الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ١١
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغني
تأليف الشيخ الإمام العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمود بن قدامة المتوفى سنة 630 ه‍
على مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي المتوفى سنة 334 ه‍
الجزء الحادي عشر
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصيد والذبائح
الأصل في إباحة الصيد الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (أحل لكم
صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وقال سبحانه (وإذا
حللتم فاصطادوا) وقال سبحانه (يسألونك ماذا أحل لهم؟ قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من
الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) وأما
السنة فروى أبو ثعلبة الخشني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله انا بأرض صيد أصيد بقوسي
وأصيد بكلبي المعلم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم فأخبرني ماذا يصلح لي؟ قال " أما ما ذكرت أنكم
بأرض صيد فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم
2

الله عليه فكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل " وعن عدي بن حاتم
قال قلت يا رسول الله انا نرسل الكلب المعلم فيمسك علينا قال " كل " قلت وإن قتل؟ قال " كل ما لم
يشركه كلب غيره " قال، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال " ما خرق فكل وما
قتل بعرضه فلا تأكل " متفق عليهما، وأجمع أهل العلم على إباحة الاصطياد والاكل من الصيد
(مسألة) قال (وإذا سمى وأرسل كلبه أو فهده العلم واصطاد وقتل ولم يأكل منه جاز أكله)
أما ما أدرك ذكاته من الصيد فلا يشترط في اباحته سوى صحة التذكية ولذلك قال عليه السلام
" وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل " وأما ما قتل الجارح فيشترط في اباحته شروط سبعة
(أحدها) أن يكون الصائد من أهل الذكاة، فإن كان وثنيا أو مرتدا أو مجوسيا أو من غير
المسلمين وأهل الكتاب أو مجنونا لم يبح صيده لأن الاصطياد أقيم مقام الذكاة والجارح آلة
كالسكين وعقره للحيوان بمنزلة افراء الأوداج. قال النبي صلى الله عليه وسلم " فإن أخذ الكلب ذكاته "
والصائد بمنزلة المذكي فتشترط الأهلية فيه
(الشرط الثاني) أن يسمي عند ارسال الجارح فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح، هذا
تحقيق المذهب وهو قول الشعبي وأبي ثور وداود، ونقل حنبل عن أحمد إن نسي التسمية على
الذبيحة والكلب أبيح، قال الخلال سها حنبل في نقله فإن في أول مسئلته إذا نسي وقتل لم يأكل وممن
3

أباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة ومالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن
الخطأ والنسيان " ولان ارسال الجارحة جرى مجرى التذكية فعفي عن النسيان فيه كالذكاة، وعن
أحمد أن التسمية تشترط على ارسال الكلب في العمد والنسيان ولا يلزم ذلك في ارسال السهم إليه حقيقة
وليس له اختيار فهو بمنزلة السكين بخلاف الحيوان فإنه يفعل باختياره وقال الشافعي: يباح متروك
التسمية عمدا أو سهوا لأن البراء روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم
يسم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي
الله فقال اسم الله في قلب كل مسلم وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا
ولنا قوله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وقال (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا
اسم الله عليه) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلبك وسميت فكل) قلت ارسل كلبي فأخذ معه
كلبا آخر؟ قال " لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر " متفق عليه وفي لفظ
" وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل " وفي حديث أبي ثعلبة " وما صدت
بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل " وهذه نصوص صحيحة لا يعرج على ما خالفها، وقوله " عفي
لامتي عن الخطأ والنسيان " يقتضي نفي الاثم لا جعل الشرط المعدوم كالموجود بدليل ما لو نسي شرط
الصلاة، والفرق بين الصيد والذبيحة ان الذبح وقع في محله فجاز أن يتسامح فيه بخلاف الصيد. فاما
أحاديث أصحاب الشافعي فلم يذكرها أصحاب السنن المشهورة، وان صحت فهي في الذبيحة ولا
يصح قياس الصيد عليها لما ذكرنا مع ما في الصيد من النصوص الخاصة. إذا ثبت هذا فالتسمية
4

المعتبرة قوله بسم الله لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى ذلك، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا ذبح قال " بسم الله والله أكبر " وكان ابن عمر يقوله ولا خلاف في أن قوله بسم الله يجزئه
وان قال اللهم اغفر لي لم يكف لأن ذلك طلب حاجة، وان هلل أو سبح أو كبر أو حمد الله تعالى
احتمل الاجزاء لأنه ذكر اسم الله تعالى على وجه التعظيم واحتمل المنع لأن اطلاق التسمية لا
يتناوله، وان ذكر اسم الله تعالى بغير العربية أجزأه وإن أحسن العربية لأن المقصود ذكر اسم الله
وهو يحصل بجميع اللغات بخلاف التكبير في الصلاة فإن المقصود لفظه وتعتبر التسمية عند الارسال
لأنه الفعل الموجود من المرسل فتعتبر التسمية عنده كما تعبر عند الذبح من الذابح وعند ارسال السهم
من الرامي نص احمد على هذا ولا تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع التسمية في ذبح ولا صيد وبه
قال الليث، واختار أبو إسحاق بن شاقلا استحباب ذلك وهو قول الشافعي لقوله عليه السلام
" من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا " وجاء في تفسير قوله تعالى (ورفعنا لك ذكرك)
لا أذكر إلا ذكرت معي
ولنا قوله عليه السلام " موطنان لا أذكر فبهما: عند الذبيحة والعطاس " رواه أبو محمد الخلال باسناده
ولأنه إذا ذكر غير الله تعالى أشبه المهل لغير الله
(الشرط الثالث) أن يرسل الجارحة على الصيد فإن استرسلت بنفسها فقتلت لم يبح وبهذا
قال ربيعة ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال عطاء والأوزاعي يؤكل صيده إذا أخرجه
للصيد، وقال إسحاق إذا سمى عند انفلاته أبيح صيده وروى باسناده عن ابن عمر أنه سئل عن الكلاب
5

تنفلت من مرابضها فتصيد الصيد قال أذكر اسم الله وكل، قال إسحاق فهذا الذي اختار إذا لم يتعمد هو
إرساله من غير ذكر اسم الله عليه قال الخلال هذا على معنى قول أبي عبد الله
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أرسلت كلبك وسميت فكل " ولان إرسال الجارحة جعل بمنزلة الذبح
ولهذا اعتبرت التسمية معه، وان استرسل بنفسه فسمى صاحبه وزجره فزاد في عدوه أبيح صيده وبه قال
أبو حنيفة، وقال الشافعي لا يباح وعن عطاء كالمذهبين
ولنا أن زجره أثر في عدوه فصار كما لو أرسله وذلك لأن فعل الانسان متى انضاف إلى فعل
غيره فالاعتبار بفعل الانسان بدليل ما لو صال الكلب على انسان فأغراه انسان فالضمان على من
أغراه، وإن أرسله بغير تسمية ثم سمى وزجره فزاد في عدوه فظاهر كلام احمد أنه يباح فإنه قال
إذا أرسل ثم سمى فانزجر أو أرسل وسمى فالمعنى قريب من السواء وظاهر هذا الإباحة لأنه انزجر بتسميته
وزجره فأشبه التي قبلها وقال القاضي لا يباح صيده لأن الحكم يتعلق بالارسال الأول بخلاف ما إذا
استرسل بنفسه فإنه لا يتعلق به حظر ولا إباحة
(الشرط الرابع) أن يكون الجارح معلما ولا خلاف في اعتبار هذا الشرط لأن الله تعالى قال
(وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم) وما تقدم من حديث
أبي ثعلبة ويعتبر في تعليمه ثلاثة شروط: إذا أرسله استرسل وإذا زجره انزجر وإذا أمسك لم يأكل
ويتكرر هذا منه مرة بعد أخرى حتى يصير معلما في حكم العرف وأقل ذلك ثلاث قاله القاضي وهو
قول أبي يوسف، ومحمد ولم يقدر أصحاب الشافعي عدد المرات لأن التقدير بالتوقيف ولا توقيف في
6

هذا بل قدره بما يصير به في العرف معلما، وحكي عن أبي حنيفة انه إذا تكرر مرتين صار معلما
لأن التكرار يحصل بمرتين، وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب يحصل ذلك بمرة ولا يعتبر التكرار
لأنه تعلم صنعة فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع
ولنا ان تركه للاكل يحتمل أن يكون لشبع ويحتمل انه لتعلم فلا يتميز ذلك الا بالتكرار وما
اعتبر فيه التكرار اعتبر ثلاثا كالمسح في الاستجمار وعدد الاقرار والشهود في العدة والغسلات في
الوضوء ويفارق الصنائع فإنها لا يتمكن من فعلها الا من تعلمها فإذا فعلها علم أنه قد تعلمها وعرفها
وترك الاكل ممكن الوجود من المتعلم وغيره ويوجد من الصنفين جميعا فلا يتميز به أحدهما من الآخر
حتى يتكرر، وحكي عن ربيعة ومالك انه لا يعتبر ترك الأكل لما روى أبو ثعلبة الخشني قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن اكل " ذكره الإمام أحمد
ورواه أبو داود.
ولنا أن العادة في المعلم ترك الأكل فاعتبر شرطا كالانزجار إذا زجر، وحديث أبي ثعلبة معارض
بما روي عن عدي بن حاتم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فإن اكل فلا تأكل فاني أخاف أن يكون إنما
أمسك على نفسه " وهذا أولى بالتقديم لأنه متفق عليه ولأنه متضمن للزيادة وهو ذكر الحكم معللا ثم
إن حديث أبي ثعلبة محمول على جارحة ثبت تعليمها " لقوله إذا أرسلت كلبك المعلم " ولا يثبت
التعليم حتى يترك الاكل. إذا ثبت هذا فإن الانزجار بالزجر إنما يعتبر بارساله على الصيد أو رؤيته.
أما بعد ذلك فإنه لا ينزجر بحال
7

(الشرط الخامس) ان لا يأكل من الصيد فإن اكل منه لم يبح في أصح الروايتين ويروى ذلك
عن ابن عباس وأبي هريرة وبه قال عطاء وطاوس وعبيد بن عمير والشعبي والنخعي وسويد بن غفلة
وأبو بردة وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك وقتادة وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور
(والرواية الثانية) يباح وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وسلمان وأبي هريرة وابن عمر حكاه
عنهم الإمام أحمد وبه قال مالك وللشافعي قولان كالمذهبين. واحتج من اباحه بعموم قوله تعالى
(فكلوا مما أمسكن عليكم) وحديث أبي ثعلبة ولأنه صيد جارح معلم فأبيح كما لو لم يأكل فإن الاكل
يحتمل أن يكون لفرط جوع أو غيظ على الصيد
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله
تعالى فكل مما أمسك عليك " قلت وان قتل قال " وإن قتل الا ان يأكل الكلب فإن اكل فلا
تأكل فاني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه " متفق عليه، ولان ما كان شرطا في الصيد الأول
كان شرطا في سائر صيوده كالارسال والتعليم. واما الآية فلا تتناول هذا الصيد فإنه قال (فكلوا
مما أمسكن عليكم) وهذا إنما أمسك على نفسه. واما حديث أبي ثعلبة فقد قال أحمد يختلفون عن
هشيم فيه، وعلى أن حديثنا أصح لأنه متفق عليه وعدي بن حاتم أضبط ولفظه أبين لأنه ذكر الحكم
والعلة. قال احمد حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الشعبي يقول كان جاري
وربيطي فحدثني والعمل عليه ويحتمل انه أكل منه بعد أن قتله وانصرف عنه، وإذا ثبت هذا فإنه لا يحرم
ما تقدم من صيوده في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة يحرم لأنه لو كان معلما ما أكل
8

ولنا عموم الآية والاخبار وإنما خص منه ما أكل منه ففيما عداه يجب القضاء بالعموم ولان اجتماع
شروط التعليم حاصلة فوجب الحكم به ولهذا حكمنا بحل صيده فإذا وجد الاكل احتمل أن يكون
لنسيان أو لفرط جوعه أو نسي التعليم فلا يترك ما ثبت يقينا بالاحتمال
(فصل) فإن شرب دمه ولم يأكل منه لم يحرم نص عليه احمد وبه قال عطاء والشافعي وإسحاق
وأبو ثور وأصحاب الرأي وكرهه الشعبي والثوري لأنه في معنى الاكل
ولنا عموم الآية والاخبار وإنما خرج منه ما أكل منه بحديث عدي " فإن أكل منه فلا
تأكل " وهذا لم يأكل، ولان الدم لا يقصده الصائد منه ولا ينتفع به فلا يخرج بشربه عن أن
يكون ممسكا على صائده
(فصل) ولا يحرم ما صاده الكلب بعد الصيد الذي أكل منه ويحتمل كلام الخرقي انه يخرج
عن أن يكون معلما فتعتبر له شروط التعليم ابتداء والأول أولى لما ذكرنا في صيده الذي قبل الاكل
(الشرط السادس) ان يجرح الصيد فإن خنقه أو قتله بصدمته لم يبح، قال الشريف وبه قال
أكثرهم، وقال الشافعي في قول له يباح لعموم الآية والخبر
ولنا انه قتله بغير جرح أشبه ما قتله بالحجر والبندق ولان الله تعالى حرم الموقوذة وهذا كذلك
وهذا يخص ما ذكروه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل " يدل على أنه
لا يباح ما لم ينهر الدم
(الشرط السابع) أن يرسله على صيد فإن أرسله وهو لا يرى شيئا ولا يحس به فأصاب صيدا لم يبح هذا قول
9

أكثر أهل العلم لأنه لم يرسله على الصيد وإنما استرسل بنفسه وهكذا ان رمى سهما إلى غرض فأصاب
صيدا أو رمى به إلى فوق رأسه فوقع على صيد فقتله لم يبح لأنه لم يقصد برميه عينا فأشبه من نصب
سكينا فانذبحت بها شاة
(فصل) وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم كالفهد أو جوارح الطير فحكمه
حكم الكلب في إباحة صيده قال ابن عباس في قوله تعالى (وما علمتم من الجوارح) هي الكلاب
المعلمة وكل طير تعلم الصيد والفهود والصقور وأشباهها وبمعنى هذا قال طاوس ويحيى بن أبي كثير
والحسن ومالك والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي وأبو ثور، وحكي عن ابن عمر
ومجاهد انه لا يجوز الصيد إلا بالكلب لقول الله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين) يعني
كلبتم من الكلاب
ولنا ما روي عن عدي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال " إذا أمسك
عليك فكل " ولأنه جارح يصاد به عادة ويقبل التعليم فأشبه الكلب، فأما الآية فإن الجوارح
الكواسب (ويعلم ما جرحتم بالنهار) أي كسبتم، وفلان جارحة أهله اي كاسبهم (مكلبين) من
التكليب وهو الاغراء
(فصل) وهل يجب غسل أثر فم الكلب من الصيد؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يجب لأن الله تعالى
ورسوله أمرا بأكله ولم يأمرا بغسله (والثاني) يجب لأنه قد ثبتت نجاسته فيجب غسل ما أصابه كبوله
10

(مسألة) قال (وإذا أرسل البازي وما أشبهه فصاد وقتل أكل وإن أكل من الصيد
لأن تعليمه بأن يأكل)
وجملته انه يشترط في الصيد بالبازي ما يشترط في الصيد بالكلب إلا ترك الأكل فلا يشترط ويباح
صيده وإن أكل منه، وبهذا قال ابن عباس واليه ذهب النخعي وحماد والثوري وأبو حنيفة وأصحابه
ونص الشافعي على أنه كالكلب في تحريم ما أكل منه من صيده لأن مجالدا روى عن الشعبي عن عدي
ابن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم " فإن أكل الكلب والبازي فلا تأكل " ولأنه جارح أكل مما صاده عقيب
قتله فأشبه سباع البهائم
ولنا اجماع الصحابة روى الخلال باسناده عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل من
الصيد وإذا أكل الصقر فكل لأنك تستطيع ان تضرب الكلب ولا تستطيع أن تضرب الصقر
وقد ذكرنا عن أربعة من الصحابة إباحة ما أكل منه الكلب وخالفهم ابن عباس فيه ووافقهم في
الصقر ولم ينقل عن أحد في عصرهم خلافهم، ولان جوارح الطير تعلم بالاكل ويتعذر تعليمها بترك
الاكل فلم يقدح في تعليمها بخلاف الكلب والفهد، وأما الخبر فلا يصح يرويه مجالد وهو ضعيف
قال احمد مجالد يصير القصة واحدة كم من أعجوبة لمجالد والروايات الصحيحة تخالفه، ولا يصح قياس
الطير على السباع لما بينهما من الفرق فإذا ثبت هذا فكل جارح من الطير أمكن تعليمه والاصطياد
به من البازي والصقر والشاهين والعقاب حل صيدها على ما ذكرناه
(مسألة) قال (ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما لأنه شيطان)
البهيم الذي لا يخالط لونه لون سواه قال احمد الذي ليس فيه بياض، قال ثعلب وإبراهيم
11

الحربي كل لون لم يخالطه لون آخر بهيم قيل لهما من كل لون؟ قالا نعم، وممن كره صيده الحسن
والنخعي وقتادة وإسحاق، قال احمد ما أعرف أحدا يرخص فيه يعني من السلف وأباح صيده أبو
حنيفة ومالك والشافعي لعموم الآية والخبر والقياس على غيره من الكلاب
ولنا انه كلب يحرم اقتناؤه ويجب قتله فلم يبح صيده كغير المعلم، ودليل تحريم اقتنائه قول النبي
صلى الله عليه وسلم " فقتلوا منها كل أسود بهيم " رواه سعيد وغيره
وروى مسلم في صحيحه باسناده عن عبد الله بن المغفل قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب
ثم نهى عن قتلها فقال " عليكم بالأسود البهيم ذي النكتتين فإنه شيطان " فأمر بقتله وما وجب
قتله حرم اقتناؤه وتعليمه فلم يبح صيده لغير المعلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم سماه شيطانا ولا يجوز اقتناء
الشيطان وإباحة الصيد المقتول رخصة فلا تستباح بمحرم كسائر الرخص والعمومات مخصوصة بما
ذكرناه وإن كان فيه نكتتان فوق عينيه لم يخرج بذلك عن كونه نهيا لما ذكرناه من الخبر
(مسألة) قال (وإذا أراد الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات لم يؤكل)
يعني والله أعلم ما كان فيه حياة مستقرة، فأما ما كانت حياته كحياة المذبوح فهذا يباح من غير
ذبح في قولهم جمعا فإن الذكاة في مثل هذا لا تفيد شيئا، وكذلك لو ذبحه مجوسي ثم أعاد ذبحه مسلم
لم يحل، فاما ان أدركه وفيه حياة مستقرة فلم يذبحه حتى مات نظرت فإن لم يتسع الزمان لذكاته حتى
12

مات حل أيضا، قال قتادة يأكله ما لم يتوان في ذكاته أو يتركه عمدا وهو قادر على أن يذكيه ونحوه
قول مالك والشافعي، وروي عن الحسن والنخعي وقال أبو حنيفة لا يحل لأنه أدركه حيا حياة مستقرة
فتعلقت اباحته بتذكيته كما لو اتسع الزمان
ولنا انه لم يقدر على ذكاته بوجه ينسب فيه إلى التفريط ولم يتسع لها الزمان فكان عقره ذكاته
كالذي قتله، ويفارق ما قاسوا عليه لأنه أمكنه ذكاته وفرط بتركها، ولو أدركه وفيه حياة مستقرة
يعيش بها طويلا وأمكنته ذكاته فلم يدركه حتى مات لم يبح سواء كان به جرح يعيش معه أولا وبه
قال مالك والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن ما كان كذلك فهو في حكم الحي
بدليل ان عمر رضي الله عنه كانت جراحاته موحية فأوصى وأجيزت وصاياه وأقواله في تلك الحال
ولا سقطت عنه الصلاة والعبادات ولأنه ترك تذكيته مع القدرة عليها فأشبه غير الصيد
(مسألة) قال (فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل)
يعني أغرى الكلب به وأرسله عليه، ومعنى أشلى في العربية دعا الا أن العامة تستعمله بمعنى
أغراه، ويحتمل أن الخرقي أراد دعاه ثم أرسله لأن ارساله على الصيد يتضمن دعاءه إليه، واختلف
قول أحمد في هذه المسئلة فعنه مثل قول الخرقي وهو قول الحسن وإبراهيم وقال في موضع: اني
لأقشعر من هذا يعني أنه لا يراه وهو قول أكثر أهل العلم لأنه مقدور عليه فلم يبح بقتل الجارح
له كبهيمة الأنعام وكما لو اخذه سليما، ووجه الأولى أنه صيد قتله الجارح له من غير امكان ذكاته
13

فأبيح كما لو أدركه ميتا ولأنها حال تتعذر فيها الذكاة في الحلق واللبة غالبا فجاز أن تكون ذكاته على
حسب الامكان كالمتردية في بئر، وحكي عن القاضي أنه قال في هذا يتركه حتى يموت فيحل لأنه
صيد تعذرت تذكيته فأبيح بموته من عقر الصائد له كالذي تعذرت تذكيته لقلة لبته والأول أصح
لأنه حيوان لا يباح بغير التذكية إذا كان معه آلة الذكاة فلم يبح بغيرها إذا لم يكن معه آلة
كسائر المقدور على تذكيته، ومسألة الخرقي محمولة على ما يخاف موته ان لم يقتله الحيوان أو يذكى
فإن كان به حياة يمكن بقاؤه إلى أن يأتي به منزله فليس فيه اختلاف أنه لا يباح الا بالذكاة
لأنه مقدور على تذكيته
(مسألة) قال (وإذا أرسل كلبه فأضاف معه غيره لم يؤكل الا ان يدرك في الحياة فيذكى)
معنى المسألة أن يرسل كلبه على صيد فيجد الصيد ميتا ويجد مع كلبه كلبا لا يعرف حاله ولا
يدري هل وجدت فيه شرائط صيده أولا ولا يعلم أيهما قتله؟ أو يعلم أنهما جميعا قتلاه أو ان قاتله
الكلب المجهول فإنه لا يباح إلا أن يدركه حيا فيذكيه وبهذا قال عطاء والقاسم بن مخيمرة ومالك
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا، والأصل فيه ما روى عدي بن حاتم قال
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر قال " لا تأكل فإنك إنما سميت
على كلبك ولم تسم على الآخر " وفي لفظ " فإن وجدت مع كلبك كلبا آخر فخشيت أن يكون أخذ معه وقد
قتله فلا تأكله فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك " وفي لفظ " فإنك لا تدري أيهما قتل؟ "
14

أخرجه البخاري ولأنه شك في الاصطياد المبيح فوجب ابقاء حكم التحريم، فأما ان علم أن كلبه الذي
قتل وحده أو ان الكب الآخر مما يباح صيده أبيح بدلالة تعليل تحريمه " فإنك إنما سميت على
كلبك ولم تسم على الآخر " وقوله " فإنك لا تدري أيهما قتل " ولأنه لم يشك في المبيح فلم يحرم كما
لو كان هو أرسل الكلبين وسمى، ولو جهل حال الكلب المشارك لكلبه ثم انكشف له أنه مسمى
عليه مجتمعة فيه الشرائط حل الصيد، ولو اعتقد حله لجهله بمشاركة الآخر له أو لاعتقاده أنه كلب
مسمى عليه ثم بان بخلافه حرم لأن حقيقة الإباحة والتحريم لا تتغير باعتقاده خلافها ولا الجهل بوجودها
(فصل) وإن ارسل كلبه فأرسل مجوسي كلبه فقتلا صيدا لم يحل لأن صيد المجوسي حرام فإذا
اجتمع الحظر والإباحة غلب الحظر كالمتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل ولان الأصل الحظر، الحل موقوف
على شرط وهو تذكية من هو من أهل الذكاة أو صيده الذي حصلت التذكية به ولم يتحقق ذلك وكذلك
ان رمياه بسهميهما فأصاباه فمات، ولا فرق بين ان يقع سهماهما فيه دفعة واحدة أو يقع أحدهما
قبل الآخر إلا أن يكون الأول قد عقره عقرا موحيا مثل ان ذبحه أو جعله في حكم المذبوح ثم اصابه
الثاني وهو غير مذبوح فيكون الحكم الأول، فإن كان الأول المسلم أبيح وإن كان المجوسي لم يبح،
وإن كان الثاني موحيا أيضا فقال أكثر أصحابنا الحكم للأول أيضا لأن الإباحة حصلت به فأشبه
ما لو كان الثاني غير موح، ويجئ على قول الخرقي أنه لا يباح لقوله وإذا ذبح فاتى على المقاتل فلم
تخرج الروح حتى وقعت في الماء أو وطئ عليها شئ لم تؤكل ولان الروح خرجت بالجرحين فأشبه
15

ما لو جرحاه معا، وإن كان الأول ليس بموح والثاني موح فالحكم للثاني في الحظر والإباحة،
وإن أرسل المسلم والمجوسي كلبا واحدا فقتل صيدا لم يبح لذلك وكذلك لو أرسله مسلمان وسمى
أحدهما دون الآخر وكذلك لو ارسل المسلم كلبين أحدهما معلم والآخر غير معلم فقتلا صيدا لم يحل
وكذلك أن ارسل كلبه المعلم فاسترسل معه معلم آخر بنفسه فقتلا الصيد لم يحل في قول أكثر أهل العلم
منهم ربيعة ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي يحل ههنا
ولنا أن إرسال الكلب على الصيد شرط لما بيناه ولم يوجد في أحدهما
(فصل) فإن أرسل مسلم كلبه وأرسل مجوسي كلبه فرد كلب المجوسي الصيد إلى كلب المسلم
فقتله حل أكله وهذا قول الشافعي وأبي ثور وقال أبو حنيفة لا يحل لأن كلب المجوسي عاون في
اصطياده فأشبه إذا عقره
ولنا ان جارحة المسلم انفردت بقتله فأبيح كما لو رمى المجوسي سهمه فرد الصيد فأصابه سهم مسلم
فقتله أو أمسك مجوسي شاة فذبحها مسلم وبهذا يبطل ما قاله
(فصل) وإذا صاد المجوسي بكلب مسلم لم يبح صيده في قولهم جميعا وان صاد المسلم بكلب
المجوسي فقتل حل صيده، وبهذا قال سعيد بن المسيب والحكم ومالك والشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي وعن أحمد لا يباح وكرهه جابر والحسن ومجاهد والنخعي والثوري لقوله
تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين) وهذا لم يعلمه، وعن الحسن أنه كره الصيد بكلب اليهودي
والنصراني لهذه الآية.
ولنا انه آلة صاد بها المسلم فحل صيده كالقوس والسهم. قال ابن المسيب هي بمنزلة شفرته
16

والآية دلت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا فهو في معناه فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه
يحققه ان التعليم إنما أثر في جعله آلة ولا تشترط الأهلية في ذلك كعمل القوس والسهم وإنما تشترط فيما
أقيم مقام الذكاة وهو ارسال الآلة من الكلب والسهم وقد وجد الشرط ههنا
(فصل) وإذا أرسل جماعة كلابا وسموا فوجدوا الصيد قتيلا لا يدرون من قتله حل أكله فإن
اختلفوا في قاتله وكانت الكلاب متعلقة به فهو بينهم على السواء لأن الجميع مشتركة في امساكه فأشبه ما لو كان
في أيدي الصيادين أو عبيدهم، وإن كان البعض متعلقا به دون باقيها فهو لمن كلبه متعلق به، وعلى من
حكمنا له به اليمين في المسئلتين لأن دعواه محتملة فكانت اليمين عليه كصاحب اليد، وإن كان قتيلا
والكلاب ناحية وقف الامر حتى يصطلحوا، ويحتمل ان يقرع بينهم فمن قرع صاحبه حلف وكان
له وهذا قول أبي ثور قياسا على ما لو تداعيا دابة في يد غيرهما، وعلى الأول إذا خيف فساده قبل اصطلاحهم
عليه باعوه ثم اصطلحوا على ثمنه
(مسألة) قال (وإذا سمى ورمى صيدا فأصابت غيره جاز أكله)
وجملة ذلك الامر أن الصيد بالسهام وكل محدد جائز بلا خلاف وهو داخل في مطلق قوله
تعالى (فاصطادوا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل " وعن أبي
قتادة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه واخذ رمحه
ثم شد على الحمار فقتله فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فقال " إنما
17

هي طعمة أطعمكموها الله " متفق عليه، ويعتبر فيه من الشروط ما ذكرنا في الجارح إلا التعليم، وتعتبر
التسمية عند ارسال السهم والطعن إن كان برمح والضرب إن كان مما يضرب لأنه الفعل الصادر
منه، وإن تقدمت التسمية بزمن يسير جاز كما ذكرنا في النية في العبادات، ويعتبر أن يقصد
الصيد فلو رمى هدفا فأصاب صيدا أو قصد رمي انسان أو حجر أو رمى عبثا غير قاصد صيدا فقتله
لم يحل، وان قصد صيدا فأصابه وغيره حلا جميعا والجارح في هذا بمنزلة السهم نص احمد على هذه
المسائل وهو قول الثوري وقتادة وأبي حنيفة والشافعي إلا أن الشافعي قال: إذا أرسل الكلب على
صيد فأخذ آخر في طريقه حل وان عدل عن طريقه إليه ففيه روايتان. وقال مالك إذا أرسل كلبه
على صيد بعينه فأخذ غيره لم يبح لأنه لم يقصد صيده إلا أن يرسله على صيود كبار فتفرق عن
صغار فإنها تباح إذا أخذها
ولنا عموم قوله تعالى (فكلوا مما أمسكن عليكم) وقوله عليه السلام " إذا أرسلت كلبك
وذكرت اسم الله تعالى عليه فكل مما أمسك عليك " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " كل ما ردت عليك قوسك "
ولأنه أرسل آلة الصيد على صيد فحل ما صاده كما لو أرسلها على كبار فتفرقت عن صغار فأخذها على
مالك أو كما لو أخذ صيدا في طريقه على الشافعي، ولأنه لا يمكن تعليم الجارح اصطياد واحد بعينه دون واحد
فسقط اعتباره، فاما ان أرسل سهمه، أو الجارح ولا يرى صيدا ولا يعلمه فصاد لم يحل صيده لأنه لم يقصد
صيدا لأن القصد لا يتحقق لما لا يعلمه وبهذا قال الشافعي في الكلب وقال الحسن ومعاوية بن قرة يأكله
لعموم الآية والخبر ولأنه قصد الصيد فحل له ما صاده كما لو رآه
18

ولنا ان قصد الصيد شرط ولا يصح العقد مع عدم العلم فأشبه ما لو لم يقصد الصيد
(فصل) وان رأى سوادا أو سمع حسا فظنه آدميا أو بهيمة أو حجرا فرماه فقتله فإذا هو صيد
لم يبح وبهذا قال مالك ومحمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة يباح، وقال الشافعي يباح إن كان
المرسل سهما ولا يباح إن كان جارحا، واحتج من أباحه بعموم الآية والخبر ولأنه قصد الاصطياد
وسمى فأشبه ما لو علمه صيدا
ولنا انه لم يقصد الصيد فلم يبح كما لو رمى هدفا فأصاب صيدا وكما في الجارح عند الشافعي، وإن ظنه
كلبا أو خنزيرا لم يبح لذلك وقال محمد بن الحسن يباح لأنه مما يباح قتله
ولنا ما تقدم فاما ان ظنه صيدا حل لأنه ظن وجود الصيد أشبه ما لو رآه، وان شك هل هو
صيد أولا؟ أو غلب على ظنه أنه ليس بصيد لم يبح لأن صحة القصد تنبني على العلم ولم يوجد ذلك وان رمى
حجرا يظنه صيدا فقتل صيدا فقال أبو الخطاب لا يباح لأنه لم يقصد صيدا على الحقيقة ويحتمل أن يباح لأن
صحة القصد تنبني على الظن وقد وجد فصح قصده فينبغي أن يحل صيده
(مسألة) قال (وإذا رما فغاب عن عينه فوجده ميتا وسهمه فيه ولا أثر به غيره حل أكله)
هذا هو المشهور عن أحمد، وكذلك لو أرسل كلبه على صيد فغاب عن عينه ثم وجده ميتا ومعه
كلبه حل، وهذا قول الحسن وقتادة وعن أحمد ان غاب نهارا فلا بأس، وان غاب ليلا لم يأكله
19

وعن مالك كالروايتين، عن أحمد ما يدل على أنه إن غاب مدة طويلة لم يبح، وان كانت يسيرة
أبيح لأنه قيل له ان غاب يوما قال يوم كثير، ووجه ذلك قول ابن عباس إذا رميت فاقعصت فكل
وان رميت فوجدت فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل، وإن بات عنك ليلة فلا تأكل فإنك
لا تدري ما حدث فيه بعد ذلك، وكره عطاء الثوري اكل ما غاب وعن أحمد مثل ذلك وللشافعي
فيه قولان لأن ابن عباس قال: كل ما أصميت وما أنميت فلا تأكل، قال الحكم الاصماء الاقعاص
يعني أنه يموت في الحال والانماء ان يغيب عنك يعني أنه لا يموت في الحال قال الشاعر
فهو لا تنمي رميته * ماله لا عد من نفره
وقال أبو حنيفة يباح ان لم يكن ترك طلبه وان تشاغل عنه ثم وجده لم يبح
ولنا ما روى عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو
يومين ليس به الأثر سهمك فكل وان وجدته غريقا في الماء فلا تأكل " متفق عليه وعن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله افتني في سهمي قال " ما رد عليك
سهمك فكل " قال وان تغيب عني؟ قال " وان تغيب عنك ما لم تجد فيه أثرا غير سهمك أو تجده قد صل (1) "
رواه أبو داود وعن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا رميت الصيد فأدركته بعد ثلاث وسهمك
فيه فكله ما لم ينتن " ولان جرحه بسهمه سبب اباحته وقد وجد يقينا والمعارض له مشكوك فيه فلا
نزول عن اليقين بالشك ولأنه وجده وسهمه فيه ولم يجد به أثرا آخر فأشبه ما لو لم يترك طلبه عند
أبي حنيفة أو كما لو غاب نهارا أو مدة يسيرة أو كما لو لم يغب. إذا ثبت هذا فإنه يشترط في حله شرطان

(1) صل بالصاد المهملة جاف وتغير وبالضاد أيضا بمعنى
20

(أحدهما) ان يجد سهمه فيه أو اثره ويعلم أنه اثر سهمه لأنه إذا لم يكن كذلك فهو شاك في وجود
المبيح فلا يثبت بالشك
(والثاني) أن لا يجد به اثر غير سهمه مما يحتمل انه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما لم تجد فيه اثرا غير
سهمك " وفي لفظ " وان وجدت فيه اثر غير سهمك فلا تأكله فإنك لا تدري أقتلته أنت أن غيرك "
رواه الدارقطني وفي لفظ " إذا وجدت فيه سهمك ولم يأكل منه سبع فكل منه) رواه النسائي وفي
حديث عدي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " فإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به الا أثر
سهمك فكل وان وقع في الماء فلا تأكل " رواه البخاري وقال عليه السلام " وان وجدته غريقا في
الماء فلا تأكل " ولأنه إذا كان به أثر يصلح أن يكون قد قتله فقد تحقق المعارض فلم يبح كما لو وجد مع
كلبه كلبا سواه فاما إن كان الأثر مما لا يقتل مثله مثل اكل حيوان ضعيف كالسنور والثعلب من
حيوان قوي فهو مباح لأنه يعلم أن هذا لم يقتله فأشبه ما لو تهشم من وقعته
(مسألة) قال (وإذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل)
يعني وقع في ماء يقتله مثله أو تردى ترديا يقتله مثله ولا فرق في قول الخرقي بين كون الجراحة
موحية أو غير موحية هذا المشهور عن أحمد وظاهر قول ابن مسعود وعطاء وربيعة وإسحاق وأصحاب
الرأي وأكثر أصحابنا المتأخرين يقولون إن كانت الجراحة موحية مثل ان ذبحه أو أبان حشوته لم
يضر وقوعه في الماء ولا ترديه وهو قول الشافعي ومالك والليث وقتادة وأبي ثور لأن هذا صار
21

في حكم الميت بالذبح فلا يؤثر فيه ما اصابه. ووجه الأول قوله " وان وقع في الماء فلا تأكل " ولأنه يحتمل
أن الماء أعان على خروج روحه فصار بمنزله ما لو كانت الجراحة غير موحية ولا خلاف في تحريمه إذا
كانت الجراحة غير موحية، ولو وقع الحيوان في الماء على وجه لا يقتله مثل أن يكون رأسه خارجا من
الماء أو يكون من طير الماء الذي لا يقتله الماء لو كان التردي لا يقتل مثل ذلك الحيوان فلا خلاف في
اباحته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله " ولان الوقوع في الماء والتردي
إنما حرم خشية أن يكون قاتلا أو معينا على القتل وهذا منتف فيما ذكرناه
(فصل) فإن رمى طائرا في الهواء أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الأرض فمات حل، وبه قال
الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك لا يحل الا أن تكون الجراحة موحية أو يموت قبل
سقوطه لقوله تعالى (والمتردية) ولأنه اجتمع المبيح والحاظر فغلب الحظر كما لو غرق
ولنا انه صيد سقط بالإصابة سقط بالإصابة سقوطا لا يمكن الاحتراز عن سقوطه عليه فوجب ان يحل كما لو
أصاب
الصيد فوقع على جنبه ويخالف ما ذكروه فإن الماء يمكن التحرز منه وهو قاتل بخلاف الأرض
(مسألة) قال (وإذا رمى صيدا فقتل جماعة فكله حلال)
قد سبق شرح هذه المسألة فيما إذا رمى صيدا فأصاب غيره
(فصل) قال احمد لا بأس بصيد الليل فقيل له قول النبي صلى الله عليه وسلم " أقروا الطير على وكناتها "
فقال هذا كان أحدكم يريد الامر فيثير الطير حتى يتفاءل إن كان عن يمينه قال كذا وان جاء عن
22

يساره قال كذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أقروا الطير على وكناتها " وروي له عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " لا تطرقوا الطير في أوكارها فإن الليل لها أمان " فقال هذا ليس بشئ يرويه فرات بن السائب
وليس بشئ ورواه عنه حفص بن عمر ولا أعرفه قال يزيد بن هارون وما علمت أن أحدا كره
صيد الليل وقال يحيى بن معين ليس به بأس، وسئل هل يكره للرجل صيد الفراخ الصغار مثل الورشان
وغيره يعني من أوكارها؟ فلم يكرهه
(مسألة) قال (وإذا رمى صيد فأبان منه عضوا لم يؤكل ما أبان منه ويؤكل ما سواه في
إحدى الروايتين والأخرى يأكله وما أبان منه)
وجملته انه إذا رمى صيدا أو ضربه فبان بعضه لم يخل من أحوال ثلاثة
(أحدها) ان يقطعه قطعتين أو يقطع رأسه فهذا جميعه حلال سواء كانت القطعتان متساويتين
أو متفاوتتين وبهذا قال الشافعي، وروي ذلك عن عكرمة والنخعي وقتادة، قال أبو حنيفة ان كانتا
متساويتين أو التي مع الرأس أقل حلتا، وإن كان الأخرى أقل لم يحل وحل الرأس وما معه لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " ما أبين من حي فهو ميت " ولنا انه جزء لا تبقى الحياة مع فقده فأبيح كما لو تساوت القطعتان
(الحال الثاني) أن يبين منه عضو وتبقى فيه حياة مستقرة فالبائن محرم بكل حال سواء بقي
الحيوان حيا أو أدركه فذكاه أو رماه بسهم آخر فقتله الا انه ان ذكاه حل بكل حال دون ما أبان
23

منه وان ضربه في غير مذبحه فقتله نظرت فإن لم يكن أثبته بالضربة الأولى حل دون ما ابان منه
وإن كان أثبته لم يحل شي منه لأن ذكاة المقدور عليه في الحلق واللبة
(الحال الثالث) أبان منه عضوا ولم تبق فيه حياة مستقرة فهذه التي ذكر الخرقي فيها روايتين
(أشهرهما) عن أحمد إباحتهما قال احمد إنما حديث النبي صلى الله عليه وسلم " ما قطعت من الحي ميتة إذا قطعت
وهي حية تمشي وتذهب " أما إذا كانت البينونة والموت جميعا أو بعده بقليل إذا كان في علاج الموت
فلا بأس به الا ترى الذي يذبح ربما مكث ساعة وربما مشى حتى يموت؟ وهذا مذهب الشافعي وروي
ذلك عن علي وعطاء والحسن. وقال قتادة وإبراهيم وعكرمة ان وقعا معا أكلهما وان مشى بعد
قطع العضو اكله ولم يأكل العضو
(والرواية الثانية) لا يباح ما بان منه وهذا مذهب أبي حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أبين من حي
فهو ميت " ولأن هذه البينونة لا تمنع بقاء الحيوان في العادة فلم يبح أكل البائن كما لو لم أدركه الصياد
وفيه حياة مستقرة، والأولى المشهورة لأن ما كان ذكاة لبعض الحيوان كان ذكاة لجميعه كما لو قده نصفين
والخبر يقتضي أن يكون الباقي حيا حتى يكون المنفصل منه ميتا وكذا نقول قال أبو الخطاب فإن
بقي معلقا بجلده حل رواية واحدة
(فصل) قال أحمد حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن انه كان لا يرى بالطريدة بأسا كان
المسلمون يفعلون ذلك في مغازيهم وما زال الناس يفعلونه في مغازيهم واستحسنه أبو عبد الله قال
والطريدة الصيد يقع بين القوم فيقطع ذا منه بسيفه قطعة ويقطع الآخر أيضا حتى يؤتى عليه وهو حي
قال وليس هو عندي إلا أن الصيد يقع بينهم لا يقدرون على ذكاته فيأخذونه قطعا
24

(مسألة) قال (وكذلك إذا نصب المناجل للصيد)
وجملته انه إذا نصب المناجل للصيد فعقرت صيدا أو قتلته حل، فإن بان منه عضو فحكمه حكم
البائن بضربة الصائد روي نحو ذلك عن ابن عمر وهو قول الحسن وقتادة وقال الشافعي لا يباح
بحال لأنه لم يذكه أحد وإنما قتلت المناجل بنفسها ولم يوجد من الصائد الا السبب فجرى ذلك مجرى
من نصب سكينا فذبحت شاة ولأنه لو رمى سهما وهو لا يرى صيدا فقتل صيدا لم يحل فهذا أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " كل ما ردت عليك يدك " ولأنه قتل الصيد بحديدة على الوجه المعتاد
فأشبه ما لو رماه بها ولأنه قصد قتل الصيد بما له حد جرت العادة بالصيد به أشبه ما ذكرنا والسبب
جرى مجرى المباشرة في الضمان فكذلك في إباحة الصيد، وفارق ما إذا نصب سكينا فإن العادة لم تجر
بالصيد بها وإذا رمى سهما ولم ير صيدا فليس ذلك بمعتاد والظاهر أنه لا يصيب صيدا فلم يصح قصده وهذا بخلافه
(فصل) فاما ما قتلته الشبكة أو الحبل فهو محرم ولا نعلم فيه خلافا الا عن الحسن انه يباح ما
قتله الحبل إذا سمى فدخل فيه وجرحه وهذا قول شاذ يخالف عوام أهل العلم ولأنه قتله بما ليس له
حد أشبه ما لو قتله بالبندق
(مسألة) قال (وإذا صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده ولا يأكل ما قتل بعرضه)
المعراض عود محدد وربما جعل في رأسه حديدة قال احمد المعراض يشبه السهم يحذف به
الصيد فربما أصاب الصيد بحده فخرق وقتل فيباح، وربما أصاب بعرضه فقتل بثقله فيكون موقوذا فلا يباح
25

وهذا قول علي وعثمان وعمار وابن عباس، وبه قال النخعي والحكم ومالك والثوري والشافعي
وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وقال الأوزاعي وأهل الشام يباح ما قتله بحده وعرضه وقال ابن عمر
ما مري من الصيد بجلاهق أو معراض فهو من الموقوذة وبه قال الحسن
ولنا ما روي عدي بن حاتم قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال " ما خرق فكل وما قتل
بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل " متفق عليه وهذا نص ولان ما قتله بحده بمنزلة ما طعنه برمحه أو رماه بسهمه
ولأنه محدد خرق وقتل بحده وما قتل بعرضه إنما يقتله بثقله فهو موقوذ كالذي رماه بحجر أو ببندقة
فصل) قال وحكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح
الصيد كالسهم يصيب الطائر بعرضه فيقتله والرمح والحربة والسيف يضرب به صفحا فيقتل فكل
ذلك حرام وهكذا إن أصاب بحده فلم يجرح وقتل بثقله لم يبح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما خرق
فكل " ولأنه إذا لم يجرحه فإنما يقتله بثقله فأشبه ما أصاب بعرضه
(مسألة) قال (وإذا رمى صيدا فعقره ورماه آخر فأثبته ورماه آخر فقتله لم يؤكل
وكان لمن أثبته القيمة مجروحا على قاتله)
أما الذي عقره ولم يثبته فلا شئ له ولا عليه لأنه حين ضربه كان مباحا لا ملك لاحد فيه
ولم يثبت له فيه حق لأنه باق على امتناعه، وأما الذي أثبته فقد ملكه لأنه أزال امتناعه فصار
بمنزلة امساكه، فإذا ضربه الثالث فقتله فعليه ضمانه لأنه قتل حيوانا مملوكا لغيره وهذا محمول على أن
26

جرح المثبت ليس بموح بدليل انه نسب القتل إلى الثالث ويضمنه مجروحا حين الجرح الأول والثاني
لأنه قتله وهما فيه. فاما اباحته فينظر فيه فإن كان القاتل أصاب مذبحه حل لأنه صادف محل
الذبح وليس عليه الا أرش ذبحه كما لو ذبح شاة لغيره، وإن كان أصاب غير مذبحه لم يحل لأنه لما
أثبته صار مقدورا عليه لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة فإذا قتله بغير ذلك لم يحل كما لو قتل شاة
وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد
(فصل) وان رمى صيدا فأثبته ثم رماه آخر فأصابه لم تخل رمية الأول من قسمين (أحدهما)
أن تكون موحية مثل أن تنحره أو تذبحه أو تقع في خاصرته أو قلبه فينظر في رمية الثاني فإن
كانت غير موحية فهو حلال ولا ضمان على الثاني الا أن ينقصه برميه شيئا فيضمن ما نقصه لأنه بالرمية
الأولى صار مذبوحا، وان كانت رمية الثاني موحية فقال القاضي وأصحابه يحل كالتي قبلها وهو
مذهب الشافعي، ويجئ على قول الخرقي أن يكون حراما كقوله فيمن ذبح فأتى على المقاتل فلم تخرج
الروح حتى وقعت في الماء أو وطئ عليها شئ لم يؤكل
(القسم الثاني) أن يكون جرح الأول غير موح فينظر في رمية الثاني فإن كانت موحية فهو
محرم لما ذكرنا الا أن تكون ذبحته أو نحرته، وان كانت غير موحية فلها ثلاث صور
(إحداها) أنه ذكي بعد ذلك فيحل (والثانية) لم يذك حتى مات فإنه يحرم لأنه مات من
جرحين مبيح ومحرم فحرم كما لو مات من جرح مسلم ومجوسي، وعلى الثاني ضمان جميعه لأن جرحه
هو الذي حرمه فكان جميع الضمان عليه
27

(الثالثة) قدر على ذكاته فلم يذكه حتى مات حرم لمعنيين (أحدهما) أنه ترك ذكاته مع إمكانها
(والثاني) أنه مات من جرحين مبيح ومحرم ويلزم الثاني الضمان، وفي قدره احتمالان (أحدهما) يضمن
جميعه كالتي قبلها. وقال القاضي هذا قول الخرقي لايجابه الضمان في مسئلته على الثالث من غير تفريق، وليست
هذه مسألة الخرقي لقوله ثم رماه الثالث فقتله، فتعين حملها على أن جرح الثاني كان موحيا لا غير
(الاحتمال الثاني) أن يضمن الثاني بقسط جرحه لأن الأول إذا ترك الذبح مع إمكانه صار جرحه حاظرا
أيضا بدليل ما لو أنفرد وقتل الصيد فيكون الضمان منقسما عليهما، وذكر القاضي في قسمته عليهما انه
يقسط أرش جرح الأول وعلى الثاني أرش جراحته ثم يقسم ما بقي من القيمة بينهما، نصفين وفرض
المسألة في صيد قيمته عشرة دراهم نقصه جرح الأول درهما ونقصه جرح الثاني درهما فعليه درهم
ويقسم الباقي وهو ثمانية بينهما نصفين فيكون على الثاني خمسة دراهم درهم بالمباشرة وأربعة بالسراية
وتسقط حصة الأول وهي خمسة وإن كان أرش جرح الثاني درهمين لزماه ويلزمه نصف السبعة
الباقية ثلاثة ونصف فيلزمه خمسة ونصف، وتسقط حصة الأول أربعة ونصف، وان كانت جنايتهما
على حيوان مملوك لغيرهما قسم الضمان عليهما كذلك ويتوجه على هذه الطريقة أنه سوى بين الجنايتين
مع أن الثاني جنى عليه وقيمته دون قيمته يوم جنى عليه الأول، وانه لم يدخل أرش الجناية في بدل
النفس كما يدخل في الجناية على الآدمي، والجواب عن هذا أن كل واحد منهما انفرد باتلاف ما قيمته
درهم وتساويا في اتلاف الباقي بالسراية فتساويا في الضمان، وإنما يدخل أرش الجناية في بدل النفس
التي لا ينقص بدلها باتلاف بعضها وهو الآدمي، أما البهائم فإنه إذا جنى عليها جناية أرشها درهم نقص
28

ذلك من قيمتها فإذا سرى إلى النفس أوجبنا ما بقي من قيمة النفس ولم يدخل الأرش فيها، وذكر
أصحاب الشافعي في قسمة الضمان طرقا ستة (أصحها) عندهم ان يقال إن الأول أتلف نصف نفس
قيمتها عشرة فيلزمه خمسة (والثاني) أتلف نصف نفس قيمتها تسعة فيلزمه أربعة ونصف فيكون المجموع
تسعة ونصفا وهي أقل من قيمته لأنها عشرة فتقسم العشرة على تسعة ونصف فيسقط عن الأول
ما يقابل أربعة ونصفا، ويتوجه على هذا أن كل واحد منهما يلزمه أكثر من قيمة نصف الصيد حين
جني عليه، وان كانت الجراحات من ثلاثة فإن كان الأول هو أثبته فعلى طريقة القاضي على كل واحد
أرش جرحه وتقسم السراية عليهم أثلاثا وإن كان المثبت له هو الثاني فجراحة الأول هدر لا عبرة بها
والحكم في جراحة الآخرين كما ذكرنا، وعلى الطريقة الأخرى الأول أتلف ثلث نفس قيمتها عشرة
فيلزمه ثلاثة وثلث والثاني أتلف ثلثها وقيمتها تسعة فيلزمه ثلاثة والثالث أتلف ثلثها وقيمتها ثمانية
فيلزمه درهمان وثلثان ومجموع ذلك تسعة تقسم عليه العشرة حصة كل واحد منهم ما يقابل ما أتلفه
وإن أتلفوا شاة مملوكة لغيرهم ضمنوها كذلك
(فصل) فإن رمياه معا فقتلاه كان حلالا وملكاه لأنهما اشتركا في سبب الملك والحل تساوى
الجرحان أو تفاوتا لأن موته كان بهما، فإن كان أحدهما موحيا والاخر غير موح ولا يثبته مثله فهو لصاحب
الجرح الموحي لأنه الذي أثبته وقتله ولا شئ على الآخر لأن جرحه كان قبل ثبوت ملك الآخر فيه،
وإن أصابه أحدهما بعد صاحبه فوجدناه ميتا ولم نعلم هل صار بالأول ممتنعا أو لاحل لأن الأصل
29

الامتناع ويكون بينهما لأن أيديهما عليه فإن قال كل واحد منهما أنه أثبته ثم قتلته أنت حرم لأنهما
اتفقا على تحريمه ويتحالفان لاخذ الضمان، وان اتفقا على الأول منهما فادعي الأول انه أثبته ثم قتله
وأنكر الثاني اثبات الأول له فالقول قول الثاني لأن الأصل عدم امتناعه ويحرم على الأول لاقراره
بتحريمه والقول قول الثاني في عدم الامتناع مع يمينه، وإن علمت جراحة كل واحد منهما نظرنا فيها
فإن علم أن جراحة الأول لا يبقى معها امتناع مثل ان كسر جناح الطائر أو ساق الظبي فالقول قول
الأول بغير يمين، وإن علم أنه لا يزيل الامتناع مثل خدش الجلد فالقول قول الثاني وان احتمل الامرين
فالقول قول الثاني لأن الأصل معه وعليه اليمين لأن ما ادعاه الأول محتمل
(فصل) وإن رمى صيدا فأصابه وبقي على امتناعه حتى دخل دار انسان فأخذه فهو لمن أخذه
لأن الأول لم يملكه لكونه ممتنعا فملكه الثاني بأخذه، ولو رمى طائرا على شجرة في دار قوم فطرحه
في دارهم فأخذوه فهو للرامي دونهم لأنه ملكه بإزالة امتناعه
(فصل) قال أصحابنا وإذا تعلق صيد في شرك انسان أو شبكته ملكه لأنه أثبته بآلته فإن
أخذه أحد لزمه رده عليه لأن آلته أثبتته فأشبه ما لو أثبته بسهمه، فإن لم تمسكه الشبكة بل انفلت منها
في الحال أو بعد حين لم يملكه لأنه لم يثبته، وإن أخذ الشبكة وانفلت بها فصاده انسان ملكه ويرد
الشبكة على صاحبها لأنه لم يثبته، وإن كان يمشي بالشبكة على وجه لا يقدر على الامتناع فهو لصاحبها
لأنها أزالت امتناعه، وإذا أمسكه الصائد وثبتت يده عليه ثم انفلت منه لم يزل ملكه عنه لأنه امتنع
منه بعد ثبوت ملكه فلم يزل ملكه عنه كما لو شردت فرسه أو ند بعيره، فإن اصطاد صيدا فوجد عليه
علامة مثل ان يجد في عنقه قلادة أو في أذنه قرطا لم يملكه لأن الذي اصطاده ملكه فلا يزول ملكه
بالانفلات، وكذلك إن وجد طائرا مقصوص الجناح، فإن قيل يحتمل ان الذي أمسكه أولا محرم
لم يملكه أو انه أرسله على سبيل التخلية وإزالة الملك عنه كالقاء الشئ التافه، قلنا اما الأول فنادر وهو
مخالف للظاهر لأن ظاهر حال المحرم انه لا يصيد ما حرم الله عليه. واما الثاني فخلاف الأصل فإن الأصل
بقاء ملكه عليه وما ذكروه محتمل فلا يزول الملك بالشك، وان علم أن مالكه أرسله اختيارا فقال
30

أصحابنا لا يزول الملك عنه بالارسال والاعتاق كما لو أرسل البعير والبقرة ويحتمل ان يزول الملك لأن
الأصل الإباحة فالارسال يرده إلى أصله ويفارق بهيمة الأنعام من وجهين
(أحدهما) ان الأصل ههنا الإباحة وبهيمة الأنعام بخلافه
(الثاني) ان الارسال ههنا يفيد وهو رد الصيد إلى الخلاص من أيدي الآدميين وحبسهم،
ولهذا روي عن أبي الدرداء انه اشترى عصفورا من صبي فأرسله، ويجب ارسال الصيد على المحرم إذا
أحرم أو دخل الحرم وهو في يده بخلاف بهيمة الأنعام فإن ارساله تضييع له وربما هلك إذا لم
يكن له من يقوم به
(مسألة) قال (ومن كان في سفينة فوثبت سمكة فسقطت في حجره فهي له
دون صاحب السفينة)
وذلك لأن السمكة من الصيد المباح يملك بالسبق إليه وهذه حصلت في يد الذي هي في حجره
وحجره له ويده عليه دون صاحب السفينة ألا ترى انهما لو تنازعا كيسا في حجره كان أحق به من صاحب
السفينة؟ كذا ههنا، ومفهوم كلام الخرفي أن السمكة إذا وقعت في السفينة فهي لصاحبها وذكره ابن أبي موسى
لأن السفينة ملكه ويده عليها فما حصل من المباح فيها كان أحق به كحجره
(فصل) فإن كانت السمكة وثبت بسبب فعل انسان لقصد الصيد كالصياد الذي يجعل في
السفينة ضوءا باليل ويدق بشئ كالجرس ليثب السمك في السفينة فهذا للصائد دون من وقع
31

في حجره لأن الصائد أثبتها بذلك فصار كمن رمى طائرا فألقاه في دار قوم وان لم يقصد الصيد بهذا
بل حصل اتفاقا كانت لمن وقعت في حجره
(مسألة) قال (ولا يصاد السمك بشئ نجس)
ومعنى ذلك أن يترك في الماء شئ نجس كالعذرة والميتة وشبهها ليأكله السمك فيصيدوه به
فكره احمد ذلك وقال: هو حرام لا يصاد به، وإنما كره احمد ذلك لما يتضمن من أكل السمك
النجاسة، وسواء في هذا ما يتفرق كالدم والعذرة، ومالا يتفرق كالجرذ وقطعة من الميتة، وكره
احمد الصيد ببنات وردان وقال إن مأواها الحشوش وكره الصيد بالضفادع وقال الضفدع نهي عن قتله
(فصل) وكره الصيد بالخراطيم وكل شئ فيه الروح لما فيه من تعذيب الحيوان فإن اصطاد فالصيد
مباح وكره الصيد بالشباش وهو طائر يخيط عينه أو يربط من أجل تعذيبه ولم ير بأسا بالصيد بالشبكة
والشرك وشئ فيه دبق يمنع الطير من الطيران وأن يطعم شيئا إذا أكله سكر وأخذه
(مسألة) قال (ولا يؤكل صيد مرتد ولا ذبيحته وان تدين بدين أهل الكتاب)
يعني ما قتله من الصيد ولم تدرك ذكاته وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي وأبو حنيفة
وأصحابه، وقال الأوزاعي وإسحاق تباح ذبيحته إذا ذهب إلى النصرانية أو اليهودية لأن
من تولى قوما فهو منهم. ولنا أنه كافر لا يقر على كفره فلم تبح ذبيحته كعبدة الأوثان، وقد مضت
هذه المسألة في باب المرتد
(مسألة) قال (ومن ترك التسمية على الصيد عامدا أو ساهيا لم يؤكل، وان ترك
التسمية على الذبيحة عامدا لم تؤكل وان تركها ساهيا أكلت)
أما الصيد فقد مضى القول فيه، وأما الذبيحة فالمشهور من مذهب احمد انها شرط مع الذكر
32

وتسقط بالسهو، وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق وممن
أباح ما نسيت التسمية عليه عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد
وربيعة، وعن أحمد انها مستحبة غير واجبة في عمد ولا سهو وبه قال الشافعي لما ذكرنا في الصيد قال احمد
إنما قال الله (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) يعني الميتة وذكر ذلك عن ابن عباس
ولنا قول ابن عباس من نسي التسمية فلا بأس، وروى سعيد بن منصور باسناده عن راشد
بن ربيعة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم ما لم يتعمد " ولأنه قول من سمينا ولم
نعرف لهم في الصحابة مخالفا وقوله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) محمول على ما تركت
التسمية عليه عمدا بدليل قوله (وانه لفسق) والاكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق ويفارق الصيد
لأن ذبحه في غير محل فاعتبرت التسمية تقوية له والذبيحة بخلاف ذلك
(فصل) والتسمية على الذبيحة معتبرة حال الذبح أو قريبا منه كما تعتبر على الطهارة وان سمى
على شاة ثم أخذ أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يجز سواء أرسل الأولى أو ذبحها لأنه لم يقصد الثانية
بهذه التسمية، وإن رأى قطيعا من الغنم فقال بسم الله ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية لم يحل، وإن
جهل كون ذلك لا يجزئ لم يجر مجرى النسيان لأن النسيان يسقط المؤاخذة والجاهل مؤاخذ ولذلك
يفطر الجاهل بالاكل في الصوم دون الناسي، وان أضجع شاه ليذبحها وسمى ثم ألقى السكين وأخذ أخرى
أورد سلاما لو كلم انسانا أو استسقى ماء ونحو ذلك وذبح حل لأنه سمى على تلك الشاة بعينها ولم يفصل
بينهما إلا بفصل يسير فأشبه ما لو لم يتكلم
(فصل) وإن سمى الصائد على صيد فأصاب غيره حل وإن سمى على سهم ثم ألقاه واخذ غيره
فرمى به لم يبح ما صاده به لأنه لما لم يمكن اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت على الآلة التي يصيد
33

بها بخلاف الذبيحة ويحتمل ان يباح قياسا على ما لو سمى على سكين ثم ألقاها واخذ غيرها وسقوط
اعتبار تعيين الصيد لمشقته لا يقتضي اعتبار تعيين الآلة فلا يعتبر
(مسألة) قال (وإذا ند بعير فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه فقتله أكل)
وكذلك أن تردى في بئر فلم يقدر على تذكيته فجرحه في أي موضع قدر عليه فقتله أكل إلا أن
تكون رأسه في الماء فلا يؤكل لأن الماء يعين على قتله هذا قول أكثر الفقهاء روي ذلك عن علي
وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال مسروق والأسود والحسن
وعطاء وطاوس وإسحاق والشعبي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق وأبو ثور
وقال مالك لا يجوز أكله إلا أن يذكي وهو قول ربيعة والليث. قال أحمد: لعل مالكا لم يسمع
حديث رافع بن خديج، واحتج لمالك بان الحيوان الانسي إذا توحش لم يثبت له حكم الوحشي
بدليل انه لا يجب على المحرم الجزاء بقتله ولا يصير الحمار الأهلي مباحا إذا توحش
ولنا ما روى رافع بن خديج قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير وكان في القوم خيل يسيرة
فطلبوه فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ان لهذه البهائم أوابد كأوابد
الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا " وفي لفظ " فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا " متفق عليه
وحرب (1) ثور في بعض دور الأنصار فضربه رجل بالسيف وذكر اسم الله عليه فسئل عنه علي فقال
ذكاة وحية (2) فأمرهم بأكله وتردى بعير في بئر فذكي من قبل شاكلته فبيع بعشرين درهما فاخذ
ابن عمر عشره بدرهمين ولأن الاعتبار في الذكاة بحال الحيوان وقت ذبحه لا بأصله بدليل
الوحشي إذا قدر عليه وجبت تذكيته في الحلق واللبة، وكذلك الأهلي إذا توحش يعتبر بحاله،

(1) بفتح أوله وكسر ثانيه على الفعل الماضي اي اشتد غضبه
(2) بكسر الحاء وفتح الياء المشددة
34

وبهذا فارق ما ذكروه فإذا تردى فلم يقدر على تذكيته فهو معجوز عن تذكيته فأشبه الوحشي،
فاما إن كان رأس المتردي في الماء يبح لأن الماء يعين على قتله فيحصل قتله بمبيح وحاظر فيحرم
كما لو جرحه مسلم ومجوسي
(مسألة) قال (والمسلم والكتابي في كل ما وصفت سواء)
يعني في الاصطياد والذبح، وأجمع أهل العلم على إباحة ذبائح أهل الكتاب لقول الله تعالى (وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم يعني ذبائحهم. قال البخاري قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم
وكذلك قال مجاهد وقتادة، وروي معناه عن ابن مسعود وأكثر أهل العلم يرون إباحة صيدهم
أيضا قال ذلك عطاء والليث والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا حرم صيد أهل الكتاب إلا
مالكا أباح ذبائحهم وحرم صيدهم، ولا يصح لأن صيدهم من طعامهم فيدخل في عموم الآية ولان
من حلت ذبيحته حل صيده كالمسلم
(فصل) ولا فرق بين العدل والفاسق من المسلمين وأهل الكتاب، وعن ابن عباس رضي
الله عنه لا تؤكل ذبيحة الأقلف وعن أحمد مثله، والصحيح اباحته فإنه مسلم فأشبه سائر المسلمين
وإذا أبيحت ذبيحة القاذف والزاني وشارب الخمر مع تحقق فسقه وذبيحة النصراني وهو
كافر أقلف فالمسلم أولى.
(فصل) ولا فرق بين الحربي والذمي في إباحة ذبيحة الكتابي منهم وتحريم ذبيحة من سواه
وسئل أحمد عن ذبائح نصارى أهل الحرب فقال لا باس بها حديث عبد الله بن مغفل في الشحم قال إسحاق
35

أجاد، وقال ابن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم مجاهد والثوري والشافعي
واحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا فرق بين الكتابي العربي وغيره الا ان في نصارى
العرب اختلافا ذكرناه في باب الجزية وسئل مكحول عن ذبائح العرب فقال اما بهرا وتنوخ وسليح
فلا بأس واما بنو تغلب فلا خير في ذبائحهم والصحيح إباحة ذبائح الجميع لعموم الآية فيهم
(فصل) فإن كان أحد أبوي الكتابي ممن لا تحل ذبيحته والآخر ممن تحل ذبيحته فقال أصحابنا
لا يحل صيده ولا ذبيحته. وبه قال الشافعي إذا كان الأب غير كتابي وإن كان الأب كتابيا ففيه
قولان (أحدهما) تباح وهو قول مالك وأبي ثور (والثاني) لا تباح لأنه وجد ما يقتضي التحريم ولإباحة
فغلب ما يقتضي التحريم كما لو جرحه مسلم ومجوسي وبيان وجود ما يقتضي التحريم ان كونه ابن مجوسي
أو وثني يقتضي تحريم ذبيحته، وقال أبو حنيفة تباح ذبيحته بكل حال لعموم النص ولأنه كتابي
يقر على دينه فتحل ذبيحته كما لو كان ابن كتابيين واما إن كان ابن وثنين أو مجوسيين فمقتضى مذهب
الأئمة الثلاثة تحريمه ومقتضى مذهب أبي حنيفة حله لأن الاعتبار بدين الذابح لا بدين أبيه بدليل ان الاعتبار
في قبول الجزية بذلك ولعموم النص والقياس
(فصل) فاما ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم فنظر فيه فإن ذبحه لهم مسلم فهو مباح نص عليه
وقال احمد وسفيان الثوري في المجوسي يذبح لآلهه ويدفع الشاة إلى المسلم يذبحها فيسمي: يجوز الاكل منها
وقال إسماعيل بن سعيد سألت احمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به وان ذبحها
الكتابي وسمى الله وحده حلت أيضا لأن شرط الحل وجد وان علم أنه ذكر اسم غير الله عليها أو
ترك التسمية عمدا لم تحل، قال حنبل سمعت أبا عبد الله قال لا يؤكل يعني ما ذبح لأعيادهم وكنائسهم
36

لأنه أهل لغير لله به، وقال في موضع يدعون التسمية على عمد إنما يذبحون للمسيح فاما ما سوى ذلك
فرويت عن أحمد الكراهة فيما ذبح لكنائسهم وأعيادهم مطلقا وهو قول ميمون بن مهران لأنه
ذبح لغير الله، وروي عن أحمد إباحته، وسئل عنه العرباض بن سارية فقال كلوا وأطعموني وروي
مثل ذلك عن أبي أمامة الباهلي وأبي مسلم الخولاني واكله أبو الدرداء وجبير بن نفير ورخص
فيه عمرو بن الأسود ومكحول وضمرة بن حبيب لقول الله تعالى (وطعام الذين أوتو الكتاب حل لكم)
وهذا من طعامهم. قال القاضي ما ذبحه الكتابي لعيده أو نجم أو صنم أو نبي فسماه على ذبيحته حرم لقوله
تعالى (وما أهل لغير الله به) وان سمى الله وحده حل لقول الله تعالى (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه)
لكنه يكره لقصده بقلبه الذبح لغير الله
(مسألة) قال (ولا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر لأنه موقوذ)
يعني الحجر الذي لا حد له فأما المحدد كالصوان فهو كالمعراض ان قتل بحده أبيح وان قتل
بعرضه وثقله فهو وقيذ لا يباح وهذا قول عامة الفقهاء وقال ابن عمر في المقتولة بالبندق تلك الموقوذة
وكره ذلك سالم والقاسم ومجاهد وعطاء والحسن وإبراهيم ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور ورخص
فيما قتل بها ابن المسيب وروي أيضا عن عمار و عبد الرحمن بن أبي ليلى
ولنا قول الله تعالى (والموقوذة) وروى سعيد باسناده عن إبراهيم عن عدي قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ولا تأكل من البندقة الا ما ذكيت " وقال في المعراض " إذا أصبب بعرضه فقتل فإنه وقيذ " وقال
عمر ليتق أحدكم أن يحذف الأرنب بالعصا والحجر ثم قال وليذك لكم الأسل الرماح والنبل. إذا
ثبت هذا فسواء شدخه أو لم يشدخه حتى لو رماه ببندقة فقطعت حلقوم طائر ومريئه أو أطارت رأسه
لم يحل وكذلك أن فعل ذلك بحجر غير محدد
37

(مسألة) قال (ولا يؤكل صيد المجوسي وذبيحته الا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له)
أجمع أهل العلم على تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا ما لا ذكاة له كالسمك والجراد فإنهم أجمعوا
على إباحته غير أن مالكا والليث وأبا ثور شذوا عن الجماعة وأفرطوا: فاما مالك والليث فقالا
لا نرى ان يؤكل الجراد إذا صاده المجوسي ورخصا في السمك، وأبو ثور أباح صيده وذبيحته لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ولأنهم يقرون بالجزية فيباح صيدهم وذبائحهم كاليهود
والنصارى واحتج برواية عن سعيد بن المسيب وهذا قول يخالف الاجماع فلا عبرة به. قال إبراهيم
الحربي خرق أبو ثور الاجماع، قال احمد ههنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا ما أعجب هذا؟ يعرض
بابي ثور. وممن رويت عنه كراهية ذبائحهم ابن مسعود وابن عباس وعلي وجابر وأبو بردة وسعيد
ابن المسيب وعكرمة الحسن بن محمد وعطاء ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير
ومرة الهمذاني والزهري ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي قال احمد ولا أعلم أحدا قال بخلافه
إلا أن يكون صاحب بدعة ولان الله تعالى قال (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) فمفهومه تحريم
طعام غيرهم من الكفار ولأنهم لا كتاب لهم فلم تحل ذبائحهم كأهل الأوثان
وقد روى الإمام أحمد باسناده عن قيس بن سكن الأسدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انكم
نزلتم بفارس من النبط فإذا اشتريتم لحما فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كانت ذبيحة
مجوسي فلا تأكلوا " ولان كفرهم مع كونهم غير أهل كتاب يقتضي تحريم ذبائحهم ونسائهم
بدليل سائر الكفار من غير أهل الكتاب وإنما أخذت منهم الجزية لأن شبهة الكتاب تقتضي التحريم
38

لدمائهم فلما غلبت في التحريم لدمائهم فيجب ان يغلب عدم الكتاب في تحريم الذبائح والنساء احتياطا
للتحريم في الموضعين ولأنه اجماع فإنه قول من سمينا ولا مخالف لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم إلا
رواية عن سعيد روي عنه خلافها. ولا خلاف في إباحة ما صادوه من الحيتان حكي عن الحسن البصري
أنه قال رأيت سبعين من الصحابة يأكلون صيد المجوسي من الحيتان لا يختلج في صدورهم شئ من
ذلك رواه سعيد بن منصور، والجراد كالحيتان في ذلك لأنه لا ذكاة له ولأنه تباح ميتته فلم يحرم
بصيد المجوسي كالحوت
(فصل) وحكم سائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم
وصيدهم إلا الحيتان والجراد وسائر ما تباح ميتته فإن ما صادوه مباح لأنه لا يزيد بذلك عن موته بغير
سبب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان السمك والجراد " وقال في البحر " هو
الطهور ماؤه الحل ميتته "
(فصل) قال احمد وطعام المجوس ليس به باس أن يؤكل وإذا أهدي إليه ان يقبل إنما تكره
ذبائحهم أو شئ فيه دسم يعني من اللحم ولم ير بالسمن والخبر بأسا، وسئل عما يصنع المجوس
لأمواتهم وزمزمون عليهم أياما عشرا ثم يقتسمون ذلك في الجيران قال لا باس بذلك، وعن الشعبي
كل مع المجوسي وإن زمزم
وروى احمد أن سعيد بن جبير كان يأكل من كواميخ المجوس وأعجبه ذلك وروي هشام
عن الحسن انه كان لا يرى بأسا بطعام المجوس في المصر ولا بشواريزهم ولا بكواميخهم
39

(مسألة) قال (وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء وان طفا)
قوله طفا يعني ارتفع على وجه الماء. قال عبد الله بن رواحة:
وأن العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش رب العالمينا
وجملة ذلك أن السمك وغيره من ذوات الماء التي لا تعيش إلا فيه إذا ماتت فهي حلال سواء
ماتت بسبب أو غير سبب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " قال احمد هذا
خير من مائة حديث، وأما ما مات بسبب مثل ان صاده انسان أو نبذه البحر أو جزر عنه فإن العلماء
أجمعوا على اباحته وكذلك ما حبس في الماء بحظيرة حتى يموت فلا خلاف أيضا في حله قال احمد الطافي
يؤكل وما جزر عنه الماء أجود والسمك الذي نبذه البحر لم يختلف الناس فيه وإنما اختلفوا في الطافي
وليس به بأس، وممن أباح الطافي من السمك أبو بكر الصديق وأبو أيوب رضي الله عنهما وبه قال
مالك والشافعي، وممن أباح ما وجد من الحيتان عطاء ومكحول والثوري والنخعي وكره الطافي جابر
وطاوس وابن سيرين وجابر بن زيد وأصحاب الرأي لأن جابرا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ألقى
البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه " رواه أبو داود
40

ولنا قول الله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) قال ابن عباس طعامه
ما مات فيه وأيضا الحديث الذي قدمناه، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه الطافي حلال ولأنه
لو مات في البر أبيح فإذا مات في البحر أبيح كالجراد، فأما حديث جابر فإنما هو موقوف عليه كذلك
فال أبو داود رواه الثقات فأوقفوه على جابر وقد أسند من وجه ضعيف وإن صح فنحمله على نهي
الكراهة لأنه إذا مات رسب في أسفله فإذا أنتن طفا فكرهه لنتنه لا لتحريمه
(فصل) يباح أكل الجراد باجماع أهل العلم وقد قال عبد الله بن أبي أوفى غزونا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد رواه البخاري وأبو داود، ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير
سبب في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وابن المنذر، وعن أحمد
انه إذا قتله البرد لم يؤكل وعنه لا يؤكل إذا مات بغير سبب وهو قول مالك ويروى أيضا عن سعيد بن المسيب
ولنا عموم قوله عليه السلام " أحلت لنا ميتتان ودمان " فالميتتان السمك والجراد " ولم يفصل
ولأنه تباح ميتته فلم يعتبر له سبب كالسمك ولأنه لو افتقر إلى سبب لافتقر إلى ذبح وذابح وآلة كبهيمة الأنعام
(فصل) ويباح أكل الجراد بما فيه وكذلك السمك يجوز أن يقلى من غير أن يشق بطنه،
وقال أصحاب الشافعي في السمك لا يجوز لأن رجعية نجس
41

ولنا عموم النص في اباحته وما ذكروه غير مسلم، وان بلغ انسان شيئا منه حيا كره لأن فيه تعذيبا له
(فصل) وسئل احمد عن السمك يلقى في النار فقال ما يعجبني، والجراد فقال ما يعجبني
والجراد أسهل فإن هذا له دم ولم يكره أكل السمك إذا ألقي في النار إنما كره تعذيبه بالنار، وأما
الجراد فسهل في القائه لأنه لا دم له ولان السمك لا حاجة إلى القائه في النار لامكان تركه حتى
يموت بسرعة والجراد لا يموت في الحال بل يبقى مدة طويلة، وفي مسند الشافعي ان كعبا كان محرما
فمرت به رجل من جراد فنسي وأخذ جرادتين فألقاهما في النار وشواهما وذكر ذلك لعمر فلم ينكر
عمر تركهما في النار، وذكر له حديث ابن عمر: كان الجراد يقلى له فقال إنما يؤخذ الجراد فتقطع
أجنحته ثم يلقى في الزيت هو حي
(مسألة) قال (وذكاة المقدور عليه من الصيد والانعام في الحلق واللبة)
قد ذكرنا حكم المعجوز عنه من الصيد والانعام، فأما المقدور عليه منهما فلا يباح إلا بالذكاة
بلا خلاف بين أهل العلم، وتفتقر الذكاة إلى خمسة أشياء ذابح وآلة ومحل وفعل وذكر، أما الذبح
فيعتبر له شرطان: دينه وهو كونه مسلما أو كتابيا وعقله وهو أن يكون ذا عقل يعرف الذبح ليقصد
42

فإن كان لا يعقل كالطفل الذي لا يميز والمجنون والسكران لم يحل ما ذبحه لأنه لا يصح منه القصد فأشبه
ما لو ضرب انسانا بالسيف فقطع عنق شاة.
وأما الآلة فلها شرطان (أحدهما) أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها (والثاني) أن لا تكون
سنا ولا ظفرا فإذا اجتمع هذان الشرطان في شئ حل الذبح به سواء كان حديدا أو حجرا أو بلطة
أو خشبا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا " متفق عليه
وعن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله أرأيت ان أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين
أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال " امرر الدم بما شئت واذكر اسم الله " والمروة الصوان، وعن
رجل من نبي حارثة أنه كان يرعى لقحة فأخذها الموت فلم يجد شيئا ينحرها به فأخذ وتدا فوجأها
به في لبتها حتى أهريق دمها ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره باكلها رواه أبو داود وبهذا قال الشافعي
وإسحاق وأبو ثور ونحوه قول مالك وعمرو بن دينار وبه قال أبو حنيفة إلا في السن والظفر قال إذا
كانا متصلين لم يجز الذبح بهما وإن كانا منفصلين جاز
ولنا عموم حديث رافع ولان ما لم تجز الذكاة به متصلا لم تجز منفصلا كغير المحدد، وأما العظم غير
السن فمقتضى اطلاق قول احمد والشافعي وأبي ثور إباحة الذبح به وهو قول مالك وعمرو بن دينار
وأصحاب الرأي وقال ابن جريج يذكى بعظم الحمار ولا يذكى بعظم القرد لأنك تصلي على الحمار وتسقيه
في جفنتك وعن أحمد لا يذكى بعظم ولا ظفر وقال النخغي لا يذكى بالعظم والقرن، ووجهه ان النبي
43

صلى الله عليه وسلم قال " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما
السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة " فعلله بكونه عظما فكل عظم فقد وجدت فيه العلة والأول أصح
إن شاء الله تعالى لأن العظم دخل في عموم اللفظ المبيح ثم استثنى السن والظفر خاصة فيبقى سائر
العظام داخلا فيما يباح الذبح به والمنطوق مقدم على التعليل ولهذا علل الظفر بكونه من مدى الحبشة
ولا يحرم الذبح بالسكين وان كانت مدية لهم ولان العظام يتناولها سائر الأحاديث العامة ويحصل
بها المقصود فأشبهت سائر الآلات، وأما المحل فالحلق واللبة وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر
ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالاجماع، وقد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الذكاة
في الحلق واللبة " قال احمد الذكاة في الحلق واللبة واحتج بحديث عمر وهو ما روى سعيد والأثرم
باسنادهما عن الفرافصة قال كنا عند عمر فنادى ان النحر في اللبة والحلق لمن قدر وإنما نرى أن
الذكاة اختصت بهذا المحل لأنه مجمع العروق فتنسفح بالذبح فيه الدماء السيالة ويسرع زهوق النفس
فيكون أطيب للحم وأخف على الحيوان قال احمد لو كان حديث أبي العشراء حديثا يعني ما روي
أبو العشراء عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل أما تكون الزكاة الا في الحلق واللبة فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك " قال احمد أبو العشراء هذا ليس بمعروف. وأما الذكر
فالتسمية وقد مر ذكرها، وأما الفعل فيعتبر قطع الحلقوم والمرئ وبهذا قال الشافعي. وعن أحمد
44

رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين وبه قال مالك وأبو يوسف لما روى أبو هريرة رضي الله
عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج
ثم تترك حتى تموت رواه أبو داود وقال أبو حنيفة يعتبر قطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين ولا
خلاف في أن الأكمل قطع الأربعة الحلقوم والمرئ والودجين فالحلقوم مجرى النفس والمرئ وهو مجرى
الطعام والشراب والودجان وهما عرقان محيطان بالحلقوم لأنه أسرع لخروج روح الحيوان فيخف عليه
ويخرج من الخلاف فيكون أولى، والأول يجزئ لأنه قطع في محل الذبح مالا تبقى الحياة مع قطعه
فأشبه ما لو قطع الأربعة
(مسألة) قال (ويستحب أن ينحر البعير ويذبح ما سواه)
لا خلاف بين أهل العلم في أن المستحب نحر الإبل وذبح ما سواها قال الله تعالى (فصل لربك
وانحر) وقال الله تعالى (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) قال مجاهد أمرنا بالنحر وأمر بنو إسرائيل
بالذبح فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في قوم ماشيتهم الإبل فسن النحر وكانت بنو إسرائيل ماشيتهم البقر
فأمروا بالذبح وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر بدنة وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده متفق عليه
ومعنى النحر أن يضربها بحربة أو نحوها في الوهدة التي بين أصل عنقها وصدرها
45

(فصل) ويسن الذبح بسكين جاد لما روى أبو داود عن شداد بن أوس قال خصلتان سمعتهما
من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا لقتلة وإذا ذبحتم
فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " ويكره أن يسن السكين والحيوان يبصره ورأي
عمر رجلا قد وضع رجله على شاة وهو يحد السكين فضربه حتى أفلت الشاة، ويكره ان يذبح شاة
والأخرى تنظر إليه، ويستحب ان يستقبل بها القبلة واستحب ذلك ابن عمر وابن سيرين وعطاء
والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وكره ابن عمر وابن سيرين أكل ما ذبح لغير القبلة وقال
سائرهم ليس ذلك مكروها لأن أهل الكتاب يذبحون لغير القبلة وقد أحل الله ذبائحهم
(فصل) قال احمد: ولا تؤكل المصبورة ولا المجثمة وبه قال إسحاق والمجثمة هي الطائر أو
الأرنب يجعل غرضا ثم يرمى حتى يقتل والمصبورة مثله الا ان المجثمة لا تكون الا في الطائر والأرنب
وأشباهها، والمصبورة كل حيوان، وأصل الصبر الحبس، والأصل في تحريمه ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
46

صبر البهائم وقال " لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا " وروي سعيد باسناده عن أبي الدرداء قال
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مجثمة، وباسناده عن مجاهد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المجثمة
وعن أكلها ونهي عن المصبورة وعن أكلها ولأنه حيوان مقدور عليه فلم يبح بغير الذكاة كالبعير والبقرة
(مسألة) قال (فإن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح فجائز)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والزهري وقتادة ومالك والليث والثوري وأبو حنيفة
والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وحكي عن داود ان الإبل لا تباح الا بالنحر ولا يباح غيرها الا
بالذبح لأن الله تعالى قال (ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) والامر يقتضي الوجوب وقال تعالى
(فصل لربك وانحر) ولان النبي صلى الله عليه وسلم نحر البدن وذبح الغنم وإنما تؤخذ الأحكام من جهته،
وحكي عن مالك أنه لا يجزئ في الإبل الا النحر لأن أعناقها طويلة فإذا ذبح تعذب بخروج روحه قال
ابن المنذر إنما كرهه ولم يحرمه
47

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " امرر الدم بما شئت " وقالت أسماء نحرنا فرسا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة، وعن عائشة قالت: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة
واحدة ولأنه ذكاة في محل الذكاة فجاز أكله كالحيوان الآخر
(مسألة) قال (وإذا ذبح فأتى على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في؟؟؟ ووطئ
عليها شئ لم تؤكل)
يعني إذا وطئ عليها شئ يقتلها مثله غالبا وهذا الذي ذكره الخرقي نص عليه أحمد، وقال
أكثر أصحابنا المتأخرين لا يحرم بهذا وهو قول أكثر الفقهاء لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم
الميت وكذلك لو أبين رأسها بعد الذبح لم تحرم نص عليه أحمد، ولو ذبح انسان ثم ضرب آخر
عنقه أو غرقه لم يلزمه قصاص ولا دية، ووجه قول الخرقي قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم
" وإن وقعت في الماء فلا تأكل " وقال ابن مسعود: من رمى طائرا فوقع في الماء فغرق فيه فلا
48

تأكله ولان الغرق سبب يقتل فإذا اجتمع مع الذبح فقد اجتمع ما يبيح ويحرم فيغلب الحظر ولأنه
لا يؤمن أن يعين على خروج الروح فتكون قد خرجت بفعلين مبيح ومحرم فأشبه ما لو وجد الأمران
في حال واحدة أو رماه مسلم ومجوسي فمات
(مسألة) قال (وإذا ذبحها من قفاها وهو مخطئ فأتت السكين على موضع ذبحها
وهي في الحياة أكلت)
قال القاضي معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه فتأتي السكين على القفا لأنها مع التوائها
معجوز عن ذبحها في محل ذبحها فسقط اعتبار المحل كالمتردية في بئر، فاما مع عدم التوائها فلا تباح بذلك لأن
الجرح في القفا سبب للزهوق وهو في غير محل الذبح فإذا اجتمع مع الذبح منع حله كما لو بقر بطنها
وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا المعنى فإن الفضل بن زياد قال: سألت أبا عبد الله عمن ذبح في
القفا قال عامدا أو غير عامد؟ قلت عامدا قال لا يؤكل فإذا كان غير عامد كأن التوى عليه فلا باس
49

(فصل) فإن ذبحها من قفاها اختيارا فقد ذكرنا عن أحمد أنها لا تؤكل وهو مفهوم كلام الخرقي
وحكي هذا عن علي وسعيد بن المسيب ومالك وإسحاق، قال إبراهيم النخعي تسمى هذه الذبيحة
القفينة، وقال القاضي إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمرئ حلت وإلا فلا ويعتبر ذلك بالحركة
القوية وهذا مذهب الشافعي وهذا أصح لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحله كأكيلة السبع
والمتردية والنطيحة، ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلت بذلك نص عليه احمد فقال لو أن
رجلا ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك الذبيحة كان له أن يأكله
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال تلك ذكاة وحية وأفتى بأكلها عمران بن حصين، وبه
قال الشعبي وأبو حنيفة والثوري وقال أبو بكر: لأبي عبد الله فيها قولان والصحيح انها مباحة لأنه
اجتمع قطع ما تبقى الحياة معه مع الذبح فأبيح كما ذكرنا مع قول من ذكرنا قوله من الصحابة من غير مخالف
(فصل) فإن ذبحها من قفاها فلم يعلم هل كانت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمرئ
50

أولا؟ نظرت فإن كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القتل فالأولى اباحته لأنه بمنزلة ما قطعت
عنقه بضربة السيف وإن كانت الآلة كآلة وأبطأ قطعه وطال تعذيبه لم يبح لأنه مشكوك في وجود
ما يحله فيحرم كما لو أرسل كلبه على الصيد فوجد معه كلبا آخر لا يعرفه
(مسألة) قال (وذكاتها ذكاة جنينها، أشعر أو لم يشعر)
يعني إذا خرج الجنين ميتا من بطن أمه بعد ذبحها أو وجده ميتا في بطنها أو كانت حركته
بعد خروجه كحركة المذبوح فهو حلال. روي هذا عن عمر وعلي وبه قال سعيد بن المسيب والنخعي
والشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال ابن عمر ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر، وروي ذلك عن عطاء
وطاوس ومجاهد والزهري والحسن وقتادة ومالك والليث والحسن بن صالح وأبي ثور لأن عبد الله
ابن كعب بن مالك قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون إذا شعر الجنين فذكاته ذكاة أمه
51

وهذا إشارة إلى جميعهم فكان اجماعا، وقال أبو حنيفة لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى لأنه حيوان
ينفرد بحباته فلا يتذكى بذكاة غيره كما بعد الوضع. قال ابن المنذر كان الناس على إباحته لا نعلم أحدا
منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان فقال لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين
ولنا ما روى أبو سعيد قال: قيل يا رسول الله ان أحدنا ينحر الناقة ويذبح البقرة والشاة فيجد
في بطنها الجنين أنأكله أم نلقيه؟ قال " كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه "
وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ذكاة الجنين ذكاة أمه " رواهما أبو داود ولان هذا
اجماع من الصحابة ومن بعدهم فلا يعول على ما خالفه ولان الجنين متصل بها اتصال خلقة يتغذى
بغذائها فتكون ذكاته ذكاتها كأعضائها، ولان الذكاة في الحيوان تختلف على حسب الامكان فيه والقدرة
بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه فيكون ذكاة له
52

(فصل) واستحب أبو عبد الله أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه ولان
ابن عمر كان يعجبه أن يريقوا من دمه وإن كان ميتا
(فصل) وإن خرج حيا حياة مستقرة يمكن أن يذكى فلم يذكه حتى مات فليس بذكي، قال
احمد إن خرج حيا فلا بد من ذكاته لأنه نفس أخرى
(مسألة) قال (ولا يقطع عضو مما ذكي حتى تزهق نفسه)
كره ذلك أهل العلم منهم عطاء وعمرو بن دينار ومالك والشافعي ولا نعلم لهم مخالفا، وقد قال
عمر رضي الله عنه: لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق فإن قطع عضو قبل زهوق النفس وبعد الذبح
فالظاهر اباحته فإن احمد سئل عن رجل ذبح دجاجة فأبان رأسها قال يأكلها قيل له والذي بان منها أيضا؟
قال نعم. قال البخاري قال ابن عمر وابن عباس إذا قطع الرأس فلا بأس به، وبه قال عطاء والحسن
53

والنخعي والشعبي والزهري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وذلك لأن قطع ذلك العضو
بعد حصول الذكاة فأشبه ما لو قطعه بعد الموت
(فصل) ويكره سلخ الحيوان قبل أن يبرد لأن فيه تعذيبا للحيوان فهو كقطع العضو ويكره
النفخ في اللحم الذي يريده للبيع لما فيه من الغش
(فصل) وإن قطع من الحيوان شئ وفيه حياة مستقرة فهو ميتة لما روى أبو واقد قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " رواه أبو داود، ولان اباحته إنما تكون
بالذبح وليس هذا بذبح
(مسألة) قال (وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال إذا
سموا أو نسوا التسمية)
وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب إذا ذبح حل أكل ذبيحته رجلا
54

كان أو امرأة بالغا أو صبيا حرا كان أو عبدا لا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ
عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي
وقد روي أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها
فدكتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " كلوها " متفق عليه وفي هذا الحديث فوائد سبع (أحدها)
إباحة ذبيحة المرأة (والثاني) إباحة ذبيحة الأمة (والثالثة) إباحة ذبيحة الحائض لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يستفصل (والرابعة) إباحة الذبح بالحجر (والخامسة) إباحة ذبح ما خيف عليه الموت (السادسة) حل
ما يذبحه غير مالكه بغير اذنه (السابعة) إباحة ذبحه لغير مالكه عند الخوف، عليه ويشترط أن يكون
55

عاقلا فإن كان طفلا أو مجنونا أو سكران لا يعقل لم يصح منه الذبح وبهذا قال مالك، وقال الشافعي
لا يعتبر العقل وله فيما إذا أرسل المجنون الكلب على صيد وجهان
ولنا ان الذكاة يعتبر لها القصد فيعتبر لها العقل كالعبادة فإن من لا عقل له لا يصح منه القصد
فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها، وقوله إذا سموا أو نسوا التسمية
فالتسمية مشترطة في كل ذابح مع العمد سواء كان مسلما أو كتابيا فإن ترك الكتابي التسمية عن
عمد أو ذكر اسم غير الله لم تحل ذبيحته. روي ذلك عن علي وبه قال النخعي والشافعي وحماد
وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال عطاء ومجاهد ومكحول إذا ذبح النصراني باسم المسيح حل فإن الله
تعالى أحل لنا ذبيحته وقد علم أنه سيقول ذلك
56

ولنا قول الله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وقوله (وما أهل لغير الله به)
والآية أريد بها ما ذبحوه بشرطه كالمسلم، فإن لم يعلم اسمى الذابح أم لا؟ أو ذكر اسم غير الله أم لا؟
فذبيحته حلال لأن الله تعالى أباح لنا أكل ما ذبحه المسلم والكتابي وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنهم قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بشرك يأتوننا
بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا؟ قال " سموا أنتم وكلوا " أخرجه البخاري
(فصل) وإذا ذبح الكتابي ما حرم الله عليه مثل كل ذي ظفر - قال قتادة هي الإبل والنعام
والبط وما ليس بمشقوق الأصابع - أو ذبح دابة لها شحم محرم عليه فظاهر كلام احمد والخرقي اباحته
فإن احمد حكى عن مالك في اليهودي يذبح الشاة قال لا يأكل من شحمها قال احمد هذا مذهب دقيق
57

وظاهر هذا انه لم يره صحيحا وهذا اختيار ابن حامد وأبي الخطاب وذهب أبو الحسن التميمي والقاضي
إلى تحريمها وحكاه التميمي عن الضحاك ومجاهد سوار وهو قول مالك لأن الله تعالى قال (وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وليس هذا من طعامهم ولأنه جزء من البهيمة لم يبح لذابحها فلم
يبح لغيره كالدم
ولنا ما روى عبد الله بن مغفل قال دلي جراب من شحم من قصر خيبر قد نوت لآخذه فإذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتبسم إلي متفق عليه، ولأنها ذكاة أباحت اللحم والجلد فأباحت الشحم كذكاة المسلم
والآية حجة لنا فإن معنى طعامهم ذبائحهم كذلك فسره العلماء وقياسهم ينتقض بما ذبحه الغاصب
(فصل) وان ذبح شيئا يزعم أنه محرم عليه ولم يثبت أنه محرم عليه فهو حلال لعموم الآية
وقوله انه حرام غير مقبول
58

(مسألة) قال (فإن كان أخرس أومأ إلى السماء)
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة الأخرس، منهم الليث
والشافعي وإسحاق وأبو ثور وهو قول الشعبي وقتادة والحسن بن صالح. إذا ثبت هذا فإنه يشير
إلى السماء لأن إشارته تقوم مقام نطق الناطق واشارته إلى السماء تدل على قصده تسمية الذي في السماء
ونحو هذا قال الشعبي وقد دل على هذا حديث أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية
فقال يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين الله؟ " فأشارت
إلى السماء فقال " من أنا؟ " فأشارت بإصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والى السماء أي أنت رسول الله
59

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعتقها فإنها مؤمنة " رواه الإمام أحمد والقاضي البرتي في مسنديهما فحكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بايمانها بإشارتها إلى السماء تريد ان الله سبحانه فيها فأولى ان يكتفي بذلك علما على
التسمية ولو أنه أشار إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافيا
(مسألة) قال (وإن كان جنبا جاز ان يسمي ويذبح)
وذلك أن الجنب تجوز له التسمية ولا يمنع منها لأنه إنما يمنع من القرآن لا من الذكر ولهذا
تشرع له التسمية عند اغتساله وليست الجنابة أعظم من الكفر والكافر يسمي ويذبح وممن رخص
في ذبح الجنب الحسن والحكم والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر
ولا أعلم أحدا منع من ذلك، وتباح ذبيحة الحائض لأنها في معنى الجنب
60

(فصل) والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع وما أصابها مرض فماتت به
محرمة الا ان تدرك ذكاتها لقوله تعالى (إلا ما ذكيتم) وفي حديث جارية كعب أنها أصيبت شاة من
غنمها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " كلوها " فإن كانت لم يبق من حياتها الا مثل
حركة المذبوح لم تبح بالذكاة لأنه لو ذبح ما ذبحه المجوسي لم يبح وان أدركها وفيها حياة مستقرة
بحيث يمكنه ذبحها حلت لعموم الآية والخبر وسواء كانت قد انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه
أو تعيش لعموم الآية والخبر ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ولم يستفصل
وقد قال ابن عباس في ذئب عدا على شاة فعقرها فوقع قصبها بالأرض فادركها فذبحها بحجر
قال يلقي ما أصاب الأرض ويأكل سائرها وقال احمد في بهيمة عقرت بهيمة حتى تبين فيها آثار
61

الموت الا ان فيها الروح يعني فذبحت قال إذا مصعت بذنبها وطرفت بعينها سال الدم فأرجو إن شاء الله
تعالى أن لا يكون باكلها بأس، وروى ذلك باسناده عن عقيل بن عمير وطاوس وقالا
تحركت ولم يقولا سال الدم، وهذا على مذهب أبي حنيفة، وقال إسماعيل بن سعيد سألت احمد عن
شاة مريضة خافوا عليها الموت فذبحوها فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها أو حركت يدها
أو رجلها أو ذنبها بضعف فنهر الدم قال فلا بأس به، وقال ابن أبي موسى إذا انتهت إلى حد لا
تعيش معه لم تبح بالذكاة ونص عليه احمد فقال إذا شق الذئب بطنها فخرج قصبها فذبحها لا تؤكل
وقال إن كان يعلم أنها تموت من عقر السبع فلا تؤكل وان ذكاها، وقد يخاف على الشاة الموت من
العلة والشئ يصيبها فيبادرها فيذبحها فيأكلها وليس هذا مثل هذه لا يدري لعلها تعيش والتي
62

قد خرجت أمعاؤها يعلم أنها لا تعيش وهذا قول أبي يوسف والأول أصح لأن عمر رضي الله عنه
انتهى به الجرح إلى حد علم أنه لا يعيش معه فوصى فقبلت وصاياه ووجبت العبادة عليه، وفيما
ذكرنا من عموم الآية والخبر وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في حديث جارية كعب ما يرد هذا
وتحمل نصوص احمد على شاة خرجت أمعاؤها وبانت منها فتلك لا تحل بالذكاة لأنها في حكم الميت
ولا تبقى حركتها إلا كحركة المذبوح، فاما ما خرجت أمعاؤها ولم تبن منها فهي في حكم الحياة تباح
بالذبح ولهذا قال الخرقي فيمن شق بطن رجل فأخرج حشوته فقطعها فأبانها ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل
هو الأول، ولو شق بطن رجل وضرب عنقه آخر فالقاتل هو الثاني، وقال بعض أصحابنا إذا كانت
تعيش معظم اليوم حلت بالذكاة، وهذا التحديد بعيد يخالف ظواهر النصوص ولا سبيل إلى معرفته
وقوله في حديث جارية كعب فأدركتها فذكتها بحجر يدل على أنها بادرتها بالذكاة حين خافت
موتها في ساعتها، والصحيح أنها إذا كانت تعيش زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح وانها
متى كانت مما لا يتيقن موتها كالمريضة انها متى تحركت وسال دمها حلت والله أعلم
63

(مسألة) قال (والمحرم من الحيوان ما نص الله تعالى عليه في كتابه وما كانت العرب
تسميه طيبا فهو حلال وما كانت تسمية خبيثا فهو لقول الله تعالى (ويحل لهم الطيبات
ويحرم عليهم الخبائث)
يعني بقوله ما سمى الله تعالى في كتابه: قوله سبحانه (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما
أهل لغير الله به) الآية وما عدا هذا فما استطابته العرب فهو حلال لقول الله تعالى (ويحل لهم الطيبات)
يعني ما يستطيبونه دون الحلال بدليل قوله في الآية الأخرى (يسألونك ماذا أحل لهم؟ قل أحل لكم
الطيبات) ولو أراد الحلال لم يكن ذلك جوابا لهم وما استخبثته العرب فهو محرم لقول الله تعالى (ويحرم
عليهم الخبائث) والذين تعتبر استطابتهم واستخباثهم هم. أهل الحجاز من أهل الأمصار لأنهم الذين
نزل عليهم الكتاب وخوطبوا به وبالسنة فرجع في مطلق ألفاظهما إلى عرفهم دون غيرهم ولم يعتبر
أهل البوادي لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا ولهذا سئل بعضهم عما يأكلون فقال ما دب
ودرج إلا أم حبين فقال لتهن أم حبين العافية، وما وجد في أمصار المسلمين مما لا يعرفه أهل الحجاز
رد إلى أقرب ما يشبهه في الحجاز فإن لم يشبه شيئا منها فهو مباح لدخوله في عموم قوله تعالى (قل
لا أجد فيما أوحي إلي محرما) الآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " وما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه "
إذا ثبت هذا فمن المستخبثات الحشرات كالديدان والجعلان وبنات وردان والخنافس والفأر
والأوزاغ والحرباء والعضاء والجراذين والعقارب والحيات وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، ورخص
مالك وابن أبي ليلى والأوزاعي في هذا كله إلا الأوزاغ فإن ابن عبد البر قال هو مجمع على تحريمه وقال
مالك الحية حلال إذا ذكيت واحتجوا بعموم الآية المبيحة
64

ولنا قوله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " خمس فواسق يقتلن في الحل
والحرم العقرب والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور " وفي حديث " الحية " مكان الفأرة
ولو كانت من الصيد المباح لم يبح قتلها ولان الله تعالى قال (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وقال (وحرم
عليكم صيد البر ما دمتم حرما) ولأنها مستخبثة فحرمت كالوزغ أو مأمور بقتلها فأشبهت الوزغ
(فصل) والقنفذ حرام قال أبو هريرة هو حرام وكرهه مالك وأبو حنيفة ورخص فيه
الشافعي والليث وأبو ثور
ولنا ان أبا هريرة قال ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " هو خبيث من الخبائث " رواه
أبو داود ولأنه يشبه المحرمات ويأكل الحشرات فأشبه الجرذ
(مسألة) قال (وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية)
أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الأهلية قال احمد خمسة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كرهوها
قال ابن عبد البر لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها وحكي عن ابن عباس وعائشة رضي الله
عنهما أنهما كانا يقولان بظاهر قوله سبحانه (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا
أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) وتلاها ابن عباس وقال ما خلا هذا فهو حلال وسئلت
عائشة رضي الله عنها عن الفأرة فقالت ما هي بحرام وتلت هذه الآية، ولم ير عكرمة وأبو وائل
بأكل الحمر بأسا، وقد روي عن غالب بن الحر قال أصابتنا سنة فقلت يا رسول الله أصابتنا سنة
ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وانك حرمت لحوم الحمر الأهلية فقال " أطعم أهلك من
سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية "
ولنا ما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل
متفق عليه قال ابن عبد البر وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الحمر الأهلية علي وعبد الله بن عمر وعبد الله
65

ابن عمر وجابر والبراء وعبد الله بن أبي أوفى وأنس وزاهر الأسلمي بأسانيد صحاح حسان وحديث
غالب بن الحر لا يعرج على مثله مع ما عارضه، ويحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهم في مجاعتهم
وبين علة تحريمها المطلق لكونها تأكل العذرات قال عبد الله بن أبي أوفى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم
البتة من أجل انها تأكل العذرة متفق عليه
(فصل) والبغال حرام عند كل من حرم الحمر الأهلية لأنها متولدة منها والمتولد من الشئ له
حكمه في التحريم وهكذا ان تولد من بين الانسي والوحشي ولد فهو محرم تغليبا للتحريم، والسمع المتولد
من بين الذئب والضبع محرم قال قتادة ما البغل إلا شئ من الحمار وعن جابر قال ذبحنا يوم خيبر
الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل
(فصل والبان الحمر محرمة في قول أكثرهم ورخص فيها عطاء وطاوس والزهري والأول
أصح لأن حكم الألبان حكم اللحمان
(مسألة) قال (وكل ذي ناب من السباع وهي التي تضرب بأنيابها الشئ وتفرس)
أكثر أهل العلم يرون تحريم كل ذي ناب قوي من السباع يعدو به ويكسر الا الضبع منهم مالك
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الحديث وأبو حنيفة وأصحابه وقال الشعبي وسعيد بن جبير وبعض
أصحاب مالك هو مباح لعموم قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) وقوله
سبحانه (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به)
لنا ما روى أبو ثعلبة الخشني قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع متفق
عليه، وقال أبو هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أكل كل ذي ناب من السباع حرام " قال ابن
عبد البر هذا حديث ثابت صحيح مجمع على صحته وهذا نص صريح يخص عموم الآيات فيدخل في
هذا الأسد والنمر والفهد والذئب والكلب والخنزير وقد روي عن الشعبي انه سئل عن رجل يتداوى
بلحم الكلب فقال لا شفاه الله وهذا يدل على أنه رأى تحريمه
66

(فصل) ولا يباح أكل القرد وكرهه عمر وعطاء ومجاهد ومكحول والحسن ولم يجيزوا بيعه
وقال ابن عبد البر لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا ان القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه وروي عن الشعبي ان
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحم القرد ولأنه سبع فيدخل في عموم الخبر وهو مسخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة
(فصل) وابن آوى والنمس وابن عرس حرام، سئل احمد عن ابن آوى وابن عرس فقال كل
شئ ينهش بأنيابه فهو من السباع وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه وقال الشافعي ابن عرس مباح لأنه ليس
له ناب قوي فأشبه الضب ولأصحابه في ابن آوى وجهان
ولنا انها من السباع فتدخل في عموم النهي ولأنها مستخبثة غير مستطابة فإن ابن آوى يشبه
الكلب ورائحته كريهة فيدخل في عموم قوله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث)
(فصل) واختلفت الرواية في الثعلب فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه وهذا قول أبي هريرة ومالك
وأبي حنيفة لأنه سبع فيدخل في عموم النهي ونقل عن أحمد إباحته اختاره الشريف أبو جعفر ورخص
فيه عطاء وطاوس وقتادة والليث وسفيان بن عيينة والشافعي لأنه يفدى في الاحرام والحرم، وقال
أحمد وعطاء كل ما يودى إذا اصابه المحرم فإنه يؤكل، واختلفت الرواية عن أحمد في سنور البر
كاختلافها في الثعلب والقول فيه كالقول في الثعلب والشافعي في سنور البر وجهان. فأما الأهلي
فمحرم في قول إمامنا ومالك وأبي حنيفة والشافعي، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
نهى عن أكل الهر.
(فصل) والفيل محرم قال أحمد ليس هو من أطعمة المسلمين، وقال الحسن هو مسخ وكرهه
أبو حنيفة والشافعي ورخص في اكله الشعبي
ولنا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وهو من أعظمها نابا ولأنه مستخبث
فيدخل في عموم الآية المحرمة
(فصل) فاما الدب فينظر فيه فإن كان ذا ناب يفرس به فهو محرم والا فهو مباح قال احمد ان
67

لم يكن له ناب فلا بأس به وقال أصحاب أبي حنيفة هو سبع لأنه أشبه شئ بالسباع فلا يؤكل
ولنا ان الأصل الإباحة ولم يتحقق وجود المحرم فيبقى على الأصل وشبهه بالسباع إنما يعتبر في
وجود العلة المحرمة وهو كونه ذا ناب يصيد به ويفرس فإذا لم يوجد ذلك كان داخلا في عموم
النصوص المبيحة والله أعلم.
(مسألة) قال (وكل ذي مخلب من الطير وهي التي تعلق بمخالبها الشئ وتصيد بها)
هذا قول أكثر أهل العلم وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك والليث والأوزاعي
ويحيى بن سعيد لا يحرم من الطير شئ قال مالك لم أر أحدا من أهل العلم بكره سباع الطير واحتجوا
بعموم الآيات المبيحة وقول أبي الدرداء وابن عباس ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه
ولنا ما روى ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب
من الطير، وعن خالد بن الوليد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حرام عليكم الحمر الأهلية وكل ذي
ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير " رواهما أبو داود وهذا يخص عموم الآيات ويقدم على ما
ذكروه فيدخل في هذا كل ماله مخلب يعدو به كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق
والحدأة والبومة وأشباهها.
(فصل) ويحرم منها ما يأكل الجيف كالنسور والرخم وغراب البين وهو أكبر الغربان والا بقع
قال عروة ومن يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا؟ والله ما هو من الطيبات ولعله
يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب
العقور " فهذه الخمس محرمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح قتلها في الحرم ولا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم
ولان ما يؤكل لا يحل قتله إذا قدر عليه وإنما يذبح ويؤكل وسئل احمد عن العقعق فقال إن لم يكن
يأكل الجيف فلا بأس به قال بعض أصحابنا هو يأكل الجيف فيكون على هذا محرما
68

(فصل) ويحرم الخطاف والخشاف والخفاش وهو الوطواط. قال الشاعر:
مثل النهار يزيد أبصار الورى * نورا ويعمي أعين الخفاش
قال احمد ومن يأكل الخشاف؟ وسئل عن الخطاف فقال لا أدري وقال النخعي كل الطير حلال
الا الخفاش، وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تستطيبها العرب ولا تأكلها ويحرم الزنابير واليعاسيب
والنحل وأشباهها لأنها مستخبثة غير مستطابة
(فصل) وما عدا ما ذكرنا فهو مباح لعموم النصوص الدالة على الإباحة، من ذلك بهيمة الأنعام
وهي الإبل والبقر والغنم قال الله تعالى (أحلت لك بهيمة الأنعام) ومن الصيود الظباء وحمر الوحش
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة وأصحابه بأكل الحمار الذي صاده وكذلك بقر الوحش كلها مباحة على
اختلاف أنواعها من الإبل والتيتل والوعل والمها وغيرها من الصيود كلها مباحة وتفدى في الاحرام، ويباح
النعام وقد قضى الصحابة رضي الله عنهم في النعامة ببدنة وهذا كله مجمع عليه لا نعلم فيه خلافا إلا ما يروى
عن طلحة بن مصرف قال إن الحمار الوحشي إذا أنس واعتلف فهو بمنزلة الأهلي، قال أحمد وما ظننت
انه روي في هذا شئ وليس الامر عندي كما قال وأهل العلم على خلافه لأن الظباء إذا تأنست لم تحرم
والأهلي إذ توحش لم يحل ولا يتغير منها شئ عن أصله وما كان عليه، قال عطاء في حمار الوحش
إذا تناسل في البيوت لا تزول عنه أسماء الوحش، وسألوا احمد عن الزرافة تؤكل؟ قال نعم وهي
دابة تشبه البعير إلا أن عنقها أطول من عنقه، وجسمها ألطف من جسمه، وأعلى منه ويداها
أطول من رجليها.
(فصل) وتباح لحوم الخيل كلها عرابها وبراذينها نص عليه أحمد وبه قال ابن سيرين وروي ذلك عن
ابن الزبير والحسن وعطاء والأسود بن يزيد وبه قال حماد بن زيد والليث وابن المبارك والشافعي
وأبو ثور، قال سعيد بن جبير ما أكلت شيئا أطيب من معرفة برذون وحرمها أبو حنيفة وكرهها
مالك والأوزاعي وأبو عبيد لقول الله تعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها)
69

وعن خالد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حرام عليكم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها " ولأنه
ذو حافر فأشبه الحمار "
ولنا قول جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل.
وقالت أسماء نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة، متفق عليهما، ولأنه
حيوان طاهر مستطاب ليس بذي ناب ولا مخلب فيحل كبهيمة الأنعام، ولأنه داخل في عموم
الآيات والاخبار المبيحة. وأما الآية فإنما يتعلقون بدليل خطابها وهم لا يقولون به وحديث خالد
ليس له اسناد جيد قاله احمد قال وفيه رجلان لا يعرفان يرويه ثور عن رجل ليس بمعروف وقال
لا ندع أحاديثنا لمثل هذا الحديث المنكر
(فصل) والأرنب مباحة، أكلها سعد بن أبي وقاص ورخص فيها أبو سعيد وعطاء وابن
المسيب والليث ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ولا نعلم أحدا قائلا بتحريمها إلا شيئا روي
عن عمرو بن العاص، وقد صح عن أنس أنه قال: أنفجنا أرنبا فسعى القوم فلعبوا فأخذتها فجئت بها
إلى أبي طلحة فذبحها وبعث بوركها - أو قال - فخذها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبله متفق عليه. وعن محمد بن صفوان
أو صفوان بن محمد أنه قال: صدت أرنبين فذبحتهما بمروة فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني بأكلهما
رواه أبو داود ولأنها حيوان مستطاب ليس بذي ناب أشبه الظبي
(فصل) ويباح الوبر وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي وابن المنذر
وأبو يوسف وقال القاضي هو محرم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف
ولنا انه يفدى في الاحرام والحرم وهو مثل الأرنب يعتلف النبات والبقول فكان مباحا
كالأرنب ولان الأصل الإباحة وعموم النصوص يقتضيها ولم يرد فيه تحريم فتجب إباحته
(فصل) وسئل احمد عن اليربوع فرخص فيه وهذا قول عروة وعطاء الخراساني والشافعي
70

