الكتاب: الشرح الكبير
المؤلف: عبد الرحمن بن قدامه
الجزء: ٢
الوفاة: ٦٨٢
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

الشرح الكبير
على متن المقنع، تأليف الشيخ الإمام (شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد
ابن قدامة المقدسي) المتوفى سنة 682 ه‍ كلاهما على مذهب إمام الأئمة (أبي عبد الله أحمد بن محمد بن
حنبل الشيباني) مع بيان خلاف سائر الأئمة وأدلتهم رضي الله عنهم
(الجزء الثاني)
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين
* (باب صلاة الجماعة) *
* (مسألة) * (وهي واجبة للصلوات الخمس على الرجال لا شرطا) الجماعة واجبة على الرجال
المكلفين لكل صلاة مكتوبة، روي نحو ذلك عن ابن مسعود وأبي موسى وبه قال عطاء والأوزاعي
وأبو ثور، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي لا تجب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " تفضل
صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة " متفق عليه ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على
اللذين قالا قد صلينا في رحالنا ولو كانت واجبة لأنكر عليهما، ولأنها لو كانت واجبة لكانت شرطا لها كالجمعة
ولنا قوله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) الآية ولو لم تكن واجبة لرخص فيها حالة
الخوف ولم يجز الاخلال بواجبات الصلاة من أجلها وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب ليحطب (1) ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا
فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم " متفق عليه، وفيه ما يدل
على أنه أراد الجماعة لأنه لو أراد الجمعة لما هم بالتخلف عنها، وعن أبي هريرة قال أتى النبي صلى الله

(1) بدون تاء وفي المغني بالتاء وهما روايتان من عدة روايات للبخاري
2

عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأله أن يرخص له أن يصلي
في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال " أتسمع النداء بالصلاة؟ " قال نعم قال " فأجب " رواه مسلم.
وإذا لم يرخص للأعمى الذي لا قائد له فغيره أولى
قال ابن المنذر وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن أم مكتوم " لا أجد لك رخصة " يعني في
التخلف عن الجماعة. وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من ثلاثة في قرية أو بلد
لا تقام فيه الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية " وفي حديث
مالك ابن الحويرث " إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما " ولمسلم " إذا كانوا ثلاثة
فليؤمهم أحدهم " أمر وظاهر الامر الوجوب
* (فصل) * وليست شرطا لصحة الصلاة نص عليه أحمد وقال ابن عقيل تشترط في أحد الوجهين
قال وهو الصحيح عندي لما ذكرنا من الأدلة. قال شيخنا وهذا ليس بصحيح للحديثين اللذين
ذكرناهما في حجة الخصم ولا نعلم أحدا قال بوجوب الإعادة على من صلى وحده إلا أنه قد روي
عن جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود انهم قالوا: من سمع الندا من غير عذر فلا صلاة له
* (فصل) * وتنعقد باثنين فصاعدا بغير خلاف علمناه لما روى أبو موسى ان النبي صلى الله عليه
3

وسلم قال " الاثنان فما فوقهما جماعة " رواه ابن ماجة ولحديث مالك بن الحويرث، وقد أم النبي صلى الله
عليه وسلم ابن عباس مرة وحذيفة مرة ولو أم الرجل عبده أو زوجته أدرك فضيلة الجماعة وإن أم
صبيا جاز في التطوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أم ابن عباس وهو صبي وإن أمه في الفرض
فقال أحمد لا تنعقد به الجماعة لأنه لا يصلح أن يكون إماما فيها وعنه يصح ذكرها الآمدي
كما لو أم بالغا متنفلا
* (مسألة) * (وله فعلها في بيته في أصح الروايتين). ويجوز فعل الجماعة في البيت والصحراء
في الصحيح من المذهب وعنه أن حضور المسجد واجب على القريب منه لأنه روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد "
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته
الصلاة فليصل " متفق عليه والحديث الذي ذكروه لا نعرفه إلا من قول علي نفسه كذلك رواه سعيد
والظاهر أنه إنما أراد الجماعة فعبر بالمسجد عنها لأنه محلها ويجوز أن يكون أراد الكمال والفضيلة فإن
الأخبار الصحيحة دالة على صحة الصلاة في غير المسجد والله أعلم
* (فصل) * ويستحب لأهل الثغر الاجتماع في مسجد واحد لأنه أعلى للكلمة وأوقع للهيبة فإذا
جاءهم خبر عن عدوهم سمع جميعهم، وكذلك إذا أرادوا التشاور في أمر، وإن جاء عين للكفار
أخبر بكثرتهم. قال الأوزاعي لو كان الامر إلي لسمرت أبواب المساجد التي للثغور ليجتمع
الناس في مسجد واحد.
* (مسألة) * (والأفضل لغيرهم الصلاة في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره) لأنه يعمره
4

بإقامة الجماعة فيه ويحصلها لمن يصلي فيه فيحصل له ثواب عمارة المسجد ويحضلها لمن لا يصلي فيه وذلك
معدوم في غيره، وكذلك إن كانت تقام فيه مع غيبته إلا أن في قصد غيره كسر قلب إمامه
وجماعته فجبر قلوبهم أولى
* (مسألة) * (ثم ما كان أكثر جماعة ثم في المسجد العتيق) فإن عدم ما ذكرنا في المسألة التي
قبلها ففعلها فيما كان أكثر جماعة أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الرجل مع الرجل أزكى
من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله
تعالى " رواه الإمام أحمد في المسند فإن تساويا في الجماعة فالمسجد العتيق أفضل لأن الطاعة فيه
أسبق والعبادة فيه أكثر. وذكر أبو الخطاب أن فعلها في المسجد العتيق أفضل وان قل الجمع فيه
لذلك والأول أولى لما ذكرنا من الحديث
* (مسألة) * (وهل الأولى قصد الابعد أو الأقرب) على روايتين. إحداهما قصد الابعد
أفضل لتكثر خطاه في طلب الثواب فتكثر حسناته ولما روى أبو موسى قال قال النبي صلى الله عليه
وسلم " أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى " رواه البخاري
والثانية قصد الأقرب لأن له جوارا فكان أحق بصلاته كما أن الجار أحق بهدية جاره ومعروفه
لقوله عليه السلام " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد "
* (مسألة) * (ولا يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا باذنه) لأن الإمام الراتب بمنزلة صاحب
البيت وهو أحق لقوله عليه السلام " لا يؤمن الرجل الرجل في بيته إلا باذنه "
وقد روي عن ابن عمر انه أتى أرضا وعندها مسجد يصلي فيه مولى لابن عمر فصلى معهم فسألوه
أن يصلي بهم فأبى وقال صاحب المسجد أحق، إلا أن يتأخر لعذر فيصلي غيره لأن أبا بكر صلى حين
غاب النبي صلى الله عليه وسلم وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أحسنتم "
* (مسألة) * (فإن لم يعلم عذره انتظر وروسل) إلا أن يخشى خروج الوقت فيقدم غيره لئلا
يفوت الوقت
5

* (مسألة) * (فإن صلى ثم أقيمت الصلاة وهو في المسجد استحب له اعادتها إلا المغرب فإنه
يعيدها ويشفعها برابعة) من صلى فريضة ثم أدرك تلك الصلاة في جماعة استحب له اعادتها أي صلاة
كانت إذا كان في المسجد أو دخل المسجد وهم يصلون وهذا قول الحسن والشافعي سواء كان صلاها
منفردا أو في جماعة، وسواء كان مع إمام الحي أو لا. هذا ظاهر كلام أحمد فيما حكاه عنه الأثرم والخرقي
قال القاضي وإن كان مع إمام الحي استحب له وإن كان مع غير إمام الحي استحب له إعادة ما سوى
الفجر والعصر. وقال أبو الخطاب يستحب له الإعادة مع إمام الحي. وقال مالك إن كان صلى وحده
أعاد المغرب وإلا فلا لأن الحديث الدال على الإعادة قال فيه صلينا في رحالنا. وقال أبو حنيفة
لا تعاد الفجر ولا العصر ولا المغرب لعموم أحاديث النهي ولان التطوع لا يكون بوتر. وعن
ابن عمر والنخعي تعاد الصلوات كلها إلا الصبح والمغرب. وقال أبو موسى والثوري والأوزاعي
تعاد كلها إلا المغرب لما ذكرنا وقال الحكم إلا الصبح وحدها. ولنا حديث يزيد بن الأسود
الذي ذكرناه وحديث أبي ذر وهي تدل على محل النزاع وحديث يزيد بن الأسود صريح في صلاة
الفجر والعصر في معناها ويدل أيضا على الإعادة سواء كان مع إمام الحي أو غيره وعلى جميع الصلوات
وقد روى أنس قال صلى بنا أبو موسى الغداة في المربد فانتهينا إلى المسجد الجامع فأقيمت الصلاة
فصلينا مع المغيرة بن شعبة. وعن حذيفة انه أعاد الظهر والعصر والمغرب وكان قد صلاهن في
جماعة رواهما الأثرم
* (فصل) * فأما المغرب ففي استحباب اعادتها روايتان. إحداهما يستحب قياسا على سائر
الصلوات لما ذكرنا من عموم الأحاديث. والثانية لا يستحب حكاها أبو الخطاب لأن التطوع لا يكون
بوتر فإن قلنا تستحب اعادتها شفعها برابعة نص عليه أحمد وبه قال الأسود بن يزيد والزهري والشافعي
واسحق لما ذكرنا، وروى صلة (1) عن حذيفة أنه قال لما أعاد المغرب قال ذهبت أقوم في الثانية فأجلسني
وهذا يحتمل أن يكون أمره بالاقتصار على ركعتين ويحتمل ان أمره بالصلاة مثل صلاة الإمام
ووجه الأول ان النافلة لا تشرع بوتر والزيادة أولى من النقصان

(1) هو بكسر ففتح ابن زفر تابعي ثقة
6

* (فصل) * فإن أقيمت الصلاة وهو خارج المسجد فإن كان في وقت نهي لم يستحب له الدخول
لما روى مجاهد قال خرجت مع ابن عمر من دار عبد الله بن خالد بن أسيد حتى إذا نظر إلى باب
المسجد إذا الناس في الصلاة فلم يزل واقفا حتى صلى الناس وقال إني قد صليت في البيت فإن دخل
وصلى فلا بأس لما ذكرنا من خبر أبي موسى وإن كان في غير وقت النهى استحب له الدخول والصلاة
معهم لعموم الأحاديث الدالة على إعادة الجماعة
* (فصل) * فإذا أعاد الصلاة فالأولى فرضه روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الثوري
وأبي حنيفة واسحق والشافعي في الجديد وعن سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي التي صلى معهم
المكتوبة لأنه روي في حديث يزيد بن الأسود " إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم
وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة "
ولنا أن في الحديث الصحيح " تكن لكما نافلة " وقوله في حديث أبي ذر " فإنها لك نافلة "
ولأنها قد وقعت فريضة وأسقطت الفرض بدليل انها لا تجب ثانيا وإذا برئت الذمة بالأولى استحال
كون الثانية فريضة. قال إبراهيم إذا نوى الرجل صلاة وكتبتها الملائكة فمن يستطيع أن يحولها فما
صلى بعده فهو تطوع، وحديثهم لا تصريح فيه فينبغي أن يحمل معناه على ما في الأحاديث الباقية،
فعلى هذا لا ينوي الثانية فرضا بل ينويها ظهرا معادة وان نواها نفلا صح
* (فصل) * ولا تجب الإعادة رواية واحدة قاله القاضي قال وقد ذكر بعض أصحابنا فيه رواية
انها تجب مع إمام الحي لظاهر الامر، ولنا انها نافلة. والثانية لا تجب وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم " لا تصلى صلاة في يوم مرتين " رواه أبو داود ومعناه والله أعلم واجبتان. ويحمل الامر على
الاستحباب فعلى هذا إذا قصد الإعادة فلم يدرك إلا ركعتين فقال الآمدي يجوز أن يسلم معهم
وأن يتمها أربعا لأنها نافلة والمنصوص انه يتمها أربعا لقوله عليه السلام " وما فاتكم فأتموا "
* (مسألة) * (ولا تكره إعادة الجماعة في غير المساجد الثلاثة) معنى إعادة الجماعة انه إذا صلى
إمام الحي وحضر جماعة أخرى استحب لهم أن يصلوا جماعة وهذا قول ابن مسعود وعطاء والحسن
والنخعي واسحق. وقال مالك والثوري والليث وأبو حنيفة والشافعي لا تعاد الجماعة في مسجد له
7

إمام راتب في غير ممر الناس ومن فاتته الجماعة صلى منفردا لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب والعداوة
والتهاون في الصلاة مع الإمام، ولأنه مسجد له إمام راتب فكره فيه إعادة الجماعة كالمسجد الحرام
ولنا عموم عليه السلام " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة " وروى أبو سعيد
قال جاء رجل - وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال " أيكم يتجر على هذا؟ " فقام
رجل فصلى معه قال الترمذي هذا حديث حسن ورواه الأثرم وفيه فقال " ألا رجل يتصدق على هذا
فيصلي معه؟ " وروى باسناده عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وزاد فلما صليا قال " وهذان
جماعة " ولأنه قادر على الجماعة فاستحب له كالمسجد الذي في ممر الناس وما قاسوا عليه ممنوع
* (فصل) * فأما اعادتها في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى فقد
روي عن أحمد كراهته وذكره أصحابنا لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الإمام الراتب فيها
إذا أمكنتهم الصلاة مع الجماعة مع غيره، وظاهر خبر أبي سعيد وأبي أمامة انه لا يكره لأن الظاهر
أن ذلك كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولان المعنى يقتضيه لأن حصول فضيلة الجماعة
فيها كحصولها في غيرها والله أعلم
* (مسألة) * (وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) متى أقيمت الصلاة المكتوبة لم يشتغل
عنها بغيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " منفق عليه.
وروي ذلك عن أبي هريرة وكان عمر يضرب على صلاة بعد الإقامة وكرهه سعيد بن جبير وابن
سيرين وعروة والشافعي واسحق وأباح قوم ركعتي الفجر والإمام يصلي، روي ذلك عن ابن مسعود
وروي عن ابن عمر انه دخل المسجد والناس في الصلاة فدخل بيت حفصة فصلي ركعتين ثم خرج إلى
8

المسجد فصلى وهذا قول مسروق والحسن، وقال مالك إن لم يخف أن تفوته الركعة فليركع. وقال
الأوزاعي اركعهما ما تيقنت انك تدرك الركعة الأخيرة ونحوه قول أبي حنيفة والأول أولى لما ذكرنا
* (مسألة) * (وإن أقيمت وهو في نافلة أتمها خفيفة) لقول الله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) إلا
أن يخاف فوات الجماعة فيقطعها لأن الفريضة أهم من النافلة وعنه يتمها للآية التي ذكرها
* (فصل) * ومن كبر قبل سلام الإمام فقد أدرك الجماعة. يعني انه يبني عليها ولا يجدد احراما
لأنه أدرك جزءا من صلاة الإمام أشبه ما لو أدرك ركعة ولأنه إذا أدرك جزءا من صلاة الإمام
فأحرم معه لزمه أن ينوي الصفة التي هو عليها وهو كونه مأموما فينبغي أن يدرك فضل الجماعة
* (مسألة) * قال (ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة) لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة " رواه أبو داود (1) ولأنه لم يفته من الأركان إلا القيام وهو يأتي
به مع تكبيرة الاحرام ثم يدرك مع الإمام بقية الركعة وإنما تحصل له الركعة إذا اجتمع مع الإمام في
الركوع بحيث ينتهي إلى قدر الاجزاء من الركوع قبل أن يزول الإمام عن قدر الاجزاء منه فإن
أدرك الركوع ولم يدرك الطمأنينة فعلى وجهين ذكرهما ابن عقيل وعليه أن يأتي بالتكبير في حال قيامه
فأما إن أتى به أو ببعضه بعد أن انتهى في الانحناء إلى قدر الركوع لم يجزئه لأنه أتى بها في غير محلها
ولأنه يفوته القيام وهو من أركان الصلاة إلا في النافلة لأنه لا يشترط لها القيام
* (مسألة) * (وأجزأته تكبيرة واحدة والأفضل اثنتان) وجملة ذلك أن من أدرك الإمام في
الركوع أجزائه تكبيرة واحدة وهي تكبيرة الاحرام التي ذكرناها وهي ركن لا تسقط بحال وتسقط
تكبيرة الركوع ها هنا نص عليه احمد في رواية أبي داود وصالح، روي ذلك (عن) زيد بن ثابت
وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن والثوري والشافعي ومالك وأصحاب الرأي، وعن عمر بن
عبد العزيز عليه تكبيرتان وهو قول حماد بن أبي سليمان
قال شيخنا، والظاهر أنهما أرادا الأولى له تكبيرتان فيكون موافقا لقول الجماعة فإن عمر ابن
عبد العزيز قد نقل عنه انه كان ممن لا يتم التكبير ووجه القول الأول ان هذا قد روي عن زيد ابن
ثابت وابن عمر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة فيكون إجماعا ولأنه اجتمع واجبان من جنس
واحد في محل واحد أحدهما ركن فسقط به الآخر كما لو طاف (في) الحج طواف الزيارة عند خروجه من
مكة فإنه يجزيه عن طواف الوداع وقال القاضي إن نوى بها تكبيرة الاحرام وحدها أجزاه وإن
نواهما لم يجزه في الظاهر من قول أحمد لأنه شرك بين الواجب وغيره في النية أشبه ما لو عطس عند
رفع رأسه من الركوع فقال ربنا ولك الحمد ينويهما فإن أحمد قد نص في هذا انه لا يجزيه وهذا
القول يخالف منصوص احمد فإنه قد قال في رواية ابنه صالح فيمن جاء والإمام راكع كبر تكبيرة

(1) في هامش الأصل ينظر في هذا الحديث فما أظن أبا داود رواه
أقول بل روي من حديث لأبي هريرة " ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة " وقد
فسروا الركعة بالركوع وهو ضعيف في اسناده يحيي المديني قال البخاري منكر
الحديث... وفي الصحيحين عن أبي هريرة " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك
الصلاة " وفي رواية لمسلم زيادة " مع الإمام "
9

واحدة قيل له ينوي بها الافتتاح قال نوى أو لم ينو أليس قد جاء وهو يريد الصلاة ولان نية الركوع
لا تنافي نية الافتتاح ولهذا حكمنا بدخوله في الصلاة بهذه النية ولم تؤثر نية الركوع في فسادها، ولا
يجوز ترك نص الإمام لقياس نصه في موضع آخر كما لا يترك نص الله تعالى وسنة رسوله بالقياس
وهذا لا يشبه ما قاس عليه القاضي فإن التكبيرتين من جملة العبادة بخلاف حمد الله في العطاس فإنه
ليس من جملة الصلاة فقياسه على الطوافين أولى لكونهما من أجزاء العبادة والأفضل تكبيرتان
نص عليه. قال أبو داود قلت لأحمد يكبر مرتين أحب إليك قال إن كبر تكبيرتين ليس فيه اختلاف
وإن نوى تكبيرة الركوع خاصة لم يجزه لأن تكبيرة الاحرام ركن ولم يأت بها
* (فصل) * فإن أدرك الإمام في ركن غير الركوع لم يكبر إلا تكبيرة الافتتاح وينحط بغير
تكبير لأنه لا يعتد له به وقد فاته محل التكبير وإن أدركه في السجود أو في التشهد الأول كبر في حال
قيامه مع الإمام إلى الثالثة لأنه مأموم له فيتابعه في التكبير من أدرك الركعة معه من أولها. وان سلم
الإمام قام المأموم إلى القضاء بتكبير وبه قال مالك والثوري واسحق وقال الشافعي يقوم بغير تكبير
لأنه قد كبر في ابتداء الركعة ولا إمام له يتابعه.
ولنا انه قام في الصلاة إلى ركن معتد به فيكبر كالقائم من التشهد الأول وكما لو قام مع الإمام
ولا نسلم انه كبر في ابتداء الركعة فإن ما كبر فيه لم يكن من الركعة إذ ليس في أول الركعة سجود
ولا تشهد وإنما ابتداء الركعة قيامه فينبغي أن يكبر فيه
* (فصل) * ويستحب لمن أدرك الإمام في حال متابعته فيه وإن لم يعتد له به لما روى أبو هريرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن
أدرك الركوع فقد أدرك الركعة " رواه أبو داود وروى الترمذي عن معاذ قال قال النبي صلى الله
عليه وسلم " إذا جاء أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام " (1) قال الترمذي والعمل على هذا
عند أهل العلم قالوا إذا جاء الرجل والإمام ساجد فليسجد ولا تجزيه تلك الركعة قال بعضهم لعله
أن لا يرفع رأسه من السجدة حتى يغفر له
* (مسألة) * (وما أدرك مع الإمام فهو آخر صلاته وما يقضيه فهو أولها يستفتح له ويتعوذ ويقرأ
السورة) هذا هو المشهور من المذهب، ويروى ذلك عن ابن عمر ومجاهد وابن سيرين ومالك والثوري
وحكي عن الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وما فاتكم فاقضوا " متفق
عليه والمقضي هو الفائت فينبغي أن يكون على صفته. فعلى هذا يستفتح له ويستعيذ ويقرأ السورة
وعنه أن الذي يدرك أول صلاته والمقضي آخرها وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز
واسحق وهو قول الشافعي ورواية عن مالك واختاره ابن المنذر لقوله عليه السلام " وما فاتكم فأتموا "

(1) قال الحافظ في التلخيص فيه ضعف وانقطاع
10

فعلى هذه الرواية لا يستفتح. وأما الاستعاذة فإن قلنا تسن في كل ركعة استعاذ وإلا فلا. وأما
السورة بعد الفاتحة فيقرأها على كل حال
قال شيخنا لا أعلم خلافا بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة وهذا مما يقوي الرواية
الأولى فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب أو الرباعية ففي موضع تشهده روايتان إحداهما يستفتح
ويأتي بركعتين متواليتين ثم يتشهد فعل ذلك جندب لأن المقضي أول صلاته وهذه صفة أولها
ولأنهما ركعتان يقرأ فيهما السورة فكانا متواليتين كغير المسبوق. والثانية يأتي بركعة يقرأ فيها
بالحمد وسورة ثم يجلس ثم يقوم فيأتي بأخرى يقرأ فيها بالحمد وحدها نقلها صالح وأبو داود والأثرم
فعل ذلك مسروق وبه قال عبد الله بن مسعود وهو قول سعيد بن المسيب وأيما فعل من ذلك جاز
إن شاء الله لأنه يروى أن مسروقا وجندبا ذكرا عند عبد الله بن مسعود فصوب فعل مسروق
ولم ينكر فعل جندب ولا أمره بإعادة الصلاة والله أعلم
* (مسألة) * (ولا تجب القراءة على المأموم) هذا قول أكثر أهل العلم وممن كان لا يرى القراءة خلف الإمام
علي وابن عباس وابن مسعود وأبو سعيد وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر وجابر وابن عمر
وحذيفة بن اليمان وبه يقول الثوري وابن عيينة وأصحاب الرأي ومالك والزهري والأسود وإبراهيم
وسعيد بن جبير. قال ابن سيرين لا أعلم من السنة القراءة خلف الإمام وقال الشافعي وداود
تجب القراءة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " متفق عليه
وعن عبادة قال كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال " لعلكم
تقرأون خلف إمامكم؟ " قلنا نعم يا رسول الله قال " لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها "
رواه أبو داود، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها
بأم القرآن فهي خداج فهي خداج غير تمام " قال الراوي فقلت يا أبا هريرة اني أكون أحيانا وراء
الإمام قال فغمزني في ذراعي وقال اقرأ بها في نفسك يا فارسي رواه مسلم، ولأنها ركن من أركان
الصلاة فلم تسقط عن المأموم كسائر الأركان، ولان من لزمه القيام لزمته القراءة إذا قدر عليها
كالمنفرد. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " رواه الحسن
ابن صالح عن ليث بن سليم فإن قيل: ليث بن سليم ضعيف قلنا قد رواه الإمام أحمد: ثنا اسود بن
عامر ثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا اسناد صحيح
متصل رجاله كلهم ثقات، الأسود بن عامر روى له البخاري والحسن بن صالح أدرك أبا الزبير ولد
قبل وفاته بنيف وعشرين سنة وروى من طرق خمسة سوى هذا. وروي أيضا عن ابن عباس وعمران
ابن حصين وأبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجهن الدارقطني ورواه عبد الله بن شداد
11

عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما، وروي عن علي عليه السلام
أنه قال ليس على الفطرة من قرأ خلف الإمام، وقال ابن مسعود وددت ان من قرأ خلف الإمام
ملئ فوه ترابا ولان القراءة لو وجبت على المأموم لما سقطت عن المسبوق كسائر الأركان. وأما
أحاديثهم فالحديث الأول الصحيح محمول على غير المأموم وكذلك حديث أبي هريرة وقد جاء
مصرحا به فروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج
إلا وراء الإمام " رواه الخلال، وقول أبي هريرة اقرأ بها في نفسك من كلامه ورأيه قد خالفه غيره
من الصحابة وحديث عبادة لم يروه غير ابن إسحاق ونافع بن محمود بن الربيع وهو أدنى حالا من
ابن إسحاق وقياسهم على المنفرد لا يصح لأن المنفرد ليس له من يتحمل عنه القراءة بخلاف المأموم
* (مسألة) * (ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وما لا يجهر فيه أو لا يسمعه لبعده فإن لم يسمعه
لطرش فعلى وجهين) وهو قول جماعة من أهل العلم روي نحوه عن عبد الله بن عمر وهو قول مجاهد
والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وعروة وغيرهم قال أبو سلمة بن عبد الرحمن للإمام سكتتان
فاغتنم فيهما القراءة بفاتحة الكتاب إذا دخل في الصلاة وإذا قال ولا الضالين، وقال عروة أما أنا
فأغتنم من الإمام اثنتين إذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأقرأ عندها وحين يختم السورة فاقرءوا
قبل أن يركع، وهذا قول الشافعي، وقالت طائفة لا يقرأ خلف الإمام في سر ولا جهر يروى ذلك عن
تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرناهم في المسألة قبلها رواه سعيد في سننه. وقال
إبراهيم النخعي إنما أحدث الناس القراءة وراء الإمام زمان المختار لأنه كان يصلى بهم صلاة النهار
دون الليل فاتهموه فقرأوا خلفه، وكره إبراهيم القراءة خلف الإمام وقال يكفيك قراءة الإمام
وهذا قول ابن عيينة والثوري وأصحاب الرأي لما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " ولأنه مأموم فلم يقرأ كحالة الجهر
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أسررت بقراءتي فاقرأوا " رواه الدارقطني ولقول الراوي
في الحديث الصحيح فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك رواه
الإمام أحمد وسعيد بن منصور والقياس في حالة الجهر لا يصح لأنه أمر فيها بالانصات لاستماع قراءة الإمام
بخلاف هذا. إذا ثبت هذا فإنه يقرأ في حالة الجهر في سكتات الإمام بالفاتحة وفي حال الاسرار
يقرأ بالفاتحة وسورة كالإمام والمنفرد
* (فصل) * فإن لم يسمع الإمام في حال الجهر لبعده قرأ نص عليه قيل له أليس قد قال الله تعالى
(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال هذا إلى أي شئ يستمع قيل له فالأطروش قال لا أدري
قال شيخنا وهذا ينظر فيه فإن كان بعيدا قرأ أيضا وإن كان قريبا قرأ في نفسه بحيث لا يشتغل من
12

إلى جانبه عن الاستماع لأنه في معنى البعيد ولا يقرأ (إذا) كان يخلط على من يقرب إليه ويشغله
عن الاستماع وفيه وجه آخر لا يقرأ إذا كان قريبا لئلا يخلط على الإمام ولأنه لو كان في موضعه
من يسمع لم يقرأ أشبه السميع، وإن سمع همهمة الإمام ولم يفهم فقال في رواية الجماعة لا يقرأ وقال في
رواية عبد الله يقرأ إذا سمع الحرف بعد الحرف
* (فصل) * ولا يستحب للمأموم القراءة وهو يسمع قراءة الإمام بالحمد ولا بغيرها وبه قال سعيد
ابن المسيب وعروة وأبو سلمة بن عبد الرحمن والزهري وكثير من السلف والثوري وابن عيينة
وابن المبارك وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي والقول الآخر قال يقرأ ونحوه عن الليث
وابن عون ومكحول لما ذكرنا من الأحاديث. والمعنى على وجوب القراءة على المأموم. ولنا قوله
تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) قال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب
والزهري وإبراهيم والحسن انها نزلت في شأن الصلاة، قال أحمد في رواية أبي داود أجمع الناس
على أن هذه الآية في الصلاة، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام
ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فانصتوا " رواه سعيد بن منصور، وروى أبو موسى قال إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم
وليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا " رواه مسلم، وروى أبو هريرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " مالي أنازع القرآن " فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي صلى الله
عليه وسلم. رواه مالك بمعناه وقال الترمذي حديث حسن ولأنه إجماع، قال أحمد ما سمعت أحدا
من أهل الاسلام يقول إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزي صلاة من خلفه إذا لم يقرأ، وقال: هذا
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وهذا مالك في أهل الحجاز وهذا الثوري في أهل العراق
وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وأما الأحاديث فقد أجبنا عنها فيما مضى ولأنها قراءة لا تجب على
المسبوق فلا تجب على غيره كقراءة السورة
* (فصل) * قال أبو داود قيل لأحمد إذا قرأ المأموم بفاتحة الكتاب ثم سمع قراءة الإمام قال
يقطع إذا سمع قراءة الإمام وينصت للقراءة وذلك لما ذكرنا من الآية والاخبار
* (مسألة) * (وهل يستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه الإمام؟ على روايتين) أما في حال قراءة
إمامه فلا يستفتح ولا يستعيذ لأنه إذا سقطت القراءة عنه كيلا يشتغل عن استماع قراءة الإمام
فالاستفتاح أولى ولان قوله تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) يتناول كل ما يشتغل
عن الانصات من الاستفتاح وغيره ولان الاستعاذة إنما شرعت من أجل القراءة فإذا سقطت
القراءة سقط التبع، وإن سكت الإمام قدرا يتسع لذلك ففيه روايتان إحداهما يستفتح ولا يستعيذ
اختاره القاضي لأنه أمكن للاستفتاح من غير اشتغال عن الانصات وفيه رواية انه يستفتح ويستعيذ
13

لما ذكرنا. والثانية لا يستفتح لأنه يشغله عن القراءة وهي أهم منه، وأما المأموم في صلاة الاسرار
فإنه يستفتح ويستعيذ نص عليه أحمد فقال إذا كان ممن يقرأ خلف الإمام تعوذ قال الله تعالى
(فإذا قرأت فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)
* (مسألة) * (ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرفع ليأتي به بعده فإن لم يفعل عمدا
بطلت صلاته عند أصحابنا إلا القاضي)
وجملة ذلك أنه لا يجوز أن يسبق إمامه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبقوني بالركوع
ولا بالسجود ولا بالقيام " رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما
يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار " متفق
عليه. فإن فعل ذلك عامدا أثم وتبطل صلاته في ظاهر كلام أحمد فإنه قال ليس لمن سبق الإمام
صلاة لو كان له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب. وذلك لما ذكرنا من الحديثين، وروي
عن ابن مسعود انه نظر إلى من سبق الإمام فقال: لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت. ولأنه
لم يأتم بإمامه في الركن أشبه ما إذا سبقه بتكبيرة الاحرام، وإن كان جاهلا أو ناسيا لم تبطل صلاته
لأنه سبق يسير، ولقوله عليه السلام " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان " وقال ابن حامد في ذلك
وجهان وقال عندي انه يصح لأنه اجتمع معه في الركن أشبه ما لو ركع معه ابتداء صح وهذا اختيار
ابن عقيل وعليه أن يرفع ليأتي به بعده ليكون مؤتما بإمامه فإن لم يفعل عمدا بطلت صلاته عند
أصحابنا لأنه ترك الواجب عمدا. وقال القاضي لا تبطل لأنه سبق يسير
* (مسألة) * (فإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالما عمدا فهل تبطل صلاته؟ على وجهين) وكذلك
ذكره أبو الخطاب أحدهما تبطل للنهي. والثاني لا تبطل لأنه سبقه بركن واحد فهي كالتي قبلها.
قال ابن عقيل اختلف أصحابنا فقال بعضهم تبطل الصلاة بالسبق بأي ركن من الأركان ركوعا
كان أو سجودا أو قياما أو قعودا، وقال بعضهم السبق المبطل مختص بالركوع لأنه الذي يحصل به
ادراك الركعة وتفوت بفواته فجاز أن يختص بطلان الصلاة بالسبق به، وإن كان جاهلا أو ناسيا
لم تبطل صلاته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان " وهل تبطل
الركعة، فيه روايتان: إحداهما تبطل لأنه لا يقتدي بإمامه في الركوع أشبه ما لو لم يدركه والأخرى
لا تبطل للخبر. فأما إن ركع قبل ركوع إمامه فلما ركع الإمام سجد قبل رفعه بطلت صلاته إن كان
عمدا لأنه لم يقتد بإمامه في أكثر الركعة وإن فعله جاهلا أو ناسيا لم تبطل للحديث ولم يعتد بتلك
الركعة لعدم اقتدائه بإمامه فيها
* (فصل) * فإن سبق الإمام المأموم بركن كامل مثل أن يركع ويرفع قبل ركوع المأموم لعذر من
نعاس أو غفله أو زحام أو عجلة الإمام فإنه يفعل ما سبق به ويدرك إمامه ولا شئ عليه نص عليه
14

احمد في رواية المروذي. قال شيخنا وهذا لا اعلم فيه خلافا. وحكى في المستوعب رواية انه لا يعتد
بتلك الركعة وان سبقه بركعة كاملة أو أكثر فإنه يتبع إمامه ويقضي ما سبقه به كالمسبوق. قال احمد
في رجل نعس خلف الإمام حتى صلى ركعتين قال كأنه أدرك ركعتين، فإذا سلم الإمام صلى ركعتين
وعنه يعيد الصلاة، وإن سبقه بأكثر من ركن وأقل من ركعة ثم زال عذره فالمنصوص عن أحمد
انه يتبع إمامه ولا يعتد بتلك الركعة. وظاهر هذا انه إن سبقه بركنين بطلت تلك الركعة وإن
سبق بأقل من ذلك فعله وأدرك إمامه، وقد قال بعض أصحابنا فيمن زحم عن السجود يوم الجمعة
ينتظر زوال الزحام ثم يسجد ويتبع الإمام ما لم يخف فوات الركوع في الثانية مع الإمام. فعلى هذا
يفعل ما فاته وإن كان أكثر من ركن وهو قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله بأصحابه
حين صلى بهم بعسفان صلاة الخوف فأقامهم خلفه صفين فسجد معه الصف الأول والصف الثاني قيام
حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثانية فسجد معه الصف الثاني ثم تبعه وجاز ذلك للعذر فهذا مثله.
وقال مالك إن أدركهم المسبوق في أول سجودهم سجد معهم واعتد بها، وإن علم أنه لا يقدر على
الركوع وأدركهم في السجود حتى يستووا قياما اتبعهم فيما بقي من صلاتهم ثم يقضي ركعة ثم يسجد
للسهو. وهذا قول الأوزاعي إلا أنه لم يجعل عليه سجود سهو. قال شيخنا والأولى في هذا والله أعلم
انه ما كان على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف فإن غير المنصوص عليه يرد إلى
الأقرب من المنصوص عليه وإن فعل ذلك لغير عذر بطلت صلاته لأنه ترك الائتمام بإمامه عمدا والله أعلم
(فصل) فإن سبق المأموم الإمام بالقراءة لم تبطل صلاته رواية واحدة
* (مسألة) * (ويستحب للإمام تخفيف الصلاة مع اتمامها) لقول عائشة كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم أخف الناس صلاة في تمام، وروي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أيها الناس
إن منكم منفرين فأيكم صلى بالناس فليجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة " متفق عليه وقال
النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ " أفتان أنت؟ ثلاث مرار فلولا صليت بسبح اسم ربك الاعلى، والشمس
وضحاها، والليل إذا يغشى. فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة " رواه البخاري
وهذا لفظه، ورواه مسلم
* (مسألة) * (ويستحب تطويل الركعة الأولى أطول من الثانية). يستحب تطويل الركعة
الأولى من كل صلاة ليلحقه القاصد للصلاة. وقال الشافعي تكون الأوليان سواء. وقال أبو حنيفة
يطول الأولى من صلاة الصبح خاصة ووافق قول الشافعي في غيرها وذلك لحديث أبي سعيد حزرنا
قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلثين آية، ولان الآخرتين
متساويتان فكذلك الأوليان
ولنا ما روي أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة
15

الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية ويسمع الآية أحيانا وكان يقرأ
في العصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويطول في الأولى ويقصر في الثانية وكان
يطول في الأولى من صلاة الصبح متفق عليه
وروى عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة
الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. فاما حديث أبي سعيد فرواه ابن ماجة وفيه وفي الركعة الأخرى قدر
النصف من ذلك وهو أولى لموافقته للأحاديث الصحيحة ثم لو قدر التعارض وجب تقديم حديث أبي
قتادة لصحته ولتضمنه الزيادة وهو التفريق بين الركعتين. وروى أبو سعيد أن الصلاة كانت تقام
ثم يخرج أحدنا يقضي حاجته ويتوضأ ثم يدرك الركعة الأولى مع النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد
في الإمام يطول في الثانية يعني أكثر من الأولى يقال له في هذا يعلم
* (مسألة) * (ولا يستحب انتظار داخل وهو في الركوع في إحدى الروايتين). متى أحس بداخل
في حال القيام أو الركوع يريد الصلاة معه وكانت الجماعة كثيرة في انتظاره لأنه يبعد أن لا يكون فيهم
من يشق عليهم وكذلك ان كانت الجماعة يسيرة والانتظار يشق عليهم لأن الذين معه أعظم حرمة
من الداخل فلا يشق عليهم لنفعه وإن لم يكن كذلك استحب انتظاره وهذا مذهب أبي مخلد والشعبي
والنخعي وإسحاق. وقال الأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي لا ينتظره وهو رواية أخرى لأن انتظاره
تشريك في العبادة فلا يشرع كالرياء
ولنا أنه انتظار ينفع ولا يشق فشرع كتطويل الركعة الأولى وتخفيف الصلاة. وقد قال عليه
السلام " من أم الناس فليخفف فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة " وقد شرع الانتظار في صلاة
الخوف لتدرك الطائفة الثانية وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر الجماعة فقال جابر كان النبي صلى الله
عليه وسلم يصلي العشاء أحيانا وأحيانا، إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم بطؤا أخر، وقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم وأطال السجود حين ركب الحسن على ظهره
وقال " إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله " وبهذا كله يبطل ما ذكروه وقال القاضي الانتظار
جائز غير مستحب فإنما ينتظر من كان ذا حرمة كاهل العلم ونظرائهم من أهل الفضل
* (مسألة) * (وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها وبيتها خير لها) لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " لا تمنعوا ماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات " يعني غير متطيبات. رواه أبو داود ويخرجن
غير متطيبات لهذا الحديث ويباح لهن حضور الجماعة مع الرجال لقول عائشة كان النساء يصلين مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس متفق عليه وصلاتهن
في بيوتهن أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في
حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها " رواه أبو داود
16

(فصل في الإمامة) (السنة ان يؤم القيامة أقرؤهم) يعني ان القارئ مقدم على الفقيه وغيره ولا
خلاف في التقديم بالقراءة والفقه واختلف في أيهما يقدم فذهب احمد رحمه الله إلى تقديم القارئ
وهو قول ابن سيرين والثوري وابن المنذر واسحق وأصحاب الرأي. وقال عطاء ومالك والأوزاعي
والشافعي يقدم الأفقه إذا كان يقرا ما يكفي في الصلاة لأنه قد ينوبه في الصلاة مالا يدري ما يفعل
فيه إلا بالفقه فيكون أولى كالإمامة الكبرى والحكم
ولنا ما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله
تعالى فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في
الهجرة سواء فأقدمهم سنا - أو قال - سلما " وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا اجتمع
ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم " رواهما مسلم ولما قدم المهاجرون الأولون كان يؤمهم
سالم مولى أبي حذيفة وفيهم عمر بن الخطاب وفي حديث عمرو بن سلمة قال " ليؤمكم أكثركم قرآنا "
فإن قيل إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم القارئ لأن الصحابة كان أقرأهم أفقههم وانهم كانوا
إذا قرأوا القران تعلموا معه أحكامه قال ابن مسعود كنا لا نجاوز عشر آيات حتى نعرف أمرها ونهيها
وأحكامها قلنا اللفظ عام فيجب الاخذ بعمومه على أن في الحديث ما يبطل هذا التأويل وهو قوله
17

وان استووا فأعلمهم بالسنة ففاضل بينهم في العلم بالسنة مع تساويهم في القراءة ولو كان كما قالوا للزم
من التساوي في القراءة التساوي في الفقه وقد نقلهم مع التساوي في القراءة إلى الأعلم بالسنة وقال
صلى الله عليه وسلم " أقرؤكم أبي وأقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " ففضل بالفقه
من هو مفضول بالقراءة قيل لأبي عبد الله حديث النبي صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر يصلي بالناس
أهو خلاف أبي مسعود؟ قال لا إنما قوله لأبي بكر عندي يصلي بالناس للخلافة يعني أن الخليفة أحق بالإمامة
(فصل) ويرجح أحد القارئين على الآخر بكثرة القرآن لحديث عمر بن سلمة، وان تساويا في
قدر ما يحفظ كل واحد منهما وكان أحدهما أجود قراءة واعرابا فهو أولى لأنه اقرأ وإن كان
أحدهما أكثر حفظا والآخر أقل لحنا وأجود قراءة قدم لأنه أعظم أجرا في قراءته لقوله عليه السلام
" من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ومن قرأ ولحن فيه فله بكل حرف حسنة " رواه
الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما اعراب القرآن أحب إلي
من حفظ بعض حروفه. وان اجتمع قارئ لا يعرف أحكام الصلاة فكذلك للخبر وقال ابن
عقيل يقدم الأفقه لأنه يمتاز بما لا يستغنى عنه في الصلاة
18

* (مسألة) * ثم أفقههم ثم أسنهم ثم أقدمهم هجرة ثم أشرفهم ثم أتقاهم ثم من تقع له القرعة
متى استووا في القراءة وكان أحدهما أفقه قدم لما ذكرنا من الحديث ولان الفقه يحتاج إليه في الصلاة
للاتيان بواجباتها وأركانها وشرطوها وسننها وجبرها ان احتاج إليه فإن اجتمع فقيهان قارئان أحدهما
اقرأ والآخر أفقه قدم الأقرأ للحديث نص عليه وقال ابن عقيل يقدم الأفقه لتميزه بما لا يستغنى عنه
في الصلاة وهذا يخالف الحديث المذكور فلا يعول عليه فإن اجتمع فقيهان أحدهما اعلم بأحكام الصلاة
والآخر اعلم بما سواها قدم الأعلم بأحكام الصلاة لأن علمه يؤثر في تكميل الصلاة بخلاف الآخر
(فصل) فإن استووا في القراءة والفقه فقال شيخنا ها هنا يقدم أسنهم يعني أكبرهم سنا وهو
اختيار الخرقي لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث " إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما
وليؤمكما أكبركما " متفق عليه ولان الاسن أحق بالتوقير والتقديم وظاهر كلام أحمد أنه يقدم أقدمهما
هجرة ثم أسنهما لحديث أبي مسعود فإنه مرتب هكذا قال الخطابي وعلى هذا الترتيب أكثر أقاويل
العلماء ومعنى تقديم الهجرة أن يكون أحدهما أسبق هجرة من دار الحرب إلى دار الاسلام وإنما
يقدم بها لأنها قربة وطاعة فإن عدم ذلك اما لاستوائهما فيها أو عدمها قدم أسنهما لما ذكرنا وقال ابن
حامد أحقهم بعد القراءة والفقه أشرفهم ثم أقدمهم هجرة ثم أسنهم والصحيح ما دل عليه حديث
النبي صلى الله عليه وسلم من تقديم السابق بالهجرة ثم الاسن ويرجح بتقديم الاسلام كتقديم الهجرة
19

لأن في بعض ألفاظ حديث أبي مسعود " فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما " ولان الاسلام أقدم
من الهجرة فإذا قدم بالهجرة فأولى أن يتقدم بالاسلام فإذا استووا في جميع ذلك قدم أشرفهم والشرف
يكون بعلو النسب وبكونه أفضل في نفسه وأعلاهم قدرا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " قدموا قريشا
ولا تقدموها " فإن استووا في هذه الخصال قدم اتقاهم لأنه أشرف في الدين وأفضل وأقرب إلى الإجابة
وقد جاء " إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال " ذكره الإمام أحمد في رسالته
ويحتمل تقديم الأتقى على الأشرف لأن شرف الدين خير من شرف الدنيا وقد قال الله تعالى
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فإن استووا في هذا كله أقرع بينهم نص عليه لأن سعدا أقرع بين
الناس في الآذان يوم القادسية فالإمامة أولى ولأنهم تساووا في الاستحقاق وتعذر الجمع فأقرع بينهم
كسائر الحقوق وإن كان أحدهما يقوم بعمارة المسجد وتعاهده فهو أحق به وكذلك ان رضي الجيران
أحدهما دون الآخر قدم به ولا يقدم بحسن الوجه لأنه لا مدخل له في الإمامة ولا أثر له فيها وهذا
كله تقديم استحباب لا تقديم اشتراط ولا ايجاب بغير خلاف علمناه
20

* (مسألة) * وصاحب البيت وإمام المسجد أحق بالإمامة الا أن يكون بعضهم ذا سلطان)
متى أقيمت الجماعة في بيت فصاحبه أولى بالإمامة من غيره إذا كان ممن تصح إمامته لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته الا باذنه " رواه مسلم
وعن مالك بن الحويرث عن النبي صلى الله عليه وسلم " من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم "
رواه أبو داود وهذا قول عطاء والشافعي ولا نعلم فيه خلافا فإن كان في البيت ذو سلطان قدم على
صاحب البيت لأن ولايته على البيت وصاحبه وقدم النبي صلى الله عليه وسلم عتبان بن مالك وأنسا
في بيوتهما اختاره الخرقي وقال ابن حامد صاحب البيت أحق بالإمامة لعموم الحديث والأول أصح
وكذلك إمام المسجد الراتب أولى من غيره لأنه في معنى صاحب البيت الا أن يكون بعضهم ذا سلطان
ففيه وجهان وقد روي عن ابن عمر انه أتى أرضا له وعندها مسجد يصلي فيه مولى له فصلى ابن عمر
معهم فسألوه ان يؤمهم فأبى وقال صاحب المسجد أحق
(فصل) وإذا قدم المستحق من هؤلاء لرجل في الإمامة جاز وصار بمنزلة من أذن له في
استحقاق التقدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم الا باذنه ولأنه حق له فجاز نقله إلى من شاء قال أحمد
قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته الا باذنه " أرجو
أن يكون الاذن في الكل
(فصل) وإذا دخل السلطان بلدا له فيه خليفة فهو أحق من خليفته لأن ولايته على خليفته وغيره
وكذلك لو اجتمع العبد وسيده في بيت العبد فالسيد أولى لأنه يملك البيت والعبد على الحقيقة وولايته
21

على العبد فإن لم يكن سيده معهم فالعبد أولى لما ذكرنا من الحديث وقد روي أنه اجتمع ابن مسعود
وحذيفة وأبو ذر في بيت أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد فتقدم أبو ذر ليصلي بهم فقالوا له وراءك
فالتفت إلى أصحابه فقال أكذلك فقالوا نعم فتأخر وقدموا أبا سعيد فصلى رواه صالح بن أحمد
باسناده وان اجتمع المؤجر والمستأجر فالمستأجر أولى ولأنه أحق بالسكنى والمنفعة
* (مسألة) * والحر أولى من العبد والحاضر أولى من المسافر والبصير أولى من الأعمى في أحد الوجهين)
إمامة العبد صحيحة لما روي عن عائشة ان غلاما لها كان يؤمها وصلى ابن مسعود وحذيفة
وأبو ذر وراء أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن والنخعي
والشعبي والحكم والثوري والشافعي واسحق وأصحاب الرأي وكره ذلك أبو مجلز وقال مالك
لا يؤمهم الا أن يكون قارئا وهم أميون
ولنا عموم قوله عليه السلام " يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله تعالى " ولأنه قول من سمينا من الصحابة
ولم يعرف لهم مخالف فكان اجماعا ولأنه من أهل الاذان للرجال يأتي بالصلاة على الكمال فجاز
له إمامتهم كالحر إذا ثبت ذلك فالحر أولى منه لأنه أكمل منه وأشرف ويصلي الجمعة والعيد إماما
بخلاف العبد ولان في تقديم الحر خروجا من الخلاف والمقيم أولى من المسافر لأنه إذا كان إماما
حصلت له الصلاة كلها جماعة فإن أمه المسافر أتم الصلاة منفردا وقال القاضي إن كان فيهم إماما فهو
أحق بالإمامة وإن كان مسافرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بهم عام الفتح ويقول لأهل
البلد " صلوا أربعا فانا سفر " رواه أبو داود وان تقدم المسافر جاز ويتم المقيم الصلاة بعد سلام إمامه
22

كالمسبوق وان أنم المسافر الصلاة جازت صلاتهم
وحكي عنه رواية في صلاة المقيم انها لا تجوز لأن الزيادة نفل أم بها مفترضين والصحيح الأول
لأن المسافر إذا نوى الاتمام لزمه فيصير الجميع فرضا
(فصل) وإمامة الأعمى جائزة لا نعلم فيها خلافا الا ما حكى عن أنس أنه قال ما حاجتهم إليه
وعن ابن عباس أنه قال كيف أؤمهم وهم يعدلونني إلى القبلة والصحيح عن ابن عباس أنه كان يؤمهم
وهو أعمى وعتبان بن مالك وقتادة وجابر وقال أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم
مكتوم أم الناس وهو أعمى (1) رواه أبو داود ولان الأعمى فقد حاسة لا تخل بشئ من أفعال الصلاة
ولا شروطها أشبه فقد الشم والبصير أولى منه اختاره أبو الخطاب ولأنه يستقبل القبلة بعلمه ويتوقى
النجاسات ببصره ولان في إمامته اختلافا وقال القاضي هما سواء لأن الأعمى أخشع لا يشتغل في الصلاة
بالنظر إلى ما يلهيه فيكون ذلك مقابلا لما ذكرتم فتساويا
قال الشيخ والأول أولى لأن البصير لو أغمض عينيه كره ذلك ولو كان فضيلة لكان مستحبا
لأنه يحصل بتغميضه ما يحصله الأعمى ولان البصير إذا أغمض بصره مع امكان النظر كان له
الاجر فيه لأنه يترك المكروه مع امكانه اختيارا والأعمى يتركه اضطرارا فكان أدنى حالا وأقل فضلا
* (مسألة) * (وهل تصح إمامة الفاسق والأقلف؟ على روايتين)
والفاسق ينقسم على قسمين فاسق من جهة الاعتقاد وفاسق من جهة الافعال فاما الفاسق من جهة الاعتقاد

(1) لفظه في المنتفى ان النبي " ص " استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى. رواه أحمد وأبو داود
23

فمتى كان يعلن بدعته ويتكلم بها ويدعو إليها ويناظر لم تصح إمامته وعلى من صلى وراءه الإعادة قال أحمد
لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه وقال لا تصلى خلف المرجئ إذا كان داعية
وقال القاضي وكذلك إن كان مجتهدا يعتقدها بالدليل كالمعتزلة والقدرية وغيرة الرافضة لأنهم يكفرون
ببدعتهم، وان لم يكن يظهر بدعته ففي وجوب الإعادة خلفه روايتان إحداهما تجب الإعادة كالمعلن
بدعته ولان الكافر لا تصح الصلاة خلفه سواء أظهر كفره أو أخفاه كذلك المبتدع قال أحمد في رواية
أبى الحارث لا تصلي خلف مرجي ولا رافضي ولا فاسق الا أن يخافهم فيصلي ثم يعيد وقال أبو داود
متى صليت خلف من يقول لقرآن مخلوق فأعد وعن مالك لا نصلي خلف أهل البدع والثانية تصح
الصلاة خلفه قال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرافضة الذين يتكلمون بما تعرف؟ قال نعم آمره ان يعيد
قيل له وهكذا أهل البدع قال لا لأن منهم من يسكت ومنهم من يتكلم وقال لا نصلي خلف المرجئ
إذا كان داعية فدل على أنه لا يعيد إذا لم يكن كذلك وقال الحسن والشافعي الصلاة خلف أهل البدع
جائزة بكل حال لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا خلف من قال لا إله إلا الله " ولأنه رجل صلاته
صحيحة فصح الائتمام به كغيره وقال نافع كان ابن عمر يصلي خلف الحسنية (1) والخوارج زمن ابن الزبير
وهم يقتتلون فقيل له أتصلي مع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضا؟ فقال من قال حي على الصلاة أجبته ومن
قال حي على الفلاح أجبته ومن قال حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا رواه سعيد. ووجه
القول الأول ما روى جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره يقول " لا تؤمن امرأة
رجلا ولا فاجر مؤمنا الا أن يقهره بسلطانه أو يخاف سوطه أو سيفه " رواه ابن ماجة وهذا أخص من
حديثهم فيتعين تقديمه وحديثهم نقول به في الجمع والأعياد ونعيد وقياسهم منقوض بالامي ويروى عن
حبيب بن عمر الأنصاري عن أبيه قال سألت واثلة بن الأسقع قلت أصلي خلف القدري؟ قال لا تصل
خلفه ثم قال أما أنا لو صليت خلفه لأعدت صلاتي رواه الأثرم

(1) كذا وفي المغني: الخشبية
24

(فصل) وأما الفاسق من جهة الأعمال كالزاني والذي يشرب ما يسكره فروي عنه أنه لا يصلى
خلفه فإنه قال لا تصل خلف فاجر ولا فاسق وقال أبو داود سمعت أحمد يسئل عن إمام قال أصلي
بكم رمضان بكذا وكذا درهما، قال اسأل الله العافية، من يصلي خلف هذا؟ وروي لا يصلى خلف من
لا يؤدي الزكاة ولا يصلى خلف من يشارط ولا بأس أن يدفع إليه من غير شرط وهذا اختيار ابن
عقيل وعنه أن الصلاة خلفه جائزة وهو مذهب الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم صلوا خلف
من قال لا إله الا الله وكان ابن عمر يصلي مع الحجاج، والحسن والحسين وغيرهما من الصحابة كانوا
يصلون مع مروان والذين كانوا في ولاية زياد وابنه كانوا يصلون معهما وصلوا وراء الوليد بن عقبة
وقد شرب الخمر فصار هذا اجماعا وعن أبي ذر قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف أنت
إذا كان عليك امراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال قلت فما تأمرني قال " صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها
معهم فصل فإنها لك نافلة " رواه مسلم وهذا فعل يقتضي فسقهم ولأنه رجل تصح صلاته لنفسه فصح
الائتمام به كالعدل ووجه الأولى ما ذكرنا من الحديث ولان الإمامة تتضمن حمل القراءة ولا يؤمن
تركه لها ولا يؤمن ترك بعض شرائطها كالطهارة وليس ثم امارة ولا عليه ظن يؤمننا ذلك والحديث
أجبنا عنه وفعل الصحابة محمول على أنهم خافوا الضرر بترك الصلاة معهم وروينا عن قسامة بن زهير
أنه قال لما كان من شأن فلان ما كان قال له أبو بكر تنح عن مصلانا فانا لا نصلى خلفك وحديث أبي
ذر يدل على صحتها نافلة والنزاع إنما هو في الفرض
(فصل) وأما الجمع والأعياد فتصلي خلف كل بر وفاجر وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة وكذلك
25

من كان من العلماء في عصره وقد روي أن رجلا جاء محمد بن النضر فقال له ان لي جيرانا من أهل
الأهواء لا يشهدون الجمعة قال حسبك، ما تقول فيمن رد على أبي بكر وعمر؟ قال ذلك رجل سوء قال فإن رد
على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال يكفر. قال فإن رد على العلي الاعلى؟ ثم غشي عليه ثم أفاق فقال ردوا
عليه والذي لا إله إلا هو فإنه قال (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى
ذكر الله) وهو يعلم أن بني العباس سيلونها ولأن هذه الصلاة من شعائر الاسلام الظاهرة ويليها
الأئمة دون غيرهم فتركها خلفهم يفضي إلى تركها بالكلية. إذا ثبت ذلك فإنها تعاد خلف من يعاد
خلفه غيرها قياسا عليها هذا ظاهر المذهب وعنه أنه قال من أعادها فهو مبتدع وهذا بدل على أنها
لا تعاد خلف فاسق ولا مبتدع لأنها صلاة مأمور بها فلم تجب اعادتها كسائر الصلوات
(فصل) فإن كان المباشر عدلا والذي ولاه غير مرضي الحال لبدعته أو لفسقه لم يعدها في
المنصوص عنه لأن صلاته إنما ترتبط بصلاة إمامه ولا يضر وجود معنى في غيره كالحدث وذكر القاضي
في وجوب الإعادة روايتين والصحيح الأول
* (فصل) * فإن لم يعلم فسق إمامه بدعته فقال ابن عقيل لا إعادة عليه لأن ذلك مما يخفى
فأشبه الحدث والنجس. قال شيخنا والصحيح أن هذا ينظر فيه، فإن كان ممن يخفى بدعته وفسوقه
26

صحت صلاته لأن من يصلي خلفه معذور، وإن كان ممن يظهر ذلك وجبت الإعادة على الرواية
التي تقول بوجوب اعادتها خلف المبتدع لأنه معنى يمنع الائتمام فاستوى فيه العلم وعدمه كما لو كان
أميا، والحدث والنجاسة يشترط خفاؤهما على الإمام والمأموم معا والفاسق لا يخفى عليه فسق نفسه
فأما إن لم يعلم حاله ولم يظهر منه ما يمنع الائتمام به فصلاته صحيحة نص عليه لأن الأصل في المسلمين السلامة
* (فصل) * فأما المخالفون في الفروع كالمذاهب الأربع فالصلاة خلفهم جائزة صحيحة غير
مكروهة نص عليه لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزل بعضهم يصلي خلف بعض مع اختلافهم
في الفروع فكان ذلك إجماعا، وإن علم أنه يترك ركنا يعتقده المأموم دون الإمام فظاهر كلام
أحمد صحة الائتمام به. قال الأثرم سمعت أحمد يسأل عن رجل صلى بقوم وعليه جلود الثعالب.
فقال إن كان يلبسه وهو يتأول قوله عليه السلام " أيما إهاب دبغ فقد طهر " فصل خلفه فقيل له
أتراه أنت جائزا؟ قال لا. ولكنه إذا كان يتأول فلا بأس أن يصلي خلفه، ثم قال أبو عبد الله
لو أن رجلا لم ير الوضوء من الدم لم يصل خلفه فلا نصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك إي بلى
ولان كل مجتهد مصيب أو كالمصيب في حط المآثم عنه وحصول الثواب له ولان صلاته تصح
27

لنفسه فجازت الصلاة خلفه، كما لو لم يترك شيئا. وقال ابن عقيل في الفصول لا تصح الصلاة خلفه
وذكر القاضي فيه روايتين إحداهما لا تصح لأنه يفعل ما يعتقده المأموم مفسدا للصلاة فلم يصح ائتمامه به
كما لو خالفه في القبلة حالة الاجتهاد ولان أكثر ما فيه انه ترك ركنا لا يأثم بتركه فبطلت الصلاة
خلفه كما لو تركه ناسيا، والثانية تصح لما ذكرنا
* (فصل) * فإن فعل شيئا من المختلف فيه يعتقد تحريمه، فإن كان يترك ما يعتقد شرطا للصلاة
أو واجبا فيها فصلاته وصلاة من يأتم به فاسدة. وإن كان المأموم يخالف في اعتقاد ذلك لأنه ترك
واجبا في الصلاة فبطلت صلاته وصلاة من خلفه كالمجمع عليه وإن كان لا يتعلق ذلك بالصلاة كشرب
يسير النبيذ والنكاح بغير ولي ممن يعتقد تحريمه، فهذا إن دام على ذلك فهو فاسق، حكمه حكم سائر
الفساق. وإن لم يدم عليه لم يؤثر لأنه من الصغائر، فإن كان الفاعل لذلك عاميا قلد من يعتقد جوازه
فلا شئ عليه فيه لأن فرض العامي سؤال العالم وتقليده قال الله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر
إن كنتم لا تعلمون) وإن اعتقد حله وفعله صحت الصلاة خلفه في الصحيح من المذهب. وذكر ابن
أبي موسى في صحة الصلاة خلفه روايتين
28

* (فصل) * وإذا أقيمت الصلاة والانسان في المسجد والإمام لا يصلح للإمامة فإن شاء صلى خلفه وأعاد
وإن نوى الانفراد ووافقه في أفعال الصلاة صحت صلاته لأنه أتى بالصلاة على الكمال أشبه ما لو لم يقصد
موافقة الإمام. وروي عن أحمد انه يعيد، رواها عنه الأثرم. والصحيح الأول لما ذكرنا، وكذلك
لو كان الذين لا يرضون الصلاة خلفه جماعة فأمهم أحدهم ووافقوا الإمام في الافعال كان ذلك جائزا
29

* (فصل) * وأما الأقلف ففيه روايتان. إحداهما لا تصح إمامته لأن النجاسة في ذلك المحل لا يعفى
عنها عندنا، والثانية تصح لأنه إن أمكنه كشف القلفة وغسل النجاسة غسلها، وإن كان مرتقا
لا يقدر على كشفها عفي عن ازالتها لعدم الامكان وكل نجاسة معفو عنها لا تؤثر في بطلان الصلاة والله أعلم
* (مسألة) * (وفي إمامة اقطع اليدين وجهان).
روي عن أحمد أنه قال لم أسمع فيها شيئا، وذكر الآمدي فيه روايتين. إحداهما تكره وتصح
30

اختارها القاضي لأنه عجز لا يخل بركن في الصلاة فلم يمنع صحة الإمامة كقطع إحدى الرجلين والأنف، والثانية
لا تصح اختارها أبو بكر لأنه يخل بالسجود على بعض أعضاء السجود أشبه العاجز عن السجود على جبهته، وحكم
قطع اليد الواحدة كقطعهما. فأما أقطع الرجلين فلا تصح إمامته لأنه عاجز عن القيام أشبه الزمن، فإن قطعت
31

إحداهما وأمكنه القيام صحت إمامته، ويتخرج أن لا تصح على قول أبي بكر لاخلاله بالسجود
على عضو والأول أصح لأنه يسجد على الباقي من رجله أو حاملها
32

* (مسألة) * (لا تصح الصلاة خلف كافر بحال) ولا تصح الصلاة خلف كافر ولا أخرس سواء علم
بكفره قبل فراغه من الصلاة أو بعد ذلك، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي كمحدث وهو لا يعلم
33

ولنا انه ائتم بمن ليس من أهل الصلاة أشبه ما لو ائتم بمجنون. والمحدث يشترط أن لا يعلم حدث
نفسه والكافر يعلم حال نفسه
* (فصل) * إذا صلى خلف من يشك في اسلامه فصلاته صحيحة ما لم يبن كفره، ولان الظاهر
من المصلين الاسلام ولا سيما إذا كان إماما، فإن كان ممن يسلم تارة ويرتد أخرى لم يصل خلفه
حتى يعلم عن أي دين هو، فإن صلى خلفه ولم يعلم ما هو عليه نظرنا، فإن كان قد علم اسلامه قبل
الصلاة ثم. شك في ردته فهو مسلم، وإن علم ردته وشك في اسلامه لم تصح الصلاة خلفه، وإن كان
34

