقتضي إليه تفويت حريته كما أن التبرع لا يلزمه باذن سيده
وقال القاضي المكاتب كالعبد القن في التكفير ومتى اذن له سيده في التكفير بالمال انبنى على
مالك العبد إذا ملكه سيده، فإن قلنا لا يملك لم يصح تكفيره بعتق ولا إطعام ولا كسوة سواء ملكه
سيده أو لم يملكه وسواء اذن فيه أو لم يأذن لأنه يكفر بما ليس بمملوك له فلح يصح وان قلنا يملك بالتمليك
صح تكفيره بالطعام إذا اذن فيه وان اذن له في التكفير بالعتق فهل يصح؟ على روايتين سبق ذكرهما
في تكفير العبد. والصحيح ان هذا التفصيل لا يتوجه في المكاتب لأنه يملك المال لغير خلاف وإنما
ملكه ناقص لتعلق حق سيده به فإذا اذن له سيده فيه صح كالتبرع
(مسألة) قال (وولد المكاتبة الذين ولدتهم في الكتابة يعتقون بعتقها)
وجملته أنه يصح مكاتبه الأمة كما تصح مكاتبة العبد لا خلاف بين أهل العلم فيه وقد دل
عليه حديث بريرة وحديث جويرة بنت الحارث ولأنها داخلة في عموم قوله (والذين يبتغون الكتاب
مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ان علمتم فيه خيرا) ولأنها يمكنها التكسب والأداء فهي كالعبد وإذا أتت
440

المكاتبة بولد من غير سيدها اما من نكاح أو غيره فهو تابع لها موقوف على عتقها فإن عتقت بالأداء
أو الابراء عتق وان فسخت كتابتها وعادت إلى الرق عاد رقيقا
وهذا قول شريح ومالك وأبي حنيفة والثوري وإسحاق وسواء في هذا ما كان حملا حال
الكتابة وما حدث بعدها وقال أبو ثور وابن المنذر هو عبد قن لا يتبع أمه وللشافعي قولان كالمذهبين
واحتجوا بان الكتابة غير لازمة من جهة العبد فلا تسري إلى الولد كالتعليق بالصفة.
ولنا أن الكتابة سبب ثابت للعتق لا يجوز ابطاله فسرى إلى الولد كالاستيلاد ويفارق التعليق
بالصفة فإن السيد يملك ابطاله بالبيع. إذا ثبت هذا فالكلام في الولد في فصول أربعة في قيمته إذا
تلف وفي كسبه وفي نفقته وفي عتقه، أما قيمته إذا تلف فقال أبو بكر هو لامه تستعين بها على كتابتها
لأن السيد لا يملك التصرف فيه مع كونه عبدا فلا يستحق قيمته ولأنه بمنزلة جزء منها ولو جني على
جزء منها كان أرشه لها كذلك ولدها وإذا لم يستحقها هو كانت لامه لأن الحق لا يخرج عنهما
ولان ولدها لو ملكته بهبة أو شراء كانت قيمته لها فكذلك لو تبعها. يحققه أنه إذا تبعها صار حكمه
حكمها ولا يثبت ملك السيد في منافعه ولا في أرش الجناية عليه كما لا يثبت له ذلك فيما، وقال الشافعي
في أحد قوليه تكون القيمة لسيدها لأنها لو قتلت كانت قيمتها لسيدها فكذلك ولدها والفرق بينهما
441

أن الكتابة تبطل بقتلها فيصير مالها لسيدها بخلاف ولدها فإن العقد باق بعد قتله فنظير هذا اتلاف
بعض أعضائها والحكم في اتلاف بعض أعضائها كالحكم في اتلافه
وأما كسبه وأرش الجناية عليه فينبغي أيضا أن يكون لامه لأن ولدها جزء منها تابع لها فأشبه
بقية أجزائها ولان أداءها لكتابتها سبب لعتقه وحصول الحرية له فينبغي ان يصرف فيه بمنزلة صرفه إليه إذ
في عجزها رقه وفوات كسبه عليه وأما نفقته فعلى أمه لأنها تابعة لكسبه وكسبه لها فنفقته عليها وأما عتقه فإنه
يعتق بأدائها أو ابرائها ويرق بعجزها لأنه تابع لها وان ماتت المكاتبة على كتابتها بطلت كتابتها وعاد
رقيقا قنا الا أن تخلف وفاء فيكون على الروايتين وان أعتقها سيدها لم يعتق ولدها لأنه إنما تبعها
في حكم الكتابة وهو العتق بالأداء وما حصل الأداء وإنما حصل عتقها بأمر لا يتبعها فيه فأشبه ما لو لم
تكن مكاتبة ومقتضى قول أصحابنا الذين قالوا تبطل كتابتها بعتقها أن يعود ولدها رقيقا ومقتضى
قولنا أنه يبقى على حكم الكتابة ويعتق بالأداء لأن العقد لم يوجد ما يبطله وإنما سقط الأداء عنها
لحصول الحرية بدونه فإذا لم يكن لها ولد يتبعها في الكتابة ولا في يدها مال يأخذه لم يظهر حكم بقاء
العقد ولم يكن في بقائه فائدة فانتفى لانتفاء فائدته وفي مسئلتنا في بقائه فائدة لافضائه إلى عتق
ولدها فينبغي أن يبقى
ويحتمل أن يعتق باعتاقها لأنه جرى مجرى ابرائها من مال الكتابة والحكم فيما إذا أعتقت باستيلاد
442

أو تدبير أو تعليق بصفة كالحكم فيما إذا أعتقها لأنها عتقت بغير الكتابة وان أعتق السيد الولد دونها
صح عتقه نص عليه احمد في رواية مهنا لأنه مملوك فصح عتقه كأمه ولأنه لو أعتقه معها لصح ومن صح
عتقه مع غيره صح مفردا كسائر مماليكه.
وقال القاضي وقد كان يجب ان لا ينفذ عتقه لأن فيه ضررا بأمه بتفويت كسبه عليها لأنها
كانت تستعين به في كتابتها ولعل أحمد نفذ عتقه تغليبا للعتق والصحيح أنه يعتق وما ذكره القاضي
من الضرر لا يصح لوجوه (أحدها) أن الضرر إنما يحصل في حق من له كسب يفضل عن نفقته فاما
من لا كسب له فتخليصها من نفقته نفع محض فلا ضرر في اعتاقه لأنه لا يفضل لها من كسبه شئ ينتفع به فكان
ينبغي ان لا يقيد الحكم الذي ذكره بهذا القيد (الثاني) ان النفع بكسبها ليس بواجب لها بدليل أنه
لا يملك اجباره على الكسب فلم يكن الضرر بفواته معتبرا في حقها. (الثالث) أن مطلق الضرر لا يكفي
في منع العتق الذي تحقق مقتضيه ما لم يكن له أصل يشهد بالاعتبار ولم يذكر له أصلا ثم هو ملغي بعتق
المفلس والراهن وسراية العتق إلى ملك الشريك فإنه يعتق مع وجود الضرر بتفويت الحق اللازم فهذا أولى
443

(فصل) فأما ولد ولدها فإن حكمه حكم أمه لأن ولدا المكاتب لا يتبعه وأما ولد بنتها فهو كبنتها
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تسري الكتابة إليه لأن السراية إنما تكون مع الاتصال وهذا
ولد منفصل فلا تسري إليه بدليل أن ولد أم الولد قبل أن يستولدها لا يسرى إليه الاستيلاد وهذا
الولد اتصل بأمه دون جدته
ولنا ان ابنتها ثبت لها حكمها تبعا فيجب أن يثبت لا بنتها حكمها تبعا كما يثبت حكم أمها، ولان
البنت تبعت أمها فيجب أن يتبعها ولدها لأن عليه إتباعها لأنها موجودة في ولدها ولان البنت تعلق
بها حق العتق فيجب أن يسري إلى ولدها كالمكاتبة وهذا الخلاف في ولد النبت التابعة لامها في
الكتابة فأما المولودة قبل الكتابة فلا تدخل في الكتابة فابنتها أولى
(مسألة) قال (ويجوز بيع المكاتب)
وهذا قول عطاء والنخعي والليث وابن المنذر وهو قديم قولي الشافعي قال ولاوجه لقول من
444

مكاتب قال لا يجوز وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى انه لا يجوز بيعه وهو قول مالك وأصحاب
الرأي والجديد من قولي الشافعي لأنه عقد يمنع استحقاق كسبه فيمنع بيعه كبيعه وعتقه
وقال الزهري وأبو الزناد: يجوز بيعه برضاه ولا يجوز إذا لم يرض، وحكي ذلك عن أبي
يوسف لأن بريرة إنما بيعت برضاها وطلبها ولان لسيده استيفاء منافعه برضاه ولا يجوز بغير
رضاه كذلك بيعه.
ولنا ما روى عروة عن عائشة أنها قالت جاءت بريرة إلي فقالت يا عائشة اني كاتبت أهلي على تسع
أواق في كل عام أوقية فأعينيني ولم تكن قضيت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة ونقست فيها ارجعي
إلى أهلك إن أحبوا ان أعطيهم ذلك جميعا فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت عليهم ذلك فأبوا
وقالوا ان شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال (لا يمنعك ذلك منها ابتاعي واعتقي إنما الولاء لمن أعتق) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (ما بال ناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا
ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرطه أوثق وإنما الولاء لمن
أعتق) متفق عليه
قال ابن المنذر بيعت بريرة بعلم النبي صلى الله عليه وسلم وهي مكاتبة ولم ينكر ذلك ففي ذلك أبين البيان ان
بيعه جائز ولا أعلم خبرا يعارضه ولا أعلم في شئ من الاخبار دليلا على عجزها وتأوله له الشافعي على
445

انها كانت قد عجزت وكان بيعها فسخا لكتابتها وهذا التأويل بعيد يحتاج إلى دليل في غاية القوة وليس
في الخبر ما يدل عليه بل قولها أعينيني على كتابتي دلالة على بقائها على الكتابة ولأنها أخبرتها ان نجومها
في كل عام أوقية فالعجز إنما يكون بمضي عامين عند من لا يرى العجز إلا بحلول نجمين أو بمضي عام
عند الآخرين والظاهر أن شراء عائشة لها كان في أول كتابتها ولا يصح قياسه على أم الولد لأن
سبب حريتها مستقر على وجه لا يمكن فسخه بحال فأشبه الوقف والمكاتب يجوز رده إلى الرق وفسخ
كتابته إذا عجز فافترقا
قال ابن أبي موسى وهل للسيد أن يبيع المكاتب بأكثر مما عليه؟ على روايتين، ولان المكاتب
عبد مملوك لسيده لم يتحم عتقه فجاز بيعه كالمعلق عتقه بصفة والديل على أنه مملوك قول النبي صلى الله عليه وسلم
(المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) وان مولاته لا يلزمها ان تحتجب منه بدليل قوله عليه السلام (إذا
كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه) فيدل على أنها لا تحتجب قبل ذلك
وقد روينا في هذا عن نبهان مولى أم سلمة أنه قال: قالت لي أم سلمة يا نبهان هل عندك ما تؤدي؟
قلت نعم فأخرجت الحجاب بيني وبينها وروت هذا الحديث، قال فقلت لا والله ما عندي ما أؤدي ولا أنا
بمؤد وإنما سقط الحجاب عنها منه لكونه مملوكها ولأنه يصح عتقه ولا يصح عتق من ليس بمملوك
ويرجع عند العجز إلى كونه قنا ولو صار حرا ما عاد إلى الرق ويفارق اعتاقه لأنه يزيل الرق
446

بالكلية وليس بعقد واما هو اسقاط للملك فيه، وأما بيعه فلا يمنع مالكه بيعه، وأما البائع فلم يبق
له فيه ملك بخلاف مسئلتنا
(فصل) وتجوز هبته والوصية به ونقل الملك فيه لأنه في معنى بيعه، وقد روي عن أحمد انه
منع هبته لأن الشرع إنما ورد ببيعه والصحيح جوازها لأن ما كان في معنى المنصوص عليه ثبت الحكم فيه
(مسألة) قال (ومشتريه يقوم فيه مقام المكاتب فإذا أدى صار حرا وولاؤه لمشتريه
فإن لم تبين البائع للمشتري انه مكاتب فهو مخير بين أن يرجع في الثمن أو يأخذ ما بينه سليما ومكاتبا)
وجملة ذلك أن الكتابة لا تنفسخ بالبيع ولا يجوز ابطالها ولا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن بيع السيد مكاتبه على أن يبطل كتابته ببيعه إذا كان ماضيا
فيها مؤديا ما يجب عليه من نجومه في أوقاتها غير جائز وذلك لأنها عقد لازم فلا تبطل ببيع العبد
كإجارته ونكاحه ويبقى على كتابته عند المشتري وعلى نجومه كما لو كان عند البائع مبقى على
ما بقي عليه من كتابته ويؤدي إلى المشتري كما كان يؤدي إلى البائع فإن عجز فهو عبد لمشتريه لأنه
صار سيده، وان أدى عتق وولاؤه لمشتريه لأن حق المكاتب فيه انتقل إلى المشتري فصار المشتري
447

هو المعتق ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة (ابتاعي واعتقي فإنما الولاء لمن أعتق) ولما أراد أهلها اشتراط
ولائها أنكر ذلك وأخبر ببطلانه وإذا لم يعلم المشتري كونه مكاتبا ثم علم ذلك فله فسخ البيع أو أخذ
الأرش لأن الكتابة عيب لكون المشتري لا يقدر على التصرف فيه ولا يستحق كسبه ولا استخدامه
ولا الوطئ ان كانت أمة وقد انعقد سبب زوال الملك فيه فيملك الفسخ بذلك كمشتري الأمة المزوجة
أو المعيبة فيتخير حينئذ بين فسخ البيع والرجوع بالثمن وبين امساكه وأخذ الأرش وهو قسط ما بينه
مكاتبا وبينه رقيقا قنا فيقال كم قيمته مكاتبا وكم قيمته لو كان غير مكاتب؟ فإذا قيل قيمته مكاتبا مائة وقيمته غير
مكاتب مائة وخمسون والثمن مائة وعشرون فقد نقصته الكتابة ثلث قيمته فيرجع بثلث ثمنه وهو أربعون
ولا يرجع بالخمسين التي نقصت بالكتابة من قيمته على ما قرر في البيع
(فصل) فأما بيع الدين الذي على المكاتب من نجومه فلا يصح، وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وأبو ثور، وقال عطاء وعمرو بن دينار ومالك يصح لأن السيد يملكها في ذمة المكاتب
فجاز بيعها كسائر أمواله
ولنا انه دين غير مستقر فلم يجز بيعه كدين السلم ودين عدم الاستقرار انه معرض للسقوط بعجز
المكاتب ولأنه لا يملك السيد اجبار العبد على أدائه ولا الزامه بتحصيله فلم يجز بيعه كالعدة بالتبرع
ولأنه غير مقبوض وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض فإن باعه فالبيع باطل وليس للمشتري
448

مطالبة المكاتب بتسليمه إليه وله الرجوع بالثمن على البائع إن كان دفعه إليه فإن سلم المكاتب إلى
المشتري نجومه ففيه وجهان (أحدهما) يعتق لأن البيع تضمن الاذن في القبض فأشبه قبض الوكيل
(والثاني) لا يعتق لأنه لم يستنبه في القبض وإنما قبض لنفسه بحكم البيع الفاسد فكان القبض أيضا
فاسدا ولم يعتق بخلاف وكيله فإنه استنابه، ولو صرح بالاذن فليس بمستنيب له في القبض وإنما أذنه
بحكم المعاوضة فلا فرق بين التصريح وعدمه فإن قلنا يعتق بالأداء برئ المكاتب من مال الكتابة
ويرجع السيد على المشتري بما قبضه لأنه كالنائب عنه فإن كان من جنس الثمن وكان قد تلف تقاضا
بقدر أقلهما ورجع ذو الفضل بفضله وان قلنا لا يعتق بذلك فمال الكتابة باق على المكاتب ويرجع
المكاتب على المشتري بما دفعه إليه ويرجع المشتري على البائع فإن سلمه المشتري إلى البائع لم يصح
التسليم لأنه قبضه بغير اذن المكاتب فأشبه ما لو أخذه من ماله بغير اذنه فإن كان من غير جنس
مال الكتابة تراجعا بما لكل واحد منهما على الآخر وان باعه ما أخذه بما له في ذمته وكان مما يجوز البيع
فيه جاز إذا كان ما قبضه السيد باقيا وإن كان قد تلف ووجبت قيمته وكانت من جنس مال الكتابة تقاضا
وإن كان المقبوض من جنس مال الكتابة فتحاسبا به جاز
(فصل) وإذا كانت المكاتبة ذات ولد يتبعهما في الكتابة فباعهما معا صح لأنهما ملكه ولا
مانع من بيعهما ويكونان عند المشتري كما كانا عند البائع سواء وان باع أحدهما دون صاحبه أو باع
أحدهما لرجل وباع الآخر لغيره لم يصح لوجهين
449

(أحدهما) أنه لا يجوز التفريق بين الام وولدها في البيع الا بعد البلوغ في إحدى الروايتين
(والثاني) ان الولد تابع لامه ولها كسبه وعليها نفقته فصار في معنى مملوكها فلم يجز التفريق بينه
وبينها ويحتمل أن يجوز ذلك إذا كان بالغا لأنه محل للبيع صدر فيه التصرف من أهله ويكون عند
من هو عنده على ما كان عليه قبل بيعه لها كسبه وأرش الجناية عليه وعليها نفقته ويعتق بعتقها
كما لو بيع والله أعلم
(فصل) وان وصى بالمكاتب لرجل فقال أبو بكر قال أحد الوصية به جائزة لأنه برى بيعه
وكذلك هبته ويقوم من أنتقل إليه مقام مكاتبه في الأداء إليه وان عجز عاد إليه رقيقا له قنا وإن
عتق فالولاء له كما ذكرنا في المشتري سواء فإن عجز في حياة الموصي لم تبطل الوصية لأن رقه لا
ينافي الوصية وان أدى وعتق في حياة الموصي بطلت الوصية ومن منع بيع المكاتب منع الوصية فيه
وهبته فإن قال إن عجز ورق فهو لك بعد موتي صحت الوصية إذا عجز في حياة الموصي وان عجز
بعد موته لم يستحقه لأن الشرط بطل بموته كما لو قال لعبده ان دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فلم
يدخلها حتى مات سيده وان قال إن عجزت بعد موتي فهو لك فهذا تعليق للوصية على صفة توجد بعد
الموت وقد ذكرنا في صحتها وجهين
(فصل) وان وصى بكتابته لرجل صحت الوصية لأنها تصح بما ليس بمستقر كما تصح بما لا يملكه
450