وأبي ثور وابن المنذر، وقال أبو حنيفة هو محرم، وروي ذلك عن أحمد أيضا وعن ابن سيرين
والحكم وحماد وأصحاب الرأي لأنه يشبه الفار
ولنا ان عمر حكم فيه بجفرة ولان الأصل الإباحة ما لم يرد فيه تحريم، وأما السنجاب فقال القاضي
هو محرم لأنه ينهش بنابه فأشبه الجرذ ويحتمل انه مباح لأنه يشبه اليربوع ومتى تردد بين الإباحة
والتحريم غلبت الإباحة لأنها الأصل وعموم النصوص يقتضيها
(فصل) ويباح من الطيور ما لم نذكره في المحرمات من ذلك الدجاج. قال أبو موسى رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الدجاج والحبارى لما روى سفينة قال: أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم لحم
حبارى. رواه أبو داود ويباح الزاغ وبذلك قال الحكم وحماد ومحمد بن الحسن والشافعي في أحد قوليه
ويباح غراب الزرع وهو الأسود الكبير الذي يأكل الزرع ويطير مع الزاغ لأن مرعاهما
الزرع والحبوب فأشبها الحجل. وتباح العصافير كلها. قال عبد الله بن عمرو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها الا سأله الله عنها " قيل يا رسول الله فما حقها؟
قال " يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها " رواه النسائي. ويباح الحمام كله على اختلاف
أنواعه من الجوازل والفواخت والرقاطي والقطا والحجل وغيرها. وتباح الكراكي والإوز وطير الماء
كله والغرانيق والطواويس وأشباه ذلك لا نعلم فيه خلافا
واختلف عن أحمد في الهدهد والصرد فعنه انهما حلال لأنهما ليسا من ذوات المخلب ولا
يستخبثان وعنه تحريمهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الهدهد والصرد والنملة والنحلة. وكل ما كان
لا يصيد بمخلبه ولا يأكل الجيف ولا يستخبث فهو حلال
(فصل) قال أحمد: أكره لحوم الجلالة وألبانها. قال القاضي في المجرد: هي التي تأكل القذر
فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها، وفي بيضها روايتان. وإن كان أكثر علفها الطاهر
لم يحرم اكلها ولا لبنها، وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ولا هو
71

ظاهر كلامه لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها ويعفي عن اليسير. وقال الليث: إنما
كانوا يكرهون الجلالة التي لاطعام لها إلا الرجيع وما أشبهه
وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان (إحداهما) انها محرمة (والثانية) انها مكروهة غير محرمة
وهذا قول الشافعي، وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتى تحبس، ورخص الحسن في لحومها
وألبانها لأن الحيوانات لا تنجس بأكل النجاسات بدليل ان شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه،
والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ولو نجس لما طهر بالاسلام ولا الاغتسال
ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس
ولنا ما روى ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. رواه أبو داود،
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها ولا
يحمل عليها إلا الادم ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة، رواه الخلال باسناده، ولان لحمها
يتولد من النجاسة فيكون نجسا كرماد النجاسة، وأما شارب الخمر فليس ذلك أكثر غذائه وإنما
يتغذى الظاهرات وكذلك الكافر في الغالب
(فصل) وتزول الكراهة بحبسها اتفاقا، واختلف في قدره فروي عن أحمد انها تحبس ثلاثا سواء كانت
طائرا أو بهيمة وكان ابن عمرا إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا وهذا قول أبي ثور لأن ما طهر حيوانا طهر الآخر
كالذي نجس ظاهره. (والأخرى) تحبس الدجاجة ثلاثا والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين وهذا قول عطاء
في الناقة والبقرة لحديث عبد الله بن عمر ولأنهما أعظم جسما وبقاء علفهما فيهما أكثر من بقائه في الدجاجة
والحيوان الصغير والله أعلم
(فصل) ويكره ركوب الجلالة وهو قول عمر وابنه وأصحاب الرأي لحديث عبد الله بن عمر وأن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوبها، ولأنها ربما عرقت فتلوث بعرقها
(فصل) وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات أو سمدت بها، وقال ابن عقيل يحتمل أن
يكره ذلك ولا يحرم ولا يحكم بتنجيسها لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستعالة كالدم
72

يستحيل في أعضاء الحيوان لحما ويصير لبنا، وهذا قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة والشافعي، وكان
سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول مكتل عرة بر، والعرة عذرة الناس
ولنا ما روي عن ابن عباس قال كنا نكري أراضي رسول الله (صل) ونشترط عليهم أن لا يدملوها
بعذرة الناس ولأنها تتغذى بالنجاسات وتترقى فيها أجزاؤها والاستحالة لا تطهر، فعلى هذا تطهر
إذا سقيت الطاهرات كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات
(مسألة) قال (ومن اضطر إلى الميتة فلا يأكل منها الا ما يأمن منه الموت)
أجمع العلماء على تحريم الميتة حال الاختيار وعلى إباحة الاكل منها في الاضطرار وكذلك سائر
المحرمات والأصل في هذا قول الله تعالى (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله
به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) ويباح له اكل ما يسد الرمق ويأمن معه الموت بالاجماع
ويحرم ما زاد على الشبع بالاجماع أيضا وفي الشبع روايتان:
(أظهرهما) لا يباح وهو قول أبي حنيفة واحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين للشافعي قال
الحسن يأكل قدر ما يقيمه لأن الآية دلت على تحريم الميتة واستثنى ما اضطر إليه فإذا اندفعت
الضرورة لم يحل له الاكل كحالة الابتداء ولأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الاكل للآية،
يحققه انه بعد سد رمقه كهو قبل أن يضطر وثم لم يبح له الاكل كذا ههنا
(والثانية) يباح له الشبع اختارها أبو بكر لما روى جابر بن سمرة ان رجلا نزل الحرة فنفقت
عنده ناقة فقالت له امرأته اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله فقال حتى اسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأله فقال " هل عندك غنى يغنيك؟ " قال لا قال " فكلوها " ولم يفرق رواه أبو داود ولان ما جاز
سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح ويحتمل ان يفرق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة وبين
ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة كحالة الاعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز
73

الشبع لأنه إذا اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ولا يتمكن من البعد عن الميتة
مخافة الضرورة المستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه وربما أدى ذلك إلى تلفه بخلاف التي ليست مستمرة
فإنه يرجو الغنى عنها بما يحل له والله أعلم. إذا ثبت هذا فإن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف
بها ان ترك الأكل قال احمد إذا كان يخشى على نفسه سواءا كان من جوع أو يخاف ان ترك الأكل
عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك ولا يتقيد ذلك بزمن محصور
(فصل) وهل يجب الاكل من الميتة على المضطر؟ فيه وجهان:
(أحدهما) يجب وهو قول مسروق واحد الوجهين لأصحاب الشافعي قال الأثرم سئل أبو عبد الله
عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل فذكر قول مسروق من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار
وهذا اختيار ابن حامد وذلك لقول الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وترك الاكل
مع إمكانه في هذا الحال القاء بيده إلى التهلكة وقال الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما)
ولأنه قادر على احياء نفسه بما أحله الله له فلزمه كما لو كان معه طعام حلال
(والثاني) لا يلزمه لما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ان طاغية الروم
حبسه في بيت وجعل معه خمرا ممزوجا بماء ولحم خنزير مشوي ثلاثة أيام فلم يأكل ولم يشرب حتى
مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته فأخرجوه فقال قد كان الله أحله لي لأني مضطر ولكن
لم أكن لأشمتك بدين الاسلام، ولان إباحة الاكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص ولان
له غرضا في اجتناب النجاسة والاخذ بالعزيمة وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق الحلال في
الأصل من هذه الوجوه
(فصل) وتباح المحرمات عند الاضطرار إليها في الحضر والسفر جميعا لأن الآية مطلقة غير
مقيدة بإحدى الحالتين وقوله (فمن اضطر) لفظ عام في حق كل مضطر ولان الاضطرار يكون في الحضر في
سنة المجاعة وسبب الإباحة الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك لكون هذه المصلحة أعظم من مصلحة
74

اجتناب النجاسات والصيانة عن تناول المستخبثات وهذا المعنى عام في الحالين وظاهر كلام احمد
أن الميتة لا تحل لمن يقدر على دفع ضرورته بالمسألة
وروي عن أحمد أنه قال: أكل الميتة إنما يكون في السفر يعني انه في الحضر يمكنه السؤال
وهذا من احمد خرج مخرج الغالب فإن الغالب ان الحضر يوجه فيه الطعام الحلال ويمكن دفع الضرورة
بالسؤال ولكن الضرورة أمر معتبر بوجود حقيقته لا يكتفى فيه بالمظنة بل متى وجدت الضرورة أباحت
سواء وجد المظنة أو لم توجد ومتى انتفت لم يبح الاكل لوجود مظنتها بحال
(فصل) قال أصحابنا ليس للمضطر في سفر المعصية الاكل من الميتة كقاطع الطريق والآبق
لقول الله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) قال مجاهد غير باغ على المسلمين ولاعاد
عليهم. وقال سعيد بن جبير إذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له فإن تاب وأقلع عن معصيته
حل له الاكل
(فصل) وهل للمضطر التزود من الميتة؟ على روايتين (أصحهما) له ذلك وهو قول مالك لأنه
لا ضرر في استصحابها ولا في اعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته ولا يأكل منها إلا عند ضرورته
(والثانية) لا يجوز لأنه توسع فيما لم يبح إلا للضرورة فإن استصحبها فلقيه مضطر آخر لم يجز
له بيعه إياه لأنه إنما أبيح له منها ما يدفع به الضرورة ولا ضرورة إلى البيع ولأنه لا يملكه ويلزمه
إعطاء الآخر بغير عوض إذا لم يكن هو مضطرا في الحال إلى ما معه لأن ضرورة الذي لقيه موجودة
وحاملها يخاف الضرر في ثاني الحال
(مسألة) قال (ومن مر بثمرة فله أن يأكل منها ولا يحمل)
هذا يحتمل انه أراد في حال الجوع والحاجة لأنه ذكره عقيب مسألة المضطر، قال احمد إذا لم يكن
عليها حائط يأكل إذا كان جائعا وإذا لم يكن جائعا فلا يأكل قال وقد فعله غير واحد من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ولكن إذا كان عليه حائط لم يأكل لأنه قد صار شبه الحريم، وقال في موضع إنما
75

الرخصة للمسافر إلا أنه لم يعتبر ههنا حقيقة الاضطرار لأن الاضطرار يبيح ما وراء الحائط ورويت
عنه الرخصة في الاكل من غير المحوطة مطلقا من غير اعتبار جوع ولا غيره
وروي عن أبي زينب التيمي قال سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بردة
فكانوا يمرون بالثمار فيأكلون في أفواههم وهو قول عمر وابن عباس وأبي بردة قال عمر يأكل
ولا يتخذ خبنة. وروي عن أحمد أنه قال يأكل مما تحت الشجر وإذا لم يكن تحت الشجر فلا
يأكل ثمار الناس وهو غني عنه ولا يضرب بحجر ولا يرمي لأن هذا يفسد
وقد روي عن رافع بن عمر قال: كنت أرمي نخل الأنصار فأخذوني فذهبوا بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال " يا رافع لم ترمي نخلهم؟ " قلت يا رسول الله الجوع قال " لا ترم وكل ما وقع أشبعك الله
وأرواك " أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح، وقال أكثر الفقهاء لا يباح الاكل في
الضرورة لما روى العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا وان الله لم يحل لكم أن تدخلوا
بيوت أهل الكتاب إلا باذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم " أخرجه
أبو داود وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا " متفق عليه
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل عن الثمر المعلق فقال
" ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خنبة فلا شئ عليه، ومن أخرج منه شيئا فعليه غرامة
مثليه والعقوبة " قال الترمذي هذا حديث حسن
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا أتيت على حائط بستان فناد صاحب
البستان ثلاثا فإن أجابك وإلا فكل من غير أن تفسد "
وروى سعيد باسناده عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ولأنه قول من سمينا من الصحابة
76

من غير مخالف فيكون إجماعا، فإن قيل فقد أبي سعد أن يأكل، قلنا امتناع سعد من أكله ليس
بمخالف لهم لأن الانسان قد يترك المباح غنى عنه أو تورعا أو تقذرا كترك النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب
فاما أحاديثهم فهي مخصوصة بما رويناه من الحديث والاجماع، فإن كانت محوطة لم يجز الدخول إليها لقول
ابن عباس إن كان عليها حائط فهو حريم فلا تأكل وان لم يكن عليها حائط فلا بأس ولان احرازه
بالحائط يدل على شح صاحبه به وعدم المسامحة فيه قال بعض أصحابنا إذا كان عليها ناطور فهو بمنزلة المحوط
في أنه لا يدخل إليه ولا يأكل منه إلا في الضرورة
(فصل) وعن أحمد في الاكل من الزرع روايتان (إحداهما) قال لا يأكل إنما رخص في الثمار
ليس الزرع، وقال ما سمعنا في الزرع أن يمس منه، ووجهه ان الثمار خلقها الله تعالى للاكل رطبة
والنفوس تتوق إليها والزرع بخلافها
(والثانية) قال يأكل من الفريك لأن العادة جارية بأكله رطبا أشبه الثمر وكذلك الحكم في
الباقلا والحمص وشبهه مما يؤكل رطبا فاما الشعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الاكل منه والأولى في
الثمار وغيرها أن لا يأكل منها الا باذن لما فيه من الخلاف والأخبار الدالة على التحريم
(فصل) وعن أحمد في حلب لبن الماشية روايتان
(إحداهما) يجوز له أن يحلب ويشرب ولا يحمل لما روى الحسن عن سمرة ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن فليحلب وليشرب وان
لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجابه أحد فليستأذنه، وان لم يجبه أحد فليحلب وليشرب ولا يحمل "
رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح والعمل عليه عند بعض أهل العلم وبه يقول احمد وإسحاق
(والرواية الثانية) لا يجوز له أن يحلب ولا يشرب لما روى ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا باذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينقل طعامه
فانا يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا باذنه " وفي لفظ " فإن ما في
ضروع مواشيهم مثل ما في مشاربهم " متفق عليه
77

(مسألة) قال (ومن اضطر فأصاب الميتة وخبز الا يعرف مالكه اكل الميتة)
وبهذا قال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وقال مالك ان كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل
من الزرع والثمر وشرب اللبن وان خاف أن تقطع يده أو لا يقبل منه أكل الميتة، ولأصحاب الشافعي وجهان
(أحدهما) يأكل الطعام وهو قول عبد الله بن دينار لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له
أكل الميتة كما لو بذله له صاحبه
ولنا ان أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه والعدول إلى المنصوص عليه أولى
ولان حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحقوق الآدمي مبنية على مبنية على الشح والتضييق ولان
حق الآدمي تلزمه غرامته وحق الله لا عوض له
(فصل) إذا وجد المضطر من يطعمه ويسقيه لم يحل له الامتناع من الأكل والشرب ولا العدول إلى
أكل الميتة الا أن يخاف أن يسمه فيه أو يكون الطعام الذي يطعمه مما يضره ويخاف ان يهلكه أو يمرضه
(فصل) وان وجد طعاما مع صاحبه فامتنع من بذله له أو بيعه منه ووجد ثمنه لم يجز له مكابرته
عليه وأخذه منه وعدل إلى الميتة سواء كان قويا يخاف من مكابرته التلف أو لم يخف فإن بذله له بثمن
مثله وقدر على الثمن لم يحل له أكل الميتة لأنه قادر على طعام حلال وان بذله بزيادة على ثمن المثل
لا يجحف بماله لزمه شراؤه أيضا لما ذكرناه، وإن كان عاجزا عن الثمن فهو في حكم العادم، وان
امتنع من بذله الا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه المضطر بذلك لم يلزمه أكثر من ثمن مثله لأن الزيادة أحوج
إلى بذلها بغير حق فلم يلزمه كالمكره
(فصل) وان وجد المحرم ميتة وصيدا أكل الميتة وبه قال الحسن ومالك وأبو حنيفة وأصحابه
وقال الشافعي في أحد قوليه يأكل الصيد ويفديه وهو قول الشعبي لأن الضرورة تبيحه ومع
القدرة عليه لا تحل الميتة لغناه عنها
78

ولنا ان إباحة الميتة منصوص عليها وإباحة الصيد مجتهد فيها وتقديم المنصوص عليه أولى فإن لم
يجد ميتة ذبح الصيد وأكله، نص عليه أحمد لأنه مضطر إليه عينا وقد قيل إن في الصيد تحريمات ثلاثا
تحريم قتله وأكله وتحريم الميتة لأن ما ذبحه المحرم من الصيد يكون ميتة فقد ساوى الميتة في هذا
وفضل عليها بتحريم القتل والاكل ولكن يقال على هذا ان الشارع إذا أباح له ذبحه لم يصر ميتة
ولهذا لو لم يجد الميتة فذبحه كان ذكيا طاهرا وليس بنجس ولا ميتة ولهذا يتعين عليه ذبحه في محل
الذبح وتعتبر شروط الذكاة فيه ولا يجوز قتله ولو كان ميتة لم يتعين ذلك عليه
(فصل) وإذا ذبح المحرم الصيد عند الضرورة جاز له ان يشبع منه لأنه لحم ذكي لاحق فيه لآدمي
سواه فأبيح له الشبع منه كما لو ذبحه حلال من أجله
(فصل) فإن لم يجد المضطر شيئا لم يبح له أكل بعض أعضائه. وقال بعض أصحاب الشافعي:
له ذلك لأن له أن يحفظ البلة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الاكلة
ولنا أن اكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلا لنفسه ولا يتيقن حصول البقاء بأكله. أما قطع
الاكلة فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل
الصائل عليه ولم يبح له قتله ليأكله
(فصل) وان لم يجد إلا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعا ولا إتلاف عضو منه مسلما كان
أو كافرا لأنه مثله فلا يجوز أن يبقي نفسه باتلافه وهذا لا خلاف فيه، وإن كان مباح الدم كالحربي
والمرتد فذكر القاضي ان له قتله وأكله لأن قتله مباح وهكذا قال أصحاب الشافعي لأنه لا حرمة له فهو
بمنزلة السباع، وان وجده ميتا أبيح اكله لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته، وان وجد
معصوما ميتا لم يبح اكله في قول أصحابنا، وقال الشافعي وبعض الحنفية يباح وهو أولى لأن حرمة
الحي أعظم، قال أبو بكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء، واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم
" كسر عظم الميت ككسر عظم الحي " واختار أبو الخطاب ان له أكله وقال لا حجة في الحديث ههنا
79

لأن الاكل من اللحم لا من العظم، والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافهما
في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت
(مسألة) قال (فإن لم يصب الا طعاما لم يبعه مالكه أخذه قهرا ليحيي به نفسه وأعطاه
ثمنه الا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته)
وجملته انه إذا اضطر فلم يجد إلا طعاما لغيره نظرنا فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به
ولم يجز لاحد أخذه منه لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة، وان اخذه
منه أحد فمات لزمه ضمانه لأنه قتله بغير حق، وان لم يكن صاحبه مضطرا إليه لزمه بذله للمضطر لأنه
يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله له كما يلزمه بذل منافعه في إنجائه من الغرق والحريق
فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه لأنه مستحق له دون مالكه فجاز له أخذه كغير ماله: فإن احتيج في
ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه وان آل أخذه إلى قتل
صاحبه فهو هدر لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل الا أن يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له
المقاتلة عليه لامكان الوصول إليه دونها، فإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله فذكر القاضي ان له
قتاله والأولى أن لا يجوز له ذلك لامكان الوصول إليه بدونها، وان اشتراه بأكثر من ثمن مثله لم
يلزمه إلا ثمن مثله لأنه صار مستحقا له بقيمته ويلزمه عوضه في كل موضع أخذه فإن كان معه في
الحال وإلا لزمه في ذمته، ولا يباح للمضطر من مال أخيه الا ما يباح من الميتة. قال أبو هريرة قلنا
يا رسول الله ما يحل لاحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال " يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل "
(فصل) وإذا اشتدت المخمصة في سنة المجاعة وأصابت الضرورة خلقا كثيرا وكان عند بعض
الناس قدر كفايته وكفاية عياله لم يلزمه بذله للمضطرين وليس لهم أخذه منه لأن ذلك يفضي إلى
وقوع الضرورة به ولا يدفعها عنهم، وكذلك أن كانوا في سفر ومعه قدر كفايته من غير فضلة لم
80

يلزمه بذل ما معه للمضطرين، ولم يفرق أصحابنا بين هذه الحال وبين كونه لا يتضرر بدفع ما معه إليهم
في أن ذلك واجب عليه لكونه غير مضطر في الحال والآخر مضطر فوجب تقديم حاجة المضطر
ولنا أن هذا مفض به إلى هلاك نفسه وهلاك عياله فلم يلزمه كما لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه
ولان في بذله إلقاء بيده إلى التهلكة وقد نهى الله عن ذلك
(مسألة) (قال ولا بأس بأكل الضب والضبع)
أما الضب فإنه مباح في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو سعيد
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، قال أبو سعيد: كنا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأن يهدى
إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة، فقال عمر ما يسرني أن مكان كل ضب دجاجة سمينة ولوددت
أن في كل جحر ضب ضبين وبهذا قال مالك والليث والشافعي وابن المنذر
وقال أبو حنيفة هو حرام وبهذا قال الثوري لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن أكل لحم
الضب وروي نحوه عن علي ولأنه ينهش فأشبه ابن عرس
ولنا ما روى ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة
فأتي بضب محنوذ فقيل هو ضب يا رسول الله فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله؟ قال " لا
ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " قال خالد فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر،
متفق عليه، قال ابن عباس ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الضب تقذرا وأكل على مائدته ولو كان حراما
ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الضب ولكنه قذره
ولو كان عندي لأكلته، ولان الأصل الحل ولم يوجد المحرم فبقي على الإباحة ولم يثبت فيه عن النبي
صلى الله عليه وسلم نهي ولا تحريم ولاغ الإباحة قول من سمينا من الصحابة ولم يثبت عنهم خلافه فيكون إجماعا
81

(فصل) فاما الضبع فرويت الرخصة فيها عن سعد وابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير
وعكرمة وإسحاق، وقال عروة ما زالت العرب تأكل الضبع ولا ترى بأكلها بأسا
وقال أبو حنيفة والثوري ومالك هو حرام وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب لأنها من السباع
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اكل ذي ناب من السباع وهي من السباع فتدخل في عموم النهي، وروي
عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل عن الضبع فقال " ومن يأكل الضبع؟ "
ولنا ما روى جابر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الضبع، قلت صيد هي؟ قال " نعم "
احتج به أحمد وفي لفظ قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال " هو صيد ويجعل
فيه كبش إذا صاده المحرم " رواه أبو داود
قال ابن عبد البر هذا لا يعارض حديث النهي عن كل ذي ناب من السباع لأنه أقوى منه،
قلنا هذا تخصيص لا معارض ولا يعتبر في التخصيص كون المخصص في رتبة المخصص بدليل تخصيص
عموم الكتاب بأخبار الآحاد. فأما الخبر الذي فيه " ومن يأكل الضبع؟ " فحديث طويل يرويه
عبد الكريم بن أبي المخارق ينفرد به وهو متروك الحديث. ولان الضبع قد قيل إنها ليس
لها ناب وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس، فعلى هذا لا تدخل
في عموم النهي والله أعلم
(مسألة) قال (ولا يؤكل الترياق لأنه يقع فيه لحوم الحيات)
الترياق دواء يتعالج به من السم ويجعل فيه من لحوم الحيات فلا يباح أكله ولا شربه لأن لحم
الحية حرام وممن كرهه الحسن وابن سيرين ورخص فيه الشعبي ومالك لأنه يرى إباحة لحوم الحيات
ويقتضيه مذهب الشافعي لاباحته التداوي ببعض المحرمات
ولنا ان لحم الحيات حرام بما قد ذكرناه فيما مضى. ولا يجوز التداوي بمحرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" ان الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها "
82

(فصل) ولا يجوز التداوي بمحرم ولا بشئ فيه محرم مثل ألبان الاتن ولحم شئ من المحرمات
ولا شرب الخمر للتداوي به لما ذكرنا من الخبر ولان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له النبيذ يصنع للدواء فقال
" انه ليس بدواء ولكنه داء "
(فصل) ويجوز اكل الأطعمة التي فيها الدود والسوس كالفواكه والقثاء والخيار والبطيخ والحبوب
والخل إذا لم تقذره نفسه وطابت به لأن التحرز من ذلك يشق ويجوز أكل العسل بقشه وفيه فراخ
لذلك وان نقاه فحسن فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اتى بتمر عتيق فجعل يفتشه ويخرج السوس منه
وينقيه وهذا أحسن.
(مسألة) قال (ولا يؤكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم إذا علم أن السم أعان على قتله)
إنما كان كذلك لأن ما قتله السم محرم وما قتله السهم وحده مباح فإذا مات بسبب مبيح ومحرم
حرم كما لو مات برمية مسلم ومجوسي أو قتل الصيد كلب معلم وغيره أو وجد مع كلبه كلبا لا يعرف
حاله أو رمى صيدا بسهم فوجده غريقا في الماء أو تردى من جبل أو وطئ عليه شئ فإن علم أن
السم لم يعن على قتله لكون السهم أوحى منه فهو مباح لانتفاء المحرم
(مسألة) قال (وما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر لم يؤكل إذا مات في بر أو بحر)
كل ما يعيش في البر من دواب البحر لا يحل بغير ذكاة كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء إلا
مالا دم فيه كالسرطان فإنه يباح بغير ذكاة قال احمد السرطان لا بأس به قيل له يذبح؟ قال
لا وذلك لأن مقصود الذبح إنما هو إخراج الدم منه وتطييب اللحم بإزالته عنه فما لادم فيه لا
حاجة إلى ذبحه، واما سائر ما ذكرنا فلا يحل الا ان يذبح قال احمد كلب الماء يذبحه ولا أرى بأسا
بالسلحفاة إذا ذبح والرق يذبحه وقال قوم يحل من غير ذكاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر " هو الطهور
83

ماؤه الحل ميته " ولأنه من حيوان البحر فأبيح بغير ذكاة كالسمك والسرطان، وقال أبو بكر
الصديق رضي الله عنه كل ما في البحر قد ذكاه الله تعالى لكم وروى الإمام أحمد باسناده عن شريح
رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل شئ في البحر مذبوح " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
إن الله ذبح كل شئ في البحر لابن آدم
ولنا أنه حيوان يعيش في البر له نفس سائلة فلم يبح بغير ذبح كالطير ولا خلاف في الطير فيما
علمناه والاخبار محمولة على ما لا يعيش إلا في البحر كالسمك وشبهه لأنه لا يتمكن من تذكيته لأنه
لا يذبح الا بعد إخراجه من الماء وإذا خرج مات
(فصل) فاما مالا يعيش الا في الماء كالسمك وشبهه فإنه يباح بغير ذكاة لا نعلم في هذا خلافا لما
ذكرنا من الاخبار وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أحلت لنا ميتتان ودمان فأما
الميتتان فالسمك والجراد " وقد صح أن أبا عبيدة وأصحابه وجد على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر
ميتة فأكلوا منها شهرا حتى سمنوا وادهنوا فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه فقال " هو
رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شئ تطعمونا؟ " متفق عليه
(فصل) وكل صيد البحر مباح الا الضفدع، وهذا قول الشافعي وقال الشعبي لو أكل أهلي
الضفادع لأطعمتهم، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في كل ما في البحر قد ذكاه
الله لكم وعموم قوله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه) يدل على إباحة جميع صيده وروى عطاء
وعمرو بن دينار أنهما بلغهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان الله ذبح كل شئ في البحر
لابن آدم " فاما الضفدع فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله رواه النسائي فيدل ذلك على تحريمه
فاما التمساح فقد نقل عنه ما يدل على أنه لا يؤكل، وقال الأوزاعي لا بأس به لمن اشتهاه وقال ابن حامد
لا يؤكل التمساح ولا الكوسج لأنهما يأكلان الناس، وقد روي عن إبراهيم النخعي وغيره أنه قال
كانوا يكرهون سباع البحر كما يكرهون سباع البر وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كل
84

ذي ناب من السباع وقال أبو علي النجاد ما حرم نظيره في البر فهو حرام في البحر ككلب الماء
وخنزيره وانسانه، وهو قول الليث الا في كلب الماء فإنه يرى إباحة كلب البر والبحر. وقال
أبو حنيفة لا يباح الا السمك. وقال مالك كل ما في البحر مباح لعموم قوله تعالى (أحل
لكم صيد البحر وطعامه)
(فصل) وكلب الماء مباح وركب الحسن بن علي رضي الله عنه سرجا عليه جلد من جلود كلاب
الماء وهذا قول مالك والشافعي والليث ويقتضيه قول الشعبي والأوزاعي ولا يباح عند أبي حنيفة
وهو قول أبي علي النجاد وبعض أصحاب الشافعي.
ولنا عموم الآية والخبر قال عبد الله سألت أبي عن كلب الماء فقال حدثنا يحيى بن سعيد عن
ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير سمعا شريحا (1) رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم
يقول " كل شئ في البحر فهو مذبوح " قال فذكرت ذلك لعطاء فقال اما الطير فنذبحه. وقال
أبو عبد الله كلب الماء نذبحه.
(فصل) قيل لأبي عبد الله يكره الجري؟ قال لا والله وكيف لنا بالجري؟ ورخص فيه علي والحسن
ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وسائر أهل العلم وقال ابن عباس الجري لا تأكله اليهود
ووافقهم الرافضة ومخالفتهم صواب
(فصل) وعن أحمد في السمكة توجد في بطن سمكة أخرى أو حوصلة طائر أو يوجد في حوصلته
جراد فقال في موضع: كل شي اكل مرة لا يؤكل وقال في موضع: الطافي أشد من هذا وقد رخص
فيه أبو بكر رضي الله عنه، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعي فيما في بطن السمكة دون ما في
حوصلة الطائر لأنه كالرجيع ورجيع الطائر عنده نجس
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان ودمان " ولأنه حيوان طاهر في محل طاهر

(1) هو شريح الحجازي له صحبة روى عنه عمرو بن دينار وأبو الزبير
85

لا تعتبر له ذكاة فأبيح كالطافي من السمك وهكذا يخرج في الشعير يوجد في بعر الجمل أو
خثي الجواميس ونحوها.
(مسألة) قال (وإذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه نجس واستصبح به
إن أحب ولم يحل أكله ولا ثمنه)
ظاهر هذا أن النجاسة إذا وقعت في مائع غير الماء نجسته وان كثر، وهذا ظاهر المذهب،
وعن أحمد رواية أخرى انه لا ينجس إذا كثر قال حرب سألت أحمد عن كلب ولغ في سمن أو
زيت قال إذا كان في آنية كبيرة مثل حب أو نحوه رجوت ان لا يكون به بأس يؤكل وإذا كان
في آنية صغيرة فلا يعجبني أن يؤكل وسئل عن كلب وقع في خل أكثر من قلتين فخرج منه وهو
حي فقال هذا أسهل من أنه لو مات
وعنه رواية ثالثة ما أصله الماء كالخل التمري يدفع النجاسة عن نفسه إذا كثر وما ليس أصله الماء
لا يدفع عن نفسه قال المروذي قلت لأبي عبد الله فإن وقعت النجاسة في خل أو دبس؟ فقال اما الخل
فأصله الماء يعود إلى أن يكون ماء إذا حمل عليه وقال ابن مسعود في فأرة وقعت في سمن أنما حرم
من الميتة لحمها ودمها.
ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل عن فارة وقعت في سمن قال
" إن كان جامدا فخذوها وما حولها فالقوه، وإن كان مائعا فلا تقربوه " ولان غير الماء ليس بطهور
فلا يدفع النجاسة عن نفسه وحكم الجامد قد ذكرناه فيما تقدم واختلفت الرواية في الاستصباح بالزيت
النجس فأكثر الروايات اباحته لأن ابن عمر أمر أن يستصبح به ويجوز ان تطلى به سفينة وهذا
قول الشافعي، وعن أحمد لا يجوز الاستصباح به وهو قول ابن المنذر لأن النبي صلى الله
عليه وسلم سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال " لا، هو
حرام " وهذا في معناه
86

ولنا انه زيت أمكن الانتفاع به من غير ضرر فجاز كالطاهر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في
العجين الذي عجن بماء من آبار ثمود انه نهاهم عن أكله وأمرهم ان يعلفوه النواضح وهذا الزيت ليس
بميتة ولا هو من شحومها فيتناوله الخبر. إذا ثبت هذا فإنه يستصبح به على وجه لا يمسه ولا تتعدى
نجاسته إليه: إما ان يجعل الزيت في إبريق له بلبلا ويصب منه في المصباح ولا يمسه، وأما أن يدع على
رأس الجرة التي فيها الزيت سراجا مثقوبا أو قنديلا فيه ثقب ويطينه على رأس اناء الزيت أو يشمعه
وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء بحيث يرتفع الزيت فيملا السراج وما أشبه هذا، ولم ير أبو عبد الله
أن تدهن بها الجلود وقال يجعل منه الأسقية والقرب
ونقل عن عمر انه تدهن به الجلود وعجب احمد من هذا وقال إن في هذا لعجبا شئ يلبس
يطيب بشئ فيه ميتة؟ فعلى قول احمد كل انتفاع يفضي إن تنجيس انسان لا يجوز وإن لم يفض إلى ذلك
جاز، فأما أكله فلا اشكال في تحريمه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تقربوه " ولان النجس خبيث وقد
حرم الله الخبائث، وأما بيعه فطاهر كلام احمد رحمه الله تحريمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا حرم الله شيئا
حرم ثمنه " وقال أبو موسى لتوه بالسويق وبيعوه ولا تبيعوه من مسلم وبينوه
وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية انه يباع لكافر بشرط ان يعلم بنجاسته لأن الكفار يعتقدون
حله ويستبيحون أكله
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها
إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " متفق عليه وكونهم يعتقدون حله لا يجوز لنا بيعه لهم كالخمر والخنزير
(فصل) فاما شحوم الميتة وشحم الخنزير فلا يجوز الانتفاع به باستصباح ولا غيره ولا ان تطلى
به السفن ولا الجلود لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله حرم الميتة والخنزير والأصنام "
قالوا يا رسول الله شحوم الميتة تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح الناس؟ قال " لا، هي
حرام " متفق عليه
87

(فصل) إذا استصبح بالزيت النجس فدخانه نجس لأنه جزء يستحيل منه والاستحالة لا تطهر
فإن علق بشئ وكان يسيرا عفي عنه لأنه لا يمكن التحرز منه فأشبه دم البراغيث، وإن كان
كثيرا لم يعف عنه
(فصل) سئل احمد عن خباز خبز خبزا فباع منه ثم نظر في الماء الذي عجن منه فإذا فيه
فارة فقال لا يبيع الخبز من أحد، وإن باعه استرده فإن لم يعرف صاحبه تصدق بثمنه ويطعمه من
من الدواب مالا يؤكل لحمه ولا يطعم لما يؤكل إلا أن يكون إذا أطعمه لم يذبح حتى يكون له ثلاثة
أيام على معنى الجلالة، قيل له أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تنتفعوا من الميتة؟ " قال ليس هذا بمنزلة
الميت إنما اشتبه عليه، قيل له فهو بمنزلة كسب الحجام يطعم الناضح والرقيق؟ قال هذا أشد عندي
لا يطعم الرقيق لكن يعلفه البهائم قيل له أين الحجة؟ قال حدثنا عبد الصمد عن صخر عن نافع عن
ابن عمر أن قوما اختبزوا من آبار الذين مسخوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أطعموه النواضح "
(فصل) قال احمد لا أرى ان يطعم كلبه المعلم الميتة ولا الطير المعلم لأنه يضريه على الميتة، فإن
أكل الكلب فلا أرى صاحبه حرجا، ولعل احمد كره أن يكون الكلب المعلم إذا صاد وقتل أكل
منه لتضريته باطعامه الميت ولم يكره مالك اطعام كلبه وطيره الميتة لأنه غير مأكول إذا كان لا يشرب في إنائه
(فصل) قال أحمد: أكره أكل الطين ولا يصح فيه حديث إلا أنه يضر بالبدن ويقال إنه
ردئ وتركه خير من أكله وإنما أكرهه أحمد لأجل مضرته فإن كان منه ما يتداوى به كالطين
الأرمني فلا يكره، وإن كان مما لا مضرة فيه ولا نفع كالشئ اليسير جاز أكله لأن الأصل الإباحة
والمعنى الذي لأجله كره ما يضر وهو منتف ههنا فلم يكره
(فصل) ويكره أكل البصل والثوم والكراث والفجل وكل ذي رائحة كريهة من أجل رائحته سواء
أراد دخول المسجد أو لم يرد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان الملائكة تتأذى مما يتأذ منه الناس " رواه ابن ماجة
وإن أكله لم يقرب من المسجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن
88

مصلانا " وفي رواية " فلا يقربنا في مساجدنا " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وليس
كلها محرما لما روى أبو أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه بطعام لم يأكل منه النبي
صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فيه الثوم " فقال يا رسول الله أحرام هو؟ قال " لا
ولكنني أكرهه من أجل ريحه " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وقد روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لعلي " كل الثوم فلولا ان الملك يأتيني لأكلته " وإنما منع أكلها لئلا يؤذي الناس
برائحته ولذلك نهى عن قربان المساجد فإن اتى المساجد كره له ذلك ولم يحرم عليه لما روى المغيرة
ابن شعبة قال أكلت ثوما وأتيت مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقت بركعة فلما دخلت المسجد
وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريح الثوم فلما قضى صلاته قال " من أكل من هذه الشجرة
فلا يقربنا حتى يذهب ريحها " فجئت فقلت يا رسول الله لتعطني يدك قال فأدخلت يده في كم قميصي
إلى صدري فإذا أنا معصوب الصدر فقال " إن لك عذرا " رواه أبو داود، وقد روي عن أحمد
أنه يأثم لأن ظاهر النهي التحريم ولان اذى المسلمين حرام وهذا فيه أذاهم
(فصل) ويكره اكل الغدة واذن القلب لما روي عن مجاهد قال كره رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الشاة ستا وذكر هذين ولان النفس تعافهما وتستخبثهما ولا أظن أحمد كرههما الا لذلك
لا للخبر لأنه قال فيه هذا حديث منكر ولان في الخبر ذكر الطحال وقد قال أحمد لا بأس به
ولا أكره منه شيئا
(فصل) وقيل لأبي عبد الله الجبن؟ قال يؤكل من كل وسئل عن الجبن الذي يصنعه المجوس
فقال ما أدري إلا أن أصح حديث فيه حديث الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل قال سئل
عمر عن الجبن وقيل له يعمل فيه الإنفحة الميتة فقال: سموا أنتم وكلوا رواه أبو معاوية عن الأعمش
وقال أليس الجبن الذي نأكله عامته يصنعه المجوس؟
(فصل) ولا يجوز أن يشتري الجوز الذي يتقامر به الصبيان ولا البيض الذي يتقامرون به يوم
العيد لأنهم يأخذونه بغير حق
89

(فصل) قال أحمد والضيافة على كل المسلمين كل من نزل عليه ضيف كان عليه ان يضيفه
قيل إن ضاف الرجل ضيف كافر يضيفه؟ قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " ليلة الضيف حق واجب
على كل مسلم " وهذا الحديث بين ولما أضاف المشرك دل على أن المسلم والمشرك يضاف وانا أراه
كذلك والضيافة معناها معنى صدقة التطوع على المسلم والكافر واليوم والليلة حق واجب، وقال
الشافعي ذلك مستحب وليس بواجب لأنه غير مضطر إلى طعامه فلم يجب عليه بذله كما لو لم يضفه
ولنا ما روى المقدام بن أبي كريمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليلة الضيف حق
واجب فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه ان شاء اقتضى وإن شاء ترك " حديث صحيح وفي لفظ " أيما رجل ضاف
قوما فأصبح الضيف محروما فإن نصره على كل مسلم حتى يأخذ بحقه من زرعه وماله " رواه أبو داود والواجب
يوم وليلة والكمال ثلاثة أيام لما روى أبو شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الضيافة ثلاثة أيام وجائزته
يوم وليلة ولا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه " قالوا يا رسول الله كيف يؤثمه؟ قال " يقيم عنده
وليس عنده ما يقريه " متفق عليه قال أحمد جائزته يوم وليلة كأنه أوكد من سائر الثلاثة ولم يرد يوما وليلة
سوى الثلاثة لأنه يصير أربعة أيام وقد قال وما زاد على الثلاثة فهو صدقة فإن امتنع من إضافته
فللضيف بقدر ضيافته، قال أحمد له أن يطالبهم بحقه الذي جعله له النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأخذ شيئا إلا
بعلم أهله، وعنه رواية أخرى أن له أن يأخذ ما يكفيه بغير إذنهم لما روى عقبة بن عامر قال قلنا يا رسول
الله انك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا قال " إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم
يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " متفق عليه، وقال أحمد في تفسير قول النبي صلى الله
عليه وسلم " فله أن يعقبهم بمثل قراه " يعني أن يأخذ من أرضهم وزرعهم وضرعهم بقدر ما يكفيه بغير إذنهم
وعن أحمد رواية أخرى أن الضيافة على أهل القرى دون أهل الأمصار، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله
يسئل عن الضيافة أي شئ تذهب فيها؟ قال هي مؤكدة وكأنها على أهل الطرق والقرى الذين يمر
بهم الناس أوكد فأما مثلنا الآن فكأنه ليس مثل أولئك
90

(فصل) قال المرذوي سألت أبا عبد الله قلت تكره الخبز الكبار قال نعم أكرهه ليس فيه
بركة إنما البركة في الصغار وقال مرهم أن لا يخبزوا كبارا قال رأيت أبا عبد الله يغسل يديه قبل الطعام
وبعده وإن كان على وضوء وقال مهنا ذكرت ليحيى بن معين حديث قيس بن الربيع عن أبي
هاشم عن زاذان عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " بركة الطعام الوضوء قبله وبعده " فقال لي
يحيى ما أحسن الوضوء قبله وبعده وذكرت الحديث لأحمد فقال ما حدث بهذا إلا قيس بن الربيع
وهو منكر الحديث قلت بلغني عن يحيى بن سعيد قال كان سفيان يكره غسل اليد عند الطعام لم
كره سفيان ذلك؟ قال لأنه من زي العجم قلت بلغني عن يحى بن سعيد قال كان سفيان يكره أن
يكون تحت القصعة الرغيف لم كرهه سفيان؟ قال كره أن يستعمل الطعام قلت تكرهه أنت؟ قال
نعم وروي عن عقيل قال حضرت مع ابن شهاب وليمة ففرشوا المائدة بالخبز فقال لا تتخذوا الخبز
بساطا وقال المرذوي قلت لأبي عبد الله ان أبا معمر قال إن أبا أسامة قدم إليهم خبزا فكسره
قال هذا لئلا تعرفوا كم تأكلون وقيل لأبي عبد الله يكره الاكل متكئا؟ قال أليس قال النبي صلى
الله عليه وسلم " لا آكل متكئا " رواه أبو داود وعن شعيب بن عبد الله بن عمرو عن أبيه قال ما رئي
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا قط رواه أبو داود، وعن ابن عمر قال نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ان يأكل الرجل وهو منبطح، رواه أبو داود.
(فصل) وتستحب التسمية عند الطعام وحمد الله عند آخره، لما روي عمر بن أبي مسلمة قال
أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجالت يدي في القصعة فقال " سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك "
قال فما زالت أكلتي بعد، رواه ابن ماجة بمعناه وأبو داود وروى الإمام أحمد باسناده عن أبي
هريرة قال لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " للطاعم الشاكر مثل ما للصائم الصابر "
قال أحمد معناه إذا أكل وشرب يشكر الله ويحمده على ما رزقه وعن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسي ان يذكر اسم الله في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره "،
رواه أبو داود وعن معاذ بن انس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أكل طعاما فقال
91

الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه " وعن أبي
سعيد قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اكل طعاما قال " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا
مسلمين " وعن أبي أمامه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع طعامه أو ما بين يديه قال " الحمد
لله حمدا كثيرا مباركا فيه غير مكفى ولا مودع " رواهن ابن ماجة.
(فصل) ويأكل بيمينه ويشرب بها لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أكل
أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله "
رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
ويستحب الاكل بثلاث أصابع لما روى كعب بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل
بثلاث أصابع ولا يمسح يده حتى يلعقها رواه الإمام أحمد وذكر له حديث ترويه ابنة الزهري ان النبي
صلى الله عليه وسلم كان يأكل بكفه كلها فلم يصححه ولم ير إلا ثلاث أصابع، وروي عن أحمد
انه أكل خبيصا بكفه كلها، وروي عن عبد الله بن بريدة أنه كان ينهى بناته أن يأكلن بثلاث
أصابع وقال لا تشبهن بالرجال
(فصل) قال مهنا سألت احمد عن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تقطعوا
اللحم بالسكين فإن ذلك صنيع الأعاجم " فقال ليس بصحيح لا نعرف هذا وقال حديث عمرو بن
أمية الضمري خلاف هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من لحم الشاة فقام إلى الصلاة وطرح
السكين وحديث مسعر عن جامع بن شداد عن المغيرة اليشكري عن المغيرة بن شعبة ضفت برسول
الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوي ثم أخذ الشفرة فجعل يحز فجاء بلال يؤذنه
بالصلاة فالقى الشفرة، قال وسألت احمد عن حديث أبي جحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " اكفف جشاءك يا أبا جحيفة فإن أكثركم شبعا اليوم أكثركم جوعا يوم القيامة " فقال
هو ويحيى جميعا ليس بصحيح
92

(فصل) وروي عن ابن عباس قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفخ في طعام ولا
شراب ولا يتنفس في الاناء وعن أنس قال ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان ولا في
سكرجة قال قتادة فعلام كانوا يأكلون؟ قال على السفر، وعن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم
نهى أن يقام على الطعام حتى يرفع، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا
وضعت المائدة فلا يقم رجل حتى ترفع المائدة ولا يرفع يده وان شبع حتى يفرغ القوم وليعذر فإن
الرجل يخجل جليسه فيقبض يده وعسى أن يكون له في الطعام حاجة " وعن نبيشة قال قال النبي
صلى الله عليه وسلم " من أكل في قصعة فلحسها استغفرت له القصعة " وعن جابر قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لا يمسح أحدكم يده حتى يلعقها فإنه لا يدري في اي طعامه البركة " رواهن ابن ماجة
(فصل) وسئل أبو عبد الله عن غسل اليد بالنخالة فقال لا بأس به نحن نفعله وسئل عن
الرجل يأتي القوم وهم على طعام فجاءة لم يدع إليه فلما دخل إليهم دعوه هل يأكل؟ قال نعم
وما بأس. وسئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم انه ادخر لأهله قوت سنة هو صحيح؟ قال
نعم ولكنهم يختلفون في لفظه
(فصل) عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت
فأكل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت
عليكم الملائكة " وعن جابر قال صنع أبو الهيثم بن التيهان للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فدعا النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه فلما فرغوا قال " أثيبوا أخاكم " قالوا يا رسول الله وما إثابته؟ قال " ان الرجل إذا
دخل بيته فاكل طعامه وشرب شرابه فدعوا فذلك إثابته رواه أبو داود والله أعلم
93

كتاب الأضاحي
الأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقول الله سبحانه
(فصل لربك وانحر) قال بعض أهل التفسير المراد به الأضحية بعد صلاة العيد. وأما السنة فما روى
أنس قال ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع
رجله على صفاحهما متفق عليه، والأملح الذي فيه بياض وسواد وبياضه أغلب قاله الكسائي وقال ابن
الاعرابي هو النقي البياض قال الشاعر
حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا * أملح لا لدا ولا محببا
وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية
(مسألة) قال (والأضحية سنة لا يستحب تركها لمن يقدر عليها)
أكثر أهل العلم يرون الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة روي ذلك عن أبي بكر وعمر وبلال
وأبى مسعود البدري رضي الله عنهم وبه قال سويد بن عفلة وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء
والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال ربيعة ومالك والثوري والأوزاعي والليث وأبو
حنيفة هي واجبة لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من كان له سعة ولم يضح فلا
يقربن مصلانا " وعن محنف بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أيها الناس " إن على كل أهل بيت في
كل عام أضحاة وعتيرة "
ولنا ما روى الدارقطني باسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث كتبت علي وهن
لكم تطوع " وفي رواية " الوتر والنحر وركعتا الفجر " ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أراد أن يضحي
فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئا " رواه مسلم على الإرادة والواجب لا يعلق على
الإرادة، ولأنها ذبيحة لم يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة فاما حديثهم فقد ضعفه أصحاب
الحديث ثم نحمله على تأكيد الاستحباب كما قال " غسل الجمعة واجب على كل محتلم " وقال " من أكل
94

من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا " وقد روي عن أحمد في اليتيم: يضحي عنه وليه إذا كان
موسرا وهذا على سبيل التوسعة في يوم العيد لا على سبيل الايجاب
(فصل) والأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها نص عليه احمد وبهذا قال ربيعة وأبو الزناد
وروي عن بلال أنه قال: ما أبالي ان لا أضحي إلا بديك ولان أضعه في يتيم قد ترب فوه فهو أحب إلي
من أن أضحي وبهذا قال الشعبي وأبو ثور وقالت عائشة لأن أتصدق بخاتمي هذا أحب إلي من أن
أهدي إلى البيت ألفا
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم ضحى والخلفاء بعده ولو علموا أن الصدقة أفضل لعدلوا إليها. وروت
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم وانه ليؤتى
يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وان الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا
بها نفسا " رواه ابن ماجة ولان إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاما قول عائشة فهو في الهدي دون الأضحية وليس الخلاف فيه
(مسألة) قال (ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئا)
ظاهر هذا تحريم قص الشعر وهو قول بعض أصحابنا وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق
وسعيد بن المسيب، وقال القاضي وجماعة من أصحابنا هو مكروه غير محرم وبه قال مالك والشافعي
لقول عائشة كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه
شئ أحله الله له حتى ينحر الهدي. متفق عليه وقال أبو حنيفة لا يكره ذلك لأنه لا يحرم عليه الوطئ
واللباس فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظفار كما لو لم يرد أن يضحي
ولنا ما روت أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا دخل العشر وأراد أحدكم ان يضحي فلا
يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي " رواه مسلم ومقتضى النهي التحريم وهذا يرد
95

القياس ويبطله وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص
ولأنه يجب حمل حديثهم على غير محل النزاع لوجوه (منها) ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ما نهى عنه
وإن كان مكروها قال الله تعالى اخبارا عن شعيب (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) ولان أقل
أحوال النهي أن يكون مكروها ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليفعله فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على
غيره ولان عائشة تعلم ظاهرا ما يباشرها به من المباشرة أو ما يفعله دائما كاللباس والطيب فاما ما يفعله
نادرا كقص الشعر وقلم الأظفار مما لا يفعله في الأيام الامرة فالظاهر أنها لم ترده بخبرها، وإن
احتمل ارادتها إياه فهو احتمال بعيد وما كان هكذا فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل
وخبرنا دليل قوي فكان أولى بالتخصيص ولان عائشة تخبر عن فعله وأم سلمة عن قوله والقول يقدم
على الفعل لاحتمال أن يكون فعله خاصا له. إذا ثبت هذا فإنه يترك قطع الشعر وتقليم الأظفار فإن
فعل استغفر الله تعالى ولا فدية اجماعا سواء فعله عمدا أو نسيانا
(مسألة) قال (وتجزئ البدنة عن سبعة وكذلك البقرة)
وهذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن علي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة
رضي الله عنهم، وبه قال عطاء وطاوس وسالم والحسن وعمرو بن دينار والثوري والأوزاعي
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وعن عمر أنه قال لا تجزئ نفس واحدة عن سبعة ونحوه قول
مالك قال أحمد ما علمت أحدا الا يرخص في ذلك الا ابن عمر، وعن سعيد بن المسيب ان
الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة وبه قال إسحاق لما روى رافع ان النبي صلى الله عليه وسلم
قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير متفق عليه، عن ابن عباس قال كنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة رواه ابن ماجة
ولنا ما روى جابر قال نحرنا بالحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
وقال أيضا كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها رواه
96

مسلم وهذان صح من حديثهم، واما حديث رافع فهو في القسمة لا في الأضحية. إذا ثبت هذا
فسواء كان المشتركون من أهل بيت أو لم يكونوا مفترضين أو متطوعين أو كان بعضهم يريد
لقربة وبعضهم يريد اللحم لأن كل انسان منهم إنما يجزئ عنه نصيبه فلا تضره نية غيره في عشره
(فصل) ولا باس ان يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة أو بقرة أو بدنة نص عليه أحمد
وبه قال مالك والليث والأوزاعي وإسحاق، وروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة قال صالح قلت
لأبي يضحى بالشاة عن أهل البيت؟ قال نعم لا باس قد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين فقرب
أحدهما فقال " بسم الله اللهم هذا عن محمد وأهل بيته " وقرب الآخر فقال " بسم الله اللهم هذا منك
ولك عمن وحدك من أمتي " وحكي عن أبي هريرة أنه كان يضحي بالشاة فتجئ ابنته فتقول عني؟
فيقول وعنك، وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة لأن الشاة لا تجزئ عن أكثر من واحد فإذا اشترك
فيها اثنان لم تجز عنهما كالأجنبيين
ولنا ما روى مسلم باسناده عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم أتي بكبش ليضحي به فأضجعه ثم ذبحه
ثم قال " بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد " وعن جابر قال ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الذبح
كبشين أملحين أقرنين فلما وجههما قال " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة
إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له
وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر " ثم ذبح
97

رواه أبو داود وروى ابن ماجة عن أبي أيوب قال كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون الناس حديث حسن صحيح
(فصل) وأفضل الأضاحي البدنة ثم البقرة ثم الشاة ثم شرك في بقرة وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وقال مالك الأفضل الجذع من الضأن ثم البقرة ثم البدنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم
ضحى بكبشين ولا يفعل الا الأفضل ولو علم الله خيرا منه لفدى إسحاق به
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة " من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب
بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا
ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضه "
ولأنه ذبح يتقرب به إلى الله تعالى فكانت البدنة فيه أفضل كالهدي فإنه قد سلمه ولأنها أكثر ثمنا
ولحما وانفع، فأما التضحية بالكبش فلانه أفضل أجناس الغنم وكذلك حصول الفداء به أفضل والشاة
أفضل من شرك في بدنة لأن إراقة الدم مقصوده في الأضحية والمنفرد يتقرب بإراقته كله، والكبش أفضل
الغنم لأنه أضحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو أطيب لحما، وذكر القاضي ان جذع الضأن أفضل
من ثني المعز لذلك ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نعم الأضحية الجذع من الضأن وهو
حديث غريب ويحتمل أن الثني أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تذبحوا إلا مسنة فإن عسر
عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن " رواه مسلم وأبو داود وهذا يدل على فضل الثني على الجذع لكونه
جعل الثني أصلا والجذع بدلا لا ينتقل إليه إلا عند عدم الثني.
(فصل) ويسن استسمان الأضحية واستحسانها لقول الله تعالى (ذلك ومن يعظم شعائر
الله فإنه من تقوى القلوب) قال ابن عباس تعظيمها استسمانها واستعظامها ولان ذلك
أعظم لأجرها وأكثر لنفعها والأفضل في الأضحية من الغنم في لونها البياض لما روي عن مولاة أبي
ورقة بن سعيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دم عفراء أزكى عند الله من دم سوداوين "
98

رواه أحمد بمعناه وقال أبو هريرة " دم بيضاء أحب إلى الله من دم سوداوين " ولأنه لون أضحية النبي
صلى الله عليه وسلم ثم ما كان أحسن لونا فهو أفضل.
(مسألة) قال (ولا يجزئ الا الجذع من الضأن والثني من غيره)
وبهذا قال مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال ابن عمر والزهري
لا يجزئ الجذع لأنه لا يجزئ من غير الضأن فلا يجزئ منه كالحمل وعن عطاء والأوزاعي فلا
يجزئ الجذع من جميع الأجناس لما روى مجاشع بن سليم قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ان الجذع
يوفي مما يوفى منه الثني " رواه أبو داود والنسائي.
ولنا على أن الجذع من الضأن يجزئ حديث مجاشع وأبي هريرة وغيرهما وعلى أن الجذعة من
غيرها لا تجزئ قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تذبحوا إلا مسنة فإن عسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن "
وقال أبو بردة بن نيار عندي جذعة أحب إلي من شاتين فهل تجزئ عني؟ قال " نعم ولا تجزئ
عن أحد بعدك " متفق عليه وحديثهم محمول على الجذع من الضأن لما ذكرنا قال إبراهيم الحربي إنما
يجزئ الجذع من الضأن لأنه ينزو فيلقح فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يكون ثنيا.
(فصل) ولا يجزئ في الأضحية غير بهيمة الأنعام وإن كان أحد أبويه وحشيا لم يجزئ أيضا
وحكي عن الحسن بن صالح أن بقرة الوحش تجزئ عن سبعة والظبي عن واحد، وقال أصحاب الرأي
ولد البقرة الانسية يجزئ، وإن كان أبوه وحشيا، وقال أبو ثور يجرئ إذا كان منسوبا إلى بهيمة الأنعام
ولنا قول الله تعالى (ليذكروا اسم الله ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وهي الإبل والبقر والغنم
وعلى أصحاب الرأي أنه متولد من بين ما يجزئ وما لا يجزئ كما لو كانت الام وحشية.
(مسألة) قال (والجذع من الضأن ماله ستة أشهر ودخل في السابع)
قال أبو القاسم وسمعت أبي يقول سألت بعض أهل البادية كيف تعرفون الضأن
إذا أجذع؟ قال لا تزال الصوفة قائمة على ظهره ما دام حملا فإذا نامت الصوفة على ظهره
99

علم أنه قد أجذع. وثني المعز إذا تمت له سنة ودخل في الثانية، والبقرة إذا صار لها
سنتان ودخلت في الثالثة، والإبل إذا كمل لها خمس سنين ودخلت في السادسة قال الأصمعي وأبو زياد
الكلابي وأبو زيد الأنصاري إذا مضت السنة الخامسة على البعير ودخل في السادسة والقى ثنيته فهو
حينئذ ثني ونرى إنما سمي ثنيا لأنه القى ثنيته، واما البقرة فهي التي لها سنتان لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " لا تذبحوا الا مسنة " ومسنة البقر التي لها سنتان، وقال وكيع الجذع من الضأن
يكون ابن سبعة أو ستة أشهر
(مسألة) قال (ويجتنب في الضحايا العوراء البين عور ما والعجفاء التي لا تنقي والعرجاء
البين عرجها والمريضة التي لا يرجى برؤها والعضباء، والعضب ذهاب أكثر من نصف
الاذن أو القرن)
أما العيوب الأربعة الأول فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في أنها تمنع الاجزاء لما روى البراء قال:
قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها
والعرجاء البين ضلعها والعجفاء التي لا تنقي " رواه أبو داود والنسائي، ومعنى العوراء البين عورها التي قد
انخسفت عينها وذهبت لأنها قد ذهبت عينها والعين عضو مستطاب فإن كان على عينها بياض ولم تذهب
جازت التضحية بها لأن عورها ليس ببين ولا ينقص ذلك لحمها، والعجفاء المهزولة التي لا تنقي هي التي لا مخ
لها في عظامها لهزالها والنقي المخ قال الشاعر
لا تشكين عملا ما أنقين * ما دام مخ في سلامي أو عين
فهذه لا تجزئ لأنها لا لحم فيها إنما هي عظام مجتمعة، واما العرجاء البين عرجها فهي التي بها
عرج فاحش وذلك يمنعها من اللحاق بالغنم فتسبقها إلى الكلأ فيرعينه ولا تدركهن فينقص لحمها
فإن كان عرجا يسيرا لا يفضي بها إلى ذلك أجزأت، واما المريضة التي لا يرجى برؤها فهي التي بها
100

مرض قد يئس من زاله لأن ذلك ينقص لحمها وقيمتها نقصا كبيرا ولذي في الحديث المريضة البين
مرضها " وهي التي يبين أثره عليها لأن ذلك ينقص لحمها ويفسده وهو أصح، وذكر القاضي ان المراد
بالمريضة الجرباء لأن الجرب يفسد اللحم ويهزل إذا كثر وهذا قول أصحاب الشافعي وهذا تقييد
للمطلق وتخصيص للعموم بلا دليل فالمعنى يقتضى العموم كما يقتضيه اللفظ فإن كان المرض يفسد اللحم
وينقصه فلا معنى للتخصيص مع عموم اللفظ والمعنى
واما العضب فهو ذهاب أكثر من نصف الاذن أو القرن وذلك يمنع الاجزاء أيضا وبه قال
النخعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة والشافعي تجزئ مكسورة القرن، وروي نحو ذلك عن
علي وعمار وابن المسيب والحسن وقال مالك إن كان قرنها يدمى لم يجز وإلا جاز وقال عطاء ومالك
إذا ذهبت الاذن كلها لم يجز وان ذهب يسير جاز، واحتجوا بان قول النبي صلى الله عليه وسلم " أربع لا تجوز في
الأضاحي " يدل على أن غيره يجزئ ولان في حديث البراء عن عبيد بن فيروز قال: قلت للبراء فاني
أكره النقص من القرن ومن الذنب فقال أكره لنفسك ما شئت وإياك أن تضيق على الناس ولان
المقصود اللحم ولا يؤثر ذهاب ذلك فيه
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يضحى بأعضب القرن والاذن
قال قتادة فسألت سعيد بن المسيب فقال نعم العضب النصف فأكثر من ذلك رواه الشافعي وابن ماجة
وعن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والاذن رواه أبو داود
والنسائي وهذا منطوق يقدم على المفهوم
(فصل) ولا تجزئ العمياء لأن النهي عن العوراء تنبيه على العمياء وان لم يكن عماها بينا لأن
العمى يمنع مشيها مع الغنم، ومشاركتها في العلف ولا تجزئ ما قطع منها عضو كالالية والأطباء
لأن ابن عباس قال: لا تجوز العجفاء، ولا الجداء قال احمد هي التي قد يبس ضرعها ولان ذلك أبلع في
الاخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين
101

(فصل) ويجزئ الخصي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحي بكبشين موجوءين والوجأ رض الخصيتين
وما قطعت خصيتاه أو شلتا فهو كالموجوء لأنه في معناه ولان الخصال ذهاب عضو غير مستطاب
يطيب اللحم بذهابه ويكثر ويسمن قال الشعبي ما زاد في لحمه وشحمه أكثر مما ذهب منه،
وبهذا قال الحسن وعطاء والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
ولا نعلم فيه مخالفا.
(فصل) وتجزئ الجماء وهي التي لم يخلق لها قرن والصمعاء وهي الصغيرة الاذن والبتراء وهي
التي لا ذنب لها سواء كان خلقة أو مقطوعا وممن لم ير بأسا بالبتراء ابن عمر وسعيد بن المسيب
والحسن وسعيد بن جبير والنخعي والحكم وكره الليث أو يضحى بالبتراء ما فوق القصبة
وقال ابن حامد لا تجوز التضحية بالجماء لأن ذهاب أكثر من نصف القرن يمنع فذهاب
جميعه أولى ولان ما منع منه العور منع منه العمى وكذلك ما منع منه العضب يمنع منه كونه أجم أولى
ولنا ان هذا نقص لا ينقص اللحم ولا يخل بالمقصود ولم يرد به نهي فوجب أن يجزئ، وفارق
العضب فإن النهي عنه وارد وهو عيب فإنه ربما أدمى وآلم الشاة فيكون كمرضها ويقبح منظرها
بخلاف الأجم فإنه حسن في الخلقة ليس بمرض ولا عيب إلا أن الأفضل ما كان كامل الخلقة فإن
النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن محيل وقال " خير الأضحية الكبش الأقرن " وأمر باستشراف العين والاذن
(فصل) وتكره المشقوقة الاذن والمثقوبة وما قطع شئ منها لما روي عن علي رضي الله عنه قال
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نستشرف العين والاذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا
شرقاء قال زهير قلت لأبي إسحاق ما المقابلة؟ قال تقطع طرف الاذن قلت فما المدابرة؟ قال تقطع
من مؤخر الاذن قلت فما الخرقاء؟ قال تشق الاذن قلت فما الشرقاء؟ قال تشق اذنها السمة رواه
أبو داود والنسائي قال لقاضي: الخرقاء التي انثقبت اذنها وهذا نهي تنزيه ويحصل الاجزاء بها ولا نعلم
فيه خلافا ولان اشتراط السلامة من ذلك يشق إذ لا يكاد يوجد سالم من هذا كله
102

(مسألة) قال (ولو أوجها سليمة فنابت عنده ذبحها وكان أضحية)
وجملته انه إذا أوجب أضحية صحيحة سليمة من العيوب ثم حدث بها عيب يمنع الاجزاء ذبحها
وأجزأته روي هذا عن عطاء والحسن والنخعي والزهري والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وقال
أصحاب الرأي لا تجزئه لأن الأضحية عندهم واجبة فلا يبرأ منها الا بإراقة دمها سليمة كما لو أوجبها
في ذمته ثم عينها فعابت
ولنا ما روى أبو سعيد قال ابتعنا كبشا نضحي به فأصاب الذئب من أليته فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم
فأمرنا أن نضحي به رواه ابن ماجة ولأنه عيب حدث في الأضحية الواجبة قلم يمنع الاجزاء كما لو حدث
بها عيب بمعالجة الذبح، ولا نسلم انها واجبة في الذمة وإنما تعلق الوجوب بعينها فلما ان تعيبت بفعله فعليه
بدلها، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا عالج ذبحها فقلعت السكين عينها أجزأت استحسانا
ولنا أنه عيب أحدثه بها قبل ذبحها فلم تجزئه كما لو كان قبل معالجة الذبح
(فصل) وان نذر أضحية في ذمته ثم عينها في شاة تعينت فإن عابت تلك الشاة قبل ذبحها لم
تجزئ لأن ذمته لا تبرأ الا بذبح شاة سليمة كما لو نذر عتق رقبة أو كان عليه عتق رقبة في كفارة فاشتراها
ثم عابت عنده لم تجزئه، وان قال لله علي عتق هذا العبد فعاب أجزأ عنه
(فصل) وإذا أتلف الأضحية الواجبة فعليه قيمتها لأنها من المتقومات وتعتبر القيمة يوم أتلفها
فإن غلت الغنم فصار مثلها خيرا من قيمتها فقال أبو الخطاب يلزمه مثلها لأنه أكثر الامرين ولأنه
تعلق بها حق الله تعالى في ذبحها فوجب عليه مثلها كما لو لم تتعيب بخلاف الآدمي وهذا مذهب
الشافعي، وظاهر قول القاضي انه لا يلزمه إلا القيمة يوم اتلافها وهو قول أبي حنيفة لأنه اتلاف
أوجب القيمة فلم يجب أكثر من القيمة يوم الاتلاف كما لو أتلفها أجنبي وكسائر المضمونات فإن
103

رخصت الغنم فزادت قيمتها على مثلها مثل أن كانت قيمتها عند اتلافها عشرة فصارت قيمة مثلها
خمسة فعليه عشرة وجها واحدا فإن شاء اشترى بها أضحية واحدة تساوي عشرة وإن شاء اشترى
اثنتين وإن شاء اشترى أضحية واحدة فإن فضل من العشرة ما لا يجئ به أضحية اشترى به شركا في
بدنة فإن لم يتسع لذلك أو لم تمكنه المشاركة ففيه وجهان
(أحدهما) يشتري لحما ويتصدق به لأن الذبح وتفرقة اللحم مقصودان فإذا تعذر
أحدهما وجب الآخر
(والثاني) يتصدق بالفضل لأنه إذا لم يحصل له التقرب بإراقة الدم كان اللحم وثمنه سواء فإن
كان المتلف أجنبيا فعليه قيمتها يوم أتلفها وجها واحدا ويلزمه دفعها إلى صاحبها فإن زاد على ثمن
مثلها فحكمه حكم ما لو أتلفها صاحبها وإن لم تبلغ القيمة ثمن أضحية فالحكم فيه على ما مضى فيما زاد على
ثمن الأضحية في حق المضحي، فإن تلفت الأضحية في يده بغير تفريط أو سرقت أو ضلت فلا شئ
عليه لأنها أمانة في يده فلم يضمنها إذا لم يفرط كالوديعة
(فصل) وإن اشترى أضحية فلم يوجبها حتى علم بها عيبا قله ردها إن شاء وإن شاء أخذ أرشها
ثم إن كان عيبها يمنع إجزاءها لم يكن له التضحية بها وإلا فله أن يضحي بها ولأرش له وإن أوجبها
ثم علم أنها معيبة فذكر القاضي انه مخير بين ردها وأخذ أرشها فإن أخذ أرشها فحكمه حكم الزائد
عن قيمة الأضحية على ما ذكرناه ويحتمل أن يكون الأرش له لأن إيجابها إنما صادفها بدون هذا الذي
أخذ أرشه فلم يتعلق الايجاب بالأرض ولا بمبدله فأشبه ما لو تصدق بها ثم أخذ أرشها، وعلى قول
أبي الخطاب لا يملك ردها لأنه قد زال ملكه عنها بايجابها فأشبه ما لو اشترى عبدا معيبا فاعتقه ثم علم عيبه
وهذا مذهب الشافعي، فعلى هذا يتعين أخذ الأرش، وفي كون الأرش للمشتري ووجوبه في التضحية
وجهان ثم ننظر فإن كان عيبها ويمنع اجزاءها فقد صح إيجابها والتضحية بها وإن كان عيبها يمنع إجزاءها
فحكمه حكم ما لو أوجبها عالما بعيبها على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى
104

(مسألة) قال (وان ولدت ذبح ولدها معها)
وجملته انه إذا عين أضحية فولدت فولدها تابع لها حكمه حكمها سواء كان حملا حين التعيين أو
حدث بعده وبهذا قال الشافعي، وعن أبي حنيفة لا يذبحه ويدفعه إلى المساكين حيا، وإن ذبحه
دفعه إليهم مذبوحا وأرش ما نقصه الذبح لأنه من نمائها فلزمه دفعه إليهم على صفته كصوفها وشعرها
ولنا أن استحقاق ولدها حكم يثبت للولد بطريق السراية من الام فيثبت له ما يثبت لها كولد
أم الولد والمدبرة. إذا ثبت هذا فإنه يذبحه كما يذبحها لأنه صار أضحية على وجه التبع لامه ولا يجوز
ذبحه قبل يوم النحر ولا تأخيره عن أيامه كأمه
وقد روي عن علي رضي الله عنه ان رجلا سأله فقال يا أمير المؤمنين اني اشتريت هذه البقرة
لأضحي بها وانها وضعت هذا العجل؟ فقال علي لا تحلبها إلا فضلا عن تيسير ولدها فإذا كان يوم
الاضحي فاذبحها وولدها عن سبعة. رواه سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن زهير العبسي
عن المغيرة بن حذف عن علي
(فصل) ولا يشرب من لبنها الا الفاضل عن ولدها فإن لم يفضل عنه شئ أو كان الحلب يضر
بها أو ينقص لحمها لم يكن له أخذه وان لم يكن كذلك فله أخذه والانتفاع به وبهذا قال الشافعي،
وقال أبو حنيفة لا يحلبها ويرش على الضرع الماء حتى ينقطع اللبن فإن احتلبها تصدق به لأن اللبن
متولد من الأضحية الواجبة فلم يجز للمضحي الانتفاع به كالولد
ولنا قول علي رضي الله عنه لا يحلبها إلا فضلا عن تيسير ولدها ولأنه انتفاع لا يضرها فأشبه
الركوب، ويفارق الولد فإنه يمكن ايصاله إلى محله، أما اللبن فإن حلبه وتركه فسد وان لم يحلبه تعقد
الضرع وأضر بها فجوز له شربه وان تصدق به كان أفضل، وان احتبل ما يضر بها أو بولدها
105

لم يجز له وعليه أن يتصدق به. فإن قيل فصوفها وشعرها ووبرها إذا جزه تصدق به ولم ينتفع به فلم
أجزتم له الانتفاع باللبن؟ قلنا الفرق بينهما من وجهين (أحدهما) ان لبنها يتولد من غذائها وعلفها
وهو القائم به فجاز صرفه إليه كما أن المرتهن إذا علف الرهن كان له أن يحلب ويركب، وليس له أن
يأخذ الصوف ولا الشعر
(الثاني) أن الصوف والشعر ينتفع به على الدوام فجرى مجرى جلدها وأجزائها، واللبن يشرب
ويؤكل شيئا فشيئا فجرى مجرى منافعها وركوبها، ولان اللبن يتجدد كل يوم، والصوف والشعر
عين موجودة دائمة في جميع الحول
(فصل) وأما صوفها فإن كان جزه أنفع لها مثل أن يكون في زمن الربيع تخف بجزه وتسمن جاز
جزه ويتصدق به، وإن كان لا يضر بها لقرب مدة الذبح أو كان بقاؤه أنفع لها لكونه يقيها الحر
والبرد لم يجز له أخذه كما أنه ليس له أخذ بعض أجزائها
(مسألة) قال (وايجابها أن يقول هي أضحية)
وجملة ذلك أن الذي تجب به الأضحية وتتعين به هو القول دون أمنية وهذا منصوص الشافعي
وقال مالك وأبو حنيفة إذا اشترى شاة أو غيرها بنية الأضحية صارت أضحية لأنه مأمور بشراء
أضحية فإذا اشتراها بالنية وقعت عنها كالوكيل
ولنا انه إزالة ملك على وجه للقربة فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف، ويفارق
البيع فإنه لا يمكنه جعله لموكله بعد إيقاعه وههنا بعد الشراء يمكنه جعلها أضحية، فأما إذا قال هذه
أضحية صارت واجبة كما يعتق العبد بقول سيده هذا حر، ولو أنه قلدها أو أشعرها ينوي به جعلها
أضحية لم تصر أضحية حتى ينطق به لما ذكرنا
106

(مسألة) قال (ولو أوجبها ناقصة ذبحها لم تجزئه)
يعني إذا كانت ناقصة نقصا يمنع الاجزاء فأوجبها وجب عليه ذبحها لأن إيجابها كالنذر لذبحها
فيلزمه الوفاء به ولان إيجابها كنذر هدي من غير بهيمة الأنعام فإنه يلزمه الوفاء به ولا يجزئه عن
الأضحية الشرعية ولا تكون أضحية لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أربع لا تجزئ في الأضاحي " ولكنه
يذبحها ويثاب على ما يتصدق به منها كما يثاب على الصدقة بما لا يصلح أن يكون هديا وكما لو أعتق
عن كفارته عبدا لا يجزئ في الكفارة إلا أنه ههنا لا يلزمه بدلها لأن الأضحية في الأصل غير
واجبة ولم يوجد منه ما يوجبها، وان كانت الأضحية واجبة عليه مثل من نذر أضحية في ذمته أو
أتلف أضحيته التي أوجبها لم تجزئه هذه عما في ذمته، فإن زال عيبها كأن كانت عجفاء فزال عجفها أو
مريضة فبرأت أو عرجاء فزال عرجها فقال القاضي قياس المذهب انها تجزئ وقال أصحاب الشافعي
لا تجزئ لأن الاعتبار بحال إيجابها ولان الزيادة فيها كانت للمساكين كما أن نقصها بعد إيجابها
عليهم لا يمنع من كونها أضحية
ولنا ان هذه أضحية يجزئ مثلها فيجزئ كما لو لم يوجبها الا بعد زوال عينها
(مسألة) قال (ولاتباع أضحية الميت في دينه ويأكلها ورثته)
يعني إذا أوجب أضحية ثم مات لم يجز بيعها وإن كان على الميت دين لا وفاء له وبهذا قال
أبو ثور ويشبه مذهب الشافعي وقال الأوزاعي ان ترك دينا لا وفاء له إلا منها بيعت فيه وقال مالك
إن تشاجر الورثة فيها باعوها
ولنا أنه تعين ذبحها فلم يصح بيعها في دينه كما لو كان حيا. إذا ثبت هذا فإن ورثته يقومون
مقامه في الاكل والصدقة والهدية لأنهم يقومون مقام موروثهم فيما له وعليه
107

(فصل) واختلفت الرواية هل تجوز التضحية عن اليتيم من ماله؟ فروي أنه ليس للولي ذلك لأنه
اخراج شئ من ماله بغير عوض فلم يجز كالصدقة والهدية وهذا مذهب الشافعي، وروي أن للولي
ان يضحي عنه إذا كان موسرا، وهذا قول أبي حنيفة ومالك، قال مالك: إذا كان له ثلاثون دينارا
يضحي عنه بالشاة بنصف دينار لأنه اخراج مال يتعلق بيوم العيد فجاز اخراجه من مال اليتيم كصدقة الفطر
فعلى هذا يكون اخراجها من ماله على سبيل التوسعة عليه والتطييب لقلبه واشراكه لأمثاله في مثل
هذا اليوم كما يشتري له الثياب الرفيعة للتجمل والطعام الطيب ويوسع عليه في النفقة وإن لم يجب ذلك
ويحتمل ان يحمل كلام احمد في الروايتين على حالين فالموضع الذي منع التضحية إذا كان اليتيم طفلا
لا يعقل التضحية ولا يفرح بها ولا يكسر قلبه بتركها لعدم الفائدة فيها فيحصل اخراج ثمنها تضييع
مال لا فائدة فيه والموضع الذي أجازها إذا كان اليتيم يعقلها وينجبر قلبه بها وينكسر بتركها لحصول
الفائدة منها والضرر بتفويتها، استدل أبو الخطاب بقول أحمد: يضحي عنه - على وجوب الأضحية
والصحيح إن شاء الله تعالى ما ذكرناه وعلى كل حال متى ضحي عن اليتيم لم يتصدق بشئ منها
ويوفرها لنفسه لأنه لا يجوز الصدقة بشئ من مال اليتيم تطوعا
(مسألة) قال (والاستحباب ان يأكل ثلث أضحيته ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها
ولو أكل أكثر جاز)
قال أحمد نحن نذهب إلى حديث عبد الله، يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث ويتصدق
على المساكين بالثلث قال علقمة بعث معي عبد الله بهدية فأمرني ان آكل ثلثا وان ارسل إلى أهل
أخيه عتبة بثلث وان أتصدق بثلث، عن ابن عمر قال الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك
وثلث للمساكين وهذا قول إسحاق وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر يجعلها نصفين يأكل
نصفا ويتصدق بنصف لقول الله تعالى (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) وقال أصحاب الرأي
108

ما كثر من الصدقة فهو أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم اهدى مائة بدنة وامر من كل بدنة ببضعة فجعلت
في قدر فاكل هو وعلي من لحمها وحسيا من مرقها ونحر خمس بدنات أو ست بدنات وقال " من شاء
فليقتطع ولم يأكل منهن شيئا "
ولنا ما روي عن ابن عباس في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم قال ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه
الثلث ويتصدق على السؤال بالثلث رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف، وقال حديث حسن
ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر ولم نعرف لهما مخالفا في الصحابة فكان اجماعا ولان الله تعالى قال (فكلوا
منها وأطعموا القانع والمعتر) والقانع السائل يقال قنع قنوعا إذا سأل وقنع قناعة إذا رضي قال الشاعر
لمال المرء يصلحه فيغني * مفاقره أعف من القنوع
والمعتر الذي يعتريك أي يتعرض لك لنطعمه فلا يسأل فذكر ثلاثة أصناف فينبغي ان يقسم بينهم
أثلاثا وأما الآية التي احتج بها أصحاب الشافعي فإن الله تعالى لم يبين قدر المأكول منها والمتصدق
به وقد نبه عليه في آيتنا وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وابن عمر بقوله وابن مسعود بأمره، وأما خبر أصحاب
الرأي فهو في الهدي والهدي يكثر فلا يتمكن الانسان من قسمه وأخذ ثلثه فتتعين الصدقة بها
والامر في هذا واسع فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز
وقال أصحاب الشافعي يجوز اكلها كلها
ولنا ان الله تعالى قال (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) وقال (وأطعموا البائس الفقير) والامر
يقتضي الوجوب، قال بعض أهل العلم يجب الاكل منها، ولا تجوز الصدقة بجميعها للامر بالاكل منها
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات ولم يأكل منهن شيئا وقال " من شاء فليقتطع "
ولأنها ذبيحة يتقرب إلى الله تعالى بها فلم يجب الاكل منها كالعقيقة والامر للاستحباب أو الإباحة
كالأمر بالاكل من الثمار والزرع والنظر إليها
109

(فصل) ويجوز ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث في قول عامة أهل العلم ولم يجزه علي ولا ابن عمر
رضي الله عنهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم "
رواه مسلم وروت عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما نهيتكم للذافة التي ذفت فكلوا وتزودوا
وتصدقوا وادخروا " وقال احمد فيه أسانيد صحاح فاما علي وابن عمر فلم يبلغهما ترخيص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد
كانوا سمعوا النهي فرووا على ما سمعوا
(فصل) ويجوز أن يطعم منها كافرا وبهذا قال الحسن وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك غيرهم
أحب إلينا وكره مالك والليث اعطاء النصراني جلد الأضحية
ولنا انه طعام له أكله فجاز اطعامه للذمي كسائر طعامه ولأنه صدقة تطوع فجاز اطعامها الذمي
والأسير كسائر صدقة التطوع، فاما الصدقة الواجبة منها فلا يجزئ دفعها إلى كافر لأنها صدقة واجبة
فأشبهت الذكاة وكفارة اليمين
(مسألة) قال (ولا يعطى الجازر بأجرته شيئا منها)
وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ورخص الحسن وعبد الله بن عبيد بن
عمير في إعطائه الجلد
ولنا ما روي علي رضي الله عنه قال: امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه
وان أقسم جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر شيئا منها، وقال " نحن نعطيه من عندنا "
متفق عليه، ولان ما يدفع إلى الجزار اجرة عوض عن عمله وجزارته ولا تجوز المعاوضة بشئ منها
فاما ان دفع إليه لفقره أو على سبيل الهدية فلا بأس لأنه مستحق للاخذ فهو كغيره بل هو أولى
لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها
110

(مسألة) قال (وله ان؟؟؟ بجلدها ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئا منها)
وجملة ذلك أنه لا يجوز بيع شئ من الأضحية لا لحمها ولا جلدها واجبة كانت أو تطوعا لأنها
تعينت بالذبح قال احمد لا يبيعها ولا يبيع شيئا منها، وقال سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله
تبارك وتعالى؟ وقال الميموني قالوا لأبي عبد الله فجلد الأضحية يعطاه السلاخ؟ قال لا، وحكى قول النبي
صلى الله عليه وسلم " لا يعطى الجازر في جزارتها شيئا منها " ثم قال إسناده جيد وبهذا قال أبو هريرة
وهو مذهب الشافعي، ورخص الحسن والنخعي في الجلد أن يبيعه ويشتري به الغربال والمنخل وآلة
المبيت، وروي نحو هذا عن الأوزاعي لأنه ينتفع به هو وغيره فجرى مجرى تفريق اللحم، وقال
أبو حنيفة يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه، روي عن ابن عمر أنه يبيع الجلد ويتصدق بثمنه،
وحكاه ابن المنذر عن؟؟؟ وإسحاق
ولنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقسم جلودها وجلالها ونهيه أن يعطى الجازر شيئا منها،
ولأنه جعله لله تعالى فلم يجز بيعه كالوقف، وما ذكروه في شراء آلة البيت يبطل باللحم لا يجوز
بيعه بآلة البيت وإن كان ينتفع به، فاما جواز الانتفاع بجلودها وجلالها فلا خلاف فيه لأنه جزء منها
فجاز للمضحي الانتفاع به كاللحم، وكان علقمة ومسروق يدبغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه
وروت عائشة قالت قلت يا رسول الله قد كانوا ينتفعون من ضحاياهم يجعلون منها الودك ويتخذون
منها الأسقية، قال " وما ذاك؟ " قالت نهيت عن امساك لحوم الأضاحي فوق ثلاث قال " إنما نهيتكم
للذافة التي ذفت فكلوا وتزودا وتصدقوا " حديث صحيح رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن
عمرة عن عائشة رضي الله عنها ولأنه انتفاع به فجاز كلحمها
(مسألة) قال (ويجوز أن يبدل الأضحية لما أوجبها بخير منها)
هذا المنصوص عن أحمد وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة ومالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن
111

واختار أبو الخطاب انه لا يجوز بيعها ولا ابدالها لأن احمد نص في الهدي إذا عطب انه يجزئ عنه
وفي الأضحية إذا هلكت أو ذبحها فسرقت لابدل عليه ولو كان ملكه ما زال عنها لزمه بدله في
هذه المسائل وهذا مذهب أبي يوسف والشافعي وأبي ثور لأنه قد جعلها لله تعالى فلم يملك التصرف
فيها بالبيع والابدال كالوقف
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق مائة بدنة في حجته وقدم علي من اليمن فأشركه فيها،
رواه مسلم وهذا نوع من الهبة أو بيع، ولأنه عدل عن عين وجبت لحق الله تعالى إلى خير منها من
جنسها فجاز كما لو وجبت عليه بنت لبون فاخرج حقة في الزكاة، فاما بيعها فظاهر كلام الخرقي انه
لا يجوز وقال القاضي يجوز أن يبيعها ويشتري خيرا منها وهو قول عطاء ومجاهد وأبي حنيفة لما
ذكرنا من حديث بدن النبي صلى الله عليه وسلم واشراكه فيه، ولان ملكه لم يزل عنها بدليل جواز ابدالها
ولأنها عين يجوز ابدالها فجاز بيعها كما قبل إيجابها
ولنا انه جعلها لله تعالى فلم يجز بيعها كالوقف وإنما جاز ابدالها بجنسها لأنه لم يزل الحق فيها عن
جنسها وإنما انتقل إلى خير منها فكأنه في المعنى ضم زيادة إليها وقد جاز ابدال المصحف ولم يجز
بيعه. وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعها وإنما شرك عليا في ثوابها وأجرها
ويحتمل أن ذلك كان قبل ايجابها وقول الخرقي: بخير منها يدل على أنه لا يجوز بدونها ولا خلاف في
هذا لأنه تفويت جزء منها فلم يجز كاتلافه، وانه لا يجوز بمثلها لعدم الفائدة في هذا وقال القاضي في
ابدالها بمثلها احتمالان
(أحدهما) جوازه لأنه لا ينقص مما وجب عليه شئ. ولنا انه يغير ما أوجبه لغير فائدة فلم
يجز كابداله بما دونها
(مسألة) قال (وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة العيد وخطبته فقد
حل الذبح إلى آخر يومين من أيام التشريق نهارا ولا يجوز ليلا)
الكلام في وقت الذبح في ثلاثة أشياء: أوله وآخره وعموم وقته أو خصوصه. أما أوله فظاهر
112

كلام الخرقي انه إذا مضى من نهار يوم العيد قدر تحل فيه الصلاة وقدر الصلاة والخطبتين تامتين
في أخف ما يكون فقد حل وقت الذبح ولا يعتبر نفس الصلاة لا فرق في هذا بين أهل المصر وغيرهم
وهذا مذهب الشافعي وابن المنذر، وظاهر كلام احمد أن من شرط جواز التضحية في حق أهل المصر
صلاة الإمام وخطبته. وروي نحو هذا عن الحسن والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وإسحاق لما روى
جندب بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى "
وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك
ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى " متفق عليه، وفي لفظ قال " إن أول نسكنا في يومنا هذا
الصلاة ثم الذبح فمن ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم قدمها لأهل ليس من النسك في شئ " وظاهر
هذا اعتبار نفس الصلاة
وقال عطاء وقتها إذا طلعت الشمس لأنها عبادة يتعلق آخرها بالوقت فتعلق أولها بالوقت كالصيام
وهذا وجه قول الخرقي ومن وافقه، والصحيح إن شاء الله تعالى أن وقتها في الموضع الذي يصلى فيه
بعد الصلاة لظاهر الخبر والعمل بظاهره أولى، فاما غير أهل الأمصار والقرى فأول وقتها في حقهم قدر
الصلاة والخطبة بعد الصلاة لأنه لا صلاة في حقهم تعتبر فوجب الاعتبار بقدرها، وقال أبو حنيفة
أول وقتها في حقهم إذا طلع الفجر الثاني لأنه من يوم النحر فكان وقتها منه كسائر اليوم
ولنا أنها عبادة وقتها في حق أهل المصر بعد إشراق الشمس فلا تتقدم وقتها في حق غيرهم
كصلاة العيد وما ذكروه يبطل باهل الأمصار فإن لم يصل الإمام في المصر لم يجز الذبح حتى تزول
الشمس لأنها حينئذ تسقط فكأنه قد صلى وسواء ترك الصلاة عمدا أو غير عمد لعذر أو غيره، فاما
الذبح في اليوم الثاني فهو في أول النهار لأن الصلاة فيه غير واجبة ولان الوقت قد دخل في اليوم
الأول وهذا من أثنائه فلا تعتبر فيه صلاة ولا غيرها، وان صلى الإمام في المصلى واستخلف
من صلى في المسجد فمتى صلوا في أحد الموضعين جاز الذبح لوجود الصلاة التي يسقط بها الفرض
113

عن سائر الناس فإن ذبح بعد الصلاة قبل الخطبة أجزأ في ظاهر كلام احمد لأن النبي صلى الله عليه
وسلم علق المنع على فعل الصلاة فلا يتعلق بغيره ولان الخطبة غير واجبة وهذا قول الثوري
(الثاني) آخر الوقت وآخره آخر اليوم الثاني من أيام التشريق فتكون أيام النحر ثلاثة: يوم العيد
ويومان بعده وهذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس قال احمد أيام النحر
ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية قال خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يذكر أنسا وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة وروي عن علي آخره آخر أيام التشريق وهو
مذهب الشافعي وقول عطاء والحسن لأنه روي عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أيام منى
كلها منحر " ولأنها أيام تكبير وافطار فكانت محلا للنحر كالأولين، وقال ابن سيرين لا تجوز الا
في يوم النحر خاصة لأنها وظيفة عيد فلا تجوز الا في يوم واحد كأداء الفطرة يوم الفطر، وقال سعيد
ابن جبير وجابر بن زيد كقول ابن سيرين في أهل الأمصار وقولنا في أهل منى وعن أبي سلمة بن
عبد الرحمن وعطاء بن يسار تجوز التضحية إلى هلال المحرم، قال أبو أمامة بن سهل بن حنيف
كان الرجل من المسلمين يشتري أضحية فيسمنها حتى يكون آخر ذي الحجة فيضحي بها رواه
الإمام أحمد باسناده، قال هذا الحديث عجيب وقال أيام الأضحى التي أجمع عليها ثلاثة أيام.
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ولا يجوز الذبح في وقت لا
يجوز ادخار الأضحية إليه ولان اليوم الرابع لا يجب الرمي فيه فلم تجز التضحية فيه كالذي بعده ولأنه
قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم الا رواية عن علي وقد روي عنه مثل مذهبنا وحديثهم
إنما هو " ومنى كلها منحر " ليس فيه ذكر الأيام والتكبير أعم من الذبح وكذلك الافطار بدليل أول يوم
النحر ويوم عرفة يوم تكبير ولا يجوز الذبح فيه
(الثالث) في زمن الذبح وهو النهار دون الليل نص عليه أحمد في رواية الأثرم وهو قول مالك
وروي عن عطاء ما يدل عليه وحكي عن أحمد رواية أخرى أن الذبح يجوز ليلا وهو اختيار أصحابنا
المتأخرين وقول الشافعي وإسحاق وأبي حنيفة وأصحابه لأن الليل زمن يصح فيه الرمي فأشبه النهار
114

ووجه قول الخرقي قول الله تعالى (ليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الذبح بالليل ولأنه ليل يوم يجوز الذبح فيه فأشبه ليلة يوم النحر ولان
الليل تتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب فلا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود ولذا قالوا يكره الذبح فيه
فعلى هذا ان ذبح ليلا لم يجزئه عن الواجب وإن كان تطوعا فذبحها كانت شاة لحم ولم تكن أضحية فإن
فرقها حصلت القربة بتفريقها دون ذبحها
(فصل) إذا فات وقت الذبح ذبح الواجب قضاء وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته وهو مخير
في التطوع فإن فرق لحمها كانت القربة بذلك دون الذبح لأنها شاة لحم وليست أضحيه، وبهذا قال
الشافعي وقال أبو حنيفة يسلمها إلى الفقراء ولا يذبحها فإن ذبحها فرق لحمها وعليه أرش ما نقصها الذبح
لأن الذبح قد سقط بفوات وقته
ولنا ان الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم وذلك أنه لو ذبحها
في الأيام ثم خرجت قبل تفريقها فرقها بعد ذلك ويفارق الوقوف والرمي، ولان الأضحية
لا تسقط بفواتها بخلاف ذلك
(فصل) وإذا وجبت الأضحية بايجابه لها فضلت أو سرقت بغير تفريط منه فلا ضمان عليه لأنها
أمانة في يده فإن عادت إليه ذبحها سواء كان في زمن الذبح أو فيما بعده على ما ذكرناه
(مسألة) قال (وان ذبح قبل ذلك لم يجزئه ولزمه البدل)
وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى " ولأنها نسيكة واجبة
ذبحها قبل وقتها فلزمه بدلها كالهدي إذا ذبحه قبل محله، ويجب أن يكون بدلها مثلها أو خيرا منها
لأن ذبحها قبل حلها اتلاف لها، وكلام الخرقي ومن أطلق من أصحابنا محمول على الأضحية الواجبة
بنذر أو تعيين فإن كانت غير واجبة بواحد من الامرين فهي شاة لحم ولا بدل عليه الا أن يشاء
لأنه قصد التطوع فأفسده فلم يجب عليه بدله كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها إلى غير مستحقها،
115

والحديث يحمل على أحد أمرين إما الندب وإما على التخصيص بمن وجبت عليه بدليل ما ذكرنا.
فأما الشاة المذبوحة فهي شاة لحم كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه يصنع بها ما شاء كشاة ذبحها للحمها
لا لغير ذلك فإن هذه ان كانت واجبة فقد لزمه ابدالها وذبح ما يقوم مقامها فخرجت هذه عن كونها
واجبة كالهدي الواجب إذا عطب دون محله وإن كان تطوعا فقد أخرجها بذبحه إياها قبل محلها عن
القربة فبقيت مجرد شاة لحم
ويحتمل أن يكون حكمها حكم الأضحية كالهدي إذا عطب لا يخرج عن حكم الهدي على رواية
ويكون معنى قوله شاة لحم أي في فضلها وثوابها خاصة دون ما يصنع بها
(مسألة) قال (ولا يستحب أن يذبحها الا مسلم وان ذبحها بيده كان أفضل)
وجملته انه يستحب أن لا يذبح الأضحية الا مسلم لأنها قربة فلا يليها غير أهل القربة وان
استناب ذميا في ذبحها جاز مع الكراهة وهذا قول الشافعي وأبي ثور وابن المنذر. وحكي عن أحمد
لا يجوز أن يذبحها الا مسلم وهذا قول مالك، وممن كره ذلك علي وابن عباس وجابر رضي الله عنهم،
وبه قال الحسن وابن سيرين. وقال جابر: لا يذبح النسك الا مسلم لما روي في حديث ابن عباس
الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم " ولا يذبح ضحاياكم الا طاهر " ولان الشحوم تحرم علينا مما يذبحونه على
رواية فيكون ذلك بمنزلة اتلافه
ولنا أن من جاز له ذبح غير الأضحية جاز له ذبح الأضحية كالمسلم، ويجوز أن يتولى الكافر
ما كان قربة للمسلم كبناء المساجد والقناطر. ولا نسلم تحريم الشحوم علينا بذبحهم، والحديث محمول
على الاستحباب، والمستحب ان يذبحها المسلم ليخرج من الخلاف وان ذبحها بيده كان أفضل لأن
النبي صلى الله عليه وسلم ضحي بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمى؟؟؟ ووضع رجله على صفاحهما
ونحر البدنات الست بيده ونحر من البدن التي ساقها في حجته ثلاثا وستين بدنة بيده ولان فعله قربة
وفعل القربة أولى من استنابته فيها فإن استناب فيها جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم استناب من نحر باقي بدنه
بعد ثلاث وستين وهذا لا شك فيه
116

ويستحب أن يحضر ذبحها لأن في حديث ابن عباس الطويل " واخضروها إذا ذبحتم فإنه يغفر
لكم عند أول قطرة من دمها " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة " احضري أضحيتك يغفر لك
بأول قطرة من دمها "
(مسألة) قال (ويقول عند الذبح بسم الله والله أكبر وان نسي فلا يضره)
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال " بسم الله والله أكبر " وفي حديث أنس وسمى وكبر،
وكذلك كان يقول ابن عمر وبه يقول أصحاب الرأي ولا نعلم في استحباب هذا خلافا ولا في أن التسمية
مجزئة، وان نسي التسمية أجزأه على ما ذكرنا في الذبائح، وان زاد فقال: اللهم هذا منك ولك اللهم
تقبل مني أو من فلان فحسن وبه قال أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة يكره ان يذكر اسم غير الله
لقول الله تعالى (وما أهل لغير الله به)
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بكبش له ليذبحه فأضجعه ثم قال " اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد "
ثم ضحى. رواه مسلم، وفي حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللهم منك ولك عن
محمد وأمته، بسم الله والله أكبر " ثم ذبح، وهذا نص لا يعرج على خلافه
(مسألة) قال (وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن لأن النية تجزئ)
لا أعلم خلافا في أن النية تجزئ وان ذكر من يضحي عنه فحسن لما روينا من الحديث، قال
الحسن: يقول بسم الله والله أكبر هذا منك ولك تقبل من فلان، وكره أهل الرأي هذا وقد
ذكرناه في التي قبلها
(فصل) وان عين أضحية فذبحها غيره بغير اذنه أجزأت عن صاحبها ولا ضمان على ذابحها وبهذا
قال أبو حنيفة وقال مالك هي شاة لحم لصاحبها أرشها وعليه بدلها لأن الذبح عبادة فإذا فعلها غير صاحبها عنه
بغير اذنه لم تقع الموقع كالزكاة. وقال الشافعي تجزئ عن صاحبها وله على ذابحها أرش ما بين قيمتها صحيحة
ومذبوحة لأن الذبح أحد مقصودي الهدي فإذا فعله فاعل بغير اذن المضحي ضمنه كتفرقة اللحم
117

ولنا على مالك انه فعل لا يفتقر إلى النية فإذا فعله غير الصاحب أجزأ عنه كغسل ثوبه من النجاسة
وعلى الشافعي انها أضحية أجزأت عن صاحبها ووقعت موقعها فلم يضمن ذابحها كما لو كان باذن،
ولأنه إراقة دم تعين إراقته لحق الله تعالى فلم يضمن مريقه كقاتل المرتد بغير إذن الإمام ولان الأرش
لو وجب فإنما يجب ما بين كونها مستحقة الذبح في هذه الأيام متعينة له وما بين كونها مذبوحة ولا
قيمة لهذه الحياة ولا تفاوت بين القيمتين فتعذر وجود الأرش ووجوبه، ولأنه لو وجب الأرش لم يخل
إما ان يجب للمضحي أو للفقراء: لا جائز ان يجب للفقراء، لأنهم إنما يستحقونها مذبوحة ولو دفعها إليهم
في الحياة لم يجز، ولا جائز ان يجب له لأنه لا يجوز ان يأخذ بدل شئ منها كعضو من أعضائها،
ولأنهم وافقونا في أن الأرش لا يدفع إليه فيتعذر ايجابه لعدم مستحقه
(فصل) وإن نذر أضحية في ذمته ثم ذبحها فله ان يأكل منها وقال القاضي من أصحابنا من منع
الاكل منها وهو ظاهر كلام احمد وبناه على الهدي المنذور
ولنا ان النذر محمول على المعهود والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها والاكل منها والنذر لا
يغير من صفة المنذور الا الايجاب وفارق الهدي الواجب بأصل الشرع لا يجوز الاكل منه فالمنذور
محمول عليه بخلاف الأضحية
(فصل) ولا يضحى عما في البطن وروي ذلك عن ابن عمر، وبه قال الشافعي وأبو ثور
وابن المنذر ولا نعلم مخالفا لهم وليس للعبد والمدبر والمكاتب وأم الولد ان يضحوا إلا باذن سادتهم
لأنهم ممنوعون من التصرف بغير اذنهم الا المكاتب فإنه ممنوع من التبرع والأضحية تبرع، وأما
من نصفه حر إذا ملك بجزئه الحر شيئا فله ان يضحي بغير إذن سيده لأن له ان يتبرع بغير اذنه
(مسألة) قال (ويجوز ان يشترك السبعة فيضحوا بالبدنة والبقرة)
وجملته أنه يجوز ان يشترك في التضحية بالبدنة والبقرة سبعة واجبا كان أو تطوعا سواء كانوا
كلهم متقربين أو يريد بعضهم القربة وبعضهم اللحم وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا يجوز الاشتراك
118

في الهدي وقال أبو حنيفة يجوز للمتقربين ولا يجوز إذا كان بعضهم غير متقرب لأن الذبح واحد
فلا يجوز ان تختل نية القربة فيه
ولنا ما روى جابر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل
سبعة منا في بدنة. رواه مسلم
ولنا على أبي حنيفة ان الجزء المجزئ لا ينقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز كما لو اختلفت
جهات القرب فأراد بعضهم التضحية وبعضهم الفدية
(فصل) ويجوز للمشتركين قسمة اللحم ومنع منه أصحاب الشافعي في وجه بناء على أن القسمة
بيع وبيع لحم الهدي والأضحية غير جائز
ولنا ان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراك مع أن سنة الهدي والأضحية الاكل منها دليل على تجويز القسمة
إذ لا يتمكن واحد منهم من الاكل الا بالقسمة وكذلك الصدقة والهدية ولا نسلم ان القسمة بيع
بل هي افراز حق على ما ذكرنا في باب القسمة
(مسألة) قال (والعقيقة سنة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة)
العقيقة الذبيحة التي تذبح عن المولود وقيل هي الطعام الذي يصنع ويدعي إليه من أجل المولود
قال أبو عبيد الأصل في العقيقة الشعر الذي على المولود وجمعها عقائق ومنها قول الشاعر
أيا هند لا تنكحي بوهة * عليه عقيقته أحسبا
ثم إن العرب سمت الذبيحة عند حلق شعره عقيقة على عاداتهم في تسمية الشئ باسم سببه أو
ما جاوره ثم اشتهر ذلك حتى صار من الأسماء العرفية وصارت الحقيقة مغمورة فيه فلا يفهم من
العقيقة عند الاطلاق الا الذبيحة وقال ابن عبد البر أنكر احمد هذا التفسير وقال إنما العقيقة الذبح
نفسه. ووجهه ان أصل العق القطع ومنه عق والديه إذا قطعهما والذبح قطع الحلقوم والمرئ
والودجين، والعقيقة سنة في قول عامة أهل العلم منهم ابن عباس وابن عمر وعائشة وفقهاء التابعين
119

وأئمة الأمصار الا أصحاب الرأي قالوا ليست سنة وهي من أمر الجاهلية، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه سئل عن العقيقة فقال " ان الله تعالى لا يحب العقوق " فكأنه كره الاسم وقال " من ولد له
مولود فأحب أن ينسك عنه فليفعل " رواه مالك في موطئه وقال الحسن وداود هي واجبة وروي
عن بريدة ان الناس يعرضون عليها كما يعرضون على الصلوات الخمس لما روى سمرة بن جندب أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه وتحلق رأسه " وعن
أبي هريرة مثله قال أحمد اسناده جيد وروى حديث سمرة الأثرم وأبو داود وعن عائشة ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة وظاهر الامر الوجوب
ولنا على استحبابها هذه الأحاديث وعن أم كرز الكعبية قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة " وفي لفظ " عن الغلام شاتان مثلان وعن الجارية
شاة " رواه أبو داود وفي رواية قال " العقيقة عن الغلام شاتان " والاجماع قال أبو الزناد العقيقة
من أمر الناس كانوا يكرهون تركه، وقال أحمد العقيقة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عق عن الحسن
والحسين وفعله أصحابه وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الغلام مرتهن بعقيقته " وهو اسناد جيد يرويه أبو هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم. وجعلها أبو حنيفة من أمر الجاهلية وذلك لقلة علمه ومعرفته بالاخبار،
وأما بيان كونها غير واجبة فدليله ما احتج به أصحاب الرأي من الخبر وما رووه محمول على تأكيد
الاستحباب جمعا بين الاخبار ولأنه ذبيحة لسرور حادث فلم تكن واجبة كالوليمة والنقيعة
(فصل) والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمتها نص عليه أحمد وقال إذا لم يكن عنده ما يعق
فاستقرض رجوت ان يخلف الله عليه احياء سنة قال ابن المنذر صدق أحمد أحياء السنن واتباعها
أفضل، وقد ورد فيها من التأكيد في الاخبار التي رويناها ما لم يرد في غيرها ولأنها ذبيحة أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بها فكانت أولى كالوليمة والأضحية
(مسألة) قال (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة)
هذا قول أكثر القائلين بها وبه قال ابن عباس وعائشة والشافعي وإسحاق وأبو ثور وكان ابن
120

عمر يقول شاة شاة عن الغلام والجارية لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن الحسن شاة وعن الحسين شاة
رواه أبو داود وكان الحسن وقتادة لا يريان عن الجارية عقيقة لأن العقيقة شك للنعمة الحاصلة بالولد والجارية
لا يحصل بها سرور فلا يشرع لها عقيقة
ولنا حديث عائشة وأم كرز وهذا نص وما رووه محمول على الجواز. إذا ثبت هذا فالمستحب
أن تكون الشاتان متماثلتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " شاتان مكافئتان " وفي رواية " مثلان "
قال احمد يعني متقاربتين أو متساويتين لما جاء من الحديث فيه، ويجوز فيها الذكر والأنثى لما روي
في حديث أم كرز أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " عن الغلام شاتان مكافئتان
وعن الجارية شاة ولا بأس أن يكون ذكورا أو إناثا " رواه سعيد وأبو داود والذكر أفضل لأن
النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش وضحى بكبشين أقرنين والعقيقة
تجري مجري الأضحية والأفضل في لونها البياض على ما ذكرنا في الأضحية لأنها تشبهها ويستحب
استسمانها واستعظامها واستحسانها كذلك وإن خالف ذلك أو عق بكبش واحد أجزأ
لما روينا من حديث الحسن والحسين
(مسألة) قال (ويذبح يوم السابع)
قال أصحابنا السنة أن تذبح يوم السابع فإن فات ففي أربع عشرة فإن فات ففي إحدى وعشرين
ويروى هذا عن عائشة وبه قال إسحاق، وعن مالك في الرجل يريد أن يعق عن ولده فقال ما علمت
هذا من أمر الناس وما يعجبني ولا نعلم خلافا بين أهل العلم القائلين بمشروعيتها في استحباب ذبحها
يوم السابع والأصل فيه حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كل غلام رهينة
بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه " واما كونه في أربع عشرة ثم في إحدى وعشرين
فالحجة فيه قول عائشة رضي الله عنها وهذا تقرير الظاهر أنها لا تقوله الا توقيفا، وان ذبح قبل ذلك
أو بعده أجزأه لأن المقصود يحصل، وان تجاوز أحدا وعشرين احتمل أن يستحب في كل سابع فيجعله
121

في ثمانية وعشرين فإن لم يكن ففي خمسة وثلاثين وعلى هذا قياسا على ما قبله، واحتمل أن يجوز في
كل وقت لأن هذا قضاء فائت فلم يتوقف كقضاء الأضحية وغيرها، وان لم يعق أصلا فبلغ الغلام
وكسب فلا عقيقة عليه، سئل احمد عن هذه المسألة فقال ذلك على الوالد يعني لا يعق عن نفسه
لأن السنة في حق غيره، وقال عطاء والحسن ويعق عن نفسه لأنها مشروعة عنه ولأنه مرتهن بها فينبغي
أن يشرع له فكاك نفسه
ولنا أنها مشروعة في حق الوالد فلا يفعلها غيره كالأجنبي وكصدقة الفطر
(فصل) ويستحب أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ويسمى لحديث سمرة، وان تصدق
بزنة شعره فضة فحسن لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة لما ولدت الحسن " احلقي رأسه وتصدقي
بزنة شعره فضة على المساكين والأوفاض " يعني أهل الصفة رواه الإمام أحمد، وروى سعيد في
سننه عن محمد بن علي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش وانه تصدق بوزن
شعورهما ورقا وان فاطمة كانت إذا ولدت ولدا حلقت شعره وتصدقت بوزنه ورقا، وان سماه قبل السابع جاز
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولد الليلة لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم " وسمى الغلام الذي جاءه به أنس بن مالك
فحنكه وسماه عبد الله، ويستحب أن يحسن اسمه لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " انكم تدعون
يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم " وقال عليه السلام " أحب الأسماء إلي عبد الله
وعبد الرحمن " حديث صحيح
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: أحب الأسماء إلى الله تعالى أسماء الأنبياء. وقال النبي صلى
الله عليه وسلم " تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي " وفي رواية " لا تجمعوا بين اسمي وبين كنيتي "
(فصل) ويكره أن يلطخ رأسه بدم كره ذلك احمد والزهري ومالك والشافعي وابن المنذر
وحكي عن الحسن وقتادة انه مستحب لما روي في حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويدمى " رواه همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة
قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا قال هذا إلا الحسن وقتادة وأنكره سائر أهل العلم وكرهوه لأن النبي
122

صلى الله عليه وسلم قال " مع الغلام عقيقته فهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى " رواه أبو داود
وهذا يقتضي أن لا يمس بدم لأنه أذى
وروى يزيد بن عبد المزني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يعق عن الغلام ولا يمس
رأسه بدم " قال مهنا ذكرت هذا الحديث لأحمد فقال ما أظرفه ورواه ابن ماجة ولم يقل عن أبيه
ولان هذا تنجيس له فلا يشرع كلطخه بغيره من النجاسات
وقال بريدة كنا في الجاهلية إذا ولد لاحدنا غلام ذبح شاة ويلطخ رأسه بدمها فلما جاء الاسلام
كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران رواه أبو داود. فما رواية من روى " ويدمى " فقال
أبو داود " ويسمى " أصح هكذا قال سلام ابن أبي مطيع عن قتادة وإياس بن دغفل عن الحسن ووهم
همام فقال ويدمى، قال احمد قال فيه ابن أبي عروبة يسمى، وقال همام يدمى وما أراه إلا أخطأ
وقد قيل هو تصحيف من الراوي
(مسألة) قال (ويجتنب فيها من العيب ما يجتنب في الأضحية)
وجملته ان حكم العقيقة حكم الأضحية في سنها وانه يمنع فيها من العيب ما يمنع فيها ويستحب فيها
من الصفة ما يستحب فيها وكانت عائشة تقول ائتوني به أعين أقرن، وقال عطاء الذكر أحب إلي
من الأنثى، والضأن أحب من المعز فلا يجزئ فيها أقل من الجذع من الضان والثني من المعز ولا
تجوز فيها العوراء البين عورها، والعرجاء البين ظلعها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي
والعضباء التي ذهب أكثر من نصف أذنها أو قرنها، وتكره فيها الشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة
ويستحب استشراف العين والاذن كما ذكرنا في الأضحية سواء لأنها تشبهها فتقاس عليها
(مسألة) قال (وسبيلها في الاكل والهدية والصدقة سبيلها لا أنها تطبخ أجدالا)
وبهذا قال الشافعي وقال ابن سيرين اصنع بلحمها كيف شئت، وقال ابن جريج تطبخ بماء وملح
123

