الكتاب: العناوين الفقهية
المؤلف: الحسيني المراغي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٢٥٠
المجموعة: مصطلحات ومفردات فقهية
تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

العناوين
تأليف
الفقيه المحقق الأصولي المدقق
السيد مير عبد الفتاح الحسيني المراغي
المتوفى سنة 1250 ه‍
الجزء الثاني
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

العناوين (ج 2)
2

بسم الله الرحمان الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين،
والصلاة والسلام على خير خلقه
محمد وآله الطيبين الطاهرين (1).

(1) لم ترد الخطبة في المخطوطتين.
3

فصل في (1)
عناوين المعاملات
[العنوان السابع والعشرون]
[في بيان أصالة الصحة في العقود]

(1) لم يرد في المخطوطتين.
5

عنوان [27]
قد تقرر: أن الأصل في المعاملات - كالعبادات - الفساد، بمعنى عدم ترتب
الأثر شرعا، لأن ترتبه عليه أمر توقيفي يحتاج إلى ثبوته من الشرع، فما لم يثبت
فالأصل عدمه.
والظاهر: أن كون البناء على أصالة الفساد في كل ما شك في ورود دليل على
صحته مجمع عليه فيما بينهم، وإنما البحث في أنه هل يثبت قاعدة كلية تدل على
الصحة أم لا؟
فنقول: الشك في الصحة والفساد تارة يكون في نفس الحكم الشرعي،
كالشك في صحة الصرف من دون قبض، والوقف بدون قصد القربة، ونحو ذلك،
وإليه يرجع الشك في الموضوع المستنبط، لأنه راجع إلى معرفة مفاد الدليل،
فيكون الشك في شمول اللفظ لذلك الفرد المشكوك مؤديا إلى الشك في حكمه،
لا بمعنى كون الشك مسببا عنه، بل بمعنى بقائه على ما كان سابقا قبل (1) قوله تعالى:
وأحل الله البيع (2) وشككنا في أن البيع هل يعم ما وقع بلفظ (ملكت) أو ما وقع
بالمعاطاة، أم لا؟ ولازم ذلك بقاؤهما مشكوكي الحكم كما كانا قبل ورود الدليل،

(1) في النسخ بدل (قبل): مثل، والصواب ما أثبتناه، علما بالتصحيف.
(2) البقرة: 275.
6

لعدم وجود دليل واضح يدل على صحتهما، فيرجعان إلى أصالة الفساد لو لم يثبت
قاعدة أخرى. وبالجملة: الشبهة في الموضوع المستنبط راجع إلى الشك في
الحكم.
وتارة يكون في الموضوع الصرف، كما إذا وقعت معاملة في الخارج ونحن
نعلم أنها لو وقعت على الطريق الفلاني لكان صحيحا شرعا، ولو وقعت على طريق
آخر - مثلا - كانت فاسدة، ولكن لا ندري أنها وقعت بأي الطريقين، فهنا مقامان:
المقام الأول (1)
في شبهة الحكم
والظاهر: البناء في المشكوك في العقود على الصحة - ويأتي الكلام في
الإيقاعات - والوجه في ذلك يتخرج من أمور عديدة:
الأول: أنه لا ريب أن المعاملات إنما هي أمور ضرورية للتعيش، وليس من
مخترعات الشرع، بل لا ريب في أن المكلفين يحتاجون إلى نقل الأعيان بعوض
أو بدونه، وكذلك المنافع بعوض أو بدونه. ويحتاجون إلى الشركة والاسترباح
والاستئمان والنيابات والتناكح، ونحو ذلك، ويتولد من ذلك البيع والصلح والهبة
والإجارة والعارية والوكالة والشركة والمضاربة والنكاح والمزارعة والمساقاة
والجعالة، وغير ذلك من العقود.
ولا يخفى على كل من له درية: أن هذه كلها من الأمور المتداولة بين الناس
على اختلاف الأنواع والأشخاص، بل قد تداول بينهم ما ليس داخلا تحت هذه
العقود المعنونة في الفقه، فإنهم يستعملونها (2) على حسب حاجاتهم، وبعضها يمكن

(1) في غير (م): أحدهما. ولا يخفى أن المؤلف قدس سره لم يبحث عن عدله - المقام ا لثاني -
في هذا العنوان، وأخر البحث عنه إلى العنوان التالي، يجئ في ص: 31.
(2) كذا، والمناسب: تذكير الضمير، لرجوعه إلى (ما) وهكذا فيما يأتي من الضمائر في
هذه الفقرة.
7

تخريجها بحيث يدخل تحت أحد المذكورات، وبعضها مما لا يمكن.
فيعلم من ذلك تداول هذه الأمور في زمن الشارع أيضا، فلو كان المشكوك
فيه حراما وفاسدا لم يقرر الشارع لهم على ذلك، مع أن ظاهر اتصال هذا التداول
إلى زمن الشرع كون الشارع قد قررهم على ذلك، وتقريره دال على صحته
وامضاء الشارع له، وهو معنى ترتب الأثر.
الثاني: أن نقول: إن المشكوك فيه بعد ثبوت تداوله لو كان فاسدا لاشتهر
وتواتر، لعموم البلوى وشدة الحاجة، والفرض أنه لم يشتهر ولم يظهر، فدل على
عدم كونه فاسدا في نفس الأمر.
فإن قلت: إنه لو كان صحيحا لاشتهر وتواتر، مع أنه لم يظهر، فعلم أنه فاسد.
قلت: حيث إن هذا شئ متداول عند الناس، ومن المعلوم أنه لم يكن
طريقتهم السؤال عن كل ما هو بأيديهم، سيما مع علم الشارع به، وكانوا يبنون
فيما فعلوه على الموافقة للواقع حتى يظهر من الشارع المنع عنه وبيان عدم صحته،
فالمحتاج إلى البيان إنما هو الفساد، فما لم يبين علم عدمه، وعدم المنع بيان
لصحته.
فإن قلت: إذا كان (1) مقتضى الأصل الأولي الفساد، فلعل سكوت الشارع من
باب الاتكال على أن المكلفين يبنون على الفساد، لأنهم يعرفون ذلك بعقولهم،
فتكون الصحة هي (2) المحتاج إلى البيان منه.
قلت: هذا إذا لم يعلم الشارع بارتكاب المكلفين به، فإذا علم به علم أن
بناءهم ليس على الفساد ما لم يظهر من الشرع (3) منع، فعدم ظهور منعه مع ذلك
دليل على الإمضاء، وهو المطلوب.
الثالث: أن عموم قوله عليه السلام في الرواية المشهورة: (الناس مسلطون على
أموالهم) (4) يقتضي صحة العقود المتفرعة عليها في الجملة وإن لم يدل على ترتب

(1) في (ف، م): قد عرفت أن مقتضى الأصل.
(2) في غير (م)، هو.
(3) في (ف): الشارع.
(4) عوالي اللآلي 1: 222، ح 99.
8

تفاصيل الأحكام.
وبيان ذلك: أن المولى إذا أعطى لعبيده كل واحد منهم شيئا من الأمتعة
والأموال ثم قال: (كل واحد منكم مسلط على ما أعطيته إياه) ولم يقيد التسلط
بشئ دون شئ، يفهم أنه لو باعه أو ملكه غيره أو آجره أو شرك فيه - أو نحو ذلك
- فكلها مقبولة عند المولى، فيصير المعنى في عموم تسلط الناس على أموالهم: أن
كل ما يتصرفون فيه بحسب ما يريدون مقبول عند الشارع، بمعنى: أنه جعل لهم
هذه التصرفات وأمضى لهم ذلك.
واحتمال أن يراد: تسلطهم على أموالهم في الأكل والشرب واللبس والركوب
- ونظائر ذلك من التصرفات والانتفاعات - لا يساعد عليه الاطلاق، إذ ليس هناك
تشكيك حتى ينصرف إلى ما ذكر، ولا قرينة صارفة عن الإطلاق. ولا ريب أن البيع
ونحوه أيضا من طرق الانتفاع بالمال والتصرف فيه، وقد سلطه (1) الشارع على
ذلك على الإطلاق.
ودعوى التسلط مع بقاء المال على ما ليته له، مدفوعة بأنه خلاف الظاهر.
كما أنه لو قيل: بأن الظاهر من الرواية ورودها في بيان أصل التسلط في
الجملة وليس واردا في مقام بيان الأذن في التصرفات حتى يتمسك بإطلاقه،
فالمراد منه: تسلطهم على ما لهم على نحو ما قرره الشارع من أنواع التصرفات
وطرقها، فلا يكون عموم التسلط مثبتا لصحة معاملة مشكوكة، بل معناه: أن كل
طريق قررناه للتصرفات وأمضيناه في ترتب الآثار فالناس مسلطون في أموالهم
بالتصرف على تلك الطرق ولا حجر عليهم في ذلك.
أجبنا عنه: بأن انصراف التسلط على الطرق المقررة غير ظاهر من اللفظ، ولم
يقم على ذلك قرينة، بل الظاهر عند التأمل كون مثل هذه العبارة إنشاءا لإمضاء
تصرف المالك أي نحو أراد، فمقتضاه: أن كل نحو تصرفوا فيه فهو مقبول عندي
وممضى، وليس معنى الصحة إلا ذلك.

(1) في (ن، د): سلط.
9

مضافا إلى أن الفقهاء يستدلون به في كون الإسقاط موجبا للسقوط، وفي
كون الأذن مبيحا للتصرف، ونحو ذلك من المقامات، بتقريب: أنه ماله والشارع
سلطه عليه، فإذا أسقطه فلا كلام فيه، ونظير ذلك يذكرونه في الحقوق، والظاهر
عدم الفرق.
فنقول: إذا ملكه لغيره فهو (1) مسلط، وليس معنى تسلطه (2) إلا وقوع ما فعله
عند الشارع، وتقييده بكونه على نحو قرره الشارع حتى يحتاج في ذلك إلى
إثبات الصحة من خارج دعوى بلا بيان، والفهم العرفي بانصرافه غير ظاهر.
فإذا ثبتت القاعدة في الماليات تثبت في غيره أيضا بعدم القول بالفصل، فإن
من قال بأصالة الصحة في بعض العقود قال به في الجميع، فتدبر.
الرابع: قوله تعالى في سورة المائدة: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (3).
وتحرير الدلالة على المدعى بأن يقال: إن الإيجاب والقبول الواقعين بين
المكلفين لا ريب أنه داخل في العقود، لأن معناه الربط، والإيجاب والقبول ربط
شئ بآخر، فيشمله ذلك. أو بأن (4) معناه: العهد أو العهد المؤكد، فيشمل الإيجابين
أيضا، لأنه عهد من المتعاقدين ومؤكد كذلك، لبناء العقود على الدوام والثبات - كما
يقرر (5) في محلها - فيدخل تحت العموم، وظاهر الأمر وجوب الوفاء بكل ما
هو عقد، وكل ما وجب الوفاء به من المكلفين فهو صحيح، إذ ليست الصحة إلا
ترتب الأثر شرعا، فإذا أمضى الشارع ما وقع بالوفاء به والعمل بمقتضاه فعلم كونه
مؤثرا في ذلك.
وبعبارة أخرى: لا نريد من الصحة إلا قبول أثره المقصود عند الشارع، وهو
حاصل من الأمر بالوفاء
وملخص كلام أهل اللغة والتفسير في هذه الآية الشريفة: أن صاحب الكشاف.

(1) في غير (م): فنقول هو.
(2) في (م): السلطة.
(3) المائدة: 1.
(4) في (ن): بيان معناه.
(5) في (م): تقرر.
10

قال: إن العقد العهد الموثق، لشبهه بعقد الحبل ونحوه، وهي عقود الله التي عقدها
على عباده وألزمها إياهم، وقيل: هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات
والمبايعات ونحوهما، والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله
وتحريم حرامه، وأنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل، وهو قوله: أحلت
لكم (1).
وقال الطبرسي: إن العقد أوكد العهود، واختلف في هذه العهود على أقوال:
أحدها: أنها عهود أهل الجاهلية بينهم على النصرة والموازرة والمظاهرة.
وثانيها: أنها عهود الله في حلاله وحرامه.
وثالثها: العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه، كعقد
الأيمان.
ورابعها: أمر أهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم بالعمل بما في التوراة
والإنجيل في تصديق نبينا صلى الله عليه وآله وما جاء به من عند الله.
وأقواها القول الثاني كما
رواه ابن عباس، ويدخل فيه جميع الأقوال الأخر (2).
وقال البيضاوي: ولعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقد الله سبحانه
وتعالى على عباده وألزمها إياهم من التكاليف، وما يعتقدون بينهم من عقود
الأمانات والمعاملات (3).
ونقل عن الراغب: أن العقود (4) ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين عباده، وعقد
بين المرء ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر (5).
وظاهر الآية يقتضي كل عقد، سوى ما كان تركه واجبا

(1) الكشاف 1: 600 - 601.
(2) مجمع البيان 3: 151.
(3) تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل) 1: 260.
(4) في سوى (م): العقد.
(5) لا يوجد ما نقل في مادة (عقد) من مفردات الراغب، قال المحقق النراقي: وقال ا لراغب
على ما نقل عنه: العقود... عوائد الأيام: 3.
11

وفي الصافي عممه كذلك (1).
والمقدس الأردبيلي في آيات الأحكام قال: يحتمل كون المراد العقود
الشرعية الفقهية، ولعل المراد أعم من التكاليف والعقود التي بين الناس وغيرها،
كالأيمان (2).
وفي الخبر في الصافي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله عقد عليهم لعلي عليه السلام بالخلافة في
عشرة مواطن، ثم أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدت
عليكم لأمير المؤمنين عليه السلام (3).
والحاصل من ذلك: أن المراد هنا إما مطلق العهود، أو عهود أمير المؤمنين عليه السلام،
أو عهود الجاهلية، أو عهود الله على عباده، وهي التكاليف، أو العقود التي بين
الناس، سواء خصصناها بالمتداولة، أو عممناها بالمخترعة، أو جميع ذلك.
ولا ريب أن الآية الشريفة بظاهر الأمر بالوفاء تدل على الصحة فيما دخل
تحت عموم العقود وإن بقي الإشكال في الجواز واللزوم، وسنذكر في عنوان
آخر (4) إن شاء الله تعالى.
فالمهم هنا: بيان ما يدخل تحت العموم حتى يثبت الصحة في المشكوك منه.
فنقول: أما اختصاصها (5) بعهود أمير المؤمنين عليه السلام: فهو خلاف الظاهر، والخبر
الواحد لا يكفي في الاختصاص على فرض تسليم الدلالة، مع أنه لا دلالة فيه (6)
غايته أنه مورد نزول الآية، والمورد لا يخصص العام من هذه الجهة وإن بقي فيه
شبهة إرادة العهد، وسيجئ الكلام فيه.
مضافا إلى أن العهد لأمير المؤمنين عليه السلام إنما هو داخل في باطن الآية، كما
يعلم ذلك من ملاحظة تفسير أكثر الآيات المذكور فيها (7) مثل العهد والأمانة

(1) تفسير الصافي 1: 417.
(2) زبدة البيان: 462.
(3) يأتي في العنوان 29.
(4) يأتي في العنوان 29.
(5) في غير (م): اختصاصه.
(6) في سوى (م): (1) في غير (م): المذكورة فيها.
12

ونظائر ذلك، بل بعد التتبع يعلم أن غالب آيات القرآن مؤول إلى علي عليه السلام
وأولاد الطاهرين، وهو لا ينافي الاستدلال بالظواهر.
مع أنه يمكن أن يقال: إن الميثاق لأمير المؤمنين عليه السلام عبارة عن وجوب
إطاعته وثبوت ولايته، وقبوله مستلزم للإتيان بالتكاليف كملا، لكون التخلف عنه
تخلفا عن إطاعته في ذلك الجزء المتخلف عنه.
وبالجملة: لا قدح في الآية من هذه الجهة.
وأما إرادة عهود الجاهلية: فلم يقم على تخصيصها (1) بها قرينة، ولم يذكره
أكثر أهل اللغة والتفسير، مع بعده عن سياق الآية جدا ومخالفته لما رجحه أكثر
أهل التفسير بل كلهم.
وأما إرادة التكاليف خاصة: فهو أيضا تخصيص من دون مخصص، إذ في اللغة
والعرف تعم تلك وغيرها، وقد عممها (2) جماعة من أهل التفسير واللغة. وكلام
صاحب الكشاف وإن كان ظاهرا في اختصاصها (3) بها، لكنه غير مسموع، بلا
شاهد (4) بل هو اجتهاد صرف معارض بكلام غيره (5) مع احتمال (6) إرادة ما يعم
عقود الناس أيضا من الحلال والحرام، كما مر في كلام الطبرسي أنه رجح قول ابن
عباس ثم (7) قال: ويدخل فيه جميع الأقوال الأخر (كما ذكرناه آنفا) (8) فالظاهر
من ذلك حينئذ إرادة العقود والعهود والتكاليف كلها، أو الأول خاصة، أو مع الثاني.
وعلى كل تقدير: فتعم عقود الناس، كما هو محل البحث. فكل ما يسمى
عقدا لو شك في صحته وفساده - لفقد ما يحتمل كونه شرطا، أو وجود ما
يحتمل كونه مانعا، أو للشك في كون شئ شرطا، أو كونه مانعا - يحكم بالصحة،

(1) في سوى (م): تخصيصه.
(2) كذا في (م) والعبارة في غيرها هكذا: إذ اللغة والعرف يعم ذلك وغيره، وقد عممه...
(3) في غير (م): اختصاصه.
(4) في (م): إذ لا شاهد له.
(5) في (م) زيادة: على أنه غير صريح فيه.
(6) في (م): لاحتمال.
(7) في (م): فإنه بعد أن رجح قول ابن عباس قال.
(8) لم يرد في (م).
13

لدخوله تحت العموم.
نعم، بقي هنا كلام، وهو أن المراد بالعقود بعد شموله لمحل البحث هل العقود
المتعارفة في زمن الشارع، أو كل عقد مخترع أو متعارف؟ وتظهر الثمرة فيما
لو أريد تشريع عقد جديد لثمرة مقصودة، فهل يمكن التمسك في صحته بالآية
أو لا؟ (1).
فعلى الأول: لا يمكن، لانصرافها إلى المتعارفة، فيحتاج في دخول المشكوك
فيه في الآية إلى العلم بأنه من العقود المتعارفة، والفرض أنه مخترع.
وعلى الثاني: نعم (2)، لصدق أنه عقد، فيدخل.
رجح جماعة كون المراد: المتعارفة، ولعل السر في ذلك: أن الجمع المحلى
باللام وإن كان يفيد العموم بالوضع إلا أنه محتاج إلى عدم وجود قرينة العهد أو
مجاز آخر، وهنا ليس كذلك، كما ذكروا نظيره في الاستغراق العرفي، ومثلوا له
بقولهم: جمع الأمير الصاغة.
وتوضيحه: أنه لا ريب في كون العقود معروفة بين الناس على حسب ما
يحتاجون إليه (3) في أمر معاشهم، فإذا كان متداولا هذا التداول فلا ينصرف هذا
الخطاب إلا إلى ما هو المتداول، فيكون الاستغراق عرفيا، بمعنى كونه منصرفا إلى
المعهود من العقود، فإذا ثبت كون عقد متعارفا في ذلك الزمان وصح دخوله تحت
العموم ينفى شرطية المشكوك فيه أو مانعيته بالأصل وبإطلاق الآية، لا إذا شك في
الصحة والفساد من جهة الشك في كونه متعارفا داخلا تحت الآية أم لا.
ويبقى الكلام حينئذ في معرفة المتعارف وغيره، فنقول: الميزان في ذلك (4)
حصول التعارف الان وعدمه، فإنه كاشف عن الزمان السابق بأصالة التشابه وعدم
التغير (5).

(1) العبارة في (م) هكذا: وتظهر الثمرة في إمكان التمسك بالآية لصحة عقد جديد وعد مه.
(2) في (م): يمكن.
(3) في (م): إليها.
(4) العبارة في (م) هكذا: والميزان في معرفة المتعارف وغيره حصول....
(5) في (ن): التغيير.
14

ولا يبعد منع الانصراف إلى المتعارف، نظرا إلى أن العموم الاستغراقي إنما هو
مفيد لعموم الأفراد - لا الأنواع - على مقتضى الوضع والعرف، وحمله على
استغراق الأنواع مما لا شاهد له، فإذا اشتمل (1) الأفراد عموما، فإما أن يراد منه
الأفراد المتعارفة، أو مطلقا.
فعلى الثاني: يلزم العموم مطلقا، وهو المطلوب.
وعلى الأول: فاللازم عدم إمكان التمسك بها في الأفراد القليلة الوقوع من
البيع والصلح وغير ذلك من الأنواع المتعارفة أيضا، لأنها غير داخلة، فتنتفي ثمرة
الآية في الاستدلال، إذ لا يقع الشك الموجب للتمسك بها إلا في فرد له نوع ندرة.
مضافا إلى إطباق الأصحاب على التمسك بها في الأفراد النادرة من الأنواع
الغالبة، بل في الأفراد التي هي أشد ندرة بحيث لا يكاد يقع، وليس هذا إلا لعدم
الانصراف إلى المتعارف.
مع أنا نقول: إن عدم تعارف الوجود لا يضر في دلالة العام، لأنه يشمل النادر
أيضا، وإنما ذلك يمنع في المطلق، مضافا إلى أن المانع غلبة الإطلاق، وأما غلبة
الوجود إذا لم يكن في إطلاق اللفظ عليه شبهة فنمنع الانصراف.
وما يقال: إنه لا منافاة بين التعميم في الأفراد للنادرة (2) وفي الأنواع إلى
الغالبة.
قلت: نعم، لا منافاة في ذلك، لكن الحمل يحتاج إلى دليل، إذ الحمل إما أن
يكون للغلبة فلا وجه لإدخال الأفراد النادرة، بل ينبغي عدم إدخالها، لأن الفرد
إنما هو مورد العموم، فلا وجه لأن يقال بخروج النوع النادر دون الفرد. وإن كان
احتمال (3) إرادة العهد من العام فلا قرينة له سوى غلبة الوقوع، وهو مشترك بين
النوع والفرد.
والحاصل: لم أجد وجها في إخراج الأنواع النادرة دون الأفراد النادرة من

(1) في (م): شمل.
(2) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: النادرة.
(3) في هامش (م): لاحتمال، ظ.
15

الأنواع الشائعة.
واحتمال: أن يكون السبب وجود الأفراد النادرة مع شيوع النوع في الجملة،
بخلاف النوع النادر الغير المتعارف، فإنه غير واقع أصلا
مدفوع بمنع وجود جميع أفراد النوع الشائع التي يختلف باختلافها الحكم،
ومنع عدم وجود النوع النادر.
والقائلون بحمل الآية على المتعارفة يقولون بعدم شمولها للعقود الموجودة
إذا لم تكن متعارفة بحيث يكشف عن تداولها في زمن الشرع، فلا وجه لاعتبار
عدم الوجود أصلا.
فلو عممنا الآية الشريفة لكل ما يسمى عقدا وقلنا بشموله لنادر الأنواع
والأفراد - إلا إذا انجرت الندرة إلى حد يشك في كونه عقدا، فلا يشمل - لكان
أوفق بظاهر الآية، وأوسع في الاستدلال.
نعم، شمولها للأفراد الشائعة من الأنواع المتعارفة واضح، وللنادرة منها أيضا
لا إشكال فيه، وللأنواع النادرة محل خفاء. ولكن الظاهر العموم، فلا يفترق الحال
بين الشك في النوع أو الفرد بعد العلم بتعارفه أم لا في إدراجه تحت الآية والحكم
بالصحة بعد ثبوت كونه عقدا.
ويمكن أن يقال: إن المتعارف عند الناس لما كان إطلاق العقد على البيع
والإجارة والنكاح والمسابقة ونحو ذلك، فكأنهم يعدون هذه الأنواع أفرادا للعقد،
بل لا يسبق إلى النظر من قولك: (كل عقد) إلا البيع والصلح ونحوهما، دون هذا
البيع وذلك (1) ونحو ذلك، فينصرف إلى الغالب في الأفراد الإضافية المركوزة في
الأذهان، ويصير بمنزلة (أوفوا بالبيع والصلح) ويعم حينئذ كل فرد من الأنواع
المتعارفة وإن كان نادرا، لتعلق الحكم بالطبيعة السارية في جميع أفرادها، والندرة
لا تقدح في ذلك.

(1) في (م): دون هذا البيع وذاك وذاك.
16

وهذا الكلام له وجه تخريج، إلا أن الآية على المختار شاملة لكل عهد بظاهر
لفظ العموم (1) وكلمة المفسرين، فينبغي (2) ارتكاب هذا الكلام في التكاليف أيضا
بوجوب الوفاء بالأنواع الشائعة - كالصلاة وحرمة الزنا - وإن كان في أفرادها (3)
النادرة، دون الأنواع النادرة، وهو خلاف ظاهر الآية وظاهر أهل التفسير، بل
ظاهرهم الأطباق على إرادة الحلال والحرام مطلقا، فكذلك في العقود، فتدبر.
فلا وجه لرمي الآية الشريفة بالإجمال - كما يتراءى من بعض المتفقهة - ولا
حملها على الأنواع المتعارفة كما طفحت به كلمة طائفة من المدققين، والله العالم.
وهنا إشكالات:
أحدها: أنه لا ريب في خروج كثير من العهود عن الآية، لعدم لزوم الوفاء بها،
سواء كان في الأحكام الإلهية، أو في العهود بين الناس، أو نحو ذلك، فاللازم على
هذا إما ارتكاب تخصيص الأكثر، وهو غير جائز أو نادر. وإما حمل العموم على
المعهود، وهو مخرج عن الدلالة على ما هو المراد من التمسك به في كل مشكوك،
بل يختص إلى المتعارف (4) فردا أو نوعا.
والجواب عنه: أن المراد - كما ذكرناه - هو العموم الأفرادي، ولا ريب أن
أفراد العقود الصحيحة أكثر وجودا من أفراد الفاسدة، وكذا أفراد الواجب في
التكاليف أكثر وقوعا وترك الحرام شائع تحققا، فالعهود اللازمة الوفاء أكثر أفراد ا
من غيرها.
مضافا إلى أن استهجان تخصيص الأكثر إنما هو مع عدم بقاء كثرة يعتد بها،
وهنا ليس كذلك، حتى لو أريد الأنواع (5) لأن الأنواع اللازمة الوفاء أيضا كثيرة،
فتدبر.
وثانيها: أن الحمل على العموم إنما هو مع عدم وجود قرينة على خلافه أو

(1) كذا في النسخ، والظاهر أنه مصحف (العقود).
(2) في (ف، م): ينبغي.
(3) في (م) أفراده.
(4) كذا، والصواب: بالمتعارف.
(5) في (م) زيادة: أيضا.
17

وجود شئ صالح لأن يكون قرينة، فإنهما يرفعان الظهور المعتبر في الحمل على
الحقيقة، ولا ريب أن سبق ذكر أفراد معهودة سابقا يوجب صرف العموم إليها، أو
هو صالح للصرف، بمعنى أنه يحتمل كونه صارفا، كما لو قال المولى المالك
لعشرين بيتا وعشرين ثوبا لعبده: (اغسل كل يوم الثوب الفلاني والفلاني) - مثلا -
إلى خمسة، (واكنس البيت الفلاني والفلاني) إلى خمسة أيضا معينة من البيوت
والثياب، ثم قال بعد مضي أيام في يوم: (اكنس البيوت، واغسل الثياب، واذهب
إلى السوق) لانصرف إلى ما هو المعهود من ذلك، لا إلى العموم.
ولا ريب أن سورة المائدة من أواخر السور المنزلة، ولا شك أن قبل نزولها قد
علم من الشارع عهود وأحكام معلومة من الواجبات والمحرمات وصحة بعض
العقود وبعض الإيقاعات، فهذا يوجب كون الخطاب منصرفا إلى ما سبق دون
العموم.
مضافا إلى كون قوله تعالى: أحلت لكم بهيمة الأنعام (1) تفسيرا للعقود،
كما في كلام بعض أهل التفسير (2) وهو مما يضعف الحمل على العموم.
وهذا الإشكال (3) مع صدوره عن الفاضل المعاصر في عوائده (4) مما لا ينبغي
أن يصغى إليه من وجوه:
أما أولا: فلأن سورة المائدة إذا كانت آخر السور في قول، أو في أواخر (5)
عهد النبي صلى الله عليه وآله فلا ريب في انتشار الأحكام وبيان الحلال والحرام في ذلك،
فيحمل حينئذ على العموم، ولم يبق شئ من العهود حتى لا يدخل تحت الآية
الشريفة.
وثانيا: أن كون ما سلف قرينة لإرادة العهد لا يكفي فيه السبق فقط في الجملة

(1) المائدة: 1.
(2) قاله الزمخشري في الكشاف، كما تقدم في ص: 11.
(3) العبارة في (م) هكذا: وهذا الإشكال قد صدر من الفاضل المعاصر في عوائده، وهو مما...
(4) عوائد الأيام: 7، العائدة الأولى.
(5) في (ف، م): آخر.
18

بل لابد من علم المخاطبين بذلك، ولا نسلم ان المشافهين بخطاب (أوفوا بالعهود)
الحاضرين في مجلس الوحي كانوا كلهم عالمين بما سبق من العهود، سيما على
القول بشمول خطابات القرآن للغائبين أيضا وإن لم نقل بالمعدومين. ومجرد سبق
الذكر بالنسبة إلى بعض لا يوجب صارفا بالنسبة إلى الكل، وتوجه الخطاب
بالنسبة إلى الملتفت إلى القرينة وغيره (1) يكشف عن إرادة الحقيقة، كما أن توجه
الخطاب المطلق إلى الواجد للشرط والفاقد يدل على عدم الشرطية.
وثالثا: أن سبق الذكر لو سلم في الجميع لا يكفي أيضا إلا مع بقائه في الذهن
إلى حين الخطاب، وإلا فلا يكفي في كونه قرينة - كما هو واضح - وهو غير ثابت
هنا، وإثبات مثل ذلك بالاستصحاب ونحوه كما ترى!
ورابعا: أن استدلال الأصحاب إنما هو في العقود بين الناس، ولا ريب في
وجودها بين العهود السابقة المعهودة، ولا يحتاج إلى العموم، إذ ليس لأحد أن
يقول: كان بعض من هذه العقود غير متعارفة إلى وقت نزول سورة المائدة،
فلو أريد العهود السابقة المعهودة - سواء كان من الله تعالى أو من الناس - لدخل
محل بحث الأصحاب فيه.
وخامسا: أن المراد بسبق الذكر الموجب للعهد في ظاهر كلام المورد إنما هو
بيان حكمه من الله تعالى، كأحل الله البيع (2) ونحوه، ويحتمل بقاء بعض من
العقود غير معلوم الحكم فعلم بعد سورة المائدة، فلا يشمله الآية. وهذا مناقض
لكلامه، لأنه سلم إرادة العموم من الآية في التكاليف والأحكام الوضعية والعقود
بين الناس ونحو ذلك.
وهذا الإشكال ناظر إلى عدم كون العقود الفقهية داخلا في العهود، بل أحكامها
الثابتة من الله تعالى - من الحلية والصحة ونحو ذلك - داخلة فيها، وهو خلاف
الفرض

(1) في غير (م): على القرينة وعدمه.
(2) البقرة: 275.
19

وسادسا: أن احتمال العهد إنما هو مع مطابقة الحكم في السابق واللاحق،
- كما في مثال البيت والثوب الذي ذكره - وأما مع اختلاف الحكم فلا نسلم
الانصراف، كما لو قال: (يجوز لك غسل الأثواب الخمسة) ثم ذكر بعد ذلك
(يجب غسل الأثواب) ونظير (1) ذلك، ولم يثبت عندنا سبق الحكم بالعقود الفقهية
ونحو ذلك من التكاليف بالأمر بالوفاء حتى ينصرف هذا الأمر إليه، وإنما سبق
كونه حلالا وحرما أو صحيحا وفاسدا ونحو ذلك، ووجوب الوفاء حكم جديد
وإن كان مستلزما لبعض ما سبق، وهذا غير ما ذكره من المثال، وبينهما فرق.
وسابعا: أن إرادة العهد من الآية بعد بيان الحكم سابقا يصير تأكيدا لما مضى
من الأدلة على الأحكام، ويحتاج إلى ارتكاب التناسي وغير ذلك، ولا ريب أن
التأسيس أولى من التأكيد، وهذا مما يؤيد عدم الاختصاص بالعهود الإلهية - كما
أشعر به كلام المورد - إذ العهود الإلهية يعرف لزومها وعدمها من دليلها المثبت
للأحكام وجوبا وتحريما، ولا يحتاج إلى قوله: (أوفوا بالعهود).
وثامنا: أن ظاهر كلام أهل التفسير عدم إرادة العهد - كما ذكرناها آنفا - وهذا
من عمدة القرائن على ذلك، فإنهم وإن اختلفوا في تفسيره ومعناه، لكنهم لم
يختلفوا من حيثية إرادة ما سبق قبل سورة المائدة، أو الأعم.
وتاسعا: أن إطباق الأصحاب على التمسك بها يكشف عن عموم الآية وعدم
كون ما يتخيل كونه صارفا صارفا، فلا وجه للتمسك والانجماد بمجرد الاحتمال
البارد.
وما ذكره: من كون ما بعد الآية مضعفا لعمومه، إن اعتمد في ذلك على مقتضى
العرف واللغة فأي قاعدة تدل على ذلك؟ إذ ذكر بعض أفراد العموم بعده لا يوجب
انحصاره فيها، بل يدل على دخولها فيه جزما، كما لا يخفى على من لاحظ العرف.
مضافا إلى أن ظاهر كلامه احتمال الحمل على ما سبق، بل ظهوره، فكيف يعقل
انحصاره فيما ذكر بعده من الأحكام القليلة؟ وهذا مما يدل على ضعف الكلام

(1) في هامش (ن): نظائر، صح.
20

السابق، فإنه مخرج عن إرادة العهد بما سبق، لدلالة ذكر هذه الأحكام بعده على
دخولها في العموم جزما، وإذا تعدينا عن المعهود إلى غير المعهود كشف عن عدم
إرادة العهد، ولا فارق بين أفراد غير المعهود، فتبصر.
وإن استند في ذلك إلى كلام صاحب الكشاف (1) فهو غير مفيد للانحصار
- فلاحظ - ثم معارض بكلام أهل التفسير المعممين للعقود، مع ما فيه من الأجوبة
التي لا نطيل الكلام بذكرها مع وضوح المدعى.
ودفع دلالة الآية الكريمة الظاهرة بمثل هذه الاحتمالات الواهية مما لا ينبغي
صدوره عن متفقه، فضلا عن فقيه! ولا يعد أمثال ذلك دقة في الفهم ولا غورا في
المطلب، وإنما هو انحراف عن جادة الذوق السليم بعروض التخيلات التي لا تليق
بشأن أصحاب الفنون، سيما مع إطباق أصحابنا الأعلام خلفا بعد سلف على
التمسك بها من دون التفات إلى هذه المناقشات. ولا ريب [في] (2) أن نظرهم ثاقب
وتأملهم غالب.
وثالثها (3): أنه لو حمل الآية الشريفة على العموم لزم الجمع فيها بين إرادة
التأكيد والتأسيس، إذ لا ريب في كون بعض أفراد العقود كان وجوب الوفاء به
معلوما قبل نزول الآية، فيصير بالنسبة إلى ذلك البعض تأكيدا وبالنسبة إلى ما عداه
تأسيسا، وهو غير جائز، إذ ما دل على عدم جواز استعمال المشترك في أكثر من
معنى يدل على عدم جواز هذا أيضا، فلابد إما من الحمل على التأكيد أو التأسيس
فلا عموم. وحمله على باب التناسي أيضا خلاف الأصل - كالتخصيص -
فالترجيح يحتاج إلى دليل.
وأنت خبير بأن هذا أوهن من سابقه، إذ ما دل على المنع في المشترك إما عدم
ثبوت الاستعمال وهو فيما نحن فيه ثابت ولا يمكن إنكاره ظاهرا، وإما لزوم
التناقض لو أدخلنا (الوحدة) وهو هنا غير موجود، وليس كون شئ تأكيدا

(1) وهو كون قوله تعالى: أحلت لكم تفسيرا للعقود، راجع ص...
(2) لم يرد في (ن، د).
(3) أي: ثالث الإشكالات على دلالة الآية.
21

وتأسيسا منحلا إلى معينين حتى يمنع منه، ولم نجد مانعا من ذلك، فعلى المستدل
البيان، ووقوعه عند أهل العرف كاف في صحته، ولا يصغى إلى قيام الدليل بعدم
جوازه.
مع أنا نقول: نحمله على التأكيد بقرينة ما مر من كلامه: من سبق أكثر
الأحكام، وندعي دخول محل بحث الأصحاب تحته، للعلم بغلبة وقوع العقود
وعدم إمكان تأخير حكمه إلى آخر أيام النبي صلى الله عليه وآله حتى يعلم بسورة المائدة،
فيصير المشكوك فيه داخلا تحت الدليل مرتين.
أو نقول: غاية الأمر الإجمال في كونه تأكيدا أو تأسيسا ابتداءا، فنقول: هذا
لا يضر في إثبات صحة العقود المشكوكة، لأنا نقول: إن كان (1) هذا المشكوك فيه
مما علم وجوب الوفاء به قبل هذه الآية فهو صحيح، وإن كان لم يعلم قبل ذلك فهو
داخل في الآية، لأنها تأسيس على الظاهر، وهو أولى من التأكيد، فيكون
المشكوك فيه معلوم الصحة، إما بالآية أو قبلها، وهو المطلوب.
مضافا إلى أن الحمل على التناسي يترجح بظاهر كلام أهل اللغة والتفسير
وبفتاوى الأصحاب، وكمال (2) بعد الحمل على غير ما علم أو ما علم خاصة،
كما لا يخفى على الفطن.
ورابعها: أن العقد هو العهد الموثق، فعلى فرض العموم يدل على صحة كل
عهد موثق، والعقد الفقهي ما لم يثبت صحته ولزومه فهو غير موثق، واللازم من
ذلك حينئذ الدور، لتوقف إثبات الصحة شرعا بالآية على ثبوت الاستيثاق في
العقد المشكوك، وتوقف ثبوته على ثبوت الصحة واللزوم الشرعي، إذ ما عداه غير
موثق.
ولو سلم حصول التوثيق بالعرف أيضا من دون حاجة إلى شرع نقول أيضا:
هذا لا ينفع في مقام الاستدلال، إذ المقصود إثبات صحة كل عقد معروف أو غيره،

(1) العبارة في (م) هكذا: وهذا لا يضر... إذ لو كان...
(2) كذا في النسخ.
22

وليس في شئ من ذلك استيثاق. ومجرد بناء المتعاقدين على عدم الفسخ لا يجعل
ذلك موثقا، لأن ذلك إنما هو معنى أصل العهد، فإن المراد به العزم على الإتيان
دون الفسخ، فما لم يثبت استيثاق لا يدخل في الآية، وأنى للمستدل باثباته؟
والجواب أولا: بأن من فسر العقد بالعهد المؤكد صرح بدخول عقود الناس فيه،
وهو كاشف عن إرادته من التوثيق معنى هو موجود فيها، وإلا لم يصرح بدخولها (1).
وثانيا: أنه معارض بذكر أهل التفسير وكثير من أهل اللغة دخول البيع ونظائر
ذلك تحت العقد، من دون إشارة إلى كون الدخول من جهة لزومه الموجب للتوثيق.
وثالثا: بأن تصريح أهل التفسير على العموم قرينة على عدم إرادة التوثيق
بما ذكر.
ورابعا: بأنه قد ذكر في الأخبار إطلاق العقد على هذه العقود المعروفة غالبا (2)
وهو كاشف عن دخولها تحت العقود في الآية، من دون حاجة إلى اعتبار معنى
التوثيق، أو كفاية ما هو المعتبر في العقد في حصوله، فلا تذهل.
وخامسا: بأن العهد لما كان يتحقق من جانب واحد فيكون حصوله من
الجانبين وثوقا عرفا، إذ لا ريب أن ما هو من الطرفين أوثق مما هو من الواحد،
وهو موجود في العقود كلها.
وإلى هذا المعنى يشير قول بعض أهل اللغة: إن العهد يصير من جانب، والعقد
لا يكون إلا بين اثنين (3).
وسادسا: بأن التوثيق ليس إلا التأكيد والمبالغة، ولا ريب أن حقيقة العهد ليس
إلا الالتزام، وهو يوجد بعقد القلب من دون حاجة إلى شئ آخر، والعقود الفقهية

(1) في نسخة من (م): بدخوله.
(2) لم نظفر عليه، إلا في بعض الأخبار الواردة في النكاح والطلاق، مثل ما رواه في
الوسائل 14: 395، الباب 48 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، ح 1، و 15: 421، الباب 10 من
أبواب العدد، ح 2.
(3) معجم الفروق اللغوية: 366، مجمع البحرين 3: 103.
23

يزاد فيها الألفاظ، بل الصيغ الخاصة الجامعة لصراحة الدلالة وغيرها مما اعتبر
فيها، وإن هذا إلا توثيق للعهد الصادق بمجرد النية بلا شبهة.
فالمناقشة في كون العقود الفقهية عقدا لغة موهون جدا، سيما مع إطلاق بعض
أهل اللغة كونه بمعنى العهد، أو الربط بين الشيئين (1)، فتدبر.
وخامسها (2): أن العقد إذا صار بمعنى العهد، فنقول: للعهد معان كثيرة:
منها: الوصية والأمر واليمين وغير ذلك، وما نحن بصدد إثباته ليس داخلا في
شئ من ذلك، ولو سلم أن يكون للعهد معنى يشمل المبحوث عنه، فإرادته منه في
الآية غير معلوم، فيمكن أن يراد الوصايا الإلهية الموثقة أو التكاليف اللازمة، أو
يراد مطلق الوصايا، أو يراد الأوامر والأيمان والضمانات.
وأنت خبير بأن هذا الكلام من الوهن بمكان.
أما أولا: فلأن تفسير أهل اللغة (العقد) بمعنى (العهد) لا يجعله قابلا لهذه
الشقوق، إذ هذا الكلام إنما هو فيما لو أطلق لفظ (العهد) وبينهما فرق عميق.
وأما ثانيا: فلأن المفسرين له بمعنى العهد أدخلوا فيه العقود الفقهية - كما ذكر
في عبائر أهل اللغة وعبائر أهل التفسير - فلا وجه للرمي بالإجمال.
وثالثا: أن عد هذه الأمور معاني للعهد ممنوع، إذ كلها مندرج تحت معنى عام
هو المسمى بالعهد. وليس مشتركا لفظيا حتى يقع الإجمال، ولا يخفى كونه مشتركا
معنويا على من له ربط بطريقة أهل اللغة والعرف وانس بضوابط أهل الاشتقاق.
فاللائق إرادة كل ما هو عهد والزام والتزام وتوطئة وتمهيد، وهو شامل لسائر
ما ذكره، كما يشمل كل العقود. هذا مع ما في كلام أهل التفسير كلمات (3)
الأصحاب من الشهادة على دخول العقود الفقهية في الآية المرجح لهذا الاحتمال
المخرج عن الإجمال.
وسادسها: أن العقد - على ما علم من اللغة - هو الجمع بين الشيئين بحيث

(1) انظر مجمع البحرين 3: 103.
(2) أي: خامس الإشكالات على دلالة الآية.
(3) في (ف، م): كلمة.
24

يعسر الانفصال، فإذا كان هو المعنى الحقيقي فيكون المراد في الآية معناه
المجازي، فيتسع دائرة الكلام ومجال الجدال في الآية، كما لا يخفى.
وفيه: أن العقد في كلامهم إنما هو العهد - كما عرفت - أو مطلق الربط بحيث
يشمل المحسوس وغيره.
ولو فرض اختصاصه بما ذكره، فنقول: لا ريب أن الآية لا يراد بها أن الأشياء
التي جمعتم بينها وأوصلتم بعضها ببعض لا تفصلوا بينها، إذ هذا لا ربط له بمنصب
الشرع، وليس مراد الله: أن من وصل حبلا بحبل أو بعيرا بحمار أو خشبا بجدار
يحرم أن يفصل بينهما، فليس إلا أن يراد به أقرب المجازات، وليس إلا ارتباط
المعاملات والشروط - ونحو ذلك - وما قبله العباد من الالتزام بالتكاليف الإلهية
والروابط المجعولة بين الصانع وبين مخلوقاته، وهو شامل لمحل البحث، ويؤيده
إطباق كلمة المفسرين على هذا المعنى في الجملة.
فلا مجال للتكلم في الآية بما يوجب نقصا (1) في الدلالة والله أعلم (2).
الخامس (3): عموم ما دل من الروايات على أن المؤمنين أو المسلمين عند
شروطهم (4) - كما سيذكر إن شاء الله تعالى في بحث الشروط - بتقريب دلالتها
على أن كل شرط لازم، والشرط عبارة عن الالتزام، وهو مفيد للصحة فيما هو
كذلك، والعقود كلها فيها (5) إلزام والتزام، لأنها نوع عهد، كما قرر.
أو يراد من الشرط الربط وتعليق شئ بشئ - كما يأتي ذكره إن شاء الله
تعالى - فيشمل العقود أيضا، لأنها ربط وتعليق لأحد الطرفين، وحيث ثبت إمضاء
الشارع لكل (6) شرط فيشمل محل البحث.
وخروج ما خرج بالدليل لا يقدح في كون العام حجة في الباقي، ويجئ في
المقام زيادة توضيح.

(1) في (ن): نقصانا، وفي (د): نقضا.
(2) في (م): والله العالم.
(3) أي: الأمر الخامس من الأمور الدالة على أصالة الصحة في العقود.
(4) راجع الوسائل 12: 353، الباب 6 من أبواب الخيار، ح 1، و 5، وعوالي اللآلي 1: 218، ح 84.
(5) في (ف، م): فيه.
(6) في (ن، د): كل.
25

[العنوان الثامن والعشرون]
[في بيان أصالة الصحة في الإيقاعات]
27

عنوان
[28]
هل في الإيقاعات أيضا أصل يدل على الصحة فيما شك في حكمه من جهة
شرط أو مانع، أو شككنا في مشروعية أصله أم لا؟ وقد يتمسك في ذلك بأمور:
أحدها: عموم (المؤمنون عند شروطهم) (1) لو أريد منه الإلزام والالتزام،
ولا ريب أن الإيقاعات - كالطلاق والظهار والعتق والأذن ونظائر ذلك - التزامات
لمقتضياتها، فتدخل تحت العموم ويثبت كونها ممضاة (2) من الشارع.
ويجئ هنا البحث السابق في الحمل على المتعارف وعدمه، ويجئ (3)
الكلام السابق في التعميم للأفراد والأنواع، ويتمسك به، حتى في الشك في
مشروعية إيقاع من الإيقاعات من أصله، كإخراج مال عن ملك مالكه بقوله:
(أخرجته عن ملكي) ونظائر ذلك.
لكن يمكن أن يقال: إن الظاهر من كون المؤمنين عند شروطهم الشروط
الواقعة بينهم، فلا يشمل غير ما هو بين اثنين، والإيقاعات كلها أو أغلبها
التزامات (4) بين المكلف وبين الله، لاشرط بينه وبين آخر.

(1) عوالي اللآلي 1: 218، ح 84، والوسائل 12: 353، الباب 6 من أبواب الخيار، ح 1 و 5 بلفظ:
المسلمون.
(2) في غير (م): ممضى.
(3) في (م): كما أنه يجئ.
(4) في غير (م): التزام.
28

ويمكن المنع بأن المراد: كل مؤمن لابد أن يقف عند شرطه ولا يتجاوزه،
ولا دلالة فيها على الوقوع بين الاثنين، ولا انصراف أيضا، وبعد ما ثبت عدم المنع
من جانب الشارع بل أمره بالوقوف عنده تثبت صحته، إلا ما دل الدليل على
خروجه، فيخرج.
والمناقشات مع أجوبتها مما لا يخفى، خصوصا بعد ما ذكرنا في العقود.
وثانيها: عموم أوفوا بالعقود (1) لما مر أن المراد بالعقد هو العهد، وهو
شامل للإيقاعات، بل بعضها دخوله مصرح به في كلام أهل اللغة والتفسير - كالنذر
واليمين والعهد وغير ذلك - وبذلك يسقط اعتبار الوقوع فيما بين الاثنين في معنى
العقد، لإطباق أهل اللغة والتفسير - كما عرفت - على دخول اليمين تحت العقد لغة
وعرفا، أو دخوله في المراد من الآية الشريفة، ولابدع (2) في دخول الإيقاعات
كافة تحت العقد، سيما (3) بقرينة ما ذكر، وبمعونة كلام الراغب (4) وغيره من أهل
اللغة. ودخول مثل (5) الشفعة والخلع ونظائرهما أوضح من غيره.
ولا مانع [منه] (6) سوى ما يستفاد من كلمات (7) الأصحاب من كون العقد
عبارة عما يحتاج إلى الطرفين، وهو (8) كاشف عن فهمهم من الآية ذلك، وهو يصير
موهنا للعموم في الآية إلى هذا الحد، ويؤيد كلام من اعتبر وقوعه بين اثنين،
والجرأة على مخالفتهم من الأمور المشكلة، ولكن لو ادعي ذلك لم يكن بعيدا
جدا (9). ولقد رأيت في كلام بعض من تأخر التنبيه على هذا التعميم، أظن (10) أنه السيد

(1) المائدة: 1.
(2) في (م): ولابعد.
(3) في (م): ولو.
(4) المفردات: 341.
(5) العبارة في (م): سيما مثل، ولم يرد فيها - في آخر الفقرة - (أوضح من غيره).
(6) من (م).
(7) في (ف، م): كلمة الأصحاب.
(8) في (م): إذ هو.
(9) العبارة في (م) هكذا: فيصير موهنا لعمومها، لكن مع ذلك ما ذكرناه لم يكن بعيد ا.
(10) في (م): وظني.
29

السند المعاصر السيد محمد باقر الرشتي أطال الله بقاه (1) ولا بأس به (2).
وثالثها: قوله عليه السلام: (إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام) (3).
بتقريب: أن الرواية دلت على أن المحرم والمحلل هو الكلام لا غيره،
والإيقاعات إنما هي من مقولة الألفاظ والكلام، فينبغي أن يكون محللا ومحرما،
إلا إذا دل دليل على خلافه.
ولكن لقائل أن يقول: إن مدلول الرواية: أن غير الكلام لا يحلل ولا يحرم،
لا أن كل كلام محلل ومحرم.
ودعوى: أن الرواية أسندت الحكمين إلى جنس الكلام ونفى عن غيره
ومقتضاه ثبوت هذا الحكم في كل فرد من أفراده بالعموم الجنسي، مدفوعة بأن
ذلك فرع كون الكلام مسوقا لبيان حكم الكلام، وهنا ليس كذلك، بل هو مسوق
لنفي الحكم عن غير الكلام، كما لا يخفى.
ومن هنا يندفع احتمال عموم الحكمة، لابتنائه على عدم الفائدة في الكلام لو
لم يحمل على العموم، وهنا ليس كذلك، إذ ليس فائدة الرواية إثبات الحكم للكلام
حتى يقال: إن الفرد المنتشر منه غير مفيد للفائدة والمعهود غير متحقق (4) فثبت
العموم، بل فائدة الخبر نفي الحكم عن غيره وإن كان في طرف الأثبات مجملا
بحسب الكلية والجزئية، فتدبر.
وهذا كله بالنسبة إلى تأسيس القاعدة في نوع العقد والإيقاع، وإلا ففيما دل
على مشروعية العقود والإيقاعات المعنونة في الفقه من الأدلة الخاصة عموما أو
إطلاقا كفاية في مقام الشك في جزء أو شرط أو مانع.
نعم، لو أريد إحداث عقد أو إيقاع جديد غير منصوص بالخصوص فلابد من
تأسيس هذا الأصل بحيث لا ينحصر على الأنواع المتعارفة، حتى يثمر في هذا،

(1) صاحب مطالع الأنوار - في شرح الشرائع - ومؤلفات أخرى، المتوفى: 1260.
(2) ولا بأس به: لم يرد في (م).
(3) الوسائل 12: 376، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 4.
(4) في (ن، د): غير محقق.
30

المقام. وهذا الفرض مع إشكاله - وإن قويناه سابقا - قليل الثمرة.
المقام الثاني
في شبهة الموضوع: (1)
من عقد أو إيقاع صادر في الخارج لا يعلم أنه من النوع الصحيح أو من النوع
الفاسد مع العلم بالصحيح والفاسد من الأدلة، فهل يمكن أن يقال: إن الأصل هنا
أيضا كونه صحيحا أم لا؟ وجهان:
يحتمل أن يقال: إن عموم أوفوا بالعقود و (المؤمنون عند شروطهم)
ونظائر ذلك مما دل على الصحة عام شامل لهذا الفرد قطعا، ولم يخرج من ذلك
قطعا إلا ما علمنا فساده، وما شك فيه فهو داخل تحت العموم، لعدم العلم بالخروج.
ويحتمل أن يقال: إنا إذا علمنا بخروج نكاح الشغار - مثلا - وعقد المغارسة
وبيع الربوي (2) وبيع المجهول والطلاق بغير شاهدين - ونحو ذلك عن عموم العقود
والشروط، ثم شككنا في الفرد الموجود في الخارج عن مكلف هل أوقعه مجهولا
أو معلوما؟ فيرجع هذا إلى عدم العلم بأن هذا الفرد داخل في المخصص، أو داخل
في العام، نظير قولنا: أكرم بني تميم إلا الطوال، وشككنا في زيد - مثلا - من بني
تميم أنه طويل أو قصير، فيرجع الشك إلى كونه تحت العام أو المخصص، وفيه
للأصوليين قولان:
قول بأنه داخل تحت العام - كما ذكر في الاحتمال الأول - ولهم على ذلك
وجوه:
أحدها: أن الظاهر من أهل العرف إلحاق هذا الفرد بالعام، إذ لو قال قائل:
(كل كل رمانة إلا ما هومن البستان الفلاني) فإذا وجد رمانة وشك في أنه من

(1) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: وثانيهما. وقد تقدم عدله - المقام الأول - في العنوان السابق
في ص: 7 فراجع.
(2) في (ن، د): وعقد الربوي، والصواب: البيع الربوي.
31

ذلك البستان أو من غيره يأكله، ولا يفهمون من هذا الخطاب في هذا المقام إلا كونه
مقيدا بالعلم وأن الخارج ما علم كونه من ذلك البستان لا ما هو كذلك واقعا،
وطريقة أهل العرف حجة، إذ ليس إلا من فهمهم من الخطاب ذلك.
وثانيها: أن إخراج نوع خاص أو صنف خاص من ذلك العام يدل على كون
ذلك الوصف المأخوذ في المخصص من الموانع.
بعبارة أخرى: يعلم من ذلك أن الدخول تحت العام وكونه من أفراده مقتض
لهذا الحكم، وإنما المانع هو هذا الوصف المأخوذ في العنوان، وإذا صار كذلك، فلو
شك في كونه من ذلك البستان - مثلا - وعدمه في المثال السابق يصير الشك في
وجود المانع مع العلم بالمقتضي، ولا ريب أن الأصل عدم المانع فيثبت الحكم.
واحتمال: أن كونه من غير ذلك البستان مقتض فالشك حينئذ موجب للشك
في المقتضي، خلاف الظاهر من الإدخال والإخراج المفهومين من العموم
والتخصيص ظاهرا، إذ ليس ظاهرهما عرفا إلا أن المقتضي عبارة عن كونه من
أفراد العام، والمانع ليس إلا اتصافه بما اخذ في المخصص، فتدبر.
وثالثها: أن العام أكثر أفرادا من المخصص، بمعنى أن الخارج غالبا بل مطلقا
أقل من الداخل، فإذا شك في كون هذا الفرد من أحدهما فالظن يلحقه بالعام
ترجيحا لجانب الغلبة، وإن كان يرد عليه: أن هذا ليس ظنا حاصلا من الخطاب،
فإن الظن بكون المشكوك من غير ذلك البستان للغلبة لا يوجب الظن بإرادته في
العموم من حيث اللفظ وإن أوجب الظن بأنه من أفراد ما هو [من] (1) مظنون
الإرادة، فتدبر.
وبالجملة: الكلام هنا لا يخلو عن نوع دقة، والاعتماد على فهم الفطن اللبيب.
ورابعها: أن الفرد المشتبه وإن كان يحتمل كونه من أفراد العام والمخصص في
الحكم واقعا، واللفظان وإن كانا منصرفين إلى الواقع، لكن بعد طريان الاحتمال
والإجمال في دخوله تحت أحدهما في الواقع يصير حكمه الواقعي مجهولا،

(1) لم يرد في (م).
32

فيرجع إلى الظاهر، ولا ريب أنه في الظاهر دخوله تحت العام متيقن، لصدق لفظه
عليه قطعا، وصدق المخصص عليه مشكوك، ولا يترك اليقين بالشك، فيحكم فيه
بحكم العام عملا بالظاهر مع اشتباه الواقع، وهو المدعى.
وقول (1) بأن الرجوع في ذلك الفرد المشتبه إلى الأصل، فإن كان حكم العام
موافقا للأصل كقوله: (كلوا مما في الأرض جميعا إلا الخبيث) فشك في كون
شئ من الخبيث وعدمه على طريق اشتباه الموضوع الصرف بعد معرفة مفهوم
اللفظين وكان الأمر للإباحة، ألحقناه بالعام. وإن كان حكم الخاص موافقا للأصل
كقوله: (اقتلوا المشركين سوى اليهود) فشك في واحد أنه من اليهود (2) أم لا،
فالأصل البراءة عن وجوب القتل، أو الأصل حرمة قتل كل نفس سوى ما ثبت،
وهذا غير معلوم الدخول تحت أحد الامرين.
وأما القول بأنه يدخل تحت المخصص مطلقا فلا قائل به على الظاهر، لأنه
مخالف للأصل على الظاهر، وحيث يكون مطابقا له فليس دخوله تحته، بل تحت
الأصل، بمعنى الإلحاق حكما.
والوجه فيه: أن اشتباه الموضوع مع العلم القطعي بعدم خلوه في الواقع عن
أحد الأمرين لا يوجب الرجوع إلى ظاهر اللفظ، إذ قد علم عدم إرادة ظاهره من
العام فكيف يعمل بظاهره؟ ولا يمكن إدخاله تحته بمعونة أصالة عدم التخصيص،
إذ ليس هذا لو اخرج عنه تخصيصا آخر، بل إنما هو فرد من أفراد ما خرج بنوعه،
فليس هذا حادثا جديدا حتى ينفى بالأصل. وكثرة أفراد ما هو خارج بنوعه
لا يوجب زيادة في التخصيص. وغلبة العام أو (3) أفراده غير موجب للظن
بالموضوع الصرف في كونه مرادا من اللفظ حتى يندرج تحت ظواهر الألفاظ.
وإقدام أهل العرف على إلحاقه بالعام في غير ما كان موافقا للأصل محل نظر،
بل ممنوع، وإن شئت فلاحظه (4) فيما خالف الأصل حتى يتضح الأمر، فيكون

(1) معطوف على قوله: (قول بأنه داخل تحت العام) تقدم في ص: 31.
(2) في (ف، م): أنه يهودي.
(3) في غير (ن): وأفراده.
(4) في (ن، د): فلاحظ.
33

الأقدام اتكالا على الأصل لا فهما من الخطاب ذلك.
ولا نسلم كون المتبادر من الوصف المأخوذ في المخصص المانعية حتى
ينحل الشك إلى الشك في وجود المانع ويلزم منه التمسك بالمقتضى، بل الظاهر
دخول نوع وخروج آخر، وليس كون وصف الخارج مانعا أولى من كون عدمه
جزءا للمقتضي، فتدبر.
هذا غاية الكلام في هذا المرام، والذي يترجح في النظر القاصر إنما هو
الإدخال تحت العام للوجوه الماضية وإن كان خلاف ظاهر الأكثر، بل ربما
يدعى (1) اتفاقهم على الثاني. ولكن يمكن دعوى الإجماع على كون طريقة
الأصحاب وطريقة الشرع على كون المشكوك فيه داخلا في العام.
فإذا فكلما شك في صحته وفساده من الإيقاعات والعقود من باب الموضوع
الصرف فيحكم بالصحة حتى يظهر فساده، فيكون مقتضى الأصل الصحة، ويثمر
في الدعوى وغير ذلك.
وعلى هذا الوجه الذي قررناه لا يفترق الحال بين صدور تلك المعاملة من
مسلم أو كافر لو لم نقل ببطلان معاملات الكافر سنخا - كما قد يتخيل - لأن الميزان
على ما قررناه صدق العمومات، وهو آت في الجميع.
وهنا أصل آخر: وهو حمل فعل المسلم وقوله على الصحة، فلو صدر منه عقد
أو إيقاع وشككنا في أنه هل وقع على وجه صحيح أو فاسد فالأصل يقضي
بالصحة وإن لم نقل بأصل الصحة في مطلق الموضوع الصرف، وهذا أصالة الصحة
التي ينبهون عليها (2) في مقام الدعوى وغيره أنه يقدم قول مدعي الصحة، ونحن
في غنى عن ذلك، ولكنه مدلول عليه (3) بالإجماع والأخبار الكثيرة.
ويأتي تأسيسها وذكر أدلتها ورفع الإشكال الوارد عليها في عناوين الكفر
والإسلام إن شاء الله، فانتظر.

(1) في (ف، م): ادعي.
(2) في (ف، م): عليه.
(3) في (م): وإن دل عليه.
34

[العنوان التاسع والعشرون]
[في بيان أصالة اللزوم في العقد والإيقاع]
35

عنوان
[92]
لا ريب أن الأسباب في المعاملات - وهي العقود والإيقاعات - يمكن أن
تكون لازمة بحيث لا يمكن رفع آثارها بعد تحققها مطلقا، بمعنى أن يكون شأنها
من دون عروض عارض عدم جواز الفسخ والأبطال، وهو المسمى ب‍ (اللزوم).
ويمكن أن تكون بذاتها قابلة للفسخ وإبطال الأثر وإن لم يكن هناك ما
يوجب فسخا، بمعنى كون المعاملة بنفسها كذلك، وهو المعبر عنه ب‍ (الجواز).
ولا ريب أن واحدا منهما قد يصير معلوما شرعا، وقد يقع الشك في كون العقد
جائزا أو لازما، فهل الأصل اللزوم، أو الجواز، أو لا أصل في البين؟
والحق أن الأصل في كل عقد وإيقاع عدم جواز رفع آثاره وفسخه إلا بدليل،
وذلك لوجوه:
الأول: أن العقد أو الإيقاع إذا تحقق يوجب ترتب أثر شرعي عليه: من
حصول ملك لعين أو منفعة، أو انتفاع أو نيابة أو ولاية، أو فسخ لأثر عقد أو إيقاع،
أو نحو ذلك.
وبالجملة: لا ريب أن الأسباب الشرعية بعد تحققها يترتب عليها آثارها، فإذا
شك في اللزوم والجواز فلازمه الشك في أنه لو فسخ هذا السبب هل يبطل ذلك
المسبب الثابت أم لا بل هو باق على حاله؟ ولا شك أن قضية الاستصحاب عدم
36

زوال الأثر من ملك أو نحوه إلا بمزيل شرعي، وهو معنى اللزوم، فالعقد بنفسه
لا يكون قابلا لرفع آثاره بعد حكم الأصل الاستصحابي ببقائها، إلا أن يلحقه ما
يوجب تلك الأهلية بنص من الشرع.
لا يقال: إن الاستصحاب لا ينافي جواز العقد ولا ينافي إمكان الفسخ، إذ
الاستصحاب عبارة عن بقاء ما كان على ما كان، وليس الجواز في العقد عبارة عن
عدم بقائه على ما كان، بل هو عبارة عن إمكان ارتفاعه، والإمكان غير ملازم
للفعلية، بل هو أعم منها، فالاستصحاب غير مناف لجواز العقد بالمعنى المعروف،
وإنما هو مناف لفعلية الفسخ، والكلام في إمكانه.
لأنا نقول: ليس المراد بالجواز إلا الإمكان الشرعي بحيث لو أريد الفسخ
ورفع الآثار لوقع، والفرض أن الاستصحاب يقضي بعدم نقض اليقين بوجود الأثر
إلا بما يوجب اليقين بزواله، والفرض أنك شاك في أن الفسخ والرفع هل هو رافع
لهذا الأثر أم لا؟ فاللازم شرعا الحكم بالبقاء وعدم الارتفاع، وهو شأن اللازم من
العقد، إذ لا نريد به إلا ما لو فسخته لم ينفسخ شرعا، والفرض أن المشكوك فيه لو
فسخته لا ينفسخ، للاستصحاب.
وبعبارة أخرى: الاستصحاب مناف لإمكان الفسخ شرعا، بمعنى أنه قاض
بأنه لو فسخ لم ينفسخ، وهو معنى الامتناع شرعا المعبر عنه ب‍ (اللزوم)
وذلك واضح.
لا يقال: إذا علمنا أن السبب في هذا الأثر إنما هو ذلك العقد جزما، وليس ذلك
مجرد علة في الحدوث حتى يستصحب بعد زواله لاحتمال العلة المبقية، بل من
المعلوم هنا أن هذا السبب علة في الحدوث بحيث لو ارتفع هذا لارتفع الأثر
جزما، والفرض أن السبب قد أسقطه الفسخ والرجوع، فلا وجه للاستصحاب.
لأنا نقول: ليس الغرض الاستصحاب لاحتمال علة أخرى مبقية، بل المراد
إبقاء الأثر للشك في زوال علته المحدثة والمبقية، بمعنى أن بعد الفسخ نشك في
زوال هذا السبب وعدمه، فنستصحب السبب ونستصحب الأحكام اللاحقة له معا،
37

وذلك واضح.
نعم، لو ثبت شرطية شئ أو مانعيته لعقد أو إيقاع - سواء تأخر أو تقدم عن
المشروط - ثم فقد الشرط في زمانه المتوقع أو وجد المانع كذلك بعد وقوع العقد
أو شك في وجود الشرط وعدمه، فلا يمكن استصحاب حكم هذا العقد، لسريان
هذا الشك إلى ترتب الأثر من أصله وكونه سببا وعدمه، وذلك غير محل الفرض،
وهذا هو مسألة الشرط المتأخر.
وبالجملة: مقتضى الاستصحاب لزوم العقد والإيقاع مطلقا إلا مع دليل
على خلافه.
الثاني: ظاهر أن الصيغ المأخوذة في عقد أو إيقاع هو الدوام وعدم البطلان،
بمعنى أن الظاهر من قولك: (بعت) أو (زوجتي طالق) كون المالك للمبيع أو للبضع
مخرجا له عن سلطنته على الدوام بحيث لو أراد إرجاعه لم يرجع، فإذا صار
المعنى ذلك فيصير العقد إنشاءا للملكية الدائمة والارتفاع للزوجية دائما، وجواز
الفسخ مناف لهذا المعنى المأخوذ في الإنشاء، فيصير الحاصل: أن معنى اللزوم
وعدم الانحلال مأخوذ في إطلاق تلك الصيغ بحيث تقضى عرفا بكون المنشأ
دائميا مطلقا، كما في قولهم: إطلاق العقد يقضي بكون الثمن حالا وكونه من نقد
البلد ونحو ذلك، فإطلاق كل إنشاء يوجب كونه دائما، فالفسخ مناف لأصل
الإنشاء، وهو معنى اللزوم، إلا أن يجئ دليل من تقييد (1) ونحوه - كالبيع بخيار -
حتى يخرجه عن ذلك.
لا يقال: إن في الإجارة نظائرها تمليك للمنفعة سنة، وأنت تدعي كون
التمليكات على الدوام.
لأنا نقول: قولنا: (سنة) في الإجارة ليس تحديدا للتمليك، بمعنى أن تمليكي
إلى سنة، بل هو تحديد للمنفعة المملوكة، فيصير المعنى أن منفعة سنة واحدة

(1) في (ن، د): تقييده.
38

ملكتك دائما، وذلك واضح، فلو أراد الفسخ بعد مضي سنة - مثلا - وأراد الرجوع
إلى أجرة المثل للمنفعة فهو غير مسلط على ذلك، لأنه ملكه هذه المنفعة دائما
بحيث لا يقدر على فسخه، فتدبر.
وبتحرير آخر: أن معنى الصيغ بإطلاقها إذا صار الدوام، فيصير الدليل الدال
على صحة البيع وغيره من العقود دالا على تأثيره كذلك، ولا نحتاج إلى دليل آخر
على اللزوم، بل مجرد ما دل على صحة العقود بعد كون معنى العقد والإيقاع
بإطلاقهما قصد الأثر الدائم يدل على كونه لازما شرعا، لأن صحته قد ثبت على
ما هو عليه، وليس إلا الدوام وعدم قابلية (1) الفسخ، فيصير كذلك شرعا.
الثالث: أنه لو لم يكن في صيغ الإنشاءات دلالة على المعنى المدعى، فنقول:
إن حال المتعاقدين يدل على إرادة اللزوم وعدم إمكان الفسخ.
ولكن يمكن القول هنا بأنه ليس كذلك مطلقا، بل لابد على هذا من تتبع العقود
وملاحظتها في العرف، فإن كان الناس بانين في إيقاعه على الدوام فالأصل فيه أن
يكون لازما شرعا إلا ما خرج، وإن كانوا غير بانين على الدوام فلا يمكن التمسك
بهذا الوجه، فتدبر.
الرابع: عموم قوله تعالى: أوفوا بالعقود (2) فإن ذلك دل على أن كل عقد
يجب الوفاء به، والمراد بالوفاء: العمل بمقتضاه، ومقتضى العقد إما تمليك أو نحو ه،
ومقتضى لزوم الوفاء البقاء على هذا الأثر وإبقاؤه وجوبا، فلا رخصة في إبطاله،
وهو المدعى من اللزوم.
والإشكال الوارد على دلالة الآية من جهة عموم العقود انصرافها إلى
المتعارفة (3) وعدمه، واعتبار التوثيق وعدمه، وشمولها للإيقاع وعدمه - ونظائر
ذلك - قد عرفت دفعه في العنوانين السابقين. وقد تلخص مما ذكرناه هناك: دلالة الآية على أن كل عقد وكل إيقاع متعارف

(1) في ظاهر (ن): عدم قابليته.
(2) المائدة: 1.
(3) في غير (م): انصرافه إلى المتعارف... وشموله.
39

أو غيره يجب الوفاء به بظاهر الامر، ومسألة التخصيص ونحوها قد عرفت دفعه.
وإنما البحث في أن هذا يدل على اللزوم أم لا؟
إذ يحتمل أن يكون المراد: اللزوم.
ويحتمل أن يكون المراد: لزوم العمل بمقتضاه إن جائزا فجائزا وإن لازما
فلازما، بمعنى أن يتبع في ذلك العرف، فأي عقد بني في العرف على اللزوم بين
الناس بحيث لا يرجعون المال ونحوه بعد وقوع العقد أو الإيقاع، فيحكم فيها (1)
باللزوم، لأن مقتضاه ذلك، والعمل بمقتضاه واجب بظاهر الآية. وما بني في العرف
على الجواز، بمعنى أن طريقة الناس فيه على الرد والدفع - كالعارية والوديعة -
فيحكم فيه (2) بالجواز، لأنه مقتضاه، فيجب العمل به، وجعل الجائز واجبا ليس
عملا بمقتضاه، بل هو إخراج للعقد عن مقتضاه. أو يتبع في ذلك الشرع بأن يراد:
أن الوفاء بمقتضى العقد لازم، فإن علم من الشرع أنه من العقود اللازمة فيجب
الوفاء به على لزومه، وإن علم أنه من الجائزة فيجب الوفاء على جوازه، والمراد
بالوفاء حينئذ لزوم العمل بأحكامه وإجراء كل حكم يترتب على أحدهما شرعا
عليه.
ويحتمل أن يكون المراد من (الوفاء): الاعتقاد، بمعنى أنه يلزم عليكم
اعتقاد لزوم اللازم وجواز الجائز، على بعد. والظاهر رجوعه إلى ما ذكرناه قبله،
وهو البناء (3) على إجراء الأحكام، فإن الاعتقاد لادخل له في ذلك.
وتظهر الثمرة في العقد الذي لم يظهر من الشرع ولا من العرف كونه مبنيا على
اللزوم، فإنه يثبت لزومه من الآية (4) على الأول، دون الأخيرين.
ولو كان ظاهرا من العرف لزومه يثبت على الأولين، دون الثالث.
ولو كان ثابتا من الشرع أنه مبني على اللزوم يظهر لزومه على الأول والثالث

(1) العبارة في (م) هكذا: بحيث لا يرجعون فيه بعد وقوعه، فنحكم فيه باللزوم.
(2) في غير (م): فيها.
(3) في (م): ما ذكرناه من البناء.
(4) يعنى: قوله تعالى: أوفوا بالعقود المائدة: 1.
40

من الآية، ولا يثبت على الثاني من هذه الآية، وإن فرض ثبوت اللزوم بغيره.
والذي يقتضيه النظر هو الأول (1)
وليس الاستدلال من هيئة الأمر المفيد للوجوب، بل المدرك إنما هو مادة
(الوفاء) فإن الوفاء على شئ البقاء على ما هو مؤداه أولا، ولا ريب أن مؤدى
العقد - مثلا - هو التمليك أو نحوه، والوفاء بهذا المؤدى البقاء على هذا الأثر
وإبقاؤه أو عدم ازالته، وهو معنى اللزوم.
والظاهر: أن كونه لازما أو جائزا ليس إلا وجوب الإبقاء والوفاء وعدمه،
لا أن الوفاء واجب في الجائز واللازم.
ومن تأمل في دلالة لفظ (الوفاء) لا يجد ريبا فيما ذكرناه، ويكفي في قوة هذا
المعنى ووضوحه فهم الأصحاب منها (2) ذلك واستدلالهم قديما وحديثا بها عليه.
ولم يصدر هذا الاحتمال إلا من آية الله العلامة - أعلى الله مقامه - في بعض
كتبه (3) مع أنه وافق الأصحاب في الاستدلال به في سائر كتبه.
وغير خفى أن غرضه من ذكر هذا مجرد بيان ذكر ما يمكن أن يذكر، وذكره
منجزا يقوم مقام الاحتمال، لأنه في فتاويه غالبا يستوفي الاحتمالات تقوية
للنظر واستعمالا لقوة التخريج، فمجرد قوله: بأن الوفاء هو العمل بمقتضاه إن
جائزا فجائزا وإن لازما فلازما (4) لا ينبغي أن يجعل موجبا للإجماع في الآية مع
ما أوضحناه من السبيل، فتدبر.
وبقي هنا كلام، وهو أن العقد قد يكون لازما من الطرفين، كالبيع والصلح
والإجارة والضمان والحوالة. وقد يكون جائزا من الطرفين، كالوكالة والمضاربة
والشركة والعارية والوديعة والجعالة ونحو ذلك. وقد يكون جائزا من طرف
ولازما من آخر، كالرهن، فإنهم يقولون: إنه جائز من قبل المرتهن لازم من طرف

(1) أي: الاحتمال الأول.
(2) في (ف، م) بدل (منها): هنا.
(3) قاله في المختلف: 484 في جواب من استدل بالآية على لزوم عقد السبق.
(4) في (ن، د): ان جائزا فجائز وإن لازما فلازم.
41

الراهن، والهبة، فإنه لازم من طرف المتهب وجائز من طرف الواهب في غير
المعوض وذي الرحم والزوجين على الأصح، فهل اللازم من طرف دون آخر
لازم أو جائز أو مركب؟ وجوه:
قيل: بأنه مركب كما هو المشهور في الألسنة من أهل العلم (1) والوجه فيه: أنه
وجد فيه الجواز واللزوم معا، فإنه باعتبار أحد طرفيه ممتنع (2) الفسخ، وباعتبار
طرفه الاخر جائز، وهو معنى الواسطة.
وقيل: بأن هذا جائز إذ التناقض بين الجائز واللازم واضح، ومعنى اللزوم
يرجع إلى سالبة كلية، وهو عدم إمكان الفسخ مطلقا، ومعنى الجواز هو الإيجاب
بمعنى إمكان الفسخ، ولا ريب أن الفسخ من أحد الطرفين فسخ من الاخر، لعدم
معقولية التفكيك، فيصير هذا العقد قابلا للفسخ شرعا، وأما أن الفاسخ هو
المتعاقدان أو أحدهما أو أجنبي، فلا ربط له في كون العقد في ذاته لازما أو جائزا.
ويؤيد هذا الوجه أنهم يجرون في صيغة الرهن والهبة أحكام الجائز من
صحته بأي لفظ وقع حتى بالجملة الاسمية في الرهن، ولا يستعملون فيهما ما
يداقونه في العقود اللازمة.
ويؤيد عدم كونهما من الجائز عدم بطلانهما بموت أو جنون أو نحو ذلك مما
يبطل العقد الجائز.
وأما احتمال إلحاقهما باللازم فهو من المستبعد جدا، ويحتاج إلى جعل
الجائز بمعنى إمكان فسخه من كل أحد أو (3) من المتعاقدين، واللازم ما ليس
كذلك، وهو خلاف ظاهر.
والتحقيق: أنه لو لوحظ الجواز واللزوم بالنظر إلى نفس العقد - كما هو الظاهر
من التوصيف - فيلحقان بالجائز، لأنهما في نفسهما جائزان قابلان للانفساخ، ولا
دخل لتعدد الفاسخ ووحدته في ذلك.

(1) في (ن): أهل العرف.
(2) في (ن): يمتنع.
(3) في (م): ومن.
42

ولو أريد الجواز واللزوم بمعنى الرخصة وعدمه في الفسخ بالنسبة إلى
المكلفين فيمكن القول بالتلفيق، ولكنه يلزم على هذا أن يكون كل عقد كذلك، إذ
غايته جواز الفسخ للمتعاقدين وليس لسائر الناس فسخه، فيكون لازما من وجه
وجازا من وجه آخر.
واحتمال أن المراد إنما هو الجواز والعدم بالنسبة إلى المتعاقدين - إذ لا ربط
لغيرهما بذلك - بعيد مستلزم للتخصيص في عموم أوفوا بالعقود الدال على
لزوم العقد.
وبيان ذلك: أن عموم أوفوا بالعقود إنما دل على أن كل أحد من المكلفين
لعموم الخطاب مأمورون بالوفاء بكل عقد عقد من أي شخص صدر، ومن المعلوم:
أن صدور العقد الواحد من ألف أو جميع المكلفين محال، فيصير المعنى: كل أحد
مكلف بالوفاء بكل عقد من أي منهم صدر، وتخصيص هذا بالمتعاقدين يحتاج
إلى دليل، إذ لا إشعار في الآية على أن الوفاء لازم على المتعاقدين دون غيرهما،
ومقتضى ذلك ثبوت لزوم العقد بالنسبة إلى كل أحد، فلو كان جائزا في حق
المتعاقدين غير جائز من غيرهما فينبغي أن يكون ملفقا خارجا بالدليل بالنسبة
إلى خصوص المتعاقدين، ويبقى على لزومه بالنسبة إلى الغير، فلا وجه لعده جائزا
مطلقا.
لا يقال: ليس المراد وجوب الوفاء على كل عقد (1) بل المراد منها (2) وجوب
وفاء كل أحد بعقده، فيصير التقدير: أوفوا بعقودكم، ويظهر منه في العرف التوزيع،
بمعنى أن كل أحد يفي بما هو عقده، لا أن زيدا يفي بعقد عمرو ونحو ذلك، إذ وفاء
الغير بعقد الغير غير معقول، إذ ليس بيده شئ حتى يفي ذلك، وليس الأمر إلا فرع
الاختيار والتسلط، فتدبر. لأنا نقول: صرف الآية على هذا المعنى إن كان بدعوى الفهم العرفي فهو

(1) في (م): وجوب وفاء الكل بكل عقد.
(2) منها: لم ترد في (م).
43

ممنوع، وإضمار المضاف إليه وإن كان يوجب فهم هذا المعنى في الظاهر لكن هو
غير ثابت، وفرضه غير وجوده، وعموم اللفظ محكم، وليس ذلك من قبيل
الرجال قوامون على النساء (1) بل إنما هو من قبيل (وأمروا بالمعروف وانهوا
عن المنكر). وإن كان من جهة عدم إمكان الوفاء من الغير فهو ممنوع، إذ يجب
على كل أحد إجراء هذه الآثار على هذا العقد، بمعنى أنه ليس لأحد أن ينتزعه من
يد المشتري، لأنه ملكه، ولا أن يعطيه البائع، لأنه خرج عنه، ويجب جعله ميراثا
للمالك لو مات وصرفه في الديون، ونظائر ذلك مما يتعلق بكون الشئ مملوكا،
فإن كل أحد مكلف بأن يجري على هذا المال أحكام ملكية المشتري، ولا بأس
بذلك مطلقا، فلا تذهل.
وهنا كلام آخر، وهو: أن العقد الجائز ما أمكن فسخه، واللازم مالا يمكن
فسخه شرعا، وقد اتفق كلمة الأصحاب ظاهرا على أن الفسخ موجب لرجوع كل
عوض إلى مالكه لو كان معاوضة، وبطلان الأثر المترتب عليه لو لم يكن كذلك،
كالرجعة التي هي فسخ الطلاق، والفئة التي هي إبطال للإيلاء، والرجوع الذي هو
إبطال للعارية والوديعة، ونحو ذلك.
وبالجملة: معنى الفسخ رفع الأثر، ولازم ذلك رجوع العوضين في المعاوضة
على ما كانا قبل المعاوضة، فإن بقي عيناهما فبعينيهما، وإلا فعلى ما نبينه في
عناوين الأحكام من كيفية الضمان، ولكنهم حكموا في باب القرض بأن العقد
جائز ليس بلازم، وللمقرض المطالبة متى شاء، وذكروا أن المقترض يملك
بالقرض (2) وله رد المثل والقيمة مع مطالبة المقرض وإن بقي العين وهما مما (3)
يتناقضان.
وهذا مما قد استشكل (4) على جماعة من فحول المتأخرين والمعاصرين،
فلذلك ذهبوا إلى أن القرض عقد لازم، وخالفوا ظاهر كلمة الفقهاء في ذلك،

(1) النساء: 34.
(2) في (ف، م): بالقبض.
(3) مما: لم ترد في (م).
(4) في (د): مما قد أشكل.
44

وزعموا أن الحكمين يتنافيان، ولازم الجواز رجوع العوض بعينه، مع أنه ليس
كذلك في القرض، وأنت خبير بأن القول بلزوم القرض مما تشمئز منه النفس، فإن
القرض الذي للمقرض مطالبته وللمقترض أداؤه متى شاء كيف يعقل كونه عقدا
لازما؟ وهذا مما هو مركوز في أذهان المتشرعة ركوزا ظاهرا.
والذي يخالجني في المقام في حل الإشكال وإن لم أجد من يساعدني عليه
من كلام فقيه أو غيره أن يقال: إنه ليس عقد القرض - مثلا - إلا معاوضة، فإنه
تمليك للمال بإزاء عوض، لا مجانا، فإذا بذل المقرض أحد العوضين فله أن
يطالب بالعوض الاخر كما في سائر المعاوضات، وليس لأحد أن يقول: إن مطالبة
البائع الثمن ومطالبة المشتري المبيع فسخ للبيع، فإن ذلك إمضاء لمقتضاه،
ومقتضى عقد القرض أن قبض المال يوجب ثبوت مثله أو قيمته في ذمة المقترض،
وليس هذا إلا كالبيع بالمثل أو القيمة، فإذا طالب العوض فقد طالب المثل والقيمة،
ولزم المقترض الدفع إتيانا بمقتضى المعاوضة، فليس هذا فسخا حتى يجب دفع
العين، بل إنما هو طلب لما لزم بالمعاوضة، وهو مؤكد لبقاء العقد لا فاسخ.
نعم، إذا قال المقرض: فسخت القرض - بمعنى الأبطال وعدم الأذن في
التصرف - وكان العين باقيا فاللازم على المقترض دفع العين، لأنه أبطل الملك
بإبطال سببه، فرجع إلى ملك المالك الأول وسقط عن ذمة المقترض العوض، كما
أن المقترض لو قال: فسخت القرض لا يجوز له التصرف بعد ذلك بالعين الموجود،
لبطلان ما أوجب التمليك، وزوال الأذن بزواله - على ما هو التحقيق -.
فالذي تلخص من ذلك: أن العقد الجائز ما كان قابلا للفسخ الموجب لرجوع
كل عوض إلى مالكه وبطلان الآثار المترتبة عليه، وليس عقد القرض من اللازم
على ما تخيله بعض المتأخرين، للإجماع على خلافه ظاهرا، ولا جائزا بهذا المعنى،
إذ لا يكاد يظهر على ظاهر كلامهم فرق بين بقائه وانفساخه، بل الحق: أن كلامهم
في عدم وجوب دفع العين منزل على مطالبة المقرض العوض، لا فسخه للعقد.
هكذا ينبغي أن يحقق المقام، وله نظائر كثيرة.
45

(العنوان الثلاثون)
(العقود تابعة للقصود)
47

عنوان
[30]
العقد تابع للقصد مطلقا، وهذه من القواعد المعروفة الكثيرة الفروع، والبحث
في معناها تارة، وفي مدركها أخرى، فهنا مقامان:
الأول: في بيان المراد منه
وهو محتمل لأمرين، ليس بينهما منع جمع.
أحدهما: أن العقد تابع للقصد، بمعنى أنه لا يتحقق إلا بالقصد، كما ذكره
الفقهاء رحمهم الله في شرائط العقود مع الشرائط الأخر، بمعنى أنه لا عبرة بعقد الغافل
والنائم والناسي والغالط والهازل والسكران الذي لا قصد له ونحو ذلك، فتكون
القاعدة إشارة إلى شرطية كون العاقد قاصدا في مقامات العقود كلها، ويكون معنى
التبعية: عدم تحققه بدونه، إذ لا وجود للتابع بدون متبوعه.
وهل العكس كذلك؟ بمعنى أنه كلما تحقق القصد تحقق العقد أم لا، فنقول: له
معنيان:
أحدهما: أن جنس القصد مستلزم للعقد، وهو معلوم الانتفاء.
وثانيهما: أن القصد في العقد إذا تعلق بشئ فهو متحقق لا محالة، بمعنى أن
العقد يؤثر في ذلك المقصود ويوجب تحققه، ويصير المعنى: أن كل ما هو مقصود
48

في العقد فالعقد يتبعه، بمعنى أنه يتعلق به العقد (1) وينعقد. وهذا الوجه له تفصيل،
نذكره بعيد هذا.
وثانيهما: أن العقد تابع للقصد، بمعنى أن العقد شئ يحتاج إلى موجب وقابل
وعوض ومعوض، وبعد حصول هذه الأركان لكل عقد أثر خاص: من تمليك أو
نحوه، وللاثار كيفيات واعتبارات: من فورية وتراخ ولزوم وجواز تنجيز وتعليق
وإطلاق وتقييد واتصال وانفصال وأحكام ولوازم، وهو في هذه الأمور كلها تابع
للقصد، بمعنى أنه لا يقع ما لم يقصد، وما هو المقصود يقع مطلقا.
الثاني (2): في بيان المدرك
والبحث هنا في مقامات ثلاث: (3)
أحدها: أن العقد تابع للقصد، بمعنى أنه شرط في صحته، بل في ماهيته، بمعنى
أن ما لا قصد فيه ليس بعقد، والمراد من القصد هنا: إرادة اللفظ والمعنى.
فالعقد الذي لم يقصد لفظه - كما في النائم والساهي والغالط، وهو من يريد
لفظا (4) فيذكر غيره، كما لو أراد كلمة (بعت) فقال: (وهبت) غلطا فإن (وهبت)
غير مقصود، وكذا الغافل وهو الذي يصدر عنه اللفظ من دون التفات، والسكران
الذي يتكلم بلا قصد إلى الألفاظ، بل يصدر عنه للعادة من دون شعور وإرادة
للخصوصية، وكذا العقد الذي لم يقصد معناه كما في الهازل، فإنه قاصد لذكر
لفظ (بعت) مثلا، لكنه غير قاصد لوقوع معناه بهذا اللفظ، وينحل هذا إلى عدم
إرادة الإنشاء، أو إرادة الإنشاء الذي لا يترتب عليه المنشأ، وبالجملة غير قاصد
لوقوع المسبب - فاسد (5)، بل ليس بعقد، وهذه قاعدة كلية سارية في العقود
والإيقاعات كافة.
والوجه في ذلك أمران:

(1) في (د): القصد.
(2) في (ف، م): والثاني.
(3) كذا، والظاهر: مقامات أربع، لما يأتي في ص 57: ورابعها، فلاحظ.
(4) في عدا (م) زيادة: آخر.
(5) هذا خبر لقوله: فالعقد الذي...
49

أحدهما: إجماع الأصحاب على عدم ترتب الآثار على الخالي عن القصد،
كما هو صريح كلامهم في طي أبواب الفقه بحيث لا يشك فيه مشكك.
وثانيهما: أن مقتضى الأصل الأولي عدم ترتب الآثار المجعولة لهذه الأسباب
شرعا إلا بدليل، ومن المعلوم أن أحكام العقود والإيقاعات وآثارها كلها مخالفة
للأصل، فلابد في ترتيب هذه الآثار من الاستناد إلى حجة شرعية، وليس إلا أدلة
العقود عموما وخصوصا.
ولا يخفى أن أدلة العقود العامة - كما ذكرناه في أصالة الصحة واللزوم - قد
اعتبر فيها لفظ العقد والشرط ونحو ذلك، ولا ريب أن العقد معناه: العهد أو الربط،
ومالا قصد فيه لا يعد عهدا ولا يعد ربطا، لا لغة ولا عرفا، وكذا الكلام في لفظ
الشرط.
وأما الأدلة الخاصة فقد اعتبر فيها لفظ البيع والإجارة والنكاح والطلاق
والإقرار والعتق ونحو ذلك، ولا ريب أن كل ذلك ينصرف إلى ما هو المقصود،
واللفظ الخالي عن القصد لا يسمى بهذه الأسامي قط (1) فإذا لم تشمله الأدلة عموما
وخصوصا فيبقى تحت الأصل الأولي، ولا تترتب عليه الثمرة وهو المراد.
ويمكن أن يتمسك في هذا المقام بمثل قوله عليه السلام: (لاعمل إلا بنية) (2) و (إنما
الأعمال بالنيات) (3) فإن ظاهر الروايتين: أن ماهية العمل من دون نية غير متحققة،
فإما أن يحمل على معناه الحقيقي الظاهر وتكون الأعمال التي تتحقق (4) بغير قصد
خارجة عن العموم، وإما أن يحمل على نفي الصحة لأنه أقرب المجازات، فيكون
المراد عدم الصحة إلا بالنية، ولا ريب أن عموم (الأعمال) إنما (5) يشمل العقود
والإيقاعات أيضا، فيدل على أنها لا تصح بدون القصد وهو المدعى، وحملهما

(1) في (ف): قطعا.
(2) راجع الوسائل 1: 33، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات.
(3) راجع الوسائل 1: 33، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات.
(4) في (ن، د): تحقق.
(5) إنما: لم يرد في (م).
50

على نفي الكمال أو رميهما بالإجمال - كما صدر عن بعضهم - لاوجه له، إذ الأول
بعيد عن الحقيقة، والثاني فرع تعذر الحقيقة وعدم وجود المجاز القريب، وهنا
ليس كذلك.
فإن قلت: إن المتبادر من النية المطلقة في الروايات ليس القصد، بل الظاهر
منها قصد التقرب، ولذلك تمسك الفقهاء بها في اشتراط قصد التقرب في العبادات،
ولا يمكن هذا الاستدلال إلا مع ظهور إرادة قصد التقرب، وليس الكلام في
العبادات في اشتراط القصد المطلق، إذ هو مما لا ينفك عن الفاعل المختار كما
نصوا عليه - وقد مر ذلك في عناوين العبادات (1) - فإذا لا دلالة في هذه الروايات
على ما ذكرته.
قلت: يمكن أن يقال (2): إن النية بمعنى القصد، وتخصيصه بقصد التقرب لا دليل
عليه، وثبوت الحقيقة الشرعية ممنوع، بل معلوم العدم، فالاستدلال هنا في محله.
نعم، يرد الإشكال في الاستدلال بها على نية العبادات، ولسنا نحن بصدده.
وثانيا يمكن أن يقال: إن المراد من النية هنا قصد جهة ذلك العمل، وبعبارة
أخرى: أن القصد وإن كان معنى النية، لكنه بقرينة ذكر العمل بل الأعمال المفيدين
للعموم في الخبرين يفهم أن المراد بالنية قصد غاية العمل والجهة المقصودة منه،
فيصير المعنى: لاعمل، أي: لا يكون عمل صحيحا إلا بنية ما هو المقصود منه، أي:
جعل العمل لأجله، فيدل على أن صحة كل عمل مشروط بقصد غايته المجعولة له
شرعا أو عقلا أو عادة، فعلى هذا فلابد في العبادة من قصد التقرب، إذ الغاية التي
شرعت لها العبادات هو التقرب، إما بأن نعلم ذلك، أو نشك في الغاية (3) والمتيقن
هو التقرب اللازم للطلب - كما أسسناه في بحث كون المأمور به عبادة (4) - وفي
المعاملة لابد من قصد النقل أو الفك أو نحو ذلك من الآثار والغايات التي شرعت
المعاملة لأجلها.

(1) راجع الجزء الأول، العنوان: 12.
(2) في (م): قلت أولا.
(3) كذا في النسخ، والعبارة قاصرة.
(4) راجع الجزء الأول، العنوان: 12.
51

فليس المراد من النية خصوص قصد التقرب ولا مطلق القصد، ومن العمل
خصوص العبادة، بل الظاهر من العمل الأعم، ومن النية قصد الجهة المقصودة
والعلة الغائية، فيكون تصور الأثر وإرادته من العمل شرطا في ترتب ذلك الأثر
شرعا، وهو كاف في إثبات المدعى، فتأمل فإنه من مطارح الأفهام.
فاعتبار القصد في المعاملات بهذا المعنى مما لا شبهة فيه.
نعم، بقي الكلام (1) في أن هذا القصد في الإيقاع يعتبر في الموقع حال إيقاعه،
وذلك واضح، وفي العقد أيضا، يعتبر في حال تكلم كل من الموجب والقابل بما
هو من جانبه، ولكن هل يعتبر بقاء هذا القصد والشعور بهذا المعنى للفظ والمعنى
في كل من المتعاقدين في كل من الإيجابين - بحيث لو قال البائع: (بعت) قاصدا
فغفل أو نسي أو زال قصده بطور آخر، فقال القابل: (قبلت) لم يصح أولا، بل
المعتبر كون كل منهما قاصدا فيما هو من جانبه؟ وجهان.
والأقوى: اعتبار القصد مطلقا، لما ذكرناه من الأدلة، فإن المتبادر من أدلة
العقود إنما هو ما كان المتعاقدان قاصدين في مجموع الإيجاب والقبول.
مضافا إلى أن العقد هو المركب من الإيجاب والقبول، فلابد من كونهما
قاصدين في المجموع حتى يكون العقد منهما مع القصد. والتوزيع - بكون أحدهما
قاصدا في الإيجاب والاخر في القبول، أو كليهما قاصدا في أحدهما، أو أحدهما
قاصدا في أحدهما - خلاف الظاهر من النصوص والفتاوى.
وبقي هنا إشكال (2)، وهو أن ظاهر ما ذكرناه اعتبار قصد اللفظ والمعنى،
ولذلك أخرجنا الهازل، فيشكل الأمر في (3) صحة عقد المكره، مع أن الأصحاب
في باب العقود أطبقوا على صحة عقود المكره لو لحقه الرضا وإن لم يقولوا بصحة
الإيقاعات من المكره وإن رضي (4) بعد ذلك، بناءا منهم على أن الإيقاع لا يكون

(1) في (ن): كلام.
(2) في (م): ثم إن هاهنا إشكال.
(3) في (م): وعليه متجه عدم صحة عقد المكره.
(4) في (م): بصحة الإيقاعات منه حتى مع رضائه.
52

موقوفا على أمر متأخر، ويجئ تحقيقه في باب التعليق إن شاء الله تعالى.
ولا ريب أن المكره كالهازل قاصد للفظ دون المعنى، فكيف يصح عقد المكره
بلحوق الرضا ولا يصح عقد الهازل وإن رضي بعد ذلك وأجاز؟ وهذا الإشكال مما
ذكره شيخنا الشهيد الثاني قدس سره في شرحي الشرائع واللمعة (1) ولم يتخلص عنه.
ولكن الإشكال غير وارد والجواب بين والأمر سهل، إلا أنه لما كان محتاجا
إلى بيان معنى الإكراه وتحقيق أن المكره قاصد للفظ والمعنى معا لكنه فاقد
للرضا، وهو غير قصد المعنى، بخلاف الهازل فإنه غير قاصد للمعنى، أخرنا بيانه
إلى مسألة الإكراه والاختيار الآتي في الشرائط العامة إن شاء الله تعالى (2).
وبالجملة: القصد للفظ والمعنى شرط في صحة العقود بالمعنى الأعم، بل في
عقديته، وهذا أحد وجهي قولهم: العقود تابعة للقصود.
وثانيها (3): أن العقد تابع للقصد في أركانه ولوازمه وأحكامه، بمعنى أنه ما لم
يقصد شئ منها لم يقع. كما أن أصل العقد لا يتحقق إلا بقصد الإيجاب والقبول،
ومعناهما كذلك لا يصح إلا بقصد متعلقه من العوض والمعوض والموجب والقابل،
بمعنى أنه لابد في العقد من قصد المبيع والثمن في البيع، والزوجين في النكاح
- ونظائر ذلك - ومن قصد المخاطب بالخطاب، فلا يمكن قصد بيع مطلق بعوض
مطلق وإن عين بعد ذلك.
وكذا لا يصح لو قال: (بعت) ولم يقصد مخاطبا معينا هو القابل وإن قال بعد
ذلك أحد: (قبلت). كما لا يصح لو لم يقصد القابل بقوله ذلك الإيجاب الصادر من
الرجل المعين، فلو سمع قائلا يقول: (بعت) فقال: (قبلت) لم يصح وإن صادف
الواقع

(1) المسالك 3: 157، والروضة البهية 3: 227.
(2) العبارة بعد قوله: (ولم يتخلص عنه) إلى آخر الفقرة في (م) كما يلي: ويندفع بأن المكره
قاصد للفظ والمعنى معا، لكنه فاقد للرضا، وهو غير قصد المعنى، بخلاف الهازل فإنه غير ير
قاصد للمعنى، وسيأتي تفصيل ذلك في عنوان الإكراه والاختيار من عناوين الشرائط العامة
إن شاء الله.
(3) أي: ثاني المقامات، تقدم أولها في ص: 49.
53

وبعبارة أخرى: العقد له أركان، وهي: المتعاقدان والعوضان، وقد لا يكون
عوض، وقد يكون.
وبعبارة أخرى: كلما هو من ضروريات ذلك العقد أو الايقاع من المحل
ونحوه لابد أن يكون مقصودا في حالته، وإلا لبطل.
وأما الأحكام واللوازم: فإن كانت من مقتضيات ذات العقد ومفهومه - بمعنى
عدم تحققه إلا بحصولها - فهي داخلة في قصد المعنى والغاية الذي مر في المقام
الأول. وإن كانت من الأحكام اللاحقة شرعا - كنفقة الزوجة ونحو ذلك - فسيأتي
الكلام فيها.
والوجه في اعتبار القصد بهذا المعنى - بمعنى انتفاء الصحة بدونه - ما مر من
الوجوه السابقة من الإجماع والأصل الأولي. وعدم انصراف أدلة الصحة في عقد
أو إيقاع عاما أو خاصا إلى ما لم يعين فيه الأركان، فيبقى تحت أصالة الفساد، بل
يمكن أن يدعى في بعض صور المسألة عدم صدق العقدية والعهدية أصلا.
والأخبار الدالة على عدم وقوع شئ إلا بالقصد بالتقريب الذي ذكرناه، فإنك لو
لم تقصد من قولك: (بعت) مشتريا معينا هو زيد - مثلا - ولا فرسا معينا بتعيين (1)
معتبر كليا أو جزئيا، ولا ثمنا معينا - من درهم أو دينار أو غيرهما - فلا ينفع بعد
ذلك أن تعينه، لأنه شئ لم يقصد، فلا يتحقق بمقتضى الأخبار (2).
فإن قلت: إنا لا نقول: إنه يقع بلا قصد، بل نقول: إنه يقع بعد القصد وإن لم يعين
عند العقد، فلا يكون بلا قصد.
قلت: إن وقوع هذه (3) الآثار بعد العقد والقصد إنما هو للعقد، بمعنى أنه السبب
في حصول ملك هذا المال - مثلا - لهذا المشتري (4) والمفروض أن هذا لم يكن

(1) في (ن، د): يتعين، وفي (ف): لتعيين، والصواب ما أثبتناه.
(2) من قوله: فإنك لو لم تقصد... إلى آخر الفقرة لم يرد في (م).
(3) هذه: لم ترد في (م).
(4) العبارة في (م) هكذا: في حصول ملك المال المخصوص - مثلا - للمشتري المخصوص
بالثمن المخصوص.
54

مقصودا في ذلك السبب، ومجرد القصد العاري عن السبب غير مملك، فلا وجه
لحصوله، فتدبر.
مضافا إلى متعلقات العقود إنما هي محال لآثارها، بمعنى أنها مورد للملك
والطلاق والنكاح والعتق ونحو ذلك، ولا ريب أن هذه الأمور تحتاج إلى محال
مقررة في نفس الأمر على حسب ما هو المعتبر في المفهوم، فإن كان شيئا يتقوم
بالكلي والعين فلابد من تعينه على طريق الكلية أو العينية، وإن كان مما لا يتقرر إلا
بشخص - كالعتق والطلاق والنكاح على أحد الوجهين، وهو الأصح - فلابد من
تعينه الشخصي حتى يتحقق الأثر فما لم يتعين هذه المحال في نظر المتعاقدين
بحيث يكون قابلا لورود الآثار المطلوبة عليها لا يتحقق للأثر محل، فيستلزم
الفساد، لتخلف الأثر عن المؤثر، وليس الفساد إلا ذلك، وتعيين المحل بعد فساد
المؤثر غير مجد.
وكذلك الكلام في المتعاقدين، فإنهما اللذان يعقدان ويتعاهدان ويربطان، فلو
صدر من أحدهما الإيجاب بدون تعين الاخر لم يتحقق هنا ربط من هذا الجانب،
ولا عهد مع أحد، وتعين أحد بعد الصدور لا يجعل العهد السابق له، وذلك واضح
جدا.
وفي كلامنا السابق في خصوص تعيين المتعلق إفادات تتنبه عليها بعد تأمل
غامض وتتيقن أنه صادر عن طبيعة ماهرة في الفن ويندفع بالغور في أطراف
ذلك الكلام إشكالات (1) مركوزة في أذهان القاصرين في جواز بيع الكلي وعدم
جواز نكاحه وطلاقه - كما هو الأصح - ونظائر ذلك. وليس هذا من جهة عدم
اشتراط قصد المتعلق، بل الحق أن قصد الأركان لازم في العقود كافة، وإنما البحث
في أن متعلق كل عقد أي شئ حتى نعرف ما هو لازم القصد دون غيره؟ وأي
سبب لعدم تعلق النكاح بالكلي دون البيع؟ وهذا كلام سنحققه لك إن شاء الله
تعالى في ضبط متعلقات العقود.

(1) وردت العبارة في (م) مختصرا، كما يلي: إفادات تندفع بالغور في أطرافها إشكالات.
55

وثالثها (1): أن العقد تابع للقصد في سائر الأحكام، بمعنى أنها لا تترتب إلا مع
كونها مقصودة.
فمن لم يقصد النفقة في النكاح لا نفقة عليه، ومن لم يقصد ضمان الدرك في
البيع فلا ضمان عليه، ومن لم يقصد خيار المجلس أو الشفعة أو خيار الحيوان أو
توابع المبيع - كثياب الجارية ومفتاح الدار - أو المهر في مفوضة البضع أو لحوق
الولد أو عدم جواز جمع الأختين أو نكاح الخامسة - أو نظائر ذلك من الأحكام
غير المتناهية اللاحقة للعقود بعد تحقق أركانها وصحتها - لا يتعلق فيه هذه
الأحكام بالنسبة إليه.
وتبعية العقد للقصد بهذا المعنى لم يقم دليل على اعتباره، بل يرده أمور:
أحدها: الإجماع القطعي من الأصحاب على عدم اعتبار القصد في ذلك كله،
كما لا يخفى على من راجع كلامهم.
فإن قلت: كيف تدعي الإجماع على ذلك مع أن قولهم: (العقود تابعة للقصود)
مطلق يشمل المقام؟
قلت: ليس كذلك، بل معنى كلامهم: (أن العقد تابع للقصد) بمعنى أن النكاح
والبيع لا يصح إلا بقصد اللفظ والمعنى والأركان - على ما قررناه - إذ لفظ (العقد)
اسم لمجموع الإيجاب والقبول المتقوم بهذه الأركان، والأثر اللازم له ما هو
المقصود منه الداخل في معنى (2) الإيجابين - كما قررناه - وأما الأحكام اللاحقة
للعقد بعد وجوده وفرض صحته فهي ليست داخلة تحت اسم العقد ولا مقدمة
لتحققه، ولا وجه لكونها تابعة للقصد، فهذه العبارة منهم (3) دالة على اعتبار القصد
في ماهية العقد وأركانه، دون أحكامه.
وثانيها: قيام السيرة القطعية من المسلمين قديما وحديثا على عدم قصد
الأحكام في العقود والإيقاعات، بل هي غير محصورة لا يكاد يطلع عليها فقيه،

(1) أي: ثالث المقامات.
(2) في (ن، د): في معناه.
(3) في (ف، م): عنهم.
56

فضلا عن عامي! فكيف يمكن القول بعدم جريان هذه الأحكام مع عدم القصد؟
وثالثها: إطلاق ما دل على ترتب هذه الأحكام لهذه العقود من دون تقييد
بالعلم والقصد، ولا ريب أن اسم العقد واسم البيع والطلاق والعتق ونحو ذلك يتحقق
بقصد الأركان، فاللازم شمول الأدلة الدالة على ترتب الأحكام على هذه الأسامي
عموما وخصوصا لما نحن فيه، فلا وجه لهذه الشرطية.
وبالجملة: لم يعرف من نص ولا فتوى اعتباره في ذلك، ولو عرض شبهة في
ذلك من جهة هذه القاعدة المطلقة فإنما هو من قصور الفهم أو قلة التدبر، فإنه
لا ربط لها بمسألة الأحكام واللوازم.
ورابعها: أن يكون العقد تابعا للقصد، بمعنى أن يكون كل ما قصد من العقد
فينبغي تأثير العقد فيه، وهذا لو اتفق في الأركان من العوضين أو الإيجابين أو
المتعاقدين فلا شبهة فيه، فإن كل ما تعلق فيه القصد فهو مورد العقد دون ما عداه،
ويلزمه التأثير مع اجتماع سائر الشرائط.
وأما لو تعلق بأمور خارجية، فإن كان قصد ما يترتب على العقد بحكم الشرع
من الآثار واللوازم الخارجية - كما مثلناه - فلا بحث في صحته وحصوله، لكن من
حيث أصل الشرع، لامن حيث هذا القصد، بمعنى أنه لو لم يكن قاصدا أيضا لكان
ذلك كذلك، وليس العقد فيه تابعا للقصد، بل بالعكس. وإن كان قصد ما لا يترتب
على العقد لو خلي ونفسه فهل يتبعه العقد، بمعنى أنه يؤثر فيه باعتبار هذا القصد
أولا؟ وفيه قسمان:
أحدهما: أن يقصد عدم ترتب ما يترتب لو خلي ونفسه، كقصده عدم النفقة في
النكاح الدائم، أو عدم الشفعة في محلها، أو نظائر ذلك. وبعبارة أخرى: أنه يقصد
في المعاملة أو في الإيقاع عدم ترتب بعض أحكامه الشرعية التي لو لم يقصد
عدمه لترتب جزما.
وثانيهما: أن يقصد ترتب ما لا يترتب لو خلي بلا قصد، كقصد النفقة والأرث
في المنقطع، وقصد خيار الفسخ في النكاح بغير أسبابه المعهودة، وقصد الخدمة في
57

العتق، وقصد الخروج من الأصل في الوصية، ونظائر ذلك.
وكل من القسمين: قد يكون مع لفظ دال على ذلك القصد، بمعنى اعتبار هذا
المقصود الخارجي شرطا في ضمن العقد.
وقد يكون من دون لفظ واقع في ضمن العقد، بل مع المقاولة قبل العقد وبناء
المتعاقدين على ذلك.
وقد يكون بالمقاولة بعد العقد مع وجود القصد حال العقد.
وقد يكون مجرد قصد وتواطؤ، بحيث يعلم أحدهما بأن الاخر قاصد ذلك.
وقد يكون مجرد قصد من دون علم من الاخر به ولا تواطؤ عليه.
فهنا صور، ولا يخفى على الفطن العارف أن صورة جعله شرطا في ضمن
العقد أو قبله أو بعده وصورة العلم والتواطؤ كلها داخلة في باب الشروط التي
نبحث (1) عنها في اللواحق، ونبين هنالك اعتبار اللفظ والعدم، والمقارنة أو التقدم
أو العدم، وكفاية مجرد التواطؤ وعدمه، وتمام الكلام في ضبط الشروط الضمنية
وما يلحقها.
وليس ذلك كله من مسألة تبعية العقد للقصد وإن كان من فروعها، لكنه في
الحقيقة لو قلنا بصيرورة هذه الأقسام شرطا يصير في الحقيقة داخلا في الأركان،
لأنه في حكم العوضين وكالجزء منهما (2) فلابد من تنقيح ما هو الصحيح منه والفاسد،
فما صح منه يتقيد به العقد، وما فسد - لأحد الوجوه الآتية في فساد الشرط - يفسد
به العقد، فإنه (3) مستلزم لتعلق العقد بما لا يصح تعلقه به، وفوات الشرط كفوات
الأركان.
وإنما البحث في مجرد كون أحد هذه الأمور مقصودا للعاقد من دون شرطية
وتواطؤ، فهل يكون هذا القصد ملغى ولا يترتب عليه تأثير العقد ولا يتقيد به، فما

(1) في (ن، د): يبحث.
(2) في (ف، م): منها.
(3) في (ف، م): لأنه.
58

ينبغي أن يترتب فهو يترتب (1) وإن قصد عدمه وما لا يترتب لا يترتب وإن قصد
وجوده، أم لابل يتبع العقد القصد؟ لا بمعنى أنه يقع ما قصد لا محالة، لأنه مخالف
للإجماع، بل بمعنى أنه إن صادف القصد في الوجود والعدم شيئا لم يمنع منه الشرع
وليس مخالفا للدين ولا يلزم منه محذور يؤثر فيه العقد، فيكون هذا تأثيرا ثانويا
للعقد باعتبار انضمام هذا القصد، وإن لم يصادف ذلك بل اتفق قصد ما دل الدليل
على خلافه بحيث لم يبق للمكلف تسلط فيه بطل القصد، فيبطل العقد بتبعيته.
وبعبارة أخرى: هل مجرد القصد من دون تواطوء وذكر لفظ يقوم مقام الشرط
ويوجب تقيد العقد به صحة وفسادا أم لا؟
يحتمل القول بالتبعية لأمور:
أحدها: عموم ما دل على نفي الضرر، فإنه لو لم يتحقق ما قصده - سواء كان
قصده وجود ما لولاه لم يوجد أو عدم ما لولاه لوجد - لتضرر بذلك، لأنه قد فعل
هذا الفعل على أن يكون الأمر على ما قصده ولم يقدم على ما سوى ذلك، فإلزامه
بالحكم الذي قصد خلافه إضرار من دون سبب.
وثانيها: أنه وإن لم يذكر ما قصده في ضمن العقد ولم يعلق الحكم عليه، لكن
بنى على ذلك وفعل، فينحل على أنه لو لم يكن كذلك لم يفعل.
فمن قصد عدم النفقة من النكاح أو قصد كون الزوجة خادمة وهو خال الذهن
عن أنه لا يقع على ما قصده - بمعنى أنه لا يعلم بطلان قصده - يرجع الأمر فيه إلى
أنه لو لم يكن كذلك لم يعقد، فيصير ذلك من خصوصيات الأركان وكيفياته،
فيجئ قاعدة التبعية.
وثالثها: أن عموم ما دل على لزوم الشروط شامل لذلك، فإنه في الحقيقة
ينحل إلى شرط ضمني وإن لم يلحظ بعنوان التعليق والربط.
والحق أنه لا ثمرة لهذا القصد، لأن أدلة الشروط (2) إنما يراد بها ما هو الالتزام
المعهود بين المتعاقدين لو قلنا بأن الشرط بنفسه لازم - كما هو أحد الوجهين - ولو

(1) في (ن، د): مترتب.
(2) في " ف، م ": الشرط.
59

قلنا بأن لزوم الشرط إنما هو بدخوله في العقد وانحلاله إلى الكيفية وصيرورته
كالجزء من الأركان، فيدخل في الوفاء بالعقد، فلا ريب أن هذا المقصود لم يذكر
في العقد ولم يكن من كيفياته، وليس مجرد تخيل وقوع شئ أو انتفائه قيدا في
المعاملة، إذ مجرد كونه داعيا بحيث لو لم يكن كذلك باعتقاده لم يفعل لا يصير قيدا
حتى يكون داخلا في الكيفية، بل هو مورد باعتقاده الفاسد.
وأما كون ذلك ضررا عليه، فمدفوع بأنه ضرر أقدم عليه بنفسه، لأنه لم ينشأ
إلا بفعله لا بفعل الغير، وتقصيره في فهم الأحكام الشرعية إن لم يوجب زيادة
الحرج والتكليف عليه فلا ينفي ما هو لازم لطبيعة ما فعله من الأحكام.
وهذا وجه واضح، وإلا للزم عدم ترتب الضمان ونظائر ذلك على من أوجد
أسبابها باعتقاد عدم الترتب، فتدبر.
مع أن إطلاق ما دل على ترتب ما يترتب وعدم ترتب ما لا يترتب شامل
لصورة ما قصده أو لم يقصده أو قصد خلافه، وليس في الأدلة ما يعارضه، إذ ليس
هذا داخلا تحت دليل شرط، ولا دليل ضرر، ولا دليل عقد.
نعم، قد يقال: إنه يدل على ذلك عموم قوله عليه السلام: (لكل امرئ ما نوى) (1) فإن
ظاهره: أن المرء إذا نوى شيئا فهو يحصل، والفرض أن العاقد قاصد - مثلا - عدم
الخيار للمجلس، أو قاصد عدم نفقة الزوجة - أو نحو ذلك - فينبغي أن يحصل هذا
له بمقتضى العموم، وخروج بعض الأشياء عن تحت العام بالدليل لا يقضي بعدم
الحجية في الباقي، فلا وجه لإسقاط هذا القصد بالمرة وإلحاقه بالعدم.
ولكن نقول: إن هذه الرواية تعارض ما دل على عدم ترتب هذه الأحكام
وجودا وعدما على العقود سواء نوى أو لم ينو بالعموم من وجه - وذلك واضح -
والترجيح مع الأدلة النافية، لكثرتها وقوتها وفتوى الأصحاب بها وكون خارج
هذه الرواية أكثر من داخلها وانصرافها إلى غير العموم المدعى منها، ولو فرض
عدم الترجيح فالمرجع الأصل، والأصل عدم تأثير هذا القصد.

(1) الوسائل 1: 34، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات، ح 10.
60

مضافا إلى أن استقراء الفقه القطعي قد دل على عدم العبرة بمجرد النية من
دون قيام لفظ أو فعل دال عليه، والفرض هنا عدمه، إذ العقد لا يدل عليه، وليس في
المقام غيره، فتبصر جدا.
ومن هنا علم: أنه لو تحقق المقاولة بعد العقد أيضا لم ينفع في ذلك، إذ العقد
مضى على إطلاقه وأثر، إلا على القول بأن الشرط بنفسه لازم لا حاجة إلى كونه
في ضمن عقد، وكذلك ما كان فيه المقاولة قبل العقد، فإن القول السابق لا يلزم
بنفسه ولا يقيد العقد اللاحق، لاحتمال الرجوع، ومع العلم بالبقاء يرجع إلى مجرد
القصد الخالي عن الأمارة، فلا ينفع من جهة العقدية لو لم يلزم من جهة الشرطية
مستقلا.
وأسوأ حالا منهما صورة العلم بالقصد ومجرد التواطؤ من دون مقاولة قبل
العقد ولا بعده ولا في أثنائه، لأنه قصد صرف، ومجرد العلم بأنه معتقد غير قادح،
فتدبر.
نعم، يجئ في هذه الصورة (1) البحث من جهة احتمال أنه شرط كالمذكور في
ضمن العقد، فيبحث في صحته وفساده باعتبار ذلك، ويجئ الكلام في كونه قيدا
للعقد مفسدا أولا.
وأما لو قطع النظر عن كونه شرطا، فلا ريب أن مجرد هذه القصود لا يتبعها
العقود، لا بمعنى تأثيرها فيما تعلق القصد به وجودا وعدما، ولا بمعنى توقفها على
صحته وفساده، فتبصر.
مع أنا نقول: المراد من تبعية العقد للقصد كونه تابعا لما قصد منه، وهذه
القصود والاعتقادات الخارجية التي توهمها المتعاقدان ليس (2) قصدا متعلقا
بالعقد، بمعنى أن القائل: (بعت) معتقدا عدم ضمان المبيع عليه قبل قبضه، أو قوله: (اشتريت) معتقدا عدم ثبوت الشفعة، لا يقصد من قوله: (بعت) عدم الضمان،

(1) في (ف، م): الصور.
(2) كذا، والمناسب: ليست.
61

ولا من قوله: (اشتريت) أن لا يكون شفعة، بل يقصدان من العقد معناه المتعارف
ويتخيلان أن الحكم فيه كذلك، وهذا ليس قصدا متعلقا بالعقد حتى يتبعه وإن كان
لو اعتقد خلافه لم يفعل.
نعم، لا يجزئ هذا الكلام في صورة المقاولة قبل العقد أو في أثنائه، فإنهما
يرجعان إلى الشرط، بمعنى كونهما قاصدين للعقد على هذا النحو، فينبغي التقييد.
والكلام فيه من حيث كونه مقيدا للعقد قد عرفته، وسيتضح حكمه في باب
الشروط.
فتلخص من ذلك: أن قصد الأحكام واللوازم المترتبة على العقد غير لازم،
وعدم قصدها غير مضر، وقصد عدم ترتب ما يترتب أو ترتب ما لا يترتب غير
نافع ولا مضر، وإنما اللازم قصد اللفظ والمعنى المقصود مع كيفياته: من تنجيز أو
تعليق، إطلاق أو تقييد، اتصال أو انفصال، فوري أو متراخ، لازم أو جائز - على
كيفياتها المقررة - وقصد الأركان من المتعاقدين والعوضين وما يقوم مقامها، على
حسب اختلاف العقود والإيقاعات.
نعم، بقي هنا كلامان:
أحدهما: أنه متى ما لزم قصد الكيفيات المقصودة حتى يقع على نحوها لابد
من ذكر ما يدل عليها أيضا، إذ قد تقرر أن القصد الخالي عن الأمارة لا عبرة به،
وسنحققه في شرائط العقود إن شاء الله.
أما لو قصد واحدا من الكيفيات ولم يأت بما يدل عليه - كما لو قصد التزلزل
والجواز وأتى بلفظ مطلق، أو عكس فأتى بلفظ دال على التزلزل وقصد اللزوم -
فهل القاعدة في هذا المقام البطلان لعدم الدال في الأول وعدم القصد في الثاني
وكلاهما شرطان، أو الصحة فيهما اكتفاءا بأحد الأمرين في أصل الكيفية بخلاف
الأحكام الخارجية بتبعية اللفظ في المقامين أو بتبعية القصد في المقامين؟ وجوه.
والذي يقتضيه النظر الصحيح: أن القصد العاري عن اللفظ لا عبرة به، فإن كان
قاصدا للنوع وقاصدا لوقوعه جائزا من هذا اللفظ مع أنه بظاهره مفيد للزوم
62

فيلحقه حكم ظاهر اللفظ، ولا عبرة بالقصد كذلك، وما يعتبر من القصد إلى أصل
المعاملة فقد حصل.
وأما اللفظ العاري عن القصد فباطل ملغى لا أثر له، وليس إلا كقوله: (وهبت)
وهو قاصد للبيع، إذ اللفظ المعتبر ما وافق المقصود لا شيئا آخر، فتدبر.
وثانيهما: أن مقتضى شرطية قصد الأركان وقصد الغاية أن لا يحكم بالصحة
إلا مع العلم بحصول القصد، إذ الشك في الشرط يوجب الشك في المشروط.
فنقول: لا ريب أن العاقد لو أقر أنه كان قاصدا لما ذكره وعقده يثبت بذلك،
لأن القصد شئ لا يعلم إلا من قبله - وسيجئ في المثبتات (1) بيان الوجه فيه -
وإن كان ذلك نافعا بالنسبة إليه، إذ ليس قبوله من حيث الإقرار به (2) بل من
حيث (3) انحصار الطريق.
ولو أنكر، بمعنى أنه ذكر في اللفظ شيئا وقال: لم أكن قاصدا معناه بل قاصدا
شيئا آخر، أو لم أكن قاصدا بالمرة، فهل يحكم هنا بالفساد؟ لأصالة عدم قصد هذا
المراد ولأنه شئ لا يعلم إلا من قبله فقوله فيه حجة ولأن الشك في حصول الشرط
يوجب الشك في المشروط فيرجع إلى الفساد، أو يحكم بالصحة ولا يقبل إنكاره
القصد؟ لأن الظاهر من حاله حين أقدم على المعاملة كونه قاصدا لمعناها، فإنكاره
بعد ذلك غير مسموع، وقبول قوله فرع الشك في المقام، وفعله السابق بظاهره
حجة في وجود القصد - كما لو أقر بالقصد ثم أنكر - وأصالة عدم القصد مدفوع
بتقدم هذا الظاهر عليه - كما يأتي في صحة فعل المسلم (4) - مضافا إلى الإجماع
على أن الشارع جعل ظواهر الألفاظ حجة كاشفة عن القصود (5) فيستدل بها عليه، ولا يسمع بعد ذلك إنكار القصد إلا مع قيام دليل يدل عليه، وهو المعتمد (6).

(1) كذا، والظاهر: السياسات، انظر العنوان: 79.
(2) في (ف، م): الإقرارية.
(3) حيث: لم يرد في (ف، م).
(4) يأتي في العنوان 94 (آخر العناوين).
(5) في (ن): المقصود.
(6) في (ف، م): المتعمد.
63

تنبيه:
قد ذكر بعض الفقهاء - منهم المحقق الثاني (1) - أنه لو دفع المشتري عين مال
لغيره ثمنا عن مبيع وقصد الشراء لنفسه، أو دفع البائع عين مبيع لغيره وقصد البيع
وتملك الثمن لنفسه، أو عكس بأن دفع عين مال لنفسه (2) واشترى لغيره مبيعا، فإنه
تصير المعاوضة على مالكي العوضين دون ذلك الغير المقصود، فإن كان المالك
مباشرا فبنفس العقد، وإن كان المباشر غيره فبالإجازة.
ومقتضى هذا الكلام عدم تبعية العقد للقصد حتى في الأركان، وذلك خلاف
ما قررناه، فإن زيدا لو دفع دينارا هو عين ماله ليشتري لعمرو ثوبا فإنه يصير
الثوب ملكا لزيد لا لعمرو، مع أن المقصود أن يكون الثوب لعمرو. وكذا لو دفع
الغاصب المغصوب على أن يشتري شيئا لنفسه فيصير المبيع لمالك المغصوب مع
إجازته، لا للغاصب.
وعلله المحقق الثاني رحمه الله بأن قاعدة المعاوضة انتقال كل من العوضين إلى
مالك العوض الآخر لا إلى غيره، وإلا لخرج عن كونه معاوضة (3).
فحينئذ نقول: لا ريب أن تبعية العقود للقصود يقتضي أن يقع الملك لمن قصد
في ضمن العقد، لأنه الركن الملحوظ وغيره ليس بمقصود، فلا وجه لتأثير العقد
فيه، إذ لو قلنا: (بعت المال لزيد) لا يكون الملك لعمرو بالبديهة، والقاعدة التي
أشار إليها المحقق الثاني رحمه الله - من اقتضاء المعاوضة انتقال كل عوض إلى
من انتقل منه العوض الآخر - يقتضي كون الملك لمالك العوض دون ما قصد،
فيتعارضان، والمتجه حينئذ البطلان، لفوات شرط القصد بالنسبة إلى المالك،
وفوات وجود العوض بالنسبة إلى المقصود، فالحكم بالصحة ووقوعه للمالك
لاوجه له.
لا يقال: إن صحة المعاملة للمالك إنما هو بحسب الظاهر وعدم سماع دعوى

(1) لم نعثر على فرض المسألة في جامع المقاصد، لا في بيع الفضولي ولا في كتاب الغصب.
(2) في غير (ن) عين مال نفسه.
(3) لم نقف عليه أيضا.
64

كونه قاصدا لشخص آخر، كما ذكرته سابقا.
لأنا نقول: ليس الكلام في صورة التنازع، بل المراد بيان الحكم الواقعة،
فنفرض أن المالك قال: إني أدفع هذا المال وأشتري لزيد، فباع البائع بهذا الوجه،
فهل الملك صار للمالك أو لزيد؟ ظاهر كلام المحقق الثاني: أنه للمالك، سيما أن
هذا الفرض ينعكس في بيع الغاصب وشرائه، فإن الثمن أو المثمن بعدما صارا
ملكا لغيره فإنه وإن قصد كون العوض الآخر له لا يترتب عليه الأثر، بل يصير
لمالك العوض مع إجازته، لقاعدة المعاوضة.
وبالجملة: ليس مسألتنا هذه من باب الحكم الظاهري، كما ذكروه فيما لو
ادعى المشتري: أني كنت اشتريته لزيد فلم يرض، لا يسمع منه، أو ادعى الوكالة
في الشراء فأنكره الموكل، فإن البيع يصير له ويستحق البائع الثمن ظاهرا.
والحاصل: كلامنا فيما تغاير المقصود في التملك مع مالك العوض وكان هذا
مع علم من المتعاقدين، فظاهر كلام المحقق الشيخ علي رحمه الله وغيره وقوع
المعاملة لمالك العوض بلا إجازة أو معها - كما في بيع الغاصب ونحوه - لقاعدة
ذكرها، ومقتضى القصد وقوعه للمقصود دون غيره، ومع التعارض فينبغي البطلان،
لتخلف أحد الشرطين في كل منهما، فما معنى الحكم بالصحة؟
والتخلص من هذا الإشكال بأحد وجوه:
أحدها أن يقال: قاعدة التبعية للأصل إنما هي من باب الظواهر التي يمكن
الخروج عنها بدليل كما في النكاح بمهر أو شرط فاسدين، فإن النكاح يصح
والمهر والشرط يفسدان في بعض المقامات.
فنقول هنا أيضا: ظاهر اتفاقهم على صحة بيع الغاصب وشرائه - إلا من زعم
بطلان الفضولي - يدل على عدم اعتبار القصد هنا، ونظيره من دفع مبيعا ليكون
الثمن لغيره، أو دفع ثمنا ليكون المبيع لغيره، إذ الفارق غير موجود.
وثانيها أن يقال: ليس كلامهم في صحة بيع الغاصب وشرائه فيما لو كان
مقصوده انتقال العوض الآخر شرعا إليه، بل في مقام يكون مقصوده انتقاله العرفي
65

إليه حتى يتصرف فيه وينتفع به.
وبعبارة أخرى: بائع فرس الغير لا يريد بالمعاملة أن يكون الثمن ملكا له
شرعا، لأنه لا يمكن ذلك، بل غرضه أن يدفع ويأخذ الثمن بالبيع وينتفع به وإن
كان في الواقع يكون ملكا لمالك الفرس إن أجاز وللمشتري إن لم يجز، وكذلك
دافع المبيع أو الثمن من نفسه حتى يكون الثمن لزيد أو المثمن له، لا يريد بذلك
الانتقال إليه بالمعاملة، بل هو الداعي إلى هذه المعاملة، بمعنى أنه يريد أن يملك
فيعطيه إياه، فليس قصده ملكية الغير من هذه المعاملة، بل من أمر آخر.
وبالجملة نقول: إن هذه الصور ليس فيها قصد في المعاملة مغاير لما ينبغي أن
يقع عليه، وإنما المنافي قصود خارجية لا عبرة بها في العقد مع تحقق أركانه.
وثالثها أن يقال: إن القصد الذي يتبعه (1) العقد ما كان له دال في ظاهر العقد من
شرط أو نحوه، دون القصد الخالي عن اللفظ، ولا ريب أن قصد الغاصب كون
العوض له لم يذكر في العقد، وكذا قصد الدافع كون العوض للغير لم يذكر في اللفظ،
بل إنما هو مجرد قصد من دون دال، فلا عبرة بهذا القصد.
فإن قلت: لم لم يذكر في العقد ما يدل عليه؟ فإن قول الغاصب: (اشتريت) أو
قول البائع له: (بعتك) يدل على أن الانتقال إليه، وهو المقصود من اللفظ، فإذا وقع
خلافه لزم منافاة القصد.
قلت: لا نسلم أن مجرد جعل المخاطب هو الغاصب يدل على قصد الانتقال
إليه، فإن الوكيل يخاطب بقوله: (بعتك) مع أن الانتقال ليس إليه، ولذلك صرحوا
في باب النكاح بلزوم تسمية الزوجين، ولا يخاطب الوكيل ب‍ (أنكحتك) بخلاف
الوكيل في البيع.
وبالجملة: كون ظاهر العقد معه لا يدل على كونه مقصودا من الانتقال،
لاحتمال الفضولية والغاصبية والوكيلية ونحو ذلك.

(1) في (ن، د): تبعه.
66

فإن قلت: فلازم كلامك أن تقول بالبطلان لو قال الغاصب: (بعتك على أن
يكون ثمنه ملكا لي) أو قال دافع المبيع من ماله: (بعتك على أن يكون الثمن
منتقلا إلى زيد).
قلت: نعم، نقول بالبطلان حيث قصد ما هو خلاف قاعدة المعاوضة ونص
عليه في ضمن العقد، لأنه حينئذ كالشرط الفاسد، بل هو من أفراده، وليس في
كلام المحقق الثاني وغيره ما يشمل هذه الصورة، فتدبر.
ورابعها: أن نجيب في الغاصب بأحد الطرق السابقة، وأما في دافع ماله ثمنا أو
مثمنا نمنع عدم وقوع العوض للمقصود - كما زعمه المحقق الثاني - بل ندعي أنه
ينتقل العوض الآخر إلى من قصده المالك دون من ملك العوض المقابل، فلا ينافي
ما ذكرناه من قاعدة التبعية للقصد.
وأما قاعدة المعاوضة - المشار إليها في كلامه - فيمكن التفصي عنها بأن
مقامنا غير مناف لها، فإن قصد المالك دفع الثمن على أن يكون المبيع لزيد ينحل
إلى أحد أمرين:
إما على كون هذا الثمن قرضا لزيد فيملكه زيد، وإما هبة بالنسبة إليه فيملكه
مجانا، غايته أن يكون المالك موجبا قابلا من طرفه، وينحل قوله: (اشتريت بهذا
المال الفرس لزيد) إلى قوله: أقرضت، أو وهبت هذا المال لزيد فصار ملكا له
وقبلت من جانبه ثم اشتريت به فرسا له، فيصير من باب العقد الضمني في قولهم:
(أعتق عبدك عني) ونظائر ذلك وإن كان مخالفا للقاعدة، فتدبر.
وخامسها أن نقول: إن عقود المعاوضات ليس الركن فيها إلا العوضان
والإيجابان والمتعاقدان، والمراد بالمتعاقدين: من صدر منه الإيجاب والقبول،
سواء كانا مالكين أم وكيلين أو وليين أو فضوليين أو غاصبين أو ملفقين، والمعتبر
قصدهما بالعقدية والتخاطب، مع قصد المعاوضة بالعوضين المعهودين في كل
باب بسببية الإيجابين، وأما أن هذه المعاوضة ممن تصير؟ وأن مالك هذا العوض
67

من هو؟ وأن الانتقال إلى من يتحقق؟ فليس من أركان المعاوضة.
وبعبارة أخرى: المراد بالمتعاقدين من صدر منه الإيجاب والقبول،
لا مستحق العوضين، والعلم بمستحق العوضين غير شرط، فقصد خلافهما غير
مضر، لأن من انتقل إليه أو عنه العوض لا ربط له بالمعاوضة، بل المدار على
المتعاقدين والإيجابين والعوضين.
هكذا ينبغي أن يحقق المقام، والله الهادي.
68

[العنوان الحادي والثلاثون [
[انحلال العقد إلى عقود [
69

عنوان [31]
من جملة القواعد المتداولة قولهم: العقد ينحل إلى عقود.
والبحث هنا في أمور:
أحدها: أن المراد من العقد هنا أعم من الإيقاع، فكما أن البيع والصلح والهبة
والإجارة والوقف والوصية والشركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والوديعة
والرهن والقرض والنكاح ونحو ذلك ينحل إلى عقود، فكذلك الطلاق والظهار
واللعان والإيلاء والإقرار والعتق، والشفعة بناءا على أنها إيقاع، والأذن - في وجه
قوي - تنحل إلى إيقاعات، على نحو ما يذكر في العقد كيفية ودليلا، كما سيفصل،
وإن كان (العقد) في عبائرهم ظاهرا فيما عدا الإيقاع، إلا أن الوجه في المسألة
واحد.
ولو استنهضنا على القاعدة بإجماع الأصحاب لأمكن المنع في الإيقاعات
بعدم دخولها تحت هذه العبارة، فتدبر.
وثانيها: أنه ليس المراد من انحلالها إلى العقود عدها عقودا متعددة قطعا،
بحيث يعد من أتى ببيع واحد متعلق بأمور أو بأمر مركب أو طلاق واحد متعلق
بثلاث نسوة ممتثلا لنذره أن يبيع ثلاث بيوع أو يطلق ثلاث طلقات، لأن الحكم
فيه تابع للاسم.
70

والغرض من الانحلال إنما هو انحلال الحكم، فيكون العقد الواحد في حكم
العقود المتعددة بالنظر إلى الأحكام اللاحقة.
والمراد من الانحلال إلى العقود: انحلاله إلى عقود من جنسه لامن غيره.
فالبيع بمنزلة بيوع، والطلاق بمنزلة طلقات، وهكذا...
ولا يخفى أن الانحلال لما كان إلى جنسه فلابد أن يعتبر انحلاله في مورده،
فلا يمكن حل البيع الناقل للعين إلى بيع وإجارة، وإن كانت المنافع تابعة للأعيان
في الانتقال، لكنه ليس موردا لبيع المنفعة، ولابد حينئذ اعتبار الانحلال إلى حد
يمكن وقوع عقد مستقل بالنسبة إليه، فيمكن انحلال البيع إلى بيوع بمقدار أجزاء
المبيع القابلة للانفراد بالبيع، وانحلال الإجارة إلى إجارات بمقدار الأجزاء
المفروضة في العين المستأجرة القابلة للإجارة المستقلة.
ومن هنا علم: أنه لا ينحل طلاق امرأة واحدة أو الإيلاء والظهار منها أو نكاح
امرأة واحدة إلى عقود وإيقاعات، لعدم إمكان نكاح نصف مرأة، وكذا طلاقه
وما شابهه، فبطلان النكاح لو ظهر نصف الزوجة ملك الناكح لعدم إمكان الحل إلى
عقدين، وكذا لو كان نصفها مملوكة للغير ولم يرض مالكها، فلا تذهل.
وثالثها: أن المستند في هذه القاعدة أمور:
الأول: ظهور إجماعهم على هذا الانحلال كما نشير إليه في فروع الكثيرة،
فإنهم يبنون على التبعيض ونحوه ويتمسكون بهذه القاعدة من غير نكير منهم كما
لا يخفى على المتتبع، وهو الحجة.
والثاني: الاستقراء، فإنا قد تتبعنا موارد العقود والإيقاعات فوجدنا انحلالها
إلى عقود غالبا بإجماع أو نص، فكذا فيما لا دليل عليه.
كما أنا وجدنا أنهم يقولون: لو تلف بعض المبيع أو ظهر مستحقا صح البيع في
الباقي، وكذا لو كان بعضه مما لا يملك، كالخمر والخنزير. وكذلك في الإجارة.
ولو عقد على امرأتين فظهرت إحداهما أخته صح في الأجنبية، ولو طلق أو
ظاهر أو آلى عن امرأتين فظهرت إحداهما فاقدة للشرط مضى الإيقاع في
71

الأخرى، وكذا لو أقر بأمرين وظهر فساده في أحدهما.
ونظائر ذلك في المزارعة والشركة وغير ذلك من العقود كثيرة، فإنهم
لا يقولون ببطلان العقد من رأسه بسبب فوات بعض أجزاء المتعلق، وفي بعض
المقامات قد علم إجماعهم على ذلك، وفي مقامات اخر دل النص عليه.
ومقتضى هذا الاستقراء إلحاق ما عداهما بهما ما لم يعلم (1) فيه الخلاف.
الثالث: أن ظاهر هذه الأسباب الشرعية أنها أسباب للنقل أو الفك أو الحبس
- أو نحو ذلك - في كل شئ جعله الشارع قابلا لتعلق ذلك السبب به وتحقق ذلك
الأثر فيه، فكل عقد أو إيقاع تعلق بمورد من الموارد فيؤثر في ذلك المتعلق بجميع
أجزائه القابلة لتعلق ذلك السبب كما يؤثر في المجموع المركب، فإذا كان كذلك
فتخلف بعض هذه الأجزاء لتلف أو كونه فاقدا لشرط التأثير أو وجود مانع فيه
لا يضر بالاخر.
وبعبارة أخرى: الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية، فكلما وجد مورد قابلا
للتأثير يؤثر، وإذا لم يكن قابلا لفقد شرط أو وجود مانع فلا يؤثر فيه ويصير بمنزلة
العقود المتعددة التي لا يلزم من بطلان بعضها بطلان غيره.
فإن قلت: ظاهر التعلق بالأمر المجموعي يمنع من الانحلال إلى العقود
والإيقاعات.
قلت: ما ندري أن هذا التعلق بهذه الأمور ارتباطي - بمعنى أن تعلق البيع
والطلاق مثلا بهذا المتعدد موقوف على صحة جزء جزء - أم لا؟ والأصل عدم
الارتباط، ورخصة الشارع في إجراء صيغة واحدة لهذا المجموع وإجراء صيغ
متعددة للأجزاء القابلة للانفراد يدل على عدم ارتباط بعضها ببعض.
وبعبارة أخرى: لا ريب في جواز انفراد الأجزاء بالبيع والطلاق - كما هو
المفروض - وجمعها في صيغة واحدة لا يوجب الارتباط، بل إنما يؤثر السبب في

(1) في (ن): ما عداها بهما فما لم يعلم، وفي (د): ما عداها بهما مما لا نعلم.
72

كل من الأمور القابلة للانفكاك دفعة واحدة، فلا فرق في الاجتماع والانفراد سوى
كفاية الصيغة الواحدة وعدمها، لا ارتباط الأجزاء بعضها ببعض.
ولو فرض عدم كون بعضها قابلا للتأثير فلا يفترق الحال أيضا بين كونه منفردا
أو مجتمعا، لأنه غير قابل للمسببية فلا يتأثر.
الرابع: أن معاوضة المجموع بالمجموع يقتضي كون الأجزاء أيضا متقابلة،
بمعنى أن يكون كل جزء من أحدهما في مقابل جزء من الاخر نسبته إلى المجموع
كنسبة الاخر إلى مجموعه، وهذا أمر في العرف واضح، فتصير المعاوضة الواحدة
المتعلقة بالمجموع في قوة معاوضات، بل معاوضات حقيقية لو لوحظ في العرف،
ولازم ذلك ترتب الأحكام الشرعية اللاحقة على العقود المتعددة عليه.
وهنا إشكال، وهو: أنه قد تقرر في العنوان السابق أن العقد يتبع القصد، فلو
سلم مقابلة الأجزاء بالأجزاء وكون الأسباب مؤثرة حيثما وجد القابل لكن قد
تقيد ذلك بالقصد فلا تأثير ما لم يقصد، ولا ريب أن قصد مقابلة المجموع بالمجموع
لا يستلزم قصد مقابلة الأجزاء بالأجزاء، ولذا نرى أن كثيرا من الناس لا يرضون
بمعاملة الجزء بالجزء، بل يرضون بمعاملة الكل بالكل، فالمقصود في العقد والإيقاع
إنما تعلق بهذا المجموع دون كل جزء، فإذا فات بعض الأجزاء بتلف ونحوه فكيف
يعقل صحة الباقي مع أنه غير مقصود؟ فكلامنا في هذا المقام ينافي قاعدة التبعية
للقصد على إطلاقه، فلابد إما من التفصيل، أو تخريج الجواب عن الإشكال.
فنقول، يمكن أن يقال:
أولا: إنا لا نسلم تعلق القصد بالمجموع المركب، بل ظاهر معاوضة الكل
بالكل قصد مقابلة الأجزاء بالأجزاء، ومسألة التبعية والاستقلال لادخل لها فيما
نحن فيه، إذ الكلام في أن معاوضة الأجزاء بالأجزاء مقصود أم لا.
فنقول: ظاهر المقابلة - خصوصا بعد ملاحظة المالية وكون المقصود القيمة -
قصد المعاوضة كيف كانت، وما يرى في بعض الصور أنه يرضى بالمجموع
ولا يرضى بالأبعاض فرد نادر محتاج إلى تعلق الغرض بخصوصية الهيئة دون
73

أصل المعاملة.
وكذا الكلام في الإيقاع، فإن كلامنا أعم، فإن من طلق امرأتين بطلاق واحد
وصادف كون إحداهما فاقدة للشرائط، فنقول: ظاهر طلاقهما كون كل منهما
مقصودا في الفراق، لا أن المجموع المركب كذلك، وإن كان قد يصير غرضه
طلاقهما معا بحيث لا يرضى بكون إحداهما مطلقة دون الأخرى، لكنه يحتاج إلى
قصد زائد على قصد طلاق المرأتين، فتدبر.
وبالجملة: قصد الارتباط شئ زائد لا ندري حصوله، والكلام فيما لم يصرح
بذلك.
فإن قلت: قصد الاستغراق أيضا كذلك.
قلت: نحن لا نحتاج في صحة بيع الأجزاء إلى قصد الاستغراق، بل يتحقق
ذلك بقصد الاستغراق أيضا وبقصد الارتباط وبقصد المجموع خاليا عن الأمرين،
فإن هذه القصود لا تنافي صحة البيع، وينتقل الأجزاء.
نعم، الكلام في مانعية فوات بعض الأجزاء للبعض الاخر أو شرطية وجوده
للاخر، وهو فرع جعل من الشارع ولم يحصل بل ورد خلافه، أو جعل من
المتعاقدين والفرض عدم العلم به، لأنا قد ذكرنا أنه محتاج إلى قصد الارتباط
والتعليق، وهو غير محقق.
نعم، لو صرح بذلك وقال: (بعتك هذه الدار بشرط ارتباط الأجزاء بحيث لو
خرج بعضها مستحقا أو تلف بحيث انفسخ البيع أو ظهر بطلانه بنحو آخر لم أرض
ببيع الباقي) لكان الحكم كذلك، لأنه شرط مقيد، ولا مانع من اشتراط مثل ذلك،
فتأمل جيدا.
وثانيا: ما ذكر من تعلق القصد بالمجموع وعدم الرضا بالتبعيض لو سلم
وجوده فليس قصدا من العقد، وإنما هو قصد خارجي وإن كان داعيا.
وبعبارة أخرى: ليس المراد من قولك (1): (بعتك المال) أني لا أرضى (2)

(1) في (ف، م): قوله.
(2) في غير (م): لارضى.
74

بالتبعيض، إذ هو معنى غير هذا المعنى، وذلك نظير ما إذا بنى البائعان على أن للبيع
كل منهما فرسه بالاخر وتواطئا عليه، فقال أحدهما: بعتك فرسي بخمسة فقبل
الاخر، ثم امتنع الاخر عن البيع، وهذا لا يضر بصحة البيع الأول وإن كان قاصدا
أنه أيضا يبيع، لكن لم يكن من قوله: (بعت) قاصدا بشرط أن تبيع.
وثالثا: أنه لو سلم كون ذلك هو المقصود قد ذكرنا: أن المراد بالقصود هي
القصود المدلول عليها بظاهر عبارة، لا القصد المحض، بمعنى أن اللفظ بلا قصد
لا يكفي، لا أن كل قصد بغير دال يمضى، وقد ذكرنا: أن التعلق بالمجموع في اللفظ
ليس دالا على قصد عدم الانفكاك، بل هو لو لم يكن ظاهرا في قصد كل جزء -
كما قررناه - فليس ظاهرا في قصد الارتباط قطعا، ولو صرح به في اللفظ دخل
تحت الشرط، ونحن نلتزم بذلك حيث صرح كما مر، فلا تذهل (1).
ورابعا: نفرض الكلام في صورة ما كان قاصدا للاستقراء وبحيث لا يكون
هناك قصد مناف، فإنه لا ريب في انحلاله حينئذ إلى العقود بمقتضى الأدلة السابقة،
ولا يعارضه قاعدة القصد - وإن كان فيه كلام من جهة أخرى تأتي - فإذا تم انحلاله
في هذه الصورة لوجود المقتضي وانتفاء المانع لزم الانحلال في غيره بعدم القول
بالفرق، إذ كل من قال بالانحلال لم يفرق بين ما كان قاصدا للعموم أو لم يكن،
فتبصر.
الخامس: أنه لا ريب أن العقد مقتض لانتقال هذا المتعلق بجميع أجزائه وليس
له مانع، فإذا كشف عن عدم انتقال بعض الأجزاء لمانع يقع الشك في أن انضمام
هذه الأجزاء شرط أو فقدان بعضها مانع؟
فنقول: الأصل عدم المانعية وعدم الشرطية، إذ ذلك إما من جعل الشارع
ابتداءا ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه موجود، وإما من جعل المكلف
المستلزم لإمضاء الشرع وهو أيضا فرع الاشتراط أو دلالة ظاهر اللفظ، وقد
عرفت انتفاء الثاني وفرض عدم الأول.

(1) في غير (م): فلا تذهل كما مر.
75

فإن قلت: ليس هذا شكا في الشرطية والمانعية بل شك في اقتضاء المقتضي،
بمعنى أنه بعد عدم التأثير في بعض الأجزاء نشك في أن هذا العقد مؤثر في
الانتقال أم لا والأصل عدمه.
قلت: لا ريب في أن هذا العقد داخل في عموم أوفوا بالعقود والوفاء به
إمضاء المقتضيات كافة، فإذا جاء مانع من بعض المقتضيات فلا يوجب الشك
في الاخر، لشمول العموم من دون معارض، فلا تذهل.
وهنا إشكال، وهو: أنه لو انحل العقد إلى عقود يصير في المعاوضات معناه
معاوضة كل جزء بنسبته من العوض الآخر، وهذا يستلزم جهالة المعوض
والعوض، مع أن أغلب المعاوضات قد اعتبر فيها العلم في أعيان كانت أو منافع،
فهذه القاعدة ينافيها اشتراط العلم.
نعم، هذا في الإيقاعات - كالعتق والطلاق ونحوه - وفي العقود التي
لا معاوضة فيها - كالهبة الخالية عنه والوقف والوصية ونظائر ذلك - غير وارد،
لتعلق القصد هناك بالمجموع، وعدم صحة البعض غير مانع من الاخر، وليس هذا
كمسألة عتق عبد من عبدين أو طلاق امرأة من امرأتين، لعدم القصد هناك بالمعين
أصلا، لكن في عتق العبدين تعلق بكل واحد بعينه، وبطلان أحدهما لا يحدث
جهالة في الاخر، وذلك واضح، ولكن في المعاوضات - كالبيع والإجارة - وما في
حكمها - كالرهن ونحوه - إذا ظهر بطلان العقد في البعض ترجع المعاوضة إلى
البقية من الطرفين بعد ملاحظة النسبة، وذلك لم يكن معلوما عند المعاوضة.
والجواب: بأن الانحلال إذا صح في البعض صح في الباقي، لما أشرنا إليه من
عدم الفارق.
وثانيا: بأن مثل هذه الجهالة غير مانعة في البيع الذي هو أدق المعاوضات،
فضلا عن غيره، لجواز المعاوضة على الأجزاء المشاعة ثمنا ومثمنا بعد معلومية
المجموع.
76

ولا ريب أن معنى انحلال بيع الدار إلى مائة (1) عقود: أن يكون نصفها بنصفها
وثلثها بثلثها، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
ولا ريب أن ذلك معلوم عند البيع بهذا العنوان، ولهذا لو بيع ابتداءا بهذا النحو
لكان البيع صحيحا، فكذلك سائر المعاوضات.
فإن قلت: هناك ليس نصف معين، وإنما هو كلي، وتعينه باعتبار كلية (2) وفيما
نحن فيه ليس كذلك، إذ لو بيع شاتان بخمسة فظهر إحداهما مستحقا للغير وقوم
باثنين والباقي بثلاثة، فلا ريب أن الشاة الباقية لم تلاحظ بأنها شاة معينة، ولم يعلم
كونها مبيعة (3) كذلك، وكون النصف والعشر ونحوهما ملحوظا معلوما لا ينفع في
معلومية الأجزاء المعينة.
قلت: هذا كلام متين، ولكن الجواب أمتن منه، لأنا نقول: إن تبعض (4) الصفقة
الموجب للانحلال لا يختص بفوات أجزاء معينة، بل قد يصير بفوات الأجزاء
المشاعة، كما لو خرج نصفه مشاعا ملكا للغير ولم يرض مالكه، ولا ريب أن هناك
لا يجري هذا الكلام لمعلومية ذلك من خارج، لما ذكرنا من وضوح كون النصف
بالنصف.
وأما لو كان بفوات جزء معين، فنقول: إنه لو قلنا فيه بأنه يقوم الباقي ويؤخذ
قيمته لكان ذلك مجهولا، لكن قد قلنا هناك أيضا بملاحظة النسبة، ولا ريب أن
النسبة لا تلاحظ إلا بلحاظ قيمة الباقي إلى المجموع حتى يعلم أنه نصف أو ثلث
أو ربع أو خمس أو نحو ذلك، فيرجع إلى الثمن بتلك النسبة، فيرجع المال هنا أيضا
إلى كون النصف بالنصف والعشر بالعشر.
فإن قلت: هذا مسلم، ولكن كون النصف بالنصف لا يقتضي كون هذا النصف
الباقي للمشتري، لاحتمال النصف الآخر، ولا يستلزم كون (5) الشاة الباقية لي

(1) في (م): بيع الدار بمائة إلى عقود.
(2) كذا في النسخ، وفي هامش (م): كليته، خ ل.
(3) في عدا (م): لم يلاحظ بأنه شاة معين ولم يعلم كونه مبيعا.
(4) في (ن، د): تبعيض.
(5) في (ف، م) زيادة: هذا.
77

بنصف الثمن، لاحتمال الشاة التالفة، إذ لابد حينئذ من إجراء حكم ما لو اشترى
النصف بالنصف.
قلت: هذا اشتباه، إذ لو كان مشتريا لنصف واحد لكان الحكم كما تقول، لكن
اشترى كل واحد من النصفين بإزاء النصفين من الثمن، فإذا تلف واحد فالباقي
للمشتري أي نحو فرض، والمثال المطابق ما إذا قال: (بعت النصف بالنصف
والنصف الآخر بالنصف الاخر) فيصير كل من النصفين - يعني مجموع الشاتين -
للمشتري، فإذا تلف منه شئ كان الباقي للمشتري لا محالة، غايته: ضمان البائع
للمعاوضة، فيسقط من الثمن بحسابه، هكذا ينبغي أن يحقق هذا المقام.
وثالثا: فعلى تسليم كون هذا جهالة لا نسلم كون هذه الجهالة مانعة لأولها إلى
العلم، وقد جوز نظير ذلك في مقامات.
وهنا كلام، وهو: أن الفقهاء ذكروا أن تبعض الصفقة في المعاوضات موجب
للخيار حيث يرتفع بذلك ضرر، ولو كان العقد ينحل إلى عقود للزم من ذلك كون
حكم كل من الأبعاض اللزوم، لعموم دليله، ولا ريب أن بطلان عقد لا يوجب
الخيار في عقد آخر، فينبغي أن تكون الأجزاء كذلك.
أقول: هذا من المؤيدات لانحلال العقد إلى عقود، وإلا للزم من بطلان العقد
في البعض بطلانه في الكل، لأن العقد الواحد لا يجتمع فيه الصحة والفساد.
فقد علم: أن الفقهاء بنوا على عدم الارتباط، وأما قولهم بالخيار فليس لذلك،
بل من جهة أن البائع - مثلا - أو المشتري أو نحو ذلك إذا أتى بالعوض المعين
فتخيل الاخر أنه يحصل له بهذه المعاوضة، لدلالة ظاهر حال المعاوض عليه، لأنه
يريد الدفع والتمكين، فإذا انكشف خلافه ظهر الغرور الموجب للضر ويندفع
بالخيار، لا لأن الرجل يقصد الارتباط وحصول تمام الأجزاء، وإلا للزم البطلان
قهرا، لا الخيار، وفيما ذكرناه سابقا كفاية، فراجع.
ورابعها (1): أن الظاهر أن انحلال العقد إلى العقود في جميع الأحكام إلا ما دل

(1) أي: رابع الأمور المبحوث عنها في هذا العنوان، تقدم ثالثها في ص: 71.
78

دليل على خلافه، ومقتضاه: أن كل عقد أو إيقاع متعلق بأمر مجموعي متى ما فقد
شرط أو وجد مانع في البعض بطل ذلك وصح الباقي، فلو كان بعض المبيع غير
مقدور على تسليمه أو غير مملوك أو العاقد بالنسبة إلى بعضه غير مالك ولا ولي
ولا مجاز فسد، دون الباقي، ولو تحقق الإجازة في بعض المبيع فضولا أو غيره من
العقود الفضولية فينبغي الصحة في المجاز بالنسبة، وإن تأمل فيه بعض مشائخنا (1) ولعله لعدم عده إجازة.
وبالجملة: فكلامنا من حيث القاعدة، وينبغي [أن يقال، خ ل] (2): إن ما يشترط
بالقبض - كالهبة والوقف والسكنى وتوابعه والرهن والصرف والسلم - إذا حصل
القبض في بعضه صح بالنسبة إلى المقبوض وإن بطل الباقي أو بقي مراعى لتوسع
وقته، وكذلك ثبوت الخيار لو كان بعض المعقود عليه فيه خيار، كشراء شيئين
أحدهما حيوان، أو نكاح امرأتين في عقد أحدهما مجنونة أو بها قرن، ولزوم
انعتاق الباقي لو كان ممن ينعتق على المتملك وإن بطل الباقي، وثبوت الشفعة فيما
صح لو كان مشفوعا، فإنه (3) كالمبيع المستقل، ونحو ذلك ضمان الأبعاض، لأن
المبيع قبل القبض مضمون، ولحوق مقتضيات العقد من تعجيل وتقابض ولواحقه
من التوابع اللاحقة لكل شئ بحسبه، ومسائل التنازع في عوض أو معوض أو
إطلاق أو اشتراط أو نحو ذلك، ومنها أيضا شرعية الإقالة، فإنها كما يجوز في تمام
العقد يجوز في الأبعاض بالنسبة، لأنه بمنزلة عقود مستقلة يشرع فيها الإقالة.
وأما عدم جريان الخيار في الأبعاض في غبن ونحوه، لأن دليل الخيار على
خلاف القاعدة، ولم يثبت إلا في العقد من حيث هو مجموع واقع كذلك، ولو لم
يكن مانع لقلنا بثبوته في الأبعاض، لكن لا دليل عليه.
وبالجملة: بعد ما ذكرنا الانحلال فاللازم إجراء حكم العقود المستقلة على
الأبعاض ما لم يعارضه معارض.

(1) لم نقف عليه.
(2) من هامش (م).
(3) في (م): لأنه.
79

نعم، قد أفتى الشهيد (1) رحمه الله وغيره (2) بأنه لو أجل بعض الثمن في السلم بطل
الكل، وعللوه بأن بطلان المؤجل لاشتراط التقابض وبطلان الحال لعدم معلومية
التقسيط، إذ ما بإزاء الحال أزيد مما بإزاء المؤجل.
قلت: الذي تقتضيه القاعدة الصحة في ذلك، لما قررناه، وهذه الجهالة
غير قادحة، وقد أفتى جماعة بالصحة أيضا (3) - على ما في بالي - فإن كان لهم
دليل على البطلان قبلناه، وإلا فلا.
وبملاحظة ما نبهنا عليه من الفروع يتنبه البصير على فروع لا تتناهى، وقد
أشرنا إلى الأنواع إجمالا، وتفصيل الكلام يحتاج إلى مجال تام، ونحن من
السرعة والعجالة بمقام.
وخامسها (4): أنه قد أشرنا أن انحلال العقد إلى عقود إنما هو بعد ملاحظة
متعلقاتها، فإن البيع ينحل إلى العقود البيعية فيما تعلق به عقده وإن كانت المنافع
أيضا تنتقل بالبيع تبعا، فلا يقال: إن البيع ينحل إلى بيع وإجارة.
إذا عرفت هذا تعرف أن الانحلال يتوقف على معرفة متعلقات العقود، حتى
يعرف أن أي شئ داخل وأي شئ خارج؟ ونحن نذكر - إن شاء الله - ضبط
متعلقات العقود في اللواحق.
ومن هنا وقع الخلاف في أن الأرش للعيب هل هو على القاعدة لأنه عوض
ما فات من أحد العوضين، أم لا؟ وتنقيحه يحتاج إلى بيان أن الأوصاف داخلة في
الأعواض - عينا كانت (5) أو منفعة - أو ليست بداخلة فيهما (6) مطلقا، أو فرق بين

(1) أفتى به في الدروس 3: 256، إلا أنه احتمل الصحة أيضا.
(2) مثل العلامة في القواعد 1: 136، والتذكرة 1: 557.
(3) لم نقف على من أفتى بالصحة، نعم احتملها الشهيد في الدروس 3: 256، وقال الشهيد
الثاني: (وربما قيل بالصحة) ولم يذكر قائله، انظر الروضة البهية 3: 417.
(4) أي: خامس الأمور المبحوث عنها.
(5) في غير (م): كان.
(6) كذا، ولعل تثنية الضمير باعتبار رجوعه إلى العوضين.
80

وصف الصحة وسائر الأوصاف والأول داخل دون الباقي؟ وجوه ثلاثة، وحيث
إن المسألة من فروع ما يتعلق به العقود فنؤخر بيانها (1) إلى محله ونوضحه (2) هناك
إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا بدخول وصف الصحة في العوض صار الأرش على القاعدة يجري
في كل معاوضة. وإن لم نقل بدخوله (3) - كما هو الأقوى - فلا يكون على القاعدة،
دل عليها (4) الدليل في البيع، فيقتصر عليه أو يتسرى إلى غيره بتنقيح مناط ونحوه
لا مطلقا، فانتظر لتنقيح المقام بعون الملك العلام.
وينبغي أن نشير هنا إلى فائدة مهمة هي كالتتمة لهذا العنوان.
وهي: أن التبعض للصفقة الذي يترتب عليه في أبواب الفقه أحكام كثيرة من
خيار ونحوه وقد يجوز وقد لا يجوز - كما يستفاد من مباحث الشفعة وغيرها -
فرع كون الصفقة واحدة حتى تتبعض، إذ لو كانت العقود متعددة لا يقال ببطلان
أحدها: إنه تبعضت الصفقة، فلابد من بيان الضابط في وحدة الصفقة وتعددها حتى
تتفرع عليه مسألة التبعض وأحكامها.
فنقول: لا ريب أن المعاوضة تشتمل على أركان ستة: العوضان، والمتعاقدان،
والإيجابان، وكل منها (5) قابل للوحدة والتعدد، إذ يمكن تعدد الإيجاب ووحدة
القبول وبالعكس، وكذا في غيرهما، وذلك واضح.
فالمدار في وحدة الصفقة وتعددها: إما على الموجب أو القابل، أو الإيجاب
أو القبول، أو المعوض أو العوض، بمعنى أن يكون تعدده موجبا للتعدد ووحدته
موجبة للوحدة، وإنما عبرنا بهذه العبارات حتى يعم البيع وغيره.

(1) العبارة في غير (م) هكذا: من فروع بيان ما يتعلق به العقود فنؤخره إلى محله.
(2) كذا في النسخ، والمناسب: نوضحها.
(3) في غير (م): بدخولها.
(4) في (ن، د): عليه.
(5) في (ن): منهما.
81

وأما على المركب من الاثنين (1) بصوره أو الثلاثة بصوره أو الأربعة أو
الخمسة أو الستة، وتمام الصور المحتملة من الأحادي والثنائي والثلاثي
والرباعي والخماسي والسداسي (2) تنتهي إلى نيف وستين صورة، ولابد من التأمل
في أن المدار على أي شئ؟
فنقول: لا ريب أن تعدد الثمن يستلزم تعدد الصفقة، ولا يمكن فرض اتحادها
مع تعدده، سواء كان المتعاقدان والإيجابان واحدا أو أكثر، إذ كل ثمن بعد فرض
التعدد يقتضي معوضا منفردا يقابله بحيث لا يكون شئ من أحد الثمنين في إزاء
ما في مقابل الاخر ولو على الإشاعة، والوحدة تقتضي كون العوض بإزاء تمام
المعوض مشاعا، ولا يمكن مع الاتحاد اختصاص حصة من الثمن بحصة معينة من
المثمن، بخلاف ما لو جعل الثمن متعددا، فإن تعدده يقتضي أن يكون ما بإزاء كل
منهما ممتازا عن الاخر، وهو معنى تعدد الصفقة، ولا ينفع فرض اتحاد الإيجاب
والقبول والمتعاقدين.
وأما تعدد المثمن: فإن كان تعدده بالعدد - كدار وفرس وكتاب ونحو ذلك
فهذا بمجرده لا يقضي بتعدد الصفقة. وإن كان التعدد من حيث المثمنية بأن يكون
كل منهما معوضا على حدة فلا يتحقق إلا بامتياز الثمن، فيرجع إلى تعدد الثمن، إذ
لو قيل: (بعت دارا وكتابا بخمسة) فهو صفقة واحدة، ولو قال: (دارا بثلاثة وكتابا
باثنين) فهما صفقتان وإن اتحد الإيجابان.
وهذا الكلام يجري في الثمن أيضا، فإن تعدده بالعدد لا يقضي بتعدد الصفقة،
كما لو باع دارا بفرس وكتاب، وتعدده في الثمنية يقتضي امتياز المعوض، إذا الثمن
لا يكون مستقلا بالثمنية إلا بكون معوضه مستقلا.
فيرجع مآل الكلام إلى أن مالكي العوضين لا عبرة بتعددهما واتحادهما، كما
أن الإيجاب والقبول كذلك، بل إنما المدار على وحدة الثمن والمثمن من حيث
إنهما ثمن ومثمن.

(1) في (ن، د): من اثنين.
(2) في (ن، د) زيادة: حتى.
82

وبعبارة أخرى: إن لوحظ مقابلة واحدة بين العوضين بحيث يلزم من ذلك
مقابلة كل جزء من أحدهما بجزء من الاخر على الإشاعة عينا ومفهوما فهذا يعد
صفقة واحدة، وإن لوحظ مقابلتان بحيث يلزم عدم إمكان مقابلة تمام الأجزاء
كذلك فهو تعدد للصفقة.
وإنما عممنا الإشاعة على العين والمفهوم حذرا من قولنا: (بعت نصف الدار
بنصف المائة، والنصف الآخر بالنصف الاخر) فإنه تعدد للصفقة، مع أنه غير مانع
عن احتمال مقابلة كل من العوضين لكل جزء من المعوضين بحسب العين
الخارجي، لبقاء الإشاعة في الخارج، لكنه مانع عن المقابلة في المفهوم، فإن
مفهوم النصف المجعول عوضا في الأول غير قابل لأن يكون في مقابل النصف
المجعول معوضا في الثاني، فتأمل جيدا فإنه من مطارح الأفهام (1).
ومن هنا تتنبه على الفرق بين دعوى النصف المشاع والنصف المعين من أحد
شخصين ودعوى الكل من الاخر مع كونهما ذا يدين في المال، وإن تنظر في
الفرق ثاني الشهيدين (2) وليس في محله.
وأما وحدة المشتري والبائع والإيجاب والقبول فلا يدور مدارهما حكم، كما
حققناه.
نعم، هنا كلام للعلامة - أعلى الله مقامه - في بحث الشفعة، قال: لو باع الشريك
حصة من بستان وحصة من دار - مثلا - فللشفيع أخذهما معا وأخذ كل واحد (3).
وربما يستفاد منه: أنه لا يلزم تبعض الصفقة للمشتري، لتعددها بتعدد المثمن.
وقرره المحقق الثاني ولم يتعرض له برد في الحكم (4).
ونقل في شرح القواعد عنه في التذكرة: أنه لو بيع دار مع طريق مشترك قابل
للقسمة فللشريك أخذ الطريق خاصة بالشفعة إن شاء، وإن شاء أخذ المجموع (5).

(1) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: مطارح الأعلام.
(2) الروضة البهية 3: 110.
(3) لم نعثر عليه.
(4) لم نعثر عليه أيضا.
(5) جامع المقاصد 6: 350، التذكرة 1: 590.
83

وظاهر هذه العبارة أيضا أنه لم يقل هنا بلزوم تبعض الصفقة، وإلا فيرد عليه
ما أورده المحقق الثاني: من أن المجموع إن لم يكن متعلق الشفعة فلا شفعة له فيما
سوى الطريق فكيف يأخذ المجموع؟ وإن كان متعلقها فكيف يجوز له التبعيض
للصفقة (1)؟
والذي يقتضيه النظر أن يقال: إن تعدد المبيع لا يوجب تبعض الصفقة،
ولا يجوز للشفيع أيضا تبعيض الصفقة. وما ذكره في الفرض الأول من التخيير
ليس لأنهما صفقتان ولا لأن التبعيض جائز، بل لأن هناك شفعتين، لتعدد السبب
وهو الشركة، فبشركته في البستان له شفعة وبشركته في الدار له شفعة، فهما حقان
متغايران يجوز أخذ واحد وإسقاط الاخر، كما يجوز أخذهما وإسقاطهما وإن
كانت الصفقة واحدة، وعدم جواز التبعيض إنما هو في الشفعة الواحدة، وقد أشار
إلى ذلك المحقق الثاني في شرح القواعد (2).
والظاهر أن ما ذكره في التذكرة أيضا ناظر إلى اعتبار تعدد الشفعة وإن رده
المحقق الثاني بما ذكر، لكن في اعتبار التعدد فيه نوع خفاء.
وبالجملة: الضابط في وحدة الصفقة وتعددها ما ذكرناه، فتأمل جيدا.

(1) جامع المقاصد 6: 352.
(2) لم نقف عليه.
84

[العنوان الثاني والثلاثون]
[عدم ترتب حكم شرعي على مجرد النية
والرضا والتمني في العقود والإيقاعات]
85

[23]
لا عبرة في شئ من العقود والإيقاعات بالنية والرضا والتمني، بمعنى أنه
لا يترتب عليه حكم شرعي يترتب على الصيغ، فلا يكون العبد حرا بالنية،
ولا الزوجة مطلقة.
ومرادنا في هذا المقام من (النية) هو القصد إلى الإيقاع أو (1) الوقوع،
و (الرضا) هو عدم كراهة النفس من وقوعه، (والتمني) هو طلب وقوع ذلك في
الخارج.
ولا خلاف لأحد فيما ذكرناه، وهو الحجة القاطعة، مضافا إلى أصالة عدم
ترتب الآثار إلا على ما جعله الشرع سببا.
وأدلة العقود والإيقاعات لا تشمل ذلك، سواء كان من العمومات أو خصوص
ما دل على نحو البيع والطلاق وغيره.
وما يتخيل: أن العهد الذي يترتب عليه الآثار - كما ذكر (2) في الفقه - يكفي فيه
القصد، لأنه يسمى عهدا، فيدخل في عموم ما دل على الوفاء بالعهود والذم على
نقضه.
مدفوع بأن مرادنا هنا بالقصد هو قصد وقوع العهد أو إيقاعه، وهو ليس عهدا

(1) في (ن، د): والوقوع.
(2) في غير (م): ذكره.
86

جزما، سيما مع اعتبار الميثاق في الآية (1).
ومجرد ترتب الثواب على قصد العبادات والعزم عليها - كما دل عليه
قوله صلى الله عليه وآله: (نية المؤمن خير من عمله) (2) - لا يدل على كونه كذلك في المعاملات،
والحمل على ذلك مجرد قياس، ولا مانع من كون العزم على عبادة عبادة تترتب
عليه الثواب، ولا يكون العزم على عقد أو إيقاع عقدا أو إيقاعا يترتب عليه الآثار،
بل الفرق بين المقامين مما لا يخفى على ذي بصيرة.
وكما أنه لا عبرة بما ذكر، لا عبرة بالعقد القلبي أيضا، بمعنى إنشاء العقد
والإيقاع (3) في القلب، لوجوه:
أحدها: أصالة عدم ترتب الآثار بسبب شرعي، وهو فرع الدليل، ولا ريب أن
ما دل على الصحة غير شامل له، كما نبينه.
وثانيها: أن القصود وإنشاء المعاني في القلب وإن كان في الإيقاعات يمكن
ترتب الأثر عليه حيث لا يحتاج إلى طرف آخر، لكن في العقود المحتاجة إلى
الجانبين لا يكاد يعلم وجود العقد القلبي للمتعاقدين، بل هو غير ممكن، ولا ريب
أن إناطة الشارع الحكم بمثل هذا الأمر المخفي بعيد جدا.
وثالثها: أن حقيقة السبب لو كان هو عقد القلب للزم العلم بحصول هذا السبب،
وهو متعذر وإن كان يلزم ذلك لو كان ذلك شرطا للفظ أيضا، لكن الاهتمام في
الشرع في أصل المقتضيات أقوى من التوابع، وهو أحد معاني قولنا: يغتفر في
الثواني مالا يغتفر في الأوائل.
ورابعها: أن المعلوم من الشرع أن جعل هذه المعاملات إنما هو لقطع التجاذب
والتنازع، وهو لا يتحقق إلا بإناطته بشئ محسوس يعرفه كل أحد.
وخامسها: الاتفاق على مشروعية العقود، ولا ريب أنه لو كان (4) عقد القلب

(1) البقرة: 27، الرعد: 20 و 25.
(2) الوسائل 1: 35، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، ح 3 و 15.
(3) والإيقاع: ليس في (ن، د).
(4) في غير (م): ولا ريب أن كون.
87

ناقلا ومؤثرا لكان مشروعيتها لغوا بالمرة.
وسادسها: الخبر المشهور السابق (إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام) (1) الدال
على حصر السبب باللفظ، خرج ما خرج وبقي الباقي تحت النفي.
والمناقشة سندا مدفوعة بالانجبار، ومنع دلالة (إنما) على الحصر ليس
في محله.
والذي يمكن أن يتخيل وجها لكفايته (2) أمور:
الأول: عموم قوله عليه السلام: (لكل امرئ ما نوى) (3) ولا ريب أن من عقد بقلبه
نكاحا أو طلاقا أو بيعا فقد نوى حصول هذا الأثر بهذا القصد، فينبغي أن يحصل
ذلك له شرعا، للرواية، وهو المدعى، غايته خروج القصود المتعلقة بالأمور الغير
الشرعية، لعدم إمكان حمل الخبر على الأخبار، لاستلزامه الكذب، بل يراد به
الإنشاء، ولا يكون إلا إنشاءا للحكم، وهو المدعى.
والجواب: أن الظاهر من هذا الخبر بقرينة غيره من الأخبار من قوله: (لا
عمل إلا بنية) (4) ونحو ذلك حصول ما نوى من عمل يأتي به أو قول يتكلم به، لا
حصول ما نواه بمجرده، مع أن الظاهر منه أنه ما لم ينوه فلا يحصل له، كما هو
قضية كون تقديم الخبر مفيدا للحصر، وليس في مقام بيان حصول المنوي مطلقا.
مضافا إلى معارضته لقوله تعالى: ليس للإنسان إلا ما سعى (5) ولا ريب أن
المتبادر من السعي هو العمل، فمجرد (6) المنوي لا ينبغي حصوله، إذ ليس مما سعي
فيه، والترجيح مع الآية، مضافا إلى مصادمة الشهرة، بل الإجماع والأدلة المتقدمة.
والثاني: أنه وإن لم يشمل العقد القلبي خصوص أدلة العقود، لكنه يشمله

(1) الوسائل: 12: 376، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 4.
(2) في غير (م): بكفايته.
(3) راجع الوسائل 1: 34، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات.
(4) راجع المصدر السابق.
(5) النجم: 39.
(6) في (ن): بمجرد.
88

عموم أوفوا بالعقود (1) إذ العقد إن كان بمعنى العهد فالقلبي أيضا عهد، وإن كان
بمعنى الربط فهو أيضا ربط.
والجواب: أن العقد - كما مر - هو العهد المؤكد، وما لم يقترن النية بما يدل
عليه لم يكن مؤكدا، مع إمكان منع تسميته عهدا، مضافا إلى كون ما ذكرناه من
الأدلة موجبا للشك في دخوله تحت العموم، بل مخرجا عنه.
وأما على تقدير انصراف العقد إلى المتعارف فالجواب واضح.
والثالث: أن الألفاظ لا ريب أنها (2) كاشفة عن المقصود ومبينة للمعاني،
وليست معتبرة إلا من باب المقدمة، ففي الحقيقة ليس السبب إلا المعاني،
والألفاظ لا دخل لها في السببية، فإذا علم حصول ما هو المؤثر حقيقة فلا حاجة
إلى ما عداه.
والجواب: أنا لا نسلم كون المؤثر (3) حقيقة هو القصد، والمسلم إنما هو كونه
العمدة في التأثير والركن الأعظم، وهو غير مانع من انضمام جزء آخر إليه.
وإن شئت مراعاة التنظير والتشبيه الذي يرشدك إلى هذا المعنى - حيث إن
الاستدلال مبني على نحو من الاستحسان - فنقول معارضة له بمثله: إنا نرى أن
الشارع في العبادات اعتبر مباشرة البدن بقول أو فعل ولم يكتف بمجرد القصد
وعقد القلب إلا مع تعذر البدن، كالأخرس العاجز عن التكلم والمريض الذي لا
يقدر إلا على محض الأخطار بالبال، وفيما عدا ذلك اعتبر انضمام القول والفعل
بالنية (4) حتى في الاعتقادات وأصول الدين التي لا دخل لها بالعمل الظاهري لم
يكتف بمجرد الاعتقاد القلبي، وإلا فهو حاصل لكل جاحد ومعاند، بل أراد ضم
القول والفعل، فلا شبهة في أن الشارع لم يعتبر مجرد الإنشاء القلبي العاري عما
يدل عليه من لفظ أو فعل علامة وسببا لشئ.
ففي المعاملات ينبغي أن يكون الاهتمام أزيد، لابتنائها على المغابنة

(1) المائدة: 1.
(2) في (م): أنه لا ريب في أن الألفاظ.
(3) في (ن، د): المؤكد.
(4) في (م): إلى النية.
89

والتشاجر والتنازع، فينبغي أن لا يكتفي فيها إلا بشئ ظاهر لكل أحد، وهو اللفظ
الكاشف عن القصد كما في سائر مطالب العقلاء، أو الفعل الدال عليه على تفصيل
يذكر بعد ذلك.
فإن قلت: إن هذا الكلام إنما يتم في العقود، وأما في الإيقاعات التي لا ترتبط
بالغير ولا سيما في الإيقاع الذي هو بين الله وبين عبده - كالنذر والعهد واليمين -
فإن الله تبارك وتعالى عالم بما تخفي الصدور، ولا يحتاج إلى لفظ دال، ولا إلى
شئ آخر، فمجرد ما عقد قلبه على شئ يتحقق التأثير بذلك، بل ربما يمكن
دعوى صدق لفظ النذر والعهد واليمين على مجرد العقد القلبي، فيشمله عموم قوله
تعالى: وليوفوا نذورهم (1) وأوفوا بعهدي (2) واحفظوا أيمانكم (3)
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان (4) ونحو ذلك، فلا وجه لاشتراط الدال
عليه. ومن هنا ذهب شيخ الطائفة - على ما نقله جماعة عنه - إلى (5) انعقاد النذر
بمجرد عقد القلب (6) ويحتمل إرادته من النذر المعنى الشامل للعهد واليمين،
لأنهما في الحقيقة نوع نذر، كما أن النذر عهد، سيما مع ملاحظة ما استدل به مما
ذكرناه من علم الله تعالى بالسرائر، وعدم الحاجة إلى اللفظ إلا لكونه كاشفا ومن
كلام الشيخ رحمه الله واستدلاله يمكن أن يقال بأنه يلتزم بانعقاد سائر العقود أيضا
بالعقد القلبي إذا علم وإن كان نادرا، وكذا سائر الإيقاعات من عتق وتدبير ونحو
ذلك، فإن مقتضى هذا الاستدلال: أنه متى ما علم تحقق السبب - وهو القصد -
كفى، وهو في الإيقاع معلوم لمن أوقعه.
قلت أولا: إن ظاهر هذا الكلام يدل على أن المعترض تخيل أنا اعتبرنا اللفظ
كاشفا وقلنا بأن السبب هو عقد القلب، وليس كذلك، بل قلنا: إن القصد لما كان
شيئا مخفيا لا يطلع عليه غالبا ومبنى الشرع على قطع التشاجر فينبغي إناطة

(1) الحج: 29.
(2) البقرة: 40.
(3) المائدة: 89.
(4) المائدة: 89.
(5) في غير (م): على.
(6) النهاية: 562.
90

الأحكام بأمر ظاهر لا خفي.
ومن هنا يعلم: أنه لا فرق بين الإيقاع والعقد، إذ الظاهر أنهما من واد واحد،
ومجرد علم الله تبارك وتعالى لا يكفي في كون السبب هو عقد القلب بعد دلالة ما
مر من الأدلة على اعتبار اللفظ، مضافا إلى أن الظاهر عدم القول بالفرق. والشيخ
وإن خالف في مقام لكنه وافق في مقام آخر.
وأما دعوى: صدق النذر والعهد على عقد القلب، فليست بمسلمة حقيقة وإن
أطلق مجازا، ولو سلم إطلاقه حقيقة نقول: إن الفرد الظاهر هو ما دل عليه دال من
فعل أو قول، فينصرف إليه الدليل وإن كان عاما.
وبالجملة: فاتفاق الأصحاب على اشتراط الدال وكون المؤثر والسبب هو
القول أو الفعل - على نحو سيذكر - وردهم للشيخ يدل على اعتباره، فلا حاجة إلى
التطويل في ذلك.
91

[العنوان الثالث والثلاثون]
[في بيان حكم المعاطاة
في العقود والإيقاعات]
93

عنوان
[33]
قد قررنا: أن مجرد عقد القلب غير كاف، بل لا بد من دال عليه، والدال إما
الفعل أو القول، والكلام إنما هو في الفعل.
فنقول: الفعل الدال على المعاملة إما في حالة الاضطرار وعدم القدرة على
الكلام - كما في الأخرس ونحوه - وإما في الاختيار (1).
وعلى التقديرين: إما صريح الدلالة على المراد بحيث لا يبقى فيه شك عادة،
وإما مظنون الدلالة، وإما مشكوك، فهنا أقسام:
الأول: في الفعل الاختياري المظنون الدلالة - كما في الملامسة والمنابذة
ورمي الحصا ونحو ذلك (2) أو الدفع القابل للهبة والبيع والعارية والإجارة ونحو
ذلك (3) - مع حصول الظن بالمراد بالقرائن.
والحق عدم الاكتفاء به، لوجوه:
أحدها: ظهور الاتفاق (4) المعلوم من تتبع كلماتهم في المقامات، حيث
يشترطون اللفظ أو اللفظ أو الفعل الصريحين:

(1) في غير (م): المختار.
(2) في (م): ونحوها.
(3) في (م): وغيرها.
(4) في (م) زيادة: عليه.
94

وثانيها: أن ذلك مناف لمشروعية الدوال واعتبارها، إذ الغرض منها - كما مر -
قطع التجاذب والتنازع، ولا ريب أنه لا يرفع بالفعل الظني.
وثالثها: أنه لا ريب في أن الأصل في كل معاملة الفساد إلا ما دل عليه الدليل،
ولا ريب أن أدلة العقود والإيقاعات بأجمعها لا تنصرف إلا إلى ما هو المدلول
عليه بشئ صريح الدلالة، بل لا يعد ما هو مظنون الدلالة بيعا وصلحا وطلاقا
ونحو ذلك، فيبقى تحت الأصل الأولي من الفساد، وذلك واضح.
الثاني: في الفعل المشكوك، ولا ريب أن الوجوه الدالة على عدم كفاية
المظنون تدل عليه، بل بالأولوية، ومقتضى الأصل عدم ترتب الآثار إلا بمؤثر،
وليس المشكوك فيه منه (1) بل كل ما ذكرناه من الأدلة على اعتبار الدال على العقد
القلبي يدل على عدم كفاية المشكوك، لأنه (2) ليس دالا في الحقيقة، لأنه مجمل.
الثالث: في الفعل الصريح الدال على المطلوب، ويعبرون عنه في الفقه
بالمعاطاة، وهو قد يكون من جانب مع القول من آخر، وقد يكون من الجانبين (3)
ويكون في عقود المعاوضات وغيرها، ويكون في الإيقاعات، إذ المناط حصول
الفعل الدال على النكاح والطلاق والعتق والإقرار أو البيع (4) والرهن ونحوه، فتذكر
في الأقسام حتى تكون على بصيرة.
والغرض من ذكر الأمثلة مراعاتها، ليعلم انطباق الدليل عليها.
فنقول: إن البحث في المعاطاة يقع في مقامات:
بالنظر إلى ملاحظتها في الإيقاعات والعقود المجانية والمعاوضة وغيرها.
وبالنظر إلى ملاحظة إفادتها الإباحة أو الملك لزوما أو جوازا.
وبالنظر إلى وقوعها من أحد الجانبين أو منهما معا.
وبالنظر إلى كونها عقدا مستقلا أو ملحقا بكل باب من العقود.