علم اسلامه فصلى خلفه فقال بعد الصلاة أسلمت أو ارتددت قبل الصلاة لم تبطل الصلاة لأنها كانت
محكوما بصحتها فلم يقبل قوله في ابطالها لأنه ممن لا يقبل قوله
* (فصل) * قال أصحابنا يحكم باسلامه سواء كان في دار الحرب أو دار الاسلام وسواء صلى
في جماعة أو منفردا، فإن رجع عن الاسلام بعد ذلك فهو مرتد، وان مات قبل ظهور ما ينافي الاسلام
فهو مسلم يرثه ورثته المسلمون دون الكفار. وقال أبو حنيفة: إن صلى في المسجد حكم باسلامه وإن
35

صلى في غير المسجد فرادى لم يحكم باسلامه، وقال بعض الشافعية لا يحكم باسلامه بحال لأن الصلاة
من فروع الاسلام فلا يصير بفعلها مسلما كالحج والصوم ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وقال
بعضهم إن صلى في دار الاسلام فليس بمسلم لأنه يقصد الاستتار بالصلاة واخفاء دينه، وإن صلى
في دار الحرب فهو مسلم لعدم التهمة في حقه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " نهيت عن قتل المصلين " وقال " بيننا وبينهم الصلاة "
فجعل الصلاة حدا بين الاسلام والكفر، فمن صلى فقد دخل في حد الاسلام. وقال " المملوك إذا صلى
36

فهو أخوك " رواه الإمام أحمد ولأنها عبادة تختص المسلمين، فإذا صلى حكم باسلامه كالشهادتين،
فأما الحج فإن الكفار كانوا يفعلونه والصيام ترك المفطرات فقد يفعله من ليس بصائم، فأما صلاته
في نفسه فأمر بينه وبين الله سبحانه وتعالى فإن علم أنه كان قد أسلم ثم توضأ وصلى بنية صحيحة فهي
صحيحة وإلا فعليه الإعادة، لأن الوضوء لا يصح من الكفار. وإذا لم يسلم قبل الصلاة كان حال شروعه
فيها غير مسلم ولا متطهر فتصح منه والله أعلم
37

* (فصل) * ولا تصح إمامة الأخرس بغير أخرس لأنه يترك ركنا وهو القراءة تركا مأيوسا من
زواله فلم تصح إمامته بقادر عليه كالعاجز عن الركوع والسجود. فأما إمامته بمثله فقياس المذهب صحتها
قياسا على الأمي والعاجز عن القيام يؤم مثله وهذا في معناهما والله أعلم. وقال القاضي وابن عقيل
لا تصح لأن الأمي غير مأيوس من نطقه والأول أولى
* (فصل) * فأما الأصم فتصح إمامته لأنه لا يخل بشئ من أفعال الصلاة ولا شروطها أشبه
38

الأعمى، فإن كان الأصم أعمى صحت إمامته كذلك. وقال بعض أصحابنا لا تصح إمامته لأنه
إذا سها لا يمكن تنبيهه بتسبيح ولا إشارة. قال شيخنا والأولى صحتها لأنه لا يمنع من صحة الصلاة
احتمال عارض لا يتيقن وجوده كالمجنون حال افاقته
* (مسألة) * (ولا تصح إمامة من به سلس البول ولا عاجز عن الركوع والسجود والقعود)
وجملة ذلك أنه لا تصح إمامة من به سلس البول ومن في معناه ولا المستحاضة بصحيح لأنهم يصلون
مع خروج النجاسة التي يحصل بها الحدث من غير طهارة. فأما من عليه النجاسة فإن كانت على بدنه
39

فتيمم لها لعدم الماء جاز للطاهر الائتمام به كما يجوز للمتوضئ الائتمام بالمتيمم للحدث، هذا اختيار
القاضي وعلى قياس قول أبي الخطاب لا يجوز الائتمام به لأنه أوجب عليه الإعادة، وان كانت على
ثوبه لم يجز الائتمام به لتركه الشرط ولا يجوز إئتمام المتوضئ ولا المتيمم بعادم الماء والتراب ولا اللابس
بالعاري ولا القادر على الاستقبال بالعاجز عنه لأنه ما ترك لشرط يقدر عليه المأموم أشبه ائتمام
المعافى بمن به سلس البول ويصح ائتمام كل واحد من هؤلاء بمثله لأن العراة يصلون جماعة وكذلك
الأمي يجوز أن يؤم مثله كذلك هذا
40

* (فصل) * ويصح ائتمام المتوضئ بالمتيمم بغير خلاف نعلمه لأن عمرو بن العاص صلى بأصحابه
متيمما وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره، وأم ابن عباس أصحابه متيمما وفيهم عمار بن ياسر
في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكروه ولان طهارته صحيحة أشبه المتوضئ
* (فصل) * ولا تصح إمامة العاجز عن شئ من أركان الافعال كالعاجز عن الركوع والسجود
بالقادر عليه سواء كان إمام الحي أو لم يكن، وبه قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي يجوز لأنه
41

فعل اجازه المرض أشبه القاعد يؤم بالقيام، ولنا انه أخل بركن لا يسقط في النافلة فلم يجز الائتمام به
للقادر عليه كالقارئ بالامي. وأما القيام فهو أخف بدليل سقوطه في النافلة ولان النبي صلى الله عليه
وسلم أمر المصلين خلف الجالس بالجلوس، ولا خلاف ان المصلي خلف المضطجع لا يضطجع فأما إن
أم مثله فقياس المذهب صحته لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في المطر بالايماء والعراة
يصلون جماعة بالايماء، وكذلك حال المسايفة ولان الأمي تصح إمامته بمثله كذلك هذا
42

* (مسألة) * (ولا تصح خلف عاجز عن القيام إلا إمام الحي المرجو زوال علته) ولا تصح إمامة
العاجز عن القيام بالقادر عليه إذا لم يكن إمام الحي رواية واحدة لأنه يخل بركن من أركان الصلاة
أشبه العاجز عن الركوع، وتجوز إمامته بمثله كما يؤم الأمي مثله
* (فصل) * فأما إمام الحي إذا عجز عن القيام فيجوز أن يؤم القادر عليه بشرط أن يكون ذلك
لمرض يرجى زواله، لأن اتخاذ الزمن ومن لا ترجى قدرته على القيام إماما راتبا يفضي إلى تركهم القيام
على الدوام وإلى مخالفة قوله عليه السلام " فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " ولا حاجة إليه ولان
43

الأصل في هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكان يرجى برؤه، فإذا وجد فيه هذان الشرطان فالمستحب له
أن يستخلف لأن الناس مختلفون في صحة إمامته ففي استخلافه خروج من الخلاف ولان صلاة القائم
أكمل وكمال صلاة الإمام مطلوب، فإن قيل فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ولم يستخلف
قلنا فعل ذلك لتبيين الجواز واستخلف مرة أخرى ولان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا أفضل
من صلاة غيره قائما فإن صلى بهم قاعدا جاز وصلوا وراءه جلوسا يروى ذلك عن أربعة من أصحاب
44

النبي صلى الله عليه وسلم أسيد بن حضير، وجابر، وقيس بن فهد، وأبو هريرة، وهو قول الأوزاعي وحماد
ابن زيد واسحق وابن المنذر، وقال مالك في إحدى الروايتين: لا تصح صلاة القادر على القيام خلف القاعد
وهو قول محمد بن الحسن، قال الشعبي روي عن النبي صلى الله عليه أنه قال " لا يؤمن أحد بعد جالسا "
أخرجه الدارقطني. ولان القيام ركن لا يصح ائتمام القادر عليه بالعاجز عنه كسائر الأركان،
وقال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي يصلون خلفه قياما، لما روي عن عائشة ان رسول الله صلى
الله عليه وسلم استخلف أبا بكر ثم وجد في نفسه خفة فخرج بين رجلين فأجلساه إلى جنب أبي بكر
45

فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي
صلى الله عليه وسلم قاعد. متفق عليه وهذا أخير الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه
ركن قدر عليه فلم يجز له تركه كسائر الأركان
ولنا ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه
فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " متفق عليه، وعن عائشة قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
46

في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال " إنما
جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك
الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " أخرجه البخاري قال ابن عبد البر روي هذا عن النبي
صلى الله عليه وسلم من طرق متواترة من حديث أنس وجابر وأبي هريرة وابن عمر وعائشة كلها
بأسانيد صحيحة فاما حديث الشعبي فمرسل ويرويه جابر الجعفي وهو متروك وقد فعله أربعة من
47

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وأما حديث الآخرين فليس فيه حجة قاله أحمد لأن أبا بكر
كان ابتدأ الصلاة فلما أتمها قائما فأشار أحمد إلى امكان الجمع بين الحديثين بحمل حديثهم على من ابتدأ
الصلاة قائما والثاني على من ابتدأ الصلاة جالسا ومتى أمكن الجمع بين الحديثين كان أولى من النسخ ثم
48

يحتمل أن أبا بكر كان الإمام قاله ابن المنذر في بعض الروايات وقالت عائشة أن النبي صلى الله عليه
وسلم صلى خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه وقال أنس صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه
خلف أبى بكر قاعدا في ثوب متوشحا به، قال الترمذي كلا الحديثين حسن صحيح ولا يعرف للنبي
صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر صلاة إلا في هذا الحديث. وروى مالك الحديث عن ربيعة وقال
كان أبو بكر الإمام قال مالك العمل عندنا على حديث ربيعة هذا، فإن قيل لو كان أبو بكر الإمام
لكان عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم. قلنا يحتمل انه فعل ذلك لأن وراءه صفا والله أعلم
* (مسألة) * قال (فإن صلوا قياما صحت صلاتهم في أحد الوجهين)
(أحدهما) لا تصح أومأ إليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجلوس ونهاهم عن القيام فقال في
حديث جابر " إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا وإذا صلى قائما فصلوا قياما، ولا تقوموا والإمام جالس
كما يفعل أهل فارس بعظمائها " فقعدنا، ولأنه ترك الاقتداء بإمامه مع القدرة عليه أشبه تارك القيام في حال
49

قيام إمامه (والثاني) يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وراءه قوم قياما فلم يأمرهم بالإعادة، فعلى هذا
يحمل الامر على الاستحباب ولأنه تكلف القيام في موضع يجوز له الجلوس أشبه المريض إذا تكلف
القيام، ويحتمل أن تصح صلاة الجاهل بوجوب القعود دون العالم كما قالوا في الذي ركع دون الصف
* (مسألة) * (فإن ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياما لأن أبا بكر حين ابتدأ
بهم الصلاة قائما ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأتم الصلاة بهم جالسا أتموا قياما ولم يجلسوا ولان القيام
هو الأصل فمن بدأ به في الصلاة لزمه في جميعها إذا قدر عليه كالذي أحرم في الحضر ثم سافر
(فصل) فإن استخلف بعض الأئمة في وقتنا هذا فزال عذره فحضر فهل يجوز أن يفعل كفعل
النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر؟ فيه ثلاث روايات (إحداها) ليس له ذلك قال أحمد في رواية أبي
50

داود وذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا أمر يخالف القياس فإن انتقال الإمام مأموما
وانتقال المأمومين من إمام إلى آخر لا يجوز الا لعذر يحوج إليه وليس في تقدم الإمام الراتب ما
يحوج إلى هذا أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه من الفضيلة وعظم المنزلة ما ليس لأحد ولذلك قال
أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (والثانية) يجوز نص
عليه في رواية أبي الحارث فعلى هذا يكبر ويقعد إلى جنب الإمام ويبتدئ القراءة من حيث بلغ الإمام
لأن الأصل ان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يكون جائزا لامته ما لم يقم على اختصاصه به دليل
(والرواية الثالثة) ان ذلك يجوز للخليفة دون بقية الأئمة فإنه قال في رواية المروزي ليس هذا لاحد
الا الخليفة وذلك لأن رتبة الخلافة تفضل رتبة سائر الأئمة فلا يلحق بها غيرها وكان ذلك للخليفة
وخليفة النبي صلى الله عليه وسلم يقوم مقامه
51

* (مسألة) * ولا تصح أمامة المرأة والخنثى للرجال ولا للخناثى. لا يصح أن يأتم رجل بامرأة في
فرض ولا نافلة في قول عامة الفقهاء وقال أبو ثور لا إعادة على المصلي خلفها وقال بعض أصحابنا
يجوز أن تؤم الرجال في التراويح وتكون وراءهم لما روي عن أم ورقة بنت الحارث أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم جعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها رواه أبو داود وهذا عام
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تؤمن امرأة رجلا رواه ابن ماجة ولأنها لا تؤذن رجال فلم
يجز أن تؤمهم كالمجنون وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم بنساء أهل الدار كذلك رواه الدارقطني
وهذه زيادة يجب قبولها ولو لم يذكر ذلك لتعين حمل الحديث عليه وذلك لأنه أذن لها أن تؤم في
الفرائض بدليل أنه جعل لها مؤذنا والاذان إنما يشرع في الفرائض ولا خلاف في المذهب أنها
52

لا تؤمهم في الفرائض فالتخصيص بالتراويح تحكم بغير دليل، ولو ثبت ذلك لام ورقة لكان خاصا
بها بدليل أنه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا إقامة فتختص بالإمامة كما اختص بالاذان والإقامة
(فصل) وأما الخنثى فلا يجوز ان يؤم رجلا لاحتمال أن يكون امرأة ولا يؤم خنثى لجواز أن
يكون الإمام امرأة والمأموم رجلا ولا أن تؤمه امرأة لجواز أن يكون رجلا ويجوز له أنه يؤم المرأة
لأن أدنى أحواله أن يكون امرأة وقال القاضي رأيت لأبي حفص البرمكي أن الخنثى لا تصح صلاته
في جماعة لأنه ان قام مع الرجال احتمل أن يكون امرأة وان قام مع النساء أو وحده أو ائتم بامرأة
احتمل أن يكون رجل وان أم الرجال احتمل أن يكون امرأة وان أم النساء فقام وسطهن احتمل أن
يكون رجل وان قام أمامهن احتمل أنه امرأة، قال الشيخ ويحتمل أن تصح صلاته في هذه الصورة
53

وفي صورة أخرى وهو أن يقوم في صف الرجال مأموما فإن المرأة إذا قامت في صف الرجال لم
تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها
* (مسألة) * (ولا إمامة الصبي لبالغ إلا في نفل على إحدي الروايتين) ولا يصح ائتمام البالغ بالصبي
في الفرض نص عليه أحمد وهو قول ابن مسعود وابن عباس وبه قال عطاء والشعبي ومالك والثوري
والأوزاعي وأبو حنيفة وأجازه الحسن والشافعي واسحق وابن المنذر وذكر أبو الخطاب رواية في
صحة إمامته في الفرض بناء على إمامة المفترض بالمتنفل وقال ابن عقيل يخرج في صحة إمامة ابن عشر
سنين وجها بناء على القول بوجوب الصلاة عليه ووجه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " يؤم القوم أقرؤهم
لكتاب الله تعالى " فيدخل في عموم ذلك وروي عن عمر بن سلمة الجرمي أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لقومه " يؤمكم أقرؤكم " قال فكنت أؤمهم وانا ابن سبع سنين أو ثمان سنين رواه البخاري
وأبو داود وغيرهم
ولنا قول ابن مسعود وابن عباس ولان الإمامة حال كمال والصبي ليس من أهل الكمال فلا
يؤم الرجال كالمرأة ولأنه لا يؤمن من الصبي الاخلال بشرط من شرائط الصلاة أو القراءة حال الاسرار
فاما حديث عمرو بن سلمة فقال الخطابي كان أحمد يضعف أمر عمرو بن سلمة وقال مرة دعه ليس
بشئ قال أبو داود قيل لأحمد حديث عمرو بن سلمة قال لا أدري أي شئ هذا ولعله إنما توقف
54

عنه لأنه لم يتحقق بلوغ الامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان بالبادية في حي من العرب بعيد
من المدينة وقوى هذا الاحتمال قوله في الحديث وكنت إذا سجدت خرجت استي وهذا غير سائغ
(فصل) فاما إمامته في النفل ففيها روايتان (إحداهما) لا تصح لذلك (والثانية) تصح لأنه
متنفل يؤم متنفلين ولان النافلة يدخلها التخفيف ولذلك تنعقد الجماعة به فيها إذا كان مأموما
* (مسألة) * ولا تصح إمامة محدث ولا نجس يعلم ذلك فإن جهل هو والمأموم حتى قضوا الصلاة
صحت صلاة المأموم وحده ومتى أخل بشرط الصلاة مع القدرة عليه لم تصح صلاته لاخلاله بالشرط
فإن صلى محدثا وجهل الحدث هو والمأموم حتى قضوا الصلاة فصلاة المأمومين صحيحة وصلاة الإمام
باطلة وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال الحسن وسعيد بن جبير
ومالك والأوزاعي والشافعي وعن علي أنهم يعيدون جميعا وبه قال ابن نصر والشعبي وأبو حنيفة وأصحابه
لأنه صلى بهم محدثا أشبه ما لو علم
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم فروي أن عمر صلى بالناس الصبح ثم خرج إلى الجرف فأهراق
الماء فوجد في ثوبه احتلاما فأعاد ولم يعد الناس، وعن عثمان أنه صلى بالناس صلاة الفجر فلما
أصبح وارتفع النهار إذا هو بأثر الجنابة فقال كبرت والله كبرت والله. وأعاد الصلاة ولم يأمرهم أن
يعيدوا، وعن ابن عمر نحو ذلك. رواه كله الأثرم وعن البراء بن عازب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " إذا صلى الجنب بقوم أعاد صلاته وتمت للقوم صلاتهم " رواه أبو سليمان محمد بن الحسين الحراني
ولان الحدث مما يخفى ولا سبيل إلى معرفته من الإمام للمأموم فكان معذورا في الاقتداء به ويفارق
ما إذا علم الإمام حدث نفسه لأنه يكون مستهزئا بالصلاة فاعلا ما لا يحل وإذا علمه المأموم لم يعذر
في الاقتداء به وما نقل عن علي لا يثبت بل قد نقل عنه كما ذكرنا عن غيره من الصحابة والحكم في
النجاسة كالحكم في الحدث لأنها في معناها في خفائها على الإمام والمأموم، على أن في النجاسة رواية
أخرى أن الإمام أيضا لا تلزمه الإعادة وقد ذكرناه
* (فصل) * فإن علم حدث نفسه في الصلاة أو علم المأمومون لزمهم استئناف الصلاة. قال الأثرم
سألت أبا عبد الله: رجل صلى بقوم على غير طهارة بعض الصلاة فذكر؟ قال يعجبني أن يبتدئوا الصلاة
قلت يقول لهم استأنفوا الصلاة؟ قال لا، ولكن ينصرف ويتكلم ويبتدئون الصلاة. وذكر ابن عقيل
55

رواية إذا علم المأمومون انهم يبنون على صلاتهم، وقال الشافعي يبنون على صلاتهم سواء علم بذلك أو
علم المأمومون لأن ما مضى عى صلاتهم صحيح فكان لهم البناء عليه كما لو أقام إلى خامسة فسبحوا به
فلم يرجع. ولنا انه ائتم بمن صلاته فاسدة مع العلم منهما أو من أحدهما أشبه ما لو ائتم بامرأة، وإنما
خولف هذا إذا استمر الجهل منهما للاجماع ولان وجوب الإعادة على المأمومين في حالة استمرار
الجهل يشق لتفرقهم بخلاف ما إذا علموا في الصلاة، وإن علم بعض المأمومين دون بعض فالمنصوص
أن صلاة الجميع تفسد والأولى يختص البطلان بمن علم دون من جهل لأنه معنى مبطل اختص به
فاختص بالبطلان كحدث نفسه
* (فصل) * قال أحمد في رجلين أم أحدهما الآخر فشم كل واحد منهما ريحا أو سمع صوتا
يعتقده من صاحبه يتوضئان ويعيدان الصلاة لأن كل واحد منهما يعتقد فساد صلاة صاحبه، وهذا
إذا قلنا تفسد صلاة كل واحد من الإمام والمأموم بفساد صلاة الآخر بكونه صار فذا، وعلى الرواية
المنصورة ينوي كل واحد منهما الانفراد ويتم صلاته، ويحتمل انه إنما قضى بفساد صلاتهما إذا أتما الصلاة
على ما كانا عليه من غير فسخ النية، فإن المأموم يعتقد انه مؤتم بمحدث والإمام يعتقد انه يؤم محدثا. وأما
قوله يتوضآن فلعله أراد لتصح صلاتهما جماعة إذ ليس لأحدهما أن يأتم بالآخر مع اعتقاده حدثه
واحتياطا: أما إذا صليا منفردين فلا يجب الوضوء على واحد منهما لأنه متيقن للطهارة شاك في الحدث
* (فصل) * فإن اختل غير ذلك من الشروط في حق الإمام كالستارة واستقبال القبلة لم يعف عنه
في حق المأموم لأن ذلك لا يخفى غالبا بخلاف الحدث والنجاسة، وكذا إن فسدت صلاته لترك
ركن فسدت صلاتهم نص عليه أحمد فيمن ترك القراءة يعيد ويعيدون وكذلك لو ترك تكبيرة الاحرام
* (مسألة) * (ولا تصح إمامة الأمي وهو من لا يحسن الفاتحة أو يدغم حرفا أو يلحن لحنا
يحيل المعنى إلا بمثله)
والكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) ان الأمي لا تصح إمامته بمن يحسن قراءة
الفاتحة، وهذا قول مالك والشافعي في الجديد وقيل عنه يصح أن يأتم القارئ بالامي في صلاة الاسرار
دون الجهر وعنه يصح أن يأتم به في الحالين
ولنا انه ائتم بعاجز عن ركن وهو قادر عليه فلا تصح كالعاجز عن الركوع والسجود وقياسهم
يبطل بالأخرس والعاجز عن الركوع والسجود وأما القيام فهو ركن أخف من غيره بدليل انه يسقط
في النافلة مع القدرة عليه بخلاف القراءة فإن صلى بأمي وقارئ صحت صلاة الأمي والإمام. وقال
أبو حنيفة تفسد صلاة الإمام أيضا لأنه يتحمل القراءة عن المأموم وهو عاجز عنها ففسدت صلاته
ولنا انه أم من لا يصح ائتمامه به فصحت صلاة الإمام كما لو أمت امرأة رجلا ونساء، وقولهم ان
المأموم يتحمل عنه الإمام القراءة قلنا إنما يتحملها مع القدرة، فأما من يعجز عن القراءة عن نفسه فعن غيره أولى
56

* (الفصل الثاني) * انه تصح إمامته بمثله لأنه يساويه فصحت إمامته به كالعاجز عن القيام
* (فصل) * قوله أو يبدل حرفا هو كالألثغ الذي يبدل الراء غينا والذي يلحن لحنا يحيل المعنى
كالذي يكسر كاف إياك أو تاء أنعمت أو يضمها إذا كان لا يقدر على اصلاح ذلك يصح ائتمامه بمثله
كاللذين لا يحسنان شيئا وإن كان يقدر على اصلاح ذلك لم تصح صلاته ولا صلاة من يأتم به لأنه ترك
ركنا من أركان الصلاة مع القدرة عليه أشبه تارك الركوع
* (فصل) * فإن صلى القارئ خلف من لا يعلم حاله في صلاة الاسرار صحت صلاته لأن الظاهر أنه
إنما يتقدم من يحسن القراءة، وإن كان يسر في صلاة الجهر ففيه وجهان أحدهما لا تصح صلاة
القارئ، ذكره القاضي وابن عقيل لأن الظاهر أنه لو أحسن القراءة لجهر، والثاني تصح لأن
الظاهر أنه لا يؤم الناس إلا من يحسن القراءة، والاسرار يحتمل أن يكون لجهل أو نسيان، فإن
قال قد قرأت صحت الصلاة على الوجهين لأن الظاهر صدقه، وتستحب الإعادة احتياطا، ولو أسر
في صلاة الاسرار ثم قال ما كنت قرأت الفاتحة لزمه ومن وراءه الإعادة، لأنه روي عن عمر انه
صلى بهم المغرب فلما سلم قال ما سمعتموني قرأت. قالوا لا قال فما قرأت في نفسي فأعاد بهم الصلاة
* (فصل) * وإذا كان رجلان لا يحسنان الفاتحة أو أحدهما يحسن سبع آيات من غيرها والآخر
لا يحسن شيئا فلكل واحد منهما الائتمام بالآخر لأنهما أميان والمستحب تقديم من يحسن السبع آيات
لأنه اقرأ، وعلى هذا كل من لا يحسن الفاتحة يجوز أن يؤم من لا يحسنها سواء استويا في الجهل أو تفاوتا فيه
* (مسألة) * (وتكره إمامة اللحان والفأفاء الذي يكرر الفاء والتمتام الذي يكرر القاف ومن
لا يفصح ببعض الحروف)
أما الذي يلحن لحنا يحيل المعنى فقد ذكرناه، وتكره إمامة اللحان الذي لا يحيل المعنى نص عليه
وتصح صلاته بمن لا يلحن لأنه أتى بفرض القراءة فإن أحال المعنى في غير الفاتحة لم يمنع صحة إمامته
إلا أن يتعمده فيبطل صلاتهما، ومن لا يفصح ببعض الحروف كالقاف والضاد فقال القاضي تكره
إمامته وتصح أعجميا كان أو عربيا. وقيل فمن قرأ ولا الضالين بالظاء لا تصح صلاته لأنه يحيل
المعنى يقال ظل يفعل كذل إذا فعله نهارا فهو كالألثغ وتكره إمامة الفأفاء والتمتام، وتصلح لأنهما
يأتيان بالحروف على وجهها ويزيدان زيادة هما مغلوبان عليها فعفي عنها ويكره تقديمهما لهذه الزيادة
* (مسألة) * (ويكره أن يؤم نساء أجانب لا رجل معهن)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلو الرجل بالمرأة الأجنبية ولا بأس أن يؤم ذوات محارمه،
وأن يؤم النساء مع الرجل فقد كن النساء يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أم انسا واليتيم وأمه
* (مسألة) * (ويكره أن يؤم قوما أكثرهم له كارهون)
57

لما روى أبو أمامة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد
الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون " حديث حسن
غريب. وعن عبد الله ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة لا يقبل منهم صلاة من
تقدم قوما وهم له كارهون، ورجل يأتي الصلاة دبارا - والدبار أن يأتي بعد أن يفوت الوقت -
ورجل اعتبد محررا " رواه أبو داود. وقال علي لرجل أم قوما وهم له كارهون انك لخروط قال أحمد
إذا كرهه اثنان أو ثلاثة فلا بأس حتى يكرهه أكثرهم، فإن كان ذا دين وسنة فكرهه القوم لذلك
لم تكره إمامته. قال منصور أما إنا سألنا عن ذلك فقيل لنال إنما عنى بهذا الظلمة، فأما من أقام
السنة فإنما الاثم على من كرهه، قال القاضي والمستحب أن لا يؤمهم صيانة لنفسه وان استوى الفريقان
فالأولى أن لا يؤمهم أراد بذلك الاختلاف والله أعلم
* (مسألة) * (ولا بأس بإمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما)
لا بأس بإمامة ولد الزنا وهو قول عطاء وسليمان بن موسى والحسن والنخعي والزهري وعمرو
ابن دينار وإسحاق وقال أصحاب الرأي ولا تجزي الصلاة خلفه، وكره مالك أن يتخذ إماما راتبا
وقال الشافعي يكره مطلقا لأن الإمامة منصب فضيلة فكره تقديمه فيها كالعبد
ولنا عموم قوله عليه السلام " يؤم القوم أقرؤهم " وقالت عائشة ليس عليه من وزر أبوية شئ
قال الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقال سبحانه (وإن أكرمكم عند الله أتقاكم " والعبد
لا نكرة إمامته لكن الحر أولى منه ولو سلم ذلك فالعبد ناقص في أحكامه لا يلي النكاح ولا المال
بخلاف هذا ولا بأس بإمامة الجندي والخصي إذا كانا مرضيين لأنه عدل يصلح للإمامة أشبه غيره
* (فصل) * ولا بأس بإمامة الاعرابي إذا كان يصلح نص عليه وهو قول عطاء والثوري والشافعي
واسحق وأصحاب الرأي، وقد روي عن أحمد أنه قال لا تعجبني إمامة الاعرابي إلا أن يكون قد
سمع وفقه لأن الغالب عليهم الجهل، وكره ذلك أبو مجاز وقال مالك لا يؤمهم لقول الله تعالى
58

(الاعراب أشد كفرا) الآية. ولنا عموم قوله عليه السلام " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " ولأنه
مكلف عدل تصح صلاته لنفسه أشبه المهاجر
* (فصل) * والمهاجر أولى منه لا يقدم على المسبوق بالهجرة فمن لا هجرة له أولى. قال أبو الخطاب
والحضري أولى من البدوي لأنه مختلف في إمامته ولان الغالب عليهم الجفاء وقلة المعرفة بحدود الله تعالى
* (مسألة) * (ويصح ائتمام مؤدي الصلاة بمن يقضيها) مثل أن يكون عليه ظهر أمس فأراد قضاءها
فائتم به رجل عليه ظهر اليوم ففيه روايتان. أصحهما انه يصح نص عليه، وفي رواية ابن منصور
وهذا اختيار الخلال وقال المذهب عندي في هذا رواية واحدة وغلط من نقل غيرها لأن القضاء
يصح بنية الأداء فيما إذا صلى فبان بعد خروج الوقت، وكذلك من يقضي الصلاة يصلي خلف من
يؤديها لأنه في معناه، والرواية الثانية لا يصح، نقلها صالح لأن نيتهما مختلفة هذا ينوي قضاء وهذا أداء
* (فصل) * ويصح ائتمام المفترض بالمتنفل ومن يصلي الظهر بمن يصلي العصر في إحدى الروايتين
وفي الأخرى لا تصح فيهما. اختلف عنه في صحة ائتمام المفترض بالمتنفل فنقل عنه حنبل وأبو الحارث
لا يصح، اختاره أكثر الأصحاب وهو قول الزهري ومالك وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه " متفق عليه، ولان صلاة المأموم لا تتأدى
59

بنية الإمام أشبه صلاة الجمعة خلف من يصلي الظهر. والثانية تصح نقلها عنه إسماعيل بن سعيد
وأبو داود وهذا قول عطاء والأوزاعي والشافعي وأبي ثور وابن المنذر. قال شيخنا وهي أصح لأن
معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله وسلم ثم يرجع فيصلي بقومه تلك الصلاة متفق عليه وصلى
النبي صلى الله عليه وسلم بطائفة من أصحابه في صلاة الخوف ركعتين ثم سلم ثم صلى بالطائفة الأخرى
ركعتين ثم سلم رواه أبو داود والأثرم وهو في الثانية متنفل مفترضين ولأنهما صلاتان اتفقتا في الافعال
فجاز ائتمام المصلي في إحداهما بالمصلي في الأخرى كالمتنفل خلف المفترض. فأما حديثهم فالمراد به
لا تختلفوا عليه في الافعال لأنه إنما ذكر في الحديث الافعال فقال فإذا سجد فاسجدوا ولهذا صح ائتمام المتنفل
بالمفترض وقياسهم ينتقض بالمسبوق في الجمعة إذا أدرك أقل من ركعة فنوى الظهر خلف من يصلي الجمعة
* (فصل) * فأما صلاة المتنفل خلف المفترض فلا نعلم في صحتها خلافا وقد دل عليه قوله عليه
السلام " ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه "
* (فصل) * فأما صلاة الظهر خلف من يصلي العصر ففيه روايتان وكذلك صلاة العشاء خلف
من يصلي التراويح أحدهما يجوز نقلها عنه إسماعيل بن سعيد فإنه قال له ما ترى إن صلى في رمضان
خلف إمام يصلي بهم التراويح قال يجزيه ذلك من المكتوبة. والثانية لا يجوز نقلها عنه المروذي
لأن أحدهما لا يتأدى بنية الأخرى كصلاة الجمعة والكسوف خلف من يصلى غيرهما أو صلاة غيرهما
60

خلف من يصليهما لم تصح رواية واحدة لأنه يفضي إلى المخالفة في الافعال فيدخل في عموم قوله
عليه السلام " فلا تختلفوا عليه "
* (فصل) * ومن صلى الفجر ثم شك هل طلع الفجر أو لا لزمته الإعادة وله أن يؤم فيها من
لم يصل، وقال بعض أصحابنا تخرج على الروايتين في إمامة المتنفل بالمفترض والصحيح الأول لأن
الأصل بقاء الصلاة في ذمته ووجوب أفعالها فأشبه ما لو شك هل صلى أو لا، ولو فاتت المأموم ركعة
فصلى الإمام خمسا ساهيا فقال ابن عقيل لا يعتد للمأموم بالخامسة لأنها سهو وغلط، وقال القاضي هذه
الركعة نافلة للإمام وفرض للمأموم فيخرج فيها الروايتان. وقد سئل أحمد عن هذه المسائل فتوقف
فيها. قال شيخنا والأولى انه يحتسب له بها لأنه لو لم يحتسب له بها لزمه أن يصلي خمسا مع علمه
بذلك ولان الخامسة واجبة على الإمام عند من يوجب عليه البناء على اليقين، ثم إن كانت نفلا فقد
ذكرنا ان الصحيح صحة الائتمام فيه، وإن صلى بقوم الظهر يظنها العصر فقال أحمد يعيد ويعيدون وهذا على
الرواية التي منع فيها ائتمام المفترض بالمتنفل، فإن ذكر الإمام وهو في الصلاة فأتمها عصرا كانت له نفلا
وان قلب بنية إلى الظهر بطلت صلاته لما ذكرنا متقدما، وقال ابن حامد يتمها والفرض باق في ذمته
* (فصل في الموقف) * السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام إذا كان المأمومون جماعة، فالسنة
أن يقفوا خلف الإمام رجالا كانوا أو نساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه فيقومون
61

خلفه ولان جابرا وجبارا لما وقفا عن يمينه وشماله ردهما إلى خلفه وإن كانا اثنين، فكذلك لما روى
جابر قال سرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فقام يصلي فتوضأت ثم جئته حتى قمت عن يساره
فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره فأخذنا جميعا بيديه
فأقامنا خلفه رواه أبو داود وهذا قول عمر وعلي وجابر بن زيد والحسن ومالك والشافعي وأصحاب
الرأي، وكان ابن مسعود يرى أن يقفا من جانبي الإمام لأنه يروى عنه انه صلى بين علقمة والأسود
وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، رواه أبو داود
ولنا الحديث الذي ذكرناه فإنه أخرهما إلى خلفه ولا ينقلهما إلا إلى الأكمل وصلى النبي
صلى الله عليه وسلم بأنس واليتيم فجعلهما خلفه. وحديث ابن مسعود يدل على الجواز فإن كان أحدهما
صبيا فذلك في أصح الروايتين إن كانت الصلاة تطوعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أنسا
واليتيم وراءه، وإن كان فرضا جعل الرجل عن يمينه والغلام عن يساره كما في حديث ابن مسعود
أو جعلهما عن يمينه، وان جعلهما خلفه فقال بعض أصحابنا لا يصح لأنه لا يصح أن يؤمه فيه كالمرأة
ويحتمل أن يصح لأنه بمنزلة المتنفل والمتنفل يصاف المفترض
* (مسألة) * (فإن وقفوا قدامه لم يصح)
62

وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وقال مالك وإسحاق يصح لأن ذلك لا يمنع الاقتداء به فأشبه
من خلفه، ولنا قوله عليه السلام " إنما جعل الإمام ليؤتم به " ولأنه يحتاج في الاقتداء إلى الالتفات
إلى ورائه ولان ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو في معنى المنقول فلم يصح كما لو
صلى في بيته بصلاة الإمام، ويفارق من خلف الإمام فإنه لا يحتاج في الاقتداء إلى الالتفات بخلاف
هذا، وقد قال بعض أصحابنا يجوز للمرأة أن تؤم الرجال في صلاة التراويح ويكونون بين يديها.
وقد ذكرنا فساد ذلك فيما مضى، وإن وقفوا عن يمينه أو عن جانبيه صح لما ذكرنا من حديث ابن
مسعود ولان وسط الصف موقف لإمام العراة وللمرأة إذا أمت النساء، ويصح أن يقفوا عن يمينه
لأنه موقف للواحد على ما نذكره إن شاء الله
* (مسألة) * (وإن كان واحد وقف عن يمينه رجلا كان أو غلاما)
لما روينا من حديث جابر وروى ابن عباس قال قام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل
فقمت ووقفت عن يساره فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه متفق عليه
* (مسألة) * (وإن وقف خلفه أو عن يساره لم تصح)
وجملة ذلك أنه من صلى وحده خلف الإمام ركعة كاملة لم تصح صلاته وهذا قول النخعي
63

واسحق وابن المنذر وغيرهم، وأجازه الحسن ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي لأن
أبا بكرة ركع دون الصف فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة ولأنه موقف للمرأة فكان موقفا
للرجال كما لو كان مع جماعة
ولنا ما روى وابصة بن معبد ان النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده
فأمره أن يعيد، رواه أبو داود وغيره وقال ابن المنذر ثبت الحديث وفي لفظ سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن رجل صلى وراء الصف وحده فقال يعيد رواه تمام في الفوائد، وعن علي بن شيبان
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسلم فانصرف ورجل فرد خلف الصف فوقف نبي الله صلى الله
عليه وسلم حتى انصرف الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " استقبل صلاتك فلا صلاة لفرد
خلف الصف " رواه الأثرم وقال قلت لأبي عبد الله حديث ملازم ابن عمرو يعني هذا الحديث أيضا
حسن؟ قال نعم. ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته كما لو وقف قدام الإمام. فأما حديث أبي بكرة فإن
النبي صلى الله عليه وسلم نهاه فقال " لا تعد " والنهي يقتضي الفساد وعذره فيما فعله لجهله وللجهل تأثير في
العفو ولا يلزم من كونه موقفا للمرأة أن يكون موقفا للرجل بدليل اختلافهما في كراهة الوقوف واستحبابه
* (فصل) * وإن وقف عن يسار الإمام وكان عن يمين الإمام أحد صحت صلاته لما ذكرنا من حديث
ابن مسعود ولان وسط الصف موقف لإمام العراة وان لم يكن عن يمينه أحد فصلاته فاسدة، وكذلك
64

إن كانوا جماعة وأكثر أهل العلم يرون ان الأولى للواحد أن يقف عن يمين الإمام. روي عن سعيد
ابن المسيب انه كان إذا لم يكن معه إلا واحد جعله عن يساره، وقال مالك والشافعي وأصحاب
الرأي تصح صلاة من وقف عن يسار الإمام لأن ابن عباس لما أحرم عن يسار النبي صلى الله عليه
وسلم أداره عن يمينه ولم تبطل تحريمته ولو لم يكن موقفا لزمه استئنافها كقدام الإمام ولأنه أحد الجانبين
أشبه اليمين وكما لو كان عن يمينه أحد
ولنا حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم أداره عن يمينه، وكذلك حديث جابر
وقولهم لم يأمره بابتداء التحريمة لأن ما فعله قبل الركوع لا يؤثر فإن الإمام يحرم قبل المأمومين وكذلك
المأمومون يحرم بعضهم قبل بعض الباقين، ولا يضر انفراده ولا يلزم من العفو عن ذلك العفو عن
ركعة كاملة. قولهم هو موقف إذا كان أحد عن يمينه قلنا لا يلزم من كونه موقفا في صورة أن يكون
موقفا في غيرها بدليل ما وراء الإمام فإنه موقف للاثنين وليس موقفا للواحد، وان منعوه فقد دل
عليه الحديث المذكور والقياس انه يصح كما لو كان عن يمينه وكون النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس
وجابرا يدل على الفضيلة لا على عدم الصحة بدليل رد جابر وجبار إلى وراءه مع صحة صلاتهما عن جانبه
* (فصل) * فإن كان خلف الإمام صف فهل تصح صلاة من وقف عن يساره؟ فيه احتمالان.
أحدهما يصح لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه صلى وأبو بكر عن يمينه، وكان أبو بكر
65

الإمام وكان مع الإمام ولان مع الإمام من تنعقد صلاته به فصح كما لو كان عن يمينه أحد، والثاني
لا تصح لأنه ليس بموقف إذا لم يكن صف فلم يكن موقفا مع الصف كإمام الإمام وفارق إذا كان
معه آخر لأنه معه في الصف فكان صفا واحدا فهو كما لو وقف معه خلف الصف
* (مسألة) * (وإن أم امرأة وقفت خلفه)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أخروهن من حيث أخرهن الله " وروى أنس ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلى بأمه أو خالته فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا رواه مسلم، وان أم رجلا
وامرأة وقف الرجل عن يمينه ووقفت المرأة خلفهما لما ذكرنا، وإن كانا رجلين وقفا خلفه والمرأة
خلفهما كما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فصففت أنا واليتيم وراءه والمرة خلفنا
فصلى لنا رسول الله ركعتين متفق عليه، وكان الحسن يقول في ثلاثة أحدهم امرأة يقوم بعضهم
وراء بعضهم وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه فيه، واتباع السنة أولى
* (فصل) * فإن وقفت المرأة في صف الرجال كره لها ذلك ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها
وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو بكر تبطل صلاة من يليها ومن خلفها دونها وهو قول أبي حنيفة
لأنه منهي عن الوقوف إلى جانبها أشبه الوقوف أمام الإمام. ولنا انها لو وقفت في غير صلاة لم تبطل
صلاته كذلك في الصلاة، وقد ثبت أن عائشة كانت تعترض بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي
66

قولهم: وهو منهى عنه، قلنا هي منهية عن الوقوف مع الرجال فإذا لم تبطل صلاتها فصلاتهم أولى
وقال ابن عقيل الأشبه بالمذهب عندي بطلان صلاتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أخروهن "
وهو موقف منهي عنه أشبه موقف الفذ خلف الإمام والصف
* (مسألة) * (وإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء)
لما روى أبو داود ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى فصف الرجال ثم صف خلفهم الغلمان. وتقدم الخناثى
على النساء لجواز أن يكون رجلا (وكذلك يفعل في تقديمهم إلى الإمام إذا اجتمعت جنائزهم)
وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى
* (مسألة) * (ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو محدث يعلم حدثه فهو فذ، وكذلك الصبي
إلا في النافلة) أما إذا وقف معه كافر ومحدث يعلم حدثه لم تصح صلاته لأن وجوده وعدمه واحد
وكذلك إذا وقف معه سائر من لا تصح صلاته لما ذكرنا. وقد روي عن أحمد أنه قال إذا أم
رجلين أحدهما غير طاهر أتم الطاهر معه، وهذا يحتمل انه أراد إذا علم المحدث حدث نفسه أتم الآخر
إن كان عن يمين الإمام وإن لم يكن عن يمينه تقدم فصار عن يمينه. فأما إن كانا خلفه وأتم الصلاة
مع علم المحدث بحدثه لم تصح وإن لم يعلمه صح لأنه لو كان إماما صح الائتمام به فصحة مصافته أولى
* (فصل) * فإن لم يقم معه إلا امرأة فقال ابن حامد لا تصح صلاته لأنها لا تؤمه فلا تكون معه
67

صفا ولأنها من غير أهل الوقوف معه فوجودها كعدمها، وقال ابن عقيل تصح على أصح الوجهين
لأنه وقف معه مفترض صلاته صحيحة أشبه ما لو وقف معه رجل، وليس من شرط المصافة أن يكون
ممن تصح إمامته بدليل القارئ مع الأمي والفاسق والمفترض مع المتنفل، وإن وقف معه خنثى مشكل
لم يكن معه صفا على قول ابن حامد لأنه يحتمل أن يكون امرأة
* (فصل) * وإن وقف معه فاسق أو متنفل صار صفا لأن صلاتهم صحيحة، وكذلك لو وقف
قارئ مع أمي أو من به سلس البول مع صحيح أو قائم مع قاعد كانا صفا لما ذكرنا
* (فصل) * إذا وقف مع البالغ وخلفه صبي فإن كان في النافلة صح لما ذكرنا من حديث أنس
وذكر أبو الخطاب رواية انه لا يصح بناء على إمامته في النفل، وإن كان في الفرض فقد روى الأثرم
عن أحمد انه توقف في هذه المسألة وقال ما أدري فذكر له حديث أنس فقال ذلك في التطوع واختلف
فيه أصحابنا فقال بعضهم لا يصح لأنه لا يصلح إماما للرجال في الفرض كالمتنفل، ولا يشترط لصحة
مصالته صلاحيته للإمامة بدليل الفاسق والعبد والمسافر في الجمعة والأصل المقيس عليه ممنوع
* (فصل) * إذا أم الرجل خنثى مشكلا وحده فالصحيح انه يقف عن يمينه لأنه إن كان رجلا
فهذا موقفه وإن كان امرأة لم تبطل صلاتها بوقوفها مع الإمام كما لو وقفت مع الرجال، ولا يقف
وحده لجواز أن يكون رجلا فإن كان معهما رجل وقف الرجل عن يمين الإمام والخنثى عن يساره
68

أو عن يمين الرجل ولا يقفان خلفه لجواز أن يكون امرأة إلا عند من أجاز للرجل مصافة المرأة،
فإن كان معهم رجل آخر وقف الثلاثة خلفه صفا لما ذكرنا، وإن كانا خنثيين مع الرجلين فقال أصحابنا
يقف الخنثيان صفا خلف الرجلين لاحتمال أن يكونا امرأتين، ويحتمل أن يقفا مع الرجلين لأنه يحتمل
أن يكون أحدهما رجلا فلا تصح صلاته، وإن كان معهم نساء وقفن خلف الخناثى على ما ذكرنا
* (فصل) * وإذا كان المأموم واحدا فكبر عن يسار الإمام أداره الإمام عن يمينه ولم تبطل
تحريمته كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن عباس، وإن كبر وحده خلف الإمام ثم تقدم عن يمينه
أو جاء آخر فوقف معه أو تقدم إلى الصف بين يديه أو كانا اثنين فكبر أحدهما وتوسوس الآخر
ثم كبر قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أو كبر واحد عن يمين الإمام فأحس بآخر فتأخر معه قبل
أن يحرم الثاني ثم أحرم أو أحرم عن يسار الإمام فجاء آخر فوقف عن يمينه قبل رفع الإمام رأسه
من الركوع صحت صلاتهم وقد نص عليه أحمد في رواية الأثرم في الرجلين يقومان خلف الإمام ليس
خلفه غيرهما خاف أن يدخل في الصلاة خلف الصف فقال ليس هذا من ذاك، ذاك في الصلاة بكمالها
أو صلى ركعة كاملة وما أشبه هذا، فأما هذا فأرجو أن لا يكون به بأس، ولو أحرم رجل خلف
الصف ثم خرج من الصف رجل فوقف معه صح لما ذكرنا
* (فصل) * وإن كبر رجل عن يمين الإمام وجاء آخر فكبر عن يساره أخرجهما الإمام إلى
69

ورائه كفعل النبي صلى الله عليه وسلم بجابر وجبار، ولا يتقدم الإمام إلا أن يكون وراءه ضيق وإن
تقدم جاز وإن كبر الثاني مع الأول عن اليمين وخرجا جاز، وان دخل الثاني وهما في التشهد كبر
وجلس عن يسار الإمام أو عن يمين الآخر ولا يتأخران في التشهد لأن فيه مشقة
* (فصل) * وإن أحرم اثنان وراء الإمام فخرج أحدهما لعذر أو لغيره دخل الآخر في الصف
أو نبه رجلا فخرج معه أو دخل فوقف عن يمين الإمام فإن لم يمكنه شئ من ذلك نوى الانفراد وأتم
منفردا لأنه عذر حدث له أشبه ما لو سبق إمامه الحدث.
* (مسألة) * ومن جاء فوجد فرجة وقف فيها فإن لم يجد وقف عن يمين الإمام ولم يجذب رجلا ليقوم معه فإن لم
يمكنه ذلك نبه رجلا ليقوم معه (1) فخرج فوقف معه وهذا قول عطاء والنخعي وكره ذلك مالك والأوزاعي
واستقبحه أحمد وإسحق، قال ابن عقيل جوز أصحابنا جذب رجل يقوم معه صفا قال وعندي انه
لا يفعل لما فيه من التصرف بغير اذنه. قال شيخنا والصحيح جواز ذلك لأن الحاجة داعية إليه فجاز
كالسجود على ظهر انسان أو قدمه حال الزحام وليس هذا تصرفا فيه بل هو تنبيه له فجرى مجرى
مسألته أن يصلي معه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لينوا في أيدي إخوانكم "
يريد ذلك فإن امتنع من الخروج وحده معه صلى وحده

(1) في المتن المطبوع فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه اه‍ ويتأمل قوله بعده: فخرج فوقف معه. على أن هذه المسألة كانت في الأصل مدغمة في الشرح
70

* (مسألة) * (فإن صلى فذا ركعة لم تصح)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لفرد " رواه الأثرم
* (مسألة) * (وإن ركع فذا ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل رفع الإمام صحت صلاته
وإن رفع ولم يسجد صحت، وقيل إن علم النهي لم تصح وإن فعله لغير عذر لم تصح)
من ركع دون الصف ثم دخل في الصف لم يخل من ثلاثة أحوال
(أحدها) أن يصلي ركعة ثم يدخل فلا تصح صلاته لما ذكرنا (الثاني) أن يمشي وهو راكع ثم
يدخل في الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أو يأتي آخر فيقف معه قبل رفع الإمام رأسه
فتصح صلاته لأنه أدرك مع الإمام في الصف ما يدرك به الركعة، وممن رخص في ذلك زيد بن
ثابت وفعله ابن مسعود وزيد بن وهب وعروة وسعيد بن جبير وجوزه الزهري والأوزاعي ومالك
والشافعي إذا كان قريبا من الصف (والحال الثالث) أن لا يدخل في الصف الا بعد رفع الإمام
رأسه من الركوع أو يقف معه آخر في هذه الحال ففيه ثلاث روايات إحداهن تصح صلاته وهذا
مذهب مالك والشافعي لأن أبا بكرة فعل ذلك وفعله من ذكرنا من الصحابة ولأنه لم يصل ركعة
كاملة أشبه ما لو أدرك الركوع، والثانية تبطل صلاته بكل حال لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة
71

أشبه ما لو صلى ركعة كاملة، والثالثة انه إن كان جاهلا بتحريم ذلك صحت صلاته وإلا لزمته الإعادة
اختارها الخرقي لما روي أن أبا بكرة انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن
يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي الله صلى عليه وسلم فقال " زادك الله حرصا ولا تعد " رواه البخاري
فلم يأمره بإعادة الصلاة ونهاه عن العود، والنهى يقتضي الفساد، ولم يفرق القاضي والخرقي في هذه
المسألة بين من دخل قبل رفع رأسه من الركوع أو بعد الرفع، وذلك منصوص أحمد والدليل يقتضي
التفريق فيحصل كلامهم عليه وقد ذكره أبو الخطاب على نحو ما ذكرنا
* (فصل) * فإن فعل ذلك لغير عذر ولا خشي الفوات لم تصح صلاته في أحد الوجهين لأنه فاته
ما تفوته الركعة بفواته وإنما أبيح للمعذور لحديث أبي بكرة فيبقى فيما عداه على قضية الدليل، والثاني
تصح لأن الموقف لا يختلف بخيفة الفوات وعدمه كما لو فاتته الركعة كلها
* (فصل) * السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والاسن وأن يلي الإمام أكملهم وأفضلهم
قال أحمد يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن ويؤخر الصبيان لما روى أبو سعيد الأنصاري قال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين
72

يلونهم " (2) وقال أبو سعيد ان النبي صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرا فقال " تقدموا فائتموا بي
وليأتم بكم من بعدكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل " رواهما أبو داود. وعن
قيس بن عبادة قال أتيت المدينة للقاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت في الصف الأول
فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري فنحاني وقام في مكاني فما عقلت صلاتي، فلما صلى
قال يا بني لا يسؤك الله فاني لم آت الذي أتيت بجهالة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا
" كونوا في الصف الذي يليني " واني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك. وكان الرجل أبي بن
كعب رواه أحمد والنسائي
* (فصل) * والصف الأول أفضل للرجال، وللنساء بالعكس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها " رواه أبو داود
وعن أنس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أتموا الصف الأول فما كان من نقص فليكن في الصف
الآخر " رواه أبو داود، وعن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصف الأول
على مثل صف الملائكة، ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه " رواه الإمام أحمد، وميامن الصفوف أفضل
لقول عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله وملائكته يصلون على ميامن

(2) رواه بهذا اللفظ أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود
بزيادة " وإياكم وهيشات الأسواق أي جلبتها وخصوماتها " ورواه أحمد ومسلم والنسائي
وابن ماجة من حديث أبي مسعود الأنصاري بزيادة في أوله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول " استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم وليلني
منكم " الخ فعز والمصنف له إلى أبي سعيد غلط. وحديث
أبي سعيد " هو الخدري " الذي بعده رواه أيضا مسلم والنسائي وابن ماجة فالمؤلف فقيه لا محدث
73

الصفوف " رواه أبو داود، ويستحب أن يقف الإمام في مقابلة وسط الصف لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم " وسطوا الإمام وسدوا الخلل " (1)
* (مسألة) * وإذا كان المأموم يرى من وراء الإمام صحت صلاته إذا اتصلت الصفوف،
وان لم ير من وراءه لم تصح وعنه تصح إذا كان في المسجد)
وجملة ذلك أنه إذا كان الإمام والمأموم في المسجد يعتبر اتصال الصفوف. قال الآمدي لا خلاف
في المذهب انه إذا كان في أقصى المسجد وليس بينه وبين الإمام ما يمنع الاستطراق والمشاهدة انه
يصح اقتداؤه به وان لم تتصل الصفوف وهذا مذهب الشافعي، وذلك لأن المسجد بني للجماعة
فكل من حصل فيه فقد حصل في محل الجماعة، فإن كان المأموم خارج المسجد أو كانا جميعا في غير
المسجد صح أن يأتم به بشرط امكان المشاهدة واتصال الصفوف وسواء كان المأموم في درجة المسجد
أو في دار أو على سطح والإمام على سطح آخر، أو كان في صحراء أو في سفينتين وهذا مذهب الشافعي
إلا أنه يشترط أن لا يكون بينهما ما يمنع الاستطراق في أحد القولين. ولنا ان هذا لا تأثير له في
المنع مع الاقتداء بالإمام ولم يرد فيه نهي ولا هو في معنى ذلك فلم يمنع صحة الائتمام به كالفعل اليسير
إذا ثبت هذا فإن معنى اتصال الصفوف أن لا يكون بينهما بعد لم تجر العادة به بحيث يمنع امكان

(1) رواه أبو داود عن أبي هريرة وفيه علتان، وان سكت عنه هو والمنذري
74

الاقتداء، وحكي عن الشافعي انه حد الاتصال بما دون ثلاثمائة ذراع والتحديدات بابها التوقيف
ولا نعلم في هذا نصا ولا اجماعا يعتمد عليه فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالتفريق والاحراز
* (فصل) * فإن كان بين المأموم والإمام حائل يمنع رؤية الإمام ومن وراءه فقال ابن حامد فيه
روايتان إحداهما لا يصح الائتمام به اختاره القاضي لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها
لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب ولأنه لا يمكنه الاقتداء به في الغالب، والثانية تصح
قال أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبواب المسجد مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس،
وذلك لأنه يمكنه الاقتداء بالإمام فصح من غير مشاهدة كالأعمى ولان المشاهدة تراد للعلم بحال الإمام
والعلم استماع التكبير فجرى مجرى الرؤية، وعنه انه يصح إذا كان في المسجد دون غيره لأن المسجد
محل الجماعة وفي مظنة القرب ولأنه لا يشترط فيه اتصال الصفوف، لذلك فجاز أن لا يشترط الرؤية
واختار شيخنا التساوي فيهما لاستوائهما في المعنى المجوز أو المانع فوجب استواؤهما في الحكم وإنما
صح مع عدم المشاهدة لأنه يشترط أن يسمع التكبير فإن لم يسمعه لم يصح ائتمامه بحال لأنه لا يمكنه الاقتداء
* (فصل) * وكل موضع اعتبرنا المشاهدة فإنه يكفي مشاهدة من وراء الإمام من باب إمامه أو
عن يمينه أو عن يساره ومشاهدة طرف الصف الذي وراءه لأنه يمكنه الاقتداء بذلك، وإن حصلت
75

المشاهدة في بعض أحوال الصلاة كفاه في الظاهر لما روت عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلي من الليل وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام
أناس يصلون بصلاته والحديث رواه البخاري، والظاهر أنهم كانوا يرونه في حال قيامه
* (فصل) * فإن كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن أو كانا في سفينتين مفترقتين ففيه وجهان
أحدهما لا تصح اختاره أصحابنا وهو قول أبي حنيفة لأن الطريق ليست محلا للصلاة أشبه ما يمنع لاتصال
والثاني تصح اختاره شيخنا وهو مذهب مالك والشافعي لأنه لا نص في منع ذلك ولا إجماع ولا
هو في المعنى المنصوص لأنه لا يمنع الاقتداء والمؤثر في المنع ما يمنع الرؤية أو سماع الصوت وليس هذا
بواحد منهما قولهم إن بينهما ما ليس محلا للصلاة ممنوع وأن سلم في الطريق فلا يصح في النهر بدليل
صحة الصلاة عليه في السفينة وحال جموده ثم كونه ليس محلا للصلاة إنما يؤثر في منع الصلاة فيه، أما
في صحة الاقتداء بالإمام فتحكم محض لا يلزم المصير إليه، فأما إن كانت صلاته جمعة أو عيدا أو جنازة لم
يؤثر ذلك فيها لأنها تصح في الطريق، وقد صلى أنس في موت حميد بن عبد الرحمن بصلاة الإمام
وبينهما طريق والله أعلم
* (مسألة) * (ولا يكون الإمام أعلى من المأموم، فإن فعل وكان كثيرا فهل تصح صلاته؟ وجهين):
76

ويكره أن يكون الإمام أعلى من المأموم في ظاهر المذهب سواء أراد تعليمهم أو لم يرد وهذا
قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره واختاره الشافعي
للإمام الذي يعلم من خلفه أن يصلي على الشئ المرتفع ليراه من خلفه ليقتدوا به، لما روى سهل بن
سعد قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه يعني المنبر فكبر وكبر الناس وراءه ثم
ركع وهو على المنبر ثم رفع ونزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته
ثم أقبل على الناس فقال " أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي " متفق عليه
ولنا ما روى عمار بن ياسر أنه صلى بالمدائن فتقدم فقام على دكان والناس أسفل منه فتقدم حذيفة
فأخذ بيده فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة فلما فرغ من صلاته قال له حذيفة ألم تسمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول " إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم " قال عمار فلذلك اتبعتك
حين أخذت على يدي، رواه أبو داود ولأنه يحتاج أن يقتدي بإمامه فينظر ركوعه وسجوده،
فإذا كان أعلى منه احتاج إلى رفع بصره إليه وذلك منهي عنه في الصلاة. فأما حديث سهل فالظاهر
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الدرجة السفلى لئلا يحتاج إلى عمل كثير في الصعود والنزول
فيكون ارتفاعا يسيرا لا بأس به جمعا بين الاخبار، ويحتمل أن يختص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه
فعل شيئا ونهى عنه فيكون فعله لنفسه ونهيه لغيره، وكذلك لا يستحب لغيره عليه السلام ولان النبي
77

صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة على المنبر فإن سجوده وجلوسه إنما كان على الأرض بخلاف ما اختلفنا فيه
* (فصل) * ولا بأس بالعلو اليسير كدرجة المنبر ونحوها لما ذكرنا من حديث سهل ولان
النهي معلل بما يفضي إليه من رفع البصر في الصلاة وهذا يختص الكثير
* (فصل) * فإن كان العلو كثيرا أبطل الصلاة في قول ابن حامد وهو قول الأوزاعي لأن
النهي يقتضي فساد المنهي عنه، وقال القاضي لا تبطل وهو قول أصحاب الرأي لأن عمارا أتم صلاته
ولو كانت فاسدة لاستأنفها ولان النهي معلل بما يفضي إليه من رفع البصر وهو لا يبطل الصلاة فسببه أولى
* (فصل) * فإن كان مع الإمام من هو مساو له ومن هو أسفل منه اختصت الكراهة بمن هو
أسفل منه لوجود المعنى فيهم خاصة، ويحتمل أن يتناول النهي الإمام لكونه منهيا عن القيام في مكان
أعلى من مقامهم، فعلى هذا الاحتمال تبطل صلاة الجميع عند من أبطل الصلاة بارتكاب النهي
* (فصل) * فإن كان المأموم أعلى من الإمام كالذي على سطح المسجد أو رف أو دكة عالية فلا
بأس لأنه روي عن أبي هريرة انه صلى بصلاة الإمام على سطح المسجد وفعله سالم وبه قال الشافعي
وأصحاب الرأي، وقال مالك يعيد إذا صلى الجمعة فوق سطح المسجد بصلاة الإمام. ولنا ما ذكرنا
من فعل أبي هريرة ولأنه يمكنه الاقتداء بإمامه أشبه المتساويين، ولان علو الإمام إنما كره لحاجة
المأمومين إلى رفع البصر المنهي عنه وهذا بخلافه
78

* (مسألة) * (ويكره للإمام أن يصلي في طاق القبلة)
يكره للإمام أن يدخل في طاق القبلة، كره ذلك ابن مسعود وعلقمة والأسود لأنه يستتر
عن بعض المأمومين فكره كما لو كان بينه وبينهم حجاب، وفعله سعيد بن جبير وأبو عبد الرحمن السلمي
فأما إن كان لحاجة ككون المسجد ضيقا لم يكره للحاجة إليه
* (مسألة) * (ويكره للإمام أن يتطوع في موضع المكتوبة)
نص عليه أحمد وقال: كذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فأما المأموم فلا بأس أن
يتطوع مكانه فعل ذلك ابن عمر وقال اسحق وروي عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال " لا يتطوع الإمام في مكانه الذي يصلي فيه بالناس " رواه أبو داود إلا أن أحمد
قال لا أعرف ذلك عن غير علي
* (مسألة) * (ويكره للمأمومين الوقوف بين السواري إذا قطعت صفوفهم)
وكره ذلك ابن مسعود والنخعي ورخص فيه ابن سيرين ومالك وأصحاب الرأي وابن المنذر
ولنا ما روى معاوية بن قرة عن أبيه قال كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ونطرد عنها طردا رواه ابن ماجة، فإن كان الصف صغيرا لا ينقطع بها لم يكره لعدم
ما يوجب الكراهة ولا يكره ذلك للإمام
79

* (مسألة) * (ويكره للإمام إطالة القعود بعد الصلاة مستقبل القبلة)
لما روت عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول:
" اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام " رواه ابن ماجة (1) ولأنه لا يستحب
للمأمومين الانصراف قبل الإمام، فإذا أطال الجلوس شق عليهم، فإن لم يقم استحب أن ينحرف
عن قبلته لما روي عن سمرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه
أخرجه البخاري، وعن علي رضي الله عنه انه صلى بقوم العصر ثم أسند ظهره إلى القبلة فاستقبل
القوم رواه الأثرم، قال الأثرم رأيت أبا عبد الله إذا سلم يلتفت ويتربع، قال أبو داود رأيته إذا كان
إماما فسلم انحرف عن يمينه، وروى جابر بن سمرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى
الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسنا، وفي لفظ كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى
تطلع الشمس رواه مسلم
* (مسألة) * (فإن كان معه نساء لبث قليلا لنصرف النساء)
لما روت أم سلمة قالت إن النساء كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله فإذا قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم قام الرجال قال الزهري فنرى ذلك والله أعلم ان ذلك لكي ينفذ من ينصرف
من النساء رواه البخاري، ويستحب للنساء أن لا يجلسن بعد الصلاة لذلك ولان