وتهدي الجيران والصديق ولا يتصدق منها بشئ، وسئل احمد عنها فحكى قول ابن سيرين وهذا
يدل على أنه ذهب إليه وسئل هل يأكلها كلها؟ قال لم أقل يأكلها كلها ولا يتصدق منها بشئ والأشبه
قياسها على الأضحية لأنها نسيكة مشروعة غير واجبة فأشبهت الأضحية ولأنها أشبهتها في صفاتها
وسنها وقدرها وشروطها فأشبهتها في مصرفها وان طبخها ودعا إخوانه فأكلوها فحسن، ويستحب
أن تفصل أعضاؤها ولا تكسر عظامها لما روي عن عائشة أنها قالت: السنة شاتان مكافئتان عن
الغلام، وعن الجارية شاة تطبخ جدولا ولا يكسر عظم ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك يوم السابع
قال أبو عبيد الهروي في العقيقة تطبخ جدولا لا يكسر لها عظم أي عضوا عضوا وهو الجدل
بالدال غير المعجمة والإرب والشلو والعضو والوصل كله واحد وإنما فعل بها ذلك لأنها أول ذبيحة
ذبحت عن المولود فاستحب فيها ذلك تفاؤلا بالسلامة كذلك قالت عائشة، وروي أيضا عن عطاء
وابن جريج وبه قال الشافعي
(فصل) قال احمد يباع الجلد والرأس والسقط ويتصدق به وقد نص في الأضحية على خلاف
هذا وهو أقيس في مذهبه لأنها ذبيحة لله فلا يباع منها شئ كالهدي ولأنه تمكن الصدقة بذلك بعينه
فلا حاجة إلى بيعه، وقال أبو الخطاب يحتمل أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى فيخرج في المسئلتين
روايتان ويحتمل ان يفرق بينهما من حيث أن الأضحية ذبيحة شرعت يوم النحر فأشبهت الهدي
والعقيقة شرعت عند سرور حادث وتجدد نعمة فأشبهت الذبيحة في الوليمة ولان الذبيحة ههنا لم تخرج
عن ملكه فكان له ان يفعل بها ما شاء من بيع وغيره والصدقة بثمن ما بيع منها بمنزلة الصدقة به في فضلها
وثوابها وحصول النفع به فكان له ذلك
124

(فصل) قال بعض أهل العلم يستحب للوالد أن يؤذن في اذن ابنه حين يولد لما روى عبد الله
ابن رافع عن أمه ان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في اذن الحسن حين ولدته فاطمة وعن عمر بن عبد العزيز انه
كان إذا ولد له مولود أخذه في خرقه فاذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وسماه، وروينا ان رجلا
قال لرجل عند الحسن يهنئه بابن له ليهنك الفارس فقال الحسن وما يدريك أنه فارس هو أو حمار؟ فقال
كيف نقول؟ قال قل بورك في الموهوب وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره، وروي أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يحنك أولاد الأنصار بالتمر، وروى أنس قال ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد قال " هل معك تمر؟ " فناولته تمرات فلاكهن ثم فغر فاه ثم مجه فيه فجعل
أيتلمظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حب الأنصار التمر " وسماه عبد الله
(فصل) قال أصحابنا لا تسن الفرعة ولا العتيرة وهو قول علماء الأمصار سوى ابن سيرين فإنه
كان يذبح العتيرة في رجب ويروي فيها شيئا والفرعة والفرع بفتح الراء أول ولد الناقة كانوا يذبحونه
لآلهتهم في الجاهلية فنهوا عنها قال ذلك أبو عمرو الشيباني وقال أبو عبيد العتيرة هي الرجبية كان
أهل الجاهلية إذا طلب أحدهم أمرا نذر أن يذبح من غنمه شاة في رجب وهي العتائر والصحيح إن
شاء الله تعالى انهم كانوا يذبحونها في رجب من غير نذر جعلوا ذلك سنة فيما بينهم كالأضحية في
125

الأضحى وكان منهم من ينذرها كما قد تنذر الأضحية بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " على كل أهل بيت أضحاة
وعتيرة " وهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الاسلام تقرير لما كان في الجاهلية وهو يقتضي ثبوتها
بغير نذر ثم نسخ ذلك بعد، ولان العتيرة لو كانت المنذورة لم تكن منسوخة فإن الانسان لو نذر ذبح
شاة في أي وقت كان لزمه الوفاء بنذره والله أعلم وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة من كل خمس واجدة قال ابن المنذر هذا حديث ثابت
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا فرع ولا عتيرة " متفق عليه وهذا الحديث متأخر
عن الامر بها فيكون ناسخا ودليل تأخره أمران (أحدهما) أن رواية أبو هريرة وهو متأخر الاسلام
فإن إسلامه في سنة فتح خيبر وهي السنة السابعة من الهجرة (والثاني) أن الفرع والعتيرة كان فعلهما
لغوا متقدما على الاسلام فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نسخه واستمرار النسخ من غير رفع له ولو
قدرنا تقدم النهي على الامر بها لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها وهذا خلاف الظاهر. إذا ثبت
هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة لا تحريم فعلها ولا كراهته فلو ذبح إنسان ذبيحة في رجب
أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو للصدقة به واطعامه لم يكن ذلك مكروها والله تعالى أعلم
126

كتاب السبق والرمي
المسابقة جائزة بالسنة والاجماع. اما السنة فروى ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين
الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية أو داع وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق
متفق عليه، قال موسى بن عقبة من الحفياء إلى ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة أميال، وقال سفيان
من الثنية إلى مسجد بني زريق ميل أو نحوه، وأجمع المسلمون على جواز المسابقة في الجملة، المسابقة
على ضربين مسابقة بغير عوض ومسابقة بعوض. فأما المسابقة بغير عوض فتجوز مطلقا من غير
تقييد بشئ معين كالمسابقة على الاقدام والسفن والطيور والبغال والحمير والفيلة والمزاريق، وتجوز المصارعة
ورفع الحجر ليعرف الأشد وغير هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر مع عائشة فسابقته على
رجلها فسبقته قالت فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال " هذه بتلك " رواه أبو داود، وسابق سلمة
ابن الأكوع رجلا من الأنصار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في يوم ذي قرد، وصارع النبي
صلى الله عليه وسلم ركانة فصرعه رواه الترمذي، ومر بقوم يربعون حجرا يعنى يرفعونه ليعرفوا
الأشد منهم فلم ينكر عليهم وسائر المسابقة يقاس على هذا.
وأما المسابقة بعوض فلا تجوز إلا بين الخيل والإبل والرمي لما سنذكره إن شاء الله تعالى
واختصت هذه الثلاثة بتجويز العوض فيها لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها والتفوق
فيها وفي المسابقة بها مع العوض مبالغة في الاجتهاد في النهاية لها والأحكام لها وقد ورد الشرع
127

بالامر بها والترغيب في فعلها قال تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون
به عدو الله وعدوكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا ان القوة الرمي ألا ان القوة الرمي "
وروى سعيد في سننه عن خالد بن زيد قال كنت رجلا راميا وكان عقبة بن عامر الجهني يمر بي
فيقول يا خالد اخرج بنا نرمي فلما كان ذات يوم أبطأت عنه فقال هلم أحدثك حديثا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان الله دخل بالسهم
الواحد ثلاثة الجنة: صانع يحتسب في صنعه الخير والرامي به ومنبله ارموا واركبوا وإن ترموا
أحب إلي من أن تركبوا وليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه
ونبله ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها " وعن مجاهد قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " ان الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان والنضال " قال الأزهري النضال في الرمي
والرهان في الخيل والسباق فيهما، قال مجاهد ورأيت ابن عمر يشتد بين الهدفين إذا أصاب خصلة
قال أنا بها أنا بها وعن حذيفة مثله
(مسألة) قال (والسبق في النصل والحافر والخف لا غير)
السبق بسكون الباء المسابقة والسبق بفتحها الجعل المخرج في المسابقة والمراد بالنصل ههنا السهم
ذو النصل وبالحافر الفرس وبالخف البعير عبر عن كل واحد منها بجزء منه يختص به، ومراد الخرقي
ان المسابقة بعوض لا تجوز الا في هذه الثلاثة وبهذا قال الزهري ومالك، وقال أهل العراق يجوز
128

ذلك في المسابقة على الاقدام والمصارعة لورود الأثر بهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة
وصارع ركانة، ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين ولهم في المسابقة في الطيور والسفن وجهان
بناء على الوجهين في المسابقة على الاقدام والمصارعة
ولنا ما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا سبق الا في نصل أو خف أو
حافر " رواه أبو داود فنفى السبق في غير هذه الثلاثة ويحتمل أن يراد به نفي الجعل أي لا يجوز الجعل الا
في هذه الثلاثة، ويحتمل أن يراد به نفي المسابقة بعوض فإنه يتعين حمل الخبر على أحد الامرين
للاجماع على جواز المسابقة بغير عوض في هذه الثلاثة، وعلى كل تقدير فالحديث حجة لنا
ولان غير هذه الثلاثة لا يحتاج إليها في الجهاد كالحاجة إليها فلم تجز المسابقة عليها بعوض كالرمي
بالحجارة ورفعها. إذا ثبت هذا فالمراد بالنصل السهام من النشاب والنبل دون غيرهما والحافر الخيل
وحدها والخف الإبل وحدها، وقال أصحاب الشافعي تجوز المسابقة بكل ماله نصل من المزاريق وفي الرمح
والسيف وجهان وفي الفيل والبغال والحمير وجهان لأن للمزاريق والرماح والسيوف نصلا وللفيل خف
وللبغال والحمير حوافر فتدخل في عموم الخبر
ولنا ان هذه الحيوانات المختلف فيها لا تصلح للكر والفر ولا يقاتل عليها ولا يسهم لها وللفيل
لا يقاتل عليه أهل الاسلام، والرماح والسيوف لا يرمى بها فلم تجز المسابقة عليها كالبقر والتراس
والخبر ليس بعام فيما تجوز المسابقة به لأنه نكرة في اثبات وإنما هو عام في نفي ما لا تجوز المسابقة به بعوض لكون نكرة
في سياق النفي ثم لو كان علما لحمل على ما عهدت المسابقة عليه وورد الشرع بالحث على تعلمه وهو ما ذكرناه
129

(مسألة) (قال وإذا أراد أن يستبقا اخرج أحدهما ولم يخرج الآخر فإن سبق من
اخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من المسبوق شيئا وان سبق من لم يخرج أحرز سبق صاحبه)
وجملته ان المسابقة إذا كانت بين اثنين أو حزبين لم تخل اما أن يكون العوض منهما أو من
غيرهما فإن كان من غيرهما نظرت فإن كان من الإمام جاز سواء كان من ماله أو من بيت المال لأن في ذلك
مصلحة وحثا على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين وإن كان غير إمام جاز له بذل العوض من ماله وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي، وقال مالك لا يجوز بذل العوض من غير الإمام لأن هذا مما يحتاج إليه للجهاد فاختص به الإمام لتولية الولايات وتأمير الامراء
ولنا انه بذل لماله فيما فيه مصلحة وقربة فجاز كما لو اشترى به خيلا وسلاحا، فاما إن كان منهما
اشترط كون الجعل من أحدهما دون الآخر فيقول إن سبقتني فلك عشرة وان سبقتك فلا شئ عليك
فهذا جائز، وحكي عن مالك أنه لا يجوز لأنه قمار
ولنا أن أحدهما يختص بالسبق فجاز كما لو خرجه الإمام، ولا يصح ما ذكره لأن القمار أن لا يخلو
كل واحد منهما من أن يغنم أو يغرم وههنا لا خطر على أحدهما فلا يكون قمارا فإذا سبق المخرج
أحرز سبقه ولا شئ له على صاحبه، وإن سبق الآخر أخذ سبق المخرج فملكه وكان كسائر ماله لأنه
عوض في الجعالة فيملك فيها كالعوض المجهول في رد الضالة والآبق وإن كان العوض في الذمة فهو دين يقضى
به عليه ويجبر على تسليمه إن كان موسرا وان أفلس ضرب به مع الغرماء
130

(فصل) والمسابقة عقد جائز ذكره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في
الآخر هو لازم إن كان العوض منهما وجائز إذا كان من أحدهما أو من غيرهما وذكره القاضي احتمالا لأنه
عقد من شرطه أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازما كالإجارة
ولنا أنه عقد على ما لا تتحقق القدرة على تسليمه فكان جائزا كرد الآبق فإنه عقد على الإصابة
ولا يدخل تحت قدرته وبهذا فارق الإجارة، فعلى هذه لكل واحد من المتعاقدين الفسخ قبل الشروع
في المسابقة، وان أراد أحدهما الزيادة فيها أو النقصان منها لم يلزم الآخر اجابته وأما بعد الشروع
في المسابقة فإن كان لم يظهر لأحدهما فضل على الآخر جاز الفسخ لكل واحد منهما وان ظهر
لأحدهما فضل مثل أن يسبقه بفرسه في بعض المسابقة أو يصيب بسهامه أكثر منه فللفاضل الفسخ،
ولا يجوز للمفضول لأنه لو جاز له ذلك لفات غرض المسابقة لأنه متى بان له سبق صاحبه له فسخها
وترك المسابقة فلا يحصل المقصود، قال أصحاب الشافعي إذا قلنا العقد جائز ففي جواز
الفسخ من المفضول وجهان
(فصل) ويشترط أن يكون العوض معلوما لأنه مال في عقد فكان معلوما كسائر العقود ويكون
معلوما بالمشاهدة أو بالقدر والصفة على ما تقدم في غير موضع ويجوز أن يكون حالا ومؤجلا كالعوض
في البيع ويجوز أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا فلو قال إن نضلتني فلك دينار حل وقفيز حنطة
بعد شهر جاز وصح النضال لأن ما جاز أن يكون حالا ومؤجلا جاز أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا
كالثمن غير أنه يحتاج إلى صفة الحنطة بما تصير به معلومة
131

(فصل) فإن شرط أن يطعم السبق أصحابه فالشرط فاسد لأنه عوض على عمل فلا يستحقه
غير العامل كالعوض في رد الآبق ولا يفسد العقد وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يفسد
ولنا انه عقد لا تقف صحته على تسمية بدل فلم يفسد بالشرط الفاسد كالنكاح، وذكر القاضي
أن الشروط الفاسدة في المسابقة تنقسم قسمين
(أحدهما) ما يخل بشرط صحة العقد نحو أن يعود إلى جهالة العوض أو المسافة ونحوهما فيفسد
العقد لأن العقد لا يصح مع فوات شرطه
(والثاني) ما لا يخل بشرط العقد نحو أن يشترط أن يطعم السبق أصحابه أو غيرهم أو يشرط انه
إذا فضل لا يرمي أبدا أو لا يرمي شهرا أو شرطا أن لكل واحد منهما أو لأحدهما فسخ العقد متى
شاء بعد الشروع في العمل وأشباه هذا فهذه شروط باطلة في نفسها وفي العقد المقترن بها وجهان
(أحدهما) صحته لأن العقد ثم بأركانه وشروطه فإذا حذف الزائد الفاسد بقي العقد صحيحا
(والثاني) يبطل لأنه بذل العوض لهذا الغرض فإذا لم يحصل له غرضه لا يلزمه العوض، وكل
موضع فسدت المسابقة فإن كان السابق المخرج أمسك سبقه وإن كان الآخر فله أجر عمله لأنه عمل
بعوض لم يسلم له فاستحق أجر المثل كالإجارة الفاسدة
(فصل) وإذا كان المخرج غير المتسابقين فقال لهما أو لجماعة أيكم سبق فله عشرة جاز لأن كلا
132

منهم يطلب أن يكون سابقا وأيهم سبق استحق العشرة، وإن جاءوا جميعا فلا شئ لواحد منهم
لأنه لا سابق فيهم، وإن قال لاثنين أيكما سبق فله عشرة وأيكما صلى فله عشرة لم يصح لأنه لا فائدة
في طلب السبق فلا يحرص عليه لعدم فائدته فيه، وإن قال ومن صلى فله خمسة صح لأن كل واحد
يطلب السبق لفائدته فيه بزيادة الجعل، وإن كانوا أكثر من اثنين فقال من سبق فله عشرة ومن
صلى فله كذلك صح لأن كل واحد منهم يطلب أن يكون سابقا أو مصليا والمصلي هو الثاني لأن
رأسه عند صلي الآخر والصلوان هما العظمان الناتئان من جانبي الذنب وفي الأثر عن علي رضي الله
عنه أنه قال " سبق أبو بكر، وصلى عمر، وخبطتنا عشواء " وقال الشاعر:
إن تبتدر غاية يوما لمكرمة * تلق السوابق منها والمصلينا
فإن قال للمجلي وهو الأول مائه وللمصلي وهو الثاني تسعون، وللتالي وهو الثالث ثمانون،
وللنازع وهو الرابع سبعون، وللمرتاح وهو الخامس ستون وللحظي وهو السادس خمسون، وللعاطف
وهو السابع أربعون، وللمؤمل وهو الثامن ثلاثون، وللطيم وهو التاسع عشرون، وللسكيت وهو
العاشر عشرة، وللفسكل وهو الآخر خمسة صح لأن كل واحد يطلب السبق فإذا فاته طلب ما يلي
السابق والفسكل اسم للآخر ثم يستعمل هذا في غير المسابقة بالخيل تجوزا كما روي أن أسماء ابنة
133

عميس كانت تزوجت جعفر بن أبي طالب وولدت عبد الله ومحمدا وعونا ثم تزوجها أبو بكر الصديق
فولدت له محمد بن أبي بكر ثم تزوجها علي بن أبي طالب فقالت له ان ثلاثة أنت آخرهم لاخيار فقال لولدها
فسكلتني أمكم، وإن جعل للمصلي أكثر من السابق أو مثله أو جعل للتالي أكثر من المصلي أو مثله
أو لم بجعل للمصلي شيئا لم يجز لأن ذلك يفضي إلى أن لا يقصد السبق بل يقصد التأخر فيفوت المقصود
(فصل) إذا قال لعشرة من سبق منك فله عشرة صح فإن جاءوا معا فلا شئ لهم لأنه لم يوجد
الشرط الذي يستحق به الجعل في واحد منهم وان سبقهم واحد فله العشرة لوجود الشرط فيه وان
سبق اثنان فلهما العشرة وان سبق تسعة وتأخر واحد فالعشرة للتسعة لأن الشرط وجد فيهم فكان
الجعل بينهم كما لو قال من رد عبدي الآبق فله عشرة فرده تسعة، ويحتمل أن يكون لكل واحد
من السابقين عشرة لأن كل واحد منهم سابق فيستحق الجعل بكماله كما لو قال من رد عبدا لي فله
عشرة فرد كل واحد عبدا، وفارق ما لو قال من رد عبدي فرده تسعة لأن كل واحد منهم لم يرده
إنما رده حصل من الكل ويصير هذا كما لو قال من قبل قتيلا فله سلبه فإن قتل كل واحد واحدا
فلكل واحد سلب قتيله كاملا وان قتل الجماعة واحدا فلجميعهم سلب واحد وههنا كل واحد له سبق
مفرد فكان له الجعل كاملا. فعلى هذا لو قال من سبق فله عشرة ومن صلى فله خمسة فسبق خمسة
وصلى خمسة فعلى الأولى من الوجهين للسابقين عشرة لكل واحد منهم درهمان وللمصلين خمسة
لكل واحد منهم درهم وعلى الوجه الثاني لكل واحد من السابقين عشرة فيكون لهم خمسون ولكل
134

واحد من المصلين خمسة فيكون لهم خمسة وعشرون ومن قال بالوجه الأول احتمل على قوله أن لا
يصح العقد على هذا الوجه لأنه يحتمل ان يسبق تسعة فيكون لهم عشرة لكل واحد درهم وتسع ويصلي
واحد فيكون له خمسة فيصير للمصلي من الجعل فوق ما للسابق فيفوت المقصود
(مسألة) قال (وان أخرجا جميعا لم يجز الا ان يدخلا بينهما محللا يكافئ فرسه فرسيهما
أو بعيره بعيريهما أو رميه رمييهما فإن سبقهما أحرز سبقيهما وإن كان السابق أحدهما أحرز
سبقه وأخذ سبق صاحبه فكان كسائر ماله ولم يأخذ من المحلل شيئا)
السبق بالفتح الجعل الذي يسابق عليه ويسمى الخطر والندب والقرع والرهن ويقال سبق
إذا أخذ وإذا أعلى وهو من الأضداد ومتى استبق الاثنان والجعل بينهما فاخرج كل واحد منهما
لم يجز وكان قمارا لأن كل واحد منهما لا يخلو من أن يننم أو يغرم وسواء كان ما أخرجاه متساويا مثل
أن يخرج كل واحد منهما عشرة أو متفاوتا مثل ان اخرج أحدهما عشرة والآخر خمسة، ولو قال إن
سبقتني فلك علي عشرة وان سبقتك فلي عليك قفيز حنطة وقال إن سبقتني فلك علي عشرة ولي عليك قفيز لم
يجز لما ذكرناه فإن ادخلا بينهما محللا وهو ثالث لم يخرج شيئا جاز، وبهذا قال سعيد بن المسيب والزهري
والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي وحكى أشهب عن مالك أنه قال في المحلل لا أحبه وعن جابر
ابن زيد انه قيل له ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يرون بالدخيل بأسا قال هم أعف من ذلك
135

ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ادخل فرسا بين فرسين وهو لا
يؤمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار " رواه أبو داود
فجعله قمارا إذا أمن أن يسبق لأنه لا يخلو كل واحد منهما من أن يغنم أو يغرم وإذا لم يؤمن أن يسبق
لم يكن قمارا لأن كل واحد منهما يجوز أن يخلو عن ذلك. ويشترط أن يكون فرس المحلل مكافئا لفرسيهما
أو بعيره مكافئا لبعيريهما ورميه لرمييهما فإن لم يكن مكافئا مثل أن يكون فرساهما جوادين وفرسه
بطئ فهو قمار للخبر ولأنه مأمون سبقه فوجوده كعدمه، وإن كان مكافئا لهما جاز، فإن جاءوا كلهم
الغاية دفعة واحدة أحرز كل واحد منهما سبق نفسه ولا شئ للمحلل لأنه لا سابق فيهم، وكذلك
ان سبق المستبقان المحلل، وان سبق المحلل وحده أحرز السبقين بالاتفاق، وان سبق أحد المستبقين
وحده أحرز سبق نفسه وأخذ سبق صاحبه ولم يأخذ من المحلل شيئا وان سبق أحد المستبقين والمحلل أحرز
السابق مال نفسه ويكون سبق المسبوق بين السابق والمحلل نصفين وسواء كان المستبقون اثنين
أو أكثر حتى لو كانوا مائة وبينهم محلل لاسبق منه جاز وكذلك لو كان المحلل جماعة جاز لأنه لا فرق
بين الاثنين والجماعة وهذا كله مذهب الشافعي
(فصل) ويشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة وأن يكون لابتداء عدوهما وآخره غاية
لا يخلفان فيها لأن الغرض معرفة أسبقهما ولا يعلم ذلك إلا بتساويهما في الغاية ولان أحدهما قد
يكون مقصرا في أول عدوه سريعا في انتهائه، وقد يكون بضد ذلك فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه ومن
الخيل ما هو أصبر والقارح أصبر من غيره، وقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل
136

وفضل القرح في الغاية رواه أبو داود وسبق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وذلك
ستة أميال أو سبعة، وبين التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وذلك ميل أو نحوه، فإن استبقا
بغير غاية لينظرا أيهما يقف أو لا لم يجز لأنه يؤدي إلى أن لا يقف أحدهما حتى ينقطع فرسه ويتعذر
الاشهاد على السبق فيه، يشترط في المسابقة إرسال الفرسين أو البعيرين دفعة واحدة فإن أرسل أحدهما
قبل الآخر ليعلم هل يدركه الآخر أولا؟ لم يجز هذا في المسابقة بعوض لأنه قد لا يدركه مع كونه
أسرع منه لبعد المسافة بينهما، ويكون عند أول المسافة من يشاهد ارسالها ويرتبهما وعند الغاية من
يضبط السابق منها لئلا يختلفا في ذلك، ويحصل السبق في الخيل بالرأس إذا تماثلت الأعناق فإن اختلفا
في طول العنق أو كان ذلك في الإبل اعتبر السبق بالكتف لأن الاعتبار بالرأس متعذر فإن طويل
العنق قد يسبق رأسه لطول عنقه لا لسرعة عدوه وفي الإبل ما يرفع رأسه وفيها ما يمد عنقه فربما سبق
رأسه لمد عنقه لا لسبقه فلذلك اعتبرنا الكتف فإن سبق رأس فقصير العنق فهو سابق لأن من ضرورة
ذلك كونه سابقا وإن سبق طويل العنق بأكثر مما بينهما في طول العنق فقد سبق وإن كان بقدره لم
يسبقه وإن كان أقل فالآخر السابق ونحو هذا كله قول الشافعي، وقال الثوري إذا سبق أحدهما
بالاذن كان سابقا ولا يصح لأن أحدهما قد يرفع رأسه ويمد الآخر عنقه فيكون سابقا باذنه لذلك لا
لسبقه وان، شرطا السبق باقدام معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح، وقال بعض أصحاب
الشافعي يصح ويتخاطان ذلك كما في الرمي وليس بصحيح لأن هذا لا ينضبط ولا يقف الفرسان عند
الغاية بحيث يعرف مساحة ما بينهما
137

وقد روى الدارقطني باسناده عن علي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي " قد جعلت لك
هذه السبقة بين الناس " فخرج علي فدعا سراقة بن مالك فقال يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل
النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك فإذا أتيت الميطان - قال أبو عبد الرحمن الميطان مرسلها
من الغاية - فصف الخيل ثم ناد هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل فإذا لم يجبك أحد
فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة فيسعد الله بسبقه من شاء من خلقه، وكان علي يقعد على منتهى الغاية
يخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفيه بين ابهامي أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين
ويقول لهما إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه أو اذن أو عذار فاجعلا السبقة له فإن
شككتما فاجعلوا سبقهما نصفين فإذا قرنتم ثنتين فاجعلا الغاية من غاية أصغر الثنتين ولا جلب ولا جنب
ولا شغار في الاسلام، وهذا الأدب الذي ذكره في هذا الحديث في ابتداء الارسال وانتهاء الغاية
من أحسن ما قيل في هذا وهو مروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في قضية أمره بها رسول
الله صلى الله عليه وسلم وفوضها إليه فينبغي أن تتبع ويعمل بها
(فصل) ويشترط في الرهان أن تكون الدابتان من جنس واحد فإن كانا من جنسين كالفرس
والبعير لم يجز لأن البعير لا يكاد يسبق الفرس فلا يحصل الغرض من هذه المسابقة وان كانا من نوعين
كالعربي والبرذون أو البختي والعرابي ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يصح ذكره أبو الخطاب لأن التفاوت بينهما في الجري معلوم بحكم العادة فاشبها
الجنسين (والثاني) يصح ذكره القاضي وهذا مذهب الشافعي لأنهما من جنس واحد، وقد
يسبق كل واحد منهما الآخر والضابط الجنس وقد وجد ويكفي في المظنة احتمال الحكمة ولو على بعد
138

(فصول في المناضلة)
وهي المسابقة في الرمي بالسهام، والمناضلة مصدر ناضلته نضالا ومناضلة وسمي الرمي نضالا لأن
السهم التام يسمى نضلا فالرمي به عمل بالنضل فسمي نضالا ومناضلة مثل قاتلته قتالا ومقاتلة وجادلته
جدالا ومجادلة ويشترط لصحته ثمانية شروط:
(أحدهما) أن يكون عدد الرشق معلوما والرشق بكسر الراء عدد الرمي وأهل اللغة يقولون هو
عبارة عما بين العشرين والثلاثين والرشق بفتح الراء الرمي نفسه مصدر رشقت رشقا أي رميت
رميا وإنما اشترط علمه لأنه لو كان مجهولا لافضى إلى الخلاف لأن أحدهما يريد القطع والآخر
يريد الزيادة فيختلفان.
(الثاني) أن يكون عدد الإصابة معلوما فيقولان الرشق عشرون والإصابة خمسة أو ستة أو
ما يتفقان عليه منها الا أنه لا يجوز اشتراط إصابة نادرة كإصابة جميع الرشق أو إصابة تسعة أعشاره ونحو
هذا لأن الظاهر أن هذا لا يوجد فيفوت الغرض.
(الثالث) استواؤهما في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي، فإن جعلا رشق أحدهما
عشرة والآخر عشرين أو شرطا ان يصيب أحدهما خمسة والآخر ثلاثة، أو شرطا إصابة أحدهما
خواسق والآخر خواصل أو شرطا ان يحط أحدهما من اصابته سهمين أو يحط سهمين من اصابته
بسهم من إصابة صاحبه، أو شرطا ان يرمي أحدهما من بعد والآخر من قرب أو ان يرمي أحدهما
وبين أصابعه سهم والآخر بين أصابعه سهمان، أو ان يرمي أحدهما وعلى رأسه شئ والآخر خال
139

عن شاغل أو ان يحط عن أحدهما واحدا من خطئه لا له ولا عليه وأشباه هذا مما تفوت به المساواة لم يصح
لأن موضوعها على المساواة والغرض معرفة الحذق وزيادة أحدهما على الآخر فيه ومع التفاضل لا
يحصل فإنه ربما أصاب أحدهما لكثرة رميه لا لحذقه فاعتبرت المساواة كالمسابقة على الحيوان
(الرابع) أن يصفا الإصابة فيقولان خواصل وهو المصيب للغرض كيفما كان قال الأزهري
يقال خصلت مناضلي خصلة وخصلا ويسمى ذلك القرع والقرطسة يقال قرطس إذا أصاب. أو حوابي
وهو ما وقع بين يدي الغرض ثم وثب إليه ومنه يقال حبا الصبي. أو خواصر وهو ما وقع في أحد
جانبي الغرض ومنه قيل الخاصرة لأنها في جانب الانسان. أو خوارق وهو ما خرق الغرض ثم
وقع بين يديه. أو خواسق وهو ما خرق الغرض وثبت فيه. أو موارق وهو ما أنفذ الغرض ووقع من
ورائه. أو خوازم وهو ما خزم جانب الغرض وان شرطا الخواسق والحوابي معا أصح
(الخامس) قدر الغرض والغرض هو ما يقصد اصابته من قرطاس أو ورق أو جلد أو خشب
أو قرع أو غيره ويسمى غرضا لأنه يقصد ويسمى شارة وشنا قال الأزهري ما نصب في الهدف فهو
القرطاس وما نصب في الهواء فهو الغرض ويجب أن يكون قدره معلوما بالمشاهدة أو بتقديره بشبر
أو شبرين بحسب الاتفاق فإن الإصابة تختلف باختلاف سعته وضيقه
(السادس) معرفة المسافة اما بالمشاهدة أو بالذرعان فيقول مائة ذراع أو مائتي ذراع لأن الإصابة
تختلف بقربها وبعدها ومهما اتفقا عليه جاز لا ان يجعلا مسافة بعيدة تتعذر الإصابة في مثلها وهو
ما زاد على ثلاثمائة ذراع فلا يصح لأن الغرض يفوت بذلك وقد قيل إنه ما رمى إلى أربعمائة ذراع الا
عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه
140

(السابع) تعيين الرماة فلا يصح مع الابهام لأن الغرض معرفة حذق الرامي بعينه لا معرفة
حذق رام في الجملة، ولو عقد اثنان نضالا على أربع مع كل واحد منهما ثلاثة لم يجز لذلك، ولا يشترط
تعيين القوس والسهام، ولو عينها لم تتعين لأن القصد معرفة الحذق وهذا لا يختلف الا بالرامي لا باختلاف
القوس والسهام وفي الرهان يعتبر تعيين الحيوان الذي يسابق به ولا يعتبر تعيين الراكب لأن
الغرض معرفة عدو الفرس لا حذق الراكب وكل ما يعتبر تعينيه إذا تلف انفسخ العقد ولم يقم غيره
مقامه لأن العقد تعلق بعينه فانفسخ بتلف العين ولان الغرض معرفة حذق الرامي أو عدو الفرس
وقد فاتت معرفة ذلك بموته ولا يعرف حذقه من غيره وما لا يتعين يجوز ابداله لعذر وغيره فإذا
تلف قام غيره مقامه فإن شرطا ان لا يرمى بغير هذا القوس ولا بغير هذا السهم أو لا يركب غير
هذا الراكب فهذه شروط فاسدة لأنها تنافي مقتضى العقد أشبهت ما إذا شرط إصابة بإصابتين
(الثامن) أن تكون المسابقة في الإصابة ولو قالا السبق لا بعدنا رميا لم يجز لأن الغرض من
الرمي الإصابة لا بعد المسافة فإن المقصود من الرمي اما قتل العدو أو جرحه أو الصيد أو نحو ذلك
وكل هذا إنما يحصل من الإصابة لا من الابعاد
(فصل) والمناضلة على ثلاثة أضرب
(أحدها) تسمى المبادرة وهو ان يقولا من سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية فهو السابق
فأيهما سبق إليها مع تساويهما في الرشق فقد سبق فإذا رميا عشرة عشرة فأصاب أحدهما خمسا ولم
يصب الآخر خمسا فالمصيب خمسا هو السابق لأنه قد سبق إلى خمسة وسواء أصاب الآخر أربعا أو
141

ما دونها أو لم يصب شيئا ولا حاجة إلى اتمام الرشق لأن السبق قد حصل بسبقه إلى ما شرطا السبق
إليه، وإن أصاب كل واحد منهما من العشر خمسا فلا سابق فيهما ولا يكملان الرشق لأن جميع
الإصابة المشروطة قد حصلت واستويا فيها فإن رمى أحدهما عشرا فأصاب خمسا ورمى الآخر
تسعا فأصاب أربعا لم يحكم بالسبق ولا بعدمه حتى يرمي العاشر فإن أخطأ به فقد سبق الأول، وان
أصاب به فلا سابق فيهما، وإن لم يكن أصاب من التسعة الا ثلاثا فقد سبقه الأول ولا يحتاج إلى
رمي العاشر لأن أكثر ما يحتمل أنه يصيب به ولا يخرجه ذلك عن كونه مسبوقا
(الضرب الثاني) أن يقول أينا فضل صاحبه بإصابة أو إصابتين أو ثلاث من عشرين رمية
فقد سبق ويسمى مفاضلة ومحاطة لأن ما تساويا فيه من الإصابة محطوط غير ممتد به ويلزم اكمال
الرشق إذا كان في اتمامه فائدة فإذا قالا أينا فضل صاحبه بثلاث فهو سابق فرميا اثنتي عشرة رمية
فأصابها أحدهما وأخطأها الآخر كلها لم يلزم اتمام الرشق لأن أكثر ما يحتمل ان يصيب الآخر
الثماني الباقية ويحطها الأول ولا يخرج الأول بهذا عن كونه سابقا، وإن كان الأول إنما أصاب من
الاثنتي عشرة عشرا لزمهما ان يرميا الثالثة عشرة فإن أصاباها أو أخطأ أو أصابها الأول وحده فقد سبق
ولا يحتاج إلى إتمام الرشق، فإن أصابها الآخر وأخطأها الأول فعليهما أن يرميا الرابعة عشرة والحكم
فيها وفيما بعدها كالحكم في الثالثة عشرة وانه متى أصاباها أو أخطأ أو أصابها الأول فقد سبق ولا يرميان
ما بعدها وان أصابها الآخر وحده رميا ما بعدها وهكذا كل موضع كان في اتمام الرشق فائدة لأحدهما لزم
اتمامه وان يئس من الفائدة لم يلزم اتمامه، فإذا بقي من العدد ما يمكن أن يسبق أحدهما به صاحبه أو يسقط
أحدهما به سبق صاحبه لزم الاتمام والا فلا، فإذا كل السبق يحصل بثلاث إصابات من عشرين
142

فرميا ثماني عشرة فأخطأها أو أصاباها أو تساويا في الإصابة فيها لم يلزم اتمام الرشق لأن أكثر
ما يحتمل أن يصيب أحدهما هاتين الرميتين ويخطئهما الآخر ولا يحصل السبق بذلك: وكذلك أن
فضل أحدهما الآخر بخمس إصابات فما زاد لم يلزم الاتمام لأن إصابة الآخر بالسهمين الباقيين لا يخرج
الآخر عن كونه فاضلا بثلاث إصابات، وان لم يفضله الا بأربع رميا السهم الآخر، فإن اصابه
المفضول وحده فعليهما رمي الآخر فإن أصابه المفضول أيضا سقط سبق الأول، وان أخطأ في
أحد السهمين أو أصاب الأول في أحدهما فهو سابق
(فصل) [الثالث] أن يقولا أينا أصاب خمسا من عشرين فهو سابق فمتى أصاب أحدهما خمسا
من العشرين ولم يصبها الآخر فالأول سابق، وان أصاب كل واحد منهما خمسا أو لم يصب واحد
منهما خمسا فلا سابق فيهما وهذه في معنى المحاطة في أنه يلزم اتمام الرشق ما كان في اتمامه فائدة، فإذا
خلا عن الفائدة لم يلزم اتمامه ومتى أصاب كل واحد منهما خمسا لم يلزم اتمامه ولم يكن فيهما سابق
فإن رميا ست عشرة رمية ولم يصب واحد منهما شيئا لم يلزم اتمامه ولا سابق فيهما ان أكثر ما
يحتمل أن يصيب أحدهما الأربعة كلها ولا يحصل السبق بذلك
واختلف أصحابنا فقال أبو الخطاب لابد من معرفة الرمي هل هو مبادرة أو محاطة أو مفاضلة؟
لأن غرض الرماة يختلف فمنهم من تكثر اصابته في الابتداء دون الانتهاء ومنهم من هو بالعكس
فوجب بيان ذلك ليعلم ما دخل فيه، وظاهر كلام القاضي انه لا يحتاج إلى اشتراط ذلك لأن مقتضى
النضال المبادرة وان من بادر إلى الإصابة فهو السابق فإنه إذا شرط ان السبق لمن أصاب خمسة من
عشرين فسبق إليها واحد فقد وجد الشرط. ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
143

(فصل) فإن شرطا إصابة موضع من الهدف على أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد
من إصابة الآخر ففعل ثم فضل أحدهما الآخر بما شرطاه كان سابقا ذكره القاضي وهو مذهب
الشافعي لأن هذا نوع من المحاطة فإذا أصاب أحدهما موضعا بينه وبين الغرض شبر وأصاب الآخر
موضعا بينه وبين الغرض أقل من شبر أسقط الأول وان أصاب الأول الغرض أسقط الثاني فإن
أصاب الثاني الدائرة التي في الغرض لم يسقط به الأول لأن الغرض كله موضع للإصابة فلا يفضل
أحدهما صاحبه إذا أصاباه جميعا الا ان يشترطا ذلك، وان شرطا ان يحسب كل واحد منهما خاسقه
بإصابتين جاز لأن أحدهما لم يفضل صاحبه في شئ فقد استويا
(فصل) والسنة أن يكون لهما غرضان يرميان أحدهما ثم يمضيان إليه فيأخذان السهام يرميان
الآخر لأن هذا كان فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة " وقال إبراهيم التيمي رأيت حذيفة يشتد بين
الهدفين يقول إنابها انابها في قميص، وعن ابن عمر مثل ذلك والهدف ما ينصب الغرض عليه إما تراب مجموع
واما حائط. ويروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انهم كانوا يشتدون بين الأغراض
يضحك بعضهم إلى بعض فإذا جاء الليل كانوا رهبانا. فإن جعلوا غرضا واحدا جاز لأن المقصود
يحصل به وهو عادة أهل عصرنا
ولابد في المناضلة ان يبتدئ أحدهما بالرمي لأنهما لو رميا معا افضى إلى الاختلاف ولم يعرف
144

المصيب منهما فإن كان المخرج أجنبيا قدم من يختاره منهما فإن لم يختر وتشاحا أقرع بينهما وأيهما
كان أحق بالتقديم فبدره الآخر فرمى لم يعتد له بسهمه أصاب أو أخطأ وإذا بدأ أحدهما في وجه
بدأ الآخر في الثاني تعديلا بينهما، وان شرطا البداءة لأحدهما في كل الوجوه لم يصح لأن موضوع
المناضلة على المساواة وهذا تفاضل فإن فعل ذلك من غير شرط باتفاق منهما جاز لأن البداءة لا أثر
لها في الإصابة ولا في تجويد الرمي، وان شرطا أن يبدأ كل واحد منهما من وجهين متواليين جاز
لتساويهما، ويحتمل أن يكون اشتراط البداءة في كل موضع ذكرنا غير لازم ولا يؤثر في العقد
لأنه لا أثر له في تجويد رمي ولا كثرة إصابة، وكثير من الرماة يختار التأخر على البادية فيكون وجود
هذا الشرط كعدمه فإذا رمى البادئ بسهم رمى الثاني بسهم كذلك حتى يقضيا رميهما لأن اطلاق
المناضلة يقتضي المراسلة ولان ذلك أقرب إلى التساوي وأنجز للرمي لأن أحدهما يصلح قوسه ويعدل
سهمه حتى يرمي الآخر، وان رميا بسهمين سهمين فحسن وهو العادة بين الرماة فيما رأينا، وان
اشترطا أن يرمي أحدهما رشقا ثم يرمي الآخر أو يرمي أحدهما عددا ثم يرمي الآخر مثله جاز لأن هذا لا يؤثر
في مقصود المناضلة وان خالف مقتضى الاطلاق كما يجوز أن يشترط في البيع ما لا يقتضيه الاطلاق من النقود
والخيار والأجل لما كان غير مانع من المقصود
(فصل) وان شرطا أن يرميا ارشاقا كثيرة جاز لأنه إذا جاز على القليل جاز على الكثير
ولابد أن تكون معلومة ثم إن شرطا أن يرميا منها كل يوم قدرا اتفقا عليه جاز لأن الغرض في
هذا صحيح فإنهما أو أحدهما قد يضعف عن الرمي كله مع حذقه، وان أطلقا العقد جاز وحمل على
145

التعجيل والحلول كسائر العقود فيرميان من أول النهار إلى آخره الا أن يعرض عذر يمنع من مرض
أو ريح أو تشوش السهام أو لحاجته إلى طعام أو شراب أو صلاة أو قضاء حاجة لأن هذه مستثناة
بالعرف وكذلك المطر فإنه يرخي الوتر ويفسد الرشق فإذا جاء الليل تركاه لأن العادة ترك الرمي
بالليل فحمل العقد عليه مع الاطلاق الا أن يشترطا الرمي ليلا فيأخذ أحدهما صاحبه بذلك وان كانت
الليلة مقمرة منيرة اكتفي بذلك والا رميا في ضوء شمعة أو مشعل، وان عرض عارض يمنع الرمي كما
ذكرنا أو كسر قوس أو قطع وتر أو انكسر سهم جاز إبداله فإن لم يمكن أخر الرمي حتى يزول العارض
(فصل) فإن أراد أحدهما التطويل والتشاغل عن الرمي بما لا حاجة إليه من مسح القوس والوتر ونحو
ذلك إرادة التطويل على صاحبه لعله ينسى القصد الذي أصاب به أو يفتر منع من ذلك وطولب بالرمي
ولا يدهش بالاستعجال بالكلية بحيث يمنع من تحري الإصابة ويمنع كل واحد منهما من الكلام
الذي يغيظ به صاحبه مثل أن يرتجز ويفتخر ويتبجح بالإصابة ويعنف صاحبه على الخطأ أو يظهر له
أنه يعلمه، وهكذا الحاضر معهما مثل الأمير والشاهدين وغيرهم يكره لهم مدح المصيب وزهزهته وتعنيف
المخطئ وزجره لأن فيه كسر قلب أحدهما وغيظه
(فصل) وإذا تشاحا في موضع الوقوف فإن كان ما طلبه أحدهما أولى مثل أن يكون في أحد الموقفين يستقبل
الشمس أو ريحا يؤذيه استقبالها ونحو ذلك والآخر يستدبرها قدم قول من طلب استدبارها لأنه العرف الا
أن يكون في شرطهما استقبال ذلك فالشرط أملك كما قلنا في الرمي ليلا، وإن كان الموقفان سواء كان ذلك
إلى الذي له البداءة فيتبعه الآخر فإذا كان في الوجه الثاني وقف حيث شاء ويتبعه الأول
146

(فصل) ويجوز عقد النضال على جماعة لأنه يروى ان النبي صلى الله عليه وسلم مر على أصحاب له ينتضلون
فقال " ارموا وأنا مع ابن الأدرع " فأمسك الآخرون وقالوا كيف نرمي وأنت مع ابن الأدرع؟
قال " ارموا وأنا معكم كلكم " رواه البخاري ولأنه إذا جاز أن يكونا اثنين جاز أن يكونوا جماعتين لأن
المقصود معرفة الحذق وهذا يحصل في الجماعتين فجاز كما في سباق الخيل، وقد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم
سبق بين الخيل المضمرة وسبق بين الخيل التي لم تضمر وعلى هذا يكون كل حزب بمنزلة واحد فإن
عقد النضال جماعة ليتناضلوا حزبين فذكر القاضي أنه يجوز وهو مذهب الشافعي ويحتمل أن لا
يجوز لأن التعيين شرط وقبل التفاضل لم يتعين من في كل واحد من الحزبين فعلى هذا إذا تفاضلوا
عقدوا النضال بعده وعلى قول القاضي يجوز العقد قبل التفاضل ولا يجوز أن يقتسموا بالقرعة لأنها
ربما وقعت على الحذاق في أحد الحزبين وعلى الكوادن في الآخر فيبطل مقصود النضال بل يكون لكل
حزب رئيس فيختار أحدهما واحدا ثم يختار الآخر واحدا كذلك حتى يتفاضلوا جميعا ولا يجوز أن يجعل
الخيار إلى أحدهما في الجميع ولا أن يختار جميع حزبه أولا لأنه يختار الحذاق كلهم في حزبه ولا يجوز
أن يجعل رئيس الحزبين واحدا لأنه يميل إلى حزبه فتلحقه التهمة، ولا يجوز ان يختار كل واحد من
الرئيسين أكثر من واحد لأنه أبعد من التساوي وإذا اختلفا في المبتدئ بالخيار منهما أقرع بينهما
ولو قال أحدهما أنا أختار أولا وأخرج السبق أو يخرجه أصحابي لم يجز لأن السبق إنما يستحق بالسبق
لا في مقابلة تفضل أحدهما بشئ
147

(فصل) وإذا خرج أحد الزعيمين أسبق من عنده فسبق حزبه لم يكن على حزبه شئ لأنه
جعله على نفسه دونهم وان شرطه عليهم فهو عليهم بالسوية ويكون للحزب الآخر بالسوية من أصاب
منهم ومن لم يصب في أحد الوجهين كما أنه على الحزب الآخر بالسوية، وفي الوجه الآخر يقسم بينهم
على قدر الإصابة وليس لمن لم يصب منهم شئ لأن استحقاقه بالإصابة فكان على قدرها واختص
بمن وجدت منه بخلاف المسبوقين فإنه وجب عليهم لالتزامهم له وقد استووا في ذلك
(فصل) ومتى كان النضال بين حزبين اشترط كون الرشق يمكن قسمه بينهم بغير كسر
ويتساوون فيه فإن كانوا ثلاثة وجب أن يكون له ثلث، وان كانوا أربعة وجب أن يكون له ربع
وكذلك ما زاد لأنه إذا لم يكن كذلك بقي سهم أو أكثر لا يمكن الجماعة الاشتراك فيه
(فصل) وإذا كانوا حزبين فدخل معهم رجل لا يعرفونه في أحد الحزبين وكان يحسن الرمي
جاز وإن كان لا يحسنه بطل العقد فيه واخرج من الحزب الآخر بإزائه لأن كل واحد
148

يجعل في مقابلته آخر أو يختار أحد الزعيمين واحدا ويختار الآخر آخر في مقابلته وهل يبطل في
الباقين؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة، فإن قلنا لا يبطل فلكل حزب الخيار لتبعيض الصفقة في
حقهم، وان بان راميا لكنه قليل الإصابة فقال حزبه ظنناه كثير الإصابة أو لم نعلم حاله أو بان كثير
الإصابة فقال الحزب الآخر ظنناه قليل الإصابة لم يسمع ذلك منهم وكان كمن عرفوه لأن شرط دخوله
أن يكون في العقد من أهل الصنعة دون الحذق كما لو اشترى عبدا على أنه كاتب فبان حاذقا أو ناقصا فيها لم يؤثر
(فصل) ولا يجوز أن يقولوا نقرع فمن خرجت قرعته فهو السابق ولا ان من خرجت قرعته
فالسبق عليه ولا أن يقولوا نرمي فأينا أصاب فالسبق على الآخر لأنه عوض في عقد فلا يستحق
بالقرعة ولا بالإصابة، وان شرطوا أن يكون فلان مقدم حزب وفلا ن مقدم الآخر ثم فلان ثانيا من
الحزب الأول وفلان ثانيا من الحزب الثاني كان فاسدا لأن تقديم كل واحد من الحزب يكون إلى
زعيمه وليس للحزب الآخر مشاركته في ذلك فإذا شرطوه كان فاسدا
(فصل) وإذا تناضل اثنان وأخرج أحدهما السبق فقال أجنبي انا شريكك في الغنم والغرم ان نضلك
فنصف السبق علي وان نضلته فنصفه لي لم يجز وكذلك لو كان المتناضلون ثلاثة فيهم محلل فقال
رابع للمستبقين أنا شريككما في الغنم والغرم كان باطلا لأن الغنم والغرم إنما يكون من المناضل فاما من لا يرمي
149

فلا يكون له غنم ولا غرم، ولو شرطا في النضال انه إذا جالس المسبق كان عليه السبق لم يجز لأن السبق على
النضال وهذا الشرط يخالف مقتضى النضال فكان فاسدا
(فصل) ولو فضل أحد المتناضلين صاحبه فقال المفضول اطرح فضلك وأعطيك دينارا لم يجز
لأن المقصود معرفة الحذق وذلك يمنع منه وان فسخا لعقد وعقد عقدا آخر جاز وان لم يفسخاه ولكن رميا تمام
الرشق فتمت الإصابة له مع ما أسقطه استحق السبق ورد الدينار إن كان أخذه
(فصل) إذا كان شرطهما خواصل وهي الإصابة المطلقة اعتد بها كيفما وجدت بشرط أن
يصيب بنصل السهم فإن أصاب بعرضه أو بفوقه نحو أن ينقلب السهم بين يدي الغرض فيصيب
فوقه الغرض لم يعتد به لأن هذا من سيئ الخطأ، وان انقطع السهم قطعتين فأصابت القطعة الأخرى لم
يحتسب به فإن كان الغرض جلدا خيط عليه شنبر كشنبر المنخل، وجعلا له عرى وخيوطا تعلق
به في العرى فأصاب الشنبر أو العرى نظرت في شرطهما فإن شرطا إصابة الغرض اعتد له لأن ذلك
من الغرض. فاما المعاليق وهي الخيوط فلا يعتد له بإصابتها على كلا الشرطين لأنها ليست من
الجلدة ولا من الغرض فأشبه إصابة الهدف
150

(فصل) وان أطارت الريح الغرض فوقع السهم في موضعه فإن كان شرطهما خواصل احتسب
لغة به لعلمنا أنه لو كان الغرض في موضعه أصابه، وإن كان شرطهما خواسق فقال القاضي ينظر فإن
كانت صلابة الهدف كصلابة الغرض فثبت في الهدف احتسب له به لأنه لو بقي مكانه لثبت فيه كثبوته
في الهدف، وان لم يثبت فيه مع التساوي لم يحتسب، وإن كان الهدف أصلب فلم يثبت فيه أو كان
رخوا لم يحتسب السهم له ولا عليه لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض لو بقي مكانه أولا وهذا
مذهب الشافعي، وقال أبو الخطاب إن كان شرطهما خواسق لم يحتسب له بالسهم الذي وقع في
موضعه ولا عليه لأننا لا ندري هل يثبت في الغرض لو كان موجودا أولا؟ وان وقع السهم في
غير موضع الغرض احتسب به على راميه لأنه خطأ، ولو وقع في الغرض في الموضع الذي طار إليه
حسب عليه أيضا لاله إلا أن يكونا اتفقا على رميه في الموضع الذي طار إليه، وكذلك الحكم إذا
ألقت الريح الغرض على وجهه
(فصل) وإذا رمى فأخطأ لعارض من كسر قوس أو قطع وتر أو حيوان اعترض بين يديه
أو ريح شديدة ترد السهم غرضا لم يحسب عليه بذلك السهم لأن خطأه للعارض لا لسوء رميه قال
151

القاضي ولو أصاب لم يحتسب له لأنه إذا لم يحتسب عليه لم يحتسب له ولان الريح الشديدة كما يجوز أن
تصرف الرمي الشديد فيخطئ يجوز أن تصرف السهم المخطئ عن خطئه فيقع مصيبا فتكون اصابته بالريح
لا بحذق رميه، فاما ان وقع السهم في حائل بينه وبين الغرض فمرقه وأصاب الغرض حسب له لأن
اصابته لسداد رميه، ومروقه لقوته فهو أولى من غيره، وان كانت الريح لينة خفيفة لا ترد السهم
عادة لم يمنع لأن الجو لا يخلو من ريح ولان الريح اللينة لا تؤثر إلا في الرمي الرخو الذي لا ينتفع به
(فصل) وإن كان شرطهما خواسق والخاسق ما ثقب الغرض وثبت فيه فمتى أصاب الغرض بنصله
وثبت فيه حسب له وان خدشه ولم يثقبه لم يحتسب له وحسب به عليه وان مرق منه احتسب له به لأن ذلك
لقوة رميه فهو أبلغ من الخاسق وان خرقه وهو أن يثقبه ويقع بين يديه ففيه وجهان
[أحدهما] يحتسب له لأنه ثقب ثقبا يصلح للخسق وإنما لم يثبت السهم لسبب آخر من سعة
الثقب أو غيره [والثاني] لا يحتسب له لأن شرطهما الخواسق والخاسق ما ثبت وثبوته يكون بحذق
الرامي وقصده برميه ما اتفقا عليه، فإن كان امتناع السهم من الثبوت لمصادفته ما يمنع الثبوت من حصاة
152

أو حجر أو عظم أو أرض غليظة ففيه الوجهان الا انه إذا لم يحتسب له لم يعد عليه لأن العارض منعه
من الثبوت فأشبه ما لو منعه عارض من الإصابة، وان اختلفا في وجود العارض نظرت فإن علم موضع
الثقب باتفاقهما أو ببينة نظر في الموضع فإن لم يكن فيه ما يمنع فالقول قول المنكر وإن كان فيه ما يمنع
فالقول قول المدعي ولا يمين لأن الحال تشهد بصدق ما ادعاه، وان لم يعلما موضع الثقب الا انهما
اتفقا على أنه خرق الغرض ولم يكن وراءه شئ يمنع فالقول قول المنكر بغير يمين أيضا لأنه لا مانع،
وإن كان وراءه ما يمنع وادعى المصاب عليه انه لم يكن السهم في موضع وراءه ما يمنع فالقول قوله مع
يمينه لأن الأصل عدم الإصابة مع احتمال ما يقوله المصيب وان أنكر أن يكون خرق أيضا فالقول أيضا
قوله مع يمينه لما ذكرناه
(فصل) وان شرطا خاسقا فوقع السهم في نقب في الغرض أو موضع بال فنقبه وثبت في
الهدف معلقا في الغرض نظرت فإن كان الهدف صليبا كصلابة الغرض فثبت فيه حسب له لأنه علم
153

ان الغرض لو كان صحيحا لثبت فيه وإن كان الهدف ترابا أهيل لم يحتسب له ولا عليه لأننا لا نعلم
هل كان يثبت في الغرض لو أصاب موضعا منه قويا أو لا؟ وان صادف السهم في ثقب في الغرض
قد ثبت في الهدف مع قطعة من الغرض فقال الرامي خسفت وهذه الجلدة قطعها سهمي لشدة الرمية
فأنكر صاحبه وقال بل هي كانت مقطوعة، فإن علم أن الغرض كان صحيحا فالقول قول الرامي،
وان اختلفا فذكر القاضي انها كالتي قبلها إن كان الهدف رخوا لم يعتد به وإن كان قويا صلبا اعتد
به، وان وقع سهمه في سهم ثابت في الغرض اعتد له به فإن كان شرطهما خواسق لم يحتسب له به ولا عليه
لأننا لا نعلم يقينا انه لولا فوق السهم الثابت لخسق فإن أصاب السهم ثم صبح عنه فخسق احتسب له به
(فصل) إذا قال رجل لآخر: ارم هذا السهم فإن أصبت به فلك درهم صح وكان جعالة
لأنه بذل مالا له في فعل له فيه غرض صحيح ولم يكن هذا نضالا لأن النضال يكون بين اثنين أو جماعة
على أن يرموا جميعا ويكون الجعل لبعضهم إذا كان سابقا، وان قال إن أصبت به فلك درهم وان
أخطأت فعليك درهم لم يصح لأنه قمار
وان قال ارم عشرة أسهم فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك درهم صح لأنه جعل الجعل
154

في مقابلة الإصابة المعلومة فإن أكثر العشرة أقله ستة وليس ذلك بمجهول لأنه بالأقل يستحق الجعل
وان قال إن كان صوابك أكثر فلك بكل سهم أصبت به درهم صح وكذلك أن قال ارم عشرة
ولك بكل سهم أصبت به منها درهم أو قال فلك بكل سهم زائد على النصف من المصيبات درهم لأن
الجعل معلوم بتقديره بالإصابة فأشبه ما لو قال استق لي من هذا البئر ولك بكل دلو تمرة أو قال:
من رد عبدا من عبيدي فله بكل عبد درهم. وان قال وإن كان خطؤك أكثر فعليك درهم
أو نحو هذا لم يجز لأنه قمار وان قال ارم عشرة فإن أخطأتها فعليك درهم أو نحو هذا لم يجز لأن الجعل يكون في مقابلة
عمل ولم يوجد من المقابل عمل يستحق به شيئا ولو قال الرامي لأجنبي ان أخطأت فلك درهم لم يصح لذلك
(فصل) وإذا عقدا النضال ولم يذكرا قوسا فظاهر كلام القاضي انه يصح ويستويان في القوس
إما العربية وإما العجمية. وقال غيره لا يصح حتى يذكرا نوع القوس الذي يرميان عليه في الابتداء
155

لأن اطلاقه ربما أفضى إلى الاختلاف وقد أمكن التحرز عنه بالتعيين للنوع فيجب ذلك وإن
اتفقا على أنهما يرميان بالنشاب في الابتداء صح وينصرف إلى الرمي بالقوس الأعجمية لأن سهامها
هو المسمى بالنشاب وسهام العربية يسمى نبلا، فإن عينا نوعا من القسي لم يجز العدول عنها إلى غيرها
لأن أحدهما قد يكون احذق بالرمي بأحد النوعين دون الآخر وان عينا قوسا بعينها لم تتعين لأنها
قد تنكسر ويحتاج إلى ابدالها لأن الخذق لا يختلف باختلاف عين القوس بخلاف النوع، وان تناضلا
على أن يرمي أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو أحدهما بقوس الزنبور والآخر بقوس الجرخ أو
قوس الحسبان وهو قوس سهامه قصار يجعل في مجرى مثل القصبة ثم يرمى بها ففيها وجهان:
(أحدهما) يصح وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنهما نوعا جنس فصحت المسابقة مع
اختلافهما كالخيل والإبل.
156

(والثاني) لا تصح المسابقة مع اختلافهما لأنهما يختلفان في الإصابة فجري مجرى المسابقة بين جنسين
وكذلك الحكم في المسابقة بين نوعي الخيل والإبل
(فصل) وظاهر كلام احمد إباحة الرمي بالقوس الفارسية ونص على جواز المسابقة بها، وقال أبو بكر
ابن جعفر يكره لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى مع رجل قوسا فارسية فقال " القها فإنها
ملعونة ولكن عليكم بالقسي العربية وبرماح القنا فيها يؤيد الله الدين وبها يمكن الله لكم في
الأرض " رواه الأثرم
ولنا انعقاد الاجماع على الرمي بها وإباحة حملها فإن ذلك جار في أكثر الاعصار وهي التي يحصل
الجهاد بها في عصرنا وأكثر الاعصار المتقدمة وأما الخبر فيحتمل أنه لعنها لأن حملتها في ذلك
العصر العجم ولم يكونوا أسلموا بعد ومنع العرب من حملها لعدم معرفتهم بها ولهذا أمر برماح
القنا ولو حمل انسان رمحا غيرها لم يكن مذموما، وحكى احمد أن قوما استدلوا على القسي
157

الفارسية بقول الله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) يعني ان هذا مما استطاعه من القوة
فيدخل في عموم الآية
(مسألة) قال (ولا يجوز اما أرسل الفرسان ان يجنب أحدهما إلى فرسه فرسا
يحرضه على العدو ولا يصيح به وقت سباقه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا جنب ولا جلب ")
معنى الجنب أن يجنب المسابق إلى فرسه فرسا لا راكب عليه يحرض الذي تحته على العدو ويحثه
عليه هذا ظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي معناه ان يجنب فرسا يتحول عند الغاية عليه لكونها أقل
كلالا وإعياء. قال ابن المنذر كذا قيل ولا أحسب هذا يصح لأن الفرس التي يسابق عليها لابد
158

من تعيينها فإن كانت التي يتحول عنها فما حصل السبق بها وان كانت التي يتحول إليها فما حصلت
المسابقة بها في جميع الحلبة ومن شرط السباق ذلك ولان هذا متى احتاج إلى التحول والاشتغال
به فربما سبق باشتغاله لا سرعة غيره ولان المقصود معرفة عدو الفرس في الحلبة كلها فمتى كان إنما
يركبه في آخر الحلبة فما حصل المقصود. وأما الجلب فهو ان يتبع الرجل فرسه يركض خلفه
ويجلب عليه ويصيح وراءه يستحثه بذلك على العدو هكذا فسره مالك وقال قتادة الجلب والجنب
في الرهان، وروي عن أبي عبيد كقول مالك وحكي عنه ان معنى الجلب أن يحشر الساعي أهل
الماشية ليصدقهم قال فلا يفعل ليأتهم على مياههم فيصدقهم، والتفسير الأول هو الصحيح لما روى عمران
ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا جلب ولا جنب في الرهان " رواه أبو داود وفي حديث على
في السباق وفي آخره، ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام: ويروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا "
159

كتاب الايمان
الأصل في مشروعيتها وثبوت حكمها الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقول الله سبحانه
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) الآية وقال تعالى (ولا
تنقضوا الايمان بعد توكيدها) وامر نبيه صلى الله عليه وسلم بالحلف في ثلاثة مواضع فقال (ويستنبئونك أحق
هو؟ قل إي وربي انه لحق وما أنتم بمعجزين) وقال تعالى (قل بلى وربي لتأتينكم) والثالث (قل بلى
وربي لتبعثن) واما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا
منها الا أتيت الذي هو خير وتحللتها " متفق عليه وكان أكثر قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومصرف
القلوب - ومقلب القلوب " ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آي واخبار سوى هذين كثير، وأجمعت
الأمة على مشروعية اليمين وثبوت أحكامها ووضعها في الأصل لتوكيد المحلوف عليه
(فصل) وتصح من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين ولا تصح من غير مكلف كالصبي والمجنون
والنائم لقوله عليه السلام " رفع القلم عن ثلاث " ولأنه قول يتعلق وجوب حق فلم يصح من غير
160

مكلف أو غير مكلف ولا تنعقد يمين مكره وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة تنعقد لأنها
يمين مكلف فانعقدت كيمين المختار
ولنا ما روى أبو أمامة وواثلة بن الأسقع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس على مقهور يمين " ولأنه
قول حمل عليه بغير حق فلم يصح ككلمة الكفر
(فصل) وتصح اليمين من الكافر وتلزمه الكفارة بالحنث سواء حنث في كفره أو بعد إسلامه
وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر إذا حنث بعد إسلامه، وقال الثوري وأصحاب الرأي لا ينعقد
يمينه لأنه ليس بمكلف
ولنا أن عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام فأمره النبي صلى الله عليه وسلم
بالوفاء بنذره ولأنه من أهل القسم بدليل قوله تعالى (فيقسمان بالله) ولا نسلم أنه غير مكلف وإنما
تسقط عنه العبادات باسلامه لأن الاسلام يجب ما قبله فاما ما يلزمه بنذره أو يمينه فينبغي أو يبقى
حكمه في حقه لأنه من جهته
161

(فصل) ولا يجوز الحلف بغير الله وصفاته نحو أن يحلف بأبيه أو الكعبة أو صحابي أو إمام
قال الشافعي أخشى أن يكون معصية قال ابن عبد البر وهذا أصل مجمع عليه وقيل يجوز ذلك
لأن الله تعالى أقسم بمخلوقاته فقال (والصافات صفا والمرسلات عرفا - والنازعات غرقا)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي السائل عن الصلاة " أفلح وأبيه ان صدق " وقال في حديث أبي العشراء
" وأبيك لو طعنت في فخذها لأجزأك "
ولنا ما روي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم أدركه وهو يحلف بأبيه فقال " إن
الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " قال عمر فما حلفت بها بعد
ذلك ذاكرا، ولا آثرا متفق عليه يعني ولا حاكيا لها عن غيري، وعن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
" من حلف بغير الله فقد أشرك " قال الترمذي هذا حديث حسن وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من
حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حلف بملة
غير الاسلام كاذبا فهو كما قال " متفق عليه وفي لفظ " من حلف أنه برئ من الاسلام فإن كان قد
162

كذب فهو كما قال، وإن كان صادقا لم يرجع إلى الاسلام سالما " رواه أبو داود. فاما قسم الله
بمصنوعاته فإنما أقسم به دلالة على قدرته وعظمته، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ولا وجه للقياس
على إقسامه، وقد قيل إن في إقسامه اضمار القسم برب هذه المخلوقات فقوله (والضحى) أي ورب الضحى
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم " أفلح وأبيه ان صدق " فقال ابن عبد البر هذه اللفظة غير محفوظة من
وجه صحيح فقد رواه مالك وغيره من الحفاظ فلم يقولوها فيه، وحديث أبي العشراء قد قال احمد
لو كان يثبت؟ يعني انه لم يثبت ولهذا لم يعمل به الفقهاء في إباحة الذبح في الفخذ، ثم لو ثبت فالظاهر أن
النهي بعده لأن عمر قد كان يحلف بها كما حلف بها النبي صلى الله عليه وسلم ثم نهى عن الحلف بها ولم
يرد بعد النهي إباحة ولذلك قال عمر وهو يروي الحديث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فما حلفت بها
ذاكرا ولا آثرا. ثم إن لم يكن الحلف بغير الله محرما فهو مكروه فإن حلف فليستغفر الله تعالى أو
ليذكر الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف باللات والعزى فليقل لا إله الا الله " لأن الحلف
163

بغير الله سيئة والحسنة تمحو السيئة وقد قال الله تعالى [ان الحسنات يذهبن السيئات] وقال النبي
صلى الله عليه وسلم " إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها " ولان من حلف بغير الله فقد عظم غير الله
تعظيما يشبه تعظيم الرب تبارك وتعالى ولهذا سمي شركا لكونه أشرك غير الله مع الله تعالى في تعظيمه
بالقسم به فيقول لا إله إلا الله توحيدا لله تعالى وبراءة من الشرك، وقال الشافعي: من حلف بغير
الله تعالى فليقل أستغفر الله
(فصل) ويكره الافراط في الحلف بالله تعالى لقول الله تعالى [ولا تطع كل حلاف مهين]
وهذا ذم له يقتضي كراهة فعله، فإن لم يخرج إلى حد الافراط فليس بمكروه إلا أن يقترن به ما يوجب
كراهته. ومن الناس من قال الايمان كلها مكروهة لقول الله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم)
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف كثيرا وقد كان يحلف في الحديث الواحد أيمانا كثيرة وربما
كرر اليمين الواحدة ثلاثة فإنه قال في خطبة الكسوف " والله يا أمة محمد ما أحد أغير من الله ان يزني عبده أو
164

تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) ولقيته امرأة من الأنصار
معها أولادها فقال " والذي نفسي بيده انكم لأحب الناس إلي " ثلاث مرات وقال " والله لأغزون
قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا " ولو كان هذا مكروها لكان النبي صلى الله عليه وسلم أبعد
الناس منه، ولان الحلف بالله تعظيم له وربما ضم إلى يمينه وصف الله تعالى بتعظيمه وتوحيده فيكون
مثابا على ذلك، وقد روي أن رجلا حلف على شئ فقال والله الذي لا إله إلا هو ما فعلت كذا فقال
النبي صلى الله عليه وسلم " أما انه قد كذب ولكن قد غفر له بتوحيده " وأما الافراط في الحلف فإنما كره لأنه
لا يكاد يخلو من الكذب والله أعلم
فأما قوله (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم) فمعناه لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر والتقوى
والاصلاح بين الناس وهو أن يحلف بالله أن لا يفعل برا ولا تقوى ولا يصلح بين الناس ثم يمتنع من
فعله ليبر في يمينه ولا يحنث فيها فنهوا عن المضي فيها
165

قال أحمد وذكر حديث ابن عباس باسناده في قوله تعالى [ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم]
الرجل يحلف أن لا يصل قرابته وقد جعل الله له مخرجا في التكفير فأمره أن لا يعتل بالله فليكفر
وليبر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لأن يستلج أحدكم في يمينه آثم له عند الله من أن يؤدي الكفارة التي
فرض الله عليه " متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت
الذي هو خير وكفر عن يمينك " وقال " اني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت
الذي هو خير وتحللتها " متفق عليهما، وإن كان النهي عاد إلى اليمين فالمنهي عنه الحلف على ترك البر
والتقوى والاصلاح بين الناس لا على كل يمين فلا حجة فيها لهم إذا
(فصل) والايمان تنقسم خمسة أقسام
(أحدها) واجب وهي التي ينجي بها انسانا معصوما من هلكة كما روي عن سويد بن حنظلة
قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت
166

أنا انه أخي فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدقت المسلم أخو المسلم " رواه أبو داود
والنسائي فهذا ومثله واجب لأن انجاء المعصوم واجب وقد تعين في اليمين فيجب وكذلك انجاء نفسه
مثل أن تتوجه عليه أيمان القسامة في دعوى القتل عليه وهو برئ
(الثاني) مندوب وهو الحلف الذي تتعلق به مصلحة من اصلاح بين متخاصمين أو إزالة حقد
من قلب مسلم عن الحالف أو غيره أو دفع شر فهذا مندوب لأن فعل هذه الأمور مندوب إليه واليمين
مفضية إليه وإن حلف على فعل طاعة أو ترك معصية ففيه وجهان
(أحدهما) انه مندوب إليه وهو قول بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي لأن ذلك يدعوه إلى فعل
الطاعات وترك المعاصي
(والثاني) ليس بمندوب إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك في الأكثر الأغلب
ولا حنث النبي صلى الله عليه وسلم أحدا عليه ولا ندبه إليه ولو كان ذلك طاعة لم يخلوا به ولان ذلك يجري
167

مجرى النذر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال " انه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به
من البخيل " متفق عليه
(الثالث) المباح مثل الحلف على فعل مباح أو تركه والحلف على الخبر بشئ وهو صادق فيه
أو يظن أنه فيه صادق فإن الله تعالى قال (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) ومن صور اللغو أن يحلف
على شئ يظنه كما حلف عليه ويبين بخلافه فأما الحلف على الحقوق عند الحاكم ففيه وجهان
(أحدهما) ان تركه أولى من فعله فيكون مكروها ذكر ذلك أصحابنا وأصحاب الشافعي لما روي أن
عثمان والمقداد تحاكما إلى عمر في مال استقرضه المقداد فجعل عمر اليمين على المقداد فردها على عثمان
فقال عمر لقد أنصفك فأخذ عثمان ما أعطاه المقداد ولم يحلف فقال خفت أن يوافق قدر بلاء
فيقال بيمين عثمان
(والثاني) انه مباح فعله كتركه لأن الله تعالى أمر نبيه بالحلف على الحق في ثلاثة مواضع. وروى
محمد بن كعب القرظي ان عمر قال على المنبر وفي يده عصا: يا أيها الناس لا تمنعكم اليمين من حقوقكم
فوالذي نفسي بيده إن في يدي لعصا
وروى عمر بن شبة في كتاب قضاة البصرة باسناده عن الشعبي ان عمر وأبيا تحاكما إلى زيد في
نخل ادعاه أبي فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد اعف أمير المؤمنين فقال عمر ولم يعفي أمير المؤمنين؟
168

ان عرفت شيئا استحققته بيميني وإلا تركته والله الذي لا إله الا هو ان النخل لنخلي وما لأبي فيه
حق فلما حرجا وهب النخل لأبي فقيل له يا أمير المؤمنين هلا كان هذا قبل اليمين؟ فقال خفت أن
لا أحلف فلا يحلف الناس على حقوقهم بعدي فيكون سنة، ولأنه حلف صدق على حق فأشبه الحلف
عند غير الحاكم
(الرابع) المكروه وهو الحلف على فعل مكروه أو ترك مندوب قال الله تعالى (ولا تجعلوا
الله عرضة لايمانكم ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس)
وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حلف لا يتفق على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال
وكان من جملة أهل الإفك الذين تكلموا في عائشة رضي الله عنها فأنزل الله تعالى (ولا يأتل أولو
الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا)
وقيل المراد بقوله (ولا يأتل) اي لا يمتنع ولان اليمين على ذلك مانعة من فعل الطاعة أو حاملة على
169

فعل المكروه فتكون مكروهة، فإن قيل لو كانت مكروهة لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الاعرابي الذي سأله عن
الصلوات فقال هل علي غيرها؟ فقال " لا إلا أن تطوع " فقال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص منها
ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل قال " أفلح الرجل ان صدق " قلنا لا يلزم فإن اليمين على تركها لا تزيد
على تركها ولو تركها لم ينكر عليه ويكفي في ذلك بيان ان ما تركه تطوع، وقد بينه له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله
" الا ان تطوع " ولأن هذه اليمين ان تضمنت ترك المندوب فقد تناولت فعل الواجب والمحافظة عليه
كله بحيث لا ينقص منه شيئا، وهذا في الفضل يزيد على ما قابله من ترك التطوع فيترجح جانب الاثبات
بها على تركها فيكون من قبيل المندوب فكيف ينكر؟ ولان في الاقرار على هذه اليمين بيان حكم محتاج
إليه وهو بيان ان ترك التطوع غير مؤاخذ به فلو أنكر على الحالف لحصل ضد هذا وتوهم كثير من
الناس لحوق الاثم بتركه فيفوت الغرض، ومن قسم المكروه الحلف في البيع والشراء فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " الحلف منفق للسلعة ممحق للبركة " رواه ابن ماجة
(القسم الخامس) المحرم وهو الحلف الكاذب فإن الله تعالى ذمه بقوله تعالى (ويحلفون على
170

الكذب وهم يعلمون) ولان الكذب حرام فإذا كان محلوفا عليه كان أشد في التحريم وان أبطل به حقا
أو اقتطع به مال معصوم كان أشد فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حلف يمينا فاجرة
يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " وأنزل الله عز وجل في ذلك (إن الذين
يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم
القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) ومن هذا القسم الحلف على فعل معصية أو ترك واجب فإن المحلوف
عليه حرام فكان الحلف حراما لأنه وسيلة إليه والوسيلة تأخذ حكم المتوسل إليه
(فصل) ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرم كان حلها محرما لأن حلها بفعل المحرم
وهو محرم، وإن كانت على فعل مندوب أو ترك مكروه فحلها مكروه، وان كانت على فعل مباح فحلها
مباح فإن قيل وكيف يكون حلها مباحا وقد قال الله تعلى (ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها)؟ قلنا
هذا في الايمان في العهود والمواثيق بدليل قوله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا
171

الايمان بعد توكيدها - إلى قوله - تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة)
والعهد يجب الوفاء به بغير يمين فمع اليمين أولى فإن الله تعالى قال (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)
وقال (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ولهذا نهى عن نقض اليمين والنهي يقتضي التحريم وذمهم
عليه وضرب لهم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا ولا خلاف في أن الحل المتلف فيه لا يدخله
شئ من هذا، وان كانت على فعل مكروه أو ترك مندوب فحلها مندوب إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا
حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك " وقال النبي صلى الله عليه وسلم
" إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها وان كانت
اليمين على فعل محرم أو ترك واجب فحلها واجب لأن حلها بفعل الواجب وفعل الواجب واجب
(مسألة) قال (ومن حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله أو لا يفعل شيئا ففعله فعليه الكفارة)
لا خلاف في هذا عند فقهاء الأمصار قال ابن عبد البر اليمين التي فيها الكفارة باجماع المسلمين
172

هي التي على المستقبل من الافعال وذهبت طائفة إلى أن الحنث متى كان طاعة لم يوجب كفارة وقال
قوم من حلف على فعل معصية فكفارتها تركها، وقال سعيد بن جبير اللغو أن يحلف الرجل فيما لا ينبغي
له يعني فلا كفارة عليه في الحنث، وقد روى عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله تعالى ولا في قطيعة رحم، ومن حلف
على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارة " رواه أبو داود ولان
الكفارة إنما تجب لرفع الاثم ولا اثم في الطاعة ولان اليمين كالنذر ولا نذر في معصية الله تعالى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر
عن يمينه " وقال " اني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو
خير وكفرت عن يميني) أخرجه البخاري. وحديثهم لا يعارض حديثنا لأن حديثنا أصح منه وأثبت
ثم إنه يحتمل ان تركها كفارة لاثم الحلف والكفارة المختلف فيها كفارة المخالفة. وقولهم ان الحنث
173

طاعة قلنا فاليمين غير طاعة فتلزمه الكفارة للمخالفة ولتعظيم اسم الله تعالى إذا حلف به ولم يبر يمينه
إذا ثبت هذا نظرنا في يمينه فإن كانت على ترك شئ ففعله حنث ووجبت الكفارة، وان كانت
على فعل شئ فلم يفعله وكانت يمينه مؤقتة بلفظه أو نيته أو قرينة حاله ففات الوقت حنث وكفر،
فإن كانت مطلقة لم يحنث إلا بفوات وقت الامكان لأنه ما دام في الوقت والفعل ممكن فيحتمل أن
يفعل فلا يحنث ولهذا قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم ألم تخبرنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال " فأخبرتك
انك تأتيه العام؟ " قال لا قال " فإنك آتيه ومطوف به " وقد قال الله تعالى (قل بلى وربي لتبعثن)
وهو حق ولم يأت بعد
(مسألة) قال (وان فعله ناسيا فلا شئ عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق)
وجملة ذلك أن من حلف أن لا يفعل شيئا ففعله ناسيا فلا كفارة عليه نقله عن أحمد الجماعة إلا في
الطلاق والعتاق فإنه يحنث هذا ظاهر المذهب واختاره الخلال وصاحبه وهو قول أبي عبيد وعن
174

احمد رواية أخرى انه لا يحنث في الطلاق والعتاق أيضا وهذا قول عطاء وعمرو بن دينار وابن أبي
نجيح وإسحاق قالوا لا حنث على الناسي في طلاق ولا غيره وهو ظاهر مذهب الشافعي لقوله تعالى
(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ان الله تجاوز
لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه غير قاصد للمخالفة فلم يحنث كالنائم والمجنون
ولأنه أحد طرفي اليمين فاعتبر فيه القصد كحالة الابتداء بها وعن أحمد رواية أخرى أنه يحنث في الجميع
وتلزمه الكفارة في اليمين المكفرة وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد والزهري وقتادة وربيعة ومالك
وأصحاب الرأي والقول الثاني للشافعي لأنه فعل ما حلف عليه قاصدا لفعله فلزمه الحنث كالذاكر
وكما لو كانت اليمين بالطلاق والعتاق
ولنا على أن الكفارة لا تجب في اليمين المكفرة ما تقدم ولأنها تجب لرفع الاثم، ولا اثم
على الناسي. وأما الطلاق والعتاق فهو معلق بشرط فيقع بوجود شرطه من غير قصد كما لو قال أنت
طالق ان طلعت الشمس أو قدم الحاج
175

(فصل) وان فعله غير عالم بالمحلوف عليه كرجل حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه يحسبه أجنبيا أو حلف أنه
لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه فأعطاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه قد بر فوجد ما أخذه رديئا أو حلف
لا بعت لزيد ثوبا فوكل زيد من يدفعه إلى من يبيعه فدفعه إلى الحالف فباعه من غير علمه فهو كالناسي
لأنه غير قاصد للمخالفة أشبه الناسي
(فصل) والمكره على الفعل ينقسم قسمين (أحدهما) أن يلجأ إليه مثل من يحلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها
أو لا يخرج منها فأخرج محمولا أو مدفوعا بغير اختياره ولم يمكنه الامتناع فهذا لا يحنث في قول
أكثرهم وبه قال أصحاب الرأي، وقال مالك ان دخل مربوطا لم يحنث وذلك لأنه لم يفعل الدخول
والخروج فلم يحنث كما لو لم يوجد ذلك، (الثاني) ان يكره بالضرب والتهديد بالقتل ونحوه فقال أبو الخطاب
فيه
روايتان كالناسي وللشافعي قولان وقال مالك وأبو حنيفة يحنث لأن الكفارة لا تسقط بالشبهة فوجبت
مع الاكراه والنسيان ككفارة الصيد
176

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه نوع اكراه
فلم يحنث به كما لو حمل ولم يمكنه الامتناع ولان الفعل لا ينسب إليه فأشبه من لم يفعله ولا نسلم الكفارة
في الصيد بل إنما تجب على المكره والله أعلم
(مسألة) قال (ومن حلف على شئ وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه لأن الذي
أتي به أعظم من أن تكون فيه الكفارة)
هذا ظاهر المذهب نقله الجماعة عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وسعيد
ابن المسيب والحسن ومالك والأوزاعي والثوري والليث وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الحديث
وأصحاب الرأي من أهل الكوفة وهذه اليمين تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الاثم قال
ابن مسعود كنا نعد من اليمين التي لا كفارة لها اليمين الغموس، وعن سعيد بن المسيب قال هي
من الكبائر وهي أعظم من أن تكفر، وروي عن أحمد ان فيها الكفارة، وروي ذلك عن
177

عطاء والزهري والحكم والبتي وهو قول الشافعي لأنه وجدت منه اليمين بالله تعالى والمخالفة مع
القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة
ولنا انها يمين غير منعقدة فلا توجب الكفارة كاللغو أو يمين على ماض فأشبهت اللغو وبيان كونها
غير منعقدة انها لا توجب برا ولا يمكن فيها ولأنه قارنها ما ينافيها وهو الحنث فلم تنعقد كالنكاح
الذي قارنه الرضاع ولان الكفارة لا ترفع اثمها فلا تشرع فيها ودليل ذلك أنها كبيرة فإنه يروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس "
رواه البخاري. وروى فيه " خمس من الكبائر لا كفارة لهن: الاشراك بالله، والفرار من الزحف،
وبهت المؤمن، وقتل المسلم بغير حق، والحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم " ولا يصح
القياس على المستقبلة لأنها يمين منعقدة يمكن حلها والبر فيها وهذه غير منعقدة فلا حل لها، وقول النبي
178

صلى الله عليه وسلم " فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " يدل على أن الكفارة إنما تجب بالحلف على فعل
يفعله فيما يستقبله قاله ابن المنذر
(مسألة) قال (والكفارة إنما؟؟؟ من حلف يريد عقد اليمين)
وجملته ان اليمين التي تمر على لسانه في عرض حديثه من غير قصد إليها لا كفارة فيها في قول
أكثر أهل العلم لأنها من لغو اليمين. نقل عبد الله عن أبيه أنه قال: اللغو عندي ان يحلف على اليمين
يرى أنها كذلك والرجل يحلف فلا يعقد قلبه على شئ، وممن قال إن اللغو اليمين التي لا يعقد عليها قلبه
عمر وعائشة رضي الله عنهما وبه قال عطاء والقاسم وعكرمة والشعبي والشافعي لما روي عن عطاء قال قالت
عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعني اللغو في اليمين " هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله "
أخرجه أبو داود قال ورواه الزهري وعبد الملك بن أبي سليمان ومالك بن مغول عن عطاء عن عائشة موقوفا
179

وروى الزهري أن عروة حدثه عن عائشة قالت ايمان اللغو ما كان في المراء والهزل والمزاحة والحديث
الذي لا يعقد عليه القلب، وايمان الكفارة كل يمين حلف عليها على وجه من الامر في غضب أو غيره ليفعلن
أو ليتركن فذلك عقد الايمان التي فرض الله تعالى فيها الكفارة ولان اللغو في كلام العرب الكلام غير
المعقود عليه وهذا كذلك، وممن قال لا كفارة في هذا ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك وزرارة بن
أوفى والحسن والنخعي ومالك وهو قول من قال إنه من لغو اليمين ولا نعلم في هذا خلافا، ووجه
ذلك قول الله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته
اطعام عشرة مساكين) فجعل الكفارة لليمين التي يؤاخذ بها ونفي المؤاخذة باللغو فيلزم انتفاء الكفارة
ولان المؤاخذة يحتمل أن يكون معناها إيجاب الكفارة بدليل أنها تجب في الايمان التي لا مأثم فيها
وإذا كانت المؤاخذة إيجاب الكفارة فقد نفاها في اللغو فلا تجب ولأنه قول من سمينا من الصحابة
ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فكان إجماعا وإن قول عائشة في تفسير اللغو وبيان الايمان التي فيها الكفارة
خرج منها تفسيرا لكلام الله تعالى وتفسير الصحابي مقبول
180

(مسألة) قال ومن حلف على شئ يظنه كما حلف فلم يكن فلا كفارة عليه لأنه من لغو اليمين
أكثر أهل العلم على أن هذه اليمين لا كفارة فيها. قاله ابن المنذر يروى هذا عن ابن عباس
وأبي هريرة وأبي مالك وزرارة بن أوفى والحسن والنخعي ومالك وأبي حنيفة والثوري وممن قال هذا
لغو اليمين مجاهد وسليمان بن يسار والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر أهل العلم على أن
لغو اليمين لا كفارة فيه، وقال ابن عبد البر: أجمع المسلمون على هذا، وقد حكي عن النخعي في
اليمين على شئ يظنه حقا فيتبين بخلافه أنه من لغو اليمين وفيه الكفارة وهو أحد قولي الشافعي،
وروي عن أحمد ان فيه الكفارة وليس من لغو اليمين لأن اليمين بالله تعالى وجدت مع المخالفة
فأوجبت الكفارة كاليمين على مستقبل
ولنا قول الله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) وهذه منه ولأنها يمين غير منعقدة فلم تجب
فيها كفارة كيمين الغموس ولأنه غير مقصود للمخالفة فأشبه ما لو حنث ناسيا وفي الجملة لا كفارة
181

في يمين على ماض لأنها تنقسم ثلاثة أقسام ما هو صادق فيه فلا كفارة فيه إجماعا وما تعمد الكذب
فيه فهو يمين الغموس لا كفارة فيها لأنها أعظم من أن تكون فيها كفارة وما يظنه حقا فيتبين بخلافه
فلا كفار فيه لأنه من لغو اليمين، فاما اليمين على المستقبل فما عقد عليه قلبه وقصد اليمين عليه ثم خالف
فعليه الكفارة وما لم يعقد عليه قلبه ولم يقصد اليمين عليه وإنما جرت على لسانه فهو من لغو اليمين
وكلام عائشة يدل على هذا فإنها قالت ايمان اللغو ما كان في المراء والمزاحة والهزل والحديث الذي
لا يعقد عليه القلب، وأيمان الكفارة كل يمين حلف عليها على وجه من الامر في غضب أو غيره ليفعلن
أو ليتركن فذلك عقد الايمان التي فرض الله فيها الكفارة، وقال الثوري في جامعه الايمان أربعه يمينان
يكفران وهو ان يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل أو يقول والله لأفعلن ثم لا يفعل ويمينان لا يكفران
أن يقول والله ما فعلت وقد فعل أو يقول والله لقد فعلت وما فعل
(مسألة) قال (واليمين المكفرة أن يحلف بالله عز وجل أو باسم من أسمائه)
أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله عز وجل فقال والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة.
قال ابن المنذر وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي يقولون من حلف باسم من
182

أسماء الله تعالى فحنث ان عليه الكفارة ولا نعلم في هذا خلافا إذا كان من أسماء الله عز وجل التي
لا يسمى بها سواه وأسماء الله تنقسم ثلاثة أقسام:
(أحدها) مالا يسمى بها غيره نحو قوله والله والرحمن والأول الذي ليس قبله شئ والآخر الذي
بعده شئ ورب العالمين ومالك يوم الدين ورب السماوات والأرض والحي الذي لا يموت ونحو هذا
فالحلف بهذا يمين بكل حال
(والثاني) ما يسمى به غير الله تعالى مجازا واطلاقه ينصرف إلى الله تعالى مثل الخالق والرازق والرب
والرحيم والقادر والقاهر والملك والجبار ونحوه فهذا يسمى به غير الله مجازا بدليل قول الله تعالى (وتخلقون إفكا
وتذرون أحسن الخالقين) وقوله (ارجع إلى ربك - واذكرني عند ربك - فأنساه الشيطان ذكر ربه)
وقال (فارزقوهم منه) وقال (بالمؤمنين رؤوف رحيم) فهذا ان نوى به اسم الله تعالى أو أطلق كان
يمينا لأنه باطلاقه ينصرف إليه، وان نوى به غير الله تعالى لم يكن يمينا لأنه يستعمل في غيره
فينصرف بالنية إلى ما نواه، وهذا مذهب الشافعي، وقال طلحة العاقولي إذا قال: والرب والخالق
والرازق كان يمينا على كل حال كالأول لأنها لا تستعمل مع التعريف بلام التعريف إلا في اسمه
تعالى فأشبهت القسم الأول
(الثالث) ما يسمى به الله تعالى وغيره ولا ينصرف إليه باطلاقه كالحي والعالم والموجود والمؤمن
183

والكريم والشاكر فهذا ان قصد به اليمين باسم الله تعالى كان يمينا، وان أطلق أو قصد غير الله تعالى
لم يكن يمينا فيختلف هذا القسم والذي قبله في حالة الاطلاق ففي الأول يكون يمينا وفي الثاني لا يكون
يمينا وقال القاضي والشافعي في هذا القسم لا يكون يمينا وإن قصد به اسم الله تعالى لأن اليمين إنما تنعقد لحرمة
الاسم فمع الاشتراك لا تكون له حرمة والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين
ولنا انه أقسم باسم الله تعالى قاصدا به الحلف به فكان يمينا مكفرة كالقسم الذي قبله وقولهم ان
النية المجردة لا تنعقد بها اليمين نقول به وما انعقد بالنية المجرد فإنما انعقد بالاسم المحتمل المراد به اسم الله تعالى
فإن النية تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته فيصير كالمصرح به كالكنايات وغيرها ولهذا لو نوى
بالقسم الذي قبله غير الله تعالى لم يكن يمينا لنيته
(فصل) والقسم بصفات الله تعالى كالقسم بأسمائه وصفاته تنقسم أيضا ثلاثة أقسام
(أحدها) ما هو صفات لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها كعزة الله تعالى وعظمته وجلاله
184

وكبريائه وكلامه فهذه تنعقد بها اليمين في قولهم جميعا وبه يقول الشافعي وأصحاب الرأي لأن هذه
من صفات ذاته لم يزل موصوفا بها، وقد ورد الأثر بالقسم ببعضها فروي أن النار تقول: قط
قط وعزتك. رواه البخاري، والذي يخرج من النار يقول: وعزتك لا أسألك غيرها وفي كتاب
الله تعالى (فبعزتك لأغوينهم أجمعين)
(الثاني) ما هو صفة للذات ويعبر به عن غيرها مجازا كعلم الله وقدرته فهذه صفة للذات لم يزل موصوفا
بها وقد تستعمل في المعلوم والمقدور اتساعا كقولهم الله اغفر لنا علمك فينا ويقال اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا
عفوك ويقال انظر إلى قدرة الله أي مقدوره فمتى أقسم بهذا كان يمينا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
إذا قال وعلم الله لا يكون يمينا لأنه يحتمل المعلوم
ولنا أن العمل من صفات الله تعالى فكانت اليمين به يمينا موجبة للكفارة كالعظمة والعزة والقدرة
185

وينتقض ما ذكروه بالقدرة فإنهم قد سلموها وهي قرينتها، فاما ان نوى القسم بالمعلوم والمقدور احتمل
أن لا يكون يمينا وهو قول أصحاب الشافعي لأنه نوى بالاسم غير صفة الله مع احتمال اللفظ ما نواه فأشبه
ما لو نوى القسم بمحلوف في الأسماء التي يسمى بها غير الله تعالى وقد روي عن أحمد أن ذلك يكون
يمينا بكل حال ولا تقبل منه نية غير صفة الله تعالى وهو قول أبي حنيفة في القدرة لأن ذلك موضوع
للصفة فلا يقبل منه نية غير الصفة كالعظمة، وقد ذكر طلحة العاقولي في أسماء الله تعالى المعرفة بلام
التعريف كالخالق والرازق أنها تكون يمينا بكل حال لأنها لا تنصرف إلا إلى اسم الله كذا هذا
(الثالث) مالا ينصرف باطلاقه إلى صفة الله تعالى لكن ينصرف بإضافته إلى الله سبحانه لفظا أو
نية كالعهد والميثاق والأمانة ونحوه فهذا لا يكون يمينا مكفرة الا بإضافته أو نيته وسنذكر ذلك
فيما بعد إن شاء الله تعالى
(فصل) وإن قال وحق الله فهي يمين مكفرة وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا كفارة
لها لأن حق الله طاعته ومفروضاته وليست صفة له
186

ولنا أن لله حقوقا يستحقها لنفسه من البقاء والعظمة والجلال والعزة وقد اقترن عرف الاستعمال
بالحلف بهذه الصفة فتنصرف إلى صفة الله تعالى كقوله وقدرة الله وإن نوى بذلك القسم بمخلوق
فالقول فيه كالقول في الحلف بالعلم والقدرة الا أن احتمال المخلوق بهذا اللفظ أظهر
(فصل) وإن قال لعمر الله فهي يمين موجبة للكفارة وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي إن
قصد اليمين فهي يمين وإلا فلا وهو اختيار أبي بكر لأنها إنما تكون يمينا بتقدير خبر محذوف فكأنه
قال لعمر الله ما أقسم به فيكون مجازا والمجاز لا ينصرف إليه الاطلاق
ولنا انه أقسم بصفة من صفات ذات الله فكان يمينا موجبا للكفارة كالحلف ببقاء الله تعالى فإن
معنى ذلك الحلف ببقاء الله تعالى وحياته ويقال العمر والعمر واحد وقيل معناه وحق الله وقد ثبت
له عرف الشرع والاستعمال قال الله تعالى (لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون)
وقال النابغة: فلا لعمر الذي قد زرته حججا * وما أريق على الأنصاب من جسد
وقال آخر: إذا رضيت كرام بني قشير * لعمر الله أعجبني رضاها
187

وقال آخر: ولكن لعمر الله ما ظل مسلما * كغر الثنايا واضحات الملاغم
وهذا في الشعر والكلام كثير وأما احتياجه إلى التقدير فلا يصح فإن اللفظ إذا اشتهر في العرف
صار من الأسماء العرفية يجب حمله عليه عند الاطلاق دون موضوعه الأصلي على ما عرف من سائر
الأسماء العرفية ومتى احتاج اللفظ إلى التقدير وجب التقدير له ولم يجز اطراحه ولهذا يفهم مراد
المتكلم به من غير اطلاق على نية قائله وقصده كما يفهم أن مراد المتكلم بهذا من المتقدمين القسم
ويفهم من القسم بغير حرف القسم في أشعارهم القسم في مثل قوله
* فقلت يمين الله أبرح قاعدا *
ويفهم من القسم الذي حذف في جوابه حرف لا انه مقدر مراد كهذا البيت، ويفهم من قول
الله تعالى (واسأل القرية - وأشربوا في قلوبهم العجل) التقدير فكذا ههنا، وإن قال عمرك
الله كما في قوله: أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف يلتقيان؟
188

فقد قيل هو مثل قوله نشدتك الله ولهذا ينصب اسم الله تعالى فيه، وإن قال لعمري أو لعمرك
أو عمرك فليس بيمين في قول أكثرهم، وقال الحسن في قوله لعمري عليه الكفارة
ولنا انه أقسم بحياة مخلوق فلم تلزمه كفارة كما لو قال وحياتي وذلك لأن هذا اللفظ يكون قسما
بحياة الذي أضيف إليه العمر فإن التقدير لعمرك قسمي أو ما أقسم به والعمر الحياة أو البقاء
(فصل) وإن قال وأيم الله أو وأيمن الله فهي يمين موجبة للكفارة والخلاف فيه كالذي ذكرنا
في الفصل الذي قبله وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به وانضم إليه عرف الاستعمال فوجب أن يصرف
إليه، واختلف في اشتقاقه فقيل هو جمع يمين وحذفت النون فيه في البعض تخفيفا لكثرة الاستعمال
وقيل هو من اليمن فكأنه قال ويمين الله لأفعلن وألفه ألف وصل
(فصل) وحروف القسم ثلاثة: الباء وهي الأصل وتدخل على المظهر والمضمر جميعا، والواو
وهي بدل من الباء تدخل على المظهر دون المضمر لذلك وهي أكثر استعمالا وبها جاءت أكثر
الأقسام في الكتاب والسنة، وإنما كانت الباء الأصل لأنها الحرف الذي تصل به الافعال القاصرة عن
189

التعدي إلى مفعولاتها والتقدير في القسم أقسم بالله كما قال الله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)
والتاء بدل من الواو وتختص باسم واحد من أسماء الله تعالى وهو الله ولا تدخل على غيره فيقال تالله
ولو قال تالرحمن أو تالرحيم لم يكن قسما فإذا أقسم بأحد هذه الحروف الثلاثة في موضعه كان قسما
صحيحا لأنه موضع له وقد جاء في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى (تالله لتسئلن عما
كنتم تفترون - تالله لقد آثرك الله علينا - تالله تفتؤ تذكر يوسف - تالله لقد علمتم - وتالله
لأكيدن أصنامكم) قال الشاعر: تالله يبقى على الآيام ذو حيد * بمشمخر به الضيان والآس
فإن قال ما أردت به القسم لم يقبل منه لأنه أنى باللفظ الصريح في القسم واقترنت به قرينة دالة عليه
وهو الجواب بجواب القسم ويحتمل أن يقبل منه في قوله تالله لأقومن إذا قال أردت ان قيامي بمعونة
لله وفضله لأنه فسر كلامه بما يحتمله ولا يقبل في الحرفين الآخرين لعدم الاحتمال ويحتمل ان لا يقبل
بحال لأنه أجاب بجواب القسم فيمنع صرفه إلى غيره
190

(فصل) وإن أقسم بغير حرف القسم فقال الله لأقومن بالجر أو النصب كان يمينا، وقال
الشافعي لا يكون يمينا إلا أن ينوي لأن ذكر اسم الله تعالى بغير حرف القسم ليس بصريح في القسم
فلا ينصرف إليه إلا بالنية
ولنا انه سائغ في العربية وقد ورد به عرف الاستعمال في الشرع فروي أن عبد الله بن مسعود
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم انه قتل أبا جهل فقال " الله انك قتلته؟ " قال الله اني قتلته ذكره البخاري وقال
لركانة بن عبد يزيد " الله ما أردت إلا واحدة " قال الله ما أردت إلا واحدة وقال امرؤ القيس:
* فقلت يمين الله أبرح قاعدا *
وقال أيضا * فقالت يمين الله مالك حيلة *
وقد اقترنت به قرينتان تدلان عليه (إحداهما) الجواب بجواب القسم (والثاني) النصب والجر
في اسم الله تعالى فوجب أن تكون يمينا كما لو قال والله، وإن قال الله لأفعلن بالرفع ونوى اليمين
فهي يمين لكنه قد لحن فهو كما لو قال والله بالرفع وإن لم ينو اليمين فقال أبو الخطاب يكون يمينا
191

لأن قرينة الجواب بجواب القسم كافية والعامي لا يعرف الاعراب فيأتي به إلا أن يكون من أهل
العربية فإن عدوله عن اعراب القسم دليل على أنه لم يرده، ويحتمل ان لا يكون قسما في حق العامي لأنه
ليس بقسم في حق أهل العربية فلم يكن قسما في غيرهم كما لو لم يجبه بجواب القسم
(فصل) ويجاب القسم بأربعة أحرف: حرفان للنفي هما ما ولا، وحرفان للاثبات وهما ان
واللام المفتوحة وتقوم ان المكسورة مقام ما النافية مثل قوله (وليحلفن ان أردنا الا الحسنى) وإن
قال والله أفعل بغير حرف فالمحذوف ههنا لا وتكون يمينه على النفي لأن موضوعه في العربية كذلك
قال الله تعالى (تالله تفتؤ تذكر يوسف) اي لا تفتؤ وقال الشاعر * تالله يبقى على الأيام ذو حيد *
وقال آخر * فقلت يمين الله أبرح قاعدا * اي لا أبرح
(فصل) فإن قال لاها لله ونوى اليمين فهو يمين لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال
في سلب قتيل أبي قتادة لاها لله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك
192

سلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق " وإن لم ينو اليمين فالظاهر أنه لا يكون يمينا لأنه لم يقترن به
عرف ولا نية ولا في جوابه حرف يدل على القسم وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
(مسألة) قال (أو بآية من القرآن)
وجملته أن الحلف بالقران أو بآية منه أو بكلام الله يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث
فيها، وبهذا قال ابن مسعود والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأبو عبيد وعامة أهل العلم
وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس بيمين ولا تجب به كفارة فمنهم من زعم أنه مخلوق ومنهم من
قال لا يعهد اليمين به
ولنا أن القرآن كلام الله وصفة من صفات ذاته فتنعقد اليمين به كما لو قال وجلال الله وعظمته
وقولهم هو مخلوق قلنا هذا كلام المعتزلة وإنما الخلاف مع الفقهاء، وقد روي عن ابن عمر أن النبي
193

صلى الله عليه وسلم قال " القرآن كلام الله غير مخلوق " وقال ابن عباس في قوله تعالى (قرآنا عربيا غير ذي
عوج) أي غير مخلوق وأما قولهم لا يعهد اليمين به فيلزمهم وكبرياء الله وعظمته وجلاله. إذا ثبت
هذا فإن الحلف بآية منه كالحلف بجميعه لأنها من كلام الله تعالى
(فصل) وان حلف بالمصحف انعقدت يمينه، وكان قتادة يحلف بالمصحف ولم يكره ذلك إمامنا
وإسحاق لأن الحالف بالمصحف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه وهو القرآن فإنه بين دفتي
المصحف باجماع المسلمين.
(مسألة) قال (أو تصدق بملكه أو بالحج)
وجملته انه إذا أخرج المنذر مخرج اليمين بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا أو يحث به على شئ
مثل ان يقول إن كلمت زيدا فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة فهذا يمين حكمه أنه مخير بين
الوفاء بما حلف عليه فلا يلزمه شئ وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين ويسمى
نذر اللجاج والغضب ولا يتعين عليه الوفاء به وإنما يلزم نذر التبرر وسنذكره في بابه، وهذا قول
194

عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة وحفصة وزينب بنت أبي سلمة وبه قال عطاء وطاوس وعكرمة والقاسم
والحسن وجابر بن زيد والنخعي وقتادة وعبد الله بن شريك والشافعي والعنبري وإسحاق وأبو عبيد
وأبو ثور وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب لا شئ في الحلف بالحج وعن الشعبي والحارث العكلي
وحماد والحكم لا شئ في الحلف بصدقة ماله لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله تعالى لحرمة الاسم
باسم الله ولا يجب ما سماه لأنه لم يخرجه مخرج وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه لأنه لم يخرجه مخرج القربة وإنما التزمه على طريق العقوبة فلم
يلزمه، وقال أبو حنيفة ومالك يلزمه الوفاء بنذره لأنه نذر فيلزمه الوفاء به كنذر التبرر، وروي
نحو ذلك عن الشعبي.
ولنا ما روى عمران بن حصين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا نذر في غضب وكفارته
كفارة يمين " رواه سعيد بن منصور والجوزجاني في المترجم وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" من حلف بالمشي أو الهدي أو جعل ماله في سبيل الله أوفي المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة
اليمين " ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم ولأنه يمين فيدخل في عموم قوله
195

تعالى (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين) ودليل أنه يمين انه يسمى
بذلك ويسمى قائله حالفا، وفارق نذر التبرر لكونه قصد به التقرب إلى الله تعالى والبر ولم يخرجه
مخرج اليمين وههنا خرج مخرج اليمين ولم يقصد به قربة ولا برا فأشبه اليمين من وجه والنذر
من وجه فخبر بين الوفاء به وبين الكفارة.
وعن أحمد رواية ثانية أنه تتعين الكفارة ولا يجزئه الوفاء بنذره، وهو قول لبعض أصحاب
الشافعي لأنه يمين، والأول أولى لأنه إنما التزم فعل ما نذره فلا يلزمه أكثر منه كنذر التبرر، وفارق
اليمين بالله تعالى لأنه أقسم بالاسم المحترم فإذا خالف لزمته الكفارة تعظيما للاسم بخلاف هذا
(مسألة) قال (أو بالعهد)
وجملته أنه إذا حلف بالعهد أو قال وعهد الله وكفالته فذلك يمين يجب تكفيرها إذا حنث
196

فيها، وبهذا قال الحسن وطاوس والشعبي والحارث العكلي وقتادة والحكم الأوزاعي
ومالك وحلفت عائشة رضي الله عنها بالعهد أن لا تكلم ابن الزبير فلما كلمته أعتقت أربعين رقبة
وكانت إذا ذكرته تبكي وتقول وا عهداه، قال احمد العهد شديد في عشرة مواضع من كتاب الله (وأوفوا
بالعهد إن العهد كان مسؤولا) ويتقرب إلى الله تعالى إذا حلف بالعهد وحنث ما استطاع وعائشة
أعتقت أربعين رقبة ثم تبكي حتى تبل خمارها وتقول وا عهداه وقال عطاء وأبو عبيد وابن المنذر
لا يكون يمينا إلا أن ينوي، وقال الشافعي لا يكون يمينا إلا أن ينوي اليمين بعهد الله الذي
هو صفته، وقال أبو حنيفة ليس بيمين، ولعلهم ذهبوا إلى أن العهد من صفات الفعل فلا يكون
الحلف به يمينا كما لو قال: وخلق الله وقد وافقنا أبو حنيفة في أنه إذا قال علي عهد الله وميثاقه
لأفعلن ثم حنث أنه يلزمه الكفارة
ولنا أن عهد الله يحتمل كلامه الذي أمرنا به ونهانا كقوله تعالى (ألم أعهد إليكم يا بني آدم) وكلامه
197

قديم صفة له ويحتمل أنه استحقاقه لما تعبدنا به، وقد ثبت له عرف الاستعمال فيجب أن يكون يمينا
باطلاقه كما لو قال وكلام الله. إذا ثبت هذا فإنه ان قال علي عهد الله وميثاقه لأفعلن أو قال وعهد الله
وميثاقه لأفعلن فهو يمين، وان قال والعهد والميثاق لأفعلن ونوى عهد الله كان يمينا لأنه نوى الحلف
بصفة من صفات الله تعالى، وان أطلق فقال القاضي فيه روايتان (إحداهما) يكون يمينا لأن لام التعريف ان
كانت للعهد يجب أن تنصرف إلى عهد الله لأنه الذي عهدت اليمين به، وإن كانت للاستغراق دخل
فيه ذلك (والثانية) لا يكون يمينا لأنه يحتمل غير ما وجبت به الكفارة ولم يصرفه إلى ذلك بنيته
فلا تجب الكفارة لأن الأصل عدمها
(مسألة) قال (أو بالخروج من الاسلام)
اختلفت الرواية عن أحمد في الحلف بالخروج من الاسلام مثل أن يقول هو يهودي أو نصراني
أو مجوسي ان فعل كذا أو هو برئ من الاسلام أو من رسول الله أو من القرآن ان فعل أو يقول
هو يعبد الصليب أو يعبدك أو يعبد غير الله تعالى ان فعل أو نحو هذا فعن أحمد عليه الكفارة إذا
198

حنث يروى هذا عن عطاء وطاوس والحسن والشعبي والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي
ويروى ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه
(والرواية الثانية) لا كفارة عليه وهو قول مالك والشافعي والليث وأبي ثور وابن المنذر
لأنه لم يحلف باسم الله ولا صفته فلم تلزمه كفارة كما لو قال عصيت الله تعالى فيما أمرني، ويحتمل أن
يحمل كلام أحمد في الرواية الأولى على الندب دون الايجاب لأنه قال في رواية حنبل إذا قال أكفر
بالله أو أشرك بالله فأحب إلي أن يكفر كفارة يمين إذا حنث. ووجه الرواية الأولى ما روي عن الزهري
عن خارجة بن زيد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يقول هو يهودي أو نصراني أو مجوسي
أو برئ من الاسلام في اليمين يحلف بها فيحنث في هذه الأشياء فقال " عليه كفارة يمين " أخرجه أبو بكر
ولان البراءة من هذه الأشياء توجب الكفر بالله فكان الحلف بها يمينا كالحلف بالله تعالى
والرواية الثانية أصح إن شاء الله تعالى فإن الوجوب من الشارع ولم يرد في هذه اليمين نص
199

ولا هي في قياس المنصوص فإن الكفارة إنما وجبت في الحلف باسم الله تعظيما لاسمه واظهارا لشرفه
وعظمته، ولا تتحقق التسوية
(فصل) وإن قال هو يستحل الخمر والزنا فعل ثم حنث أو قال هو يستحل ترك الصلاة
أو الصيام أو الزكاة فهو كالحلف بالبراءة من الاسلام لأن استحلاف ذلك يوجب الكفر، وإن قال
عصيت الله فيما أمرني أو في كل ما افترض علي أو محوت المصحف أو أنا أسرف أو أقتل النفس التي حرم
الله إن فعلت وحنث لم تلزمه كفارة لأن هذا دون الشرك، وإن قال أخزاه الله أو أقطع يده أو لعنه الله إن فعل
ثم حنث فلا كفارة عليه نص عليه أحمد، وبهذا قال عطاء والثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي وقال طاوس
والليث عليه كفارة وبه قال الأوزاعي إذا قال عليه لعنة الله
ولنا أن هذا لا يوجب الكفر فأشبه ما لو قال محوت المصحف، وإن قال لا يراني الله في موضع كذا
إن فعلت وحنث فقال القاضي عليه كفارة وذكر أن أحمد نص عليه والصحيح ان هذا لا كفارة فيه لأن
إيجابها في هذا مثله تحكم بغير نص ولا قياس صحيح
200