(1) في غير (م): منها.
(2) في (م): إذ.
(3) في (ن): جانبين.
(4) في (م): والبيع.
95

المقام الأول
في جريانها (1) في الإيقاعات
والحق عدم كونها (2) سببا في الإيقاعات المعروفة: من الطلاق والظهار
واللعان والإيلاء والعتق والإقرار، لوجوه:
أحدها: اتفاق الأصحاب في ذلك كله (3) على اعتبار اللفظ الصريح، بل في
بعضها على صيغ خاصة. وظاهرهم عدم الخلاف في كون ذلك شرطا وعدم إفادة
الفعل في ذلك تأثيرا وإن كان منويا به الإيقاع، فإن إخراج المرأة - مثلا - عن
البيت أو إطلاق العبد عن الخدمة لا يعد طلاقا وعتقا ولا يؤثر فيهما.
وثانيها: أصالة عدم الترتب للأثر المقصود عليه، والأصل هو الفساد،
واستصحاب بقاء المرأة على الحلية والعبد - مثلا - على المملوكية.
وبعبارة أخرى: استصحاب ما كان قبل هذا الفعل سواء كان عدم وجود الأثر
الجديد أو بقاء الحالة السابقة، فإن الاستصحاب حجة فيهما. ولم يدل هنا دليل
على كون المعاطاة قاطعا للاستصحاب، إذ الأدلة الدالة على صحة هذه الإيقاعات
إما النصوص الخاصة المعلقة للحكم على اسم الطلاق والعتق ونحو ذلك (4)
غيرهما، ولا ريب أن شيئا من ذلك لا يصدق على مجرد الفعل وإن قصد به ما
يقصد من اللفظ. وإما ما ذكرناه من شمول أوفوا بالعقود (5) بناءا على أعميته
من الإيقاع والعقد المصطلح، ولا ريب أن الظاهر منه بعد شموله للإيقاع إنما هو
القول أو العهد المؤكد، ولا يكون مؤكدا إلا بالقول.
وأما عموم (المؤمنون عند شروطهم) (6) فنقول: إن الشرط إن كان بمعنى الربط فلا ربط له بالإيقاعات إلا على تكلف مخرج له عن الإطلاق والعموم، وإن

(1) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: جريانه، ولعله باعتبار رجوعه إلى الفعل.
(2) في غير (م): كونه.
(3) في (م): فيها، بدل (في ذلك كله).
(4) نحو ذلك: لم يرد في (م).
(5) المائدة: 1.
(6) عوالي اللآلي 2: 257 ح 7.
96

كان بمعنى الالتزام فلا ريب أن الظاهر من الالتزام ما وقع بالقول، لا مجرد الفعل
والنية.
مضافا إلى أن الظاهر من الرواية هو الشرط الواقع بين المؤمنين بعضهم مع
بعض، لا بينه وبين الله، ولا ريب أن الطلاق والعتق ونحوهما (1) ليس شرطا واقعا
بين الزوج والزوجة والمولى والعبد.
وبالجملة: فإدخال مجرد الفعل تحته مشكل، مع أنه يعارضها (2) عموم (إنما
يحلل الكلام ويحرم الكلام) (3) وبعد التعارض فإما أن يترجح عليه أو يتساقطان،
والأصل الفساد، سيما مع (4) أن أدلة الشرط مقيدة بعدم مخالفة الكتاب والسنة،
فبعد (5) دلالة الإجماع والرواية على عدم كون الفعل مؤثرا يكون هذا الالتزام مما
خالف الكتاب والسنة في (6) كونه التزاما وإن لم يخالفه في كون الملتزم به
مشروعا.
وثالثها: عموم الرواية المعروفة المذكورة سابقا (إنما يحلل الكلام ويحرم
الكلام) ولا ريب أن الإيقاعات لها أحكام تحريمية وتحليلية، وقد دل النص على
أن المحلل والمحرم هو الكلام لا غيره مطلقا، ومجرد وجود التخصيص في بعض
المقامات لا ينافي كونه حجة في الباقي، وإخراج الحصر عن ظاهره غير متجه،
لأنه خلاف السياق ومناف لفهم العرف، والتخصيص أولى منه بمراتب.
وليس الغرض من الرواية حصر المجموع المركب من التحليل والتحريم
حتى يقال: إنه لا ينافي كون الفعل محللا فقط أو محرما فقط، بل الظاهر أن المراد حصر كل منهما في الكلام، والمعنى (7): لا يحلل غير الكلام ولا يحرم غير الكلام.

(1) العبارة في (م) هكذا: ولا ريب أن كلا من الطلاق والعتق مثلا.
(2) في (ن، د): يعارضهما.
(3) الوسائل 12: 376، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 4.
(4) في (م): سيما وأن.
(5) في سوى (م): بعد.
(6) في (ن، د): وفى.
(7) في (ن): أو المعنى.
97

مضافا إلى أن هذه الإيقاعات فيها تحليل وتحريم، وليس شئ منها تحليلا
فقط أو تحريما فقط، فإذا كان الفعل كافيا لزم اجتماع الأمرين فيه، والتبعيض
بترتيب آثار أحد الأمرين - إما التحليل أو التحريم - مناف للإجماع، بل
الضرورة، ومثل ما مر في هذا الحكم النذر والعهد واليمين.
نعم، إنما البحث في جملة من الإيقاعات التي هي تشبه العقود، كالوقف على
الجهات العامة والوصية لها، وكالإذن الموجب لإباحة التصرف وسقوط الضمان،
وغير ذلك من أحكامه، ومثله (1) الإجازة وبذل الزاد والراحلة الموجب لوجوب
الحج على المبذول له، والأخذ بالشفعة بناءا عل أنه إيقاع، والتدبير بناءا على أنه
وصية لا عتق، كما عليه الأكثر.
والحق عدم الجواز في التدبير، لما مر من الوجوه السابقة. نعم، في غيره مما
ذكرنا يقوى في النظر كونه منشأ للأثر لوجهين:
أحدهما: أنه يصدق البذل والأذن والوصية والوقف بالفعل المقصود به ذلك،
كما نشاهد في العرف أن من بنى مسجدا يقال: إنه وقف الأمة (2)، ومن أتى بحصير
ففرشه فيه أو أتى بقنديل أو بساط فوضعه في مشهد إمام أو مسجد أو نحو ذلك
وكذلك لو أتى بالمال وأعطاه يقال: إنه بذله، ولو فعل فعلا دالا على الرخصة يقال:
أذن فيه، فبعد صدق هذه الألفاظ (3) التي علق عليها الحكم يثبت الصحة وترتب
الآثار.
ونحو ذلك الإجازة، فإنه بمعنى الأذن، لكنه مصطلح في اللاحق دون السابق،
فإن من باع مال غيره لشخص فجاء المالك فأخذ الثمن وسلم المبيع إلى المشتري
يصدق أنه أجاز عرفا.
وكذلك من جاء بالثمن وأعطاه إلى المشتري فأخذ المشفوع يقال: إنه أخذ

(1) في (ن، د): ومثل.
(2) كذا في ظاهر (م) والكلمة غير واضحة في (ن، ف).
(3) في (م): الأسماء.
98

بالشفعة إن جعلناها من الإيقاعات. ومثل ذلك الفسخ، فإنه كما يصدق بقوله:
(فسخت) يصدق بإعطائه العوض وأخذه المعوض.
وكذلك إسقاط الحقوق، فإنه كما يتحقق (1) بلفظ الإسقاط يتحقق (2) بالفعل
الدال عليه.
ويؤيده ما دل على أن التعريض للبيع مسقط للخيار.
وبالجملة: الميزان في صحة هذه الإيقاعات بالفعل إنما هو صدق الأسامي
التي علق عليها الحكم على هذه الأفعال، كما يصدق على الألفاظ، فيصير إطلاق
الأدلة الدالة على ترتب الحكم عليها مخرجا عن الأصل ومخصصا لعموم الخبر
الدال على أن غير الكلام لا يحلل ولا يحرم، فتدبر.
وأما الإبراء، ففي صدقه بالفعل مشكل، والظاهر أنه لو صدر الفعل بحيث دل
على الإسقاط كفى - كما في سائر الحقوق - وإن كان بقرينة سؤال وجواب، فتذكر.
بل يمكن أن يقال: إنه متى ما حصل منه ما يدل على أنه أسقط حقه كيف كان
يكتفى به.
وثانيهما: أن سيرة المسلمين قديما وحديثا على كون الوقف (3) والأذن
والإجازة والبذل والأخذ بالشفعة والفسخ والإسقاط بالأفعال كما يكون
بالأقوال (4).
ولا يمكن المبادرة إلى الحكم بالبطلان في ذلك كله، لأنه راجع إلى إفساد
طريقة المسلمين كافة، ولا ريب أن هذه طريقة مستمرة (5) من قديم الزمان إلى
زماننا هذا، لبعد احتمال تجددها، فتكشف عن تقرير المعصوم الكاشف عن الحكم الإلهي، وهو الحجة في السببية.

(1) في غير (م): يصير.
(2) في غير (م): يصير.
(3) في (م): على الوقف.
(4) في (م): كالأقوال، بدل: كما يكون بالأقوال.
(5) العبارة في (م) هكذا: بالبطلان في تلك المواضع كلها، إذ فيه إفساد طريقة المسلمين كافة
مع أنها مستمرة.
99

بل لنا أن نقول: لو لم يكن هذا كافيا في هذه المقامات لاشتهر وتواتر، لعموم
البلوى وشدة الحاجة، مع أن الأمر بالعكس (1).
فصار كفاية الفعل في هذه المقامات وعدم الحاجة إلى القول من الواضحات،
وهو من الأدلة القوية على صحة الفعل في ذلك وترتب الآثار عليه.
المقام الثاني
في سببيته (2) بالنسبة إلى العقود المجانية
كالوقف الخاص والصدقة والعطية والسكنى والتحبيس والهبة الغير المعوضة
والوديعة والعارية والشركة الاختيارية والوكالة بغير جعل والوصية للجهة الخاصة
والوصاية والكفالة والضمان، ونحو ذلك.
فنقول: لا ريب أن مقتضى أصالة عدم ترتب الأثر إلا بما جعله الشارع سببا
عدم الترتب إلا بدليل يدل على كفاية الفعل في ذلك، وليس الدليل في هذا إلا
أمران لا بد من ملاحظة دلالتهما بالنسبة إلى هذه الموارد، لعدم عموم يدل على
الصحة مطلقا:
أحدهما: جريان السيرة المستمرة التي هي العمدة في إثبات سببية المعاطاة.
فنقول: لا ريب في جريانها بالصدقة بالفعل، وكذا العطية، بل لا يكاد يتحقق
بالقول إلا نادرا، وكذلك الهبة، فإن وجود الهبة بالفعل والاقباض مما لا ينكر
شيوعه بين المسلمين، وكذلك الوديعة والعارية والشركة، فإن الناس دائما يعيرون
أموالهم ويودعونها ويتشاركون بمجرد وضع المال والبضاعة، ولا يحتاجون إلى
شئ آخر من صيغة خاصة أو مطلقة.
فتحقق الأثر بالفعل في هذه العقود مما لا ينبغي أن يشك (3) فيه.

(1) كذا في (م)، وفي (ف): مع أنه قد انعكس الأمر، وفي (ن، د): مع أنه قد يخفى ا لأمر.
(2) كذا في النسخ، والمناسب: سببيتها، ولعله باعتبار رجوعه إلى الفعل.
(3) في (ف): يشكك.
100

وأما الوقف والسكنى ونحوه: فربما يمنع [فيه] (1) السيرة على الاكتفاء بالفعل
فيه (2)، إذ مجرد إقباض الدار - مثلا - لا يكتفى به في الوقفية عندهم.
وكذلك في الإسكان، بل لابد فيه من صيغة خاصة، كما نرى من عادتهم.
وكذلك الإشكال في إثبات السيرة في الوصية والوصاية والكفالة والضمان،
فإنها ليست (3) على حد ما ذكرناه من العقود.
لكن الحق: أن الوصاية والوكالة تكونان (4) بالفعل بين الناس، بمعنى أنهم
يوكلون أحدا في بيع شئ بإعطائهم إياه مع جريان العادة بكون الأخذ معتادا
لذلك - كما في الدلال ونظائره - أو مع قيام (5) أخرى عليه.
وكذلك في الوصاية بتسليم المال المصروف للديون الخالقية أو المخلوقية، أو
غير ذلك مما يريد التولية إليه، فالسيرة في ذلك أيضا لا تنكر.
وأما الوقف والكفالة والضمان: فالظاهر أن عدم وجود السيرة فيها لعدم كون
الفعل مفيدا ذلك المعنى، فإنه أمر لم تجر عليه عادة ولم تدل عليه قرينة، ولا يبعد
أن المسلمين لا يمتنعون من وقوع شئ منها بالفعل إذا أمكن هناك الفعل (6) على
نحو يدل على المدعى صريحا كما في غيرها، غايته عدم الوقوع، وهو لا يدل
على عدم الجواز بعد فرض معلومية المناط.
وثانيهما: صدق ما دل على هذه العقود وصحته (7) على الفعل كما يصدق على
القول، ولا ريب أن الصدقة والعطية والهبة والوديعة والعارية والشركة والوكالة
والوصاية تصدق بالأفعال أيضا في العرف، فإذا صدق عليه فما دل على صحة
هذه العقود يشمل الفعل كما يشمل القول.
ودعوى: أن هذه الألفاظ حقيقة في العقود والصيغ كما نطقت به كلمة

(1) لم يرد في (م).
(2) في (م): فيها.
(3) في سوى (م): فإنه ليس.
(4) كذا في (م) وفي سائر النسخ: تصير.
(5) في (م) زيادة: قرينة.
(6) في (م): إذا كان الفعل.
(7) كذا في النسخ، والمناسب: صحتها.
101

الأصحاب - حيث اشترطوا في أغلب ذلك الصيغ وكيفيتها - فكيف يدعى شمولها
للفعل أيضا؟ غير مسموعة، فإن هذه الألفاظ لم يثبت لها حقائق شرعية - كما قرر
في محله - وليس لها حقيقة جديدة عند المتشرعة أيضا، بل لو كان لها حقيقة
جديدة (1) عند المتشرعة لا يقتضي حمل خطابات الشارع عليه بعد إمكان الحمل
على المعنى اللغوي والعرفي، فعموم ما دل على صحة هذه العقود من الأدلة
المشتملة على لفظ الهبة والصدقة والوديعة ونحو ذلك يدل على سببية الفعل أيضا
كالقول.
فإن قلت: هذا ينافي إجماع الأصحاب، فإنهم يذكرون في كتبهم الصيغ
الخاصة أو مطلق الصيغة، ولو كان الفعل كافيا في ذلك لم يكن لذلك معنى.
قلت: سيأتي تفصيل جواب هذا الاعتراض في كفاية الفعل في عقود
المعاوضة، والغرض الإشارة إلى وجوه الكلام وتعميم العنوان المعروف في
المعاطاة (2) لأمثال ذلك، والإجمال: أن الفقهاء حيث عقدوا الباب في العقود
وذكروا هذه المباحث والصيغ في طي العقود، ولا ريب أن كون شئ من هذه
المذكورات عقدا يتوقف على الصيغة القولية، وهذا لا ينافي إطلاق لفظ الوديعة
والعارية على الفعل، فغرضهم من ذلك جعله عقدا حتى يدخل في طي العقود، وهو
لا يفيد الانحصار في السبب.
وثانيا: أنا نراهم يذكرون الصيغة في مقامات يقرون بكفاية الفعل فيه أيضا،
كما في العارية، فإنه لا يشترط فيه (أعرتك) ولا غير ذلك، ونظائرها كثيرة.
وثالثا نقول: إن غرضهم من (3) ذكر هذه العناوين وذكر الصيغ بيان الأحكام
المتعلقة بها، ولا ريب أن للعقود أحكاما اخر كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى بعد
ذلك، فجعلوا العنوان أخص حتى ينطبق على جميع أحكامه، وذلك لا ينافي ترتب
ترتب

(1) في (ن): حقيقة شرعية.
(2) كذا في النسخ، والظاهر: بالمعاطاة.
(3) في (ف، م): في.
102

الأثر على غير الصيغ أيضا ودخوله في اسم الوكالة والشركة ونحو ذلك.
ورابعا: لا يخفى على من تتبع كلماتهم (1) اكتفاؤهم بالفعل في القبول في كثير
من هذه الموارد، مع أن العقد عبارة عن الربط اللفظي دون الفعلي، وكون أحد
الطرفين قولا لا يكفي في صدق العقدية عليه، مع أنهم يجرون عليه أحكام العقد
في الأغلب، وليس ذلك إلا لدخوله تحت اسم الوديعة ونحوه المعلق عليه الحكم،
فلا مانع من كونه في الإيجاب والقبول كذلك إذا شمل الاسم الموجب للحكم،
فتدبر جدا.
نعم، هنا كلام، وهو أن الدخول تحت الاسم وإن كان قاضيا بترتب الأحكام،
لكنه مسلم في العقود المذكورة إذا لم يكن فيها تمليك، بل إباحة في التصرف ونحو
ذلك، كما في الوديعة والعارية والشركة والوكالة، وأما في العقود المملكة - كالهبة
والوقف الخاص والسكنى ونحوه والصدقة والعطية - فلا نسلم فيه ذلك، كيف!
والأصحاب قد اشترطوا في التمليك القول بل القول الخاص، وذهبوا إلى أن
المعاطاة إنما تفيد الإباحة في التصرف، لأنه رخصة من مالكه، وقد تقدم كفاية
الفعل في مقام الأذن بالإجماع والسيرة، فيكون الفرق حاصلا بين العقود المملكة
وغيرها، وهذا إما من جهة عدم وجود السيرة في العقود المملكة بالتمليك وعدم
دخوله تحت الاسم الموجب للحوق الأحكام - كما هو ظاهر الفقهاء - وإما أنه مع
فرض تسليم الدخول تحت الاسم وجريان السيرة منع منه اتفاق الأصحاب على
عدم كفاية المعاطاة في التمليك، فيكون مقيدا للإطلاقات بوجود الصيغة ومانعا
عن حجية السيرة، لأن طريقة العوام لا تكون كاشفة بعد مخالفة حملة الشريعة.
وتمام الكلام يأتي - إن شاء الله تعالى - مع توضيح جوابه في البحث عن كون
المعاطاة مملكا أو مفيدا للإباحة، حيث إن الفرق بين عقود المعاوضة وغيرها غير
محققة، بل لو ثبت كونه مملكا في المعاوضات لكان في غيرها بالأولوية، فتدبر
وانتظر.

(1) في (ف، م): كلامهم.
103

ونحو ذلك في كفاية المعاطاة عقد الرهن، فإنه يجئ فيه الكلام السابق في
العقود المجانية حرفا بحرف.
المقام الثالث
في كون الفعل سببا في عقود المعاوضة
وفيه بحثان:
أحدهما: بالنسبة إلى النكاح الدائم والمنقطع. والحق فيهما عدم كون المعاطاة
كافية لوجوه:
أحدها: إجماع الأصحاب خلفا وسلفا على اشتراط الصيغة الخاصة فيه
إيجابا وقبولا، ولم يعهد في ذلك عنهم مخالف، كما لا يخفى.
وثانيها: جريان طريقة المسلمين على اعتبار العقد بحيث تعرف النساء
والصبيان ذلك، فهذا في الحقيقة ضروري لا يحتاج إلى الاستدلال، بل كان هذا
كذلك قبل شرعنا، فإنهم كانوا لا يتناكحون إلا بعقد صريح، كما هو الظاهر عند
أرباب الأديان كافة.
وثالثها: لزوم الهرج والمرج لو بني أمر النكاح على مجرد التراضي والتعاطي،
نظرا إلى أن النكاح أمر مقصود للنسل والنسب، ومطلوب لاستقرار أمر المعاش
والمعاد به (1) وذلك يناسب إناطته (2) بأمر ظاهر لازم.
ورابعها: أن المعاطاة - سواء قلنا بأنها إباحة أو تمليك - سيقرر في محله أنه
جائز يمكن فيه التفاسخ، والنكاح لا فسخ فيه إلا بأحد أسباب خاصة إجماعا.
وخامسها: أصالة التحريم في الفروج، ولا ينتقل عنه بالإباحة إلا بدليل،
والوجه في المعاطاة إما جريان السيرة عليه وهو (3) في المقام غير محقق بل
المعلوم خلافه، وإما دخوله في إطلاقات النكاح، ولا ريب أن الفقهاء اتفقوا على

(1) به: ليس في (ن).
(2) اناطته: ليست في (ن، د).
(3) في (ن) زيادة: حكم.
104

أن النكاح حقيقة في العقد أو في الوطئ، والأكثر على أنه حقيقة في العقد فلا
يشمل المعاطاة، ولو كان مشتركا أيضا لزم فيه الإجمال الموجب، لعدم تيقن
الدخول تحته، بل لو سلم كونه حقيقة في الوطئ لا يعقل دخول المعاطاة، إذ
الفرض (1) كون السبب مفيدا لإباحة الوطئ، المحرم بدون السبب، ولا وجه لكون
الشئ المحرم سببا لإباحة نفسه، وهذا (2) واضح لمن له أدنى مسكة، سيما بعد
التنبيه عليه، فلا يراد من عمومات أدلة النكاح إلا العقد، والمعاطاة ليست منه.
ولنا هنا كلام حاسم لمادة الاشكال، رافع للقيل والقال، وهو: أن ما ذكرناه من
الأدلة على عدم المعاطاة في النكاح كلها يدور مدار أمرين: إما دعوى عدم
دخول المعاطاة تحت الأدلة فيبقى (3) تحت أصالة الفساد، وإما لقيام الدليل
المخرج له (4) عن تحت الأدلة لو كان عموم في الباب يشمله، منها: ما ذكرناه
سابقا، ومنها: أنه لو كان المعاطاة كافة في النكاح لم يتحقق الزنا إلا في صورتين:
إحداهما صورة الاكراه.
وثانيتهما: كون الفاعلين غير قاصدين الحلية بذلك الفعل، بل قاصدين
لمخالفة الله، مع أن ضرورة المسلمين قضت بوقوع الزنا ولو مع التراضي والتعاطي
بالعوض المعين أو بدونه، بل هو الفرد الشائع من الزنا، فكيف يعقل كون المعاطاة
بمجردها مبيحا؟
والكلام الأتم أن يقال: لو سلم عموم دليل دال بظاهره على كفاية المعاطاة في
التحليل في الفروج ولم يقم أيضا دليل دال على إخراجه (5) عن القاعدة لكنا أيضا
نقطع بعدم كفايته (1).
وبيان ذلك: أن المراد من السبب المحلل للتصرف أو المملك - على أحد
القولين في المعاطاة - أن يكون السبب واقعا قبل المسبب، فيفيد إباحته أو تمليكه

(1) كذا في ظاهر (د)، وفي سائر النسخ: الغرض.
(2) في (ن، د): وهو.
(3) كذا، والمناسب: فتبقى.
(4) كذا، والمناسب: لها.
(5) كذا، والمناسب تأنيث الضميرين.
(6) كذا، والمناسب تأنيث الضميرين.
105

فإذا كان المعاطاة إنما هو السبب في ذلك، فنقول: لا ريب أن النكاح إنما هو تمليك
للانتفاع بالبضع، أو تمليك للمنفعة على أحد الوجهين، ولا ريب أنه كما يحقق بعد
ذلك أن المعاطاة لا تتحقق بقبض العوضين أو بقبض العوض المقصود من تلك
المعاملة - كالمبيع في البيع والعين المستأجرة في الإجارة ونحو ذلك - فلا تتحقق
المعاطاة في النكاح إلا بإعطاء المهر وقبض منفعة البضع، وبعد ذلك لا شئ هنا
حتى يفيد المعاطاة إباحته أو تمليكه، ولازم ذلك وقوع الوطئ أو الاستمتاع
الأول محرما، لأنه من دون سبب محلل، والمعاطاة تحصل بعد ذلك فأين السبب
المحلل للانتفاع بالبضع؟
لا يقال: فكيف تقول في سائر أنواع المعاطاة في سائر المعاوضات فإن هناك
أيضا تتحقق المعاطاة بعد الأخذ؟
لأنا نقول: إن هناك تعلقت المعاوضة بالأموال وهي قابلة للتسليط، فإن
للمالك أن يقبض ماله لغيره، سواء كان هنا معاطاة أم لا، فإذا قبضه فهو قبض سائغ
لا مانع منه، ويتحقق بذلك الإباحة في التصرف بعد ذلك، أو التمليك - على أحد
الوجهين - بخلاف النكاح، فإنه ليس للمرأة تمليك نفسها وتقبيض بضعها إلا بسبب
محلل، فإذا توقف التقبيض على محلل كيف يكون بنفسه؟ ولا يمكن أن يقال: إن
التقابض يوجب تحليل التصرفات اللاحقة، فإن الكلام في كون الوطئ حلالا أو
لا؟ وكيف يعقل كون الحرام محللا لشئ، آخر؟
فإن قلت: ليس النكاح إلا كسائر عقود المنافع - كالإجارة ونحوه (1) - إذ
لا ريب أن المعاطاة فيها لا تستلزم استيفاء المنفعة بتمامها، بل القبض للعين قبض
للمنفعة، فليكن هنا أيضا قبض الزوجة قبضا للبضع، فيكون معاطاة محللا للانتفاع.
قلت أولا: إن قبض العين قبض المنفعة فيما لو كان العين من الأمور التي
تدخل تحت اليد كالحيوان أو الدار (2) ونحو ذلك. وأما في ما لا يدخل تحت اليد
- كما في الأجير - فليس قبض عينه قبضا للمنفعة، ولذلك لا يجب إقباض الأجرة

(1) كذا، والمناسب: ونحوها.
(2) في (ن): والدار.
106

إلا بعد إتمام العمل واستيفائه، بخلاف سائر الأعيان المستأجرة، فإن قبض العين
فيها قام مقام قبض المنفعة في خصوص جهة التقابض بالدليل وإن لم يكن قبضا
حقيقة، ولذلك يترتب الضمان لو تلف على المؤجر، وفيما نحن فيه مثل الأجير،
فإن الزوجة لا تدخل تحت اليد، مع أن المقام تمليك انتفاع، لا تمليك منفعة، وكونه
كالإجارة محل منع.
وثانيا نقول: الكلام في حليه قبض الزوجة أيضا، فإن القبض عبارة عن
التسلط، ولا يتحقق إلا بتمكين الزوجة ورفعها الموانع، وليس للزوجة ذلك إلا
بمحلل شرعي، إذ لا ريب في تحريم التمكين أيضا ما لم يقع هناك محلل.
وبالجملة: فالمعاطاة في النكاح مما لا يمكن فرضه، لأنها: إما تمليك أو
إباحة، وليس للزوجة إباحة نفسها ولا تمليكها إلا بمحلل شرعي، فلو توقف
التحليل أيضا على التمكين والإباحة والتسليط لزم الدور.
وهذا كلام لا يخفى على من اطلع على الضوابط وورد مشرب الفقاهة، فلا
يحتاج إلى منع دلالة العمومات أو إثبات دليل دال على إخراج المعاطاة في
النكاح عن تحتها (1). هكذا ينبغي أن يحقق المقام بحيث لا يبقى شبهة في المرام.
وثانيهما (2) بالنسبة إلى سائر المعاوضات، كالبيع والصلح والإجارة والهبة
المعوضة والمزارعة والمساقاة والمضاربة، ونحو ذلك. والحق فيها أيضا كون
المعاطاة مفيدة للأثر، وهو الإباحة في التصرف أو التمليك على الوجه الاخر، كما
سيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى، والوجه في ذلك أمور:
أحدها: فتوى الأصحاب - خلفا وسلفا - على أن المعاطاة مفيدة للأثر في
هذه العقود وإن لم يجر عليه أحكام العقود بتمامها، ولم يعهد في ذلك عنهم مخالف
إلا نادر منهم كما سيذكر، والمخالف أيضا وافقنا في مقامات اخر. وسيظهر لك
ضعف ما تخيله وجها لعدم التأثير، فالاجماع على ذلك محصل في الجملة.

(1) في (م): عنها.
(2) أي: ثاني البحثين من بحثي المقام الثالث.
107

وثانيها: قيام سيرة المسلمين - قديما وحديثا - على ذلك، بحيث صار من
جملة الضروريات يعرفه الصبيان والنساء، وهذه طريقة قديمة متصلة بزمن
المعصومين [عليهم السلام] فتكشف عن تقرير صاحب الشريعة، لبعد عدم
اطلاعهم على ذلك مع انتشار المعاطاة في البلدان في مدة مائتي سنة، بل أزيد ولم
يصدر في ذلك منع عن صاحب الشريعة، ولم يكن هذا مقام تقية، ولا شئ آخر
يوجب عدم الردع، وهذه أمارة لا تنكر.
وثالثها: أن الأدلة الواردة على حلية البيع والإجارة ونحوهما من العقود
السابقة ربما يدعى شمولها للمعاطاة، فيندرج (1) تحت الأدلة الخاصة أيضا،
ويفيد (2) الفائدة كالعقد اللفظي وإن افترق (3) في أحكام اخر بإجماع أو غيره من
الأدلة، كما سيفصل إن شاء الله تعالى.
وبالجملة: مشروعية المعاطاة في الجملة مما لا يمكن إنكاره.
نعم، هنا كلام، وهو أن عمدة الأدلة في المعاطاة إنما هو السيرة، والقدر الثابت
منها إنما هو في المحقرات دون الأمور الجليلة، فكيف تدعى الشرعية على
العموم؟
والجواب أولا: أنه لا قائل بالفرق بين أصحابنا وإن قال به بعض العامة (4) بل
إجماع الأصحاب على أنه مثمر للثمر مطلقا، فلا وجه للتخصيص بالمحقر.
وثانيا: نمنع اختصاص السيرة بالمحقرات، بل نقول: إن السيرة محققة في
الأشياء الجليلة - كبيع الحيوان وغير ذلك - ومجرد التزام الناس بإجراء العقد في
بعض الأشياء - كالعقارات ونحوه - لا يقتضي عدم اعتبارهم المعاطاة، بل الظاهر
أن الالتزام بالصيغة في ذلك إنما هو لفائدة اللزوم أو التملك (5) لو قلنا بأن ا لمعاطاة
لا تفيده، لا من جهة أن المعاطاة لا تثمر في التصرف (6) أو التملك، فتدبر.

(1) كذا في النسخ، والمناسب: فتندرج، وتفيد، وإن افترقت.
(2) كذا في النسخ، والمناسب: فتندرج، وتفيد، وإن افترقت.
(3) كذا في النسخ، والمناسب: فتندرج، وتفيد، وإن افترقت.
(4) راجع المجموع 9: 162.
(5) في (ن): التمليك.
(6) في (م): لا تثمر جواز التصرف.
108

ولم يخالف في إفادة المعاطاة إباحة التصرف بقول مجمل - بمعنى كونه أعم
من التمليك والإباحة المصطلحة - سوى آية الله الفاضل العلامة أعلى الله مقامه في
النهاية (1).
واستدل على ذلك بوجهين:
أحدهما: أن الإباحة في المعاطاة مقصودة في ضمن (2) التمليك - كما عليه
سيرة الناس - فإن المتعاطيين لا يريدان بذلك إلا التمليك كما لا يخفى، فيكون
التمليك قيدا للإباحة، بمعنى أن المالك لا يرخص إلا بعنوان أن الأخذ مملك،
فمتى ما صار قيدا فمقتضى القاعدة: أن انتفاء القيد يقضي بانتفاء المقيد، لأن
الجنس لا بقاء له بدون الفصل، وليس التمليك مجرد علة وموردا للإباحة حتى لا
يضر عدم حصوله بالإباحة، وحيث إنا نقول: إن المعاطاة لا تفيد التمليك بل تفيد
الإباحة - كما عليه فتوى المشهور بل الكل إلا من ندر - فيكون الإباحة بعد عدم
حصول التمليك خاليا عن القصد، لتقيده به الموجب لزواله بانتفائه، فإذا لم يكن
مقصودا كان أكلا للمال بالباطل، وهو منهى عنه بالنص والإجماع.
وثانيهما: أن المعاطاة لو صحت لدخلت تحت أسماء العقود على حسب
مواردها، إذ ليس عندنا معاملة جديدة غير ما ذكره الأصحاب، فإن الظاهر منهم
انحصار المعاملات المشروعة فيما عنونوه، فيكون الحصر إجماعيا، ولازم ذلك
كون الخارج عن ذلك باطلا بالاتفاق، فلو صحت المعاطاة لزم اندراجها تحت
هذه العقود بالاسم أو الحكم، بل الظاهر لزوم دخولها تحت الا سم، فإذا صار
كذلك لزم كونها مملكة كسائر عقود الأبواب، واللازم باطل باتفاقنا، لأنه لا يفيد
التمليك، فلزم كونها من العقود الفاسدة، والفساد مستلزم لعدم جواز التصرف، كما
أن في سائر البيوع الفاسدة لا يجوز التصرف بالاتفاق.
والجواب عن الأول: أنا لا نسلم كون الملكية قيدا للرخصة، بل لو ثبت أن

(1) نهاية الإحكام 2: 449، ولا يخفى أن الاستدلال بالوجهين الآتيين لا يوجد في النهاية،
والظاهر أنه تبرعي.
(2) كلمة (ضمن): لم ترد في (ن، د).
109

الناس في معاطاتهم يقصدون التملك، نقول: إنه مورد لا قيد، بمعنى أنهم يرخصون
في التصرف في العوض مع كون العوض الآخر سليما لهم، ولا يتفاوت الحال
عندهم بين كون ذلك على طريقة الملك أو الإباحة بعوض، كما أن ذلك يظهر من
طريقتهم.
مضافا إلى أن بعد فتوى المشهور بأنه لا يفيد الملك وسماع المسلمين هذه
الفتوى كيف يعقل كونهم قاصدين ما لا يقع شرعا؟ فإن ذلك في غاية البعد، ولو
كان فيهم من يقصد الملك فلعله ممن يذهب إلى أن المعاطاة مفيدة للملك، لأن
القول به أيضا غير نادر، فإذا لم يكن مقصودا أو كان مقصودا بالموردية فلا وجه
لزوال الإباحة بعدم التملك.
ولو فرض كونهم قاصدين للتملك أيضا نقول: إن بعد فرض أن مشروعية هذه
المعاملة إنما هو لإفادة الإباحة دون التمليك - كما هو المشهور - فيصير قصد
التملك من القصود الزائدة على أصل المراد، وليس إلا كقصد الزوجة النفقة في
النكاح المنقطع أو الإرث، أو نحو ذلك من الأمور الزائدة التي لم يجعل الشارع
المعاملة مؤثرة فيها، وهذا القصد لو كان داعيا إلى إبطال العقود بعدم الترتب
للقصود عليها (1) لزم من ذلك بطلان العقود لأكثر الناس، لأنهم من جهة عدم
علمهم باللوازم يقصدون ما لا يترتب عليه شرعا، وقد مر تحقيق المحل في قاعدة
تبعية العقود للقصود، فراجع (2).
نعم، لو لم يكن لمشروعية المعاطاة دليل غير إدخالها في الأذن المفيد للإباحة
لتوجه كلام العلامة على المشهور (3) لانتفاء الأذن هنا بسبب عدم تحقق القيد
المأخوذ في القصد والرخصة، ولكن بعد قيام الدليل على أن هذه المعاملة مشروعة
من سيرة أو إجماع وأنها مفيدة للإباحة فلا موقع لهذا الكلام.
ولعل نظر الفاضل على أن ذلك لا يفيد الإباحة إلا من جهة الرخصة من

(1) في (ن، د): للمقصود عليه.
(2) راجع العنوان: 30.
(3) العبارة في غير (م): يمكن توجه كلام العلامة إلى المشهور.
110

المالك كما في الأذن في سائر المقامات، والأذن هنا مقيد ينتفي بانتفاء قيده.
والظاهر أن المشهور يدعون شرعية هذا المعاملة بالأدلة المتقدمة، ويقولون:
إنها مفيدة للإباحة دون التملك، لا أن إباحته من جهة الأذن، بمعنى أنه
لا خصوصية للمعاطاة في ذلك.
وبالجملة: وإن لم أجد لهذا المطلب في كلامهم شاهدا واضحا، لكن اللائح من
كلام المشهور هو ذلك، فتدبر جدا ولا تبادر إلى الرد والإنكار، وبهذا يندفع كلام
الفاضل ويرتفع الإشكال، ولا يحتاج إلى الوجوه السابقة في الجواب.
وعن الثاني: بأنا لا نسلم دخولها تحت أدلة العقود حتى يلزم من ذلك إفادتها
الملك، بل نقول: إنها معاملة مستقلة ليست داخلة في الأبواب الأخر، كما يراه
جماعة من المتأخرين (1) وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
فعلى القول بذلك ودعوى الحصر في الأبواب المذكورة - كما هو ظاهر كلام
الفاضل (2) - إن أريد منها حصر العقود المملكة فغير مضر، إذ لا نجعل المعاطاة
مملكة حتى ينتقض بذلك الحصر. وإن أريد حصر كلما يفيد إباحة التصرف ولو
بالإباحة فلا نسلم الانحصار، كيف! مع أن الأصحاب حصروا (3) الأسباب في
الأبواب المذكورة نصوا على أن المعاطاة تفيد الإباحة، وهو تصريح منهم على
عدم انحصار ما يفيد (4) التصرف في العقود المعروفة، فلا تذهل.
هذا كله بناءا على عدم القول بأن المعاطاة الواقعة في عقود التمليك تفيد
الملك، كما يستفاد من ظاهر كلام المشهور. وإن قلنا بأنها تفيد التمليك كما قواه

(1) حكي عن الشهيد الأول في الحواشي التصريح بأنها معاوضة مستقلة (الجواهر 22: 226)
واحتملها الشهيد الثاني في المسالك 3: 151.
(2) لا يوجد فيما أفاده في النهاية كلام ظاهر في الحصر راجع نهاية الإحكام 2: 449. ولعل نظر
المؤلف إلى ثاني الوجهين اللذين استدل بهما لفتوى العلامة في النهاية، راجع ص: 109.
(3) في (م): كيف وأن الأصحاب مع حصر الأسباب.
(4) في غير (م): عدم الانحصار فيما يفيد.
111

بعض المعاصرين (1) والمقاربين لعصرنا (2) ممن تقدم (3) بل ربما ينزل كلام المشهور
أيضا على ما لا ينافيه - كما سنحققه - فلا موقع للإيراد الثاني بالمرة، ولعل الغرض
هو الرد على المشهور القائلين بالإباحة، وقد عرفت المدفع بناءا عليه أيضا.
فقد تنقح من ذلك: أن المعاطاة تفيد الإباحة في غير العقود المملكة بلا كلام،
لأنه لا يتوجه عليه إيراد الفاضل بوجهيه (4).
وأما في المملكة فتفيد الإباحة في التصرف أيضا بالإجماع من الأصحاب
حتى من الفاضل، لأنه رجع عما أفتى به في النهاية (5) والوجوه الواردة ردا عليه
قد عرفت دفعها، وبالتأمل فيما ذكرنا تقدر على دفع الاعتراضات الاخر لو تخيل
ورودها هنا.
والظاهر من كلمة الأصحاب: أن الناقص من حيثية الصيغة ليس كالناقص من
جهة سائر الشرائط، فلو سلم كونه مملكا فلا بحث، ولو فرض أنه غير مملك أيضا
فنقول: لا يكون هذا كسائر العقود الفاسدة، بل هو يفيد الإباحة، كما نصوا عليه.
المقام الرابع
في أنه هل يفيد اللزوم لو وقع في مقام العقد اللازم من المملكات أو لا يفيد
اللزوم؟
ذهب إلى الأول من قدمائنا الشيخ الأجل المفيد (6) ومن المتأخرين المولى
الورع المقدس الأردبيلي (7).

(1) لعل المراد به: المحقق النراقي قدس سره، انظر المستند 2: 361.
(2) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: والمقاربين لنا.
(3) راجع الحدائق 18: 350.
(4) قد تقدم أن الاستدلال بالوجهين ليس من العلامة، راجع ص: 109، الهامش 1.
(5) قال في التحرير (1: 164): والأقوى عندي أن المعاطاة غير لازم... ولا يحرم على كل
واحد منهما الانتفاع بما قبضه، بخلاف البيع الفاسد.
(6) المقنعة: 591.
(7) مجمع الفائدة 8: 140 - 141.
112

وذهب إلى الثاني المشهور، بل لا يكاد يعرف مخالف في ذلك سواهما، بل
الظاهر - كما حكاه بعضهم - (1) عدم مخالفة المفيد أيضا، وهو الأرجح في النقل،
لعدم معروفية هذا النقل عن المفيد في كلام القدماء، ولو كان لبان.
وبالجملة: فالمخالف الصريح إنما هو المقدس الأردبيلي، والذي يمكن أن
يكون دليلا على ما ذهب إليه من كفاية التقابض مع التراضي في اللزوم أمور:
أحدها: أن المعاطاة داخل تحت البيع والصلح والإجارة وغيرها من العقود
بحيث يصدق عليه الاسم، ومتى ما دخل تحت الأسامي فما دل على لزوم هذه
العقود يدل على لزومها من قبيل: (البيعان بالخيار) (2) وغيره.
وثانيها: أنه يشمله عموم أوفوا بالعقود (3) الدال على اللزوم، إما بكونه
داخلا في اسم البيع ونحوه فتندرج تحت العقود، وإما لأن العقد عبارة عن العهد
أو (4) الربط ولا ريب في كون المعاطاة داخلة فيها، فإذا كان كذلك فإخراجها
يحتاج إلى دليل.
وثالثها: الاستصحاب، فإنه بعد ما أفاد جواز التصرف والملك فيشك في أنه
هل يرد العوضان بالفسخ أم لا؟ فالأصل بقاؤه كما كان، وهو معنى اللزوم. وقد
تقدم تحقيق دلالة الاستصحاب على اللزوم في أصالة اللزوم، فراجع (5).
ورابعها: جريان السيرة على أن بعد المعاطاة لا يرضون بالفسخ لو أراد أحد
المتعاقدين الفسخ، وهو أمارة اللزوم، للكشف عن كونه في زمن الشرع كذلك،
فكما أن السيرة أثبتت الشرعية تثبت اللزوم أيضا.
وخامسها: تعلق قصد المتعاقدين والمتعاطيين على اللزوم والدوام، ولا ريب
أن العقد يتبع القصد، ومقتضاه كون العقد لازما.

(1) الحاكي هو الفاضل الآبي قدس سره في كشف الرموز 1: 446.
(2) الوسائل 12: 345، الباب 1 من أبواب الخيار، 1 و 2 و 3.
(3) المائدة: 1.
(4) في (ن): والربط.
(5) راجع العنوان: 29 ص: 37.
113

وسادسها: أن هذه لو لم تفد اللزوم لزم من ذلك لزوم التكلف في اجراء الصيغ
الخاصة في إفادة اللزوم، وهو مما فيه العسر الشديد والحرج الوكيد المنفيان بالآية
والرواية (1) سيما على غير العربي [من الألسنة المتفرقة] (2)
وسابعها: أنه لو لم تكن هذه المعاطاة لازمة مع كثرة تداولها وانتشارها بين
الناس لجاز لكل أحد أن يأخذ بالمعاطاة ويرد إلى صاحبه بعد ذلك، وهو موجب
للهرج والمرج الذي ليس مبنى الشرع إلا لقطعه، فتدبر.
وثامنها: أن المعاطاة لو لم تكن كافية في اللزوم للزم عدم خلو الأخبار عن
تعليم صيغ العقود الملزمة، لأن مقصود الناس غالبا اللزوم، ومثل هذا الأمر مع
عموم البلوى لا ينبغي أن يخفى، مع أنه لم ينقل في زمن الأئمة [عليهم السلام]
كونهم يعلمون الناس كيفية إجراء الصيغ، ولم يرد في الروايات كذلك، وهو من
أقوى الشواهد على أن المعاطاة كافية في اللزوم.
وللقائلين بعدم اللزوم: أصالة عدمه، والإجماع المنقول المستفيض، وفي
عبائر جماعة منهم: دعوى الإجماع المحصل (3) لعدم مخالفة المفيد حقيقة (4) وعدم
كون خلاف المقدس قادحا، ونهي النبي صلى الله عليه وآله عن بيع الملامسة والمنابذة ورمي
الحصاة (5) مع اشتمالها على المعاطاة، وليس إلا لنفي اللزوم.
مضافا إلى أن المعاطاة لو أفادت اللزوم لنافت مشروعية العقود ولزمت
اللغوية فيها (6) وهذا في قوة التخطئة لجميع الأصحاب الذين ذكروا العقود ونصوا
على عدم كفاية المعاطاة، وليس لهذا الكلام مورد سوى نفي اللزوم لو قلنا بأنه
يفيد الملك، وهذا مما يقطع بفساده.

(1) راجع الجزء الأول، العنوان: 9.
(2) لم يرد في (م).
(3) منهم ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 524، وقال الشهيد الثاني: (كاد أ ن يكون
إجماعا) المسالك 3: 147، ومثله المحدث البحراني في الحدائق 18: 348.
(4) في (م) لعدم معلومية خلاف المفيد.
(5) الوسائل 12: 366، الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح 13.
(6) في (ن، ف): ولزوم اللغوية في ذلك.
114

والحق أن يقال: إن دخول المعاطاة تحت أسامي العقود غير مقبول (1) عند
المشهور، وإلا لأفادت الملك، ولا يقولون به، بل صريحهم عدم دخولها فيها،
فالأدلة الدالة على لزوم البيع ونحوه لا تشملها.
ولو سلم دخولها تحت الاسم أيضا فنقول: انصراف تلك الأدلة إلى العقد
اللفظي يمنع من إفادتها لزوم المعاطاة، وبذلك يظهر الجواب عن عموم أوفوا
بالعقود بالأولوية، لانصرافها إلى العقد اللفظي جزما. ولو سلم دخولها تحتها
أيضا فإجماع الأصحاب - محصلا ومنقولا - مع ما ذكرناه من المؤيد والشاهد
يخصصها جزما، ولا أقل من إفادته الشك في شمول العمومات المانع عن
التمسك بها.
وأما الاستصحاب: فإن لم نقل بكونها مفيدة (2) للملك - كما هو ظاهر المشهور -
فلا وجه لاستصحاب الإباحة، لأن ميزانها إذن المالك، فإذا فسخ فيرتفع الأذن
والإباحة، ولو قيل بإفادتها (3) الملك أيضا يصير الكلام فيه كالعمومات، فينقطع
بمعارضة الإجماع.
ونمنع كون السيرة على عدم جواز الفسخ، بل ندعي أن السيرة على جواز
الفسخ، فإنا نرى أن أحد المتعاطيين ما لم يتصرف في العوض إذا أراد أن يرده
ليس لأحد أن يقول: إن هذا قد لزم وليس لك أن تفسخ، وهذا مما يدل على أن
مبنى هذه المعاملة ليس على اللزوم.
لا يقال: لعل هذا من جهة المسامحة في الأمور الجزئية، ولو كان في الأمور
الكلية لا يرضون بالفسخ (4) والتراد.
لأنا نقول: الظاهر من طريقتهم عدم كون ذلك لمحض المسامحة، إذ لو كان
لذلك لم يرض بالتراد من لا مسامحة له، فإنا نرى أن بعض الناس له المداقة في كل
جزئي جزئي وليس ممن يدعو نفسه إلى الإقالة والإحسان في معاملاته ومع ذلك

(1) في (ن): غير معقول.
(2) في (ن، ف): بكونه مفيدا.
(3) في (ن، ف): فإفادته.
(4) في (م): لما جوزوا الفسخ.
115

في مقام المعاطاة لا يمتنع من التراد (1).
ومن ذلك يعلم بطلان دعوى قصد المتعاقدين للزوم إن أريد بقصد الدوام
قصد اللزوم، وإن أريد قصد دوام الملك فهو مما لا يستلزم اللزوم، إذ معنى العقود
كلها - لازما أو جائزا - قصد التأبيد والدوام، وهو غير مانع من الفسخ، كما في البيع
بخيار ونحوه.
وأما لزوم العسر والحرج في إجراء الصيغ والتعبد بها وتعلمها.
فنقول أولا: إن ذلك يلزم لو لم نقل بأن المعاطاة مفيدة للأثر وجواز التصرف،
وأما لو قلنا بذلك، غايته عدم إفادته اللزوم فلا يلزم من ذلك (2) عسر وحرج، لأن
الناس لا يلتفتون غالبا إلى اللزوم، وإنما غرضهم جواز التصرف أو الملك، وهو
حاصل بالمعاطاة على أحد الوجهين، فلا حاجة إلى الصيغة.
مع أنا لو سلمنا الحاجة إلى الصيغة نقول: لا يلزم الحرج في ذلك، إذ لعلنا نقول
بكفاية مطلق اللفظ ولا نعتبر الصيغ الخاصة، مع إمكان منع العسر والحرج لو
اشترط الصيغ الخاصة أيضا، فتدبر.
ولا نسلم عدم ورود الأخبار في كيفية الصيغ، لورودها في النكاح والبيع
والمزارعة وغير ذلك (3) من العقود، كما لا يخفى على من تتبعها، بل الظاهر من تلك
الأخبار: أن ذلك كان متعارفا في زمن الأئمة عليهم السلام بحيث كانوا يسألون عن
كيفيات الصيغ (4) في المعاملات.
مضافا إلى أنا نقول: لعل عدم ورود الأخبار في تعليم الصيغ إنما هو من جهة
علم الناس في ذلك الزمان بها، لأن العقود ليست من الأمور المخترعة من الشارع،
بل كان الناس يعرفونها ويعاملون معها، فلم تكن حاجة لبيان الصيغ والمبالغة في

(1) العبارة في (م) هكذا: مع أنا نرى من له مداقة في كل جزئي وليس ممن يرغب إلى الإقالة
والإحسان في معاملاته لا يمتنع من التراد في مقام المعاطاة.
(2) العبارة في (م) هكذا: وأما لو قلنا بإفادتها لذلك وإن لم تكن على وجه اللزوم فلا يلزم منه.
(3) في (م): وغيرها.
(4) في (ف، م): الصيغة.
116

توضيحها وضبطها، مع أن ذلك كله في مقابلة الإجماع القطعي من الأصحاب على
أن المعاطاة لا تفيد (1) اللزوم غير مسموع.
نعم، قد تنتهي إلى اللزوم بالأسباب التي نذكرها عن قريب إن شاء الله.
المقام الخامس
في أن المعاطاة هل تفيد الملك أم لا، بل الإباحة في التصرف؟
ظاهر كلام المشهور - حيث إنهم صرحوا بعد ذكر الصيغة بأنه لا تكفي
المعاطاة، بل يباح التصرف بها - عدم كونها مملكة، بل تفيد (2) إباحة صرفة.
وذهب جماعة من المعاصرين - منهم الشيخ الأجل الأكبر الشيخ جعفر
الغروي في شرح القواعد (3) - إلى أنها تفيد الملك، والمسألة من المعضلات.
وللقائلين بعدم إفادتها الملك وجوه:
أحدها: أن الأصل عدم حصول النقل والانتقال إلا بما دل الدليل على سببيته،
وهو العقد اللفظي، وأما المعاطاة فلا دليل على كونها ناقلة.
وثانيها: ظهور اتفاق الأصحاب على أنها لا تفيد سوى الإباحة، كما نطقت به
كلماتهم، بحيث يعرفها كل من راجعها، وهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى
النقل والبيان.
وثالثها: أنه لو كانت المعاطاة مملكة لزم كونها ملزمة أيضا، لأنها تدخل تحت
عمومات العقود وأنواعها، فيلزم إذا وقع في موضع العقد اللازم والتالي باطل لما
مر من الإجماع على أنها غير ملزمة، فكذا المقدم.
ورابعها: أن ما ورد من الأخبار الدالة في العقود على اعتبار الألفاظ، بل
الكيفيات الخاصة (4) يدل على أنها ليست بمملكة، وإلا لزم كون الصيغ المذكورة

(1) في (ن، ف): على أنه لا يفيد.
(2) تفيد: لم ترد في (ن، ف).
(3) شرح القواعد (مخطوط) الورقة: 50.
(4) مثل قوله عليه السلام: (إنما يحل الكلام ويحرم الكلام) الوسائل 12: 376، الباب 8 من أبواب
أحكام العقود، ح 4، قوله عليه السلام: (لا تشتر كتاب الله، ولكن اشتر الحديد والورق والدفتين،
وقل: أشتري منك هذا لكذا وكذا) الوسائل 12: 114، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به،
ح 2 و...، وعد منها أيضا ما ورد في رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن قصب، راجع
الوسائل 12: 272، الباب 19 من أبواب عقد البيع وشروطه.
117

لغوا لا حاجة إليها، وهو خلاف ظاهر الأدلة والفتاوى.
واحتج بعض من ذهب إلى كونها مفيدة للملك من أساطين من تأخر (1)
بوجوه:
الأول: أن المعاطاة داخلة تحت لفظ (البيع) و (الصلح) و (الإجارة)
ونحوها من عقود التمليك، فينبغي كونها مملكة، للاتفاق على أن البيع مملك،
ونحوه غيره، مضافا إلى دلالة الأدلة الواردة في خصوصيات العقود على كونها
مملكة.
ومنع دخول المعاطاة تحت هذه الأدلة مما لا يمكن ارتكابه، لأن المعاطاة
من الأفراد الشائعة الظاهرة، بل يمكن دعوى انصراف الأدلة إليها، فكيف يمكن
منع شمولها لها؟
وما يقال: من أن البيع يطلق على مطلق التقابض القابل لأن يكون بيعا أو
صلحا أو هبة، مع أن هذا ليس من باب الحقيقة، بل قد يطلق مع معلومية كونه
صلحا، فليكن المعاطاة كذلك، وهذا لا يدل على دخوله تحت البيع ونحوه
حقيقة (2) مدفوع:
أولا: بأنا نمنع إطلاق البيع على ما هو المحتمل لهذه الأمور، بل لا يطلق البيع
على التقابض إلا مع قصد البيعية، فإن من اطلع على أنهما (3) قصدا الهبة أو الصلح

(1) لم نتحققه جزما، ولعل المراد به الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس سره، انظر شر ح القواعد
(مخطوط) الورقة: 50.
(2) العبارة في (م) بعد قوله: (أو هبة) هكذا: بل على المعلوم كونه صلحا، ومن البين الواضح
أن ذلك الإطلاق ليس على وجه الحقيقة، فليكن إطلاقه على المعاطاة كذلك.
(3) في (م): أن المتقابضين.
118

لا يقول: إنه (1) باع والاخر اشترى قطعا.
وما ترى أنه يطلق (2) البيع على التقابض الصرف من دون اطلاع بأنهما
قاصدان للبيع، فإنما هو مبني على كون الأصل في ناقل الأعيان أن يكون بيعا،
وفي ناقل المنافع أن يكون إجارة (3) نظرا إلى الغالب في الوقوع، فإطلاق البيع
والإجارة على المشكوك إنما هو لهذه القاعدة، فلا وجه لإنكار دخول المعاطاة
تحت أسامي العقود.
الثاني: أن قصد المتعاملين إنما هو التمليك، والمعاملة تابعة للقصد، فمتى ما
كان المقصود ذلك فينبغي وقوعه، وإلا لزم عدم جواز التصرف أيضا، لأن الإباحة
إنما هي للتمليك، ولو لم يكن هناك ملك لا تتحقق إباحة، فكيف يقال بجواز
التصرف دون حصول الملك؟
وبعبارة أخرى: أن طريقة الناس في المعاطاة قصد التملك، وهم معتقدون
بحصول الملك بذلك، والدليل الدال على أصل مشروعية المعاطاة - وهو السيرة -
إنما يدل على مشروعيتها على النحو المتعارف بين الناس، وهو كونها مفيدة (4)
للملك، لبناء الناس عليه (5) فيكشف عن تقرير المعصوم بذلك.
لا يقال: إنها كانت تفيد إباحة التصرف وهو الأمر المهم المقصود منها فلا مانع
حينئذ من عدم الردع عنها (6).
لأنا نقول: بعد اطلاع المعصوم على أنهم يعتقدون الملك ويبنون على ذلك،

(1) في (م): إن أحدهما.
(2) في (م): وما يرى من إطلاق البيع.
(3) العبارة في (م) هكذا: فإنما هو مبني على أصالة البيع في نقل الأعيان، والإجارة في نقل
المنافع.
(4) العبارة في (ن، ف) هكذا: فالأدلة الدالة على أصل المعاطاة وهو السيرة إنما تدل على
مشروعيته على النحو المتعارف بين الناس، وهو كونه مفيدا للملك.
(5) لبناء الناس عليه: لم يرد في (م).
(6) العبارة في (ن، ف) هكذا: ولا يمكن أن يقال: إنه لما كان يفيد إباحة التصرف وهو الأمر
المهم المقصود، فلا مانع من عدم الردع، لأنا نقول...
119

ولا ريب أن للملك أحكاما شرعية تترتب عليه، فلو لم تكن هذه المعاملة مفيدة
للملك فلا بد من بيانه عليه السلام لهم ذلك.
ولو اكتفى في عدم الردع بمجرد إفادة الإباحة لجرى نظير هذا الكلام في
سائر العقود المملكة أيضا، لاحتمال أن يقال فيها أيضا: بأنها تفيد الإباحة لا
الملك، والتمسك في ذلك بالإجماع وغيره بعيد.
وبالجملة: فلا وجه لهذا الإيراد بعد ثبوت قصدهم (1) التمليك.
نعم، لو نوقش بأنهم غير قاصدين للتملك لكان لذلك وجه - كما مرت إليه
الإشارة - فينبغي الرجوع في ذلك إلى عامة الناس حتى يعرف الحال، والظاهر
أنهم يقصدون الملك، كما لا يخفى على من تتبع.
الثالث: أن طريقة المسلمين قديما وحديثا إجراء أحكام الأملاك على
المقبوض بالمعاطاة، إذ لا ريب في كونه ميراثا بعد موت القابض، وموجبا
للخمس والزكاة وسائر الحقوق بعد اجتماع شرائطها، ويتعلق به الوصية، ويحصل
به استطاعة الحج، ولا يلتزمون في ذلك بالفحص عن العوض المقابل بأنه هل هو
باق حتى يبقى المال على إباحته أو هو تالف في يد الآخر حتى يحصل التملك
بالتلف؟ - كما هو أحد الوجوه - مع أنه لا ريب أن مقتضى الاستصحاب بقاء
العوض الآخر على ما هو عليه من دون تغيير (2) وتلف، وكذلك نرى جريان
طريقتهم على التصرف فيه بما لا يصح إلا في الملك - كالبيع والوقف والعتق
والوطئ والتحليل - فلو لم يكن مجرد التقابض مع التراضي مفيدا للملك فأي
يوجبه بعد ذلك؟ (3)
وبعد استمرار الطريقة على ذلك، فاللازم على المشهور ارتكاب أحد أمور:
أحدها: منع استقرار الطريقة على ذلك، وعدم تسليم إجراء أحكام الملك
عليه، وهذا لا يسعهم بعد وضوح الأمر

(1) في (ن، ف) زيادة: إلى.
(2) في (ن): تغير.
(3) في (م): فأي شئ يوجبه؟
120

وثانيها: القول بجواز هذه التصرفات بالتعبد الصرف، من دون ملاحظة تبعية
المعاملة للقصد وعدم المنافاة في ثبوت الإباحة مع أنهم غير قاصدين لها، ولا
مانع من جريان أحكام الملك من الحقوق والمعاوضات وغير ذلك على
المباحات، سواء كان هناك علم بعدم التصرف في العوض الآخر أو شك في
حصول التصرف.
ولا ريب أن حصول ما لم يقصد وقصد ما لا يقع غير واقع في المعاملات،
وخروج المعاطاة عنها بعيد غاية (1) مفتقر إلى الدليل، وجريان حكم الملك على
المباح مخالف للقاعدة، وجميع ما دل في الأبواب المذكورة على اعتبار الملكية
ومثل ذلك (2) لا يمكن الاقتحام عليه من دون مستند ظاهر.
والقول: بأن احتمال التلف في العوض الآخر أو التصرف فيه كاف في ذلك
لأنه موجب للملكية، مدفوع بأن الاحتمال غير كاف في الأثبات، مضافا إلى أن
الاحتمال المذكور مدفوع باستصحاب عدم حصول التلف والتغيير (3) فيبقى
العوضان على الإباحة بدليل الاستصحاب المعتضد باستصحاب الإباحة وعدم
حصول الملك.
وثالثها: القول بأن العقود الناقلة - كالبيع والوقف الخاص ونحو ذلك - تستتبع
حصول الملك لصاحب اليد ضمنا، ثم ينتقل منه إلى المنقول إليه، فيقع التصرف بعد
حصول الملك، إما بمعنى مقارنتهما في الزمان مع تقدم الملك على التصرف
بالذات كتقدم العلة على المعلول، أو بمعنى حصول الملك قبل التصرف بزمان
يسير، وأيا ما كان يكفي في حل الإشكال وعدم (4) لزوم جريان حكم الملك في
المباح، وقد وقع نظير ذلك في مقامات من أبواب الفقه نشير إلى بعضها:
منها: الوطئ في العدة الرجعية فإنه يتضمن الرجوع، بمعنى أنه يقع به
الرجوع أولا ثم يتحقق الوطئ، إذ لو لم يتقدم الرجوع كان في حكم الأجنبية

(1) كذا، والصواب: غايته.
(2) في (م): ونحوها.
(3) في (ن): التغير.
(4) في (ف، م): في عدم.
121

فلا يجوز وطؤها.
ومنها: كون العتق مستتبعا للملك في قوله (1): (أعتق عبدك عني) فإن العتق لا
يكون إلا في الملك، فبقول المالك: (أنت حر) ينتقل العبد إلى الامر بالعتق فيكون
ملكا له، ثم يعتق عنه.
وحاصل هذا الكلام: جعل مثل ذلك قاعدة كلية تشمل المقامات كلها، فلا
مانع من كون هذه التصرفات في المعاطاة متضمنة لحصول الملك، ثم بعد ذلك يقع
الأثر في الملك، ولا يلزم من ذلك محذور.
وهو مدفوع بوجوه: (2)
منها: أن هذا الملك الضمني لو قلنا به فإنما هو شئ ثابت بالدليل في بعض
المقامات فيقتصر عليه، ويحتاج في التسري إلى غيره إلى دليل، وهو غير متحقق،
فالأصول حينئذ سليمة عن المعارض.
ومنها: أن ذلك مستلزم لكون التصرف مملكا للعوضين والتصرف من جانب
مملكا للعوض الاخر، وهذا غير معهود، مع أنه إن اقتصرنا على إفادته الملكية فيما
يكون المقصود منه التملك لزم من ذلك المخالفة للسيرة ولكلام الأصحاب، إذ لم
يعتبر أحد في ذلك قصد التملك. وإن قلنا بأنه مفيد للملك مطلقا حتى لو لم ينو به
التملك بل نوى عدمه فلا ريب أن الدخول في الملك قهرا غير معهود في الأحكام
والحدود إلا في بعض المقامات التي ليس هذا منها.
فإن قلت: إنا لو لم نقل بأنه مفيد للملك فلا إشكال في أنه مفيد للزوم كما
يأتي بيانه، فعلى القول بأن المعاطاة بنفسها تفيد الملك يلزم الإشكال في إفادة
التصرف اللزوم، كما ذكرته في إفادة الملك من اختصاصه بقصد اللزوم
وأعميته منه (3).
قلت: يظهر من كلام الأصحاب في غير هذا الباب أن التصرف ملزم مطلقا

(1) في (ن): قولك.
(2) في (ن، ف): من وجوه.
(3) في (ن، ف): عنه.
122

- كما ذكروه (1) في الخيارات وغيرها - ولا مانع منه. وقياس إفادة الملك على إفادة
اللزوم - مع أنه قياس - مردود لا وجه له، لوجود الفارق، فإن الملك القهري غير
معهود، بخلاف اللزوم، فإنه مفتى به في مقامات كثيرة.
ومنها: استلزامه لكون تلف العوضين معينا للعوض المسمى من الطرفين ومن
أحدهما معينا للجانب الاخر، مع أن مقتضى قاعدة الإتلاف الحكم بالضمان
بالمثل والقيمة لا لما وقع عليه التراضي.
فإن قلت: إنهما بعد ما تراضيا على جعل العوضين ما هو المسمى من الجانبين
فلا وجه للمثل والقيمة، لأنهما إن زادا على قيمة المسمى فقد أسقطه صاحبه
بإقدامه على العوض المقابل، وإن نقصا عنه فقد أقدم المتلف على دفع ما هو أزيد،
فلا يجوز له المراجعة على الزائد.
قلت: لا نسلم كون مجرد التراضي على ذلك كافيا في تغيير حكم القاعدة،
فإن من قال لأحد، (أتلف هذا المال الذي قيمته عشرون وعليك عشرة) فأتلفه
المخاطب يلزمه العشرون بحكم الضمان، لأن المالك لم يأذن على الإتلاف مجانا،
بل بعوض، ومتى ما تحقق الضمان فالقاعدة تقضي بأداء تمام القيمة، ولا عبرة
بقول المالك: (وعليك عشرة) حتى يجعل ذلك مسقطا للعشرة.
لا يقال: إنه كما (2) لو أذن بالإتلاف مجانا أسقط جميع العوض، فكذلك في
قوله: (وعليك عشرة) أسقط نصف العوض، لأنه في الحقيقة إسقاط لما لم يجب،
فإن قوله: (إذا أتلفت هذا يصير عليك عشرون وأنا أسقطت منه عشرة) لا ينفع في
شئ، إذ الإسقاط فرع اشتغال الذمة، وليس هذا إلا كقول الزوجة: (أسقطت نفقتي
شهرا) فإنه لا يسقط بذلك.
فإن قلت: لم لا يكون قوله: (أتلف المال وعليك عشرة) بمنزلة قوله: أتلف
النصف مجانا والنصف مع العوض.

(1) في (م): ذكرناه.
(2) في (ن، ف): ويقال كما أنه.
123

قلت: ظاهر قوله: (أتلفه وعليك عشرة) كون العشرة عوض الجميع وعدم
رضاه بالمجانية، غايته أنه رضي بالعوض الأقل ورضاه بذلك قبل حصول الضمان
غير كاف، مع أنه لا معاملة هنا توجب الانتقال إلى الملك بالعوض المسمى - كما هو
المفروض - فيبقى تحت قاعدة الضمان الحاكمة بتمام المثل أو القيمة.
مضافا إلى أن هذا في صورة فرض الزيادة لا يكاد يتم، إذ لو قال: (أتلفه
وعليك عشرون) مع أن قيمته عشرة فكيف يضمن العشرين؟ ومجرد قوله كذلك
ورضا المتلف بذلك لا يجعل ذمته مشغولة به، بل يضمن ما تقتضيه قاعدة الإتلاف
من المثل والقيمة (1).
وبالجملة: مع كون الملك باقيا على ملك مالكه لا يكون الإتلاف إلا موجبا
للمثل والقيمة دون ما سمي في مقام المعاطاة والإباحة.
فإن قلت: فكيف صح ذلك قبل التلف؟ إذ كل من المتعاطيين يكتفي بما أخذه
من العوض، فلم لا يكون بعد التلف كذلك؟
قلت: الفرق بينهما واضح، إذ العين ما لم تتلف فهي مباحة للقابض بإزاء
عوض يتصرف فيه، فإذا صار كذلك فلا مانع منه، وأما بعد التلف فالمرجع إلى
القواعد، وهي تقتضي اعتبار المثل والقيمة.
مضافا إلى أن ذلك لو صح يختص بصورة الأقدام على الإتلاف، وأما لو وقع
التلف بآفة سماوية فلا داعي في ذلك إلى الالتزام بالعوض المقابل، إذ لم يقدم على
إتلافه بذلك العوض حتى يلتزم به، فتدبر.
الرابع: (2) أن مقتضى مقالة المشهور حصول الملك بالتلف، مع أن التالف حال
تلفه لا استقرار له حتى يتحقق الملك، وبعد حصول التلف غير موجود حتى يملك،
والقول بأنه يحصل الملك قبل التلف ثم يتلف تقديم للمسبب على السبب وترجيح
من دون مرجح. ولا ريب أن حصول الملك مع التعاطي - الذي هو معاملة على

(1) في (ن، ف): بل يضمن ما هو قاعدة المتلف مثلا أو قيمة.
(2) أي: الوجه الرابع من وجوه الاستدلال على كون المعاطاة مفيدة للملك.
124

العوضين ومقصود به الملك - أولى من كونه حاصلا بالتلف وأقرب، غايته أن
جواز الفسخ والتراد إنما هو مع بقاء العينين، فمتى ما تحقق التلف من الجانبين أو
من أحدهما يرتفع الجواز وينتهي إلى اللزوم، لكن الملك لا يتحقق إلا بناقل،
والتلف ليس منه.
الخامس: أن الإباحة لو تحققت في الأصل لا يستلزم تحققها في النماء، مع
جريان سيرة الناس على إجراء حكم الأصل على النماء.
واحتمال أن يقال: إن النماء يكون ملكا مع كون الأصل غير مملوك لصاحب
اليد - مع أن ذلك (1) خلاف ظاهر المشهور - مخالف للقواعد، ولا دليل عليه،
كاحتمال كون حصول النماء مملكا لنفسه وللأصل، فإن هذا من الغرابة بمكان!
إذا عرفت هذا فاعلم: أن أصالة عدم النقل والانتقال يمكن دفعها بما ذكرناه
من الأدلة. وأما الاتفاق على الإباحة فمع منعه - لمصير المفيد (2) والأردبيلي (3) وطائفة من المتأخرين (4)) على إفادته الملك - ثم تسليمه، يمكن ارادتهم من
الإباحة الملك الغير اللازم، نظير ما أطلقوه في إباحة المناكح والمساكن للشيعة في
باب الخمس، وحكي هذا الحمل والإرادة (5) عن المحقق الثاني (6). وحينئذ فلا
إشكال في المقام.
ويؤيد هذا الحمل: أنهم بعد ما يذكرون عدم كفاية المعاطاة وإفادتها إباحة
التصرف أنها تلزم بحصول التصرف أو بالتلف، وهذا مما يدل على أنهم يريدون

(1) في (م): مع أنه.
(2) المقنعة: 591.
(3) مجمع الفائدة 8: 140 - 141.
(4) منهم المحدث الكاشاني في المفاتيح 3: 48، والمحدث البحراني في الحدائق 18: 350،
ونفى عنه البعد بل اختاره المحقق السبزواري في الكفاية: 88، ولا يخفى أن المفيد
والأردبيلي وهؤلاء الأعلام الذين أشار إليهم المؤلف قدس سره هم القائلون بإفادة ا لمعاطاة
الملك اللازم، وإلا فالمحقق الثاني ذهب إلى إفادتها الملك المتزلزل ونسبه إلى كل من قال
بالإباحة، كما تأتي الإشارة إليه.
(5) والإرادة: لم ترد في (م).
(6) جامع المقاصد: 4: 58.
125

بالإباحة مقابل اللزوم الذي هو وظيفة العقد - كالبيع ونحوه - لا ما يقابل الملك،
ولو كان مرادهم من الإباحة مقابل الملك للزم أن يقولوا: (ويملك بكذا أو بكذا)
مع أنهم لم يتعرضوا لحصول الملك بالمرة، مع أن المعاطاة هي الغالب بين الناس.
ولا ريب أن الأحكام المترتبة على الملك مما لا يعد ولا يحصى، فكيف
يغفلون عن هذا الأمر العام ويبينون مسألة اللزوم؟
واحتمال كون بنائهم على أن المقبوض بالمعاطاة لا يملك في حال إلى أن
يتلف وينعدم، مخالف للضرورة ولقولهم: (يلزم بكذا) لاستلزامه عدم ترتب حكم
الملك عليه في حال من الأحوال، وهذا مما يخرب (1) نظام العالم، فتبصر.
وأما كون الملك مستلزما للزوم، فنقول: قام الإجماع على أنها لا تفيد (2)
اللزوم، ومخالفة الأردبيلي فقط (3) غير قادحة، ولولاه لقلنا باللزوم أيضا، ولا يلزم
من ذلك لغوية العقود، إذ اعتبارها يصير لإفادة اللزوم، كما أن عادة الناس أيضا
على ذلك، لأنهم كلما أرادوا انضباط الامر بنوا على اجراء العقد.
فالقول بإفادتها الملك مما لا مهرب عنه، حذرا عن لزوم المكابرة مع العيان،
أو ارتكاب تكلفات خالية عن البيان.
هذا هو مقتضى الأنصاف صحيح النظر (4)، وإن كان يمكن المناقشة في أدلة
القول بالملكية أيضا بما لا يخفى على الفطن المتدرب، أعرضنا عن ذكرها وذكر
أجوبتها مخافة التطويل، والغرض التنبيه على جهات الكلام للعارف الفقيه.
المقام السادس
في بيان ماهية المعاطاة التي اعتبرناها
لا ريب أن المعاطاة لا تتحقق إلا مع قبض، فلو لم يكن هناك قبض أصلا

(1) في (م): يفسد.
(2) في (ن، ف): أنه لا يفيد.
(3) قد تقدمت آنفا نسبة القول باللزوم إلى المفيد وطائفة من المتأخرين أيضا.
(4) في (م): النظر الصحيح.
126

- كما لو تراضيا بمعاوضة ما في يد أحدهما بما في يد الآخر من دون قبض - فلا
يتحقق اسم المعاطاة ولا حكمها، ولا تشملها الأدلة، بل السيرة هنا على عدم
اعتبارها.
وإنما البحث في أنه يعتبر القبض الابتدائي ولا تكفي الاستدامة، أم تكفي
الاستدامة كالابتدائي؟
فلو كان مال زيد أمانة في يد عمرو ومال عمرو أمانة في يد زيد فتراضيا
على المعاوضة فهل يجري مجرى المعاطاة أم لا؟ مقتضى الأصل وظاهر لفظ
(المعاطاة) عدم ترتب الآثار على ذلك والأدلة السابقة من سيرة وغيرها لا تشمل
هذا الفرض، بل يمكن دعوى السيرة هنا على عدم الكفاية، ومجرد قيام استدامة
القبض مقام الفعلية في سائر ما يشترط فيه القبض - كالصرف والسلف والرهن
والوقف وغير ذلك على القول به كما هو الأقوى، لا يوجب قيامه مقامه هنا، لأن
المدار هنا: إما على صدق اسم المعاطاة للاجماع على اعتباره وكونه معقد
الاجماع، وهو غير صادق عليه على الظاهر أو يشك في صدقه عليه، وإما على
شمول الأدلة وهي غير شاملة للفرض.
فعلى هذا فلا يكتفى باستدامة القبض، ولا بالقبض في الذمة من الجانبين وإن
قلنا بجواز بيع الدين بالدين أو قلنا: إن المعاطاة معاوضة مستقلة لا بأس فيها
بكون العوضين دينين، لكنه لا يصح من جهة عدم صدق المعاطاة وإن قلنا بأن
الذمة قبض بل أقوى منه، لما عرفت من الوجه آنفا.
ولا يكتفى أيضا بمجرد التخلية فيما لا ينقل، فإن ذلك لا يحقق اسم المعاطاة
وإن كانت كافية في قبض البيع بالنسبة إلى أحكامه ولوازمه.
وهل يشترط [حصول] (1) القبض الفعلي من الجانبين، أم يكفي حصوله من
أحدهما مطلقا، أم يكفي حصول القبض من جانب المعوض دون العوض فيعتبر

(1) لم يرد في (ن).
127

في البيع قبض المبيع وفي الإجارة قبض العين المستأجرة ونحو ذلك؟ وجوه
ثلاثة:
مقتضى الأصل وظاهر لفظ (المعاطاة) اعتبار الجانبين، ويؤيده تفسير
الأصحاب لها بأنها: اعطاء كل من المتعاملين ما في يده عوضا عما في الاخر.
وحيث إن العمدة في إثبات شرعية هذه المعاملة هو السيرة، ولا ريب في
جريانها في صورة قبض المعوض فقط أيضا، إذ حصول النسيئة في المعاطاة أيضا
مما لا يخفى انتشاره بين الناس، فلا مناص عن القول بأنه أيضا كقبض الجانبين،
إذ لا يمكن الحكم بفساد ذلك كله وعدم ترتب الأحكام عليه، فتدبر.
نعم، يبقى الإشكال في صورة قبض العوض خاصة، والظاهر عدم كونه من
باب المعاطاة، والعادة غير جارية بصدق اسم المعاملة عليه، بل الظاهر حينئذ بقاء
العوض في يد البائع - مثلا - أمانة أو قرضا حتى تقع المعاملة بعد ذلك، ولا يضر ما
ذكرناه سابقا من عدم كفاية القبض المستدام، لأن إسقاط ذلك إنما هو لو فرض في
الجانبين، أما في جانب العوض فلا مانع منه، ويكفي حصول قبض المعوض
مطلقا، مع احتمال القول بأن قبض العوض أيضا مع قصد المعاوضة كاف في
المعاطاة، ويكون ذلك نظير السلف، لكنه خلاف الغالب والمعتاد بلا ريب.
المقام السابع
في أن المعاطاة هل هي ملحقة في كل باب بالعقد الذي هو أصل لها؟
فيكون في مقام البيع بيعا وفي مقام الإجارة إجارة وفي مقام الصلح صلحا
وفي مقام الهبة هبة ونحو ذلك، أو هي معاملة مستقلة؟
مقتضى حصر الأصحاب أبواب المعاملات في الأمور المخصوصة وعدم
ذكرهم للمعاطاة عنوانا آخر دخولها فيها، كما أن صدق لفظ (البيع) و (الإجارة)
ونحو ذلك من ألفاظ المعاملات أيضا يقتضي كون المعاطاة داخلة فيها.
وما يقال: إن الفقهاء فسروا البيع ونحوه وصرحوا بأن المعاطاة ليست منه،
128

فكيف يمكن إدخالها تحت هذه الأسماء؟ مدفوع:
أولا: بأن الغرض إدخالها تحتها بالصدق العرفي لإجراء الأحكام المتعلقة
بهذه الأسامي عليها، ولا ريب أن المتبادر من هذه الأسامي أعم من العقد القولي
والفعلي، بل المتبادر منها النقل والانتقال، وهو موجود (1) هنا.
وثانيا نقول: لا ريب في عدم صحة [سلب] (2) هذه الأسامي عن المعاطاة.
وثالثا نقول: إن تفسير الأصحاب إنما هو لعقود هذه المعاملات دون أنفسها،
فما ذكروه معنى عقد البيع دون البيع نفسه، مضافا إلى أن هذه الاستفادة من كلامهم
بناء على قولهم بأنها تفيد الإباحة، واما على ما ذكرناه من التمليك ونزلنا كلامهم
عليه يصير غرضهم من عدم كونها منها عدم إفادتها اللزوم، لا خروجها عن الاسم،
مضافا إلى بعد كون هذه معاملة مستقلة جدا، مع أن أهل العرف البانين على
المعاملة بالمعاطاة يعدونها من العقود المبوبة، ولا يجعلونها خارجة عنها.
ومجرد تخلف بعض الأحكام - كعدم اعتبار ضبط الأجل في النسيئة منها (3)
وعدم المداقة في معلومية العوضين، وعدم ملاحظة بلوغ المتعاقدين، وعدم
الالتزام بالتقابض في الصرف منها ونظير ذلك مما يختلف به أحكامها مع العقد
اللفظي - لا يجعلها معاوضة (4) مستقلة، كما قيل (5).
وحيث قلنا باندراجها (6) تحت أسامي العقود، فالظاهر جريان جميع الأحكام
المذكورة في أبواب العقود من الشرائط في المتعاقدين أو العوضين، وغير ذلك من
أحكام الخيارات والضمان والشروط ونحو ذلك من التوابع وغيرها آتية في
المعاطاة.
واحتمال تقسيم البيع ونحوه إلى القولي والفعلي وصرف الأدلة والشروط

(1) في (م): هما موجودان.
(2) أثبتناه علما بالسقط.
(3) في (ن، ف): فيه.
(4) في (ن) معاملة.
(5) قاله الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس سره انظر شرح القواعد (مخطوط) الورقة: 51.
(6) في (ن، ف): باندراجه، ثم لا يخفى أن غالب الضمائر الراجعة إلى (المعاطاة) في هذا
العنوان قد وردت في غير (م) بلفظ المذكر، والمناسب ما أثبتناه من (م).
129

والأحكام كلها إلى اللفظي والرجوع في الفعلي مطلقا إلى الأصل والقاعدة، خلاف
الظاهر إذ لو لم يكن الفعلي هو الفرد الشائع فلا أقل من التساوي، فلا وجه لصرف
الأدلة إلى اللفظي.
نعم، لو كان هناك حكم ثبت بإجماع الأصحاب ولم يكن هناك دليل لفظي
يمكن التشكيك في إجرائه في المعاطاة بأن الأصحاب حيث لم يدخلوا المعاطاة
تحت العقود، والبيع والصلح ونحوهما في كلامهم ينصرف إلى العقد اللفظي،
فإجماعهم على حكم في البيع لا يدل على كون المعاطاة كذلك، وأما سائر
المقامات فالأحكام التي علقوها على لفظ (من باع) أو (من اشترى) أو نحو ذلك
كلها آتية في المعاطاة.
وهذا كلام موجه لو لم نقل بأن بناء الأصحاب إخراج المعاطاة عن اللزوم، وأما
لو قلنا به - كما هو الظاهر - فلا يفترق الحال بين الحكم الثابت بالنص أو الأجما ع،
إلا مع تصريحهم اختصاصه بالعقد اللفظي، وإلا فمقتضى القاعدة هو العموم.
وينشعب من هذا الكلام فروع لا تكاد تنتهي إلى حد، لا يعجز الفقيه البصير
عن تخريج الكلام فيها (1) والمشي فيها على هذه القاعدة إلا مع دليل مخرج.
وحيث إن وضع الكتاب ليس إلا للإشارة إلى الضوابط أعرضنا عن الكلام
فيها بحسب كل مقام (2) ومن أرادها فليرجع فيها (3) إلى ما كتبناه في الفروع.
كما أن أسباب اللزوم في المعاطاة لها عرض عريض وشحنا بها ما كتبناه في
شرح النافع في هذا المقام.
ولا ريب أن القاعدة في كل تصرف أو تغيير شك في كونه ملزما أم لا هو
البقاء على الجواز حتى يثبت اللزوم، والله العالم.

(1) العبارة في (م) هكذا: لكن الفقيه البصير لا يعجز عن تخريجها.
(2) بحسب كل مقام: لم ترد في (م).
(3) فيها: لم ترد في (م).
130

[العنوان الرابع والثلاثون]
[إشارة الأخرس قائمة مقام اللفظ في
جميع أبواب الفقه]
131

عنوان
[43]
لا يقوم ما عدا المعاطاة من سائر الأفعال مقام العقد اللفظي في حال الاختيار
بلا كلام، للأصل والإجماع، حتى الكتابة والإشارة أيضا. نعم، يلزم من ذلك إباحة
التصرف لو كان كاشفا عن الرضا، وكذا في حال الاضطرار أيضا مطلقا بالأصل
والإجماع، إلا في الإشارة للأخرس أو لمطلق العاجز عن التكلم - كما سيأتي -
فإنه قائم (1) مقام الألفاظ.
وبعبارة أخرى: إشارة الأخرس قائمة مقام اللفظ في جميع أبواب الفقه، كما
في قراءته وتلاوته وذكره في صلاته (2) وفي غيرها، وتلبيته وعقوده وإيقاعاته من
إقرار أو طلاق أو غير ذلك.
وبالجملة: كل مقام يعتبر فيه اللفظ يقوم في الأخرس الإشارة مقامه، والوجه
في ذلك أمور:
أحدها أن يقال: إن الأحكام غالبا تعلقت في الأسباب الشرعية لكل قوم
بمقتضى لسانهم، بمعنى أن الألفاظ اعتبرت في بعض المقامات تعبدا - كما في الصلاة ونحوها - وفي بعض آخر للسببية أو الشرطية، ففي ما اعتبر [اللفظ] (3)

(1) كذا في النسخ، والمناسب: فإنها قائمة.
(2) في (ف، م): صلواته.
(3) لم يرد في (ن، ف).
132

تعبدا لا ريب في سقوطه عن الأخرس، لاستلزامه التكليف بما لا يطاق، فإما أن
لا يلزم فيه شئ آخر، أو يجب الإشارة، وعلى التقديرين فالإشارة كافية،
والغرض: إثبات كفايتها لا لزومها (1) ولزومها إنما هو بالنص (2) أو بقاعدة الميسور،
وتحقيقه في الفروع.
وفيما اعتبر سببا أو شرطا نقول: قد اعتبر فيه الشارع لسان كل قوم بحسبه،
ولا ريب أن طريقة نطق الأخرس إنما هي ذلك، وإن لم يكن من مقولة الأصوات.
فنقول: لأفراد الأخرس أيضا لسان خاص واصطلاح جديد.
وثانيها: أن يقال: إن إطلاق (يقرأ) و (يقر) أو (يبيع) أو (لا عن) أو (ظاهر)
أو (طلق) أو نحو ذلك من الألفاظ الموضوعة لهذه الأسباب يصدق على إشارة
الأخرس أيضا، إذ يصدق عرفا بعد إشارته المفهمة للمراد أنه (طلق) - مثلا - أو
(قرأ) أو نحو ذلك [فمتى ما اندرج أدلة الوضع والتكليف فيكون] (3).
لا يقال: (4) إن الظاهر من هذه الألفاظ إطلاقها على الألفاظ دون الإشارة.
قلت: إن هذا الكلام أما في مثل التكاليف - كقوله: (يقول كذا) أو (يقرأ كذا)
أو نحو ذلك - له وجه، ولكن هنا أيضا نقول: لعل القول والقراءة والذكر ونحو
ذلك (5) أعم من النطق باللسان لمن كان قادرا عليه والإشارة لمن كان عاجزا عنه.
وأما في الوضعيات فنمنع انصراف الأدلة إليه (6)، بل نقول: يصدق الطلاق والبيع

(1) لا يخفى أن غالب الضمائر العائدة إلى (الإشارة) في هذا العنوان قد وردت بلفظ المذكر
في غير نسخة (م)، والمناسب ما أثبتناه من (م).
(2) يعني: الأخبار الواردة في قراءة الأخرس وطلاقه.
(3) ما بين المعقوفتين لم يرد في (م)، وفي هامش (ف) تعليقا على العبارة: (هكذا وجدت في
نسخة الأصل) وفي هامش (م) أيضا: (هكذا وجدت في نسخة الأصل، والعبارة صحيحة
لا غبار عليها) لكن لم يتيسر لنا تعيين موضع التعليقة فيها.
(4) في (م): فإن قيل.
(5) العبارة في (م) هكذا: قلت: إن سلمنا ذلك في مثل التكاليف، كقوله: يقول كذا أو يقرأ كذا،
أو نحو ذلك، ولم ندع أن القول والقراءة والذكر ونحوها أعم...
(6) أي: إلى اللفظ. والعبارة في (م) هكذا: لكن في الوضعيات نمنع انصراف الأدلة عنها.
133

ونحوهما على إشارة الأخرس، فتندرج تحت العمومات.
وثالثها: إجماع الأصحاب - خلفا وسلفا - على كفاية الإشارة من (1) الأخرس
في هذه المقامات، كما يظهر ذلك من تتبع كلماتهم.
ورابعها: الإجماعات المحكية حد الاستفاضة بل التواتر في هذا المقام.
وخامسها: أنه لو لم تكن إشارته كافية للزم من ذلك العسر الشديد والحرج
الوكيد، وهما منفيان في الدين بالنص والإجماع.
وسادسها: ورود النص بكفاية الإشارة للأخرس في بعض المقامات كقراءة
الصلاة (2) وغير ذلك (3) ويلحق ما عداه به، لعدم القول بالفرق قطعا.
فلا شبهة في الأخرس من هذه الجهة، وإنما البحث في أمور:
الأول: أن الإشارة هل يعتبر فيها الدلالة على المراد قطعا، أو يكفي فيها الظن
المستند إلى الغالب المعتاد كما في الألفاظ؟ قيد جماعة من الفقهاء في بعض
الأبواب بالقطع، كما قيده (4) الشهيد الثاني رحمه الله في الوصية قال: (وتكفي الإشارة
الدالة على المراد قطعا) (5)، وظاهر سياق كلامه كون (قطعا) قيدا للدلالة - فراجع -
ولازم ذلك عدم كفاية ما هو الظاهر في المدعى بالغلبة.
وقيد آخرون بكون الإشارة منبئة عن القصد (6). وظاهره أعم من كونه بطريق
القطع أو الظن.
والحق أن يقال: إن الإشارة كاللفظ يكتفى فيها بما هو الظاهر في المعنى

(1) في (ن، ف): في الأخرس.
(3) راجع الوسائل 4: 801، الباب 59 من أبواب القراءة في الصلاة، والوسائل 15: 299،
الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق.
(3) في (م): وغيرها.
(4) في (م): منهم الشهيد الثاني.
(5) الروضة البهية 5: 18. والأولى الاستشهاد بكلام الشهيد الأول في الدروس 2: 295، حيث
قال: (ووصية الأخرس ومن عجز عن النطق بالإشارة المقطوع بها) وهذا كما ترى صريح
في المطلوب، بخلاف كلام الشهيد الثاني، حيث إنه يحتمل فيه كون (قطعا) قيدا للكفاية.
(6) راجع النهاية للشيخ: 631، القواعد 1: 291، التنقيح الرائع 2: 364.
134

بمعونة العادة عند أهل الخرس، ولا يعتبر فيها القطع بالمراد، لأن الأدلة السابقة كما
تشمل مفيد القطع تشمل مفيد الظن، ولاستلزام اشتراط إفادتها العلم العسر
والحرج، بل التعذر غالبا، كما لا يخفى على من تأمل.
نعم، يختص هذا الكلام بمن هو من أهل الإشارة المعتادة كالأخرس أو نحوه
مما طال العذر فيه، بحيث صار تكلمه بالإشارة كمقطوع اللسان، وأما من كان
عروض العذر فيه نادرا - كاعتقال اللسان بالمرض ونحو ذلك بحيث لا يصير
الشخص بذلك ممن عادته الكلام بالإشارة - فالأقوى اعتبار حصول القطع من
إشارته بالقرائن، ولا يكفي الظن، لأن الاعتياد على الإشارة يجعل الإشارات (1)
بمنزلة الألفاظ الموضوعة فيصير الاستناد إليها كالاعتماد في الألفاظ على قانون
الوضع، بخلاف غير المعتاد فإن إشارته ليس بأمور خاصة على المراد كالوضع، بل
إنما هو بالإشارة العامة القابلة لكل شئ، والظن غير كاف في مثله ما لم يحصل
القطع، فتدبر.
الثاني: أنه هل يعتبر في إشارة الأخرس أن يكون على طبق إشارة الأخرسين،
بمعنى أن يكون استعماله الإشارة على نحو ما هو عند سائر أفراد الأخرس كاللفظ
بالنسبة إلى سائر المتكلمين من أهل ذلك اللسان، أم لا يعتبر ذلك؟
وعلى الثاني: هل يعتبر كون تلك الإشارة معتادة عند نفسه ولو كانت مغايرة
لإشارة سائر الأخرسين في هذا المقام - كما لو اخترع الأخرس لنفسه إشارة لكل
مطلب واعتاد ذلك وإن لم يكن على طبق إشارات (2) سائر الأخرسين - أم لا
يعتبر، بل يكفي مطلق إشارته المفهمة للمراد ظنا وإن لم تكن تلك الإشارة معتادة؟
الظاهر: أن كون إشارته معتادة للأفراد (3) الأخرس مما لا دليل على اعتباره،
وقياسه على الألفاظ لا وجه له، لأن مبنى الألفاظ إنما هو على التعلم والتعليم،
بخلاف الإشارات فإنها إلهامية له من الله - سبحانه وتعالى - على حسب ما يخطر

(1) في (ن): الإشارة.
(2) في (ن): إشارة.
(3) في (ن): لأفراد.
135

بباله من الكيفيات، ولا يمكن تطابق أخرسين في ذلك، فضلا عن الكل، مع أن أدلة
الإشارة مطلقة تعم المعتاد للكل وغيره.
وأما كونها معتادة عند نفسه فالظاهر اعتباره، بمعنى أنه لا يوثق بإفادة
المراد (1) مع كون إشارته بذلك الوضع معتادة له حتى يقوم مقام اللفظ، وأما غير
المعتاد فلا عبرة به إلا مع حصول القطع بالمراد، لكن في مقام لم يكن للخصوصية
مدخلية، كما في الإقرار والوصية ونحو ذلك.
الثالث: أن الأخرس لو أتى في مقام عقد أو إيقاع بإشارة غير معتادة له على
ذلك وقصد بها المعنى، فقد ذكرنا أن بالنسبة إلى الغير لا عبرة بها، وأما بينه وبين
الله فهل يجب عليه أن يلتزم بذلك (2) لإطلاق ما دل على سببية الإشارة من النص
والإجماع، أو لا يجب أن يلتزم به؟ (3) لانصرافها إلى الإشارة المعتادة، ولأن
الإشارات (4) للأخرس كالألفاظ لصاحب النطق، فكما أنه لو تكلم الناطق بلفظ
البيع وقصد الإجارة أو بلفظ الطلاق وقصد الظهار أو بلفظ مهمل وقصد أحد
الأسباب لم يصح لمكان العبرة بخصوصية الألفاظ، فكذلك الإشارة قد اعتبرت
خصوصيتها.
ومن ذلك يعلم: أنه يجئ في الإشارة ما في بحث الألفاظ: من الحقيقة
والمجاز والكناية، والمحرف والملحون والغلط، والصريح والظاهر، ونحو ذلك،
فكل ما نتعرض له في الأسباب القولية من الأحكام والشرائط كلها آتية في
الإشارة.
وعليك بتطبيق هذا البحث على ما سيأتي، وتنزيل الإشارة منزلة اللفظ، فإن
هذا هو الضابط في المقام، ولقلة الفائدة لا نطيل الكلام.
الرابع: أنه هل يشترط في الأخرس لوك اللسان في جميع المقامات، أم لا؟

(1) كذا، والظاهر سقوط كلمة (إلا) من هنا.
(2) في (م): بها.
(3) في (م): بها.
(4) في (ن): الإشارة.
136

ظاهر النص الوارد في كتاب الصلاة في القراءة (1) اعتباره. ويدل عليه أيضا قاعدة
الميسور، فإن اللازم على الأخرس تحريك اللسان والتكلم بالألفاظ الخاصة، فإذا
سقط الثاني للتعذر فيبقى الأول بحاله، ولا يفترق الحال بين التكاليف والوضعيات
في ذلك، ويجئ أيضا احتمال عدم القول بالفرق بين الصلاة وغيرها، مضافا إلى
أن الأصل عدم تحقق الأثر إلا بسبب متيقن، والإشارة مع لوك اللسان متيقنة في
التأثير دون ما عداها، فيبقى في حكم الأصل.
ويمكن أن يقال: إن ظاهر الفتوى في العقود والإيقاعات كون إشارته كالقول،
ولم يشترطوا لوك اللسان، وقاعدة الميسور إنما تأتي في المركبات الخارجية
دون العقلية، وما نحن فيه من الثانية دون الأولى، وعدم القول بالفرق ممنوع، إذ
ظاهر إطلاق الأصحاب عدم اشتراطه في الأسباب وإن اشترطوه في الصلاة
للنص.
والذي يقوى في النظر: أن إشارة الأخرس نازلة منزلة الكلام، ولا عبرة بلوك
اللسان أصلا، نعم، قام الدليل عليه في الصلاة، وهو ليس من أجزاء الإشارة ولا
من مقوماتها، بل هو تكليف آخر.
نعم، لو كان المعتاد في الإشارة لوك اللسان بحيث أن الأخرس إذا أراد تفهيم
معنى يلوك لسانه بحيث أنه لولاه لا يعتمد أنه أراد هذا المعنى، فلا بد من تحققه
بخلاف ما لو لم يكن له مدخلية.
وربما تبنى المسألة على أن إشارة الأخرس هل هي إشارة إلى الألفاظ أو إلى
نفس المعنى؟
فعلى الأول يعتبر لوك اللسان، إذ غاية ما قام الدليل عليه هو قيام الإشارة
مقام دلالة الصوت وتقطيع الحروف، وأما قيامها مقام حركات اللسان فلا.
وعلى الثاني لا يعتبر، لأن السبب إنما هو المعنى، وقد اعتبر اللفظ للكشف

(1) الوسائل 4: 801 - 802، الباب 59 من أبواب القراءة في الصلاة، ح 1.
137

عنه، والإشارة (1) في الأخرس كاشفة عن ذلك، فلا ربط لتحريك اللسان، لأنه
مقدمة للفظ، وحيث لا لفظ فلا وجه للتحريك، وذلك نظير تحريك الرجلين في
السفينة لمن نذر المشي في الطريق. مع أنه لو لزم ذلك للزم إظهار الصوت أيضا،
لأنه أيضا لا بدل له وهو مقدور.
ومن هنا يمكن أن يقال بالفرق بين العبادات والمعاملات، إذ العبرة في
العبادات بنفس الألفاظ تعبدا، إذ لا ريب في عدم جواز إفادة ذلك المعنى
بلفظ آخر.
وبالجملة: لخصوصية الألفاظ فيها مدخلية وإن كان المعنى أيضا مطلوبا في
الجملة، أو كاللفظ في بعض المقامات.
وأما المعاملات فالعبرة فيها بالمعاني، ولذلك لا يصح مع عدم العلم بمعنى
اللفظ أو مع عدم قصد الإنشاء ونحو ذلك، والألفاظ قد اعتبرت فيها للكشف.
فاللازم على الأخرس لوك اللسان في العبادة مع الإشارة، لئلا يصير أجنبيا
عن عالم اللفظ بالمرة.
وأما المعاملات: فيكفي فيها الإشارة الدالة على المدعى، لأن كشف الإشارة
قائم مقام كشف اللفظ، ولا خصوصية للوك اللسان، وهذا الوجه عندي غير بعيد.
الخامس: أنه يعتبر في الإشارة أن تكون (2) بالأصبع، أو يكفي كونها بأي
الأعضاء كانت (3) من دون فرق، أو خصوص الأعضاء المعدة للإشارة؟ ظاهر
النص في بحث الإشارة في القراءة وانصراف المطلقات إلى الغالب من كونها
بالأصبع وأصالة عدم تحقق الأثر في غيره اعتبار الأصبع. وظاهر كلام بعض

(1) العبارة في (ن، ف) كما يلي:
فعلى الأول يعتبر لوك اللسان، وعلى الثاني لا يعتبر، والوجه فيه: أنه لو كان إشارة إلى اللفظ،
فنقول: غاية ما قام الدليل على قيام الإشارة مقام دلالة الصوت وتقطيع الحروف، وأما قيامه
مقام حركات اللسان، فلا. ولو كان المقصد المعنى، فنقول: إن المسبب إنما هو المعنى، وقد
اعتبر اللفظ كاشفة عنه، ويكون الإشارة...
(2) في (ن، ف): أن تصير.
(3) في (ن، ف): كان.
138

الأصحاب (1) وعدم ظهور خصوصية في الأصبع عدم اشتراطه.
والحق أن يقال: إن الأخرس الذي له عادة بالإشارة باليد أو بالأصبع أو
بالأصابع أو باليدين أو بالحاجب أو بالعين أو بالشفتين أو بالرأس أو بالرجل أو
بالمركب من الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة أو الأزيد أو المجموع فالعبرة
على معتاده كيف كان، ودلالة النص على الأصبع (2) إنما هو مبني على الغالب.
وأما في الأخرس الذي لا عادة له - كالعرضي ونحو ذلك - فإن ألحقناه
بالأخرس فالظاهر فيه اعتبار الأصبع، لأنه الأصل في الإشارة والمتيقن في
الدلالة.
ويحتمل اعتبار خصوص السبابة، وإن لم تكن فبغيرها مراعيا للأقرب، وإن
لم تكن فبالكف، ثم بالزند، ثم بالمرفق، ونحو ذلك.
وبعبارة أخرى: يلاحظ الأقرب إلى ما هو المعتاد في الإشارة.
السادس: أنه هل يعتبر في الأخرس استحضار الألفاظ في باله على الترتيب
أو المعاني أو كليهما، أو لا يعتبر شئ منهما؟
وتفصيل الكلام أن يقال:
إن الأخرس إما أن يكون الأبكم الأصم الذي لا يعرف الألفاظ ولا كيفيتها
ولا ترتيبها ولا معانيها.
وإما أن يكون ممن يعرف ترتيب المعاني ولا يعرف الألفاظ.
وإما أن يكون ممن يعرف الألفاظ وترتيبها، كما لو كان قارئا يسمع ويحفظ،
لكن عرض له عارض فصار أخرس، ولكن لا يعرف معاني الألفاظ، لعدم اطلاعه
بالعربية (3) أو بمعنى خصوص الألفاظ المقصودة.

(1) مثل المحقق في الشرائع 1: 81، والعلامة في القواعد 1: 273، والشهيد في الدروس
1: 173، وغيرهم ممن اكتفى في قراءة الأخرس بتحريك اللسان وعقد القلب بمعناها.
(2) الوسائل 4: 801 - 802، الباب 59 من أبواب القراءة، ح 1.
(3) في (ن، د): على العربية.
139

وإما أن يكون ممن يعرف الأمرين.
وعلى التقادير: إما أن يكون البحث بالنسبة إلى ما اعتبر فيه اللفظ دون
المعنى، كما في الأذكار والقراءة الواجبة، فإن العمدة في صحة العبادة فيها اللفظ،
ولا عبرة بالعلم بالمعنى وعدمه ولا استحضاره وعدمه. أو بالنسبة إلى ما اعتبر فيه
المعنى دون اللفظ الخاص، كالإقرار والوصية ونظائرهما (1).
وأما بالنسبة إلى مقام اعتبر فيه الأمران - كالطلاق والعتق والنكاح ونحو
ذلك (2) مما يعتبر فيه خصوص الألفاظ وقصد المعاني معا - فنقول: لا ريب في
سقوط ذلك كله عمن لا يعرف ترتيب الألفاظ ولا المعاني، بل يعرف المدعى
إجمالا كالأبكم الأصم الأصلي، فالمعتبر فيه: الإشارة إلى النتيجة المجملة مع القصد
إليها وإن لم يستحضر الألفاظ ولا معانيها الخاصة، لعدم إمكان ذلك في حقه.
وأما من يعرف المعاني المترتبة دون ألفاظها (3) فإن كان في مقام اعتبر فيه
خصوص اللفظ - كالقراءة - فيحتمل فيه لزوم استحضار المعنى حتى يقوم مقام
الألفاظ، ويحتمل عدم اللزوم، لقيام الإشارة مقام اللفظ وبعد عدم وجوب
استحضار المعاني على صاحب اللسان ووجوبه على الأخرس، وهو المتجه.
وأما في مقام اعتبر فيه المعاني والألفاظ، - كالطلاق ونحوه - فيحتمل فيه
أيضا عدم اللزوم، لأن المعاني المترتبة إنما اعتبرت من جهة خصوصية الألفاظ،
وأما لو لم يعتبر هناك لفظ - لتعذره - فلا وجه لاعتبار استحضار معنى اللفظ
ترتيبا، بل يكفي الإشارة وقصد الغاية. ويحتمل اللزوم، لعدم سقوط الميسور
بالمعسور، ومنع الارتباط بينهما. وهذا هو الأقوى، فعلى هذا يقصد المعاني مرتبا
في الذهن، ويشير إلى هذه المعاني المترتبة لتكون الإشارة كاللفظ، ولا يمكن
إشارته إلى الألفاظ لفرض عدم معرفتها.
وأما في مقام اعتبرت فيه المعاني ولا عبرة بخصوص لفظ، فالظاهر كفاية

(1) في غير (م): ونظائر ذلك.
(2) في (م): ونحوها.
(3) في (ن): دون الألفاظ.
140

قصد ذلك المعنى إجمالا وإن لم يكن كقصد معنى الألفاظ على الترتيب، إذ العمدة
هو المدعى.
وأما من يعرف الألفاظ دون المعاني، ففي مقام اعتبار الألفاظ - كالقراءة -
يحتمل لزوم استحضار الألفاظ ترتيبا في الذهن مع الإشارة. وهو الأصح الأقوى.
ويحتمل الاكتفاء بالإشارة وإن لم يرتب في الذهن لو أمكن تصوير ذلك، إذ
الظاهر أن الإشارة إلى اللفظ لا يعقل بدون تصوره، اللهم إلا أن يقال: يمكن القول
بالإشارة إلى المعنى المعلوم إجمالا، وهو بعيد.
وفي مقام اعتبار المعنى لا عبرة بتصوره للألفاظ وإشارته، كما أنه لو تصور
لفظ (لزيد علي ثلاثة دراهم) وأشار إليها ولم يعرف معناه، فلا شك في عدم الثمرة
فيه، بل الميزان إشارته على أصل المعنى بحيث يفهم منه إرادة المدعى من الإقرار
وإن لم تكن إشارته على طبق الألفاظ.
وفي صورة اعتبار اللفظ والمعنى - كالطلاق - فاللازم عليه إحضار صيغة
(أنت طالق) - مثلا - بلفظها وإشارته إليها وإرادته معنى انقطاع علقة النكاح وإن
لم يدرك خصوص معنى (أنت طالق) بالترتيب المعهود.
وأما من يعرفهما معا، ففي مقام اعتبار اللفظ خاصة - كالقراءة - يستحضره،
ولا يجب استحضار المعنى وإن عرفه، وفي صورة الاعتبار بالمعنى فالمعتبر قصد
ذلك المعنى والإشارة المفهمة له وإن لم يقصد المعنى على ترتيب يحصل بتركيب
الألفاظ، وفي صورة اعتبارهما معا - كما في النكاح والطلاق - يستحضر اللفظ
بالترتيب ومعناه على طبقه، ويشير إشارة مفهمة إلى المجموع بالمعتاد إن كان،
وإلا فبما هو الأقرب إلى الصراحة.
هكذا ينبغي أن يحقق المقام.
السابع: أن الظاهر أن العاجز عن النطق لمرض في العضو أو اعتقال لسان أو
قطع - أو غير ذلك من العوارض المستمرة بما يعتد به بحيث يوجب سلب قدرة
النطق - كالأخرس في هذه الأحكام، إذ العلة المستفادة من كلام الشارع هو،
141

العجز، وظاهر الأصحاب أيضا ذلك. ويمكن دعوى عدم الفارق، وتنقيح المناط،
والتمسك بلزوم العسر والحرج، وأصالة عدم وجوب التوكيل، ونحو ذلك.
نعم، يبقى الإشكال في المكره الممنوع عن التكلم خوفا، ففي إلحاقه
بالأخرس مطلقا، أو عدمه كذلك، أو الفرق بين طول الزمان الموجب لتفويت
الأغراض المقصودة له وبين قصره الموجب للزوال بسرعة بحيث لا يفوت من
الغرض ما يعتد به، أو الفرق بين كون الإكراه بحق أو بباطل - لو أمكن فرضه -
وجوه.
والأقوى: الإلحاق (1).

(1) كذا في (ن، د)، لكن في (ف، م): والأقوى: عدم الإلحاق.
142

[العنوان الخامس والثلاثون [
[هل تعتبر العربية في صيغ العقود والايقاعات؟]
143

عنوان
[35]
هل يعتبر في العقود والايقاعات العربية، أو يقع لأهل كل لسان بلسانه، أو
يصح لأهل كل لسان بكل لسان، أو يصح (1) بالملفق من اللغات أيضا؟
ظاهر الأكثر اشتراط العربية، وقد نص على ذلك المحقق الثاني والشهيد
الثاني (2) إلا فيما نصوا على صحته بكل لغة، كالإقرار والوصية ونحوهما.
وقد يستفاد من جماعة من المتأخرين ومن مشايخنا المعاصرين الاكتفاء
بكل لغة فيما عدا النكاح، بل جوزه في النكاح أيضا بعض من قارب عصرنا (3)
منهم: السيد الأجل الأستاذ (السيد محمد الطباطبائي) قدس سره (4).
والظاهر: عدم الخلاف في جواز نحو الإقرار والوصية والوديعة والعارية
والوكالة ونحو ذلك من العقود الجائزة بأي لغة كان، كما هو المصرح به في كلامهم،
ويدل على ذلك سيرة الناس كافة، مضافا إلى صدق هذه الألفاظ أيضا (5) بالنسبة
إلى ما وقع بغير العربية (6).

(1) في (ن) زيادة: لكل.
(2) جامع المقاصد 4: 59 - 60، الروضة البهية 3: 225.
(3) في غير (م): بعض من قاربنا.
(4) لم يعنون المسألة في نكاح المناهل.
(5) في (ن، د): نصا.
(6) في (ن): القرينة.
144

وإنما البحث في العقود اللازمة وما شاكلها من الايقاعات، كالطلاق والعتق
والظهار واللعان والإيلاء، ونظائر ذلك (1) وبالجملة: البحث في غير ما اجمع فيه
على جوازه بكل لغة.
احتج القائلون باشتراط العربية بوجوه:
أحدها: الأصل، والمراد: عدم حصول النقل والآثار الاخر المترتبة على
الإيقاع أو العقود الغير المملكة إلا بما دل الدليل على سببيته، والذي دل الدليل
عليه هو ما وقع بالعربية، وما عداه لا دليل عليه.
وثانيها: أن أدلة العقود عموما وخصوصا إنما تنصرف إلى ما هو المعتاد
الشائع في زمن الخطاب، ولا ريب أن المتعارف في ذلك إنما كانت (2) الصيغ
العربية، وهذا ليس إرجاعا لما عداها إلى الأصل، بل الغرض هو ظهور الانحصار،
إذ لو كان غير العربي جائزا لبين في الشرع.
وثالثها: لزوم التأسي بصاحب الشرع، إذ لا ريب في كون معاملاته إنما هي
باللغة العربية، خرج عن ذلك ما خرج بالدليل وبقي الباقي.
ويمكن التمسك أيضا بوجه آخر، وهو: أن ألفاظ العقود إنما نقلت عن معنى
الأخبار (3) إلى معنى الإنشاء، فالذي استفيد من الشرع كون السبب هو اللفظ
الموضوع لإنشاء المعاملة، ولا ريب أن في سائر اللغات لم يعهد كون معاني هذه
الألفاظ - بمعنى ما يرادفها في المعنى - موضوعا للإنشاء، بل هو (4) باق على
معنى الأخبار، وكون ما هو موضوع للأخبار سببا في مقام ما هو موضوع للإنشاء
أول الكلام.
ويمكن التمسك أيضا بظاهر اتفاق الأصحاب، فإنهم لم يذكروا في شئ من
العقود والايقاعات - غير ما خرج بتصريحاتهم - سوى الصيغة العربية، وسكوتهم

(1) في (م): نظائرها.
(2) في (م): إنما هي.
(3) في غير (م): الاخبارية.
(4) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: هي، والمناسب في العبارة: موضوعة للإنشاء، بل هي باقية.
145

في مقام البيان قاض بالحصر، ويلوح من ذلك إجماعهم على عدم الصحة بغيرها.
مضافا إلى أن الشارع في باب العبادات كافة قد اعتبر الألفاظ العربية في
القراءة والذكر والتلبية ونحو ذلك (1) من الأدعية، ولم يقل أحد بإجزاء ما يرادفها
من الألسنة الاخر، مع أن الإجماع منقول على عدم جواز عقد النكاح بغير الصيغة
العربية، ولا يكاد يظهر فرق بينه وبين غيره، بل الظاهر منهم أيضا عدم ترتب الأثر
على اللعان والإيلاء والظهار والنذر والعهد واليمين إلا بما ذكروه من الألفاظ
العربية، وأي فرق بينها وبين غيرها؟ والقول بانعقاد اليمين ونحوها (2) بغير العربية
مما لم أعثر على مصرح به، وهذا في الحقيقة يقرب من الاستقراء المفيد للقطع
بالحكم.
والمناقشة في التأسي من جهة كونه من الطبيعيات في هذا المقام، من كون
لسان الشارع من لسان العرب (3) غير مسموعة، إذ غاية ما في الباب وقوع الشك
في كون هذا من الشارع لأجل كون لسانه كذلك، أو من جهة كون مقتضى الشرع
ذلك. ولا ريب أن الظاهر في مثل هذا المقام الحمل على كونه من حيثية الشرع
مراعاة لمنصب الشارع فيما يرتبط بالأحكام، ولو كان ذلك جائزا لصدر منه ما
يدل على مشروعية غيره، كما ورد في المقامات الاخر.
لا يقال: لعل عدول أهل كل لسان من لسانه إلى غيره غير جائز، فلعله لم
يعدل عن العربية لأجل ذلك.
لأنا نقول: الظاهر قيام الإجماع المركب على جواز ذلك، إذ كل من جوز بكل
لغة لم يخصص الجواز لأهل كل لغة بلغته، بل جوز بكل لغة لكل أحد مع فهم
المعنى.
واحتج القائلون بالتعميم بأمور:
أحدها: صدق الاطلاقات الدالة على المعاملات أو الايقاعات على الواقع

(1) في (م): ونحوها.
(2) في (ن، د): وغيره.
(3) العبارة في (م) هكذا: ضرورة أن لسان الشارع أحد ألسنة العرب.
146

بأي لغة كانت، والأصل عدم الشرطية.
وفيه: أن هذه الاطلاقات تنصرف إلى ما هو الشائع المعتاد، وهو إما العقد
بالعربية أو المعاطاة، وأما العقد باللغات الاخر فغير شائع، بل نادر جدا. بل يمكن
دعوى القول بأن أهل الألسنة من المسلمين لم يلتفتوا إلى الان على وقوع الصيغة
بلسانهم، إلا بعض قليل منهم اعتمادا على فتوى بعض المتأخرين بالصحة، بل
طريقتهم المعاطاة أو إجراء الصيغة بالعربية إن أرادوا الاهتمام، وذلك واضح، فلا
إطلاق حتى يتمسك بأصالة عدم التقييد.
وثانيها: أن العقد بأي لسان اتفق فهو عقد، وكذلك الطلاق ونحو ذلك، فيشمله
عموم ما دل على الوفاء بالعقود (1)، (والمؤمنون عند شروطهم) (2).
والجواب: بمنع شمول هذه العمومات إلا على ما هو المعروف المعهود بين
الناس من الكيفية المقررة، بل يمكن الشك في كون الواقع باللغة العجمية ونحوها
عقدا أم لا، إذ معناه: العهد المؤكد، والتأكيد إنما هو بما جرى عليه طريقة الشارع.
وبالجملة: ندرة الوقوع والأطلاق كافية في ذلك، مضافا إلى عدم صلاحية
مثل هذه العمومات الضعيفة الدلالة على المقام، لما أسلفناه من الوجوه القوية
الدلالة.
وثالثها: عموم قوله عليه السلام: (إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام) (3) فإنه دال على
كون السبب المؤثر هو الكلام، وهو دال على الطبيعة، فاشتراط كونه عربيا خلاف
الظاهر.
وفيه: أن الظاهر منه عدم كون ما عداه محللا ومحرما: من القصد المحض
والتمني والملامسة ونظائرها، لا أن كل كلام محلل ومحرم.
وبعبارة أخرى: يراد به: حصر السببية في (4) الكلام دون غيره، وليس فيه

(1) المائدة: 1.
(2) عوالي اللآلي 3: 217، ح 77.
(3) الوسائل 12: 376، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 4.
(4) في غير (م): إلى.
147

إطلاق من جهة كيفيات الكلام وشرائطه حتى يتمسك به، وذلك واضح.
ورابعها: ما دل من الأدلة على أن (لكل قوم عقد) (1) ونحو ذلك، فإن الظاهر
كونه لكل قوم بلسانهم.
وفيه: أن ظاهره بيان مشروعيته لكل قوم، معنى: أن لكل طائفة من الناس
عقودا على حسب ما يحتاجونه في أمكنتهم، لا أن كل عقد عقده قوم بأي لسان
كان فهو صحيح.
مضافا إلى أنه ورد أيضا (لكل قوم نكاح) (2) بل الظاهر عدم ثبوته إلا بهذه
العبارة، وأما (لكل قوم عقد) فلم أقف عليه، ولازمه: جواز النكاح أيضا بأي
لسان كان، مع أن ظاهر أصحابنا - إلا من شذ منهم - عدم جوازه إلا بالعربية.
وخامسها: جريان سيرة الناس على الاكتفاء بكل لسان.
وفيه: منع واضح، لأن بناءهم: إما على المعاطاة، أو على الصيغة العربية.
وسادسها: لزوم العسر والحرج في تعيين الإتيان بالصيغة العربية لكل أحد،
مع انتشار الألسنة، وتنائي البلدان، ومشقة التعلم.
وفيه: منع العسر بعد انفتاح باب المعاطاة، وليس غرض الناس غالبا إلا
حصول الملك، وهو حاصل بالمعاطاة، أو غرضهم الإباحة بعوض الراجعة إلى
الملك بالتصرف، وهو مع المعاطاة متحقق (3) مضافا إلى منع حصول العسر بتعلم
ألفاظ الصيغ، فإنها كلمات قليلة يقدر عليها كل أحد، مع أن القادر بتعلم أفعال
الصلاة والأذكار والعبادات قادر على العقد والإيقاع بلا إشكال، مضافا إلى أن
تعلم الصيغ في جنب تعلم الأحكام كالقطرة في جنب البحر، مضافا إلى أن جواز
التوكيل يرفع العسر والحرج بالمرة.
وسابعها: ان العربية لو كانت شرطا لانتشر في الأخبار تعليم (4) الصيغ العربية

(1) الظاهر عدم ورود ذلك في لسان دليل، وسيأتي من المؤلف قدس سره عدم وقوفه عليه.
(2) الوسائل 11: 60، الباب 26 من أبواب جهاد العدو، ح 2. و 14: 588، الباب 83 من أ بواب
نكاح العبيد والأماء، ح 2.
(3) في (م): وهي مع المعاطاة متحققة.
(4) في (ن): تعلم.
148

[على الناس] (1) ولاشتهر بين المسلمين ذلك.
وفيه: أن في زمن الشارع كان أغلب المتشرعين عالما بالعربية والصيغ فلا
حاجة إلى التعليم، مضافا إلى أن هذا الانتشار في العبادات دون المعاملات لوجهين:
أحدهما: وجود البدل في المعاملات دون العبادات، وهو المعاطاة.
وثانيهما: جواز التوكيل في المعاملات دون العبادات، فصار سبب المبالغة في
ذلك دون المقام من جهة ذلك، وهذا (2) واضح لمن راجع طريقة الناس.
ومن أطلق الجواز حتى في النكاح لاحظ هذه الأدلة، ومنع الإجماع المدعى
على المنع فيه، وتسرى إلى ما هو اللازم الاحتياط من أمر الفروج، وجعل الباب
مفتوحا لكل داخل (3).
وأدلة القول باشتراط العربية أيضا وإن أمكن (4) المناقشة فيها: بأن استفادة
الحصر ممنوعة. والأصل مندفع بما ذكر من أدلة التعميم. والتأسي إنما هو فيما علم
وجهه، مع أن الكلام إنما هو في الصحة والبطلان بغير العربي، لا في لزوم الإتيان
بالعربي أو صحته، والترك لا يدل على عدم الجواز والصحة، بل دلالته إنما هو على
عدم اللزوم بغير العربي.
ومجرد عدم كون الألفاظ في غير العربي منقولة إلى الإنشاء غير قادح، لمنع
النقل في العربي أيضا، لتبادر الأخبار عنه مع الخلو عن القرينة، وكونه في مقام
العقد قرينة على الإنشاء. ودعوى: صيرورتها حقائق في خصوص مقام العقد،
بعيدة جدا. كما أن دعوى: كونها حقيقة في الإنشاء مطلقا ويفهم منها الأخبار في
المقامات الاخر، أبعد، بل مقطوع العدم (5).
ولو سلم النقل فإنما هو في الألفاظ المشتقة من موارد (6) العقود والإيقاعات،

(1) لم يرد في (م).
(2) في (ن، د): وهو.
(3) قوله: وجعل... الخ: لم يرد في (م).
(4) كذا، والمناسب للسياق: يمكن، بدل (وإن أمكن).
(5) في (م): مقطوعة العدم.
(6) في (ف): مواد، وفي (ن): أيضا شطب على الراء.
149

كلفظ (بعت) و (أنت طالق) ونحو ذلك، مع أن العقد العربي لا ينحصر في هذه
الألفاظ، كما يأتي.
ودعوى: كون كل ما هو موضوع للإنشاء صحيحا وكل ما ليس كذلك باطلا،
مخالف للإجماع القطعي، ولو سلم ذلك أيضا فيصير هذا نزاعا في عدم وجود
المرادف في الألسنة الاخر، لا منعا لجوازه لو وجد اللفظ الموضوع للإنشاء.
مضافا إلى أن هذا البحث يصير قولا بعدم الجواز من باب أنه مجاز، لا من
جهة أنه غير عربي، وكلامنا في حيثية العربية وعدمها، لا في الحقيقة والمجاز.
والاستقراء المفيد للقطع ممنوع، والمفيد للظن أيضا مشكل، إذ العبادات لا
مدخل لها في هذا المقام، لأنها تعبديات محضة، بخلاف المعاملات، فإن العبرة
فيها بالمعاني والألفاظ كواشف، ومجرد مسألة الطلاق أو اللعان أو اليمين ونحو
ذلك لو ثبت فيها الاقتصار على العربية في ترتب آثارها لا يستلزم كون سائر
العقود كذلك، سيما مع المعارضة بوجود طائفة منها جائزة بكل لغة، كما أشرنا إليه.
وإجماع الأصحاب بعد وجود المخالف ممنوع، بل نسب إلى الأكثر الإطلاق
الدال على الجواز بالعربية وغيرها.
وبالجملة: مقتضى الاقتصار على المتيقن من العربية عدم ترتب الأحكام من
اللزوم وغيره على ما وقع بغير العربية، وإن كان القول بالجواز بكل لغة غير بعيد
بعد التأمل، إلا في النكاح الدائم، بل المنقطع أيضا، لشبهة الإجماع والسيرة
والاحتياط في أمر الفروج.
والظاهر أن بعد الجواز بكل لغة لا يختص لأهل لسان بلسانه، بل يجوز بكل
لسان.
وفي الملفق من اللغتين وجه بعدم الجواز، لعدم التعارف، لكن بعد القول
بصدق العقدية والجواز بأي لغة كانت فالأقوى فيه أيضا الجواز.
150

[العنوان السادس والثلاثون]
[في ضبط ألفاظ العقود والإيقاعات]
151

عنوان
[36]
اختلفت كلمة الأصحاب في ضبط ألفاظ العقود اختلافا فاحشا.
فمنهم: من اقتصر على لفظ واحد، ومن اقتصر على لفظين، ومن اقتصر على ألفاظ.
ومنهم: من اعتبر خصوص ما يشتق من مواد أسامي العقود.
ومنهم: من ذكر ما يفيد معناه أيضا.
ومنهم: من اعتبر الحقائق.
ومنهم: من تسرى إلى المجاز القريب.
ومنهم: من اعتبر المجازات مطلقا.
ومنهم: من اعتبر الصراحة كيف كان.
ومنهم: من ذكر الافتقار إلى الإيجاب والقبول وأطلق.
ومنهم: من مثل بأمثلة.
ومنهم: من ذكر الصيغة الخاصة أيضا.
ومنهم: من ذكر الإيجاب والقبول، ثم قال: والصيغة الصريحة هذا. ولا يخفى
كل ذلك على من راجع كلماتهم، أعرضنا عن النقل مخافة التطويل.
ومجمل الكلام أن المحتملات هنا بحسب الوجوه الفقهية أمور:
أحدها: الاقتصار على ما يشتق من مواد العقود خاصة، كبعت، وصالحت،
152

وآجرت، ووكلت، وأودعت، وأوصيت، وأنت طالق، ونحو ذلك غيرها.
وثانيها: اعتبار كل ما يفيد هذا المعنى حقيقة، مثل (شريت) مع القرينة
المعينة، بناء على اشتراكه بين البيع والشراء (1)، و (ملكت العين) أو (المنفعة) على
أحد الوجهين، وبالجملة كل لفظ يفيد ذلك المعنى (2) بالوضع.
وثالثها: التسري إلى المجازات القريبة أيضا.
ورابعها: اعتبار مطلق المجاز المفهم للمعنى.
وخامسها: اعتبار الصراحة في الدلالة، سواء كان (3) حقيقة أو مجازا مأنوسا.
وبعبارة أخرى (4): لفظ يكون فهم ذلك المعنى منه سريع الحصول: إما لأجل
أصل وضعه، أو كثرة استعماله وتعارفه ولو مجازا، أو لقرب علاقته ومعناه.
والذي يقتضيه النظر الصحيح: أن الميزان هو صراحة اللفظ في إفادة المراد
بجوهره أو بالقرائن، والوجه في ذلك أمور:
الأول: ظهور إجماع الأصحاب على هذا المعنى بعد التأمل في كلماتهم على
اختلافها، فإن الظاهر من اختلافهم بهذه المثابة أن خصوصية هذه الألفاظ ليس
معيار الحكم، بل الميزان: عدم بقاء الاشتباه، ولذلك أن أغلبهم اقتصروا على
الحقائق والمجازات القريبة المأنوسة، بل صرحوا في بعض المقامات بالتعميم بما
شاكل ذلك.
والظاهر أن اقتصار بعضهم على الصيغ المأخوذة من المواد أو (5) المخصوصة
الاخر في الذكر مثال، ويرشد إليه ذكرهم كاف التشبيه (6) غالبا، مضافا إلى أن مثل
العلامة والمحقق والشهيد ونظائرهم اختلفوا في كتبهم المشهورة في تعداد الصيغ،
بل كل واحد منهم اختلف كلامه في كتبه. وحمل ذلك كله على تجدد الرأي
والعدول وإرجاع اختلافاتهم إلى النفي والأثبات ودعوى الحصر بعيد غاية البعد.

(1) في غير (ن): الاشتراء.
(2) في غير (م): يفيد معانيها.
(3) في (م) زيادة: اللفظ.
(4) في (م) زيادة: كل.
(5) أو: لم ترد في (ن، د).
(6) في (م): ذكرهم لها بكاف التشبيه.
153

الثاني: تعليل جماعة منهم جواز بعض الألفاظ بأنه صريح في هذا المعنى،
وعدم جواز بعض ببعده عن إفادة المراد وعدم كونه مأنوسا، وذكر جماعة منهم
- بعد ذكر الإيجاب والقبول - وصيغتها الصريحة كذا مثلا، الدال على أن المعيار
الصراحة.
الثالث: ما هو المعلوم من طريقة الشرع: أن المعيار في المعاملات ليس على
خصوص الألفاظ، بل المدار فيها على المراد، والألفاظ قد اعتبرت كواشف، فلا
وجه للاقتصار على ما يشتق من أصل المواد، ولا على خصوص الحقيقة، مع
شذوذ القول بالاقتصار بهما - كما سنذكر - فينبغي أن يكون المدار على تفهيم
المعنى، لكن حيث إن بناء الشرع غالبا إنما هو على قطع التشاجر والتنازع،
والعقود ونحوها من الايقاعات لما كانت مثار الفتن، فالحكمة تقتضي أن يكون
المعيار في السببية على اللفظ المتعارف الواضح الدلالة، لا على ما كان فهمه
يحتاج إلى تخريج بعيد. وبعبارة أخرى: تتبع الشرع قاض بكون العلائم
والأمارات في كل مقام مبنية على الأمور الواضحة، دون الخفية على الأفهام.
الرابع: أن الأدلة الخاصة - مثل: (أحل الله البيع) (1) و (الصلح جائز) (2) ونحو
ذلك (3) - تشمل كل ما وقع بلفظ صريح، دون ما عداه. أما الثاني: فلأنها إطلاقات
تنصرف إلى المعهود المتعارف، وهو ما وقع بالصريح قطعا وأما الأول (4) إذ ليس
المراد من هذه الألفاظ خصوص لفظ (بعت) و (صالحت) مع اجتماعهما
للشرائط، وإلا لم يمكن (5) التمسك في مقام الشك في شرطية شئ بهذه
الإطلاقات بل المراد (6) منها ما يسمى بيعا في العرف وصلحا ومزارعة، ونحو

(1) البقرة: 275.
(2) راجع الوسائل 13: 164، الباب 3 من أبواب أحكام الصلح.
(3) في (م): ونحوهما.
(4) في (م): وأما الأول: فلأنه بعد معلومية أن ليس...
(5) في (م): ضرورة صحة التمسك.
(6) في (م): بدل (بل المراد): بكون المقصود.
154

ذلك، ولا ريب في صدقها بما يقع بكل لفظ صريح.
والخامس: أن عمومات العقود أيضا إنما تنصرف إلى ما هو المتعارف بالنوع
أو الشخص، ولا يراد به الجامع للشرائط حتى يوجب الإجمال المسقط
للاستدلال، ولازم ذلك شمولها للعقود الصريحة مطلقا، دون غيرها.
لا يقال: إن المتبادر هو العقود المتعارفة في زمن الخطاب، والقدر المعلوم من
ذلك ما هو المأخوذ من مواد الصيغ، وما عداها لم يعلم تعارفها في ذلك الوقت
فكيف تتسرى (1) إلى كل متعارف صريح؟
لأنا نقول أولا: الظاهر تشابه الزمانين، وكون لفظ متعارفا في هذا الزمان في
العقود دون ذلك الزمان بعيد.
وثانيا نقول: إن المدار بمقتضى ما ذكرنا إنما هو على كونه متعارفا، بمعنى: أنا
فهمنا أن المعتبر في ألفاظ العقود الصراحة، وهي تتحقق في المتعارفة، فكل عقد
متعارف صريح معتبر في زمان تعارفه، دون ما إذا هجر، والمهجور إذا تعارف في
زمان صار صريحا.
وثالثا: أن بعد ما عرفنا مصير الأصحاب إلى اعتبار الصريح يكشف (2) ذلك
عن دخوله تحت العمومات والإطلاقات، وما عداه نشك في دخوله (3).
ومن اقتصر على الحقائق تمسك بالأصل وعدم ثبوت ما عداه من الأدلة
- وقد عرفت دفعه - و (4) بالإجماع الذي نقلوه على [عدم] (5) جواز العقد بالمجاز.
ويندفع بمنعه أولا، وباحتمال إرادة المجاز البعيد عنه ثانيا، وبمعارضته
بالإجماع المحكي - بل المحصل - على جواز (ملكت) في البيع مع أنه مجاز.
فإن قلت: إن (ملكت) حقيقة في البيع، لأنه مشترك معنوي أطلق على الفرد

(1) في (م): يتسرى.
(2) في غير (م) يصير.
(3) العبارة في (م) هكذا: وثالثا: أن مصير الأصحاب إلى اعتبار الصريح - كما ذكرناه -
يكشف عن دخول ذلك تحت العمومات والإطلاقات دون غيره.
(4) و: لم يرد في (د).
(5) لم يرد في غير (م).
155

مع الإرشاد إلى الخصوصية من الخارج، أو أن قيد الإطلاق يصرفه إلى البيع، أو
مشترك لفظي بين مطلق التمليك والبيع، أو منقول عن الأول إلى الثاني، أو انه وضع
بالوضع الحرفي لهما، فلا مجاز.
قلت: كونه حقيقة بالاشتراك لفظا أو بالنقل أو بالوضع الحرفي واضح الفساد،
مناف للامارات ونص أهل اللغة وأما كونه من باب إطلاق الكلي على الفرد، فهو
وإن كان يحتمل في بادئ النظر، إلا أنه فاسد بعد التأمل، إذ لا ريب أن المقصود
منه في مقام العقد إنما هو إنشاء التمليك، ولا ريب أن التمليك الكلي غير معتبر إلا
في ضمن أحد الأنواع: من بيع أو صلح أو هبة أو نحو ذلك، فإنشاء التمليك الكلي
غير مشروع قطعا، فلابد من قصد إحدى الخصوصيات في الإنشاء، وهو مستلزم
لإرادة البيع - مثلا - من التمليك، وهو عين المجاز، فتدبر جيدا.
واحتمال: أن أصالة البيعية تصرفه إلى البيع فلا يحتاج إلى قصد الخصوصية
من اللفظ، واضح الفساد، إذ الأصل لا يوجب انصراف اللفظ وصراحته، واللازم
وقوع قصد الإنشاء على التمليك الخاص فلا مناص عن المجازية.
واحتج بعض من ذهب من المتأخرين (1) إلى كفاية أي لفظ كان، من دون
اعتبار خصوصية فيه مطلقا: بأصالة عدم الشرطية، وبعموم (إنما يحلل الكلام
ويحرم الكلام) (2) وبخلو الأخبار عن ذكر الصيغ المخصوصة بالعقود، ولو كان
معتبرا فيه الخصوصية لاشتهر وتواتر، مع أنه لم يثبت بل انعكس الأمر، وبأن
الأخبار الواردة في أبواب العقود منتشرة غاية الانتشار على اختلاف في الألفاظ

(1) لم نقف عليه بشخصه مع ما ذكره من الأدلة، نعم ذهب إلى كفاية مطلق اللفظ جماعة، منهم
المحقق، على ما حكاه عنه تلميذه الفاضل الآبي في كشف الرموز (1: 446) واختاره أيضا،
ومنهم بعض مشائخ الشهيد الثاني المعاصر له، على ما حكاه عنه في المسالك (3: 147).
ومال إليه جملة من محققي متأخري المتأخرين، وبه جزم المحقق الأردبيلي، والمحقق
الكاشاني والفاضل الخراساني، على ما حكاه عنهم المحدث البحراني في الحدائق (18: 350)
ثم قال: وهو الظاهر عندي من أخبار العترة الأطهار التي عليها المدار في الإيراد والإصدار.
(2) الوسائل 12: 376، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 376.
156

والكيفيات، وليس ذلك إلا من جهة كفاية كل ما يسمى لفظا وعقدا.
ولا ريب أن هذه الأدلة كلها (1) لا تثبت أزيد من اعتبار الألفاظ الصريحة، إذ
ليس في الأخبار الواردة في الأبواب ما دل على الجواز (2) وليس فيه (3) صراحة
إلا نادرا.
مع أن في إزائها أيضا بعض الأخبار الدالة على عدم الجواز ببعض الألفاظ (4)
الكاشفة عن عدم كفاية كل لفظ، ولا يخفى ذلك على من لاحظ الروايات الواردة
في أبواب العقود، وربما نشير إلى بعضها في البحث الآتي إن شاء الله تعالى.
وخلو الأخبار عن الصيغ ممنوع، بل فيها ما يدل على أن الصيغ كانت معلومة
عندهم (5) بحيث لو خرج واحد منها إلى غيرها لاحتاجوا إلى السؤال عن حكمها.
وعموم تحليل الكلام وتحريمه ممنوع. والظاهر نفي الحكم عما عداه، لا
إثباته لكل كلام. وقد تقدم البحث فيه (6).
وليس في الأدلة عموم أو إطلاق يشمل كل لفظ حتى يتمسك في اشتراط
الصراحة بالأصل.
والذي يظن كونه داعيا إلى المصير إلى كفاية كل لفظ - مع عدم الدليل عليه
ومخالفته لظاهر اتفاق الأصحاب - أنهم لما رأوا ما يرد من الاعتراض على باب
المعاطاة من جريان أحكام الملك على المقبوض بالمعاطاة، مع فتوى المشهور
بأن التقابض بنفسه لا يملك بل يفيد الإباحة أرادوا التخلص عن ذلك بالقول بكون
كل لفظ كافيا في التمليك، وحيث إن المعاطاة لا تخلو من لفظ إلا نادرا، بل لا

(1) لم نتحقق المقصود من الأدلة المشار إليها، ولا يخفى ما في هذه الفقرة من عدم وضوح
الارتباط.
(2) كذا في النسخ، ولم يتضح لنا معناه.
(3) كذا في النسخ.
(4) مثل ما ورد من النهي عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة، انظر الوسائل 12: 266،
الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح 13.
(5) ليت المصنف قدس سره عين ما يدل على ذلك من الأخبار!
(6) تقدم في ص: 147.
157

،
تخلو أصلا، فيصير داخلا تحت العقد المملك ويرتفع الإشكال من البين. ولكنه مما
لا يسمن ولا يغني من جوع!
أما أولا، فلأن فتوى المشهور بالإباحة إنما هي (1) في المعاطاة المعروفة الغير
الخالية عن اللفظ غالبا، فلا ينفع ذلك في وضع التناقض والإشكال لو أريد من
ذلك رفع التناقض من كلامهم.
وأما ثانيا: فلأنه لو قلنا أيضا بأن كل لفظ مملك فإنما نقول به لو قصد النقل
والانتقال باللفظ وجعل سببا في المعاملة، ولا ريب أن اللفظ الصادر من الناس في
المعاطاة لا يريدون به سوى المقاولة، وأما التمليك فإنما يحصل بالفعل عندهم لو
قصد التملك كما قلنا، أو الإباحة على ظاهر المشهور، وأما اللفظ فلا مدخلية له في
شئ منهما، كما لا يخفى على المتأمل.

(1) في غير (م): هو.
158

[العنوان السابع والثلاثون]
[في اشتراط الماضوية في العقود وعدمه]
159

عنوان
[37]
اختلفوا في اعتبار الماضوية في العقود، أو كفاية الجملة الاسمية أيضا، أو
المستقبل كذلك، أو صيغة الأمر أيضا، أو صحتها بالاستفهام ونحوه مع الجواب
بنعم ونحوه - وكذلك في القبول - أو كفاية ما هو الصريح في المدعى بأي عبارة
كانت، أو الدوران مدار الدليل الخاص فيما دخل أو خرج، على وجوه، بل أقوال.
احتج من اعتبر الماضوية بأمور:
أحدها: أن الصراحة معتبرة بتقريب ما أسلفناه من الأدلة (1) وهي كما تعتبر في
المادة تعتبر في الهيئة، ولا ريب أن الأمر بعيد عن مقاصد العقود جدا، والمستقبل
محتمل لأن يراد به الاستفهام أو يراد به مجرد الوعد، فلا صراحة فيه في الوقوع
والإنشاء والجملة الاسمية صريحة في الأخبار، فانحصر في الماضي، لبعد ما عدا
ذلك عن المدعى بكثير.
وثانيها: أن الماضي دال بأصل الوضع على وقوع ذلك الفعل في الزمن
الماضي، فيصير الوقوع في آن التملك الذي هو المقصود بالعقد أقرب إلى مدلوله
اللغوي، فإن قلنا بأنه منقول عن معناه الأخباري فلا كلام فيه، وإن قلنا بالمجازية

(1) راجع العنوان السابق.
160

فهو أقرب من غيره إلى قصد هذا المعنى المجازي جدا.
وثالثها: أن أدله العقود بعمومها وإطلاقها لا تشمل غير ما هو المعهود بين
الناس، ولا ريب في كون المعهود الماضي فقط دون ما عداه، فيصير الماضي مما
ثبت سببيته، وما عداه باق تحت الأصل.
ورابعها: مصير أكثر الأصحاب إلى اعتبار الماضوية، بل الظاهر اتفاقهم على
ذلك إلا فيما خرج بالدليل.
وخامسها: حكاية الإجماع عن جماعة على عدم الجواز بغير الماضي من سائر
الهيئات (1) المجبور بشهرة العمل، المعتضد بالأصل، مع تأيده بطريقة الاحتياط.
واحتج من عمم بأن الصراحة هو المعيار، فأينما تحققت صحت، وتمثيل
الأصحاب بالماضي غير دال على الانحصار، سيما مع تصريحهم في مقامات اخر
بجواز الأمر والجملة الاسمية والمستقبل ونحو ذلك، ولا يفترق الحال في قصد
الإنشاء بين هذه الهيئات بعد كونها مجازات، مضافا إلى إطلاق أدلة العقود
وعموماتها، وأصالة عدم الشرطية إلا فيما ثبت، وليست الماضوية منها، مع أن
العقود الجائزة قد نصوا على جوازها بأي هيئة كانت، ولا فارق بين العقود من
هذه الجهة.
وتفصيل البحث أن يقال: [أما] (2) العقود الجائزة - كالهبة والقرض والشركة
والمضاربة والوديعة والعارية والوكالة - لا يشترط فيها الماضوية، ولا خصوصية
هيئة أخرى، بل المدار فيها على إفادة المعنى كيف كان، وقد نص عليها
الأصحاب (3) بل يكفي فيها الملفق من القول والفعل، ويكفي الفعل من الجانبين.

(1) منهم العلامة في التذكرة 1: 462، ولم نظفر على ادعاء الإجماع في غيرها، نعم ربما يظهر
من كلام المحقق السبزواري أنه مما لا خلاف فيه، حيث قال: (قالوا: ولا ينعقد إلا بلفظ
الماضي) ولم يحك خلافا عن أحد، انظر الكفاية: 88.
(2) لم يرد في (ن، د).
(3) نص بذلك الشهيد الثاني قدس سره في قرض الروضة البهية 4: 12 وهكذا المحدث البحراني في
الحدائق 20: 109، والسيد الطباطبائي في الرياض 1: 576.
161

ويدل على ذلك كله سيرة الناس، وإطلاق الأدلة في مشروعية ذلك كله يشمل هذه
الصور كافة.
وإنما البحث في العقود اللازمة التي لا تكفي في لزومها المعاطاة ولا كل لفظ،
هل يعتبر في ذلك الماضوية أم لا؟
فنقول: قد ورد الاكتفاء في المزارعة بصيغة الأمر في النص (1)، وأفتى به
الأكثر (2) وأفتى جماعة في المساقاة أيضا بذلك (3) مع عدم النص (4).
وأفتى الأصحاب بجواز الجملة الاسمية في الرهن (5) وهو من العقود اللازمة
من وجه وإن جازت من آخر، والقاعدة على ما زعموا تبعيته لأخس الطرفين
وهو اللزوم، للأصل مع أنهم جوزوها فيه، ومجرد تعليلهم بجوازه من طرف
المرتهن - الذي هو العمدة - لا يكفي في ذلك، إذ المدار على صدق أدلة الرهن
وعدمها، ولم يرد دليل على الجواز في الجائز والعدم في اللازم حتى نتتبع في ذلك
صدق اللازم والجائز، ونلحق الملفق بأحد الطرفين بالترجيح.
وأفتوا في القرض بالجواز بأي لفظ يؤدي المعنى من دون ظهور خلاف بينهم
في ذلك، مع أنهم اختلفوا في كونه عقدا جائزا أو لازما، وإن قلنا بأنه جائز
وحققناه في بحث أصالة اللزوم، فراجع (6).
وجوزوا في الهبة بقوله: (هذا لك) (7) ونحوه، حتى الشهيد الثاني (8) الذي يرى

(1) الوسائل 13: 200، الباب 8 من أبواب المزارعة والمساقاة، ح 5.
(2) منهم المحقق في الشرائع 2: 149، والعلامة في التحرير 1: 256 وغيره، والمحقق
الأردبيلي في مجمع الفائدة 10: 96.
(3) منهم العلامة في التذكرة 2: 343، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 10: 122.
(4) يمكن أن يكون مستندهم خبر يعقوب بن شعيب، انظر الوسائل 13: 202، الباب 9 من
أبواب المزارعة والمساقاة، ح 2.
(5) منهم العلامة في التذكرة 2: 12، والشهيد الثاني في المسالك 4: 8.
(6) راجع العنوان 29.
(7) منهم العلامة في القواعد 1: 274، والشهيد في الدروس 2: 285.
(8) الروضة 3: 192.
162

شرطية الماضوية ويبالغ فيه، ورد النص في بحث المزارعة خلودا إلى القاعدة
على ما اختاره، وقال: الخروج بهذا النص الضعيف عن قاعدة نظائره مشكل (1) مع
أن الهبة قد تكون لازمة، كما في هبة ذي الرحم والزوجين، كما أفتى به هو (2) ودل
عليه صحيحة زرارة (3). وقد نص في أول عقد الهبة - في الروضة (4) - بكفاية قوله:
(هذا لك) من دون تفصيل بين كونه لازما أو جائزا. وورد في رواية سهل
الساعدي في النكاح الجواز بصيغة الأمر (5) وافتي (6) به.
وفي رواية في المتعة الجواز بلفظ المستقبل (7)، وقد أفتى بجوازه في مطلق
النكاح أيضا جماعة (8).
وقد وردت أيضا روايات متفرقة في باب البيع وغيره، وقد جمعها صاحب
الحدائق في أوائل البيع (9) على اختلاف فيها (10) بالجملة الاسمية والمضارع
والأمر، وغير ذلك.
فإما أن نقول بأن كل ذلك مطروح والمعتمد هو الماضي عملا بالمتيقن من
الأدلة، والرجوع فيما سواه إلى أصالة عدم الصحة واللزوم.
وإما أن نقول: إن هذه كلها ما ورد فيها دليل معتبر نقتصر على مورده ولا
نتسرى إلى المقامات الاخر، وما ليس دليله معتبرا فهو غير مسموع في قبال

(1) راجع المسالك 5: 8، والروضة 4: 276 و 310.
(2) الروضة 3: 195.
(3) الوسائل 13: 339، الباب 7 من أبواب أحكام الهبات، ح 1.
(4) الروضة 3: 193.
(5) عوالي اللآلي 2: 263، ح 8، ورواه في الكافي (5: 380 ح 5) عن أبي جعفر عليه السلام.
(6) ظاهر السياق ما أثبتناه - بصيغة الماضي المجهول - ويحتمل أن تكون بصيغة المعلوم
برجوع الضمير إلى الشهيد الثاني قدس سره راجع المسالك 7: 90 - 91.
(7) بل ورد في روايات، راجع الوسائل 14: 466، الباب 18 من أبواب المتعة.
(8) منهم المحقق في الشرائع 2: 273، والعلامة في القواعد (2: 4) على رأي، وقواه صاحب
المدارك في نهاية المرام 1: 26.
(9) الحدائق 18: 351.
(10) في (ف، م): فيه.
163

الأصل والقاعدة.
وإما أن نقول بأن هذه كلها محمولة على المقاولة، ولا تدل على عدم كون عقد
بعد ذلك، فلعل في هذه الوقائع صدر عقد أيضا، والمنقول في الروايات نفس
المعاملة، ولا أقل من وقوع المعاطاة في أكثرها.
وإما أن نقول بعدم اعتبار هيئة خاصة، بل نقول: إن الميزان الصراحة كيف
كانت (1).
فهذه احتمالات أربع، أجودها الاحتمال الأخير، لبعد الحمل على المقاولة
جدا، لظهور كل ذلك في كونه عقدا بنفسه، فراجعها.
والطرح بعيد جدا، لانجبار بعضها بالعمل وكثرتها وانتشارها المقطوع صدور
بعضها عن الأئمة عليهم السلام وبعد الاقتصار إلى محالها، لعدم ظهور تفرقة بين العقود من
تلك (2) الجهة. ولتفصيل الكلام محل آخر.
وفي اشتراط صحة الألفاظ وسلامتها عن التحريف واللحن وجهان: أقواهما
الاشتراط مع الاختيار، وعدم جواز ما يفسد المعنى، لعدم انصراف الأدلة إليه وإن
قصد المعاملة، وأصالة عدم النقل ونحو ذلك من الأدلة.
وفي صورة عدم كونه مغيرا للمعنى ينبغي الحكم بالصحة، وإلا لبطل كلمات
أهل اللسان كلهم، فإنهم يتكلمون بتحريف ولحن غالبا، مع أنه صحيح، واشتراط
عدمهما في العبادات (3) للدليل.
وأما مع العذر فالواجب الإتيان بالمقدور، لعموم (قاعدة الميسور) وللإجماع
الظاهر من الأصحاب - وفي كلام بعضهم: أنه مشهور (4) - ولاستلزام التكليف بالتوكيل العسر والحرج الشديدين. وسقوط العقد عنه بالمرة أيضا مخالف للأصل
والقاعدة، فانحصر في لزوم اعتبار ما أمكن.

(1) في (ذ، م): كيف كان.
(2) في غير (م): في ذلك الجهة.
(3) في غير (ن): في العبادة.
(4) لم نعثر عليه.
164

ولو اختلفت جهات الصحة والفساد واللحن والتغيير بحركة أو حرف إعرابي
أو بنائي - في العربي كان ذلك أو في غيره من الألسنة - فهل اللازم اعتبار الأصح
فالأصح في كل مرتبة من المراتب ملاحظة للأقرب فالأقرب؟ فما لا يقدر على
تتميم حركاته أولى مما لا يقدر على تتميم حروفه، وما ينقص فيه حركة الأعراب
أولى من حركة البناء، وكذا بالنسبة إلى الحرف الواحد والمتعدد والحركة الواحدة
والمتعددة ونظائر ذلك (1) كل ذلك للأصل. وإذا تعارض الوجهان من الجانبين
- كحرف من جانب وحركتين من جانب آخر - فالرجوع إلى المرجحات الاخر،
أو التخيير بين هذه الصور، إذ بعد نقصان الكل لا يتفاوت الحال فلا وجه لتقديم
أحدهما على الاخر.
أو القول (2) بتقديم اللفظ الصريح على المدعى أي نحو كان؟ وجوه
واحتمالات.
ولا يبعد [أن يقال] (3): إن اللفظ الصريح لابد من اعتباره، ولا عبرة بغير
الصريح، لا في محرف ولا في صحيح. وإذا تعارض فيه جهات التحريف،
فالأقرب الالتزام بما هو أقرب للصحة، وإن تعارضا فالتخيير، ولا يبعد القول
بالتخيير أيضا من أول الأمر، حذرا من لزوم العسر والحرج.

(1) في (م): ونظائرها.
(2) عطف على قوله: فهل اللازم اعتبار الأصح فالأصح.
(3) من هامش (م).
165

[العنوان الثامن والثلاثون]
[اشتراط الترتيب والتطابق
في الإيجاب والقبول]
167

عنوان [38]
في اشتراط الترتيب والتطابق، وفيه بحثان:
الأول
في الترتيب
وهو عبارة عن تقديم الإيجاب على القبول.
ذهب جماعة من الأصحاب إلى لزومه في العقود كافة (1) ولو انعكس لم تصح.
وذهب الأكثرون إلى عدم لزومه (2) فيصح تقديم كل منهما على الاخر.
وذهب بعضهم إلى التفصيل بين النكاح وغيره (3) فيجوزه فيه دون غيره.

(1) منهم المحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 60 و 12: 74، ولم نظفر على غيره ممن قال
بلزوم تقديم الإيجاب مطلقا، إلا أن العلامة في التذكرة صرح في البيع باشتراط تقديم
الإيجاب على الأقوى، وفي النكاح بعد أن نقل عن أحمد - من العامة - المنع من تقديم
القبول نفى عنه البأس، انظر التذكرة 1: 462 و 2: 583.
(2) منهم المحقق في الشرائع 2: 13 و 273، والعلامة في التحرير 1: 164 و 2: 4، والشهيد في
اللمعة: 109 و 184.
(3) منهم ابن حمزة، فإنه صرح في البيع بلزوم تقديم الإيجاب على القبول، وقال في النكاح:
ويجوز تقديم القبول، راجع الوسيلة: 237، 291، ويستفاد التفصيل من كلام فخر المحققين
أيضا، انظر إيضاح الفوائد 1: 413، وفي شرح النافع - لصاحب المدارك - نسبة عدم اشتراط
تقديم الإيجاب في النكاح إلى المشهور بين الأصحاب، نهاية المرام 1: 26.
168

وفصل بعضهم بين القبول بلفظ (قبلت) ونحوه وغيره (1) فجوز التقديم في
الثاني دون الأول.
احتج القائلون بالترتيب بأمور:
أحدها: أصالة عدم النقل والانتقال إلا بما ثبت من الأدلة، وليس إلا ما قدم فيه
الإيجاب.
وثانيها: أن أدلة العقود كلها تنصرف إلى ما رتب (2) فيه القبول على الإيجاب،
فالعكس ليس مشمولا لأدلة العقود، فلا يصح، وقد تقدم ما يوجب كونه فارقا بين
الدليلين.
وثالثها: أن القبول عبارة عن الانفعال، وهو مبني على كون فعل صادرا من
آخر حتى يتحقق هناك انفعال، فلو قدم على الإيجاب لزم البناء على أمر لم يقع.
واحتج من جوز التقديم على أنه قبول مقدم (3) بوجهين:
أحدهما: مصير المعظم - بل الكل - على ذلك.
وثانيهما: إطلاق أدلة العقود الشامل لصورتي التقديم والتأخير، والأصل عدم
التقييد.
ويمكن أن يتمسك بدلالة النصوص في النكاح على تقديم القبول من جانب
الزوج، ففي ما عداه بالأولوية، إذ الاحتياط في أمر الفروج أزيد (4) أو في ما عداه
بعدم القائل بالفرق، استضعافا لقول من فرق بينهما.
ومن فصل بين النكاح وغيره اعتمد في النكاح على النص (5) الدال على

(1) انظر المسالك 3: 154، ومجمع الفائدة 8: 146.
(2) في (ن، د): ترتب.
(3) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: احتج من جوز التقديم بالتقديم.
(4) في (م): أشد.
(5) راجع الوسائل 14: 194، الباب 1 من أبواب عقد النكاح، وص 466، الباب 18 من أبواب المتعة.
169

التقديم (1) وفي غيره بالأصل، ومنع الإجماع المركب، ومنع الأولوية أيضا بأن
الايجاب في النكاح إنما هو في طرف المرأة وهي تستحيي غالبا فناسب تقديم
القبول، فلعل السر مراعاة الحياء، وهو غير موجود في الأبواب الأخر.
ومن فرق في أفراد القبول بين (قبلت) ونحوه وبين غيره - ك‍ (تزوجت)
و (اشتريت) و (ابتعت) ونحو ذلك (2) - بأن كلمة (القبول) وما بمعناه صريحة في
البناء على أمر سابق، فاستعمالها فيما لم يقع بعد مستبعد راجع إلى استعمال المجاز
البعيد، بل ولو ابقي معناه على ما هو عليه لزم إرادة المحال - وذلك واضح - فأمره
دائر بين إرادة المحال أو المجاز البعيد المفرط في البعد، وكلاهما مما لا يصح، فلا
يجوز تقديمه. وأما ما عداه (3) فلا صراحة فيه في هذا المآل (4)، فلو ابقي على معناه
صار كالإيجاب، ولو صرف عن معناه - أيضا - إلى القبول لم يكن بعيدا عن معناه،
فتدبر جدا.
والتحقيق يقتضي رسم الكلام في بيان أمرين:
أحدهما: في معنى الإيجاب والقبول، وتفرقتهما.
فنقول: كما أن لفظ (الإيجاب) لا مدخل للتسمية فكذلك لفظ (القبول)
بمعنى: أنا لم نجد عقدا يقال فيه: (أوجبت) ومع ذلك يسمون مثل (بعت) إيجابا،
فكذلك القبول ينبغي أن لا يدور مدار لفظ (قبلت) بل قد يكون ب‍: (نعم) و (بلى)
و (تزوجت) و (اشتريت) ونحو ذلك من الألفاظ الاخر، فالميزان في معرفة
الإيجاب والقبول أي شئ؟
فنقول: يدور الفرق بينهما بين أشياء:
[1] أما أن يكون الفرق بينهما بالتقدم والتأخر (6) بمعنى: أن كل جزء من جزئي العقد تقدم على الاخر في الوجود الخارجي فهو يسمى ايجابا بأي عبارة كانت

(1) في (ف، م): التقدم.
(2) في (م): ونحوها.
(3) يعني: ما عدا (قبلت).
(4) في هذا المآل: لم يرد في (م).
(5) في (ن، ذ): بالتقديم والتأخير.
170

وما تأخر في الوجود الخارجي يسمى قبولا بأي نحو وعبارة كان.
[2] وأما أن يكون الفرق بينهما بكون ما يصدر من الجانب الذي هو العمدة في
هذه المعاملة إيجابا، وما يصدر من الجانب الآخر قبولا، سواء تقدم أو تأخر بلفظ
(القبول) أو غيره، فما يصدر من البائع إيجاب وإن قال: (قبلت الاشتراء) وما
يصدر من المشتري فهو قبول وإن قال: (ابتعت المال).
وكون الموجب هو العمدة: إما أن يكون من جهة كون العوض الذي هو
موضوع العقد من جانبه - كالمرأة في النكاح، والعين في البيع، والمنفعة في
الإجارة، ونظائر ذلك (1) من الوقف والصدقة والهبة والسكنى والقرض والرهن
والضمان ونحوها - أو من جهة كون المتعاقدين قاصدين لكونه العمدة، كما في
الشركة مع البذل من الجانبين، أو المسابقة مع البذل من الجانبين، ونحوه (2).
وبالجملة: كل من هو العمدة في هذا العقد (3) يسمى موجبا والاخر قابلا، ولا
عبرة بالتقدم والتأخر ولا الألفاظ في ذلك.
[3] وأما أن يكون الفق بينهما بأمر معنوي، وهو أن يقال: أن الايجاب عبارة
عن الابتداء بإحداث أثر بحيث يكون هو المقتضي في الحصول وهو الذي يستند
إليه الفعل، والقبول عبارة عن الانفعال الذي هو بمنزلة رفع المانع عن ذلك
المقتضي، فلو قال الزوج - مثلا -: (تزوجتك) فقالت المرأة: (قبلت) أو
(رضيت) أو (زوجتك نفسي) فالأول الإيجاب وإن صدر عن الزوج، لأنه الذي
أحدث الأثر وأوجد المقتضي في المعنى، وما وقع (4) من طرف المرأة هو رفع
المانع والانفعال لذلك الفعل، وهذا مع كون الرجل قاصدا لإنشاء الزوجية لنفسه،
أي: جعل نفسه زوجا والمرأة زوجة.
ولو قالت المرأة أولا: (زوجتك نفسي) منشئة لكون نفسها زوجة والرجل
زوجا، فهي موجبة، والرجل قابل لو قصد الانفعال من ذلك الفعل وإن قدم

(1) في (م): نظائرها.
(2) كذا، والمناسب: نحوهما.
(3) في (ف، م): القصد.
(4) في غير (م): صار. ولعله في الأصل: صدر.
171

قوله: (تزوجت).
وبعبارة أخرى: لو قال الزوج: (تزوجت) وهو يريد الانفعال من ذلك
التزويج [الذي] (1) تحدثه المرأة بعد ذلك فهو قبول وإن تقدم، وإن أراد إحداث
النكاح فهو موجب، والمرأة أيضا تعلم بالقياس.
ونحوه لو قال المشتري: (ابتعت) أو (اشتريت) قاصدا لنقل الثمن من جانبه
إلى البائع ونقل المبيع إليه فهو موجب، ولو أراد قبول ما يحدثه البائع بعد ذلك من
البيع - بمعنى: أني ملتزم بما تنشؤه (2) بعد ذلك من التملك والتمليك ولست (3 من ذلك - فهو قبول وإن تقدم.
ومن هنا يعلم وجه التسمية بالقبول، لأنه متمحض في إرادة الانفعال، وغير
قابل لإرادة الأحداث والتأثير، وبالإيجاب (4) لأنه صريح في إرادة الفعل.
ومن ذلك ظهر أنه لا يمكن النزاع في لفظ (قبلت) أنه يقدم أو يؤخر، إذ لا
يمكن استعماله في معنى الإيجاد والأحداث، لأنه مجاز بعيد، بل غلط، فهو متى
ما وقع فلابد من تأخره وهو متمحض في القبولية.
وثانيهما (5): أن النزاع لا يعقل وقوعه على الفرق الأول بين الإيجاب والقبول،
إذ لو بنينا على أن كل ما تأخر فهو القبول فكيف يعقل تقدمه؟
وإن بنينا على الفرق الأخير فكذلك، إذ بعد فرض أن القبول عبارة عن
الانفعال ينحل إلى أن إنشاء القبول موقوف على كون الإيجاب منشأ قبله، وقبول
الفعل الذي لم يقع بعد مستلزم لتقدم الانفعال على الفعل وهو محال، فلو كان
القبول على حقيقته، لا يمكن تقدمه، وتصير (6) الألفاظ الاخر التي تقع موقع لفظ
(قبلت) ونحوه إذا أريد منها حقيقة القبول كلفظ القبول الذي لا يعقل معناه إلا بعد

(1) من هامش (م).
(2) في (م): أنه ملتزم بما ينشؤه.
(3) في (م): ليس.
(4) أي: وجه التسمية بالإيجاب.
(5) أي: ثاني الأمرين، تقدم أولهما في ص: 170.
(6) العبارة في (م) هكذا: فلا يمكن تقدم القبول وهو باق على حقيقته، بل الألفاظ الا خر....
172

وقوع مقبول، فالمانع حينئذ يصير عقليا.
لا يقال: أي مانع من إنشاء قبول ما يقع بعده؟ سواء كان بلفظ القبول أو بغيره،
فيقصد المتكلم كونه راضيا وملتزما بما سيقع من مضمون الإيجاب.
لأنا نقول: إن أراد من ذلك إنشاء الالتزام والرضا فهو أيضا إيجاب وإحداث
لشئ، وهو خارج عن حقيقة القبول. وإن أريد به حقيقة القبول فلا يتحقق إلا بعد
المقبول - والفرض: أن الإنشاء لا يتخلف عن المنشأ - فتقدم القبول بهذا المعنى:
إما مستلزم لخروجه عن القبولية بل هو إنشاء لأذن (1) وهو خارج عما نحن فيه،
وإما لتخلف وجود القبول عن وجود المقبول، وإما لتخلف الإنشاء عن المنشأ،
وكل ذلك باطل، وسيأتي تحقيق ذلك في باب التعليق في العقود إن شاء الله تعالى.
وبالجملة فحقيقة القبول مع كونه قبولا (2) يمتنع تقدمه على المقبول، ولذلك
نص الشهيد الثاني في جواز تقدم القبول على الإيجاب في مقامات عديدة: أن
هذا القبول حينئذ يكون في معنى الإيجاب (3).
فانحصر النزاع فيما هو بصورة القبول في العقد، سواء كان عده قبولا من جهة
كون لفظه كذلك - كلفظ (ابتعت) ونحوه - أو كونه من الطرف الغير المقصود في
العقود، فلفظ (اشتريت) (4) من المشتري قبول، ومن البائع إيجاب، لأنه العمدة،
ونحو ذلك غيره.
ولا ريب حينئذ في جواز تقدمه، لأنه يصير كالإيجاب، بل هو إيجاب حقيقة
وإن كان لفظه فيه معنى القبول، لأن كلا من المتعاقدين متساويان في إحداث
الأثر، فكل من بدأ بالأحداث قاصدا ذلك صح، سواء سميته (5) قبولا أو إيجابا
لأن القبول بهذا المعنى إيجاب، وعموم أدلة العقود يشمله.،

(1) في (ن): إنشاء الأذن.
(2) العبارة في (م) هكذا: وبالجملة فالقبول مع كونه قبولا على وجه الحقيقة يمتنع...
(3) راجع المسالك 3: 154، و ج 7: 95، والروضة 5: 110.
(4) في سوى (ن): شريت.
(5) في (م): سمي.
173

ولا تشكيك في الإطلاقات بحيث يوجب خروج ذلك عنها (1). ولا يلزم البناء
على أمر لم يقع، إذ ليس هذا بناء، بل هو ابتداء، ولا مانع من استعمال لفظ هو في
صورة القبول في الإيجاب وقصد إحداث الأثر.
نعم، لما كان لفظ (القبول) مما هو صريح في هذا المعنى غير قابل لصرفه إلى
المعنى الإيجابي منعنا عنه لمانع لفظي، لا لمانع عقلي، إذ لو أمكن إرادة الإيجاب
منه لغة وعرفا لم يكن من تقديمه أيضا مانع. ولو أريد من لفظ (ابتعت) وغيره ما
هو حقيقة معنى القبول فهو أيضا غير جائز التقدم، لامتناع إنشاء هذا المعنى قبل
وجود مقبوله، فتأمل جدا.
واحتمال: أن القائلين بالجواز يريدون ذلك مع كون القبول على حقيقته
والمنكرون ينكرونه - مع كونه مخالفا لتصريحهم بأنه إذا تقدم يصير في معنى
الإيجاب - مستبعد عنهم (2) جدا.
وتفصيل الكلام أزيد من ذلك مما لا يناسب المقام وإن كانت المسألة مما
يليق بها التفصيل.

(1) في غير (م): عن تحته.
(2) في (م): منهم.
174

[البحث] الثاني
في التطابق
والمراد أحد أمور، أو المجموع (1):
الأول: اتصال القبول بالإيجاب، وعدم تخلل الفاصل بينهما.
والفاصل: إما الرد والأبطال، كما إذا قال: (أنكحتك) أو (بعتك) - مثلا - فقال:
(ما أريد) أو (ما أرضى) ثم قال: (قبلت).
وإما الكلام الأجنبي، كما إذا قال بعد (بعتك): (فلان جاء) أو (فلان مات)
سواء كان صدوره من الموجب أو من القابل.
وإما الكلام المتعلق بالعقد، كالشرط المأخوذ في ضمن العقد، أو ذكر المبيع
والثمن أو وصفهما، أو ذكر المشتري ونحو ذلك.
وإما السكوت من الجانبين.
وهذه الثلاثة الأخيرة: إما أن يكون الفصل فيه (2) طويلا بحيث يخرج عرفا
عن الاتصال ويصير أجزاء (3) العقد أجنبيا عن الاخر، أو يكون فصلا لا يعتد به
عرفا ولا يخرج به العقد عن الاتصال والتعارف، فهنا مباحث:
أحدها: في تخلل الرد بين الإيجاب والقبول، [والحق: أنه مبطل للإيجاب] (4)

(1) في (م): مجموعها.
(2) في (د) ونسخة من (ن): فيها.
(3) في (م): جزء.
(4) لم يرد في (ن، د).
175

فلا ينفع القبول بعده، لوجوه:
منها: أن الأصل في كل عقد الفساد، خرج ما دل عليه الدليل والفرض ليس
منه، نظرا إلى: المتبادر من عموم أدلة العقود وإطلاقها عدم تخلل الرد، فلا يشمل
الفرض (1).
ومنها أن هذا الفرض لا يسمى عقدا ولا بيعا ولا صلحا، وبعبارة أخرى: ألفاظ
العقود أجناسا وأنواعا لا تشمل مثل ذلك، إذ المراد بها العهد والربط والنقل
والانتقال، ومع تخلل الرد لا يكون هذا ربطا ولا عهدا، والقبول بعد ذلك فرع بقاء
الإيجاب السابق وهو قد زال بالرد.
فإن قلت: نشك في بطلانه بالرد والأصل بقاء صحته، بمعنى أهليته للتأثير إذا
لحقه القبول.
قلت: الظاهر أن الأهلية فيه إنما هو بتوقع لحوق القبول، فإذا جاء الرد تبين
أنه لا أهلية، فلا وجه للاستصحاب.
فإن قلت: زوال الأهلية أو انكشاف عدمها بالرد ممنوع، بل نقول (2) بعد ثبوت
الأهلية أولا للصحة بلحوق القبول لا وجه لارتفاعها إلا بعدم القبول بالمرة،
والفرض أن القبول قد لحق، فيبقى إلى آن القبول.
قلت: إن أردت ثبوت الأهلية للصحة بلحوق القبول من دون تخلل رد فهو
مسلم، لكنه زال بتخلل الرد. وإن أردت ثبوت الأهلية للصحة ولو تأخر القبول عن
الرد فهي غير ثابتة أولا حتى تستصحب، فتدبر جدا. وبالجملة: الشك اللاحق هنا
موجب للشك في أول الأمر.
ومنها: إجماع الأصحاب المحصل من كلامهم في أبواب العقود بشرطية (3)

(1) العبارة في (م) هكذا: أن الأصل في كل عقد الفساد، إلا ما دل الدليل على صحته، ولا
دليل يشمل المقام ولو من عموم أو إطلاق، نظرا إلى أن المتبادر من عموم أدلة العقود
وإطلاقها عدم تخلل الرد.
(2) في (م): بدل (بل نقول): إذ.
(3) في (م): من شرطية. والأصح: على شرطية.
176

عدم تخلل الرد - كما لا يخفى على من راجعها - مع الإجماع المحكي المستفيض
على ذلك.
ومنها: ما أطبقوا عليه في عقد الفضولي في كل مقام (1): أن من له السلطان
والإجازة متى ما رد أولا بطل العقد، ولا ينفعه الإجازة بعد ذلك مع تمامية
الإيجاب والقبول، فكيف بمجرد الإيجاب وحده! فاللازم بطلانه بالأولوية.
ومنها: أن ما دل على شرطية الرضا والقصد في العقد مثل قوله: (تجارة عن
تراض) (2) ونحو ذلك من النصوص قد دل على شرطيته للعقد بمجموعه، فمتى ما
تخلل الرد في الأثناء فات شرط الرضا في أثناء العقد، مع أن ظاهر الدليل شرطيته
في مجموع العقد.
ودعوى: أنه يكفي في ذلك صدور الإيجاب والقبول عن الرضا، مدفوعة بأنه
خلاف ظاهر الأدلة والفتوى.
تنبيه:
لا فرق في إبطال الرد للعقد بين صدوره عن نفس الموجب قبل القبول بأن
قال: (ما أرضى) أو (ندمت) أو (بطلت) ونحو ذلك (3) وبين صدوره عن القابل أو
هما معا، فلا ينفع بعد ذلك تراضيهما على القبول.
ولا فرق أيضا بين العقود الجائزة واللازمة، لاتحاد الدليل في ذلك كله، فكلما
تخلل الرد بين الإيجاب والقبول بطل العقد.
نعم، لهم كلام في الوصية، فإن المشهور ذهبوا على أن الموصى له لو رد
الوصية في حياة الموصي فله أن يقبل بعد وفاته (4) وهذا ينافي ما ذكرناه من

(1) في (م) زيادة: من.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض النساء: 29.
(3) في (م): ونحوهما. وهذا بملاحظة عدم ورود (أو بطلت) فيها.
(4) كما في المبسوط 4: 33، والشرائع 2: 243، والقواعد 1: 290، ونسبه في الدروس
(2: 296) إلى المشهور.
177

القاعدة منافاة ظاهرة.
فنقول: لا شك أن الرد لو صدر من الموصي فلا ينفع القبول والتراضي، اللهم
إلا أن يجعل وصية جديدة، فهو على القاعدة.
وأما الموصى له، فنقول: هل عدم تأثير الرد هنا خرج بنص أو إجماع، أو أنه
جار على القاعدة؟ أو عدم تأثيره ممنوع، فندعي بطلان الوصية بالرد في حال
الحياة - كما أن بالرد بعد وفاة الموصي قبل القبول تبطل إجماعا - وجوه ثلاثة:
ومقتضى التحقيق أن يقال: إن النص لم نقف فيه على ما يدل على ذلك، وأما
الإجماع فهو غير محقق أيضا (1) بل ظاهر كلام الشهيد الثاني في الروضة أنه يختار
البطلان بالرد، وظاهره (2) أيضا عدم الإجماع حيث نسب الحكم إلى المشهور (3).
وأما القاعدة: فيمكن تقريرها بأن يقال: إن إبطال الرد للإيجاب إنما هو في
موضع لو وقع القبول لكفى، وحيث إن قبول الوصية يعتبر فيما بعد وفاة الموصي
على المشهور، ولا عبرة بالقبول في حال الحياة، فكان حال حياة الموصي لا
عبرة بالرد أيضا كما لا عبرة بالقبول، بل لا يسمى هذا ردا في الحقيقة.
ويشكل: بأن من اعتبر القبول في الحياة أيضا أفتى بعدم إبطال الرد في الحياة
- كالشهيد في اللمعة (4) - فلو كانت المسألة مبنية على اعتبار القبول وتبعية الر د له
لكان ينبغي أن لا يقول به.
وثانيا: أنه لا ملازمة بين عدم اعتبار القبول وعدم إبطال الرد، إذ لنا أن نقول:
إن في حياة الموصي لا عبرة بالقبول - للوجوه المذكورة في محله - ولكن نقول:
إن أهلية الإيجاب تزول بتخلل الرد على ما ذكرناه من الأدلة.
وما يقال: (5) إنه لعل عدم رجوع الموصي وإن رد الموصى له يصير بمنزلة
وصية جديدة ولا عبرة فيها بخصوص لفظ (6) مدفوع بأن بعد بطلان الإيجاب لم

(1) العبارة في (م) هكذا: والتحقيق أنا لم نقف على نص يدل على ذلك، ولا على إجماع محقق.
(2) في (م): كما أن ظاهره.
(3) الروضة 5: 15 - 16.
(4) اللمعة: 176.
(5) في (م) زيادة: من.
(6) في (ف): لفظه.
178

يبق إلا السكوت، وهو لا يكون وصية جديدة، وإلا لزم ذلك في العقود الأخر
أيضا، وعدم رجوع الموصي إنما ينفع مع بقاء الإيجاب لا مع بطلانه بسبب.
وبالجملة: إن قام إجماع (1) على عدم إبطال الرد هنا فهو الحجة، وإلا فمقتضى
القاعدة البطلان لو اعتبرنا القبول في الحياة. ولو لم نعتبر في الحياة ففيه وجهان،
ولعل الوجه فيه أيضا البطلان لولا ظهور إطباق الأصحاب، فراجع.
تتميم:
كما أن الرد يبطل بتخلله بين الإيجاب والقبول أو في أثناء الإيجاب أو في
أثناء القبول، كذلك يبطل بتخلله بين العقد والقبض أيضا في كل عقد يشترط فيه
القبض، كالوقف والسكنى والتحبيس والهبة والصرف والسلم، والرهن - على قول -
والقرض والصدقة، والوجه فيه: عدم حصول التمليك ما لم يتحقق القبض،
فالرجل (2) مسلط على ماله، فله أن لا يقبض ويبطل، كما أن للاخر أن يمتنع من
القبض، لعدم لزومه عليه.
وعموم أوفوا بالعقود (3) إنما دل على الوفاء بمقتضياته، وليس القبض
منها، بل هو شرط، بمعنى أنه ما لم يتحقق لم يصح، لا أن كل من أتى بعقد يشترط
فيه القبض يجب عليه القبض والإقباض، وذلك واضح.
فمتى ما رد ولم يرض بطل العقد السابق، لانتفاء التراضي قبل حصول الملك،
ولا ينفع القبض بعده.
وبالجملة: الكلام في الشرط كالكلام في الجزء، وهذه قاعدة نفيسة.
والظاهر أن إبطال الرد بتخلله بين العقد والقبض - حيث يشترط - محل إجماع
بين الأصحاب، ولذلك فرعوا بطلان الوصية مع الرد بعد القبول وقبل القبض على
شرطيته في الوصية، وظاهره: أنه على فرض الشرطية لا كلام في البطلان.
وثانيها (4): تخلل الكلام الأجنبي وما في حكمه من الشرط الفاسد ونحوه.

(1) في (ن، د): الإجماع.
(2) في (م): فالمرء.
(3) المائدة: 1.
(4) أي: ثاني المباحث من مباحث تخلل الفاصل بين الإيجاب والقبول.
179

فنقول: إما أن يكون قصد من تكلم به الأعراض عن الإيجاب أو لا، فإن كان
الأول فهو يرجع إلى الرد بالالتزام، إذ لا فرق في الرد بين أن يكون بالفعل أو
بالقول بالمطابقة أو غيرها من الدلالات، والميزان زوال الرضا مع وجود ما يدل
عليه، ووجود الدال هو المعتبر في الكشف عن البواطن شرعا، كما قررناه في تبعية
العقد للقصد (1).
وإن لم يقصد الأعراض، فإن كان بحيث يوجب الفصل العرفي وينقطع به
اتصال العقد فيبطل أيضا، لعدم شمول أدلة العقود لمثله، ولظاهر اتفاق الأصحاب
على ذلك. وإن لم يكن مما يضر بصدق العقد عرفا، ففيه وجهان: من الشك في
المانعية، ومن شمول العمومات. والأقوى الصحة.
وهذا هو الكلام من حيثية الفصل، وأما إبطال الشرط الفاسد ونحوه من حيثية
الشرطية والتعليق وتقييد (2) القصد فتلك مسألة أخرى.
وينبغي أن يعلم: أن الاتصال بهذا المعنى إنما يشترط في العقود اللازمة من
دون شبهة، وكذا ما في حكمها كالرهن، لأنه لازم من طرف. وأما مثل الشركة
والمضاربة والوديعة والعارية والوكالة والجهالة والوصية فلا يضر فيه تخلل الكلام
الأجنبي مع عدم الأعراض والرد، وذلك للإجماع عليه، والسيرة، وعدم القدح في
شمول أدلته لمثل ذلك.
وثالثها: تخلل ما هو من لواحق العقد، كقوله: بعتك الشئ الفلاني بالمبلغ
الفلاني بشرط كذا أو (3) بشرط الخيار ونحو ذلك. وهذا غير قادح في الصحة، لا
في العقود الجائزة، ولا في اللازمة، لشمول العمومات، وأصالة عدم المانعية،
وظاهر إجماع الأصحاب.
نعم، لو طال الكلام بحيث خرج عن العقدية عرفا، ففيه إشكال. والأقرب
البطلان، لزوال الاسم الموجب لزوال الحكم.

(1) تقدم تقريره في العنوان 30 ص: 62.
(2) في (ف، م): تقيد.
(3) في غير (ن): و.
180

ورابعها: تخلل السكوت، وهو في العقد الجائز لا بأس به، لما مر من الأدلة
في تخل الكلام الأجنبي، بل عدم البطلان هنا بالأولوية.
وأما العقد اللازم فالحق فيه البطلان بتخلل السكوت الخارج عن معتاد
العقود، لظاهر اتفاق الأصحاب على فورية القبول فيها فورية عرفية، وللأصل،
وعدم شمول دليل العقود بأنواعها وأجناسها على العقد الواقع (1) في أثنائه، إما
بكون ذلك خارجا عن اسم العقد، إذ لا يكون حينئذ ربط (2) بين الإيجابين، فيصير
كل منهما كالكلام المستقل. وإما من جهة عدم انصراف الدليل إليه وعدم شموله له،
وعلى التقديرين يبقى (3) تحت أصالة الفساد.
الثاني من معاني التطابق (4): ورود القبول على ما ورد عليه الإيجاب كلا
وبعضا بحيث لا يكون بينهما فرق من هذه الجهة، فيلزم اتحاد العوض والمعوض
والشرط والزمان والمكان، وسائر القيود المأخوذة في العقد في الإيجاب.
فلو قال: بعت أو آجرت أو صالحت الدار - مثلا - بعشرة بشرط الخيار إلى
يومين وتأخير الثمن والعوض إلى سنة، فقال: قبلت نصفه بعشرة أو كله بخمسة أو
هي مع الدابة بعشرة أو بخمسة أو بشرط عدم الخيار أو كونه إلى يوم أو إلى ثلاثة
أو بشرط فورية العوض أو تأخيره إلى شهر - أو غير ذلك من التغيرات - بطل.
وكذا لو قال: وهبتك بكذا، فيقول (5) قبلت بلا عوض، أو (6) أنكحتك بشرط أن
لا تخرجها من البلد، فقال: قبلت بلا شرط أو لا بشرط، أو قال: وكلتك في البيع
اليوم أو في البلد الفلاني أو بالقيمة الفلانية، فقال: قبلت الوكالة في بيع غدا أو
إجارة اليوم أو في البلد الاخر أو بالقيمة الأخرى أزيد من الأول أو أنقص، بطل،
وكذلك غيره من العقود

(1) كذا في ما عدا (م)، وفيه: للعقد المتخلل بذلك.
(2) في (ن، د): ربطا.
(3) في غير (م): فيبقى.
(4) أولها: اتصال القبول بالإيجاب، تقدم في ص: 175.
(5) في غير (م): فيكون.
(6) في (ن، د): و.
181

وبالجملة: كل عوض ومعوض وزمان ومكان وشرط ونوع ووصف وإطلاق
وتقييد وتعميم وتخصيص وجهة ووضع معتبر في الإيجاب، فلابد من ورود
القبول عليه، وإلا لبطل، ولا يفترق الحال في ذلك أيضا بين العقد اللازم والجائز.
ووجه البطلان - مع عدم صدق العقدية (1) وقاعدة التبعية للقصد وإجماع
الأصحاب على ذلك - عدم شمول الأدلة لمثل ذلك بأجناسها وأنواعها، وعدم
تحقق التراضي بالشئ الواحد، وذلك واضح.
الثالث (2): تطابق الإيجابين في الهيئة أيضا، بمعنى: أنه وإن لم يكن اختلاف
في قيد أو عوض أو نحو ذلك، لكنه لابد أن يكون ورود القبول على المعاوضة
كهيئة ما ورد عليها الإيجاب.
فلو قال: بعت الدار بعشرة، فقال قبلت النصف بالنصف والنصف الآخر
بالنصف الاخر، أو قال بعتك الفرس والسيف بعشرين، فقال: قبلت الفرس بعشرة
والسيف بعشرة أو الفرس بخمسة والسيف بخمسة عشر، أو قال: آجرتك الدار
والدابة في سنة بخمسين، فقال: قبلت الدار بالثلث والدابة بالثلثين أو قبلتهما في
ستة أشهر بخمسة وعشرين وفي ستة أخرى بخمسة وعشرين، ونظائر ذلك كقوله:
وكلتك في بيع الفرس والعبد بثمانين، فقال: قبلت الوكالة في الفرس بعشرين وفي
العبد بستين - إلى غير ذلك من الفروض المختلفة بحسب الصورة (3) من جهة
التفكيك العائد (4) من حيث المجموع إلى المجموع - بطل [العقد في جميع ذلك] (5)
من دون فرق بين التفكيك بالأجزاء المشاعة في الطرفين أو بالمعين فيهما أو
بالمشاع من جانب والمعين في آخر، فإن ذلك كله موجب للبطلان، من دون فرق
في ذلك بين العقد الجائز واللازم.
والوجه في ذلك: عدم ورود القبول على الإيجاب، فيلزم من ذلك عدم

(1) في (م): العقد به.
(2) من معاني التطابق.
(3) في (ن، د): الصور.
(4) في غير (م): العائدة.
(5) من (م).
182

اندارجه تحت عموم العقود وأنواعها، وظهور كلام الأصحاب في اعتبار ورود
القبول على الإيجاب بهيئته لا بطور آخر.
فإن قلت: مقتضى انحلال العقد إلى العقود كون كل من أجزاء المبيع - مثلا -
مبيعا كل جزء من أجزاء الثمن مقابل (1) له، فللمشتري أن يقبل البعض ويرد
الباقي، كالعقود المستقلة.
قلت: قد تقدم تحقيق ذلك في قاعدة انحلال العقد على العقود (2)
ومجمل البحث: أن للهيئة الاجتماعية مدخلية في تعلق القصد، فلا يلزم من
قصد الموجب المجموع المركب قصده لكل جزء بانفراده حتى يصير كالعقد
المستقل، سيما مع كون التعدد له أحكام وآثار - كالشفعة والخيار وغير ذلك - وفي
مثل الوكالة ونحوها من الأمثلة السابقة فالتفاوت واضح.
وليس هذا مجرد اختلاف بالصورة، بل لهذا الاختلاف الصوري أحكام
حقيقية تترتب عليها، وهي لا تستفاد من إيجاب المجموع من حيث هو مجموع،
مضافا إلى أن هذا لو تم لصح في صورة التبعيض على الإشاعة، وأما لو تبعض في
القبول بطريق التعيين فذلك غير مقصود. وله أحكام لا تتناهى (3) لا تخفى على من
له درية (4) في الفن في الجملة، فضلا عن الفقيه الماهر، فتدبر.