(1) بل رواه أحمد ومسلم والترمذي أيضا
80

الاخلال به من أحد الفريقين يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء، ويستحب للمأمومين أن لا يقوموا
قبل الإمام لئلا يذكر سهوا فيسجد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم إني إمامكم فلا تسبقوني
بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف " رواه مسلم إلا أن يخالف الإمام السنة في إطالة
الجلوس أو ينحرف فلا بأس بذلك
* (فصل) * وينصرف الإمام حيث شاء عن يمين وشمال لقول ابن مسعود: لا يجعل أحدكم
للشيطان حظا من صلاته، يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم أكثر ما ينصرف عن شماله رواه مسلم (1) وعن لهب (2) انه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم فكان ينصرف عن شقيه رواه أبو داود
* (مسألة) * (فإن أمت امرأة بنساء قامت وسطهن في الصف)
اختلفت الرواية هل يستحب للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة فعنه انه مستحب يروى ذلك عن
عائشة وأم سلمة وعطاء والثوري والأوزاعي والشافعي وأبي ثور، وعن أحمد أنه غير مستحب
وكرهه أصحاب الرأي. وقال الشعبي والنخعي وقتادة: لهن ذلك في التطوع خاصة. وقال
الحسن وإسحاق وسليمان بن يسار: لا تؤم مطلقا ونحوه قول مالك: لأنه يكره لها الاذان وهو
دعاء إلى الجماعة فكره ما يراد له الاذان
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لام ورقة أن تؤم أهل دارها. رواه أبو داود، ولأنهن

(1) بل رواه الجماعة كلهم إلا الترمذي
(2) الصواب: قبيصة بن هلب ورواه الترمذي وابن ماجة أيضا باختلاف في اللفظ
81

من أهل الفرائض أشبهن الرجال، وإنما كره لهن الاذان لما فيه من رفع الصوت ولسن من أهله. إذا
ثبت ذلك فإنها تقوم وسطهن في الصف لا نعلم في ذلك خلافا بين من رأى أن تؤمهن لأن ذلك يروى
عن عائشة وأم سلمة رواه سعيد بن منصور عن أم سلمة، ولأن المرأة يستحب لها التستر ولذلك
لا يستحب لها التجافي وكونها في وسط الصف أستر لها فاستحب لها كالعريان، فإن صلت بين أيديهن
احتمل أن يصح لكونه موقفا في الجملة للرجل، واحتمل أن لا يصح لأنها خالفت موقفها أشبه ما لو
خالف الرجل موقفه، فإن أمت امرأة واحدة قامت عن يمينها كالمأموم من الرجال وإن وقفت خلفها
جاز لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها بدليل حديث أنس
(فصل) وتجهر في صلاة الجهر قياسا على الرجل، فإن كان ثم رجل لم تجهر إلا أن يكونوا
من محارمها فلا بأس به والله أعلم
(فصل) ويعذر في الجمعة والجماعة المريض. قال ابن المنذر: لا أعلم خلافا بين أهل العلم أن
للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض، وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال " من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر - قالوا: وما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف
المرض - لم تقبل منه الصلاة التي صلى " رواه أبو داود وقد كان بلال يؤذن بالصلاة ثم يأتي النبي صلى
الله عليه وسلم وهو مريض فيقول " مروا أبا بكر فليصل بالناس " * (مسألة) * (ومن يدافع أحد الأخبثين أو بحضرة طعام وهو محتاج إليه)
82

لما روت عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا صلاة بحضرة طعام ولا
وهو يدافع الأخبثين " رواه مسلم. وسواء خاف فوات الجماعة أو لم يخف لقوله صلى الله عليه وسلم
" إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء " رواه مسلم
* (مسألة) * (والخائف من ضياع ماله، أو فواته، أو ضرر فيه على نفسه من ضرر أو سلطان
أو ملازمة غريم ولا شئ معه)
الخوف يتنوع ثلاثة أنواع (أحدهما) الخوف على نفسه بأن يخاف سلطانا يأخذه أو لصا
أو سبعا أو سيلا أو نحو ذلك مما يؤذيه في نفسه، أو يخاف غريما يحبسه ولا شئ معه يعطيه، فإن
حبس المعسر ظلم، وكذلك إن كان عليه دين مؤجل خشي أن يطالب به قبل محله، وإن كان الدين
حالا وهو قادر على أدائه فلا عذر له في التخلف لأن مطل الغني ظلم، وإن توجه عليه حد لله تعالى
أو حد قذف فخاف أن يؤخذ به لم يكن ذلك عذرا لأنه يجب عليه وفاؤه، وكذلك أن توجه عليه
قصاص. وقال القاضي: إن رجا الصلح عنه بمال فهو عذر حتى يصالح بخلاف الحدود لأنها
لا تدخلها المصالحة، وحد القذف إن رجا العفو عنه فليس بعذر لأنه يرجو اسقاطه بغير بدل (الثاني)
الخوف على ماله من لص، أو سلطان، أو نحوه، أو يخاف على بهيمة من سبع: أو شرود إن ذهب
وتركها، أو على منزله، أو متاعه، أو زرعه، أو يخاف إباق عبده، أو يكون له خبز في التنور، أو
83

طبيخ على نار يخاف تلفها بذهابه، أو يكون له مال ضائع، أو عبد آبق يرجو وجدانه في تلك الحال
أو يخاف ضياعه ان اشتغل عنه، أو يكون له غريم ان ترك ملازمته ذهب، أو يكون ناطور بستان
أو نحوه يخاف إن ذهب سرق، أو مستأجرا لا يمكنه ترك ما استؤجر على حفظه، فهذا وأشباهه عذر
في التخلف عن الجمعة والجماعة لعموم قوله عليه السلام أو خوف، ولان في أمره عليه السلام بالصلاة
في الرحال لأجل الطين والمطر مع أن ضررهما أيسر من ذلك تنبيها على جوازه (الثالث) الخوف
على ولده وأهله أن يضيعوا، أو يخاف موت قريبه ولا يشهده، فهذا كله عذر في ترك الجمعة والجماعة
وبهذا قال عطاء والحسن والشافعي: ولا نعلم فيه خلافا، وقد استصرخ ابن عمر على سعيد بن زيد
بعد ارتفاع الضحى وهو يتجمر للجمعة فأتاه بالعقبق وترك الجمعة والله أعلم
* (مسألة) * (أو فوات رفقة، أو غلبة النعاس، أو خشية التأذي بالمطر، والوحل، والريح
الشديدة في الليلة المظلمة الباردة)
ويعذر في تركها من يريد سفرا يخاف فوات رفقته لأن عليه في ذلك ضررا، ومن يخاف غلبة
النعاس حتى يفوتاه الجواز له أن يصلي وحده وينصرف لأن الرجل الذي صلى مع معاذ انفرد عند
تطويل معاذ، وخوف النعاس والمشقة فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبره بذلك. ويعذر
في ترك الجماعة من يخاف تطويل الإمام كثيرا لذلك، فإنه إذا جاز ترك الجماعة بعد دخوله فيها
لأجل التطويل فترك الخروج إليها أولى، ويعذر في المطر الذي يبل الثياب، والوحل الذي يتأذى
84

به في بدنه أو ثيابه لما روى عبد الله بن الحارث قال: قال عبد الله بن العباس لمؤذنه في يوم مطير: إذا
قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة وقل: صلوا في بيوتكم، قال: فكأن الناس
استنكروا ذلك. فقال ابن عباس: أتعجبون من ذلك وقد فعل ذلك من هو خير مني، إن الجمعة
عزيمة واني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض. متفق عليه، وقد روى أبو المليح أنه
شهد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح وأصابهم مطر لم تبتل أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في
رحالهم. رواه أبو داود، ويعذر في ترك الجماعة بالريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة لما روى ابن
عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر " صلوا
في رحالكم " متفق عليه، ورواه ابن ماجة باسناد صحيح ولم يقل في السفر
* (باب صلاة أهل الاعذار) *
* (مسألة) * (ويصلي المريض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين " صل قائما،
فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب " رواه البخاري
أجمع أهل العلم على أن من لا يطبق القيام له أن يصلي جالسا لهذا الحديث، ولما روى أنس قال:
85

سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش أو خدش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت
الصلاة فصلى قاعدا وصلينا قعودا. متفق عليه
(فصل) فإن أمكنه القيام الا أنه يخشى تباطؤ برئه أو زيادة مرضه، أو يشق عليه مشقة شديدة
فله أن يصلي قاعدا ونحوه قال مالك وإسحاق، وقال ميمون بن مهران: إذا لم يستطع أن يقوم
لدنياه فليصل جالسا وحكي بجواز ذلك عن أحمد
ولنا قول الله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وهذا حرج، ولان النبي صلى الله
عليه وسلم صلى جالسا لما جحش شقه، والظاهر أن من جحش شقه لا يعجز عن القيام بالكلية ومتى
صلى قاعدا فإنه يكون على صفة صلاة المتطوع جالسا على ما ذكرنا
(فصل) فإن قدر على القيام بأن يتكئ على عصى، أو يستند على حائط،، أو يعتمد على أحد
جانبيه لزمه لأنه قادر على القيام من غير ضرر فلزمه كما لو قدر بغير هذه الأشياء، وإن قدر على
القيام الا أنه يكون على هيئة الراكع كالأحدب والكبير لزمه ذلك لأنه قيام مثله، وإن كان لقصر
سقف لا يمكنه الخروج، أو سفينة، أو خائف لا يعلم به الا إذا رفع رأسه ففيه احتمالان: أحدهما
يلزمه القيام كالأحدب، والثاني لا يلزمه. فإن احمد قال: الذي في السفينة لا يقدر أن يستتم قائما
لقصر سماء السفينة يصلي قاعدا الا أن يكون شيئا يسيرا فيقاس عليه ما في معناه لحديث عمران المذكور
(فصل) فإن قدر المريض على الصلاة وحده قائما ولا يقدر مع الإمام لتطويله احتمل أن
يلزمه القياس ويصلي وحده لأن القيام ركن لا تتم صلاته الا به، والجماعة تصح الصلاة بدونها
واحتمل أنه مخير بين الامرين لأنا أبحنا له ترك القيام المقدور عليه مع إمام الحي العاجز عنه مراعاة
للجماعة فهاهنا أولى، ولان الاجر يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام لأن صلاة القاعد
على النصف من صلاة القائم، فصلاة الجماعة تفضل على صلاته وحده سبعا وعشرين درجة
وهذا أحسن، وهو مذهب الشافعي
* (فصل) * فإن عجز عن القعود صلى على جنب لما ذكرنا من الحديث، ويستقبل القبلة بوجهه
وهذا قول مالك والشافعي وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب وأبو ثور وأصحاب الرأي يصلي مستلقيا
ورجلاه إلى القبلة ليكون إيماؤه إليها فإنه إذا صلى على جنبه كان وجهه في الايماء إلى غير القبلة
ولنا قوله عليه السلام فإن لم يستطع فعلى جنب ولأنه يستقبل القبلة إذا كان على جنبه. وإذا
كان على ظهره إنما يستقبل السماء ولذلك يوضع الميت على جنبه ليكون مستقبلا للقبلة، قولهم إن وجهه
في الايماء إلى القبلة قلنا استقبال القبلة إنما يكون في غير حال الركوع والسجود فإن
86

وجهه فيهما إنما يكون إلى الأرض، فكذلك المريض ينبغي أن لا يعتبر استقباله فيهما، والمستحب أن
يصلي على جنبه الأيمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في شأنه كله، وإن صلى على
الأيسر جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين في الحديث جنبا ولان المقصود استقبال القبلة،
وهو حاصل على كلا الجنبين
* (مسألة) * (فإن صلى على ظهره ورجلاه إلى القبلة صحت صلاته)
في أحد الوجهين متى صلى على ظهره مستلقيا مع القدرة على الصلاة على جنبه ففيه وجهان:
أحدهما يصح وهو ظاهر كلام أحمد لأنه نوع استقبال، ولهذا يوجه الميت كذلك عند الموت، والثاني
لا يصح وهو أظهر لأنه مخالف للحديث المذكور فإنه قال عليه السلام " فإن لم يستطع فعلى جنب "
ولان في حديث عمران؟ ن رواية إلا وسعها، وهذا صريح فإن نقله إلى الاستلقاء عند العجز عن
الصلاة على جنب فدل على أنه لا يجوز مع القدرة عليه، فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقيا
وجها واحدا للحديث المذكور
* (مسألة) * (ويومئ بالركوع والسجود ويجعل سجوده أخفض من ركوعه)
متى عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه اعتبارا بالأصل
كما قلنا في حالة الخوف، فإن عجز عن السجود وحده ركع وأومأ بالسجود، وان لم يمكنه أن يحني
ظهره فصار كالراكع زاد في الانحناء قليلا إذا ركع ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود حسب
الامكان، فإن قدر على السجود على صدغه لم يفعل لأنه ليس من أعضاء السجود، وان وضع بين
يديه وسادة أو شيئا عاليا أو سجد على ربوة أو حجر جاز إذا لم يكن يمكنه تنكيس وجهه أكثر
من ذلك. وحكي عن أحمد أنه قال اختار السجود على المرفقة وقال هو أحب إلي من الايماء واختاره
إسحق وجوزه الشافعي وأصحاب الرأي ورخص فيه ابن عباس وسجدت أم سلمة على مرفقة،
وكره ابن مسعود السجود على عود وقال الايماء أحب إلي، ووجه الجواز انه أتى بما يمكنه من
الانحطاط أشبه الايماء. فاما إن رفع إلى وجهه شيئا فسجد عليه فقال بعض أصحابنا لا يجزيه، وروي
نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وجابر وأنس وهو قول مالك والثوري لأنه سجد على ما هو حامل
له أشبه ما لو سجد على يديه، وروى الأثرم عن أحمد أنه قال أي ذلك فعل فلا بأس يومئ أو يرفع
المرفقة فيسجد عليها، قيل له فالمروحة؟ قال أما المروحة فلا. وروي عنه أنه قال الايماء أحب إلي
وان رفع إلى وجهه شيئا أجزأه، ولا بد أن يكون بحيث لا يمكنه الانحطاط أكثر منه ووجه ذلك أنه
أتى بما يمكنه من الانحطاط أشبه ما لو أومأ
87

* (مسألة) * (فإن عجز عنه أومأ بطرفه ولا تسقط الصلاة)
متى عجز عن الايماء برأسه أومأ بطرفه ونوى بقلبه ولا تسقط عنه الصلاة متى دام عقله ثابتا.
وحكي عن أبي حنيفة ان الصلاة تسقط عنه، وذكر القاضي انه ظاهر كلام أحمد رواه محمد بن يزيد
لما روي عن أبي سعيد انه قيل له في مرضه الصلاة قال قد كفاني إنما العمل في الصحة ولأنه عجز عن
أفعال الصلاة بالكلية فسقطت عنه. ولنا انه مسلم بالغ عاقل فلزمته الصلاة كالقادر على الايماء برأسه
* (مسألة) * (فإن قدر على القيام أو القعود في أثنائها انتقل إليه وأتمها)
ومتى قدر المريض في أثناء الصلاة على ما كان عاجزا عنه من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود
أو ايماء انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته، وهكذا لو ابتدأها قادرا ثم عجز في أثناء الصلاة
لحديث عمران ولان ما مضي من صلاته كان صحيحا فبنى عليه كما لو لم تتغير حاله
* (مسألة) * (وان قدر على القيام وعجز عن الركوع والسجود أومأ بالركوع قائما وبالسجود قاعدا)
وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة يسقط القيام لأنها صلاة لا ركوع فيها ولا سجود فسقط
فيها القيام كالنافلة على الراحلة
ولنا قوله تعالى (وقوموا لله قانتين) وحديث عمران الذي ذكرناه ولان القيام ركن قدر
عليه فلم يسقط بالعجز عن غيره كالقراءة وقياسهم فاسد لوجوه: أحدها ان الصلاة على الراحلة
لا يسقط فيها الركوع (الثاني) ان النافلة لا يجب القيام فيها فما سقط فيها تبعا لسقوط الركوع والسجود
(الثالث) منقوض بصلاة الجنازة
* (مسألة) * (وإذا قال ثقات من العلماء بالطب للمريض إن صليت مستلقيا أمكن مداواتك فله ذلك)
وهذا قول جابر بن زيد والثوري وأبي حنيفة، قال القاضي وهو قياس المذهب، وكرهه
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو وائل. وقال مالك والأوزاعي لا يجوز لما روي عن ابن عباس انه
لما كف بصره أتاه رجل فقال لو صبرت على سبعة أيام لم تصل إلا مستلقيا داويت عينك ورجوت
أن تبرأ فأرسل في ذلك إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكلهم قال له إن مت في هذه الأيام ما الذي تصنع بالصلاة فترك معالجة عينه
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا لما جحش شقه، والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام
لكن كان عليه فيه مشقة أو خوف ضرر وأيهما قدر فهو حجة على الجواز ها هنا ولأنا أبحنا له ترك
الوضوء إذا لم يجد الماء إلا بزيادة على ثمن المثل صونا لجز من ماله، وترك الصوم لأجل المرض والرمد
ودلت الاخبار على جواز ترك القيام في صلاة الفرض على الراحلة خوفا من ضرر الطين في ثيابه وبدنه
88

وجاز ترك القيام اتباعا لإمام الحي والصلاة على جنبه ومستلقيا في حالة الخوف من العدو، ولا ينقص
الضرر بفوات البصر عن الضرر في هذه الأحوال. وحديث ابن عباس إن صح فيحتمل ان المخبر
لم يخبر عن يقين وإنما قال أرجو أو لأنه لم يقبل خبره لكونه واحدا أو مجهول الحال بخلاف مسئلتنا
* (مسألة) * (ولا تصح الصلاة في السفينة قاعدا لقادر على القيام)
اختلف قوله في الصلاة في السفينة مع القدرة عل الخروج، على روايتين. إحداهما لا يجوز
لأنها ليست حال استقرار أشبه الصلاة على الراحلة، والثانية يصح لأنه يتمكن من القيام والقعود
والركوع والسجود أشبه الصلاة على الأرض وسواء في ذلك الجارية والواقفة والمسافر والحاضر وهي
أصح، ومتى قدر فيها على القيام لم يجز له تركه لحديث عمران بن حصين فإن عجز عنه صحت للحديث
* (فصل) * وتجوز صلاة الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحل إذا كان يسيرا متى تضرر
بالسجود على الأرض لأجل الوحل وخاف من تلويث بدنه وثيابه بالطين والبلل جاز له الايماء
بالسجود إن كان راجلا والصلاة على دابته، وقد روي عن أنس انه صلى على دابته في ماء وطين
وفعله جابر بن زيد. قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم وبه يقول إسحق وقال أصحاب
الشافعي لا يجوز أن يصلي الفرض عل الراحلة لأجل المطر. وحكى ابن أبي موسى رواية مثل ذلك
لما روى أبو سعيد قال فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انصرف وعلى جبهته وأنفه
أثر الماء والطين متفق عليه ولان السجود والقيام من أركان الصلاة فلم تسقط بالمطر كبقية أركانها.
ولنا ما روى يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم انه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه والسماء من
فوقهم والبلة من أسفل منهم، فصل النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأصحابه على ظهور دوابهم
يومئون إيما يجعلون السجود أخفض من الركوع رواه الأثرم والترمذي وفعله أنس ذكره الإمام أحمد
ولم ينقل عن غيره خلافه ولان المطر عذر يبيح الجمع فاثر في أفعال الصلاة كالسفر والمرض. وحديث
أبي سعيد بالمدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، والظاهر أن الطين كان يسيرا لم يؤثر في غير
الجبهة والأنف وإنما يبيح ما كان كثيرا يلوث الثياب والبدن ويلحق المضرة بالسجود فيه
* (فصل) * ومتى أمكن النزول والصلاة قائما من غير مضرة لزمه ولم يصل على دابته لأنه قدر
على القيام من غير ضرر فلزمه كغير حالة المطر ولا يسقط عنه الركوع لقدرته عليه، ويومئ بالسجود
لما فيه من الضرر، وان تضرر بالنزول عن دابته وتلوث صلى عليها للخبر المذكور. ولا يجوز له ترك
الاستقبال في المطر لأنه قادر عليه
* (مسألة) * (وهل يجوز ذلك لأجل المرض على روايتين)
89

وجملة ذلك أن الصلاة على الراحلة لأجل المرض لا تخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يخاف
الانقطاع عن الرفقة أو العجز عن الركوب أو زيادة المرض ونحوه فيجوز له ذلك كما ذكرنا في صلاة
الخوف، الثاني أن لا يتضرر بالنزول ولا يشق عليه فيلزمه النزول كالصحيح، الثالث أن يشق عليه
النزول مشقة يمكن تحملها من غير خوف ولا زيادة مرض ففيه الروايتان إحداهما لا تجوز له الصلاة
على الراحلة لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه احتج به أحمد ولأنه قادر على أفعال الصلاة من غير
ضرر كثير فلزمه كغير الراكب، والثانية يجوز اختارها أبو بكر لأن المشقة في النزول أكثر من
المشقة عليه في المطر فكان إباحتها ها هنا أولى، ومن نظر الرواية الأولى قال إن نزول المريض يؤثر
في حصوله على الأرض وهو أسكن له وأمكن للصلاة، والممطور يتلوث بنزوله ويتضرر بحصوله على
الأرض فالمريض يتضرر بنفس النزول لا في الحصول على الأرض والممطور يتضرر بحصوله على
الأرض دون نفس النزول فقد اختلفت جهة الضرر فلا يصح الالحاق
* (فصل) * في قصر الصلاة، قصر الصلاة في السفر جائز والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وقال يعلي بن أمية الضمري قلت لعمر بن الخطاب (ليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وقد أمن الناس. فقال عجبت مما
عجبت منه. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته "
أخرجه مسلم. وتواترت الاخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في أسفاره حاجا ومعتمرا
وغازيا، قال أنس خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقمنا
بمكة عشرا نقصر الصلاة، وقال ابن عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض - يعني في
السفر - فكان لا يزيد على ركعتين، وأبا بكر حتى قبض فكان لا يزيد على ركعتين،، وعمر وعثمان
كذلك متفق عليه. وأجمعت الأمة على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في حج أو عمرة
أو جهاد ان له قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين
* (مسألة) * (ومن سافر سفرا مباحا يبلغ ستة عشر فرسخا فله قصر الصلاة الرباعية خاصة إلى ركعتين)
90

يشترط لجواز القصر للمسافر شروط أحدها أن يكون سفره مباحا لا حرج عليه فيه كسفر
التجارة وهذا حكم سائر الرخص المختصة بالسفر كالجمع والمسح ثلثا والفطر والنافلة على الراحلة وهذا
قول أكثر أهل العلم. روي نحوه عن علي وابن عباس وابن عمر وبه قال الأوزاعي والشافعي واسحق
وأهل المدينة وأصحاب الرأي، وعن ابن مسعود لا تقصر إلا في حج أو جهاد لأن الواجب
لا يترك الا لواجب، وعن عطاء لا تقصر الا في سبيل من سبل الخير لأن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما قصر في سفر واجب أو مندوب
ولنا قوله تعالى (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) وقالت عائشة ان الصلاة أول
ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر متفق عليه. وعن ابن عباس قال فرض
الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة رواه مسلم. وفي
حديث صفوان بن عسال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين سفرا أن لا ننزع خفا
قبل ثلاثة أيام ولياليهن رواه الترمذي، وهذه نصوص تدل على إباحة الترخص في كل سفر، وقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم يترخص في العود من السفر وهو مباح
* (فصل) * فأما سفر المعصية فلا تباح فيه هذه الرخص كالإباق وقطع الطريق والتجارة في الخمر
ونحوه نص عليه أحمد وهذا قول الشافعي، وقال الثوري والأوزاعي له ذلك لما ذكرنا من النصوص
ولأنه مسافر أشبه المطيع
ولنا قوله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) خص إباحة الاكل بغير الباغي
والعادي فدل على أنه لا يباح للباغي والعادي وهذا في معناه ولان الترخص شرع للإعانة على المقصود
المباح توصلا إلى المصلحة فلو شرع ها هنا لشرع اعانته على المحرم تحصيلا للمفسدة والشرع منزه عن
هذا والنصوص وردت في حق الصحابة وكانت أسفارهم مباحة فلا يثبت الحكم فيما خالفهما ويتعين
حمله على ذلك جمعا بين النصوص وقياس سفر المعصية على الطاعة لا يصح
91

* (فصل) * إذا غرب في الحد إلى مسافة القصر جاز له القصر وسائر الرخص، وكذلك إذا
نفي قاطع الطريق لأنه سفر لزمه بالشرع أشبه سفر الغزو، وقال ابن عقيل ويحتمل أن لا يقصر لأنه
سفر سببه المعصية أشبه سفر المعصية ولأنه ليس بأحسن حالا من سفر النزهة وفيه روايتان فيخرج
ها هنا مثله والأولى أولى ويمكن التفريق بين هذا وبين سفر المعصية لأن ذلك تصح التوبة منه بخلاف
هذا، وان هرب المدين من غرمائه وهو معسر قصر وان لم يكن معسرا والدين حال أو مؤجل
يحل قبل مدة السفر احتمل وجهان ذكر هذا ابن عقيل أحدهما لا يقصر لأنه سفر يمنع حقا واجبا عليه
والثاني يقصر لأنه نوع حبس فلا يتوجه عليه قبل المطالبة
* (فصل) * فإن عدم الماء في سفر المعصية لزمه التيمم لأنه عزيمة وهل تلزمه الإعادة على وجهين
(أحدهما) لا تلزمه لأن التيمم عزيمة بدليل وجوبه والرخصة لا تجب (والثاني) عليه الإعادة لأنه
حكم يتعلق بالسفر أشبه بقية الرخص والأولى أولى لأنه أتى بما أمر به فلم تلزمه الإعادة وفارق بقية
الرخص لأنه ممنوع منهما وهذا مأمور به فلا يمكنه تعدية حكمها إلى التيمم وقولهم إن ذلك مختص
بالسفر ممنوع ويباح له المسح يوما وليلة لأن ذلك يختص بالسفر أشبه الاستجمار وقيل لا يجوز لأنه رخصة
فلم يبح كرخص السفر والأول أولى لما بينا
* (فصل) * وإذا كان السفر مباحا فغير نيته إلى المعصية انقطع الترخص لزوال سببه ولو كان لمعصية
فغير نيته إلى المباح في السفر، وتعتبر مسافة القصر من حين غير النية لأن وجود ما مضى من سفره لا يؤثر
في الإباحة فهو كعدمه فأما إن كان السفر مباحا لكنه يعصي فيه أبيح له الترخص لأن السبب السفر وهو
مباح وقد وجد فيثبت حكمه ولم تمنعه المعصية كما أن لمعصية في الحضر لا تمنع الترخص فيه
* (فصل) * وفي سفر التنزه والتفرج روايتان (إحداهما) يبيح الترخص وهو ظاهر كلام الخرقي
لأنه مباح فيدخل في عموم النصوص وقياس على سفر التجارة (والثانية) لا يترخص فيه لأنه إنما
شرع إعانته على تحصيل المصلحة ولا مصلحة في هذا والأولى أولى
92

* (فصل) * فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل لا يباح له الترخص لأنه منهي عن
السفر إليها لقوله عليه السلام " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " متفق عليه قال شيخنا والصحيح اباحته
وجوز الترخص فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا، وكان يزور القبور
وقال " زورها تذكركم الآخرة " والحديث المذكور محمول على نفي الفضيلة لا على التحريم، وليست
الفضيلة شرطا في إباحة القصر فلا يضر انتفاؤها
* (فصل) * الشرط الثاني: أن تكون مسافة سفره ستة عشر فرسخا فما زاد، قال الأثرم قيل
لأبي عبد الله في حكم القصر للصلاة؟ قال في أربعة برد. قيل له مسيرة يوم تام؟ قال لا أربعة برد ستة عشر
فرسخا مسيرة يومين والفرسخ ثلاثة أميال، قال القاضي والميل اثنا عشر الف قدم وذلك مسيرة
يومين قاصدين، وقد قدره ابن عباس من عسفان إلى مكة ومن الطائف إلى مكة ومن جده إلى مكة
وذكر صاحب المسالك ان من دمشق إلى القطيفة أربعة وعشرين ميلا ومن دمشق إلى الكسوة
اثنا عشر ميلا ومن الكسوة إلى جاسم أربعة وعشرون ميلا فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين
قاصدين، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وهو مذهب مالك والليث والشافعي وإسحق. وروي
عن ابن عمر انه يقصر في مسيرة عشرة فراسخ حكاه ابن المنذر، وروي نحوه عن ابن عباس أنه قال
يقصر في يوم ولا يقصر فيما دونه واليه ذهب الأوزاعي، قال ابن المنذر عامة العلماء يقولون
مسيرة يوم تام وبه نأخذ. وروي عن ابن مسعود انه يقصر في مسيرة ثلاثة أيام وبه قال الثوري
وأبو حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " وهذا يقتضي أن كل
مسافر له ذلك ولان الثلاثة متفق عليها وليس في ما دونها توقيف ولا اتفاق. وروي عن جماعة من
السلف ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم. فقال الأوزاعي كان أنس يقصر فيما بينه وبين
خمسة فراسخ وكان قبيصة بن ذؤيب وهانئ بن كلثوم وابن محيريز يقصرون فيما بين الرملة وبيت
المقدس، وروي عن علي رضي الله عنه انه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة فصلى بها الظهر
والعصر ركعتين ثم رجع من يومه فقال أردت أن أعلمكم سننكم. وروي أن دحية الكلبي خرج
93

من قرية من دمشق مرة إلى قدر ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس كثير، وكره
آخرون أن يفطروا فلما رجع إلى قريته قال والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن اني أراه، إن
قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك للذين صاموا، رواه أبو داود. وعن
أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا قصر الصلاة رواه سعيد
واحتج أصحابنا بقول ابن عباس وابن عمر يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد ما بين
عسفان إلى مكة قال الخطابي وهو أصح الروايتين عن ابن عمر ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من
الحل والعقد فجاز القصر فيها كالثلاث ولم يجز فيما دونها لأنه لم يثبت دليل بوجوب القصر فيه،
وحديث أبي سعيد يحمل على أنه عليه السلام كان إذا سافر سفرا طويلا قصر وإذا بلغ فرسخا قال
شيخنا ولا أدري لما صار إليه الأئمة حجة لأن أقوال الصحابة مختلفة متعارضة ولا حجة فيها مع
الاختلاف، ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وإذا لم
تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين: أحدهما انه مخالف للسنة التي رويناها
ولظاهر القرآن، فإن ظاهر القرآن إباحة القصر لمن ضرب في الأرض. فأما قول النبي صلى الله عليه
وسلم " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " فإنما جاء لبيان أكثر مدة المسح فلا يصح الاحتجاج به
94

ها هنا، على أنه يمكنه قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم سفرا فقال
" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم " والثاني أن التقدير
بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد لا سيما وليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه
والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الاجماع على خلافه
* (فصل) * وحكم سفر البر حكم سفر البحر إن بلغت مسافة القصر، وان شك في كون السفر مبيحا
أو لا لم يبح لأن الأصل عدمه ووجوب الاتمام، فإن قصر لم تصح صلاته وان تبين له بعدها انه
طويل لأنه صلى مع الشك فلم تصح صلاته كما لو صلى شاكا في دخول الوقت
* (فصل) * والاعتبار بالنية لا بالفعل فيعتبر أن ينوي مسافة القصر فلو خرج يقصد سفرا بعيدا
فقصر الصلاة ثم بدا له فرجع كان ما صلاه صحيحا ولا يقصر في رجوعه إلا أن تكون مسافة الرجوع
مبيحة بنفسها نص عليه أحمد، على هذا ولو خرج طالبا عبدا آبقا لا يعلم أين هو أو منتجعا غيثا أو
كلا متى وجده أقام أو سائحا في الأرض لا يقصد مكانا لم يبح له القصر وان سار أياما، وقال ابن عقيل
يباح له القصر إذا بلغ مسافة القصر لأنه سافر سفرا طويلا
95

ولنا انه لم يقصد مسافة القصر فلم يبح له كابتداء سفره ولأنه سفر لم يبح القصر في ابتدائه فلم
يبح في أثنائه إذا لم يغير نيته كالسفر القصير وسفر المعصية ومتى رجع هذا يقصد بلاد أو نوى مسافة
القصر فله القصر لوجود النية المبيحة، ولو قصد بلدا بعيدا وفي عزمه انه متى وجد طلبته دونه رجع
أو أقام لم يبح له القصر لأنه لم يجزم بسفر طويل، وإن كان لا يرجع ولا يقيم بوجوده فله القصر
* (فصل) * ومن خرج إلى سفر مكرها كالأسير فله القصر إذا كان سفره بعيدا نص عليه أحمد
وقال الشافعي لا يقصر لأنه غيرنا وللسفر ولا جازم به، فإن نيته متى أقلت رجع
ولنا انه مسافر سفرا بعيدا غير محرم فأبيح له القصر كالمرأة مع زوجها والعبد مع سيده إذا
كان عزمهما انه لو مات أو زال ملكهما رجعا، قياسهم منتقض بهذا إذا ثبت هذا فإنه يتم إذا صار
في حصونهم نص عليه أيضا لأنه قد انقضى سفره، ويحتمل أن لا يلزمه الاتمام لأن في عزمه انه متى
أفلت رجع فهو كالمحبوس ظلما
(الشرط الثالث) ان القصر يختص الرباعية، فأما المغرب والصبح فلا قصر فيهما. قال
ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن لا يقصر في صلاة المغرب والصبح وان القصر إنما هو في الرباعية
ولان الصبح ركعتان فلو قصرت صارت ركعة وليس في الصلاة ركعة إلا الوتر والمغرب وتر النهار
فإن قصر منها ركعة لم يبق وترا، وإن قصر ركعتان كان اجحافا بها واسقاطا لأكثرها
* (مسألة) * (إذا جاوز بيوت قريته أو خيام قومه)
وجملة ذلك أنه ليس لمن نوى السفر القصر حتى يشرع في السفر بخروجه من بيوت قريته وهذا
96

قول الشافعي والأوزاعي واسحق. وحكي ذلك عن جماعة من التابعين، وحكي عن عطاء وسليمان بن
موسى انهما أباحا القصر في البلد لمن نوى السفر، وعن الحرث بن أبي ربيعة انه أراد سفرا فصلى بهم
في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغيره من أصحاب عبد الله، وروى عبيد بن جبير قال
ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداه فلم تجاوز
البيوت حتى دعاه بالسفرة ثم قال اقترب، قلت ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة أترغب عن سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل، رواه أبو داود
ولنا قوله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) ولا
يكون ضاربا حتى يخرج. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه إنما كان يبتدئ القصر إذا
خرج من المدينة، فروى أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة
ركعتين متفق عليه. فأما أبو بصرة فإنه لم يأكل حتى دفع بدليل قول عبيد له ألست ترى البيوت
وقوله لم يجاوز البيوت معناه لم يتعد منها إذا ثبت هذا فإنه يجوز القصر، وإن كان قريبا قال
ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج من
بيوت القرية التي يخرج منها. وروي عن مجاهد أنه قال إذا خرجت مسافرا فلا تقصر الصلاة يومك
97

ذلك إلي الليل وإذا رجعت فلا تقصر ليلتك حتى تصبح، والآية تدل على خلاف قوله. وروي
ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من المدينة لا يزيد على ركعتين حتى يرجع إليها وقد ذكرنا
حديث أبي بصرة، وقال البخاري خرج علي فقصر الصلاة وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه
الكوفة. قال لا حتى ندخلها
* (فصل) * فإذا خرج من البلد وصار بين حيطان بساتينه فله القصر لأنه قد ترك البيوت وراء
ظهره، وإن كان حول البلد خراب قد تهدم وصار فضاء أبيح القصر فيه كذلك وإن كان حيطانه قائمة
فكذلك قاله الآمدي، وقال القاضي لا يباح وهو مذهب الشافعي لأن السكنى فيه ممكنة أشبه العامر
ولنا انها غير معدة للسكنى أشبهت حيطان البساتين، وإن كان في وسط البلد نهر فاجتازه
فليس له القصر لأنه لم يخرج من البلد ولم يفارق البنيان فأشبه الرحبة والميدان في وسط البلد، وإن
كان للبلد محال كل محلة منفردة عن الأخرى كبغداد فمتى خرج من محلة أبيح له القصر إذا فارق
محلته، وإن كان بعضها متصلا ببعض لم يقصر حتى يفارق جميعا، ولو كانت قريتان متدانيتين
واتصل بناء إحداهما بالأخرى فهما كالواحدة، وان لم يتصل فلكل قرية حكم نفسها
* (فصل) * وحكم السفر من الخيام والحلل حكم السفر من القرى فيما ذكرنا متى فارق حلته قصر
وان كانت حللا فلكل حلة حكم نفسها كالقرى، وإن كان بيته منفردا فحتى يفارق منزله ورحله
98

ويجعله وراء ظهره كالحضري. وقال القاضي إن كان نازلا في واد وسافر في طوله فكذلك، وان
سافر في عرضه فكذلك إن كن واسعا، وإن كان ضيقا لم يقصر حتى يقطع عرض الوادي ويفارقه
وقال ابن عقيل متى كانت حلته في واد لم يقصر حتى يفارقه، والأولى جواز القصر إذا فارق البنيان
مطلقا لما ذكرنا من الأدلة كما لو كان نازلا في الصحراء ولان المعنى المجوز للترخص وجود المشقة
وذلك موجود في الوادي كوجوده في غيره
* (مسألة) * (وهو أفضل من الاتمام وإن أتم جاز)
القصر أفضل من الاتمام في قول جمهور العلماء ولا نعلم أحدا خالف فيه إلا الشافعي في أحد
قوليه قال الاتمام أفضل لأنه أكثر عملا وعددا وهو الأصل فكان أفضل كغسل الرجلين. ولنا أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم على القصر، قال ابن عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم
في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله،
وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله متفق عليه. ولما بلغ ابن مسعود أن عثمان صلى أربعا
استرجع وقال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين
ثم تفرقت بكم الطرق ولوددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان. وقد كره طائفة من الصحابة
الاتمام فقال ابن عباس للذي قال له كنت أنم الصلاة وصاحبي يقصر: أنت الذي كنت تقصر
وصاحبك يتم. وروي أن رجلا سأل ابن عمر عن صلاة السفر فقال ركعتان فمن خالف السنة كفر
ولأنه إذا قصر أدى الفرض بالاجماع بخلاف الاتمام، وأما الغسل فلا نسلم انه أفضل من المسح
* (فصل) * والاتمام جائز في المشهور عن أحمد وقد روي عنه انه توقف وقال أنا أحب العافية
من هذا المسألة وقال مرة أخرى ما يعجبني، وممن روي عنه الاتمام في السفر عمر وابن مسعود وابن
عمر وعائشة وبه قال الأوزاعي والشافعي وهو المشهور عن مالك، وقال حماد بن أبي سليمان ليس له
99

الاتمام في السفر وهو قول الثوري وأبي حنيفة، وأوجب حماد على من أتم الإعادة، وقال أصحاب
الرأي إن كان جلس بعد الركعتين قدر التشهد فصلاته صحيحة وإلا فلا، وقال عمر بن عبد العزيز
الصلاة في السفر ركعتان حتى لا يصلح غيرهما، واحتجوا بأن صلاة السفر ركعتان بدليل قول عائشة
إن الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر متفق عليه. وقال عمر
رضي الله عنه صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة العيد ركعتان تمام غير قصر على لسان
محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى رواه ابن ماجة، وسئل ابن عمر عن الصلاة في السفر
فقال ركعتان فمن خالف السنة كفر ولان الركعتين الآخرتين يجوز تركهما إلى غير بدل فلم يجز
زيادتهما على الركعتين المفروضتين كالزيادة على صلاة الفجر
ولنا قوله تعالى (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) وهذا يدل على أن القصر رخصة
يتخير بين فعله وتركه كسائر الرخص وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يعلى بن أمية " صدقة
تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " يدل على أنه رخصة وليس بعزيمة، وقالت عائشة خرجت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت يا رسول الله
بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتمت قال " أحسنت " رواه أبو داود الطيالسي ولأنه
لو ائتم بمقيم صلى أربعا والصلاة لا تزيد بالائتمام، وعن أنس قال - كنا أصحاب رسول الله - نسافر فيتم
بعضنا ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا فلا يعيب أحد على أحد وهذا إجماع منهم على
جواز الامرين، فأما قول عائشة فرضت الصلاة ركعتين فإنما أرادت أن ابتداء فرضها كان ركعتين
ثم أتمت بعد الهجرة فصارت أربعا وكذلك كانت تتم الصلاة ولو اعتقدت ما أراده هؤلاء لم تتم.
وقول عمر تمام غير قصر أراد تمام فضلها ولم يرد انها غير مقصورة الركعتان لأنه خلاف ما دلت
عليه الآية والاجماع إذ الخلاف إنما هو في القصر والاتمام، وقد ثبت برواية عن النبي صلى الله عليه
100

وسلم في حديث يعلى بن أمية انها مقصورة، ثم لو ثبت أن أصل الفرض ركعتان لم تمتنع الزيادة عليها
كما لو ائتم بمقيم ويخالف زيادة ركعتين على صلاة الفجر فإنه لا تجوز زيادتهما بحال
* (مسألة) * (وإن أحرم في الحضر ثم سافر أو في السفر ثم أقام أو ذكر صلاة حضر في سفر
أو صلاة سفر في حضر أو ائتم بمقيم أو بمن يشك فيه أو أحرم بصلاة يلزمه اتمامها ففسدت وأعادها
أو لم القصر لزمه أن يتم، وقال أبو بكر لا يحتاج الجمع والقصر إلى نية)
إذا أحرم بالصلاة في سفينة في الحضر فخرجت به في أثناء الصلاة أو أحرم في السفر فدخلت
في أثناء الصلاة البلد لم يقصر لأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا أوجد أحد طرفها في الحضر
غلب حكمه كالمسح
* (فصل) * فأما إن سافر بعد دخول الوقت فقال أصحابنا يتم، وذكر ابن عقيل فيه روايتين إحداهما
يتم لأنها وجبت في الحضر فلزمه اتمامها كما لو سافر بعد خروج وقتها، والثانية له قصرها وهو قول
مالك والشافعي وأصحاب الرأي وحكاه ابن المنذر اجماعا لأنه سافر قبل خروج وقتها أشبها ما لو سافر
قبل وجوبها وكلابس الخف إذا أحدث ثم سافر قبل المسح
* (فصل) * وإن نسي صلاة حضر فذكرها في السفر وجبت عليه أربعا بالاجماع حكاه الإمام أحمد
وابن المنذر قال لأنه قد اختلف فيه عن الحسن فروي عنه أنه قال يصليها ركعتين وروي عنه
كقول الجماعة لأن الصلاة يتعين فعلها فلم يجز له النقصان من عددها كما لو لم يسافر، وأما إذا نسي
صلاة سفر فذكرها في الحضر فقال أحمد في رواية الأثرم عليه الاتمام احتياطا وبه قال الأوزاعي وداود
والشافعي في أحد قوليه وقال مالك والثوري وأصحاب الرأي يصليها صلاة سفر لأنه إنما يقضي ما فاته
وهو ركعتان. ولنا أن القصر رخصة من رخص السفر فبطلت بزواله كالمسح ثلاثا ولأنها وجبت
عليه في الحضر بدليل قوله عليه السلام " فليصلها إذا ذكرها " ولأنها عبادة تختلف بالحضر والسفر
101

فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكمه كالسفينة إذا دخلت به البلد في أثناء الصلاة، وقياسهم
ينتقض بالجمعة إذا فاتت وبالمتيمم إذا فاتته الصلاة فقضاها عند وجود الماء
* (فصل) * وإذا ائتم المسافر بمقيم لزمه الائتمام سواء أدرك جميع الصلاة أو بعضها، وقال ابن
أبي موسى فيه رواية انه إذا أحرم في آخر صلاته لا يلزمه أن يتم، قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن المسافر
يدخل في تشهد المقيمين قال يصلي أربعا، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وجماعة من التابعين
وبه قال الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال إسحق للمسافر القصر لأنها
صلاة يجوز فعلها ركعتين فلم تزد بالائتمام كالفجر، وقال طاوس والشعبي في المسافر يدرك من صلاة
المقيمين ركعتين تجزيان، وقال الحسن والنخعي والزهري وقتادة ومالك إن أدرك أتم وإن
أدرك دونها قصر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة "
ولان من أدرك من الجمعة ركعة أتمها جمعة ومن أدرك أقل من ذلك لا يلزمه فرضها
ولنا ما روي أنه قيل لابن عباس ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد وأربعا إذا ائتم
بمقيم؟ فقال تلك السنة رواه الإمام أحمد وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه فعل
من سمينا من الصحابة ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان اجماعا ولأنها صلاة مردودة من أربع
إلى ركعتين فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة وما ذكروه لا يصح عندنا فإنه لا تصح له
صلاة الفجر خلف من يصلي رباعية، وإدراك الجمعة يخالف ما نحن فيه فإنه لو أدرك ركعة من الجمعة
رجع إلى الركعتين وهذا بخلافه ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا
تختلفوا عليه " ومفارقة إمامه مع امكان متابعته اختلاف عليه
* (فصل) * وإذا أحرم المسافرون خلف مسافر وأحدث واستخلف مسافرا فلهم القصر وإن
استخلف مقيما لزمهم الاتمام لأنهم ائتموا بمقيم، وللإمام المحدث القصر لأنه لم يأتم بمقيم ولو صلى
102

المسافرون خلف مقيم فأحدث واستخلف مسافرا أو مقيما لزمهم الاتمام لأنهم ائتموا بمقيم فإن استخلف
مسافرا لم يكن معهم في الصلاة فله أن يصلي صلاة السفر لأنه لم يأتم بمقيم
* (فصل) * وإذا أحرم المسافر خلف من يشك فيه أو من يغلب على ظنه انه مقيم لزمه الاتمام
وإن قصر إمامه لأن الأصل وجوب الائتمام فليس له نية قصرها مع الشك في وجوب اتمامها فلزمه
الاتمام اعتبارا بالنية وهذا مذهب الشافعي، وان غلب على ظنه ان الإمام مسافر بامارة آثار السفر
فله أن ينوي القصر فإن قصر إمامه قصر معه وان أتم تابعه فيه وان نوى الاتمام لزمه الاتمام سواء
قصر إمامه أو أتم اعتبارا بالنية، وان نوى القصر فأحدث إمامه قبل علمه بحاله فله القصر لأن الظاهر أن
إمامه مسافر لوجود دليله وقد أتيحت له نية القصر بناء على هذا الظاهر ويحتمل أن يلزمه الاتمام احتياطا
(فصل) وإذا صلى المسافر صلاة الخوف بمسافرين ففرقهم فرقتين فأحدث قبل مفارقة الطائفة
الأولى واستخلف مقيما لزم الطائفتين الاتمام لأنهم ائتموا بمقيم وإن كان ذلك بعد مفارقة الأولى
أتمت الثانية وحدها لأنها اختصت بموجبه، وإن كان الإمام مقيما فاستخلف مسافرا ممن كان
معه في الصلاة فعلى الجميع الاتمام لأن المستخلف قد لزمه الاتمام باقتدائه بالمقيم فصار كالمقيم،
وإن لم يكن دخل معه في الصلاة وكان استخلافه قبل مفارقة الأولى فعليها الاتمام لائتمامها
بمقيم وكقصر الإمام والطائفة الثانية وإن استخلف بعد دخول الثانية فعلى الجميع الاتمام وللمستخلف
القصر وحده لأنه لم يأتم بمقيم
(فصل) وإذا صلى مقيم ومسافر خلف مسافر أتم المقيم إذا سلم إمامه وذلك اجماع، وقد روى
عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام ثماني عشرة ليلة لا يصلي
103

الا ركعتين ثم يقول لأهل البلد " صلوا أربعا فانا سفر " رواه أبو داود، ولان الصلاة واجبة
عليه أربعا فلم يسقط شئ منها كما لو لم يأتم بالمسافر
ويستحب أن يقول الإمام للمقيمين أتموا فانا سفر كما في الحديث، ولئلا يلتبس على الجاهل
عدد ركعات الصلاة، وقد روى الأثرم عن الزهري أن عثمان إنما أتم لأن الاعراب حجوا فأراد
ان يعرفهم أن الصلاة أربع
(فصل) وإذا أم المسافر المقيمين فأتم بهم الصلاة فصلاتهم تامة، وبهذا قال الشافعي وإسحاق
وقال الثوري وأبو حنيفة: تفسد صلاة المقيمين وتصح صلاة الإمام والمسافرين معه، وعن أحمد نحوه
قال القاضي: لأن الركعتين الآخرتين نفل من الإمام ولا يؤم بها مفترضين
ولنا أن المسافر يلزمه الاتمام بنيته فيكون الجميع واجبا، ثم لو كانت نفلا فائتمام المفترض
بالمتنفل صحيح على ما مضى
(فصل) وإن أم مسافر مسافرين فنسي فصلاها تامة صحت صلاة الجميع ولا يلزمه سجود سهو
لأنها زيادة لا يبطل عمدها الصلاة فلا يجب السجود لسهوها كزيادات الأقوال، وهل يشرع السجود
يخرج على روايتين فيما إذا قرأ في الركوع والسجود، وقال ابن عقيل لا يحتاج إلى سجود لأنه أتى بالأصل
ولنا أن هذا زيادة نقضت الفضيلة وأخلت بالكمال أشبهت القراءة في غير محلها كقراءة السورة
في الأخيرتين، فإذا ذكر الإمام بعد قيامه إلى الثالثة لم يلزمه الاتمام وله أن يجلس، فإن الموجب
للاتمام نيته أو الائتمام بمقيم ولم يوجد واحد منهما، وإن علم المأموم أن قيامه لسهو لم يلزمه متابعته
104

ويسبحون له لأنه سهو فلا يجب اتباعه فيه ولهم مفارقته إن لم يرجع كما لو قام إلى ثالثة في الفجر وإن
تابعوه لم تبطل صلاتهم لأنها زيادة لا تبطل صلاة الإمام فلا تبطل صلاة المأموم بمتابعته فيها كزيادات
الأقوال. وقال القاضي: تفسد صلاتهم لأنهم زادوا ركعتين عمدا، وإن لم يعلموا هل قاموا سهوا
أو عمدا لزمهم متابعته لأن وجوب المتابعة ثابتة فلا تزول بالشك
(فصل) وإذا أحرم بصلاة يلزمه اتمامها مثل ان نوى الاتمام أو ائتم بمقيم فسدت الصلاة
وأراد اعادتها لزمه الاتمام لأنها وجبت عليه تامة بتلبسه بها خلف المقيم ونية الاتمام وهذا قول
الشافعي، وقال الثوري وأبو حنيفة إذا فسدت صلاة الإمام عاد المسافر إلى القصر
ولنا أنها وجبت بالشروع فيها تامة فلم يجز له قصرها كما لو لم تفسد
(فصل) ومن لم ينو القصر لزمه الاتمام لأن نية القصر شرط في جوازه ويعتبر وجودها عند
أول الصلاة كنيتها كذلك ذكره الخرقي والقاضي، وقال أبو بكر لا يحتاج الجمع والقصر إلى نية لأن
من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصوم، ولان القصر هو الأصل بدليل
خبر عائشة وعمر وابن عباس فلا يحتاج إلى نية كالاتمام في الحضر، ووجه الأول أن الاتمام هو
الأصل على ما ذكرنا، وقد أجبنا عن الأخبار المذكورة واطلاق النية ينصرف إلى الأصل ولا ينصرف
105

عنه إلا بتعيين ما يصرف إليه كما لو نوى الصلاة مطلقا ولم ينو إماما ولا مأموما فإنه ينصرف إلى
الانفراد إذ هو الأصل والتفريع على هذا القول، فلو شك في أثناء صلاته هل نوى القصر في ابتدائها
أو لا ألزمه الاتمام؟ احتياطا لأن الأصل عدم النية، فإن ذكر بعد ذلك أنه قد نوى القصر لم يجز له
القصر لأنه قد لزمه الاتمام فلم يزل
(فصل) ومن نوى القصر ثم نوى الاتمام أو نوى ما يلزمه به الاتمام من الإقامة وسفر المعصية
أو نوى الرجوع ومسافة رجوعه لا يباح فيها القصر ونحو هذا لزمه الاتمام ولزم من خلفه متابعته
وبهذا قال الشافعي وقال مالك: لا يجوز له الاتمام لأنه نوى عددا وإذا زاد عليه حصلت الزيادة بغير نية
ولنا أن نية صلاة الوقت قد وجدت وهي أربع، وإنما أبيح ترك ركعتين رخصة، فإذا أسقط
نية الترخص صحت الصلاة بنيتها ولزمه الاتمام ولان الاتمام الأصل، وإنما أبيح تركه يشرط
فإذا زال الشرط عاد الأصل إلى حاله
(فصل) وإذا قصر المسافر معتقدا تحريم القصر لم تصح صلاته لأنه فعل ما يعتقد تحريمه فلم يقع
مجزئا كمن صلى ويعتقد انه محدث ولان نية التقرب بالصلاة شرط وهذا يعتقد أنه عاص فلم تصح نية التقرب
* (مسألة) * (ومن له طريقان بعيد وقريب فسلك البعيد أو ذكر صلاة سفر في آخر فله القصر)
إذا كان لسفره طريقان يباح القصر في أحدهما لبعده دون الآخر فسلك البعيد ليقصر الصلاة
106

فيه أو لغير ذلك أبيح له القصر لأنه مسافر سفرا بعيدا مباحا فأبيح له القصر كما لو لم يجد سواه وكما
لو كان الآخر مخوفا أو شاقا. وقال ابن عقيل إن سلك الابعد لرفع أذية واختلاف نفع قصر قولا
واحدا وإن كان لا لغرض صحيح خرج على الروايتين في سفر التنزه وقد ذكرنا توجيههما
(فصل) وإن نسي الصلاة في سفر وذكرها فيه قضاها مقصورة لأنها وجبت في السفر وفعلت
فيه أشبه ما لو صلاها في وقتها، وإن ذكرها في سفر آخر فكذلك لما ذكرنا وسواء ذكرها في الحضر
أو لم يذكرها ويحتمل أنه إذا ذكرها في الحضر لزمته تامة لأنه وجب عليه فعلها تامة بذكره إياها
فبقيت في ذمته ويحتمل أن يلزمه اتمامها إذا ذكرها في سفر آخر سواء ذكرها في الحضر أو لا لأن
الوجوب كان ثابتا في ذمته في الحضر، والأولى أولى لأن وجوبها وفعلها في السفر فكانت صلاة
سفر كما لو لم يذكرها في الحضر. وذكر بعض أصحابنا أن من شرط القصر كون الصلاة مؤداة لأنها
صلاة مقصورة فاشترط لها الوقت كالجمعة وهذا فاسد لأنه اشترط بالرأي والتحكم ولم يرد الشرع به
والقياس على الجمعة لا يصح فإن الجمعة لا تقضي ويشترط لها الخطبتان والعدد والاستيطان فجاز أن
يشرط لها الوقت بخلاف هذه
* (مسألة) * (وإذا نوى الإقامة ببلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر)
المشهور عن أحمد رحمه الله أن المدة التي يلزم المسافر الاتمام إذا نوى الإقامة فيها ما كان أكثر
107

من إحدى وعشرين صلاة رواه الأثرم وغيره وهو الذي ذكره الخرقي، وعنه إن نوي الإقامة أكثر
من أربعة أيام أتم حكى هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل. وعنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم
وإلا قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور وروي عن عثمان رضي الله عنه وعن سعيد ابن
المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعا فصل أربعا لأن الثلاث حد القلة لقوله عليه السلام " يقيم المسافر
بعد قضاء نسكه ثلاثا " فدل أن الثلاث في حكم السفر وما زاد في حكم الإقامة. وقال الثوري وأصحاب
الرأي ان أقام خمسة عشر يوما مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، فإن نوى دونه قصر، ويروى ذلك عن
ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: إذا قدمت
وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة ولا يعرف لهما مخالف، وروي عن علي رضي
الله عنه قال يتم الصلاة الذي يقيم عشرا ويقصر الذي يقول أخرج اليوم أخرج غدا شهرا، وعن
ابن عباس أنه قال يقصر إذا أقام تسعة عشر يوما ويتم إذا زاد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في
بعض أسفاره تسعة عشر يصلى ركعتين، قال ابن عباس فنحن إذا أقمنا تسعة عشر نصلي ركعتين
وإن زدنا على ذلك أتممنا رواه البخاري، وقال الحسن صل ركعتين ركعتين إلا أن تقدم مصرا فأتم
الصلاة وصم، وقالت عائشة إذا وضعت الزاد والمزاد فأتم الصلاة وكان طاوس إذا قدم مكة صلى أربعا
ولنا ما روى أنس قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى
108

رجع وأقام بمكة عشرا يقصر الصلاة متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس ان النبي
صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس
والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على اقامتها
قال فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم،
قال الأثرم وسمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الاجماع على الإقامة للمسافر فقال هو كلام ليس
يفقهه كل أحد، فقوله أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة وقال قدم النبي صلى الله
عليه وسلم لصبح رابعة وخامسة وسابعة ثم قال ثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة فإنما وجه حديث
أنس انه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه
أربعة أيام وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر وهي تزيد على أربعة أيام
وهو صريح في خلاف قول من حده بأربعة أيام، وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف في
الصحابة لا يصح، لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم، وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله
عليه وسلم تسعة عشر، وجهه أن النبي صلى الله عليه لم يجمع الإقامة. قال أحمد قام النبي صلى الله
عليه وسلم بمكة زمن الفتح ثماني عشرة لأنه أراد حنينا ولم يكن تم اجماع المقام، وهذه إقامته التي
رواها ابن عباس وهو دليل على خلاف قول عائشة والحسن والله أعلم
109

* (فصل) * ومن قصد بلدا بعينه فوصله غير عازم على إقامة به مدة تقطع حكم سفره فله القصر
فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أسفاره يقصر حتى يرجع وحين قدم مكة كان يقصر فيها،
ولا فرق بين أن يقصد الرجوع إلى بلده كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على ما في
حديث أنس وبين أن يريد بلدا آخر كما فعل عليه السلام في غزوة الفتح كما في حديث ابن عباس
* (فصل) * وإذا مر في طريقه على بلدا له فيه أهل أو مال فقال أحمد في موضع يتم وقال في موضع
لا يتم إلا أن يكون مارا وهذا قول ابن عباس، وقال مالك يتم إذا أراد أن يقيم بها يوما وليلة،
وقال الشافعي وابن المنذر يقصر ما لم يجمع على إقامة أربع لأنه مسافر
ولنا ما روي عن عثمان انه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه، فقال يا أيها الناس إني تأهلت
بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول من تأهل ببلد فليصل صلاة المقيم "
رواه أحمد في المسند، وقال ابن عباس إذا قدمت على أهل لك أو مال فصل صلاة المقيم، ولأنه
مقيم ببلد له فيه أهل ومال أشبه البلد الذي سافر منه
* (فصل) * قال أحمد من كان مقيما بمكة ثم خرج إلى الحج وهو يريد أن يرجع إلى مكة فلا يقيم
بها فهذا يصلي ركعتين بعرفة لأنه حين خرج من مكة أنشأ السفر إلى بلده ليس على أن عرفة سفره
فهو في سفر من حين خرج من مكة، ولو أن رجلا كان مقيما ببغداد فأراد الخروج إلى الكوفة
110

فعرضت له حاجة بالنهروان ثم رجع فمر ببغداد ذاهبا إلى الكوفة صلى ركعتين إذا كان يمر ببغداد
مجتازا لا يريد الإقامة بها، وإن كان الذي خرج إلى عرفة في نيته الإقامة بمكة إذا رجع لم يقصر بعرفة
وكذلك أهل مكة لا يقصرون، وإن صلى خلف رجل مكي يقصر الصلاة بعرفة ثم قام بعد صلاة الإمام
فأضاف إليها ركعتين آخرتين صحت صلاته لأنه المكي يقصر بتأويل فصحت صلاة من يأتم به
* (فصل) * وإذا خرج المسافر فذكر حاجة فرجع إليها فله القصر في رجوعه إلا أن يكون نوى
أن يقيم إذا رجع مدة يقطع القصر ويكون في البلد أهله وماله لما ذكرنا وقول أحمد في الرواية الأخرى
أتم إلا أن يكون مارا يقتضي انه إذا قصد أخذ حاجته والرجوع من غير إقامة انه يقصر، وقال
الشافعي يقصر ما لم ينو الإقامة أربعا، وقال الثوري ومالك يتم حتى يخرج فاصلا الثانية. ولنا انه
ثبت له حكم السفر بخروجه ولم يوجد إقامة نقطع حكمه فأشبه ما لو أنى قرية غير التي خرج منها
* (مسألة) * (وإن أقام لقضاء حاجة أو حبس ولم ينو لإقامة قصر أبدا)
وجملة ذلك أن من لم يجمع على إقامة تقطع حكم السفر على ما ذكرنا من الخلاف فله القصر ولو
أقام سنين كمن يقيم لقضاء الحاجة يرجو انجاحها أو جهاد عدو أو حبسه سلطان أو مرض وسواء
غلب على ظنه انقضاء حاجته في مدة يسيرة أو كثيرة وبعد أن يحتمل انقضاؤها في مدة لا ينقطع حكم
111

السفر بها. قال ابن المنذر أجمع أهل العلم ان للمسافر أن يقصر ما لم يجمع على إقامة ولو أتى عليه سنون
والأصل فيه ما روى ابن عباس قال أقام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين
رواه البخاري، وقال جابر أقام النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عشرين يوما يقصر الصلاة
رواه الإمام أحمد في المسند، وروى سعيد باسناده عن المسور بن مخرمة قال أقمنا سعد ببعض قرى
الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ونتمها، وقال نافع أقام ابن عمر بآذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين
حبسه الثلج. وقال أنس أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهز سبعة أشهر يقصرون
الصلاة، وعن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال أقمت معه بكابل سنتين نقصر الصلاة ولا نجمع
* (فصل) * وإن عزم على إقامة طويلة في رستاق ينتقل فيه من قرية إلى قرية لا يجمع على إقامة
بواحدة منها مدة تبطل حكم السفر قصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ومنى وعرفة عشرا
فكان يقصر الأيام كلها. وروى الأثرم باسناده عن مورق قال سألت ابن عمر قلت إني رجل آتي
الأهواز فأنتقل في قراها قرية قرية فأقيم الشهر أو أكثر. قال تنوي الإقامة؟ قلت لا. قال ما أراك
إلا مسافرا صلى صلاة المسافرين، ولأنه لم ينوي الإقامة في مكان بعينه أشبه المتنقل في سفره من منزل
إلى منزل، وإذا دخل بلدا فنال إن لقيت فلانا أقمت وإلا لم أقم لم يبطل حكم سفره لأنه لم يجزم بالإقامة،
ولان المبطل للسفر هو العزم على الإقامة ولم يوجد، وإنما علقه على شرط لم يوجد وذلك ليس بجزم
* (فصل) * ولا بأس بالتطوع في السفر نازلا وسائرا على الراحلة لما روى ابن عمر عن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه، وروى نحو ذلك جابر
112

وأنس متفق عليه. وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطوع في السفر رواه
سعيد. وفي حديث أم هانئ ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره ولما فاتت النبي صلى الله
عليه وسلم صلاة الصبح صلى ركعتي الفجر قبلها متفق عليه. فأما سائر التطوعات والسنن قبل الفرائض
وبعدها فقال أحمد أرجو أن لا يكون بالتطوع بالسفر بأس روي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود
وجابر وابن عباس وأبي ذر وجماعة من التابعين وهو قول مالك والشافعي وإسحق وابن المنذر،
وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل. وروي ذلك عن سعيد بن
المسيب وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين لما روي أن ابن عمر رأى قوما يسبحون بعد الصلاة فقال
لو كنت مسبحا لأتممت فرضي يا ابن أخي، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد على ركعتين
حتى قبضه الله، وصحبت عمر وعثمان وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة متفق عليه
ولنا ما روي عن ابن عباس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الحضر فكنا نصلي
قبلها وبعدها وكنا نصلي في السفر قبلها وبعدها رواه ابن ماجة، وقال الحسن كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وعن البراء بن عازب قال صحبت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرا فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر
رواه أبو داود فهذا يدل على أنه لا بأس بفعلها، وحديث ابن عمر يدل على أنه لا بأس بتركه فيجمع
بين الأحاديث والله أعلم
* (مسألة) * (والملاح الذي معه أهله وليس له نية الإقامة ببلد ليس له الترخص)
113

قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الملاح أيقصر أو يفطر في السفينة، قال أما إذا كانت
السفينة ببته فإنه يتم ويصوم، قيل له وكيف تكون بيته. قال لا يكون له بيت غيرها معه فيها أهله
وهو فيها مقيم وهذا قول عطاء. وقال الشافعي يقصر ويفطر لعموم النصوص ولان كون أهله معه
لا يمنع الترخص كالجمال.
ولنا انه غير ظاعن عن منزله فلم يبح له الترخص كالمقيم في المدن، فأما في عام النصوص فالمراد
بها الظاعن عن منزله وليس هذا كذلك. وأما الجمال والمكاري فلهم الترخص وإن سافروا بأهلهم
قال أبو داود سمعت أحمد يقول في المكاري الذي هو دهره في السفر لابد أن يقيم إذا قدم اليومين
والثلاثة قال هذا يقصر، وذكر القاضي وأبو الخطاب انه بمنزلة الملاح وليس بصحيح لأنه مسافر
مشقوق عليه فكان له القصر كغيره، ولا يصح قياسهم على الملاح فإن الملاح في منزله سفرا وحضرا
معه مصالحه وتنوره وأهله لا يتكلف لحمله وهذا لا يوجد في غيره، وان سافر هذا بأهله كان أشق عليه
وأبلغ في استحقاق الترخص فأبيح له لعموم النصوص وليس هو في معنى المخصوص فوجب القول
بثبوت حكم النص فيه
* (فصل في الجمع) *
* (مسألة) * يجوز الجمع بين الظهر والعصر والعشائين في وقت إحداهما لثلاثة أمور: السفر
الطويل الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن
سعد وسعيد بن زيد وأسامة ومعاذ بن جبل وأبي موسى وابن عباس وابن عمر وبه قال عكرمة والثوري
114

ومالك والشافعي وإسحق وابن المنذر وجماعة غيرهم، وقال الحسن وابن سيرين وأصحاب الرأي
لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة وليلة مزدلفة بها وهو رواية عن ابن القاسم عن مالك واختياره واحتجوا
بأن المواقيت ثبتت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر الواحد
ولنا ما روي عن ابن عمر انه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ويقول إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بينهما، وعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، وان زاغت
الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب متفق عليهما. ولمسلم كان إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر
إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق، وروى
الجمع معاذ وابن عباس وقولهم لا تترك الأخبار المتواترة لاخبار الآحاد. قلنا لا يتركها وإنما يخصها
وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالاجماع وهذا ظاهر جدا، فإن قيل معنى الجمع في الاخبار
أن يصلي الأولى في آخر وقتها والأخرى في أول وقتها. قلنا هذا فاسد لوجهين أحدهما أنه قد جاء
الخبر صريحا في أنه كان يجمعها في وقت الثانية على ما ذكرنا في خبر أنس، الثاني إن الجمع رخصة
فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا من الاتيان بكل صلاة في وقتها لأن ذلك أوسع
من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها، ومن تدبر هذا وجده كما
وصفنا ولو جاز الجمع هذا لجاز الجمع من العصر والمغرب والعشاء والصبح وهو محرم بالاجماع، فإذا
115

حمل خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الامر السابق إلى الفهم منه كان أولى من هذا التكلف
الذي يصان عنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
(فصل) وإنما يجوز الجمع في السفر الذي يبيح القصر. وقال مالك والشافعي في أحد قوليه يجوز
في السفر القصير لأن أهل مكة يجمعون بعرفه ومزدلفة وهو سفر قصير
ولنا أنه رخصة ثبتت لدفع المشقة في السفر فاختصت بالطويل كالقصر والمسح ثلاثا ولان
دليل الجمع فعل النبي صلى الله عليه وسلم والفعل لا صيغة له وإنما هو قضية في عين فلا يثبت حكمها الا
في مثلها ولم ينقل أنه جمع إلا في سفر طويل
* (مسألة) * (والمرض الذي يلحقه بترك الجمع فيه مشقة وضعف)
نص احمد على جواز الجمع للمريض وروي عنه التوقف فيه وقال: أهاب ذلك والصحيح
الأول وهذا قول عطاء ومالك. وقال أصحاب الرأي والشافعي: لا يجوز لأن اخبار التوقيف
ثابتة فلا يترك بأمر محتمل
ولنا ما روى ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب
والعشاء من غير خوف ولا مطر، وفي رواية من غير خوف ولا سفر رواهما مسلم. وقد أجمعنا على
أن الجمع لا يجوز لغير عذر ثبت أنه كان لمرض، وقد روي عن أبي عبد الله أنه قال في هذا الحديث
هذا عندي رخصة للمريض والمرضع، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل
وحمنة بنت جحش لما كانتا مستحاضتين بتأخير الظهر وتعجيل العصر والجمع بينهما فأباح الجمع لأجل
الاستحاضة واخبار المواقيت مخصوصة بالصور المجمع على جواز الجمع فيها فتخص محل النزاع بما ذكرنا
(فصل) والمرض المبيح للجمع هو ما يلحقه بتركه مشقة وضعف. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله
المريض يجمع بين الصلاتين، قال إني لا أرجو ذلك إذا ضعف وكذلك الجمع للمستحاضة ولمن به سلس
البول ومن في معناها لما ذكرنا من الحديث
116

* (مسألة) * (والمطر الذي يبل الثياب)
إلا أن جمع المطر يختص بالعشائين في أصح الوجهين لجواز الجمع في المطر بين العشائين يروى
عن ابن عمر وفعله أبان بن عثمان في أهل المدينة وهو قول الفقهاء السبعة ومالك والأوزاعي والشافعي
وإسحاق، ويروى عن مروان وعمر بن العزيز ولم يجوزه أصحاب الرأي والدليل على جوازه أن أبا
سلمة بن عبد الرحمن قال: ان من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء رواه الأثرم
وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال نافع: إن عبد الله بن عمر كان يجمع إذا
جمع الامراء بين المغرب والعشاء وفعله أبان بن عثمان في أهل المدينة وفيهم عروة بن الزبير وأبو سلمة
وأبو بكر بن عبد الرحمن ولا يعرف لهم مخالف فكان اجماعا رواه الأثرم
(فصل) فأما الجمع لأجل المطر بين الظهر والعصر فالصحيح أنه لا يجوز. قال الأثرم: قيل
لأبي عبد الله الجمع بين الظهر والعصر في المطر قال: لا ما سمعته وهذا اختيار أبي بكر وابن حامد
وقول مالك. وقال أبو الحسن التميمي فيه قولان: أحدهما يجوز اختاره القاضي وأبو الخطاب وهو
مذهب الشافعي لما روى يحيي بن واضح عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله
عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر ولأنه معنى أباح الجمع فأباحه بين الظهر والعصر كالسفر
ولنا أن مستند الجمع ما ذكرنا من قول أبي سلمة والاجماع ولم يرد إلا في المغرب والعشاء وحديثهم
لا يصح فإنه غير مذكور في الصحاح والسنن وقول احمد ما سمعت يدل على أنه ليس بشئ ولا يصح
القياس على المغرب والعشاء لما بينهما من المشقة لأجل الظلمة، ولا القياس على السفر لأن مشقته لأجل
117

السير وفوات الرفقة وهو غير موجود ها هنا كذا
(فصل) والمطر المبيح للجمع هو ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه فأما الطل والمطر الخفيف
فلا يبيح لعدم المشقة والثلج والبرد في ذلك كالمطر لأنه في معناه
* (مسألة) * (وهل يجوز ذلك لأجل الوحل والريح الشديدة الباردة أو لمن يصلي في بيته أو في
مسجد طريقه تحت ساباط على وجهين)
اختلف أصحابنا في الوحل بمجرده، فقال القاضي: قال أصحابنا هو عذر يبيح الجمع لأن
المشقة تلحق بذلك في الثياب والنعال كما تلحق بالمطر وهو قول مالك، وذكر أبو الخطاب فيه وجها
ثانيا أنه لا يبيح وهو قول الشافعي لأن المشقة دون مشقة المطر فلا يصح قياسه عليه. قال شيخنا:
الأولى أصح لأن الوحل يلوث الثياب والنعال ويعرض الانسان للزلق فيتأذى نفسه وثيابه وذلك
أعظم ضررا من البلل، وقد ساوى المطر في العذر في ترك الجمعة والجماعة فدل على تساويهما
في المشقة المرعية في الحكم
(فصل) فأما الريح الشديدة في الليلة الباردة ففيها وجهان: أحدهما يبيح الجمع قال الآمدي: وهو أصح
يروى عن عمر بن عبد العزيز لأن ذلك عذر في ترك الجمعة والجماعة بدليل ما روى محمد بن الصباح
حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه
118

في الليلة المطيرة والليلة الباردة ذات الريح صلوا في رحالكم رواه ابن ماجة. والثاني لا يبيحه لأن
مشقته دون مشقة المطر فلا يصح القياس ولان مشقتها من غير جنس مشقة المطر ولا ضابط لذلك
يجتمعان فيه فلم يصح الالحاق
(فصل) وهل بجوز الجمع لمنفرد أو لمن طريقه تحت ساباط يمنع وصول المطر إليه، أو من كان
مقامه في المسجد، أو لمن يصلي في بيته على وجهين: أحدهما الجواز. قال القاضي: وهو ظاهر كلام
احمد لأن الرخصة العامة يستوي فيها حال وجود المشقة وعدمها كالسفر وكإباحة السلم في حق من
ليس له إليه حاجة كاقتناء الكلب للصيد والماشية لمن لا يحتاج إليها، وقد روي أنه عليه السلام جمع
في مطر وليس بين حجرته ومسجده شئ، والثاني المنع. اختاره ابن عقيل لأن الجمع لأجل المشقة
فاختص بمن تلحقه المشقة كالرخصة في التخلف عن الجمعة، والجماعة تختص بمن تلحقه المشقة دون
من لا تلحقه كمن في الجامع والقريب منه
* (مسألة) * (ويفعل الأرفق به من تأخير الأولى إلى وقت الثانية أو تقديم الثانية إليها)
هذا هو الصحيح من المذهب وعليه أكثر الأصحاب وهو أن المسافر مخير في الجمع بين التقديم
والتأخير وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز الجمع إلا إذا كان سائرا في وقت الأولى فيؤخرها إلى وقت
الثانية وهي رواية عن أحمد، ويروى ذلك عن سعد وابن عمر وعكرمة آخذا بحديث ابن عمر وأنس
الصحيحين. وقال القاضي. هذه الرواية هي الفضيلة والاستحباب وإن جمع بينهما في وقت الأولى
جاز نازلا كان أو سائرا أو مقيما في بلد إقامة لا يمنع القصر وهذا قول عطاء وأكثر علماء المدينة
والشافعي وإسحاق وابن المنذر لما روى معاذ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
119

غزوة تبوك فكان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا،
وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب
حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب، واه أبو داود
والترمذي وقال هذا حديث حسن. وروى مالك في الموطأ عن أبي الزبير عن أبي الطفيل أن معاذا
أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر
جمعا ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جمعا. قال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح ثابت
الاسناد، وفى هذا الدليل أوضح الدليل في الرد على من قال: لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جدبه
السير لأنه كان يجمع وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه يخرج فيصلي الصلاتين جمعا فتعين الاخذ
بهذا الحديث لثبوته وكونه صريحا في الحكم من غير معارض له، ولان الجمع رخصة من رخص
السفر فلم يختص بحالة السير كالقصر والمسح ثلاثا لكن الأفضل التأخير لأنه أحوط وفيه خروج من
الخلاف عند القائلين بالجمع وعملا بالأحاديث كلها
* (فصل) * والمريض مخير في التقديم والتأخير كالمسافر فإن استوى عنده الأمران فالتأخير أفضل
لما ذكرنا في المسافر، فأما الجمع للمطر فإنما يفعل في وقت الأولى لأن السلف إنما كانوا يجمعون في
وقت الأولى ولان تأخير الأولى إلى وقت الثانية يفضي إلى المشقة بالانتظار والخروج في الظلمة
120

ولان العادة اجتماع الناس للمغرب، فإذا حبسهم في المسجد ليجمع بين الصلاتين في وقت الثانية
كان أشق من أن يصلي كل صلاة في وقتها، وان اختار تأخير الجمع جاز والمستحب أن يؤخر الأولى
عن أول وقتها شيئا، قال أحمد يجمع بينهما إذا اختلط الظلام قبل أن يغيب الشفق الذي فعل ابن عمر
قيل لأبي عبد الله فكان سنة الجمع بين الصلاتين في المطر عندك أن تجمع قبل أن يغيب الشفق، وفى
الشفق تؤخر حتى يغيب الشفق قال نعم
* (فصل) * ولا يجوز الجمع لغير من ذكرنا، وقال ابن شبرمة يجوز إذا كانت حاجة أو شئ
ما لم يتخذه عادة لحديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب
والعشاء من غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس لم فعل ذلك؟ قال أراد أن لا يحرج أمته
ولنا عموم أخبار المواقيت، وحديث ابن عباس محمول على حالة المرض ويجوز أن يكون صلى
121

الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها فإن عمرو بن دينار روى هذا الحديث عن جابر بن زيد
عن ابن عباس، قال عمرو قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل
العشاء، قال وأنا أظن ذلك
* (مسألة) * (وللجمع في وقت الأولى ثلاثة شروط: نية الجمع عند إحرامها ويحتمل أن تجزئه
النية قبل سلامها، وأن لا يفرق بينهما إلا بقدر الإقامة والوضوء فإن صلى السنة بينهما بطل الجمع في
إحدى الروايتين، وأن يكون العذر موجودا عند افتتاح الصلاتين وسلام الأولى)
نية الجمع شرط لجوازه في المشهور من المذهب، وقال أبو بكر لا يشترط نية الجمع كقوله في القصر
وقد ذكرناه. والتفريع على الأول وموضع النية إذا جمع في وقت الأولى عند الاحرام بها لأنها نية
تفتقر إليها الصلاة فاعتبرت عند الاحرام كنية القصر، وفيه وجه ثان أن موضعها أول الصلاة من
الأولى إلى سلامها فمتى نوى قبل سلام الأولى أجزاه لأن موضع الجمع عند الفراغ من الأولى إلى
الشروع في الثانية، فإذا لم تتأخر النية عنه أجزاه ذلك ويعتبر أن لا يفرق بينهما إلا تفريقا يسيرا،
والمرجع في اليسير إلى العرف والعادة وقدره بعض أصحابنا بقدر الوضوء والإقامة، والصحيح انه
لا حد له لأن التقدير بابه التوقيف فما لم يرد فيه توقيف فيرجع فيه إلى العادة كالقبض والاحراز،
122

فإن فرق بينهما تفريقا كثيرا بطل الجمع سواء فعله عمدا أو لنوم أو شغل أو سهو أو غير ذلك لأن
الشرط لا يثبت المشروط بدونه والمرجع في الكثير إلى العرف والعادة كما قلنا في اليسير، ومتى احتاج
إلى الوضوء والتيمم فعله إذا لم يطل وان تكلم بكلام يسير لم يبطل الجمع وإن صلى بينهما السنة بطل
الجمع في الظاهر لأنه فرق بينهما بصلاة فبطل الجمع كما لو صلى بينهما غيرها وعنه لا تبطل لأنه تفريق
يسير أشبه الوضوء
* (فصل) * ويعتبر للجمع في وقت الأولى وجود العذر حال افتتاح الصلاتين والفراغ من الأولى
لأن افتتاح الأولى موضع النية وبافتتاح الثانية يحصل الجمع فاعتبر العذر في هذين الوقتين فمتى زال
العذر في أحد هذه الثلاثة لم يبح الجمع، وإن زال المطر في اثنا الأولى ثم عاد قبل تمامها أو انقطع
بعد الاحرام بالثانية جاز الجمع ولم يؤثر انقطاعه لأن العذر وجد في وقت اشتراطه فلم يضر عدمه في
غيره. فأما المسافر إذا نوى الإقامة في أثناء الصلاة الأولى انقطع الجمع والقصر ولزمه الاتمام، فلو
عاد فنوى السفر لم يبح له الترخص حتى يفارق البلد الذي هو فيه، وإن نوى الإقامة بعد الاحرام
بالثانية أو دخلت به السفينة البلد في أثنائها احتمل أن يتمها ويصح قياسا على انقطاع المطر، قال
بعض أصحاب الشافعي هذا الذي يقتضيه مذهب الشافعي واحتمل أن تنقلب نفلا، ويبطل الجمع
123

لأنه أحد رخص السفر فبطل بذلك كالقصر والمسح ولأنه زال شرطها في أثنائها أشبه سائر شروطها
ويفارق انقطاع المطر من وجهين أحدهما انه لا يتحقق انقطاعه لاحتمال عوده في أثناء الصلاة، والثاني
انه يخلفه عذر مبيح وهو الوحل بخلاف مسألتنا وهكذا الحكم في المريض يزول عذره في أثناء
الصلاة الثانية. فأما إن لم يزل العذر إلا بعد الفراغ من الثانية قبل دخول وقتها صح الجمع ولم يلزمه
إعادة الثانية في وقتها لأن الصلاة وقعت صحيحة مجزئة مبرئة للذمة فلم تشتغل الذمة بها بعد ذلك
كالمتيمم إذا وجد الماء في الوقت بعد فراغه من الصلاة
* (فصل) * وإذا جمع في وقت الأولى فله أن يصلي سنة الثانية منهما ويوتر قبل دخول الثانية لأن سنتها
تابعة لها فتتبعها في فعلها ووقتها ولان الوتر وقته ما بين صلاة العشاء والصبح وقد صلى العشاء فدخل وقته
* (مسألة) * (وإن جمع في وقت الثانية كفاه نية الجمع في وقت الأولى ما لم يضق عن فعلها
واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية منهما)
ولا يشترط غير ذلك متى جمع في وقت الثانية فلا بد من نية الجمع في وقت الأولى، فموضع
النية في وقت الأولى من أوله إلى أن يبقى منه قدر ما يصليها هكذا ذكره أصحابنا لأنه متى أخرها
عن ذلك بغير نية صارت قضاء لا جمعا ولان تأخيرها عن القدر الذي يضيق عن فعلها حرام.
قال شيخنا ويحتمل أن يكون وقت النية أن يبقى منه قدر ما يدركها به وهو ركعة أو تكبيرة على
ما ذكرنا متقدما، ويعتبر بقاء العذر إلى حين دخول وقت الثانية فإن زال في وقت الأولى كالمريض
يبرأ والمسافر يقدم والمطر ينقطع لم يبح الجمع لزوال سببه، وان استمر إلى وقت الثانية جمع وإن
زال العذر لأنهما صارتا واجبتين في ذمته فلا بد له من فعلها
* (فصل) * ولا يشترط المواصلة بينهما إذا جمع في وقت الثانية لأنه متى صلى الأولى فالثانية في
وقتها لا يخرج بتأخيرها عن كونها مؤداة. وفيه وجه إن المواصلة مشترطة لأن حقيقة الجمع ضم
الشئ إلى الشئ ولا يحصل مع التفريق، والصحيح الأول لأن الأولى بعد وقوعها صحيحة لا تبطل
بشئ يوجد بعدها، والثانية لا تقع إلا في وقتها
124

* (فصل) * إذا صلى إحدى صلاتي الجمع مع الإمام والثانية مع إمام آخر أو صلى معه مأموم في
إحدى الصلاتين وصلى معه في الثانية مأموم آخر صح، وقال ابن عقيل لا يصح لأن كل واحد من
الإمام والمأموم أحد من يتم به الجمع فاشترط وجود دوامه كالعذر
ولنا أن لكل صلاة حكم نفسها وهي منفردة بنيتها فلم يشترط اتحاد الإمام والمأموم كغير المجموعتين
وقوله ان الإمام والمأموم أحد من يتم به الجمع لا يصح في المسافر والمريض لجواز الجمع لكل واحد
منهما منفردا. وفي المطر في أحد الوجهين، وان قلنا إن الجمع في المطر لا يجوز للمنفرد فالذي يتم به
الجمع الجماعة لا عين الإمام والمأموم ولم تختل الجماعة، وعلى ما قلنا لو ائتم المأموم بالإمام لا ينوي الجمع
ونواه الإمام فلما سلم الإمام صلى المأموم الثانية جاز لأنا أبحنا له مفارقة الإمام في الصلاة الواحدة
للعذر ففي الصلاتين أولى وإنما نوى أن يفعل في غيرها فلم يؤثر كما لو نوى المسافر في الأولى اتمام الثانية
فلم تختلف نيتهما في الصلاة الأولى، وهكذا لو صلى المسافر بمقيمين ونوى الجمع فلما صلى بهم الأولى
قام فصلى الثانية جاز، وهكذا لو صلى إحدى صلاتي الجمع منفردا ثم حضرت جماعة يصلون الثانية
فأمهم فيها أو فصلى معهم مأموما جاز، وقول ابن عقيل يقتضي أن لا يجوز شئ من ذلك والله أعلم
* (قال المصنف رحمه الله) *
* (فصل في صلاة الخوف) * وهي جائزة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى (وإذا كنت
125

فيهم فأقمت لهم الصلاة) الآية. وأما السنة فثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الخوف
وحكمها باق في قول جمهور أهل العلم، وقال أبو يوسف إنما كانت مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم
بدليل قوله سبحانه (وإذا كنت فيهم) وما قاله غير صحيح لأن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه
وسلم ثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصه به دليل لأن الله تعالى أمرنا باتباعه، ولما سئل صلى الله
عليه وسلم عن القبلة للصائم؟ أجاب بأني أفعل ذلك. فقال السائل لست مثلنا، فغضب وقال إني
لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقى، ولو اختص بفعله لما حصل جواب السائل بالاخبار
بفعله ولا غضب من قول السائل مثلنا لأن قوله إذا كان صوابا، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم يحتجون بأفعاله ويرونها معارضة لقوله وناسخة له، وذلك لما أخبرت عائشة وأم سلمة بأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ويصوم ذلك اليوم تركوا به خبر
أبي هريرة من أصبح جنبا فلا صوم له لما ذكروا ذلك لأبي هريرة قال هن أعلم، إنما حدثني به الفضل
ابن عباس ورجع عن قوله. وأيضا فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على صلاة الخوف فصلاها
على ليلة الهرير بصفين وصلاها أبو موسى الأشعري بأصحابه، وروي ان سعد بن العاص كان أميرا
على الحيش بطبرستان فقال أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة أنا.
فقدمه فصل بهم، فأما تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب فلا يوجب تخصيصه بالحكم لما
ذكرنا ولان الصحابة أنكروا على مانع الزكاة وقولهم ان الله تعالى خص نبيه بأخذ الزكاة بقوله
126

(خذ من أموالهم صدقة (فإن قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق ولم يصل. قلنا
الاعتراض باطل في نفسه إذ لا خلاف في إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يصلي صلاة الخوف
وقد أمره الله بها في كتابه فلا يجوز الاحتجاج بما يخالف الكتاب والاجماع وإنما كان ذلك قبل نزول
صلاة الخوف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل ان النبي
صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة نسيانا فإنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن صلاتهم. قالوا
ما صلينا. وروي ان عمر قال ما صليت العصر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " والله ما صليتها " أو
كما جاء، ومما يدل على ذلك أنه لم يكن ثم قتال يمنعه من الصلاة إذا ثبت ذلك فإنما تجوز صلاة
الخوف إذا كان العدو مباح القتال، ويشترط أن لا يؤمن هجومه على المسلمين وتجوز على كل صفة
صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم
* (مسألة) * (قال الإمام أبو عبد الله: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف من خمسة
أوجه أو ستة، وقال ستة أو سبعة كل ذلك جائز لمن فعله)
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله تقول بالأحاديث كلها أو تختار واحدا منها، قال: انا أقول
من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا اختاره فنذكر الوجوه التي بلغتنا فأولها إذا كان
العدو في جهة القبلة بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كمينا فيصلي بهم كما روى جابر قال:
127

شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا خلفه صفين والعدو بيننا وبين القبلة
فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا
جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي
صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه وانحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم
الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا، ورفع
رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة
الأولى وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود وقام
الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا أخرجه
مسلم. وروى أبو عياش الزرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان نحو هذه الصلاة وصلاها
يوم بني سليم رواه أبو داود قلت وأخرجه مسلم عن جابر. قال البيهقي وهو صحيح وإن حرس
الصف الأول في الأولى والثاني في الثانية أو لم يتقدم الثاني إلى مقام الأول، أو حرس بعض الصف
وسجد الباقون جاز لأن المقصود يحصل لكن الأولى أن تفعل مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم
* (والوجه الثاني) * إذا كان العدو في غير جهة القبلة فيصلي بهم كما روى صالح بن خوات عن من
صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه
128

العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وائتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت
الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم
رواه مسلم. وروى سهل بن أبي حثمة نحو ذلك، واشترط القاضي لهذه الصلاة كون العدو في غير
جهة القبلة، ونص احمد على خلاف ذلك في رواية الأثرم فإنه قال: قلت له حديث سهل تستعمله
مستقبلين القبلة كانوا ومستدبرين؟ قال نعم هو أنكى ولان العدو قد يكون في جهة القبلة على وجه لا يمكن
أن يصلي بهم صلاة عسفان لانتشارهم أو لخوف من كمين، فالمنع من هذه الصلاة يفضي إلى تفويتها
قال أبو الخطاب: ومن شرطها أن يكون المصلون يمكن تفريقهم طائفتين كل طائفة ثلاثة فأكثر. وقال
القاضي: إن كانت كل فرقة أقل من ثلاثة كرهناه، ووجه قولهما أن الله سبحانه ذكر الطائفة بلفظ
الجمع بقوله (فإذا سجدوا) وأقل الجمع ثلاثة، ولان احمد ذهب إلى ظاهر فعل النبي صلى الله عليه
وسلم. قال شيخنا: والأولى أن لا يشترط هذا لأن ما دون الثلاثة تصح به الجماعة فجاز أن يكونوا طائفة
كالثلاثة، فأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يشترط في صلاة الخوف أن يكون المصلون مثل
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في العدد وجها واحدا
ويستحب أن يخفف بهم الصلاة لأن موضوع صلاة الخوف على التخفيف وكذلك الطائفة التي
تفارقه تخفف الصلاة ولا تفارقه حتى يستقل قائما لأن النهوض يشتركون فيه جميعا فلا حاجة إلى
129

مفارقتهم إياه قبله لأن المفارقة إنما جازت للعذر ويقرأ في حال الانتظار ويطيل التشهد حتى يدركوه
وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يقرأ في الانتظار، بل يؤخر القراءة ليقرأ بالطائفة الثانية
فتحصل التسوية بين الطائفتين
ولنا أن الصلاة ليس فيها حال سكوت والقيام محل للقراءة فينبغي أن يأتي بها فيه كما في التشهد
إذا انتظرهم فإنه لا يسكت والتسوية بينهم تحصل بانتظاره إياهم في موضعين والأولى في موضع واحد
إذا ثبت هذا فقال القاضي: ان قرأ في انتظارهم فقرأ بعد مجيئهم بقدر فاتحة الكتاب وسورة خفيفة
وإن لم يقرأ في انتظارهم قرأ إذا جاءوا بفاتحة الكتاب وسورة وهذا على سبيل الاستحباب، فلو
قرأ قبل مجيئهم ثم ركع عند مجيئهم أو قبله فأدركوه راكعا ركعوا معه وصحت لهم الركعة مع تركه
للسنة، وإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا ركعة أخرى وأطال التشهد والدعاء حتى يدركوه ويتشهدوا
ثم يسلم بهم. وقال مالك: يتشهدون معه فإذا سلم الإمام قاموا فقضوا ما فاتهم كالمسبوق والأولى
ما ذكرناه لموافقته الحديث ولان قوله تعالى (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) يدل على
أن صلاتهم كلها معه ولان الأولى أدركت معه فضيلة الاحرام فينبغي أن يسلم بالثانية ليسوي بينهم، بهذا
قال مالك والشافعي على ما ذكرنا من الاختلاف، واختار أبو حنيفة أن يصلي على ما في حديث ابن
عمر وسوف نذكره إن شاء الله تعالى في الوجه الثالث، والأولى والمختار عند احمد رحمه الله هذا الوجه
130

الثاني لأنه أشبه بكتاب الله تعالى وأحوط للصلاة والحرب، أما موافقة الكتاب فإن قوله تعالى
(ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) يقتضي أن جميع صلاتها معه، وعلى ما اختاره أبو
حنيفة لا تصلي معه إلا ركعة على ما يأتي وعلى ما اخترنا تصلي جميع صلاتها معه في إحدى الركعتين
موافقة في أفعاله، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه. وأما الاحتياط للصلاة فإن كل طائفة تأتي
بصلاتها متوالية بغضها موافق للإمام فيها فعلا وبعضها يفارقه وتأتي به وحدها كالمسبوق، وعلى
ما اختاره ينصرف إلى جهة العدو وهي في الصلاة ماشية أو راكبة ويستدبر القبلة وهذا ينافي الصلاة
وأما الاحتياط للحرب فإنه يتمكن من الضرب والطعن والتحريض وإعلام غيره بما يراه مما خفي عليه
وتحذيره وإعلام الذين مع الإمام بما يحدث ولا يمكن هذا على اختياره
(فصل) ولا تجب التسوية بين الطائفتين لأنه لم يرد بذلك نص ولا قياس، ويجب أن تكون
الطائفة التي بإزاء العدو ممن يحصل الثقة بكفايتها وحراستها ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى
معونتهم بالطائفة الأخرى فللإمام أن ينهد إليهم من معه ويبينوا على ما مضى من صلاتهم
(فصل) وإن صلوا الجمعة صلاة الخوف جاز إذا كانت كل طائفة أربعين، فإن قيل فالعدد
شرط في الجمعة كلها ومتى ذهبت الطائفة الأولى بقي الإمام منفردا فبطلت الجمعة كما لو نقص العدد
فالجواب أن هذا جاز لأجل العذر ولأنه يترقب مجئ الطائفة الأخرى بخلاف الانفضاض
131

ولنا أيضا في الأصل منع ولا يجوز أن يخطب بإحدى الطائفتين ويصلي بالأخرى حتى يصلي
معه من حضر الخطبة وبهذا قال الشافعي
(فصل) والطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقة الإمام فإن سها لحقهم حكم سهوه فيما قبل
مفارقته، وان سهوا لم يلزمهم حكم سهوهم لأنهم مأمومون، وأما بعد مفارقته فلا يلحقهم حكم سهوه
ويلحقهم حكم سهوهم لأنهم منفردون، وأما الطائفة الثانية فيلحقها حكم سهو إمامها في جميع صلاته
ما أدركت منها وما فاتها كالمسبوق يلحقه حكم سهو إمامه فيما لم يدركه ولا يلحقها حكم سهوها في شئ
من صلاتها لأنها ان فارقتها فعلا لقضاء ما فاتها فهي في حكم المؤتم لأنهم يسلمون بسلامه، فإذا فرغت
من قضاء ما فاتها سجد وسجدت معه، فإن سجد قبل اتمامها تابعته لأنها مؤتمة به ولا يقيد السجود بعد
فراغها من التشهد لأنها لم تنفرد عن الإمام بخلاف المسبوق. وقال القاضي ينبني هذا على الروايتين في
المسبوق إذا سجد مع إمامه هل يسجد بعد القضاء أم لا وقد ذكر الفرق بينهما
* (مسألة) * (وان كانت الصلاة مغربا صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة)
وبهذا قال مالك والأوزاعي وسفيان والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر يصلى بالأولى
ركعة وبالثانية ركعتين لأنه روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى ذلك ليلة الهرير، ولان
الأولى أدركت معه فضيلة الاحرام والتقدم فينبغي أن يزيد الثانية في الركعات ليجبر نقصهم به
132

ولنا أنه إذا لم يكن بد من التفضيل فالأولى أحق به وما فات الثانية يتخير بادراكها السلام مع
الإمام ولأنها تصلي جميع صلاتها في حكم الائتمام، والأولى تفضل بعض صلاتها في حكم الانفراد
وأيا ما فعل فهو جائز، وإذا صلى بالثانية الركعة الثانية وجلس للتشهد فإن الطائفة تقوم ولا تتشهد
معه ذكره القاضي لأنه ليس بموضع لتشهدها بخلاف الرباعية ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا إنها تقضي
ركعتين متواليين لئلا يفضي إلى أن يصلي ثلاث ركعات بتشهد واحد ولا نظير لهذا في الصلوات
هذا حكم صلاة المغرب على حديث سهل
* (مسألة) * (وان كانت رباعية غير مقصورة صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الأولى بالحمد لله
في كل ركعة والأخرى تتم بالحمد لله وسورة)
تجوز صلاة الخوف في الحضر عند الحاجة إليها وبه قال الأوزاعي والشافعي، وحكي عن مالك
لا يجوز في الحضر لأن الآية إنما دلت على صلاة ركعتين وصلاة الحضر أربع، ولان النبي صلى
الله عليه وسلم لم يفعلها في الحضر
ولنا قوله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) وهذا عام وترك النبي صلى الله عليه وسلم
لها في الحضر إنما كان لغناه عنها فيه، وقولهم إنما دلت الآية على ركعتين ممنوع، وان سلم فقد تكون
صلاة الحضر ركعتين الصبح والجمعة والمغرب ثلاث ويجوز فعلها في الخوف في السفر فعلى هذا إذا
133

صلى بهم الرباعية فرقهم فرقتين وصلى بكل طائفة ركعتين وتقرأ الأولى بعد مفارقة إمامها بالحمد لله
وحدها في كل ركعة لأنها آخر صلاتها، وأما الطائفة الثانية فإذا جلس الإمام للتشهد الأخير تشهدت
معه التشهد الأول كالمسبوق ثم قامت وهو جالس فأتمت صلاتها وتقرأ في كل ركعة الحمد لله وسورة
في ظاهر المذهب لأنه أول صلاتها على ما ذكرنا في المسبوق وتستفتح إذا قامت للقضاء كالمسبوق
ولأنها لم تحصل لها مع الإمام قراءة السورة ويطول الإمام التشهد والدعاء حتى تصلي الركعتين،
ثم يتشهد ويسلم بهم، وإذا قلنا أن الذي يقضيه المسبوق آخر صلاته فيقتضي أن لا يستفتح ولا
يقرأ السورة ها هنا قياسا عليه
* (مسألة) * (وهل تفارقه الأولى في التشهد الأول وفي الثالثة؟ على وجهين)
أحدهما حين قيامه إلى الثالثة وهو قول مالك والأوزاعي لأنه يحتاج إلى التطويل من أجل
الانتظار والتشهد يستحب تخفيفه، ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس للتشهد
كأنه على الرضف حتى يقوم لأن ثواب القائم أكثر ولأنه إذا انتظرهم جالسا وجاءت الطائفة فإنه يقوم
قبل احرامهم فلا يحصل اتباعهم إياه في القيام، والثاني في التشهد ليدرك الطائفة الثانية جميع الركعة
الثالثة ولان الجلوس أخف على الإمام ولأنه متى انتظرهم فإنما احتاج إلى قراءة السورة في الركعة
الثالثة وهو خلاف السنة وكلا الامرين جائز
134

* (مسألة) * (وإن فرقهم أربعا فصلى بكل طائفة ركعة صحت صلاة الأوليين وبطلت صلاة
الإمام والاخريين ان علمنا بطلان صلاته)
وجملة ذلك أنه متى فرقهم الإمام في صلاة الخوف أكثر من فرقتين مثل أن فرقهم أربع فرق
فصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق فصلى بالأولى ركعتين وبالباقيتين ركعة صحت صلاة الأوليين
لأنهما إنما ائتما بمن صلاته صحيحة ولم يوجد منهما ما يبطل صلاتهما وتبطل صلاة الإمام بانتظار الثالث
لأنه لم يرد الشرع به فأبطل الصلاة كما لو فعله من غير خوف، وسواء فعل ذلك لحاجة أو غيرها لأن
الترخص إنما يصار إليه فيما ورد به الشرع وتبطل صلاة الثالثة والرابعة لائتمامها بمن صلاته باطلة
فأشبه ما لو كانت باطلة في أولها، فإن لم يعلما بطلان صلاة الإمام فقال ابن حامد: لا تبطل صلاتهما
لأن ذلك مما يخفى فلم تبطل صلاة المأموم كما لو ائتم بمحدث لا يعلم حدثه وينبغي على هذا أن يخفى على
الإمام والمأموم كما اعتبرنا ذلك في المحدث. قال شيخنا: ويحتمل أن لا تصح صلاتهما لأن الإمام والمأموم
يعلمان وجود المبطل، وإنما خفي عليهم حكمه فلم يمنع ذلك البطلان كما لو علم حدث الإمام
ولم يعلم كونه مبطلا، وقال بعض الشافعية كقول ابن حامد. وقال بعضهم: تصح صلاة الجميع لأن
الحاجة تدعو إليه أشبه الفرقتين
ولنا أن الرخص إنما تتلقى من الشرع وهذا لم يرد به الشرع فلم يجزئه كغير الخوف والله أعلم
(الوجه الثالث) يصلي كما روى ابن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف
بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام
أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى لهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم، ثم قضى
هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة متفق عليه
135

(الوجه الرابع) أن يصلي بكل طائفة صلاة ويسلم بها كما روى أبو بكرة قال: صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم
فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم
فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ولأصحابه ركعتان رواه أبو داود والأثرم. وهذه صفة
حسنة قليلة الكلفة لا يحتاج فيها إلى مفارقة إمامه ولا إلى تفريق كيفية الصلاة وهو مذهب الحسن
وليس فيها أكثر من أن الإمام في الثانية متنفل يؤم مفترضين
(الوجه الخامس) أن يصلي كما روى جابر قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
إذا كنا بذات الرقاع قال فنودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى
ركعتين قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين متفق عليه
وتأول القاضي هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم كصلاة الحضر، وأن كل طائفة قضت
ركعتين، وأن التأويل فاسد لمخالفة صفة الرواية وقول احمد: أما مخالفة الرواية فإنه ذكر أنه صلى بكل
طائفة ركعتين ولم يذكر قضاء، ثم قال في آخره للقوم ركعتين ركعتين. وأما مخالفة قول احمد فإنه
قال ستة أوجه أو سبعة يروى فيها كأنها جائز، وعلى هذا لا تكون ستة ولا خمسة، ثم إنه حمل الحديث
على محمل بعيد لأن الخوف يقتضي قصر الصلاة وتخفيفها، وعلى هذا التأويل تجعل مكان الركعتين
أربعا ويتم الصلاة المقصورة ولم ينقل عنه عليه السلام اتمام صلاة السفر في غير الخوف فكيف
يتمها في موضع يقتضي التخفيف
(فصل) وقد ذكر شيخنا رحمه الله
(الوجه السادس) أن يصلي بكل طائفة ركعة ركعة ولا تقضي شيئا لما روى ابن عباس قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد صلاة الخوف والمشركون بينه وبين القبلة فصف صفا
136

خلفه وصفا موازي العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى
مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان وكانت
لهم ركعة ركعة رواه الأثرم، وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بهؤلاء
ركعة وهؤلاء ركعة ولم يقضوا شيئا رواه أبو داود وهذا قول ابن عباس وجابر. قال جابر: إنما
القصر ركعة عند القتال. وقال طاوس ومجاهد والحسن وقتادة والحكم يقولون ركعة في شدة
الخوف يومئ ايماء، وبه قال إسحاق يجزئك عند الشدة ركعة تومئ ايماء، فإن لم تقدر فسجدة
واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة، فهذه الصلاة يقتضي عموم كلام احمد جوازها لأنه ذكر ستة أوجه
ولا نعلم وجها سادسا سواها. وقال القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات وهذا قول أصحابنا
وأكثر أهل العلم منهم ابن عمر والنخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم من علماء
الأمصار لا يجيزون ركعة والذي قال منهم وكعة إنما جعلها عند شدة القتال، والذين روينا عنهم
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرهم لم ينقصوا من ركعتين وابن عباس لم يكن ممن يحضر
النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته ولم يعلم ذلك إلا بالرواية فالأخذ برواية من حضر الصلاة
وصلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم أولى
(فصل) ومتى صلى بهم صلاة الخوف من غير خوف فصلاة الجميع فاسدة لأنها لا تخلو من
مفارقة إمامه لغير عذر أو تارك متابعة إمامه في ثلاثة أركان، أو قاصر الصلاة مع اتمام إمام وكل
ذلك يفسد الصلاة إلا مفارقة الإمام في قول: وإذا فسدت صلاة الإمام لأنه صلى إماما بمن صلاته
فاسدة إلا أن يصلي بهم صلاتين كاملتين فتصح صلاته وصلاة الطائفة الأولى وصلاة الثانية تنبني على
إمامة المتنفل بالمفترض وقد ذكرناه
137

* (مسألة) * (ويستحب أن يحمل معه في الصلاة من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله
كالسيف والسكين ويحتمل أن يجب ذلك)
حمل السلاح في صلاة الخوف مستحب لقوله تعالى (وليأخذوا أسلحتهم) ولأنهم لا يأمنون
أن يفجأهم العدو كما قال الله تعالى (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم
فيميلون عليكم ميلة واحدة)
والمستحب من ذلك ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كالسيف والسكين، ولا يستحب حمل ما يثقله
كالجوشرة، ولا ما يمنع اكمال السجود كالمغفر ولا ما يؤذي غيره كالرمح إذا كان متوسطا، ولا يجوز
حمل نجس ولا ما يخل ببعض أركان الصلاة الا عند الضرورة كمن يخاف وقوع الحجارة والسهام،
وليس ذلك بواجب ذكره أصحابنا وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وأكثر أهل العلم لأنه
لو وجب لكان شرطا كالسترة ولان الامر به للرفق بهم والصيانة لهم فلم يكن للايجاب كما أن نهي
النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال لما كان للرفق لم يكن للتحريم، ويحتمل أن يجب ذلك وهو قول
داود وأحد قولي الشافعي وهذا أظهر لأن ظاهر الامر الوجوب، وقد اقترن به ما يدل على الوجوب
وهو قوله سبحانه (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم)
ونفي الحرج مشروطا بالأذى دليل على لزومه عند عدمه، فأما إن كان بهم أذى من مطر أو مرض
فلا يجب بغير خلاف لصريح النص بنفي الحرج
* (فصل) * فإذا اشتد الخوف صلوا رجالا وركبانا إلى القبلة وغيرها يومئون ايماء على قدر الطاقة.
وجملة ذلك أنه متى اشتد الخوف والتحم القتال فلهم الصلاة كيف ما أمكنهم رجالا أو ركبانا إن أمكنهم
إلى القبلة أو إلى غيرها ان لم يمكنهم يومئون بالركوع والسجود ويجعلون سجودهم أخفض من ركوعهم
على قدر الطاقة، ولهم التقدم والتأخر والطعن والضرب والكر والفر ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها
138

في قول أكثر أهل العلم. وحكى ابن أبي موسى انه يجوز تأخير الصلاة حال التحام القتال في رواية،
وقال أبو حنيفة وابن أبي ليل لا يصلي مع المسايفة ولا مع المشي لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل
يوم الخندق وأخر الصلاة، ولان ما يمنع الصلاة في غير شدة الخوف يمنعها معه كالحدث والصياح،
وقال الشافعي يصلي لكن إن تابع الطعن والضرب أو المشي أو فعل ما يطول بطلت صلاته لأن ذلك
من مبطلات الصلاة أشبه الحدث
ولنا قوله عز وجل (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) وقال ابن عمر فإن كان خوف أشد من ذلك
صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها متفق عليه. وروي ذلك عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في غير شدة الخوف فأمرهم
بالمشي إلى وجاه العدو وهم في الصلاة ثم يعودن لقضاء ما بقي من صلاتهم، وهذا مشى كثير وعمل
طويل واستدبار للقبلة فإذا جاز ذلك مع أن الخوف ليس بشديد فمع شدته أولى، ومن العجب اختيار
أبي حنيفة هذا الوجه دون سائر الوجوه التي لا تشتمل على العمل في أثناء الصلاة وتسويغه إياه مع
الغناء عنه ثم منعه في حال الحاجة إليه بحيث لا يقدر على غيره فكان العكس أولى ولأنه مكلف تصح
طهارته فلم يجز له اخلاء وقت الصلاة عن فعلها كالمريض، ويخص الشافعي بأنه عمل أبيح للخوف فلم
يبطل الصلاة كاستدبار القبلة والركوب والايماء وبهذا ينتقض ما ذكره. فأما تأخير الصلاة يوم الخندق
فروى أبو سعيد انه كان قبل نزول صلاة الخوف ويحتمل انه شغله المشركون فنسي الصلاة، فقد نقل
ما يدل على ذلك ويؤكد ما ذكرنا ان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا في مسايفة توجب
قطع الصلاة، وأما الصياح الحدث فلا حاجة بهم إليه ولا يلزم من كون الشئ مبطلا مع عدم العذر
أن تبطل معه كخروج النجاسة من المستحاضة ومن في معناها
139

* (فصل) * فإن أمكنهم افتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يلزمهم ذلك، على روايتين: إحداهما
لا تجب اختاره أبو بكر لأنه جزء من الصلاة فلم يجب الاستقبال فيه كبقية أجزائها، والثانية يجب
لأنه أمكنه ابتداء الصلاة مستقبلا فلم يجز بدونه كما لو أمكنه ذلك في ركعة كاملة
* (مسألة) * (ومن هرب من عدو هربا مباحا أو سيل أو سبع أو نحوه فله الصلاة كذلك سواء
خاف على نفسه أو ماله أو أهله)
وكذلك الأسير إذا خافهم على نفسه إن صلى والمختفي في موضع يصليان كيف ما أمكنهما نص
عليه أحمد في الأسير، فلو كان المختفي قاعدا لا يمكنه القيام أو مضطجعا لا يمكنه القعود صلى على حسب
حاله وهذا قول ابن الحسن وقال الشافعي يصلي ويعيد. ولنا انه خائف صلى على حسب ما أمكنه
فلم يلزمه الإعادة كالهارب، ولا فرق في هذا بين الحضر والسفر لأن المبيح خوف الهلاك وقد
تساويا فيه فإن أمكن التخلص بدون ذلك كالهارب من السيل يصعد إلى ربوة والخائف من العدو
يمكنه دخول حصن يأمن فيه صولة العدو فيصلي فيه ثم يخرج لم يكن له أن يصلي صلاة الخوف لأنه
لا حاجة إليها ولا ضرورة
* (فصل) * فأما العاصي بهربه كالذي يهرب مما يجب عليه وقاطع الطريق واللص والسارق فليس لهم
أن يصلوا الخوف لأنها رخصة ثبتت للدفع عن نفسه في محل مباح فلا يثبت بالمعصية كرخص السفر
* (فصل) * قال أصحابنا يجوز أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة. قال شيخنا ويحتمل أن
لا يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنهم يحتاجون إلى التقدم والتأخر وربما تقدموا على الإمام وتعذر عليهم
الائتمام، وحجة الأصحاب انها حالة تجوز فيها الصلاة على الانفراد فجاز فيها صلاة الجماعة كالركوب
في السفينة ويعفى عن تقدم الإمام للحاجة إليه كالعفو عن العمل الكثير ولمن نصر القول الأول أن
140

يفرق بينهما بأن العفو عن العمل الكثير لا يختص الإمامة بل هو في حال الانفراد أيضا فلم يؤثر
الانفراد في نفسه بخلاف تقدم الإمام
* (مسألة) * (وهل لطالب العدو الخائف فواته الصلاة كذلك) على روايتين:
إحداهما له ذلك كالمطلوب سواء، روي ذلك عن شر حبيل بن حسنة وهو قول الأوزاعي
لما روى عبد الله بن أنيس قال بعثني رسول الله صلى الله عليه إلى خالد بن سفين الهذلي فقال اذهب
فاقتله. فرأيته وحضرت صلاة العصر، فقلت اني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة
فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومأ ايماء نحوه. وذكر الحديث رواه أبو داود وظاهر حاله أنه أخبر
بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو كان قد علم جواز ذلك فإنه لا يظن به أن يفعل ذلك مخطئا وهو رسول
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يخبره بذلك ولا يسأل عن حكمه. وقال شر حبيل بن حسنة
لا تصلوا الصبح إلا على ظهر، فنزل الأشتر فصلى على الأرض فمر به شر حبيل فقال مخالف خالف الله به.
قال فخرج الأشتر في الفتنة ولأنها إحدى حالتي الحرب أشبهت حالة الهرب ولان فوات الكفار
ضرر عظيم فأبيحت صلاة الخوف عند فواته كالحالة الأخرى
والثانية ليس له أن يصلي الا صلاة آمن وهذا قول أكثر أهل العلم لأن الله تعالى قال:
(فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) فشرط الخوف وهذا غير خائف ولأنه آمن فلزمته صلاة الآمن كما
لو لم يخش فواتهم، وهذا الخلاف فيمن يأمن رجوعهم عليه ان تشاغل بالصلاة ويأمن على أصحابه.
فأما الخائف من ذلك فحكمه حكم المطلوب على ما بينا
* (مسألة) * (ومن أمن في الصلاة أتم صلاة آمن، وان ابتدأها آمنا ثم خاف أتم صلاة خائف)
متى صلى بعض الصلاة في حال شدة الخوف مع الاخلال بشئ من واجباتها كالاستقبال وغيره
فأمن في أثنائها أتمها آتيا بواجباتها، فإذا كان راكبا إلى غير القبلة نزل مستقبل القبلة، وإن كان
ماشيا وقف واستقبل القبلة وبنى على ما مضى لأن ما مضى من صلاته كان صحيحا قبل الامن فجاز
141

البناء عليه كما لو لم يخل بشئ من الواجبات، وكان المريض يبتدئ الصلاة قاعدا إذا قدر على القيام
في أثنائها فإن ترك الاستقبال حال نزوله أو أخل بشئ من واجباتها بعد أمنه فسدت صلاته، وإن
ابتدأ الصلاة آمنا بشروطها وواجباتها ثم حدث له شدة خوف أتمها على حسب ما يحتاج إليه مثل من
يكون قائما على الأرض مستقبلا فيحتاج أن يركب ويستدبر القبلة ويطعن ويضرب نحو ذلك، فإنه
يصير إليه ويبني على الماضي من صلاته. وحكي عن الشافعي انه إذا أمن نزل فبنى وإذا خاف فركب
ابتدأ، ولا يصح لأن الركوب قد يكون يسيرا لا يبطل مثله في حق الآمن ففي حق الخائف أولى
كالنزول ولأنه عمل أبيح للحاجة فلم يمنع صحة الصلاة كالهرب، ومن صلى صلاة الخوف لسواد ظنه
عدوا فبان انه ليس بعدو وبينه وبينه ما يمنعه منه فعليه الإعادة سواء صلى صلاة شدة الخوف أو
غيرها، وسواء كان ظنهم مستندا إلى خبر ثقة أو غيره، أو رؤية سواد أو نحوه لأنه ترك بعض
واجبات الصلاة ظنا منه انه قد سقط فلزمته الإعادة كما لو ترك غسل رجليه ومسح على خفيه ظنا منه
إن ذلك يجزي فبانا مخرقين، وكما لو ظن المحدث انه متطهرا فصلى، ويحتمل أن لا يلزم الإعادة إذا
كان بينه وبين العدو ما يمنع العبور لأن سبب الخوف متحقق وإنما خفي المانع والله أعلم
* (باب صلاة الجمعة) *
والأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله تعالى (يا أيها الذين
آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) فأمر بالسعي ومقتضى الامر
الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب. والمراد بالسعي هنا الذهاب إليها لا الاسراع، فإن
142

السعي في كتاب الله لا يراد به العدو قال الله تعالى (وأما من جاءك يسعى) وقال (وسعى لها
سعيها) وقال (ويسعون في الأرض فسادا) وقال (سعى في الأرض ليفسد فيها) وأشباه هذا لم يرد
بشئ منه العدو، وقد روي عن عمر انه كان يقرأ (فامضوا إلى ذكر الله)
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله
قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين " متفق عليه، وعن أبي الجعد الضميري ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه " وقال عليه السلام " الجمعة حق واجب
على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض " رواهما أبو داود. وعن جابر قال
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " واعلموا ان الله تعالى قد افترض عليكم الجمعة في مقامي
هذا في يومي هذا في شهري هذا من عامي هذا فمن تركها في حياتي أو بعد موتي وله إمام عادل أو جائر استخفافا
143

بها أو جحودا بها فلا جمع الله له شمله ولا بارك الله أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا
حج له، ألا ولا صوم له، ولا بر له حتى يتوب، فإن تاب تاب الله عليه " رواه ابن ماجة، وأجمع
المسلمون على وجوب الجمعة
* (مسألة) * (وهي واجبة على كل مسلم مكلف ذكر حر مستوطن ببناء ليس بينه وبين موضع الجمعة.
أكثر من فرسخ إذا لم يكن له عذر)
يشترط لوجوب الجمعة ثمانية شروط: الاسلام والعقل والذكورية فهذه الثلاثة لا خلاف في
اشتراطها لوجوب الجمعة وانعقادها لأن الاسلام والعقل شرطان للتكليف وصحة العبادة المحضة،
والذكورية شرط لوجوب الجمعة وانعقادها لما ذكرنا من الحديث ولان الجمعة يجتمع لها الرجال
والمرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال ولكن الجمعة تصح منها فإن النبي صلى الله عليه
وسلم كان النساء يصلين معه في الجماعة
144

الرابع البلوغ وهو شرط لوجوب الجمعة وانعقادها في الصحيح من المذهب للحديث المذكور
وهذا قول أكثر أهل العلم ولان البلوغ من شرائط التكليف لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم
عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ " وذكر بعض أصحابنا في الصبي المميز رواية في وجوبها عليه بناء على
تكليفه ولا معول عليه (والخامس) الحرية
(السادس) الاستيطان بقرية وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى
(السابع) أن لا يكون بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ، وهذا الشرط في حق غير أهل
المصر، أما أهل المصر فيلزمهم كلهم الجمعة بعدوا أو قربوا، نص عليه أحمد، فقال أما أهل المصر فلابد
لهم من شهودها سمعوا النداء أو لم يسمعوا، وذلك لأن البلد الواحد يبنى للجمعة فلا فرق فيه
145

بين القريب والبعيد، ولان المصر لا يكاد يكون أكثر من فرسخ فهو في مظنة القرب فاعتبر ذلك
وهو قول أصحاب الرأي ونحوه قول الشافعي. فأما غير أهل المصر فمن كان بينه وبين الجامع فرسخ
فما دون فعليه الجمعة وإلا فلا جمعة عليه. وروي نحو هذا عن سعيد بن المسيب وهو قول مالك
والليث، وروى عبد الله بن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " الجمعة على من سمع النداء "
رواه أبو داود والأشبه انه من كلام بن عمرو ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعمى الذي قال
ليس لي قائد يقودني " أتسمع النداء؟ " قال نعم. " قال فأجب " ولأنه داخل في قوله تعالى (فاسعوا
إلى ذكر الله) وروي عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس والحسن ونافع وعكرمة وعطاء والأوزاعي
انهم قالوا الجمعة على من أواه الليل إلى أهله لما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" الجمعة على من أواه الليل إلى أهله " وقال أصحاب الرأي لا جمعة على من كان خارج المصر لأن
عثمان رضي الله عنه صلى العيد في يوم جمعة ثم قال لأهل العوالي من أراد منكم أن ينصرف فلينصرف
ومن أراد أن يقيم حتى يصلي الجمعة ولأنهم خارج المصر فأشبهوا أهل الحلل
146

ولنا قول الله تعالى (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) وهذا يتناول أهل
المصر إذا سمعوا النداء، وحديث عبد الله بن عمرو، ولأنهم من أهل الجمعة يسمعون النداء فأشبهوا
أهل المصر، وترخيص عثمان لأهل العوالي إنما كان لأنه إذا اجتمع عيدان اجتزئ بالعيد وسقطت
الجمعة عمن حضر العيد غير الإمام، وقياس أهل القرى على أهل الحلل لا يصح لأن الحلل لا تعد
للاستيطان ولا هم ساكنين بقرية ولا في موضع جعل لاستيطان. وقد ذكر القاضي أن الجمعة تجب
عليهم إذا كانوا بموضع يسمعون النداء كأهل القرية، وأما ما احتج به الآخرون من حديث أبي هريرة
فهو غير صحيح يرويه عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف، قال أحمد بن الحسن ذكرت هذا
الحديث لأحمد بن حنبل فغضب وقال استغفر ربك استغفر ربك، وإنما فعل هذا لأنه لم ير الحديث
شيئا بحال اسناده قاله الترمذي. وأما اعتبار حقيقة النداء فغير ممكن لأنه قد يكون في الناس الأصم
147

وثقيل السمع، وقد يكون النداء بين يدي المنبر فلا يسمعه إلا أهل المسجد، وقد يكون المؤذن خفي
الصوت، أو في يوم ريح، أو يكون المستمع نائما أو مشغولا بما يمنع السماع ويسمع من هو أبعد منه
فيفضي إلى وجوبها على البعيد دون القريب، وما هذا سبيله ينبغي أن يقدر بمقدار لا يختلف والموضع
الذي يسمع منه النداء في الغالب إذا كانت الأصوات هادئة والموانع منتفية والريح ساكنة والمؤذن
صيت على موضع عال والمستمع غير ساه فرسخ أو ما قاربه فحد به والله أعلم
* (فصل) * وأهل القرية لا يخلون من حالين: إما أن يكون بينهم وبين المصر أكثر من فرسخ
لم يجب عليهم السعي إلى الجمعة وحالهم معتبر بأنفسهم، فإن كانوا أربعين واجتمعت فيهم الشرائط
فعليهم إقامة الجمعة ولهم السعي إلى المصر، والأفضل إقامتها في قريتهم لأنه متى سعى بعضهم اختل
على الباقين إقامة الجمعة، وإذا أقاموا حضروها جميعهم ولان في اقامتها في موضعهم تكثير جماعات
148

المسلمين، وإن كانوا ممن لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم فهم مخيرون بين السعي إلى المصر وبين
الإقامة ويصلون ظهرا، والسعي أفضل ليحصل لهم فضل الساعي إلى الجمعة ويخرجوا من الخلاف
(الحال الثاني) أن يكون بينهم وبين المصر فرسخ فما دون، فإن كانوا أقل من أربعين فعليهم
السعي إلي الجمعة لما بينا، وإن كانوا ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم وكان موضع الجمعة القريب قرية
أخرى لم يلزمهم السعي إليها وصلوا في مكانهم إذ ليس إحدى القريتين أولى من الأخرى، ولهم السعي
إليها وإقامتها في مكانهم أفضل كما ذكرنا، فإن سى بعضهم فنقص عدد الباقين لزمهم السعي لئلا يؤدي
إلى ترك الجمعة الواجبة وإن كان موضع الجمعة القريب مصرا فهم مخيرون أيضا بين السعي إليه وإقامتها
في مكانهم كالتي قبلها ذكره ابن عقيل، وعن أحمد ان السعي يلزمهم إلا أن يكون لهم عذر فيصلون
جمعة والأول أصح، لأن أهل القرية لا ينعقد بهم جمعة أهل المصر فكان لهم إقامة الجمعة في مكانهم
149

كالتي قبلها ولان أهل القرى يقيمون الجمع في بلاد الاسلام في مثل ذلك من غير نكير فكان اجماعا
(الشرط الثامن) من انتفاء الاعذار وقد ذكرناها في آخر صلاة الجماعة بما يغني عن اعادتها،
والمطر الذي يبل الثياب والوحل الذي يشق المشي فيه من جملة الاعذار. وحكى عن مالك انه
كان لا يجعل المطر عذرا في التخلف عنها. ولنا أن ابن عباس أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطر
فقال إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل صلوا في بيوتكم. قال فكان الناس
استنكروا ذلك، فقال أتعجبون من ذا فعل هذا من هو خير منى. إن الجمعة عزمة وإني كرهت
أن أخرجكم إليها فتمشون في الطين والدحض أخرجه مسلم ولأنه عذر في ترك الجماعة، وقال أبو حنيفة
لا تجب فكان عذرا في ترك الجمعة كالمرض
* (فصل) * والعمى ليس بعذر في ترك الجمعة، وقال أبو حنيفة لا تجب على الأعمى. ولنا عموم
الآية والاخبار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى الذي استأذنه في ترك الخروج إلى الصلاة
" أتسمع النداء؟ قال نعم. قال أجب " والله أعلم
150

* (مسألة) * (ولا تجب على مسافر ولا عبد ولا امرأة ولا خنثى)
أما المرأة فلا خلاف في أنها لا تجب عليها الجمعة حكاه ابن المنذر اجماعا، وحكم الخنثى حكم
المرأة لأنه لا يعلم كونه رجلا، وأما المسافر فلا جمعة عليه في قول أكثر أهل العلم منهم مالك في أهل
المدينة والثوري في أهل العراق والشافعي وإسحق وأبو ثور. وحكى عن الزهري والنخعي انها
تجب عليه لأن الجماعة تجب عليه فالجمعة أولى
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع
يوم عرفة يوم جمعة فصل الظهر والعصر جمعا بينهما ولم يصل جمعة، والخلفاء الراشدون رضي الله
عنهم كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم. قال إبراهيم كانوا يقيمون بالقرى السنة وأكثر من ذلك
151

وبسجستان السنتين لا يجمعون ولا يشرقون رواه سعيد، وهذا اجماع مع السنة الثابتة لا يسوغ مخالفته
* (فصل) * وإذا أجمع المسافر إقامة تمنع القصر ولم ينو الاستيطان كطالب العلم أو الرباط أو
التاجر ونحوه ففيه وجهان: أحدهما تلزمه الجمعة لعموم الآية والاخبار، والثاني لا تجب عليه لأنه
غير مستوطن والاستيطان من شرائط الوجوب ولأنه لم ينو الإقامة في هذا البلد على الدوام أشبه
أهل القرية الذين يسكنونها صيفا ويظعنون عنها شتاء، ولأنهم كانوا يقيمون السنة والسنتين لا يجمعون
ولا يشرقون أي يصلون جمعة ولا عيدا، فإن قلنا تجب عليهم الجمعة فالظاهر أنها لا تنعقد به
لعدم الاستيطان الذي هو من شروط الانعقاد
* (فصل) * فأما العبد فالمشهور في المذهب انها لا تجب عليه وهو من سمينا في حق المسافر وفيه
رواية أخرى انها تجب عليه نقلها عنه المروذي وهي اختيار أبي بكر إلا أنه لا يذهب من غير اذن
152

سيده وهو قول طائفة من أهل العلم واحتجوا بعموم الآية ولان الجماعة تجب عليه والجمعة آكد
منها. وحكى عن الحسن وقتادة انها تجب على العبد الذي يؤدي الضريبة لأن حق السيد عليه فلا
تحول إلى المال أشبه المدين
ولنا ما روى طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الجمعة حق واجب على
كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض " رواه أبو داود، وقال طارق رأى
النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه وهو من أصحابه، وعن جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريضا أو مسافرا أو امرأة أو
صبيا أو مملوكا " رواه الدارقطني، ولان الجمعة يجب السعي إليها من مكان بعيد فلم تجب عليه الجمع
كالحج والجهاد ولأنه محبوس على السيد أشبه المحبوس بالدين، ولأنها لو وجبت عليه لجاز له السعي
إليها من غير إذن السيد كسائر الفرائض، والآية مخصوصة بذوي الأعذار وهذا منهم
153