(فصل) ولا يجوز الحلف بالبراءة من الاسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من قال إني برئ من الاسلام
فإن
كان كاذبا فهو كما قال، وإن كان صادقا لم يعد إلى الاسلام سالما " رواه أبو داود
(مسألة) قال أو (بتحريم مملوكه أو شئ من ماله)
وجملته أنه إذا قال هذا حرام علي ان فعلت وفعل أو قال ما أحل الله علي حرام ان فعلت ثم فعل
فهو مخير ان شاء ترك ما حرمه على نفسه وان شاء كفر، وإن قال هذا الطعام حرام علي فهو كالحلف
على تركه ويروي نحو هذا عن ابن مسعود والحسن وجابر بن زيد وقتادة وإسحاق وأهل العراق
وقال سعيد بن جبير فيمن قال الحل علي حرام يمين من الايمان يكفرها، وقال الحسن هي يمين إلا أن
ينوي طلاق امرأته وعن إبراهيم مثله وعنه ان نوى طلاقا وإلا فليس بشئ وعن الضحاك ان أبا بكر وعمر
وابن مسعود قالوا الحرام يمين وقال طاوس هو ما نوى وقال مالك والشافعي ليس بيمين ولا شئ عليه لأنه قصد
تغيير المشروع فلغا ما قصده كما لو قال هذه ربيبتي
201

ولنا قول الله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك؟ - إلى قوله - قد فرض الله لكم
تحلة أيمانكم) سمى تحريم ما أحل الله يمينا وفرض له تحلة وهي الكفارة، وقالت عائشة رضي الله
عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة
أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحدانا فقالت له ذلك
فقال " لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له " فنزل (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله
لك؟ تبتغي مرضاة أزواجك) متفق عليه، فإن قيل إنما نزلت الآية في تحريم مارية القبطية كذلك قال
الحسن وقتادة، قلنا ما ذكرنا أصح فإنه متفق عليه وقول عائشة صاحبة القصة الحاضرة للتنزيل المشاهدة
للحال أولى والحسن وقتادة لو سمعا قول عائشة لم يعدلا به شيئا ولم يصيرا إلى غيره فكيف يصار إلى قولهما
ويترك قولها؟ وقد روي عن ابن عباس وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل تحريم الحلال يمينا ولو ثبت
أن الآية نزلت في تحريم مارية كان حجة لنا لأنها من الحلال الذي حرم وليست زوجه فوجوب الكفارة
بتحريمها يقتضي وجوبه في كل حلال حرم بالقياس عليها لأنها حرم الحلال فأوجب الكفارة كتحريم الأمة
والزوجة وما ذكروه يبطل بتحريمها، وإذا قال هذه ربيبتي يقصد تحريمها فهو ظهار
202

(مسألة) قال (أو يقول أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله)
هذا قول عامة الفقهاء لا نعلم فيه خلافا وسواء نوى اليمين أو أطلق لأنه لو قال بالله ولم يقل أقسم
ولا أشهد ولم يذكر الفعل كان يمينا، وإنما كان يمينا بتقدير الفعل قبله لأن الباء تتعلق بفعل مقدر
على ما ذكرناه فإذا أظهر الفعل ونطق بالمقدر كان أولى بثبوت حكمه، وقد ثبت له عرف الاستعمال
قال الله تعالى (فيقسمان بالله) وقال تعالى (وأقسموا بالله - وقال - فشهادة أحدهم أربع شهادات
بالله انه لمن الصادقين) ويقول الملاعن في لعانه أشهد بالله أني لمن الصادقين وتقول المرأة أشهد بالله
انه لمن الكاذبين، وأنشد أعرابي عمر
* أقسم بالله لتفعلنه *
وكذلك الحكم ان ذكر الفعل بلفظ الماضي فقال أقسمت بالله أو شهدت بالله قال عبد الله بن
رواحة * أقسمت بالله لتنزلنه * وان أراد بقوله أقسمت بالله الخبر عن قسم ماض أو بقوله أقسم بالله عن
قسم يأتي به فلا كفارة عليه وان ادعى إرادة ذلك قبل منه وقال القاضي لا يقبل في الحكم وهو قول بعض
أصحاب الشافعي لأنه خلاف الظاهر
203

ولنا ان هذا حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإذا علم من نفسه أنه نوى شيئا أو أراده مع احتمال اللفظ
إياه لم تلزمه كفاره، وإن قال شهدت بالله اني آمنت بالله فليس بيمين، وان قال أعزم بالله يقصد
اليمين فهو يمين وإن أطلق فظاهر كلام الخرقي أنه يمين وهو قول ابن حامد، وقال أبو بكر ليس بيمين
وهو قول الشافعي لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الاستعمال وظاهره غير اليمين لأن معناه أقصد
بالله لأفعلن ووجه الأول أنه يحتمل اليمين وقد اقترن به ما يدل عليه وهو جوابه بجواب القسم فيكون
يمينا فاما ان نوى بقوله غير اليمين لم يكن يمينا
(فصل) وإن قال أحلف بالله أو أولي بالله أو حلفت بالله أو آليت بالله أو ألية بالله أو حلفا
بالله أو قسما بالله فهو يمين سواء نوى به اليمين أو أطلق لما ذكرناه في أقسم بالله وحكمه حكمه في تفصيله
لأن الايلاء والحلف والقسم واحد قال الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم) وقال سعد بن معاذ أحلف
بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به. وقال الشاعر
أولي برب الراقصات إلى منى * ومطارح الأكوار حيث تبيت
204

وقال ابن دريد: الية باليعملات ترتمي * بها النجاء بين أجواز الفلا
وقال: بل قسما بالشم من يعرب هل * لمقسم من بعد هذا منتهى؟
(فصل) وان قال أقسمت أو آليت أو حلفت أو شهدت لأفعلن ولم يذكر بالله فعن أحمد
روايتان (إحداهما) أنها يمين وسواء نوى اليمين أو أطلق، وروي نحو ذلك عن عمر وابن عباس
والنخعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه
وعن أحمد ان نوى اليمين بالله كان يمينا وإلا فلا وهو قول مالك وإسحاق وابن المنذر لأنه
يحتمل القسم بالله وبغيره فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة، وقال الشافعي ليس
بيمين وان نوى وروي نحو ذلك عن عطاء والحسن والزهري وقتادة وأبي عبيد لأنها عريت عن اسم الله
وصفته فلم تكن يمينا كما لو قال أقسمت بالبيت
ولنا أنه قد ثبت لها عرف الشرع والاستعمال فإن أبا بكر قال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني
205

بما أصبت مما أخطأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقسم يا أبا بكر " رواه أبو داود وقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم
أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنه فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال " أبررت قسم عمي ولا هجرة " وفي كتاب
الله تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله - إلى قوله - اتخذوا ايمانهم جنة) فسماها
يمينا وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وقالت عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
حلفت لئن عادوا لنصطلمنهم * لجاءوا تردى حجرتيها المقانب
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل
فآليت لا تنفك عيني حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
وقولهم يحتمل القسم بغير الله قلنا إنما يحمل على القسم المشروع ولهذا لم يكن هذا مكروها ولو حمل
على القسم بغير الله كان مكروها، ولو كان مكروها يفعله أبو بكر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبر
النبي صلى الله عليه وسلم قسم العباس حين أقسم عليه
(فصل) وان قال أعزم أو عزمت لم يكن قسما نوى به القسم أو لم ينو لأنه لم يثبت لهذا اللفظ
عرف في شرع ولا استعمال ولا هو موضع للقسم ولا فيه دلالة عليه، وكذلك لو قال استعين
بالله أو أعتصم بالله أو أتوكل على الله أو علم الله أو عز الله أو تبارك الله ونحو هذا لم يكن يمينا نوى أو لم
ينو لأنه ليس بموضوع للقسم لغة ولا ثبت له عرف في شرع ولا استعمال فلم يجب به شئ كما لو قال
سبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله والله أكبر
206

(مسألة) قال (أو بأمانة الله)
قال القاضي لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة، وبهذا قال أبو حنيفة وقال
الشافعي لا تنعقد اليمين بها الا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى لأن الأمانة تطلق على الفرائض
والودائع والحقوق. قال الله تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن
يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان) وقال تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)
يعني الودائع والحقوق وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " وإذا كان
اللفظ محتملا لم يصرف إلى أحد محتملاته الا بنية أو دليل صارف إليه
ولنا أن أمانة الله صفة له بدليل وجوب الكفارة على من حلف بها إذا نوى ويجب حملها على
ذلك عند الاطلاق لوجوه:
(أحدها) ان حملها على غير ذلك صرف ليمين المسلم إلى المعصية أو المكروه لكونه قسما بمخلوق
والظاهر من حال المسلم خلافه.
207

(والثاني) ان القسم في العادة يكون بالمعظم المحترم دون غيره وصفة الله تعالى أعظم حرمة وقدرا
(والثالث) ان ما ذكروه من الفرائض والودائع لم يعهد القسم بها ولا يستحسن ذلك لو صرح به
فذلك لا يقسم بما هو عبارة عنه
(الرابع) أن أمانة الله المضافة إليه هي صفته وغيرها يذكر غير مضاف إليه كما ذكر في الآيات والخبر
(الخامس) أن اللفظ عام في كل أمانة الله لأن اسم الجنس إذا أضيف إلى معرفة أفاد الاستغراق
فيدخل فيه أمانة الله التي هي صفته فتنعقد اليمين بها موجبة للكفارة كما لو نواها
(فصل) فإن قال والأمانة لا فعلت ونوى الحلف بأمانة الله فهو يمين مكفرة موجبة للكفارة
وان أطلق فعلى روايتين:
(إحداهما) يكون يمينا لما ذكرنا من الوجود (والثانية) لا يكون يمينا لأنه لم يضفها إلى الله تعالى
فيحتمل غير ذلك. قال أبو الخطاب: وكذلك إذا قال والعهد والميثاق والجبروت والعظمة والأمانات
فإن نوى يمينا كان يمينا والا فلا، وقد ذكرنا في الأمانة روايتين فيخرج في سائر ما ذكروه
وجهان قياسا عليها.
(فصل) ويكره الحلف بالأمانة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حلف
208

بالأمانة فليس منا " رواه أبو داود وروي عن زياد بن خدير (1) أن رجلا حلف عنده بالأمانة فجعل
يبكى بكاء شديدا فقال له الرجل: هل كان هذا يكره؟ قال نعم كان عمر ينهى عن الحلف
بالأمانة أشد النهي.
(فصل) ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة
بالحنث فيها هذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء، وقال أصحابنا الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم
يمين موجبة للكفارة، وروي عن أحمد أنه قال إذا حلف بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنث فعليه الكفارة
قال أصحابنا لأنه أحد شرطي الشهادة فالحلف به موجب للكفارة كالحلف باسم الله تعالى، ووجه
الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " ولأنه حلف بغير الله فلم يوجب
الكفارة كسائر الأنبياء ولأنه مخلوق فلم تجب الكفارة بالحلف به كإبراهيم عليه السلام ولأنه ليس
بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص، ولا يصح قياس اسم غير الله على اسمه لعدم الشبه وانتفاء
المماثلة وكلام احمد في هذا يحمل على الاستحباب دون الايجاب

(1) زياد بن خدير الأسدي أبو المغيرة روى عن عمر وعلي رضي الله عنهما، روى عنه الشعبي وإبراهيم بن مهاجر وحفص بن حميد وهو ثقة قاله الرازي
209

(مسألة) قال (ولو حلف بهذه الأشياء كلها على شئ واحد فحنث فعليه كفارة واحدة)
وجملته أنه إذا حلف بجميع هذه الأشياء التي ذكرها الخرقي وما يقوم مقامها أو كرر اليمين على
شئ واحد مثل ان قال والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا فحنث فليس
عليه إلا كفارة واحدة روي نحو هذا عن ابن عمر وبه قال الحسن وعروة وإسحاق، وروي أيضا
عن عطاء وعكرمة والنخعي وحماد والأوزاعي، وقال أبو عبيد فيمن قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته
ثم حنث فعليه ثلاث كفارات، وقال أصحاب الرأي عليه بكل يمين كفارة إلا أن يريد التأكيد والتفهيم
ونحوه عن الثوري وأبي ثور وعن الشافعي قولان كالمذهبين، وعن عمرو بن دينار إن كان في مجلس
واحد كقولنا، وإن كان في مجالس كقولهم، واحتجوا بان أسباب الكفارات تكررت فتكرر الكفارات
كالقتل لآدمي وصيد حرمي ولان اليمين الثانية مثل الأولى فتقتضي ما تقتضيه
ولنا انه حنث واحد أوجب جنسا واحدا من الكفارات فلم يجب به أكثر من كفارة كما لو
قصد التأكيد والتفهيم، وقولهم انها أسباب تكررت لا نسلمه فإن السبب الحنث وهو واحد، وإن سلمنا
210

فينتقض بما إذا تكرر الوطئ في رمضان في أيام وبالحدود إذا تكررت أسبابها فإنه كفارات وبما إذا
قصد التأكيد، ولا يصح القياس على الصيد الحرمي لأن الكفارة بدل ولذلك تزداد بكبر الصيد
وتتقدر بقدرة فهي كدية القتيل ولا على كفارة قتل الآدمي لأنها أجريت مجرى البدل أيضا لحق
الله تعالى لأنه لما أتلف آدميا عابدا لله تعالى ناسب أن يوجد عبدا يقوم في العبادة فلما عجز
عن الايجاد لزمه اعتاق رقبة لأن العتق إيجاد للعبد بتخليصه من رق العبودية وشغلها إلى فراغ البال
للعبادة بالحرية التي حصلت بالاعتاق، ثم الفرق ظاهر وهو ان السبب ههنا تكرر بكماله وشروطه وفي
محل النزاع لم يوجد ذلك لأن الحنث إما أن يكون هو السبب أو جزءا منه أو شرطا له بدليل توقف
الحكم على وجوده واياما كان فلم يتكرر فلم يجز الالحاق ثم وإن صح القياس فقياس كفارة اليمين على
مثلها أولى من قياسها على القتل لبعد ما بينهما
(فصل) وإذا حلف يمينا واحدة على أجناس مختلفة فقال والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست
فحنث في الجميع فكفارة واحدة لا أعلم فيه خلافا لأن اليمين واحدة والحنث واحد فإنه بفعل واحد
من المحلوف عليه يحنث وتنحل اليمين، وإن حلف أيمانا على أجناس فقال والله لا أكلت والله
211

لا شربت والله لا لبست فحنث في واحدة منها فعليه كفارة فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى لزمته
كفارة أخرى لا نعلم في هذا أيضا خلافا لأن الحنث في الثانية تجب به الكفارة بعد أن كفر عن الأولى
فأشبه ما لو وطئ في رمضان فكفر ثم وطئ مرة أخرى فإن حنث في الجميع قبل التكفير فعليه في
كل يمين كفارة وهذه ظاهر كلام الخرقي. ورواه المروذي عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم
وقال أبو بكر تجزئه كفارة واحدة ورواها ابن منصور عن أحمد قال القاضي وهي الصحيحة
وقال أبو بكر ما نقله المروذي عن أحمد قول لأبي عبد الله ومذهبه ان كفارة واحدة تجزئه وهو قول
إسحاق لأنها كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس، وإن اختلفت محالها بان يسرق
من جماعة أو يزني بنساء
ولنا انهن أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفر إحداهما بكفارة الأخرى
كما لو كفر عن إحداهما قبل الحنث في الأخرى وكالأيمان المختلفة الكفارة وبهذا فارق الايمان على
شئ واحد فإنه متى حنث في إحداهما كان حانثا في الأخرى فإن كان الحنث واحدا كانت الكفارة
واحدة وههنا تعدد الحنث فتعددت الكفارات، وفارق الحدود فإنها وجبت للزجر وتندرئ
212

بالشبهات بخلاف مسئلتنا، لأن الحدود عقوبة بدنية فالموالاة بينها ربما أفضت إلى التلف فاجتزئ
بأحدها وههنا الواجب اخراج مال يسير أو صيام ثلاثة أيام فلا يلزم الضرر الكثير بالموالاة فيه
ولا يخشى منه التلف
(مسألة) قال (ولو حلف على شئ واحد بيمينين مختلفي الكفارة لزمته في كل
واحدة من اليمينين كفارتها)
هذا مثل الحلف بالله وبالظهار وبعتق عبده فإذا حنث فعليه كفارة يمين وكفارة ظهار ويعتق
العبد لأن تداخل الأحكام إنما يكون مع اتحاد الجنس كالحدود من جنس والكفارات ههنا أجناس
وأسبابها مختلفة فلم تتداخل كحد الزنا والسرقة والقذف والشرب
(مسألة) قال (ومن حلف بحق القرآن لزمته بكل آية كفارة يمين)
نص على هذا احمد وهو قول ابن مسعود والحسن وعنه ان الواجب كفارة واحدة، وهو
213

قياس المذهب ومذهب الشافعي وأبي عبيد لأن الحلف بصفات الله كلها وتكرر اليمين بالله سبحانه
لا يوجب أكثر من كفاره واحدة فالحلف بصفة واحدة من صفاته أولى أن تجزئه كفارة واحدة
ووجه الأول ما روى مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف بسورة من القرآن فعليه
بكل آية كفارة يمين صبر فمن شاء بر ومن شاء فجر " رواه الأثرم ولان ابن مسعود قال عليه بكل
آية كفارة يمين ولم نعرف مخالفا له في الصحابة فكان اجماعا قال احمد وما أعلم شيئا يدفعه، ويحتمل
أن كلام احمد: في كل آية كفارة على الاستحباب لمن قدر عليه فإنه قال عليه بكل آية كفارة
فإن لم يمكنه فكفارة واحدة ورده إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليها غير واجب وكلام
ابن مسعود أيضا يحمل على الاختيار والاحتياط لكلام الله والمبالغة في تعظيمه كما أن عائشة أعتقت
أربعين رقبة حين حلفت بالعهد وليس ذلك بواجب ولا يجب أكثر من كفارة لقول الله تعالى
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين)
وهذه يمين فتدخل في عموم الايمان المنعقدة ولأنها يمين واحدة فلم توجب كفارات كسائر
الايمان ولان إيجاب كفارات بعدد الآيات يفضي إلى المنع من البر والتقوى والاصلاح بين الناس
214

لأن من علم أنه بحنثه تلزمه هذه الكفارات كلها ترك المحلوف عليه كائنا ما كان وقد يكون برا وتقوى
واصلاحا فتمنعه منه وقد نهى الله تعالى عنه بقوله (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا
وتصلحوا بين الناس) وإن قلنا بوجوب كفارات بعدد الآيات فلم يطق أجزأته كفارة واحدة نص عليه احمد
(مسألة) قال (وعن أبي عبد الله فيمن حلف بنحو ولده روايتان إحداهما كفارة
يمين والأخرى يذبح كبشا)
اختلفت الرواية فيمن حلف بنحر ولده نحو ان يقول إن فعلت كذا فلله علي أن اذبح ولدي
أو يقول ولدي نحير ان فعلت كذا أو نذر ذبح ولده مطلقا غير معلق بشرط فعن أحمد عليه
كفارة يمين وهذا قياس المذهب لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاح وكلاهما يوجب الكفارة،
وهو قول ابن عباس. فإنه روي عنه أنه قال لامرأة نذرت ان تذبح ابنها لا تنحري ابنك
وكفري عن يمينك.
215

(والرواية الثانية) كفارته ذبح كبش ويطعمه المساكين، وهو قول أبي حنيفة ويروى ذلك
عن ابن عباس أيضا لأن نذر ذبح الولد جعل في الشرع كنذر ذبح شاة بدليل ان الله تعالى أمر
إبراهيم بذبح ولده وكان أمرا بذبح شاة وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه، ودليل انه أمر
بذبح شاة ان الله لا يأمر بالفحشاء ولا بالمعاصي وذبح الولد من كبائر المعاصي قال الله تعالى (ولا
تقتلوا أولادكم خشية إملاق) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أكبر الكبائر ان تجعل لله ندا وهو خلقك " قيل ثم
أي؟ قال " ان تقتل ولدك خشية ان يطعم معك "
وقال الشافعي ليس هذا بشئ ولا يجب به شئ لأنه نذر معصية لا يجب الوفاء به ولا يجوز ولا
تجب به كفارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم " وقوله عليه السلام
" ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "
ولنا قوله عليه السلام " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " ولان النذر حكمه حكم اليمين
بدليل قوله عليه السلام " النذر حلفه وكفارته كفارة يمين " فيكون بمنزلة من حلف ليذبحن ولده
وقولهم ان النذر لذبح الولد كناية عن ذبح كبش لا يصح لأن إبراهيم لو كان مأمورا بذبح كبش لم يكن
216

الكبش فداء ولا كان مصدقا للرؤيا قبل ذبح الكبش وإنما أمر بذبح ابنه ابتلاء ثم فدي بالكبش
وهذا أمر اختص بإبراهيم عليه السلام لا يتعداه إلى غيره لحكمة علمها الله تعالى فيه ثم لو كان إبراهيم
مأمورا بذبح كبش فقد ورد شرعنا بخلافه فإن نذر ذبح الابن ليس بقربة في شرعنا ولا مباح بل هو
معصية فتكون كفارته ككفارة سائر نذور المعاصي
(فصل) وإن نذر ذبح نفسه أو أجنبي ففيه أيضا عن أحمد روايتان، وعن ابن عباس أيضا فيه روايتان
نقل ابن منصور عن أحمد فيمن نذر أن ينحر نفسه إذا حنث يذبح شاة وكذلك إن نذر ذبح
أجنبي لأنه روي عن ابن عباس في الذي قال أنا أنحر فلانا فقال عليه ذبح كبش، ولأنه نذر ذبح
آدمي فكان عليه ذبح كبش كنذر ذبح ابنه (والثانية) عليه كفارة يمين لأنه نذر معصية فكان
موجبه كفارة لما ذكرنا فيما تقدم
وروى الجوزجاني باسناده عن الأوزاعي قال حدثني أبو عبيد قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال
إني نذرت ان انحر نفسي قال فتجهمه ابن عمر وأفف منه ثم أتى ابن عباس فقال له اهد مائة بدنة
ثم أتى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له أرأيت لو نذرت أن لا تكلم أباك أو أخاك؟ إنما
217

هذه خطوة من خطوات الشيطان استغفر الله وتب إليه ثم رجع إلى ابن عباس فأخبره فقال:
أصاب عبد الرحمن ورجع ابن عباس عن قوله، والصحيح في هذا انه نذر معصية حكمه حكم نذر
سائر المعاصي لا غير
(فصل) قال احمد في امرأة نذرت نحر ولدها ولها ثلاثة أولاد تذبح عن كل واحد كبشا
وتكفر يمينها وهذا على قوله ان كفارة نذر ذبح الولد ذبح كبش، وجعل عن كل واحد كبشا لأن لفظ
الواحد إذا أضيف اقتضى التعميم فكان عن كل واحد كبش، فإن عنت بنذرها واحدا فإنما عليها
كبش واحد بدليل ان إبراهيم عليه السلام لما أمر بذبح ابنه الواحد فدي بكبش واحد ولم يفد غير
من أمر بذبحه من أولاده وكذا ههنا، وعبد المطلب لما نذر ذبح ابن من بنيه إن بلغوا عشرة لم يفد
منهم إلا واحدا، وسواء نذرته معينا أو عنت واحدا غير معين فأما قول احمد وتكفر يمينها فيحتمل انه
أراد ان ذبح الكبش كفارة يمينها ويحتمل انه كان مع نذرها يمين، وأما على الرواية الأخرى تجزئها
كفارة يمين على ما سبق
218

(مسألة) قال (ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك من عبيده وإمائه
ومكاتبيه ومدبريه وأمهات أولاده وشقص يملكه من مملوكه)
معناه إذا قال إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر أو عتيق أو فكل ما أملك حر فإن هذا إذا
حنث عتق مماليكه ولم تغن عنه كفارة. روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال ابن أبي ليلى
والثوري ومالك والأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق، وروي عن ابن عمر وأبي هريرة وعائشة
وأبي سلمة وحفصة وزينب بنت أبي سلمة والحسن وأبي ثور تجزئه كفارة يمين لأنها يمين فتدخل في
عموم قول الله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين)
وروي عن أبي رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي
وهي يهودية وهي نصرانية ان لم تفرق بينك وبين امرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة ثم أتيت
حفصة إلى أن قال ثم أتيت ابن عمر فجاء معي إليها فقام على الباب فسلم فقال أمن حجارة أنت أم من
حديد أفتتك زينب، وأفتتك أم المؤمنين، كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته. رواه
الأثرم والجوزجاني مطولا
219

ولنا أنه علق العتق على شرط وهو قابل للتعليق فيقع بوجود شرطه كالطلاق والآية مخصوصة
بالطلاق والعتق في معناه ولان العتق ليس بيمين في الحقيقة إنما هو تعليق على شرط فأشبه الطلاق
فاما حديث أبي رافع احمد قال فيه " كفري عينك وأعتقي جاريتك " وهذه زيادة يجب قبولها ويحتمل
أنها لم يكن لها مملوك سواها
(فصل) فاما ان قال فإن فعلت فلله علي ان أعتق عبدي أو أحرره أو نحو هذا لم يعتق بحنثه
وكفر كفارة يمين على ما ذكرنا في نذر اللجاج لأن هذا لم يعلق عتق العبد إنما حلف على تعليق العتق
بشرط بخلاف الذي قبله
(فصل) وإذا حنث عتق عليه عبيده واماؤه ومدبروه وأمهات أولاده ومكاتبوه والأشقاص
التي يملكها من العبيد والإماء وبهذا قال أبو ثور والمزني وابن المنذر. وعن أحمد رواية أخرى
لا يعتق الشقص إلا أن ينويه ولعله ذهب إلى أن الشقص لا يقع عليه اسم العبد، وقال أبو حنيفة وصاحباه
220

وإسحاق لا يعتق المكاتب وهو قول الشافعي لأنه خارج عن ملك سيده وتصرفه فلم يدخل في اسم
مماليكه كالحر، وقال الربيع سماعي من الشافعي انه يعتق
ولنا انه مملوكا فيعتق كالمدبر ودليل كونه مملوكه قوله عليه السلام " المكاتب عبد ما بقي عليه
درهم " وقوله لعائشة " اشتري بريرة وأعتقيها " وكانت مكاتبة ولا يصح شراء غير المملوك ولا
عتقه ولأنه يصح اعتاقه بالاجماع وأحكامه أحكام العبيد ولأنه مملوك فلا بد له من مالك ولأنه يصح
اعتاقه بالمباشرة فدخل في العتق بالتعليق كسائر عبيده. وأما الشقص فإنه مملوك له قابل للتحرير
فيدخل في عموم لفظه
(فصل) فإن قال عبد فلان حر ان دخلت الدار ثم دخلها لم يعتق العبد بغير خلاف لأنه لا يعتق
باعتاقه ناجزا فلا يعتق بالتعليق أولى وهل تلزمه كفارة يمين؟ فيه عن أحمد روايتان ذكرهما ابن أبي موسى
(إحداهما) عليه كفاره لأنه حلف بالعتق فيما لا يقع بالحنث فلزمته كفارة كما لو قال لله علي أن أعتق فلانا
221

(والثانية) لا كفارة عليه لأنه حلف باخراج مال غيره فلم يلزمه شئ كما لو قال مال فلان صدقة
ان دخلت الدار ولأنه تعليق للعتق على صفة فلم تجب به كفارة كسائر التعليق. وأما إذا قال لله علي
ان أعتق عبدا فإنه نذر فأوجب الكفارة لكون النذر كاليمين وليس كذلك ههنا فإنه إنما علق العتق
على صفة فوجود الصفة أثر في جعل المعلق كالمنجز ولو نجز العتق لم يلزمه شئ فكذلك ههنا
(فصل) فإن قال إن فعلت كذا فمال فلان صدقة أو فعلي فلان حجة أو فمال فلان حرام عليه
أو هو برئ من الاسلام وأشباه هذا فليس ذلك بيمين ولا تجب به كفارة ولا نعلم بين أهل العلم
فيه خلافا لأنه لم يرد الشرع فيه بكفارة ولا هو في معنى ما ورد الشرع به
(مسألة) قال (ومن حلف فهو مخير في الكفارة قبل الحنث وبعده وسواء كانت الكفار
صوما أو غيره إلا في الظهار والحرام فعليه الكفارة قبل الحنث)
الظهار والحرام شئ واحد وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين ولا خلاف بين
العلماء فيما علمناه في وجوب تقديم كفارته على الوطئ والأصل فيه قول الله تعالى (فتحرير رقبة من
قبل أن يتماسا) فأما كفارة سائر الايمان فإنها تجوز قبل الحنث وبعده صوما كانت أو غيره في قول
222

أكثر أهل العلم، وبه قال مالك. وممن روي عنه جواز تقديم التكفير عمر بن الخطاب وأبنه
وابن عباس وسلمان الفارسي ومسلمة بن مخلد رضي الله عنهم وبه قال الحسن وابن سيرين وربيعة
والأوزاعي والثوري وابن المبارك وإسحاق وأبو عبيد وأبو خيثمة وسليمان بن داود، وقال أصحاب
الرأي لا تجزئ الكفارة قبل الحنث لأنه تكفير قبل وجود سببه فأشبه ما لو كفر قبل اليمين
ودليل ذلك أن سبب التكفير الحنث إذ هو هتك الاسم المعظم المحترم ولم يوجد، وقال الشافعي
كقولنا في الاعتاق والاطعام والكسوة وكقولهم في الصيام من أجل انه عبادة بدنية فلم يجز فعله
قبل وجوبه لغير مشقة كالصلاة
ولنا ما روى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حلفت على يمين فرأيت
غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير " رواه أبو داود، وفي لفظ " وائت الذي هو
خير " رواه البخاري والأثرم، وروى أبو هريرة وأبو الدرداء وعدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو
ذلك رواه الأثرم وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اني إن شاء لا أحلف على يمين فأرى
غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يمين وأتيت الذي هو خير - أو - أتيت الذي هو خير وكفرت عن
223

يمني " رواه البخاري ولأنه كفر بعد وجود السبب فأجزأ كما لو كفر بعد الجرح وقبل الزهوق
والسبب هو اليمين بدليل قوله تعالى (ذلك كفارة أيمانكم) وقوله سبحانه (قد فرض الله لكم تحلة
أيمانكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (وكفرت عن يميني - وكفر يمينك " وتسمية الكفارة كفارة اليمين وبهذا
ينفصل عما ذكروه فإن الحنث شرط وليس بسبب وتعجيل حق المال بعد وجود سببه وقبل وجود
شرطه جائز بدليل تعجيل الزكاة بعد وجود النصاب قبل الحول وكفارة القتل بعد الجرح وقبل
الزهوق، قال ابن عبد البر العجب من أصحاب أبي حنيفة أجازوا تقديم الزكاة من غير أن يرووا فيها
مثل هذه الآثار الواردة في تقديم الكفارة ويأبون تقديم الكفارة مع كثرة الرواية الواردة
فيها، والحجة في السنة ومن خالفها محجوج بها فاما أصحاب الشافعي فهم محجوجون بالأحاديث
مع أنهم قد احتجوا بها في البعض وخالفوها في البعض وفرقوا بين ما جمع بينه النص، ولان الصيام
نوع تكفير فجاز قبل الحنث كالتكفير بالمال، وقياس الكفارة على الكفارة أولى من قياسها على
الصلاة المفروضة بأصل الوضع
(فصل) فاما التكفير قبل اليمين فلا يجوز عند أحد من العلماء لأنه تقديم للحكم قبل سببه فلم يجز
224

كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب وكفارة القتل قبل الجرح
(فصل) والتكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة، وقال ابن أبي موسى بعده أفضل عند أحمد
وهو قول الشافعي ومالك والثوري لما فيه من الخروج من الخلاف وحصول اليقين ببراءة الذمة
ولنا أن الأحاديث الواردة فيه فيها التقديم مرة والتأخير أخرى وهذا دليل التسوية ولأنه تعجيل
مال يجوز تعجيله قبل وجوبه فلم يكن التأخير أفضل كتعجيل الزكاة وكفارة القتل، وما ذكروه
معارض بتعجيل النفع للفقراء والتبرع بما لم يجب عليه، وعلى أن الخلاف المخالف للنصوص لا يوجب
تفضيل المجمع عليه كترك الجمع بين الصلاتين
(فصل) وإن كان الحنث في اليمين محظورا فعجل الكفارة قبله ففيه وجهان
(أحدهما) تجزئه لأنه عجل الكفارة بعد سببها فأجزأته كما لو كان الحنث مباحا
(والثاني) لا تجزئه لأن التعجيل رخصة فلا يستباح بالمعصية كالقصر في سفر المعصية والحديث
لم يتناول المعصية فإنه قال " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر " وهذا لم ير غيرها
خيرا منها ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان كما ذكرنا
225

(مسألة) قال (وإذا حلف فقال إن شاء الله تعالى فإن شاء فعل وإن شاء ترك ولا
كفارة عليه إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام)
وجملة ذلك أن الحالف إذا قال إن شاء الله مع يمينه فهذا يسمى استثناء فإن ابن عمر روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى " رواه أبو داود وأجمع العلماء على
تسميته استثناء وانه متى استثنى في يمينه لم يحنث فيها والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف
فقال إن شاء الله لم يحنث " رواه الترمذي
وروى أبو داود " من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك " ولأنه متى قال لأفعلن
إن شاء الله فقد علمنا أنه متى شاء الله فعل ومتى لم يفعل لم يشاء الله ذلك فإن ما شاء الله كان ومتى
لم يشأ لم يكن. إذا ثبت هذا فإنه يشترط أن يكون الاستثناء متصلا باليمين بحيث لا يفصل بينهما
كلام أجنبي ولا يسكت بينهما سكوتا يمكنه الكلام فيه فأما السكوت لانقطاع نفسه أو صوته أو عي
أو عارض من عطشه أو شئ غيرها فلا يمنع صحة الاستثناء وثبوت حكمه وبهذا قال مالك والشافعي
226

والثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي وإسحاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " حلف فاستثنى " وهذا
يقتضي كونه عقيبه ولان الاستثناء من تمام الكلام فاعتبر اتصاله به كالشرط وجوابه وخبر المبتدأ
والاستثناء بالا، ولان الحالف إذا سكت ثبت حكم يمينه وانعقدت موجبة لحكمها وبعد ثبوته لا يمكن
دفعه ولا تغييره قال احمد حديث النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة " إذا حلفت على يمين فرأيت
غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك " ولم يقل فاستثن ولو جاز الاستثناء في كل حال لم يحنث حانث به
وعن أحمد رواية أخرى انه يجوز الاستثناء إذا لم يطل الفصل بينهما. قال في رواية المروذي
حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " والله لأغزون قريشا - ثم سكت ثم قال - إن شاء الله " إنما
هو استثناء بالقرب ولم يخلط كلامه بغيره
ونقل عنه إسماعيل بن سعيد مثل هذا وزاد قال ولا أقول فيه بقول هؤلاء يعني من لم ير ذلك
إلا متصلا ويحتمل كلام الخرقي هذا لأنه قال إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام ولم يشترط اتصال
الكلام وعدم السكوت وهذا قول الأوزاعي قال في رجل حلف لا أفعل كذا وكذا ثم سكت ساعة
لا يتكلم ولا يحدث نفسه بالاستثناء فقال له انسان قل إن شاء الله فقال إن شاء الله أيكفر يمينه؟ قال أراه
قد استثنى، وقال قتادة له أن يستثني قبل ان يقوم أو يتكلم. ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى بعد
سكوته إذ قال " والله لأغزو قريشا - ثم سكت ثم قال - إن شاء الله " واحتج به احمد ورواه أبو داود
227

وزاد قال الوليد بن مسلم ثم لم يغزهم ويشترط على هذه الرواية أن لا يطيل الفصل بينهما ولا يتكلم
بينهما بكلام أجنبي
وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه قال يصح الاستثناء ما دام في المجلس وحكي ذلك
عن الحسن عطاء، وعن عطاء أنه قال قدر حلب الناقة العزوزة، وعن ابن عباس ان له ان يستثنى
بعد حين وهو قول مجاهد وهذا القول لا يصح لما ذكرناه وتقديره بمجلس أو غيره لا يصح لأن
التقديرات بابها التوقيف فلا يصار إليها بالتحكم
(فصل) ويشترط أن يستثني بلسانه ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامة أهل العلم منهم
الحسن والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو حنيفة وابن
المنذر ولا نعلم لهم مخالفا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من حلف فقال إن شاء الله " والقول هو النطق،
ولان اليمين لا تنعقد بالنية فكذلك الاستثناء، وقد روي عن أحمد إن كان مظلوما فاستثنى في نفسه
رجوت ان يجوز إذا خاف على نفسه فهذا في حق الخائف على نفسه لأن يمينه غير منعقدة أو لأنه
بمنزلة المتأول وأما في حق غيره فلا
(فصل) واشترط القاضي أن يقصد الاستثناء فلو أراد الجزم فسبق لسانه إلى الاستثناء من غير قصد
228

أو كانت عادته جارية بالاستثناء فجرى لسانه على العادة من غير قصد لم يصح لأن اليمين لما لم ينعقد
من غير قصد فكذلك الاستثناء، وهذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم أنه لا يصح الاستثناء حتى يقصده
مع ابتداء يمينه فلو حلف غير قاصد للاستثناء ثم عرض له بعد فراغه من اليمين فاستثنى لم ينفعه ولا
يصح لأن هذا يخالف عموم الخبر فإنه قال " من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث " ولان لفظ الاستثناء
يكون عقيب يمينه فكذلك نيته
(فصل) يصح الاستثناء في كل يمين مكفرة كاليمين بالله والظهار والنذر، وقال ابن أبي موسى
من استثنى في يمين تدخلها كفارة فله ثنياه لأنها ايمان مكفرة فدخلها الاستثناء كاليمين بالله تعالى
فلو قال أنت علي كظهر أمي إن شاء الله تعالى أو أنت علي حرام إن شاء الله أو ان دخلت الدار فأنت
علي كظهر أمي إن شاء الله أو لله علي أن أتصدق بمائه درهم إن شاء الله لم يلزمه شئ لأنها ايمان فتدخل
في عموم قوله " من حلف فأقل إن شاء الله لم يحنث "
(فصل) وان قال والله لأشربن اليوم الا أن يشاء الله أو لا أشرب الا أن يشاء الله لم
يحنث بالشرب ولا بتركه لما ذكرنا في الاثبات، ولا فرق بين تقديم الاستثناء وتأخيره في هذا
كله فإذا قال والله إن شاء الله لا أشرب اليوم أو لأشربن ففعل أو ترك لم يحنث لأن تقديم
229

الشرط وتأخيره سواء. قال الله تعالى (ان امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك
وهو يرثها ان لم يكن لها ولد)
[فصل] وان قال والله لأشربن اليوم ان شاء زيد فشاء زيد لزمه الشرب فإن تركه حتى مضى
اليوم حنث وان لم يشأ زيد لم يلزمه يمين فإن لم تعلم مشيئته لغيبة أو جنون أو موت انحلت اليمين
لأنه لم يوجد الشرط، وان قال والله لا أشرب الا أن يشاء زيد فقد منع نفسه الشرب الا أن توجد
مشيئة زيد فإن شاء فله الشرب وان لم يشأ لم يشرب وان خفيت مشيئته لغيبة أو موت أو جنون لم
يشرب، وان شرب حنث لأنه منع نفسه إلا أن توجد المشيئة فلم يكن له أن يشرب قبل وجودها
وان قال والله لأشربن إلا أن يشاء زيد فقد ألزم نفسه الشرب الا أن يشاء زيد أن لا يشرب لأن
الاستثناء ضد المستثنى منه والمستثنى إيجاب لشربه بيمينه فإن شرب قبل مشيئة زيد بر، وان قال زيد قد
شئت أن لا يشرب انحلت اليمين لأنها معلقة بعدم مشيئته لترك الشرب ولم تتقدم فلم يوجد شرطها، وان
قال قد شئت أن يشرب أو ما شئت أن لا يشرب لم تنحل اليمين لأن هذه المشيئة غير المستثناة فإن
خفيت مشيئته لزمه الشرب لأنه علق وجوب الشرب بعدم المشيئة وهي معدومة بحكم الأصل، وان
قال والله لا أشرب اليوم إن شاء زيد فقال زيد قد شئت أن لا تشرب فشرب حنث، وان شرب قبل مشيئته
230

لم يحنث لأن الامتناع من الشرب معلق بمشيئته ولم تثبت مشيئته فلم يثبت الامتناع بخلاف التي قبلها وان
خفيت مشيئته فهي في حكم المعدومة والمشيئة في هذه المواضع أن يقول بلسانه
(مسألة) قال (وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله
رحمه الله أنه توقف عن الجواب وقد قطع في موضع أنه لا ينفعه الاستثناء)
يعني إذا قال لزوجته أنت طالق إن شاء الله أو لعبده أنت حر إن شاء الله توقف أحمد في
الجواب لاختلاف الناس فيها وتعارض الأدلة وفي موضع قطع أنه لا ينفعه الاستثناء فيهما قال في
رواية إسحاق بن منصور وحنبل من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث وليس له استثناء في الطلاق
والعتاق قال حنبل لأنهما ليسا من الايمان وبه قال مالك والأوزاعي والحسن وقتادة، وقال طاوس
وحماد والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي يجوز الاستثناء فيهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف
فقال إن شاء الله لم يحنث " ولأنه علق الطلاق والعتاق بشرط لم يتحقق وجوده فلم يقعا كما لو علقه
بمشيئة زيد ولم تتحقق مشيئته
ولنا أنه أوقع الطلاق والعتاق في محل قابل فوقع كما لو لم يستثن، والحديث إنما تناول الايمان
وليس هذا بيمين إنما هو تعليق على شرط قال ابن عبد البر إنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله
231

تعالى وقول المتقدمين الايمان بالطلاق والعتاق إنما جاز على التقريب والاتساع ولا يمين في الحقيقة الا بالله
وهذا طلاق وعتاق وقد ذكرنا هذه المسألة في الطلاق بأبسط من هذا
(مسألة) قال (وإذا قال إن تزوجت فلانة فهي طاق لم تطلق ان تزوج بها وإن قال إن
ملكت فلانا فهو حر فملكه صار حرا)
اختلفت الرواية عن أحمد في هاتين المسئلتين فعنه لا يقع طلاق ولا عتق روي هذا عن ابن عباس
وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعروة وجابر بن زيد وسوار والقاضي والشافعي وأبو ثور
وابن المنذر ورواه الترمذي عن علي وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين وشريح
وغير واحد من فقهاء التابعين قال وهو قول أكثر أهل العلم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك ولا طلاق لابن
آدم فيما لا يملك " قال الترمذي وهذا حديث حسن وهو أحسن ما روي في هذا الباب وعن عائشة رضي
الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وان عينها " رواه الدارقطني
وروى أبو بكر في الشافي عن الخلال عن الرمادي عن عبد الرزاق عن معمر عن جويبر عن الضحاك
عن النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا طلاق قبل نكاح "، قال احمد هذا
232

عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من الصحابة، ولان من لا يقع طلاقه وعتقه بالمباشرة لم تنعقد له صفة كالمجنون
ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون اجماعا (والرواية الثانية) عن أحمد
انه يصح في العتق ولا يصح في الطلاق قال في رواية أبي طالب إذا قال إن اشتريت هذا الغلام
فهو حر فاشتراه عتق وان قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فهذا غير الطلاق هذا حق لله تعالى
والطلاق يمين ليس هو لله تعالى ولا فيه قربة إلى الله تعالى، قال أبو بكر في كتاب الشافي لا يختلف قول
أبي عبد الله ان الطلاق إذا وقع قبل النكاح لا يقع وان العتاق يقع إلا ما روى محمد بن الحسن بن هارون
في العتق انه لا يقع وما أراه إلا غلطا كذلك سمعت الخلال يقول فإن كان حفظ فهو قول آخر والفرق
بينهما ان ناذر العتق يلزمه الوفاء به وان ناذر الطلاق لا يلزمه الوفاء به فكما افترقا في النذر جاز ان
يفترقا في اليمين، ولأنه لو قال لامته: أول ولد تلدينه فهو حر فإنه يصح وهو تعليق للحرية على الملك
وعن أحمد رحمه الله ما يدل على وقوع الطلاق والعتق وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه
يصح تعليقه على الاخطار فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية والنذر واليمين. وقال مالك إن خص
جنسا من الأجناس أو عبدا بعينه عتق إذا ملكه، وإن قال كل عبد أملكه فهو حر لم يصح والأول
أصح إن شاء الله تعالى لأنه للطلاق والعتاق قبل الملك فأشبه ما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار
فأنت طالق أو لامة غيره إن دخلت الدار فأنت حرة ثم تزوج الأجنبية وملك الأمة ودخلتا الدار
فإن الطلاق لا يقع ولا تعتق الأمة بغير خلاف نعلمه
233

(مسألة) قال (ولو حلف أن لا ينكح فلانة أو لا اشتريت فلانة فنكحها نكاحا فاسدا
أو اشتراها شراء فاسدا لم يحنث)
وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا قال لعبده إن زوجتك أو بعتك فأنت حر فزوجه
تزويجا فاسدا لم يعتق وإن باعه بيعا فاسدا يملك به حنث لأن البيع الفاسد عنده يثبت به الملك إذا
اتصل به القبض، ولنا أن اسم البيع ينصرف إلى الصحيح بدليل ان قول الله تعالى (وأحل الله
البيع) وأكثر ألفاظه في البيع إنما ينصرف إلى الصحيح فلا يحنث بما دونه كما في النكاح كالصلاة
وغيرها، وما ذكروه من ثبوت الملك به لا نسلمه
وقال ابن أبي موسى لا يحنث بالنكاح الفاسد وهل يحنث بالبيع الفاسد؟ على روايتين، وقال
أبو الخطاب إن نكحها نكاحا مختلفا فيه مثل أن يتزوجها بلا ولي ولا شهود أو باع في وقت النداء
فعلى وجهين، وقال ابن أبي موسى ان تزوجها تزويجا مختلفا فيه أو ملك ملكا مختلفا فيه حنث
فيهما جميعا، ولنا انه نكاح فاسد وبيع فاسد فلم يحنث بهما كالمتفق على فسادهما
(فصل) والماضي والمستقبل سواء في هذا، وقال محمد بن الحسن إذا حلف ما صليت ولا تزوجت
ولا بعت وكان قد فعله فاسدا حنث لأن الماضي لا يقصد منه إلا الاسم والاسم يتناوله والمستقبل بخلافه
فإنه يراد بالنكاح والبيع الملك وبالصلاة القربة
234

ولنا أن ما لا يتناوله الاسم في المستقبل لا يتناوله في الماضي كالايجاب وكغير المسمى، وما ذكروه
لا يصح لأن الاسم لا يتناول إلا الشرعي ولا يحصل
(فصل) وإن حلف لا يبيع فباع بيعا فيه الخيار حنث، وقال أبو حنيفة لا يحنث لأن الملك
لا يثبت في مدة الخيار فأشبه البيع الفاسد
ولنا انه بيع صحيح شرعي فيحنث به كالبيع اللازم، وما ذكروه لا يصح فإن بيع الخيار يثبت
الملك به بعد انقضاء الخيار بالاتفاق وهو سبب له، ولا نسلم ان الملك لا يثبت في مدة الخيار
(فصل) وان حلف لا يبيع أو لا يزوج فأوجب البيع والنكاح ولم يقبل المتزوج والمشتري لم
يحنث وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن البيع والنكاح عقدان لا يتمان إلا بالقبول
فلم يقع الاسم على الايجاب بدونه فلم يحنث به، وإن حلف لا يهب ولا يعير فأوجب ذلك ولم يقبل الآخر
فقال القاضي يحنث وهو قول أبي حنيفة وابن سريج لأن الهبة والعارية لا عوض فيهما فكان مسماهما
الايجاب والقبول شرط لنقل الملك وليس هو من السبب فيحنث بمجرد الايجاب فيهما كالوصية
وقال الشافعي لا يحنث بمجرد الايجاب لأنه عقد لا يتم إلا بالقبول فلم يحنث فيه بمجرد الايجاب
كالنكاح والبيع. فأما الوصية والهدية والصدقة فقال أبو الخطاب يحنث فيها بمجرد الايجاب ولا
أعلم قول الشافعي فيها إلا أن الظاهر أنه لا يخالف في الوصية والهدية لأن الاسم يقع عليهما بدون
القبول ولهذا لما قال الله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين
235

والأقربين) إنما أراد الايجاب دون القبول ولان الوصية صحيحة قبل موت الموصي ولا قبول لها حينئذ
(فصل) وإن حلف لا يتزوج حنث بمجرد الايجاب والقبول الصحيح لا نعلم فيه خلافا لأن ذلك
يحصل به المسمى الشرعي فتناولته يمينه، وإن حلف ليتزوجن بر بذلك سواء كانت له امرأة أو لم
يكن وسواء تزوج نظيرتها أو دونها أو أعلى منها الا أن يحتال على حل يمينه بتزويج لا يحصل
مقصودها مثل أن يواطئ امرأته على نكاح لا يغيظها به ليبر في يمينه فلا؟؟؟ بهذا، وقال أصحابنا:
إذا حلف ليتزوجن على امرأته لا يبر حتى يتزوج نظيرتها ويدخل بها وهو قول مالك لأنه قصد
غيظ زوجته ولا يحصل إلا بذلك
ولنا انه تزوج تزويجا صحيحا فبر به كما لو تزوج نظيرتها ودخل بها، وقولهم ان الغيظ لا يحصل
الا بتزويج نظيرتها والدخول غير مسلم فإن الغيظ يحصل بمجرد الخطبة وان حصل بما ذكروه زيادة
في الغيظ فلا تلزمه الزيادة على الغيظ الذي يحصل بما تناولته يمينه كما أنه لا يلزمه نكاح اثنتين ولا ثلاث
ولا أعلى من نظيرتها، والذي تناولته يمينه مجرد التزويج ولذلك لو حلف لا يتزوج على امرأته حنث بهذا
فكذلك يحصل البر به لأن المسمى واحد فما تناوله النفي تناوله في الاثبات وإنما لا يبر إذا تزوج تزويجا
لا يحصل به الغيظ كما ذكرناه من الصورة ونظائرها لأن مبنى الايمان على المقاصد والنيات ولم يحصل
236

مقصوده ولان التزويج ههنا يحصل حيلة على التخلص من يمينه بما لا يحصل مقصودها فلم تقبل منه
حيلته، وقد نص أحمد على هذا فقال إذا حلف ليتزوجن على امرأته فتزوج بعجوز أو زنجية لا يبر لأنه
أراد أن يغمها ويغيرها، وبهذا لا تغار ولا تغتم فعلله احمد بما لا يغيظ بها الزوجة ولم يعبر أن تكون
نظيرتها لأن الغيظ لا يتوقف على ذلك ولو قدر ان تزوج العجوز يغيظها والزنجية لبر به وإنما ذكره
احمد لأن الغالب أنه لا يغيظها لأنها تعلم أنه إنما فعل ذلك حيلة لئلا يغيظها ويبر به
(فصل) إذا حلف لا تسريت فوطئ جاريته حنث ذكره أبو الخطاب وقال القاضي لا يحنث
حتى يطأ فينزل فحلا كان أو خصيا وقال أبو حنيفة لا يحنث حتى يحصنها ويحجبها عن الناس لأن التسري
مأخوذ من السر ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه كهذه.
ولنا ان التسري مأخوذ من السر وهو الوطئ لأنه يكون في السر قال الله تعالى (ولكن لا
تواعدوهن سرا) وقال الشاعر:
فلن تتطلبوا سرها للغنى * ولن تسلموها لازهادها
وقال آخر:
الا زعمت بسباسة القوم أنني * كبرت وان لا يحسن السر أمثالي
ولان كل حكم تعلق بالوطئ لم يعتبر فيه الانزال ولا التحصين كسائر الأحكام
237

(فصل) إذا حلف لا يهب له فأهدى إليه أو أعمره حنث لأن ذلك من أنواع الهبة وان
أعطاه من الصدقة الواجبة أو نذر أو كفارة لم يحنث لأن ذلك حق لله تعالى عليه يجب اخراجه فليس
هو بهبة منه. وان تصدق عليه تطوعا فقال القاضي يحنث وهو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب
لا يحنث وهو قول أصحاب الرأي لأنهما يختلفان اسما وحكما بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " هو عليها
صدقة ولنا هدية " وكانت الصدقة محرمة عليه والهدية حلال له وكان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة
ومع هذا الاختلاف لا يحنث في أحدهما بفعل الآخر
ووجه الأول انه تبرع بعين في الحياة فحنث به كالهدية ولان الصدقة تسمى هبة فلو تصدق بدرهم
قيل وهب درهما وتبرع بدرهم واختلاف التسمية لكون الصدقة نوعا من الهبة فيختص باسم دونها
كاختصاص الهدية والعمرى باسمين ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة وكذلك اختلاف الأحكام
فإنه قد يثبت للنوع ما لا يثبت للجنس كما يثبت للآدمي من الأحكام ما لا يثبت لمطلق الحيوان، فإن
وصى له لم يحنث لأن الهبة تمليك في الحياة والوصية إنما تملك بالقبول بعد الموت فإن اعاره لم يحنث لأن
الهبة تمليك الأعيان وليس في العارية تمليك عين ولان المستعير لا يملك المنفعة وإنما يستبيحها ولهذا يملك
المعير الرجوع فيها ولا يملك المستعير إجارتها ولا اعارتها هذا قول القاضي ومذهب الشافعي، وقال أبو
الخطاب يحنث لأن العارية هبة المنفعة والأول أصح، وان اضافه لم يحنث لأنه لم يملكه شيئا وإنما اباحه
ولهذا لا يملك التصرف بغير الاكل وان باعه وحاباه لم يحنث لأنه معاوضة يملك الشفيع اخذ جميع
المبيع ولو كان هبة أو بعضه هبة لم يملك أخذه كله
238

وقال أبو الخطاب يحنث في الحد الوجهين لأنه يترك له بعض المبيع بغير ثمن أو وهبه بعض الثمن
وان وقف عليه فقال أبو الخطاب يحنث لأنه تبرع له بعين في الحياة ويحتمل ان لا يحنث لأن الوقف
لا يملك في رواية وان حلف لا يتصدق عليه فوهب له لم يحنث لأن الصدقة نوع من الهبة ولا يحنث الحالف على
نوع بفعل نوع آخر ولا يثبت للجنس حكم النوع ولهذا حرمت الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم
تحرم الهبة ولا الهدية وإن حلف لا يهب له شيئا فاسقط عنه دينا لم يحنث إلا أن ينوي لأن الهبة
تمليك عين وليس له إلا دين في ذمته
(مسألة) قال (ولو حلف أن لا يشتري فلانا أو لا يضربه فوكل في الشراء
والضرب حنث)
وجملته ان من حلف لا يفعل شيئا فوكل من فعله حنث إلا أن ينوي مباشرته بنفسه ونحو هذا
قول مالك وأبي ثور وقال الشافعي لا يحنث إلا أن ينوي يمينه ان لا يستغيب في فعله أو يكون ممن لم
تجر عادته بمباشرته لأن اطلاق إضافة الفعل يقتضي مباشرته بدليل انه لو وكله في البيع لم يجز للوكيل
توكيل غيره، وإن حلف لا يبيع ولا يضرب فأمر من فعله فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه لم يحنث
239

وإن كان ممن لا يتولاه كالسلطان ففيه قولان. وإن حلف لا يحلق رأسه فامر من حلقه فقيل له فيه
قولان وقيل يحنث قولا واحدا، وقال أصحاب الرأي ان حلف لا يبيع فوكل من باع لم يحنث وإن
حلف لا يضرب ولا يتزوج فوكل من فعله حنث
ولنا ان الفعل يطلق على من وكل فيه وأمر به فيحنث به كما لو كان ممن لا يتولاه بنفسه وكما لو
حلف لا يحلق رأسه فامر من حلقه أو لا يضرب فوكل من ضرب عند أبي حنيفة وقد قال الله تعالى
(ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) وقال (محلقين رءوسكم ومقصرين) وكان هذا متناولا
للاستنابة فيه ولان المحلوف عليه وجد من نائبه فحنث به كما لو حلف لا يدخل دارا فأمر من
حمله إليها، وقولهم إن إضافة الفعل إليه تقتضي المباشرة تمنعه ولا نسلم انه إذا وكل في فعل يمتنع على
الوكيل التوكيل فيه ولئن سلمنا فلان التوكيل يقصد به الأمانة والحذق والناس يختلفون فيهما فإذا
عين واحدا لم تجز مخالفة تعيينه بخلاف اليمين، فاما ان نوى بيمينه المباشرة للمحلوف عليه أو كان
سبب يمينه يقتضيها أو قرينة حاله تخصص بها لأن اطلاقه يقيد بنيته أو بما دل عليها فأشبه ما لو صرح
به بلفظه، وإن حلف ليشترين أو ليبيعن أو ليضربن فوكل من فعل ذلك بر لما ذكرنا في طرف النفي
ولذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله المحلقين " تناول من حلق رأسه بأمره
(فصل) وإن حلف ليطلقن زوجته أو لا يطلقها فوكل من طلقها أو قال لها طلقي نفسك فطلقتها
أو قال لها اختاري أوامرك بيدك فطلقت نفسها بر وحنث والخلاف فيه على ما تقدم، وان قال
240

أنت طالق ان شئت أو ان قمت فشاءت أو قامت حنث بغير خلاف لأن الطلاق منه وإنما
هي حققت شرطه
(فصل) فإن حلف لا يضرب امرأته فلطمها أو لكمها أو ضربها بعصا أو غيرها حنث بغير
خلاف وإن عضها أو خنقها أو جز شعرها جزا يؤلمها قاصد للاضرار بها حنث وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي لا يحنث لأن ذلك لا يسمى ضربا فلا يحنث به كما لو شتمها شتما آلمها. وقد نقل عن أحمد
ما يدل على هذا فإن مهنا نقل عنه فيمن قال لامرأته إن لم أضربك اليوم فأنت طالق فعضها أو
قرصها أو أمسك شعرها فهو على ما نوى من ذلك. قال القاضي فظاهر هذا انه لم يدخله في
اطلاق اسم الضرب
ولنا ان هذا في العرف يستعمل لكف الأذى المؤلم للجسم فيدخل فيه كل ما اختلفنا فيه ولهذا
يقال تضاربا إذا فعل كل واحد منهما هذا بصاحبه وإن لم يكن معهما آلة وفارق الشتم فإنه لا يؤلم
الجسم وإنما يؤلم القلب
(مسألة) قال (ومن حلف بعتق أو طلاق أن لا يفعل شيئا ففعله ناسيا حنث)
وبهذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والزهري وقتادة وربيعة ومالك وأبو عبيد وأصحاب الرأي
وهو المشهور عن الشافعي وقال عطاء وعمرو بن دينار وابن أبي نجيح وإسحاق وابن المنذر لا يحنث
وهو رواية عن أحمد لأن الناسي لا يكلف حال نسيانه فلا يلزمه الحنث كالحلف بالله تعالى
241

ولنا أن هذا يتعلق به حق آدمي فتعلق الحكم به مع النسيان كالاتلاف ولأنه حكم علق على شرط
فيوجد بوجدان شرطه كالمنع من الصلاة بعد العصر وقد سبقت هذه المسألة
(مسألة) قال (وإذا حلف فتأول في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوما وإن كان ظالما لم
ينفعه تأويله لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يمينك على ما يصدقك به صاحبك)
معنى التأويل أن يقصد بكلامه محتملا يخالف ظاهره نحو أن يحلف أنه أخي يقصد أخوة الاسلام
أو المشابهة أو يعني بالسقف والبناء السماء وبالبساط والفراش الأرض وبالأوتاد الجبال وباللباس الليل
أو يقول ما رأيت فلانا يعني ما ضربت رئته ولا ذكرته يريد ما قطعت ذكره أو يقول جواري
أحرار يعني سفنه ونسائي طوالق يعني نساء الأقارب منه أو يقول ما كاتبت فلانا ولا عرفته ولا
أعلمته ولا سألته حاجة ولا أكلت له دجاجة ولا فروجة ولا شربت له ماء ولا في بيتي فرش ولا
حصير ولا بارية وينوي بالمكاتبة مكاتبة الرقيق، وبالتعريف جعله عريفا وبالاعلام جعله أعلم الشفة
والحاجة شجرة صغيرة والدجاجة الكنة من الغزل والفروجة الدراعة والفرش صغار الإبل والحصير
والحبس والبارية السكين التي يبرى بها أو يقول ما لفلان عندي وديعة ولا شئ يعني بما الذي أو يقول
ما فلان ههنا ويعني موضعا بعينه أو يقول والله ما أكلت من هذا شيئا ولا أخذت منه يعني الباقي
بعد أخذه وأكله فهذا وأشباهه ما يسبق إلى فهم السامع خلافه إذا عناه بيمينه فهو تأويل لأنه خلاف
الظاهر، ولا يخلو حال الحلف المأمول من ثلاثة أحوال
242

(أحدها) أن يكون مظلوما مثل من يستحلفه ظالم على شئ لو صدقه لظلمه أو ظلم غيره أو نال
مسلما منه ضرر فهذا له تأويله. قال مهنا سألت أحمد عن رجل له امرأتان اسم كل واحدة منهما فاطمة
فماتت واحدة منهما فحلف بطلاق فاطمة ونوى التي ماتت قال إن كان المستحلف له ظالما فالنية نية
صاحب الطلاق، وإن كان المطلق هو الظالم فالنية نية الذي استحلف، وقد روى أبو داود باسناده
عن سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول الله صلى والله عليه وسلم ومعنا وائل بن جحر فأخذه عدوله فتحرج القوم
أن يحلفوا فحلفت أنه أخي فخلى سبيله فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " أنت أبرهم وأصدقهم
المسلم أخو المسلم " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ان في المعاريض لمندوحة عن الكذب " يعني سعة المعاريض التي يوهم
بها السامع غير ما عناه. قال محمد بن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف يعني لا يحتاج
أن يكذب لكثرة المعاريض، وخص الظريف بذلك يعني به الكيس الفطن فإنه يفطن للتأويل
فلا حاجة به إلى الكذب
(الحال الثاني) أن يكون الحالف ظالما كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده فهذا ينصرف يمينه
إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف ولا ينفع الحالف تأويله وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا
فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يمينك على ما يصدقك به صاحبك " رواه مسلم وأبو داود
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اليمين على نية المستحلف " رواه مسلم وقالت عائشة
243

اليمين على ما وقع للمحلوف له ولأنه ساغ التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين إذ مقصودها تخويف
الحالف ليرتدع عن الجحود خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة فمتى ساغ التأويل له انتفى ذلك وصار
التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق ولا نعلم في هذا خلافا. قال إبراهيم في رجل استحلفه السلطان
بالطلاق على شئ فورى في يمينه إلى شئ آخر أجزأ عنه وإن كان ظالما لم تجزئ عنه التورية
(الحال الثالث) لم يكن ظالما ولا مظلوما فظاهر كلام أحمد أن له تأويله فروي أن مهنا كان عنده
هو والمروذي وجماعة فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه فوضع مهنا أصبعه في
كفه وقال ليس المروذي ههنا وما يصنع المروذي ههنا؟ يريد ليس هو في كفه ولم ينكر ذلك
أبو عبد الله، وروي أن مهنا قال له اني أريد الخروج يعني السفر إلى بلده وأحب ان تسمعني الجزء
الفلاني فاسمعه إياه ثم رآه بعد ذلك فقال ألم تقل انك تريد الخروج؟ فقال له مهنا قلت لك
إني أريد الخروج الآن؟ فلم ينكر عليه، وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم في هذا خلافا روى
سعيد عن جرير عن المغيرة قال كان إذا طلب إنسان إبراهيم ولم يرد إبراهيم أن يلقاه خرجت إليه
الخادم وقالت اطلبوه في المسجد وقال له رجل إني ذكرت رجلا بشئ فكيف لي أن اعتذر إليه؟
قال قل له والله ان الله يعلم ما قلت من ذلك من شئ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول الا حقا
ومزاحه ان يوهم السامع بكلامه غير ما عناه وهو التأويل وقال لعجوز " لا تدخل الجنة عجوز " يعني أن
الله ينشئهن أبكارا عربا أترابا وقال أنس إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله احملني
244

فقال رسول الله " إنا حاملوك على ولد الناقة " قال وما أصنع بولد الناقة؟ قال " وهل تلد الإبل الا
النوق؟ " رواه أبو داود وقال لامرأة وقد ذكرت له زوجها " أهو الذي في عينه بياض " فقالت يا رسول
الله انه لصحيح العين وأراد النبي صلى الله عليه وسلم البياض الذي حول الحدق وقال لرجل احتضنه من ورائه
" من يشتري هذا العبد؟ " فقال يا رسول الله تجدني إذا كاسدا قال " لكنك عند الله لست بكاسد "
وهذا كله من التأويل والمعاريض وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حقا فقال " لا أقول الا حقا " وروي عن شريح
انه خرج من عند زياد وقد حضره الموت فقيل له كيف تركت الأمير؟ قال تركته يأمر وينهى فلما
مات قيل له كيف قلت ذلك قال؟ تركته يأمر بالصبر وينهى عن البكاء والجزع ويروى عن شقيق
أن رجلا خطب امرأة وتحته أخرى فقالوا لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فقال اشهدوا اني قد طلقت
ثلاثا فزوجوه فأقام على امرأته فقالوا قد طلقت ثلاثا قال ألم تعلموا انه كان لي ثلاث نسوة فطلقتهن؟
قالوا بلى قال قد طلقت ثلاثا فقالوا ما هذا أردنا فذكر ذلك شقيق لعثمان فجعلها نيته، وروي عن الشعبي
أنه كان في مجلس فنظر إليه رجل ظن أنه طلب منه التعريف به والثناء عليه فقال الشعبي ان له بيتا
وشرفا فقيل للشعبي بعد ما ذهب الرجل تعرفه؟ قال لا ولكنه نظر إلي قيل فكيف أثنيت عليه؟ قال
شرفه أذناه وبيته الذي يسكنه وروي أن رجلا أخذ على شراب فقيل له من أنت؟ فقال
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره * وان نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا على باب داره * فمنهم قيام حولها وقعود
245

فظنوه شريفا فخلوا سبيله فسألوا عنه فإذا هو ابن الباقلاني واخذ الخوارج رافضيا فقالوا له تبرأ
من عثمان وعلي فقال أنا من علي ومن عثمان برئ فهذا وشبهه هو التأويل الذي لا يعذر به الظالم
ويسوغ لغيره مظلوما كان أو غير مظلوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في المزاح من
غير حاجة به إليه.
(فصل) والمستحيل نوعان (أحدهما) مستحيل عادة كصعود السماء والطيران وقطع المسافة
البعيدة في مدة قليلة فإذا حلف على فعله انعقدت يمينه ذكره القاضي وأبو الخطاب لأنه يتصور وجوده
فإذا حلف عليه انعقدت يمينه ولزمته الكفارة في الحال لأنه مأيوس من البر فيها فوجبت الكفارة
كما لو حلف ليطلقن امرأته فماتت
(والثاني) المستحيل عقلا كرد أمس وشرب الماء الذي في الكوز ولا ماء فبه فقال أبو الخطاب
لا تنعقد يمينه ولا تجب بها كفارة وهو مذهب مالك لأنها يمين قارنها ما يحلها فلم تنعقد كيمين الغموس
أو يمين على غير متصور فأشبهت يمين الغموس وهذا لأن اليمين إنما تنعقد على متصور أو متوهم التصور
وليس ههنا واحد منهما
وقال القاضي تنعقد موجبة للكفارة في الحال وهذا قول أبي يوسف والشافعي لأنه حلف على فعل
نفسه في المستقبل ولم يفعل كما لو حلف ليطلقن امرأته فماتت قبل طلاقها وبالقياس على المستحيل عادة ولا
246

فرق بين أن يعلم استحالته أو لا يعلم مثل أن يحلف ليشربن الماء الذي في الكوز ولا ما فيه فالحكم
واحد فيمن علم أنه لا ماء فيه ومن لا يعلم، وإن حلف ليقتلن فلانا وهو ميت فهو كالمستحيل عادة
لأنه يتصور أن يحييه الله فيقتله وتنعقد يمينه على قول أصحابنا، وإن حلف لأقتلن الميت يعني في حال
موته فهو مستحيل عقلا فيكون فيه من الخلاف ما قد ذكرناه
(فصل) فإن قال والله ليفعلن فلان كذا أو لا يفعل أو حلف على حاضر فقال والله لتفعلن
كذا فاحنثه ولم يفعل فالكفارة على الحالف كذلك قال ابن عمر وأهل المدينة وعطاء وقتادة والأوزاعي
وأهل العراق والشافعي لأن الحالف هو الحانث فكانت الكفارة عليه كما لو كان هو الفاعل لما يحنثه
ولان سبب الكفارة إما اليمين وإما الحنث أو هما وأي ذلك قدر فهو موجود في الحالف، وإن قال
أسألك بالله لتفعلن وأراد اليمين فهي كالتي قبلها، وإن أراد الشفاعة إليه بالله فليس بيمين ولا كفارة
على واحد منهما، وإن قال بالله لتفعلن فهي يمين لأنه أجاب بجواب القسم الا أن ينوي ما يصرفها،
وان قال بالله افعل فليست يمينا لأنه لم يجبها بجواب القسم ولذلك لا يصلح أن يقول والله افعل ولا بالله
افعل وإنما صلح ذلك في التاء لأنها لا تختص بالقسم فيدل على أنه سؤال فلا تجب به كفارة
(فصل) وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بابرار المقسم. رواه البخاري وهذا والله أعلم على سبيل
الندب لا على سبيل الايجاب بدليل ان أبا بكر قال أقسمت عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخبرني بما
أصبت مما أخطأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقسم يا أبا بكر " ولم يخبره ولو وجب عليه ابراره لأخبره
247

ويحتمل أن يجب عليه ابراره إذا لم يكن فيه ضرر ويكون امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أبرار أبي بكر لما
علم من الضرر فيه، وإن أجابه إلى صورة ما أقسم عليه دون معناه عند تعذر المعنى فحسن فإنه روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العباس جاءه برجل ليبايعه على الهجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا هجرة بعد الفتح "
وقال العباس أقسمت عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعنه فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في يده وقال " أبررت
قسم عمي ولا هجرة " وأجابه إلى صورة المبايعة دون ما قصد بيمينه
(فصل) ويستحب إجابة من سأل بالله لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فاعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن أتي إليكم معروفا
فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه "
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله أما الذين يحبهم
الله فرجل سأل قوما فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سرا
لا يعلم بعطيته إلا الله عزو جل والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل
به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا فاقبل بصدره حتى
يقتل أو يفتح له. والثلاثة الذي يبغضهم الله الشيخ الزاني والفقير المختال والغني الظلوم " رواهما النسائي
(فصل) إذا قال حلفت ولم يكن حلف فقال احمد هي كذبة ليس عليه يمين وعنه عليه الكفارة
لأنه أقر على نفسه، والأول هو المذهب لأنه حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإذا كذب في الخبر به لم
248

يلزمه حكمه كما لو قال ما صليت وقد صلى ولو قال علي يمين ونوى الخبر فهي كالتي قبلها وان نوى
القسم فقال أبو الخطاب هي يمين وهو قول أصحاب الرأي، وقال الشافعي ليس بيمين لأنه لم يأت
باسم الله تعالى المعظم ولا صفته فلم يكن يمينا كما لو قال حلفت وهذا أصح إن شاء الله فإن هذه ليست
صيغة اليمين والقسم وإنما هي صيغة الخبر فلا يكون بها حالفا وان قدر ثبوت حكمها لزمه أقل ما يتناوله
الاسم وهو يمين ما وليست كل يمين موجبة للكفارة فلا يلزمه شئ ووجه الأول أنه كناية عن اليمين وقد
نوى بها اليمين فتكون يمينا كالصريح
(فصل) وإذا حلف على ترك شئ أو حرمه لم يصر محرما، وقال أبو حنيفة يصبر محرما لقول الله
تعالى (لم تحرم ما أحل الله لك؟) وقوله (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) ولان الحنث يتضمن
هتك حرمة الاسلام المعظم فيكون حراما ولأنه إذا حرمه فقد حرم الحلال فيحرم كما لو حرم زوجته
ولنا انه إذا أراد التكفير فله فعل المحلوف عليه وحل فعله مع كونه محرما تناقض وتضاد والعجب
أن أبا حنيفة لا يجوز التكفير إلا بعد الحنث، وقد فرض الله تعالى تحلة اليمين فعلى قوله يلزم كون
المحرم مفروضا أو من ضرورة المفروض لأنه لا يصل إلى التحلة إلا بفعل المحلوف عليه وهو عنده
محرم وهذا غير جائز ولأنه لو كان محرما لوجب تقديم الكفارة عليه كالظهار ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال
" إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك " فأمر بفعل
المحلوف عليه ولو كان محرما لم يأمره به وسماه خيرا والمحرم ليس بخير وأما الآية فإنما أراد بها قوله هو
علي حرام أو منع نفسه منه وذلك يسمى تحريما قال الله تعالى (يحلونه عاما ويحرمونه عاما) وقال (وحرموا
ما رزقهم الله) ولم يثبت فيه التحريم حقيقة ولا شرعا
249

(كتاب الكفارات)
الأصل في كفارة اليمين الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو
في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم)
الآية، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير
وكفر عن يمينك " في اخبار سوى هذا، وأجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (ومن وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير
ان شاء أطعم عشرة مساكين مسلمين أحرارا كبارا كانوا أو صغارا إذا أكلوا الطعام)
أجمع أهل العلم على أن الحانث في يمينه بالخيار ان شاء أطعم وان شاء كسا وان شاء أعتق أي
ذلك فعل أجزأه لأن الله تعالى عطف بعض هذه الخصال على بعض بحرف أو وهو للتخيير. قال
ابن عباس ما كان في كتاب الله [أو] فهو مخير فيه وما كان [فمن لم يجد] فالأول الأول ذكره الإمام أحمد
في التفسير والواجب في الاطعام اطعام عشرة مساكين لنص الله تعالى على عددهم الا أن لا
يجد عشرة مساكين فيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، ويعتبر في المدفوع إليهم أربعة أوصاف
أن يكونوا مساكين وهم الصنفان اللذان تدفع إليهم الزكاة المذكوران في أول أصنافهم في قوله تعالى (إنما
250

الصدقات للفقراء والمساكين) والفقراء مساكين وزيادة لكون الفقير أشد حاجة من المسكين على ما بيناه
ولان الفقر والمسكنة في غير الزكاة شئ واحد لأنها جميعا اسم للحاجة إلى ما لابد منه في الكفاية
ولذلك لو وصى للفقراء أو وقف عليهم أو للمساكين لكان ذلك لهم جميعا، وإنما جعلا صنفين في
في الزكاة وفرق بينهما لأن الله تعالى ذكر الصنفين جميعا باسمين فاحتيج إلى التفريق بينهما، فأما في
غير الزكاة فكل واحد من الاسمين يعبر به عن الصنفين لأن جهة استحقاقهم واحدة وهي الحاجة
إلى ما تتم به الكفاية، ولا يجوز صرفها إلى غيرهم سواء كان من أصناف الزكاة أو لم يكن لأن الله
تعالى أمر بها للمساكين وخصهم بها فلا تدفع إلى غيرهم ولان القدر المدفوع إلى كل واحد من
الكفارة قدر يسير يراد به دفع حاجة يومه في مؤنته وغيرهم من الأصناف لا تندفع حاجتهم بهذا
لكثرة حاجتهم وإذا صرفوا ما يأخذونه في حاجتهم صرفوه إلى غير ما شرع له
(الثاني) ان يكونوا أحرارا فلا يجزئ دفعها إلى عبد ولا مكاتب ولا أم ولد وبهذا قال مالك
والشافعي واختار الشريف أبو جعفر جواز دفعها إلى مكاتب نفسه وغيره. وقال أبو الخطاب:
يتخرج جواز دفعها إليه بناء على جواز اعتاقه في كفارته لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته أشبه المسكين
ولنا ان الله تعالى عده صنفا في الزكاة غير صنف المساكين ولا هو في معنى المساكين لأن حاجته
غير جنس حاجتهم فدل على أنه ليس بمسكين والكفارة إنما هي للمساكين بدليل الآية ولان المسكين
251

يدفع إليه لتتم كفايته والمكاتب إنما يأخذ لفكاك رقبته أما كفايته فإنها حاصلة بكسبه وماله فإن لم يكن
له كسب ولا مال عجزه سيده ورجع إليه واستغنى بانفاقه وخالف الزكاة فإنها تصرف إلى
الغني والكفارة بخلافها.
(الثالث) ان يكونوا مسلمين فلا يجوز صرفها إلى كافر ذميا كان أو حربيا وبذلك قال الحسن
والنخعي والأوزاعي ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وقال أبو ثور وأصحاب الرأي يجوز دفعها
إلى الذمي لدخوله في اسم المساكين فيدخل في عموم الآية ولأنه مسكين من أهل دار الاسلام
فأجزأ الدفع إليه من الكفارة كالمسلم وروي نحو هذا عن الشعبي وخرجه أبو الخطاب وجها في المذهب
بناء على جواز اعتاقه في الكفارة وقال الثوري يعطيهم ان لم يجد غيرهم
ولنا انهم كفار فلم يجز اعطاؤهم كمستأمني أهل الحرب والآية مخصوصة بهذا فنقيس
(الرابع) ان يكونوا قد اكلوا الطعام فإن كان طفلا لم يطعم لم يجز الدفع إليه في ظاهر كلام
الخرقي وقول القاضي وهو ظاهر قول مالك فإنه قال يجوز الدفع إلى الفطيم وهو إحدى الروايتين عن أحمد
(والرواية الثانية) يجوز دفعها إلى الصغير الذي لم يطعم ويقبض للصغير وليه وهو الذي ذكره أبو الخطاب
في المذهب وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو الخطاب وهو قول أكثر الفقهاء لأنه حر
مسلم محتاج فأشبه الكبير ولان أكله للكفارة ليس بشرط وهذا يصرف الكفارة إلى ما يحتاج إليه مما
تتم به كفايته فأشبه الكبير.
252

ولنا قوله تعالى (فاطعام عشرة مساكين) وهذا يقتضي أكلهم له فإذا لم تعتبر حقيقة أكله اعتبر
امكانه ومظنته ولا تتحق مظنته فيمن لا يأكل ولأنه لو كان المقصود دفع حاجته لجاز دفع القيمة
ولم يتعين الاطعام وهذا يقيد ما ذكروه فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الأربعة في واحد جاز الدفع
إليه سواء كان صغيرا أو كبيرا محجورا عليه أو غير محجور عليه إلا أن من لا حجر عليه يقبض لنفسه
أو يقبض له وكيله والمحجور عليه كالصغير والمجنون يقبض له وليه
(مسألة) قال (لكل مسكين مدمن حنطة أو دقيق أو رطلان خبزا أو مدان تمرا
أو شعيرا)
اما مقدار ما يعطى كل مسكين وجنسه فقد ذكرناه في باب الظهار ونص الخرقي على أنه يجزئ
الدقيق والخبز ونص احمد عليه أيضا وروي عنه لا يجزئ الخبز، وهو قول مالك والشافعي وقال
لا يجزئ دقيق ولا سويق لأنه خرج عن حالة الكمال والادخار ولا يجزئ في الزكاة فلم يجزئ
في الكفارة كالقيمة.
ولنا قول الله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم)
وهذا قد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله فوجب ان يجزئه روى الإمام أحمد في كتاب التفسير باسناده
عن ابن عمر (من أوسط ما تطعمون أهليكم) قال الخبز واللبن
253

وفي رواية عنه قال (من أوسط ما تطعمون أهليكم) الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن، وقال
أبو رزين (من أوسط ما تطعمون أهليكم) خبز وزيت وخل وقال الأسود بن يزيد الخبز والتمر وعن
علي الخبز والتمر الخبز والسمن الخبز واللحم وعن ابن سيرين قال كانوا يقولون أفضله الخبز واللحم
وأوسطه الخبز والسمن وأخسه الخبز والتمر وقال عبيدة الخبز والزيت وسأل رجل شريحا ما أوسط
طعام أهلي؟ فقال شريح ان الخبز والخل والزيت لطيب فقال له رجل أفرأيت الخبز واللحم؟ قال
ارفع طعام أهلك وطعام الناس، وعن علي والحسن والشعبي وقتادة ومالك وأبي ثور يغديهم أو
يعشيهم وهذا اتفاق على تفسير ما في الآية بالخبز ولأنه أطعم المساكين من أوسط طعام أهله فاجزأه
كما لو أعطاه حبا ويفارق الزكاة من وجهين:
(أحدهما) أن الواجب عليه عشر الحب وعشر الحب حب فاعتبر الواجب وههنا الواجب
الاطعام والخبز أقرب إليه
(والثاني) ان دفع الزكاة يراد للاقتيات في جميع العام فيحتاج إلى ادخاره فاعتبر أن يكون على
صفة تمكن من ادخاره عاما والكفارة تراد لدفع حاجة يومه ولهذا تقدرت بما الغالب انه يكفيه ليومه
والخبز أقرب إلى ذلك لأنه قد كفاه مؤنة طحنه وخبزه. إذا تقرر هذا فإنه ان أعطى المسكين رطلي
خبز بالعراقي أجزأه لأنه لا يكون من أقل من مد، وقدر ذلك بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم
خمس أواق وسبع أوقية، وان طحن مدا وخبزه أجزأه نص عليه أحمد وكذلك إذا دفع المد إلى المسكين
254

أجزأه وإن دفع الدقيق من غير تقدير حنطته فقال احمد يجزئه بالوزن رطل وثلث ولا يجزئه اخراج
مد دقيق بالكيل لأنه يروع بالطحن فحصل في مد دقيق الحب أقل من مد الحب وان زاد في الدقيق
عن مد بحيث يعلم أنه قدر مد حنطة جاز وقول الخرقي في مد من دقيق يحتمل انه أراد اخراجه
بالوزن كما ذكر احمد، ويحتمل انه أراد مدا من الحنطة طحنه ثم اخرج دقيقه، ويحتمل انه أراد
اخراج ما يعلم أن حبه مد لما ذكرنا، ويجب ان يحمل قوله في الدقيق والخبز على دقيق الحنطة وخبزها
فإن اعطى من الشعير لم يجزئه الا ضعف ذلك كما لا يجزئ من حبها الأضعف ما يجزئ من حب البر
(فصل) والأفضل اخراج الحب لأن فيه خروجا من الخلاف. قال أحمد التمر أعجب إلي
والدقيق ضعيف والتمر أحب إلي ويحتمل أن يكون اخراج الخبز أفضل لأنه أنفع المسكين وأقل
كلفة وأقرب إلى حصول المقصود منه بغنيته والظاهر أن المسكين يأكله ويستغني به في يومه ذلك
والحب يعجز عن طحنه وعجنه فالظاهر أنه يحتاج إلى بيعه ثم يشتري بثمنه خبزا فيتكلف حمل كلفة
البيع والشراء وغبن البائع والمشتري له وتأخر حصول النفع به وربما لم يحصل له بثمنه من الخبز ما
يكفيه ليومه فيفوت المقصود مع حصول الضرر
(فصل) ويجب أن يكون المخرج في الكفارة سالما من العيب ولا يكون الحب مسوسا ولا
255

متغيرا طعمه ولا فيه زؤان أو تراب يحتاج إلى تنقية وكذلك دقيقه وخبزه لأنه مخرج في حق الله
تعالى عما وجب في الذمة فلم يجز أن يكون معيبا كالشاة في الزكاة
(مسألة) قال (ولو أعطاهم مكان الطعام أضعاف قيمته ورقا لم يجزه)
وجملته انه لا يجزئ في الكفارة اخراج قيمة الطعام ولا الكسوة في قول إمامنا ومالك والشافعي
وابن المنذر وهو ظاهر قول من سمينا قولهم في تفسير الآية في المسألة التي قبلها وهو ظاهر من
قول عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي، وأجازه الأوزاعي
وأصحاب الرأي لأن المقصود دفع حاجة المسكين وهو يحصل بالقيمة
ولنا قول الله تعالى (فاطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) هذا ظاهر
في عين الطعام والكسوة فلا يحصل التكفير بغيره لأنه لم يؤد الواجب إذا لم يؤد ما امره الله بأدائه
ولان الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء ولو جازت القيمة لم ينحصر التخيير في الثلاثة ولأنه لو أريدت
القيمة لم يكن للتخيير معنى لأن قيمة الطعام ان ساوت قمية الكسوة فهما شئ واحد فكيف
يخير بينهما؟ وإن زادت قيمة أحدهما على الآخر فكيف يخير بين شئ وبعضه؟ ثم ينبغي انه إذا
أعطاه في الكسوة ما يساوي اطعامه ان يجزئه وهو خلاف الآية وكذلك لو غلت قيمة الطعام
فصار نصف المد يساوي كسوة المسكين ينبغي ان يجزئه نصف المد وهو خلاف الآية ولأنه أحد ما
256

يكفر به فتعين ما ورد به النص كالعتق أو فلا تجزئ فيه القيمة كالعتق، فعلى هذا لو أعطاهم أضعاف
قيمة الطعام لا يجزئه لأنه لم يؤد الواجب فلا يخرج عن عهدته
(مسألة) قال (ويعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله)
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور ولا نعلم فيه مخالفا ولان الكفارة حق مال يجب لله تعالى
فجرى مجرى الزكاة فيمن يدفع إليه من أقاربه ومن لا يدفع إليه وقد سبق ذلك في باب الزكاة
(فصل) وكل من يمنع الزكاة من الغني والكافر والرقيق يمنع اخذ الكفارة وهل يمنع
منها بنو هاشم؟ فيه وجهان
(أحدهما) يمنعون منها لأنها صدقة واجبة فمنعوا منها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " انا لا تحل لنا
الصدقة " وقياسا على الزكاة (والثاني) لا يمنعون لأنها لم تجب بأصل الشرع فأشبهت صدقة التطوع
(مسألة) قال (ومن لم يصب الا مسكينا واحدا ردد عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام)
وجملته ان المكفر لا يخلو من أن يجد المساكين بكمال عددهم أو لا يجدهم فإن وجدهم لم
يجزئه اطعام أقل من عشرة في كفارة اليمين ولا أقل من ستين في كفارة الظهار وكفارة الجماع
في رمضان وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وأجاز الأوزاعي دفعها إلى واحد وقال أبو عبيد ان خص
257

بها أهل بيت شديدي الحاجة جاز بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للمجامع في رمضان حين اخبره بشدة
حاجته وحاجة أهله " أطعمه عيالك " ولأنه دفع حق الله تعالى إلى من هو من أهل الاستحقاق
فأجزأه كما لو دفع زكاته إلى واحد، وقال أصحاب الرأي يجوز ان يرددها على مسكين واحد في
عشرة أيام ان كانت كفارة يمين أو في ستين إن كان الواجب اطعام ستين مسكينا ولا يجوز دفعها
إليه في يوم واحد، وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد لأنه في كل يوم قد أطعم مسكينا ما يجب
للمسكين فأجزأ كما لو اعطى غيره ولأنه لو أطعم هذا المسكين من كفارة أخرى أجزأه فكذلك
إذا أطعمه من هذه الكفارة
ولنا قول الله تعالى (فكفارته اطعام عشرة مساكين) ومن أطعم واحدا فما أطعم عشرة فما
امتثل الامر فلا يجزئه ولان الله تعالى جعل كفارته اطعام عشرة مساكين فإذا لم يطعم عشرة فما
أتى بالكفارة ولان من لحم يجز الدفع إليه في اليوم الأول لم يجز في اليوم الثاني مع اتفاق الحال كالولد فاما الواقع
على أهله فإنما أسقط الله تعالى الكفارة عنه لعجزه عنها فإنه لا خلاف في أن الانسان لا يأكل كل كفارة نفسه
ولا يطعمها عائلته وقد أمر بذلك
(الحال الثاني) العاجز عن عدد المساكين كلهم فإنه يردد على الموجودين منهم في كل يوم حتى
تتم عشرة فإن لم يجد إلا واحدا ردد عليه تتمة عشرة أيام وان وجد اثنين ردد عليهما خمسة أيام وعلى هذا
ونحو هذا قال الثوري وهو اختيار أكثر الأصحاب وعن أحمد رواية أخرى لا يجزئه إلا كمال العدد وهو
مذهب مالك والشافعي لما ذكرنا في حال القدرة
258

ولنا أن ترديد الاطعام في عشرة أيام في معنى اطعام عشرة لأنه يدفع الحاجة في عشرة أيام فأشبه
ما لو أطعم في كل يوم واحدا والشئ بمعناه يقوم مقامه بصورته عند تعذرها ولهذا شرعت الابدال لقيامها
مقام المبدلات في المعنى ولا يجتزأ بها مع القدرة على المبدلات كذا ههنا
(فصل) وان أطعم كل يوم مسكينا حتى أكمل العشرة أجزأه بلا خلاف نعمله لأن الواجب
اطعام عشرة مساكين وقد أطعمهم وان دفعها إلى من يظنه مسكينا فبان غنيا ففي ذلك وجهان
بناء على الروايتين في دفع الزكاة إليه
(أحدهما) لا يجزئه وهو قول الشافعي وأبي يوسف وأبي ثور وابن المنذر لأنه لم يطعم
المساكين فلم يجزئه كما لو علم
(والثاني يجزئه وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأنه دفعها إلى من يظنه مسكينا وظاهره المسكنة
فأجزأه كما لو لم يعلم حاله وهذا لأن الفقر يخفي وتشق معرفة حقيقته قال الله تعالى (للفقراء الذين
أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) فوجب
أن يكتفى بظهوره وظنه وكذلك لما سأل الرجلان النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة قال " ان شئتما أعطيتكما
منها ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " وان بان كافرا أو عبدا لم يجزئه وجها واحدا كقولنا
في الزكاة لأن ذلك لا يكاد يخفى وليس هو في مظنة الخفاء فإن كان الدافع الإمام فأخطأ في الفقر لم
يضمن، وان أخطأ في الحرية والاسلام فهل يضمن؟ على الوجهين بناء على خطئه في الحد
(فصل) إذا أطعم مسكينا في يوم واحد من كفارتين ففيه وجهان
259

(أحدهما) يجزئه لأنه أطعم عن كل كفارة مساكين فأجزأه كما لو أطعمه في يومين
ولان من جاز له أن يأخذ من اثنين جاز أن يأخذ من واحد كالقدر الذي يجوز له أخذه من الزكاة
(والثاني) لا يجزئه الا عن واحد وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأنه أعطى مسكينا في يوم
طعام اثنين فلم يجزئه الا عن واحد كما لو كان في كفارة واحدة، وان أطعم اثنين من كفارتين في
يوم واحد جاز ولا نعلم في جوازه خلافا وكذلك أن أطعم واحدا من كفارتين في يومين جاز أيضا
بغير خلاف نعلمه، فلو كان على واحد عشر كفارات وعنده عشرة مساكين يطعمهم كل يوم كفارة
يفرقها عليهم جاز لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته، وبيان أنه أتى بما أمر انه أطعم عن كل كفارة
عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، والحكم في الكسوة كالحكم في الطعام على ما فصلناه
(مسألة) قال (وان شاء كسا عشرة مساكين للرجل ثوب يجزئه أن يصلي فيه وللمرأة درع وخمار)
لا خلاف في أن الكسوة أحد أصناف كفارة اليمين لنص الله تعالى عليها في كتابه بقوله تعالى
(أو كسوتهم) ولا تدخل في كفارة غير كفارة اليمين ولا يجزئه أقل من كسوة عشرة لقول الله تعالى
(فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) وتتقدر الكسوة بما
تجزئ الصلاة فيه، فإن كان رجلا فثوب تجزئه الصلاة فيه، وان كانت امرأة فدرع وخمار وبهذا
قال مالك وممن قال لا تجزئه السراويل الأوزاعي وأبو يوسف، وقال إبراهيم ثوب جامع، وقال
260

الحسن كل مسكين حلة ازار ورداء قال ابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وأصحاب الرأي
يجزئه ثوب ثوب ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة، وحكي عن الحسن قال تجزئ العمامة وقال سعيد بن المسيب
عبادة وعمامة، وقال الشافعي يجزئ أقل ما يقع عليه الاسم من سراويل أو ازار أو رداء أو مقنعة أو عمامة
وفي القلنسوة وجهان. واحتجوا بأن ذلك يقع عليه اسم الكسوة فأجزأ كالذي تجوز الصلاة فيه
ولنا أن الكسوة أحد أنواع الكفارة فلم يجز فيه ما يقع عليه الاسم كالاطعام والاعتاق ولان
التكفير عبادة تعتبر فيها الكسوة فلم يجز فيها أقل مما ذكرناه كالصلاة ولأنه مصروف إلى المساكين
في الكفارة فيتقدر كالاطعام ولان اللابس ما لا يستر عورته إنما يسمى عريانا لا مكتسيا وكذلك
لابس السراويل واحده أو مئزرا يسمى عريانا فلا يجزئه لقول الله تعالى (أو كسوتهم)
إذا ثبت هذا فإنه إذا كسا امرأة أعطاها درعا وخمارا لأنه أقل ما يستر عورتها وتجزئها الصلاة
فيه وإن أعطاها ثوبا واسعا يمكنها أن تستر به بدنها ورأسها أجزأه ذلك، وان كسا الرجل أجزأه
قميص أو ثوب يمكنه أن يستر عورته ويجعل على عاتقه منه شيئا أو ثوبين يأتزر بأحدهما ويرتدي بالآخر
ولا يجزئه مئزر وحده ولا سروال وحدة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يصلي أحدكم في ثوب واحد
ليس على عاتقه منه شئ "
(فصل) ويجوز أن يكسوهم من جميع أصناف الكسوة من القطر والكتان والصوف والشعر
261

والوبر والخز والحرير لأن الله تعالى أمر بكسوتهم ولم يعين جنسا فأي جنس كساهم منه خرج به عن
العهدة لوجود الكسوة المأمور بها ويجوز أن يكسوهم لبيسا أو جديدا الا أن يكون مما قد بلي وذهبت
منفعته لأنه معيب فلا يجزئ كالحب المعيب والرقبة إذا بطلت منفعتها وسواء كان ما أعطاهم مصبوغا
أو غير مصبوغ، أو خاما أو مقصورا لأنه تحصل الكسوة المأمور بها والحكمة المقصودة منها
(فصل) والذين تجزئ كسوتهم هم المساكين الذين يجزئ إطعامهم لأن الله تعالى قال
(فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) فينصرف الضمير إليهم
وقد تقدم الكلام في المساكين وأصنافهم
(مسألة) قال (وإن شاء أعتق رقبة مؤمنة قد صلت وصامت لأن الايمان قول
وعمل وتكون سليمة ليس فيها نقص يضر بالعمل)
وجملته أن اعتاق الرقبة أحد خصال الكفارة بغير خلاف لنص الله تعالى عليه بقوله (أو تحرير
رقبة مؤمنة) ويعتبر في الرقبة ثلاثة أوصاف
(أحدها) أن تكون مؤمنة في ظاهر المذهب وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد. وعن أحمد
رواية أخرى أن الذمية تجزئ وهو قول عطاء وأبي ثور وأصحاب الرأي لقول الله تعالى (فتحرير
رقبة) وهذا مطلق فتدخل فيه الكافرة
262

ولنا انه تحرير في كفارة فلا تجزئ فيه الكفارة ككفارة القتل والجامع بينهما ان الاعتاق
يتضمن تفريغ العبد المسلم لعبادة ربه وتكميل أحكامه وعبادته وجهاده ومعونة المسلم فناسب ذلك شرع
اعتاقه في الكفارة تحصيلا لهذه المصالح والحكم مقرون بها في كفارة القتل المنصوص على الايمان
فيها فيعلل بها ويتعدى ذلك الحكم إلى كل تحرير في كفارة فيختص بالمؤمنة لاختصاصها بهذه الحكمة
وأما المطلق الذي احتجوا به فإنه يحمل على المقيد في كفارة القتل كما حمل مطلق قوله تعالى (واستشهدوا
شهيدين من رجالكم) على المقيد في قوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وان لم يحمل عليه من
جهة اللغة حمل عليه من جهة القياس
(الثاني) أن تكون قد صلت وصامت وهذا قول الشعبي ومالك وإسحاق، قال القاضي لا يجزئ
من له دون السبع لأنه لا تصح منه العبادات في ظاهر كلام احمد، وظاهر كلام الخرقي المعتبر الفعل
دون السن فمن صلى وصام ممن له عقل يعرف الصلاة والصيام ويتحقق منه الاتيان به بنيته
وأركانه فإنه يجزئ في الكفارة وإن كان صغيرا ولم يوجدا منها لم يجزئ في الكفارة وإن كان كبيرا
وقال أبو بكر وغيره من أصحابنا يجوز اعتاق الطفل في الكفارة وهو قول الحسن وعطاء والزهري
والشافعي وابن المنذر لأن المراد بالايمان ههنا الاسلام بدليل اعتاق الفاسق قال الثوري المسلمون
كلهم مؤمنون عندنا في الأحكام ولا ندري ما هم عند الله ولهذا تعلق حكم القتل بكل مسلم بقوله
تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ) والصبي محكوم باسلامه يرثه المسلمون ويرثهم ويدفن في مقابر المسلمين
263

ويغسل ويصلى عليه وإن سبي منفردا عن أبويه أجزأه عتقه لأنه محكوم باسلامه وكذلك إن سبي
مع أحد أبويه ولو كان أحد أبوي الطفل مسلما والآخر كافرا أجزأ اعتاقه لأنه محكوم باسلامه، وقال
القاضي في موضع يجزئ اعتاق الصغير في جميع الكفارات الا كفارة القتل فإنها على روايتين
وقال إبراهيم النخعي ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزئ الا ما صام وصلى وما كان
في القرآن رقبة ليست بمؤمنة فالصبي يجزئ ونحو هذا قول الحسن، ووجه قول الخرقي أن الواجب
رقبة مؤمنة والايمان قول وعمل فما لم تحصل الصلاة والصيام لم يحصل العمل
وقال مجاهد وعطاء في قوله (فتحرير رقبة مؤمنة) قال قد صلت ونحو هذا قول الحسن وإبراهيم
وقال مكحول إذا ولد المولود فهو نسمة فإذا تقلب ظهرا لبطن فهو رقبة فإذا صلى فهو مؤمنة، ولان
الطفل لا تصح منه عبادة لفقد التكليف فلم يجزئ في الكفارة كالمجنون ولان الصبا نقص يستحق به
النفقة على القريب أشبه الزمانة، والقول الآخر أقرب إلى الصحة إن شاء الله لأن الايمان الاسلام وهو
حاصل في حق الصغير، ويدل على هذا ان معاوية بن الحكم السلمي أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية فقال لها
" أين الله؟ " قالت في السماء، قال " من أنا؟ " قالت أنت رسول الله، قال " أعتقها فإنها مؤمنة "
رواه مسلم. وفي حديث عن أبي هريرة ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية فقال يا رسول الله
ان علي رقبة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين الله؟ " فأشارت برأسها إلى السماء، قال " من أنا؟ "
فأشارت إلى رسول الله والى السماء اي أنت رسول الله قال " أعتقها " فحكم لها بالايمان بهذا القول
264

(فصل) ولا يجزئ اعتاق الجنين في قول أكثر أهل العلم وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال
أبو ثور يجزئ لأنه آدمي مملوك فصح اعتاقه عن الرقبة كالمولود
ولنا أنه لم تثبت له أحكام الدنيا بعد فإنه لا يملك بالإرث والوصية ولا يشترط لهما كونه آدميا
لكونه ثبت له ذلك وهو نطفة أو علقة وليس بآدمي في تلك الحال
(الثالث) ان لا يكون بها نقص يضر بالعمل وقد شرحنا ذلك في الظهار ويجزئ الصبي وإن كان
عاجزا عن العمل لأن ذلك ماض إلى زوال وصاحبه سائر إلى الكمال ولا يجزئ المجنون لأن
نقصه لا غاية لزواله معلومة فأشبه الزمن
(فصل) وان أعتق غائبا تعلم حياته وتجئ أخباره صح وأجزأه عن الكفارة كالحاضر، وان شك في حياته
وانقطع خبره لم يحكم بالاجزاء فيه لأن الأصل شغل ذمته ولا تبرأ بالشك وهذا العبد مشكوك فيه في وجوده
فشك في اعتاقه، فإن قيل الأصل حياته قلنا الا انه قد علم أن الموت لا بد منه وقد وجدت دلالة عليه وهو
انقطاع اخباره فإن تبين بعد هذا كونه حيا تبينا صحة عتقه وبراءة الذمة من الكفارة والا فلا
(فصل) وإن أعتق غيره عنه بغير امره لم يقع عن المعتق عنه إذا كان حيا وولاؤه للمعتق ولا
يجزئ عن كفارته وان نوى ذلك وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك انه إذا أعتق عن
واجب على غيره بغير امره صح لأنه قضى عنه واجبا فصح كما لو قضى عنه دينا
265

ولنا أنه عبادة من شرطها النية فلم يصح أداؤها عمن وجبت عليه بغير امره مع كونه من أهل
الامر كالحج ولأنه أحد خصال الكفارة فلم يصح عن المكفر بغير امره كالصيام وهكذا الخلاف فيما
إذا كفر عنه باطعام أو كسوة ولا يجوز ان ينوب عنه في الصيام باذنه ولا بغير إذنه لأنه عبادة بدنية
فلا تدخلها النيابة فاما ان أعتق عنه بأمره نظرت فإن جعل له عوضا صح العتق عن المعتق عنه وله
ولاؤه وأجزأ عن كفارته بغير خلاف علمناه وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم لأنه حصل
العتق عنه بماله فأشبه ما لو اشتراه ووكل البائع في اعتاقه عنه وان لم يشترط عوضا ففيه روايتان:
(إحداهما) يقع العتق عن المعتق عنه ويجزئ في كفارته وهو قول مالك والشافعي لأنه أعتق
بأمره فصح كما لو شرط عوضا
(والأخرى) لا يجزئ وولاؤه للمعتق وهو قول أبي حنيفة لأن العتق بعوض كالبيع وبغير عوض
كالهبة ومن شرط الهبة القبض ولم يحصل فلم يقع عن الموهوب له، وفارق البيع فإنه لا يشترط فيه القبض
فإن كان المعتق عنه ميتا نظرت فإن وصى بالعتق صح لأنه بأمره وإن لم يوص به فاعتق عنه أجنبي
لم يصح لأنه ليس بنائب عنه وان أعتق عنه وارثه فإن لم يكن عليه واجب لم يصح العتق عنه ووقع عن المعتق
وإن كان عليه عتق واجب صح العتق عنه لأنه نائب له في ماله وأداء واجباته فإن كانت عليه كفاره
يمين فكسا عنه أو أطعم عنه جاز وان أعتق عنه ففيه وجهان:
(أحدهما) ليس له ذلك لأنه غير متعين فجرى مجرى التطوع (والثاني) يجزئ لأن العتق يقع
واجبا لأن الوجوب يتعين فيه بالفعل فأشبه المعين من العتق ولأنه أحد خصال كفارة اليمين
266

فجاز ان يفعله عنه كالاطعام والكسوة ولو قال من عليه الكفارة أطعم عن كفارتي أو اكس ففعل صح
رواية واحدة سواء ضمن له عوضا أو لم يضمن له عوضا
(مسألة) قال (ولو اشتراها بشرط العتق فاعتقها في الكفارة عتقت ولم تجزئه عن الكفارة)
وهذا مذهب الشافعي وروي عن معقل بن يسار ما يدل عليه وذلك لأنه إذا اشتراها بشرط
العتق فالظاهر أن البائع نقصه من الثمن لأجل هذا الشرط فكأنه أخذ عن العتق عوضا فلم تجزئه
عن الكفارة. قال احمد ان كانت رقبة واجبة لم تجزئه لأنها ليست رقبة سليمة ولان عتقها يستحق
بسبب آخر وهو الشرط فلم تجزئه كما لو اشترى قريبه فنوى بشرائه العتق عن الكفارة أو قال إن
دخلت الدار فأنت حر ثم نوى عند دخوله أنه عن كفارته.
(فصل) ولو قال له رجل أعتق عبدك عن كفارتك ولك عشرة دنانير ففعل لم يجزئه عن الكفارة
لأن الرقبة لم تقع خالصة عن الكفارة، وقال القاضي العتق كله يقع عن باذل العوض وله ولاؤه وهذا فيه نظر
فإن المعتق لم يعتقه عن باذل العوض ولا رضي باعتاقه عنه ولا باذل العوض طلب ذلك والصحيح ان اعتاقه من
المعتق والولاء، وقد ذكر الخرقي أنه إذا قال أعتقه والثمن علي فالثمن عليه والولاء للمعتق فإن رد العشرة على
باذلها ليكون العتق عن الكفارة وحدها أو عزم على رد العشر فأورد العشرة قبل العتق فاعتقه عن كفارته أجزأه
267

(فصل) وإذا اشترى عبدا ينوي إعتاقه عن كفارته فوجد به عيبا لا يمنع من الاجزاء في الكفارة
فاخذ أرشه ثم أعتق العبد عن كفارته أجزأه وكان الأرش له لأن العتق إنما وقع على العبد المعيب
دون الأرش وان أعتقه قبل العلم بالعيب ثم ظهر على العيب فاخذ أرشه فهو له أيضا كما لو اخذه قبل
اعتاقه وعنه انه يصرف ذلك الأرش في الرقاب لأنه أعتقه معتقدا أنه سليم فكان بمنزلة العوض عن حق
الله تعالى وكفارة الأرش مصروفة حق الله تعالى كما لو باعه كان الأرش للمشتري، وان علم العيب ولم يأخذ
أرشه حتى أعتقه كان الأرش للمعتق لأنه أعتقه معيبا عالما بعيبه فلم يلزمه أرش كما لو باعه ولم يعلم عيبه
(مسألة) قال (وكذلك لو اشترى بعض من يعتق عليه إذا ملكه ينوي بشرائه
الكفارة عتق ولم يجزئه)
وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وقال أصحاب الرأي يجزئه استحسانا لأنه يجزئ عن كفارة
البائع فأجزأ عن كفارة المشتري كغيره
ولنا قوله تعال (فتحرير رقبة) والتحرير فعل العتق ولم يحصل العتق ههنا بتحرير منه ولا
اعتاق فلم يكن ممتثلا للامر ولان عتقه مستحق بسبب آخر فلم يجزئه كما لو ورثه ينوي به العتق عن كفارته
وكأم الولد ويخالف المشتري البائع من وجهين
(أحدهما) ان البائع يعتقه والمشتري لم يعتقه إنما يعتق باعتاق الشرع وهذا عن غير اختيار منه
268

(والثاني) ان البائع لا يستحق عليه اعتاقه والمشتري بخلافه
(فصل) إذا ملك نصف عبد فأعتقه عن كفارته عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسرا بقيمة باقية ولم يجزئه
عن كفارته في قول أبي بكر الخلال وصاحبه وحكاه عن أحمد وهو قول أبي حنيفة لأن عتق نصيب شريكه لم
يحصل باعتاقه إنما حصل بالسراية وهي غير فعله وإنما هي من آثار فعله فأشبه ما لو اشترى من يعتق عليه ينوي به
الكفارة يحقق هذا انه لم يباشر بالاعتاق الا نصيبه فسرى إلى غيره ولو خص نصيب غيره بالاعتاق لم يعتق منه
شئ ولأنه إنما يملك اعتاق نصيبه لا نصيب غيره، وقال القاضي قال غيرهما من أصحابنا يجزئه إذا نوى اعتاق
جميعه عن كفارته وهو مذهب الشافعي لأنه أعتق عبدا كامل الرق سليم الخلق غير مستحق العتق
ناويا به الكفارة فأجزأه كما لو كان الجميع ملكه، والأول أصح إن شاء الله ولا نسلم أنه أعتق العبد
كله وإنما أعتق نصفه وعتق الباقي عليه فأشبه شراء قريبه ولان اعتاق باقيه مستحق بالسراية فهو
كالقريب، فعل هذا هل يجزئه عتق نصفه الذي هو ملكه ويعتق نصفا آخر فتكمل الكفارة؟ ينبني
على ما إذا أعتق نصفي عبدين وسنذكره إن شاء الله، وان نوى يعتق نصيبه عن الكفارة ولم ينو ذلك
في نصيب شريكه لم يجزئه نصيب شريكه، وفي نصيبه نفسه ما سنذكره إن شاء الله. ولو كان معسرا
فأعتق نصيبه عن كفارته فكذلك فإن ملك باقيه فأعتقه عن الكفارة أجزأه ذلك، وان أراد
صيام شهر واطعام ثلاثين مسكينا لم يجزئه كما لو أعتق نصف عبد في كفارة اليمين وأطعم خمسة
مساكين أو كساهم لم يجزئه
269

(فصل) وإن كان العبد كله له فاعتق جزءا منه معينا أو مشاعا عتق جميعه، وإن كان نوى به
الكفارة أجزأ عنه لأن اعتاق بعض العبد اعتاق لجميعه، وان نوى اعتاق الجزء الذي باشره بالاعتاق
عن الكفارة دون غيره لم يجزئه عتق غيره وهل يحتسب بما نوى به الكفارة؟ على وجهين
(فصل) وان قال إن ملكت فلانا فهو حر وقنا يصح هذا التعليق فاشتراه ينوي العتق عن
كفارته عتق ولم يجزئه عن الكفارة ويخرج فيه من الخلاف مثل ما في شراء قريبه والله أعلم
(مسألة) قال (ولا تجزئ في الكفارة أم ولد)
هذا ظاهر المذهب وبه قال الأوزاعي ومالك والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي، وعن أحمد
رواية أخرى انها تجزئ ويروى ذلك عن الحسن وطاوس والنخعي وعثمان البتي لقول الله تعالى
(فتحرير رقبة) ومعتقها قد حررها
ولنا أن عتقها يستحق بسبب آخر فلم تجزئ عنه كما لو اشترى قريبه أو عبدا بشرط العتق فأعتقه
وكما لو قال لعبده أنت حر إن دخلت الدار ثم نوى عتقه عن كفارته عند دخوله والآية مخصوصة بما
ذكرناه فنقيس عليه ما اختلفنا فيه
(فصل) ولد أم الولد الذي ولدته بعد كونها أم ولد حكمه حكمها فيما ذكرناه لأن حكمه
حكمها في العتق بموت سيدها
270

(مسألة) قال (ولا مكاتب قد أدى من كتابته شيئا)
روي عن أحمد رحمه الله في المكاتب ثلاث روايات
(إحداهن) يجزئ مطلقا اختاره أبو بكر وهو مذهب أبي ثور لأن المكاتب عبد يجوز بيعه
فأجزأ عتقه كالمدبر ولأنه رقبة فدخل في مطلق قوله سبحانه (فتحرير رقبة)
(والثانية) لا يجزئ مطلقا وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد لأن عتقه مستحق بسبب آخر
ولهذا لا يملك إبطال كتابته فأشبه أم الولد
(والثالثة إن أدى من كتابته شيئا لم يجزئه وإلا أجزأه وبهذا قال الليث والأوزاعي وإسحاق
وأصحاب الرأي، قال القاضي هو الصحيح لأنه إذا أدى شيئا فقد حصل العوض عن بعضه فلم يجزئ
كما لو أعتق بعض رقبة وإذا لم يود فقد أعتق رقبة كاملة مؤمنة سالمة الخلق تامة الملك لم يحصل عن
شئ منها عوض فأجزأ عتقها كالمدبر ولو أعتق عبدا على مال فأخذه من العبد لم يجزئ عن كفارته في قولهم جميعا
(مسألة) قال (ويجزئه المدبر)
وهذا قول طاوس والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وقال الأوزاعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي
لا يجزئ لأن عتقه مستحق بسبب آخر فأشبه أم الولد ولان بيعه عندهم غير جائز فأشبه أم الولد
ولنا قوله تعالى (فتحرير رقبة) وقد حرر رقبة ولأنه عبد كامل المنفعة تجوز بيعه ولم يحصل عن شئ
منه عوض فجاز عتقه كالقن، والدليل على جواز بيعه ان النبي صلى الله عليه وسلم باع مدبرا وسنذكر حديثه في
271