في الحال من ثمرة شجرة وحمل جاريته وللموصى له ان يستوفي المال عند حلوله وله ان يبرئ منه
فإذا استوفاه أو أبرأه منه عتق المكاتب والولاء لسيده لأنه المنعم عليه وإن عجز المكاتب فأراد الوارث
تعجيزه وأراد الموصى له انظاره فالقول قول الوارث لأن حق الموصى له في المال ما دام العقد قائما
وحق الوارث متعلق به إذا عجزه يرده في الرق وليس للموصى له ابطال حق الوارث من تعجيزه
وان أراد الوارث انظاره وأراد الموصى له تعجيزه لم يكن له لأن الحق في التعجيز والفسخ للوارث
ولا حق للموصى له في ذلك ولا بيع لأن حقه يسقط به ومتى عجز عاد عبدا للورثة وان وصى لرجل
بما تعجله المكاتب صح لأنها وصية بصفة فإن عجل شيئا فهو للموصى له وان لم يعجل شيئا حتى حلت
نجومه بطلت الوصية.
(فصل) وان وصى بمال الكتابة لرجل وبرقبته لآخر صحت الوصيتان فإن أدى إلى صاحب المال
أو أبرأه منه عتق قال أصحابنا وتبطل وصية صاحب الرقبة، ويحتمل أن لا تبطل ويكون الولاء له لأنه
أقامه مقام نفسه في استحقاق الرقبة ولو لم يوص بها لكان الولاء له فإذا وصى بها كان الولاء لمن وصى له
بها ولأنه لو وصى له بالمكاتب مطلقا لكان الولاء له فكذلك إذا وصى برقبته لأن الولاء يستفاد من
الوصية بالرقبة دون الوصية بالمال وان عجز فسخ صاحب الرقبة كتابته وكان رقيقا له وبطلت الوصية
بالمال وإن كان صاحب المال قد قبض من كتابته شيئا فهو له وان اختلفا في فسخ الكتابة عند العجز
451

قد قول صاحب الرقبة لأنه يقوم مقام الورثة على ما بيناه فيما تقدم وقياس هذه المسألة انه لو وصى
لرجل برقبة المكاتب دون مال الكتابة أنه يصح لأن الوصية بالرقبة دون المال صحيحة فيما إذا وصى بها
لرجل وحده وأوصى بالمال لآخر
(فصل) وإذا كانت الكتابة فاسدة فأوصى لرجل بما في ذمة المكاتب لم تصح الوصية لأنه لا
شئ في ذمته، وان قال وصيت لكل بما أقبضه من مال الكتابة صح لأن الكتابة الفاسدة يؤدى فيها
المال كما يؤدى في الصحيحة وان وصى برقبة المكاتب صح لأن الوصية برقبة المكاتب تصح في الكتابة
الصحيحة ففي الفاسدة أولى.
(فصل) وتصح الوصية لمكاتبه لأنه مع سيده في المعاملة كالأجنبي ولذلك جاز أن يدفع إليه زكاته
فإن قال ضعوا عن مكاتبي بعض كتابته أو بعض ما عليه وضعوا ما شاءوا قليلا كان أو كثيرا من أول
نجومه أو من آخرها وان قال ضعوا عنه نجما من نجومه فلهم ان يضعوا أي نجم شاءوا كما لو قال ضعوا
أي نجم شئتم وسواء كانت نجومه متفقة أو مختلفة لأن اللفظ يتناول واحدا منها غير معين وان قال
ضعوا عنه أي نجم شاء كان ذلك إلى مشيئته فيلزمهم أن يضعوا أكبرها مالا لأنه أكبرها قدرا،
وإن قال ضعوا عنه أكثر نجومه لزمهم أن يضعوا عنه أكثر من نصفها لأن أكثر الشئ يزيد على نصفه
452

فإذا كانت نجومه خمسة وضعوا ثلاثة، وإن كانت ستة وضعوا أربعة ويحتمل أن ينصرف ذلك إلى
واحد منها أكبرها مالا بمنزلة قوله أكبر نجومه فإن كانت نجومه متساوية تعين الاحتمال الأول،
وإن قال ضعوا عنه أوسط نجومه فلم يكن فيها إلا وسط واحد تعينت الوصية فيه مثل أن تكون
نجومه متساوية القدر والأجل وعددها منفرد فيتعين وضع أوسطها عددا فإذا كانت خمسة فالأوسط
الثالث وإن كانت سبعة فالأوسط الرابع، وإن كان عددها مزدوجا وهي مختلفة المقدار فبعضها مائة
وبعضها مئتان وبعضهما ثلاثمائة فأوسطها المائتان فتعين الوصية فيه لأنه أوسطها وان كانت متساوية
القدر مختلفة الاجل مثل أن يكون اثنان منها إلى شهر وواحد إلى شهرين وواحد إلى ثلاثة أشهر
تعينت الوصية فيما هو إلى شهرين لأنها أوسطها
وان اتفقت هذه المعاني الثلاثة في واحد تعينت الوصية فيه وإن كان لها أوسط في القدر وأوسط
في الاجل وأوسط في العدد يخالف بعضها بعضا فذلك إلى اختيار الورثة فلهم وضع ما شاءوا منها
وإن اختلف الورثة والمكاتب فيما أراد الموصي منها فالقول قول الورثة مع ايمانهم انهم لا يعلمون
ما أراد الموصي ثم التعيين إليهم ومتى كان فيها أوسطان عين الورثة أحدهما ومتى كان العدد وترا
فأوسطه واحد فإن كان شفعا كأربعة وستة فأوسطه اثنان وهكذا القول فيما إذا وصى بأوسط نجومه
وان قال ضعوا عنه ما خف أو قال ما يثقل أو ما يكثر كان ذلك إلى تقدير الورثة لأن كل شئ يخف
453

إلى جنب ما هو أخف منه كما قال أصحابنا فيما إذا وصى بمال عظيم أو كثير أو ثقيل أو خفيف وان
قال ضعوا عنه أكثر ما عليه وضع عنه النصف وأدنى زيادة، وان قال ضعوا عنه أكثر ما عليه ومثل
نصفه فذلك ثلاثة أرباع وأدنى زيادة وان قال ضعوا عنه أكثر ما عليه ومثله فذلك الكتابة كلها وزيادة
عليها فيصح في الكتابة ويبطل في الزيادة لعدم محلها، وان قال ضعوا عنه ما شاء فشاء وضع كل ما عليه
وضع ما عليه لأن وصيته تتناوله وان قال ضعوا عنه ما شاء من مال الكتابة لم يكن له وضع الكل لأن
من للتبعيض فلا تتناول الجميع ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كنحو ما ذكرناه
(مسألة) قال (وإذا اشترى المكاتب أباه أو ذا رحمه من المحرم عليه نكاحه لم يعتقوا
حتى يؤدي وهم في ملكه فإن عجز فهم عيد لسيده)
الكلام في هذه المسألة في فصلين
(أحدهما) انه يصح أن يشتري من ذوي أرحامه من يعتق عليه بغير اذن سيده وهذا قول
الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي
وقال الشافعي لا يصح لأنه تصرف يؤدي إلى اتلاف ماله لأنه يخرج من ماله ما يجوز له التصرف
فيه في مقابلة مالا يجوز له التصرف فيه فأشبه الهبة فإن أذن له سيده فيه فمنهم من قال يجوز قولا واحدا
وهو قول مالك لأن المنع لحق سيده فجاز باذنه ومنهم من قال فيه قولان
454

ولنا انه اشترى مملوكا لا ضرر ف شرائه فصح كالأجنبي وبيانه انه يأخذ كسبهم، وان عجز
صاروا رقيقا لسيده، ولأنه يصح ان يشتريه غيره فصح شراؤه له كالأجنبي الهبة لأنها تفوت
المال بغير عوض ولا نفع يرجع إلى المكاتب ولا السيد ولأنه تحق السبب وهو صدور التصرف
من أهله في محله ولم يتحقق المانع لأن ما ذكروه لا نص فيه ولا أصل له يقاس عليه
(الفصل الثاني) انهم لا يعتقون بمجرد ملكه لهم لأنه لو باشرهم بالعتق أو أعتق غيرهم لم يقع
العتق فلا يقع بالشراء الذي أقيم مقامه ولا يجوز له بيعهم لا هبتهم ولا اخراجهم عن ملكه وقال أصحاب
الرأي له بيع من عدا المولودين والوالدين لأنهم ليست قرابتهم قرابة حرية ولا تعصيبية فأشبهوا الأجانب
ولنا أنه ذو رحم يعتق عليه إذا عتق ولا يجوز بيعه كالوالدين والمولدين ولأنه لا يملك بيعهم
إذا كان حرا فلا يملكه مكاتبا كوالديه ولأنهم نزلوا منزلة أجزائه فلم يملك بيعهم كيده فإذا أدى وهم في
ملكه عتقوا لأنه كمل ملكه فيهم وزال تعلق حق سيده عنهم فعتقوا حينئذ وولاؤهم له دون سيدهم لأنهم
عتقوا عليه بعد زوال ملك سيده عنه فيكونون بمنزلة ما لو اشتراهم بعد عتقه وان عجز ورد في الرق صاروا
عبيدا للسيد لأنهم من ماله فيصيرون للسيد بعجزه كعبيده الأجانب
(فصل) وكسبهم للمكاتب لأنهم مماليكه ونفقتهم عليه بحكم الملك لا بحكم القرابة وان أعتقهم
السيد لم يعتقوا لأنه لا يملكهم فلا يملك التصرف فيهم وان أعتقهم المكاتب بغير إذن سيده لم يعتقوا
455

لتعلق حق سيده بهم وان أعتقهم باذنه عقوا كما لو أعتق غيرهم من عبيده وان أعتقه سيده عتق
وصاروا رقيقا للسيد كما لو عجز لأن كتابته تبطل بعتقه كما تبطل بموته وعلى ما اخترناه يعتقون لأنه
عتق قبل فسخ الكتابة فوجب أن يعتقوا كما لو عتق بالابراء من مال الكتابة أو بأدائه يحقق هذا
أن الكتابة عقد لازم يستفيد بها المكاتب ملك رقيقه واكتسابه ويبقي حق السيد في ملك رقبته
على وجه لا يزول الا بالأداء أو ما يقوم مقامه فلا يتسلط السيد على ابطالها فيما يرجع إلى ابطال حق
المكاتب وإنما يتسلط على ابطال حقه من رقبة المكاتب فينفذ في ماله دون ما لمكاتب، وقد
ذكرنا مثل هذا فيما مضى، وان مات المكاتب ولم يخلف وفاء عاد رقيقا، وقال أبو يوسف ومحمد
يسعون في الكتابة على نجومها، وكذلك أم ولده، وقال أبو حنيفة في الولد خاصة ان جاء في
بالكتابة حالة قبلت منه وعتق
ولنا أنه عبد للمكاتب فصار بموته لسيده إذا لم يخلف وفاء كالأجنبي وان خلف وفاء انبنى على
الروايتين في فسخ الكتابة على ما تقدم
(فصل) وان وهب له بعض ذوي رحمه فله قبوله، وان وصى له به فله قبول الوصية لأنه
إذا ملك شراءه مع ما فيه من بذل ماله فلان يجوز بغير عوض أولى وإذا ملكه فحكمه حكم ما لو اشتراه
(فصل) ويجوز أن يشتري المكاتب امرأته والمكاتبة زوجها لأن ذلك يجوز لغير المكاتب فجاز
456

للمكاتب كشراء الأجانب وينفسخ النكاح بذلك وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا ينفسخ لأن
المكاتب لا يملك بدليل أنه لا يجوز له التسري ولا يعتق والده وولده إذا اشتراه فأشبه العبد القن
ولنا أن المكاتب يملك ما اشتراه بدليل أنه تثبت له الشفعة على سيده ولسيده عليه ويجري الربا
بينه وبينه وإنما منع من التسري لتعلق حق سيده بما في يده كما يمنع الراهن من الوطئ مع ثبوت ملكه ولم
يعتق عليه ذوو رحمه لذلك فإذا اشترى أحدهما الآخر فله التصرف فيه لأنه أجنبي منه
(فصل) وإذا زوج السيد ابنه من مكاتبة برضاها ثم مات السيد وكانت من ورثته انفسخ
النكاح وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا ينفسخ النكاح لأنها لا ترثه وإنما تملك نصيبها من الدين الذي
عليه بدليل أن الوارث لو أبرأ المكاتب من الدين عتق وكان الولاء للميت لا للوارث فإن عجز وعاد
رقيقا انفسخ النكاح حينئذ لأنها ملكت نفسها منه
ولنا أن المكاتب مملوك لسيده لا يعتق بموته فوجب أن ينتقل إلى ورثته كسائر أملاكه ولأنها
لا يجوز لها ابتداء نكاحه لأجل الملك فانفسخ نكاحها بتجدد ذلك فيه كالعبد القن وأما كون الولاء
للميت فلان السبب وجد منه فنسب العتق إليه وثبت الولاء له. إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن ترثه كله
أو ترث نصيبها منه لأنها إذا ملكت منه جزءا انفسخ النكاح فيه فبطل في باقيه لأنه لا يتجزأ وكذلك
لو اشترت زوجها أو جزءا منه أو ورثت شيئا من العبد القن بطل نكاحها وان كانت لا ترث أباها لمانع من
موانع الميراث فنكاحها باق بحاله والحكم في سائر الورثة من النساء كالحكم في البنت وكذلك لو تزوج رجل
مكاتبه فورثها أو ورث شيئا منها انفسخ نكاحه لذلك والله أعلم
457

(مسألة) قال (وإذا كان العبد لثلاثة فجاءهم بثلاثمائة درهم فقال بيعوني نفسي بها
فأجابوه فلما عاد إليهم ليكتبوا له كاتبا أنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا وشهد الرجلان
عليه بالأخذ فقد صار العبد حرا بشهادة الشريكين إذا كانا عدلين ويشاركهما فيما أخذا من
المال وليس على العبد شئ)
اعترض على الخرقي في هذه المسألة حيث أجاز له شراء نفسه بعين ما في يده مع أنه قد ذكر
في باب العتق إذا قال العبد لرجل اشترني من سيدي بهذا المال واعتقي فاشتراه بعين المال كان
الشراء والعتق باطلين ويكون اليد قد أخذ ماله وقد أجاب القاضي عن هذا الاشكال بوجوه منها أن
يكون مكاتبا وقوله بيعوني من نفسي بهذه أي أعجل لكم الثلاثمائة وتضعون عني ما بقي من
كتابتي ولهذا ذكرهما في باب المكاتب (الثاني) أن يكون المال في يد العبد لأجنبي قال له اشتر
نفسك بها من غير أن يملكه إياها (الثالث) أن يكون عتقا بصفة تقديره إذا قبضنا منك هذه الدراهم
فأنت حر (الرابع) أن يكون رضي سادته ببيعه نفسه بما في يده وفعلهم ذلك معه اعتاق منهم
له مشروطا بتأدية ذلك إليهم فتكون صورته صورة البيع ومعناه المعتق بشرط الأداء كما لو قال بعتك
458

نفسك بخدمتي سنة فإن منافعه مملوكة لسيده وقد صح هذا فيها فكان ههنا وهذا الوجه أظهرها
إن شاء الله تعالى لأنه لا يحتاج إلى تأويل ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره لم يجز تأويله بغير دليل
وإذا تعذر هذا فمتى اشترى العبد نفسه من سادته عتق لأن البيع يخرجه من ملكهم ولا يثبت عليه
ملك آخر الا أنه ههنا لا يعتق الا بالقبض لأنا جعلناه عتقا مشروطا بالقبض، وبهذا قال الخرقي
فقد صار العبد حرا بشهادة الشريكين اللذين شهدا بالقبض ولو عتق بالبيع لعتق باعترافهم به بالشهادة
بالقبض ومتى أنكر أحدهم أخذ نصيبه من الثمن فشهد عليه شريكاه فكانا عدلين قبلت شهادتهما
لأنهما عدلان شهدا للعبد بأداء ما يعتق به فقبلت شهادتهما كالأجنبيين ورجع المشهود عليه عليهما فيشاركهما
فيما أخذاه لأنهما اعترفا بأخذ مائتين من ثمن العبد والعبد مشترك بينهم فثمنه يجب أن يكون بينهم
ولان ما في يد العبد لهم والذي أخذاه كان في يده فيجب أن يشترك الجميع فيه ويكون بينهم بالسوية
وشهادتهما فيما لهما فيه نفع غير مقبولة ودفع مشاركته لهما فيه نفع لهما فلم تقبل شهادتهما فيه وقبلت
شهادتهما فيما ينتفع به العبد دون ما ينتفعان به كما لو أقر بشئ لغيرهما لهما فيه نفع فإن اقرارهما يقبل
فيما عليهما دون مالها
وقياس المذهب أن لا تقبل شهادتهما على شريكهما بالقبض لأنها يدفعان بها عن أنفسهما مغرما
ومن شهد شهادة جر إلى نفسه نفعا بطلت شهادته في الكل وإنما يقبل ذلك في الاقرار لأن العدالة
459

غير معتبرة فيه والتهمة لا تمنع من صحته بخلاف الشهادة فعلى هذا القياس يعتق نصيب
الشاهدين باقرارهما ويبقى نصيب المشهود عليه موقوفا على القبض وله مطالبته بنصيبه أو مشاركة
صاحبه فيما اخذ فإن شاركهما أخذ منهما ثلثي مائة ورجع على العبد بتمام المائة ولا يرجع المأخوذ منه
على الآخر بشئ لأنه ان أخذ من العبد فهو يقول ظلمني وأخذ مني مرتين وان اخذ من الشاهدين
فهما يقولان ظلمنا وأخذ منا مالا يستحقه علينا ولا يرجع المظلوم على غير ظالمه وان كانا غير عدلين فكذلك
سواء قلنا إن شهادة العدلين مقبولة أولا لأن غير العدل لا تقبل شهادته وإنما يؤاخذ باقراره فإن
أنكر الثالث البيع فنصيبه باق على الرق إذا حلف الا أن يشهدا عليه بالبيع ويكونان عدلين فتقبل شهادتهما
لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بهذه الشهادة نفعا
(فصل) وإذا كان العبد بين شريكين فكاتباه بمائة فادعي دفعها إليهما وصدقاه عتق فإن أنكر
أو لم تكن بينة فالقول قولهما مع أيمانهما وان أقر أحدهما وأنكر الآخر عتق نصيب المقر واما المنكر
فعلى قول الخرقي تقبل شهادة شريكه عليه إذا كان عدلا فيحلف العبد مع شهادته ويصير حرا
ويرجع المنكر على الشاهد فيشاركه فيما أخذه وأما القياس فيقتضي أن لا تسمع شهادة شريكه عليه
لأنه يدفع بشهادته عن نفسه مغرما والقول قول سيده مع يمينه فإذا حلف فله مطالبة شريكه بنصف
ما اعترف به وهو خمسة وعشرون لأن ما قبضه كسب العبد وهو مشترك بينهما، فإن قيل فالمنكر ينكر
460

قبض شريكه فكيف يرجع عليه؟ قلنا إنما يتكرر قبض نفسه وشريكه مقر بالقبض ويجوز أن يكون
قد قبض فلم يعلم به وإذا أقر بمتصور لزمه حكم اقراره ومن حكمه جواز رجوع شريكه عليه فإن قيل
لو كان عليه دين لاثنين فوفى أحدهما لم يرجع الآخر على شريكه فلم يرجع ههنا قلنا إن كان الدين
ثابتا بسبب واحد فما قبض أحدهما منه يرجع الآخر عليه كمسئلتنا وعلي أن هذا يفارق الدين لكون
الدين لا يتعلق بما في يد الغريم إنما يتعلق بذمته فحسب والسيد يتعلق حقه بما في يد المكاتب ولا
بدفع شيئا منه إلى أحدهما الا كان حق الآخر ثابتا فيه
إذا ثبت هذا فإنه ان رجع على العبد بخمسين استقر ملك الشريك فيه على ما أخذه ولم يرجع العبد
عليه بشئ لأنه إنما قبض حقه وان رجع على الشريك رجع عليه بخمسة وعشرين وعلى العبد بخمسة
وعشرين ولم يرجع أحدهما على الآخر بما اخذ منه لما ذكرنا من قبل، وان عجز العبد عن أداء ما
يرجع به عليه فله تعجيزه واسترقاقه ويكون نصفه حرا ونصفه رقيقا ورجع على الشريك بنصف
ما أخذه ولا تسري الحرية فيه لأن الشريك والعبد يعتقد ان أن الحرية ثابتة في جميعه وان هذا المنكر
غاصب لهذا النصف النصف الذي استرقه ظالم باسترقاقه والمنكر يدعي رق العبد جميعه ولا يعترف بحرية شئ
منه لأنه يزعم أني ما قبضت نصيبي من كتابته وشريكي ان قبض شيئا فقد استحق نصفه بغير إذني
461