* (فصل) * وحكم المكاتب والمدبر في ذلك حكم القن لبقاء الرق فيهما، وكذلك من بعضه حر
فإن حق السيد متعلق به، وكذلك لا يجب عليه شئ مما ذكرنا عن العبيد
* (مسألة) * (ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به ولم يجز له أن يؤم فيها وعنه في العبد انها تجب عليه)
من حضر الجمعة من هؤلاء أجزأته عن الظهر لا نعلم فيه خلافا لأن اسقاط الجمعة عنهم تخفيفا
عنهم فإذا حضروها أجزأتهم كالمريض، والأفضل للمسافر حضور الجمعة لأنها أكمل وفيه خروج
من الخلاف. فأما العبد فإن أذن سيده في حضورها فهو أفضل لينال فضل الجمعة ويخرج من
الخلاف، وإن منعه سيده فليس له حضورها إلا أن نقول بوجوبها عليه. وأما المرأة فإن كانت مسنة
فلا بأس بحضورها، وإن كانت شابة جاز لها ذلك وصلاتها في بيتها أفضل. قال أبو عمرو الشيباني
رأيت ابن مسعود يخرج النساء من الجامع يوم الجمعة ويقول أخرجن إلى بيوتكن خير لكن
154

* (فصل) * ولا تنعقد الجمعة بأحد من هؤلاء ولا يصح أن يكون إماما فيها، وقال أبو حنيفة
والشافعي يجوز أن يكون العبد والمسافر إماما فيها ووافقهم مالك في المسافر. وحكى عن أبي حنيفة
ان الجمعة تصح بالعبيد والمسافرين لأنهم رجال تصح منهم الجمعة
ولنا انهم من غير أهل فرض الجمعة فلم تنعقد بهم ولم يؤموا فيها كالنساء والصبيان ولان
الجمعة إنما تصح منهم تبعا لمن انعقدت به، فلو انعقدت بهم أو كانوا أئمة صار التبع متبوعا،
وعليه يخرج الحر المقيم ولان الجمعة لو انعقدت بهم لانعقدت بهم منفردين كالاحرار المقيمين وقياسهم
ينقض بالنساء والصبيان، وفي العبد رواية انها تجب عليه لعموم الآية وقد ذكرناه
* (فصل) * وكلما كان شرطا لوجوب الجمعة فهو شرط لانعقادها فمتى صلوا جمعة مع اختلال
بعض شروطها لم تصح ولزمهم أن يصلوا ظهرا ولا يعد في الأربعين الذين تنعقد بهم من لا تجب
155

عليه ولا يعتبر اجتماع الشروط للصحة بل تصح ممن لا تجب عليه تبعا لمن وجبت عليه، ولا يعتبر
للوجوب كونه ممن تنعقد به فإنها تجب على من يسمع النداء من غير أهل المصر ولا تنعقد به
* (مسألة) * (ومن سقطت عنه لعذر إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به)
ويصح أن يكون إماما فيها كالمريض ومن حبسه العذر والخوف لأن سقوطها عنه إنما كان
لمشقة السعي، فإذا تكلفوا وحصلوا في الجامع زالت المشقة فصار حكمهم حكم أهل الاعذار
* (مسألة) * (ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح صلاته والأفضل
لمن لا تجب عليه أن لا يصلي الظهر حتى يصلي الإمام)
يعني إذا صلى الظهر يوم الجمعة ممن تجب عليه الجمعة قبل صلاة الإمام لم يصح صلاته ويلزمه السعي
إلى الجمعة ان ظن أنه يدركها لأنها المفروضة عليه، فإن أدركها صلاها مع الإمام وان فاتته فعليه صلاة
الظهر، وإن ظن أنه لا يدركها انتظر حتى يتيقن أن الإمام قد صلى ثم يصلى الظهر وهذا قول مالك
156

والثوري والشافعي في الجديد. وقال أبو حنيفة والشافعي في القديم: يصح ظهره قبل صلاة الإمام
لأن الظهر فرض الوقت بدليل سائر الأيام، وإنما الجمعة بدل عنها وقائمة مقامها، وكذلك إذا
تعذرت صلى ظهرا، فمن صلى الظهر فقد أتى بالأصل فأجزأه كسائر الأيام. قال أبو حنيفة: ويلزمه
السعي إلى الجمعة، فإن سعى بطلت ظهره وإن لم يسع أجزأته
ولنا أنه صلى ما لم يخاطب به وترك ما خوطب به فلم يصح كما لو صلى العصر مكان الظهر ولا نزاع
أنه مخاطب بالجمعة وقد دل عليه النص والاجماع، ولا خلاف في أنه يأثم بتركها وترك السعي إليها
ويلزم من ذلك أن لا يخاطب بالسعي بالظهر لأنه لا يخاطب بصلاتين في الوقت، ولأنه يأثم بترك
الجمعة وإن صلى الظهر، ولا يأثم بترك الظهر وفعل الجمعة بالاجماع، والواجب ما يأثم بتركه دون
ما لم يأثم به، وقولهم أن الظهر فرض الوقت لا يصح لأنها لو كانت الأصل لوجب عليه فعلها وأثم
157

بتركها ولم يجزئه صلاة الجمعة مكانها لأن البدل إنما يصار إليه عند تعذر المبدل بدليل سائر الابدال
ولان الظهر لو صحت لم تبطل بالسعي إلى غيرها كسائر الصلوات الصحيحة ولان الصلاة إذا فرغ منها
لم تبطل بمبطلاتها فكيف تبطل بما ليس من مبطلاتها ولا ورد به الشرع. وأما إذا فاتته الجمعة فإنه
يصير إلى الظهر لتعذر قضاء الجمعة لكونها لا تصح إلا بشروطها، ولا يوجد ذلك في قضائها فتعين
المصير إلى الظهر عند عدمها وهذا حال البدل
(فصل) فإن صلى الظهر ثم شك هل صلى قبل صلاة الإمام أو بعدها لزمته الإعادة لأن
الأصل بقاء الصلاة في ذمته ولأنه صلاها مع الشك في شرطها فلم تصح كما لو صلاها مع الشك في
طهارتها، وإن صلاها مع صلاة الإمام لم تصح لأنه صلاها قبل فراغ الإمام أشبه ما لو صلاها قبله
في وقت لا يعلم أنه لا يدركها
158

(فصل) فإن اتفق أهل بلد أو قرية ممن تجب عليهم الجمعة على تركها وصلوا ظهرا لم تصح صلاتهم
لما ذكرنا، فإذا خرج وقت الجمعة لزمه إعادة الظهر لتعذر فعل الجمعة بعد الوقت
(فصل) فأما من لا تجب عليه الجمعة كالعبد والمرأة والمسافر والمريض وسائر المعذورين فله أن
يصلي الظهر قبل صلاة الإمام في قول عامة أهل العلم. وقال أبو بكر عبد العزيز: لا تصح صلاته قبل
الإمام لأنه لا يتيقن بقاء العذر فلم تصح صلاته كغير المعذور
ولنا أنه لم يخاطب بالجمعة فصحت منه الظهر كالبعيد من موضع الجمعة، وقوله لا يتيقن بقاء
العذر، قلنا أما المرأة فيتيقن بقاء عذرها، وأما غيرها فالظاهر بقاء عذره والأصل استمراره فأشبه
المتيمم إذا صلى في أول الوقت، والمريض إذا صلى جالسا إذا ثبت هذا فإنه إذا سعى إلى الجمعة بعد
أن صلاها لم تبطل ظهره وكانت الجمعة نفلا في حقه وسواء زال عذره أو لم يزل. وقال أبو حنيفة:
يبطل ظهره بالسعي إليها كالتي قبلها
159

ولنا ما روى أبو العالية قال: سألت عبد الله بن الصامت فقلت نصلي يوم الجمعة خلف أمراء
فيؤخرون الصلاة فقال: سألت أبا ذر عن ذلك فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
" صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة " وفي لفظ " فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك
نافلة " ولأنها صلاة صحيحة أسقطت فرضه وأبرأت ذمته أشبه ما لو صلى الظهر منفردا، ثم سعى إلى
الجماعة والأفضل لهم أن لا يصلوا حتى يصلي الإمام لأن فيه خروجا من الخلاف ولان غير المرأة
يحتمل زوال أعذارهم فيدركون الجمعة
(فصل) ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة إذا أمن
أن ينسب إلى مخالفة الإمام والرغبة عن الصلاة معه أو أن يرى الإعادة إذا صلى معه فعل ذلك ابن
مسعود وأبو ذر والحسن بن عبيد الله وأياس بن معاوية وهو قول الأعمش والشافعي وأسحق وكره
160

الحسن وأبو قلابة ومالك وأبو حنيفة لأن زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخل من معذورين فلم
ينقل أنهم صلوا جماعة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة "
وروي عن ابن مسعود أنه فاتته الجمعة فصلى بعلقمة والأسود احتج به احمد وفعله من ذكرنا من قبل
ومطرف وإبراهيم. قال أبو عبد الله: ما أعجب الناس ينكرون هذا، فأما زمن النبي صلى الله عليه
وسلم فلم ينقل إلينا أنه اجتمع جماعة معذورون يحتاجون إلى إقامة الجماعة، إذا ثبت هذا فإنه لا يستحب
اعادتها جماعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في مسجد تكره إعادة الجماعة فيه ولا
في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة لأنه يفضي إلى أن ينسب إلى الرغبة عن الجمعة، وأنه لا يرى
الصلاة خلف الإمام أو يرى الإعادة معه وفيه افتيات على الإمام وربما أفضى إلى فتنة أو لحوق ضرر
به، وإنما يصليها في منزله أو في موضع لا يحصل هذه المفسدة بالصلاة فيه
161

* (مسألة) * (ولا يجوز لمن تلزمه الجمعة السفر في يومها بعد الزوال)
وبه قال الشافعي واسحق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة يجوز. وسئل الأوزاعي عن مسافر سمع
أذان الجمعة وقد أسرج دابته فقال ليمض في سفره ولان عمر رضي الله عنه قال: الجمعة لا تحبس عن سفر
ولنا ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من سافر من دار إقامة الجمعة
دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره ولا يعان على حاجته " رواه الدارقطني في الافراد ولان
الجمعة قد وجبت عليه فلم يجز له الاشتغال بما يمنع منها كما لو تركها لتجارة وما روي عن عمر فقد روي
عن ابنه وعائشة ما يدل على كراهية السفر يوم الجمعة فتعارض قوله ويمكن حمله على السفر قبل الوقت
* (مسألة) * (ويجوز قبله وعنه لا يجوز، وعنه يجوز للجهاد خاصة السفر بعد الزوال فيجوز للجهاد خاصة
وكذلك ذكره القاضي لما روى ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة
في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة فقدم أصحابه وقال: لعلي أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فقال " ما منعك أن تغدوا مع أصحابك " فقال: أردت
162

أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت
فضل غدوتهم " رواه الإمام أحمد وفيه رواية ثانية أن ذلك لا يجوز لما ذكرنا من حديث ابن عمر
وفيه رواية ثالثة أنه يجوز مطلقا اختاره شيخنا لحديث عمر وكما لو سافر من الليل، فأما ان خاف
المسافر فوات رفقته جاز له ترك الجمعة لأنه من الاعذار المسقطة للجمعة والجماعة، وسواء كان في
بلده وأراد انشاء السفر أو في غيره
(فصل) ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط أحدها الوقت وأول وقتها أول وقت صلاة
العيد. وقال الخرقي: يجوز فعلها في الساعة السادسة، وفي بعض النسخ في الخامسة، والصحيح في
السادسة وآخره آخر وقت صلاة الظهر
لا تصح الجمعة قبل وقتها ولا بعده اجماعا، ولا خلاف فيما علمنا أن آخر وقتها آخر وقت صلاة
163

الظهر. فأما أوله فقد ذكرنا قول الخرقي انه لا يجوز قبل الساعة السادسة أو الخامسة على ما نقل عنه
وقال القاضي وأصحابه أوله أول وقت صلاة العيد، ورواه عبد الله بن أحمد عن أبيه قال نذهب إلى
انها كصلاة العيد. قال مجاهد ما كان للناس عيد إلا في أول النهار، وقال عطاء كل عيد حين
يمتد الضحى الجمعة والأضحى والفطر لما روي أن ابن مسعود قال ما كان عيد إلا في أول النهار،
وروي عنه وعن معاوية انهما صليا الجمعة ضحى وقالا إنما عجلنا خشية الحر عليكم. وعن ابن مسعود
قال لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الجمعة في ظل الخيم رواه ابن البحتري في أماليه
باسناده، والدليل على أنها عيد قول النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمع العيد والجمعة " قد اجتمع
164

لكم في يومكم هذا عيدان " وقال أكثر أهل العلم وقتها وقت الظهر إلا أنه يستحب تعجيلها في أول
وقتها لقول سلمة بن الأكوع كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتبع
الفئ متفق عليه. قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس رواه
البخاري ولأنهما صلاتا وقت فكان وقتهما واحدا كالمقصورة والتامة ولان آخر وقتها واحد فكان
أوله واحدا كصلاة الحضر والسفر
ولنا على جوازها في السادسة السنة والاجماع، أما السنة فما روى جابر قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصلي يعني الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس أخرجه مسلم.
وعن سهل بن سعد قال ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
متفق عليه، قال ابن قتيبة لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال. وعن سلمة قال كنا نصلي مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان فئ، رواه أبو داود: وأما الاجماع فروى
165

الإمام أحمد عن وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن عبد الله بن سيدان قال شهدت
الخطبة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت
صلاته وخطبته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ثم صليتها مع عثمان بن عفان فكانت صلاته وخطبته
إلى أن أقول زال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره. وروي عن ابن مسعود وجابر وسعيد
ومعاوية انهم صلوا قبل الزوال وأحاديثهم تدل ان النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بعد الزوال في
كثير من أوقاته، ولا خلاف في جوازه وانه الأولى، وأحاديثنا تدل على جواز فعلها قبل الزوال
فلا تعارض بينهما. قال شيخنا وأما فعلها في أول النهار فالصحيح انه لا يجوز لما ذكره أكثر العلماء
ولان التوقيت لا يثبت إلا بدليل من نص أو ما يقوم مقامه، وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
ولا خلفائه انهم صلوها في أول النهار ولان مقتضى الدليل كون وقتها وقت الظهر وإنما جاز تقديمها
166

عليه بما ذكرنا من الدليل وهو مختص بالساعة السادسة فلم يجز تقديمها عليها ولأنها لو صليت في وقت
الضحى لفاتت أكثر المصلين إذا ثبت ذلك، فالأولى فعلها بعد الزوال لأن فيه خروجا من الخلاف
ولأنه الوقت الذي كان يفعلها فيه رسول الله صلى الله عليه في أكثر أوقاته. وتعجيلها في أول وقتها
في الشتاء والصيف لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعجلها لما روينا من الاخبار، ولان الناس يجتمعون
إليها في أول وقتها ويبكرون إليها قبل وقتها فلو أبرد لشق على الحاضرين، وإنما جعل الابراد بالظهر
في شدة الحر دفعا للمشقة والمشقة في الابراد بها في الجمعة أكثر
* (مسألة) * (فإن خرج وقتها قبل فعلها صلوا ظهرا لفوات الشرط لا نعلم في ذلك خلافا)
* (مسألة) * (وإن خرج وقد صلوا ركعة أتموها جمعة، وإن خرج قبل ركعة فهل يتمونها
ظهرا أو يستأنفونها على وجهين)
167

متى خرج وقت الجمعة قبل تمامها فإن كان بعد أن صلوا ركعة أتموها جمعة وهذا اختيار شيخنا
وظاهر قول الخرقي، وقال القاضي متى أحرموا بها في الوقت قبل خروجه أتموها جمعة ونحوه، قال
أبو الخطاب لأنه أحرم بها في وقتها ما لو أتمها فيه. والمنصوص عن أحمد انه إن دخل وقت العصر
بعد تشهده وقبل سلامه سلم وأجزأته وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة متى خرج الوقت
قبل الفراغ منها بطلت ولا يبنى عليها ظهرا لأنهما صلاتان مختلفتان فلا تنبني إحداهما على الأخرى
كالظهر والعصر. والظاهر أن مذهب أبي حنيفة في هذا كمذهب صاحبيه لأن السلام عنده ليس
بواجب في الصلاة، وقال الشافعي لا يتمها جمعة ويبنى عليها ظهرا لأنهما صلاتا وقت فجاز بناء
إحداهما على الأخرى كصلاة السفر والحضر، واحتجوا على أنه لا يتمها جمعة بأن ما كان شرطا في
بعضها كان شرطا في جميعها كالطهارة
ولنا قوله عليه السلام " من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة " ولأنه أدرك ركعة من
168

الجمعة فكان مدركا لها كالمسبوق ولان الوقت شرط يختص الجمعة فاكتفى به في ركعة كالجماعة،
وما ذكروه ينتقض بالجماعة
* (فصل) * فإن دخل وقت العصر قبل ركعة لم تحصل لهم جمعة لأن قوله عليه السلام " من
أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة " يدل بمفهومه على أنه إذا أدرك أقل من ذلك لا يكون مدركا
ويلزمه الظهر، وهل يبنى أو يستأنف، فعلى قياس قول الخرقي تفسد صلاته ويستأنفها ظهرا كمذهب
أبي حنيفة، وعلى قياس قول أبي إسحق بن شاقلا يتمها ظهرا لقول الشافعي وقد ذكرنا وجه القولين
* (فصل) * إذا أدرك من الوقت ما يمكنه أن يخطب ثم يصلي ركعة فله التلبس بها على قياس
قول الخرقي لأنه أدرك من الوقت ما يدركها فيه، فإن شك هل أدرك من الوقت ما يدركها أو لا
صحت لأن الأصل بقاء الوقت وصحتها
169

* (مسألة) * (الثاني أن تكون بقرية يستوطنها أربعون من أهل وجوبها فلا تجوز اقامتها في غير ذلك)
الاستيطان شرط لصحة الجمعة في قول أكثر أهل العلم وهو الإقامة في قرية مبنية بما جرت
به العادة بالبناء به من حجر أو طين أو لبن أو قصب أو شجر أو نحوه فلا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء
لأن ذلك هو الاستيطان غالبا. فأما أهل الخيام والحركات وبيوت الشعر فلا تجب عليهم الجمعة ولا
تصح منهم لأن ذلك لا ينصب للاستيطان غالبا، وكذلك كانت قبائل العرب حول المدينة فلا
يقيموا جمعة ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لو كان ذلك لم يخف ولم يترك نقله مع كثرته
وعموم البلوى به، لكن إن كانوا مقيمين بموضع يسمعون النداء لزمهم السعي إليها كأهل القرية
الصغيرة إلى جانب المصر ذكره القاضي، فإن كان أهل القرية يظعنون عنها في بعض السنة لم تجب
170

عليهم الجمعة، فإن خرجت القرية أو بعضها وأهلها مقيمون بها عازمون على اصلاحها فحكمها باق في
إقامة الجمعة بها، وإن عزموا على النقلة عنها لم تجب عليهم لعدم الاستيطان، ومتى كانت القرية لا يجب
على أهلها بأنفسهم وكانوا بحيث يسمعون النداء من المصر أو من قرية تقام فيها الجمعة لزمهم السعي
إليها لعموم الآية، وكذلك إن كان بناؤها متفرقا تفرقا لم تجر العادة به
171

* (مسألة) * (ويجوز اقامتها في الأبنية المتفرقة إذا شملها اسم واحد)
وفيما قارب البنيان من الصحراء تجوز إقامة الجمعة المتفرقة البنيان إذا كان تفرقا جرت العادة به
في القرية الواحدة، فإن كانت متفرقة في قرية تفرقا لم تجر به العادة لم تجب عليهم الجمعة إلا أن يجتمع
منها ما يسكنه أربعون فتجب بهم الجمعة ويتبعهم الباقون، ولا يشترط اتصال البنيان بعضه ببعض.
وحكى عن الشافعي اشتراطه
ولنا أن القرية المتقاربة البنيان قرية مبنية بما جرت به عادة القرى أشبهت المتصلة
172

* (فصل) * ولا يشترط لصحة الجمعة البنيان بل يجوز اقامتها فيما قاربه من الصحراء وبهذا قال الإمام أبو
حنيفة، وقال الإمام الشافعي لا يجوز لأنه موضع يجوز لأهل المصر قصر الصلاة فيه أشبه البعيد
ولنا ما روى كعب بن مالك أنه قال أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة
بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات رواه أبو داود. وقال ابن جريج قلت لعطاء يعني أكان
173

بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم. والبقيع بطن من الأرض يستنقع فيه المأمدة، فإذا نضب
الماء نبت الكلأ. قال الخطابي حرة بني بياضة قرية على ميل من المدينة ولأنه موضع لصلاة العيد
فجازت فيه الجمعة كالجامع ولان الأصل اشتراط ذلك ولا نص في اشتراطه ولا معنى نص
* (فصل) * ولا يشترط لصحة الجمعة المصر. روي نحو ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز
والأوزاعي والليث ومكحول وعكرمة والشافعي، وروي عن علي رضي الله عنه انه لا جمعة ولا
تشريق إلا في مصر جامع. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال الحسن وابن سيرين
وإبراهيم وأبو حنيفة.
ولنا ما ذكرنا من حديث أسعد بن زرارة رواه البخاري باسناده عن ابن عباس إن أول جمعة
بعد جمعة بالمدينة لجمعة جمعت بجوارنا من البحرين من قرى عبد القيس، وروى أبو هريرة انه كتب
إلى عمر يسأله عن الجمعة بالبحرين وكان عاملا عليها، فكتب إليه عمر جمعوا حيث كنتم رواه الأثرم
174

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى اسناده جيد فأما خبرهم فلم يصح، قال الإمام أحمد ليس هذا بحديث
إنما هو عن علي وقد خالفه عمر
* (فصل) * وإذا كان أهل المصر دون الأربعين فجاءهم أهل قرية فأقاموا الجمعة في المصر لم تصح
لأن أهل القرية غير مستوطنين في المصر وأهل المصر لا تنعقد بهم الجمعة لقلتهم، وإن كان أهل
القرية ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم لزم أهل المصر السعي إليهم إذا كان بينهما أقل من فرسخ
فلزمهم السعي إليها كما يلزم أهل القرية السعي إلى المصر إذا أقيمت به وكان أهل القرية دون الأربعين
وإن كان في كل واحد دون الأربعين لم تجز إقامة الجمعة في واحد منهما
* (مسألة) * الثالث (حضور أربعين من أهل القرية في ظاهر المذهب وعنه تنعقد بثلاثة)
حضور أربعين شرط لوجوب الجمعة وصحتها في ظاهر المذهب، روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز
وعبيد الله بن عبد الله وهو قول مالك والشافعي، وروي عن الإمام أحمد انها لا تنعقد إلا بخمسين
لما روى أبو بكر النجاد عن عبد الملك الرقاشي ثنا رجا بن سلمة ثنا عباد بن عباد المهلبي عن جعفر
ابن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تجب الجمعة على خمسين
رجلا ولا تجب على من دون ذلك " وباسناده عن الزهري عن أبي سلمة قال قلت لأبي هريرة على كم
175

تجب الجمعة من رجل؟ قال لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين جمع بهم رسول الله
صلى الله عليه، وعنه رواية ثالثة انها تنعقد بثلاثة وهو قول الأوزاعي لأن اسم الجمع يتناوله فانعقدت
به الجمعة كالأربعين ولان الله تعالى قال (فاسعوا إلى ذكر الله) بصيغة الجمع فيدخل فيه الثلاثة.
وحكى أبو الحرث عن الإمام أحمد إذا كانوا ثلاثة من أهل القرى جمعوا فيحتمل أن يختص ذلك
أهل القرى لقلتهم، وقال أبو حنيفة تنعقد بأربعة لأنه عدد زيد على أقل الجمع المطلق أشبه الأربعين
وقال ربيعة تنعقد باثني عشر لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي مصعب بن عمير بالمدينة
فأمره أن يصلي عند الزوال ركعتين وأن يخطب فيهما، فجمع مصعب بن عمير في بيت سعد بن خيثمة
باثني عشر رجلا، وعن جابر قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقدمت سويقة فخرج
الناس إليها فلم يبق إلا اثنى عشر رجلا أنا فيهم فأنزل الله (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها)
الآية. رواه مسلم، وما يشترط للابتداء يشترط للاستدامة
ولنا حديث كعب الذي رويناه وفى الحديث قلت له كم كنتم يومئذ؟ قال أربعون. رواه
الدارقطني، وقول الصحابي مضت السنة تنصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فأما حديث
مصعب بن عمير انهم كانوا اثنا عشر فلا يصح فإن حديث كعب أصح منه، رواه أصحاب السنن
والخبر الآخر يحتمل انهم عادوا فحضروا القدر الواجب، ويحتمل انهم عادوا قبل طول الفصل.
وأما الثلاثة والأربعة فتحكم بالرأي فيما لا مدخل للرأي فيه لأن التقدير بابه التوقيف ولا معنى لاشتراط
كونه جمعا ولا للزيادة على الجمع إذ لا نص فيه ولا معنى نص، ولو كان الجمع كافيا لاكتفى باثنين
لأن الجماعة تنعقد بهما.
176

* (مسألة) * (فإن نقصوا قبل اتمامها استأنفوا ظهرا ويحتمل أنهم ان نقصوا بعد ركعة أتموها
جمعة وإن نقصوا قبل ركعة أتموها ظهرا)
المشهور في المذهب أنه يشترط كمال العدد في جميع الصلاة وقال أبو بكر: لا أعلم خلافا عن الإمام أحمد
ان لم يتم العدد في الصلاة والخطبة أنهم يعيدون الصلاة وهذا أحد قولي الإمام الشافعي لأنه
شرط للصلاة فاعتبر في جميعها كالطهارة ويحتمل أنهم ان نقصوا بعد ركعة أتموها جمعة وهذا قياس
قول الخرقي، وبه قال الإمام مالك وقال المزني: هو أشبه عندي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من
أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى " ولأنهم أدركوا ركعة فصحت لهم الجمعة كالمسبوق بركعة
وهذا اختيار شيخنا. وقال أبو حنيفة: ان نقصوا بعدما صلوا ركعة بسجدة واحدة أتموها جمعة
لأنهم أدركوا معظم الركعة فأشبه ما لو أدركوها بسجدتيها. وقال إسحاق: ان بقي معه اثنا عشر
أتمها جمعة لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انفضوا عنه فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا فأتمها
جمعة. وقال الإمام الشافعي في أحد أقواله: ان بقي معه اثنان أتمها جمعة وهو قول الثوري لأنه أقل
الجمع وحكي عنه أبو ثور ان بقي معه واحد أتمها جمعة لأن الاثنين جماعة
ولنا أنهم لم يدركوا ركعة كاملة بشروط الجمعة فأشبه ما لو نقص الجمع قبل ركوع الأولى.
وقولهم أدرك معظم الركعة يبطل بمن لم يفته من الركعة الأولى إلا السجدتان فإنه قد أدرك معظمها
وقول الإمام الشافعي: بقي معه من تنعقد به الجماعة لا يصح لأن هذا لا يكتفي في الابتداء فلا يكتفي
في الدوام إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا لا يتمها جمعة فقياس قول الخرقي أنها تبطل ويستأنفها ظهرا
إلا أن يمكنهم فعل الجمعة مرة أخرى فيعيدونها وحكاه أبو بكر عن الإمام أحمد، وقياس قول أبي
إسحاق بن شاقلا أنهم يتمونها ظهرا وهذا قول القاضي وقال: قد نص الإمام أحمد في الذي زحم
عن أفعال الجمعة حتى سلم الإمام يتمها ظهرا ووجه القولين قد تقدم
* (مسألة) * (ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة)
وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب والحسن
وعلقمة والأسود والزهري ومالك، والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال عطاء وطاوس
ومجاهد من لم يدرك الخطبة صلى أربعا لأن الخطبة شرط للجمعة فلا تكون جمعة في حق من لم
يوجد في حقه شرطها
ولنا ما روى أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أدرك من
177

الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة " رواه الأثرم ورواه ابن ماجة " فليصل إليها أخرى " وعن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " متفق
عليه، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم
* (مسألة) * (ومن أدرك أقل من ركعة أتمها ظهرا إذا كان قد نوى الظهر في قول الخرقي.
وقال أبو إسحق بن شاقلا: ينوي جمعة ويتمها ظهرا)
أما من أدرك أقل من ركعة فلا يكون مدركا للجمعة ويصلي الظهر أربعا وهذا قول جميع من
ذكرنا في المسألة المتقدمة إلا أن الإمام أبا حنيفة فإنه قال: يكون مدركا للجمعة بأي قدر أدرك من
الصلاة مع الإمام وهو قول الحكم وحماد لأن من لزمه أن يبني على صلاة الإمام بادراك ركعة لزمه
بادراك أقل منها كالمسافر يدرك المقيم ولأنه أدرك جزأ من الصلاة فكان مدركا لها كالظهر
ولنا قوله عليه السلام " من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة " فمفهومه أنه إذا أدرك
أقل من ركعة لم يدركها، ولأنه قول من سمينا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ولا مخالف لهم
في عصرهم فيكون اجماعا، وقد روى بشر بن معاذ الزيات عن الزهري عن أبي سلمة عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال " من أدرك يوم الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى " ومن أدرك دونها صلى أربعا
ومن لم يدرك ركعة فلا تصح له جمعة كالإمام إذا نقصوا قبل السجود وأما المسافر فادراكه ادراك
الزام، وهذا ادراكه ادراك اسقاط للعدد فافترقا وكذلك يتم المسافر خلف المقيم، ولا يقصر المقيم
خلف المسافر، وأما الظهر فليس من شرطها الجماعة بخلاف مسئلتنا
(فصل) وكل من أدرك مع الإمام ما لا يتم له به جمعة، فإنه في قول الخرقي ينوي ظهرا، فإن
نوى جمعة لم تصح في ظاهر كلامه وكلام احمد في رواية صالح وابن منصور يحتمل هذا القول فيمن
أحرم ثم زحم عن الركوع والسجود حتى سلم إمامه، قال يستقبل ظهرا أربعا وذلك لأن الظهر لا يتأدى
بنية الجمعة ابتداء فكذلك استدامته كالظهر مع العصر. وقال أبو إسحق بن شاقلا ينوي جمعة لئلا
يخالف نية إمامة ثم يبني عليها ظهرا وهذا ظاهر قول قتادة وأيوب ويونس والشافعي لأنه لا يجوز أن
يأتم بمن يصلي جمعة فجاز أن يبني صلاته على نيتها كصلاة المقيم مع المسافر، وكما ينوي أنه مأموم
ويتم صلاته بعد مفارقة إمامة منفردا ولأنه يصح أن ينوي الظهر خلف من يصلي الجمعة في
ابتدائها فكذلك في انتهائها
(فصل) إذا صلى الإمام الجمعة قبل الزوال فأدرك المأموم معه دون الركعة لم يكن له الدخول
معه لأنها في حقه ظهر فلا تجوز قبل الزوال كغير يوم الجمعة فإن دخل معه كانت نفلا في حقه ولم
178

تجزه عن الظهر، ولو أدرك معه ركعة ثم زحم عن سجودها وقلنا تصير ظهرا، فإنها تنقلب
نفلا لئلا تكون ظهرا قبل وقتها
(فصل) ومن أحرم مع الإمام ثم زحم عن السجود سجد على ظهر انسان ورجله
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن أحرم مع الإمام ثم زحم فلم يقدر على الركوع حتى سلم
الإمام فروي أنه يكون مدركا للجمعة اختارها الخلال وهو قول الحسن وأصحاب الرأي لأنه أحرم
بالصلاة مع إمامه في أولها فأشبه ما لو ركع وسجد معه ونقل عنه أنه يستقبل الصلاة أربعا اختاره أبو
بكر وابن أبي موسى وهو قول الشافعي وابن المنذر لأنه لم يدرك ركعة كاملة فلم يكن مدركا للجمعة
كالمسبوق وهذا ظاهر كلام الخرقي، وجملة ذلك أن من زحم عن السجود في الجمعة سجد على ظهر
انسان أو رجله إذا أمكنه ذلك وأجزأه. قال احمد في رواية أحمد بن هشام: يسجد على ظهر الرجل
والقدم ويمكن الجبهة والأنف في العيدين والجمعة وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور
وابن المنذر. وقال عطاء والزهري ومالك: لا يفعل، فإن فعل، فقال مالك: تبطل الصلاة لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومكن جبهتك الأرض "
ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه. رواه
سعيد في سننه، وهذا قاله بمحضر من الصحابة وغيرهم في يوم جمعة ولم يظهر له مخالف فكان اجماعا
ولأنه أتى بما يمكنه حال العجز فصح كالمريض يسجد على المرفقة والخبر لم يتناول العاجز لأن الله
تعالى قال (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)
* (مسألة) * (فإن لم يمكنه سجد إذا زال الزحام إلا أن يخاف فوات الثانية فيتابع الإمام
فيها وتصير أولاه ويتمها جمعة)
وجملة ذلك أن من زحم في إحدى الركعتين فأما أن يزحم في الأولى أو الثانية، فإن كان في
الأولى ولم يتمكن من السجود على ظهر ولا قدم انتظر حتى يزول الزحام ثم يسجد ويتبع إمامه لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك في صلاة الخوف بعسفان للعذر والعذر موجود، فإذا قضى
ما عليه وأدرك إمامه قبل رفع رأسه من الركوع اتبعه وصحت له الركعة، وهكذا لو تعذر عليه السجود
مع إمامه لمرض أو نوم أو نسيان لأن ذلك عذر أشبه المزحوم، فإن خاف أنه ان تشاغل بالسجود
فاته الركوع مع الإمام في الثانية لزمه متابعته وتصير الثانية أولاه وهذا قول مالك. وقال أبو حنيفة
يشتغل بالسجود لأنه قد ركع مع الإمام فيجب عليه السجود بعده كما لو زال الزحام والإمام
قائم وللشافعي كالمذهبين
179

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا " فإن قيل
فقد قال " فإذا سجد فاسجدوا " قلنا قد سقط الامر بالمتابعة في السجود عن هذا للعذر وبقي الامر
بالمتابعة في الركوع لامكانه ولأنه خائف فوات الركوع فلزمته متابعة إمامه كالمسبوق، أما إذا كان
الإمام قائما فليس هذا اختلافا كثيرا إذا ثبت أنه يتابع الإمام في الركوع، فإن أدركه راكعا صحت
له الثانية وتصير الثانية أولاه وتبطل الأولى في قياس المذهب لكونه ترك منها ركنا وشرع في الثانية
فبطلت الأولى على ما ذكرنا في سجود السهو ويتمها جمعة لأنه أدرك منها ركعة مع الإمام فإن لم يقم
ولكن يسجد السجدتين من غير قيام تمت ركعته، وإن فاته الركوع وسجد معه فإن سجد السجدتين
معه فقال القاضي يتم بها الركعة الأولى وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. وقال أبو الخطاب
إذا سجد معتقدا جواز ذلك اعتد له به وتصح له الركعة كما لو سجد وإمامه قائم، ثم إن أدرك الإمام
في ركوع الثانية صحت له الركعتان وإن أدركه بعد رفع رأسه من ركوعها فينبغي أن يركع ويتبعه
لأن هذا سبق يسير ويحتمل أن تفوته الثانية بفوات الركوع كالمسبوق
* (مسألة) * (فإن لم يتابع الإمام عالما بتحريم ذلك بطلت صلاته، وإن جهل تحريمه فسجد ثم
أدرك الإمام في التشهد أتى بركعة أخرى بعد سلام الإمام وصحت جمعته وعنه يتمها ظهرا)
وجملته أن من زحم عن السجود في الركعة الأولى وخاف فوات الركعة الثانية مع الإمام ان
اشتغل بالسجود لزمه متابعته في ركوع الثانية لما ذكرنا، فإن ترك متابعة إمامه عالما بتحريم ذلك
بطلت صلاته لأنه ترك الواجب فيها عمدا وفعل ما لا يجوز فعله، وإن اعتقد جواز ذلك فسجد
لم يعتد بسجوده لأنه سجد في موضع الركوع جهلا أشبه الساهي. وقال أبو الخطاب يعتد له به فإن
أدرك الإمام في التشهد تابعه وقضى ركعة بعد سلامه كالمسبوق ويسجد للسهو. قال شيخنا ولا وجه
للسجود هنا لأن الإمام ليس عليه سجود سهو، وإن زحم عن سجدة واحدة أو عن الاعتدال بين
السجدتين أو بين الركوع والسجود فالحكم فيه كالحكم في ازدحام عن السجود
* (فصل) * فأما إن زحم عن السجود في الثانية فزال الزحام قبل سلام الإمام سجد وتبعه
وصحت له الركعة، وإن لم يزل حتى سلم فإن كان أدرك الركعة الأولى فقد أدرك الجمعة ويسجد
للثانية بعد سلام الإمام ويتشهد ويسلم فقد تمت جمعته، وإن لم يكن أدرك الأولى فإنه يسجد بعد
سلام إمامه وتصح له ركعة وهل يكون مدركا للجمعة بذلك على روايتين
* (فصل) * وإذا أدرك مع الإمام ركعة فلما قام ليقضي الأخرى ذكر انه لم يسجد مع أمامه
إلا سجدة واحدة وشك في ذلك فإن لم يكن شرع في قراءة الثانية رجع فسجد للأولى فأتمها وقضى
180

الثانية وأتم الجمعة نص عليه الإمام أحمد في رواية الأثرم، وإن كان شرع في قراءة الثانية بطلت الأولى
وصارت الثانية أولاه ويتمها جمعة على ما نقله الأثرم. وقياس الرواية الأخرى في المزحوم انه يتمها
ها هنا ظهرا لأنه لم يدرك ركعة كاملة، ولو قضى الركعة الثانية ثم علم أنه ترك سجدة من إحداهما
لا يدري من أيهما تركها فالحكم واحد ويجعلها من الأولى ويأتي بركعة مكانها وفي كونه مدركا
للجمعة وجهان: فأما إن شك في ادراك الركوع مع الإمام مثل أن كبر والإمام راكع فرفع إمامه
رأسه فشك هل أدرك المجزئ من الركوع مع الإمام أو لا لم يعتد بتلك الركعة ويصلي ظهرا قولا
واحدا لأن الأصل أنه ما أتى بها معه وفي كل موضع لا يكون مدركا للجمعة فعلى قول الخرقي ينوي
ظهرا، فإن نوى جمعة لزمه استئناف الظهر، ويحتمله كلام الإمام أحمد في رواية صالح وابن منصور
وعلى قول إسحق بن شاقلا ينوي جمعة لئلا يخالف إمامه ويتمها ظهرا وقد ذكرنا وجه القولين
* (فصل) * ولو صلى مع الإمام ركعة ثم زحم في الثانية فأخرج من الصف فصار فذا فنوى الانفراد
عن الإمام قياس المذهب انه يتمها جمعة لأنه أدرك منها ركعة مع الإمام أشبه ما لو أدرك الثانية،
وإن لم ينو الانفراد وأتمها مع الإمام ففيه روايتان: إحداهما لا يصح لأنه قد فذ في ركعة كاملة أشبه
ما لو فعل ذلك عمدا، والثانية يصح لأنه قد يعفى في البناء عن تكميل الشروط كما لو خرج الوقت
وقد صلوا ركعة وكالمسبوق
* (مسألة) * الرابع (أن يتقدمها خطبتان من شرط صحتهما حمد الله والصلاة على رسوله صلى الله
عليه وسلم وقراءة آية والوصية بتقوى الله تعالى)
وحضور العدد المشترط للخطبة، وبه قال عطاء والنخعي وقتادة والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي وقال الحسن تجزيهم الجمعة من غير خطبة لأنها صلاة عيد فلم يشترط لها الخطبة كصلاة الأضحى
ولنا قول الله سبحانه وتعالى (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) والذكر هو الخطبة ولان النبي
صلى الله عليه وسلم لم يترك الخطبة وقد قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وعن عمر رضي الله عنه
انه قصر في الصلاة لأجل الخطبة، وعن عائشة رضي الله عنها نحو هذا
* (فصل) * ويشترط لها خطبتان وهذا مذهب الإمام الشافعي. وقال مالك والأوزاعي وإسحق
وابن المنذر وأصحاب الرأي تجزيه خطبة واحدة، وعن الإمام أحمد ما يدل عليه فإنه قال لا تكون
الخطبة الا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة ووجه الأول ما روى ابن عمر ان النبي
صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس متفق عليه وقد قال " صلوا كما
181

رأيتموني أصلي " ولان الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين فكل خطبة مكان ركعة، فالاخلال بإحداهما
اخلال بإحدى الركعتين
* (فصل) * ويشترط لكل واحدة منهما حمد الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر " وقال جابر
رضي الله عنه كان رسول الله عليه وسلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول " من
يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له " وإذا وجب ذكر الله وجب ذكر النبي صلى الله
عليه وسلم كالاذان ولأنه قد روي في تفسير قوله تعالى (ورفعنا لك ذكرك) قال لا أنكر إلا
ذكرت معي، ويحتمل أن لا تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يذكر ذلك في خطبته
* (فصل) * والقراءة في كل واحدة من الخطبتين شرط وهو ظاهر كلام الخرقي لأن الخطبتين
أقيمتا مقام الركعتين فكانت القراءة فيهما شرطا كالركعتين، ولان ما وجب في إحداهما وجب في
الأخرى كسائر الفروض، ويحتمل أن يشترط القراءة في إحداهما لما روى الشعبي قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس وقال " السلام عليكم " ويحمد الله ويثني
عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب ثم ينزل، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه رواه الأثرم.
والظاهر أنه إنما قرأ في الخطبة الأولى
* (فصل) * وتجب الموعظة لأنها المقصودة من الخطبة فلم يجز الاخلال بها ولان النبي صلى الله
عليه وسلم كان يعظ، وفي حديث جابر بن سمرة انه كان يذكر الناس وتجب في الخطبتين جميعا
لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الشروط وهذا قول القاضي. وظاهر كلام الخرقي
أن الموعظة إنما تكون في الخطبة الثانية لما ذكرنا من حديث الشعبي، وقال أبو حنيفة لو أتى بتسبيحة
أجزأ لأن الله تعالى قال (فاسعوا إلى ذكر الله) فأجزأ ما يقع عليه الذكر، ولان اسم الخطبة يقع
على دون ما ذكرتم بدليل أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال علمني عملا أدخل به
الجنة؟ فقال " أقصرت من الخطبة لقد أعرضت في المسألة " وعن مالك كالمذهبين
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الذكر بفعله. قال جابر بن سمرة كانت صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم قصدا وخطبته قصدا يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس رواه أبو داود والترمذي
وقد ذكرنا حديث جابر بن سمرة. وأما التسبيح فلا يسمى خطبة، والمراد بالذكر الخطبة، وما
182

روره مجاز فإن السؤال لا يسمى خطبة بدليل انه لو ألقى مسألة على الحاضرين لم يكف ذلك اتفاقا
* (فصل) * ولا يكفي في القراءة أقل من آية هكذا ذكره الأصحاب لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يقتصر على أقل من ذلك ولان الحكم لا يتعين بدونها بدليل منع الجنب من قراءتها. فظاهر
كلام أحمد انه لا يشترط ذلك فإنه قال في القراءة في الخطبة ليس فيه شئ موقت ما شاء قرأ وهذا
ظاهر كلام الخرقي. قال شيخنا ويحتمل أن لا يجب سوى حمد الله والموعظة لأن ذلك يسمى خطبة
ويحصل به المقصود وما عداهما ليس على اشتراطه دليل لأنه لا يجب أن يخطب على صفة خطبة النبي
صلى الله عليه وسلم بالاتفاق لأنه روي أنه كان يقرأ آيات ولا يجب قراءة آيات بالاتفاق، لكن
يستحب ذلك لما ذكرنا من حديث الشعبي. وقالت أم هشام بنت حارثة بن النعمان ما أخذت
(ق والقرآن المجيد) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب بها كل جمعة رواه مسلم
* (فصل) * ويشترط للخطبة حضور العدد المشترط في القدر الواجب من الخطبتين، وقال أبو حنيفة
في رواية عنه لا يشترط لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلم يشترط له العدد كالاذان
ولنا انه ذكر من شرائط الجمعة فكان من شرطه العدد وكتكبيرة الاحرام، وتفارق الاذان
فإنه ليس بشرط وإنما مقصوده الاعلام والاعلام للغائبين والخطبة مقصودها الموعظة فهي للحاضرين. فعلى
هذا إن انفضوا في أثناء الخطبة ثم عادوا فحضروا القدر الواجب أجزاهم وإلا لم يجزهم إلا أن
يحضروا القدر الواجب ثم ينفضوا ويعودوا قبل شروعه في الصلاة من غير طول الفصل فإن طال
الفصل لزمه إعادة الخطبة إن كان الوقت متسعا، وان ضاق الوقت صلوا ظهرا، والمرجع في طول
الفصل وقصره إلى العادة
* (فصل) * ويشترط لها الوقت فلو خطب قبل الوقت لم تصح خطبته قياسا على الصلاة.
ويشترط لها الموالاة فإن فرق بين الخطبتين أو بين آخر الخطبة الواحدة بكلام طويل أو سكوت
طويل مما يقطع الموالاة استأنفها، وكذلك يشترط الموالاة بين الخطبة والصلاة أيضا فإن فرق بينهما
تفريقا كثيرا بطلت ولا تبطل باليسير لأن الخطبتين مع الصلاة كالمجموعتين، ويحتمل أن الموالاة
لا تشترط لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلم تشترط الموالاة بينهما كالآذان والإقامة، والمرجع في طول
الفصل وقصره إلى العرف وإن احتاج إلى الطهارة تطهر ويبنى على خطبته، وكذلك تعتبر سائر شروط
الجمعة للقدر الواجب من الخطبتين
* (مسألة) * (وهل يشترط لهما الطهارة وأن يتولاهما من يتولى الصلاة على روايتين)
183

اختلفت الرواية في اشتراط الطهارة للخطبة وللشافعي قولان كالروايتين، وقد قال أحمد فيمن
خطب وهو جنب ثم اغتسل وصلى بهم تجزيه. قال شيخنا والأشبه بأصول المذهب اشتراط الطهارة
الكبرى لكون قراءة آية شرطا للخطبة، ولا يجوز ذلك للجنب. فأما الطهارة الصغرى فالصحيح
انها لا تشترط لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلم تكن الطهارة فيه شرط كالاذان ولأنه لو اشترطت لهما
الطهارة لاشترط الاستقبال كالصلاة، وعنه انها تشترط لهما كتكبيرة الاحرام ولكن يستحب أن يكون
متطهرا من الحدث والنجس لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عقيب الخطبة لا يفصل بينهما
بطهارة فيدل على أنه كان متطهرا والاقتداء به إن لم يكن واجبا فهو سنة
* (فصل) * ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة في إحدى الروايتين لأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يفعله وقد قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " ولان الخطبة أقيمت مقام ركعتين لكن يجوز
الاستخلاف للعذر ففي الخطبة والصلاة أولى، وعنه يجوز الاستخلاف لغير عذر فإنه قال في الإمام
يخطب يوم الجمعة ويصلي الأمير بالناس، لا بأس إذا حضر الأمير الخطبة لأن الخطبة منفصلة عن
الصلاة فأشبها الصلاتين، وهل يشترط أن يكون المصلي ممن حضر الخطبة فيه روايتان: إحداهما
يشترط وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه إمام في الجمعة فاشترط حضور الخطبة كما لو لم يستخلف
والثانية لا يشترط وهو قول الأوزاعي والشافعي لأنه ممن تنعقد به الجمعة فجاز أن يؤم فيها كما
لو حضر الخطبة. وقد روى الإمام أحمد رحمه الله انه لا يجوز الاستخلاف مع العذر أيضا فإنه قال
في الإمام إذا أحدث بعدما خطب يقدم رجلا يصلي بهم لم يصل إلا أربعا إلا أن يعيد الخطبة ثم
يصلي بهم ركعتين، وذلك لأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه
والمذهب الأول وهل يجوز أن يتولى الخطبتين اثنان يخطب كل واحد خطبة. فيه احتمالان إحداهما
يجوز كالاذان والإقامة، والثاني لا يجوز لما ذكرنا فيما تقدم
* (مسألة) * (ومن سننهما أن يخطب على منبر أو موضع عال لأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يخطب الناس على منبر)
قال سهل بن سعد: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة أن مري غلامك النجار
يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس. متفق عليه، ولأنه أبلغ في الاعلام وليس ذلك
واجبا، فلو خطب على الأرض أو ربوة أو راحلة أو غير ذلك جاز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يقوم على الأرض قبل أن يصنع له المنبر
ويستحب أن يكون المنبر عن يمين القبلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا صنع
184

* (مسألة) * (ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم)
ويستحب للإمام إذا خرج أن يسلم على الناس، ثم إذا صعد المنبر فاستقبل الحاضرين سلم عليهم
يروى ذلك عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الأوزاعي والشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة
لا يسن السلام عقيب الاستقبال لأنه سلم حال خروجه
ولنا ما روى جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم عليهم. رواه ابن ماجة
وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد يوم الجمعة سلم على من عند المنبر
جالسا، فإذا صعد المنبر سلم عليهم. رواه أبو بكر باسناده، ومتى سلم رد عليه الناس لأن
رد السلام آكد من ابتدائه
* (مسألة) * (ثم يجلس إلى فراغ الاذان ويجلس بين الخطبتين)
لما روى ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إذا صعد حتى يفرغ الاذان ثم يقوم
فيخطب. رواه أبو داود، وتكون الجلسة بين الخطبتين خفيفة وليست واجبة في قول أكثر أهل
العلم. وقال الشافعي: واجبة
ولنا أنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تكن واجبة كالأولى، وقد سرد الخطبة جماعة منهم
المغيرة بن شعبة وأبي بن كعب قاله الإمام أحمد، وروي عن أبي إسحاق قال: رأيت عليا يخطب
على المنبر فلم يجلس حتى فرغ، فإن خطب جالسا لعذر استحب أن يفصل بين الخطبتين بسكتة
وكذلك إن خطب قائما فلم يجلس
* (مسألة) * (ويخطب قائما)
روي عن الإمام أحمد ما يدل على أن القيام في الخطبة واجب وهو مذهب الإمام الشافعي.
فروى الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الخطبة قاعدا أو يقعد في إحدى الخطبتين فلم يعجبه
وقال. قال الله تعالى (وتركوك قائما) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما، فقال له الهيثم ابن
خارجة كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته فظهر منه انكار، ووجه ذلك ما روى ابن عمر أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبته وهو قائم يفصل بينهما بجلوس. متفق عليه، وروى جابر
ابن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن
نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فوالله صليت معه أكثر من ألفي صلاة، رواه مسلم. وقال
القاضي: تجزئه الخطبة قاعدا وقد نص عليه الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة لأنه ذكر ليس من
185

شرطه الاستقبال فلم يجب له القيام كالاذان ولان المقصود يحصل بدونه وهذا اختيار أكثر أصحابنا
* (مسألة) * (ويعتمد على سيف، أو قوس، أو عصا)
لما روى الحكم بن حزن قال. وفدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة فقام
متوكئا على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات. رواه أبو داود،
فإن لم يفعل استحب أن يسكن أطرافه، إما أن يضع يمينه على شماله أو يرسلهما ساكنتين إلى جنبيه
* (مسألة) * (ويقصد تلقاء وجهه)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولان المقصود في التفاته إلى أحد جانبيه الاعراض
عن الجانب الآخر، فإن خالف فاستدبر الناس واستقبل القبلة صحت الخطبة لحصول المقصود به كما
لو أذن غير مستقبل القبلة. قال ابن عقيل: ويحتمل أن لا يصح لأنه ترك الجهة المشروعة أشبه ما لو
استدبر القبلة في الصلاة، ولان مقصود الخطبة الموعظة وذلك لا يتم باستدبار الناس
(فصل) ويستحب للناس أن يستقبلوا الخطيب إذا خطب. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله
يكون الإمام عن يميني متباعدا، فإذا أردت أن أنحرف إليه حولت وجهي عن القبلة، فقال نعم
تنحرف إليه، وممن كان يستقبل الإمام ابن عمر وأنس وهو قول أكثر العلماء منهم مالك والثوري
والشافعي واسحق وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: هذا كالاجماع. وروي عن الحسن أنه استقبل
القبلة ولم ينحرف إلى الإمام، وعن سعيد بن المسيب أنه كان لا يستقبل هشام بن إسماعيل إذا خطب
فوكل به هشام شرطيا يعطفه إليه، والأول أولى لما روى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. رواه ابن ماجة، ولان ذلك
أبلغ في اسماعهم فاستحب كاستقباله إياهم
(فصل) ويستحب أن يرفع صوته ليسمع الناس. قال جابر: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول " صبحكم
مساكم " ويقول " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه
وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " رواه مسلم
ويستحب ترتيب الخطبة وهو أن يبدأ بالحمد قبل الموعظة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يفعل ذلك، ثم يثني على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعظ، فإن عكس ذلك صح لحصول المقصود
قال ابن عقيل: ويحتمل أن لا يجزئه لأنهما فصلان من الذكر يتقدمان الصلاة فلم يصحا
منكسين كالاذان والإقامة
186

ويستحب أن يكون في خطبته مترسلا مبينا معربا لا يعجل فيها ولا يقطعها، وأن يكون متخشعا
متعظا بما يعظ الناس به لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " عرض علي قوم تقرض
شفاههم بمقاريض من نار فقيل لي هؤلاء خطباء من أمتك يقولون ما لا يفعلون
* (مسألة) * (ويستحب تقصير الخطبة)
لما روى عمار قال: اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان طول صلاة الرجل
وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة " رواه مسلم، وعن جابر بن سمره قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات. رواه أبو داود
* (مسألة) * ويستحب أن يدعو لنفسه والمسلمين والمسلمات والحاضرين، وإن دعا
لسلطان المسلمين بالصلاح فحسن
وقد روى ضبة بن محصن أن أبا موسى كان إذا خطب فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي
صلى الله عليه وسلم يدعو لعمر. وقال القاضي لا يستحب ذلك لأن عطاء قال: هو محدث وفعل
الصحابة أولى من قول عطاء لأن سلطان المسلمين إذا صلح كان فيه صلاح لهم، ففي الدعاء له
دعاء لهم وذلك مستحب غير مكروه
* (فصل) * وسئل الإمام أحمد رحمه الله عمن قرأ سورة الحج على المنبر أيجزيه؟ قال لا لم يزل
الناس يخطبون بالثناء على الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم. فقال لا تكون الخطبة إلا كما
خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة، ولان هذا لا يسمى خطبة ولا يجمع الشروط، فإن
قرأ آيات فيها حمد الله تعالى والموعظة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم صح لاجتماع الشروط
* (فصل) * وإن قرأ سجدة في أثناء الخطبة فإن شاء نزل فسجد وإن أمكنه السجود على المنبر
سجد عليه وان ترك السجود فلا حرج فعله عمر وترك، بهذا قال الإمام الشافعي ونزل عثمان وأبو موسى
وعمار والنعمان وعقبة بن عامر وبه قال أصحاب الرأي، وقال الإمام مالك لا ينزل لأنه تطوع بصلاة
فلم يشتغل به في أثناء الخطبة كصلاة ركعتين
ولنا فعل عمر وفعل من سمينا من الصحابة رضي الله عنهم ولأنه؟؟؟ وجد سببها في أثناء
الخطبة لا يطول الفعل بها فاستحب فعلها كحمد الله إذا عطس، ولا يجب ذلك لما قدمنا من أن
سجود التلاوة غير واجب ويفارق صلاة ركعتين لأن سببها لم يوجد في الخطبة ويطول بها الفصل
* (فصل) * ويستحب الاذان إذا صعد الإمام على المنبر بغير خلاف لأنه قد كان يؤذن للنبي
187

صلى الله عليه وسلم. قال السائب بن يزيد كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان زمن عثمان رضي الله عنه
وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء رواه البخاري، فهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به
وجوب السعي وتحريم البيع لقوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا
إلى ذكر الله وذروا البيع) وهذا النداء الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول
الآية فتعلقت الأحكام به، والنداء الأول مستحب في أول الوقت، سنه عثمان رضي الله عنه وعملت
به الأمة بعده وهو للاعلام بالوقت، والثاني للاعلام بالخطبة، والثالث للاعلام بقيام الصلاة. وذكر
ابن عقيل ان الآذان الذي يوجب السعي ويحرم البيع هو الآذان الأول على المنارة والصحيح الأول
* (فصل) * فأما من يكون منزله بعيدا لا يدرك الجمعة بالسعي وقت النداء فعليه السعي في الوقت
الذي يكون مدركا للجمعة لكونه من ضرورة ادراكها وما لا يتم الواجب إلا به واجب كاستسقاء
الماء من البئر للوضوء إذا احتاج إليه
* (مسألة) * (ولا يشترط اذن الإمام وعنه يشترط)
الصحيح أن اذن الإمام الأعظم ليس بشرط في صحة الجمعة وبه قال الإمام مالك رحمه الله تعالى
والإمام الشافعي، والثانية هو شرط روي ذلك عن الحسن والأوزاعي وحبيب بن أبي ثابت والإمام
أبي حنيفة لأنه لا يقيمها إلا الأئمة في كل عصر فكان في ذلك إجماعا
ولنا أن عليا رضي الله عنه صلى الجمعة بالناس وعثمان محصور فلم ينكره أحد، وصوب ذلك عثمان رضي الله
عنه، فروى حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عدي بن الخيار انه دخل على عثمان وهو محصور فقال إنه
قد نزل بك ما ترى وأنت إمام العامة. فقال الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن
معهم وإذا أساؤا فاجتنب اساءتهم أخرجه البخاري والأثرم وهذا لفظه. وقال الإمام أحمد رحمه الله
تعالى وقعت الفتنة بالشام تسع سنين فكانوا يجمعون ولأنها من فرائض الأعيان فلم يشترط لها اذن
الإمام، وما ذكروه إجماعا لا يصح فإن الناس يقيمون الجماعات في القرى من غير استئذان أحد،
ثم لو صح انه لم يقع إلا ذلك لكان اجماعا على جواز ما وقع لا على تحريم غيره كالحج يتولاه الأئمة
وليس شرطا فيه، فإن قلنا هو شرط فلم يأذن الإمام لم تجز اقامتها وصلوا ظهرا، وإن أذن في اقامتها
ثم عادت بطل اذنه، فإن صلوا ثم بان انه مات قبل صلاتهم فهل تجزيهم صلاتهم على روايتين:
أصحهما انها تجزيهم لأن المسلمين في الأمصار النائية عن بلد الإمام لا يعيدون ما صلوا من الجمعات
بعد موته، ولا نعلم أحدا أنكر ذلك عليهم فكان اجماعا، ولان وجوب الإعادة يشق لعمومه في
188

أكثر البلدان، وإن تعذر اذن الإمام لفتنة فقال القاضي ظاهر كلامه صحتها بغير اذن على كلتا الروايتين.
فعلى هذا إنما يكون الاذن معتبرا عند امكانه ويسقط بتعذره
* (فصل) * قال (وصلاة الجمعة ركعتان يجهر فيهما بالقراءة بغير خلاف). قال ابن المنذر أجمع
المسلمون على أن صلاة الجمعة ركعتان، وجاء الحديث عن عمر أنه قال صلاة الجمعة ركعتان تمام غير
قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى رواه الإمام أحمد وابن ماجة
* (مسألة) * (ويستحب أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية بالمنافقين)
يستحب أن يقرأ في الجمعة الفاتحة بهاتين السورتين وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور لما روي
عن عبد الله بن رافع قال صلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الركعة الأخرى
إذا جاءك المنافقون. فلما قضى أبو هريرة الصلاة أدركته فقلت يا أبا هريرة قرأت سورتين كان علي
يقرأ بهما في الكوفة. فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في الجمعة رواه مسلم.
وإن قرأ في الثانية بالغاشية فحسن، فإن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا يقرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟ قال كان يقرأ (هل أتاك حديث الغاشية) أخرجه
مسلم. وإن قرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية فحسن، فأن النعمان بن بشير قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة (بسبح اسم ربك الاعلى. وهل أتاك حديث الغاشية)
فإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين أخرجه مسلم. وقال مالك أما الذي جاء
به الحديث هل أتاك حديث الغاشية مع سورة الجمعة والذي أدركت عليه الناس سبح اسم ربك الاعلى
وحكي عن أبي بكر عبد العزيز انه يستحب أن يقرأ في الثانية سبح ولعله صار إلى ما حكاه مالك انه
أدرك عليه الناس! واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، ومهما قرأ به فجائز حسن إلا
أن الاقتداء به عليه الصلاة والسلام أحسن، ولان سورة الجمعة تليق بالجمعة لما فيها من ذكرها
والامر بها والحث عليها
* (فصل) * ويستحب أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (آلم السجدة. وهل أتى على الانسان)
نص عليه لما روى ابن عباس وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر يوم الجمعة
(آلم تنزيل وهل أتى على الانسان حين من الدهر) رواه مسلم. قال أحمد لا أحب المداومة عليها
لئلا يظن الناس انها مفضلة بسجدة، ويحتمل أن يستحب لأن لفظ الخبر يدل عليه ولان النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملا أثبته
189

* (مسألة) * (وتجوز إقامة الجمعة في موضعين من البلد للحاجة ولا يجوز مع عدمها)
وجملة ذلك أن البلد إذا كان كبيرا يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد
أقطاره أو ضيق مسجده على أهله كبغداد ونحوها جازت إقامة الجمعة في أكثر من موضع على قدر
ما يحتاجون إليه وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها، قال لأن الحدود تقام فيها
في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود، ومقتضى قوله انه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين
كان مثل بغداد لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول ابن المبارك. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي
لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد، وروي أيضا عن أحمد مثل ذلك لأن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع إلا في مسجد واحد وكذلك الخلفاء بعده، ولو جاز لم يعطلوا الساجد
حتى قال ابن عمر لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام
ولنا انها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد. وقد
ثبت أن عليا رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود
البدري فيصلي بهم. فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ولان الصحابة
كانوا يؤثرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله تعالى وشارع الأحكام
ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار اجماعا وقول ابن عمر معناه انها
لا تترك في المساجد الكبار وتقام في الصغار، وأما اعتبار ذلك بإقامة الحدود فلا وجه له، قال أبو داود
سمعت أحمد يقول أي حد كان يقام بالمدينة قدمها مصعب بن عمير وهم يختبئون في دار فجمع بهم وهم أربعون
* (فصل) * فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز أكثر من واحدة، وان حصل الغنى باثنتين لم تجز
الثالثة، وكذلك ما زاد لا نعلم في هذا مخالفا إلا أن عطاء قيل له إن أهل البصرة يسعهم المسجد
الأكبر قال لكل قوم مسجد يجمعون فيه ويجزى ذلك من التجميع في المسجد الأكبر وما عليه
الجمهور أولى إذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه انهم جمعوا أكثر من جمعة إذ لم تدع
الحاجة إلى ذلك، ولا يجوز اثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل
190