بابه إن شاء الله، ولان التدبير إما أن يكون وصية أو عتقا بصفة وأياما كان فلا يمنع التكفير باعتاقه
قبل وجود الصفة والصفة ههنا الموت ولم يوجد
(مسألة) قال (والخصي)
لا نعلم في إجزاء الخصي خلافا سواء كان مقطوعا أو مشلولا أو موجوءا لأن ذلك نقص لا يضر
بالعمل ولا يؤثر فيه بل ربما زادت بذلك قيمته فاندفع فيه ضرر شهوته فأجزأ كالفحل
(مسألة) قال (وولد الزنا)
هذا قول أكثر العلم، روي ذلك عن فضالة بن عبيد وأبي هريرة وبه قال ابن
المسيب والحسن وطاوس والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وابن المنذر
وروي عن عطاء والشعبي والنخعي والأوزاعي وحماد أنه لا يجزئ لأن أبا هريرة روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ولد الزنا شر الثلاثة " قال أبو هريرة لأن أرفع بسوط في سبيل الله أحب
إلي منه رواه أبو داود
ولنا دخوله في مطلق قوله تعالى (فتحرير رقبة) ولأنه مملوك مسلم كامل العمل لم يعتض عن
شئ منه ولا استحق عتقه بسبب آخر فأجزأ عتقه كولد الرشيدة. فاما الأحاديث الواردة في ذمه
فاختلف أهل العلم في تفسيرها فقال الطحاوي ولد الزنا هو الملازم للزنا كما يقال ابن السبيل الملازم
لها وولد الليل الذي لا يهاب السرقة، وقال الخطابي عن بعض أهل العمل قال هو شر الثلاثة أصلا
272

وعنصرا ونسبا لأنه خلق من ماء الزنا وهو خبيث وأنكر قوم هذا التفسير وقالوا ليس عليه من وزر والديه
شئ وقد قال الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وفي الجملة هذا يرجع إلى أحكام الآخرة أما
أحكام الدنيا فهو كغيره في صحة إمامته وبيعه وعتقه وقبول شهادته فكذلك في إجزاء عتقه عن الكفارة
لأنه من أحكام الدنيا
(مسألة) قال (فإن لم يجد من هذه الثلاثة واحدا أجزأه صيام ثلاثة أيام متتابعة)
يعني إن لم يجد طعاما ولا كسوة ولا عتقا انتقل إلى صيام ثلاثة أيام لقول الله تعالى (فكفارته اطعام
عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة
أيام) وهذا لا خلاف فيه إلا في اشتراط التتابع في الصوم وظاهر المذهب اشتراطه كذلك قال إبراهيم
النخعي والثوري وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وروي نحو ذلك عن علي رضي الله
عنه وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة
وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنه يجوز تفريقها وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه
لأن الامر بالصوم مطلق ولا يجوز تقييده الا بدليل ولأنه صام الأيام الثلاثة فلم يجب التتابع فيه
كصيام المتمتع ثلاثة أيام في الحج ولنا أن في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) كذلك
ذكره الإمام أحمد في التفسير عن جماعة وهذا إن كان قرآنا فهو حجة لأنه كلام الله الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإن لم يكن قرآنا فهو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ يحتمل أن يكون
سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا فظناه قرآنا فثبتت له رتبة الخبر ولا ينقص عن درجة تفسير النبي
صلى الله عليه وسلم للآية وعلى كلا التقديرين فهو حجة يصار إليه، ولأنه صيام في كفارة فوجب فيه التتابع
ككفارة القتل والظهار والمطلق يحمل على المقيد على ما قررناه فيما مضى فعلى هذا إن أفطرت المرأة
لمرض أو حيض أو الرجل لمرض لم ينقطع التتابع وبهذا قال أبو ثور وإسحاق
273

وقال أبو حنيفة ينقطع فيهما لأن التتابع لم يوجد وفوات الشرط يبطل به المشروط، وقال
الشافعي ينقطع في المرض في أحد القولين ولا ينقطع في الحيض.
ولنا انه عذر يبيح الفطر أشبه الحيض في كفارة القتل
(مسألة) قال (ولو كان الحانث عبدا لم يكفر بغير الصوم)
لا خلاف في أن العبد يجزئه الصيام في الكفارة لأن ذلك فرض المعسر من الأحرار وهو
أحسن حالا من العبد فإنه يملك في الجملة ولان العبد داخل في قوله تعالى (فمن لم يجد فصيام ثلاثة
أيام) وإن أذن السيد لعبده في التكفير بالمال لم يلزمه لأنه ليس بمالك لما أذن له فيه، وظاهر كلام
الخرقي انه لا يجزئه التكفير بغير الصيام. وقد قال غيره من أصحابنا فيما إذا أذن له سيده في
التكفير بالمال روايتان
(أحدهما) يجوز تكفيره به (والأخرى) لا يجوز الا بالصيام وقد ذكرنا علل ذلك في الظهار
والاختلاف فيه. وذكر القاضي أن أصل هذا عنده الروايتان في ملك العبد بالتمليك إن قلنا يملك بالتمليك
فملكه سيده وأذن له بالتكفير بالمال جاز لأنه مالك لما يكفر به، وإن قلنا لا يملك بالتمليك ففرضه
الصيام لأنه لا يملك شيئا يكفر به وكذلك ان قلنا يملك ولم يأذن له سيده بالتكفير في المال ففرضه الصيام
وإن ملك لأنه محجور عليه ممنوع من التصرف فيما في يديه. قال وأصحابنا يجعلون في العبد
روايتين مطلقا سواء قلنا يملك أو لا يملك، ثم على الرواية التي تجيز له التكفير بالمال له ان يطعم وهل
له ان يعتق؟ على روايتين
(إحداهما) ليس له ذلك لأن العتق يقتضي الولاء والولاية والإرث وليس ذلك للعبد ولكن
يكفر بالاطعام وهذا رواية عن مالك وبه قال الشافعي على القول الذي يجيز له التكفير بالمال
(والثانية) له التكفير بالعتق لأن من صح تكفيره بالمال صح بالعتق كالحر ولأنه يملك العبد
فصح تكفيره باعتاقه كالحر، وقولهم ان العتق يقتضي الولاء والولاية لا نسلم ذلك في العتق في الكفارة
على ما أسلفناه وإن سلمنا فتخلف بعض الأحكام لا يمنع ثبوت المقتضي فإن الحكم يتخلف بتخلف
سببه لا لتخلف أحكامه كما أنه يثبت لوجود سببه ولان تخلف بعض الأحكام مع وجود المقتضي إنما
يكون لمانع منعها، ويجوز أن يختص المنع بها دون غيرها ولهذا السبب المقتضي لهذه الأحكام لا يمنع
274

ثبوته تخلفها عنه في الرقيق على أن الولاء يثبت باعتاق العبد لكن لا يرث به كما لو اختلف ديناهما وهذا
اختيار أبي بكر وفرع عليه إذا أذن له سيده فاعتق نفسه ففيه قولان
[أحدهما] يجزئه لأنه رقبة تجزئ عن غيره فأجزأت عن نفسه كغيره والآخر لا يجزئه لأن
الاذن له في الاعتاق ينصرف إلى إعتاق غيره وهذا التعليل يدل على أن سيده لو أذن له في إعتاق نفسه
عن كفارته جاز، فاما ان أطلق الاذن في الاعتاق فليس له أن يعتق إلا أقل رقبة تجزئ عن
الواجب وليس له إعتاق نفسه إذا كانت أفضل مما يجزئ وهذا من أبي بكر يقتضي أنه لا يعتبر
في التكفير أن يملكه سيده ما يكفر به لأنه لا يملك نفسه بل متى أذن له في التكفير بالعتق أو الاطعام
أجزأه لأنه لو اعتبر التمليك لما صح له أن يعتق نفسه لأنه لا يملكها ولان التمليك لا يكون الا في معين
ولا يصح أن يأذن فيه مطلقا.
(فصل) وإذا أعتق العبد عبدا عن كفارته باذن سيده وقلنا إن الاعتاق في الكفارة يثبت
به الولاء لمعتقه ثبت ولاؤه للعبد الذي أعتقه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الولاء للمعتق " ولا يرث لأنه
ليس من أهل الميراث ولا يمتنع ثبوت الولاء مع انتفاء الإرث كما لو اختلف دينهما أو قتل المعتق
عتيقه فإنه لا يرثه مع ثبوت الولاء له عليه فإن عتق المعتق له ورث بالولاء لزوال المانع كما إذا كانا مختلفي
الدين فأسلم الكافر منهما، ذكر هذا طلحة العاقولي ومقتضى هذا أن سيد العبد لا يرث عتيقه في حياة
عبده كما لا يرث ولد عبده، فإن أعتق عبده ثم مات ورث السيد مولي عبده لأنه مولي مولاه كما أنه لو أعتق
العبد وله ولد عليه الولاء لمولى أمه يجر ولاءه ويرثه سيده إذا مات أبوه.
(فصل) وليس للسيد منع عبده من التكفير بالصيام سواء كان الحلف أو الحنث باذنه أو بغير
اذنه وسواء أضر به الصيام أو لم يضر به، وقال الشافعي ان حنث بغير اذنه والصوم يضر به فله
منعه لأن السيد لم يأذن له فيما ألزمه نفسه مما يتعلق به ضرر على السيد فكان له منعه وتحليله كما
لو أحرم بالحج بغير اذنه
ولنا أنه صوم واجب لحق الله تعالى فلم يكن لسيده منعه منه كصيام رمضان وقضائه ويفارق
الحج لأن ضرره كثير لطول مدته وغيبته عن سيده وتفويت خدمته ولهذا ملك تحليل زوجته منه
ولم يملك منعها صوم الكفارة، فأما صوم التطوع فإن كان فيه ضرر عليه فللسيد منعه منه لأنه يفوت
275

حقه بما ليس بواجب عليه، وإن كان لا يضر به لم يكن لسيده منعه منه لأنه يعبد ربه بما لا مضرة فيه
فأشبه ذكر الله تعالى وصلاة النافلة في غير وقت خدمته، وللزوج منع زوجته منه في كل حال لأنه يفوت
حقه من الاستمتاع ويمنعه منه.
(مسألة) قال (ولو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق عليه فعليه الصوم لا يجزئه غيره)
ظاهر هذا ان الاعتبار في الكفارات بحالة الحنث لأنه وقت الوجوب وهو حينئذ عبد فوجب
عليه الصوم فلا يجزئه غير ما وجب عليه، وقال القاضي هذا فيه نظر فإن المنصوص انه يكفر كفارة
عبد لأنه إنما يكفر بما وجب عليه يوم حنث ومعناه انه لا يلزمه التكفير بالمال فإن كفر به أجزأه
وهذا منصوص عن الشافعي ومن أصحابه من قال بقول الخرقي وليس على الخرقي حجة من كلام
أحمد بل هو حجة له لقوله إنما يكفر ما وجب عليه وإنما للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه ولم
يجب عليه الا الصوم فلا يكفر بغيره، ووجه ذلك أنه حكم تعلق بالعبد في رقه فلم يتغير بحريته كالحد
وهذا على القول الذي لم يجز فيه للعبد التكفير بالمال باذن سيده فأما على القول الآخر فله التكفير ههنا
بطريق الأولى لأنه إذا جاز له في حال رقه التكفير بالمال ففي حال حريته أولى وإنما احتاج إلى اذن
سيده في حال رقه لأن المال لسيده أو لتعلق حقه بماله وبعد الحرية قد زال ذلك ولا حاجة إلى اذنه
وان قلنا التكفير بأغيظ الأحوال لم يكن له التكفير بغير المال إن كان موسرا وان حلف عبد وحنث
وهو حر فحكمه حكم الأحرار لأن الكفارة لا تجب قبل الحنث فما وجبت الا وهو حر.
(فصل) ومن نصفه حر فحكمه في التكفير حكم الحر الكامل فإذا ملك بجزئه الحر مالا
يكفر به لم يجز له الصيام وله التكفير بأحد الأمور الثلاثة وظاهر مذهب الشافعي ان له التكفير
بالاطعام والكسوة دون الاعتاق لأنه لا يثبت له الولاء، ومنهم من قال لا يجزئه الا الصيام لأنه
منقوص بالرق أشبه القن.
ولنا قول الله تعالى (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) وهذا واجد لأنه يملك ملكا تاما
فأشبه الحر الكامل ولا نسلم أنه لا يثبت له الولاء ثم إن امتناع بعض أحكامه لا يمنع صحته كعتق
المسلم رقيقه الكافر.
276

(مسألة) قال (ويكفر بالصوم من لم يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته
مقدار ما يكفر به).
وجملة ذلك أن كفارة اليمين تجمع تخييرا وترتيبا فيتخير بين الخصال الثلاث فإن لم يجدها انتقل
إلى الصيام ثلاثة أيام ويعتبر أن لا يجد فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته قدرا يكفر به، وهذا
قول إسحاق ونحوه قال أبو عبيد وابن المنذر وقال الشافعي من جاز له الاخذ من الزكاة لحاجته وفقره
أجزأه الصيام لأنه فقير ولان النخعي قال إذا كان مالكا لعشرين درهم فله للصيام وقال عطاء الخراساني
لا يصوم من ملك عشرين درهما ولمن يملك دونها الصيام وقال سعيد بن جبير إذا لم يملك الا ثلاثة
دراهم كفر بها وقال الحسن درهمين وهذان القولان نحو قولنا
ووجه ذلك أن الله تعالى اشترط للصيام أن لا يجد بقوله تعالى (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)
ومن وجد ما يكفر به فاضلا عن قوته وقوت عياله فهو واحد فيلزمه التكفير بالمال لظاهر الآية ولأنه
حق لا يزيد بزيادة المال فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته كصدقة الفطر
(فصل) فلو ملك ما يكفر به وعليه دين مثله وهو مطالب به فلا كفارة عليه لأنه حق لآدمي
والكفارة حق لله تعالى فإذا كان مطالبا بالدين وجب تقديمه كزكاة الفطر فإن لم يكن مطالبا بالدين
فكلام أحمد يقتضي روايتين:
(إحداهما) تجب الكفارة لأنه لا يعتبر فيها قدر من المال فلم يسقط بالدين كزكاة الفطر
(والثانية) لا تجب لأنها حق لله تعالى يجب في المال فأسقطها الدين كزكاة المال وهذا أصح
لأن حق الآدمي أولى بالتقديم لشحه وحاجته إليه وفيه نفع للغريم وتفريغ ذمة المدين وحق الله تعالى
مبني على المسامحة لكرمه وغناه ولان الكفارة بالمال لها بدل ودين الآدمي لا بدل له ويفارق صدقه
الفطر لكونها أجريت مجرى النفقة ولهذا يتحملها الانسان عن غيره كالزوج عن امرأته وعائلته ورقيقه
ولا بدل لها بخلاف الكفارة
(فصل) فإن كان له مال غائب أو دين يرجو وفاءه لم يكفر بالصيام، وهذا قول الشافعي وقال
أبو حنيفة يجزئه الصيام لأنه غير واجد فأجزأه الصيام عملا بقوله تعالى (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) وقياسا
277

على المعسر والدليل على أنه غير واجد أن المتمتع لو عدم الهدي في موضعه انتقل إلى الصيام ولو عدم
الماء في موضعه انتقل إلى التيمم ولو عدم المظاهر المال في موضعه انتقل إلى الصيام والانتقال في هذه
المواضع مشروط بعدم الوجدان ولأنه غير متمكن من التكفير بالمال أشبه هذه الأصول
ولنا انه حق مال يجب على وجه الطهرة فلم تمنع الغيبة وجوبه كالزكاة ولأنه غير مؤقت ولا ضرر
في تأخيره فلم يسقط بغيبته كالزكاة وفارق الهدي فإن له وقتا بفوت بالتأخير والتيمم يفضي تأخيره
إلى فوات الصلاة وتأخير كفارة الظهار يفضي إلى ترك الوطئ وفيه ضرر بخلاف مسئلتنا ولا نسلم
عدم التمكن ولهذا صح بيع الغائب مع أن التمكن من التسليم شرط
(مسألة) قال (ومن له دار لا غنى له عن سكناها أو دابة يحتاج إلى ركوبها أو خادم
يحتاج إلى خدمته أجزأه الصيام في الكفارة)
وجملته ان الكفارة إنما تجب فيما يفضل عن حاجته الأصلية والسكنى من الحوائج الأصلية
وكذلك الدابة التي يحتاج إلى ركوبها لكونه لا يطيق المشي فيها يحتاج إليه أو لم تجر عادته به وكذلك
الخادم الذي يحتاج إلى خدمته لكونه ممن لا يخدم نفسه لمرض أو كبر أو لم تجر عادته به وهذه الثلاثة
من الحوائج الأصلية لا تمنع التكفير بالصيام ولا الزكاة من الاخذ والكفارة
وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك من ملك رقبة تجزئ في الكفارة لا يجزئه
الصيام وإن كان محتاجا إليها لخدمته لأنه واجد لرقبة يعتقها فيلزمه ذلك لقوله تعالى (أو تحرير رقبة
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) فاشترط للصيام ان لا يجدها
ولنا انها مستغرقة لحاجته الأصلية فلم تمنع جواز الانقال كالمسكن والمركوب والطعام الذي
هو محتاج إليه وما ذكروه يبطل بالطعام المحتاج إليه وبما إذا وجد الماء وهو محتاج إليه للعطش فإنه
لا يمنع الانتقال إلى التيمم ولان وجد أن ثمن الرقبة كوجدانها ولهذا لم يجز لمن وجد ثمنها الانتقال
إلى الصيام ومع هذا لو وجد ثمنها الذي يحتاج إليه لم يمنعه الانتقال كذا ههنا
إذا ثبت هذا فإنه إن كان في شئ من ذلك فضل عن حاجته مثل من له دار كبيرة تساوي أكثر من
دار مثله ودابة فوق دابة مثله وخادم فوق خادم مثله يمكن ان يحصل به قدر ما يحتاج إليه وتفضل
فضلة يكفر بها فإنه يباع منه الفاضل عن كفايته أو يباع الجميع ويبتاع له قدر ما يحتاج إليه ويكفر بالباقي
278

وإن تعذر بيعه أو أمكن البيع ولم يمكن شراء ما يحتاج إليه ترك ذلك وكان له الانتقال إلى الصيام لأنه
تعذر الجمع بين القيام بحاجته والتكفير بالمال فأشبه ما لو لم يكن فيه فضل
(فصل) ومن له عقار يحتاج إلى اجرته لمؤنته وحوائجه الأصلية أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه
بالتكفير منها أو سائمة يحتاج إلى نمائها حاجة أصلية أو أثاث يحتاج إليه وأشباه هذا فله التكفير بالصيام
لأن ذلك مستغرق لحاجته الأصلية فأشبه المعدم
(مسألة) قال (ويجزئه ان أطعم خمسة مساكين وكسا خمسة)
وجملته انه إذا أطعم بعض المساكين وكسى الباقين بحيث يستوفي العدد أجزأه في قول إمامنا
والثوري وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يجزئه لقول الله تعالى (فكفارته اطعام عشرة مساكين
من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) فوجه الدلالة من وجهين:
(أحدهما) أنه جعل الكفارة أحد هذه الخصال الثلاثة ولم يأت بواحد منها
(الثاني) ان اقتصاره على هذه الخصال الثلاث دليل على انحصار التكفير فيها وما ذكرتموه خصلة
رابعة ولأنه نوع من التكفير فلم يجزئه تبعيضه كالعتق ولأنه لفق الكفارة من نوعين فأشبه ما لو أعتق
نصف عبد واطعم خمسة أو كساهم
ولنا انه أخرج من المنصوص عليه بعده العدد الواجب فأجزأ كما لو أخرجه من جنس واحد ولان كل
واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد فقام مقامه في بعضه كالكفارتين وكالتيمم لما قام مقام الماء في
البدن كله في الجنابة جاز في بعضه في طهارة الحدث فيما إذا كان بعض بدنه صحيحا وبعضه جريحا وفيما إذا وجد
من الماء ما يكفي بعض بدنه ولان معنى الطعام والكسوة متقارب إذا لقصد منهما سد الخلة ودفع الحاجة
وقد استويا في العدد واعتبار المسكنة في المدفوع إليه وتنوعهما من حيث كونهما في الاطعام سدا
لجوعه وفي الكسوة ستر العورة لا يمنع الاجزاء في الكفارة الملفقة منهما كما لو كان أحد الفقيرين محتاجا
إلى ستر عورته والاخر إلى الاستدفاء ولأنه قد خرج عن عهدة الذين أطعمهم بالاطعام فيخرج عن
عهدة الذين كساهم بالكسوة بدليل انه لا يلزمه بالانفاق أكثر من اطعام من بقي ولا كسوة أكثر
ممن بقي وإذا خرج عن عهدة عشرة مساكين وجب ان يجزئه كما لو اتفق النوع
279

وأما الآية فإنها تدل بمعناها على ما ذكرناه فإنها دلت على أنه مخير في كل فقير بين يطعمه أو
يكسوه وهذا يقتضي ما ذكرناه ويصير كما يخير في الصيد الحرمي بين ان يفديه بالنظير أو يقوم النظير
بدراهم فيشتري بها طعاما يتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما، فلو صام عن بعض الامداد وأطعم
بعضا أجزأ كذلك ههنا وكذلك الدية لما كان مخيرا بين إخراج ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم
لو أعطى البعض ذهبا والبعض دراهم جاز. وفارق ما إذا أعتق نصف عبد وأطعم خمسة أو كساهم
لأن تنصيف العتق يخل بالآخر لما سنذكره بعد هذا
(فصل) وان أطعم المسكين بعض الطعام وكساه بعض الكسوة لم يجزئه لأنه ما أطعمه الطعام
الواجب له ولا كساه الكسوة الواجبة فصار كمن لم يطعمه شيئا ولم يكسه، وان أطعم بعض المساكين
برا وبعضهم تمرا أو من جنس آخر أجزأ وقال الشافعي لا يجزئه
ولنا قوله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين) وقد أطعمهم من جنس ما يجب عليه ولأنه
لو كسا بعض المساكين قطنا وبعضهم كتانا جاز مع اختلاف النوع كذلك الاطعام
(مسألة) قال (وإن أعتق نصفي عبدين أو نصفي أمتين أو نصفي عبد وأمة أجزأ عنه)
قال الشريف أبو جعفر هذا قول أكثرهم يعني أكثر الفقهاء، وقال أبو بكر بن جعفر لا يجزئ
لأن المقصود من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل من إعتاق نصفين، واختلف أصحاب الشافعي على
ثلاثة أوجه فمنهم من قال كقول الخرقي ومنهم من قال كقول أبي بكر ومنهم من قال إن كان نصف
الرقيق حرا أجزأ لأنه يحصل تكميل الأحكام، وإن كان رقيقا لم يجز لأنه لا يحصل
ولنا ان الأشقاص كالاشخاص فيما لا يمنع منه العيب اليسير دليله الزكاة ونعني به إذا كان له
نصف ثمانين شاة مشاعا وجبت الزكاة كما لو ملك أربعين منفردة وكالهدايا والضحايا إذا اشتركوا فيها، والأولى
انه لا يجزئ إعتاق نصفين إذا لم يكن الباقي بينهما حرا لأن إطلاق الرقبة إنما ينصرف إلى إعتاق
الكاملة ولا يحصل من الشقصين ما يحصل من الرقبة الكاملة من تكميل الأحكام وتخليص الآدمي
من ضرر الرق ونقصه فلا يثبت به من الأحكام ما يثبت باعتاق رقبة كاملة، ويمتنع قياس الشقصين
على الرقبة الكاملة، ولهذا لو أمر انسانا بشراء رقبة أو بيعها أو باهداء حيوان أو بالصدقة به لم
يكن له ان يشقصه كذا ههنا
280

(مسألة) قال (وان أعتق نصف عبد وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه)
لا نعلم في هذا خلاف وذلك لأن مقصودهما مختلف متباين إذ كان القصد من العتق تكميل الأحكام
وتخليص المعتق من الرق، والقصد من الاطعام والكسوة سد الخلة وإبقاء النفس بدفع المجاعة في
الطعام وستر العورة ودفع ضرر الحر والبرد في الكسوة فلتقارب معناهما واتحاد مصرفهما جريا مجريا
الجنس الواحد فكملت الكفارة من أحدهما بالآخر ولذلك سوي بين عددهما، ولتباعد مقصد العتق
منهما واختلاف مصرفهما ومباينتهما له لم يجريا مجرى الجنس الواحد فلم يكمل به واحد منهما
ولذلك خالف عدده عددهما
(فصل) ولو أطعم بعض المساكين أو كساهم أو أعتق نصف عبد ولم يكن له ما يتم به الكفارة
فصام عن الباقي لم يجزئه ولأنه بدل في الكفارة فلم تكمل به كسائر الابدال مع مبدلاتها، ولان الصوم
من الطعام والكسوة أبعد من العتق فإذا لم يجز تكميل أحد نوعي المبدل من الآخر فتكميله
بالبدل أولى. فإن قيل يبطل هذا بالغسل والوضوء مع التيمم، قلنا التيمم لا يأتي ببعضه بدلا عن بعض
الطهارة وإنما يأتي به بكماله وههنا لو أتى بالصيام جميعه أجزأه
(مسألة) قال (ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى
العتق أو الاطعام الا أن يشاء)
في هذه المسألة فصلان (أحدهما) انه إذا شرع في الصوم ثم قدر على العتق أو الاطعام أو الكسوة
لم يلزمه الرجوع إليها وروي ذلك عن الحسن وقتادة وبه قال مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور
وابن المنذر وروي عن النخعي والحكم انه يلزمه الرجوع إلى أحدهما وبه قال الثوري وأصحاب
الرأي لأنه قدر على المبدل قبل إتمام البدل فلزمه الرجوع كالمتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام صلاته
ولنا انه بدل لا يبطل بالقدرة على المبدل فلم يلزمه الرجوع إلى المبدل بعد الشروع فيه كما لو شرع
المتمتع العاجز عن الهدي في صوم السعة الأيام فإنه لا يخرج بلا خلاف
والدليل على أن البدل لا يبطل أن البدل الصوم وهو صحيح مع قدرته اتفاقا وفارق لتيمم فإنه
يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه منه، ولان الرجوع إلى طهارة الماء لا مشقة فيه ليسره والكفارة
281

يشق الجمع فيها بين خصلتين وإيجاب الرجوع يفضي إن ذلك، فإن قيل ينتقض دليلكم بما إذا شرع
المتمتع في صوم الثلاثة، قلنا إذا قدر على الهدي في صوم الثلاثة تبينا انه ليس بعادم له في وقته لأن وقت
الهدي يوم النحر بخلاف مسئلتنا
(الفصل الثاني) انه ان أحب الانتقال إلى الاعلى فله ذلك في قول أكثرهم ولا نعلم خلافا إلا
في العبد إذا حنث ثم عتق
وقال أبو الخطاب لا يجوز الانتقال في مسئلتنا محتجا بقول الخرقي إذا حنث وهو عبد فلم يكفر
حتى عتق قال وهو ظاهر كلام احمد لقوله في العبد إنما يكفر ما وجب عليه
ولنا ان العتق والاطعام الأصل فأجزأه التكفير به كما لو تكلف الفقير فاستدان وأعتق،
وأما العبد إذا عتق فيحتمل انه يجوز له الانتقال كمسئلتنا، ويحمل كلام احمد على أنه لا يلزمه الانتقال
ويحتمل انه يفرق بينه وبين الحر من حيث إن الحر كان يجزئه التكفير بالمال لو تكلفه والعبد لم يكن
يجزئه الا الصيام على رواية
(فصل) ولو وجبت الكفارة على موسر فأعسر لم يجزئه الصيام وبهذا قال الشافعي، وقال
أبو ثور وأصحاب الرأي يجزئه لأنه عاجز عن المبدل فجاز له العدول إلى البدل كما لو وجبت عليه
الصلاة ومعه ماء فاندفق قبل الوضوء به
ولنا ان الاطعام وجب عليه في الكفارة فلم يسقط بالعجز عنه كالاطعام في كفارة الظهار، وفارق
الوضوء لأن الصلاة واجبة ولابد من أدائها فاحتيج إلى الطهارة لها في وقتها بخلاف الكفارة
(فصل) والكفارة في حق العبد والحر والرجل والمرأة والمسلم والكافر سواء، لأن الله تعالى ذكر
الكفارة بلفظ عام في جميع المخاطبين فدخل الكل في عمومه الا ان الكافر لا يصح منه التكفير بالصيام
لأنه عبادة وليس هو من أهلها ولا بالاعتاق لأن من شرطه الايمان في الرقبة ولا يجوز لكافر شراء
مسلم الا أن يتفق إسلامه في يديه أو يرث مسلما فيعتقه فيصح اعتاقه وان لم يتفق ذلك فتكفيره بالاطعام
أو الكسوة فإذا كفر به ثم أسلم لم يلزمه إعادة التكفير، وان أسلم قبل التكفير كفر بما يجب عليه في تلك
الحال من اعتاق أو إطعام أو كسوة أو صيام، ويحتمل على قول الخرقي ألا يجزئه الصيام لأنه إنما يكفر
بما وجب عليه حين الحنث ولم يكن الصيام مما وجب عليه
282

(باب جامع الايمان)
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله تعالى (ويرجع في الايمان إلى النية)
وجملة ذلك أن مبني اليمين على نية الخالف فإذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء
كان ما نواه موفقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له فالموافق للظاهر ان ينوي باللفظ موضوعه الأصلي مثل
أن ينوي باللفظ العام العموم وبالمطلق الاطلاق وبسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الافهام منها والمخالف يتنوع أنواعا
(أحدها) ان ينوي بالعام الخاص مثل أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة ويريد لحما بعينه وفاكهة بعينها
ومنها ان يحلف على فعل شئ أو تركه مطلقا وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه مثل ان يحلف لا أتغدى
يعني اليوم أو لآكلن يعني الساعة، ومنها ان ينوي بيمينه غير ما يفهمه السامع منه كما ذكرنا في المعاريض
في مسألة إذا تأول في يمينه فله تأويله، ومنها أو يريد بالخاص العام مثل ان يحلف لا شربت لفلان
الماء من العطش ينوي قطع كل ماله فيه منة أو لا يأوي مع امرأته في دار يريد جفاءها بترك اجتماعها
معه في جميع الدور أو حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها به فيتعلق يمينه بالانتفاع به أو بثمنه
مما لها فيه منة عليه.
وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة والشافعي لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف لفظه لأن الحنث
مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين لفظه فلو أحنثناه على ما سواه لأحنثنا على ما نوى لا على ما حلف ولان
النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك لا يحنث بمخالفها
ولنا أنه نوى بكلامه ما يحتمله ويسوغ في اللغة التعبير به عنه فينصرف يمينه إليه كالمعاريض وبيان
احتمال اللفظ انه يسوغ في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام قال الله تعالى (ما يملكون من قطمير
- ولا يظلمون فتيلا - وإذا لا يأتون الناس نقيرا) والقطمير لفافة النواة والفتيل ما في شقها والنقير النقرة
التي في ظهرها ولم يرد ذلك بعينه بل نفي كل شئ وقال الحطيئة يهجو بني العجلان:
* ولا يظلمون الناس حبة خردل *
ولم يرد الحبة إنما أراد لا يظلمونهم شيئا وقد يذكر العام ويراد به الخاص كقوله تعالى
(الذين قال لهم الناس) يعني رجلا واحدا (إن الناس قد جمعوا لكم) يعني أبا سفيان وقال تعالى (تدمر كل
شئ) ولم يرد السماء والأرض ولا مساكنهم وإذا احتمله اللفظ وجب صرف اليمين إليه لقول النبي
283

صلى الله عليه وسلم " إنما لامرئ ما نوى " ولان كلام الشارع يحمل على مراده إذا ثبت ذلك بالدليل فكذلك
كلام غيره وقولهم ان الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين قلنا وهذا كذلك فإنما انعقدت عليه اليمين
على ما نواه ولفظه مصروف إليه وليست هذه نية مجردة بل لفظ منوي به ما يحتمله
(فصل) ومن شرط انصراف اللفظ إلى ما نواه احتمال اللفظ له فإن نوى ما لا يحتمله اللفظ مثل ان
يحلف لا يأكل خبزا يعني به لا يدخل بيتا فإن يمينه لا تنصرف إلى المنوي لأنها نية مجردة لا يحتملها
اللفظ فأشبه ما لو نوى ذلك بغير يمين.
(مسألة) قال (فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها)
وجملته أنه إذا عدمت النية نظرنا في سبب اليمين وما أثارها لدلالته على النية فإذا حلف لا يأوي
مع امرأته في هذه الدار نظرنا فإن كان سبب يمينه غيظا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها
اختصت يمينه بها، وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقتضى جفاءها ولا أثر للدار فيه تعلق ذلك بايوائه معها
في كل دار، وكذلك إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها فإن كان سببه المنة عليه منها فكيفما انتفع
به أو بثمنه حنث وإن كان سبب يمينه خشونة غزلها ورداءته لم يتعد بيمنه لبسه والخلاف في هذه
المسألة كالخلاف في التي قبلها قد دللنا على تعلق اليمين بما نواه والسبب دليل على النية فيتعلق اليمين به
وقد ثبت ان كلام الشارع إذا كان خاصا في شئ لسبب عام تعدى إلى ما يوجد فيه السبب كتنصيصه
على تحريم التفاضل في أعيان ستة أثبت الحكم في كل ما يوجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي
مثله فاما إن كان اللفظ عاما والسبب خاصا مثل من دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى أو حلف لا يقعد
فإن كانت له نية فيمينه على ما نوى وان لم تكن له نية فكلام أحمد يقتضي روايتين
(إحداهما) ان اليمين محمولة على العموم لأن أحمد سئل عن رجل حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه
فيه فزال الظلم فقال النذر يوفى به يعني لا يدخله. ووجه ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب
خاص وجب الاخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذلك يمين الحالف وذكر القاضي فيمين
حلف على زوجته أو عبده ان لا يخرج الا باذنه فعتق العبد وطلق الزوجة وخرجا بغير إذنه لا يحنث
284

لأن قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها. وإنما يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما فكأنه
قال ما دمتما في ملكي ولان السبب يدل على النية في النصوص كدلالته عليها في العموم ولو نوي
الخصوص لاختصت يمينه به فكذلك إذا وجد ما يدل عليها، ولو حلف لعامل لا يخرج الا بأذنه فعزل
أو حلف أن لا يرى منكرا الا رفعه إلى فلان القاضي فعزل ففيه وجهان بناء على ما تقدم (أحدهما)
لا تنحل اليمين بعزله قال القاضي هذا قياس المذهب لأن اليمين إذا تعلقت بعين موصوفة تعلقت
بالعين وان تغيرت الصفة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والوجه الآخر تنحل اليمين بعزله
وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يقال رفعه إليه الا في حال ولايته فعلى هذا ان رأى المنكر في ولايته فامكنه
رفعه فلم يرفعه إليه حتى عزل لم يبر برفعه إليه حال كونه معزولا وهل يحنث بعزله؟ فيه وجهان (أحدهما)
يحنث لأنه قد فات رفعه إليه فأشبه ما لو مات (والثاني) لا يحنث لأنه لم يتحقق فواته لاحتمال ان
يلي فيرفعه إليه بخلاف ما إذا مات فإنه يحنث لأنه قد تحقق فواته وإذا مات قبل امكان رفعه إليه
حنث أيضا لأنه قد فات فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده في غد فمات العبد اليوم ويحتمل ان لا يحنث
لأنه لم يتمكن من فعل المحلوف عليه فأشبه المكره وان قلنا لا تنحل يمينه بعزله فرفعه إليه بعد عزله بر بذلك
(فصل) فإن اختلف السبب والنية مثل ان امتنت عليه امرأته بغزلها فحلف أنه لا يلبس ثوبا من
غزلها ينوي اجتناب اللبس خاصة دون الانتفاع بثمنه وغيره قدمت النية على السبب وجها واحدا لأن
النية وافقت مقتضى اللفظ، وان نوي بيمينه ثوبا واحدا فكذلك في ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي
يقدم السبب لأن اللفظ ظاهر في العموم والسبب يؤكد ذلك الظاهر ويقويه لأن السبب هو الامتنان
وظاهر حاله قطع النية فلا يلتفت إلى نيته المخالفة للظاهرين والأول أصح لأن السبب إنما اعتبر لدلالته
على القصد فإذا خالف حقيقة القصد لم يعتبر فكان وجوده كعدمه فلم يبق الا لفظه بعمومه والنية
تخصه على ما بيناه فيما مضى
(مسألة) قال (ولو حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته فإن
تخلف عن الخروج من وقته حنث)
وجملة ذلك أن ساكن الدار إذا حلف لا يسكنها فمتى أقام فيها بعد يمينه زمنا يمكنه فيه الخروج
285

حنث لأن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم السكنى عليها الا تراه يقول سكنت هذه الدار
شهرا كما يقول لبست هذا الثوب شهرا؟ وبهذا قال الشافعي وان أقام لنقل رحله وقماشه لم يحنث لأن
الانتقال لا يكون الا بالأهل والمال فيحتاج ان ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا وحكي عن مالك أنه
ان أقام دون اليوم والليلة لم يحنث لأن ذلك قليل يحتاج إليه في الانتقال فلم يحنث به وعن زفر أنه
قال يحنث وان انتقل في الحال لأنه لابد من أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة فيحنث بها
وليس بصحيح فإن مالا يمكن الاحتراز منه لا يراد باليمين ولا يقع عليه، وأما إذا أقام زمنا يمكنه الانتقال
فيه فإنه يحنث لأنه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به كموضع الاتفاق الا ترى أنه لو حلف لا يدخل
الدار فدخل إلى أول جزء منها حنث وإن كان قليلا؟
(فصل) وان أقام النقل متاعه وأهله لم يحنث وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يحنث
ولنا ان الانتقال إنما يكون بالأهل والمال على ما سنذكره ولا يمكنه التحرز من هذه الإقامة فلا
يقع اليمين عليها وعلى هذا إن خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع امكان نقلهم عنه حنث
وقال الشافعي لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال لأنه إذا خرج بنية الانتقال فليس بساكن ولأنه
يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله
ولنا ان السكنى تكون بالأهل والمال ولهذا يقال فلان ساكن بالبلد الفلاني وهو غائب عنه بنفسه وإذا نزل
بلدا بأهله وماله يقال سكنه ولو نزله بنفسه لا يقال سكنه. وقولهم انه نوى السكنى بنفسه لا يصح فإن من
خرج إلى مكان لينقل أهله إليه ولم ينو السكنى بنفسه فأشبه من خرج يشترى متاعا، وان خرج عازما على
السكنى بنفسه منفردا عن أهله الذي في الدار لم يحنث ويدين فيما بينه وبين الله تعالى ذكره القاضي
وحكي عن مالك انه اعتبر نقل عياله دون ماله والأولى إن شاء الله انه إذا انتقل بأهله فسكن في
موضع آخر فإنه لا يحنث، وان بقي متاعه في الدار لأن مسكنه حيث حل أهله به ونوى الإقامة به
ولهذا لو حلف لا يسكن دارا لم يكن ساكنا لها فنزلها باهله ناويا للسكنى بها حنث - وقال القاضي:
إن نقل إليها ما يتأثث به ويستعمله في منزله فهو ساكن وإن سكنها بنفسه
(فصل) وإن أكره على المقام لم يحنث لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه " وكذلك إن كان في جوف الليل في وقت لا يجد منزلا يتحول إليه أو يحول بينه
286

وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكنه فتحها أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله فأقام في طلب النقلة وانتظارا
لزوال المانع منها أو خرج طالبا للنقلة فتعذرت عليه اما لكونه لم يجد مسكنا يتحول إليه لتعذر الكراء
أو غيره أو لم يجد بهائم ينتقل عليها ولا يمكنه النقلة بدونها فأقام ناويا للنقلة متى قدر عليها لم يحنث
وإن أقام أياما وليالي لأن اقامته عن غير اختيار منه لعدم تمكينه من النقلة فإنه إذا لم يجد مسكنا
لا يمكنه ترك أهله والقاء متاعه في الطريق فلم يحنث به كالمقيم للاكراه
وإن أقام في هذا الوقت غير ناو للنقلة حنث ويكون نقله لما يحتاج إلى نقله على ما جرت به العادة
فلو كان ذا متاع كثير فنقله قليلا على العادة بحيث لا يترك النقل المعتاد لم يحنث وإن أقام أياما،
ولا يلزمه جمع دواب البلد لنقله ولا النقل بالليل، ولا وقت الاستراحة عند التعب ولا أوقات
الصلوات لأن العادة لم تجر بالنقل فيها، ولو ذهب رحله أو أودعه أو أعاره وخرج لم يحنث لأن
يده زالت عن المتاع فإن تردد إلى الدار لنقل المتاع أو عائدا لمريض أو زائرا لصديق لم يحنث وقال
القاضي إن دخلها ومن رأيه الجلوس عنده حنث والا فلا
ولنا ان هذا ليس بسكنى ولذلك لو حلف ليسكنن دارا لم يبر بالجلوس فيها لأنه على هذا
الوجه لا يسمى ساكنا به بهذا العذر فلم يحنث به كما لو لم ينو الجلوس، وإن كان له في الدار امرأة
أو عائلة فأرادهم على الخروج معه والانتقال عنها فأبوا ولم يمكنه اخراجهم فخرج وتركه لم يحنث لأن
هذا مما لا يمكنه فأشبه ما لم يمكنه نقله من رحله
(فصل) وإن حلف لا يساكن فلانا فالحكم في الاستدامة على ما ذكرنا في الحلف على السكنى
وإن انتقل أحدهما وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة وإن سكنا في دار واحدة وكل واحد في بيت
ذي باب وغلق رجع إلى بيته بيمينه أو إلى سببها وما دلت عليه قرائن أحواله في المحلوف على المساكنة
فيه فإن عدم ذلك كله حنث وهذا قول مالك
وقال الشافعي إن كانت الدار صغيرة فهما متساكنان لأن الصغيرة مسكن واحد، وإن كانت
كبيرة إلا أن أحدهما في البيت والآخر في الصفة أو كانا في صفتين أو بيتين ليس على أحدهما غلق
دون صاحبه فهما متساكنان، وإن كانا في بيتين كل واحد منهما له غلق أو كانا في خان فليسا متساكنين
لأن كل واحد منهما ينفرد بمسكنه دون الآخر فاشبها المتجاورين كل واحد منهما ينفرد بمسكنه
287

ولنا أنهما في دار واحدة فكانا متساكنين كالصغيرة وفارق المتجاورين في الدارين فإنها ليسا
متساكنين ويمينه على نفي المساكنة لاعلى المجاورة، ولو كانا في دار واحدة حالة اليمين فخرج أحدهما
منها وقسماها حجرتين وفتحا لكل واحدة منهما بابا وبينهما حاجز ثم سكن كل واحد منهما في حجرة
لم يحنث لأنهما غير متساكنين، وإن تشاغلا ببناء الحاجز بينهما وهما متساكنان حنث لأنهما
تساكنا قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه خلافا
(فصل) فإن حلف لا ساكنت فلانا في هذه الدار قسماها حجرتين وبنيا بينهما حائطا وفتح كل
واحد منهما لنفسه بابا ثم سكنا فيهما لم يحنث لما ذكرنا في التي قبلها وهذا قول الشافعي وابن المنذر
وأبي ثور وأصحاب الرأي، وقال مالك لا يعجبني ذلك ويحتمله قياس المذهب لكونه عين الدار ولا
ينحل بتغيرها كما لو حلف لا يدخلها فصارت نصا والأول أصح لأنه لم يساكنه فيها لكون المساكنة
في الدار لا تحصل مع كونهما دارين وفارق الدخول فإنه دخلها متغيره
(فصل) وإن حلف ليخرجن من هذه الدار اقتضت يمينه الخروج بنفسه وأهله كما لو حلف
لا يسكنها، وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة تناولت يمينه الخروج بنفسه لأن الدار يخرج منها
صاحبها في اليوم مرات عادة فظاهر حاله انه لم يرد الخروج المعتاد وإنما أراد الخروج الذي هو النقلة
والخروج من البلد بخلاف ذلك، وإذا خرج الحالف فهل له العود فيه؟ عن أحمد روايتان
(إحداهما) لا شئ عليه في العود ولا يحنث به لأن يمينه على الخروج وقد خرج فانحلت يمينه
لفعل ما حلف عليه فلم يحنث فيما بعد.
(والثانية) يحنث بالعود لأن ظاهر حاله قصد هجران ما حلف على الرحيل منه ولا يحصل ذلك
بالعود ويمكن حمل هذه الرواية على أن للمحلوف عليه سببا هيج يمينه أو دلت قرينة حاله على ارادته
هجرانه أو نوي ذلك بيمينه فاقتضت يمينه دوام اجتنابها وان لم يكن كذلك لم يحنث بالعود لأن
اليمين تحمل عند عدم ذلك على مقتضى اللفظ ومقتضاه ههنا الخروج وقد فعله فانحلت يمينه وكذلك
الحكم إذا حلف على الرحيل منها الا انه إذا حلف على الرحيل من بلد لم يبركا الا بالرحيل بأهله.
(مسألة) قال (ولو حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث)
نص عليه أحمد هذا في رواية أبي طالب وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نسلم
288

فيه خلافا وذلك لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه وان حمل بأمره فأدخلها حنث لأنه
دخل مختارا فأشبه ما لو دخل راكبا وان حمل بغير أمره ولكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع حنث
أيضا لأنه دخلها غير مكره فأشبه ما لو حمل بأمره وقال أبو الخطاب في الحنث وجهان.
(أحدهما) لا يحنث لأنه لم يفعل الدخول ولم يأمر به فأشبه ما لو لم يمكنه الامتناع ومتى دخل
باختياره حنث سواء كان ماشيا أو راكبا أو محمولا أو ألقى نفسه في ماء فجره إليها أو سبح فيه
فدخلها وسواء دخلها من بابها أو تسور حائطها أو دخل من طاقة فيها أو نقب حائطا ودخل من
ظهرها أو غير ذلك.
(فصل) فإن أكره بالضرب ونحوه على دخولها فدخلها لم يحنث في أحد الوجهين وهو
أحد قولي الشافعي وفي الآخر يحنث وهو قول أصحاب الرأي ونحوه قول النخعي لأنه فعل
ما حلف على تركه ودخلها.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطا والنسيان وما استكرهوا عليه ولأنه دخلها مكرها
فأشبه ما لو حمل مكرها.
(فصل) وا رقي فوق سطحها حنث، وبهذا قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي
لا يحنث ولأصحابه فيما إذا كان السطح محجرا وجهان، واحتجوا بان السطح يقيها الحر والبرد
ويحرزها فهو كحيطانها.
ولنا أن سطح الدار منها وحكم حكمها سواء فحنث بدخوله كالمحجر أو كما لو دخل بين حيطانها
ودليل ذلك أنه يصح الاعتكاف في سطح المسجد ويمنع الجنب من اللبث فيه ولو حلف ليخرجن
من الدار فصعد سطحها لم يبر ولو حلف أن لا يخرج منها فصعد سطحها لم يحنث ولأنه داخل في حدود
الدار ومملوك لصاحبها ويملك بشرائها ويخرج من ملك صاحبها بيعها والبائت عليه يقال بات في داره
وبهذا يفارق ما وراء حائطها فإن كان في اليمين قرينة لفظية أو حالية تقتضي اختصاص الإرادة بداخل
الدار مثل أن يكون سطح الدار طريقا وسبب يمينه يقتضي ترك وصلة أهل الدار لم يحنث بالمرور
على سطحها وكذلك أن نوى بيمينه باطن الدار تقيدت يمينه بما نواه لأنه ليس للمراء إلا ما نواه.
289

(فصل) فإن تعلق بغصن شجرة في الدار لم يحنث وان صعد حتى صار في مقابلة سطحها بين
حيطانها حنث وان لم ينزل بين حيطانها احتمل أن يحنث لأنه في هوائها وهواؤها ملك لصاحبها فأشبه ما لو
قام على سطحها واحتمل أن لا يحنث لأنه لا يسمى داخلا ولا هو على شئ من اجزائها وكذلك أن
كانت الشجرة في غير الدار فتعلق بفرع ماد على الدار في مقابلة سطحها فإن قال على حائط
الدار احتمل وجهين. (أحدهما) أنه يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي لأنه داخل في حدها فأشبه
القائم على سطحها (والثاني) لا يحنث لأنه لا يسمى دخولا، وان قام في طاق الباب فكذلك لأنه بمنزلة
حائطها، وقال القاضي إذا قام على العتبة لم يحنث، لأن الباب إذا غلق حصل خارجا منها
ولا يسمى داخلا فيها.
(فصل) وان حلف أن لا يضع قدمه في الدار فدخلها راكبا أو ماشيا منقولا أو حافيا حنث كما
لو حلف أن لا يدخلها، وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور ان دخلها راكبا لم يحنث لأنه لم
يضع قدمه فيها.
ولنا انه قد دخل أدار فحنث كما لو دخلها ماشيا ولا نسلم انه لم يضع قدمه فيها فإن قدمه موضوعة
على الدابة فيها فأشبه ما لو دخلها منتعلا وعلى أن هذا في العرف عبارة عن اجتناب الدخول فتحمل اليمين
عليه فإن قيل هذا مجاز لا يحمل اليمين عليه قلنا المجاز إذا اشتهر صار من الأسماء العرفية فينصرف
اللفظ باطلاقه إليه كلفظ الرواية والدابة وغيرهما.
(فصل) وان حلف لا يدخل هذه الدار من بابها فدخلها من غير الباب لم يحنث لأن يمينه لم
يتناول غير الباب ويتخرج انه يحنث إذا أراد بيمينه اجتناب الدار ولم يكن للباب سبب هيج يمينه
كما لو حلف لا يأوي مع زوجته في دار فأوى معها في غيرها وان حول بابها في مكان آخر فدخل
فيه حنث لأنه دخلها من بابها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وإن حلف لا دخلت من باب
هذه الدار فكذلك وان جعل لهاب آخر مع بقاء الأول فدخل منه حنث لأنه دخل من باب الدار
وإن قلع الباب ونصب في دار أخرى وبقي الممر حنث بدخوله ولم يحنث بالدخول من الموضع الذي
نصب فيه الباب لأن الدخول في الممر لا من المصراع.
290

(فصل) فإن حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا مملوكة له أو دارا يسكنها بأجرة أو عارية
أو غضب حنث وبذلك قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث إلا بدخول دار يملكها
لأن الإضافة في الحقيقة إلى المالك بدليل انه لو قال هذه الدار لفلان كان مقرا له بملكها ولو قال أردت
انه يسكنها لم يقبل
ولنا ان الدار تضاف إلى ساكنها كإضافتها إلى مالكها قال الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن)
أراد بيوت أزواجهن التي يسكنها وقال تعالى [وقرن في بيوتكن] ولان الإضافة للاختصاص وكذلك
يضاف الرجل إلى أخيه بالاخوة والى أبيه بالبنوة وإلى ولده بالأبوة والى امرأته بالزوجية وساكن
الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة وهي مستعملة في العرف فوجب ان يحنث بدخولها
كالمملوكة له وقولهم إن هذه الإضافة مجاز ممنوع بل هي حقيقة لما ذكرناه ولو كانت مجازا لكنه مشهور
فيتناوله اللفظ كما لو حلف لا شربت من راوية فلان فإنه يحنث بالشرب من مزادته. واما الاقرار
فإنه لو قال هذه دار زيد وفسر اقراره بسكناها احتمل أن نقول يقبل تفسيره وإن سلمنا فإن قرينة
الاقرار تصرفه إلى الملك، وكذلك لو حلف لا دخلت مسكن زيد حنث بدخوله الدار التي يسكنها
ولو قال هذا المسكن لزيد كان مقرا له بها ولا خلاف في هذه المسألة وهي نظيرة مسئلتنا
(فصل) ولو حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة استأجرها فلان حنث، وإن ركب دابة
استعارها لم يحنث ذكره أبو الخطاب، وكذلك لو ركب دابة غصبها فلان وفارق مسألة الدار فإنه
لم يحنث في الدار لكونه استعارها ولا غصبها وإنما حنث كسكناه بها فأضيفت الدار إليه لذلك، ولو
غضبها أو استعارها من غير أن يسكنها لم تصح اضافتها إليه ولا يحنث الحالف فيكون كمستعير
الدابة وغاصبها سواء
(فصل) وإن حلف لا يدخل دار هذا العبد ولا يركب دابته ولا يلبس ثوبه فدخل دار جعلت
برسمه أو ركب دابة جعلت برسمه أو لبس ثوبا جعل برسمه حنث وعند الشافعي لا يحنث لأنه لا يملك
شيئا الإضافة تقتضي الملك وقد قدمنا الكلام معه في الفصل الذي قبل هذا ويختص هذا لفصل
بان الملكية لا تمكن ههنا ولا تصح الإضافة بمعناها فتعين حمل الإضافة ههنا على إضافة الاختصاص
دون الملك، وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل دار عبده حنث، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا
291

نعلم فيه خلافا لأن دار العبد ملك لسيده. وإن حلف لا يلبس ثوب السيد ولا يركب دابته فلبس
ثوب عبده وركب دابته حنث وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأن العبد بهما خص
ولنا أنهما مملوكان للسيد فتناولتهما يمين الحالف كالدار وما ذكروه يبطل بالدار
(مسألة) قال (ولو حلف لا يدخل دارا فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه حنث
ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل بجميعه أما إذا حلف ليدخلن أو يفعل شيئا لم يبر الا
يفعل جميعه والدخول إليها بجملته)
لا يختلف المذهب في شئ من ذلك ولا نعلم بين أهل العلم فيه اختلافا لأن اليمين تناولت فعل الجميع
كما لو أمره الله تعالى بفعل شئ لم يخرج من عبدة الامر الا بفعل الجميع ولان اليمين على فعل شئ اخبار بفعله
في المستقبل مؤكد بالقسم والخبر بفعل شئ يقتضي فعله كله، فأما إن حلف لا يدخل فادخل بعضه
ولا يفعل شيئا ففعل بعضه ففيه روايتان
(إحداهما) لا يحنث وحكي عن مالك لأن اليمين يقتضي المنع من فعل المحلوف عليه فاقتضت
المنع من فعل شئ منه كالنهي فنظير الحالف على الدخول قوله تعالى (أدخلوا الباب سجدا وادخلوا
عليهم الباب) فلا يكون المأمور ممتثلا الا بدخول جملته ونظير الحلف على ترك الدخول قوله سبحانه
(لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم)
وقوله (لا تدخلوا بيوت النبي) لا يكون المنهي ممتثلا الا بترك الدخول كله فكذلك الحالف
على ترك الدخول لا يبرأ الا بتركه كله فمتى أدخل بعضه لم يكن تاركا لما حلف عليه فكان مخالفا
كالمنهي عن الدخول ووجه الجمع بينهما ان الآمر والناهي يقصد الحمل على فعل الشئ أو المنع منه
والحالف يقصد بيمينه ذلك فكانا سواء يحققه أن الآمر بالفعل أو الحالف عليه يقصد فعل الجميع فلا يكون
ممتثلا ولا بارا إلا بفعله كله والناهي والحالف على الترك يقصد ترك الجميع فلا يكون ممتثلا ولا بارا الا
بترك الجميع وفاعل البعض ما فعل الجميع ولا ترك الجميع فلا يكون ممتثلا للامر ولا النهي ولا بارا
بالحلف على الفعل ولا الترك
(والرواية الثانية) لا يحنث الا بان يدخل كله، قال احمد في رواية صالح وحنبل فيمن حلف
292

على امرأته لا تدخل بيت أخيها لم تطلق حتى تدخل كلها ألا ترى أن عوف بن مالك قال كلي أو بعضي
لأن الكل لا يكون بعضا والبعض لا يكون كلا وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب أبي حنيفة والشافعي
وهكذا كل شئ حلف أن لا يفعله ففعل بعضه لا يحنث حتى يفعله كله لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج
رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله وهي حائض والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد،
والحائض ممنوعة من اللبث فيه
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بن كعب " اني لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة فلما أخرج رجله
من المسجد علمه إياها " ولان يمينه تعلقت بالجميع فلم تنحل بالبعض كالاثبات وهذا الخلاف في اليمين المطلقة
فاما ان نوى الجميع أو البعض فيمينه على ما نوى، وكذلك أن اقترنت به قرينة تقتضي أحد الامرين
تعلقت يمينه به فلو قال والله لا شربت هذا النهر أو هذه البركة تعلقت يمينه ببعضه وجها واحدا لأن
فعل الجميع ممتنع فلا ينصرف يمينه إليه وكذلك لو قال والله لا آكل الخبز ولا أشرب الماء وما أشبهه
مما علق على اسم جنس أو علقه على اسم جمع كالمسلمين والمشركين والفقراء والمساكين فإنما يحنث
بالبعض وبهذا قال أبو حنيفة وسلمه أصحاب الشافعي في اسم الجنس دون الجمع، وان علقه على اسم
جنس مضاف كماء النهر حنث أيضا بفعل البعض إذا كان مما لا يمكن شربه كله، وهو قول أبي حنيفة
وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والآخر لا يحنث لأن لفظه يقتضي جميعه فلم يتعلق ببعضه كماء الإداوة
ولنا انه لا يمكن شرب جميعه فتعلق اليمين ببعضه كما لو حلف لا يكلم الناس فكلم بعضهم وبهذا
فارق ماء الإداوة، وان نوى بيمينه فعل الجميع أو كان في لفظه ما يقتضي ذلك لم يحنث إلا بفعل
الجميع، وان قال والله لا صمت يوما لم يحنث حتى يكمله، وان حلف لا صليت صلاة ولا أكلت
أكلة لم يحنث حتى يكمل الصلاة والاكلة وان قال لامرأته ان حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق
حتى تطهر من حيضة مستقبلة وان قال لامرأتيه ان حضتما فأنتما طالقتان تطلق واحدة منهما حتى تحيضا
كلتاهما فهذا وأشباهه مما يدل على ارادته فعل الجميع فوجب تعلق اليمين به
وقال احمد في رجل قال لامرأته إذا صحت يوما فأنت طالق إذا غابت الشمس من ذلك اليوم
طلقت وقال القاضي إذا حلف لا صليت صلاة لم يحنث حتى يفرغ مما يسمى صلاة ولو حلف لا يصلي ولا
293

يصوم حنث في الصلاة بتكبيرة الاحرام، وفي الصيام بطلوع الفجر إذا نوى الصيام، وبهذا قال الشافعي
ووافق وأبو حنيفة في الصيام وقال في الصلاة لا يحنث حتى يسجد سجدة
ولنا انه يسمى مصليا بدخوله في الصلاة فحنث به كما لو سجد سجدة ولأنه شرع فيما حلف عليه
أشبه الصيام يشرع فيه، واختار أبو الخطاب أن لا يحنث حتى يصلي ركعة بسجدتيها، ولا يحنث
في الصيام حتى يصوم يوما كاملا لأن ما دون ذلك لا يكون بمفرده صوما ولا صلاة. والأول أولى فإن كل جزء
من ذلك صلاة وصيام لكن يشترط لصحته اتمامه، وكذلك يقال لمن أفسد ذلك بطل صومه وصلاته
(مسألة) قال (ومن حلف ألا يلبس ثوبا وهو لابسه نزعه من وقته فإن لم يفعل حنث)
وجملة ذلك أن من حلف لا يلبس ثوبا هو لابسه فإن نزعه في الحال وإلا حنث، وكذلك أن حلف
لا يركب دابة هو راكبها فإن نزل في أول حالة الامكان والا حنث، وبهذا قال الشافعي وأصحاب
الرأي، قال أبو ثور لا يحنث باستدامته اللبس والركوب حتى يبتدئه لأنه لو حلف لا يتزوج ولا
يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث كذا ههنا
ولنا ان استدامة اللبس والركوب تسمى لبسا وركوبا ويسمى به لابسا وراكبا ولذلك يقال
لبست هذا الثوب شهرا وركبت دابتي يوما فحنث باستدامته كما لو حلف لا يسكن فاستدام السكنى
وقد اعتبر الشرع هذا في الاحرام حيث حرم لبس المخيط فأوجب الكفارة في استدامته كما أوجبها
في ابتدائه وفارق التزويج فإنه لا يطلق على الاستدامة فلا يقال زوجت شهرا وإنما يقال منذ شهر ولهذا
لم تحرم استدامته في الاحرام كابتدائه
(فصل) فإن حلف لا يتزوج ولا يتطيب ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث في قولهم جميعا
لأنه لا يطلق على مستديم هذه الأفعال اسم الفعل فلا يقال تزوجت شهرا، ولا تطهرت شهرا ولا
تطيبت شهرا وإنما يقال منذ شهر، ولم ينزل الشارع استدامة التزويج والطيب منزلة ابتدائها
في تحريمه في الاحرام وإيجاب الكفارة فيه
(فصل) وان حلف لا يدخل دارا هو فيها فأقام فيها ففيه وجهان (أحدهما) يحنث لأن استدامة
المقام في ملك الغير كابتدائه في التحريم قال احمد في رجل حلف على امرأته لا دخلت أنا وأنت هذه
الدار وهما جميعا فيها قال أخاف أن يكون قد حنث
294

(والثاني) لا يحنث ذكره القاضي واختاره أبو الخطاب وهو قول أصحاب الرأي لأن الدخول
لا يستعمل في الاستدامة ولهذا يقال دخلتها منذ شهر ولا يقال دخلتها شهرا فجرى مجرى التزويج
ولان الدخول الانفصال من خارج إلى داخل فلا يوجد في الإقامة وللشافعي قولان كالوجهين ويحتمل
أن من أحنثه إنما كان لأن ظاهر حال الحالف انه يقصد هجران الدار ومباينتها والإقامة تخالف
ذلك فجرى مجرى الحالف على ترك السكنى به
(فصل) فإن حلف لا يضاجع امرأته على فراش وهما متضاجعان فاستدام ذلك حنث لأن
المضاجعة تقع على الاستدامة ولهذا يقال اضطجع على الفراش ليلة وإن كان هو مضطجعا على الفراش
وحده فاضطجعت عنده عليه نظرت فإن قام لوقته لم يحنث وإن استدام حنث لما ذكرنا وان حلف
لا يصوم وهو صائم فأتم يومه فقال القاضي لا يحنث ويحتمل أن يحنث لأن الصوم يقع على الاستدامة
يقال صام يوما ولو شرع في صوم يوم العيد فظن أنه من رمضان فبان انه يوم العيد حرمت عليه استدامته
وان حلف لا يسافر وهو مسافر فأخذ في العود أو أقام لم يحنث وان مضي في سفره حنث لأن الاستدامة
سفر ولهذا يقال سافرت شهرا
(فصل) وان حلف لا يلبس هذا الثوب وكان رداء في حال حلفه فارتدى به أو ائتزر أو اعتم
به أو جعله قميصا أو سراويل أو قباء وألبسه حنث، وكذلك إن كان قميصا فارتدى به أو سراويل
فائتزر به حنث هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي لأنه قد لبسه، وإن قال في يمينه لا ألبسه وهو
رداء فغيره عن كونه رداء ولبسه لم يحنث لأن اليمين وقعت على ترك لبسه رداء وإن قال والله لا لبست
شيئا فليس قميصا أو عمامة أو قلنسوة أو درعا أو جوشنا أو خفا أو نعلا حنث، قال أصحاب الشافعي
في الخف والنعل وجهان (أحدهما) لا يحنث
ولنا أنه ملبوس حقيقة وعرفا فحنث به كالثياب وفي الحديث أن النجاشي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم
خفين فلبسهما وقيل لابن عمر انك تلبس هذا النعال قال: اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسهما وان
ترك القلنسوة في رجله أو ادخل يده في الخف أو النعل لم يحنث لأن ذلك ليس بلبس لهما
(فصل) وإن حلف ليلبسن امرأته حليا فلبسها خاتما من فضة أو مخنقة من لؤلؤ أو جوهر وحده
بر في يمينه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يبر لأنه ليس بحلي وحده
ولنا قول الله تعالى (وتستخرجون منه حلية تلبسونها) وقال تعالى (يحلون فيها من أساور
295

من ذهب ولؤلؤ) وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو أنه قال قال الله تعالى للبحر الشرقي اني جاعل
فيك الحلية والصيد والطيب ولان الفضة حلي إذا كانت سوارا أو خلخالا فكانت حليا إذا كانت خاتما
كالذهب والجوهر واللؤلؤ حلي مع غيره فكان حليا وحده كالذهب، وإن ألبسها عقيقا أو سبجا لم يبر،
وقال الشافعي إن كان من أهل السواد بر وفي غيرهم وجهان لأن هذا حلي في عرفهم
ولنا أن هذا ليس بحلي فلا يبر به كالودع وخرز الزجاج وما ذكروه يبطل بالودع، وإن حلف
لا يلبس حليا فلبس دراهم أو دنانير في مرسلة ففيه وجهان (أحدهما) لا يحنث لأنه ليس بحلي إذا لم يلبسه
فكذلك إذا لبسه
(والثاني) يحنث لأنه ذهب وفضة لبسه فكان حليا كالسوار والخاتم وإن لبس سيفا محلى لم
يحنث لأن السيف ليس بحلي وإن لبس منطقة محلاة ففيه وجهان (أحدهما) لا يحنث لأن الحلية لها
دونه فأشبه السيف المحلى
(والثاني) يحنث لأنها من حلي الرجال ولا يقصد بلبسها محلاة في الغالب الا التجمل بها وإن
حلف لا يلبس خاتما فلبسه في غير الخنصر من أصابعه حنث، وقال الشافعي لا يحنث لأن اليمين
تقتضي لبسا معبسا معتادا وليس هذا معتادا فأشبه ما لو أدخل القلنسوة في رجله
ولنا أنه لابس لما حلف على ترك لبسه فأشبه ما لو ائتزر بالسراويل، وأما ادخال القلنسوة في رجله فهو
عبث وسفه بخلاف هذا فإنه لا فرق بين الخنصر وغيرها الا من حيث الاصطلاح على تخصيصه بالخنصر
(مسألة) قال (ولو حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد فاكل طعاما اشتراه زيد
وبكر حنث الا أن يكون أراد ان لا ينفرد أحدهما بالشراء)
وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي لا يحنث وذكره أبو الخطاب احتمالا لأن كل
جزء لم ينفرد أحدهما بشرائه فلم يحنث به كما لو حلف لا يلبس ثوبا اشتراه زيد فلبس ثوبا
اشتراه زيد هو وغيره
ولنا ان زيدا مشتر لنصفه وهو طعام وقد أكله فيجب ان يحنث كما لو اشتراه زيد ثم خلطه
بما اشتراه عمرو فاكل الجميع، وأما الثوب فلا نسلم وإن سلمناه فالفرق بينهما ان نصف الثوب ليس
بثوب ونصف الطعام طعام وقد أكله بعد أن اشتراه زيد وإن اشترى زيد نصفه مشاعا أو اشترى
نصفه ثم اشترى الآخر. باقيه فأكل منه حنث والخلاف فيه على ما تقدم، ولو اشترى زيد نصفه
296

معينا ثم خلطه بالنصف الآخر فأكل الجميع أو أكثر من النصف حنث بغير خلاف لأنه أكل مما
اشتراه زيد يقينا وإن أكل نصفه أو أقل من نصفه ففيه وجهان (أحدهما) يحنث لأنه يستحيل
في العادة انفراد ما اشتراه زيد من غيره فيكون الحنث ظاهرا ظهورا كثيرا
(والثاني) لا يحنث لأن الأصل عدم الحنث ولم يتيقن أكله مما اشتراه زيد، وكل موضع لا
يحنث فحكمه حكم من حلف لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة على ما سنذكره إن شاء الله
تعالى، وإن أكل من طعام اشتراه زيد ثم باعه أو اشتراه لغيره حنث ويحتمل ان لا يحنث
(فصل) وإن حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها حنث وبه قال الشافعي
وان حلف لا يلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها ففيه روايتان (إحداهما) يحنث كالتي قبلها (والثانية)
لا يحنث وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه لم يلبس ثوبا كاملا من غزلها، وكذلك إن حلف لا يلبس
ثوبا نسجه زيد ولا يأكل من قدر طبخها ولا يدخل دارا اشتراها ولا يلبس ثوبا خاطه زيد فلبس
ثوبا نسجه هو وغيره أو خاطاه أو أكل من قدر طبخاها أو دخل دارا اشترياها ففي هذا كله من
الخلاف والقول مثلما في المسألة الأولى، وإن حلف أن لا يلبس ما خاطه زيد حنث بلبس ثوب خاطاه
جميعا لأنه ليس مما خاطه زيد بخلاف ما إذا قال ثوبا خاطه زيد، وإن حلف أن لا يدخل دارا لزيد
فدخل دارا له ولغيره خرج فيه وجهان الخلاف فيها على ما مضى
(مسألة) قال (ولو حلف لا يزورهما أو لا يكلمهما فزار أو كلم أحدهما حنث الا أن
يكون أراد ألا يجتمع فعله بهما)
يمكن أن تكون هذه المسألة مبنية على من حلف ان لا يفعل شيئا ففعل بعضه فإن هذا حالف
على كلام شخصين وزيارتهما فتكليمه أحدهما وزيارته فعل لبعض ما حلف عليه وقد مضى الكلام
في هذا ويمكن أن يقال تقدير يمينه لا كلمت هذا ولا كلمت هذا لأن المعطوف يقدر له بعد حرف العطف فعل
وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه فيصير كقوله سبحانه (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) أي وحرمت
عليكم بناتكم فيصير كل واحد منها محلوفا عليه منفردا فيحنث به فإن قصد الا يجتمع فعله بهما لم يحنث إلا بذلك
لأنه قصد بيمينه ما يحتمله فانصرف إليه وان قصد ترك كلام كل واحد منهما منفردا حنث بفعله لأنه عقد
يمينه على ترك ذلك وان قال والله لا كلمت زيدا ولا عمرا حنث بكلام كل واحد منهما بغير إشكال
297

فإن هذا يقتضي ترك كلام كل واحد منهما منفردا قال الله تعالى (ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا
نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) أي لا يملكون شيئا من ذلك
(فصل) فإن قال أنت طالق ان كلمت زيدا وعمرا أو عبدي حران إن كلمت زيدا وعمرا لم يقع
الطلاق ولا العتق الا بتكليمها لأنه جعل تكليمهما معا شرطا لوقوع ذلك ولا يثبت المشروط إلا
بوجود الشرط جميعه وكذلك لو قال لامرأتيه ان حضتما فأنتما طالقتان لم يقع الطلاق على واحدة
منهما الا بحيضهما جميعا وتفارق اليمين بالله تعالى فإن مقتضاها المنع من فعل المحلوف عليه فتحصل
المخالفة بفعل البعض وقد جمع بعض أصحابنا بينهما في الحنث بفعل البعض لكون المقصود من الحلف
كله على ترك شئ المنع ممن فعله فيستويان، أما إذا قال إذا حضتما فأنتما طالقان فليس ذلك بيمين لأنه
لا يقصد بهذا منع من شئ ولا حث عليه إنما هو شرط مجرد وليس فيه معنى اليمين
(فصل) ومن حلف على فعل شئ فقال والله لا آكل خبزا ولحما ولا زبدا وتمرا ولا أدخل
هاتين الدارين ولا أعصى الله في هذين البلدين ولا أمسك هاتين المرأتين ففعل بعض ما حلف عليه مثل ان
أكل أحدهما أو دخل إحدى الدارين أو عصى الله في أحد البلدين أو أمسك إحدى المرأتين فهل
يحنث؟ يحرج على روايتين وان قصد بيمنه ان لا يجمع بينهما أو المنع من كل واحد منهما فيمينه على
ما نواه وان قال والله لا آكل سمكا وأشرب لبنا بالفتح وهو من أهل العربية لم يحنث الا بالجمع
بينهما لأن الواو ههنا بمعنى مع ولذلك اقتضت الفتح وان عطف أحدهما على الآخر بتكرار - لا - اقتضى
المنع من كل واحد منهما منفردا وحنث بفعله
(مسألة) قال (ولو حلف ان لا يلبس ثوبا فاشترى به أو بثمنه ثوبا فلبسه حنث
إذا كان ممن أمتن عليه بذلك الثوب وكذلك أن انتفع بثمنه)
هذه المسألة فرع أصل تقدم ذكره في أول الباب وهو ان الأسباب معتبرة في الايمان فيتعدى
الحكم بتعديها فإذا أمتن عليه بثوب فحلف ان لا يلبسه لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به في غير
اللبس من أخذ ثمنه لأنه نوع انتفاع به يلحق المنة به وان لم يقصد قطع المنة ولا كان سبب يمينه
يقتضي ذلك لم يحنث الا بما تناولته يمينه وهو لبسه خاصة فلو أبدله بثوب غيره ثم لبسه أو انتفع به
في غير اللبس أو باعه وأخذ ثمنه لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظا ونية وسببا
298

(فصل) وان فعل شيئا عليه فيه لها منة سوى الانتفاع بالثوب وبعوضه مثل ان سكن دارها
أو أكل طعامها أو لبس ثوبا لها غير المحلوف عليه لم يحنث لأن المحلوف عليه الثوب فتعلقت يمينه به
أو بما حصل به ولم يتعد إلى غيره لاختصاص اليمين والسبب به
(فصل) وان امتنت عليه امرأته بثوب فحلف ان لا يلبسه قطعا لمنتها فاشتراه غيره ثم كساه إياه
أو اشتراه الحالف ولبسه على وجه لا منة لها فيه فهل يحنث؟ على وجهين
(أحدهما) يحنث لمخالفته ليمينه ولان لفظ الشارع إذا كان أعم من السبب وجب الاخذ بعموم
اللفظ دون خصوص السبب كذا في اليمين ولأنه لو خاصمته امرأة له فقال نسائي طوالق طلقن كلهن
وإن كان سبب الطلاق واحدة كذا ههنا (والثاني) لا يحنث لأن السبب اقتضى تقييد لفظه بما وجد
فيه السبب فصار كالمنوي أو كما لو خصصه بقرينة لفظية
(مسألة) قال (ولو حلف ان لا يأوي مع زوجته في دار فأوى معها في غيرها حنث
إذا كان أراد يمينه جفاء زوجته ولم يكن للدار سبب هيج يمينه)
وهذه أيضا من فروع اعتبار النية وذلك أنه متى قصد جفاءها بترك الاوي معها ولم يكن للدار
أثر في يمينه كان ذكر الدار كعدمه وكأنه حلف ألا يأوي معها فإذا أوى معها في غيرها فقد اوى
معها فحنث لمخالفته ما حلف على تركه وصار هذا بمنزلة سؤال الاعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعت أهلي
في نهار رمضان فقال " أعتق رقبة " لما كان ذكر أهله لا أثر له في ايجاب الكفارة حذفناه من
السبب وصار السبب الوقاع سواء كان للأهل أو لغيرهم وإن كان للدار أثر في يمينه مثل إن كان يكره
سكناها أو خوصم من أجلها أو أمتن عليه بها لم يحنث إذا أوى معها في غيرها لأنه قصد بيمينه الجفاء
في الدار بعينها فلم يخالف ما حلف عليه وان عدم السبب والنية لم يحنث الا بفعل ما تناوله لفظه وهو
الاوي معها في تلك الدار بعينها لأنه يجب اتباع لفظه إذا لم تكن نية ولا سبب يصرف اللفظ عن مقتضاه
أو يقتضي زيادة عليه ومعنى الاوي الدخول فمتى حلف لا يأوي معها فدخل معها الدار حنث قليلا كان
لبثهما أو كثيرا قال الله تعالى مخبرا عن فتى موسى (إذا أوينا إلى الصخرة) قال أحمد ما كان ذلك
الا ساعة أو ما شاء الله يقول أويت أنا وأويت غيري قال الله تعالى (إذا أوى الفتية إلى الكهف)
وقال الله تعالى (وآويناهما إلى ربوة)
(فصل) وان برها بهدية أو غيرها أو اجتمع معها فيما ليس بدار ولا بيت لم يحنث سواء كان
299

الدار سبب في يمينه أو لم يكن لأنه قصد جفاءها بهذا النوع فلم يحنث بغيره وان حلف لا يأوي معها في
دار لسبب فزال السبب الموجب ليمينه مثل إن كان السبب امتنانها بها عليه فملك الدار أو صارت
لغيرها فأوى معها فيها فهل يحنث؟ على وجهين تقدم ذكرهما وتعليلهما
(فصل) فإن حلف ان لا يدخل عليها فيما ليس ببيت فحكمه حكم المساله التي قبلها، إذا قصد
جفاءها ولم يكن البيت سبب هيج يمينه حنث والا فلا فإن دخل على جماعة هي فيهم يقصد الدخول
عليها معهم حنث وكذلك أن لم يقصد شيئا وان استثناءها بقلبه ففيه وجهان
(إحداهما) لا يحنث كما لو حلف الا يسلم عليها فسلم على جماعة هي فيهم يقصد بقلبه السلام على
غيرها فإنه لا يحنث (والثاني) يحنث لأن الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالقصد وقد وجد في
حق الكل على السواء وهي فيهم فحنث به كما لو لم يقصد استثناءها وفارق السلام فإنه قول يصح
تخصيصه بالقصد ولهذا يصح ان يقال السلام عليكم الا فلانا ولا يصح ان يقال دخلت عليكم الا فلانا
ولان السلام قول يتناول ما يتناوله الضمير في عليكم والضمير عام يصح ان يراد به الخاص فصح ان
يراد به من سواها والفعل لا يتأتى هذا فيه وان دخل بيتا لا يعلم أنها فيه فوجدها فيه فهو كالدخول
عليها ناسيا فإن قلنا لا يحنث بذلك فخرج حين علم بها لم يحنث وكذلك أن حلف لا يدخل عليها فدخلت
هي عليه فخرج في الحال لم يحنث وان أقام فهل يحنث؟ على وجهين بناء على من حلف لا يدخل دارا هو
فيها فاستدام القمام بها فهل يحنث؟ على وجهين
(مسألة) (قال ولو حلف ان يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث
عليه وإن مات العبد حنث)
أما إذا مات الحالف من يومه فلا حنث عليه لأن الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه في
وقته وهو الغد والحالف قد خرج عن أن يكون من أهل التكليف قبل الغد فلا يمكن حثه وكذلك أن
جن الحالف في يومه فلم يفق الا بعد خروج الغد لأنه خرج عن كونه من أهل التكليف وان هرب العبد أو مرض
العبد أو الحالف أو نحو ذلك فلم يقدر على ضربه في الغد حنث وان لم يمت الحالف ففيه مسائل
(أحدها) ان يضرب العبد في غداي وقت كان منه فإنه يبر في يمينه بلا خلاف
300

(الثانية) أمكنه ضربه في غد فلم يضربه حتى مضى الغد وهما في الحياة حنث أيضا بلا خلاف
(الثالثة) مات العبد من يومه فإنه يحنث وهذا أحد قولي الشافعي ويتخرج الا يحنث وهو قول
أبي حنيفة ومالك (والقول الثاني) للشافعي لأنه فقد ضربه بغير اختياره فلم يحنث كالمكره والناسي
ولنا انه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان وهو من أهل الحنث فحنث
كما لو أتلفه باختياره وكما لو حلف ليحجن العام فلم يقدر على الحج لمرض أو عدم النفقة وفارق الاكراه
والنسيان فإن الامتناع لمعنى في الحالف وههنا الامتناع لمعنى في المحل فأشبه ما لو ترك ضربه لصعوبته
أو ترك الحالف الحج لصعوبة الطريق وبعدها عليه، فاما إن كان تلف المحلوف عليه بفعله واختياره
حنث وجها واحدا لأنه فوت الفعل علي نفسه قال القاضي ويحنث الحالف ساعة موته لأن يمينه
انعقدت من حين حلفه وقد تعذر عليه الفعل في الحال كما لو لم يؤقت ويتخرج الا يحنث قبل الغد لأن
الحنث مخالفة ما عقد يمينه عليه فلا تحصل المخالفة الا بترك الفعل في وقته
(الرابعة) مات العبد في غد قبل التمكن من ضربه فهو كما لو مات في يومه (الخامسة) مات العبد
في غد بعد التمكن من ضربه قبل ضربه فإنه يحنث وجها واحدا وقال بعض أصحاب الشافعي يحنث
قولا واحدا وقال بعضهم فيه قولان
ولنا انه يمكنه ضربه في وقته فلم يضربه فحنث كما لو مضي الغد قبل ضربه
(السادسة) مات الحالف في غد بعد التمكن من ضربه فلم يضربه حنث وجها واحدا لما ذكرنا
(السابعة) ضربه في يومه فإنه لا يبر وهذا قول أصحاب الشافعي وقال القاضي وأصحاب أبي
حنيفة يبر لأن يمينه للحث على ضربه فإذا ضربه اليوم فقد فعل المحلوف عليه وزيادة فأشبه ما لو حلف
ليقضينه حقه في غد فقضاه اليوم
ولنا انه لم يفعل المحلوف عليه في وقته فلم يبر كما لو حلف ليصومن يوم الجمعة فصام يوم الخميس
وفارق قضاء الدين فإن المقصود تعجيله لا غير وفي قضاء اليوم زيادة في التعجيل فلا يحنث فيها لأنه
علم من قصده إرادة ان لا يتجاوز غدا بالقضاء فصار كالملفوظ به إذا كان مبني الايمان على النية ولا يصح
قياس ما ليس مثله عليه وسائر المحلوفات لا تعمل منها إرادة التعجيل عن الوقت الذي وقته لها فامتنع
الالحاق وتعين التمسك باللفظ
301

(الثامنة) ضربه بعد موته لم يبر لأن اليمين تنصرف إلى ضربه حيا يتألم بالضرب وقد
زال هذا بالموت
[التاسعة] ضربه ضربا لا يؤلمه لم يبر لما ذكرناه
[العاشرة] خنقه أو نتف شعره أو عصر ساقه بحيث يؤلمه فإنه يبر لأنه يسمى ضربا لما تقدم ذكرنا له
(الحادية عشر) جن العبد فضربه فإنه يبر لأنه حي يتألم بالضرب وان لم يضربه حنث، وان حلف
لا يضربه في غد ففيه نحو من هذه المسائل ومتى فات ضربه بموته أو غيره لم يحنث لأنه لم يضربه
(فصل) وان قال والله لأشربن ماء هذا الكوز غدا فاندفق اليوم أو لآكلن هذا الخبز غدا
فتلف فهو على نحو مما ذكرنا في العبد قال صالح سألت أبي عن الرجل يحلف أن يشرب هذا الماء فانصب
قال يحنث وكذلك أن حلف أن يأكل هذا الرغيف فاكله كلب قال يحنث لأن هذا لا يقدر عليه.
(مسألة) قال (ومن حلف ألا يكلمه حينا فكلمه قبل الستة أشهر حنث)
وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يكلمه حينا فإن قيد ذلك بلفظه أو بنيته بزمن تقيد به وان أطلقه
نصرف إلى ستة أشهر روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أصحاب الرأي وقال مجاهد والحكم
وحماد ومالك هو سنة لقول الله تعالى (تؤتي أكلها كل حين باذن ربها) أي كل عام وقال الشافعي
وأبو ثور لا قدر له ويبر بأدنى زمن لأن الحين اسم مبهم يقع على القليل والكثير قال الله تعالى
(ولتعلمن نبأه بعد حين) قيل أراد يوم القيامة وقال (هل أتى على الانسان حين من الدهر؟)
وقال (فذرهم في غمرتهم حتى حين - وقال - حين تمسون وحين تصبحون) ويقال جئت منذ حين
وإن كان أتاه من ساعة.
ولنا ان الحين المطلق في كلام الله قلة ستة أشهر قال عكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيد في قوله
تعالى (تؤتي اكلها كل حين إن ستة أشهر فيحمل مطلق كلام الآدمي على مطلق كلام الله تعالى
ولأنه قول ابن عباس ولا نعلم أنه مخالفا في الصحابة وما استشهدوا به من المطلق في كلام الله تعالى فما
ذكرناه أقله فيحمل عليه لأنه اليقين.
(فصل) ان حلف لا يكلمه حقبا فذلك ثمانون عاما وقال مالك أربعون عاما لأن
302

ذلك يروى عن ابن عباس، وقال القاضي: وأصحاب الشافعي هو أدنى زمان لأنه لم ينقل فيه
عن أهل اللغة تقدير.
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى (لابثين فيها أحقابا الحقب ثمانون سنة وما
ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لا يصح لأن قول ابن عباس حجة ولان ما ذكروه يفضي إلى حمل
كلام الله تعالى (لابثين فيها أحقابا) وقول موسى (أو امضى حقبا) إلى اللكنة لأنه اخرج ذلك مخرج التكثير
فإذا صار معنى ذلك [لابثين فيها] ساعات ولحظات أو أمضي لحظات أو ساعات صار مقتضى ذلك
التقليل وهو ضد ما أراد الله تعالى بكلامه وضد المفهوم منه ولم يذكره أحد من المفسرين فيما
نعلم فلا يجوز تفسير الحقب به.
[فصل] فإذا حلف لا يكلمه زمنا أو وقتا أو دهرا أو عمرا أو مليا أو طويلا أو بعيدا أو قريبا
بر بالقليل والكثير في قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي لأن هذه الأسماء لا حد لها في اللغة وتقع
على القليل والكثير فوجب حمله على أقل ما يتناوله اسمه وقد يكون القرب بعيدا بالنسبة إلى ما هو
أقرب منه وقريبا بالنسبة إلى ما هو أبعد منه ولا يجوز التحديد بالتحكم وإنما يصار إليه بالتوقيف
ولا توقيف ههنا فيجب حمله على اليقين وهو أقل ما يتناوله الاسم
وقال ابن أبي موسى الزمان ثلاثة أشهر وقال طلحة العاقولي الحين والزمان والعمر واحد لأنهم
لا يفرقون في العادة بينهما والناس يقصدون بذلك التبعيد فلو حمل على القليل حمل على خلاف قصد
الحالف والدهر يحتمل أنه كالحين أيضا لهذا المعنى. وقال في بعيد وملئ وطويل هو أكثر من
شهر، وهذا قول أبي حنيفة لأن ذلك ضد القليل ولا يجوز حمله على ضده ولو حمل العمر على أربعين
عاما كان حسنا لقول الله تعالى مخبرا عن نبيه عليه السلام [فقد لبثت فيكم عمرا من قبله] وكان
أربعين سنة فيجب حمل الكلام عليه ولان العمر في الغلب لا يكون إلا مدة طويلة فلا يحمل على خلاف ذلك
[فصل] فإن حلف لا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان فذلك على الأبد لأن ذلك بالألف واللام
وهي للاستغراق فمقتضي الدهر كله
[فصل] فإن حلف على أيام فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع قال الله تعالى [واذكروا الله في أيام
معدودات] وهي أيام التشريق وان حلف على أشهر فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع وان حلف على شهور
303

فاختار أبو الخطاب انها ثلاثة لذلك وقال غيره يتناول يمينه اثني عشر شهرا لقول الله تعالى [ان عدة الشهور
عند الله اثنا عشر شهرا] ولان الشهور جمع الكثرة وأقله عشرة فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة
(مسألة) قال (وإذا حلف ان يقضيه حقه في وقت فقضاه قبله لم يحنث إذا كان أراد بيمينه
ألا يجاوز ذلك الوقت)
وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد وأبو ثور وقال الشافعي يحنث إذا قضاه قبله لأنه ترك فعل ما حلف
عليه مختارا فحنث كما لو قضاه بعده
ولنا ان مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله فقد قضي قبل خروج
الغد وزاد خيرا ولان مبني الايمان على النية ونية هذا بيمينه ترك تعجيل القضاء قبل خروج الغد
فتعلقت يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين فإن كانت تقتضي
التعجيل فهو كما لو نواه لأن السبب يدل على النية، وان لم ينو ذلك ولا كان السبب يقتضيه فظاهر كلام
الخرقي أنه لا يبر إلا بقضائه في الغد فلا يبر بقضائه قبله وقال القاضي يبر على كل حال لأن اليمين
للحث على الفعل فمتى عجله فقد أتى بالمقصود فيه كما لو نوى ذلك والأول أصح إن شاء الله لأنه ترك
فعل ما تناولته يمينه لفظا ولم تصرفها عنه نية ولا سبب فحنث كما لو حلف ليصومن شعبان
فصام رجبا. ويحتمل ما قاله القاضي في القضاء خاصة لأن عرف هذه اليمين في القضاء التعجيل
فتصرف اليمين المطلقة إليه
(فصل) فاما غير قضاء الحق كأكل شئ أو شربه أو بيع شئ أو شرائه أو ضرب عبد ونحوه
فمتى عين وقته ولم ينو ما يقتضي تعجيله ولا كان سبب يمينه يقتضيه لم يبر الا بفعله في وقته، وذكر
القاضي انه يبر بتعجيله عن وقته وحكي ذلك عن أصحاب أبي حنيفة
ولنا انه لم يفعل المحلوف عليه في وقته من غير نية تصرف يمينه ولا سبب فيحنث كالصيام ولو فعل
بعض المحلوف عليه قبل وقته وبعضه في وقته لم يبر لأن اليمين في الاثبات لا يبر فيها الا بفعل جميع
المحلوف عليه فترك بعضه في وقته كترك جميعه إلا أن ينوي أن لا يجاوز ذلك الوقت أو
يقتضي ذلك سببها
(فصل) ومن حلف لا يبيع ثوبه بعشرة فباعه بها أو بأقل منها حنث، وإن باعه بأكثر منها لم
يحنث وقال الشافعي لا يحنث إذا باعه بأقل لأنه لم يتناوله يمينه
ولنا أن العرف في هذا ألا يبيعه بها ولا بأقل منها بدليل انه لو وكل في بيعه انسانا وأمره أن
304

لا يبيعه بعشرة لم يكن له بيعه بأقل منها ولان هذا تنبيه على امتناعه من بيعه بما دون العشرة
والحكم يثبت بالبينة كثبوته باللفظ فإن حلف لا اشتريته بعشرة فاشتراه بأقل لم يحنث وإن اشتراه
بها أو بأكثر منها حنث لما ذكرنا ومقتضى مذهب الشافعي ألا يحنث إذا اشتراه بأكثر منها
لأن يمينه لم تتناوله لفظا
ولنا أنها تناولته عرفا وتنبيها فكان حانثا كما لو حلف: ماله علي حبة فإنه يحنث إذا كان له عليه أكثر
منها ويبرأ بيمينه مما زاد عليه كبرائته منا، قيل لأحمد رجل إن حلف لا ينقص هذا الثوب عن كذا
قال قد أخذته ولكن هب لي كذا؟ قال هذا حيلة، قيل له فإن قال البائع بعتك بكذا وأهب لفلان
شيئا آخر؟ قال هذا كله ليس بشئ فكرهه
(فصل) فإن حلف ليقضينه حقه في غد فمات الحالف من يومه لم يحنث لما ذكرنا فيما إذا حلف
ليضربن عبده في غد فمات من يومه وإن مات المستحق فحكي عن القاضي انه يحنث لأنه قد تعذر قضاؤه
فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد قبل اليوم
وقال أبو الخطاب إن قضى ورثته لم يحنث لأن قضاء ورثته يقوم مقام قضائه في ابراء ذمته فكذلك
في البر في يمينه بخلاف ما إذا مات العبد فإنه لا يقوم ضرب غيره مقام ضربه
وقال أصحاب الرأي وأبو ثور تنحل اليمين بموت المستحق ولا يحنث سواء قضى ورثته أو لم
يقضهم لأنه تعذر عليه فعل ما حلف عليه بغير اختياره أشبه المكره وقد سبق الكلام على هذا في مسألة
من حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد اليوم وإن أبرأه المستحق من الحق فهل يحنث؟ على وجهين
بناء على المكره هل يحنث، على روايتين وإن قضاه عوضا عن حقه لم يحنث عند ابن حامد لأنه قد قضى
حقه، وقال القاضي يحنث لأنه لم يقضه الحق الذي عليه بعينه
(فصل) فإن حلف ليقضيه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو إلى رأس الهلال أو إلى استهلاله أو عند
رأس الشهر أو مع رأسه فقضاه عند غروب الشمس من ليلة الشهر بر في يمينه وإن أخر ذلك مع
امكانه حنث، وإن شرع في عده أو كيله أو وزنه فتأخر القضاء لكثرته لم يحنث لأنه لم يترك القضاء
وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في هذا الوقت فشرع في أكله فيه فتأخر الفراغ لكثرته لم
يحنث لأن أكله كله غير ممكن في هذا الوقت اليسير فكانت يمينه على الشروع فيه في ذلك الوقت
أو على مقارنة فعله لذلك الوقت للعلم بالعجز عن غير ذلك ومذهب الشافعي في هذا كله كما ذكرنا
305

(مسألة) قال (ولو حلف ألا يشرب ماء هذا الاناء فشرب بعضه حنث الا أن يكون
أراد ان لا يشربه كله)
وجملة ذلك أنه إذا حلف ليفعلن شيئا لم يبر إلا بفعل جميعه، وإن حلف ألا يفعله وأطلق ففعل
بعضه ففيه روايتان تقدم ذكرهما وإن نوى فعل جميعه أو كان في يمينه ما يدل عليه لم يحنث إلا بفعل جميعه
وإن نوى فعل البعض أو كان في يمينه ما يدل عليه حنث بفعل البعض رواية واحدة فإن حلف لا يشرب
ماء هذا الاناء فشرب بعضه فهل يحنث بذلك؟ فيه روايتان
وإن حلف لا يشرب ماء دجلة أو ماء هذا النهر حنث بشرب أدنى شئ منه لأن شرب جميعه
ممتنع بغير يمينه فلا حاجة إلى توكيد المنع بيمينه فتصرف يمينه إلى منع نفسه مما يمكن فعله وهو شرب
البعض كما لو حلف لا شربت الماء وبهذا قال أبو حنيفة
وقال أصحاب الشافعي إن حلف على الجنس كالناس والماء والخبز والتمر ونحوه حنث بفعل
البعض وإن تناولت يمينه الجميع كالمسلمين والمشركين والمساكين لم يحنث بفعل البعض، وإن تناولت
اسم جنس يضاف كماء النهر وماء دجلة ففيه وجهان. ولنا انه حلف على مالا يمكنه فعل جميعه فتناولت
يمينه بعضه منفردا كاسم الجنس
وإن حلف لا شربت من الفرات فشرب من مائه حنث سواء كرع فيه أو اغترف منه ثم شرب
وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يحنث حتى يكرع فيه لأن حقيقة ذلك الكرع
فلم يحنث بغيره كما لو حلف لا شربت من هذا الاناء فصب منه في غيره وشرب
ولنا أن معنى يمينه أن لا يشرب من ماء الفرات لأن الشرب يكون من مائها ومنها في العرف
فحملت اليمين عليه كما لو حلف لا شربت من هذه البئر ولا أكلت من هذه الشجرة ولا شربت من هذه
الشاة ويفارق الكوز فإن الشرب في العرف منه لأنه آلة للشرب بخلاف النهر وما ذكروه يبطل
بالبئر والشاة والشجرة وقد سلموا انه لو استقى من البئر أو احتلب لبن الشاة أو التقط من الشجرة
وشرب وأكل لحنث فكذا في مسئلتنا
(فصل) وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه حنث لأنه من ماء الفرات
ولو حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه ففيه وجهان
(أحدهما) يحنث لأن معنى الشرب منه الشرب من مائه فحنث كما لو حلف لا شربت من مائه
وهذا أحد الاحتمالين لأصحاب الشافعي
306

(والثاني) لا يحنث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف فإن عنه رواية انه يحنث وإنما
قلنا إنه لا يحنث لأن ما أخذه النهر يضاف إلى ذلك النهر لا إلى الفرات ويزول بإضافته إليه عن اضافته
إلى الفرات فلا يحنث به كغير الفرات
(مسألة) قال (ولو قال والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك فهرب منه لم يحنث
ولو قال لا افترقنا فهرب منه حنث).
أما إذا حلف لا فارقتك ففيه مسائل عشرة. (أحدها) ان يفارقه الحالف مختارا فيحنث بلا
خلاف سواء أبرأه من الحق أو فارقه والحق عليه لأنه فارقه قبل استيفاء حقه منه. (الثانية) فارقه
مكرها فينظر فإن حمل مكرها حتى فرق بينهما لم يحنث وان أكره بالضرب والتهديد لم يحنث وفي
قول أبي بكر يحنث وفي الناسي تفصيل ذكرناه فيما مضى
(الثالثة) هرب من الغريم بغير اختياره فلا يحنث وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وابن
المنذر وأصحاب الرأي وروي عن أحمد انه يحنث لأن معنى يمينه ألا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت
ولنا انه حلف على فعل نفسه في الفرقة وما فعل ولا فعل باختياره فلم يحنث كما لو حلف لاقمت فقال غيره
(الرابعة) أذن له الحالف في الفرقة ففارقه فمهوم كلام الخرقي انه يحنث وقال الشافعي لا يحنث
قال القاضي وهو قول الخرقي لأنه لم يفعل الفرقة التي حلف انه لا يفعلها.
ولنا ان معنى يمينه لألزمنك فإذا فارقه باذنه فما لزمه ويفارق ما إذا هرب منه لأنه فر بغير اختياره،
وليس هذا قول الخرقي ولان الخرقي قال فهرب منه فمفهومه انه إذا فارقه بغير هرب انه يحنث
(الخامسة) فارقه من غير اذن ولا هرب على وجه يمكنه ملازمته والمشي معه وامساكه فلم يفعل
فالحكم فيها كالتي قبلها.
(السادسة) قضاه قدر حقه ففارقه ظنا منه وفاه فخرج رديئا أو بعضه فيخرج في الحنث روايتان
بناء على الناسي وللشافعي قولان كالروايتين (أحدهما) يحنث وهو قول مالك لأنه فارقه قبل استيفاء حقه
مختارا (والثاني) لا يحنث وهو قول أبي ثور أصحاب الرأي إذا وجدها زيوفا، وان وجد أكثرها نحاسا فإنه
يحنث وان وجدها مستحقة فأخذها صاحبها خرج أيضا على الروايتين في الناسي لأنه ظان انه مستوف
حقه فأشبه ما لو وجدها رديئة وقال أبو ثور وأصحاب الرأي لا يحنث وان علم بالحال ففارقه حنث
لأنه لم يوفه حقه.
307

(السابعة) فلسه الحاكم ففارقه نظرت فإن ألزمه الحاكم فهو كالمكره وان لم يلزمه مفارقته لكنه
فارقه لعلمه بوجوب مفارقته حنث لأنه فارقه من غير اكراه فحنث كما لو حلف لا يصلي فوجبت
عليه صلاة فصلاها. (الثامنة) أحاله الغريم بحقه ففارقه فإنه يحنث وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال
أبو حنيفة ومحمد لا يحنث لأنه قد برئ إليه منه.
ولنا انه ما استوفى حقه منه بدليل انه لم يصل إليه شئ ولذلك يملك المطالبة به فحنث كما لو
لم يحله فإن ظن أنه قد بر بذلك ففارقه فقال أبو الخطاب يخرج على الروايتين والصحيح انه يحنث
لأن هذا جهل بحكم الشرع فيه فلا يسقط عنه الحنث كما لو جهل كون هذه اليمين موجبة
للكفارة، فاما ان كانت يمينه لا فارقتك ولي قبلك حق فأحاله به ففارقه لم يحنث لأنه لم يبق
له قبله حق، وان أخذ به ضمينا أو كفيلا أو رهنا ففارقه حنث بلا اشكال لأنه يملك مطالبة الغريم
(التاسعة) قضاه عن حقه عوضا عنه ثم فارقه فقال ابن حامد لا يحنث وهو قول أبي حنيفة
لأنه قد قضاه حقه وبرئ إليه منه بالقضاء وقال القاضي يحنث لأن يمينه على نفس الحق وهذا بدله
وان كانت يمينه لا فارقتك حتى تبرأ من حقي أولي قبلك حق لم يحنث وجها واحدا لأنه لم يبق
له قبله حق وهذا مذهب الشافعي والأول أصح لأنه قد استوفى حقه.
(العاشرة) وكل وكيلا يستوفي له حقه فإن فارقه قبل استيفاء الوكيل حنث لأنه فارقه قبل
استيفاء حقه، وان استوفى الوكيل ثم فارقه لم يحنث لأن استيفاء وكيله استيفاء له يبرأ به غريمه
ويصير في ضمان الموكل.
(فصل) فاما ان قال لا فارقتني حتى استوفي حقي منك نظرت فإن فارقه المحلوف عليه مختارا
حنث وان أكره على فراقه لم يحنث وان فارقه الحالف مختارا حنث الا على ما ذكره القاضي في تأويل
كلام الخرقي وهو مذهب الشافعي وسائر الفروع تأتي ههنا على نحو ما ذكرناه.
(فصل) وان كانت يمينه لافترقنا فهرب منه المحلوف عليه حنث لأن يمينه تقتضي الا تحصل
بينهما فرقة بوجه وقد حصلت الفرقة بهربه وان أكرها على الفرقة لم يحنث إلا على قول من لم
ير الاكراه عذرا.
[فصل] فإن حلف لا فارقتك حتى أوفيك حقك فأبرأه الغريم منه فهل يحنث؟ على وجهين
بناء على المكره وإن كان الحق عينا فوهبها له الغريم فقبلها حنث لأنه ترك ايفاءها له باختياره
308

وان قبضها منه ثم وهبها إياه لم يحنث وان كانت يمينه لا فارقتك ولك قبلي حق لم يحنث إذا
أبرأه أو وهب العين له.
(فصل) والفرقة في هذا كله ما عده الناس فراقا في العادة وقد ذكرنا الفرقة في البيع، وما نواه
بيمينه مما يحتمله لفظه فهو على ما نواه والله أعلم
(مسألة) قال (ولو حلف على زوجته ان لا تخرج الا باذنه فذلك على كل مرة الا أن يكون
نوى مرة)
وجملته ان من قال لزوجته ان خرجت إلا باذني أو بغير إذني فأنت طالق، أو قال إن خرجت
الا أن آذن لك أو حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك فالحكم في هذه الألفاظ الخمسة انها متى خرجت
بغير إذنه طلقت وانحلت يمينه لأن حرف أن لا يقتضي تكرارا فإذا حنث مرة انحلت كما لو قال أنت
طالق ان شئت وان خرجت باذنه لم يحنث لأن الشرط ما وجد وليس في هذا اختلاف ولا تنحل
اليمين فمتى خرجت بعد هذا بغير إذنه طلقت
وقال الشافعي تنحل فلا يحنث بخروجها بعد ذلك لأن اليمين تعلقت بخروج واحد بحرف لا يقتضي
التكرار وإذا وجد بغير إذن حنث وان وجد باذن بر لأن البر يتعلق بما يتعلق به الحنث
وقال أبو حنيفة في قوله إن خرجت إلا بإذني أو بغير إذني كقولنا لأن الخروج باذنه في هذين
الموضعين مستثنى من يمينه فلم يدخل فيها ولم يتعلق به بر ولا حنث وان قال إن خرجت إلا أن
آذن لك أو حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك متى أذن لها انحلت يمينه ولم يحنث بعد ذلك بخروجها
بغير إذنه لأنه جعل الاذن فيها غاية ليمينه وجعل الطلاق معلقا على الخروج قبل إذنه فمتى أذن انتهت
غاية يمينه وزال حكمها كما لو قال إن خرجت إلى أن تطلع الشمس أو إلا أن تطلع الشمس أو حتى
تطلع الشمس فأنت طالق فخرجت بعد طلوعها ولان حرف إلى وحتى للغاية لا للاستثناء
ولنا انه علق الطلاق على شرط، وقد وجد فيقع الطلاق كما لو لم تخرج باذنه وقولهم قد بر غير صحيح
لوجهين (أحدهما) ان المأذون فيه مستثنى من يمينه غير داخل فيها فكيف يبر ألا ترى أنه لو قال
لها ان كلمت رجلا إلا أخاك أو غير أخيك فأنت طالق فكلمت أخاها ثم كلمت رجلا آخر فإنها
تطلق ولا تنحل يمينه بتكليمها أخاها؟
309

(والثاني) ان المحلوف عليه خروج موصوف بصفة ولا تنحل اليمين بوجود ما لم توجد فيه
الصفة ولا يحنث به فلا يتعلق بما عداه بر ولا حنث كما لو قال إن خرجت عريانة فأنت طالق أو ان
خرجت راكبة فأنت طالق فخرجت مستترة ماشية لم يتعلق به بر ولا حنث ولأنه لو قال لها ان كلمت
رجلا فاسقا أو من غير محارمك فأنت طالق لم يتعلق بتكليمها لغير من هو موصوف بتلك الصفة بر
ولا حنث فكذلك في الافعال وقولهم تعلقت اليمين بخروج واحد قلنا الا أنه خروج موصوف بصفة
فلا تنحل اليمين بوجود غيره ولا يحنث به
وأما قول أصحاب أبي حنيفة ان الألفاظ الثلاثة ليست من ألفاظ الاستثناء قلنا قوله الا أن آذن
لك من ألفاظ الاستثناء واللفظتان الاخريان في معناه في اخراج المأذون من يمينه فكان حكمهما
كحكمه. هذا الكلام فيما إذا أطلق فإن نوى تعليق الطلاق على خروج واحد تعلقت يمينه به وقبل
قوله في الحكم لأنه فسر لفظه بما يحتمله احتمالا غير بعيد، وان أذن لها مرة واحدة ونوى الاذن في
كل مرة فهو على ما نوى، وقد نقل عبد الله بن أحمد عن أبيه إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا باذنه
إذا أذن لها مرة فهو اذن لكل مرة وتكون يمينه على ما نوى، وان قال كلما خرجت فهو بإذني
أجزأه مرة واحدة، وان نوى بقوله إلى أن آذن لك أو حتى آذن لك الغاية وأن الخروج
المحلوف عليه ما قبل الغاية دون ما بعدها قبل قوله وانحلت يمينه بالاذن لنيته فإن مبني الايمان على النية
(فصل) وان قال إن خرجت بغير إذني فأنت طالق فأذن لها ثم نهاها فخرجت طلقت لأنها
خرجت بغير إذنه وكذلك أن قال إلا باذني. وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه قد أذن
ولا يصح لأن نهيه قد أبطل اذنه فصارت خارجة بغير إذنه وكذلك لو اذن لوكيله في بيع ثم نهاه عنه
فباعه كان باطلا، وان قال إن خرجت بغير اذني لغير عيادة مريض فأنت طالق فخرجت لعيادة
مريض ثم تشاغلت بغيره أو قال إن خرجت إلى غير الحمام بغير اذني فأنت طالق فخرجت إلى الحمام
ثم عدلت إلى غيره ففيه وجهان
(أحدهما) لا يحنث لأنها ما خرجت لغير عيادة مريض ولا إلى غير الحمام وهذا مذهب الشافعي
(الثاني) يحنث لأن قصده في الغالب ألا تذهب إلى غير الحمام وعيادة المريض، وقد
ذهبت إلى غيرهما ولان حكم الاستدامة حكم الابتداء ولهذا لو حلف ألا يدخل دارا هو داخلها
310

فأقام فيها حنث في أحد الوجهين، وان قصدت بخروجها الحمام وغيره أو العيادة وغيرها حنث لأنها
خرجت لغيرهما، وان قال إن خرجت لا لعيادة مريض فأنت طالق فخرجت لعيادة مريض وغيره
لم يحنث لأن الخروج لعيادة المريض، وان قصدت معه غيره، وان قال إن خرجت بغير اذني فأنت
طالق ثم أذن لها ولم تعلم فخرجت ففيه وجهان
(أحدهما) تطلق وبه قال أبو حنيفة ومالك ومحمد بن الحسن
(والثاني) لا يحنث وهو قول الشافعي وأبي يوسف لأنها خرجت بعد وجود الاذن من جهته فلم يحنث
كما لو علمت به ولأنه لو عزل وكيله انعزل وان لم يعلم بالعزل فكذلك تصير مأذونا لها وان لم تعلم ووجه
الأول ان الاذن اعلام، وكذلك قيل في قوله (آذنتكم على سواء) أي أعلمتكم فاستويا في العلم
(وأذان من الله ورسوله) أي اعلام (فاذنوا بحرب من الله ورسوله) فاعلموا به واشتقاقه من الاذن
يعني أوقعته في اذنك وأعلمتك به ومع عدم العلم لا يكون اعلاما فلا يكون اذنا ولان اذن الشارع في أوامره
ونواهيه لا يثبت إلا بعد العلم بها كذلك اذن الآدمي وعلى هذا يمنع وجود الاذن من جهته
(فصل) فإن حلف عليها ان لا تخرج من هذه الدار الا باذنه فصعدت سطحها أو خرجت
إلى صحنها لم يحنث لأنها لم تخرج من الدار، وان حلف لا تخرج من البيت فخرجت إلى الصحن أو إلى سطحه
حنث وهذا مقتضى مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، ولو حلف على زوجته لا تخرج ثم حملها
فاخرجها فإن أمكنها الامتناع فلم تمتنع حنث، وقال الشافعي لا يحنث لأنها لم تخرج إنما أخرجت
ولنا أنها خرجت مختارة فحنث كما لو أمرت من حملها، والدليل على خروجها ان الخروج
الانفصال من داخل إلى خارج وقد وجد ذلك وما ذكره يبطل بما إذا أمرت من حملها فأما ان لم
يمكنها الامتناع فيحتمل أن لا يحنث وهو قول أصحاب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي لأن الخروج
لا ينسب إليها فأشبه ما لو حملها غير الحالف ويحتمل ان يحنث لأنه مختار لفعل ما حلف على تركه
وإن حلف لا تخرجي الا باذن زيد فمات زيد ولم يأذن فخرجت حنث الحالف لأنه علقه على شرط
ولم يوجد ولا يجوز فعل المشروط
(مسألة) قال (ولو حلف ألا يأكل هذا الرطب فأكله تمرا حنث وكذلك كلما
تولد من ذلك الرطب)
وجملة ذلك أنه إذا حلف على شئ عينه بالإشارة مثل أن حلف لا يأكل هذا الرطب لم يخل
311

من حالين [أحدهما] ان يأكله رطبا فيحنث بلا خلاف بين الجميع لكونه فعل ما حلف على تركه
صريحا [الثاني] ان تتغير صفته وذلك يقسم خمسة أقسام
(أحدها) أن تستحيل اجزاؤه ويتغير اسمه مثل ان يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فرخا
أولا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا فأكله فهذا لا يحنث لأنه زال واستحالت أجزاؤه وعلى قياسه
إذا حلف لا شربت هذا الخمر فصارت خلا فشربه
(القسم الثاني) تغيرت صفته وزال اسمه مع بقاء أجزائه مثل أن يحلف لا آكل هذا الرطب
فصار تمرا ولا أكلم هذا الصبي فصار شيخا ولا آكل هذا الحمل فصار كبشا أولا آكل هذا الرطب
فصار دبسا أو خلا أو ناطفا أو غيره من الحلواء ولا يأكل هذه الحنطة فصارت دقيقا أو سويقا أو
خبزا أو هريسة أولا اكلت هذا العجين أو هذا الدقيق فصار خبزا أو لا أكلت هذا اللبن فصار
سمنا أو جبنا أو كشكا أو لا دخلت هذه الدار فصارت مسجدا أو حماما أو فضاء ثم دخلها أو اكله
حنث في جميع ذلك وبه قال أبو حنيفة فيما إذا حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا ولا أكلت هذا الحمل
فصار كبشا ولا دخلت هذه الدار فدخلها بعد تغيرها، وقال به أبو يوسف في الحنطة إذا صارت
دقيقا وللشافعي في الرطب إذا صار تمرا والصبي إذ صار شيخا والحمل إذا صار كبشا وجهان،
وقالوا في سائر الصور لا يحنث لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل
هذه البيضة فصارت فرخا
ولنا ان عين المحلوف عليه باقية فحنث بها كما لو حلف لا أكلت هذا الحمل فأكل لحمه أولا
لبست هذا الغزل فصار ثوبا فلبسه أو لا لبست هذا الرداء فلبسه بعد أن صار قميصا أو سراويل،
وفارق البيضة إذا صارت فرخا لأن اجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم تبق عينها ولأنه لا
اعتبار بالاسم مع التعيين كما لو حلف لا كلمت زيدا هذا فغير اسمه أو لا كلمت صاحب هذا الطيلسان
فكلمه بعد بيعه ولأنه متى اجتمع التعيين مع غيره مما يعرف به كان الحكم للتعيين كما لو اجتمع مع الإضافة
(القسم الثالث) تبدلت الإضافة مثل ان حلف لا كلمت زوجة زيد هذه ولا عبده هذا ولا
دخلت داره هذه فطلق الزوجة وباع العبد والدار فكلمهما ودخل الدار حنث وبه قال مالك والشافعي
ومحمد وزفر وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يحنث الا في الزوجة لأن الدار لا توالى ولا تعادى وإنما
الامتناع لأجل مالكها فتعلقت اليمين بها مع بقاء ملكه عليها وكذلك العبد في الغالب
312