فلا يعتق شئ منه بهذا القبض وسراية العتق ممتنعة على كلا القولين لأن السراية إنما تكون
فيما إذا عتق بعضه وبقي بعضه رقيقا وجميعهم يتفقون على خلاف ذلك وهذا المنصوص عن
الشافعي رضي الله عنه
(فصل) فإن ادعى العبد أنه دفع المائة إلى أحدهما ليدفع إلى شريكه حقه ويأخذ الباقي وأنكر
المدعى عليه حلف وبرئ وإذا قال إنما دفعت إلي حقي والى شريكي حقه ولا بينة للعبد فالقول قول
المدعى عليه في أنه لم يقبض الاقدر حقه مع يمينه ولا نزاع بين العبد وبين الآخر لأنه لم يدع عليه
شيئا وله مطالبة العبد بجميع حقه وله مطالبته بنصفه ومطالبة القابض بنصف ما قبضه فإن اختار
مطالبة العبد فله القبض منه بغير يمين وان اختار الرجوع على شريكه بنصفه فللشريك عليه اليمين
أنه لم يقبض من المكاتب شيئا لأنه لو أقر بذلك لسقط حقه من الرجوع فإذا أنكر لزمته اليمين
فإن شهد القابض على شريكه بالقبض لم تقبل شهادته لمعنيين (أحدهما) أن المكاتب لم يدع عليه شيئا
وإنما تقبل البينة إذا شهدت بصدق المدعي (والثاني) أنه يدفع عن نفسه مغرما فإن عجز العبد فلغير القابض ان
يسترق نصفه ويقوم عليه نصيب شريكه لأن العبد معترف برقه غير مدع لحرية هذا النصيب بخلاف
التي قبلها، ويحتمل أن لا تقوم أيضا لأن القابض يدعي حرية جميعه والمنكر يدعي ما يوجب رق
جميعه فإنها يقولان ما قبضه قبضه بغير حق ولا يعتق حتى يسلم إلي مثل ما سلم إليه فإذا كان أحدهما
يدعي رق جميعه والآخر يدعي حرية جميعه فما اتفقا على حريرة البعض دون البعض
462

(فصل) وان اعترف المدعي بقبض المائة على الوجه الذي ادعاه المكاتب وقال قد دفعت إلى
شريكي نصفها فأنكر الشريك فالقول قوله مع يمينه وله مطالبة من شاء منهما بجميع حقه وللمرجوع
عليه أن يحلفه، فإن رجع على الشريك فأخذ منه خمسين كان له ذلك لأنه اعترف بقبض المائة كلها
ويعتق المكاتب لأنه وصل إلي كل واحد منهما قدر حقه من الكتابة ولا يرجع الشريك عليه
بشئ لأنه يعترف له بأداء ما عليه وبراءته منه وإنما يزعم أن شريكه ظلمه ولا يرجع علي غير ظالمه
فإن رجع على العبد فله ان يأخذ منه الخمسين لأنه يزعم أنه ما قبض شيئا من كتابته وللعبد الرجوع
على القابض بها سواء صدقه في دفعها إلى المنكر أو كذبه لأنه وان دفعها فقد دفعها دفعا غير مبر
فكان مفرطا ويعتق العبد بأدائها فإن عجز عن أدائها فله أن يأخذها من القابض ثم يسلمها فإن
تعذر ذلك فله تعجيزه واسترقاق نصفه ومشاركة القابض في الخمسين التي قبضها عوضا عن نصيبه
ويقوم على الشريك القابض إن كان موسرا الا أن يكون العبد يصدقه في دفع الخمسين إلى شريكه
ولا يقوم لأنه يعترف انه حر وأن هذا ظلمه باسترقاق نصفه الحر وإن أمكن الرجوع على القابض بالخمسين
ودفعها إلى المنكر فامتنع من ذلك فهل يملك المنكر تعجيزه واسترقاق نصفه؟ على وجهين بناء على
القول في تعجيزه العبد نفسه مع القدرة على الأداء ان قلنا له ذلك فللمنكر استرقاقه وان قلنا ليس
له ذلك فليس للمنكر استرقاقه لأنه قادر على الأداء فإن قيل فلم لا يرجع المنكر على القابض بنصف
463

ما قبضه إذا استرق نصف العبد؟ قلنا لأنه لو رجع عليه بها كان قابضا جميع حقه من مال الكتابة
فيعتق المكاتب ذلك إلا أن يتعذر قبضها في نجومها فتفسخ الكتابة ثم يطالب بها بعد
ذلك فيكون له الرجوع بنصفها كما لو كانت غائبة في بلد آخر وتعذر تسليمها حتى فسخت
الكتابة والله أعلم.
(مسألة) قال (وإذا قال السيد كاتبتك على ألفين وقال العبد علي ألف فالقول
قول السيد مع يمينه).
قال القاضي هذا المذهب نص عليه أحمد رضي الله عنه في رواية الكوسج، وهو قول الثوري
والأوزاعي وإسحاق وقال أبو بكر اتفق احمد والشافعي على أنهما يتحالفان ويتردان وهو قول أبي
يوسف ومحمد لأنهما اختلفا في عوض العقد القائم بينهما فيتحالفان إذا لم تكن بينة كالمتبايعين وحكي عن
أحمد رضي الله عنه رواية ثالثة ان القول قول المكاتب، وهو قول أبي حنيفة لأنه منكر للألف
الزائد والقول قول المنكر ولأنه مدعى عليه فيدخل في عموم قوله عليه السلام (ولكن اليمين
على المدعى عليه).
ولنا انه اختلاف في الكتابة فالقول قول السيد فيه كما لو اختلفا في أصلها ويفارق البيع من وجهين
464

(أحدهما) أن الأصل في البيع عدم ملك كل واحد منهما لما صار إليه والأصل في المكاتب
وكسبه أنه لسيده فالقول قوله فيه
(والثاني) ان التحالف في البيع مفيد ولا فائدة في التحالف في الكتابة فإن الحاصل منه يحصل
بيمين السيد وحده وبيان ذلك أن الحاصل بالتحالف فسخ الكتابة ورد العبد إلى الرق إذا لم يرض
بما حلف عليه سيده وهذا يحصل من جعل القول قول السيد مع يمينه فلا يشرع التحالف مع عدم
فائدته وإنما قدمنا قول المنكر في سائر المواضع لأن الأصل معه والأصل ههنا مع السيد لأن الأصل
ملكه العبد وكسبه. فإذا ثبت هذا فمتى حلف السيد ثبتت الكتابة بألفين كما لو اتفقا عليها وسواء
كان اختلافهما قبل العتق أو بعده مثل أن يدفع إليه ألفين فيعتق ثم يدعي المكاتب ان أحدهما عن
الكتابة والآخر وديعة ويقول السيد هما جميعا مال الكتابة ومن قال بالتحالف قال إذا تحالفا
فلكل واحد منهما فسخ الكتابة الا أن يرضي بقول صاحبه وإن كان التحالف بعد العتق في مثل الصور
التي ذكرناها لم ترتفع الحرية لأنها لا يمكن رفعها بعد حصولها ولا إعادة الرق بعد رفعه ولكن يرجع
السيد بقيمته ويرد عليه ما أدى إليه، فإن كان من جنس واحد تقاضا بقدر أقلهما وأخذ
ذو الفضل فضله:
(فصل) وإن اختلفا في أداء النجوم فقال المكاتب أديت وعتقت وأنكر السيد فالقول قول
465

السيد مع يمينه لأنه منكر والقول قول المنكر وان اختلفا في ابرائه من مال الكتابة أو شئ منه فالقول
قول السيد مع يمينه لذلك
(فصل) وان كاتب عبدين واستوفى من أحدهما ولم يدر من أيهما استوفى فقياس المذهب أن
يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق ورق الآخر كما لو أعتق عبدا من عبيده وأنسيه فإن ادعى
الآخر عليه انه أدى فعليه اليمين انه ما أدى إليه فإن نكل عتق الآخر فإن مات السيد قبل القرعة أقرع
الورثة فإن ادعى الآخر عليهم انه المؤدي فعليهم الميمين انهم لا يعلمون انه أدى لأنها يمين على نفي
فعل الغير فإن أقام أحد العبدين بينة انه أدى عتق سواء كان قبل القرعة أو بعدها في حياة السيد أو
بعد موته فإن كان ذلك قبل القرعة تعينت الحرية فيه ورث الآخر وإن كان بعدها فكذلك لأن
القرعة ليست عتقا وإنما هي معينة للعتق والبينة أقوى منها فثبت بها خطأ القرعة فتبين بقاء الرق
في الذي ظننا حريته كما تبينا حرية من ظننا رقه ولان من لم يؤد لا يصير مؤديا بوقوع القرعة له فلا
يوجد حكمه الذي هو العتق بتخرج على قول أبي بكر وابن حامد أن يعتقا على ما ذكرناه في الطلاق
وكذلك الحكم فيما إذا ذكر السيد المؤدي منهما ومتى ادعى الآخر انه أدى فله اليمين على المدعى
عليه سواء كان السيد أو ورثته الا انه إن كان المدعى عليه السيد فاليمين على البت وان كانت على ورثته
فاليمين على نفي العلم الا ان يدعي الأداء إليهم فتكون ايمانهم على البت أيضا وعلى كل واحد من
الورثة يمين لأن كل واحد منهم يدعي عليه فلزمته اليمين كما لو انفرد بالدعوى
466

(فصل) إذا كان للمكاتب أولاد من معتقه آخر غير سيده فقال سيده قد أدى إلي وعتق
فانجر ولاء ولده إلى فأنكر ذلك مولي أمهم وكان المكاتب حيا فقد صار حرا بهذا القول فإنه اقرار
من سيده بعتقه وينجر ولاء ولده إليه وإن كان ميتا فالقول قول مولى أمهم لأن الأصل الرق وبقاء
ولائهم له فيحلف ويبقى ولاؤهم له
(مسألة) قال (وإذا أعتق الأمة أو كاتبها وشرط ما في بطنها أو أعتق ما في بطنها دونها فله شرطه)
روي نحو هذا القول عن ابن عمر وأبي هريرة والنخعي وإسحاق وابن المنذر، وقال ابن سيرين
له ما استثنى، وقال عطاء والشعبي إذا استثنى ما في بطنها فله استثناؤه.
وقال مالك والشافعي لا يصح استثناء الجنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنياء الا أن تعلم، ولأنه
لا يصح استثناؤه في البيع فلا يصح في العتق كبعض أعضائها
ولنا قول ابن عمر وأبي هريرة ولم نعلم لهما مخالفا في الصحابة قال احمد أذهب إلى حديث ابن
عمر في العتق ولا اذهب إليه في البيع
وقد روى الأثرم باسناده عن ابن عمر انه أعتق جارية واستثنى ما في بطنها ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(المسلمون على شروطهم) وهذا قد شرط ما في بطن معتقته فكان له بمقتضى الخبر ولأنه يصلح اقراره
467

بالعتق فصح استثناؤه واما خبرهم فنقول به والحمل معلوم فيصح استثناؤه بمقتضى الحديث ويفارق
البيع فإنه عقد معاوضة يعتبر فيه العلم بصفات العوض ليعلم هل هو قائم مقام العوض أم لا؟ والعتق
تبرع لا تتوقف صحته على معرفة صفات المعتق ولا تنافيه الجهالة بها ويكفي العلم بوجوده وقد علم ذلك
ولذلك صح افراد الحمل بالعتق ولم يصح افراده بالبيع ولان استثناءه في البيع إذا بطل بطل أبيع كله
وههنا إذا بطل استثناؤه لم يبطل العتق في الأمة ويسري الاعتاق إليه فكيف يصح اعتاقه مع تضاد
الحكم فيهما؟ ولا يصح قياسه على بعض أعضائها لأن العوض ولا يتصور انفراده بالرق والحرية دون الحمل
وكذلك لو أعتق عضوا من أمته صارت كلها حرة فإذا عتق بعضها سرى إلى المستثنى والولد حيوان
منفرد لو أعتقه لم تسر الحرية إلى أمه ويصح انفراده بالحرية عن أمه فيما إذا أعتقه دونها وفي ولد المغرور
بحرية أمه وفيما إذا وطئ بشبهة وفي ولد أم الولد وغير ذلك لا يمكن ذلك في بعض الأعضاء، ولان
الولد يرث ويورث ويوصى به وله وإذا قتل كان بدله موروثا ولا تختص به أمه وتجب الكفارة بقتله
والدية في مقابلته فكيف يصح قياسه على أعضائها؟ فأما ان أعتق ما في بطنها دونها فلا أعلم خلافا فيه
قال إسحاق بن منصور سئل سفيان عن رجل قال ما في بطنك حر قال هو حر والام مملوكة
لأن ولدها منها وليست هي من ولدها قال احمد وإسحاق جيد
وقال مهنا سألت احمد رضي الله عنه عن رجل زوج أمته فقالت فقد حبلت فقال لها مولاها
468

ما في بطنك حر ولم تكن حاملا؟ قال لا تعتق فأعدت عليه القول مرة أخرى فقال لا يكون شئ إنما
أراد ما في بطنها فلم يكن شئ. قال المروذي وسئل أبو عبد الله عن رجل أعتق عبدا له واستثنى منه
خدمته شهرا فقال جائز
(مسألة) قال (ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده بعض كتابته ويضع عنه بعض كتابته)
وجملته انه إذا كاتبه على ألف في نجمين إلى سنة ثم قال عجل لي خمسمائة منه حتى أضع عنك الباقي
أو حتى أبرئك من الباقي أو قال صالحني منه على خمسمائة معجلة جاز ذلك وبه يقول طاوس والزهري
والنخعي وأبو حنيفة وكرهه الحسن وابن سيرين والشعبي
وقال الشافعي لا يجوز لأن هذا بيع ألف بخمسمائة وهو ربا الجاهلية وهو ان يزيد في الدين
لأجل الاجل وهذا أيضا هبة ولان هذا لا يجوز بين الأجانب والربا يجري بين المكاتب وسيده فلم
يجز هذا بينهما كالأجانب
ولنا ان مال الكتابة غير مستقر ولا هو دين صحيح بدليل انه لا يجبر على أدائه وله ان يمتنع من
أدائه ولا تصح الكفالة به وما يؤديه إلى سيده كسب عبده وإنما جعل الشرع هذا العقد وسيلة إلى
العتق وأوجب فيه التأجيل مبالغة في تحصيل العتق وتخفيفا عن المكاتب فإذا أمكنه التعجيل على وجه
469

يسقط عنه بعض ما عليه كان أبلغ في حصول العتق وأخف على العبد ويحصل من السيد اسقاط بعض
ماله على عبده ومن الله تعالى اسقاط ما أوجبه عليه من الاجل لمصلحته ويفارق سائر الديون بما ذكرنا
ويفارق الأجانب من حيث إن هذا عبده فهو أشبه بعبده القن. وقولهم ان الربا يجري بينهما فنمنعه
على ما ذكر ابن أبي موسى وان سلمناه فإن هذا مفارق لسائر الربا بما ذكرناه وهذا يخالف ربا الجاهلية
فإنه اسقاط لبعض الدين وربا الجاهلية زيادة في الدين وربا الجاهلية يفضي إلى نفاد مال المدين وتحمله
من الدين ما يعجز عن وفائه فيحبس من أجله ويؤسر به وهذا يفضي إلى تعجيل عتق المكاتب وخلاصه
من الرق والتخفيف عنه فافترقا
(فصل) فإن اتفقا على الزيادة في الاجل والدين مثل ان يكاتبه على ألف في نجمين إلى سنة
يؤدي في نصفها خمسمائة وفي آخرها الباقي فيجعلانها إلى سنتين بألف ومائتين في كل سنة ستمائة أو
مثل ان يحل عليه نجم فيقول أخرني به إلى كذا وأزيدك كذا فيحتمل انه لا يجوز لأن الدين المؤجل
إلى وقت لا يتأخر أجله عن وقته باتفاقهما عليه ولا يتغير أجله بتغييره وإذا لم يتأخر عن وقته لم تصح
الزيادة التي في مقابلته ولان هذا يشبه ربا الجاهلية المحرم وهو الزيادة في الدين للزيادة في الاجل ويفارق
المسألة الأولى من هذين الوجهين فإن قيل فكما أن الاجل لا يتأخر كذلك لا يتعجل ولا يصير الدين
المؤجل حالا فلم جاز فلا المسألة الأولى؟ قلنا إنما جاز في المسألة الأولى؟ قلنا إنما جاز في المسألة الأولى بالتعجيل فعلا فإنه إذا دفع إليه الدين
470

المؤجل قبل محله جاز وجاز للسيد اسقاط باقي حقه عليه وفي هذه المسألة يأخذ أكثر مما وقع عليه العقد
فهو ضد المسألة الأولى وهو ممتنع من وجه آخر لأن في ضمن الكتابة إنك متى أديت إلي كذا فأنت حر
فإذا أدى إليه ذلك فينبغي ان يعتق فإن قيل فإذا غير الاجل والعوض فكأنهما فسخا الكتابة الأولى
وجعلاها كتابة ثانية قلنا لم يجر بينهما فسخ وإنما قصدا تغيير العوض والأجل على وجه لا يصح فيبطل
التغيير ويبقى العقد بحاله ويحتمل أن يصح ذلك كما في المسألة الأولى فعلى هذا لو اتفقا على ذلك
ثم رجع أحدهما فإن له الرجوع وكذلك في المسألة الأولى لو قال أعجل لك مال الكتابة وتسقط
عني منه كذا؟ فقال نعم ثم رجع أحدهما قبل التعجيل فله الرجوع لما ذكرنا من أن الدين المؤجل لا يتأخر
عن أجله ولا يتقدم وإنما له أن يؤديه قبل محله ولمن له الدين ترك قبضه في محله وذلك إلى اختياره فإذا وعد
به ثم رجع قبل الفعل فله ذلك
(فصل) فإن صالح المكاتب سيده عما في ذمته بغير جنسه مثل أن يصالحه عن النقود بحنطة
أو شعير جاز الا أنه لا يجوز أن يصالحه على شئ مؤجل لأنه يكون بيع دين بدين، وان صالحه عن
الدراهم بدنانير أو عن الحنطة بشعير لم يجز التصرف قبل القبض لأن هذا بيع في الحقيقة فيشترط
له القبض في المجلس، وقال القاضي يحتمل أن لا تصح هذه المصالحة مطلقا لأن هذا دين من شرطه
التأجيل فلم تجز المصالحة عليه بغير ولأنه دين غير مستقر فهو كدين السلم وقال ابن أبي موسى لا يجري
471