(1) في (م): مقابلا.
(2) راجع العنوان: 31.
(3) في (م) زيادة: و.
(4) في (ف): دربة.
183

[العنوان التاسع والثلاثون]
[شرائط العقد من حيث كونه لفظا
ومن حيث كونه خطابا]
185

عنوان
[39]
من جملة الشرائط المعتبرة في العقود: هي الشرائط باعتبار كونها لفظا وكونها
خطابا، كما أن لها شرائط باعتبار كونها عقدا.
وتوضيح ذلك: أن للعقد جهات ثلاث:
أحدها: ملاحظته باعتبار أنه لفظ من الألفاظ، ولا ريب أن اللفظ إنما يعتبر في
كل مقام - سواء كان مقام عقد أو غيره - بشروط.
منها: صدوره من اللافظ بقصد، فلو تكلم ساهيا أو ناسيا لا عبرة به، وقد قدمنا
ذلك في تبعية العقود للقصود (1).
وكذلك يعتبر صدوره بقصد ذلك اللفظ بعينه، فلا عبرة بلفظ الغالط، بمعنى كونه
قاصدا لغيره فصدر من لسانه غير ما هو مقصوده تبعا، وقد مر ذلك أيضا.
ومنها أيضا: صدور اللفظ مع قصد المعنى، فلا عبرة بلفظ الهازل وقد مر
كذلك (2).
ومنها: قصده المعنى المقصود، وهو الإنشاء وإيقاع الأثر بذلك اللفظ، فلو
قصد الأخبار أو معنى آخر لم يقع، وسيأتي تحقيق ذلك في شرطية التنجيز وكون
التعليق مبطلا.

(1) تقدم في العنوان 30.
(2) في (م): وكذلك قد مر.
186

وثانيها: ملاحظته باعتبار كونه خطابا من الخطابات، يعني كلاما متوجها إلى
الغير، فيعتبر في ذلك تعيين المتكلم والمخاطب والأسماع والاستماع والسماع،
بمعنى: أنه لو قال واحد من الجالسين في مجلس لمخاطب معين: (بعتك الشئ
الفلاني بكذا) أو (وكلتك) - ونحو ذلك - ولم يعرف المخاطب ذلك المتكلم - إما
من جهة كونه أعمى، أو من جهة عدم التفاته إلى المتكلم، فلم يدر أن القائل من
هو - فقال: (قبلت) بطل.
وكذا لو انعكس فقال المتكلم المعين: (بعتك) غير موجه كلامه إلى شخص
معين، فقال واحد منهم: (قبلت) أو قال: (بعت أحدكم) فبادر واحد منهم بالقبول،
أو قال: (بعت) من دون خطاب، فقال واحد: (قبلت) بطل. أو قال لزيد: (بعتك)
فقال عمرو: (قبلت) بطل أيضا.
وكذا لو قال لزيد: (بعتك) ولم يسمع زيد لكن علم بعد ذلك بصدور الإيجاب
من خارج فقال: (قبلت) أو لم يقصد المتكلم الأسماع فكذلك.
وبالجملة: تعين (1) الموجب والقابل قبل العقد وتوجه الكلام إليه وسماعه
لذلك واستماعه له شرط في العقود كافة، عدا ما نستثنيه عن قريب.
ولم يتعرض جماعة من الفقهاء - بل كلهم - لذلك اتكالا على أن هذه ليست
من شرائط العقد من حيث إنه عقد، بل من شرائط التخاطب والألفاظ.
نعم، يظهر اعتبارهم ذلك مما ذكروه في الجعالة: ولا يشترط تعيين العامل،
ولا سماعه للإيجاب الصادر من الجاعل، فيصح أن يقول: (من رد عبدي فله كذا)
فلا عبرة بالتعيين، ويجوز أن يفعل واحد العمل بعد اطلاعه على صدور هذا الجعل
وإن لم يسمع به عند صدوره، بل جماعة احتملوا، بل أفتوا (2) بأنه لو لم يطلع على
صدور الجعل أيضا لو أتى بالعمل غير قاصد للتبرع أو ناويا للعوض وصادف

(1) في (ن): تعيين.
(2) منهم فخر المحققين في إيضاح الفوائد 2: 162، والشهيد في الدروس 3: 98، والمحقق
الثاني في صورة عدم علم العامل بأن العمل بدون الجعل تبرع، جامع المقاصد 6: 190.
187

صدور الجعل في نفس الأمر كفى في استحقاق الجعل.
وظاهر كلامهم هذا في الجعالة أن هذا من مختصات باب الجعالة، فالتعيين
للمتكلم والمخاطب والسماع والأسماع في سائر العقود شرط اتفاقا من
الأصحاب، ظاهرا من (1) ذكرهم ذلك في الجعالة مقتصرا عليه، لدلالته على
اعتباره في سائر العقود، وهو كذلك، وقد قررنا أن الدليل على ذلك - مضافا إلى
إطباق الأصحاب على ذلك - اقتضاء قواعد التخاطب ذلك، فلا يحتاج إلى ذكر
ذلك في الشرائط.
مضافا إلى أن العقود أمور عادية ليست مجعولة من الشرع - كما قررناه مرارا -
وليس من الشارع إلا الإمضاء والتقرير وزيادة بعض الشرائط ونحو ذلك، ولا
ريب أن المتعارف بين الناس في العقود كلها تعيين ذلك كله والسماع وغير ذلك (فالأدلة الدالة على العقود إنما تنصرف إلى أوضاعها المعهودة في العرف، وهو
على ما ذكرناه، بل يمكن دعوى عدم صدق العقد لمثل ذلك، إذ ليس العقد إلا
المعاهدة، وهي لا تتحقق إلا بمعين مع السماع والاستماع، فلا تذهل.
وبالجملة: فلا كلام في ذلك حتى في العقود التي يتأخر فيها القبول - كالوكالة
والوديعة والوصية ونحو ذلك (3) - فإنه لا ريب في اعتبار كون المتكلم معينا عند
القابل وقاصدا للقابل المعين، وسماع القابل لذلك الإيجاب ولو بوسائط وبالنقل،
فلا ينافي كون الغائب يوكل ويوصى له ما ذكرناه من القاعدة. نعم، لا يجوز ذلك
في العقود اللازمة من جهة الانفصال والتراخي. والحاصل: في الوصية أيضا لو
قيل لواحد: (أوصي لك بكذا) ولم يعرف الموصي، فقال: (قبلت) ففي صحته نظر،
بل القاعدة تقتضي بالبطلان، إلا في الجهات العامة ونحو ذلك الذي لا عبرة فيه
بالقبول، وكذا لو أوصى لشخص مجهول في الظاهر بطلت الوصية. نعم، لو أوصى
لرجل أو لفقير أو نحو ذلك أو لمن دخل الدار، فهذا في الحقيقة رجوع إلى تعيين

(1) في سوى (م): عن.
(2) في (م): وغيره.
(3) في (م): نحوها.
188

الكلي، ولا بأس به، لأنه يتعين في ضمن الفرد ويقبل.
ولو اتفق في بعض هذه العقود شئ خرج عن هذه القاعدة بإجماع ونحوه
فيصير كالجعالة في هذا الحكم، حيث لم يشترط فيه معلومية العامل ولا السماع
ونحو ذلك، كما قررناه وهو مصرح به في كلامهم.
وهذه قاعدة نفيسة برهن عليها (1) بالأصول والقواعد وظاهر اتفاق
الأصحاب، وقضاء الأدلة الأخر أيضا به، تظهر ثمرتها في فروع كثيرة،
والاستعجال يمنعنا عن بسط المقال.
نعم، هنا كلام، وهو: أنا قد أشرنا أن تعيين المتكلم والمخاطب والأسماع من
شرائط التخاطب، مع أن التخاطب يمكن مع عدم معلومية المخاطب بعينه، كما في
قول القائل: (ليفعل أحدكم كذا) مثلا، نظير الواجبات الكفائية، وكذلك يمكن
لأحد الاستماع لكلام من يتكلم مع أنه لا يعرفه.
والحق أن [يقال] (2): أما في الإخبارات في المجالس فلا ريب في كون
المخاطب هو الشخص المعين أو الكل، وكذلك في الأوامر وإن علق بواحد لا
بعينه، لكن الحق: أن الطلب على واحد (3) لا بعينه، بل يتعلق بالكل، فالمخاطب هو
الجميع، لكن إتيان الواحد يسقط عن الباقي، فالواحد إنما هو المثمر المعتبر في
السقوط، لا في أصل التخاطب.
وقصد الجميع في مقام المعاملة وإنشاء العقد غير متصور، إذ لو أريد تعلق
الإنشاء على الجميع فلازمه الاشتراك، أو الاستقلال مع التوزيع أو بدونه، مع أن
الفرض، أن القابل واحد والعقد معه، وهو لم يكن مخاطبا بعينه، فلم يكن النقل
مقصودا إليه. ولو قصد كل واحد واحد فهو موجب لاستقرار الملك الواحد
للمتعدد، وهو غير معقول أولا، وغير مقصود ثانيا.

(1) في (م): مبرهن عليها.
(2) من (م).
(3) في (م): لواحد. والظاهر سقوط شئ عن العبارة، ولعلها في الأصل: أن الطلب لا يتعلق
على واحد لا بعينه.
189

وإن أريد الواحد لا بعينه فالكلي لا يكون مالكا إلا في مثل مصارف الزكاة
ونحوها على أحد الوجوه، فلابد من قصد المعين بالخصوص، وليس غرضنا
بالمعين هو خصوص الفرد، بل غرضنا التعين (1) على نحو لا يكون فيه اشتباه بغيره
ويكون قابلا لموضوع العقد.
فلو وكل كل من هو لا بس للعباء - مثلا - جاز، لأنه معين غير مشتبه،
وموضوع الوكالة شئ قابل للتحقق في الأشخاص المتعددين، بخلاف بيع الكتاب
الواحد، فإنه غير قابل للنقل إلا إلى واحد أو متعدد بالتشريك.
وأما سماع الأخبار من المخبر الذي لا يعرف فهو من جهة عدم تعلق غرض
للسامع في ذلك غير سماع كلامه، بخلاف العقد، فإن المقصود فيه للمخاطب أيضا
العقد والعهد معه، وهو فرع تعينه.
ومن هنا ظهر لهذا الشرط وجهان آخران:
أحدهما: لزوم الغرر، لاختلاف الأغراض بتعدد الأشخاص واختلافهم، فلابد
من التعيين كما نشترطه في العوضين.
وثانيهما: عدم قابلية العقود للعهد مع الشخص (2) الغير المعين من جهة
مقتضياتها، كالعقود المملكة الغير القابلة للتمليك إلى شخص لا بعينه في الطرفين،
أو إلى أشخاص متعددين في الملك الواحد، فلا تذهل. ولعل جواز ذلك في
الجعالة من جهة كون المقصود حصول ذلك العمل من أي شخص كان، ولا عبرة
لخصوصية الشخص.
وبالجملة: مقتضى انصراف الأدلة وظاهر الأصحاب اعتبار هذه الشرائط، إلا
ما خرج بنص أو إجماع.
وبقي في شرائط العقود مثل البلوغ والعقل والرشد والاختيار والإسلام في
بعض المقامات والعدالة في بعضها أيضا نذكرها في عناوين الشرائط العامة - إن
شاء الله تعالى - إذ لا اختصاص لها بالعقود والإيقاعات.

(1) في (ن، ف): التعيين.
(2) في (م): المشخص.
190

[العنوان الأربعون]
[شرطية التنجيز في العقود والإيقاعات]
191

[40]
في شرطية التنجيز في العقود والإيقاعات.
وتحقيق القول فيه يتوقف على بيان أمور:
أحدها: أن مفاد العقود والإيقاعات من تمليك أو فك أو تسليط - أو نحو
ذلك (1) - قد يكون معلقا في نفسه على بعض أشياء بحيث لا يتحقق المعنى بدونه،
كشرطية الوجود، فإن تمليك الشئ - مثلا - عينا كان أو منفعة موقوف على وجود
تلك العين أو المنفعة في الخارج على حسب وجوده (2) المقرر، بمعنى وجود العين
في زمان تعلق الغرض في العقد بوجودها، والمنفعة في زمان قصد فيه الانتفاع،
فإنه لو لم يكن كذلك لم تتحقق ماهية العقد والإيقاع، فلو قال: بعت أو صالحت أو
وهبت أو وقفت الدار أو الدابة - مثلا - ولم تكونا [موجودين] (3) في الخارج بطل،
بل لا يتحقق له معنى.
وكذا في عقود المنافع - كالإجارة والمزارعة والمساقاة ونحو ذلك (4) إذ لو
كانت المنفعة غير متحققة - بمعنى عدم وجود تلك العين التي يقصد منها تلك
المنفعة - لم يكن للعقد معنى، ونحوه في النكاح، فلو قال: (أنكحتك بنتي) ولا بنت

(1) في (م): نحوها.
(2) كذا، والمناسب: وجودها.
(3) لم يرد في (ن)، والمناسب: موجودتين.
(4) في (م): نحوها.
192

له من أصله أو كانت ولكن كانت ميتا في حال النكاح، فلا عقد. ونحوه في الطلاق،
فلو قال: (امرأتي طالق) مع أنه قد ماتت امرأته قبل الطلاق فلا طلاق ونحوه سائر
الايقاعات من عتق ونحوه. وكذا يبطل العقد بارتفاع العين المقصود منها المنفعة في
الأثناء، فلو قال: (آجرتك نفسي اليوم) ومات في أثناء اليوم بطل العقد فيما بقي.
فعلم من ذلك: أن كل عقد وإيقاع معلق تحققه على وجود العين أو المنفعة
الوارد عليهما العقد ابتداءا أو بواسطة التعلق، كما في الوكالة لو وكله في بيع فرسه
وقد تلف قبل الوكالة، وكذا الإيقاع.
فنقول: لا فرق في هذا المقام بين أن يوقع العقد والإيقاع منجزا، فيقول مثلا:
(زوجتي طالق) أو يعلقه على شرط الوجود ويقول: (إن كانت موجودة) فإن
الطلاق معلق على وجود المرأة في نفس الأمر، سواء علقه المطلق عليه أم لا.
والظاهر: أن التنجيز بهذا المعنى ليس شرطا في شئ من المعاملات، لأنه غير
مناف لمقتضاه لو علق، بل هو بيان للواقع، فلو أريد من اعتبار التنجيز أنه لا يعلق
على ذلك فهو باطل قطعا، ولو أريد تجريد الصيغة عن ذلك في اللفظ وإن كان
معلقا معنى فلا دليل عليه، بل هذا مؤكد لما هو قضية المعاملة.
اللهم إلا أن يقال: يعتبر العلم بوجود ما هو متعلق العقد بواسطة أو بدونها، فما
لم يعلم لم يصح عليه عقد ولا إيقاع. وهو في غاية الظهور من الوهن، للقطع بجواز
توكيل الغائب، أو توكيل الحاضر في أمر غائب، وطلاق المرأة الغائبة، ونكاح
الولي الصغير من الغائبين (1) ونحو ذلك.
نعم، يمكن أن يقال: إن هذه كلها مقطوعة الوجود (2) شرعا، لقضاء
الاستصحاب في ذلك كله بالبقاء، فهذا في الحقيقة موجود، فيصير التنجيز للعلم
بالوجود شرعا، وهذا المقدار كاف في التنجيز وإن لم يحصل القطع الوجداني.
ولذلك يفرق بين مستصحب الوجود ومستصحب العدم، فإنه لو كان لشخص

(1) في (ف، م): الصغيرين الغائبين.
(2) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: مقطوع الوجود.
193

بنت صغيرة لا يعلم أنها قد ماتت أم لا يجوز أن يزوجها لشخص، وأما لو لم يكن
له بنت لكن يحتمل أنه قد ولدت له بنت قبل هذا بعد غيبته عن زوجته الحامل فلا
يجوز أن يعقد عقد النكاح، ويبطل عقده وإن صادف وجود البنت في الخارج،
وكذلك لو طلق امرأته التي يحتمل تزويج وكيله له إياها بعد غيبته عن وكيله فإنه
لا يقع الطلاق وإن صادف التزويج في نفس الأمر، ونحو ذلك في المعاملات المالية
أصالة أو تبعا، فإن كل مستصحب الوجود يصح فيه العقد إن صادف الواقع، وكل
مستصحب العدم يبطل وإن صادف وجوده في الواقع.
لكن لمانع أن يمنع ذلك ويقول لا فرق بين مستصحب الوجود والعدم في عدم
حصول القطع بالوجود والترديد بين الوجود والعدم، والتنجيز عبارة عن إيقاع
هذه المعاملة على كل حال، مع أنه في الواقع لا يتحقق على فرض العدم، فينحل
الكلام إلى قصد الوقوع على تقدير الوجود، فإن كان هذا يعد تنجيزا بمعنى كونه
مقصود الوقوع على أحد التقديرين - كما يذكره الفقهاء في بعض المقامات -
فليكن في المقامين كذلك، وإن كان هذا تعليقا لكن هذا التعليق غير قادح - لأن
التعليق عبارة عن جعل العاقد الأثر معلقا على شئ آخر لا كون الأثر معلقا في
نفسه على ذلك فإنه تعلق لا تعليق - فليكن في المقامين كذلك.
فدعوى: أن مستصحب الوجود منجز ومستصحب العدم معلق، لا وجه لها،
ولم يقم دليل على اعتبار وجود متعلق العقد مطلقا حتى نقول: إن المستصحب
موجود فيدخل تحت الدليل دون غيره، بل في بيع الثمار ونحوه دلالة على جواز
بيع مستصحب العدم، إذ ليس المبيع هو نفس الموجود، وكذا التوكيل في بيع فرس
سيشتريه أو دار سيملكها، مع أن جماعة قالوا بصحته (1) وهو الأصح، وأوضح منه
التوكيل في شراء عبد وعتقه، وشراء دار ووقفه.
وبالجملة: لو قام دليل كلي على اعتبار الوجود في متعلقات العقود ابتداءا أو

(1) لم نظفر على القائل بالصحة، بل استظهر المحقق الثاني اتفاقنا على شرطية كون متعلق
الوكالة مملوكا للموكل، ونسب الخلاف إلى الشافعية، راجع جامع المقاصد 8: 207، وإن
شئت مزيد تحقيق في المسألة انظر مفتاح الكرامة 7: 552.
194

مع الواسطة - كما ذكرناه - فيمكن إدراج مستصحب الوجود تحته ومستصحب
العدم يكون خارجا عنه، وتصير مسألة التنجيز عبارة عن قصد وقوع الأثر على
الإطلاق، لكن هذا الدليل لم يثبت، فكلاهما في جواز تعلق العقد سواء بعد شمول
عمومات العقود وعدم وجود مانع آخر من غرر ونحوه من المبطلات.
فمتى ما صار كذلك لم يبق عندنا إلا فوات التنجيز، فنقول: لا فرق فيهما في
عدم حصول الأثر إن لم يصادف الواقع والوجود، فهو في ذاته معلق، والتصريح
بذلك في اللفظ لا نعرف وجها لمانعيته أو شرطية تركه، بل هو بيان للواقع، فلا
ينبغي اشتراط عدمه.
ولو قلنا بأن ذلك معناه تنجيز (1) على أحد التقديرين - كما في النية وغيرها -
وهو كاف في ذلك، فيرتفع الإشكال بالمرة.
والمسألة من المعضلات (2) وربما نبسط الكلام فيها في المبطلات إن شاء الله.
ومن هنا يظهر: أن تعليق الوصية بالموت وتعليق التدبير به كذلك أيضا ليس
من منافيات التنجيز في شئ، لأن ذلك تحقيق لمفهوم الوصية والتدبير، إذ ليس
معنى الوصية التمليك المطلق، بل التمليك الخاص، وكذلك الوصاية. وليس معنى
التدبير العتق، بل الوصية بالعتق - كما أفتى به الأكثر (3) - لا عتقا معلقا بشرط أو
بصفة - كما يراه بعضهم (4) - فإن ذلك باطل.
وثانيها: أنه قد يتوقف صحة العقد والإيقاع شرعا على بعض أشياء، كما أن
صحة الطلاق مشروطة بعدم كونها حائضا أو في طهر المواقعة أو بسماع العدلين،

(1) في (ن): التنجيز.
(2) في (ن، د): المفصلات.
(3) أفتى به المحقق في المختصر النافع: 230، ومال إليه الشهيد الثاني بعد أن نسبه إلى
الأشهر، انظر المسالك 2: 137.
(4) كذا عرفه ابن إدريس واعتبر فيه نية التقرب، وفرع عليها عدم جواز تدبير الكافر، راجع
السرائر 3: 30، وهو ظاهر عبارة المحقق في الشرائع، حيث قال: (التدبير هو عتق للعبد بعد
وفاة المولى) الشرائع 3: 117.
195

وبيع الأمة مشروط بعدم كونها أم الولد، وبيع العصير الموجود في الحب (1) - مثلا -
موقوف على عدم صيرورته خمرا، والتوكيل في عمل مشروط بعدم كونه
مشروطا بالمباشرة، والأخذ بالشفعة موقوف على القدرة على الثمن، والبيع
موقوف على القدرة على التسليم، والمزارعة موقوفة على وجود الماء، والنكاح
موقوف على عدم كونها في عدة أو ذات بعل، ولا يخفى شرائط الصحة على من
لاحظ الفقه إجمالا فضلا عن التفصيل.
فعلى هذا فقد يكون وجود هذه الشرائط معلوما فلا إشكال في التنجيز، ومرة
يكون معلوم العدم (2) فلا إشكال في البطلان، ومرة (3) يكون مشكوكا.
فنقول: لا ريب أن هذه الشرائط - كما قرر في محله - ليست شرائط علمية
- بمعنى اشتراط معلوميتها حين العقد والإيقاع - بل هي شرائط واقعية، فإن اتفق
وجودها في نفس الأمر صحت المعاملة، وإن اتفق عدمها بطلت، فمرة يوقع العقد
أو الإيقاع مطلقا، فيقول (4): (أنت طالق) أو (زارعتك) أو (بعتك هذا العصير في
الحب) ومرة (5) يعلقهما (6) بشرائط الصحة، فيقول: (أنت طالق إن كنت طاهرة)
و (زارعتك إن كان الماء موجودا) و (بعتك هذا إن لم ينقلب خمرا) وغير ذلك (7)
كقوله: أنكحتك إن لم تكن المرأة في عدة.
وبعبارة أخرى: في كل مقام شك في وجود شرط من شرائط الصحة مرة تقع
المعاملة مطلقة، ثم يلاحظ الواقع، فإن صادف وجود الشرط وفقد المانع ولو
بدليل شرعي - من أصل أو غيره - فيحكم بالصحة، وإلا فبالبطلان. ومرة
[أخرى] (8) يعلق بوجود ذلك الشرك أو فقد ذلك المانع، فينحل أما إلى بيان الواقع
كما في شرط الماهية، وإما إلى التنجيز على أحد التقديرين، نظير ما ذكرناه في

(1) في (م): الدن.
(2) في غير (م): معلومة العدم.
(3) في (م): وأخرى.
(4) في (ن، د): فيقال.
(5) في (م): في الدن، وأخرى.
(6) في سوى (م): يعلقها.
(7) في (م): وغيرها.
196

الأمر الأول.
ويجئ هنا أيضا الكلام في أنه قد يكون الشرط والمانع مستصحب الوجود،
وقد يكون مستصحب العدم، فلو كان الأصل على طبق الصحة من وجود الشرط
وفقد المانع فهو يكون في حكم مقطوع الوجود فيتحقق التنجيز، ولو كان الأصل
على خلافه - كاستصحاب فقد شرط أو وجود مانع - فذلك بمنزلة المعلوم البطلان
فلا وجه لايقاع المعاملة.
ويمكن أن يقال: إن مجرد الأصل لا يوجب التنجيز، بل يكون معنى المعاملة
أيضا قصد إيقاع الأثر على تقدير مصادفة الشرط وفقد المانع، وهو في الصورتين
متحقق وإن لم يكن هذا تعليقا، بل هو تعلق كما ذكرناه، ففي المقامين لا بأس به
أيضا، مع أنه لا يكون الأصل على طبق أحد الأمرين، إما لعدم العلم بالحالة
السابقة أو للتعارض أو نحو ذلك. والتزام البطلان ما لم يعلم وجود الشرط وفقد
المانع حين المعاملة، ولا يكفي انكشافها بعد ذلك مما لا يحوم حوله فقيه، بل من
له أدنى دربة.
فمقتضى القاعدة أن يقال: إن هذه المعاملة معلقة في الواقع في صحتها على
ذلك الشئ، ولا يكون ذكره في اللفظ أيضا إلا بيانا للواقع، بمعنى كون الجزم
والتنجيز على الإيقاع على ذلك التقدير، ولا يكون هذا منافيا للتنجيز في شئ،
فذكره في اللفظ وعدمه سواء، إذ على تقدير ذكره في اللفظ أيضا ليس قيدا على
قصد المعامل، بل هو قيد للمتعلق، بمعنى أنه أوقعت (1) الأثر على ذلك التقدير،
وهذا مما لا بأس به.
وثالثها: أن ما يعلق عليه المعاملة ما عدا ما يعتبر في صحتها أو ماهيتها
- وبعبارة أخرى: ما يعلق عليه المعامل وإن لم يكن له مدخلية في التحقق ولا
الصحة - أقسام، باعتبار كونه شرطا أو صفة بطريق الالتزام أو التعليق والعلم
بوجوده وعدمه وكونه في الحال أو الاستقبال، أو من الأمور المتعلقة الممكنة في

(1) كذا.
197

أحد طرفي المعاملة من العوضين أو المتعاوضين أو ما هو بمنزلتهما في مثل
الطلاق والعتق ونحوهما (1)، أو من الأمور الخارجية.
فهنا مباحث:
الأول: في الشرط الاختياري المأخوذ في ضمن العقود الجائزة أو اللازمة
المدلول عليه بعموم (المؤمنون عند شروطهم) (2) وهذا القسم - كما سيفصل في
بحث اللواحق - ليس مضرا بالتنجيز، وليس من التعليق المضر في شئ. وليس
الوجه فيه ما تخيله بعضهم أن المراد من قولنا: (بشرط كذا) أو (وأشترط عليك
كذا) ونحو ذلك (3) هو الالزام والالتزام، فإن الشرط في اللغة بهذا المعنى، فتكون
هذه المعاملة بمنزلة معاملتين: بيع وشرط، وليس من التعليق في شئ، بل هنا
أيضا يراد بالشرط: التعليق، لكن التعليق ليس بالنسبة إلى الإنشاء والصيغة، بل
تعليق لمتعلق العقد وربط بين مورد العقد وبين الشئ المشروط، أو بيان وصف
للإنشاء (4) والمعاملة، كما في شرط الخيار ونحوه.
وبالجملة: كلامنا في التنجيز والتعليق بالنسبة إلى نفس الإنشاء، دون الربط
والتعليق في الموضوع، فإنه جائز لا يضر بالعقد، وسيأتي في اللواحق لذلك مزيد
تحقيق وتوضيح بما لا مزيد عليه.
الثاني: التعليق الواقع في المتعلقات الراجعة إلى كيفيات الموضوع المأخوذ
في العقد، كما في قولك: (وكلتك في بيع الفرس إن اشتراه زيد) أو (إن كان بالقيمة
الفلانية) أو (إن جاء الحاج) وهذا الذي يذكره الفقهاء ويقولون: إنه ليس تعليقا
للعقد بل هو قيد للتصرف، والمراد: أنه لا يقول: إن التوكيل معلق بكذا، بل وكلتك
الان في العمل الواقع في الوقت الفلاني أو بالوضع الفلاني، فيصير هذه (5) قيودا
للتصرف، إن تحققت نفذ، وإلا فلا، بل يكون فضوليا.

(1) في غيره (م): نحوه.
(2) عوالي اللآلي 3: 217، ح 77.
(3) في (م): نحوها.
(4) في (ن، د): الإنشاء.
(5) في غير (م): هذا.
198

ومن هذا الباب الوصية إن مات في سفر كذا أو في سنة كذا، وليس معناه: أن
الان لا ينشئ الوصية، بل غرضه أنه ينشئ التمليك في الموت الكذائي، فإن
صادف فقد وقع في محله، وإلا فلا وصية، وكذلك الوصاية إن مات الوصي أو
عجز عن الوصية، ونحو ذلك شرط الاشتراك والانفراد والانضمام على بعض
الفروض، فإن كل ذلك تسليط على التصرف بالفعل من حيث الوصاية في الفرض
المذكور، وليس من التعليق في الإنشاء.
وكذا مثل قوله: (من رد عبدي فله كذا إن جاء به يوم الجمعة) فإنه قيد للعمل
المجعول له.
وبالجملة الفقيه يكفيه في ذلك أدنى تنبيه، ولا يحتاج إلى استيفاء الأمثلة، فكل
مقام رجع الشرط والتعليق إلى قيد في متعلق موضوع العقد فهو خارج عن
المسألة وغير مضر في التنجيز.
الثالث: التعليق الراجع إلى أوصاف الموضوع، كالعين في العقود المملكة لها،
كقوله: صالحت أو بعت أو وهبت لك هذه الحنطة إن كانت حمراء، والمنفعة - مثلا -
في العقود المملكة أو المتعلقة بها، كقوله: وقفت أو حبست أو أسكنتك أو آجرتك
أو زارعتك هذه الأرض إن كان فيها بئر أو نهر، أو نحو ذلك (1).
والتعليق الراجع إلى الأمور الخارجية، كالتعليق على طلوع الشمس أو قدوم
الحاج أو نحو ذلك (2).
ومن قبيل الأول: أنت طالق إن كنت بنت فلان، أو زوجتك إن كنت ابن زيد
ونحو ذلك (3).
وهذه الأمور المأخوذة شرطا في العقد قد تكون بلفظ الشرط، وقد تكون
بأدوات الشرط مثل (إن) و (إذا) ونحوهما، وعلى التقديرين فقد يكون أمرا
متعلقا بالماضي، وقد يكون أمرا متعلقا بالحال، وقد يكون أمرا متعلقا بالمستقبل

(1) في (م): نحوهما.
(2) في (م): غيرهما.
(3) في (م): نحوهما.
199

وكل من ذلك: إما أن يكون معلوم الوقوع، أو يكون معلوم العدم، أو يكون مظنون
الوجود، أو مظنون العدم، أو مشكوكا في وجوده وعدمه، فهذه أقسام التعليق.
وقد جرى اصطلاح الفقهاء بتسمية الأمر المستقبل المقطوع المترتب (1) صفة،
كقوله: (إن طلعت الشمس) والأمر المستقبل المشكوك في وجوده وعدمه - أعم
من الظن والشك الاصطلاحيين - شرطا، كقوله: إن جاء زيد أو قدم الحاج.
ولابد من الكلام على هذه الاقسام نفيا وإثباتا، توضيحا للمسألة، ودفع بعض
الشبهات الواردة على المطلب في بعضها.
أحدها: التعليق بوصف للموضوع أو بأمر خارج اعتبر في زمن الماضي بلفظ
الشرط مع العلم بحصوله، كقوله: (أنكحتك بشرط كونك قد حججت) أو (بشرط
كون الحجاج جائين أمس) مع العلم بأنه حج أو الحجاج جاؤوا. وهذا أيضا مما لا
يضر في صحة التنجيز والعقد، لأن المعلق على شئ حاصل لاتوقف في حصوله،
فهو بعد علمه بوقوع الشرط قاصد لتنجيز العقد، وليس هذا إلا تعليقا صوريا،
فالعقد قد وقع والإنشاء قد صدر منه جزما وبتا من دون توقف، ومجرد الاشتراط
اللفظي غير مانع منه غايته: اللغوية، ومثل ذلك لا ينافي عقدية العقد.
الثاني: هو الفرض السابق مع كونه بأدوات الشرط، كقولك: (إن كنت
حججت) أو (إن جاء الحجاج أمس) والظاهر أيضا أن هذا كالأول، لعدم التعليق
معنا وتحقق القصد (2) المنجز، ولا منافاة بين ذكر هذا اللفظ وصحة العقد.
نعم، قد يتوهم: أن أدوات الشرط لصراحتها في إفادة معنى التعليق ليست
كلفظ (بشرط) لأنه قابل للسببية والتعليل بخلاف الأدوات، فيصير لهذا اللفظ
صراحة على خلاف ما هو المقصود، وقد اعتبر في دوال العقود الصراحة في
المدعى وهو الإنشاء الفعلي للمعنى المقصود.
لكنه مدفوع بأن أصل الإيجاب والقبول صريحان في المدعى، وهذا إن

(1) كذا في النسخ، والظاهر أن الصواب: المقطوع الترتب.
(2) في (د): العقد.
200

كان (1) تعليقا في المعنى لنافى الإنشاء وورد عليه ما نذكره في إبطال التعليق. لكن
هذا مجرد عبارة لا يوجب عدم إرادة معنى الإنشاء البتي، غايته منافاة الصورة،
وهو مرتفع بالعلم بالوقوع الذي يجعلها تنجيزا في المعنى، ولا يلزم أن يكون كل
لفظ مذكور في أثناء العقد صريحا في معناه حقيقة في المدعى، بل العمدة في
ذلك (2) أصل الايجابين.
ودعوى: أن هذا التعليق الصوري يخرج الايجابين عن صراحتهما، في محل
المنع بعد العلم بوقوع الشرط.
لا يقال: إطلاق الأصحاب البطلان بالتعليق يشمل المقام.
لأنا نقول: الظاهر من أمثلتهم ومن استدلالاتهم إرادة خصوص المستقبل،
سلمنا، لكن كلامهم في صورة [التعليق] (3) في المعنى، وهو لا يجتمع مع العلم
بالوقوع.
والثالث: هو الفرض الأول مع العلم بعدم الوقوع.
والرابع: هو الفرض الثاني مع العلم بعدم الوقوع كقولك: (بعتك إن جاء زيد
أمس) مع علمك بأنه لم يجئ، أو (بشرط موت عمرو أمس) مع العلم بأنه لم
يمت، وهذان القسمان باطلان في أي عقد أو إيقاع فرض، فلو قال: (أنت طالق إن
كنت خرجت من البيت أمس) مع العلم بأنها لم تخرج [لكان باطلا] (4). والوجه في
البطلان: الإجماع، وعدم قصد الإنشاء حينئذ قطعا، ومنافاته لوضع العقد
والإيقاع، وليس هذا إلا نظير الوعد والوعيد، بل لا يصدق (5) عليه اسم عقد وإيقاع
أصلا، وهذا - أيضا - ليس من محل البحث في شئ.
والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر: هو فرض التعليق
على أمر فيما مضى بأداة الشرط أو بلفظه مع الظن بالوجود، أو بالعدم، أو الشك

(1) في (ن): إذا كان.
(2) في سوى (م) زيادة: إلى.
(3) من هامش (م).
(4) من هامش (م).
(5) في غير (م): بل يصدق.
201

في الوجود والعدم كقوله: (أنكحتك إن مات أبي أمس) أو (بشرط موت أبي
أمس) مع الشك فيه، أو الظن بأحد الطرفين.
وينبغي أن يعلم: أن مرادنا من (العلم) هو العلم العادي الذي يحصل به
الاطمئنان ويرتفع به التزلزل، لا العلم البرهاني الذي لا يحتمل فيه الخلاف عقلا.
ومرادنا ب‍ (الظن) ما يحتمل فيه الخلاف احتمالا واضحا يعتني به العقلاء، فلا
يجامع هذا الظن مع الاطمئنان في حال، فيصير حكمه حكم الشك، فلذا جعلنا
الكل في محل واحد.
ولك أن تفرض العلم بمعنى: القطع الذي لا يحتمل فيه الخلاف أصلا، والظن:
ما يحتمل فيه وإن كان بعيدا لا يلتفت، لكن لا يكون حكمه إذا حكم الشك، فينبغي
التفصيل في أفراد الظن، إن كان مما يوثق به ولا يتزلزل فيه النفس ولا يلتفت إلى
احتمال الخلاف فهو كالعلم في حصول التنجيز ولا يضر بالعقد في شئ، وإن لم
يكن كذلك فهو كالشك، فتدبر.
وبالجملة: هذه الصور التي ذكرناها هي مما هو مورد كلام الفقهاء في مسألة
التنجيز والتعليق، وما نذكره من الأدلة على شرطية التنجيز ومانعية خلافه شامل
لهذه الصور.
والأربعة الاخر: هو التعليق على أمر في الموضوع أو في الخارج مقارن
للعقد مع العلم بوجوده أو مع العلم بعدمه، بلفظ الشرط أو بالأدوات، كقولك:
(بعتك إن كانت الحنطة حمراء) أو (بشرط كونها حمراء) أو (أنكحتك إن كنت ابن
فلان) أو (إن كانت الشمس طالعة الان) أو بشرط ذلك، مع العلم بأن ذلك الأمر
المعلق عليه حاصل، أو مع العلم بأنه ليس بحاصل.
والكلام في هذه الصور كالكلام في الماضي بعينه، فإن مع العلم بالحصول
يصح العقد، ولا يعد هذا تعليقا، بل ينحل إلى بيان واقع وبيان صفة، ومجرد التعليق
اللفظي قد بينا أنه لا ينافي التنجيز المشترط، وقد عرفت ورود الإشكال في
الأدوات والجواب فيما سبق.
202

ومع العلم بعدم الحصول لا كلام في البطلان، لأن هذا لا يكون إنشاءا وإيقاعا
للأثر، ومجرد إرجاع الشرط إلى الوصف لا ينفع في كون ذلك صحيحا، إذ ليس
غرضه (بعتك الحنطة الحمراء) حتى يقال: إنه غاية ما في الباب فوات الوصف
وهو لا يستلزم البطلان، بل غرضه: أن هذه الحنطة إن كانت حمراء فقد بعتك إياها،
والفرض: أنه يعلم ليست بحمراء، فلم يوقع العقد والتمليك أصلا، لأنه أوقعه على
تقدير غير موجود وهو لا يقع ولا يؤثر، وذلك واضح.
والستة الاخر: التعليق على أمر مقارن بالشرط أو بأدواته، مع الشك أو الظن
بالوجود أو العدم، كقولك: (أنت طالق إن كنت عدوا (1) لي) أو (إن كان أبوك عد وا
لي) مع عدم العلم بالحصول والعدم.
وهذه أيضا من الصور المبطلة - كالستة السابقة - لو أردنا من الظن ما يقابل
العلم العادي، وما نذكره من الأدلة أيضا في الشرطية آتية (2) هنا أيضا.
والقسمان الآخران أيضا: التعليق على أمر في المستقبل بالأداة أو بالشرط مع
القطع بعدم وقوعه، كما لو قال: (أنت طالق إن جمعت بين النقيضين) أو (بعتك
الفرس إن طلعت الشمس من المغرب غدا) أو (إن طار زيد في السماء) أو بشرط
أحد هذه الأمور.
ولا ريب في بطلانه، لعدم القصد، وعدم صدق العقد والإيقاع، ولزوم تخلف
المعلول عن علته من جهتين لو صح، مضافا إلى الإجماع على ذلك، بل المسألة
واضحة.
والقسمان الآخران: هما السابقان مع العلم بأنه يقع، كقوله: (بعتك إن طلعت
الشمس غدا) أو (بشرط أن تطلع كذلك) فهل هذا صحيح لأن هذا ليس تعليقا
لأنه عالم بالوقوع فيصير جازما بالإنشاء، أو هذا أيضا باطل؟
والحق أن هذا أيضا من صور فوات التنجيز [الذي] (3) نذكر الأدلة على بطلانه.

(1) في (ن): عدوة. و (العدو) للواحد والجمع والذكر والأنثى، وقد يثنى ويجمع ويؤنث.
(2) في (م): آت.
(3) من هامش (م).
203

والستة الاخر: التعليق على أمر خارج أو ملحوظ في الموضوع المستقبل
بالشرط أو بأدواته مع الشك في أنه يحصل أم لا، أو مع الظن بحصوله أو بعدمه.
وهذه الستة أيضا لا تخفى أمثلتها بعد ملاحظة ما سبق، وهي من الصور التي
أقيم الدليل على بطلانها في العقد والإيقاع.
فالتنجيز الذي هو شرط في المعاملات عبارة: عن عدم كونه معلقا بأمر في
الماضي أو في الحال مع عدم العلم بوقوعه أو بعدمه، أو في المستقبل مع عدم العام
بعدمه، بشرط عدم كون ذلك الأمر من شرائط الماهية - بمعنى عدم تحقق ماهية
العقد والإيقاع بدونها - ومن شرائط الصحة شرعا، ومن الأمور الراجعة إلى
متعلقات موضوع العقد والإيقاع، وغرضنا من هذه القيود: أن بعض هذه الصور
الخارجة بالقيود صحيح بلا كلام، وليس من فوات التنجيز في شئ وإن كان في
اللفظ مشروطا، وبعضها باطل بلا كلام، لعدم تحقق القصد واسم العقد، ولا حاجة
إلى إبطالها (1) بفوات التنجيز وإن كان التنجيز أيضا فائتا فيه، فانحصر البحث فيما
ضبطناه من الصور تفصيلا سابقا، وإجمالا آنفا.
فنقول: إن الوجه في اشتراط التنجيز بالمعنى الذي ذكرناه أمور:
أحدها: الإجماع المحصل من كلمة الأصحاب قديما وحديثا بحيث لا يكاد
يعرف منهم مخالف في هذا الباب.
وما قد يتفق في كلامهم من التصحيح مع التعليق، فهو إما من شرائط الماهية،
أو الصحة، أو من التعليق في متعلقات موضوع العقد دون نفسه، وقد بينا خروجها
عن البحث وإن كان تميز هذه الصور يحتاج إلى فقيه نبيه (2) فإن جماعة من
المتفقهة قد اشتبه عليهم الأمر في هذا الباب.
وقد نقل على ذلك إجماع الأصحاب أيضا جماعة (3) فالاجماع محصلا

(1) في (م): إبطاله.
(2) في (م): إلى إمعان النظر.
(3) منهم العلامة في التذكرة 2: 114 (في باب الوكالة) وفخر المحققين في شرح الإرشاد على
ما نقله عنه في مفتاح الكرامة 7: 526، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 8: 180 (في باب
الوكالة) والشهيد الثاني في تمهيد القواعد: 533، والمسالك 5: 357.
204

ومنقولا دال عليه وحجة فيه.
وثانيها: أنه مناف لوضع العقود والايقاعات، فإن أدلة العقود بأنواعها
وأصنافها تنصرف إلى ما هو وضع العقد عند الناس كافة، ولا ريب أن التعليق بهذا
المعنى مفوت لما هو طريقة العقد والإيقاع عرفا فلا تشمل ذلك، فيبطل بالأصل.
وثالثها: ما علل به جماعة: من أن العقود إنما يراد بها معنى الإنشاء، سواء قلنا
بأنها حقيقة في هذا المعنى أو مجاز، وكذلك في الإيقاع ولا ريب أن الإنشاء عبارة
عن إحداث ذلك الأثر المقصود - بمعنى كون تلك اللفظة علة تامة في حصوله -
فمتى ما علق على شئ آخر، فإما أن يقع ذلك الأثر من دون حصول المعلق عليه
فيصير منافيا لما قصد في العقد، وإما أن يقع بعد تحققه، فيلزم من ذلك تخلف
المعلول عن علته التامة.
فإن قلت: إن بعد (1) التقييد لا يكون علة تامة، بل يكون هو مع ذلك القيد علة
تامة.
قلت: هذا مناف للأدلة، فإن مقتضاها إنما هو كون الصيغة سببا تاما في ذلك.
فإن قلت: لا مانع من كون الشروط والتعليقات قيدا لزمان التأثير - كما ذكرت
نظيره في الوصية والتدبير - فنقول: أما على كون المعلق عليه في الماضي أو الحال
مع عدم العلم بحصوله يصير معناه: أني جازم وعازم بالتمليك - مثلا - على ذلك
التقدير لا على التقدير الاخر، وأما على فرض كونه في المستقبل فمعناه: إنشاء
التمليك - مثلا - من ذلك الوقت، فإذا قلت: (بعت إن جاء زيد) يكون معناه: أني
الان أوجدت التمليك الحاصل وقت مجئ زيد، وهذا لا يكون قيدا في الإنشاء،
بل يكون قيدا في المنشأ، ولا مانع عن ذلك.
قلت: هذا ينافي ماهية العقود، فإن البيع هو التمليك الفعلي لا الشأني (2)، وكذا
غيره من العقود والايقاعات، فإن ألفاظها موضوعة للمعاني الكائنة بالفعل،

(1) في (ف) زيادة: حصول.
(2) في (ن): الفعلي الإنشائي، وفي (د): الفعلي لا الإنشائي.
205

فإنشاؤها عبارة عن إحداث ذلك الأثر بالفعل، وأما بالقوة فهو ليس بيعا وصلحا
ونحوهما (1). ولا ينتقض بمثل عقد الفضولي ونحوه، إذ ليس غرضنا من التمليك هو
ما جعله الشراع مملكا صحيحا، بل غرضنا المفهوم العرفي الذي يتحقق في ضمن
البيع الفاسد، فالمراد: قصد (2) هذا الأثر من نفس المتعاقدين بالفعل، سواء كان هذا
ممضى عند الشارع أم لا.
وتمام الكلام في هذا المقام إنما يأتي في بيان الموانع والمبطلات، ونذكر
هنا (3) - إن شاء الله تعالى - التعليق، ونذكر أن منشأ كونه مبطلا هل هو أمر شرعي
أو أمر لفظي أو أمر عقلي؟ ونذكر في ذلك البحث تحرير المسألة بما لا مزيد عليه
نقضا وحلا.
وبالجملة: كون التنجيز شرطا وفواته مبطلا مما قد انعقد عليه الإجماع.

(1) في (ن، د): ونحوه.
(2) في (م) زيادة: أن.
(3) في (ف، م): منها، والعبارة في (م) هكذا: ونذكر أن منها التعليق وأن منشأ كونه مبطلا هل
هو أمر شرعي أو أمر لفظي أو أمر عقلي؟ ونحرر المسألة....
206

عناوين اللواحق في عقد أو إيقاع
[العنوان الحادي والأربعون]
[تحقيق الضابط في متعلقات العقود]
207

عنوان
[41]
في بيان الضابط في متعلقات العقود والايقاعات.
لا ريب أن متعلق العقود إما عين، أو منفعة، أو حق، أو انتفاع.
فالعين تتحقق في البيع والصدقة والهبة والقرض والرهن والصلح والشركة
والوصية.
والمنفعة تتحقق في الوقف والسكنى والتحبيس والصلح والمضاربة والوديعة
والعارية والمزارعة والمساقاة والإجارة والوكالة والجعالة والسبق والرماية
والوصاية.
ويتحقق الحق في (1) الصلح والضمان والحوالة والكفالة في وجه.
ويتحقق الانتفاع في النكاح الدائم والمنقطع، فإن العقد فيه ليس مملكا
للمنفعة، بل للانتفاع. وقد يكون هذه الأشياء في عقد معاوضة أو في عقد مجاني،
وقد يكون العوض من جنسه وقد يكون من مغايره، فالصور من ملاحظة كل من
الأربعة عوضا ومعوضا بانفراده واجتماعه مع مجانسه أو مغايره كثيرة، بعضها ممتنع الوقوع - بمعنى أنه ليس (2) عقد قابل لذلك كله - وبعضها يوجد في عقد دون

(1) في غير (م): الحق والصلح.
(2) في (م): بمعنى أن ليس هناك عقد.
208

آخر، وأعم العقود هو الصلح، فإنه ليس عقد (1) أشمل منه وأكثر موردا (2) منه.
ولابد من بيان الضابط الإجمالي أولا في ذلك حتى يجعل معيارا في كل باب
ويلاحظ (3) بالنسبة إليه.
فنقول: قد تقدم مرارا، أن العقود ليست من المخترعات الشرعية، بل إنما هي
أمور مجعولة مقررة عند العقلاء على نحو ما يحتاجون إليه في أمر معاشهم ونظام
أمورهم، وهذا كله كان موجودا في زمن صاحب الشريعة، لكنه قرر طائفة من
ذلك ومنع عن طائفة أخرى، وقيد بعضها وأطلق أخرى، فالمعيار حينئذ بعد ذلك
في ضبط المتعلقات والموارد إنما هو ما جرت عليه طريقة الناس في كل باب، إلا
ما دل الدليل على إخراجه.
وما خرج عن القانون العرفي فهو ليس بمشمول للأدلة، فيحتاج في صحته
إلى دليل خاص، ولذلك جعل الأصحاب - رضوان الله تعالى عليهم - في كل باب
ضابطا بحسب ما وجدوه متعارفا بين الناس في ذلك النوع.
فمن العقود: ما هو لتمليك الانتفاع - كالنكاح - ومنها: ما هو للتسليط على
التصرف، ومنها: ما هو لتمليك عين، ومنها: ما هو يتعلق بالمنافع، ومنها: ما يتعلق
بالحقوق، ومنها: ما يتعلق بالاثنين أو الثلاثة. ثم قد يكون المتعلق شيئا موجودا
في الخارج معينا، وقد يكون [موجودا] (4) في الخارج كليا مشاعا، وقد يكون
معدوما معينا، وقد يكون معدوما كليا ونحو ذلك من التقسيمات، فلابد في الضبط
من رسم مباحث.
الأول: كل عقد فيه جهة مالية لا يصح أن يكون متعلقا بما لا مالية له. والمراد
بالمال أخص من الملك، إذ المملوك كل ما كان للإنسان تسلط عليه شرعا في
التصرفات، والمال عبارة عماله قيمة في العادة، فحبة الحنطة وقشر الجوز ونحو
ذلك من الأشياء الحقيرة وإن كانت مملوكة لمالكها لا يجوز غصبها وإتلافها إلا

(1) في (م): لا عقد.
(2) في (ن، د): موارد.
(3) في (ف، م): يلاحظه.
(4) لم يرد في (ن، د).
209

بالأذن، لكن لا مالية لها، فلا يجوز وقوع مثل ذلك في عقود المعاوضات كالبيع
والصلح والنكاح ونحو ذلك.
وبالجملة: كل شئ لا مالية له لا يكون عوضا في المعاوضات، وأما وقوعه
في العقود المجانية - كالهبة والعطية ونحو ذلك - فربما قيل بأنه يصير واقعا في هذه
العقود ما لا يقع في باب المعاوضة. وليس ببعيد، إذ التمليك المطلق يتعلق بحبة
الحنطة كما يقع الغصب فيه ونحو ذلك، وإن كان في شمول أدلة الهبة ونحوها لمثله
نظر ظاهر.
الثاني: أن عقود الأعمال - كالإجارة والجعالة والوكالة ونحوها - إنما تدور
مدار كون العمل مقصودا للعقلاء، وليس كل عمل يتعلق به هذه العقود، فما يعبث به
الجهال من الأعمال الغير المقصودة للعقلاء - كالذهاب إلى الأماكن الخطرة ورفع
صخرة ونحو ذلك - لا تتعلق به المعاملات، لعدم وجود نفع يعتد به، ولهذا لو فرض
في هذه الأفعال ما يخرجها عن اللغوية ولو بالعارض يصير (1) كباب السبق
والرماية الذي رخص الشارع فيه لمصلحة نظام الجهاد، مع أنة في الحقيقة نوع من
القمار.
الثالث: أن العقد المتعلق بما في الذمة - كالرهن والضمان والحوالة - لابد من
تعلقه (2) بشئ ثابت في الذمة حين العقد، بخلاف ما يتعلق بالذمة بعد ذلك بسبب
- كدية العاقلة قبل حلول النجم، أو نفقة الزوجة، أو نظائر ذلك - فإنه مما لم يتعلق
بعد بالذمة، فلا وجه لتعلق العقد بها، لأنها معدومة صرفة.
وأما التفصيل، فنقول: لا كلام في أن البيع لا يتعلق إلا بالأعيان، ولذا يقولون:
أن البيع ناقل الأعيان، فلا يقع المبيع منفعة ولا حقا ولا انتفاعا. وأما الثمن فلا
يكون أيضا حقا، لأن البيع من عقود الأموال، والحق ليس مالا في نفسه وإن تعلق
بالمال في بعض الأفراد، ولا يكون انتفاعا أيضا بالأولوية، لأنه من عقود التمليك،
ولا ملك حقيقة في الانتفاع، بل هو نوع تسلط.

(1) في (م): لصارت.
(2) في غير (م) تعلقها.
210

نعم، الكلام في أن الثمن هل يكون منفعة أم لا؟ ظاهر إطلاق الأصحاب
العوض في البيع وعموم أدلته جواز كون المنفعة ثمنا، ولم نقف على من منع منه
صريحا.
نعم، نسب المنع الشيخ الأكبر (الشيخ جعفر الغروي) في شرح القواعد إلى
بعض الأعيان (1) - وكأنه من معاصريه - ونحن لم نقف على منع لفقهائنا (2) في ذ لك،
فكل عين لها مالية قابل لأن يكون مبيعا، إلا ما أخرجه الدليل بحسب طريان
أوصاف مانعة، وسيتضح الموانع والمبطلات في بحثها إن شاء الله تعالى.
وكذا كل عين مالي أو منفعة مقصودة لها مالية يقبل أن يكون ثمنا، إلا إذا منع
عنه مانع.
ولا بحث أيضا في أن الوجود بالفعل غير معتبر، بل كما تتحقق المعاوضة
بالموجود كذلك تتحقق بالمعدوم، وهو الكلي الثابت في الذمة باعتبار وجود
أفراده (3) بحيث يمكن تحصيله (4) في ضمن الأفراد.
نعم، هنا كلام معروف جار في البيع وسائر عقود المعاوضة في الأعيان
والمنافع، وهو: أن الملكية عرض من الأعراض المعروفة، ولا ريب أن العرض لا
يتحقق إلا بمحل موجود فكيف يعقل تعلق الملك بالمنفعة المعدومة أو بالعين
المعدومة؟ ولا ريب أن عقود التمليكات كلها موضوعة لحصول الملك، وهو لا
يتحقق إلا مع وجود موضوع، فيكون مقتضى القاعدة اشتراط كل ما يكون فيه
تمليك من العقود بوجود المتعلق، ويكون ما عداه خارجا بالدليل، وهذا أصل ينفع
في أكثر الموارد، فلا يجوز أن يكون العوض ولا المعوض كليا، ولا فردا مرددا،
ولا شيئا معينا معدوما، وما ورد في الشرع من هذا الباب فقد أخرجه الدليل.
ويبقى البحث في أن الملك إذا امتنع تعلقه بمعدوم، فكيف يجوزه الشارع؟

(1) شرح القواعد (مخطوط) الورقة: 48.
(2) العبارة في غير (م) هكذا: وإلا لم نقف لمنع من فقهائنا.
(3) في غير (م): أفرادها... تحصيلها.
(4) في غير (م): أفرادها... تحصيلها.
211

فقيل: إن المنفعة - مثلا - موجودة بوجود العين، والثمار - مثلا - موجودة بوجود
الأشجار، والكليات موجودة بوجود ما يفرض من أفرادها، وهذا المقدار يكفي
في تعلق الملكية (1).
وهذا الكلام ساقط، إذ المنفعة لا توجد إلا بوجود أجزائها جميعا في الخارج،
وكذا الثمار، ووجود الشجرة ليس وجودا للثمرة كما لا يخفى، وكذلك في الكلي:
فإن أريد منه الموجود في ضمن هذه الأفراد فيرجع إلى الفرد المشاع، وإن أريد
نفس الكلي - ولو كان وجوده مثلا بعد ذلك ولو في ضمن أفراد - فهذا ليس إلا بيع
معدوم، ومجرد تعين الماهية وتقررها في نفس الأمر ليس موجبا للوجود، غايته:
الخروج عن الجهالة، وليس كلامنا في ذلك.
وقيل: إن المراد: تمليك القابلية والاستعداد في هذه الأمور المعدومة،
والقابلية موجودة في العين، أي: في مثل الدار والشجرة ونحو ذلك.
وهذا مع منافاتها للأدلة ولكلام الأصحاب وكون قصد المتعاقدين خلافه مما
لا يصغى إليه.
وقيل: إن المراد من التمليك: التعليق، بمعنى: أنه إذا وجد ذلك يكون ملكا،
وبعبارة أخرى: العقود المملكة إنما دلت على النقل على النحو الذي هو للمالك،
فالمنفعة والنماء والكلي المعدوم، كما أنه ليس ملكا للمالك الناقل بالفعل فكذلك
للمنقول إليه، بل يراد به نقل الملك الكذائي، ومعنى كونه تمليكا إحداث هذا
الوضع الذي للمالك - وهو كون الشئ بحيث إذا حصل كان ملكا له - للمشتري
والمستأجر، يعني يجعله بحيث إذا وجد ذلك النماء والمنفعة يكون ملكا لك،
وهذا (2) ليس من تعلق العرض بالمعدوم.
وهذا أيضا مناف لظاهر الأدلة وقصد المتعاقدين ولكلام الأصحاب، بل
الظاهر أنه يملك الان الشئ المعدوم ويجري عليه جميع آثار الملك.

(1) لم نظفر على قائله، وهكذا الأقوال الآتية.
(2) في (م): هو.
212

ويمكن أن يقال: إن هذا ليس ملكا حقيقة، بل هو ملك حكمي رتب الشارع
[الأثر] (1) على ذلك، وهو الجعل والاعتبار لا يقتضى الوجود في التاريخ بل إنما
يلزم ذلك في الملكية العرفية الحقيقية، فيكون تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود
وترتيبا لحكم الملك عليه تعبدا.
وعلى كل حال: فالأصل في كل ما جعل متعلقا في العقود أن يكون موجودا،
خرج ما دل الدليل عليه - من السلم ونحوه - عن القاعدة وبقي ما عداه.
وحكم الصدقة والعطية والهبة والقرض حكم البيع في اعتبار كون المتعلق
عينا ماليا لا منفعة ولا عينا غير متمولة (2) لأنه خلاف وضع هذه العقود، وخلاف ما
هو المستفاد من أدلتها (3).
وأما الوقف والسكنى والتحبيس والعارية والإجارة فالضابط في متعلقاتها:
كل عين يصح الانتفاع منها مع بقائها (4) إذ المقصود في ذلك كله هو المنفعة، وهي لا
تستوفى إلا شيئا فشيئا، فما لم يكن الشئ قابلا للانتفاع به من دون تلف للعين (5)
لا يمكن فرض هذه العقود فيه، فلا يصح تعلق هذه العقود بمثل المطبوخات وسائر
المأكولات التي لا انتفاع بها مع بقاء عينها، وهذا هو مقتضى القاعدة، وقد خرج
عنها أشياء نذكرها في ذيل البحث.
وحكم عوض الإجارة حكم ثمن المبيع في كفاية كل ما هو عوض متمول.
والرهن لا يتعلق إلا بما يمكن استيفاء الدين منه، لأنه في الحقيقة وثيقة
للدين فلا يكون إلا مالا، لأن غيره غير قابل للاستيفاء، ولا يكون منفعة لفواتها
شيئا فشيئا وعدم اجتماع أجزائها، وعدم إمكان القبض الحقيقي فيها إلا بعد
إتلافها، والرهن مبني على البقاء، وفي اشتراط كونها (6) مما فيه الدوام وعدم سرعة
الفساد وجهان مذكوران في كتب الفروع، والذي تقتضيه القاعدة التي أجملناها،

(1) من (م).
(2) في سوى (م): غير متمول.
(3) في (ن): الأدلة، وفي (د): أدلته.
(4) في غير (م): يصح الانتفاع منه مع بقاء عينه.
(5) في (ن): العين.
(6) أي: العين المرهونة.
213

أولا عدم الجواز إلا بعد دليل خاص، فتدبر.
والمضاربة: المعاملة على العمل المتعلق بمال التجارة بحصة من الربح
والمزارعة: معاملة على الأرض بحصة من النماء والمساقاة تتعلق على الأصول
الثابتة بحصة من الثمرة وما في حكمها، مع كون الأصول باقية. والوصية تتعلق
بالمال عينا كان أو منفعة، لعموم دليلها وكون وضعها في العرف كذلك.
وبالجملة: العمدة للفقيه ملاحظة نوع المعاملة ووضعها المعهود في العرف
المدلول عليه بالأدلة والاطلاقات، وكل ما هو مناف لوضعها فهو مما لا يمكن
تعلقها به.
وهذا تفصيل ما أجملناه في أول العنوان، ولكن النبيه بعد ملاحظة هذه القاعدة
يقدر على استخراج الفروع التي ذكرها الفقهاء في متعلقات العقود، وحكموا في
بعضها بالصحة وفي بعضها بالعدم واستشكلوا في البعض الاخر، وكلها مبنية على
معرفة ماهية المعاملة من العرف أو من عموم الدليل.
ولا يخفى أن ذلك كله إنما هو بحسب أصل المورد في الجملة وقد يكون لهذه
الموارد قيود باعتبار الشرائط من قبض ونحوه، والموانع من الغرر والجهالة ونحو
ذلك توجب خروج بعض الأفراد، وذلك يتضح بعد ملاحظة ما نذكره من القواعد
الآتية، وكلامنا الان إنما هو في جهة المقتضي، فتدبر.
نعم، هنا مباحث شريفة وقواعد متقنة متعلقة بضبط موارد العقود في بعضها (2)
لمكان الإشكال والإجمال نشير إليها حتى يصير تتميما لهذا المقام.
قاعدة:
قد مر أن البيع مورده العين، ولا ريب أن العين تشتمل على أوصاف كثيرة
تختلف بها الرغبات وتتفاوت بها القيم، فهل المعاوضة على ذات العين المبيعة
بحيث لا مدخل في الصفات في العوض، أو على المجموع المركب من الذات

(1) أي: العين المرهونة.
(2) كذا في النسخ، والظاهر حصول تقديم وتأخير في العبارة، ولعلها في الأصل: ولمكان
الإشكال والإجمال في بعضها نشير إليها....
214

والوصف؟ وبعبارة أخرى: هل الأوصاف تقابل بالاعواض أم لا؟
ولا يختص الكلام بالبيع، بل يعم سائر المعاوضات العينية وغيرها، حتى أن
المنفعة أيضا قد تلاحظ بذاتها - كالسكنى والركوب ونحو ذلك - وقد تلاحظ
بالنسبة إلى أوصاف المنفعة - كالاعتبارات التي بها تزيد الرغبة على المنفعة
وتنقص - فيصير النزاع في أن كل معوض من عين أو منفعة في العقد هل المقابل
بالعوض أصله ومادته، أم هو مع أوصافه؟ وهنا بحثان: أحدهما: بالنسبة إلى سائر
الصفات غير وصف الصحة. وثانيهما: بالنسبة إلى وصف الصحة.
فنقول في الأول:
لا ريب أن الصفات مما يوجب زيادة في القيمة ونقصا فيها، فإن الحنطة
- مثلا - إذا كانت حمراء لها قيمة، وإذا كانت صفراء فلها قيمة أخرى، وقس على
ذلك غيرها من الأعيان الاخر، فإنها تتفاوت قيمتها بملاحظة كونها في مكان دون
آخر، أو في زمان دون آخر، وفي الأعيان المعمولة بالنسبة إلى كون عاملها
الشخص الفلاني أو غيره.
فكون الأوصاف مما تختلف بها القيم مما لا شبهة فيه، ومن هنا يعتبر في
التخلص عن الغرر والجهالة ذكر الأوصاف التي تتفاوت بها الرغبات - كما نذكرها
في مسألة الغرر - وإذا خرج المعوض على خلاف الوصف يتسلط العاقد على
الفسخ - كما ذكروه في خيار الوصف - اعتمادا على أدلة نفي الضرر، كما نبهنا عليه
في تلك القاعدة.
لكن الظاهر من الأصحاب الاتفاق على أن الأوصاف بأنفسها غير مقابلة
بالعوض بحيث يكون قسط من الثمن بإزائها، بل المعوض عبارة عن جوهر
الشئ ومادته، وأما اعتباراته وأوصافه فهي موجبة لزيادة القيمة ونقصانها، لا
أنها أيضا جزء من المعوض، ولذلك نصوا على أن فوات الأوصاف لا يوجب
التبعيض في الصفقة، بل يوجب الخيار نظرا إلى لزوم الضرر، لكنه لم يفت من
المعوض جزء حتى يسقط من العوض شئ في مقابله، ومجرد اختلاف القيمة
215

باختلافها لا يوجب كونها جزءا من العوض، فلا تذهل.
والمراد بالأوصاف التي نذكرها هنا ليست أوصاف النوع المميزة بين
الأنواع (1) بحيث يختلف باختلافها الماهيات - كما في الحنطة والشعير والبقر
والغنم - فإنها داخلة في الماهية ملحوظة في صدق الاسم، وبفواتها يختلف
الجنس ويوجب بطلان المعاملة، وبالجملة: الكلام في أوصاف الأصناف، دون
أوصاف الأنواع التي يعبر عنها بالفصول المنوعة.
فإن قيل: إن المبيع إذا كان - مثلا - هي الحنطة الحمراء ثم بانت على خلاف
الوصف، فلا ريب أن الوصف وإن لم يكن ذاتيا للحنطة لكن بعد اعتبار قيديته في
المبيع يصير جزءا صوريا من المبيع كالنوع، فإما أن يكون فواتها مبطلا للمعاملة
كما [لو] (2) خرج من غير الجنس، وإما أن يكون موجبا لتبعض الصفقة، إذ العوض
إنما بذل في مقابل هذا المجموع المركب.
قلنا: اعتبار ذلك قيدا في المبيع لا يقتضي كونه جزءا من المعوض، فإن من
المعلوم أن المعوض عبارة عن الحنطة وكون الوصف المأخوذ فيه نظير الشرط،
والوجه فيه احتمال انفكاك الوصف عنه، وهذا ميزانه العرف، فإذا لم يكن في نظر
أهل العرف جزءا للمبيع فلا يكون شئ من العوض في مقابله، والقيود الاعتبارية
في المفاهيم وإن كانت كالأجزاء [منها] (3) في المفهوم لكنها لا يقع عليها المعاملة،
فإن قولنا: (بعت الحنطة الحمراء) معناه: بعت الحنطة الموصوفة، لا بعت الحنطة
والوصف، فتدبر.
وبالجملة: في المعاوضات كلها - من البيع والصلح والمزارعة والمساقاة
والإجارة وغير ذلك - لا عبرة بالأوصاف (4) في مقابلة العوض بمعنى: أنه لا
يسقط من العوض شئ في مقابل فوات الوصف، بل: إما أن يقبل كذلك أو يترك،

(1) في (م): المميزة له من الأنواع الأخر.
(2) من (م).
(3) من (م).
(4) وردت العبارة في (م) مختصرا، هكذا: وبالجملة لا عبرة في المعاوضات كلها بالأوصاف.
216

وكما لا ينقص بفواته شئ لا يزيد بزيادته أيضا شئ آخر.
ومن هنا أيضا نقول: لو دفع إلى القابل ما هو على وصف أحسن وأعلى مما
ذكر في المعاملة وجب القبول وإن لم يكن هذا عين ذلك الوصف المشروط، لأن
الوصف ليس معوضا حتى تبطل المعاوضة بتغيره، واعتباره إنما هو لعدم الضرر،
ومتى ما دفع إليه الدافع ما هو أعلى فلا ضرر، والعين المبيعة قد وجدت فوجب
القبول.
وثانيهما (1): في وصف الصحة.
لا ريب أن الصحة في الأعيان الخارجية هي الأصل، والفساد على خلافه:
إما لأن الغالب في المخلوقات الصحة فالمشكوك فيه يلحق بها، وإما لأن خلقة الله
تعالى إنما هي على نهج مقتضى الطبيعة، ولا ريب أن الصحة عبارة عن كون الشئ
على ما هو مجرى الخلقة الأصلية، والعيب شئ (2) يطرأ على الشئ بالعارض،
والأصل عدم عروض ذلك العارض المخرج للشئ عما هو مقتضى خلقته
وعادته، ولذلك أن سائر الأوصاف لابد من ذكرها في المعاملة، لاختلاف
الرغبات، بخلاف وصف الصحة، فإن عدم ذكرها غير مانع لأقدام الناس على
المعاملة بانيا (3) على كون الشئ صحيحا على طبق الأصل، فكان عدم ذكره
بمنزلة ذكره (4) ولهذا لو فات وصف الصحة وظهر معيبا تخير العاقد أيضا وإن لم
يقيده في العقد، لأن الصحة بعد قيام هذا الأصل تصير كالشرط الضمني، وفواته
يوجب الخيار.
إذا عرفت هذا، فنقول: قد علم من ذلك (5): أن الصحة عبارة عن كون الشئ

(1) أي: ثاني البحثين، تقدم أولهما في ص: 215.
(2) شئ: لم يرد في (م).
(3) في (م): بناءا منها.
(4) في (م): (فكان عدم ذكر الصحة بمنزلة ذكرها).
(5) في (م): فقد علم مما ذكرنا. والجملة التي قبلها - إذا عرفت... - وردت بعد قوله: كما ورد
في الرواية.
217

على الخلقة الأصلية، ولازمه ترتب الثمرات المقصودة من ذلك النوع أو الصنف
عليه، والعيب عبارة عن الخروج عن الخلقة الأصلية بزيادة أو نقيصة، كما ورد في
الرواية (1).
فنقول: هل وصف الصحة في المعاوضات جزء من المعوض أو كالجزء؟
بمعنى: أنه مقابل بالعوض بحيث لو فات الصحة يلزم من ذلك سقوط جزء من
العوض بإزائه (2) أم لا؟ تخيل بعضهم أنه جزء، وذلك لوجوه:
أحدها: أن الصحة من الأوصاف الداخلية، بمعنى: أنها عبارة عن كون الشئ
على مقتضى خلقته، فهي بمنزلة الفصول المنوعة الداخلة تحت الاسم.
وفيه: أن الأسامي لا ريب في وضعها للأعم من الصحيح والفاسد، لعدم صحة
السلب (3) وتبادر القدر المشترك، وسبق الصحيح إلى الذهن إنما هو لانصراف
الإطلاق، كما لا يخفى، فالاسم [لما هو] (4) أعم من كونه صحيحا وفاسدا. وعلى
فرض كونه منوعا أيضا لا يلزم انقسام العوض بالنسبة إليه، إذ لو كان منوعا للزم
بطلان المعاوضة لو خرج معيبا، لأنه من غير الجنس بناءا على هذا التقرير، مع أنه
ليس كذلك.
وثانيها: أن الصحة من الأوصاف التي يتزايد بها القيمة، فلو لم يكن شئ من
العوض في مقابلها لما كان زيادة القيمة بسببها ونقصانها بفواتها.
وفيه: أن هذا لو كان سببا لكونها جزءا من المعوض مقابلا بالعوض للزم ذلك
في سائر الأوصاف أيضا، إذ الأوصاف كلها تختلف بها القيم وتتفاوت بها
الرغبات، مع أن الإجماع قام فيها على عدم كونها مقابلة (5) بالعوض.
ودعوى: أن ذلك لعله خرج بالدليل وإلا كان مقتضى القاعدة تبعض العوض،

(1) الوسائل 12: 410، الباب 1 من أبواب أحكام العيوب.
(2) في غير (م): المعوض في إزائه.
(3) في غير (م): لعدم الصحة للسلب.
(4) من (م).
(5) في غير (م): مقابلا.
218

ليست بأولى من القول بأن زيادة القيمة ونقصانها بسببها أعم من كونها مقابلة
بالعوض. فالقاعدة عدم التبعيض إلا فيما ثبت بالدليل، ولم يثبت، مع أن العرف
شاهد على ما قلنا.
وثالثها: أن الإجماع قام على أن المبيع إذا خرج معيبا فللمشتري الخيار بين
الفسخ وبين الأرش، وهو تفاوت ما بين القيمتين من الثمن، وهذا ليس إلا تبعيضا
للصفقة، كما أنه إذا تلف بعض المبيع أو ظهر مستحقا تبعضت، بمعنى: أن المشتري
له الخيار بين أخذ الباقي بالنسبة من الثمن وبين فسخ الكل، وليس الأرش إلا
عبارة أخرى عن ذلك، فصار المعلوم (1) أن وصف الصحة يعد (2) في مقابل العوض،
ولذلك لم يعتبر [في] (3) التفاوت في باقي الأوصاف، بخلاف وصف الصحة، مضافا
إلى جريان بعض أحكام الجزئية (4) فيه في باب الصرف وغيره، كما ذكره الفقهاء،
ولا يخفى [ذلك] (5) على من راجع.
وفيه: أن قيام الإجماع على ذلك في البيع لا يجعلها كاشفا عن كونها مقابلة
بعوض، بل هو حكم ثبت بالدليل، وأيضا لو كان الأرش على القاعدة - بمعنى كونه
استرجاعا لجزء من الثمن بإزاء (6) جزء من المبيع - للزم كون الأرش من الثمن
بعينه، مع أن الفقهاء بنوا (7) على أن الأرش إنما يعتبر من النقد الغالب فهو يدل على
أن ذلك غرامة جديدة لا ربط لها بالمعاملة دفعا لضرر المشتري.
وبالجملة: كما أن جريان هذه الأمور لا يدل على عدم الجزئية، فما ذكرته من
الأرش أيضا لا يدل على الجزئية والمقابلة (8) بعوض. والمدار في ذلك على

(1) في (م): فعلم.
(2) في (م): يكون.
(3) من (م).
(4) في غير (م): بعض الأحكام للجزئية.
(5) من (م).
(6) في غير (م): في إزاء.
(7) في (م): بناء الفقهاء.
(8) العبارة في (م) هكذا: وبالجملة: إن لم تكن في هذه الأمور دلالة على عدم الجزئية
فكذلك ما ذكر سابقا، فإنه ليس فيه ما يدل على الجزئية وكونه مقابلة بعوض.
219

العرف، ولا ريب (1) أن المقصود في المعاملة ليس إلا الماهية، والصحة مقصودة من
الخارج توجب زيادة القيمة وشدة الرغبة، فإذا خرجت معيبة فلا ريب في وجود
المبيع بتمام أجزائه، وهذا وصف مقصود قد فات، وبالجملة: لا أعرف (2) لجعل
الأرش على القاعدة وجها يعتمد عليه.
والحق: أن وصف الصحة أيضا كسائر الأوصاف، وثبوت حكم الأرش في
البيع إنما هو بالدليل، فإن تعدينا إلى سائر المعاوضات - كالصلح والإجارة
ونحوهما - فإنما هو بالمناط المنقح، أو بشئ آخر. كما أنا قد تعدينا من المثمن
إلى الثمن للإجماع على اتحاد حكمهما. ولو لم يكن هناك دليل معتمد فيقتصر
على محل الدليل في ثبوت الأرش، وغاية ما يثبت في المقامات الاخر الخيار
- كخيار الوصف - ويختص الأرش بالبيع.
ويخطر بالبال هنا كلام في تطبيق الأرش على القاعدة - ولعله من إفادات
شيخنا (الشيخ موسى) ابن الشيخ جعفر الغروي (3) عند قرائتنا عليه في خيار
العيب - وهو أن المقرر عندنا: أن المبيع قبل القبض مضمون على البائع، ولا فرق
بين تلف الكل وتلف البعض، فلو تلف البعض سقط بحسابه من الثمن، فلو اختار
الإبقاء فقد رجع في الحقيقة إلى عوض الجزء التالف وهو ما يخصه من الثمن
بالنسبة، وإلا لزم (4) الجمع بين العوض والمعوض، فالأرش في الحقيقة ضمان
التالف، غايته في هذا المقام يسمى بالأرش، وفي مقام آخر بالمثل والقيمة، وفي
مقام بأجرة المثل، والمعنى في الجميع: ضمان التالف.
وهذا الكلام لا أرى له نفعا فيما أردناه من تطبيق الأرش على القاعدة حتى
يتسرى إلى سائر العقود، [و] (5) يجعل الصحة من موارد العقد ومن متعلقاته في كل

(1) العبارة في (م) هكذا: فالمدار في ذلك حينئذ على العرف ومن المعلوم لديهم.
(2) العبارة في (م) هكذا: فإذا خرج المبيع مثلا معيبا يحكمون بوجوده بتمام أجزائه أن الفائت
وصفه المقصود، والحاصل لا أرى...
(3) في (ف، م): شيخنا موسى بن جعفر الغروي.
(4) في (ف، م): للزم.
(5) لم يرد في (ن، د).
220

معاوضة، بل في كل عقد.
أما أولا: فلأن هذه القاعدة وهو الضمان قبل القبض إنما هو مختص (1) بالبيع
وما يلحقه حكمه من العقود بإجماع ونحوه - كالإجارة - ولم يدل دليل عام على
أن كل عوض ومعوض في معاوضة فهو مضمون على صاحب اليد ولو كان بإذن
المالك الجديد ما لم يحصل القبض، وذلك واضح، فلو سلم هذا المطلب أيضا لم
ينفع في التسري إلى الأبواب الأخر في إثبات حكم الأرش وجعل الصحة
كالجزء.
وأما ثانيا: فلأن هذا متى ما دخل تحت باب الإتلاف فلا معنى لكون ذلك
مختصا بالعيب، إذ كل وصف وكل جزء إذا تصرف فيه البائع أو غيره أو أتلفه
يضمن ذلك للمشتري، وكذلك في سائر المعاوضات، وهذا ليس إثباتا للأرش
على حكم المعاوضة، بل هو [بعبارة أخرى يصير] (2) أن المال قد صار مال
المشتري متى ما لم يفسخ، وحيث إن البائع أتلف منه شيئا فهو ضامن له، وهذا
يجئ لو غير البائع تركيب المبيع أو غيره إلى صفة أخرى أدنى قيمة منه، فهو أيضا
ضامن، ولم يكن للعيب في ذلك مدخلية، ولم يكن ثبوت الأرش على قاعدة
المعاوضة.
وأما ثالثا: فلأن الضمان إنما هو مع الإتلاف، وأما مع التلف السماوي فلا
معنى لتغريم البائع، فإن قلت: إنه من جهة أنه مضمون عليه كيف كان، رجع إلى
قاعدة ضمان المبيع، لا إلى قاعدة الإتلاف، وقد ذكرنا أنه يختص بالبيع، فكيف
يتسرى إلى غيره إلا بدليل؟
مضافا إلى أن ضمان المبيع على البائع إنما هو على حسب ما كان حال البيع،
فغاية ما ذكرت تفيد (3) انطباق الأرش على القاعدة إذا كانت العيوب حادثة بين
العقد والقبض، وأما لو كان العيب موجودا فيه قبل العقد فلا ربط لذلك في ضمان

(1) في (م): هذه القاعدة - أي الضمان قبل القبض - مختصة.
(2) لم يرد في (م).
(3) في غير (ن): يفيد.
221

البائع للمبيع، لأن المبيع قد صار مبيعا على حالة كونه معيبا، ولم ينقص من ذلك
شئ ولم يتلف من ذاته ولا من صفته شئ في يده حتى يكون ضامنا له. فلو لم
يثبت حكم الأرش مطلقا من الدليل فلا تنفع قاعدة ضمان المبيع في ذلك، بل
يكون حكمه كسائر الأوصاف التي أقدم عليها المشتري وانكشف خلافها، ولا
ريب أن ذلك ليس إتلافا من البائع للوصف، وإلا للزمك أن تقول بغرامة الأوصاف
- كما لو غير البائع الوصف بعد البيع وقبل القبض بل إنما هو خروج للمبيع على
غير الوصف ولازمه خيار الرد دفعا للضرر، وأين ذلك من تطبيق الأرش على
القاعدة؟
وبالجملة: من له نظر ثاقب في الفن لا يغفل عن ملاحظة الجهات بأجمعها في
تتميم المدعى، ولم أجد شيئا يركن إليه في جعل الصحة في حكم الجزء حتى
ينطبق باب الأرش على القاعدة كما زعمه (1) طائفة.
وليس كلام شيخنا المذكور (2) على الظاهر إلا في خصوص انطباق الأرش
على القاعدة في بعض الصور وفي خصوص البيع، وإلا فهو (3) أجل عن الاعتماد
على أمثال هذه الكلمات الموهونة في النظر، وإلا فاللازم علي العود على النظر ثم
العود حتى يتضح الأمر، والله الهادي.
قاعدة:
لا ريب أن مورد الصلح يكون منفعة وحقا كما يكون عينا، وقد نص على ذلك
الأصحاب في كتاب الصلح، ولا يكاد يظهر بينهم في ذلك خلاف، وقد ذكروا: أن
الصلح يقوم مقام البيع والهبة والإجارة والعارية والإبراء.
نعم، لهم كلام في أنه يختص بصورة سبق النزاع أم لا؟ وقد أطبق أصحابنا
على التعميم.

(1) في (ن، د): يزعمه.
(2) يعني: الشيخ موسى ابن كاشف الغطاء قدس سرهما المتقدم ذكره في ص: 220.
(3) في (م): وإلا فهو لا يتم كما عرفت، والله الهادي. (والاختصار من مصححها، كما لا يخفى).
222

ولهم كلام أيضا في كونه فرعا للعقود المذكورة - بمعنى كون الصلح في
الحقيقة عبارة عما يقوم مقامه من العقد، غايته اختلاف العبارة، ولازمه جريان
جميع أحكام المنوب عنه عليه، كما نسبوه إلى شيخ الطائفة (1) وفرعوا عليه في
أبواب الفقه تفريعات كثيرة لا تخفى على المتتبع - أو كونه أصلا برأسه، كما ذهب
إليه المشهور بل لا يكاد يظهر في ذلك خلاف بعد الشيخ، لعموم أدلته، وأصالة عدم
جريان حكم غيره فيه، وعدم دخوله تحت أسامي تلك العقود.
وهنا كلام آخر مسكوت عنه في كلام الأصحاب، وهو أن العين المصالح عنها
والمنفعة لا إشكال فيهما، من جهة أن ذلك قد تنقح في كتاب البيع والإجارة
المنافع والأعيان القابلة للمعاوضة (2).
وأما الحق: فلم يتبين مراد الأصحاب من ذلك، ولم يعلم أن مرادهم جواز
الصلح على كل حق إلا ما قام قاطع (3) على عدم الجواز فيه أو جواز الصلح على
الحق في الجملة، بمعنى كون مورده أعم من العين والمنفعة، وليس غرضهم بيان أن
أي حق يصير موردا للصلح، وأي حق لا يصير.
وبالجملة (4): نقول: لا ريب أن من الأعيان والمنافع والحقوق ما هو قابل لأن
يكون (5) موردا للعقود الاخر غير الصلح، وما هو غير قابل لشئ منها، وما هو
مشكوك فيه، فما هو قابل للبيع والإجارة والإبراء من الأعيان والمنافع والحقوق
فلا كلام في أن الصلح أيضا يتعلق به، لعموم (الصلح جائز بين المسلمين، إلا ما
أحل حراما أو حرم حلالا) (6) والظاهر أن هذا مما لا بحث فيه، وإنما الكلام في

(1) صرح بذلك في المبسوط 2: 288.
(2) كذا وردت هذه الفقرة في غير (م) ولا يخفى ما فيها، ولذا غيرها واختصرها مصحح (م)
بما يلي: ثم إنه لا إشكال في جواز الصلح على المنافع والأعيان القابلة للمعاوضة.
(3) في (م): دليل.
(4) من قوله: بمعنى كون مورده... إلى هنا لم يرد في (م)، مع تبديل (نقول) ب‍ (فنقول).
(5) في غير (م): (ما هي قابلة لأن تكون) وهكذا فيما يأتي في هذه الفقرة.
(6) الوسائل 13: 164، الباب 3 من أبواب أحكام الصلح، ح 2، وفيه: إلا صلحا أحل حراما...
223

الأشياء التي لا تقع موردا للعقود الاخر، ولا كلام فيها أيضا في خصوص أعمية
الصلح في الجملة، بمعنى: أن من الأعيان والمنافع ما هو غير قابل للبيع والإجارة،
وهو قابل للصلح، لكن لا ريب أن ذلك ليس فيما هو مطمح نظرنا من ملاحظة
أصل القابلية، بل ذلك بحسب العوارض، كالمجهول ونحوه.
وبعبارة أخرى: أعمية الصلح في الأعيان والمنافع عنهما إنما هي في اختلاف
الصفات، لا أن شيئا غير قابل للبيع بالذات قد يكون قابلا للصلح، وقد أشرنا سابقا
في الضابط (1): أن عقود المعاوضات كلها مبنية على اعتبار عوض مالي له قيمة مع
وجود النفع المحلل المقصود عند العقلاء، كما أشار إلى هذا الضابط المحقق الثاني
في شرح القواعد في كتاب البيع (2) ويوافقه التتبع. والصلح من عقود المعاوضات،
كما نص عليه المحقق الثاني (3) حتى أن قيامه مقام الإبراء أيضا لا يكون إلا
بصورة معاوضة، كقولك: صالحتك عن عشرة بخمسة.
وأما في الحقوق: فهل هو أيضا كذلك - بمعنى: أن كل حق ثبت جواز إسقاطه
والإبراء عنه يجوز كونه موردا للصلح - أو لا، بل يجوز أن يكون من الحقوق ما لا
يسقط بالإسقاط، ولكن يمكن الصلح عليه ويلزم؟
وتفصيل الكلام: أن الحقوق، منها: ما علم بالإجماع والضرورة أنه غير قابل
للسقوط، لا بصلح ولا بغيره، كحق استمتاع الزوج عن الزوجة، فإنه لا يسقط
بإسقاطه، وكذا لو صالح عنه، بل له الاستمتاع متى شاء. وكذا حتى السبق في باب
الرماية، فإنه إذا أصاب أحدهما أزيد من الاخر ولم يتم النضال فلا يجوز الصلح
على إسقاط الزائد - كما نص عليه في الروضة (4) - لمنافاته لمشروعية المعاملة، أو
للإجماع.

(1) في (ن): الضابطة.
(2) جامع المقاصد: كتاب البيع الفصل الثالث في العوضين ج 4 ص 90.
(3) جامع المقاصد 5: 411.
(4) بل نص بذلك في اللمعة، وقرره في الروضة 4: 434.
224

ومنها: ما علم قبوله للإسقاط بلا عوض، أو بصلح، كالحقوق المالية، من حق
خيار، أو حق شفعة، أو حق قصاص، أو حق رهانة - أو نحو ذلك - فإنها قابلة
للإسقاط، وقد نص على ذلك الفقهاء في أبواب الفقه، كما لا يخفى على الممارس.
ومنها: ما هو مشكوك السقوط والعدم، أو معلوم عدم السقوط بالإسقاط
المجاني، ومشكوك السقوط بالصلح، وله موارد في النظر الان ويظهر أكثرها بعد
التأمل، ونشير إلى ما هو في النظر حتى يكون عنوانا للبحث (1).
أحدها: الصلح على مثل حق الأبوة.
وثانيها: الصلح على حق الحضانة.
وثالثها: الصلح على حق الولاية لو كان الولي اثنين - كالأب والجد - إذا
صالح أحدهما حق الاخر بشئ.
ورابعها: صلح حق القسمة للزوجات، وكذا حتى المضاجعة والمواقعة، ولعل
المسألة مفروضة في كتب الفروع (2).
وخامسها: الصلح على حق رجوع الزوج، فيما إذا طلق رجعيا بأن تصالحه (3)
الزوجة عن ذلك بشئ حتى لا يبقى له بعد ذلك رجوع.
وسادسها: الصلح على الحقوق الثابتة في العقود الجائزة كحق الفسخ في نحو
الشركة والمضاربة ونحوها (4) وحق العزل في الوكالة، وحق المطالبة في القرض
والوديعة والعارية - ونظائر ذلك - فهل يجوز الصلح على شئ من ذلك حتى يلزم
ويسقط الحق أم لا؟
وسابعها: الصلح على مثل حق السبق في إمامة الجماعة، أو في المسجد، أو
نحو ذلك.
وثامنها: الصلح على حق التولية الذي يجعل في مثل الوقف ونحوه.

(1) وردت العبارة في (م): مختصرا، هكذا: وله موارد نشير إليها حتى تكون عنوانا للبحث.
(2) قوله: ولعل المسألة... لم يرد في (م).
(3) في غير (م): يصالح.
(4) في (م): في الشركة والمضاربة ونحوهما.
225

وتاسعها: الصلح على حق النفقات في مثل الأبوين ونحوه.
وعاشرها: الصلح على حق الفسخ في النكاح بسبب أحد العيوب.
والحاصل: الغرض من هذا البحث أن الصلح هل هو صحيح في كل حق على
مقتضى القاعدة إلا ما أخرجه الدليل - سواء كان من الحقوق المعلوم جواز
إسقاطها (1) مجانا أو المعلوم عدم جواز إسقاطها (2) كذلك أو شك في جواز
إسقاطه (3) وعدمه - أم لا، بل لا يصح الصلح إلا على ما يصح الإبراء عنه
والإسقاط؟
وينبغي أن يعلم: أن هذه المسألة ليست هي المسألة الفرعية المعهودة في كتب
القوم، لأنها مبنية على أن حكم الصلح في الخيار ونحوه هل هو حكم العقود
الخمسة (4) أم لا؟ وهذه المسألة مبنية على أن مورد الصلح هل هو عبارة عما
يمكن أن يكون موردا لأحد الأمور الخمسة - من إسقاط أو عارية أو نحو ذلك -
أم مورده أعم من ذلك؟ فيمكن صحة الصلح على شئ ليس قابلا لشئ من
المعاملات الخمسة، وهذا الفرق لا يكاد يشتبه على من له خبرة بمذاق الفن.
إذا عرفت محل البحث، فنقول: المسألة ذات وجهين، بل ذات قولين:
ظاهر بعض عبائر الفقهاء كون الأصل في كل ما شك فيه جواز الصلح، ولذلك
ينصون في المقامات التي لا يقبل الصلح عليه (5) - وهو ظاهر بعض المعاصرين (6)
أيضا - بل قد تداول الصلح على حق الرجعة وعلى حق الفسخ في العقود الجائزة
في بلاد العجم على ما نقلوا عنهم (7) وهو لا ينشأ إلا من فتوى من يعتمدون عليه
من العلماء.
وظاهر طائفة من المعاصرين ومن قاربنا (8) من السلف - منهم الشيخ الفقيه

(1) في (ف، م): إسقاطه.
(2) في (ف، م): إسقاطه.
(3) كذا في النسخ، والمناسب: إسقاطها.
(4) المراد من (العقود الخمسة) هو البيع والإجارة والعارية والهبة والإبراء.
(5) في (م): لا يصح الصلح عليها.
(6) لم نقف عليه.
(7) العبارة في (م) هكذا: في جملة من الأمصار على ما حكي.
(8) في (م): قاربهم.
226

المحقق (موسى بن جعفر الغروي) قدس الله تعالى سرهما، حيث نص عليه في
الدرس عند قراءتنا عليه - عدم جواز الصلح إلا على ما يقبل الإسقاط وبعبارة
أخرى: ليس الصلح مشرعا، بل إنما هو ملزم، ويريدون من هذه العبارة عدم جواز
الصلح على حق لم يثبت جواز إسقاطه بغيره.
ومنشأ الخلاف: أن عموم ما دل على أن (الصلح جائز بين المسلمين إلا ما
أحل حراما أو حرم حلالا) (1) هل يشمل مثل ذلك أم لا؟
فيمكن أن يقال: إن الصلح أمر عرفي، وهو قطع النزاع، أو إسقاط المطالبات،
أو تمليك ما يقصد تمليكه في الأعيان والمنافع، وليس له حقيقة جديدة توجب
الإجمال، ولا ريب أن المفرد المحلى باللام إما موضوع للطبيعة - كما عليه
المحققون - والأحكام تتعلق بالطبائع على المختار، فيكون حكم الجواز ثابتا على
الطبيعة المستلزمة لسريانه إلى الأفراد كافة، سيما مع حذف المتعلق القاضي
بالعموم في أغلب المقامات. وإما أنه ليس موضوعا لها، أو لا يجوز تعلق الأحكام
بالطبائع، فإما (2) أن يراد منه جميع الأفراد فهو المطلوب، أو الفرد المعين ولا قرينة
عليه، أو الفرد المنتشر وهو مستقبح في كلام الحكيم في مقام البيان، لعدم الفائدة،
فلا إشكال في إفادته العموم.
والمراد بالجواز: إما الحكم التكليفي بمعنى الإباحة، فيكون مفيدا للصحة، إذ
لا شئ من العقد الفاسد بمباح. وإما الحكم الوضعي بمعنى الصحة والمضي فلا
كلام في دلالته على المدعى.
وليس في اللفظ ما يفيد تقييده ببعض الأفراد أو الأحوال، والأصل عدم
التخصيص.
لا يقال: قد خرج منه بعض الأفراد جزما، لأنا نقول، خروج البعض غير قادح
في الحجية في الباقي، وليس فيما بين المشكوكات في الدخول والخروج علم

(1) الوسائل 13: 164، الباب 3 من أبواب أحكام الصلح، ح 2.
(2) في (م): وحينئذ إما.
227

إجمالي بخروج البعض حتى يسري إجماله إلى العام، مع أن ذلك ينافي احتجاج
العلماء بهذا العموم في كل مقام.
وأما التخصيص ب‍ (ما أحل حراما أو حرم حلالا) ففي معناه إجمال، وتفصيل
نذكره (1) مشروحا ومبسوطا في مبحث الشروط، إذ هما من هذه الحيثية سواء، ولا
دخل له فيما نحن بصدده.
فنقول: كل مقام شك في جواز الصلح عليه وعدمه نتمسك بعموم جواز
الصلح، إلا ما أخرجه الدليل.
فإن قيل: الظاهر من ذلك بيان مشروعية الصلح في الجملة، فلا عموم فيه ولا
إطلاق.
قلت أولا: إن هذا ينافي استدلال الفقهاء به في موارد الشك في شرط أو مانع،
ولا فرق بين الأفراد والأحوال.
وثانيا: أن وجود الاستثناء في الرواية دليل العموم وأنه هو المراد، فيصير
المعنى: أن كل ما هو غير المستثنى فهو جائز.
وثالثا: أن هذا يرد على سائر عمومات أبواب الفقه من قبيل (أحل الله البيع)
ونحو ذلك، مع أنه لم يشك فيه مشكك في إفادته العموم، ولا ريب في التمسك
بها (2) في موارد الشك.
فإن قلت: إن الظاهر منه (3) جواز الإصلاح ورفع الشقاق، ولا دخل له فيما
أردته من العموم.
قلت: هذا رجوع عن عقدية الصلح، ومصير إلى ما ذهب إليه العامة من
اختصاص الصلح بمقام النزاع.
فإن قلت: نقول: إنه عقد بلفظ (صالحت) لكنه على حسب ما يجوز في غيره
من العقود، بمعنى: أنه يتعلق بكل ما يتعلق به العقود: من أعيان أو منافع أو حقوق

(1) في (م): إجمال، وسنذكر تفصيله.
(2) في (م): به.
(3) يعني قوله صلى الله عليه وآله: الصلح جائز بين المسلمين...
228

ولا يلزم من ذلك التعميم إلى ما (1) لم يثبت المعاملة فيه بغير الصلح.
قلت: هذا في الحقيقة إرجاع إلى قول الشيخ بالفرعية (2) من جهة وإن لم يكن
عين ذلك القول، بل هو أحد الاحتمالات في كلام الشيخ، فإن في بيان مراده لنا
كلاما طويلا ليس هذا موضع ذكره، ويحتاج الإرجاع إلى ذلك إلى وجود
مخصص ومقيد، مع أن ذلك يجئ في (أحل الله البيع) إذ لقائل أن يقول: ينصرف
إلى ما يجوز فيه الهبة مثلا، والهبة تنصرف إلى ما يجوز فيه البيع، والإجارة
تنصرف إلى ما يجوز فيه العارية والجعالة وبالعكس.
وبالجملة: صرف العمومات إلى ما ثبت قيام نظائره من العقود مقامه محل
إشكال محتاج إلى الدليل، مع أنا نتمسك في الصلح على المجهول أو على ما لا
يقدر على تسليمه - أو نحو ذلك من الا مور التي لا يقع عليها بيع وغيره - بعموم
(الصلح جائز) فلو بني على الانصراف إلى موارد البيع والإجارة والإبراء ونحوها
لما كان لهذا الاستدلال موقع أصلا.
فإن قلت: إنا لا نريد صرفه إلى خصوصيات ما يصح فيه العقود الأخر، بل إلى
نوع ذلك - كما ذكر في تحرير محل النزاع - بمعنى: أن كل ما هو قابل بنوعه وبذاته
لتعلق أحد العقود الخمسة عليه فهو قابل لوقوع الصلح عليه، مع قطع النظر عن
أحواله من جهالة أو معلومية ونحوهما، ولا ملازمة بين المقامين.
قلت: نعم، ولكن الصرف إلى ذلك أيضا مفتقر إلى دليل يدل على ذلك، ولم
نجد ما يقتضي ذلك، والعموم شامل.
ويمكن أن يقال: لا ريب في انصراف الأدلة في أجناسها وأنواعها إلى
المتعارف، خصوصا في المطلقات، وأن الصلح من باب المطلق لا العام، فينصرف
إلى ما هو المتعارف بين الناس في زمن الخطاب ولا شبهة في أن الصلح على
* (الأعيان والمنافع والحقوق القابلة للإسقاط المجاني - كالماليات ونحوها -

(1) في (م): لما.
(2) تقدمت الإشارة إلى موضع كلامه في ذيل ص: 223، الهامش 1.
229

متعارف شائع، كما يكشف عنه العرف اليوم، ويدل عليه ملاحظة السير والتواريخ،
فإنها تشتمل على وقوع الصلح في الأزمنة السابقة على الحقوق المذكورة. وأما ما
هو غير قابل للإسقاط فليس الصلح عليه متعارفا جزما، بل ما شك في إمكان
إسقاطه وعدمه فلا يشمله الأدلة، ولا يمكن التسري من جواز الصلح ومشروعيته
في الأفراد الشائعة إلى غيرها، لوجود القدر المتيقن (1).
نعم، يبقى الكلام (2) في أن كل ما شك في أنه قابل للإسقاط بالأبراء ونحوه،
هل الأصل أن يكون قابلا للإسقاط أم لا؟ والذي يقتضيه النظر أن الأصل عدم
السقوط، لأصالة البقاء ما لم يدل دليل على السقوط. نعم، يمكن تحصيل الإجماع
على أن الناس مسلطون على حقوقهم في الإسقاط، والتمسك بعموم ما دل على
التجاوز والعفو، وهو مقام آخر.
وبالجملة: الاقتصار في الصلح على ما يقبل الإسقاط أشبه وإن كان التعميم
لا يخلو من وجه معتمد، ومن ذلك الباب: الصلح على اليمين في المنازعات
لإسقاط أو دفع أو أخذ بصورها المتشعبة كما تداوله بعض المتفقهة، والله العالم.
قاعدة:
قد عرفت أن مورد الإجارة إنما هو المنافع ولا تعلق لها بالأعيان، فلا ينبغي
للمستأجر أن يتصرف في عين المال المستأجر في شئ، ولا ينبغي أن يتلف عين
في الإجارة بذلك، وقد وقع الإشكال في موارد:
منها: الاستئجار للرضاع، فإن المرأة المستأجرة للرضاع لا ريب أنه يتلف
بذلك اللبن منها، بل هو المقصود بالإجارة، وهذا مخالف لما هو وضع الإجارة من
تعلق الغرض فيها بالمنافع دون الأعيان.
ومنها: الاستحمام في الحمام، فإنه يتلف فيه الماء كثيرا، بل العمدة في ذلك هو
الماء، فكيف يكون ذلك من باب الإجارة؟

(1) في النسخ: العقد المتيقن، وما أثبتناه من هامش (ن).
(2) في (ن، د): كلام.
230

ومنها: ما ذكره الشهيد الثاني في كتاب الزكاة من الروضة من استئجار
الأرض للرعي (1) وذكر أنه من باب السوم دون العلف، فلا يفقد به شرط وجوب
الزكاة.
ومنها: استئجار البئر للسقي فإنه يستفاد صحته من بعض العبائر، مع أنه لا
ينطبق على مقتضى الإجارة، ونظائر ذلك مما لا يخفى على المتتبع.
والوجوه المتخيلة في أمثال ذلك أمور:
أحدها: أن يكون كل ذلك معاملة مستقلة غير داخلة في عنوان الإجارة قد
ثبت صحتها بالإجماع أو السيرة المستمرة الكاشفة عن تقرير المعصوم، وليس من
هذا الباب (2) حتى يورد به الإشكال على المقام.
وثانيها: أن يكون من باب الإجارة لكنها خرجت عن القاعدة بالدليل، وسر
مشروعية أمثال ذلك - وإن كانت على خلاف القاعدة - توفر الدواعي ومسيس
الحاجة ولزوم العسر والحرج لو لم يكن ذلك مشروعا.
وثالثها: أن يقال: إن الإجارة موضوعة لتمليك المنافع، والمنفعة أمر عرفي لا
ضابط لها شرعا حتى تختص بما يقابل العين، ويكون معناها: مجرد الأمر الحكمي
الانتزاعي كالسكنى والركوب، بل منفعة كل شئ إنما هو بحسبه، والمدار على
ما يعد في العرف منفعة، ولا ريب أن اللبن منفعة للمرضعة كالخدمة والحضانة،
والماء منفعة للبئر والحمام، والعلف منفعة للأرض، ونحو ذلك، وإن كانت كل من
هذه المنافع أعيانا لو لوحظت بأنفسها، لكن باعتبار نسبتها إلى موضوعاتها تعد
منافع في العرف، فلم يخرج عن قاعدة الإجارة، بل هي باقية على وضعها من
كونها ناقلة للمنفعة دون العين والمراد بالعين: ما قصد بذاته واستقل في اللحاظ،
ولا ريب في هذه الفروض [أن] (3) ليس العين المستأجرة إلا البئر والحمام
والمرضعة والأرض، وهي باقية على حالها لم يتلف منها شئ، والتالف إنما هو

(1) الروضة 2: 22.
(2) أي: من باب الإجارة.
(3) من (ن).
231

،
منافعها عرفا، فلا مخالفة فيها للقاعدة أصلا.
ومجمل (1) الكلام أن المنفعة لا تكال بمكيال منضبط، بل تدور مدار العرف.
فإن قلت: لا ريب أن الثمرة بالنسبة إلى البستان أيضا تعد منفعة، والصوف
والحليب بل السخال أيضا تعد منافع للغنم، فينبغي أن يجوز استئجار الغنم لذلك،
مع أنه لا يجوز.
قلت: بعد تسليم عدم الجواز أن العرف يفرق بين ما ذكرت وبين ما نحن فيه،
إذ الثمرة لها وجود مستقل ومالية مستقلة، فإن الميزان في ذلك هو العرف، ولا
ريب أن ماء البئر والحمام لا يعد ملكا على حدة، بخلاف ثمرة البستان ونحوها.
وبالجملة: فلا مانع من إرجاع المنفعة إلى العرف، وجعل كل ذلك من باب
المنافع التي تتعلق بها الإجارة.
ورابعها: أن يقال: إن المنفعة المقصودة في هذه المقامات إنما هي المنفعة
المصطلحة عند الفقهاء: من الخدمة في المرضعة، والاستقاء في البئر، ودوران
الأغنام في الأرض والدخول والخروج، والكون في الحمام، وليس المقصود في
ذلك الأعيان، بل هذه الأعيان كلها توابع - كما سنذكرها في توابع متعلقات العقود -
فإن التوابع لا عبرة بها، كماء البئر في إجارة الدار للسكنى، فإن الدار المستأجرة
للسكنى لا يراد منها إلا هذه المنفعة، لكن يستعمل الماء من باب التبعية، كما أن
الكش (2) في الاستئجار للتلقيح والمداد للكتابة ونحو ذلك، فيجعل جميع الأعيان
التابعة في هذا المقام من قبيل التوابع اللاحقة.
والتحقيق: أن جعل هذه المعاملات من باب العقد المستقل غير ظاهر وإن
أمكن، خصوصا الرضاع، فإن الفقهاء ذكروه في باب الإجارة. وصحة استئجار
البئر للاستقاء والأرض للرعي ممنوع وإن ذكره الشهيد الثاني (3) وإن أمكن أن
يقال بصحته عقدا مستقلا للسيرة، لكن ذكر الرضاع في الكتاب بطريق الإجارة

(1) في (ف، م) زيادة: هذا.
(2) الكش: ما يلقح به النخل.
(3) ذكره في كتاب الزكاة من الروضة، كما تقدم في ص 231.
232

يدل على كون الاسترضاع من باب الإجارة، وكذلك في روايات الاسترضاع (1)
فإنها كلها عبرت بلفظ الإجارة، فلا وجه لجعلها عقدا مستقلا، وكذا البئر للاستقاء
والأرض للرعي فإنهما أيضا يسميان في العرف واللغة إجارة.
وتسمية المتعة أيضا (2) إجارة (3) لا تنافي، لأنه أيضا إجارة بالمعنى الأعم وإن
جعل لها الشارع أحكاما خاصة، أو نقول: ثبت مجازية الإطلاق هنا بالدليل، ولا
يلزم من ذلك مجازية إطلاقها على الرضاع.
وأما جعل هذه الأعيان من التوابع والمقدمات فلا وجه [له] أيضا، لأن التوابع
ليست أمورا جعلية اعتبارية، بمعنى: أن كلما فرضته تابعا يصير تابعا، بل المراد بها
ما هو تابع داخل في الإطلاق عرفا - كما سنحققه في بحثه - واللبن ليس من توابع
المرضعة والخدمة، ولا العلف من توابع الأرض، سيما أن التابع يعتبر فيه مع كون
ذاته تابعا للغير عدم كونه مقصودا بالذات وكون المقصود ما سواه، وهنا ليس
كذلك، إذ ليس المقصود من الحمام إلا الماء، ومن المرضعة إلا اللبن كما لا يخفى،
فكيف يمكن جعل هذا تابعا؟ مع أن ذلك مستلزم لجواز استئجار الشاة للحلب
ونحو ذلك مع أنه خلاف الإجماع، وليس المنشأ إلا ذهاب العين.
وأما جعلها من باب الإجارة بتعميم المنفعة إلى كل ما يعد في العرف
منفعة، فضعيف.
أولا: بإطباق الأصحاب على أن المنفعة المقصودة في الإجارة هي المنفعة
الحكمية دون كل ما يعد نماءا ومنفعة بالمعنى الأعم.
وثانيا: بأن صحة الإجارة على كل منفعة بهذا المعنى تستلزم صحة الاستئجار
للأرض لجمع علفها، والبستان لثمرته، والغنم ونحوه لحليبه أو لصوفه، أو نحو
ذلك، فإن كل ذلك يعد منفعة في العرف، فتصير دائرة الإجارة أوسع من ذلك كله

(1) الوسائل 15: 189، الباب 80 من أبواب أحكام الأولاد، ح 1 و 2.
(2) أيضا: لم ترد في (ن).
(3) راجع الوسائل 14: 446، الباب 4 من أبواب المتعة، ح 2 و 4 و 14.
233

مع أنه خلاف الضرورة، فكيف يعقل التعميم كذلك؟ ولو لم يعم (1) فأي فارق في
هذه المقامات؟
وأقرب الوجوه في ذلك: جعل مثل الرضاع خارجا عن قاعدة الإجارة بنص
الكتاب والسنة والإجماع، وكذا الحمام، للسيرة القطعية على ذلك، والسر في
مشروعيتهما (2) كذلك لزوم العسر والحرج لو لم يشرع ذلك، وما عدا ذلك (3) مما
يتخيل كونه من هذا الباب - كاستئجار الحيوان لحليبه أو لصوفه أو نحو ذلك -
فكلها باطلة، ونظير ذلك من المعاملات الفاسدة بين الناس مما لا يتناهى. وليس
السيرة عامة حتى نقول بثبوت صحته بالسيرة - كما في الحمام - بل أصحاب
التدين المتشرعين يتجنبون عن ذلك.
فالحكم فيما لا دليل يعتد به على مشروعيته بالبطلان وفيما عليه دليل
بالصحة - سواء جعلته من باب الإجارة أو معاملة مستقلة - أوفق في النظر القاصر،
وإن كان الفقيه لا يعجز عن تخريج الوجوه المصححة.
قاعدة:
لا ريب أن مورد الوكالة ما تصح النيابة فيه - كما نص عليه المعظم - وكل ما
لا تصح النيابة فيه لا تصح الوكالة فيه.
وقرر المحقق الثاني والشهيد الثاني تبعا للعلامة والشهيد (4): أن كل ما لم
يتعلق غرض الشارع بصدوره من مباشر معين جاز فيه التوكيل، وكل ما تعلق
الغرض بصدوره من مباشر بعينه لا يجوز فيه التوكيل.
وهنا أمور علم كونها من قبيل القسم الأول، كالبيع والحوالة والضمان

(1) في (م): لم يعمم.
(2) في غير (م): مشروعيتها.
(3) العبارة في (م) هكذا: لزوم العسر والحرج لو لم تصح، وما عداهما...
(4) انظر القواعد 1: 254، جامع المقاصد 8: 215، اللمعة وشرحها (الروضة) 4: 372، لكن
الشهيد الثاني قال: ولا قاعدة له لا تنخرم.
234

والشركة والقراض والجعالة والمساقاة والنكاح والطلاق والخلع والصلح والرهن
وقبض الثمن والوكالة والعارية والأخذ بالشفعة والإبراء والوديعة وقسمة
الصدقات واستيفاء القصاص والحدود وقبض الديات وإثبات حدود الآدميين
وعقد السبق والرمي والعتق والكتابة والتدبير والدعوى وإثبات الحجة والحقوق
والخصومة - سواء رضي الخصم أو لم يرض - وسائر العقود، وأنواع الفسخ من (1)
وقف وهبة وحبس وعمري والرقبى والوصية من الجانبين، وفعل ما يتعلق به
الوصية ما لم يمنع مانع.
وأمور علم كونها من قبيل القسم الثاني، كالطهارة والصلاة الواجبة ما دام
الحياة، والصوم والاعتكاف كذلك، والحج الواجب مع القدرة، والنذر واليمين
والعهد، والمعاصي من سرقة وغصب وقتل - فإن أحكامها تتعلق بالمباشر دون
الموكل -، والقسم بين الزوجات والظهار واللعان والعدة، ونحو ذلك إثبات حدود
الله تعالى.
ومنها: أمور لم يعلم كونها من أي الجانبين: كالتوكيل في السلام أو في جوابه،
وفي الجهاد والواجبات الكفائية، وفي إثبات اليد على المباحات: من اصطياد أو
احتشاش أو حيازة أو غير ذلك، وفي الالتقاط والشهادة على احتمال، وفي
القضاء على بعض الصور، والتوكيل على الإقرار مطلقا، وفي النوافل والمستحبات
من الأدعية وغيرها من الزيارات، وفي أداء الزكاة والخمس والكفارات ونحوها
في وجه.
فنقول: هل الأصل في كل مقام شك في جواز النيابة وعدمه جوازها ويترتب
عليه الوكالة وما بمعناها من جعالة وإجارة ونحو ذلك، أم الأصل في ذلك عدم
الجواز حتى يثبت بالدليل؟ ولم يعهد من الفقهاء في ذلك الباب كلام، فإنهم ذكروا
بعض ما تجوز فيه النيابة وبعض ما لا يجوز فيه تلك (2) ثم أحالوا معرفة ذلك إلى

(1) لا يخفى عدم ارتباط ما بعد (من) بما قبلها.
(2) في غير (م): ذلك.
235

التتبع والاستقراء والدليل التفصيلي، وربما يفهم من ذلك أنه لا يرجح أحد
الجانبين ما لم يكن هناك دليل يدل على أحدهما، ولو كان هناك ضابط لبينوه،
سيما مع ما نراهم من التردد في بعض المقامات من جهة ترددهم في كون هذا
الأمر مما يشترط فيه المباشرة، أم لا، ولا يذكرون أن الأصل والقاعدة مع أحد
الجانبين.
ويمكن أن يقال: إن الأصل عدم الجواز، لوجوه:
أحدها: أصالة عدم ترتب الأثر الشرعي عليه في عبادة أو معاملة أو عقد أو
إيقاع، فإن ذلك المشكوك لو صدر من المباشر قطع بدخوله تحت الأدلة وترتب (1)
عليه الآثار المجعولة في الدنيا أو في الآخرة، بخلاف ما لو فعل غيره، فإن ذلك
مشكوك فيه، والأصل عدم الترتب.
وثانيها: استصحاب بقاء شغل الذمة، أو بقاء الأمر المتعلق بذلك الفعل على ما
كان عليه سابقا، وهو بمنزلة ما ذكرناه من أصالة عدم ترتب الأثر.
وثالثها: أن الوكالة من العقود المعروفة، والأصل الأولي فيه الفساد حتى يثبت
بالدليل، ولم يقم على صحته دليل في سوى ما علم جواز النيابة فيه، فما لم يعلم
ذلك لا دليل على صحته، فيبقى تحت أصالة الفساد.
ورابعها: أن الظاهر من فتاوى الأصحاب إنما هو الإجماع على عدم الجواز
إلا فيما كان هناك دليل، ولذلك يحتاجون في إثبات الجواز إلى دليل، ومن هنا
ذكروا موارد الجواز وعللوها بتعليلات موجبة للصحة، وظاهر ذلك أن ما لم يثبت
الجواز فهم بانون في ذلك على العدم (2).
وخامسها: أن الظاهر من الأوامر الشرعية - كما ذكرناه في العبادات - هو
المباشرة بمقتضى اللغة والعرف، فيكون ذلك قيدا، وما لم يعمل مباشرة لم يتحقق
به الامتثال في المطلوبات الشرعية، واجبة كانت أو مستحبة، عينية أو كفائية.

(1) في (ن): تترتب.
(2) من قوله: وظاهر ذلك... إلى هنا لم يرد في (م).
236

وبعبارة أخرى: كل ما هو مطلوب شرعا مأمور به يكون مقتضى القاعدة فيه
اشتراط المباشرة وعدم جواز النيابة والوكالة إلا فيما دل عليه الدليل، كما دل فيما
ذكرناه من الموارد، وفي أكثر العبادات عن الميت (1) كما هو المتعارف عند الناس.
ويمكن القول بأصالة الجواز، لوجوه:
أحدها: أن الوكالة عقد من العقود وكل ما شك في صحته وفساده فيرجع فيه إلى
ما قررناه سابقا من أصالة الصحة.
لا يقال: إن ذلك إنما هو فيما اشتبه الحكم في العقد مع العلم بالموضوع، لا
فيما اشتبه الموضوع، وما نحن فيه من اشتباه الموضوع، لأن ما لا تجوز فيه النيابة
لا تجوز فيه الوكالة إجماعا، وما تجوز فيه النيابة تجوز فيه الوكالة بلا كلام، وهذا
مصرح به في كلام الفقهاء، حيث ذكروا أنه يشترط في الوكالة أن يكون المورد مما
تجوز فيه النيابة، وموارد الاشتباه الذي هو محل بحثنا إنما هو من شبهة الموضوع،
لأنا لا نعلم أنه مما يقبل النيابة حتى تجوز فيه الوكالة، أو مما لا يقبل فلا تجوز،
ولا ريب أن الأصل في شبهة الموضوع ليس هو الصحة، لأنه قد خرج عن عموم
(أوفوا بالعقود) خصوص الوكالة فيما (2) لا يقبل النيابة، ولا ندري أن ما نحن فيه
داخل في المستثنى أو المستثنى منه، فكيف يتمسك في ذلك أيضا بالعموم؟ ومن
هنا يعلم: أن وجود دليل عام في خصوص باب الوكالة أيضا لا ينفع في أصالة
الجواز، فضلا عن عموم (أوفوا بالعقود) لأنه لو فرض دليل دل على أن الوكالة
جائزة بين المسلمين - كما في الصلح - نقول: لا ريب في خروج ما لا يقبل النيابة
عنه، فيصير المشكوك فيه من باب الشبهة في الموضوع، فلا يمكن التمسك بالعام
في هذا المقام، فتدبر.
لأنا نقول أولا: قد بينا أن الأصل في شبهة الموضوع أيضا الصحة كما ذكرناه
سابقا، فراجع. وثانيا نقول: إنا لا نسلم خروج ما لا يقبل النيابة عن أدلة الوكالة بل

(1) في غير (م): في الميت.
(2) العبارة في غير (م) هكذا: في خصوص الوكالة ما لا يقبل...
237

كل ما خرج عن دليل الوكالة صار مما لا يقبل النيابة.
نعم، لو ورد مخصص بلفظ (ما لا يقبل النيابة) لكان موجبا للإجمال، لكنه
ليس كذلك، ولو كان مثل ذلك مما يضر بالتمسك بالعمومات في مورد الشك لم
يصح التمسك بعام مطلقا، فإن (كل شئ - أو كل ماء - طاهر) مخصص بالنجس
النفس الأمري قطعا، فكل ما شك فيه فيصير مما شك في دخوله تحت العام أو
المخصص. والجواب كما ذكرناه: من أن ما خرج هو النجس، لا أن (1) النجس قد
خرج، وكذلك في العمومات الاخر، فتدبر.
لا يقال: إن أصالة صحة العقد لا توجب فراغ الذمة فيما (2) كان المكلف
مأمورا بالإتيان.
لأنا نقول: ليس معنى صحة الوكالة إلا تأثير عمل الوكيل ما (3) أثر فيه عمل
الموكل، فيكون عمله قائما مقام عمله في الأثر، واللازم ترتب آثار الدين والدنيا
عليه، وإلا فلا معنى لصحة الوكالة.
وثانيها: أن النائب إن كان في باب المعاملات وما لا يشترط فيه نية التقرب،
فلا شك في أن العمل متى ما وقع يصير مشمولا لما دل عليه من أدلة أحكام
الوضع، فيكون بيعا وصلحا أو غسلا أو نظائر ذلك (4) من الأفعال، فيلزم ترتب
آثارها عليه. وإن كان في عبادة، فلا ريب أن النائب والوكيل متى ما نوى كون
العمل للمنوب عنه والموكل فبمقتضى عموم (لكل امرئ ما نوى) (5) حصول هذا
المقصود لازم، فيكون العمل للموكل ويترتب عليه الآثار المترتبة عليه، ولا يفترق
صدوره من الموكل أو من الوكيل. وإلى هذا المعنى يرجع ما يقال: إن المباشرة
مورد في الطلبيات لا قيد، وقد ذكرناها في أصالة التعبدية، فراجع ثمة (6).

(1) في (ن): لأن. وعلى أي حال العبارة لا تخلو عن قصور.
(2) في (ن، د): فيما لو كان.
(3) كذا في النسخ، والظاهر: فيما.
(4) في (م): ونظائرها.
(5) الوسائل 1: 34، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات، ح 10.
(6) راجع الجزء الأول، العنوان 12.
238

وثالثها: الاستقراء، وهو أنا بعد ما تتبعنا وجدنا أن الغالب في الأفعال جواز
الاستنابة والوكالة، كما علم ذلك مما ذكرناه من الموارد، فمتى ما شك في كون
الفرد المبحوث عنه مما يجوز فيه ذلك أو لا يجوز فالظن يلحقه بالغالب من
الجواز.
ولكن الظاهر من كلام الأصحاب الاتفاق على أن ما شك فيه لا يحكم بجواز
النيابة والوكالة، لأصالة عدم ترتب الأثر، وهو مقتضى ما قررناه سابقا: من أن
الأصل في الأوامر المباشرة وهي قيد لا مورد، خلافا للبعض، وقد قام الإجماع
على أن ما لا تجوز فيه النيابة لا تجوز فيه الوكالة فتصير هذه العبارة - التي هي
مورد الإجماع - بمنزلة الخبر المخصص لعموم (أوفوا بالعقود) إن قلنا بدلالته
على مثل هذا المقام، وإن لم ترد هذه العبارة في نص.
ولو كان في أدلة الوكالة دليل عام أيضا ينصرف إلى ما تجوز فيه النيابة أو
يتخصص بالإجماع المذكور والاستقراء بنفسه - بعد البناء على هذا الإجماع - لا
ينفع في شئ، مع أن الغلبة المعتد بها بحيث يندر مقابلها غير معلومة.
فالمصير إلى عدم الجواز إلا فيما علم جواز النيابة فيه أشبه. ويبقى الكلام في
بيان أن ذلك في أي مقام ثبت وفي أي مقام لم يثبت، وهو كلام آخر.
239

[العنوان الثاني والأربعون]
[في توابع العقود]
[وبيان المراد منها]
241

عنوان
[42]
في توابع العقود:
ومجمل الكلام فيه: أن كل عقد له تعلق بما هو موافق لموضوعه الثابت له ذلك
عرفا و (1) عادة أو شرعا، وهو الذي يقصد في المعاملة ولا يكون ما عداه مرادا
بالذات.
ولكن قد يكون لمتعلقات العقود أمور يتبعها (2) في نظر العرف، بحيث إن
إطلاق اللفظ في المتعلق أو إطلاق المعاملة يقتضي انضمام ذلك التابع في العرف.
وقد يكون التبعية ثابتة بحكم الشرع، بمعنى: أن الشارع يحكم بلزوم إلحاق
شئ على المقصود وإن لم يكن ذلك الملحق مقصودا، وهذه الأمور نسميها
بالتوابع.
فالذي يكون تابعا شرعا يحتاج في إثبات ذلك إلى وجود دليل شرعي معتبر
على التبعية، كما ذكره الفقهاء فيما لو أوصى بإعطاء صندوقه لزيد أعطي بما فيه، أو
بإعطاء سفينة له أعطي بما فيها، نظرا إلى ما ورد في الرواية (3) فبعضهم عمل بها
على الإطلاق، وبعضهم قيدها بعدم القرينة على الخلاف، وبعضهم لم يعمل بها منعا

(1) في (ف): أو.
(2) كذا، والمناسب: تتبعها.
(3) راجع الوسائل 13: 452، الباب 58 و 59 من أبواب أحكام الوصايا.
242

للتبعية وطرحا للرواية واعتمد على وجود القرينة على الدخول حيث تحققت (1)
وكما (2) في دخول الطلع الذي لم يؤبر في بيع النخل بالنص.
والتابع العرفي يحتاج إلى دلالة العرف على التبعية، فإن كان المتعاقدان من
أهل العرف العام فيدخل ما هو تابع عرفا، وإن كان من أهل اصطلاح خاص
فيدخل ما هو تابع في اصطلاحهم.
ويجئ في ذلك مسألة تعارض العرفين والعرف واللغة، وتحقيقه بقول مجمل
ما يحكم القاعدة بأنه المراد، أو الأقرب إليه.
وقد ذكر الفقهاء لذلك أمثلة في بحث التوابع، كمفتاح الدار وأساس الحائط
والغلق والسلم المثبت والأوتاد ومزارع القرية ومرافقها وثياب العبد والأمة،
وهذه المذكورات لعله تجئ في سائر العقود الناقلة للأعيان: من هبة وصلح
وإصداق وعوض إجارة ونحو ذلك، إذ الميزان دخول هذه الأمور تحت اللفظ
عرفا وإن ذكرها الفقهاء في باب البيع، وذكروا في باب الإجارة مثل القتب والزمام
والحزام والسرج والبرذعة [ورفع الإجمال] (3) والمحمل والمداد في الكتابة وكش
التلقيح وخيوط الخياطة والصبغ في الصباغة ونظير ذلك.
وأنت بعد التأمل في ذلك تقدر على ملاحظة التوابع في جميع ما يمكن
جريانها فيه: من عقود الأعيان والمنافع، عوضا كان أو معوضا، أو بدون المعاوضة،
فإن المدار على دخول ذلك تحت إطلاق اللفظ في عرف التخاطب مطلقا.
وإذا عرفت معنى التابع لا تبقى لك شبهة في اتباع ذلك التابع والحكم
لدخوله (4) تحت مفاد الأدلة في الأبواب كلها، وهو المتبع.
وخلاف الفقهاء في دخول بعض وعدم آخر ليس نزاعا في حكم شرعي

(1) إن أردت تفصيل الكلام في المسألة وتسمية قائلي كل من تلك الأقوال راجع مفتاح
الكرامة 9: 541.
(2) عطف على قوله فيما تقدم: كما ذكره الفقهاء فيما لو أوصى....
(3) ما جعلناه من المعقوفتين لم نتحقق معناه، وأسقطه مصحح (م).
(4) كذا، ولعله مصحف: بدخوله.
243

ابتداءا، بل هو بحث في شمول اللفظ عرفا وعدمه، كما اختلفوا في أصل اجزاء
المبيع (1) ومقوماته أيضا من جهة الخلاف في معاني الألفاظ.
والظاهر: أن اختلاف كلامهم في هذا الباب لا ينزل على البحث في الحكم،
وإنما هو نزاع في الموضوع، ويمكن حمله على اختلاف العرف بحسب كل مكان
وزمان، فلا نزاع.
وهنا أمور:
أحدها: أن التوابع لا يشترط فيها ما هو شرط في أصل متعلقات العقود،
فيجوز أن يكون (2) التابع في الإجارة عينا، كماء البئر في إجارة الدار، والعلف في
إجارة الأرض للرعي في وجه مر إليه الإشارة (3) ويجوز أن يكون التابع مجهولا
مع كون أصل العقد يشترط في عوضه المعلومية، وقس على ذلك سائر الشرائط،
وإلى هذا المعنى ينزل قولهم: (يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل) على أحد
الوجوه.
وثانيها: أن التوابع إذا وجدت تبعت، وإذا لم توجد لم يجب إيجادها والإتيان
بها، فلو لم يكن للدار مفتاح لم يجب على البائع أو المؤجر تسوية المفتاح، وكذا لو
لم يكن للدابة سرج أو لجام في الإجارة ونحو ذلك. وكذا لو تلف شئ من التوابع
قبل القبض لا يوجب تبعض صفقة، لأنها غير مقابلة بالاعواض، ولا يوجب
الخيار أيضا، إذ لم يكن ذلك مقصودا حتى يلزم بفواته الضرر.
وثالثها: أنه قد ذكرنا أن التوابع ما يتبعه في نظر أهل العرف، فلا يكون ذلك
بقصد المتعاقدين، فلو جعل شيئا متبوعا وآخر تابعا بالقصد لا يصح ما لم تتحقق
التبعية في الخارج، فلو باع شيئا من الحنطة - مثلا - مكيلا أو موزونا بثمن وجعل
مقدارا آخر مجهول الوزن والكيل تابعا لم يصح، لأن كلا منهما مستقل في

(1) في (ن، د): إجراء البيع.
(2) في غير (م): أن يجوز.
(3) قد مرت الإشارة إليه في العنوان السابق، ص: 232.
244

المقصودية، وليس أحدهما تابعا للاخر، والقصد لا ينفع في ذلك.
وذكر الشهيد الثاني في الروضة في باب البيع في شرط المعلومية: أن بيع اللبن
في الضرع غير جائز وإن ضم إليه شيئا معلوما، وعلله بأن ضم المعلوم إلى
المجهول يصير المعلوم مجهولا، ثم قال: وبالغ الشيخ فجوز ضميمة ما في الضرع
إلى ما يتجدد مدة معلومة - إلى أن قال -: وفصل آخرون فحكموا بالصحة مع كون
المقصود بالذات المعلوم وكون المجهول تابعا، والبطلان مع العكس وتساويهما
في القصد، وهو حسن، وكذا القول في كل مجهول ضم إلى معلوم (1) انتهى.
وأنت خبير بأن جعل القصد هو الميزان في الأصلية والتبعية بعيد عن طريقة
الفقه وعن الأدلة، والأقوى ما ذكرناه من: أن قصد التبعية لا يجعل الشئ تابعا، بل
لابد من شرع أو عرف عام أو خاص.
ولا يخفى عليك أن مسألة بيع الآبق مع الضميمة - أو إجارته أيضا على قول -
ليس من باب التبعية - كما قد يتخيل - بمعنى: أن يجعل المقصود الضميمة والآبق
تابعا ولهذا لا يعتبر فيه القدرة على التسليم، وإلا للزم جواز ذلك في كل مبيع لا
يقدر على تسليمه. ودعوى: أنه مع قصد التبعية يجوز في كل مقام، غير مسموعة،
بل ساقطة جدا، بل هو (2) لدلالة النص.
ومن العجب! أن الشهيد الثاني ذكر ذلك في باب العلم والجهل (3) ولم يذكر في
سائر الشرائط، مع أنه على كلامه: يجوز جعل الوقف تابعا للطلق، وما لا منفعة فيه
تابعا لذي المنفعة، وغير المقدور تابعا للمقدور، وما حرم بيعه تابعا لما لا يحرم،
فلم اكتفى بخصوص مسألة المعلوم والمجهول؟ وليس ذلك إلا لأدائه إلى مخالفة
الضرورة والوجدان.
فالمدار في التابع هو ما ذكرناه من الميزان، ويجري عليه أحكامه التي
ذكرناها من دون إشكال.

(1) الروضة 3: 282.
(2) يعني: جواز بيع العبد الآبق مع الضميمة.
(3) يعني: معلومية المبيع ومجهوليته.
245

[العنوان الثالث والأربعون]
[في ضبط مقتضيات العقود ذاتا وإطلاقا]
247

عنوان
[43]
في بيان مقتضيات العقود:
اعلم أن للعقد مقتضيات باعتبار ذاته، وله مقتضيات باعتبار إطلاقه، ويترتب
على ذلك في الفقه فروع كثيرة نبه عليها الأصحاب في كل باب، ويترتب على
ذلك أيضا بطلان الشروط المنافية لمقتضى العقد، كما ذكره الأصحاب، ويأتي (1)
تنقيحه في باب الشروط إن شاء الله تعالى.
والمراد بمقتضيات ذات العقد: ما تتحقق ماهية العقد وصحته بها، وبانتفائها
تفوت الماهية، سواء كان ذلك من الأركان الداخلية، أو من اللوازم والآثار
الخارجية.
والمرجع في معرفة هذه الأشياء العرف في بعض المقامات بل أكثرها،
والشرع في بعضها، من جهة أن المدار في المعاملات على ما هو طريقة الناس
غالبا، ولم يصدر من الشارع في هذا الباب سوى جعل شروط وبيان موانع.
فماهية المعاملات تقتضي في الخارج أجزاء وآثارا لو لم تتحقق تلك
المقومات واللوازم لارتفع الاسم ولم توجد الماهية في العرف والعادة وهذا

(1) في (ن): سيأتي.
248

يرجع إلى ملاحظة مفاهيم العقود، فإن الوقف - مثلا - تمليك المنفعة أو تسبيلها مع
حبس العين، وهذا مفهومه العرفي الذي يفوت لو لم يكن هناك عين أو منفعة، أو لم
تكن العين مما من شأنه البقاء، أو كان ذلك كله ولم يتحقق التمليك أو لم يتحقق
التحبيس، أو جعل موقتا أو منقطعا، فإن كل ذلك مما يخالف مقتضى ذات عقد
الوقف ويشاركه في الأغلب السكنى والتحبيس.
ويشترك البيع والإجارة والصلح والجعالة والسبق والرماية في اقتضاء ذاتها
المعاوضة، فلو كان بدون العوض أو بدون التمليك - على فرض تحقق المقصود -
لم يتحقق اسم المعاملة.
ومثل ذلك: كون المضاربة المعاملة (1) بحصة من الربح، والمزارعة معاملة
على الأرض بحصة من النماء، والمساقاة معاملة على الأصول بحصة من الثمرة،
فإن كل ما يقتضيه ماهية العقد وتحقق اسمه يسمى (مقتضيات الذات) كما ذكرناه.
ومنها: الاستمتاع في النكاح، والنفقة في الدائم منه في وجه.
ومن هذه الأمثلة قد عرفت (2) كون مقتضى الذات شرعيا بمعنى كونه مجعولا
للشرع وإن لم يحكم به العرف، وعرفيا بمعنى حكم العرف به وإن لحقه الشرع،
كالتسليط على التصرف في التمليكات، فإنه من اللوازم التي تكشف انتفاؤها عن
انتفاء الملك ما لم يمنع مانع.
ولا ريب في اعتبار هذا النوع من المقتضيات، لعدم شمول الأدلة بدونها، وفي
بطلان (3) اشتراط ما خالفها - كما نذكر في بحث الشرط - لعدم العبرة بالشرط مع
عدم تحقق المشروط فيوجب صحته بطلانه، وذلك واضح.
والمراد بمقتضيات الإطلاق: كل ما يقتضيه العقد بحسب إطلاقه، بمعنى عدم
ذكر ما يقيده بوصف أو وقت أو مكان أو نحو ذلك، سواء كان من جهة العرف
الخاص أو العام أو اللغة. والميزان: ما ينصرف إليه لفظ المعاملة، أو يحكم بأنه

(1) في (م): معاملة.
(2) في (م) زيادة: أن.
(3) عطف على قوله: في اعتبار.
249

المقصود منها ما لم ينكشف خلافه، وهذا أيضا ينكشف بتتبع العرف غالبا، وقلما
يتفق أن يكون تعبديا.
وقد ذكر الفقهاء من هذه القاعدة العرفية فروعا نشير إليها إجمالا:
منها: مسألة انصراف إطلاق الوقف والوصية على جماعة إلى (1) التسوية بينهم
وإن اختلفوا بالذكورية والأنوثية.
ومنها: اقتضاء إطلاق الوصية لدفع مال إلى أحد جواز تصرفه فيه كيف شاء.
ومنها: انصراف إطلاقات العقود إلى الدوام في مثل الوقف والسكنى والعارية
ونحو ذلك.
ومنها: انصراف إطلاق السكنى إلى كون سكناه بنفسه ومن جرت عادته به.
ومنها: اقتضاء إطلاق المعاوضة بصلح أو إجارة أو بيع - أو نحو ذلك - كون
العوض والمعوض حالين، لأنه مقتضى العادة، وأدلة لزوم الرد إلى المالك،
ومقتضى حال المتعاقدين في هذا الفرض.
ومنها: اقتضاء الإطلاق في العوض كونه من النقد الغالب حيث لا يحتاج إلى
التعيين.
ومنها: انصراف إطلاق الكيل والوزن إلى المعتاد عند المتعاقدين، أو عند أهل
البلد.
ومنها: انصراف إطلاق نحو القرض وغيره من المعاوضات إلى المطالبة أو
التسليم في بلد العقد، على تفصيل طويل في ذلك مذكور في باب السلم.
ومنها: اقتضاء إطلاق الرهن تسلط المرتهن في الاستيفاء من دون مدخلية
شئ آخر.
ومنها: اقتضاء إطلاق المضاربة إنفاق العامل كمال نفقته من المال، و (2) انصراف إطلاق الوديعة إلى لزوم الحفظ على المتعارف، بمعنى لزوم جعل كل

(1) في غير (م): على.
(2) في هامش (م) زيادة: منها، خ ل.
250

شئ في مكانه اللائق.
ومنها: اقتضاء إطلاق المزارعة جواز زرع ما شاء العامل.
ومنها: اقتضاء إطلاق المساقاة لزوم كل عمد (1) متجدد في السنة على العامل
مع ما يقتضيه من المقدمات.
ومنها: اقتضاء إطلاق الإجارة جواز عمل الأجير بنفسه أو بغيره، وجواز
تسليمه العين المستأجرة إلى غيره في وجه، وتمليكه المنفعة لشخص آخر.
ومنها: اقتضاء إطلاق الوكالة التصرف في البيع بثمن المثل فما زاد، والشراء
بثمن المثل وما دون.
ومنها: اقتضاء إطلاق عقد الرمي المحاطة في قول، والمبادرة على قول آخر.
ومنها: اقتضاء إطلاق عقود المعاوضات - وإن كان نكاحا - توقف القبض من
جانب على القبض من آخر، فلكل منهما الامتناع عن التقدم، لأن ذلك وظيفة
المعاوضة، والمخالف شاذ، فإن امتنعا تقابضا، وإن امتنعا أو أحدهما أجبرهما
الحاكم على التقابض.
وغير ذلك مما يطلع عليه الممارس (2) كثير.
والمدار في ذلك كله اقتضاء العقد في العرف ذلك، بمعنى: أن مفاده عند الناس
ما ذكرناه، فتكون هذه الأمور على فرض الإطلاق بمنزلة المصرح به، وهذه
تسمى: مقتضيات إطلاق العقد.
والدليل على اعتبار هذه الأمور إنما هو ما دل على الأمر بالوفاء بالعقود، فإن
الوفاء بها العمل بمؤداها، ومؤداها موكول إلى العرف، فإذا كان في العرف يفيد هذه
المعاني فيجب الوفاء بها بحكم الآية (3) وغيرها من الأدلة. كما أن مقتضيات الذات
مما دل (4) عليها ألفاظ العقود من لفظ (البيع) ونحوه، فإنها لو تخلفت انتفت الماهية.

(1) كذا في النسخ، وفي هامش (م): عمل، خ ل.
(2) في (م) زيادة: وهو.
(3) قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، المائدة: 1.
(4) كذا في النسخ، والمناسب للسياق: ما دل.
251

والفرق بين هذه المقتضيات: أن ما يقتضيه الماهية مستحيل الانفكاك
والتخلف، حتى لو صرح بخلافها بطريق شرط أو غيره لا ينفع في شئ، لأن ذلك
مخرج للعقد عن موضوعه، ولا عبرة بالتابع بعد بطلان متبوعه، وسيتضح ذلك في
بحث الشروط.
وما يقتضيه الإطلاق قابل للتغيير بشرط أو قيد أو نحو ذلك، والوجه فيه: أن
العلة في اعتبارها دلالة العقد عليها بإطلاقه، فإذا قيد دل على خلافه، ويلزم الوفاء
بمقتضى القيد، لما مر من الدليل، ولا يلزم من ذلك محذور أيضا، لأن الفرض أن
هذه الأمور ليست مقومة، بل العقد قابل لها ولغيرها، فبالتقييد لا يخرج العقد عن
موضوعه، ولا يضر ذلك في الاندراج تحت الأدلة.
ومن هنا يظهر لك السبيل في كلام الفقهاء في معرفة مآخذ الفروع التي
ذكروها في مقتضيات العقود، والفروع التي ذكروها على طريق التقييد، كتقييد
الموصي أو الواقف بالتفاوت بين الموصى لهم والموقوف عليهم، وتقييد الموصي
للمال بجهة معينة، وتقييد الأذن والرخصة بأوقات مخصوصة، وشرط الأجل في
العوض والمعوض أو (1) أحدهما، وتعيين الأعواض من غير النقد الغالب، والكيل
والوزن على غير معتاد البلد أو غير معتاد الصنف، أو تقييد الراهن الاستيفاء بوكالة
شخص أو بنظارة آخر ونحو ذلك، أو تقييد التسليم أو المطالبة في الدين ونحوه
بغير بلد العقد، أو اشتراط كون نفقة العامل على نفسه أو التبعيض، أو تقييد حفظ
الوديعة بمكان غير معتاد سواء كان أحفظ أو أدنى أو مساويا، وتعيين الزرع في
جنس أو نوع أو صنف أو شخص أو وصف، وتعيين كون بعض الأعمال على مالك
البستان في المساقاة، أو بعض مقدماته من النواضح والدوالي عليه، واشتراط
مباشرة الأجير بنفسه، أو استيفاء المستأجر العمل بنفسه، أو تقييد الوكالة بكيفية أو
بزمان أو بمكان، أو اشتراط تقدم أحد المتعاوضين في الإقباض على الاخر ونحو،

(1) في (م) زيادة: في.
252

ذلك، أو تقييد كونه وصيا بزمان أو مكان أو جهة انفراد أو اجتماع أو استقلال في
البعض دون الاخر، أو في زمان دون آخر، وغير ذلك من الفروع التي لا تتناهى
[ذكروها في كلامهم] (1).
ومرجع ذلك كله إلى اقتضاء الإطلاق شيئا والتقييد شيئا آخر، واستلزام
الوفاء بالعقد العمل بذلك كله، فعليك بالتتبع والتأمل.
ويبقى في بعض المقامات الإشكال في أن هذا الحكم من مقتضيات الإطلاق
أو من مقتضيات الذات؟ ومن جهة ذلك يصير الإشكال في صحة التقييد والشرط
بخلافه وعدمها، وسنشير إلى مواردها وأحكامها في باب الشروط إن شاء الله
تعالى، فارتقب.

(1) لم يرد في (م).
253

[العنوان الرابع والأربعون]
[في بيان معنى القبض وأقسامه وأحكامه]
255

عنوان
[44]
في القبض وموارده وأحكامه، وفيه مباحث:
الأول: أن القبض قد يتعلق بالعين، وقد يتعلق بالمنفعة، وقد يكون العين
شخصيا، وقد يكون كليا - كالقبض لما في الذمة - ويكون العين منقولا وغير
منقول، وقد يكون القبض ابتدائيا، وقد يكون بطريق الاستدامة.
ويختلف باعتبار هذه الأقسام كيفية القبض وصدق مفهومه، كما يختلف
أحكامه أيضا بذلك.
وهو قد يكون شرطا في صحة عقد - بمعنى كونه جزءا من المؤثر - فلا يترتب
الأثر بدونه، وقد يكون شرطا في تعين الكلي، وقد يكون سببا للضمان، وقد يكون
سببا لارتفاعه، وقد يكون موجبا لأحكام اخر، فلا بد من تنقيح القول في هذه
المباحث حتى يكون هو المعيار في المقامات كلها.
الثاني: أن القبض شرط في صحة كثير من العقود.
منها: الوقف، فإنه لا يترتب عليه الأثر إلا به - ولم ينقلوا في ذلك خلافا عن
سوى الحلبي (1) - لما دل من الروايات (2) على شرطيته وعدم حصول الملك بدونه.

(1) قد عده السيد المجاهد قدس سره من القائلين بأن القبض شرط اللزوم لا الصحة، نقل عبارة
الكافي، ثم نقل وجه دلالتها عن بعض الأجلة، انظر الكافي: 325، المناهل: 471.
(2) انظر الوسائل 13: 297، الباب 4 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات.
256

نعم، هنا صورة، وهي: كون الواقف هو المتولي وكون الوقف على جهة عامة
- كالمدارس ونحوها - ففي كون القبض هنا أيضا شرطا وعدمه بحث، منشؤه
عموم ما دل على اشتراط القبض من الأدلة والفتوى، وعدم انصراف ذلك كله إلى
هذا الفرض، وتمام البحث في الفروع.
ومنها: الصدقة، فإنها أيضا لا تصح بدون القبض وإن وقع الإيجاب والقبول
بإجماع الأصحاب.
ومنها: الهبة، سواء كانت معوضة أو بدونها، في مقام اللزوم أو الجواز،
والمسألة مما لا بحث فيه.
ومنها: العمرى والرقبى في المسكون أو غيره، فإن الحكم فيهما في ذلك
كالوقف.
ومنها: التحبيس، وهو من لواحق الوقف.
ومنها: الصرف، فإنه يشترط في صحته التقابض في المجلس المعتبر شرعا
بإجماع الأصحاب.
ومنها: السلف، فإنه مشروط بقبض الثمن خاصة في المجلس المصطلح
بلا خلاف أجده.
ومنها: القرض، فإنه لا كلام في توقف حصول الملك فيه بالقبض، وإن قيل
باعتبار التصرف مضافا إلى ذلك.
ومنها: الرهن، فإنه لا يتم إلا بقبض المرهون للآية الشريفة (1) والرواية
المعروفة، عن محمد بن قيس، عن الباقر عليه السلام: (لا رهن إلا مقبوضا) (2)، وضعفها
منجبر بشهرة العمل بين الأصحاب وبظاهر الكتاب.
ولا وجه للمناقشة: بأنه دال بمفهوم الوصف وهو ضعيف لا عبرة به وسياق
الآية يدل على كونه للإرشاد، فإن ذلك غير مضر بعد الظهور المعتضد بالفتوى وبناء

(1) قوله تعالى: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة، البقرة: 283.
(2) الوسائل 13: 123، الباب 3 من أبواب أحكام الرهن، ح 1.
257

الشرع على اعتبار ما يقطع الغرر والخصومات، ولا يحصل هنا إلا بشرطية القبض.
فتلخص من ذلك: أن القبض شرط في صحة تسعة من العقود، بل عشرة وفي
حكمها (1) القبض الفعلي القائم مقام الإيجاب والقبول في نحو المعاطاة، أو في
قبول مثل العارية والوديعة والوكالة ونحو ذلك، فإنه أيضا مما تبطل بفواته هذه
العقود، غايته أنه هنا يصير جزءا من العقد، وفي العقود السابقة شرطا لتأثيره، وقد
بينا في بحث العقد الفعلي ما يمكن أن يقع الفعل فيه مقام القول، فراجع (2).
الثالث: أن القبض يقع معينا للكليات الثابتة في الذمة في نحو الكفارات
والنذور والديون الحاصلة من قرض أو عقد معاوضة أو إتلاف أو غير ذلك من
أسباب اشتغال الذمة.
ويصير معينا للأموال المشاعة في مثل دفع عين الزكاة والخمس - على القول
بتعلقها بالعين - وفي سائر الأموال المشاعة بعد قبض صاحب الحصة لها،
كالأرطال من ثمرة البستان والقفيز من الصبرة.
ويصير موجبا لبراءة الذمة متى ما قبض المستحق للأخذ وصاحب السلطنة
على المال.
ويصير موجبا لانتقال الضمان إلى القابض في عقود المغابنة من قبيل البيع
والإجارة، فإن المبيع والمنفعة مضمونان على البائع والمؤجر وإن كانا في ملك
المشتري والمستأجر ما لم يقبضا، وبالقبض ينتقل منهما إليهما، ونقرر مدرك هذه
القاعدة إن شاء الله تعالى في أسباب الضمان.
ويكون القبض موجبا للضمان إذا تعلق بمال الغير من دون إذن مسقط له، لأنه
اثبات يد داخل تحت الروايات.
ويصير سببا للملك في مثل الحيازة للمباحات: من اصطياد واحتشاش، ونحو
ذلك.
الرابع: أن القبض إذا كان مقدمة لواجب - كأداء الحقوق اللازمة والأموال

(1) أي: الصور المذكورة.
(2) راجع العنوان 33.
258

المغصوبة أو المأذونة بعد طلب المالك، ونحو ذلك - يجب بلا شبهة، وإذا كان
مقدمة لمباح - كما في الحيازة ونحوها - فيكون مباحا، وإذا كان متعلقا بمال الغير
على غير وجه شرعي يكون حراما، وإنما البحث في القبض الذي تقتضيه العقود،
فإن ظاهر كلامهم أن إطلاق العقد يقتضي التقابض، وقد أشرنا إلى ذلك في
مقتضيات العقود.
فنقول: لا ريب أن العقد المملك وما شاكله - كالرهن - يقتضي القبض في
الجملة حالا أو مؤجلا لو قيد بالأجل، ولا يختص اقتضاء العقد ذلك بصورة
الإطلاق. نعم، إطلاقه يقتضي الفورية.
ولكن ينبغي [أن يعلم] (1) أن اقتضاء العقد للقبض ليس عبارة عن وجوب
القبض، بل المراد: أن العقد يقتضيه، أعم من كونه مصححا له، أو من آثاره اللازمة
له شرعا.
وتوضيحه: أن العقود التي تصير سببا للملك من دون حاجة إلى القبض لابد
فيها من القبض، لأن المال متى ما صار ملكا لغيره وجب الدفع إلى مالكه، لعدم
جواز وضع اليد ابتداءا واستدامة على مال الغير إلا بإذنه.
ولا يمكن أن يقال: إن هذا لا يجب إلا بالمطالبة.
لأنا نقول: إن ذلك لو كان المال في اليد بإذن المالك أولا حتى يصير (2) من
الأمانات المالكية، أما لو لم يكن هناك إذن سابق - كما هو الفرض، فإن المال قد
انتقل بالعقد ولم يرخص المالك الجديد بالبقاء في يد الأول - فلابد من الدفع. نعم،
لو عرض عليه فرخص في البقاء فلا يجب الدفع بعده إلا عند المطالبة.
وأما العقود التي لا تتم إلا بالقبض - كالرهن ونحوه من العقود العشرة السابقة -
فلا يجب فيها القبض، لأن الوجه السابق لا ينسحب فيه، لأن الملك لم يحصل،
والقبض ليس وجوبه بنفس العقد حتى يجب بذلك، بل هو من باب دفع الملك إلى

(1) لم يرد في غير (م).
(2) في (م): حتى يكون.
259

مالكه وقولهم: (إنه من مقتضيات العقد) أعم من ذلك، فلا عبرة بما سرى إلى
بعض الأذهان: من وجوب القبض هنا، لأنه من مقتضيات العقد فيجب الوفاء بها،
فتدبر جدا.
وبقي الكلام في أن القبض من أحد الجانبين إذا وجب بعد الملك لا يتوقف
على القبض من الجانب الآخر - بمعنى: أنه يجب (1) على أحدهما القبض مع
امتناع الاخر - فإن عصيان أحدهما لا يرخص الاخر (2) في المعصية، مع أنهم
حكموا بالتوقف، وفي بالي: أن المولى المقدس الأردبيلي منع ذلك، وحكم
بوجوب الإقباض وإن عصى الاخر وامتنع (3). ولعله نظر إلى إطلاق الأمر وأصالة
عدم الاشتراط.
ويمكن القول بأن الظاهر من أدلة المعاوضات كون القبض بإزاء القبض، كما
أن الملك بإزاء الملك، ولذلك شواهد كثيرة في أحكام خيار التأخير وغيره، ولا
إطلاق في الأدلة يقضي بلزوم الإقباض كيف كان.
ويحتمل أن يكون من باب جواز ضبط (4) مال الغير وعدم دفعه إياه حتى
يدفع هو أيضا ما عنده في أي مقام كان، فإن هذا أيضا له وجه.
ويمكن الاستدلال عليه بمثل قوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم (5) ومقتضاه جواز منعه من ماله حتى يدفع مالك عنده،
لكن لم أقف في كلمة الأصحاب على شئ يفيد هذه القضية الكلية.
وبالجملة: فتوقف وجوب القبض من كل جانب على القبض من الاخر من
المسلمات في المعاوضات، هذا مع كون العوضين حالين، أو متوافقين في الأجل
[كما يصير في الصلح ونحوه] (5) أما مع كون أحدهما حالا والاخر مؤجلا فاللازم

(1) العبارة في غير (م) هكذا: فلم يتوقف على القبض من الجانب الآخر في الوجوب، بمعنى
أنه لا يجب...
(2) في غير (م): للاخر.
(3) مجمع الفائدة 8: 504.
(4) في غير (م): حفظ.
(5) البقرة: 194.
(6) لم يرد في (م).
260

على جانب الحلول القبض، ولكن لو عصى وامتنع إلى آن حل الأجل من الجانب الآخر
فهل يتوقف الوجوب بعد ذلك على (1) قبض العوض الآخر لأن كليهما صارا
حالين، أو لا لأن التقابض الذي كان مقتضى المعاوضة قد ارتفع بالتقييد، وليس
بعد ذلك دليل على منع حق الاخر بعصيانه؟ لا يبعد أن يقال بلزوم الإقباض، ولا
يتوقف على القبض من الاخر، لارتفاع اقتضاء العقد بالتأجيل، ولا مقتضي
للتوقف غيره.
نعم، لو قلنا بأن التقابض للقاعدة التي ذكرناها كلية من الاعتداء بمثل ما
اعتدى ينبغي التوقف حينئذ أيضا وإن عصى الممتنع أولا قبل الحلول، ولعل حكم
الفقهاء بعدم جواز امتناع الزوجة عن التمكين وتسليم نفسها للزوج إذا كان
الصداق مؤجلا وإن عصت ولم تمكن إلى أن حل الأجل - مع أنه كان لها الامتناع
لو كان الصداق حالا ابتداء - يرشد إلى الأول، وعدم الالتفات إلى ما ذكرناه من
عموم الآية، فتبصر.
الخامس: أن القبض لم يثبت له حقيقة شرعية، بل هو باق على معناه اللغوي
والعرفي، فكل مقام ذكر فيه لفظ (القبض) في كتاب أو سنة أو مورد إجماع
فالظاهر الرجوع فيه إلى العرف ما لم تكن هناك قرينة صارفة، والشك يلحقها
بالعدم.
ولا ريب أن القبض في العرف المطابق للغة: الأخذ باليد، ولذلك لو حلف
ليقبض أو لا يقبض يحنث بقبض اليد في الثاني ويمتثل به في الأول لا بما عداه،
وكون القبض في هذا المعنى مما لا شبهة فيه.
نعم، قد ورد في الكتاب والسنة اشتراط القبض أو سببيته في المقامات
المشار إليها سابقا، مع أنها أعم مما يكون قابلا للأخذ باليد وغير قابل له، فلا
يمكن حمل القبض مع هذا التعميم على معناه الحقيقي، ولا ريب في بعد حمله

(1) في النسخ: إلى.
261

على الحقيقي والمجازي، بأن يراد اعتبار القبض باليد فيما يمكن فيه ذلك،
والمعنى القريب منه في التسلط فيما لا يمكن فيه، بل الظاهر إرادة عموم المجاز،
وهو مطلق اليد المعتبر في الدلالة على الملكية، بمعنى الاستيلاء عرفا والاستقلال،
سواء قبضه بيده أو حطه (1) بجيبه أو كمه، أو لبسه أو ركبه، أو قعد عليه، أو جعله في
بيته، أو تسلط عليه بغير ما ذكر بحيث يعد متسلطا عليه كل من رآه.
وإلى ذلك يرجع كلام محققي الأصحاب أن القبض في المنقول: نقله، وفي
غيره: التخلية والتمكين التام، وإن كان في أداء هذه العبارة لما ذكرناه نوع خفاء،
سيما في الأول، لكن غرضهم في ذلك واضح.
وهنا أقوال أخر أيضا، وليس ذلك اختلافا في المعنى العرفي، بل الغرض بيان
ما هو المعتبر شرعا بحسب المقامات، ولكل واحد منها وجوه وجيهة لا حاجة لنا
في ذكرها.
ومما ذكرنا ظهر: أن مصير المتأخرين إلى أن القبض هو التخلية مطلقا - لأن
إرادة النقل في مقام والتخلية في آخر موجبة لإرادة مجازين، وإرادة المجاز
الواحد الجاري في كل مقام أولى [أو] (2) لأن القبض لما وقع الإجمال في معناه
فيؤخذ فيه بما هو المتيقن في الشرطية وهو التخلية وما عداه ينفى بالأصل - ليس
على ما ينبغي، مع ما فيه من أبحاث اخر.
السادس: أن القبض بهذا المعنى لا ريب أنه يصدق في الأعيان الخارجية
بالتسلط والاستيلاء في كل شئ بحسبه إذا كان ابتداءا، بمعنى تحقق ماهيته بذلك
مع عدم كون الشئ مقبوضا قبل ذلك. وأما القبض بالاستدامة - كما لو كان المال
بيد المشتري أو بيد المرتهن أو نحو ذلك - ففي قيامه مقام القبض الابتدائي وترتب
الأحكام عليه وعدمه وجهان، بل قولان، منشأهما: أن القبض الذي اعتبر مناطا
لتعلق الأحكام - من صحة عقد أو ضمان أو غير ذلك - إنما يتبادر منه القبض

(1) في (م): وضعه.
(2) من (م).
262

الابتدائي، وأما كونه بالاستدامة وكونه على حالة المقبوضية فإما لا يعد قبضا
حقيقة، أو لا ينصرف إليه الإطلاق، فيشك في ترتب الآثار (1) عليه، والأصل عدم
ترتب الآثار (2) عليه. وأن (3) المعلوم من اعتبار القبض إنما هو الوصول إلى يد من
اعتبر قبضه وكونه في سلطنته حذرا من لزوم المشاجرة والمنازعة، بمعنى: أنه
ندري أن العلة لاعتبار القبض حصول هذا التسلط له، والدفع والأخذ إنما هو
مقدمة لحصول هذا المعنى، فإذا حصل فلا وجه لاعتبار الأخذ والدفع الصوريين،
أو يقال إن القبض ليس إلا كون هذا المال في يد القابض وسلطنته ولا فرق فيه بين
الابتداء والاستدامة.
وربما تبنى المسألة على بقاء الأكوان وعدمه، فعلى الأول لم يتحقق هنا
قبض، إذ ليس هذا إلا ما حصل سابقا من القبض. وعلى الثاني فكل آن قبض
جديد فيندرج تحت الأدلة وإن انصرفت إلى القبض الجديد.
والحق: أن المسألة عرفية لا يبتني (4) على بقاء الأكوان وعدمه، إذ (5) على
القول بانصراف القبض إلى الابتدائي لا يشمل المبحوث عنه، سواء قلنا ببقاء
الكون أو لم نقل، وعلى القول بكون القبض أعم من الابتدائي والاستدامة، فيشمل
المقام من دون حاجة إلى اعتبار تجدد الأكوان.
والحق أن القبض الاستدامتي إذا كان بإذن ممن له الإقباض يكفي في ترتب
الأحكام عليه، إما لأنه قبض حقيقة - كما قيل (6) - وإما لأن العلة منقحة وهي هنا
موجودة، وإما لأن الكون لا بقاء له، وإما لأن الأدلة الدالة على اعتبار القبض
الابتدائي بانصراف الإطلاق، وبعبارة أخرى: أدلة القبض على اختلاف أنواعها
وأصنافها: من إجماع أو كتاب أو سنة في أي باب وردت - سواء كان في شرط
صحة أو لزوم أو ضمان أو غير ذلك - لا يشمل صورة ما إذا كان المال المعتبر فيه

(1) في (ن، د): الأثر.
(2) في (ن، د): الأثر.
(3) منشأ الوجه الثاني.
(4) في (ن): لا تبنى.
(5) في سوى (م): أو على القول.
(6) قاله المحقق الأردبيلي قدس سره في مجمع الفائدة 8: 513.
263

القبض مقبوضة في يد من يعتبر قبضه، فإن لزوم القبض الابتدائي في مثل هذا
المقام ممنوع، ولا دليل يدل على اعتباره هنا، وأدلة القبض تنصرف إلى صورة
عدم كون المال مقبوضا، فتبصر.
وقد يرشد إلى هذا المعنى كلام من اعتبر كون الوقف في يد المتولي مع كون
الموقوف عليه صغارا (1) أو جهة - كما نقل عن بعض الفقهاء (2) - ولعله لعدم انصراف
أدلة القبض إلى مثل هذا المقام، ونظير ذلك في المقامات المعتبر فيها القبض كثير.
ومن هنا ظهر: أن القبض بالاستدامة لا يحتاج إلى صدور إذن جديد، ولا إلى
مضي زمان يقع فيه القبض، نظرا إلى أن القبض الجديد كان يحتاج إلى الأمرين.
[لا يقال] (3) ومتى ما سقط الاخذ والدفع لعدم الفائدة فلا وجه لسقوط اعتبار
[الزمان والأذن، إذ لا مسقط لهما.
لأنا نقول: ليس الأذن ولا مضي الزمان إلا لتحقق ماهية القبض والاستيلاء
المعتبر في المقام، فإذا كان أصل القبض حاصلا فلا وجه لاعتبار المقدمة بعد
حصول ذي المقدمة، خصوصا على ما وجهناه: من أن القبض لا نسلم شرطيته في
مثل المقام حتى يحتاج إلى حصول مقدماته في الخارج، وقاعدة (الميسور) لا
دخل لها بما نحن فيه، إذ لم يكن هنا أمور متعددة ولا أمر واحد مركب، بل كان هنا
مقدمة وذو مقدمة، فإذا حصل الثاني على بعض الوجوه أو لم يعتبر من أصله - كما
هو مقتضى الوجه الأخير - فلا ريب في سقوط المقدمات، فتأمل.
ومن هنا ظهر أيضا وجه فساد اعتبار الزمان دون الأذن أو بالعكس، فإن شيئا
منهما لا يشترط حصوله، كالتفصيل بين ما كان القبض أولا بإذن المالك فلا يحتاج
إلى إذن، وما كان بغير إذنه - كالغاصب - فإنه يحتاج إلى إذن، إذ الفرض فيما كان
مقبوضا بطريق شرعي يوجب اليد عليه شرعا لا مجرد كون المال في يده، ولذلك

(1) في (م): صغيرا.
(2) انظر الشرائع 2: 217، التحرير 1: 285، الدروس 2: 266.
(3) أثبتناه من هامش (م).
264

عبر الفقهاء هنا بأنه هل يحتاج إلى إذن جديد؟ فإن تجديد الأذن لا يعقل إلا مع
وجود الأذن السابق.
وبالجملة: التفصيل في ذلك لا ربط له باعتبار القبض المستدام وعدمه ومسألة
بقاء اعتبار الأذن والزمان وعدمه، فإن من اعتبر الأذن هنا ليس لعدم كون المال
بيده مأذونا في قبضه، بل لأن القبض الجديد مركب من أمور ثلاثة، فإذا فات
أحدها لزم اعتبار الباقي، وأما أصل اعتبار الأذن في تحقق القبض الشرعي فهو
كلام آخر.
السابع: أن الظاهر من كلمة الأصحاب: أن ما في الذمة مقبوض، وقد نصوا
على ذلك في باب الحقوق المالية، وفي باب الصدقات، وفي باب الصرف والسلم،
وهبة ما في الذمة على القول بصحتها، ولا ريب أن القبض لو سلمنا صدقه على
القبض بالاستدامة لا نسلم صدقه على ما في الذمة، لصحة السلب وتبادر غيره
ونص أهل اللغة بخلافه، ولا شبهة في عدم كونه معنا حقيقيا للقبض، فالمراد من
كونه مقبوضا: جريان أحكام القبض عليه في هذه المقامات، والوجه في ذلك أحد
أمور:
أحدها: ورود النص بذلك في كتاب الزكاة، فإنه قد ورد في احتساب الدين
على الحي وعلى (1) الميت زكاة (2) فإنه يصير بذلك زكاة ويتعين، وليس إلا لكون ما
في ذمته (3) كمقبوضه، فيلحق به ما عداه لعدم القول بالفرق، أو لأن الزكاة أصل
لسائر الحقوق المالية الإلهية فيتسرى إليها، ويجئ بعد ذلك عدم القول بالفرق في
الباقي.
وثانيها: أن المعلوم من أدلة القبض اعتبار كون المال في تسلط القابض، ولا
شك في كون ما في الذمة في تسلط صاحب الذمة، بل هو أولى من العين المقبوضة

(1) على: لم ترد في (ف، م).
(2) الوسائل 6: 205، الباب 46 من أبواب المستحقين للزكاة.
(3) في (ن): ما في الذمة.
265

وأشد في الاستيلاء والسلطنة، فيكون في حكم القبض الظاهري الفعلي بالأولوية.
وثالثها: ظهور إجماع الأصحاب على الإلحاق الحكمي، وليس مقصورا على
خصوص مورد الإجماع، بل الظاهر منهم البناء على ذلك على طريق القاعدة،
بمعنى: أن المستفاد منهم: الإجماع على أن ما في الذمة كالمقبوض في سائر
الأحكام إلا ما خرج بالدليل.
ورابعها: أن يقال: إن الأدلة الدالة على اعتبار القبض لا نسلم شمولها لصورة
كون الشئ في ذمة من يعتبر قبضه، بل المنساق منها إلى الذهن صورة كون الشئ
عينا أو كليا في ذمة غير القابض حتى يعتبر إقباضه، وأما لو كان في ذمة القابض
فالأدلة لا تنهض على اشتراط القبض في هذه الصورة، وهو غير بعيد، ولعله السر
في عدم اعتبار الأصحاب القبض الصوري في مثل (1) هذا المقام.
الثامن: أن القبض - سواء كان ابتدائيا أو بطريق الاستدامة، اسميا كان أو
حكميا - يعتبر فيه إذن من يعتبر إذنه في الإقباض: من مالك أو وكيل أو ولي أو
وصي أو حاكم في مقام الإجبار للممتنع عن الإقباض، أو عدم وجود الولي.
وبالجملة: يعتبر فيه الأذن ممن له السلطان على المال كيف كان.
وقد أجمع الأصحاب على اعتبار ذلك في صحة القبض وترتب آثاره عليه
وإن كان القبض في نفسه أعم من ذلك، ولعل الظاهر من اعتبار القبض أيضا ذلك،
فإن المتبادر من قوله [تعالى]: فرهان مقبوضة (2) كونها مقبوضة بإقباض
الراهن ومن قام مقامه، لا بدون إذنه، والإجماع كاف في المقام، مضافا إلى الأدلة
الخاصة الدالة في كتاب الوقف وغيره على اشتراط الأذن (3).
مع أنا نقول: إن القبض بدون الأذن غير مشروع، فيكون منهيا عنه، والرخص
لا تناط بالمعاصي، وسيأتي تحقيق أن النهي في المعاملة قاض بالفساد شرعا وإن

(1) لم يرد (مثل) في ف، م.
(2) البقرة: 283.
(3) ذكر السيد المجاهد قدس سره لاعتبار إذن الواقف في تحقق القبض وجوها أربعة، راجع
المناهل: 485.
266

لم يدل عليه حقيقة لغة، والقبض من جملة أفراد المعاملة.
وهل القبض بالأذن الشرعي من دون إذن المالك قائم مقام إذن المالك في
ترتب الأحكام أم لا؟ الظاهر ذلك، لأن كل من قبض مالا بإذن شرعي فهو ولي
ذلك المال وهو صاحب السلطنة عليه.
لكن يشكل الاكتفاء بذلك بدون إذن المالك، فإن من عنده مال لأحد بطريق
الأمانة الشرعية - كثوب أطارته الريح - ثم أراد المالك هبة ذلك المال له وهو لا
يدري بكونه في يده وهو في الواقع في يده بإذن شرعي فوهبه وهو مقبوض
فالظاهر عدم الاكتفاء به حينئذ، بل لابد من إذن المالك، لكن يبقى البحث في أن
هبته مع علمه بأنه في يده إذن في الإقباض أو يحتاج إلى إذن صريح؟
وبالجملة: القبض بدون إذن المالك ومن بحكمه غير معتبر في شئ من
المقامات، إلا فيما دل الدليل عليه، كتسلم المشتري المبيع بغير تسليم من البائع
واطلاعه، فإنه موجب لدخوله في ضمانه.
وبقي البحث في أنه لو كان القبض بطريق الاستدامة أو بكونه في الذمة، فهل
مجرد الهبة أو البيع أو نحو ذلك مع علم المالك بكونه مقبوضا عنده أو كليا في ذمته
يكفي في حصول الأذن وإن كان القبض السابق على العقد بطريق الغصب، أم لا
يكفي مطلقا، بل يحتاج إلى إذن بالفعل، أو يفصل بين كون القبض السابق بالأذن
فيستصحب السابق وإن لم يدل العقد الجديد على الأذن فيتحقق القبض بإذن
مستصحب فيكفي، وبين كونه مقبوضا بدون الأذن فيعتبر الأذن الجديد، لعدم
وجود إذن سابق حتى يستصحب، وعدم دلالة العقد على الأذن في القبض، إذ
رضاء المالك بالعقد غير مستلزم لرضاه بالقبض، بل ربما يتفق أنه يرضى بالعقد
ولا يرضى بالقبض؟
فإن قلت: لا ريب أن حين العقد إذا رضي به فقد رضي بالقبض ما لم يعرض
بعد ذلك امتناع وندامة، فإن بعد ذلك يعرض عدم الرضا وينكشف بامتناعه عن
القبض، وفيما نحن فيه لما كان المال بيد القابض ورضي المالك بهبته أو رهنه أو
267

وقفه فقد رضي في هذا الحين بقبضه أيضا، فلما تحقق العقد تحقق القبض أيضا
- بلا تأمل - جامعا للشرائط وإن كان قبل ذلك مغصوبا.
قلت: لا ملازمة بين الرضا بالعقد وعدم الرضا بالقبض، خصوصا فيما كان
القبض شرطا للملك، إذ قد يجعل العقد وصلة إلى غرض من الأغراض مع عدم
رضاه بالقبض، فاعتبار الأذن ما لم يكن مستصحبا أقوى.
هذا مجمل الكلام في هذا المقام بحيث ينطبق على الموارد ويوضح المرام
والله الهادي.
التاسع: أن القبض في المنفعة لا يتحقق إلا بالاستيفاء، فما استوفي فهو
مقبوض، وما لم يستوف فهو ليس بمقبوض، إما لأن القبض الحقيقي - وهو الأخذ
باليد - يتفاوت بحسب المقامات ويكون في كل شئ بحسبه، وأخذ المنفعة
استيفاؤها. وإما لأن المعنى القريب إلى المعنى الحقيقي في المنفعة إنما هو هذا
المعنى المذكور، وذلك واضح عرفا.
ولكن هنا إشكال وهو: أن الفقهاء ذكروا في باب الإجارة وغيرها مما يملك
به المنفعة - من صلح أو ثمن مبيع أو صداق أو نحو ذلك - أن قبض العين قبض
للمنفعة، وفرعوا على ذلك لزوم دفع العوض الآخر بقبض العين من جانب المنفعة،
وظاهرهم كون ذلك على قاعدة التقابض الذي ذكرناه من عدم لزوم قبض أحد
العوضين إلا بقبض الاخر، مع أن قبض العين ليس قبضا لمنفعتها، بل إنما هو شئ
يحصل به قبضها بعد ذلك بالاستيفاء، فهو من مقدمات قبضها على بعض الوجوه،
فكيف عدوا ذلك قبضا للمنفعة؟ سيما مع أنهم في مسأله الضمان لو تلفت المنفعة
كلا أو بعضا ذكروا: أنه مضمون على المؤجر، لأنه تلف قبل القبض.
فإن كان قبض العين قبضا للمنفعة، فكيف يكون الضمان بعد ذلك لتلف أو
عيب أو نحو ذلك على المؤجر؟ وليس إلا كالتلف للمبيع أو التعيب له بعد قبضه،
وهما مضمونان على المشتري إذا لم يكن هناك خيار للمشتري.
وإن لم يكن هذا قبضا للمنفعة، فكيف يجب إقباض الأجرة بقبض العين؟ مع
268

أن القاعدة تقضي بعدم لزوم الإقباض إلا بقبض الاخر، كما قررناه.
ويؤكد الإشكال مصيرهم في باب إجارة الأعمال (1) إلى عدم لزوم تسليم الأجرة
إلى العامل إلا بإتمامه العمل وإن ملكها بالعقد، نظرا إلى عدم لزوم قبض
أحد العوضين قبل الاخر، وأي فارق بين الإجارة على الأعمال والإجارة على
الأعيان، مثل الدابة والدار؟
وبالجملة: هذان الكلامان مما لا ينطبقان على المدعى.
والذي يقتضيه النظر الصحيح أن يقال: إن القبض في المنفعة لا يتحقق إلا
بالاستيفاء، وقبض العين لا يعد قبضا للمنفعة، وكلامهم في باب الأجير وضمان
النافع قبل الاستيفاء ونحو ذلك جار على القاعدة، لكن حكمهم في بحث التقابض
بلزوم الدفع للأجرة بمجرد قبض العين المستأجرة، لأنه لا يمكن القبض للمنفعة
والاستيفاء غالبا دفعة، لأن المنفعة توجد تدريجا، ولا يمكن وجودها دفعة،
فحكموا بأن قبض العين قائم مقام قبض المنفعة في ذلك، دفعا للعسر والحرج،
ودفعا للغرر والضرر عن مالك المنفعة، فإنه لو صبر إلى حين استيفاء المنفعة
بتمامها لزمه الضرر.
وبالجملة: مسألة التقابض خارجة عن القاعدة في المنفعة بالإجماع، وما
ذكرناه هو المقرب للدليل.
ويمكن أن يقال: إن توقف قبض أحد العوضين على الاخر ليس إلا لجريان
قانون المعاوضة في العادة على ذلك - كما أشرنا إليه سابقا - وطريقة إجارة
الأعيان إنما هي على قبض العين وإقباض الأجرة وهو المدار في الفتوى، فتصير
المسألتان كلاهما على القاعدة، فتدبر.

(1) في غير (م): الإجارة إلى الأعمال.
269

[العنوان الخامس والأربعون]
[في تحقيق معنى الشرط،
وبيان حكم الشروط في ضمن العقود]
271

عنوان
[45]
في حكم الشروط في ضمن العقود وتميز السائغ منها من غيره.
اعلم: أن لفظ (الشرط) يطلق على معان:
فعند الأصوليين يراد منه: ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من
وجوده وجوده، وهو بهذا الاعتبار حكم وضعي يسند إلى شئ دائما.
وعند النحاة: ما يدخله أداة الشرط، ويفيد معنى السببية غالبا.
وفي اللغة: ما يلزم به الغير أو يلتزم به، فيكون معنى قولك: (شرطت عليه
كذا) أي: ألزمته به.
واقتصر على هذا المعنى بعضهم، ولم يذكر معنى التعليق والربط، مع أن معنى
الربط هو المعنى الذي يتبادر منه، وإطلاق النحاة الشرط على ما دخله الأداة أيضا
من جهة تحقق معنى الربط فيه، كما أن تسميتهم لأداة الشرط به لإفادتها معنى
الربط، وكذلك إطلاق الأصوليين الشرط على ما ذكر مأخوذ من هذا المعنى.
وأما معنى الإلزام والالتزام الذي ذكره بعض المدققين (1) وجعله المعنى
الحقيقي فلم نقف على مأخذ له، وليس بمتبادر من اللفظ، ولا يساعده كلام أهل
اللغة أيضا، فإن المذكور في كلامهم أيضا الالزام والالتزام في بيع ونحوه.

(1) لعل المراد به المحقق النراقي قدس سره، انظر عوائد الأيام: 42، العائدة 15.
272

وبالجملة: لو كان بمعنى الإلزام أيضا ليس إلزاما مطلقا، بل إلزام مرتبط بشئ.
وبعبارة أخرى: الزام يحصل بواسطة ربطه بلازم آخر، وما لم يكن فيه ربط بالمرة
فلا يطلق عليه لفظ (الشرط) بل يصح سلبه عنه، ولا يطلق عند العرف (شرطت
عليك أو عليه كذا) إلا بعد وقوع فعل ومعاملة بين المتشارطين يكون الشرط
مرتبطا به، كما لا يخفى على من تتبع طريقة العرف (1) وأهل اللسان. ومطلق
الإلزام والالتزام لا يطلق عليه الشرط، بل هو العهد أو التعاهد ونحو ذلك.
وأما الشرط في ضمن العقد: فمن زعم أن الشرط معناه: الإلزام أو العدم عند
العدم - كما ذكره أهل الأصول - احتمل كونه مأخوذا من كل منهما، وقال: إن قلنا
بأن الشرط لو امتنع المشترط من وفائه يجبر عليه فيكون أخذ الشرط هنا من
معنى الإلزام. وإن قلنا: إنه يتسلط الشارط على الفسخ فهو مأخوذ من معنى العدم
عند العدم.
ولا يتوهم أنه حينئذ على هذا المعنى يلزم انتفاء العقد عند انتفاء الشرط كما
هو مقتضى الشرطية، لأن ذلك لو كان شرطا لأصل العقد وليس كذلك، لأنه لو كان
شرطا له لزم التعليق وهو مفسد إجماعا، بل هو شرط للاستمرار، فإذا انتفى الشرط
انتفى الاستمرار.
وهذا المعنى هو الذي أفاده المعاصر المدقق النراقي في عوائده (2).
وهذا الكلام مما لا يخفى على المتدرب في الفن كونه أجنبيا عن الفقه، لأن
الشرط لو كان بمعنى العدم عند العدم فلا يفترق الحال بين كونه شرطا لأصل العقد
أو لاستمراره، إذ كما أن التعليق مبطل في أصل العقد مبطل في دوامه أيضا، إذ
قصد الدوام لازم في العقود كما بيناه في أصالة اللزوم. ولا فرق بين قوله: (إن جاء
زيد بعتك) بمعنى عدم إيقاع البيع لو انتفى الشرط، وبين قوله: (بعتك في الجملة
ودوامه مشروط بمجئ زيد) بل لابد من إنشاء البيع والتمليك الدائم منجزا،
وطريان البطلان أو الفسخ شئ آخر لا يمكن تقييده في القصد من أول الأمر، إذ

(1) في (ن): العرب.
(2) عوائد الأيام: 42، العائدة 15.
273

لا شبهة في البطلان لو علق الدوام من أول الأمر على شئ متزلزل الحصول.
مضافا إلى أن الشرط لو كان للاستمرار للزم من ذلك ارتفاع الاستمرار
باستمرار (1) الشرط، فلا وجه لثبوت الخيار فإنه غير الاستمرار، فينبغي أن يقول:
هذا شرط للزوم، ولا ريب في فساده، إذ اللزوم حكم شرعي منوط بجعل الشرع،
وليس في يد المتعاقدين أن يجعلا شيئا شرطا للزوم، فلا يمكن أن يكون معنى
قوله: (وشرطت كذا) أني علقت لزوم العقد عليه، وبالجملة: فهذا الكلام مما لا
يخفى سقوطه عند من له قوة النظر.
والتحقيق: أن الشرط في العقد إنما هو بمعنى الربط وإحداث العلاقة بين العقد
وما شرط، وهو المعنى اللغوي للشرط، ولا يطلق الشرط على الإلزام المستقل
الذي لا ربط له بشئ آخر.
والمراد من قولهم: (بعتك وشرطت عليك كذا) أني أنشأت البيع والتمليك،
وربطته بالأمر الفلاني، أي: جعلتهما مرتبطا في الإنشاء والاحداث: بمعنى إرادة
وقوعهما معا مرتبطا، فيصير الشرط كأجزاء العوض والمعوض، فمن قال: (بعتك
السيف والفرس) يريد وقوع التمليك فيهما معا، بمعنى تعلق الغرض بالمجموع
المركب من حيث هو كذلك، ومثله الشرط، والغرض ارتباط الشرط والمشروط
في المقصودية والإنشاء، لا أن ذلك تعليق لأصل العقد بمعنى (أني بعت إن كان
كذلك) ولا تعليق للدوام بمعنى (أني بعت ولكن إن وقع هذا الشرط فدائما، وإلا
فلا) ولا بمعنى (أني بعت ولكن لا أرضى باللزوم إلا بذلك الشرط) فإن كل ذلك
غير صحيح، إذ الأولان مبطلان، والأخير لا دخل له بالمتعاقدين، وإنما المقصود:
ما ذكرناه، ولا يخفى ظهور هذا المعنى عند من راجع وجدانه.
وليس فوات الشرط إلا كتبعض الصفقة، وإنما الفرق بالدخول في الماهية
والأركان والخروج والتبعية، وإلا فكل منهما بمعنى واحد، والغرض تعلق الإنشاء
بالمجموع المركب على نحو الارتباط الحاصل في الهيئة التركيبية، فينحل إلى

(1) كذا، والظاهر: بارتفاع.
274

تركب المقصود، وهذا المعنى هو الذي يقتضيه النظر الصحيح.
إذا عرفت هذا فنقول: أصل العقود قد ثبت صحتها بما دل عليها من عموم
وجوب (1) الوفاء، وكذا لزومها على حسب ما قررناه.
وأما الشروط: فلا ريب أنها خارجة عن اسم العقد، وإنما هو أمر لاحق يربطه
العاقد بالعقد ويقصدهما معا على نحو التركيب، فيحتاج في إثبات صحة هذا الربط
ولزومه إلى دليل، والوجه في ذلك أمور:
أحدها: ظهور الإجماع من الأصحاب على صحة الشرط في ضمن العقد، إلا
فيما نذكره من الشروط الأربعة الباطلة، فإنهم في سائر المقامات يحكمون بصحة
الشروط ولزومها من دون نكير منهم في ذلك، كما لا يخفى على من راجع كلامهم.
وثانيها: الاجماعات المحكية على ذلك حد الاستفاضة.
وثالثها: ما ذكرناه في إثبات صحة العقود من: أن المعاملات ليست مبنية على
التعبد والاختراع، وإنما هي أمور مجعولة عند العقلاء على نحو يتم به النظام
والشارع قررهم على ذلك، فكل معاملة شائعة بين الناس يحكم بصحتها لكشفه
عن تقرير الشارع إلا ما ورد المنع عنه. فنقول: لو كان ورد من الشرع منع عن أخذ
الشروط في ضمن العقود بهذا العنوان لاشتهر وتواتر كسائر المعاملات الفاسدة،
لعموم البلوى وشدة الحاجة، مع أنه قد انعكس الأمر، وهذا يكشف عن رضا
الشارع به، وهو المدعى.
ورابعها: أن ما دل على لزوم الوفاء بالعقود يدل على صحة الشرط الواقع في
ضمن العقد.
إما لأن ذلك كالجزء من العقد والقيد منه، فإذا وقع الارتباط بينه وبين العقد
في قصد المتعاقدين فالوفاء بالعقد يقتضي الوفاء به، لأنه من كيفيات العقد، ولا
فرق بين ما اعتبر في الأركان أو لوحظ من الخارج، بل هذا في الحقيقة يرجع إلى
صفة في أركان العقد، فيكون المبيع الفرس المرتبط بكذا والثمن السيف المرتبط

(1) في سوى (م): عموم دليل الوفاء.
275

بكذا، فلابد من الوفاء بالشرط حتى يحصل الوفاء بالعقد. وإما لأن الشرط بنفسه
عهد من العهود وقد دلت الآية على لزوم الوفاء بالعهود (1) ولا يضر الانصراف إلى
المتعارف هنا، لأن الشرط في ضمن العقد من العهود المتعارفة الشائعة، فكما
يشمل العقد الأصلي يشمل الشرط، ولا يحتاج إلى إثبات كون الوفاء بالعقد
مستلزما للوفاء بالشرط، فتدبر. وقد مر بيان أن المراد بالعقود العهود (2).
وخامسها: ما ورد من النصوص الكثيرة الدالة على الوفاء بالشرط.
[ففي أربع روايات] (3) منها صحيحتان وموثقتان:
[عن أبي عبد الله عليه السلام] قال: المسلمون إلا كل شرط خالف كتاب
الله فلا يجوز (4)
وفي الموثق: أن عليا عليه السلام كان يقول: من شرط لامرأته شرطا فليف لها به،
فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما (5).
وفي رواية: المسلمون عند شروطهم إلا من عصى الله (6).
وهذه الروايات دالة على صحة الشرط ولزومه، ووجه الدلالة: إن المتبادر
من (المسلمون عند شروطهم): الوقوف عند الشرط، وظاهره تحتم ذلك وعدم
جواز المخالفة.
ولا يمكن أن يحمل الكلام على الأخبار، لأنه مدفوع بأمور:
منها: أن ذلك مستلزم للكذب، إذ رب مؤمن ومسلم لا يقف عند شرطه.