ولنا أنه إذا اجتمع في اليمين التعيين والإضافة كان الحكم للتعين كما لو قال والله لا كلمت زوجة
فلان ولا صديقه وما ذكروه لا يصح في العبد لأنه يوالي ويعادي ويلزمه في الدار إذا أطلق ولم
يذكر مالكها فإنه يحنث بدخولها بعد بيع مالكها إياها
(القسم الرابع) إذا تغيرت صفته بما يزيل اسمه ثم عادت كمقص انكسر ثم أعيد وقلم انكسر ثم
بري وسفينة تفصمت ثم أعيدت ودار هدمت ثم بنيت واسطوانة نقضت ثم أعيدت فإنه يحنث لأن
اجزاءها واسمها موجود فأشبه ما لو لم تتغير
(القسم الخامس) إذا تغيرت صفته بما لم يزل اسمه كلحم شوي أو طبخ وعبد بيع ورجل مرض
فإنه يحنث به بلا خلاف نعلمه لأن الاسم الذي علق عليه اليمين لم يزل ولا زال التغير فحنث
به كما لو لم يتغير حاله
(فصل) وإن قال والله لا كلمت سعدا زوج هند أو سيد صبيح أو صديق عمرو أو مالك هذه
الدار أو صاحب هذا الطيلسان أولا كلمت هند امرأة سعد أو صبيحا عبده أو عمرا صديقه فطلق الزوجة
وباع العبد والدار والطيلسان عادى عمر أو كلمهم حنث لأنه متى اجتمع الاسم والإضافة غلب الاسم
بجريانه مجرى التعيين لتعريف المحل
(فصل) ومتى نوي بيمينه في هذه الأشياء ما دام على تلك الصفة أو الإضافة أو لم يتغير فيمينه
على ما نواه لقوله عليه السلام " وإنما لامرء ما نوى " والله أعلم
(مسألة) قال (ولو حلف ألا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث)
وجملة ذلك أنه إذا لم يعين المحلوف عليه ولم ينو بيمينه ما يخالف ظاهر اللفظ ولا صرفه السبب
عنه تعلقت يمينه بما تناوله الاسم الذي علق عليه يمينه ولم يتجاوزه فإذا حلف ألا يأكل تمرا لم
يحنث إذا أكل رطبا ولا بسرا ولا بلحا، وإذا حلف لا يأكل رطبا لم يحنث إذا أكل تمرا ولا بسرا
ولا بلحا ولا سائر ما لا يسمى رطبا وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا
(فصل) ولو حلف لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو دبسا أو خلا أو ناطفا أو لا يكلم شابا فكلم
شيخا أو لا يشتري جديا فاشترى تيسا أو لا يضرب عبدا فضرب عتيقا لم يحنث بغير خلاف لأن
اليمين تعلقت بالصفة دون العين ولم توجد الصفة فجرى مجرى قوله لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها
313

(فصل) فإن حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا وهو الذي بعضه بسر وبعضه تمر أو مذنبا
وهو الذي بدأ فيه الارطاب من ذنبه وباقيه بسر أو حلف لا يأكل بسرا فأكل ذلك حنث
وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد والشافعي، وقال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه
لا يسمى رطبا ولا تمرا
ولنا أنه أكل رطبا وبسرا فحنث كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردتين وما
ذكروه لا يصح فإن القدر الذي أرطب رطب والباقي بسر ولو أنه حلف لا يأكل الرطب فأكل
القدر الذي أرطب من النصف حنث ولو حلف لا يأكل البسر فأكل البسر الذي في النصف
حنث وان أكل البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث واحد
منهما وان حلف واحد ليأكلن رطبا وآخر ليأكلن بسرا فأكل الحالف على أكل الرطب ما في
المنصف من الرطبة وأكل الآخر باقيها برا جميعا وان حلف ليأكلن رطبة أو بسرة أو لا يأكل
ذلك فأكل منصفا لم يبر ولم يحنث لأنه ليس فيه رطبة ولا بسرة
(فصل) وان حلف لا يأكل لبنا فأكل من لبن الانعام أو الصيد أو لبن آدمية حنث لأن
الاسم يتناوله حقيقة وعرفا وسواء كان حليبا أو رائبا أو مائعا أو مجمدا لأن الجميع لبن ولا يحنث
بأكل الجبن والسمن والمصل والأقط والكشك ونحوه فإن أكل زبدا لم يحنث نص عليه وقال
القاضي يحتمل ان يقال في الزبد ان ظهر فيه لبن حنث بأكله وإلا فلا كما قلنا فيمن حلف لا يأكل
سمنا فأكل خبيصا فيه سمن وهذا مذهب الشافعي وان حلف لا يأكل زبدا فأكل سمنا
أو لبنا لم يظهر فيه الزبد لم يحنث وإن كان الزبد ظاهرا فيه حنث وان أكل جبنا لم يحنث وكذلك
سائر ما يصنع من اللبن، وان حلف لا يأكل سمنا فأكل زبدا أو لبنا أو شيئا مما يصنع من اللبن
سوى السمن لم يحنث وان أكل السمن منفردا أو في عصيدة أو حلواء أو طبيخ فظهر فيه طعمه
حنث ولذلك إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل طبيخا فيه لبن أولا يأكل خلا فأكل طبيخا
فيه خل يظهر طمعه فيه حنث وبهذا قال الشافعي وقال بعض أصحابه لا يحنث لأنه لم يفرده بالاكل
ولا يصح لأنه أكل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث كما لو أكله ثم اكل غيره
(فصل) وان حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها حبات شعير حنث لأنه أكل شعيرا
فحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا ويحتمل ان لا يحنث لأنه يستهلك في الحنطة فأشبه
السمن في الخبيص وان نوى بيمنه الا يأكل الشعير منفردا أو كان سبب يمينه يقتضي ذلك
أو يقتضي أكل شعير يظهر اثر أكله لم يحنث الا بذلك لما قدمنا
314

(فصل) فإن حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل كل ما يسمى فاكهة وهي كل ثمرة تخرج من
الشجرة يتفكه بها من العنب والرطب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش
والأترج والتوت والنبق والموز والجوز والجميز وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف محمد بن الحسن وقال
أبو حنيفة وأبو ثور لا يحنث بأكل ثمرة النخل والرمان لقول الله تعالى (فيهما فاكهة ونحل ورمان)
والمعطوف يغاير المعطوف عليه
ولنا أنهما ثمرة شجرة يتفكه بهما فكانا من الفاكهة كسائر ما ذكرنا ولأنهما في عرف الناس
فاكهة ويسمى بائعهما فاكهانيا وموضع بيعهما دار الفاكهة والأصل في العرف الحقيقة والعطف
لشرفهما وتخصيصهما كقوله تعالى (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) وهما من
الملائكة فاما يابس هذه الفواكه كالزبيب والتمر والتين والمشمش اليابس والإجاص ونحوها فهو من
الفاكهة لأنه ثمر شجرة يتفكه بها ويحتمل أنه ليس منها لأنه يدخر ومنه ما يقتات فأشبه الحبوب
والزيتون ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه بأكله وإنما المقصود زيته وما يؤكل منه يقصد به التأدم
لا التفكه والبطم في معناه لأن المقصود زيته ويحتمل أنه فاكهة لأنه ثمر شجر يؤكل غضا ويابسا
على جهته فأشبه التوت، والبلوط ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه به وإنما يؤكل عند المجاعة أو التداوي
وكذلك سائر ثمر شجر البر الذي لا يستطاب كالزعرور الأحمر وثمر القيقب والعفص وحب الآس
ونحوه وإن كان فيها ما يستطاب كحب الصنوبر فهو فاكهة لأنه ثمرة شجرة يتفكه به
(فصل) فاما القثاء والخيار والقرع والباذنجان فهو من الخضر وليس بفاكهة وفي البطيخ وجهان
(أحدهما) هو من الفاكهة ذكره القاضي وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه ينضج ويحلو
أشبه ثمر الشجر
(والثاني) ليس من الفاكهة لأنه ثمر بقلة أشبه الخيار والقثاء، وأما ما يكون في الأرض كالجزر
واللفت والفجل والقلقاس والسوطل ونحوه فليس شئ من ذلك فاكهة لأنه لا يسمى بها ولا هو في معناها
(فصل) وإن حلف لا يأكل أدما حنث بأكل كلما جرت العادة بأكل الخبز به لأن هذا معنى
التألم وسواء في هذا ما يصطبغ كالطبيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن قال الله تعالى
في الزيت (وصبغ للآكلين) وقال عليه السلام " نعم الادام الخل - وقال - ائتدموا بالزيت
وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " رواه ابن ماجة أو من الجامدات كالشواء والجبن والباقلاء والزيتون
والبيض وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف مالا يصطبغ به فليس بادم لأن
كل واحد منهما يرفع إلى الفم منفردا
315

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " سيد الادام اللحم - وقال - سيد إدامكم الملح " رواه ابن ماجة
لأنه يؤكل به الخبز عادة فكان ادما كالذي يصطبغ به، ولان كثيرا مما ذكرنا لا يؤكل في العادة
وحده إنما يعد للتأدم به وأكل الخبز به فكان أدما كالخل واللبن، وقولهم انه يرفع إلى الفم وحده
مفردا عنه جوابان (أحدهما) أن منه ما يرفع مع الخبز كالملح ونحوه
(والثاني) أنهما يجتمعان في الفم والمضغ والبلع الذي هو حقيقة الاكل فلا يضر افتراقهما قبله
فأما التمر ففيه وجهان
(أحدهما) هو أدم لما روى يوسف عن عبد الله بن سلام قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع
تمرة على كسرة وقال " هذه إدام هذه " رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد
(والثاني) ليس بادم لا يؤتدم به عادة إنما يؤكل قوتا أو حلاوة وإن أكل الملح مع الخبز فهو
إدام لما ذكرنا من الخبز ولأنه يؤكل به الخبز ولا يؤكل منفردا عادة أشبه الجبن والزيتون
(فصل) فإن حلف لا يأكل طعاما فأكل ما يسمى طعاما من قوت وأدم وحلواء وتمر وجامد ومائع حنث
قال الله تعالى (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل الا ما حرم إسرائيل على نفسه) وقال تعالى (ويطعمون الطعام
على حبه) يعني على محبة الطعام لحاجتهم إليه وقيل على حب الله تعالى، وقال الله تعالى (قل لا أجد
فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) وسمى النبي
صلى الله عليه وسلم " اللبن طعاما " وقال " إنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم " وفي الماء وجهان:
(أحدهما) هو طعام لقول الله تعالى (إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم
يطعمه فإنه مني) والطعام ما يطعم، ولان النبي صلى الله عليه وسلم سمى اللبن طعاما وهو مشروب فكذلك الماء
(والثاني) ليس بطعام لأنه لا يسمى طعاما ولا يفهم من اطلاق اسم الطعام ولهذا يعطف عليه
فيقال طعام وشراب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (اني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن " ورواه
ابن ماجة ويقال باب الأطعمة والأشربة، ولأنه إن كان طعاما في الحقيقة فليس بطعام في العرف فلا
يحنث بشربه لأن مبني الايمان على العرف لكون الحالف في الغالب لا يريد بلفظه الا ما يعرفه فإن
أكل دواء ففيه وجهان
(أحدهما) يحنث لأنه يطعم حال الاختيار وهذا مذهب الشافعي
[والثاني] لا يحنث لأنه لا يدخل في اطلاق اسم الطعام ولا يؤكل إلا عند الضرورة فإن أكل
من نبات الأرض ما جرت العادة بأكل حنث، وإن أكل ما لا يجزئه عادة كورق الشجر ونشارة
الخشب احتمل وجهين
316

(أحدهما) يحنث لأنه قد أكله فأشبه ما جرت العادة بأكله، ولأنه روي عن عتبة بن غزوان أنه قال
: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة مالنا طعام إلا ورق الحبلة حتى قرحت أشداقنا
[والثاني] لا يحنث لأنه لا يتناوله اسم الطعام في العرف
(فصل) فإن حلف لا يأكل قوتا فأكل خبزا أو تمرا أو زبيبا أو لحما أو لبنا حنث لأن كل واحد
من هذه يقتات في بعض البلدان ويحتمل أن لا يحنث إلا بأكل ما يقتاته أهل بلده لأن يمينه تنصرف
إلى القوت المتعارف عندهم في بلدهم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، وإن أكل سويقا أو استف
دقيقا حنث لأنه لا يقتات كذلك ولهذا قال بعض اللصوص
لا تخبزا خبزا وبسابسا * ولا تطيلا بمقام حبسا
وإن أكل حبا يقتات خبزه حنث لأنه يسمى قوتا ولذلك روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر
قوت عياله لسنة وإنما يدخر الحب ويحتمل لأن لا يحنث لأنه لا يقتات كذلك، وإن أكل عنبا أو حصرما
أو خلا لم يحنث لأنه لم يصر قوتا
(فصل) فإن حلف لا يملك مالا حنث بملك كل ما يسمى مالا سواء كان من الأثمان أو غيرها
من العقار والأثاث والحيوان وبهذا قال الشافعي، وعن أحمد انه إذا نذر الصدقة بجميع ماله إنما يتناول
نذره الصامت من ماله ذكرها ابن أبي موسى لأن اطلاق المال ينصرف إليه
وقال أبو حنيفة لا يحنث الا إن ملك مالا زكويا استحسانا لأن الله تعالى قال (وفي أموالهم حق
للسائل والمحروم) فلم يتناول إلا الزكوية
ولنا ان غير الزكوية أموال قال الله تعالى (أن تبتغوا بأموالكم) وهي مما يجوز ابتغاء النكاح بها،
وقال أبو طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم ان أحب أموالي إلي بيرحاء يعني حديقة، وقال عمر أصبت مالا بأرض
خيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، وقال أبو قتادة اشتريت مخرفا فكان أول مال تأثلثه،
وفي الحديث " خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة " ويقال خير المال عين خرارة في أرض خوارة
ولأنه يسمى مالا فحنث به كالزكوي، وأما قوله (وفي أموالهم حق) فالحق ههنا غير الزكاة لأن هذه الآية
مكية نزلت قبل فرض الزكاة فإن الزكاة إنما فرضت بالمدينة ثم لو كان الحق الزكاة فلا حجة فيها فإن الحق
إذا كان في بعض المال فهو في المال كما أن من هو في بيت من دار أو في بلدة فهو في الدار والبلدة قال
الله عزو جل (وفي السماء رزقكم وما توعدون) ولا يلزم أن يكون في كل أقطارها ثم لو اقتضى هذا العموم
لوجب تخصيصه فإن ما دون النصاب مال ولا زكاة فيه من حلف لا مال له وله دين حنث ذكره أبو الخطاب
وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يحنث لأنه لا ينتفع به.
317

ولنا انه ينعقد عليه حول الزكاة ويصح اخراجها عنه ويصح التصرف فيه بالابراء والحوالة
والمعاوضة عنه لمن هو في ذمته والتوكيل في استيفائه فيحنث به كالمودع، وإن كان له مال مغصوب
حنث لأنه باق على ملكه، فإن كان له مال ضائع ففيه وجهان (أحدهما) يحنث لأن الأصل بقاؤه على
ملكه (والثاني) لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه، وإن ضاع على وجه قد يئس من عوده كالذي يسقط في
بحر لم يحنث لأن وجوده كعدمه ويحتمل أن لا يحنث في كل موضع لا يقدر على أخذ ماله كالمجحود
والمغصوب والذي على غير ملئ لأنه لا نفع فيه وحكمه حكم المعدوم في جواز الاخذ من الزكاة وانتفاء
وجوب أدائها عليه عنه وإن تزوج لم يحنث لأن ما يملكه ليس بمال وإن وجب له حق شفعة لم يحنث
لأنه لم يثبت له الملك به وإن استأجر عقارا أو غيره لم يحنث لأنه لا يسمى مالكا لمال
" مسألة " قال (ولو حلف لا يأكل لحما فاكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث الا
أن يكون أراد اجتناب الدسم فيحنث بأكل الشحم)
وجملته ان الحالف على ترك أكل اللحم لا يحنث بأكل ما ليس بلحم من شحم والمخ وهو
الذي في العظام والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد والطحال والرئة والقلب والكرش
والمصران والقانصة ونحوها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يحنث بأكل هذا كله لأنه
لحم حقيقة ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ
ولنا انه لا يسمى لحما وينفرد عنه باسمه وصفته، ولو أمر وكيله بشراء لحم فاشترى هذا لم يكن
ممتثلا لامره ولا ينفذ الشراء للموكل فلم يحنث بأكله كالبقل، وقد دل على أن الكبد والطحال ليستا
بلحم قول النبي صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان ودمان أما الدمان فالكبد والطحال " ولا نسلم انه لحم حقيقة
بل هو من الحيوان مع اللحم كالعظم ولادم، فأما إن قصد اجتناب الدسم حنث بأكل الشحم
لأن له دسما وكذلك المخ وكل ما فيه دسم
(فصل) ولا يحنث بأكل الالية وقال بعض أصحاب الشافعي يحنث لأنها نابتة في اللحم وتشبهه
في الصلابة وليس بصحيح لأنها لا تسمى لحما ولا يقصد بها ما يقصد به وتخالفه في اللون والذوب والطعم
فلم يحنث بأكلها كشحم البطن، فأما الشحم الذي على الظهر والجنب وفي تضاعيف اللحم فلا يحنث
بأكله في ظاهر كلام الخرقي فإنه قال اللحم لا يخلو من شحم يشير إلى ما يخالط اللحم مما تذيبه النار
وهذا كذلك وهذا قول طلحة العاقولي وممن قال هذا شحم أبو يوسف ومحمد وقال القاضي هو لحم يحنث
بأكله ولا يحنث بأكله من خلف لا يأكل شحما وهذا مذهب الشافعي لأنه لا يسمى شحما ولا بائعه
318

شحاما ولا يفرد عن اللحم مع الشحم ويسمى بائعه لحاما ويسمى لحما سمينا، ولو كل في شراء لحم
فاشتراه الوكيل لزمه ولو اشتراه الوكيل في شراء الشحم لم يلزمه
ولنا قوله تعالى (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو
ما اختلط بعظم) ولأنه يشبه الشحم في صفته وذوبه ويسمى دهنا فكان شحما كالذي في البطن ولا نسلم
انه لا يسمى شحما ولا أنه يسمى بمفرده لحما وإنما يسمى اللحم الذي هو عليه لحما سمينا ولا يسمى بائعه
شحاما لأنه لا يباع بمفرده وإنما يباع تبعا للحم وهو تابع له في الوجود والبيع فلذلك سمي بائعه لحاما
ولم يسم شحاما لأنه سمي بما هو الأصل فيه دون التبع
(فصل) وإن أكل المرق لم يحنث ذكره أبو الخطاب قال وقد روي عن أحمد أنه قال لا يعجبني
الا كل من المرق وهذا على طريق الورع وقال ابن أبي موسى والقاضي يحنث لأن المرق لا يخلو من
أجزاء اللحم الذائبة وقد قيل المرق أحد اللحمين
ولنا انه ليس بلحم حقيقة ولا يطلق عليه اسمه فلم يحنث به كالكبد ولا نسلم ان أجزاء اللحم فيه
وإنما فيه ماء اللحم ودهنه وليس ذلك بلحم، وأما المثل فإنما أريد به المجاز كما في نظائره من قولهم
الدعاء أحد الصدقتين وقلة العيال أحد اليسارين وهذا دليل على أنها ليست بلحم لأنه جعلها غير اللحم الحقيقي
(فصل) فإن أكل رأسا أو كارعا فقد روي عن أحمد ما يدل على أنه لا يحنث لأنه روي عنه ما يدل
على أن من حلف لا يشتري لحما فاشترى رأسا أو كارعا لا يحنث إلا أن ينوي أن لا يشتري من الشاة شيئا
قال القاضي لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناول الرؤوس والكوارع ولو وكله في شراء لحم فاشترى
رأسا أو كارعا لم يلزمه ويسمى بائع ذلك رآسا ولا يسمى لحاما وقال أبو الخطاب يحنث بأكل
لحم الخد لأنه لحم حقيقة، وحكي عن أبي موسى أنه لا يحنث إلا أن ينويه باليمين، وإن أكل
اللسان احتمل وجهين (أحدهما) يحنث لأنه لحم حقيقة (والثاني) لا يحنث لأنه ينفرد عن اللحم
باسمه وصفته فأشبه القلب.
(مسألة) قال (فإن حلف ألا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث، لأن اللحم
لا يخلو من شحم)
ظاهر كلام الخرقي أن الشحم كل ما يذوب بالنار مما في الحيوان فظاهر الآية والعرف يشهد
لقوله وهذا ظاهر قول أبي الخطاب وطلحة وقال به أبو يوسف ومحمد بن الحسن فعلى هذا لا يكاد
لحم يخلو من شئ منه وان قل فيحنث به، وقال القاضي الشحم هو الذي يكون في الجوف من شحم
319

الكلى أو غيره وان أكل من كل شئ من الشاة من لحمها الأحمر والأبيض والالية والكبد
والطحال والقلب شيخنا لا يحنث يعني ابن حامد لأن اسم الشحم لا يقع عليه وهو قول أبي
حنيفة والشافعي وقد سبق الكلام في أن شحم الظهر والجنب شحم فيحنث به وأما ان أكل لحما
أحمر وحده لا يظهر فيه شئ من الشحم فظاهر الكلام الخرقي انه يحنث لأنه لا يخلو من شحم وان
قل ويظهر في الطبخ فإنه يبين على وجه المرق وان قل، وبهذا يفارق من حلف لا يأكل سمنا
فاكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمه ولا لونه فإن هذا قد يظهر الدهن فيه، وقال غير الخرقي
من أصحابنا لا يحنث وهو الصحيح لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمه ولا لونه والذي يظهر في
المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه.
(فصل) ويحنث بالاكل من الالية في ظاهر كلام الخرقي وموافقيه لأنها دهن يذوب بالنار
ويباع مع الشحم ولا يباع مع اللحم، وعلى قول القاضي وموافقيه ليس شحما ولا لحما فلا يحنث به
الحالف على تركها.
" مسألة " قال (وإذا حلف ألا يأكل لحما ولم يرد لحما بعينه فأكل من لحم الانعام
أو الطيور أو السمك حنث).
أما إذا أكل من لحم الانعام أو الصيد أو الطائر فإنه يحنث في قول عامة علماء الأمصار وأما
السمك فظاهر المذهب أنه يحنث بأكله، وبهذا قال قتادة والثوري ومالك وأبو يوسف وقال ابن
أبي موسى في الارشاد لا يحنث به إلا أن ينويه وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي ثور لأنه لا ينصرف
إليه اطلاق اسم اللحم ولو وكل وكيلا في شراء اللحم فاشترى له سمكا لم يلزمه ويصح ان ينفى عنه الاسم
فيقول ما أكلت لحما وإنما أكلت سمكا فلم يتعلق به الحنث عند الاطلاق كما لو حلف لا قعدت تحت
سقف فإنه لا يحنث بالقعود تحت السماء وقد سماها الله تعالى سقفا محفوظا لأنه مجاز كذا ههنا.
ولنا قول الله تعالى (الله الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا) وقال (ومن كل
تأكلون لحما طريا) ولأنه من جسم حيوان ويسمى لحما فحنث بأكله كلحم الطائر وما ذكروه يبطل
بلحم الطائر واما السماء فإن الحالف ألا يقعد تحت سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحتها فيعلم أنه
لم يردها بيمينه ولان التسمية ثم مجاز وههنا هي حقيقة لكونه من جسم حيوان يصلح للاكل فكان
الاسم فيه حقيقة كلحم الطائر حيث قال الله (ولحم طير مما يشتهون)
(فصل) ويحنث بأكل اللحم المحرم الميتة والخنزير والمغصوب وبه قال أبو حنيفة وقال
320

الشافعي في أحد الوجهين لا يحنث بأكل المحرم بأصله لأن يمينه تنصرف إلى ما يحل لا إلى ما يحرم فلم يحنث
بما لا يحل كما لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا. لم يحنث
ولنا ان هذا لحم حقيقة وعرفا فيحنث بأكله كالمغصوب وقد سماه الله تعالى لحما فقال (ولحم الخنزير)
وما ذكروه يبطل بما إذا حلف لا يلبس ثوبا فلبس ثوب حرير وأما البيع الفاسد فلا يحنث به لأنه
ليس ببيع في الحقيقة.
(فصل) والأسماء تنقسم إلى ستة أقسام
(أحدها) ماله مسمى واحد كالرجل والمراة والانسان والحيوان فهذا تنصرف اليمين إلى
مسماه بغير خلاف.
(الثاني) ماله موضوع شرعي وموضوع لغوي كالوضوء والطهارة والصلاة والزكاة والصوم
والحج والعمرة والبيع ونحو ذلك فهذا تنصرف اليمين عند الاطلاق إلى موضوعه الشرعي دون
اللغوي لا نعلم فيه أيضا خلافا غير ما ذكرناه فيما تقدم.
(الثالث) ماله موضوع حقيقي ومجاز لم يشتهر أكثر من الحقيقة كالأسد والبجر فيمين الحالف
تنصرف عند الاطلاق إلى الحقيقة دون المجاز لأن كلام الشارع إذا ورد في مثل هذا حمل على حقيقته
دون مجازه كذلك اليمين.
(الرابع) الأسماء العرفية وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة فيه فهذا على ضروب
(أحدها) ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالراوية هي في العرف اسم المزادة
وفي الحقيقة اسم لما يستقى عليه من الحيوانات والظعينة في العرف المرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن
عليها والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة وفي الحقيقة العذرة فناء الدار ولذلك قال علي عليه السلام
لقوم مالكم لا تنظفون عذراتكم؟ يريد أفنيتكم والغائط المكان المطمئن فهذا وأشباهه تنصرف يمين
الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لأنه الذي يزيده بيمينه ويفهم من كلامه فأشبه الحقيقة في غيره.
(الضرب الثاني) ان يخص عرف الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم وهذا يتنوع أنواعا فمنه ما يشتهر
التخصيص فيه كلفظ الدابة وهو في الحقيقة اسم لكل ما يدب قال الله تعالى (وما من دابة في الأرض
الا على الله رزقها) وقال (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) وفي العرف اسم للبغال والخيل والحمير
ولذلك لو وصى إنسان لرجل بدابة من دوابه كان له أحد هذه الثلاث فالظاهر أن يمين الحالف
تنصرف إلى العرف دون الحقيقة عند الاطلاق كالذي قبله، ويحتمل ان تتناول يمينه الحقيقة بناء
على قولهم فيما سنذكره وعلى قول من قال في الحالف على ترك اكل اللحم إن يمينه تتناول السمك
321

ومن هذا النوع إذا حلف لا يشم الريحان فإنه في العرف اسم مختص بالريحان الفارسي وهو في الحقيقة
اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح مثل الورد والبنفسج والنرجس
وقال القاضي: لا يحنث الا بشم الريحان الفارسي. وهو مذهب الشافعي لأن الحالف لا يريد
بيمينه في الظاهر سواه، وقال أبو الخطاب يحنث بشم ما يسمى في الحقيقة ريحانا لأن الاسم يتناوله
حقيقة ولا يحنث بشم الفاكهة وجها واحدا لأنها لا تسمى ريحانا حقيقة ولا عرفا ومن هذا لو
حلف لا يشم وردا ولا بنفسجا فشم دهن البنفسج وماء الورد فقال القاضي لا يحنث، وهو مذهب
الشافعي لأنه لم يشم وردا ولا بنفسجا
وقال أبو الخطاب يحنث لأن الشم إنما هو الرائحة دون الذات ورائحة الورد والبنفسج موجودة
فيهما، وقال أبو حنيفة يحنث بشم دهن البنفسج لأنه يسمى بنفسجا ولا يحنث بشم ماء الورد لأنه لا
يسمى وردا والأول أقرب إلى الصحة إن شاء الله وان شم الورد والبنفسج اليابس حنث وقال بعض أصحاب
الشافعي لا يحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فاكل تمرا
ولنا ان حقيقة باقية فحنث به كما لو حلف لا يأكل لحما فاكل قديدا وفارق وما ذكروه فإن التمر ليس
رطبا وان حلف لا يأكل شواء حنث بأكل اللحم المشوي دون غيره من البيض المشوي وما عداه وبه
قال أصحاب الرأي وقال أبو يوسف وابن المنذر يحنث بأكل كل ما يشوى لأنه شواء
ولنا ان هذا لا يسمى شواء فلم يحنث بأكله كالمطبوخ وقولهم هو شوا في الحقيقة قلنا لكنه لا يسمى
شواء في العرف والظاهر أنه إنما يريد المسمى شواء في عرفهم، وان حلف لا يدخل بيتا فدخل مسجدا
أو حماما فإنه يحنث نص عليه احمد ويحتمل ان لا يحنث وقول أكثر الفقهاء لأنه لا يسمى بيتا في
العرف فأشبه ما قبله من الأنواع. والأول المذهب لأنهما بيتان حقيقة وقد سمى الله المساجد بيوتا
فقال (في بيوت اذن الله أن ترفع - وقال - إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) وروي
في حديث " المسجد بيت كل تقي "
وروي في خبر " بئس البيت الحمام " وإذا كان بيتا في الحقيقة ويسميه الشارع بيتا حنث بدخوله
كبيت الانسان ولا يسلم انه من الأنواع فإن هذا يسمى بيتا في العرف بخلاف الذي قبله وان دخل بيتا
من شعر أو غيره حنث سواء كان الحالف حضريا أو بدويا فإن اسم البيت يقع عليه حقيقة وعرقا قال الله
تعالى (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم) فأما مالا
يسمى في العرف بيتا كالخيمة فالأولى ان لا يحنث بدخوله من لا يسميه بيتا لأن يمينه لا تنصرف إليه،
فإن دخل دهليز دار أو صفتها لم يحنث وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة يحنث لأن جميع الدار بيت
ولنا انه لا يسمى بيتا ولهذا يقال ما دخلت البيت إنما وقفت في الصحن، وان حلف لا يركب
322

فركب سفينة فقال أبو الخطاب يحنث لأنه ركوب قال الله تعالى (اركبوا فيها بسم الله مجريها) وقال
(فإذا ركبوا في الفلك)
(الضرب الثالث) أن يكون الاسم المحلوف عليه عاما لكن أضاف إليه فعلا لم تجر العادة به الا في بعضه
أو اشتهر في البعض دون البعض مثل ان يحلف ان لا يأكل رأسا فإنه يحنث بأكل رأس كل حيوان
من النعم والصيود والطيور والحيتان والجراد ذكره القاضي. وقال أبو الخطاب لا يحنث الا بأكل
رأس جرت العادة ببيعه للاكل منفرد: وقال الشافعي لا يحنث الا بأكل رؤوس بهيمة الأنعام
دون غيرها الا أن يكون في بلد تكثر فيه الصيود وتميز رؤوسها فيحنث بأكلها. وقال أبو حنيفة لا
يحنث بأكل رؤوس الإبل لأن العادة لم تجر ببيعها مفردة وقال صاحباه لا يحنث الا بأكل رؤوس الغنم
لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها فيمينه تنصرف إليها
ووجه الأول أن هذه رؤوس حقيقة وعرفا مأكولة فحنث باكلها كما لو حلف لا يأكل لحما
فاكل من لحم النعام والزرافة وما يندر وجوده وبيعه ومن ذلك إذا حلف لا يأكل بيضا حنث
بأكل بيض كل حيوان سواء كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل وجوده كبيض النعام، وبهذا
قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا يحنث بأكل بيض النعام وقال أبو ثور لا يحنث الا بأكل بيض
الدجاج وما يباع في السوق.
ولنا أن هذا كله بيض حقيقة وعرفا وهو مأكول فيحنث بأكله كبيض الدجاج ولأنه لو حلف لا يشرب
ماء فشرب ماء البحر أو ماء نجسا أو لا يأكل خبزا فاكل خبز الأرز أو الذرة في مكان لا يعتاد اكله فيه
حنث، فأما ان اكل بيض السمك أو الجراد فقال القاضي يحنث لأنه بيض حيوان أشبه بيض النعام
وقال أبو الخطاب: لا يحنث الا بأكل بيض يزايل بائضه في الحياة وهذا قول الشافعي وأبي ثور
وأصحاب الرأي وأكثر العلماء وهو الصحيح لأن هذا لا يفهم من اطلاق اسم البيض ولا يذكر إلا مضافا
إلى بائضه ولا يحنث بأكل شئ يسمى بيضا غير بيض الحيوان ولا بأكل شئ يسمى رأسا غير
رؤوس الحيوان لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة والله أعلم.
" مسألة " قال (وان حلف ألا يأكل سويقا فشربه أو لا يشربه فاكله حنث إلا أن
تكون له نية)
وجملته ان من حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله فقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين
(إحداهما) يحنث لأن اليمين على ترك أكل شئ أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشئ فحملت
اليمين عليه الا أن ينوي ألا ترى ان قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم - و - ان الذين يأكلون أموال اليتامى
323

ظلما) لم يرد به الاكل على الخصوص؟ ولو قال طبيب لمريض لا تأكل العسل لكان ناهيا له عن شربه
(والثانية) لا يحنث وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، ولان الافعال أنواع
كالأعيان، ولو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره وكذلك الافعال. وقال القاضي إنما
الروايتان فيمن عين المحلوف عليه مثل من حلف لا أكلت هذا السويق فشربه أو لا يشربه فأكله
أما إذا أطلق فقال لا أكلت سويقا فشربه لم يحنث رواية واحدة لا يختلف المذهب فيه وهذا
مخالف لا طلاق الخرقي وليس للتعيين أثر في الحنث وعدمه فإن الحنث في المعين إنما هو لتناوله
ما حلف عليه واجراء معنى الأكل والشرب على التناول العام فيهما وهذا لا فرق فيه بين التعيين
وعدمه عدم الحنث يتعلل بأنه لم يفعل الفعل الذي حلف على تركه وإنما فعل غيره وهذا في المعين
كهو في المطلق فإذا كان في المعين روايتان كانتا في المطلق لعدم الفارق بينهما ولان الرواية في الحنث
أخذت من كلام الخرقي وليس فيه تعيين، ورواية عدم الحنث أخذت من رواية مهنا عن أحمد فيمن
حلف لا يشرب هذا النبيذ فأكله لا يحنث لأنه لا يسمى شربا وهذا في المعين فإن عديت كل رواية
إلى محل الأخرى وجب أن يكون في الجميع روايتان، وان قصرت كل رواية على محلها كل الامر
على خلاف ما قال القاضي وهو أن يحنث في المطلق ولا يحنث في المعين فاما ان حلف ليأكلن
شيئا فشربه أو ليشربنه فأكله فيخرج فيه وجهان بناء على الروايتين في الحنث. إذا حلف على
الترك، ومتى تقيدت يمينه بنية أو سبب يدل عليها كانت يمينه على ما نواه، أو دل عليه السبب
لأن مبني الايمان على النية
(فصل) وإن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمي به فقد روي عن أحمد فيمن حلف لا يشرب
فمص قصب السكر لا يحنث، وقال ابن أبي موسى إذا حلف لا يأكل ولا يشرب فمص قصب
السكر لا يحنث وهذا قول أصحاب الرأي فإنهم قالوا إذا حلف لا يشرب فمص حب رمان ورمى
بالثفل لا يحنث لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب، ويجئ على قول الخرقي أنه يحنث لأنه
قد تناوله ووصل إلى بطنه وحلقه فإنه يحنث على ما قلنا فيمن حلف لا يأكل شيئا فشربه أولا
يشربه فأكله، وإن حلف لا يأكل سكرا فتركه في فيه حتى ذاب فابتلعه خرج على الروايتين وإن
حلف لا يطعم شيئا حنث بالأكل والشرب والمص لأن ذلك كله طعم قال الله تعالى في النهر (ومن
لم يطعمه) وإن حلف لا يأكله أو لا يشربه فذاقه لم يحنث في قولهم جميعا لأنه ليس بأكل ولا
شرب ولذلك لم يفطر به الصائم وإن حلف لا يذوقه فاكله أو شربه أو مصه حنث لأنه ذوق وزيادة
وإن مضغه ورمى به حنث لأنه قد ذاقه
(فصل) وإن حلف ليأكلن أكلة بالفتح لم يبر حتى يأكل ما يعده الناس أكلة وهي المرة من
الاكل والاكلة بالضم اللقمة ومنه " فليناوله في يده أكلة أو أكلتين "
324

" مسألة " قال (حلف بالطلاق ألا يأكل تمرة فوقعت في تمرة فاكل منه واحدة
منع من وطئ زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها ولا يتحقق حنثه حتى
يأكل التمر كله)
وجملته أن حالف هذه اليمين لا يخلو من أحوال ثلاثة
(أحدها) ان يتحقق أكل التمرة المحلوف فاما ان يعرفها بعينها أو بصفتها أو يأكل التمر
كله أو الجانب الذي وقعت فيه كله فهذا يحنث بلا خلاف بين أهل العلم، وبه يقول الشافعي
وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي لأنه أكل التمرة المحلوف عليها
(الثاني) أن يتحقق أنه لم يأكلها اما بان لا يأكل من التمر شيئا أو اكل شيئا يعلم أنه غيرها
فلا يحنث أيضا بلا خلاف ولا يلزمه اجتناب زوجته
(الثالث) اكل من التمر شيئا إما واحدة أو أكثر إلى أن لا يبقى منه إلا واحدة ولم يدر هل
اكلها أم لا؟ فهذه مسألة الخرقي فلا يتحقق حنثه لأن الباقية يحتمل أنها المحلوف عليها ويقين النكاح
ثابت فلا يزول بالشك وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون حكم الزوجية باقيا في
لزوم نفقتها وكسوتها ومسكنها وسائر أحكامها الا الوط فإن الخرقي قال يمنع وطأها لأنه شاك
في حلها فحرمت عليه كما لو اشتبهت عليه امرأته بأجنبية، وذكر أبو الخطاب انها باقية على الحل وهو
مذهب الشافعي لأن الأصل الحل فلا يزول بالشك كسائر أحكام النكاح ولان النكاح باق حكما
فأثبت الحل كما لو شك هل طلق أم لا؟ وإن كانت يمينه ليأكلن هذه التمرة فلا يتحقق
بره حتى يتحقق أنه أكلها
(مسألة) قال (ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط فجمعها فضربه بها ضربة واحد
لم يبر في يمينه)
وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي، وقال ابن حامد يبر لأن أحمد قال في المريض عليه الحد
يضرب بعثكال النخل فيسقط عنه الحد، وبهذا قال الشافعي إذا علم أنها مسته كلها، وإن علم أنها
لم تمسه كلها لم يبر وإن شك لا يحنث في الحكم لأن الله تعالى قال (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا
تحنث) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المريض الذي زنى " خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة "
ولأنه ضربه بعشرة أسواط فبر في يمينه كما لو فرق الضرب
ولنا ان معنى يمينه ان يضربه عشر ضربات ولم يضربه الا ضربة واحدة فلم يبر كما لو حلف ليضربنه عشر
325

مرات بسوط والدليل على هذا انه لو ضربه عشر ضربات بسوط واحد يبر في يمينه بغير خلاف ولو عاد العدد
إلى السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد كما لو حلف ليضربنه بعشرة أسواط ولان السوط ههنا آلة أقيمت مقام
المصدر فانتصب انتصابه فمعنى كلامه لأضربنه عشر ضربات بسوط وهذا هو المفهوم من يمينه والذي يقتضيه
لغة فلا يبر بما يخالف ذلك واما أيوب عليه السلام فإن الله تعالى أرخص له رفقا بامرأته لبرها به
واحسانها إليه ليجمع له بين بره في يمينه ورفقه بامرأته ولذلك أمتن عليه بهذا وذكره في جملة مامن
عليه به من معافاته إياه من بلائه واخراج الماء له فيختص هذا به كاختصاصه بما ذكر معه ولو كان هذا
الحكم عاما لكل واحد لما اختص أيوب بالمنة عليه وكذلك المريض الذي يخاف تلفه أرخص
له بذلك في الحد دون غيره وإذا لم يتعده هذا الحكم في الحد الذي ورد النص به فيه فلا يتعداه
إلى اليمين أولا ولو خص بالبر من له عذر يبيح العدول في الحد إلي الضرب بالعثكال لكان له وجه
وأما تعديته إلى غيره فبعيدة جدا ولو حلف ان يضربه به بعشرة أسواط فجمعها فضربه بها بر لأنه قد
فعل ما حلف عليه وان حلف ليضربنه عشر مرات لم يبر يضربه بعشرة أسواط دفعة واحدة بغير خلاف
لأنه لم يفعل ما تناولته يمينه وان حلف ليضربنه عشر ضربات فكذلك الا وجها لأصحاب الشافعي
انه يبر وليس بصحيح لأن هذه ضربة واحدة بأسواط ولهذا يصح ان يقال ما ضربته الا ضربة
واحدة ولو حلف لا يضربه أكثر من ضربة واحدة ففعل هذا لم يحنث في يمينه
(فصل) ولا يبر حتى يضربه ضربا يؤلمه وبهذا قال مالك وقال الشافعي يبر بما لا يؤلم لأنه يتناوله
الاسم فوقع البر به كالمؤلم
ولنا ان هذا يقصد به في العرف التأليم فلا يبر بغيره وكذلك كل موضع وجب الضرب في الشرع
في حد أو تعزير كان من شرطه التأليم كذا ههنا
(مسألة) قال (ولو حلف ألا يكلمه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا حنث الا أن يكون
أراد أن لا يشافهه)
أكثر أصحابنا على هذا وهو مذهب مالك والشافعي، وقد روى الأثرم وغيره عن أحمد
في رجل حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه كتابا قال وأي شئ كان سبب ذلك؟ إنما ينظر إلى
سبب يمينه ولم حلف ان الكتاب قد يجري مجرى الكلام والكتاب قد يكون بمنزلة الكلام في
بعض الحالات وهذا يدل على أنه لا يحنث بالكتاب إلا أن تكون نيته أو سبب يمينه يقتضي هجرانه
وترك صلته، وان لم يكن كذلك لم يحنث بكتب ولا رسول لأن ذلك ليس بتكلم في الحقيقة وهذا
يصح نفيه فيقال ما كلمته وإنما كاتبته أو راسلته، ولذلك قال الله تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم
326

على بعض منهم من كلم الله) وقال (يا موسى اني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) وقال
(وكلم الله موسى تكليما) ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من الرسل ولم يختص بكونه
كليم الله ونجيه، وقد قال أحمد حين مات بشر الحافي لقد كان فيه انس وما كلمته قط وقد كانت
بينهما مراسلة، وممن قال لا يحنث بهذا الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر والشافعي في الجديد واحتج
أصحابنا بقوله تعالى (وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا أو من رواء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي)
فاستثنى الرسول من التكلم، والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثني منه ولأنه وضع لافهام
الآدميين أشبه الخطاب، والصحيح ان هذا ليس بتكلم وهذا الاستثناء من غير الجنس كما قال في
الآية الأخرى (آيتك الا تكلم الناس ثلاثة أيام الا رمزا) والرمز ليس بتكلم لكن ان نوى ترك
مواصلته أو كان سبب يمينه يقتضي هجرانه حنث لذلك، ولذلك قال أحمد ان الكتاب يجري
مجرى الكلام وقد يكون بمنزلة الكلام فلم يجعله كلاما إنما قال هو بمنزلته في بعض الحالات إذا
كان السبب يقتضي ذلك، وإذا أطلق احتمل ان لا يحنث لأنه لم يكلمه واحتمل ان يحنث لأن
الغالب من الحالف هذه اليمين قصد ترك المواصلة فتعلق يمينه بما يراد في الغالب كقولنا في
المسألة قبلها والله أعلم
(فصل) وإن أشار إليه ففيه وجهان قال القاضي يحنث لأنه في معنى المكاتبة والمراسلة في
الافهام (والثاني) لا يحنث ذكره أبو الخطاب لأنه ليس بكلام قال الله تعالى لمريم عليها السلام
(فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا - إلى قوله - فأشارت إليه) وقال في
زكريا) آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا - إلى قوله - فخرج على قومه من المحراب
فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا) ولان الكلام حروف وأصوات ولا يوجد في الإشارة
ولان الكلام شئ مسموع وتبطل به الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم " ان صلاتنا هذه لا يصلح فيها
شئ من كلام الناس " والإشارة بخلاف هذا فإن قيل فقد قال الله تعالى (آيتك أن لا تكلم
الناس ثلاثة أيام الا رمزا) قلنا هذا استثناء من غير الجنس بدليل ما ذكرنا وصحة نفيه عنه
فيقال ما كلمه وإنما أشار إليه
(فصل) فإن كلم غير المحلوف عليه بقصد اسماع المحلوف عليه فقال احمد يحنث لأنه قد أراد تكليمه وقد
روينا عن أبي بكرة نفيع بن الحارث أنه كان قد حلف ان لا يكلم أخاه زيادا فلما أراد زياد الحج جاء أبو بكرة إلى
قصر زياد فدخل فأخذ بنيا لزياد صغيرا في حجره ثم قال يا ابن أخي ان أباك يريد الحج ولعله يمر بالمدينة
فيدخل على أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النسب الذي ادعاه وهو يعلم أنه ليس بصحيح، وان
هذا لا يحل له ثم قال فخرج وهذا يدل على أنه لم يعتقد ذلك تكليما له. ووجه الأول انه أسمعه كلامه
327

قاصدا لاسماعه وافهامه فأشبه ما لو خاطبه. وقال الشاعر * إياك أعني فاسمعي يا جارة *
(فصل) فإن ناداه بحيث يسمع فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث نص عليه احمد فإنه سئل عن
رجل حلف أن لا يكلم فلانا فناداه والمحلوف عليه لا يسمع قال يحنث لأنه قد أراد تكليمه وهذا
لكون ذلك يسمى تكليما يقال كلمته فلم يسمع، وإن كان ميتا أو غائبا أو مغمى عليه أو أصم لا يعلم
بتكليمه إياه لم يحنث وبهذا قال الشافعي، وحكي عن أبي بكر انه يحنث بنداء الميت لأن النبي صلى الله عليه وسلم
كلمهم وناداهم، وقال " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم "
ولنا قوله تعالى (وما أنت بمسمع من في القبور) ولأنه قد بطلت حواسه وذهبت نفسه
فكان أبعد من السماع من الغائب البعيد لبقاء الحواس في حقه، وإنما كان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم
كرامة له وأمرا اختص به فلا يقاس عليه غيره
(فصل) وان سلم على المحلوف عليه حنث لأن السلام كلام تبطل الصلاة به، وان سلم على جماعة
هو فيهم أو كلمهم فإن قصد المحلوف عليه مع الجماعة حنث لأنه كلمه، وان قصدهم دونه لم يحنث.
قال القاضي لا يحنث رواية واحدة وهو مذهب الشافعي لأن اللفظ العام يحتمل التخصيص فإذا نواه
به فهو على ما نواه، وان أطلق حنث وبه قال الحسن وأبو عبيد ومالك وأبو حنيفة لأنه مكلم لجميعهم
لأن مقتضى اللفظ العموم فيحمل على مقتضاه عند الاطلاق وقال القاضي فيه روايتان وللشافعي قولان
(أحدهما) لا يحنث لأن العام يصلح للخصوص فلا يحنث بالاحتمال والأول أولى لأن هذا الاحتمال
مرجوح فيتعين العمل بالراجح كما احتمل اللفظ المجاز الذي ليس بمشتهر فإنه لا يمنع حمله على الحقيقة
عند اطلاقه فإن لم يعلم أن المحلوف عليه فيهم ففيه روايتان (إحداهما) لا يحنث لأنه لم يرده فأشبه ما لو
استثناه (والثاني) يحنث لأنه قد أرادهم بسلامه وهو منهم وهذا بمنزلة الناسي وإن كان وحده فسلم
عليه ولا يعرفه فقال أحمد يحنث ويحتمل أن لا يحنث بناء على الناسي والجاهل
(فصل) فإن حلف لا يكلمه ثم وصل يمينه بكلامه مثل أن قال فتحقق ذلك أو فاذهب فقال
أصحبنا يحنث وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحنث بالقليل لأن هذا تمام الكلام الأول والذي يقتضيه يمينه
أن لا يكلمه كلاما مستأنفا واحتج أصحابنا بأن هذا القليل كلام منه له حقيقة وقد وجد بعد يمينه
فيحنث به كما لو فصله ولان ما يحنث به إذا فصله يحنث به إذا وصله كالكثير وقولهم ان اليمين
يقتضي خطابا مستأنفا قلنا وهذا الخطاب مستأنف غير الأول بدليل انه لو قطعه حنث به وقياس المذهب انه
لا يحنث لأن قرينة صلته هذا الكلام بيمينه تدل على إرادة كلام يستأنفه بعد انقضاء هذا الكلام المتصل
فلا يحنث به كما لو وجدت النية حقيقة وإن نوى كلاما غير هذا لم يحنث بهذا في المذهبين.
(فصل) وإن صلى بالمحلوف عليه إماما ثم سلم من الصلاة لم يحنث نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة
328

وقال أصحاب الشافعي يحنث لأنه شرع له أن ينوي السلام على الحاضرين. ولنا انه قول مشروع
في الصلاة فلم يحنث به كتكبيرها وليست نية الحاضرين بسلامه واجبة في السلام وإن ارتج عليه في الصلاة
ففتح عليه الحالف لم يحنث لأن ذلك كلام الله وليس بكلام الآدميين
(فصل) وإن حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن قرأ في الصلاة لم
يحنث وإن قرأ خارجا منها حنث لأنه يتكلم بكلام الله، وإن ذكر الله تعالى لم يحنث ومقتضى
مذهب أبي حنيفة انه يحنث لأنه كلام قال الله تعالى (وألزمهم كلمة التقوى) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أفضل
الكلام أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " وقال " كلمتان خفيفتان على اللسان
ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم "
ولنا ان الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم " ان الله
يحدث من أمره ما يشاء وانه قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة " لم يتناول المختلف فيه وقال زيد
ابن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت [وقوموا لله قانتين] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام
وقال الله تعالى [آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا * واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي
والابكار] فأمره بالتسبيح مع قطع الكلام عنه ولان ما لا يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارجا
منها كالإشارة وما ذكروه يبطل بالقراءة والتسبيح في الصلاة وذكر الله المشروع فيها وإن أستأذن
عليه انسان فقال (ادخلوها بسلام آمنين) يقصد القرآن لم يحنث وإلا حنث
(فصل) وإن حلف لا يتكلم ثلاث ليال أو ثلاثة أيام لم يكن له أن يتكلم في الأيام التي بين الليالي
ولا في الليالي التي بين الأيام إلا أن ينوي لأن الله تعالى قال [آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام
إلا رمزا] وفي موضع آخر [ثلاث ليال سويا] فكان كل واحد من اللفظين عبارة عن الزمانين جميعا
وقال الله تعالى (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) فدخل فيه الليل والنهار
(فصل) ومن حلف ان لا يتكفل بمال فكفل ببدن انسان فقال أصحابنا يحنث لأن المال يلزمه
بكفالته إذا تعذر تسليم المكفول به والقياس أنه لا يحنث لأنه لم يكفل بمال وإنما يلزمه المال بتعذر
احضار المكفول به وأما قبل ذلك فلا يلزمه ولان هذا لا يسمى كفالة بالمال ولا يصح نفيها عنه فيقال
ما تكفل بمال وإنما تكفل بالبدن وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
(فصل) وان حلف لا يستخدم عبدا فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه فقال القاضي إن كان
عبده حنث وإن كان عبد غيره لم يحنث وهذا قول أبي حنيفة لأن عبده يخدمه عبادة بحكم استحقاقه
ذلك عليه فيكون معنى يمينه لا منعتك خدمتي فإذا لم ينهه لم يمنعه فيحنث وعبد غيره بخلافه وقال
329

أبو الخطاب يحنث في الحالين لأن اقراره على الخدمة استخدام ولهذا يقال فلان يستخدم
عبده إذا خدمه وان لم يأمره ولان ما حنث به في عبده حنث به في غيره كسائر الأشياء وقال الشافعي
لا يحنث في الحالين لأنه حلف على فعل نفسه ولا يحنث بفعل غيره كسائر الافعال
(فصل) وإذا حلف رجل بالله لا يفعل شيئا فقال له آخر يميني في يمينك لم يلزمه شئ لأن يمين
الأول ليست ظرفا ليمين الثاني، وان نوى انه يلزمني من اليمين ما يلزمك لم يلزمه حكمها قاله القاضي
وهو مذهب الشافعي لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية لأن تعلق الكفارة بها لحرمة اللفظ باسم
الله المحترم أو صفة من صفاته ولا يوجد ذلك في الكناية وان حلف بطلاق فقال آخر يميني في يمينك
ينوي أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك انعقدت يمينه نص عليه أحمد وسئل عن رجل حلف بالطلاق
لا يكلم رجلا فقال رجل وانا على مثل يمينك فقال عليه مثل ما قال الذي حلف لأن الكناية تدخل
في الطلاق وكذلك يمين العتاق والظهار وان لم ينو شيئا لم تنعقد يمينه لأن الكناية لا تعمل بغير نية
وليس هذا بصريح، وإن كان المقول له لم يحلف بعد وإنما أراد أنه يلزمه ما يلزم الاخر من يمين يحلف
بها فحلف المقول له لم تنعقد يمين القائل وإن كان في الطلاق والعتاق لأنه لابد أن يكون هناك ما يكنى
عنه وليس ههنا ما يكنى عنه وذكر القاضي في موضع آخر فيمن قال ايمان البيعة تلزمني أنه ان عرفها
ونوي جميع ما فيها انعقدت يمينه بجميع ما فيها وهذا خلاف ما قاله في هذه المسألة فيكون فيها وجهان
(فصل) فإن قال ايمان البيعة تلزمني فقال أبو عبد الله بن بطة كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد
سأله رجل عن ايمان البيعة فقال لست أفتي فيها بشئ ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي في هذه اليمين
قال وكان أبي رحمه الله يعني أبا علي يهاب الكلام فيها ثم قال أبو القاسم: الا ان يلتزم الحالف بها جميع
ما فيها من الايمان فقال له السائل عرفها أو لم يعرفها؟ فقال نعم وايمان البيعة هي التي رتبها الحجاج يستحلف
بها عند البيعة والامر المهم للسلطان وكانت البيعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بالمصافحة
فلما ولي الحجاج رتبها أيمانا تشتمل على اليمين بالله والطلاق والعتاق وصدقة المال فمن لم يعرفها لم
تنعقد يمينه بشئ مما فيها لأن هذا ليس بصريح في القسم والكناية لا تصح الا بالنية ومن لم
يعرف شيئا لم يصح ان ينويه وان عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم يصح أيضا لما ذكرناه ومن
عرفها ونوي اليمين بما فيها صح في الطلاق والعتاق لأن اليمين بها تنعقد بالكناية وما عدا ذلك من
اليمين بالله وما عدا الطلاق والعتاق فقال القاضي ههنا تنعقد يمينه أيضا لأنها يمين فتنعقد بالكناية
المنوية كيمين الطلاق والعتاق، وقال في موضع آخر لا تنعقد اليمين بالله بالكناية وهو مذهب الشافعي
لأن الكفارة وجبت فيها لما ذكر فيها من اسم الله العظيم المحترم ولا يوجد ذلك في الكناية والله أعلم
330

كتاب النذور
الأصل في النذر الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (يوفون بالنذر - وقال -
وليوفوا نذورهم) وأما السنة فروت عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نذر ان يطيع الله فليطعه
ومن نذر ان يعصي الله فلا يعصه " وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خيركم قرني ثم الذين
يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا
يستشهدون ويظهر فيهم السمن " رواهما البخاري وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ولزوم الوفاء به
(فصل) ولا يستحب لأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وأنه قال " لا يأتي
بخير وإنما يستخرج به من البخيل " متفق عليه وهذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأنه لو كان حراما
لما مدح الموفين به لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه ولان النذر لو كان مستحبا
لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأفاضل أصحابه
(مسألة) قال (ومن نذر ان يطيع الله عز وجل لزمه الوفاء به ومن نذر ان
يعصيه لم يعصه وكفر كفارة يمين)
ونذر الطاعة الصلاة والصيام والحج والعمرة والعتق والصدقة والاعتكاف والجهاد وما في هذه
331

المعاني سواء نذره مطلقا بان يقول لله على أن أفعل كذا وكذا أو علقه بصفة مثل قوله ان شفاني الله
من علتي أو شفى فلانا أو سلم مالي الغائب أو ما كان في هذا المعنى فأدرك ما أمل بلوغه من ذلك
فعليه الوفاء به، ونذر المعصية أن يقول لله علي أن أشرب الخمر أو أقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا
يفعل ذلك ويكفر كفارة يمين، وإذا قال لله علي ان أركب دابتي أو أسكن داري أو ألبس أحسن
ثيابي وما أشبهه لم يكن هذا نذر طاعة ولا معصية فإن لم يفعله كفر كفارة يمين لأن النذر كاليمين
وإذا نذر أن يطلق زوجته استحب له ان لا يطلقها ويكفر كفارة يمين وجملته ان النذر سبعة أقسام
[أحدها] نذر اللجاج والغضب وهو الذي يخرجه مخرج اليمين للحث على فعل شئ أو المنع منه
غير قاصد به للنذر ولا القربة فهذا حكمه حكم اليمين وقد ذكرناه في باب الايمان
[والقسم الثاني] نذر طاعة وتبرر مثل الذي ذكر الخرقي فهذا يلزم الوفاء به للآيتين والخبرين
وهو ثلاثة أنواع
[أحدها] التزام طاعة في مقابلة نعمة استجلبها أو نقمة استدفعها كقوله إن شفاني الله فلله علي صوم
شهر فتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الوجوب بالشرع كالصوم والصلاة والصدقة والحج فهذا يلزم
الوفاء به باجماع أهل العلم
[النوع الثاني] التزام طاعة من غير شرط كقوله ابتداء لله علي صوم شهر فيلزمه الوفاء به في
332

قول أكثر أهل العلم وهو قول أهل العراق وظاهر مذهب الشافعي، وقال بعض أصحابه لا يلزم الوفاء
به لأن أبا عمر غلام ثعلب قال النذر عند العرب وعد بشرط ولان ما التزمه الآدمي بعوض يلزمه
بالعقد كالمبيع والمستأجر وما التزمه بغير عوض لا يلزمه بمجرد العقد كالهبة
[النوع الثالث] نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض فيلزم الوفاء به
لأن النذر فرع على المشروع فلا يجب به مالا يجب له نظير بأصل الشرع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر ان يطيع الله فليطعه " وذمه الذين ينذرون ولا يوفون وقول
الله تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من
فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه
وبما كانوا يكذبون)
وقد صح أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم اني نذرت ان أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " ولأنه ألزم نفسه قربة على وجه التبرر فتلزمه كموضع الاجماع وكما لو ألزم
نفسه أضحية أو أوجب هديا وكالاعتكاف وكالعمرة فإنهم قد سلموها وليست واجبة عندهم وما
ذكروه يبطل بهذين الأصلين وما حكوه عن أبي عمر لا يصح فإن العرب تسمي الملتزم نذرا وإن لم
يكن بشرط قال جميل:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي * وهموا بقتلي يابثين لقوني
والجعالة وعد بشرط وليست بنذر
333

[القسم الثالث] النذر المبهم وهو أن يقول لله علي نذر فهذا تجب به الكفارة في قول أكثر
أهل العلم وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعائشة، وبه قال الحسن وعطاء وطاوس
والقاسم وسالم والشعبي والنخعي وعكرمة وسعيد بن جبير ومالك والثوري ومحمد بن الحسن ولا أعلم
فيه مخالفا إلا الشافعي قال لا ينعقد نذره ولا كفارة فيه لأنه من النذر مالا كفارة فيه
ولنا ما روى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كفارة النذر إذا لم يسمه كفارة اليمين "
رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب ولأنه نص وهذا قول من سمينا من الصحابة
والتابعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا فيكون اجماعا
(القسم الرابع) نذر المعصية فلا يحل الوفاء به اجماعا ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نذر أن يعصي
الله فلا يعصيه " ولان معصية الله لا تحل في حال ويجب على الناذر كفارة يمين. روي نحو هذا عن
ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب وبه قال الثوري وأبو حنيفة
وأصحابه. وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه فإنه قال فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة
لبنة لا كفارة عليه وهذا في معناه. وروي هذا عن مسروق والشعبي وهو مذهب مالك والشافعي
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد " رواه مسلم وقال ليس على الرجل
334

نذر فيما لا يملك " متفق عليه وقال " لا نذر إلا ما ابتغي به وجه الله " ورواه أبو داود وقال " من نذر
أن يعصي الله فلا يعصه " ولم يأمر بكفارة ولما نذرت المرأة التي كانت مع الكفار - فنجت على ناقة
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنحرها قالت يا رسول الله اني نذرت إن أنجاني الله عليها ان أنحرها؟ قال
" بئس ما جزتها لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد " رواه مسلم ولم يأمره بكفارة وقال لأبي
إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم مروه فليتكلم وليجلس
وليستظل وليتم صومه " رواه البخاري ولم يأمره بكفارة لأن النذر التزام الطاعة وهذا التزام معصية
ولأنه نذر غير منعقد فلم يوجب شيئا كاليمين غير المنعقدة. ووجه الأول ما روت عائشة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه
وقال الترمذي هو حديث غريب
وعن أبي هريرة وعمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله روى الجوزجاني باسناده عن عمران
ابن حصين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله
وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه ويكفره ما يكفر اليمين وهذا نص ولان
النذر يمين بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " النذر حلفة " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة
لما نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فلم تطقه " تكفر يمينها " صحيح أخرجه أبو داود وفي رواية " ولتصم
ثلاثة أيام " قال احمد إليه اذهب
335

وقال ابن عباس في التي نذرت ذبح ابنها كفري يمينك ولو حلف على فعل معصية لزمته الكفارة
فكذلك إذا نذرها فأما أحاديثهم فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله وهذا لا خلاف فيه وقد جاء
مصرحا به هكذا في رواية مسلم ويدل على هذا أيضا ان في سياق الحديث " ولا يمين في قطيعة رحم "
يعني لا يبر فيها ولو لم يبين الكفارة في أحاديثهم فقد بينها في أحاديثنا فإن فعل ما نذره من المعصية فلا
كفارة عليه كما لو حلف ليفعلن معصية ففعلها ويحتمل ان تلزمه الكفارة حتما لأن النبي صلى الله عليه وسلم عين فيه
الكفارة ونهي عن فعل المعصية،
(القسم الخامس) المباح كلبس الثوب وركوب الدابة وطلاق المرأة على وجه مباح فهذا يتخير
الناذر فيه بين فعله فيبر بذلك لما روي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت اني نذرت أن أضرب
على رأسك بالدف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " رواه أبو داود ولأنه لو حلف على فعل
مباح بر بفعله فكذلك إذا نذره لأن النذر كاليمين وان شاء تركه وعليه كفارة يمين ويتخرج ان لا
كفارة فيه فإن أصحابنا قالوا فيمن نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد معين كان له ان يصلي ويعتكف
في غيره ولا كفارة ومن نذر ان يتصدق بماله كله أجزأته الصدقة بثلثه بلا كفارة وهذا مثله وقال
مالك والشافعي لا ينعقد نذره لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر الا فيما ابتغي به وجه الله " وقد روى ابن عباس
336

قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس
ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " مروه فليستظل وليجلس وليتكلم وليتم صومه "
رواه البخاري وعن أنس قال نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسئل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن
ذلك فقال " ان الله لغني عن مشيها مروها فلتركب " قال الترمذي هذا حديث صحيح ولم يأمر بكفارة
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا يهادى بين اثنين فسأل عنه فقالوا نذر أن يحج ماشيا فقال " ان الله
لغني عن تذيب هذا نفسه مروه فليركب " متفق عليه. ولم يأمره بكفارة ولأنه نذر غير موجب
لفعل ما نذره فلم يوجب كفارة كنذر المستحيل
ولنا ما تقدم في القسم الذي قبله، فأما حديث التي نذرت المشي فقد أمر فيه بالكفارة في
حديث آخر، وروى عقبة بن عامر ان أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " مروها فلتركب ولتكفر عن يمينها " صحيح أخرجه أبو داود وهذه زيادة
يجب الاخذ بها ويجوز أن يكون الراوي للحديث روى البعض وترك البعض أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم
ترك ذكر الكفارة في بعض الحديث إحالة على ما علم من حديثه في موضع آخر ومن هذا القسم إذا
نذر فعل مكروه كطلاق امرأته فإنه مكروه بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " أبغض الحلال إلى الله الطلاق "
فالمستحب أن لا يفي ويكفر فإن وفي بنذره فلا كفارة عليه والخلاف فيه كالذي قبله
337

(القسم السادس) نذر الواجب كالصلاة المكتوبة فقال أصحابنا لا ينعقد نذره وهو قول أصحاب
الشافعي لأن النذر التزام ولا يصح التزام ما هو لازم له ويحتمل أن ينعقد نذره موجبا كفارة يمين
إن تركه كما لو حلف على فعله فإن النذر كاليمين وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم يمينا وكذلك لو نذر معصية
أو مباحا لم يلزمه ويكفر إذا لم يفعله
(القسم السابع) نذر المستحيل كصوم أمس فهذا لا ينعقد ولا يوجب شيئا لأنه لا يتصور
انعقاده ولا الوفاء به ولو حلف على فعله لم تلزمه كفارة فالنذر أولى وعقد الباب في صحيح المذهب
ان النذر كاليمين وموجبه موجبها إلا في لزوم الوفاء به إذا كان قربة وأمكنه فعله ودليل هذا الأصل
قول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة لما نذرت المشي فلم تطقه " ولتكفر يمينها " وفي رواية " فلتصح ثلاثة
أيام " قال احمد إليه أذهب، وعن عقبة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " كفارة النذر كفاره اليمين " أخرجه
مسلم، وقول ابن عباس للتي نذرت ذبح ولدها كفري يمينك ولأنه قد ثبت ان حكمه حكم اليمين
في أحد أقسامه وهو نذر اللجاج فكذلك سائره في سوى ما استثناه الشرع
(فصل) وإن نذر فعل طاعة وما ليس بطاعة لزمه فعل الطاعة كما في خبر أبي إسرائيل فإن النبي
صلى الله عليه وسلم أمره باتمام الصوم وترك ما سواه لكونه ليس بطاعة وفي وجب الكفارة لما تركه الاختلاف
الذي ذكرناه، وقد وروى عقبة بن عامر قال نذرت أختي ان تمشي إلى بيت الله الحرام حافية
338

غير مختمرة فذكر ذلك عقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مر أختك فلتركب ولتختمر ولتصح ثلاثة أيام "
رواه الجوزجاني والترمذي فإن كان المتروك خصالا كثيرة أجزأته كفارة واحدة لأنه نذر واحد
فتكون كفارته واحدة كاليمين الواحدة على أفعال ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أخت عقبة بن عامر
في ترك التحفي والاختمار بأكثر من كفارة
(مسألة) قال (ومن نذر ان يتصدق بماله كله أجزأه أن يتصدق بثلثه كما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي لبابه حين قال إن من توبتي يا رسول الله ان انخلع من مالي فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم يجزئك الثلث)
وجملة ذلك أن من نذر أن يتصدق بماله كله أجزأه ثلثه، وبهذا قال الزهري ومالك. وروى الحسين
ابن إسحاق الخرقي عن أحمد قال سألته عن رجل قال جميع ما أملك في المساكين صدقة قال كفارته
كفارة اليمين قال وسئل عن رجل قال ما يرث عن فلان فهو للمساكين فذكروا أنه قال يطعم عشرة مساكين
وقال ربيعة يتصدق منه بقدر الزكاة لأن المطلق محمول على معهود الشرع ولا يجب في الشرع الا قدر
الزكاة وعن جابر بن زيد قال إن كان كثيرا وهو ألفان تصدق بعشرة وإن كان متوسطا وهو الف
تصدق بسبعة وإن كان قليلا وهو خمسمائة تصدق بخمسة وقال أبو حنيفة يتصدق بالمال الزكوي كله
وعنه في غيره روايتان:
339

(إحداهما) يتصدق به (والثانية) لا يلزمه منه شئ وقال النخعي والبتي والشافعي يتصدق
بماله كله لقول النبي صلى الله عليه وسلم من نذر ان يطيع الله فليطعه ولأنه نذر طاعة فلزمه الوفاء به
كنذر الصلاة والصيام.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة حين قال إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى
رسوله فقال " يجزئك الثلث " وعن كعب بن مالك قال قلت يا رسول الله ان من توبتي ان انخلع من
مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك بعض مالك " متفق عليه ولأبي
داود " يجزئ عنك الثلث " فإن قالوا هذا ليس بنذر وإنما أراد الصدقة بجميعه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتصار
على ثلثه كما أمر سعدا حين أراد الوصية بجميع ماله بالاقتصار على الوصية بثلثه وليس هذا محل النزاع
إنما النزاع فيمن نذر الصدقة بجميعه فلنا عنه جوابان:
(أحدهما) ان قوله " يجزئ عنك الثلث " دليل على أنه أتى بلفظ يقتضي الايجاب لأنها إنما تستعمل
غالبا في الواجبات ولو كان مخيرا بإرادة الصدقة لما لزمه شئ يجزئ عنه بعضه
(الثاني) ان منعه من الصدقة بزيادة على الثلث دليل على أنه ليس يقربه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع
أصحابه من القرب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به وما قاله أبو حنيفة فقد سبق الكلام عليه وما
قاله ربيعة لا يصح فإن هذا ليس بزكاة ولا في معناها فإن الصدقة وجبت لاغناء الفقراء ومواساتهم
340

وهذه صدقة تبرع بها صاحبها تقربا إلى الله تعالى ثم إن المحمول على معهود الشرع المطلق وهذه
صدقة معينة غير مطلقة ثم تبطل بما لو نذر صياما فإنه لا يحمل على صوم رمضان وكذلك الصلاة وما
ذكره جابر بن زيد تحكم بغير دليل
(فصل) وإذا نذر الصدقة بمعين من ماله أو بمقدر كالف فروي عن أحمد انه يجوز ثلثه لأنه
مال نذر الصدقة به فاجزأه ثلثه كجميع المال والصحيح في المذهب لزوم الصدقة بجميعه لأنه منذور
وهو قربة فلزمه الوفاء به كسائر المنذورات
ولعموم قوله تعالى (يوفون بالنذر) وإنما خولف هذا في جميع المال للأثر فيه ولما في الصدقة
بجميع المال من الضرر اللاحق به اللهم الا أن يكون المنذور ههنا يستغرق جميع المال فيكون كنذر ذلك.
ويحتمل انه إن كان المنذور ثلث المال فما دون لزمه وفاء نذره وان زاد على الثلث لزمه الصدقة بقدر الثلث
منه لأنه حكم يعتبر فيه الثلث فأشبه الوصية به.
(فصل) وإذا نذر الصدقة بقدر من المال فابرأ غريمه من قدره يقصد به وفاء النذر لم يجزئه،
وإن كان الغريم من أهل الصدقة. قال احمد: لا يجزئه حتى يقبضه وذلك لأن الصدقة تقتضي التمليك
وهذا إسقاط فلم يجزئه كما في الزكاة.
وقال احمد: فيمن نذر أن يتصدق بمال وفي نفسه أنه ألف أجزأه ان يخرج ما شاء وذلك لأن
341

اسم المال يقع على القليل وما نواه زيادة على ما تناوله الاسم والنذر لا يلزم بالنية والقياس ان يلزمه ما نواه
لأنه نوي بكلامه ما يحتمله فتعلق الحكم به كاليمين. وقد نص احمد فيمن نوى صوما أو صلاة
وفي نفسه أكثر مما يتناوله لفظه أنه يلزمه ذلك وهذا كذلك والله أعلم.
(مسألة) قال (ومن نذر ان يصوم وهو شيخ كبير لا يطبق الصيام كفر كفارة يمين
واطعم لكل مسكينا يوم)
وجملته أن من نذر طاعة لا يطيقها أو كان قادرا عليها فعجز عنها فعليه كفارة يمين لما روى
عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني ان أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستفتيته فقال " لتمش ولتركب " متفق عليه ولأبي داود " وتكفر يمينها " وللترمذي " ولتصم
ثلاثة أيام " وعن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين " قال " ومن
نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين " رواه أبو داود وقال وقفه من رواه عن ابن عباس
وقال ابن عباس من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته
كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا يطيقه فليف لله بما نذر
فإذا كفر وكان المنذور غير الصيام لم يلزمه شئ آخر وإن كان صياما فعن أحمد روايتان (إحداهما)
342

يلزمه لكل يوم اطعام مسكين قال القاضي وهذا أصح لأنه صوم وجد سبب ايجابه عينا فإذا عجز
عنه لزمه ان يطعم عن كل يوم مسكينا كصيام رمضان ولان المطلق من كلام الآدميين يحمل على
المعهود شرعا، ولو عجز عن الصوم المشروع أطعم عن كل يوم مسكينا وكذلك إذا عجز عن الصوم
المنذور (والثانية) لا يلزمه شئ آخر من اطعام ولا غيره لقوله عليه السلام " ومن نذر نذرا لا يطيقه
فكفارته كفارة يمين " وهذا يقتضي أن تكون كفارة اليمين جميع كفارته ولأنه نذر عجز عن الوفاء
به فكان الوجب فيه كفارة يمين كسائر النذور ولان موجب النذر موجب اليمين إلا مع إمكان
الوفاء به إذا كان قربة ولا يصح قياسه على صوم رمضان لوجهين (أحدهما) ان رمضان يطعم عنه عند
العجز بالموت فكذلك في الحياة وهذا بخلافه ولان صوم رمضان آكد بدليل وجوب الكفارة بالجماع
فيه وعظم إثم من أفطر بغير عذر (والثاني) أن قياس المنذور على المنذور أولى من قياسه على المفروض
بأصل الشرع ولان هذا قد وجبت فيه كفارة فأجزأت عنه بخلاف المشروع، وقولهم ان المطلق من
كلام الآدمي محمول على المعهود في الشرع قلنا ليس هذا بمطلق وإنما هو منذور معين ويتخرج أن لا
تلزمه كفارة في العجز عنه كما في العجز الواجب بأصل الشرع
(فصل) وان عجز لعارض يرجى زواله من مرض أو نحوه انتظر زواله ولا تلزمه كفارة ولا
343

غيرها لأنه لم يفت الوقت فيشبه المريض في شهر رمضان فإن استمر عجزه إلى أن صار غير مرجو الزوال صار
إلى الكفارة والفدية على ما ذكرنا من الخلاف فيه فإن كان العجز المرجو الزوال عن صوم معين فات
وقته انتظر الامكان ليقضيه وهل تلزمه لفوات الوقت كفارة؟ على روايتين: ذكرهما أبو الخطاب.
(إحداهما (تجب الكفارة لأنه أخل بما نذره على وجهه فلزمته الكفارة كما لو نذر المشي إلى بيت
الله الحرام فعجز ولان النذر كاليمين، ولو حلف ليصومن هذا الشهر فافطره لعذر لزمته كفارة كذا
ههنا (والثانية) لا تلزمه لأنه اتي بصيام أجزأه عن نذره من غير تفريط منه فلم تلزمه كفارة
يمين كما لو صام ما عينه
(فصل) وان نذر غير الصيام فعجز عنه كالصلاة ونحوها فليس عليه الا الكفارة لأن الشرع
لم يجعل لذلك بدلا يصار إليه فوجبت الكفارة لمخالفته نذره فقط وان عجز عنه لعارض فحكمه حكم
الصيام سواء فيما فصلناه.
(مسألة) قال (وإذا نذر صياما ولم يذكر عددا ولم ينوه فأقل ذلك صيام يوم وأقل
الصلاة ركعتان)
أما إذا نذر صياما مطلقا فأقل ذلك يقوم صيام يوم لا خلاف فيه لأنه ليس في الشرع صوم مفرد
أقل من يوم فيلزمه لأنه اليقين واما الصلاة ففيها روايتان:
344

(إحداهما) يجزئه ركعة نقلها إسماعيل بن سعيد لأن أقل الصلاة ركعة فإن الوتر صلاة مشروعة
وهي ركعة واحدة، وروي عن عمر رضي الله عنه انه تطوع بركعة واحدة
(والثانية) لا يجزئه إلا ركعتان وبه قال أبو حنيفة لأن أقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان
فوجب حمل النذر عليه، وأما الوتر فهو نفل والنذر فرض فحمله على المفروض أولى ولان الركعة
لا تجزئ في الفرض فلا تجزئ في النفل كالسجدة وللشافعي قولان كالروايتين، فأما إن عين بنذره
عددا لزمه قل أو كثر لأن النذر ثابت يقوله، وكذلك عدده فإن نوى عددا فهو كما لو سماه لأنه نوى
بلفظه ما يحتمله فلزمه حكمه كاليمين
(مسألة) قال (وإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزئه الا ان يمشى في حج أو
عمرة فإن عجز عن المشي ركب وكفر كفارة يمين)
وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الوفاء بنذره وبهذا قال مالك والأوزاعي
والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تشد الرحال إلا
إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " ولا يجزئه المشي إلا في
345

حج أو عمرة وبه يقول الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وذلك لأن المشي المعهود في الشرع هو المشي في
حج أو عمرة، فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي ويلزمه المشي فيه لنذره فإن عجز عن
المشي ركب وعليه كفارة يمين
وعن أحمد رواية أخرى انه يلزمه دم وهو قول للشافعي وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن
أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديا
رواه أبو داود وفيه ضعف، ولأنه أحل بواجب في الاحرام فلزمه هدي كتارك الاحرام من الميقات
وعن ابن عمر وابن الزبير قالا يحج من قابل ويركب ما مشى ويمشي ما ركب ونحوه قال ابن عباس
وزاد فقال ويهدي. وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان
(إحداهما) كقول ابن عمر (والثانية) كقول ابن عباس وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة عليه
هدي سواء عجز عن المشي أو قدر عليه وأقل الهدي شاة، وقال الشافعي لا تلزمه مع العجز كفارة بحال
إلا أن يكون النذر مشيا إلى بيت الله فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شئ
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت الله " لتمش
ولتركب ولتكفر عن يمينها " وفي رواية " فلتصم ثلاثة أيام " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " كفارة النذر
كفارة اليمين " ولان المشي مما لا يوجبه الاحرام فلم يجب الدم بتركه كما لو نذر صلاة ركعتين فتركهما
346

وحديث الهدي ضعيف وهذا حجة على الشافعي حيث أوجب الكفارة عليها من غير ذكر العجز. فإن قيل:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة عليها من غير ذكر العجز. قلنا يتعين حمله على حالة العجز لأن المشي قربة لأنه
مشي إلى عبادة والمشي إلى العبادة أفضل ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب في عيد ولا جنازة فلو كانت قادرة
على المشي لأمرها به ولم يأمرها بالركوب والتكفير ولان المشي المقدور عليه لا يخلو من أن يكون واجبا
أو مباحا فإن كان واجبا لزم لوفاء به وإن كان مباحا لم تجب الكفارة بتركه عند الشافعي وقد أوجب الكفارة
ههنا وترك ذكره في الحديث إما لعلم النبي صلى الله عليه وسلم بحالها وعجزها وإما لأن الظاهر من حال المرأة العجز
عن المشي إلى مكة أو يكون قد ذكر في الخبر فترك الراوي ذكره، وقول أصحاب أبي حنيفة أنه أخل
بواجب في الحج قلنا المشي لم يوجبه الاحرام ولا هو من مناسكه فلم يجب بتركه هدي كما لو نذر صلاة
ركعتين في الحج فلم يصلهما، فأما إن ترك المشي مع إمكانه فقد أساء وعليه كفارة أيضا لتركه صفة
النذر. وقياس المذهب أن يلزمه استئناف الحج ماشيا لتركه صفة المنذور كما لو نذر صوما متتابعا فأتى به
متفرقا، وان عجز عن المشي بعد الحج كفر وأجزأه وإن مشي بعض الطريق وركب بعضها فعلى
هذا القياس يحتمل أن يكون كقول ابن عمر وهو أن يحج فيمشي ما ركب ويركب ما مشى، ويحتمل
أن لا يجزئه إلا حج مشي في جميعه لأن ظاهر النذر يقتضي هذا
ووجه القول الأول انه لا يلزمه بترك المشي المقدور عليه أكثر من كفارة لأن المشي غير مقصود
في الحج ولا ورد الشرع باعتباره في موضع فلم يلزم بتركه أكثر من كفارة كما لو نذر التحفي
347

وشبهه، وفارق التتابع في الصيام فإنها صفة مقصودة فيه اعتبرها الشرع في صيام الكفارات:
كفارة الظهار والجماع واليمين
(فصل) فإن نذر الحج راكبا لزمه الحج كذلك لأن فيه إنفاقا في الحج فإن ترك الركوب فعليه
كفارة وقال أصحاب الشافعي يلزمه دم لترفهه بترك الانفاق وقد تبينا ان الواجب بترك النذر الكفارة
دون الهدي إلا أن هذا إذا مشى ولم يركب مع إمكانه لم يلزمه أكثر من كفارة لأن الركوب في نفسه
ليس بطاعة ولا قربة، وكل موضع نذر المشي فيه أو الركوب فإنه يلزمه الاتيان بذلك من دويرة أهله
إلا أن ينوي موضعا بعينه فيلزمه من ذلك الموضع لأن النذر محمول على أصله في الفرض والحج
المفروض بأصل الشرع يجب كذلك، ويحرم للمنذور من حيث يحرم للواجب، قال بعض الشافعية
يجب الاحرام من دويرة أهله لأن إتمام الحج كذلك
ولنا ان المطلق محمول على المعبود في الشرع والاحرام الواجب إنما هو من الميقات ويلزمه المنذور
من المشي أو الركوب في الحج أو العمرة إلى أن يتحلل لأن ذلك انقضاء الحج والعمرة
قال أحمد بركب في الحج إذا رمى وفي العمرة إذا سمى لأنه لو وطئ بعد ذلك لم يفسد حجا ولا
عمرة وهذا يدل على أنه إنما يلزمه في الحج التحلل الأول
(فصل) وإذا نذر المشي إلى بيت الله أو الركوب إليه ولم يرد بذلك حقيقة المشي والركوب
348

إنما أراد إتيانه لزمه إتيانه في حج أو عمرة ولم يتعين عليه مشي ولا ركوب لأنه عنى ذلك بنذره وهو
محتمل له فأشبه ما لو صرح به، ولو نذر أن يأتي بيت الله الحرام أو يذهب إليه لزمه إتيانه في حج
أو عمرة، وعن أبي حنيفة لا يلزمه شئ لأن مجرد إتيانه ليس بقربة ولا طاعة
ولنا انه علق نذره بوصول البيت فلزمه كما لو قال لله علي المشي إلى الكعبة، إذا ثبت هذا فهو
مخير في المشي والركوب، وكذلك إذا نذر ان يحج البيت أو يزوره لأن الحج يحصل بكل واحد
من الامرين فلم يتعين أحدهما. وإن قال لله علي ان آتي البيت الحرام غير حاج ولا معتمر لزمه الحج
والعمرة وسقط شرطه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن قوله لله علي ان آتي البيت يقتضي
حجا أو عمرة وشرط سقوط ذلك يناقض نذره قسقط حكمه
(فصل) إذا نذر المشي إلى البلد الحرام أو بقعة منه كالصفا والمروة وأبي قبيس أو موضع في
الحرم لزمه الحج أو عمرة نص عليه احمد وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزمه إلا أن ينذر المشي
إلى الكعبة أو إلى مكة. وقال أبو يوسف ومحمد إن نذر المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام كقولنا
وفي باقي الصور كقول أبي حنيفة
ولنا انه نذر المشي إلى موضع من الحرم أشبه النذر إلى مكة. فأما إن نذر المشي إلى غير الحرم كمعرفة
ومواقيت الاحرام وغير ذلك لم يلزمه ذلك ويكون كنذر المباح وكذلك أن نذر اتيان مسجد سوى
349

المساجد الثلاثة لم يلزمه اتيانه، وان نذر الصلاة فيه لزمه الصلاة دون المشي ففي اي موضع صلى
أجزأه لأن الصلاة لا تخص مكانا دون مكان فلزمته الصلاة دون الموضع ولا نعلم في هذا خلافا الا
عن الليث فإنه قال لو نذر صلاة أو صياما بموضع لزمه فعله في ذلك الموضع ومن نذر المشي إلى مسجد مشي إليه
قال الطحاوي ولم يوافقه على ذلك أحد من الفقهاء وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تشد الرحال
إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " متفق عليه، ولو لزمه
المشي إلى مسجد بعيد لشد الرحل إليه ولان العبادة لا تختص بمكان دون مكان فلا يكون فعلها فيما نذر
فعلها فيه قربة فلا تلزمه بنذره وفارق ما لو نذر العبادة في يوم بعينه لزمه فعلها فيه لأن الله تعالى عين
لعبادته زمنا ووقتا معينا ولم يعين لها مكانا وموضعا والنذور مردودة إلى أصولها في الشرع فتعينت
بالزمان دون المكان
(فصل) وإن نذر المشي إلى بيت الله تعالى ولم ينوبه شيئا ولم يعينه انصرف إلى بيت الله الحرام
لأنه المخصوص بالقصد دون غيره واطلاق بيت الله ينصرف إليه دون غيره في العرف فينصرف
إليه اطلاق النذر
(فصل) وإن نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لزمه ذلك وبهذا قال
مالك والأوزاعي وأبو عبيد وابن المنذر وهو أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر لا يبين لي وجوب
المشي إليهما لأن البر باتيان بيت الله فرض والبر باتيان هذين نفل
350

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا
والمسجد الأقصى " ولأنه أحد المساجد الثلاثة فيلزم المشي إليه بالنذر كالمسجد الحرام ولا يلزم ما ذكره
لأن كل قربة تجب بالنذر وإن لم يكن لها أصل في الوجوب كعيادة المريض وشهود الجنائز ويلزمه
بهذا النذر أن يصلي في الموضع الذي أتاه ركعتين لأن القصد بالنذر القربة والطاعة وإنما تحصيل ذلك
بالصلاة فتضمن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت الله الحرام أحد النسكين ونذر الصلاة في
أحد المسجدين كنذر المشي إليه كما أن نذر أحد النسكين في المسجد الحرم كنذر المشي إليه
وقال أبو حنيفة لا تتعين عليه الصلاة في موضع بالنذر سواء كان في المسجد الحرام أو غيره لأن
مالا أصل له في الشرع لا يجب بالنذر بدليل نذر الصلاة في سائر المساجد
ولنا ما روي أن عمر قال: يا رسول الله اني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " متفق عليه ولان الصلاة فيها أفضل من غيرها بدليل قول النبي
صلى الله عليه وسلم " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه الا المسجد الحرام " متفق عليه. وروي
عنه صلى الله عليه وسلم " صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة " وإذا كان فضيلة وقربة لزم بالنذر كما لو نذر
طول القراءة وما ذكروه يبطل بالعمرة فإنها تلزم بنذرها وهي غير واجبة عندهم
(فصل) وإذا نذر الصلاة في المسجد الحرام لم تجزئه الصلاة في غيره لأنه أفضل المساجد وخيرها
351

وأكثرها ثوابا للمصلي فيها، وإن نذر الصلاة في المسجد الأقصى أجزأته الصلاة في المسجد الحرام
لما روى جابر أن رجلا قام يوم الفتح فقال يا رسول الله اني نذرت إن فتح الله عليك أن أصلي في
بيت المقدس ركعتين قال " صل ههنا " ثم أعاد عليه فقال " صل ههنا " ثم أعاد عليه قال " صل ههنا "
ثم أعاد عليه فقال " شأنك " رواه أبو داود. ورواه الإمام أحمد ولفظه " والذي نفسي بيده لو صليت ههنا
لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس " وإن نذر اتيان المسجد الأقصى بالصلاة فيه أجزأته الصلاة فيه
وفي مسجد المدينة لأنه أفضل، وإن نذر ذلك في مسجد المدينة لم يجزئه فعله في المسجد الأقصى لأنه
مفضول وقد سبق هذا في باب الاعتكاف
(فصل) وإن أفسد الحج المنذور ماشيا وجب القضاء ماشيا لأن القضاء يكون على صفة الأداء
وكذلك إن فاته الحج لكن إن فاته الحج سقط توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة ومنى والرمي وتحلل
بعمرة ويمشي بالحج الفاسد ماشيا حتى يتحلل منه
(مسألة) قال (وإذا نذر عتق رقبة نهي التي تجزئ عن الواجب الا أن يكون نوى رقبة بعينها)
يعني لا تجزئه إلا رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل وهي التي تجزئ في الكفارة
352

لأن النذر المطلق على العهود في الشرع والواجب بأصل الشرع كذلك وهذا أحد الوجهين
لأصحاب الشافعي (والوجه الآخر) يجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة مسلمة أو كافرة لأن
الاسم يتناول جميع ذلك
ولنا أن المطلق يحمل على معهود الشرع وهو الواجب في الكفارة وما ذكروه يبطل بنذر
المشي إلى بيت الله الحرام فإنه لا يحمل على ما تناوله الاسم، فأما إن نوى رقبة بعينها أجزأه عتقها أي رقبة
كانت لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، وإن نوى ما يقع عليه اسم الرقبة أجزأه ما نواه لما ذكرناه ان المطلق
يتقيد بالنية كما يتقيد بالقرينة اللفظية. قال احمد فيمن نذر عتق عبد بعينه فمات قبل أن يعتقه:
تلزمه كفارة يمين ولا يلزمه عتق عبد لأن هذا شئ فاته على حديث عقبة بن عامر واليه أذهب في
الفائت وما عجز عنه
(فصل) وإذا نذر هديا مطلقا لم يجزئه إلا ما يجزئ في الأضحية وبه قال أبو حنيفة والشافعي
في أحد قوليه لأن المطلق يحمل على معهود الشرع، وإن عين الهدي بلفظه أو نيته أجزأه ما عينه
صغيرا كان أو كبيرا، جليلا كان أو حقيرا لأن ذلك يسمى هديا قال النبي صلى الله عليه وسلم " من راح في الساعة
الخامسة فكأنما أهدى بيضة " وإنما صرفنا المطلق إلى معهود الشرع لأنه غلب على الاسم كما لو نذر
أن يصلي لزمته صلاة شرعية دون اللغوية، وإن قال لله علي أن أهدي بدنة أو بقرة أو قال شاة لزمه
أقل ما يجزئ من ذلك الجنس الذي عينه فإن نذر بدنة أجزأه ثنية من الإبل أو ثني فإن لم يجد
353

من الإبل فبقرة فإن لم يجد فسبع من الغنم لأن النذر محمول على معهود الشرع وقد تقرر في الشرع
ان البقرة تقوم مقام البدنة، وكذلك سبع من الغنم، فإن أراد اخراج البقرة أو الغنم مع القدرة
على البدنة فقال القاضي لا يجزئه وهو المنصوص عن الشافعي والذي يقتضيه مذهب الخرقي
جواز ذلك لقوله ومن وجب عليه بدنة فذبح سبعا من الغنم أجزأه فإن نوى بنذره بدنة من الإبل
لم يجزئه غيرها مع وجودها وجها واحدا لأنها وجبت بايجابه بخلاف ما إذا اطلق فإنه انصرفت إلى
الإبل بمعهود الشرع، ومعهود الشرع فيها ان تقوم البقرة مقامها فأما ان نواها من الإبل أو غيره
فمقتضى المذهب أنه لا يقوم غيرها مقامها كسائر المنذورات، وكذلك أن صرح بها في نذره
مثل أن يقول لله علي ان أهدي ناقة ويحتمل أن تقوم البقر مقامها عند عدمها لأنها تعينت هديا
شرعيا والهدي الشرعي له بدل
(فصل) ومن نذر هديا لزمه ايصاله إلى مساكين الحرم لأن اطلاق الهدي يقتضي ذلك قال
الله تعالى (هديا بالغ الكعبة) فإن عين شيئا بنذره مثل ان يقول أهدي شاة أو ثوبا أو برا أو ذهبا
فكان مما ينقل حمل إلى الحرم ففرق في مساكينه، وإن كان مما لا ينقل نحو ان يقول لله علي ان
أهدي داري هذه أو أرضي أو شجرتي هذه بيعت وبعث بثمنها إلى الحرم لأنه لا يمكن اهداؤه بعينه
فانصرف بذلك إلى بدله، وقد روي عن ابن عمر ان رجلا سأله في امرأة نذرت ان تهدي دارا
354

فقال تبيعها وتتصدق بثمنها على مساكين الحرم وكذلك لو كان المنذور مما ينقل لكن يشق نقله
كخشبه ثقيلة فإنه يبعها لأنه أحظ للمساكين من نقلها وإن كان ما لا كلفة في نقله الا انه لا يمكن
تفريقه بنفسه ويحتاج إلى البيع نظر إلى الحظ للمساكين في بيعه في بلده أو نقله ليباع ثم، وان استوى
الأمران بيع في أي موضع شاء
(فصل) وان نذر ان يهدي إلى غير مكة كالمدينة أو الثغور أو يذبح بها لزمه الذبح وايصال
ما أهداه إلى ذلك المكان وتفرقة الهدي ولحم الذبيحة على أهله الا أن يكون بذلك المكان ما لا
يجوز النذر له ككنيسة أو صنم أو نحوه مما يعظمه الكفار أو غيرهم مما لا يجوز تعظيمه كشجرة
أو قبر أو حجر أو عين ماء ونحو ذلك لما روي أبو داود قال نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان ينحر إبلا ببوانة فاتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ -
قالوا لا قال - هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ - قالوا لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أوف بنذرك "
ولأنه ضمن نذره نفع فقراء ذلك البلد بايصال اللحم البهم وهذه قربة فتلزمه كما لو نذر التصدق عليهم
فإن كان بها شئ مما ذكرنا لم يجز النذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " هل كان بها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية؟ "
وهذا يدل على أنه لو كان بها ذلك لمنعه من الوفاء بنذره ولان في هذا تعظيما لغير ما عظم الله يشبه
تعظيم الكفار للأصنام فحرم كتعظيم الأصنام ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذات على القبور المساجد
355

والسرج وقال " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر مثلما صنعوا وعلى هذا نذر
الشمع والزيت وأشباهه للأماكن التي فيها القبور لا يصح
(فصل) وان نذر الذبح بمكة فهو كنذر الهدي إليها لأن مطلق النذر محمول على معهود الشرع
ومعهود الشرع في الذبح الواجب بها ان يفرق اللحم بها
(مسألة) قال (وإذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان فقدم أول يوم من شهر
رمضان أجزأه صيامه لرمضان ونذره)
ظاهر كلام الخرقي ان نذر هذا منعقد لكن صيامه يجزئ عن النذر ورمضان، وهو قول
أبي يوسف وهو قياس قول ابن عباس وعكرمة لأنه نذر صوما في وقت وقد صام فيه، وقال القاضي
ظاهر كلام الخرقي ان النذر غير منعقد لأن نذره وافق زمنا يستحق صومه فلم ينعقد نذره كنذر
صوم رمضان قال والصحيح عندي صحة النذر لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالبا فانعقد كما لو وافق
شعبان فعلى هذا يصوم رمضان ثم يقضي ويكفر وهذا اختيار أبي بكر ونقل جعفر بن محمد عن أحمد
ان عليه القضاء، وقول الخرقي أجزأه صيامه لرمضان ونذره دليل على أن نذره انعقد عند لولا ذلك
لما كان صومه عن نذره، وقد نقل أبو الخطاب عن أحمد فيمن نذر ان يحج وعليه حجة مفروضة
356

فاحرم عن النذر وقعت عن المفروض ولا يجب عليه شئ آخر وهذا مثل قول الخرقي، وروى عكرمة
عن ابن عباس في رجل نذر ان يحج ولم يكن حج الفريضة قال يجزئ لهما جميعا، وعن عكرمة أنه
سئل عن ذلك فقال عكرمة يقضي حجته عن نذره وعن حجة الاسلام أرأيتم لو أن رجلا نذر ان
يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر والنذر؟ قال فذكرت قولي لابن
عباس فقال أصبت وأحسنت، وقال ابن عمر وانس وعروة يبدأ بحجة الاسلام ثم يحج لنذره،
وفائدة انعقاد نذره لزوم الكفارة بتركه وانه لو لم ينوه لنذره لزمه قضاؤه وعلى هذا لو وافق نذره
بعض رمضان وبعض شهر آخر اما شعبان واما شوال لزمه صوم ما خرجه عن رمضان ويتمه من رمضان
ولو قال لله علي صوم رمضان فعلى قياس قول الخرقي يصح نذره ويجزئه صيامه عن الامرين وتلزمه
الكفارة ان أخل به، وعلى قول القاضي لا ينعقد نذره وهو مذهب الشافعي لأنه لا يصح صومه
عن النذر فأشبه الليل ولنا أن النذر يمين فينعقد في الواجب موجبا للكفارة كاليمين بالله تعالى
(فصل) ونقل عن أحمد فيمن نذر أن يحج العام وعليه حجة الاسلام روايتان (إحداهما) تجزئه
حجة الاسلام عنها وعن نذره نقلها أبو طالب (والثانية) ينعقد نذره موجبا لحجة غير حجة الاسلام
يبدأ بحجة الاسلام ثم يقضي نذره نقلها ابن منصور لأنهما عبادتان تجبان بسببين مختلفين فلم يسقط
357

إحداهما بالأخرى كما لو نذر حجتين، ووجه الأولى أنه نذر عبادة في وقت معين وقد أتي بها فيه فأشبه
ما لو قال لله علي أن أصوم رمضان
(فصل) فإن قال الله علي ان أصوم شهرا فنوى صيام شهر رمضان لنذر ورمضان لم يجزئه لأن شهر رمضان
واجب بفرض الله تعالى ونذره يقتضي ايجاب شهر فيجب شهران بسببين ولا يجزئ أحدهما عن
الاخر كما لو نذر صوم شهرين وكما لو نذر ان يصلي ركعتين لم تجزئه صلاة الفجر عن نذره وعن صلاة الفجر
(مسألة) قال (وإذا نذر ان يصوم يوم يقدم فلان فقدم يوم فطر أو أضحى لم
يصمه وصام يوما مكانه وكفر كفارة يمين)
وجملته ان من نذر ان يصوم يوم يقدم فلان فإن نذره صحيح وهو قول أبي حنيفة واحد قولي
الشافعي وقال في الاخر لا يصل نذره لأنه لا يمكن صومه بعد وجود شرطه فلم يصح كما لو قال لله علي
أن أصوم اليوم الذي قبل اليوم الذي يقدم فيه. ولنا أنه زمن صح فيه صوم التطوع فانعقد نذره
لصومه كما لو أصبح صائما تطوعا قال لله علي ان أصوم يومي وقولهم لا يمكن صومه لا يصح فإنه قد يعلم
اليوم الذي يقدم فيه قبل قدومه فينوي صومه من الليل لأنه قد يجب عليه مالا يمكنه كالصبي يبلغ
358

في أثناء يوم من رمضان أو الحائض تطهر فيه ولا نسلم ما قاسوا عليه إذا ثبتت صحته ولا يخلو من أقسام خمسة
(أحدها) ان يعلم قدومه من الليل فينوي صومه ويكون يوما يجوز فيه صوم النذر فيصح صومه
ويجزئه لأنه وفي بنذره (الثاني) ان يقدم يوم فطر أو أضحى فاختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة
فعنه لا يصومه ويقضي ويكفر نقله عن أحمد جماعة وهو قول أكثر أصحابنا ومذهب الحكم وحماد
(الرواية الثانية) يقضي ولا كفارة عليه وهو قول الحسن والأوزاعي وأبي عبيد وقتادة وأبى ثور واحد
مولي الشافعي فإنه فاته الصوم الواجب بالنذر فلزمه قضاؤه كما لو تركه نسيانا ولم تلزمه كفارة لأن الشرع
قنعه من صومه فهو كالمكره
وعن أحمد رواية ثالثة ان صامه صح صومه وهو مذهب أبي حنيفة لأنه وفى بما نذر فأشبه
ما لو نذر معصية ففعلها ويتخرج ان يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوما صومه حرام فكان موجبه
الكفارة كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها ويتخرج أن لا يلزمه شئ من كفارة ولا قضاء بناء على
من نذر المعصية، وهذا قول مالك والشافعي في أحد قوليه بناء على نذر المعصية.
ووجه قول الخرقي أن النذر ينعقد لأنه نذر نذرا يمكن الوفاء به غالبا فكان منعقدا لو وافق
غير يوم العيد ولا يجوز ان يصوم يوم العيد لأن الشرع حرم صومه فأشبه زمن الحيض ولزمه
القضاء لأنه نذر منعقد وقد فاته الصيام بالعذر ولزمته الكفارة لفواته كما لو فاته بمرض وان وافق يوم
359

حيض أو نفاس فهو كما لو وافق يوم فطر أو أضحى الا انه لا يصومه بغير خلاف في المذهب
ولا بين أهل العلم.
(الثالث) ان يقدم في يوم يصح صومه والناذر مفطر ففيه روايتان (أحدهما) يلزمه القضاء والكفارة
لأنه نذر صوما نذرا صحيحا ولم يف به فلزمه القضاء والكفارة كسائر المنذورات ويتخرج أن لا تلزمه
كفارة وهو مذهب الشافعي لأنه ترك المنذور لعذر
(والثانية) لا يلزمه شئ من قضاء ولا غيره وهو قول أبي يوسف وأصحاب الرأي وابن المنذر لأنه
قدم في زمن لا يصح صومه فيه فلم يلزمه شئ كما لو قدم ليلا
(الرابع) قدم والناذر صائم فلا يخلو من أن يكون تطوعا أو فرضا فإن كان تطوعا فقال القاضي
يصوم بقيته ويعقده عن نذره ويجزئه ولا قضاء ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة لأنه يمكن صوم يوم
بعضه تطوع وبعضه واجب كما لو نذر في أثناء التطوع إتمام صوم ذلك اليوم وإنما وجد سبب الوجوب
في بعضه وذكر القاضي احتمالا آخر أنه يلزمه القضاء والكفارة لأنه صوم واجب فلم يصح بنية من
النهار كقضاء رمضان وذكر أبو الخطاب هذين الاحتمالين روايتين وعند الشافعي عليه القضاء فقط
كما لو قدم وهو مضطر ويتخرج لنا مثله واما إن كان الصوم واجبا فحكمه حكم المسألة التي قبل هذه
وقد ذكرناه وان قدم وهو ممسك لم ينو الصيام ولم يفعل ما يفطره فحكمه حكم الصائم تطوعا
360

(الخامس) ان يقدم ليلا فلا شئ عليه في قولهم جميعا لأنه لم يقدم في اليوم ولا في وقت يصح فيه الصيام
[فصل] وان قال لله علي صوم يوم العيد فهذا نذر معصية على ناذره الكفارة لا غير نقلها حنبل
عن أحمد، وفيه رواية أخرى أن عليه القضاء مع الكفارة كالمسألة المذكورة والأولى هي الصحيحة
قاله القاضي لأن هذا نذر معصية فلم يوجب قضاء كسائر المعاصي وفارق المسألة التي قبلها لأنه لم يقصد
بنذره المعصية وإنما وقع اتفاقا وههنا تعمدها بالنذر فلم ينعقد نذره ويدخل في قوله عليه السلام " لا نذر
في معصية " ويتخرج الا يلزمه شئ بناء على نذر المعصية فيما تقدم، وان نذرت المرأة صوم يوم حيضها
ونفاسها فعليه الكفارة لا غير ولم أعلم عن أصحابنا في هذا خلافا.
(مسألة) قال (وان وافق قدومه يوما من أيام التشريق صامه في أحدي الروايتين
عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى لا يصومه ويصوم يوما مكانه ويكفر كفارة يمين
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في صيام أيام التشريق عن الفرض وقد ذكرنا ذلك في
الصيام فإن قلنا يصومها عن الفرض صامها ههنا وأجزأته، وان قلنا لا يصومها فحكمه حكم من وافق
يوم العيد وقد مضي.
(فصل) وان قال لله علي صوم يوم يقدم فلان ابدا أو قال لله على صوم يوم كل خميس أبدا
361

لزمه ذلك في المستقبل فأما اليوم الذي يقدم فيه فقد مضى بيان حكمه ولا يدخل في نذره ذلك اليوم
من شهر رمضان لأن رمضان لا يتصور انفكاكه عن دخول ذلك اليوم فيه ولا يمكنه صومه عن غير
رمضان لأنه لا يقبل ذلك ويجئ على قول الخرقي ان يدخل في نذره ويجزئه صومه لرمضان ونذره
وان وافق يوم عيد أو يوما من أيام التشريق أو يوم حيض ففيه من الاختلاف ما قد مضى وان وجب
عليه صوم شهرين عن كفارة الظهار أو نحوه صامهما عن الكفارة دون النذر لأنه متى نوى النذر في ابتدائهما
انقطع التتابع فلا يقدر على التكفير فحينئذ يقضي نذره ويكفر لأنه ترك صوم النذر مع امكانه لعذر
ويفارق الأيام التي دخلت في رمضان فإنها لم تدخل في نذره لعدم انفكاكه عنها وههنا تنفك الأيام
عن دخول الكفارة فيها ولا فرق بين كون نذره قبل وجوب الكفارة أو بعدها لأن الأيام التي
في رمضان لا يصح صومها عن نذره، وأيام الكفارة يصح صومها عن نذره وإذا نواها عن نذره انقطع
التتابع وأجزأت عن المنذور وان فاتته أيام كثيرة لزمته كفارة واحدة عن الجميع فإذا كفر ثم فاته شئ
بعد ذلك لزمته كفارة ثانية نص عليه أحمد فإنه قال فيمن نذر صيام أيام فمرض فإن كان قد كفر
عن الأول ثم أفطر بعد ذلك كفر كفارة أخرى وان لم يكن كفر عن الأول فكفارة واحدة ولا يكون
مثل اليمين إذا حنث وكفر سقطت عنه ويتخرج أنه متى كفر مرة لم تلزمه كفارة أخرى لأن النذر
كاليمين ويشبه اليمين وايجاب الكفارة فيه لذلك واليمين لا يوجب أكثر من كفارة فمتى كفرها
362

لم يجب بها أخرى كذلك النذر فعلى هذا متى فإنه شئ فكفر عنه ثم فإنه شئ آخر قضاه من غير كفارة
لأن وجوب الكفارة الثانية لا نص فيه ولا إجماع ولا قياس ولا يمكن إيجابها بغير دليل
(فصل) إذا نذر صوم سنة بعينها لم يدخل في نذره رمضان لأنه لا يقبل غير صوم رمضان فأشبه
الليل ولا يوما العيدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيامهما ولا يصح صومهما عن النذر فأشبها رمضان
وعن أحمد فيمن نذر صوم شوال يقضي يوم الفطر ويكفر فعلى هذه الرواية يدخل في نذره العيدان
وأيام التشريق لأنها أيام من جملة السنة والأول أصح وفي أيام التشريق روايتان وان نذر صوم سنة
مطلقة فهل يلزمه صوم سنة متتابعة أولا؟ فيه روايتان:
(إحداهما) يلزمه لأن السنة المطلقة تنصرف إلى المتتابعة فعلى هذه الرواية حكمها المعينة في
أنه لا يدخل فيها العيدان ولا رمضان وفي أيام التشريق روايتان فإن ابتدأها من أول شهر أتم أحد
عشر شهرا بالهلال الا شهر شوال فإنه يتمه بالعدد لأنه لم يصم من أوله وان ابتدأها من اثنا شهر أتم
ذلك الشهر بالعدد والباقي بالهلال على ما ذكرنا
(والرواية الثانية) لا تلزمه متابع وهو مذهب الشافعي لأن المتفرقة تسمى سنة فيتناولها نذره
فيلزمه اثنا عشر شهرا بالأهلة ان شاء وان شاء صابها بالعدد وان ابتدأ الشهر من أثنائه أتمه ثلاثين
363

يوما وإنما لزمه ههنا اثنا عشر شهرا لأنه يمكن حمل النذر على سنة ليس فيها رمضان ولا الأيام التي
لا يجوز صيامها فحمل نذره على ما ينعقد فيه النذر بخلاف ما إذا عين السنة وهذا كمن عين سلعة بالعقد
فوجد بها عيبا لم يكن له إبدالها ولو وصفها ثم وجدها معيبة ملك إبدالها ويتم شوال بالعدد لأنه لم
يبدأه من أوله، وان صام ذي الحجة من أوله قضى أربعة أيام تاما كان أو ناقصا لأنه بدأه من أوله
وقيل إن كان ناقصا قضى خمسة ليكمله ثلاثين لأنه لم يصم الشهر كله فأشبه شوال وان شرط التتابع
صار حكمها حكم المعينة.
(مسألة) قال (ومن نذر ان يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه فإذا عوفي
بنا وكفر كفارة يمين وان أحب أتى بشهر متتابع ولا كفارة عليه وكذلك المرأة إذا نذرت
صيام شهر متتابع وحاضت فيه)
وجملته ان من نذر صياما متتابعا غير معين ثم أفطر فيه لم يخل من حالين: (أحدهما) أن
يفطر لعذر من حيض أو مرض ونحوهما فهذا مخير بين أن يبتدئ الصوم ولا شئ
عليه لأنه أتى بالمنذور على وجهه وبين ان يبني على صيامه ويكفر لأن الكفارة تلزم لتركه المنذور
وإن كان عاجزا بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أخت عقبة بن عامر بالكفارة لعجزها عن المشي، ولان
364

النذر كاليمين، ولو حلف ليصومن متتابعا ثم لم يأت به متتابعا لزمته الكفارة وإنما جوز له البناء ههنا
لأن الفطر لعذر لا يقطع التتابع حكما بدليل انه لو أفطر في صيام الشهرين المتتابعين من عذر كان له
البناء فإن كان العذر يبيح الفطر كالسفر فهل يقطع التتابع؟ فيه وجهان
(أحدهما) يقطعه لأنه يفطر باختياره (والثاني) لا يقطعه لأنه عذر في فطر رمضان فأشبه المرض
(الثاني) أن يفطر لغير عذر فهذا يلزمه استئناف الصيام ولا كفارة عليه لأنه ترك التتابع
المنذور لغير عذر مع امكان الاتيان به فلزمه فعله كما لو نذر صوما معينا فصام قبله وهذا الفصل قال
الشافعي إلا في الكفارة فإنه لا يوجبها في النذور وقد ذكرنا دليل وجوبها
(فصل) إذا صام شهرا من أول الهلال أجزأه ناقصا كان أو تاما لأن ما بين الهلالين شهر
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الشهر تسع وعشرون " وإن بدأ من أثناء شهر لزمه شهر بالعدد ثلاثون
يوما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين " فإن صام
شوال لزمه اكماله ثلاثين لأنه بدأ من أثنائه، وإن كان ناقصا قضى يومين وإن كان تاما أتم يوما واحدا
وإن صام ذا الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ولم ينقطع تتابعه كما لو أفطر المرأة بحيض
وعليه كفارة ويقضي أربعة أيام إن كان تاما وخمسة وإن كان ناقصا ويحتمل أن لا يلزمه الا الأربعة
وإن كان ناقصا لأنه بدأه من أوله فيقضي المتروك منه لا غير، ولو صام شهرا من أول الهلال فمرض
365