الربا بين المكاتب وسيده فعلى قوله تجوز المصالحة كيفما كانت كما يجوز ذلك بين العبد القن وسيده
والأولى ما ذكرناه ويفارق دين الكتابة دين السلم فإنه يفارق سائر الديون بما ذكرنا في هذه المسألة
فمفارقته لدين السلم أعظم والله أعلم
(مسألة) قال (وإذا كان العبد بين اثنين فكاتب أحدهما فلم يؤد كل كتابته حتى
أعتق الآخر وهو موسر فقد صار العبد كله حرا ويرجع الشريك على المعتق بنصف قيمته)
قد ذكرنا فيما تقدم أن العبد المشترك يجوز لاحد الشريكين كتابة نصيبه منه بغير اذن شريكه
ويبقى سائره غير مكاتب فإذا فعل هذا فاعتق الذي لم يكاتبه حصته منه وهو موسر عتق وسرى
العتق إلى باقيه فصار كله حرا ويضمن لشريكه قيمة حصته منه ويكون المرجوع بقيمته مكاتبا يبقى
على ما بقي من كتابته لأن الرجوع عليه بقيمة ما أتلف وإنما أتلف مكاتبا وإن كان المعتق معسرا لم
يسر العتق على ما مضى في باب العتق، وقال أبو بكر والقاضي لا يسري العتق في الحال لكن ينظر
فإن أدى كتابته عتق باقيه بالكتابة وكان ولاؤه بينهما، وإن فسخت كتابته لعجزه سري العتق
وقوم عليه حينئذ لأن سراية العتق في الحال مفضية إلى إبطال الولاء الذي انعقد سببه ونقله عن
المكاتب إلى غيره وقال ابن أبي ليلى عتق الشريك موقوف حتى ينظر ما يصنع في الكتابة فإن أداها عتق وكان
المكاتب ضامنا لقيمة نصيب شريكه وولاؤه كله للمكاتب وان عجز سري عتق الشريك وضمن
نصف القيمة للمكاتب وكان ولاؤه كله له وأما مذهب الشافعي فلا تجوز كتابة أحد الشريكين إلا أن
يأذن فيه شريكه فيكون فيه قولان فإذا كاتبه باذن شريكه ثم أعتق الذي لم يكاتب فهل يسري في
الحال أو يقف على العجز؟ فيه قولان
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد وكان له ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة
472

عدل وهذا داخل في عمومه ولأنه عتق لجزء، من العبد من موسر غير محجور عليه فسري إلى
باقيه كما لو كان قنا ولان مقتضى السراية متحقق والمانع منها لم يثبت كونه مانعا فإنه لا نص فيه ولا
أصل له يقاس عليه فوجب أن يثبت وقولهم انه يفضي إلى ابطال الولاء قلنا إذا كان العتق يؤثر في ابطال
الملك الثابت المستقر الذي الولاء من بعض آثاره فلان يؤثر في نقل الولاء بمفرده أولى ولأنه لو أعتق
عبدا له أولاد من معتقة قوم نقل ولاءهم إليه فإذا نقل ولاءهم الثابت باعتاق غيرهم فلان ينقل ولاء
لم يثبت بعد باعتاق من عليه الولاء أولى ولأنه نقل الولاء ثم عمن لم يغرم له عوضا فلان ينقله بالعوض
أولى، فانتقال الولاء في موضع جر الولاء ينبه على سراية العتق وانتقال الولاء إلى المعتق لكونه أولى منه
من ثلاثة أوجه (أحدها) ان الولاء ثم ثابت وههنا بعرض الثبوت (والثاني) ان النقل حصل ثم باعتاق
غيره وههنا باعتاقه (والثالث) أنه انتقل ثم بغير عوض وههنا بعوض
(فصل) وإن كان المعتق معسرا لم يسر عتقه وكان نصيبه حرا وباقيه على الكتابة فإن أدى
عتق عليهما وكان ولاؤه بينهما وان عجز عاد الجزء المكاتب رقيقا قنا الا على الرواية التي نقول
يستسعى العبد فإنه يستسعى عند عجزه في قيمة باقيه، ولا يستسعى في حال الكتابة لأن الكتابة
سعاية فيما اتفقا عليه فاستغني بها عن السعاية فيما يحتاج إلى التقويم فإذا عجز وفسخت الكتابة بطلت
ورجع إلى السعاية في القيمة والله أعلم
(فصل) ونقل عن أحمد رضي الله عنه أنه سئل عن عبد بين شريكين فكاتباه على ألف درهم
فأدى إليهما تسعمائة لهذا أربعمائة درهم وخمسين درهما ولهذا أربعمائة درهم وخمسين درهما ثم إن
أحدهما أعتق نصيبه قال إن كان للمعتق مال أدى إلى شريكه نصف قيمة العبد لا يحاسبه بها أحد
لأنه عبد ما بقي عليه درهم ولأنه قد يجوز أن يعجزه فيعود إلى الرق أو يموت فيكون عنده مال فهو
473

بينهما ونقل عنه حنبل أنه يعتق الا نصف المائة على هذا ويكون الولاء على قدر ما أعتق فالرواية الأولى
توافق قول الخرقي فإنه أوجب على المعتق غرامة نصف قيمة العبد، وينبغي أن تجب نصف قيمته
على الصفة التي عتق عليها وهو كونه مكاتبا قد أدي كتابته الا مائة منها وهي عشرها، وأما رواية
حنبل فيحتمل أن تكون على ما قال أبو بكر والقاضي في أنه لا يسري العتق إلي الجزء المكاتب لغيره
وقد نصرنا الرواية الأولى بما ذكرناه والله أعلم
(مسألة) قال (وإذا عجز المكاتب ورد في الرق وكان قد تصدق عليه بشئ فهو لسيده)
وجملته ان المكاتب إذا عجز وفي يده مال ورد في الرق فهو لسيده سواء كان من كسبه أو من
صدقة تطوع أو وصية وما كان من صدقة مفروضة ففيه روايتان (إحداهما) هو لسيده وهو قول
أبي حنيفة، وقال عطاء يجعله في السبيل أحب إلي وان أمسكه فلا بأس
(الرواية الثانية) يؤخذ ما بقي في يده فيجعل في المكاتبين نقلها حنبل وهو قول شريح والنخعي
والثوري واختار أبو بكر والقاضي انه يرد إلى أربابه وهو قول إسحاق لأنه إنما دفع إليه ليصرف في العتق
فإذا لم يصرف فيه وجب رده كالغزي والغارم وابن السبيل
ولنا ان ابن عمر رد مكاتبا في الرق فأمسك ما أخذه منه ولأنه يأخذه لحاجته فلم يرد ما أخذه
كالفقير والمسكين وأما الغازي فإنه يأخذ لحاجتنا إليه بقدر ما يكفيه لغزوه وأما الغارم فإن غرم لا
صلاح ذات البين فهو كالغازي يأخذ لحاجتنا وان غرم لمصلحة نسفه فهو كمسئلتنا لا يرده
(فصل) وأما ما أداه إلى سيده قبل عجزه فلا يجب رده بحال لأن المكاتب صرفه في الجهة التي
أخذه لها وثبت ملك سيده عليه ملكا مستقرا فلم يزل ملكه عنه كما لو عتق المكاتب ويفارق ما
474

في يد المكاتب لأن ملك سيده لم يثبت عليه قبل هذا والخلاف في ابتداء ثبوته وما تلف في يد
المكاتب لم يرجع عليه به سواء عجز أو أدى لأن ماله تلف في يده فأشبه ما لو تلف ما في يد سائر
أصناف الصدقة وان اشترى به عرضا وعجز والعوض في يده ففيه من الخلاف مثل ما لو وجد
بعينه لأن العرض عوضه وقائم مقامه فأشبه ما لو أعطى الغازي من الصدقة ما اشترى به فرسا وسلاحا
ثم فضل ذلك عن حاجته
(فصل) وموت المكاتب قبل الأداء كعجزه فيما ذكرنا لأن سيده يأخذ ما في يده قبل حصول
مقصود الكتابة وان أدى وبقي في يده شئ فحكمه في رده أو أخذه لنفسه حكم سيده في ذلك عند
عجزه لأن ما لم يؤده في كتابته بقي بعد زوالها، وإن كان قد استدان ما أداه في الكتابة وبقي
عنده من الصدقة بقدر ما يقضي به دينه لم يلزمه رده لأنه محتاج إليه بسبب الكتابة فأشبه ما
يحتاج إليه في أدائها.
(مسألة) قال (وإذا اشترى المكاتبان كل واحد منهما الآخر صح شراء الأول
وبطل شراء الآخر)
لا خلاف في أن المكاتب يصح شراؤه للعبيد والمكاتب يجوز بيعه على ما ذكرنا فإذا اشترى
أحد المكاتبين الآخر صح شراؤه وملكه لأن التصرف صدر من أهله في محله وسواء كانا مكاتبين
لسيد واحد أو لسيدين فإذا عاد الثاني فاشترى الذي اشتراه لم يصح لأنه سيده ومالكه وليس للملوك
أن يملك مالكه لأنه يفضي إلى تناقض الأحكام إذ كل واحد منهما يقول لصاحبه أنا سيدك ولي
475

عليك مال الكتابة تؤديه إلي فإن عجزت فلي فسخ كتابتك وردك إلى أن تكون رقيقا لي وهذا
تناقض وإذا تنافى أن تملك المرأة زوجها ملك اليمين لثبوت ملكه عليها في النكاح فههنا أولى ولأنه
لو صح هذا لتقاص الدينان إذا تساويا وعتقا جميعا فإذا ثبت هذا فشراء الأول صحيح والمبيع ههنا
باق على كتابته فإن أدى عتق وولاؤه موقوف فإن أدى سيده كتابته كان له لأنه عتق بأدائه إليه
فإن عجز فولاؤه لسيده لأن العبد لا يثبت له ولا ولان السيد يأخذ ماله فكذلك حقوقه هذا مقتضى
قول القاضي ومقتضى قول أبي بكر ان الولاء لسيده لأن المكاتب عبد لا يثبت له الولاء فيثبت
لسيده وكذلك فيما إذا أعتق باذن سيده أو كاتب عبده فادى كتابته وهذا نظيره، ويحتمل ان
يفرق بينهما لكون العتق ثم بأذن السيد فيحصل الانعام منه باذنه فيه وههنا لا يفتقر إلى اذنه فلا نعمة له
عليه فلا يكون له عليه ولاء ما لم يعجزه سيده والله أعلم
(فصل) وان لم يعلم السابق فقال أبو بكر يبطل البيعان ويرد كل واحد منهما إلى كتابته
لأن كل واحد منهما مشكوك في صحة بيعه فيرد إلى اليقين، وذكر القاضي أنه يجري مجرى ما إذا
زوج الوليان فاشكل الأول منهما فيقتضي هذا أن يفسخ البيعان كما يفسخ النكاحان وعلى قول أبي
بكر لا حاجة إلى الفسخ لأن النكاح إنما احتيج إلى فسخه من اجل المرأة فإنها منكوحة نكاحا
صحيحا لواحد منهما يقينا فلا يزول الا بفسخ وفي مسئلتنا لم يثبت تعين البيع في واحد بعينه فلم
يفتر إلى فسخ.
(فصل) وإذا كاتب عبيدا له صفقة واحدة بعوض واحد مثل ان يكاتب ثلاثة اعبد له بألف صح
في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء وسليمان بن موسى وأبو حنيفة ومالك والحسن بن صالح وإسحاق
وهو المنصوص عن الشافعي رضي الله عنه، وقال بعض أصحابه فيه قول آخر لا يصح لأن العقد
476

مع ثلاثة كعقود ثلاثة وعوض كل منهم مجهول فلم يصح كما لو باع كل واحد منهم لواحد صفقة
واحدة بعوض واحد
ولنا أن جملة العوض معلومة وإنما جهل تفصيلها فلم تمنع صحة العقد كما لو باعهم لواحد وعلى قول
من قال إن العوض يكون بينهم على السواء فقد علم أيضا تفصيل العوض وعلى كل واحد منهم ثلث
وكذا يقول فيما لو باعهم لثلاثة إذا ثبت هذا فإن كل واحد منهم مكاتب بحصته من الألف ويقسم
بينهم على قدر قيمتهم حين العقد لأنه حين المعاوضة وزوال سلطان السيد عنهم فإذا أداه عتق، هذا
قول عطاء وسليمان بن موسى والحسن بن صالح والشافعي وإسحاق وقال أبو بكر العزيز يتوجه
لأبي عبد الله قول آخر ان العوض بينهم على عدد رؤوسهم فيتساوون فيه لأنه أضيف إليهم إضافة
واحدة فكان بينهم بالسوية كما لو أقر لهم بشئ
ولنا أن هذا عوض فتقسط على المعوض كما لو اشترى شقصا وسيفا وكما لو اشترى عبيدا فرد
واحدا منهم بعيب أو أتلف أحدهم ورد الآخر ويخالف الاقرار فإنه ليس بعوض. إذا ثبت هذا
فأيهم أدى حصته عتق
وهذا قول الشافعي وقال ابن أبي موسى لا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع الكناية، وحكي
ذلك عن أبي بكر وهو قول مالك وحكى عنه انه إذا امتنع أحدهم عن الكسب مع القدرة عليه أجبر
عليه الباقون واحتجوا بان الكتابة واحدة بدليل انه لا يصح من كل واحد منهم الكتابة بقدر حصته
دون الباقين ولا يحصل العتق الا بأداء جميع الكتابة كما لو كان المكاتب واحدا، وقال أبو حنيفة ان
لم يقل لهم السيد ان أديتهم عتقتم فأيهم أدى حصته عتق وان أدى جميعها عتقوا كلهم ولم يرجع
على صاحبيه بشئ وان قال لهم ان أديتم عتقتم لم يعتق واحد منهم حتى تؤدى الكتابة كلها ويكون
477

بعضهم حميلا عن بعض ويأخذ أيهم شاء بالمال وأيهم أداها عتقوا كلهم ورجع على صاحبيه بحصتهما
ولنا انه عقد معاوضة مع ثلاثة فاعتبر كل واحد منهم بأداء حصته كما لو اشتروا عبدا وكما لو لم يقل
لهم إن أديتم عتقتم على قول أبي حنيفة فإن قول ذلك لا يؤثر لأن استحقاق العتق بأداء العوض لا
بهذا القول بدليل انه يعتق بالأداء بدون هذا القول ولم يثبت كون هذا القول مانعا من العتق ولا
نسلم ان هذا العقد كتابة واحدة فإن العقد مع جماعة عقود بدليل البيع ولا يصح القياس على كتابة
الواحد لأن ما قدره في مقابلة عتقه وههنا في مقابلة عتقه ما يخصه فافترقا. إذا ثبت هذا فإنه إن شرط
عليهم في العقد ان كل واحد منهم ضامن عن الباقين فالشرط فاسد والعقد صحيح، وقال أبو الخطاب
في الشرط رواية أخرى أنه صحيح وخرجه ابن حامد وجها بناء على الروايتين في ضمان الحر لمال الكتابة
وقال الشافعي رضي الله عنه العقد والشرط فاسدان لأن الشرط فاسد ولا يمكن تصحيح العقد بدونه
لأن السيد إنما رضي بالعقد والشرط فإذا لم يثبت لم يكن راضيا بالعقد وقال مالك وأبو حنيفة
العقد والشرط صحيحان لأنه مقتضى العقد عندهما
ولنا ان مال الكتابة ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم فلم يصح ضمانه كما لو جعل المال صفة مجردة
في العتق فقال إن أديت إلي ألفا فأنت حر ولان الضامن لا يلزمه أكثر مما يلزم المضمون عنه
ومال الكتابة لا يلزم المكاتب فلا يلزم الضامن ولأن الضمان تبرع وليس للمكاتب التبرع ولأنه لا يملك
الضمان عن حر ولا عمن ليس معه في الكتابة فكذلك من معه، وأما العقد فصحيح لأن الكتابة لا تفسد
بفساد الشرط بدليل خبر بريرة وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
(فصل) إذا مات بعض المكاتبين سقط قدر حصته نص عليه أحمد رضي الله عنه في رواية حنبل
وكذلك إن أعتق بعضهم وعن مالك إن أعتق السيد أحدهم وكان مكتسبا لم ينفذ عتقه لأنه يضر
478

بالباقين وإن لم يكن مكتسبا نفذ عتقه لعدم الضرر فيه وهذا مبني على أنه لا يعتق واحد منهم حتى
يؤدي جميع مال الكتابة وقد مضى الكلام فيه
(فصل) فإن أدى أحد المكاتبين عن صاحبه أو عن مكاتب آخر قبل أداء ما عليه بغير علم سيده
لم يصح لأن هذا تبرع وليس له التبرع بغير إذن سيده وإن كان قد حل عليه نجم صرف ذلك فيه
وإن لم يكن حل عليه نجم فله الرجوع فيه وإن علم السيد بذلك ورضي بقبضه عن الآخر صح لأن
قبضه له راضيا به مع العلم دليل على الاذن فيه فجاز كما لو أذن فيه تصريحا وإن كان الأداء بعد أن
عتق صح سواء علم السيد أو لم يعلم فإذا أراد الرجوع على صاحبه بما أدى عنه نظرنا فإن كان قد
قصد التبرع عليه لم يرجع به وإن أداه محتسبا بالرجوع عليه وكان الأداء باذن المؤدى عنه فهو فرض
يلزمه أداؤه كما لو اقترضه منه وإن كان بغير اذنه لم يرجع عليه لأنه تبرع عليه بأداء مالا يلزمه كما لو
تصدق عنه صدقة تطوع وبهذا فارق سائر الديون وإن كان باذنه وطلب استيفاءه قدم على أداء
مال الكتابة كسائر الديون وإذا عجز عن أدائه فحكمه حكم سائر الديون وهذا كله مذهب الشافعي
(فصل) ولا يصح ضمان الحر لمال الكتابة وذكر القاضي فيه روايتين (إحداهما) يصح ضمانه
لأنه عوض في معاوضة فصح ضمانه كثمن المبيع
ولنا ما ذكرناه من قبل ولا يصح قياسه على الثمن لأنه لازم وهذا غير لازم
(فصل) وإذا أدوا ما عليهم أو بعضه ثم اختلفوا فقال من كثرت قيمته أدى كل واحد منا بقدر
ما عليه فلا فضل لاحدنا على صاحبه وقال من قلت قيمته أدينا على السواء فلي الفضل عليك أو يكون
وديعة لي عند سيدنا فالقول قول الأول لأن الظاهر أن من عليه دين لا يؤدي أكثر منه فرجحت
دعواه بذلك فإن كان المؤدى أكثر مما عليهم واختلفوا في الزيادة فالقول قول من يدعي التساوي
479

لأنهم اشتركوا في أدائه فكانت أيديهم عليهم فاستووا فيه كما لو كان في أيديهم مال فاختلفوا فيه
(فصل) وإن جنى بعضهم فجنايته عليه دون صاحبه وبهذا قال الشافعي رضي الله عنه وقال مالك
رضي الله عنه يؤدون كلهم أرشه فإن عجزوا رقوا
ولنا قول الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجني جان إلا على
نفسه) ولأنه لو اشترك رجلان وتعاقدا لم يحمل أحدهما جناية صاحبه فكذا ههنا لأن مالا يصح
لا يتضمنه عقد الكتابة ولا يجب على أحدهما بفعل الآخر كالقصاص وقد بينا ان كل واحد منهما
مكاتب بحصته فهو كالمنفرد بعقده
(مسألة) قال (وإذا شرط في كتابته أن يولي من شاء فالولاء لمن أعتق والشرط باطل)
أما الشرط فباطل لا نعلم في بطلانه خلافا وذلك لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كانت في بريرة
ثلاث قضيات، أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا الولا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (اشتريها وأعتقيها فإنما
الولاء لمن أعتق) متفق عليه وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء
لمن أعتق) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (أما بعد فما بال ناس يشترطون شروطا
ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله
أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه ولان الولاء لا يصح نقله بدليل أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته وقال (إنما الولاء لمن أعتق) ولأنه لحمة كلحمة النسب فلم يصح
اشتراطه لغير صاحبه كالقرابة ولأنه حكم العتق فلم يصح اشتراطه لغير المعتق كما لا يصح اشتراط
حكم النكاح لغير الناكح ولا حكم البيع لغير العاقل وسواء شرط أن يوالي من شاء أو شرطه لبائعه أو
480