(1) الأسراء: 34.
(2) راجع العنوان: 27، ص: 10.
(3) لم يرد في (م).
(4) الوسائل 12: 353، الباب 6 من أبواب الخيار، ح 2.
(5) الوسائل 12: 354، الباب 6 من أبواب الخيار، ح 5.
(6) مستدرك الوسائل 13: 300، الباب 5 من أبواب الخيار، ح 3، بلفظ (إلا شرطا فيه معصية)
أقول: المصنف قدس سره لم يستوف الروايات الواردة في الباب، واكتفى بذكر صحيحة وموثقة
ورواية مرسلة، وقد استقصاها المحقق النراقي قدس سره في عوائده، راجع عوائد الأيام: 42،
العائدة 15.
276

ودعوى: أن ذلك بيان للمؤمن والمسلم، فإن من لا يقف عند شرطه فليس
بمسلم ولا مؤمن، فهي مع بعدها عن سياق النصوص ومذاق الشرع ومخالفتها
للأدلة القاطعة غير مضرة بالاستدلال، فإن الإمام عليه السلام إذا حكم بأن من لا يقف (على شرطه خرج عن الاسلام والإيمان كشف عن وجوب الوقوف بمقتضى الذم
والتهديد.
ومنها: فهم الأصحاب ذلك خلفا وسلفا، وذلك كاشف عن كونه معناه، أو
وجود قرينة دالة.
ومنها: استثناء (من عصى الله) فإنه دال على أن من لم يقف عصى.
ومنها: استدلال الإمام بذلك في لزوم الوفاء بشرط المرأة، فإنه لو كان إخبارا
لم يكن دليلا على ذلك.
وهذان الأخيران كما يدلان على الانشائية يدلان على الوجوب أيضا لا
الرجحان، مضافا إلى أن المتبادر منه الوجوب، وأن أقرب المعاني إلى الجملة
الخبرية المنصرفة إلى الإنشاء إفادة الوجوب، لقربه إلى معنى الوقوع، فتدبر.
مضافا إلى أن ما دل - من الموثق وغيره - على لزوم الوفاء بالشرط في المقامات
الخاصة يثبت المدعى بعدم القول بالفصل.
فثبوت أصالة الصحة في الشروط - إلا فيما دل الدليل على بطلانه - مما
لابحث فيه.
لا يقال: لعل المراد بهذه الشروط ما ألزموه أو التزموه بسبب من الأسباب
الملزمة، فلا يدل على أن نفس الشرط أيضا من الملزمات.
لأنا نقول: إن الظاهر من الوقوف عند الشرط (2) كل ما حصل به الربط
والإلزام، والتقييد بما دل عليه دليل من الشرع خلاف الظاهر، مع أن ذلك يصير
تأكيدا حينئذ، لأن بعد ثبوت الملزم الشرعي لا شبهة في وجوب الوقوف، فلا
يحتاج إلى البيان بقوله: (المسلمون عند شروطهم) فظهر أن المراد: تأسيس قاعدة

(1) في (ف، م): لم يقف.
(2) في (د): الشروط.
277

في صحة كل ما يصدق عليه أنه شرط.
مضافا إلى أن في الروايات قد استثني منها (ما خالف كتاب الله تعالى) و (ما
أحل حراما) ونحوه، ولو كان المراد ب‍ (الشروط) ما دل عليه دليل من الشرح
فكيف يعقل كونه مخالفا لكتاب الله أو محللا للحرام أو محرما للحلال؟ فلا تذهل.
مضافا إلى أن الإمام عليه السلام استدل على لزوم الوفاء بالشرط للمرأة (1) بقوله:
(المسلمين (2) عند شروطهم) فلو كان المراد بالشرط ما ثبت (3) لزومه وصحته من
دليل شرعي فكيف يجعل هذا دليلا لصحة شرط المرأة؟ فتدبر.
قال المدقق النراقي في عوائده: فإن قيل: فيجب الوفاء بكل ما تعهد به فلم
خصوه بما في ضمن العقد؟ قلت: لتعلقه بباب المكاسب، وإلا فالجميع كذلك (4).
وهذا مبني على أصله الفاسد من كون الشرط بمعنى: مطلق الإلزام حتى
تكون الأخبار دالة على أن كل إلزام والتزام يجب الوفاء به، وقد عرفت أن الشرط
بمعنى (الربط) (5) ولا يطلق على التعهد المستقل أنه شرط، بل لا يقولون: (فلان
شرط على فلان كذا) إلا إذا كان مرتبطا بعمل أو بإجارة أو بقرض أو نحو ذلك،
كما لا يخفى، فحينئذ لا تدل عمومات الشروط إلا على الوقوف في الشرط الواقع
في ضمن معاملة ونحو ذلك، وليس تخصيص الوفاء بذلك من جهة التعلق
بالمكاسب، ولا من جهة ورود تخصيص، بل الظاهر أنهم لم يفهموا من دليل
الشروط إلا ذلك.
فما يقال: (إن مقتضى العمومات وجوب الوفاء بالشرط حتى لو لم يكن
عقد) لا وجه له بعد ما ذكرناه، ولذلك أن الأصحاب مع ورود الروايات في باب
النكاح على أن الشرط الواقع بعد العقد لابد من الوفاء به (6) لم يلتفتوا إليه، بل إما

(1) في (ن، د): بشرط المرأة.
(2) في (م): فإن المسلمين.
(3) في (ن): ما يثبت.
(4) عوائد الأيام: 44، العائدة 15.
(5) راجع ص: 274.
(6) راجع الوسائل 14: 468، الباب 19 من أبواب المتعة.
278

حملوه على الوقوع بين الإيجاب والقبول، وإما طرحوه (1) في مقابل القاعدة،
وهي: أصالة عدم اللزوم إلا في ضمن العقد، وأعرضوا عن النص الخاص مع عدم
المعارض، ولو كان العموم قاضيا بالصحة والخصوص مؤكدا له لم يكن للعدول
عن ذلك وجه بالمرة.
ويؤيد عدم العموم ما ورد من النصوص الدالة على أن كل شرط قبل عقد
النكاح لا يلتفت إليه ولا يجب الوفاء به (2) وقام الإجماع على ذلك. ولو كان
العمومات دالة على الصحة لاستشكلوا في ذلك مع اختلاف النصوص الخاصة.
ومما يدل على عدم العموم إجماع الأصحاب - على الظاهر - على أن ما تقدم
على العقد وما تأخر عنه غير لازم، وليس ذلك إلا لعدم فهمهم من الأدلة العموم،
ومنع هذا الإجماع لا يصدر إلا ممن ليس له انس بالفن، كما لا يخفى، ولو كان
الدليل عاما للزمهم القول بأن كل وعد يجب الوفاء به ومخالفته معصية، مع أن
المعهود من مذهب الأصحاب عدم اللزوم، بل لعله وصل إلى حد الضرورة، وعليه
طريقة المسلمين في الأعصار والأمصار.
وبالجملة: هذا الاحتمال مبني على كون الشرط بمعنى مطلق الإلزام
والالتزام، وقد عرفت بطلانه.
إذا عرفت هذا فهنا أبحاث:
الأول
في الشرط المأخوذ في ضمن العقد الجائز
ولا ريب أن الشرط حينئذ لا يكون لازما، لأن الوجه في لزوم الشرط إن كان

(1) العبارة لا تخلو عن تسامح، ولذا غيرها مصحح (م) بما يلي: ولذلك لم يلتفت الأصحاب
إلى الروايات الواردة في باب النكاح الدالة على أن الشرط الواقع بعد العقد لابد من الوفاء
به، بل حملوها على الواقع بين الإيجاب والقبول، أو طرحوها...
(2) راجع الوسائل 14: 468، الباب 19 من أبواب المتعة.
279

عموم دليل العقود فلا ريب أن العقد الجائز خارج عنه بالدليل، فلا يشمل المقام.
وإن كان شمول أوفوا بالعقود لنفس الشرط الواقع في ضمن العقد، فنقول
حينئذ مقتضاه الوفاء به على ما هو عليه، ولا ريب أن معنى الشرط حينئذ ربط
[الشئ] (1) الشرط بالعقد الجائز، ومقتضاه: أن العقد لو ارتفع يرتفع الشرط، بمعنى
أنهما منشئان على طريق واحد، فإذا تسلط المتعاقدان على فسخ العقد فالشرط
في ضمنه، ولو استقل الشرط بالبقاء خرج من معنى الشرط والربط.
ومن هنا يظهر الجواب عن عمومات الشروط، فإن مؤداها أيضا الوفاء
بالشرط ومفهومه الربط، فإذا تسلط العاقد على فسخ أصل العقد فكذا ما يرتبط به
كما نبينه (2) في العكس: من أنه متى لم يجب الوفاء بالشرط لعذر فلا يجب الوفاء
بالعقد - كما سيأتي تحقيقه - وهو ثمرة الارتباط.
فإذا لم يلزم الشرط في ضمن العقد الجائز فيصير فائدته التقييد في التصرف،
فإن الشركة والمضاربة والوديعة والعارية ونحو ذلك إذا شرطت (3) بشئ معناه،
عدم جواز تصرف العامل والمستعير، والوكيل ونحوه (4) إلا بذلك الشرط، فيصير
الربط بين مدلول أصل العقد والشرط، فإما أن يحصلا معا أو لم يحصلا معا، وذلك
واضح.
والوجه: أن العاقد مسلط في ماله وما هو بمنزلته، فكما أن له التسليط مطلقا
فله التسليط المرتبط بشئ خاص لو انتفى لا يتحقق التسليط، لا بمعنى البطلان
بالتعليق، بل لفوات المتعلق، فإن من وكل بشرط أن يفعل الوكيل كذا يريد كون
مورد الوكالة هذه الحالة، فإذا فات الشرط فقد ارتفعت الوكالة بفوات متعلقها (5) أنه وقع أصل التوكيل معلقا، فتدبر.

(1) الزيادة من (م)، والظاهر أن كلمة (الشرط) مصحفة هذه.
(2) في (ن): ينبه.
(3) في (ن، د): اشترطت، وفي (م): اشرطت لشئ.
(4) في (م): نحوهما.
(5) في غير (م): متعلقه.
280

الثاني
في الشرط المأخوذ في ضمن العقد
اللازم مع إمكان الإتيان به
وأما صورة التعذر فيأتي البحث فيه.
ولا كلام في صحة الشرط لما مر من الأدلة، وإنما البحث في الثمرة،
وللأصحاب هنا أقوال:
أحدها: أن الشرط يجب الوفاء به كأصل العقد، ويجبر الممتنع عنه عليه كما
في أصل العوضين.
والظاهر أن ذلك هو مذهب الأكثر، بل المشهور، وحكي على ذلك الإجماع
عن ابن زهرة في الغنية (1) وابن إدريس في السرائر (2) وهما الحجة في ذلك، مع
اعتقادهما بفتوى الأكثر، مضافا إلى عموم ما دل على وجوب الوفاء بالشرط،
وخصوص الموثق (3) مع عدم القول بالفرق من هذه الجهة، وعموم أوفوا
بالعقود الدال على وجوب الوفاء بالعقد المقيد بالشرط المرتبط به، المستلزم
للوفاء بالشرط، مضافا إلى دلالته على لزوم نفس الشروط بالتقرير السابق (4).
فإن وفى به المشترط فلا بحث، وإلا فيجبره الحاكم، لأنه ولي الممتنع. نعم، لو
تراضيا على الفسخ فلا بحث. وبالجملة: حكمه حكم أصل العوضين من هذه
الجهة، والشبهة المتخيلة مدفوعة جدا.
وثانيها: أن الشرط يجب الوفاء به، ومع الامتناع من المشترط يتخير الشارط
بين الإجبار والفسخ.
ولعل الوجه فيه: أن فوات الشرط يوجب الضرر على صاحبه، وجبره إما
بإجباره على الأداء، وإما بفسخ العقد المشروط فيه، وحيث لا دليل على تعيين

(1) الغنية (الجوامع الفقهية): 524.
(2) السرائر 2: 326.
(3) يعني موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة في ص: 276.
(4) سبق تقريره في ص...
281

أحدهما يتخير في ذلك.
ولا يخفى ضعفه، لأنه إن كان له الإجبار على أخذ حقه فلا وجه لفسخ العقد
المحكوم شرعا بلزومه، إذ لا معارض له الان، فإما أن لا يلتزم بجواز الإجبار،
وإما أن لا يقول بجواز الفسخ، لأنه بعد إمكان الإجبار عقلا وشرعا فهو فوت على
نفسه الشرط، مضافا إلى ما دل على لزوم الوفاء الموجب للإجبار لو امتنع.
ومن هنا يظهر: أنه لو أمكن للشارط أخذ الشرط من دون توسط دفع
المشترط فله ذلك، كما لو تسلط المشتري على المبيع، فإن له أخذه وإن لم يرض
البائع في غير ما يشترط في صحته القبض، فلو لم يأخذ فليس له فسخ العقد، لأنه
فوته على نفسه ما دام باقيا على إمكانه.
وثالثها: ما حكي عن الدروس: من أن فوات الشرط - بمعنى: امتناع
المشترط عن الأداء - يوجب الخيار لا الإجبار (1). إذ ليس فائدة الشرط إلا جعل
العقد عرضة للزوال، فيصير معنى الشرط: أنه إذا لم يحصل فله الفسخ.
وهذا مناف لما دل على وجوب الوفاء بالشرط مما مر، وقاعدة إجبار
الممتنع، ومرجعه إلى منع لزوم الوفاء بالشرط وإفادة الشرط التعليق بهذا المعنى.
وقد عرفت أنه خال عن الوجه، والغرض من الاشتراط: إيجاب العقد والشرط معا
على سبيل الربط فيكون كالجزء، والعقد محكوم بلزومه، والشارط مسلط على
المطالبة بالشرط ما دام ممكنا بمقتضى ما أوجبه في ضمن العقد، فلا يلائم القول
بالخيار مع القول بوجوب الوفاء، مع أنه يقول بوجوب الوفاء فلا وجه للخيار.
واحتمال: أن وجوب الوفاء تكليف على المشترط لا حق للشارط فيه حتى
يطالبه، بعيد عن باب المعاملة، ومن المعلوم: أن وجوب الوفاء عليه لحق الشارط،
فإنه لو عفى عنه لم يجب، فمتى ما صار حقا له يجئ عموم التسلط على المطالبة
في الحقوق، والعقد لا دخل له في ذلك حتى يتزلزل مع إمكان الاستيفاء.
ورابعها: عدم وجوب الوفاء، وإنما فائدته التسلط على الخيار، وهذا أوجه

(1) الدروس 3: 214، وفيه: فإن أخل به فللمشترط الفسخ، وهل يملك إجباره عليه؟ فيه نظر.
282

من السابق، ولكنه مناف لظاهر ما قدمناه من الأدلة، ويتم هذا الوجه لو كان الشرط
تعليقا للزوم العقد، وهو ليس في يد المتعاقدين حتى يجعلاه كذلك على ما بيناه.
والمراد من الشرط: إلزام ما شرط مرتبطا بأصل العوض المأخوذ في العقد اللازم
بواسطته دون مجرد التعليق، سواء جعلته للعقد أو لدوامه أو للزومه، كما بيناه.
وخامسها: الفرق بين الشروط التي يكفي العقد في تحققها كشرط الوكالة في
الرهن ونحوه، فإنه لازم لا يجوز الأخلال به، لأنه واقع بوقوع العقد وليس شيئا
مترقبا أو متوقعا يعلق (1) عليه العقد حتى يوجب التزلزل، وبين ما لا يكفي فيه ذلك
كشرط العتق، فإنه شئ لا يكفي في حصوله عقد البيع مثلا، بل يحتاج وقوعه إلى
صيغة أخرى بعد ذلك، وهو شئ ممكن الحصول والعدم، والعقد قد علق عليه،
والمعلق على الممكن ممكن.
وهذا التفصيل نسبه الشهيد الثاني إلى الشهيد (2) وهو أيضا مبني على
اعتبار معنى التعليق في الشرط بالمعنى المتقدم، وقد عرفت أن الشرط ليس إلا
كنفس المعاوضة في الإنشاء والإلزام، وتسميته شرطا باعتبار كونه أمرا خارجا
مرتبطا، فحكمه حكم أصل المعاوضة في الإلزام والإجبار.
الثالث
في تعذر الشرط
وقد حكم الأصحاب فيه بالخيار، والظاهر أنه إجماعي، وهو الذي يعبرون
عنه ب‍ (خيار الاشتراط) بمعنى أنه خيار ناش عن اشتراط شئ إذا فات على
مشترطه. و (خيار الشرط) من (3) الخيار الحاصل من شرطه، بمعنى اشتراط
الخيار في العقد، فيكون خيار الشرط معناه: ما يحصل من شرط الخيار.
ولو كان التسمية بالعكس - بمعنى كون خيار الشرط خيار فوات الشرط،

(1) في (ن، د): يتعلق.
(2) الروضة 3: 507.
(3) في (ن، د): عن.
283

وخيار الاشتراط اشتراط الخيار - لكان له أيضا وجه.
وبالجملة: فوات الشرط يوجب الخيار، وعللوه بأمور:
أحدها: أن ثبوت ذلك إنما هو مقتضى الشرط، فإن معناه أنه لو انتفى فلا عقد.
وأورد عليه الفاضل المعاصر النراقي: إن الشرط هنا لغوي، بمعنى الإلزام
- على ما يراه من معنى الشرط - ولا ربط لذلك بالخيار في العقد عند انتفائه، نعم.
يتم هذا لو كان الشرط أصوليا، بمعنى الانتفاء عند الانتفاء (1).
قلت: لعل معنى كلامهم: أن مقتضى الشرط هو الربط، فالإلزام والايجاب وقع
على أمرين مع الارتباط، فإذا فات أحدهما فقد دخل الضرر فيتسلط على الخيار
دفعا له، وليس هذا كتبعض الصفقة حتى يقسط العوض، لأن الشرط ليس جزءا
وإن كان له قسط من الثمن، وإنما هو كالوصف، وقد حققنا سابقا - في ضبط موارد
العقود - أن الأوصاف لا تقابل بالاعواض وإن تفاوتت بها القيم (2). وقولهم: (قسط
من الثمن) معناه: أن له دخلا في ذلك، لا أنه مقابل بالعوض، وقد قررنا سابقا أن
الضرر موجب للخيار، ونبرهن على ذلك في مبطلات العقود إن شاء الله تعالى.
وظاهر كلامه (3): أن الشرط لو كان أصوليا لتم هذا الكلام على ما فهمه.
وأنت خبير بأن العاقد إذا شرط: فإما أن يريد به الانتفاء عند الانتفاء لأصل
العقد فلا وجه للخيار ولازمه البطلان، وإن كان لدوامه فكذلك، لارتفاع المشروط
بارتفاع شرطه، وإن كان للزومه فلا وجه لقول العاقد: (شرطت في لزوم العقد)
فإن ذلك حكم وضعي توقيفي، فلا وجه لاحتمال أن الشرط أصولي ينتفي بانتفائه.
وثانيها: أن التراضي حصل معه، فإذا تعذر يرجع إليه.
وأورد عليه النراقي: أن ظاهر المتعاقدين النقل والإلزام، وأما الالتفات إلى
العدم عند العدم فالأصل عدمه. ولا يعتبر احتمال عدم التراضي في أمثاله، وإلا
لزم ذلك في أكثر العقود التي غفل عن لوازمها أكثر الناس، بحيث أنه لو علم بها لم
يرض. وأصالة عدم الرضا إلا بالشرط مدفوعة بظاهر لفظهما، فالأصل عدم الخيار

(1) عوائد الأيام: 45، العائدة 15.
(2) راجع العنوان: 41، ص: 215.
(3) أي: المحقق النراقي قدس سره.
284

حتى يثبت (1).
قلت: لعل مراد كلامهم: (أن التراضي وقع مع الشرط) أنهما أوقعا العقد على
هذا النحو، فإذا تعذر ذلك فلابد من مدفع لفوات هذا المقصود، وليس إلا الخيار.
وليس في كلامهم الالتفات إلى العدم عند العدم حتى يمنع أو ينفى بالأصل.
ولا يحتاج إلى احتمال عدم التراضي، بل المدعى: أنه من المعلوم أنهما قاصدان
لهذا المركب وقد فات، ولا ريب أن احتمال أنهما راضيان بالعقد كيف كان مقطوع
العدم. وأي فرق بين فوات المركب من العقد والشرط وفوات العقد على المركب
بفوات بعض أجزائه؟ وليس في ظاهر لفظهما الرضا بالعقد كيف كان حتى يتمسك
به في عدم الخيار، إذ ظاهر العقد الرضا بالمجموع المركب، وأين الظاهر الدال
على الرضا كيف كان؟
وبالجملة: بعد الإجماع على الخيار وكونه على قاعدة خيار فوات الوصف
فالأمر سهل، وهذه الكلمات مما لا يلتفت إليها.
الرابع
أن الشرط - كأصل العقد - يعتبر فيه دال صريح
فلا عبرة فيه بالنية ولا بالتواطئ مع عدم الذكر حال العقد، وحيث إنه مرتبط
بالعقد لابد من وقوعه بحيث لا يتم العقد قبله، ولا يقع الشرط قبل العقد، لأن كلا
منهما مستلزم للاستقلال، وهو خلاف موضوع الشرط على ما حققناه فما تقدم
على العقد وما تأخر عنه لا عبرة به، لفوات الارتباط وإن كان مقصودا حال العقد،
إذ القصد الخالي عن الدلالة لا عبرة به.
وما ورد في الشرط المتأخر في عقد النكاح قد عرفت جوابه (2)، وقد مر
تحقيق الأقسام في قاعدة تبعية العقود للقصود (3)، والحكم يتضح مما أشرنا إليه،
والعمدة ملاحظة الارتباط وأن القصد من دون دال لا عبرة به، فتدبر وتبصر.

(1) عوائد الأيام: 45، العائدة 15.
(2) راجع ص: 278.
(3) راجع العنوان: 30.
285

[العنوان السادس والأربعون]
[في بيان الشروط الأربعة الفاسدة]
287

عنوان
[46]
في الشروط الخارجة عن القاعدة بنص أو قاعدة، وهي أربعة أقسام:
الأول: ما يؤدي إلى جهالة في أحد العوضين.
والمراد منه: أن الشرط لما كان مرتبطا بالعقد فيكون بمنزلة وصف مأخوذ في
أحد العوضين من جهة المعاوضة، وحكمه بمنزلة أصل العوضين، فكما أن العوض
لو كان مجهول الوصف يبطل المعاملة للزوم الغرر، فكذلك الشرط إذا تجهل بنفسه
أو شرط على نحو يوجب تزلزلا وترددا في العوض قابلا للنقص والزيادة يبطل،
لأن ذلك راجع إلى أصل العوض.
ولا فرق في الجهالة بين كونها في أصل المفهوم أو العين وبين كونها في
المجموع المركب المقصود ولو باعتبار المعتبر وقصد القاصد، ولكن هذا الشرط
يكون باطلا حيث كان ذلك العقد مما لا يقبل الجهالة، لأن إبطال هذا الشرط للعقد
وكونه باعثا لتخلف شرطه (1) صار سببا لبطلانه، فيدور مدار ذلك، فإن كان العقد
مما يداق فيه - كالبيع والإجارة ونحو ذلك - يبطل فيه اشتراط ما يؤدي إلى
الجهالة. وإن كان مما يتحمل الجهالة - كالصلح مثلا - فلا بأس فيه بذلك.
ولكن ذلك يتبع مقدار التحمل، فإن كان يتحمل الجهالة الائلة إلى العلم كما

(1) في (ن، د): شرط.
288

في الصلح - على ما نختاره - فكذلك في الشرط فيجوز اشتراط ما يوجب جهالة
كذلك. وإن كان يتحمل الجهالة مطلقا فيجوز اشتراط ما يوجب الجهالة كيف كان.
ومن هذا الباب بطلان كثير من الشروط التي حكموا فيها بالبطلان، لا حاجة إلى
ذكرها، وفرض ذلك في سائر الأبواب مما لا يخفى على المتدرب، ومن هنا ظهر
وجه بطلان هذا النوع من الشرط، وذلك واضح.
الثاني: هو الشرط المخالف لمقتضى العقد.
وهذا الشرط يحتاج معرفته إلى معرفة مقتضيات العقود، وقد حققناها في
العناوين السابقة (1) فينبغي الرجوع إليها حتى يتضح الأمر.
ومجمل المقال: أن مقتضى العقد: إما مقتضى ذاته، بمعنى: أن ماهيته لا تتحقق
إلا بذلك، كالتمليك في العقود المملكة للعين أو المنفعة أو الانتفاع، فإن فواته
موجب لانتفاء العقد، وكالهيئات المعتبرة في العقود مثل كون الربح والنماء مشتركا
بالإشاعة بين العامل والمالك في المضاربة والمزارعة والمساقاة، وكون السبق في
المسابقة للسابق ونحو ذلك، فإن هذه أمور لو انتفت لم يكن العقد على ما شرع في
الأصل، وهذه الأمور لو شرط ما ينافيها بطل.
والوجه في ذلك: أن الشرط يتبع في الصحة للعقد، فإذا لم يترتب على العقد ما
هو مقوم لماهيته فلا عقد حتى يرتبط به الشرط، فلا يكون حينئذ للشرط موقع.
وكذا لو شرط ما يخرج العقد عن هيئته، فإن الأمر حينئذ يدور بين أمرين: إما
كون العقد على الهيئة المشروطة، وإما بطلان الشرط وصحة العقد وانصرافه إلى ما
هو المقرر من قاعدته في الشرع، فعلى الأول لزم البطلان في العقد ابتداءا،
لخروجه عن موضوعه الذي دل عموم أدلة العقود أو خصوصها على صحته، فيبقى
تحت أصالة الفساد الأولية فيبطل، لعدم دليل على صحته بهذه الهيئة، فيبطل
الشرط أيضا، لأنه مرتبط بالعدم، فيصير وجود الشرط وصحته حينئذ مبطلا
لنفسه، وما يستلزم صحته بطلانه فهو باطل. وعلى الثاني فيبطل الشرط أولا،

(1) راجع العنوان: 43.
289

ويجئ البحث السابق في العقد، وعلى كل حال: فالشرط باطل.
مضافا إلى أن ما دل من الأدلة على اعتبار الآثار الخاصة لهذه العقود
والهيئات الخاصة لها يقتضي ثبوتها وعدم جواز تخلفها، سواء شرط عدمها أم لا،
وأدلة الشروط قاضية بنفوذها سواء كانت في ذلك أم [في] (1) غيرها، فيتعارضان
بالعموم من وجه، والترجيح لدليل العقود، إما للكثرة أو لأصالة العقد، وعلى فرض
عدم الترجيح فأصالة الفساد في هذا الشرط كافية بعد تساقط الدليلين.
ويمكن إدراج هذا القسم من الشرط - بل القسم السابق أيضا - في عنوان
(الشرط المخالف للكتاب والسنة) باعتبار أن الشرط المقتضي لتغير هيئة العقد أو
لعدم ترتب آثاره اللازمة عليه أو لجهالة العوض المشروط فيه العلم شرعا يكون
مخالفا لما دل من الأدلة على اعتبار ذلك كله من الكتاب والسنة.
ولكن المتبادر من مخالفة الكتاب والسنة ما كان الشرط مخالفا لما ثبت منهما
بالخصوص، لا ما يؤول إلى المخالفة بالملازمة وملاحظة الأمور البعيدة والعناوين
الكلية، نظير موافقة الكتاب ومخالفته المعتبر في تراجيح الأخبار، فتدبر.
وأما الأمور المترتبة على العقد التي ليس لها مدخلية في قوامه بحيث لو
لم يكن هنا كذلك لكان العقد على موضوعه داخلا تحت الأدلة - كعدم الإرث
والنفقة في المتعة وخيار المجلس في البيع ونحو ذلك - فلا مانع من اشتراط ما
ينافيها عملا بعموم دليل الشرط، ولا مانع من ذلك، وهي التي نسميها بمقتضيات
الإطلاق، وقد مر تفصيل المقتضيات في بحثها (2). ومعرفة الشرط المنافي لها
والموافق إنما يعرف بعد الإحاطة بها، والتتبع في مظان العقود وما ذكره الفقهاء في
كل باب من الشروط.
الثالث: هو الشرط المخالف للكتاب والسنة.
ويدل على فساده: إجماع الأصحاب حيث استثنوا ذلك من جواز الشرط
حيث تعرضوا له، ونصوص الباب حيث اشتملت على أن المسلمين عند شروطهم

(1) من (م).
(2) راجع العنوان: 43.
290

إلا ما خالف الكتاب والسنة (1) وهي روايات متعددة معمول بها معول عليها، فلا
بحث في بطلان ما خالف الكتاب والسنة من الشروط.
الرابع: ما كان محرما لحلال أو محللا لحرام، فإنه أيضا باطل بإجماع
الأصحاب، حيث استثنوا هذا القسم أيضا بهذه العبارة، ودل على استثنائه أيضا
النص الموثق السابق لأن فيه: (إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما) (2) فهذا في
البطلان كالسابق من دون إشكال.
وإنما البحث في بيان المراد من هاتين العبارتين، نظرا إلى أن المخالفة
للكتاب والسنة: إن كان المراد به: منافاته لما دل على ذلك من عموم الكتاب
والسنة وإطلاقاتهما، فيلزم على هذا أن يكون كل شرط مخالفا للكتاب والسنة،
فإن من شرط في البيع أن يعطيه دينارا زائدا على الثمن فقد خالف عموم الكتاب
والسنة الدالين على عدم وجوب ذلك، وكذلك من شرط عليه عتق المبيع أو بيعه
لزيد أو شرط خيارا في البيع - ونحو ذلك - فقد شرط ما يخالف ما دل من الكتاب
أو السنة على عدم لزوم العتق والبيع ولزوم العقد، فأين الشرط الغير المخالف لهما؟
ولازم ذلك هو الاستثناء المستغرق الموجب للبطلان.
وإن كان المراد من المخالفة: مخالفة الأحكام المنجزة في الكتاب والسنة التي
لا يصح فيها اشتراط خلافها، فيكون المعنى: إلا ما خالف ما دل من الكتاب والسنة
على حكم غير قابل لاشتراط خلافه، ولازمه أن كل مقام لا ندري أن هذا مما
يمكن اشتراطه أو لا يمكن لا يجوز لنا التمسك بعموم (المؤمنون عند
شروطهم) (3) لأن عموم الشروط إنما هو في مقام لم يكن إطلاق الكتاب والسنة
قاضيا بعدم جواز شرط خلافه، ونحن لا نعلم ذلك إلا بعد العلم بصحة اشتراط

(1) راجع الوسائل 12: 352، الباب 6 من أبواب الخيار، والمعيار في نطاق هذه الروا يأت هو
موافقة الكتاب ومخالفته، ولم نقف فيها التصريح بالسنة، فراجع.
(2) راجع العنوان السابق، ص: 276.
(3) الوسائل 15: 30، الباب 20 من أبواب المهور، ح 4.
291

خلافه، والفرض أنه أيضا يتوقف على شمول هذه العمومات، فيلزم الدور، وإن
علم من خارج جواز اشتراط خلافه أو عدم جوازه فلا بحث فيه، ولازم هذا
الكلام سقوط هذه العمومات من الحجية بالمرة، فتدبر.
مضافا إلى أن المعيار في معرفة المنجز من حكم الكتاب والسنة وما يجوز
فيه اشتراط الخيار غير موجود، فإن ظاهر ما اقتضاه الكتاب تسلط الناس على
مالهم وبراءة ذمتهم من التكليف، ولزوم العقود ونحو ذلك، ومن أين يعلم أن هذا
مقيد بما إذا لم يشترط خلافه أو مطلق قابل للتقييد أو غير قابل؟ وغاية ما في
الباب: تعارض عمومات مع ما دل من الكتاب والسنة على الحكم بالعموم من
وجه، وكما يمكن تقديم جانب الكتاب يمكن ترجيح جانب الشروط.
فإن قلت: هذا لا يكون منشأ للأشكال، فإن الأدلة الدالة على الأحكام
مطلقات، وعمومات الشروط مقيدة بعدم المخالفة للكتاب والسنة، فأي مقام وقع
التعارض يسقط دليل الشرط، لأنه من موارد المخالفة، فلا يقع حينئذ إشكال حتى
يتوقف.
قلت: هذا يدير الكلام السابق من أن كل شرط حينئذ مخالف الكتاب
والسنة (1) بعموم أو خصوص، ولازم ذلك سقوط عمومات الشروط من أصلها (2):
فإما أن يرمى بالإجمال الموجب لسقوط الاستدلال، وإما أن يحمل على معنى
يرفع هذا المقال.
قال المحقق المعاصر في عوائده: والمراد من مخالفته: أن يثبت حكم في
كتاب أو سنة (3) وهو يشترط ضده طلبية أو وضعية، كما أنه قد ثبت أن المرأة
أمرها ليس بيدها فيشترط خلافه، والطلاق بيد الزوج فيشترط كونه بيدها، أو
يشترط عدم تسلطه على ماله، أو يشترط أن يكون الخمر [حلالا والماء] (4)

(1) في غير (ن): لكتاب وسنة.
(2) من أصلها: لم يرد في (م).
(3) كذا، والأولى التعبير ب‍ (الكتاب والسنة) كما في العوائد.
(4) من مصححة (م).
292

حراما. وأما اشتراط عدم التصرف فليس من هذا الباب، لأنه لم يثبت منهما
التصرف بل جوازه، والمخالف عدم الجواز لا عدم التصرف.
فإن قلت: اشتراطه يوجب عدم جوازه.
قلت: الشرط لا يقتضي ذلك، بل إلزام الشارع بالشرط يقتضيه.
فإن قلت: قوله: (إلا شرط خالف) ليس بمعنى المشروط بل بمعنى الإلزام
وفي ما نحن فيه كذلك.
قلت: التزام عدم التصرف لا ينافي جوازه ما لم يكن له ملزم، وكذلك شرط
فعل ما ثبت (1) حرمته وترك ما ثبت وجوبه ليس مخالفا للكتاب والسنة إلا أنه
يتعارض أدلتهما مع أدلة الشرط (2).
وفي هذا الكلام بحث من وجوه:
أحدها: أن تفسير المخالفة بثبوت حكم بهما فيشترط ضده، إن أريد بذلك
ثبوت الحكم بهما على نحو لا يمكن اشتراط خلافه، يعني: علم أن الشرط لا
يغيره - كما هو ظاهر الأمثلة من الطلاق ونحوه - فذلك يوجب عدم جواز التمسك
بعموم الشروط في مقام، إذ المعنى حينئذ صحة الشرط فيما ليس كذلك في نفس
الأمر، فما لم يعلم جواز الشرط لا يمكن الاشتراط، ومعه فلا نفع للعمومات.
واحتمال إرادة إخراج ما علم مخالفته للكتاب والسنة، فالمشكوك فيه يصح
اشتراطه وإن دل على خلافه ظاهر كتاب أو سنة لاحتمال تقيدهما (3) بعدم اشتراط
الخلاف بعيد عن ظاهر الدليل، مضافا إلى كمال بعد فهم الحكم المنجز من الكتاب
والسنة بحيث لا يقبل التقييد باشتراط الخلاف، فإنه لا يكاد يتحقق، لتوقفه على
التصريح، فإن الإطلاق ونحو ذلك لا يفيد هذا المعنى. وإن أريد ثبوت الحكم في
ظاهر (4) الكتاب والسنة وإن كانت قابلة للتقييد فإخراج ما خالف مثل ذلك استثناء
مستغرق.

(1) في (ن) زيادة: معرفة.
(2) عوائد الأيام: 47، العائدة 15.
(3) في (ن، د): تقييدهما.
(4) في (ن، د): ظواهر.
293

وثانيها: أن اشتراط كون الخمر حلالا والماء حراما - ونحو ذلك - لا دخل له
في الشروط في ضمن العقود، فإن ذلك مبني على غرض المتعاقدين، وتغير
الأحكام، لا غرض للمتعاقدين، وفهم اشتراط تغير الأحكام من قوله: (إلا ما
خالف الكتاب والسنة) في غاية البعد. وسيجئ لهذا الكلام تتميم بعيد ذلك.
وثالثها: أن ظاهر كلامه أن المراد من المخالفة هو المخالفة بالمطابقة دون ما
يخالفهما بالتلازم ونحو ذلك، ولا ريب أن اشتراط عدم التصرف في المال أيضا
مخالف للكتاب والسنة، فإن مقتضاهما تصرف المالك في ملكه.
وقوله: إن عدم التصرف غير مناف. قلت (1): فيه إن عدم تصرفه بطريق اللزوم
مناف لذلك، والمقصود بالشرط إلزام عدم التصرف لاعدم التصرف ولو اختيارا.
ولا وجه لقوله: فإن إلزام الشارع يقتضيه، لأن كل حكم ثابت بالشرط إنما
يقتضيه إلزام الشرع (2)، وإلا فالشرط لا يثبت حكما، فلو قال: بشرط أن لا يطأ
الزوجة أو لا يتسرى عليها - أو نحو ذلك - لكان الحكم المنافي هنا أيضا لالزام
الشرع، فإن ما ثبت من الشرع هو جواز الوطئ والتسري، وعدمهما لا ينافي
جوازهما، مع أنهم عدوهما من الشرط المخالف للكتاب والسنة.
ورابعها: أن إخراج شرط ترك الواجب أو فعل المحرم من مخالف الكتاب
والسنة بديهي الفساد، لأن الواجب والمحرم إن كان دليلهما اقتضى الوجوب
والحرمة مطلقا بحيث لا يمكن اشتراط خلافة - بمعنى عدم تبدل الحكم به -
فيصير الشرط مخالفا للكتاب والسنة - مثل الطلاق - قطعا، وإن لم يكن كذلك
فيتعارض الدليلان كما ذكره، لكن الفرض: أن دليل الشرط مقيد بعدم مخالفتهما،
فكيف يعقل التعارض؟ فأينما وقع التعارض ابتداءا ظهر بطلان الشرط، لأنه
داخل في مخالف الكتاب. نعم، لو كان عموم الأمر والنهي أيضا مقيدا بما إذا لم
يشترط في البيع خلافه لزم التكافؤ بين المتخالفين، والفرض أنه ليس كذلك،

(1) لم يرد (قلت) في (م).
(2) لا يخفى ما في العبارة من قصورها عن تأدية المراد.
294

فكيف يمكن أن يقال بتعارض دليل الشرط مع إطلاق الكتاب والسنة القاضيين
بالوجوب والتحريم؟ وعلى فرض الإمكان فقد يتفق فيهما أيضا ما ثبت عدم
جواز تبدله بالشرط، فلم لا يكون داخلا في مخالف الكتاب؟ فتبصر.
والذي يقتضيه النظر أن يقال: إن المتبادر من مخالفة الكتاب والسنة: مخالفة
ما ثبت منهما بالخصوص على نحو نعلم أن الحكم كذلك من دون تعلقه واشتراطه
بشئ آخر، وهذه العبارة ليست إلا كقوله: (أطع أباك إلا فيما خالف الشرع) أو
قول الرجل لصديقه: (إني أطيعك واسمع قولك إلا فيما خالف أمر الله) فإن معناه:
أن أمر الأب أو المولى أو الصديق مثلا أيضا من الملزمات، سواء كان بإلزام الشرع
أو بالتزام المكلف بنفسه، ويكون المراد: أن مع قطع النظر عن أمر الامر ونهيه
يلاحظ الشرع، فإن كان للشارع أمر ونهي وجعل في هذه الواقعة فالمتبع ذلك،
وإن كان الشارع رخص في ذلك أو سكت ولم يحكم بأحد الطرفين فالمتبع في
ذلك آمرك، فكذا في الشرط، فإن مقتضى الدليل أن الشرط أيضا من الملزمات
لأحد الطرفين، إما الفعل أو الترك، فإن كان هناك للشارع حكم بأحد الطرفين
إلزاما فلا عبرة بالشرط لو خالفه (1) كتعارض إطاعة المولى والأب مع إطاعة
الشارع، وإن لم يكن كذلك فالمتبع الشرط، وهذا واضح لا إشكال فيه.
فنقول: أما الأحكام الشرعية وضعية أو تكليفية لو اشترط تغيرها عما هي
عليها - كاشتراط حرمة الماء، أو حل شرب [خمر] (2) أو عدم ضمان الغاصب، أو
عدم كون البيع مملكا ونحو ذلك - فلا ريب في بطلانه، ولا يحتاج إلى إدراجه في
مخالفة الكتاب والسنة، بل ليس معنى المخالفة مثل ذلك، إذ الأحكام ليست في
قدرة المكلفين، وشرط أمر غير مقدور باطل، إذ الشرط يجب الوفاء به كالعقد، ولا
يشمل دليل الشرط مثل ذلك حتى يحتاج إلى الاستثناء، وهذا مما لا يتفوه به
أجنبي عن الفن فضلا عن فقيه (3). وأي معنى لقولك: (بعتك وشرطت أن لا تكون

(1) في (ن، د): لو خالف.
(2) من (م).
(3) في (ن، د): الفقيه.
295

الصلاة واجبة أو الجناية عمدا غير موجب للقصاص)؟ إذ المقصود من الشروط
الوفاء، وهذا غير مقدور حتى يؤتى به (1) وكون المراد بمخالفة الكتاب ذلك كلام
تضحك منه الثكلى! وحيث إن الشرط إنما هو في الأمور المقدورة فيرجع المآل
إلى اشتراط الفعل أو الترك، لا تغير نفس الحكم، فإذا صار كذلك فنقول:
شرط الفعل يوجب إلزامه، وشرط الترك يوجب لزوم الترك، فإن كان الفعل
المشروط حراما - كشرب الخمر ونكاح الخامسة - فالشرط مخالف للسنة أو
الكتاب، وكذلك لو كان الترك المشروط ممنوعا منه، كشرط أن لا تصلي أو لا
تصوم أو لا تطأ زوجتك الدائمة سنة، ونحو ذلك.
وأما لو كان الفعل والترك مما رخص فيه - كطلاق الزوجة وبيع الدار وأكل
الرمان والقعود يوم الجمعة في الدار والمسير إلى مكان، ونحو ذلك مما لا أمر فيه
للشارع ولا نهي - فيجوز اشتراط فعله وتركه من دون إشكال، وليس داخلا في
مخالف (2) الكتاب والسنة. وقولنا: إن اشتراط عدم التسري ونحو ذلك مما خالف
السنة، إنما هو للنص الخاص.
وبالجملة فحاصل المراد: أن كل شرط لو قطع النظر عن لزوم الشرط ولوحظ
الشرع لم يرد فيه ما يدل على الإلزام فيه بفعل أو ترك فلا مانع من اشتراطه، كما لا
مانع من اشتراط ما يوافق الشرع في لزوم الفعل أو الترك، فيكون كالنذر على فعل
الواجب أو ترك الحرام فيصح، لما حققناه في بحث الأسباب أن علل الشرع
معرفات لا مانع من اجتماعها (3) فتدبر وتبصر.
ومثل اشتراط عدم التصرف في المال ونحو ذلك ليس من جهة المخالفة
للكتاب والسنة، بل إنما هو لمخالفة مقتضى العقد لو شرط في عقد التمليك عدم
التصرف فيما يملك به، أو لمانع آخر، يأتي التنبيه عليه في آخر العنوان.
ونظير هذا الكلام آت فيما أحل حراما أو حرم حلالا، بتقريب: أن كل شرط

(1) في (ف، م): يوفى به.
(2) في (م): مخالفة.
(3) راجع العنوان: 8.
296

ملزم لأحد الطرفين، ولازم ذلك كون كل شرط محرما لحلال أو محللا لحرام،
ولازمه الاستثناء المستغرق، فلابد من بيان هذه العبارة على نحو ينطبق على
المدعى.
ومثل ذلك، الخبر الوارد في الصلح: (أن الصلح جائز بين المسلمين، إلا ما
أحل حراما أو حرم حلالا) (1) وكلاهما من باب واحد، وهذا ما وعدناك في بحث
موارد العقود في ضبط مورد الصلح.
والفاضل المدقق النراقي أبدع هنا أيضا - نظير ما أشار إليه في ضمن أمثلة
المخالف للكتاب والسنة - من أن فاعل (أحل) و (حرم) هو الشرط، وهذا إنما
يتم مع اشتراطه حرمة حلال أو حلية حرام، لا مع اشتراط عدم فعل حلال. فلو
قال: (بعتك بشرط حرمة التصرف في المبيع أو حلية النظر إلى وجه زوجتك)
يكون من هذا الباب، بخلاف ما لو قال: (شرطت عدم التصرف) نعم، لو أجاز
الشارع هذا الشرط فإيجابه الوفاء به يحرم الحلال. وبعبارة أخرى: أن نفس
الشرط يحلل ويحرم، لا أن إيجاب الشارع ذلك الشرط يحلل ويحرم، لأنه
محتاج إلى التقدير في الرواية، ومناقض لما استشهد به الإمام عليه السلام في موثقة
منصور على عدم حلية الطلاق والتزويج (2) بل يلزم كون الإطلاق لغوا، وينحصر
مورد الخبر في اشتراط الواجبات واجتناب المحرمات، فالحكم بوجوب ذلك بل
تعليقه بالوصف المشعر بالعلية لغو جدا. فإن قيل: إذا اشترط عدم الفعل فيجعله
حراما عليه. قلنا: ليس المراد مجرد طلب الترك، بل جعله حراما واقعيا حتى
يكون المشروط حرمة الفعل في نفس الأمر شرعا. فإن قيل: الشرط مع قطع النظر
عن إيجاب الشارع الوفاء لا يوجب تحليلا ولا تحريما. قلنا: إن أريد حصولهما
واقعا فكذلك، وإن أريد بحكم الشرط فليس كذلك، بل حكم الشرط ذلك،

(1) الوسائل 13: 164، الباب 3 من أبواب أحكام الصلح، ح 2.
(2) الوسائل 15: 30، الباب 20 من أبواب المهور، ح 4.
297

فالشرط كالنذر في التعلق بالمباح والمحظور (1).
هذا مجمل ما أفاده وأنت خبير بأن أدلة الشروط - كما أشرنا إليه (2) - لا تدل
على الشروط الغير المقدورة، ومن المعلوم: أن تغير الأحكام ليس في قدرة
المتشارطين، ولا معنى لقوله: (بعت بشرط أن يكون الخمر حلالا) فإن ذلك شئ
لا يحتمل دخوله تحت الأدلة حتى يحتاج إلى استثنائه. وبالجملة: بطلان مثل هذا
الشرط مما لا خفاء فيه، ولكن ليس معنى قولنا (3): (ما أحل حراما أو حرم حلالا)
ذلك، لأنه خلاف المتبادر قطعا.
ودعوى: أن ما عدا ذلك يوجب التقدير ممنوع، فإنه لو شرط ترك فعل واجب
أو فعل شئ محرم فلا ريب أن الشرط أوجب تحليل الحرام، بل هو حلل حراما.
ومن العجب! أنه ذكر في شرط ترك الواجب أو المباح أو شرط فعل الحرام
أن الشرط - حينئذ لا يكون محللا ومحرما، بل إيجاب الشارع الوفاء يوجب ذلك
فلا يسند (4) ذلك إلى الشرط وقال في آخر العبارة فيما فرضه من شرط كون الخمر
حلالا - بعد ما أورد على نفسه أن الشرط لا يوجب شيئا ما لم يوجبه الشارع -:
إنك إن أردت ذلك واقعا فكذلك، وإن أردت بحكم الشرط فليس كذلك (5).
فنقول: إن شرط شرب الخمر كذلك، فإنك إن أردت أن يكون ذلك حلالا
واقعا فلا يقتضي الشرط ذلك، وإن أردت أن حكم الشرط ذلك فهو كذلك، لأن
الشرط معناه إلزامه بالشرب، وهو تحليل للحرام عليه مع عدم رضا الشارع به،
فالفرق بين المقامين وإن كان يتخيل في بادئ النظر، لكنه في الحقيقة لا يعد فرقا،
مضافا إلى أن المتبادر من هذه العبارة: ما ذكر من مثال شرب الخمر، لا كون
الخمر حلالا.
بل نقول: إن معنى العبارة: أن يكون الشرط والإلزام محللا للحرام الواقعي، لا

(1) عوائد الأيام: 48، العائدة 15.
(2) في (م): إليها.
(3) كذا في النسخ، والظاهر أنه مصحف: قوله: إلا...
(4) في (م): فلا يستند.
(5) عوائد الأيام: 49.
298

أن يبدل الحكم بالحرمة على الحكم بالحلية. وبعبارة أخرى: أن الظاهر من ذلك:
أن تحليل الحرام عبارة عن تحليله مع بقائه على حرمته (1) واقعا وظاهرا، وتحريم
الحلال عبارة عن تحريمه مع كونه حلالا كذلك، وليس معناه إلا الإلزام بالفعل في
الأول وبالترك في الثاني. وأما تغيير الحكم بأن يجعل الحرام حلالا في أصل الواقع
وبالعكس فلا يسمى تحليلا للحرام، بل هو تبديل حكم الحرمة بالحل، وهذا
المعنى الذي ذكرناه واضح عند العرف.
وبالجملة: كون المراد من هذه العبارة ما ذكره مما يقطع بخلافه بالنظر إلى
العرف.
وقيل: إن هذه العبارة مجملة (2) ولازم هذا الكلام أن عمومات الشروط أيضا
ساقطة عن الحجية، لأنها مخصصة بالمجمل على هذا الفرض، فلابد في إثبات
صحة كل شرط إلى دليل خاص من نص أو إجماع.
وقيل: إن المراد بالحلال والحرام هنا: ما كان كذلك بأصل الشرع لا بتوسط
العقد (3) بمعنى: أن حلية الشئ قد تكون بعد حصول العقد، كحلية التصرف
والانتفاع ونحو ذلك في المبيع ونحوه، وكذلك الحرمة، كعدم جواز فسخ العقد
وعدم جواز استرجاع العوض ونحو ذلك. وقد يكون الحل والحرمة في شئ ثابتا
على وجه لا دخل له بالعقد، كحلية الماء وحرمة الخمر ونظائر ذلك. فإن كان من
قبيل الأول فجاز تحريم الحلال وتحليل الحرام فيه، وإن كان من قبيل الثاني
فليس ذلك فيه بجائز.
ولعل نظره إلى أن الحل والحرمة الحاصلين (1) بالعقد بعد لم يحصلا فلو وقع العقد خاليا عن الشرط أوجب هذا الحل والحرمة، وأما لو وقع مقيدا بالشرط

(1) في (ن): الحرمة.
(2) نقله المحقق النراقي قدس سره في العوائد: 47 ولم يسم قائله.
(3) نقله المحقق النراقي قدس سره في العوائد: 42 ولم يعين قائله.
(4) في (ن، د): الحاصلتين.
299

فليس فيه تحليل لحرام ولا تحريم لحلال، لأن الحكم يقع حينئذ من أول الأمر
على الحل أو الحرمة، ولا يكون هناك شئ محرم يحل بالشرط، بل يصير هو
حلالا ابتداءا. نعم، لو لم يكن هناك شرط والعقد وقع على إطلاقه لكان حراما،
وهو لا ينفع في ذلك، وكذلك في تحريم الحلال، فإن من شرط في إجارة الدار (1)
مثلا أن لا يسكنها غيره لم يحرم حلالا، لأن حلية إسكان الغير إنما هي (2) فرع
وجود الإجارة مطلقا غير مقيدة بالشرط، والفرض أنها وقعت مقيدة من الأصل،
فوقع الإسكان غير مأذون فيه حتى يحرم بالشرط، فتدبر. بخلاف ما لا ربط له
بالعقد، فإن الحلال حينئذ حلال لا ربط له بالعقد، وكذا الحرام، فاشتراط ترك
الأول وفعل الثاني موجب للتحليل والتحريم المبطلين للشرط، فتأمل.
وهذا الكلام لا غبار عليه من هذه الجهة، وليس بهذا المعنى تقييدا للدليل كما
زعمه [الفاضل المعاصر] النراقي (3)، بل هذا تقييد (4)، إذ ليس هذا إلا عبارة عن
تحقيق كون الشئ حلالا وحراما، وهو في الشرط المرتبط بالعقد لا يتحقق إلا به،
فاشتراط خلافه ليس اشتراطا لخلاف ما هو ثابت من الحكم، بل إنما [هو] (5)
دفع (6) لثبوت ما يقتضيه الإطلاق.
وأورد (7) عليه أيضا بأن ذلك موجب للتفرقة بين اشتراط سكنى الدار المبيعة
للبائع وبين اشتراط سكنى دار غيرها للمشتري لها (8) فينبغي جواز الأول لأنه
أحل حراما بالعقد، دون الثاني لأنه أحل ما هو حرام بأصل الشرع.
ويمكن القول بأن تحريم الثاني إنما هو بدون الأذن وأما معه فلا، والشرط
حينئذ محصل للأذن فلا يكون محللا لحرام، بل ملزما لما هو حلال مع الأذن بدون
الشرط، وسيأتي لذلك مزيد توضيح في مقام التحقيق للمدعى.

(1) في غير (م): في الإجارة.
(2) في غير (م): هو.
(3) عوائد الأيام: 48.
(4) كذا في النسخ: والصواب: تقيد.
(5) من (م).
(6) في (ن، د): وقع.
(7) أي: النراقي قدس سره، انظر العوائد: 48.
(8) في (ن، ف): له.
300

وقيل: إن المراد (- ما أحل حراما أو حرم حلالا) ما كان تأسيسا لقاعدة
كلية، كما أن الحل والحرمة في الشرع متعلقان بالماهية (1) فالشرط المحرم للحلال
شرط حرمة أكل خبز - مثلا - ونحوه، وشرط جعل اختيار الطلاق والجماع بيد
الزوجة، وقد قال الله تعالى: الرجال قوامون على النساء (2). وعلى قياس ذلك
الشرط المحلل للحرام، وفيما لو اشترطت أن لا يتزوج عليها فلانة أو لا يتسرى
بفلانة إشكال (3).
ولعل نظره إلى أنه ليس تأسيسا كليا، وإنما هو إخراج فرد عن تحت القاعدة
الكلية، فلا تشمل الرواية مثل ذلك. وهذا القول أيضا راجع إلى ما ذكره الفاضل
المعاصر النراقي في وجه يظهر بعد التأمل في أطراف كلاميهما (4).
ولا ريب أن دعوى ظهور ذلك من العبارة ساقطة، و [لفظ] (5) (حلالا
وحراما) وقع في الرواية على طريق التنكير، وهو يشمل الكلي والجزئي أيضا،
وتخصيص الخبر بأحدهما لا وجه له، والعمدة في المقام تحقيق المرام على نحو
ينطبق على المدعى ويكون مستفادا من الرواية، لا مجرد التخريج العقلي
والاحتمال وإن بعد.
فنقول: لا ريب أن (تحليل الحرام وتحريم الحلال) ليس المتبادر منه (6) تغيير
الأحكام الإلهية - كما زعمه المعاصر النراقي وجعله الظاهر من الرواية كما بيناه -
بل المراد منه (7) المنع عما هو حلال شرعا والإلزام بما هو محرم شرعا، ولا شبهة
أن ما كان حرمته وحليته منوطا (8) بحصول العقد بعد لم يتحقق، فاشتراط المنع
عما لو كان العقد مطلقا لاقتضى جوازه أو الرخصة فيما لو كان العقد مطلقا
لاقتضى المنع عنه ليس من هذا الباب كما بيناه في كلام القائل السابق، وهو من

(1) في (ن، د): بالماهيات.
(2) النساء: 34.
(3) نقله المحقق النراقي قدس سره ولم يسم قائله، انظر العوائد: 48.
(4) في (د، م): كلامهما.
(5) من (م).
(6) في (م): منهما.
(7) في (م): منهما.
(8) في (م): منوطة، والمناسب: منوطتان.
301

هذه الجهة تام ليس عليه غبار، فتدبر.
وأما ما هو محلل ومحرم بأصل الشرع، فنقول: إذا شرط المنع من الأول
والإلزام بالثاني، فمرة يكون الرخصة في فعل المحلل معلومة بحيث لا يقبل المنع
بأمر آخر - كالصلاة الواجبة ونحو ذلك - وكذا المنع عن فعل المحرم - كشرب
الخمر - وهذا القسم لا بحث في دخوله تحت الرواية، وعدم جواز مثل هذا
الشرط. ومرة يكون الرخصة والمنع مطلقين لا يعلم أنهما هل قابلان للتقييد بأمر
آخر ملزم أم لا؟ فحينئذ يتعارض ما دل من الشرط على إلزامه أو منعه وما دل من
الشرع على تحريمه أو جوازه.
مثلا: إذا قال: (بعتك وشرطت عليك أن تعتق عبدك) نقول: عدم العتق كان
حلالا له بأصل الشرع، والشرط قد حرمه عليه، ولو قال: (بعتك وشرطت أن
يكون سكنى دارك لي سنة) فقد حلل لنفسه ما كان حراما عليه، ونظائر ذلك أيضا
مما يحرم ويحلل من أحد الجانبين فعلا وتركا ما لم يكن كذلك على هذا القياس،
وهذا الذي أوقع الإشكال.
وحله: أن عدم العتق كان حلالا عليه مطلقا أو بشرط عدم وجود ملزم للعتق،
فإن كان من الأول فلا بحث لنا فيه - وقد ذكرنا أن بعد معلومية ذلك فلا بحث في
بطلان الشرط - وإن كان من الثاني فنعلم أن وجود ملزم للعتق ممكن شرعا، وعدم
العتق ليس حلالا مطلقا بل في بعض الصور.
فنقول: لا ريب أن مع قطع النظر عن الاستثناء يقضي دليل الشرط بلزوم العتق
جاءنا (1) عدم جواز اشتراط ما يحرم الحلال، فنقول: لا نسلم كون عدم العتق بعد
الاشتراط حلالا حتى يكون الشرط محرما له. وبعبارة أخرى: احتمال كون
الشرط ملزما وعدمه يوجب الشك في أن الترك للعتق حلال أم لا؟ لأن ذلك من
تغاير الموضوع، ومتى ما لم يعلم ثبوت الحل والحرمة على الموضوع بقول مطلق
لا يكون تخلف ذلك تحريما للحلال أو عكسه، فالمسلم إنما هو حلية عدم العتق

(1) في (م) بدل (جاءنا): ولا ينافيه.
302

ما لم يكن هناك ملزم، فإذا جاء دليل الشرط وكان ملزما فقد خرج الحلال عن
موضوعه الذي كان فيه حلالا وتبدل إلى موضوع آخر، فلم يكن الحلال حراما
بهذا الشرط أبدا.
وكذلك نقول: إن حرمة سكنى الدار التي للغير لي (1) ليست على إطلاقها، بل
حيث لا يكون هناك أمر محلل من إذن ونحوه وأخذ الشرط ذلك مع قبول الاخر
يخرج ذلك عن كونه سكنى دار الغير بدون إذنه. وبعبارة أخرى: يبدل الموضوع
المحرم إلى موضوع محلل بأصل الشرع ويلزمه، لا أنه يحلل الحرام، فإن الحرام
والحلال لا يتبدلان بذلك.
وبالجملة: عمدة الإشكال أن كل شرط محلل لما هو حرام بدونه ومحرم لما
هو حلال بدونه، فكيف يمكن استثناء القسمين؟
والحل: أن المراد منهما كون الشرط محللا لما هو حرام، بمعنى اقتضائه
الرخصة فيما منعه الشارع، ومحرما لحلال، بمعنى اقتضائه المنع عما (2) رخص فيه
الشرع، وهذا لا يكون إلا مع بقاء موضوع الحكمين بحاله، كالحلال المطلق الذي
لا يمكن تحريمه بوجه، والحرام كذلك. وأما الأمور التي لها حلية وحرمة
قابلتين (3) للزوال بتغير وصف أو حالة أو نحو ذلك، فلو جاء شئ حلل الحرام أو
حرم الحلال - بمعنى تغييره له من حالته السابقة إلى حالة أخرى مغايرة لها في
الحكم - فإن ذلك لا يعد تحليلا للحرام، بل هو تحليل للحلال، كانقلاب سائر
الموضوعات الخارجية، إذ لا شبهة أن مال الغير ينقلب من الحرمة إلى الحل بإذن
المالك، كانقلاب الخمر خلا، فتبصر.
فيصير الحاصل: أن الشرط الممنوع منه ما كان مرخصا لحرام لا يمكن تقليبه
حلالا بهذا الشرط ونحوه، وما كان مانعا عن حلال لا يمكن المنع عنه بملزم من
الملزمات، وهذه العبارة لو أطلقت في العرف لكان معناها ذلك، فإن الرجل إذا قال

(1) كلمة (لي) لم ترد في (م).
(2) في (ن، د): مما.
(3) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: قابلة، والمناسب: قابلتان.
303

لصديقه: (أطيعك في كل أمر ما لم تحلل علي حراما ولم تحرم علي حلالا) لا
يستفاد منه إلا ما كان حلالا وحراما لا يمكن التخلف والتجاوز عنهما (1). ولو أمره
الصديق بأكل خبز خاص أو نهاه عن شرب ماء بالخصوص لم يكن منافيا لكلام
ذلك [القائل] (2) أصلا.
وأما مثل عدم جواز اشتراط عدم التسري أو عدم التزويج عليها، فليس
بطلانه بمجرد ما دل على عدم جواز تحريم الحلال، إذ لنا أن نقول: لا نسلم حلية
التسري والتزويج بقول مطلق، بل ما لم يكن هناك ملزم بالترك، ولكن الدليل
دل (3) على عدم جواز مثل ذلك وعدم مشروعية إلزام ترك ذلك.
والحاصل: أن موارد النصوص شاهدة على أن المراد بالتحريم والتحليل:
عبارة عن ورود الحكم بعد الشرط على ما كان يرد عليه مخالفه قبل الشرط من
دون لزوم تغير موضوع وتبدل ممكن شرعا وإن كان كل شرط مغيرا للموضوع في
الجملة في كل مقام، لكن غرضي كون ذلك تغييرا قابلا لتغيير الحكم، كما
أوضحناه.
تنبيه:
للشروط مباحث متعلقة بها كأصل العقد، والكلام فيها طويل الذيل، ولكن
الأنسب أن نشير إليها إجمالا حتى يتنبه بذلك الفطن المتدرب، ولتفصيل الكلام
محل آخر.
أحدها: أن الشرط لابد أن يكون من الأمور المقدورة - كما أشرنا إليه سابقا -
لعدم إمكان الوفاء بغير المقدور مع أن الشرط يجب الوفاء به، فاشتراط الأمر
الواقع في الماضي ونحو ذلك غير جائز (4).
وثانيها: أن الشرط ليس تعليقا للعقد، ولا لدوامه، ولا للزومه، وإنما هو إلزام

(1) في غير (م): عنه.
(2) من (م).
(3) في (ن): دال.
(4) في (ف، م): غير جاز.
304

آخر مرتبط بالعقد كما ذكرناه، فلا يفترق الحال بين ذكره بلفظ الشرط أو بأدواته
مع قصد عدم التعليق.
لكن الأصحاب يظهر منهم عدم الجواز بالأداة واعتبار كونه بلفظ الشرط.
ولعل ذلك لصراحة الأداة في التعليق مع أنه غير مقصود، ومطابقة الدال للمدلول
معتبرة في العقود، والشرط يرجع إلى كيفية في العقد.
وثالثها: أن الشرط يمكن أن يكون من باب الالزامات الشرعية - كالنذر
ونحوه - فيصح اشتراط كل ما يمكن إلزامه، حتى الواجبات بناءا على جواز تعلق
النذر بها. وتظهر الثمرة في الترك، فإنه موجب للعقاب وموجب لتزلزل العقد، كما
أن في النذر موجب للكفارة. وكذلك المباحات التي لا نفع للمشترط فيها، كالبيع
بشرط أن ينام أو يأكل ونحو ذلك مما لا فائدة فيه لمن شرط. وكذلك التروك:
كالبيع بشرط أن لا يضرب زيدا أو لا يعطي عمروا.
وبالجملة: يصح حينئذ اشتراط كل مقدور، عينا كان أو فعلا، مباحا أو راجحا،
وجوديا أو عدميا، فيه نفع للشارط أم لا [قابلا للملك أم لا] (1) قابلا للتملك أم لا،
قابلا للمعاوضة أم لا.
ويمكن أن يكون الشرط من باب التمليك - كالعقود - وله قسط من الثمن،
فيشترط كونه مقدورا مملوكا قابلا للتمليك إن كان في عقد تمليك، قابلا للمعاوضة
إن كان في عقد معاوضة، ومنه يلزم كونه وجوديا فيه نفع للشارط، إذ الأعدام لا
تملك ولا تملك، وتروك الشخص غير قابلة للمعاوضة، بل ليست مملوكة وإن قلنا:
إنها مقدورة للمكلف باعتبار قدرته على رفع استمرارها.
ظاهر بعض الأصحاب أنه من باب الإلزام، والذي يعطيه كلمة الأصحاب في
الأبواب كونه كالتمليكات، ورجحه شيخنا الأجل: الشيخ موسى رحمه الله ابن الشيخ
جعفر الغروي عند قراءتنا عليه في خيار الاشتراط على ما في بالي، فليتدبر.
ورابعها: أن بعد البناء على أنه من باب التمليك يصير الشرط في كل عقد تابعا

(1) لم يرد في (ن).
305

له في شرائط الصحة، ويكون حكمه حكم العوضين في المقدورية والمعلومية
ونحو ذلك.
وخامسها: أن حكم الشرط كالصلح فيما ذكرنا في ضبط موارد العقود: من أن
كل شئ يجوز الصلح عليه واشتراطه، أو نقول: إن الشرط والصلح ملزم (1) لما
أمكن إثباته واسقاطه بدونهما، وقد تقدم ذلك، فراجع (2).
وسادسها: أنه قد ذكرنا أن من جملة الشروط الباطلة: هو الشرط المنافي
لمقتضى العقد، على نحو ما بيناه.
وقد ذكر بعضهم: أن اشتراط عدم تصرف المشتري وما في حكمه في العقود
المملكة مناف لمقتضى العقد، إذ الملكية قاضية بالتسلط، والشرط مانع عنه.
وكذلك اشتراط عدم تصرف خاص من التصرفات، كاشتراط أن لا يبيع أو لا يهب
أو لا يعطي زيدا أو لا يؤجره ونحو ذلك، فإن اشتراط عدم تصرف خاص كالمنع
من مطلق التصرف في المنافاة لمقتضى العقد. بخلاف اشتراط الإتيان بأحد
التصرفات الخاصة، فإنه غير مناف بل مؤكد للسلطنة، فكما أن قوله: (بعت بشرط
أن تتصرف فيه أي نحو شئت) مؤكد لما هو مقتضى العقد والتمليك، فكذلك لو قال:
(بعتك بشرط أن تعتق أو تهب، أو بشرط أن تؤجره لزيد) ونحو ذلك، فإنه أيضا
مؤكد لسلطنة المشتري ونحوه وإن كان مستلزما للمنع عن سائر التصرفات غير
التصرف المشروط.
وقد قوى هذا الكلام شيخنا: الشيخ موسى ابن الشيخ جعفر الغروي عند
قراءتنا عليه، وكذلك غيره من مشايخنا المعاصرين.
وفي ذلك إشكال واضح، وهو: أنه لا ريب أن منافاة مقتضى العقد ليس أمرا
لفظيا حتى يختلف باختلاف التعبيرات، بل هو أمر لبي معنوي، والمراد به: كون
الشرط بحيث يلزم منه خلاف ما يقتضيه العقد، فكما أن اشتراط عدم البيع مناف
لمقتضى العقد ومانع من التسلط اللازم للملك، فكذلك اشتراط العتق، فإنه مانع من

(1) كذا، والمناسب: ملزمان.
(2) راجع العنوان: 41، القاعدة الثانية.
306

سائر التصرفات غير العتق، فالشرط مناف للتمليك الموجب للتسلط كيف شاء، بل
هذا أولى بالمنافاة، لنفيه كثيرا من التصرفات، فعد الأول مما ينافي مقتضى العقد
دون الثاني خال عن الوجه، فإما أن يقال بأن نفي التصرف الخاص غير مناف
سواء كان بالمطابقة أو بالالتزام بخلاف نفي التصرف مطلقا، أو يقال: نفي الخاص
كالعام سواء كان بالمطابقة أو بالالتزام. وبالجملة: لا وجه للفرق بينهما يركن إليه،
بل يمكن أن يقال: إن اشتراط عدم البيع معناه تعيين سائر التصرفات، كما أن
اشتراط البيع معناه نفي غيره.
والذي يمكن أن يقال في تصحيح الفرق: إن منافاة مقتضى العقد مبطل حيث
كان نفس الشرط كذلك كاشتراط عدم البيع، فإن مقتضى العقد تسلطه على البيع
والشرط ينفيه، والتابع لا يعارض المتبوع. بخلاف ما لو لم يكن الشرط بنفسه
كذلك، فإن اشتراط البيع مثلا إلزام له على المشتري، ومدلول الشرط لو خلي
وطبعه مؤكد للسلطنة، إذ بدونه فالبيع جائز ومعه متحتم، وهذا بنفسه غير مناف
للملك، وكون لازم ذلك عدم جواز غيره من التصرفات غير قادح، لأنه بمنزلة ما
إذا اختار المشتري بنفسه البيع، فإنه مانع عن غيره، إذ لا يجتمع معه سائر
التصرفات الأخر.
وبعبارة أخرى: الإلزام بالبيع واشتراطه لا يقتضي المنع عن سائر التصرفات،
وإنما المانع عدم إمكان الاجتماع، بتقريب: أنه لو فرض أن من التصرفات ما
يمكن اجتماعه مع البيع لم يكن ذلك مانعا منه كما لو باعه وشرط أن يؤجره فإنه
غير مانع عن بيعه ووقفه ونحو ذلك، فنفس الشرط ليس مانعا عن التصرفات،
وإنما هو مقتض لإتيان تصرف خاص، وهو مؤكد السلطنة، وتعذر سائر
التصرفات لعدم إمكان اجتماعه مع التصرف المشروط لا يقضي بكون الشرط
مانعا منه، فالمتبع في المنافاة وعدمها إنما هو مفهوم الشرط، لا لوازمه المترتبة
عليه في الخارج.
وبعبارة أخرى: المعتبر في المنافاة مدلول الشرط ولو التزاما، لا لوازمه في
تحققه في الخارج، والوصول إلى حقيقة هذا الفرق يحتاج إلى غور تام.
307

عناوين المبطلات للعقود ابتداء أو استدامة
[العنوان السابع والأربعون]
[قاعدة الغرر]
309

عنوان
[47]
من جملة المبطلات: الغرر، وقد تمسك بذلك الفقهاء في بطلان جملة من
العقود:
فقد تمسك به (1) المحقق الثاني في بيع النصف من الصبرة المجهولة المقدار (2).
والظاهر منه أن الصاع والقفيز منه ليس فيه غرر. وتمسك به (3) فخر المحققين في
بيع ما يراد طعمه إذا لم يعتبر ويختبر، وحكى ذلك عن ابن البراج وأبي الصلاح،
وسلار أيضا (4). والشهيد الثاني استدل به في بيع البعير الشارد والفرس الغائر (5)
واعتمد عليه الصدوق في بطلان بيع الملامسة والمنابذة ورمي الحصاة (6). وابن إدريس في بيع الحليب مع ما في الضرع (7). وعن خلاف الشيخ التمسك به في بيع

(1) في (م): منهم المحقق الثاني.
(2) جامع المقاصد 4: 105.
(3) في (م): ومنهم فخر المحققين.
(4) لم يتمسك به الفخر، بل نقل احتجاج القائلين بعدم صحة بيع المطعوم قبل الاختبار به،
واختار نفسه الصحة مثل والده العلامة، ولم يحك أيضا عن ابن البراج، انظر إيضاح الفوائد
1: 426.
(5) المسالك 3: 172، في الطبعة الحديثة منه: (الفرس العائر) - بالعين المهملة - وهو الصواب
ظاهرا.
(6) معاني الأخبار: 278.
(7) السرائر 2: 322.
310

أحد العبدين (1). وعن تذكرة العلامة في باب القدرة على التسليم والعلم
بالعوضين (2).
وبالجملة: يدور على هذه القاعدة بطلان كثير من العقود، كما لا يخفى على
المتتبع. ومما مثلنا به (3) يتنبه الفقيه على نظائره.
ويتضح من هذه القاعدة اشتراط العلم بوجود العوضين والوثوق به، ولذا
اشترطوا في السلم أن يكون المبيع عام الوجود في رأس الأجل حتى يوثق
بوجوده، واشترطوا عدم كون العوض مما أشرف على التلف والهلاك، لعدم
الاعتماد على وجوده، ونظائر ذلك.
وكذا اشتراط القدرة على التسليم أو التسلم في وجه قوي، بمعنى لزوم كون
العوضين مما يمكن عادة حصوله لجانب (4) الطالب، سواء كان بتسليم المالك
الأول له إياه أو بتسلمه بنفسه وإن ورد على (5) هذا الشرط روايات أيضا كما (6) على [عدم] (7) جواز بيع ما ليس عنده (8) لكن لا حاجة إليها بعد تمامية القاعدة.
وكذا اشتراط العلم بالعوضين قدرا وجنسا ووضعا، كما ذكروه وبعبارة أخرى:
العلم بما تختلف به الراغبات وتتفاوت به القيم.
فإن هذه الشروط الثلاثة العامة البلوى الكثيرة الدوران مأخوذة من قاعدة
إبطال الغرر، وفروع ذلك مما لا يخفى على المتتبع، لا حاجة إلى أن نشير إليها (9)
وإنما نشير إلى مباحث نافعة في هذا المقام.
أحدها: أن كون الغرر مبطلا للعقود قد اخذ من باب البيع، وبيانه: أنه قد قام

(1) الخلاف 2: 95 (كتاب السلم، المسألة 38).
(2) التذكرة 1: 466، 467.
(3) في (م): ومما حكيناه.
(4) في (ف، م): للجانب.
(5) في (م): في.
(6) في (م): نحو ما.
(7) من (م) وهامش (ن).
(8) انظر الوسائل 12: 374 و 375، الباب 7 و 8 من أبواب أحكام العقود.
(9) في (م): بدل هذه العبارة: فلا نطيل بذكرها الكلام.
311

الإجماع على أن بيع الغرر فاسد، ونقل هذا الإجماع حد الاستفاضة، ونقل (1) عن
الشهيد في شرحه للإرشاد أن بطلان بيع الغرر ضروري (2).
وقد دل على ذلك الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله في قواعد الشهيد (3) ومجمع
الطريحي (4). وحكى رواية أيضا في الانتصار (5). والسرائر (6). والتذكرة (7).
والإيضاح (8). والصحاح (9). والنهاية الأثيرية (10). ومختصر الحاجبي (11) وغير ذلك
أيضا.
وبالجملة: شهرة الخبر في ألسنة الفقهاء تغني عن تتبع سنده، وهو قوله عليه السلام:
(نهى النبي عن بيع الغرر) (12)، فبطلان بيع الغرر مما لا كلام فيه.
وأما سائر العقود: فالتمسك في بطلانها بالغرر على أحد أمرين:
أحدهما: أن الغرر في هذه الرواية يشعر إلى أن ذلك هو العلة في البطلان، ولا
خصوصية للبيع في ذلك، وبعبارة أخرى: يعلم من الرواية: أن منع النبي صلى الله عليه وآله عن
بيع الغرر إنما هو للغرر، لا لأنه بيع غرر، فإذا كانت العلة الغرر (13) فاللازم كون كل
ما اشتمل عليه من العقود مثل البيع إلا فيما دل الدليل على جوازه - كما في الصلح
على المجهول (14) ونحوه - وفهم العلية من هذه الرواية غير بعيد. ويؤيده استدلال
الفقهاء في سائر العقود اللازمة - بل في بعض العقود الجائزة أيضا - بذلك في
البطلان، مع عدم ورود دليل خاص به، وليس إلا لفهمهم العلية من هذه الرواية.

(1) في (م): ونقل هذا الإجماع مستفيض، وحكي...
(2) غاية المراد: (مخطوط).
(3) القواعد والفوائد 2: 61، القاعدة 164.
(4) مجمع البحرين 3: 423.
(5) الانتصار: 209.
(6) السرائر 2: 322.
(7) التذكرة 1: 485.
(8) إيضاح الفوائد 1: 426.
(9) الصحاح 2: 768.
(10) النهاية لابن الأثير 3: 355.
(11) حكاه عنه المحقق النراقي في العوائد: 29، العائدة 8.
(12) الوسائل 12: 330، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، ح 3، عوالي اللآلي 2: 248، ح 17.
(13) في (م): فإذا كان الغرر هو العلة.
(14) راجع الوسائل 13: 165، الباب 5 من أبواب أحكام الصلح.
312

والشبهة في عدم العلية المستفادة من الرواية أو عدم حجيتها ضعيفة.
وثانيهما: ما روي عن العلامة رحمه الله في المختلف أنه ذكر الرواية بقوله: (نهى
النبي صلى الله عليه وآله عن الغرر) (1) ولم يذكر لفظ (البيع) فيكون المنع عن الغرر عاما، فيعم
سائر العقود، وإن كان يحتمل السقط أو المسامحة في النقل وكون الرواية واحدة.
لكن الأصل خلاف ذلك. وبهذا المقدار يمكن التمسك به في سائر العقود، مع الجبر
بفتوى الأصحاب، كما ذكرناه.
مضافا إلى أنه يمكن أن يقال: إن المدار في صحة العقود - كما ذكرناه في
أصالة الصحة (2) - ليس إلا شمول العمومات لها، ويمكن القول بأن العمومات
والاطلاقات كلها منصبة على ما هو المتعارف بين الناس، ولا ريب أن الغرر مما
لا يقدم عليه العقلاء، وليس من المعاملات المتعارفة، فلا تنصرف إليه الأدلة،
فيكون باقيا تحت أصالة الفساد الأولى ولا يكون له دليل صحة حتى نحتاج في
الإخراج إلى تأسيس قاعدة الغرر بالنص والإجماع.
مضافا إلى أن الظاهر من طريقة الشرع: أن بناءه على قطع التشاجر
والتجاذب بين الناس، ولا ريب أن الغرر مما يوجب التشاجر، فطريقة الحكمة
قاضية بسد هذا الباب حسما لمادة النزاع، ونظائر ذلك كثيرة. وسيرة المسلمين في
الأعصار والأمصار عن التجنب عما فيه الخطر والغرر كاشفة عن ذلك، بل هي
دليل برأسه وحجة بانفراده (3).
فالذي تلخص من ذلك: أن الغرر مفسد في المعاملات كلها ما لم يكن هناك
دليل مصحح خاص، وهذا النوع خارج عن عمومات الصحة بطريق التخصيص أو
بطريق التخصص. وثانيها (4): إنه قد حكي عن الأزهري: أن بيع الغرر ما كان على غير عهدة ولا

(1) المختلف 5: 245.
(2) راجع العنوان: 27.
(3) في (م): بانفرادها
(4) أي: ثاني المباحث، تقدم أولها في ص: 311.
313

ثقة (1). وفي القاموس: غره غرا وغرورا وغرة - بالكسر - فهو مغرور وغرير:
خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر، والاسم: الغرر (2). وحكي عن ابن السكيت: أن غره
يغره بمعنى: أخدعه (3). وعن النهاية الأثيرية: بيع الغرر ما كان له ظاهر يغر
المشتري، وباطن مجهول (4) وعن الصحاح: رجل غر وغرير: أي غير مجرب،
والغرة: الغفلة، والغار: الغافل، واغتر بالشئ: أي خدع به، والغرر: الخطر (5).
والمحصل من هذه العبائر: أن ما فيه الخطر داخل في معاملة الغرر، والخطر:
عبارة عن احتمال الضرر المجتنب عنه عند العقلاء، لا الاحتمال الضعيف الذي لا
يبالي به (6) الناس.
وهذا الاحتمال: إما ينشأ من عدم الاعتماد والاطمئنان بوجود المال ونحوه،
وإما ينشأ من عدم الوثوق بإمكان التسليم أو التسلم والقبض أو الإقباض وإن كان
معلوم الوجود، وإما ينشأ من عدم الاعتماد بقابليته للمعاوضة بهذا العوض لجهالة
قدره أو جنسه أو وصفه ونحو ذلك.
وبعبارة أخرى: الخطر عبارة عن عدم وثوق المتعاقدين أو أحدهما بأن
ما يحصل له هل هو قابل لهذه المعاوضة أم لا؟ أو الشئ القابل هل يحصل أم لا؟
ولا مانع من الاجتماع، إذ قد يكون الشك في وجوده، ثم في إمكان قبضه، ثم في
أهليته لهذا العوض المبذول في نظر الباذل بحيث يقدم عليه.
ومما ذكرنا ظهر: أن الغرر لا يتحقق بعد وجود العوض وإمكان قبضه
ومعلومية مقداره وإن كان قليلا ما لم يؤد إلى السفه بالمعنى السابق، إذ الخطر
بمعنى الاحتمال، ولا احتمال هنا، فإن الباذل مع علمه بنقصان المقابل يبذل
العوض، ولا غرر في ذلك.

(1) تهذيب اللغة 16 (القسم الساقط بين الجزءين: السابع والثامن): 83.
(2) قاموس اللغة 2: 100 - 101.
(3) لم نقف على مأخذها، نعم في الصحاح: ابن السكيت: الغرور: الشيطان ومنه قوله تعالى:
ولا يغرنكم بالله الغرور.
(4) النهاية 3: 355.
(5) الصحاح 2: 768
(6) في غير (م): عنه.
314

نعم، يجئ الإشكال من جهة أن الغرر متى ما كان احتمال الضرر المجتنب
عنه والشارع نهى عن ذلك لأنه محتمل للضرر، ولازم ذلك كون المعاملة التي قطع
فيها بالضرر مع علم المتعاقدين أيضا فاسدة منهيا عنها مع أنهم لا يقولون (1) به،
فإما أن المعاملة الغررية صحيحة لو أقدم عليها المتعاقدان كيف كانت (2) - كما لو
رضي بالمجهول أي شئ فرض، أو رضي بما لا يقدر على تسليمه، أو بما لا يوثق
بوجوده - وإما أن المعاملة المقطوع فيها بتفاوت العوضين والضرر فيها (3) مع علم
المتعاقدين به أيضا فاسدة كما في الغررية، مع أن البناء على بطلان الأول دون
الثاني.
ووجه الدفع أن يقال: إن مع العلم بوجود الضرر والتفاوت إذا أقدم عليه
المتعاقدان فقد أقدم على ضرر نفسه وأسقط احترام ما له، فيكون الزائد بمنزلة
الهبة ولا مانع منه، ويشمله عموم أدلة البيع، إلا أن يؤدي إلى السفه - كما قررناه -
فيبطل. وأما في صورة الجهالة أو عدم الوثوق بالوجود أو القبض فليس كذلك،
لأنه لم يقدم على فرض عدم الوجود وعدم القبض، بل قد أقدم على أنه يقبضه،
لكنه غير واثق بحصوله، وهو بيع الخطر.
ولو فرض إقدام شخص على ذلك بأن يقول: (إني أبذل هذا (4) الثمن بإزاء هذا
المال سواء كان زائدا أو ناقصا ممكن القبض أم لا) فهو فرد نادر (5) لا يدور مداره
الحكم الشرعي، بل الميزان في الضوابط الشرعية إنما هو بناء الأغلب، ولا ريب
أن الناس لو أقدموا على بيع مجهول أو ما لا يوثق بقبضه أيضا قاصدون للحصول،
فحكم الشارع بأن قصد مثل هذا الشئ غير ممضى، بخلاف ما لو كان معلوم الزيادة والنقيصة، فإنه ليس فيه احتمال الأقدام على ما لا ضرر فيه، بل معلوم أن
المال ليس بإزائه ما يقابله ويساويه.

(1) في غير (م): مع أنكم لا تقولون به.
(2) في غير (م): كيف كان.
(3) لم ترد (فيها) في (ن، د).
(4) لم يرد (هذا) في (ف، م).
(5) في (ن، د) زيادة: و.
315

وبالجملة: فرق بين كون الأفراد الغالبة مما لا يقدم فيه (1) إلا على الحصول
وعدم ضرر وبين ما لا يقدم فيه إلا على الضرر، فإن الناس مسلطون على أموالهم،
فإن بني على هبة ماله أو المعاوضة بما هو معلوم النقصان الفاحش فلا بحث، لأنه
مقدم على بذل ماله على كل حال، بخلاف صور الغرر فإن الأقدام فيها (2) غالبا
على الحصول وإن كان غير موثوق به، فتدبر جدا.
ومن هنا علم: أن الغرر متى ما تحقق لزم منه البطلان، ولا ينفع في ذلك إقدام
المتعاقدين، تعبدا بحكم الشرع المجعول لسد الباب وقطع التجاذب والتنازع
الحاصلين من دعوى المشتري - مثلا - الأقدام على أنه يحصل ودعوى البائع
أنك أقدمت (3) عليه كيف كان، ومطالبة المشتري الإقباض، ودعوى البائع إقدامه
على ما لا يمكن فيه ذلك فيسقط. ونظير ذلك (4).
ولا بعد في عدم تجويز الشارع ذلك وإن رضي المتعاقدان، إذ هو غير عادم
النظير، فإن الإسراف ممنوع منه وإن رضي المالك، مضافا إلى أن الفرق بين الباب
وبين مثل الهبة ونحوها واضح مما ذكرناه، فلا إشكال.
وثالثها: أن الشهيد رحمه الله قال في القواعد: إن الغرر عبارة عن جهل الحصول،
وأما المجهول فمعلوم الحصول مجهول الصفة، وبينهما عموم من وجه (5).
وظاهر كلامه: أن ما لا يوثق بحصوله ووجوده يصير (6) من باب الغرر، وأما
ما علم وجوده في الجملة - بمعنى كونه موجودا خارجيا معينا في الواقع غير
معين عند المتعاقدين أو أحدهما، أو كليا موصوفا بما لا يرتفع (7) به الغرر، بل يبقى
تحته أفراد متفاوتة في القيمة والرغبة تفاوتا معتدا به مع عموم وجود أفراده، فإن

(1) في (م) بدل فيه: على.
(2) في (م): عليها.
(3) في (م): أنه أقدم.
(4) لم يرد (فيسقط) في (م)، وفيه بدل (ونظير ذلك): وأمثالهما.
(5) القواعد والفوائد 2: 137، القاعدة 199.
(6) في (م): يكون.
(7) في (ف، م): لا يرفع.
316

كلا منهما معلوم الحصول لكنه مجهول الصفة - فليس هذا من باب الغرر، بل هو
جهالة، فيصير (1) باب بيع المجهول مندرجا تحت عنوان آخر، ويثبت بطلانه
باشتراط العلم المجمع عليه في عقود المغابنة، ويبقى تحت دليل الغرر ما لا يوثق
بوجوده وحصوله، ولكنه أيضا قسمان، أحدهما: ما لا يوثق بوجوده في الخارج،
كالمبالغة في وصف المبيع في السلم ونحوه بما يؤدي إلى عزة الوجود بحيث لا
يوثق بوجوده في الخارج. وثانيهما: ما يعلم وجوده ووصفه، ولكن لا يوثق
بإمكان قبضه عادة، كالطير في الهواء مع عدم اعتياد العود، والسمك في الماء، كما
مثلوا به في باب القدرة على التسليم.
فإن كان مراد الشهيد رحمه الله من قوله: (ما جهل حصوله) الجهل بأصل الوجود
فيشمل (2) القسم الأول دون الثاني، لأنه معلوم الوجود كالقسم الثالث الذي عبر
عنه بالمجهول، فيكون الغرر منحصرا في أحد الأقسام الثلاثة.
وإن كان مراده جهل الحصول في يد المشتري ونحوه، فيعم الأمرين، لأن
الجهل بحصوله في اليد أعم من كون ذلك بسبب الجهل بأصل الوجود أو بسبب
العلم بالوجود والجهل بإمكان القبض، فيصير الخارج عن الغرر هو المجهول
بحسب الأوصاف فقط.
وعلى كل حال، فظاهر كلامه عدم عموم الغرر للصور كلها، وليس كذلك، بل
الظاهر من العرف واللغة أن الغرر يعم الجميع، وكل ما فيه جهالة ففيه غرر وخطر
على الظاهر، ولا وجه لدعوى العموم من وجه. نعم، على ما ذكره من الوجه
يصير (3) المجهول المعلوم الحصول خارجا عن الغرر، والمعلوم المجهول الحصول
خارجا عن المجهول، والمجهول المجهول الحصول مورد اجتماع الأمرين.
وقد سبقنا إلى هذا الاعتراض في الجملة بعض المدققين (4) ولكن الإشكال

(1) في (م): فعلى ذلك يكون باب...
(2) في (ن، د): فيشمله.
(3) في (م): يكون.
(4) المراد به - ظاهرا - هو المحقق النراقي قدس سره، انظر العوائد: 33.
317

في أن الشهيد رحمه الله ذكر بعد ذلك: أن الغرر قد يكون بماله دخل ظاهر في العوضين
وهو ممتنع إجماعا، وقد يكون بما يتسامح - كأس الجدار واشتراط الحمل - وهو
معفو إجماعا، وقد يكون بينهما، وهو محل الخلاف، كالجزاف في مال الإجارة
والمضاربة (1).
وظاهر كلامه هذا: أن هذه الثلاثة من أفراد الغرر، مع أن الجزاف في مال
الإجارة ومال المضاربة عبارة عن عدم العلم بالمقدار، وهو عبارة عن المجهولية،
وقد ذكر أن الغرر عبارة عن الجهل بالحصول لا الجهل بالصفة، فكيف عد من أفراد
الغرر ما هو من المجهول؟ فبين كلاميه تدافع واضح لو كان المراد ما ذكرناه.
وبعد التأمل يظهر: أن مراد الشهيد رحمه الله من عد المجهول خارجا عن الغرر ليس
بالمعنى الذي ذكرناه، بل الظاهر أنه يريد اعتبار الحيثيات، بمعنى: أن الغرر لما
كان عبارة عن الخطر فيكون معناه عبارة عن الأقدام على شئ لا يعلم منه
حصول المقصود، إذ الخطر معناه حصول النقص والضرر وعدم تمامية المطلوب،
والمجهول عبارة عما لا يعلم كما أو كيفا أو معا، ولا ريب أن الجهل بهذا المعنى
مغاير للغرر مباين له، ولكن بينهما عموم وخصوص من وجه بحسب المورد،
فالمجهولية شئ والغرر شئ آخر، غاية ما في الباب: أنه قد يجتمع في الشئ
غرر مع جهالة، وأما بيان مادة يتحقق فيها الجهالة ولا يتحقق فيها الغرر حتى يثبت
به العموم من وجه بحسب المورد فربما يمثل له بما لو اشترى - مثلا - شيئا مجهولا
بأخس الاحتمالات في المالية - بمعنى أن يبذل في مقابله ما لا يمكن النقصان
عنه في المالية - فإنه لا غرر هنا، إذ لا يحتمل هنا عدم حصول ما يقابل العوض، إذ
كل ما كان فهو يقابل العوض المبذول، والجهالة في المقام موجودة.
وما مثل به الشهيد رحمه الله من مال المضاربة من موارد اجتماع الغرر والجهالة.
ولا مانع منه، إذ إطلاق الغرر عليه من جهة كونه مجهول الحصول بالمقدار
المقصود، بمعنى: أن كل مجهول في المعاملة لا يعلم كونه بمقدار هو مقصود للعاقد،

(1) القواعد والفوائد 2: 138، القاعدة 199.
318

فهو باعتبار المقصود مجهول الحصول وإن كان معلوم الحصول في الجملة، وبعد
حمل الكلام في جهل الحصول على هذا المعنى اتضح (1) اندراج المجهول تحته،
إلا في نحو المثال المتقدم.
ولكن الظاهر: أن الغرر عبارة عن احتمال الزيادة والنقصان اللذين لا
يتسامح بهما (2) عادة، من دون فرق بين أن يحصل الوثوق بحصول ما يقابل
العوض أم لا، فإن الفرس المجهول (3) في أوصافه إذا علم أنه يساوي مائة درهم
على أي نحو فرض، فعلى ما ذكرناه من المثال السابق لا غرر في ذلك إذا اشترى
بمائة، للقطع بحصول ما يقابل الثمن كيف كان، فلا يصدق هنا الجهل بالحصول.
لكن الظاهر دخوله تحت دليل الغرر باعتبار عدم الوثوق بحصول ما يحتمل في
نظر المشتري، ولا دخل لمساواة الثمن في ذلك، إذ لا يكون غرض المشتري
حصول ما يوازي الثمن في العادة، بل المقصود غالبا الاسترباح والأخذ بما
يساوي الأزيد من الثمن، فمتى ما كان مجهولا فيحتمل المشتري فيه
الزيادة ويطلبها على مجرى العادة، فالإقدام على المجهول مع كون المطلوب ذلك
غالبا إقدام على ما لا يوثق بحصوله بالنظر إلى المقصود، وهو معنى الخطر والغرر،
فكل ما هو مجهول داخل تحت دليل الغرر وإن حصل العلم بحصول ما يوازي
العوض المبذول، فتدبر. ولا نحتاج في إبطال معاملة المجهول إلى دليل آخر من
إجماع أو نص.
ورابعها: أنه حكي عن الشيخ رحمه الله أن بيع صبرة بصبرة مجهولة إن ظهر مصادفة
الواقع والتماثل فهو جائز (4) وظاهر كلامه يقتضي أن الغرر عبارة عن الخطر
الواقعي، بمعنى لزوم النقصان والزيادة عما أقدم عليه في نفس الأمر، فلو ظهر
موافقة المقصود وعدم الخطر فلا بأس به

(1) في (م): يتضح.
(2) في غير (م): الذي لا يتسامح به.
(3) في (م): المجهولة، وقد أنث مصحح (م) في هذه الفقرة جميع ما هو عائد إلى (الفر س) من
الضمير والصفة والفعل، ولم نعلم وجهه.
(4) المبسوط 2: 119.
319

هذا (1) لو أريد من كلامه هذا المثالية حتى يطرد الحكم في جميع المقامات،
أما لو أراد ذلك في خصوص المثال المفروض لدليل دل على ذلك في نظره - من
نص ونحوه - فلا بحث على فرض وجود الدليل (2) ولم نقف على ما يفيد جواز
ذلك بالخصوص. وأما قاعدة الغرر فالظاهر أن المراد بها كون المعاملة بحسب
الظاهر عند المعاملة خطرا، ومصادفة الواقع لا دخل لها في ارتفاع الغرر، فلا
يفترق الحال في البطلان بين ما ظهر موافقته للواقع من مساواة العوضين وعدمها.
وخامسها: أن الغرر والخطر بعد ما عرفت معناه أمر عرفي يختلف بحسب
الموارد، ولذلك اكتفى الفقهاء في المعلومية بالمشاهدة مرة، وبالكيل والوزن
أخرى، فإن طرق الاختبار والامتحان تختلف بحسب المقامات، والتفاوت أيضا
يختلف في الأعيان، فقد يكون مما يتسامح في شئ دون شئ، وذلك واضح.
وليس الغرر كالسفه الذي يرتفع بتعلق غرض آخر به، لأن موضوع السفه يتبدل
بتبدل الأغراض، والغرر متى ما تحقق فلا ينفع في الصحة انضمام المصلحة، فلو
رأى العاقد في بيع ما لا يقدر على تسلمه (3) أو شرائه مصلحة لنفسه لا يرتفع الغرر
بذلك، بل هو محكوم (4) بالبطلان، لشمول الدليل وصدق الغرر.
وكما يرتفع الغرر في مسألة المعلومية بما جرت به العادة من طرق الاختبار
والامتحان، فكذلك يرتفع في مسألة القدرة على التسليم، وفي مسألة معرفة
الوجود بما جرت به عادة الناس، فما وثق في العادة بوجوده وبإمكان تسليمه لا
غرر فيه، والميزان في ذلك مجاري العادات، ولا ضابط له في الشرع إلا ذلك. ولا
يعتبر القطع بالوجود والقطع بإمكان القبض، كما أن الشك في ذلك غير كاف، لعدم
الوثوق، فتدبر.
ومن هنا علم: أن بيع الغاصب والمكره ونحو ذلك لا يعد غررا، لأن إمكان
التسليم عرفي ولا دخل للمالك في ذلك، وترقب (5) الإجازة لا يعد خطرا

(1) في غير (م): وهذا.
(2) في (م) زيادة: لكن.
(3) في (ف، م): تسليمه.
(4) في (ن، د) زيادة: عليه.
(6) في (ن، د): وترتب... كترتب.
320

كترقب (1) الرضا في المكره وإن توهم ذلك بعضهم في المقامين.
وبالجملة: الضابط في القدرة على التسليم والعلم بالوجود وبالمقدار هو
العرف، ولا مدخل للشرع في ذلك، ومتى ما تحقق ذلك عرفا فقد ارتفع الغرر
والخطر، فالحكم بالبطلان لا وجه له.
وسادسها: أنه قد ظهر مما ذكر: أن المعاملة على الكلي لا تعد غررا، والمعاملة
على أحد الشيئين أو الأشياء غرر.
وبيان ذلك: أن الكلي أمر موجود على نحو وجود الكلي لا بكليته، بمعنى: أن
الشخص له وجود بوجود الأشخاص، والكلي له وجود بوجود الكليات وإن كان
كيفية الوجود في كل منهما على نحو مغاير للاخر، ووجود كل شئ بحسبه، فلا
يفترق الحال بين المعاملة على الشخص والكلي من حيثية كون كل منهما موثوقا
بوجوده. ومسألة عدم وجود الكلي الطبيعي لا دخل لها (2) في المقام، إذ اعتبار
الوجود في المبيع - مثلا - إنما هو لحصول المقصود منه وعدم ضياع الثمن على
باذله، والكلي بهذا المعنى موجود، إذ أهل العرف يعدون وجود الفرد وجود الكلي،
ولا يقصدون من المعاملة على الكلي إلا تحصيله في ضمن الفرد، ولا يلتفتون إلى
أنه حقيقة موجود أم لا، وهذا المقدار كاف في رفع الغرر.
وكذلك في باب القدرة على التسليم، فإن الكلي مقدور على تسليمه بهذا
المعنى، بمعنى إعطاء الفرد مقدمة له، وهذا هو مقصودهم في الإقباض وإن قيل بأن
الكلي الطبيعي غير موجود. وبعبارة أخرى لا يريدون من المعاملة على الكلي إلا
تسليم أحد أفراده مقدمة له، وهو ممكن.
وكذلك في باب المعلومية، فإن الكلي في عالم كليته إذا وصف بأوصاف
مميزة إلى أن ينتهي إلى حد لا يقع الاختلاف في أفراده بما تختلف به الراغبات
وتتفاوت به القيم عد معلوما، ويرتفع بذلك الغرر، ولا نحتاج في إثبات المعاملة

(1) في (ن، د): وترتب... كترتب.
(2) في غير (م): له.
321

على الكلي إلى (1) التمسك بإجماع أو نص، بل هو جار على القاعدة.
وأما الشبهة في أن المعاملة قاضية بالتمليك، والملكية صفة لا تقوم إلا بمحل
موجود، والكلي لا يعقل وجوده بما هو كذلك.
فوجه دفعها: أن الملكية أيضا كسائر الأحكام الشرعية تحتاج إلى موضوع
في نفس الأمر، ولا تحتاج إلى الوجود الخارجي، فإن قولنا: (لحم الغنم حلال)
حكم شرعي يتعلق بالموضوع النفس الأمري وإن لم يكن الغنم موجودا في
الخارج، وينحل في المعنى إلى أن هذا الحكم ثابت له في الخارج على تقدير
وجوده في الخارج، كما أنه ثابت له في نفس الأمر على تقدير ثبوته في نفس
الأمر.
وبالجملة: فلا مانع من تعلق المعاملة بالكلي من حيثية الغرر أو من حيثية
الملك لو لم يمنع مانع آخر، كالكلي الغير الموجود، أو غير المقدور على تسليمه
كسمك موصوف في البحر، أو غير معين ككلي مجهول أو موصوف بما لا يرفع
الغرر، فإن ذلك كله ليس من جهة الكلية، وإنما هي أمور تفرض في الفرد
والشخص كما تفرض في الكلي.
وأما الفرد المردد: فإن كان في القيميات - كعبد من عبدين وشاة من قطيع -
فلا بحث في تحقق الغرر فيه، لتفاوت الفردين بما لا يتسامح به فيتحقق الجهالة
ولازمها الغرر، ولذلك نصوا على عدم جوازه. وأما في المثليات - كصاع من
صاعين من الحنطة ممتازين مع اتحاد الأوصاف نوعا وصنفا - فالظاهر من
الأصحاب أيضا عدم جوازه.
قال المحقق الثاني في جامع المقاصد: لو قال: (بعتك صاعا من هذه) وهو
صاعان صح، ولو فرقهما وقال: (بعتك أحدهما) لم يصح. والفرق أن المبيع في
الثانية واحد غير معين فهو غرر، وفي الأولى كلي غير متشخص ويتميز (2) بنفسه،

(1) في غير (م): على.
(2) كذا في النسخ، والصواب: (ولا متميز) كما في المصدر.
322

ولو قسم الأرباع وباع أحدها لم يصح، ولو باعه قبل القسمة صح (1).
وهنا إشكالان:
أحدهما: أن الغرر قد ذكرنا أنه عبارة عن الخطر، وهو لا يتحقق إلا بعدم
الوثوق بالوجود أو بالتسليم أو بعدم الوثوق بحصول المقصود للجهالة، وفي بيع
الفرد المردد من المثليات مع اتحاد الأوصاف - كما فرضه المحقق الثاني - ليس
شئ من ذلك موجودا لأنه أمر موجود في الخارج مقدور على تسليمه معلوم
الأوصاف بحيث لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلا وجه لتسمية ذلك غررا.
وثانيهما: أن الفرق بين أحد الأرباع المقسومة وبين الربع من المجموع
المركب غير واضح، لأن كلا منهما كلي (2) قابل للمعاملة مضبوط بالأوصاف، فما
الوجه في جواز الثاني دون الأول؟
ويمكن أن يقال: إن الأمر الدائر من الأمرين ليس كليا ثابتا في نفس الأمر
كسائر الكليات المتأصلة الموجودة في ضمن الأفراد حتى يتعلق به (3) المعاملة،
بل هو أمر اعتباري صرف لا ثبوت له في نفس الأمر ولا وجود له في الخارج، فلا
يتعلق به (4) التمليك، فإن أريد من الكلي في أحد الأمرين مفهوم (أحدهما) فهو
غير قابل، وإن أريد الكلي المتأصل الموجود في ضمنهما - كالحنطة الموصوفة
بالأوصاف المفروضة مثلا - فذلك يقتضي عدم الانحصار بذينك الفردين، بل
مقتضاه جواز الإعطاء من أي فرد كان.
فان قلت: فلم جاز ذلك في ربع المجموع؟ فإن المراد به أيضا كلي من هذه
الحنطة لا يجوز الدفع من غيرها بمقدار الربع (5) وإن كان بتلك الأوصاف، فكذلك
فيما نحن فيه نقول: المراد هو الكلي الحاصل في ضمن هذه الحنطة لا غيرها

(1) جامع المقاصد 4: 103، والمؤلف قدس سره قد غير العبارة، وخلط أيضا بين المتن والشرح.
(2) كلي: لم يرد في (ن، د).
(3) في غير (م): بها.
(4) في غير (م): بها.
(5) في غير (م): من غيره بمقدار ربعه.
323

قلت: لو كان المراد كلي الحنطة الموصوفة لجاز أخذ نصف من هذا الفرد
ونصف من ذلك الفرد حتى يصير صاعا من هذين الصاعين، مع أنه في الفرض
غير مراد فإن صاعا من صاعين مقسومين لا يمكن إلا بدفع ذلك أو هذا، ولو لم
يكن لخصوصية المقسومين مدخلية وكان المراد صاعا من هذا المجموع جاز
أخذ بعض من هذا وبعض من ذلك، فيرجع (1) إلى بيع الكلي دون الفرد المردد، وهو
غير الفرض.
والفرق بين الكلي المتأصل في الوجود والكلي الاعتباري: أن الأول متحقق
في الخارج ثابت في نفس الأمر وإن لم يلاحظه ملاحظ ولم يعتبره معتبر، بخلاف
الفرضي، فإنه يدور مدار الاعتبار للمعتبر، فتدبر.
وبالجملة: أحد الأمرين ليس كليا مقررا حتى يتعلق به التمليك، والكلي
المتأصل الحاصل في ضمنهما غير مراد - كما قررناه - فيرجع الحاصل إلى
مدخلية الفرد في ذلك، بمعنى: كون المطلوب إحدى الخصوصيتين، ولا ريب أن
المعاملة حينئذ لا تقع (2) على شئ معين يحصل تمليكه من حين المعاملة، لأن
مفهوم (أحدهما) غير قابل للملك، لعدم تأصله، والكلي المتأصل غير مقصود،
والخصوصية مرددة، فلم يحصل للمشتري ملك شئ بهذه المعاملة، مع أن الإنشاء
لابد من تأثيره من حين العقد. ولا يحتاج في جواز المعاملة على الكليات دون
الفرد المردد إلى فارق من نص أو إجماع، بل كلاهما جاريان على القاعدة.
وهذا هو الوجه في عدم الجواز في الفرد المردد في أي باب كان، حتى في
العقود التي لا بأس فيها بالغرر والجهالة كالصلح، فإنه يجوز على المجهول ولا
يجوز على الفرد المردد بلا كلام، ولو كان ذلك للجهالة لجاز في الصلح.
وبالجملة: هذا الوجه في عدم جواز المعاملة على الفرد المردد - مثليا كان أو
قيميا - جار في جميع الأبواب، ويرجع ذلك إلى فرع من فروع ضبط متعلقات

(1) في (ف، م): فرجع.
(2) في (م): لم تقع.
324

العقود - وقد أشرنا إلى ذلك في بحث المتعلقات (1) - وإن كان يمكن أن يقال: إن
كون ذلك من باب الغرر لا يستلزم جوازه في الصلح، إذ الغرر منهي عنه مطلقا،
خرج في الصلح الغرر والجهالة التي تؤول إلى العلم بمعنى: المعلوم واقعا المجهول
ظاهرا، وأما الجهالة التي لا تؤول إلى العلم - كالفرد المردد الذي لا واقع له معين -
فهو غير جائز في الصلح أيضا.
وبعبارة أخرى: عدم جوازه في الصلح لا يدل على أن العلة في بطلانه ليس
كونه غرريا، إذ لعل ذلك للغرر وهذا الغرر غير جائز في الصلح أيضا، وهذا كلام
موجه.
ولكن البحث في بيان كيفية الغرر في ذلك، وقد مر أن في القيمي لا كلام في
كونه غررا لاختلاف القيم وأما في المثلي: فنقول أيضا كذلك، لأنه بعد ما أثبتنا أن
الكلي المتأصل غير ملحوظ حتى يتعين بكليته ومفهوم (أحدهما) غير قابل
للتمليك، فيرجع الفرض إلى الخصوصية وهي وإن فرضت متماثلة لا يتفاوت
بالمالية، لكن تخير (2) البائع - مثلا - في دفع أي منهما شاء خطر على المشتري،
لأنه لا يدري أن أيا منهما حصل له في إزاء عوضه، وليس غرضه الكلي حتى لا
يلتفت إلى الفرد ويقول: إن أيا منهما حصل لا بأس به لأني أطلب منه الكلي، بل
غرضه الخصوصية، ولا يدري ما حصل له منهما، فهو اقدام على أمر غير معين،
مضافا إلى أن مدخلية الخصوصية تؤدي إلى اختلاف الرغبة، فإن الأغراض لا
تنضبط، ولا ينحصر الغرض في مراعاة المالية، فقد يؤدي غرض البائع إلى دفع
أحدهما ويؤدي غرض المشتري إلى أخذ الاخر، ولا يرد هذا البحث في الكلي،
إذ المشتري بإقدامه على الكلي بنفسه قطع النظر عن الخصوصية، بخلاف المقام.
وبالجملة: الفرق بين المقام وبين الكلي في المثلي بحيث يوجب صدق الغرر
والخطر هنا دون بيع الكلي خفي يحتاج إلى تأمل تام.

(1) لم نقف على موضع الإشارة في البحث المذكور، راجع العنوان: 41.
(2) كذا في (د)، وفي (ن): بتخيير، وفي (ف، م): تخيير.
325

والانصاف: أن الغرر صادق والفارق فارق، ولذا علل المحقق الثاني الغرر
بتعلق الغرض في الفرد (1). وأما بناءا على ما ذكرناه في الوجه الأول فدفع
الإشكال واضح.
وسابعها: أن الأصحاب مع بنائهم على عدم جواز المعاملة على الفرد المردد
في سائر الأبواب - إما للغرر كما في عبارة كثير منهم، وإما لما ذكرناه من الوجه:
من اعتبار كون المحل قابلا لتعلق الملك ونحوه كليا كان أو جزئيا والمفهوم
الاعتباري غير قابل لذلك - ذكروا في بحث الإجارة جواز الاستئجار بأجرتين
على تقديرين، كنقل المتاع المعين في يوم الجمعة بدرهم ونقله في يوم الخميس
بدرهمين، وخياطة الثوب روميا بدرهمين وخياطته فارسيا بدرهم، فإن كان ذلك
لاجماع منهم على الجواز هنا بالخصوص فلا بحث مع أنه غير ثابت وإن كان
لنص في الباب كما نقلوه فلا بحث أيضا، مع أن النص المعتبر غير دال والدال غير
معتبر، وكلاهما غير قابلين لتخصيص القاعدة، كما أورده الشهيد الثاني رحمه الله وقال:
أنه لا فرق بين المقام وبين البيع بثمنين إلى أجلين، فكما حكموا ببطلان ذلك
فليحكموا بالبطلان هنا أيضا (2) وبالجملة ليس هنا دليل يدل على الجواز حتى
نخرج (3) به عن القاعدة.
وهذا البحث وارد عليهم لو جعلنا معاملة الفرد المردد فاسدة من جهة كونها
غررا كما نقلناه عنهم، فإن المقام أيضا داخل تحت الغرر، ولا فرق بينه وبين البيع
بثمنين إلى أجلين، وكذا لو جعلنا البطلان من جهة عدم قابلية الفرد المردد
للتمليك، فإن المقام أيضا منه، فالفرق غير واضح.
والذي يختلج بالبال هنا أن يقال: إن البيع بثمنين إلى أجلين غير جائز من
جهة أن المبيع الواحد لا يمكن أن يكون له ثمنان، فليس الغرض البيع بكل من

(1) راجع ص: 223.
(2) الروضة 4: 334، المسالك 5: 182، والعبارة منقولة بالمعنى.
(3) في (ن، د): يخرج.
326

الثمنين، وإلا لزم على المشتري دفعهما معا مع أنه ليس كذلك، وليس الغرض
واحدا معينا، فلزم فيه الغرر، لعدم العلم بما يحصل في إزاء المبيع وهو الخطر،
وليس ذلك إلا كالبيع بعشرة دراهم أو دينار، ويجئ فيه أيضا الوجه السابق: من
أن التمليك يحتاج إلى محل معين كلي أو جزئي، وهو هنا منتف، فلم يؤثر العقد
في تمليك شئ، أصلا، ولازمه البطلان. ولكن في الإجارة ليس كذلك، فإنهما
عملان مستقلان جعل بإزائهما أجرتان، وكلاهما مورد للإجارة.
فنقول: أن الغرض (1) الاستئجار بكل من العملين بكل من الأجرتين فيكون (2)
إجارتين مستقلتين، وليس هنا فرد مردد حتى لا يكون قابلا للإجارة، إذ
المقصود: كل منهما، لا أحدهما، ولا يلزم غررا أيضا، إذ المعلوم من ذلك تمليك
كلتا المنفعتين بكلتا الأجرتين، غاية ما في الباب: أن بإتيان أحد العملين تبطل
الإجارة على الاخر لفوات المحل، لعدم إمكان خياطتين لثوب واحد، ونحو ذلك.
وبعبارة أخرى: قصد كل منهما وإن فات أحدهما بعد إتيان الاخر لفوات المحل.
ولا يرد هذا البحث في بيع شيئين بثمنين كما لو قال: (بعتك الفرس بدرهم أو
السيف بدينار) فإنه غير جائز، لأنه إن قصد كلا منهما فلابد من وقوعهما
وحصولهما لعدم منع الجمع، فلا بد من إرادة أحدهما، ولازمه البلان.
وبالجملة: فوات أحدهما في الإجارة ليس من قصد المتعاقدين، بل للتعذر
الخارجي بحيث لو فرض الإتيان بكلا العملين لاستحق الأجرتين بمقتضى
الإجارة، لكن ذلك في الخارج غير ممكن، لا أن الإجارة تعلقت بواحد لا بعينه.
وهذا وجه مليح وإن لم يتعرض له أحد من الأصحاب فيما أعلم، والله العالم
بالحقائق.
وهنا أبحاث اخر أعرضنا عنها اشتغالا بالأهم، واتكالا على تنبه الفقيه
المتدرب في الفن، فتدبر.

(1) في (ن): الفرض.
(2) في (ن، د): فتكون.
327

[العنوان الثامن والأربعون]
[في أن التعليق من المبطلات
في العقود والايقاعات]
329

عنوان
[48]
من جملة المبطلات للمعاملات ابتداءا - عقدا كانت أو إيقاعا - التعليق، ولا
ريب في كونه مبطلا، وقد اتضح ذلك مما ذكرناه في بحث اشتراط التنجيز (1) وإنما
البحث في أن إبطال التعليق هل هو لمانع عقلي أو أو شرعي؟ والمسألة
تحتاج إلى رسم مقدمات:
الأولى: أن الإنشاء بمعنى الأحداث والإيجاد، والمراد به علة تكون واسطة
بين الفاعل المختار وآثاره، سواء كان [الفعل] (2) من أفعاله القلبية أو الخارجية.
وتوضيحه: أن القيام هيئة للشخص مخصوصة، فإذا أراد أن يوجده يقتضي
حركة تكون علة لوجود القيام وهي المسماة بالإيجاد والإنشاء، فإذا جعل يتحرك
يقال: (إنه يوجده وينشؤه) فإذا حصل القيام يقال: (أنشأه وأوجده) وما لم
يحصل يقال: (لم ينشئ) وإن أوجد بعض العلة، وكذا في الأفعال القلبية، فإن
العزم على شئ، لا يحصل إلا بانبعاث النفس إليه به يعزم وبه يتحقق العزم، فيقال:
(عزم) نظير (قام).
الثانية: أن في كل لفظ (3) يتكلم به المتكلم - كاضرب أو زيد قائم - أمورا

(1) راجع العنوان: 40.
(2) من (م).
(3) في (م): كلام.
330

عديدة: أحدها: اللفظ. وثانيها: معناه الذي وضع الواضع اللفظ بإزائه. وثالثها:
دلالته التي هي أثر من آثاره، وهو جلبه للمعنى من ظرف نفس الأمر إلى ذهن
المخاطب. ورابعها: نفس الصورة المجلوبة التي هي أثر جلب اللفظ الموضوع عند
العالم بالوضع.
ولا ريب أن المتكلم ينشئ بحركة لسانه ويحدث اللفظ، ويتبعه الدلالة
والصورة الحاصلة في ذهن المخاطب تبع المعلول لعلته التامة، فإنشاء اللفظ
والدلالة والمعنى مشترك بين الأخبار والإنشاء، وإنما الفرق بين (اضرب) و (زيد
قام) - حيث يقولون: أن الأول إنشاء والثاني اخبار - في الأمر الثاني، وهو الذي
وضع الواضع هيئة (اضرب) وتركيب الجملة بإزائه، ووجه الفرق: أن معنى الأول:
الطلب القائم بنفس المتكلم، ومعنى الثاني: النسبة الثبوتية بين زيد والقيام في
الخارج، وحيث إن معنى الأول يحدث (1) به سمي إنشاءا، ومعنى الثاني يوجد لا
به سمي إخبارا، لأنه حكاية عن موجود، لا أنه إيجاد وإحداث.
وكذلك في صيغ العقود، فإن معنى كونه إنشاءا كونه موجدا لمعناه وهو النقل
والتمليك وإذا كان إخبارا كان حاكيا عن وجود نقل سابق أو لا حق (2).
الثالثة: أن الطلب بمقتضى فهم العرف وطريقة اللسان هو فعل قلبي أو (3)
ظاهري ينشأ من الميل ليؤدي إلى المطلوب، فمجرد كون الشئ محبوبا عند أحد
لا يستلزم طلبه له، فإن التمني والترجي والاستفهام والنداء والأمر والنهي كلها
أمور زائدة على المحبة والكراهة (4) وهما داعيان إلى طلب الفعل أو الترك بالتفات
قلب أو قول أو إشارة أو غير ذلك، ومعنى الأمر ليس ماهية الطلب، لكون الدال
هيئة موضوعة بالوضع العام لخصوصيات الطلبات (5) فمعنى الأمر: الطلب الخاص،

(1) في (ن، د): الحديث به.
(2) حيث كانت العبارة غير خالية عن مسامحات أدبية، غيرها مصحح (م) بما يلي: فإن معنى
كونها إنشاءا أنها موجدة لمعانيها، وإذا كانت إخبارا كانت حاكية عن وجودها سابقا أو لاحقا.
(3) في (ف، م) بدل (أو): و.
(4) في غير (م): العداوة.
(5) في (م): للخصوصيات، بحذف (الطلبات).
331

لا مفهوم الطلب، وكذلك النقل [والتمليك] (1) الذي هو معنى (بعت) إنما هو النقل
العرفي، وهو خلع علامة المتكلم عن المال وجعلها للمشتري، وهو معنى معقول
قبل الشرع وبعده، ويلزمه الانتقال بحيث يمتنع انفكاكه في الوجود عنه، وهو
ظاهر، غايته: أن الشارع قد يمضي هذا المعنى من حينه، كقولك: (بعت الفرس
بدينار) فيقول المشتري: (قبلت) حيث يكونان وليين، وقد لا يمضي مطلقا كما
في بيع المجهول (2) وقد يمضيه بعد زمان كما في الصرف، فإنه [يمضي] (3) بعد
القبض، وحيث إن الإنشاء فيه معنى الهيئة يرجع أيضا إلى خصوصيات النقل
العرفي، لا مفهومه.
الرابعة: أن [كلا من] (4) الوجوب والاستحباب الحاصلين من الأمر ليس عين
الطلب، وإنما هو صفة للمطلوب من حيث كونه مطلوبا، وظرف حصوله إنما هو
ظرف حصول المطلوب، لترتبه على الطلب وصحة سلبه عنه، ولخلفه (5) عنه في
الواجب من دون طلب (فتأمل) والطلب من دون وجوب، وكونه مدلولا التزاميا
دون الطلب، فإذا كان المطلوب في ظرف اليوم فوجوبه فيه، وإن كان في الغد
فوجوبه أيضا في الغد، وكذلك المملوكية في العقد صفة للعوضين، وظرف وجوده
إنما هو ظرف وجود موضوعه، فالمنفعة المنفصلة عن العقد مملوكة في ظرفها، وإن
حصل السلطنة الان، فالمستأجر مسلط ومالك في ظرف وجوده، والمنفعة مملوكة
ومسلط عليها في ظرفها، فتدبر.
إذا تمهدت هذه المقدمات.
فنقول: الإنشاء بنفسه لا يقبل التعليق، لما عرفت أنه الإيجاد، ومعنى تعلقه
بشئ مترقب: عدمه عند عدمه، فمتى ما علق فلا إنشاء مطلقا، وحيث وجد فلا

(1) لم يرد في (م).
(2) جاءت العبارة في (م) مختصرا، هكذا: غايته أن الشارع قد لا يمضيه لفقد ما اعتبر فيه،
وقد يمضيه من حينه...
(3) من (م).
(4) من (م).
(5) في (ن، د): وتخلفه.
332

تعليق أصلا، وحيث قد تقرر أنه علة للمنشأ لا يتخلف وجوده عن وجوده، فحيث
لا منشأ فلا إنشاء، كما هو الواضح عند الوجدان والمعلوم من معناه عرفا ولغة، وقد
ثبت أيضا بالاتفاق أن معنى الأمر - مثلا - وصيغ العقود هو الإنشاء، وقد مر أن
تسميته بذلك باعتبار حصول معناه به، ظهر أنه لا بد من حصول الطلب عند قولك:
(اضرب) والنقل والملكية عند قولك: (بعت) عرفا، وإلا لزم إما عدم الإنشاء، أو
تخلف المعلول عن العلة التامة، والأول خلاف الفرض، والثاني ممتنع عقلا بعد
فرض كونه علة.
وما يقال: إنه لا ريب في صحة قولنا: (أكرم زيدا إن جاءك) فكيف علق
الطلب على المجئ؟ وهم، لأن الطلب لا ريب في حصوله عند الخطاب، وإنما
المجئ قيد للمطلوب وظرف له وهو الإكرام، فالطلب مطلق والمطلوب مقيد، مثل
قولك: (أريد منك مجيئك غدا) فالطالب طالب الان والمطلوب مفروض غدا لأنه
ظرفه، والمخاطب مطلوب منه الان مجيئه غدا، كما هو ظاهر العرف.
قيل: يلزم عدم الفرق بين (أكرم إن جاءك) و (أكرم وقت مجيئه إياك).
قلنا: كذلك بحسب المعنى، والفرق صوري، وكلاهما يراد به الإكرام المقيد، لا
تقييد الإرادة، ولو فهم منه الثاني كان بمنزلة الخبر عن إرادته ذلك الوقت،
وضرورة اللسان قاضية بالفرق.
قيل: المفهوم عرفا من المثال تعليق التكليف لا المكلف به، وهو الحجة.
قلنا: إن أردت من التكليف الطلب فهو ممنوع جدا، إذ لا يقال في العرف: إنه
ليس بطالب لإكرام وقت المجئ، بل يقال: إنه طالب له، وإن أردت الوجوب فهو
مسلم ولا نزاع فيه، لأنه صفة للمطلوب يتقيد بتقيده، كما قررناه من أنه في المثال
يحصل طلب وطالب ومطلوب منه حالا لمطلوب في زمانه، كما أن في الإجارة
المفروضة يحصل تسليط وتسلط بالفعل لمنفعة في ظرف وجودها.
قيل: يلزمه سقوط التكليف عند عدم وجود الشرط، مع أن الوجدان قاض
بأنه عدم ثبوت لا سقوط.
333

قلنا: إن أريد الطلب فهو ساقط، وإن أريد الوجوب فهو غير ثابت، كما قررناه
آنفا.
قيل: إن أردت إنشاء الطلب الفعلي فممنوع جدا، وإن أردت اللا بشرط أو
التعليقي فلا يجدي، والأمر حقيقة في إنشاء التكليف اللا بشرط، وينصرف إلى
الفعل بقرينة الإطلاق وإلى الثاني بقرينة التقييد، والقسمان لا ينفكان عن إنشائهما،
لاستحالة تخلف المعلول عن العلة، لكن التكليف الفعلي ينفك عن المعلق، لأنه
ليس إنشاءا له وعلة، بل علة ناقصة، فحيث وجد الشرط صار سببا تاما وحصل
الطلب بالفعل، نظير الملك في باب الصرف، فإن العقد هنا إنشاء الملكية معلقة
(لأنه علة تامة لها دون الفعلية، فإذا تحقق القبض صار الملكية فعلية لوجود علتها
التامة بالإنشاء السابق والشرط اللاحق، فكذلك في الطلب حرفا بحرف.
وبالجملة: فهنا إنشاءان ومنشئان معلولان لهما على التوزيع، وليس تخلف
المنشأ الفعلي عن إنشاء المعلق تخلف المعلول عن علته التامة.
قلنا أولا: إنه لا وجه لمنع الطلب الفعلي، مع أن ظاهر العرف حصوله لما
قررناه، وإنما الثاني هو الوجوب لتبعيته لظرف موضوعه.
وثانيا: أن الطلب المعلق على المعدوم معدوم قطعا، فلا معنى لإنشائه، إذ
إعدام العدم ممتنع، والإيجاد من غير وجود لا يعقل، غايته: يصير هناك أهلية
للطلب كما هو ظاهر، وهو كان ثابتا قبل قولك: (اضرب). وليس مرادهم من
إنشاء الطلب إحداث الماهية (2) جزما. فعدم وجود الطلب يسري إلى عدم الإنشاء
وهو خلاف الفرض، أو الأحداث المعلق وهو كذلك، إذ هو ليس بإنشاء كما
قررناه.
والتنظير بمسألة الصرف فاسد، لأن المنشأ هنا النقل العرفي وهو من حين
العقد، غايته: إمضاء الشارع بعد القبض، فليس هنا منشأ معلق، بل المعلق الملك

(1) في (م): فان العقد فيه إنشاء لملكية معلقة.
(2) في (ف، م): إحداث أهليته.
334

الشرعي، وهو غير المعنى.
قيل: الملك العرفي أيضا ينقسم إلى منجز ومعلق، والفرق بينهما كالطلب
التنجيزي والتعليقي، فإذا قيل: (بعتك بشرط أن تعطيني الكتاب) فهنا: لفظ،
وملكية معلقة، وإنشاء هذه المعلقة، وملكية فعلية، وإنشاء هذه الفعلية.
فالثلاثة الأول مقارنة (1) في الوجود، وإلا لزم تخلف المعلول عن العلة،
والأخيران (2) عند حصول إعطاء الكتاب، بمعنى: أن الإنشاء السابق كاف في
فعليته عند حصول الشرط، فيلزمه فعلية الملك، لا أن الإنشاء السابق علة تامة،
وإلا لزم التخلف، بل هو بضميمة حصول الشرط، فثبت أن ذلك ممكن عقلا، وكفى
في إثباته وقوعه في الصرف والسلم، إذ الشارع لا يجعل الممتنع ممكنا.
قلنا: لا يقبل الملك العرفي بعد إنشائه التعليق، لأن الإنشاء هو الأحداث - كما
مر - فإما هو إيجاد للملكية فلزم وجودها قطعا، وإلا فليس ذلك إنشاءا للملكية،
بل هو شئ آخر وهو خلاف الفرض، ونفس الإنشاء غير قابل للشأنية (3) إذ هو
حينئذ لا إنشاء كما قرر، والكلام في حصول المنشأ الفعلي المتأخر بالإنشاء
المتقدم، وحصول الأهلية به غير الفرض، وباب الصرف قد عرفت أنه لم يجعل أثر
الإنشاء متأخرا عنه حتى يلزم جعل الممتنع ممكنا، وإنما الأثر - وهو النقل
العرفي - حاصل من حين الإنشاء، لكن الشارع أمضاه من زمان القبض وألزمه (4)،
ولا دخل له في المقام.
ومع ذلك كله نقول: إن قابل التعليق لو كان إنما هو كلي الطلب، كما في
(اطلب) منجزا، و (5) (اطلب إن جاء زيد) على سبيل الوعد، ومدلول الهيئة إنما
هو الطلب الخاص الحاصل باللفظ (6) فكيف يعقل فيه التعليق؟ إذ الموجود لا يعلق

(1) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: مقارن. والمناسب: مقارنات.
(2) في غير (م): والاخران.
(3) كذا في ظاهر (م)، وفي سائر النسخ: للثانية.
(4) في عدا (م): ألزم.
(5) في (ف، م) بدل (و): أو.
(6) باللفظ: لم يرد في (ن، د).
335

بشئ قطعا، حتى بظرف وجوده.
قيل: يلزم امتناع التعليق في معنى صيغ العقود لو سلم أن الملك هنا بمنزلة
الطلب في الأمر، وليس كذلك، بل هو التمليك والملك بمنزلة الإكرام المتأخر،
فإنشاء التمليك الان، وحصول الملك بعد سنة مثلا أو عند مجئ زيد.
قلنا: هذا اشتباه، فإن إنشاء التمليك إيجاد له بالفعل، والمالكية التي هي عبارة
عن ثبوت صفة الملك معلول للتمليك، فلو تخلف عنه تخلف المعلول عن علته، إذ
لا يعقل التسليط بالفعل من دون حصول التسلط، لأن الانفعال ممتنع الانفكاك عن
الفعل، ومجرد إتيان فعل للتمليك مع عدم الأثر لا يقال: إنه تمليك. وكذا الحال في
جميع المصادر، كما قررناه في المقدمة الأولى.
قيل: فيلزم أن يكون المملوكية أيضا بالفعل، مع أن موضوعها في المنفعة
المنفصلة معدومة. وكيف يوجد العرض بدون الموضوع؟
قلنا أولا: لا يلزمنا ذلك، وإنما هو نظير الوجوب المتحقق في ظرف وجود
المأمور به، فبالتسليط الان يحصل تسلط كذلك على شئ متأخر مسلط عليه في
ظرف وجوده. وثانيا: يرد هذا قبل النقل، فلا ريب أن المؤجر مالك ومسلط عليه
في ظرف وجوده على المنفعة، وكذا البائع للثمار مسلط عليها ومسلط عليها في
ظرف وجودها، فتأمل.
فظهر: أن امتناع التعليق في العقود على الشرط المتأخر عقلي بعد ثبوت كونها
إنشاءات.
وأما التعليق في متعلق المنشأ - كالضرب (1) وثمرة السنة الآتية أو منفعتها - فلا
بأس به على ما قررناه، وهو واقع عقلا وشرعا وعادة.
والحاصل: أن الإنشاء القلبي كالفعل الظاهري، فكما يمتنع نقل كتاب من
مكان إلى مكان اليوم غدا فكذلك يمتنع نقل ملك من مالك إلى آخر اليوم غدا،
وإن أريد الأهلية فهو خارج عن البحث.

(1) في (د): كالصرف، وعلى كلا اللفظين لا يستقيم المعنى.
336

وأما التعليق بالشرط المقارن مع عدم العلم بوجوده، كقولك: (بعتك الحنطة إن
كانت حمراء) أو (وكلتك في بيعها إن كانت حمراء) فهل هذا أيضا ممتنع عقلا
فلابد في بيان جواز ما جاز فيه ذلك إلى تخريج، أو هو جائز، وليس كالتعليق
على الشرط المتأخر، فلابد في بيان عدم جوازه حيث ثبت من دليل؟
ومنشأ البحث: ما يظهر من الأصحاب البطلان في مثال البيع والصحة في مثال
الوكالة، بل حكي عن العلامة الإجماع على بطلان الأول وصحة الثاني (1).
فنقول: الذي يقتضيه النظر أن التعليق على الشرط المقارن غير ممتنع في حد
ذاته في الانشاءات وإن امتنع في بعض المواضع بالعرض كما نبينه (2) إذ غاية ما
يمكن أن يقال: إن الإنشاء قد علم أن معناه الإيجاد، ويمتنع تخلف الوجود عنه، فإذا
قال: (بعتك) يلزمه حصول الملك والتمليك، ومتى علق بكونه حمراء (3) مع الجهل
بالصفة فيحتمل وجودها حتى يتحقق الملك ويحتمل العدم فلا يحصل، مع أن الإنشاء
حاصل جزما، والمنشأ حينئذ محتمل قطعا، وإن هو إلا تخلف المعلول عن العلة.
قلت: أولا: نجيب بالنقض بالوكالة، فإن إنشاء الوكالة علة تامة لحصولها ومتى
جهل كون العبد الموكل في بيعه مثلا في البلد حيث شرط ذلك يحتمل تحقق المنشأ
وهو الوكالة، لكونه على أحد التقديرين، وإن هذا إلا التخلف مع الإجماع على
صحته، والعقل لو ثبت لا يخصص.
قيل: فرق بين الانشاءات، فإن بعضها ليس علة تامة مطلقا، بل يعلق على أحد
التقديرين كما في قولك: (نعم الرجل زيد إن ركب أمس) فإنه إنشاء للمدح على
ذلك التقدير والوكالة من هذا القبل.
قلت: هذا تحكم صرف، إذ البيع ليس إلا تسليط المشتري على المبيع، كما أن
الوكالة كذلك إن كانت مطلقة، غايته: الفرق بالأصلية والنيابة، وهو لا يصلح فارقا

(1) كذا! وقد صرح العلامة بأنه لا يصح عقد الوكالة معلقا بشرط أو وصف، ونسب البطلان
إلى علمائنا، انظر التذكرة 2: 114. ولعل العلامة قال ذلك في مورد التعليق على الشرط
المقارن فقط.
(2) في (ن): كما ينبه.
(3) في (م): ومتى علق بحمراء.
337

فإذا جاز التسليط على التصرف بعنوان الوكالة على أحد التقديرين فلم لا يجوز
التسليط بعنوان المالكية على أحد التقديرين؟ وهكذا الكلام في (نعم الرجل)
وليس الوكالة في (وكلت) إلا كالتمليك في (ملكت) أو كالملك (1) وأنت معترف
بأنه حصل الوكالة جزما لكنه على أحد الاحتمالين، فلنا أن نقول: الملكية حاصلة
لكنه على أحد الفرضين.
قيل: مثل النذر والعهد واليمين مثلا إذا علق فمعناه يرجع إلى إخبار ما - كباب
نعم - فإن معنى النذر: الوعد بشرط، وهو إخبار.
قلنا: قد تقرر أن الإنشاء ما يحصل معناه به، ولا ريب أن الالتزام في النذر
بقولك: (لله علي كذا) لا بالعلم بالشرط ككون المولود ابنا، فإن العلم به لا يؤثر في
الالتزام، وإنما السبب التام هو الصيغة، لكنه على تقديره لا مطلقا.
وثانيا (2): بالحل، وهو ببيان مقدمة، هي: أن في البحث السابق - وهو التعليق
بالمتأخر - شيئين: أحدهما: تردد الشرط بين الوقوع والعدم، فيردد الملك بين
الوجود والعدم. وثانيهما: أنه على تقدير وجود الشرط يكون الملك من حين
حصول الشرط لا من حال العقد، فإن موضوع البحث هناك كان في إيجاد الملكية
بعد سنة بالإنشاء الحال، وليس منشأ الامتناع الوجه الأول، وإنما هو الثاني
بشهادة أنه لو قطعنا بأن الشرط سيقع لا يكون صحيحا أيضا، لتأخر المعلول عن
العلة، وهو العقد الموضوع لإيجاد الملك اتفاقا، ولو لم يكن كذلك لما حكمنا
بالامتناع بمجرد التردد، إذ العقل لا يمنع منه كما في الشرط المقارن المجهول.
وتوضيحه: أن الشرط حينئذ ينحل إلى الوصف، ويقصد بقوله: (بعتك هذه
الحنطة إن كانت حمراء) نقل هذه الحنطة الحمراء، ومن المعلوم: أن العقد إنشاء
للمقصود، وعلة تامة لنقل متعلقه، فإذا قال: (بعتك الفرس) لا ينتقل الحمار بداهة،
ولا يلزم تخلف معلول عن علة أصلا، فإذا كان المقصود من العبارة ذلك، فإن كان

(1) كذا في النسخ.
(2) أي ثانيا نجيب بالحل، تقدم أوله بقوله: نجيب بالنقض.
338

في الواقع حمراء فقد ورد العلة على معلوله (1) ومضى (2) من غير تخلف، وإن لم
يكن كذلك لم يكن هنا علة، بل يكون مثل قولك: (بعتك) مكان (أنكحتك) أو
(بعتك الفرس) مكان (بعتك البقر)، فكما أن تخلف ذلك عن هذا لا يمتنع - إذ ليس
معلولا له فليس العلة علة بالنسبة إليه - فكذلك بيع الحنطة إن كانت حمراء علة
لانتقال الحنطة الحمراء، فإذا انتفى الموضوع انتفى العلية، ولا يلزم التخلف، وإذا
وجد وجد بالعلة، غايته أنك لاتعلم بأن العلة والمعلول تحققا جزما أو بطلا جزما،
فهنا أمور ثلاثة: تحققهما في الواقع وهو ممكن، وبطلانهما في الواقع وهو ممكن،
وجهلك بالواقع وهو ممكن أيضا بل واقع، فالممتنع العقلي هنا أي شئ؟
قيل: إن النقل معنى نفساني، فإذا لم يعلم أنه يقع أم لا يقع، فكيف يجعله
النفس؟
قلت: لا ريب أن النفس ينقل المقصود جزما وهو الحنطة الموجودة الحمراء،
فإذا علم خلافه سقط العلية، فإن النقل ليس إلا التسليط، وهو مسلط له على هذه
الحنطة الحمراء جزما، كما أن التوكيل تسليط على المال جزما لو كان كذا، وليس
ظهور خلافه إلا الكشف عن عدم (3) العلية بالنسبة إلى ما هو الموجود، لا تخلف
المعلول عن علته.
قيل: فلم لا تقول (4) في البحث السابق كذلك؟ فإن (بعتك إن جاء زيد) علة
للنقل الموجود حالة المجئ، لا أن العقد لأنه المقصود (5) والمفروض - كما
اعترفت (6) به - وقوع صيغ العقود على المقصود، فعدمه الان ليس من تخلف
المعلول، بل لعدم العلية.
قلنا: فرق بين المقامين، لأنه قد ثبت علية الصيغة لإنشاء معناه (7) وهو النقل

(1) كذا، والظاهر أن المناسب: وردت العلة على معلولها.
(2) الظاهر، فاعله: العقد.
(3) كلمة (عدم) لم ترد في (ف، م).
(4) في (ن، د): لا نقول.
(5) كذا في النسخ، والعبارة لا تخلو من قصور.
(6) في (ن، د): اعترف.
(7) الظاهر تذكير الضمير باعتبار رجوعه إلى البيع.
339

وقيد المجئ ليس من معناه، فقد يؤتى به وقد لا يؤتى، فثبت أن معناه نفس النقل،
وهو معلول للصيغة، للاتفاق على أنها لانشائه، فتخلفه عنه تخلف المعلول، بخلاف
المنقول فإنه محتمل لوجوده (1) والصيغة وضعت لأحداث النقل الفعلي لما قصد
نقله للتبعية القصد إجماعا، وحيث انتفى، المقصود انتفى الإنشاء بفوت المنشأ، ولا
تخلف، كما أنه لو وجد أثر من حينه بلا فصل، بخلاف البحث السابق، فإنه لو لم
نقل بما مر لزم القول ببقاء الإنشاء والعلة وتأخر المعلول وهو النقل، وإن هذا إلا
عين المحال.
ونظير ما نحن فيه شبح تريد ضربه بسيف ولا تدري أنه إنسان أو شجر، فإذا
ضربت رأسه بالسيف القاطع فقد أتيت بعلة القتل على تقدير كونه إنسانا، مع أنه لو
انكشف أنه شجر لم يلزم التخلف، لعدم تحقق فرض العلية، فأنت قاتل لو كان
إنسانا جزما، ومجرد الجهل بالواقع لا يوجب عدم إمكان صدور العلة التامة من
الفاعل المختار، وقد اعترف الخصم بكون النقل النفساني كالأفعال الخارجية لا
يجوز تأخر أثره عنه، ونرى بالعيان صدور العلة من الفاعل المختار مع الشك في
أنه موردها أم لا، نظرا إلى كونه جازما بالتأثير على أحد التقديرين، وإن هذا إلا
كما نحن فيه.
وربما يتوهم أن الانشاء جزم بالنقل فمتى ما تردد بين احتمالين: أحدهما قابل
للنقل والاخر غير قابل يمتنع الإنشاء والجزم، وما يتراءى من وقوعه في الوكالة
والنذر فمن جهة أنهما ليسا على حد سائر الانشاءات، لرجوعهما إلى نوع وعد
وإخبار.
ولكن نقول: قد بينا أنه لا يلزم من القول بالامتناع في البحث السابق القول به
هنا، لأن المناط لم يكن تردد الحصول، بل من جهة تأخر المعلول، وهو هنا منتف،
لأنه على أحد التقديرين أثر ومؤثر متقارنان، وعلى الاخر لا أثر ولا مؤثر بمعونة
ما قررنا: أن الانشاء علة لما قصد نقله لا مطلقا، والفرض انتفاؤه، فما ألزمنا به

(1) في) ن، د): لوجوه.
340

الخصم من أنه يلزمك من القول به هناك القول به هنا فاسد جدا.
فبقي الكلام فيما ذكره وجها للامتناع، وهو عدم حصول الجزم مع احتمال
فقد المقصود، وقد سبق فيه بعض الكلام.
فنقول: نفرض المسألة في صيغة البيع الاحتياطي والنكاح الاحتياطي
وهكذا... مع أنه لم يقل أحد بامتناعه، فإذا جرت الصيغة أولا ثم شك في صحته
فلا ريب أن الشك لا يستلزم فساده، بل يحتمل كونه في الواقع صحيحا مملوكا
للمشتري، وكذا في النكاح، مع أن الأصل وقوعه صحيحا بعد الفراغ، للقاعدة
السابقة في محلها (1) فإذا أريد إجراء الصيغة ثانيا احتياطا فمعناه: أنه جازم للنقل
لو لم ينقل بالعقد السابق، لاستحالة تحصيل الحاصل.
فإما أن تقول: بأنه لا جزم على النقل والإنشاء - فمع أنك كابرت الوجدان -
يرد عليك: أنه كيف يكون احتياطا؟ لأنه باطل حينئذ. وإن قلت: بأنه إخبار كما
في النذر، قلنا: هذا بيع فإذا كان إخبارا كان الكل كذلك، فأي فرق بين الصيغة
الأولى والثانية؟ وإن قلت: إنه غير معقول خالفت ضرورة أهل العقول، ومن قال
بعدم جوازه - لو كان - لم يقل من جهة الامتناع العقلي، بل من جهة الشرع.
وإما أن تقول: بأنه جزم فقد أصبت الحق وثبت المدعى.
وكذلك في الطلاق مع الشك في بقاء الزوجة (2) مع أنه لا كلام في صحته
فضلا عن تعقله (3).
فإن قلت: هذا بالاستصحاب. قلت: لو حصل الظن بالموت أيضا يصح.
فإن قلت: لا يضر، لأن الحجية بطريق التعبد لا من باب الوصف، وهو الظن،
قلت: الجزم على الانشاء أمر نفساني واقعي لا يناط تحققه بالشرع،
والاستصحاب وإن أفاد الظن لا يرفع الاحتمال، والنفس متردد (4) محتمل للوجود
والعدم، فإن كان الجزم معه غير معقول فالشرع لا يجعله ممكنا.

(1) راجع ج 1، العنوان: 5.
(2) في نسخة بدل (م): الزوجية.
(3) في (ن، د): تعلقه.
(4) في (ن، د): مردد.
341

فظهر أن الشرط المقارن لا مانع من التعليق به إذا أمكن التعليق في المقام، ولا
منافاة فيه نوعا، وإنما البحث في أن فساد قولك: (بعتك الحنطة إن كانت حمراء)
هل هو من جهة دليل تعبدي ومانع شرعي، أم لا؟
فنقول: الظاهر أن التعليق فيه ممتنع عقلا وإن جاز في الوكالة، وبعبارة أخرى
نقول: التعليق بالشرط المقارن غير مناف للإنشاء كالمتأخر وإن كان يمتنع لوجه
آخر، وبيان امتناعه هنا يتحقق ببيان أمور:
أحدها: أن التعليق توقف شئ على شئ، وذات الأمور الخارجية والنفس
الأمرية ولو معدومة لا يعلق بشئ، وإنما المعلق وجوده (1) لا نفس الماهية، وليس
في ذلك فرق بين الأعيان والمنافع والأعمال الاختيارية والاضطرارية.
وبالجملة: كل ماهية معقولة يمتنع توقفها بنفسها على شئ، بل وجودها، وإذا
كان موجودا فلا يقبل التعليق حينئذ أصلا، إذ الموجود ما حصل وجوده، والحاصل
لا يعلق، وتوقف الاستمرار على شئ آخر غير ما نحن فيه.
وثانيها: أن الفعل الصادر عن الفاعل ما لم يصدر عنه قابل للتعليق والتنجيز،
وبهذا الاعتبار يتعلق به الأحكام الوضعية والتكليفية، كما يجوز للمولى أن يقول
لعبده: (أطلب منك بيع هذا الشئ) يصح أن يقول: (أطلب منك بيعه في اليوم
الفلاني) ومتى ما صدر عن الفاعل فغير قابل للتعليق مطلقا، والمراد بكون اليوم
قيدا للبيع: كون وجوده المطلوب في ذلك اليوم، فإن الماهية بنفسها لا تعلق.
وثالثها: أن أسماء الأفعال - كالقيام والضرب والتمليك - المعبر عنها بالمصادر
لا تطلق إلا بعد وجود الماهية الموضوع لها في الخارج بوجود المقتضي ورفع
الموانع، فلو أتى زيد بشئ مقتض لحصول الضرب فحجب عنه مانع لا يقال:
(ضرب) وكذا نظائره، فإنها اسم (2) للأفعال، لا للملكات والاستعدادات، سواء كانت صرف قابلية كالضرب قبل وجود المقتضي سنخا، أو استعدادا قريبا كما لو وجد

(1) كذا في النسخ، والمناسب: لا تعلق بشئ وإنما المعلق وجودها.
(2) كذا، والظاهر: أسماء.
342

المقتضي ولم يرتفع المانع، فإن له حينئذ أهلية للوجود أشد من الأول بحيث لو ارتفع
المانع لحصل، فكما أنه لو كان بيد شخص نار فحرك يده ولم يلقها إلى البساط لا
يقال: أحرقه، وكذا لو ألقاها ولم تقع عليه، وكذا لو وقعت عليه ولكنه مبلول بالغيث
بحيث يمنع من تأثير النار لا يقال: هذا إحراق، ولا أنه أحرقه فتوهم إطلاق هذه
الألفاظ على إراداتها أو على مقتضياتها - بالكسر - فاسد جدا واشتباه مطلقا.
ورابعها: أنه قد يوجد لفظ وضع لمعنى الاستعداد والقابلية كهذين (1) اللفظين،
أو لقابلية مخصوصة كأسماء الملكات الخاصة من الصناعات ونحوها، ومثله كون
العبد مدبرا - أي: مستعدا للعتق - بعد الوفاة، ووجود هذه الملكات إنما هو بنحو
وجودها الخاص، وهو الأهلية، وإيجادها إنما هو إيجاد الأهلية، ولا تطلق ألفاظها
أيضا إلا على معناها (2) بعد وجودها، وإن كان ملكة، فإن الصياغة لا تطلق إلا على
القوة الراسخة الحاصلة، لا على الواسطة بين حصولها وعدمها، كوجود المقتضي
مع المانع. ولفظ (الأهلية) يطلق عل الأهلية الحاصلة، لا على أهلية الأهلية.
وخامسها: أن إيجاد الأفعال إن كان متعديا يكون بنفسه، فإن إيجاد الضرب
هو الضرب لاعتبار معنى الإيجاد في مفهومها، فإن القتل إيجاد شئ يزهق
الروح، والذبح، إيجاد شئ يوجب فري الأوداج، ومجموع الإيجاد والموجد هو
القتل والذبح. وإن كانت لازمة يكون بأمر وراء مفاهيمها، فإن القيام ليس إلا الهيئة
المخصوصة، وليس في معناه الإيجاد، وإيجادها حركة توجب حصولها في
الخارج تحقق القيام، وقس عليه في نظائره.
وسادسها: أن الإنشاء قد ذكر أنه الإيجاد، فلو تعلق بالأفعال اللازمة فقلت:
(أنشأت القيام) معناه: تحرك حركة تترتب عليها هذه الهيئة، ولو لم تترتب هذه
الهيئة على تلك الحركة لا يسمى إنشاء قيام، لأن الإنشاء المعين أيضا من
المتعديات التي لا يتحقق مفهومها إلا بحصول أثرها المقصود، كما مر في
الإحراق. ولو تعلق بالأفعال المتعدية فإنشاؤها نفس حصولها في الخارج، فإنشاء

(1) في (ن): لهذين، وفي (د): بهذين.
(2) في (ن، د): معانيها.
343

البيع بحصوله، وانشاء التمليك بحصوله، والوجه ما مر.
وكذلك تعلقه بالنسبة إلى الأمور الشأنية، فمعناه: إحداث الشأنية بحيث يحصل
به الأهلية. وتعلقه بالأمر الفعلي: إحداث الفعل، وذلك كما مر في اللازم والمتعدي.
إذا عرفت هذا، فنقول: ينبغي على هذا ملاحظة الصيغ الموضوعة للإنشاء
طلبية وغيرها، إذ بعد ما علم أن الصيغة موضوعة للإنشاء فيمتنع تخلف مدلوله
عنه، ولا يقبل بنفسه التعليق، فلابد أن يلاحظ أن المراد من معانيها الأمور الشأنية
أو الفعلية، فيحكم على كل بمقتضى ما قرر في المقدمات. وكذا لابد أن يلاحظ
متعلقات المنشآت أنها أعيان أو منافع أو أفعال حتى يعلم أنها تقبل التعليق أم لا.
فنقول: إن معنى صيغة البيع وكذا الصلح وكذا الهبة وكذا الإجارة - ونحوها من
العقود الناقلة لعين أو منفعة - هو إنشاء النقل، فيمتنع انفكاك النقل عنه بحسب
معناه، كما قررناه.
فلو قال: بعتك أو صالحتك أو وهبتك الحنطة إن كانت حمراء أو آجرتك هذا
العبد سنة إن كانت منفعته خياطة وهو لا يعلم بالأمرين، فإما أن يعود هذا التعليق
على نفس النقل الذي هو المنشأ فهو ضروري الاستحالة، لأن النقل وجد بقولك:
(بعت) عرفا، لأن إنشاءه بوجوده كما في الضرب، فالنقل حصل وحصل الجزم به.
وإن عاد إلى الحنطة، فنقول: قد قررنا أن الماهية بنفسها لا تعلق، ووجودها أيضا
بعد حصوله كذلك، والمفروض أن الحنطة موجودة إما حمراء أو غيرها في الواقع،
وعلى التقديرين يستحيل تقييد الحنطة الموجودة بوصفها وتعليقها به، والإجماع
على بطلانها من جهة ذلك.
فإن قلت: فلم لا يستحيل التعليق بالعين في قولك: (ائتني بهذا الماء، إن كان
باردا)، إذ هو تقييد للماء لا للأمر؟
قلت: هنا أشياء ثلاثة: الطلب (1) الذي أنشأته (2) وهو موجود يمتنع تعليقه،

(1) في (م): القلب.
(2) في (ن): انشائه.
344

والماء وهو كذلك، وإتيان المخاطب الذي هو المطلوب، والقيد إنما هو له وهو بعد
لم يوجد، وهو قابل للتعليق، فحاصل المعنى: طلب بالفعل لإتيان المخاطب المعلق
ببرودة هذا الماء، وقس عليه كل الطلبات والواجبات المشروطة بالشرط المقارن
أو المتأخر، وليس في شئ تعليق في المنشأ ولا في الشئ الموجود، وإنما هو في
فعل المخاطب الذي لم يحصل حين الطلب، وكذلك الكلام في (آجرتك المنفعة إن
كانت خياطة) مثل البيع، إذ ليس هنا إلا شيئان: المنشأ وهو نقل المنفعة الغير القابل
للتعليق، والمنفعة كذلك، وليس شئ ثالث قابل له، فيمتنع هذا التعليق.
فإن قلت: فما تقول في البيع الاحتياطي والنكاح والطلاق؟ إذ ليس هنا شئ
كذلك.
قلت: لا ريب أن معنى البيع والطلاق يحصل بذلك عرفا وهو النقل والخلع،
لأنه كيفية نفسية ومعنى عرفي، واحتمال الانتقال بالعقد السابق غير مضر في
تحققه، إذ هو يتحقق (1) مع عدم المتعلق أيضا، فإذا باع شخصا معدوما فقال: (لي
فرس في البيت أبيعك إياه) فقال: (بعت) (2) وقال الآخر: (قبلت) فعلم بعد ذلك
عدمه يصدق النقل العرفي النفساني، ولهذا يقال: إنه باع الفرس ثم علم أن الفرس
غير موجود، غايته: أنه لا يترتب عليه أثر على ذلك التقدير، لا أنه لا يحصل (3)
المعنى العرفي أصلا. وبالجملة: يتعقل هذا المعنى (4) في المعدوم فضلا عن
المشكوك، فتأمل.
ولو قصد بقوله: (طالق) قيد الوجود أو قال: (هي طالق إن كانت موجودة)
فلا يمكن كونه للطلاق الذي أنشأه المطلق، لأنه أمر نفساني يوجد بقوله: (هي
طالق) ولا يمكن أن يعلق بشئ. نعم، هو قيد لترتب الأثر في الواقع، ولا يفترق
الحال بين ذكره وعدمه، بل ذكره مبطل موهم لخلاف (5) المدعى.

(1) في (ن، د): متحقق.
(2) في (ن، د): بعتك.
(3) في (م، ن): لم يحصل.
(4) العبارة في (ف، م): يتعلق هذا في المعدوم.
(5) في (ن، د): بخلاف.
345

فإن قلت: فما تقول في الوكالة؟
قلت: نظير الأوامر، لأن فيه أيضا ثلاثة أشياء: التسليط، والتسلط، وهما
حاصلان غير قابلين للتعليق، والتصرف الذي هو متعلق التسلط، وهو بعد لم
يحصل، فيمكن تقييده وتعليقه، ويكون المراد: وكلتك، أي: سلطتك على التصرف
في الحنطة إن كانت حمراء، فهو قيد للتصرف: كالإكرام في أكرم زيدا إن جاءك.
ولذا قال الشهيد رحمه الله في اللمعة: ولو جعله قيدا للتصرف صح (1) مع اشتراطه
التنجيز في الوكالة.
فإن قلت: ما تقول في النذر والتدبير والظهار والإيلاء والمكاتبة واللعان؟
فإنها تصح بالشرط والتعليق، ويتأخر الأثر أو يقوم الاحتمال، مع أن القول بالصحة
في بعضها إجماعي، وفي بعضها قول بها معروف، كما نص عليه في اللمعتين (2).
قلت: قد سبق منا في المقدمات: أن الإنشاء يمتنع تخلف المنشأ عنه، لكن
المنشأ له أقسام.
فنقول: النذر إنشاء التزام بإتيان شئ أو إعطاء شئ، فالمنشأ - وهو الالتزام -
قطعي الحصول بالإنشاء غير معلق، وإنما المعلق هو الأمر الثالث وهو الملتزم به.
وكذلك اليمين، فإن فيهما (3) شيئا ثالثا هو متعلق المنشأ غير موجود قابل
للتعليق.
وكذلك التدبير ليس معناه إنشاء العتق حتى يقال: أنه كيف يتأخر إلى ما بعد
الوفاة؟ بل هو إنشاء الأهلية، وهو كون العبد مستحقا للعتق بعدها، إذ هو معنى
المنشأ في صيغة التدبير، وهو حاصل من حين العقد ولا تعليق، الا ترى أن العتق

(1) اللمعة: 166 (أوائل كتاب الوكالة).
(2) في نسبة التنصيص بذلك إلى اللمعتين في الموارد المذكورة تأمل، خصوصا في مسألة
اللعان، مع أنه لا ربط لها بمسألة التعليق في الإنشاء أصلا انظر اللمعة وشرحها (الروضة
البهية) 3: 39 كتاب النذر. و ج 6: 320 كتاب التدبير، و 128 كتاب الظهار، و 155 كتاب
الإيلاء، و 347 كتاب المكاتبة، و 203 كتاب اللعان.
(3) كذا، والظاهر: (فيها) لرجوع الضمير إلى اليمين فقط.
346

بنفسه لا يعلق إجماعا؟ فإنه فك ملك كالوقف في بعض الوجوه، وهو كالعقود
الناقلة، وليس فيها شئ ثالث قابل للتعليق، ولا نفس معناه أمر شأني حتى يؤخر،
بل هو كسائر الأفعال معنى فعلي لابد من تحققه في إنشائه كما مر في المقدمات.
وكذا الإيلاء: إنشاء الحلف، والتعليق في متعلقه من فعل أو ترك غير موجود
قابل للتعليق.
وكذا المكاتبة: إيجاد الأهلية، وهي حاصلة غير معلقة، وإنما المعلق الفك،
وهو غير المنشأ بالعقد.
وكذا اللعان: دعاء على اللعنة، وهي معلقة على الصدق والكذب، لا أصل الطلب.
فتلخص من ذلك: بيان معرفة ما هو قابل للتعليق وما هو غير قابل، ومعرفة ما
ينبغي أن يعلق عليه وما لا ينبغي، واتضح أن عدم الجواز في أي مقام كان إنما هو
لعدم الإمكان، وليس لخصوص دليل تعبدي.
وفي المقام مباحث متعلقة بالكلمات السابقة أعرضنا عنها مخافة الأطناب،
والغرض من ذلك كله: إبداء ما يتخيل من طرق الكلام في الباب، والنبيه لا يخفى
عليه شئ بعد التنبيه.
347

[العنوان التاسع والأربعون]
[قاعدة نفي السبيل]
349

عنوان [49]
من جملة المبطلات للعقود: قاعدة نفي السبيل للكافر على المسلم، وهذه
القاعدة كثيرة الفروع، ولا تنحصر في إبطال بعض العقود، بل لها فروع اخر تترتب
عليها. والبحث هنا يقع في أمور:
أحدها: الإشارة إلى ما يترتب على هذه القاعدة من الفروع المذكورة في
أبواب الفقه حتى يكون الباحث على بصيرة.
منها: عدم ثبوت الولاية للكافر، حيث ترجع الولاية على مسلم والتحكم
عليه، فلا عبرة بإذنه في أحكام الأموات، لأنه لا ولاية له، ولا أولوية له في
الميراث.
وعدم ثبوت حق له في ذمة المسلم من جانب الله تعالى - من زكاة أو خمس
أو كفارة أو نحو ذلك من الحقوق - ما لم يصدر سبب الضمان من نفس المكلف من
استدانة أو وصية أو وقف أو نحو ذلك، وهذا سر اشتراط الإسلام في المستحقين.
وعدم اشتراط صحة نذر الولد ونحوه من العهد واليمين على إذن الوالد الكافر
في وجه، وكذا كل من يشترط إذنه في عبادة - كالزوج ونحوه - وفي الماليات
مسألة أخرى.
وعدم لزوم إطاعة الكافر في مقامات لو كان مسلما لوجب.
وعدم نفوذ قضاء الكافر وإن جمع سائر الشرائط.
350

وعدم جواز توليه (1) للوقف المتعلق بالمسلمين.
وعدم جواز تملكه للمسلم بشراء أو صلح وهبة وإصداق، أو نحو ذلك من
دفع عوض دين أو ضمان. وبعبارة أخرى: كل سبب اختياري ناقل للملك إلى
الكافر، فإنه غير صحيح. كما أنه لو ملك بسبب قهري - كالإرث لو قلنا به - أو كان
المملوك كافرا عند كافر فأسلم المملوك يباع على مالكه قهرا ولا يقر يده عليه.
وعدم جواز إعارة المسلم للكافر ورهنه عنده ولا إيداعه له في وجه مبني (2)
على أن الاستنابة في الحفظ سبيل.
وعدم جواز حوالة الكافر على المسلم في وجه وإن ضعف.
وعدم ولايته على صغير أو مجنون أو سفيه في نكاح أو مال.
وعدم جواز استئجاره للمسلم في عينه وإن جاز في ذمته.
وعدم جواز إجارة العبد المسلم له.
وعدم جواز وكالته على مسلم لكافر أو مسلم.
وعدم جواز وكالته في بيع عبد مسلم مرهون أو غيره.
وعدم ثبوت شفعة له إذا كان المشتري مسلما وإن كان البائع كافرا.
وعدم جواز وصايته على مال مسلم أو مولى عليه محكوم بإسلامه ولو
بالاشتراك.
وعدم جواز نكاحه للمسلمة ابتداءا وكذا استدامة، فإن بإسلامها يبطل النكاح
لو لم يسلم الزوج في العدة.
وعدم العبرة بالتقاطه إذا كان اللقيط محكوما بإسلامه بأحد الطرق المذكورة
في محلها.
وفي عد عدم استحقاقه الإرث مع الوارث المسلم وعدم جواز القصاص من
المسلم بالكافر من هذا الباب إشكال.
وغير ذلك من المواضع التي لم نذكرها يتنبه عليها المتدرب في الفن بمعونة
ما ذكرناه.

(1) في (م): توليته.
(2) في (ف، م): يبنى.
351

ومن ذلك ظهر: أن قاعدة نفي السبيل من مبطلات العقود في بعض فروعها
وإن كان لها فروع اخر، وبهذا الاعتبار أدرجناها في المبطلات.
وثانيها: بيان ما يمكن أن يكون مستندا لهذه القاعدة، والوجه في ذلك أمور:
أحدها: الإجماع المحصل القطعي الحاصل من تتبع كلمة الأصحاب في
المقامات التي ذكرناها في الباب، فإنهم متسالمون (1) على عدم وجود السبيل
للكافر على المسلم ويرسلونه إرسال المسلمات من دون نكير، وهذا كاشف عن
رضا الشرع بذلك وحكمه به.
وثانيها: الاجماعات المنقولة حد الاستفاضة، بل التواتر من الأصحاب - كما
لا يخفى على المتتبع - المؤيدة بالشهرة العظيمة البالغة (2) حد الضرورة.
وثالثها: الاعتبار العقلي، فإن شرف الإسلام قاض بأن لا يكون صاحبه مقهورا
تحت يد الكافر ما لم ينشأ السبب من نفسه، فإنه حينئذ أسقط احترام نفسه. وهذا
وإن لم يكن في حد ذاته دليلا، لكنه مؤيد قوي مستند إلى فحوى ما ورد في الشرع.
ورابعها: ما دل من الأدلة الخاصة في بعض الموارد، كباب النكاح، فإن
النصوص قضت بعدم جواز تزويج المؤمنة للكافر (3).
وغير ذلك مما دل على اشتراط الإسلام في الولي على المسلم، فإن المستفاد
منها: أن العلة في ذلك كله عدم رضا الشارع بتسلط الكافر على المسلم فيتسرى
إلى سائر المقامات بتنقيح المناط، أو بالعلة المنصوصة المستفادة من كلام الشرع
وإن كان من حيثية تعليق الحكم على الوصف. وأظن ورود التعليل صريحا في
روايات النكاح، فينبغي الرجوع إليها (4).
وخامسها: الخبر المشهور في ألسنة الفقهاء المتلقى بالقبول بحيث يغني عن

(1) في (ن): يتسالمون، وفي هامشها: يتسلمون، خ.
(2) في (ف، م) زيادة: إلى.
(3) الأخبار الواردة لا تختص بعدم جواز تزويج المؤمنة بالكافر، بل أكثرها في عدم جواز
تزويج المسلم للكافرة، انظر الوسائل 14: 410 أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه.
(4) راجعناها ولم نقف على التعليل المذكور.
352

ملاحظة سنده، وهو قوله صلى الله عليه وآله (1): (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه) (2) فإنه من
الكلمات الجارية مجرى القاعدة، ك‍ (لا ضرر ولا ضرار) ونحوه، فلا وجه للبحث
في سنده، وإنما الكلام في الدلالة.
فإن قلنا: إن دلالته على نفي السبيل مما يكشف عنها فهم الفقهاء - لأنهم
يستدلون به في هذه المقامات من دون نكير، وهو من أعظم القرائن على معرفة
المراد - فلا بحث، إذ مقتضاه كون المراد من الخبر: عدم تسلط الكافر على المسلم.
وإن بنينا على تتميم الدلالة على قواعد الألفاظ، فنقول: إن الخبر دل على أن
الإسلام يعلو على غيره، لأن المتعلق محذوف، فإما أن يراد مطلق الغير، سواء كان
كفرا أو واسطة بين الكفر والإسلام لو قلنا بالواسطة، أو يراد به الكفر بخصوصه
بقرينة المقابلة، فيكون المراد، الإسلام يعلو على الكفر والكفر لا يعلو عليه وقوله:
(ولا يعلى عليه) تأكيد لبعض ما استفيد من العبارة الأولى، فإن المستفاد من
الأولى أنه يعلو، وهو ناف لعلو الكفر وناف لمساواته أيضا، فإن علو الإسلام
قاض بانحطاط الكفر، والجزء الثاني ناف لعلو غيره عليه أو لعلو الكفر عليه - على
الوجهين - وهو أحد جزئي العبارة الأولى، وورود التأكيد لأحد الجزءين لا يدل
على أن المراد بالعبارة الأولى أيضا ذلك حتى يقال إن الرواية إنما قضت بأن
الإسلام لا يعلو عليه غيره، ولم تدل على عدم المساواة.
وبالجملة: دل الخبر بجزئيه على عدم علو الكفر، وبجزئه الأول على عدم
مساواة الكفر معه، فلم يبقى إلا علو الإسلام.
فنقول: إن كان المراد بالعلو: علو الشرف والرتبة لأنه سبيل للنجاة دون سائر
الأديان، فلا ريب أن هذا خلاف ظاهر لفظ (العلو) فإن المتبادر منه العلو الحسي،
أو ما يقرب منه الاستيلاء والتسلط، مضافا إلى أنه ينبغي على هذا أن يقال:
(الإسلام عال) ولا ينبغي أن يقول: (يعلو) مع أن ذلك في الحقيقة يصير بيانا لما

(1) في (ن، د): عليه السلام.
(2) الوسائل 17: 376، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، ح 11.
353

هو أوضح (1) الأمور عند المسلمين، فإن من البديهي أن دين الله أشرف من
الأديان الباطلة، مع منافرته للتأكيد بقوله: (ولا يعلى عليه).
وإن كان المراد: الأخبار عن أن الإسلام تزيد شوكته وقوته بحيث يعلو على
سائر الأديان بكثرة المتدينين والأعوان، فلا ريب أن الأخبار عن هذا المعنى
ليس مما هو وظيفة للشارع من حيث هو كذلك، مع أن نرى علو سائر الأديان
وكثرة الكفر والشرك، ومقهورية المسلمين.
واحتمال إرادة أنه يعلو في أواخر الأزمنة بحيث يضمحل الكفر، والأخبار (2)
عن هذا المعنى مما لا ريب في بعده من الخبر عند الأنصاف، سيما مع التأكيد
بقوله: (ولا يعلى عليه) فإن الظاهر من إثبات العلو للإسلام في المستقبل وإن كان
أعم من كونه عاليا دائما أو في زمان من الأزمنة المستقبلة، لكن نفي علو غيره في
المستقبل مع حذف المتعلق والزمان ظاهر في النفي دائما، يعني: أن الإسلام لا
يعلو عليه غيره في زمان من الأزمنة المستقبلة كما هو قاعدة الألفاظ.
فالفقرة الأولى مجملة في إثبات العلو من هذه الجهة والمتيقن منه بعض الأزمنة،
لكنه غير ناف للعلو في الجميع، والفقرة الثانية دالة على عدم علو غيره مطلقا، فإن
المتبادر من قولنا: (لا يضرب زيد) نفي ضربه بالمرة، لا في وقت دون وقت.
والسر فيه: أن المصدر في ضمن الفعل نكرة، فإذا دخل عليه أداة النفي اقتضى
العموم المستلزم لنفي جميع أفراده، ونفي جميع أفراد العلو في الزمن المستقبل قاض
بعدم علو غيره عليه في وقت أصلا، وهذا مدلول لا معارض له في الفقرة الأولى،
غاية الأمر دوران الأمر بين علو الإسلام في بعض الأوقات ومساواته مع الكفر
في بعض آخر، أو علوه دائما، لأن العبارة الثانية نفت العلو عن غيره، وهو أعم من
المساواة وعلو الإسلام، والأولى أثبتت العلو للإسلام في الجملة، فيدور الأمر بين
احتمالين ذكرناهما، فلو لم نقل بأن العبارة الأولى قرينة على أن المراد من عدم
علو غيره علوه دائما بقرينة المقابلة وعدم ملحوظية المساواة في المقام بالمرة - كما

(1) العبارة في (م) هكذا: في الحقيقة بيان لأوضح الأمور.
(2) كذا في النسخ والمناسب: فالأخبار.
354

هو الواضح عند من تدبر - فلا أقل من المساواة في بعض وعلو الإسلام في آخر،
فالخبر دل على الأخبار عن عدم علو الكفر على الإسلام في وقت من الأوقات،
ولازمه الكذب، لأنا نرى في زماننا هذا وما قبله قوة الكفار ومقهورية المسلمين.
فلا وجه لحمل هذا الخبر على الأخبار بعد ما ذكرناه من وجه الدلالة. كما لا
وجه لحمله على علو الشرف بالقرائن التي ذكرناها، فانحصر الطريق في حمل
الخبر على الإنشاء المطابق لمنصب الشارع وجعله لبيان الحكم وإرادته أن
الإسلام حكمه العلو وتسليط على غيره، وليس لغيره التسلط عليه، ولا ريب أن
علو الإسلام عبارة عن علو المسلمين، فيكون المراد: أن المسلم يتسلط على
الكافر والكافر لا يتسلط عليه في الشرع، بمعنى: أن الحكم الشرعي ذلك.
ومن هنا يظهر لمن تدبر: أن الفقرة الثانية ليست تأكيدا صرفا، لأن الأولى لم
تدل على الدوام، والثانية دلت على ذلك، ويكون السبب في هذا التعبير: أن
المسلمين يتسلطون على الكفار في الشرع، لكن لا كلية، بل على حسب ما قرر
من قواعد الشرع، ولكن الكفار لا يتسلطون على المسلم في شئ من المقامات
أصلا بحكم الشرع.
هكذا ينبغي أن يحقق المقام، وإن خلج في بالك احتمالات أخر رافعة
للأشكال الذي أوردناه على الرواية على المعنى الأخباري فلسنا غافلين عن
ذلك (1) لكن أعرضنا عنها لوضوح المرام، وقرب ما ذكرناه إلى الفهم من بين تلك
الاحتمالات وسلامتها عن التفكيك والتخريج، وانطباقه على المدعى أشد انطباق
كما بيناه، فتدبر جدا، وإنما الإشكال في تخريج وجه الدلالة في أول الأمر،
والصرف عن علو غيره علوه دائما بقرينة المقابلة وعدم ملحوظية المساواة في المقام بالمرة - الظاهر، وقد أوضحنا لك سبيله (2) وأسسنا بنيانه.
وهنا بحثان:
أحدهما: أن يقال: إنه يحتمل أن يكون المراد بالرواية: أن الإسلام يعلو في
الحجة والبرهان، بمعنى: أن أهل الملل لو أرادوا إبطال دين الإسلام بالحجج
والبراهين يعلو عليهم المسلمون في إقامة الحجة وإثبات الإسلام ولا يعلو عليهم

(1) في (م): عن تلك.
(2) في (م): بدل (سبيله): بيانه.
355

غيرهم في ذلك. وهذا مما لا يرد عليه شئ مما سبق، فلو لم يكن هذا الاحتمال
أظهر فلا أقل من المساواة، وإذا جاء المساوي من الاحتمال بطل الاستدلال
ورمي بالإجمال.
والجواب: أن الظاهر من (العلو) التسلط والغلبة بالحجة دفع (1) للخصم،
وليس تسلطا عليه، فالحمل عليه خلاف ظاهر (العلو) مع أن علو الإسلام بالحجة
إنما هو أمر دائمي وليس في بعض، دون بعض، مع أن اثبات العلو له لا يدل على
الدوام وإن كان نفي علو غيره دالا على عدم العلو دائما، فلا يستفاد من الرواية
صريحا علو الإسلام دائما، مع أن الحجة قائمة عليه دائما، فلا تنطبق العبارة على
المدعى، بخلاف ما لو حملناه على المعنى السابق من نفي التسلط الشرعي، فإنه
ينطبق على المدعي بكلا جزئيه، وهو عدم تسلط الكافر دائما وتسلط المسلم في
بعض الأوقات على حسب حكم الشرع، فتدبر.
وثانيهما: أن ظاهر الخبر عدم تسلط الكافر مطلقا، مع أنه قد يتسلط بقرض أو
ضمان أو نحو ذلك من المطالبات، فلا بد من الإخراج عن الظاهر، وطرق
الإخراج مختلفة متعددة، فيجئ الإجمال.
والجواب أولا: أن التخصيص أولى من سائر المجازات مطلقا، سيما مع قلة
الخارج وكثرة الداخل، فلا بأس بنفي تسلط الكافر إلا فيما أخرجه الدليل.
وثانيا نقول: أن الخبر لا يحتاج إلى تخصيص، بل لا يشمل هذه الفروض
حتى يحتاج إلى ذلك، فإن المتبادر من قولنا: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه) يعني:
بأصل الشرع، بمعنى: أن الشارع لم يسلط الكافر على المسلم ابتداءا، وأما إذا فعل
المسلم فعلا سلطه على نفسه فلا دخل لذلك بالإسلام وعلوه، وإنما هو أمر
خارجي، ويجئ لهذا الكلام توضيح في دلالة الآية. (2)
وسادسها: - أي الأدلة على القاعدة - ما أسلفناه في عناوين العبادات مما علو غيره علوه دائما بقرينة المقابلة وعدم ملحوظية المساواة في المقام بالمرة -
ما دل على وجوب التعظيم للشعائر وحرمة الإهانة من العقل والنقل، فإن الشارع

(1) في (م): رفع. والعبارة على أي من اللفظين مختلة.
(2) في (م): توضيح، فانتظر.
356

متى ما حرم على الناس إهانة الشعائر - ومنها المؤمن - فكيف يرضى بتسلط
الكافر عليه؟ مع أن فيه من الإهانة ما لا يخفى، وهذا كما يدل على عدم مجعولية
حكم يوجب تسلط الكافر على المؤمن - بالتقرير الذي ذكرناه - يدل على عدم
جواز إتيان المكلفين بعمل يوجب إهانة المؤمن وتسلط الكافر عليه بنحو أولى
وأوضح (1) فأي معاملة تستلزم ذلك فهو غير صحيح، لأنه إهانة محرمة.
وسابعها: قوله تعالى: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (2) وجه
الدلالة: أن الله تعالى نفى جعل السبيل لهم عليهم (3) على سبيل العموم، وبين أنه لم
يجعل لهم سبيلا عليهم، فكل ما يكون سبيلا لتسلط الكافر على المسلم من الأمور
السابقة فهو غير مجعول لله، وكل ما هو غير مجعول له فهو باطل، إذ ليس الصحيح
إلا ما أمضاه ورضي به، وحيث إن السبيل عام يعم أنواع التسلطات التي ذكرناها
في بيان الموارد، كما لا يخفى.
وهنا إشكالات:
أحدها: أن الآية بعد ملاحظة ما قبلها وما بعدها يعلم منها: أنه ليس في مقام
بيان الحكم الشرعي، بل هو بيان لحكم آخر وهو: الامتنان وبيان شرف الإيمان.
والجواب: أن العموم لا يصرف عن ظاهره بهذا الأمور، والفرض نفي السبيل
من الشارع كيف كان، ومنه الأحكام الشرعية، فدلت على أن الحكم الموجب
للسبيل غير مجعول من الشرع.
وثانيها: أنه قد ورد في تفسير الآية: أن المراد نفي سبيل الحجة (4) فيكون
المعنى: أن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيل حجة، بل يثبت الدين
ويظهر الحق بحيث لا يبقى لكافر حجة بعد ذلك. وهذا لا دخل له لما أردته.
والجواب أولا: أن السبيل المنفي عام شامل للحجة وغيرها، والخبر لم يدل
على الانحصار فنقول بدخوله في العموم، غايته: أن ذلك هو المورد وهو لا

(1) العبارة في (م) هكذا: وتسليط الكافر عليه بطريق أولى.
(2) النساء: 141.
(3) في غير (م): له عليه. وهكذا في الجملة التالية.
(4) أورده المولى القاساني في تفسيره الصافي ذيل الآية الكريمة عن عيون أخبار الرضا عليه السلام.
357

يخصص، مع أن في تخصيص الكتاب بخبر الواحد ألف كلام، مضافا إلى أن هذا
التخصيص موجب لخروج الأكثر وهو مستهجن، وجعله قرينة للمجاز بأن يراد
من السبيل (الحجة) خلاف الظاهر جدا، مع أن الخبر لم يدل عليه فحمل الخبر
على بيان أحد أفراده (1) أجود، كما هو الغالب في أخبار التفاسير.
مضافا إلى أنا نقول: إن الكافر لو كان مالكا للمسلم ونحو ذلك من طرق
السبل التي (2) ننفيها بالقاعدة لكان ذلك أيضا من أعظم الحجج للكافر على
المسلم، فإن حجة الملك والولاية من أعظمها، فالخبر الدال على نفي الحجة دال
على ذلك أيضا، فلا تذهل.
وثالثها: أن الكافرين والمؤمنين في الآية جمعان محليان باللام مفيدان
للعموم، فيكون دالا على أنه تعالى لم يجعل سبيلا لكل فرد من أفراد الكافر على
كل فرد من أفراد المسلم، فيفيد سلب العموم لا عموم السلب، ولا ينافي جعل
السبيل لكل فرد من الكافر على بعض افراد المسلم، أو لبعض أفراد الكافر على
كل فرد من المسلم، أو لبعض منه على بعض منه، وهذا لا يثبت المدعى.
والجواب: أن الظاهر من الآية بقرينة المقابلة والتعليق على الوصف: إرادة
الجنس المفرد، فإنه من معاني الجمع المحلى باللام، فيكون المعنى: لن يجعل الله
سبيلا للكافر على مؤمن، وهذا هو الظاهر من الآية. مع أنه متى ما ثبت عدم السبيل
لبعض على كل، أو لكل على بعض، أو لبعض على بعض، فيثبت العموم، لعموم ما
دل على الاشتراك في التكليف والأحكام، إذ الآية ليست نافية للعموم وإن لم تكن
مثبتة أيضا، والكافر والمؤمن جعل عنوانا في (3) هذا الحكم، والحكم الثابت على
بعض أفراد العنوان - كالمسافر والحاضر والمريض ونحو ذلك من عناوين
الأحكام - يعم سائر أفراده ما لم يدل على التخصيص دليل شرعي - بمقتضى ما
قررناه في أول الكتاب من قاعدة الاشتراك - أو يعم الباقين بعدم القول بالفصل.
ورابعها: أنا نرى تسلط الكفار على المسلمين في قتل ونهب وغير ذلك من

(1) في غير (م): أفرادها.
(2) في سوى (م): الذي.
(3) في (م) بدل (جعل عنوانا): عنوان.
358

الطرق والسبل، فلابد من إرادة سبيل الحجة، وإلا لزم الكذب على هذا الكلام
الممتنع على الواجب تعالى.
والجواب: أن ما نفاه الآية هو السبيل المجعول من جانب الله تعالى وهذه كلها
سبل الشيطان، والمراد: أن الطريق الحق الذي جعله الله تعالى للكافر على المسلم
غير موجود (1)، والطرق الباطلة لا دخل لها في المقام.
وخامسها: أن (المؤمن) أخص من (المسلم) إذ المراد من الإيمان: إما
الإسلام المستقر الراسخ، أو الاعتقاد بالولاية أيضا، كما يدل على ذلك قوله تعالى:
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (2) فلا يدل
على عدم السبيل على مطلق المسلم.
والجواب: أن الإيمان ليس (3) الانقياد والإطاعة، وهو حاصل (4) مع الإسلام،
وكلاهما بمعنى واحد، وحيث يتغايران فإنما هو بالقرينة، والحمل على المعنى
العرفي واللغوي لازم، والمعنى المصطلح لم يثبت في خطابات القرآن حتى
ينصرف إليه. مع أن فيما مر من عموم دليل الإسلام شهادة على العموم، مضافا
على عدم القول بالفرق.
وهنا إشكالات وأبحاث لا حاجة لنا في ذكرها (5) يعتد بها.
تنبيهان:
أحدهما: أنه لا فرق في هذا الحكم بين أفراد الكفار وأنواع الكفر، ولا فرق
بين من انتحل الإسلام وغيره، فإن كل [من هو] (6) محكوم بكفره فالحكم فيه ذلك،
لعموم الآية (7) وضعف الشبهة في عدم شمول العموم لمن انتحل الإسلام، ولظاهر
إطلاق الأصحاب في فتاويهم ومعاقد إجماعهم

(1) كذا في النسخ، وفي التعبير ما لا يخفى من المسامحة.
(2) الحجرات: 14.
(3) في (م) زيادة: (إلا). وهي من اشتباه مصححها في فهم العبارة.
(4) في (م): (وهما حاصلان) وهذا أيضا من اشتباهات المصحح.
(5) في (م) زيادة: (إذ لا).
(6) من (م).)
(7) في " ف، م ": الهيئية.
359

وثانيهما: أن حكم المخالفين ليس حكم الكفار بالعنوان الكلي، وإن كان في
نكاح المؤمنة للمنافق لهم كلام، لكنه من جهة النصوص الخاصة (1) لأنهم داخلون
في اسم المسلم، خارجون عن عموم الكافر في ظاهر اللفظ، والباطن لا مدخل له.
وما دل من الروايات على كفرهم (2) محمول على كونهم في حكم الكافر في
الآخرة، دون الدنيا، لمنافاة إجراء حكم الكافر عليهم التقية، ولزوم العسر والحرج
[والنصوص الدالة على جواز معاشرتهم والاكل معهم وغير ذلك] (3) وبالجملة:
للمسألة محل آخر، واشتراط الإيمان في المقامات الكثيرة ليس من باب عموم
نفي السبيل، بل هو من باب آخر.
وأما من يقول بكفرهم من الأصحاب فيأتي على مذهبه (4) دخول المنافقين
في هذا الحكم أيضا (5)، والله العالم.
وهنا بحث، وهو أن [كلا من] (6) المؤمن والكافر لا يشمل غير البالغين (7)، فلا
تنفي الآية سبيل الكافر على صغير لمسلم أو نحوه.
والجواب: أولا: بأن ما دل على التبعية يجعلها في حكم المسلم، ومن جملته:
عدم السبيل.
وثانيا: بأن عدم دخول الأطفال في صورة الجمع ممنوع، فإنه إذا قيل:
(الكافرون) أو (المؤمنون) يعم أطفالهم عرفا.
وثالثا نقول: إن ثبوت السبيل على أطفال المسلمين سبيل على نفس
المسلمين، فإن الأولاد أهم من المال، فكما لا سبيل له على مال المسلم فكذا على
أولاده وتوابعه.

(1) راجع الوسائل 14: 434، الباب 13 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه.
(2) قد جمع هذه الروايات المحدث البحراني قدس سره في الحدائق 5: 181، فراجع.
(3) ما بين المعقوفتين لم يرد في غير (ن).
(4) في غير (م): مذهبهم.
(5) كذا، ولم نعلم الوجه في فساد الالتزام بتلك الملازمة.
(6) من (م).
(7) في (م): غير البالغ.
360

[العنوان الخمسون]
[في بيان أن الشرط الفاسد مفسد للعقد]
361

عنوان
[50]
من جملة المبطلات للعقود: اشتراط الشرط الفاسد فيها، فإنه مفسد للعقد.
والشرط الفاسد: هو المنافي لمقتضى العقد، أو (1) المؤدي إلى جهالة العوضين،
أو المخالف للكتاب والسنة، أو شرط حرم حلالا أو أحل حراما، وقد مر بيان هذه
الأقسام في بحث الشروط ووجه دفع الإشكال عن معانيها وتحقيق موردها. وما
عدا ذلك فهو سائغ.
والغرض هنا: بيان أن العقد متى اشترط فيه شرط فاسد، فهل يبطل العقد
بفساد الشرط أو يفسد الشرط فقط دون العقد؟
والمحكي عن أكثر الأصحاب بطلان العقد أيضا، وذهب بعضهم إلى بطلان
الشرط خاصة (2).
والحق ما ذهب إليه الأكثر، نظرا إلى أن المقرر في العناوين السابقة: أن العقد
تابع للقصد بالتحقيق الذي مضى في محله (3) ولا ريب أن الشرط المأخوذ في
ضمن العقد بمنزلة الجزء من العوضين وقيد به العوضان وتعلق القصد بالمقيد، وقد

(1) كذا في (د)، وفي (ف، م): والمؤدي، وفي (ن): المؤدي - بدون الواو -.
(2) منهم الشيخ في المبسوط وابن الجنيد وابن البراج، على ما حكى عنهم العلامة في
المختلف 5: 298.
(3) راجع العنوان: 30.
362

مر في بحث الشروط: أن المراد بالشرط الواقع في ضمن العقد ربط المعاملة به، لا
التزام خارجي لنفسه، فمتى تحقق الربط وفسد الشرط فما وقع عليه القصد من
المركب لم يقع، والمطلق لم يتعلق به القصد فلا وجه لوقوعه. وليس العقد دالا على
وقوع المعاملة وإن انتفى الشرط، بل هو دال على عدمه بدونه، فالتمسك بعموم
أوفوا بالعقود لا ينفع في بقاء الصحة، لأن هذا العقد المخصوص كان مقتضيا
للأثر بهذا القيد، ومقتضاه عدمه عند عدم القيد، فيمكن دعوى: أن عموم أوفوا
بالعقود (1) و (المؤمنون عند شروطهم) (2) يدل على البطلان، لا الصحة بأحد
الاعتبارات، فتدبر.
ولو فرض أن العقد بظاهره اقتضى الوقوع بدون الشرط أيضا نقول: لا وجه
لبقاء الصحة، لعدم القصد على ذلك. ولو كان قاصدا للوقوع بدون الشرط أيضا لا
يصح، لعدم الدال حينئذ عليه، والقصد الخالي عن الدال قد مر أنه لا عبرة به،
واللفظ بعد التقييد بالشرط دال على الربط، فتدبر.
وقد تمسك بهذه القاعدة كثير من الفقهاء في كثير من الأبواب، كشرط عدم
إشاعة الحصة في المزارعة أو في المساقاة أو في المضاربة، أو شرط عدم التزويج
عليها في النكاح، أو شرط عدم التصرف في المبيع، ونظائر ذلك، وكلها مبنية على
إبطال الشرط الفاسد للعقد، وقد عرفت الوجه في ذلك.
والشرط الفاسد لا يخلو من أحد الأقسام الأربعة، فكل مقام حكم الفقهاء
ببطلان شرط في العقود لابد من إرجاعه إلى أحد الأمور الأربعة حتى يوجب
البطلان في نفسه (3) في العقد، لما ذكرناه. وقد مر الوجه في وجه فساد هذه الأربعة
في نفسها مستوفى، فراجع (4).