* (مسألة) * (فإن فعلوا فجمعة الإمام هي الصحيحة)
متى صلوا جمعتين في بلد لغير حاجة وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة تقدمت أو تأخرت
لأن في الحكم ببطلان جمعة الإمام افتئاتا عليه وتفويتا له الجمعة ولمن يصلي معه ويفضي إلى أنه متى
شاء أربعون أن يفسدوا صلاة أهل البلد أمكنهم ذلك بأن يسبقوا أهل البلد بصلاة الجمعة، وقيل
السابقة هي الصحيحة لأنها لم يتقدمها ما يفسدها ولا تفسد بعد صحتها بما بعدها والأول أصح،
وكذلك إن كانت إحداهما في المسجد الجامع والأخرى في مكان صغير لا يسع المصلين أو لا يمكنهم
الصلاة فيه لاختصاص السلطان وجنده به أو غير ذلك أو كانت إحداهما في قصبة والأخرى أقصى
المدينة فما وجدت فيه هذه المعاني الصلاة فيه صحيحة دون الأخرى وهذا قول مالك فإنه قال لا أرى
الجمعة إلا لأهل القصبة وذلك لأن لهذه المعاني مزية تقتضي التقديم فيقدم بها كجمعة الإمام،
ويحتمل أن تصح السابقة لأن إذن الإمام شرط في إحدى الروايتين فكانت آكد من غيرها
* (مسألة) * (فإن استويا فالثانية باطلة وإن لم يكن لإحداهما مزية على الأخرى لكونهما جميعا
مأذونا فيهما أو غير مأذون)
ولو تساوى المكانان فالسابقة هي الصحيحة لأنها وقعت بشروطها ولم يزاحمها ما يبطلها ولا سبقها
ما يغني عنها، والثانية باطلة لكونها واقعة في مصر أقيمت فيه جمعة صحيحة تغني عمن سواها، ويعتبر
السبق بالاحرام لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الاحرام بالأخرى للغنى عنها
191

* (مسألة) * (فإن وقعتا معا أو جهلت الأولى بطلتا معا)
متى وقع الاحرام بهما معا مع تساويهما فهما باطلتان لأنه لم يمكن صحتهما معا وليست إحداهما
أولى بالفساد من الأخرى كالمتزوج أختين، وإن لم تعلم الأولى منهما أو لم يعلم كيفية وقوعهما بطلت
أيضا لأن إحداهما باطلة ولم يعلم عينها، وليست إحداهما بالابطال أولى من الأخرى فهي كالتي
قبلها ثم ننظر فإن علمنا فساد الجمعتين لوقوعهما معا وجبت إعادة الجمعة إن أمكن ذلك لأنه مصر
ما أقيمت فيه جمعة صحيحة والوقت متسع لاقامتها أشبه ما لو لم يصلوا شيئا، وان علمنا صحة إحداهما
لا بعينها فليس لهم ان يصلوا إلا ظهرا لأن هذا مصر تيقنا سقوط الجمعة فيه بالأولى فلم تجز إقامة
الجمعة فيه كما لو علمت، وقال القاضي يحتمل أن لهم إقامة الجمعة لأنا حكمنا بفسادهما معا فكأن المصر
ما صليت فيه جمعة صحيحة، والصحيح الأول لأن الأولى لم تفسد وإنما لم يمكن اثبات حكم الصحة
لها بعينها للجهل فيصير هذا كما لو زوج الوليان وجهل السابق منهما فإنه لا يثبت حكم الصحة بالنسبة
إلى واحد بعينه، ويثبت حكم النكاح في حق المرأة بحيث لا يحل لها أن تنكح زوجا آخر، فإن جهلنا
كيفية وقوعهما فالأولى أن لا يجوز إقامة الجمعة أيضا لأن وقوعهما معا بحيث لا تسبق إحداهما
الأخرى بعيد جدا وما كان في غاية الندور فحكمه حكم المعدوم، ويحتمل ان لهم اقامتها لأننا لم
نتيقن المانع من صحتها والأول أولى
192

* (فصل) * فإن أحرم بالجمعة فتبين في أثناء الصلاة ان الجمعة قد أقيمت في المصر بطلت الجمعة
ولزمهم استئناف الظهر لأننا تبينا انه أحرم بها في وقت لا يجوز الاحرام بها ولا يصح أشبه ما لو أحرم
بها وفي وقت العصر. وقال القاضي يستحب أن يستأنف ظهرا وهذا من قوله يدل على أن له اتمامها
ظهرا كالمسبوق بأكثر من ركعة وكما لو أحرم بالجمعة فنقص العدد قبل الركعة والفرق ظاهر فإن
هذا أحرم بها في وقت لا تصح فيه الجمعة ولا يجوز الاحرام بها بخلاف الأصل المقيس عليه
* (فصل) * وإذا كانت قرية إلى جانب مصر يسمعون النداء منه أو كان مصران متقاربان يسمع
كل منهم نداء المصر الآخر لم تبطل جمعة أحدهما بجمعة الآخر، وكذلك القريتان المتقاربتان لأن
لكل قوم منهم حكم أنفسهم بدليل ان جمعة أحد القريتين لا يتم عددها بالفريق الآخر ولا تلزمهم الجمعة
بكمال العدد بهم وإنما يلزمهم السعي إذا لم يكن لهم جمعة فهم كأهل المحلة القريبة من المصر
* (مسألة) * (وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزئ بالعيد عن الجمعة وصلوا ظهرا جاز إلا للإمام)
193

وقد قيل في وجوبها على الإمام روايتان وممن قال بسقوطها الشعبي والنخعي والأوزاعي وقد
قيل إنه مذهب عمر وعثمان وعلي وسعيد وابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وقال أكثر الفقهاء
لا تسقط الجمعة لعموم الآية والأخبار الدالة على وجوبها ولأنهما صلاتان واجبتان فلم تسقط إحداهما
بالأخرى كالظهر مع العيد
ولنا ما روي أن معاوية سأل زيد بن أرقم هل شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين
اجتمعا في يوم؟ قال نعم. قال فكيف صنع؟ قال صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال " من شاء أن
يصلي فليصل " رواه أبو داود، وفي لفظ للإمام أحمد من شاء أن يجمع فليجمع. وعن أبي هريرة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة
وإنا مجمعون " رواه ابن ماجة ولان الجمعة إنما زادت على الظهر بالخطبة وقد حصل سماعها في العيد
194

فأجزأ عن سماعها ثانيا ونصوصهم مخصوصة بما رويناه وقياسهم منقوض بالظهر مع الجمعة. فأما الإمام
فلا تسقط عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وإنا مجمعون " ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة في
حق من تجب عليه ومن يريدها ممن سقطت عنه ولا كذلك غير الإمام
* (فصل) * فإن قدم الجمعة فصلاها في وقت العيد فقد روي عن أحمد قال تجزي الأولى منهما
فعلى هذا تجزيه عن العيد والظهر ولا يلزمه شئ الا العصر عند من يجوز فعل الجمعة في وقت العيد
لما روى أبو داود باسناده عن عطاء قال اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال:
عيدان قد اجتمعا في يوم واحد فجمعهما وصلاهما ركعتين بكرة. ولم يزد عليهما حتى صلى
العصر. فيروى أن فعله بلغ ابن عباس فقال أصاب السنة. قال الخطابي وهذا لا يجوز أن يحمل إلا
على قول من يذهب إلى تقديم الجمعة قبل الزوال، فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط
195

العيد والظهر ولان الجمعة إذا سقطت بالعيد مع تأكدها فالعيد أولى أن يسقط بها، أما إذا قدم
العيد فلابد من صلاة الظهر في وقتها إذا لم يصل الجمعة والله أعلم
* (مسألة) * (وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان وأكثرها ست ركعات)
روي عن أحمد أنه قال إن شاء صلى ركعتين وان شاء صلى أربعا، وفي رواية فإن شاء صلى ستا
فأيما فعل من ذلك فهو حسن وكان ابن مسعود والنخعي وأصحاب الرأي يرون أن يصلي بعدها أربعا
لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل
بعدها أربعا " رواه مسلم، وعن علي رضي الله عنه وأبي موسى وعطاء والثوري انه يصلي ستا لما روي
عن ابن عمر انه كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعا
196

ووجه قولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك كله بما روينا من الاخبار، وروي عن
ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين متفق عليه، وفي لفظ وكان
لا يصلي في المسجد حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته، وهذا يدل على أنه مهما فعل من ذلك كان
حسنا. وقد قال أحمد في رواية عبد الله ولو صلى مع الإمام ثم لم يصل شيئا حتى صلى العصر كان جائزا
فقد فعله عمران بن حصين
* (فصل) * فأما الصلاة قبل الجمعة فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركع قبل الجمعة
أربعا أخرجه ابن ماجة (1) وروي عن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه قال كنت أبقي. (2) أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعا، وعن عبد الله بن مسعود انه
كان يصلي قبل الجمعة أربع ركعات رواه سعيد

(1) لكن قال في الزوائد ان حديثه هذا مسلسل بالضعفاء، وذكر منهم بشر ابن عبيد وقال إنه كذاب والآثار الواردة في ذلك صريحة في أنها قبل الزوال فلا تعد سنة قبلية للجمعة
(2) أي أنتظر يقال فيه أبقي مثل أرمي، وأبقى مثل أعطى، لأن ماضيه يستعمل ثلاثيا ورباعيا، ذكره الجوهري اه‍. من هامش المغنى المخطوط
197

* (فصل) * ويستحب لمن أراد الركوع بعد الجمعة أن يفعل بينها وبينه بكلام أو انتقال من
مكانه أو خروج لما روى السائب عن يزيد قال صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام
قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة
حتى تتكلم أو تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة حتى نتكلم
أو نخرج. أخرجه مسلم
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويستحب أن يغتسل للجمعة في يومها والأفضل فعله عند مضيه إليها)
لا خلاف في استحباب غسل الجمعة وفيه أحاديث صحيحة منها ما روى سلمان الفارسي قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن
من دهنه، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم
198

الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " رواه البخاري. ومنها قوله عليه السلام " غسل يوم
الجمعة واجب على كل محتلم " وقوله " من أتى منكم الجمعة فليغتسل " متفق عليهما، وليس الغسل
واجبا في قول أكثر أهل العلم. قال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم ومن بعدهم منهم مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وحكاه ابن عبد البر
اجماعا، وعن أحمد انه واجب روي ذلك عن أبي هريرة وعمرو بن سليم. وقاول عمار بن ياسر رجلا
فقال: أنا إذا أشر ممن لا يغتسل يوم الجمعة، ووجهه ما ذكرنا من النصوص
ولنا ما روى سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت
ومن اغتسل فالغسل أفضل " رواه النسائي والترمذي وقال حديث حسن، وعن أبي هريرة قال
199

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة واستمع وأنصت غفر له
ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا " متفق عليه وحديثهم محمول على
تأكيد الندب، وكذلك ذكر في سياقه " وسواك وأن يمس طيبا " كذلك رواه مسلم، والسواك ومس
الطيب لا يجب، وقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: كان الناس مهنة أنفسهم وكانوا يروحون إلى
الجمعة بهيئتهم فتظهر لهم رائحة فقيل لهم " لو اغتسلتم " رواه مسلم بنحو هذا المعنى، والأفضل أن يفعله
عند مضيه إليها لأنه أبلغ في المقصود وفيه خروج من الخلاف
* (فصل) * ومتى اغتسل بعد طلوع الفجر أجزأ وإن اغتسل قبله لم يجزئه وهذا قول مجاهد
200

والحسن والنخعي والثوري والشافعي وإسحق. وحكي عن الأوزاعي انه يجزيه الغسل قبل الفجر،
وعن مالك لا يجزيه الغسل إلا أن يتعقبه الرواح
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " من اغتسل يوم الجمعة " واليوم من طلوع الفجر وإن اغتسل
ثم أحدث أجزأه الغسل وكفاه الوضوء وهذا قول الحسن ومالك والشافعي، واستحب طاوس
والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير إعادة الغسل. ولنا انه اغتسل في يوم الجمعة أشبه من لم يحدث
والحدث إنما يؤثر في الطهارة الصغرى ولان المقصود من الغسل التنظف وإزالة الرائحة وذلك لا يؤثر
فيه الحدث ولأنه غسل فلم يؤثر فيه الحدث الأصغر كغسل الجنابة
* (فصل) * ويفتقر الغسل إلى النية لأنه عبادة فافتقر إلى النية كتجديد الوضوء، وإن اغتسل
للجمعة والجنابة غسلا واحدا ونواهما أجزأه بغير خلاف علمناه لأنهما غسلان اجتمعا فأشبها غسل
الحيض والجنابة، وإن اغتسل للجنابة ولم ينو غسل الجمعة ففيه وجهان أحدهما لا يحزيه لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " وإنما لامرئ ما نوى " وروي عن ابن لأبي قتادة انه دخل عليه يوم الجمعة مغتسلا
فقال للجمعة اغتسلت؟ قال لا ولكن للجنابة. قال فأعد غسل الجمعة. والثاني يجزيه لأنه مغتسل
201

فيدخل في عموم الحديث ولان المقصود التنظيف وقد حصل ولأنه قد روي في الحديث " من اغتسل
يوم الجمعة غسل الجنابة "
* (فصل) * ومن لا يأتي الجمعة لا غسل عليه، قال أحمد ليس على النساء غسل يوم الجمعة وعلى
قياسهن الصبيان والمسافرون، وكان ابن عمر لا يغتسل في السفر وكان طلحة يغتسل. وروي عن
مجاهد وطاوس استدلالا بعموم الأحاديث المذكورة
ولنا قوله عليه السلام " من أتى الجمعة فليغتسل " ولان المقصود التنظيف وقطع الرائحة لئلا
يتأذى غيره به وذلك مختص بحضور الجمعة والأخبار العامة تحمل على هذا، ولذلك يسمى غسل
الجمعة، ومن لا يأتيها فليس غسله غسل الجمعة، فإن أتاها من لا تجب عليه استحب له الغسل لعموم
الخبر ووجود المعنى فيه
* (مسألة) * (ويتنظف ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه)
202

التنظف والتطيب والسواك مندوب إليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " غسل يوم الجمعة واجب
على كل محتلم وسواك وأن يمس طيبا " ويستحب أن يدهن ويتنظف ما استطاع بأخذ الشعر وقطع
الرائحة لحديث سلمان الذي ذكرناه، ويستحب أن يلبس ثوبين نظيفين لما روى عبد الله بن سلام
انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة يقول " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم جمعته
سوى ثوبي مهنته " رواه مسلم. وعن أبي أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة
حتى أتى المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة
ما بينها وبين الجمعة الأخرى " رواه الإمام أحمد. وأفضلها البياض لقوله عليه الصلاة والسلام " خير ثيابكم
البياض ألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم " والإمام في هذا ونحوه آكد لأنه المنظور إليه من بين الناس
* (مسألة) * (ويبكر إليها ماشيا ويدنوا من الإمام)
للسعي إلى الجمعة وقتان: وقت وجوب ووقت فضيلة وقد ذكرنا وقت الوجوب. وأما وقت
الفضيلة فمن أول النهار فكلما كان أبكر كان أولى وأفضل. وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وأصحاب
الرأي وابن المنذر، وقال مالك لا يستحب التبكير قبل الزوال لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من
راح إلى الجمعة " والرواح بعد الزوال والغد قبله، قال النبي صلى الله عليه وسلم " غدوة في سبيل
الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها " قال امرؤ القيس (تروح من الحي أم تبتكر)
ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اغتسل يوم الجمعة غسل
الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن
203

راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة،
ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر "
متفق عليه. وقال علقمة خرجت مع عبد الله إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال رابع أربعة وما
رابع أربعة ببعيد، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الناس يجلسون من الله
عز وجل يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة " رواه ابن ماجة. وروى أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها
وقيامها " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن ورواه ابن ماجة والنسائي وفيه " ومشى ولم يركب،
ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ " وقوله " بكر " أي خرج في بكرة النهار وهو أوله. وقوله " وابتكر "
أي بالغ في التبكير أي جاء في أول البكرة على ما قال امرؤ القيس (تروح من الحي أم تبتكر) وقيل
معناه ابتكر العبادة مع بكوره وقيل " ابتكر الخطبة " أي حضر الخطبة مأخوذ من باكورة الثمرة
وهي أولها وغير هذا أجود لأن من جاء في بكرة النهار لزم أن يحضر أول الخطبة وقوله " غسل "
أي جامع ثم اغتسل يدل على هذا قوله في الحديث الآخر " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة " قال
الإمام أحمد قوله " غسل واغتسل " مشددة يريد يغسل أهله. وغير واحد من التابعين عبد الرحمن بن الأسود
وهلال بن يساف يستحبون أن يغسل الرجل أهله يوم الجمعة يريدون أن يطأ لأن ذلك أمكن لنفسه
وأغض لطرفه في طريقه. وقال الخطابي المراد به غسل رأسه واغتسل في بدنه. وحكي ذلك عن
ابن المبارك فعلى هذا يكون معنى قوله " غسل الجنابة " أي كغسل الجنابة. فأما قول مالك فمخالف
204

للآثار لأن الجمعة مستحب فعلها عند الزوال وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبكر بها، ومتى خرج
الإمام طويت الصحف فلم يكتب من أتى الجمعة بعد ذلك، فأي فضيلة لهذا؟ فإن أخر بعد ذلك شيئا
دخل في النهي والذم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي جاء يتخطى رقاب الناس " أرأيتك؟ أنيت
وآذيت " أي أخرت المجئ، وقال عمر لعثمان حين جاء والإمام يخطب أية ساعة هذه؟ على وجه
الانكار فكيف يكون لهذا بدنة أو بقرة أو فضل؟ فعلى هذا معنى قوله راح إلى الجمعة أي ذهب
إليها لا يحتمل غير هذا
* (فصل) * ويستحب أن يمشي ولا يركب في طريقها لقوله عليه الصلاة والسلام " ومشى ولم
يركب " لأن الثواب على الخطوات بدليل ما ذكرناه من الحديث ويكون عليه السكينة والوقار في
مشيه، ولا يسرع لأن الماشي إلى الصلاة في صلاة ولا يشبك بين أصابعه، ويقارب بين خطاه
لتكثر حسناته. وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم انه خرج مع زيد بن ثابت إلى الصلاة فقارب
بين خطاه ثم قال " إنما فعلت ذلك لكثرة خطانا في طلب الصلاة " وروي عن عبد الرحمن بن رواحة
انه كان يمشي إلى الجمعة حافيا ويبكر ويقصر في مشيه رواهما الأثرم، ويكثر ذكر الله ويغض طرفه
ويقول ما ذكرنا في أدب المشي إلى الصلاة ويقول اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من
توسل إليك وأفضل من سألك ورغب إليك، وروينا عن بعض الصحابة انه مشى إلى الجمعة حافيا
205

فسئل عن ذلك. فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من اغبرت قدماه في سبيل الله
حرمهما الله على النار "
* (فصل) * ويجب السعي إلى الجمعة سواء كان من يقيمها عدلا أو فاسقا سنيا أو مبتدعا نص عليه
الإمام أحمد في رواية عباس بن عبد العظيم، وقد سئل عن الصلاة خلف المعتزلة فقال أما الجمعة فينبغي شهودها
قال شيخنا ولا أعلم في هذا خلافا وذلك لعموم قوله تعالى (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا
إلى ذكر الله وذروا البيع) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله
إمام جائر أو عادل استخفافا بها فلا جمع الله له شمله " ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم. فإن
عبد الله بن عمر وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدونها مع الحجاج ونظرائه
ولم يسمع عن أحد منهم التخلف عنها ولان الجمعة من أعلام الدين الظاهرة ويتولاها الأئمة أو
من ولوه، فتركها خلف من هذه صفته يفضي إلى سقوطها. إذا ثبت هذا فإنها تعاد خلف من تعاد خلفه
بقية الصلوات نص عليه الإمام أحمد في رواية عباس بن عبد العظيم، وعنه رواية أخرى انها لا تعاد
لأن الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم انهم لم يكونوا يعيدونها لأنهم لم ينقل ذلك عنهم، وقد
ذكرنا ذلك في باب الإمامة
206

* (فصل) * ويستحب الدنو من الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ودنا من الإمام فاستمع
ولم يلغ " وعن سمرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " احضروا الذكر وادنوا من الإمام فإن الرجل
لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة " رواه أبو داود ولأنه أمكن له من السماع
* (مسألة) * (ويشتغل بالصلاة والذكر ويقرأ سورة الكهف في يومها ويكثر الدعاء والصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم)
إذا حضر قبل الخطبة اشتغل بالصلاة وذكر الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " واعلموا
ان من خير أعمالكم الصلاة " ويقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة لما روي عن علي رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من
كل فتنة وإن خرج الدجال عصم منه " رواه زيد بن علي في كتابه باسناده، وعن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه
207

إلى عنان السماء يضئ به إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين " ويستحب أن يكثر من الصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم لما روي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثروا
الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة " رواه ابن ماجة، وعن أوس بن أوس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة
وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي " قالوا يا رسول الله كيف تعرض
صلاتنا عليك وقد أرمت؟ (أي بليت) قال " ان الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء عليهم
السلام " رواه أبو داود
* (فصل) * ويستحب الاكثار من الدعاء يوم الجمعة لعله يوافق ساعة الإجابة لأن النبي صلى الله
عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال " فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه
إياه " وأشار بيده يقللها وفي لفظ " وهو قائم يصلي " متفق عليه. واختلف في تلك الساعة فقال عبد الله
ابن سلام وطاوس هي آخر ساعة في يوم الجمعة وفسر عبد الله بن سلام الصلاة بانتظارها بقول النبي
صلى الله عليه وسلم " إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة " رواه
ابن ماجة، وروي هذا القول مرفوعا، فعلى هذا يكون القيام بمعنى الملازمة والإقامة كقوله تعالى
208

إلا ما دمت عليه قائما) وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التمسوا الساعة التي ترجى
في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس " أخرجه الترمذي، وقيل هي ما بين أن يجلس الإمام
إلى أن تنقضي الصلاة لما روى أبو موسى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " هي ما بين
أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الإمام الصلاة " رواه مسلم، وعن عمرو بن عوف المزني عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا آتاه الله إياه " قالوا
يا رسول الله أية ساعة هي؟ قال " حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها " رواه ابن ماجة والترمذي
وقال حديث حسن غريب. فعلى هذا تكون الصلاة مختلفة فتكون في حق كل قوم في وقت صلاتهم
وقيل هي ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، ومن العصر إلى غروبها وقيل هي الساعة الثالثة لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لأي شئ سمي يوم الجمعة؟ قال " لأن فيها
طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها من دعا الله
209

فيها استجيب له " رواه الإمام أحمد. وقال كعب لو قسم الانسان جمعه في جمع أتى على تلك الساعة
وقيل هي متنقلة في اليوم، وقال ابن عمر إن طلب حاجة في يوم ليسير، وقيل أخفى الله تعالى هذه
الساعة ليجتهد العباد في طلبها وفي الدعاء في جميع اليوم، كما أخفى ليلة القدر في رمضان وأولياءه
في الناس ليحسن الظن بجميع الصالحين
* (مسألة) * (ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماما أو يرى فرجة فيتخطى إليها وعنه يكره)
يكره تخطي رقاب الناس لغير الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فلا يفرق بين اثنين "
وقوله صلى الله عليه وسلم " ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا " وقوله صلى الله عليه وسلم للذي
جاء يتخطى رقاب الناس " اجلس فقد أنيت وآذيت " رواه ابن ماجة، وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم " رواه أبو داود
والترمذي وقال لا نعرفه الا من حديث رشدين بن سعد وقد ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه.
فأما الإمام فإذا لم يجد طريقا فلا يكره له التخطي لأنه موضع حاجة
* (فصل) * إذا رأى فرجة لا يصل إليها الا بالتخطي ففيه روايتان: إحداهما له التخطي قال أحمد
يدخل الرجل ما استطاع ولا يدع بين يديه موضعا فارغا، وذلك لأن الذي جلس دون الفرجة ضيع
حقه بتأخره عنها وأسقط حرمته فلا بأس بتخطيه وبه قال الأوزاعي، وقال قتادة يتخطاهم إلي مصلاه
210

وقال الحسن يخطو رقاب الذين يجلسون عى أبواب المسجد فإنه لا حرمة لهم وعنه يكره لما ذكرنا
من الأحاديث، وعنه إن كان يتخطى الواحد والاثنين فلا بأس فإن كثر كرهناه وكذلك قال الشافعي
الا أن لا يجد سبيلا إلى مصلاه الا بالتخطي فيسعه التخطي إن شاء الله. قال شيخنا ولعل قول أحمد
ومن وافقه في الرواية الأولى فيما إذا تركوا مكانا واسعا مثل الذين يصفون في آخر المسجد ويتركون
بين أيديهم صفوفا خالية فهؤلاء لا حرمة لهم كما قال الحسن لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم
ورغبوا عن الفضيلة وخير الصفوف وجلسوا في شرها فتخطيهم مما لابد منه. وقوله الثاني في حق من
لم يفرط وإنما جلسوا في مكانهم لامتلاء ما بين أيديهم، فأما ان لم تمكن الصلاة الا بالتخطي جاز
لأنه موضع حاجة
* (مسألة) * (ولا يقيم غيره فيجلس في مكانه الا من قدم صاحبا له فجلس في موضع يحفظه له)
ليس له أن يقيم انسانا ويجلس في موضعه سواء كان المكان لشخص يجلس فيه أو موضع حلقة
لمن يحدث فيها أو حلقة يتذاكر فيها الفقهاء أو لم يكن لما روى ابن عمر قال نهى النبي صلى الله عليه
وسلم أن يقيم الرجل (يعني أخاه) من مقعده ويجلس فيه متفق عليه ولان المسجد بيت الله تعالى والناس
فيه سواء العاكف فيه والبادي فمن سبق إلى مكان منه فهو أحق به لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " فإن قدم صاحبا له فجلس حتى إذا جاء قام صاحبه
211

وأجلسه فلا بأس لأن النائب يقوم باختياره. وقد روي عن محمد بن سيرين انه كان يرسل غلاما له
يوم الجمعة فيجلس في مكان فإذا جاء قام الغلام وجلس فيه محمد فإن لم يكن نائبا فقام باختياره ليجلس
آخر مكانه فلا بأس لأنه قوم باختيار نفسه أشبه النائب. وأما القائم فإن انتقل إلى مثل مكانه الذي
آثر به في القرب وسماع الخطبة فلا بأس وإلا كره له ذلك لأنه يؤثر على نفسه في الدين، ويحتمل أن
لا يكره إذا كان الذي آثره من أهل الفضل لأن تقديمهم مشروع لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" ليلني منكم أولو الأحلام والنهى " ولو آثر شخصا بمكانه فليس لغيره أن يسبقه إليه لأنه قام مقام
الجالس في استحقاق مكانه أشبه ما لو تحجر مواتا ثم آثر به غيره، وقال ابن عقيل يجوز لأن القائم
أسقط حقه بالقيام فبقي على الأصل فكان السابق إليه أحق به كمن وسع لرجل في طريق فمر غيره
والصحيح الأول، ويفارق التوسعة في الطريق لأنها جعلت للمرور فيها فمن انتقل من مكان فيها لم
يبق له حق يؤثر به، والمسجد جعل للإقامة فيه وكذلك لا يسقط حق المنتقل منه إذا انتقل منه
لحاجة، وهذا إنما انتقل مؤثرا لغيره فأشبه النائب الذي يعينه إنسان ليجلس في موضع يحفظه له، ولو كان
الجالس مملوكا لم يكن لسيده أن يقيمه لعموم الخبر ولان هذا ليس بمال وإنما هو حق ديني فاستوي
فيه العبد وسيده كالحقوق الدينية
212

* (مسألة) * (وان وجد مصلى مفروشة فهل له رفعها؟ على روايتين)
إحداهما ليس له ذلك لأن فيه افتئاتا على صاحبها وربما أفضى إلى الخصومة ولأنه سبق إليه
أشبه السابق إلى رحبة المسجد ومقاعد الأسواق. والثاني يجوز رفعه والجلوس موضعه لأنه لا حرمة
له ولان السبق بالأبدان هو الذي يحصل به الفضل لا بالأوطئة، ولان تركها يفضي إلى أن يتأخر
صاحبها ثم يتخطى رقاب الناس ورفعها ينفي ذلك
* (مسألة) * (ومن قام من موضعه لعارض لحقه ثم عاد إليه فهو أحق به)
إذا جلس في مكان ثم بدت له حاجة أو احتاج إلى الوضوء فله الخروج لما روى عقبة قال صليت
وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى حجر بعض نسائه
فقال " ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته " رواه البخاري. وإذا قام
من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به رواه مسلم، وحكمه في التخطي إلى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجة
* (فصل) * ويستحب لمن نعس يوم الجمعة أن يتحول من موضعه لما روى ابن عمر قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره " رواه
الإمام أحمد ولان ذلك يصرف عنه النوم
* (فصل) * وتكره الصلاة في المقصورة التي تحمى نص عليه أحمد، وروي عن ابن عمر انه كان
إذا حضرت الصلاة في المقصورة خرج وكرهه الأحنف وابن محير؟ والشعبي وإسحق ورخص فيه
213

أنس والحسن والحسين رضي الله عنهم والقاسم وسالم لأنه من الجامع كسائر المسجد، ووجه الأول
انه يمنع الناس من الصلاة فيه فصار كالمغصوب فكره لذلك، فإن كانت لا تحمى احتمل أن لا تكره
الصلاة فيها لعدم شبه الغصب واحتمل أن تكره لأنها تقطع الصفوف فأشبه الصلاة بين السواري،
فعلى هذا إنما تكره الصلاة فيها إذا قطعت الصفوف
* (فصل) * واختلفت الرواية عن أحمد في الصف الأول فقال في موضع هو الذي يلي المقصورة لأنها
تحمى. وقال ما أدري هل الصف الأول الذي يقطعه المنبر أو الذي يليه؟ قال شيخنا والصحيح انه الذي
يقطعه المنبر لأنه الصف الأول حقيقة، ولو كان الأول ما دونه أفضى إلى خلو ما يلي الإمام ولان أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم كان يليه فضلاؤهم، ولو كان الصف الأول وراء المنبر لوقفوا فيه
* (مسألة) * (ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما)
وبه قال الحسن وابن عيينة والشافعي وإسحق وأبو ثور وابن المنذر، وقال شريح وابن سيرين
والنخعي وقتادة والثوري ومالك والليث وأبو حنيفة يكره له أن يركع لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال للذي جاء يتخطى رقاب الناس " اجلس فقد أنيت وآذيت " رواه ابن ماجة، ولان الركوع
يشغله عن استماع الخطبة فكره كغير الداخل
ولنا ما روى جابر قال جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال صليت يا فلان؟ قال لا.
214

قال قم فصل ركعتين " متفق عليه. وفي لفظ لمسلم " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع
ركعتين وليتجوز فيهما " فإن جلس قبل أن يركع استحب له أن يقوم فيركع لما روى جابر أن سليكا
الغطفاني جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم " أركعت ركعتين؟ قال لا. قال قم فاركعهما " رواه مسلم، وفي لفظ جاء
سليك الغطفاني يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس فقال " يا سليك قم فاركع ركعتين
وتجوز فيهما " وحديثهم قضية في عين يحتمل انه أمره بالجلوس لضيق المكان أو لكونه في آخر الخطبة
بحيث لو تشاغل بالصلاة فاتته تكبيرة الاحرام. والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالجلوس ليكف
أذاه عن الناس فإن خشي أن يفوته أول الصلاة إذا تشاغل بهما لم يستحب له التشاغل بهما لذلك
* (فصل) * وينقطع التطوع بجلوس الإمام على المنبر فلا يصلي أحد غير الداخل يصلي تحية المسجد
روي عن ابن عباس وابن عمر لما روى ثعلبة بن مالك انهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله
يوم الجمعة يصلون حتى يخرج عمر ولأنه يشتغل عن سماع الخطبة المندوب إليه
* (فصل) * ويكره التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق
يوم الجمعة قبل الصلاة رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي
* (مسألة) * (ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن كلمه)
يجب الانصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة فلا يجوز الكلام لمن حضرها، نهى عن ذلك
215

عثمان وابن عمر وقال أبو مسعود: إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فاقرع رأسه بالعصا، وكره ذلك
عامة أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. وعن أحمد لا يحرم الكلام، وكان سعيد بن جبير
والنخعي والشعبي وأبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب، وقال بعضهم إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا،
وللشافعي قولان كالروايتين. واحتج من أجازه بما روى أنس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب
يوم الجمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله هلك الكراع هلك الشاء فادع الله أن يسقينا. وذكر الحديث
متفق عليه. وروي ان رجلا قام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال يا رسول الله متى
الساعة؟ فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأومأ الناس إليه بالسكوت فلم يقبل وأعاد الكلام. فلما كان
الثالثة قال له النبي صلى الله عليه وسلم " ويحك ماذا أعددت لها؟ قال حب الله ورسوله. قال إنك مع
من أحببت " فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم كلامه ولو حرم لا نكره
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد
لغوت " متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له أنصت ليس له جمعة "
رواه الإمام أحمد. وعن أبي بن كعب ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم
فذكرنا بأيام الله - وأبو الدرداء وأبو ذر يغمزني - فقال متى أنزلت هذه السورة اني لم أسمعها إلا الآن
216

فأشار إليه (1) أن اسكت فلما انصرفوا قال سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني فقال أبي ليس لك
من صلاتك اليوم إلا ما لغوت. فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك وأخبره بالذي
قال أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق أبي " رواه عبد الله بن أحمد وابن ماجة (2) وما
احتجوا به فالظاهر أنه مختص بمن كلم الإمام أو كلمه الإمام لأنه لا يشتغل بذلك عن سماع خطبته
وكذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم الذي دخل " هل صليت " فأجابه. وسأل عمر عثمان فأجابه
فتعين حمله على ذلك جمعا بين الاخبار، ولا يصح قياس غيره عليه لأن كلام الإمام لا يكون في حال
خطبته بخلاف غيره، ولو قدر التعارض ترجحت أحاديثنا لأنها قول النبي صلى الله عليه وسلم ونصه
وذلك سكوته والنص أقوى
* (فصل) * ولا فرق بين القريب والبعيد لعموم ما ذكرناه، وقد روي عن عثمان رضي الله عنه
أنه قال من كان قريبا يسمع وينصت ومن كان بعيدا ينصت فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ
ما للسامع، وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يحضر الجمعة ثلاثة نفر

(1) أي أبي
(2) وهو صحيح السند
217

رجل حضرها بلغو فهو حظه منها، وجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه
وان شاء منعه، ورجل حضرها بانصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهو كفارة إلى
الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك بأن الله عز وجل يقول (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)
رواه الإمام أحمد وأبو داود. وقال القاضي يجب الانصات على السامع ويستحب لمن لا يسمع لأن
الانصات إنما وجب لأجل الاستماع والأول أولى لعموم النصوص، وللبعيد أن يذكر الله تعالى
ويقرأ القرآن ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرفع صوته. قال أحمد لا بأس أن يصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين نفسه ورخص له في القراءة والذكر عطاء وسعيد بن جبير
والشافعي وليس له رفع صوته ولا المذاكرة في الفقه ولا الصلاة ولا أن يجلس في حلقة، قال ابن عقيل
له صلاة النافلة والمذاكرة في الفقه
ولنا عموم الأحاديث المذكورة وانه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة
ولأنه إذا رفع صوته منع من هو أقرب منه من السماع وآذاه بذلك فيكون عليه اثم من يؤذي المسلمين
وصد عن ذكر الله تعالى، وهل ذكر الله سرا أفضل أو الانصاف؟ فيه وجهان: أحدهما الانصات
أفضل لحديث عبد الله بن عمرو وقول عثمان. والثاني الذكر أفضل لأنه لا يحصل ثواب الذكر من
غير ضرر فكان أفضل كقبل الخطبة
218

* (فصل) * فأما الكلام على الخطيب أو من كلمه فلا يحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل
سليكا الداخل وهو يخطب أصليت؟ قال لا، وسأل عمر عثمان حين دخل وهو يخطب فأجابه
عثمان ولان تحريم الكلام عليه لاشتغاله بالانصات الواجب وسماع الخطبة ولا يحصل ها هنا، وسواء
سأله الخطيب فأجابه أو كلم بعض الناس الخطيب لحاجة ابتداء لما ذكرنا من الحديثين قبل
* (فصل) * وإذا سمع متكلما لم ينهه بالكلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قلت لصاحبك
انصت والإمام يخطب فقد لغوت " ولكن يشير إليه ويضع أصبعه على فيه كما روينا عن أبي. وهذا
قول زيد بن صوخان وعبد الرحمن بن أبي ليلي والثوري والأوزاعي وكره الإشارة طاوس. ولنا ان
الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة أومأ إليه الناس بالسكوت بحضرة النبي صلى الله عليه
وسلم فلم ينكر عليهم ولان الإشارة تجوز في الصلاة للحاجة التي يبطلها الكلام فجوازها في الخطبة أولى
* (فصل) * فأما الكلام الواجب كتحذير الضرير من البئر ومن يخاف عليه نارا أو حية ونحو
ذلك فلا يحرم لأن هذا يجوز في نفس الصلاة مع فسادها به فهنا أولى. فأما تشميت العاطس ورد
السلام ففيه روايتان: إحداهما يجوز. قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل يرد الرجل السلام يوم
الجمعة ويشمت العاطس؟ فقال نعم والإمام يخطب. وقال أبو عبد الله قد فعله غير واحد، قال ذلك
غير مرة. وممن يرخص فيه الحسن والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وإسحق لأن هذا واجب
فوجب الاتيان به في الخطبة لحق الآدمي فهو كتحذير الضرير. والرواية الثانية إن كان لا يسمع در
219

السلام وشمت العاطس، وإن كان يسمع فليس له ذلك نص عليه أحمد في رواية أبي داود. قلت
لأحمد يرد السلام والإمام يخطب ويشمت العاطس؟ قال إذا كان لا يسمع الخطبة فيرد وإذا كان
يسمع فلا. قال الله تعالى (فاستمعوا له وأنصتوا) قيل له الرجل يسمع نغمة الإمام بالخطبة ولا يدري
ما يقول أيرد السلام؟ قال لا. وروي نحو ذلك عن عطاء وذلك لأن الانصات واجب فلم يجز
الكلام المانع منه من غير ضرورة كالأمر بالانصات بخلاف من لا يسمع، وقال القاضي لا يرد ولا
يشمت، وروي نحو ذلك عن ابن عمر وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي واختلف فيه
عن الشافعي فيحتمل قول القاضي أن يكون مختصا بمن يسمع فيكون مثل الرواية الثانية، ويحتمل أن
يكون عاما في الجميع لأن وجوب الانصات شامل لهم فأشبهوا السامعين، ويجوز أن يرد على المسلم
بالإشارة ذكره القاضي في المجرد لأنه يجوز في الصلاة فها هنا أولى
* (مسألة) * (ويجوز الكلام قبل الخطبة وبعدها وعنه يجوز فيها)
يجوز الكلام قبل الخطبة وبعد فراغه منها من غير كراهة وبهذا قال عطاء وطاوس والزهري
النخعي ومالك والشافعي وإسحق ويعقوب ومحمد وروي عن ابن عمر وكرهه الحكم، وقال أبو حنيفة
إذا خرج الإمام حرم الكلام، قال ابن عبد البر: ابن عمر وابن عباس كانا يكرهان الكلام والصلاة
بعد خروج الإمام ولا مخالف لهم في الصحابة
ولنا ما روى ثعلبة بن مالك انهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر فإذا سكت
المؤذن وقام عمر لم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبة فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا. وهذا يدل
220

على شهرة الامر بينهم ولان قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قلت لصاحبك انصت والإمام
يخطب فقد لغوت " يدل على تخصيصه بوقت الخطبة ولان الكلام؟ إنما حرم لأجل الانصات للخطبة
ولا وجه لتحريمه مع عدمها، وقولهم لا مخالف لهما في الصحابة قد ذكرنا عن عمومهم خلاف ذلك
* (فصل) * فأما الكلام في الجلسة بين الخطبتين فيحتمل جوازه لما ذكرنا وهذا قول الحسن
ويحتمل المنع وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي وإسحق لأنه سكوت يسير في أثناء الخطبتين أشبه
السكوت للتنفس. وإذا بلغ الخطيب إلى الدعاء فهل يجوز الكلام؟ فيه وجهان: أحدهما الجواز لأنه
فرغ من الخطبة أشبه ما لو نزل. والثاني لا يجوز لأنه تابع للخطبة فيثبت له ما ثبت لها كالتطويل في
الموعظة ويحتمل انه إن كان دعاء مشروعا كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات، والإمام العادل أنصت وإن
كان لغيره لم يلزم الانصات لأنه لا حرمة له
* (فصل) * ويكره العبث والإمام يخطب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ومن مس الحصى فقد
لغا " قال الترمذي هذا حديث صحيح. واللغو الاثم قال الله تعالى (والذين هم عن اللغو معرضون)
ولان العبث يمنع الخشوع ويكسب الاثم ويكره أن يشرب والإمام يخطب إذا كان يسمع وبه قال
مالك والأوزاعي ورخص فيه مجاهد وطاوس والشافعي لأنه لا يشتغل عن السماع، ووجه الأول انه
فعل يشتغل به أشبه مس الحصى فإن كان لا يسمع لم يكره نص عليه لأنه لم يسمع فلا يشتغل به
* (فصل) * قال الإمام أحمد لا يتصدق على السؤال والإمام يحطب لأنهم فعلوا مالا يجوز فلا يعينهم
عليه، قال الإمام أحمد وإن حصبه كان أعجب إلي لأن ابن عمر رأى سائلا يسأل والإمام يحطب يوم
الجمعة فحصبه قيل للإمام أحمد فإن تصدق عليه انسان فناولته والإمام يحطب؟ قال لا. قيل فإن سأل
221

قبل خطبة الإمام ثم جلس فأعطاني رجل صدقة أناوله إياها قال نعم. هذا لم يسأل والإمام يخطب
* (فصل) * ولا بأس بالاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب روي ذلك عن ابن عمر وجماعة من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واليه ذهب عامة أهل العلم منهم مالك والثوري والشافعي
وأصحاب الرأي، وقال أبو داود لم يبلغني ان أحدا كرهه إلا عبادة بن سنى لأن سهل بن معاذ روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب رواه أبو داود
ولنا ما روى يعلي بن شداد بن أوس قال شهدت مع معاوية ببيت المقدس فجمع بنا فنطرت
فإذا جل من في المسجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يحطب، وفعله
ابن عمر وأنس ولا نعرف لهما مخالفا فكان اجماعا والحديث في اسناده مقال قاله ابن المنذر والأولى
تركه لأجل الحديث وإن كان ضعيفا لأنه يصير به متهيئا للنوم والسقوط واسقاط الوضوء، ويحمل
النهى في الخبر على الكراهة وأحوال الصحابة الذين فعلوه على أنه لم يبلغهم الخبر
* (فصل) * قال الإمام أحمد إذا كان يقرؤن الكتاب يوم الجمعة على الناس بعد الصلاة أعجب
إلي أن يسمع إذا كان فتحا من فتوح المسلمين أو كان فيه شئ من أمور المسلمين، وإن كان شئ
إنما فيه ذكرهم فلا يستمع، وقال في الذين يصلون في الطرقات إذا لم يكن بينهم باب مغلق فلا بأس
وسئل عمن صلى خارج المسجد يوم الجمعة والأبواب مغلقة قال أرجو أن لا يكون به بأس، وسئل
عن الرجل يصلي يوم الجمعة وبينه وبين الإمام سترة قال إذا لم يقدر على غير ذلك يعني يجزيه
222

* (باب صلاة العيدين) *
وهي مشروعة والأصل في ذلك الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله عز وجل (فصل
لربك وانحر) المشهور في التفسير أن المراد بها صلاة العيد. وأما السنة فثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم بالتواتر انه كان يصلي العيدين. قال ابن عباس شهدت صلاة الفطر مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبي بكر وعمر فكلهم يصليها قبل الخطبة متفق عليه. وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
بغير أذان ولا إقامة، وأجمع المسلمون على صلاة العيدين
* (مسألة) * (وهي فرض على الكفاية إن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام)
صلاة العيد فرض على الكفاية في ظاهر المذهب إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين وبه
قال بعض أصحاب الشافعي. وقال أبو حنيفة هي واجبة على الأعيان وليست فرضا، وقال ابن أبي
موسى وقد قيل إنها سنة مؤكدة وهو قول مالك وأكثر أصحاب الشافعي لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم للاعرابي حين ذكر خمس صلوات قال هل علي غيرهن قال " لا إلا أن تطوع " ولأنها
صلاة ذات ركوع وسجود لا يشرع لها أذان فلم تكن واجبة كصلاة الاستسقاء، ثم اختلفوا فقال
بعضهم إذا امتنع جميع الناس من فعلها قاتلهم الإمام عليها. وقال بعضهم لا يقاتلهم
ولنا على أنها لا تجب على الأعيان انها صلاة لا يشرع لها الاذان فلم تجب على الأعيان كصلاة
الجنازة ولان الخبر الذي ذكره مالك ومن وافقه يقتضي نفي وجوب صلاة سوى الخمس، وإنما
خولف بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن صلى معه فيختص بمن كان مثلهم ولأنها لو وجبت على
الأعيان لوجبت خطبتها والاستماع لها كالجمعة
223

ولنا على وجوبها في الجملة قوله تعالى (فصل لربك وانحر) والامر يقتضي الوجوب ولأنها
من أعلام الدين الظاهرة فكانت واجبة كالجمعة والجهاد ولأنها لو لم تجب لم يجب قتال تاركيها لأن
القتال عقوبة فلا يتوجه إلى تارك مندوب كالقتل والضرب وقياسا على سائر السنن. فأما حديث الاعرابي
الاعرابي فليس لهم فيه حجة لأن الاعراب لا تلزمهم الجمعة فالعيد أولى على أنه مخصوص بالصلاة على
الجنازة المنذورة فكذلك صلاة العيد، وقياسهم لا يصح لأن كونها ذات ركوع وسجود أثر له
فيجب حذفه فينتقض بصلاة الجنازة وينتقض على كل حال بالصلاة المنذورة
(فصل) وإذا اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام لأنها من شعائر الاسلام الظاهرة فقوتلوا على
تركها كالاذان ولأنها من فروض الكفايات فقوتلوا على تركها كغسل الميت والصلاة عليه إذا اتفقوا على تركه
* (مسألة) * (وأول وقتها إذا ارتفعت الشمس وآخره إذا زالت)
أول وقت صلاة العيد إذا خرج وقت النهى وارتفعت الشمس قيد رمح من طلوع الشمس
وذلك ما بين وقتي النهى عن صلاة النافلة. وقال أصحاب الشافعي أول وقتها إذا طلعت الشمس لما
روى يزيد بن حمير قال خرج عبد الله بن بشر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فطر
أو أضحى فأنكر ابطاء الإمام وقال إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين صلاة التسبيح. رواه
أبو داود وابن ماجة
ولنا ما روى عقبة بن عامر قال ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي
فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ولأنه وقت نهي عن الصلاة فيه فلم
224

يكن وقتا للعيد كقبل طلوع الشمس ولان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده لم يصلوا حتى ارتفعت
الشمس بدليل الاجماع أن فعلها في ذلك الوقت أفضل ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليفعل إلا
الأفضل، ولو كان لها وقت قبل ذلك لكان تقييده بطلوع الشمس تحكما بغير نص ولا معنى نص،
ولا يجوز التوقيت بالتحكم. وأما حديث عبد الله بن بشر فيحتمل على أنه أنكر ابطاء الإمام عن
وقتها المجمع عليه لأنه لو حمل على غير هذا لم يكن ابطاء، ولا يجوز أن يحمل ذلك على أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يفعل الصلاة في وقت النهى لأنه مكروه بالاتفاق والأفضل خلافه، ولم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم يداوم على المفضول ولا المكروه فتعين حمله على ما ذكرنا
* (مسألة) * (فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم)
وهذا قول الأوزاعي والثوري وإسحق وابن المنذر. وحكى عن أبي حنيفة انها لا تقضى.
وقال الشافعي إن علم بعد غروب الشمس كقولنا وإن علم بعد الزوال لم يصل لأنها صلاة شرع لها
الاجتماع والخطبة فلا تقضى بعد فوات وقتها كالجمعة وإنما يصليها إذا علم بعد غروب الشمس لأن
العيد هو الغد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون
وعرفتكم يوم تعرفون " (1)
ولنا ما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ركبا
جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا انهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا
أن يغدوا إلى مصلاهم رواه أبو داود. وقال الخطابي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن
تتبع، وحديث ابن عمير صحيح والمصير إليه واجب ولأنها صلاة مؤقتة فلا تسقط بفوات الوقت
كسائر الفروض: فأما الجمعة فإنها معدول بها عن الظهر بشرائط منها الوقت فإذا فات واحد منهما
رجع إلى الأصل

(1) رواه الشافعي والبيهقي عن عطاء مرسلا بسند ضعيف وروى أبو داود والبيهقي الجملتين في العيدين بسند صحيح عن أبي هريرة وله تتمة أخرى
225

(فصل) فأما الواحد إذا فاتته حتى تزول الشمس وأحب قضاءها قضاها متى أحب. وقال ابن عقيل
لا يقضيها إلا من الغد كالمسألة قبلها وهذا لا يصح لأن ما يفعله تطوع فمتى أحب أتى به وفارق إذا لم
يعلم الناس لأنهم تفرقوا على أن العيد في الغد فلا يجتمعون إلا إلى الغد، ولا كذلك ها هنا لأنه
يحتاج إلى اجتماع الجماعة ولان صلاة الإمام هي الواجبة التي يعتبر لها شروط العيد ومكانه، فاعتبر
لها العيد بخلاف هذا
* (مسألة) * (ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر والاكل في الفطر قبل الصلاة والامساك
في الأضحى حتى يصلي)
يستحب تقديم الأضحى ليتسع وقت التضحية لأن التضحية لا تجوز إلا بعد الصلاة وتأخير
الفطر ليتسع وقت اخراج صدقة الفطر لأن السنة اخراجها يوم العيد قبل الصلاة وهذا مذهب الشافعي
ولا أعلم فيه خلافا. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم " أن أخر صلاة
الفطر وعجل الأضحى وذكر الناس " الحديث مرسل رواه الشافعي
(فصل) ويستحب الاكل في الفطر قبل الصلاة وأن لا يأكل في الأضحى حتى يصلي، روي
ذلك عن علي وابن عباس وهو قول مالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لما روى أنس قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات وقال مرجأ بن رجاء حدثني عبيد الله قال
حدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأكلهن وترار رواه البخاري، وعن بريدة قال كان النبي
صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي رواه الإمام أحمد
والترمذي وهذا لفظه ورواه الأثرم ولفظ روايته حتى يضحي. ويستحب أن يفطر على تمرات
ويأكلهن وترا لما ذكرنا من الحديث، وأما في الأضحى فإن كان له أضحية استحب أن يفطر على
شئ منها. قال أحمد والأضحى لا يأكل فيه حتى يرجع إذا كان له ذبح لأن النبي صلى الله عليه وسلم
226

أكل من ذبيحته، وروى الدارقطني حديث بريدة وفيه وكان لا يأكل يوم النحر حتى يرجع فيأكل
من أضحيته وإذا لم يكن له ذبح لم يبال أن يأكل
* (مسألة) * (ويستحب الغسل والتبكير إليها بعد الصبح ماشيا على أحسن هيئة إلا المعتكف
يخرج في ثياب اعتكافه أو إماما يتأخر إلى وقت الصلاة)
يستحب الغسل للعيد وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر رواه مالك في الموطأ، وروي ذلك عن
علي رضي الله عنه وبه قال علقمة وعروة وعطاء والنخعي والشعبي ومالك والشافعي وابن المنذر لما
روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى رواه ابن ماجة
إلا أنه من رواية جنادة بن مغلس وهو ضعيف، وروى أيضا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في
جمعة من الجمع " إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره
أن يمس منه، وعليكم بالسواك " علل بكونه عيدا ولأنه يوم يشرع فيه الاجتماع للصلاة فاستحب الغسل
فيه كيوم الجمعة، وان توضأ أجزأه لأنه إذا أجزأ في الجمعة مع الامر بالغسل لها فها هنا أولى، ووقت
الغسل بعد طلوع الفجر في ظاهر كلام الخرقي. قال الآمدي ان اغتسل قبل الفجر لم يصب سنة
لاغتسال، وقال ابن عقيل المنصوص عن أحمد انه قبل الفجر وبعده ولان زمن العيد أضيق من وقت
الجمعة فلو وقف على طلوع الفجر ربما فات ولان المقصود منه التنظيف وذلك يحصل بالغسل في الليل
القربة من الصلاة، والأولى أن يكون بعد الفجر ليخرج من الخلاف ولأنه أبلغ في النظافة لقربه من الصلاة
والغسل لها غير واجب. قال ابن عقيل ويتخرج وجوبه بناء على غسل الجمعة لأنها في معناها
(فصل) ويستحب التبكير إلى العيد بعد صلاة الصبح والدنو من الإمام ليحصل له أجر التبكير
وانتظار الصلاة ويحصل له فضل الدنو من الإمام من غير تخطي رقاب الناس ولا أذى أحد. قال
عطاء بن السائب كان عبد الرحمن بن أبي ليلي وعبد الله بن مغفل يصليان الفجر يوم العيد وعليهما
227

ثيابهما ثم يتدافعان إلى الجبانة أحدهما يكبر والآخر يهلل، فأما الإمام فإنه يتأخر إلى وقت الصلاة
لما روى أبو سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى
فأول شئ يبدأ به الصلاة رواه مسلم، قال مالك مضت السنة أن يخرج الإمام من منزله قدر ما يبلغ
المصلى وقد حلت الصلاة، وروي عن ابن عمر انه كان لا يخرج حتى تطلع الشمس، ويستحب أن
يخرج ماشيا وعليه السكينة والوقار كما ذكرنا في الجمعة وهذا قول عمر بن عبد العزيز والنخعي والثوري
والشافعي وغيرهم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يركب في عيد ولا جنازة، وروى
ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرج إلى العيد ماشيا ويرجع ماشيا رواه ابن ماجة، وإن
كان بعيدا فلا بأس أن يركب نص عليه أحمد لما روي أن عمر بن عبد العزيز قال على المنبر يوم الجمعة
ان الفطر غدا فامشوا إلى مصلاكم فإن ذلك كان يفعل، ومن كان من أهل القرى فليركب فإذا
جاء إلى المدينة فليمش إلى الصلاة. رواه سعيد
(فصل) ويستحب أن يتطيب ويتسوك ويلبس أحسن ثيابه كما ذكرنا في الجمعة لما ذكرنا من
الحديث، وروى ابن عبد البر باسناده عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتم ويلبس
228

برده الأحمر في العيدين والجمعة. وعن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في
العيدين برد حبرة وباسناده عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما على أحدكم أن
يكون له ثوبان سوى ثوبي مهنته لجمعته وعيده " والإمام بذلك أحق لأنه المنظور إليه من بينهم إلا
229

أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه ليبقى عليه أثر العبادة والنسك. قال أحمد في
رواية المروذي: طاوس كان يأمر بزينة الثياب. وعطاء قال هو يوم تخشع واستحسنهما جميعا
230

(فصل) ويستحب أن يكون في خروجه مظهرا للتكبير يرفع به صوته. قال أحمد يكبر جهرا
إذا خرج من بيته حتى يأتي المصلى، وروى ذلك عن علي وابن عمر وأبي أمامة وناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول عمر بن عبد العزيز وفعله ابن أبي ليلي والنخعي وسعيد بن جبير
وهو قول الحكم وحماد ومالك وإسحق وابن المنذر. وقال أبو حنيفة يكبر يوم الأضحى ولا يكبر
يوم الفطر لأن ابن عباس سمع التكبير يوم الفطر فقال ما شأن الناس؟ فقيل يكبرون. فقال أمجانين الناس؟
ولنا انه فعل من سمينا من الصحابة وقولهم، فأما ابن عباس فكان يقول يكبرون مع الإمام
ولا يكبرون وحدهم وهذا خلاف مذهبهم، إذا ثبت هذا فإنه يكبر حتى يأتي المصلى لقول أبي
جميلة رأيت عليا رضي الله عنه خرج يوم العيد فلم يزل يكبر حتى انتهى إلى الجبانة. قال الأثرم قيل
231

لأبي عبد الله في الجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى أو حتى يخرج الإمام؟ قال حتى يأتي المصلى. وقال
القاضي فيه رواية أخرى حتى يخرج الإمام
(فصل) ولا بأس بخروج النساء يوم العيد إلى المصلى. وقال ابن حامد يستحب ذلك، وروي
عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما انهما قالا حق على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين، وكان
ابن عمر يخرج من استطاع من أهله إلى العيدين، وروت أم عطية قالت أمرنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى والعواتق ذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن
الخير ودعوة المسلمين. قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال " لتلبسها أختها من
جلبابها " متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم. وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير
مستحب، وكرهه النخعي ويحيى الأنصاري وقالا لا يعرف خروج المرأة في العيدين عندنا، وكرهه
سفيان وابن المبارك، ورخص أهل الرأي للمرأة الكبيرة وكرهوه للشابة لما في خروجهن من الفتنة.
232

وقول عائشة رضي الله عنها لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد
كما منعت نساء بني إسرائيل
ولنا ما ذكرنا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهي أحق أن تتبع، وقول عائشة مختص بمن
أحدثت دون غيرها، ولا شك في أن تلك يكره لها الخروج وإنما يستحب لهن الخروج غير متطيبات
ولا يلبسن ثوب شهرة ولا زينة ويخرجن في ثياب البذلة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" وليخرجن تفلات " ولا يخالطن الرجال بل يكن ناحية منهم
* (مسألة) * (وإذا غدا من طريق رجع في أخرى)
الرجوع في غير الطريق التي غدا منها سنة وبه قال مالك والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يفعله. قال أبو هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في
غيره. قال الترمذي هذا حديث حسن، قال بعض أهل العلم إنما فعل هذا قصدا لسلوك الابعد في
الذهاب ليكثر ثوابه وخطواته إلى الصلاة ويعود في الأقصر لأنه أسهل، وقيل كان يحب أن يشهد
له الطريقان، وقيل كان يحب المساواة بين أهل الطريقين في التبرك بمروره بهم وسرورهم برؤيته
وينتفعون بمسئلته، وقيل لتحصل الصدقة ممن صحبه على أهل الطريقين من الفقراء، وقيل ليشترك
الطريقان بوطئه عليهما. وفي الجملة الاقتداء به سنة لاحتمال بقاء المعنى الذي فعله لأجله ولأنه قد يفعل
الشئ لمعنى ويبقى في حق غيره سنة مع زوال المعنى كالرمل والاضطباع في طواف القدوم فعله هو
وأصحابه لاظهار الجلد للكفار وهي سنة. قال عمر رضي الله عنه فيم الرملان الآن ولمن نبدي مناكبنا
وقد نفى الله المشركين؟ ثم قال مع ذلك لا ندع شيئا فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
233

* (مسألة) * (وهل من شرطها الاستيطان وإذن الإمام والعدد المشروط للجمعة؟ على روايتين)
يشترط لوجوب صلاة العيد ما يشترط لوجوب صلاة الجمعة من الاستيطان لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يصلها في سفره ولا خلفاؤه، وكذلك العدد المشترط لصلاة الجمعة لأنها صلاة عيد فأشبهت
الجمعة، وفي اشتراط اذن الإمام روايتان أصحهما انه لا يشترط كما قلنا في الجمعة، ولا يشترط شئ من
ذلك لصحتها لأن انسا كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة
مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنها في حق من انتفت فيه شروط الوجوب تطوع فلم يشترط
لها ذلك كسائر التطوع. وقد ذكر شيخنا ها هنا روايتين وكذلك ذكره أبو الخطاب. وقال القاضي
كلام أحمد يقتضي أن في اشتراط ذلك روايتين: إحداهما لا يقام العيد إلا حيث تقام الجمعة وهذا
مذهب أبي حنيفة إلا أنه لا يرى ذلك إلا في المصر لقوله لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع.
والثانية يصليها المنفرد والمسافر والعبد والنساء وهذا قول الحسن والشافعي لما ذكرنا إلا أن الإمام
إذا خطب مرة ثم أرادوا أن يصلوا لم يخطبوا ثانيا وصلوا بلا خطبة كيلا يؤدي إلى تفريق الكلمة.
وهذا التفصيل الذي ذكرناه أولى ما قيل به إن شاء الله تعالى
(فصل) قال ابن عقيل إذا قلنا من شرطها العدد وكانت قرية إلى جانب قرية أو مصر يصلى
فيه العيد لزمهم السعي إلى العيد سواء كانوا بحيث يسمعون النداء أم لا لأن الجمعة إنما لم يلزم اتيانها
مع عدم السماع لتكررها بخلاف العيد فإنه لا يتكرر فلا يشق اتيانه
* (مسألة) * (وتسن في الصحراء وتكره في الجامع إلا من عذر)
السنة أن يصلى العيد في المصلى أمر بذلك علي رضي الله عنه واستحسنه الأوزاعي وأصحاب
234

الرأي وهو قول ابن المنذر، وحكي عن الشافعي إن كان مسجد البلد واسعا فالصلاة فيه أولى لأنه خير
البقاع وأطهرها ولذلك يصلي أهل مكة في المسجد الحرام
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ويدع مسجده وكذلك الخلفاء الراشدون
بعده ولا يترك النبي صلى الله عليه وسلم الأفضل مع قربه، ويتكلف فعل المفضول مع بعده، ولا يشرع
لامته ترك الفضائل ولأنا قد أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون
المأمور به هو الناقص ولان هذا اجماع فإن الناس في كل عصر يخرجون إلى المصلى فيصلون فيه العيدين
مع سعة المسجد وضيقه ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم انه صلى العيد بمسجده إلا من عذر مع
شرف مسجده، وروينا عن علي رضي الله عنه انه قيل له قد اجتمع في المسجد ضعفاء الناس وعميانهم
فلو صليت بهم في المسجد؟ فقال أخالف السنة إذا، ولكن أخرج إلى المصلى وأستخلف من يصلي
بهم في المسجد أربعا، وصلاة النفل في البيت أفضل منها مع شرفه، ويستحب للإمام إذا خرج أن
يستخلف في المسجد من يصلي بضعفة الناس في الجامع لأن عليا رضي الله عنه استخلف أبا مسعود
البدري يصلي بضعفة الناس في المسجد رواه سعيد، وهل يصلي المستخلف ركعتين أم أربعا على
روايتين: إحداهما يصلي أربعا لما ذكرنا من قول علي، والثانية يصلى ركعتين وروي انه صلى أربعا
فإن كان عذر من مطر أو نحوه صلى في المسجد لما روى أبو هريرة قال أصابنا مطر في يوم عيد فصلى
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. رواه أبو داود
(فصل) ولا يشرع لها أذان ولا إقامة ولا نعلم في هذا خلافا إلا أنه روي عن ابن الزبير انه
235

أذن وأقام، وقيل أول من أذن في العيدين ابن زياد، وهذا يدل على انعقاد الاجماع قبله انه لا يسن ذلك
وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقد روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى
العيدين بغير أذان ولا إقامة وعن جابر مثله متفق عليهما، وعن عطاء قال أخبرني جابر ان لا أذان
للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج الإمام ولا إقامة ولا نداء ولا شئ، لا نداء يومئذ
ولا إقامة رواه مسلم، وقال بعض أصحابنا ينادى لها الصلاة جامعة وهو قول الشافعي والسنة أحق أن تتبع
* (مسألة) * (ويبدأ بالصلاة فيصلي ركعتين)
وجملة ذلك أنه يبدأ في العيد بالصلاة قبل الخطبة لا نعلم في ذلك خلافا إلا ما روي عن بني أمية
وقيل إنه يروى عن عثمان وابن الزبير انهما فعلا ذلك ولا يصح عنهما، وخلاف بني أمية مسبوق
بالاجماع فلا يعتد به ولأنه مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة ولخلفائه الراشدين
فإن ابن عمر قال إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا يصلون العيدين
236