لرجل آخر بعينه ولا تفسد الكتابة بهذا الشرط نص عليه احمد رضي الله عنه وقال الشافعي رضي الله عنه
يفسد به كما لو شرط عوضا مجهولا ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على الشروط الفاسدة في البيع
ولنا حديث بريرة فإن أهلها شرطوا لهم الولاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بشرائها مع هذا الشرط وقال
(إنما الولاء لمن أعتق) ويفارق جهالة العوض فإنه ركن العقد لا يمكن تصحيح العقد بدونه وربما
أفضت جهالته إلى التنازع والاختلاف وهذا الشرط زائد فإذا حذفناه بقي العقد صحيحا بحاله فإن
قيل المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم (اشترطي لهم الولاء) أي عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لا يأمر بالشرط الفاسد واللام تستعمل بمعنى على كقول الله تعالى (وإن أسأتم فلها) أي فعليها قلنا
هذا لا يصح لوجوه ثلاثة (أحدها) أنه يخالف وضع اللفظ والاستعمال (والثاني) ان أهل بريرة أبوا هذا
الشرط فكيف يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بشرط لا يقبلونه؟ (والثالث) ان ثبوت الولاء لها لا يحتاج إلى شرط
لأنه مقتضى العتق وحكمه (والرابع) أن في بعض الألفاظ (لا يمنعنك هذا الشرط منها ابتاعي واعتقي)
وإنما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالشرط تعريفا لنا ان وجود هذا الشرط كعدمه وانه لا ينقل الولاء عن المعتق
(فصل) وإن اشترط السيد على المكاتب أن يرثه دون ورثته أو يزاحمهم في مواريثهم فهو
شرط فاسد في قول عامة العلماء منهم الحسن وعطاء وشريح وعمر بن عبد العزيز والنخعي وإسحاق
وأجاز اياس بن معاوية أن يشترط شيئا من ميراثه ولا يصح لأنه يخالف كتاب الله عز وجل وكل
481

شرط ليس في كتاب الله فهو باطل بقول النبي صلى الله عليه وسلم قال سعيد حدثنا هشيم حدثنا منصور عن ابن
سيرين أن رجلا كاتب مملوكه واشترط ميراثه فلم مات المكاتب تخاصم ورثته إلى شريح فقضى شريح
بميراث المكاتب لورثته فقال الرجل ما يغني عني شرطي منذ عشرين سنة؟ فقال شريح كتاب الله أنزله
على نبيه قبل شرطك بخمسين سنة ولا تفسد الكتابة بهذا الشرط كالذي قبله
(فصل) وإن شرط عليه خدمة معلومة بعد العتق جاز وبه قال عطاء وابن شبرمة، وقال مالك
والزهري لا يصح لأنه ينافي مقتضى العقد أشبه ما لو شرط ميراثه
ولنا انه روي عن عمر رضي الله عنه انه أعتق كل من يصلي من سبي العرب وشرط عليهم: إنكم
تخدمون الخليفة من بعدي ثلاث سنوات ولأنه اشترط خدمة في عقد الكتابة أشبه ما لو شرطها قبل
العتق ولأنه شرط نفعا معلوما أشبه ما لو شرط عوضا معلوما ولا نسلم انه ينافي مقتضى العقد فإن مقتضاه
العتق عند الأداء وهذا لا ينافيه
(فصل) وإذا كاتبه على ألفين في رأس كل شهر ألف وشرط ان يعتق عند أداء الأول صح في
قياس المذهب ويعتق عند أدائه لأن السيد لو أعتقه بغير أداء شئ صح فكذلك إذا أعتقه عند أداء
البعض ويبقى الآخر دينا عليه بعد عتقه كما لو باعه نفسه به
(مسألة) قال (وإذا أسر العدو المكاتب فاشتراه رجل فأخرجه إلى سيده فأجب
أخذه أخذه بما اشتراه فهو على كتابه وان لم يحب أخذه فهو على ملك مشتريه ملقى على
ما بقي من كتابته يعتق الأداء وولاؤه لمن يؤدي إليه)
482

وجملته أن الكفار إذا أسروا مكاتبا ثم استنقذه المسلمون فالكتابة بحالها فإن أخذ في الغنائم
فعلم بحاله أو أدركه سيده قبل قسمه أخذه بغير شئ وكان على كتابته كمن لم يؤسر وإن لم يدركه حتى
قسم وصار في سهم بعض الغانمين أو اشتراه رجل من الغنيمة قبل قسمه. أو من المشركين وأخرجه
إلى سيده فإن سيده أحق به بالثمن الذي ابتاعه به وفيما إذا كان غنيمة رواية أخرى انه إذا قسم فلا
حق لسيده فيه بحال فيخرج في المشتري مثل ذلك وعلى كل تقدير فإن سيده إن أخذه فهو مبقى على
ما بقي من كتابته وإن تركه فهو في يد مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته فيعتق بالأداء في الموضعين
وولاؤه لمن يؤدي إليه كما لو اشتراه من سيده
وقال أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما لا يثبت عليه ملك الكفار ويرد إلى سيده بكل حال
ووافق أبو حنيفة الشافعي في المكاتب والمدبر خاصة لأنهما عنده لا يجوز بيعهما ولا نقل الملك فيهما
فأشبها أم الولد وقد تقدم الكلام في الدلالة على أن ما أدركه صاحبه مقسوما لا يستحق صاحبه أخذه
بغير شئ، وكذلك ما اشتراه مسلم من دار الحرب وفي أن المكاتب والمدبر يجوز بيعهما يغني
عن اعادته ههنا
(فصل) وهل يحتسب عليه بالمدة التي كان فيها مع الكفار؟ على وجهين (أحدهما) لا يحتسب
عليه بها لأن الكتابة اقتضت تمكينه من التصرف والكسب في هذه المدة فإذا لم يصحل له ذلك لم يحتسب
عليه كما لو حبسه سيده فعلى هذا ينبني على ما مضى من المدة قبل الأسر وتبقى مدة الأسر كأنها لم توجد
(والثاني) يحتسب عليه بها لأنها من مدة الكتابة مضت بغير تفريط من سيده فأحتسب عليه
بها كما لو مرض ولأنه مدين مضت مدة من أجل دينه في حبسه فأحتسب عليه بها كسائر الغرماء
وفارق ما إذا حبسه سيده بما سنذكره إن شاء الله تعالى فعلى هذا إذا حل عليه نجم عند استنقاذه جازت
483

مطالبته وإن حل ما يجوز تعجيزه بترك أدائه فلسيده تعجيزه ورده إلى الرق وهل له ذلك بنفسه أو
حكم الحاكم؟ فيه وجهان
(أحدهما) له ذلك لأنه تعذر عليه الوصول إلى المال في وقته فأشبه ما لو كان حاضرا يحققه أنه
لو كان حاضرا المال غائبا يتعذر احضاره وأداؤه في مدة قريبة لكان لسيده الفسخ فالمال ههنا اما
معدوم وإما غائب يتعذر أداؤه وفي كلتا الحالتين يجوز الفسخ
(الثاني) ليس له ذلك الا بحكم الحاكم لأنه مع الغيبة يحتاج إلى أن يبحث أله مال أم لا؟ وليس
كذلك إذا كان حاضرا فإنه يطالبه فإن أدى وإلا فقد عجز نفسه فإن فسخ الكتابة بنفسه أو بحكم
الحاكم ثم خلص المكاتب فادعى أن له مالا في وقت الفسخ يفي بما عليه وأقام بذلك بينة بطل الفسخ
ويحتمل أن لا يبطل حتى يثبت انه كان يمكنه أداؤه لأنه إذا كان متعذر الأداء كان وجوده كعدمه
(فصل) وإن حبسه سيده مدة فقد أساء ولا يحتسب عليه بمدته في أحد الوجوه
(والثاني) يحتسب عليه بمدته لأن مال الكتابة دين مؤجل فيحتسب بمدة الحبس من الاجل
كسائر الديون المؤجلة فعلى هذا الوجه يلزمه أجر مثله في المدة التي حبسه فيها والأول أصح لأن على
سيده تمكينه من التصرف مدة كتابته فإذا حبسه مدة وجب عليه تأخيره مثل تلك المدة ليستوفي
الواجب له ولان حبسه يفضي إلى إبطال الكتابة وتفويت مقصودها ورده إلى الرق ولان عجزه
عن أداء نجومه في محلها بسبب من سيده فلم يستحق به فسخ العقد كما لو منع البائع المشتري من أداء
الثمن لم يستحق فسخ البيع ولو منعت المرأة زوجها من الانفاق عليها لم يستحق فسخ العقد كذا ههنا.
(الوجه الثالث) انه يلزم سيده أرفق الامرين به من تخليته مثل تلك المدة أو أجر مثلها لأنه
قد وجد سببهما فكان للمكاتب أنفعهما
(فصل) وإذا أوصى بان يكاتب عبده صحت الوصية لأن الكتابة يتعلق بها حق الله تعالى وحق
الآدمي فإذا أوصى به صح وتعتبر قيمته من ثلثه لأنه تبرع من جهته فإنه بيع ماله بماله فإن خرج من
الثلث لزمهم كتابته ولا يعتبر مال الكتابة من ماله ذكره القاضي لأنه نماء ماله وفائدته ولأن الاعتبار
بحالة الموت وهو لا يملك مال الكتابة ثم ينظر فإن عين مال الكتابة كاتبوه عليه سواء كان أقل من
قيمته أو مثلها أو أكثر فإن لم يعينه كاتبوه على ما جرى العرف بكتابة مثله به والعرف أن يكاتب العبد
484

بأكثر من قيمته لكون دينها مؤجلا ويجب رد ربعه إليه ويعتبر في ذلك رضى العبد لأن الكتابة
لا تلزمه ولا يجوز اجباره عليها بخلاف ما لو وصى بعتقه فإنه يعتق ولا يقف على اختياره ولا رضاه فإن
رد الوصية بطلت فإن عاد فطلبها لم تلزمه اجابته إليها لأن وصيته بطلت بالرد فأشبه الوصية بالمال وإن
لم يكن ردها وجبت اجابته إليها، وإذا أدى عتق وكان ولاؤه للموصى بكتابته كما لو وصى بعتقه فإن
عجز فللوارث رده في الرق وإن لم يخرج من الثلث فإنه يكاتب منه ما خرج من الثلث وإن كان قد
وصى بوصايا غير الكتابة لا تخرج من الثلث تحاصوا في الثلث وأدخل النقص على كل واحد منهم
بقدر ماله في الوصية ويتخرج أن تقدم الكتابة بناء على الرواية التي تقدم العتق لأن الكتابة مقصودها
العتق وتفضي إليه ويحتمل أن لا تقدم بحال لأن العتق تغليب وسراية ليس هو للكتابة وافضاؤها إلى
العتق لا يوجب تقديمها كما لو وصى لرجل بابنه فإنه لا يقدم مع أن القصد بوصيته العتق ويفضي إليه
(فصل) فإن قال كاتبوا أحد رقيقي فللورثة مكاتبة من شاءوا منهم في أحد الوجهين وفي الآخر
يكاتبون واحدا منهم بالقرعة وإن قال أحد عبيدي فكذلك إلا أنه ليس لهم مكاتبة أمة ولا خنثى
مشكل لأنه لا يعلم كون الخنثى عبدا أو أمة، وإن قال أحد إمائي فليس لهم مكاتبة عبد ولا خنثى
مشكل كذلك، وإن كان الخنثى غير مشكل وكان رجلا فلهم مكاتبته إذا قال كاتبوا أحد عبيدي
وإن كان أنثى فلهم مكاتبه إذا قال كاتبوا أحد إمائي لأن هذا عيب فيه والعيب لا يمنع
الكتابة الله أعلم
(فصل) والكتابة الفاسدة أن يكاتبه على عوض مجهول أو عوض حال أو محرم كالخمر والخنزير
فاما إن شرط في الكتابة شرطا فاسدا فالمنصوص انه لا يفسدها لكن يلغو الشرط وتبقى الكتابة صحيحة
ويتخرج أن يفسدها بناء على الشروط الفاسدة في البيع وهذا مذهب الشافعي
وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله ما يدل على أن الكتابة على العوض المحرم باطلة لا يعتق بالأداء
فيها وهو اختيار أبي بكر فإنه قد روى عن أحمد رضي الله عنه أنه قال: إذا كاتبه كتابة فاسدة فأدى
ما كوتب عليه عتق ما لم تكن الكتابة محرمة فحكم بالعتق بالأداء إلا في المحرمة
واختار القاضي انه يعتق بالأداء كسائر الكتابات الفاسدة ويمكن حمل كلام القاضي على ما إذا
جعل السيد الأداء شرطا للعتق فقال إذا أديت إلي فأنت حر فأدى إليه فإنه يعتق بالصفة المجردة
لا بالكتابة ويثبت في هذه الكتابة حكم الصفة في العتق بوجودها لا بحكم الكتابة وأما غيرها من
الكتابة الفاسدة فإنها تساوي الصحيحة في أربعة أحكام (أحدها) انه يعتق بأداء ما كوتب عليه سواء
485

صرح بالصفة فقال إن أديت إلي فأنت حر أو لم يقل لأن معنى الكتابة يقتضي هذا فيصير كالمصرح
به فيعتق بوجوده كالكتابة الصحيحة
(الثاني) انه إذا عتق بالأداء لم تلزمه قيمة نفسه ولم يرجع على سيده بما أعطاه ذكره أبو بكر
وهو ظاهر كلام احمد رضي الله عنه، وقال الشافعي رضي الله عنه: يتراجعان فيجب على العبد قيمته
وعلى السيد ما أخذه فيتقاصان بقدر أقلهما إن كانا من جنس واحد ويأخذ ذو الفضل فضله لأنه عقد
معاوضة فاسدة فوجب التراجع فيه كالبيع الفاسد
ولنا انه عقد كتابة لمعاوضة حصل العتق فيها بالأداء فلم يجب التراجع فيها كما لو كان العقد صحيحا
ولان ما أخذه السيد فهو من كسبه عبده الذي لم يملك كسبه فلم يجب عليه رده والعبد عتق بالصفة فلم
تجب عليه قيمته كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر
وأما البيع الفاسد فإنه إن كان بين هذا وبين سيده فلا رجوع على السيد بما أخذه، وإن كان
بينه وبين غيره فإنه أخذ مالا يستحقه ودفع إلى الآخر مالا يستحقه بعقد المقصود منه المعاوضة
وفي مسئلتنا بخلافه (الثالث) أن المكاتب يملك التصرف في كسبه لأن عقد الكتابة تضمن الان في
ذلك وله أخذ الصدقات والزكوات لأنه مكاتب يعتق بالأداء فملك ذلك كما في الكتابة الصحيحة (الرابع)
انه إذا كاتب جماعة كتابة فاسدة فأدى أحدهم حصته عتق على قول من قال إنه يعتق في الكتابة الصحيحة
بأداء حصته لأن معنى العقد ان كل واحد منهم مكاتب بقدر حصته متى أدى إلى كل واحد منهم
قدر حصته فهو حر، ومن قال لا يعتق في الصحيحة إلا أن يؤدي الجميع فههنا أولى وتفارق الصحيحة في
ثلاثة أحكام (أحدها) ان لكل واحد من السيد والمكاتب فسخها ورفعها سواء كان ثم صفة أو لم تكن
وهذا قول أصحاب الشافعي رضي الله عنه لأن الفاسد لا يلزم حكمه والصفة ههنا مبنية على المعاوضة
وتابعة لها لأن المعاوضة هي المقصودة فلما أبطل المعاوضة التي هي الأصل بطلت الصفة المبنية عليها
بخلاف الصفة المجردة ولان السيد لم يرض بهذه الصفة إلا بان يسلم له العوض المسمى فإذا لم يسلم كان
له ابطالها بخلاف الكتابة الصحيحة فإن العوض سلم له فكان العقد لازما له
(الثاني) ان السيد إذا أبرأه من المال لم تصح البراءة ولا يعتق بذلك لأن المال غير ثابت في
العقد بخلاف الكتابة الصحيحة وجرى هذا مجرى الصفة المجردة في قوله إذا أديت إلي ألقا فأنت حر
486

(الثالث) انه لا يلزم السيد أن يؤدي إليه شيئا من الكتابة لأن العتق ههنا بالصفة المجردة فأشبه
ما لو قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر واختلف في أحكام أربعة (أحدهما) في بطلان الكتابة بموت السيد
فذهب القاضي وأصحابه إلى بطلانها وهو قول الشافعي رضي الله عنه لأنه عقد جائز من الطرفين
لا يؤول إلى اللزوم فيبطل بالموت كالوكالة ولان المغلب فيها حكم الصفة المجردة والصفة تبطل بالموت
فكذلك هذه الكتابة وقال أبو بكر لا تبطل بالموت ويعتق بالأداء إلى الوارث وهو قول أبي حنيفة
رضي الله عنه لأنه مكاتب يعتق بالأداء إلى السيد فيعتق بالأداء إلى الوارث كما في الكتابة الصحيحة
ولان الفاسدة كالصحيحة في باب العتق بالأداء وفي أن أولد يتبعه فكذلك في هذا
(والثاني) في بطلانها بجنون السيد والحجر عليه لسفه والخلاف فيه كالخلاف في بطلانها بموته
والأولى انها لا تبطل ههنا لأن الصفة المجردة لا تبطل بذلك والمغلب في هذه الكتابة حكم الصفة
المجردة فلا تبطل به فعل هذا لو أدى إلى سيده بعد ذلك عتق وعلى قول من أبطلها لا يعتق
(الثالث) ان ما في يد المكاتب وما يكسبه وما يفضل في يده بعد الأداء له دون سيده في قول القاضي
ومذهب الشافعي رضي الله عنه لأنها كتابة يعتق بالأداء فيها فكان هذا الحكم ثابتا فيها كالصحيحة وقال
أبو الخطاب ذلك لسيده في الموضعين لأن كسب العبد لسيده بحكم الأصل والعقد ههنا فاسد لم يثبت
الحكم في وجوب العوض في ذمته فلم ينقل الملك في المعوض كسائر العقود الفاسدة ولان المغلب فيها
حكم الصفة المجردة وهي لا تثبت الملك له في كسبه فكذا ههنا وفارقت الكتابة الصحيحة فإنها تثبت
الملك في العوض فأثبتته في المعوض (الرابع) هل يتبع المكاتبة ولدها؟ قال أبو الخطاب فيه وجهان
(أحدهما) يتبعها لأنها كتابة لا يعتق فيها بالأداء فيعتق به ولدها كالكتابة الصحيحة (والثاني) لا يتبعها
وهو أقيس وأصح لما ذكرنا في الذي قبله، ولان الأصل بقاء الرق فيه فلا يزول إلا بنص أو
معنى نص، وما وجد واحد منهما ولا يصح القياس على الكتابة الصحيحة لما ذكرنا من الفرق
بينهما فيما تقدم فيبقى على الأصل والله أعلم
487