(1) المائدة: 1.
(2) الوسائل 15: 30، الباب 20 من أبواب المهور، ح 4.
(3) في (ن): نفسها. وفي (ف، م) بعد هذه الكلمة زيادة: و.
(4) راجع العنوان: 46.
363

وهذه القاعدة قد تنخرم في بعض المقامات لدليل خاص من الشرع، كما ورد
في النكاح في بعض المقامات: أن الشرط يبطل والعقد لا يبطل (1)، وأفتى به بعض
الأصحاب (2).
وبالجملة: كل ما حكمنا بفساد الشرط لأحد الأمور الأربعة حكمنا بفساد
العقد، إلا بدليل دل عليه.
ويمكن الاستدلال على البطلان - مضافا إلى ما مر - بأن بطلان الشرط
يوجب جهالة في أحد العوضين، لأن له قسطا من العوض، ولازمه البطلان، ومن
ثم لا يجري في النكاح، لأنه ليس معاوضة صرفة، فتدبر.

(1) راجع الوسائل 15: 46، الباب 38 من أبواب المهور، والباب 39 منه، ح 3.
(2) منهم ابن إدريس في السرائر 2: 575.
364

[العنوان الحادي والخمسون]
[في بطلان المعاملة السفهية،
وبيان المراد منها]
365

عنوان [51]
من جملة ما ينبغي أن يجعل قاعدة كلية مخرجة عن قاعدة أصالة الصحة
المتقدمة قاضية بالبطلان ابتداء: كون المعاملة سفهية.
وقد أشار إلى هذه القاعدة الشهيد رحمه الله في اللمعة، قال: (ولا حجر في زيادة
الثمن ونقصانه ما لم يؤد إلى السفه) (1) وهذه العبارة دالة على أن السفهية من
جملة المبطلات الابتدائية. والبحث هنا يقع في مقامات، باعتبار بيان موضوع
السفهية، ومواردها، والوجه الدال على بطلان المعاملة بها.
الأول: في بيان معنى كون المعاملة سفهية.
فنقول: لا ريب أن السفه في المعاملات أو في مطلق العقد ليس عبارة عن
كون المتعاقدين سفيهين أو أحدهما سفيها، بل المراد كون المعاملة من شأنها أن
تصدر من سفيه، وحيث إن المسألة تتفرع على بيان أصل معنى (السفه) المقابل
للرشد، يتوقف معرفتها على ما نبينه في الشرائط العامة إن شاء الله، ولكن حيث إن
السفه عبارة عن نقصان العقل المخرج أفعال صاحبه عن طريقة العقلاء وما عليه
عادة أغلب الناس - وإن كان توضيح هذا المطلب يحتاج إلى بسط - فتكون
المعاملة السفهية عبارة عن نوع لا يصدر عن غالب الناس، ولا يقع عند العقلاء

(1) اللمعة: 131، الفصل العاشر من كتاب المتاجر.
366

عادة بحيث لو صدر عن واحد منهم يعلم أن هذا على خلاف طريقة العقلاء.
وربما يستفاد من بعض العبائر: أن المعاملة السفهية ما دل على سفه فاعله،
فتكون السفهية عبارة عن كون فاعله سفيها، ويكون وجه الامتياز بين المقام وبين
عموم أدلة اعتبار الرشد في الماليات: أن المتعاقدين مرة يعلم سفههما أو سفه
أحدهما قبل المعاملة بطرق الاختبار، ثم تصدر عنهما المعاملة، فهذه معاملة سفيه
تتوقف على إجازة الولي على المشهور المنصور. ومرة يعلم سفههما بنفس
المعاملة، بمعنى: أن بصدور مثل هذه المعاملة يعلم كونهما سفيهين وإن لم يكونا
سفيهين قبل ذلك، فلا يرد عليه: أن هذه المعاملة لو كانت معاملة سفيه انكشف
سفهه بهذه المعاملة، فلا وجه للتقييد في زيادة الثمن ونقصانه بعدم أدائه إلى السفه،
فإن اشتراط الرشد من الأمور الواضحة المذكورة في أول الشرائط، فينبغي أن
يقال: إلا أن يكون المتعاقدان أو أحدهما سفيها ووجه الدفع ما ذكرناه من الفرق
بين كون السفه معلوما قبل المعاملة أو بنفس المعاملة.
ولكن هذا الكلام مختل النظام، لوجوه واضحة:
أحدها: أن معاملة السفيه لا تقع باطلة، بل يمكن أن تكون صحيحة بإذن
الولي، لأن عبارة السفيه ليست [كعبارة] (1) المجنون والطفل، ولهذا يجوز أن يكون
وكيلا عن الغير. نعم، هو محجور عن التصرف في ماله، فإذا اذن الولي في تصرف
خاص يكون كالوكيل عن الغير أو الفضولي مع الإجازة، ولا مانع من صحته.
بخلاف المقام، فإن المعاملة السفهية باطلة بالمرة من أصلها، وليس له وجه صحة
مطلقا، فإدراج المقام تحت معاملة السفيه لا وجه له.
وثانيها: أن السفه والرشد كسائر الصفات المتقابلة من الموضوعات الخارجية
التي تعلم بأماراتها المعتادة، ولا ريب أن الرجل البصير بالأمور الناقد في جميع
ماله وما عليه لا يعد سفيها قطعا، مع أنه يمكن صدور هذه المعاملة عنه اقتراحا،

(1) من (م).
367

بمعنى: أنه يشتهي نفسه أن يبيع ما يسوي ألفا بعشرة دراهم من دون تعلق غرض
به، ولا ريب أن صدور هذه المعاملة بنفسها لا يصير الرجل سفيها، لأن السفه
نقصان العقل كما ذكرناه، وهذا لا يدل على نقصان العقل. نعم، لو تكرر منه مثل هذا
العمل وعلم أنه غير مصلح لماله بل مضيع له عد سفيها، ولكن ذلك غير الفرض،
فبين (معاملة السفيه) و (المعاملة السفهية) عموم من وجه، فتجتمعان في صورة
كون العاقد سفيها مع كون معاملته أيضا مما لا تصدر عن العقلاء كبيع ما يسوي
بألف بعشر واحد (1)، ويفترق الأول فيما لو فعل السفيه (2) معاملة جارية على
طريقة العقلاء كبيع المال بثمن المثل وزيادة، ويفترق الثاني في صورة كون
المباشر رشيدا في العرف والعادة له ملكة إصلاح المال وضبطه وصرفه في
الوجوه اللائقة له مع صدور معاملة عنه غير جارية على مقتضى الرشد بل جارية
على عادة السفهاء، فإن فعل الغير العاقل يجوز صدوره عن العاقل فضلا عن
ناقص العقل. وبالجملة: المعاملة السفهية المبحوث عنها على هذا التحرير ما كان
شأنها الصدور من سفيه لا من تام العقل.
وثالثها: أن مجرد صدور مثل هذا العقد لو كان قاضيا بسفاهة فاعله للزم بعد
ذلك حجره (3) عن التصرفات المالية - كما هو قاعدة السفهاء - مع أن الرجل
بمحض صدور ذلك لا يحجر عليه بلا كلام، بل الميزان في ثبوت السفه إنما هو
انكشاف عدم وجود ملكة الإصلاح فيه، وأنى له الانكشاف بذلك؟
ورابعها: أن العمدة في إثبات أحكام السفيه من الحجر وغيره إنما هو
النصوص الكتابية وغيرها الدالة على عدم إيتاء الأموال للسفهاء وعدم نفاذ
معاملاتهم، ولا ريب أن هذه الأدلة لا تشمل مثل هذا الرجل بمجرد هذا الفعل
حتى تدخل معاملته في معاملة السفيه.
واحتمال: أنه في حالة صدور هذا العقد عنه سفيه وقبله وبعده رشيد - لأن

(1) في (م): ألفا بعشر.
(2) في (م): لو وقع من السفيه.
(3) في (ف، م): للزم من ذلك حجره بعد ذلك.
368

صدور مثل هذا العقد الخارج عن طريقة العقلاء في تلك الحالة يكشف عن زوال
العقل التام عنه في تلك الحالة - في كمال البعد.
أما أولا: فلأن نقصان العقل وتمامه في آن واحد مما هو خارج عن المعتاد،
بل هو من المحالات عادة.
وأما ثانيا: فلأن المفروض عدم تغيير (1) فيه يوجب نقصان عقله وتمامه، بل
هو على حاله الأول.
وأما ثالثا: فلأن الغرض إذا تعلق بصدور فعل من الإنسان غير ملائم لفعل
العقلاء فلا يخرج الإنسان عن كونه عاقلا، لأنا نرى أن الناس يتعمدون الإتيان
بأفعال المجانين، بل أفعال البهائم، ومع ذلك هم عقلاء ممتازون بالعقل، فكذا في
ما نحن فيه، وليس تعلق غرض ما مخرجا عن السفهية، إذ لا ريب أن صدور الفعل
من دون ملاحظة غاية ممتنع عن الفاعل المختار، بل المخرج عن السفهية ملاحظة
غاية معتد بها عند العقلاء، أما ملاحظة غاية لا يعتنى بها فلا يخرج الفعل عن
السفهية، فيمكن ملاحظة غاية غير معتد بها وصدور الفعل لأجلها تعمدا في ذلك،
وهذا غير قادح في العقل والرشد، فتدبر.
وبالجملة: فالمسألة واضحة، فحاصل المراد من المعاملة السفهية: كونه على
نحو لا يعتد به العقلاء وينبغي صدوره عن السفهاء (2).
الثاني: (3) أن السفهية وإن فرض (4) في كلام الشهيد رحمه الله وغيره في البيع، لكنه لا

(1) في (م): تغير.
(2) العبارة لا تخلو عن مسامحات، فلذا غيرها مصحح (م) بما يلي: كونها على نحو لا يعتد به
العقلاء وشأنها أن تصدر من السفهاء.
(3) أي: المقام الثاني من المقامات الثلاثة، تقدم أولها في ص: 366.
(4) من هنا إلى آخر العنوان كما ترى العبارة لا تخلو عن مسامحات أدبية، وقد غيرها مصحح
(م) تغييرا فاحشا، ولا حاجة إليه بعد وضوح المراد، ونحن رجحنا إثبات ما في أصول
النسخ إلا ما كان غلطا بينا نشأ من سهو القلم أو من اشتباه النساخ. وفي العناوين الآتية أيضا
ننهج هذا المنهج تحفظا - بحسب الإمكان - لما جرى على قلم المؤلف قدس سره وتحرز ا عما
لا طائل تحته، ولا نشير أيضا إلى الاختلافات بين نسخة (م) وسائر النسخ إلا فيما لابد منها.
369

يختص به، بل يعم سائر المعاوضات: من إجارة وصلح ونكاح ومسابقة وجعالة
ومزارعة ومساقاة ومضاربة ونحو ذلك، بل يعم غير ما فيه المعاوضة أيضا
كالوكالة ونحوها، والوجه فيه: أنك قد عرفت أن الميزان في كون العقد سفهيا
صدوره على نحو لا يعتد به عند الناس، وهذا معقول في سائر العقود، بل هذا جار
في الشروط أيضا، فإن الشرط قد يكون سفهيا، وتوضيح ذلك بالأمثلة في الجملة
أن يقال: مثلا لو زاد في عوض الإجارة وغيرها من المعاوضات ما لا يقدم عليه
إلا سفيه أو نقص كذلك فيصير كالبيع، أو جعل أحد العوضين مما لا ينتفع به عقلا أو
شرعا كبيع الحشار والديدان (1) والمزارعة على أرض لا ماء لها بالمرة ولو بالغيث
في العادة، أو على أرض لا يتمكن من زرعه، أو زارعه على أن يزرع فيه شيئا من
الحبوب لا يؤكل، أو جعل عوض الجعالة ما لا نفع فيه، أو جعل العوض لما لا نفع
فيه كرفع صخرة أو ذهاب إلى أرض مظلم أو نحو ذلك، وكالمضاربة بشرط أن
يشتري بزائد ويبيع بناقص ونظائر ذلك، ونحوه الرهن الذي اشترط الراهن لنفسه
الخيار في فك الرهن وفسخ العقد وأن لم يؤد المال، والوكالة على أمر جزئي
كأخذ حبة حنطة أو حفظها ونحو ذلك.
وبالجملة: قد قدمنا في ضبط موارد العقود أن المعتبر في أغلب المعاملات
إنما هو ما عليه طريقة أغلب الناس وعادة أكثر العقلاء، وما خرج عن ذلك فمما لا
يعتد به عندهم، ويندرج تحت أفعال السفهاء بحسب الشأن، وهذه تعد معاملة
سفهية في أي عقد من العقود اتفقت، وفي أي باب كانت، ويندرج في هذا المقام
فروع كثيرة حكم فيها الأصحاب بالفساد، وليس شئ منها فاسدا إلا لأجل كونه
معاملة سفهية.
ومما أشرنا إليه في الأمثلة تتنبه على استخراج الفروع المسطورة في كلمة
الأصحاب وتنتقل إلى استنباط ما أغفلوه.

(1) في (ن، د) بدل (الديدان): الدالي. ولا يخفى ما في أصل المثال، لأن الكلام في غير البيع.
370

الثالث: (1): أن الوجه في بطلان هذه المعاملة: أن عمدة العماد في إثبات
الصحة الرافعة لأصالة الفساد إنما هو جريان المعاملات في زمن الشارع على هذا
المنوال وعدم تعرضه في ذلك بالقدح والبطلان، فيكون تقريرا منه في ذلك - كما
بيناه - ولا ريب أن تقريره لا يكون إلا بما هو معتاد أغلب الناس، وهولا يكون
سفهية. ولو فرض أن في ذلك الزمان كان يصدر منهم أيضا معاملات غير مقصودة
للعقلاء - كما هو المتعارف بين الجهال والأراذل في زماننا أيضا - فلا نسلم اطلاع
المعصوم عليها في ذلك الوقت، وليس صدور الفعل عادة كافيا في التقرير، بل
المعتبر صدور الفعل بمرئى منه ومسمع، ولا ريب أن أمثال هذه الأمور لا يؤتى بها
في حضور المعصوم عليه السلام ولو فرض الاطلاع عليها فنمنع التمكن في ذلك الوقت
عن الردع، ولو سلم ذلك كله فنمنع عدم الردع. وإطباق الأصحاب على البطلان
- مع أنه حجة برأسه في هذا المقام - كاشف عن صدور الردع والمنع عن ذلك كله.
مضافا إلى أن عموم قوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن
تكون تجارة عن تراض (2) شامل لذلك، لأن الباطل في العرف ليس إلا ما لا نفع
فيه، والأطلاق منزل على العرف، ولا يراد منه الباطل شرعا، للزوم الدور، فتأمل،
ولأن إثبات البطلان شرعا إنما يتحقق بهذه الآية في غير المستثنى، فكيف يعقل
إرادة الباطل شرعا مع أن البطلان ليس له حقيقة شرعية جزما حتى يحمل عليها
اللفظ؟ ويكشف عن ذلك تمسك الأصحاب به في إبطال أكثر المعاملات الفاسدة،
ولو أريد منه الباطل شرعا فلا وجه للتمسك به، مع أن استثناء (تجارة عن تراض)
يدل على أن ما عدا ذلك محكوم ببطلانه وداخل تحت أكل المال بالباطل، وما
نحن فيه ليس من باب (تجارة عن تراض).
فإن قلت: إن البحث في صورة المعاوضة، فيكون داخلا تحت (تجارة عن
تراض) فهذا يدل على صحته، لا فساده.
قلت: أما أولا: إن التجارة يراد بها ما هو وصلة إلى تحصيل المال، ولا ريب

(1) أي: المقام الثالث.
(2) النساء: 29.
371

أن المعاملة إذا كانت سفهية، فإما أن يكون طرفاه أو أحدهما مما لا يعد مالا
كالحشرات ونحوها، أو مما يعد مالا لكنه لا فائدة فيه، بل هو محض تضييع للمال،
وعلى التقديرين فهو خارج عن اسم التجارة.
ولو سلم شمول لفظ (التجارة) على مطلق المعاوضة أي نحو كانت بحسب
الوضع اللغوي، نقول: إن لفظ (التجارة) هنا ليس عاما حتى يندرج فيه مطلق
الأفراد، بل هو مطلق ينصرف إلى الأفراد الشائعة المعتادة، ولا ريب أن السفهية
خارجة عن المعتاد الغالب فلا تدخل تحت المستثنى، فتبقى تحت عموم الأكل
بالباطل، ولازمه الفساد.
وأما عموم أوفوا بالعقود و (المؤمنون عند شروطهم) ونحو ذلك من
العمومات، كأحل الله البيع و (الصلح جائز) وغير ذلك من الأدلة المطلقة في
أبواب الفقه التي يتمسك بها في إثبات الصحة فغير شامل للمقام، نظرا إلى انصرافها
أيضا إلى المتعارف الشائع وما عليه طريقة الناس، وما لا يقصد للعقلاء غير مندرج
تحت ذلك، مضافا إلى أن المعلوم من طريق الشرع المنع عما لا يعتد به دينا ودنيا،
وما نحن فيه من ذلك القبيل.
ومما يؤيد المقام بل يكون حجة في الباب: أدلة حجر السفيه عن التصرف
المالي، إذ ليس الحجر عليه إلا من جهة صدور مثل هذه المعاملة عنه غالبا، وهو
مما لا يرضى الشارع به، وهو من أقوى الامارات على أن هذه المعاملة غير
مرضي عنها عند الشارع وغير ممضاة في نظره.
فإن قلت: إن المعاملة السفهية تكون نافعة في أحد طرفيها وإن لم يكن فيها
نفع بالنسبة إلى الجانب الآخر كما علم ذلك من الأمثلة، فبالنسبة إلى أحد الجانبين
تدخل تحت أدلة التجارة والعقود ويتم في الجانب الآخر أيضا بعدم إمكان
التفكيك.
قلت أولا: إن خروجه عن الأدلة قد مر أنه لأجل عدم التعارف وكون أحد
الجانبين ينتفع به لا يجعله متعارفا.
372

وثانيا نقول: إنا نثبت البطلان بالنسبة إلى الجانب الغير المنتفع، ويثبت البطلان
في الجانب الآخر بعدم التفكيك، مع أن الدخول تحت دليل التجارة بمجرد ذلك
محل نظر، لأن التجارة ما قصد فيه الانتفاع من الجانبين، وما نحن فيه ليس من هذا
الباب على كل حال.
تنبيهان:
أحدهما: أن السفهية تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأجناس
والأعواض وغير ذلك، مثلا شراء الماء على الشط من دون مانع عن تناول الماء
عقلا وعرفا سفه وفي الفلاة ليس كذلك، وإعطاء الأجرة على شئ يستظل به في
الشتاء مع البرد الشديد المحوج إلى الشمس سفه، واستئجار الدابة للركوب في
السفينة كذلك. والحاصل: للخصوصيات مدخلية في المقام وإن كان بعض أنواع
المعاملة كما مثلنا بها سفها على كل حال، لكن لا ينحصر في ذلك، بل المعاملات
المعتادة نوعا قد تكون سفها في خصوص زمان أو مكان، أو بالنسبة إلى شخص
خاص، فتدبر.
وثانيهما: أن المعاملة السفهية نوعا - كإعطاء كرور (1) بدرهم - قد تخرج عن
السفهية إذا تعلق بها غرض صحيح هو من مقاصد العقلاء، ولا بد من كون الغرض
بحيث لا يحصل بدونها، وليس مطلق الغرض المعتد به مخرجا عن السفهية. وكلام
الشهيد الثاني رحمه الله في الباب حيث قال: (ويرتفع السفه بتعلق غرض صحيح) (2 منزل على ذلك، بل يمكن دعوى: أن الغرض معناه: ما لا يحصل في نظر الفاعل إلا
به، وما أمكن حصوله بدونه أو بأقل منه لا يعد غرضا لذلك، ويوضحه ما مثل به
بقوله: (كالصبر بدين حال ونحوه) (3) فتبصر.

(1) لغة... عند الإيرانيين بمعنى: خمسمائة ألف راجع (فرهنگ معين) ج 3 ص: 2959.
(2) الروضة 3: 521.
(3) نفس المصدر.
373

[العنوان الثاني والخمسون]
[تعلق النهي بأركان المعاملة مبطل لها]
375

عنوان
[52]
من جملة المبطلات للمعاملة: تعلق نهي الشارع بها.
وقد تمسك بذلك كثير من الأصحاب في كثير من المقامات، والمسألة محررة
في الأصول، لكن البحث في الأصول من جهة دلالة النهي على الفساد وعدمها،
وما نحن فيه أعم من ذلك، والغرض: إثبات أن المعاملة المنهي عنها فاسدة، سواء
كان ذلك من دلالة النهي على الفساد أو من جهة قرينة أخرى، أو قاعدة شرعية،
كما نقررها في تحرير الأدلة.
والمشهور بين الأصوليين: أن النهي لا يدل على الفساد في المعاملات،
وذهب المرتضى وجماعة إلى أن النهي يدل عليه (1) وظاهر جمع من فقهائنا:
التفصيل بين النهي المتعلق بأركان المعاملة وبين غيره، فيدل الأول على الفساد
دون الثاني، وهنا مذاهب اخر لا حاجة لنا إلى ذكرها، وقد نبه على ذلك التفصيل
المحقق الثاني رحمه الله في حاشية القواعد، حيث ذكر جملة من المعاملات المحرمة في أول المكاسب - إلى أن قال -: وهذه المعاملات كلها فاسدة، لرجوع النهي إما إلى

(1) كذا في النسخ، والسيد المرتضى قدس سره قال: إن النهي من حيث اللغة وعرف أهلها لا يقتضي
فسادا ولا صحة وإنما نعلم في متعلقه الفساد بدليل منفصل (الذريعة إلى أصول الشريعة
1: 180) ولذا زاد مصحح (م) كلمة (لا) قبل (يدل) غفلة عن أنها لا تلائم السياق.
376

أحد العوضين، أو أحد المتعاقدين (1). وهذا التعليل يشير إلى هذا التفصيل وإن كان
العبارة أعم.
وبالجملة: الظاهر من تتبع طريقة الفقهاء: حكمهم بالفساد بتعلق (2) النهي إلى
أحد الأركان كيف كان. وقد يمنعون أيضا الفساد في بعض المقامات تمسكا بأن
النهي في المعاملات لا يدل على الفساد.
ثم إن النهي قد يتعلق بالمعاملة لنفسها، وقد يتعلق لجزئها، وقد يتعلق لوصفها
اللازم، وقد يتعلق لوصفها المفارق، وقد يتعلق لأمر خارج، والمسألة مبسوطة في
كتب الأصول لا غرض لنا في ذكرها، والعمدة بيان الوجه في الفساد في المحل
المقصود.
فنقول لفظ (النهي) بنفسه من دون ملاحظة أمر خارجي لا يدل على فساد
المعاملة بأي نحو تعلق، لا بالمطابقة ولا بالتضمن، والوجه واضح، ولا بالالتزام،
لعدم اللزوم، ومدلول النهي إنما هو التحريم في المنهي عنه والعقاب على فعله،
وترتب الأثر لا دخل له في ذلك، لجواز ترتبه على أمر نهي عنه أيضا كما في
صورة النهي لأمر خارج، كالبيع وقت النداء فإنه حرام موجب للعقاب بالنهي، ومع
ذلك ذهب المشهور - بل الكل - على عدم فساد البيع بذلك. وبالجملة: لا ملازمة
بين التحريم والفساد، فلا دلالة، لأنها فرع اللزوم.
نعم، نقول: بأن النهي متى ما تعلق يصير المعاملة (3) فاسدة إذا كان النهي متعلقا
بأحد الأركان لوجوه:
الأول: مصير معظم الأصحاب عليه، بل لم يزل الفقهاء كافة يستدلون في
أبواب الفقه بالنهي على الفساد كما ذكره المرتضى رحمه الله (4) وهو واضح لمن تتبع، ولا
نقول بأنه دال (5) على الفساد شرعا كما ادعاه المرتضى (6) حتى يستلزم النقل

(1) جامع المقاصد 4: 17.
(2) في (ن): حيث يتعلق.
(3) في (م): متى ما تعلق بالمعاملة تكون فاسدة.
(4) الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 184.
(5) في (ن، د): دل.
(6) الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 180.
377

مدلول النهى، بل الظاهر أنه على معناه اللغوي والعرفي، لكن هذا التمسك
[والاجماع] (1) كاشف إما عن وجود قرينة عندهم على ذلك، أو وجود دليل دال
على كون المنهي عنه فاسدا، فيكون النهي أمارة محققة للموضوع، ويجئ الفساد
من نفس القاعدة المقررة. وقد وجدنا الفقهاء في صورة تعلق النهي بالأركان
متسالمين على هذا المعنى وإن منعوا في صورة تعلق النهي لأمر خارج، فعليك
بالتتبع.
الثاني: الإجماع الذي نقله المرتضى رحمه الله وغيره على ذلك - كما هو مذكور في
علم الأصول - وجعله حجة على الدلالة شرعا، مع اعتضاده بفتوى كثير من
الأصحاب متقدما عليه ومتأخرا عنه.
الثالث: الاستقراء، فإنا قد وجدنا كثيرا من المعاملات المنهي عنها لركنها
فاسدة، بحيث علم فسادها من إجماع أو شئ آخر بحيث لم يبق لنا بحث في
فسادها، فإذا صار الغالب فيها ذلك يحمل المشكوك فيه على الغالب من الفساد
وإن لم يدل فيه شئ على فساده.
الرابع: ما ورد في الرواية في نكاح العبد بغير إذن سيده أنه يصح لأنه ما
عصى الله بل عصى سيده (2) وهذا التعليل يدل على أن العقد لو كان فيه معصية الله
لكان فاسدا.
لا يقال: إن معصية السيد أيضا معصية الله تعالى، فينبغي على هذا أيضا أن
يكون فاسدا.
لأنا نقول: إن الظاهر من الرواية: أن معصية الله ابتداء مبطلة (3) بمعنى: أنه لو
كان العقد محرما بأصل الشرع لوقع فاسدا، بخلاف ما لو كان التحريم لأمر خارج،
فإنه غير مبطل، وهذا يدل على التفصيل الذي أشرنا إليه: من أن التحريم إن كان

(1) لم يرد في (م).
(2) الوسائل 14: 523، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والأماء، ح 1 و 2.
(3) في غير (م): مبطل.
378

ناشئا عن أصل المعاملة - بمعنى كون سببه أحد أركان العقد - لزمه الفساد وإن كان
من أمر خارج فلا، ونكاح العبد بغير إذن سيده ليس فيه تحريم من جهة نفس العقد
ولا من أجزائه وأركانه، وإنما هو لمخالفة المولى.
فإن قلت: إن هذه الرواية تدل على كون العقد المنذور تركه أيضا باطلا كما لو
حلف أن لا يبيع أو نذر ونحو ذلك، لأن العقد حينئذ معصية الله.
قلت: ليس كذلك، بل الظاهر من الرواية كون نفس العقد معصية لله لو خلي
ونفسه من دون انضمام أمر خارج إليه، وليس النذر والعهد بالنسبة إلى العقد إلا
كإذن المولى في العبد، وإن كان المنع في النذر عن الله تعالى، لكن بواسطة إلزام
العبد نفسه به، كما أن منع الشارع عن عقد العبد بواسطة منع سيده. وبالجملة: ظاهر
الخبر: أن كون العقد بنفسه معصية لله يوجب بطلانه.
والمناقشة في سند الرواية أو في حجيتها في المقام خالية عن الوجه، لأن
سندها معتبر وحجيتها في المقام لا ريب فيها، إذ ليس الغرض إلا تأسيس قاعدة
شرعية في أن المعاملة المنهي عنها فاسدة، وليست المسألة أصولية، لأنا لا نتكلم
في دلالة النهي على الفساد، بل نجعله أمارة محققة للموضوع، فتدبر.
ولا يعارضه ظهور النواهي في الأعمية عن البطلان والعدم، لعدم التنافي. نعم،
لو ادعينا دلالة الرواية على أن النهي يقضي بالفساد للزم هذا المحذور. ولو سلم
المنافاة والمعارضة، فنقول: ورود الخبر على مدلول النواهي ورجحانه عليها (1)
واضح، وليس إلا كما لو قال المولى لعبده: (كل ما نهيتك عنه لو فعلته كان فاسدا،
بلا ثمرة) بعد صدور نواه كثيرة عنه، وقد مر نظير هذا الكلام في تأسيس أصالة
التعبد في الأوامر، فراجع (2) وفي الخبر أبحاث كثيرة موكولة إلى ما حرر في
الأصول، وهذا المقدار كاف فيما نحن بصدده بعد وضوح المرام.
الخامس: أن النهي وإن لم يدل على الفساد بالوضع، ولكن تعلق المنع بأحد
الأركان يقتضي كون المراد به الفساد، فيكون بمنزلة القرينة، نظرا إلى أن الأمر أو

(1) في (م): عليه.
(2) راجع ج 1، العنوان: 12.
379

النهي المتعلق بشئ ينساق منه إلى الذهن جهته المقصودة بالذات، ولا ريب أن
المقصود الذاتي في المعاملات ترتب الآثار عليها، وأما الإباحة والتحريم فهما
من التكاليف التي لا ربط لها بالمعاملة من حيث هي كذلك، فإذا تعلق النهي بها
يدل على عدم وجود ما هو المقصود من المعاملة فيه، وهو ترتب الأثر، لا عدم
الثواب أو وجود العقاب. وبالجملة: تعلق نهي الشارع على شئ يدل على أن
الآثار المطلوبة منه من حيث هو كذلك غير مترتبة عليه وهو الفساد، ولا فرق في
ذلك بين العبادة والمعاملة.
وما يقال: إنه على هذا لا يختص بصورة التعلق بالأركان، بل يعم المنهي
عنه كيف كان، مدفوع بوجود الفرق، إذ لو كان التعلق بأحد الأركان فيكون
المعاملة منهيا عنها. وأما لو كان لغير ذلك كان المنهي عنه أمرا خارجيا، وإن وجد
في ضمن المعاملة فلا يصير الحيثية المذكورة آتية فيه، بل يلاحظ فيه حيثية
أخرى، فلا تذهل.
السادس: أن وظيفة الشرع إنما هو الإرشاد إلى ما هو المصلحة والمفسدة،
كأوامر الطبيب في وجه، وهما يلاحظان من جهات شتى، وظاهر النهي كون
الشئ ذا مفسدة مطلقا، ومنها عدم ترتب الآثار، وإن أمكن أن يقال: يكفي في
ذلك وجود المفسدة الكامنة الموجبة للعقاب وإن لم يكن المفسدة هو عدم ترتب
الأثر. لكن يمكن القول بأن الشئ الذي فيه مفسدة ذاتية توجب العقاب لا يجوز
على الشارع الحكيم إمضاء آثاره ولوازمه المقصودة منه، لأن الرخص لا تناط
بالمعاصي.
وفيه نظر، إلا أنه [فيه] (1) نوع تأييد، ولعله إلى ما ذكرنا ينظر قول من قال: إن
المنهي عنه لو كان صحيحا لزم من صحته حكمة تدل عليها الصحة ومن تحريمه
حكمة يدل عليها النهي، وهما إما متساويان أو أحدهما يزيد على الاخر، فيلزم
ارتفاعهما على الأول أو الصحة، إذ بعد التساقط يبقى على أصالة الإباحة كسائر

(1) من (م).
380

المعاملات وعلى الثاني يلزم ارتفاع الناقص بصورتيه (1).
والمقصود: أن الصحة وترتب الأثر كاشف عن مصلحة فيه والتحريم كاشف
عن مفسدة، فإما أن يتكافئا فيلزم الصحة، وإما أن يختلفا فاللازم عدم الصحة لو
رجحت المفسدة وعدم التحريم لو رجحت المصلحة. وهذا كلام جيد جدا وإن
زيفه كثير من الأصوليين.
وما يقال: إن هذا لا يدل على الفساد - إذ غايته دوران الأمر بين بقاء الصحة
أو التحريم، ولعل التحريم مرتفع - خطأ محض، إذ لو فرض ارتفاع التحريم خرج
عن محل البحث، إذ الفرض كونها معاملة منهيا عنها، ومتى ثبت التحريم لزم
البطلان، لعدم إمكان الاجتماع. وهنا كلام في النقض والحل موكول إلى ما حرر
في الأصول في بحث النهي في العبادات واجتماع الأمر والنهي.
السابع: ما ورد في الروايات عن الأئمة عليهم السلام في بيان بطلان بعض المعاملات
من التمسك بالنهي (2) كما في (حرم الربا) و (نهى النبي صلى الله عليه وآله عن ا لغرر) ونظائر
ذلك مما لا يخفى على المتتبع، فإن ظاهر هذه الأخبار أن المنهي عنه فاسد، وذلك
واضح.
والثامن: ما ذكره بعضهم: من أن النهي متى ما دل على التحريم خصص ما دل
على صحة العقود من قبيل: أحل الله البيع و (الصلح جائز) وأوفوا
بالعقود) و (النكاح من سنتي) ونحو ذلك، للتعارض بينهما بالعموم والخصوص
المطلقين، فيخرج المنهي عنه عن عموم أدلة الجواز والإباحة. والصحة وإن كانت
من الأحكام الوضعية، لكنها تابعة في هذه الأدلة للحكم التكليفي، بمعنى: أن
الصحة قد استفيدت من أدلة الإباحة ولزوم الوفاء، فمتى ما زال الحل بالنهي فلا

(1) ذكره المحقق القمي قدس سره في عداد أدلة القائلين بدلالة النهي على الفساد شرعا، وأجاب
عنه، راجع القوانين 1: 161، وهكذا صاحب الفصول قدس سره، انظر الفصول: 142.
(2) لم نعثر في الروايات على تمسك الأئمة عليهم السلام في بطلان بعض المعاملات بما ذكره،
وهو قدس سره أعلم بما قال.
381

وجه لبقاء الصحة، وذلك نظير تبعية المفهوم للمنطوق، إذ لو جاء ما يعارض
المنطوق وأسقطه عن الاعتبار فلا يلتفت بعد ذلك إلى المفهوم.
وبالجملة: المنهي عنه بخروجه عن أدلة الصحة يرجع إلى أصالة الفساد
الأولية، ولذلك نقول: إن المنهي عنه فاسد، لا أن النهي يدل على الفساد.
وما يقال: إن هذا الكلام يتجه فيما لو كان دليل الصحة منحصرا في العمومات
التكليفية، وأما العمومات الوضعية: كقوله: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) (1) ونحو
ذلك فلا يتخصص بالنهي، ويكفي ذلك في إثبات الصحة مع عدم المنافاة بينها
وبين التحريم - فتدبر - مدفوع بأن الأدلة الوضعية مع عدم وجودها في كثير من
الأبواب وأخصيتها من المدعى لو كانت إنما هي مسوقة لبيان حكم آخر، ولا
دلالة فيها على إثبات الصحة حتى يتمسك بها في مقابل النهي.
وبالجملة المعاملة المنهي عنها لركنها فاسدة بما مر من الوجوه، وعليه طريقة
الأصحاب في كل باب.

(1) الوسائل 12: 346، الباب 1 من أبواب الخيار، ح 3.
382

[العنوان الثالث والخمسون]
[الإقالة وما يتعلق بها من المباحث]
383

عنوان
[53]
من جملة المبطلات استدامة: الإقالة، وهي (1) عبارة عن فسخ المتعاقدين
للعقد بتراضيهما على ذلك، والبحث فيها يقع من جهات:
أحدها: (2) في أنها فسخ، أو بيع، أو عقد جديد مطلقا، أو مع التفصيل بين لفظ
(أقلت) و (فسخت)؟ والمعتمد: أنها فسخ مطلقا.
وثانيها: أنها في حق المتعاقدين والشفيع فسخ أو في حق الأول دون الثاني،
أو بالعكس؟ والحق أنها فسخ مطلقا.
وثالثها: أنه إذا تحقق الإقالة فهل العوضان يضمنان بالمثل مطلقا، أو بالمثل
في المثلي وبالقيمة في القيمي في صورة التلف، وأما مع الوجود فلا بأس.
ورابعها: في حكم الزيادة الحاصلة في العينين بطريق النماء متصلا أو منفصلا
أو (3) بطريق إحداث أحد المتعاقدين، وفي حكم النقصان الطارئ عليهما بفعل

(1) لا يخفى أن الضمائر الراجعة إلى (الإقالة) في هذا العنوان وردت في أصول النسخ غالبا
بلفظ المذكر، وقد أنثها مصحح (م)، ونحن اقتفينا إثره في هذا الأمر، وأما فيما غير ه من
بعض العبارات والألفاظ راعينا ما ورد في سائر النسخ - وإن كان في بعض العبارات ما
لا يخفى - ولم نشر إلى الاختلافات لكثرتها وعدم الفائدة فيها.
(2) كذا، والمناسب: إحداها. وهكذا في الأعداد الآتية.
(3) في (ف، م) بدل (أو): و.
384

الله تعالى أو المتعاقدين أو الأجنبي، وهذا هو الحكم المشترك بينه وبين سائر
الفواسخ.
وخامسها: أن الإقالة يعتبر فيها الإيجاب والقبول، أو يعتبر فيها اللفظ من
الجانبين كيف كان، أو يكفي فسخ الواحد مع رضا الاخر به أو التماسه قبله؟
وسادسها: أن الإقالة هل تجري في أبعاض المعقود عليه كالمجموع أم لا؟
وسابعها: أن الإقالة هل هي جارية في العقود كافة سوى مثل النكاح الذي
أخرجه الإجماع، أو مختصة بالبيع؟
وثامنها: أن الإقالة على تقدير التعميم أو التخصيص هل هي على القاعدة، أو
شئ أثبته الدليل، وإلا فهي منافية لأدلة العقود؟
وتفصيل الكلام في كثير من ذلك موكول إلى كتب الفروع، وإن أجمل فيه
الأصحاب في تفصيل الباب.
وملخص المطلب: أن كونها فسخا مطلقا إنما هو من جهة صدق الفسخ وعدم
صدق شئ من العقود عليها وكون قصد المتعاقدين من ذلك رفع أثر المقتضي
الأول، لا إحداث مقتض جديد، ولا فرق في هذا المعنى بين الألفاظ ولا بين
الأشخاص. وأما الضمان فهو على القواعد الآتية في محلها في الأحكام، ومثله:
أحكام الزيادة والنقصان فإنها على القواعد العامة لا دخل لها بباب الإقالة، وإنما
اللائق بالبحث لنا بالنسبة إلى موضوع الكتاب: الكلام في الجهات الباقية، فهنا
أبحاث:
الأول: في بيان مقتضى القاعدة.
فنقول: لا ريب أن الأصل الأولي بعد ثبوت العقد وترتب الأثر بقاؤه على
هذه الحالة ولزوم الوفاء به، ولا يرتفع هذا الحكم إلا بمزيل شرعي قام عليه
الدليل، وليس مجرد تراضي المتعاقدين على الفسخ وتفاسخهما مزيلا قهرا، كما
أنه لا يكون مزيلا في النكاح، فلابد في إثبات البطلان بالإقالة ورجوع كل عوض
إلى مالكه عن دليل معتبر، فهي على خلاف القاعدة.
وما يقال: إن العقد إنما هو للمتعاقدين ولا دخل لأحد في ذلك، والحق
385

منحصر فيهما، وكل أحد مسلط على حقه فإذا جاز كل منهما عن حقه فلا
يعارضهما أحد في ذلك.
مدفوع: بأن كون الحق لهما لا يقتضي تسلطهما على رفع السبب الشرعي إلا
بشئ جعله الشارع رافعا كما في النكاح، فإنه لا ريب أن الحق للزوجين لا
يعارضهما فيه معارض، ومع ذلك لو تقايلا وتفاسخا لا ينفعهما في إبطال أثر
النكاح، فلابد من إثبات كون الفسخ والتراضي مزيلا لهذا الأثر، وهو على خلاف
القاعدة.
ويمكن أن يقال: إن العمدة في أدلة لزوم العقد وعدم ارتفاعه بالفسخ، إنما هو
عموم أوفوا بالعقود فإنه دال على اللزوم الذي لا يرتفع بفسخهما أو أحدهما،
ولا ريب أن الظاهر من هذه الآية بعد كون الارتباط مأخوذا في مفهوم العقد كون
لزوم الوفاء من أحد الجانبين مرتبطا بالاخر كما ذكرناه في باب التقابض مع
الامتناع، فإذا جاء الارتباط نقول: إذا بنيا (1) على عدم الوفاء فلا يجب على أحد
منهما الوفاء، لأن الوجوب على البائع فرع وفاء المشتري وبالعكس، فإذا بنى
البائع على الفسخ لا يجب الوفاء على المشتري، وإذا بنى المشتري على الفسخ لا
يجب الوفاء على البائع، فإذا تراضيا على الفسخ لا يجب الوفاء على أحد منهما،
فلا وجه لبقاء اللزوم فتصير الإقالة فاسخة في العقود كلها إلا ما أخرجه الدليل.
أو نقول: إن الظاهر من عموم أوفوا بالعقود أن لزوم الوفاء على أحدهما
إنما هو لحق الاخر.
وبعبارة أخرى: الظاهر أن هذا الأمر توصلي والغرض منه عدم ضياع حق
المتعاقدين فإنهما مع تراضيهما على العقد لكل منهما جهة مقصودة منه يريد
حصولها، ولا وجه لتضييع ذلك، ولذلك أمر الشارع بالعمل بمتقضاه حتى لا يضيع
حق أحد منهما، ولكنه بعد تراضيهما على التقايل والتفاسخ فقد رفع اليد كل منهما
عن حقه، والناس مسلطون على حقوقهم، فلا وجه لبقاء اللزوم. وبعبارة أخرى:

(1) في (ن) ونسخة بدل (م): بنينا.
386

المتبادر من أدلة اللزوم كونه لأجل مصلحة المتعاقدين لا للتعبد المحض، فبعد
تراضيهما لا مانع من الفسخ.
الثاني: في جريانها في سائر العقود، أو اختصاصها بالبيع.
ومنشأ البحث: أن الإقالة على خلاف القاعدة وقد دل عليها النص والإجماع
في البيع، فيبقى سائر العقود على القاعدة، والخبر المروي في هذا الباب قول
الصادق عليه السلام: (أيما عبد مسلم أقال مسلما في بيع أقال الله عثرته يوم القيامة) (1)
وهذا الخبر مختص بالمسلم وبالبيع.
ولكن الحق جريانها في مطلق العقود إلا ما أخرجه الدليل، أما بناء على كونها
على القاعدة - كما ذكرناه - فلا بحث في التعميم، وهذا الخبر أيضا يكون مؤكدا في
بعض الموارد.
وأما لو قلنا بأنها على خلاف القاعدة - كما حررناه - فنقول أيضا
بالتعميم، نظرا إلى أن الرواية دلت على أن الإقالة إنما هي في يد المتعاقدين وفي
اختيارهما.
وبعبارة أخرى: الخبر مشعر بل دال على أن اللزوم ليس إلا لحق المتعاقدين،
وإذا أرادا التفاسخ فلا مانع من جهة الشارع، ولهذا نسب الإقالة إلى العاقد وذكر له
الاجر الأخروي، ولو كان هذا شيئا مجعولا من الشرع في مورد خاص لما ناسب
هذا التعبير.
وبعبارة ثالثة: جعل الصادق عليه السلام العلة في ترتب الثواب الأخروي رفع اليد
عن الحق والإقالة، وهو يعم الأبواب كلها، وذكر البيع بالخصوص لا يدل على
التخصيص، بل ذكره إما باعتبار كون الغالب ذلك، أو لأن لفظ (الإقالة) يطلق في
البيع دون غيره، ولعل الأول أوجه، لأنه العقد المبني على المغابنة والمداقة، وعليه
المدار في المعايش والمكاسب غالبا. ويشعر بما ذكرناه تعليل معظم الأصحاب
- كالعلامة والمحقق الثاني والشهيدين رحمهم الله - في باب التقايل في العقد بأنه معاوضة

(1) الوسائل 12: 286، الباب 3 من أبواب آداب التجارة، ح 2.
387

محضة فتجري فيه الإقالة (1) وظاهرهم أنه متى ما لم يكن فيه جهة تعبدية
- كالنكاح الذي دل عليه الدليل - فلا مانع من الإقالة، وهو يرشد إلى أن المناط
منقح بين البيع وغيره من المعاوضات، حتى في مثل الشفعة أيضا، وإن كان في
جريانها في مثل الضمان نظر فإن ذمة الضامن متى ما اشتغلت فيشكل الحكم
بانتقال الحق من ذمته إلى ذمة المضمون عنه إلا بضمان جديد، وكون الإقالة فيه
أيضا موجبا لذلك محل نظر، لكن في باب المعاوضات العينية أو غيرها فالمناط
منقح.
ويمكن التمسك بظهور الإجماع أيضا على ذلك، فإن الأصحاب في كل عقد
لازم سوى ما خرج ذكروا: أنه يبطل بالتقايل، ولم يستندوا في ذلك إلى دليل
خاص أو عام، وظاهرهم أن القاعدة الأولية (2) أو المؤسسة من دلالة الرواية
قاضية بجواز التقايل وبطلان العقد به فيما لم يثبت فيه جهة تعبد، فتدبر. وسيرة
المسلمين قديما وحديثا على الإقالة والفسخ مع التراضي في سائر العقود كاشفة
عن ذلك.
الثالث: أن الإقالة كما تجري في تمام العقد تجري في البعض أيضا، فيصير
البطلان بالنسبة إلى ما وقع فيه التقايل وتصير المسألة نظير البطلان في بعض العقد
من أول الأمر، كما في بيع ما يملك وما لا يملك - نحو شاة والخنزير، والخل
والخمر - فكما أن فقد الشرط لبعض المبيع يكون مبطلا للعقد بالنسبة إليه ابتداء
فكذلك طريان المانع قد يكون مبطلا بالنسبة إلى البعض دون الباقي. والوجه في
ذلك: أن العقد - كما قررناه سابقا - ينحل إلى عقود، فكل جزء من أجزاء العقد عقد
برأسه، والمراد بأجزاء العقد: أبعاض المتعلق القابل لتعلق ذلك العقد عليه - كما

(1) لم نعثر على موضع تعرضهم لمسألة تعميم الإقالة في سائر العقود أو اختصاها بالبيع، فضلا
عن التعليل المذكور، نعم قد عنونوا الإقالة في خاتمة كتاب البيع وذكروا بعض أحكامها،
انظر الدروس 3: 244، جامع المقاصد 4: 454، الروضة 3: 546.
(2) في (ن، د): الأولوية.
388

بيناه في محله - ومع الانحلال يجئ باب الإقالة، وليس غرضنا من ذلك أن،
أبعاض البيع بيع حتى يشمله قوله: (من أقال مسلما في بيع) بل الغرض أنه كما
تسرينا من البيع إلى سائر المعاوضات نتسري من الكل إلى الأبعاض، إذ العلة
ليست إلا تسلط المتعاقدين على الفسخ، ومتى ما كان العقد قابلا للتفكيك وصحة
البعض وبطلان الباقي فالمقتضي لجواز الإقالة موجود والمانع مفقود.
والقول بأن بطلان البعض دون الباقي مختص بصورة كون البعض مما لا يملك
ونظائره، وجريانه في الإقالة ممنوع، والدليل دل على الجواز في البيع والظاهر
منه المجموع، كلام قشري، إذ بعد ما جاز في العقد بقاء البعض دون الاخر وثبت
التسلط على الفسخ للمتعاقدين، فأي محذور في ذلك؟ ولا خصوصية لمسألة
الشاة والخنزير في ذلك، بل الظاهر أن السر كون العقد قابلا للتبعيض، كما
أوضحناه في مسألة الانحلال إلى العقود (1).
بل لنا أن نقول: إن الإقالة في الأبعاض يصدق عليها أنها إقالة في بيع، لأن
كلمة (في) للظرفية الحكمية هنا، والإقالة في البعض إقالة في الكل.
ومتى ما ثبت في أبعاض المبيع ثبت في أبعاض سائر العقود بعدم القول
بالفصل، ولعله يشير إلى ما ذكرناه عبارة المسالك: وإطلاق الاذن في الإقالة
يشمل الكل والبعض (2)، فتدبر. مضافا إلى إجماع الأصحاب على جواز التبعيض.
ومنع بعض العامة في السلم متمسكا بأنه يصير سلما وبيعا (3) - وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله
عنه - (4) مبني على كون الإقالة بيعا، ولا نقول به مع ما فيه من أبحاث اخر.
الرابع: قال الشهيد الثاني رحمه الله: وصيغتها: أن يقول كل منهما: (تقايلنا) أو
(تفاسخنا) أو يقول أحدهما: (أقلتك) فيقبل الاخر، ولا يكفي التماس أحدهما

(1) راجع العنوان: 31.
(2) المسالك 3: 437.
(3) منهم ابن حزم في المحلى 9: 115، المسألة 1623، لكنه تمسك بنهي النبي صلى الله على هوسمل عن بيع ما
لم يقبض وعن بيع المجهول، لأنه غرر.
(4) الوسائل 12: 266، الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح 12.
389

عن قبوله (1).
وظاهر كلامه: أن الصيغة معتبرة في ذلك ولا يكفي فيه (2) الفعل. والذي
يقتضيه النظر الصحيح أنهما لو تقابضا مع قصدهما الفسخ ودلالة المقام عليه من
مقاولة ونحوها كفى (3) في الفسخ، إذ المعتبر صدق الإقالة عرفا وهي تصدق بذلك
كما لا يخفى على من راجع العرف.
ومن هنا ظهر أنه لو قال أحدهما: (أقلتك) وقبل الاخر قبولا فعليا دالا على
الرضا كفى بالأولوية. ولو قال أحدهما: (أقلني) فقال الآخر: (أقلتك) فظاهر
كلامه عدم الاكتفاء به، بل لابد من قبول الأمر بعد ذلك، ولا ريب أنه لو قبله بالفعل
- كالقبض - يصدق عليه الإقالة، فيصير داخلا تحت الأدلة. وأما لو اكتفى بالأمر
السابق وسكت بعد قول الاخر: (أقلتك) ولم يحصل هناك تقابض ففي كون ذلك
إقالة نظر، من أصالة بقاء حكم العقد، ومن أن الإقالة تصدق عرفا عليه بحسب
الظاهر، ولا ريب أن الثاني في غاية القوة، خصوصا بعد ما ورد في باب النكاح
في الرواية من قوله: (زوجتك) بعد قوله: (زوجني) (4) ونظائره.
وبالجملة: الميزان صدق الإقالة والتفاسخ عرفا، ولا يشترط العربية
والماضوية، ونحو ذلك مما يشترط في العقود.

(1) المسالك 3: 436.
(2) العبارة في (م): معتبرة فيها ولا يكفي الفعل.
(3) في (ن، د): لكفى.
(4) انظر الوسائل 14: 194، الباب 1 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.
390

[العنوان الرابع والخمسون]
[الفسخ وذكر أسبابه وبيان الضابط في ذلك]
391

عنوان
[54]
من جملة المبطلات استدامة: الفسخ بأصل جواز العقد - كما في العقود
الجائزة - أو بسبب من الأسباب المسلطة على الفسخ.
وبعد ثبوت جواز الفسخ لا كلام في أنه مبطل، وإنما البحث هنا في أمرين:
أحدهما: في ذكر الأسباب التي ذكرها الفقهاء للفسخ في العقود اللازمة.
وثانيهما: في بيان الضابط في ذلك والوجه في كون هذه الأسباب موجبة لجواز
الفسخ، مع أن أصل العقد مبني على اللزوم.
فنقول: قد ذكر الفقهاء من أسباب الفسخ: المجلس في البيع، وكون أحد
العوضين حيوانا إلى ثلاثة أيام، وشرط الخيار لأحد المتعاقدين أو لهما أو
لأجنبي، وأمر من شرط له المؤامرة في بيع كان أو غيره، وتأخير أحد العوضين
عن ثلاثة أيام (وبمنزلته غصب أحد العوضين مع فوت المنفعة وعدم سرعة العود)
وخيار ما يفسد ليومه، والغبن في البيع وسائر المعاوضات، والعيب الموجود قبل
العقد أو المتجدد قبل القبض في البيع والإجارة ونحوهما (ومنه امتزاج اللقطات
في بيع الخضر لأن الشركة عيب) والتدليس بنحو تحمير الوجه ووصل الشعر
(ومنه التصرية في بيع الأنعام والكذب في رأس المال والخلط (1) في العوض

(1) في (ن، ف): الخليط.
392

كشوب اللبن بالماء، والحنطة بالتراب ونحوه) وفوات الشرط على المتشرط،
وتبعض الصفقة في متاع واحد أو متعدد - وإن دخل الأول تحت الشركة المعدودة
من العيوب أيضا - وفلس المشتري مع بقاء الثمن في ذمته ووجود العين، وظهور
إعسار الضامن بعد الضمان (وكذا الحوالة والكفالة في وجه) وزرع عامل
المزارعة ما هو أشد ضررا مما عين في العقد، وانقطاع الماء في أثناء مدة
المزارعة، وعروض العذر الشرعي أو العقلي للأجير، أو طرو مانع من استيفاء
المنفعة عام للكل أو خاص بالمؤجر، والجنون والخصا، والجب والغبن والجذام
والبرص والرض - على خلاف في البعض - في الزوج، والجنون والجذام والبرص
والعمى والإقعاد والقرن والعفل والرتق والعرج وكونها زانية أو محدودة بالزنا
- على إشكال في الثلاثة الأخيرة - في الزوجة، وظهور الزوجة أمة أو مبعضة مع
اقدامه على أنها حرة، وظهور الزوج عبدا أو مبعضا مع إقدامها على أنه حر،
وظهورها ثيبا مع إقدامه وشرطه أنها بكر، وعجز المكاتب عن أداء مال الكتابة،
وغير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.
ولكن جملة من هذه الخيارات منصوصة، وكثير منها غير منصوصة
بالخصوص، فمثل خيار المجلس دل عليه الإجماع، والخبر المعروف: (البيعان
بالخيار ما لم يفترقا) و (خيار الحيوان ثلاثة أيام للمشتري) كما في النص (1)
وشرط الخيار ثابت بعموم (المؤمنون عند شروطهم (2) وخيار التفليس بقوله:
(من وجد عين ماله فهو أحق به (3) وخيار عيوب النكاح بقوله: (إنما يرد النكاح
من الجنون والجذام والبرص والعفل) (4) ونحو ذلك.

(1) الوسائل 12: 346، الباب 1 من أبواب الخيار، ح 3 و 5.
(2) الوسائل 12: 353، الباب 6 من أبواب الخيار، ح 1 و 2 بلفظ (المسلمون عند شروطهم)
وقد ورد بلفظ (المؤمنون عند شروطهم) في الوسائل 15: 30، الباب 20 من أبواب المهور،
ح 4.
(3) عوالي اللآلي 2: 256، ح 2، وفيه: أحق بها.
(4) الوسائل 14: 594، الباب 1 من أبواب العيوب والتدليس، ح 6 و 10.
393

ولكن العمدة في فتح هذا الباب وإثبات الخيار في هذه المقامات الكثيرة - مع
أن العقد لازم بالأصل - إنما هو عموم ما دل على نفي الضرر والضرار، كما حققناه
في بحثه (1).
وبيان ذلك: أن عموم أدلة اللزوم من قبيل أوفوا بالعقود ونحوه دل على
لزوم الوفاء مطلقا، سواء كان هناك ضرر أم لا، وأدلة نفي الضرر والضرار دلت
على أن الحكم الذي ينشأ منه الضرر والضرار منفي في الشرع، كما أن الضرر
الواقع من العباد بعضهم إلى بعض منهي، سواء كان من جهة لزوم العقد أو من جهة
أخرى، فالتعارض بينهما بالعموم والخصوص من وجه، ومورد الاجتماع ما إذا
لزم الضرر والضرار من لزوم العقد، فأدلة الضرر تنفي الضرر وأدلة اللزوم تثبت
اللزوم المستلزم للضرر، فيقدم قاعدة نفي الضرر هنا لوجوه:
أحدها: أن الأضرار محرم والوفاء بالعقد واجب، فيصير هذا من باب اجتماع
الحلال والحرام (2) مع عدم إمكان الجمع، ولا ريب أن في هذه الصورة يحكم العقل
بتقديم جانب النهي، لأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
فإن قلت: كما أن فعل الحرام مفسدة فكذلك ترك الواجب، فلا وجه لجعل
الثاني جلبا (3) للمنفعة، بل هو أيضا مفسدة لابد من دفعها فيتعارضان.
قلت: المفسدة اللازمة في ترك الواجب تبعية، وفي فعل الحرام (4) أصلية،
والثاني يقدم على الأول.
بل نقول: ليس غرضنا من المفسدة العقاب، بل المراد بالمفسدة ما هو كامن
في ماهية الحرام موجب لتعلق حكم التحريم، فالواجب والحرام بالنسبة إلى
العقاب سواء، وأما بالنسبة إلى المفسدة الكامنة والتأثير الذاتي فما في الواجب نفع
لا يجوز تركه وما في الحرام ضرر يجب دفعه، ودفع المضرة أولى من جلب

(1) تقدم تحقيقه في ج 1، العنوان: 10 ص: 324.
(2) في غير (م): اجتماع الحلال بالحرام.
(3) في غير (م): دفعا.
(4) في (ف، م): المحرم.
394

المنفعة (1) ومن اعترض على هذه القاعدة غفل عن هذه الدقيقة، فتأمل حتى يتضح
الأمر.
وثانيها: أن الأصحاب في مقام تعارض الواجب والحرام وعدم إمكان القول
بهما بنوا على تقديم جانب التحريم كما ذكروا في مسألة اجتماع الأمر والنهي،
وكل من قال بعدم جواز اجتماعهما قدم النهي.
وثالثها: ما ورد في الخبر أنه: (ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام
الحلال) (2) ومقتضاه: أن جانب التحريم يقوى على مقابله، والمراد بمقابلة ما يعم
الوجوب، بقرينة ذكر الحلال في مقابل الحرام.
ورابعها: مصير الأكثر، بل الكل هنا على تقديم جانب الضرر، كما لا يخفى
على المتتبع.
وخامسها: ما قررناه في مبحث نفي الضرر: أن هذه القاعدة عقلية غير قابلة
للتخصيص، وما ذكرناه من وقوع بعض أفراد الضرر قد أجبنا عنه بما لا مزيد
عليه، فراجع ما حققنا في ذلك البحث (3).
وبالجملة: تقديم أدلة نفي الضرر على دليل لزوم العقد مما لا بحث فيه، وهذه
الخيارات - إلا ما شذ منها - داخلة تحت دليل الضرر، كما يظهر بعد التأمل، ولا
حاجة فيها إلى أدلة خاصة وإن وردت في بعضها، فتدبر.
نعم، هنا إشكال، وهو أن أدلة نفي الضرر تدل على أنه منفي في الشرع، فلا
وجه لتعيين الخيار لذلك، إذ غاية ما أفاده الدليل من لزوم طريق يرتفع به الضرر،
وأما أن ذلك هو الخيار، فلا دلالة فيها على ذلك (4) وقد أشرنا إلى هذا الكلام في
بحث الضرر فراجع، فمثل الغبن أو العيب الذي أثبتوا به الخيار يمكن دفع الضرر
فيه (5) بدفع ما به التفاوت أيضا من صاحب المال، أو من بيت المال، أو نحو ذلك.

(1) في مصححة (ن): النفع.
(2) عوالي اللآلي 3: 466، ح 17.
(3) راجع ج 1، العنوان: 10، ص: 312.
(4) في غير (م): لذلك.
(5) في " م ": اللذين أثبتوا بهما... فيهما.
395

ويندفع بأن اندفاع الضرر وإن كان له طرق متعددة، لكنه بأي نحو فرض يلزم
منه ضرر آخر سوى الخيار، وتفصيله قد مر في بحث الضرر فلا نعيده، وعليك
بالتدبر. مضافا إلى أن الأدلة تنصرف إلى ما هو المعتاد عند الناس في دفع ذلك
الضرر حيث لم يعين الشارع له طريقا معينا، ولا ريب أن طريقة الناس في
المعاملات إذا فعل واحد منهم خدعة أو تدليسا أضر بهما الاخر إذا أرادوا دفع
ذلك يقولون: (خذ مالك وأعطني مالي) وأما (أنك ادفع ما به التفاوت) ونحو ذلك
فهذه أمور مستلزمة (1) لتكلفات كثيرة وأحكام مخالفة للأصل من جهات، سيما أن
الضرر الناشئ من المعاملة إنما يرتفع لو خلي وطبعه بارتفاعها، ولا يلزم البطلان،
لعدم الحاجة في رفع (2) الضرر إليه، بل يكفي في ذلك الخيار، فتدبر.
وهنا إشكال آخر، وهو أنا لو بنينا على إثبات الخيار بمجرد الضرر لزم من
ذلك فتح باب عظيم، إذ ليس هناك معاملة، إلا ويتحقق فيها ضرر على أحد
المتعاقدين غالبا، إذ جهات لزوم الضرر مما لا تنضبط كما لا يخفى، فكيف يعقل
القول بأن أدلة نفي الضرر تثبت الخيار؟
ويندفع بأن الضرر الموجب للخيار يعتبر فيه أمور ثلاثة:
أحدها: أن يكون مما لا يتسامح به عادة ولا يتحمل في طريقة الناس مثله،
وهذا القيد قد استفيد من إطلاق لفظ (الضرر) فإنه ينصرف إلى ما يعتد به، بل
يمكن أن يقال: إن ما يتسامح به في العادة لا يعد ضررا أصلا.
وثانيها: أن يكون الضرر ناشئا عن المعاملة وعن المتعاقدين، لا عن سبب
سماوي، ولا عن أجنبي، وبعبارة أخرى: يشترط أن يكون الضرر ناشئا عن حيثية
المتعاقدين في جهة العوضين، فلا يرد أن انقطاع الماء في المزارعة موجب
للخيار، مع أنه ليس من جانب المتعاقدين. ووجه الدفع: أن انقطاع الماء يوجب
كون الأرض المعامل عليها مما لا ينتفع بها، فإعطاؤها في مقابل العمل على

(1) في العبارة ما لا يخفى، ولذا غيرها مصحح (م) بما يلي: وأما إلزام دفع ما به التفاوت
ونحوه فهو مستلزم.
(2) في (ن، د): دفع.
396

العامل مع كون عمله مما يتقوم ومطالبة العمل منه إضرار عليه من المالك، فتدبر
جدا. وهذا أيضا مستفاد من أن الضرر الذي يجب رفعه على أحد من المكلفين ما
كان لزومه من جهته، لا من جهة شخص آخر أو شئ آخر، إذ (لا تزر وازرة وزر
أخرى) فالضرر اللازم الاندفاع بالخيار الذي يوجب نقصا على الجانب الآخر ما
كان ناشئا من جهته.
وثالثها: أن لا يكون الضرر مما أقدم عليه المتضرر بنفسه، إذ لو كان هذا
الضرر بإقدامه عليه - كما لو اشترى مع علمه بالعيب أو الغبن أو نحو ذلك - فقد
أسقط احترام ماله، والجانب الاخر أيضا وإن كان سببا للضرر، لكن المباشر أقوى
منه، والمقدم على ضرر نفسه لا حق له على غيره.
ومتى ما تحقق الضرر بهذه الشرائط فنقول بثبوت الخيار ما لم يدل دليل على
ارتفاعه بطريق آخر، ولا يلزم من ذلك محذور أصلا، فتدبر.
397

[العنوان الخامس والخمسون]
[تعذر الوفاء بالعقد مبطل له]
399

عنوان [55]
من جملة المبطلات استدامة. تعذر الوفاء بالعقد، وهذا يتحقق بتلف العوض
المعين، عينا كان أو منفعة أو حقا من أي الجانبين كان.
ومن هذا الباب ما ذكره الفقهاء في أبواب العقود: أن تلف المنفعة في السكنى
والتحبيس والإجارة والعارية والصلح لو كان على منفعة يوجب البطلان مع
التعين، وكذا تلف الثمن المعين المبيع المعين قبل القبض، وقس على ذلك سائر
العقود. ونحوه فوات متعلق الوكالة، كموت العبد الموكل في بيعه أو انعتاقه، وموت
الدابة المشروطة في عقد المسابقة كون السبق عليها، أو تلف الآلة المعينة في
الرماية، والضابط في ذلك كله: تعذر الوفاء بالعقد.
ووجه البطلان بذلك: أن الصحة تستلزم العمل بمقتضاها، فلو عمل بمقتضى
العقد في غير ما تعلق به فهو عمل بخلاف مقتضاه، مع أن الغرض العمل بمقتضى
العقد، ولو أريد العمل بمقتضاه في متعلقه فالفرض تلفه أو ما في حكمه بحيث لا
يمكن الوفاء به، فالتكليف بذلك تكليف بما لا يطاق، وهو منفي، ونفي اللازم قاض
بنفي الملزوم فيبطل، وهذا في غير باب المعاوضات أو المعاوضات التي لا سبيل
فيها إلى القول بالضمان والغرامة - كالمزارعة والمساقاة - واضح.
وأما في مثل البيع والإجارة والصلح فيمكن أن يقال: لا مانع من القول بأن
400

العوض أو المعوض المعين إذا تلف فنقول ببقاء العقد على لزومه، ونقول بلزوم
المثل والقيمة على قاعدة الضمان، كما لو كان مال شخص في يد أحد مبنية على
الضمان فتلف، إذ لا ريب في وجوب دفع المثل والقيمة فهنا كذلك، فلا وجه
للبطلان كما في صورة ما إذا كان التلف من البائع مثلا أو المؤجر أو من قبل
أجنبي، فإنهم ذكروا: أن [كلا من] (1) المشتري والمستأجر يتخير بين الفسخ
- لفوات عين ماله والضرر - وبين الرجوع بالمثل والقيمة على المتلف، فلم لا
يجوز ذلك فيما لو كان بآفة سماوية لتساوي الصور في أصل الضمان وكون التلف
من مال البائع والمؤجر؟ بل احتمل الشهيد الثاني رحمه الله في إجارة الروضة الرجوع
إلى المؤجر بأجرة المثل لو تلفت المنفعة قبل القبض متمسكا بقاعدة الضمان (2)
كما له الرجوع على الغاصب وعلى المؤجر إذا أتلفها بنفسه، مضافا إلى أنه لا فرق
في الضمان بين الكل والابعاض والجزء والوصف. فكما لو تعيب العين أو المنفعة
في يد المؤجر أو البائع فللمشتري والمستأجر الرجوع عليه بالأرش، سواء كان
التعيب بفعل الله أو بفعله أو بفعل أجنبي، فكذا في ضمان الكل والبعض فما الفرق
بين صورة الإتلاف والتلف؟ وما الفرق بين الأوصاف وأصل العوض (3) كلا أو
بعضا حيث حكموا في تلفه بالبطلان؟
وهذا الإشكال وارد على من ادعى كون المسائل المفروضة على القاعدة.
وأما لو قيل بأن في صورة التلف الحكم بالبطلان إنما هو لدليل خاص من إجماع
أو نص وإلا كان مقتضى القاعدة الصحة والضمان، أو أن الضمان في غير هذه
الصورة ثبت (4) بالدليل وإلا كان مقتضى القاعدة البطلان، لا يرد هذا الإشكال
بوجه. والذي يقتضيه النظر أن يقال: إن أدلة الوفاء بالعقد قاضية بلزوم إبقاء العقد
على مقتضاه من الملك والتمليك وإجراء الأحكام اللاحقة عليه، ففي صورة كون

(1) من (م).
(2) الروضة 4: 352.
(3) في (ن): العوضين.
(4) في (ن): يثبت.
401

التلف بفعل البائع - مثلا - أو بفعل أجنبي: فلا مانع من بقاء العقد على مقتضاه، نظرا
إلى أن العين التالفة كانت ملكا للمشتري في يد البائع وقد أتلفها متلف يلزمه
الغرامة والضمان، فيبقى العقد على مقتضاه من الملكية، ويرجع المشتري على
عوض ماله المتلف بحيث يوجب الضمان، غايته: لما كان للعين خصوصية وقد
فاتت ولا يمكن استدراكها جبر هذا الضرر بالخيار، فإن شاء فسخ واسترجع الثمن
إن كان دفعه، وإن شاء رضي بالبقاء على ملكه ويرجع على متلفه بمثله (1) أو قيمته.
وأما في صورة كون التلف بآفة سماوية: فالذي يجب على البائع دفعه بأصل
العقد إنما هو عين المبيع وقد تلفت ولا وجه للتكليف بما لا يطاق، وأما المثل
والقيمة فلا وجه لدفعهما فيبطل العقد.
وبعبارة أخرى: المبيع في يد البائع قبل القبض مضمون عليه بالنص
والإجماع وإن كان بإذن المشتري بحيث لم تكن يده يد عادية بل يد مأذون فيها،
ولكن هذه القاعدة إنما دلت على ضمان العين دون غير. وبعبارة أخرى: المبيع
مضمون على البائع - بمعنى: أن تلفه من ماله كما لو لم يبع - وليس في ذلك تغريم
بشئ زائد.
وهناك سبب آخر للضمان، وهو الإتلاف الموجب للمثل والقيمة، لما دل على
أنه (من أتلف مال مسلم فهو له ضامن) (2) ففي صورة الإتلاف هنا اجتمع سببان
للضمان: قاعدة ضمان المبيع التي دل عليها النص وانعقد عليها الإجماع، وقاعدة
الإتلاف التي قضت بها أدلة العقل والنقل، فالمشتري بالخيار:
بين قطع النظر عن قاعدة الإتلاف والرجوع إلى ضمان أصل المبيع وهو
الفسخ، لأن ضمانه إنما هو بعينه - بمعنى كونه من مال بائعه - فيلزمه البطلان
ورجوع الثمن، وليس وراء ذلك شئ، ولذلك صرح من قال بأن المبيع قبل القبض

(1) في (ن): ويرجع على مثله.
(2) لا توجد هذه العبارة في كتب الأحاديث، بل هي قاعدة مصطادة من بعض الآيات والروايات
الواردة في موارد خاصة.
402

مضمون على البائع بأن معناه: كون تلفه من ماله، لا بمعنى: إلزامه بالمثل والقيمة،
ولولا الإجماع على الضمان بهذا المعنى لم يكن له وجه، لأنه مال المشتري في
يد غيره مع إذنه، فينبغي كونه كسائر الأمانات المالكية في عدم الضمان، مع أنه
يضمن للنص والإجماع، لكن بالمعنى السابق.
وبين قطع النظر عن ذلك والرجوع إلى قاعدة الإتلاف ومطالبة المتلف بالمثل
والقيمة، بائعا كان أو غيره.
بخلاف صورة التلف السماوي، فإن فيه لا وجه للضمان سوى قاعدة البيع،
وقد قررنا أن ضمانه عبارة عن كون التلف من مال بائعه كما دل عليه النص (1) ولا
وجه لضمان المثل والقيمة حتى يكون للمشتري تسلط عليه، وليس عنده إلا دليل
الوفاء بالعقد، وهو دال على ذلك في خصوص ما تعلق به العقد وقد امتنع بتلف
المال، ولا تكليف إلا مع القدرة، ولا دلالة في دليل الوفاء على دفع المثل والقيمة
أبدا، وذلك واضح.
ومما قررناه ظهر: أن التلف السماوي في يد البائع أيضا ليس على إطلاقه
موجبا للبطلان، بل إنما هو في صورة عدم وجود سبب آخر للضمان غير قاعدة
البيع، فلو فرض أن البائع غصب المبيع ومنعه عن ملكه عدوانا فصارت يده عادية
ضامنة للعين أو المثل والقيمة كسائر الغصاب فحينئذ لو تلفت العين في يد البائع
بآفة سماوية فالمشتري بالخيار أيضا: بين فسخ العقد واسترجاع الثمن، وبين
مطالبة الغاصب بالمثل والقيمة.
وملخص الكلام: أن تعذر الوفاء بالعقد عبارة عن فوات ما تعلق به العقد بعينه،
ومتى ما حصل ذلك ولم يكن هناك سبيل آخر يقوم مقامه بسبب شرعي لزمه
البطلان، لانحصار الأمر في ذلك، وعدم جريان دليل الصحة في هذا الفرض، وهو
كصورة التلف بآفة سماوية مع عدم كون يد البائع يد عدوان، كما قررناه. ولو كان
هناك سبيل آخر لصاحب المال المتضرر بتلفه فيتخير بين الطريقين، فإن شاء أخذ

(1) عوالي اللآلي 3: 212، ح 59.
403

بقاعدة ضمان المبيع وبنى على كون التلف من مال بائعه واسترجع (1) عوضه، وإن
شاء بنى على الأخذ بقاعدة أخرى موجبة للضمان - كالاتلاف من بائع أو أجنبي
أو غصب حيث تكون اليد المتصرفة عادية - فيأخذ المثل والقيمة، ويطرح جهة
الوفاء هنا، لإغماض المشتري عن ذلك، فتدبر في المقام فإنه من مطارح الافهام.
وأما الحكم بالأرش في صورة التعيب وإن كان من قبل الله فلا يرد نقضا على
ما نحن فيه، لأنا إن قلنا بأن الأرش على القاعدة - بمعنى: أنه جزء من الثمن
يسترجع في مقابل جزء من المبيع فائت - فلا بحث، لأنه ينطبق على ما ذكرناه
هنا، إذ كما أن تعذر الوفاء بالكل مبطل للكل فكذا تعذر الوفاء بالجزء مبطل
للجزء، فيسترجع ما بإزائه من الثمن. وإن قلنا بأنه ليس على القاعدة، بل هو
من (2 ضمان الوصف والوصف غير مقابل بالعوض، ولا فرق بين وصف الصحة
وغيره، بل (3) إنما هو شئ قضى به النص والإجماع - إذ لا سبب له غيرهما، إذ
الفرض أن التعيب لم يقع من البائع حتى يضمنه بقاعدة الإتلاف أو أدلة الضرر،
وليس مقابلا بعوض حقيقة حتى يتبعض بفواته، فليس إلا أنه شئ تعبدي - فلا
بحث أيضا، لأنه خرج بالدليل، وبقي ما نحن فيه على القاعدة من لزوم البطلان،
وقد مر تحقيق القول في انطباق الأرش على القاعدة وعدمه في ضبط متعلقات
العقود بما لا مزيد عليه، فراجع (4).
وللمسألة فروع منتشرة تتنبه عليها بالتتبع في كلمة الأصحاب، وبالله التوفيق.

(1) في غير (ن): يسترجع.
(2) كلمة (من) لم ترد في (ف، م) والأولى في العبارة: لكونه من ضمان الوصف.
(3) في (ف، م): بدل (بل): و.
(4) راجع العنوان: 41.
404

[العنوان السادس والخمسون]
[الموت والجنون والإغماء
من مبطلات العقود الجائزة]
405

عنوان [56]
من جملة مبطلات استدامة: الموت والجنون والإغماء - سواء طال زمانهما أم
قصر - لكن البطلان بها إنما هو في العقود الجائزة دون اللازمة. وجعل الشهيد
الثاني رحمه الله البطلان بها من أحكام العقود الجائزة.
قال المحقق في الشرائع في باب الوديعة: وهي عقد جائز من طرفيه يبطل
بموت كل واحد منهما (1).
وقال في المسالك: لا خلاف في كون الوديعة من العقود الجائزة فتبطل بما
تبطل به من فسخها وخروج كل منهما عن أهلية التكليف بموت أو جنون أو إغماء (2).
وقال في المضاربة في المسالك: لما كان هذا العقد من العقود الجائزة يبطل
بما يبطل به من موت كل منهما وجنونه واغمائه (3).
وقال في الوكالة: وتبطل الوكالة بالموت والجنون والإغماء من كل واحد
منهما هذا موضع وفاق، ولأن من أحكام العقود الجائزة ذلك (4).
وبالجملة: من تتبع كلمة الأصحاب [علم] (5) أن العقد الجائز يبطل بأحد

(1) الشرائع 2: 163.
(2) المسالك 5: 84.
(3) المسالك 4: 353.
(4) المسالك 5: 247.
(5) من هامش (م).
406

الأمور الثلاثة من أي الطرفين كان. وأما العقد اللازم - كالبيع والصلح والإجارة
والحوالة والضمان والكفالة والصلح والمسابقة والمزارعة والمساقاة ونحو ذلك -
فلا تبطل بالثلاثة وإن كان يبطل بالموت في بعضها لا من جهة الموت، بل من جهة
تعذر الوفاء وغير ذلك.
وبالجملة: الكلام هنا في أن هذه الأمور الثلاثة لو لم تكن هناك حيثية أخرى
لا تبطل العقد اللازم. نعم، لو كان هناك جهة أخرى كما في صورة اشتراط المباشرة
على الأجير وعلى العامل في المزارعة والمساقاة والمسابقة فيبطل العقد بموت
العامل خاصة، كما نصوا عليه في كتب الفروع، وذلك لتعذر الوفاء بالعقد على ما
هو عليه.
ووجه عدم البطلان واضح: من استصحاب بقاء حكم العقد، وإطلاق ما دل
على الصحة الشامل لصورة الموت والجنون والإغماء أيضا.
ودعوى: أن أدلة الصحة أمور تكليفية - كأوفوا بالعقود ونحوه - وهي غير آتية
مع الخروج عن أهلية التكليف، مدفوعة: بأن المقصود إثبات الصحة، ولا تلازم
بين الحكم التكليفي والوضعي، فكما تثبت الصحة بمجرد العقد، كذلك يبقى بعد
ذلك أيضا صحيحا ما لم يتحقق هناك مبطل متيقن، والموت والجنون ونحوه (1) لم
يثبت كونها مبطلة (2) لعدم الدليل عليه.
وأما العقد المركب من الجواز واللزوم - كالرهن - فهو أيضا في حكم العقد
اللازم، لاستصحاب حكم العقد وعدم مدخلية الجنون في ذلك.
وأما الهبة: فهي إن كانت لازمة - كهبة ذي الرحم والزوجين والهبة المعوضة -
فهي كغيرها من العقود اللازمة، والوجه ما مر. وأما لو كانت مركبة - كغيرها من
الهبات التي للواهب الرجوع فيها ما لم يتلف العين عقلا أو شرعا، أو ما لم يتصرف
أيضا على قول معروف - فهي ملحقة باللازم أيضا (3) في عدم البطلان بالموت

(1) في (م): نحو هما.
(2) في غير (م): كونه مبطلا.
(3) كلمة (أيضا) لم ترد في (ن، د).
407

والجنون والإغماء، بل هي بالموت تصير لازمة، والوجه في ذلك كله واضح مما
مر. وقد دل على عدم البطلان بالموت ونحوه في بعض هذه العقود أدلة خاصة كما
في الإجارة وغيرها، فيمكن التمسك في ذلك بعدم القول بالفصل أيضا، مضافا إلى
القاعدة.
وأما العقود الجائزة - كالوديعة والعارية والشركة والمضاربة والجعالة
والوكالة والسكنى المطلقة والقرض في قول معروف، والوصية - فظاهر كلام
معظم (1) الأصحاب حيث جعلوا البطلان بها من أحكام العقود الجائزة بطلان تلك
كلها (2) بأحد الثلاثة وإن تركوا ذكره في بعض الأبواب، وأكثرهم ذكروه (3) في
الوديعة والمضاربة والوكالة، لكن التعليل قاض بالعموم، وقد مر ما يرشدك إليه.
والوجه في المسألة إن كان هو الإجماع، فهو في الثلاثة المذكورة من العقود
محقق ومنقول في كلامهم، والشركة كالمضاربة أو كالوديعة، والجعالة كالوكالة
بعوض، والسكنى كالعارية بل فرد منها، - سيما على القول بأنها تمليك - وهما
كالوديعة فتصير هذه العقود السبعة موردا للإجماع، والظاهر أنه كذلك، وإرسال
الشهيد الثاني رحمه الله وغيره المسألة ارسال المسلمات دال على ذلك، ودعوى عدم
القول بالفصل بعد تحقق الإجماع في بعضها أيضا موجهة، كدعوى الإجماع
البسيط على الجميع.
وأما القرض: فعلى القول بأنه عقد لازم لا بحث فيه، وعلى القول بالجواز
نقول: هو أيضا كذلك يبطل بموت المقرض وبجنونه وإغمائه، وكذلك في جانب
المقترض لدخوله تحت التعليل وعدم القول بالفصل، وسيجئ تفصيل الكلام في
تحقيق حكم البطلان في تحرير القاعدة.
وأما الوصية: فهي لا تبطل بموت الموصي، نظرا إلى أن وقت تحققها إنما هو
ما بعد الموت، فحصول موته بمنزلة شرط تحقق الوصية. وأما موت الموصى له

(1) معظم: لم يرد في (ن).
(2) في غير (م): ذلك كله.
(3) في غير (م): ذكروها.
408

ففي بطلانها به وعدمه أقوال، ومقتضى ما ذكرناه البطلان مع حياة الموصي أو
وفاته مع عدم تحقق القبول، وورد في النص انتقال حق القبول إلى الوارث (1)
وعمل به جماعة، وحمله آخرون على عدم إرادة الموصي الخصوصية، يعني:
خصوص الموصى له، وجمعوا بذلك بين الأخبار. وبالجملة: لو قيل بعدم بطلانها
فإنما هو للدليل، وهو غير قادح فيما أردناه.
وأما الجنون والإغماء: فبعد الانتهاء إلى اللزوم - من تحقق القبول وموت
الموصي - غير قادحين (2). ومع عدمه - كما في حياة الموصى وإن قبل الموصى له
أو بعد وفاته ما لم يقبل فاتفق جنون أحدهما أو إغمائه في الأول أو الموصى له
في الثاني - ففي البطلان وجهان، والظاهر البطلان بجنون الموصي أو إغمائه لما
نحرره من القاعدة - على إشكال يأتي - وإن أشكل دعوى الإجماع. وأما
الموصى له فلا، سواء كان في حياة الموصي أو بعد وفاته، لعدم قضاء الدليل به من
اجماع أو نص، ولا اقتضاء قاعدة لذلك، ولعل هذه الأحكام من جهة عدم كون
الوصية عقدا جائزا وإنما هي عقد لازم وإن كان للمتعاقدين فيه الفسخ في بعض
الأزمنة كخيار المجلس في البيع. وبطلانها بجنون الموصي أو إغمائه ليس من
حيثية كونها عقدا جائزا، بل من جهة طريان الحجر المبطل للتصرف، مع أن منع
البطلان بهما أيضا ممكن، لعدم وجه دال عليه وطريان الحجر لا يمنع من صحة ما
مضى من التصرف. وبالجملة: فحكم الوصية خارج عما نحن فيه.
وإن كان منشأ البطلان القاعدة (3) فلابد من التأمل فيها.
فنقول: يمكن تحرير القاعدة هنا بما أشار إليه الأصحاب: من أن البطلان من
جهة خروج أحد المتعاقدين عن أهلية التكليف والتصرف. والظاهر أنه ليس
المراد من ذلك: أن بخروجهما عن أهلية التكليف لا يشمل خطاب أوفوا

(1) الوسائل 13: 409، الباب 30 من أبواب أحكام الوصايا، ح 1 و 2 و 3.
(2) في غير (م): غير قادح.
(3) عطف على قوله: والوجه في المسألة إن كان هو الإجماع، راجع ص: 408.
409

بالعقود ذلك فيبطل من هذه الجهة، لأن الأدلة الوضعية الدالة على صحة هذه
العقود موجودة، وهي لا تتقيد بشرائط التكليف، ولأن الحكم التكليفي متى ما
تعلق في أول الأمر به فلحقه الحكم الوضعي فيستصحب كما في العقود اللازمة. بل
المراد: أن الخروج عن أهلية التكليف يخرجه عن أهلية التصرف في المال للحجر
عليه وثبوت الولاية عليه، فلا يمضي ما بنى عليه من التصرفات استدامة، كما لا
يمضي لو تصرف ابتداءا.
وتوضيحه: أن تسليط المالك مثلا الأجنبي على ماله أو حقه في الوديعة
والمضاربة والوكالة والجعالة والعارية والسكنى والشركة إنما هو لثبوت ولايته في
ماله وجواز تصرفه كيف شاء، فمتى مات انتقل إلى الوارث فلا يمضي أمره بعد
ذلك، فيصير البقاء بعد ذلك لو أراد الوارث بعقد جديد، لبطلان العقد الأول بارتفاع
تسلط الميت، وكذا لو جن أو أغمي عليه، لانسلاخ الولاية عنه بهما وكونه مولى
عليه كماله، فالاختيار يكون بيد الولي، إن شاء أمضى بعقد جديد وإن شاء لم يفعل.
وأما البطلان بموت العامل: فهو واضح، نظرا إلى أن الفرض تعلق العقد به،
فإذا مات فات المحل، فلا وجه لبقاء العقد، وهذا فرع من فروع تعذر الوفاء.
وأما جنونه وإغمائه: فلأن العامل بحصولهما يخرج عن أهلية التصرف فتثبت
الولاية عليه وبقاء هذه العقود يحتاج بل يقتضي أهلية التصرف، إذ لا فرق بين
الابتداء والاستدامة في ذلك، فيرتفع الأثر في زمان الجنون والإغماء، وعوده بعد
ذلك يحتاج إلى وجود مقتض جديد، وليس بموجود، وهو معنى البطلان.
ولا يمكن أن يقال: إن بعد جنون المالك أو إغمائه يتصرف العامل أيضا
لوجود الولي، لأن الأذن الحاصل من المالك يعتبر مع كون أهلية التصرف له،
ومتى زالت لا عبرة بإذنه، لعدم علمه بالمصالح في ذلك الوقت، وقوة احتمال عدم
رضاه بالتصرف لو كان في ذلك الوقت عاقلا رشيدا، وإذن الولي لم يحصل،
فالصحة لا وجه لها.
410

كما أنه لا يمكن أن يقال: إن جنون العامل وإغمائه لا يوجبان (1) البطلان، إذ
لا مانع من جواز تصرفه بعد زوال المانع، لوجود المقتضي وهو العقد.
لأنا نقول: إن العقد قد اقتضى كون هذا الرجل العامل - مثلا - جائز التصرف
ما دام له أهلية التصرف، بمعنى: أن العقد إنما كان تعلقه على البالغ العاقل المكلف،
فإذا زال الوصف خرج عن كونه متعلق العقد كالميت، وعوده إلى صفات الكمال
بعد بطلان العقد لا ينفع ذلك في شئ (2) وتوضيح المسألة يحتاج إلى بسط في
الكلام وتنقيح في المقام، وفي الحقيقة تؤول المسألة إلى فرع من فروع التعليق
التي ذكرنا أنه من المبطلات.
وبيان ذلك: أن تسليط شخص ممن له أهلية التسليط وولايته على مال ونحوه
يتصور على وجوه ثلاثة:
أحدها: طريق الأذن الذي (3) يحصل بإنشاء الولي في ضمن أحد العقود أو
الايقاعات، بمعنى: أنه يستند المتصرف بهذا الأذن في تصرفه إلى الولي الأصلي
ويكون تصرفه قائما مقام تصرفه ونيابة عنه، فيكون في الحقيقة يده يد الولي
الأصلي، وليس له استقلال في وجه من الوجوه. ومن لوازم هذا الفرض أنه ينعزل
بعزله وبانعزاله وطريان مانع من التصرف له أو للولي المسلط له على ذلك. ويسمى
هذا القسم (نيابة) لكونه فرع المنوب عنه، تابعا له في الإمضاء والعدم.
وثانيها: طريق حدوث (4) الولاية لذلك المتصرف بجعل ولي الأمر، بمعنى: أن
تصرفه مستند إلى جعله، وليس له شئ من التصرف لا في الواقع ولا في الظاهر
إلا بجعله، فبإنشائه يكون الثاني أهلا للتصرف، لكن بالولاية لا بالنيابة، فيكون
تصريح الولي الأصلي موجبا لحدوث ولايته وأمارة له، فيتسلط على التصرف وإن
كان الولي الأصلي خارجا عن أهلية التصرف، ولا يكون في ذلك تابعا لأصله.
وثالثها: طريق بيان الحكم، بأن يبين المنشئ للتسليط حكم الشرع في ذلك

(1) في غير (م): لا يوجب.
(2) في غير (م): لا ينفع في ذلك شئ.
(3) في غير (م): الأذن والرخصة التي.
(4) في (ف، م) زيادة: حصول.
411

حتى ينكشف الواقع، فالحكم في الواقع ثابت لذلك الموضوع الذي جعل مسلطا
على المال ونحوه، لكنه لا يعلم إلا ببيان من الشرع، وهو لا يكون إلا من الشارع
ومن قام مقامه في بيان الأحكام الشرعية، ولا ربط لذلك الحكم بالبيان، بمعنى: أن
النصب والإنشاء ليس محدثا للحكم وعلة له، بل الحكم في الواقع ثابت لوجود
المصلحة الكامنة والشارع مبين له.
إذا عرفت هذه الوجوه، فنقول: المسلطون (1) على المال ونحوه على ما استفيد
من استقراء موارد الشرع أشخاص محصورة يعبر عنها بالأولياء، وهم النبي صلى الله عليه وآله و
خاصة، ووكيل الحاكم، والوصي المنصوب من المالك أو الولي الخاص أو العام،
والمالك، والأب والجد ووكيلهما، والمقاص، والمأذون في التصرف ممن له أهلية
الأذن والولاية، سواء كان [الأذن] (2) بطريق الإباحة أو بطريق عقد من شركة
ومضاربة ووديعة وجعالة وعارية ونحو ذلك.
وهذه الأشخاص بعضها من قبيل الوجه الأول، كالوكيل والمأذون مطلقا
فيهما. وبعضها من قبيل الوجه الثاني، كالوصي في المال أو في الصغار والمجانين
ونحو ذلك، سواء كان نصبه من الأب أو الجد أو من وصي أحدهما - حيث يجوز
[له] (3) ذلك - أو من الحاكم. وبعضها من قبيل الوجه الثالث، كالمالك والأب والجد
والنبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بالنسبة إلى الولاية العامة وبعضها محل بحث وإشكال،
كالحاكم المنصوب من الإمام خاصا أو عاما، وتحقيق ذلك كله يأتي إن شاء الله
في بحث الولايات والسياسات.
ومن ذلك يظهر: أن عروض الجنون والإغماء للوصي أو الحاكم لا يوجب
انعزاله كالمالك والأب والجد، بناءا على أن ذلك كله من باب الولاية أو بيان
الحكم التابع لصدق الموضوع، فبالخروج عن الأهلية بالجنون ونحوه يخرج عن

(1) في غير (م): المسلط.
(2) من (م).
(3) لم يرد في (ف) وشطب عليه في (ن).
412

الولاية وبالعود إليه تعود الولاية، لوجود الاسم المستلزم للحكم. وكذلك المأذون
المطلق كأن يقول المالك: (كلما كنت بالغا عاقلا فأنت مأذون في التصرف في
مالي) فإنه بالخروج عن العقل يخرج عن الأذن وبالدخول في الصفة يلحقه الأذن
بمقتضى العموم السابق في الأذن، لانحلاله إلى إذن مطلق متعدد. بخلاف الأذن
الحاصل في ضمن الوكالة ونحوها من العقود السابقة، فإن العقد بطريان الجنون
والإغماء يبطل، لقاعدة فوات الشرط، ولا عموم في الأذن حتى يشمل ما بعد
العود.
فإن قلت: نفرض الوكالة والشركة ونحوهما من العقود أيضا عاما بأن يقول:
(كلما كنت كذلك فأنت شريكي) أو (وكيلي) أو نحو ذلك.
قلت: لابد في إنشاء العقد من التنجيز كما بيناه في الشرائط، فلابد [في عقد
الوكالة مثلا] (1) من كون المخاطب وكيلا من حين العقد، وهذه الوكالات الحاصلة
بتخلل الجنون والإغماء إن كانت وكالة (2) واحدة فقد بطلت بعروض المانع،
والفرض عدم صدور إنشاء جديد، ولا وجه بعد ذلك للوكالة (3). وإن كانت
وكالات متعددة يلزم التعليق في الثانية لتنجز الوكالة الأولى وتعليق الوكالة الثانية
بما بعد الجنون، فيصير بمنزلة قوله: (أنت وكيلي متى ما صرت عاقلا بعد جنونك)
وهو التعليق المبطل، لعدم تحقق الوكالة الان [وكذا الكلام في غيرها من العقود
السابقة] (4) فتدبر، فإن هذا مما سنح للخاطر، ولا يكاد يسبقني إليه سابق بهذا الحل
والنقض وراجع ما حققنا لك في بحث شرطية التنجيز (5) وما ذكرناه في بحث
إبطال التعليق (6). وبالتدبر فيما ذكرناه ينفتح لك باب يفتح [منه] (7) ألف باب، وبالله
العصمة والتوفيق.

(1) من (م).
(2) في غير (م) زيادة: وشركة.
(3) في غير (م): زيادة: والشركة.
(4) ما بين المعقوفتين من (م).
(5) راجع العنوان: 40.
(6) راجع العنوان: 48.
(7) من (م).
413

عناوين الضمان وأسبابه ومسقطاته
وأحكامه اللاحقة له
[العنوان السابع والخمسون]
[قاعدة الضمان باليد]
415

عنوان [57]
من جملة ما جعل في الشرع سببا للضمان: اليد.
والأصل في ذلك: الخبر النبوي المنجبر بالشهرة، المتلقى بالقبول عند العامة
والخاصة بحيث يغني عن ملاحظة سنده وصحته، بل هو ملحق بالقطعيات في
الصدور، وهو قوله صلى الله عليه وآله: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (1). وقد تمسك بهذه
القاعدة الأصحاب في كثير من مسائل الأبواب. ومن تتبع كلماتهم يظهر إجماعهم
على كون اليد موجبا للضمان، إلا فيما دل الدليل على خلافه. وإنما البحث في
معنى الرواية وتوضيح مفادها بحيث ينطبق على موارد الاستدلال، ومنها ظهور
المالك، بعد الصدقة أو إخراج الخمس في المجهول أو المخلوط، وتلف شئ مما
اخذ مقاصة قبل التملك، وضمان المقبوض بالسوم، وضمان الصانع ما تلف بيده
ونحو ذلك من المقامات الظاهرة.
وقد رماه بعض المتأخرين بالإجمال (2) وزعم أنه لا دلالة فيه على الضمان.

(1) مستدرك الوسائل 17: 88، الباب 1 من أبواب الغصب، ح 4، نقلا عن تفسير أبي الفتوح
الرازي وعوالي اللآلي.
(2) قد رماه بالإجمال المحقق النراقي في عوائد الأيام: 109 - 110، العائدة: 33، إ لا أنه من
معاصري المؤلف، ويبعد إرادته من لفظ (بعض المتأخرين).
416

فنقول: لا ريب أن كلمة (على اليد) في موضع الخبر المقدم لقوله: (ما
أخذت) ومتعلق (1) الخبر نحو قولنا: (ثابت) و (لازم) في هذا المقام - كما هو
القاعدة في التقدير في أمثال المقام - فأصل المعنى: أن ما أخذته اليد ثابت عليها،
وقوله: (حتى تؤدي) بيان للغاية، أي: هذا الثبوت إنما هو إلى حين الأداء، فإذا
أدت ارتفع ما ثبت عليها (2)، فلو حمل هذه الرواية على المعنى الأخباري - وهو
كون ما أخذته ثابتا عليها حتى تدفع - لكان ذلك توضيحا للواضح أولا، وهو ليس
من وظائف الشرع، بل هو مستهجن جدا، وكان مستلزما للكذب أيضا، لأن ما
على اليد قد يرتفع بغير الأداء، كالتلف أو الوضع في مكان آخر، فلا بد من حملها
على معنى إنشائي يكون بيانا لحكم شرعي، فيدور الأمر حينئذ بين إرادة الحكم
التكليفي - بمعنى: أن ما أخذته اليد فعقابه عليها، أو حفظه واجب عليها، أو رده
واجب عليها - أو الحكم الوضعي، بمعنى: أن ضمانه وغرامته (3) عليها حتى تؤدي.
فنقول: إن إرادة وجوب الرد بعيدة عن سياق العبارة جدا، إذ إرادة الرد (ما
أخذت) مستلزم للمجاز بغير علاقة ورابطة، أو إضمار لأمر بعيد بلا قرينة ولا
دلالة، ومع ذلك كله فينافره قوله: (حتى تؤدي) لأن التنافر في قولنا: (يجب رده
حتى يرده) واضح لا سترة فيه.
وأما إرادة وجوب الحفظ: فهي أيضا بعيدة عن المدعى، نظرا إلى أن إرادة
الحفظ ع‍ (ما أخذت) مجاز من دون علاقة وقرينة، والإضمار مخالف للقاعدة،
سيما مع وجود المجاز، فإن المجاز أولى منه، وسنبين ما هو الظاهر من الرواية.
مضافا إلى أن كلمة (حتى تؤدي) لا تلائم إرادة وجوب الحفظ، إذ الظاهر من
الدفع والأداء، التخلص عن الغرامة والضمان، لا التخلص عن الحكم التكليفي
الصرف

(1) لم ترد (متعلق) في (ف، م)
(2) لا يخفى أن الضمائر الراجعة إلى (اليد) وردت في أصول النسخ غالبا بلفظ المذكر،
أثبتناها مطابقا لنسخة (م).
(3) في (ن) زيادة: وعهدته.
417

ومن ذلك ظهر بعد إرادة العقاب والمؤاخذة، لما مر من الوجه وعدم إمكان
إرادته مجازا وبعد الإضمار، مضافا إلى أنه لو أريد من الخبر: الأخذ بطريق
العدوان والمعصية، فيكون عقابه عليها وإن أدت، فلا وجه لكونه مغيا بغاية، مع أن
[في] (1) الرواية جعل الأداء غاية. وإن أريد الاخذ أعم من كونه مباحا أو معصية
فلا وجه للعقاب عليه (2) على الاطلاق أولا، ثم لا وجه لكونه مغيا بغاية.
فاتضح من ذلك كله: أن إرادة (ضمان ما أخذت) أظهر من الرواية (3) سواء
جعلته بطريق الإضمار فيكون المعنى: (على اليد ضمان ما أخذته) أو بطريق
المجاز بمعنى كون المراد من الموصولة (ما يضمن) لكمال المناسبة بينه وبين
الأصل المأخوذ، لأنه إما عينه أو مثله أو قيمته - كما سنذكر ذلك مفصلا - وكل ذلك
قائم مقام (ما أخذت) مع أن هذا المعنى هو المتبادر عند إطلاق هذه اللفظة بحيث
لا يخطر غيره بالبال حتى يحتاج في ترجيح المقام إلى ملاحظة باب تعارض
الأحوال.
مضافا إلى فهم الأصحاب - قديما وحديثا - ذلك واستدلالهم به على الضمان،
وهو إما كاشف عن كون المعنى العرفي ذلك - كما أوضحناه - أو كاشف عن وجود
قرينة لم تصل إلينا كانت موجودة عندهم، وعلى التقديرين فهو (4) معين للمراد من
الخبر رافع للإجمال، مع أنا في غنى عن ذلك كله بمعونة ما بيناه من الظهور العرفي.
وهنا مباحث:
أحدها: أنه لا ريب في أن المراد هنا من (اليد) ليس الجارحة، بل المراد بها
حصول التسلط والاستيلاء عرفا بحيث يصدق في العرف: أن هذا في يد فلان،
وقد عبر بهذه العبارة لكون التسلط غالبا باليد، وهذا معنى شائع في العرف. وبعبارة

(1) من (م).
(2) في (م): عليها.
(3) العبارة في (م): أن الأظهر في الرواية إرادة ضمان ما أخذت.
(4) يعني: فهم الأصحاب.
418

أخرى: بين قبض الجارحة وبين التسلط عموم من وجه، إذ قد يكون الإنسان
مسلطا على شئ ولا يكون مقبوضا بيده، كالتسلط على العقارات والحيوانات
ونحو ذلك. وقد يكون مقبوضا بيده ولا يكون له استيلاء عليه كما لو كان في يده
مع كون المالك قاهرا قادرا بحيث يضمحل ذلك في جنبه ولا يتمكن من التصرف
فيه بوجه، ولا يعد متسلطا عليه أصلا. وقد يجتمع الأمران، وذلك واضح.
فنقول: أما صورة كون القابض غير مسلط: فلا بحث في خروجه (1) عن اليد،
لأن المتبادر منه (2) أنه كناية عن التسلط، ولو كان على معناه الأصلي أيضا لكان
المتبادر منه القبض باليد على نحو له اقتدار عليه، سيما بعد ملاحظة قوله: (ما
أخذت) فإن له ظهورا في الاستيلاء، حتى أن جماعة ادعوا ظهوره في الغصب
والعدوان - كما سيأتي - مضافا إلى ضم قوله: (حتى تؤدي) فإن الظاهر منه كون
اليد قادرة على المنع والدفع، ولا يكون ذلك إلا بالاستيلاء، ومن هنا ذكروا عدم
الضمان فيما لو قبض بيده ثوبا لبسه صاحبه - ونظائر ذلك - فإنه ليس داخلا تحت
دليل اليد.
وأما مادة الاجتماع: فلا ريب في دخوله (3) تحت الرواية، فإن ذلك شئ في
اليد مع الاستيلاء عليه.
وأما ما تحقق فيه الاستيلاء بدون قبض الجارحة: فدخوله تحت الخبر إنما هو
بظهور عدم إرادة خصوص اليد في المقام، فإنه لو كان قابضا برجله أو بفمه أو بآلة
أخرى لكان الحكم كذلك، ويبعد الركون في ذلك كله إلى الإجماع الخالي عن
مستند لفظي، مضافا إلى كفاية فهم العرف هنا المثالية، وفهم الأصحاب كذلك،
ومتى ما لم يرد خصوص المعنى الحقيقي للقطع به فلا معين لغيره من
الخصوصيات، بل المعنى الشائع المتعارف في المجاز في اليد هو التسلط - كما

(1) كذا، والمناسب: خروجها.
(2) الضمير راجع إلى (اليد) فالمناسب تأنيثه، وهكذا بعض الضمائر الآتية.
(3) كذا، والمناسب: دخولها.
419

أشرنا إليه - فيكون هو المراد في المقام، ولذلك ترى أن الأصحاب يتعبون (1) في
تنقيح موارد الضمان صدق الاستيلاء وإن لم يكن بقبض جارحة، فيعدون النقل
في المنقول إثبات يد عليه، وكذا الجلوس على الفراش، والركوب للدابة،
والدخول في العقار مع إزعاج المالك. ولا يعدون دخول الضعيف على القوي
إثبات يد وإن قصده، ولو زاحم المالك في داره يعدونه ذا يد على النصف - ويأتي
توضيح ذلك - ويعدون سوق الدابة أو المد بمقودها يدا عليها مع عدم المعارض،
ومثل ذلك الحمل مع اليد على الحامل.
فتلخص من ذلك: أن المراد باليد: حصول الاستيلاء عرفا، سواء كان مقبوضا
بالجارحة أم لا، واليد كناية عن المستولي.
ثم إن إطلاق النص يدل على ثبوت الحكم لكل من استولى، سواء كانت يده
ابتدائية أو مرتبة على يد سابقة، ومن هنا حكم الأصحاب على ضمان الأيدي
المتعاقبة في المغصوب، وكلامنا أعم من الغصب، فيكون ظاهر (أن كل مستول
عليه الضمان حتى يؤدي) أي أنواع الاستيلاء كان، إلا ما نخرجه بإحدى القواعد
الآتية في مسقطات الضمان. فقد يكون السلسلة كلها أيدي ضمان، وقد ينقطع
أولها، وقد ينقطع وسطها، وقد ينقطع آخرها، وينتشر من ذلك فروع لا حاجة إلى
ذكرها، لكن يقع الإشكال في إدراج هذا الفرض تحت الرواية من جهة كون ضمان
اليد موجبا للزوم الأداء بمعنى عدم فراغها إلا به، فكيف يعقل في الشئ [المال] (2)
إذا تعاقبت عليه الأيدي؟ لأنا إن قلنا بأنه يلزم أن يؤدي كل منهم ما أخذ عينا أو
مثلا أو قيمة لزم مخالفة الإجماع، لاجتماع الأموال الكثيرة في مقابل شئ واحد.
وإن قلنا بواحد منهم فيلزم الترجيح بلا مرجح. وبالجملة: كون الضمان مغيا بالأداء
يوجب خروج هذا الفرض عن دليل اليد، وإن كان اليد شاملة لذلك.
فإن قلنا بأن الضامن هو الواحد لا بعينه ويتعين بتعيين المالك خرجنا عن
قاعدة اليد، فإن مقتضاها كون كل منهم ضامنا، مضافا إلى أن للمالك الصلح على،

(1) في (د) ومحتمل (ن): يتتبعون.
) (2) لم يرد في (د)، وفي (م): المالي.
420

[ما في] (1) ذمة أي واحد منهم شاء، أو إبراؤه أو بيعه، أو نحو ذلك، وذلك لا يجتمع
مع الواحد لا بعينه، إلا أن يقال: بأن ذلك كله يقوم مقام تعيين ذلك الواحد الغير
المعين، ويلزمه فراغ ذمة الباقين، ويجئ على هذا الفرض مباحث لا حاجة إلى
ذكرها.
وإن قلنا: إن الضامن من تلف المال في يده خرجنا عن قاعدة اليد أيضا،
ويلزم منه عدم جواز تضمين الباقين، ويعارضه إجماع الأصحاب المستند إلى
قاعدة اليد من دون أن يكون إجماعا من خارج.
وإن قلنا بأنه لا ضامن هنا لتعارض الأيدي وعدم إمكان الجمع بينها للزوم
تكرر العوض، وعدم إمكان التعيين للزوم الترجيح من غير مرجح، لزم فوات
المال على مالكه مع وجود سبب الضمان المتكرر المتعدد، مضافا إلى معارضته
الإجماع.
والذي ينبغي أن يقال هنا: إن الحكم بظاهر دليل اليد ضمان كل واحد منهم،
ولا ينافيه كون الأداء غاية، لأنا نبين بعد ذلك في معنى (الأداء) أنه أعم من
المباشرة، وأن المراد منه: الوصول إلى صاحب الحق بأي نحو كان حتى الإبراء،
فنقول: إذا أدى أحدهم فقد أدى عن الباقين، لأنه حق واحد، فإذا أدى سقط
الضمان كما لو تبرع الأجنبي، فيصير ذلك من باب الواجب التخييري في التكاليف
على ما يراه الإمامية من وجوب الكل والسقوط بفعل أحدها، ولا مانع من ذلك
عقلا.
فلا يتوهم أن الواجب التخييري طلب يمكن تعلقه بأمور متعددة يسقط بفعل
أحدها، بخلاف المقام، فإن الحق الواحد لا يعقل تعلقه بالذمم المتعددة، وليس
ذلك على سبيل التبعيض والتجزئة حتى يمكن.
لأنا نقول: لا بأس بأن نلتزم بتعدد الحق في الذمم بظاهر دليل اليد، فإن كلا
منهم مشغول الذمة على المالك (1) بالحق، فإذا أدى أحدهم جعل الله ذلك مسقطا

(1) من (م).
(2) في (م): مشغول الذمة للمالك.
421

عن الباقين. وبالجملة: كون ذلك مغيا بالأداء وامتناع تعلق الحق الواحد بالذمم
المتعددة لا يمنع من دخول الفرض تحت الأدلة.
وهل يعم الدليل (1) اليد المركبة؟ الظاهر ذلك، وبيانه: أن اشتراك اثنين في
التسلط على مال واحد يكون قسمين:
أحدهما: أن يكون كل منهما مسلطا على النصف مستقلا به، وذلك هو بحث
الإشاعة، فلكل منهما يد بسيطة على النصف، وسيأتي تحقيق ذلك في البحث
الآتي في بيان المأخوذ باليد.
وثانيهما: أن لا يستولي أحد منهما على جزء من المال بالمرة، بل يكون
استيلاء كل منهما مرتبطا بالاخر، بمعنى: أن كلا منهما لو لم يكن لم يكن للاخر
استيلاء بالمرة، لا على كل ولا على بعض، فيكون استيلاء كل منهما بانضمام
الاخر، فيكون المجموع المركب مستوليا على المجموع المركب من دون استيلاء
بعض (2) على بعض، وهذا هو اليد المركبة.
ولا يفترق الحال في هذه الصورة والصورة الأولى في كون كل منهما ضامنا
للنصف، أما في الأولى فواضح، نظرا إلى صدق عموم دليل اليد وهو الاستيلاء،
وهو حاصل لكل واحد منهما في النصف. نعم، الإشكال في إدخال الثانية تحت
الدليل، نظرا إلى أن يد كل منهما عارضي خال عن الاستقلال، وإنما المستقل هو
المجموع المركب، فلا يصدق على أحد منهما الاستيلاء وإثبات اليد حتى يحكم
بالضمان، فإذا لم يدخل شئ منهما تحت الدليل فكيف يحكم بالضمان؟
والوجه أن يقال: إن المدار في الضمان لما كان هو الاستيلاء - كما ذكرنا أنه
الظاهر من النص - فيكون الضمان على كل من استولى، وهنا لما كان المجموع
المركب هو المستولي فيكون الضمان على المجموع المركب فينقسم على أبعاضه،
وحيث إن كلا منهما قابل للضمان ولا ترجيح فيوزع عليهما، فيصير كل منهما
ضامنا للنصف، غاية ما في الباب: كون الضمان هنا على كل واحد في ضمن

(1) في غير (م) زيادة: على.
(2) في (ف، م): لبعض.
422

المجموع المركب، وفي الصورة السابقة بالاستقلال، وهذا مما لا يصلح فارقا.
وبالجملة: لا شبهة في دخول هذا الفرض تحت الدليل عرفا.
نعم، يبقى الإشكال في شموله لليد المنضمة.
والمراد باليد المنضمة: هي اليد المجتمعة مع يد المالك، لا بمعنى استيلائه على
النصف حتى يكون ضامنا له، بل بمعنى تركبه مع يد المالك كصورة ما ذكرناه
سابقا، بحيث يكون المجموع المركب مسلطا على المال، بمعنى: أن المالك لو
ارتفع لم يكن للغاصب التسلط ولو ارتفع الغاصب لم يكن للمالك تسلط، فيكون
المركب منها مسلطا على المجموع، فهل تكون يد الخارج هنا داخلة في دليل اليد
حتى يحكم له بضمان النصف أو لا تكون داخلة فلا ضمان؟ وهذا من أشكل
مسائل صور اليد، وهذا الذي يمكن جعله ثمرة بين صورتي الاشتراك في اليد
الذي ذكرناه سابقا، إذ يمكن أن يقال: إن اليد المركبة ليس كل واحد منهما داخلا
تحت دليل اليد، وإنما الداخل هو المجموع المركب. فإذا كان المركب كله يد
ضمان فيثبت الحكم على الأبعاض بالتبع كما أوضحناه. وإذا كان بعضه يد ضمان
وبعضه ليس كذلك كالمثال المفروض - ونظيره تركب يد الوكيل مع الأجنبي أو
المستعير معه ونحو ذلك، وبعبارة أخرى: كل ما تركب يد ضمان مع يد غير ضامنة -
فيجئ فيه الإشكال في الحكم بضمان يد الخارج الأجنبي، وبعبارة أخرى: اليد
التي شأنها الضمان لو استقلت، نظرا إلى أن اليد الأجنبية ليست مسلطة على المال
كلا ولا بعضا حتى نحكم عليه بالضمان وندخلها تحت الدليل، والمجموع المركب
أيضا ليس يد ضمان حتى يبعض على أجزائه بالتبع، لأنا نبين بعد ذلك أن المراد
في الخبر من (اليد) غير يد المالك، فمقتضى الأصل هنا عدم الضمان بعد عدم
شمول الدليل.
ولا يتوهم: أنه يلزم من عدم الضمان هنا عدم الضمان في المركبة من الضامنين
أيضا، إذ الفرق بينهما واضح بما ذكرناه، فإن دخول المجموع المركب تحت الدليل
يوجب الضمان على أبعاضه، وهنا لا يمكن إدراج المجموع المركب تحته.
423

ويمكن أن يقال: لا ريب في صدق اليد على المركبة، وهذا من جملة أفرادها،
فيكون هذا المجموع المركب ضامنا، ولازمه التبعيض على أجزائه، غاية ما في
الباب: عدم الضمان على المالك أو الأمين أو نحو ذلك، وارتفاع الضمان عن الجزء
بدليل لا يوجب ارتفاع الضمان عن المركب، وليس المانع ابتداءا إلا كالمسقط
استدامة، كما لو أبرأ المالك أحد المركبين في الفرض السابق. وبعبارة أخرى: الذي
أخرج المقام عن عموم دليل اليد من قاعدة الملك أو الأمانة أو الأذن - أو نحو
ذلك - إنما أخرج أحد الجزءين، وبقي الجزء الآخر تحت الدليل.
ولا يتوهم أن الثبوت على الجزء بتبعية الثبوت على الكل، فإذا لم يكن الكل
ضامنا فلاوجه لضمان الجزء.
لأنا نقول: المركب في المقام وإن كان من باب الكل المجموعي بالنسبة إلى
المال المضمون، بمعنى: أن المجموع ضامن للمجموع، لا أن كل واحد ضامن
للمجموع، لعدم شمول الدليل لكل واحد منهما، لكنه بالنسبة إلى الضامن من باب
الكلي الأفرادي والعام الأصولي، بمعنى كون كل منهما ضامنا لما وقع عليه بعد
التوزيع، وليس كأجزاء المكلف الواحد، فإذا كان كذلك فلابد من ملاحظة
المخصص هل أخرج هذا القسم من اليد من عموم الدليل أو أخرج أحد جزءيه من
الضمان؟
فنقول: لا ريب أنه من قبيل القسم الثاني، فإن الفرض داخل بظاهره في عموم
دليل اليد، ومتى دخل توجه الضمان على المجموع المركب، وهذا لا مانع منه من
هذه الجهة، وبعد التوزيع وانتهاء الفرض إلى العام الأصولي فهو قابل للتخصيص لا
ارتباط بينهما، فإخراج أحد الجزءين بعد ملاحظة كونه فردا بعد التوزيع لا يضر
ببقاء الضمان على الاخر.
هذا، ولكن المسألة في غاية الإشكال ونهاية الإعضال، فليتأمل فيها حتى
يتضح الأمر.
فلا فرق حينئذ بالنظر إلى الدليل بين اليد الابتدائية واليد المترتبة واليد
424

المستقلة واليد المركبة واليد المنضمة، فإن كل ذلك داخل تحت دليل الضمان
بمقتضى ما ذكرناه، وإن كان في ذلك كلام من جهات ذكرناها ومن جهات
تركناها (1) طلبا للأهم واختصارا في المقال.
واليد التابعة كالأصلية في ذلك، كيد الوكيل للغاصب، وأمين الحاكم في المال
مع كونه في الواقع مغصوبا.
ولا يتوهم: أن يد الوكيل يد الموكل فلا يعد في العرف يدا، ويد الأمين يد
الحاكم، فإن ذلك غير مانع من صدق الاستيلاء والتسلط عرفا، فإن الوكيل مسلط
على المال، وكون يده يد الموكل معناه: إجراء أحكام يد الموكل عليه في
التصرفات، لا أنه ليس يدا، فلا يتوهم أن المالك لا رجوع له على الوكيل، بل على
الموكل لأنه صاحب اليد، فلا فرق في اليد المترتبة على يد سابقة أن تكون تابعة له
أو مستقلة كالأول، كالمشتري والمستعير ونحو ذلك.
هذا تمام الكلام في معنى (اليد) وهنا مباحث تركناها مخافة التطويل.
وثانيها (2): أن المراد بالموصولة - أي الشئ المأخوذ - ما كان مملوكا، نظرا
إلى أن الظاهر من الخبر هو الضمان كما بيناه، ولا ضمان في غير المملوك بمجرد
اليد، ولأنه جعل غاية الضمان هو الأداء، والأداء هو الدفع إلى من يجب الدفع إليه
كالمالك ونحوه، والشئ الغير المملوك لا تأدية فيه، لعدم وجود المؤدى إليه،
فخروجه عن الرواية واضح.
ولا فرق في غير المملوك بين أن يكون غير قابل للتملك من أصله - كالحر
وخمر المسلم وخنزيره وغير ذلك، فإن ذلك كله لا يضمن باليد - أو كان قابلا
ولكن لم يجر عليه ملك أحد كالمباحات، فإنه لا ضمان في أخذه.
وعلل جماعة من الأصحاب في الحر بأنه لا يدخل تحت اليد (3).

(1) كذا، ولعل الصواب في العبارة: وإن كان في ذلك كلام من جهات، تركناه...
(2) يعني: ثاني المباحث، تقدم أولها في ص: 418.
(3) جامع المقاصد 6: 222، الروضة 7: 28، المسالك 2: 256 (ط - الحجرية).
425

فإن كان مرادهم من ذلك: أنه لا يدخل تحت اليد شرعا فهو كذلك، لكن
المراد في الخبر بمقتضى القواعد هو الاستيلاء العرفي، ولا مدخل للشرع في ذلك،
مضافا إلى أنه لو أريد اليد الشرعي لزم عدم ضمان الغاصب، لأنه لا يد له شرعا
على المال، وللزم ضمان من له يد على المال شرعا كالأولياء، وهذا عكس
المدعى. وبالجملة: لا شبهة في أن المراد باليد هنا: اليد العرفي.
وإن كان مرادهم: أنه لا يدخل تحت اليد عرفا فهو ممنوع، إذ الحرية والرقية
أمران اعتباريان لا مدخل لهما في الصدق العرفي، فإن كل من تسلط على إنسان
بحيث يتصرف فيه كيف يشاء يقال: إنه مستول عليه وهو في يده، سواء كان حرا
أو عبدا.
ولو أريد أن الإنسان من جهة استقلاله في الأمور والإرادات والتصرفات فلا
يدخل تحت اليد، فالعبد كذلك. وبالجملة: لا فرق في اليد العرفي بين المملوك
والحر.
فالأنسب أن يقال في عدم ضمانه: إنه غير داخل تحت دليل الضمان، من جهة
أن المتبادر منه المملوك، سيما بقرينة قوله: (حتى تؤدي) ونحو ذلك، فلا يشمل ما
لا يقبل الملك، كالحر والخمر للمسلم.
وأما خمر الكافر المسالم: فهي محترمة مملوكة له على المختار داخلة (1)
تحت عموم الخبر. وتقييد بعضهم له بالمستتر، إما لأن الإجهار يخرجها عن ملكه
فيكون كالمسلم، وإما لأنه يسقط احتراما وإن كانت ملكا، فلا ضمان كمال
الحربي، وهذا هو الأقوى.
وبالجملة: عدم الضمان فيها - وفي مال الحربي - إنما هو لدليل من خارج،
وإلا فهي داخلة في عموم خبر (اليد) لأنها ملك حتى في الحربي.
ولا يعتبر كونه متمولا له قيمة، لعموم الموصولة، ولزوم تأدية غير المتمول
أيضا إلى صاحبه، كحبة الحنطة. ولا ينافيه عدم لزوم دفع القيمة في صورة التلف، إذ

(1) الصفات والضمائر الراجعة إلى (الخمر) وردت في غير (م) بلفظ المذكر.
426

هو (1) على فرض كونه ذا قيمة، وهو (2) أيضا داخل في النص كماله قيمة في لزوم
التأدية، لإمكانها فيه وعدم المانع.
ودعوى: كون المتبادر ما كان له قيمة ممنوعة، بل اللفظ عام.
وكما يكون عينا (3) معينا يكون مشاعا وكليا أيضا، لعموم اللفظ، فمن تسلط
على نصف دار بالإشاعة - كمن دخل على المالك وأزعجه - يعد ذا يد على
النصف، وكذا الشريك، فإنه ذا يد على النصف [الذي] (4) للشريك الاخر لو
تصرف فيه.
ودعوى: أن الاستيلاء لا يتحقق إلا على الشئ المعين ممنوعة، بل هو أمر
عرفي، وهو متحقق في المشاع كالمعين. ولا ينافيه قوله: (حتى تؤدي) بتقريب:
أن تأدية الكلي والمشاع لا يمكن، لعدم المنافاة وجواز التخلية والتأدية إلى
صاحبه كما في العقود المتعلقة على المشاع.
وكما يكون عينا يكون منفعة، فإنها أيضا تدخل تحت اليد بدخول العين تحت
اليد، لأنه طريق الاستيلاء عليها عرفا. نعم، هنا بحثان:
أحدهما: أن منافع الحر - بناءا على ما ذكروه من عدم دخوله تحت اليد - لا
تكون داخلة تحت اليد إذ اليد على المنفعة بواسطة اليد على العين. وأما بناءا على
ما ذكرناه: من أن الحر يدخل تحت اليد عرفا لكنه خارج عن النص بقرينة (حتى
تؤدي) الدالة على كون ذلك مملوكا، فيشكل الحكم في المنافع للحر، فإنها لو
استوفيت فلا بحث في ضمانها، لدخولها تحت اليد حينئذ، وإن شئت قلت:
للإتلاف، فإن كلامنا الان في الضمان باليد وإن تلف المأخوذ بأمر آخر. وأما إذا لم
تستوف ولكن فاتت بسبب الممانعة من ذي اليد وتسلطه، فإن مقتضى ما ذكرناه
أنها داخلة تحت اليد بواسطة العين، غايته: أن العين غير داخلة في الرواية لأنها

(1) الظاهر رجوع الضمير إلى: لزوم دفع القيمة.
(2) الظاهر رجوع الضمير إلى: غير المتمول.
(3) في (م): شيئا.
(4) من (م).
427

غير مملوكة، وأما المنفعة فينبغي دخولها، لأنها مملوكة، مع أن الأصحاب لا
يقولون بضمان منافع الحر الفائتة بالغصب تحت يده.
فإن قلنا: إن منافعه أيضا ليست مملوكة فلا يشمله (1) الخبر، يلزمنا النقض
بالاستئجار عليه (2) والصلح ونحو ذلك، فإنها لو لم تكن مملوكة متمولة فكيف تقع
في عقد المعاوضة؟
وإن قلنا: إن خروج العين من تحت الخبر يوجب خروج المنافع أيضا، يرد
علينا: أنهما شيئان داخلان تحت اليد عرفا، وعدم ضمان أحدهما وخروجه
بالدليل أو بالتخصص لا يوجب خروج الاخر.
وإن قلنا بأن منافعه لا تدخل تحت اليد ما لم تستوف - لأن يد الحر أقدم من
يد الغاصب بالنسبة إلى منافعه، وليست المنافع إلا كثياب الحر التي قد لبسها، فإن
حبس الحر بثيابه لا يوجب ضمان ثيابه، لأنها تحت يد الحر عرفا لا تحت يد
الغاصب، بل المنافع أولى، لأنها أمور حكمية وليست أعيانا خارجية - يرد علينا:
أن هذا في العبد كذلك، فإن تسلط العبد على منافعها التي هي أمور حكمية أزيد
من تسلط الغاصب، فكيف تقول: إن منافع العبد تضمن بالفوات؟ وليس اليد
شرعيا حتى تقول: إن العبد لا يد له، فإن المدار على التسلط.
وإن قلنا: إن المتبادر من عموم (ما أخذت) غير مثل منفعة الحر الكائنة تحت
يده من دون استيفاء فإن مثل ذلك لا يدخل تحت الدليل، يرد النقض بمنافع
الوقف العام، فإنها أيضا تضمن بالفوات تحت يد الغاصب، وأي فرق بين الحر
والوقف العام؟ إلا أن يقال: بأن الفرق عرفي والعرف يعد ذلك داخلا تحت الدليل
دون المقام.
وبالجملة: عدم ضمان منافع الحر بعد إمكان دخوله تحت اليد عرفا مشكل،
إلا أن يقال: إن اليد أمر عرفي، وبعد ما فرض كون الشخص حرا لا يقولون - أهل
العرف -: إن فلانا ذو يد على فلان، وإن كان في غاية التسلط، فلا يصدق اليد، لا

(1) في (م): فلا يشملها... عليها. وما أثبتناه من أصول النسخ أيضا صحيح.
(2) في (م): فلا يشملها... عليها. وما أثبتناه من أصول النسخ أيضا صحيح.
428

على عينه ولا على منفعته، وفرق بينه وبين المملوك، فتدبر.
ويمكن تتميم ما ذكرناه من الوجوه في عدم ضمان المنافع وإن قلنا بدخول
الحر تحت اليد وإن أوردنا على كل واحد منها ما أوردناه، فتبصر.
وثانيهما: أنه لا ريب في إمكان اجتماع المنافع المتعددة في العين الواحدة،
تفاوتت في القيمة أو تساوت، ولا ريب أن بدخول العين تحت اليد يدخل كل منها
تحت اليد فيلزم ضمان الكل، وليس كذلك.
وبالجملة: هل عموم (ما أخذت) يشمل جميع هذه المنافع أو يشمل ما هو
أعلاها قيمة لتداخل الباقيات فيه، أو يشمل كل ما أمكن اجتماعها في الاستيفاء؟
لا ريب أن الظاهر من الخبر شموله للكل. نعم، المنافع التي لا يمكن اجتماعها في
الوجود لا تدخل تحت الخبر مجتمعا، لأن الدخول تحت اليد إنما هو مع وجودها
في العين، لا مع الفرض والتقدير، والموجود من المنافع في العين في حال
الاستيلاء ما أمكن اجتماعها كلا (1) واحد الأمرين من المنفعتين اللتين لا
تجتمعان، فكل ما أمكن وجوده دخل تحت اليد وكل ما تنافى مع الاخر فأحدهما
داخل تحت اليد، فإن تساويا في العوض فلا بحث، وإن تفاوتا يجئ الوجهان في
تخيير الضامن أو الغاصب، وهذا هو مقتضى القاعدة الحاصلة من الرواية.
وكما يكون المأخوذ منفعة يكون أيضا حقا من الحقوق التي من شأنها العوض
والتأدية بقرينة ذيل الرواية، كحق التحجير وحق السبق على المشتركات من مثل
المسجد والسوق والخان وغير ذلك من الحقوق، فإنه أيضا يدخل تحت اليد، لأنه
يتحقق عليه الاستيلاء عرفا.
نعم، هنا إشكال يأتي في إدخال المنافع والحقوق تحت الرواية، وهو أن قوله:
(ما أخذت) الظاهر منه بعد ذكر الأخذ كونه عينا خارجيا أو كليا مشاعا، وأما
مثل المنفعة والحق فلا يقال فيهما: إنه (أخذت) وهذا يدل على عدم إرادتهما من
الرواية، مضافا إلى أن الظاهر من قوله (حتى تؤدي) كون المال المأخوذ قابلا

(1) كذ في (ف، م)، وفي (ن، د): كل. وعلى كلا اللفظين لا تستقيم العبارة.
429

للأداء إلى صاحبه، ولا ريب أن المنفعة بنفسها غير قابلة للأداء إلى صاحبها، وكذا
الحق، فلا وجه لادخالهما تحت الخبر.
ووجه الدفع: أن المراد بالأخذ ليس القبض باليد كما بيناه، والاستيلاء يحصل
فيهما عرفا، والتأدية لا تنافي دخولهما، لأن تأدية كل شئ بحسبه، ويقال في
العرف لدفع المثل أو القيمة: إنه تأدية للمال إلى صاحبه، وسيأتي توضيح ذلك.
وثالثها: (1) أن المراد من الأخذ، - كما ذكرناه - هو الاستيلاء، ولا دخل
للجارحة في ذلك، وزعم بعضهم: أن المتبادر من الأخذ هو الأخذ على طريق
التسلط والقهر والعدوان، فلا يشمل غير هذا الفرض. وهو مستبعد جدا، ولا ريب
في كون لفظه أعم من ذلك، فيعم سائر أنواع الأخذ ما لم يرد دليل مخصص، ولا
فرق فيما أخذت بين أصل الأعيان والمنافع وبين أبعاضها وبين أوصافها، فإن
كلها داخلة تحت اليد مضمونة على المستولي. ومن ذلك تنقح أغلب الموارد
المحكومة فيه بالضمان وإن كان بعضها بأسباب اخر يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى
بعد ذلك.
وانتشار فروع مسألة اليد على حد لا يحتاج إلى ذكرها والتنبيه عليها، وإنما
المحتاج ما خرج من القاعدة بقاعدة أخرى، كما سيأتي إن شاء الله تعالى (2).
ورابعها: أن مقتضى الاطلاق في الرواية أن اليد موجبة للضمان، من دون فرق
بين كون صاحب اليد عالما بالحكم أو جاهلا، ومن دون فرق بين كونه عالما
بالموضوع - ككونه مغصوبا، أو مال عمرو، أو مقبوضا ببيع فاسد مثلا - أو جاهلا
به، كمن زعم أنه ماله أو أنه وكيل عليه ونحو ذلك. وهو كذلك، فإنه لا فرق في
الضمان من هذه الجهة ما لم يدل دليل رافع مما نذكر بعد ذلك.
ولا فرق أيضا بين كون المال المأخوذ باقيا أو مستحيلا أو ممزوجا أو مغيرا،

(1) أي: ثالث المباحث، تقدم أولها في ص: 418، وثانيها في ص: 425.
(2) غير مصحح (م) هذه الفقرة بما يلي: وفروع مسألة اليد كثيرة لا حاجة لنا بذكرها، فان
المقصود تأسيس قاعدتها.
430

أو تالفا كلا أو بعضا أو وصفا، أو معيوبا، كل ذلك بفعل الله تعالى، أو بفعل ذي اليد،
أو بفعل أجنبي، فإنه يتعلق الضمان بصاحب اليد في الصور كلها، وإن كان له أيضا
رجوع على المتلف أو الغار - أو نحو ذلك - في بعض الصور، فإن ذلك كله مقام
آخر، والكلام في كون اليد موجبا للضمان كيف كان.
وخامسها: أنه زعم بعضهم (1) أن الخبر لا يدل إلا على ضمان العين مع بقائها،
وأما على ضمان المثل والقيمة مع تلفها فلا، نظرا إلى أن ظاهر كلمة (ما أخذت)
إنما هو الشئ المأخوذ بنفسه، ومفعول تؤدي محذوف راجع إلى ما أخذت،
فيكون مضمون الرواية: ضمان العين حتى تؤدى إلى صاحبها، ولا دلالة فيها على
شئ من المثل والقيمة لو تلفت، بل لا دلالة فيها على صورة التلف بشئ، مضافا
إلى أن دفع المثل والقيمة ليس أداءا لما أخذت فكيف يدخل تحت الرواية؟
وهذا الكلام مختل النظام وإن صدر من المعاصر النراقي (2)، لأنه بعيد عن
مذاق الفقه والعرف، لأنا إذا بنينا في فهم الخبر على ملاحظة، صرف العرف من
دون التفات إلى قوانين الشرع وقرائن كلام الشارع لدل على ذلك، فضلا عن
ملاحظة القرينة، نظرا إلى أن المراد بالضمان عند الناس وعند أهل العرف ليس إلا
هذا المعنى، إذ ليس للضمان معنى جديد في الشرع، فإن أهل العرف مع قطع النظر
عن الشرع إذا أرادوا تضمين مال شخص لشخص لا يريدون إلا أنه يرد عينه مع
وجودها ويدفع بدلها - وهو ما يقوم مقامها - مع تلفها أو تعذر ردها ونحو ذلك،
وهذا شئ واضح لا سترة فيه. بل نقول: لا يفهم من الضمان إلا دفع المثل والقيمة
عند التعذر، وهو المعبر عنه بتحمل الغرامة، إذ لا يكاد يعقل لضمان العين معنى
محصل، فإن دفع عين المال إلى مالكه لا يعد ضمانا ولا غرامة.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن الخبر دل على أن ضمان ما أخذته اليد ثابت عليه،
ولو كان معناه: أن عينه يجب أن يدفعه إلى المالك، لم يكن لذلك محصل، وينافيه

(1) المراد به المحقق النراقي قدس سره كما سيأتي التصريح به.
(2) عوائد الأيام: 109 - 110، العائدة 33.
431

ظاهر العبارة، إذ وجوب الدفع إلى المالك لا يعبر عنه بهذه العبارة، بل ينبغي أن
يقال: (يجب دفع أموال الناس إلى ملاكها) وأين هذا من قوله: (على اليد ما
أخذت؟) فإنه ظاهر بل صريح في إرادة الغرامة، وليس المعنى إلا لزوم دفع ما قام
مقامه إذا لم يمكن، وهذا المعنى مما لا يشك فيه مشكك بعد ملاحظة فهم العرف،
حتى من لم يتشرع بشرعنا أيضا. ولو لوحظ ما هو المعهود من الشرع أيضا في
التغريم للغصاب وغير ذلك من أبواب الفقه يحصل القطع بأن المراد من الغرامة
الثابتة على اليد في هذه الرواية عبارة عن دفع المثل والقيمة عند التعذر، فكيف
يعقل إنكار عدم استفادة هذا المدعى من الخبر؟ كيف! ولو بنينا في فهم الأدلة على
ما هو المذكور فيه صريحا لم يتم لنا من الفقه إلا عشر معشار ما هو بأيدينا، وهو
أجنبي عن طريقة السلف والخلف مقطوع بفساده.
وبالجملة نحن ندعي: أن ظاهر هذا الخبر الضمان والغرامة بلا شبهة، ومعناه
عرفا: دفع ما يخرج به عن عهدة المال وينتفي به الضرر، وهو إما بدفع عين المال،
أو ما هو أقرب إليه لو تعذر، ولا ريب أن في المثلي لا يحصل الخروج عن العهدة
إلا بدفع المثل عرفا، لأنه الأقرب إلى الأصل ذاتا وأوصافا وقيمة، وفي القيمي لا
بد من دفع القيمة، دفعا لضرر المالية مع تعذر العين وما وافقه في الصفات.
هذا تمام الكلام في تأسيس قاعدة (على اليد) ودلالتها على الضمان عينا
ومثلا أو قيمة. وأما البحث في بيان المراد من بقاء العين والتلف وكيفية التأدية
وبيان معنى المثلي والقيمي وضبط كيفية التقويم فسيجئ إن شاء الله بعد ذكر
أسباب الضمان ومسقطاته.
432

[العنوان الثامن والخمسون]
[قاعدة الضمان بالإتلاف]
433

عنوان [58]
من جملة أسباب الضمان: الإتلاف، فإن من أتلف شيئا ضمنه كما دل عليه
الخبر (1).
ولا يحتاج في إثبات كون الإتلاف موجبا للضمان إلى ذكر الأدلة، وكفى ما
دل من الضرورة والإجماع والنصوص الكثيرة على كون مال المسلم وعمله
وعرضه ودمه محترما مصونا لا يجوز الاقتحام عليه والأضرار فيه دليلا على
ذلك، مضافا إلى عموم أدلة (نفي الضرر) (2) ونحو ذلك، ولذلك استدل به
الأصحاب في إتلاف الحقوق المالية المجعولة من الشرع - كالزكوات والأخماس
والأعيان التي تعلق بها النذر ونحوه - والأموال المملوكة للناس بأحد أسباب
الملك، ومنافع أموالهم، ونماء أملاكهم، واستيفاء أعمالهم، أو منافع البضع للنساء
الحرائر والأماء، وإتلاف النفوس أو الأطراف لحر أو عبد، أو الجراحات، أو نحو
ذلك من التعيب (3) في الأموال والأبدان، وإزالة الأوصاف المتقومة، وإتلاف
الرقيق بالانعتاق بسراية أو تمثيل، وغير ذلك، كلها بقاعدة الاتلاف. والمنشأ ما دل

(1) الوسائل 8: 599، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 9 و 12. والمستدرك 9: 136،
الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، ح 1.
(2) تقدم ذكر أدلته في ج 1، العنوان: 10.
(3) في (ن): التعييب.
434

من الأدلة على احترام ذلك كله للمسلم أو المسالم الذي أقره الشارع على دينه،
إلا في مقامات دل الدليل على خلافه (1).
وإنما البحث في موضوع الإتلاف بحيث يتنقح به معناه وينطبق على موارده.
وذكر الأصحاب: أن الإتلاف قد يكون بالمباشرة، وقد يكون بالتسبيب.
والمراد بالمباشرة: إيجاد علة التلف، كالقتل والأكل والإحراق. والتسبيب: إيجاد
ما يحصل عنده التلف، لكن بعلة أخرى إذا كان السبب مما يقصد لتوقع تلك العلة،
كحافر البئر، وفاتح رأس الظرف، والمكره - بالكسر - على الإتلاف، ونحو ذلك.
وقالوا: إن المباشر والسبب لو اجتمعا فالضمان على المباشر، إلا في صورة
الإكراه في غير النفوس، فإن الضمان فيها على المكره بالكسر، لضعف المباشر.
وذكر بعضهم - كالشهيد على ما يظهر من عبارته في اللمعة (2) - الغرور أيضا،
وظاهره أن الضمان يصير على الغار دون المغرور. وفيه كلام يأتي.
هذا محصل كلامهم في مسألة الإتلاف، وعليه يدور مدارهم في جميع
مباحث الاتلافات التي ذكرناها سابقا.
والذي ينبغي أن يقال: أنه لا عبرة بكون المتلف مباشرا أو سببا أو نحو ذلك،
فإنهما لا يختصان بمرتبة، بل قد يكون سببا وسبب سبب، وقد يترامى السلسلة
وتتباعد. ولما كان منشأ الضمان إنما هو الإتلاف - على ما يظهر من النص
والفتوى - فالمدار على صدق المتلف عرفا، وتحديدهم بالمباشر والسبب ونحو
ذلك إنما هو لضبط ما يصدق عليه العرف، وإلا لم يدل دليل على المباشرة
والتسبيب وتقدم أحدهما على الاخر عند الاجتماع، فينبغي أن يجعل المعيار
الصدق العرفي، فربما يصدق على المباشر دون السبب، وربما يصدق عليهما معا،
وربما يصدق على السبب دون المباشر، وقس على ذلك ترامي سلسلة (3)
الأسباب والمباشرين.
وما ذكروه من الأمثلة في هذا المقام - كما نشير إليها - ليس لبيان حكم

(1) في (ن، د): خلافها.
(2) اللمعة: 235 (كتاب الغصب).
(3) كذا في نسخة بدل (م)، وفي النسخ: مسألة.
435

مختص بالواقعة، وليس خلافهم في هذه الصور والفروض لدليل دلهم على الحكم
كما في سائر المسائل الخلافية، بل إنما البحث في صدق الإتلاف وعدمه، ولذلك
يطلقه بعضهم ويقيده الاخر وبالعكس.
وإذا عرفت أن المدار على ذلك، فلنذكر أمثلة لتوضيح الباب مما ذكروه في
بحث الأموال، وفي بحث النفوس، فنقول:
لو دفع غيره في بئر حفرها ثالث، فالضمان على الدافع في كلامهم. والوجه
صدق أنه متلف دون الأول.
وإذا أزال وكاء ظرف فسال ما فيه بحيث كان يسيل بمجرد الدفع ضمن، أو
حركه على نحو يقع به فكذلك.
ولو فتح رأس زق فتقاطر ما فيه حتى وقع أو ذاب بالشمس فسال ففي كلام
بعضهم: فيه إشكال (1) والمنشأ الشك في صدق الإتلاف، وكذا في صورة ما إذا
سقط بأمر عارض - كهبوب ريح أو زلزلة، أو نحو ذلك - بعد الفتح فإنه يشك في
صدق الإتلاف في المسألة.
ولو ألقى صبيا أو حيوانا عاجزا في مسبعة، فقتله السبع ضمن.
ولو غصب شاة فمات ولدها جوعا، أو حبس المالك عن ضبط الدابة أو
الماشية أو نحو ذلك فاتفق تلف المال، قال بعضهم: لا يضمن (2) نظرا إلى ظاهر
الفرض من عدم استناد الإتلاف إليه. وقيده بعضهم بما إذا لم يكن التلف من هذه
الجهة بحيث يسند إلى فعله (3).
وأنت بعد التأمل في هذه المسائل التي أوردوها تتنبه على أن المدار على
الصدق العرفي، فلا نطيل الكلام بذكر الأمثلة. ولا خصوصية للمباشرة ولا للتسبيب.
وهذا هو السر في جعلهم الضمان على المكره - بالكسر - نظرا إلى أن المباشر
هنا ضعف بالإكراه فصار يستند الفعل والإتلاف إلى المكره - بالكسر - ففي
الحقيقة هو الذي أتلفه، فليس هذا مخالفا للقاعدة، بل لا وجه لجعلهم المباشر

(1) كما في التحرير 2: 138، والقواعد 1: 201.
(2) قاله العلامة في التحرير (2: 137) في الفرض الثاني، واستشكل في الفرض الأول.
(3) انظر المسالك 2: 257 (ط - الحجرية).
436

مقدما إلا الصدق، وهو هنا منتف.
وأما الغرور: فالذي يظهر: أن الإتلاف يستند إلى المغرور فهو ضامن، غايته:
أن الغار أيضا ضامن يرجع إليه المغرور بقاعدة أخرى تذكر بعد ذلك، ولا يخرج
الشخص بكونه مغرورا عن كونه متلفا عرفا.
والظاهر من كلام الشهيد الثاني: أن المكره - بالفتح - أيضا يستند إليه الإتلاف
ويصير ضامنا، غايته: أنه يرجع إلى المكره - بالكسر - بقاعدة أخرى (1). وليس
كذلك، بل المرضي المختار عند المشهور: أن الضمان على المكره - بالكسر - ولعله
لفهمهم من العرف أن المكره - بالفتح - يكون كالآلة للمكره، وهو كذلك.
ولا شبهة في كون الإكراه إذا كان بالغا حدا يسلب معه الشعور والاختيار يرفع
الضمان عن المكره - بالفتح -. نعم، لو لم يكن كذلك بل كان خوفا معتبرا في تحقق
معناه - على ما نحققه أن شاء الله في الشرائط العامة - فيشكل عدم صدق الإتلاف
عليه، فإما أن يقال بأنه لا يصدق عليه عرفا، فالقاعدة تقضي بضمان الامر،
وخروج باب الإكراه على قتل النفس بالإجماع وعلى الجرح والطرف - في قول -
لا ينافي، لأنه خارج بالدليل، وإما أن يقال بصدق الإتلاف والمسألتان (2) على
القاعدة. وأما في الأموال فقد دل الدليل على ضمان المكره - بالكسر - دون
المكره. وهو بعيد، إذ لا دليل على ارتفاع الضمان عن المكره - بالفتح - بعد صدق
الإتلاف عليه، ولا أستبعد عدم الصدق مع الإكراه كما يراه المشهور.
ومن جملة فروعهم في باب الإتلاف: إرسال الماء أو تأجيج النار في ملك
المالك فيسري إلى ملك الغير، و (3) حيث إن المعيار هو الإتلاف، فلذلك (4) اختلفوا
في الضمان بإطلاق وتقييد ونحوه، وقد أشبعنا الكلام في هذا الفرع بالخصوص في
ضمن قاعدة الضرر والضرار، فراجع (5)، وتدبر.

(1) انظر الروضة 7: 33.
(2) يعني: مسألتي الإكراه على قتل النفس، والإكراه على الجرح والطرف.
(3) و: لم ترد في (ن، د).
(4) في (ن): ولذلك.
(5) راجع ج 1، العنوان: 10، ص: 336.
437

ولا يختص الإتلاف أيضا بالأعيان، بل يجئ في المنافع، فإن إتلاف منافع
الأبدان والأعيان المملوكة بتفويت أو باستيفاء داخل في باب الإتلاف، وكذا
تفويت منافع البضع بمعنى استيفائه، فإنه لا يضمن (1) بمحض الفوات - والوجه
سيذكر - فإنه نظير منافع الحر، وقد ذكرنا أنه لا يدخل تحت اليد بالمعنى الذي
ذكرناه، فإذا استوفيت منافعه فهي مضمونة، إن شئت قلت: لليد، وإن شئت قلت:
للإتلاف، فإن استيفاء المنفعة كأكل الطعام. وأما مع عدم الاستيفاء فهو داخل في
الإتلاف لو حبسه، لأنه تفويت.
ولا ريب في ضمانه (2) في منفعة العبد ونحوه من الحيوانات المملوكة. وأما
منفعة الحر ففيها الكلام السابق في ضمان اليد، بأن نقول: هنا لم يتحقق إتلاف، لأن
منافعه تحت يده، وهو أولى وأقرب إلى منفعة (3) من غيره، وقد فاتت المنافع
لنفسها (4). أو نقول: إن أدلة الإتلاف لا تنصرف إلى مثل ذلك ونحوه. ويقوى
الإشكال لو كانت منفعته زمان الحبس مملوكة لغير الغاصب بإجارة ونحوها، فإنه
يقوى جدا تسلط المستأجر على الغاصب في ضمان عوض المنفعة مع كون
الأجير باذلا نفسه في تلك الحالة، لأنه أتلف منفعته وملكه.
ولو كان أجيرا لنفس الغاصب في ذلك الزمان المعين الذي حبسه فيه، فقد
ذكروا: أن ضمان المنافع على الغاصب إذا كان المحبوس باذلا نفسه للعمل (5) ولعله
لصدق (الإتلاف) على نفس الغاصب، فكأنه أتلف مال نفسه، ويلزم على ذلك
الضمان عليه في الصورة السابقة، ولم أجد لهذا الفرق في كلامهم وجها يركن إليه
وإن كان الوجه المتخيل ظاهرا في النظر.
وبالجملة: إتلاف منافع الحر بالغصب لو كانت مملوكة للغير بإجارة ونحوها
فلا أستبعد ضمانها مع تعين الزمان. وأما لو لم تكن مملوكة لغير الحر نفسه ففيه
الكلام السابق، وينبغي التأمل فيه، فتدبر.

(1) في (م): استيفائها إذ لا تضمن... فإنها.
(2) في (م): الضمان.
(3) كذا في النسخ، والظاهر: منفعته.
(4) كذا، والظاهر: لنفسه.
(5) منهم ابن فهد الحلي في المهذب البارع 4: 250، والمحقق الكركي في جامع المقاصد 6:
222، والشهيد الثاني في الروضة 7: 29.
438

[العنوان التاسع والخمسون]
[قاعدة الضمان بالغرور]
439

عنوان
[59]
من جملة أسباب الضمان: الغرور.
فكل من غر صاحبه بشئ فهو ضامن لما غرمه المغرور، كمن أقدم طعام غير
إلى ثالث فأكله، أو باع مال الغير بعنوان أنه ماله فتضرر بذلك المشتري في ثمن أو
نماء، أو أعار مال الغير، أو نحو ذلك (1) من أقسام الضرر، ولهذا الفرض أمثلة كثيرة
منتشرة في أبواب الفقه.
ومن هذا الباب: ضمان العاقد الفضولي في المعاملات كافة بعد تغريم الاخر.
وتضمين الشهود في الرجوع عن الشهادة للزوج الثاني يمكن إدراجه في هذا
الباب، وكذلك تضمين مدعي الوكالة في النكاح لنصف المهر - كما في الخبر - (2)
وتضمين المدلس في النكاح والبيع ونحو ذلك - كما لو ظهرت أمة أو بنت أمة أو
ثيبة - والكاذب في رأس المال لو قلنا بعدم الفسخ.
ومن هذا الباب: دفع مال المالك إليه لا باعتبار أنه ماله، فزعم أنه عطية
- ونحو ذلك - فأتلفه، فإن الدافع ضامن أيضا، ورجوع المولى على عبده المعتق لو
أخذ منه المال المقروض بغير إذنه مع الغرور لو رجع المالك إلى المولى.
وبالجملة: كل غرامة وردت على جاهل بالواقع منشؤها شخص آخر بحيث

(1) في (ن، د): غير ذلك.
(2) الوسائل 14: 228، الباب 26 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ح 1.
440

كان تدليسه سببا لذلك فهو ضامن لها وإن لم يكن الغار أثبت يده على ذلك المال
ونحوه، ولم يصدق عليه عنوان كونه متلفا.
ومن هنا علم: أن المغرور يعتبر فيه الجهل بالواقع حتى يكون مغرورا.
وأما الغار: فلو كان عالما بالواقع وقصد التدليس والتغرير وحصل غرور
المغرور بواسطته بحيث كان ذلك علة في اعتقاده وإقدامه فلا بحث في كونه غارا.
وأما لو كان عالما عامدا ولكن لم يؤثر ذلك في علم المغرور واعتقاده بأن كان
معتقدا ذلك المعنى سواء غره ذلك أم لا - كمن دفع مال غيره إلى ثالث بعنوان أنه
مال الدافع وكان الاخذ معتقدا ذلك من خارج بحيث لم يؤثر فيه تدليس الغار -
ففي كون ذلك غارا وجهان: من كون قصده ذلك، ومن جهة أن الاخذ قد أخطأ
وتغرر من قبل نفسه فلا يكون مغرورا من قبل غيره. ويحتمل قويا الفرق بين ما إذا
كان فعل الغار بحيث لو لم يكن المغرور معتقدا ذلك لأثر ذلك في تغريره، وبين ما
إذا لم يكن كذلك فيصدق، وهذا الفرق غير بعيد للصدق العرفي. وأما لو كان عالما
ولم يكن قاصدا للتغرير لكنه أثر فعله في الغرور، فالظاهر صدق الغار عليه.
وأما لو كان جاهلا بالواقع - كمن اعتقد أنه مال نفسه فبذله لغيره فتبين أنه
مال الغير - فهل يصدق عليه الغار أم لا؟ احتمالان، ومثله ما لو زعم أنه مأذون في
الدفع، أو اعتقد أنه وكيل - ونحو ذلك من الطرق الرافعة للضمان باعتقاده - فبان
خطأه. والذي يقوى في النظر حينئذ: أن ذلك أيضا يعد غرورا، فإن فعله قد غر
الاخذ الثاني أو المتلف وإن كان هو أيضا غير عالم بالواقعة، وتغرره بنفسه لا
ينافي كونه غارا لغيره وإن كان في الصدق حينئذ نوع خفاء.
ومتى ما تحقق الغرور بهذا المعنى تعلق ضمان ما اغترمه المغرور عليه (1)، فله
أن يطالبه به، وإن كان المغرور هو المتلف ما لم يكن تسليطه على إتلافه بالضمان،
فإنه لو دفعه على طريق مضمون - كبيع ونحوه - فيتحقق الضمان على المغرور

(1) العبارة في (م): تعلق به ضمان ما اغترمه المغرور.
441

أيضا من وجه (1) وإن كان الغار أيضا ضامنا، كما لا يخفى على من لاحظ الفروع
المندرجة تحت هذا العنوان.
والوجه في ضمان الغار أمور:
الأول: ما يظهر من كلمة الأصحاب: أن الغار سبب في الإتلاف، والمغرور
مباشر ضعيف، والمباشر متى ما ضعف يصير الضمان على السبب. ولكن هذا
الوجه محل نظر من وجهين:
أحدهما: أن هذا لو تم لزم عدم تحقق الضمان على المغرور أصلا، لعدم كونه
متلفا ومتصرفا في الحقيقة - كما ذكروه في بحث الإكراه، وقد أشرنا إليه سابقا - مع
أنهم يقولون: إن المغرور يضمن ويرجع بما اغترمه على الغار، وهذا ينافي ضعف
المباشرية. وبعبارة أخرى: لو كان السبب هو الإتلاف فسبب الضمان هنا شئ
واحد، فإن كان على الغار فلا وجه لضمان المغرور، وإن كان على المغرور فلا
وجه للرجوع على الغار، وإن كانا مشتركين فلابد من التبعيض كما نشير إليه في
صورة التركب، فتعدد الضمان مع وحدة السبب لا وجه له.
وثانيهما: أن ضعف المباشر الموجب لضمان السبب إنما هو فيما إذا كان
المباشر كالآلة - كالصبي الغير المميز، والمجنون، والحيوان، والمكره (بالفتح)
الخالي عن الاختيار، ونحو ذلك - حتى يصدق الإتلاف على السبب، والمغرور
بالغ عاقل شاعر مختار قاصد، فكيف يعقل جعله كالآلة؟ فلابد من إثبات سبب
آخر غير الإتلاف يوجب ضمان الغار.
الثاني: ما تقدم ذكره من (قاعدة الضرر والضرار) فإنهما منفيان في الشرع،
ولا ريب أن الغار بغروره قد أضر المغرور، وقد دل الشرع على عدم الأضرار، وقد
أسسنا سابقا: أن ظاهر نفي الضرر: أن من أوجب الضرر فهو ضامن له لابد أن يرفع
الضرر، كما دل عليه الخبر (من أضر بطريق المسلمين فهو ضامن) (2)، ولا يكون

(1) العبارة في (م) هكذا: استقر الضمان على المغرور.
(2) الوسائل 19: 181، الباب 9 من أبواب موجبات الضمان، ح 2.
442

الرفع للضرر إلا بضمان ما اغترمه المغرور، وهو المدعى، وقد مر بيان دلالة الخبر
على هذا المدعى في بحث نفي الضرر، فراجع (1).
الثالث: ما اشتهر بينهم من الخبر المعروف وهو: (أن المغرور يرجع إلى من
غره) (2) وإن لم نقف على ذلك في كتب الأخبار، لكن الظاهر من سياق كلامهم، أنه
مروي، وحيث إن مضمونه مجمع عليه فلا يحتاج إلى ملاحظة سند ونحوه.
الرابع: الإجماع المحصل من تتبع كلامهم في مقامات الغرور، حيث يحكمون
برجوع المغرور على الغار، فضلا عن الاجماعات المحكية، بل يمكن تتميم المرام
بحكم العقل أيضا، فضلا عن الأدلة السمعية.
تنبيهان:
أحدهما: أن ظاهر كلام الفقهاء، أنه لو اجتمع سلسلة فيها: ذو يد ومتلف وغار،
فقرار الضمان على المتلف، لا مطلق ذي اليد، لأنهم ذكروا ترتب الأيدي ونحو
ذلك، وذكروا: أن الضمان يستقر على من استقر التلف بيده، وذكروا في مسألة
الغرور أيضا: أنه يستقر الضمان على الغار.
فنقول: إذا ترتبت الأيدي على مال مضمون، فلا ريب في كون كل منهم
ضامنين (3) سواء في ذلك المتلف والغار والمغرور وغيره (4) فإذا رجع المالك على
من لم يتلف بيده فله أن يرجع إلى من تلف بيده أو إلى اليد اللاحقة كيف كان (5)
لم يكن مغرورا منه، فإن كان مغرورا فليس له الرجوع عليه، لأنه لو كان المالك
رجع على المغرور لكان هو يرجع على الغار وإن كان المغرور متلفا.
ولو رجع المالك على ذي يد مسبوق بغار ملحوق بمتلف، فله الخيار في

(1) راجع ج 1، العنوان: 10.
(2) حكي عن المحقق الثاني في حاشية الإرشاد: أنه نسب ذلك إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، راجع
الجواهر ج 37 ذيل الصفحة: 145.
(3) لا يخفى ما في العبارة، ولذا غيرها مصحح (م) ب‍: كل منها ضامنا.
(4) في (م): غيرها. والمناسب: غيرهم.
ما (5) في (م): كانت.
443

الرجوع إلى الغار أو إلى المتلف، لأن كلا منهما بالنسبة إلى الرجوع سواء بعد تحقق
السبب ما لم يكن هو غارا للمتلف.
ولو رجع على الغار فلا رجوع له على المتلف باعتبار أنه غار للثاني، فلا
رجوع له عليه فقد انقطع السلسلة. ويحتمل رجوعه على المتلف، لأنه بدفعه القيمة
كأنه صار مالكا للمال التالف وقد أتلفه المتلف ولم يكن مغرورا من قبل أحد، فإن
الأول غر الثاني دون الثالث.
وإن رجع على المتلف فلا رجوع له على الغار، إذ الغار ليس غارا له، بل غار
لذي اليد الواقع في الوسط، مع احتمال كون غروره للأول غرورا للأخير.
وبالجملة: فمما ذكرنا تتنبه على استخراج صور المختلطات وتطبيقها على
القاعدة.
وثانيهما: أنه كما يتركب اليد الموجبة للضمان - كما مثلناه - فكذلك يتركب
الإتلاف والغرور أيضا، فلو اشتركا في إتلاف شئ مباشرة (كضاربي رجل
بالسيف فمات بهما) أو تسبيبا (كحافري البئر) اشتركا في الضمان، لصدق
الإتلاف على المجموع المركب، فيتوزع، غايته: أن في قتل النفس للاشتراك
أحكاما خاصة منصوصة، وبالجملة: غرضنا: إثبات الاشتراك في الضمان على أي
نحو كان. ونحو ذلك: الغرور، كما إذا شهدا على مال بأنه ماله فأخذه وأتلفه ثم بان
أنه ملك للغير، وبالجملة: يتركب التغرير فيما إذا كان فعل كل منهما جزء سبب في
الغرور، ويشتركان حينئذ في الضمان.
ويمكن فرض الاجتماع على أن يكون فعل كل منهما علة تامة في الإتلاف
أو في الغرور، كما لو فرض صدور السبب من كل منهما دفعة بحيث لو لم يكن
أحدهما لكفى الاخر، فيكون كل منهما علة مستقلة بهذا المعنى، ولازم ذلك أيضا
الاشتراك في الضمان.
444

[العنوان الستون]
[قاعدة الضمان بالتعدي والتفريط]
445

عنوان
[60]
من جملة أسباب الضمان: التعدي والتفريط، ذكره (1) الفقهاء في الأمانات
المالكية والشرعية كلها كما يطلع عليها المتتبع، وحيث إن كل ما يسمى عندهم
أمانة غير مضمونة على القابض في حد ذاتها (2) لما سيأتي من أن الاستئمان من
مسقطات الضمان، فلا تكون الأمانة مضمونة، بمحض كونها مقبوضة باليد. نعم، إذا
حصل التعدي والتفريط فتصير مضمونة كسائر ما استولى عليه اليد على القاعدة،
وبهذا الاعتبار يعدان سببين للضمان، ومنشأ ذلك: أن القاعدة الأولية كون
المقبوض باليد مضمونا مطلقا كما قررناه. نعم، خرج منها باب الأمانات - على ما
يأتي تفصيل المراد منها - فإنها غير مضمونة، لكن القدر المتيقن من خروج الأمانة
عن الضمان هو حالة بقاء الأمين على أمانته، آتيا بما يلزم عليه الإتيان به، تاركا
لما يجب عليه الاجتناب عنه في خصوص هذه الأمانة. وأما مع خروج الأمين
عن هذا الحد فيخرج عن هذا الحكم ويصير مضمونا عليه بقاعدة اليد.
وبعبارة أخرى: خروج الأمانة عن قاعدة اليد تخصيص في الأحوال لا في
الأفراد، فإن الأمانة غير مضمونة ما دامت كذلك، فإذا خرجت عن ذلك بالتعدي

(1) في (م): ذكرهما.
(2) في (م): غير مضمون على القابض في حد ذاته.
446

والتفريط فقد دخلت تحت عموم اليد، بمعنى: أن هذه الحالة أو هذا الفرد كان
داخلا تحتها غير خارج عنها.
ومنشأ كون التعدي والتفريط مخرجا عن الأمانة ودليل إسقاط الضمان أنه
سيأتي في محله: أن عدم ضمان الأمانة: إما من جهة النصوص الدالة على عدم
ثبوت شئ على الأمين، وإما من جهة قاعدة الأذن من المالك ومن قام مقامه أو
من الله - تبارك وتعالى - في الأمانات الشرعية بناءا على أن الأذن لا يستعقب
الضمان - على تفصيل يأتي في محله - وإما من جهة إجماع الأصحاب على عدم
الضمان على الأمين، وإما من جهة قاعدة نفي الضرر، وإما من جهة لزوم العسر
والحرج وسد باب المعاملات والودائع لو لم يكن الحكم كذلك.
وهذه الأمور كلها منتفية بعد التعدي والتفريط، لخروج الأمين بذلك عن
صدق الأمين عرفا كما لا يخفى، لأن الأمانة مقابلة للخيانة، ولا ريب أن التعدي
والتفريط خيانة، فإذا خرج عنه فهو داخل في عموم دليل الضمان.
وأما الأذن: فلا ريب في كونه مقيدا بعدم صدور مثل ذلك عنه، سواء كان من
جانب المالك ونحوه أو الشرع، حتى أن الأذن المطلق أيضا لا ينصرف إلى صورة
التعدي والتفريط. وأما التصريح بعدم الضمان وإن تعدى، فهو رخصة في الإتلاف،
وهو خارج عن فرض الاستئمان.
وأما الإجماع: فهو في صورة التفريط أو التعدي غير محقق، بل الحق أن
إجماع الأصحاب على تحقق الضمان بأحدهما - كما ذكروه في الوديعة والعارية
والمضاربة والإجارة والوكالة والوصية واللقطة وعامل الجعالة والمساقاة
والمزارعة والشركة وغير ذلك - محقق عند من تدبر.
وأما مسألة نفي الضرر: فلا تأتي في المقام، لأن الأمين قد فتح باب الضرر
على نفسه بالتعدي والتفريط، مع أن تضرره بالغرامة معارض بتضرر المالك بتلف
ماله، فعموم اليد سليم عن المعارض.
ومثل ذلك نقول في العسر والحرج، فإن الأمين غير ضامن إلا إذا خرج عن
447

الأمانة، وهذا لا يوجب انسداد باب الاستئمان أصلا.
فتلخص من ذلك: أن الضمان بأحد الأمرين: من جهة الإجماع عليه ومن
جهة رجوعه بذلك إلى قاعدة اليد وخروجه بذلك عن باب الأمانات.
ويدل على كونهما موجبين (1) للضمان النصوص الخاصة أيضا، كصحيحة أبي
ولاد (2) وغيرها. وإنما البحث في موضوع التعدي والتفريط، إذ الأصحاب ليس
لهم في هذا الباب كلام منقح.
والظاهر: أن (التعدي) عبارة عن فعل ما يجب تركه، كركوب الدابة أزيد من
المسافة المستأجر عليها، أو السير بها على خلاف المعتاد، أو جعل ما لم يشترط
في العقد على الدابة، أو ضربها، أو نحو ذلك.
و (التفريط) عبارة عن ترك ما يجب فعله، كترك سقي الدابة وعلفها، أو عدم
حفظها في المكان اللائق لها، ونحو ذلك في كل شئ مؤتمن [عليه] (3) بحسبه.
وقد يطلق عندهم التعدي على ما يعم التفريط، ويكون المراد منه: التجاوز
عما ينبغي القيام به، سواء كان فعلا لما يترك أو تركا لما يفعل. وقد يطلق التفريط
على ما يعم التعدي، ويكون المراد به التقصير في حق المالك، سواء كان بترك ما
يجب أو بفعل ما يحرم، والأمر في ذلك سهل. نعم، هنا أمور لابد من التنبيه عليها:
الأول: أن المعتبر في التعدي والتفريط هل هو صدورهما عنه قاصدا لذلك فلو
صدر منه سهوا أو نسيانا أو في حالة النوم والسكر ونحو ذلك لا يصير ضامنا، أو
هو أعم من القصد والعدم فكل ما لا ينبغي أن يفعل أو يترك إذا فعله أو تركه قاصدا
أم لا فهو ضامن؟ ظاهر لفظ التعدي والتفريط يشعر باعتبار القصد، ولأن غير
القاصد معذور فكيف يترتب عليه الضمان؟
ولكن ينبغي أن يقال: إن ظاهر كلام الأصحاب، مطلق، ولا خصوصية

(1) في غير (م): موجبا.
(2) الوسائل 13: 255، الباب 17 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1.
(3) من (م).
448

للفظين، إذ لم يدل دليل بهذا العنوان، إلا أنه مورد الاجماعات، والعمدة أن عموم
دليل الضمان محكم، غاية ما خرجنا عنه في حالة البقاء على الأمانة، وأما بعد
وقوع تصرف غير مرضي فلا يعلم دخوله تحت أدلة الأمانة، فالمرجع قاعدة
الضمان، مضافا أن من صور المسألة صورة (1) استناد التلف إلى ذلك التعدي أو
التفريط، فيندرج حينئذ تحت دليل الإتلاف الذي لا شك في عدم مدخلية القصد
فيه، فإن المتلف ضامن وإن كان نائما أو ناسيا أو نحو ذلك، وإذا ثبت في هذه
الصورة يثبت (2) في باقي صور التلف بعد التعدي - كما نذكرها مفصلا - بعدم القول
بالفصل.
ولا يقال: إن قبل وقوع هذا الفعل لم يكن مضمونا على القابض، وبعد صدور
مثل ذلك بلا قصد نشك في عروض الضمان وعدمه [و] (3) الأصل بقاء الحكم
السابق على حاله، فإذا تم هذا في هذه الصورة يتم في ما فرضته أيضا بعدم القول
بالفصل.
لأنا نقول أولا: إن جريان الاستصحاب فرع بقاء الموضوع الذي اخذ عنوانا
في أصل الحكم - كما ذكرناه في بحث تبعية الأحكام للأسماء - (4) وهنا قد تعلق
حكم عدم الضمان بالأمين والأمانة، وبعد وقوع مثل هذا الفعل نشك في كون هذا
أمينا حتى نستصحب حكمه. ولم يتعلق الحكم على هذا المال ولا على الشخص
حتى يستصحب ببقائهما الحكم، وذلك واضح.
وثانيا: أن بعد فرض صحة الاستصحاب نقول: لا يعارض إطلاقات أدلة
الضمان وعموماته، نظير تعارض استصحاب الخيار مع عموم لزوم العقود، حيث
ذهب الأكثر فيه إلى الفورية تقديما لجانب الإطلاق - وقد مر الكلام فيه سابقا - (5)
فالمعارض لدليل الضمان أدلة الأمانة، ولا يعارض الاستصحاب دليل الضمان.

(1) في غير (م): صور.
(2) في (د): يضمن، وفي (ف، م): ثبت.
(3) من (م).
(4) راجع ج 1، العنوان: 6.
(5) راجع العنوان: 29، ص: 37.
449

وثالثا: أنه لو سلم ذلك فلا يمكن إلحاق صورة التلف بالتعدي - للإجماع على
الضمان فيه - حتى يتم لك القول باشتراط القصد في ذلك، فمتى ثبت في تلك
الصورة بالدليل الاجتهادي وبالاجماع فيلحقه باقي الصور، مع أنه لو أمكن
الإلحاق أيضا لكنا نقول بترجيح جانب الضمان لقوة الضميمة (1) والاستناد إلى
دليل اجتهادي، فتدبر.
الثاني: أنه هل يعتبر كونه عالما بأن هذا تعد أو تفريط، أو يعم الحكم ما لو كان
عالما بالموضوع أو جاهلا، بل ما لو كان معتقدا للخلاف أيضا - كما لو زعم ما
فعله لازم الفعل فبان لازم الترك، أو ما تركه لازم الترك فبان لازم الفعل -؟ الظاهر
التعميم، لعين ما ذكرناه من الوجوه السابقة، فإن السبب من الأحكام الوضعية التي
لا يفترق الحال فيها بين العلم والجهل، بل متى ما قلنا بعدم اعتبار القصد فلا وجه
لاعتبار العلم بالموضوع.
وأما العلم بالحكم - بمعنى كون هذا التعدي أو التفريط موجبا للضمان - فغير
معتبر قطعا، إذ العلم أو الجهل بالأحكام اللاحقة للموضوعات لا يؤثر في صدق
ألفاظ الموضوعات عليها، ومتى ما علق الحكم على لفظ يترتب بعد صدقه، سواء
علم الحكم أو جهل، مضافا إلى أن المعيار في المقام على ما ذكرنا: عموم (اليد)
وهو غير مشروط بشئ من ذلك.
الثالث: أنه لا يعتبر العلم بأنه مال الغير، فلو زعم أنه مال نفسه أو مأذون فيه
في التصرف كيف كان فبان خطأه فقد تحقق التعدي والتفريط وتعلق الضمان كيف
كان، وعلى ما ذكرنا يكون معنى كلام الأصحاب: (فعل ما يجب تركه وترك ما
يجب فعله) إرادة الواقع، بمعنى: أنه لو لم يكن هناك سهو ولا نسيان ولا جهل ولا
خطأ ولا غير ذلك من الأعذار لكان ذلك واجبا، لا الوجوب بالفعل، وإلا للزم
الاقتصار على صورة الوجوب الشرعي وانحصر الضمان فيما إذا فعل ما هو حرام

(1) كذا، ولم نتحقق المراد منها.
450

شرعا، وهو لا يتحقق [إلا] (1) باجتماع شروط التكليف وارتفاع الأعذار المسوغة
كملا، فتدبر.
الرابع: أن بعد تحقق التعدي والتفريط، فإما أن يتحقق التلف بنفس ذلك
التعدي ونحوه، أو بآفة سماوية، أو بفعل أجنبي، أو بفعل نفس المتعدي، أو بفعل
المالك.
أما الأخير: فيجئ بعد ذلك أنه في حكم الأداء إلى المالك.
وأما الأربعة الاخر: فالظاهر أن الضمان في كلها يتعلق بصاحب اليد وإن كان
له أيضا رجوع على المتلف في إحدى الصور إذا لم يكن غارا له، والوجه في ذلك
ما ذكرناه: من عموم دليل (اليد) والخروج عن باب الأمانة، فيصير مضمونا عليه
بأي نحو تلف، غايته: أنه إذا كان المتلف هو ذو اليد ترتب عليه الضمان بوجهين:
لليد وللإتلاف، وفي باقي الصور لليد خاصة، وذلك واضح.
ولو قيل: إن دليل اليد قد تخصص بدليل الأمانات المالكية، نقول: إن شمول
دليل الأمانة بعد وقوع فعل غير مرضي ممنوع، ودليل الضمان عام لا شبهة فيه،
وإذن المالك لم يحصل إلا مع البقاء على نحو الأمانة، فتبصر.

(1) من (م).
451

[العنوان الحادي والستون]
[قاعدة الضمان بالتلف قبل القبض]
453

عنوان
[61]
من جملة أسباب الضمان: التلف قبل القبض.
وأصل هذه القاعدة إنما هو في البيع، وهو الخبر المشهور: (أن المبيع إذا تلف
قبل قبضه فهو من مال بائعه) (1) وانعقد على ذلك الإجماع أيضا كما نص عليه (2).
وتوقف بعضهم (3) في تسري هذا الحكم إلى الثمن بمعنى كونه مضمونا على
المشتري قبل الإقباض للبائع.
ومن ذلك أيضا يحصل الإشكال في التسري إلى سائر المعاوضات، كالصلح
والإجارة والهبة المعوضة، وعمل المزارعة والمساقاة، وأجرة المسابقة والرماية،
ومهر النكاح، ومال الكتابة، وعوض الخلع أو الطلاق بعوض - على ما يراه
بعضهم (4) من صحته - كما هو الظاهر، وبعبارة أخرى: كل عوض تلف قبل القبض
في المعاوضات فهو من مال صاحب اليد وغرامته عليه لا من المالك، فإن

(1) عوالي اللآلي 3: 212، ح 59، بلفظ (كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه).
(2) السرائر: 2: 278، التذكرة 1: 473، كشف الرموز 1: 460، جامع المقاصد 4: 308.
(3) انظر الرياض 1: 528.
(4) نسبه المحدث البحراني إلى الشهيد الثاني - قدس سرهما - وقال: لم يسبق إليه غيره سابق
ولا لحقه فيه لا حق من أصحابنا - رضوان الله عليهم - انظر الحدائق 25: 568.
454

هذه الكلية لا دليل عليها إلا ما دل من النص والإجماع في البيع في خصوص
المبيع.
وليس البحث فيما إذا كان التلف بإتلاف صاحب اليد، لأنه حينئذ ضامن
بقاعدة الإتلاف قطعا، ولا فيما إذا كان التلف بإتلاف المالك له وإن لم يقبض، فإنه
في حكم القبض - كما نذكره في باب التأدية إن شاء الله تعالى - ولا فيما إذا كان ذو
اليد معاندا غاصبا مانعا من الدفع إلى صاحبه مع وجوبه عليه، وإلا لكان ضامنا
بأدلة الغصب والعدوان قطعا.
بل إنما البحث فيما إذا تلف بآفة سماوية، أو بإتلاف أجنبي مع عدم لزوم
الدفع والقبض على صاحب اليد، إما لأذن مالكه في البقاء والتأخير من دون أن
يجعله وكيلا في القبض حتى يحصل القبض، وإما لإمساكه المال حتى يحصل
التقابض من الجانبين - على ما حققناه: من عدم لزوم القبض قبل إقباض الاخر
فيما يمكن فيه التقابض على المعنى الذي فصلناه بحسب تفاوت المقامات في
العين والمنفعة في باب القبض، فراجع (1) - فإنه ليس في هذا الفرض من أسباب
الضمان السابقة شئ، وإنما الضمان هنا مبني على تأسيس قاعدة (التلف قبل
القبض).
وحيث إن المدرك خفي في المقام اقتصر بعضهم على خصوص المبيع (2)
للنص والإجماع ولم يتعد إلى غيره وحكم بكون التلف في غيره - حتى في الثمن -
من مال المالك، فإن كان التلف بآفة سماوية فقد تلف من ماله كما لو كان في يده،
وإن كان التلف بإتلاف أجنبي فله الرجوع على المتلف، ولا دخل في ذلك
لصاحب اليد.
ولكن لا يخفى أن الأصحاب التزموا بضمان صاحب اليد في منفعة الإجارة،

(1) راجع العنوان: 44، ص: 260.
(2) لم نعثر على من حكم بالاقتصار جزما، نعم استشكل في التعميم صاحب الرياض قدس سره على
فرض عدم تمامية الوفاق المدعى في كلام بعض الأصحاب، انظر الرياض 1: 528.
455

بل الأجرة قبل القبض، فضلا عن الثمن، سواء كان التلف بكله أو ببعضه، أو بوصف
من أوصافه بتعيب ونحوه، وبعد التأمل يظهر: أنهم يقولون في سائر المعاوضات
بذلك.
والذي يقتضيه النظر الصحيح: كون الضمان على صاحب اليد لا على المالك
في المعاوضات كلها وإن لم ينص عليه الأصحاب إلا في بعض المقامات، والسر
فيه: أن القبض والاقباض بعد تحقق المعاوضة والتمليك واجب على المتعاقدين
في مقابل العوض الآخر - على ما حققناه في باب القبض (1) - بمعنى: أنه لا يجب
دفع أحد العوضين إلا بدفع الاخر بإزائه وهنا إشكالات دفعناها في باب القبض.
فإذا كان كذلك (2) فإن لم يكن الاخر دفعه ودفع الدافع ثم تلف من ذلك
الجانب ولم يمكن (3) الإقباض فهو مكلف بالاقباض حتى يتصرف ما قبضه من
ذلك الجانب، وحيث تعذر بالتلف ففات الشرط فلا يمكنه التصرف فيما أخذه،
فيجب أن يدفعه إلى مالكه الأول قضاءا لحق المعاوضة بعد إتقان ما قدمناه من
المقدمة، وإن كان لك كلام في ذلك فراجع ما كتبناه في باب القبض تفز بحظ وافر.
وليس معنى الضمان في هذا المقام إلا كون تلف هذا المال من مال صاحب
اليد دون مالكه، وحيث كان عوضا عما أخذه ففات العوض فليرجع المعوض إلى
مالكه الأول، وهذا معنى: كون ضمانه على ذي اليد، وهذا مما لا إشكال فيه.
وهنا كلمات وأبحاث متفرعة على خصوص المقامات أعرضنا عنها بعد
إتقان ما أردناه من القضية الكلية، فعليك بالتتبع التام في أطراف الكلام.

(1) راجع العنوان: 44، ص...
(2) العبارة من هنا إلى آخر الفقرة لا تخلو عن اندماج، فلذا غيرها مصحح (م) بعبارة أخرى
لا حاجة بذكرها بعد وضوح المراد.
(3) في (ن): ولم يكن.
456

[العنوان الثاني والستون]
[قاعدة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد]
457

عنوان
[62]
من جملة أسباب الضمان: القبض بالعقد الفاسد.
وقد نص على ذلك الأصحاب في باب البيع، ولكنهم يذكرون في سائر
المقامات: أن (كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) وما ذكرناه في العنوان
أعم من هذه القاعدة، فإن كلامنا هو: الضمان في كل ما قبض بعقد فاسد، سواء كان
صحيحه مبنيا على الضمان أم لا. لكنهم يقولون: (كل ما لا يضمن بصحيحه لا
يضمن بفاسده) وهذا يدل على عدم ضمان ما قبض بعقد فاسد لا ضمان في
صحيحه، فيكون هذا واردا على قاعدتنا هذه مسقطا للضمان. ونذكر - إن شاء الله -
قضية العكس في مسقطات الضمان مع ما يصلح أن يكون مدركا له، نظرا إلى أن ما
نذكره هنا من الوجه على الضمان وجوه، بعضها يعم العقود كلها، وبعضها يختص
بما بني على الضمان، فإن كان المعتمد في الضمان هو الدليل العام فلابد من بيان
قضية العكس حتى يكون واردا عليها، وإن كان المعتمد الدليل الخاص بعقود
الضمان فلا يكون بينهما تدافع.
ثم إن العقد الفاسد قد يكون من جهة العقد واللفظ بأن لا يكون جامع
الشرائط. وقد يكون فساده من فوات شرط المتعاقدين، أو من فوات شرط
العوضين، أو من فوات أصل العوض - كالبيع بلا ثمن والإجارة من دون اجرة،
458

ونحو ذلك - وقد يكون المتعاقدان عالمين بالفساد، وقد يكونان جاهلين، وقد
يكون أحدهما عالما والاخر جاهلا.
وظاهر إطلاقهم الضمان في العقد الفاسد مطلقا.
والوجه في الضمان فيما كان صحيحه مبنيا على الضمان - كالبيع والصلح
والهبة المعوضة والمزارعة والمساقاة والجعالة والوكالة بعوض والمسابقة
والنكاح، ومثله الخلع والطلاق بعوض - أمور:
أحدها: أن كلا من المتعاقدين قد أقدما في العقد على الضمان - إذ ليس
الفرض في العقود المجانية - فيثبت ما أقدما عليه.
ولا يمكن أن يقال: إن إقدامهما إنما هو على تقدير الصحة، فكيف يقال
بضمانهما على تقدير الفساد مع جهلهما بأنه فاسد؟ فلا يكون الأقدام على
الإطلاق.
لأنا نقول: إنهما لما علما الضمان في صورة الفساد بقيمة المثل وأجرة المثل (1)
ومهر المثل، كان قبضهما إقداما على الضمان وإن بنيا على الصحة. ولو سلم عدم
إقدامهما على الضمان على تقدير الفساد، فإما أنهما قاصدان الضمان بالمسمى
مطلقا، وإما أنهما ساكتان عن صورة الفساد بحيث لم يخطر ببالهما ذلك، فيكون
أصل الأقدام على الضمان على كل حال، وليس غرضنا الان إثبات كون الضمان
بالمسمى أو بغيره.
كما لا يمكن أن يقال: إن في صورة العلم بالفساد فقد أقدم كل منهما على
إتلاف ماله - وسيأتي في المسقطات أن الأقدام من جملتها - ولا فرق بين المقام
وبين دافع الثمن إلى البائع الفضولي مع العلم بفضوليته، فإنه لا يرجع عليه لو لم
يجز المالك (2) مع تلف الثمن، وليس إلا لإقدامه، فهنا يصير بالأولوية، لأن الإقدام
هناك إنما هو بتوقع الإجازة، وهنا معلوم الفساد كما هو المفروض.
لأنا نقول: إن الدفع مع البناء على المعاوضة ولو صورة بطريق التشريع ليس

(1) لم يرد (وأجرة المثل) في (ن، د).
(2) في غير (م): التالف.
459

إتلافا للمال، وقياسه على باب الفضولي - لو سلم عدم الرجوع فيه - فاسد، لأنه
دافع لماله إلى من ليس العوض الآخر له (1)، فيعلم أن صاحب المال يأخذه منه.
بخلاف المقام، فإنه دافع ماله بإزاء مال الاخر، وإن كان بمعاوضة فاسدة فهو واثق
بحصول العوض له كيف كان.
وثانيها: الإجماع المحصل من تتبع كلام الأصحاب في هذه الأبواب، حيث
يحكمون في كل موضع يفسد فيه عقد المعاوضة بثمن المثل وأجرة المثل ومهر
المثل كما لا يخفى، مع حكاية الإجماع على ذلك في كلامهم نقلا مستفيضا، بل
متواترا على اختلاف في المورد في الجملة.
وثالثها: الخبر السابق في قاعدة اليد، فإن هذا المقام فرع من فروعها. وغاية
ما يمكن هنا أن يقال: إن الفرض كون هذا المال مقبوضا بإذن المالك فلا وجه
لكونه مضمونا، لما سيأتي بعد ذلك من كون الأذن من مسقطات الضمان. ويمكن
أن يقال: أن الأذن إنما حصل في ضمن العقد مقيدا، وهو يزول بزوال القيد،
وسيأتي توضيح ذلك.
ورابعها: القاعدة المشار إليها من: أن (كل عقد يضمن بصحيحه يضمن
بفاسده) وهذه القاعدة في الجملة دالة على الضمان على ما يظهر من معناه، وهو
المدعى. نعم، يبقى الإشكال في كونه مفيدا لضمان المسمى أو أجرة المثل وقيمة
المثل، وهو كلام آخر، ويأتي في ذيل المسألة الإشارة إلى محتملات هذه العبارة
وبيان المراد منها.
وهنا إشكالات بعضها عامة وبعضها خاصة:
أحدها: أنه لم لا يكون العقد الفاسد - إذا كان من حيث لفظه - قائما مقام
المعاطاة ويحصل به الملك؟ لما مر بيانه (2) ويكون التلف من مال صاحب اليد لا

(1) العبارة في غير (م) هكذا: على ما ليس العوض الآخر منه.
(2) في (م): على ما مر بيانها.
460

دخل له بالمالك (1) الأول، فلا وجه للحكم بالضمان. وكذا لو كان الفساد من جهة
هي لا تضر بالمعاطاة، كعدم ذكر أجل النسيئة ونحو ذلك في وجه.
والدفع: أن اللفظ لم يكن مؤثرا على ما هو المفروض، وكونه معاطاة إنما هو
في صورة قصد (2) النقل والانتقال بالتعاطي، والفرض أنهما قصداه باللفظ، فما
قصد تأثيره لم يؤثر، وما لم يقصد تأثيره لا يكون مؤثرا، وهو المدعى.
وثانيها: أن من جملة صور المسألة: ما لو كان الدافع عالما بالفساد والقابض
جاهلا، ولا وجه في هذه الصورة لتضمين القابض، نظرا إلى أنه مغرور من قبل
الدافع، وقد مر أن المغرور يرجع على الغار، فلا وجه للرجوع بالعكس.
والجواب: أن التعليم غير واجب، وذلك ليس تغريرا من الدافع، بل هو تقصير
من قبل الاخذ في تعلم الأحكام، فهو قد تغرر بنفسه، بخلاف الغرور في
الموضوعات، فإنه غرور، وهنا قد اغتر من تقصيره.
وثالثها: أن الدفع لما كان بإذن المالك فينبغي دخوله تحت الأمانات المخرجة
عن الضمان.
ودفعه: بأن عدم كون الفرض من الأمانات الشرعية واضح، إذ هي مشروطة
بعدم اطلاع المالك وإذن الشارع، وكلاهما منتفيان.
وأما الأمانة المالكية: فهي فرع الإقباض على طريق الاستئمان أو الإحسان،
وهما منتفيان، والأذن قد تقيد بالمعاوضة وهي قد فسدت، فيرتفع الأذن.
ودعوى: أن الإذن هنا ينحل إلى إذنين: إذن على تقدير المعاوضة وإذن في
التصرف كيف كان، ينافيها الوجدان حتى في صورة العلم بالفساد أيضا، فإن الأذن
هناك أيضا مقيد ببقاء المعاوضة الصورية، فإذا بني الأمر على المراجعة فكل منهما
يرجع إلى صاحبه من دون فرق. نعم، هنا كلام في كون الضمان بالمسمى أو بالقيمة
في كل شئ بحسبه، وهو كلام آخر يأتي إن شاء الله تعالى في كيفية الضمان،
فارتقب

(1) في غير (م): للمالك
(2) في غير (م): المقصود.
461

ورابعها: أن من جملة صور المسألة: ما لو كان الفساد من عدم العوض، كما لو
قال: آجرتك، أو زارعتك، أو بعتك، أو صالحتك، أو نحو ذلك من عقود المعاوضة
بلا عوض، فإنه لا وجه حينئذ بالضمان، لأنه صريح في الدفع المجاني والرخصة
في الإتلاف، وكذا إذا ذكر عوضا لا مالية له - كالحشرات - فإنه أيضا كذلك، فكيف
تقولون بالضمان؟
والجواب: أن فيما إذا كان قد ذكر العوض الغير القابل، فوجه الضمان واضح،
نظرا إلى أن الدفع بإزاء (1) هذا العوض وإن لم يصلح عوضا، مكان الدفع على
طريق ضمان في نظره، لا على سبيل المجان حتى لو كان عالما بعدم قابلية
العوضية أيضا، إذ دعوى عدم تعقل تقييد (2) الدفع بالعوض مع العلم بالفساد
ممنوعة، بل ليس ذلك إلا كالتشريع في العبادات مع العلم بعدم الأمر، فيدفعه على
أن يكون هذا معاوضة وإن علم بأنه لا يصير شرعا.
وأما إذا لم يذكر العوض ففيه الكلام من وجهين:
أحدهما: بعد العلم بقصده، وهو إما بإرادة الدفع المجاني وهو خارج عن
محل البحث والعبارة لاغية، وإما بإرادة الدفع على أن يكون هذا بيعا أو إجارة أو
مزارعة مثلا، لكنه بلا عوض، وحينئذ نقول: إنه لم يرخص على التلف مجانا
مطلقا، بل على تقدير كون ذلك إجارة مثلا، والفرض أنه لا يتحقق، فالاتلاف غير
جائز.
وثانيهما: أن مع عدم العلم بقصده هل المستفاد من العبارة أي شئ؟ فإن
ظاهر (آجرتك) - مثلا - يقتضي العوض، وظاهر (بلا اجرة) يقتضي كونه قصد
العارية فيتعارضان، وهو خارج عن محل البحث.
هذا هو الكلام في عقود المعاوضة.
وأما ما عداها - كالهبة بلا عوض والوقف والسكنى والتحبيس والعارية

(1) في غير (م): في إزاء.
(2) في (ف، م): تقيد.
462

والوديعة والشركة والمضاربة (بالنسبة إلى رأس المال والربح) والوكالة
والوصاية ونحو ذلك - فما قبض بشئ منها وكان العقد فاسدا، فينبغي ضمان
المقبوض أيضا، لعموم ما دل على ضمان اليد وكون إذن المالك على فرض صحة
العقد، وأما على فرض البطلان فلا إذن كما ذكرناه.
وبالجملة: الوجه المذكور فيما قبض بالعقد الفاسد في المعاوضات يجئ في
المجانيات أيضا لو لم يكن أمر آخر يخرجها (1) عن الضمان، ولكنها قد خرجت
بقولهم: (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) ويجئ الوجه في ذلك في
مسقطات الضمان.
تنبيه:
في الإشارة إلى محتملات هذه القاعدة وبيان المراد منها تتميما للمبحث
وتعميما للنفع، والمحتملات فيها أمور:
أحدها: أن يراد: أن كل عقد يتحقق فيه الضمان لو كان صحيحا بالعوض
يضمن فيه لو كان فاسدا إذا تلف، فيختص الأصل وهو قولنا: (كل ما يضمن
بصحيحه يضمن بفاسده) بعقود المعاوضات، وعكسه وهو (مالا يضمن بصحيحه
لا يضمن بفاسدة) يشمل الأمانات، كالوديعة، ورأس مال المضاربة، والعين
المستأجرة - دون (2) منفعتها - والعقود المجانية: كالهبة بلا عوض، فإن كل ذلك غير
مضمون في الفاسد كما في الصحيح بلا فرق.
الثاني: أن يراد منه: أن كل عقد يحصل الغرامة والخسارة في صحيحه لأحد
- بمعنى: أنه يتلف من ماله - يحصل الخسارة في فاسده أيضا عليه، وما لا يحصل
في صحيحه كذلك لا يحصل في فاسده أيضا، فيشمل الأصل العقود المجانية كما
يشمل المعاوضات، فإن المال الموهوب كما يتلف من المتهب في الصحيح فكذلك
في الفاسد، ويختص العكس بالأمانات التي لا خسارة فيها صحيحا وفاسدا.