قبل الخطبة. متفق عليه، وقد أنكر على بني أمية فعلهم وعد منكرا وبدعة فروي طارق بن شهاب
قال قدم مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال خالفت السنة كانت الخطبة بعد الصلاة، فقال
ترك ذلك يا أبا فلان: فقام أبو سعيد فقال أما هذا المتكلم فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فلينكره بلسانه فمن لم يستطع فلينكره بقلبه
وذلك أضعف الايمان " رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق، ورواه مسلم
بمعناه. فعلى هذا من خطب قبل الصلاة فهو كمن لم يخطب لأنه خطب في غير محل الخطبة أشبه ما لو
خطب في الجمعة بعد الصلاة
(فصل) ولا خلاف بين أهل العلم أن صلاة العيد ركعتان وذلك المتواتر عن النبي صلى الله عليه
وسلم انه فعل ذلك وفعله الأئمة بعده وقد قال عمر رضي الله عنه: صلاة العيد ركعتان تمام غير قصر
على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى
237

* (مسألة) * (يكبر في الأولى بعد الاستفتاح وقبل التعوذ ستا وفي الثانية بعد القيام من السجود خمسا)
السنة أن يستفتح بعد تكبيرة الاحرام ثم يكبر تكبيرات العيد ثم يتعوذ ثم يقرأ. هذا المشهور
في المذهب ومذهب الشافعي، وعن الإمام أحمد ان الاستفتاح بعد التكبيرات اختارها الخلال
وصاحبه وهو قول الأوزاعي لأن الاستفتاح يلي الاستعاذة. قال أبو يوسف يتعوذ قبل التكبير لئلا
يفصل بين الاستفتاح والاستعاذة
ولنا ان الاستفتاح يشرع لافتتاح الصلاة فكان في أولها كسائر الصلوات والاستعاذة شرعت
للقراءة فهي تابعة لها فتكون عند الابتداء بها لقول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان
الرجيم) وإنما جمع بينهما في سائر الصلوات لأن القراءة تلي الاستفتاح من غير فاصل فلزم أن يليه
ما يكون في أولها بخلاف مسئلتنا وأيما فعل كان جائزا
(فصل) وعدد التكبيرات في الركعة الأولى ست تكبيرات غير تكبيرة الاحرام، وفي الثانية
خمس سوى تكبيرة القيام نص عليه أحمد فقال يكبر في الأولى سبعا مع تكبيرة الاحرام ولا يعتد
بتكبيرة الركوع لأن بينهما قراءة ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات ولا يعتد بتكبيرة النهوض
ثم يقرأ في الثانية ثم يكبر ويركع وروي ذلك عن فقهاء المدينة السبعة وعمر بن عبد العزيز والزهري
ومالك والمزني، وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وابن عمر ويحيى الأنصاري قالوا
يكبر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا وبه قال الشافعي وأسحق إلا انهم قالوا يكبر سبعا في الأولى
سوى تكبيرة الاحرام لقول عائشة رضي الله عنها وعن أبيها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يكبر في العيدين اثنتي عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الافتتاح رواه الدارقطني، وروي عن ابن عباس
وأنس والمغيرة بن شعبة وسعيد بن المسيب والنخعي يكبر سبعا. وقال أبو حنيفة والثوري في الأولى
238

والثانية ثلاث ثلاث لما روى أبو موسى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر تكبيره على الجنازة
ويوالي بين القراءتين رواه أبو داود، وروى أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى وحذيفة كيف
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى كان يكبر أربعا تكبيره
على الجنازة. فقال حذيفة صدق
ولنا ما روى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين
في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة رواه الأثرم وابن ماجة والترمذي وقال
هو حديث حسن وهو أحسن حديث في الباب، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمسا سوى تكبيرتي الركوع رواه
أبو داود. قال ابن عبد البر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة حسان انه كبر
في العيد سبعا في الأولى وخمسا في الثانية من حديث عبد الله بن عمرو وابن عمر وجابر وعائشة
وأبي واقد وعمرو بن عوف ولم يرو عنه من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا وهو أولى ما عمل به
وحديث عائشة المعروف عنها كما رويناه وحديثهم إنما رواه الدارقطني من رواية ابن لهيعة، وحديث
أبي موسى ضعيف يرويه أبو عائشة جليس لأبي هريرة وهو غير معروف والله أعلم
* (مسألة) * (ويرفع يديه مع كل تكبيرة)
يستحب أن يرفع يديه في حال تكبيره كرفعهما مع تكبيرة الاحرام وبه قال عطاء والأوزاعي
وأبو حنيفة والشافعي. وقال مالك والثوري لا يرفعهما فيما عدا تكبيرة الاحرام لأنها تكبيرات في
أثناء الصلاة أشبهت تكبيرات الركوع
239

ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير. قال أحمد أما أنا فأرى أن
هذا الحديث يدخل فيه هذا كله. وروي عن ابن عمر انه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنازة
وفي العيد رواه الأثرم ولم يعرف له مخالف في الصحابة. فأما تكبيرات الركوع قلنا فيها منع، وإن سلم
فلان هذه يقع طرفاها في حال القيام فهي بمنزلة تكبيرة الافتتاح والله أعلم
* (مسألة) * (ويقول الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله
على محمد النبي وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وإن أحب قال غير ذلك)
وجملة ذلك أنه متى فرغ من الاستفتاح في صلاة العيد حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله
عليه وسلم ثم فعل ذلك بين كل تكبيرتين وإن قال ما ذكرها هنا فحسن لكونه يجمع ذلك كله، وإن
قال غيره نحو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أو ما شاء من الذكر فجائز وبهذا قال
الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي يكبر متواليا لا ذكر بينه لأنه لو كان بينه ذكر مشروع
240

لنقل كما نقل التكبير ولأنه ذكر من جنس مسنون فكان متواليا كالتسبيح في الركوع والسجود
ولنا ما روى علقمة ان عبد الله بن مسعود وحذيفة وأبا موسى خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل
العيد يوما فقال لهم إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح
بها الصلاة وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم
تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم
تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تقرأ ثم تكبر وتركع ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على النبي
صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تركع. فقال حذيفة
وأبو موسى صدق أبو عبد الرحمن رواه الأثرم، ولأنها تكبيرات حال القيام فاستحب أن يتخللها ذكر
كتكبيرات الجنازة وتفارق التسبيح فإنه ذكر يخفى ولا يظهر بخلاف التكبير، وقياسهم ينتقض بتكبيرات
الجنازة. قال القاضي يقف بين كل تكبيرتين بقدر آية متوسطة وهذا قول الشافعي
* (مسألة) * (ثم يقرأ بعد الفاتحة في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية ويجهر بالقراءة)
لا خلاف بين أهل العلم في أنه يشرع أن يقرأ في كل ركعة من صلاة العيد بفاتحة الكتاب
وسورة وانه يسن الجهر في القراءة فيما نعلم إلا أنه روي عن علي انه كان إذا قرأ في العيدين أسمع من
يليه ولم يجهر ذلك الجهر. وقال ابن المنذر أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة، وفي أخبار من
أخبر بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فيها دليل على أنه كان يجهر ولأنها صلاة عيد أشبهت الجمعة.
ويستحب أن يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الاعلى وفي الثانية بالغاشية نص عليه أحمد لأن
النعمان بن بشير قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الاعلى
241

وهل أتاك حديث الغاشية وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما رواه مسلم. وقال الشافعي يقرأ بقاف
واقتربت وحكاه ابن أبي موسى عن أحمد لما روي أن عمر سأل أبا واقد الليثي ماذا كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرأ به في الفطر والأضحى؟ فقال كان يقرأ بقاف والقرآن المجيد واقتربت الساعة
وانشق القمر رواه مسلم. قال أبو حنيفة ليس فيه شئ مؤقت وحكاه ابن عقيل رواية عن أحمد،
وكان ابن مسعود يقرأ بالفاتحة وسورة من المفصل ومهما قرأ به كان حسنا إلا أن ما ذكرناه أحسن
لأنه كان مذهبا لعمر رضي الله عنه وعمل به ولأنه قد رواه مع النعمان ابن عباس وسمرة ولان في
(سبح) الحث عل الصلاة وزكاة الفطر على ما قاله سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في تفسير قوله
تعالى (قد أفلح من تزكى) فاختصت الفضيلة به كاختصاص الجمعة بسورتها
* (مسألة) * (وتكون بعد التكبير في الركعتين وعنه يوالي بين القراءتين)
المشهور عن أحمد رحمه الله أن القراءة تكون بعد التكبير في الركعتين روي ذلك عن أبي هريرة
والفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والشافعي والليث، وروى عن أحمد انه يوالي
بين القراءتين ومعناه انه يكبر في الأولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها اختارها أبو بكر وروي
ذلك عن ابن مسعود وحذيفة وأبي موسى وأبي مسعود البدري والحسن وابن سيرين والثوري وهو
قول أصحاب الرأي لما ذكرنا من حديث ابن مسعود، وعن أبي موسى قال كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يكبر تكبيره على الجنازة ويوالي بين القراءتين رواه أبو داود
ولنا ما روت عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين سبعا وخمسا قبل القراءة
رواه أحمد في المسند. وعن عبد الله بن عمر قال قال نبي الله صلى الله عليه وسلم " التكبير في الفطر
242

سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما رواه أبو داود والأثرم ورواه ابن ماجة
عن سعد مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وحديث أبي موسى ضعيف قاله الخطابي وليس
في رواية أبي داود انه والى بين القراءتين
* (مسألة) * (فإذا سلم خطب خطبتين يجلس بينهما يفتتح الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبع
يحثهم في خطبة الفطر على الصدقة ويبين لهم ما يخرجون، ويرغبهم في الأضحية في الأضحى ويبين
لهم حكم الأضحية)
الخطبتان مشروعتان بعد صلاة العيد ويستحب الجلوس بينهما لما روى جابر قال: خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائما ثم قعد قعدة ثم قام رواه ابن ماجة ويكونان
بعد الصلاة وقد ذكرنا ذلك وصفتها كصفة خطبتي الجمعة قياسا عليهما إلا أنه يستفتح الأولى بتسع
تكبيرات متواليات، والثانية بسبع متواليات. قال القاضي وإن جعل بينهما تهليلا أو ذكرا فحسن
243

لما روى سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله قال يكبر الإمام يوم العيد
على المنبر قبل أن يخطب بتسع تكبيرات ثم يخطب وفي الثانية بسبع تكبيرات، وروى عنه أنه قال
هو من السنة ذكره البغوي. ويستحب أن يكثر التكبير في اضعاف خطبته لما روى سعد مؤذن النبي
صلى الله عليه وسلم انه صلى الله عليه وسلم كان يكثر التكبير في خطبة العيدين بين اضعاف الخطبة رواه
ابن ماجة (1) وإذا كبر في أثناء الخطبة كبر الناس بتكبيره. وقد روي عن أبي موسى انه كان يكبر
يوم العيد على المنبر ثلاثين أو أربعين تكبيرة، ويستحب أن يجلس إذا صعد المنبر قبل الخطبة ليستريح
كالجمعة وقيل لا يجلس لأن الجلوس في الجمعة للاذان ولا أذان ها هنا
(فصل) فإن كان فطرا يحثهم على الصدقة ويبين لهم وجوب صدقة الفطر وثوابها وقدر المخرج
وجنسه وعلى من تجب ووقتها، وإن كان أضحى ذكر لهم الأضحية وفضلها وتأكد استحبابها وما
يجزي منها وما لا يجزي ووقت الذبح وصفة تفريقها وما يقول عند ذبحها ليعملوا بذلك. وقد روى
أبو سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة فإذا
صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس أو
كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها كان يقول " تصدقوا تصدقوا " وكان أكثر من يتصدق النساء
متفق عليه واللفظ لمسلم. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ذبح قبل الصلاة
فليذبح مكانها أخرى، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وقد أصاب سنة المسلمين "

(1) هو ضعيف ولفظه محرف وصوابه كما في المغني أعلاه
244

* (مسألة) * (والتكبيرات الزوائد والذكر بينهما والخطبتان سنة) لا تبطل بتركه الصلاة عمدا ولا
سهوا بغير خلاف علمناه، فإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة لم يعد إليه، ذكره ابن عقيل وهو
أحد قولي الشافعي لأنه سنة فلم يعد إليه بعد الشروع في القراءة كالاستفتاح. وقال القاضي فيه وجه
آخر أنه يعود إليه وهو قول مالك وأبي ثور والقول الثاني للشافعي لأنه ذكره في محله فيأتي به كما
قبل الشروع في القراءة لأن محله القيام وقد ذكره فيه. فعلى هذا يقطع القراءة ويكبر ثم يستأنفها
لأنه قطعها متعمدا بذكر طويل، وإن كان المنسي يسيرا احتمل أن يبنى لأنه يسير أشبه ما لو قطعها
بقول أمين، واحتمل أن يبتدئ لأن محل التكبير قبل القراءة ومحل القراءة بعد التكبير، فإن ذكر
التكبير بعد القراءة فأتى به لم يعد القراءة لأنها وقعت موقعها، وإن لم يذكره حتى ركع سقط وجها
واحدا لفوات محله، وكذلك المسبوق إذا أدرك الركوع لم يكبر فيه. وقال أبو حنيفة يكبر فيه لأنه
بمنزلة القيام بدليل ادراك الركعة به
ولنا انه ذكر مسنون حال القيام فلم يأت به في الركوع كالاستفتاح وقراءة السورة والقنوت عنده
وإنما أدرك الركعة بادراكه لأنه أدرك معظمها ولم يفته إلا القيام وقد حصل منه ما يجزي في تكبيرة
الاحرام. وأما المسبوق إذا أدرك الإمام بعد تكبيره فقال ابن عقيل يكبر لأنه أدرك محله، ويحتمل
ألا يكبر لأنه مأمور بالانصات لقراءة الإمام. فعلى هذا إن كان يسمع أنصت وإن كان بعيدا كبر
(فصل) وإذا شك في عدد الركعات بنى على اليقين فإن كبر ثم شك هل نوى تكبيرة الاحرام
245

أو لا ابتدأ الصلاة هو والمأمومون لأن الأصل عدم النية إلا أن يكون وسواسا فلا يلتفت إليه
(فصل) والخطبتان سنة لا يجب حضورها ولا استماعها لما روى عبد الله بن السائب قال شهدت
مع رسول الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال " إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس
ومن أحب أن يذهب فليذهب " رواه أبو داود وقال هو مرسل ورواه ابن ماجة والنسائي. قال شيخنا
وإنما أخرت الخطبة عن الصلاة والله أعلم لأنها لما لم تكن واجبة جعلت في وقت يتمكن من أراد تركها
من تركها بخلاف خطبة الجمعة. وذكر ابن عقيل في وجوب الانصات لها روايتين: إحداهما يجب كالجمعة
والثاني لا يجب لأن الخطبة غير واجبة فلم يجب الانصات لها كسائر السنن والأذكار والاستماع لها
أفضل وقد روي عن الحسن وابن سيرين انهما كرها الكلام يوم العيد والإمام يخطب. وقال إبراهيم
يخطب الإمام يوم العيد قدر ما يرجع النساء إلى بيوتهن، وهذا يدل على أنه لا يستحب لهن الجلوس لاستماع
الخطبة لئلا يختلطن بالرجال، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في موعظته النساء بعد فراغه من
خطبته دليل على انهن لم ينصرفن، وسنته صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع
(فصل) ويستحب أن يخطب قائما لما روى جابر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
فطر أو أضحى فخطب قائما ثم قعد ثم قام رواه ابن ماجة، وإن خطب قاعدا فلا بأس لأنها غير واجبة
أشبهت صلاة النافلة، وإن خطب على راحلته فحسن لما روى سلمة بن نبيط عن أبيه انه حج فقال
246

رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على بعيره رواه ابن ماجة. وعن أبي جميلة قال رأيت عليا عليه
السلام صلى يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم خطب على دابته، ورأيت عثمان بن عفان رضي الله
عنه يخطب على راحلته رواه سعيد
* (مسألة) * (ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها في موضع الصلاة)
يكره التنفل قبل صلاة العيد وبعدها في موضع الصلاة للإمام والمأموم سواء كان في المصلى أو
المسجد وهو مذهب ابن عباس وابن عمر، وروي عن علي وابن مسعود وحذيفة وبريدة وسلمة بن
الأكوع وجابر وابن أبي أوفى وبه قال شريح وعبد الله بن مغفل ومسروق والضحاك والقاسم والشعبي
قال الزهري لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر ان أحدا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك ولا
بعدها يعني صلاة العيد. وقال ما صلى قبل العيد بدري ونهى عنه أبو مسعود البدري. وروي أن
عليا رضي الله عنه رأى قوما يصلون قبل العيد فقال ما كان هذا يفعل على عهد رسول الله عليه وسلم.
قال أحمد: أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ويتطوعون بعدها وهذا قول علقمة والأسود ومجاهد والنخعي
والثوري وأصحاب الرأي، وقال مالك كقولنا في المصلى وله في المسجد روايتان: إحداهما يتطوع
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " وقال
247

الشافعي يكره ذلك للإمام لأنه يستحب له التشاغل عن الصلاة ولا يكره للمأموم لأنه وقت لم ينه
عن الصلاة فيه أشبه ما بعد الزوال
ولنا ما روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل
قبلهما ولا بعدهما متفق عليه ولأنه اجماع كما حكاه الزهري وغيره ولأنه وقت نهى الإمام عن التنفل
فيه فكره للمأموم كسائر أوقات النهى وكما قبل الصلاة عند أبي حنيفة وكما لو كان في المصلى عند مالك
والحديث الذي ذكره مالك مخصوص بما ذكرنا من المعنى. وقال الأثرم قلت لأحمد قال سليمان بن
حرب إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التطوع لأنه كان إماما، قال أحمد فالذين رووا هذا عن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يتطوعوا، ثم قال: ابن عمر وابن عباس هما روياه وأخذا به يشير والله أعلم
إلى أن عمل راوي الحديث به تفسير له وتفسيره يقدم على تفسير غيره ولو كانت الكراهة للإمام
كيلا يشتغل عن الصلاة لاختصت بما قبل الصلاة إذ لم يبق بعدها ما يشتغل به، وقد روى عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في صلاة العيد سبعا وخمسا ويقول:
" لا صلاة قبلها ولا بعدها " رواه ابن بطة باسناده
(فصل) قيل لأحمد فإن كان لرجل صلاة في ذلك الوقت قال أخاف أن يقتدى به. قال ابن
248

عقيل كره أحمد أن يتعمد لقضاء صلاة وقال أخاف أن يقتدوا به
(فصل) وإنما يكره التنفل في موضع الصلاة فأما في غيره فلا بأس به، وكذلك لو خرج منه
ثم عاد إليه بعد الصلاة. قال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول روي عن ابن عمر وابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها ورأيته يصلي بعدها ركعات في البيت وربما صلاها في
الطريق يدخل بعض المساجد. وروي عن أبي سعيد قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل
العيد شيئا فإذا دخل إلى منزله صلى ركعتين رواه ابن ماجة
* (مسألة) * (ومن كبر قبل سلام الإمام صلى ما فاته على صفته)
لأنه أدرك بعض الصلاة التي ليست مبدلة من أربع فقضاها على صفتها كسائر الصلوات، وإن
أدرك معه ركعة وقلنا ما يقضيه المسبوق أول صلاته كبر في الذي يقضيه سبعا، وان قلنا أخر صلاته
كبر خمسا على ما ذكرنا من الاختلاف من قبل
(فصل) فإن أدركه في الخطبة فإن كان في المسجد فقال شيخنا يصلي تحية المسجد لأنها إذا
صليت في خطبة الجمعة مع وجوب الانصات لها ففي خطبة العيد أولى، ولا يكون حكمه في ترك التحية
249

حكم من أدرك العيد. وقال القاضي يجلس ويستمع الخطبة ولا يصلي لما ذكرنا من الأدلة قبل ولان
صلاة العيد تفارق صلاة الجمعة لأن التطوع قبلها وبعدها مكروه بخلاف صلاة الجمعة، وان لم يكن في
المسجد جلس فاستمع ولم يصل لئلا يشتغل عن استماع الخطبة ثم إن أحب قضاء صلاة العيد قضاها على ما نذكره
* (مسألة) * (وإن فاتته الصلاة استحب أن يقضيها على صفتها وعنه يقضيها أربعا وعنه انه
مخير بين ركعتين وأربع)
وجملة ذلك أنه لا يجب قضاء صلاة العيد على من فاتته لأنها فرض كفاية وقد قام بها من حصلت
به الكفاية وان أحب قضاءها استحب له أن يقضيها على صفتها نقل ذلك عن أحمد إسماعيل بن سعيد
واختاره الجوزجاني وهو قول النخعي ومالك والشافعي وأبي ثور لما روي عن أنس انه كان إذا لم
يشهد العيد مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فيصلي بهم ركعتين
يكبر فيهما ولأنها قضاء صلاة فكانت على صفتها كسائر الصلوات وهو مخير إن شاء صلاها في جماعة
كما ذكرنا عن أنس وان شاء صلاها وحده وعنه انه يقضيها أربعا اما بسلام واحد أو بسلامين وهو
قول الثوري لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال من فاته العيد فليصل أربعا. وروي عن علي أنه قال
إن أمرت رجلا أن يصلي بضعفة الناس أمرته أن يصلي أربعا رواهما سعيد ولأنه قضاء صلاة عيد
فكانت أربعا كقضاء الجمعة، وعنه انه مخير بين ركعتين وأربع وهذا قول الأوزاعي لأنها صلاة
تطوع أشبهت صلاة الضحى * (مسألة) * (ويستحب التكبير في ليلتي العيدين)
250

يستحب اظهار التكبير في ليلتي العيدين في المساجد والطرق والأسواق والمسافر والمقيم فيه سوءا
لقوله تعالى (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) قال بعض أهل العلم لتكملوا عدة رمضان
ولتكبروا الله عند كماله على ما هداكم، ويستحب رفع الصوت به وإنما استحب ذلك لما فيه من اظهار
شعائر الاسلام وتذكير الغير، وكان ابن عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر
أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا. قال أحمد كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعا. والتكبير في الفطر
آكد لورود النص فيه وليس التكبير واجبا. وقال داود هو واجب في الفطر لظاهر الآية
ولنا انه يكبر في عيد فلم يكن واجبا كتكبير الأضحى، والآية ليس فيها أمر إنما أخبر الله تعالى
عن ارادته فقال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) إلى قوله (ولتكبروا الله على ما هداكم)
ويستحب أن يكبر في طريق العيد ويجهر بالتكبير. قال ابن أبي موسى يكبر الناس في خروجهم من
منازلهم لصلاتي العيدين جهرا حتى يأتي الإمام المصلى فيكبر الناس بتكبير الإمام في خطبته وينصتون
فيما سوى ذلك. وقد روى سعيد باسناده عن ابن عمر انه كان إذا خرج من بيته إلى العيد كبر حتى
يأتي المصلى، وروي عن سعيد بن جبير وابن أبي ليلى. قال القاضي التكبير في الفطر مطلق غير
مقيد على ظاهر كلامه يعني لا يختص بأدبار الصلوات وهو ظاهر كلام الخرقي لأن قوله تعالى (ولتكملوا
العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) غير مختص بوقت. وقال أبو الخطاب يكبر من غروب الشمس من ليلة
الفطر إلى خروج الإمام إلى الصلاة في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي، وفي الأخرى إلى
فراغ الإمام من الصلاة
* (مسألة) * (وفي الأضحى يكبر عقيب كل فريضة في جماعة وعنه يكبر، وإن كان وحده من
251

صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق)
وجملة ذلك أن التكبير في الأضحى مطلق ومقيد فالمطلق التكبير في جميع الأوقات من أول العشر
إلى آخر أيام التشريق لقوله تعالى (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) وقال (واذكروا الله في
أيام معدودات) فالأيام المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق قاله ابن عباس. قال
البخاري كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما
وروي أن ابن عمر كان يكبر بمنى في تلك الأيام خلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه
وممشاه تلك الأيام جميعا ويكبر في قبته حتى ترتج منى تكبيرا
(فصل) وأما المقيد فهو التكبير في ادبار الصلوات ولا خلاف بين العلماء في مشروعية التكبير
في عيد النحر وإنما اختلفوا في مدته فذهب أحمد رحمه الله إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر
من آخر أيام التشريق وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم واليه ذهب
الثوري وابن عيينة وأبو يوسف ومحمد وهو قول للشافعي. وعن ابن مسعود انه كان يكبر من غداة
عرفة إلى العصر من يوم النحر واليه ذهب النخعي وعلقمة وأبو حنيفة لقوله تعالى (ويذكروا
اسم الله في أيام معلومات) وهي أيام العشر، وأجمعنا على أنه لا يكبر قبل عرفة فلم يبق إلا يوم عرفة
ويوم النحر. وعن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز ان التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الفجر من
252

آخر أيام التشريق وبه قال مالك والشافعي في المشهور عنه لأن الناس تبع للحاج يقطعون التلبية مع
أول حصاة ويكبرون مع الرمي وإنما يرمون يوم النحر، وأول صلاة بعد ذلك الظهر وآخر صلاة بمنى
الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق
ولنا ما روى جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة أقبل
على أصحابه فيقول " على مكانكم " ويقول الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر
ولله الحمد " فيكبر من غداة عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. وعن علي وعمار ان النبي صلى الله
عليه وسلم كان يكبر يوم عرفة صلاة الغداة ويقطعها صلاة العصر آخر أيام التشريق رواهما الدارقطني
إلا انهما من رواية عمر بن شمر عن جابر الجعفي وقد ضعفا ولأنه قول عمر وعلي وابن عباس رواه
سعيد عنهم. قيل لأحمد بأي حديث تذهب إلى التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام
التشريق؟ قال لاجماع عمر وعلي وابن عباس ولان الله تعالى قال (واذكروا الله في أيام معدودات)
وهي أيام التشريق فيتعين الذكر في جميعها، وأما قوله تعالى (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)
فمحول على ذكر الله على الهدايا والأضاحي عند رؤيتها فإنه مستحب في جميع العشر وهو أولى من
تفسيرهم لأنهم لم يعملوا به في كل العشر ولا في أكثره، ولو صح تفسيرهم فقد أمر الله بالذكر في أيام
معدودات وهي أيام التشريق فيعمل به أيضا، وأما المحرم فإنما لم يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة
253

لاشتغاله عنها بالتلبية كما ذكروا، وغيره يبتدئ من غداة يوم عرفة لعدم المنافع، وقولهم ان الناس في
هذا تبع للحاج مجرد دعوى بغير دليل وقولهم ان آخر صلاة يصلونها بمنى الفجر من آخر أيام التشريق
ممنوع لأن الرمي إنما يكون بعد الزوال
(فصل) والتكبير المقيد إنما يكون عقيب الصلوات المكتوبات في الجماعات في المشهور عن
أحمد. قال الأثرم قلت لأبي عبد الله اذهب إلى فعل ابن عمر انه كان يكبر إذا صلى وحده؟ قال
نعم. وقال ابن مسعود إنما التكبير على من صلى في جماعة وهذا مذهب الثوري وأبي حنيفة وعنه
رواية أخرى انه يكبر عقيب الفرائض وإن كان وحده وهذا مذهب مالك لأنه ذكر مستحب
للمسبوق فاستحب للمنفرد كالسلام. قال الشافعي يكبر عقيب كل صلاة فريضة كانت أو نافلة
منفردا أو في جماعة قياسا على الفرض في الجماعة. ولنا انه قول ابن مسعود وفعل ابن عمر ولا مخالف
لهما في الصحابة فكان اجماعا
(فصل) فأما المحرم فإنه يبتدئ التكبير من صلاة الظهر يوم النحر لأنه يكون مشغولا بالتلبية
قبل ذلك وأول صلاة بعد قطع التلبية الظهر
(فصل) والمسافرون كالمقيمين فيما ذكرنا لعموم النص. وحكم النساء حكم الرجال في انهن
يكبرن في الجماعة وفي الانفراد روايتان. وقال البخاري كان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان
254

وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد، وينبغي أن يخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن
الرجال، وعن أحمد انهن لا يكبرن لأنه ذكر يشرع فيه رفع الصوت فلم يشرع في حقهن كالاذان
(فصل) والمسبوق ببعض الصلاة يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته نص عليه أحمد وبه قال أكثر
أهل العلم. وقال الحسن يكبر ثم يقضي لأنه ذكر شرع في آخر الصلاة فيأتي به المسبوق قبل القضاء
كالتشهد. وعن مجاهد ومكحول يكبر ثم يقضي ثم يكبر لذلك
ولنا انه ذكر مشروع بعد الصلاة فلم يأت به في أثناء الصلاة كالتسليمة الثانية والدعاء بعدها
وإن كان على المصلي سجود سهو بعد السلام سجد ثم كبر وبه قال الثوري والشافعي وإسحق
وأصحاب الرأي لأنه سجود مشروع للصلاة فكان التكبير بعده وبعد تشهده كسجود صلبها
(فصل) وإذا فاتته صلاة من أيام التشريق أو من غيرها فقضاها فيها فحكمها حكم المؤداة في
التكبير لأنها مفروضة في أيام التشريق، وان فاتته في أيام التشريق فقضاها في غيرها لم يكبر لأن
التكبير مقيد بالوقت فلم يفعل في غيره كالتلبية، ويكبر مستقبل القبلة. قال أبو بكر وعليه العمل
وحكاه أحمد عن إبراهيم لأنه ذكر مختص بالصلاة أشبه الأذان والإقامة، ويحتمل أن يكبر كيفما
شاء لما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم فقال " الله أكبر الله أكبر "
* (مسألة) * (وإن نسي التكبير قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد لأنه مختص بالصلاة)
أشبه سجود السهو، فعلى هذا إن ذكره في المسجد بعد أن قام عاد إلى مكانه فجلس واستقبل
القبلة فكبر وقال الشافعي يكبر ماشيا. قال شيخنا وهو أقيس لأنه ذكر مشروع بعد الصلاة أشبه
سائر الذكر، فإن ذكره بعد خروجه من المسجد لم يكبر لما ذكرنا وهو قول أصحاب الرأي، ويحتمل
أن يكبر لأنه ذكر بعد الصلاة فاستحب وإن خرج كالدعاء والذكر المشروع بعد الصلاة وإن
نسيه حتى أحدث فقال أصحابنا لا يكبر سواء أحدث عامدا أو ساهيا لأن الحدث يقطع الصلاة عمده
وسهوه، وبالغ ابن عقيل فقال إن تركه حتى تكلم لم يكبر
255

قال الشيخ والأولى إن شاء الله أنه يكبر لأن ذلك ذكر منفرد بعد سلام الإمام فلا يشترط
له الطهارة كسائر الذكر ولان اشتراط الطهارة إما بنص أو معناه ولم يوجد، وإن نسيه الإمام كبر
المأموم وهذا قول الثوري لأنه ذكر يتبع الصلاة أشبه سائر الذكر
* (مسألة) * (وفي التكبير عقيب العيد وجهان)
أحدهما يكبر اختاره أبو بكر. وقال القاضي: هو ظاهر كلام أحمد لأنها صلاة مفروضة في جماعة
256

فأشبهت الفجر. والثاني لا يسن قاله أبو الخطاب لأنها ليست من الصلوات الخمس أشبهت النوافل
والأول أولى لأن هذه الصلاة أخص بالعيد فكانت أحق بتكبيره
* (مسألة) * (وصفة التكبير شفعا الله أكبر الله أكبر لا إله الا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)
وهذا قول عمر وعلي وابن مسعود وبه قال الثوري وأبو حنيفة وإسحق وابن المبارك إلا أنه
زاد، على ما هدانا لقوله تعالى (ولتكبروا الله على ما هداكم) وقال مالك والشافعي يقول الله أكبر الله
أكبر الله أكبر ثلاثا لأن جابرا صلى في أيام التشريق فلما فرغ من صلاته قال الله أكبر الله أكبر
الله أكبر رواه ابن ماجة وهذا لا يقوله إلا توقيفا ولان التكبير شعار العيد فكان وترا كتكبير
الصلاة والخطبة
257

ولنا خبر جابر المذكور وهو نص في كيفية التكبير وانه قول الخليفتين الراشدين وقول ابن مسعود
وقول جابر لا يسمع مع قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقدم على قول أحد ممن ذكرنا فكيف قدموه
على قول الجميع مع تقدمهم عليه في الفضل والعلم وكثرتهم ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعا
كتكبير الاذان وقولهم ان جابرا لا يفعله إلا توقيفا لا يصح لوجوه أحدها انه قد روى خلاف قوله
فكيف يترك ما صرح به لاحتمال وجود ضده، والثاني انه إن كان قول توقيفا فقول من ذكرنا توقيف وهو مقدم
258

على قوله بما بينا، والثالث أن هذا ليس مذهبا لهم، الرابع ان قول الصحابي إنما يحمل على التوقيف
إذا خالف الأصول وذكر الله تعالى لا يخالف الأصل لا سيما إذا كان وترا
(فصل) ولا بأس أن يقول للرجل في يوم العيد تقبل الله منا ومنك. قال حرب سألت أحمد
عن قول الناس في العيدين تقبل الله منا ومنكم؟ قال لا بأس به يرويه أهل الشام عن أبي أمامة قيل
وواثلة بن الأسقع؟ قال نعم. وذكر ابن عقيل في ذلك أحاديث منها ان محمد بن زياد قال كنت
مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول
بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك، وقال اسناد حديث أبي أمامة اسناد جيد. قال مالك لم نزل
نعرف هذا بالمدينة، وروي عن أحمد أنه قال لا ابتدئ به أحدا وان قاله أحد رددت عليه
(فصل) ولا بأس بالتعريف عشية عرفة بالامصار ذكره القاضي. وقال الأثرم سألت أبا عبد الله
259

عن التعريف بالامصار يجتمعون في المساجد يوم عرفة؟ قال أرجو ألا يكون به بأس قد فعله غير
260

واحد، وروى الأثرم عن الحسن قال: أول من عرف بالبصرة ابن عباس رحمه الله. وقال أحمد أول
261

من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث، وقال أحمد لا بأس به إنما هو دعاء وذكر الله. وقال
262

الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة، قيل له فتفعله أنت؟ قال أما
أنا فلا، وروي عن يحيى بن معين انه حضر مع الناس عشية عرفة
263

(فصل) ويستحب الاجتهاد في عمل الخير أيام العشر من الذكر والصيام والصدقة وسائر أعمال
264

البر لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما العمل في أيام أفضل منها في
265

هذه " يعني أيام العشر. قالوا ولا الجهاد؟ قال " ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم
266

يرجع بشئ " رواه البخاري. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أيام
267

أعظم عند الله تعالى ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل
268

والتكبير والتحميد " رواه الإمام أحمد.
269

.
270

.
271

.
272

* (باب صلاة الكسوف) *
الكسوف والخسوف شئ واحد وكلاهما قد وردت به الاخبار القرآن بلفظ الخسوف
* (مسألة) * (وإذا كسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة جماعه وفرادى باذن الإمام (1) وغير إذنه)
صلاة الكسوف سنة مؤكدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها ولا نعلم خلافا بين
أهل العلم في مشروعيتها لكسوف الشمس. فأما خسوف القمر فأكثر أهل العلم على أنها مشروعة له
فعلها ابن عباس وبه قال عطاء والحسن والنخعي والشافعي وإسحق، وقال مالك ليس لكسوف القمر
سنة وحكى عنه ابن عبد البر. وعن أبي حنيفة انهما قالا يصلي الناس لخسوف القمر وحدانا ركعتين
ركعتين ولا يصلون جماعة لأن في خروجهم إليها مشقة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد
ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا " متفق عليه. فأمر بالصلاة لهما أمرا واحدا. وعن ابن عباس انه
صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين وقال إنما صليت لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلي، ولأنه أحد الكسوفين فأشبه كسوف الشمس، ويسن فعلها جماعة وفرادى وبه قال مالك
والشافعي. وحكي عن الثوري أنه قال إن صلاها الإمام فصلوها معه وإلا فلا.

(1) يعني الإمام الأعظم وهو السلطان
273

ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " فإذا رأيتموها فصلوا " ولأنها نافلة فجازت في الانفراد كسائر
النوافل، وفعلها في الجماعة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في جماعة. والسنة أن يصليها في
المسجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها فيه لقول عائشة: خسفت الشمس في حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه رواه. البخاري، ولان وقت الكسوف يضيق
فلو خرج إلى المصلى احتمل التجلي قبل فعلها، ويشرع في الحضر والسفر باذن الإمام وغير إذنه.
وقال أبو بكر هي كصلاة العيد، فيها روايتان
ولنا عموم قوله عليه السلام " فإذا رأيتموها فصلوا " ولأنها نافلة أشبهت سائر النوافل. وتشرع
في حق النساء لأن عائشة وأسماء صلتا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري، ويسن أن
ينادى لها الصلاة جامعة لما روى عبد الله بن عمرو قال لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله
علية وسلم نودي بالصلاة جامعة متفق عليه. ولا يسن لها أذان ولا إقامة لأن النبي صلى الله عليه وسلم
صلاها بغير أذان ولا إقامة ولأنها من غير الصلوات الخمس أشبهت سائر النوافل
* (مسألة) * (ثم يصلي ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة طويلة ويجهر بالقراءة ثم يركع
ركوعا طويلا ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة ويطيل وهو دون القيام الأول ثم يركع
274

ويطيل وهو دون الركوع الأول ثم يرفع ثم يسجد سجدتين طويلتين ثم يقوم إلى الثانية فيفعل مثل
ذلك ثم يتشهد ويسلم)
المستحب في صلاة الكسوف أن يصلي ركعتين يكبر تكبيرة الاحرام ثم يستفتح ويستعيذ ويقرأ
الفاتحة وسورة البقرة أو قدرها، ثم يركع فيسبح قدر مائة آية ثم يرفع فيقول سمع الله لمن حمده ربنا
ولك الحمد، ثم يقرأ الفاتحة وآل عمران أو قدرها ثم يركع فيسبح نحوا من سبعين آية ثم يرفع فيسمع
ويحمد ثم يسجد سجدتين فيطيل السجود نحوا من الركوع ثم يقوم إلى الثانية فيقرأ الفاتحة وسورة
النساء أو نحوها ثم يركع فيسبح نحوا من خمسين آية ثم يرفع ويسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة
ثم يركع فيطيل دون الذي قبله ثم يرفع ثم يسجد سجدتين طويلتين ثم يتشهد ويسلم ويجهر بالقراءة
ليلا كان أو نهارا، وليس هذا التقدير في القراءة منقولا عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى ولكن قد
نقل عنه ان الأولى أطول من الثانية
وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قام قياما طويلا نحوا
من سورة البقرة متفق عليه. وفي حديث لعائشة حزرت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت أنه
قرأ في الركعة الأولى سورة البقرة وفي الثانية سورة آل عمران وبهذا قال مالك والشافعي إلا
انهما قالا لا يطيل السجود حكاه ابن المنذر عنهما لأن ذلك لم ينقل وقالا: لا يجهر في كسوف الشمس
275

ويجهر في كسوف القمر ووافقهم أبو حنيفة لقول عائشة حزرت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولو جهر بالقراءة لم يحتج إلى الحزر، وكذلك قال ابن عباس قام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة
ولأنها صلاة نهار فلم يجهر فيها كالظهر. وفي حديث سمرة قال فلم أسمع له صوتا. قال الترمذي هذا
حديث صحيح. وقال أبو حنيفة يصلي ركعتين كصلاة التطوع لما روى النعمان بن بشير قال انكسفت
الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكان يصلي ركعتين حتى انجلت الشمس رواه
أحمد، وروى قبيصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة
صليتموها من المكتوبة "
ولنا على أنه يطيل السجود أن في حديث عائشة ثم رفع ثم سجد سجودا طويلا ثم قام قياما طويلا وهو
دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد سجودا طويلا وهو
دون السجود الأول. رواه البخاري. وفي حديث عبد الله بن عمرو في صفة صلاة الكسوف ثم سجد
فلم يكد يرفع رواه أبو داود. وترك ذكره في حديث لا يمنع مشروعيته إذا ثبت عن النبي صلى الله
عليه: وأما الجهر فروي عن علي رضي الله عنه انه فعله وهو مذهب أبي يوسف وإسحق وابن المنذر
لما روت عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف متفق عليه. وعنها أيضا أن النبي
صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف وجهر فيها. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولأنها
276

نافلة شرعت لها الجماعة فكان من سنتها الجهر كصلاة الاستسقاء. فأما قول عائشة حزرت قراءته
ففي اسناده مقال لأنه من رواية ابن إسحاق، ويحتمل أن تكون سمعت صوته ولم تفهم للبعد أو قرأ
من غير أول القرآن بقدر البقرة، ثم حديثنا صحيح صريح فكيف يعارض بمثل هذا، وحديث سمرة
محمول على أنه لم يسمع لبعده فإن في حديثه ما يدل على هذا، وهو أنه قال دفعته إلى المسجد وهو بازر
يعني وهو مغتص بالزحام. ثم إن هذا نفي يحتمل أمورا كثيرة فكيف يترك لأجله الحديث الصحيح
وقياسهم منتقض بما ذكرنا من القياس
والدليل على صفة الصلاة التي ذكرناها ما روت عائشة قالت: خسفت الشمس في حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه
فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه فقال سمع
الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة وهي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع
ركوعا طويلا وهو أدنى من الركوع الأول ثم قال سمع الله لمن حمده وربنا ولك الحمد، ثم سجد ثم
فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل
277

أن ينصرف. وعن ابن عباس مثل ذلك وفيه انه قام في الأولى قياما طويلا نحوا من سورة البقرة متفق
عليهما. فأما أحاديثهم فغير معمول بها باتفاقنا فإنهم قالوا يصلي ركعتين، وحديث النعمان فيه انه
يصلي ركعتين، وحديث قبيصة مرسل وحديث النعمان يحتمل انه صلى ركعتين في كل ركعة ركوعين
لأن فيه جمعا بين الأحاديث ولو قدر التعارض كانت أحاديثنا أولى لصحتها وشهرتها واشتمالها على
الزيادة والزيادة من الثقة مقبولة
(فصل) ومهما قرأ به جاز سواء كانت القراءة طويلة أو قصيرة لما روت عائشة ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات في أربع سجدات وقرأ في
الأولى بالعنكبوت والروم وفي الثانية بيس أخرجه الدارقطني
(فصل) وقال أصحابنا لا خطبة لصلاة الكسوف ولم يبلغنا عن أحمد رحمه الله في ذلك شئ.
وهذا مذهب مالك وأصحاب الرأي، وقال إسحق وابن المنذر يخطب الإمام بعد الصلاة، قال
الشافعي يخطب كخطبتي الجمعة لأن في حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم انصرف وقد
278

انجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال " ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله
عز وجل لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا "
ثم قال " يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " متفق عليه
ولنا ان في هذا الخبر ما يدل على أن الخطبة لا تشرع لها لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة
والدعاء والتكبير والصدقة ولم يأمرهم بخطبة، ولو كانت سنة لأمرهم بها وإنما خطب النبي صلى الله
عليه وسلم بعد الصلاة ليعلمهم حكمها، وهذا مختص به ليس في الخبر ما يدل على أنه خطب خطبتي
الجمعة، واستحب ذكر الله تعالى والدعاء والتكبير والاستغفار والصدقة والعتق والتقرب إلى الله
تعالى بما استطاع للخبر المذكور، وفي خبر أبي موسى فافزعوا إلى ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره
وروي عن أسماء انها قالت إنا كنا لنؤمر بالعتق في الكسوف
* (مسألة) * (فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة، وان تجلى قبلها أو غابت الشمس كاسفة أو
طلعت والقمر خاسف لم تصل)
وقت صلاة الكسوف من حين الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تقض لأنه قد روي
279

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة حتى تتجلى " فجعل الانجلاء
غاية للصلاة ولان الصلاة إنما سنت رغبة إلى الله في ردها فإذا حصل ذلك حصل مقصود الصلاة
وان تجلت وهو في الصلاة أتمها خفيفة لأن المقصود التجلي وقد حصل، وان استترت الشمس
والقمر بالسحاب وهما منكسفان صلى لأن الأصل بقاء الكسوف، وان تجلى السحاب عن بعضها
فرأوه صافيا صلوا ولان الباقي لا يعلم حاله، وان غابت الشمس كاسفة أو طلعت على القمر وهو
خاسف لم يصل لأنه قد ذهب وقت الانتفاع بنورهما، وان غاب القمر ليلا فقال القاضي يصلي
لأنه لم يذهب وقت الانتفاع بنوره، ويحتمل أن لا يصلي لأن ما يصلى له قد غاب أشبه ما لو غابت
الشمس، فإن لم يصل حتى طلع الفجر الثاني ولم يغب أو ابتدأ الخسف بعد طلوع الفجر وغاب
قبل طلوع الشمس ففيه احتمالان ذكرهما القاضي: أحدهما لا يصلي لأن القمر آية الليل وقد ذهب
الليل أشبه إذا طلعت الشمس، والثاني يصلي لأن الانتفاع بنوره باق أشبه ما قبل الفجر، وان
فرغ من الصلاة والكسوف قائم لم يصل صلاة أخرى واشتغل بالذكر والدعاء لأن الصحيح عن
النبي صلى الله عليه وسلم انه لم يزد على ركعتين
(فصل) وإذا اجتمع مع الكسوف صلاة أخرى كالجمعة والعيد أو الوتر أو صلاة مكتوبة بدأ بأخوفهما
فوتا، فإن خيف فوتهما بدأ بالواجبة، فإن لم يكن فيهما واجبة بدأ بالكسوف لتأكده، ولهذا تسن
280

له الجماعة ولان الوتر يقضى وصلاة الكسوف لا تقضى: فإن اجتمعت التراويح والكسوف ففيه
وجهان عند أصحابنا. وقال شيخنا الصحيح أن الصلوات الواجبة التي تصلى في الجماعة تقدم على
الكسوف بكل حال لأن تقديم الكسوف عليها يفضي إلى المشقة لالزام الحاضرين بفعلها مع كونها
ليست واجبة عليهم وانتظارهم الصلاة الواجبة مع أن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة، وقد أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بتخفيف الصلاة الواجبة لئلا يشق على المأمومين، فتأخير هذه الصلاة الطويلة
الشاقة مع أن غيرها واجبة أولى، وإن اجتمعت مع التراويح قدمت التراويح لذلك، وإن اجتمعت
مع الوتر في أول وقت الوتر قدمت لأن الوتر لا يفوت، وان خيف فوات الوتر قدم لأنه يسير يمكن فعله
وادراك وقت الكسوف، وان لم يبق إلا قدر الوتر فلا حاجة إلى التلبس بصلاة الكسوف لأنها تقع في وقت
النهى، فإن اجتمعت مع صلاة الجنازة قدمت الجنازة وجها واحدا لأن الميت يخاف عليه والله أعلم
(فصل) إذا أدرك المأموم الإمام في الركوع الثاني احتمل أن تفوته الركعة قاله القاضي لأنه فاته
من الركعة ركوع أشبه ما لو فاته الركوع من غير هذه الصلاة، وأحتمل أن تصح له الركعة لأنه
يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركوع واحد فاجتزئ به في حق المسبوق، وهذا الخلاف على الرواية
التي تقول يركع ركوعين. فأما على الرواية التي يركع أكثر من ركوعين فإنه يكون مدركا للركعة
إذا فاته ركوع واحد لادراكه معظم الركعة حكاه ابن عقيل
* (مسألة) * (وإن أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع فلا بأس)
281

تجوز صلاة الكسوف على كل صفة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قلنا في صلاة الخوف
والأولى عند أبي عبد الله الصلاة على الصفة التي ذكرنا فإنه قال روي عن ابن عباس وعائشة في
صلاة الكسوف أربع ركعات وأربع سجدات، وأما علي فيقول ست ركعات وأربع سجدات نذهب
إلى قول ابن عباس وعائشة. وروي عن ابن عباس انه صلى ست ركعات وأربع سجدات، وعن
حذيفة وهو قول إسحق وابن المنذر لأنه قد روي عن عائشة وابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم
صلى ست ركعات وأربع سجدات أخرجه مسلم. وروي عنه انه صلى الله عليه وسلم صلى أربع
ركعات وسجدتين في كل ركعة رواه مسلم. قال ابن المنذر روينا عن علي وابن عباس انهما صليا
هذه الصلاة، وحكى عن إسحاق أنه قال وجه الجمع بين هذه الأحاديث ان النبي صلى الله عليه وسلم
إنما كان يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس قد انجلت فإذا انجلت سجد. فمن ها هنا صارت زيادة
الركعات. قال شيخنا ولا يجاوز أربع ركعات في كل ركعة لأنه لم يأتنا عن النبي صلى الله عليه
وسلم أكثر من ذلك
قلت وقد روى أبي بن كعب قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فقرأ سورة من الطوال وركع خمس ركعات وسجد
سجدتين ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها رواه أبو داود. فعلى هذا لا بأس
أن يأتي في كل ركعة بخمس ركوعات لهذا الحديث ولا يزيد عليها لما ذكرنا
* (مسألة) * (ولا يصلى لشئ من سائر الآيات إلا الزلزلة الدائمة)
282

قال أصحابنا يصلى للزلزلة كصلاة الكسوف نص عليه وهو مذهب إسحق وأبي ثور. قال
القاضي ولا يصلى للرجفة والريح الشديدة والظلمة ونحوها، وقال الآمدي يصلى لذلك ولرمي الكواكب
والصواعق وكثرة المطر وحكاه عن ابن أبي موسى. وقال أصحاب الرأي الصلاة لسائر الآيات
حسنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه من آيات الله يخوف بها عباده، وصلى ابن عباس
للزلزلة بالبصرة رواه سعيد. وقال مالك والشافعي لا يصلى لشئ من الآيات سوى الكسوف لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل لغيره ولا خلفاؤه، وقد كان في عصره بعض هذه الآيات، ووجه
الصلاة للزلزلة فعل ابن عباس وغيرها لا يصلى له لما ذكرنا والله أعلم
* (باب صلاة الاستسقاء) *
* (مسألة) * (وإذا أجدبت الأرض وقحط المطر فزع الناس إلى الصلاة)
صلاة الاستسقاء عند الحاجة إليها سنة مؤكدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وكذلك
خلفاؤه، فروى عبد الله بن زيد قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو
283

وحول رداءه وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة متفق عليه. وهذا قول سعيد بن المسيب وداود
ومالك والأوزاعي والشافعي، وقال أبو حنيفة لا تسن صلاة الاستسقاء ولا الخروج إليها لأن النبي
صلى الله عليه وسلم استسقى على المنبر يوم الجمعة ولم يخرج ولم يصل لها، وليس هذا بشئ فإنه قد
ثبت بما رويناه من حديث عبد الله بن زيد، وروى أبو هريرة انه خرج وصلى وفعله صلى الله عليه
وسلم ما ذكروه لا يمنع فعل ما ذكرنا. قال ابن المنذر ثبت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة
الاستسقاء وهو قول عوام أهل العلم إلا أبا حنيفة وخالفه صاحباه واتبعا سائر العلماء، والسنة يستغنى
بها عن كل قول، ولا ينبغي أن يعرج على ما خالفها
* (مسألة) * (وصفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد)
وجملة ذلك أنه يستحب فعلها في المصلى كصلاة العيد. قالت عائشة شكى الناس إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم قحط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى رواه أبو داود. ولان الناس يكثرون
فكان المصلى أرفق بهم، وهي ركعتان عند العاملين بها لا نعلم بينهم خلافا في ذلك. واختلفت الرواية
في صفتها فروي أنه يكبر فيها سبعا في الأولى وخمسا في الثانية كتكبير العيد وهو قول سعيد بن
المسيب وعمر بن عبد العزيز وداود والشافعي، وحكى عن ابن عباس في حديثه ثم صلى ركعتين كما
284

يصلى العيد رواه أبو داود. وروى الدارقطني عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين
كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ سبح اسم ربك الاعلى وقرأ في الثانية هل أتاك حديث الغاشية
وكبر فيها خمس تكبيرات. وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر
وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعا وخمسا رواه الشافعي، والثانية انه يصلي ركعتين
كصلاة التطوع وهو مذهب مالك وأبي ثور والأوزاعي وإسحق لأن عبد الله بن زيد قال صلى ركعتين
ولم يذكر انه كبر سبعا وخمسا وروى أبو هريرة نحوه، وظاهره انه لم يكبر وهذا ظاهر كلام الخرقي
ويسن أن يجهر فيهما بالقراءة لما ذكرنا من حديث عبد الله بن زيد، وأن يقرأ فيهما بسبح اسم
ربك الاعلى، وهل أتاك حديث الغاشية لحديثي ابن عباس
(فصل) ولا يسن لها أذان ولا إقامة لا نعلم بين أهل العلم خلافا فيه وقد روى أبو هريرة قال:
285

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة رواه الأثرم
ولأنها نافلة فلم يؤذن لها كسائر النوافل. قال أصحابنا وينادى لها الصلاة جامعة كالعيد وصلاة
الكسوف، وليس لها وقت معين إلا انها لا تفعل في وقت النهى بغير خلاف لأن وقتها متسع فلا يخاف
فوتها والأولى فعلها في وقت صلاة العيد لما روت عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
حين بدأ حاجب الشمس رواه أبو داود ولأنها تشبهها في الموضع والصفة فكذلك في الوقت، وقال
ابن عبد البر الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء إلا أبا بكر بن حزم وهذا على سبيل
الاختيار لا انه يتعين فعلها فيه
* (مسألة) * (وإذا أراد الإمام الخروج إليها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج
من المظلم والصيام والصدقة وترك التشاحن، لكون المعاصي سبب الجدب، والتقوى سبب البركات)
قال الله تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن
كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) وقال مجاهد في قوله تعالى (ويلعنهم اللاعنون) البهائم تلعن
عصاة بني آدم إذا أمسك المطر، وقال هذا من شؤم بني آدم
* (مسألة) * (وبعدهم يوما يخرجون فيه)
لما روت عائشة قالت شكى الناس إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له
في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه رواه أبو داود
* (مسألة) * (ويتنظف لها بالغسل والسواك وإزالة الرائحة قياسا على صلاة العيد)
ولا يتطيب لأنه يوم استكانة وخشوع
* (مسألة) * (ويخرج متواضعا متخشعا متذللا متضرعا)
السنة الخروج لصلاة الاستسقاء على الصفة المذكورة من التواضع والخشوع في ثياب بذلته، ولا
يلبس ثياب زينه لأنه يوم تواضع، ويكون متخشعا في مشيه وجلوسه متضرعا إلى الله تعالى متذللا راغبا
إليه. قال ابن عباس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللا متواضعا متخشعا متضرعا
286

حتى أتى المصلى فلم يخطب كخطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتكبير، وصلى ركعتين كما كان
يصلي في العيد، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
* (مسألة) * (ويخرج معه أهل الدين والصلاح والشيوخ لأنه أسرع للإجابة)
ويستحب الخروج لكافة الناس، فأما النساء فلا بأس بخروج العجائز منهن ومن لا هيئة لها.
وقال ابن حامد يستحب، فأما الشواب وذوات الهيئة فلا يستحب لهن لأن الضرر في خروجهن
أكثر من النفع، ولا يستحب اخراج البهائم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله وبه قال أصحاب
الشافعي لأنه روى أن سليمان عليه السلام خرج يستسقى فرأى نملة مستلقية وهي تقول: اللهم إنا خلق
من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك. فقال سليمان ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وقال ابن عقيل
والقاضي لا بأس به لذلك، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أولى
* (مسألة) * (ويجوز خروج الصبيان كغيرهم من الناس)
وقال ابن حامد يستحب اختاره القاضي فقال خروج الشيوخ والصبيان أشد استحبابا من الشباب
لأن الصبيان لا ذنوب عليهم
* (مسألة) * (وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا ولم يختلطوا بالمسلمين)
وجملة ذلك أنه لا يستحب اخراج أهل الذمة لأنهم أعداء الله الذين بدلوا نعمة الله كفرا فهم
بعيدون من الإجابة، وإن أغيث المسلمون فربما قالوا هذا حصل بدعائنا وإجابتنا، وإن خرجوا لم
يمنعوا لأنهم يطلبون أرزاقهم من ربهم فلا يمنعون من ذلك. ولا يبعد أن يجيبهم الله تعالى لأنه قد
ضمن أرزاقهم في الدنيا كما ضمن أرزاق المؤمنين، ويؤمر بالانفراد عن المسلمين لأنه لا يؤمن أن
يصيبهم عذاب فيعم من حضرهم، فإن عادا استسقوا فأرسل الله عليهم ريحا صرصرا فأهلكتهم، فإن
قيل فينبغي أن يمنعوا الخروج يوم يخرج المسلمون لئلا يظنوا أن ما حصل من السقيا بدعائهم. قلنا
ولا يؤمن أن يتفق نزول الغيث يوم يخرجون وحدهم فيكون أعظم لفتنتهم وربما فتن بهم غيرهم
* (مسألة) * (فيصلي بهم ثم يخطب خطبة واحدة يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد)
قد ذكرنا الاختلاف في مشروعية صلاة الاستسقاء وصفتها، واختلفت الرواية في خطبة
287

الاستسقاء، وفي موضعها فروي انه لا يخطب وإنما يدعو ويتضرع لقول ابن عباس لم يخطب كخطبتكم
هذه لكن لم يزل في الدعاء والتضرع. والمشهور أن فيها خطبة بعد الصلاة، قال أبو بكر اتفقوا عن
أبي عبد الله ان في صلاة الاستسقاء خطبة وصعودا على المنبر. والصحيح انها بعد الصلاة وبه قال
مالك والشافعي ومحمد بن الحسن، قال ابن عبد البر وعليه جماعة الفقهاء لقول أبي هريرة صلى ركعتين
ثم خطبنا لأنها صلاة ذات تكبير فأشبهت صلاة العيدين، وفيها رواية ثانية انه يخطب قبل الصلاة.
روي ذلك عن عمر وابن الزبير وابان بن عثمان وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو
ابن حزم وبه قال الليث بن سعد وابن المنذر لما روى أنس وعائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم
خطب وصلى. وعن عبد الله بن زيد قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقى فحول
ظهره إلى الناس واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة متفق عليه.
وفيها رواية ثالثة انه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها لورود الاخبار بكلا الامرين ودلالتها على
288

كلتا الصنفين، فحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الامرين، وأياما فعل ذلك فهو جائز
لأن الخطبة غير واجبة على جميع الروايات والأولى أن يخطب بعد الصلاة كالعيد وليكونوا قد
فرغوا من الصلاة فإن أجيب دعاؤهم وأغيثوا لم يحتاجوا إلى الصلاة في المطر، وقول ابن عباس لم يخطب
كخطبتكم نفي لصفة الخطبة لا لأصلها بدليل قوله إنما كان جل خطبته الدعاء والتضرع والتكبير،
ويستحب أن يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد
(فصل) والمشروع خطبة واحدة وبهذا قال عبد الرحمن بن مهدي، وقال مالك والشافعي
يخطب كخطبتي العيدين لقول ابن عباس صنع النبي صلى الله عليه وسلم كما صنع في العيد، ولأنها
أشبهتها في صفة الصلاة فكذلك في صفة الخطبة
ولنا قول ابن عباس لم يخطب كخطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتكبير وهذا يدل على
289

انه ما فصل بين ذلك بسكوت ولا جلوس ولان كل من نقل الخطبة لم ينقل خطبتين. والصحيح
من حديث ابن عباس أنه قال صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد، ولو كان النقل كما ذكروه فهو
محمول على الصلاة بدليل أول الحديث، وإذا صعد المنبر للخطبة جلس وإن شاء لم يجلس لأنه لم
ينقل ولا ها هنا أذان يجلس لفراغه
* (مسألة) * (ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الامر به)
يستحب أن يكثر في خطبته الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة الآيات
التي فيها الامر بالاستغفار كقوله تعالى (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم
مدرارا) وكقوله (استغفروا ربكم انه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا) ولان الاستغفار
سبب لنزول الغيث بدليل ما ذكرنا، والمعاصي سبب لانقطاع الغيث، والاستغفار والتوبة يمحوان
المعاصي. وقد روي عن عمر رضي الله عنه انه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار وقال لقد
استسقيت بمجاديح السماء
* (مسألة) * (ويرفع يديه فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم)
يستحب رفع الأيدي في دعاء الاستسقاء لما روى البخاري عن أنس قال كان النبي صلى الله
290

عليه وسلم لا يرفع يديه في شئ من دعائه إلا الاستسقاء فإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه. وفي حديث
أنس أيضا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ورفع الناس أيديهم. ويستحب أن يدعو بدعاء
النبي صلى الله عليه وسلم فروى عبد الله بن عمر ان رسول الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال " اللهم
أسقنا غيثا مغيثا، هنيئا مريعا، غدقا مجللا، طبقا سحا دائما. اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من
القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللآواء والجهد والصنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت
لنا الزرع، وادر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وانزل علينا من بركاتك. اللهم ارفع عنا
الجهد والجوع والعري، وارفع عنا من البلاء مالا يكشفه غيرك. اللهم إنا نستغفرك، انك كنت
غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا " وروى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم اسقنا
غيثا مغيثا، مريئا مريعا، نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل " رواه أبو داود. قال الخطابي مربعا
يروى على وجهين بالياء والباء، فمن رواه بالياء جعله من المراعة يقال أمرع المكان إذا أخصب
ومن رواه بالباء مربعا كان معناه منبتا للربيع. وعن عائشة رضي الله عنها قالت شكى الناس إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوم يخرجون فيه
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدأ حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال
291

" انكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر إبان زمانه عنكم، فقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم
أن يستجيب لكم " ثم قال " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا
الله، يفعل ما يريد. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغنى، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل
ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين. ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى يرى بياض إبطيه، ثم حول
إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس فنزل فصلى ركعتين "
رواه أبو داود. وروى ابن قتيبة باسناده في غريب الحديث عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم
خرج للاستسقاء فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في
الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسبح اسم ربك الاعلى، وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب وهل أتاك حديث
الغاشية. فلما قضى صلاته استقبل القبلة بوجهه وقلب رداءه ورفع يديه وكبر تكبيره قبل أن يستسقى
ثم قال " اللهم اسقنا غيثا مغيثا، وحيا ربيعا، وجدا طبقا غدقا مغدقا مونقا هنيا مريا مريعا مربعا
مرتعا، سابلا مسبلا، مجللا دائما، درورا نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل. اللهم تحى به البلاد،
وتغيث به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد. اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل علينا في
أرضنا سكنها. اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا، فأحي به بلدة ميتا، واسقه مما خلقت
أنعاما وأناسي كثيرا " قال ابن قتيبة المغيث المحيي بإذن الله تعالى، والحيا الذي تحيا به الأرض
292

والمال، والجدا المطر العام ومنه أخذ جدا العطية، والجدا مقصورا، والطبق الذي يطبق الأرض،
والغدق والمغدق الكثير القطر، والمونق المعجب، والمريع ذو المراعة والخصب، والمربع من قولك
ربعت بمكان كذا إذا أقمت فيه، وأربع على نفسك ارفق، والمرتع من رتعت الإبل إذا رعت،
والسابل من السبل وهو المطر يقال سبل السابل كما يقال مطر ماطر، والرائث البطئ، والسكن القوة
لأن الأرض تسكن به
* (مسألة) * (ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويحول رداءه ويجعل الأيسر على الأيمن والأيمن
على الأيسر ويفعل الناس كذلك ويتركونه حتى ينزعوه مع ثيابهم)
وجملة ذلك أنه يستحب للخطيب استقبال القبلة في أثناء الخطبة لما روى عبد الله بن زيد أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقى فتوجه إلى القبلة يدعو رواه البخاري. وفي لفظ فحول إلى
الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو. ويستحب أن يحول رداءه حال استقبال القبلة لأن في حديث
عبد الله بن زيد ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقى فاستقبل القبلة يدعو وحول رداءه متفق
عليه، ولمسلم فحول رداءه حين استقبل القبلة. وقال أبو حنيفة لا يسن لأنه دعاء فلا يستحب تحويل
الرداء فيه كسائر الأدعية وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع. ويستحب التحويل للمأموم
في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن سعيد بن المسيب وعروة والثوري ان التحويل مختص بالإمام
وهو قول الليث وأبي يوسف ومحمد لأنه إنما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أصحابه
293