فيه أياما معلومة أو حاضت المرأة فيه ثم طهرت قبل خروجه قضي ما أفطر منه بعدته إن كان
الشهر تاما وإن كان ناقصا فهل يلزمه الاتيان بيوم آخر؟ على وجهين بناء على ما ذكرنا في فطر
العيد وأيام التشريق
(فصل) ومن نذر صيام شهر فهو مخير بين ان يصوم شهرا بالهلال وهو ان يبتدئه من أوله
فيجزئه وبين أن يصومه بالعدد ثلاثين يوما وهل يلزمه التتابع؟ فيه وجهان
(أحدهما) يلزمه وهو قول أبي ثور لأن اطلاق الشهر يقتضى التتابع
(والثاني) لا يلزمه التتابع وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى
ثلاثين يوما ولا خلاف انه يجزئه ثلاثون يوما فلم يلزمه التتابع كما لو نذر ثلاثين يوما فاما إن نذر صيام
ثلاثين يوما لم يلزمه التتابع فيها نص عليه احمد
وقد روي عن أحمد فيمن قال لله علي صيام عشرة أيام يصومها متتابعة وهذا يدل على وجوب
التتابع في الأيام المنذورة وحمل بعض أصحابنا كلام احمد على من شرط التتابع أو نواه لأن لفظ العشرة
لا يقتضي تتابعا والنذر لا يقتضيه ما لم يكن في لفظه أو نيته
وقال بعضهم كلام احمد على ظاهره ويلزمه التتابع في نذر العشرة دون الثلاثين شهر
فلو أراد التتابع؟؟؟ شهرا فعدوله إلى العدد دليل على إرادة التفريق بخلاف العشرة والصحيح انه
366

يلزمه التتابع فإن عدم ما يدل على التفريق ليس بدليل على إرادة التتابع فإن الله تعالى قال في قضاء
رمضان (فعدة من أيام أخر) ولم يذكر تفريقها ولا تتابعها ولم يجب التتابع فيها بالاتفاق
وقال بعض أصحابنا إن نذر اعتكاف أيام لزمه التتابع ولا يلزمه مثل ذلك في الصيام لأن الاعتكاف
يتصل بعضه ببعض من غير فضل والصوم يتخلله الليل فيفصل بعضه من بعض ولذلك لو نذر اعتكاف
يومين متتابعين لدخل فيه الليل والصحيح التسوية لأن الواجب ما اقتضاه لفظه ولفظه لا يقتضي التتابع
بدليل نذر الصوم ما ذكروه من العرف لا أثر له، ومن قال يلزمه التتابع لزمته الليالي التي بين أيام
الاعتكاف كما لو قال متتابعة
(فصل) إذا نذر صيام أشهر متتابعة فابتدأها من أول شهر أجزأه صومها بالأهلة بلا خلاف
وإن ابتدأها من أثناء شهر كمله بالعدد وباقي الأشهر بالأهلة وهذا قول مالك والشافعي وأحد الروايتين
عن أبي حنيفة والرواية الأخرى يكمل الجميع بالعدد وروي ذلك عن أحمد وقد تقدم توجيه الروايتين
(مسألة) قال (ومن نذر أن يصوم شهرا بينه فأفطر يوما بغير عذر ابتدأ شهرا
وكفر كفارة يمين)
وجملته انه إذا نذر صوم شهر معين فأفطر في أثنائه لم يخل من حالين (أحدهما) أفطر لغير
عذر ففيه روايتان
367

(أحدهما) يقطع صومه ويلزمه استئنافه لأنه صوم يجب متتابعا بالنذر فأبطله الفطر لغير عذر
كما لو شرط التتابع وفارق رمضان فإن تتابعه بالشرع لا بالنذر أوجبه على نفسه على صفة ثم فوتها
فأشبه ما لو شرطه متتابعا
(الثانية) لا يلزمه الاستئناف إلا أن يكون قد شرط التتابع وهذا قول الشافعي لأن وجوب
التتابع ضرورة التعيين لا بالشرط فلم يبطله الفطر في أثنائه كشهر رمضان ولان الاستئناف يجعل
الصوم في الوقت الذي لم يعينه والوفاء بنذره في غير وقته وتفويت يوم واحد لا يوجب تفويت
غيره من الأيام فعلى هذا يكفر عن فطره ويقضي يوما مكانه بعد اتمام صومه وهذا أقيس إن شاء
الله تعالى وعلى الرواية الأولى يلزمه الاستئناف عقيب اليوم الذي أفطر فيه ولا يجوز تأخيره لأن باقي
الشهر منذور ولا يجوز ترك الصوم فيه وتلزمه كفارة أيضا لا حلاله بصوم هذا اليوم الذي أفطره
(الحال الثاني) أفطر لعذر فإنه يبني على ما مضى من صيامه ويقضي ويكفر هذا قياس المذهب
وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى انه لا كفارة عليه وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي عبيد لأن
المنذور محمول على المشروع ولو أفطر رمضان لعذر لم يلزمه شئ
ولنا انه فات ما نذره فلزمته كفارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة بن عامر " ولتكفر يمينها "
وفارق رمضان فإنه لو أفطر لغير عذر لم تجب عليه كفارة إلا في الجماع
(فصل) فإن جن جميع الشهر المعين لم يلزمه قضاء ولا كفارة، وقال أبو ثور يلزمه القضاء لأنه
من أهل التكليف حالة نذره وقضائه فلزمه القضاء كالمغمى عليه
ولنا أنه ليس من أهل التكليف في وقت الوجوب فلم يلزمه القضاء كما لو كان في شهر رمضان
وإن حاضت المرأة جميع الزمن المعين فعليها القضاء وفي الكفارة وجهان، وقال الشافعي لا كفارة
368

عليها وفي القضاء وجهان (أحدهما) لا يلزمها النذر لأن زمن الحيض لا يمكن الصوم فيه ولا يدخل
في النذر كزمن رمضان
ولنا ان المنذور يحمل على المشروع ابتداء ولو حاضت في شهر رمضان لزمها القضاء وكذلك المنذور
(فصل) ولو قال لله علي الحج في عامي هذا فلم يحج لعذر أو غيره فعليه القضاء والكفارة
ويحتمل ألا كفارة عليه إذا كان معذورا، وقال الشافعي ان تعذر عليه الحج لعدم أحد
الشرائط السبعة أو منعه منه سلطان أو عدو فلا قضاء عليه، وإن حدث به مرض أو أخطأ عددا
أو نسي أو توانى قضاه
ولنا أنه فاته الحج المنذور فلزمه قضاؤه كما لو مرض ولان المنذور محمول على المشروع ابتداء
ولو فاته المشروع لزمه قضاؤه كذلك المنذور
(فصل) ولو نذر صوم شهر بعينه أو الحج في عام بعينه وفعل ذلك قبله لم يجزئه، وقال
أبو يوسف: يجزئه كما لو حلف ليقضينه حقه في وقت فقضاه قبله
ولنا ان المنذور محمول على المشروع، ولو صام قبل رمضان لم يجزئه فكذلك إذا صام المنذور قبله
ولأنه لم يأت بالمنذور في وقته فلم يجزئه كما لو لم يفعله أصلا
(مسألة) قال (ومن نذر ان يصوم فمات قبل ان يأتي به صام عنه ورثته من أقاربه
وكذلك لك ما كان من نذر طاعة)
يعني من نذر حجا أو صياما أو صدقة أو عتقا أو اعتكافا أو صلاة أو غير من الطاعات ومات
قبل فعله فعله الولي عنه، وعن أحمد في الصلاة لا يصلي عن الميت لأنها لا بدل لها بحال، وأما
سائر الأعمال فيجوز ان ينوب الولي عنه فيها وليس بواجب عليه ولكن يستحب له ذلك على سبيل
الصلة له والمعروف وافتي بذلك ابن عباس في امرأة نذرت ان تمشي إلى قباء فماتت ولم تقضه ان
369

تمشي ابنتها عنها، وروى سعيد عن سفيان عن عبد الكريم بن أبي أمية أنه سأل ابن عباس عن نذر
كان على أمه من اعتكاف قال صم عنها واعتكف عنها، وقال حدثنا أبو الأحوص عن إبراهيم بن
مهاجر عن عامر بن شعيب ان عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات، وقال مالك:
لا يمشي أحد عن أحد ولا يصلي ولا يصوم عنه وكذلك سائر أعمال البدن قياسا على الصلاة، وقال
الشافعي: يقضي عنه الحج ولا يقضي الصلاة قولا واحدا ولا يقضي الصوم في أحد القولين ويطعم
عنه لكل يوم مسكين لأن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات وعليه صيام شهر فليطعم
عنه مكان كل يوم مسكين " أخرجه ابن ماجة وقال أهل الظاهر يجب القضاء على وليه بظاهر الأخبار الواردة
فيه وجمهور أهل العلم على أن ذلك ليس بواجب على الولي الا أن يكون حقا في المال ويكون
للميت تركة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا محمول على الندب والاستحباب بدليل قرائن في الخبر منها
ان النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقضاء الدين على الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف تركه يقضى بها
ومنها ان السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يفعل ذلك أم لا؟ وجوابه يختلف باختلاف مقتضى سؤاله فإن
فإن كان مقتضاه السؤال عن الإباحة فالامر في جوابه يقتضي الإباحة وإن كان السؤال عن الاجزاء
فأمره يقتضي الاجزاء كقولهم أنصلي في مرابض الغنم؟ قال " صلوا في مرابض الغنم " وإن كان سؤالهم
عن الوجوب فأمره يقتضي الوجوب كقولهم أيتوضأ من لحوم الإبل؟ قال " توضئوا من لحوم الإبل "
وسؤال السائل في مسئلتنا كان عن الاجزاء فامر النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل يقتضيه لا غير
ولنا على جواز الصيام عن الميت ما روت عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من مات وعليه
صيام صام عنه وليه " وعن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان أمي ماتت
وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال " أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه؟ - قال نعم قال -
فدين الله أحق ان يقضى " وفي رواية قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان أمي ماتت
وعليها صوم أفأصوم عنها؟ قال " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ "
370

قالت نعم قال " فصومي عن أمك " متفق عليهن، وعن ابن عباس ان سعد بن عبادة الأنصاري
استفتي النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل ان تقضيه فأفتاه ان يقضيه فكانت سنة بعد
وعنه ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أختي نذرت ان تحج وانها ماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو كان
عليها دين أكنت قاضيه؟ - قال نعم قال - فاقض الله فهو أحق بالقضاء " رواهما البخاري وهذا صريح
في الصوم والحج ومطلق في النذر وما عدا المذكور في الحديث يقاس عليه وحديث ابن عمر في
الصوم الواجب بأصل الشرع ويتعين حمله عليه جمعا بين الحديثين ولو قدر التعارض لكانت أحاديثنا
أصح وأكثر وأولى بالتقديم. إذا ثبت هذا فإن الأولى أن يقتضي النذر عنه وارثه فإن قضاه غيره
أجزأه عنه كما لو قضى عنه دينه فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقاسه عليه ولان ما يقضيه الوارث إنما
هو تبرع منه وغيره مثله في التبرع وإن كان النذر في مال تعلق بتركته
(فصل) ومن نذر ان يطوف على أربع فعليه طوافان قال ذلك ابن عباس لما روى معاوية بن
خديج الكندي انه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أمه كبشة بنت معدي كرب عمة الأشعث بن
قيس فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اني آليت أن أطوف بالبيت حبوا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم
" طوفي على رجليك سبعين سبعا عن يديك وسبعا عن رجليك " أخرجه الدارقطني باسناده
وقال ابن عباس في امرأة نذرت أن تطوف بالبيت على أربع قال تطوف عن يديها سبعا وعن
رجليها سبعا. رواه سعيد، والقياس أن يلزمه طواف واحد على رجليه ولا يلزمه ذلك على يديه لأنه
غير مشروع فيسقط كما أن أخت عقبة نذرت أن تحج غير مختمرة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحج وتختمر
وروى عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فحانت منه نظرة فإذا امرأة ناشرة شعرها فقال
" مروها فتختمر " ومر برجلين مقترنين فقال " أطلقا قرانكما " وقد ذكرنا حديث أبي إسرائيل
الذي نذر أن يصوم ويفعل أشياء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم وحده ونهاه عن سائر نذوره. وهل
تلزمه كفارة؟ يخرج فيه وجهان بناء على ما تقدم. وقياس المذهب لزوم الكفارة لا خلاله بصفة نذره
وإن كان غير مشروع كما لو كان أصل النذر غير مشروع
وأما وجه الأول فلان من نذر الطواف على أربع فقد نذر الطواف على يديه ورجليه فأقيم
الطواف الثاني مقام طوافه على يديه
371

(فصل) فإن نذر صوم الدهر لزمه ولم يدخل في نذره رمضان ولا أيام العيد والتشريق، فإن
أفطر لعذر أو غيره لم يقضه لأن الزمن مستغرق بالصوم المنذور ولكن تلزمه كفارة لتركه. وان
لزمه قضاء من رمضان أو كفارة قدمه على النذر لأنه واجب بأصل الشرع فقدم على ما أوجبه على
نفسه كتقديم حجة الاسلام على المنذورة، فإذا لزمته كفارة لتركه صوم يوم أو أكثر وكانت كفارته
الصيام احتمل أن لا يجب لأنه لا يمكن التكفير إلا بترك الصوم المنذور وتركه يوجب كفارة فيفضي
ذلك إلى التسلسل وترك المنذور بالكلية ويحتمل ان تجب الكفارة ولا تجب بفعلها كفارة لأن ترك
النذر لعذر لا يوجب كفارة فلا يفضي إلى التسلسل
(فصل) وصيغة النذر أن يقول لله علي أن افعل كذا. وان قال علي نذر كذا لزمه أيضا لأنه
صرح بلفظ النذر. وان قال إن شفاني الله فعلي صوم شهر كان نذرا، وان قال لله علي المشي إلى بيت
الله قال ابن عمر في الرجل يقول علي المشي إلى الكعبة لله قال هذا نذر فليمش ونحوه عن القاسم
ابن محمد ويزيد بن إبراهيم التيمي ومالك وجماعة من العلماء. واختلف فيه عن سعيد بن المسيب والقاسم
ابن محمد فروي عنهما مثل قولهم وروي عنهما فيمن قال علي المشي إلى بيت الله فليس بشئ إلا أن
يقول علي نذر مشي إلى بيت الله. ولنا ان لفظة علي للايجاب على نفسه فإذا قال علي المشي إلى بيت الله
فقد أوجبه على نفسه فلزمه كما لو قال هو علي نذر والله أعلم
372

كتاب القضاء
الأصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقول الله تعالى (يا داود
إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) وقول
الله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) وقوله (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) وقوله
تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت
ويسلموا تسليما) وأما السنة فما روى عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا اجتهد الحاكم
فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله اجر " متفق عليه في آي وأخبار سوى ذلك كثيرة، وأجمع
المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس
(فصل) والقضاء من فروض الكفايات لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجبا عليهم
كالجهاد والإمامة. قال أحمد لابد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟ وفيه فضل عظيم لمن قوي
على القيام به وأداء الحق فيه ولذلك جعل الله فيه اجرا مع الخطأ وأسقط عنه حكم الخطأ ولان فيه
أمرا بالمعروف ونصرة المظلوم وأداء الحق إلى مستحقه وردا للظالم عن ظلمه وإصلاحا بين الناس
373

وتخليصا لبعضهم من بعض وذلك من أبواب القرب ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله فكانوا
يحكمون لأممهم، وبعث عليا إلى اليمن قاضيا وبعث أيضا معاذا قاضيا
وقد روي عن ابن مسعود أنه قال لأن أجلس قاضيا بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة
وعن عقبة بن عامر قال جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " اقض بينهما " قلت أنت
أولى بذلك قال " وإن كان " قلت علام أقضي؟ قال " اقض فإن أصبت فلك عشرة أجور وإن
أخطأت فلك أجر واحد " رواه سعيد في سننه
(فصل) وفيه خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه ولذلك كان السلف رحمة الله عليهم
يمتنعون منه أشد الامتناع ويخشون على أنفسهم خطره
قال خاقان بن عبد الله أريد أبو قلابة على قضاء البصرة فهرب إلى اليمامة فأريد على قضائها فهرب
إلى الشام فأريد على قضائها وقيل ليس ههنا غيرك قال فأنزلوا الامر على ما قلتم فإنما مثلي مثل سابح
وقع في البحر فسبح يومه فانطلق ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضا فلما كان اليوم الثالث فترت يداه
وكان يقال أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة. ولعظم خطره قال النبي صلى الله عليه وسلم " من جعل قاضيا فقد
ذبح بغير سكين " قال الترمذي هذا حديث حسن. وقيل في هذا الحديث انه لم يخرج مخرج الذم للقضاء
وإنما وصفه بالمشقة فكأن من وليه قد حمل على مشقة كمشقة الذبح
374

(فصل) والناس في القضاء على ثلاثة أضرب (منهم) من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه
ولم تجتمع فيه شروطه فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " القضاة ثلاثة " ذكر منهم رجلا قضى بين
الناس بجهل فهو في النار ولان من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من مستحقه فيدفعه
إلى غيره (ومنهم) من يجوز له ولا يجب عليه وهو من كان أهل العدالة والاجتهاد ويوجد غيره
مثله فله ان يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته ولا يجب عليه لأنه لم يتعين له، وظاهر كلام أحمد انه
لا يستحب له الدخول فيه لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد
والذم (1) ولان طريقة السلف الامتناع منه والتوقي وقد أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء
فأباه وقال أبو عبد الله بن حامد إن كان رجلا خاملا لا يرجع إليه في الأحكام ولا يعرف فالأولى له
توليه ليرجع إليه في الأحكام ويقوم به الحق وينتفع به المسلمون، وإن كان مشهورا في الناس بالعلم
يرجع إليه في تعليم العلم والفتوى فالأولى الاشتغال بذلك لما فيه من النفع مع الامن من الغرر ونحو
هذا قال أصحاب الشافعي، وقالوا أيضا إذا كان ذا حاجة وله في القضاء رزق فالأولى له الاشتغال
به فيكون أولى من سائر المكاسب لأنه قربة وطاعة، وعلى كل حال فإنه يكره للانسان طلبه والسعي
في تحصيله لأن أنسا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ابتغى القضاء سأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه

(1) في رواية ذكرها رزين عن نافع أن ابن عمر قال لعثمان لا
أقضي من رجلين قال فإن أباك كان يقضي فقال إن أبي لو أشكل عليه شئ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولو أشكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام وأنى لا أجد من
أسأله وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من عاذ بالله فقد عاذ بعظيم " وسمعته يقول " من عاذ بالله
فأعيذوه " وإني أعوذ بالله أن تجعلني قاضيا فأعطاه وقال لا نجبر أحدا ذكره في جامع الأصول
375

ومن أكره عليه انزل الله عليه ملكا يسدده " قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة " يا عبد الرحمن لا تسال الامارة فإنك ان أعطيتها عن مسألة وكلت إليها
وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها " متفق عليه
(الثالث) من يجب عليه وهو من يصلح للقضاء ولا يوجد سواه فهذا يتعين عليه لأنه فرض
كفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه
وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين عليه فإنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قال
لا يأثم فهذا يحتمل انه يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه من الخطر بنفسه فلا يلزمه الاضرار
بنفسه لنفع غيره ولذلك امتنع أبو قلابة منه وقد قيل له ليس غيرك. ويحتمل أن يحمل على من لم
يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فإن احمد قال لابد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟
(فصل) ويجوز للقاضي أخذ الرزق ورخص فيه شريح وابن سيرين والشافعي وأكثر أهل العلم وروي عن عمر
رضي الله عنه انه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا ورزق شريحا في كل شهر مائة درهم وبعث إلى
الكوفة عمارا وعثمان بن حنيف وابن مسعود ورزقها كل يوم شاة نصفها لعمار ونصفها لابن مسعود وعثمان وكان
376

ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم، وكتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام أن انظرا رجالا
من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله
وقال أبو الخطاب يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة فأما مع عدمها فعلى وجهين وقال أحمد ما يعجبني
ان يأخذ على القضاء أجرا وإن كان فبقدر شغله مثل والى اليتيم وكان ابن مسعود والحسن يكرهان
الاجر على القضاء وكان مسروق وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه اجرا وقالا
لا نأخذ أجرا على أن نعدل بين اثنين، وقال أصحاب الشافعي ان لم يكن متعينا جاز له أخذ الرزق
عليه وإن تعين لم يجز الا مع الحاجة، والصحيح جواز أخذ الرزق عليه بكل حال لأن أبا بكر رضي
الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له الرزق كل يوم درهمين ولما ذكرناه من أن عمر رزق زيدا وشريحا
وابن مسعود وأمر بفرض الرزق لمن تولى من القضاة ولان بالناس حاجة إليه ولو لم يجز فرض الرزق
لتعطل وضاعت الحقوق فاما الاستئجار عليه فلا يجوز قال عمر رضي الله عنه لا ينبغي لقاضي المسلمين
ان يأخذ على القضاء أجرا وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأنه قربة يختص فاعله أن يكون
في أهل القربة فأشبه الصلاة ولأنه لا يعمله الانسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة
377

ولأنه عمل غير معلوم فإن لم يكن للقاضي رزق فقال للخصمين لا اقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا
عليه جاز ويحتمل ان لا يجوز
(فصل) وإذا كان الإمام في بلد فعليه ان يبعث القضاة إلى الأمصار غير بلده فإن النبي صلى الله عليه وسلم
بعث عليا قاضيا إلى اليمن وبعث معاذ بن جبل إلى اليمين أيضا وقال له " بم تحكم؟ - قال بكتاب الله
تعالى قال - فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فإن لم تجد - قال اجتهد رأيي - قال
الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " وبعث عمر شريحا على
قضاء الكوفة وكعب بن سوار على قضاء البصرة وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء في
الشام لأن أهل كل بلد يحتاجون إلى القاضي ولا يمكنهم المصير إلى بلد الإمام ومن أمكنه ذلك شق
عليه فوجب اغناؤهم عنه
(فصل) وإذ أراد الإمام تولية قاض فإن كان له خبرة بالناس ويعرف من يصلح للقضاء ولاه
وان لم يعرف ذلك سال أهل المعرفة بالناس واسترشدهم على من يصلح وان ذكر له رجل لا يعرفه
احضره وسأله وان عرف عدالته والا بحث عن عدالته فإذا عرفها ولاه ويكتب له عهدا يأمره فيه بتقوى
الله والتثبت في القضاء ومشاورة أهل العلم وتصفح أحوال الشهود وتأمل الشهادات وتعاهد اليتامى
378

وحفظ أموالهم وأموال الوقوف وغير ذلك مما يحتاج إلى مراعاته ثم إن كان البلد الذي ولاه قضاءه
بعيدا لا يستفيض إليه الخبر بما يكون في بلد الإمام أحضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما العهد أو أقرأه
غيره بحضرته وأشهدهما على توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته فيقيما له الشهادة ويقول لهما اشهدا على أني
قد وليته قضاء البلد الفلاني وتقدمت إليه بما اشتمل هذا العهد عليه، وإن كان البلد قريبا من بلد
الإمام يستفيض إليه ما يجري في بلد الإمام مثل أن يكون بينهما خمسة أيام أو ما دونها جاز ان يكتفى
بالاستفاضة دون الشهادة لأن الولاية تثبت بالاستفاضة وبهذا قال الشافعي الا ان عنده في ثبوت
الولاية بالاستفاضة في البلد القريب وجهين، وقال أصحاب أبي حنيفة تثبت بالاستفاضة ولم يفصلوا
بين القريب والبعيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى عليا ومعاذا قضاء اليمن وهو بعيد من غير شهادة وولى
الولاة في البلدان البعيدة وفوض إليهم الولاية والقضاء ولم يشهد وكذلك خلفاؤه ولم ينقل منهم
الاشهاد على تولية القضاء مع بعد بلدانهم
ولنا ان القضاء لا يثبت الا بأحد الامرين وقد تعذرت الاستفاضة في البلد البعيد لعدم وصولها
إليه فتعين الاشهاد ولا نسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد على توليته فإن الظاهر أنه لم يبعث واليا الا ومعه
جماعة فالظاهر أنه اشهدهم وعدم نقله لا يلزمه منه عدم فعله وقد قام دليله فتعين وجوده
379

(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله تعالى (ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا مسلما
حرا عدلا عالما فقيها ورعا)
وجملته انه يشترط في القاضي ثلاثة شروط (أحدها) الكمال وهو نوعان كمال الأحكام وكمال الخلقة أما
كمال الأحكام فيعتبر في أربعة أشياء أن يكون بالغا عاقلا حرا ذاكرا، وحكي عن ابن جرير انه لا
تشترط الذكورية لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية، وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون
قاضية في غير الحدود لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أفلح قوم ولو أمرهم امرأة " ولان القاضي يحضره محافل الخصوم
الرجال ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ليست اهلا
للحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها وكان معها الف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل
وقد نبه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى (ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)
ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم
امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا، وأما كمال الخلقة فإن
380

يكون متكلما سميعا بصيرا لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ولا يفهم جميع الناس إشارته والأصم
لا يسمع قول الخصمين والأعمى لا يعرف المدعى من المدعى عليه والمقر من المقر له والشاهد من
المشهود له، وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز أن يكون أعمى لأن شعيبا كان أعمى ولهم في
الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان
ولنا ان هذه الحواس تؤثر في الشهادة فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع وهذا لأن منصب
الشهادة دون منصب القضاء والشاهد يشهد في أشياء يسيرة يحتاج إليه فيها وربما أحاط
بحقيقة علمها والقاضي ولايته عامة ويحكم في قضايا الناس عامة فإذا لم يقبل منه الشهادة فالقضاء أولى
وما ذكروه عن شعيب فلا نسلم فيه فإنه لم يثبت انه كان أعمى ولو ثبت فيه ذلك فلا يلزم ههنا فإن
شعيبا عليه السلام كان من آمن معه من الناس قليلا وربما لا يحتاجون إلى الحكم بينهم لقلتهم وتناصفهم
فلا يكون حجة في مسئلتنا.
(الشرط الثاني) العدالة فلا يجوز تولية فاسق ولا من فيه نقص يمنع الشهادة وسنذكر ذلك في
الشهادة إن شاء الله تعالى، وحكي عن الأصم أنه قال يجوز أن يكون القاضي فاسقا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " سيكون بعدي امراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها فصلوها لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة "
381

ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) فأمر بالتبين عند قول الفاسق
ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله ويجب التبين عند حكمه ولان الفاسق لا يجوز أن يكون
شاهدا فلألا يكون قاضيا أولى فأما الخبر فأخبر بوقوع كونهم أمراء لا بمشروعيته والنزاع في
صحة توليته لا في وجودها
[الشرط الثالث] أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية وقال
بعضهم يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد لأن الغرض منه فصل الخصائم فإذا أمكنه ذلك بالتقليد
جاز كما يحكم بقول المقومين
ولنا قول الله تعالى [وان احكم بينهم بما انزل الله] ولم يقل بالتقليد وقال [لتحكم بين الناس
بما أراك الله - وقال - فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول] وروى بريدة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال " القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل
قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل جار في الحكم فهو في النار " رواه ابن ماجة. والعامي يقضي على
جهل ولان الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا والزام ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى
فإن قيل: فالمفتي يجوز ان يخبر بما سمع قلنا نعم الا انه لا يكون مفتيا في تلك الحال وإنما هو مخبر فيحتاج
382

أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد فيكون معمولا بخبر لا بفتياه ويخالف قول المقومين لأن
ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم
إذا ثبت هذا فمن شرط الاجتهاد معرفة ستة أشياء. الكتاب. والسنة. والاجماع والاختلاف
والقياس. ولسان العرب. أما الكتاب فيحتاج ان يعرف منه عشرة أشياء: الخاص. والعام. والمطلق.
والمقيد والمحكم، والمتشابه، والمجمل، والمفسر، والناسخ، والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام وذلك
نحو خمسمائة ولا يلزمه معرفة سائر القرآن فاما السنة فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منه بالأحكام دون
سائر الأخبار من ذكر الجنة والنار والرقائق ويحتاج ان يعرف منها ما يعرف من الكتاب ويزيد معرفة
التواتر والآحاد والمرسل والمتصل والمسند والمقطع والصحيح والضعيف ويحتاج إلى معرفة ما أجمع
عليه وما اختلف فيه ومعرفة القياس وشروطه وأنواعه وكيفية استنباطه الأحكام ومعرفة لسان العرب
فيما يتعلق بما ذكرنا ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة وقد نص احمد
على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه فإن قيل هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها؟ قلنا
ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك
ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ولا ان يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا
383

فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال إمامتهما
يسئلان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة يسئلان الناس فيخبرا أبو بكر عن ميراث الجدة فقال مالك
في كتاب الله شئ ولا اعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولكن ارجعي حتى أسأل الناس ثم قام
فقال أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة فقام المغيرة بن شعبة فقال اشهد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعطاها السدس وسأل عمر عن املاص المرأة فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة
ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة
منصب الاجتهاد فلا تكون شرطا له وهو سابق عليها وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون
مجتهدا في كل المسائل بل من عرف أدلة مسألة وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها وان جهل غيرها كمن
يعرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ولذلك ما من إمام الا وقد توقف
في مسائل وقيل من يجيب في كل مسألة فهو مجنون وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله
وحكي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها لا أدري ولم يخرجه ذلك عن
كونه مجتهد أو إنما المعتبر أصول هذه الأمور وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله فمن عرف
ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه والله أعلم
384

[فصل] ليس من شرط الحاكم كونه كاتبا وقيل يشترط ذلك لعلم ما يكتبه كاتبه ولا
يتمكن من اخفائه عنه
ولنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا وهو سيد الحكام وليس من ضرورة الحاكم الكتابة فلا تعتبر
شروطها، وإن احتاج إلى ذلك جاز توليته لمن يعرفه كما أنه قد يحتاج إلى القسمة بين الناس وليس
من شرطه معرفة المساحة ويحتاج إلى التقويم وليس من شرط القضاء أن يكون عالما بقيمة الأشياء ولا
معرفته بعيوب كل شئ
(فصل) وينبغي أن يكون الحاكم قويا من غير عنف لينا من غير ضعف لا يطمع القوي في باطله
ولا ييأس الضعيف من عدله ويكون حليما متأنيا ذا فطنة وتيقظ لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة صحيح
السمع والبصر عالما بلغات أهل ولايته، عفيفا ورعا نزها بعيدا من الطمع، صدوق اللهجة ذا رأي
ومشورة، لكلامه لين إذا قرب، وهيبة إذا أوعد، ووفاء إذا وعد، ولا يكون جبارا ولا عسوفا
فيقطع ذا لحجة عن حجته، قال علي رضي الله عنه لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيا حتى تكون فيه
خمس خصال: عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم
385

وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال إن فاتته
واحدة كانت فيه وصمة: العقل، والفقه، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن، والحكم.
ورواه سعيد وفيه يكون فهما حليما عفيفا صلبا سآلا عما لا يعلم. وفي رواية محتملا للأئمة ولا يكون
ضعيفا مهينا لأن ذلك يبسط المتخاصمين إلى التهاتر والتشاتم بين يديه، قال عمر رضي الله عنه لأعزلن
فلانا عن القضاء ولأستعملن رجلا إذا رآه الفاجر فرقه
(فصل) وله أن ينتهر الخصم إذا التوى ويصيح عليه وإن استحق التعزير عزره بما يرى من
أدب أو حبس، وإن افتات عليه بان يقول حكمت علي بغير الحق أو ارتشيت فله تأديبه وله ان يعفو
وإن بدأ المنكر باليمين قطعها عليه وقال البينة على خصمك فإن عاد نهره فإن عاد عزره إن رأى وأمثال
ذلك مما فيه إساءة الأدب فله مقابلة فاعله وله العفو
(فصل) وإن ولى الإمام رجلا القضاء فإن كانت ولايته في غير بلده فأراد السير إلى بلاد
ولايته بحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم عنه ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته فإن لم يجد
سأل في طريقه فإن لم يجد سأل إذا دخل البلد عن أهله ومن به من العلماء والفضلاء وأهل العدالة
والسير وسائر ما يحتاج إلى معرفته، وإذا قرب من البلد بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه ويجعل قدومه
386

يوم الخميس ان أمكنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس ثم يقصد الجامع
فيصلي فيه ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا دخل المدينة ويسأل الله تعالى التوفيق والعصمة
والمعونة وأن يجعل عمله صالحا ويجعله لوجهه خالصا ولا يجعل لاحد فيه شيئا ويفوض أمره إلى الله
تعالى ويتوكل عليه ويأمر مناديه فينادي في البلدان فلانا قدم عليكم قاضيا فاجتمعوا لقراءة عهده
وقت كذا وكذا وينصرف إلى منزله الذي قد أعد له وينبغي أن يكون في وسط البلد ليتساوى
أهل المدينة فيه ولا يشق على بعضهم قصده فإذا اجتمعوا أمر بعهده فقرئ عليهم ليعلموا التولية
ويأتوا إليه ويعد الناس يوما يجلس فيه لقضاء ثم ينصرف إلى منزله وأول ما يبدأ فيه من أمر الحكم
أن يبعث إلى الحاكم المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم وهو ما فيه وثائق الناس من المحاضر وهي نسخ
ما ثبت عند الحاكم والسجلات نسخ ما حكم به وما كان عنده من حجج الناس ووثائقهم مودعة في
ديوان الحكم وكانت عنده بحكم الولاية فإذا انتقلت الولاية إلى غيره كان عليه تسليمها إليه فتكون
مودعة عنده في ديوانه ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه إلى مجلسه على أكمل حالة وأعدلها
خليا من الغضب والجوع الشديد والعطش والفرح الشديد والحزن الكثير والهم العظيم والوجع
387

المؤلم ومدافعة الأخبثين أو أحدهما، والنعاس الذي يغمر القلب ليكون أجمع لقلبه وأحضر لذهنه
وأبلغ في تيقظه للصواب وفطنته لموضع الرأي ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقضي القاضي بين اثنين
وهو غضبان " فنص على الغضب ونبه على ما في معناه من سائر ما ذكرناه ويسلم على من يمر به من المسلمين
في طريقه، ويذكر الله بقلبه ولسانه حتى يأتي مجلسه، ويستحب ان يجعله في موضع بارز للناس فسيح
كالرحبة والفضاء الواسع أو الجامع، ولا يكره القضاء في المساجد فعل ذلك شريح والحسن والشعبي
ومحارب بن دثار ويحيى بن يعمر وابن أبي ليلى وابن خلدة قاض لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
وروي عن عمر وعثمان وعلي أنهم كانوا يقضون في المسجد
وقال مالك: القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وبه قال مالك وإسحاق وابن المنذر،
وقال الشافعي يكره ذلك إلا أن يتفق خصمان عند في المسجد لما روي أن عمر كتب إلى القاسم
ابن عبد الرحمن أن لا تقضي في المسجد لأنه تأتيك الحائض والجنب ولان الحاكم يأتيه الذمي
والحائض والجنب وتكثر غاشيته ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد وربما أدى إلى السبب
وما لم تبن له المساجد
ولنا اجماع الصحابة بما قد روينا منهم، قال الشعبي رأيت عمر وهو مستند إلى القبلة يقضي
388

بين الناس، وقال مالك هو من أمر الناس القديم ولان القضاء قربة وطاعة وانصاف بين الناس فلم
يكره في المسجد ولا نعمل صحة ما رووه عن عمر وقد روي عنه خلافه. وأما الحائض فإن عرضت
لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله، والجنب يغتسل ويدخل والذمي يجوز دخوله باذن مسلم
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم
وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد وربما رفعوا أصواتهم فقد روي عن كعب بن مالك أنه قال
تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إلي
أن ضع من دينك الشطر فقلت نعم يا رسول الله قال " فقم فاقضه " وينبغي أن يكون جلوسه في
وسط البلد لئلا يبعد على قاصديه ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه لما روى القاسم
ابن مخيمرة عن أبي مريم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من ولي
من أمور الناس شيئا واحتجب دون حاجتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره " رواه الترمذي
ولان حاجبه ربما قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم ولا بأس
باتخاذ حاجب في غير مجلس القضاء ويبسط له شئ ولا يجلس على التراب ولا على حصير المسجد لأن
ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم ويجعل جلوسه مستقبل القبلة لأن خير المجالس ما استقبل به
389

القبلة وهذه الآداب المذكورة في هذا الفصل ليست شرطا في الحكم إلا الخلو من الغضب وما في معناه
فإن في اشتراطه روايتين
(فصل) وإذا جلس الحاكم في مجلسه فأول ما ينظر فيه أمر المحبوسين لأن الحبس عذاب وربما
كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه فينفذ إلى حبس القاضي الذي كان قبله ثقة يكتب اسم كل محبوس
وفيم حبس؟ ولمن حبس؟ فيحمله إليه فيأمر مناديا ينادي في البلد ثلاثة أيام ألا ان القاضي فلان بن
فلان ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا فمن كان له محبوس فليحضر فإذا حضر ذلك اليوم وحضر الناس
ترك الرقاع التي فيها اسم المحبوسين بين يديه ومد يده إليها فما وقع في يده منها نظر إلى اسم المحبوس
وقال من خصم فلان المحبوس فإذا قال خصمه انا بعث معه ثقة إلى الحبس فاخرج خصمه وحضر معه
مجلس الحكم ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يتسع زمانه للنظر فيه في ذلك المجلس ولا يخرج غيرهم فإذا
حضر المحبوس وخصمه لم يسأل خصمه لما حبسته لأن الظاهر أن الحاكم إنما حبسه بحق لكن يسأل
المحبوس بم حبست؟ ولا يخلو جوابه من خمسة أقسام
(أحدها) أن يقول حبسني بحق له حال انا ملئ به فيقول له الحاكم اقضه وإلا رددتك في الحبس
(الثاني) ان يقول له علي دين انا معسر به فيسأل خصمه فإن صدقة فلسه الحاكم وأطلقه وإن
390

كذبه نظر في سبب الدين فإن كان شيئا حصل له به مال كقرض أو شراء لم يقبل قوله في الاعسار إلا
ببينة بان ماله تلف أو نفد أو ببينة انه معسر فيزول الأصل الذي ثبت ويكون القول قوله فيما يدعيه
عليه من المال وإن لم يثبت له أصل مال ولم تكن لخصمه بينة بذلك فالقول قول المحبوس مع يمينه انه
معسر لأن الأصل الاعسار، وإن شهدت لخصمه بينة بان له مالا لم تقبل حتى تعين ذلك المال بما
يتميز به فإن شهدت عليه البينة بدار معينة أو غيرها وصدقها فلا كلام، وإن كذبها وقال ليس هذا
لي وإنما هو في يدي لغيري لم يقبل إلا أن يقريه إلى واحد بعينه فإن كان الذي أقر له به حاضرا نظرت
فإن كذبه في اقراره سقط وقضى من المال دينه وإن صدقه نظرت فإن كان له به بينة فهو أولى لأن
له بينة وصاحب اليد يقر له به وإن لم تكن له بينة فذكر القاضي أنه لا يقبل قولهما ويقضي الدين منه
لأن البينة شهدت لصاحب اليد بالملك فتضمنت شهادتها وجوب القضاء منه فإذا لم تقبل شهادتها في
حق نفسه قبلت فيما تضمنته لأنه حق لغيره ولأنه متهم في اقراره لغيره لأنه قد يفعل ذلك ليخلص
ماله ويعود إليه فتلحقه تهمة فلم تبطل البينة بقوله، وفيه وجه آخر يثبت الاقرار وتسقط البينة لأنها
تشهد بالملك لمن لا يدعيه وينكره
391

(الجواب الثالث) ان يقول حبسني لأن البينة شهدت علي لخصمي بحق ليبحث عن حال الشهود
فهذا ينبني على أصل وهو ان الحاكم هل له ذلك أو لا؟ فيه وجهان
(أحدهما) ليس له ذلك لأن الحبس عذاب فلا يتوجه عليه قبل ثبوت الحق عليه فعلى هذا
لا يرده إلى الحبس ان صدقة خصمه في هذا
(والثاني) يجوز حبسه لأن المدعي قد أقام ما عليه وإنما بقي ما على الحاكم من البحث ولأصحاب
الشافعي وجهان كهذين فعلى هذا الوجه يرده إلى الحبس حتى يكشف عن حال شهوده، وإن كذبه
خصمه وقال بل قد عرف الحاكم عدالة شهودي وحكم عليه بالحق فالقول قوله لأن الظاهر أن حبسه بحق
(الجواب الرابع) يقول حبسني الحاكم بثمن كلب أو قيمة خمر أرقته لذمي لأنه كان يرى ذلك
فإن صدقة خصمه فذكر القاضي انه يطلقه لأن غرم هذا ليس بواجب، وفيه وجه آخر ان الحاكم
ينفذ حكم الحاكم الأول لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده، وفيه وجه آخر انه يتوقف ويجتهد
ان يصطلحا على شئ لأنه لا يمكنه فعل أحد الامرين المتقدمين وللشافعي قولان كهذين الوجهين
الأخيرين وإن كذبه خصمه وقال بل حبست بحق واجب غير هذا فالقول قوله لأن الظاهر حبسه بحق
392

(الجواب الخامس) ان يقول حبست ظلما ولا حق على فينادي منادي الحاكم بذكر ما قاله
فإن حضر رجل فقال إنا خصمه فأنكره وكانت للمدعي بينة كلف الجواب على ما مضي، وإن لم
تكن له بينة أو لم يظهر له خصم فالقول قوله مع يمينه انه لا خصم له أو لا حق عليه ويخلي سبيله
(فصل) ثم ينظر في أمر الأوصياء لأنهم يكونون ناظرين في أموال اليتامى والمجانين وتفرقة
الوصية بين المساكين فيقصدهم الحاكم بالنظر لأن المنظور عليه لا يمكنه المطالبة بحقه فإن الصغير
والمجنون لا قول لهما والمساكين لا يتعين الاخذ منهم فإذا قدم إليه الوصي فإن كان الحاكم قبله نفذ
وصيته لم يعزله لأن الحاكم ما نفذ وصيته الا وقد عرف أهليته في الظاهر ولكن يراعيه فإن تغيرت
حاله بفسق أو ضعف أضاف إليه أمينا قويا يعينه وإن كان الأول ما نفذ وصيته نظر فيه فإن كان
أمينا قويا أقره وإن كان أمينا ضعيفا ضم إليه من يعينه وإن كان فاسقا عزله وأقام غيره وعلى قول الخرقي
يضم إليه أمين ينظر عليه وإن كان قد تسرف أو فرق الوصية وهو أهل للوصية نقذ تصرفه وإن كان
ليس باهل وكان أهل الوصية بالغين عاقلين معينين صح الدفع إليهم لأنهم قبضوا حقوقهم وإن كانوا
غير معينين كالفقراء والمساكين ففيه وجهان
(أحدهما) عليه الضمان ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لأنه ليس له التصرف
(والثاني) لا ضمان عليه لأنه أوصله إلى أهله، وكذلك أن فرق الوصية غير الموصى إليه
بتفريقها فعلى وجهين.
(فصل) ثم ينظر في أمناء الحاكم وهم من رد إليهم الحاكم النظر في أمر الأطفال وتفرقة الوصايا
التي لم يعين لها وصي فإن كانوا بحالهم أقرهم لأن الذي قبله ولاهم ومن تغير حاله منهم عزله ان
فسق وان ضعف ضم إليه أمينا
393

(فصل) ثم ينظر في أمر الضوال واللقطة التي تولى الحاكم فإن كانت مما يخاف تلفه كالحيوان
أو في حفظه مؤنة كالأموال الجافية باعها وحفظ ثمنها لأربابها، وإن لم تكن كذلك كالأثمان حفظها
لأربابها ويكتب عليها لتعرف
(مسألة) قال (ولا يحكم بين اثنين وهو غضبان)
لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في أن القاضي لا ينبغي له ان يقضي وهو غضبان كره ذلك
شريح وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة والشافعي وكتب أبو بكرة إلى عبد الله بن أبي بكرة وهو
قاض بسجستان ان لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يحكم
أحد بين اثنين وهو غضبان " متفق عليه، وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى إياك والغضب
والقلق والضخر والتأذي بالناس والتنكر لهم عند الخصومة فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم فأوجع
رأسه ولأنه إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه وفكره وفي معنى الغضب كلما شغل فكره من الجوع
المفرط والعطش الشديد والرجع المزعج ومدافعة أحد الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن
والفرح فهذه كلها تمنع الحاكم لأنها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة
الحق في الغالب فهي في معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه فإن حكم في الغضب أو ما شاكله
394

فحكى عن القاضي انه لا ينفذ قضاؤه لأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وقال في المجرد
ينفذ قضاؤه وهو مذهب الشافعي لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في
شراح الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " للزبير " اسق ثم ارسل الماء إلى جارك " فقال الأنصاري إن كان ابن
عمتك فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير " اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر " متفق عليه فحكم
في حال غضبه وقيل إنما يمنع الغضب الحاكم إذا كان قبل ان يتضح له الحكم في المسألة فاما ان اتضح
الحكم ثم عرض الغضب لم يمنعه لأن الحق قد استبان قبل الغضب فلا يؤثر الغضب فيه
(مسألة) (قال وإذا نزل به الامر المشكل عليه مثله شاور فيه أهل العلم والأمانة)
وجملته ان الحاكم إذا حضرته قضية تبين له حكمها في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو
اجماع أو قياس جلي حكم ولم يحتج إلى رأي غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن
" بم تحكم؟ - قال بكتاب الله قال - فإن لم تجد؟ - قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فإن لم
تجد - قال اجتهد رأيي ولا آلو - قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول
الله صلى الله عليه وسلم " فإن احتاج إلى الاجتهاد استحب له ان يشاور لقول الله تعالى (وشاورهم في الامر)
395

قال الحسن إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنيا عن مشاورتهم وإنما أراد ان يستن بذلك الحكام بعده
وقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وفي لقاء الكفار يوم بدر
وروي ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاور أبو بكر الناس في ميراث الجدة
وعمر في دية الجنين وشاور الصحابة في حد الخمر وروي أن عمر كان يكون عنده جماعة من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف إذا نزل به الامر شاورهم
فيه ولا مخالف في استحباب ذلك قال احمد لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين
القاسم وسالم يشاورهما وولي محارب بن دثار قضاء الكوفة يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما
ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون وينتظرون، ولأنه قد ينتبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه
بالمذاكرة ولان الإحاطة بجميع العلوم متعذرة وقد ينتبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من هو دون
القاضي فكيف بمن يساويه أو يزيد عليه؟ فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جاءته الجدتان
فورث أم الام وأسقط أم الأب فقال له عبد الرحمن بن سهل يا خليفة رسول الله لقد أسقطت التي لو ماتت
ورثها وورثت التي لو ماتت لم يرثها فرجع أبو بكر فاشترك بينهما
وروى عمر بن شبة عن الشعبي أن كعب بن سوار كان جالسا عند عمر فجاءته امرأة فقالت
396

يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجي والله انه ليبيت ليله قائما ويظل نهاره صائما في
اليوم الحار ما يفطر فاستغفر لها وأثنى عليها وقال مثلك اثنى الخير، قال واستحيت المرأة فقامت راجعة
فقال كعب يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها قال وما شكت قال شكت زوجها أشد الشكاية
قال أو ذاك أرادت؟ قال نعم قال ردوا علي المرأة فقال لا بأس بالحق أن تقوليه ان هذا زعم انك جئت
تشكين زوجك انه يجتنب فراشك قالت أجل اني امرأة شابة واني لابتغي ما يبتغي النساء فأرسل
إلى زوجها فجاء فقال لكعب اقض بينهما قال أمير المؤمنين أحق ان يقضي بينهما قال عزمت عليك
لتقضين بينهما فإنك فهمت من أمرهما ما لم افهم قال فاني أرى كأنها عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن فاقضي
له بثلاثة أيام بلياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة فقال عمر والله ما رأيك الأول أعجب إلي من الآخر
اذهب فأنت قاض على البصرة. إذا ثبت هذا فإنه يشاور أهل العلم والأمانة. لأن من ليس كذلك فلا
قول له في الحادثة ولا يسكن إلى قوله قال سفيان وليكن أهل مشورتك أهل التقوي وأهل الأمانة
ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حجتهم ليبين له الحق
(فصل) والمشاورة ههنا لاستخراج الأدلة ويعرف الحق بالاجتهاد ولا يجوز أن يقلد غيره ويحكم
397

بقول سواه سواء ظهر له الحق فخالفه غيره فيه أو لم يظهر له شئ وسواء ضاق الوقت أو لم يضق
وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد، وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إذا كان
الحاكم من أهل الاجتهاد جاز له ترك رأيه لرأي من هو أفقه منه عنده إذا صار إليه فهو ضرب من الاجتهاد
ولأنه يعتقد انه أعرف منه بطريق الاجتهاد
ولنا انه من أهل الاجتهاد فلم يجز له تقليد غيره كما لو كان مثله كالمجتهدين في القبلة وما ذكره
ليس بصحيح فإن من هو أفقه منه يجوز عليه الخطأ فإذا اعتقد ان ما قاله خطأ لم يجز له ان يعمل
به وإن كان لم يبن له الحق فلا يجوز له ان يحكم بما يجوز ان يبين له خطؤه إذا اجتهد
(فصل) قال أصحابنا يستحب أن يحضر مجلسه أهل العلم من كل مذهب حتى إذا حدثت حادثة
يفتقر إلى أن يسألهم عنها سألهم ليذكروا أدلتهم فيها وجوابهم عنها فإنه أسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه
فإن حكم باجتهاده فليس لأحد منهم أن يرد عليه وان خالف اجتهاده لأن فيه افتياتا عليه الا ان يحكم
بما يحالف نصا أو اجماعا
(فصل) وينبغي له ان يحضر شهوده مجلسه ليستوفي بهم الحقوق وتثبت بهم الحجج والمحاضر
398

فإن كان ممن يحكم بعلمه فإن شاء أدناهم إليه وان شاء باعدهم منه بحيث إذا احتاج إلى اشهادهم على حكمه
استدعاهم ليشهدوا بذلك وإن كان ممن لا يحكم بعلمه أجلسهم بالقرب منه حتى يسمعوا كلام المتخاصمين
لئلا يقر منهم مقر ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه اقراره ويشهدوا به
(فصل) وإذا اتصلت به الحادثة واستنارت الحجة لاحد الخصمين حكم وإن كان فيها لبس
أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما إلى البيان فإن عجلها قبل البيان لم يصح حكمه
وممن رأى الاصلاح بين الخصمين شريح وعبد الله بن عتبة وأبو حنيفة والشعبي والعنبري وروي
عن عمر أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن قال أبو عبيد
إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة. أما إذا استنارت الحجة لاحد الخصمين وتبين له موضع
الظالم فليس له ان يحملهما على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر وروي عن شريح أنه ما
أصلح بين متحاكمين الا مرة واحدة
(فصل) وإذا حدثت حادثه نظر في كتاب الله فإن وجدها والا نظر في سنة رسوله فإن لم يجدها نظر في القياس
فألحقها بأشبه الأصول بها لما ذكرنا من حديث معاذ بن حبل وهو حديث يرويه عمر بن الحارث
ابن أخي المغيرة بن شعب عن رجال من أصحاب معاذ من أهل حمص وعمرو والرجال مجهولون إلا أنه
399

حديث مشهور في كتب أهل العلم رواه سعيد بن منصور والإمام أحمد وغيرهما وتلقاه العلماء بالقبول
وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد أن عمر قال لشريح انظر ما يتبين لك في كتاب الله
فلا تسأل عنه أحدا وما لا يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه السنة وما يتبين لك في السنة فاجتهد فيه رأيك
وعن ابن مسعود مثل ذلك
(مسألة) قال (ولا يحكم الحاكم بعلمه)
ظاهر المذهب ان الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها. هذا
قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي. وعن أحمد
رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف وأبي ثور والقول الثاني للشافعي واختيار المزني
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند ان أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي
قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها
وروى ابن عبد البر في كتابه ان عروة ومجاهدا رويا أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر
400

ابن الخطاب على أبي سفيان بن حرب انه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا وقال عمر اني لاعلم
الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان فأتني بأبي سفيان فأتاه به فقال له عمر يا أبا سفيان
انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر وعمر فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ههنا فضعه
ههنا فقال والله لا أفعل فقال والله لتفعلن فقال والله لافعل فعلاه بالدرة وقال خذه لا أم لك فضعه
ههنا فإنك ما علمت قديم الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر ووضعه حيث قال عمر، ثم إن عمر استقبل
القبلة فقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالاسلام، قال فاستقبل
القبلة أبو سفيان وقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الاسلام ما أذل به لعمر. قالوا
فحكم بعلمه ولان الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن فما تحققه وقطع به كان أولى ولأنه
يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياسا عليه
وقال أبو حنيفة: ما كان من حقوق الله لا يحكم فيه بعلمه لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة
والمسامحة. وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل ولايته لم يحكم به وما علمه في ولايته حكم يه لأن ما علمه
قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته، وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته
401

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما انا بشر وانكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته
من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه " فدل على أنه إنما يقضي بما يسمع لا بما يعلم وقال النبي
صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي " شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك "
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان فقال له أحدهما أنت شاهدي فقال إن
شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا اشهد
وذكر ابن عبد البر في كتابه عن عائشة رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على
الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم الأرش ثم قال " اني
خاطب الناس ومخبرهم انك قد رضيتم، أرضيتم؟ " قالوا نعم فصعد النبي صلى الله عليه وسلم فخطب وذكر القصة
وقال " أرضيتم؟ " قالوا لا فهم بهم المهاجرون فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد فخطب الناس ثم
قال " أرضيتم؟ " قالوا نعم، وهذا يبين انه لم يأخذ بعلمه
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لو رأيت حدا على رجل لم أحده حتى تقوم
البينة، ولان تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه. فاما حديث
402

أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حق أبي سفيان من غير
حضوره ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته. وحديث عمر الذي رووه كان إنكارا لمنكر رآه
لا حكم بدليل انه ما وجدت منهما دعوى وإنكار بشروطهما ودليل ذلك ما رويناه عنه ثم لو كان حكما
كان معارضا بما رويناه عنه ويفارق الحكم بالشاهدين فإنه لا يفضي إلى تهمة بخلاف مسئلتنا. وأما الجرح
والتعديل فإنه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه لتسلسل فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة
عدالتهما وجرحهما فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما لي مزكيين ثم كل واحد منهما يحتاج إلى
مزكيين فيتسلسل وما نحن فيه بخلافه
(فصل) ولا خلاف في أن للحاكم أن يحكم بالبينة والاقرار في مجلس حكمه إذا سمعه معه شاهدان
فإن لم يسمعه معه أحد أو سمعه شاهد فنص أحمد على أنه يحكم به. وقال القاضي لا يحكم به حتى
يسمعه معه شاهدان لأنه حكم بعلمه
(مسألة) قال (ولا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه إلا ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماعا)
وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه فبان له خطئوه أو بان له
403

خطأ نفسه نظرت فإن كان الخطأ لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع نقض حكمه وبهذا قال الشافعي
وزاد إذا خالف نصا جليا نقضه، وعن مالك وأبي حنيفة انهما قالا لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الاجماع
ثم ناقضا ذلك فقال مالك إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه، وقال أبو حنيفة إذا حكم ببيع متروك
التسمية أو حكم بين العبيد بالقرعة نقض حكمه، وقال محمد بن الحسن إذا حكم بالشاهد واليمين نقض
حكمه، وهذه مسائل خلاف موافقة للسنة واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الاجماع بأنه يسوغ
فيه الخلاف فلم ينقض حكمه فيه كما لا نص فيه
وحكي عن أبي ثور وداود انه ينقض جميع ما بان له خطؤه لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي
موسي لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك ان تراجع فيه
الحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف
الاجماع، وحكي عن مالك انه وافقهما في قضاء نفسه
ولنا على نقضه إذا خالف نصا أو اجماعا انه قضاء لم يصادف شرطه فوجب نقضه كما لو لم يخالف
الاجماع وبيان مخالفته للشرط ان شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ ولأنه إذا ترك
الكتاب والسنة فقد فرط فوجب نقض حكمه كما لو خالف الاجماع أو كما لو حكم بشهادة كافرين وما
404

قالوه يبطل بما حكيناه عنهم. فإن قيل أليس إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم بان له الخطأ لم يعد؟ قلنا
الفرق بينهما من ثلاثة أوجه
(أحدها) ان استقبال القبلة يسقط حال العذر في حال المسايفة والخوف من عدد أو سبع
أو نحوه مع العلم ولا يجوز ترك الحق إلى غيره مع العلم بحال (الثاني) ان الصلاة من حقوق الله
تعالى تدخلها المسامحة
(الثالث) أن القبلة يتكرر فيها اشتباه القبلة فيشق القضاء وههنا إذا بان له الخطأ لا يعود
الاشتباه بعد ذلك
وأما إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصا ولا اجماعا أو خالف اجتهاده اجتهاد من قبله لم
ينقضه لمخالفته لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك فإن أبا بكر في مسائل باجتهاده وخالفه
عمر ولم ينقض أحكامه وعلي خالف عمر في اجتهاده فلم ينقض أحكامه وخالفهما علي فلم ينقض أحكامهما
فإن أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد وخالفه عمر ففاضل بين الناس وخالفهما علي
فسوى بين الناس وحرم العبيد ولم ينقض واحد منهم ما فعله من قبله وجاء أهل نجران إلى علي فقالوا
يا أمير المؤمنين كتابك بيدك وشفاعتك بلسانك فقال ويحكم أن عمر كان رشيد الامر ولن أرد قضاء
قضى به عمر. رواه سعيد
405

وروي أن عمر حكم في المشركة باسقاط الاخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال تلك على
ما قضينا وهذه على ما قضينا وقضى في الجد بقضايا مختلفة ولم يرد الأولي ولأنه يؤدي إلى نقض الحكم
بمثله وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الحكم أصلا لأن الحاكم الثاني يخالف الذي قبله، والثالث يخالف
الثاني فلا يثبت حكم، فإن قيل فقد روي أن شريحا حكم في ابني عم أحدهما أخ لام ان المال للأخ
فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال علي بالعبد فجئ به فقال في أي كتاب الله وجدت ذلك؟ فقال
قال الله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فقال له علي قد قال الله تعالى (وإن
كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) ونقض حكمه، قلنا
لم يثبت عندنا أن عليا نقض حكمه ولو ثبت فيحتمل أن يكون علي رضي الله عنه اعتقد انه خالف نص
الكتاب في الآية التي ذكرها فنقض حكمه لذلك
(فصل) إذا تغير اجتهاد قبل الحكم فإنه يحكم بما تغير اجتهاده إليه ولا يجوز أن يحكم باجتهاده
الأول لأنه إذا حكم فقد حكم بما يعتقد انه باطل وهذا كما قلنا فيمن تغير اجتهاده في القبلة بعد ما صلى
لا يعيد، وإن كان قبل أن يصلي إلى الجهة التي تغير اجتهاده إليها ولذلك إذا بان فسق الشهود قبل
الحكم لم يحكم بشهادتهم ولو بان بعد الحكم لم ينقضه
406

(فصل) وليس على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله لأن الظاهر صحتها وصوابها وانه لا يولى القضاء
إلا من هو من أهل الولاية فإن تتبعها نظر في الحاكم قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء فما وافق من
أحكامه الصواب أو لم يخاف كتابا ولا سنة ولا اجماعا لم يسغ نقضه، وإن كان مخالفا لاحد هذه
الثلاثة وكان في حق لله تعالى كالعتاق والطلاق نقضه لأن له النظر في حقوق الله سبحانه، وإن كان
يتعلق بحق آدمي لم ينقضه الا بمطالبة صاحبه لأن الحاكم لا يستوفي حقا لمن لا ولاية عليه بغير
مطالبته فإن طلب صاحبه ذلك نقضه، وإن كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقضت قضاياه المخالفة
للصواب كلها سواء كانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أو لا يسوغ لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كلا قضاء
لعدم شرط القضاء فيه وليس في نقض قضاياه نقض الاجتهاد بالاجتهاد لأن الأول ليس باجتهاد ولا ينقض
ما وافق الصواب لعدم الفائدة في نقضه فإن الحق وصل إلى مستحقه، وقال أبو الخطاب: تنقض
قضاياه كلها ما أخطأ فيه وما أصاب وهو مذهب الشافعي لأن وجود قضائه كعدمه ولا أعلم فيه
فائدة فإن الحق لو وصل إلى مستحقه بطريق القهر من غير حكم لم يغير ذلك، وكذلك إذا كان
بقضاء وجوده كعدمه والله أعلم
(فصل) وحكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في قول جمهور العلماء منهم مالك والأوزاعي
407

والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إذا حكم الحاكم بعقد
أو فسخ أو طلاق نفذ حكمه ظاهرا وباطنا فلو أن رجلين تعمدا الشهادة على رجل أنه طلق امرأته فقبلهما
القاضي بظاهر عدالتهما ففرق بين الزوجين لجاز لاحد الشاهدين نكاحها بعد قضاء عدتها وهو عالم
بتعمده الكذب ولو أن رجلا ادعى نكاح امرأة وهو يعلم أنه كاذب وأقام شاهدي زور فحكم
الحاكم حلت له بذلك وصارت زوجته قال ابن المنذر وتفرد أبو حنيفة فقال: لو استأجرت امرأة
شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها وهما يعلمان كذبهما وتزويرهما فحكم الحاكم بطلاقها لحل لها ان
تتزوج وحل لاحد الشاهدين نكاحها واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه ان رجلا ادعى على
امرأة نكاحها فرفعها إلى علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان بذلك فقضى بينهما بالزوجية فقالت
والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين اعقد بيننا عقدا حتى أحل له فقال شاهداك زوجاك فدل على أن
النكاح ثبت بحكمه ولان اللعان ينفسخ به النكاح وإن كان أحدهما كاذبا فالحكم أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر وانكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون الحن بحجته من
بعض فاقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما
اقطع له قطعة من النار " متفق عليه وهذا يدخل فيه ما إذا ادعى أنه اشترى منه شيئا فحكم له
408

ولأنه حكم بشهادة زور فلا يحل له ما كان محرما عليه كالمال المطلق وأما الخبر عن علي ان صح فلا
حجة لهم فيه لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه ولم يجبها إلى التزويج لأن فيه طعنا على
الشهود فاما اللعان فإنما حصلت الفرقة به لا بصدق الزوج ولهذا لو قامت البينة وبه لم ينفسخ النكاح
إذا ثبت هذا فإذا شهد على امرأة بنكاح وحكم به الحاكم ولم تكن زوجته فإنه لا تحل له ويلزمها في
في الظاهر وعليها ان تمتنع ما أمكنها فإن أكرهها عليه فالاثم عليه دونها وإن وطئها الرجل فقال أصحابنا
وبعض الشافعية عليه الحد لأنه وطئها وهو يعلم أنها أجنبية وقيل لاحد عليه لأنه وطئ مختلف في
حله فيكون ذلك شبهة وليس لها ان تتزوج غيره وقال أصحاب الشافعي تحل لزوج ثان غير أنها
ممنوعة منه في الحكم وقال القاضي يصح النكاح
ولنا أن هذا يفضي إلى الجمع بين الوطئ للمرأة من اثنين أحدهما يطؤهما بحكم الظاهر والآخر
بحكم الباطن وهذا فساد فلا يشرع ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت له البينة في قول بعض الأئمة
فلم يجز تزويجها لغيره كالمتزوجة بغير ولي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى مثل مذهب
أبي حنيفة في أن حكم الحاكم يزيل الفسوخ والعقود والأول هو المذهب
409

(فصل) وإذا استعدى رجل على رجل إلى الحاكم ففيه روايتان
(إحداهما) أنه يلزمه ان يعديه ويستدعي خصمه سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم وسواء كان
المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أولا يعامله كالفقير يدعي على ذي ثروة وهيئة نص على هذا في
رواية الأثرم في الرجل يستعدي على الحاكم انه يحضره ويستحلفه وهذا اختيار أبي بكر ومذهب
أبي حنيفة والشافعي لأن في تركه تضييعا للحقوق واقرارا للظلم فإنه قد ثبت له الحق على من هو
أرفع منه بغصب أو يشتري منه شيئا ولا يوفيه أو يودعه شيئا أو يعيره إياه فلا يرده ولا تعمل بينهما
معاملة فإذا لم يعد عليه سقط حقه وهذا أعظم ضررا من حضور مجلس الحاكم فإنه لا نقيصة فيه وقد
حضر عمر وأبي عند زيد وحضر هو وآخر عند شريح وحضر علي عند شريح وحضر المنصور
عند رجل من ولد طلحة بن عبيد الله
(والرواية الثانية) لا يستدعيه الا ان يعلم بينهما معاملة ويتبين أن لما ادعاه أصلا روي ذلك عن
علي رضي الله عنه وهو مذهب مالك لأن في أعدائه على كل أحد تبذيل أهل المروءات وإهانة لذوي
الهيئات فإنه لا يشاء أحد أن يبذلهم عند الحاكم الا فعل وربما فعل هذا من لا حق له ليفتدي المدعى
عليه من حضوره وشر خصمه بطائفة من ماله، والأولى أولى لأن ضرر تضييع الحق أعظم من هذا
وللمستدعى عليه أن يوكل من يقوم مقامه ان كره الحضور وإن كان المستدعى عليه امرأة نظرت
410

فإن كانت برزة وهي التي تبرز لقضاء حوائجها فحكمها حكم الرجل وإن كانت مخدرة وهي التي
لا تبرز لقضاء حوائجها أمرت بالتوكيل فإن توجهت اليمين عليها بعث الحاكم أمينا معه شاهدان فيستحلفها
بحضرتهما فإن أقرت شهدا عليها وذكر القاضي أن الحاكم يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في
دارها وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها "
فبعث إليها ولم يستدعها وإذا حضروا عندها كان بينها وبينهم ستر تتكلم من ورائه فإن اعترفت
للمدعي أنها خصمه حكم بينهما وإن أنكرت ذلك جئ بشاهدين من ذوي رحمها يشهدان أنها
المدعى عليها ثم يحكم بينهما فإن لم تكن له بينة التحفت بجلبابها وأخرجت من وراء الستر لموضع الحاجة
وما ذكرناه أولى إن شاء الله لأنه استر لها وإذا كانت خفرة منعها الحياء من النطق بحجتها والتعبير
عن نفسها سيما مع جهلها وقلة معرفتها بالشرع وحججه
(فصل) ولا يخلوا المستعدى عليه من أن يكون حاضرا أو غائبا فإن كان حاضرا في البلد أو قريبا
منه فإن شاء الحاكم بعث مع المستعدي عونا يحضر المدعى عليه وان شاء بعث معه قطعة من شمع
أو طين مختوما بخاتمه فإذا بعث معه ختما فعاد فذكر انه امتنع أو كسر الختم بعث إليه عيونا فإن امتنع
أنفذ صاحب المعونة فأحضره فإذا حضر وشهد عليه شاهدان بالامتناع عزره ان رأى ذلك بحسب
411

ما يراه تأديبا له إما بالكلام وكشف رأسه أو بالضرب أو بالحبس فإن اختبأ بعث الحاكم من ينادي على بابه ثلاثا
انه ان لم يحضر سمر بابه وختم عليه ويجمع أماثل جيرانه ويشهدهم على اعذاره فإن لم يحضر وسأل المدعي
ان يسمر عليه منزله وختم عليه وتقرر عند الحاكم ان المنزل منزله سمره أو ختمه فإن لم يحضر بعث الحاكم
من ينادي على بابه بحضرة شاهدي عدل انه لم يحضر مع فلان أقام عنه وكيلا وحكم عليه فإن لم يحضر
أقام عنه وكيلا وسمع البينة عليه وحكم عليه كما يحكم على الغائب وقضي حقه من ماله ان وجد له مالا وهذا
مذهب الشافعي وأبي يوسف وأهل البصرة حكاه عنهم أحمد وان لم يجد له مالا ولم تكن للمدعي بينة فكان
أحمد ينكر التهجم عليه ويشتد عليه حتى يظهر وقال الشافعي ان علم له مكانا أمر بالهجوم عليه فيبعث خصيانا
أو غلمانا لم يبلغوا الحلم وثقات من النساء معهم ذوو عدل من الرجال فيدخل النساء والصبيان فإذا
حصلوا في صحن الدار دخل الرجال ويؤمر الخصيان بالتفتيش ويتفقد النساء النساء فإن ظفروا به
أخذوه فاحضروه وان استعدى على غائب نظرت فإن كان الغائب في غير ولاية القاضي لم يكن له
أن يعدي عليه وله الحكم عليه على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإن كان في ولايته وله في بلده خليفة
فإن كانت له بينة ثبت الحق عنده وكتب به إلى خليفة ولم يحضره وان لم تكن له بينة حاضرة
412

نفذه إلى خصمه ليخاصمه عند خليفته وان لم يكن له فيه خليفة وكان فيه من يصلح للقضاء أذن له في
الحكم بينهما وإن لم يكن فيه من يصلح للقضاء قيل له حرر دعواك لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده
كالشفعة للجار وقيمة الكلب أو خمر الذمي فلا يكلفه الحضور لما لا يقضى عليه به مع المشقة فيه بخلاف
الحاضر فإنه لا مشقة في حضوره فإذا تحررت بعث فاحضر خصمه بعدت المسافة أو قربت
وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف إن كان يمكنه ان يحضر ويعود فيأوي إلى موضعه أحضره
والا لم يحضره ويوجد من يحكم بينهما، وقيل إن كانت المسافة دون المسافة القصر أحضره والا فلا
ولنا انه لابد من فصل الخصومة بين المتخاصمين فإذا لم يمكن الا بمشقة فهل ذلك كما لو امتنع
من الحضور فإنه يؤدب ويعزر ولان الحاق المشقة به أولى من الحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم
بينهما وان كانت امرأة برزة لم يشترط في سفرها هذا محرم نص عليه أحمد لأنه لحق آدمي وحق الآدمي
مبني على الشح والضيق.
(فصل) وان استعدي على الحاكم المعزول لم يعده حتى يعرف ما يدعيه فيسأله عنه صيانة للقاضي
عن الامتهان فإن ذكر أنه يدعي عليه حقا من دين أو غضب اعداه وحكم بينهما كغير القاضي وكذلك
413

ان ادعي انه أخذ منه رشوة على الحكم لأن اخذ الرشوة عليه لا يجوز فهي كالغصب وان ادعى عليه الجور
في الحكم وكان للمدعى بينة احضره وحكم بالبينة وان لم يكن معه بينة ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يحضره لأن في احضاره وسؤاله امتهانا له وأعداء القاضي كثير وإذا فعل هذا معه لم
يؤمن الا يدخل في القضاء أحد خوفا من عاقبته
(والثاني) يحضره لجواز ان يعترف فإن حضر واعترف حكم عليه وان أنكر فالقول قوله من
غير يمين لأن قول القاضي مقبول بعد العزل كما يقبل في ولايته وان ادعى عليه أنه قتل ابنه ظلما
فهل يستحضره من غير بينة؟ فيه وجهان فإن أحضره فاعترف حكم عليه والا فالقول قوله وان ادعى
أنه أخرج عينا من يده بغير حق فالقول قول الحاكم من غير يمين ويقبل قوله للمحكوم له بها على ما
سنذكره إن شاء الله تعالى.
(فصل) وان ادعى على شاهدين انهما شهدا عليه زورا أحضرهما فإن اعترفا أغرمهما وان أنكرا
وللمدعي بينة على اقرارهما بذلك فأقامها لزمهما ذلك. وان أنكرا لم يستحلفا لأن إحلافهما يطرق
عليهما الدعاوي في الشهادة والامتهان وربما منع ذلك إقامة الشهادة، وهذا قول الشافعي
ولا نعلم فيه مخالفا.
414

(مسألة) قال (وإذا شهد عنده من لا يعرفه سأل عنه فإن عدله اثنان قبل شهادته)
وجملته انه إذا شهد عند الحاكم شاهدان فإن عرفهما عدلين حكم بشهادتهما، وان عرفهما فاسقين
لم يقبل قولهما، وان لم يعرفهما سأل عنهما لأن معرفة العدالة شرط في قبول الشهادة بجميع الحقوق،
وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد. وعن أحمد رواية أخرى يحكم بشهادتهما إذا عرف إسلامهما
بظاهر الحال إلا أن يقول الخصم هما فاسقان وهذا قول الحسن والمال والحد في هذا سواء لأن الظاهر
من المسلمين العدالة ولهذا قال عمر رضي الله عنه المسلمون عدول بعضهم على بعض
وروى أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أتشهد ألا
لا إله إلا الله؟ " فقال نعم فقال " أتشهد أني رسول الله؟ " قال نعم فصام وأمر الناس بالصيام ولان العدالة
أمر خفي سببها الخوف من الله تعالى ودليل ذلك الاسلام فإذا وجد فليكتف به ما لم يقم على خلافه
دليل وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية الأولى وفي سائر الحقوق كالثانية لأن الحدود والقصاص
مما يحتاط لها وتندرئ بالشبهات بخلاف غيرها
415

ولنا ان العدالة شرط فوجب العلم بها كالاسلام أو كما لو طعن الخصم فيهما فأما الاعرابي المسلم
فإنه كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله تعالى عليهم فإن من ترك دينه
في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ايثار الدين الاسلام وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته
وأما قول عمر فالمراد به أن الظاهر العدالة ولا يمنع ذلك في وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة
فقد روي عنه انه أتي بشاهدين فقال لهما عمر لست أعرفكما ولا يضركما أن لم أعرفكما جيئا بمن
يعرفكما فأتيا برجل فقال له عمر تعرفهما؟ فقال نعم فقال عمر صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر
الناس؟ قال لا، قال عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تقطع فيها الرحم؟ قال لا، قال كنت جارا
لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال لا، قال يا ابن أخي لست تعرفهما جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث
يدل عليه انه لا يكتفى بدونه
إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر أربعة شروط: الاسلام والبلوغ والعقل والعدالة فليس فيها
ما يخفى ويحتاج إلى البحث الا العدالة فيحتاج إلى البحث عنها لقول الله تعالى (ممن ترضون من
الشهداء) ولا نعمل انه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم وكناهم ونسبهم
416

ويرفعون فيها بما يتميزون به عن غيرهم ويكتب صنائعم ومعائشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل
عن جيرانهم وأهل سوقهم ومسجدهم ومحلتهم ونحلتهم فيكتب أسود أو أبيض أو أنزع أو أغم أو
أشهل أو أكحل أقني الانف أو أفطس أو رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة ونحو
هذا ليتميز ولا يقع اسم على اسم ويكتب اسم المشهود له والمشهود عليه وقدر الحق ويكتب ذلك
كله لأصحاب مسائله لكل واحد رقعة وإنما ذكرنا المشهود له لئلا يكون بينه وبين الشاهد قرابة تمنع
الشهادة أو شركة وذكرنا اسم المشهود عليه ليعرف لئلا تكون بينه وبين الشاهد عداوة وذكرنا قدر
الحق لأنه ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير فتطيب نفس المزكي به إذا كان يسيرا ولا
تطيب إذا كان كثيرا
وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واحد من أصحاب مسائله ما يعطي الآخر من الرقاع لئلا يتواطئوا
وإن شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه من جوار الشاهد وأهل الخبرة به وإن شاء
أطلق ولم يعين المسؤول ويكون السؤال سرا لئلا يكون فيه هتك المسؤول عنه وربما يخاف المسؤول
من الشاهد أو من المشهود له أو المشهود عليه أن يخبر بما عنده أو يستحي. وينبغي أن يكون أصحاب
417

مسائله غير معروفين له لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس
ذوي عقول وافرة أبرياء من الشحناء والبغض لئلا يطعنوا في الشهود أو يسألوا عن الشاهد عدوه
فيطعن فيه فيضيع حق المشهود له ولا يكونون من أهل الأهواء والعصبية يميلون إلى من وافقهم على
من خالفهم ويكونون أمناء ثقات لأن هذا موضع أمانة فإذا رجع أصحاب مسائله فأخبر اثنان بالعدالة
قبل شهادته، وإن أخبرا بالجرح رد شهادته وإن أخبر أحدهما بالعدالة والآخر بالجرح بعث آخرين
فإن عادا فاخبرا بالتعديل تمت بينة التعديل وسقط الجرح لأن بينته لم تتم وإن أخبرا بالجرح ثبت
ورد الشهادة، وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل تمت البينتان ويقدم الجرح ولا يقبل
الجرح والتعديل إلا من اثنين ويقبل قول أصحاب المسائل، وقيل لا يقبل إلا شهادة المسؤولين ويكلف
اثنين منهم أن يشهدوا بالتزكية والجرح عنده على شروط الشهادة في اللفظ وغيره ولا تقبل من صاحب
المسألة لأن ذلك شهادة على شهادة مع حضور شهود الأصل
ووجه القول الأول ان شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة لا شهادة على شهادة فيكتفى بمن
يشهد بها كسائر شهادات الاستفاضة ولأنه موضع حاجة فلا يلزم المزكي الحضور للتزكية وليس للحاكم
418

اجباره عليها فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات، ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل
لتعذرت التزكية لأنه قد يتفق ألا يكون في جيران الشاهد من يعرفه الحاكم فلا يقبل قوله
فيفوت التعديل والجرح
(فصل) قال القاضي: ولابد من معرفة اسلام الشاهد ويحصل ذلك بأحد أربعة أمور
(أحدها) اخباره عن نفسه انه مسلم أو اتيانه بكلمة الاسلام وهي شهادة ألا إله الا الله وأن
محمد عبده ورسوله لأنه لو لم يكن مسلما صار مسلما بذلك
(الثاني) اعتراف المشهود عليه باسلامه لأن ذلك حق عليه (الثالث) خبرة الحاكم لأننا
اكتفينا بذلك في عدالته فكذلك في اسلامه
(الرابع) بينة تقوم به ولابد من معرفة الحرية في موضع تعتبر فيه ويكفي في ذلك أحد أمور
ثلاثة بينة، أو اعتراف المشهود عليه، أو خبرة الحاكم، ولا يكفي اعتراف الشاهد لأنه لا يملك أن يصير
حرا فلا يملك الاقرار به بخلاف الاسلام
(فصل) وإذا شهد عند الحاكم مجهول الحال فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان (أحدهما)
419

يلزم الحاكم الحكم بشهادته لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه وقد اعترف بها ولأنه إذا أقر
بعدالته فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه فيؤخذ باقراره كسائر أقاريره
(والثاني) لا يجوز الحكم بشهادته لأن في الحكم بها تعديلا له فلا يثبت بقول واحد ولان
اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي الخصم بان يحكم عليه بقول فاسق لم يجز الحكم
به ولأنه لا يخلوا اما أن يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه، لا يجوز أن يقال مع تعديله لأن التعديل
لا يثبت بقول الواحد ولا يجوز مع انتفاء تعديله لأن الحكم بشهادة غير العدل غير جائز بدليل شهادة
من ظهر فسقه ومذهب الشافعي مثل هذا فإن قلنا بالأول فلا يثبت تعديله في حق غير المشهود عليه
لأنه لم توجد بينة التعديل وإنما حكم عليه لاقراره بوجود شروط الحكم واقراره يثبت في حقه دون
غيره كما لو أقر بحق عليه وعلى غيره ثبت في حقه دون غيره
(مسألة) قال (وان عدله اثنان وجرحه اثنان فالجراحة أولى)
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك ينظر أيهما أعدل؟ اللذان جرحاه أو اللذان عدلاه؟
فيؤخذ بقول أعدلهما
420

ولنا ان الجارح مع زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه لأن التعديل يتضمن ترك الريب
والمحارم والجارح مثبت لوجود ذلك والاثبات مقدم على النفي ولان الجارح يقول رأيته يفعل كذا
والمعدل مستنده انه لم يره يفعل ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بان يراه الجارح يفعل المعصية ولا
يراه المعدل فيكون مجروحا
(فصل) ولا يقبل الجرج والتعديل الا من اثنين وبهذا قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن
وابن المنذر، وروي عن أحمد يقبل ذلك من واحد وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه خبر لا يعتبر
فيه لفظ الشهادة فقبل من واحد كالرواية
ولنا انه اثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر فيه العدد كالحضانة وفارق الرواية
فإنها على المساهلة ولا نسلم انها لا تفتقر إلى لفظ الشهادة ويعتبر في التعديل والجرح لفظ الشهادة
فيقول في التعديل أشهد انه عدل ويكفي هذا وإن لم يقل علي ولي وهذا قول أكثر أهل العلم وبه
يقول شريح وأهل العراق ومالك وبعض الشافعية وقال أكثرهم لا يكفيه الا أن يقول عدل
علي ولي. واختلفوا في تعليله فقال بعضهم لئلا تكون بينهما عداوة أو قرابة، وقال بعضهم لئلا يكون
عدلا في شئ دون شئ
421

ولنا قول الله تعالى (فاشهدوا ذوي عدل منكم) فإذا شهدا انه عدل ثبت ذلك بشهادتهما
فيدخل ذلك في عموم الامر لأنه إذا كان عدلا لزم أن يكون له وعليه وفي حق سائر الناس وفي كل
شئ فلا يحتاج إلى ذكره ولا يصح ما ذكروه فإن الانسان لا يكون عدلا في شئ دون شئ ولا في
حق شخص دون شخص فإنه لا توصف بهذا ولا تنتفي أيضا بقوله عدل علي ولي فإن من ثبتت
عدالته لم تزل بقرابة ولا عداوة وإنما ترد شهادته للتهمة مع كونه عدلا ثم إن هذا إذا كان معلوما
انتفاؤه بينهما لم يحتج إلى ذكره ولا نفيه عن نفسه كما لو شهد بالحق من عرف الحاكم عدالته لم يحتج
إلى أن ينفي عن نفسه ذلك ولان العداوة لا تمنع من شهادته له بالتزكية وإنما تمنع الشهادة عليه وهذا
شاهد له بالتزكية والعدالة فلا حاجة به إلى نفي العداوة
(فصل) ولا يكفي أن يقول لا أعلم منه الا الخير وهذا مذهب الشافعي وقال أبو يوسف يكفي
لأنه إذا كان من أهل الخبرة به ولا يعلم الا الخير فهو عدل
422

ولنا انه لم يصرح بالتعديل فلم يكن تعديلا كما لو قال اعلم منه خيرا وما ذكروه لا يصح لأن
الجاهل بحال أهل الفسق لا يعلم منهم الا الخير لأنه يعلم اسلامهم وهو خير ولا يعلم منهم غير ذلك
وهم غير عدول.
(فصل) قال أصحابنا ولا يقبل التعديل الا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة وهذا
مذهب الشافعي لخبر عمر الذي قدمناه ولان عادة الناس اظهار الصالحات وإسرار المعاصي فإذا لم
يكن ذا خبرة باطنة ربما اغتر بحسن ظاهر وهو فاسق في الباطن وهذا يحتمل ان يريدوا به ان الحاكم
إذا علم أن المعدل لا خبرة له لم تقبل شهادته بالتعديل كما فعل عمر رضي الله عنه ويحتمل انهم أرادوا
انه لا تجوز للمعدل الشهادة بالعدالة الا أن تكون له خبرة باطنة. فأما الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل
ولم يعرف حقيقة الحال فله ان يقبل الشهادة من غير كشف وإن استكشف الحال كما فعل عمر رضي
الله عنه فلا بأس
(فصل) ولا يسمع الجرح الا مفسرا ويعتبر فيه اللفظ فيقول اشهد انني رأيته يشرب الخمر
أو يعامل بالربا أو يظلم الناس بأخذ أموالهم أو ضربهم أو سمعته يقذف أو يعلم ذلك باستفاضته في
423

الناس ولابد من ذكر السبب وتعيينه وبهذا قال الشافعي وسوار وقال أبو حنيفة يقبل الجرح المطلق
وهو أن يشهد انه فاسق أو أن ليس بعدل وعن أحمد مثله لأن التعديل يسمع مطلقا فكذلك الجرح
ولان التصريح بالسبب يجعل الجارح فاسقا ويوجب عليه الحد في بعض الحالات وهو أن يشهد عليه
بالزنا فيفضي الجرح إلى جرح الجارح وتبطيل شهادته ولا يتجرح بها المجروح
ولنا أن الناس يختلفون في أسباب الجرح كاختلافهم في شارب النبيذ فوجب أو لا يقبل مجرد
الجرح لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جرحا ولان الجرح ينقل عن الأصل فإن الأصل في المسلمين العدالة
والجرح ينقل عنها فلابد ان يعرف الناقل لئلا يعتقد نقله بما لا يراه الحاكم ناقلا
وقولهم انه يفضي إلى جرح الجارح وإيجاب الحد عليه قلنا ليس كذلك لأنه يمكنه التعريض
من غير تصريح، فإن قيل ففي بيان السبب هتك المجروح، قلنا لابد من هتكه فإن الشهادة عليه بالفسق
هتك له ولكن جاز ذلك للحاجة الداعية إليه كما جازت الشهادة عليه به لإقامة الحد عليه بل ههنا أولى
فإن فيه دفع الظلم عن المشهود عليه وهو حق آدمي فكان أولى بالجواز ولان هتك عرضه بسببه لأنه
تعرض للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه فكان هو الهتك لنفسه إذ كان فعله هو المحوج للناس
424

إلى جرحه فإن صرح الجارح بقذفه بالزنا فعليه الحد ان لم يأت بتمام أربعة شهداء، وبهذا قال
أبو حنيفة وقال الشافعي لاحد عليه إذا كان بلفظ الشهادة لأنه لم يقصد ادخال المعرة عليه.
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
الآية ولان أبا بكرة ورفيقيه شهدوا على المغيرة بالزنا ولم يكمل زياد شهادته فجلدهم عمر حد القذف بمحضر
الصحابة فلم ينكره منكر فكان إجماعا ويبطل ما ذكروه بما إذا شهدوا عليه لإقامة الحد عليه
(فصل) وإذا أقام المدعى عليه بينة ان هذين الشاهدين شهدا بهذا الحق عند حاكم فرد شهادتهما
لفسقهما بطلب شهادتهما لأن الشهادة إذا ردت لفسق لم تقبل مرة ثانية.
(فصل) ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء، وقال أبو حنيفة يقبل لأنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة
فأشبه الرواية واخبار الديات
ولنا انها شهادة فيما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه
الشهادة في القصاص وما ذكروه غير مسلم.
425

(فصل) ولا يقبل الجرح من الخصم بلا خلاف بين العلماء، فلو قال المشهود عليه هذان فاسقان أو
عدوان لي أو آباء للمشهود له لم يقبل قوله لأنه متهم في قوله ويشهد بما يجر إليه نفعا فأشبه الشهادة
لنفسه، ولو قبلنا قوله لم يشأ أحد ان يبطل شهادة من شهد عليه الا أبطلها فتضيع الحقوق وتذهب
حكمة شرع البينة
(فصل) ولا تقبل شهادة المتوسمين وذلك إذا حضر مسافران فشهدا عند حاكم لا يعرفهما لم تقبل
شهادتهما وقال مالك يقبلهما إذا رأى فيهما سيما الخير لأنه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ففي التوقف عن قبولهما
تضييع الحقوق فوجب الرجوع فيهما إلى السيماء الجميلة
ولنا ان عدالتهما مجهولة فلم يجز الحكم بشهادتهما كشاهدي الحضر وما ذكروه معارض بان قبول
شهادتهما يفضي إلى أن يقضي بشهادتهما بدفع الحق إلى غير مستحقه
(فصل) قال أحمد ينبغي للقاضي أن يسأل عن شهوده كل قليل لأن الرجل ينتقل من حال إلى حال
وهل هذا مستحب أو واجب؟ فيه وجهان:
426

(أحدهما) مستحب لأن الأصل بقاء ما كان فلا يزول حتى يثبت الجرح و (الثاني) يجب البحث كلما
مضت مدة يتغير الحال فيها لأن العيب يحدث وذلك على ما يراه الحاكم ولأصحاب الشافعي وجهان مثل هذين
(فصل) وليس للحاكم أن يرتب شهودا لا يقبل غيرهم لأن الله تعالى قال (وأشهدوا ذوي عدل
منكم) ولان فيه اضرارا بالناس لأن كثيرا من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها تقع عند غير المرتبين
فمتى ادعى انسان شهادة غير المرتبين وجب على الحاكم سماع بينته والنظر في عدالة شاهديه ولا يجوز
ردهم بكونهم من غير المرتبين لأن ذلك يخالف الكتاب والسنة والاجماع لكن له أن يرتب شهودا
يشهدهم الناس فيستعنون باشهادهم عن تعديلهم ويستغني الحاكم عن الكشف عن أحوالهم فيكون فيه
تخفيف من وجه ويكونون أيضا يزكون من عرفوا عدالته من غيرهم إذا شهد
(فصل) ولا بأس ان يعظ الشاهدين كما روي عن شريح أنه كان يقول للشاهدين إذا حضرا
يا هذان ألا تريان؟ اني لم أدعكما ولست أمنعكما أن ترجعا وإنما يقضي على هذا أنتما وأنا متق بكما فاتقيا
وفي لفظ واني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة
427

وروى أبو حنيفة قال كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاء رجل فادعى على رجل
حقا فأنكره فاحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي به تقوم السماء والأرض
لقد كذبا علي في الشهادة وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال سمعت بن عمر يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة
وان شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار " فإن صدقتما فاثبتا وان كذبتما فغطيا رؤوسكما
وانصرفا فغطيا رؤوسهما وانصرفا
(مسألة) قال (ويكون كاتبه عدلا وكذلك قاسم)
(وجملته أنه يستحب للحاكم أن يتخذ كاتبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب زيد بن ثابت وغيره ولان
الحاكم تكثر أشغاله ونظره فلا يمكنه أن يتولى الكتابة بنفسه وان أمكنة تولي الكتابة بنفسه جاز والاستنابة
فيه أولى ولا يجوز ان يستنيب في ذلك الا عدلا لأن الكتابة موضع أمانة ويستحب أن يكون فقيها
428

ليعرف مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام ويفرق بين الجائز والواجب وينبغي أن يكون وافر
العقل ورعانزها لئلا يستمال بالطمع ويكون مسلما لأن الله تعالى قال (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) ويروى ان أبا موسى قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني
فأحضر أبو موسى شيئا من مكتوباته عند عمر فاستحسنه وقال قل لكاتبك يجئ فيقرأ كتابه قال إنه
لا يدخل المسجد قال ولم؟ قال إنه نصراني فانتهره عمر وقال لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى ولا
تقربوهم وقد أبعدهم الله تعالى ولا تعزوهم وقد أذلهم الله تعالى ولان الاسلام من شروط العدالة والعدالة
شرط وقال أصحاب الشافعي في اشتراط عدالته واسلامه وجهان
(أحدهما) تشترط لما ذكرنا (والثاني) لا تشترط لأن ما يكتبه لابد من وقوف القاضي عليه فتؤمن
الخيانة فيه ويستحب أن يكون جيد الحظ لأنه أكمل وأن يكون حرا ليخرج من الخلاف، وإن كان
عبدا جاز لأن شهادة العبد جائزة ويكون القاسم على الصفة التي ذكرنا في الكاتب ولابد من كونه
حاسبا لأنه عمله وبه يقسم فهو كالخط للكاتب والفقه للحاكم، ويستحب للحاكم أن يجلس كاتبه بين
يديه ليشاهد ما يكتبه، ويشافهه بما يملي عليه، وان قعد ناحية جاز لأن المقصود يحصل فإن
ما يكتبه يعرض على الحاكم فيستبرئه
429

(فصل) وإذا ترافع إلى الحاكم خصمان فأقر أحدهما لصاحبه فقال المقر له للحاكم أشهد لي على
اقراره شاهدين لزمه ذلك لأن الحاكم لا يحكم بعلمه فربما جحد المقر فلا يمكنه الحكم عليه بعلمه ولو
كان يحكم بعلمه احتمل أن ينسى فإن الانسان عرضة النسيان فلا يمكنه الحكم باقراره، وإن ثبت
عنده حق بنكول المدعى عليه أو بيمين المدعي بعد النكول فسأله المدعي أن يشهد على نفسه لزمه لأنه
لا حجة للمدعي سوى الاشهاد وإن ثبتت عنده بينة فسأله الاشهاد ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه لأن
بالحق بينة فلا يجب جعل بينة أخرى
(والثاني) يجب لأن في الاشهاد فائدة جديدة وهي اثبات تعديل بينته وإلزام خصمه، وإن حلف
المنكر وسأل الحاكم الاشهاد على برائته لزمه ليكون حجة لي في سقوط المطالبة مرة أخرى وفي جميع
ذلك إذا سأله أن يكتب له محضرا بما جرى ففيه وجهان
(أحدهما) يلزمه ذلك لأنه وثيقة له فهو كالاشهاد لأن الشاهدين ربما نسيا الشهادة أو نسيا
الخصمين فلا يذكرهما إلا ذوي خطيهما
430

(والثاني) لا يلزمه لأن الاشهاد يكفيه والأول أصح لأن الشهود تكثر عليهما الشهادات ويطول
عليهم الأمد فالظاهر أنهما لا يتحققان الشهادة تحققا يحصل به أداؤها فلا يتقيد إلا بالكتاب فإن اختار
أن يكتب له محضرا فصفته: حضر القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام فلان على كذا
وكذا، وإن كان خليفة القاضي قال خليفة القاضي فلان بن فلان الفلاني عبد الله قاضي الإمام بمجلس حكمه
وقضائه فإن كان يعرف المدعي والمدعى عليه بأسمائهما وأنسابهما قال فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه فلان بن
فلان الفلاني ويرفع في نسبهما حتى يتميز أو يستحب ذكر حليتهما وإن أخل به جاز لأن ذكر نسبهما إذا رفع فيه
أغنى عن ذكر الحلية وإن كان الحاكم لا يعرف الخصمين قال: مدع ذكر انه فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه
مدعى عليه ذكر انه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما ويذكر حليتهما لأن الاعتماد عليها فربما استعار النسب
ويقول أغم أو انزع ويذكر صفة العينين والأنف والفم والحاجبين واللون والطول والقصر ما ادعي عليه
كذا وكذا فأقر له ولا يحتاج ان يقول بمجلس حكمه لأن الاقرار يصح في غير مجلس الحكم، وإن
كتب انه شهد على اقراره شاهدان كان أوكد ويكتب الحاكم على رأس المحضر الحمد لله رب العالمين
431

أو ما أحب من ذلك، فاما إن أنكر المدعي عليه وشهدت عليه بينة قال: فادعى عليه كذا وكذا فأنكر
فسال الحاكم المدعي ألك بينة فأحضرها وسال الحاكم سماعها ففعل وساله ان يكتب له محضرا بما
جرى فاجابه إليه وذلك في وقت كذا، ويحتاج ههنا ان يذكر بمجلس حكمه وقضائه بخلاف الاقرار
لأن البينة لا تسمع الا في مجلس الحكم والاقرار بخلافه ويكتب الحاكم في آخر المحضر شهدا عندي
بذلك فإن كان مع المدعي كتاب فيه خط الشاهد كتب تحت خطوطهما أو تحت خط كل واحد منهما
شهد عندي بذلك ويكتب علامته في رأس المحضر وإن اقتصر على ذلك دون المحضر جاز
فاما إن لم تكن للمدعي بينة فاستحلف المنكر ثم سال المنكر الحاكم محضرا لئلا يحلف في ذلك
ثانيا كتب له مثل ما نقدم إلا أنه يقول: فأنكر فسال الحاكم المدعي ألك بينة فلم تكن له بينة فقال لك
يمينه فسأله أن يستحلفه فاستحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا وكذا ولابد من ذكر تحليفه
لأن الاستحلاف لا يكون الا في مجلس الحكم ويعلم في أوله خاصة، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين
قال: فعرض اليمين على المدعى عليه فنكل عنها فسال خصمه الحاكم أن يقضي عليه بالحق فقضي عليه في
وقت كذا ويعلم في آخره ويذكر ان ذلك في مجلس حكمه وقضائه فهذا صفة المحضر فاما ان سال صاحب
432

الحق الحاكم ان يحكم له بما ثبت في المحضر لزمه أن يحكم له به وينفذه فيقول: حكمت له به ألزمته الحق
أنفذت الحكم به فإن طلبه أن يشهد له على حكمه لزمه ذلك لتحصل له الوثيقة به فإن طالبه أن يسجل
له به وهو ان يكتب في المحضر ويشهد على إنفاذه سجل له وفي وجوب ذلك الوجهان المذكوران في
المحضر وهذه صورة السجل
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام
على كذا وكذا في مجلس حكمه وقضائه في موضع كذا وكذا في وقت كذا وكذا انه ثبت عنده
بشهادة فلان وفلان ونسبهما وقد عرفهما بما ساغ له به قبول شهادتهما عنده بما في كتاب نسخه وينسخ
الكتاب إن كان معه أو المحضر في اي حكم كان فإذا فرغ منه قال بعد ذلك فحكم به فانفذه وأمضاه
بعد أن سأله فلان بن فلان ان يحكم له به ويحتاج ان يذكر انه بمحضر المدعي عليه لأن القضاء على
الغائب جائز فإن أراد ان يذكره احتياطا قال بعد أن حضره من ساغ له الدعوى عليه ويكتب الحاكم
بالسجل والمحضر نسختين
(إحداهما) تكون في يد صاحب الحق (والأخرى) تكون في ديوان الحكم فإن هلكت إحداهما
433

نابت الأخرى عنها وبختم الذي في ديوان الحكم ويكتب على طيه سجل فلان بن فلان أو محضر
فلان بن فلان أو وثيقة فلان بن فلان فإن كثر ما عنده جمع ما يجتمع في كل يوم أو أسبوع أو شهر
على قدر كثرتها وقلتها وشدها إضبارة ويكتب عليها أسبوع كذا من شهر كذا من سنة كذا ثم
يضم ما يجتمع في السنة ويدعها ناحية ويكتب عليها كتب سنة كذا حتى إذا حضر من يطلب شيئا
منها سام عن السنة فيخرج كتب تلك السنة ويسهل، وينبغي أن يتولى جمعها وشدها بنفسه لئلا يزور
عليه فإن تولى ذلك ثقة من ثقاته جاز
(فصل) وينبغي أن يجعل من بيت المال شئ برسم الكاغد الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات
لأنه من المصالح فإنه يحفظ به الوثائق ويذكر الحاكم حكمه والشاهد شهادته ويرجع بالدرك على من
رجع عليه فإن أعوز ذلك لم يلزم الحاكم ذلك ويقول لصاحب الحق ان شئت جئت بكاغد أكتب
لك فيه فإنه حجة لك ولست أكرهك عليه
(فصل) وإذا ارتفع إليه خصمان فذكر أحدهما ان حجته في ديوان الحكم فاخرجها الحاكم من
434

ديوانه فوجدها مكتوبة بخطه تحت ختمه وفيها حكمه فإن ذكر ذلك حكم به وإن لم يذكره لم يحكم
به نص عليه احمد في الشهادة قاله بعض أصحابنا وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن، وعن أحمد
رضي الله عنه انه يحكم به وبه قال ابن أبي ليلى وهذا الذي رأيته عن أحمد في الشهادة لأنه إذا كان
في قمطره تحت ختمه لم يحتمل أن يكون إلا صحيحا
ووجه الأولى انه حكم حاكم لم يعلمه فلم يجز انفاذه إلا ببينة كحكم غيره ولأنه يجوز ان يزور
عليه وعلى ختمه والخط يشبه الخط. فإن قيل فلو وجد في دفتر أبيه حقا على انسان جاز له ان يدعيه
ويحلف عليه. قلنا هذا يخالف الحكم والشهادة بدليل الاجماع على أنه لو وجد بخط أبيه شهاده لم يجز
له أن يحكم بها ولا يشهد بها ولو وجد حكم أبيه مكتوبا بخطه لم يجز له انفاذه ولأنه يمكنه الرجوع في
ما حكم به عليه إلى نفسه لأنه فعل نفسه فروعي ذلك. وأما ما كتبه أبوه فلا يمكنه الرجوع فيما حكم
به إلى نفسه فيكفي فيه الظن
435

(فصل) فإن ادعى رجل على الحاكم أنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي فذكر الحاكم حكمه
أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه وليس هذا حكما بالعلم أنما هو امضاء لحكمه السابق وإن لم يذكره
القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولها وامضاء القضاء، وبه قال ابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن
قال القاضي هذا قياس قول احمد لأنه قال يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي لا يقبل لأنه يمكنه الرجوع إلى الإحاطة والعلم فلا يرجع
إلى الظن كالشاهد إذا نسي شهادته فشهد عنده شاهدان انه شهد لم يكن له ان يشهد
ولنا انهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل فكذلك إذا شهدا عنده بحكم نفسه ولأنهما شهدا بحكم
حاكم وما ذكروه لا يصح لأن ذكر ما نسيه ليس إليه ويخالف الشاهد لأن الحاكم يمضي ما حكم به إذا
ثبت عنده والشاهد لا يقدر على امضاء شهادته وإنما يمضيها الحاكم
(مسألة) قال (ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته)
وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة قال مسروق
إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت، وإذا قبل لرشوة بلغت به الكفر وقد روى أبو حميد الساعدي
436

قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فقال هذا لكم وهذا
أهدي إلي فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " ما بال العامل نبعثه فيجئ فيقول هذا لكم
وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحدا
منكم فيأخذ شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة
تيعر فرفع يده حتى رأيت عفرة إبطيه فقال " اللهم هل بلغت ثلاثا؟) متفق عليه ولان حدوث الهدية
عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه فلم يجز قبولها
منه كالرشوة، فاما إن كان يهدي إليه قبل ولايته جاز قبولها منه بعد الولاية لأنها لم تكن من أجل الولاية
لوجود سببها قبل الولاية بدليل وجودها قبلها قال القاضي ويستحب له التنزه عنها، وان أحس أنه
يقدمها بين يدي خصومه أو فعلها حال الحكومة حرم أخذها في هذه الحال لأنها كالرشوة وهذا
كله مذهب الشافعي، وروي عن أبي حنيفة وأصحابه أن قبول الهدية مكروه غير محرم، وفيما
ذكرنا دلالة على التحريم
(فصل) فاما الرشوة في الحكم ورشوة العامل فحرام بلا خلاف قال الله تعالى (أكالون للسحت)
437

قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسيره هو الرشوة وقال إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به إلى الكفر
وروى عبد الله بن عمر قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي قال الترمذي هذا حديث
حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم ورواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد والرائش وهو
السفير بينهما ولان المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم
قال مسروق سألت ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم قال لا (ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون - والظالمون - والفاسقون) ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيهدي
لك فلا تقبل، وقال قتادة قال كعب الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم فأما الراشي فإن رشاه
ليحكم له بباطل أو يدفع عنه حقا فهو ملعون، وإن رشاة ليدفع ظلمه ويجزيه على واجبة فقد قال عطاء
وجابر بن زيد والحسن لا بأس أن يصانع عن نفسه قال جابر بن زيد ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا
من الرشا ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها
فعليه ردها إلى أربابها لأنه أخذها بغير حق فأشبه المأخوذ بعقد فاسد ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن
438

النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية بردها على أربابها وقد قال احمد إذا اهدى البطريق لصاحب الجيش عينا
أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو بكر يكونون فيه سواء
(فصل) ولا ينبغي للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه لما روى أبو الأسود المالكي عن أبيه
عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما عدل وال أتجر رعيته ابدا " ولأنه يعرف فيحابي فيكون كالهدية
ولان ذلك يشغله عن النظر في أمور الناس
وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه لما بويع أخذ الذراع وقصد السوق فقالوا يا خليفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يسعك أن تشتغل عن أمور المسلمين قال فاني لا أدع عيالي يضيعون قالوا فنحن نفرض لك
ما يكفيك ففرضوا له كل يوم درهمين فإن باع واشترى صح البيع لأن البيع تم بشروطه وأركانه،
وان احتاج إلى مباشرته ولم يكن له من يكفيه جاز ذلك ولم يكره لأن أبا بكر رضي الله عنه قصد
السوق ليتجر فيه حتى فرضوا له ما يكفيه، ولان القيام بعياله فرض عين فلا يتركه لوهم مضرة وأما إذا
استغني عن مباشرته ووجد من يكفيه ذلك كره له لما ذكرناه من المعنيين وينبغي أن يوكل في ذلك
439

من لا يعرف انه وكيله لئلا يحابى وهذا مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه قال لا يكره له البيع والشراء
وتوكيل من يعرف لما ذكرنا من قضية أبي بكر رضي الله عنه
ولنا ما ذكرناه وروي عن شريح أنه قال شرط علي عمر حين ولاني القضاء أن لا أبيع ولا
أبتاع ولا أرتشي ولا أقضي وأنا غضبان، وقضية أبي بكر حجة لنا فإن الصحابة أنكروا عليه فاعتذر
بحفظ عياله عن الضياع فلما أغنوه عن البيع والشراء بما فرضوا لهم قبل قولهم وترك التجارة فحصل
الاتفاق منهم على تركها عند الغنى عنها
(فصل) ويجوز للحاكم حضور الولائم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضرها ويأمر بحضورها، وقال " من
لم يجب فقد عصى الله ورسوله " فإن كثرت وازدحمت تر؟؟؟ كلها ولم يجب أحدا لأن ذلك يشغله عن الحكم
الذي قد تعين عليه لكنه يعتذر إليهم ويسألهم التحليل، ولا يجيب بعضا دون بعض لأن في ذلك
كسرا لقلب من لم يجبه إلا أن يختص بعضها بعذر يمنعه دون بعض مثل أن يكون في إحداهما منكر
أو تكون في مكان بعيد أو يشتغل بها زمنا طويلا والأخرى بخلاف ذلك فله الإجابة إليها دون الأولى
لأن عذره ظاهر في التخلف عن الأولى
440

(فصل) وله عيادة المرضى وشهود الجنائز واتيان مقدم الغائب وزيارة إخوانه والصالحين من الناس
لأنه قربة وطاعة وان كثر ذلك فليس له الاشتغال به عن الحكم لأن هذا تبرع فلا يشتغل به عن الفرض
وله حضور البعض دون البعض لأن هذا يفعله لنفع نفسه لتحصيل الاجر والقربة له والولائم يراعى فيها
حق الداعي فينكسر قلب من لم يجبه إذا أجاب غيره
(مسألة) قال (ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب)
وجملته أن على القاضي العدل بين الخصمين في كل شئ من المجلس والخطاب واللحظ واللفظ
والدخول عليه والانصات إليهما والاستماع وهذا قول شريح وأبي حنيفة والشافعي ولا أعلم فيه
مخالفا، وقد روى عمر بن شبة في كتاب قضاة البصرة باسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "
من
بلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين مالا
يرفعه على الآخر " وفي رواية " فليسو بينهم في النظر والمجلس والإشارة " وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي
441

سو بين الناس في مجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع شريف في حيفك؟
وقال سعيد ثنا هشيم ثنا سيار ثنا الشعبي قال كان بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي بن كعب
بدار في شئ فجعلا بينهما زيد بن ثابت فأتياه في منزله فقال له عمر أتيناك لتحكم بيننا في بينة
تؤتي الحاكم فوسع له زيد عن صدر فراشة فقال ههنا يا أمير المؤمنين فقال له عمر جرت في
أول القضاء ولكن اجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبي وأنكر عمر فقال زيد لأبي
اعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لا سألها لاحد غيره فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد باب
القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء ورواه عمر بن شبة وفيه فلما أتيا باب زيد
خرج فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لاتيتك قال في بينة تؤتي الحكم فلما دخلا عليه
قال ههنا يا أمير المؤمنين قال بل أجلس مع خصمي فادعى أبي وأنكر عمر ولم تكن لأبي بينة فقال
زيد اعف أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر تالله ان زلت ظالما السلام عليك يا أمير المؤمنين، ههنا
442

يا أمير المؤمنين، اعف أمير المؤمنين ولم يعفي أمير المؤمنين؟ إن كان لي حق استحققته بيميني والا تركته
والله الذي لا إله إلا هو ان النخل لنخلي وما لأبي فيها حق ثم أقسم عمر لا يصيب زيد وجه القضاء
حتى يكون عمر وغيره من الناس عنده سواء فلما خرجا وهب النخل لأبي فقيل له يا أمير المؤمنين
فهلا كان هذا قبل أن تحلف؟ قال خفت ان أترك اليمين فتصير سنة فلا يحلف الناس على حقوقهم،
وقال إبراهيم جاء رجل إلى شريح وعنده السري بن وقاص فقال الرجل لشريح أعاني على هذا
الجالس عندك فقال شريح للسري قم فاجلس مع خصمك قال إني أسمعك من مكاني قال لا قم فاجلس
مع خصمك فأبى ان يسمع منه حتى أجلسه مع خصمه
وفي رواية قال إن مجلسك يريبه وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر، ولما تحاكم علي رضي الله عنه
واليهودي إلى شريح قال علي إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ولان الحاكم إذ ميز أحد
الخصمين على الآخر حصر وانكسر قلبه وربما لم تقم حجته فأدي ذلك إلى ظلمه وان أذن أحد
443

الخصمين للحاكم في رفع الخصم الآخر عليه في المجلس جاز لأن الحق له ولا ينكسر قلبه إذا
كان هو الذي رفعه.
والسنة ان يجلس الخصمان بين يدي القاضي لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان
بين يدي الحاكم رواه أبو داود وقال علي رضي الله عنه لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين يديك
ولان ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما والاقبال عليهما والنظر في خصومتهما، وإن كان الخصمان ذميين
سوى بينهما أيضا لاستوائهما في دينهما وإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا جاز رفع المسلم عليه لما روى
إبراهيم التيمي قال وجد علي كرم الله وجهه درعه مع يهودي فقال درعي سقطت وقت كذا فقال
اليهودي درعي وفي يدي بيني وبينك قاضي المسلمين فارتفعا إلى شريح فلما رآه شريح قام من مجلسه
وأجلسه في موضعه وجلس مع اليهودي بين يديه، فقال علي ان خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين
يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تساووهم في المجالس " ذكره أبو نعيم في الحليلة ولا
ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه اما ان يضيفهما معا أو يدعهما.
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه نزل به رجل فقال له انك خصم؟ قال نعم قال تحول عنا
444

فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تضيفوا أحد الخصمين الا ومعه خصمه " ولان ذلك يوهم الخصم
ميل الحاكم إلى من اضافه ولا يلقن أحدهما حجته ولا ما فيه ضرر على خصمه مثل ان يريد أحدهما
الاقرار فيلقنه الانكار أو اليمين فيلقنه النكول أو النكول فيجرئه على اليمين أو يحس من الشاهد بالتوقف
فيجسره على الشهادة أو يكون مقدما على الشهادة فيوقفه عنها أو يقول لأحدهما وحده تكلم ونحو هذا
مما فيه اضرار بخصمه لأن عليه العدل بينهما
فإن قيل: قد لقن النبي صلى الله عليه وسلم السارق فقال " ما إخالك سرقت " وقال عمر لزياد أرجوا ان لا يفضح
الله على يديك رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا لا يرد هذا الالزام ههنا فإن
هذا في حقوق الله وحدوده ولا خصم للمقر ولا للمشهود عليه فليس في تلقينه حيف على أحد
الخصمين ولا ترك للعدل في أحد الجانبين والذي قلنا في المختلفين في حق من حقوق الآدميين ولا ينبغي
ان يعنت الشاهد ولا يداخله في كلامه ويعنفه في ألفاظه
(فصل) وإذا حضر القاضي خصوم كثيرة قدم الأول فالأول وينبغي ان يبعث من يكتب من جاء الأول فالأول فيقدمه قال ابن المنذر الأحسن ان يتخذ خيطا ممدودا طرفه يلي مجلس الحاكم
والطرف الآخر يلي مجلس الخصوم فكل من جاء كتب اسمه في رقعة وثقبها وادخلها في الخيط
445