(1) في غير (م): يخرج.
(2) في (ن، د): ما دون.
463

فالمقدمة الأولى (1) على المعنى الأول أخص منها على المعنى الثاني،
والمقدمة الثانية في الثاني أخص منها في الأول.
الثالث: أن يراد منه بيان مقدار الضمان جنسا وقدرا في الفاسد كالصحيح،
بمعنى: أن المال الذي يضمن في الصحيح يضمن في الفاسد بما يضمن به في
الصحيح، بمعنى المسمى، لا عوض المثل.
الرابع: أن يكون لبيان ضمان العهدة إذا انكشف المبيع ونحوه مستحقا للغير،
ويكون معناه: أن كل عقد يضمن ويتعهد بمتعلقه في الصحيح إذا ظهر ملكا للغير،
ففي فاسده أيضا كذلك، بمعنى: أن غرامة كونه مال الغير يتحملها الدافع وما ليس
في صحيحه كذلك فليس في فاسده أيضا.
الخامس: أن يراد بذلك خصوص الثمن الذي يضمن في الصحيح فكذا في
الفاسد.
والسادس: أن يراد به خصوص المثمن، لا غيره.
والسابع: أن يراد به الأبعاض من العوض والمعوض، بمعنى: أن الأبعاض كما
أنها مضمونة في الصحيح مضمونة في الفاسد، كأبعاض المبيع والثمن في البيع،
وأبعاض المنفعة والأجرة في الإجارة. وأما الأبعاض التي لا تضمن بالصحيح
- كأبعاض عمل الجعالة وعمل السبق والرماية - فلا تضمن بالفاسد أيضا.
والثامن: أن يكون بمعنى: المهر، فكل مهر يضمن لو كان العقد صحيحا فكذلك
في الفاسد، وما لا يضمن بالصحيح لا يضمن بالفاسد.
والاحتمالات الأربعة الأخيرة بعيدة عما يفهم من العبارة عرفا، وتخصيص
وتقييد من دون مقيد ومخصص، ومناف لما يظهر من استدلالاتهم بها في مقامات
اخر غير الأربعة المذكورة، مضافا إلى أن المحقق الثاني يظهر من كلامه: أن المراد بالموصولة هو العقد، فإنه قال: (كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده،

(1) لم ترد (الأولى) في (ن، د).
464

وكل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) (1) فلا وجه للحمل على المعاني
الاخر، مع أن الحمل على أحد الأربعة الأخيرة يوجب تهافتا في تركيب القاعدة
لا يخفى على من تأملها.
والحمل على المعنى الرابع أيضا غير صحيح، لظهور استدلالهم بها في غيره،
وبعده عن ظاهر العبارة، ولكون القاعدة مجمعا عليها عندهم، مع اختلاف فتواهم
في ضمان العهدة.
والمعنى الثالث وإن كان يلائم لو عبر بالموصول لا بلفظ (العقد) من وجه،
لكنه لا يلائم من وجه آخر، لأنه يبقى ضمير صحيحه وفاسده خاليا عن المرجع،
كما يلزم هذا البحث في الاحتمالات السابقة أيضا، وارجاعه إلى العقد المعلوم من
السياق خال من الوجه، ويدفعه أيضا مخالفته لإطباقهم على الضمان بمهر المثل
وأجرة المثل وقيمة المثل، لا بالمسمى، فلا تجتمع فتواهم بذلك مع إطباقهم على
القاعدة لو كانت بهذا المعنى.
فدار الأمر بين الاحتمالين الأولين، ويتعين الأول بقربه من ظاهر العبارة،
وظهور لفظ (الضمان) في الدفع للعوض، لا مجرد كون ذلك تالفا من ماله، وهو لا
يكون إلا في المعاوضات. واستدلالاتهم أيضا تنبئ عن المعنى الأول، فلا بد من
الرجوع [إليه] (2).
قيل: ينبغي تقييد هذه القاعدة بأمور:
منها: أن الضمان في الفاسد مشروط بالقبض، بخلاف الصحيح.
وفيه: أن القاعدة مسوقة لبيان أصل الضمان، ولا دلالة فيها على شرائطه
وكيفياته حتى تقيد، مضافا إلى عدم الفرق بين ما قبل القبض وما بعده، فإن
الضمان قبل القبض على المالك الأول سواء كان في صحيح أو فاسد، وبعد القبض
على القابض سواء كان في صحيح أو فاسد، فهذا الكلام ناشئ عن عدم التأمل.
وإن بنيت على أن ما تحقق قبل القبض من التلف لا يسمى ضمانا، ففي الصحيح

(1) جامع المقاصد 4: 61، اختلاف يسير.
(2) من (م).
465

والفاسد كذلك، فيكون داخلا تحت قولنا: لا يضمن بفاسده كما لا يضمن بصحيحه.
ومنها: أن المعاوضة بين الناقص كالمجنون والصغير وبين الكامل غير موجبة
للضمان على الناقص مع أنه فاسد، ولو كان صحيحا لكان هنا ضمان.
والوجه ما يأتي في مسقطات الضمان أن الأقدام مسقط له، والظاهر أن المراد
بيان النوع، لا خصوصيات الأفراد حتى يحتاج إلى التقييد، مضافا إلى أن كلامهم
لو حمل على عمومه أيضا يكون معناه: ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده لو كان
على ذلك الفرض صحيحا، بمعنى عدم تغير الموضوع، وهنا لا يمكن فيه على هذا
الفرض الصحة. أو نقول: إن قولهم في عكس القضية أعم من كون السالبة بانتفاء
الموضوع أو المحمول، وهنا نقول: هذا شئ لا ضمان في صحيحه لأنه لا صحيح
له، فلا ضمان في فاسده من هذه الجهة وإن كان في طرف الكامل فيه الضمان.
ومنها: إخراج نصف المهر الذي يضمن قبل الدخول في العقد الصحيح، فإنه لا
يضمن في العقد الفاسد، فلا يصدق قولهم: كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.
ومنها: إخراج عقد المكاتبة، فإنه يضمن بصحيحها ولا يضمن بفاسدها، فلا
وجه للتعميم.
466

[العنوان الثالث والستون]
[في بيان سائر أسباب الضمان]
467

عنوان
[63]
في سائر أسباب الضمان، وهي أمور:
أحدها: الضمان الحاصل بأصل الشرع على المكلفين، بمعنى التكاليف المالية،
سواء كانت مشروطة بقصد القربة أم لا.
ومن هذا الباب: زكاة الأبدان، وزكاة الأموال شرائطها المقررة في الشرع
والأخماس، وما يلتزمه الإنسان بنذر أو عهد أو يمين، وما يغرمه بسبب الأمور
الصادرة عنه من الكفارات المالية على انتشار أفرادها، ككفارة الحج وكفارات،
الصوم والوطئ والقتل والظهار والإيلاء وغير ذلك، ومن هذا الباب نفقات
الأولاد والآباء والأزواج، والمماليك في وجه، وضمان العاقلة للدية ونحو ذلك،
فإن هذه ضمانات حاصلة بخطاب الشرع ابتداءا، أو بعد عروض سبب من
المكلف نفسه.
وثانيها: الضمان الحاصل بأحد أسباب المعاوضة إذا جعلت في الذمة من بيع
أو صلح أو إجارة أو جعالة أو قرض أو مسابقة أو نكاح أو نحو ذلك من العقود،
فإنها تصير سببا لاشتغال الذمة بمقتضاها على حسب ما جعل في ضمن العقد،
وذلك واضح.
وثالثها: الضمان الحاصل بنفس عقد الضمان - أي التعهد - وهو أقسام ثلاثة.
468

الأول: ضمان المال الثابت في ذمة الغير، وهو الذي عقدوا عليه في الفقه بابا
وذكروا له شرائط وأحكاما معينة، ومن الشرائط المعتبرة فيه: كون ذمة المضمون
عنه مشغولة عند الضمان، لأن حقيقته عبارة عن انتقال المال من ذمة إلى ذمة، وهو
فرع الوجود في الذمة الأولى، ولذلك ذكروا: أن ضمان مال الجعالة قبل تمام
الأجل والدية على العاقلة قبل حلول النجم ونحو ذلك غير صحيح، وذلك واضح.
الثاني: التعهد بالمال بواسطة التعهد بالنفس كما في الكفالة، فإن العقد ابتداءا
إنما هو على التعهد ببدن المكفول، ولكنه يلزمه تعهد المال لو لم يسلم المكفول
- كما ذكروه في باب الكفالة - وهذا الضمان أيضا ضمان مال بواسطة التعهد بالنفس.
وإن شئت قلت: رجوع المكفول له على الكفيل بالمال داخل في ضمان الإتلاف،
نظرا إلى أن الكفيل بكفالته وتخليته سبيل المكفول قد أتلف مال المكفول له، فإن
سلم المكفول فيأخذ ماله منه، وإن لم يسلم يرجع على المتلف، فيصير تحت
قاعدة الإتلاف.
الثالث: التعهد بأمر خارج عنهما، وهو الذي يعبرون عنه ب‍ (ضمان ما لم
يجب) وهو غير جائز، بمعنى لا يلزم بشئ، ولضمان ما لم يجب صور:
منها: أن يقول لواحد: إن فلانا إذا جنى شيئا أو غصب مالا أو أتلف أو نحو
ذلك فأنا ضامن له، مع أنه لم يفعل شيئا من ذلك في هذا الوقت، فيعلق (1) الضمان
على الحصول، ويكون معناه: كل غرامة تعلق بذمة فلان فأنا ضامن لها. وهذا
الضمان لا كلام في بطلانه، للأصل وظاهر الإجماع، وعدم وجود دليل دال على
صحته. ومن هذا الباب ما ذكروه في الفقه: من عدم صحة ضمان عهدة الثمن لو
انفسخ البيع، وضمان درك ما يحدثه [المشتري] (2) من بناء أو غرس لو ظهرت
العين المبيعة مستحقة للغير، وضمان عهدة الأرش لو ظهر المال معيبا، فإن ذلك كله
ضمان لشئ لم يثبت في ذمة المضمون عنه عند الضمان.
ونحوه ضمان مال الجعالة، وعوض السبق والرماية، ودية أرش الجناية قبل

(1) في (ن، د): فيتعلق.
(2) من (م).
469

استقرارها، وكذلك ضمان الأجنبي عوض الخلع، سواء كان بإذن الزوجة أو
بالتبرع قبل وقوع الخلع الموجب لاشتغال ذمة الزوجة.
ومنها: أن يقول لواحد: إدفع مالك إلى فلان وعلي ضمانه، أو اتلفه، أو اعمل
لفلان العمل الفلاني وعلي ضمانه، ونحو ذلك، وبعبارة أخرى: يأمر غيره بدفع أو
إتلاف أو عمل لا يعود عليه شئ من ذلك، وقد ورد من هذا القسم في الخبر في
قول أحد الجالسين في السفينة لاخر: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه - حيث
يكون المقام مقام خوف من الغرق على النفوس - أن القائل يضمن. وأفتى
بمضمونه الأصحاب (1) وجعلوه خارجا عن الباب بالنص.
ولا ريب أن الأمر بعمل له اجرة عادة لغيره مع التصريح بأن علي ضمانه أيضا
يصير داخلا تحت الجعالة ويلزمه الضمان، لأنها من عقود المعاوضة، ولا يشترط
كون الجاعل هو المالك كما ذكروه في محله.
فبقي الكلام في صورة الأمر إلى الدفع إلى الغير، أو الإتلاف في غير الصورة
المنصوصة. وظاهر كلامهم عدم تحقق الضمان بذلك، لأن الدافع أو المتلف قد أقدم
على إتلاف ماله، ولم يكن هناك ذمة مشغولة حتى يضمن عنها، ومجرد قول (2):
(علي ضمانه) لا يثبت الضمان، إذ لم يقم دليل على سببيته، والوفاء بمطلق الوعد
غير لازم.
ولا يقال: لم لا يكون العوض في مقابل الدفع والإتلاف؟ فيكون كالجعالة بل
داخلا فيها.
لأنا نقول أولا: إن المقصود ضمان المال المدفوع أو المتلف، ولو كان جعالة

(1) لم نقف في المسألة على خبر، وما وقفنا عليه من فتوى الأصحاب هو ما حكاه العلامة في
التحرير عن الشيخ بقوله: وقد نص الشيخ على لزوم من قال: (ألق متاعك في البحر وعلي
ضمان قيمته) ويكون ذلك بدل ماله، ويكون غرضه التخفيف من السفينة وتخليص النفوس
(التحرير 1: 221) لكنا لم نعثر عليه في كتب الشيخ، ويظهر من العبارة عدم ورود خبر في هذه.
(2) في غير (م): حتى اضمن عنها ومجرد قولي: وعلي...
470

لكان الضمان للعمل، وهو الدفع والإتلاف، وليس البحث فيه. وثانيا: إن الجعالة لا
تكون إلا لعمل مقصود محلل، ولا غرض صحيح يتعلق بإتلاف الغير ماله أو دفعه
إلى غير القابل، ولو فرض تعلق غرض بذلك فلا مانع من كونه جعالة، لكن الضمان
يرجع إلى أجرة المثل لهذا العمل، لا إلى المال المتلف، فتدبر.
ولا يمكن التمسك في ضمانه بالغرور، بتقريب: أن القائل قد غره بالتزامه
بالعوض، لأن الغرور إنما يكون في الموضوع، وهنا قد اغتر الدافع لنفسه مع عدم
كونه في الشرع كذلك، لتقصيره في تعلم الحكم، مع أنه غير آت في صورة علم
الدافع أو المتلف أيضا بأنه شرعا غير مضمون على القائل، والبحث أعم من صورة
العلم والجهل. وأما ضمان المدفوع إليه وإن كان يقتضيه قاعدة (اليد) لكنه ساقط
بالأقدام، كما يأتي في بحثه إن شاء الله.
ومنها: أن يأمر بالدفع أو الإتلاف فيما يعود إلى القائل - كأمره بأداء دينه، أو
إعطاء نفقة زوجته أو دابته، أو تعمير داره، أو نحو ذلك - مع تصريحه بأن الضمان
عليه. وقد نص الأصحاب في الدين والضمان بأن الأذن في الضمان وأداء الدين
يوجب الرجوع على الاذن وإن لم يصرح بأنه يدفعه ويضمنه. والظاهر أن في هذه
المقامات كلها يضمن، نظرا إلى قاعدة (اليد) فإن كل مال صرف في مصارفه بإذنه
فقد دخل في يده، وقد أقدم الباذل إلى العوض، كما أن المبذول إليه أيضا قد أقدم
على ضمانه، فدخل تحت يده من دون تبرع، فمقتضى القاعدة الضمان، وهذه
الأمور في الحقيقة ترجع إلى أمرين: أحدهما كون الدافع أو المتلف وكيلا عن
القائل في الاقتراض، ووكيلا (1) عنه في الصرف إلى مصارفه، فيصير بمنزلة
عقدين، فتدبر. وهنا أبحاث لا حاجة إلى ذكرها.
وهنا صورة وهي ما لو أمر غيره بدفع أو باتلاف أو بعمل في أي الأقسام
السابقة كان من دون تصريح بالضمان على نفسه فهل يحكم بذلك على الضمان أم
لا؟ ولا بحث في أنه في الصورة التي لو صرح بالضمان لم يكن ضامنا، ففي ما لو

(1) كذا، والمناسب للسياق: وثانيهما كونه وكيلا.
471

لم يكن مصرحا (1) بالضمان لا يضمن بالأولوية. وأما لو كان صورة لو صرح
بالضمان كان ضامنا، فهل بمجرد الأمر يضمن؟ وجهان: من (2) احترام مال المسلم
وعمله، ومن أصالة البراءة مع عدم التزامه بالضمان.
والحق: أنه إن كان هناك قرينة من عادة أو غيرها دالة على الضمان فيثبت مع
عدم قصد الدافع أو العامل التبرع. وأما لو لم يكن هناك ما يقتضي ذلك فلا ضمان
وإن قصد الدافع الضمان، لأصالة البراءة، فتدبر، فإن المقام مما ينبغي أن يبسط فيه
الكلام، ولكن الاستعجال قد ضيق علينا المجال.

(1) في (ف، م): ففي ما لو لم يصرح.
(2) في غير (م) بدل (من): منشأه.
472

[مسقطات الضمان]
[العنوان الرابع والستون]
[قاعدة الاحسان]
473

عنوان
[64]
من جملة المسقطات للضمان: قاعدة الإحسان.
والأصل فيها: قوله تعالى: ما على المحسنين من سبيل (1) بتقريب (2): أن
(السبيل) نكرة واقعة في سياق النفي فيفيد العموم، وكلمة (على) دالة على الضرر،
والجمع المحلى باللام مفيد للعموم الاستغراقي، فيكون المعنى: أن كل سبيل
يوجب ضررا على فرد من أفراد المحسنين فهو منفي.
ولا يتخيل: أن هذا يقتضي نفي العموم، لا عموم النفي، بتقريب: أن (السبيل)
عام و (المحسنين) عام، فالاثبات يقتضي ثبوت كل سبيل على فرض عمومه
على كل محسن، والنفي يفيد عدم كونه كذلك، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل سبيل
عن كل محسن، نظرا إلى [أن] (3) المتبادر من الآية نفي جميع أفراد السبيل عن
جميع أفراد المحسن، وليس هذا من باب: ليس كل حيوان إنسانا.
فإن قلت: إذا كان المحسنون بمعنى: كل محسن، فيصير التقدير: لا سبيل على
كل محسن، وهو لا ينافي ثبوت السبيل على بعضه.
قلت: ليس كل ما هو في تقدير شئ يفيد فائدته، فإن الفهم يتفاوت بذلك،

(1) التوبة: 91.
(2) في (ف، م): بتقرير.
(3) من (م).
474

والذي يفيد هذه الفائدة المستفادة من الآية قولك: ليس على فرد من أفراد
المحسنين سبيل حتى يتحقق العموم في (السبيل) وفي (المحسن) لا قولك: ليس
على كل محسن سبيل.
وبالجملة: لا بحث في كون الظاهر من الآية عموم السلب، ولو فرض عدم
دلالته على الكلية لأمكن تتميم الاستدلال أيضا بأن تعليق الحكم على وصف
الإحسان يشعر بأنه العلة في ذلك، بل الظاهر أنه العلة في المقام، فيطرد الحكم في
كل محسن على ما نراه من حجية العلة المستنبطة من كلام الشارع وإن لم يكن
بالتصريح (1) وإن خالف فيه بعضهم، مضافا إلى أن عدم وجود فرد معهود في البين
وعدم الفائدة في ترتيب الحكم على فرد غير معلوم يعين الحكم على جميع
الأفراد، أو على الطبيعة السارية فيها، وعلى التقديرين فهو مثبت للمطلوب.
مع أن هذه الآية الكريمة قد سيقت مساق حكم العقل، فإنه قاض بعدم السبيل
على المحسن، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: هل جزاء الإحسان إلا
الإحسان (2) فإن ظاهره امتناع السبيل على ضرر المحسن، بل ينبغي أن يكون
جزاء عمله الإحسان إليه، فلا يكون قابلا للاختصاص بفرد، دون آخر. فإذا دلت
الآية على نفي السبيل عليه عموما، فدل (3) على عدم الضمان والغرامة عليه، لأنه
في قوة الكبرى الكلية، بأن نقول: ثبوت الضمان على المحسن سبيل عليه،
والسبيل عليه منفي في الشرع كلية، فينتج: أن الضمان منفي عن (4) المحسن.
ولا يمكن أن يقال: لعل المراد: سبيل الآخرة لا الدنيا، أو سبيل الاحتجاج
والإلزام.
لأنا نقول: ظاهر الآية عام لا وجه لتخصيصه، مع أن فتح باب الضمان فتح
لباب الإلزام والاحتجاج جزما، والآية نافية للجميع.

(1) ما أفاده قدس سره بظاهره لا يلائم ما عليه الأصحاب، انظر المعالم: 226، والوافية: 237،
ومفاتيح الأصول: 672.
(2) الرحمن: 60.
(3) أي: نفي السبيل.
(4) كذا في (د)، وفي سائر النسخ: على.
475

لا يقال: إن غاية ما يستفاد من الآية: عدم جعل سبيل على المحسنين من
جانب الشرع ابتداءا، وأما لو فتح المحسن السبيل على نفسه بإتلاف أو وضع يد
أو نحو ذلك فأي مانع من الضمان؟ نظير ما مر ذكره في نفي سبيل الكافر على
المسلم.
لأنا نقول: فرق بين المقامين، فإن الآية هناك قد دلت على أن الله لم يجعل
سبيلا لكافر على مسلم، وهنا قد دلت على عدم السبيل من أصله، فالمحسن لا
سبيل عليه مطلقا.
ولا يمكن حمل الآية على الأخبار، لبعده عن طريقة الشرع، واستلزامه
الكذب في غالب الموارد، بل الظاهر منها إرادة إنشاء الحكم الوضعي، وهو عدم
ثبوت الغرامة والضمان عليه، وهو المدعى.
ولما كان نفي السبيل معلقا على وصف الإحسان، فالمستفاد منه عدم ثبوت
السبيل في محل الإحسان ومن حيثيته، بخلاف الحيثيات الاخر، فيكون المراد:
أن في محل الإحسان لا ضمان على المحسن، وإن كان الضمان عليه من جهات أخر
، ولا بد من البحث في تنقيح معنى (الإحسان) حيث إنه المدار في ذلك.
فنقول: هل الإحسان أعم من جلب المنفعة ودفع المضرة، أو يختص بالأولى
دون الثانية، أو بالعكس؟
لا شبهة في أن إيصال نفع إلى غير يسمى إحسانا للتبادر وعدم صحة السلب
ونص أهل اللسان. وأما دفع المضرة فالظاهر فيه أيضا ذلك وإن كان لفظ
(الإحسان) يومئ إلى نوع من الإيجاد ومنع المضرة ليس فيه ذلك، ولكن الظاهر
أنه لا يصح سلبه، والقدر المشترك متبادر منه.
فلو قلنا بالأعم يلزم (1) عدم الضمان فيمن أثبت يدا على مال غيره لدفع
مضرة عنه، أو جلب نفع إليه، كأخذ المال من يد السارق، أو المنقذ من الغرق، أو
المخلص من الحرق، وآخذ المال للاسترباح أو الاستئجار - ونحو ذلك - حتى

(1) في غير (م): فيلزم.
476

يحصل النفع للمالك، أو نقل متاعه إلى مكان آخر ليباع بالثمن الأوفى، أو آخذ
الدواب إلى المرعى، ونحو ذلك.
وإن قلنا بالاختصاص فيختص بأحد القسمين دون الاخر.
ويخطر بالبال أن الشيخ الوحيد الأستاذ في أثناء الدرس صرح في أثناء
الكلام، أن (قاعدة الإحسان) تختص بصورة دفع المضرة ولا تشمل صورة جلب
المنفعة. وهذا لا ينطبق على قاعدة اللفظ، نظرا إلى أن لفظ (الإحسان) يصدق
على إيصال النفع أوضح من صدقه على دفع المضرة، فلا وجه للتخصيص بالثاني،
ولا أقل من التساوي. والظاهر أنه ليس ذلك من جهة عدم شمول اللفظ، بل من
جهة (1) استقراء الموارد، فإن المواضع التي ذكرناها للإحسان بمعنى جلب النفع
كلها محل نظر في ارتفاع الضمان، بل الظاهر أن الفتوى فيها بالضمان - كما لا
يخفى - فإنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، فلا بد إما من ذكر دليل يخصص قاعدة
الإحسان، والظاهر أنه منتف، إذ لم نجد دليلا واردا على قاعدة الإحسان، بل
الظاهر أنه كالدليل العقلي غير قابل للتخصيص. وإما من دعوى: أنه غير داخل في
الإحسان بالمرة، وهي مشكلة (2) إذ دعوى: أن جلب المنفعة غير داخل في
الإحسان دونها خرط القتاد!
ويمكن أن يقال: إن كون وضع اليد على مال الغير إحسانا إنما يكون إحسانا
في صورة دفع المضرة، وأما في صورة جلب المنفعة فليس إثبات اليد جلب نفع،
بل إيصال النفع إنما هو بشئ آخر، فيتعلق الضمان بإثبات اليد، ولا ينفع بعد ذلك
الإحسان المتأخر، وفيه نظر.
وهل الإحسان يدور مدار القصد أو الواقع أو هما معا؟
فلو زعم أن سقي الدابة دفع للضرر عنه وصادف كونه في الواقع كذلك صار
إحسانا قطعا، وأما لو لم يكن ذلك في الواقع دفع ضرر فهل يكون ذلك إحسانا أم
لا؟ وجهان.

(1) في (ن، د) زيادة: عدم.
(2) في غير (م): وهو مشكل.
477

والظاهر أن مصادفة الواقع شرط، ومجرد الاعتقاد بأنه إحسان غير كاف، بل
لابد من كونه في الواقع دافعا للضرر، لأنه المتبادر من لفظ (الإحسان).
ولو زعم أنه ليس دفع ضرر واتفق أنه في الواقع في ذلك الوقت كذلك فهل
يسمى ذلك إحسانا أم لا؟ فيه وجهان.
والذي يقتضيه النظر: اعتبار القصد أيضا في صدق لفظ (الإحسان) ومجرد
كونه في الواقع دفع ضرر لا يكفي في صدق اللفظ كما يقضي به العرف، فمتى ما
كان قصده الإحسان واتفق أنه صادف الواقع وكان في (1) دفع مضرة فهو داخل في
الآية موجب لعدم الضمان، وفي جلب المنفعة يجئ الكلام السابق.
والظاهر أن بعد تحقق موضوع الإحسان لا يفترق الحال بين إمكان إعلام
المالك وعدمه، فلا يضمن من أثبت اليد لدفع المضرة وإن أمكن إعلام المالك،
فتبصر.
ثم بعد تحقق الإحسان إن اتفق التلف بفعل المحسن - بمعنى عدم مصادفة
فعله المصلحة الواقعية - فيجئ الضمان من جهة الكشف عن عدم الإحسان. وإن
اتفق التلف بآفة سماوية أو بإتلاف سبب آخر فلا ضمان على المحسن وإن كان
بيده، ما لم يقصر في الدفع أو الإيصال إلى صاحبه، أو إعلامه بالأخذ، فتدبر.
وهنا إشكال، وهو: أنهم ذكروا في باب اللقطة ونحوها من سائر الأمانات
الشرعية - كالدين المجهول صاحبه، والقراضة في دكان الصائغ مع جهل أربابها (2)
ونحو ذلك من الصنائع -: أن صاحب اليد يتصدق به عن المالك، وعللوا جوازه
بأنه إحسان محض إلى المالك، ومع ذلك حكموا بأنه لو ظهر مالكه فهو ضامن،
وهذا لا يجتمع مع كون الإحسان مسقطا للضمان.
والدفع: أن حكمهم بالضمان هناك من جهة كون التصدق إحسانا بشرط
الضمان - بمعنى: أن تحقق الإحسان هناك معلق على الضمان - لأنه إن ظهر
صاحبه فهو ضامن يعطيه، وإن لم يظهر فقد وصل إليه الصدقة، فبالمجموع المركب

(1) في هامش (م): فيه - ل.
(2) في غير (م): أربابه.
478

صار هذا إحسانا، وأما بدون الضمان فلا إحسان، إذ لا يمكن أخذ مال الناس
والتصدق به عنهم لأنه إحسان إليهم، لأن الإحسان أمر عرفي وهو غير صادق في
المقام. نعم، لو كان مع الضمان مع عدم إمكان الوصول إلى المالك فلا شبهة في أنه
إحسان.
والظاهر من تتبع كلمات الأصحاب أيضا إجماعهم على أن المحسن لا
يضمن - كما هو مدلول الآية (1) - وقد أشرنا أن العقل أيضا يدل على ذلك. ويندرج
تحت هذه القاعدة: ارتفاع الضمان عن حاكم الشرع، وعن عدول المؤمنين، وعن
سائر الأولياء والامناء، لأنهم محسنون، مع قطع النظر عن الأذن لهم في ذلك.

(1) قوله تعالى: ما على المحسنين من سبيل التوبة: 91.
479

[العنوان الخامس والستون]
[قاعدة عدم ضمان الأمين]
481

عنوان
[65]
من جملة أسباب إسقاط الضمان: قاعدة الاستئمان.
فإن الأمين ليس بضامن لما تلف في يده ما دام باقيا على أمانته، خاليا من (1)
التعدي والتفريط، ومن هذا الباب: عدم ضمان الودعي ومن عليه الحق إذا امتنع
صاحبه من قبضه ولم يمكن الوصول إلى الحاكم، وعدم ضمان الدلال، والمرتهن،
والشريك، وعامل المضاربة، والمستعير، وعامل المزارعة والمساقاة، والمستأجر
القابض للعين المستأجرة، والوكيل لما في يده من مال الموكل، والملتقط لما
التقطه مع الشرائط.
والأمانة قسمان: مالكي وشرعي، والأمانة المالكية عبارة عما كان بإذن
المالك وتسليطه في إثبات اليد عليه، والشرعي ما كان ذلك بإذن من الشارع (2)
في إثبات اليد عليه بدون اطلاع المالك، كالالتقاط، ويد الأولياء على أموال
المولى عليهم - من حاكم أو وصي أو أب أوجد أو أمين لأحدهم - فإنه استئمان
من الشرع، ويد المالك على الزكاة والخمس ما لم يتعد أو لم يفرط في الأداء،
واليد على مجهول المالك، ومثل الثوب الذي أطارته الريح والمال المأخوذ من يد
سارق أو غاصب بدون اطلاع المالك.

(1) في (م، د): عن.
(2) في (ن، د): بإذن الشارع.
482

والظاهر من كلام الفقهاء، أن الضابط في الاستئمان: وجود الأذن من الشارع
أو المالك في وضع اليد أو التصرف، فإن كل مقام تحقق فيه ذلك فهو داخل في
باب الأمانات غير مستعقب للضمان، وهذا مشكل من جهات:
منها: أنهم حكموا بضمان المقبوض بالسوم على قاعدة (على اليد ما أخذت)
مع أنه مقبوض بإذن المالك.
ومنها: أنهم ذكروا: أن المال المقبوض بالعقد الفاسد مضمون - كما ذكرناه
سابقا - مع أنه مقبوض بإذن مالكه.
ومنها: أن المال التالف قبل الإقباض في عقود المعاوضات مضمون على
صاحب اليد وإن كان باقيا في يده بإذن المالك.
ومنها: أن الغاصب إذا أذن له المالك في البقاء في يده ولم يصرح بأنه وكيل
في القبض من جانبه بقي مضمونا عليه، ومجرد الأذن في البقاء لا يرفع الضمان
وإن رفع إثم (1) الغصب والعدوان.
ومنها: أن في باب مجهول المالك صاحب اليد مأذون في الصدقة، مع أنه
ضامن.
وبالجملة: دعوى: أن كل إذن من المالك أو الشارع والتصرف موجب لعدم
الضمان لا وجه لها (2).
ومنها: أن أكل المال في المخمصة مأذون في الأخذ، مع أنه ضامن.
ومنها: أن [كلا من] (3) الصائغ والطبيب ونحو ذلك مأذون في التصرف في
المال، مع أنه ضامن لما تلف في يده عندهم. ونحوه الملاح والمكاري والأجير
وغير ذلك، فمجرد كون الأذن مسقطا للضمان كما ترى!
والذي يقتضيه النظر أن يقال: إن الاستئمان عبارة عن إذن المالك أو الشارع

(1) في " م ": اسم.
(2) والأولى جعل هذه الفقرة بعد استيفاء الاشكالات.
(3) من (م).
483

في قبض المال أو التصرف فيه لمصلحة المالك، لا لمصلحة القابض نفسه، ولا
للمركب منهما، بل المعتبر هو كون [هذا] (1) القبض للمالك، إما لدفع ضرر عنه، أو
حصول نفع له، مع كونه مأذونا من المالك أو من الشرع، فهو أخص من الأذن
مطلقا، وليس كل مأذون أمينا كما أوضحناه. فنقول: في مثل الأمثلة التي ذكرناها:
من الودعي والمرتهن والمستأجر والوكيل ونحو ذلك - التي (2) حكم فيها
الأصحاب بأنهم امناء لا يضمنون إلا بالتعدي أو التفريط - ليس القبض إلا
لمصلحة المالك، ومن جهة ذلك سمي أمينا (3). وأما فيما ذكرناه أخيرا من الأمثلة
فليس كذلك، ويحتاج تنقيح البحث في هذا المقام إلى بسط في الكلام.
فنقول: إن الصانع والطبيب والأجير ونحو ذلك إنما يقبض المال لمصلحة نفسه
وهي طلب الأجرة، والمالك إنما يدفعه إياه طلبا للإصلاح دون الإفساد، فليس
للأمانة الصرفة، وكذلك من تصرف في مجهول المالك فحفظه لمصلحة المالك
ولكن الصدقة أو التملك من دون الضمان لا مصلحة فيه للمالك، ومثله القابض
بالسوم فإنه وإن كان فيه رخصة للمالك، لكن عمدة القبض إنما هي لملاحظة
مصلحة نفسه حتى يسلم عن الغبن والخطأ.
والمال المقبوض بالعقد الفاسد لا شبهة في كونه لمصلحة القابض، لأنه بإزاء
العوض الفائت منه، وكذلك ما بقي في يد المالك قبل الإقباض، فإنه لانتظار
الإقباض من الجانب الآخر أو لمصلحة غيره، ولذلك لو وكله المالك في قبضه
فصار أمينا للمالك لا يضمن. وأوضح من ذلك إذن المالك للغاصب في البقاء، فإنه
لرفع الضيق والمعصية والفورية عن الغاصب، لا لمصلحة المالك. نعم، لو وكله في
القبض من جانبه كان كذلك وارتفع الضمان.
وبالجملة: الاستئمان عبارة عن كون هذا الأذن والاقباض لمصلحة المالك،
وأنت إذا تأملت في مقامات الأمانة وجدت كلها كذلك، فعدم ضمان الأمين ليس

(1) لم يرد في (ن، د).
(2) في غير (م): الذي.
(3) كذا في أصول النسخ، والصواب: سموا امناء، كما في نسخة من (م).
484

من جهة الأذن، إذ هو أعم من ذلك - كما سيأتي تنقيحه إن شاء الله تعالى بعد ذلك -
فالأمانة مسألة والأذن مسألة أخرى، ويختلف الكلام بالحيثيات. نعم، يعتبر الأذن
في معنى الأمانة، إما من جانب المالك، أو من جانب الشرع، هكذا ينبغي أن يحقق
المقام.
وإذا عرفت موضوع الاستئمان، فنقول: الوجه في عدم ضمان الأمين أمور:
أحدها: الخبر المعروف من أنه (ليس على الأمين إلا اليمين) (1) فإنه ناف
لسائر الضمانات بعموم المستثنى منه المقدر، فأخذ الغرامة منه لما تلف بيده مناف
لمدلول الخبر.
وثانيها: إجماع الأصحاب قديما وحديثا على ذلك، فإنهم يتمسكون في
الموارد التي أشرنا إليها وغيرها في عدم الضمان بأنه أمين من دون نكير على
ذلك، فيعلم من ذلك إطباقهم على أن الأمين ليس عليه ضمان، وهو الحجة.
وثالثها: الاجماعات المحكية على ذلك حد الاستفاضة، بل التواتر - على
اختلاف الموارد والمقامات -.
ورابعها: أن الأمين بعد كونه قابضا للمال لمصلحة المالك فقط - على ما بيناه
من معنى الاستئمان - يكون داخلا في جملة المحسنين، وقد مر أن الإحسان
يسقط الضمان في العنوان السابق بنص الكتاب (2) وإجماع الكتاب (3).
وخامسها: أن ضمان الامناء يوجب انسداد باب الاستئمان، فيلزم من ذلك
العسر والحرج العظيم المنفيان بالآية والرواية (4) لاحتياج الناس إلى تقابض
الأموال لمصلحة الملاك، فلو كان هذا مضمونا عليهم لامتنعوا عن القبض حذرا
من الضرر، ويلزمه التعطيل الموجب للحرج.

(1) لم نقف على مأخذه.
(2) وهو قوله تعالى: ما على المحسنين من سبيل التوبة: 91.
(3) جمع (الكاتب) بمعنى (العالم)، وقد أسقط مصحح (م) هذه العبارة.
(4) راجع ج 1، العنوان: 9، ص: 282 - 283.
485

وسادسها: أن الضمان على الامناء يوجب الأضرار عليهم بلا سبب في ذلك،
مع أنه منفي في الشرع. اللهم إلا أن يقال: إنه بقبضه ذلك قد أقدم على ضرر نفسه،
فهو قد تضرر بفعل نفسه، لا بإضرار الغير. وهذا لا يتم فيما كان مكلفا بوضع اليد
من قبل الشارع، فتأمل.
وسابعها: أن الأذن على هذا النحو - بمعنى كونه لمصلحة المالك - من المالك
أو من الشارع يدل على كون (1) الضمان على القابض لو تلف فيكون كالأذن الذي
صرح فيه بعدم الضمان، إذا القرينة تقوم مقام التصريح، وسيأتي أن الأذن الذي دل
معه الدليل على عدم الضمان مسقط له، وفيما نحن فيه كذلك.
ولا يخفى: أن الاستئمان رافع لضمان اليد، أما لو أتلفه فهو ضامن، وكذا لو
تعدى أو فرط، أما لو تلف بيده من دون بنائه على الإتلاف أو أتلفه أجنبي فلا
ضمان عليه، وذلك واضح.

(1) كذا، والصواب: عدم كون الضمان.
486

[العنوان السادس والستون]
[قاعدة الأقدام]
487

عنوان
[66]
من جملة المسقطات للضمان: هو الأقدام، بمعنى: أن المالك إذا أقدم على
إسقاط احترام ماله وبنى على عدم العوضية سقط ضمانه.
ومنشأ كونه مسقطا للضمان: أن السبب للضمان إنما هو احترام ماله وهو قد
أسقطه بنفسه. وما دل من الخبر على أنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه (1) فإذا
أقدم على عدم الضمان فقد طابت نفسه في تصرف الغير به بلا عوض، فلا وجه
للضمان. وما دل من الروايات الكثيرة على جواز الإباحة والعطية والتبرع
بالأعمال والأموال من دون غرامة على المتبرع إليه، ولا فارق بين ما ورد فيه
النص وغيره. وما ورد في أدلة الضرر والضرار من أمر النبي صلى الله عليه وآله بقلع النخلة (2) من
دون ضمان، نظرا إلى أن صاحبه أسقط احترامه وأقدم على ضرر نفسه.
ومن ذلك يظهر: أن الضمان إنما هو لرفع ضرر المالك المنفي في الشرع، فإذا
أقدم المالك على ضرر نفسه بنفسه فلا وجه للضمان، مضافا إلى ما يظهر من
إجماع الأصحاب على ذلك، حيث يستدلون في نفي الضمان بأن المالك قد أقدم
عليه [في مواضع عديدة] (3):

(1) عوالي اللآلي 1: 222، ح 98.
(2) الوسائل 17: 340، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، ح 1.
(3) من (م).
488

منها: في مسألة عدم جواز رجوع المشتري من البائع الفضولي بثمنه مع علمه
بالفضولية في صورة التلف، فإنهم نقلوا الإجماع فيه على عدم تضمين الفضولي،
وعللوه بأن المشتري قد أقدم على ذلك.
ومنها: في إقدام المشتري مع العلم بإباق العبد ونحو ذلك من سائر العيوب،
فإنه لا ضمان على البائع، لأن المشتري أسقطه بإقدامه.
ومنها: في صورة معاوضة الكامل مع الناقص - كالمجنون والصغير - فإن دافع
ماله للناقص قد أقدم على إتلاف ماله، فلا ضمان على القابض، ولا يختص
بالمعاوضة، بل لو أودع عنده أو أعاره أو نحو ذلك، وإن كان هناك يجتمع سببان
لعدم الضمان.
ومنها: في صورة ما رجع المعير عن الإعارة في أرض لدفن أو بناء عليه أو
غرس أو نحو ذلك، فإنه لا ضمان على المعير في هذه الغرامات، لأن من بنى أمره
على شئ مستعار قد أقدم على إتلاف ماله وضرر نفسه. ولا يصدق هنا الغرور،
لأن الغرور إنما يتحقق في الموضوعات، والمستعير قد اغتر بتقصيره في تعلم
الحكم الشرعي، وقد أقدم على تضرر نفسه، وفي المسألة خلاف معروف.
ومنها: في ارتداد الزوجة قبل الدخول، فإنه إقدام على إبطال مهرها واسقاطه.
ومنها: إسلامها، فإنه أيضا إقدام منها على سقوط مهرها مع عدم بقاء علقة
النكاح بإسلام الزوج قبل انقضاء العدة.
ومنها: في نشوز الزوجة، فإنه إقدام على إسقاط نفقتها ولا احترام حينئذ لها.
ومنها: إسلام الذمي المقرض للخمر لمثله، فإنه إقدام على سقوط قرضه،
وليس كذلك في الخنزير.
ومنها: تلف مال الغاصب بدفع المغصوب إلى مالكه من اجرة أو تخريب بنيان
أو نحو ذلك، فإن ذلك قد أقدم عليه الغاصب بعمله (1) فإن الغصب التزام بذلك كله
شرعا.

(1) في (ن، د): بعلمه.
489

ومنها: عدم ضمان مال الغاصب المصروف في المغصوب - كالنفقة وغيرها -
وإن زاد به المغصوب زيادة متصلة ووصل إلى يد المالك، لأقدامه على إتلاف مال
نفسه.
وكذا كل باغ وعاد وظالم وسارق وغاصب - ونحو ذلك - بالنسبة إلى ما يترتب
إلى أعمالهم من الغرامات وإتلافات النفوس والأطراف كلها إنما هو بإقدامهم على
ذلك بأعمالهم الشنيعة، وإلا فدم المسلم وماله وعمله وعرضه محترم ما لم يسقط
احترامه.
ومن هذا الباب: عدم ضمان الأموال التي يعرض عنها صاحبها، فإن مسألة
الأعراض معروفة عندهم يذكرونها في كتاب الصيد، والكلام في ذلك طويل
يحتاج إلى عقد باب وتأسيس كتاب.
وبالجملة: فهو أيضا داخل في الأقدام، فإن المالك بإعراضه قد أقدم على
عدم العوض (1) وصار مباحا لكل من أخذ، وفي خروجه عن ملكه بذلك قولان
معروفان.
وأنت إذا تتبعت كلمة الأصحاب تطلع على موارد كثيرة لقاعدة الأقدام غير
ما أشرنا إليها على الاستعجال.
وبقي الكلام في قولهم: (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) وقد بينا
المراد منه في بحث القبض بالعقد الفاسد، ووعدناك سابقا ذكر وجه عدم الضمان
في هذا الباب.
فنقول: العقد الذي لا يضمن بصحيحه: إن كان من الأمانات - كالوديعة - فيمكن
أن يقال: إن في فاسده أيضا كذلك، فإن القبض لمصلحة المالك، فيجئ فيه الوجوه
السابقة في عدم الضمان، ولا فرق بين الصحيح والفاسد في ذلك. ولكن هذا
الكلام لا يجري في الكل، فإن الهبة والوقف والسكنى والتحبيس والعارية
والشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والوكالة - ونحو ذلك - لا يمكن أن

(1) في (ن، د): المعوض.
490

يقال: إن كل مقبوض بذلك إنما هو لمصلحة المالك صرفا وإن كان في بعضها
كذلك. وكذلك يشكل القول بأن عدم ضمان المستأجر العين المستأجرة في العقد
الفاسد أيضا من جهة أنه لمصلحة المالك، وإن كان له وجه أشرنا إليه (1). وبالجملة:
تتميم هذه القاعدة بقاعدة الأمانة مشكل إذ بينهما عموم من وجه، لعدم إمكان
جعل الهبة أمانة.
وإن قلنا: إن عدم الضمان إنما هو من جهة إذن المالك، فيرد عليه بحثان:
أحدهما ما أشرنا إليه سابقا: أن مجرد الأذن لا يسقط الضمان كما نقحناه
وبيناه.
وثانيهما: أن الأذن قد تقيد حينئذ بصحة العقد - كما ذكرناه في ضمان
المقبوض بالعقد الفاسد - نظرا إلى أن الأذن حصل - مثلا - في ضمن الهبة، فإذا
فسدت فقد ارتفعت الخصوصية، ولازمه ارتفاع الكلي، إذ لا بقاء للمقيد بدون قيده.
وبالجملة: الكلام في غير عقود المعاوضة كعقود العوض من هذه الجهة، فلا يمكن
القول بأن الأذن هنا مطلق، وهناك مقيد.
ومن ذلك يظهر الجواب لو قيل: إنه إذن في التلف بلا عوض فلا وجه للضمان،
لأنا نقول: قد أذن على ذلك التقدير - أي تقدير الصحة - ولم يعلم الأذن على
تقدير الفساد.
فإن قلت: مع العلم بالفساد فلا بحث في عدم الضمان، لأنه إذن على كل حال.
قلت: هنا أيضا يجئ ما سبق من الكلام في عقود المعاوضة، فإنه يمكن أن
يقال بتقيد (2) الأذن بكون ذلك - مثلا - هبة أو وقفا وإن علم بفساده (3). لكن لا مانع
من قصده ذلك تشريعا كما في العبادات، فيكون الأذن على تقدير وقوع هذا
المشرع، فلا يعم صورة عدم وقوعه، فتدبر جدا فإنه محل تأمل.

(1) لم نقف على موضع الإشارة، راجع العنوان: 62.
(2) في (ن): بتقييد.
(3) كذا في (ن، ف)، والمناسب: بفسادهما، لكن مصحح (م) أسقط (أو وقفا) وأنث الضمير.
491

وإن قلنا: إن ذلك من باب قاعدة الأقدام لاشكل أيضا بأن الأقدام إنما هو
على فرض صحة العقد، وأما على فرض البطلان فلا. اللهم إلا أن يقال: إنه لا
مدخل للصحة والبطلان، والمالك على كل حال بنى على أنه لو تلف في يد
القابض لا ضمان عليه وليس له تسلط عليه ورضي بذلك، وهذا المقدار يكفي في
سقوط الضمان.
ويمكن أن يقال: إن العمدة في هذا الجزء من القاعدة - وهو (ما لا يضمن
بصحيحه لا يضمن بفاسده) - إنما هو الإجماع وأن أمكن إدراجه تحت الأقدام
أيضا في وجه وتحت الأذن أيضا في وجه آخر.
وفي المقام أبحاث تركناها اشتغالا بالأهم، واعتمادا على فهم الفقيه النبيه
المتدرب في فنه.
492

[العنوان السابع والستون]
[قاعدة: الإسلام يجب ما قبله]
493

عنوان
[67]
من جملة المسقطات للضمان: قاعدة جب الإسلام ما قبله.
والأصل في ذلك الخبر المعروف المشهور المتلقى بالقبول، المروي عند
العامة والخاصة عن النبي صلى الله عليه وآله وهو قوله: (الإسلام يجب ما قبله) (1).
وروى في البحار - في ذكر قضايا أمير المؤمنين عليه السلام - أنه جاء رجل إلى عمر
بن الخطاب فقال: إني طلقت امرأتي في الشرك تطليقة وفي الإسلام تطليقتين، فما
ترى؟ فسكت عمر، فقال له الرجل: ما تقول؟ قال: كما أنت حتى يجئ علي بن
أبي طالب! فجاء علي عليه السلام فقال: قص عليه قصتك، فقص عليه القصة، فقال
علي عليه السلام: (هدم الإسلام ما كان قبله، هي عندك على واحدة) (2).
إذا عرفت هذا فالكلام في هذا المقام يقع في مقامين:
أحدهما: بالنسبة إلى كون الإسلام يجب ويهدم ما قبله بالنسبة إلى الضمانات
التي هي محل البحث.
وثانيهما: بالنسبة إلى هدمه سائر الأسباب الشرعية كما استفيد من خبر البحار.
المقام الأول: بالنسبة إلى الضمان
فنقول: قد عرفت مما ذكرناه في أسباب الضمان: أنه قد يكون باليد، وقد

(1) عوالي اللآلي 2: 54، ح 145.
(2) بحار الأنوار 40: 230، ذيل ح 9.
494

يكون بالإتلاف، وقد يكون بالتعدي والتفريط وقد يكون بالتعهد بمال أو نفس،
وقد يكون بخطاب شرعي، وقد يكون بغرور، وقد يكون بعقد، وقد يكون بقبض
في العقد الفاسد، وقد يكون بتلف قبل القبض، وهذه الضمانات كلها تندرج تحت
أقسام ثلاثة:
أحدها: ما كان حقا لله من دون مدخلية حق مخلوق فيه، كالعبادات الصرفة
و (1) بعض أفراد الماليات، كالعتق في كفارة ونحوه، ونذر الوقف مسجدا ونحوه،
ونظائر ذلك، وإن كان في هذه الأمثلة نوع مناقشة.
وثانيها: ما كان حقا للمخلوقين، كضمان الإتلاف والجنايات والديون ونحو
ذلك.
وثالثها: ما كان مركبا من الأمرين، كالزكوات والأخماس والنذور وأغلب
الكفارات.
وعلى التقادير الثلاثة: فإما أن يكون السبب الموجب لاشتغال الذمة في دين
الإسلام موجبا لاشتغال الذمة في الكفر أيضا، بمعنى: أنه شئ يعلم الكفار من
دينهم أنه مضمون عليهم سواء كانوا ذميين أو حربيين. أوليس كذلك، بمعنى: أن
معتقدهم في دينهم عدم الضمان، وإن كان في شرع الإسلام موجبا للضمان،
فالأقسام ستة.
إذا عرفت هذا فنقول: ظاهر الأصحاب: أن الحقوق المختصة بالمخلوقين
سواء كانت بضمان يد أو إتلاف أو جناية - ونحو ذلك من الطرق - لا تسقط عن
الكافر بإسلامه، وأما الحقوق الإلهية وإن كان لها تعلق بالمخلوقين أيضا فتسقط
عنه بالإسلام. ولم نجد في كلامهم التفصيل بين ما كان في دينهم موجبا للضمان أم
لا في المقامين.
وبالجملة: فهذه القاعدة في كلامهم في غاية الإجمال، ولم يتعرضوا لها إلا في
فروع خاصة في أبواب الفقه، وأغلبها في العبادات، فلابد من تنقيح القول في ذلك

(1) في (ن) زيادة: في.
495

على حسب الدليل، فهنا أبحاث ستة:
أحدها: في حقوق الله المختصة به مع عدم اعتقادهم به (1) في دينهم، والظاهر
أن الإسلام يجبها مطلقا، للخبر ولظاهر الإجماع، فلا يجب عليه قضاء العبادات
البدنية وأداء المالية التي تعلق بذمته من عتق ونحوه بحيث لا مدخل للمخلوقين
فيه، وهذا القسم واضح الدخول تحت الخبر.
وثانيها: حقوق الله أيضا مع اعتقادهم باشتغال الذمة بها في كفرهم، كما لو كان
في دينهم أن قتل الخطأ يجب فيه عتق رقبة مثلا - ونحو ذلك - ثم أسلم، فهل
الإسلام يجب ذلك أيضا أم لا؟ وجهان: من إطلاق الخبر، ومن جهة أن الظاهر من
الخبر: أن الإسلام يجب ما قبله مما لو كان مسلما لاشتغل ذمته، وبعبارة أخرى:
الظاهر: أن الإسلام يجب ما يلزم الإنسان من حيثية الإسلام، فإذا أسلم الكافر
فالشئ الذي اشتغلت ذمته به على طريقة الإسلام من حيثية دين الإسلام يسقط
عنه، لا ما اشتغل ذمته بسبب آخر.
ويمكن الجواب: بأن المقام أيضا كذلك، فإن اشتغاله بعتق رقبة - مثلا - في
المثال المذكور إن لوحظ على مقتضى دين الكفر فلا اشتغال في الواقع، لأن الدين
منسوخ، أو باطل من أصله غير مجعول من الشارع، ومجرد الاعتقاد لا يوجب
الضمان، فلا ضمان من جهة غير الإسلام. وإن لو حظ ضمانه من جهة الإسلام
- لأنه مكلف بالفروع - فهو يسقط بالإسلام، للخبر.
وثالثها: الحقوق المشتركة بين الله وبين المخلوقين - كالزكاة والخمس ونحو
ذلك - مع عدم اعتقادهم به (2) في دينهم، والحكم في هذا الفرض كالأول، وظاهر
الخبر يشمله، لأن ثبوت ذلك كله من جهة دين الإسلام وكلام الأصحاب: إن
الحقوق المخلوقية لا تسقط (3) لا يريدون به العبادات المالية، فإنهم صرحوا
بسقوطها عن الكافر بالإسلام.

(1) كذا، والظاهر: بها.
(2) كذا، والظاهر: بها.
(3) في (ن، د): تسقط.
496

ورابعها: الحقوق المشتركة مع اعتقادهم به (1) كما لو كان معتقدا أن من نذر
شيئا لفقير يجب دفعه إليه ولم يدفع، ففي سقوطه الوجهان السابقان في القسم
الثاني، ويجئ فيه الإشكال الذي سبق ذكره، ويندفع بما قررناه هناك، فتدبر.
وخامسها: حقوق المخلوقين الصرفة مع اعتقادهم به (2) في دينهم - كالديون
وضمان المغصوب، ونحو ذلك - والظاهر من الأصحاب عدم السقوط، بل دخول
هذا الفرض تحت قولهم بعدم سقوط حقوق المخلوقين متيقن. ولعل الوجه في
ذلك: أن الرواية لا ينصرف إطلاقها إلى هذا الفرض، فإن المتبادر منه العبادات.
وهو غير بعيد.
مع احتمال ما ذكرناه من الوجه: من أن اشتغال الذمة بهذه الأسباب ليس من
حيثية الإسلام، فإن مقتضى الأديان كلها ذلك، والظاهر من الخبر: أن الشئ الذي
ثبت في دين الإسلام ولم يأت به الكافر - لأن الكفر مانع منه، أو موجب لعدم
الاعتقاد به - فالاسلام يجب ذلك، لا أن كل ضمان في حالة الكفر يسقط بالإسلام
وإن كان معتقدا ذلك ولم يكن الكفر مانعا من أدائه.
ولا يمكن أن يقال: إن هنا أيضا يمكن أن يقال: إن دينهم إما منسوخ أو باطل
من أصله، فهذه الضمانات ليست من جهة دينهم، بل من جهة دين الإسلام في
الواقع، فينبغي أن تسقط.
لأنا نقول: هذه الغرامات من جهة قضاء ضرورة العقل بها، وإلا لما استقام
النظام، ولا دخل لحيثية الدين في ذلك، والشرع في هذه الأمور مقرر لما حكم به
العقلاء وجرت به طريقتهم، والخبر يدل على سقوط ما كان للدين مدخلية في
ذلك.
ولا يرد هذا الاعتراض على ما ذكرناه في القسم الثاني والرابع من كون الدين
الذي لهم منسوخا فلا ثبوت ولا ضمان إلا في دين الإسلام، نظرا إلى أن الفرضين
السابقين إنما هما من العبادات التي لا تتعقل إلا بملاحظة الدين وخطاب الشارع.

(1) كذا، والظاهر: بها.
(2) كذا، والظاهر: بها.
497

بخلاف المقام، فإنه معاملة صرفة تقتضيه ضرورة العقل إبقاءا للنظام، فعدم دخول
ذلك تحت الخبر لا يقضي بعدم دخول ذينك القسمين، فتدبر.
وسادسها: حقوق المخلوقين مع عدم اعتقادهم به (1) في دينهم، كما لو لم
يعتقدوا أن قتل العمد فيه القصاص، أو كون الدية على العاقلة - مثلا - فأسلم أحد
العقلاء بعد استقرار الدية في ذمته، فهل يسقط عنه ذلك في الإسلام أم لا؟ مقتضى
عموم الخبر السقوط، وظاهر إطلاق الأصحاب (أن حق (2) المخلوق لا يسقط)
عدم السقوط. ولا يجئ هنا الوجه المتقدم في القسم الخامس: من عدم كون ذلك
من جهة الإسلام والدين فلا يسقط، لأن ما لا دخل للدين فيه يعرفه أهل الأديان
جميعا، وكون الدية على العاقلة شئ قضى به الشرع، وإلا فلم يكن مقتضى العقل
ذلك، فليس إلا من جهة الدين، والفرض إن الكافر كان لا يعتقد ذلك، فلا وجه
لعدم السقوط.
والقوي (3) عندي في هذا الفرض أيضا السقوط، لإطلاق الخبر، وكلام
الأصحاب لا يعلم منه الشمول لهذا الفرض أيضا، بل الظاهر منه الفرض الخامس،
فتدبر.
المقام الثاني: في جب الإسلام ما قبله من سائر الأسباب
كأسباب الوضوء والغسل، وأسباب الغسل - بالفتح - وأسباب تحريم النكاح:
من رضاع، أو مصاهرة، أو وطئ في عدة أو لذات بعل، أو لواط بالنسبة إلى أم
الموطوء وبنته وأخته، وظهار وإيلاء، وتطليقات موجبة للتحريم المؤبد، أو
التحريم حتى تنكح زوجا غيره. وأسباب الحدود الشرعية، كالزنا واللواط وشرب
الخمر والقذف ونحو ذلك. وأسباب التعزير من المعاصي التي لا مقدر لها. وهكذا
البحث في شرائط التكاليف الحاصلة في زمن الكفر، كانقضاء حول الزكاة ونحو

(1) كذا، والظاهر: بها.
(2) في (ن، د): حقوق.
(3) في (ن): والقول، وفي (م): ويقوى.
498

ذلك في حال الكفر مع إسلامه قبل تعلق الوجوب، ولو أسلم بعد تعلق الوجوب فلا
بحث في السقوط.
وبالجملة: سائر الأسباب التي لا تعلق لها بالأموال ولا بالعبادات الصرفة،
وكذلك شرائط التكاليف بقول مطلق وأسبابها كذلك إذا حصل في حالة الكفر
وأسلم قبل تعلق الوجوب في الأخيرين ومطلقا في الأول، فهل الإسلام يسقط
الشرط عن التأثير، والسبب كذلك؟ فيرجع إلى الأصل المتبع في ذلك المقام،
كأصل الطهارة بالنسبة إلى أسباب الحدث والخبث، وأصالة بقاء الحل بالنسبة إلى
أسباب تحريم النكاح، وأصالة البراءة عن الحدود، وأصالة عدم التكليف في زكاة
أو خمس أو حج، أو نحو ذلك مما قد اجتمع شرائط وجوبها حال الكفر ولكن لم
يتعلق الخطاب بعد، فلا بد في الوجوب من استئناف الشرائط من حول ونصاب
ونحو ذلك.
وبالجملة: يعتبر في هذه الأسباب والشرائط كلها حصولها في حالة الإسلام
أم ليس كذلك، بل جب الإسلام ما قبله إنما هو بالنسبة إلى التكاليف الثابتة في
حال الكفر من أصل الشرع مالية أو غيرهما، وأما الأحكام الوضعية فلا يجب
الإسلام ذلك ولا يسقطها.
والمحتملات هنا أمور:
أحدها: القول بأنه يجب ذلك كله أيضا، لإطلاق أو عموم (يجب ما قبله). ولا
يحتاج إلى جبر السند هنا بالشهرة حتى يقال: لم يعلم من فتوى الأصحاب ذلك،
لأن الظاهر كون الخبر من المسلمات في الصدور، ومتى كان الصدور مسلما فلا
نحتاج في خصوصيات المدلول إلى الانجبار. مضافا إلى أن السبب في ذلك هو
اللطف من الشارع والترغيب إلى الإسلام وهو موجود في المقام أيضا، مع أن
الشارع متى ما بنى على إسقاط حقوق الفقراء والسادة وسائر المخلوقين بعد
ثبوتها وتحققها في الذمة فليسقط سائر الشرائط والأسباب بالأولوية، لأنها إما
ليست حقوقا مخلوقية كما في الأسباب، وإما مخلوقية قبل تعلقها كما في شرائط
499

الوجوب، وكلاهما أولى بالسقوط من حق المخلوق الثابت في الذمة.
مضافا إلى أن رواية البحار (1) دلت على أن التطليقات الثلاث التي هي سبب
في التحريم إذا وقعت بعضها في حال الكفر وبعضها في حال الإسلام، فيسقط ما
كان في حال الكفر ويصير المدار ما وقع في حال الإسلام، ولذا قال عليه السلام: (هي
عندك على واحدة) لأنه كان طلق في الإسلام تطليقتين فبقيت الواحدة، ولا عبرة
بالطلقة الواقعة (2) في أثناء الكفر، فتدبر.
وإذا ثبت الجب هنا بالنص ثبت في سائر الأسباب والشرائط بعدم القول
بالفرق، مع أن قوله عليه السلام: (فإن الإسلام هدم ما قبله) في قوة قضية كلية شاملة
للجميع، ولا حاجة إلى التمسك بعدم القول بالفصل، فإن المورد لا يخصص العام.
وثانيها: القول بعدم الجب مطلقا، فإن الخبر المشهور - وهو جب الإسلام
ما قبله - لم يعلم العمل به في هذه المقامات، وليس فيه عموم بحيث يشمل هذه كلها،
والمتيقن منه ما ذكرناه في المقام الأول، وليس هذه المقامات إلا كحقوق الناس
الصرفة في عدم السقوط، ورواية البحار ضعيفة غير مجبورة، ولم يعهد من
الأصحاب الفتوى بها، ولو عمل بها لاقتصر على موردها من الواقعة الخاصة ولا
يتعدى إلى غيرها، ويرجع إلى مقتضى الأدلة من استصحاب الحكم الثابت في حالة
الكفر، لأنهم مكلفون بالفروع على ما يراه الإمامية، ويأتي البحث فيه إن شاء الله.
وثالثها: التفصيل، وله صور:
الأول: الفرق بين ما ورد فيه خبر البحار وغيره، فيجب في الأول دون الثاني.
والثاني: الفرق بين الحدود والتعزيرات ونحو ذلك وبين أسباب الحل
والحرمة والوضوء والغسل، فيجب في الأول دون الثاني.
والثالث: الفرق بين الشرائط والأسباب، فيجب في الثاني، لأنه شئ ثبت قبل
الإسلام فيدخل تحت الخبر، بخلاف شرائط الوجوب - على ما مثلناه - فإن
الخطاب فيه بعد الإسلام، فلم يكن قبل الإسلام شئ حتى يجبه، ولذلك أفتى

(1) تقدمت في ص: 494.
(2) في (ن، د): الواحدة.
500

الأصحاب بأن الكافر إذا أسلم قبل حلول الحول بدقيقة - مثلا - وجبت عليه
الزكاة، لتعلق الخطاب عليه وهو مسلم فلا يجب في الشرائط.
والرابع: الفرق بين أسباب التكاليف وأسباب الوضع فيجب في الأول كسبب
الغسل ونحوه، ولا يجب في الثاني كسبب حرمة النكاح.
والخامس: الفرق بين السبب التام في حالة الكفر، كالجنابة والحيض والحدث
الأصغر والرضاع الكامل والزنا واللواط - ونحو ذلك - من حيث كونهما سببين
لتحريم النكاح أو غير ذلك من الأحكام سوى الحد، وبين السبب الناقص الذي
حصل بعضه في حال الكفر وبعضه في حال الإسلام، كانقسام الطلقات في خبر
البحار والرضعات لو فرض إكمال النصاب في حالة الكفر والإسلام معا، فنقول: إن
الإسلام يهدم الثاني عملا برواية البحار والحاقا لما عداه به مما هو نظير له، دون
الأول، لاجمال الخبر العام أو عدم انصرافه إليه، وورود خبر البحار في السبب
الناقص، وإشعار لفظ (الهدم) بذلك.
والمسألة في غاية الإشكال تحتاج إلى تتبع كلمات الأصحاب وسعة المجال،
وإن كان القول بالجب في ذلك كله غير بعيد، سيما في الحدود ونحوها.
وبقي الكلام في أمور هي كالتتمة للمسألة:
أحدها: أن المخالف هل هو كالكافر (1) في هذا الحكم؟ بمعنى: أن الاستبصار
فيه أيضا يجب ما قبله، أم ليس كذلك بل لابد من إتيان ما يجب إتيانه في حالة
إيمانه؟ ولم يتعرض الأصحاب للمسألة، وإنما ذكروها في بعض المقامات، وظاهر
كلامهم في المخالف يدور بين أمور:
أحدها: السقوط لو كان المخالف أتى بالتكاليف على ما هي عليه في مذهبه
بحيث لم يقصر فيه باعتقاده، كما ذكروه في الصلاة (2).

(1) في (ن، د): كافر.
(2) منهم الشهيد في الذكرى: 135، والشهيد الثاني في الروض: 356، والأردبيلي في
مجمع الفائدة (3: 211) ناسبا له إلى ما هو المشهور بين الأصحاب.
501

وثانيها: السقوط لو أتى به موافقا لمذهبنا في الأركان وإن خالف مذهبه، لا ما
أتى مخالفا لمذهبنا وإن وافق مذهبه، وقد ذكر بعضهم ذلك في الحج (1).
وثالثها: ملاحظة الأمرين، بمعنى: أنه يسقط إن وافق مذهبنا ومذهبهم،
كالزكاة مع شرائطها إذا أعطاها للمؤمن الفقير. وبعبارة أخرى: وضعها في موضعها،
وإلا فلا يسقط.
ويحتمل السقوط مطلقا إلحاقا بالكافر أو (2) إدخالا تحت أفراد الكفر، على
ما يراه بعض من تقدم (3) وبعض من تأخر (4).
ويحتمل عدم السقوط مطلقا، لشرطية الإيمان المانع عن حصول الامتثال في
حال المخالفة واستصحاب التكليف المانع عن السقوط بالإيمان.
ويحتمل سقوط ما لم يكن معتقدا به في حال خلافه إلحاقا بالكافر، وفهما
للعلة، وعدم سقوط ما كان يعتقده لما دل من الإلزام بمعتقده.
ويحتمل سقوط ما أتى به على معتقده مطلقا.
ويحتمل سقوط ما لم يعتقده أصلا، وما اعتقده وأتى به على نحو ما اعتقد.
والروايات الخاصة واردة في باب الزكاة (5) وغيرها (6) فإن كان في المقام
دليل خاص فهو المتبع، وإلا فمقتضى القاعدة عدم السقوط، وإن كان إلحاقه
بالكافر أيضا له وجه.
والظاهر أن الأصحاب يقولون به في غير الزكاة، أو في غير الخمس أيضا.
ولعل الكافر أشرف من المخالف في وجه، فلا ينبغي الحاقه به في هذا الحكم الدال
على اللطف بالنسبة إلى الكافر، لعدم الملازمة.
وثانيها: أن الكافر المنتحل للإسلام - كالخوارج والغلاة والنواصب والمجسمة
ونحو ذلك - إذا رجع إلى الإسلام، فظاهر إطلاق الأصحاب أنه أيضا كالكتابي

(1) منهم المحقق في المعتبر 2: 765، والعلامة في المنتهى 2: 860، والشهيد في الدروس 1: 315.
(2) في (ن، د): بدل (أو): و.
(3) راجع الحدائق 5: 175 و 14: 163.
(4) راجع الحدائق 5: 175 و 14: 163.
(5) راجع الوسائل 6: 148، الباب 3 من أبواب المستحقين للزكاة.
(6) راجع الوسائل: 1: 97، الباب 31 من أبواب مقدمة العبادات.
502

والوثني في هذا الحكم. وهو مشكل، لأن المتبادر من الخبر إنما هو الإسلام
المسبوق بكفر صرف لا تدين بالإسلام فيه. ويمكن إلحاق هذا القسم بالمخالف،
سيما بالنواصب، فإنهم من جملتهم، غايته: أن تفريطهم أدخلهم في الكفار.
وبالجملة: فحكم هذا القسم من الكافر محل تردد وتأمل.
وثالثها: أن الكافر إذا أسلم والمخالف إذا استبصر وهو في أثناء عبادة، كما لو
فرض أن المخالف توضأ وشرع في الصلاة وآمن في أثنائه، ونحوه غيره من
العبادات - ويفرض في الكافر أيضا في الصوم فإنه لو أسلم في نهار رمضان وهو
لم يأت بشئ من المفطرات أصلا - فعلى القول بالجب في المخالف أيضا فهل
يجب هنا أيضا - بمعنى: أن هذه العبادة ساقطة عنه بالمرة - أو يجب ما مضى منه
دون ما بقي فيأتي على طريق الإيمان والإسلام فيما بقي، أو لا يجب مطلقا فلا بد
من الإتيان بهذا العمل من رأس أداءا أو قضاءا، لأنه لم يكن قبل الإسلام
والإيمان بتمامه؟ وجوه واحتمالات، والأوفق بالدليل هو الأوسط.
ورابعها: أن الواجبات الموسعة إذا أسلم الكافر وقد مضى من وقتها بمقدار
أدائها جامعة للشرائط خالية عن الموانع وهو لم يكن أتى بها، فهل يسقط منه هذا
التكليف، أم لا يسقط؟ وجهان: من تعلق الخطاب به قبل الإسلام فيكون داخلا في
عموم الخبر، ومن استمرار الخطاب في آنات الوقت الموسع واستصحاب اشتغال
الذمة والشك في شمول الدليل لهذا الفرض. ويشكل الثاني بأن هذا تكليف واحد
فمتى سقط بالنسبة إلى الجزء الأول فقد سقط بالنسبة إلى الباقي، إذ لا تعدد فيه.
واحتمال كون الإسلام كاشفا عن عدم سقوط هذا التكليف عنه أول الدعوى.
والأقوى: السقوط، سيما بعد ملاحظة أن الواجبات الموسعة ما دام العمر - كصلاة
الزلزلة وقضاء الصلوات اليومية ونظائر ذلك من العبادات والنذور - فإنه لا ريب
في سقوطها بالإسلام حتى لو لم يبق من وقتها مقدار الأداء، فإن الكافر إذا أسلم
في شهر شوال فلا ريب في عدم وجوب قضاء رمضان عليه، وأي فرق بين الواجب
الموسع ما دام العمر وبين غيره؟ سيما بعد ملاحظة أن قضاء رمضان موسع بحسب
الرخصة إلى رمضان الآتي وإن كان موسعا بحسب الأجزاء ما دام العمر، فتدبر.
503

[العنوان الثامن والستون]
[قاعدة الأذن]
505

عنوان
[68]
من جملة مسقطات الضمان: الأذن ممن له السلطان على المال من الشارع
- كالمالك والوكيل والوصي والولي والأمين ونحو ذلك - أو إذن الشارع في
التصرف وإن لم يحصل من أحد منهم ذلك.
والأذن: عبارة عن رخصة المالك ومن بحكمه في التصرف وإثبات اليد وهو
قد يكون قبل التصرف وهو المسمى بالأذن، وقد يكون بعد ذلك ويسمى
بالإجازة.
وكل منهما: قد يكون صريحا، وهو ما دل عليه اللفظ بالمطابقة، كقوله:
(تصرف في مالي ما شئت) أو (كل من طعامي) أو (اجلس في داري).
ولم يذكروا من أقسام الصريح التضمن، مع أنه ليس من الأقسام الأخر، بل
هو داخل في الصريح كما إذا أذن في التصرف في مجموع أمور كل منها جزء منه،
فإن الأجزاء مأذون فيها بالتضمن حينئذ. اللهم إلا أن يقال: إن كون الأجزاء
مدلولا تضمنيا للمجموع المركب لا يستلزم دلالة لفظ (تصرف) أو (افعل) أو نحو
ذلك من الألفاظ الدالة على الأذن عليه بالتضمن، إذ الأذن على المجموع المركب
ليس مركبا من إذن الأبعاض. نعم، المأذون فيه مركب من أبعاضه، لا الأذن، ونظير
ذلك ما قلناه في أن دلالة الأمر بالواجب على وجوب أجزائه بالالتزام دون
506

التضمن وإن كان الواجب مركبا من أجزائه، لكن وجوبه ليس مركبا من وجوبات
أجزائه، فاللفظ الدال عل الأذن في المركب ليس دالا على الأذن في الأجزاء
بالتضمن، كما أن اللفظ الدال على وجوب المركب ليس دالا على وجوب أجزائه
تضمنا.
لكن يبقى شئ، وهو أن خروج ذلك عن التضمن يوجب إدراجه في الالتزام،
وقد ذكروا أن الالتزام عبارة عن إذن الفحوى، فيكون هذا الفرض داخلا تحت
الفحوى، مع أنه ليس داخلا فيه.
والذي أراه: أن مرادهم من الأذن الصريح: ما دل عليه منطوق اللفظ، وبعبارة
أخرى: ما كان اللفظ دالا عليه في مرتبة التكلم والنطق، لا بعد ملاحظة شئ آخر
بحيث يسند (1) إليه الأذن بالقول، يعني: يصح أن يقال: إن فلانا أذن بقوله وتلفظ
بالأذن، سواء كان هذا من المطابقة أو التضمن، فإن المدلول التضمني داخل في
الصريح. وليس مرادنا من الصراحة هنا صراحة الدلالة، وإلا لكان الالتزام أيضا
قد يكون صريحا، بل المراد من الصراحة: كون المدلول مستفادا من اللفظ بمقتضى
أوضاعه الافرادية لا شيئا مفهوما مستفادا من ملاحظة التركيب، فيشمل المطابقة
والتضمن دون الالتزام.
وقد يكون بالفحوى (2) وهو الأذن المستفاد من اللفظ، لكن بدلالة الالتزام
العقلي أو العرفي أو العادي، وبالجملة: بحيث يفهم المأذون من ذلك الرخصة،
ومثلوا له بالضيافة، فإن الرخصة في ذلك تدل على الرخصة في الصلاة في بيت
المضيف بالالتزام، ونظائر ذلك.
وقد يكون بشاهد الحال، والمراد به: القرينة الحالية الدالة على الرضا
بالتصرف - كالصداقة والقرابة ونظائر ذلك - وبعبارة أخرى: رابطة توجب
ملاحظتها الاطلاع على رضاء المالك به وعدم منعه عنه.

(1) في (ف، م): يستند.
(2) عطف على قوله في الصفحة السابقة: وكل منهما قد يكون صريحا.
507

ولا يخفى أن الأذن الصريح والفحوى - على ما ذكره بعضهم من
اختصاصها (1) بدلالة اللفظ - لا يشملان (2) ما وقع بالإشارة أو بالكتابة، فإنهما
ليستأمن أفراد اللفظ، فينبغي على ذلك دخولهما تحت شاهد الحال، مع أن تعريفهم
لا يشمل ذلك. والظاهر أنهما داخلان تحت الصريح والفحوى، بمعنى: أنهما
قائمان مقام اللفظ، فإن كان دلالتهما على الأذن بأصل المدلول والمنطوق - بمعنى
ملاحظة الوضع الأولي الافرادي - فهما داخلان في الصريح، وإلا فهما داخلان
في الفحوى، وشاهد الحال غير ذلك في الصورتين. ولا فرق في دخولهما تحت
الأذن بين قدرة المشير أو الكاتب على التلفظ، أو عجزه عنه لخرس، أو اعتقال
لسان أو نحو ذلك.
وعلى التقادير كلها: فتارة يلاحظ الأذن بالنسبة إلى الحكم التكليفي - وهو
الحل والحرمة - بمعنى كون الأذن سببا للحل، وتارة يلاحظ بالنسبة إلى الحكم
الوضعي، وهو ارتفاع الضمان. وعلى التقادير كلها: فمرة يكون الأذن من هذه
الأسباب مظنونا، ومرة يكون مقطوعا بالعلم العادي الذي عليه المدار في
الأحكام. وعلى التقادير كلها: فمرة يصادف العلم أو الظن الواقع - بمعنى كون
الواقع كما اعتقده المتصرف - أو لا يصادف الواقع، فالأقسام ستة وخمسون،
والبحث في مقامين:
المقام الأول: بالنسبة إلى الحكم التكليفي، فنقول: أما الأذن اللاحق
للتصرف - المسمى بالإجازة - فلا ثمرة له في حكم الحلية، فإن المكلف في حال
التصرف متى ما لم يكن مأذونا من المالك فقد أتى بالمحرم، والرضا المتعقب لا
ينفع في ذلك، ولا فرق بين كون الإجازة بقول أو إشارة أو كتابة، مظنونة أو
مقطوعة (3) أو غير ذلك من الأقسام، وبعبارة أخرى: الأذن اللاحق لا يرفع
التحريم السابق.

(1) في غير (م): اختصاصه.
(2) في غير (م): لا يشمل.
(3) في غير (م): مظنون أو مقطوع.
508

لا يقال: كما أن الإجازة بالنسبة إلى الحكم الوضعي قد تكون كاشفة وقد
تكون ناقلة - كما مر تحقيقه في مباحث الكشف والنقل، ويجئ في هذا البحث
أيضا - فكذلك في الحكم التكليفي قد تكون كاشفة وقد تكون ناقلة، بمعنى أن
المجيز في التصرف مرة يقول: (إني كنت راضيا بما فعلت في مالي قبل ذلك)
ومرة يقول: (الان رضيت بما فعلت) فعلى الأول يكون كاشفا عن إباحة التصرف
السابق، وعلى الثاني يجئ وجهان: من احتمال أن يقال: إن رضا المالك شرط
في إباحة التصرف، ولم يعلم من ذلك أن كونه مقارنا شرط أم لا، والأصل عدم
الشرطية بعد دلالة الدليل على أن الرضا موجب للإباحة، فيكون تصرفه من أول
الأمر يبقى مراعى، فإن لحقه الأذن كشف عن الإباحة، وإن لم يلحقه كشف عن
التحريم. ومن جهة (1) أن رضا المالك شرط مقارن، والأصل عدم جواز التصرف
إلا في هذه الحالة، فلا يكون ذلك كاشفا عن حلية التصرفات السابقة، بل يوجب
الحل في اللاحق إن شمله الأذن. وبالجملة: كفى في الكشف وجود فرض واحد،
وهو قوله: (إني كنت راضيا بما فعلت حين فعلت) فلم تقول بأن الإجازة اللاحقة
لا ترفع الحرمة من الفعل السابق ولو بالكشف؟ مع أن الدليل في هذا الباب هو
قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه) (2) وطيب النفس هو الر ضا،
والظاهر منه الواقع، فمتى كان راضيا في الواقع فقد حل، ويكشف عنه إخباره
وإجازته بعد ذلك.
لأنا نقول: أما في صورة إخباره عن رضاه في ذلك الوقت فإنه وإن كان يثبت
بذلك طيب نفسه ويكون داخلا في الخبر، لكن العلم أيضا شرط في ذلك، فإن لحم
الغنم - مثلا - حلال، ولكنك إذا لم تدر بأنه لحم غنم بل دار الأمر بين كونه لحم غنم
أو خنزير فلا يجوز أكله حتى تعرف الواقع، أو يدل دليل على جواز أكل المشتبه
أيضا، كما ورد في بعض الموارد (3) وأنت متى ما لم تدر بأن المالك راض بهذا

(1) عطف على قوله: من احتمال.
(2) عوالي اللآلي 1: 222، ح 98.
(3) مثل ما ورد في الجبن، راجع الوسائل 17: 90، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة.
509

التصرف حتى يجوز لك ذلك أوليس براض حتى لا يجوز فالمرجع القاعدة، وهي
عدم جواز التصرف في أموال الناس المدلول عليها بالعقل والنقل، فمتى ما
تصرفت فقد فعلت حراما، والواقع لا ينقلب، وبعبارة أخرى: الحرام حرامان:
التصرف في مال الغير بدون رضاه، وهو في صورة كونه في الواقع راضيا منتف
والتصرف فيما لم يعلم فيه الرضا والعدم فإنه أيضا حرام بالقاعدة حتى يثبت كونه
من أفراد المحلل - فتأمل - وهذا التحريم ثابت على كل حال.
هذا إذا كان المدار في الحل والحرمة على الرضا الواقعي كما هو ظاهر قوله:
(إلا بطيب نفسه)، ولو قلنا: بأن المدار هو الاطلاع والعلم بالرضا - كما يستفاد من
الروايات الأخر المانعة عن التصرف بدون الأذن (1) - فيصير حراما على كل حال،
والرضا الواقعي لا ثمرة فيه، كما أن العلم بالواقع بعد الاقتحام على المعصية لا
ثمرة فيه.
وأما في صورة ما لو قال: (الان رضيت) ولم يخبر عن رضاه في حال
التصرف فالأمر أوضح. أما على التقرير السابق: فقد عرفت أن الرضا الواقعي
المقارن غير كاف في الحلية ما لم تطلع عليه، وأما الرضا المتأخر مع عدم علمك
عليه الان فبالأولوية، فكيف يمكن جعل الرضا المتأخر كاشفا عن عدم الحرمة
في السابق؟ هذا على تقدير تسليم أنه لا فرق في الرضا بين المقارن واللاحق في
كونه موجبا للإباحة، مع أنا لا نسلم ذلك، بل ندعي أن المتبادر من قوله: (إلا
بطيب نفسه) أو غير ذلك من الأدلة الدالة على اعتبار الرضا كلها كون طيب النفس
مقارنا للتصرف، لا الأعم من المقارن واللاحق (2).
فتلخص من ذلك كله: أن الأذن المتأخر سواء كان بطريق الاخبار أو الإنشاء
لا مدخل له في الحكم التكليفي بأقسامه المتعددة المشار إليها.
وأما الأذن السابق: فما كان مقطوعا به مع مصادفة القطع للواقع، لا كلام في

(1) الوسائل 16: 402، الباب 63 من أبواب الأطعمة والأشربة، ح 3، والوسائل 13: 15،
الباب 8 من أبواب بيع الثمار، ح 7.
(2) في غير (م): اللحوق.
510

أنه موجب للحلية وارتفاع التحريم، لأن الظاهر من الأدلة اعتبار الرضا في الواقع
وهو حاصل، وطريقه العلم القطعي وهو موجود، والتكليف بغير ذلك تكليف بما لا
يطاق. وحينئذ لا فرق بين كونه من كتابة، أو إشارة أو لفظ صريح أو دال بالفحوى
أو من شاهد الحال، فإن بعد احراز القيدين لا بحث في دخوله تحت الأدلة.
وأما الظن بذلك مع مصادفته الواقع، فإن كان من لفظ - سواء كان صريحا أو
بالفحوى - فهو كاف أيضا، لدخوله تحت ما دل على كفاية الأذن، فإن ذلك يسمى
إذنا، بل لدخوله تحت أدلة طيب النفس أيضا، لوجود طيب النفس في الواقع وكون
الظن اللفظي كاشفا عنه، وهو حجة بسيرة الناس، فإن الأمر القلبي لا ينكشف إلا
بما أقر صاحبه بلسانه، ويدل على ذلك استقراء الفقه، فإنه قاض بحجية الألفاظ
في الكشف عما في القلب.
وإن كان بإشارة أو كتابة مع عدم القدرة على اللفظ، فالظاهر الكفاية،
لحجيتهما في حال العجز عن اللفظ وإن كانت (1) الإشارة أولى من الكتابة، مع
احتمال عدم حجية الإشارة والكتابة إلا في صورة القطع. وأما مع القدرة على
اللفظ فالإشكال هنا أقوى، لعدم قيامهما مقام اللفظ مع إمكانه في سائر الأسباب
والعقود والايقاعات، فيشكل الاكتفاء بهما حينئذ. اللهم إلا أن يقال: إن الأدلة دلت
على اعتبار الأذن، والإشارة والكتابة تعدان من الأذن (2) وإن حصل الظن، فتدبر،
فإن اعتبار حصول القطع العادي بهما ليس ببعيد.
وإن كان الظن من شاهد الحال، فهل هو أيضا معتبر كظن اللفظ والإشارة في
وجه، أم ليس بمعتبر؟ إذ الأصل أن الظن ليس بحجة، وظن شاهد الحال لم يقم
دليل على اعتباره، وجريان عادة الناس عليه غير معلوم، ولا يعد الظن بشاهد
الحال إذنا أيضا حتى يدخل تحت دليل الأذن، فمقتضى القاعدة: بقاء التحريم وإن
كان ظواهر بعض عبائر الأصحاب في بحث المكان للصلاة وغيره يدل على أن

(1) في هامش (م) زيادة: في الكفاية - خ.
(2) في غير (م): تعد إذنا.
511

ظن شاهد الحال أيضا كاف في إباحة التصرف (1) ولكن جماعة منهم نصوا على
اعتبار القطع (2) وهو الأوفق بالأصل.
وأما ما لم يصادف الواقع (3) فإن كان قطعا بالرضا فلا ريب أن صاحبه معذور
لا عقاب عليه، لامتناع التكليف بما لا يطاق. وإن كان ظنا قام الدليل على حجيته
- كظن اللفظ والإشارة في قول - فهو كالقطع. وأما ظن شاهد الحال فإذا لم يكن
معتبرا مع مصادفة الواقع فحيث لم يصادف الواقع فبالأولوية، فتدبر.
ومن ذلك كله ظهر: أن المدار في ارتفاع التحريم الدليل المعتبر الدال على
طيب النفس، سواء صادف الواقع أم لا.
وأما لو كان هناك لفظ، أو إشارة ونحوها (4) دالان بحسب الوضع على
الرخصة والرضا مع القطع بأنه غير راض في قلبه، فإن كان هذا عن إكراه - بمعنى:
أنه علم أن كلامه هذا ناش عن إكراه بذلك - فلا يجوز التصرف قطعا، لعدم تحقق
طيب النفس، وعدم صدق الأذن على ذلك أيضا. وإن كان عن حياء ونحو ذلك
- كما هو الغالب الوقوع بين الناس - فالحق أن ذلك إذن ورضاء، والقطع بأن ذلك
لحياء - بحيث لو خلي وطبعه ما رضي - غير مضر، لأن دليل الرضا أعم من كون
الرضا للناس أو للرياء أو للحياء أو لله تبارك وتعالى أو لقصد جلب نفع أو نحو
ذلك. نعم، صورة الأذن الصوري مع القطع بعدم الرضا وكونه مكرها لا يجوز فيها
التصرف، فتدبر.
المقام الثاني: في الحكم الوضعي - وهو رفع الضمان - فنقول: أما الأذن
اللاحق للتصرف، فقد يكون صريحا في الإبراء، بمعنى: أنه يقول: (أذنت لك فيما
فعلت من التصرف، وتجاوزت عنك) ونحو ذلك. وقد يكون إذنا أعم من الإبراء

(1) مثل عبارة المحقق في الشرائع 1: 71، والشهيد في الدروس 1: 152، والشهيد الثاني في
المسالك 1: 171.
(2) منهم السيد السند في المدارك 3: 216.
(3) عطف على قوله في ص: 510. وأما الأذن السابق فما كان مقطوعا به مع مصادفة القطع
للواقع.
(4) كذا في (ن)، وفي (د، ف) نحوهما.
512

وعدمه، ولا يفترق الحال في القسمين بين كون ذلك بطريق إخبار أو إنشاء.
وكذلك الأذن السابق قد يكون مشتملا على نفي الضمان، وقد لا يكون مشتملا
عليه. والأذن الغير المشتمل على نفي الضمان قد يكون إذنا مطلقا، وقد يكون
إذنا مجملا.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أنا قد ذكرنا في بحث الاستئمان أن الأذن بنفسه لا
يرفع الضمان، نظرا إلى أن ماهيته الرخصة في التصرف وهي أعم من كونه مع
ضمان أو بدونه، وأنت إذا تتبعت الموارد تجد أن الأذن كثيرا ما قد يتحقق مع
وجود الضمان، كما في المقبوض بالسوم، والمقبوض بالعقد الفاسد، والتالف قبل
القبض في المعاوضات، والمال المغصوب المأذون في بقائه، ومجهول المالك إذا
تصدق به، والمال المأكول في المخمصة، والمال التالف في يد الصانع والطبيب
والمكاري والملاح والأجير، ونحو ذلك، وكذا المال الذي يبذله الزوج قبل النكاح
لزوجته ويعطيه لأبيها وأمها، وغير ذلك من اللباس والمطعوم والنقد إذا تلف، فإنه
مقبوض بإذن الزوج لرجاء تمامية النكاح، ويسمونه العجم (1) (شير بها) والترك
يسمونه (باشلوق) فإنه مضمون على قابضه مع تحقق الأذن، فدعوى: أن الأذن
بقول مطلق مسقط للضمان ساقطة.
فنقول: الأذن إذا كان مقيدا بعدم الضمان فلا بحث في كونه مسقطا للضمان،
لمكان التصريح بالعدم، وهذا مورد الإجماع والمتيقن من الأدلة، وكلامنا الان من
جهة التصريح بعدم الضمان، وليس الكلام في الجهة التي حصل الأذن منها من لفظ
أو إشارة، فإنه مقام آخر يأتي البحث فيه.
ولا فرق بين الأذن اللاحق والسابق في ذلك، أما اللاحق فإنه في الحقيقة
يكون إبراء، لأنه لا ينحصر في لفظ، بل يقع بكل ما دل على إسقاط الحق. وأما
السابق ففيه إشكال قد يتخيل: وهو أنه قد تقرر عندهم: أن إسقاط ما لم يجب لا ينفع كما أن ضمان ما لم

(1) المراد به: الفرس، لا مطلق غير العرب.
513

يجب لا يضر، ولذا ذكروا: أن الزوجة إذا أسقطت نفقتها لا تسقط، لأنها تتجدد
وتجب يوما فيوما، وليست بثابتة في ذمة الزوج حتى تكون قابلة للإسقاط، وكذا
إبراء ذمة العاقلة قبل حلول النجم، فإذا كان كذلك فنقول: تصريح المالك بعدم
الضمان عليه إسقاط لما لم يجب، لأن الضمان إنما يتحقق بعد التصرف أو
الإتلاف، فلا ينفع الإسقاط قبله.
ودفعه: بأن هذا ليس إسقاطا للضمان عن الذمة حتى لا ينفع قبل الثبوت، بل
لما كان الضمان إنما يترتب على الإتلاف واليد - ونحو ذلك - إذا لم يكن ذلك عن
رضا المالك، للأدلة الدالة على حلية مال الغير برضاء نفسه، بمعنى كون المال الذي
أباحه صاحبه كملك المتصرف في عدم الغرامة عليه، فهذا الأذن محقق لموضوع
الإباحة حتى لا يتحقق الضمان، لا أنه إسقاط على فرض ثبوته، فتدبر.
ومنشأ كون الأذن المقيد بعدم الضمان مسقطا له مع قطع النظر عن الأدلة
اللفظية والإجماع: أن من المعلوم أن الضمان إنما هو لاحترام مال المسلم وعمله،
فإذا بذل برضاه فقد أسقط احترام ماله بنفسه، فلا وجه للضمان.
وأما الأذن المقيد بالضمان فلا بحث في أنه يرفع التحريم، ولكن يبقى
الضمان على حاله، لعموم أدلته، وعدم رافع له، وعدم الملازمة بين الحلية وعدم
الضمان.
وأما الأذن العاري عن قيد الضمان وعدمه فهو الذي ينبغي أن يبحث فيه.
فنقول: هل الأذن المجرد الخالي عن الأمرين يقتضي سقوط الضمان؟ فتصير
الأمثلة التي ذكرناها من أنها مضمونة مع وجود الأذن: إما خارجة عن القاعدة
بدليل آخر، أو يدعى أن الأذن فيها ليس مجردا، بل مقيد بالضمان وإن كان القيد
مستفادا من القرينة الحالية. أو الأذن المجرد عن القيدين لا يرفع الضمان؟ وما
ذكر من الأمثلة على القاعدة، وما سقط فيه الضمان - كالضيافة ونحو ذلك - فإنما
هو بدلالة القرينة على عدم الضمان، والمسألة مما تعارض فيها الاحتمالان
وتكافئا باعتبار ملاحظة الأمثلة والموارد.
514

والذي يقتضيه النظر الصحيح: أنه لا ريب في عموم أدلة الضمان، والشك في
كون الأذن العاري عن القيدين موجبا لسقوطه يوجب الرجوع إلى أصالة الضمان،
ولم يقم دليل على أن الأذن بهذا المعنى مسقط، لا من إجماع ولا من نص،
والأمثلة السابقة على القاعدة. نعم، لو كان الأذن مطلقا - بمعنى: أنه يستفاد من
سياقه عدم الضمان وإن لم يصرح به - فلا بحث في السقوط، والأذن المطلق في
الحقيقة يرجع إلى التقييد (1) بشاهد الحال أو بقرينة أخرى، ويكون معناه: أنك
مأذون في التصرف سواء أتيت بعوضه أم لا.
فحاصل الأقسام أربعة، إذ الأذن الخالي عن القيدين إما مطلق يستفاد منه
التعميم، أو مجمل، والأول ملحق بصورة التصريح بعدم الضمان، والثاني ملحق
بصورة ذكر الضمان، وذلك واضح، وأنت خبير بأن المثمر في حيثية الضمان إنما
هو ما ذكرناه.
نعم، بقي البحث في أن الأذن الصادر من الأسباب المذكورة أي منها يكون
مطلقا ويكون مقيدا ويكون مجملا، فنقول: أما الأذن اللفظي فهو يكون مقيدا بأحد
الطرفين، ويكون مطلقا، كقوله: (تصرف ما شئت) ويكون مجملا أيضا في بعض
الصور.
والأذن بالإشارة كالقول في هذه الصور، وكذا الكتابة. وشاهد الحال تابع
للقرينة الحالية ودلالتها، والغالب فيه الإجمال الموجب للضمان وإن رفع التحريم،
فتدبر.
هذا كله مع عدم التعارض، وقد يكون تعارض بين الأذن وغيره بأقسامه من
الصريح وغيره، ولنذكر من صوره ما تعرضوا له:
الأولى: تعارض الصريح مع الصريح، كما إذا قال: (كل من هو صديقي فهو
مأذون في دخول داري) وقال لزيد الصديق: (لا تدخل).
قال المعاصر النراقي: إن كان الاذن يعلم بصداقة زيد فيقدم المنع، للتخصيص.

(1) في (م): التقيد.
515

وإن لم يعلم بذلك، فإن علم أن نهيه لزعم عدم الصداقة يقدم الأذن، لانتفاء علة
المنع في الواقع فينتفي المعلول، ولتعاضد الأذن هنا بشاهد الحال، وتقيد النهي
- حينئذ - بعدم الصداقة. وإن لم يعلم سبب النهي فالحكم كذلك أيضا، لأن علة
النهي - لكونه حادثا - إما زعم عدم الصداقة في الواقع أو غيره، فعلى الأول لا نهي
كما مر، وعلى الثاني فالنهي متحقق، وحيث لم يعلم السبب فحصل الشك في المنع،
فعموم الأذن باق على حاله. لا يقال: تحقق النهي معلوم، والرفع لا دليل عليه. لأنا
نقول: المعلوم: صدور لفظ النهي، وأما التعلق بزيد فلا، ولا إطلاق فيه أيضا، لأن
زعم عدم الصداقة مانع من إرادة الإطلاق، أو حالة مقترنة صالحة للتقييد. وإن لم
يعلم زيد بعلمه بالصداقة أو عدمها فالأصل عدم علمه، فيكون كما لو لم يعلم
الصداقة، ومن هنا يعلم صورة عموم النهي وخصوص الأذن (1).
أقول: صور تعارض الصريح مع مثله أربعة:
أحدها: تعارض التساوي، كقوله: (ادخل في داري، ولا تدخل) أو (صديقي
يدخل، صديقي لا يدخل) ولا ريب في كون المتأخر - حينئذ - ناسخا للسابق،
سواء كان الأذن متقدما والمنع متأخرا أو بالعكس.
وثانيها: تعارض العموم المطلق مع كون النهي أخص - كما مر مثاله - ولا ريب
أن الأذن متى ما ورد على عمومه ثم ورد المنع، فيحتمل كون الثاني من باب
النسخ، بمعنى كون الأذن ثابتا في الواقع للكل ثم بعد ذلك منع زيد عن ذلك.
ويحتمل كونه تخصيصا كاشفا عن عدم إرادة زيد في الأول وإرادة ما عداه من
العام، وتظهر ثمرة الاحتمالين في الدخول المتخلل بين صدور الأذن والمنع
بالنسبة إلى الحكم الوضعي لو بني على الأذن والمنع الواقعي من دون اشتراط
الاطلاع. وإثبات التخصيص بهذا المعنى يحتاج إلى فهم العرف كذلك، وهو في
الاستثناء ونحوه مسلم، وفيما عدا ذلك - سيما مع تخلل (2) الفصل الطويل - ممنوع.

(1) عوائد الأيام: 13، العائدة 3. والعبارة منقولة بالمعنى.
(2) في (ن، د): عدم تخلل.
516

وأما بالنسبة إلى ما بعد صدور الخاص، فإن علم بأنه يعتقد صداقة زيد فلا
بحث في اعتبار النهي للكشف عن حالة في نظره مانعة عن ذلك، كما مر. وإن علم
أنه يعتقد عدم الصداقة وعلم كون نهيه لهذا الاعتقاد فيؤول الأمر إلى معرفة علة
الأذن والمنع في نظره، فيقطع حينئذ برضاه مع كون زيد في الواقع صديقا، ويتقيد
نهيه بعدم الصداقة. ولو لم يكن (1) كون النهي لهذا الاعتقاد، فظاهر كلام الفاضل
المعاصر بقاء الأذن، نظرا إلى الشك في تعلق النهي باحتمال كونه بزعم عدم
الصداقة، فيرجع إلى عموم الأذن (2). وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن النهي إذا لم يعلم سببه فظاهره يفيد الإطلاق، أي: سواء كان
صديقا أم لا، ومجرد زعمه عدم الصداقة لا يمنع من إطلاق اللفظ، إذ لو كان ذلك
مانعا لكان احتماله أيضا كافيا، ومن هنا ينفتح باب الإجمال في الألفاظ، إذ كل
إطلاق في كلام شخص قابل لأن ينزل على اعتقاده، سواء علم أو شك، ومدار فهم
الألفاظ إنما هو على ظواهرها.
وثانيهما: أنه على فرض تسليم ذلك نقول: كما أن اعتقاد عدم صداقة زيد
يوجب الشك في تعلق النهي، فكذلك يوجب الشك في إرادته من عموم الأذن،
لاحتمال (3) كون تعميمه في الأذن لكل صديق باعتبار زعمه أن زيدا خارج عنهم،
بحيث لو كان اعتقد صداقته لم يعمم الأذن، والفرض: أنه لم يعلم كون الصداقة
وعدمها علة في الأذن والمنع (4) وإنما هو مورد للحكم، فمتى ما شك في أصل
الأذن فينبغي المنع على مقتضى الأصل وإن لم يعلم النهي، فتدبر.
وإن علم إنه لا يعتقد الصداقة ولا عدمها فلا بحث في كون النهي موجبا للمنع،
لعدم وجود ما يخرج النهي عن الإطلاق. وفي كلام الفاضل المعاصر ما يدل على
كونه كصورة العلم بأنه يعتقد عدم الصداقة ولكن لم يعلم كون النهي لذلك، فإن
العلم بعدم الصداقة أعم من كون النهي لذلك.

(1) كذا في النسخ، والظاهر: (ولو لم يعلم).
(2) راجع العوائد: 13.
(3) في (ف، م): لأجمال.
(4) لم ترد (و) في (ن، د).
517

وإن جهل حال الأذن علما وجهلا بالصداقة وعدمها، فجعله (1) كصورة عدم
علمه بالصداقة للأصل، وحيث إنه جعل هذه الصورة قسمين: أحدهما: العلم بنهيه
لزعم عدم الصداقة، وعدم العلم بسبب نهيه، فظاهر العبارة يقضي بجريان
الصورتين في المشبه أيضا. مع أن العلم بكون نهيه لزعم عدم الصداقة لا يجامع
الشك في كونه معتقدا بالصداقة أو عدمها مع أنه الفرض، فيصير التشبيه بالنسبة
إلى القسم الثاني وهو الجهل بالسبب (2) الذي حكم بالرجوع إلى الأذن، وقد
عرفت بطلان ذلك، سواء كان في الواقع غير معتقد للأمرين أو معتقدا لعدم الصداقة
ولم يعلم سبب النهي، فإن في كلا الفرضين الحق المنع على ما قررناه.
فصورة الشك إن دار أمره بين هاتين الصورتين - بمعنى: أنا نقطع بأن الاذن لا
يعلم بالصداقة، بل إما معتقد لخلافها أو خال عن الأمرين - فالحكم فيها المنع،
لعدم خروجه عن الاحتمالين، والمختار في كل منهما المنع.
ولو قطعنا بأنه غير خال عن الاعتقاد ودار الأمر بين الاعتقادين فيصير سببا
للشك في سبب المنع، وقد عرفت أن المختار فيه العمل بالنهي أيضا.
وإن علم أنه غير معتقد للخلاف، بل إما معتقد للصداقة أو خال عن الأمرين
فالعمل فيه على النهي أيضا، والوجه واضح مما مر.
وإن دار الأمر بين الصور الثلاثة فالحكم فيه المنع أيضا، لتعارض
الاحتمالات وسلامة الإطلاق، مضافا إلى الوجه المتقدم.
فإلحاق صور (3) الشك بقول مطلق على صورة عدم العلم بالصداقة، مع كون
صورة من صور الشك صورة القطع بأنه لا يعتقد الخلاف - بل إما معتقد للصداقة أو
خال عن الأمرين ولا شبهة في كون المعتمد حينئذ النهي - كما ترى! فتدبر.
وثالثها: كون التعارض بالعموم المطلق مع كون الأذن أخص، ويجئ الكلام
فيه أيضا من حيث النسخ والتخصيص، ومن حيث التقديم والتأخير، والكلام فيه الكلام في الصورة السابقة حذو النعل بالنعل. ولازم كلام الفاضل المعاصر المخالفة

(1) أي: المحقق النراقي قدس سره، راجع العوائد: 13.
(2) لم ترد (بالسبب) في (ن، د).
(3) في غير (م): صورة.
518

هنا أيضا (1) نظير الصور السابقة، فتدبر جدا.
ورابعها: تعارض العموم من وجه، كما لو قال: (العالم يدخل في داري،
وعدوي لا يدخل) فاتفق عالم هو عدو له، والمعتمد حينئذ الرجوع إلى
المرجحات، مثل شاهد الحال فإنه يؤيد المنع، ويأتي على مذهب من يقدم النهي
في كل تعارض العامين من وجه أن يقدمه هنا أيضا، للوجوه التي ذكروها في
اجتماع الأمر والنهي، وعلى فرض عدم المرجح فتعارض الاحتمالين وتساقطهما
يوجب المنع، لخلو المقام عن الأذن، فالمرجع: أصالة عدم جواز التصرف،
ويلحقه الضمان.
وقد يفرض التعارض من وجه بحيث يظهر منه رجحان الأذن، كما لو قال:
(عدوي لا يدخل) ثم قال لطائفة مخصوصين: (ادخلوا أنتم) مع علمه بأن فيهم
عدوا وصديقا، فالتعارض بالعموم من وجه، لكن المرجح الصراحة وقلة المورد.
ولو قال: (صديقي يدخل) ثم قال: أنتم (لا تدخلوا) مع علمه بأن فيهم عدوا
وصديقا ترجح جانب النهي في مورد التعارض، لما مر من الوجه. ولو لم يعلم أنه
يعلم أن فيهم عدوا وصديقا، فيجئ فيه الصور السابقة في العموم المطلق، مع
زيادة احتمال كونه من وجه أو مطلقا، وأنت بعد ما ذكرنا تقدر على استخراج
الحكم من ذلك بعد التأمل الجيد.
الثانية (2): تعارض الصريح والفحوى، كقولك: (كن ضيفي في داري إلى غد)
الدال بالفحوى على جواز صلاة الشخص، مع قوله: (لا يصل عدوي في داري) مع
كونه في الواقع عدوا. وقد يكون المنع خاصا والفحوى عاما، كقوله لطائفة: (كونوا
ضيفا لي إلى غد في داري) مع قوله لواحد منهم: (لا تصل في داري). وقد يكونان
بالعموم من وجه، كقوله: (كونوا ضيفي) مع كون بعضهم عدوا والاخر صديقا،
وقوله: (لا يصل عدوي في داري). ويجئ هنا البحث السابق في الصريحين
بحذافيره.

(1) في (ن، د) زيادة: في.
(2) أي: الصورة الثانية من الصور التي تعرضوا لها، تقدم أولها في ص: 515.
519

الثالثة: تعارض الصريح مع شاهد الحال، كما لو أذن لزيد العدو مع علم زيد
بأنه لا يرضى بدخول عدوه، أو منع عمروا الصديق مع علمه بأنه راض بدخول
صديقه. وقد يتعارضان بالعموم من وجه، كشهادة الحال بالأذن للصديق، ومنعه عن
جماعة فيهم صديق وعدو. وتجئ مسألة اعتقاده (1) العداوة أو الصداقة أو خلوه
عن الاعتقاد أو شك المخاطب في ذلك بصوره، فتدبر جدا، والحكم يتضح بعد ذلك.
ولو فرض شهادة الحال بخصوص زيد العدو مع منعه من دخول عدوه، فإن
كان شهادة الحال أعم من كونه عدوا أو صديقا - كما لو وقع حال قاض بالأذن له
على كل حال - فيقدم على المنع وإن كان بينهما حينئذ عموم من وجه، لأعمية العدو
أفرادا وأعمية مدلول شاهد الحال أحوالا، فإنه أعم من كونه صديقا أو عدوا، ووجه
التقدم الصراحة وأخصية المورد، وكون الميزان في العموم عموم الموضوع دون
المحمول، فتدبر. وإن كان شهادته على فرض الصداقة فالمنع سليم عن المعارض.
وإن كان مجملا فيقدم المنع، لعدم العلم بالمعارض مع شمول المنع قطعا، فتأمل.
الرابعة: تعارض الفحوى مع مثله، ويتصور فيه أيضا الصور السابقة في
الصريح بأجمعها، والحكم ما مر هناك.
والخامسة: تعارض الفحوى مع شاهد الحال، وهو كتعارض الصريح مع
الحال من دون فرق في الأقسام والأحكام.
السادسة: تعارض شاهدي الحال، وحيث إن ذلك يقتضي كون حالة موجبة
للأذن وحالة موجبة للمنع، فيكون المجموع من الأمرين أيضا حالا آخر، فإن كان
مقتضاه الأذن - كما لو فهم التعميم من الحالة المرخصة - فهو المعول، وإن كان
مقتضاه المنع فهو المتبع، وإن لم يعلم أحد الأمرين فالأصل عدم الأذن.
وفي المقام أبحاث شريفة أعرضنا عنها مخافة التطويل واعتمادا على فهم
الفطن، إذ ملاحظة ما أشرنا إليه في طي البحث يعين على استخراج ما عداه، والله
الهادي.

(1) في (ن، د): اعتقاد.
520

(العنوان التاسع والستون)
(ضابطة المثلي والقيمي)
521

[عنوان
[69]
في ضبط معنى المثلي والقيمي، حيث إن التأدية تبتني على معرفتهما (1) حتى
يتخلص عن الضمان، على ما ذكرناه في قاعدة اليد (2).
قد اختلف فيه عبائر الفقهاء اختلافا كثيرا، والذي وجدت في كلماتهم في
الباب تعريفات:
أحدها: ما نسب إلى الأكثر في لسان بعضهم (3) وإلى المشهور بين الأصحاب
في المسالك (4) وهو: أن المثلي ما تساوت قيمة أجزائه، وفسروه: بما تساوى قيمة
أجزاء النوع الواحد منه، كالحبوب والأدهان، فإن المقدار من النوع الواحد منه
يساوى مثله في القيمة، ونصفه يساوى نصف قيمته، وهكذا....
وهذا التعريف مخدوش، فإن الأجزاء لا انضباط لها، إذ الظاهر أنه أريد بها
كل ما يتركب الشئ منه، فيلزم عدم كون الحبوب والأدهان مثليا أيضا، لأنها
تتركب من القشور والألباب، ولا ريب في اختلاف القشر مع اللب في القيمة، فكيف يقال

(1) في (ن، د): معرفتها.
(2) في العبارة ما لا يخفى، ولذا غيرها مصحح (م) بما يلي: إذ التأدية التي بها يتخلص عن
الضمان مبتنية على معرفتهما، فنقول: قد اختلف...
(3) لم نقف عليه.
(4) المسالك 2: 259 (ط - الحجرية).
522

بتساوي أجزائهما في القيمة؟ ونحو ذلك التمر، فإنه مركب من
اللحم (1) والنوى، ولا ريب في اختلاف قيمتهما، وعلى هذا القياس جميع ما يقال:
إنه مثلي، فإنه مركب من أجزاء لو فصلت عليها لتفاوتت في القيمة قطعا.
وربما يقال في دفعه: أن المراد بالأجزاء هنا: هي الأجزاء التي يطلق عليها اسم
الجملة، لا مطلق الأجزاء، وما اعترضت علينا من الإيراد فإنما هو في ما لا يبقى
فيه الاسم، وهو غير الفرض.
واعترض على ذلك أيضا: بأن اللازم من ذلك عدم كون الدراهم والدنانير
مثلية، لما يقع في الصحاح من الاختلاف في الوزن، وفي الاستدارة والاعوجاج،
وفي وضوح السكة وخفائها، وذلك مما يؤثر في القيمة.
وفي أصل الجواب والاعتراض وأصل التعريف نظر.
أما في التعريف: فلأن المثليات لا ريب في أن كل فرد من أفرادها متساوية
في القيمة، لا أن كل جزء من أجزائها متساوية في القيمة، فلا وجه للقول بتساوي
الأجزاء إلا على فرض إطلاق اللفظ على أفراد كثيرة مجتمعة منه تفرض فردا
واحدا حتى تكون الأفراد الموجودة في ضمنه أبعاضا له.
وإن قيل: (إن التعبير بالأجزاء ليس للنظر إلى الفرد المركب، بل إنما هو
ليشمل الفرد المركب والبسيط معا، فإنه لو انقسم كل فرد من أفراد المثلي نصفين
لتساوت في القيمة أيضا ولا ينحصر في تساوي الأفراد) لكان هذا وجها جيدا في
سر التعبير بالأجزاء، لكن يرد الاعتراض على التعريف من وجه، وعلى ما مر من
الدفع أيضا، أما على التعريف، فلأنه يرد عليه ما أورد عليه أولا من مسألة القشر
واللباب والنوى واللحم، فإنهما ليسا بمتساويين في القيمة، مع أنه من أجزاء الفرد
الواحد، وأنت بنيت على التساوي مطلقا. وأما على الدفع بأن المراد بالأجزاء ما
يطلق عليه الاسم، فبأن لازم ذلك عدم جريان مسألة الجزئية في كل مثلي، إذ ليس كل مثلي إذا وزع فرد منه يصدق على أجزائه اسمه، فإن الدرهم، إذا قسم لا يطلق

(1) في (د): اللحمة.
523

على نصفيه أنه درهم، بل لا يطلق على نصف الحنطة ونحو ذلك، فإرادة الأجزاء
التي يطلق عليها الاسم توجب انحصار المراد في الفرد، ولا يناسب التعبير حينئذ
بالأجزاء، فتدبر.
وأما في الاعتراض على الدفع: فبأن اختلاف السكة والوزن ونحو ذلك إن
كان مما يتفاوت به القيمة، فيصير من باب اختلاف النوع كسائر الصفات في
المثليات، وهذا لا ينافي كون النوع الواحد منه مثليا، وإن لم يتفاوت به القيمة
- كما هو الغالب - فلا بحث ولا اعتراض.
وأما في الجواب والدفع: فبأن تفسير الأجزاء بما يطلق عليه اسم الجملة لا
ينفع في دفع الاعتراض، إذ يمكن تقسيم التمر والنوى بحيث يجعل في النوى
مقدارا من اللحم (1) لا يوجب خروجه عن اسم التمر، ولا ريب في كون كل منهما
تمرا من أجزاء نوع واحد مع اختلاف الجزءين في القيمة، فتدبر.
وثانيها: ما عرفه الشهيد رحمه الله به في الدروس: من أنه ما تساوى أجزاؤه
ومنفعته وتقارب صفاته (2).
ويرد النقض على هذا بالثوب ونحوه، فإنه متقارب المنفعة والصفات والأجزاء،
بل متساويها في النوع الواحد، مع أنه يعد قيميا، لا مثليا. وهذا الاعتراض يرد
على التعريف الأول، فإن قيمة أجزائه في النوع الواحد متساوية أيضا.
ويمكن دفعه بمنع تساوي قيمة أجزائه ولو في النوع الواحد، فإنا نرى أهل
العرف يداقون في القطعة الواحدة بين طرفيها، ولو فرض التساوي في فرد فهو لا
يوجب كونه مثليا، إذ المدار على الوجود الغالب، وإلا فالتساوي في القيمة
والمنفعة يمكن في كل جنس، ومن هنا يمكن دفعه عن تعريف الدروس أيضا،
فتدبر.
وثالثها: ما حكي عن شرح الإرشاد للشهيد: أنه ما يتساوى أجزاؤه في

(1) في (ن، د): اللحمة.
(2) الدروس 3: 113 (كتاب الغصب).
524

الحقيقة النوعية (1).
فإن كان المراد منه ما كان اسم القليل والكثير منه واحدا لأنه التساوي في
الحقيقة الموجب لإطلاق الاسم، فلا ريب في انتقاضه بكثير من القيميات:
كالأرض، فإن القليل والكثير منها في الاسم سواء، والأقمشة، فإن قليلها وكثيرها
يتفقان (2) في الاسم غالبا. وإن أريد أن الحقيقة النوعية هي منشأ المنفعة والقيمة
والصفة، فالتساوي فيها يوجب التساوي في هذه الأمور فيرجع إلى التعريف
الثاني. ولعل الأخير أوضح في الإرادة وإن جزم بعضهم بكون مرجعه إلى المعنى
الأول، فتأمل (3).
ورابعها: أن المثلي ما يقدر بالكيل والوزن، كما نسب إلى بعضهم (4).
وينتقض بالمعاجين بإنها مثلية، ولاتباع بالكيل والوزن، بل بالحب ونحوه،
وبالحطب فإنه مثلي وإن كان لا يباع بهما في بعض البلاد، كذا قيل. ويمكن القول
بأن المعجون يباع بالوزن، وبيعه كذلك من جهة أنه مغن عن الوزن فلا يضر
بمثليته، ونحو ذلك نقول في الحطب، مع احتمال منع كون الحطب مثليا. لكن
ينتقض بأنه يباع غالبا بالكيل والوزن فيدخل في التعريف. ويمكن القول: بأن
المعجون أيضا قيمي ويباع بالكيل أو الوزن، فيدخل في التعريف.
وخامسها: أنه ما يكال أو يوزن مع جواز السلم فيه.
وسادسها: أنه ما يكال أو يوزن، ويجوز بيع بعضها ببعض لتشابه الأصلين في
قصد التقابل.
واعترض على التعاريف الثلاثة بالأشياء التي يجوز فيها بيع بعضها ببعض
ويجوز السلم فيه مع كونها مكيلا أو موزونا، كالقاقم (1) وغيره، وربما منعوا ذلك فيه.

(1) غاية المراد: كتاب الغصب (مخطوط) الورقة: 71.
(2) في غير (م): يتفق.
(3) لم يرد الأمر بالتأمل في (ن، د).
(4) حكاه المحقق الثاني قدس سره عن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد، جامع المقاصد 6: 244 (كتاب
الغصب). (1) في (ن، د): كالقماقم.
525

وسابعها: ما تساوت أجزاؤها وجزئياتها.
ويرد على هذا التعريف: أنه إن كان المراد من الأجزاء ما يطلق عليه الاسم،
فعاد إلى الأفراد فلا وجه لذكر الأجزاء. وإن كان المراد أجزاء الفرد - كنصف
الحنطة والدرهم، ونحو ذلك - فيرد عليه ما مر من الاعتراض بالقشر واللب
ونحوه، فإنه من أجزاء الفرد الواحد مع عدم تساوي القيمة. ويمكن أن يقال
بملاحظة الحيثية بأن يقال: إن الأجزاء لها جهات، فمن الجهة التي هي متساوية
في القيمة فهي مثلية، ومن الجهة الأخرى قيمية، فالحنطة لو اعتبرت أجزاؤها
بالقشر واللب فهي قيمية، ولو لوحظت أجزاؤها بنصف الحنطة وربعها ونحو ذلك
فهي مثلية - فتأمل - فيصير الأحكام في المثلية والقيمية تابعة لكيفية الضمان.
وثامنها: أن المثلي ما إذا جمع بعد التفريق أو فرق بعد الاجتماع عاد الأول
بغير علاج.
ويرد على هذا الفرض أيضا بعض ما يرد على التعاريف السابقة.
والتحقيق أن يقال: إن المثلي والقيمي تحديدهما موكول إلى العرف، فإن أهل
العرف يعدون بعض الأشياء مما لا تفاوت بين أفرادها ولا يداقون في أخذ فرد
دون فرد وينسبون كل من فرق بين أفراده إلى السفاهة والبلاهة لاهتمامه فيما لا
يلتفت إليه عند العقلاء، ويعدون بعض الأشياء مما يصير فيها التفاوت وإن تشابهت
في الصورة ولم يتميز في الحس في بادئ النظر، بل عند الأغلب، لكن يعرفون أن
الممارسين في هذا الشئ أو هذه الصنعة (1) يعرفون أن فيه جيدا ورديئا وإن كان
لا يطلع عليه كل ناظر، بل الغالب يتخيلون التساوي، ولذلك لا يعتنون من لم
يتفحص عن ذلك، ويخرجونه عن ربقة الرشد وكمال العقل، وهذان الأمران مما
يقال لهما المثلي والقيمي، وما ذكره الأصحاب كلها إشارة إلى ما هو في الواقع
كذلك، وليس ذلك اختلافا منهم في الحكم، بل إنما (2) غرضهم تحديد العرف،

(1) في غير (م): الصفة.
(2) في (ن، د) زيادة: هو.
526

وليس العموم والخصوص في تعاريفهم إلا كما يقع في التعاريف اللفظية من أهل
اللغة، والمراد عندهم واحد بحسب الظاهر.
ثم إنه لو علم كون الشئ مثليا فلا بحث فيه، ولو علم كونه قيميا فلا بحث فيه
أيضا. ولو شك في فرض أنه قيمي أو مثلي بحيث لم يتنقح (1) ذلك في العرف أيضا
لاختلاف أهله في ذلك، فهل يبنى فيه على المثلية أو على القيمية؟
ربما يقال بالبناء على أنه مثلي، لأصالة عدم تفاوت القيم والرغبات، ولأن
الميزان في اعتبار المثل إنما هو كونه أقرب إلى المال المضمون بحيث يعد تأديته
تأدية لأصل المال، ومتى ما كان الشئ يشك في أن فيه تفاوتا أم لا صار أقرب
إلى المال المضمون من القيمة قطعا، فلا وجه للعدول إلى القيمة، فهو وإن لم يثبت
كونه مثليا في الاسم لكنه مثلي في الحكم، فتدبر.
وربما يقال: إنه قيمي، لأصالة عدم تساوي الرغبات، ولكون الغالب في
الشيئين الاختلاف، فالمشكوك (2) يلحق به، ولأن القيمة دفع لما يقابل المضمون
في المالية قطعا، بخلاف المثلي، لاحتمال النقيصة (3) فلا يحصل اليقين بالبراءة.
لا يقال: أن مع دفع القيمة أيضا لا يحصل اليقين، لاحتمال كونه مثليا موجبا
للدفع من هذا العين، فيفوت الخصوصية على صاحبها.
لأنا نقول: غاية ما في الباب تعارض احتمال فوات خصوصية العين مع
احتمال فوات المالية، ولا ريب أن الثاني أهم، إذ الغالب في الماليات إنما هي جهة
المالية، والخصوصية مع حصول المالية لا يعتنون بها، بخلاف العكس، فمراعاة
جهة المالية توجب ترجيح دفع القيمة، لأنه أقرب إلى البراءة.
وربما يقال: إنه لا ترجيح في المقام بعد كون الشك في الحادث وتعارض
الاحتمالين من الجانبين، فيرجع إلى الصلح حينئذ، كالعلم باشتغال الذمة بأمر مجهول لا سبيل إلى بيانه. ويحتمل تخيير الضامن بين الاحتمالين، ويحتمل تخيير

(1) في (ن، د): لم يتضح.
(2) في (ن، د) زيادة: به.
(3) في (ف، م): النقصية.
527

المضمون له، ويحتمل وجوب أكثرهما قيمة لقاعدة الاشتغال، ويحتمل وجوب
أقلهما قيمة ترجيحا للبراءة.
والحق أن يقال: إن خصوص لفظ (المثلي) و (القيمي) لم يعلق عليهما الحكم
في كلام الشارع، وإنما هو اصطلاح، والمتبع الدليل، ولا ريب أن الدليل إنما دل على
وجوب تأدية المال إلى صاحبه، ولا ريب في كون التأدية مع بقاء العين هو دفع
العين، وأما مع التلف ففي المثلي يعد دفع مثله دفعا لذلك التالف، وفي القيمي لا
يعد دفع مثله في الفردية دفعا لذلك، للتفاوت، فيدفع القيمة، لأن القيمة حينئذ أقرب
إلى التالف من دفع ما هو من نوعه. ومع الشك في كونه من هذا أو من ذلك فلا
ريب أن دفع مثله حينئذ أقرب من دفع قيمته، فليدفع ما هو مثله بحيث لا يكون
تفاوت بينهما في المالية وإن كان أصل النوع لا يعلم كونه مثليا.
فتدبر حتى لا يختلط عليك الأمر.
528

(العنوان السبعون)
(الضابط في تعيين القيمة اللازمة الدفع)
529

عنوان
[70]
في تعيين القيمة اللازمة (1) الدفع إذا وجب دفع القيمة.
ووجوبها يصير على وجهين: أحدهما: وجوب قيمة أصل المال المضمون
حيث يكون قيميا. وثانيهما: قيمة مثله إذا تعذر المثل، فإنه يرجع حينئذ إلى قيمة
المثل، لا قيمة المال المضمون [نظرا إلى أن تلف أصل المال أوجب ضمان المثل
الثابت في الذمة، فإذا تعذر ذلك عاد بالقيمة لهذا المال المضمون] (2) في الذمة، لأنه
المضمون الان دون أصل المال.
والغرض من تعيين القيمة: أنه لا ريب في اختلاف الحالات على المال
التالف الموجبة لزيادة القيمة والنقصان بحسب الأيام والأزمان وتختلف
الاحتمالات بالنسبة إلى أسباب الضمان، فتزيد في بعضها وتنقص في آخر،
وكذلك في ضمان المثل المعوز (3) بقيمته، فإن فيه احتمالات أيضا، فلابد من تعيين
القيمة المضمونة شرعا على ما تقتضيه الأدلة. وهذا البحث كما يجئ في قيمة
الأعيان المضمونة، فكذلك في قيمة النماءات، وفي قيمة المنافع والأعمال،
وكذلك في قيمة أبعاض الأعيان، وأبعاض المنافع المذكورة في باب تبعض

(1) في (ن، د) زيادة: في.
(2) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ن، د).
(3) في (ن، د): المعوض.
530

الصفقة، وكذلك في قيمة الأوصاف المضمونة - كأرش العيوب ونقص الصفات
المطلوبة - فإنها أيضا مضمونة بالقيمة.
وبالجملة: كل مال مضمون بالقيمة، سواء كان عينا أو منفعة، أو بعضا من
أحدهما، أو وصفا لأحد منهما، أو نماء للأعيان، لابد فيه من تعيين القيمة التي
تضمن من القيم المختلفة بحسب الأزمان والأمكنة والأحوال، فهنا أبحاث ثلاثة:
أحدها: في تعيين القيمة بحسب الأحوال الطارئة على المال المضمون
الموجبة لزيادة القيمة بزيادة في العين، كما لو كان المال المغصوب - مثلا - أو
المقبوض بالعقد الفاسد قيمته عشرة لضعفه، ثم صار قيمته يوم التلف - مثلا -
عشرين لسمنه أو لطوله، أو نحو ذلك. وكذلك المنافع، فإنها قد تكون عند وضع
اليد عليها قيمتها خمسة فحدث في العين صفة كمال أوجبت زيادة قيمة في
المنفعة. وكذلك في الأرش، فإن العيب قد يتفاوت زيادة ونقيصة ويختلف
باختلافها قيمة التفاوت المسمى بالأرش، وعلى هذا القياس.
والذي يقتضيه النظر في هذا الفرض: ضمان أعلى القيم في أي حالة كانت،
سواء كان الأعلى آخر قيمة له بحيث تعقبه التلف، أو أول قيمة كما إذا نقصت العين
بعد الغصب إلى أن تلفت، أو نقصت قيمة العيب إلى أن ارتفع.
أو أوسط القيم، كما إذا كان ناقصا فزاد ثم نقص ثم تلف، بحسب (1) اختلاف
العين بالزيادة والنقصان، لا بمحض السوق، نظرا إلى أن كل حالة من هذه
الحالات مضمونة على صاحب اليد، لأنها (2) فاتت تحت يده فيشمل عموم (على
اليد) هذا النماء كما يشمل الأصل، وكذا يشمل دليل الإتلاف لكل ما أتلفه من
أصل أو نماء، ولذلك لو أرجع العين إلى صاحبها بغير تلف لكنه مع نقص فيها بهزال
أو تعيب - أو نحو ذلك - ضمن النقص، والوجه في ذلك كله واضح.
ومن هنا علم: أنه إذا ترتبت الأيدي على مغصوب أو مطلق مال مضمون له
حالات متفاوتة بزيادة ونقيصة توجبان اختلاف القيمة ضمن كل منهم الحالة التي

(1) كذا في (ذ)، وفي سائر النسخ: بسبب.
(2) في (ن، د): لا لأنها.
531

كانت تحت يده دون ما كان تحت يد الآخر، فيشتركون في ضمان القدر الجامع،
بمعنى تخير المالك في الرجوع إلى أي منهم شاء، ويمتاز صاحب اليد على الزيادة
بضمان الزيادة، فإن كان واحدا فبالاختصاص، وإن كانوا متعددين - كثلاثة من
ستة كانت العين زائدة في أيديهم فنقصت في الباقين - فبالاشتراك بالمعنى
المذكور في الأصل.
وإلى هذا المعنى أشار الشهيد الثاني رحمه الله في مقامات عديدة يبحث فيها عن
أداء المال المضمون - كباب الغصب، والأروش المالية، وأروش الجنايات،
وضمان المقبوض بالعقد الفاسد، وباب الفضولي، والعقد المنفسخ بعيب ونحوه -
بعد ذكر بحث الأصحاب في ضمان أعلى القيم أو الأسفل، أو غير ذلك من
الاحتمالات الآتية في البحث الثاني. هذا إذا كان التفاوت بحسب السوق، أما لو
كان بسب اختلاف في العين فيضمن الأعلى، فتدبر.
وثانيها: في تعيين القيمة بحسب الأزمان بالنسبة إلى السوق، من دون مدخلية
لزيادة العين ونقصها فيه، والمحتملات في ذلك أمور:
الأول: ضمان قيمته يوم الغصب، ويجئ نظيره في سائر الأسباب في يوم
وضع اليد، كما في المقبوض بالبيع الفاسد، ومنه المقبوض بالفضولي، وقس على
ذلك غيره.
قيل: ذهب إليه الشيخ رحمه الله في موضع من المبسوط (1) ونسبه المحقق إلى
الأكثر (2). ولعل وجهه: أن ذلك يوم تعلق ضمان المال، لأنه السبب، فينبغي أن
يلاحظ قيمة ذلك الوقت.
وفيه: أن مجرد كونه سبب الضمان لا يستلزم اعتبار قيمة ذلك الوقت، بل
المراد بالضمان لزوم قيمته إذا تلف في ذلك الوقت، وإذا لم يتلف فهو مكلف برد
العين، فلا وجه لاعتبار قيمته حينئذ.

(1) قاله المحقق الكركي في جامع المقاصد 6: 246، ولم نقف عليه في المبسوط.
(2) الشرائع 3: 240.
532

الثاني: الضمان بالقيمة يوم التلف، وهو مذهب ابن البراج (1) والعلامة في
المختلف (2) ونسبه في الدروس إلى الأكثر (3). والوجه فيه: أن العين ما دامت باقية
فهو مكلف بدفع العين، ولا يضمن بالقيمة إلا إذا تلفت، فذلك اليوم تتعلق القيمة
بالذمة، فينبغي اعتبارها في ذلك اليوم. كما أنه لو فرض نقص القيمة مع بقاء العين
لا يحكم على الغاصب بدفع الزيادة، لأن العين باقية على حالها، وفوات قيمة
السوق غير مضمون.
الثالث: ضمان أعلى القيم من حين الغصب إلى يوم التلف، وهو منقول عن
الشيخ رحمه الله في النهاية والخلاف وموضع من المبسوط (4). واختاره ابن إدريس (واستحسنه المحقق في الشرائع (6). والوجه فيه: أن المال مضمون عليه في جميع
حالاته التي من جملتها حالة أعلى القيم، ولو تلف فيها لزم ضمانه فكذا بعده،
ولأن الاعتبار العقلي يقتضي ذلك، لأن الغاصب في أول زمان الغصب مكلف
بإيصال المغصوب إلى المالك، فإذا لم يفعل كان عليه أن يجبر النقصان الذي
حصل للمالك بسببه، وجبر ذلك النقصان: إما برد العين في زمان آخر، أو قيمتها
في الزمان الأول عند تعذر ذلك، وكذلك الغاصب مكلف في الزمان الثاني بإيصال
العين إلى المالك، وإذا لم يفعل كان عليه جبر النقصان كما مر، وهكذا في الزمان
الثالث والرابع، فإذا فرض زيادة القيمة في بعض هذه الأيام كان عليه ردها إلى
المالك عند تعذر العين.
وفيه: أن كون جميع الحالات مضمونة معناه لزوم قيمته لو تلف في تلك الحالة،
وإلا لزم على ذلك لزوم رد تفاوت القيمة مضافا إلى العين، ونقصان قيمته حين الرد
عن بعض القيم السابقة، والحكم بخلافه مجمع عليه عند الأصحاب على الظاهر.

(1) المهذب 1: 437.
(3) المختلف: 455 (ط - الحجرية).
(3) الدروس 3: 113.
5) (5) الخلاف 3: 403، المسألة 14، المبسوط 3: 72 و 103، ولم نعثر عليه في النهاية.
(5) السرائر 2: 481.
(6) الشرائع 3: 240.
533

والرابع: لزوم أعلى القيم من حين الغصب إلى حين رد القيمة، وحكي عن
المحقق في أحد قوليه (1). ولعله مبني على أن القيمي أيضا مضمون بمثله، فيبقى في
ذمة الغاصب مثله بعد التلف إلى وقت الأداء، وحيث إن دفع المثل متعذر فيدفع
القيمة حينئذ، فيصير بمنزلة بقاء العين إلى وقت الدفع وتلفه حينئذ، فيجئ الوجه
السابق في اعتبار أعلى القيم هنا من حين الغصب إلى وقت الرد، وكأن وقت الرد
حينئذ هو وقت التلف في الحقيقة.
ولا يخفى ضعف ذلك من الوجه السابق في ضعف القول السابق: من أن كون
القيمة أعلى في وقت لا يقتضي لزوم دفعها، بل اللازم دفعها لو تلفت العين في ذلك
الوقت، مضافا إلى أنه لا وجه لبقاء مثل القيمي في الذمة، إذ لو كان له مثل لوجب
دفع مثله، والمفروض أنه غير موجود، ولا وجه لضمان الممتنع، إذ معنى الضمان:
لزوم الدفع وهو ممتنع محال.
وأضعف من ذلك احتمال كون القيمي مضمونا بعينه إلى وقت الأداء،
وهنالك (2) ينتقل إلى القيمة للتعذر، نظرا إلى امتناع ضمان الممتنع والتالف لا يمكن
إعادته، فتدبر.
والخامس: لزوم دفع قيمة وقت المطالبة، وهو مبني على الضمان بالمثل إلى
ذلك الوقت، أو بالعين إلى ذلك الوقت حتى يصير ذلك الوقت وقت الانتقال إلى
القيمة، ويجئ فيه ما ذكرناه في اعتبار قيمة يوم التلف، وقد عرفت ضعفهما في
القول السابق المبني على أحدهما، على ما أشرنا إليه.
والسادس: لزوم دفع أقل القيم من حين الغصب إلى وقت التلف.
والسابع: لزوم أقل القيم من حين الغصب إلى وقت الأداء.
والثامن: لزوم أقل القيم من حين التلف إلى وقت الأداء. والوجه في هذه الثلاثة الرجوع إلى أصالة البراءة مع الشك في اشتغال

(1) حكاه عنه الشهيد الأول، على ما نقله الشهيد الثاني في الروضة 7: 40.
(2) في (ن، د): هناك.
534

الذمة بالزائد.
والتاسع: التخيير، وله صور: أحدها: التخيير بين يوم الغصب والتلف. وثانيها:
بين يوم الغصب والأداء. وثالثها: بين يوم التلف والأداء. ورابعها: التخيير بين
الثلاثة. وخامسها: التخيير بين الأقل والأكثر في أي وقت اتفق، ومرجعه إلى لزوم
ضمان الأقل.
ومنشأ ذلك كله: العلم باشتغال الذمة بإحدى هذه القيم وعدم وجود الترجيح،
وليس من النص في هذا الباب شئ سوى صحيحة أبي ولاد، وهي طويلة واردة
في خصوص رجل اكترى بغلا إلى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا، فلما وصل
إلى قرب قنطرة الكوفة توجه نحو النيل، وتوجه منه إلى بغداد، ورجع إلى الكوفة،
وكان ذهابه ومجيئه خمسة عشر يوما، فأخبر أبا عبد الله عليه السلام بذلك، قال: له عليك
مثل كرى البغل (1) ذاهبا من الكوفة إلى النيل، ومثل كرى البغل من النيل إلى بغداد،
ومثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة. قال: قلت: جعلت فداك! فقد علفته بدرهم
فلي عليه درهم (2)؟ قال: لا، لأنك غاصب. فقلت: أرأيت لو عطب أو (3) نفق أليس
كان يلزمني؟ قال: نعم، قيمة البغل يوم خالفته. قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر
أو عقر (4)؟ قال: عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه... الحديث (5).
وفي هذا الخبر دلالة على جملة من أحكام الضمان التي حررناها في
المباحث السابقة، منها: عدم احترام مال الغاصب، لأقدامه. ومنها: ضمان
الأوصاف بالقيمة كالأصل.
وفي قوله: (يلزمك قيمة البغل يوم خالفته) احتمالان: أحدهما: أن يكون المراد: يلزمك قيمة يوم المخالفة، فيكون دليلا على القول الأول من الأقوال

(1) في المصدر: بغل - بدون اللام - وهكذا في الفقرات الآتية.
(3) في المصدر: قد علفته بدراهم فلي عليه علفه.
(3) في المصدر: ونفق.
(5) في المصدر: غمز.
(5) الوسائل 13: 255، الباب 17 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1.
535

المتقدمة. وثانيهما: أن يكون المراد: أن لزوم القيمة والضمان في ذلك اليوم، وأما
قيمة أي من الأيام فهو مسكوت عنه. والظاهر منه هو الأول عند الانصاف وإن
أعرض عنه الأكثر.
وفي قوله: في صورة العيب: (يوم ترده إليه) إشارة إلى أنه يقوم في ذلك اليوم
صحيحا ومعيبا ويلزمك التفاوت، ولا دلالة فيه على تقدير القيمة بالنسبة إلى أي
الأزمنة، إذ هناك أيضا يجئ الوجوه، إلا أنها ضعيفة، إذ تفاوت الصحيح والمعيب
في كل وقت بالنسبة، إلا أن ما به التفاوت يتفاوت بزيادة القيمة ونقصانها، فإن
التفاوت لو كان بمقدار الربع فلو كان القيمة عشرين كان خمسة، ولو كان أربعين
كان عشرة. وبالجملة: ففيه أيضا يجئ الكلام السابق.
وأوفق الأقوال إلى القواعد ضمان قيمة يوم التلف - كما يظهر بعد التأمل - لولا
ظهور هذه الصحيحة في خلافه في الجملة، إلا أنه لا يصادم الفتوى.
و (1) إجراء هذه الأقوال والاحتمالات في سائر موارد الضمان - من الأروش
في الماليات وديات النفوس حيث لا مقدر فيها وفي سائر الاتلافات والنماءات
والمنافع - يحتاج إلى تأمل تام. وهنا أبحاث شريفة تركناها اقتصارا على ما نبهنا
عليه في مطاوي الكلام.
وثالثها: (2) في تعيين القيمة بحسب المكان، وهذا البحث قد أغفله الأصحاب
ولم يتعرضوا له في شئ من هذه الأبواب، مع الاختلاف الفاحش في القيمة
بحسب الأمكنة كالأزمنة.
فهل المراد قيمة مكان الغصب، أو قيمة مكان التلف، أو أعلى القيمتين، أو
أسفل الأمرين (3) [أو قيمة مكان المطالبة] (4) أو قيمة مكان الأداء أي موضع كان،

(1) في النسخ زيادة (يحتاج) والظاهر أنها سهو.
(2) أي: ثالث الأبحاث، تقدم ثانيها في ص: 532.
(4) في (ن) بدل (أو أسفل الأمرين): أو أقلهما.
(4) لم يرد في (ن، د).
536

أو قيمة المكان الذي يجب الأداء فيه بمقتضى الشرع، أو تخير (1) الغاصب بين
القيم، أو تخير (2) المالك أو غير ذلك؟ فالاحتمالات هنا أيضا آتية، وأنت بعد
الإحاطة بما ذكرناه في بحث الزمان تقدر على استخراج الوجوه لهذه
الاحتمالات، والكلام الكلام بعينه، فتدبر.
لكن السبب في ترك الأصحاب هذا العنوان هل هو من جهة تبعيته للزمان؟
بمعنى: أن كل زمان اعتبر فالمكان مكانه أيضا، فمن اعتبر يوم الغصب اعتبر مكانه
أيضا، ومن اعتبر يوم التلف اعتبر مكانه أيضا وهكذا. وهذا الاحتمال بعيد جدا،
نظرا إلى بعد انفهام هذا المطلب مما ذكروه في الزمان، وعدم تصريح منهم في
ذلك، مضافا إلى أن مكان التلف قد لا يكون للشئ قيمة معتد به، مع أن مكان
الغصب له قيمة كثيرة، فلا أظن القائل بيوم التلف يعتبر قيمة مكان التلف، مع أن في
كلامهم ما يدل على وجوب رد المال المغصوب إلى المالك أي مكان شاء وأراد
- كما نشير (3) إليه - إذ (4) لا أقل من وجوب رده إلى مكان الغصب حيث شاء
المالك فهو واجب، فينبغي أن يلاحظ مكان الغصب [فلا يمكن انطباق مسألة
المكان على الزمان، أو أن ذلك من جهة معلومية اعتبار مكان الغصب] فإن
الغاصب مكلف برد عين المال إلى محل الغصب، وكذا قيمته إذا أراد المالك، لأنه
بلد القبض والضمان، فينبغي التأدية فيه، فيلاحظ قيمة ذلك المكان.
والذي أراه: أن دفع القيمة بحسب المكان منوط بالمكان الذي يجب الدفع
فيه، فإن قلنا: إن الاختيار بيد المالك فأي مكان اختاره في الرد فيعتبر قيمته. وإن
قلنا: ليس كذلك بل المعتبر الرد في محل الغصب إلا أن يرضى المالك بما هو أقل
منه مؤنة أو المساوي فالمدار (5) على مختار المالك، فيكون الميزان محل الغصب،
وفي المقام كلام طويل يحتاج إلى بسط في المقال، ويمنع منه ما نحن عليه من
الاستعجال.

(1) في (ن، د): تخيير.
(2) في (ن، د): تخيير.
(3) في (ن): أشير.
(4) في (ف، د) بدل (إذ): أو، وفي (م): و.
(5) لم ترد (فالمدار) في (ف)، والعبارة على فرضي وجودها وعدمها لا تخلو عن إشكال.
537

(العنوان الحادي والسبعون)
(في بيان كيفية التقويم، والعلاج عند
اختلاف المقومين)
539

عنوان
[71]
في ضبط كيفية التقويم وذكر ما هو المناص عند اختلاف المقومين على
حسب الإجمال، وفيه بحثان:
أحدهما: في بيان كيفية التقويم:
وقد تعرض لذلك الأصحاب في كثير من الأبواب، كباب إخراج الزكاة،
وباب الخمس، وباب تبعض الصفقة، وباب الأروش في العقود والجنايات، وفي
باب الغصب، وفي باب إخراج الوصايا من الثلث، وتعرضوا في فروع باب
المزارعة والمساقاة والشفعة والبيع والإجارة والمغارسة، وغير ذلك كثيرا، وفي
الحقيقة مرجعها إلى مباحث خمس:
الأول: قيمة الشئ المستقل والمال المتأصل الغير المرتبط بشئ آخر، كما
في الأموال المتلوفة (1) أو المغصوبة، أو المضمونة غالبا.
والثاني: تقويم البعض من المال المركب المعد (2) شيئا واحدا، سواء كان
واحدا حقيقة فتلف بعضه، أو عرفا، أو بحسب حكم الشرع بورود عقد عليه من
العقود، تبرعيا كان أو معاوضيا (1) وهو باب تبعض الصفقة في سائر أبواب العقود،

(1) كذا، والقياس: التالفة، أو: المتلفة.
(2) كذا، والظاهر: المعدود.
(3) في (ن): متبرعة كانت أو معاوضة، وفي (ف، د): تبرعية كانت أو معاوضة.
540

كما عنونه الأصحاب. وهذا قسمان: مرة يكون أجزاء المركب لها مدخلية في
زيادة القيمة، والهيئة التركيبية كذلك. ومرة ليس للهيئة مدخلية، وإنما قيمة
المجموع مجموع قيم الأجزاء. ويختلف باختلافهما (1) التقويم.
والثالث: كيفية تقويم الأوصاف الفائتة المضمونة، كالصحة والتعيب المذكور
في باب الأروش في مال أو جناية.
والرابع: تقويم النماءات المفروض حصولها في هذه العين وإن لم توجد، كما
إذا أردت معرفة أن ثمرة هذا البستان عشر سنين أي مقدار لها من القيمة، كما
يحتاج إليها في باب الوصايا ونحو ذلك.
والخامس: تقويم المنافع، كمنفعة العبد والدابة عشر سنين، أو هذا العمل
الخاص الصادر من الشخص في هذا المال، كما في صورة بطلان الإجارة الموجبة
للرجوع إلى أجرة المثل ونحو ذلك.
إذا عرفت أن التقويمات دائرة مدار هذه المباحث الخمس، فنقول:
الضابط في تقويم المال المستقل: ملاحظته على ما هو عليه من جميع
الجهات: من زمانه ومكانه ووضعه وجهته وإشاعته وانقسامه، وكونه في ملك الغير
أو في ملك المالك، محتاجا إلى مؤنة في الحفظ والنقل أو غير محتاج، مستحقا
للإتلاف - كما في العبد المرتد - أو غير مستحق، مستحقا للتعيب بقلع ونحوه مع
الأرش أو بدونه، أو (2) مستحقا للبقاء في مال الغير - بأجرة أو بدونها - موجب (لحصول المنافع أو غير موجب، صحيحا أو معيبا، سريع الفساد أو بطيئه، في
معرض التلف أو في مكان محفوظ، أو نحو ذلك من الجهات التي تختلف بها
الرغبات وتتفاوت بها القيم، فإنه يلاحظ ذلك كله ويقوم على مقتضاه كيف كان.
وفي كلام الأصحاب في الأبواب المشار إليها إشارة إلى بعض ما ذكرناه، فراجع.
وأما بعض المال عينا كان أو منفعة: فإن (4) لم يكن الهيئة التركيبية لها مدخلية

(1) في (ن، د): باختلافها.
(2) لم ترد (أو) في (ن).
(3) في (م): موجبا، والصواب ما أثبتناه، من حيث كونه وصفا للبقاء، كما لا يخفى.
(4) في غير (ن): فإذا.
541

في زيادة القيمة، فيرجع، حينئذ إلى قيمة الجزء التالف، فيصير هو كالمستقل في
هذه الجهة. وإن كان للهيئة التركيبية مدخلية في القيمة - كمصراعي باب وفردتي
الخف والنعل ونحو ذلك - فلا ريب أن فوات أحد الجزءين يوجب فوات قيمته
وقيمة الهيئة التركيبية، لزوال الهيئة بزوال أحد طرفيها، ولا ريب في ضمان قيمة
التالف في حالة اجتماعه مع ضمان نقص الجزء الآخر الحاصل بسبب فوات
الاجتماع، ولا فرق في ذلك بين كون الجزءين مضمونين، كما لو كانا مغصوبين أو
مقبوضين بالعقد الفاسد - ومنه الفضولي بلا إجازة فتلف أحدهما في اليد الضامنة -
وبين كون أحدهما مضمونا دون الاخر - كما لو غصب أحد الجزءين وأتلف، أو
قبضهما بعقد فبان بالنسبة إلى أحدهما التالف فاسدا - نظرا إلى أن على الفرض (1 قد فات في يده أحد الجزءين وهيئة الاجتماع وهي مضمونة كالأعيان، وفي
الثاني وإن لم يدخل الاجتماع تحت يده في صورة غصب الواحد لكنه بغصبه
الواحد وإتلافه أتلف الهيئة الاجتماعية، فيضمن الجزء باليد أو بمباشرة الإتلاف،
ويضمن هيئة الاجتماع بالتسبيب في التالف (2).
وإنما البحث في معرفة التقويم، فقيل: يقومان جميعا، ثم يقوم أحدهما
منفردا، فما به التفاوت بين قيمته وقيمة المجموع هو قيمة التالف.
وهذا هو الضابط لباب تقويم الجزء مطلقا، ولكنه في صورة كون الهيئة لها
مدخلية في زيادة القيمة لا يتم قطعا، إذ لو كان المصراعان مجتمعين بخمسة وكان
واحد منهما باثنين علم من ذلك أن قيمة الاخر هي الثلاثة، وليس في الواقع كذلك.
ولكن هذا الضابط ليس لإفادة بيان القيمة في الحقيقة، بل إنما هو لاستعلام
قيمة الفائت من الجزء والهيئة التركيبية، ولا ريب في كون هذا الطريق كافيا في
ذلك، إذ ما به يتفاوت قيمة الواحد الباقي عن قيمة المجموع المركب هو قيمة ما
تلف من جزء وهيئة، وذلك واضح.

) (1) أي: الفرض الأول، وهو صورة كون الجزءين مضمونين.
(2) في (ف، م): التلف.
542

نعم، استشكل في هذا الضابط الشهيد الثاني رحمه الله في صورة ما إذا لم يكن
الجزءان من مالك واحد (1). وهذا الإشكال لا يرد في باب الغصب ونحوه، لأن
ملك كل واحد منهما مستقل بانفراده، وليس هنا هيئة تركيبية مملوكة تالفة
مضمونة. نعم، يرد في مثل ما لو جمعهما الفضولي أو المالك لأحدهما الفضولي في
الاخر في عقد واحد، فلم يجز أحدهما كما هو مورد بحثهم في هذا التقويم غالبا،
فإنه من جهة وقوع العوض في مقابل المجموع المركب لابد من ملاحظة التركيب،
لأنه أيضا مضمون على العاقد الفضولي لفواته بفساد العقد. ووجه الإشكال: إن
مالك كل منهما لا يستحق حصته إلا منفردا، فلا وجه لقيمتهما مجتمعين (2).
وذكر (3) هنا طريقا آخر وهو: أنه يقوم كل منهما منفردا وينسب قيمة أحدهما
إلى مجموع القيمتين، لا إلى قيمة المجموع حتى يندرج فيها قيمة التركيب، وذلك
واضح.
ولا يخفى ما في كلام الشهيد الثاني رحمه الله هنا من الاختلال، نظرا إلى أن هذا
البحث إن كان في صورة غصب ونحوه فقد عرفت أنه ليس هناك هيئة، ولا يحتاج
إلى نسبة أحدهما إلى المجموع، بل يقوم مال كل من المالكين على انفراده،
ويكون مضمونا على الغاصب إن كان تالفا بتلك القيمة، ولا يحتاج إلى جمع ولا
إلى نسبة، وذلك واضح. وإن كان في مقام جمع بينهما بعقد ونحوه بحيث صارت
المقصودة في العوض وإن لم تكن ملكا لمالكي الجزءين بل إنما هي شئ حصل
من ضم الملكين وهو نماء لهما فكيف تقول بقيمتهما (4) منفردين؟ إذ بذل الثمن
ليس في إزاء منفردين، بل في إزاء المجموع المركب، فإذا صار أحدهما غير مجاز
وبطل فيه العقد، فيكون الثمن المبذول بإزاء ثلاثة أشياء حقيقة، وهي: الجزاءان
المنضمان والهيئة الاجتماعية، فلو رد الثمن على المشتري بقدر نسبة قيمة أحد

(1) المسالك 3: 162 (كتاب التجارة).
(2) في غير (م): مجتمعا.
(3) أي الشهيد الثاني قدس سره، انظر المصدر المتقدم.
(4) في (ن): بقيمتيهما.
543

الجزءين إلى قيمتهما منفردين وأبقي الباقي (1) في يد البائع - مثلا - لكان ذلك ظ لما
على المشتري وإعطاءا للبائع ما هو زائد على حقه، لأن البائع مالك لفردة قيمتها
اثنان، وزيد - مثلا - مالك لأخرى قيمتها كذلك، وقيمة المجموع خمسة وقد
ضمهما (2) البائع ودفع المشتري الثمن - مثلا - ستة، فلو لوحظ قيمة الواحد الذي
بطل فيه البيع - لعدم إجازة زيد - منسوبة إلى القيمتين لكان بالنصف، والتفاوت
إنما هو النصف، فيلزم أن يرجع المشتري بثلاثة، مع أن الفائت منه أربعة، لأنه لم
يبق في يده إلا فردة قيمتها اثنان، ويلزم أن يبقى عند البائع ثلاثة، مع أن قيمة ماله
اثنان، والثالث بإزاء هيئة هي ليست ملكا له وقد فاتت على المشتري، فكيف
يأخذ البائع عوضها؟
كما أن على ما ذكره القوم لو قوم المجموع بخمسة وأحدهما باثنين يكون
التفاوت ثلاثة أخماس قيمة المجموع، فلو روجع بتلك النسبة للزم أن يرجع
المشتري على البائع بثلاثة وثلاثة أخماس هي حصة التالف من الثمن، ويبقى عند
البائع اثنان وخمسان، يكون أيضا ظلما على المشتري، لاستلزام فوات الهيئة
التركيبية على المشتري عدم بقاء ماله من الثمن عند المشتري إلا بمقدار قيمة ماله
وقد بقي حينئذ زائدا على ماله.
وهذا البحث غير وارد على القوم، نظرا إلى أن ملاحظة قيمتهما مجتمعين (3)
ثم ملاحظة ما في يد المشتري وهو مال البائع منفردا ورجوع المشتري على
البائع بما به التفاوت بين مال البائع وقيمة المجموع يكون عدلا ليس فيه ظلم على
أحد، فإن الخمسين اللذين بقيا في يد البائع حينئذ إنما هما حصة من زيادة الثمن
الذي هو الستة على القيمة التي هي خمسة بواحد، فإن الواحد لو قسم أخماسا كان
الاثنان بإزاء مال البائع، والاثنان بإزاء مال المالك الاخر، والواحد بإزاء الهيئة التركيبية، لأن قيمتها نصف قيمة واحد من الجزءين، وحيث فات على المشتري ما

(1) في (ن، د): الاخر.
(2) في (ن، د): جمعهما.
(3) في غير (م): مجتمعا.
544

قيمته ثلاثة فقد ارتجع من الثمن ثلاثة وثلاثة أخماس هي مقدار القيمة، وبنسبته
من زيادة الثمن، وبقي عند البائع قيمة ماله اثنان ونسبة الزيادة في الثمن وهي
خمسان، فتدبر (1).
وإلى هذا المعنى يرجع ما تخيله بعضهم (2) طريقا ثالثا، وهو قيمتهما مجتمعين،
ثم تقويم مال البائع منفردا وإبقاء مقدار نسبة ماله إلى قيمة المجموع في يده
وإرجاع التتمة إلى المشتري، فإن الظاهر أن مراد الأصحاب من تقويمهما أحدهما
منفردا هو مال البائع بقرينة قولهم: (فيأخذه من الثمن بتلك النسبة) فلا بحث على
كلمة الأصحاب في حال من الأحوال على ما أوضحنا لك المقال بعون الله الملك
المتعال.
وأما كيفية التقويم في الأوصاف:
فطريقه - كما نص عليه الأصحاب - وورد في صحيحة أبى ولاد (3): تقويم
المال واجدا لذلك الوصف وفاقدا لذلك الوصف والرجوع بالتفاوت، لأنه قيمة
الوصف الفائت، وهذا طريقة استعلامه.
ثم إن كان الضمان في عقد معاوضة رجع من العوض بتلك النسبة، لتراضيهما
على العوض المذكور وكون ذلك العوض قيمة الصحيح في نظرهم، ولو رجع إلى
ما به التفاوت مطلقا لاتفق في بعض الصور الجمع بين العوض والمعوض، كما هو
واضح. وإن لم يكن في عقد معاوضة: - كغصب وإتلاف بجناية ونحوه - فالرجوع
على التفاوت كيف كان.
وهذا الكلام جار في الأوصاف وفي الأجزاء أيضا، فإنهم في باب تبعض

(1) تدبرنا، لكن لم نتحقق الفرق بين الطريقين - بكون أحدهما ظلما والاخر عدلا - بعد كون
مالهما إلى امر واحد، كما اعترف به المؤلف قدس سره.
(2) انظر الكفاية للسبزواري: 89 (كتاب التجارة).
(3) تقدمت في ص: 535.
545

الصفقة يذكرون الرجوع إلى نسبة التفاوت من الثمن حذرا من لزوم الجمع بين
العوض والمعوض في بعض الصور، وفي باب الغصب يحكمون في تلف الأجزاء
بما به التفاوت مطلقا، ونحو ذلك كلامهم في أرش العيب في العقد، وفي أرش
العيب والجناية في الغصب، فراجع.
وأما كيفية تقويم النماءات:
فإن كانت موجودة منفصلة فهي كالمستقل، وإن كانت موجودة متصلة فيقوم
العين فاقدة لها وواجدة لها، فالتفاوت قيمة النماء. وأما في المعدوم - كثمرة البستان
في السنين الآتية - فالذي تعرضوا له في باب الوصية: عبارة عن تقويم العين
مسلوبة المنفعة في تلك السنين المعينة إذا أريد ذلك أو مؤبدا لو أريد ذلك، ومع
منافعها، فالتفاوت قيمة المنافع والنماء.
وأما التقويم في المنافع والأعمال:
فإن كانت موجودة مستوفاة فالمرجع إلى ما هو المعتاد من أجرة المثل - على
ما يشهد به المقومون أو يقتضيه نظرهم - لو لم يكن له معتاد. وأما المعدومة
- كمنفعة سنين معينة للدار أو العبد أو نحو ذلك - فيقوم (1) العين واجدة المنافع مرة
ومسلوبة المنافع المقصودة أخرى، فالتفاوت هو قيمة المنفعة، فتدبر.
وثانيهما: في ذكر اختلاف المقومين في قيم هذه الأمور:
وقد عنونه الأصحاب في باب أرش العيب في البيع، وهو آت في كل مقام
يحتاج إلى التقويم، والبحث في ذلك طويل الذيل، فنقتصر على ما هو المقصود.
فنقول: إذا اختلف المقومون، فإما أن يكون بإخبارهم عن القيمة السوقية - لا
بالإنشاء من أنفسهم - فذلك من باب تعارض البينات، ويجئ فيه بحث ترجيح

(1) في (م): فتقويم.
546

الأعلم والأورع والأكثر - تعبدا، أو من باب الظن - ثم القرعة. وإن كان بإنشائهم
- وهو المراد بالتقويم - فالمحتملات في الحكم هنا أمور:
أحدها: التزام قيمة منتزعة من المجموع، وقد ورد على هذا المعنى رواية (1)
في اختلاف المقومين في الهدي، أو اختلاف قيم الهدي - ولعله في الثاني على
الظاهر - عند تعذر الهدي، فيتسرى إلى سائر المقامات أيضا بعدم الفرق وتنقيح
المناط وبعدم القائل بالفرق على الظاهر بين الأصحاب أو يقال: إن في صورة
اختلاف القيم أو المقومين يعد القيمة المنتزعة قيمة للشئ عرفا، فإن قال أحدهم:
إنه بخمسة والثاني: إنه بعشرة، يعد سبعة ونصف قيمة له، وكذلك ثلث القيم الثلاث
وربع القيم الأربع، ونحو ذلك. ولعل الظاهر أيضا ذلك، فالرجوع إلى القيمة
المنتزعة ليس ببعيد في سائر المقامات.
وثانيها: التخيير، لعدم الترجيح.
وثالثها: لزوم الأعلى، مراعاة لاشتغال الذمة.
ورابعها: لزوم الأقل مراعاة للبراءة الأصلية فيما لم يتيقن به الاشتغال، وغير
ذلك من الاحتمالات: كالقرعة ونحوها، فتدبر.
تنبيه:
حيث إن في باب الأرش لابد من قيمتين: إحداهما للصحيح، والأخرى
للمعيب حتى يلاحظ ما به التفاوت والنسبة، فإذا تعددت القيم هناك يمكن
الانتزاع بطريقين: أحدهما: نسبة مجموع القيم الصحيحة إلى مجموع المعيبة
وملاحظة التفاوت بينهما من الثمن بالنسبة. وثانيهما: نسبة كل من المعيبة إلى
صحيحها وجمع النسب الحاصلة من الملاحظات وانتزاع نسبة من النسب، وبينهما
تفاوت يسير في المقامات، فتدبر.

(1) لم نظفر عليها.
547

(العنوان الثاني والسبعون)
(ضابط بقاء العين وتلفها، وبيان المراد
من التأدية)
549

عنوان
[72]
في بيان التأدية ضبط المراد من بقاء العين وتلفها على الإجمال، لما فيه من
التنبيه على مباحث شريفة وفروع لطيفة.
فنقول: المال المضمون: إما أن يبقى في يد الضامن كما هو عليه في يد المالك
من دون تغير ولا تبدل بزيادة ولا نقيصة. وإما أن يصير في يد الضامن تالفا بحيث
لم يبق منه أثر. وإما أن يصير مستحيلا من جنس إلى جنس مع بقاء أصل المادة.
وإما أن يكون معيبا بجناية أو غيرها. وإما أن يكون فائت المنافع. وإما أن يكون
ممزوجا بغيره. وإما أن يكون مستهلكا في غيره. وإما أن يكون صاحبة النماء (1)
في يد الضامن باستحالة أو غيرها. وإما أن يكون تصرف فيه البائع على نحو لا
يمكن رده إلا بمشقة، كوضعه في بناء أو جعل اللوح في سفينة أو نحو ذلك. وإما أن
يكون خارجا عن يد الضامن بما لا يتمكن من إعادته، كما إذا غصب من يده
غاصب آخر ودفنه في مكان ونسي الموضع ونحو ذلك. وهذه الصور المختلفة قد
عنون فيها الأصحاب وتكلموا فيها ومن أراد التفصيل فليرجع إلى ما كتبوه وبعض
ما كتبناه في التعليقات، ولنقتصر هنا على بيان فوائد:
إحداها (2): أن عدم التمكن من الرد بغصب أو نسيان محل يعد في حكم التلف

(1) كذا في غير (م)، وفيها: بدل (صاحبة النماء): نمى.
(2) في غير (ف): أحدها.
550

في لزوم دفع القيمة، وهو الذي يعبر عنه ب‍ (ضمان الحيلولة) إذ الواجب التأدية،
وليس الممكن هنا إلا القيمة، ولكن قد سبق منا أن القيمة إنما هي قيمة يوم التلف،
كما عليه الأكثر. وهل هو آت في المقام أيضا؟ فتكون القيمة قيمة وقت غصب
الغاصب من يد الضامن وقيمة وقت نسيان الموضع، أوليس كذلك؟ لعدم كون هذا
تلفا في الحقيقة، إذ العين باقية وهي في ملك المالك، ودفع القيمة حينئذ دفع للضرر
وهي مراعاة (1) بعدم التمكن من أصل المال، فلو عاد العين فيرجع المالك عليها،
فاللازم حينئذ لزوم قيمة وقت دفع القيمة، لأنه وقت الانتقال إلى القيمة للحيلولة،
ولا تلف في الحقيقة حتى يتعلق القيمة بالذمة.
وثانيها (2): أن العين إذا كانت مستحيلة لا بنماء موجب لزيادة القيمة - كإنبات
الحب وإفراخ البيض - بل بما يوجب النقص في القيمة - كما لو استحالت ملحا أو
نحو ذلك مما له قيمة في الجملة - ففيه احتمالات:
أحدها: وجوب ردها إلى المالك مع أرش النقص إن كان هناك نقص، وإلا
فمجردا عنه بناءا على أن ذلك عين ماله بالاستصحاب.
وثانيها: وجوب دفعها مع الأرش وإن لم يكن نقص، لأنه بدل عن الصورة
النوعية التالفة عن المالك، ولم يبق إلا الصورة الجسمية، وأما الصورة الحادثة فهي
ليست مالا للغاصب حتى يقابل بدفعها الصورة النوعية الفائتة فيسقط الأرش، بل
هي نماء ملك المالك، بل لو فرض كونه من فعله وملكا له أيضا فلا احترام له حتى
يثبت بذلك عوض يقابل مال المالك، فتدبر.
وثالثها: وجوب دفع المستحال إليه - كالملح - من باب القيمة، ووجوب
تكميله بالزائد من قيمة المستحيل، لأن الاستحالة تخرجه عن ملك المالك
فيتملكه الغاصب بالحيازة، وأما وجوب دفعه قيمة، لما في ذلك من دفع ما هو
أقرب إلى العين، ولأن للمالك تشبثا به في الجملة.

(1) كذا في أصول النسخ، وفي (م): دفع للضرر مراعى بعدم....
(2) كذا في (م)، وفي سائر النسخ: ثانيهما، وهو سهو. والمناسب: وثانيتها.
551

ورابعها: أنها تخرج عن ملك المالك ويملكها الضامن، ويجب عليه دفع المثل
أو القيمة دون المستحال إليه، فيكون هذا بمنزلة التلف.
وخامسها: وجوب دفع المثل أو القيمة، لكون ذلك تلفا، ولزوم دفع المستحال
إليه أيضا لبقاء حق اختصاص للمالك به.
وفي كل من الوجوه والحجج نظر ظاهر لا نطيل الكلام بذكره: والغرض
التنبيه، وفي التحقيق طول.
وثالثها (1): أن الامتزاج في كلامهم موجب للشركة إذا لم يمكن التمييز ولم
يكن المزج بالأردأ. والظاهر في مزج الجنسين المختلفين الرجوع إلى المثل أو
القيمة حتى في مثل العسل والدبس وإن كان المغصوب الدبس. وإن كان
الاختلاط صوريا مع التعين في الواحد (2) والامتياز - كاشتباه الدراهم والطاقات
والأواني - فالظاهر القرعة، فتدبر.
ورابعها: أن التأدية إنما تحصل بنقل المال من حالته المضمونة إلى حالة
أخرى ليس فيها ضمان، وهو إما بنقل المال عينا أو مثلا أو قيمة إلى المالك، أو إلى
وكيله، أو إلى وليه العام أو الخاص. وإما بإبراء المالك ومن له الإبراء الضامن عما
في ذمته. وإما بأداء متبرع أو وكيله عنه. وإما بإتلاف المالك عين المال على نحو
لو كان لغيره لكان عليه ضمان، لا بالغرور - كما لو أطعمه الغاصب إياه من دون
علمه بأنه ماله - فإنه لا يرفع الضمان، لا لما علله الشهيد الثاني رحمه الله بأنه ليس
تسليما تاما لضعفه بالغرور (3) بل هو تام، ولكن الغرور سبب آخر للضمان فكيف
يكون مسقطا؟ فتدبر. وبعبارة أخرى: اتلاف المالك لعين المال وصول إليه ما لم
يكن مغرورا من الضامن، ولو كان مغرورا من غير الضامن لكفى أيضا في براءة
ذمة الضامن وإن اشتغل ذمة الغار. وكذا استيلاء المالك على المال بقوة بدون
رضاء الضامن أو دفعه، فإنه رافع للضمان.
والوجه في ذلك كله: أما في تأدية الضامن إلى المالك، فهو داخل في مدلول

(1) كذا، والمناسب: وثالثتها.
(2) كذا، والظاهر: في الواقع.
(3) الروضة 7: 54.
552

خبر (اليد) وهو المتبادر منه، لا كما زعمه المعاصر النراقي: أنه مجمل من هذه
الجهة (1) بل لا ريب أن المتبادر: التأدية إلى المالك من الغاصب وذي اليد. وأما
تأدية وكيل الغاصب، فلأنه في حكمه بالدليل.
وأما التأدية إلى وكيل المالك أو وليه أو نحو ذلك ممن قام مقامه، فلما دل
على قيامه مقامه عموما.
وأما الإبراء، فلما دل من الأدلة على جوازه، غايته تعارض مفهوم (على
اليد) مع منطوق دليل الإبراء، ويقدم المنطوق. وأداء المتبرع بعد قيام الدليل على
جواز الوكالة كالوكيل في ذلك بالدليل. وإتلاف المالك موجب لرجوع الضامن إلى
المالك لو رجع المالك إلى الضامن، لكون التلف بفعل المالك، وهو مستلزم للتهاتر
والتساقط. واستيلاء المالك وصول إليه، لأنه تخلية قهرية من الضامن، والإجماع
قام على عدم اشتراط الاختيار في أداء الحقوق بالنسبة إلى حصول البراءة وإن
كان شرطا بالنسبة إلى الثواب وغيره، والعمدة: ظهور (حتى تؤدي) في كون
الغرض الوصول إلى المالك ومن بحكمه، وأما كونه باختيار الضامن فلا مدخلية
له، ولنقتصر من الكلام هنا على هذا المقدار.
نعم، هنا فرع، وهو أنه على تقدير ترتب الأيدي الضامنة على مال واحد لو
أبرأ المالك واحدا منهم فهل تبرأ ذمة الباقين لأن الإبراء كالدفع، أو لا تبرأ؟
وتحقيقه يرجع إلى ما ذكرناه من الاحتمالات، فإن قلنا بأن الضامن الواحد لا
بعينه جاء احتمال براءة الكل، بل لزومه على ذلك. وإن قلنا بأن الضامن من تلفت
العين في يده فيصير البراءة بإبرائه دون إبراء غيره. وإن قلنا بأنه كل واحد منهم -
كما هو المختار - فلا يكون إبراء أحدهم موجبا لبراءة الآخرين، لتعدد الحق في
الذمم على ما حققناه، غاية ما قام الدليل على أن دفع الواحد يسقط عن الباقين،
ولم يقم دليل على الإبراء، وكون الإبراء في حكم الدفع مسلم بالنسبة إلى نفس
المبرأ - بالفتح - لا في جميع الأحكام، فتدبر.

(1) عوائد الأيام: 110، العائدة ء 33.
553

عناوين الولايات والسياسات وما يلحقها
من بعض المباحث
(العنوان الثالث والسبعون)
(في ذكر الأولياء والمولى عليهم إجمالا
وبيان مراتبهم في الولاية)
555

عنوان
[73]
لا ريب أن الولاية على الناس إنما هي لله تبارك وتعالى في مالهم وأنفسهم،
وللنبي صلى الله عليه وآله لقوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم (1) وللأئمة (2) عليهم السلام
لأن من كان النبي صلى الله عليه وآله مولاه فعلي عليه السلام مولاه بالنص المتواتر، ولا فرق بينه وبين
سائر الأئمة بضرورة المذهب. ويدل على هذا المجموع قوله تعالى: إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا... (3) الآية.
وأما بعدهم فلا ريب أن الأصل الأولي عدم ثبوت ولاية أحد من الناس على
غيره لتساويهم في المخلوقية والمرتبة ما لم يدل دليل على ثبوت الولاية، ولأن
الولاية تقتضي أحكاما توقيفية لا ريب في أن الأصل عدمها إلا بالدليل. وقد ورد
الدليل كتابا وسنة وإجماعا على ولاية جملة من الناس على بعض منهم، وقد ذكره
الفقهاء في البيع، وفي كتاب الحجر، وفي كتاب النكاح، وفي الطلاق، وغير
ذلك من المباحث على حسب ما يقتضيه المقام، وفي بيان أحكام الأولياء
وأقسامها ومواردها، والمباحث المتعلقة بها: من التعارض والترجيح واشتراط
المصلحة في تصرفهم، أو عدم المفسدة، أو غير ذلك من المباحث المذكورة في

(1) الأحزاب: 6.
(2) في (ن، د): والأئمة.
(3) المائدة: 55.
556

كتب الفروع.
وحيث إنها مبنية على أدلة خاصة في كل مقام وغرضنا في الباب ذكر ما
يجعل قاعدة كلية في الفقه طوينا الكلام في ذلك، لكن نذكر هنا أمورا حتى توجب
التنبه (1) للباقي.
أحدها: أن الولي على مال الغير أو على نفسه - على ما ظهر من استقراء الفقه
وتتبع مقاماته - إنما هو الأب والجد للأب، وفي تعميمه لما كان من طرف أم الأب
أيضا أو اختصاصه بما كان من طرف أب الأب نظر، منشأه: إطلاق النص والفتوى
الظاهر في التعميم، وانصرافه إلى ما كان من طرف أب الأب عند إطلاقه دون أم
الأب.
ولا ولاية للام وإن علت مطلقا، لا في مال ولا في نفس في مقام من
المقامات، ولا للأخ من حيث هو كذلك وإن وردت فيه رواية بالنكاح (2) لكنها
محمولة على صورة كونه وصيا، لمعارضتها بما هو أقوى. ولا لغيره من الأقارب
من حيث القرابة، للأصل وعدم الدليل.
والوصي (3) للأب أو للجد - السابق - والزوج بالنسبة إلى زوجته، والموالي
بالنسبة إلى مماليكهم، والحاكم الشرعي، وعدول المؤمنين، ووكيل الأب أو الجد
أو الوصي أو المولى أو الحاكم أو الزوج، ووكيل الوكيل وهكذا... مع كون الوكيل
مأذونا في التوكيل، ووصي الوصي على تقدير كونه مأذونا في التوصية، والمقاص
للمال بشرائط التقاص.
فأقسام الأولياء بحسب النوع تسعة، ولو أخرجنا الزوج - نظرا إلى كون
البحث في ولاية المال وولاية النفس في النكاح ونحوه، ولا ولاية للزوج على
زوجته كذلك من حيث هو زوج - تكون ثمانية، ولذلك لم يذكره الفقهاء في ذكر

(1) في (ن، د): التنبيه.
(2) الوسائل 14: 211، الباب 7 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ح 2.
(3) عطف على: الأب والجد.
557

الأولياء في مقام من المقامات، فتدبر. ومرادهم من (الولي) في الفقه: ولاية المال
والنفس، وهو خارج عن ذلك، ولو أريد ما يعم ولاية الإطاعة ونحوها لاتسعت
الدائرة ودخلت أشخاص اخر، كالأم والضيف وصاحب المنزل ونحو ذلك، للزوم
إطاعتهم في بعض الأمور، فتدبر.
وثانيها: أن المولى عليهم - على ما يظهر من التتبع -: الصغير، ذكرا أو أنثى،
عاقلا أو مجنونا، رشيدا أو سفيها. والمجنون، مطبقا كان أو أدواريا، بالغا أو
صغيرا. والسفيه، بالغا أو صغيرا، ذكرا أو أنثى. والغائب في بعض الأمور. والممتنع
عن أداء الحق الذي عليه. والبكر وإن كانت بالغة رشيدة على قول.
فالولاية للأب على الصغير في المال والنكاح، وعلى المجنون المتصل جنونه
بالصغر ومطلقا على قول، والسفيه المتصل سفهه بصغره أو مطلقا في قول.
وولاية الجد تجتمع مع ولاية الأب في المولى عليه في النكاح، وكل من سبق
منهما في العقد يمضي تصرفه ويبطل اللاحق، ومع التعارض يقدم عقد الجد هنا
بالنص (1) والإجماع وإن كان [مقتضى] (2) القاعدة البطلان، لعدم إمكان الجمع
وعدم المرجح، وعلى هذه القاعدة تعارض الأولياء مطلقا، حتى في تعارض الجد
مع جد الأب، فإنه لا نص فيه، وإلحاقه بالقياس لا وجه له، فيبقى تحت القاعدة.
وكذلك في المال (3) إلا أنه مع التعارض يبطلان.
والوصي لا ولاية له إلا مع فقدهما، حتى لو كان وصيا لأحد الوليين
الاجباريين على الولاية على الأطفال بطل مع وجود الاخر، لأنه ولي، والوصي
فرع انتفائه (4). وكذا وصي الوصي لا يجتمع مع الولي الإجباري ومع الوصي،
والوجه واضح.

(1) راجع الوسائل 14: 217، الباب 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.
(2) من (م).
(3) عطف على: في النكاح.
(4) في العبارة ما لا يخفى، ولذا غيرها مصحح (م) بما يلي: والوصي لا ولاية له على الأطفال
إلا مع فقد الوليين الاجباريين، حتى أنه لو أوصاه أحدهما بطلت الوصية مع وجود الاخر، إذ
ولاية الوصي موقوفة على انتفائهما معا.
558

والمولى يجتمع مع أب وجد، ولكن ولايتهما تسقط مع المولى وإن كانا
حرين، لأن المملوك لا تسلط لأحد عليه غير مالكه.
ووكيل كل واحد من الأولياء يجتمع معه، وهو تابع لمرتبة الموكل، فيجتمع مع
ما يجتمع به الموكل، ولا يجتمع مع ما لا يجتمع معه.
ولاية الحاكم لا تجتمع مع شئ من الأولياء السابقة، لأنه ولي من لا ولي له.
وولاية العدول لا تجتمع مع الحاكم، ولا مع الأولياء الاخر على ما يجئ
بيانه.
وأمين الحاكم بحكم الحاكم. وولاية الوصي تابعة للتوصية وولاية الموصي.
وفي التوصية على النكاح لمن (1) للموصي ولاية النكاح عليه أقوال معروفة.
والمولى ولي لمملوكه في المال والنكاح وإن قلنا بأن المملوك يملك.
والحاكم ولي من لا ولي له، وفي ولايته على من اتصل جنونه أو سفهه بالصغر
قولان مع وجود الولي الإجباري أو وصيه، وبدونهما (2) فهو له بلا كلام (3) كمن
تجدد جنونه أو سفهه بعد البلوغ والرشد والعقل.
والعدول ولي على ما كان الحاكم وليا عليه مع وجوده، على تفصيل يأتي.
والوكيل ولي على من لموكله عليه ولاية في مال كان أو في نكاح.
وهنا مباحث شريفة متعلقة بالولايات أعرضنا عنها.
وثالثها: أن تصرف الولي مشروط بالمصلحة بالإجماع وظواهر الأدلة، ولأن
المتيقن من أدلة الولايات إنما هو ذلك، إذ الغرض الإصلاح في النفس والمال،
والمولى عليه لنقصه عاجز عن ذلك، ولو كان الإفساد سائغا لما احتيج إلى ولاية.
وفي كون الشرط علمية أو واقعية فيبطل التصرف مع انكشاف عدم المصلحة وإن
اعتقدها عنده وجهان.

(1) في (ن، د): فيمن.
(2) في غير (م): بدونه.
(3) في (ن، د): بدون كلام.
559

إلا في المولى (1) فإن له التصرف كيف شاء، لأنه مسلط على ماله.
وقيل في الأب والجد باشتراط عدم المفسدة وعدم اعتبار المصلحة (2)
ويرشد إلى ذلك إطلاق أدلة ولايتهما، غايته خروج المفسدة بالدليل، ولا دليل
على اعتبار المصلحة. ويدل على ذلك ما ورد من النص على جواز اقتراضه مال
الطفل (3) وعلى جواز تقويم جاريته على نفسه (4) مع عدم مصلحة في ذلك، وظاهر
الوفاق على جوازهما من دون مصلحة بشرط عدم المفسدة.
ولكن كلام الأصحاب في اشتراط المصلحة في تصرف الولي مطلق. نعم، ذكر
عدم اشتراطها في الإجباري الشهيد رحمه الله في قواعده (5).