كتاب عتق أمهات الأولاد
أم الولد هي التي ولدت من سيدها في ملكه ولا خلاف في إباحة التسري ووطئ الإماء لقول
الله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)
وقد كانت مارية القبطية أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وهي أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم التي قال فيها (أعتقها ولدها
وكانت هاجر أم إسماعيل عليه السلام سرية إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وكان لعمر بن الخطاب
رضي الله عنه أمهات أولاد أوصى لكل واحدة منهن بأربعمائة وكان لعلي رضي الله عنه أمهات أولاد
ولكثير من الصاحبة وكان علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله من أمهات أولاد.
وروي أن الناس لم يكونوا يرغبون في أمهات الأولاد حتى ولد هؤلاء الثلاثة من أمهات الأولاد فرغب
الناس فيهن، وروي عن سالم بن عبد الله قال كان لابن رواحة جارية وكان يريد الخلوة بها وكانت امرأته
ترصده فخلا البيت فوقع عليها فندرت به امرأته وقالت: أفلها؟ قال: ما فعلت قالت فاقرأ إذا فقال
شهدت بأن وعد الله حق * وان النار مثوى الكافرينا
وان العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكه شداد * ملائكة الآله مسومينا
488

قال اما إذ قرأت فاذهب إذا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال فلقد رأيته يضحك حتى تبدو نواجذه
ويقول (هيه كيف قلت؟) فأكرره عليه فيضحك.
(فصل) فإذا وطئ الرجل أمته فاتت بولد بعد وطئه بستة أشهر فصاعدا لحقه نسبه وصارت
له بذلك أم ولد، وان أتت بولد تام لأقل من ستة أشهر لم يلحقه نسبه لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر
بدليل ما روى الحسن أن امرأة ولدت لستة أشهر فأتي بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهم
برجمها فقالت له علي رضي الله عنه ليس لك ذلك أن الله يقول (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)
فقد يكون في البطن ستة أشهر والرضاع أربعة وعشرون شهرا فذلك تمام ما قال الله تعالى (ثلاثون
شهرا) فخلا عنها عمر، وروي عن ابن عباس أنه قال ذلك لعثمان ومن اعترف بوطئ أمته فأتت
بولد يمكن أن يكون منه لحقه نسبه ولم يكن له نفيه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: حصنوا
هذه الولائد فلا يطأ رجل وليدته ثم ينكر ولدها الا ألزمته إياه رواه سعيد وعن ابن عمر قال: قال
عمر أيما رجل غشي أمته ثم ضيعها فالضيعة عليه والولد ولده رواه سعيد أيضا ولان أمته صارت فراشا
بالوطئ فلحقه ولدها كالمرأة ولقوله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش) فإن نفاه سيدها لم ينتف عنه الا أن
يدعي أنه استبرأها وأتت بالولد بعد استبرائها بستة أشهر فينتفي عنه بذلك وهل يحلف على ذلك؟ على
وجهين وقد روي عن الحسن قال إذا أنكر الرجل ولده من أمته فله ذلك وعن الشعبي أنه كان يقول
ينتفي من ولده إذا كان من أمته متى شاء
489

ولنا قول عمرو انه ولد على فراشه فلم يكن له نفيه كولده من زوجته فإن أقر به لم يكن له نفيه
بعد ذلك لا نعلم فيه خلافا، قال إبراهيم إذا أقر بولده فليس له أن ينتفى منه فإن انتفى منه ضرب
الحد والحق به الولد. وقال شريح الرجل أقر بولده لا سبيل لك أن تنتفي منه وكذلك أن هنئ
به فسكت أو أمن على الدعاء لأنه دليل على الرضا به فقام مقام الاقرار به، وإن كان يطأ جاريته
وادعى أنه كان يعزل عنها لم ينتف الولد بذلك لما روى أبو سعيد أنه قال يا رسول الله إنا نصيب
النساء ونحب الأثمان أفنعزل عنهن؟ فقال (ان الله إذا قضى خلق نسمة خلقها) وعن جابر قال
جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله فقال (ان لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره
أن تحمل فقال (اعزل عنها ان شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها) قال فلبث الرجل ثم أتاه
فقال إن الجارية قد حملت فقال (قد أخبرتك انه سيأتيها ما قدر لها) رواه أبو داود. وعن أبي
سعيد أنه قال كنت أعزل عن جاريتي فولدت أحب الخلق إلي يعني ابنه، وعن ابن عمران عمر قال
ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يعزلونهن لا تأتيني وليدة يعترف سيدها انه أتاها إلا ألحقت به ولدها
فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا ولأنها بالوطئ صارت فراشا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش)
ولما تنازع عبد بن زمعة وسعد في ابن وليدة زمعة فقال عبد هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر) متفق عليه ولأنه قد يسبق
من الماء مالا يحس به فيخلق منه الولد. وقد روي عن ابن عمر وزيد بن ثابت ما يدل على أن الولد
490

لا يلحق به مع العزل فروى سعيد حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن فتى من أهل المدينة ان عمر
ابن الخطاب رضي الله عنه كان يعزل عن جارية له فجاءت بحمل فشق عليه وقال اللهم لا تلحق بآل عمر
من ليس منهم فإن آل عمر ليس بهم خفاء فولدت ولدا أسود فقال ممن هو؟ فقالت من راعي الإبل
فحمد الله وأثنى عليه، وقال حدثنا سفيان عن حماد عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت
كانت له جارية فارسية وكان يعزل عنها فجاءت بولد فأعتق الولد وجلدها الحد وقال إنما كنت استطبت
نفسك ولا أريدك، وفي رواية قال ممن حملت؟ قالت منك. فقال كذبت وما وصل إليك مني ما يكون
منه الحمل وما أطؤك إلا اني استطبت نفسك. وقال الثوري وأبو حنيفة لا تصير فراشا ولا يلحقه
ولدها إلا أن يقر بولدها فيلحقه أولادها بعد ذلك. ولنا ما ذكرناه وقول عمر الموافق للسنة أولى
من قوله فيما خالفها
(فصل) وان اعترف بوطئ أمته في الدبر أو دون الفرج فقد روي عن أحمد رضي الله عنه انه
يلحقه ولدها وتصير فراشا بهذا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي رضي الله عنه ولأنه قد يجامع
فيسبق الماء إلى الفرج. والصحيح في هذا إن شاء الله تعالى انها لا تصير بهذا فراشا لأنه ليس
بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص ولا يثبت الحكم إلا بدليل ولا ينتقل عن الأصل إلا بناقل عنه.
إذا ثبت هذا فكل موضع لحقه الولد من أمته إذا حملت به في ملكه فالولد حر الأصل لا ولاء عليه
وتصير به الأمة أم ولد
491

(مسألة) قال (وأحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء في جميع أمورهن الا انهن لا يبعن)
وجملة ذلك أن الأمة إذا حملت من سيدها وولدت منه ثبت لها حكم الاستيلاد وحكمها حكم
الإماء في حل وطئها لسيدها واستخدامها وملك كسبها وتزويجها واجارتها وعتقها وتكليفها وحدها
وعورتها وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن مالك انه لا يملك اجارتها وتزويجها لأنه لا يملك بيعها
فلا يملك تزويجها واجارتها كالحرة
ولنا انها مملوكة ينتفع بها فيملك سيدها تزويجها واجارتها كالمدبرة ولأنها مملوكة تعتق بموت
سيدها فأشبهت المدبرة وإنما منع بيعها لأنها استحقت أن تعتق بموته وبيعها يمنع ذلك بخلاف التزويج
والإجارة ويبطل دليلهم بالموقوفة والمدبرة عند من منع بيعها. إذا ثبت هذا فإنها تخالف الأمة القن في أنها
تعتق يموت سيدها من رأس المال ولا يجوز بيعها ولا التصرف فيها بما ينقل الملك من الهبة والوقف ولا
ما يراد للبيع وهو الرهن ولا تورث لأنها تعتق بموت السيد ويزول الملك عنها روي هذا عن عمر
وعثمان وعائشة وعامة الفقهاء وروي عن علي وابن عباس وابن الزبير إباحة بيعهن واليه ذهب داود
قال سعيد حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس في أم الولد قال بعها كما تبيع شاتك أو
بعيرك. قال وحدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن الشعبي عن عبيدة قال خطب علي الناس فقال شاورني
عمر في أمهات الأولاد فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن فقضى به عمر حياته وعثمان حياته فلما وليت
492

رأيت أن أرقهن. قال عبيدة فرأي عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي علي وحده، وقد روى
صالح بن أحمد قال قلت لأبي إلى أي شئ تذهب في بيع أمهات الأولاد؟ قال أكرهه وقد باع
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال في رواية إسحاق بن منصور لا يعجبني بيعهن، قال أبو الخطاب
فظاهر هذا انه يصح بيعهن مع الكراهة فجعل هذا رواية ثانية عن أحمد رضي الله عنه والصحيح ان
هذا ليس رواية مخالفة لقوله انهن لا يبعن لأن السلف رحمة الله عليهم كانوا يطلقون الكراهة على
التحريم كثيرا ومتي كان التحريم والمنع مصرحا به في سائر الروايات عنه وجب حمل هذا اللفظ المحتمل
على المصرح به ولا يجعل ذلك اختلافا ولمن أجاز بيعهن أن يحتج بما روى جابر قال بعنا أمهات الأولاد
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر رضي الله عنه نهانا فانتهينا رواه أبو داود وما كان
جائزا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لم يجز نسخه بقول عمر ولا غيره ولان نسخ الأحكام إنما يجوز
في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النص إنما ينسخ بنص مثله وأما قول الصحابي فلا ينسخ ولا ينسخ به
فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتركون أقوالهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتركونها بأقوالهم وإنما
تحمل مخالفة عمر لهذا النص على أنه لم يبلغه ولو بلعه لم يعده إلى غيره ولأنها مملوكة ولم يعتقها سيدها
ولا شيئا منها ولا قرابة بينه وبينها فلم تعتق كما لو ولدت من أبيه في نكاح أو غيره ولان الأصل
الرق ولم يرد بزواله نص ولا اجماع ولا ما في معنى ذلك فوجب البقاء عليه ولان ولادتها لو كانت
موجبة لعتقها لثبت العتق بها حين وجودها كسائر أسبابه وروي عن ابن عباس رواية أخرى انها
493

تجعل في سهم ولدها لتعتق عليه، وقال سعيد حدثنا سفيان حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب قال
مات رجل منا وترك أم ولد فأراد الوليد بن عقبة ان يبيعها في دينه فأتينا عبد الله بن مسعود فذكرنا
ذلك له فقال إن ولا بد فاجعلوها في نصيب أولادها
ولنا ما روى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما أمة ولدت من سيدها فهي
حرة عن دبر منه) وقال ابن عباس ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أعتقها ولدها)
رواهما ابن ماجة
وذكر الشريك أبو جعفر في مسائله عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن بيع أمهات الأولاد
ولا يبعن ولا يرهن ولا يرثن ويستمتع بها سيدها ما بدا له فإن مات فهي حرة وهذا فيما أظن عن
عمر ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم بدليل قول علي كرم الله وجهه
كان رأيي ورأي عمر ان لا تباع أمهات الأولاد، وقوله فقضى به عمر حياته وعثمان حياته وقول عبيدة
رأي علي كرم الله وجهه وعمر في الجماعة أحب إلينا من رأيه وحده
وروى عكرمة عن ابن عباس عن: قال عمر رضي الله عنه: مامن رجل كان يقر
بأنه يطأ جاريته ثم يموت إلا أعتقها ولدها إذا ولدت وإن كان سقطا، فإن قيل فكيف تصح دعوى
الاجماع مع مخالفة علي وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم؟ قلنا روي عنهم الرجوع عن المخالفة
فقد روى عبيدة قال بعض إلي علي كرم الله وجهه وإلى شريح أن اقضوا كما كنتم تقضون فاني أبغض
494

الاختلاف وابن عباس قال ولد أم الولد بمنزلتها وهو الراوي لحديث عتقهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن
عمر فيدل على موافقته لهم ثم قد ثبت الاجماع باتفاقهم قبل المخالفة واتفاقهم معصوم عن الخطأ فإن
الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يجوز أن يخلو زمن عن قائم لله بحجته ولو جاز ذلك في بعض العصر
لجاز في جميعه ورأي الموافق في زمن الاتفاق خير من رأيه في الخلاف بعده فيكون الاتفاق حجة
على المخالف له منهم كما هو حجة على غيره؟ فإن قيل فلو كان الاتفاق في بعض العصر اجماعا حرمت
مخالفته فيكف خالفه هؤلاء الأئمة الذين لا تجوز نسبتهم إلى ارتكاب الحرام؟ قلنا الاجماع ينقسم إلى
مقطوع به ومظنون وهذا من المظنون فيمكن وقوع المخالفة منهم له مع كونه حجة كما وقع منهم
مخالفة النصوص الظنية ولا تخرج بمخالفتهم عن كونها حجة كذا ههنا
فاما قول جابر بعنا أمهات الأولاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فليس فيه تصريح بأنه
كان بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علم أبي بكر فيكون ذلك واقعا من فعلهم على انفرادهم فلا يكون فيه
حجة ويتعين حمل الامر على هذا لأنه لو كان هذا واقعا بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واقرا عليه
لم تجز مخالفته ولم يجمع الصحابة بعدهما على مخالفتهما ولو فعلوا ذلك لم يخل من منكر ينكر عليهم ويقول
كيف يخالفون فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل صاحبه؟ وكيف يتركون سنتهما ويحرمون ما أحلا من هذا؟
ولأنه لو كان ذلك واقعا بعلمها لاحتج به علي حين رأى بيعهن واحتج به كل من وافقه على بيعهن
ولم يجز شئ من هذا فوجب ان يحمل الامر على ما حملناه عليه فلا يكون فيه إذا حجة، ويحتمل أنهم
باعوا أمهات الأولاد في النكاح لا في الملك
(فصل) ومن أجاز بيع أم الولد فعلى قوله ان لم يبعها حتى مات ولم يكن له وارث الا ولدها
495

عتقت عليه وإن كان لها وارث سوى ولدها حسبت من نصيب ولدها فعتقت وكان له ما بقي من
ميراثه وان لم يبق شئ فلا شئ له وان كانت أكثر من نصيبه عتق منها قدر نصيبه وباقيها رقيق
لسائر الورثة الا على قول من قال إنه إذا ورث سهما ممن يعتق عليه سرى العتق إلى باقيه وإن لم يكن
لها ولد من سيدها ورثها كسائر رقيقه
(مسألة) قال (وإذا أصاب الأمة وهي في ملك غيرها بنكاح فحملت منه ثم ملكها
حاملا عتق الجنين وكان له بيعها)
وجملته انه إذا تزوج أمة غيره فأولدها أو أحبلها ثم ملكها بشراء أو غيره لم تصر أم ولد له
بذلك سواء ملكها حاملا فولدت في ملكه أو ملكها بعد ولادتها وبهذا قال الشافعي رضي الله عنه لأنها
علقت منه بمملوك فلم يثبت لها حكم الاستيلاد كما لو زنى بها ثم اشتراها ولان الأصل الرق وإنما خولف
هذا الأصل فيما إذا حملت منه في ملكه بقول الصحابة رضي الله عنهم ففيما عداه يبقى على الأصل
ونقل القاضي بن أبي موسى عن أحمد رضي الله عنه أنها تصير أم ولد في الحالين وهو قول الحسن
وأبي حنيفة لأنها أم ولده وهو مالك لها فثبت لها حكم الاستيلاد كما لو حملت في ملكه ولم أجد هذه
الرواية عن أحمد فيما إذا ملكها بعد ولادتها إنما نقل عنه التوقف عنها في رواية مهنا فقال لا أقول فيها
496

شيئا وصرح في رواية جماعة سواه بجواز بيعها فقال لا أرى بأسا ان يبيعها إنما الحسن وحده قال إنها
أم ولد وقال أكثر ما سمعنا فيه من التابعين يقولون لا تكون أم ولد حتى تلد عنده وهو يملكها
فإن عبيدة السلماني يقول نبيعها وشريح وإبراهيم وعامر الشعبي وأما إذا ملكها حاملا فظاهر كلام
احمد رضي الله عنه انها تصير أم ولد وهو مذهب مالك رضي الله عنه لأنها ولدت منه في ملكه
فأشبه ما لو احبلها في ملكه وقد صرح احمد رضي الله عنه في رواية إسحاق بن منصور انها لا
تكون أم ولد حتى تحدث عنده حملا وروى عنه ابنه صالح قال سألت أبي عن الرجل ينكح الأمة
فتلد منه ثم يبتاعها قال لا تكون أم ولد له قلت فإن استبرأها وهي حامل منه قال إذا كان الوطئ
يزيد في الولد وكان يطأها بعدما اشتراها وهي حامل منه كانت أم ولد له قال ابن حامد ان وطئها
في ابتداء حملها أو توسطه كانت بذلك أم ولد له لأن الماء يزيد في سمع الولد وبصره وقال القاضي ان ملكها
حاملا فلم يطأها حتى وضعت لم تصر أم ولد له وان وطئها حال حملها نظرنا فإن كان بعد أن كمل الولد وصار له
خمسة أشهر لم تصر به أم لود وإن كان وطئها قبل ذلك صارت له بذلك أم ولد لأن عمر رضي الله عنه قال أبعد ما
اختلطت دماؤكم ودماؤهن ولحومكم ولحومهن بعتموهن؟ فعلل بالمخالطة والمخالطة ههنا حاصلة لأن الماء يزيد
في الولد ولان لحرية البعض اثرا في تحرير الجميع بدليل ما إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد
497

وقال أبو الخطاب ان وطئها بعد الشراء فهي أم ولد وكلام الخرقي يقتضي انها لا تكون أم ولد
الا أن تحبل منه في ملكه وهو الذي نص عليه احمد رضي الله عنه في رواية إسحاق بن منصور
فقال لا تكون أم ولد حتى تحدث عنده حملا لأنها لم تعلق منه بحر فلم يثبت لها حكم الاستيلاد كما لو
زنى بها ثم اشتراها يحقق هذا أن حملها منه ما أفاد الحرية لولده فلان لا يفيدها الحرية أولى ويفارق هذا
ما إذا حملت منه في ملكه فإن الولد حر فيتحرر بتحريره وما ذكروه من زيادة الولد بالوطئ غير
متيقن فإن هذا الولد يحتمل أنه زاد، ويحتمل انه لم يزد فلا يثبت الحكم بالشك ولو ثبت انه زاد
لم يثبت الحكم بهذه الزيادة بدليل ما لو ملكها وهي حامل من زنا منه أو من غيره فوطئها لم
تصر أم ولد. وان زاد الولد به ولان حكم الاستيلاد إنما يثبت بالاجماع في حق من حملت منه في
ملكه وما عداه ليس في معناه وليس فيه نص ولا اجماع فوجب أن لا يثبت هذا الحكم ولان الأصل
الرق فيبقى على ما كان عليه
(فصل) قال احمد رضي الله عنه فيمن اشترى جارية حاملا من غيره فوطئها قبل وضعها فإن
الولد لا يلحق بالمشتري ولا يبيعه ولكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد في الولد
وقد روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم انه مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال (لعله
يريد أن يلم بها؟) قالوا نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه في قبره كيف
498