مما يلي مجلس الخصوم حتى يأتي على آخرهم فإذا جلس القاضي مد يده إلى الطرف الذي يليه فأخذ
الرقعة التي تليه ثم التي بعدها كذلك حتى يأتي على آخرها فإن بقي منها شئ وزال الوقت الذي يقضي
فيه عرف الطرف الذي يليه حين يجلس فيتناول في المجلس الثاني الرقاع كفعله بامس والاعتبار
بسبق المدعي لأن الحق له ومتى قدم رجلا لسبقه فحكم بينه وبين خصمه فقال لي دعوى أخرى
لم يسمع منه لأنه قد قدمه بسبقه في خصومة فلا يقدمه بأخرى ويقول له اجلس حتى إذا لم يبق أحد
من الحاضرين نظرت في دعواك الأخرى ان أمكن فإذا فرغ الكل فقال الأخير، بعد فصل خصومته
لي دعوى أخرى لم يسمع منه حتى يسمع دعوى الأول الثانية ثم يسمع دعواه، وان ادعى المدعى
عليه على المدعي حكم بينهما لأننا إنما نعتبر الأول فالأول في الدعوى لا في المدعي عليه وإذا نقدم
الثاني فادعى على المدعي الأول أو المدعى عليه الأول حكم بينهما. وان حضر اثنان أو جماعة دفعة واحدة
أقرع بينهم فقدم من خرجت له القرعة لتساوي حقوقهم وان كثر عددهم كتب أسماءهم في رقاع
وتركها بين يديه ومد يده فأخذ رقعة رقعة واحدة بعد أخرى ويقدم صاحبها حسب ما يتفق
446

(فصل) فإن حضر مسافرون ومقيمون فكان المسافرون قليلا بحيث لا يضر تقديمهم على المقيمين
قدمهم لأنهم على جناح السفر ويشتغلون بما يصلح الرحيل وقد خفف الله عنهم الصوم وشطر
الصلاة تخفيفا عنهم وفي تأخيرهم ضرر بهم فإن شاء أفرد لهم يوما يفرغ من حوائجهم فيه. وإن شاء
قدمهم من غير افراد يوم لهم فإن كانوا كثيرا بحيث يضر تقديمهم فهم والمقيمون سواء لأن تقديمهم مع
لقلة إنما كان لدفع الضرر المختص بهم فإذا آل دفع الضرر عنهم إلى الضرر بغيرهم تساووا ولا خلاف
في أكثر هذه الآداب وأنها ليست شرطا في صحة القضاء فلو قدم المسبوق أو قدم الحاضرين أو نحوه
كان قضاؤه صحيحا.
(فصل) وإذا نقدم إليه خصمان فإن شاء قال من المدعي منكما؟ لأنهما حضرا لذلك وان شاء سكت
ويقول القائم على رأسه من المدعي منكم؟ إن سكتا جميعا، ولا يقول الحاكم ولا صاحبه لأحدهما تكلم لأن
في افراده بذلك تفضيلا له وتركا للانصاف.
قال عمر بن قيس شهدت شريحا إذا جلس إليه الخصمان ورجل قائم على رأسه يقول أيكما
المدعي فليتكلم؟ وان ذهب الآخر يشغب غمزه حتى يفرغ المدعي ثم يقول تكلم فإن بدأ أحدهما
447

فادعى فقال خصمه أنا المدعي لم يلتفت الحاكم إليه، وقال أجب عن دعواه ثم ادع بعد ما شئت فإن
ادعيا معا فقياس المذهب أن يقرع بينهما وهو قياس قول الشافعي لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر
وقد تعذر الجمع بينهما فيقرع بينهما كالمرأتين إذا زفتا في ليلة واحدة واستحسن ابن المنذر أن يسمع
منهما جميعا وقيل يرجئ أمرهما حتى يتبين المدعي منهما وما ذكرناه أولى لأنه لا يمكن الجمع بين
الحكم في القضيتين معا وإرجاء أمرهما اضرار بها وفيما ذكرنا دفع الضرر بحسب الامكان وله نظير في
مواضع من الشرع فكان أولى
(فصل) ولا يسمع الحاكم الدعوى الا محررة الا في الوصية والاقرار لأن الحاكم يسأل المدعى
عليه عما ادعاه فإن اعترف به لزمه ولا يمكنه ان تلزمه مجهولة ويفارق الاقرار فإن الحق عليه فلا
يسقط بتركه اثباته وإنما صحت الدعوى في الوصية مجهولة لأنها تصح مجهولة فإنه لو وصى به بشئ
أو سهم صح فلا يمكنه أن يدعيها الا مجهولة كما ثبت وكذلك الاقرار لما صح أن يقر بمجهول صح
لخصمه أن يدعي عليه أنه أقر له بمجهول
448

إذا ثبت هذا فإن كان المدعى أثمانا فلابد من ذكر ثلاثة أشياء: الجنس. والنوع. والقدر
فيقول عشرة دنانير بصرية، وان اختلفت بالصحاح والمكسرة قال صحاح أو قال مكسرة، وإن كانت
الدعوى في غير الأثمان وكانت عينا تنضبط بالصفات كالحبوب والثياب والحيوان احتاج أن يذكر
الصفات التي تشترط في السلم وان ذكر القيمة كان آكد الا ان الصفة تغني فيه كما تغني في العقد.
وان كانت جواهر ونحوها مما لا ينضبط بالصفة فلابد من ذكر قيمتها لأنها لا تنضبط إلا بها، وإن
كان المدعى تالفا وهو مما له مثل كالمكيل والموزون ادعى مثله وضبطه بصفته وإن كان مما لا مثل له كالنبات
والحيوان ادعى قيمته لأنها تجب بتلفه، وإن كان التالف شيئا محلى بفضة أو بذهب قومه بغير جنس
حليته، وإن كان محلى بذهب وفضة قومه بما شاء منهما لأنه موضع حاجة، وإن كان المدعى عقارا
فلابد من بيان موضعه وحدوده فيدعي ان هذه الدار بحدودها وحقوقها لي وانها في يده ظلما وأنا
أطالبه بردها علي، وان ادعى عليه ان هذه الدار لي وانه يمنعني منها صحت الدعوى وان لم يقل إنها في
يده لأنه يجوز ان ينازعه ويمنعه وان لم تكن في يده، وان ادعى جراحة لها أرش معلوم كالموضحة
من الحر جاز ان يدعي الجراحة ولا يذكر أرشها لأنه معلوم وان كانت من عبد أو كانت من حر لا
مقدر فيها فلابد من ذكر أرشها، وان ادعى على أبيه دينا لم تسمع الدعوى حتى يدعي ان أباه مات
449

وترك في يده مالا لأن الولد لا يلزمه قضاء دين والده ما لم يكن كذلك ويحتاج ان يذكر تركة أبيه
ويحررها ويذكر قدرها كما يصنع في قدر الدين هكذا ذكره القاضي والصحيح أنه يحتاج إلى ذكر
ثلاثة أشياء تحرير دينه وموت أبيه وانه وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء لدينه وان قال ما فيه وفاء
لبعض دينه احتاج أن يذكر ذلك القدر والقول قول المدعى عليه في نفي تركة الأب مع يمينه، وان أنكر
موت أبيه فالقول قوله مع يمينه ويكفيه ان يحلف على نفي العلم لأنه على نفي فعل الغير وقد يموت ولا
يعلم به ابنه ويكفيه أن يحلف أن ما وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء حقه ولا شئ منه ولا يلزمه أن
يحلف أن أباه لم يخلف شيئا لأنه قد يخلف تركة فلا تصل إليه فلا يلزمه الايفاء منه فإن لم يحسن المدعي
تحرير الدعوى فهل للحاكم ان يلقنه تحريرها؟ يحتمل وجهين:
(أحدهما) يجوز لأنه لا ضرر على صاحبه في ذلك (والثاني) لا يجوز لأن فيه إعانة أحد
الخصمين في حكومته.
(فصل) إذا حرر المدعي دعواه فللحاكم أن يسأل خصمه الجواب قبل ان يطلب منه المدعي
ذلك لأن شاهد الحال يدل عليه لأن احضاره والدعوى إنما يراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد اغنى
450

ذلك عن سؤاله فيقول لخصمه ما نقول فيما يدعيه؟ فإن أقر لزمه وليس للحاكم أن يحكم على الا بمسألة
المقر له لأن الحكم عليه حق له فلا يستوفيه الا بمسألة مستحقه هكذا ذكر أصحابنا. ويحتمل ان
يجوز له الحكم عليه قبل مسألة المدعي لأن الحال تدل على إرادته ذلك فاكتفي بها كما اكتفي بها في
مسألة المدعى عليه الجواب ولان كثيرا من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك فيترك مطالبته به
لجهله فيضيع حقه فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته، وعلى القول الأول ان سأله الخصم فقال احكم
لي حكم عليه والحكم أن يقول قد ألزمتك ذلك أو قضيت عليك له أو يقول اخرج له منه فمتى قال
له أحد هذه الثلاثة كان حكما بالحق؟ وان أنكر فقال لا حق لك قبلي فهذا موضع البينة قال الحاكم
ألك بينة؟ لما روي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم حضرمي وكندي فقال الحضرمي
يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي هي أرضي وفي يدي وليس
له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي " ألك بينة؟ " قال لا قال " فلك يمينه " وهو حديث حسن
صحيح، وإن كان المدعي عارفا بأنه موضع البينة فالحاكم مخير بين أن يقول ألك بينة؟ وبين أن يسكت
فإذا قال له ألك بينة؟ وذكر أنه له بينة حاضرة لم يقل له الحاكم أحضرها لأن ذلك حق له فله أن يفعل
451

ما يرى، وإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما عندها حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يسئله ولا
يتصرف فيه من غير اذنه، فإذا سأله المدعي سؤالها قال من كانت عنده شهادة فليذكرها ان شاء؟ ولا
يقول لهما اشهدا لأنه أمر، وكان شريح يقول للشاهدين ما أنا دعوتكما ولا انها كما أن ترجعا وما يقضي
على هذا المسلم غيركما واني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة وإن رأى الحاكم عليهما ما يوجب
رد شهادتهما ردها كما روي عن شريح انه شهد عنده شاهد وعليه قباء مخروط الكمين فقال له شريح
أتحسن أن توضأ؟ قال نعم قال فاحسر عن ذراعيك فذهب يحسر عنهما فلم يستطع فقال له شريح قم فلا
شهادة لك. وان أديا الشهادة على غير وجهها مثل أن يقولا بلغنا ان عليه ألفا أو سمعنا ذلك ردت
شهادتهما. وشهد رجل عند شريح فقال أشهد انه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات، فقال شريح أتشهد
انه قتله؟ قال أشهد انه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات، قال أتشهد انه قتله؟ قال أشهد انه اتكأ عليه
بمرفقه حتى مات، قال قم لا شهادة لك. وان كانت شهادة صحيحة وعرف الحاكم عدالتهم قال للمشهود
عليه قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهما فبينه عندي، فإن سأل الانظار أنظره اليومين
والثلاثة، فإن لم يجرح حكم عليه لأن الحق قد وضح على وجه لا إشكال فيه وان ارناب بشهادتهم
452

فرقهم فسأل كل واحد عن شهادته وصفتها فيقول كنت أول من شهد أو كتبت أو لم تكتب وفي
أي مكان شهدت؟ وفي أي شهر؟ وأي يوم؟ وهل كنت وحدك أو معك غيرك؟ فإن اختلفوا سقطت
شهادتهم، وان اتفقوا بحث عن عدالتهم ويقال أول من فعل هذا دانيال ويقال فعله سليمان وهو صغير
وروي عن علي رضي الله عنه ان سبعة نفر خرجوا ففقد واحد منهم فأتت زوجته عليا فدعى
الستة فسألهم عنه فأنكروا ففرقهم وأقام كل واحد عنه سارية ووكل به من يحفظه ودعى واحد منهم
فسأله فأنكر فقال الله أكبر فظن الباقون انه قد اعترف فدعاهم فاعترفوا فقال للأول قد شهدوا
عليك وأنا قاتلك فاعترف فقتلهم. وان لم يعرف عدالتهما بحث عنها فإن لم تثبت عدالتهما قال للمدعي
زدني شهودا، وان لم تكن له بينة عرفه الحاكم ان لك يمينه وليس للحاكم أن يستحلفه قبل مسألة
المدعي لأن اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها من غير مطالبة مستحقها كنفس الحق فإن استحلفه من
غير مسألة أو بادر المنكر فحلف لم يعتد بيمينه لأنه أتى بها في غير وقتها. وإذا سألها المدعي أعادها
له لأن الأولى لم تكن يمينه. وإن أمسك المدعي عن إحلاف المدعى عليه ثم أراد إحلافه بالدعوى
المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه منها وإنما أخرها. وان قال أبرأتك من هذه اليمين سقط حقه منها في
453

هذه الدعوى وله أن يستأنف الدعوى لأن حقه لا يسقط بالابراء من اليمين. فإن استأنف الدعوى
فأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه فيها من اليمين فإن حلف
سقطت الدعوى ولم يكن للمدعي أن يحلفه يمينا أخرى لا في هذا المجلس ولا في غيره. وإن كان
الحق لجماعة فرضوا بيمين واحدة جاز وسقطت دعواهم باليمين لأنها حقهم ولأنه لما جاز ثبوت الحق
ببينة واحدة لجماعة جاز سقوطه بيمين واحدة
قال القاضي: ويحتمل أن لا يصح حتى يحلف لكل واحد يمينا وهو أحد لوجهين لأصحاب
الشافعي لأن اليمين حجة في حق الواحد فإذا رضي بها اثنان صارت الحجة في حق كل واحد منهما
ناقصة والحجة الناقصة لا تكمل برضى الخصم كما لو رضي أن يحكم عليه بشاهد واحد. والصحيح
الأول لأن الحق لهما فإذا رضيا به جاز ولا يلزم من رضاهما بيمين واحدة أن يكون لكل واحد بعض
اليمين كما أن الحقوق إذا قامت بها بينة واحدة لا يكون لك حق بعض البينة. فأما ان حلفه لجميعهم
يمينا واحدة بغير رضاهم لم تصح يمينه بلا خلاف نعلمه
وقد حكى الإصطخري ان إسماعيل بن إسحاق القاضي حلف رجلا بحق لرجلين يمينا واحدة
454

فخطأه أهل عصره. وان قال المدعي لي بينة غائبة قال له الحاكم لك يمينه فإن شئت فاستحلفه وان
شئت أخرته إلى أن تحضر بينتك وليس لك مطالبته بكفيل ولا ملازمته حتى تحضر البينة نص عليه
أحمد وهو مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك " فإن
احلفه ثم حضرت بينته حكم بها ولم تكن مزيلة للحق لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة
فإذا وجدت البينة بطلت اليمين وتبين كذبها. وان قال لي بينة حاضرة وأريد يمينه ثم أقيم بينتي
لم يملك ذلك. وقال أبو يوسف يستحلفه وان نكل قضى عليه لأن في الاستحلاف فائدة وهو انه
ربما نكل فقضى عليه فأغنى عن البينة
ولنا قوله عليه السلام " شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك " وأو للتخيير بين شيئين فلا
يكون له الجمع بينهما ولأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة فلم يشرع غيرها مع إرادة المدعي إقامتها
وحضورها كما لو لم يطلب يمينه ولان اليمين بدل فلم يجب الجمع بينها وبين مبدلها كسائر الابدال مع
مبدلاتها. وان قال المدعي لا أريد إقامتها وإنما أريد يمينه اكتفي بها استحلف لأن البينة حقه فإذا
رضي باسقاطها وترك اقامتها فله ذلك كنفس الحق فإن حلف المدعى عليه ثم أراد المدعي إقامة بينته
455

فهل يملك ذلك؟ يحتمل وجهين (أحدهما) له ذلك لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف كما لو كانت غائبة
(والثاني) ليس له ذلك لأنه قد أسقط حقه من اقامتها. ولان تجويز اقامتها يفتح باب الحيلة
لأنه يقول لا أريد اقامتها ليحلف خصمه ثم يقيمها فإن كان له شاهد واحد في الأموال عرفه الحاكم
أن له أن يحلف مع شاهده ويستحق فإن فإن قال لا أحلف انا وأرضى بيمينه استحلف له فإذا حلف
سقط الحق عنه فإن عاد المدعي بعدها فقال إنا أحلف مع شاهدي لم يستحلف ولم يسمع منه. ذكره
القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين فعله وهو قادر عليها فأمكنه أن يسقطها بخلاف البينة وإن
عاد قبل أن يحلف المدعى عليه فبذل اليمين فقال القاضي ليس له ذلك في هذا المجلس وكل موضع قلنا
يستحلف المدعى عليه فإن الحاكم يقول له إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا وقضيت عليك ثلاثا فإن حلف
والا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك فإن سكت عن جواب الدعوى فلم يقر ولم ينكر حبسه الحاكم
حتى يجيب ولا يجعله بذلك ناكلا ذكره القاضي في المجرد
وقال أبو الخطاب: يقول له الحاكم ان أجبت والا جعلتك ناكلا وحكمت عليك ويكرر ذلك
عليه فإن أجاب والا جعله ناكلا وحكم عليه لأنه نأكل عما توجه عليه الجواب فيه فيحكم عليه
بالنكول عنه كاليمين
456

(مسألة) قال (وإذا حكم على رجل في عمل غيره فكتب بانفاذ القضاء عليه إلى قاضي
ذلك البلد قبل كتابه وأخذ المحكوم عليه بذلك الحق)
ثم الأصل في كتاب القاضي إلى القاضي والأمير إلى الأمير الكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فقول الله (إني ألقي إلي كتاب كريم * انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن
الرحيم * الا تعلوا علي وائتوني مسلمين)
وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى و قيصر والنجاشي وملوك الأطراف وكان يكتب
إلى ولاته ويكتب لعماله وسعاته وكان في كتابه إلى قيصر " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول
الله إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فاسلم تسلم واسلم يؤتك الله أجرا عظيما فإن توليت فإن عليك اثم
الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم "
وروى الضحاك بن سفيان قال: كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ورث امرأة اشيم الضبابي
من دية زوجها
457

وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي ولان الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في
بلد غير بلده ولا يمكنه اتيانه والمطالبة به الا بكتاب القاضي فوجب قبوله. وإذا ثبت هذا فإن كتاب
القاضي يقبل في الأموال وما يقصد به المال ولا يقبل في الحدود كحق الله تعالى وهل يقبل فيما عدا
هذا؟ على وجهين، وبهذا قال أصحاب الرأي، قال أصحاب الشافعي يقبل في كل حق لآدمي من الجراح
وغيرها وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى؟ على قولين، وتمام الكلام في هذا الفصل يذكر في الشهادة
على الشهادة إن شاء الله تعالى، والكتاب على ضربين:
(إحداهما) أن يكتب بما حكم به وذلك مثل أن يحكم على رجل بحق فيغيب قبل إيفانه أو يدعي
حقا على غائب ويقيم به بينة ويسأل الحاكم الحكم عليه فيحكم عليه ويسأله ان يكتب له كتابا يحمله إلى قاضي
البلد الذي فيه الغائب فيكتب له إليه أو تقوم البينة على حاضر فيهرب قبل الحكم عليه فيسأل صاحب الحق
الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتابا بحلمه ففي هذه الصور الثلاث يلزم الحاكم اجابته إلى الكتابة ويلزم
المكتوب إليه قبوله سواء كانت بينهما مسافة بعيدة أو قريبة حتى لو كانا في جانبي بلد أو مجلس لزمه
458

قبوله وامضاؤه سواء كان حكما على حاضر أو غائب لا نعلم في هذا خلافا لأن حكم الحاكم يجب
إمضاؤه على كل حاكم
(الضرب الثاني) أن يكتب بعلمه بشهادة شاهدين عنده بحق لفلان مثل أن تقوم البينة عنده
بحق لرجل على آخر ولم يحكم به فيسأله صاحب الحق أن يكتب له كتابا بما حصل عنده فإنه يكتب
له أيضا. قال القاضي ويكون في كتابه: شهد عندي فلان وفلان بكذا وكذا ليكون المكتوب إليه هو
الذي يقضي به ولا يكتب ثبت عدني لأن قوله ثبت عندي حكم بشهادتهما فهذا لا يقبله المكتوب
إليها الا في المسافة البعيدة التي هي مسافة القصر ولا يقبله فيما دونها لأنه نقل شهادة فاعتبر فيه ما يعتبر
في الشهادة على الشهادة ونحو هذا قول الشافعي
وقال أبو يوسف ومحمد يجوز أن يقبله في بلده وحكي عن أبي حنيفة مثل هذا، وقال بعض
المتأخرين من أصحابه الذي يقتضيه مذهبه انه لا يجوز ذلك في الشهادة على الشهادة واحتج من أجازه
بأنه كتاب الحاكم بما ثبت عنده فجاز قبوله مع القرب ككتابه بحكمه
ولنا ان ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب إليه فلم يجز مع القرب كالشهادة على الشهادة ويفارق كتابه
459

بالحكم فإن ذلك بنقل وإنما هو خبر وكل موضع يلزمه قبول الكتاب فإنه يأخذ المحكوم عليه بالحق
الذي حكم عليه به فيبعث إليه فيستدعيه فإن اعترف بالحق أمره بأدائه وألزمه إياه وإن قال لست المسمى
في هذا الكتاب فالقول قوله مع يمينه الا أن يقيم المدعي بينة انه المسمى في الكتاب وإن اعترف ان هذا
الاسم اسمه والنسب نسبه والصفة صفته الا أن الحق ليس هو عليه إنما هو على آخر يشاركه في الاسم
460

والنسب والصفة فالقول قول المدعي في نفي ذلك لأن الظاهر عدم المشاركة في هذا كله فإن أقام المدعى
عليه بينة بما ادعاه من وجود مشارك له في هذا كله أحضره الحاكم وسأله عن الحق فإن اعترف به ألزمه
به وتخلص الأول وإن أنكره وقف الحكم وكتب إلى الحاكم الكاتب يعلمه الحال وما وقع من الاشكال
حتى يحضر الشاهدين فيشهدا عنده بما يتميز به المشهود عليه منهما
وإن ادعى المسمى انه كان في البلد من يشاركه في الاسم والصفة وقد مات نظرنا فإن كان موته
461

قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها أو كان ممن لم يعاصره المحكوم عليه أو المحكوم له لم يقع اشكال
وكان وجوده كعدمه، وإن كان موته بعد الحكم أو بعد المعاملة وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين
المحكوم له معاملة فقد وقع الاشكال كما لو كان حيا لجواز أن يكون الحق على الذي مات
(فصل) وإذا كتب الحاكم بثبوت بينة أو اقرار بدين جاز وحكم به المكتوب إليه وأخذ المحكوم
462

عليه به وإن كان ذلك عينا كعقار محدود وعين مشهودة لا تشتبه بغيرها كعبد معروف مشهور أو
دابة كذلك حكم به المكتوب إليه أيضا وألزم تسليمه إلى المحكوم له به وإن كان عينا لا تتميز إلا بالصفة
كعبد غير مشهود أو غيره من الأعيان التي لا تتميز إلا بالوصف ففيه وجهان
463

(أحدهما) لا يقبل كتابه وبه قال أبو حنيفة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوصف
لا يكفي بدليل انه لا يصح أن يشهد لرجل بالوصف والتحلية كذلك المشهود به
(والثاني) يجوز لأنه ثبت في الذمة بالعقد على هذه الصفة فأشبه الدين ويخالف المشهود له فإنه
لا حاجة إلى ذلك فيه فإن الشهادة له لا تثبت الا بعد دعواه. ولان المشهود عليه يثبت بالصفة
والتحلية فكذلك المشهود به
464

فعلى هذا الوجه ينفذ العين مختومة وإن كان عبد أو أمة ختم في عنقه وبعثه إلى القاضي الكاتب ليشهد
الشاهدان على عينه فإن شهدا عليه دفع إلى المشهود له به، وإن لم يشهدا على عينه أو قال المشهود به غير
هذا وجب على آخذه رده إلى صاحبه ويكون حكمه حكم المغصوب في ضمانه وضمان نقصه ومنفعته فيلزمه
أجره إن كان له أجر من يوم أخذه إلى أن يصل إلى صاحبه لأنه أخذه من صاحبه قهرا بغير حق
(فصل) ومن استوفى الحق من المحكوم عليه فقال للحاكم عليه اكتب لي محضرا بما جرى لئلا
يلقاني خصمي في موضع آخر فيطالبني به مرة أخرى ففيه وجهان (أحدهما) تلزمه اجابته ليخلص من
المحذور الذي يخافه
(والثاني) لا تلزمه لأن الحاكم إنما يكتب بما ثبت عنده أو حكم به فاما استئناف ابتداء فيكفيه فيه
465

الاشهاد فيطالبه أن يشهد على نفسه بقبض الحق لأن الحق ثبت عليه بالشهادة والأول لأنه قد
حكم عليه بهذا الحق ويخالف الضرر بدون المحضر فأشبه ما حكم به ابتداء، وإن طالب المحكوم له
بدفع الكتاب الذي ثبت به الحق لم يلزمه دفعه إليه لأنه ملكه فلا يجب عليه دفعه إلى غيره وكذلك
كل من له كتاب بدين فاستوفاه أو عقار فباعه لا يلزمه دفع الكتاب لأنه ملكه ولأنه يجوز ان يخرج
ما قبضه مستحقا فيعود إلى ماله
(فصل) ويقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر وإلى قاضي قرية ومن قاضي قرية إلى قاضي قرية
وقاضي مصر ومن القاضي إلى خليفته ومن خليفة إليه لأنه كتاب من قاض إلى قاض فأشبه ما لو استويا،
ويجوز ان يكتب إلى قاض معين والى من وصله كتابي من قضاة المسلمين وحكامهم من غير تعيين ويلزم
من وصله قبوله وبهذا قال أبو ثور واستحسنه أبو يوسف وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يكتب إلى غير معين.
ولنا انه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم فلزمه قبوله كما لو كان الكاتب إليه بعينه
466

فصل وصفة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
سبب هذا الكتاب أطال الله بقاء من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم انه ثبت عندي في
مجلس حكمي وقضائي الذي أتولاه بمكان كذا، وإن كان نائبا قال الذي أنوب فيه عن القاضي فلان
بمحضر من خصمين مدع ومدعى عليه جاز استماع الدعوى منهما وقبول البينة من أحدهما على لآخر
بشهادة فلان وفلان وهما من الشهود المعدلين عندي عرفتهما وقبلت شهادتهما بما رأيت معه قبولها
معرفة فلان بن فلان الفلاني بعينه واسمه ونسبه فإن كان في اثبات أسر أسير قال وان الفرنج خذلهم
الله أسروه بمكان كذا في وقت كذا وأخذوه إلى مكان كذا وهو مقيم تحت حوطتهم أبادهم الله
وانه رجل فقير من فقراء المسلمين ليس له شئ من الدنيا ولا يقدر على فكاك نفسه ولا على شئ
منه وانه مستحق للصدقة على ما يقتضيه كتاب المحضر المشار إليه المتصل أوله بآخر كتابي
هذا المؤرخ بكذا.
467

وإن كان في اثبات دين كتب وانه استحق في ذمة فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبه ويصفه
بما يتميز به من الدين كذا وكذا دينا عليه حالا وحقا واجبا لازما وانه يستحق مطالبته واستيفاءه
منه، وإن كان في اثبات عين كتب وانه مالك لما في يدي فلان من الشئ الفلاني ويصفه صفة يتميز
بها، مستحق لاخذه وتسليمه على ما يقتضيه كتاب المحضر المتصل بآخر كتابي هذا المؤرخ بتاريخ كذا
وقال الشاهدان المذكوران إنهما بما شهدا به عالمان وله محققان وإنهما لا يعلمان خلاف ما شهدا به إلى
حين أقاما الشهادة عندي فأمضيت ما ثبت عندي من ذلك وحكمت بموجبه بسؤال من جازت مسئلته
وسألني من جاز سؤاله وسوغت الشريعة المطهرة إجابته المكاتبة بذلك إلى القضاة والحكام فأجبته
إلى ملتمسه لجوازه له شرعا وتقدمت بهذا الكتاب فكتب وبالصاق المحضر المشار إليه فألصق فمن وقف
عليه منهم وتأمل ما ذكرته وتصفح ما سطرته واعتمد في إنفاذه والعمل بموجب ما يوجبه الشرع المطهر
أحرز من الاجر أجز له وكتب من مجلس الحكم المحروس من مكان كذا في وقت كذا ولا يشترط
أن يذكر القاضي اسمه في العنوان ولا ذكر اسم المكتوب إليه في باطنه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
إذا لم يذكر اسمه فلا يقبل لأن الكتاب ليس إليه ولا يكفي ذكر اسمه في العنوان دون باطنه لأن ذلك
لم يقع على وجه المخاطبة
ولنا أن المعول فيه على شهادة الشاهدين على القاضي الكاتب بالحكم وذلك لا يقدح فيها ولو ضاع
الكتاب أو امتحى سمعت شهادتهما وحكم بها
468

(مسألة) قال (ولا يقبل الكتاب الا بشهادة عدلين يقولان قرأه علينا أو قرئ عليه
بحضرتنا فقال اشهدا علي انه كتابي إلى فلان)
وجملته انه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثة (أحدها) أن يشهد به شاهدان عدلان
ولا يكفي معرفة المكتوب إليه خط الكاتب وختمه ولا يجوز له قبوله بذلك في قول أئمة الفتوى.
وحكي عن الحسن وسوار والعنبري انهم قالوا إذا كان يعرف خطه وختمه قبله وهو قول أبي ثور
والاصطخري ويتخرج لنا مثله بناء على قوله في الوصية إذا وجدت بخطه لأن ذلك تحصل به غلبة
الظن فأشبه شهادة الشاهدين
ولنا أن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كاثبات العقود ولان الخط يشبه
الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول في
الشهادة على الخط وفي هذا انفصال عما ذكروه
إذا ثبت هذا فإن القاضي إذا كتب الكتاب دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي
المكتوب إليه فيقرأ عليهما الكتاب أو يقرؤه غيره عليهما والأحوط ان ينظرا معه فيما يقرؤه فإن لم
ينظرا جاز لأنه لا يستقرأ إلا ثقة فإذا قرئ عليهما قال اشهدا علي ان هذا كتابي إلى فلان وان قال
469

اشهدا علي بما فيه كان أولى وان اقتصر على قوله: هذا كتابي إلى فلان فظاهر كلام الخرقي انه لا يجزئ
لأنه يحملهما الشهادة فاعتبر فيه أن يقول اشهدا علي كالشهادة على الشهادة
وقال القاضي يجزئ وهو مذهب الشافعي، ثم إن كان ما في الكتاب قليلا اعتمد على حفظه،
وان كثر فلم يقدرا على حفظه كتب كل واحد منهما مضمونه وقابل بها لتكون معه يذكر بها ما يشهد
به ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا لئلا يدفع إليهما غيره فإذا وصل الكتاب معهما إليه قرأه الحاكم أو
غيره عليهما فإذا سمعاه قالا نشهد ان هذا كتاب فلان القاضي إليك أشهدنا على نفسه بما فيه لأنه قد
يكون كتابه غير الذي أشهدهما عليه
قال أبو الخطاب ولا يقبل الا ان يقولا نشهد أن هذا كتاب فلان لأنها أداء شهادة فلابد
فيها من لفظ الشهادة ويجب أن يقولا من عمله لأن الكتاب لا يقبل إلا إذا وصل من مجلس عمله
وسواء وصل الكتاب مختوما أو غير مختوم، مقبولا أو غير مقبول لأن الاعتماد على شهادتهما لا على
الخط والختم. فإن امتحى الكتاب وكانا يحفظان ما فيه جاز لهما ان يشهدا بذلك، وان لم
يحفظا ما فيه لم تمكنهما الشهادة
وقال أبو حنيفة وأبو ثور لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم القاضي. ولنا ان النبي
صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى قيصر ولم يختمه فقيل له انه لا يقرأ كتاب غير مختوم فاتخذ الخاتم. واقتصاره
470

على الكتاب دون الختم دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليقرءوا كتابه
ولأنهما شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه فوجب قبوله كما لو وصل مختوما وشهدا بالختم
إذا ثبت هذا فإنه إنما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب وما يتعلق به الحكم، قال الأثرم سمعت
أبا عبد الله يسئل عن قوم شهدوا على صحيفة وبعضهم ينظر فيها وبعضهم لا ينظر قال إذا حفظ فليشهد
قيل كيف يحفظ وهو كلام كثير؟ قال يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع. قلت يحفظ المعني؟ قال
نعم قيل له والحدود والثمن وأشباه ذلك؟ قال نعم. ولو أدرج الكتاب وختمه وقال هذا كتابي اشهدا
علي بما فيه أو قد أشهدتكما على نفسي بما فيه لم يصح هذا التحمل وبه قال أبو حنيفة والشافعي
وقال أبو يوسف إذا ختمه بختمه وعنونه جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا فإذا وصل الكتاب
شهدا عنده انه كتاب فلان ويتخرج لنا مثل هذا لأنهما شهدا بما في الكتاب فجاز وان لم يعلما
تفصيله كما لو شهد الرجل بما في هذا الكيس من الدراهم جازت الشهادة وان لم يعرفا قدرها
ولنا انهما شهدا بمجهول لا يعلمانه فلم تصح شهادتهما كما لو شهدا ان لفلان على فلان مالا.
وفارق ما ذكره فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها وههنا الشهادة على ما في
الكتاب دون الكتاب وهما لا يعرفانه
(الشرط الثاني) ان يكتبه القاضي من موضع ولايته وحكمه فإن كتبه من غير ولايته لم يسغ
قبوله لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو فيه كالعامي
(الشرط الثالث) ان يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته فإن وصله في غيره لم
471

يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته. ولو ترافع إليه خصمان في غير موضع ولايته لم يكن له
الحكم بينهما بحكم ولايته إلا إن يتراضيا به فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به. وسواء
كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا، ولو ترافع إليه خصمان وهو في موضع ولايته من غير أهل ولايته
كان له الحكم بينهما لأن الاعتبار بموضعهما الا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته
حيث كانوا ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان فيكون الامر على ما أذن فيه ومنع
منه لأن الولاية بتوليته فيكون الحكم على وفقها
(فصل في تغيير حال القاضي) ولا يخلوا من أن يتغير حال الكاتب أو المكتوب إليه أو حالهما معا
فإن تغيرت حال الكاتب بموت أو عزل بعد أن كتب الكتاب وأشهد على نفسه لم يقدح في كتابه
وكان على من وصله الكتاب قبوله والعمل به سواء تغيرت حاله قبل خروج الكتاب من يده أو بعده
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به في الحالين
وقال أبو يوسف ان مات قبل خروجه من يده لم يعمل به، وان مات بعد خروجه من يده
عمل به لأن كتاب الحاكم بمنزلة الشهادة على الشهادة لأنه ينقل شهادة شاهدي الأصل فإذا مات قبل
وصول الكتاب صار بمنزلة موت شاهدي الفرع قبل أداء شهادتهما
ولنا أن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب أن يقبل
472

كتابه كما لو لم ولان كتابه إن كان فيما حكم به فحكمه لا يبطل بموته وعزله، وإن كان فيما ثبت عنده
بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهد الأصل وما ذكروه
حجة عليهم لأن الحاكم قد أشهد على نفسه وإنما يشهد عند المكتوب إليه شاهدان عليه وهما حيان وهما
شاهدان الفرع وليس موته مانع من شهادتهما فلا يمنع قبولها كموت شاهدي الأصل
وإن تغيرت حاله بفسق قبل الحكم بكتابه لم يجز الحكم به لأن حكمه بعد فسقه لا يصح فكذلك
لا يجوز الحكم بكتابه ولان بقاء عدالة شاهدي الأصل شرط في صحة الحكم بشاهدي الفرع فكذلك
بقاء عدالة الحاكم لأنه بمنزلة شاهدي الأصل فإن فسق بعد الحكم بكتابه لم يتغير كما لو حكم بشئ ثم بان
فسقه فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه كذا ههنا
واما ان تغيرت حال المكتوب إليه بأي حال كان من موت أو عزل أو فسق فلمن وصل إليه
الكتاب ممن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به، وبه قال الحسن، حكى عنه ان قاضي الكوفة كتب إلى
اياس بن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولي الحسن فعمل به
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به لأن كتاب القاضي بمنزلة شهادة على الشهادة عند المكتوب
إليه وإذا شهد شاهدان عند قاض لم يحكم بشهادتهما غيره
ولنا أن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأول أو ثبوت الشهادة عنده وقد شهدا عند الثاني
473

فوجب كان يقبل كالأول، وقولهم انه شهادة عند الذي مات ليس بصحيح فإن الحاكم الكاتب
ليس بفرع ولو كان فرعا لم يقبل وحده وإنما الفرع الشاهدان اللذان شهدا عليه وقد أديا الشهادة
عند المتجدد ولو ضاع الكتاب فشهدا بذلك عند الحاكم المكتوب إليه قبل فدل ذلك على أن الاعتبار
بشهادتهما دون الكتاب وقياس ما ذكرناه أن الشاهدين لو حملا الكتاب إلى غير المكتوب إليه في حال
حياته وشهدا عنده عمل به لما بيناه، وإن كان المكتوب إليه خليفة للكاتب فمات الكاتب أو عزل انعزل
المكتوب إليه لأنه نائب عنه فينعزل بعزله وموته كوكلائه، وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعزل خليفته
كما لا ينعزل القاضي الأصلي بموت الإمام ولا عزله
ولنا ما ذكرناه ويفارق الإمام لأن الإمام يعقد القضاء والامارة للمسلمين فلم يبطل ما عقده لغيره
كما لو مات الولي في النكاح لم يبطل النكاح ولهذا ليس للإمام أن يعزل القاضي من غير تغير حاله
ولا ينعزل إذا عزله بخلاف نائب الحاكم فإنه تنعقد ولايته لنفسه نائبا عنه فملك عزله ولان القاضي
لو أنعزل بموت الإمام لدخل الضرر على المسلمين لأنه يفضي إلى غزل القضاة في جميع بلاد المسلمين وتتعطل
الأحكام وإذا ثبت أنه لا ينعزل فليس له قبول الكتاب لأنه حينئذ ليس بقاض
(مسألة) قال (ولا تقبل الترجمة عن أعجمي تحاكم إليه إذا لم يعرف لسانه الا من
عدلين يعرفان لسانه)
وجملته أنه إذا تحاكم إلى القاضي العربي أعجميان لا يعرف لسانهما أو أعجمي وعربي فلابد من
مترجم عنهما ولا تقبل الترجمة الا من اثنين عدلين
474

وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنها تقبل من واحد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز
وابن المنذر وقول أبي حنيفة. وقال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن
يتعلم كتاب يهود قال فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا ولأنه مما لا يفتقر إلى لفظ الشهادة
فأجزأ فيه الواحد كاخبار الديانات
ولنا انه نقل ما خفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتخاصمين فوجب فيه العدد كالشهادة ويفارق
أخبار الديانات فإنها لا تتعلق بالمتخاصمين ولا نسلم انه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة ولان مالا يفهمه الحاكم
وجوده عنده كعدمه فإذا ترجم له كان كنقل الاقرار إليه من غير مجلسه ولا يقبل ذلك الا من شاهدين
كذا ههنا فعلى هذه الرواية تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد والعدالة ويعتبر فيها من الشروط
ما يعتبر في الشهادة على الاقرار بذلك الحق، فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر فيه الحرية
ولم يكف إلا شاهدان ذكران وإن كان مما لا يتعلق بها كفى فيه ترجمة رجل وامرأتين ولم تعتبر الحرية فيه
وإن كان في حد زنا خرج في الترجمة فيه وجهان:
475

(أحدهما) لا يكفي فيه أقل من أربعة رجال أحرار عدول (والثاني) يكفي فيه اثنان بناء على الروايتين
في الشهادة على الاقرار به ويعتبر فيه لفظ الشهادة لأنه شهادة وان قلنا يكفي فيه واحد فلابد من
عدالته ولا تقبل من كافر ولا فاسق وتقبل من العبد لأنه من أهل الشهادة والرواية وقال أبو حنيفة لا
تقبل من العبد لأنه ليس من أهل الشهادة
ولنا أنه خبر يكفي فيه قول الواحد فيقبل فيه خبر العبد كاخبار الديانات ولا نسلم ان هذا شهادة
ولا ان العبد ليس من أهل الشهادة ولا يعتبر فيه لفظ الشهادة كالرواية وعلى هذا الأصل ينبغي أن تقبل
ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدالة لأن روايتها مقبولة
(فصل) والحكم في التعريف والرسالة والجرح والتعديل كالحكم في الترجمة وفيها من الخلاف ما فيها
ذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب وقد ذكرنا الجرح والتعديل فيما مضى
(مسألة) قال (وإذا عزل فقال كنت حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحق قبل
قوله وأمضي ذلك الحق)
وبهذا قال إسحاق قال أبو الخطاب ويحتمل ان لا يقبل قوله، وقول القاضي في فروع هذه المسألة
يقتضي أن لا يقبل قوله ههنا. وهو قول أكثر الفقهاء لأن من لا يملك الحكم لا يملك الاقرار به كمن
476

أقر بعتق عبد بعد بيعه ثم اختلفوا فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى هو بمنزلة الشاهد إذا كان معه شاهد
آخر قبل وقال أصحاب الرأي لا يقبل الا شاهدان سواه يشهدان بذلك وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن
شهادته على فعل نفسه لا تقبل
ولنا أنه لو كتب إلى غيره ثم عزل ووصل الكتاب بعد عزله لزم المكتوب إليه قبول كتابه
بعد عزل كاتبه فكذلك ههنا ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال ولايته
(فصل) فاما ان قال في ولايته كنت حكمت لفلان بكذا قبل قوله سواء قال قضيت عليه
بشاهدين عدلين أو قال سمعت بينته وعرفت عدالتهم أو قال قضيت عليه بنكوله أو قال أقر عندي
فلان لفلان بحق فحكمت به، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وحكي عن محمد بن الحسن
أنه لا يقبل حتى يشهد معه رجل عدل لأنه فيه إخبارا بحق على غيره فلم يقبل قول واحد كالشهادة
ولنا انه يملك الحكم فملك الاقرار به كالزوج إذا أخبر بالطلاق والسيد إذا أخبر بالعتق ولأنه
لو أخبر أنه رأى كذا وكذا فحكم به قبل كذا ههنا وفارق الشهادة فإن الشاهد لا يملك إثبات ما
أخبر به فأما ان قال حكمت بعلمي أو بالنكول أو بشاهد يمين في الأموال فإنه يقبل أيضا. وقال
الشافعي لا يقبل قوله في القضاء بالنكول وينبني قوله حكمت عليه بعلمي على القولين في جواز القضاء بعلمه
لأنه لا يملك الحكم بذلك فلا يملك الاقرار به
477

ولنا أنه أخبر بحكمه فيما لو حكم به لنفذ حكمه فوجب قبوله كالصور التي تقدمت، ولأنه حاكم
أخبر بحكمه في ولايته فوجب قبوله كالذي سلمه ولان الحاكم إذا حكم في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد
لم يسغ نقض حكمه ولزم غيره امضاؤه والعمل به فصار بمنزلة الحكم بالبينة العادلة ولا نسلم ما ذكره، وإن قال
حكمت لفلان على فلان بكذا ولم يضف حكمه إلى بينة ولا غيرها وجب قبوله وهو ظاهر مسألة
الخرقي فإنه لم يذكر ما ثبت به الحكم وذلك لأن الحاكم متى ما حكم بحكم يسوغ فيه الاجتهاد وجب قبوله
وصار بمنزلة ما أجمع عليه
(فصل) وإذا أخبر القاضي بحكمه في غير موضع ولايته فظاهر كلام الخرقي ان قوله مقبول
وخبره نافذ لأنه إذا قبل قوله بحكمه بعد العزل وزوال ولايته بالكلية فلان يقبل مع بقائها في غير
موضع ولايته أولى. وقال القاضي لا يقبل قوله وقال لو اجتمع قاضيان في غير ولايتهما كقاضي دمشق
وقاضي مصر اجتمعا في بيت المقدس فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو شهادة تثبت عنده لم يقبل
أحدهما قول صاحبه ويكونان كشاهدين أخبر أحدهما الآخر بما عنده وليس له ان يحكم به إذا رجع
إلى عمله لأنه خبر من ليس بقاض في موضعه وان كانا جميعا في عمل أحدهما كأنهما اجتمعا جميعا في
دمشق فإن قاضي دمشق لا يعمل بما أخبره به قاضي مصر لأنه يخبره به في غير عمله وهل يعمل
قاضي مصر بما أخبر به قاضي دمشق إذا رجع إلى مصر؟ فيه وجهان: بناء على القاضي هل له
أن يقضي بعلمه؟ على روايتين لأن قاضي دمشق أخبره به في عمله. ومذهب الشافعي في هذا
كقول القاضي ههنا.
478

(فصل) إذا ولى الإمام قاضيا ثم مات لم ينعزل لأن الخلفاء رضي الله عنهم ولو أحكاما في
زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم ولان في عزله بموت الإمام ضررا على المسلمين فإن البلدان ان تتعطل من الحكام
وتقف أحكام الناس إلى أن يولي الإمام الثاني حاكما وفيه ضرر عظيم وكذلك لا ينعزل القاضي إذا عزل الإمام
لما ذكرنا فأما ان عزله الإمام الذي ولاه أو غيره ففيه وجهان:
(أحدهما) لا ينعزل وهو مذهب الشافعي لأنه عقده لمصلحة المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله
كما لو عقد النكاح على موليته لم يكن له فسخه
(والثاني) له عزله لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأعزلن أبا مريم وأولين رجلا إذا
رآه الفاجر فرقه فعزله عن قضاء البصرة وولى كعب بن سوار مكانه وولى علي رضي الله عنه
أبا الأسود ثم عزله فقال لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين
ولأنه يملك عزل أمرائه وولاته على البلدان فكذلك قضاته.
وقد كان عمر رضي الله عنه يولي ويعزل فعزل شرحبيل بن حسنة عن ولايته في الشام وولى
معاوية فقال له شرحبيل أمن جبن عزلتني أو خيانة؟ قال من كل لا ولكن أردت رجلا أقوى من رجل
وعزل خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة وقد كان يولي بعض الولاة الحكم مع الامارة فولى أبا موسى
البصرة قضاءها وأمرتها ثم كان يعزلهم هو ومن لم يعزله عزله عثمان بعده إلا القليل منهم فعزل القاضي
أولى ويفارق عزله بموت من ولاه أو عزله لأن فيه ضررا وههنا لا ضرر فيه لأنه لا يعزل قاضيا حتى
479

يولى آخر مكانه ولهذا لا ينعزل الوالي بموت الإمام وينعزل بعزله وقد ذكر أبو الخطاب في عزله بالموت
أيضا وجهين والأول إن شاء الله تعالى ما ذكرناه
فاما ان تغيرت حال القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من القضاء أو اختل فيه بعض
شروطه فإنه ينعزل بذلك ويتعين على الإمام عزله وجها واحدا.
(فصل) وللإمام تولية القضاء في بلده وغيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى عمر بن الخطاب القضاء،
وولى عليا ومعاذا. وقال عثمان بن عفان لابن عمر: ان أباك قد كان يقضي وهو خير منك قال إن
أبي قد كان يقضي وان أشكل عليه شئ سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث. رواه عمر بن
شبة في كتاب قضاة البصرة
وروى سعيد في سننه عن عمرو بن العاص قال جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي " يا عمرو
اقض بينهما " قلت أنت أولى بذلك مني يا رسول الله قال " ان أصبت القضاء بينهما فلك عشر
حسنات وان أخطأت فلك حسنة " وعن عقبة بن عامر مثله ولان الإمام يشتغل بأشياء كثيرة من
مصالح المسلمين فلا يتفرغ للقضاء بينهم، فإذا ولى قاضيا استحب أن يجعل له أن يستخلف لأنه قد
يحتاج إلى ذلك فإذا أذن له في الاستخلاف جاز له بلا خلاف نعلمه وان نهاه عنه لم يكن له ان يستخلف
لأن ولايته باذنه فلم يكن له ما نهاه عنه كالوكيل. وان أطلق فله الاستخلاف. ويحتمل أن لا يكون له
ذلك لأنه يتصرف بالاذن فلم يكن له ما لم يأذن فيه كالوكيل. ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان
480

ووجه الأول ان الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين فإذا فعله بنفسه أو بغيره جاز كما
لو أذن له. ويفارق التوكيل لأن الإمام يولي القضاء للمسلمين لا لنفسه بخلاف التوكيل، فإن استخلف
في موضع ليس له الاستخلاف فحكمه حكم من لم يول
(فصل) ويجوز أن يولي قاضيا عموم النظر في خصوص العمل فيقلده النظر في جميع الأحكام
في بلد بعينه فينفذ حكمه فيمن سكنه من أتى إليه من غير سكانه. ويجوز أن يقلده خصوص النظر
في عموم العمل فيقول جعلت إليك الحكم في المداينات خاصة في جميع ولايتي، ويجوز أن يجعل حكمه
في قدر من المال نحو ان يقول احكم في المائة فما دونها فلا ينفذ حكمه في أكثر منها. ويجوز أن
يوليه عموم النظر في عموم العمل وخصوص النظر في خصوص العمل
ويجوز أن يولي قاضيين وثلاثة في بلد واحد يجعل لكل واحد عملا فيولي أحدهم عقود الأنكحة
والآخر الحكم في المداينات وآخر النظر في العقار. ويجوز أن يولي كل واحد منهم عموم النظر في
ناحية من نواحي البلد. فإن قلد قاضيين أو أكثر عملا واحدا في مكان واحد ففيه وجهان (أحدهما)
لا يجوز اختاره أبو الخطاب وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه يؤدي إلى إيقاف الحكم
والخصومات لأنهما يختلفان في الاجتهاد ويرى أحدهما ما لا يرى الآخر (والآخر) يجوز ذلك وهو
قول أصحاب أبي حنيفة وهو أصح إن شاء الله تعالى لأنه يجوز أن يستخلف في البلدة التي هو فيها
481

فيكون فيها قاضيان فجاز أن يكون فيها قاضيان أصليان. ولان الغرض فصل الخصومات وإيصال
الحق إلى مستحقه وهذا يحصل فأشبه القاضي. ولأنه يجوز للقاضي أن يستخلف خليفتين في موضع
واحد فالإمام أولى لأن توليته أقوى
وقولهم: يفضي إلى ايقاف الحكومات غير صحيح فإن كل حاكم يحكم باجتهاده بين المتخاصمين إليه
وليس للآخر الاعتراض عليه ولا نقض حكمه فيما خالف اجتهاده
(فصل) وإذا قال الإمام من نظر في الحكم من فلان وفلان فقد وليته لم تنعقد الولاية لمن نظر
لأنه علقها على شرط ولم يعين بالولاية أحدا منهم ويحتمل ان تنعقد الولاية لمن نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " أميركم زيد فإن قتل فأميركم جعفر فإن قتل فأميركم عبد الله بن رواحة " فعلق ولاية الامارة
على شرط فكذلك ولاية الحكم وان قال وليت فلانا وفلانا فأيهما نظر فهو خليفتي انعقدت الولاية لمن نظر
متهم لأنه عقد الولاية لهما جميعا
(فصل) ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه وهذا مذهب الشافعي
ولم اعلم فيه خلافا لأن الله تعالى قال (فاحكم بين الناس بالحق) والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر
له الحق في غير ذلك المذهب. فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط وفي فساد التولية وجهان بناء
على الشروط الفاسدة في البيع
482

(فصل) وان فوض الإمام إلى انسان تولية القضاء جاز لأنه يجوز أن يتولى ذلك فجاز له
لتوكيل فيه كالبيع وان فوض إليه اختيار قاض جاز ولا يجوز له اختيار نفسه ولا والده ولا ولده
كما لو وكله في الصدقة بمال لم يجز له اخذه ولا دفعه إلى هذين، ويحتمل انه يجوز له اختيارهما إذا
كانا صالحين للولاية لأنهما يدخلان في عموم من أذن له في الاختيار منه مع أهليتهما فأشبها الأجانب
(فصل) وليس للحاكم ان يحكم لنفسه كما لا يجوز أن يشهد لنفسه فإن عرضت له حكومة مع بعض
الناس جاز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه أو بعض رعيته فإن عمر حاكم أبيا إلى زيد وحاكم رجلا عراقيا
إلى شريح وحاكم علي اليهودي إلى شريح، وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم. فإن عرضت
حكومة لوالديه أو ولده أو من لا تقبل شهادته له ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز له الحكم فيها
بنفسه وان حكم لم ينفذ حكمه وهذا قول أبي حنيفة والشافعي لأنه لا تقبل شهادته له فلم ينفذ حكمه له
كنفسه (والثاني) ينفذ حكمه اختاره أبو بكر وهو قول أبي يوسف وابن المنذر وأبي ثور لأنه حكم
لغير أشبه الأجانب. وعلى القول الأول متى عرضت لهؤلاء حكومة حكم بينهم الإمام أو حاكم آخر
أو بعض خلفائه، فإن كانت الخصومة بين والدية أو ولديه أو والده وولده لم يجز له الحكم بينهما
على أحد الوجهين لأنه لا تقبل شهادته لأحدهما على الآخر فلم يجز الحكم بينهما كما لو كان خصمه أجنبيا وفي
الآخر يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنهما سواء عنده فارتفعت تهمة الميل فأشبها الأجنبيين
(فصل) وإذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه وكان ممن يصلح للقضاء فحكم
بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما وبهذا قال أبو حنيفة وللشافعي قولان (أحدهما) لا يلزمهما حكمه
إلا بتراضيهما لأن حكمه إنما يلزم بالرضى به ولا يكون الراضي إلا بعد المعرفة بحكمه
ولنا ما روى أبو شريح ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " ان الله هو الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟ "
483

قال إن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم ورضي على الفريقان قال " ما أحسن هذا فمن
أكبر ولدك؟ " قال شريح قال " فأنت أبو شريح " أخرجه النسائي
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون "
ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم ولان عمر وأبيا تحاكما إلى زيد وحاكم عمر أعرابيا إلى
شريح قبل ان يوليه وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم ولم يكونوا قضاة
فإن قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا. قلنا لم ينقل عنهما الا
الرضى بتحكيمه خاصة وبهذا لا يصير قاضيا، وما ذكروه يبطل بما إذا رضي بتصرف وكيله فإنه يلزمه
قبل المعرفة به. إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة: للحاكم نقضه إذا خالف رأيه لأن هذا عقد في حق الحاكم فملك فسخه
كالعقد الموقوف في حقه
ولنا ان هذا حكم صحيح لازم فلم يجز فسخه لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية، وما ذكروه غير
صحيح فإن حكمه لازم للخصمين فكيف يكون موقوفا؟ ولو كان كذلك لملك فسخه وان لم يخالف
رأيه، ولا نسلم الوقوف في العقود
إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم لأنه
لا يثبت إلا برضاه فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وان رجع بعد شروعه ففيه وجهان
(أحدهما) له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع (والثاني) ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل
واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع فبطل المقصود به
(فصل) قال القاضي: وينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام الا أربعة أشياء: النكاح
واللعان والقذف والقصاص لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ونائبه يقوم
مقامه، وقال أبو الخطاب ظاهر كلام احمد انه ينفذ حكمه فيها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين،
وإذا كتب هذا القاضي بما حكم به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله كتابه لأنه حاكم
نافذ الأحكام فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام
484

(مسألة) قال (ويحكم على الغائب إذا صح الحق عليه)
وجملته أن من ادعى حقا على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه
فعلى الحاكم اجابته إذا كملت الشرائط وبهذا قال شبرمة ومالك والأوزاعي والليث وسوار وأبو عبيد
وإسحاق وابن المنذر فكان شريح لا يرى القضاء على الغائب، وعن أحمد مثله وبه قال ابن أبي ليلى
والثوري وأبو حنيفة وأصحابه
وروي عن القاسم والشعبي إلا أن أبا حنيفة قال إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع
جاز الحكم عليه واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي " إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض
للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك تدري بما تقضي " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
ولأنه قضاء لاحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل
البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه
ولنا أن هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؟
قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه فقضى لها ولم يكن حاضرا ولان هذا له بينة
مسموعة عادلة فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضرا، وقد وافقنا أبو حنيفة في سماع البينة، ولان
ما تأخر عن سؤال المدعي إذا كان حاضرا يقدم عليه إذا كان غائبا كسماع البينة
وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما وهذا يقتضي أن
يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإن البينة لا تسمع على حاضر إلا بحضرته والغائب بخلافه،
وقد ناقض أبو حنيفة أصله فقال إذا جاءت امرأة فادعت أن لها زوجا غائبا وله مال في يد رجل وتحتاج
إلى النفقة فاعترف لها بذلك فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة. ولو ادعى رجل على حاضر انه اشترى من
غائب ما فيه شفعة وأقام بينة بذلك حكم له بالبيع والاخذ بالشفعة ولو مات المدعى عليه فحضر بعض ورثته
أو حضر وكيل الغائب وأقام المدعي بينة بذلك حكم له بما ادعاه
485

إذا ثبت هذا فإنه إن قدم الغائب قبل الحكم وقف الحكم على حضوره فإن خرج الشهود لم يحكم
عليه وإن استنظر الحاكم أجله ثلاثا فإن جرحهم وإلا حكم عليه، وإن ادعى القضاء أو الابراء فكانت
له بينه برئ وإلا حلف المدعى وحكم له وإن قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة
بطل الحكم وإن جرحهم بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقا لم يبطل الحكم ولم يقبله الحاكم لأنه يجوز
أن يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه وإن طلب التأجيل أجل ثلاثا فإن خرجهم وإلا نفذ الحكم، وإن
ادعى القضاء أو الابراء فكانت له به بينة وإلا حلف الآخر ونفذ لحكم
(فصل) ولا يقضي على الغائب إلا في حقوق الآدميين فأما في الحدود التي لله تعالى فلا يقضي
بها عليه لأن مبناها على المساهلة والاسقاط فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم بالمال دون القطع
(فصل) وإذا قامت البينة على غائب أو غير مكلف كالصبي والمجنون لم يستحلف المدعي مع بينته
في أشهر الروايتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " ولأنها بينة عادلة فلم
تجب اليمين معها كما لو كانت على حاضر.
(والرواية الثانية) يستحلف معها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون استوفى ما قامت به البينة
أو ملكه العين التي قامت بها البينة ولو كان حاضرا فادعى ذلك لوجبت اليمين فإذا تعذر ذلك منه
لغيبته أو عدم تكليفه يجب أن يقوم الحاكم مقامه فيما يمكن دعواه ولان الحاكم مأمور بالاحتياط في
حق الصبي والمجنون والغائب لأن كل واحد منهم لا يعبر عن نفسه وهذا من الاحتياط
(فصل) ظاهر كلام الخرقي انه إذ قضى على الغائب بعين سلمت إلى المدعي وإن قضى عليه بدين
ووجد له مال وفي منه فإنه قال في رواية حرب في رجل أقام بينة أن له سهما من صيغة في أيدي قوم
فتواروا عنه يقسم عليهم شهدوا أو غابوا ويدفع إلى هذا حقه لأنه يثبت حقه بالبينة فيسلم إليه كما لو
486

فإن خصمه حاضرا ويحتمل أن لا يدفع إليه شئ حتى يقيم كفيلا أنه متى حضر خصمه وأبطل دعواه
فعليه ضمان ما أخذه لئلا يأخذ المدعي ما حكم له به ثم يأتي خصمه فيبطل حجته أو يقيم بينة بالقضاء والابراء
أو يملك العين التي قامت بها البينة بعد ذهاب المدعي وغيبته أو موته فيضيع مال المدعى عليه وظاهر
كلام احمد الأول فإنه قال في رجل عنده دابة مسروقة فقال هي عندي وديعة إذا أقيمت البينة أنها له
تدفع إلى الذي أقام البينة حتى يجئ صاحب الوديعة فيثبت
(فصل) فاما الحاضر في البلد أو قريب منه إذا لم يمنع من الحضور فلا يقضي عليه قبل حضوره في قول أكثر
أهل العلم، وقال أصحاب الشافعي في وجه لهم انه يقضي عليه في غيبته لأنه غائب أشبه الغائب عن البلد
ولنا انه أمكن سؤاله فلم يجز الحكم عليه قبل سؤاله كحاضر مجلس الحاكم ويفارق الغائب البعيد فإنه لا يمكن
سؤاله فإن امتنع من الحضور أو توارى فظاهر كلام احمد جواز القضاء عليه لما ذكرنا عنه في رواية حرب
وروى عنه أبو طالب في رجل وجد غلامه عند رجل فأقام البينة انه غلامه فقال الذي عنده الغلام
أودعني هذا رجل فقال احمد أهل المدينة يقضون على الغائب يقولون إنه لهذا الذي أقام البينة وهو
مذهب حسن وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الاعذار وهو إذا ادعى على رجل ألفا وأقام
البينة فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه فينادي الرسول ثلاثا فإن جاء وإلا قد أعذروا إليه فهذا يقوي
قول أهل المدينة وهو معنى حسن
وقد ذكر الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب انه يقضى على الغائب الممتنع وهو قول الشافعي لأنه
تعذر حضوره وسؤاله فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد بل هذا أولى لأن البعيد معذور وهذا لا عذر
له وقد ذكرنا فيما تقدم شيئا من هذا
487

كتاب القسمة
الأصل في القمسة قول الله تعالى (ونبئهم ان الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) وقوله تعالى
(وإذا حضر القسمة أولوا القربى) الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الشفعة فيما لم يقسم " فإذا وقعت الحدود
وصرفت الطرق فلا شفعة وقسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على ثمانية عشر سهما وكان يقسم الغنائم
وأجمعت الأمة على جواز القسمة ولان بالناس حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء
من التصرف على إيثاره ويتخلص من سوء المشاركة وكثرة الأيدي
(مسألة) قال (وإذا أتاه شريكان في ربع أو نحوه فسألاه أن يقسمه بينهما قسمه
وأثبت في القضية بذلك أن قسمه إياه بينهما كان عن اقرارهما لا عن بينة شهدت لهما بملكهما)
إذا ثبت هذا فإن الشريكين في أي شئ كان ربعا أو غيره والربع هو العقار من الدور ونحوها
إذا طلبا من الحاكم أن يقسمه بينهما أجابهما إليه وإن لم يثبت عنده ملكهما وبهذا قال أبو يوسف ومحمد
وقال أبو حنيفة إن كان عقارا نسبوه إلى ميراث لم يقسمه حتى يثبت الموت والورثة لأن الميراث
باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه احتياطا للميت وأما ما عدا العقار يقسمه، وإن كان ميراثا لأنه يبور ويهلك
وقسمته تحفظه، وكذا العقار الذي لا ينسب إلى الميراث وظاهر قول الشافعي انه لا يقسم عقارا كان أو غيره ما لم
يثبت ملكهما لأن قسمه بقولهم لو رفع بعد بذلك إلى حاكم آخر يستسهله ان يجعله حكما لهم ولعله يكون لغيرهم
488

ولنا ان اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر ولهذا يجوز لهم التصرف
ويجوز شراؤه منهم واتهابه واستئجاره وما ذكره الشافعي يندفع إذا ثبت في القضية اني قسمته بينهم
باقرارهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم وكل ذي حجة على حجته وما ذكره أبو حنيفة لا يصح لأن
الظاهر ملكهم ولا حق للميت فيه إلا أن يظهر عليه دين وما ظهر والأصل عدمه ولهذا اكتفينا به في
غير العقار وفيما لم ينسبوه إلى الميراث
(فصل) وتجوز قسمة المكيلات والموزونات من المطعومات وغيرها لأن جواز قسمة الأرض
مع اختلافها يدل على جواز قسمة مالا يختلف بطريق التنبيه وسواء في ذلك الحبوب والثمار والنورة
والأشنان والحديد والرصاص ونحوه من الجامدات والعصير والخل واللبن والعسل والسمن والدبس
والزيت والرب ونحوها من المائعات وسواء قلنا إن القسمة بيع أو افراز حق لأن بيعه جائز وافرازه جائز
فإن كان فيها أنواع كحنطة وشعير وتمر وزبيب فصلب أحدهما قسمها كل نوع على حدته أجبر
الممتنع وان طلب قسمها أعيانا بالقيمة لم يجبر الممتنع لأن هذا بيع نوع بنوع آخر فليس بقسمة فلم
يجبر عليه كغير الشريك، فإن تراضيا عليه جاز وكان بيعا يعتبر فيه التقابض قبل التفرق فيما
يعتبر التقابض فيه وسائر شروط البيع
(فصل) فإن كان بينهما ثياب أو حيوان أو أواني أو خشب أو عمد أو أحجار فاتفقا على قسمتها
489

جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم يوم بدر ويوم حنين ويوم خيبر وهي تشتمل على أجناس من المال
وسواء اتفقا على قسمة كل جنس بينهما أو على قسمتها أعيانا بالقيمة وان طلب أحدهما قسمة كل نوع
على حدته وطلب الآخر قسمته أعيانا بالقيمة قدم قول من طلب قسمة كل نوع على حدته إذا أمكن
وان طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر وكان مما لا يمكن قسمته الا بأخذ عوض عنه من غير جنسه
أو قطع ثوب في قطعه نقص أو كسر اناء أو رد عوض لم يجبر الممتنع، وان أمكن قسمة كل نوع على
حدته من غير ضرر ولا رد عوض فقال القاضي يجبر الممتنع. وهو ظاهر مذهب الشافعي وهو قول
أبي الخطاب: لا أعرف في هذا عن إمامنا رواية، ويحتمل ان لا يجبر الممتنع. وهو قول ابن خيران
من أصحاب الشافعي لأن هذا إنما يقسم أعيانا بالقيمة فلم يجبر الممتنع عليه كما لا يجبر على قسمة الدور بأن
يأخذ هذا دارا وهذا دارا وكالجنسين المختلفين
ووجه الأول أن الجنس الواحد كالدار الواحدة وليس اختلاف الجنس الواحد في القيمة بأكثر
من اختلاف قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة فإن أرض القرية تختلف سيما إذا كانت ذات أشجار
مختلفه وأراض متنوعة والدار ذات بيوت واسعة وضيقة وحديثة وقديمه ثم هذا الاختلاف لم يمنع
الاجبار على القسمة كذلك الجنس الواحد وفارق الدور فإنه أمكن قسمة كل دار على حدتها وههنا
490

لا يمكن قسمة كل ثوب منها أو اناء على حدته وان كانت الثياب أنواعا كالحرير والقطن والكتان فهي
كالأجناس وكلك سائر الأموال والحيوان كغيره من الأموال ويقسم النوع الواحد منه، وبه قال
الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يقسم الرقيق قسمة اجبار لأنه تختلف منافعه ويقصد منه
العقل والدين والفطنة وذلك لا يقع فيه التعديل.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جزأ العبيد الذين أعتقهم الأنصاري في مرضه ثلاثة أجزاء ولأنه نوع حيوان
يدخله التقويم فجازت قسمته كسائر الحيوان وما ذكره غير صحيح لأن القيمة تجمع ذلك وتعدله
كسائر الأشياء المختلفة.
(فصل) والقسمة افراز حق وتمييز أحد النصيبين من الآخر وليست بيعا وهذا أحد قولي الشافعي
وقال في الآخر هي بيع، وحكي عن أبي عبد الله بن بطة لأنه يبدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب
صاحبه من السهم الآخر وهذا حقيقة البيع
ولنا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك ولا تجب فيها الشفعة ويدخلها الاجبار وتلزم باخراج القرعة
ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر والبيع لا يجوز فيه شئ من ذلك ولأنها تنفرد عن البيع باسمها
وأحكامها فلم تكن بيعا كسائر العقود وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعا جازت قسمة الثمار خرصا
والمكيل وزنا والموزون كيلا والتفرق قبل القبض فما يعتبر فيه القبض في البيع ولا يحنث إذا حلف
لا يبيع بها وإذا كان العقار أو نصفه وقفا جازت القسمة. وان قلنا: هي بيع انعكست هذه الأحكام هذا
491

إذا خلت من الرد فإن كان فيها رد عوض فهي بيع لأن صاحب الرد يبذل المال عوضا عما حصل له
من مال شريكه وهذا هو البيع فإن فعلا ذلك في وقف لم يجز لأن بيعه غير جائز، وإن كان بعضه وقفا
وبعضه طلقا والرد من صاحب الطلق لم يجز لأنه يشتري بعض الوقف فإن كان من أهل الوقف جاز لأنهم
يشترون بعض الطلق وذلك جائز.
(فصل) وتقبل شهادة القاسم بالقسمة إذا كان متبرعا ولا تقبل إذا كان بأجرة، وبهذا قال
الإصطخري وقال أبو حنيفة تقبل وإن كان بأجرة لأنه لا يلحقه تهمة فقبل قوله كالمرضعة وقال الشافعي
لا تقبل لأنه شهد على فعل نفسه الذي يوجب تعديله فلم يقبل كشهادة القاضي المعزول على حكمه
ولنا انه شهد بما لا نفع له فيه فقبل كالأجنبي، وإذا كان بأجرة لم يقبل لأنه متهم لكونه يوجب
الأجرة لنفسه وهذا نفع فتكون شهادته لنفسه وقول الشافعي انه يوجب تعديله ممنوع ولا نسلم لهم
ما ذكروه في الحكم
(مسألة) قال (ولو سأل أحدهما شريكه مقاسمته فامتنع أجبره الحاكم على ذلك إذا
أثبت عنده ملكها وكان مثله ينقسم وينتفعان به مقسوما)
أما إذا طلب أحدهما القسمة فامتنع الآخر لم يخل من حالين أحدهما يجبر الممتنع على القسمة
وذلك إذا اجتمع ثلاثة شروط
492

(أحدها) ان يثبت عند الحاكم ملكهما ببينة لأن في الاجبار على القسمة حكما على الممتنع منها فلا
يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه بخلاف حالة الرضى فإنه لا يحكم على أحدهما إنما يقسم بقولهما ورضاهما
(الشرط الثاني) أن لا يكون فيها ضرر فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" لا ضرر ولا ضرار " رواه ابن ماجة، ورواه مالك في موطئه مرسلا، وفي لفظ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار
(الشرط الثالث) ان يمكن تعديل السهام من غير شئ يجعل معها فإن لم يمكن ذلك لم يجبر الممتنع
لأنها تصير بيعا والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين ومثال ذلك أرض قيمتها مائة فيها شجرة أو بئر
تساوي مائتين فإذا جعلت الأرض سهما كانت الثلث فيحتاج أن يجعل معها خمسين يردها عليه من
لم يخرج له البئر أو الشجرة ليكونا نصفين متساويين فهذه فيها بيع ألا ترى ان آخذ الأرض قد باع
نصيبه من الشجرة أو البئر بالثمن الذي أخذه والبيع لا يجبر عليه لقول الله تعالى (إلا أن تكون تجارة
عن تراض منكم)؟ فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة أجبر الممتنع منهما على القسمة لأنه تتضمن إزالة ضرر
الشركة عنهما وحصول النفع لهما لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز كان له أن يتصرف فيه بحسب
اختياره ويتمكن من احداث الغراس والبناء الزرع والساقية والإجارة والعارية ولا يمكنه ذلك مع
الاشتراك فوجب أن يجبر الآخر عليه لقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار "
493

إذا ثبت هذا فقد اختلفوا في الضرر المانع من القسمة ففي قول الخرقي وهو مالا يمكن معه انتفاع
أحدهما بنصيبه مفردا فيما كان ينتفع به مع الشركة مثل أن تكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب
كل واحد منهما موضعا ضيقا لا ينتفع به، ولو أمكن أن ينتفع به في شئ غير الدار ولا يمكن أن ينتفع
به دارا لم يجبر على القسمة أيضا لأنه ضرر يجري مجرى الاتلاف
وعن أحمد رواية أخرى ان المانع هو أن ننقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة
سواء انتفعوا به مقسوما أو لم ينتفعوا
وقال القاضي هذا ظاهر كلام احمد لأنه قال في رواية الميموني إذا قال بعضهم يقسم وبعضهم لا يقسم فإن
كان فيه نقصان من ثمنه بيع وأعطوا الثمن فاعتبر نقصان الثمن وهذا ظاهر كلام الشافعي لأن نقص قيمته
ضرر والضرر منفي شرعا، وقال مالك يجبر الممتنع، وإن استضر قياسا على مالا ضرر فيه ولا يصح لقوله عليه السلام
" لا ضرر ولاضرار " ولان في قسمته ضررا فلم يجبر عليه كقسمة الجوهرة بكسرها ولان في قسمته إضاعة
للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته ولا يصح القياس على مالا ضرر فيه لما بينهما من الفرق فإن كان أحد
الشريكين يستضر بالقسمة دون الآخر كرجلين بينهما دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها فإذا قسماها
ستضر صاحب الثلث لكونه لا يحصل له ما يكون دارا ولا يستضر الآخر لأنه يبقى له ما يصير دارا
مفردة فطلب صاحب الثلثين لقسمة لم يجبر الآخر عليها. ذكره أبو الخطاب وهو ظاهر كلام احمد
في رواية حنبل قال كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي ثور
494

وقال القاضي يجبر الاخر عليها وهو قول الشافعي وأهل قول الشافعي وأهل العراق لأنه طلب إفراد نصيبه الذي لا يستضر
بتمييزه فوجبت اجابته إليه كما لو كانا لا يستضران بالقسمة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " ولأنها قسمة يستضر بها صاحبه فلم يجبر عليها كما
لو استضرا معا ولان فيه إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته وإذا حرم عليه إضاعته ماله
فإضاعته مال غيره أولى
وقد روى عمرو بن جميع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تعصبة على أهل الميراث إلا ما حصل القسم "
قال أبو عبيدة هو أن يخلف شيئا إذا قسم كان فيه ضرر على بعضهم أو عليهم جميعا ولأننا اتفقنا على
أن الضرر مانع من القسمة وان الضرر في حق أحدهما مانع ولا يجوز أن يكون المانع هو ضرر الطالب
لأنه مرضي به من جهته فلا يجوز كونه مانعا كما لو تراضيا عليها مع ضررهما أو ضرر أحدهما فتعين
الضرر المانع في جهة المطلوب ولأنه ضرر غير مرضي به من جهة صاحبه فمنع القسمة كما لو استضرا
معا، وإن طلب القسمة المستضر بها كصاحب الثلث في المسألة المفروضة أجبر الآخر عليها هذا
مذهب أبي حنيفة ومالك لأنه طلب دفع ضرر الشركة عنه بأمر لا ضرر على صاحبه فيه فأجبر عليه
كما لا ضرر فيه.
يحققه انه ضرر الطالب مرضي به من جهته فسقط حكمه والآخر لا ضرر عليه فصار كما لا ضرر
495

فيه. وذكر أصحابنا أن المذهب انه لا يجبر الممتنع على القسم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولان
طلب القسمة من المستضر سفه فلا تجب اجابته إلى السفه، قال الشريف متى كان أحدهما يستضر
لم تجب القسمة، وقال أبو حنيفة متى كان أحدهما ينتفع بها وجبت
وقال الشافعي ان انتفع بها الطالب وجبت وإن استضر بها الطالب فعلى وجهين، وقال مالك
تجب على كل حال، ولو كانت دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها لكل واحد منهما ربعها
فإذا قسمت استضر كل واحد منهما ولا يستضر صاحب النصف فطلب صاحب النصف القسمة وجبت
اجابته لأنه يمكن قسمتها نصفين فيصير حقهما لهما دارا وله النصف فلا يستضر أحد منهما ويحتمل أن
لا تجب عليهما الإجابة لأن كل واحد منهما يستضر بافراز نصيبه، وإن طلبا المقاسمة فامتنع صاحب
النصف أجبر لأنه لا ضرر على واحد منهم، وإن طلبا افراز نصيب كل واحد منهما أو طلب أحدهما
افراز نصيبه لم تجب القسمة على قياس المذهب لأنه اضرار بالطالب وسفه وعلى الوجه الذي ذكرناه
تجب القسمة لأن المطلوب منه لا ضرر عليه
(الحال الثاني) الذي لا يجبر أحدهما على القسمة وهي ما إذا عدم أحد الشروط الثلاثة فلا تجوز
القسمة إلا برضاهما وتسمى قسمة التراضي وهي جائزة مع اختلال الشروط كلها لأنها بمنزلة البيع
والمناقلة وبيع ذلك جائز
496

(فصل) إذا كانت دار بين اثنين سفلها وعلوها فإذا طلبا قسمها نظرت فإن طلب أحدهما قسمة
السفل والعلو بينهما ولا ضرر في ذلك أجبر الآخر عليه لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغرس
فيتبعها في البيع والشفعة ثم لو طلب قسمة أرض فيها غراس أجبر شريكه عليه كذلك البناء، وإن
طلب أحدهما جعل السفل لأحدهما والعلو للآخر ويقرع بينهما لم يجبر عليه الآخر لثلاثة معان
(أحدهما) ان العلو يتبع للسفل ولهذا إذا بيعا تثبت الشفعة فيهما وإذا أفرد العلو بالبيع لم تثبت
فيه الشفعة وإذا كان تبعا له لم يجعل المتبوع سهما والتبع سهما فيصير التبع أصلا
(الثاني) ان السفل والعلو يجريان مجرى الدارين المتلاصقتين لأن كل واحد منهما يسكن منفردا
ولو كان بينهما داران لم يكن لأحدهما المطالبة بجعل كل دار نصيبا كذا ههنا
(الثالث) أن صاحب القرار يملك قرارها وهواءها فإذا جعل السفل نصيبا انفرد صاحبه بالهواء
وليست هذه قسمة عادلة وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يقسمه الحاكم يجعل ذراعا من السفل
بذراعين من العلو، وقال أبو يوسف ذراع بذراع وقال محمد يقسمها بالقيمة واحتجوا بأنها دار واحدة
فإذا قسمها على ما يراه جاز كالتي لا علو لها
ولنا ما ذكرناه من المعاني الثلاثة وفيها رد ما ذكروه وما يذكرونه من كيفية القسمة تحكم وبعضه
يرد بعضا، وإن طلب أحدهما قسمة العلو وحده أو السفل وحده لم يجب إليه لأن القسمة تراد للتمييز
497

ومع بقاء الا ساعة في أحدهما لا يحصل التمييز وإن طلب قسمة السفل منفردا أو العلو منفردا لم يجب إليه
لأنه قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر فيستضر كل واحد منهما ولا يتميز الحقان
(فصل) وإذا كان بينهما دار أو خان كبير فطلب أحدهما قسمة ذلك ولا ضرر في قسمته أجبر
الممتنع على القسمة وتفرد بعض المساكن عن بعض وإن كثر المساكن، وإن كان بينهما داران أو
خانان أو أكثر فطلب أحدهما ان يجمع نصيبه في إحدى الدارين أو أحد الخانين ويجعل الباقي نصيبا
لم يجبر الممتنع، وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد إذا رأى الحاكم ذلك فله فعله سواء تقاربتا
أو تفرقتا لأنه أنفع وأعدل
وقال مالك إن كانتا متجاورتين أجبر الممتنع من ذلك عليه لأن المتجاورتين تتقارب منفعتهما
بخلاف المتباعدتين، وقال أبو حنيفة إن كان إحداهما أحجزة الأخرى أجبر الممتنع وإلا فلا لأنهما
يجريان مجرى الدار الواحدة
ولنا انه نقل حقه من عين إلى عين أخرى فلم يجبر عليه كالمتفرقين على ملك وكما لو لم تكن حجة بها
مع أبي حنيفة وكما لو كانتا دارا ودكانا مع أبي يوسف ومحمد، والحكم في الدكاكين كالحكم في الدور
وكما لو كانت لها عضائد صغار لا يمكن قسمة كل واحدة منهما منفردة لم يجبر الممتنع من قسمها عليها
(فصل) فإن كانت بينهما أرض واحدة يمكن قسمتها ويتحقق فيها الشروط التي ذكرناها أجبر
498

الممتنع على قسمها سواء كانت فارغة أو ذات شجر وبناء فإن كان فيها نخل وكرم وشجر مختلف وبناء فطلب
أحدهما قسمة كل عين على حدتها وطلب الآخر قسمة الجميع بالتعديل بالقيمة فقال أبو الخطاب تقسم كل عين
على حدتها وكذلك كل مقسوم إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه كان أولى ونحو
هذا قال أصحاب الشافعي فإنهم قالوا إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بأن يكون
الجيد في مقدمها والردئ في مؤخرها فإذا قسمناها صار لكل واحد من الجيد والردئ مثل ما للآخر
وجبت القسمة وأجبر الممتنع عليها، وان لم تمكن القسمة هكذا بأن تكون العمارة أو الشجر والجيد
لا تمكن قسمته وحده وأمكن التعديل بالقيمة عدلت بالقيمة وأجبر الممتنع من القسمة عليها
وقال الشافعي في أحد القولين: لا يجبر الممتنع من القسمة عليها. وقالوا إذا كانت الأرض
ثلاثين جريبا قيمة عشرة أجربة منها كقيمة عشر لم يجبر الممتنع من القسمة عليها لتعذر التساوي
في الزرع، ولأنه لو كان حقلان متجاوران لم يجبر الممتنع من القسمة إذا لم تمكن إلا بأن يجعل كل
واحد منهما سهما كذا ههنا
ولنا انه مكان واحد أمكنت قسمته وتعديله من غير رد عوض ولا ضرر فوجبت قسمته
كالدور، ولان ما ذكروه يفضي إلى منع وجوب القسمة في البساتين كلها والدور فإنه لا يمكن تساوي
الشجر وبناء الدور ومساكنها إلا بالقيمة ولأنه مكان لو بيع بعضه وجبت فيه الشفعة لشريك
البائع فوجبت قسمته كما لو أمكنت التسوية بالزرع
وأما إذا كان بستانان لكل واحد منهما طريق أو حقلان أو داران أو دكانان متجاوران أو
499

متباعدان فطلب أحد الشريكن قسمته بجعل كل واحد بينهما لم يجبر الآخر على هذا سواء كانا
متساويين أو مختلفين وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأنهما شيئان متميزان لو بيع أحدهما لم تجب الشفعة
فيه لمالك الآخر بخلاف البستان الواحد والأرض الواحدة وإن عظمت فإنه إذا بيع بعضها وجبت الشفعة
لمالك البعض الباقي والشفعة كالقسمة لأن كل واحد منهما يراد لإزالة ضرر الشركة ونقصان التصرف
فما لا تجب قسمته لا تجب الشفعة فيه فكذلك مالا شفعة فيه لا تجب قسمته وعكس هذا ما تجب
قسمته تجب فيه الشفعة وما تجب الشفعة فيه تجب قسمته ولأنه لو بدا الصلاح في بعض البستان
كان صلاحا لباقيه وإن كان كبيرا ولم يكن صلاحا لما جاوزه وإن كان صغيرا
(فصل) وإذا كان في الأرض زرع فطلب أحدهما قسمتها دون الزرع أجبر الممتنع لأن الزرع في
الأرض كالقماش في الدار فلم يمنع القسمة كالقماش وسواء خرج الزرع أو كان بذرا لم يخرج فإذا قسماها
بقي الزرع بينهما مشتركا كما لو باعا الأرض لغيرهما وإن طلب أحدهما قسمة الزرع منفردا لم يجبر
الآخر عليه لأن القسمة لابد فيها من تعديل المقسوم، وتعديل الزرع بالسهام لا يمكن لأنه يشترط
بقاؤه في الأرض المشتركة وإن طلب قسمتها مع الزرع وكان قد خرج جاز وأجبر الممتنع عليه سواء
كان قصيلا أو اشتد الحب فيه لأن الزرع كالشجر في الأرض والقسمة افراز حق وليست بيعا وإن
قلنا هي بيع لم يجبر إذا اشتد الحب لأنه يتضمن بيع السنبل بعضه ببعض ويحتمل الجواز لأن السنابل ههنا
500

دخلت تبعا للأرض فليست المقصود فأشبه بيع النخلة المثمرة بمثلها وقال الشافعي لا يجبر الممتنع من
قسمتها مع الزرع لأن الزرع مودع في الأرض للنقل عنها فلم تجب قسمته معها كالقماش فيها
ولنا أنه نابت فيها للنماء والنفع فأشبه الغراس وفارق القماش فإنه غير متصل بالدار ولا ضرر عليه
في نقله وإن كان الزرع بذرا في الأرض فقال أصحابنا لا تجوز قسمت لجهالته وكونه لا يمكن افرازه
وهذا مذهب الشافعي ويحتمل الجواز لأنه يدخل تبعا للأرض فلا تضر جهالته كأساسات الحيطان
وكذلك لو اشترى أرضا فيها زرع فاشترطوا ملكه بالشرط وإن كان بذرا مجهولا
(فصل) إذا كانت بينهما أرض قيمتها مائة في أحد جانبيها بئر قيمتها مائة وفي الآخر شجرة
قيمتها مائة عدلت بالقيمة وجعلت البئر مع نصف الأرض نصيبا والشجرة مع النصف الآخر نصيبا
فإن كانت بين ثلاثة أو أكثر نظرت في الأرض فإن كانت قيمتها مائة أو أقل لم تجب القسمة لأنها
إذا كانت أقل لم يمكن التعديل الا بقسمة البئر والشجرة وذلك مما لا تجب قسمته وإن كانت قيمتها
مائة فجعلناها سهما والبئر سهما والشجرة سهما لم يحصل مع البئر والشجرة شئ من الأرض فيصير
هذا كقسمة الشجر وحده وقسمة ذلك وحده ليست قسمة اجبار، وإن كانت الأرض كبيرة
القيمة بحيث يأخذ بعض الشركاء سهامهم منها ويبقى منها شئ مع البئر والشجرة وجبت
القسمة، ومثاله أن تكون قيمة الأرض مائتين وخمسين فيجعلها مائة وخمسين سهما ويضم إلى
501

البئر ما قيمته خمسون والى الشجرة مثل ذلك فتصير ثلاثة سهام متساوية وفي كل سهم جزء من أجزاء
الأرض فتجب القسمة حينئذ وكذلك لو كانوا أربعة وقيمة الأرض أربعمائة وجبت القسمة لأننا
نجعل ثلاثمائة منها سهمين ومائة مع البئر والشجرة وسهمين فتعدلت السهام، ولو كانت الأرض
لاثنين فأراد قسمة البئر والشجرة دون الأرض لم تكن قسمة اجبار وهكذا الأرض ذات الشجر إذا
اقتسما الشجر دون الأرض لم تكن قسمة اجبار ولو اقتسماها بشجرها كانت قسمة اجبار لأن الشجر
يدخل تبعا للأرض فيصير الجميع كالشئ الواحد ولهذا تجب فيه الشفعة إذا بيع شئ من الأرض
بشجره وإذا قسم ذلك دون الأرض صار أصلا في القسمة ليس بتابع لشئ واحد فيصير كأعيان
مفردة من الدور والدكاكين المتفرقة ولهذا لا تجب فيه الشفعة إذا بيع مفردا وكل قسمة غير واجبة
إذا تراضيا بها فهي بيع حكمها حكم البيع
(مسألة) قال (وإذا قسم طرحت السهام فيصير لكل واحد ما وقع سهمه عليه الا
ان يتراضيا فيكون لكل واحد ما رضى به)
وجملته ان القسمة على ضربين قسمة اجبار وقسمة تراضي وقد ذكرنا ان قسمة الاجبار ما أمكن
التعديل فيها من غير رد ولا تخلو من أربعة أقسام (أحدها) أن يكون السهام متساوية وقيمة أجزاء
502

المقسوم متساوية (الثاني) أن تكون السهام متساوية وقيمة الاجزاء مختلفة (الثالث) أن تكون السهام
مختلفة وقيمة الاجزاء متساوية (الرابع) أن تكون السهام مختلفة والقيمة مختلفة. فاما الأول فمثل أرض
بين ستة لكل واحد منهم سدسها وقيمة أجزاء الأرض متساوية فهذه تعدلها بالمساحة ستة أجزاء متساوية
لأنه يلزم من تعديلها بالمساحة تعديلها بالقيمة لتساوي أجزائها في القيمة ثم يقرع بينهم وكيفما أقرع
بينهم جاز في ظاهر كلام احمد فإنه قال في رواية أبي داود ان شاء رقاعا وان شاء خواتيم يطرح ذلك
في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم معين ثم يقال اخرج خاتما علي هذا السهم فمن خرج
خاتمه فهو له وعلى هذا لو أقرع بالحصا أو غيره جاز واختار أصحابنا في القرعة أن يكتب رقاعا متساوية
بعدد السهام وهو ههنا مخير بين أن يخرج الأسماء على السهام وبين اخراج السهام على الأسماء فإن
أخرج الأسماء على السهام كتب في كل رقعة اسم واحد من الشركاء وتترك في بنادق طين أو شمع
متساوية القدر والوزن ويترك في حجر من لم يحضر القسمة ويقال له أخرج بندقة على هذا السهم
فإذا أخرجها كان ذلك السهم لمن خرج اسمه في البندقة ثم يخرج أخرى على سهم آخر كذلك حتى
يبقى الأخير فيتعين لمن بقي، وان اختار اخراج السهام على الأسماء كتب في الرقاع أسماء السهام فيكتب
في رقعة الأول مما يلي جهة كذا وفي أخرى الثاني حتى يكتب الستة ثم يخرج الرقعة على واحد بعينه
فيكون له السهم الذي في الرقعة ويفعل ذلك حتى يبقى الأخير فيتعين لمن بقي، وذكر أبو بكر ان
503

البنادق تجعل طينا وتطرح في ماء ويعين واحد فأي البنادق انحل الطين عنها وخرجت رقعتها على الماء
فهي له وكذلك الثاني والثالث وما بعده فإن خرج اثنان أعيد الاقراع والأول أولى وأسهل
(القسم الثاني) (أن تكون السهام متفقة والقيمة مختلفة فإن الأرض تعدل بالقيمة وتجعل ستة
أسهم متساوية القيمة، ويفعل في اخراج السهام مثل الذي قبله سواء لا فرق بينهما الا أن التعديل
ثم بالسهم وههنا بالقيمة
(القسم الثالث) أن تكون القيمة متساوية والسهام مختلفة مثل أرض بين ثلاثة لأحدهم نصفها
وللآخر ثلثها وللآخر سدسها وأجزاؤها متساوية القيمة فإنه تجعل سهاما بقدر أقلها وهو السدس
فتجعل ستة أسهم وتعدل بالاجزاء ويكتب ثلاث رقاع بأسمائهم ويخرج رقعة على السهم الأول فإن
خرجت لصاحب السدس أخذه ثم يخرج أخرى على الثاني فإن خرجت لصاحب الثلث أخذ الثاني
والثالث وكانت الثلاثة الباقية لصاحب النصف بغير قرعه، وان خرجت القرعة الثانية لصاحب النصف
أخذ الثاني والثالث والرابع وكان الخامس والسادس لصاحب الثلث، وان خرجت القرعة الأولى
لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول وتخرج الثانية على الرابع، فإن خرجت لصاحب الثلث أخذه
والذي يليه وكان السادس لصاحب السدس فإن خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ الآخر
الخامس والسادس وان خرجت الأولى لصاحب الثلث أخذ الأول والثاني ثم يخرج الثانية على
الثالث فإن خرجت لصاحب النصف اخذ الثالث والرابع والخامس واخذ الآخر السادس وإن
خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه واخذ صاحب النصف ما بقي وقيل تكتب ستة رقاع باسم
504

صاحب النصف ثلاث وباسم صاحب الثلث اثنان وباسم صاحب السدس واحدة وهذا لا فائدة
فيه فإن المقصود خروج اسم صاحب النصف وإذا كتب ثلاث رقاع حصل المقصود فأغنى ولا
يصح ان يكتب رقاعا بأسماء السهام ويخرجها على أسماء الملاك لأنه إذا اخرج واحدة فيها السهم
الثاني لصاحب السدس ثم أخرج أخرى لصاحب النصف أو الثلث فيهما السهم الأول احتاج أن يأخذ
نصيبه متفرقا فيتضرر بذلك
(القسم الرابع) إذا اختلفت السهام والقيمة فإن القاسم يعدل السهام بالقيمة ويجعلها ستة أسهم
متساوية القيم ثم يخرج الرقاع فيها الأسماء على السهام كما ذكرنا في القسم الثالث سواء لا فصل بينهما
الا أن التعديل ههنا بالقيم وفي التي قبلها بالمساحة، وأما الضرب الثاني وهي قسمة التراضي التي فيها
رد ولا يمكن تعديل السهام الا أن يجعل مع بعضها عوض فهذه لا اجبار فيها لأنها معاوضة ولا
يجبر على المعاوضة وكذلك سائر ما لا تجب قسمته كالدارين تجعل كل واحدة منهما سهما وما يدخل
الضرر عليهما بقسمته وأشباه هذا وقد ذكرنا منه صورا فيما تقدم
إذا ثبت هذا فإن قسمة الاجبار باخراج القرعة لأن قرعة قاسم الحاكم بمنزلة حكمه فيلزم
باخراجها كلزوم حكم الحاكم، وأما قسمة التراضي ففيها وجهان (أحدهما) يلزمه أيضا كقسمة الاجبار
505

لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه (والثاني) لا تلزم لأنها بيع والبيع يلزم بالتراضي لا بالقرعة وإنما
القرعة ههنا لتعريف البائع من المشتري فأما ان تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما واحدا من
السهمين بغير قرعة فإنه يجوز لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فاختار
ويلزم ههنا بالتراضي وتفرقهما كما يلزم البيع
(فصل) ويجوز للشريكين ان يقتسما بأنفسهما وان يأتيا الحاكم لينصب بينهما قاسما يقسم لهما
وأن ينصبا قاسما يقسم لهما فإن نصب الحاكم قاسما لهما فمن شرطه العدالة ومعرفة الحساب والقيمة
والقسمة ليوصل إلى كل ذي حق حقه وهذا قول الشافعي الا أنه يشترط كونه حرا، وان نصبا قاسما
بينهما فكان على صفة قاسم الحاكم في العدالة والمعرفة فهو كقاسم الحاكم في لزوم قسمته بالقرعة وإن كان
كافرا أو فاسقا أو غير عارف بالقسمة لم تلزم قسمته الا بتراضيهما بها ويكون وجوده كعدمه
فيما يرجع إلى لزوم القسمة ويجزئ قاسم واحد فيما لا يحتاج إلى تقويم فإن احتاج القسم إلى التقويم
احتاج إلى قاسمين لأنه يحتاج إلى أن يكون المقوم اثنين ولا يكفي في التقويم واحد فمتى نصبا قاسما
أو نصبه الحاكم وكانت الشروط فيه متحققة لزمت القسمة بقرعته، وإن اختل فيه بعض الشروط لم
تلزم القسمة الا بتراضيهما لأن وجوده وعدمه واحد وإن قسما بأنفسهما وأقرعا لم تلزم القسمة الا
بتراضيهما بعد القرعة لأنه لا حاكم بينهما ولا من يقوم مقامه
506

(فصل) وعلى الإمام ان يرزق القاسم من بيت المال لأن هذا من المصالح وقد روي أن عليا
رضي الله عنه اتخذ قاسما وجعل له رزقا من بيت المال فإن لم يرزقه الإمام قال الحاكم للمتقاسمين
ادفعا إلى القاسم أجره ليقسم بينكما فإن استأجره كل واحد منهما بأجر معلوم ليقسم نصيبه جاز وان
استأجروه جميعا إجارة واحدة ليقسم بينهم الدار باجر واحد معلوم لزم كل واحد منهم من الاجر
بقدر نصيبه من المقسوم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يكون عليهم على عدد رؤسهم لأن عمله
في نصيب أحدهما كعمله في نصيب الآخر سواء تساوت سهامهم أو اختلفت فكان الاجر بينهم سواء
ولنا أن أجر القسمة يتعلق بالملك فكان بينهم على قدر الاملاك كنفقة العبد وما ذكروه لا
يصح لأن العمل في أكبر النصيبين أكثر، ألا ترى أن المقسوم لو كان مكيلا أو موزوعا كان كيل
الكثير أكثر عملا من كيل القليل؟ وكذلك الوزن والزرع وعلى أنه يبطل بالحافظ فإن حفظ القليل
والكثير سواء ويختلف أجره باختلاف المال
(فصل) وأجرة القسمة بينهما وإن كان أحدهما لطالب لها وبهذا قال أبو يوسف ومحمد والشافعي
وقال أبو حنيفة هي الطالب للقسمة لأنها حق له
ولنا ان الأجرة تجب بافراز الانصباء وهم فيها سواء فكانت الأجرة عليهما كما تراضوا عليها
(فصل) وإذا ادعى أحد المتقاسمين غلطا في القسمة وانه أعطي دون حقه نظرت فإن كانت
قسمته تلزم بالقرعة ولا تقف على تراضيهما فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ولا تقبل دعوى المدعي
507

الا ببينة عادلة، فإن أقام شاهدين عدلين نقصت القسمة وأعيدت وإن لم تكن بينة وطلب يمين شريكه
أنه لا فضل معه احلف له وإنما قدمنا قول المدعى عليه لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها، وان
كانت مما لا تلزم الا بالتراضي كالذي قسماه بأنفسهما ونحوه لم تسمع دعوى من ادعى الغلط هكذا
قال أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه قد رضي بذلك ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه تلزمه
والصحيح عندي ان هذه كالتي قبلها وأنه متى أقام البينة بالغلط نقضت القسمة لأن ما ادعاه محتمل
ثبت ببينة عادلة فأشبه ما لو شهد على نفسه بقبض الثمن أو المسلم فيه ثم ادعى غلطا في كيله أو ولأنه
وقولهم ان حقه من الزيادة سقط برضاه لا يصح فإنه إنما يسقط مع علمه أما إذا ظن أنه أعطي
حقه فرضي بناء على هذا ثم بان له الغلط فلا يسقط به حقه كالثمن والمسلم فيه فإنه لو قبض المسلم فيه بناء
على أنه عشرة مكاييل راضيا بذلك ثم ثبت أنه ثمانية أو ادعى المسلم إليه أنه غلط فأعطاه اثني عشر
وثبت ذلك ببينة لم يسقط حق واحد منهما بالرضى ولا يمنع سماع دعواه وبينته ولان المدعى عليه في
في مسئلتنا لو أقر بالغلط لنقضت القسمة ولو سقط حق المدعي بالرضا لما نقضت القسمة باقراره كما لو وهبه
الزائد وقد ذكر أصحابنا وغيرهم فيمن باع دارا على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة أو أحد عشر أن
البيع باطل في أحد الوجهين. وفي الآخر تكون الزيادة للبائع والنقص عليه والبيع إنما يلزم
بالتراضي فلو كان التراضي يسقط حقه من الزيادة لسقط حق البائع من الزيادة وحق المشتري من
النقص والله أعلم.
508

ولان من رضي بشئ بناء على ظن تبين خلافه لم يسقط به حقه كما لو اقتسما شيئا وتراضيا به ثم
بان نصيب أحدهما مستحقا. فإن قيل: فلم لا تعطي المظلوم حقه في هاتين المسئلتين ولا تنقض القسمة
كما لو تبين الغلط في الثمن أو المسلم فيه قلنا لأن الغلط ههنا في نفس القسمة بتفويت شرط من شروطها
وهو تعديل السهام فتبطل لفوات شرطها وفي المسلم والثمن الغلط في القبض دون العقد فإن العقد قد
تم بشروطه فلا يؤثر الغلط في قبض عوضه في صحته بحلاف مسئلتنا.
(فصل) إذا اقتسم الشريكان شيئا فبان بعضه مستحقا نظرت فإن كان معينا في نصيب أحدهما
بطلت القسمة، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تبطل بل بخير من ظهر المستحق في نصيبه بين الفسخ
والرجوع بما بقي من حقه كما لو وجد عيبا فيما أخذه
ولنا أنها قسمة لم تعدل فيها السهام فكانت باطلة كما لو فعلا ذلك مع علمهما بالحال وأما إذا بان
نصيب أحدهما معيبا فيحتمل أن تمنع المسألة ونقول ببطلان القسمة لعدم التعديل بالقيمة، ويحتمل
أن يفرق بينهما فإن العيب لا يمكن التحرز منه فلم يؤثر في البطلان كالبيع وإن كان المستحق في نصيبهما
على السواء لم تبطل القسمة لأن ما يبقي لكل واحد منهما بعد المستحق قدر حقه ولان القسمة افراز
حق أحدهما من الآخر وقد أفرز كل واحد منهما حقه إلا أن يكون ضرر المستحق في نصيب أحدهما
أكثر مثل أن يسد طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه أو نحو هذا فتبطل القسمة لأن هذا يمنع التعديل
وإن كان المستحق في نصيب أحدهما أكثر من الآخر بطلت لما ذكرناه. وإن كان المستحق مشاعا
509

في نصيبهما بطلت القسمة لأن الثالث شريكهما وقد اقتسما من غير حضوره ولا إذنه فأشبه ما لو كان
لهما شريك يعلمانه فاقتسما دونه وان كانا يعلمان المستحق حال القسمة أو أحدهما فالحكم فيها كما لو لم يعلمان
على ما ذكرنا من التفصيل فيه والله أعلم
(فصل) وإذا ظهر في نصيب أحدهما عيب لم يعلمه قبل القسمة فله فسخ القسمة أو الرجوع بأرش
العيب لأنه نقص في نصيبه فملك ذلك كالمشتري ويحتمل ان تبطل القسمة لأن التعديل فيها شرط
ولم يوجد بخلاف البيع.
(فصل) وإذا اقتسما دارين فأخذ كل واحد منهما دارا وبنى فيها أو اقتسما أرضين فبنى أحدهما
في نصيبه أو غرس ثم استحق نصيبه ونقض بناؤه وقلع غرسه فإنه يرجع على شريكه بنصف البناء
والغرس. ذكره الشريف أبو جعفر وحكاه أبو الخطاب عن القاضي. وقال أبو يوسف ومحمد
بن الحسن ليس له الرجوع عليه بشئ انه بنى وغرس باختيار نفسه فلم يرجع بنقص ذلك على غيره
كما لو بنى في ملك نفسه.
ولنا ان هذه القسمة بمنزلة البيع فإن الدارين لا يقسمان قسمة اجبار على أن تكون كل واحدة
510

منهما نصيبا وإنما يقسمان كذلك بالتراضي فتكون جارية مجرى البيع ولو باعه الدار جميعها ثم بانت
مستحقة رجع عليه بالبناء كله فإذا باعه نصفها رجع عليه بنصفه وكذلك يخرج في كل قسمة جارية
مجرى البيع وهي قسمة التراضي الذي فيه رد عوض ومالا يجبر على قسمته لضرر فيه ونحو ذلك
فأما قسمة الاجبار إذا ظهر نصيب أحدهما مستحقا بعد البناء والغرس فيه فنقض البناء وقلع الغرس
فإن قلنا القسمة بيع فالحكم فيها كذلك، وان قلنا ليست بيعا لم يرجع لأن شريكه لم يغره ولم
ينقل إليه من جهته بيع وإنما أفرز حقه من حقه فلم يضمن له ما غرم فيه هذا الذي يقتضيه قول أصحابنا
(فصل) وإذا اقتسم الورثة تركة الميت ثم بان عليه دين لا وفاء له إلا مما اقتسموه لم تبطل القسمة
لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها لأنه تعلق بها بغير رضاهم فأشبه تعلق دين الجناية
برقبة الجاني، ويفارق الرهن لأن الحق يتعلق به برضا مالكه واختياره فعلى هذا يقال للورثة ان شئتم
وفيتم الدين والقسمة بحالها وإن شئتم نقضت القسمة وبيعت التركة في الدين فإن أجاب أحدهم وامتنع
511

الآخر بيع نصيب الممتنع وحده وبقي نصيب المجيب بحاله، وإن كان ثم وصية بجزء من المقسوم
فالحكم فيه كما لو ظهر مستحقا على ما مر من التفصيل فيه لأنه يستحق أخذه، وإن كانت الوصية بمال
غير معين مثل أن يوصي بمائة دينار فحكمها حكم الدين على ما بينا
(فصل) وإذا طلب أحد الشريكين من الآخر المهايأة من غير قسمة اما في الاجزاء بأن يجعل
لأحدهما بعض الدار يسكنها أو بعض الحقل يزرعه ويسكن الاخر ويزرع في الباقي أو يسكن أحدهما
ويزرع سنة ويسكن الآخر ويزرع سنة أخرى لم يجبر الممتنع منهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك
يجبر لأن في الامتناع منه ضررا فينتفي بقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " ووافقنا أبو حنيفة
في العبيد خاصة على أنه لا يجبر على المهايأة
ولنا ان المهايأة معاوضة فلا يجبر عليها كالبيع، ولان حق كل واحد في المنفعة عاجل فلا يجوز
512

تأخيره بغير رضاه كالدين وكما في العبيد عند أبي حنيفة ويخالف قسمة الأصل فإنه افراز
النصيبين وتمييز أحد الحقين
إذا ثبت هذا فإنهما إذا اتفقا على المهايأة جاز لأن الحق لهما فجاز فيه، ما تراضيا عليه كقسمة التراضي
ولا يلزم بل متى رجع أحدهما عنها انتقضت المهايأة ولو طلب أحدهما القسمة كان له ذلك وانتقضت
المهايأة ووافق أبو حنيفة وأصحابه في انتقاضها بطلب القسمة وقال مالك تلزم المهايأة لأنه يجبر عليها
عنده فلزمت كقسمة الأصل
ولنا أنه بذل منافع ليأخذ منافع من غير إجارة فلم يلزم كما لو أعاره شيئا ليعيره شيئا آخر إذا
احتاج إليه وفارق القسمة فإنها افراز حق على ما ذكرناه
(فصل) قال أحمد في قوم اقتسموا دارا وحصل لبعضهم فيها زيادة أذرع ولبعضهم نقصان ثم
باعوا الدار جملة واحدة قسمت الدار بينهم على قدر الأذرع، يعني ان الثمن يقسم بينهم على قدر ملكهم
فيها وهذا محمول على أن زيادة أحدهما في الأذرع كزيادة ملكه فيها، مثل أن يكون لأحدهما الخمسان
فيحصل له أربعون ذراعا وللآخر ثلاثة أخماس فيحصل له ستون فإن الثمن يقسم بينهما أخماسا على
513

قدر ملكهما في الدار فإن كانت زيادة الأذرع لرداءة ما اخذه صاحبها مثل دار بينهما نصفين فأخذ
أحدهما بنصيبه من جيدها أربعين ذراعا وأخذ الآخر من رديئها ستين ذراعا فلا ينبغي ان يقسم
الثمن على قدر الأذرع بل يقسم بينهما نصفين لأن الستين ههنا معدولة بالأربعين فكذلك يعدل بها
في الثمن والله أعلم. وقال أحمد في قوم اقتسموا دارا كانت أربعة سطوح يجري عليها الماء فلما اقتسموا
أراد أحدهم منع جريان ماء الآخر عليه وقال هذا شئ قد صار لي قال إن كان بينهما شرط أنه يرد
الماء فله ذلك فإن لم يشترط فليس له منعه، ووجهه انهم اقتسموا الدار واطلقوا فاقتضى ذلك أن
يملك كل واحد حصته بحقوقها وكما لو اشتراها بحقوقها ومن حقها جريان مائها في ماء كان يجري إليه
معتادا له وهو على سطح المانع فلهذا استحقه حالة الاطلاق فإن تشارطا على رده فالشرط أملك
والمؤمنون على شروطهم وقال أبو الخطاب إذا اقتسما دارا فحصل الطريق في نصيب أحدهما وكان
514

لنصيب الآخر منفذ يتطرق منه وإلا بطلت القسمة وذلك لأن القسمة تقتضي التعديل والنصيب
الذي لا طريق له لا قيمة له الا قيمة قليلة فلا يحصل التعديل ولان من شرط الاجبار على القسمة
أن يكون ما يأخذه كل واحد منهما يمكن الانتفاع به وهذا لا ينتفع به آخذه فإن كان قد أخذه
راضيا به عالما بأنه لا طريق له جاز لأن قسمة التراضي بيع وشراؤه على هذا الوجه جائز، وقياس المسألة
التي قبل هذه أن الطريق تبقى بحالها في نصيب الآخر ما لم يشترط صرفها عنه كمجرى الماء والله أعلم.
(فصل) قال وللأب والوصي قسمة مال الصغير مع شريكه لأن القسمة اما افراز حق أو بيع
وكلاهما جائز لهما ولان في القسمة مصلحة للصبي فجازت كالشراء له ويجوز لهما قسمة التراضي من
غير زيادة في العوض لأن فيه دفعا لضرر الشركة فأشبه ما لو باعه لضرر الحاجة إلى قضاء الدين
أو الحاجة إلى النفقة
515

(فصل) ولا تصح ولاية القضاء الا بتولية الإمام أو من فوض الإمام إليه ذلك فإن كان من
ولاه ليس بعدل فهل تصح ولايته؟ على وجهين ويلزم الإمام ان يختار للقضاء بين المسلمين أفضل من
يقدر عليه لهم، والألفاظ التي تنعقد بها الولاية تنقسم إلى صريح وكناية فالصريحة سبعة ألفاظ وهي
قد وليتك الحكم، وقلدتك، واستنبتك، واستخلفتك، ورددت إليك الحكم، وفوضت إليك،
وجعلت إليك، فإذا وجد أحد هذه الألفاظ من المولي وجوابها من المولى بالقبول انعقدت الولاية.
وأما الكناية فهي أربعة ألفاظ قد اعتمدت عليك وعولت عليك، ووكلت إليك، واستندت إليك،
فلا تنعقد الولاية بها حتى تقترن بها قرينة نحو قوله فاحكم فيما وكلت إليك وانظر فيما أسندت إليك
وقول ما عولت فيه عليك وإذا صحت الولاية وكانت عامة استفاد بها النظر في عشرة أشياء فصل
الخصومات بين المنازعين واستيفاء الحق ممن ثبت عليه ودفعه إلى مستحقه والنظر في أموال اليتامى
والمجانين والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس والنظر في الوقوف في عمله في حفظ أصولها
516

وإجراء فروعها على ما شرطه الواقف وتزويج الأيامى اللاتي لا أولياء لهن وإقامة الحدود والنظر في
مصالح المسلمين في عمله بكف الأذى عن طرقات المسلمين وأفنيتهم وتصفح حال شهوده وأمنائه
والاستبدال بمن ثبت جرحه متهم والإمامة في صلاة الجمعة والعيد، وفي جباية الخراج وأخذ الصدقة وجهان
(فصل) قال ويوصي الوكلاء والأعيان على بابه بتقوى الله تعالى والرفق بالخصوم وقلة الطمع
ويجتهد أن لا يكونوا شيوخا أو كهولا من أهل الدين والصيانة والعفة
(فصل) قال ابن المنذر يكره للقاضي أن يفتي في الأحكام كان شريح يقول أنا أقضي ولا أفتي
وأما الفيافي الطهارة وسائر ما لا يحكم في مثله فلا بأس بالفتيا فيه
(تم بحمد الله وعونه الجزء الحادي عشر من كتاب المغني)
(ويليه بمشيئة الله وتوفيقه الجزء الثاني عشر منه وأوله كتاب الشهادات)
517