(1) استثناء عن قوله فيما تقدم: إن تصرف الولي مشروط بالمصلحة.
(2) لم نظفر على قائله.
(3) الوسائل 12: 192، الباب 76 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.
(4) راجع الوسائل 14: 543، الباب 40 من أبواب نكاح العبيد والأماء.
(5) قد عنون الشهيد قدس سره هذه المسألة (في القاعدة: 133) وذكر الاحتمالين ولم يرجح شيئا،
ولم يفصل بين الولي الإجباري وغيره، راجع القواعد والفوائد 1: 352.
560

(العنوان الرابع والسبعون)
(ولاية الحاكم الشرعي)
561

عنوان
] 47 [
الأصل في كل شئ لا ولي له معين من الشرع أن يكون الحاكم وليا له، وهو
المعبر عنه بعموم ولاية الحاكم الذي يشير إليه الفقهاء في كثير من المباحث، كما
في وجوب دفع ما بقي من الزكاة في يد ابن السبيل بعد الوصول إلى بلده إليه، وفي
وجوب دفع الزكاة ابتداءا أو بعد الطلب إليه، وتخيره في أخذ خمس أرض الذمي
أو منفعتها، وولايته في مال الإمام وميراث من لا وارث له، وفي توقف إخراج
الودعي الحقوق على إذنه، وولايته في إجراء الحدود وفي القضاء بين الناس،
وفي أداء دين الممتنع من ماله، وتوقف حلف الغريم على إذنه، وفي القبض في
الوقف على الجهات العامة وفي نظارته لذلك، وتوقف التقاص من مال الغائب
على إذنه ومن الحاضر في وجه، وفي بيع الوقف حيث يجوز ولا ولي له، وفي
قبض الثمن إذا امتنع البائع وقبضه عن كل ممتنع عن قبض حقه، وفي الدين
المأيوس عن صاحبه، وبيع الرهن المتسارع إليه الفساد بإذنه، وتوليه (1) إجارة
الرهن لو امتنعا، وتعيين عدل يقبض الرهن لو لم يرضيا، وتعيينه ما يباع به الرهن
مع تعدد النقد، وفي باب الحجر على المفلس أو على السفيه في قول، وفي قبض وديعة الغائب لو احتيج إلى الأخذ، وفي إجبار الوصيين على الاجتماع

(1) في (ن، د): تولية.
562

الاستبدال بهما، وفي ضم المعين إلى الوصي العاجز، وفي عزل الخائن على القول
بعدم انعزاله بنفسه، وفي إقامة الوصي فيمن لا وصي له أو مات وصيه أو كان
وانعزل، وفي تزويج المجنون والسفيه البالغين، وفي فرض المهر لمفوضة البضع،
وضرب أجل العنين، وبعث الحكمين من أهل الزوجين، وإجبار الممتنع على أداء
النفقة، وفي طلاق زوجة المفقود، وفي إجبار المظاهر على أحد الأمرين، وفي
إجبار المولي كذلك، واحتياج إنفاق الملتقط على اللقيط على إذنه، ونحو ذلك من
المقامات الاخر التي لا تخفى على من تتبع الفقه، فإنهم يقولون بهذه الأمور،
ويتمسكون بعموم ما دل على ولاية الحاكم الشرعي.
ولا ريب أن النائب الخاص الذي يصير في زمن الحضور كما يكون نائبا
لجهة، خاصة - كالقضاء ونحوه - يكون لجهة عامة أيضا، وذلك تابع لكيفية النصب
والنيابة. وعلى هذا القياس في نائب زمن الغيبة، فإنه أيضا يمكن كون ولايته
بطريق العموم أو الخصوص، فلابد من ملاحظة ما دل من الأدلة على ولاية الحاكم
حتى يعلم أنه هل يقتضي العموم أو لا؟
فنقول: الأدلة الدالة على ولاية الحاكم الشرعي أقسام:
أحدها: الإجماع المحصل، وربما يتخيل أنه أمر لبي لا عموم فيه حتى يتمسك
به في محل الخلاف. وهو كذلك لو أردنا بالإجماع الإجماع القائم على الحكم
الواقعي الغير القابل للخلاف والتخصيص. ولو أريد الإجماع على القاعدة - بمعنى
كون الإجماع على أن كل مقام لا دليل فيه على ولاية غير الحاكم فالحاكم ولي له -
فلا مانع من التمسك به في مقام الشك، فيكون كالإجماع على أصالة الطهارة
ونحو ذلك، والفرق بين الإجماع على القاعدة والإجماع على الحكم واضح،
فتدبر. وهذا الإجماع واضح لمن تتبع كلمة الأصحاب.
وثانيها: منقول الإجماع في كلامهم على كون الحاكم وليا فيما لا دليل فيه
على ولاية غيره، ونقل الإجماع في كلامهم على هذا المعنى لعله مستفيض في
كلامهم.
563

وثالثها: النصوص الواردة في هذا الباب:
منها: ما ورد في الأخبار: من كون العلماء ورثة الأنبياء (1) وهذا المعنى ورد
في روايات كثيرة، ولكن الكلام في دلالته (2) على المدعى بعد الإغماض عن
سنده والوثوق فيه إلى شهرة الرواية بل الصحة في بعضها.
فنقول: ظاهر قولهم: (فلان وارث فلان) أن كل ما عنده قد انتقل إليه وصار
عنده، ولا ريب أن الأنبياء كان لهم الولاية على الرعية مطلقا، إلا فيما كان حكم
الله على عدمه، فينبغي ثبوت هذا المعنى في العلماء أيضا، وهو المدعى.
ويرد على هذا القسم من الأخبار إشكالات:
أحدها: أن إضافة الإرث إلى الأنبياء تقضي بكون (3) المراد من (العلماء)
الأوصياء، لأنهم ورثة الأنبياء دون العلماء، إذ الظاهر من الإضافة كونه من دون
واسطة، لا مع الواسطة، ولا ريب أن لكل نبي وصيا وهو وارثه، والعلماء في كل أمة
لا يكونون إلا ورثة الأوصياء وورثة النبي مع الواسطة، فيدور الأمر بين حمل
الوارثية على ما هو بالواسطة، وبين حمل (العلماء) على الأوصياء، ولا ريب أن
التخصيص أولى من المجاز، غايته تساوي الاحتمال المسقط للاستدلال. بل
الظاهر أن حمل (العلماء) على الأوصياء أوضح، سيما بعد ورود تفسيره بهم في
بعض المقامات التي ذكر فيه اللفظ من كتاب (4) وسنة (5).
وثانيها: أن المتبادر من كونهم ورثة الأنبياء كونهم وارثين في العلم ولا بحث
في ذلك، إذ ليس العلم إلا في العلماء، ولا يتخيل حينئذ كون الخبر إفادة للبديهي، إذ الغرض من ذلك بيان شرف العلم حتى لا يتخيل من فقر العلماء وعدم وجود

(1) الكافي 1: 32، باب صفة العلم... ح 2، وص 34 باب ثواب العالم والمتعلم، ح 1.
(2) كذا في أصول النسخ، لكن مصحح (م) قد أنث الضمائر وغير العبارة بما لا حاجة إليه.
(3) في (ن، د): يقتضي كون المراد.
(4) انظر البحار 23: 188، باب أنهم عليهم السلام أهل علم القرآن.
(5) مثل ما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام: (الناس يغدون على ثلاثة: عالم ومتعلم وغثاء، فنحن
العلماء) البحار 1: 187، ح 1 و 194، ح 8.
564

المال عندهم حقارتهم، فأفاد أن العلم كان من صفات النبي وقد ورثه العالم، وكفى
بذلك شرفا له.
وثالثها: أنه على فرض عدم تبادر ذلك كفى في التقييد ما ورد في تتمة
الأخبار بأن الأنبياء لا يورثون دينارا ولا درهما، وإنما يورثون علما (1) فإن
الظاهر من ذلك إرادة العلم من الإرث، وحينئذ لا دلالة فيه على إثبات الولاية
بوجه من الوجوه، فتدبر.
ورابعها: أن المراد من الرواية لو كان كل فرد من أفراد العالم وارثا لكل فرد
من أفراد النبي للزم كون العلماء أزيد علما وولاية من الأنبياء، وليس كذلك بل
الظاهر التوزيع [بمعنى أن] (2) علماء أمة كل نبي ورثة ذلك (3) النبي، فيكون علماء
هذه الأمة ورثة نبينا (4) صلى الله عليه وآله، ومقتضى كون الجماعة وارثا من واحد كون كل
منهم آخذا بحصته من التركة، لا كل واحد آخذا للكل، وإذا كان كذلك فينبغي كون
الولاية منقسمة على العلماء، وأين ذلك من إثبات الولاية للكل على الكل؟ فتدبر.
ويمكن (5) أن يقال: إن الظاهر من الخبر: العموم، ولا وجه لحمله على
الأوصياء، بل يمكن أن يقال: إن الأوصياء داخل في عموم (العلماء) فتكون نسبة
الوارثية إلى المجموع، ولا بحث في كون ذلك حقيقة، فلا يلزم مجاز حتى يرجح
التخصيص عليه، مضافا إلى أن ملاحظة صدر هذه الأخبار يدل على إرادة الأعم
من هذا الخبر، بل يدل على إرادة غير الأوصياء من سائر العلماء، لأنها واردة في
مقام مدحهم والثناء عليهم، فراجع.
وأما انصراف إطلاق التوارث على العلم فممنوع، فكما أن النبي ولي على
رعيته فكذلك ورثته، ولو سلم الانصراف أو أثبت خصوص إرادة العلم بقرينة ذيل
الخبر لقلنا أيضا بدلالتها على الولاية، من جهة أنه من المعلوم أن ولاية النبي على

(1) الكافي 1: 34، باب ثواب العالم والمتعلم، ذيل الحديث 1.
(2) من (م).
(3) في غير (م): وارث لذلك.
(4) في غير (م): وارثا لنبينا.
(5) في (ن): فيمكن.
565

الرعية ليست إلا من جهة علمه بالأحكام والشرائع، فكل من تلقى منه الأحكام
وصار عالما فهو ولي كذلك، فتأمل، فإن في تتميم الجواب عن هذا البحث إشكالا
جدا.
وأما الإشكال من جهة كونهم وارثين متعددين فيتبعض عليهم ما كان عند
النبي ولا يدل على المدعى، مدفوع بأن المتبادر كون كل منهم وارثا لما عند
النبي صلى الله عليه وآله من العلم والحكم دون تبعض ذلك. أو نقول: متى ما ثبت في البعض
ثبت في الكل. وفيه نظر، لأن بعض المقامات قد دل الدليل على ولاية الحاكم فيه.
أو نقول: عدم وجود الفرد المعهود وعدم إمكان إرادة الفرد الغير المعين وعدم
وجود القرينة يوجب الحمل على الاستغراق إن لم يرد الإشكال بوجود القدر
المتيقن المانع من ذلك.
ومنها: ما ورد من أن العلماء امناء (1) أو امناء الرسل (2) كما في بعض آخر، أو
حصون الإسلام (3) كما في قسم ثالث، بتقريب: أن كونه أمينا على الاطلاق أو أمينا
للرسل ليس معناه إلا رجوع أمور الرعية إليهم، وهذا معنى الولاية، ومن ذلك يعلم
معنى (الحصون).
ويمكن أن يقال: إن الظاهر من كونهم امناء: كونهم امناء في الشريعة والعلم،
بمعنى: أن ما جاء به من الأحكام فهو عند العلماء ينبغي أن يرجع إليهم، ولا دلالة
فيه على ولايتهم في المقامات التي هي محل البحث، وكذلك كونهم (حصون
الإسلام) معناه: كونهم حفظة الدين بنشر أحكامه، وأي دخل له بالولاية؟ اللهم إلا
أن يقال: إن كونهم حفظة للشرع وحصنا للإسلام لا يتم إلا بالولاية، وإلا لم يمكن
لهم حفظ الإسلام. وله وجه بعد التأمل، فتدبر.
ومنها: ما دل على أن العلماء خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله (1). والوجه في الدلالة: أن

(1) الكافي 1: 33، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 5.
(2) عوالي اللآلي 4: 77، ح 65، بلفظ (الفقهاء امناء الرسل).
(3) الكافي 1: 38، باب فقد العلماء، ح 3 بلفظ (لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام).
(4) الوسائل 18: 65، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، ح 50، وص 66 ح 53.
566

إطلاق قولنا: (فلان خليفة فلان) أن ما له من التصرف فهو ثابت للخليفة، وذلك
واضح عند أهل العرف ما لم يتقيد بقيد، فقولهم: (إن العالم خليفة النبي صلى الله عليه وآله)
بإطلاقه يقضي بأن كل ما للنبي صلى الله عليه وآله من التسلط والولاية على الرعية فهو وللعالم
ثابت، إلا ما دل الدليل على إخراجه.
ولكن تجئ فيه المناقشة السابقة من ظهور إرادة الأوصياء من (العلماء)
لأنهم الخلفاء، والعلماء خلفاء الخلفاء. إلا أن يجاب بأن المراد من (العلماء) ما
يعم الأوصياء، ويصدق الخلفاء على المجموع من دون شبهة. ويبقى الإشكال في
انصراف ذلك إلى الخلافة في العلم لا مطلقا. وهو مع أنه يجاب بما تقدم بعيد في
المقام، بل الظاهر الإطلاق.
نعم، هنا بحث يرد على هذا الخبر وعلى ما سبق وعلى ما يجئ بعد هذا من
الأخبار: أن مساقها إنما هو في مقام بيان فضل العلماء، وليس في مقام إثبات
الولاية لهم على الناس، فلا وجه للتمسك بها في الباب.
نعم، يضعف هذا الإشكال في قسمين من هذه الروايات: أحدهما: ما اشتمل
على لفظ (الخلفاء). وثانيهما: ما اشتمل على أنهم (وكلاء) (1) وأما في سائر
ما ذكرناه ونذكره فهذا البحث آت فيه مع ما في دفعه من الإشكال.
ومنها: ما دل على أن العلماء كسائر الأنبياء (2) أو أنهم كسائر الأنبياء في بني
إسرائيل (3) بتقريب: أن النبي لا شبهة في ولايته كلية، ومقتضى التشبيه مع عدم
تعيين وجه الشبه كونهم كالأنبياء في كل ما هو من صفات النبي إلا فيما خرج
بالدليل، ومن جملة صفاتهم الولاية.

(1) لم نقف على رواية مشتملة على اللفظ المذكور.
(2) المراد به ظاهرا ما ورد في نسخة من جامع الأخبار عنه صلى الله عليه وآله بلفظ (فاني أفتخر يوم القيامة
بعلماء أمتي، فأقول: علماء أمتي كسائر الأنبياء قبلي) جامع الأخبار: 45، الفصل العشرون.
(3) عوالي اللآلي 4: 77، ح 67، بلفظ (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)، وفي عوائد
النراقي قدس سره عن الفقه الرضوي أنه عليه السلام قال: (منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في
بني إسرائيل) عوائد الأيام: 186.
567

ويجئ هنا - مضافا إلى كونه مسوقا لبيان الفضل - أن الحمل على العموم
فرع عدم وجود الجهة الظاهرة في التشبيه، والظاهر هنا التشبيه في العلم، فتدبر.
ومنها: ما دل على أن العلماء خير الخلق بعد أئمة الهدى (1) أو فضل العلماء
على الناس كفضل رسول الله صلى الله عليه وآله على أدناهم (2) أو أن فضلهم على سائر الناس
كفضل الآخرة على الدنيا (3) أو أن فضلهم على سائر الناس كفضل الشمس على
سائر الكواكب (4) أو أن الله تعالى فضلهم على جميع خلقه بعد النبيين (5).
وهذه الروايات لا دلالة فيها على الولاية، نظرا إلى أنها مسوقة لبيان الفضل
لا لبيان الولاية، ولا نسلم الملازمة بين الفضل والولاية، بمعنى كون كل فاضل وليا
على مفضول، سيما إثبات الولاية العامة المطلقة التي نحن بصددها. نعم، كون كل
ولي فاضلا قضى به قبح ترجيح المرجوح أو المساوي، وأما كون كل فاضل وليا
فلا دليل عليه، والأخبار لا دلالة فيها على أزيد من التفضيل، وهو غير المدعى،
وليس بمستلزم له.
مضافا إلى أن الخبر الأخير والخبر الثاني لا يمكن حملهما على العلماء، بل
الظاهر أن المراد منهما: الأئمة، لأنهم خير جميع الخلق بعد النبيين، وفضلهم على
الناس كفضل رسول الله صلى الله عليه وآله، دون سائر العلماء، فلو حمل عليهم لزم حمل هذا
الكلام على المجاز والمبالغة والتخصيص في لفظ (جميع الخلق) كما أنه لو حمل
على الأئمة لزم تخصيص العلماء أو إرادتهم منه مجازا، وأحدهما ليس بأولى من
الاخر.
إلا أن يقال في دفع الإشكال عن الأخير: بأنه لو أريد الأئمة فلا وجه لقوله:
(بعد النبيين) لأن أئمتنا أفضل من أنبياء بني إسرائيل، كما ورد في الأخبار (1)

(1) الاحتجاج 2: 458 (احتجاجات الإمام الحسن العسكري عليه السلام).
(2) مجمع البيان 9: 253، ذيل الآية 11 من سورة المجادلة.
(3) البحار 2: 25، الباب 8 من كتاب العلم، ح 91، عن منية المريد، قال مقاتل بن
سليمان: وجدت في الإنجيل: أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام... الخبر.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 3.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 3.
(6) راجع البحار 26: 267، باب تفضيلهم عليهم السلام على الأنبياء.
568

فلابد من إرادة العلماء هنا.
ولا يمكن أن يقال: إنه لو أريد العلماء لزم تفضيلهم على الأئمة عليهم السلام أيضا، إذ
لم يستثنهم في الرواية. لأنا نقول: استثناء النبيين إثبات (1) لهم، لأنهم بعد خاتم
الأنبياء وقبل سائر النبيين في المرتبة، والعلماء إذا كانوا بعد النبيين فكانوا بعد
الأئمة أيضا، فتدبر.
نعم ما دل على كون فضلهم كفضل رسول الله صلى الله عليه وآله يدل على إثبات الولاية
بظاهر التشبيه إن لم يجئ فيه ما مر من الإشكال سابقا.
ومنها: ما دل على أن العلماء حكام على الملوك، كما أن الملوك حكام على
الناس (2) أو على أن العالم حجة الإمام على الناس (3) وأنهم كافلون لأيتام آل
محمد صلى الله عليه وآله (4).
وظاهر الخبر الأول إثبات ولاية الحكومة لهم على من هو حاكم على
الناس (5)، وهذه العبارة تدل على كونهم حكاما على الناس بالأولوية، بل مثل هذه
العبارة يساق في العرف لإفادة ذلك.
ولكن كونهم حاكمين إنما يقتضي الولاية في القضاء والفتوى لو سلم ذلك،
وهما لا بحث فيهما، وأما في غيرهما فلا يدل على ذلك. وكذلك كونه حجة على
الناس يراد به ما يحتج به عليهم يوم القيامة بالإبلاغ والإنذار حتى لا يبقى عذر
في التقصير، ولا يمكن الجواب بعدم العلم والاطلاع أو الحجة، بمعنى كون ما
يقوله العلماء حقا يجب اتباعه كالإمام، وأين ذلك من ثبوت الولاية؟ وكونهم
كافلين للأيتام من آل محمد صلى الله عليه وآله كناية عن تعليمهم الأحكام والشرائع الموجب

(1) في هامش (م): استثناء - خ ل.
(2) مستدرك الوسائل 17: 316، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 17.
(3) الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9.
(4) مستدرك الوسائل 17: 318، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 122.
(5) في غير (م): حاكم للناس.
569

لتربيتهم في بواطنهم بعد انقطاعهم عن الأب الباطني. إلا أن يقال: إن ذلك دال
على كون النبي والإمام بمنزلة الأب، وكون العالم بمنزلة وصي الأب، وهذا مثبت
للولاية عليهم.
ولا يخفى ما في هذه الأخبار الثلاثة من الظهور في الولاية، فتدبر.
ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة، ورواية أبي خديجة (1) الدالتين على كون من
عرف أحكام الأئمة أو عرف شيئا من قضاياهم حاكما أو قاضيا على الناس
ويكون الرد عليه كالرد على الإمام، والرد عل الإمام على حد الشرك بالله. وهذه
الأخبار أيضا لا تقتضي (2) الولاية إلا في الفتوى والقضاء، ولا تدل (3) على كونه
وليا مطلقا له التصرف كيف شاء. نعم تدلان على اعتبار حكمهم وفتواهم كما
استدل بهما الأصحاب، مع ما فيهما من البحث والإشكال.
ومنها: ما دل على أن العلماء أولياء من لا ولي له، وأن مجاري الأمور
والأحكام على أيدي العلماء الأمناء على الحلال والحرام كما ورد في الخبر
الطويل (4). وهذا الخبر مع جبره بالفتوى وبالاجماع المنقول يكفي دليلا على كون
الحاكم وليا في مقام ليس هناك من الشرع ولي بالخصوص، ويدل على كون
جريان كل أمر من أمور المسلمين - من نكاحهم وعقودهم وإيقاعاتهم
ومرافعاتهم وسائر أمورهم من الأخذ والدفع وغير ذلك، وكل حكم من أحكامهم -
على أيدي العلماء خرج ما خرج بالدليل، وبقي الباقي تحت القاعدة المدلول
عليها بالنص الموافق لعمل الأصحاب، فتدبر. هذا ما يمكن أن يجعل دليلا في هذا
الباب من النص والفتوى.
وقال الشهيد رحمه الله في قواعده في الضابط في ولاية الحاكم: إن كل قضية وقع

(1) الوسائل 18: 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1، وص 100، ح 6.
(2) كذا في أصول النسخ، والمناسب: وهذان الخبران أيضا لا يقتضيان. وقد غير مصحح (م)
هذه العبارة من أصلها.
(3) كذا، والمناسب: ولا تدلان.
(4) تحف العقول: 238.
570

النزاع فيها في إثبات شئ أو نفيه أو كيفيته، وكل أمر فيه اختلاف بين العلماء
كثبوت الشفعة مع الكثرة، أو احتيج فيه إلى التقويم كالأرش وتقدير النفقات، أو
إلى ضرب المدة، كالإيلاء والظهار، أو إلى الإلغاء (1) كاللعان فهو إلى الحاكم، ومما
يحتاج إليه أيضا القصاص نفسا وطرفا، والحدود والتعزيرات، وحفظ مال الغائب
كالودائع واللقطات (2) انتهى كلامه رفع مقامه.
وجعل الفاضل المدقق المعاصر في عوائده وظيفة الحاكم كلية في أمرين:
أحدهما: أن كل ما كان للنبي أو الإمام فلهم ذلك، إلا ما دل الدليل على
إخراجه. وثانيهما: كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم لابد من الإتيان
به ولا مفر منه إما عقلا أو عادة، من جهة توقف أمر المعاش أو المعاد لواحد أو
لجماعة عليه، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به شرعا، من جهة ورود أمر به أو
إجماع، أو نفي ضرر أو ضرار، أو عسر أو حرج، أو فساد على مسلم، أو ورود
الأذن فيه من الشارع أو دليل عليه، ولم يجعل وظيفة لمعين واحد أو جماعة، ولا
لواحد لا بعينه، بل علم لأبديته والأذن فيه ولم يعلم المأمور به والمأذون، فهو
وظيفة الفقيه (3) انتهى كلامه رفع مقامه.
وحاصل غرضه: ما علم من قواعد الشرع لابدية الإتيان بشئ مع عدم
معلومية الآتي به من الشرع، فينبغي أن يأتي به الحاكم.
واستدل عل الأمر الأول بالإجماع وقد قدمنا ذكره، وبما مر من الأخبار وقد
عرفت قصور دلالتها على هذه الكلية، إلا فيما دل على الخلافة، ومثله الخبر
الأخير وقد عرفت الإشكال.
واستدل على الثاني بالإجماع أيضا وقد عرفته، وبأن كل أمر كان على ما
فرضناه لابد أن ينصب الشارع له شخصا، والمفروض أنه غير معلوم والفقيه صالح
له، وما فيه من الجلالة كاف في كونه منصوبا، مع أن كل من فرض وليا فالفقيه

(1) في (د) والمصدر: الألقاء.
(2) القواعد والفوائد 1: 405، القاعدة 147.
(3) عوائد الأيام: 187.
571

داخل فيه، وغيره مشكوك ينفى بالأصل.
ويتطرق على ذلك أنه لا نسلم كون الشخص منصوبا له، إذ يمكن كونه من
قبيل الواجبات الكفائية التي لا تعيين فيها، بل هو من الواجبات الكفائية قطعا،
لأن سقوط هذا التكليف بفعل واحد من العلماء عن الباقين ليس محل بحث،
للإجماع عليه، فلم لا يكون واجبا كفائيا يخاطب به كل من علم وقدر عليه؟ ولا
دخل في ذلك لحكام الشرع.
ولو قيل في الجواب: إنا قائلون في الواجب الكفائي على تعلق الخطاب على
كافة المكلفين إلا أنه يسقط بفعل البعض، فيكون هنا أيضا قد تعلق الخطاب على
سائر المكلفين ومنهم الحكام، والتعلق بالعلماء مقطوع به، ولكن نشك في كون
إتيان الباقين به مسقطا عنهم وعدمه، والأصل عدم السقوط، فلابد من مباشرتهم
أو قيام دليل على السقوط بفعل، لورد (1) عليه أمران:
أحدهما: أن الواجب الكفائي ما علم فيه انحصار الغرض في شئ، وليس
سقوطه إلا لحصول الغرض والمصلحة الواقعية ولزوم اللغو في الإتيان بعد ذلك،
فلو فرض أن ما فرضناه من الأمر مما لابد منه لأمر معاد أو معاش فلابد من إتيانه
ليتم النظام، وكل من أتى به فقد حصل الغرض، ويلزمه السقوط، للعلم بزوال ما
كان داعيا له على ما فرضناه بعد العلم القطعي بأن المراد ليس مباشرة كل أحد.
وإن قلت: إنه لا يقدر على ذلك غير الحاكم.
قلت: لابد على هذا أولا: من إضافة كونه غير مقدور لغير الحاكم أيضا في
الضابط. وثانيا: كل من لا يقدر لا يجب عليه، وهو لا ينافي الوجوب الكفائي على
الكل، إذ هو أيضا مشروط بالعلم والقدرة كالواجب العيني. وثالثا: نمنع كونه غير
مقدور إلا على الحاكم، فإن كل ما يقدر عليه الحاكم يقدر عليه عدول المسلمين،
فتدبر.
وثانيهما: أنه لو فرض عموم الخطاب للمكلفين فلا وجه للشك في السقوط

(1) جواب: (ولو قيل).
572

بفعلهم، إذ لا شبهة في كون إتيان المكلف بالمأمور به موجبا للسقوط.
وإن قلت: إن غير الحاكم ليس بمكلف.
قلنا: إن الفرض عدم تعيين المكلف، فمن أين علمت كونه مكلفا؟ فإن كان من
عدم التعيين فذلك يوجب الكفائية الثابتة لكل أحد، وإن كان من قصد الشارع
خصوص الحكام يلزم أولا: خلاف الفرض، لأن كلامنا في مقام لم نعلم من كلف
به مطلقا وعلى هذا الفرض يصير المكلف معلوما. وثانيا: لا ريب أن مقتضى
القواعد عدم قصد خصوصية الحاكم. ولا يمكن المعارضة بأصالة عدم قصد
التعميم، إذ التعميم يكفي فيه عدم قصد الخصوصية، ولا يحتاج إلى قصد التعميم
حتى يعارض بذلك. وبعبارة أخرى: متى ما كان التكليف ثابتا ولم يعلم المكلف
فالظاهر تساوي الكل في ذلك، ولا يحتاج إلى دلالة على قصد التعميم. مع أن
مقتضى أدلة الاشتراك بعد عدم التعيين عموم الحكم لكل مكلف، فلو فرض
تعارض قصد التعميم مع قصد الخصوصية وتساقطهما تقوم أدلة الاشتراك في
التكليف حجة على التعميم.
ومن ذلك يندفع احتمال القول بأن الإجمال يوجب الأخذ بالمتيقن، لعدم
الإجمال أولا بعد معلومية الغرض وإمكان حصوله من أي مكلف كان. ولو فرض
إجمال فهو وإن اقتضى الأخذ بالمتيقن - بمعنى لزوم مباشرة الحكام للشك في
سقوط فعل غيرهم عنهم - لكن ما دل على الاشتراك في التكليف يوجب كونها
كفائية على الجميع المستلزم للسقوط بفعل أي منهم كان.
ولو قيل: إن مقتضى الفرض ثبوت هذا الإتيان على أحد من المكلفين، ولو لم
يلزم من ذلك الوجوب على الحكام فلا أقل من الجواز، إذ هو أيضا كسائر الناس
وليس أقل منهم، وإذا ثبت الجواز ثبت الوجوب بالإجماع المركب.
قلنا: إن أريد بذلك الإجماع الدال على الولاية، فلا وجه لتسميته بالإجماع
المركب، لأنه بسيط. وإن أريد من ذلك: الملازمة بين الجواز والوجوب، قلنا:
الظاهر الجواز له ولغيره، فكذا الوجوب، ومقتضاه الوجوب الكفائي وقد سلمناه،
573

وأين ذلك من إثبات الوجوب والتعيين على الحكام بالخصوص؟ فتدبر. مضافا
إلى أن مجرد صلاحية الفقيه للنصب لا تقتضي التعيين، وجلالته لا تفيد ذلك، إذ
الجلالة قد توجب التعيين على غيره، إذ ليس جميع ما فرض أشد لياقة بالجليل
من غيره، بل فيه ما هو بالعكس.
وبالجملة: فالعمدة: الإجماع وما مر من الأخبار على ما ذكرناه في بعضه،
ولولا ذلك لما اقتضى كون الشئ مما لابد منه ثبوته على الفقيه، بل كان
سبيله كسبيل الواجبات الكفائية.
نعم، لو أريد إثبات جواز مباشرة الحكام أو وجوبها عليهم ولو كفاية - وبعبارة
أخرى: عدم المنع عليهم في هذا التصرف - لأمكن إثباته على هذا الفرض، وهو
ليس محل البحث، فتدبر.
ويمكن التمسك في إثبات ولاية الحاكم بعموم (قاعدة الإحسان) السالفة (1).
ولكنه لا يدل على الولاية أولا - بل يدل على عدم الضمان، لأن ذلك لمحض
الإحسان - وعلى الانحصار ثانيا. ودعوى كون تصرف الحاكم إحسانا دون غيره
تحكم.
وبعموم قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (2) وهو
أيضا غير دال على الانحصار. مضافا إلى أن الفرض: إثبات الولاية من جهة
الحكومة، لا من جهة الإيمان والإحسان، وهما لا يدلان على المدعى.
ومن ذلك ظهر: عدم إمكان التمسك بعموم أدلة الحسبة والمعاونة على البر
والتقوى أيضا، إذا العمدة هنا: إثبات الولاية للحكام من حيث هم كذلك، وهذه
الأدلة تقضي باشتراك الغير معهم، مع أن المدعى نفيه.
نعم، بقي في الأخبار إشكال وهو: أن أغلبها إنما هو بلفظ (العلماء) والظاهر
منه اعتبار العلم في ذلك، وعلماؤنا يدور مدارهم على الظنون، فلا وجه لإدراجهم

(1) تقدم البحث عنها في العنوان: 64.
(2) التوبة: 71.
574

تحت الأخبار.
ويمكن الجواب أولا: بأنه يكفي في إطلاق (العلماء) عليهم كونهم عالمين
بالبعض. وثانيا: بأن كل ظنونهم منتهية إلى العلم. وثالثا: أن متى ما ثبت في العالم
بالعلم الوجداني ثبت في المجتهد بالإجماع المركب. ورابعا: أنه لو لم يكن المراد
به ما يعم المجتهدين لم يكن للأخبار مورد في مثل زماننا، مع أنه مسوق لبيان
حكم هذا الزمان، إذ لا حاجة إليهم يعتد بها في زمن حضور الإمام عليه السلام، فتأمل
جدا.
وبقي هنا كلام، وهو أن الحاكم إذا عرض له جنون أو إغماء زالت عنه الولاية،
وإذا عاد إلى الكمال عادت الولاية، مع أن أمينه لو عرض له جنون أو إغماء زالت
ولايته، ولا تعود بالكمال، بل بنصب جديد، وكذلك النائب الخاص للأمام إذا زال
عنه الجنون والإغماء لم تعد إليه الولاية إلا بنصب جديد من الإمام، فأي فرق بين
المقامين؟
وربما يتوهم أن الفارق هنا هو العموم والخصوص، فإن الإمام عليه السلام إذا كان
غرضه نصب كل من هو بشرائط الفتوى فيذكره بلفظ عام، كقوله: (من كان على
هذه الصفة فهو وكيلي وخليفتي) ولازم هذه العبارة أنه كلما اتصف بالصفة دخل
تحت الوكالة، وكلما خرج عن الصفة خرج عن الوكالة، وإذا عاد إلى الوصف عاد
أيضا، لشمول النصب والتوكيل. وإذا كان المراد نصب شخص، فيقول: (أنت
وكيلي) وهو مستجمع للشرائط، فإذا عرض له الجنون انعزل، ولا وجه لعوده بعد
ذلك إلا بتوكيل جديد، لأن اللفظ الأول لم يشمل المقام، ولو كان شموله بإطلاقه
فقد بطل العقد ولم يبق له أثر.
ولا يمكن أن يقال: إنه اقتضى وكالة هذا الشخص دائما خرج حالة الجنون
بالدليل وبقي الباقي.
لأنا نقول: دلالته على توكيل هذا الشخص دائما فرع تعلقه بالشخص،
وعروض المانع أخرجه عن أهلية التعلق، فإذا لم يتعلق بالشخص فبطل العقد
575

فبطل إطلاقه ودوامه. بخلاف اللفظ العام، فإنه لم يتعلق بهذا الشخص، بل تعلق
بالموصوف بهذه الأوصاف أي شخص كان، وعروض المانع لهذا الشخص لا
يقدح في قابلية الكلي من حيث هو كلي، فالعقد (1) والتوكيل باق على حاله، وكلما
عاد الفرد إلى الاتصاف بالكلي تعلق به الوكالة، من دون فرق بين الابتداء
والاستدامة.
ولكن يشكل بإمكان فرض نظير ذلك في النائب الخاص، فإن أحوال الفرد
كالأفراد للكلي، فيمكن القول في الوكيل الخاص: ب‍ (أنك وكيلي كلما كنت عاقلا
رشيدا) أو (أنت وكيلي إلا حالة الجنون والإغماء) فيكون نصبا للشخص
الموصوف بالصفة، فكلما اتصف دخل تحت اللفظ، وكلما عرض المانع خرج، ولا
مدخل للكلي والجزئي في ذلك، فينبغي صحة هذا الفرض [أيضا] (2) مع أنه إذا
عرض الجنون للنائب الخاص لا يعود إلا بالنصب، ولا ثمرة لقوله: (كلما صرت
عاقلا فأنت وكيلي) بل هذا باطل من أصله، كما نبينه.
ولا يمكن الفرق بأن الكلي أمر قابل لاعتبار الصفات فيه وملاحظة الأفراد،
بخلاف الفرد، فإنه لا يمكن جعله كليا، فإما أن تكون الوكالة متعلقة بهذا الشخص
أم لا.
لأنا نقول: لم لا تكون الوكالة متعلقة بالمفهوم المركب من الشخص والصفة؟
وهو قابل للوجود والعدم، فكلما وجد تعلق، وكلما عدم زال، كما في النائب العام
بعينه.
مضافا إلى أن قاعدة تعلق الوكالة بالكلي كقوله: (من لبس ثوبا أبيض فهو
وكيلي) أو (من كان عنده ألف درهم فهو وكيلي) ليس التعلق بكل ما تجدد، بل
الظاهر انحصار التعلق بكل من كان متصفا بالصفة عند الإنشاء، فلا يكون من
حصل بعد الإنشاء ألف درهم أو لبس ثوبا أبيض وكيلا بالعقد السابق، فقوله: (كل
من كان على وصف العلم فهو وكيلي) اقتضى وكالة من هو عالم في ذلك الوقت،

(1) في (م) فكل من العقد.
(2) لم يرد في (ن، د).
576

ولا يسري إلى كل من حصل له العلم بعد ذلك.
وسر ذلك كله: ما مضى منا في بحث إبطال التعليق للعقود (1) وفي بحث
اشتراط التنجيز (2) وفي بحث بطلان العقود الجائزة بالموت والجنون والإغماء (3) أن العقد لابد من تعلقه بشئ متصل بآن العقد قابل لتعلقه به - على اختلاف أحكام
العقود في ذلك - والتوكيل يقتضي كون الوكيل بالغا عاقلا، فإذا كان كذلك حال
العقد تعلق به، وإذا زال بطل، لعدم شمول التوكيل إلا حال العقل، وإذا عاد العقل لا
تعود الوكالة، لبطلان العقد السابق. وفرض العموم فيه بأنه (كلما صرت عاقلا
فأنت وكيلي) ينحل إلى وكالة معلقة، وقد عرفت أن التعليق مبطل، وليس هذا إلا
كقولك: (إن جاء زيد فأنت وكيلي) قاصدا تحقق الوكالة في ذلك الوقت، لا
التصرف، فإن تعليقه مع تنجيز التوكيل لا بأس به. ولا فرق في لزوم التعليق بين
الخاص والعام، فلو عمم أيضا لم يتعلق إلا بالمتصف حين العقد، ويصير بالنسبة
إلى غير المتصف تعليقا، كما لو أريد به حالة عود العقل على هذا المتصف بعد
عروض الجنون عليه صار تعليقا أيضا، إذ معناه حينئذ: أيها العاقل إذا جننت ثم
عقلت فأنت وكيلي، وهو باطل بالضرورة، فالوكالة الأولى زالت بالمانع، والثانية
غير صحيحة للتعليق.
وإذا تأملت في أطراف هذا الكلام - الذي هو من مطارح الأعلام ومزالق
الأفهام - عرفت أن الفرق ليس بذلك، ولكن قد أشرنا فيما سبق أيضا - في بحث
بطلان العقد الجائز بالجنون والإغماء - أن تفويض أمر إلى آخر يصير بأقسام
ثلاثة:
مرة: يكون من باب النيابة - كالتوكيل - ولازمه: العزل وعدم العود إلا بالنصب
الجديد، وكونه تابعا للموكل معزولا بعزله وبانعزاله وبموته وجنونه وإغمائه وإن
بقي الوكيل عاقلا.

(1) العنوان: 48.
(2) العنوان: 40.
(3) العنوان: 56.
577

ومرة: يكون من باب النصب، بمعنى كون التفويض موجبا للولاية - كالوصية -
فإنه إحداث ولاية لا استنابة، ولذلك يبقى التصرف وإن خرج المستنيب عن أهلية
التصرف بالموت.
ومرة: يكون بطريق بيان الحكم الشرعي، وهو: أن هذا الفرض من الموضوع
حكمه الولاية، وهذا لا يتبع الأصل في البقاء والعدم، ولا يصير بالخروج عن
الوصف معزولا بالمرة، بل كلما عاد عاد، كسائر الموضوعات إذا تبدلت ثم
عادت، فإن الخمر إذا صارت خلا حلت، وإذا عادت خمرا حرمت، لدوران
الحكم مدار الاسم.
والظاهر أن ولاية الحاكم الشرعي من قبيل بيان الحكم، وجعل المعصوم
كاشف، لا من قبيل التوكيل، ولا من قبيل النصب وإن كان قوله عليه السلام في الخبر: (إني
جعلته عليكم حاكما) (1) يدل على النصب، والمقام مقام تأمل وتدبر. ويمكن
القول بالتوكيل والتمسك في عود الوكالة بالإجماع. وهو بعيد.
وبالجملة: نصب الحاكم دائر مدار هذه الأمور الثلاثة، وإن كان أظهرها ما
ذكرناه.

(1) الوسائل 18: 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
578

(العنوان الخامس والسبعون)
(ولاية عدول المؤمنين)
579

عنوان [75]
إذا تعذر الأولياء أو فقدت حتى الحاكم، فهل الولاية للعدول مطلقا، أوليس
لهم مطلقا، أو فيما لا يمكن التأخير فيه لهم ولاية دون غيره؟ - ويرجع إلى الثاني
في وجه - وجوه، بل أقوال، وهنا بحثان:
أحدهما: في جواز تصرف العدول فيما هو وظيفة الحاكم لو كان موجودا، مع
ضيق الوقت وعدم إمكان التفصي، كالصرف من مال اليتيم لنفقته بمقدار يعيش به،
ونحو ذلك. وهذا مما لا كلام في جوازه على الظاهر للأصحاب، ويدل على هذا
الجواز وجوه من الأدلة:
الأول: أن هذا التصرف - مع عدم إمكان التأخير وعدم إمكان الوصول إلى
الحاكم - داخل في باب الإحسان، إذ هو دفع مضرة لا مدفع لها إلا ذلك، وهو
داخل في الإحسان من دون تشكيك، وكل إحسان جائز بالعقل والنقل، ولا
ضمان عليه أيضا.
والثاني: قوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن (1) فإن
ظاهر الاستثناء كون القرب إذا كان حسنا جائزا، وهنا كذلك. وليس الخطاب
للحكام خاصة، بل ظاهره العموم، وإذا ثبت ذلك في مال اليتيم ثبت في غيره
بالأولوية وبعدم القول بالفصل.

(1) الأنعام: 152، والأسراء: 34.
580

والثالث: قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى (1) وأقله الاستحباب،
فضلا عن الجواز، والمفروض: أن فرضنا هذا داخل في الإعانة على البر من دون
شبهة، وغير ذلك من أدلة الحسبة والمعروف، كلها دالة على ذلك.
والرابع: خصوص الخبر في باب الوصية - في من مات ولم يعين وصيا -
قال عليه السلام ما معناه: (إن قام رجل ثقة فباشر ذلك، فلا بأس به) (2) وإذا ثبت في هذا
الباب فلا قائل بالفرق. ولا يرد الإشكال في أن ذلك إذن من الإمام عليه السلام والكلأ م
فيما إذا لم يكن هنا حاكم، لأن الظاهر من الخبر كونه بيانا للحكم الشرعي، لا إذنا
في واقعة خاصة، وله نظائر كثيرة، منها قوله: (من أحيى أرضا ميتة فهي له) (3) فإنه
حكم، لا إذن في الأحياء، فتبصر.
والخامس: ظهور إجماع الأصحاب على الجواز من دون نكير، كما يظهر بالتتبع.
السادس: أن هذه الواقعة لا بحث في كون واحد مكلفا أو مرخصا في
مباشرتها من الشارع، لما قرر أن الواقعة المحتاج إليها قد جعل الشارع ما هو
المخلص والمناص قطعا فيه (4) وحيث لا تعيين فيتخير الكل في ذلك كفاية، ومنهم
عدول المؤمنين، ثم نقول: قد دل الشرع على عدم ولاية الكافر وعدم أمانة الفاسق
مطلقا، فلا يجوز كونهم (5) مرخصين من الشرع في ذلك، فينحصر في عدول
المؤمنين، وهذا مما لا كلام فيه.
وثانيهما: في وجوب مباشرتهم في الصورة المذكورة. والحق ذلك، لظاهر
إجماع الأصحاب على ذلك، ولظاهر آية المعاونة وإن خرج منها ما خرج، ولأن
كل ما جاز وجب، وإلا لزم الحرج والمرج في النظام، سيما في أغلب البلاد الخالية
عن وجود حاكم الشرع، فتدبر.
وإذا عرفت هذا فنقول: هل للعدول ولاية إذا تعذر الحاكم مطلقا فلا يحتاج
إلى فرض صورة اللابدية والاضطرار، أو لا؟

(1) المائدة: 2.
(2) الوسائل 13: 474، الباب 88 من أبواب أحكام الوصايا، ح 2.
(3) الوسائل 17: 327، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، ح 5، وفيه: أرضا مواتا.
(4) كذا في أصول النسخ، لكن مصحح (م) أسقط كلمة (قطعا) وأنث الضمير.
(5) في (م) كونهما.
581

قد يستدل عليه بعموم (نفي السبيل عن المحسنين) وهذا إحسان.
وفيه: أن كونه إحسانا إنما يسلم فيما كان هناك مضرة لا تندفع إلا بذلك، وفي
ذلك الفرض سلمنا جواز التصرف، وأما في صورة إمكان التأخير والتعطيل إلى أن
يتمكن من حاكم الشرع فلا نسلم كون تصرفه إحسانا، إذ قد مر في قاعدة
الإحسان: أن أخذ مال الناس بغير إذنهم والتصرف فيه للاسترباح ونحو ذلك لا
يعد إحسانا، بل هو موجب للضمان مع التلف، وأموال الأيتام والغياب ونحوهم
كذلك، ولو فرض صدق الإحسان فيشكل انصراف الإحسان إليه وشموله له،
مضافا إلى ما يستفاد من اتفاق الأصحاب على عدم كون مثل ذلك في حكم
الإحسان ولو فرض دخوله تحت اسمه، فتدبر.
وقد يتمسك بعموم أدلة الحسبة والمعاونة على البر والتقوى، وهو قاصر من وجوه:
أحدها: منع كون كل تصرف في مال المولى عليه معاونة على البر والتقوى،
لعدم صدقها عرفا عليه.
وثانيها: منع كون ذلك معاونة على البر مع التمكن من الحاكم ولو بالتأخير
- كما هو الفرض - وإلا لزم جواز تصرف كل أحد في مال الغير باسترباح ونحوه
لأنه معاونة عل البر، مع أنه ليس كذلك، بل يدور مدار إذن المالك ومن بحكمه.
وثالثها: أن الكلام في إثبات الولاية، والآية لا تثبتها، بل تفيد الجواز أو
الاستحباب أو الوجوب من جهة كونه إعانة على البر، مضافا إلى عدم الشك في
شمول هذا الخطاب للكافر والمسلم، والفاسق والعادل، والمخالف والمؤمن، فيلزم
جواز تصرف الفساق أيضا، مع أنه مخالف للإجماع.
فإن قلت: نتمسك في خروج الفاسق في هذا المقام بالإجماع والنص، وكذا
من هو مثله، فيكون كل أحد مكلفا بالمعاونة على كل بر وتقوى، إلا الفاسق
[ونحوه] (1) في أموال الغير.
قلت: الظاهر أن قوله تعالى: وتعاونوا (2) مسوق لبيان حكم العقل، بمعنى:
أن بعد كون الشئ برا وتقوى فالمعاونة مطلوبة، وهذا المعنى مما يحكم به العقل،
وليس قابلا للتخصيص حتى يخرج الفاسق والكافر من هذا الحكم. والظاهر أن
ذلك لعدم كون ذلك معاونة على البر، بل هو ولاية تحتاج إلى دليل يدل عليها.

(1) من (م).
(2) المائدة: 2.
582

مضافا إلى أن كلمة (البر) و (التقوى) في هذه الآية مفرد محلى باللام، ولا
عموم فيه حتى يشمل المقام وإن فرض كونه من البر والتقوى، وغايته: إطلاق
ينصرف إلى ما هو الشائع في إطلاق البر والتقوى عليه من المندوبات والأعمال
الصالحة، وما نحن فيه ليس منه قطعا. ولو سلم كون البر والتقوى عامين، فنقول:
المعاونة ليست عامة، بل هي أيضا مطلقة، وكل معاونة لا نسلم كونها مأمورا بها.
وبالجملة: فالاستدلال بهذه الآية على ولاية العدول خال عن الوجه، ومثله ما
بمعناه من أدلة الحسبة.
نعم، بقي هنا شيئان يمكن التمسك بهما:
الأول: ما مر من خبر الوصية (1) فإن ظاهره كون ذلك بيانا لحكم شرعي، وهو
جواز مباشرة العدول وتسلطهم على ذلك.
ولو أورد عليه بظاهره، فإنه (2) قاض بالجواز وإن أمكن الرجوع إلى الحاكم،
أجبنا عنه بأن المطلق يقيد، بمعنى: أنه يجوز تصرف الثقة مع عدم وجود الولي
العام أو الخاص مع أن سياق الخبر دال على اعتبار عدم وجود ما هو المرجع في
مثل ذلك التصرف، فيكون تقيدا لا تقييدا.
ولو أورد (3) بأنه لا عموم فيه، ولعله ينزل على صورة لزوم التصرف
والاضطرار إليه لنفقة ونحوها بحيث لا يمكن التأخير إلى التمكن من الحاكم، فإن
ذلك لا بحث في جواز التصرف فيه، كما مر ذكره.
قلت: ظاهر الخبر في مطلق الوصية، ومن البعيد جدا كون كل واحد من
التصرفات فيها فوريا لا يمكن تأخيره إلى التمكن من الحاكم، فلا شبهة في وجود
المضيق والموسع في مورد السؤال عادة، وترك الاستفصال من المعصوم دال على
التعميم، وهو جواز تصرف العادل مع عدم وجود من ينبغي أن يرجع إليه، سواء
كان من الأمور التي لو أخرت يمكن فيه الوصول إلى الولي - كالإمام ونحوه - أو
من الأمور التي لا يجوز فيها التأخير. وبالجملة: تنزيله على ما لا يمكن التأخير
فيه في كمال الصعوبة.
ولو أورد بأن الخبر وارد في الوصية مع عدم وجود الوصي، وهذا مما علم
عدم إمكان التمكن من الولي، لأن الإمام في ذلك الوقت لم يكن مبسوط اليد،

(1) مر في ص: 581.
(2) في (م): بأن ظاهره قاض.
(3) في (م): فإن قلت.
583

وغيره لا ولاية له، وفي مثل هذا المقام الذي حصل اليأس من الوصول إلى الولي
لعلنا نجوزه، وهو أعم من المدعى.
أجبنا أولا: بأن الفرض: أن ظاهر الخبر هو بيان الحكم في وصية لا وصي لها،
وليس قضية في تلك الواقعة حتى نقول بأن ذلك لعله حكم صورة اليأس، ولا ريب
أن فرض الوصية بدون الوصي قابل لليأس عن الحاكم وقابل الصورة إمكان
الوصول بتأخير التصرف، والحكم وارد على الصورتين، وهو المدعى. وإذا ثبت
ذلك في باب الوصية ثبت في غيره بعدم القول بالفصل، فتدبر.
الثاني: قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (1) فإن
ظاهر الآية دليل على ثبوت الولاية لبعض المؤمنين على بعض آخر، خرج ما لا
يكون (2) مولى عليه - كالبالغ الرشيد الحاضر القادر مثلا - بالدليل، وبقي ما
يكون (3) مولى عليه تحت الدليل، وكذا خرج صورة وجود الولي الخاص أو العام
المانع عن ولاية العدل من حيث هو عدل بالدليل وبقي الباقي.
ويرد عليه: أن مقتضى الآية ولاية بعض على بعض، وهو محتمل لإرادة
البعض المعين كالأب والجد والحاكم والوصي - ونحو ذلك - وإرادة أي بعض كان
ليدل على ولاية العدل والمؤمن مطلقا أي فرد كان، فمن أين إرادة البعض اللابعينه
حتى يثبت ولاية العدل.
ويمكن الجواب: بأن ظاهر البعض التنكير، وإرادة البعض المعين في الواقع
خلاف الظاهر يحتاج إلى قرينة، وهي في المقام منتفية.
ويرد أيضا: أن الظاهر من ذيل الآية الشريفة وهو قوله تعالى: يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر كون المراد بالبعض هنا الحاكم، فإنه الذي له
ولاية الأمر والنهي.
ويجاب: بأن الأمر والنهي واجب كفائي لا يختص بالحاكم، بل يجب على
سائر الناس كفاية، والظاهر من الآية: أن الامرين بالمعروف والناهين عن المنكر
المقيمين الصلاة - وهم العدول - أولياء لمن ليس كذلك.
ولا يقال: إنه حينئذ لا يثبت ولاية العدول على مال الغائب مثلا، إذ يمكن

(1) التوبة: 71.
(2) كذا، والمناسب: من لا يكون... من يكون.
(3) كذا، والمناسب: من لا يكون... من يكون.
584

كون الغائب أيضا من العدول الامرين والناهين.
لأنا نقول أولا: ليس في ظاهر الآية دلالة على كون العادلين أولياء على غير
العدول، بل الظاهر كونهم أولياء، وحذف المتعلق يفيد العموم، وليس هنا أمر ظاهر
ينصرف إليه الإطلاق.
ويرد أيضا: أن الظاهر من الآية إثبات ولاية الأمر والنهي، ولانزاع فيها، إذ قوله
تعالى: يأمرون في قوة التفسير للولاية، والمراد إثبات ولاية الأموال والنفوس.
ويمكن التمسك بإطلاق كونهم أولياء، ومنع كون ذلك تفسيرا، بل الظاهر كونه
تعليلا، وعلى تقدير كونه تفسيرا لا يلزم منه الانحصار فيه مع إمكان تتميمه بعدم
القول بالفصل بعد ثبوت ولاية العدول على الأمر والنهي، سيما مع إمكان إدراج
التعزيرات والحدود - ونحو ذلك - أيضا في النهي عن المنكر، فإنه بعد ثبوت
ولايتهم على ذلك يثبت في غيره بالأولوية، فضلا عن عدم الفرق.
لا يقال: إن الظاهر من المؤمنين هو المسلم العارف بالحق كما تدل عليه الآية
الأخرى: والمنافقون والمنافقات (1) وهو شامل (2) للعادل والفاسق، فلا وجه
لتخصيص العادل بالولاية.
لأنا نقول: قام الإجماع والنص على أن الفاسق لا أمانة له، فكيف يجعل وليا
على مال الضعيف والسفيه والغائب - ونحو ذلك - فهو خارج بالدليل.
لا يقال: إن هذا مستلزم لتخصيص الأكثر، فإن الفاسق أكثر من العادل، كما
يدل عليه قوله تعالى: وأكثرهم فاسقون (3). مضافا إلى أن الواسطة بين الفاسق
والعادل موجودة فهي أيضا خارجة عن العموم. ولو جعلنا (المؤمنين) شاملا
للصبيان والسفهاء - ونحو ذلك - كان الخارج أكثر بمراتب، وهو قبيح، فلابد من
إرادة معنى آخر.
لأنا نقول أولا: إن هذا ليس من باب التخصيص، بل قوله: المؤمنون بعضهم
أولياء بعض في قوة التقسيم، فيكون تقسيما للمؤمنين قسمين: ولي، ومولى
عليه، وهو كذلك ولا تعميم هنا ولا تخصيص. ولو كان الصبيان ونحوهم داخلين

(1) التوبة: 67.
(2) لا يخفى ما في هذه الفقرة من بعض المسامحات، وقد غير مصحح (م) بعض الكلمات،
ولا حاجة إليه بعد وضوح المراد.
(3) التوبة: 8.
585

في الآية لكانوا تحت البعض المولى عليه، وخروج البعض الذي ليس بولي ولا
مولى عليه غير قادح، لكمال ندرة هذا الفرد. وليس غرضنا من الآية إثبات
خصوص ولاية العدالة (1) بل الولاية مطلقا، فإن ثبت له (2) خصوصية اتبعت، وإلا
بقي على إطلاق ولاية العدل (3).
وثانيا: أن كون الخارج مما لا يعتنى بشأنه لسفه أو ضعف أو فسق - أو نحو
ذلك - وكونه لا يعد في جنب العدول موجودا فضلا عن كونه أكثر، لا قبح في ذلك
لو كان من باب التخصيص، وقبح تخصيص الأكثر إنما هو للاستهجان العرفي وهو
تابع للمقامات والاعتبارات، كما لا يخفى على المتتبع.
لا يقال: إنها مجملة في متعلق الولاية، ولم يبين فيها أن ولايتهم على المال أو
على شئ آخر.
لأنا نقول: المتبادر من إطلاق الولاية: ولي المال والنفس، فإذا قيل: (فلان
ولي فلان) يستفاد منه أن أمره في ماله ونفسه بيده كما هو المتعارف، فتدبر.
وبهذه الآية استدل الأصحاب على ولاية العدول في كل باب وتلقوه بالقبول،
وهو أقوى جابر للدلالة مع قطع النظر عن التخريجات اللفظية والاحتمالات
العرفية، فمقتضى ظاهر الآية - المؤيدة بخبر باب الوصية المعتضد بالفتوى - كون
مقتضى القاعدة: أن كل ما كان الحاكم وليا فيه إذا فقد أو تعذر فالولاية للعدول.
ولا يعتبر فيه التعدد، لإطلاق البعض في الآية الشامل للواحد، وصريح خبر
الوصية، فإنه جعل الولاية للثقة، فما يوهمه بعض عبائر الأصحاب من اعتبار
التعدد لتعبيرهم بلفظ (العدول) ليس مرادا جزما.
ولو اقتصر في ولايتهم على صورة تعذر الحاكم وعدم إمكان تأخير التصرف
إلى زمن التمكن من الحاكم أو أمينه حتى يكون مندرجا تحت أدلة الحسبة
والمعاونة - مضافا إلى ظاهر الآية والخبر - لكان أحوط في النظر وأقرب إلى التقوى.
ولكن المختار: أن مع تعذر الحاكم فالأصل ولاية العادل في كل ما للحاكم
عليه ولاية، إلا ما أخرجه الدليل، كالقضاء والأحلاف ونحو ذلك.

(1) كذا، والظاهر: (العدول) وأسقطها مصحح (م).
(2) كذا، والظاهر: (لها) أسقطها أيضا مصحح (م).
(3) العبارة في (م) هكذا: (وإلا فلا يعدل عن إطلاق ولاية العدول) ولعل الصواب: وإلا يعدل....
586

(العنوان السادس والسبعون)
(قاعدة: البينة على المدعي واليمين
على من أنكر)
587

عنوان
] 67 [
من جملة القواعد المقررة في الشرع: توجه البينة على المدعي واليمين على
المنكر في مقام الدعوى.
ويدل على هذه القاعدة - مضافا إلى إجماع الأصحاب - الخبر النبوي
المشهور، الغني عن ملاحظة سنده بعد تلقي العامة والخاصة له بالقبول، وهو
قوله صلى الله عليه وآله: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) (1). فالقاعد ة بحسب الدليل
واضحة، وإنما البحث في بيان المراد منها.
فنقول: لا ريب أن الدعوى ما لم تتحقق لا يتحقق هناك مدع ومنكر،
ومعرفتهما تتوقف على معرفة الدعوى، وظاهر الأصحاب اعتبار كون الدعوى
ملزمة (2) جازمة، وفي اعتبار كونها معلومة لهم بحث، وكذا يعتبر كونها بحيث لو
اعترف المنكر لكان للمدعي به نفع. وما لم يتحقق هذه الأمور فليس من مورد
النص، ولا مما يلتفت إليه.
فنقول: هل هذه القيود مأخوذة من لفظ (المدعي) أو من دليل خارج مقيد؟
وعلى الأول فهل هو حقيقة شرعية، أو اصطلاح للمتشرعة، أو معنى عرفي ولغوي

(1) عوالي اللآلي 2: 345، ح 11، وراجع الوسائل 18: 170، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعاوي.
(2) في (ف، م): ملتزمة.
588

لا نقل فيه؟
يحتمل أن يقال: إن لفظ (المدعي) قد صار عندهم حقيقة شرعية في هذا
المعنى الخاص، بمعنى كونه جامعا للقيود الأربعة المذكورة مع ما يجئ من اعتبار
مخالفة الأصل أو الظاهر، أو كونه أمرا خفيا، أو كونه يخلى وسكوته مع ذلك أيضا.
وهذه الحقيقة قد ثبتت من استقراء الموارد الخاصة الواردة في الروايات، حيث
بين في الشرع حكمها بتوجه البينة واليمين، فعرفوا من ذلك: أن المراد بالمدعي
هو ذلك.
ويحتمل كون ذلك حقيقة عند المتشرعة مع استعمال الشارع مجازا.
ويحتمل بقاؤه على المعنى اللغوي والعرفي، لأصالة عدم النقل. والمعنى
العرفي محتمل لما هو جامع لهذه القيود المذكورة فالمعنى الشرعي إنما هو على
طبق العرف ولا يحتاج في إثبات ذلك كله إلى دليل خاص، ومحتمل لما هو أعم
من ذلك لكنه ينصرف إلى ذلك انصراف إطلاق، ومحتمل للأعم مطلقا وإنما يثبت
إرادة هذه القيود من دليل خارج من نص أو فتوى.
والذي يقتضيه النظر الصحيح: أن لفظ (المدعي) كلفظ (المنكر) باق على
معناه اللغوي [والعرفي] (1) وليس له حقيقة شرعية ولا متشرعية، لأصالة عدم
النقل، وعدم ظهور الوضع الجديد من كلمة الأصحاب، ولا من النص، مع بعد النقل
في مثله مع ندرة استعماله، وإنما هذه القيود استفيدت من معناه العرفي حقيقة أو
إطلاقا، أو من دليل خارج، والبحث هنا يقع في أمرين:
أحدهما: بالنسبة إلى القيود الأربعة.
فنقول: لا ريب في أن الدعوى والإنكار لا يتحققان (2) إلا بنفي وإثبات
واردين على شئ واحد، فلو نفى كل منهما أو أثبته كل منهما فلا نزاع، ولو نفى
أحدهما شيئا وأثبت الاخر شيئا آخر فلا بحث أيضا، إلا إذا رجع بالتلازم إلى
شئ واحد هو محل النزاع، وكذا لو أثبت كل منهما شيئا آخر، أو نفى كل منهما

(1) لم يرد في (ن، د).
(2) في غير (م): لا يتحقق.
589

شيئا آخر، فإنه لا يتحقق نزاع إلا إذا رجع أحد الاثباتين إلى نفي معارض للاخر،
أو أحد النفيين إلى إثبات معارض للاخر.
وبالجملة: لابد من نفي وإثبات واردين على شئ واحد ولو بالحيثيات،
ولذا (1) لو أثبت أحدهما عاما ونفى الاخر خاصا لا يتحقق الدعوى، كما لو قيل:
(اني أطلب منك عشرة دراهم) فقال: (إني لست بآخذ منك قرضا) فإنه غير
مناف للدعوى، إذ لعل الدراهم ضمان إتلاف أو ثمن مبيع، أو نحو ذلك. ولو أثبت
أحدهما خاصا ونفى الاخر العام تحققت الدعوى، كما لو قال: (لي عليك عشرة
من ثمن مبيع) فقال: (لست بمشغول الذمة لك) لأن نفي الأعم مستلزم لنفي
الأخص أيضا فيرد النفي والاثبات على موضوع واحد.
ولو كان بين المثبت والمنفي عموم من وجه - كما لو قال: (لي عليك مثقال من
الذهب) فقال: (ليس علي شئ مسكوك) فإن الذهب أعم من المسكوك وغيره،
كما أن المسكوك أعم من الذهب - لا يتحقق أيضا دعوى، لأن النفي يمكن وروده
على شئ مغاير لما أثبته المدعي، إذ لعل مراد المدعي مما أثبته الفرد الذي ليس
مادة الاجتماع، فنفي ما هو أعم من وجه لا يستلزم نفي مثله.
فتوجه النفي والاثبات على أمر واحد - ولو بالمآل - إنما هو من مقومات
الدعوى عرفا ولغة، ولا يتحقق دعوى وإنكار إلا بنفي وإثبات، وكل ما هو مغاير
صورة فهو راجع إليهما معنى، فتبصر.
وأما اعتبار كونه بحيث لو أثبته المنكر أيضا لكان هناك نفع للمدعي، فالظاهر
أن هذا ليس من مقومات الدعوى، فإن كل من ادعى شيئا يسمى (مدعيا) ويسمى
كلامه (دعوى) في العرف واللغة.
فالنزاع إن وقع في مسألة علمية لا ريب في تسميتهما مدعيا ومنكرا مع عدم
جريان الحكم فيه، ونحو ذلك، فلو قال قائل: (إن الحجر الفلاني وقع من المكان

(1) في (ن، د): وكذا.
590

الفلاني) وقال الآخر: (لم يقع) من دون غرض لهما فيه بحيث لو وقع لا ضرر على
أحدهما ولا نفع وكذا لو لم يكن وقع، فهذا أيضا يسمى مدعيا ومنكرا.
فاعتبار هذا القيد: إما من جهة ورود هذه الرواية في مقام السياسات المدنية
المجعولة لحسم النزاع المؤدي إلى تلف ما اهتم الشرع إلى غرضه، وهو المقاصد
المعروفة من المال والنفس والعرض والعقل والنسب، ونحو ذلك. وأما مجرد النفي
والاثبات التي لا ثمرة فيها (1) إلا محض العلم ولا يؤول إلى ضرر ونفع في شئ (2) من هذه الأمور، فليس محط نظر الشارع. وليس هناك أمر يوجب اختلال النظام
وتشويش الأمور، بخلاف الدعوى المتعلقة بأحد هذه الأمور، فإن حسم مادتها
من الضروريات التي لا محيص عنها، ولذلك بنوا على أن هذا القانون إنما هو في
هذه الدعاوي لا في غيرها.
وإما من جهة انصراف إطلاق لفظ (المدعي) إلى الدعوى الكذائي دون ما لا
نفع فيه، لأن الغالب الوقوع بين العقلاء إنما هو الدعوى المشتملة على نفع كذلك،
وغير ذلك ليس مما يجر إلى التجاذب والتشاح، وخطابات الشارع منصبة على
قانون العرف والعادة وطريقة العقلاء فلا تشمل غير ذلك.
وإما من جهة القرائن الخاصة في مقامات الاستشهاد بهذا النص على الحكم
على كون المراد منه ذلك، لا مجرد النفي والاثبات كيف كان.
وإما من جهة إجماع الأصحاب على عدم توجه اليمين والبينة في غير مثل
ذلك.
وبالجملة: فاعتبار كون الدعوى مما يقصده العقلاء للتشاجر والتنازع مما لا
بحث فيه، كما أن عدم دخوله في ماهية الدعوى بحيث لا يصدق بدونه كذلك على
ما يظهر من العرف، ومن ذلك أن كلام الأصحاب في توجه اليمين على المنكر
يدور مدار نفع المدعي لو اعترف، فعليك بالتتبع التام.

(1) في (م): اللذين لا ثمرة فيهما.
(2) في (ن، د) بدل (في شئ): ناشي.
591

وأما اعتبار كونها ملتزمة (1) فإنما هو فرع من فروع كونها مما فيه نفع للمدعي
أو ضرر على المنكر ولو بالحيثية، إذ المراد بكونها ملتزمة غير قابلة للتفصي عنه،
بحيث لو أقر المنكر به لا يكون له مخرج عنه، فلو لم يكن كذلك - كدعوى هبة غير
مقبوضة أو وقف كذلك فأنكرهما المنكر - لا يتوجه اليمين، إذ لو اعترف بوقوع
مثل ذلك لا نفع فيه للمدعي. ولو فرض كون الإقباض مسلما ووقع البحث في
العقد توجه الدعوى، كما لو فرض تعلق غرض آخر بوقوع صيغة الهبة لأمر آخر،
كما لو شرط في عقد البيع إيقاع صيغة هبة لهذا المال. وإن لم يقبضه حيث كان
هناك فائدة فادعى المشترط وقوعه ليلزم البيع وأنكره الاخر ليتسلط على فسخ
البيع توجهت الدعوى.
فما في كلام الشهيد الثاني رحمه الله: من اعتبار كون الدعوى ملتزمة (2) إن أريد به ما
يؤول إلى ما ذكرناه من تحقق النفع وعدم التفصي على فرض الإقرار فهو جيد، ولا
ينبغي ذكره بلفظ (الملتزمة). وإن أريد خصوص الالتزام فهو مع كونه أخص من
المدعى لا ينطبق الأمثلة عليه إلا بتكلف، لاحتمال فرض الالتزام في ذلك أيضا،
إلا أن يتمسك بالحيثية.
وبالجملة: ليس الغرض المناقشة والإيراد، وإنما البحث لبيان المراد، واتضح
أن هذا القيد ليس إلا داخلا فيما ذكرناه، فوجه اعتباره في مفهوم الدعوى غير
واضح، واعتباره في سماعه متجه.
وأما اعتبار كونها جازمة فلها معنيان: أحدهما: كون المدعي في اعتقاده
قاطعا بما يقوله، لا ظانا ولا شاكا ولا متوهما. وثانيهما: إبرازه في صورة المنجز (3 المجزوم به وإن كان في الواقع بظن أو شك أو توهم.
فإن أريد منه المعنى الأول فلا دليل على اعتباره أولا، لصدق الدعوى على ما
أبرز في صورة القطع وإن لم يكن مقطوعا به بل كان مقطوعا بخلافه، وعدم صحة

(1) كذا، والظاهر: ملزمة. وهكذا الكلام فيما يأتي من هذا اللفظ.
(2) الروضة 3: 78، وفيها: ملزمة.
(3) في (م) بدل (المنجز): الخبر.
592

سلبه، وتبادر الأعم منه، وعدم دليل صالح للتقييد، فكون المدعي قاطعا بما يقوله
ليس بشرط في سماع الدعوى، بل الظن كذلك، بل الشك أيضا كذلك. وبالجملة:
اعتقاد المدعي وعدمه نفيا وإثباتا لا دخل لهما في صدق الدعوى وتوجهها، فلا
دليل على اعتباره.
وإن أريد الإبراز بالجزم فله أيضا معنيان: مرة يراد تقييده بقوله: (جزما
وقطعا) كأن يقول: (لي عليك عشرة قطعا) ومرة يراد به الحكم بصورة البت،
كقوله: (لي عليك عشرة) ولا ينافيه غير التصريح بالظن أو الشك، بمعنى: أن ما لم
يصرح بأحدهما فظاهر الأخبار الجزم.
والمعنى الأول لا دليل على اعتباره، لصدق الدعوى بدونه، وتبادر الأعم منه
وعدم وجود مخصص، وقضاء سيرة الناس به.
وأما المعنى الثاني، فظاهر بعض الأصحاب اعتباره (1) ولعل الوجه فيه: أن
الدعوى لا تصدق إلا بذلك، أو لأنه ينصرف إطلاقها إليه، أو لأن الدعوى لابد فيها
من وجود مخلص شرعي، وهو: إما البينة، أو يمين المنكر، أو اليمين المردودة،
ولعل المنكر يرد اليمين على المدعي، ولا يمكنه الحلف عليه بعد كونه ظانا أو
شاكا، ولا تسمى (الدعوى) إلا ما ترتبت عليه أحكامها، وهذا ليس كذلك.
وأنكره آخرون، فقالوا بتوجه الدعوى وإن صرح بالظن أو الوهم (2) نظرا إلى
أن الدعوى تصدق بدون ذلك أيضا، ولا وجه مخصص لعموم النص، فلا وجه
للتقييد.
والذي يترجح في النظر: أن الدعوى تصدق بالظن، لأنه اعتقاد وينحل إلى
قول المدعي: (لي عليك كذا باعتقادي). وأما مجرد الاحتمال المساوي أو

(1) بل صرح جماعة باعتباره، منهم الحلبي في الكافي: 450، وابن زهرة في الغنية (الجوامع
الفقهية): 563، والمحقق في الشرائع 4: 82، ونسبه السبزواري إلى المشهور، الكفاية: 266.
(2) قواه فخر المحققين على ما في نسخة من الإيضاح (انظر إيضاح الفوائد 4: 328) وما ل إليه
المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 12: 125.
593

المرجوح ففي صدق الدعوى به نظر، لأن قول القائل: (إني أطلبك شاكا) معناه: ما
أدري ولا أعتقد أنك مطلوب أوليس (1) بمطلوب، ومثل ذلك لا يسمى (دعوى)
عرفا، فضلا عن صورة كون الاحتمال مرجوحا في نظره.
وظاهر كلام الشهيد الثاني وجود الوجه أو القول بسماع الدعوى مع الشك
والوهم أيضا (2). ولا أرى لذلك وجها أصلا بعد عدم الصدق قطعا، ولا أظن أحدا
يقول به.
وفصل آخرون بين الأمور الخفية التي لا يطلع عليها بالقطع غالبا - كالقتل
والسرقة - دون ما لا عسر في الاطلاع عليه، وهو الذي استوجهه الشهيد الثاني (3).
ولعل ذلك ناظر إلى الرجوع في صدق الدعوى إلى العرف، ولا ريب أن في مثل
هذه الأمور الخفية لا يحصل القطع، وطريقة الناس التنازع في ذلك بمجرد الظن
والحدس.
ويرد عليه: أن الإبراز في صورة القطع غير القطع الواقعي، وهو مما يعسر،
والبحث في اعتبار الإبراز بصورة القطع وإن كان في الواقع ظانا، فكون الشئ مما
يعسر الاطلاع عليه لا يقضي بكون الدعوى تصدق على صورة الظن أيضا.
وبالجملة: إن كانت الدعوى تتحقق بالظن ففي كل مقام كذلك، ومجرد غلبة
الاطلاع لا ينافي، إذ لعل في هذا الفرض لم يحصل للمدعي الاطلاع. وإن لم
يتحقق بذلك - إما بالحقيقة أو بالانصراف - وقلنا: إن دليل الدعوى ينصرف إلى ما
هو بصورة الجزم، فلا يسمع ما هو مع التصريح بالظن مطلقا.
ويمكن القول بأن خصوص الظن والقطع لا مدخل لهما، والميزان صدق
الدعوى عرفا، وهو يختلف بحسب المقامات، فالشئ الذي جرت العادة فيه
بالاطلاع والعلم لو عبر فيه بالظن لا يسمى دعوى والشي الذي يعسر الاطلاع
عليه يعد دعوى وإن عبر بالظن. ولا يخفى ما فيه من التكلف، فتدبر.

(1) كذا، والظاهر: لست.
(2) المسالك 2: 367 (ط - الحجرية).
(3) الروضة 3: 80.
594

وعلى القول بصدق الدعوى مع الظن فالمتجه العموم، إذ لا دليل على اعتبار
صورة الجزم إلا شبهة انصراف الإطلاق إلى ما هو بصورة الجزم، وهو ممنوع.
مضافا إلى إمكان عدم علم المدعي بدعواه قطعا، سيما في الأمور الخفية، فعدم
سماع هذه الدعوى يوجب بقاء التشاجر والتنازع.
ولكن قد عرفت: أن هذا ليس لاعتبار صورة الجزم، بل لاعتبار الجزم
الواقعي، وهو غير معتبر، ولا مانع من اعتبار صورة الجزم من هذه الجهة مع
انصراف الإطلاق إليها والشك في دخول ما صرح فيه بالظن في اسم الدعوى،
فاعتبار صورة الجزم في الحكم متجه وإن لم يعتبر في الاسم. ولو قام دليل على
اعتبار المظنون في مثل القتل والسرقة فلا بحث لنا فيه، وإلا فمقتضى القاعدة
اعتبار صورة الجزم أيضا.
فمقتضى القاعدة اعتبار صورة الجزم أيضا.
ولو قيل: إن اعتبار صورة الجزم ليس إلا لإمكان الحلف عليه لو رد المنكر
اليمين، فهذا يقتضي كونه في الواقع مجزوما به أيضا.
قلنا: ليس لأجل ذلك، غايته توقف الدعوى لو رد اليمين ولا بينة، ولا يلزم
اطراد الطرق في جميع أفراد الدعوى، فكما يتعذر البينة يتعذر اليمين أيضا لمانع،
بل إنما هو للشك في شمول الإطلاق لما هو في غير صورة الجزم.
وأما اعتبار كون الدعوى معلومة - بمعنى كون المدعى به معلوم الجنس
والوصف والقدر ونحو ذلك بحيث لا يقع بعد ذلك اختلاف فيه - فيظهر من
جماعة (1) منهم الشهيد رحمه الله في الدروس (2) معللا بعدم الفائدة، فيرجع إلى ما ذكرناه
في القيد الأول، ولعل غرضه: أن المنكر إذا اعترف بالمجهول فحكم عليه الحاكم

(1) منهم الشيخ في المبسوط 8: 156، وأبو الصلاح في الكافي: 445، وابن زهرة في الغنية
(الجوامع الفقهية): 563، وابن حمزة في الوسيلة 216، وابن إدريس في السرائر 2: 177،
والعلامة في التذكرة 2: 151.
(2) الدروس 2: 84، وليس فيه التصريح بالتعليل المذكور.
595

أو جاء بالبينة عليه أو نحو ذلك فلا ثمرة فيه، لعدم إمكان دفع المجهول - كالمال
والثوب والفرس ونحو ذلك - من دون تعيين.
ومن هنا يظهر: أن غرضه من المعلومية: ما يمكن به التأدية، فلو كان معينا في
الواقع مجهولا في الظاهر - كالحيوان الذي في الدار ولا يعرفه بوصفه ولا بقيمته
ولا بشئ آخر - توجه الدعوى فيه، لعدم ورود هذا المحذور فيه، لأنه ممكن
الثبوت والتأدية. وبعبارة أخرى: المجهول الذي يؤول إلى العلم، وبعبارة ثالثة:
المعين في الواقع المبهم في الظاهر يتوجه فيه الدعوى، مع احتمال إرادة
الشهيد رحمه الله عدم السماع حتى في مثله.
وكيف كان: فلا ريب في صدق الدعوى على المجهول الكذائي وإمكان رفعه
وتأديته وإثباته والاعتراف به ونحو ذلك، ولا مخصص لعموم الدليل، فالسماع متجه.
وأما المجهول واقعا وظاهرا - كثوب أو مال - فظاهر جماعة من المتأخرين
سماعه أيضا (1) لصدق الدعوى، وإمكان الحكم بالمجهول كما في الإقرار، ومجرد
المجهولية لا يصلح مانعا بعد شمول الأدلة، غايته: أنه بعد الثبوت لو ادعى المدعي
على المدعى عليه العلم بالمقدار والوصف: فإما أن يقربه فيحبس حتى يبين، وإما
أن ينكر ويحلف فيتصالحان، وليس مما لا سبيل إلى استخلاصه شرعا. ومطالبة
المدعي بتحرير ما يدعيه نظرا إلى أنه محتاج لابد من بيانه، بخلاف الإقرار فإنه لو
طولب بالبيان فربما يرجع ويبطل الحق، إنما يصلح فارقا لو أريد الاستدلال على
المقام من باب الإقرار بأولوية أو بتنقيح مناط، أما بعد وجود الأدلة العامة هنا فلا
بحث، والتمثيل بالإقرار دفع للاستبعاد، وإلا فالمتبع الدليل، ولا ريب في قوة
القول بالسماع. مضافا إلى أن المدعي قد لا يكون له علم تفصيلي بما يدعيه،
لنسيان أو غيره، فلو لم يسمع ذلك لزم منه سقوط أكثر الدعاوى، فتدبر.
وثانيهما (2): أن بعد اعتبار هذه القيود في الدعوى يبقى الإشكال في اعتبار

(1) منهم العلامة في الإرشاد 2: 143، والقواعد 2: 208، وفخر المحققين في الإيضاح 4: 327،
والشهيد الثاني في الروضة 3: 79.
(2) أي: ثاني الأمرين، تقدم أولهما في ص: 589.
596

كونها مخالفة للظاهر أو الأصل، أو كونها أمرا خفيا مطلقا، أو كون تركها موجبا
لانقطاع النزاع، وهذه التعاريف ذكرها الأصحاب في المدعي، لكن لما كان هذا
التعريف له من جهة صدور الدعوى منه فالعمدة معرفة الدعوى، وكل من اتصف
بها يسمى مدعيا.
وليس الاختلاف في الدعوى بهذه الأمور نزاعا في الحكم أو في إثبات
حقيقة جديدة، بل لا بحث في كون المدعي ما (1) كان يسمى به عرفا، وهذا
الاختلاف في تحديد العرف، والذي فهمناه من العرف: أن بناء العرف على اعتبار
نوع خفاء في مفهوم الدعوى، ولذلك يحتاج إلى الأثبات، وإلا فالشئ الذي لا
خفاء فيه لا يحتاج إلى إثبات، بل هو مجبول للطباع ما لم يمنع منه مانع، ولا ريب
أن الخفاء لا يكون إلا لمخالفته لأصل أو ظاهر. نعم، يشكل الأمر في صورة
تعارضهما، ويأتي البحث فيها.
ومرادهم من (الظاهر) و (الأصل) ليس بظاهر. وربما يقال: إن الظاهر إن
كان مما قام دليل على اعتباره فهو خارج عن محل البحث، فإنه لا ريب في تقدمه
على الأصل ولزوم اتباعه، كالبينة في الموضوعات والكتاب والسنة في الأحكام،
وإنما المراد هنا بالظاهر ما لم يقم دليل على اعتباره كالظن العادي والحاصل من
الغلبة ونحو ذلك، كما يتضح في ضمن الأمثلة.
إذا عرفت مرادهم من (الظاهر)، فنقول: إن الظاهر من (الأصل) حينئذ هو
الشئ المعتمد المعتبر شرعا، سواء كان راجعا إلى النفي، كأصل البراءة،
واستصحاب العدم، وأصالة العدم بناءا على كونها قاعدة. أو راجعا إلى الأثبات،
كاستصحاب الوجود، وأصالة بقاء شغل الذمة، وأصالة الصحة في العقود.
والإيقاعات، وأصالة الصحة في الأعيان الخارجية، وأصالة الطهارة ونظائر ذلك،
فإن هذه كلها أصول يعد من خالفها مدعيا، وعلى ذلك يدور مدار الدعاوي بين
الناس غالبا، ومدار الفروض المذكورة في أبواب الفقه من صور الدعاوي

(1) كذا، والظاهر: من كان.
597

والتنازعات، فيكون الأصل بمعنى الاستصحاب والقاعدة ونحو ذلك.
ويمكن أن يراد من (الظاهر) أيضا ما كان ظاهرا بأصل شرعي أو عقلي.
وبعبارة أخرى: (الظاهر) ما كان هو المعتمد لو لم يكن مقام الدعوى، فيرجع هذا
إلى الأصل بذلك المعنى.
ولو فسر المدعي بما (1) يدعي أمرا خفيا، فيمكن أن يراد بالخفاء الخفاء على
حسب الشرع سواء كان كذلك عرفا أيضا أم لا، فيطابق مخالفة الأصل. وإن أريد
به الخفاء عرفا سواء كان كذلك شرعا أيضا أم (2) يشمل مخالفة الظاهر بمعناه الأول
ومخالفة الأصل أيضا في أغلب أفراده، إذ الغالب فيما هو خفي شرعا كونه خفيا
عرفا أيضا، كما لا يخفى.
والمراد من قولهم: (هو الذي لو ترك الخصومة يترك) وبعبارة أخرى: (هو
الذي يخلى وسكوته) كون المدعي هو الذي ينشأ منه التنازع، فلو سكت فلا كلام
لأحد عليه، سواء كان قوله موافقا لظاهر أو أصل، أو مخالفا لهما، وسواء كان فيه
خفاء أو لم يكن، ولكنه في الغالب ينطبق على مخالفة الأصل والظاهر.
وربما يورد عليه: أن زيدا إذا ادعى على عمرو بعشرة فأجابه عمرو بأني
أديتها لك، فلا ريب أن في هذا الفرض ليس المدعي زيد (3) وإنما المدعي عمرو،
لأنه الذي يدعي خلاف الأصل، لأن الأصل عدم التأدية وبقاء اشتغال الذمة،
وخلاف الظاهر أيضا لو قلنا بأنه أعم من المعتمد شرعا وغيره، أو ادعينا أن العادة
جارية بعدم الدعوى بعد قبض المال، فالظاهر من طريقة الناس: أنه لم يؤد - لو
اعتبرنا السيرة والغلبة في العدميات والتروك - مع أن عمروا لو ترك ما يترك، بل
يطالب بالعشرة. نعم، لو ترك زيد يترك، وهو ليس بمدع في هذا الفرض.
والحق: أن هذا النقض غير وارد، لأن هنا دعويين: اشتغال ذمة عمرو في
الجملة الذي ادعاه زيد، فإذا أجابه عمرو بالتأدية فقد أقر باشتغال الذمة وثبت

(1) كذا، والمناسب: بمن.
(2) كذا، والظاهر سقوط كلمة (لا).
(3) في (ن، د): زيدا.
598

الدعوى ودفع هذا المال لزيد حتى تحصل البراءة، ولا (1) يكون هنا مطالبة
جديدة، وهو الذي يدعيه عمرو وزيد لا يقبله، فالدعوى الأولى ارتفعت بالثبوت،
وهناك كان زيد لو ترك ترك، وفي الدعوى الثانية عمرو لو ترك دعوى الدفع يترك
من هذه الجهة، ولا كلام لزيد معه وإن طالبه بالحق المقر به، فيكون المراد: لو ترك
يترك من هذه الجهة وإن كان يطالب بأمر آخر، كما هو قضية اعتبار الحيثيات.
والظاهر أن أجود هذه التعاريف هو (ما لو ترك ترك) وينطبق ما عداه من
التعاريف عليه غالبا.
وأما مخالفة الظاهر: فهو في كمال التشويش والاضطراب، إذ الظواهر العرفية
والعادية لا ضابط لها، ولا خصوصية لبعضها عن الاخر، ولازم ذلك حينئذ سماع
قول غني ادعى على فقير كان معه في المنزل أنه أعطاه كذا، وسماع قول الزوج
على زوجته، وسماع قول العدل على الفاسق، ونحو ذلك من الظواهر. ومن هذا
الباب: تفريع بعض العامة: عدم سماع دعوى خسيس أنه أقرض ملكا مالا، أو
نكح ابنته، أو استأجره لسياسة دوابه، فإن منشأ عدم السماع هو مخالفته للظاهر
بحسب العادة.
وبالجملة: بناء مسألة المدعي على مخالفة الظاهر بهذا المعنى مما يبعد في
النظر جدا، لأنه خلاف المتبادر من (المدعي) عند الانصراف. ولأن من البعيد
شرعا ابتناء هذا الأمر العظيم الذي عليه مدار نظام العالم وبقاء السياسات على أمر
غير منضبط مختلف بحسب العادات والأحوال، مع أن بناء الشرع على الضبط في
نظائر هذه الأمور كما يعلم من جعل اليد سببا للملك، والفراش سببا للحوق الولد
ونحو ذلك. ولأن المعلوم من الشرع أن بعد تكافؤ كلامي المدعي والمنكر من سائر
الجهات لا وجه (2) لتقديم قول أحدهما ومطالبة الاخر بالبينة، إلا من جهة موافقته
لما هو حجة مبني عليها شرعا، غايته: أن مقام الدعوى زاد عليه يمينا حتى يدفع

(1) كذا في النسخ، والظاهر: زيادة: لا.
(2) في غير (م): فلا وجه.
599

معارضة قول المسلم المدعي، ولو بنينا على الظاهر بهذا المعنى لم يكن له وجه،
لأن الشئ الذي لا يعتمد عليه بنفسه لو خلي من دون معارض كيف (1) يعتمد عليه
في مقام المعارضة والدعوى؟ وذلك واضح.
وما ورد من تقديم مدعي الظاهر في بعض المقامات لا يصلح موجبا لكون
المدعي ما يدعي (2) خلافه، بل لعله لدليل تعبدي، ولم يبلغ في الكثرة إلى حد
يوجب استقراء مفيدا للظن كاشفا عن مفهوم لفظ (المدعي) و (المنكر) حتى
يعتمد عليه في ذلك، فلا وجه لاعتبار الظاهر بهذا المعنى بالمرة.
ومخالفة الأصل يوافق قولنا: (من يخلى وسكوته) والمنكر في مقابل
المدعي بأي معنى فسرناه، فتدبر.
تتمة:
ربما يحكم الأصحاب في مقام الدعوى بالتحالف وسقوط الدعوى، أو
انفساخ العقد، أو نحو ذلك. ولا يتوهم أنه أيضا يحتاج إلى دليل آخر أو (3) مخالف
للقاعدة، بل هو من فروع القاعدة السابقة، فإن الدعوى الواحدة قد تنحل إلى
دعويين، فيكون كل من المدعي والمنكر مدعيا ومنكرا، ومقتضى القاعدة حينئذ
توجه اليمين على كل منهما حتى يسقط دعوى الاخر بقاعدة: اليمين على من
أنكر.
وبالجملة: ضابط مورد التحالف ما كان كل من الطرفين مدعيا ومنكرا
- وسيجئ الإشارة إلى مقاماتها - ومنشؤه: صدق (المنكر) على كل منهما
فيتوجه (4) عليهم (5) اليمين.

(1) في غير (م): فكيف.
(2) كذا، والمناسب: من يدعي.
(3) في (ن) بدل (أو): و.
(4) في غير (م): فيجئ.
(5) كذا، والمناسب: عليهما.
600

(العنوان السابع والسبعون)
(مقتضى القاعدة عند اشتباه المدعي
والمنكر، واشتباه مورد الدعوى والتداعي)
601

عنوان
[77]
لا ريب أن في بعض صور الدعاوي يتضح كون أحدهما مدعيا والاخر
منكرا، فيتجه الحكم باليمين على المنكر والبينة على المدعي، ويتضح أيضا في
بعض الصور أن هذه من باب التداعي وكون كل منهما مدعيا ومنكرا، فيحكم
حينئذ بالتحالف، وقد يقع الشك بين هذين الفرضين.
أما صور امتياز الأمرين فواضحة لمن راجع كلام الأصحاب، فإنهم ذكروا في
كل واحد من العقود والإيقاعات والأحكام مسائل من التنازع تمرينا
للاستخراج، وإلا فقاعدة الدعوى ما ذكرناه، وإنما الإشكال في إدراج الفروع
تحت القاعدة.
فبحثهم عن صور التنازع المفروضة: إما لخروجه عن القاعدة بنص أو
إجماع، كما في صورة اختلاف المتبايعين في قدر الثمن، كما لو قال أحدهما: (إنه
خمسة) وقال الآخر: (إنه عشرة) فإنه يحلف البائع مع قيام العين، للنص (1)
المنجبر بالشهرة المعتضد بالإجماع (2) المنقول، وإن كانت القاعدة تقضي بحلف

(1) الوسائل 12: 383، الباب 11 من أبواب أحكام العقود، ح 1.
(2) ادعاه الشيخ في الخلاف 3: 147، المسألة 236.
602

المشتري مطلقا كما ذهب إليه جماعة (1) طرحا للنص لضعفه. وإما للتنبيه على
إدراج الفرع تحت القاعدة وما وقع في فهم ذلك من الخلاف بينهم، كما لا يخفى،
وإلا فليس هذه المسائل أمورا محتاجة إلى قاعدة غير ما قررناها، فعليك بالتأمل
التام في تميز المدعي من المنكر، فإنه من مطارح الأفهام (2) سيما في بعض الفروع
الخفية.
ولنشر إلى بعض الصور حتى يصير تنبيها للباقي على نحو ضابط كلي، فهنا
أمور:
أحدها: أنا قد أشرنا سابقا: أن المدعي من خالف قوله الأصل، والأصل: إما
البراءة أو الاستصحاب أو قاعدة الشغل، وإما أصالة الصحة في العقود
والإيقاعات، وإما أصالة الصحة المقابلة للعيب في الموضوعات الخارجية من
عين أو منفعة، وإما أصالة العدم المطلق الأعم، وإما أصالة الملكية في اليد والنسب
في الفراش.
فدعوى كل شئ يوجب اشتغال ذمة شخص لم يعلم اشتغاله بذلك سابقا
تحتاج إلى إثبات، ومن هذا الباب: دعوى مال في ذمته (3) أو كونه متلفا له (4) أو
متعديا، أو مفرطا، أو غاصبا، أو جانيا، أو قابضا لماله قبض ضمان فتلف تحت
يده، أو آتيا بشئ من العقود الموجبة لاشتغال الذمة بعوض.
وبعبارة أخرى: لافرق بين دعوى كون الذمة مشغولة مع السكوت عن ذكر
السبب، وبين ذكر السبب الموجب للشغل. وينبغي أن يعلم: أن في السبب لابد من
ذكره على نحو يستلزم الشغل بحيث لا يكون له صورة أخرى محتملة لا توجب
الشغل، وإلا لم يكن دعوى للشغل.

(1) قال الشهيد الثاني قدس سره: وهذا القول لم يذكره أحد من أصحابنا في كتب الخلاف، وذكره
العلامة في القواعد احتمالا ونقله في التذكرة عن بعض العامة وقواه، والذي يظهر أنه أقوى
الأقوال إن لم يتعين العمل بالأول نظرا إلى الخبر أو الإجماع، غير أن فيهما ما قد عرفت،
المسالك 3: 260.
(2) في (ف، م): مطارح الأعلام.
(3) كذا، والظاهر: في ذمة.
(4) في (ف، م): بدل (له): لماله.
603

ومن هنا سرى الشبهة لبعض المتفقهة في صورة دعوى الزوجة المهر مع
اتفاقهما على العقد والدخول وإنكار الزوج اشتغال ذمته. والمسألة لا تخص
النكاح، بل كل عقد معاوضة إذا أقر به المتعاقدان وأنكر أحدهما وصول العوض
إليه، كما لو قال البائع: هل بعتك هذا المال بعشرة؟ فقال: نعم بعتني بذلك، فقال: خذ
مالك وأعطني العشرة، فقال: هذا مالي ولاحق لك علي، فإنهم توهموا أن الإقرار
بالعقد والدخول يوجب شغل الذمة قطعا، فالنزاع يصير في حصول البراءة بعد
الاشتغال، لا في أصل المشغولية، وقس على ذلك سائر العقود.
ولكنه ليس كذلك، إذ مجرد العقد لا يوجب شغل الذمة، وكذا مع الدخول،
لاحتمال كون العقد وقع على عين هي مقبوضة في يد الزوجة أو البائع، ولا يلزم
حينئذ كون ذمته مشغولة. وكذا يجوز أن يكون العقد على مال ثابت في ذمة
الزوجة أو البائع، فوقوع العقد أوجب سقوطه عن ذمتهما، ولم تشتغل ذمة الزوج
ولا المشتري.
ومن ذلك ظهر لك: أن دعوى السبب لابد أن يكون على نحو يوجب الشغل،
فهذا في الحقيقة لا يكون دعوى، لأن الدخول والعقد على فرض اتفاقهما عليهما
لا يثمر في شئ، فلابد من دعوى اشتغال الذمة أو سبب يوجب الاشتغال.
وكذا دعوى كل شئ يعارض الاستصحاب، كدعوى البراءة عن ذمة
مشغولة، أو دعوى موت حي، أو انقضاء أجل ثابت بأصل الشرع أو مجعول معين
من المكلفين، أو دعوى بلوغ، أو طريان جنون، أو عروض غفلة ونحوه (1) أو
دعوى تلف مال موجود، أو نحو ذلك.
وكذا دعوى كل شئ ينافي صحة العقود والإيقاعات فيما يتعلق بحق الغير،
كدعوى فوات شرط من شروط المتعاقدين أو من شروط العوضين أو من شروط
الإيجابين أو من شروط المعاوضة بنفسها، ودعوى ضم شرط مفسد إليه، ودعوى
عدم لحوق ما هو شرط في الصحة كالقبض في بعض العقود، فإن بعد وقوع العقد

(1) كذا، والمناسب: ونحوها.
604

منهما وترتب الأثر عليه لا يسمع منهما بعد ذلك دعوى الفساد إلا ببينة.
وكذا دعوى وجود عيب في الأموال المعاوض عليها، أو المقبوضة بقبض
ضمان، أو طريان العيب على نحو يوجب الضمان لغير المالك - كالحادث بين
العقد والقبض في البيع والإجارة ونحوهما (1) - فإنها منافية لأصالة الصحة في
الشئ.
وكذا دعوى وجود شئ مسبوق بالعدم معارض بأصالته، كدعوى وجود عقد
من العقود، أو قبض أو إذن، أو إتلاف، أو جناية، أو تصرف، أو تعد، أو اشتراط
خيار، أو شرط آخر، وتعيين أجل، أو نحو ذلك، فإن من أنكر وجوده فعليه اليمين
ما لم يكن مدعيا من جهة أخرى.
وكذا دعوى ملكية ما في يد الغير، أو انتساب ما في فراش الغير، فإنهما
منافيان لما مر من الأصل.
وهذه الأمور التي ذكرناها يدور عليها مدار المسائل المفروضة في كتب
الأصحاب أو من خارج (2).
وثانيها (3): أن الدعوى إن تعلقت بشئ في الذمة أو بشئ في الخارج،
فالاخر إما أن ينفي ذلك بالمرة، أو ينفي ذلك ويثبت شيئا آخر، سواء كان المدعى
به عوض عقد من العقود، أو اشتراط شرط، أو ذكر أجل، أو كيفية للقبض - ككونه
رهنا أو وديعة أو مالا مقبوضا (4) بقبض ضمان أو بغيره حيث تعلق به غرض
كالمشروط قبضه في ضمن عقد - أو كان متعلق عقد، كالوكالة أو نحو ذلك.
وبعبارة أخرى: الشئ المدعى به إما أن يكون الاخر ينفيه ويسكت، أو يثبت
شيئا آخر، فعلى الأول لا بحث في معرفة المدعي والمنكر، وعلى الثاني:
فإما أن يكون ما أثبته داخلا تحت ما نفاه بحيث لو ثبت ما نفاه لثبت ذلك أيضا

(1) في (ن، د): نحوها.
(2) في (م) بدل (أو من خارج): وغير المفروضة.
(3) أي: ثاني الأمور، تقدم أولها في ص: 603.
(4) في (ن، د) مال مقبوض.
605

وزيادة، فيكون من باب الأقل والأكثر، فيكون المنكر حينئذ من نفي الزائد، كما لو
قال البائع: (إن المبيع من) وقال المشتري: (منان). وكذا لو اختلف الزوجان في
المهر بخمسة، وعشرة من جنس واحد من وصف واحد، وقس على ذلك سائر
الصور والفروض.
وإن كان ما أثبته غير داخل تحت ما نفاه، إما لاختلاف جنس، كخمس من
حنطة مع عشرة من شعير، أو كدبس وعسل، أو كفرش وثوب. أو وصف كخمس
من حمراء مع عشرة من بيضاء، أو دار في كذا مع دار في غيره، أو فرس عربي مع
خراساني (1) ونحو ذلك، ففي هذا الفرض كل منهما مدع ومنكر غالبا.
وقد يكون المثبتان أيضا أحدهما مدعيا والاخر منكرا إذا وافق قول أحدهما
لأصل من الأصول، لانحلاله في المعنى إلى نفي وإثبات، كدعوى الحلول
والتأجيل في العقد، فإنه راجع إلى عدم التقييد ووجوده، ونحو ذلك.
وثالثها: أنه على تقدير اشتباه المدعي والمنكر وعدم وضوحهما، لا ريب أن
المخرج الشرعي إنما هو الصلح، لعدم طريق غيره. وفي استعمال القرعة أيضا
وجه بناءا على عدم خلو أحدهما عن أحدهما. وأما على احتمال إمكان فرض
لا يصدق على أحدهما المدعي ولا المنكر - كالخنثى في الذكور والإناث - فيمكن
القرعة أيضا بناءا على تعميم دليله، وقد مر سابقا (2). ويحتمل توجه الحلف على
كل منهما فيسقط كلامهما.
وربما يتخيل: أن هذا مخالف للقواعد، لأصالة عدم ثبوت اليمين عليه ما لم
يثبت أنه منكر أو لم يرد عليه اليمين، ولأصالة عدم ترتب الأحكام اللاحقة
للتحالف على تحالفهما من فسخ أو انفساخ أو سقوط، أو نحو ذلك.
ويمكن أن يقال: إن الصور الواقعية المحتملة حينئذ أربعة: فإن كلا منهما: إما

(1) بدلها مصحح (م) ب‍: أو فرس نجدية مع خراسانية.
(2) راجع العنوان 11، ج 1 ص 340.
606

مدع أو منكر [أو مدعي (1) ومنكر] (2) أو أحدهما مدع والاخر منكر، أوليس أحد
منهما بمدع ولا منكر. أما الأخير ففاسد، لوضوح التشاجر وجر كل منهما النفع إلى
نفسه. وكذا الأول، إذ لا يعقل كون كل منهما مدعيا إلا مع فرض كون الاخر غير
راض بما ادعاه الأول فيكون ذلك منكرا، فكونهما مدعيين بدون منكر منهما غير
معقول، وكذا كون كل منهما منكرين بلا مدع، فانحصر الطريق في الواقع: إما بكون
أحدهما مدعيا والاخر منكرا، أو بكونهما متداعيين، فعلى تقدير كونهما متداعيين
فالتحالف في محله.
وعلى الفرض الأول فنقول: لا ريب في ثبوت اليمين على أحدهما، ولكنه
مشتبه، فيحلفان معا فتسقط الدعوى، فتأمل.
لكنه على فرض وجود البينة لأحدهما يشكل الأمر على القول بعدم سماع
بينة المنكر، إذ لعله صاحب البينة، وكذا في صورة التعارض. ويحتمل فيه كونه
كالتحالف فتسقط الدعويان، ويعمل على القاعدة من قسمة أو انفساخ أو نحو
ذلك، كما يظهر من موارد التحالف.
ورابعها: أنه على فرض حصول الشك في أنه مورد التحالف أو مورد تعلق
اليمين بأحدهما يمكن هناك صورتان:
إحداهما: العلم بكون أحدهما مدعيا والاخر منكرا، لكن وقع الشبهة في
العكس. وثانيتهما: عدم العلم بوجود مدع ومنكر [معين] (3) أيضا، فيتركب الشك
من أصل معرفة المدعي والمنكر، ومن معرفة كون المدعي منكرا أيضا والمنكر
مدعيا وعدمه.
أما في الصورة الأولى: فلا ريب في توجه اليمين على المنكر المعلوم كونه
كذلك وإن شك في كونه مدعيا أيضا. وأما توجه اليمين على المدعي المشكوك
كونه منكرا فعلى خلاف القاعدة، فيقتصر فيه على الأول، ولا يتوجه اليمين على
المدعي إلا بعد تنقيح كونه مصداقا للمنكر، وما لم يثبت فلا يمين، وتسقط الدعوى

(1) كذا، والظاهر: مدع.
(2) لم يرد في (ن، د).
(3) لم يرد في (ن، د).
607

بيمين واحدة. وهذا أغلب صور الشك كما لا يخفى على من راجع اختلاف
الأصحاب في الحلف والتحالف في الدعاوي المفروضة في تنازع (1) العقود.
وأما الصورة الثانية: فيعلم حكمها مما سبق.
وخامسها: أنه في صورة الاختلاف في قدر العوضين كالثمن أو المثمن
والأجرة والمنفعة أو المهر، أو الشرائط كالاختلاف في شرط أمر أو أمرين، أو
الأجل في الزيادة والنقصان. وبعبارة أخرى: كلما كان النزاع في الأقل والأكثر في
باب العقود - وهي غالب الفروض المذكورة في كلمة الأصحاب - قد ذكرنا: أن
اليمين على منكر الزيادة، والوجه واضح.
وربما قيل في أغلب ذلك بالتحالف مدعيا: أن العقد شئ واحد معين وقد
شك في وقوعه كذلك، وهكذا...، فكل منهما يدعى ما ينكره الاخر، وليس هذا
كدعوى مال في الذمة ابتداءا، فيصير كل منهما مخالفا للأصل، فيتحالفان فيرتفع
المعاوضة (2) إذا أمكنت، ويرجع إلى القاعدة في مثل النكاح، وإلى أجرة المثل في
مثل الجعالة بعد العمل.
وفصل الشهيد الثاني رحمه الله في النزاع في قدر الجعل في باب الجعالة بأنه إن كان
الاختلاف في اللفظ بأن قال الجاعل: (إني قلت: خمسين) وقال العامل: (قلت:
مائة) فهذا موضع تحالف، لمخالفة كل من الكلامين للأصل وعدم مرجح. وإن كان
النزاع في الاستحقاق كما لو قال: (أستحق عليك مائة) فقال: (لا، بل خمسين)
يحلف منكر الزيادة، لأصالة البراءة (1).
وهذا التفصيل يجري في سائر العقود أيضا، مع أنه لم يذكر ذلك في الثمن
والمثمن وأجرة الإجارة ونحو ذلك، فيكون في الاختلاف في القدر وجوه ثلاثة:
التحالف، وحلف منكر الزيادة، والتفصيل في صورتي النزاع.

(1) في (د): تتابع.
(2) كذا، ولعل الصواب: المعارضة.
(3) انظر الروضة 4: 452 - 453، فإنه قدس سره في الصورة الأولى لم يجزم بالتحالف، بل نسبه إلى
قائل، وقوى تقديم قول المالك.
608

والحق: أنه يحلف منكر الزيادة مطلقا، حتى لو وقع النزاع في اللفظ أيضا،
فإن الأصل في اللفظ وإن كان معارضا، ولكن الأصل الحكمي - وهو البراءة عن
الزائد - سليم عن المعارض، وعلى ذلك يدور كلام الأصحاب في كل باب.
تنبيه:
مما ذكرنا ظهر: أن العمدة معرفة المدعي والمنكر، وهو من جملة المباحث
الغامضة. وفيما ذكرناه كفاية لمن تدبر، لانطباقه على جميع الموارد عند من له نظر
ثاقب، ومن هنا تتنبه على حل الإشكال المعروف في نزاع المشتري والشفيع في
قدر الثمن، وفي نزاع الزوج والزوجة أو الزوجة وورثة الزوج في كون نكاحها
دائما أو منقطعا.
ومثله في المقامات التي ينازع في إثبات الأحكام التي يقتضيها إطلاق العقود
من تعجيل ونحوه، فإن البحث في أن أصالة عدم التقييد هل يثبت دوام النكاح
وحلول الثمن مثلا، أم لا بل هما من لوازم الإطلاق الواقعي. وأصالة العدم لا تثبت
الإطلاق؟
والذي نختاره: هو إجراء أحكام الإطلاق، فيحكم في تنازع الزوجة بالدوام
وإن كان بعض مشايخنا المعاصرين (1) يمنع من ذلك، فتدبر.

(1) في هامش (د): هو الشيخ المؤتمن شيخ محمد حسن الغروي نور الله مرقده، وفي هامش
(ن): الشيخ محمد حسن. والظاهر المراد به صاحب الجواهر قدس سره.
609

(العنوان الثامن والسبعون)
(كل من يسمع قوله فعليه اليمين
مدعيا كان أو منكرا)
611

عنوان
] 87 [
كل من يسمع قوله فعليه اليمين، منكرا كان أو مدعيا، كما في تصديق ذي اليد
أحد المدعيين، وقبول قول المرتهن في الأنفاق على الرهن، وقبول قول الراهن:
(إني دفعت المال عن الحق المرهون به دون غيره)، أو (عن أحد الرهنين دون
الاخر)، وقبول دعوى الشريك شراء شئ لهما أو له، ودعوى الودعي الأنفاق
على الوديعة، وقول المستأجر في الأنفاق، وقول الامناء في التلف، وقبول قول
الوكيل في التصرف وفي ثمن المبيع والمتاع، ودعوى المشتري كثرة الثمن في
الشفعة في أحد الوجهين، ودعوى الوارث بعد إجازته ما زاد عن الثلث أنه زعم
القلة، وقبول دعوى الغاصب في التلف، ودعوى الملتقط في الأنفاق، فإن كل ذلك
مما قدم فيه قول المدعي، ولكنه بيمين عليه. وأما مقامات توجه اليمين على
المنكر ففي الكثرة بحيث لا تعد ولا تحصى.
وبالجملة: الذي يسمع قوله: إن كان منكرا فلا كلام في ثبوت اليمين عليه
بعموم القاعدة السابقة، والإجماع، وخصوص ما ورد من النصوص في الباب (1).
وإن كان مدعيا: فإن كان سماع قوله بعد رد اليمين من المنكر أو من الحاكم
بعد نكول المنكر، فلا بحث أيضا في ثبوت اليمين عليه، إذ لا يقدم قوله حينئذ إلا

(1) راجع العنوان: 76، ص: 588.
612

بحلفه اليمين المردودة، ولو نكل سقط دعواه، إلا في مقامات لا يمكن فيها رد
اليمين عليه، وهي خارجة عن البحث.
وإن كان سماع قوله ابتداءا من دون حاجة إلى رد اليمين أو النكول كما في
المواضع التي أشرنا إليها وغير ذلك - كما يظهر بعد التتبع - فلابد حينئذ من اليمين
أيضا، إلا في ما دل الدليل على نفيه فيه، والوجه في ذلك أمور:
أحدها: ظهور الإجماع من الأصحاب على أن من قدم قوله فلابد فيه من
اليمين، بحيث يحتاج (1) في نفيه إلى دليل دون إثباته، كما لا يخفى على من راجع
كلامهم. وليس هذا إجماعا في الموارد الخاصة حتى لا ينفع في مورد الشك، ولا
إجماعا على الاستغراق حتى لا يقبل التخصيص بعد تحققه، بل هذا إجماع على
القاعدة، بمعنى: أن البناء فيما لم يدل دليل على عدم اليمين فيه على ثبوته
إجماعا، نظير أصالة الطهارة والبراءة، ونحو ذلك من القواعد المجمع عليها.
وثانيها: ما حصل من الاستقراء والتتبع في هذا المقام في النصوص وكلام
الأصحاب، فإن الغالب في من يقدم قوله اليمين، غلبة تكاد تبلغ حد الاستيعاب،
ولم يخرج عن ذلك إلا مواضع نادرة جدا، بل هي أيضا ليست من باب الدعاوي
والتنازعات في الحقيقة، ففي باب الدعوى لا أظن ما خرج منه إلا في غاية الندرة،
سواء كان ثبوت اليمين فيما ثبت بالنص كما هو في كثير من الموارد، أو بالإجماع
كما في بعض، فمورد الشك الخالي عن نص وإجماع يلحق به بعد هذا الاستقراء
المقارب للتمام، المفيد للظن المتاخم للعلم.
وثالثها: أن سماع قول المنكر قد عرفت أنه بنص وإجماع محتاج إلى اليمين،
مع أن كلامه إما موافق لأصل أو لظاهر، وخلافه مخالف لأصل أو لظاهر أولهما،
فسماع قول المدعي لابد أن يتوقف على اليمين بالأولوية، لأن قوله أضعف من
قول المنكر، فكيف يعقل سماع قوله بلا حجة أصلا مع أن قول الأقوى لا يسمع
إلا بحجة؟

(1) في (ف، م): يحتاجون.
613

لا يقال: إن قول المدعي من جهة ضعفه لا يسمع إلا بحجة أقوى وهي البينة،
ومتى ما دل الدليل على عدم الحاجة إلى البينة فلا حاجة إلى اليمين أيضا.
لأنا نقول: مع وجود البينة لا حاجة إلى اليمين لأنه الحجة الأقوى، وأما مع
الدليل على عدم لزومها لا يلزم سقوط اليمين، إذ لا أقل من التساوي مع المنكر،
ونفي الأشد لا يستلزم نفي الأضعف.
لا يقال: ظاهر التفصيل في البينة واليمين ينفي تعلق اليمين على المدعي، فإما
أن قوله مسموع مع البينة، أو مسموع بلا حجة، وأما اليمين فلا.
لأنا نقول: ظاهر التفصيل كذلك، لكنه في مقام التفصيل بمعنى وجود البينة أو
يمين المنكر، فإن مع البينة لا عبرة بيمينه، كما لا عبرة بيمينه مع يمين المنكر أيضا،
فمتى ما دل الدليل على عدم اعتبار البينة في مقام فقد خرج عن التقابل وكون
اليمين على المنكر، فلابد من ثبوت اليمين على المدعي بالأولوية من المنكر في
صورة التقابل، كما عرفت.
ورابعها: دعوى الأولوية من صورة انضمام اليمين مع الشاهد الواحد في
المدعي، فإن قوله إذا انضم إليه خبر العدل الواحد لا يسمع أيضا إلا بيمين كما في
الماليات، فكيف يسمع هنا بلا بينة ولا يمين؟ ولا ريب في اقتضاء الأولوية ثبوته
مطلقا.
وخامسها: دعوى تنقيح المناط والمساواة وعدم الفرق بين المنكر والمدعي
في ذلك، فإذا ثبت في المنكر ففي المدعي كذلك، أو عدم الفرق بين الصور
المشكوكة وبين الصور التي دل فيها النص أو (1) الإجماع على ثبوت اليمين،
فتدبر.
وسادسها: أن الظاهر من قوله: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) (2)
أمران:
أحدهما: تمييز الوظيفتين وكون كل منهما لواحد من الشخصين. وثانيهما: أنه

(1) في (ن، د) بدل (أو): و.
(2) عوالي اللآلي 2: 345، ح 11.
614

لا يسمع قول أحدهما بلا حجة. وبعبارة أخرى: مساق هذه العبارة يقضي بكون
الاحتياج في الدعوى في تقديم قول أحدهما إلى حجة ومرجح من المسلمات
والواضحات، وإنما البحث بقي في تعيين ذلك، فجعل الشارع الوظيفتين وعينهما.
وأما أن أصل الحاجة إلى مرجح فهو مسلم، ونظير ذلك في العرف واضح، فإن في
صورة اختلاف زيد وعمرو لو قال قائل: إن قول زيد لا يقبل إلا بتصديق بكر
وقول عمرو لا يقبل إلا بتصديق خالد علم من هذه العبارة - مضافا إلى معرفة
الضميمتين - أن قول شئ (1) منهما لا يقبل بلا مرجح، فيصير النبوي المعروف ذا
دلالتين، فيدل بسياقه على الحاجة إلى الحجة كيف كان وليست إلا البينة واليمين،
فمتى ما دل الدليل على نفي البينة فانحصر الطريق في اليمين، وذلك واضح.
وسابعها: أن مقتضى الاعتبار العقلي أيضا كونه كذلك، فإن المتداعيين من
جهة كونهما - مثلا - مسلمين مؤمنين متساويين في العبودية في نظر الشارع
لاوجه لترجيح قول أحدهما من دون شئ يكون حجة وكاشفا عن الواقع رادعا
عن الباطل، مع تساويهما من سائر الجهات، ولا ريب أن بعد تساقط كلاميهما
لا مرجح سوى اليمين، لنفي البينة بالدليل، ولا ثالث بالإجماع.
ولو فرض ورود دليل مطلق في سماع قول المدعي بحيث يكون نافيا لليمين
في الظاهر فلابد من التأمل فيه، فإن كان إطلاقه مسوقا لبيان سماع القول بلا بينة
فلا دلالة فيه على نفي اليمين، فيثبت اليمين بقاعدة أخرى، كما ذكره الأصحاب
في مقامات كثيرة مع كون النص مطلقا، ومنعوا من لزوم تأخير البيان عن وقت
الحاجة، غايته لزوم تأخيره عن وقت الخطاب، وإطلاقه لا ينافي ثبوت اليمين من
قاعدة أخرى. نعم، لو كان صريحا في نفي اليمين أو مطلقا بحيث يدل على نفيه
كنفي البينة، فلا نتحاشى حينئذ من سقوط اليمين.
وظاهر الأصحاب في باب العبادات المالية - كالزكاة والخمس ونحو ذلك -

(1) كذا، والمناسب: أحد منهما.
615

سماع قول المالك في الأداء، وسماع قوله في اختلال الشرائط، وسماع قول الفقير
في دعوى الفقر من دون بينة ويمين. ولعلهم استندوا في ذلك إلى نص أو إجماع
في هذه المقامات، وإلا فبدونهما فالحكم لا يخلو من إشكال وإغلاق، ولذلك منعه
عليهم جماعة (1) وتوقف آخرون (2). وللمسألة مقام آخر.

(1) لم نعثر على من صرح بالمنع من قبول قول مدعي الفقر إذا لم يعلم حاله، إلا أن الشيخ قدس سره
قال بتوقف قبول قوله على البينة في بعض صور المسالة، انظر المبسوط 1: 247.
(2) لم نعثر على من صرح بالتوقف أيضا، إلا أن صاحب المدارك قدس سره قال: والمسألة محل
إشكال، انظر المدارك 5: 202.
616

(العنوان التاسع والسبعون)
(كل شئ لا يعلم إلا من
قبل مدعيه يسمع قوله فيه)
617

عنوان
] 97 [
مقتضى القاعدة عدم سماع قول المدعي إلا بالبينة، ولكن هنا قاعدة أخرى،
وهي: (أن كل شئ لا يعلم إلا من قبل المدعي يقبل قوله فيه)، وقد مر كثير من
أمثلة هذا الباب في العنوان السابق الذي ذكرنا فيه موارد سماع قول المدعي مع
اليمين، فإن أغلبها فيما لا يعلم إلا من قبله.
ومن هذا الباب: قول مدعي أداء الزكاة والخمس ونحوهما، ومدعي اختلال
شرائط الوجوب على أحد الوجهين. ومن هذا الباب أيضا: سماع قول الزوجة
المستطيعة إلى الحج بحسب المال في دعوى عدم الخوف عليها وظنها السلامة مع
دعوى الزوج الخوف عليها، فإن ذلك شئ لا يعلم إلا من قبل الزوجة نفسها، لأن
الخوف أمر نفساني. ومن هذا الباب أيضا: سماع دعوى مجيز النكاح بعد موت
الطرف الآخر في صغيرين أو كبيرين أو ملفقين: أنه ما دعاه إلى الإجازة الطمع
في الميراث، كما ورد في النص (1). وكذلك دعوى إرادة الزوجة جنسا في فدية
الخلع كما ذكروه في بابه، وسماع قول المطلق في عدم القصد في الطلاق الرجعي،
ويجئ توضيح ذلك. وكذلك سماع قول النساء في الطهر والحيض، وفي العدة،
ووجود البعل وعدمه. ودعوى الصغير الاحتلام، أو الأسير استعجال الشعر على

(1) راجع الوسائل 17: 527، الباب 11 من أبواب ميراث الأزواج.
618

العانة بالدواء حتى يسلم من القتل، ونظائر ذلك مما يطلع عليه المتتبع.
والوجه في قبول قول المدعي هنا من دون بينة أمور:
أحدها: ظهور الإجماع القطعي من الأصحاب على ذلك، فإنهم في هذه
المقامات يحكمون بسماع قوله مع يمينه، بحيث يستفاد منهم كون ذلك من
المسلمات المتفق عليها، لعدم النكير منهم في ذلك. وتعليلهم بأنه شئ لا يعلم إلا
من قبله، يرشد إلى أن القاعدة مجمع عليها عندهم، كما ذكرناه في العنوان، فلا يرد
البحث بعدم ثمرة الإجماع في مورد الشك، أو عدم إمكان التخصيص، كما ذكرناه
في البحث السابق. وفتواهم بذلك مع تعليلهم به أقوى حجة على ذلك، فإنه مع
كونه دليلا برأسه كاشف عن وجود دليل آخر كذلك.
وثانيها: ما علل به في مثل دعوى الغاصب أو غيره - من أصحاب أيدي
الضمان أو غيره (1) - التلف، فإنه يقبل قوله، للزوم تخليده الحبس لو لم يسمع قوله
حيث لا يتمكن من الأثبات، ولعله في الواقع صادق. وهذا التعليل ينطبق على
كثير من الموارد، ولا فرق بينها وبين غيرها، لعدم القول بالفصل أصلا.
وثالثها: أن ظاهر قوانين الشرع كون كل شئ فيه مخرج من الشرع، وإلا
فوجود شئ من التنازعات لا مخرج له شرعا ولا مخلص غير معلوم، كيف!
والشرع مبني على قطع الخصومات وطي الحكومات، فإذا كان المدعى يدعي
شيئا لا يمكن فيه الأثبات بالبينة، فإذا بنينا أنه لا يسمع قوله أيضا إلا أن يثبت
وهو غير مخرج ولا مخرج غير ذلك لزم العجز عن قطع الخصومة وبقاء التشاجر،
وينافيه وضع الشرع، وليس الدافع إلا سماع القول مع اليمين، كما لا يخفى على
من تدبر، وإن احتمل غيره في بادئ النظر.
ورابعها: ملاحظة الاستقراء والتتبع في أغلب هذه الموارد، فإنه مورد نص أو
إجماع غالبا، والمشكوك فيه يلحق بذلك أيضا.

(1) كذا، والظاهر كون (أو غيره) زائدا.
619

وخامسها: دعوى تنقيح المناط وعدم الفرق بين ما دل فيه النص على السماع
كما في حسنة زرارة في باب كون الحيض والعدة للنساء متى ادعت صدقت (1)،
وبين غيره، إذ نحن نعلم أنه أن العلة ليس إلا عدم إمكان الاطلاع حتى يمكن
الأثبات بالبينة، وهو موجود في غير مورد النص، والفارق ملغى.
وسادسها: ما ورد صريحا في بعض روايات المسألة من التعليل بأنه لا
يستطيع أن يشهد عليه - على ما رواه بعض مشايخنا المعاصرين (2) - وإن لم أعثر
عليه في كتب الأخبار لقلة التتبع، فإن هذا التعليل بمنزله القضية الكلية في سماع
قول المدعي في كل مقام لا يستطيع الأشهاد عليه، وهو الذي نعبر عنه بأنه (شئ
لا يعلم إلا من قبله).
ووجه عدول الأصحاب عن هذه العبارة بتلك العبارة (3) أن ليس عدم
استطاعة المح عي هو الداعي إلى قبول قوله، لأنه ربما تكون البينة غير موجوح ة
من الأصل أو ميتة (4) - أو نحو ذلك - ولا يقبل فيه قوله، بل المراد: كون الدعوى
مما لا يستطاع إقامة البينة عليها أصلا في حد ذاتها، ولذلك عبروا بأنه شئ لا
يعلم إلا من قبله، فكيف يطلع عليه غيره؟ فتدبر.
وسابعها: أن سماع قول المنكر بيمينه ليس إلا من جهة كون دعواه راجعة إلى
النفي في مقابل دعوى المدعي الأثبات، والنفي مما لا يمكن الأشهاد عليه إلا في
مقام يرجع إلى الأثبات، فينبغي أن يكون المدعي أيضا إذا ادعى شيئا لا يمكن
الأشهاد عليه يقبل قوله بيمينه، فتأمل.
إذا عرفت هذا، فنقول: لا ريب أن سماع قول المدعي فيما لا يمكن الأشهاد

(1) الوسائل 2: 596، الباب 47 من أبواب الحيض، ح 1.
(2) في هامش (ن): الشيخ محمد حسن. والظاهر: أن المراد به صاحب الجواهر قدس سر ه، لكن لم
نقف على الرواية في الجواهر، ولم نعثر عليها في كتب الأخبار أيضا.
(3) كذا، والظاهر: عن تلك العبارة بهذه العبارة.
(4) كذا في أصول النسخ، وغيرها مصحح (م) ب‍: أو ذهبت بعد.
620

عليه إنما هو في صورة عدم إظهار خلافه، فإن إقراره وظواهر كلامه حجة على
نفسه، فلا يسمع بعد ذلك دعوى خلافه وإن لم يعلم إلا من قبله، وحيث يمكن
استعلامه بإقراره أو بظاهر كلامه ذكر الأصحاب فيه اليمين، وإلا لم يتوجه دعوى
المنكر خلافه حتى يحتاج إلى يمين، لأن الفرض أن المنكر لا يطلع عليه حتى
يدعيه، ويشترط في توجه الدعوى كون الشئ مما يمكن كون المدعي عالما به.
وكذا في صوره توجه اليمين على المنكر أيضا يشترط كون الدعوى مما
يمكن الاطلاع عليه المدعي، ويكفي في ذلك إمكان استعلامه بإقرار المنكر مثلا،
فلا يضر كونه مما لا سبيل إليه. وبهذا المعنى علل جماعة من الأصحاب في توجه
اليمين (1) في كثير من الأبواب.
فنقول: لو ظهر من إقرار المدعي أو من ظاهر كلامه ما ينافي ما ادعاه ثانيا لا
يقبل قوله حينئذ، لأنه مكذب لنفسه وإن كان الشئ مما لا يعلم إلا من قبله، لأن
ذلك علم من قبله في الحقيقة، ولذلك لا يسمع دعوى المقر أو البائع - أو غير ذلك
من العقود والإيقاعات - عدم كونه قاصدا للمعنى بعد الوقوع، فإن ظاهر ما صدر
منه من العقد والإيقاع كونه قاصدا، فدعوى خلافه غير مسموعة وإن كان هذا مما
لا يستطيع الأشهاد عليه، فإن عدم القصد في القلب مما لا يطلع عليه غير المدعي
ومع ذلك فهو غير مسموع، لمنافاته لظاهر ما صدر منه.
وبالجملة: حيث إن ظواهر الألفاظ والأقارير حجة على القائل فلا يكون مما
لا يعلم حتى يقبل قوله، بل يكون مما علم خلافه شرعا، فتدبر، فإن في ذلك فتح
باب عظيم وحل إشكال عن المقام كذلك.
وأما قولنا في الطلاق الرجعي لو ادعى الزوج عدم القصد أو عذرا آخر قبل
خروج العدة يسمع مع أن ظاهر صدور الصيغة منه خلافه، فلا إشكال فيه، لأن هذا
ليس دعوى متعلقة بالغير، لجواز رجوعه على زوجته وإن كان في الواقع طلقها،

(1) لم نعثر على التعليل المذكور في كلماتهم.
621

فالزوجة لا تقدر على المعارضة. وأما كون ذلك في الواقع طلاقا ورجوعا أو
بدون ذلك، فيظهر ثمرته في الطلاق الثالث المحرم ونحوه، وهو تكليف متعلق
بالزوج، وهو أبصر بنفسه ويعرف تكليفه. نعم، متى ما عارض حق الغير فلا يسمع،
بل يؤخذ بالظاهر كما لو ادعى ذلك في الطلاق البائن أو في الرجعي بعد خروج
العدة، فإنه لا يسمع إلا بتصديق الزوجة، فتدبر.
622

(العنوان الثمانون)
(في ذكر قواعد مختصرة تتعلق بالقضاء)
623

عنوان
] 08 [
يذكر فيه قواعد مختصرة، أشار إلى بعضها الشهيد رحمه الله ونشير إلى ما هو الوجه
فيها على سبيل الإجمال، حتى يعتمد عليها في مقاماتها.
قاعدة [1]
النكول ليس حجة على الناكل.
للأصل. وعدم دلالته على المدعى، لجواز كون ترك اليمين للتعظيم، كما ورد
من فعل الأئمة عليهم السلام كذلك تعظيما لله تبارك وتعالى (1).
وظاهر النص عدم ثبوت قول أحدهما إلا بالبينة أو اليمين (2). وما ورد في
بعض الأخبار: من أن بالنكول يلزمه الحجة (3) قضية في واقعة لا يتسرى إليها (4) أو
غير مسموعة في قبال ما هو أقوى منها.
نعم، استثنى الشهيد رحمه الله مواضع وقال: يحكم فيها بالنكول (5).

(1) الوسائل 16: 117، الباب 2 من كتاب الأيمان، ح 1.
(2) راجع الوسائل 18: 167، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
(3) الوسائل 18: 222، الباب 33 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، ح 1.
(4) كذا، والظاهر: لا يتسرى منها إلى غيرها.
(5) القواعد والفوائد 1: 412، القاعدة: 152.
624

كدعوى المالك تبديل النصاب أو إخراج الزكاة لو قلنا بأنه يسمع مع اليمين
ونكل. والحق أنه ليس من هذا الباب.
وكصورة كون المدعي غير المالك مع تعذره - كالقاضي، وناظر المسجد
والوقف، والوصي، ونحو ذلك - مع نكول المدعى عليه. والوجه في ذلك: عدم
وجود مخرج للدعوى إلا يمين المنكر، أو القضاء عليه بنكوله، لعدم جواز يمين
المدعي هنا، وقس على ذلك غيره.
قاعدة [2]
الحلف لإثبات مال الغير غير جائز.
والوجه فيه: الإجماع. وعدم إمكان الاطلاع على أفعال الغير غالبا. ولأن
الحلف إنما هو لحصول الوثوق بالواقع، ولا يوجبه حلف الغير، لجواز عدم اطلاعه
بما اطلع عليه أصل المدعي والمنكر، والعمدة في ذلك: علمهما وإقرارهما ولا
ثمرة في ذلك ليمين الغير. ولأن مقتضى الأدلة كون اليمين والبينة على المدعي
والمنكر، ولم يقم دليل على جواز النيابة والوكالة والولاية فيه، ومقتضى الأصل
عدم ترتب الآثار إلا بعد ثبوت كون يمينه كيمين الأصل، ولا دليل عليه.
ودعوى: صدق (المنكر) على الوكيل والولي والوصي، فيتوجه عليه اليمين -
كما أن (المدعي) يصدق عليهم، فيتوجه عليه (1) اليمين المردودة - مدفوعة بمنع
ذلك، بل دعواه دعوى الأصل، وإنكاره كذلك، وكون دعواه وإنكاره نائبا مناب
الأصيل والمولى عليه لا يقتضي كون حلفه كذلك، فتدبر.
وهاهنا صور اختلف فيها:
كامتناع المفلس من الحلف مع وجود شاهد بدين له، أو (2) امتناع ورثة
المديون عن الحلف مع وجود شاهد بدين للميت، فإنه يحتمل فيهما جواز حلف
الغرماء مع الشاهد. أو لم يكن هناك شاهد ورد المدعى عليه اليمين أو نكل، فإنه

(1) كذا، والمناسب: عليهم.
(2) في (ف، م) بدل (أو): و.
625

يمكن القول بالرد على الغريم. وصورة إحبال الراهن الجارية، ودعواه إذن
المرتهن مع نكول المرتهن والراهن، فإنه يمكن إحلاف الأمة. وفي صورة الوصية
لام ولد بعبد فوجد مقتولا بعد الوفاة وهناك لوث، فإنه لو نكل الورثة عن اليمين
يحتمل إحلاف أم الولد، كما ذكره الشهيد رحمه الله في قواعده (1).
قاعدة [3]
الحلف: إما على إثبات، كما في ضميمة الشاهد، واليمين المردودة من المنكر
أو الحاكم مع النكول، ويمين المدعي فيما لا يعلم إلا من قبله. وإما على نفي،
كيمين المنكر.
وعلى التقديرين: فإما على فعل نفسه، أو على فعل غيره، فهذه أقسام أربعة.
والحلف في الكل على البت والقطع، إلا في الحلف على نفي فعل الغير، فإنه
على نفي العلم. والوجه في ذلك: أن المتبادر من الأدلة كون الحلف إثباتا ونفيا
على نفس المدعي، كما أن البينة عليه فقوله: (اليمين على من أنكر) يعني: على
مضمون إنكاره، لا على عدم علمه بذلك، فكونه على البت إنما هو مقتضى الأدلة،
مع أن الحلف على عدم العلم لا يعد عرفا حلفا على ذلك المدعى. وأما في صورة
نفي فعل الغير، فحيث إن الحلف يعتبر فيه القطع ولو شرعا وهو لا يمكن غالبا
حصوله في نفي فعل الغير - لعدم انحصاره، وعدم جريان أصالة عدم الفعل،
لمعارضته بغيره بعد القطع بصدور فعل منه - اكتفي على نفي العلم حذرا من الحلف
على ما لا يعلم.
ومن هنا ظهر: أن فعل الغير لا خصوصية له، فنقول: لابد من كون اليمين على
البت إلا فيما لم يمكن الاطلاع عليه غالبا، ولذلك لو كان فعل الغير راجعا إلى
نفسه بحيث يتمكن من الاطلاع لزمه الحلف على البت، كما لو ادعي عليه جناية
بهيمته (2) وأنكر، نظرا إلى أن البهيمة لا ذمة لها والتعلق بذمة المالك فرع التفريط،

(1) القواعد والفوائد 1: 423، القاعدة: 158.
(2) في (ن، د): بهيمة.
626

فتصير الدعوى راجعة إلى ما يمكن الاطلاع عليه، فيعتبر القطع.
ويمكن دعوى ذلك فيما لو ادعي جناية عبده لو قلنا: بأن العبد لا ذمة له
أيضا.
قاعدة [4]
كل ما لم يرد فيه حد من الشرع في المعاصي، ففيه التعزير.
والوجه فيه: عموم ما دل على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وما دل على
الإعانة على البر والتقوى، ومن جملة أفراده: تعزير العاصي. ولا يكون مجرد سكوت
الشارع عن بعض المعاصي وعدم وجود تحديد فيه دالا على العفو بدون ذلك.
وتحديده موكول إلى نظر الحاكم، لأنه طريقة الأمر والنهي، فيعزر بما يرى
أنه يؤثر. مضافا إلى ما مر من عموم دليل ولايته (1).
قاعدة [5]
فاعل الكبائر يقتل في الرابعة بالنص والإجماع مع تخلل الحد في الأول (2).
وفي الثالثة قولان معروفان مبنيان على معرفة معنى الروايات، فراجع (3).
والأحوط القتل في الرابعة، استصحابا لاحترام الدم، وإن كان في رواية
يونس: أصحاب الكبائر كلها إذا أقيم عليهم الحد [مرتين] (4) قتلوا في الثالثة (5).
قاعدة [6]
كل ما لم يرد فيه دية في الشرع من الجنايات، ففيه الحكومة.

(1) مر في العنوان: 74.
(2) كذا، ولم نتحقق معنى (في الأول) وفي رواية يونس الآتية: إذا أقيم عليهم الحد مرتين...
(3) راجع الوسائل 18: 313، الباب 5 من أبواب مقدمات الحدود.
(4) أثبتناه من المصدر.
(5) الوسائل 18: 313، الباب 5 من أبواب مقدمات الحدود، ح 1.
627

والوجه: أن قاعدة الضمان تقضي بالقيمة، خرج ما ورد من الشرع النص على
اعتبار قدر معين، وبقي الباقي تحت الدليل، فيقوم صحيحا ومعيبا بالجناية،
ويؤخذ ما به التفاوت.
وهذه القاعدة في العبد باقية على ذلك، فإن في إتلافه قيمته، وفي أطرافه
بالنسبة. نعم، لو زادت قيمته عن دية الحر زدت إليها. قيل: إلا في الغاصب، فإنه
يؤخذ بأشق الأحوال (1). وفي الحر انخرمت فيما له مقدر دون غيره، فيكون العبد
أصلا للحر فيما لا مقدر له، كما أن الحر أصل في المقدرات.
قاعدة [7]
المملوك نصف الحر في الحدود كلها، لرواية يحيى بن أبي العلاء، عن
الصادق عليه السلام: أن حد المملوك نصف حد الحر (2) ومقتضى عمومات الأدلة في
الشارب والزاني والقاذف واللاطي ونحو ذلك - مضافا إلى نصوص خاصة (3) -
المساواة في الحد. وفي رواية أبي بكر الحضرمي المساواة في حقوق المسلمين
والتنصيف في حقوق الله (4) وذكر من الأول القذف، ومن الثاني الشرب والزنا،
وهذا يمكن أن يكون جمعا للأخبار والأدلة المطلقة، ولكن الأصحاب لم يظهر
بناؤهم عليه.
وقال الشهيد الثاني رحمه الله: إن رواية التنصيف أوضح، وأخبار المساواة أشهر،
والأوفق بالأصل التنصيف (5).

(1) انظر إيضاح الفوائد 2: 171.
(2) الوسائل 18: 473، الباب 6 من أبواب حد المسكر، ح 9.
(3) الظاهر عدم ورود نص خاص دال على المساواة في مطلق الحدود، نعم ورد ذلك في حد
القذف وحد المسكر، راجع الوسائل 18: 434، الباب 4 من أبواب حد القذف، وص 471،
الباب 6 من أبواب حد المسكر.
(4) المصدر السابق: 472، ح 7.
(5) لم يصرح الشهيد الثاني إلا بالفقرة الوسطى، انظر الروضة 9: 176.
628

(العنوان الحادي والثمانون)
(قاعدة الإقرار)
629

عنوان
] 18 [
إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، كما ورد في النص النبوي (1) المنجبر بالفتوى
والعمل، الغني عن اعتبار سنده بعد تلقي الأصحاب له بالقبول، بل العامة أيضا
كذلك، بل ربما يدعى أن ذلك ضرورة الأديان والملل أيضا. والحجة (2) في هذه
القاعدة أمور:
أحدها: الإجماع المحصل على حجية الإقرار على المقر المستفاد من تتبع
كلامهم.
وثانيها: منقول الإجماع على هذه القاعدة في عبائرهم فوق حد الاستفاضة.
وثالثها: كون العاقلة (3) تحكم بذلك، كما يرشد إليه كون ذلك ضروري الملل،
ولا جامع بينهم سوى العقل وإن كان في حكم العاقلة بذلك تردد.
ورابعها: جريان السيرة المستمرة قديما وحديثا في كل عصر ومصر على
ذلك، الكاشف عن كونه في زمن الشارع كذلك، ولولا إمضاؤه لذلك لم يبق كذلك،

(1) عوالي اللآلي 1: 223، ح 104. وفي الوسائل (16: 111، الباب 3 من أبواب الإقرار، ح 2):
روى جماعة من علمائنا في كتب الاستدلال عن النبي صلى الله عليه وآله: إقرار العقلاء
على أنفسهم جائز.
(2) في غير (م): فتصير الحجة.
(3) أي: القوة العاقلة. وبدلها مصحح (م) بالعقل.
630

ولاشتهر خلافه وتواتر، مع أنه قد انعكس الأمر.
وخامسها: ما ورد من النصوص الخاصة في مقامات على اعتبار الإقرار كما
في باب الحدود (1) وغيره، ولا قائل بالفرق بينها وبين غيرها، أو لا فارق بين
المقامات.
وسادسها: عموم الخبر السابق المشهور (2). وهو العمدة في استدلال
الأصحاب به في كل باب.
وليس ما ذكرناه من الإجماع - تحصيلا أو نقلا - وكذا السيرة من قبيل
المجملات التي لا يتمسك بها في مورد الشك، إذ الإجماع على حجية الإقرار من
حيث هو كذلك يقتضي حجيته في كل ما يصدق عليه الإقرار، ولا يلزم كونه
مجمعا عليه بالخصوص، فإن الإجماع على القاعدة ليس إلا كالخبر الصحيح في
العموم، فلا يلزم قطعية أفراده، ولذلك يقبل التخصيص، ويتمسك به في مورد
الشك. وأوضح من ذلك منقول الإجماع، فإنه في قوة الخبر، بل هو خبر في
الحقيقة، والنصوص الخاصة بعد ضميمة عدم القول بالفصل تثبت حجية الإقرار
من حيث هو إقرار، فلا ينحصر الدليل النافع في مورد الشك على (3) عموم الخبر.
وقد مر نظير هذا الكلام في المقامات السابقة أيضا.
وبالجملة: لا ريب أن الإقرار ليس له معنى جديد في الشرع بتصرف من
الشارع أو المتشرعة، بل هو باق على معناه اللغوي والعرفي، وهو من (القرار)
بمعنى الثبوت، و (الإقرار) بمعنى الأثبات.
وكلمة (على) هنا ظاهرة في الضرر.
و (العقلاء) جمع محلى باللام مفيد للعموم بإجماع أهل العربية.
والمراد بالجواز: إن كان معنى الإباحة، فيكون معناه: أن إثبات كل عاقل شيئا

(1) راجع الوسائل 18: 377، الباب 16 من أبواب حد الزنا.
(2) يعني قوله صلى الله عليه وآله: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز.
(3) في (م): في.
631

يضر على نفسه جائز ليس بمحرم، والظاهر أن المراد ليس ذلك، وإلا لم يكن
لإقرار العاقل على نفسه خصوصية، فإنه يجوز على غيره أيضا، مع أن الظاهر من
الخبر الاختصاص، مع أنه لا يلائم موارد الاستدلال بهذا الخبر، كما لا يخفى. وإن
أريد الإباحة لجاز إقرار المجنون أيضا، لأنه مباح، إلا أن يقال: المراد الجواز
الشرعي لا العقلي، وفعل المجنون وقوله لا خطاب فيه من الشرع، بل هو كأفعال
البهائم.
والظاهر: أن الجواز هنا بمعنى المضي والنفوذ، وهو المتبادر من سياق العبارة
وإن كان لفظ (الجواز) لو خلي ونفسه لا يدل على ذلك بالخصوص، مضافا إلى
بعد إرادة معنى الإباحة هنا، نظرا إلى أن الإقرار إنما هو كسائر الأقوال التي بين
في الشرع ما يحرم فيه (1) وما يحل، والإقرار أيضا من ذلك، فما وافق الواقع
صحيح مباح، وما خالفه فهو حرام، مع أن إباحته إنما هي على طبق الأصل فبيانها
يصير تأكيدا، بخلاف إرادة الحكم الوضعي فإنه يصير تأسيسا، وهو أولى من
التأكيد. مع أن إقرار العاقل على نفسه ليس بمباح على الإطلاق، بل هو محرم فيما
خالف الواقع، أو كان إضرارا على نفسه بما لا يجوز، أو كان إظهارا لما يجب عليه
إخفاؤه، فالحمل على الإباحة مستلزم للتخصيص الكثير، بل تخصيص الأكثر،
بخلاف ما لو حمل على معنى (النفود) فإنه لا تخصيص فيه أصلا.
هذا كله، مع فهم الأصحاب الذي هو أقوى قرينة في الباب. وموارد ذكر هذه
الرواية في لسان المعصومين والصحابة شاهدة على إرادة الحكم الوضعي، فيكون
حاصل المعنى: أن ما أثبته كل عاقل على نفسه فأثبتوه عليه، فهو نافذ عليه ماض
في حقه.
ولا يحتاج صرف الجملة عن ظاهرها بتقريب: أن رب شئ مقر به ليس
بثابت في الواقع فلا وجه للحكم على الكل، لأن الظاهر من الخبر كون الإقرار
نافذا في حقه، ونفوذه عبارة عن البناء عليه وفرض كونه في الواقع كذلك، وهو لا

(1) كذا، والأصح: منه.
632

يقتضي كون الواقع كذلك، فإن الحكم بلزوم اتباع البينة - مثلا - لا يستلزم كون
مدلولها مطابقا للواقع أيضا.
والمتبادر من (النفوذ) النفوذ من (1) جهة كونه على نفسه، وإن لم يذكر
المتعلق، لكنه ينصرف إلى ما سبق، فيصير: إقرار العاقل على نفسه نافذ على نفسه،
لا على غيره ولا لنفع نفسه.
ولو جعل قوله: (على أنفسهم) متعلقا بالجائز دون الإقرار، فيكون المعنى:
إقرار العاقل مطلقا ماض في ضرر نفسه، فإن كان محض ضرر على نفسه فلا بحث،
وإن كان فيه نفع وضرر مضى في ضرره دون نفعه، وإن كان نفع فقط لم يمض
أصلا، وإن كان ضرر له ولغيره مضى على نفسه دون الغير، وعلى هذا القياس.
وهذا أوضح في إفادة المعنى من تعلق الجار بالإقرار، لأن معناه حينئذ يصير:
الإقرار المضر بالنفس نافذ، وانصرافه إلى الحيثية يحتاج إلى تأمل، بخلاف إقرار
العاقل يمضي على ضرر نفسه، فتدبره.
وعلى كل حال: فهو مفيد للمراد. وليس المراد به الخبر، لأنه بعيد عن منصب
الشارع، مع لزوم الكذب له لو بقي على إخباره، لأن إقرار العاقل على ضرر نفسه
قد لا يمضي فيه، بل المراد: بيان إنشاء الحكم، وكون الإقرار نافذا بحسب الشرع،
فيتخرج من الخبر: أن إقرار كل عاقل على نفسه نافذ في ضرره حجة في أخذه به
شرعا.
ويبقى الكلام هنا في مباحث:
أحدها: أن الإقرار لا يدور مدار اللفظ الصريح، ولا دلالة المطابقة، بل كل
كلام دل على المدعى وعد في العرف إقرارا فهو حجة، سواء كان بإبداء الكلام أو
بالتصديق بعد السؤال، أو بالجواب بما يستلزم قبول ما ذكر، كقوله: (أعطيتك) (2)

(1) في (ف، م): في.
(2) كذا في أصول النسخ، وفي العبارة مالا يخفى، ولذا غيرها مصحح (م) ب‍: رددتها عليك
بعد قول القائل...
633

بعد قوله: (لي عليك عشرة) فإن العطاء فرع كونه كما قال، ولذلك عقد الأصحاب
هنا بابا لتمييز الإقرار عن غيره. وليس اختلافهم في ألفاظ الإقرار اختلافا في
الحكم، ولا مستندا إلى دليل خاص، بل الظاهر أنه نزاع في كون ذلك إقرارا
وعدمه.
وقد أطال في ذكر الأمثلة جماعة من أصحابنا - كالعلامة (1) وغيره -
والميزان: صدق كونه إقرارا وإثباتا بدلالة معتبرة من اللفظ، مقصودة في الظاهر.
وكلما شك في صدق الإقرار عليه فالأصل عدم ترتب الحكم عليه، ولا يحتاج بعد
ذلك إلى تتبع الجزئيات، إذ كيفيات الفهم وقرائن الكلام مما لا تنضبط.
ولكن ينبغي أن يعلم: أن الميزان هو فهم المراد عرفا، وإن كان بلزوم عرفي،
لا فهم المراد بغير ما يفهمه العرف، فإنه ليس بحجة وإن كان لازما عقلا.
ومن ذلك يتضح الحكم فيما وقع بينهم من النزاع في أن المدعى عليه - مثلا -
لو قال: (إن شهد علي فلان فهو صادق) فهل يكون إقرارا؟ - كما زعمه بعضهم -
نظرا إلى أن هذا الكلام مستلزم لثبوت الحق في الواقع عقلا، فإقراره بهذا الكلام
إثبات للحق، لأنه مستحيل الانفكاك، إذ كلما لم يكن الحق ثابتا في ذمته لم يكن
فلان صادقا على تقدير الشهادة، وهذه المقدمة قطعية وجدانية، فبعكس النقيض:
كلما كان صادقا على تقدير الشهادة فالحق ثابت في ذمة المقر، والمقدم ثابت
بإقراره، فكذا التالي.
أو لا يكون إقرارا؟ لأن العرف لا يعدون هذا إقرارا بالاشتغال، بل يستعملونه
غالبا في مقام التعليق على الامتناع، ويريدون به: أنه لا يشهد على ذلك أصلا.
ومن ملاحظة ذلك يظهر لك: أن المدار ما يسمى في العرف إقرارا، وما نحن
فيه ليس منه، واللزوم العقلي غير نافع.
وثانيها: أن الإقرار يكون بالإشارة المفهمة عند العجز عن الكلام، للصدق

(1) راجع القواعد 1: 276، وأكثر منه تمثيلا الشيخ قدس سره في المبسوط 3: 2 - 48.
634

عليها عرفا فتدخل تحت العموم ولما مر من دليل قيام إشارة الأخرس مقام الكلام
مطلقا، ولا فرق بينه وبين غيره.
وفي كونه بالكتابة مع القدرة على الكلام لا إشكال في عدم ترتب الحكم
عليه، لعدم صدق الإقرار عليه وإن علم كونه قاصدا أو شوهد كاتبا. وأما مع العجز
فالظاهر أيضا عدمه، للأصل وعدم صدق الإقرار. نعم، الإشارة كالقول.
وثالثها: أن الشئ المقر به قد يكون مالا، وقد يكون حقا، وقد يكون نسبا.
والمال قد يكون عينا في يده، وقد يكون كليا في ذمته. وكل ذلك داخل تحت
عموم النص، لما فيه من حذف المتعلق، فإن إقرار العاقل على نفسه جائز في أي
شئ كان، ولا فرق بين الإقرار بمال معلوم معين، أو مجهول، لعموم الدليل، ولأن
المقر قد لا يعلم التفصيل، ويقر بالمجمل حتى يحصل البراءة بصلح ونحوه، ويرجع
في تفسيره إليه، ويفسره (1) بما يمكن انطباقه على إقراره ويمكن إرادته منه، لا بما
يعلم عدم انطباقه عليه، ومن هنا انتشرت الفروع في ذلك واختلفوا في الأمثلة،
والضابط ما ذكرناه.
ورابعها: أن الضرر على العاقل قد يكون من إنكاره، لا من إقراره، كما لو قيل:
(إن هذا مالك) فقال: (ليس هذا مالي) أو (تستحق هذا الحق علي) فقال: (لا
أستحقه عليك) ونحو ذلك. وبعبارة أخرى: قد يكون بلفظ النفي، كما يكون بطريق
الأثبات، فهل هذا أيضا داخل في عموم الإقرار؟ أو لا، بل الإقرار ما كان إثباتا
لأمر هو ضرر أو سبب للضرر؟ وأما النفي فلا يدخل تحت الإقرار، بل هذا يسمى
إنكارا.
أو نقول: إن النفي إذا وقع في مقابل إثبات - كما في المثال المفروض - يعد
إنكارا لما أثبته الاخر، ولو وقع مؤكدا لنفي آخر يسمى إقرارا، كما لو قيل: (أنت
لا تستحق في هذا المال شيئا) قال: (لا أستحق) أو (ليس هذا لك) قال: (نعم

(1) في (ن، د): تفسيره.
635

ليس لي) ونظائر ذلك.
والثمرة تظهر فيما لو رجع من النفي إلى الأثبات، كما لو قال: (هذا ليس
مالي) ثم رد وقال: (مالي) فهل يدفع إليه، أو لا لأنه إنكار بعد إقرار فلا يسمع؟
والنفي أيضا قسمان: مرة يكون لازما لشئ مثبت، ومرة يكون لازما لنفي،
ومرة يكون ابتداءا، كما لو قال المالك: (إني ما بعتك) وقال المشتري: (بعتني
بمائة) والفرض أن العين تالفة، فبعد يمين المالك يستحق القيمة، ولو فرض أنها
خمسون فالمالك ناف للخمسين الزائد بنفيه البيع. ولو أنكره المشتري وقال البائع:
(بعته بمائة) فحلف المشتري وضمن القيمة وكانت مائة وخمسين، فالبائع قد نفى
الخمسين الزائد بإثباته البيع بمائة.
ولو قيل: (إنك تستحق علي مائة) فقال: (لا استحق عليك شيئا) يصير النفي
ابتداءا، فلو فرض أن المشتري أو البائع رجع عن نفيه للزائد وقبل دعوى الاخر،
فهل يعتبر ذلك، أم لا، بل هو إنكار بعد الإقرار فلا يسمع؟ ظاهر الأصحاب في هذه
المقامات عدم الفرق بين النفي والأثبات. والإقرار عبارة عن تقرير شئ يضر
على نفسه، سواء كان إثباتا أو نفيا، وليس معنى الإقرار: الأثبات المصطلح حتى لا
يشمل صورة النفي.
وما يقال: إن بعد نفيه للعين أو للحق عن نفسه إذا رجع بعد ذلك وأراد الأخذ
يأخذ، لأنه لم يخرج بالنفي عن ملكه - كما نص عليه أساطين الأصحاب في
مقامات عديدة (1) - فليس من جهة عدم العبرة بالنفي، بل من جهة أن صاحب اليد
أو الذمة إذا أقر لزيد بشئ وأنكره زيد وقال: (ليس مالي) والفرض أن ذا اليد
أيضا غير مدع للملكية، فيبقى مجهول المالك، فإذا ادعاه من أنكره أولا بلا
معارض يدفع إليه، لجواز الذكر بعد النسيان أو نحو ذلك.
وما يقال في دعاوي أبواب العقود في العوض ونحوه: إنه يثبت أقل الأمرين

(1) لم نظفر على مقام من تلك المقامات.
636

- مثلا - ونحو ذلك، لأن الزائد منفي بإقراره أو بإقرار الاخر أو بهما معا - كما هو
الغالب - فهو على فرض بقائهما على ذلك الوضع.
فلو فرض: أن من أنكر الزائد ابتداءا أو من جهة إثبات شئ آخر لو رجع
وقال: (إني أقول مثل ما تقول، فأعطني ما ذكرته أولا) لاستحق ذلك من دون
بحث وشبهة كما لو قال العامل: (جعلت لي اجرة خمسين) وأنكر الجاعل الجعل
وحلف رجع إلى أجرة المثل حيث كان العمل بالأذن. فلو كانت أجرة المثل مائة
فقد نفاه العامل من نفسه بدعواه الخمسين، فلا يستحق سوى الخمسين.
ولو فرض: أن العامل رجع عما كان يذكره أولا وقال: (أستحق عليك أجرة المثل
وكنت كاذبا في كلامي الأول) فهل يلزم الجاعل بدفع تمام الأجرة على
مقتضى إقراره مع ارتفاع المعارض، أو أن هذا كما أقر على نفسه [فذلك أيضا أقر
على نفسه] (1) بالنفي، فليس له المطالبة وإن كان ذاك في الواقع مشغول الذمة؟
ظاهر الأصحاب: أن المقر على نفسه بالنفي يلزم بالنفي، ولو رجع عن إقراره
السابق ليس له مطالبة ما نفاه وإن كان المقابل أيضا أقر له بذلك. نعم، في صورة
العين الخارجية نصوا على أنه يأخذها، والوجه ما ذكرناه. وأما ما في الذمة فليس
كذلك، بل يقولون: لا يطالبه وإن وجب على المقابل الإيصال بينه وبين الله تبارك
وتعالى.
ولو قيل: بأن كل إقرار على نفي حق أو نفي ملك أو نفي استحقاق مال إذا
رجع صاحبه عنه مع كون المقابل مقرا له بالحق يستحق ذلك - لأنه مطالبة من
دون معارض - كان وجها، من دون فرق بين العين والدين.
أما لو رجع النافي إلى الأثبات فرجع المثبت إلى النفي - كما لو قال: (لك علي
كذا) فقال: (ليس لي عليك) ثم جاء وقال: (أعطني ما لي عليك الذي أقررت به
فإني مقر به) فقال الآخر: (ليس لك علي شئ) - فهل يؤخذ المقر المثبت بإقراره

(1) ما بين المعقوفتين لم يرد في (م).
637

السابق والنفي لا عبرة به بعد الرجوع عنه، أو بالعكس، فيؤخذ النافي بنفيه ولا
يسمع بعد ذلك دعواه، أو يتعارض النفي والأثبات السابقان ويتساقطان ويصير
هذا دعوى جديدة يرجع فيه إلى البينة واليمين ولا وجه للإقرار في ذلك؟
ربما يقال: إن الإقرار إذا عارضه نفي المقر له فهو ساقط، لأن عدم المعارض
من شرائط النفوذ، نظرا إلى أن الجمع بينهما غير ممكن، والترجيح من دون مرجح
قبيح فيتساقطان، مضافا إلى أن اشتغال الذمة المسبب عن الإقرار في الظاهر لو
اقتضى وجوب دفع المال وإقراره بالنفي أوجب الامتناع عن الأخذ وعدم جواز
الأخذ، لزم من ذلك التكليف بما لا يطاق، فلا وجه لحكم الأصحاب بالثبوت
وعدم جواز المطالبة، هكذا أفاده بعض المعاصرين (1). ولكن ذلك محل للنظر من
وجوه:
أما أولا: فلما أشرنا إليه من الشبهة في كون النفي داخلا في الإقرار أم لا،
سيما إذا كان في مقابله إثبات، ولا دليل على حجية الإنكار بنفسه حتى يلتزم (2) به
صاحبه.
وأما ثانيا: فلأنه لو فرض كونه كذلك فلا معارضة هنا، لجواز التزام كل منهما
بحكم إقراره، أما المقر بالاشتغال فبالتزام الدفع، وأما المنكر فبعدم المطالبة.
وليس معنى عدم المطالبة عدم الأخذ كما توهمه الفاضل المعاصر (3) حتى يلزم
التكليف بما لا يطاق، بل عدم التسلط على الأخذ إذا لم يعطه، فيصير محصله: أن
المقر على نفسه بالثبوت يجب عليه الدفع، فإذا دفع جاز للنافي أخذه، لأنه: إما
يدري أنه ماله وإما لا يدري به، وعلى كل حال فهو جائز، فإنه إذا دفع إلي أحد
مالا وقال: (هذا شئ أنت تطلبه مني وحق لك علي) جاز لي أخذه وإن لم أكن
عالما بذلك بلا شبهة، وإذا لم يدفع وعصى لم يجز للثاني (4) إلزامه بالدفع وهو

(1) المراد به - ظاهرا - هو المحقق النراقي قدس سره، انظر عوائد الأيام: 172، العائدة: 48.
(2) في (د): يلزم.
(3) هو المحقق النراقي قدس سره المتقدم ذكره آنفا.
(4) كذا، والمظنون أنه مصحف: للنافي.
638

المطالبة، وبينه وبين الاخذ إذا أراد الاخر الدفع بون بعيد، فأي تكليف بما لا يطاق
يلزم من ذلك حتى يتعطل الأمر ويمتنع الجمع؟
وثالثا: يمكن القول بعدم كون النفي معارضا للأثبات، غايته: أنه لا يدري أن
له حقا عليه والمقر يثبته، وهو لا ينافي عدم علم المقر له، فيمكن الحكم بوجوب
الدفع وجواز المطالبة أيضا إذا رجع المنكر عن إنكاره وقال: (أطلب منك ما
أقررت به) كما في الرجوع على العين التي أنكرها. وبالجملة: يحتاج تنقيح هذه
المسألة إلى بسط مقال وشرح حال، يمنعنا عنه الاستعجال.
وخامسها: أن الإقرار في ضرر الغير لا عبرة به لو انفرد واستقل من دون
مدخلية ضرر نفسه، وأما لو تركب من ضرر نفسه وضرر غيره:
فمرة: يكون الفرض قابلا للانفكاك، كما لو أقر أحد الشريكين في دار أن
نصف هذه الدار لزيد، فيصير الضرر على نفسه دون شريكه ويفكك الحكم،
فالشريك يأخذ نصفه تماما، ويبقى النصف الآخر بين المقر والمقر له أثلاثا أو
بالتنصيف، على الوجهين في محلهما. وكذلك لو أقر ببيع حصته وحصة شريكه،
فإنه يمضي في حصة نفسه.
ومرة لا يكون أصل الشئ الذي أقر به في ذاته قابلا للانفكاك وإن كانت
الآثار واللوازم قابلة للتفكيك، كالإقرار بأني بعت لزيد فإنه لا ينفك عن كون شئ
مشترى (1) في الواقع، وكالإقرار بالزوجية وبالبنوة - ونحو ذلك من الأمور
الارتباطية الغير القابلة للتفكيك - وظاهر الأصحاب في ذلك أيضا إجراء أحكام
الزوجية والنسب ونحو ذلك على المقر دون المنكر، فيفككون أيضا بحسب
الأحكام.
والوجه فيه: أن ترتب هذه الأحكام لا يدور مدار وجود الموضوع في الواقع،
بل المعتبر الثبوت ولو شرعا، فإن ما ثبت بالبينة كما لو علم في الواقع، مع احتمال
كذب الشهود، فمتى ما جعل الشارع الإقرار سببا لترتب الحكم على المقر كان

(1) في (ن، د): كون الشئ مشتريا.
639

الموضوع في حقه بمنزلة الثابت واقعا، فتلزمه أحكامه. وكون الموضوع في الواقع
مما لا يقبل التفكيك - فإما ثبوت الحكم عليهما معا، أو عدم ثبوته عليهما معا -
إنما ينفع لو كان الحكم تابعا للواقع، ولو كان بالتعبد فهو قابل للتفكيك، وظاهر
الدليل كون الإقرار نافذا على المقر تعبدا.
وربما يذكر لذلك وجه آخر، وهو أن الموضوع الواقعي تترتب أحكامه على
من علم به ولا تترتب على من جهل، فإن من علم بأن فلانة زوجته ترتب عليه
أحكامه (1) فلا يجوز له نكاح أمها وأختها ونكاح الخامسة - إلى غير ذلك - وإن لم
تكن في الواقع زوجة له، لأن العمل بالمعتقد واجب، ومن لم يعلم بأنها زوجته لا
يترتب عليه أحكامه (2) وإن كان في الواقع زوجته، لأن الأحكام مشروطة بالعلم
في التكاليف (3). فصار الحاصل: أن المدار على الاعتقاد، وافق الواقع أو خالف،
فإذا كان كذلك فمن أقر بأن فلانة زوجته فقد أخبر عن اعتقاده بذلك وأنه علم به
فتترتب عليه أحكام العلم، ومن أنكر فهو غير عالم فلا حكم عليه، وهذا ليس
حكم الموضوع الواقعي ولا حكم الإقرار تعبدا بالشرع، بل إنما هو حكم الاعتقاد
اللازم الاتباع المعلوم بإقراره.
وهذا الوجه منظور فيه وإن اعتمد عليه بعض المعاصرين (4) لأن الحكم
الناشئ عن الاعتقاد لا يلزم به في الشرع، بل يحول على الاعتقاد، والمفروض: أن
في باب الإقرار يلزم المقر بما أقر به، ولو كان ذلك لاعتقاده لبين له التكليف على
ما يعتقده، وهو أبصر بنفسه، مضافا إلى أن الاعتقاد إذا دار الحكم مداره فينبغي أن
المقر إذا رجع يقبل إنكاره، لأنه يكشف عن انقلاب اعتقاده الموجب لتغير الحكم.
ولا يمكن منع ذلك، لأن الاعتقاد شئ لا يعلم إلا من قبله، فينبغي سماع دعواه
فيه كيف كان، وهو شئ قابل للتبدل والتجدد، على أن الأخبار لو كان عن اعتقاده

(1) في (م): أحكام الزوجية.
(2) في (م): أحكامها.
(3) في (ن، د): بالتكاليف.
(4) المحقق النراقي قدس سره في العوائد: 173، العائدة: 48.
640

فقال: (إني اعتقد أن فلانة زوجتي) لكان في إجراء حكم الإقرار على ذلك
إشكال، لأن المتبادر من أدلة الإقرار: أن يخبر المقر عن الواقع حتى يثبت الحكم
للموضوع تعبدا - بمعنى كون الموضوع المقر به كالواقعي في نظر الشرع - لا أنه
يخبر عن اعتقاده فيلزم بما يعتقده، فلو قال: (هذا كذلك (1) باعتقادي) لا نسلم كونه
إقرارا، ولو قال: (هذا كذا) كان إقرارا، وإن كان الإنسان غالبا لا يقول إلا ما
يعتقده، ولا يلزم فيه المطابقة للواقع.
وعلى فرض كون الأخبار عن الاعتقاد إقرارا فليس ترتب الحكم من جهة
كونه معتقدا ذلك، بل من جهة كون الإقرار مثبتا شرعا، سواء كان معتقدا أو لا.
وتظهر الثمرة فيما لو أقر بما ليس بمعتقد به وعلمنا أنه ليس بمعتقد، ولكن لا
ندري أنه كاذب أو صادق، كما لو قال: (إني مديون لزيد عشرة) ونعلم أنه ليس
معتقدا ذلك، ولكن لا ندري أنه في الواقع مديون أو غير مديون - إذ عدم اعتقاد
القائل لا يستلزم الكذب بالمعنى المشهور - فيقبل إقراره ويلزم به وإن علمنا أنه
غير معتقد، عملا بعموم إقرار العقلاء.
ودعوى: أن الإقرار إنما ينصرف إلى ما كان معتقدا للمقر أيضا ممنوع بعد
صدق اللفظ على ذلك، مع أن كون المقر معتقدا لا يعلم إلا بكون هذا الكلام دالا
عليه، إذ لا كاشف عن الاعتقاد غير الألفاظ، والفرض أن قوله: (إني مديون) يدل
على الواقع بحسب الوضع، وليس دالا على الاعتقاد، بل هو محتمل العدم كونه
معتقدا.
ومما ذكرنا ظهر: أنه لا موقع لما يقال: إن في مثل هذا الإقرار لا يمكن الحكم
بثبوت الحق، لا في حق نفسه ولا في حق الغير، لتوقف ثبوت الحق على نفسه
على ثبوت الحق على غيره، وهو ممتنع الحصول، والموقوف على الممتنع ممتنع،
نظرا إلى أن ثبوت الحق على نفسه في الواقع يتوقف على ثبوت الحق على غيره
لمكان الارتباط، وأما الثبوت بمحض التعبد على إشكال فيه كما أوضحناه. نعم،

(1) في (ن، د): هذا لك.
641

هنا كلام، وهو: أن المتبادر من عموم (إقرار العقلاء على أنفسهم): كون الإقرار
على ضرر نفسه، وأما لو كان على الضرر عليه وعلى غيره فهو غير داخل تحت
العموم، إما لأنه ليس فردا من أفراد الإقرار على النفس من جهة كونه حقيقة في
صورة الانحصار، وإما لأنه ليس من أفراده الظاهرة وإن كان اللفظ أعم، وعلى كل
فشمول العموم لمثله غير معلوم حتى يحتاج إلى التفكيك والجواب والاعتراض.
بل نقول: إن الاقرار متى ما كان كذلك فهو غير مسموع، لعدم شمول الدليل.
قلت: أما أولا: فعلى احتمال كون كلمة (جائز) في الخبر متعلقا للجار يصير
المعنى: أن إقرار العقلاء على الإطلاق سواء كان على ضرر نفسه، أو لنفعه، أو
لضرر غيره أو لنفعه، أو للمركب من الأمرين بصوره، أو الثلاثة كذلك، أو الأربعة
- على ما هو ظاهر الإطلاق - جائز على ضرر نفسه، دون الجهات الأخر، وهذا
يشمل هذا الفرد كما يشمل سائره، فإن الإقرار ليس مقيدا بكونه على النفس، بل
نفوذه إنما هو في تلك الجهة لا في غيرها، فقولنا: (إقرار العقلاء يمضي على ضرر
أنفسهم) ليس في عمومه (1) لمثل هذا الفرض شبهة.
وأما على احتمال كون الجار متعلقا بالإقرار يكون المعنى: إقرار العقلاء
القاضي بضرر أنفسهم (2) ماض، سواء كان الضرر مختصا بالنفس أو يعمها وغيرها،
وليس في ذلك انصراف إلى الأول. وقوله: (جائز) مبني على الحيثية السابقة، أي:
ماض من جهة الضرر على النفس، فرجع إلى المعنى الأول.
مضافا إلى أن هذه العبارة لو أريد منها الحصر - وهو كون الإقرار على الضرر
فقط للنفس لا للغير - لم تشمل ما لو أقر بضرر الغير وضرر نفسه أيضا من دون
ارتباط، أو نفع الغير، أو نفع نفسه، أو المركب من الاثنين مع ضرر نفسه، ونحو
ذلك، مع أن عموم دليل الإقرار لمثل ذلك مما لا بحث فيه ولا شك يعتريه. وإذا لم
يرد منها الحصر، فلا وجه لخروج ما اشتمل على الضررين مع الارتباط بينهما في
الواقع ودخول ما عداه من الصور، فتدبر.

(1) في (م): شموله.
(2) في (ف، م): نفسه.
642

وسادسها: أن الإقرار بالشئ إقرار بلوازمه على ما يظهر من كلمة الأصحاب.
واللوازم قسمان: لوازم المدلول في الوجود، ولوازمه في الحكم.
أما لوازم الوجود - بمعنى ما لا يتحقق المقر به إلا بتحققه - فكما ذكر من
قولك: (رددت عليك) في جواب من قال: (إني أطلبك عشرة) فإن الإقرار بالرد
إقرار بالأخذ واشتغال الذمة، إذ لا معنى لتحقق الرد بدون تحقق الأخذ، فان
الإقرار بالرد إقرار بما لا ينفك عنه في الوجود. وربما يسمى ذلك ب‍: (لوازم
الدلالة) باعتبار أن الإقرار بالرد يلزمه الدلالة على الأخذ وإن لم يكن الأخذ
مستلزما للرد. لكن ما ذكرناه أوجه، إذ كل ما هو من لوازم المقر به في الوجود
يكون داخلا تحت الإقرار وإن لم يكن هناك دلالة عرفية في باب لوازم الوجود
وإن كان في بعضها دلالة عرفية أيضا.
وأما لوازمه في الحكم - بمعنى الأحكام الشرعية التي تترتب على الموضوع
المقر به - فهي أيضا تثبت بسبب كون الموضوع ثابتا بالإقرار كما يثبت بالبينة
وبغيرها، ومتى ما ثبت الموضوع ثبت أحكامه بمقتضى الشرع. ولا يلزم في ترتب
هذه الأحكام على ذلك كون المقر عالما بالحكم أو قاصدا لذلك، والوجه واضح،
لأن ترتب الأحكام ليس بالإقرار، بل بخطاب الشرع تكليفيا أو وضعيا، وإنما
الإقرار مثبت للموضوع.
نعم، الذي يتوهم فيه الإشكال صورة ما إذا كان الموضوع المقربه مشتركا بين
اثنين على سبيل الارتباط مع إقرار أحدهما به دون الاخر - كما في الزوجية
والنسب ونحو ذلك - فإن ظاهر الأصحاب حينئذ ترتب الأحكام أيضا على المقر
دون المنكر. وذلك مشكل، نظرا إلى أن ترتب الحكم إن كان من جهة إقرار المقر
وكونه قاصدا لاشتغال ذمته بهذه الأشياء أو ترتب الضرر عليه فهو غير لازم، لأن
قوله: (فلانة زوجتي) لا يستلزم العلم بوجوب المهر والنفقة وغير ذلك من
الأحكام، فضلا عن قصدها والإقرار بها، ونحوه قوله: (فلان عبدي) وغير ذلك.
وإن كان من جهة أن الإقرار مثبت للموضوع والأحكام تلحقه بحكم الشرع فهو
643

فرع ثبوت الموضوع، والفرض أن الزوجية والنسب لم يثبتا بالإقرار فكيف
يترتب عليهما الأحكام؟
ولو قيل: بأن ثبوت الموضوع أمر إضافي يختلف باختلاف الأشخاص فلعله
ثابت في حق المقر فيترتب عليه أحكامه، وليس ثابتا في حق المنكر.
قلنا: إن ذلك بديهي البطلان، لعدم تعقل ثبوت الموضوع لأحد الطرفين دون
الاخر، فإن الإقرار إن كان للموضوع فيثبت في حقهما معا، كالبينة ونحوها.
مضافا إلى أن اللوازم والأحكام إنما تعلقت بالموضوع الواقعي من الزوجية
والنسب ونحو ذلك، وهو لا يكون إلا من جهتين، ولا يكون مقامه في الظاهر إلا
الثبوت من الطرفين، ولا نسلم ثبوت هذه اللوازم إلا فيما ثبت من الجانبين، فكيف
يثبت بإقرار أحدهما أحكام الموضوع بالنسبة إليه؟ وهذا الإشكال مما أورده
الفاضل المعاصر النراقي في عوائد (1).
والذي يوجب التخلص عنه: أن الإقرار لا يثبت الموضوع، ولا يلزم في
الإقرار بموضوع العلم بأحكامه ولا قصدها، ولكن لا معنى لقولنا: (إقرار العاقل
على نفسه جائز) إلا ترتب الأحكام على ما أقربه، بمعنى كون ما أقر به مفروضا
في الواقع بالنسبة إلى الشرع، فإن من أقر بالزنا لا يثبت به الزنا عليه بمعنى تحقق
الموضوع، لكن يفرض في حقه واقعا فيتبع (2) حكمه، وكذلك في النسب، فإن
النسب لا يثبت إلا بعدلين، ولكن الإقرار يوجب فرضه واقعا للحكم، ولو لم يكن
كذلك لم يكن لقوله: (إقرار العاقل على نفسه جائز) معنى، فما فهمناه من هذه
العبارة بحسب الفهم العرفي كاف في إثبات الأحكام وإن لم يثبت به الموضوع ولا
قصدها المقر، فتدبر.
وأما دفعه بأن ظاهر كلام (3) المقر علمه بالموضوع فيثبت عليه أحكامه من

(1) انظر عوائد الأيام: 173، العائدة: 48.
(2) في (ف، م) فيتتبع. والظاهر أن الصواب: فيتبعه.
(3) في (ن، د): كلمة المقر.
644

باب لزوم العمل بالمعتقد - كما أشرنا إليه سابقا - فهو غير خال من النظر على ما
أشرنا سابقا، فراجع.
وسابعها: أن ظاهر الأصحاب: أن ذكر ما ينافي الإقرار بعد تحققه غير
مسموع. ووجهه: إطلاق الرواية (1) فإنه دال على النفوذ مطلقا، سواء عقبه بما
ينافيه - من إنكار وتأويل - أو لم يعقبه، فيكون الضابط: أن كلما تحقق مفهوم
الإقرار عرفا فلا يسمع ما ينافيه وما لم يتحقق فيسمع، لأنه مخرج للإقرار عن
الإقرارية، لا أنه مناف للإقرار.
وما وقع الخلاف بينهم في مسائل الاستثناء وبدل البعض والفصل والوصل
وفي مثل قوله: (له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه) - ونحو ذلك - كلها مبنية على
معرفة أن الإقرار يتحقق بالجزء الأول من الكلام فيكون ما بعده منافيا له، أو لا
يتحقق إلا بانقطاع الكلام - بمعنى: أن عدم تعقبه بما ينافيه متصلا مأخوذ في مفهوم
الإقرار، فما لم يصدق الانقطاع عرفا لم يتحقق مفهوم الإقرار - أو أن ذلك يتفاوت
بحسب المقامات وبحسب القيود؟ وحيث إن المسألة عرفية فالعمدة معرفة كون
هذا الكلام في العرف كلاما واحدا، أو كلامين ينافي آخرهما أولهما؟ فلا فائدة في
إطالة البحث في ذلك.
تنبيه:
الإقرار إنما يتمسك به في مقام وجود من يدعي المقر به، وبعبارة أخرى: لا
يكون الإقرار معارضا مع فعل المقر ما لم يكن هناك من يعارضه ويعتمد على
إقراره (2). فلو أقر واحد بأن هذا المال الذي في يدي ملك لزيد، أو قال: (ليس
مالي) ثم قال: (وهبتك إياه) أو رجع عن إقراره وقال: (هذا ملكي) ولم يكن زيد
يدعي هذا المال فالمدار على تصرف المقر وفعله، ولا يعارضه إقراره، وليس على

(1) يعني قوله صلى الله عليه وآله: (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز).
(2) في (ن، د): الإقرار.
645

المتهب أن يتوقع الإجازة من المقر له.
وهذا في صورة إمكان تجدد الملك للمقر واضح، لاحتمال كونه وقت الإقرار
ملكا لزيد ثم صار وقت التصرف ملكا للمقر، وهذا لا مانع منه.
وأما في صورة عدم إمكان التجدد. إما بحسب الزمان كما لو قال: (هذا مال
زيد) ثم من دون تخلل فصل بحيث لا يمكن تجدد سبب ملك في ذلك الوقت
وهبه لشخص سمع هذا الإقرار منه، وإما بحسب أصل الاستعداد كما لو أقر أن هذه
الدار التي في يدي وقف على الفقراء أو وقف بقول مطلق ولم يذكر الموقوف عليه،
أو قال: وقف لأولادي - ونحو ذلك - ثم باع تلك الدار، أو أوصى بها، أو تصرف
فيه غير ذلك (1) مما لا يجوز في الوقف، من دون وجود معارض يدعي ذلك
ويتمسك بالإقرار، فهنا ربما استشكل فيه، من جهة أن الإقرار قضى بأنه ليس في
ملكه، ولا يمكن تجدد ملك له بحسب الفرض، فلا يصح ما تصرف فيه.
والوجه فيه أيضا: الحكم بصحة التصرف تقديما لما هو صريح في الملكية
على ما هو ظاهر في خلافه، فإن الإقرار ربما يكون مبنيا على أغراض وهو أعلم
بنيته وقصده، وفعله محمول على الصحة كيف كان. نعم، مع وجود المعارض يقدم
الإقرار ويحكم ببطلان تصرفاته. وعموم (إقرار العقلاء) لا يفيد أزيد من ذلك،
فتدبر.