يورثه وهو لا يحل له؟ أم كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟) رواه أبو داود يعني ان استلحقه وشريكه
في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده فإن اتخذه مملوكا يستخدمه لم يحل له لأنه قد شرك فيه
لكون الماء يزيد في الولد
(فصل) وإذا وطئ الرجل جاريته ولده فإن كان قد قبضها وتملكها ولم يكن الولد وطئها ولا
تعلقت بها حاجته فقد ملكها الأب بذلك وصارت جاريته والحكم فيها كالحكم في جاريته التي ملكها
بالشراء وان وطئها قبل تملكها فقد فعل محرما لأن الله تعالى قال (والذين هم لفروجهم حافظون إلا
على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادن) وهذه
ليست زوجا له ولا ملك يمينه، فإن قيل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) فأضاف مال الابن
إلى أبيه بلام الملك والاستحقاق فدل على أنه ملكه قلنا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الملك بدليل أنه
أضاف إليه الولد وليس بمملوك وأضاف إليه ماله في حالة اضافته إلى الولد ولا يكون الشئ مملوكا
لمالكين حقيقة في حال واحدة، وقد يثبت الملك لولده حقيقة بدليل حل وطئ إمائه والتصرف في
ماله وصحة بيعه وهبته وعتقه ولان الولد لو مات لم يرث منه أبوالا ما قدر له ولو كان ماله لاختص به
ولو مات الأب لم يرث ورثته مال ابنه ولا يجب على الأب حج ولا زكاة ولا جهاد بيسار ابنه فعلم
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد التجوز بتشبيهه بمال في بعض الأحكام
إذا ثبت هذا فإنه لاحد على الابن للشبهة لأنه إذا لم يثبت حقيقة الملك فلا أقل من أن يكون شبهة تدرأ
الحد فإن الحدود تدرأ بالشبهات ولكن يعذر لأنه وطئ جارية لا يملكها وطئها محرما فكان عليه التعزير
499

كوطئ الجارية المشتركة وفيه وجه آخر لا يمزر عليه لأن مال ولده كما له ولا يصح لأن ماله مباح له غير
ملوم عليه وهذا الوطئ هو عاد فيه ملوم عليه وان علقت منه فالولد حر لأنه من وطئ درى، فيه
الحد لشبهة الملك وكان حرا كولد الجارية المشتركة ولا تلزمه قيمته لأن الجارية تصير ملكا له بالوطئ
فيحصل علوقها بالولد وهي ملك له وتصير أم ولد له تعتق بموته وتنتقل إلى ملكه فيحل له وطؤها
بعد ذلك وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر لا تصير أم ولد له ولا يملكها
لأنه استولدها في غير ملكه فأشبه الأجنبي، ولان ثبوت أحكام الاستيلاد إنما كان بالاجماع فيما
إذا استولد مملوكته وهذه ليست مملوكة له ولا في معنى مملوكته فإنها محرمة عليه فوجب أن لا يثبت
لها هذا الحكم ولان الأصل الرق فيبقى على الأصل ولان الوطئ المحرم لا ينبغي أن يكون سببا للملك
الذي هو نعمة وكرامة لأنه يفضي إلى تعاطي والمحرمات
ولنا أنها علقت منه بحر لأجل الملك فصارت أم ولد له كالجارية المشتركة وفارق وطئ الأجنبي
في هذا. إذا ثبت هذا فإنه لا يلزمه مهرها ولا قيمتها
وقال أبو حنيفة لا يلزمه مهرها ويلزمه قيمتها لأنه أخرجها عن ملك سيدها بفعل محرم فأشبه ما لو
قتلها وإنما لم يلزمه مهرها لأنه إذا ضمنها فقد دخلت قيمة البضع في ضمانها فلم يضمنه ثانيا كما لو قطع يدها
فسرى القطع إلى نفسها فإنه يضمن قيمة النفس دون قيمة اليد وقال الشافعي يلزمه مهرها لأنه وطئ
جارية غيره وطئها محرما فلزمه مهرها كالأجنبي وتلزمه قيمتها على القول بكونها أم ولد كما يلزم أحد
الشريكين قيمة نصيب شريكه إذا استولد الجارية المشتركة
500

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) ولأنه لا تلزمه قيمة ولدها فلم يلزمه مهرها ولا
قيمتها كمملوكته ولأنه وطئ صارت به الموطوءة أم ولد لأمر لا يختص ببعضها فأشبه استيلاد مملوكته
(فصل) كل الولد قد وطئ جاريته ثم وطئها أبوه فأولدها فقد روي عن أحمد رضي الله
عنه فيمن وقع على جارية ابنه إن كان الأب قابضا لها ولم يكن الابن وطئها فهي أم ولده وليس للابن
فيها شئ. قال القاضي فظاهر هذا ان الابن إن كان قد وطئها لم تصر أم ولد للأب باستيلاد
لأنها تحرم عليه تحريما مؤبدا بوطئ ابنه لها ولا تحل له بحال فأشبه وطئ الأجنبي فعلى هذا القول
لا يملكها ولا تعتق بموته فاما ولدها فيعتق على أخيه لأنه ذو رحمه منه، ويحتمل أن يثبت لها حكم
الاستيلاد من غير أن تحل له كما لو استولد مملوكته التي وطئها ابنه فإنها تصير أم ولد له مع كونها
محرمة عليه على التأبيد فكذلك ههنا وذلك لأنه وطئ يدرأ فيه الحد بشبهة الملك فصارت به أم ولد
كما لو لم يطأها الابن
(فصل) وان وطئ الابن جارية أبيه أو أمه فهو زان يلزمه الحد إذا كان عالما بالتحريم ولا تصير
أم ولد له ويلزمه مهرها وولده يعتق على جده لأنه ابن ابنه إذا قلنا إن ولده من الزنا يعتق على أبيه
وتحرم الجارية على الأب على التأبيد ولا تجب بسبب قيمتها على الابن لأنه لم يخرجها عن ملكه ولم يمنعه
بيعها ولا التصرف فيها بغير الاستمتاع فإن استولدها الأب بعد ذلك فقد فعل محرما ولا حد عليه
لأنه وطء صادف ملكا وتصير أم ولد له لأنه استولد مملوكته فأشبه ما لو وطئ أمته المرهونة
(فصل) وإن زوج أمته ثم وطئها فقد فعل محرما ولا حد عليه لأنها مملوكته ويعزر قال أحمد
501

رضي الله عنه يجلد ولا يرجم يعني انه يعزر بالجلد لأنه لو وجب عليه الحد لوجب الرجم إذا كان
محصنا فإن أولدها صارت أم ولده لأنه استولد مملوكته وتعتق بموته وولده حر وما ولدت بعد ذلك
من الزوج فحكمه حكم أمه
(فصل) ولو ملك رجل أمه من الرضاع أو أخته أو ابنته لم يحل له وطؤها فإن وطئها فلا حد عليه
في أصح الروايتين لأنها مملوكته ويعزر فإن ولدت فالولد حر ونسبه لاحق به وهي أم ولده وكذلك
لو ملك أمة مجوسية أو وثنية فاستولدها أو ملك الكافر أمة مسلمة فاستولدها فلا حد عليه ويعزر
ويلحقه نسب ولده وتصير أم ولد له تعتق بموته لما ذكرنا وكذلك لو وطئ أمته المرهونة أو وطئ
رب المال أمة من مال المضاربة فأولدها صارت له بذلك أم ولد وخرجت من الرهن والمضاربة
وعليه قيمتها للمرتهن تجعل مكانها رهنا أو توفية عن دين الرهن وتنفسخ المضاربة فيها وإن كان فيها
ربح جعل الربح في مال المضاربة والله أعلم
(مسألة) قال (وإذا علقت منه بحرفي ملكه فوضعت بعض ما يستبين فيه خلق الانسان كانت
له بذلك أم ولد)
ذكر الخرقي لمصيرها أم ولد شروطا ثلاثة (أحدها) أن تعلق منه بحر فأما إن علقت منه بمملوك
ويتصور ذلك في الملك في موضعين (أحدهما) في العبد إذا ملكه سيده وقلنا انه يملك فإنه إذا وطى
502

أمة واستولدها فولده مملوك ولا تصير الأمة أم ولد يثبت لها حكم الاستيلاد بذلك وسواء أذن له
سيده في التسري بها أو لم يأذن له (والثاني) إذا استولد المكاتب أمته فإن ولده مملوك له، وأما
الأمة فإنه لا تثبت لها أحكام أم الولد في العتق بموته في الحال لأن المكاتب ليس بحر وولده منها
ليس بحر فأولى أن لا تتحرر هي ومتى عجز المكاتب وعاد إلى الرق أو مات قبل أداء كتابته فهي أمة
قن كأمة العبد القن وهل يملك المكاتب بيعها والتصرف فيها؟ ففيه اختلاف ذكر القاضي في موضع
انه لا يثبت فيها شئ من أحكام الاستيلاد ولا تصير أم ولد بحال وهذا أحد قولي الشافعي لأنها
علقت بمملوك في ملك غير تام فلم يثبت لهما شئ من أحكام الاستيلاد كأمة العبد القن، وظاهر
المذهب انها موقوفة لا يملك بيعها ولا نقل الملك فيها فإن عتق صارت له أم ولد تعتق بموته فيثبت لها
من حرمة الاستيلاد ما يثبت لولدها من حرمة الحرية وقد نص احمد رضي الله عنه على منع بيعها،
ومفهوم كلام الخرقي يحتمل الوجهين جميعا
(الشرط الثاني) أن تعلق منه في ملكه سواء كان من وطئ مباح أو محرم مثل الوطئ في الحيض
أو النفاس أو الصوم أو الاحرام أو الظهار أو غيره، فأما ان علقت منه في غير ملكه لم تصر بذلك
أم ولد سواء علقت منه بمملوك مثل أن يطأها في ملك غيره بنكاح أو زنا أو علقت بحر مثل أن
يطأها بشبهة أو غر من أمة وتزوجها على أنها حرة فاستولدها أو اشترى جارية فاستولدها فبانت
مستحقة فإن أولد حر ولا تصير الأمة أم ولد في هذه المواضع بحال وفيه وجه آخر انه إن ملكها
503

بعد ذلك صارت أم ولد وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في المسألة التي قبل هذه، والمقصود بذكر
هذه الشروط ههنا ثبوت الحكم عند اجتماعها، وأما انتفاؤه عند انتفاءها فيذكر في مسائل مفردة لها
(الشرط الثالث) أن تضع ما يتبين فيه شئ من خلق الانسان من رأس أو يد أو رجل أو تخطيط
سواء وضعته حيا أو ميتا وسواء أسقطته أو كان تاما، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا ولدت
الأمة من سيدها فقد عتقت وإن كان سقطا، وروي الأثرم باسناده عن ابن عمر أنه قال أعتقها ولدها
وإن كان ولدها سقطا قال الأثرم قلت لأبي عبد الله أم الولد إذا سقطت لا تعتق؟ فقال إذا تبين
فيه يد أو رجل أو شئ من خلقه فقد عتقت وهذا قول الحسن والشافعي وقال الشعبي إذا تلبث في
الخلق الرابع فكان مخلقا انقضت به عدة الحرة وأعتقت به الأمة ولا أعلم في هذا خلافا بين من قال بثبوت
حكم الاستيلاد، فأما إن ألقت نطفة أو علقة لم يثبت به شئ من أحكام الولادة لأن ذلك ليس بوالد
وروى يوسف بن موسى ان أبا عبد الله قيل له ما تقول في الأمة إذا ألقت مضغة أو علقة؟ قال تعتق
وهذا قول إبراهيم النخعي، وان وضعت مضغة لم يظهر فيها شئ من خلق الآمدي فشهد ثقات من
القوابل ان فيها صورة خفية تعلقت بها الأحكام لأنهن اطلعن على الصورة التي خفيت على غيرهن
وإن لم يشهدن بذلك لكن علم أنه مبتدأ خلق آدمي إما بشهادتهن أو غير ذلك ففيه روايتان
(إحداهما) لا تصير به الأمة أم ولد ولا تنقضي به عدة الحرة ولا يجب على الضارب المتلف له الغرة
ولا الكفارة وهذا ظاهر كلام الخرقي والشافعي وظاهر ما نقله الأثرم عن أحمد رضي الله عنه وظاهر
كلام الحسن والشعبي وسائر من اشترط أن يتبين شئ فيه خلق الانسان لأنه لم يبين فيه شئ من خلق الآدمي
أشبه النطفة والعلقة (والثانية) تتعلق به الأحكام الأربعة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه إذا تبين، وخرج
504

أبو عبد الله بن حامد رواية ثالثة وهو ان الأمة تصير بذلك أم ولد ولا تنقضي به عدة الحرة لأنه روي عن أحمد
رضي الله عنه في الأمة إذا وضعت فمسته القوابل فعلمن أنه لحم ولم يتبين لحمه تحتاط في العدة بأخرى
ويحتاط يعتق الأمة وظاهر هذا انه حكم بعتق الأمة ولم يحكم بانقضاء العدة لأن عتق الأمة يحصل للحرية
فاحتيط بتحصيلها، والعدة يتعلق بها تحريم التزوج وحرمة الفرج فاحتيط بابقائها وقال بعض الشافعية
بالعكس لا تجب العدة ولا تصير الأمة أم ولد لأن الأصل عدم كل واحد منهما فيبقى على أصله ولا
يصح لأن العدة كانت ثابتة والأصل بقاؤها على ما كانت عليه والأصل في الآدمي الحرية فتغلب
ما يفضي إليها والله أعلم
(مسألة) قال (فإذا مات فقد صارت حرة وان لم يملك غيرها)
يعني ان أم الولد تعتق من رأس المال وان لم يملك سواها وهذا قول كل من رأى عتقهن
لا نعلم بينهم فيه خلافا وسواء ولدت في الصحة أو المرض لأنه حاصل بالتذاذه وشهوته وما يتلفه في
لذاته وشهوته يستوي فيه حال الصحة والمرض كالذي يأكله ويلبسه ولان عتقها بعد الموت وما يكون
بعد الموت يستوي فيه المرض والصحة كقضاء الديون والدبير والوصية ولا نعلم في هذا خلافا بين
من رأى عتقهن.
قال سعيد حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن نافع قال أدرك ابن عمر رجلان فقالا انا تركنا
505

هذا الرجل يبيع أمهات الأولاد يعنيان ابن الزبير، فقال ابن عمر أتعرفان أبا حفص؟ فإنه قضى في
أمهات الأولاد أن لا يبعن ولا يوهبن يستمتع بها صاحبه فإذا مات فهي حرة
وقال حدثنا غياث عن حصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه مامن رجل
كان يقر بأنه يطأ جاريته ويموت الا أعتقها إذا ولدت وإن كان سقطا
(فصل) ولا فرق بين المسلمة والكافرة والعفيفة والفاجرة ولا بين المسلم والكافر والعفيف
والفاجر في هذا في قول أئمة أهل الفتوى من أهل الأمصار لأن ما يتعلق به العتق يستوي فيه المسلم
والكافر والعفيف والفاجر كالتدبير والكتابة ولان عتقها بسبب اختلاط دمها بدمه ولحمها بلحمه
فإذا استوفيا في النسب استويا في حكمه وروى سعيد حدثنا هشيم أخبرنا منصور عن ابن سيرين عن
أبي عطية الهمداني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في أم الولد ان أسلمت وأحصنت
وعفت أعتقت، وإن كفرت وفجرت وغدرت رقت وقال حدثنا هشيم أخبرنا يحيى عن أم ولد رجل
ارتدت عن الاسلام فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكتب عمر بيعوها ليسبيها
أحد من أهل دينها وإذا كان مبنى عتق أمهات الأولاد على قول عمر رضي الله عنه وقد قال هذا القول
فينبغي أن يختص العتق بالمسلمة العفيفة دون الكفارة الفاجرة لانتفاء الدليل الذي ثبت به عتقهن والله أعلم
(مسألة) قال (وإذا صارت الأمة أم ولد بما وصفنا ثم ولدت من غيره كان له
حكمها في العتق بموت سيدها)
وجملته ان أم الولد إذا ولدت بعد ثبوت حكم الاستيلاد لها من غير سيدها من زوج أو غيره
506

فحكم ولدها حكمها في أنه يعتق بموت سيدها ويجوز فيه من التصرفات ما يجوز فيها ويمتنع ما يمتنع
فيها. قال احمد رضي الله عنه قال ابن عمر وابن عباس وغيرهما ولدها بمنزلتها ولا نعلم في هذا خلافا
بين القائلين بثبوت حكم الاستيلاد الا انه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال هم عبيد فيحتمل انه
أراد انه لا يثبت لهم حكم أمهم لأن الاستيلاد مختص بها فيختص بحكمه كولد من علق عتقها بصفة
ويحتمل انه أراد انهم عبيد حكمهم حكم أمهم مثل قول الجماعة لأن الولد يتبع أمه في الرق والحرية
فيتبعها في سببه إذا كان متأكدا كولد المكاتبة والمدبرة بل ولد أم الولد أولى لأن سبب العتق
فيها مستقر ولا سبيل إلى ابطاله بحال فإن ماتت أم الولد قبل سيدها لم تبطل حكم الاستيلاد في
الولد وتعتق بموت سيدها لأن السبب لم يبطل وإنما تثبت الحرية فيها لأنها لم يبق محلا وكذلك
ولد المدبر لا يبطل الحكم فيه بموت أمه، وأما ولد المكاتبة إذا ماتت فإنه يعود رقيقا لأن العقد
يبطل بموتها فلم يبق حكمه فيه وقد ذكرنا في هذا خلافا فيما تقدم، وإن أعتق السيد أم الولد أو المدبرة
لم يعتق ولدها لأنها عتقت بغير السبب الذي تبعها فيه ويبقى عتقه موقوفا على موت سيده وكذلك
إن أعتق ولدهما لم يعتقا بعتقه، وإن أعقت المكاتبة فقد قال احمد وسفيان وإسحاق: المكاتبة إذا أدت
أو أعتقت عتق ولدها وأم الولد والمدبرة إذا أعتقت لم يعتق ولدها حتى يموت السيد فظاهر هذا ان
ولد المكاتبة يتبعها في العتق باعتاق سيدها لأنه في حكم مالها يستحق كسبه فيتبعها إذا أعتقها كما لها ولان
اعتاقها يمنع أداءها بسبب من السيد فأشبه ما لو أبرأها من مال الكتابة
507

(فصل) فأما ولد أم الولد قبل استيلادها وولد المدبرة قبل تدبيرها والمكاتبة قبل كتابتها فلا
يتبعها لوجوده قبل انعقاد السبب فيها وزوال حكم التبعية عنه قبل تحقق السبب في أمه ولهذا لا يتبعها
في العتق المنجز ففي السبب أولى وذكر أبو الخطاب في ولد المدبرة قبل التدبير روايتين فيخرج ههنا
مثله وهو بعيد لأن الولد المنفصل لا يتبعها في عتق ولا بيع ولا هبة ولا رهن ولا شئ من الأحكام
سوى الاسلام بشرط كنه صغيرا فكيف يتبع في التدبير؟ ولأنه لا نص فيه ولا قياس يقتضيه فيبقى بحاله
(مسألة) قال (وإذا أسلمت أم ولد النصراني منع من وطئها والتلذذ بها وأجبر على
نفقتها فإذا أسلم حلت له وان مات قبل ذلك عتقت)
وجملة ذلك أن الكافر يصح منه الاستيلاد لامته كما يصح منه عتقها وإذا استولد الذمي أمته
ثم أسلمت لم تعتق في الحال وبهذا قال الشافعي وقال مالك تعتق إذ لا سبيل إلى بيعها ولا إلى اقرار
ملكه عليها لما فيه من اثبات ملك كافر على مسلمة فلم بجز كالأمة القن وعن أحمد رضي الله عنه رواية
أخرى انها تستسعي فإن أدت عتقت وهو قول أبي حنيفة لأن فيه جمعا بن الحقين حقها في أن لا يبقى
ملك الكافر عليها وحقه في حصول عوض ملكه فأشبه بيعها إذا لم تكن أم ولد
ولنا انه اسلام طرأ على مالك فلم يوجب عتقا ولا سعاية كالعبد القن وما ذكروه مجرد حكمة لم
يعرف من الشارع اعتبارها وبقاؤها ضرر فإن في عتقها مجانا اضرار بالمالك بإزالة ملكه بغير عوض
وفي الاستسعاء الزام لها بالكسب بغير رضاها وتضييع لحقه لأن فيه إحالة على سعاية لا تدري هل يحصل
508