(1) كذا في أصول النسخ، وصححت العبارة في (م) هكذا: أن يتصرف فيها إلى غير ذلك.
646

(العنوان الثاني والثمانون)
(عموم حجية البينة في الموضوعات)
647

عنوان
] 28 [
قال الشهيد رحمه الله في القواعد: البينة حجة شرعية (1).
والمحتملات في البينة (2) أمور:
أحدها: أن تكون حجيتها مقصورة على ما ورد فيه النص الخاص، كمقام
الدعاوي والحكومات، على تفاصيل ذكرها الأصحاب في كتاب الشهادات،
وذكروا في كل باب من الفقه ما يكون مثبتا له بمقتضى الأدلة الخاصة.
والوجه في ذلك: أن الموضوعات التي تعلقت بها الأحكام إنما يراد بها
الأمور الواقعية - كما هو مقتضى مدلولات الألفاظ - والطريق إلى الواقع هو العلم
لما دل على اتباعه والنهي عن اتباع غيره، فما علم كونه في الواقع كذلك فيتعلق به
الحكم وضعيا كان أو تكليفيا، وما علم عدمه فلا، وما شك فيه فالمرجع الأصل،
سواء وافق الحكم المجهول أو خالف. وقيام البينة مقام العلم بقول مطلق لا دليل
عليه، والقياس باطل، فيقتصر على ما ورد فيه النص أو قام عليه الإجماع، وأما
موارد الشك فلا.
وثانيها: القول بحجيتها في مقام لم يعتبر فيه العلم بدليل خاص، وبعبارة
أخرى الأحكام الثابتة للموضوعات المطلقة لا يفترق الحال في ثبوتها بين كونها

(1) القواعد والفوائد 1: 416، القاعدة: 153.
(2) في (م): قلت: المحتملات فيها أمور.
648

معلومة، أو ثابتة بالبينة. وأما الموضوعات التي قيدت بالعلم فلا عبرة فيها بالبينة،
كالطهارة والنجاسة، فإن الشارع حكم بالطهارة في الموضوع المشتبه حتى يعلم
أنه نجس، وفي الحرمة والحلية حكم بالحل حتى يعرف أو يعلم أنه حرام، وفي
الشئ الذي علم وجوده حكم ببقائه إلى أن يعلم خلافه ويحصل اليقين - ونحو
ذلك - فإن في هذه المقامات لا عبرة بالبينة، لأنه ليس يعلم، والدليل قد قيد في
المقام باعتبار العلم.
والوجه في ذلك: أن البينة لو فرض لها دليل عام على حجيتها لعارضه ما دل
على اعتبار العلم في ذلك بالعموم والخصوص من وجه، فإن دليل البينة قاض
باعتبارها سواء كان هناك اعتبر العلم أم لا، ودليل اعتبار العلم قضى بعدم تعلق
الحكم بدونه سواء كان هناك بينة أم لا، ومتى ما وقع التعارض، فإما أن يكون
الترجيح لدليل اعتبار العلم لنصوصيته وموافقته للأصل والعمومات من الكتاب
والسنة، أو يتكافئان ويتساويان فلا تثبت حجية البينة أيضا. وأما في مقام لم يعتبر
فيه العلم بدليل خاص، فليس هناك ما يعارض دليل البينة إلا عموم ما دل على
النهي عما وراء العلم من كتاب أو سنة، ودليل البينة أخص منه مطلقا، لعموم
النواهي للموضوعات والأحكام، واختصاص البينة بالأولى.
مضافا إلى عدم وجود دليل عام للبينة بحيث يشمل صورة اعتبار العلم
بالخصوص أيضا. والمتيقن من فتاوى الأصحاب ومن الاستقراء أيضا، إنما هو
صورة عدم اشتراط العلم بالخصوص فيقتصر عليها.
فلابد حينئذ في كل مقام من تتبع الدليل الدال على حكم ذلك الموضوع، فإن
كان بلفظ مطلق منصرف إلى الواقع فتكون البينة حجة فيه، وإن كان مشروطا
بالعلم فلا تكون حجة فيه. ولعل عدم اعتبار بعض المتأخرين (1) البينة في باب

(1) لعل المراد به المحدث الكاشاني - وهو من متأخري المتأخرين - حيث استظهر من
الروايات عدم اعتبار ظن الملاقاة مطلقا، انظر مفاتيح الشرائع 1: 78. نعم حكي ذلك عن
القاضي وظاهر عبارة الكاتب والشيخ، راجع الجواهر 6: 172. وقد أفتى بذلك صريحا
المحقق النراقي - المعاصر للمؤلف - قائلا: وفاقا للقاضي بل المفيد واختاره بعض
المتأخرين وغير واحد من مشائخنا المعاصرين، راجع المستند 1: 42 (ط - الحجرية).
649

النجاسة إنما هو من هذا الباب.
وثالثها: القول بحجية البينة مطلقا إلا فيما دل الدليل على اعتبار الزائد.
والمراد بالبينة: شهادة العدلين، وهذا هو الذي يظهر من كلمة الأصحاب في
سائر الأبواب، وعليه مشايخنا المعاصرون.
والوجه في عموم حجيتها إلا فيما خرج يمكن أن يكون أمورا:
أحدها: الإجماع المحصل من كلمة الأصحاب على هذا المعنى من دون نكير
منهم في ذلك، ويتحصل هذا الإجماع من كلامهم من جهات:
منها: أنهم في كل موضوع من الموضوعات - كالطهارة والنجاسة، والأوقات،
والقبلة، وكافة العقود والإيقاعات، وأسباب التحريم في النكاح من رضاع ونحوه،
وأسباب الفسخ من عيب وغيره، وأسباب الضمان من إتلاف أو غصب أو جناية،
ونحو ذلك إلى ما شاء الله تعالى، كلها - يحكمون بحجية البينة من دون إنكار ولا
تردد، إلا من شذ منهم في مثل مسألة النجاسة والوقت، كما لا يخفى على المتتبع
في كلامهم.
ومنها: أن في مقامات ذكرهم للثبوت بالبينة يعللون بأنها حجة شرعية وأنها
قائمة مقام العلم، ويترددون غالبا في قبول خبر العدل الواحد، وهذا التعليل منهم
دال على بنائهم على حجيتها، إلا فيما دل الدليل على خلافه.
ومنها: أنه لا ريب في عدم كون أكثر هذه المقامات التي يعتمدون فيها على
البينة منصوصا بالخصوص، ومع ذلك يحكمون به من دون اعتراض أحد منهم في
ذلك. وبالجملة: فظهور هذا الإجماع من كلامهم واضح لمن تدبر.
وثانيها: منقول الإجماع على حجيتها مطلقا في لسان بعض الأصحاب، بل
الظاهر أنه بالغ حد الاستفاضة، وجماعة من مشايخنا المعاصرين صرحوا
بالإجماع على ذلك، وهو الحجة، مع أن إرسال الأصحاب هذه المسألة إرسال
650

المسلمات وتعليلهم بعموم أدلة حجية البينة قاض بذلك.
وثالثها: الاستقراء، وهو يقرب من الاستقراء التام، فإن أبواب الفقه قد قام
النص أو الإجماع على حجية البينة في كثير منها، وليس موارد الشك في ضمنها
إلا طائفة قليلة تلحق بالغالب، ويعرف ذلك بالتتبع، وكثرة الموارد تغني عن
الحاجة إلى الإشارة إلى الموارد.
ورابعها: أن الموضوعات لا ريب في كون أكثرها خفية على أكثر الناس،
بمعنى: أن كل صنف من الناس وإن كان لهم تسلط في معرفة صنف من
الموضوعات، لكن الغالب لا بصيرة له في الغالب، فلو علق تعلق الأحكام على
العلم لزم تعطيل الأحكام غالبا ولزم الهرج والمرج، فلابد من كون شئ معتبرا في
الشرع يوجب الوثوق به في الموضوعات، ولا قائل بما هو أزيد من البينة من
شهادة أربعة أو خمسة أو نحو ذلك. نعم، بقي البحث في حجية العدل الواحد،
ويأتي البحث فيه.
وخامسها: أنه لو دار ثبوت هذه الموضوعات مدار حصول العلم لكل أحد،
لزم العسر والحرج الشديدان المنفيان بالنص والإجماع، فكذا المقدم، فتثبت
حجية البينة بعدم القول بالفصل، لأن كل من اعتبر ما سوى العلم فقد اعتبر البينة.
وسادسها: ما رواه بعض المعتمدين من علمائنا ومعاصرينا من الخبر في هذا
الباب، وهو قوله عليه السلام: (إذا شهد عندكم المؤمنون فاقبلوا) (1) والظاهر على ما في
بالي أنه معتبر بحسب السند أيضا، وعلى فرض عدم اعتباره أيضا تجبره الشهرة
العظيمة والإجماع المنقول وما مر من الوجوه السابقة.
والكلام في الدلالة، والظاهر من الشهادة: هو الأخبار عن العلم بأمر متعلق

(1) لم نظفر عليه في الكتب الروائية، ولم نقف أيضا على من رواها أو استدل بها من العلماء
المعاصرين للمؤلف وغير معاصريه قدس سرهم. ولعل الأصل في ذلك ما رواه الكليني قدس سره من قول
الصادق عليه السلام لابنه إسماعيل في حديث: (فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم) فروا ه بعضهم
باللفظ المذكور، نقلا بالمعنى. راجع الكافي 5: 299، الباب 154 من كتاب المعيشة، ح 1.
651

بالغير على الظاهر وما كان متعلقا بنفس الإنسان يسمى إقرارا بل الظاهر أن
الإقرار على النفس أيضا إخبار عن علم ويسمى شهادة، كما يدل عليه قوله تعالى:
كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم (1) وهذه الآية تدل على
حجية الإقرار، وقد تمسك به بعضهم (2) أيضا وذكره في آيات الأحكام في باب
الإقرار. والحاصل: أن مقتضى اللغة والعرف - كما يأتي مفصلا - أن الشهادة هي
الأخبار عما اطلع عليه الشاهد وعلمه، وحذف المتعلق في الخبر علامة العموم،
فيصير المعنى: إذا أخبركم المؤمنون عما اطلعوا عليه فاقبلوا في أي باب كان، وهو
المدعى.
ولو قيل: إن ظاهر الخبر قبول شهادة المؤمن مطلقا وأين ذلك من البينة؟
قلنا: إن العدالة تثبت شرطيتها بالإجماع.
ولو قيل: إن (المؤمنون) (3) جمع محلى باللام وظاهره الاستغراق، فيصير
المعنى: إذا شهد عندكم كل فرد من أفراد المؤمن فاقبلوا، وهذا يصير في حد
الضرورة والتواتر فلا بحث فيه. وإن أريد فيه التوزيع - بمعنى كون كل من
المؤمنين شاهدا لواحد من المخاطبين في مقام من المقامات - فيدل على حجية
الواحد أيضا، ويكون من جملة الأدلة الدالة على حجية خبر العدل الواحد، ويأتي
الكلام فيه وهو خارج عن البحث.
قلنا: لا ريب أن إرادة التوزيع خلاف ظاهر سياق الخبر، والتوزيع غالبا إنما
يصار إليه في مقام تقابل الاستغراقين، كقوله تعالى: الرجال قوامون على
النساء (4) ونحو ذلك، وأما مثل هذا الخبر فلا توزيع فيه، لأن ضمير جمع
الخطاب وما في معناه ليس من أدوات الاستغراق، بل هو تابع للمستعمل فيه
بالعموم والخصوص، ولا ريب في عدم حضور كل مكلف عند الخطاب، وأدلة

(1) النساء: 135.
(2) الفاضل المقداد في كنز العرفان 2: 87، والمحقق الأردبيلي في زبدة البيان: 467.
(3) في (ن، د): المؤمنين.
(4) النساء: 34.
652

الاشتراك في التكليف لا تثبت عموم اللفظ، والتوزيع مبني على الاستفادة من
ظاهر الآية.
فلا يقال: إن ثبوت حجيته للمخاطبين يوجب اشتراط (1) الكل، فينحل إلى
عموم في المخاطب حكما، لأن الاشتراك في التكليف فرع تنقيح الحكم من الخبر
حتى يتسرى إلى الغير، لا إدخال الغير أولا ثم فهم الخبر، ولا ريب أن هذا الخبر
من دون عموم في ضمير الخطاب لا يدل على التوزيع، ولا وجه لحمله عليه، فبقي
الكلام في إرادة الاستغراق.
فنقول: لو كان المراد: أن كل مؤمن إذا شهد عندك فاقبل، فلا نسلم كون ذلك
مفيدا لقبول شهادة المجموع، بل الظاهر أنه يدل على قبول شهادة كل فرد، لأن
قوله: (إذا شهد عندك كل مؤمن) بمنزلة قوله (2): (كل مؤمن إذا شهد عندك) فتدبر.
ولو سلم دلالته على اعتبار شهادة الجميع، فنقول: إن ذلك غير مراد قطعا،
لعدم إمكان شهادة الكل في شئ عادة، فإما أن ينزل على الجنس المفرد، فيدل
على حجية الواحد أيضا. وإما أن يراد به جنس الجمع، فيكون دالا على حجية
الثلاثة وما زاد. وإما أن ينزل على الاستغراق العرفي، فيكون دالا على حجية
الشياع المعتمد به والاستفاضة والمتواتر (3) ونحو ذلك. فعلى تقدير إرادة
الاستغراق العرفي يسقط عن الحجية لو استلزم ذلك ثبوت التواتر.
ولكن يمكن أن يقال: إن الاستغراق العرفي غير ملازم لحصول التواتر، وهما
مفهومان بينهما عموم من وجه، فيدل على حجية الاستغراق وإن لم يبلغ حد
التواتر، ويثبت بذلك حجية البينة، لأن كل من قال بحجية ما سوى العلم اعتبر
البينة. وبعبارة أخرى: متى ما لم يعتبر التواتر فلا قائل باعتبار ما زاد على البينة،
ولو أريد به جنس الجمع فالدلالة على المدعى بضميمة عدم القول بالفصل
واضحة، ولو أريد به التوزيع أو جنس المفرد دل على حجية البينة أيضا من دون

(1) في (د): اشتراك.
(2) في (ف، م): قولك.
(3) في (ن): والتواتر.
653

بحث، غايته: دلالته على حجية الواحد أيضا، وهو لا يضر في المدعى.
وعلى أي حال فلا بحث في عموم الخبر بحسب المورد. فعلى تقدير دلالته
على حجية البينة يثبت به عموم الحجية. وقد اعتمد على هذا الخبر طائفة من
المعاصرين (1). ولكن في الدلالة ما ترى من النظر.
وسابعها: ما دل من الآيات الشريفة على حجية العدلين في مقامات خاصة.
منها: قوله تعالى: يحكم به ذوا عدل منكم (2). وقوله تعالى: واستشهدوا
شهدين من رجالكم (3). وقوله تعالى: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت
حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم (4). وقوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل
منكم (5).
فان هذه الآيات وما بمعناها دلت على قبول شهادة العدلين في القرض
والوصية، وضمان المتلف في الأحرام (6) ومن الواضح عدم الفرق بين هذه الموارد
وغيرها. بل ربما يدعى الأولوية، فإن حقوق الناس إذا ثبتت بالعدلين
فالموضوعات التي لا دخل لها في حق الغير بالأولوية، ومقدار الغرامة في
الأحرام إذا ثبت بالعدلين فسائر الضمانات المالية المتعلقة بالمخلوقين بالأولوية.
بل ربما يدعى أن ظاهر هذه الآيات أن شهادة العدلين في نفسها حجة
لا خصوصية لهذه الموارد، بل قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم من
والبعد خلاف الظاهر. ولا ريب أن الأمر بالاستشهاد يقتضي كونه مقبولا عند
الأخبار، وإلا فلا ثمرة في الاستشهاد.
وثامنها: ما دل من الآيات الشريفة على وجوب تحمل الشهادة وأدائها

(1) راجع ص: 651، الهامش (1).
(2) المائدة: 95.
(3) البقرة: 282.
(4) المائدة: 106.
(5) الطلاق: 2.
(6) كذا، والأولى إن يقال: وجزاء الصيد المقتول في الأحرام.
654

وإقامتها، والذم على من كتمها مثل قوله تعالى: وأقيموا الشهادة لله (1) وكونوا
قوامين بالقسط شهداء لله (2). وقوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا (3).
وقوله تعالى: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه (4). وقوله تعالى: إن الذين يكتمون
ما أنزلنا من البينات والهدى... الآية (5). وقوله تعالى: ومن أظلم ممن كتم
شهادة عنده من الله (6).
ووجه الدلالة: أن الشهادة لغة وعرفا بمعنى الأخبار عما يطلع عليه الإنسان
كما تشهد به الأمارة (7) ومتى ما وجب إقامتها وتحملها وحرم كتمانها علم أن
إظهارها نافع ومؤثر ومقبول.
واحتمال لزوم الإظهار حتى يصير قطعيا متواترا في كمال البعد، فإن الشهادة
في العرف واضحة المعنى، وليس ثمرتها عندهم حصول القطع، بل إتمام الحجة
وحصول الوثوق. كما أن احتمال تنزيلها على موضع ثبت من الشرع فيه قبول
الشهادة والبينة خلاف الظاهر، بل الظاهر من هذه الآيات عموم حجية الشهادة،
وهي تصدق على العدلين قطعا، وعلى الواحد أيضا بمقتضى العرف واللغة، إلا أن
الإجماع قام على اعتبار التعدد في الشهادة.
وتاسعها: ما دل من كون البينة على المدعي (8) ولا ريب في صدق البينة على
العدلين، لأن البينة ما به يتبين الشئ ويستكشف، والعدلان مما يحصل به البيان
عرفا، فلا وجه لما يقال: إن هذه الرواية دلت على كون ما به البيان على المدعي،
وأما أن ما به البيان أي شئ، فهو موكول إلى الشرع. بل ربما يمكن أن يقال: إن
البينة حقيقة في شهادة العدلين في زماننا وما قبله، بل قبل الشرع أيضا كانوا
يطلقون البينة على الشهادة، فيكون المعنى: إقامة الشهادة على المدعي، ولا ثمرة

(1) الطلاق: 2.
(2) النساء: 135.
(3) البقرة: 282.
(4) البقرة: 283.
(5) البقرة: 159.
(6) البقرة: 140.
(7) الأمارة: لم ترد في (ف) ولعلها زائدة في سائر النسخ، والأصل في العبارة: كما شهد به.
(8) راجع الوسائل 18: 170، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعاوي.
655

لذلك إلا السماع والقبول قطعا و (1) كل موضوع من الموضوعات، فمن زعم
تحققها فهو مدع له (2) فيدخل في الخبر.
ولو فرض انصراف الدعوى إلى ما هو المتعارف بين الناس، فنقول: يمكن
تعلق شئ بأي موضوع فرض حتى (3) يكون داخلا في الدعوى المتعارف، ولا
يخفى ذلك على المتدبر. ولو لم يمكن فرض الدعوى في بعضها فيمكن تتميمه
بعدم القول بالفصل.
لا يقال: إن ذلك كله لو تم لأفاد ثبوت ذلك بالعدلين في مقام الدعوى، وأما
مطلقا فلا.
لأنا نقول أولا: إن ثبوته بالعدلين في مقام الدعوى يقتضي ثبوته بهما في
غيره بالأولوية. وثانيا: إن كل من قال بثبوت الموضوع بالعدلين قال به في
المقامين، ولم يفرق بين الدعوى وغيرها.
وعاشرها: ما ورد من الروايات في وجوب تحمل الشهادة وأدائها، والذم
على كتمانها - كما دل عليه الآيات (4) - وأكثرها واردة في التفسير، مذكورة في
كتب الفروع، من أرادها فليرجع إليها (5) ولوضوح مداليلها ما تعرضنا لذكرها.
وبالجملة: الظاهر البناء على عموم حجية شهادة العدلين إلا فيما خرج، وإن
كان شئ من هذه الأدلة لا يخلو عن نظر، ولكن بعد تراكم هذه الأدلة وتسليم
الأصحاب لها في كل باب فلا بأس (6) في الحكم بذلك. وفي هذه الآيات والأخبار
التي أوردناها كلام من جهات تركناها، لعدم نفع يعتد بها فيه (7).
وأما حجية العدل الواحد ففي ما دل عليه الدليل بالخصوص - كعزل الوكيل

(1) كذا، وفي هامش (م) بدل (و): في.
(2) كذا، والعبارة لا تخلو عن إشكال.
(3) لم ترد (حتى) في (ن، د).
(4) تقدم ذكرها في ص: 655.
(5) راجع الوسائل 18: 225، الباب 1 من أبواب الشهادات، وص 227، الباب 2 منها.
(6) في (ن): فلا بحث، وفي (م): لا بأس.
(7) كذا في أصول النسخ، وفي العبارة مسامحة واضحة.
656

بخبر الواحد (1) ونحو ذلك - فلا بحث، كما (2) دل الدليل فيه على اعتبار التعدد. وأما
في موارد الشك فربما يتردد فيه الأصحاب، كما اتفق ذلك من الشهيد الثاني رحمه الله
غالبا حيث يقول: " وفي قبول خبر الواحد وجه " (3) والمنشأ: الشك في شمول أدلة
حجية خبر الواحد.
وحيث إن (4) العمدة عندي في قبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية هو
الإجماع والأخبار المتواترة معنى الدالة على ذلك - مع أدلة اخر - وكلها لا تعم
الموضوعات. نعم، لو تم دلالة آية النبأ على ذلك فيمكن التمسك بها في عموم
حجية خبر الواحد كظواهر آيات الشهادة أيضا، إلا أن الأولى محل إشكال،
وآيات الشهادة مقيدة بالضميمة بنص أو إجماع، سواء جعلته من باب التخصيص
أو من باب التخصص، فتدبر.

(1) انظر الوسائل 13: 286، الباب 2 من أبواب الوكالة، ح 1.
(2) أي: مثل ما.
(3) لم نظفر عليه.
(4) الأولى حذف (حيث إن) لتستقيم العبارة، كما أسقطهما مصحح (م).
657

عناوين الشرائط العامة
للمباشرين في عبادة أو عقد أو إيقاع، كالبلوغ والعقل والرشد
والإسلام والإيمان والعدالة والحرية والاختيار والقصد.
(العنوان الثالث والثمانون)
(عدم شرطية البلوغ في الأحكام الوضعية
غير الناشئة عن اللفظ)
659

عنوان
[83]
لا شبهة في عدم شرطية البلوغ في جل الأحكام، فإن المواريث والديات
والضمان في الغصب والإتلاف والالتقاط ونحو ذلك يجري على الصبي كالبالغ.
والوجه فيه: عموم الأدلة، وعدم وجود المخصص، فإن قوله: (من أحيى
أرضا ميتة فهي له) أو (من حاز شيئا من المباحات فقد ملكه) أو (على اليد ما
أخذت) أو (من أتلف شيئا من مال أو نفس ضمنه) ونحو ذلك كلها عامة للصبي
كالبالغ، من دون فرق، فلذا نقول: إنه يملك بالاحتطاب والاصطياد، ويضمن
بسبب إتلاف أو جناية.
ودعوى: أن هذه الأدلة إنما تنصرف إلى البالغين - لأنها أيضا مسوقة كسوق
سائر التكاليف الغير المتعلقة بغير البالغين - ممنوعة، فإن اللفظ لا ريب في عمومه
لغة وعرفا، مضافا إلى فهم العلية من هذه الأدلة الموجبة لإلغاء جهة المباشر،
القاضية بثبوت الحكم في أي مورد كان.
ولو قيل: إن الحكم الوضعي مستلزم لحكم تكليفي غالبا أو مطلقا، والحكم
التكليفي من وجوب دفع أو من تحريم أخذ أو نحو ذلك لا يتعلق بالصبي - كما
سيحقق - ونفي اللازم قاض بنفي الملزوم.
قلنا: استلزام الوضعي للتكليف إن كان في الجملة - أعم من الإطلاق والتقييد -
660

فهو مسلم، فإن ضمان المتلف يقضي بوجوب الدفع إلى المالك مع المطالبة لكن مع
اجتماع شرائط التكليف، وهذا لا مانع منه في الطفل، فإنه ضامن بالفعل يجب عليه
دفعه إذا اجتمع فيه شرائط التكليف. وإن كان خصوص الحكم المطلق المنجز،
فاستلزام الحكم الوضعي للتكليف بهذا المعنى ممنوع كما أشرنا إليه.
مضافا إلى أن عدم وجود الضمان في الصبي إلى حال البلوغ يوجب عدمه
بعده أيضا، لبراءة ذمته في آن البلوغ، ولا سبب بعد ذلك، وكون الإتلاف حال
الصبي سببا للضمان حال البلوغ خلاف ظاهر الدليل. وتظهر الثمرة في صحة
الإبراء وغير ذلك مما لا يخفى.
ومن هذا الباب سائر الأسباب، فإن أسباب الوضوء والغسل موجب في
الصبي أيضا لهما عند تعلق التكليف، والوطئ - مثلا - سبب للتحريم في المصاهرة
ولواحقها في الصبي كالبالغ، وعلى هذا النحو غيره.
661

(العنوان الرابع والثمانون)
(صحة عبادات الصبي المميز وعدمها)
663

عنوان
[84]
اختلفوا في شرطية البلوغ لشرعية العبادات وصحتها، بعد اتفاقهم على
شرطية التمييز وشرطية البلوغ في الوجوب والتحريم - بمعنى عدم العقاب على
الصبي في فعله وتركه - على أقوال:
أحدها: أن هذه العبادات من الأطفال تمرينية صرفة، بمعنى عدم ترتب أجر
وثواب من الله تعالى على عمل الصبي وإن كان لوليه ثواب التمرين لذلك.
وثانيها: أن عباداته شرعية كالبالغين، ومعنى الشرعية: كونها مندوبة للصبي
مطلوبة من الشارع (1) بحيث يستحق عليها الأجر والثواب الأخروي، سواء كان
فعل واجب أو مندوب، أو ترك محرم أو مكروه. وبعبارة أخرى: خطاب الندب
والكراهة متعلق بأفعاله (2) والواجب في حكم المندوب والحرام في حكم المكروه
بعد رفع العقاب عنه وإن كان أمر الولي له بذلك تمرين (3) له على العمل، لأن كو ن
ثواب التمرين للولي غير مناف لكون الفعل مما فيه ثواب للطفل.
وثالثها: أن عبادات الصبي شرعية تمرينية، لا أنها شرعية أصلية، والمراد
بذلك: أن إتيان الصبي لهذه الأفعال وتركه لهذه التروك مطلوب للشارع لا لأنفسها،

(1) كذا، والظاهر: مطلوبة للشارع.
(2) في غير (م): متعلقة بأفعالها.
(3) كذا، والظاهر: تمرينا.
664

بل لحصول التعود والتمرن على العمل بعد البلوغ. فصلاة الصبي فيها جهتان:
جهة كونها صلاة، وهذه الجهة ملغاة في الصبي، لا فرق بين كونها صلاة أو
قياما أو نوما أو نحو ذلك في عدم رجحان أصلي فيها بالنسبة إليه وعدم وجود
أجر في ذلك من جهة الصلاتية.
وجهة كونها تعودا على شئ يكون مطلوبا بعد البلوغ وإن كان لا غيا الان في
حد ذاته، وهذه الجهة مطلوبة للشارع يثاب عليها. وبعبارة أخرى: التمرن
مستحب دون الصلاة والصوم، فتدبر.
والثمرة بين القول الأول والأخيرين تظهر في حصول الأجر للصبي وعدمه،
فعلى الأول: لا أجر له، بخلاف الأخيرين. وبين الأخيرين تظهر في تعيين الأجر،
فإن القول بالشرعية يقتضي حصول ثواب الصلاة والصوم بالنسبة إليه كالبالغ من
دون فرق، والقول الثالث يستلزم حصول ثواب التمرن، لا الصلاة والصوم، لعدم
كونهما راجحين للصبي، بل الراجح هو التمرن والاعتياد. وتظهر أيضا في نية
العبادات الواجبة، فعلى التمرين ينوي الوجوب. وفي جواز نيابة الصبي عن ميت
أو حي بأجرة أو بدونها، فعلى القول بالتمرين الصرف واضح الفساد، لعدم كونه
قابلا للنيابة وعدم وجود الفائدة الموجبة للصحة. وعلى القول بالشرعية فهي
جائزة كالبالغ من دون فرق، فيكون نائبا ويكون منوبا عنه أيضا. وعلى القول
الثالث لا يجوز أيضا، لأنه رجحان تمرن لا يكون قابلا للنيابة، لعدم إمكان
حصول المراد إلا بالمباشرة وهي غير مورد الوكالة والنيابة، ولعدم وجود ثواب
في أصل الفعل قابل للرجوع إلى شخص آخر حتى ينوى عنه، بل الأجر على
نفس التمرن، وكونه للغير فرع كونه منويا عن الغير، وهو غير ممكن، لمنافاة
مفهومه لذلك.
والمحكي عن مشهور الأصحاب القول بالشرعية (1) وعن بعض علمائنا القول

(1) حكاه المحدث البحراني في الحدائق: 13: 53.
665

بالتمرين (1) وجماعة من المتأخرين منهم الشهيد الثاني رحمه الله (2) وجملة من
المعاصرين القول بالشرعية التمرينية (3) وربما يظهر من بعضهم تنزيل كلام
الأصحاب أيضا على ذلك (4) لا الشرعية بالمعنى الثاني (5) فتدبر.
وأما الأدلة:
فللقائلين بالتمرين: أصالة عدم ترتب الثواب إلا بالدليل، وهو منتف، وعدم
شمول ما دل على الأحكام التكليفية - من الأوامر والنواهي - على (6) الصبي،
لانصرافها إلى البالغين العاقلين. وتقيد (7) بعض الأحكام قطعا بالبلوغ
- كالواجبات والمحرمات - من حيث كونها (8) واجبا ومحرما (9) ولا فرق بينهما
وبين غيرهما في جهة العملية (10) والمطلوبية وإن كان هناك فرق في العقاب وعدمه.
وحديث (رفع القلم عن الصبي والمجنون) (11) المعتمد عليه عند العامة والخاصة،
وظاهر معناه: أن القلم الجاري على البالغين العاقلين فهو مرفوع عن غيرهما،
ولا ريب أن القلم أعم من الواجب والمندوب والمحرم والمكروه، بل المباح أيضا،
فيصير المعنى: أن الحكم الجاري على البالغ العاقل لا يجري على الصبي
والمجنون بقول مطلق، فلا يتحقق طلب لأفعاله ولو ندبا حتى يكون شرعيا.
ولو كان عمومات أدلة الأحكام شاملة للصبي أيضا لتخصصت بحديث رفع

(1) منهم العلامة في المختلف 3: 386.
(2) ظاهر عبارة المتن: أن الشهيد الثاني قائل بالشرعية التمرينية، مع أنه قدس سره قال: والأصح أنه
تمريني لا شرعي، راجع المسالك 2: 15.
(3) لم نعثر عليه في ما وصل إلينا من كتب معاصريه ومن قارب عصره قدس سرهم.
(4) لم نقف عليه.
(5) أي ثاني الأقوال المذكورة في أول العنوان.
(6) كذا، والمناسب: للصبي.
(7) في (ن، د): تقييد.
(8) كذا في (ن، د)، وفي (ف، م): (كونهما) والصواب: (كونه) باعتبار رجوع الضمير إلى
(بعض).
(9) أنثهما مصحح (م).
(10) في (ن، د): العلمية.
(11) الوسائل 1: 32، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات، ح 11.
666

القلم، إذ التعارض بين العمومات وبين الخبر بالعموم والخصوص المطلق غالبا.
ولو فرض بالعموم من وجه، كقوله: (من قرأ سورة الفاتحة فله كذا) فإنه شامل
للصبي وغيره، وحديث (رفع القلم عن الصبي) شامل للفاتحة وغيرها من الأعمال،
فنقول أيضا بتقديم حديث رفع القلم، لوروده على تلك العمومات عرفا، ولكون
أخصيته باعتبار الموضوع وأعميته باعتبار المحمول، وحديث الفاتحة - مثلا -
بالعكس، والعمدة في الأخصية هو الموضوع، فلا وجه بعد ذلك لترتب الثواب
عليه.
وكون الأولياء مأمورين بالتمرين لا يقضي بكون هذه الأفعال مطلوبة من
الصبيان، بل ليس ذلك إلا كتعليم (الشاذي) (1) ونحوه، فالثواب للولي على تمرينه،
لأنه عمل مأمور به، ولا جزاء لعمل الصبي مطلقا.
والكلمة الجامعة بين القولين الأخيرين النافية لهذا القول أمور:
أحدها: أن ما دل من العمومات على ترتب الثواب على الأفعال شامل للصبي
كالبالغ - كما لا يخفى على من تتبع الآثار والأخبار والآيات - وانصرافها إلى
البالغين ممنوع، بل ليس المقام إلا كباب الأسباب والضمانات، فكما أن ما دل فيها
من الأدلة عام للصبي والبالغ، فكذا المقام من دون فرق، إلا إذا دل دليل على
التخصيص.
وثانيها: أن المستقلات العقلية - كحسن الإحسان ورد الوديعة ونحو ذلك - لا
ريب في كون من امتثل بها مستحقا للثواب في نظر العقل، من دون فرق بين البالغ
والصبي، والعقل لا يقبل التخصيص، والجزاء لا ينفك عن العمل الحسن عقلا
ونقلا، فكيف يعقل القول بعدم ترتب الثواب على ذلك مع تسليم هذه المقدمات؟
ودعوى: عدم حكم العقل بحسن رد الوديعة أو الإحسان في الصبي، مما ينكره
الوجدان وينفيه العيان، ولا فرق بين ما يستقل به العقل وغيره.
وثالثها: أن بعد حكم الشرع بمطلوبية الأفعال الواجبة والمندوبة علمنا بوجود

(1) لم نقف على معناه.
667

مصلحة أو مفسدة في فعله أو تركه يوجب المطلوبية - على ما تقرر عندنا من تبعية
الأحكام للمصالح - ولازم ذلك كونه مطلوبا من الصبيان أيضا، إذ لا تتخلف
المصلحة الكامنة. نعم، للمباشر والحالات مدخلية في المصلحة تتغير بتغيرها (1)
ولكن الكاشف عن ذلك الدليل، وحيث إن الطلب والثواب تعلق بماهية قراءة
القرآن - مثلا - ولم يدل دليل إلا على خروج الجنب والحائض مثلا (2) في وجه،
يعلم من ذلك أن الصبي والبلوغ لا مدخلية له في المصلحة.
ورابعها: أن قضية اللطف عدم خلو هذا العمل الصادر عن الصبي من الثواب،
فإن من أتى بعمل حسن قاصدا به وجه الرب الكريم فحرمانه عن الجزاء والثواب
مناف للطف وما دل من الكتاب والسنة على أنه تعالى يقدم ذراعا على من أقدم
عليه شبرا (3) فتدبر.
وخامسها: الاعتبار العقلي، فإن من البعيد الفرق بين ما قبل البلوغ بساعة وما
بعده، فإن المراهق المقارب للبلوغ جدا لا ريب في أنه بمكان من الإخلاص
والعبودية لله تعالى كما بعد البلوغ، بل في الحالة الأولى ربما يكون أشد من الحالة
الثانية، فيبعد كونه مأجورا على الثانية دون الأولى.
وسادسها: ما ورد من الأخبار على أن (لكل كبد حراء أجر) (4) فإنه عام
للصبي والبالغ، بل مشير (5) إلى أن العلة إنما هي حرارة الكبد، ولا ريب في احتراق
كبد الصبيان في بعض الأوقات والأفراد شوقا إلى الله تبارك وتعالى أزيد من كثير
من البالغين.
وسابعها: لزوم ترجيح المرجوح، فإنا لو فرضنا أن المراهق أتى بعبادة
مشتملة على الاخلاص والشرائط والأجزاء وأتى غيره بهذا العمل، أو أتى به ذلك

(1) كذا، والظاهر: بتغيرهما.
(2) في (ن) مكان (مثلا): به.
(3) ورد ذلك في الحديث القدسي بلفظ (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا...) البحار
87: 190.
(4) عوالي اللآلي 2: 260، ح 15.
(5) في (ن، د): يشير.
668

أيضا بعد بلوغه غير مستجمع لتلك الصفات الكمالية، فجعل الثواب للثاني دون
الأول ترجيح للمرجوح على الراجح. إلا أن يقال: إن الصبي لو كان معتقدا
لحصول الثواب فهو خارج عن محل البحث والنزاع، إذ البحث في الحكم الواقعي
وفي أنه هل هناك ثواب أم لا؟ وبعد عدم ثبوت خطاب الشارع له فلا ثمرة في
جمع الشرائط والأجزاء، فتأمل.
وثامنها: أنه قد ورد الأمر على الأولياء أن يأمروا الأطفال بالعبادة،
كقوله صلى الله عليه وآله: (مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع) (1). ولا ريب أن الأمر بالأمر أمر
بالثالث على العمل عرفا، كما إذا قال زيد لعمرو: قل لبكر أن يفعل كذا، فإنه أمر
لبكر بذلك، بحيث لو أطلع بكر على كلام زيد من دون أمر عمرو بل من خارج
لزمه الامتثال، ولو خالف لاستحق العقاب، وليس معناه: أن بكرا مأمور من عمرو،
لا من زيد، وذلك في العرف واضح. ومثله قوله تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي
هي أحسن (2) فإن ذلك أمر للعباد من الله تعالى - والمسألة محررة في الأصول -
ويكون (3) الصبيان أيضا مأمورين من الشارع بالعمل، ولازمه الثواب، وهو معنى
الشرعية.
وأما قياس العقاب على الثواب فليس في محله، إذ سبب رفع العقاب إنما هو
اللطف والرحمة مع عدم كمال العقل في الصبي، وهو سبب في وجود الثواب لا في
ارتفاعه وعدمه.
وأما حديث (رفع القلم) فنقول (4): إنه لا يدل على نفي الثواب والمطلوبية
مطلقا، بل الظاهر منه: إما نفي العقاب كما هو غالب استعماله في العرف، فإن أهل
العرف إذا قالوا: (فلان مرفوع القلم) لا يريدون به إلا عدم المؤاخذة عنه في
أفعاله وتروكه. وإما عدم وجود جزاء على عمله المستحسن فلا دليل في (رفع

(1) البحار 104: 50، ح 14، بلفظ (مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا أبناء سبع سنين).
(2) الأسراء: 53.
(3) في (ف، م): فيكون.
(4) في (ن، د): فأقول.
669

القلم) على ذلك، فلا يعارض الأدلة السابقة. وإما المراد منه: نفي القلم الجاري
على المكلفين حتى في المستحبات، ولا منافاة بين عدم كون الاستحباب بالمعنى
الموجود في المكلفين وبين كونه مستحبا مستحقا للثواب من جهة التمرن، كما
يراه أهل القول الثالث.
وبالجملة: فحديث (رفع القلم) لا يدل على التمرين الصرف إلا مع فرض دلالته
على ارتفاع الحكم مطلقا، وليس كذلك، ويرشد إلى هذا المعنى: عدم ارتفاع
الأحكام الوضعية من حيث نفسها عن الصبيان كما ذكرناه، مع أن حديث (رفع
القلم) عام، وليس إلا لانصرافه إلى المؤاخذة لا أصل الحكم، ورفع المؤاخذة رفع
للوجوب والتحريم، دون سائر الأحكام.
إذا عرفت هذا فبقي تحقيق الحق بين القولين الأخيرين، فنقول: قد ظهر مما
ذكرنا: أن ترتب الثواب عقلا لا مانع منه، ولو كان هناك مانع لم يكن فرق بين
استحباب التمرن واستحباب الصلاة، ومتى ما انفتح باب كون الشئ مطلوبا من
الصبي بحيث يؤجر عليه جاز كون كل عمل كذلك، وذلك واضح. بل قد عرفت أن
مقتضى قبح ترجيح المرجوح وقاعدة اللطف وكون الأجر لكل كبد حراء وجود
الثواب أيضا، فضلا عن عدم المانع عقلا، ولكن أصحاب القول الثالث يدعون: أن
الثواب في الجملة اللازم من اللطف ونحوه من الأدلة نقول به، وهو ثواب الاعتياد،
وأما ثواب أصل العمل - كما في البالغ - فهو فرع الدليل، وليس إلا شمول
العمومات وقاعدة الأمر بالأمر، والعمومات لو فرضنا عدم انصرافها إلى البالغين،
والأمر بالأمر لو سلمنا عدم كونه منصرفا إلى التمرين الذي لا يدل إلا على
مطلوبية التمرن دون أصل الأفعال، نقول: إن حديث (رفع القلم) قاض بارتفاع
كل ما هو جار على البالغ من الصبي، ومنه مطلوبية أصل الأفعال. نعم، على
الصبي يجري ما لا يجري على البالغ وهو رجحان التمرن، فإن ما في البالغ
مطلوبية أصل الفعل وهو غير متحقق في الصبي، وما في الصبي رجحان تمرن
ليس في البالغ، فحديث (رفع القلم) مخصص للعمومات وموجب لارتفاع قاعدة
670

الأمر بالأمر
هنا، بمعنى إرادة التمرين لا الأمر، فيصير الحاصل: أن هناك ثواب
تمرن، لا ثواب أصل العمل.
وحيث رجعت المسألة إلى دلالة حديث (رفع القلم) فالأنصاف: أنه إما
الظاهر منه رفع المؤاخذة فلا يدل على ارتفاع الأحكام مطلقا، وإما أنه منصرف
إليه بحيث يشك في إرادة ارتفاع سائر الأحكام، فيبقى عموم ما دل على الأجر
والجزاء سليما عن المعارض وما ذكرناه من الوجوه الأخر مؤيدا له.
وهنا احتمال رابع لم أجد من قال به، وهو: أن أعمال الصبي شرعية فيها ثواب
أصل العمل، ولكنه عائد إلى الولي دون الطفل. ويمكن الاستناد في ذلك إلى
أمرين:
الأول: أن الطفل من جهة عدم كمال عقله إنما يكون المحرك والداعي له إلى
العمل تمرين الولي، وحيث إن المباشر ضعيف فيكون السبب هو العمدة ويكون
العلة الأقوى الولي، ويكون الطفل كالآلة، نظير ما ذكروه في الجنايات، ونذكره في
المعاملات من جواز كون الطفل كالآلة وإن كان عاقلا قاصدا مختارا لكنه لضعفه
كالآلة، وإذا كان كذلك فالفعل يسند إلى الولي، فله جزاؤه: إن خيرا فخير وإن شرا
فشر.
والثاني: ما ورد في الخبر - في باب الحج - في حج الولي بالطفل المميز، فإنه
قال: (إن الولي إذا فعل ذلك وتمم الأعمال كان له أجر حجة) (1) والظاهر منه: أن
الولي كأنه فعل حجا وهذا الفعل في الحقيقة فعله، فيكون للولي في كل مقام يأتي
به الصبي بعمل ثواب ذلك العمل.
ولكن قضية العقل وظواهر الكتاب والسنة كون جزاء كل عمل لمن باشره
وفعله، فإن كان لمباشرة الطفل ثواب فيستحيل كونه لشخص آخر - إلا في النيابة
ونحوها في وجه - وإن لم يكن ثواب رجع إل التمرين، وذلك الثواب الحاصل
للولي ليس ثواب فعل الصبي، بل إنما هو ثواب كونه داعيا إلى هذا العمل وممرا

(1) لم نعثر عليه.
671

عليه، وقد يكون ثوابه معادلا لثواب الصلاة والحج مثلا، كما يرشد إليه قوله عليه السلام:
(الدال على الخير كفاعله) (1).
هذا ما سنح بالبال في هذا المجال على الاستعجال. وكيف كان: فالقول
بالشرعية بالمعنى الثاني عندي أقوى، والروايات الخاصة في الصوم والصلاة لا
تنافيها، وأكثرها بلفظ الأمر.
وهنا وجه خامس، وهو: كونه تمرينا في الواجبات شرعيا في المندوبات. أما
في الثاني فلما مر من العموم، وأما الأول فلأن انتفاء الوجوب يوجب انتفاء
الرجحان الذي في ضمنه، ولا دليل على الاستحباب، والكلي لا وجود له، فتأمل.
ولا أعرف به قائلا.

(1) الفقيه 2: 55، باب فضل المعروف، ح 1682.
672

(العنوان الخامس والثمانون)
(البلوغ شرط في صحة العقود والإيقاعات)
673

عنوان
[85]
عبارة الصبي ملغاة في العقود والإيقاعات كافة، وبعبارة أخرى: البلوغ شرط
مطلقا، سواء كان العقد والإيقاع لنفسه أو لغيره، ولا فرق (1) بين كونه محجورا عليه
في المتعلق وعدمه، وبين كونه في مقام الاختبار والامتحان وعدمه، وبين كونه
مأذونا من الولي وعدمه، وبين البالغ عشرا في الذكر وعدمه، على ما نراه من عدم
كونه بلوغا، وعلى القول بكون البلوغ هو العشر فيصير النزاع في الموضوع دون
الحكم من حيث هو، والوجه في ذلك أمور:
أحدها: الإجماع المحصل من الأصحاب الظاهر بالتتبع في كلامهم، حيث إنهم
يشترطون ذلك في جميع العقود والإيقاعات، وهو الحجة. ومخالفة من يذكر بعد
ذلك من الأصحاب غير قادحة في الإجماع. وجريان السيرة على معاملة الصبي
لا ينافي الإجماع على بطلان عقده، للفرق بينه وبين المعاطاة، مع ما نذكر فيه من
الوجوه الأخر.
وثانيها: منقول الإجماع حد الاستفاضة - كما حكي عن ابن حمزة (2)
والعلامة (3) (4) مع تأيده بشهرة محققة ومحكية، وبما يذكر بعد ذلك من الأدلة.

(1) في (ف، م): فلا فرق.
(2) كذا في النسخ، والظاهر أنه مصحف (ابن زهرة) راجع الغنية (الجوامع الفقهية): 523.
(3) التذكرة 2: 73.
(4) في غير (م) زيادة: غيرهم.
674

وربما يناقش فيه بأن الفاضل مع نقله الإجماع قال: (والوجه عندي
البطلان) (1) ولو كان هذا إجماعا لم يكن لقوله: (والوجه) وجه، ويمكن دفعه بأن
كلامه يمكن كونه في قبال رواية ضعيفة أو في قبال فتوى العامة ونحو ذلك، فلا
يدل على التردد.
وثالثها: أن الأصل في العقود أولا هو الفساد، وكذا الإيقاع، وما ثبت من الأدلة
صحته إنما هو في غير عقد الصبي، فإن العمومات لا تشمله، وسيأتي توضيحه.
ورابعها: أن الصبي محجور عليه في التصرفات مسلوب الأهلية، والعقد أيضا
من جملة ذلك، وإن كان يرد عليه: أن محض العقد ليس بتصرف. وينتقض بالسفيه،
فإنه محجور عليه مع أن عبارته ليست مسلوبة، فيصح بالتوكيل والاستئذان.
وخامسها: أن صحة العقد تستلزم ترتب الآثار والأحكام، واللوازم من
الأمور الواجبة والمحرمة، وهذه الأحكام لا تثبت للصبي لرفع القلم عنه، ونفي
اللوازم نفي للملزومات، ويشكل باحتمال القول بالصحة بإذن الولي أو إجازته مع
كون المكلف بترتيب الأحكام هو الولي ولا محذور.
وسادسها: الأخبار المستفيضة الدالة على عدم صحة معاملات الصبي
وعقوده، المنجبر ضعف أسانيدها بما مر من الفتوى والعمل.
منها: أن الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم،
ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع، وأقيمت عليها الحدود التامة،
واخذ لها بها. والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج عن اليتم حتى يبلغ
خمس عشرة سنة، أو يحتلم، أو يشعر، أو ينبت قبل ذلك (2).
ومنها: الخبر عن اليتيم متى يجوز أمره؟ قال: حتى يبلغ أشده. قال: وما أشده؟
قال: احتلامه (3).

(1) التذكرة 2: 80.
(2) الوسائل 13: 142، الباب 2 من أبواب أحكام الحجر، ح 1.
(3) المصدر: ح 5.
675

ومنها: الخبر الآخر: إذا بلغ الغلام أشده جاز له كل شئ، إلا أن يكون ضعيفا
أو سفيها (1).
ووجه الاستدلال: أن جواز الأمر عبارة عن النفوذ والصحة، والشراء والبيع
حقيقة في العقد والتمليك، وقد علق في هذه الأخبار على البلوغ، ومفاهيمها تدل
على عدم الجواز والنفوذ قبل البلوغ، وهو المدعى.
وقد يقال: إن المتبادر منها: كون الحجر والمنع من التصرف في ماله، وأما كونه
عبارة مسلوبة (2) ولو بالوكالة والأذن، فلا. ولكن الظاهر من الخبر كون الصغر مانعا
عن صحة المعاملات، ولا مدخلية لماله أو غيره في ذلك، مضافا إلى عدم القول
بالفرق بين ماله ومال غيره.
ولو قيل: إن المتبادر من النصوص جواز الأمر على الاستقلال فلا يدل على
عدم الصحة مع إذن الولي.
قلنا: إن كان المراد من جواز أمره في البيع والشراء: نفاذه وصحته - كما
ذكرناه - فنقول: هو أعم من إذن الولي وعدمه، وليس فيه انصراف إطلاق،
خصوصا مع كون الغالب في معاملات الأطفال رضاء الأولياء. وإن كان المراد من
جواز الأمر: جواز أمر الولي له في البيع، فوجه الدلالة واضح، لأن مفهومه أن
الولي لا يجوز له أن يرخصه في المعاملة ما لم يبلغ، وليس إلا لعدم أهليته، فتدبر.
وأما اختصاصها باليتيم، فلا إشكال فيه، لعموم الخبر الأخير، وعدم القول
بالفرق بين اليتيم وغيره، وظهور كون العلة الصغر لا اليتم، ولا المجموع المركب،
فتأمل.
وليس في الباب خلاف إلا من الشيخ رحمه الله - ونسب إلى بعض أيضا - أن من بلغ
عشرا يجوز بيعه ونحو ذلك من تصرفاته مع كونه عاقلا (3).

(1) لم نعثر عليه باللفظ المذكور، انظر ذيل الحديث السابق، ومستدرك الوسائل 1: 87، الباب 4
من أبواب مقدمة العبادات، ح 8.
(2) كذا في أصول النسخ، وصححها مصحح (م) هكذا: (كون عبارته مسلوبة).
(3) قال السيد المجاهد قدس سره - في عداد الأقوال -: الثاني أنه يصح بيع البالغ عشر سنين
رشيدا، وكذا شراؤه، وهو للمحكي عن الشيخ، المناهل: 286. وقال صاحب الجواهر في
المسألة - بعد نسبة عدم الصحة إلى الأشهر بل المشهور - ما لفظه: بل لا أجد فيه خلافا عدا
ما يحكى عن الشيخ، ولم نتحققه، بل صرح في المحكي عن المبسوط والخلاف بعدم صحة
بيع الصبي وشرائه، أذن له الولي أو لم يأذن، نعم قال في أولهما: (وروي أنه إذا بلغ عشر
سنين وكان رشيدا كان جائز التصرف) وظاهره عدم العمل بها، فصح حينئذ للفقيه نفي
الخلاف في المسألة على الإطلاق، الجواهر 22: 260.
676

فإن كان مستنده في ذلك المرسلة الدالة على جواز تصرف الصبي إذا بلغ
عشرا كما روى (1) فهو ضعيف السند مخالف للشهرة، بل الإجماع كما ذكرناه،
مخالف للأصول، ومع ذلك فلا دلالة فيه، لأن جواز التصرف غير جواز كل
تصرف، خصوصا البيع. ولعلنا نقول ببعض التصرفات للنص، غايته: إطلاق لا
ينصرف إلى مثل العقود والإيقاعات (2). مع إمكان حمله على الأنثى فإنها في العشر
بالغة، أو على مقارنة بلوغه العشر لبلوغه الحقيقي باحتلام ونحوه. ولو سلم كل
ذلك، فنقول: الخبر يكون من جملة الأخبار الدالة على أن البلوغ يصير بالعشر ولا
نقول به، وهو نزاع آخر.
وإن كان المستند ما رواه الصدوق والكليني في الصحيح إلى صفوان، عن
موسى بن بكر - وهو واقفي غير موثق - عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إذا
أتى على الغلام عشر سنين، فإنه يجوز في ماله ما أعتق، أو تصدق، أو أوصى على
أحد في معروف فهو جائز) (3). وصحيحة جميل بن دراج، عن أحدهما عليهما السلام قال:
(يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل، وصدقته ووصيته وإن لم يحتلم) (4). وما في
صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله، وصحيحة أبي أيوب في الغلام ابن عشر

(1) يعني كما رواه الشيخ، راجع المبسوط 2: 163.
(2) في (ف، م) زيادة: كلها.
(3) الكافي 7: 28، الفقيه 4: 197، الوسائل 13: 429، الباب 44 من أبواب أحكام الوصايا،
ح 4، والفقرة الأخيرة من الرواية في الجميع هكذا: أوصى على حد معروف وحق فهو جائز.
(4) التهذيب 9: 182، باب وصية الصبي والمحجور عليه، ح 8.
677

سنين يوصي؟ قال: (إذا أصاب موضع الوصية جازت) (1). مع ما في رواية زرارة
وموثقة محمد بن مسلم من التأييد لهما (2). ومرسلة ابن أبي عمير الدالة على جواز
طلاق من بلغ عشر سنين (3). والرواية الضعيفة الدالة على جواز عتقه (4).
فنقول: إن كل ذلك من أدلة القول بحصول البلوغ في العشرة، ولا نقول به. ولو
سلم فهذه الأخبار بعضها ضعيفة، مع عدم شهرة جابرة، والصحيح منها [مهجور] (5)
معارض بما هو أقوى منه، مضافا إلى ما مر من الأدلة هنا. ومع ذلك كله فالقياس
باطل، فلعلنا نقتصر على جواز الوصية والصدقة والطلاق، ولا نتسرى إلى الغير.
وبالجملة: هذه الأخبار مع وجود المعارض القوي وعدم شهرة العمل بمضمونها لا
يعتمد عليها.
نعم، ذهب بعض المتأخرين - وأظن أنه المولى المقدس الأردبيلي - إلى
جواز معاملات الصبي المميز مطلقا، وله على ذلك ضروب من الأدلة (6):
الأول: ما دل على صحة العقود من العمومات أجناسا وأنواعا، فإن العقد
والبيع والإجارة - ونحو ذلك - يصدق على عقد الصبي فيصح، وليس هنا ما
يخرجه عن العموم.
والثاني: أن جوازه في الوصية والتدبير والصدقات - كما هو مقتضى الأخبار
السابقة - مع كونها مجانية يقضي بجوازه في المعاوضات بطريق أولى.

(1) الوسائل 13: 429، الباب 44 من أبواب أحكام الوصايا، ح 3، 5، 6.
(2) لم نتحقق ما أراده منهما.
(3) الوسائل 15: 324، الباب 32 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه، ح 2.
(4) لم نعثر إلا على ما رواه آنفا عن الصدوق والكليني من رواية موسى بن بكر.
(5) لم يرد في (ن، د).
(6) راجع مجمع الفائدة والبرهان 8: 152 - 153، ولا يخفى أن بعض الأدلة المذكورة لا يوجد
في صريح كلام المحقق الأردبيلي قدس سره، ومعلوم: أن المؤلف قدس سره لم يراجع كلامه، بدليل قوله:
(وأظن أنه المولى المقدس الأردبيلي) فما ذكره من ضروب الأدلة بعضها حدسي وبعضها
تبرعي.
678

والثالث: قوله تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم
رشدا فادفعوا إليهم أموالهم (1) فإنه أمر بامتحان الأيتام قبل البلوغ بالمعاملات،
ولا يكون إلا بصحة معاملاتهم، ومنشؤه الاحتراز عن تأخير الدفع مع وجود
الاستحقاق، فيكون الدفع عند البلوغ مع كون الابتداء قبله.
والرابع: أنا نعلم: أن الحجر على الصبي في التصرفات إنما هو من جهة أنه
يتلفه ولا يصلحه، ومتى ما علم أنه لا يتلف - كما نراه في كثير من الصبيان في
زماننا، فإنهم أشد مداقة ومماكسة من البالغين - فلا ضرر فيه، ويرشد إلى هذه العلة
الأمر بالدفع مع الرشد، وليس معناه إلا ملكة الإصلاح للمال.
والخامس: جريان السيرة على معاملة الصبيان في كل مصر وزمان ولو كان
هذا باطلا لمنع منه في كل عصر.
والجواب: بأن العمومات المسوقة مساق التكاليف ك‍ (أوفوا بالعقود) (2) و
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض (3) ونحو ذلك
لا تشمل الصبيان، لعدم صلاحيتهم للتكليف وخروجهم عن ذلك بما دل على
شرطية البلوغ في التكليف.
وهنا بحثان:
أحدهما: أن هذه العمومات تدل على حكم تكليفي - كوجوب الوفاء ونحوه -
وعلى حكم وضعي نعبر عنه بالصحة، وما دل من المخصص على خروج الصغار
إنما دل على عدم الحكم التكليفي، وأما الحكم الوضعي فهو باق على عمومه، فلا
يلزم من ذلك عدم الصحة.
وجوابه: أن الحكم الوضعي هنا تابع للحكم التكليفي، إذ لم نفهم الصحة إلا
بوجوب الوفاء، ومتى خرج الصبي عن هذا الحكم فلا دليل على صحة معاملاته،

(1) النساء: 6.
(2) المائدة: 1.
(3) النساء: 29.
679

وهذا نظير ما نقول: إن المنطوق إذا خرج عن الحجية بمعارض ونحوه فلا عبرة
بالمفهوم، فتدبر.
وثانيهما: أنه نفرض صدور العقد من بالغ وصبي فنتمسك بالعموم من طرف
البالغ ونثبت بذلك الصحة من جانب الصبي بعدم إمكان التكفيك، ثم نثبت صحة
العقد الواقع بين الصغيرين أيضا بالإجماع المركب. أو نفرض صدور عقود مترتبة
على عقد الصغير من البالغين الكاملين بعد وقوع العقد من الصغير فتتمسك في
العقود المترتبة اللاحقة بعموم (أوفوا بالعقود) ونثبت بذلك عقد الصغير، لعدم
إمكان الصحة اللاحقة بدونه.
والجواب: بمنع شمولها للبالغ العاقد للصبي (1) أولا، وبأن الواجب الوفاء
بالعقد وأما الوفاء بنفس الإيجاب أو بنفس القبول فلم يدل على ذلك دليل إلا في
ضمن الوفاء بالعقد، فلو كان العقد واجب الوفاء فيكون الإيجاب أيضا كذلك وكذا
القبول، وهنا لم يثبت لزوم الوفاء بالمجموع المركب، إذ لا معنى لوفاء أحد
الطرفين بمجموع الإيجابين. ولو سلم ذلك، فنقول: الظاهر أن المتبادر من العموم
هو الارتباط، بمعنى: أن الوفاء من جانب يتوقف على الوفاء من آخر، وليس
تعبديا محضا - وقد مر تحقيق هذا المطلب في بحث أصالة الصحة، وفي بحث كون
الإقالة على القاعدة - فمتى كان المدلول الارتباط وعلمنا عدم لزوم الوفاء على
الصبي قطعا فلا يمكن القول بلزوم الوفاء على البالغ، فنقول: لا يجب الوفاء على
الصبي بالإجماع على عدم تكليفه، فكذا البالغ، لعدم إمكان الفرق، ومن ذلك يظهر
جواب باقي الإيراد، وهنا كلام يظهر بعد التأمل لا نطيل بذكره.
وأما العمومات الوضعية: فإنها مسوقة لبيان حكم آخر، ولا عموم فيها حتى
يشمل المقام، والظاهر انصرافها إلى الأفراد المتعارفة التي نشك في كون المقام
منها، مضافا إلى أن العموم لو سلم فيخصص بما ذكرناه من النصوص والإجماع.

(1) كذا، والصواب: مع الصبي، كما في هامش (م).
680

مع أن تصحيح العقد يوجب التصرف في مال اليتيم لو أقبضه حال العقد وهو غير
سائغ، أو لزوم الضرر الكثير غالبا لو التزم بالصبر إلى البلوغ - فتأمل - مع أن ظاهر
من قال بالتجويز عدم لزوم الصبر.
وعن الأولوية: بأن المقيس عليه ممنوع أولا، والقياس باطل ثانيا، والأولوية
المدعاة فاسدة جدا ثالثا، لوجود الفارق في البين من استتباع البيع أحكاما ليس
الصبي محلها، بخلاف ذلك مع كون هذه الأمور المجانية معلومة الإتلاف قد أقدم
فيه المالك على الإتلاف، وأما سائر المعاوضات فهي غير مبنية على البذل، بل
مبنية على المغابنة والصبي ليس أهلا لها، فيؤول الأمر إلى خلو المال عن العوض
دينا ودنيا، فتأمل.
وعن الآية: بأنها أخص من المدعى لاختصاصها باليتامى. ولا يمكن التعميم
بعدم القول بالفرق، لوجود القائل بالفرق - على ما حكي - ولأن المناط المنقح غير
محقق. وبأنها ظاهرة في الابتلاء بعد البلوغ، أو محمولة على الاختبار بصور
المعاملات مع كون حقيقتها من الولي، أو محمولة على الامتحان بغير أموالهم وإن
أتلفوها، أو بالحيازة ونحوها، أو بالإباحة، أو بالسؤال والفحص والبحث، أو بما
جاز لهم من الوصية ونحوها. أو تحمل على اختبار نفس البلوغ، بل هو الظاهر من
خبر أبي الجارود الوارد في تفسير الآية: (فإذا انس منه الرشد دفع إليه المال
واشهد عليه، فإن كانوا لا يعلمون أنه قد بلغ فليمتحن بريح إبطه أو نبت عانته، فإذ ا
كان ذلك فقد بلغ، فيدفع إليه ماله) (1). ولو سلم كل ذلك فلا يعارض ما ذكرناه
من الأدلة.
وعن العلة: بمنع ثبوت عليتها، إذ ليست منصوصة ولا قطعية، والمستنبطة
ليست حجة عندنا. وعلى فرض كون العلة عدم الإتلاف، فنمنع حصول الاطمئنان
بعدم كونه متلفا ما لم يبلغ.

(1) تفسير القمي 1: 131، وفي نسبة الخبر إلى أبي الجارود تأمل، فراجع.
681

وعن الخامس: بأن ما قام عليه السيرة إما المحقرات مطلقا، أو المحقرات
المتقاربة القيم الغير المحتملة للغرر، أو ما يعد الصبي فيه كالآلة مع العلم أو الظن
برضاء الولي ولو فقيها أو مطلق المتكفل، ونحن نسلم الصحة مع اجتماع هذه
القيود ولكن لا يكون ذلك من باب العقود، بل يمكن كونه إباحة بعوض مع دلالة
شاهد الحال، أو معاوضة مستقلة أو معاطاة، أو كون البالغ متوليا للمعاملة من
الطرفين وكون الصغير كالآلة ونحو ذلك، وهذا لا يدل على صحة معاملات الصبي
وإيقاعاته.
وهنا أبحاث تركناها اقتصارا على ما هو الأهم للمقصود (1).

(1) كذا في ظاهر (ف)، وفي (ن، د): المقصود، وقد أسقطها مصحح (م).
682

(العنوان السادس والثمانون)
(ما يشترط فيه العقل وما لا يشترط)
683

عنوان
] 68 [
الجنون كالصغر (1) والعقل كالبلوغ ليس شرطا في الوضعيات، لما مر من عموم
أدلتها من دون مخصص. ولو قيل بعدم تملك المجنون بالحيازة فإنما هو لو قيل
باشتراط قصد التملك، وعلى القول بعدمه فيملك، وعدم تحقق القصد لا يوجب
اختلاف حكم المجنون مع غيره، إذ هو على فرض الموضوع.
وهو شرط في تحقق الإثم والعقاب بالنص والإجماع، وشرط في الصحة
أيضا في العبادات وإن لم يكن البلوغ شرطا على ما ذكرناه، لعدم حصول القصد
من المجنون حال جنونه، وقصد التقرب معتبر فيها.
وأما المعاملات: فهي مشروطة بالعقل، لا يصح عقد المجنون حالته مطبقا كان
أو ذا أدوار، ولا إيقاعه، للوجوه الماضية في اشتراط البلوغ، مضافا إلى عدم
وجود مخالف هنا، مع ما مر من قاعدة تبعية العقد للقصد القاضية ببطلان ما لم
يقصد، والمجنون لا قصد له، فتدبر.

(1) كذا، وفي العبارة ما لا يخفى.
684

(العنوان السابع والثمانون)
(الرشد شرط في التصرفات المالية)
685

عنوان
] 78 [
ليس الرشد شرطا في الوضعيات على نحو البلوغ والعقل، والوجه ما مر. ولا
شرطا في (1) التكاليف، بل السفيه أيضا داخل في عموم الخطابات من دون
مخصص، لأنه بالغ عاقل ولا خلاف فيه. ولا شرطا في صحة العبادات ولا
المعاملات من حيث هو كذلك، لعموم الأدلة وفقد المعارض.
نعم، هو شرط في التصرفات المالية، وهو ما يقال: إن السفيه محجور عليه في
الماليات. وبعبارة أخرى: عبارته ليست ملغاة حتى لا يصح توكيله في العقد أيضا،
بل إنما هو محجور عليه في التصرف في الأمر المالي، لا مطلقا.
أما عدم اشتراطه في اعتبار اللفظ، فلأن عمومات العقود والإيقاعات أنواعا
وأجناسا شاملة لمعاملات السفيه وألفاظه الصادرة عنه من حيث هو عقد، فلا مانع
من صحته، لعدم المعارض، وسيجئ تفصيل في ذلك.
أما كونه شرطا في التصرف، فله ضروب من الأدلة:
أحدها: الإجماع المحصل من كلام الأصحاب على كون السفيه محجورا
عليه، كما ذكروه في كتاب الحجر، ونصوا على اشتراط الرشد في التصرفات
المالية في أبواب العقود، كبيع وقرض ورهن وإجارة ومزارعة ومساقاة ومهر

(1) في (ن): شرط. وهكذا فيما سيأتي.
686

نكاح وعوض خلع، وغير ذلك من دون نكير في ذلك.
وثانيها: منقول الإجماع حد الاستفاضة، بل التواتر المعتضد بالشهرة العظيمة.
وثالثها: أن التصرف في المال إنما هو مستند إلى عموم (الناس مسلطون على
أموالهم) (1) ونحو ذلك، ويمكن منع شمول ذلك للسفيه، فإن المتبادر من (الناس)
أشخاص مصلحون لأموالهم، فلا يشمل السفيه.
ورابعها: أنا نعلم أن عجز الصبي الغير البالغ والمجنون إنما هو لعدم كمال
العقل الموجب لإصلاح المال، وهو موجود في السفيه أيضا، فإنه ناقص العقل،
فينبغي أن يحجر عليه كما يحجر على الصبي والمجنون.
وخامسها: أن من المعلوم من الشرع كونه لحفظ النفس والمال والنسب، ولا
ريب أن تسليط السفيه على ماله تضييع للمال، وهو خلاف ما جعل له الشرع،
فينبغي الحجر عليه حفظا له.
وسادسها: ظواهر الآيات الشريفة، كقوله تعالى: فإن آنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم (2) فإنه دل على عدم دفع المال مع عدم معلومية الرشد.
واختصاصه باليتامى غير قادح بعد عدم القول بالفصل ووروده مورد الغالب من
كون مال اليتيم في يد غيره فيدفع إليه بعد رشده، بخلاف غير اليتيم. وحمل الرشد
فيه على البلوغ خلاف ظاهر اللفظ وخلاف مقتضى سياق الآية، فإن البلوغ هو
بلوغ النكاح، وهو مذكور في الآية قبل ذلك.
وكقوله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما
وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (3) وهذه الآية محتملة لمعنيين:
أحدهما: أن يراد ب‍ (أموالكم) أموال السفهاء لا أموال الأولياء، وهو الذي
نسب إلى أكثر المفسرين، نظرا إلى أنه لو لم يكن كذلك لزم وجوب إنفاق السفهاء

(1) عوالي اللآلئ 1: 222، ح 99.
(2) النساء: 6.
(3) النساء: 5.
687

على الأولياء (1) لأن ضمير (وارزقوهم) راجع إلى السفهاء ولا يقول به أحد، أو لابد
من التقدير بقولنا: (وارزقوهم إن كانوا ممن يجب نفقتهم) ولا يخفى ما فيه من
التكلف. مضافا إلى أن المراد من قول المعروف: أن يقال لهم: (إنكم إذا رشدتم
وأصلحتم مالكم ونحو ذلك أدفع إليكم مالكم) ونظيره مما يرغب في الرشد
والإصلاح، وهذا يدل على كون الخطاب على الولي الذي بيده مال السفهاء، وأن
المنع عن الدفع إنما هو في هذا المال. وإضافة الأموال إلى الأولياء حينئذ يكون
لتصرفهم فيها كالملاك وكونهم قوامين عليها، وهو كاف في الإضافة. قيل: ويكون
إشارة إلى لزوم حفظه كحفظ مال أنفسهم.
أو يراد من (أموالكم) جنس الأموال التي بها قيام الكل كما في قوله تعالى:
ولا تقتلوا أنفسكم (2) إذ المراد به عدم قتل بعضهم بعضا، ويلائم هذا المعنى
كون الآية في سياق الكلام في خصوص أحكام الأيتام، والرشد، ومن بيده المال.
وهذا المعنى صريح في كون السفيه ممنوعا من التصرف في ماله إلى أن يرشد.
وثانيهما: ما أشير إليه: من كون المراد أموال الأولياء فنهوا عن إعطاء ذلك
للسفهاء، بل أمروا بالانفاق والقول المعروف. وهذا أيضا يدل على عدم كون
السفيه أهلا لتسليطه على المال، وهو كاف في المدعى. أو يقال: إن حجره عن مال
الغير المبذول له مجانا بحيث لا ضرر عليه في تلفه وإتلافه يدل على هجره في
مال نفسه بالأولوية، فتدبر.
وكقوله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن
يمل هو فليملل وليه بالعدل (3) فإنه أيضا دال على أن السفيه مولى عليه، ولو لم
يكن محجورا في التصرف فلا مانع من نفسه حتى يمل (4) وليه ويملي، فتدبر.
وسابعها: ظواهر الروايات الدالة على كون السفيه محجورا في التصرف

(1) كذا، والظاهر: إنفاق الأولياء على السفهاء.
(2) النساء: 29.
(3) البقرة: 282.
(4) في (ن، د): يملل.
688

المالي، منها: ما مر في أخبار البلوغ: (إذا بلغ الغلام أشده جاز له كل شئ، إلا أن
يكون سفيها أو ضعيفا) (1) فإن هذا الخبر دال على عدم نفوذ تصرف السفيه وهو
معنى الحجر، والمراد بالجواز هنا: النفوذ والصحة دون الإباحة والرخصة، إذ هو
غير مختص بالبلوغ.
ومنها: موثقة عبد الله بن سنان قال: إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة [كتبت له
الحسنات، و] (2) كتبت عليه السيئات، وجاز أمره [في كل شئ] (3) إلا أن يكون
سفيها أو ضعيفا. فقال: وما السفيه؟ فقال: الذي يشتري الدرهم بأضعافه. قال: وما
الضعيف؟ قال: الأبله (4).
وغير ذلك من الروايات الدالة على الحجر على السفيه.
نعم، بقي البحث في تميز الشئ المالي عن غيره حتى يعلم موضع الحجر.
فنقول: فيما كان ماليا صرفا - كالبيع والإجارة - فلا بحث. ومثله الصلح على
المال، أو على الحق المالي، كالشفعة والخيار والهبة والعارية والوديعة والمزارعة
والمساقاة والشركة والقراض والسكنى والوقف والضمان والحوالة والقرض،
والكفالة أيضا وإن لم يكن ماليا ابتداءا، لكنه من جهة كونه مستلزما لأداء المال لو
لم يتمكن من احضار المكفول أو لم يفعل فهو داخل في المالية بهذا الاعتبار،
ويمكن هنا التفكيك والقول بصحة كفالته وعدم توجه ضمان المال عليه. وثمرته:
إلزامه باحضار المكفول، كما في بعض الكفالات التي لا يعود إلى المال، ككفالة
القاتل عمدا في القصاص. ومن ذلك ظهر: أن فيما كان هناك جهتان - مالية وغيرها -
يبطل تصرفه في الأولى دون الثانية، كما في إقراره بالنسب الموجب للنفقة، فإن
النفقة لا تثبت بذلك، لعدم قبول إقراره على المال، وأما في النسب فهو مقبول.
وفيما ليس ماليا - كالطلاق والظهار واللعان والإيلاء والإقرار بما يوجب

(1) الوسائل 13: 431، الباب 44 من أبواب أحكام الوصايا، ح 11، مع اختلاف واقتصار.
(2) من المصدر...
(3) ليس في المصدر.
(4) الوسائل 13: 430، الباب 44 من أبواب أحكام الوصايا، ح 8.
689

القصاص والعفو عما ليس بمال، كالقصاص - يمضي تصرفه. وكون حق القصاص
مما يصالح عليه بمال لا يجعله ماليا حتى يمنع منه، بخلاف ما لو كان ماليا أولا
كالخيار والشفعة فليس له عفوهما، كما ليس له ذلك في حق التحجير.
وفي حق الاختصاص في المشتركات - كالمسجد والسوق والرباط - يجوز
عفوه، إذ ليس مالا.
وفي وصيته وتدبيره خلاف معروف، ولا ريب في كونهما تصرفا ماليا داخلا
في عموم الدليل على الظاهر. ومنشؤه: إما دليل خاص ولم نقف عليه - وصاحب
الكفاية ذكر في وصية السفيه أقوالا ثلاثة (1) ولم يذكر نصا فيه فيما عندي من
النسخة - وإما أن أدلة الحجر العامة هل هي عامة لمثل الوصية والتدبير - اللذين
هما في الحقيقة من جملة التصرفات أو لا؟ لأنه موجب للتصرف بعد الموت. وإلا
فهو باق في الحياة على حاله، فلا مانع من نفوذ تصرفه فيه. مضافا إلى أن الحجر
إنما هو لتضييع المال ولا تضييع هنا.
والحق: أن تصرفه هنا أيضا تصرف في الحياة ممنوع عنه إلا ما أذن فيه الولي
- على القول بأن إذنه رافع للحجر - لعموم دليل الحجر، وكما أن إتلاف المال على
نفسه موجب لحجره فكذلك إتلافه على وارثه أو في غير الوجوه اللائقة مطلقا.
وكون ذلك بعد الوفاة غير نافع، إذ الغرض من الحجر صون المال عن التلف فيما
لا يليق به، وهذا الوجه موجود في الوصية، إذ لو جوزناها مطلقا فقد يصرفه السفيه
في الوصية في موضع غير لائق، فتدبر. وكأن من فصل بين وجوه البر والمعروف
وغيره لاحظ هذه المعنى.
وأما الاكتساب البدني - من احتطاب أو احتشاش أو كونه أجيرا للغير أو
بطريق جعالة ونحوه - فلا حجر فيه، بل يملك المال ويحجر عليه بعد ذلك.
ومما ذكرنا ظهر لك استنباط حكم السفيه في كل باب ما لم يدل دليل خاص
على خلافه.

(1) كفاية الأحكام: 145.
690

وبقي هنا بحث:
وهو: أن حجر السفيه هل يزول بإذن الولي أو إجازته؟ بمعنى: أن الولي
رضي (1) بتصرفاته قبل وقوعها أو بعدها، فهل تقع صحيحة كما في حجر العبد
- على ما يجئ - فإن بعد إذن المولى لا مانع عنه، أوليس كذلك، بل هو كحجر
الصبي والمجنون الذي لا ينفع فيه إذن الولي؟
وقد أشار إلى هذين الاحتمالين الشهيد رحمه الله في القواعد وفرع عليهما البطلان
والصحة مع إذن الولي (2). ومنشأ ذلك ملاحظة أدلة الحجر، فإن كان أدلة الحجر
فيها عموم أو إطلاق بحيث تصير القاعدة الحجر مطلقا بحسب ظاهر الدليل،
فتصير المسألة من باب الشك في أن الحجر هل يرتفع بإذن الولي أم لا؟ ولا ريب
أن قضية الأصل بقاء الحجر وعدم ارتفاعه حيث لا دليل عليه. وإن كان أدلة
الحجر مجملة من هذه الجهة فتصير القاعدة عدم الحجر، لعموم تسلط الناس على
أموالهم. غاية ما دل عليه أدلة الحجر إنما هو في صورة عدم إذن الولي، وأما مع إذنه
فلم يثبت الحجر، لأن الحجر يرتفع بالأذن، فيصير الأذن وعدمه من مشخصات
موضوع الحجر.
لا يقال: إنه على فرض عدم العموم في دليل الحجر أيضا نقول بالحجر، لأنا
نفرض سفيها غير مأذون فيكون محجورا، ثم نفرض طريان الأذن عليه فيصير
شكا في زوال الحجر السابق وإن لم نعلم ثبوت حجر على هذا الفرض، ولا يمكن
منع الاستصحاب هنا بتغير الموضوع، إذ لا شبهة في عدم كون الأذن مغيرا
لموضوع السفيه. كما أنه لا يمكن القول بأن الدليل قد قضى بعدم الحجر، لأن أدلة
حجر السفيه ولو اختصت بصورة عدم الأذن، لكنه انصراف إطلاق لو كان، لا أنه
تقييد بشرط أو وصف أو غاية حتى يدل بعد الأذن على التسلط فينافي
الاستصحاب، فتصير الحالة اللاحقة موجبة للشك في البقاء ويستصحب. وإذا ثبت

(1) كذا، والظاهر: إن رضي الولي.
(2) لم نعثر عليه.
691

في الفرض، فيثبت في السفيه المقارن سفهه للأذن بحيث لم يسبق له حالة خالية
عن الأذن حتى يحجر عليه قطعا بعدم القول بالفصل.
لأنا نقول: إن بعد القول بعدم العموم في أدلة الحجر يصير بعد حصول الأذن
التعارض بين الاستصحاب وبين عموم ما دل على تسلط الناس على أموالهم،
وغير ذلك مما دل على صحة المعاملات والتصرفات. ولا ريب أن الاستصحاب
لا يعارض الدليل وإن كان خاصا على ما يراه أكثر الأصحاب، وقد مر نظيره في
مقامات، ومن هذا الباب فورية الخيارات القهرية.
مضافا إلى أن هذا الكلام قابل للقلب، فنقول: في السفيه المأذون من أول
الأمر نشك في شمول أدلة السفه لمثل ذلك، وعموم أدلة التسلط قاض بعدم الحجر
بلا معارض، وإذا ثبت فيه ففي المأذون بعد حصول الحجر بعدم القول بالفرق.
وبالجملة: فالمدار على ملاحظة عموم دليل السفه، ولا ريب أن ظواهر
الآيات والأخبار الدالة على حجر السفيه مطلقة في المنع، بل ظاهرة في عدم
جواز إذنه في المعاملة والتصرف، وهي العمدة في أدلة الحجر، فلا ريب أن الحكم
بحجره ولو بعد الأذن أقوى.
ولكن ينبغي: أن يعلم: أن غرضنا من الحجر بعد الأذن أيضا معناه: أن الولي
إذا أذن له في التصرفات فأخذ المال بيده وبنى على التصرف كيف شاء فهو غير
ماض، أما لو كان التصرف من الولي وهو كان مأذونا في إجراء العقد فلا مانع عنه.
كما أنه لو تصرف مع إذن أو بدونه في أصل المال لم يقع العقد باطلا من أصله
فيصير كالفضولي، لأن عبارته غير مسلوبة على ما أوضحناه، فيكون صحيحا
بالإجازة وباطلا بعدمها، فتدبر.
692

(العنوان الثامن والثمانون)
(ما يشترط فيه الحرية وما لا يشترط)
693

عنوان
] 88 [
ليس الحرية شرطا في العبادات البدنية - كالطهارة والصلاة والصوم
والاعتكاف - وخروج الجهاد وصلاة الجمعة إنما هو بالدليل. ووجه عدم
الشرطية: أن عموم ما دل على تكليف الناس والمؤمنين شامل للعبد كالحر،
والعبودية غير مانعة عن ذلك، ولم يدل دليل على التخصيص، وظاهر عبدا
مملوكا لا يقدر على شئ (1) لا يشمل العبادات البدنية، كما يأتي توضيحه.
وليس شرطا في الضمان والغرامة أيضا، بمعنى: أن كل ما هو سبب في الحر
للضمان من يد أو تسبيب أو إتلاف أو جناية - أو نحو ذلك - سبب في العبد أيضا
وإن كان في كيفية الضمان كلام: في أنه يصير على المولى أو على ذمته يتبع به بعد
العتق، أو يتعلق بكسبه أو برقبته.
وبالجملة: الكلام الان في أن السبب أيضا فيه سبب للضمان، وليس كفعل
البهائم مطلقا. والوجه في عدم الشرطية: أن ما دل على ضمان اليد والإتلاف
والجناية في باب الغصب وباب الديات وباب إتلاف الأعيان والمنافع كلها يشمل
العبد كما يعم الحر، من دون فرق، ولا دليل يدل على التقييد.
وما يتخيل أن العبد لا يد له فكيف يدخل تحت دليل الضمان؟ فاسد، لأن اليد

(1) النحل: 75.
694

الموجبة للضمان هو الاستيلاء العرفي دون الشرعي، وهو يحصل في العبد من
دون شبهة، مضافا إلى أن عدم كون يد له معناه: كون يده يد مولاه، فهناك يد لا
محالة، وأما هو يد العبد أو يد المولى ففيه البحث. وبالجملة: فلا بحث في كون
العبد كالحر في ذلك.
وأما العبادات المالية - كالزكاة والخمس والحج والصدقات - فلا تتعلق
بالعبد، نظرا إلى أن العبد إما هو ليس مالكا - أي: لا يقدر على التملك - فلا يحصل
شرط الوجوب في هذه العبادات، إذ لا تجب الزكاة إلا مع النصاب، وكذا الخمس
لا يجب إلا بالملك، والحج لا يجب إلا بتملك ما به الاستطاعة، والكفارة ونحو
ذلك فرع القدرة على الأداء والدفع، ومجرد حصول السبب لا يكفي في الوجوب،
ومن ليس مالكا للمال غير متمكن من الكفارة المالية، فالخطاب به يصير تكليفا
بما لا يطاق. وإما أن العبد ممنوع من التصرف وإن كان مالكا، ومن شرائط وجوب
الزكاة ونحوه التمكن من التصرف، وفي غير ذلك لا يعقل الوجوب المطلق مع
الحجر، ولو فرض الوجوب فلا بد من كونه مشروطا بإذن المولى، وعلى تقدير
إذنه لا كلام فيه، والبحث في حصول التكليف الذي لا يحتاج إلى إذن المولى.
وهنا إشكال، وهو: أنه أي فرق بين العبادات المالية وبين الضمان والغرامة؟
فإن كانت القدرة على الدفع شرطا بحيث ما لم يكن هناك تمكن لم يكن وجوب
ففي المقامين، وإن لم يكن شرطا ففي المقامين.
والتحقيق أن يقال: إن العبادات المالية لها جهتان: جهة تكليف، وجهة ضمان.
أما جهة التكليف فلا يتعلق به من دون تمكن، والوجه ما مر من لزوم تكليف ما لا
يطاق. وأما الضمان فهو ثابت على تقدير تحقق السبب والشرائط، وحكمه حكم
سائر الضمانات. وعدم تعلق الزكاة والخمس والحج من جهة فوات شرط
الوجوب، فهو ليس من باب اختلاف الأحكام. واشتراط الفقهاء الحرية - مثلا -
في الزكاة ليس من جهة الحرية نفسها، بل من جهة عدم الملك، أو عدم التمكن من
التصرف في العبد، وهذا لو كان في الحر أيضا لم تجب الزكاة.
695

فصار الحاصل: أنه لا فرق بين الحر والعبد في العبادات بقول مطلق مع
اجتماع شرائطه، غايته: أن بعضها لا يتحقق شرطه في العبد، وهذا لا يعد من
اختلاف الحكم، بل من اختلاف الموضوع والفرض.
وأما الضمان فكذلك أيضا - سواء كان في عبادة أو غيرها - بعد تحقق السبب،
فحكم العبد في الكفارات حكم الحر في تعلقها به في الجملة، وعدم التمكن من
الدفع ليس مانعا من ذلك كما في سائر الضمانات. وكذلك في مثل الخمس على
القول بأنه يملك. وبالجملة: فالاختلاف لعدم الشرط لا لأصل الحكم.
وأما احتمال عدم تعلق الماليات على العبد في عبادة ومعاملة لعدم إمكان
الأداء، فلا وجه له أصلا. كما أن الفرق بين العبادات وسائر الغرامات أيضا بعدم
تعلق الأولى وتعلق الثانية - بأن الخطاب إن كان تكليفيا يتبعه خطاب وضع، فإذا
فات شرط التكليف فلا وجه لبقاء الضمان، بخلاف ما إذا كان أصل الخطاب
وضعيا يتبعه تكليف، فإن الضمان يثبت وإن كان التكليف بعد ذلك يبقى موقوفا
على حصول شرطه - أيضا بعيد، لأنهما حكمان، وفوات أحدهما لا يستلزم فوات
الاخر، مع أنا لا نسلم كون الضمان في مثل الكفارات ونحوها تابعا للتكليف،
وعلى فرض ذلك فنقول: إمكان تحقق شرط التكليف ولو بعد زمان يكفي في بقاء
الحكم الوضعي، ولا يحتاج إلى اجتماع شرائط التكليف بالفعل، فتدبر.
وأما العقود والإيقاعات: فلا ريب أن عبارة العبد فيها كالحر، بمعنى: أن العبد
ليس كالصبي ولفظه معتبر لو اجتمع سائر الشرائط، وعمومات العقود شاملة له،
والإجماع قاض به، وعموم (كون العبد لا يقدر على شئ) غير شامل لألفاظ
العقود، بل هو منصرف إلى التصرفات لا نفس الألفاظ وإن كان (شئ) نكرة
واقعة في سياق النفي. وعدم اعتبار إقرار العبد في بعض المقامات لكونه ضررا
على مولاه لا على نفسه، فلو كان وكيلا لشخص في عقد أو إيقاع بحيث لا ينافي
حق المولى صح، وكذا لو نافى بناء على أنه منهي عنه لأمر خارج، وهو غير مفسد.
وأما التصرفات: فما لا مالية له ولا يستلزم تصرفا في مال المولى - كالطلاق
696

أي أنواعه كان، والنكاح مع قطع النظر عن المهر والنفقة، والظهار والإيلاء واللعان
على الأصح - فيصح منه من دون حاجة إلى إذن المولى، لعدم المانع مع عموم
الأدلة، مضافا إلى الأدلة الخاصة، وعموم لا يقدر على شئ غير آت هنا
أيضا، إذ المتبادر منه ما كان مالا أو ماليا، فتبصر.
وأما ما اقتضى التصرف في نفسه أو فيما في يده أو في مال المولى - سواء قلنا
بأنه يملك أو لم نقل - فهو غير مسلط على ذلك بالاستقلال بالإجماع والنصوص
من الكتاب والسنة.
منها: قوله تعالى: ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ (1) فإنه
تعالى وصف العبد بأنه مملوك لا يقدر على شئ، والمتبادر منه: إن التصرف
والقدرة التي للملاك ليس للعبد وهو غير قادر على ذلك، وليس المراد القدرة
عقلا، لأن العبد قادر عقلا، بل المراد: إما عدم القدرة في نظر الناس وبحسب العادة،
فإن طريقة الناس - وإن كان قبل الشرع - أن العبد مسلوب الاختيار عن نفسه
وعما في يده، يتصرف المولى فيه كيف شاء، وليس له أن يتصرف. وإما عدم القدرة
شرعا. وعلى كل حال: فهو دال على أن حكم العبد ذلك، أما على الثاني فواضح،
وأما على الأول فلأنه تقرير لما جرت عليه عادة العقلاء، وهو مثبت للحكم،
وعموم الآية يشمل كل ما هو من باب تصرف الملاك، فإن ذلك ليس للمملوك.
ولا حاجة إلى الإشارة إلى موارد الحجر فإنها واضحة غير محتاجة إلى البيان.
نعم، هل له التصرف بعد إذن المولى، أوليس له ذلك؟ ظاهر الأصحاب في
سائر الأبواب أن مع إذن المولى يصح تصرفاته: من اقتراض وتجارة ووصاية،
وغير ذلك من اللواحق.
ومنشأ المسألة: أن الآية هل تدل على سلب أهلية العبد عن التصرف
كالمجنون والصبي بحيث لا ينفع الأذن فيه، أو لا، بل يدل على ممنوعيته من

(1) النحل: 75.
697

التصرف لأجل مولاه؟ وبعبارة أخرى: هل يدل على عدم المقتضي، أو وجود
المانع؟ ظاهر الأصحاب الثاني، كما نصوا على الجواز مع الأذن في كثير من
المقامات، كالوكالة والوصاية والقضاء وغير ذلك.
وهو الذي يقوى عندي، وإن كان يتخيل أن ظاهر كلمة لا يقدر على شئ سلب
مالكه، لا من جهة عدم قابلية ذاته. مضافا إلى أن أهليته للتصرف بعد العتق تدل
أيضا على كون المانع تسلط الغير عليه، فتأمل.
مع أن طريقة الناس - مع قطع النظر عن الآية الكريمة - كون عبيدهم غير
نافذي التصرف بدون إذنهم، وأما معه فلا مانع من ذلك، والآية لو لوحظت بالتأمل
مسوقة لبيان عادة العقلاء وسيرة الناس وواردة في جهة التقرير لهذا المطلب،
فينزل على ما هو المعتاد في الخارج، ولا ريب في ارتفاع الحجر عندهم بالأذن.
مضافا إلى الإجماع، وورود الأدلة الخاصة المتشتة في أبواب الفقه في خصوص
العبد المأذون. مع أنه لو لم يكن العبد أهلا للتصرف حتى مع الأذن لا نسد باب
الانتفاع بالمماليك، إذ عمدته المعاملات، وإلا فنفس الخدمة ليس مما يطلب
غالبا.
698

(العنوان التاسع والثمانون)
(الوجوه المحتملة في كيفية ضمان المملوك)
699

عنوان
] 98 [
قد اختلف كيفية الضمان في المملوك بحسب المقامات، وقد اختلف الفتوى
في ذلك، بل النصوص الخاصة أيضا مختلفة في بعض المقامات، فلابد من تأسيس
قاعدة يرجع إليها عند عدم الدليل أو التعارض، والوجوه المحتملة أمور:
أحدها: أن يكون في ذمة العبد يتبع به بعد العتق.
وثانيها: أن يكون في كسبه.
وثالثها: أن يكون في رقبته.
ورابعها: أن يكون في مال المولى مطلقا، بمعنى: أنه يؤدي من أي شئ شاء،
وعلى تقدير قصور الرقبة أو الكسب يجئ أيضا وجوه.
وخامسها: أن يكون في ذمة المولى لا في ماله.
ومقتضى القاعدة: أن كل مقام حصل الضمان بإذن المولى على نحو يصدق
السبب بالنسبة إليه - كأمره في اقتراض، أو نكاح بمهر، أو شراء بثمن، أو استئجار
بأجرة ونحوه ذلك - فالضمان على المولى، لأنه صاحب اليد والعبد كالوكيل في
ذلك، ولذلك حكم الأصحاب بذلك في كل ما هو كذلك. وما لا يصدق فيه على
المولى أنه السبب أو كان في مقام يتعلق على المباشر كالقتل ونحوه، فكونه من
مال المولى - سواء كان رقبة العبد أو كسبه أو غير ذلك - أو في ذمة المولى مخالف
700

للقاعدة، لعدم صدق الدليل، ولأن القاعدة أنه لا تزر وازرة وزر أخرى (1)
ومقتضى الأصل البراءة، فيتعلق بذمة العبد يتبع به بعد عتقه، كالكفارات التي
يدفعها بعد ذلك أيضا، والمراد بذمته: كونه مطالبا بذلك عند تمكنه منه.
وما دل الدليل على تعلقه برقبته ونحو ذلك في مثل أرش الجناية ونحوه فهو
خارج بالدليل، فتدبر.

(1) الأنعام: 164.
701

(العنوان التسعون)
(قاعدة رفع التكليف عن المكره،
وبيان ما استثني منها)
703

عنوان
] 09 [
الاختيار المقابل للإكراه شرط في التكاليف كافة، ولا تكليف على المكره فيما
أكره عليه، سواء كان فعل حرام أو ترك واجب، والمسألة مما لابحث فيه ولا خلاف.
نعم، استثني من ذلك قتل النفس المحترمة، فإنه لا تقية في الدماء بالنص
والإجماع.
وألحق الشيخ الجرح أيضا (1). ولعله إدراجا له تحت الدماء المذكورة في
النص والمشهور خلافه، لأن المتبادر من الدم: القتل، والعموم لا يستوعب إلا ما
يطلق عليه المفرد، ولما سيأتي من الوجه في ذلك.
والسر في ذلك - بعد الإجماع ودلالة النصوص كتابا وسنة على أنه لا إثم
على المكره، ولو أدرجناه تحت المضطر كما هو الظاهر اتضح كونه معذورا، لما
اشتهر: من أن الضرورات تبيح المحظورات، والعقل لا يقبل التخصيص - أنه
لا ريب أن حفظ النفس في نظر الشارع أقوى وأولى من غيرها، ولذلك نرى أن

(1) لم نظفر في كتب الشيخ على المسألة بعينها، إلا أنه قال في مسألة: (إذا أكره ا لأمير غيره
على قتل من لا يجب قتله، فقال: إن قتلته وإلا قتلتك، لم يحل له قتله بلا خلاف وإن خالف
وقتل فأن القود على المباشر) وقال في مسألة أخرى: (الأطراف كالأنفس، فكل نفسين
جرى القصاص بينهما في الأنفس جرى بينهما في الأطراف) انظر الخلاف 5: 166، 154
كتاب الجنايات، المسألة 29، 13.
704

المحرمات من قبيل شرب الخمر وأكل الميتة ونحوهما كلها تحل إذا كان المقام
مقام الخوف على النفس، وكذا الواجبات من صلاة أو صوم ونحوهما تسقط بعد
معارضة الخوف على النفس لمرض ونحوه. وهذا الاستقراء مع ما علم من طريقة
الشرع اهتمامه بحفظ النفس يقضي بارتفاع كل عقوبة وإثم عن فعل حرام أو ترك
واجب إذا عارضه الخوف على النفس، وذلك واضح، وهذا معنى قولنا: إن المكره
لا إثم عليه.
وأما إذا كان الإكراه سالبا للقدرة على الشئ فلا بحث فيه، لاندارجه حينئذ
تحت قبح التكليف بما لا يطاق. ومن هنا ظهر سر عدم التقية في الدماء إذا علم (1) أن سبب التقية إرادة حفظ النفس، وحيث كان المقام مقام إتلاف النفس فلا وجه
للتقية، لأن المحذور حاصل، ولا ترجيح لإحدى النفسين في نظر الشارع، فكما
يجوز قتل النفس حفظا للأخرى فكذلك يجوز العكس، ولا وجه للترجيح، مضافا
إلى أن القتل للأولى محقق، وللثانية محتمل إذ لعل المكره - بالكسر - لا يفعل،
فتدبر.
وأما لو لم يكن الإكراه على حد الخوف على النفس فكذلك أيضا في عدم
الإثم، للإجماع، ولقوله تعالى: إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان (2) وقوله
تعالى: ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (3) وغير ذلك من
الآيات، وقوله صلى الله عليه وآله: (رفع عن أمتي تسعة...) وعد منها (ما استكرهوا عليه) (4)
والمراد: رفع المؤاخذة، لا رفع الحقيقة، لاستلزامه الكذب.
وبالجملة: فالدليل على كون الإكراه موجبا لرفع العقاب في فعل حرام أو ترك
واجب واضح لا سترة فيه. وكفى بأخبار التقية من العامة (5) شاهدة ومؤيدة لذلك.
وأما في الضمانات والغرامات بإتلاف أو جناية أو إثبات يد أو استيفاء منفعة

(1) في (ف، م): إذ علم مما مر أن...
(2) النحل: 106.
(3) النور: 33.
(4) الوسائل 5: 345، الباب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 2.
(5) راجع الوسائل 11: 459، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما.
705

أو انتفاع، فقد مر في بحث المباشر والسبب: أن الإكراه رافع للضمان عن المكره
- بالفتح - وموجب لكونه على المكره - بالكسر - (1) وليس ذلك كالغرور وإن كان
كلام بعضهم - كعبارة الروضة (2) - يقضي بعدم الفرق. والوجه في ذلك: أن أسباب
الضمان مع حصول الإكراه لاتصدق على المكره - بالفتح - ولا يعد متلفا، ولا
مضرا، ولا صاحب يد ونحو ذلك، بل كل ذلك يصدق على المكره - بالكسر -.
نعم هنا إشكال، وهو: أن السبب في عدم ضمان المكره - بالفتح - لو كان عدم
صدق الأدلة بالنسبة إليه فلم تقولون بالضمان في قتل النفس؟ وإن لم يكن كذلك
فلا وجه لعدم ضمان المكره - بالفتح - بعد صدق السبب. نعم، لو كان الإكراه بحيث
يسلب القصد ويكون المكره كالآلة فهناك لا يصدق السبب ولا يصير ضمان عليه،
وهو خارج عن محل البحث، بل عن الإكراه أيضا.
وربما يقال: إن الوجه القول بكون القاعدة إنما هو ضمان المكره - بالفتح -
خرج ما عدا الدم بالإجماع، أو نقول: لم يخرج بل في غيره أيضا ضامن، ولكن
يرجع إلى المكره - بالكسر - كالمغرور، بالإجماع.
والحق: أن الإكراه موجب لعدم صدق السبب بالنسبة إلى المكره - بالفتح -
ومصير المشهور إلى عدم ضمانه في محله على القاعدة. وفي باب الدم إما أنه
يصدق أنه قاتل وإن كان مكرها كما هو الظاهر، وأما أنه قام النص والإجماع عليه
إبطالا للترجيح وسدا للباب. ووجه صدق السبب هنا عليه: أن الإكراه في العرف
إنما يعتبر فيما كان المخوف منه أمرا أعظم مما أكره عليه - كما هو الغالب - فإن من
اكره بدفع ألف حذرا من دفع واحد أو من اكره لدفع واحد حذرا من الوقوع في
واحد آخر مثله لا يعد مكرها عرفا وعادة، فهنا أيضا نقول: كونك مكرها على قتل
النفس لا يكون إلا مع كون ما تحذر منه أشد مما تقع عليه، والفرض: أن قتل نفسك
ونفسه سواء في المحذورية. إلا أن يقال: إن المدار على نظر المكره - بالفتح - ولعل
قتل نفسه أعظم في نظره من قتل شخص آخر، بل هو كذلك، لأن الإنسان يفر من

(1) راجع العنوان: 58، ص: 436.
(2) انظر الروضة 7: 33، كتاب الغصب.
706

تلف نفسه وإن تلف غيره بذلك، وقد تقدم بعض الكلام في ضمان المكره، فراجع (1).
وقد اتفق الكلام في رفع هذا الإشكال مع شيخنا المحقق (الشيخ محمد
حسن) أيده الله تعالى (2) فأجاب بعد كلام طويل (بأن الظاهر أن الفعل يسند إلى
المكره - بالفتح - في كل مقام إلا في صورة سلب القصد، وباب الدم على القاعدة
حينئذ. ولكن نجيب عن سائر المقامات بأن قوله صلى الله عليه وآله: (رفع ما استكرهوا عليه)
يدل على رفع المؤاخذة والضمان أيضا، فيقدم على أدلة الضمان، فيكون باب
الدماء خارجا بدليل خاص على عدم التقية فيه.
وأوردت عليه بأن في الخطأ والنسيان أيضا يلزم عدم الضمان، فأجاب بأن
دليل الضمان نرجحه فيهما بالإجماع والشهرة، وتقدم العكس في الإكراه للشهرة.
هذا غاية مراده، أيده الله تعالى.
ولكن أوردت عليه أولا: بأن الظاهر من رفع (ما استكرهوا عليه) رفع
المؤاخذة، فلا يدل على رفع الضمان، كما أن قوله: (لا تقية في الدم) (3) معناه:
إثبات الإثم، ولا دلالة فيه على الضمان، ولو سلم فسياق الخبر وذكر الخطأ
ينافر (4) ذلك، والتفكيك في غاية البعد، مع أن ظاهر الأصحاب عدم استنادهم في
رفع ضمان المكره إلى الرواية، فالإشكال غير منحل عند الأنصاف.
وأما في الأسباب الفعلية للملك - كالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد
والمعاطاة ونحو ذلك - فهل يشترط الاختيار فلا يكون المكره مالكا حينئذ بذلك
مطلقا، أو لا يشترط بل يكون مالكا به مطلقا، أو يبقى مراعى فإن رضي بعد ذلك
بما فعله ملكه وإلا فلا يملكه؟ وعلى هذا التقدير فيمكن كونه بطريق الكشف بمعنى
كون الرضا كاشفا عن تملكه بالحيازة، أو بطريق النقل فيملك من حين الرضا.
وعلى فرض عدم الملك أصلا أو إلى زمان حصول الرضا - كما هو قضية

(1) راجع العنوان: 58.
(2) المراد به صاحب الجواهر قدس سره المتوفى سنة 1266.
(3) الوسائل 11: 483، الباب 31 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، ح 1 و 2.
(4) كذا، ولعله مصحف: ينافي.
707

القول بالنقل - فهل المال باق على الإباحة الأصلية، أو على ملك البائع، أو لا، بل
يملكه المكره - بالكسر - لأنه في الحقيقة فاعل السبب والمكره - بالفتح - كالآلة؟
وجوه واحتمالات لا تخفى وجوهها على المتدرب في الفن، فلا حاجة إلى
ذكرها، وأكثرها يعلم مما نذكرها في العقود.
والعمدة في ذلك ملاحظة أدلة الأفعال.
فعلى القول بأن قصد التملك معتبر في ذلك - كما يراه بعض الأصحاب (1) - قد
يقال: إنه لا يملك، لعدم القصد. وسيأتي في بحث موضوع الإكراه أن المعتبر في
الإكراه وجود القصد إلى المسبب وفوات الرضا، فلا يتفاوت الحال بين القول
باشتراط قصد التملك وعدمه من هذه الجهة.
فينبغي أن يقال: إن مثل قوله عليه السلام: (من حاز شيئا ملكه) (2) أو (من أحيى
أرضا ميتة فهي له) (3) ونحو ذلك فهل هي دالة على كون هذا الفعل بالاختيار
والرضا، أو أعم من ذلك؟ وهذا البحث آت في جميع الأفعال، فإن قولنا: (قام)
هل معناه قام عن اختيار، أو أعم منه ومن الإكراه؟
والذي يقتضيه النظر أن يقال: إن الإكراه إن بلغ على حد سلب الإرادة، فذلك
لا بحث فيه في عدم صدقه، وهو خارج عن النزاع. وأما ما عداه فالحق: أن أصل
الفعل أعم من الاختيار والإكراه، لتبادر القدر المشترك، وعدم صحة السلب،
ولكن ينصرف إلى الاختياري عند إطلاقه.
فهذه الأدلة لا ريب أن المتبادر منها الاختياري، وكون ما صدر عن إكراه
موجبا للملك يحتاج إلى دليل، والأصل قاض بالبقاء على إباحة الأصلية. وتملك
المكره - بالكسر - له أيضا غير واضح، لعدم صدق السبب - من حيازة واصطياد -

(1) منهم الشهيد قدس سره في الدروس 3: 61.
(2) الظاهر عدم وروده باللفظ المذكور في روايات الخاصة والعامة، وإن كان ظاهر كلا م
المؤلف قدس سره أنه من أقوال المعصومين عليهم السلام، وظاهر كلام صاحب الجواهر قدس سره أيضا ذلك،
راجع الجواهر 26: 291، كتاب الشركة.
(3) الوسائل 17: 327، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، ح 5 و 6.
708

بالنسبة إليه بعد توسط رجل قاصد في البين، على إشكال في ذلك، سيما مع كون
قصد المكره - بالكسر - الإكراه على الحيازة للمكره - بالفتح - لا لنفسه، فإنه لا
يصدق عليه أنه حاز قطعا. نعم، لو أكره للحيازة لنفسه فلا يبعد صدق دليل الحيازة
بالنسبة إليه، وكون المكره كالآلة حينئذ. وبالجملة: فلا يملكه المكره - بالفتح -
بمجرد حصول الحيازة. نعم، لو حصل له الرضا بعد ذلك فالظاهر حصول الملك له،
لصدق الدليل، لأنه حيازة مع الرضا، كما سيأتي توضيح ذلك في العقود.
وبالجملة: يصدق عليه: أنه حاز شيئا وأحيى أرضا، وقد كان المانع من
الصدق عدم الرضا وقد حصل. وليس ذلك كقام بعد القعود، حيث لا يصدق لو
حصل الرضا بالقيام السابق بعد القعود أنه قام، لعدم كونه سببا لشئ، مع كونه زائلا
بطريان ضده، ولو كان في أثناء قيامه عن إكراه رضي بالقيام يصدق أنه قام بقول
مطلق، فتدبر. والظاهر أن الرضا يكشف عن الملك بالحيازة، لأنها السبب وهو
شرط، فإذا حصل أثر السبب.
وأما في الإيقاعات والعقود فالاختيار شرط في صحتها أيضا في الموقع
والمتعاقدين، نظرا إلى أن المتبادر من أدلة الإيقاع والعقود أيضا أنواعا وأجناسا
ما حصل فيه التراضي، فلا يشمل ما كان عن إكراه، ولقوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض (1) وهو صريح في أن ما لا رضاء
فيه فهو أكل بالباطل، ولقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه) (2)
(وغير ذلك مما دل على الإجازة في باب الفضولي، وعلى الاستئذان في غير ذلك.
نعم، إنما البحث في أن مقارنة الرضا شرط، أو هو أعم من حصوله لاحقا
ومقارنا، فلو لحق الرضا في صورة الإكراه صح أيضا.
ظاهر الأصحاب: أن الإيقاعات - كالشفعة والطلاق والظهار واللعان والإيلاء
والنذر والعهد واليمين والعتق والإقرار، ونحو ذلك - لا يصير مراعى (3) بحصول

(1) النساء: 29.
(2) عوالي اللآلي 1: 222، ح 98.
(3) كذا، في أصول النسخ، وفي (م): لا يكون مراعاة.
709

التراضي، بل متى ما وقع [شئ منها] (1) بإكراه بطل ولا ينفع الرضا به بعد ذلك، كما
لا يصح فضوليا وإن لحقه الإجازة.
فإن كان ذلك لاجماع قام في ذلك فلا بحث فيه. وإن كان لنص خاص
فكذلك. وإن كان على القاعدة، فيمكن البحث فيها بأن عمومات الإيقاعات
كعمومات العقود إن كانت شاملة للمكره الذي تعقب فيه الرضا، فلا وجه لبطلان
الإيقاع، فإن الطلاق أو العتق على سبيل الاكراه إذا لحقه الرضا فهو أيضا عتق
وطلاق داخل في العموم فينبغي الصحة. وإن لم تكن شاملة فالوجه في المكره
البطلان، سواء كان في عقد أو إيقاع، فلا وجه للفرق والتفصيل.
نعم، فيما كان مشروطا بنية التقرب - كما في الوقف والعتق - فالوجه فيه البطلان
إذا وقع مع الإكراه، لفوات الشرط، وهو مقارنة النية. وأما في ما عداه فلا وجه
للبطلان في إيقاع والصحة في عقد، بل إما البطلان في الجميع أو الصحة في الجميع.
وكيف كان: فالوجه في العقود أن لحوق الرضا كاف في الصحة، ولا يشترط
مقارنة الاختيار، نظرا إلى أن عموم أدلة العقود شامل له وانصرافه إلى المتعارف
أيضا غير قادح، لأن بيع المكره وسائر معاملاته من الأمور المتعارفة بحسب
النوع، وتعارف الشخص غير معتبر، مع أن ظاهر الأصحاب ادراجهم لعقود المكره
تحت الأدلة، وفهمهم في موضوعات الألفاظ يورث الظن بالمراد، مضافا إلى
الإجماع المستظهر من كلمات جماعة من الأصحاب، بل اللائح من عبارة بعض.
ولو قيل: بأنه لا فرق بين المكره وبين الصبي، فكما بطل ذلك فينبغي بطلان
هذا أيضا.
قلنا: إن المكره بالغ عاقل قاصد، غايته أنه فات الرضا منه، فمتى لحقه الرضا
أثر العقد أثره من دون فرق بين المقام وبين الفضولي في هذه الجهة، وإن كان باب
الفضولي قد ورد فيه نص أيضا (2) بل الظاهر أن ما دل على صحه الفضولي يدل

(1) من (م).
(2) مثل رواية عروة البارقي، وصحيحة محمد بن قيس، راجع المستدرك 13: 245، الباب 18
من أبواب عقد البيع وشروطه، والوسائل 14: 591، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد
والأماء، ح 1.
710

على صحة المكره عليه بالأولوية، نظرا إلى أن رضاء المالك متأخر في المقامين،
ويزيد الفضولي في البعد عن الصحة بصدور العقد فيه عن غير من له الولاية
والسلطنة على المعقود عليه.
وما يقال: إن ظاهر قوله تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض (1) يدل
على اعتبار مقارنة الرضا، لأن كلمة المجاوزة دالة على كون التجارة ناشئة عن
التراضي، فيكون صورة طريان التراضي بعد العقد داخلة في الأكل بالباطل،
ويثبت في سائر العقود - لو لم يكن داخلا تحت التجارة - بعدم القول بالفصل.
مدفوع: بأن التجارة ليس معناها العقد حتى يلزم اعتبار كون العقد صادرا بعد
الرضا، بل معناها: التمليك والتملك، فيدل على اعتبار كون الملك مع الرضا، وفي
ما نحن فيه أيضا لا ملك بدون الرضا، ولذلك لو لم يرض كشف عن البطلان، ولو
رضي صح وحصل الملك عن التراضي على القول بالنقل وعلى القول بالكشف
بالمعنى الذي حققناه في أوائل الكتاب (2) وكذا على القول بالمعنى الاخر أيضا،
فإن الملك الواقعي أيضا ناشئ عن هذا التراضي المعلوم عند الله حصوله.
ولو قيل: إن العقود تابعة للقصود وهنا لا قصد فلا يصح.
قلنا: ليس البحث في الإكراه السالب للقصد فإنه خارج عن الفرض، بل لا يعد
إكراها بعد الوصول إلى هذه المرتبة، بل الفرض أنه قاصد، ولكنه غير راض.
وما يقال: إن هذا العقد كان قبل حصول الرضا فاسدا فيستصحب الفساد حتى
يقوم دليل على الصحة.
مدفوع: أولا بمنع الفساد، بل هو في الواقع إما صحيح أو فاسد، والرضا
وعدمه يكشف عن ذلك، فليس هناك فساد في الواقع حتى يستصحب، فإن
طريان الرضا كما يوجب الشك في الصحة حينئذ يوجب الشك في أول الأمر

(1) النساء: 29.
(2) راجع ج 1، العنوان: 4.
711

أيضا، وهو ما يقوله الأصوليون: إن الاستصحاب مع الشك الساري إلى
المستصحب ليس بحجة. مع أن الاستصحاب لو سلم يدفعه شمول عموم الأدلة.
وهنا إشكال أورده الشهيد الثاني رحمه الله وهو: أن المكره والهازل كلاهما قاصدان
للفظ دون المدلول والمعنى، فلم يصح عقد المكره بعد حصول الرضا، ويبطل عقد
الهازل مطلقا؟ مع عدم الفرق بينهما (1).
وهذا الإشكال من الوهن مما لا ينبغي صدوره من مثله، نظرا إلى أن الرضا
والإكراه أمران مغايران لقصد اللفظ والمعنى، والهازل قاصد للفظ لا لأجل
التمليك وترتب الأثر، فلا يصدق عليه أنه عقد أصلا، وقد مر تحقيق ذلك في باب
تبعية العقد للقصد. وأما المكره فهو قاصد للفظ وقاصد لمعنى التمليك والأثر،
ولكنه فات عنه الرضا، ولا يخفى ذلك على من تأمل في الجملة، فإن من يبيع ماله
لخوف قاصد للبيع وحصول المعاوضة قطعا، لكنه لا عن رضاه، بل عن خوف
وإكراه، ويصير في الحقيقة الإكراه داعيا إلى ذلك، لا أنه غير قاصد للتمليك، فما
أورده من الإيراد - بعد الفرق بصدق العقد في المكره عرفا دون الهازل وبكون
المكره قاصدا للمعاوضة وأثر العقد دون الهازل - غير وارد أصلا، فتدبر. وهذا ما
وعدناك سابقا.
ومن هنا يندفع ما أورده الشهيد الثاني رحمه الله تبعا للمحقق الثاني رحمه الله (2 الإيراد على الشهيد رحمه الله في تقييده الإكراه بعدم بلوغه إلى حد سلب القصد
وسيجئ (3) وجه الإيراد وكيفية دفعه في موضوع الإكراه.
وأما الإيقاعات: فقد أشرنا إلى أن خروج المكره عن العموم فيها فلعله
بالدليل، كما يظهر منهم. وهنا أبحاث اخر لا اهتمام بذكرها.

(1) المسالك 3: 157.
(2) راجع جامع المقاصد 4: 61، والمسالك 3: 156.
(3) يجئ في أواخر العنوان: 93.
712

(العنوان الحادي والتسعون)
(في أن الكفار والمخالفين مكلفون بالفروع)
713

عنوان
] 19 [
ليس الإسلام والإيمان شرطا في التكليف، بل الكفار والمخالفون مكلفون
بالفروع كالمؤمنين، وفاقا للمشهور من أصحابنا المتقدمين والمتأخرين، بل
الظاهر من عبارة كثير من الأصحاب الإجماع على ذلك، بل كونه من ضروريات
مذهب الإمامية، فإنهم يعبرون عنه بلفظ (عندنا) أو (عند علمائنا) ونحو ذلك.
نعم، ربما يستفاد من بعض المحدثين من المتأخرين - كالقاساني والأمين
الأسترآبادي وصاحب الحدائق (1) على ما حكي (2) - خلاف ذلك، وفاقا لمن
سبقهم على ذلك.
والوجه في عدم الشرطية: ورود الخطابات على سبيل الإطلاق من دون
اشتراطهما في الطلب، والأصل عدم التقييد، فالمقتضي موجود والمانع لا يصلح
للمانعية، كما سنقرره.
وعموم الآيات والأخبار في التكاليف مثل قوله تعالى: ولله على الناس
حج البيت (3) ويا أيها الناس اتقوا (4) وغير ذلك الشامل لكل بالغ عاقل. وما

(1) راجع الوافي 2: 82، باب معرفة الإمام والرد إليه، ذيل الحديث 3، الفوائد المدينة مدنية: 226،
الحدائق 3: 39.
(2) حكاه عنهم المحقق النراقي قدس سره في عوائد الأيام: 96، العائدة: 30.
(3) آل عمران: 97.
(4) النساء: 1، و...
714

ورد بلفظ خاص - كما هو الغالب في الأخبار - فيأتي في الكافر أيضا بعموم
الاشتراك في التكليف الذي ذكرناه في أول الكتاب من الإجماع والنصوص الدالة
على أن حكم الله في الأولين والآخرين سواء. وكون خصوص الفرض محل
الخلاف لا ينافي الإجماع على القاعدة، كما مر في نظائره.
وربما يستدل أيضا بأنه لولا التكليف بالفروع لزم تساوي قاتل النبي صلى الله عليه وآله و
على الفروع كالأصول.
ويجاب: بأن عدم تساويهما لا يستلزم كونهما مكلفين بفروع شرع الإسلام،
بل لعل ذلك إنما هو لقبحه في شرع الكفر أيضا.
ورد بأن ثبوت الإسلام ناسخ للشرائع السابقة، فلا دين غيره حتى يكون
التفاوت لأجل مخالفة ذلك الدين دون الإسلام، حتى لا يكون مكلفا بالفروع في
شرعنا.
ولكن يمكن أن يقال: إن نزاع التكليف بالفروع إنما هو في الفروع الثابتة
بالشرع ابتداءا، وأما ما يستقل به العقل - كالظلم والقتل ونحو ذلك - فلا بحث في
كون الكافر مؤاخذا به ومعاقبا عليه، وما ذكرته من المثال إنما هو من الثاني دون
الأول. أو يقال: إن نسخ الإسلام للشرائع السابقة فيما استقل به العقل ممنوع، بل
هو باق على حكم الشرائع السابقة، فيكون العقاب لقبحه في شرعهم كشرعنا.
ومجرد فرض كون العقاب إنما هو لمخالفة هذا الشرع دون السابق إنما ينفع في
إثبات كون شرعنا مطاعا من حيث هو كذلك، فما وافق الشرع السابق أيضا يؤخذ
من حيث كونه من شرعنا، لا من حيث كونه من الشرع السابق، ولا من حيث
الاجتماع، ولا ينفع في مقامنا هذا، إذ الدليل قضى بالتفاوت بين القاتل والمعين،
وأما أن ذلك لجهة شرعنا أم لا فلا يقضي به ذلك.
وقد يقال في الاستدلال: بأنه لا ريب في كونهم مكلفين بالإيمان، وليس
الإيمان مجرد العقائد الحقة، بل هو عبارة عن العقائد والأعمال كما دل عليه طائفة
715

من الأخبار (1).
ويمكن منعه بأن الإيمان ليس المواظبة على جميع الأحكام قطعا، والترجيح
لبعض الأحكام لا وجه له، ولا ريب أن فاعل المحرمات وتارك الواجبات مع
اعتقاده العقائد الحقة يسمى مؤمنا مسلما، فما ورد في الخبر يكون تعريفا للأيمان
الكامل، كما في قوله [تعالى]: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم
الآية (2).
وفي الآيات ما يقضي أيضا بأنهم مكلفون بالفروع، كقوله تعالى حكاية عنهم:
لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين (3) وقوله تعالى: فلا صدق ولا
صلى (4) كذا قيل (5).
ويمكن أو يقال بأن قولهم: (لم نك من المصلين) ما يدل على كونهم مكلفين
بالصلاة في كفرهم، بل لعل المراد: أنا لو آمنا وصرنا مكلفين بالصلاة وصلينا
لنجونا، ولكن لم نك من المصلين لعدم كوننا من المسلمين. وكذا قوله [تعالى]:
فلا صدق ولا صلى لا يدل على التكليف بالصلاة في حال عدم التصديق، بل
مثل هذه العبارة يقال كثيرا في المرتب، فإنه إذا قيل لزيد: (أضف عمروا (6) وإذ ا
أضفته فأعطه درهما) فإن الإعطاء وجوبه مشروط بالضيافة، بحيث لو لم يمكن
الضيافة لا يجب الإعطاء، فإذا ترك زيد كليهما يقال: (لا أضاف ولا أعطى) ولا
يلزم وجوب كل منهما وجوبا مطلقا.
واحتج من زعم الشرطية بأن التكاليف ممتنعة الحصول من الكافر حال كفره،
إذ لا بحث في شرطية الإسلام في الصحة كما يأتي، والمشروط من دون شرط

(1) راجع الكافي 2: 33، باب أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها.
(2) الأنفال: 2.
(3) المدثر: 43، 44.
(4) القيامة: 31.
(5) احتج بهما وبغيرهما من الآيات العلامة قدس سره في المنتهى 2: 188.
(6) في غير (م): لعمرو.
716

ممتنع. وممتنعة بعد الاسلام أيضا، لما مر من قاعدة كون الإسلام مسقطا لما قبله (1)
فإذا كان كذلك فلا يمكن صدور العمل من الكافر على وجه يوافق الأمر أصلا، بل
إما الشرط منتف وإما الأمر منتف، فلا معنى لقولنا: الكافر مكلف بالفروع، مع عدم
جواز التكليف بما لا يطاق عندنا وعند أكثر العقلاء، ولو لم يكن ممتنعا على تقدير
الإسلام فهو لغو قطعا، إذ طلب الفعل على تقدير لو أريد الإتيان به على ذلك
الفرض لسقط الخطاب خال عن الفائدة بالمرة.
وحله أن يقال: إن الكافر في حال كفره أيضا لا يمتنع منه العبادة، لأن (حال
الكفر) معنى مغاير لقولنا: (بشرط الكفر) وعدم إرادته الإسلام الذي هو من
إحدى المقدمات يوجب امتناعه بالاختيار، وهو غير مناف لمقدورية أصل الفعل
بذاته، فالكافر في حال كفره قادر على إتيان المأمور به ولو بواسطة المقدمة
المقدورة وهو الإسلام، والمقدور بالواسطة مقدور، كيف! ولو بنى المسألة على أن
ما انتفى شرطه في الوجود الخارجي فالتكليف به ممتنع لم يكن للتكليف موقع
بالمرة، إذ ما من شئ يؤمر به إلا وشرط من شرائط وجوده منتف في الخارج،
وإلا لكان موجودا.
والسقوط بعد الإسلام لا يوجب اللغوية والامتناع، لأنا نقول أولا: في
الموسعات التي قد مضى من الوقت مقدار الأداء بشرائطه وهو كافر فأسلم مع بقاء
الوقت، فقد مر في بحثه أن هذا محل إشكال، فنقول: إن هذا لم يسقط فيأتي به،
وهو كان مكلفا به أيضا في أول الوقت، وليس كل تكليف ساقطا على فرض
الإسلام في كل وقت.
وثانيا: في التكاليف المالية الصرفة قد مر أن الإسلام لا يجبها.
وفي العبادات التي تسقط بالإسلام أيضا نقول: أما في الموسعات فلا بحث،
لما أشرنا إليه، والتكليف فيها في محله. وأما المضيق أو خطاب القضاء بعد الفوات،
فنقول: ليس المراد بالتكليف فيه طلب الفعل حقيقة، بل المراد: الابتلاء والامتحان
،

(1) مرت في العنوان: 67.
717

والغرض من توجيه الخطاب واسقاطه بالإسلام: إما الحث والترغيب عليه لكونه
مقدمة وشرطا للتكاليف فينبغي أن لا يترك. وإما أنه لو لم يسلم ولم يأت به
فيعاقب على الفروع أيضا لمخالفته لها كالأصول. وإما أنه لو أسلم بقصد الإتيان
للتكاليف والامتثال يصير مثابا من جهتين: إحداهما من جهة الإسلام المأمور به
مستقلا، وثانيتهما: من جهة كونه توطينا للفروع، وإن سقط عنه حينئذ ما مضى من
التكاليف، فلا تذهل.
وما يقال: إنه لو وجب لوجب قضاؤه عليهم وليس كذلك، ممنوع بأن القضاء
بالفرض الجديد على المختار، ولعل خطاب القضاء لا يشملهم، ولا ملازمة بين
وجوب أصل الفعل وقضائه، ولو سلم الملازمة هنا نقول: مكلفون بالقضاء أيضا
كسائر التكاليف وسقوطه عنهم بالإسلام لأحد الوجوه السابقة.
وقد اعتمد من ذهب إلى عدم التكليف بما ورد في بعض الأخبار أن التكاليف
بعد الإسلام.
منها: ما رواه بعض مشايخنا ووصفه بالصحة: من آمن بالله وبمحمد رسول
الله صلى الله عليه وآله واتبعه وصدقه، فإن معرفة الإمام هنا (1) واجبة عليه، ومن لم يؤمن بالله
ورسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ولم (2) يعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام
وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما؟ (3).
وهذه الرواية لا دلالة فيها على المطلوب، لأن معرفة الإمام أولا ليس من
الفروع المبحوث عنها وإن كان مما أمر بها النبي صلى الله عليه وآله. وثانيا: أن المراد لو كان
ترتيبا في الطلب لزم كون معرفة الإمام بعد سائر الأفعال والفروع، لأن اتباع
النبي صلى الله عليه وآله: الإتيان بما أتى به وترك ما تركه، وليس كذلك، بل المراد منه الترتيب
في المطلوب، بمعنى كون معرفة الله والرسول مطلوبة قبل معرفة الإمام، لا أن (4)

(1) في الكافي: منا.
(2) حرف النفي لم ترد في الكافي.
(3) الكافي 1: 180، باب معرفة الإمام والرد إليه، ح 3
(4) في (ن، د): لأن.
718

معرفة الإمام عليه السلام طلبها مشروط بحصول معرفتهما. مضافا إلى أن عموم الكتاب
والسنة وفتوى الأصحاب - إلا من شذ منهم - وقاعدة الاشتراك في التكاليف وغير
ذلك من الأدلة يعارضه ويرجح عليه (1) من جهات.
واعتمدوا أيضا بأصالة عدم التكليف وعدم دليل على ثبوته، وبلزوم تكليف
ما لا يطاق لو كلفوا بالفروع، لأنهم جاهلون بهذه الأوامر والنواهي، وتكليف
الجاهل قبيح. وبما ورد من تخصيص الأمر بطلب العلم للمسلم والمسلمة،
كقوله صلى الله عليه وآله: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) (2) ولو كان ا لكافر أيضا
مكلفا بالفروع لوجب عليه أيضا ذلك. وباختصاص الخطاب في ظواهر الآيات
بالمؤمنين كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا فإن أغلب الخطابات كذلك، ولو
فرض هناك عموم يشمل الكافر فلابد من التقييد بالمؤمن لما ورد مقيدا أيضا.
وبأنهم لو كانوا مكلفين بالفروع لكان النبي صلى الله عليه وآله يأمر كل من أسلم ب‍ الغسل، للعلم
العادي بأنه جنب، مع أنه لم يكن يأمر بذلك.
وهذه الوجوه كلها أوهن من بيت العنكبوت، لا حاجة إلى التعرض لأجوبتها،
والدليل قد عرفته على إثبات التكاليف عليهم.
والنزاع إنما هو فيما اطلعوا (3) على وجود تكليف فيه ولو بالإجمال وقصروا
عن معرفته وتحصيله، فلا يلزم تكليف الجاهل والغافل، بل مجرد تكليفهم بالإسلام
يكفي في علمهم إجمالا بأن هناك أحكاما لابد من معرفتهم لها على فرض
الإسلام، و 7 هذا المقدار كاف في التكليف بالفروع، ولا يحتاج إلى العلم تفصيلا.
وتخصيص الأمر بالمسلم والمسلمة لا يدل على عدم كون الكافر مكلفا، لأن
مفهوم الوصف ليس بحجة، ويكفي في ذكر المسلم شرفه وكون طلب العلم بعد

(1) كذا، والمناسب: يعارضها ويرجح عليها، لرجوع الضمير إلى الرواية.
(2) الكافي 1: 30، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، ح 1 وذيل 5. وليس فيهما
(ومسلمة) نعم هي موجودة فيما رواه في البحار 2: 32، كتاب العلم، ح 20.
(3) في (ن، د): أطلقوا.
719

الإيمان بالإسلام لا قبله، مع أنه لا يقاوم ما مر من الأدلة على التعميم.
ومثل ذلك نجيب في اختصاص الخطابات بالمؤمنين، مع أن في الخطابات ما
يعم المؤمن والكافر، فلا وجه للتقييد، وذلك واضح، لعدم العلم بوحدة المكلف من
خارج، فيجوز كون الفريقين مكلفين بذلك.
وعدم أمر النبي صلى الله عليه وآله بالغسل ممنوع، بل الظاهر أن الاغتسال بعد الأسلا م كان
من الأمور المعتادة الواضحة، كما يكشف عنه طريقتنا في زماننا هذا، مضافا إلى
كفاية الأوامر العامة في ذلك، فلا يحتاج إلى الأمر بالخصوص، فتدبر.
ومما يدل على كونهم مكلفين بالفروع قوله تعالى في حم السجدة وويل
للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة الآية (1) وإن أمكن أن يقال فيه ما مر في
نظائره، مضافا إلى ما ذكره في تفسير القمي، عن الصادق عليه السلام: أترى أن الله
عز وجل طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به - وذكر الآية - قيل:
جعلت فداك! فسره لي، فقال: ويل للمشركين الذين أشركوا بالإمام الأول وهم
بالأئمة الآخرين كافرون، إنما دعا الله العباد إلى الإيمان، فإذا آمنوا بالله وبرسوله
افترض عليهم الفرائض (2).
وبهذا الحديث استدل القاساني في تفسيره على مذهبه (3).
ولا ريب أن ما ذكر تأويل للآية، والتعليل تقريب كما في أكثر الآيات، فلا
ينافي الظاهر. ولا يبعد أن يراد بالترتيب كون الواقع كذلك، لا أن من لم يؤمن لم
يكلف. أو يراد كونه شرطا في حصول الامتثال وكون التكليف حقيقيا لا ابتلائيا.
وأما العبادات: فالاسلام شرط في صحتها، وعليه إجماع الأصحاب فيما عدا
الوقف والصدقة والعتق على القول باشتراط نية القربة فيها، وعلى القول بعدم
اشتراط القربة فيها تكون من المعاملات الصرفة التي يجئ البحث فيها.
وعللوا عدم صحة عبادة الكافر بأن العبادة مشروطة بالنية، ونية القربة لا

(1) فصلت: 6 و 7.
(2) تفسير القمي 2: 262.
(3) الصافي 2: 494.
720

تتحقق من الكافر، وهذا في الكافر الجاحد للربوبية مطلقا واضح. وأما الكافر
المقر بالله تعالى المنكر لصفة أو ضروري أو للنبوة فيعقل فيه القربة، بمعنى
قصدها (1)، وإن لم يحصل له الثواب، فلا يمشي (2) فيه هذا التعليل.
ويمكن أن يقال: إن نية القربة لا تتحقق إلا باعتقاد كون هذه العبادة مأمورا
بها من الله جزما، والكافر غير معتقد بالنبوة حتى يعتقد كون ذلك مأمورا به (3)، فلا
يعقل قصد القربة منه. ونحو ذلك سائر أصناف الكفر، فإن مآلها إلى عدم الوثوق
والاعتقاد بالشرع، وهو مانع من قصد التقرب، وقصد التقرب على فرض حقية
الإسلام يؤول إلى الترديد المانع من صحة العبادة، وعلى كل حال فيدل على
شرطية الإسلام.
مضافا إلى ما ذكر طائفة من الآيات كقوله تعالى: إنما يتقبل الله من
المتقين (4) وأول التقوى الإسلام، وكل ما هو ليس بمقبول ليس بصحيح.
وما يتخيل: أن القبول غير الصحة، فهو من البطلان بمكان، لأن الصحة عبارة
عن موافقة الأمر، وكيف يعقل موافقته للأمر من دون ثواب؟ فإن الثواب لازم عقلا
لذلك لا يمكن تخلفه في الحكمة.
وقوله تعالى: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله
وبرسوله (5) وغير ذلك من الآيات.
مضافا إلى دلالة الآيات الكثيرة على كون الكفار معذبين بالنار خالدين فيها،
ولو كانت عباداتهم صحيحة لزم وصول الأجر إليهم في الآخرة، وهو منفي في
حقهم بالآيات المذكورة.
مع ما في الأخبار الكثيرة من الدلالة على بطلان عبادات المخالف، فضلا عن
الكافر، كما ورد من أنه: لا طاعة إلا بولاية ولي الله ودلالته إليه، وغير ذلك (6)

(1) في غير (م) زيادة: ذلك.
(2) في (م): فلا يأتي.
(3) كذا في أصول النسخ، وفي (م): كونها مأمورا بها.
(4) المائدة: 27.
(5) التوبة: 54.
(6) راجع الوسائل 1: 90، الباب 29 من أبواب مقدمة العبادات.
721

وبالجملة: فشرطية الإسلام والإيمان في صحة العبادة مما لا بحث فيها عند
أصحابنا، فلا حاجة إلى ذكر الأدلة.
وأما الوقف والصدقة والعتق: فبعض من اعتبر قصد القربة فيها منع من صحتها
من الكافر، وجماعة منهم قالوا بصحتها، منهم الشهيد رحمه الله في اللمعة، فإنه مع
اشتراطه القربة في العتق قال: والأقرب صحة العتق من الكافر (1).
وخلافهم في هذه الثلاثة مع اتفاقهم على بطلان سائر العبادات منه: إما من
جهة أن الدليل دل في هذه الأمور على اعتبار إرادة وجه الله تعالى وهي ممكنة
من الكافر، كما في الخبر: أنه (لا عتق إلا ما أريد به وجه الله تعالى) (2) وليس
كذلك سائر العبادات، وقد علل بذلك الشهيد الثاني رحمه الله (3). وإما من جهة تركب هذه
الثلاثة من جهة مالية وجهة عبادة، ويرجح من ذلك جانب المالية. وإما من جهة
أن هذه كلها إخراج عن الملك، وملك الكافر أضعف من ملك المسلم، فهو أولى
بالفك. وإما من جهة أن الكافر ليس بمالك في الحقيقة، وإنما هو صورة ملك لبقاء
النظم، فإذا أخرجه ودفعه خرج عن ملكه وإن لم يترتب عليه الآثار من الثواب
ونحوه.
والتحقيق: أن هذه الثلاثة أيضا ليست صحيحة من جهة كونها عبادة، ولذلك لا
ثواب فيه. نعم، هي صحيحة من جهة كونها معاملة وفك ملك، غاية ما هناك: أنه
يرد أن هاتين الجهتين مرتبطتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ولذلك لو لم ينو
المسلم القربة لم يصح عتقه أصلا.
ونجيب عن ذلك بأن الكافر أو المخالف يلزم بمعتقده، فإن اعتقاده فيه
الصحة، وهذا المقدار يصير حجة عليه في الخروج عن الملك، ويدخل في عموم
(ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) (4) فتبصر.

(1) اللمعة: 223 (كتاب العتق).
(2) الوسائل 16: 6، الباب 4 من أبواب كتاب العتق، ح 1.
(3) الروضة 6: 243.
(4) الوسائل 15: 321، الباب 30 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه، ح 5 و 6.
722

وأما الغرامات والضمانات فلا يشترط فيها الإسلام ولا الإيمان، لعموم ما دل
على الضمان بأحد أسبابه، وأصالة اشتراك المكلفين في الأحكام، وهذا مما لا
بحث فيه.
نعم، مال الحربي ودمه [فئ] (1) للمسلم بالنص والإجماع.
وأما العقود والإيقاعات: فمقتضى عمومات الأدلة صحتها من الكافر
والمخالف والمؤمن، والأصل عدم الشرطية. كما أن الأسباب الفعلية - من حيازة
واحياء موات ونحو ذلك - كذلك، وحرمة ذبيحته إنما دل عليها الدليل. ولا
مخصص لذلك إلا ما ذكرناه سابقا من قاعدة: (نفي السبيل للكافر على المسلم) (2)
فإن كل ما هو داخل تحت القاعدة - كما أشرنا إليها في محلها - فينفرد بالصحة من
المسلم، ولا يصح من الكافر، فراجع وتبصر.

(1) لم يرد في (ن، د).
(2) راجع العنوان: 49.
723

(العنوان الثاني والتسعون)
(في ضبط الموارد
التي يشترط فيها العدالة)
725

عنوان
] 29 [
ليس العدالة شرطا، لا في تكليف ولا في ضمان وغرامة، ولا في صحة
العبادة، ولا في العقود والإيقاعات من حيث هي كذلك، لعموم ما دل على
التكاليف والضمانات وصحة العقود والعبادات، من دون دليل دال على الاشتراط،
فأصالة الإطلاق سليمة عن المعارض، معتضدة بالفتوى.
وما يتراءى من الشيخ رحمه الله أنه اعتبر العدالة في التصرفات المالية (1) إدراجا
للفاسق تحت السفيه المحجور عليه فيصير اشتراط العدالة من جملة أجزاء
اشتراط الرشد، فمع خروجه عن الفرض - إذ الكلام في اعتبار العدالة من حيث
نفسها - يجئ ما فيه في البحث عن معنى الرشد والسفه.
نعم، الظاهر من الأصحاب اشتراط العدالة في كل مقام يكون فعل شخص أو
قوله مسقطا عن الغير، أو حجة عليه، أو كان مؤتمنا على مال الغير أو حقه من غير
مالكه، فان هذه المقامات قد اعتبروا فيها العدالة، وتندرج فيها عدالة الشاهد،
والقاضي، والكاتب، والمترجم، وعامل الصدقة، والمقوم للمال، والمقسم، ونائب
العبادات كلها عن حي أو ميت باستنابة نفس المنوب عنه أو باستنابة وكيله وغير

(1) الخلاف 3: 283، المسألة 3.
726

ذلك، وأمين الحاكم على مال الأيتام والغائب والمجانين وعلى قبض الحقوق
المالية، ومنصوبه في نظارة وقف أو في وصاية، والوصي على مال الأطفال
والمجانين، ومفرق الحقوق المالية إذا دفع إليه المالك ولو كان وكيلا، والودعي
الذي يوضع عنده مال الغير عند حصول عذر للمستودع، والمستأجر من
المستأجر إذا أراد قبض العين منه لو قلنا بعدم اشتراط إذن المالك - كما هو قضية
صحيحة علي بن جعفر (1) - وعدالة إمام الجماعة، ونظائر ذلك.
وبالجملة: فالضابط: إما كون قوله مسقطا عن الغير أو حجة عليه، أو كون فعله
كذلك، أو كون يده مسلطة على مال الغير من غير مالكه، فإن هذه المقامات
يشترط فيها العدالة.
والمنشأ في ذلك ما دل من الآية الشريفة على أن الفاسق يجب التبين عن
خبره (2) فلا يسمع قوله ولا يكون حجة من حيث هو قوله، وحجيته من جهة
حصول العلم أو من جهة حصول الظن حيث يعتبر فيه الظن - كعدد الركعة
والمرض المبيح للإفطار - كلام آخر. وما دل من النصوص على عدم كون الفاسق
أهلا للأمانة (3).
مضافا إلى ما ورد في مذمة الفساق بما يقضي بسقوط درجتهم، فضلا عن
ائتمان الشارع لهم على مال أو نحو ذلك، وكيف ينهى الشارع عن الركون إلى
الذين ظلموا (4). ثم يرخص في الاعتماد عليهم أو يعتمد عليهم في أموال الناس
وما في حكمها؟ وكل فاسق ظالم ولو لنفسه؟ فتدبر.
وعدم سماع قوله وعدم جواز الركون إليه يكفي في اشتراط العدالة في هذه
المقامات الثلاث الجامع للفروع السابقة كلها، فتبصر. مضافا إلى ما ورد من الأدلة

(1) الوسائل 13: 255، الباب 16 من أبواب أحكام الإجارة، ح 1.
(2) الحجرات: 6.
(3) انظر الوسائل 13: 230، الباب 6 من أبواب أحكام الوديعة، والباب 9 منها.
(4) هود: 113.
727

الخاصة في كثير من هذه المقامات مع إشعاره باعتبار العدالة، لعدم سماع خبر
الفاسق وعدم جواز الركون إليه الدال على تأسيس القاعدة، مع أن تتبع ما ورد فيه
النص وقام عليه الإجماع يورث استقراءا مفيدا لإلحاق المشكوك فيه بالغالب.
وبقي هنا كلام: وهو أن الوكيل في ما تجوز فيه الوكالة - كالعقود والإيقاعات،
وتطهير الثوب، ونحو ذلك من قبض وإذن - لا يشترط عدالته، مع أن فعله وقوله
مبني على الصحة مسقط عن الموكل، بمعنى: أن كل ما فعله فهو بمنزلة ما فعله
الموكل، فينبغي اشتراط عدالته أيضا، إذ لعله يخبر عما هو ليس بواقع من بيع أو
نكاح أو تطهير أو غير ذلك، وأي فرق بين هذه الأمور وبين الاستنابة لعبادة
كالحج ونحوه حيث يشترط فيه العدالة؟ وعللوه بعدم سماع قوله في إتيانه بالعمل
على وجه صحيح، فلا يعلم براءة الذمة، واطلاع الغير على أفعاله غير ممكن، إذ
من جملة الشرائط قصد القربة ولا يطلع عليها أحد. مع أن هذا الوجه يجري في
المعاملات أيضا، فإن قوله غير مسموع، واطلاع الغير غير ممكن، إذ من جملة
شرائطها القصد، وهو مما لا يمكن الاطلاع عليه، فلعله كان غير قاصد.
ودفع ذلك: إما بأن يقال: إن مقتضى القاعدة كان اشتراط العدالة، ولكن خرج
باب الوكالة بالإجماع وإطلاق النصوص وكون فعل الوكيل منزلا منزلة فعل
الموكل مطلقا.
وإما بأن يقال: إن فعل الوكيل ثبت صحته في هذه الأمور بأصالة الصحة في
فعل المسلم، أو بأصالة الصحة - المشار إليها في العناوين السابقة - ويكتفى بها
للموكل أيضا.
ولو قيل: إن هذا الكلام يجري في العبادات أيضا، فإن النائب إذا فعل فعلا
فأصالة الصحة تقضي بكون ذلك جامعا للشرائط، فيكون كافيا للمنوب عنه ولا
يحتاج إلى سماع خبره كما في الواجبات الكفائية، فإذا رأيت من يشتغل بغسل
الميت تكتفي بذلك في السقوط عنك بأصالة الصحة وإن لم يكن عادلا، فلم
728

تشترط في نائب العبادة العدالة؟
قلنا: الفرق بين النيابة والواجب الكفائي واضح، فإن فاعل الواجب الكفائي
آت به من جهة نفسه، ولا ريب أن عمل المسلم في حق نفسه محمول على الصحة،
فإذا كان كذلك فيوجب عني السقوط، لأنه فعل صحيح. وأما النائب فهو آت للفعل
عن المنوب عنه وليس هناك أصالة صحة فعل مسلم عن مسلم آخر - بمعنى ترتب
الآثار عليه - إذ أدلة صحة فعل المسلم لا تعم ذلك، وسيأتي - إن شاء الله - البحث
في ذلك.
وأما الفرق بين العبادات والمعاملات: فبأن الذمة إذا اشتغلت فلا تفرغ إلا
بيقين والمتيقن هو نيابة العدل، وأما في المعاملة فليس هناك اشتغال ذمة بشئ،
بل هو إقدام على ما لولا قول الوكيل لما أقدم عليه، ولو لم يثبت بقول الوكيل
جوازه فلا يبقى علم بتحريمه أيضا، وهو كاف في جواز الارتكاب. وفيه نظر
واضح.
وإما بأن يقال (1): إن سماع قول الوكيل في المعاملات إنما هو من جهة كونه ذا
يد على ما أخبر عنه، وقول ذي اليد مسموع ولو كان فاسقا. وهذا لا يطرد في
الأشياء التي ليست مما يدخل تحت اليد كالنكاح والطلاق، فلا بد من القول بعدم
سماع قول الوكيل في ذلك إلا بعد الثبوت.
وأما من جهة (2) الفرق بين العبادة والمعاملة: بأن العبادة عمدتها النية وهي لا
تعلم باطلاع، فلابد من اعتبار كون النائب عدلا ليحصل الوثوق به. والمعاملة وإن
كان يعتبر فيها القصد وهو أيضا لا يعلم، لكن الشارع جعل ألفاظ العقود كاشفة عن
القصود. ومن قال: (بعت) ثم ادعى (أني ما كنت قاصدا) لا يسمع منه ذلك، لأن
ظاهر كلامه مكذب له. بخلاف العبادة، إذ ليس فيها ما يدل على وقوعها مع نيته إلا

(1) عطف على قوله: (إما بأن يقال) المتقدم في ص: 728.
(2) كذا، والظاهر (من جهة) زائدة.
729

أصالة الصحة، وأصالة الصحة لا تكون حجة على غير الفاعل. نعم، ظاهر العقد دال
على القصد وحجة، وإلا فلم يمكن المعاملة أصلا، لأن أحد المتعاقدين لا يدري
بأن الاخر قاصد في الإيجاب أو القبول أم لا.
ولا يخفى أن في الفرق بين أدلة الوكالة وأدلة النيابة في العبادة - بأن الأولى
مطلقة شاملة لتوكيل الفاسق أيضا فلا مناص عن اتباع قوله فيما أخبر عنه من جهة
الوكالة، والثانية مجملة دالة على جواز الاستنابة أو وجوبها، والمتيقن هو استنابة
العدل - نظرا واضحا وإشكالا لائحا، فإما الإطلاق في المقامين، أو الإجمال في
المقامين.
730

(العنوان الثالث والتسعون)
(في تنقيح بعض الموضوعات المأخوذة
في لسان الأدلة، مثل: العقل والجنون
والبلوغ والصغر، والإسلام والكفر،
والعدالة والفسق، والحرية والرقية،
والرشد والسفه، والاختيار والإكراه)
731

عنوان
] 39 [
العقل والجنون موضوعان معروفان.
ولو شك في كون شخص مجنونا أو عاقلا فالأصل أن يكون عاقلا، لأصالة
عدم العيب، وكون الغالب ذلك.
هذا إذا كان الشك ابتدائيا من دون علم بحالة سابقة، وأما بعد العلم بكونه
عاقلا فالاستصحاب أيضا يعاضد الأصل السابق. وأما بعد العلم بالجنون فالأصل
بقاء الجنون ما لم يحصل العلم الشرعي بزواله وصحة العقل.
وأما البلوغ والصغر: فهما وإن كانا عرفيين بالأصل، لكنهما صارا شرعيين
بالتحديد وفي بيانهما طول، وملخصه: أن في الذكر بلوغ خمس عشرة سنة تامة
هلالية، أو خروج المني كيف كان، أو إنبات الشعر الخشن على العانة يسمى بلوغا.
وفي الأنثى بلوغ تسع سنين تامة كذلك، والحيض والحمل علامتان لسبق البلوغ.
ولو شك في حصوله فالأصل عدم البلوغ وبقاء الصغر.
والكفر والإسلام أمران شرعيان، فمن أقر بالله وحده وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله و
دون فرق بين من عرف وأنكر أو لم يعرف.
نعم، لو وقع الشك في كونه كافرا أو مسلما مع عدم إمكان الاستعلام - كما في
732

اللقيط مع عدم إمكان إلحاقه بدار الالتقاط، أو في غير ذلك، أو مع إمكان الاستعلام
ولكن قبل العلم - فهل الأصل أن يكون كافرا، أو الأصل أن يكون مسلما، أو لا
أصل في أحد الطرفين فيتوقف إلى أن يعلم؟ وجوه لكل منها وجه وجيه.
أما أصالة الكفر: فالوجه فيه (1) أن الإسلام أمر وجودي وهو الإقرار واعتقاد
الأصول والضروريات، وبينه وبين الكفر تقابل العدم والملكة، فالكفر عبارة عن
عدم ذلك عما من شأنه ذلك، فإذا شك في ثبوت أحدهما فلا ريب أن الحادث
الوجودي منفي بالأصل، وليس بعد ذلك إلا الكفر، إذ لا واسطة بين الكفر والإسلام.
وهذا هو الذي يظهر من طريقة أصحابنا الإمامية، كما يظهر من تتبع كلماتهم
في باب الجهاد واللقطة والميراث وفي باب الحدود والارتداد، فإن ظاهرهم في
المشكوك فيه الكفر إلا بما يدل على إسلامه من إحدى الطرق الأربعة المعروفة:
من الإقرار بالاستقلال، وتبعية السابي، وتبعية الأبوين بكونهما مسلمين عند
انعقاده أو إسلامهما بعده، وتبعية الدار كما في اللقيط ونحوه، وبالجملة: لا تبقى
للمتتبع في كلامهم شبهة في أن الأصل الكفر حتى يثبت الإسلام.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: فماذا بعد الحق إلا الضلال (2) ولو كان
ما عدا الإسلام أعم من كونه كفرا لم يكن ضلالا بقول مطلق.
وأما أصالة الإسلام: فلم يعلم من الأصحاب البناء عليها، بل نسب إلى معاشر
الإمامية البناء على أصالة الكفر (3) والذي يمكن أن يكون مستندا لها (4) أمور:
أحدها: قوله تعالى: فطرت الله التي فطر الناس عليها (5) مع ما في تفسيره
من: أنها فطرة الدين والإسلام والإيمان (6) فيكون مقتضاه: أن كل فرد من الناس
فطرته فطرة إسلام ومن كفر فقد غير فطرته.
وثانيها: قوله تعالى: فليغيرن خلق الله (7) في ذم الكفار، فإن ظاهره أن

(1) كذا، والمناسب: فيها.
(2) يونس: 32.
(3) لم نقف عليه.
(4) في (ن، د): فيه.
(5) الروم: 30.
(6) راجع توحيد الصدوق: 328، الباب 53.
(7) النساء: 119.
733

خلق الله على الإسلام، ومن كفر فقد غير ما خلقه الله عليه.
وثالثها: النبوي المشهور: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما
اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه) الحديث (1). ولا يخفى ما فيه من الصراحة
في المدعى.
وهذه الوجوه مخدوشة بأن ظاهرها كون كل مخلوق ومولود مولودا على
فطرة الإسلام، ولازم ذلك أنه لو كبر وبلغ وأظهر الكفر عد مرتدا وإن لم يعلم حال
أبويه، مع أنه لا تجري عليه أحكام المرتد قطعا، بل اللازم أن تجري عليه أحكام
المرتد الفطري، لأنه مولود على الفطرة، وحينئذ فلا يبقى للمرتد الملي مصداق
أصلا، إذ كل ما فرض فهو مرتد عن فطرة، وهذا مما يحكم الإجماع والنصوص
بفساده.
ويعلم من ذلك: أن هذه الرواية كالآية من المتشابهات لا ينبغي اتباعها في
مقابل المحكمات، ولا نعقل كون أبويه مهودين ونحو ذلك، بل المولود مولود قابل
للأمرين، إن شاء قبل الإسلام وإن شاء قبل الكفر. وأحكام الارتداد عن فطرة أو
ملة أمور تعبدية حكم بها الشارع، لا أن من كان أبواه مسلمين فهو مسلم، ومن
كان أبواه كافرين فهو كافر. والاعتماد على مثل هذه الدلالات في إثبات الأحكام
الشرعية بعيد عن مذاق الفقه.
وإن كان يمكن أن يقال: إن الرواية بظاهرها دلت على أصالة الإسلام، ولا
ملازمة بينه وبين كون ذلك مرتدا أو مرتدا عن فطرة، لأن لنا أن نقول: إن الارتداد
عبارة عن الخروج عن إسلام ثابت بالإقرار أو بالبينة ونحو ذلك، لا بمجرد الأصل،
ولامانع من ذلك. ولو سلمنا أن الأصل قاض بإسلامه فيحكم بارتداده إذا أظهر
الكفر نمنع كون ارتداده عن فطرة، نظرا إلى أن من شرطه علوقه حال إسلام أحد
أبويه، والأصل لا يثبت ذلك، مضافا إلى استلزامه عدم وجود مصداق للارتداد

(1) عوالي اللآلي 1: 35، ح 18، وراجع الكافي 2: 12 (باب فطرة الخلق على التوحيد)
وتوحيد الصدوق: 328، الباب 53، والعلل: 376، الباب 104، ح 2.
734

الملي، فعلم أن المراد بأصالة الفطرة ما ذكرناه، لا كونه في حكم المسلم مطلقا.
ولو قيل: كما أنك لا تحكم بارتداده عن فطرة لعدم علمك بشرطه فلا تحكم
بالملية أيضا، لأن من شرطه العلوق مع كفر أبويه وهو غير معلوم، ولا ترجيح
لأحدهما على الاخر.
قلت: لا أقول بأن الملية علم شرطه، بل نقول: إن الشك في ذلك يوجب نفي
الأحكام المشكوكة بالأصل، وأحكام المرتد عن فطرة - من قتل وقسمة مال
وزوال نكاح وغيرها - على خلاف الأصل، فتنفى حتى تثبت.
وبالجملة: البناء على أصالة الإسلام للخبر المذكور لا يستلزم المحذور، ومع
ذلك فضعفه الخالي عن الجابر (1) مع ما يظهر من الأصحاب خلافه يمنع من العمل به.
وأما نفي الأصل عن البين فلأن الكفر عبارة عن الإنكار واعتقاد الخلاف،
فكل منهما أمران وجوديان منفيان (2) بالأصل، وليس شئ منهما موافقا له،
فيكون هناك واسطة، كمن يبلغ نائما أو ذاهلا، أو لم يسمع صيت الحق والباطل أو
كان مترددا في الترجيح - ونحو ذلك - فإن ذلك كله ليس بكافر ولا مسلم، وهذا
القول هو المنسوب إلى المعتزلة.
ولازم هذا القول: الرجوع في أحكام هؤلاء الوسائط إلى الأصل، فإن كان
حكم الإسلام هو الأصل - كما في الطهارة مثلا - فيحكمون به فيهم، وإن كان حكم
الكفر موافقا للأصل - كعدم حل ذبيحتهم - يحكمون بحكم الكفر كما هو القاعدة
في الموضوع المشتبه، وهذا القول مما لا يحوم أحد من أصحابنا حوله. فالحق
- حينئذ - المصير إلى أصالة الكفر، ومراعاة علائم الإسلام الأربعة المشار إليها (3)
فتدبر. وهنا كلام من جهات لا مجال في ذكره.

(1) لا يخفى أن الأخبار الواردة في المقام تبلغ حد الاستفاضة، ولا تنحصر بالنبوي المذكور،
وقد أشرنا إلى المصادر في ذيل الصفحة 734، الهامش (1).
(2) كذا في أصول النسخ، وقد غيرها مصحح (م) هكذا: فكل من الإسلام والكفر أمر وجودي
منفي...
(3) راجع ص: 733.
735

وأما الإيمان: فالحق أيضا عدمه، للأصل إلى أن يثبت وليس هنا ما يدل على
خلافه إلا على القول بكون المخالف كافرا.
والكلام في العدالة والفسق نظير الكلام في الإسلام والكفر، والبحث فيه
طويل.
والظاهر أن العدالة هي الملكة، وحسن الظاهر كاشف عنها كما قضت به
صحيحة ابن أبي يعفور (1) لا أن نفس حسن الظاهر هو العدالة، ولا مجرد الإسلام
مع عدم ظهور الفسق كما يراه شيخ الطائفة (2) حتى يكون المشكوك فيه محكوما
بعدالته بعد العلم بإسلامه.
وقيل: إن الفسق أمر عدمي، وهو عدم العدالة عما هو قابل لها، ولا واسطة
بينهما، واعتبار الأصحاب ارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة في الفسق
إنما هو ليكون كاشفا عن عدم الملكة (3). وهو بعيد. والحق كون تقابلهما تقابل
التضاد وثبوت الواسطة. والمشكوك فيه غير ملحق بشئ منهما، ويرجع في حكمه
إلى ما وافق الأصل من حكم العادل والفاسق، نظير ما أشرنا إليه في الكفر والإسلام
على قول المعتزلة، فتدبر.
وأما الحرية والرقية: فالأصل في كل مقام شك فيهما الحكم بالحرية، إلا إذا
ثبت الرق، لأن الملك أمر حادث والأصل عدمه، وكفى في الحرية عدم كونه
مملوكا، إذ ليس معنى الحرية إلا ذلك، وليس أمرا وجوديا حتى ينفى بالأصل،
فيرجع فيه أيضا في أحكامه إلى ما وافق الأصل من أحكام الحر والرق.
والظاهر أن أصالة الحرية مجمع عليها بين الأصحاب، لا يخرج عنها إلا
بإقرار أو بينة ونحوه (4) حتى أنه لو كان هناك يد عرفية فادعى صاحب اليد الرقية
وادعى الاخر حرية نفسه، فالظاهر تقديم قول من ادعى الحرية حتى يثبت

(1) الوسائل 18: 288، الباب 41 من أبواب الشهادات، ح 1.
(2) الخلاف 6: 217، كتاب آداب القضاء المسألة 10.
(3) لم نظفر على قائله.
(4) كذا، والمناسب: نحوهما.
736

الاخر، واليد هنا لا عبرة بها، لأن الحر لا يدخل تحت اليد، فأصل اليد محل نزاع.
وبعبارة أخرى: نزاعهم في الحرية والرقية يرجع إلى النزاع في أن له يدا عليه أم
لا، فيقدم المنكر، ولذلك ذكر الأصحاب: أن الإنسان لا يملك إلا بالسبي مع الكفر
الأصلي أو بملك أصوله الموجب لمملوكية الأولاد، وإلا فهو بحسب الأصل حر.
وأما الرشد والسفه: فلا ريب أن المشكوك فيه من جهتهما يحكم عليه (1)
بالرشد، لأن السفه عيب والأصل في الأعيان الخارجية الصحة، واستصحاب عدم
الرشد باعتبار عدم كونه رشيدا في آن الصغر غير آت، لأن السفه عبارة عن
نقصان العقل، وهو غير عدم الإدراك للصغر، كما أن عدم تمييز الطفل في الأمور
بين الحسن والقبح (2) لا يعد جنون.
وبعبارة أخرى: عدم التمييز والاستقامة مرة يصير من عدم الاستعداد
والقابلية، بحيث لو ألقي عليه ذلك وفهمه أيضا ليس فيه أهلية ذلك، وهذا هو الذي
نسميه بالجنون عند فساد العقل، وبالسفه عند نقصانه. ومرة يصير من جهة عدم
سماع الكيفية كما في الأطفال، أو من عدم المزاولة كما في الكبار أيضا في الأمور
التي لم يباشروها ولم يباشروا أهلها من الصنائع والحرف، وهذا لا يعد سفها
ولا نقصا في العقل، وذلك واضح، فعلم أن السفه نقص وعيب، والأصل عدمه.
وقد كثر القيل والقال في بيان معنى السفه، والحق: أنه أمر عرفي. وجعل
الشيخ قدس سره الفاسق سفيها لما ورد في الخبر (أن شارب الخمر سفيه) (3) ليس في
محله، إذ هو لا يدل على معنى اللفظ، أو يراد به من أسرف ماله في المحرم، أو يراد
التشبيه، أو يراد سفه عقل المعاد لاعقل التكليف والمعاش. ولنعم ما قال الشهيد
الثاني رحمه الله: إن الفاسق لو كان سفيها محجورا عليه لم يقم للمسلمين سوق أصلا (4)

(1) في (ن، د): فيه.
(2) في (ف، م): القبيح.
(3) المبسوط 2: 284، 285.
(4) المسالك 4: 149، قال قدس سره: واعلم أنه لو اعتبرت العدالة في الرشد لم يقم للمسلمين سوق
ولم ينتظم للعالم حال.
737

وذلك واضح.
والضابط في بيانه: أن الرشد أن يكون له ملكة نفسانية تقتضي إصلاح المال
وتمنع إفساده وصرفه في غير الوجوه اللائقة بحال العقلاء، ومجرد الإصلاح
لا يكفي فيه. والسفه ما يقابله، بمعنى عدم تلك الملكة، والإفساد في بعض الأحيان
مع وجود الملكة لا يعد سفها.
وطريق معرفته: الاختبار بما يلائمه، في الذكر بحسبه، وفي الأنثى بحسبها،
وفي أولاد كل طائفة بما يلائمهم من الحرف والصنائع والمعاملات والنفقات، كما
فصلوه في كتب الفقه.
وفي كلام بعضهم: أن صرف المال في وجوه البر لا يعد سفها وإن بلغ ما بلغ
وخرج عن المعتاد لأمثاله، إذ لاسرف في الخير (1).
وفيه نظر، والظاهر أن الخروج عن الحالة اللائقة بحاله داخل في الإسراف
معدود من السفه وإن كان في وجوه البر، وفي الكتاب والسنة ما يشهد بذلك (2) كما
لا يخفى على من تتبع فيهما وفي كلام الأصحاب.
وأما الإكراه والاختيار: فهما أيضا موضوعان عرفيان. والأصل في محل
الشك عدم الإكراه، وما صدق عليه عرفا أنه إكراه فيلحقه حكمه.
فلو أجبره على البيع فآجر أو صالح أو أكرهه على البيع نقدا فأسلم، أو أكرهه
على البيع بخيار فألزم، أو أكرهه على شئ بشرط الانفراد فضمه إلى شئ آخر،
أو أكرهه على شئ بشرط انضمامه إلى شئ آخر فأفرده، لا يعد مكرها في شئ
من ذلك، لأن المدار في الإكراه على صدور ذلك الفعل المأتي به من دون الرضا،
وهذا لا يصير إلا بوقوعه على مقتضى إرادة المكره - بالكسر - ورضاه، فالمخالفة
قاضية بعدم مراعاة رضاء المكره - بالكسر - فلابد من كونه عن رضا نفسه، كما هو

(1) نسبه الشهيد الثاني قدس سره إلى المشهور، المسالك 4: 152.
(2) لعل مراده من الكتاب: قوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل
البسط فتقعد ملوما محسورا الأسراء: 29. وأما السنة: مثل ما رواه في الوسائل 15: 263،
الباب 29 من أبواب النفقات، ح 3.
738

ظاهر الفعل.
وليس في الصور التي فرضناها بين المكره عليه وبين المأتي به عموم
وخصوص حتى نقول بأنه أحد أفراد المكره عليه، بل بينهما تباين بالذات أو
بالقيد والخصوصية الاعتبارية.
أما لو أكرهه على أحد الشيئين المتساويين - كإعطاء أحد الدينارين - فدفع
أحدهما معينا، فربما يتخيل أن ذلك لا يعد إكراها، لأن المكره - بالكسر - ما أراد
الخصوصية. وهو ليس كذلك، لأن مدار الإكراه على صدور الفعل من دون رضاه،
ولا ريب أن دفع هذا الدينار ليس لأنه دينار خاص، بل من جهة أنه أحد الأمرين
المطلوب منه إكراها، والخصوصية ملغاة في نظرهما معا، والطريق في إتيان الكلي
منحصر في الفرد، وأي منهما كان يجئ فيه هذا المحظور.
وأما لو كانا متفاوتين (1) فإن كان أحدهما أقل من الاخر بحيث يندرج تحته
- كإعطاء دينار أو دينارين، وبيع من أو منين - فهذا لا يعد إكراها على المنين عند
الأنصاف، فلو أتى بالمن فهو مكره، لدخوله تحت فردي التخيير. وأما لو باع
المنين فيحتمل أن يقال: إنه أيضا مكره عليه، لأنه أحد الفردين. ويحتمل القول
بأنه لا إكراه فيه أصلا، إذ لم يتعين عليه ذلك، والمن كان كافيا فيه، والعدول إلى
المنين يكشف عن رضاه ورغبته في ذلك. ويحتمل التفصيل بأنه مكره في من
دون آخر، والوجه يعلم مما سبق، ولعل الأخير هو الأوسط.
ولو أكرهه على بيع شئ من ماله وكان هناك أشياء متفاوتة لا يندرج الأقل
تحت الأكثر، كفرس قيمته عشرة وسيف قيمته خمسة - ونحو ذلك - فإن باع الأقل
فلا شبهة في كونه إكراها، إلا على ما ذكر من احتمال عدم الإكراه في المخير. وإن
باع الأكثر فالظاهر أنه أيضا كذلك، لأنه شئ اكره على بيعه، ولا ترجيح للأفراد
المندرجة تحته.
ودعوى: أن الإكراه كان يندفع ببيع الأقل فعدولك إلى الأكثر يكشف عن

(1) في (ن) متغايرين.
739

الرضا، معارضة بأن الأكثر أيضا كان كافيا في امتثال الأمر، فعدولك إلى الأقل
ناش عن رضاك (1).
إلا أن يقال: إن الضرورة لما كانت تتقدر بقدرها فارتكاب الزائد كاشف عن
عدم مدخلية الإكراه. لكن هذا في الصورة السابقة متجه، وهنا ليس كذلك، لكون
الفردين متباينين، والتخيير إنما هو إلى المكره - بالفتح - ولعله لا يرى بيع الأقل
مصلحة لنفسه، لخصوصية دعت الحاجة بها إلى العين، فتدبر. ويحتمل الفرق هنا
بحسب المقدار - كما ذكر في الأولى - على ضعف.
ولو أكرهه على بيع شيئين على الإطلاق - أي: لم يشترط الانضمام - فباع
أحدهما عد مكرها، لأنه أحد احتمالي المكره عليه. أو أكرهه على بيع شئ واحد
لا بشرط الانفراد بل بلفظ مطلق، فباعه منضما إلى آخر عد إكراها في الجزء
الأول، لأن ضمه إلى شئ آخر لا ينافي كونه مكرها عليه.
وهنا صورة عامة البلوى ظاهرة الإشكال، وهو: أنه لو أكرهه على دراهم أو
دنانير - كما هو عادة الحكام والسلاطين في التوجيهات - فباع شيئا من ماله
لأجل دفع ذلك فهل يعد هذا إكراها في بيع ذلك، لأنه لم يبع هذا المال إلا من جهة
الخوف على نفسه من التلف لو لم يدفع الدنانير، ولا يمكن إلا بالبيع ونحوه وهو
إحدى الطرق المحصلة للدينار؟ أو لا يعد إكراها مطلقا، لأن الإكراه أمر عرفي،
ولا يصدق هنا أنه بيع المكره، والإكراه على دفع الدينار لا يستلزم الإكراه على
البيع عرفا؟ أو يفصل بين صورة انحصار المقدمة في بيع ذلك مثلا، فيكون إكراها
- إذ الإجبار على ذلك مع عدم إمكان الدفع إلا بالبيع لا معنى له إلا الإكراه على
البيع - وبين صورة عدم الانحصار فلا يكون إكراها؟ وجوه واحتمالات. والأقوى
في النظر القاصر أنه ليس بإكراه على البيع مطلقا.
ولو اكره على أحد الشيئين تخييرا فباعهما معا، فإن باع تدريجا فلا بحث في

(1) في مصححة (ن): فعدوله... عن الرضا.
740

كون السابق هو ما تحقق المكره عليه في ضمنه، والثاني لا إكراه فيه. وإن باعهما
دفعة، ففي كونه مكرها مطلقا وعدمه مطلقا وكونه مكرها في أحدهما دون الاخر
وجوه، يظهر وجهها مما سبق. وعلى الأخير يحتمل القرعة في إخراج المكره
عليه، ويحتمل تخيير المكره - بالفتح - في فسخ أحدهما.
وربما يتفق صدور بعض المعاملات من الناس حياء عمن أرادها - كما هو
طريقة الناس غالبا - والظاهر: أن الحياء ليس من باب الإكراه وإن بلغ ما بلغ، لأن
طلب رضا الملتمس من المقاصد المعتد بها، ولا يرضى الفاعل بذلك إلا لغرض
وداع له فيه، وهذا غير معنى الإكراه. وفي كلام بعضهم: أنه عد من الإكراه (1) وليس
بجيد جدا.

(1) لم نظفر عليه.
741

(العنوان الرابع والتسعون)
(أصالة الصحة في فعل المسلم وقوله)
743

عنوان
] 49 [
أفعال المسلمين وأقوالهم محمولة على الصحة والصدق، وهذا المضمون نقل
عليه الإجماع حد الاستفاضة، والظاهر أنه صار من الضروريات، حيث اشتهر في
ألسنة العوام والنساء. وليس مما يحتاج إلى إقامة الحجة، وإنما البحث في المراد
منها، لما صعب على بعض المتأخرين (1) ذلك واستشكل فيه، مع أنه من
الضروريات على الظاهر.
ومما يدل على ذلك - مضافا إلى الإجماع - أن الغالب في فعل المسلمين
وأقوالهم الصحة بلا شبهة، وكلما شك فيه فيحمل على الغالب.
وما ورد في بعض المقامات من النصوص الخاصة، كالأخبار الدالة على قبول
(قول ذي اليد) في باب الطهارة والنجاسة (2) وفي باب التذكية (3).
وما دل على أن كل ذي عمل مؤتمن (4) وظاهره أنه كلما يقول في ذلك فقوله

(1) الظاهر أن المراد به: هو المحقق السبزواري في الكفاية: 76.
(2) راجع الوسائل 2: 1069، الباب 47 من أبواب النجاسات، ح 3 و 4، والباب 50 منها.
(3) راجع الوسائل 16: 294، الباب 29 من الصيد والذبائح، وراجع البحار 80: 82.
(4) لم نعثر على خبر بذلك المضمون، وقد عبر عنه المحقق النراقي قدس سره ب‍ (قاعدة كل ذي عمل
مؤتمن في عمله) عوائد الأيام: 74، العنوان: 23.
744

مسموع في حقه ولا يفعل إلا ما هو مقتضى الأمانة. وليس المراد به الأخبار، وإلا
لزم الكذب، بل المراد: بيان أن البناء ينبغي أن يكون على ذلك حتى يعلم خلافه،
فيكون في مقام تأسيس القاعدة وبيان الحكم الشرعي.
وما دل من الآيات والأخبار وغيرها من الأدلة على حجية خبر العدل أو
مطلقا بعد التبين في الأحكام الشرعية كما عليه العمل الان.
وما ورد في قبول شهادة الرجل أو المرأة في بعض المقامات منفردا أو
منضما (1) كما هو الغالب.
وما مر من القاعدة المشار إليها سابقا: أن الشئ الذي لا يعلم إلا من قبله
يسمع قوله فيه (2) وما ذكرنا فيه من النص الوارد في خصوص النساء وتصديقهن
في أمر العدة والحيض ونحو ذلك، فإن هذه الموارد وإن كانت موارد خاصة لكنها
تؤيد سماع القول والحمل على الصحة.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى: اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم (3)
فإن ظاهره أن ظن السوء على المسلم إثم، وليس معناه إلا البناء في أفعاله وأقواله
على الصحة.
وما ورد من الروايات على أن من حق المؤمن على المؤمن أن لا يكذبه في
كلامه (4). وما ورد من الروايات على الأمر بوضع أمر الأخ المسلم على أحسنه (5).
وما دل على أن قول المسلم يجب قبوله (6). وما دل على أن اتهام المسلم والمؤمن
حرام (7). وما دل على أن المؤمن وحده حجة يعمل بقوله (8). وما دل على تحريم

(1) انظر الوسائل 18: 192، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، والباب 15 منها.
(2) راجع العنوان: 79.
(3) الحجرات: 12.
(4) الوسائل 8: 543، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، ح 4 و 10.
(5) الوسائل 8: 614، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، ح 3.
(6) لم نعثر عليه.
(7) راجع الوسائل 8: 613، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة.
(8) ما ظفرنا عليه هو ما عن النبي صلى الله عليه وآله: (المؤمن وحده حجة والمؤمن وحده جماعة)
الوسائل 5: 380، الباب 4 من أبواب صلاة الجماعة، ح 5.
745

إضمار السوء على الأخ المسلم (1). وما دل على أن ظن السوء واجب الترك (2).
وما دل على أن التكذيب لا يجوز (3).
قال المعاصر النراقي في عوائده: أن عدم ظن السوء وعدم التكذيب لا يفيد (4)
المدعى، لأنه أعم من الحمل على الصحة، وما دل على التصديق مع ضعفه وعدم
الجابر مطلق يتقيد بما دل على المقيد فلا يبقى فيه إطلاق، ونقل رواية موثقة فيها:
أن شرط أداء حق الاخوة كونه (إذا عامل لم يظلم وإذا حدث لم يكذب وإذا وعد
لم يخلف) (5) وقال: إن هذا الخبر يدل على شرطية ذلك المستلزم انتفاؤه انتفاء
وجوب أداء الحق. ونقل الصحيحة المشار إليها في بحث العدالة، وفيها: (أن يكون
ساترا لجميع عيوبه، حتى يحرم على المسلمين تفتيش وراء ذلك من عثراته
وعيوبه، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس) (6) وقال: إن هذا يدل على
أن هذا لو لم يكن كذلك لم تجب تزكيته. ونقل رواية الثمالي الدالة على عدم العبر ة
بالمستحق للتهمة (7) وقال: ظاهره الفاسق أو المظنون في حقه ذلك. ونقل المرسل
الدال على النهي عن مصاحبة الفاسق (8) وأشار إلى الأخبار الدالة على نفي
الإيمان والإسلام أو التشيع عن بعض الفساق (9) بل من هو أعلى منه (10). ونقل

(1) الوسائل 8: 611، 159 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.
(2) الوسائل 8: 614، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، ذيل ح 3.
(3) كذا، والمناسب: لا يفيدان.
(4) كذا، والمناسب: لا يفيدان.
(5) الوسائل 8: 597، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 2.
(6) الوسائل 18: 288، الباب 41 من أبواب الشهادات، ح 1.
(7) الوسائل 11: 137، الباب 3 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح 1، قوله (عليه السلام): وحق
الناصح...
(8) الوسائل 8: 419، الباب 17 من أبواب أحكام العشرة، ح 1.
(9) مثل ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): " لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن " البحار 69:
63، ح 7 و 8.
(10) مثل ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " البحار 71: 198،
ح 26. وما ورد عن الكاظم (عليه السلام) في وصيته لهشام لا دين لمن لا مروة له "
البحار 1: 141، ح 30. وراجع الكافي 2: 226، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، وص 242
باب قلة عدد المؤمنين.
746

ما ورد في الخبر: أنه إذا كان الجور أغلب من الحق لا يحل لأحد أن يظن بأحد
خيرا حتى يعرف ذلك منه (1).
ثم قال: ولم يتحصل من ذلك كله إلا الجزئية. والإجماع على الكلية غير
ثابت، للاختلاف في كثير من المقامات: كالشهادات، والروايات، والأخبار،
وأقوال ذي اليد، والعمل في الطهارة والنجاسة، والمنازعات، والمطاعم،
والمشارب، فيختلفون فيه ولا يتمسكون بالقاعدة إلا في قليل.
ثم قال: والاستقراء معارض بمثله، والأخبار الخاصة في المقامات يعارضها
أكثر منها في مقامات اخر فلا دليل على الكلية. هذا مجمل كلامه زيد في إكرامه (2).
ولا يخفى أن ظاهر الأصحاب كون حمل أفعال المسلمين على الصحة من
الضروريات، ولو كان لذلك مخصص لنبهوا عليه، فلابد من التأمل في المراد حتى
يرتفع هذا الإشكال.
فنقول: لو كان المراد من هذا الأصل: أن المسلم إذا فعل فعلا أو ذكر قولا
فينبغي أن يبنى على أنه هو الواقع فيكون فعله مبنيا للواقع حتى يعلم خلافه
وكذلك قوله، فهذا المعنى قابل لوجهين:
أحدهما: أنه يبنى على كونه الواقع بالنسبة إلى نفس الفاعل، بمعنى كون الواقع
عنده ذلك، فيكون غير مخطئ في فعله ولا كاذب في قوله، فيبنى في كل ذلك على
أنه ذكر وفعل ما هو الواقع عنده، سواء كان واقعا في الواقع أو خطأ أو نسيانا أو
غير ذلك، فيكون حملا لرفع الإثم والمعصية عن المسلم، بمعنى: أن كل ما رأيت
من المسلم فعلا أو قولا فلا تبادر إلى قدحه وإلى تكذيبه، بل كل ما يمكن أن يكون
له احتمال صحته فابن عليه، فإن كان للموضوع قيود وخصوصيات محتملة رافعة

(1) الوسائل 13: 233، الباب 9 من أبواب أحكام الوديعة، ح 2.
(2) عوائد الأيام: 75 - 78، العائدة: 23.
747

للمعصية والأثم فاحمل على أحدها، وإلا فعلى الخطأ في الاعتقاد، مثلا: إذا رأيت
أحدا يأكل في نهار شهر رمضان فيحتمل كونه مسافرا، وإلا فيحتمل كونه يخاف
على نفسه من ضرر، وإلا فيحتمل كونه مكرها - وإن كانت امرأة يحتمل كونها
حائضا - وإلا فيحتمل عدم كونه عالما بأن هذا شهر رمضان، لبعده عن البلد ونحو
ذلك، وإلا فيحتمل أن لا يكون عالما بوجوب صوم شهر رمضان، كما لو كان جديد
الإسلام واحتمل ذلك منه، وإلا فيحتمل اعتقاده أن الأكل لا يفسد الصوم، أو أكل
الفاكهة أو التمر مثلا، أو العلف الغير المعتاد ونحو ذلك، ويحتمل كونه ناسيا عن
كونه صائما كما يتفق غالبا، أو ناسيا عن كون هذا شهر رمضان فتخيل أنه صوم
مندوب، أو قضاء يجوز إفطاره قبل الزوال ونحو ذلك، فإن هذه كلها احتمالات
يدفع بها ظن السوء ويبنى على الصحة.
ويدل على هذا المعنى ما ذكره المجلسي رحمه الله في البحار في قضايا
أمير المؤمنين عليه السلام أنه ورد عليه قوم يأكلون في نهار شهر رمضان، فسألهم عن
السفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار، فلما أقروا بانتفاء الكل قام فحدهم (1).
وهذا المعنى هو ظاهر قولنا: (يحمل فعل المسلم على الصحة) وهو الذي
يتبادر منه إلى الأذهان ويدل عليه الآية (2).
وما دل على عدم التكذيب يكون معنى ذلك: أنه لا يبنى على كونه كاذبا
عاصيا، وأما أنه يبنى على كون الكلام مطابقا للواقع حقا - بتقريب أن عدم
التكذيب عبارة عن التصديق والقول بأن كلامك مطابق للواقع - فغير مستفاد من
الخبر، بل لا ريب أن الساكت والمتردد أيضا يقال له: إنه ما كذب الخبر، وإن كان لم
يصدق أيضا. واحتمال الخطأ في الخبر وعدم الوثوق به ليس تكذيبا لقائله عرفا،
بل المتبادر من (التكذيب) نسبته إلى الكذب عن عمد الذي هو المعصية، لا مجرد
مخالفته للواقع ولو كان عن خطأ أو نسيان. ويدل على هذا المعنى ما دل من

(1) البحار 40: 288، ح 64.
(2) قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم الحجرات: 12.
748

الآيات والأخبار على مذمة الكذب وكون اللعنة على الكاذب، فتدبر جدا.
وهو المراد أيضا من وضع أمر الأخ المسلم على أحسنه، لظهوره في الحمل
على أجود المحتملات، لافرض كونه واقعا فلابد من ترتيب كل أثر عليه، بل
مجرد رفع العصيان عن الفاعل.
وكذا ما دل على حرمة التهمة - وهو ظن السوء - فإن ما ظاهره الخلاف إذا
وجب حمله على الصحيح فكيف بالظن من دون أمارة ظاهرة؟ وكذا المراد من
عدم إضمار السوء.
نعم، ما دل على وجوب العمل بقول المؤمن وأنه حجة لا يلائم هذا المعنى
الذي ذكرناه، وإنما هو ملائم للمعنى الآتي، وسيأتي الكلام في اعتباره.
وما ذكره (1) من المعارضات لا يرد شئ منها على هذا المعنى، لأن اشتراط
أداء حق الاخوة بهذه الأمور الثلاثة لا يدل على أن من كان على خلاف ذلك
فلا يحرم فيه ظن السوء، بل لا يجب أداء حق الاخوة، وهو غير المراد. ولا دليل فيه
على جميع الحقوق حتى نقول: إن ظن السوء منه، مضافا إلى أنه مشعر بالحيثية،
فإنه إذا وعد وخالف وحدث وكذب، فلا وجه حينئذ لحمل قوله على الصدق بعد
العلم بكذبه ومخالفته. ولا دلالة في الخبر (2) على أن من كذب في حديث أو خالف
في وعد فلا بأس بظن السوء فيه ولا احترام له، وذلك واضح عند من تأمل،
والظاهر من سياق الخبر غير ذلك قطعا.
والصحيح في العدالة (3) إنما يدل على أن من لم يكن ساترا لجميع عيوبه
لا يحرم على المسلمين التفتيش ولا يجب عليهم التزكية، والقيد إنما هو للمجموع
المركب لا لكل واحد، وليس يفيد أنه إذا أظهر بعض عيوبه حل للمسلمين التفتيش
عن الباقي، وعدم وجوب التزكية لا يستلزم التفتيش وظن السوء، غايته: يكون
مجهول الحال، أو يكون فاسقا بما أظهر من عيبه، لا أنه يسند إليه ما سواه أيضا،

(1) أي: الفاضل النراقي في كلامه المتقدم.
(2) تقدم في ص: 746.
(3) يعني صحيحة ابن أبي يعفور الواردة في بيان العدالة، الوسائل 18: 288، الباب 41 من
أبواب الشهادات، ح 1.
749

وهذا لادخل له في الحمل على الصحة أبدا عند الأنصاف.
وعدم العبرة بمستحق التهمة يقضي بأن الإنسان إذا عرض نفسه للتهمة ولم
يتق مواقعها فهو فاسق، لأن الاتقاء من مواقع التهمة أيضا من الواجبات التي من
تركها يفسق بذلك، لا أنه يسند إليه ما لم يعلم منه، ولا منافاة بين كونه مخالفا
للشرع في عدم الاتقاء عن موضع التهمة ولزوم عدم ظن السوء في حقه لغيره.
وما دل على أن الفاسق ليس بمؤمن ولا مسلم لا يدل على عدم لزوم حمل
فعله على الصحة، إذ لا ريب في إرادة الإيمان والإسلام الكامل، للقطع بجريان
جميع أحكام الإسلام والإيمان على الفاسق. وما ورد من الآيات في حصر
المؤمن على أشخاص (1) لا تتفق إلا في آحاد العدول أيضا قاض بإرادة الكامل،
بل ما ورد من الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذكر صفات المؤمن (2) يقضي بعد م
وجود مؤمن غير المعصوم، ومثل ذلك ليس مناط الاستنباط للفقيه في المسائل،
فتبصر.
وما دل من الخبر على عدم الاعتماد إلا مع معرفة الصلاح والخير، فلا يدل
على جواز ظن السوء، أو عدم الحمل على الصحة في المجهول الحال، بل غايته:
أنك لا تعتمد ولا تجترئ على ذمه وظن السوء به بما رأيت منه ما خالف الشرع
باعتقادك، إذ لعله معذور في ذلك.
وما ذكره من اختلاف الأصحاب في هذا الباب في مقامات قد عرفت أن شيئا
منها لادخل لها على هذا المعنى الذي ذكرناه، إذ عدم المعصية (3) لا يستلزم كونه
في الواقع كذلك.

(1) مثل قوله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم... الأنفال: 2. إلى غير
ذلك من الآيات.
(2) الكافي 2: 226، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح 1.
(3) كذا في النسخ، والصواب: عدم التمسك. وهذه إشارة إلى ما تقدم نقله عن المحقق
النراقي قدس سره: من عدم ثبوت الإجماع على كلية القاعدة، راجع ص: 747.
750

وثانيهما: أن يكون المراد: بناء كون قوله على وفق الواقع واقعا وفعله على
طبق الشرع واقعا، ولازمه ترتيب جميع الآثار عليه في نظر الغير ما لم يعلم بعيبه
تعبدا.
وهذا المعنى أيضا ظاهر من بعض أخبار المقام وأدلة الباب، كما أشرنا إليه.
وما ذكره (1) من المعارضات أيضا بعد معونة ما أشرنا إليه لا يعارض ذلك إلا في
بعض ما مر. ولكن هذا المعنى غير معهود من الأصحاب، إذ لم يجعل أحد منهم فعل
المسلم بمجرده وقوله دليلا على الواقع، بمعنى: كون صدور ذلك من المسلم كافيا
في الحكم فيما اشتبه حكمه في الشرع.
نعم، لو كان هناك صورتان: إحداهما موافقة للشرع صحيحة، والأخرى
مخالفة له فاسدة، وقد علم حكمهما من الشرع ولم يعلم أن هذا الفعل الصادر عن
المسلم من أي الصورتين فيبنى أنه في الواقع من أفراد الصورة الصحيحة دون
الفاسدة. وبعبارة أخرى: إذا فعل المسلم فعلا - كمن ترك في الصلاة جزءا، أو
احتقن بالمائع في شهر رمضان، أو ابتاع مالا بمال - فإن كان هذا الفرض من
مشتبه الحكم شرعا ففعل المسلم لا يكون دليلا على صحته في الواقع والتمسك
بسيرة الناس لكشفه عن تقرير المعصوم. وإن كان مما اشتبه موضوعه بعد العلم
بوجود فرض صحة لهذا الفعل وفرض فساد فيبنى على الصحة، وبمعناه الحل
والحرمة. وهذا لا مانع منه، والحكم بأن هذا من الفروض الصحيحة المحللة واقعا
لا معارض له في شئ مما ذكره من النصوص، كما لا يخفى على من راجع.
والأصحاب لم يعرضوا عن هذا المعنى إلا في باب التنازع والخلاف، وإلا ففي
ما عدا ذلك عملوا به، وفي باب الشهادة دل الدليل على التعدد، أو أنهم لم يعملوا
بكون القول كاشفا عن الواقع مطلقا، أو لأنهم فهموا من ذلك الخلو عن المعارض،
وفي مقام التنازع يتعارض القولان ويتساقطان ويحتاج إلى شئ آخر.

(1) يعني: الفاضل النراقي قدس سره في كلامه المتقدم.
751

(فائدة)
(حول قاعدة: يحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب)
753

فائدة نختم بها الكلام
مما أفادنا شيخنا المحقق وإمامنا المدقق الشيخ علي بن جعفر الغروي - من
الله علينا بطول بقائه، كما شرفنا بيمن لقائه عند قرائتنا عليه في النكاح - في
قوله صلى الله عليه وآله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1).
وهي: أنه لا ريب أن النسب له أحكام كثيرة منتشرة في أبواب الفقه، كتحريم
النكاح، وعدم الربا بين الوالد والولد، وعدم القود من الوالد لولده، وعدم صحة
نكاح موطوءة الأب على الابن، وكذا المنظورة والملموسة - على خلاف في محله -
وكذا في العكس، وتحريم الزوجة بالتشبيه بظهر الام إلى أن يجئ بما يجب عليه،
ولزوم إطاعة الوالدين في السفر والجهاد وغير ذلك، وتحريم العقوق والتأفيف،
ونحو ذلك من تحريم تملك الأقارب للرجال والنساء على التفصيل المذكور
في محله.
فهل الظاهر من قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) كون الرضاع
كالنسب في جميع ذلك فيكون خروج ما خرج محتاجا إلى الدليل، أو الظاهر منه
خصوص باب النكاح - كما ذكره الأصحاب - فلا يسري إلى سائر المقامات؟
الظاهر عدم التعميم فيه، كما يشعر به ذكر الأصحاب له في باب النكاح وعدم

(1) الوسائل 14: 280، الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح 1، والأخبار بهذا المعنى
مستفيضة.
754

إجرائهم أحكام النسب على الرضاع في غير باب. ولا يبعد أن يدعى عرفا أيضا
أن هذه العبارة تنصرف إلى النكاح وإن كان اللفظ أعم من ذلك، خصوصا بعد
ملاحظة ما في الروايات الواردة في تحريم النكاح المذكور فيه هذه العبارة، فإنها
دالة على كون المراد منها خصوص حرمة النكاح، مضافا إلى استلزام الحمل على
العموم لزوم تخصيص الأكثر.
ثم بعد ذلك اعترض (1) على ذلك بأن الأصحاب أفتوا بحكم الرضاع كالنسب
في باب العتق، فلا يملك من الرضاع مالا يملك من النسب - بمعنى عدم الاستقرار -
ولم يخالف منهم إلا قليل، فما الوجه في ذلك؟ وعمدة الإشكال: أنهم اعتمدوا في
ذلك على أدلة خاصة وروايات، منها: روايتان مذكورتان في تحريم تملك
الأقارب الرضاعية، معللا بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2). فلو أمكننا
الجواب عن فتوى الأصحاب بأنه لعله من دليل خاص لادخل له بهذا العموم، ولو
كان فيهم من تمسك بهذا العموم فإنما هو تأييد وإرشاد، لا استدلال واعتماد، فلا
يمكننا الجواب عن الخبرين اللذين هما العمدة في الباب وفيهما علل بعموم الخبر،
ولا ريب أن استدلال الإمام لا يخلو عن دلالة على عموم القاعدة. ولقد رأيت
الروايات في المختلف نقلها في باب الرضاع في أوائل النكاح (3) ولكن من جهة
كون النسخة مغلوطة غير معتمد عليها تركت نقلها بمتنها.
ثم أجاب عن ذلك:
إما باحتمال كون هذا الاستدلال من الإمام عليه السلام تقريبا إلى الذهن مقصودا به
التشبيه، لا دخول المقام تحت العموم في الحقيقة، بل الغرض أن كما حرم في
النكاح ما فيه الرضاع كالنسب فأي مانع من أن يكون في العتق كذلك؟ فالمراد به
التشبيه، دفعا للاستبعاد، فلا يلزم دخول المورد تحته، فضلا عن التسري إلى

(1) بصيغة المعلوم، والمراد به هو أستاذ المؤلف - قدس سرهما - المتقدم ذكره في أول البحث.
(2) الوسائل 14: 307، الباب 17 من أبواب ما يحرم بالرضاع.
(3) المختلف: 521.
755

مقامات اخر.
وإما باحتمال أن يكون هذا حكمة لا علة، والحكمة لا يلزم فيها الاطراد،
فيكون ما نحن فيه داخلا في التحريم والعموم، ولا يلزم من ذلك كون ذلك هو العلة
فيتسرى إلى الأبواب الأخر أيضا.
وإما بأن يقال: إن الحديث الواحد ينحل إلى أحاديث متعددة، فيؤخذ بصدر
الخبرين ويترك ما فيه من التعليل، لعدم مصادفة (1) فهم العرف له، وعدم جبره
بالفتوى، وعدم العلم بالصدور، لا أن كلمة المعصوم ليست حجة في فهم الخطاب،
فلا تغفل وتدبر.
وقد خطر بالبال في ذلك المجال كلام في حل ذلك الإشكال وقلت: إنه يمكن
أن يكون باب العتق والنكاح داخلين تحت العموم وما عداهما خارجين، وليس
الطريق منحصرا في اختصاصه بالنكاح أو تعميمه للكل حتى يلزم المحذور.
وبيانه بأن يقال: إن المراد ب‍ (ما يحرم) إنما هو الأعيان الخارجية، وهي
الأقارب من النسب والرضاع، وتحريم الأعيان والأشخاص يرجع إلى الصفة
الظاهرة في تلك الأعيان، ولا ريب أن ذلك في النساء: النكاح، وفي المماليك:
الاستخدام والملك، فلو قيل: يحرم هذه الأعيان، يفهم منه: أنهم إن كانوا نساءا
فيحرم نكاحهم، وإن كانوا مماليك فيحرم تملكهم واستخدامهم - على ما ذكره
الأصوليون في باب المجمل والمبين في نظير المسألة - وأما تحريم زوجة الأب
أو عدم القصاص أو عدم الربا أو عدم جواز السفر والجهاد - ونحو ذلك - فليس
من الصفات القائمة بأعيان الأقارب وأشخاصها حتى يتعلق بها التحريم، وذلك
واضح، ولذلك أن من الأصحاب في باب الظهار أيضا من قال بالتحريم بالتشبيه
على الأخت أو الام من الرضاعة استدل بهذا العموم (2) فإن ذلك أيضا مما يتعلق
بأبدان هذه الأشخاص وأعيانهم، لا بأمور خارجة متعلقة بهم تعلقا بعيدا.

(1) كذا، والظاهر: مصادقة.
(2) منهم الشيخ في المبسوط 5: 149 - 150.
756

فصار الحاصل: أن هذه القاعدة إنما هي في ما يتعلق بالأبدان في كل مقام
بحسبه، فتدبر.
وفي هذه القاعدة أبحاث من حيث الشرائط وغيرها ووجود التخصيص
وعدمه، مذكورة في كتب الفروع لا حاجة إلى ذكرها.
وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الأوراق.
وقد وقع الفراغ من تصنيف هذه النسخة بيد مؤلفها المفتقر إلى رحمة الله،
المتحسر على ما فرط في جنب مولاه عبد الفتاح بن علي المراغي الحسيني في
عصر اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك، من سنة ست وأربعين
بعد ألف ومائتين من الهجرة النبوية - على مهاجرها السلام والتحية - في أرض
الغري مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام لافرق الله بيني وبينه في الدارين، ورزقني به
ما تقر به العين.
وحيث إن هذه الكتابة قد اتفقت مع قلة البضاعة وكثرة الإضاعة وضيق
المجال واختلال البال، فالمرجو من الرب الكريم أن يبدل ما فيها من السيئات
حسنات، ويجعله وسيلة إلى رفع الدرجات، إنه مقيل العثرات، راحم العبرات.
ونلتمس من الإخوان الإصلاح على حسب الإمكان، والتأمل في أطراف
الكلام حتى ينكشف اللثام.
والحمد لله حق حمده على الإنعام
والصلاة على محمد وآله
سادات الأنام.
757