منها شئ أولا؟ وإن حصل فالظاهر أنه يكون يسيرا في أوقات متفرقة وجوده قريب من عدمه
والحق ان يبقى الملك على ما كان عليه ومنع من وطئها والتلذذ بها كي لا يطأها ويبتذلها وهو
مشترك ويحال بينه وبينها ويمنع الخلوة بها لئلا يفضي إلى الوطئ المحرم ويجبر على نفقتها على التمام لأنها
مملوكته ومنعه من وطئها بغير معصية منها فأشبهت الحائض والمريضة وتسلم إلى امرأة ثقة تكون عندها
لتحفظها وتقوم بأمرها، وإن احتاجت إلى آجر أو أجر مسكن فعلى سيدها
وذكر القاضي ان نفقتها في كسبها وما فضل من كسبها فهو لسيدها وإن عجز عن نفقتها فهل
يلزم سيدها تمام نفقتها؟ على روايتين ونحو هذا مذهب الشافع والصحيح أن نفقتها على سيدها وكسبها
له يصنع به ما شاء وعليه نفقتها على التمام سواء كان لها كسب أو لم يكن لأنها مملوكة له ولم يجر بينهما عقد
يسقط نفقتها ولا يملك به كسبها فأشبهت أمته القن أو ما قبل اسلامها ولان الملك سبب لهذين الحكمين
والحادث منهما لا يصلح منعا لأن الاستيلاد لا يمنع منهما بدليل ما قبل اسلامها والاسلام لا يمنع بدليل ما لو
وجد قبل ولادتها واجتماعهما لا يمنع لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه، ولأنه إذا لم تلزمه
نفقتها ولم يكن لها كسب أفضى إلى هلاكها وضياعها ولأنه يملك فاضل كسبها فيلزمه فضل نفقتها كسائر مماليكه
(مسألة) قال (وإذا عتقت أم الولد بموت سيدها فما كان في يدها من شئ فهو لورثة سيدها)
509

إنما كان كذلك لأن أم الولد أمة وكسبها لسيدها وسائر ما في يدها له فإذا مات سيدها فعتقت
انتقل ما في يدها إلى ورثته كسائر ماله وكما في يد المدبرة وتخالف المكاتبة فإن كسبها في حياة سيدها
لها فإذا عتقت بقي لها كما كان لها قبل العتق
(مسألة) قال (ولو أوصى لها بما في يدها كان لها إذا احتمله الثلث)
وجملته ان الوصية لام الولد تصح فلا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم القائلين بثبوت حكم الاستيلاد
وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي
وقد روى الإمام أحمد وسعيد بن منصور عن هشيم حدثنا حميد عن الحسن ابن عمر بن الخطاب
أوصى لأمهات أولاده بأربعة آلاف أربعة آلاف ولان أم الولد حرة في حال نفوذ الوصية لها لأن عتقها
يتنجز بموته فلا تقع الوصية لها الا في حال حريتها، وأما قوله إذا احتمله الثلث فلان الوصية كلها
لا تلزمه إلا في الثلث فما دون وهذا منها وما زاد على الثلث يقف على إجازة الورثة فإن أجازوه جاز
وإلا رد إلى الورثة ولا تعتبر قيمة أم الولد من الثلث لأنها تعتق من رأس المال فلا تحتسب من
الثلث كقضاء الديون وأداء الواجبات
(فصل) وإن أوصى لمدبره أو مدبرته صحت الوصية أيضا الا انه تعتبر قيمته وما أوصى له
به من الثلث لأن التدبير تبرع فكان من الثلث كالوصي فإن خرجا من الثلث عتق وكان ما أوصى
به له وصحت الوصية لأنها وقعت في حال حريته فأشبهت الوصية لام ولده وإن لم يخرجا من الثلث
اعتبرت قيمته من الثلث فيعتق منه بقدر الثلث ليعتق دون المال، وإن كانت قيمته قدر الثلث عتق ولا وصية
له وإن فضل من الثلث شئ بعد عتقه فله من الوصية تمام الثلث يقف ما زاد على إجازة الورثة
510

(مسألة) قال (وإذا مات عن أم ولده فعدتها حيضة)
إنما كان كذلك لأن الواجب عليها استبراء نفسها لخروجها عن ملك سيدها الذي كان يطؤها
فكان ذلك بحيضة كما لو أعتقها سيدها في حياته وإنما سمى الخرقي هذا عدة لأن الاستبراء أشبه العدة
في كونه يمنع النكاح وتحصل به معرفة براءتها من الحمل وقد ذكرنا هذه المسألة في العدد والخلاف
فيها على ما مضى
(مسألة) قال (وإذا جنت أم الولد فداها سيدها بقيمتها أو دونها)
وجملته ان أم الولد إذا جنت تعلق أرش جنايتها برقبتها وعلى السيد أن يفيدها بأقل الامرين
من قيمتها أو دونها وبهذا قال الشافعي وحكى أبو بكر عبد العزيز قولا آخر انه يفديها
بأرش جنايتها بالغة ما بلغت لأنه لم يسلمها في الجناية فلزمه أرش جنايتها بالغة ما بلغت كالقن، وقال
أبو ثور وأهل الظاهر ليس عليه فداؤها وتكون جنايتها في ذمتها تتبع بها إذا عتقت لأنه لا يملك
بيعها فلم يكن عليه فداؤها كالحرة
ولنا انها مملوكة له كسبها لم يسلمها فلزمه أرش جنايتها كالقن ولا تلزمه زيادة على قيمتها لأنه
لم يمتنع من تسليمها، وإنما الشرع منع ذلك لكونها لم تبق محلا للبيع ولا لنقل الملك فيها وفارقت
511

القن إذا لم يسلمها فإنه ان أمكن أن يسلمها للبيع فربما زاد فيها مزايد أكثر من قيمتها فإذا امتنع
مالكها من تسليمها أوجبنا عليه الأرش بكماله، وفي مسئلتنا لا يحتمل ذلك فيها فإن بيعها غير جائز
فلم يكن عليه أكثر من قيمتها
(فصل) وإذا ماتت قبل فدائها فلا شئ على سيدها لأنه لم يتعلق بذمته شئ وإنما تعلق برقبتها
فإذا ماتت سقط الحق لتلف متعلقه، وان نقصت قيمتها قبل فدائها وجب فداؤها بقيمتها يوم الفداء
لأنها لو تلف جميعها لسقط الفداء فوجب أن يسقط بعضه بتلف بعضها، وان زادت قيمتها زاد فداؤها
لأن متعلق الحق زاد فزاد الفداء بزيادته كالرقيق القن وينبغي أن تحسب قيمتها معيبة بعيب الاستيلاد
لأن ذلك نقصها فاعتبر كالمرض وغيره من العيوب، ولان الواجب قيمتها في حال فدائها وقيمتها
ناقصة عن قيمة غير أم الولد فيجب أن ينقص فداؤها وأن يكون مقدار قيمتها في حال كونها أم
ولد والحكم في المدبرة كالحكم في أم الولد الا انها يجوز بيعها في رواية فيمكن تسليمها للبيع
ان اختار سيدها، وان امتنع منه فهل يفديها بأقل الامرين ويلزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ؟
يخرج على روايتين
(فصل) وان كسبت بعد جنايتها شيئا فهو لسيدها لأن الملك ثابت له دون المجني عليه وان
ولدت فهو لسيدها أيضا لأنه منفصل عنها فأشبه الكسب وان فداها في حال حملها فعليه قيمتها حاملا لأن
الولد متصل بها فأشبه سمنها، وان أتلفا سيدها فعليه قيمتها لأنه أتلف حق غيره فأشبه ما لو أتلف
الرهن وإن نقصها فعليه نقصها لأنه لما ضمن العين ضمن اجزاءها والله أعلم
(مسألة) قال (فإن عادت فجنب فداها كما وصفت)
512

وجملته ان أم الولد إذا جنت جنايات لم تخل من أن تكون الجنايات كلها قبل فداء شئ منها أو
بعده فإن كانت قبل الفداء تعلق أرش الجميع برقبتها ولم يكن عليه فيها كلها إلا قيمتها أو أرش جميعها
وعليه الأقل منهما ويشترط المجني عليهم في الواجب لهم فإن وفى بها وإلا تحاصوا فيه بقدر أروش
جناياتهم، وإن كان الثاني بعد فدائها من الأول فعليه فداؤها من التي بعدها كما فدى الأولى،
وقال أبو الخطاب عن أحمد رضي الله عنه رواية ثانية إذا فداها بقيمتها مرة لم يلزمه فداؤها بعد
ذلك لأنها جانية فلم يلزمه أكثر من قيمتها كما لو لم يكن فداها، وقال الشافعي رضي الله عنه في أحد
قوليه لا يضمنها ثانيا ويشارك الثاني الأول فيما اخذه كما لو كانت الجنايات قبل فدائها
ولنا انها أم ولد جانية فلزمه فداؤها كالأولى ولان ما اخذه الأول عوض جنايته اخذه بحق
فلم يجز ان يشاركه غيره فيه كأرش جناية الحر أو الرقيق القن وفارق ما قبل الفداء لأن أرش الجنايات
تعلق برقبتها في وقت واحد فلم يلزم السيد أكثر من قيمة واحدة كما لو كانت الجنايات على واحد
(فصل) فإن أبرأ بعضهم من حقه توفر الواجب على الباقين إذا كانت كلها قبل الفداء وإن كانت
الجناية المعفو عنها بعد فدائه توفر أرشها على سيدها والله أعلم
(مسألة) قال (ووصية الرجل لأن ولده واليها جائزة)
أما الوصية لها فقد ذكرناها وأما الوصيد إليها فجائزة لأنها في حال نفوذ الوصية حرة فأشبهت زوجته أو
غيرها من النساء ويعتبر لصحة الوصية إليها ما يعتبر في غيرها من العدالة والعقل وسائر الشروط وسواء كانت
الوصية على أولادها أو غيرهم أو وصى إليها بتفريق ثلثه أو قضاء دينه أو امضاء وصيته أو غير ذلك
513

(مسألة) قال (وله تزويجها وان كرهت)
وجملته ان للرجل تزويج أم ولده أحبت ذلك أم كرهت وبهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه
وهو أحد قولي الشافعي واختيار المزني وقال في القديم ليس له تزويجها إلا برضاها لأنها قد ثبت لها
حكم الحرية على وجه لا يملك السيد ابطالها فلم يملك تزويجها بغير رضاها كالمكاتبة وقال في الثالث
ليس له تزويجها وان رضيت لأن ملكه فيها قد ضعف وهي لم تكمل فلم يملك تزويجها كاليتيمة وهل
يزوجها الحاكم على هذا القول؟ فيه خلاف وقد روي عن أحمد رضي الله عنه انه قيل له ان مالكا لا يرى
تزويجها فقال وما نصنع بمالك؟ هذا ابن عمر وابن عباس يقولان إذا ولدت من غيره كان لولدها حكمها
ولنا انها أمة يملك الاستمتاع بها واستخدامها فملك تزويجها كالقن وفارقت المكاتبة فإنه لا يملك
ذلك منها والقول الثالث فاسد لذلك ولأنه يفضي إلى منع النكاح لامرأة بالغة محتاجة إليه، وقولهم
يزوجها الحاكم لا يصح فإن الحاكم لا يزوج إلا عند عدم الولي أو غيبته أو عضله ولم يوجد واحد منها
إذا ثبت هذا فإنه إذا زوجها فالمهر له لأنه بمنزلة كسبها وكسبها له وإذا عتقت بموته فإن كان زوجها
عبدا فلها الخيار ولأنها عتقت تحت عبد وإن كان حرا فلا خيار لها
514

(مسألة) قال (ولا حد على من قذفها)
هذا قول أكثر أهل العلم وقد روي عن أحمد رضي الله عنه انه عليه الحد لأن ذلك يروى عن
ابن عمر ولان قذفها قذف لولدها الحر وفيها معنى يمنع بيعها فأشبهت الحرة والأول أصح لأنها أمة
حكمها حكم الإماء في أكثر أحكامها ففي الحد أولى لأن الحدود تدرأ بالشبهات ويحتاط لاسقاطها
ولأنها أمة تعتق بالموت اشبهت المدبرة وتفارق الحرة فإنها كاملة
(فصل) ولا يجب القصاص على الحرة بقتلها لعدم المكافأة، وإن كان القاتل لها رقيقا وجب
القصاص عليه لأنها أكمل منه، وإن جنت على عبد أو أمة جناية فيها القصاص لزمها القصاص لأنها
أمة أحكامها أحكام الإماء واستحقاقها العتق لا يمنع القصاص كالمدبرة
(مسألة) قال (وان صلت مكشوفة الرأس كره لها ذلك وأجزأها)
إنما كره لها كشف رأسها في صلاتها لأنها قد اخذت شبها من الحرائر لامتناع بيعها وقد سئل
احمد رضي الله عنه عن أم الولد كيف تصلي؟ قال تغطي رأسها وقدميها لأنها لاتباع وكان الحسن
515

يجب للأمة إذا عهدها سيدها يعني وطئها ان لا تصلي إلا مجتمعة وإن صلت مكشوفة الرأس أجزأها
لأنها أمة حكمها حكم الإماء، قال إبراهيم تصلي أم الولد بغير قناع وإن كانت بنت ستين سنة، وقد
روي عن أحمد رضي الله عنه رواية أخرى ان عورتها عورة الحرة وذكرنا ذلك في كتاب الصلاة
والصحيح ان حكمها حكم الإماء وإنما خالفتهن في استحقاقها للعتق وامتناع نقل الملك فيها وهذا
لا يجوب تغيير الحكم في عورتها كالمدبرة ولان الأصل بقاء حكمها في إباحة كشف رأسها ولم يوجد
ما ينقل عنه من نص ولا ما في معناه فيبقى الحكم على ما كان عليه
(مسألة) قال (وإذا قتلت أم الولد سيدها فعليها قيمة نفسها)
وجملته ان أم الولد إذا قتلت سيدها عتقت لأنها لا يمكن نقل الملك فيها وقد زال ملك سيدها
بقتله فصارت حرة كما لو قتله غيرها وعليها قيمة نفسها ان لم يجب القصاص عليها وهذا قول أبي يوسف
وقال الشافعي عليها الدية لأنها تصير حرة ولذلك لزمها موجب جنايتها والواجب على الحر بقتل الحر دية
ولنا انها جناية من أم ولد فلم يجب بها أكثر من قيمتها كما لو جنت على أجنبي ولان اعتبار
516

الجناية في حق الجاني بحال الجناية بدليل ما لو جنى على عبد فأعتقه سيده وهي في حال الجناية أمة فإنها
إنما عتقت بالموت الحاصل بالجناية فيكون عليها فداء نفسها بقيمتها كما يفيدها سيدها إذا قتلت غيره
ولأنها ناقصة بالرق أشبهت القن وتفارق الحر فإنه جنى وهو كامل وإنما تعلق موجب الجناية بها لأنها
فوتت رقها بقتله لسيدها فأشبه ما لو فوت المكاتب الجاني رقه بأدائه واما ان قتلت سيدها عمدا
ولم يكن لها منه ولد فعليها القصاص لورثة سيدها وإن كان له منها ولد وهو الوارث وحده فلا قصاص عليها لأنه
لو وجب لوجوب لولدها ولا يجب للولد على أمه قصاص، وقد توقف احمد رضي الله عنه عن هذه المسألة
في رواية مهنا، وقال دعنا من هذه المسائل وقياس مذهبه ما ذكرناه وإن كان لها منه ولد وله أولاد من
غيرها لم يجب القصاص أيضا لأن حق ولدها من القصاص يسقط فيسقط كله وقد نقل
مهنا عن أحمد رضي الله عنه انه يقتلها أولاده من غيرها وهذه الرواية تخالف
أصول مذهبه والصحيح انه لا قصاص عليها ويجب عليها فداء
نفسها بقيمتها كما لو عفا بعض مستحقي القصاص
عن حقه منه والله أعلم والحمد لله
وحده وصلى الله على محمد
(تم الجزء الثاني عشر..)
517

خاتمة الطبع
الحمد لله الذي بنعمته نتم الصالحات، والصلاة والسلام على المصلح الأعظم بالآيات البينات،
والعلم النافع والحكم الباهرات، محمد رسول الله وخاتم النبيين، وآله الطاهرين، وأصحابه الهداة
المهديين، ومن تبعهم إلى يوم الدين
أما بعد فإنه قد تم طبع كتاب (المغني) في فقه الاسلام، ومدارك المجتهدين من أئمته
الاعلام، مع كتاب الشرح الكبير المقتبس منه مع زيادة بعض الفوائد والاستدراكات، وقد بينا
مزايا الكتابين ووجوه الحاجة إليهما وترجمة مؤلفيهما في المقدمة التي نشرناها في الجزء الأول، وقد بلغت
أجزاؤهما 12 مجلدا كبيرا ولا يسعنا الا أن نعود في هذه الخاتمة إلى الثناء على مسدي هذا الخير العظيم
إلى الأمة الاسلامية بالامر بطبعه والانفاق عليه من ماله الخاص به، إمام السنة، ومحيي عدل الخلفاء
وعلوم الأئمة، مؤسس المملكتين، وخادم الحرمين الشريفين، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل
آل سعود ملك الحجاز ونجد، وعاهل العرب في كل غور ونجد، أعزه الله تعالى وأعجز به العرب
والاسلام، ونفع به الأنام، وقد كان أمرنا أولا بطبع خمسمائة نسخة منه فقط ليوزعها على علماء
نجد، وأذن لنا أن نطبع منه ما شئنا على حسابنا لأجل نشره في سائر الأمصار، وبعد صدور عدة أجزاء
منه وكان قد استولى على الحجاز، واتسع الباب لنشر مطبوعاته فيه وفي غيره من الأقطار، فاشترى
منا أكثر النسخ التي طبعناها لأجل البيع، وكان قد اشتهر الكتاب في مصر وغيرها، وصار يزيد عدد
طالبيه فاضطررنا إلى زيادة ما كنا نطبعه لمكتبتنا عما تحتاج إليه لتكملة نسخ الذين اشتروا الاجزاء الأولى
وما زالوا يكثرون حتى اضطررنا إلى إعادة طبع الاجزاء الأولى، ولا شك أن لهذا الإمام
والملك الهمام ثواب الألوف من النسخ التي يوزعها على العلماء مجانا وثواب سائر النسخ التي يشتريها
منا المنتفعون بهذا الكتاب الجليل لأنه هو السبب في وجوده، ولولاه لما أقدمنا ولا أقدم غيرنا على
طبعه، لأن التجار لا يقدمون على طبع اثني عشر مجلدا في الفقه لاحد فقهاء مذهب الإمام أحمد بن
حنبل مع قلة الحنابلة في الأمصار وفقرهم، وقلة من يعلم أن هذا الكتاب هو في فقه الاسلام في
جملته لا فقه الحنابلة وحدهم
وقد بذلت مطبعتنا الجهد في تصحيح الكتاب بالمقابلة على أحسن النسخ الخطية المحفوظة في
خزائن المكتبة المصرية الكبرى العامة وهذه النسخ من وقف الملك المؤيد رحمه الله تعالى
ونسأل الله تعالى أن يثيبنا على ذلك وينفعنا نحن وسائر علماء المسلمين بهذا الكتاب النفيس.
ولله الحمد أولا وآخرا. *. صاحب مطبعة المنار ومكتبتها بمصر
محمد رشيد رضا
518