ولنا ان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل، كيف
وقد عقد المعنى في ذلك وهو التفاؤل بقلب الرداء ليقلب الله ما بهم من الجدب إلى الخطب، وقد
جاء ذلك في بعض الحديث. وروى الإمام أحمد حديث عبد الله بن زيد وفيه انه عليه الصلاة والسلام
تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرا لبطن وتحول الناس معه، إذا ثبت ذلك فصفة التقليب أن
يجعل ما على اليمين على اليسار وما على اليسار على اليمين، روي ذلك عن أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز
وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومالك وكان الشافعي يقول به ثم رجع فقال
يجعل أعلاه أسفله لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يجعل أسفلها
أعلاها فلما ثقلت جعل العطاف الذي على الأيسر على الأيمن رواه أبو داود
ولنا ما روى عبد الله بن زيد ان النبي صلى الله عليه وسلم حول عطافه وجعل عطافه الأيمن على
عاتقه الأيسر وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن رواه أبو داود. وفي حديث أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن رواه الإمام أحمد
وابن ماجة، والزيادة التي نقلوها إن ثبتت فهي ظن الراوي لا يترك لها فعل النبي صلى الله عليه وسلم
وقد نقل التحويل جماعة لم ينقل أحد منهم انه جعل أعلاه أسفله، ويبعد أن يكون النبي صلى الله عليه
وسلم ترك ذلك في جميع الأوقات لثقل الرداء
* (مسألة) * (ويدعو سرا حال استقبال القبلة)
فيقول اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كم أمرتنا، فاستحب لنا
294

كما وعدتنا، اللهم فامنن علينا بمغفرة ذنوبنا وإجابتنا في سقيانا وسعة أرزاقنا. ثم يدعو بما شاء من
أمر دين أو دنيا، وإنما استحب الاسرار ليكون أقرب إلى الاخلاص وأبلغ في الخشوع والخضوع
والتضرع وأسرع في الإجابة قال الله تعالى (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) واستحب الجهر ببعضه
ليسمع الناس فيؤمنون على دعائه
(فصل) ويستحب أن يستسقي بمن ظهر صلاحه لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء، وقد استسقى
عمر رضي الله عنه بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى ابن عمر قال استسقى عمر عام
الرمادة بالعباس فقال اللهم إن هذا عم نبيك صلى الله عليه وسلم نتوجه إليك به فاسقنا، فما برحوا
حتى سقاهم الله عز وجل، وروي ان معاوية خرج يستسقي فلما جلس على المنبر قال أين يزيد بن
الأسود؟ فقام يزيد فدعاه معاوية فأجلسه عند رجليه ثم قال: اللهم إنا نتشفع إليك بخيرنا وأفضلنا
يزيد بن الأسود. ارفع يديك. فرفع يديه ودعا الله، فثارت في الغرب سحابة مثل الترس، وهبت
لها ريح فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم. واستسقى به الضحاك بن قيس مرة أخرى
* (مسألة) * (فإن سقوا وإلا عادوا ثانيا وثالثا، وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله تعالى
وسألوه المزيد من فضله)
وبهذا قال مالك والشافعي. وقال إسحق لا يخرجون إلا مرة واحدة لأنه صلى الله عليه وسلم
إنما خرج مرة واحدة، ولكن يجتمعون في مساجدهم فإذا فرغوا من الصلاة ذكروا الله تعالى ودعوا
ويدعو الإمام يوم الجمعة على المنبر ويؤمن الناس
295

ولنا أن هذا أبلغ في الدعاء والتضرع. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله
يحب الملحين في الدعاء " وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنما لم يخرج ثانيا لاستغنائه بإجابته أول مرة،
والخروج في المرة الأولى آكد مما بعدها لورود السنة بها
(فصل) فإن تأهبوا فسقوا قبل خروجهم لم يخرجوا وشكروا الله وحمدوه على نعمته، وسألوه
المزيد من فضله. وقال القاضي وابن عقيل يخرجون ويصلون شكرا لله تعالى، وان كانوا قد خرجوا
فسقوا قبل أن يصلوا شكروا الله تعالى وحمدوه قال الله تعالى (لئن شكرتم لأزيدنكم) ويستحب
الدعاء عند نزول الغيث لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اطلبوا استجابة الدعاء عند
ثلاث: عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث " وعن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا رأى المطر قال " صيبا نافعا " رواه البخاري
* (مسألة) * (وينادى لها الصلاة جامعة)
كذلك ذكره أصحابنا قياسا على صلاة الكسوف
* (مسألة) * (وهل من شرطها اذن الإمام على روايتين)
إحداهما لا يستحب إلا إذا خرج الإمام أو رجل من قبله، فإن خرجوا بغير اذن الإمام فقال
أبو بكر يدعون وينصرفون بلا صلاة ولا خطبة نص عليه أحمد
والثانية لا يشترط ويصلون لأنفسهم ويخطب بهم أحدهم. فعلى هذه الرواية يشرع الاستسقاء
في حق كل أحد مقيم ومسافر وأهل القرى والاعراب قياسا على صلاة الكسوف. ووجه الأولى ان
النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بها وإنما فعلها على صفة وهو انه صلاها بأصحابه فلم يتعدى تلك الصفة
وكذلك فعل خلفاؤه ومن بعدهم بخلاف صلاة الكسوف فإنه أمر بها
296

* (مسألة) * (ويستحب أن يقف في أول المطر ويخرج رحله وثيابه ليصيبها لما روى أنس ابن
مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل على منبره حتى رأينا المطر يتحادر عن لحيته رواه البخاري
وعن ابن عباس انه كان إذا أمطرت السماء قال لغلامه " اخرج رحلي وفراشي يصيبه المطر " ويستحب
أن يتوضأ من ماء المطر إذا سال السيل، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان إذا سال السيل
قال " اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر "
(فصل) قال القاضي وابن عقيل إذا نقصت مياه العيون في البلد الذي يشرب منها أو غارت
وتضرر الناس بذلك استحب الاستسقاء كما يستحب لانقطاع المطر، وقال أصحابنا لا يستحب
لأنه لم ينقل والله أعلم
(فصل) والاستسقاء ثلاثة أضرب ذكرها القاضي: أحدها الخروج والصلاة كما وصفنا وهو
أكملها، والثاني استسقاء الإمام يوم الجمعة على المنبر لما روى أنس ان رجلا دخل المسجد يوم الجمعة
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال يا رسول الله
هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال " اللهم
أغثنا، اللهم أغثنا " قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، ولا شئ بيننا
وبين سلع من بيت ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت
ثم أمطرت. فلا والله ما رأينا الشمس سبتا، ثم دخل من ذلك الباب رجل في الجمعة المقبلة ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يخطب فاستقبله قائما وقال يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله
297

أن يمسكها. قال فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال " اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام
والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر " قال فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس متفق عليه.
والثالث أن يدعوا الله تعالى عقيب صلواتهم في خلواتهم
* (مسألة) * وإذا زادت المياه فخيف منها استحب له أن يقول اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على
298

الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به الآية لما ذكرنا
299

من الحديث. وكذلك ان زادت مياه العيون بحيث يضر استحب لهم أن يدعوا الله ليخففه عنهم
300

ويصرفه إلى أماكن ينفع ولا يضرر لأن الضرر بزيادة المطر أحد الضررين فاستحب الدعاء لازالته
وانقطاعه كالاخر.
(فصل) وإذا جاء المطر استحب أن يقول مطرنا بفضل الله ورحمته ولا يقول مطرنا بنوء كذا
لأنه كما جاء في الحديث
301

كتاب الجنائز
يستحب ذكر الموت لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أكثروا ذكر هاذم
اللذات، فما ذكر في كثير إلا قلله، ولا في قليل الا كثره " روى البخاري أوله. قال ابن عقيل
معناه متى ذكر في قليل من الرزق استكثره الانسان لاستقلال ما بقي من عمره، ومتى ذكره في كثير
قلله لأن كثير الدنيا إذا علم انقطاعه بالموت قل عنده. ويستحب الاستعداد للموت قال الله تعالى
(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) وإذا مرض الانسان استحب أن يصبر لما وعد الله
الصابرين من الاجر قال الله تعالى (وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) ويكره الأنين لأنه روي
عن طاوس كراهته، ولا يتمنى الموت لضر نزل به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يتمنين أحدكم
الموت لضر نزل به، ويقول اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي "
متفق عليه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، ويحسن ظنه بربه تعالى لما روى جابر قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول " لا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن
302

بالله عز وجل " رواه مسلم بمعناه وأبو داود. وقال معتمر عن أبيه أنه قال عند موته: حدثني بالرخص
* (مسألة) * (ويستحب عيادة المريض وتذكيره التوبة والوصية)
عيادة المريض مستحبة لما روى البراء قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن
سبع. أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وذكر الحديث رواه البخاري ورواه مسلم بمعناه. وعن
علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من مسلم يعود مسلما الا ابتعث
الله له سبعون ألف ملك يصلون عليه أي ساعة من النهار كانت حتى يمسى، وأي ساعة من الليل
كانت حتى يصبح " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي، وزاد وكان له خريف في
الجنة، وقال حديث حسن غريب. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
عاد مريضا نادى مناد من السماء طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا " رواه الترمذي
وابن ماجة وهذا لفظه، وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله عز وجل يقول يوم
القيامة يا ابن مرضت فلم تعدني. قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن
عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده " وذكر الحديث رواه مسلم.
وإذا دخل على المريض سأل عن حاله ودعا له ورقاه. قال ثابت لانس يا أبا حمزة اشتكيت. قال
أنس أفلا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بلى، قال " اللهم رب الناس، مذهب
الباس، اشف أنت الشافي، شفاء لا يغادر سقما " وروى أبو سعيد. قال " أتى جبريل النبي صلى الله عليه
303

وسلم فقال يا محمد اشتكيت؟ قال نعم. قال بسم الله أرقيك، من كل شئ يؤذيك، من شر كل
نفس وعين حاسدة الله يشفيك " قال أبو زرعة كلا الحديثين صحيح. وروي أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الاجل، فإنه لا يرد من قضاء الله شيئا، وانه
يطيب نفس المريض " رواه ابن ماجة
(فصل) ويستحب أن يرغبه في التوبة من المعاصي والخروج من المظالم وفي الوصية، لما روى
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شئ يوصي فيه إلا
ووصيته مكتوبة عنده " متفق عليه
* (مسألة) * (وإذا نزل به تعاهد بل حلقه بماء أو شراب ويندي شفتيه بقطنة)
يستحب أن بلي المريض أرفق أهله به وأعلمهم بسياسته وأنقاهم لله تعالى، فإذا رآه منزولا به
تعاهد بل حلقه بتقطير ماء أو شراب فيه ويندي شفتيه بقطنة لأنه ربما ينشف حلقه من شدة ما نزل
به فيعجز عن الكلام
* (مسألة) * (ويستحب أن يلقنه قول لا إله إلا الله مرة)
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " رواه مسلم. وقال الحسن
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال " أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من
ذكر الله " رواه سعيد بن منصور
304

* (مسألة) * (ولا يزيد على ثلاث لئلا يضجره إلا أن يتكلم بعده بشئ فيعيد تلقينه بلطف
ومداراة ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله نص عليه أحمد
وروي عن عبد الله بن المبارك انه لما حضره الموت جعل رجل يلقنه لا إله الا الله فأكثر عليه.
فقال له عبد الله إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم: قال الترمذي إنما أراد ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " من كان آخر كلامه لا إله الا الله دخل الجنة " رواه أبو داود. وروى
باسناده عن معاذ بن جبل انه لما حضرته الوفاة قال: اجلسوني. فلما أجلسوه قال: كلمة سمعتها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أخبؤها ولولا ما حضرني من الموت ما أخبرتكم بها، سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من كان آخر قوله عند الموت أشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له إلا هدمت ما كان قبلها من الخطايا والذنوب فلقنوها موتاكم " فقيل يا رسول الله فكيف
هي للاحياء؟ قال " هي أهدم وأهدم "
* (مسألة) * (ويقرأ عنده سورة يس)
لما روى معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقرأوا (يس) على موتاكم "
رواه أبو داود. وقال أحمد ويقرؤون عند الميت إذا حضر ليخفف عنه بالقرآن يقرأ (يس) وأمر
بقراءة فاتحة الكتاب. وروى الإمام أحمد " (يس) قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة
إلا غفر له واقرأوها على مرضاكم "
* (مسألة) * (ويوجهه إلى القبلة)
التوجيه إلى القبلة عند الموت مستحب. وهو قول عطاء والنخعي ومالك وأهل المدينة والأوزاعي
وأهل الشام والشافعي وإسحق وأنكره سعيد بن المسيب فإنهم لما أرادوا أن يحولوه إلى القبلة قال:
ألم أكن على القبلة إلى يومي هذا؟ والأول أولى لأن حذيفة قال وجهوني. وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم " خير المجالس ما استقبل به القبلة " ولان فعلهم ذلك بسعيد دليل على أنه كان
مشهورا بينهم يفعله المسلمون بموتاهم. وصفة توجيهه إلى القبلة أن يوضع على جنبه الأيمن كما يوضع
305

في اللحد إن كان المكان واسعا وهذا مذهب الشافعي لأن هكذا استقبل المصلى على جنبه، وإن
كان المكان ضيقا جعل على ظهره ويجعل رأسه على موضع مرتفع ليتوجه نحو القبلة، هكذا ذكره القاضي
ويحتمل أن يجعل على ظهره، بكل حال ويحتمله كلام الخرقي لقوله وجعل على بطنه مرآة أو غيرها،
وإنما يمكن ذلك إذا كان على ظهره. ويستحب تطهير ثياب الميت قبل موته، لأن أبا سعيد لما
حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الميت يبعث
في ثيابه التي يموت فيها " (1) رواه أبو داود
* (مسألة) * (فإذا مات أغمض عينيه وشد لحييه ولين مفاصله وخلع ثيابه وسجاه بثوب يستره
وجعل على بطنه مرآة أو نحوها ووضعه على سرير غسله متوجها منحدرا نحو رجليه)
يستحب تغميض الميت عقيب الموت، ويستحب لمن حضر الميت أن لا يتكلم إلا بخير، لما روت
أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال:
" ان الروح إذا قبض تبعه البصر " فضج ناس من أهله فقال " لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن
الملائكة يؤمنون على ما تقولون " ثم قال " اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين واخلفه

(1) الحديث معارض بما ثبت في الصحاح من أن الناس يبعثون حفاة عراة، وتأول بعضهم الثياب بالعمل فيكون بمعنى " يبعث كل عبد على ما مات عليه " كما ثبت في صحيح مسلم
306

في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه " رواه مسلم.
وروى شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حضرتم موتاكم فاغمضوا
البصر فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت " رواه الإمام أحمد في
المسند. ويستحب شد ذقنه بعصابة عريضة يربطها من فوق رأسه، لأن الميت إذا كان مفتوح العينين
والفم قبح منظره، ولا يؤمن دخول الهوام فيه والماء في وقت غسله. قال بكر بن عبد الله المزني ويقول
الذي يغمضه: بسم الله وعلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل على بطنه شئ من الحديد
كالمرآة ونحوها لئلا ينتفخ بطنه ويلين مفاصله وهو أن يردد ذراعيه إلى عضديه وعضديه إلى جنبيه
ثم يرددهما ويرد ساقيه إلى فخذيه وفخذيه إلى بطنه ثم يرددهما ليكون ذلك أبقى للينه فيكون أمكن
للغاسل في تمكينه وتمديده. قال أصحابنا ويستحب ذلك عقيب موته قبل قسوتها ببرودته، فإن شق
عليه ذلك تركه، ويخلع ثيابه لئلا يحمى فيسرع إليه الفساد والتغير ويسجيه بثوب يستره لما روت عائشة
ان النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببرد حبرة، متفق عليه، ويستحب أن يلي ذلك منه أرفق
الناس به بأرفق ما يقدر عليه. قال أحمد تغمض المرأة عينيه إذا كانت ذات محرم، قال ويكره للحائض
307

والجنب تغميضه وأن يقرباه وكره ذلك علقمة، وروي نحوه عن الشافعي، وكره الحسن وابن سيرين
وعطاء أن تغسل الحائض والجنب الميت ونحوه قال مالك، وقال ابن المنذر يغسله الجنب لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن لا ينجس " ولا نعلم بينهم خلافا في صحة تغسيلهما وتغميضهما له،
ولكن الأولى أن يكون المتولي لذلك طاهرا لأنه أكمل وأحسن، ويوضع على سرير غسله أو لوح
لأنه أحفظ له ولا يدعه على الأرض لئلا يسرع إليه التغير بسبب نداوة الأرض، ويكون متوجها
منحدرا نحو رجليه لينصب عنه ماء الغسل وما يخرج منه ولا يستنقع تحته فيفسده
* (مسألة) * (ويسارع في قضاء دينه)
لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " رواه
الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن. وعن سمرة قال: صلى نبي الله صلى الله عليه
وسلم الصبح فقال " ها هنا أحد من بني فلان؟ " قالوا نعم. قال " فإن صاحبكم محتبس على باب الجنة
في دين عليه " رواه الإمام أحمد، وإن تعذر ايفاء دينه في الحال استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل
به عنه كما فعل أبو قتادة لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ولم يصل عليها، قال أبو قتادة: صل
عليها يا رسول الله وعلي دينه رواه البخاري
* (مسألة) * (ويسارع في تفريق وصيته ليتعجل له ثوابها يجريانها على الموصى له)
* (مسألة) * (ويستحب المسارعة في تجهيزه إذا تيقن موته لأنه أصون له وأحفظ له من التغيير)
قال أحمد كرامة الميت تعجيله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إني لأرى طلحة قد حدث
فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله " رواه أبو داود.
ولا بأس أن ينتظر بها مقدار ما يجتمع لها جماعة لما يؤمل من الدعاء له إذا صلى عليه ما لم يخف عليه أو
يشق على الناس نص عليه أحمد، وإن شك في أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت من انفصال كفيه
واسترخاء رجليه وميل أنفه وانخساف صدغيه وامتداد جلدة وجهه، فإن مات فجأة كالمصعوق أو خائف
308

من حرب أو سبع أو تردى من جبل انتظر به هذه العلامات حتى يتيقن موته. قال الحسن في
المصعوق ينتظر به ثلاثا. قال أحمد وربما تغير في الصيف في اليوم والليلة. قال فكيف تقول؟ قال
يترك بقدر ما يعلم أنه ميت. قيل له من غدوة إلى الليل؟ قال نعم
* (فصل في غسل الميت) *
* (مسألة) * (غسل الميت ودفنه وتكفينه والصلاة عليه فرض كفاية)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته راحلته " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوب "
متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم " صلوا على من قال لا إله إلا الله " ودفنه فرض كفاية لأن في
تركه أذى للناس به وهتك حرمته، وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا
* (مسألة) * (وأحق الناس به وصيه ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته ثم ذوا
أرحامه إلا الصلاة عليه فإن الأمير أحق بها بعد وصيه)
أحق الناس بغسل الميت وصيه في ذلك. وقال أصحاب الشافعي: أولى الناس بغسل الميت عصباته
الأقرب فالأقرب، فإن كان له زوجة فهل تقدم على العصبات؟ فيه وجهان
ولنا على تقديم الوصي أن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس،
وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين فقدما بذلك، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة ولأنه حق
للميت فقدم فيه وصيه على غيره كتفريق ثلثه
(فصل) فإن لم يكن له وصي فالعصبات أولى الناس به وأولاهم أبوه ثم جده وان علا، ثم ابنه
ثم ابن ابنه وان نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته على ترتيب الميراث لأنهم أحق بالصلاة عليه
(فصل) وأحق الناس بالصلاة عليه وصيه، وهذا قول سعيد بن زيد وأنس وأبي برزة وزيد
ابن أرقم وأم سلمة. وقال الثوري ومالك والشافعي وأبو حنيفة تقدم العصبات لأنها ولاية تترتب
بترتيب العصبات فالولي فيها أولى كولاية النكاح
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر قاله أحمد. قال وعمر
أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأبو بكرة أوصى أن
يصلي عليه أبو برزة، وقال غيره عائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وابن مسعود أوصى أن
يصلى عليه الزبير، وأبو سريحة أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير
الكوفة ليتقدم فيصلي عليها. فقال ابنه أيها الأمير ان أبي أوصى أن يصلى عليه زيد بن أرقم. فقدم
زيدا. وهذه قضايا اشتهرت ولم يظهر لها مخالف فكانت إجماعا. ولأنه حق للميت فإنها شفاعة له
فقدم وصيه فيها كتفريق ثلثه، وولاية النكاح يقدم عندنا فيها الوصي أيضا على الصحيح، وان سلمت
309

فليست حقا له، إنما هي حق للمولى عليه، ولان الغرض في الصلاة الدعاء والشفاعة إلى الله عز وجل،
فالميت يختار لذلك من هو أظهر صلاحا وأقرب إجابة بخلاف ولاية النكاح، فإن كان الوصي فاسقا
أو مبتدعا لم يقبل الوصية كما لو كان الوصي ذميا، وإن كان الأقرب إليه كذلك لم يقدم وصلى غيره
كما يمنع من التقديم في الصلوات الخمس
* (مسألة) * (والأمير أحق بالصلاة عليه بعد الوصي)
وقال به أكثر أهل العلم. وقال الشافعي في أحد قوليه يقدم الولي قياسا على تقديمه في النكاح
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن الرجل في سلطانه " وقال أبو حازم شهدت حسينا حين
مات الحسن يدفع في قفا سعيد بن العاص ويقول تقدم لولا السنة ما قدمتك. وسعيد أمير المدينة
وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى أحمد باسناده عن عماد مولى بني هاشم قال
شهدت جنازة أم كلثوم بنت علي وزيد بن عمرو فصلى عليهما سعيد بن العاص وكان أمير المدينة
وخلفه يومئذ ثمانون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم ابن عمر والحسن والحسين. وقال
علي رضي الله عنه: الإمام أحق من صلى على الجنازة، وعن ابن مسعود نحو ذلك، وهذا أشهر ولم
ينكر فكان اجماعا ولأنها صلاة شرعت فيها الجماعة فقدم فيها الأمير كسائر الصلوات، وقد كان
النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يصلون على الجنائز، ولم ينقل إلينا انهم استأذنوا أولياء الميت في التقديم
والمراد بالأمير ها هنا الإمام، فإن لم يكن فالأمير من جهته، فإن لم يكن فالنائب من قبله في الإمامة
فإن لم يكن فالحاكم
(فصل) وأحق الناس بالصلاة بعد ذلك العصبات وأحقهم الأب ثم الجد أبو الأب وان علا
ثم الابن ثم ابنه وان نزل، ثم الأخ العصبة ثم ابنه ثم الأقرب فالأقرب ثم المولى المعتق ثم عصباته،
هذا الصحيح من المذهب. وقال أبو بكر، في تقديم الأخ على الجد قولان، وحكي عن مالك تقديم
الابن على الأب لأنه أقوى تعصيبا منه، والأخ على الجد لأنه يدلي بالابن والجد يدلي بالأب
ولنا انهما استويا في الادلاء، والأب أرق وأشفق، ودعاؤه لابنه أقرب إلى الإجابة، فكان أولى
كالقريب مع البعيد، ولان المقصود بالصلاة الدعاء للميت والشفاعة له بخلاف الميراث
(فصل) وان اجتمع زوج المرأة وعصباتها فأكثر الروايات عن أحمد تقديم العصبات، وهو
ظاهر كلام الخرقي وقول سعيد بن المسيب والزهري ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي إلا أن
أبا حنيفة يقدم زوج المرأة على ابنها منه، وروي عن أحمد تقديم العصبات، قال ابن عقيل وهي
أصح لأن أبا بكر صلى على زوجته ولم يستأذن اخوتها، وروي ذلك عن ابن عباس وهو قول الشعبي
وعطاء وعمر بن عبد العزيز وإسحق
310

ولنا انه يروى عن عمر أنه قال لأهل امرأته: أنتم أحق بها، ولان الزوج قد زالت زوجيته بالموت
فصار أجنبيا والقرابة لم تزل، فعلى هذه الرواية ان لم يكن لها عصبات فالزوج أولى لأن له سببا
وشفقة فكان أولى من الأجنبي
(فصل) فإن اجتمع أخ من أبوين، وأخ من أب، ففي تقديم الأخ من الأبوين أو التسوية وجهان
بناء على الروايتين في ولاية النكاح والحكم في الأعمام وأولادهم وأولاد الاخوة كذلك فإن انقرض
العصبة فالمولى المنعم، ثم عصباته ثم الرجال من ذوي أرحامه ثم الأقرب فالأقرب ثم الأجانب، فإن
استوى وليان في الدرجة فأحقهما أولاهما بالإمامة في المكتوبات، وقال القاضي يحتمل تقديم الاسن
وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء وأعظم عند الله قدرا، والأول أولى لقوله
صلى الله عليه وسلم " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " وفضيلة السن معارضة بفضيلة العلم وقد رجحها
الشارع في سائر الصلوات مع أنه يقصد فيها إجابة الدعاء والحظ للمأمومين، وقد روي عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال " أئمتكم شفعاؤكم " ولا يسلم ان المسن الجاهل أعظم قدرا عند الله من العالم والأقرب
إجابة، فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم كما في سائر الصلوات
(فصل) ومن قدمه الولي فهو بمنزلته، لأنها ولاية ثبتت له فكانت له الاستنابة فيها كولاية النكاح
(فصل) وإن كان القريب عبدا فالحر البعيد أولى منه لأن العبد لا ولاية له في النكاح ولا
المال، كذلك هذا. فإن اجتمع صبي ومملوك ونساء، فالمملوك أولى لأنه تصح إمامته بهما، فإن لم
يكن الا نساء وصبيان فقياس المذهب انه لا يصح أن يؤم أحد الجنسين الآخر، ويصلي كل نوع
لأنفسهم وإمامهم منهم، ويصلي النساء جماعة وإمامتهن في وسطهن نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة،
وقال الشافعي: يصلين منفردات لا يسبق بعضهن بعضا، وان صلين جماعة جاز
ولنا انهن من أهل الجماعة فسن أن يصلين جماعة كالرجال، وما ذكروه من كونهن منفردات
لا يسبق بعضهن بعضا تحكم لا يصار إليه الا بدليل، وقد صلي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على سعد
ابن أبي وقاص رواه مسلم
(فصل) فإن اجتمع جنائز فتشاح أولياؤهم فيمن يتقدم للصلاة عليهم قدم أولاهم بالإمامة في الفرائض
وقال القاضي يقدم من سبق ميته
ولنا انهم تساووا فأشبهوا الأولياء إذا تساووا في الدرجة مع قوله صلى الله عليه وسلم " يؤم القوم
أقرؤهم لكتاب الله " وان أراد ولي كل ميت افراد ميته بصلاة جاز
* (مسألة) * (وأحق الناس بغسل المرأة وصيها ثم الأقرب فالأقرب من نسائها أمها ثم بنتها ثم
بناتها ثم أخواتها كما ذكرنا في حق الرجل)
311

وكل من لها رحم ومحرم بحيث لو كانت رجلا لم يحل له نكاحها أولى بها ممن لا رحم لها وبعدها
التي لها رحم وليست بمحرم، كبنات العم والعمات وبنات الخال والخالة، فهن أولى من الأجانب، وبهذا
قال الشافعي ان لم يكن لها زوج، فإن كان لها زوج فهل يقدم على النساء؟ فيه وجهان: أحدهما يقدم
لأنه ينظر منها إلى ما لا ينظر النساء، والثاني يقدم النساء على الزوج لأن الزوجية تزول بالموت
والرحم لا يزول كما ذكرنا في حق الرجل
* (مسألة) * ولكل واحد من الزوجين غسل صاحبه في إحدى الروايتين، كذلك السيد مع سريته)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله تعالى في غسل كل واحد من الزوجين الآخر، فروي عنه
الجواز فيهما نقلها عنه حنبل، وروى عنه المنع مطلقا حكاها ابن المنذر، وروي عنه التفرقة وهو
جواز غسل الزوج دون الزوجة، والقول بجواز غسل المرأة زوجها قول أهل العلم حكاه ابن المنذر
اجماعا، قالت عائشة: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الا نساؤه
رواه أبو داود، وأوصى أبو بكر رضي الله عنه أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس ففعلت، وغسل
أبا موسى امرأته أم عبد الله، قال أحمد ليس فيه اختلاف بين الناس، وعنه لا يجوز، حكى عنه صالح
ما يدل على ذلك لأنها فرقة بين الزوجين أشبهت الطلاق، ولأنها أحد الزوجين أشبهت الآخر
(فصل) والمشهور عن أحمد جواز غسل الرجل زوجته، وهو قول علقمة وعبد الرحمن بن يزيد
وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وأبي سلمة وأبي قتادة وحماد ومالك والأوزاعي والشافعي واسحق،
وعن أحمد رواية ثانية، ليس للزوج غسلها وهو قول أبي حنيفة والثوري لأن الموت فرقة تبيح أختها
وأربعا سواها فحرمت اللمس والنظر كالطلاق
ولنا ما روى ابن المنذر أن عليا رضي الله عنه غسل فاطمة عليها السلام واشتهر ذلك فلم ينكر
فكان اجماعا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة " لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك " رواه
ابن ماجة، والأصل في إضافة الفعل إلى الشخص أن يكون للمباشرة فإن حمله على الامر يبطل فائدة
التخصيص، ولأنه أحد الزوجين فأبيح له غسل صاحبه كالآخر. والمعنى في ذلك أن كل واحد من
الزوجين يسهل عليه اطلاع الآخر على عورته لما كان بينهما في الحياة، ويأتي بالغسل على ما يمكنه
لما كان بينهما من المودة والرحمة، وما قاسوا عليه لا يصح لأنه يمنع الزوجة من النظر بخلاف هذا
ولأنه لا فرق بين الزوجين إلا بقاء العدة. ولو وضعت حملها عقيب موته كان لها غسله وقد انقضت عدتها
* (فصل) * فإن طلق امرأته طلاقا بائنا ثم مات أحدهما في العدة لم يجز لواحد منهما غسل الآخر
لأن اللمس والنظر محرم حال الحياة فبعد الموت أولى، وإن كان الطلاق رجعيا وقلنا الرجعية محرمة
فكذلك، وان قلنا هي مباحة فحكمها حكم الزوجين لأنها ترثه ويرثها ويباح له وطؤها والخلوة والنظر
312

إليها أشبه سائر الزوجات
(فصل) وحكم أم الولد حكم الزوجة فيما ذكرنا، واختار ابن عقيل انه لا يجوز لها غسل سيدها
لأنها عتقت بموته، ولم يبق علقة من ميراث ولا غيره، وهو قول أبي حنيفة واحد الوجهين لأصحاب الشافعي
ولنا انها في معنى الزوجة في اللمس والنظر والاستمتاع فكذلك في الغسل، والميراث ليس من
جملة المقتضي بدليل ما لو كان أحد الزوجين رقيقا والاستبراء ها هنا كالعدة. فأما غيرها من الإماء
فيجوز لسيدها غسلها في أصح الروايتين. ذكره أبو الخطاب لأنه يلزمه كفنها ودفنها ومؤنتها فهي
أولى من الزوجة، وهل يجوز لها غسل سيدها؟ قال شيخنا: يحتمل أن لا يجوز لأن الملك انتقل فيها إلى
غيره، ويحتمل أن يجوز ذلك لسريته لأنها محل استمتاعه ويلزمها الاستبراء بعد موته أشبهت أم الولد،
فإن مات الزوج قبل الدخول بامرأته احتمل أن لا يباح لها غسله لأنه لم يكن بينهم استمتاع حال الحياة
(فصل) فإن كانت الزوجة ذمية فليس لها غسل زوجها، لأن الكافر لا يغسل المسلم، لأن النية
واجبة في الغسل ولا تصح من الكافر. وقال الشافعي يكره لها غسله، فإن غسلته جاز لأن القصد
التنظيف، وليس لزوجه غسلها لأن المسلم لا يغسل الكافر، ولا يتولى دفنه ما يأتي، ولأنه لا ميراث
بينهما ولا موالاة، وقد انقطعت الزوجية بالموت، ويتخرج جواز ذلك بناء على غسل المسلم الكافر
وهو مذهب الشافعي
(فصل) وليس لغير من ذكرنا من الرجال غسل أحد من النساء، ولا لاحد من النساء غسل
غير من ذكرنا من الرجال، وإن كن ذات رحم محرم، وهذا قول أكثر أهل العلم. وقد روي عن
أحمد انه حكي له عن أبي قلابة غسل ابنته فاستعظم ذلك ولم يعجبه، وذلك انها محرمة حال الحياة
فلم يجب غسلها كالأجنبية وأخته من الرضاع، فإن لم يوجد من يغسلها من النساء فقال مهنا: سألت
أحمد عن الرجل يغسل أخته إذا لم يجد نساء؟ قال لا. قلت فكيف يصنع؟ قال يغسلها وعليها ثيابها
يصب الماء صبا. قلت لأحمد وكذلك كل ذات محرم تغسل وعليها ثيابها؟ قال نعم. وذلك لأنه
لا يحل مسها، والأولى انها تيمم كالأجنبية. لأن الغسل من غير مس لا يحصل به التنظيف، ولا إزالة
النجاسة. بل ربما كثرت أشبه ما لو عدم الماء. وقال الحسن ومحمد ومالك والشافعي لا بأس بغسل
ذات محرمه عند الضرورة
* (مسألة) * (وللرجل والمرأة غسل من له دون سبع سنين وفي ابن السبع وجهان)
أما غسل النساء للطفل الصغير فهو اجماع حكاه ابن المنذر، واختلف أهل العلم في حده فقال أحمد
لهن غسل من له دون سبع سنين. وقال الحسن إذا كان فطيما أو فوقه، وقال الأوزاعي ابن أربع
أو خمس، وقال أصحاب الرأي الذي لم يتكلم
313

ولنا أن من له دون سبع سنين لم يؤمر بالصلاة، ولم يخير بين أبويه، ولا عورة له أشبه ما لو سلموه
فأما من بلغ السبع ففيه وجهان (أحدهما) يجوز اختاره أبو بكر لأنه غير مكلف أشبه ما قبل السبع،
(والثاني) لا يجوز اختاره ابن حامد وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم، وقيل سئل عن غلام ابن
سبع سنين تغسله المرأة؟ فقال هو ابن سبع وهو يؤمر بالصلاة، ولو كان أقل من سبع كان أهون
عندي، وحكى أبو الخطاب فيمن بلغ السبع روايتين، والصحيح ان من بلغ عشرا ليس
للنساء غسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وفرقوا بينهم في المضاجع " وأمر بضربهم على
الصلاة لعشر، فاما من بلغ السبع والعشر ففيه احتمالان ووجههما ما ذكرنا، وأما الجارية إذا لم تبلغ
سبعا فقال القاضي وأبو الخطاب يجوز للرجال غسلها، وقال الخلال: القياس التسوية بينهما لكل واحد
منهما على الآخر فعلى قولنا حكمها حكم الغلام، ولا يغسل الرجل من بلغت عشرا لما ذكرنا في الصبي
ويحتمل أن يحد ذلك بتسع في حق الجارية لقول عائشة إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة وفيما
قبل ذلك الوجهان، ونقل عن أحمد رحمه الله كراهة ذلك وقال النساء أعجب إلي، وذكر له أن
الثوري قال: تغسل المرأة الصبي والرجل الصبية، فقال لا بأس أن تغسل المرأة الصبي، وأما الرجل
يغسل الصبية فلا أجترئ عليه إلا أن يغسل الرجل ابنته الصغيرة، ويروى عن أبي قلابة انه غسل
ابنة له صغيرة وهو قول الحسن، وكره غسل الرجل الصغيرة سعيد والزهري، قال شيخنا: وهذا
أولى من قول الأصحاب، لأن عورة الجارية أفحش من عورة الغلام، ولان العادة مباشرة المرأة للغلام
الصغير، والنظر إلى عورته في حال تربيته ومسها، ولم تجر العادة للرجل بمباشرة عورة الجارية حال
الحياة فكذلك حالة الموت، وهذا اختيار شيخنا والله أعلم
(فصل) ويصح أن يغسل المحرم الحلال والحلال المحرم لأن كل واحد منهما تصح طهارته وغسله
* (مسألة) * (وإذا مات رجل بين نسوة أو امرأة بين رجال أو خنثى مشكل يمم في أصح الروايتين
وفي الأخرى يصب عليه الماء من فوق قميص ولا يمس)
إذا مات رجل بين نسوة أجانب، أو امرأة بين رجال أجانب، أو مات خنثى مشكل، فإنه ييمم في
الصحيح من المذهب. وهذا قول سعيد بن المسيب والنخعي وحماد ومالك وأصحاب الرأي وابن المنذر
وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والوجه الثاني يغسل في قميص ويجعل الغاسل على يده خرقة
وفيه رواية أخرى انه يغسل من فوق القميص يصب عليه الماء صبا ولا يمس، وهو قول الحسن وإسحق
ولنا ما روى واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا ماتت المرأة مع
الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجال " ولان الغسل من غير مس لا يحصل به التنظيف
314

ولا إزالة النجاسة بل ربما كثرت، ولا يسلم من النظر، فكان العدول إلى التيمم أولى، كما لو عدم الماء
فأما ان ماتت الجارية بين محارمها الرجال فقد ذكرناه
* (مسألة) * (ولا يغسل مسلم كافرا ولا يدفنه إلا أن لا يجد من يواريه غيره)
إذا مات كافر مع مسلمين لم يغسلوه سواء كان قريبا لهم أو لا، ولا يتولوا دفنه إلا أن لا يجدوا
من يواريه وهذا قول مالك، وقال أبو حفص العكبري: يجوز له غسل قريبه الكافر ودفنه، وحكاه
قولا لأحمد وهو مذهب الشافعي لما روي عن علي رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم
ان عمك الشيخ الضال قد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فواره " رواه أبو داود والنسائي
ولنا انه لا يصلي عليه ولا يدعو له فلم يكن له غسله كالأجنبي، والحديث يدل علي مواراته وله
ذلك إذا خاف من التغير به والضرر ببقائه، قال أحمد في يهودي أو نصراني مات وله ولد مسلم:
فليركب دابته ويسر أمام الجنازة، وإذا أراد أن يدفن رجع مثل قول عمر رضي الله عنه
* (مسألة) * (وإذا أخذ قي غسله ستر عورته وجرده، وقال القاضي يغسل في قميص واسع الكمين)
يجب ستر عورة الميت بغير خلاف علمناه وهو ما بين سرته إلى ركبته وقد قال النبي صلى الله
عليه وسلم لعلي " لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت " رواه أبو داود، قال ابن عبد البر: وروي " الناظر
من الرجال إلى فروج الرجال كالناظر منهم إلى فروج النساء والمتكشف ملعون " قال أبو داود:
قلت لأحمد الصبي يستر كما يستر الكبير (أعني) الصبي الميت في الغسل؟ قال: أي شئ يستر منه
ليست عورته بعورة ويغسله النساء
315

(فصل) ويستحب تجريد الميت عند غسله ما سوى عورته رواه الاثم عن أحمد وهذا ظاهر
كلام الخرقي، واختيار أبي الخطاب واليه ذهب ابن سيرين ومالك وأبو حنيفة وروى المروذي عن
أحمد أنه قال: يعجبني أن يغسل الميت وعليه ثوب يدخل يده من تحت الثوب قال: وكان أبو قلابة
إذا غسل ميتا جلله بثوب، وقال القاضي: السنة أن يغسل في قميص رقيق ينزل الماء فيه ولا يمنع أن
يصل إلى يديه، ويدخل يده في كم القميص فيمرها على بدنه والماء يصب، فإن كان القميص ضيقا
فتق رأس الدخاريص وأدخل يده فيه، وهذا مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم غسل
في قميصه، وقال سعد اصنعوا بي كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أحمد غسل النبي صلى الله
عليه وسلم في قميصه وقد أرادوا خلعه فنودوا ألا تخلعوه واستروا نبيكم
ولنا ان تجريد الميت أمكن لتغسيله وتطهيره، والحي يتجرد إذا اغتسل فكذلك الميت ولأنه
إذا اغتسل في ثوبه ينجس الثوب بما يخرج وقد لا يطهر بصب الماء عليه فينجس الميت به، فأما النبي
صلى الله عليه وسلم فذلك خاص له، ألا ترى انهم قالوا: نجرده كما نجرد موتانا كذلك روته عائشة،
قال ابن عبد البر روي ذلك عنها من وجه صحيح، فالظاهر أن تجريد الميت فيما عدا العورة كان مشهورا
عندهم ولم يكن هذا ليخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم بل الظاهر أنه كان بأمره لأنهم كانوا ينتهون
إلى رأيه ويصدرون عن أمره في الشرعيات، واتباع أمره وفعله أولى من اتباع غيره، ولان ما يخشى
من تنجيس قميصه بما يخرج منه كان مأمونا في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه طاهر حيا وميتا بخلاف
غيره، وإنما قال سعد: إلحدوا لي لحدا، وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم
316

* (مسألة) * (ويستر الميت عن العيون، ولا يحضره إلا من يعين في غسله)
يستحب ستر الميت وأن يغسل في بيت إن أمكن لأنه أستر له، فإن لم يكن بيت جعل بينه
وبين السماء سترا، وكان ابن سيرين يستحب أن يكون البيت الذي يغسل فيه مظلما ذكره أحمد،
وروى أبو داود باسناد له قال: أوصى الضحاك أخاه سالما قال: إذا غسلتني فاجعل حولي سترا،
واجعل بيني وبين السماء سترا، وذكر القاضي ان عائشة قالت: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونحن نغسل ابنته فجعلنا بينها وبين السقف سترا، وإنما استحب ذلك لئلا يستقبل السماء بعورته،
وإنما استحب ستر الميت، وأن لا يحضره إلا من يعين في غسله لأنه يكره النظر إلى الميت إلا لحاجة
لأنه ربما كان بالميت عيب يكتمه ويكره أن يطلع عليه بعد موته وربما حدث منه أمر يكره الحي أن
يطلع منه على مثله، وربما ظهر فيه شئ هو في الظاهر منكر فيتحدث به فيكون فضيحة وربما بدت
عورته فشاهدها، ويستحب للحاضرين غض أبصارهم عنه إلا لحاجة كذلك، ولهذا أجبنا أن يكون
الغاسل ثقة أمينا ليستر ما يطلع عليه. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " ليغسل موتاكم
المأمونون " رواه ابن ماجة، وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليله أقربكم منه إن كان
يعلم، فإن كان لا يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع " رواه الإمام أحمد. وقال القاضي: لوليه
317

أن يدخل كيف شاء والأولى ما ذكرنا إن شاء الله لأن العلة تقتضي التعميم
* (مسألة) * (ثم يرفع رأسه برفق إلى قريب من الجلوس ويعصر بطنه عصرا رفيقا ويكثر
صب الماء حينئذ)
يستحب للغاسل أن يبدأ فيحني الميت حنيا رفيقا لا يبلغ به الجلوس لأن في الجلوس أذية، ثم
يمر يده على بطنه يعصره عصرا ليخرج ما معه من نجاسة كيلا يخرج بعد ذلك، ويكثر صب الماء
حينئذ ليخفى ما يخرج منه ويذهب به الماء. ويستحب أن يكون بقربه مجمر فيه بخور حتى لا يظهر
منه ريح. وروي عن أحمد أنه قال لا يعصر بطن الميت في المرة الأولى، ولكن في الثانية، وقال في
موضع آخر يعصر بطنه في الثالثة يمسح مسحا رفيقا مرة واحدة، وقال أيضا: عصر بطن الميت في
الثانية أمكن، لأن الميت لا يلين حتى يصيبه الماء
(فصل) فإن كانت امرأة حاملا لم يعصر بطنها لئلا يؤذي أم الولد، لما روت أم سليم قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا توفيت المرأة فأرادوا غسلها فليبدأن ببطنها فليمسح مسحا رفيقا
إن لم تكن حبلى، فإن كانت حبلى فلا يحركنها " رواه الخلال
318

* (مسألة) * (ثم يلف على يده خرقة فينجيه ولا يحل مس عورته، ويستحب أن لا يمس سائر
بدنه الا بخرقة)
يستحب للغاسل إذا عصر بطن الميت أن ينجيه فيلف على يده خرقة خشنة بمسحه بها لئلا يمس
عورته لأن النظر إلى عورة الميت حرام فمسها أولى، ويزيل ما على بدنه من نجاسة لأن الحي يبدأ
بذلك في اغتساله من الجنابة، ويستحب أن لا يمس سائر بدنه الا بخرقة لما روي أن عليا رضي الله
عنه غسل النبي صلى الله عليه وسلم وبيده خرقة يمسح بها ما تحت القميص. قال القاضي: يعد الغاسل
خرقتين يغسل بإحداهما السبيلين وبالأخرى سائر بدنه
* (مسألة) * (ثم ينوي غسلهما ويسمي)
النية في غسل الميت واجبة على الغاسل، وفي وجوب التسمية روايتان كغسل الجنابة، وإنما
أوجبناها على الغاسل لتعذرها من الميت ولان الحي هو المخاطب بالغسل. وقال القاضي وابن عقيل
ويحتمل أن لا تعتبر النية لأن القصد التنظيف فأشبه غسل النجاسة، والصحيح الأول لأنه لو كان
كذلك لما وجب غسل متنظف ولجاز غسله بماء الورد، وكل ما يحصل به التنظيف وإنما هو غسل تعبد
فأشبه غسل الجنابة
* (مسألة) * قال (ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه وفى منخريه فينظفها
ويوضيه ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه)
319

وجملة ذلك أنه إذا نجى الميت وأزال النجاسة بدأ بعد ذلك فوضاه وضوء الصلاة فيغسل كفيه
ثم يأخذ خرقة خشنة فيبلها ويجعلها على إصبعيه فيسمح أسنانه وأنفه حتى ينظفهما ويكون ذلك في رفق
ثم يغسل وجهه ويتمم وضوءه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته " ابدأن
بميامنها ومواضع الوضوء منها " متفق عليه ولان الحي يبدأ بالوضوء في غسله ولا يدخل الماء في فيه
ولا أنفه في قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن جبير والنخعي والثوري وأبو حنيفة، وقال الشافعي
يمضمضه وينشقه كما يفعل الحي
ولنا ان ذلك لا يؤمن معه وصوله إلى جوفه فيفضي إلى المثلة به ولا يؤمن من خروجه في أكفانه فيفسدها
320

* (مسألة) * (ثم يضرب السدر فيغسل برغوته رأسه ولحيته وسائر بدنه، ثم يغسل شقه الأيمن
ثم الأيسر يفعل ذلك ثلاثا)
يستحب أن يبدأ الغاسل بعد وضوء الميت بغسل رأس الميت فيغسله برغوة السدر ويغسل بدنه
بالتفل يفعل ذلك ثلاثا، والمنصوص عن أحمد رحمه الله انه يستحب أن يغسل ثلاثا بماء وسدر
قال صالح: قال أبي: الميت يغسل بماء وسدر ثلاث غسلات. قلت فيبقى عليه؟ قال أي شئ يكون
هو أنقى له. وذكر عن عطاء ان ابن جريج قال له انه يبقى عليه السدر إذا غسل به كل مرة، قال
عطاء هو طهور، واحتج أحمد بحديث أم عطية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته
قال " اغسلنها ثلاثا أو أربعا أو خمسا أو أكثر من ذلك أن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الأخيرة
كافورا " متفق عليه وذهب كثير من أصحابنا المتأخرين إلى أنه لا يترك في الماء سدر يغيره ثم
اختلفوا فقال ابن حامد يطرح في كل المياه شئ يسير من السدر لا يغيره ليجمع بين العمل بالحديث
ويكون الماء باقيا على اطلاقه، وقال القاضي وأبو الخطاب يغسل أول مرة بالسدر ثم يغسل بعد ذلك
بالماء القراح فيكون الجميع غسلة واحدة ويكون الاعتداد بالآخر دون الأول، لأن أحمد رحمه الله
شبه غسله بغسل الجنابة، ولان السدر ان غير الماء سلبه الطهورية، وان لم يغيره فلا فائدة في ترك يسير
لا يؤثر، والأول ظاهر كلام أحمد ويكون هذا من قوله دالا على أن تغيير الماء بالسدر لا يخرجه عن
طهوريته، فإن لم يجد السدر غسله بما يقوم مقامه ويقرب منه كالخطمي ونحوه لحصول المقصود به،
وان غسله بذلك مع وجود السدر جاز لأن الشرع ورد بهذا لمعنى معقول وهو التنظيف فيتعدى
إلى كل ما وجد فيه المعنى، قال أبو الخطاب: ويستحب أن يخضب رأس المرأة ولحية الرجل بالحناء
ويستحب أن يبدأ بشقه الأيمن فيغسل وجهه ويده اليمنى من المنكب إلى الكفين وصفحة عنقه اليمنى
وشق صدره وجنبه وفخذه وساقه وهو مستلق ثم يصنع ذلك بالجانب الأيسر ثم يرفعه من جانبه ولا
321

يكبه لوجهه فيغسل الظهر وما هناك من وركه وفخذه وساقه ثم يعود فيحرفه على جنبه الأيمن ويغسل
شقه الأيسر كذلك، هكذا ذكره إبراهيم النخعي والقاضي وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم " ابدأن
بميامنها " وهو أشبه بغسل الحي
(فصل) والواجب غسلة واحدة لأنه غسل واجب من غير نجاسة أصابته فكان مرة واحده
كغسل الجنابة. قال عطاء: يجزيه غسلة واحدة ان نقوه، وقد روي عن أحمد أنه قال: لا يعجبني إن
غسل واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اغسلنها ثلاثا أو خمسا " وهذا على سبيل الكراهة
دون الاجزاء لما ذكرنا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم " اغسلوه بماء وسدر " ولم يذكر عددا
(فصل) والحائض والجنب إذا ماتا كغيرهما في الغسل، قال ابن المنذر هذا قول من نحفظ
عنه من علماء الأمصار، وقد قال الحسن وسعيد بن المسيب: ما مات ميت الا جنب، وقيل عن الحسن
انه يغسل الجنب للجنابة والحائض للحيض ثم يغسلان للموت، والأول أولى لأنهما خرجا من أحكام
التكليف ولم يبق عليهما عبادة واجبة، وإنما الغسل للميت تعبد وليكون في حال خروجه من الدنيا على
أكمل حال من النظافة وهذا يحصل بغسلة واحدة ولان الغسل الواحد يجزي من وجد في حقه شيئان
كالحيض والجنابة كذا هذا
(فصل) وقال بعض أصحابنا: يتخذ الغاسل ثلاث أواني آنية كبيرة يجمع فيه الماء الذي يغسل
به الميت تكون بالبعد منه، وإناءين صغيرين يطرح من أحدهما على الميت والثالث يغرف به من الكبير
في الصغير الذي يغسل به الميت ليكون الكبير مصونا، فإذا فسد الماء الذي في الصغير وطار فيه من
رشاش الماء كان ما بقي في الكبير كافيا، ويستعمل في كل أموره الرفق به في تقليبه وعرك أعضائه
وعصر بطنه وتليين مفاصله وفي سائر أموره احتراما له فإنه مشبه بالحي في حرمته ولا يأمن ان عنف
به أن ينفصل منه عضو فيكون مثلة به وقد قال صلى الله عليه وسلم " كسر عظم الميت ككسر عظم
الحي " وقال " ان الله يحب الرفق في الامر كله "
322

* (مسألة) * (فإن لم ينفق بالثلاث وخرج منه شئ غسله إلى خمس فإن زاد فإلى سبع)
إذا فرغ الغاسل من الغسلة الثالثة لم يمر يده على بطن الميت لئلا يخرج منه شئ، فإن رأى
الغاسل انه لم ينق بالثلاث غسله خمسا أو سبعا إن رأى ذلك ولا يقطع إلا على وتر. قال الإمام أحمد
ولا يزاد على سبع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا " لم يزد على ذلك
وجعل ما أمر به وترا، وقال أيضا " اغسلنها وترا " فإن لم ينق بالسبع فقال شيخنا: الأولى غسله
حتى ينقى لقوله صلى الله عليه وسلم " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن
ذلك " ولان الزيادة على الثلاث إنما كانت للانقاء أو للحاجة إليها، فكذلك ما بعد السبع، ولا
يقطع إلا على وتر لما ذكرنا، ولم يذكر أصحابنا انه يزيد على سبع
(فصل) فإن خرج من الميت نجاسة بعد الثلاث وهو على مغتسله من قبله أو دبره غسله إلى خمس
فإن خرج بعد الخمس غسله إلى سبع، ويوضيه في الغسلة التي تلي خروج النجاسة. قال صالح قال أبي يوضأ
الميت مرة واحدة إلا أن يخرج منه شئ فيعاد عليه الوضوء وهذا قول ابن سيرين وإسحق، واختار
أبو الخطاب انه يغسل موضع النجاسة ويوضأ ولا يجب إعادة غسله وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة
لأن خروج النجاسة من الحي بعد غسله لا يبطله فكذلك الميت، وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أن القصد من غسل الميت أن يكون خاتمة أمره الطهارة الكاملة ولان النبي صلى الله عليه
وسلم قال " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا إن رأيتن ذلك بماء وسدر " فإن خرجت منه نجاسة من
غير السبيلين فقال أحمد في رواية أبي داود: الدم أسهل من الحدث يعني الدم الذي يخرج من أنفه
أسهل من الحدث في أنه لا يعاد له الغسل لأن الحدث ينقض الطهارة بالاتفاق ويسوى بين قليله
وكثيره، ويحتمل انه إن أراد الغسل لا يعاد من يسيره كما لا ينقض الوضوء بخلاف الخارج من السبيلين
* (مسألة) * (ويجعل في الغسلة الأخيرة كافورا)
يستحب أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافورا لشده ويبرده ويطيبه لقول النبي صلى الله عليه
323

وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته " اغسلنها بالسدر وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك واجعلن في
الغسلة الأخيرة كافورا " وفي حديث أم سليم " فإذا كان في آخر غسلة من الثالثة أو غيرها فاجعلن
ماء فيه شئ من كافور وشئ من سدر ثم اجعلي ذلك في جرة جديدة ثم أفرغيه عليها وابدئي برأسها
حتى يبلغ رجليها "
* (مسألة) * (والماء الحار والخلال والأشنان يستعمل إن احتيج إليه)
هذه الثلاثة تستعمل عند الحاجة إليها مثل أن يحتاج إلى الماء الحار لشدة البرد، أو الوسخ لا يزول
إلا به، وكذلك الأشنان يستعمل إذا كان على الميت وسخ. قال أحمد إذا طال ضنا المريض غسل
بالأشنان يعني انه يكثر وسخه فيحتاج إلى الأشنان ليزيله، والخلال يحتاج إليه لاخراج شئ والأولى
أن يكون من شجرة كالصفصاف ونحوه ومما ينقي ولا يجرح، وإن جعل على رأسه قطنا فحسن ويتتبع
ما تحت أظفاره فينقيه فإن لم يحتج إلى شئ من ذلك لم يستحب استعماله وبهذا قال الشافعي. وقال
أبو حنيفة والمسخن أولى لكن حال انه ينقي مالا ينقي البارد
ولنا ان البارد يمسكه والمسخن يرخيه ولهذا يطرح الكافور في الماء ليشده ويبرده والانقاء يحصل
بالسدر إذا لم يكثر وسخه، فإن كثر ولم يزل إلا بالحار صار مستحبا
* (مسألة) * (ويقص شاربه ويقلم أظافره ولا يسرح شعره ولا لحيته)
متى كان شارب الميت طويلا استحب قصه وهذا قول الحسن وبكر بن عبد الله وسعيد بن جبير
وإسحق، وقال أبو حنيفة ومالك لا يؤخذ من الميت شئ لأنه قطع شئ منه فلم يستحب كالختان،
ولأصحاب الشافعي اختلاف كالقولين
324

ولنا قول أنس: اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعرائسكم. والعروس يحسن ويزال عنه ما يستقبح من
الشارب وغيره ولان تركه يقبح منظره فشرع إزالته كفتح عينيه وفمه، ولأنه فعل مسنون في الحياة
لا مضرة فيه فشرع بعد الموت كالاغتسال، وعلى هذا يخرج الختان لما فيه من المضرة، وإذا أخذ
منه جعل مع الميت في أكفانه، وكذلك كل ما أخذ منه من شعر أو ظفر أو غيرها فإنه يغسل ويجعل
معه في أكفانه لأنه جزء من الميت فأشبه أعضاءه
(فصل) فأما قص الأظفار إذا طالت ففيها روايتان. إحداهما لا تقلم وينقى وسخها وهو ظاهر
كلام الخرقي لأن الظفر لا يظهر كظهور الشارب فلا حاجة إلى قصه، والثانية يقص إذا كان فاحشا
نص عليه لأنه من السنة ولا مضرة فيه فيشرع اخذه كالشارب، ويمكن حمل الرواية الأولى على ما
إذا لم يفحش. ويخرج في نتف الإبط وجهان بناء على الروايتين في قص الأظفار لأنه في معناه
(فصل) فأما العانة ففيها وجهان: أحدهما لا تؤخذ وهو ظاهر كلام الخرقي وهو قول ابن سيرين
ومالك وأبي حنيفة. وروي عن أحمد أن أخذها مسنون وهو قول الحسن وبكر بن عبد الله وسعيد
ابن جبير وإسحق لأن سعد بن أبي وقاص جز عانة ميت ولأنه شعر يسن إزالته في الحياة أشبه
قص الشارب، والصحيح الأول لأنه يحتاج في أخذها إلى كشف العورة ولمسها وهتك الميت وذلك
محرم لا يفعل لغير واجب، ولان العانة مستورة يستغنى بسترها عن إزالتها لأنها لا تظهر بخلاف
الشارب. فإذا قلنا بأخذها فقال أحمد تؤخذ بالموسى أو بالمقراض. وقال القاضي تزال بالنورة لأنه
أسهل ولا يمسها، ووجه قول أحمد انه فعل سعد، والنورة لا يؤمن أن تتلف جلد الميت، ولأصحاب
الشافعي وجهان كهذين
325

(فصل) فأما الختان فلا يشرع لأنه إبانة جزء من أعضائه وهذا قول أكثر أهل العلم. وحكي
عن بعض أهل العلم انه يختن حكاه الإمام أحمد، والأول أولى لما ذكرناه، ولا يحلق رأس الميت
وقال بعض أصحاب الشافعي يحلق إذا لم يكن له جمة للتنظيف، والأول أولى لأنه ليس من السنة في الحياة
وإنما يراد لزينة أو نسك، ولا يطلب شئ من ذلك ها هنا
(فصل) وإن جبر عظمه بعظم فجبر ثم مات فإن كان طاهرا لم ينزع وإن كان نجسا وأمكن
إزالته من غير مثلة أزيل لأنه نجاسة مقدور عى إزالتها من غير ضرر، وإن أفضى إلى المثلة لم يقلع
وإن كان في حكم الباطن كالحي، وإن كان عليه جبيرة يفضي نزعها إلى مثلة مسح عليها كحال الحياة
وإلا نزعها وغسل ما تحتها. قال أحمد في الميت تكون أسنانه مربوطة بذهب إن قدر على نزعه من
غير أن تسقط بعض أسنانه نزعه، وإن خاف سقوط بعضها تركه
(فصل) ومن كان مشنجا أو به حدب أو نحو ذلك فأمكن تمديده بالتليين والماء الحار فعل ذلك
وإن لم يمكن إلا بعسف تركه بحاله، فإن كان على صفة لا يمكن تركه على النعش إلا على وجه يشهر
بالمثلة ترك في تابوت أو تحت صكبه كما يصنع بالمرأة لأنه أصون له وأستر
ويستحب أن يترك فوق سرير المرأة شئ من الخشب أو الجريد مثل القبلة ويترك فوقه ثوب
ليكون أستر لها. وقد روي أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أول من صنع لها ذلك بأمرها.
(فصل) فأما تسريح رأسه ولحيته فكرهه أحمد، وقالت عائشة: علام تنصون ميتكم؟ أي لا
تسرحوا رأسه بالمشط ولان ذلك بقطع شعره وينتفه وهذا مذهب أبي حنيفة. وقد روى عن
326

أم عطية قالت: مشطناها ثلاثة قرون متفق عليه. قال أحمد إنما ضفرن وأنكر المشط فكأنه تأول قولها
مشطناها على أنها أرادت ضفرناها لما ذكرنا والله أعلم
* (مسألة) * (ويضفر شعر المرأة ثلاثة قرون ويسدل من ورائها)
يستحب ضفر شعر المرأة ثلاثة قرون قرنيها وناصيتها ويلقى من خلفها، وبهذا قال الشافعي
وإسحق وبن المنذر. وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي لا يضفر ولكن يرسل مع خديها من الجانبين
ثم يرسل عليه الخمار لأن ضفره يحتاج إلى تسريحه فيتقطع وينشف
ولنا ما روت أم عطية قالت: ضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه خلفها تعني بنت النبي صلى الله عليه وسلم
متفق عليه. ولمسلم فضفرنا شعرها ثلاثة قرون قرنيها وناصيتها، وفي حديث أم سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم
واضفرن شعرها ثلاثة قرون قصة وقرنين ولا تشبهنها بالرجال
* (مسألة) * (ثم ينشفه بثوب)
وذلك مستحب لئلا تبتل أكفانه، وفي حديث ابن عباس في غسل النبي صلى الله عليه وسلم قال: فجففوه
بثوب ذكره القاضي وهذا مذهب الشافعي
* (مسألة) * (فإن خرج منه شئ بعد السبع حشاه بالقطن فإن لم يستمسك فبالطين الحر)
327

متى خرجت من الميت نجاسة بعد السبع لم يعد إلى الغسل نص عليه أحمد لأن إعادة غسله
328

يفضي إلى الحرج، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثلاثا أو خمسا أو سبعا في حديث أم عطية، لكن يحشوه
329

بالقطن أو يلجم بالقطن كما تفعل المستحاضة ومن به سلس البول، فإن لم يمسكه ذلك حشي بالطين
الخالص الصلب الذي له قوة يمسك المحل
330

* (مسألة) * (ثم يغسل المحل ويوضأ)
وقد ذكر عن أحمد انه لا يوضأ وهو قول لأصحاب الشافعي والأولى إن شاء الله انه يوضأ
كالجنب إذا أحدث بعد الغسل لتكون طهارته كاملة
* (مسألة) * (فإن خرج منه شئ بعد وضعه في أكفانه لم يعد إلى الغسل)
قال شيخنا رحمه الله لا نعلم في ذلك خلافا إذا كان الخارج يسيرا لما في إعادة الغسل من المشقة
الكثيرة لأنه يحتاج إلى اخراجه وإعادة غسله وغسل أكفانه وتجفيفها أو ابدالها ثم لا يؤمن مثل
هذا في المرة الثانية والثالثة فسقط ذلك، ولا يحتاج أيضا إلى إعادة وضوئه ولا غسل موضع النجاسة
331

دفعا لهذه المشقة ويحمل بحاله، وقد روي عن الشعبي ان ابنة له لما لفت في أكفانها بدا منها شئ.
فقال الشعبي: ارفعوا. وإن كان كثيرا. فالظاهر عنه انه يحمل أيضا لما ذكرنا، وعنه انه يعاد غسله
ويطهر كفنه لأنه يؤمن مثله في الثاني للتحفظ بالتلجم والشد
* (مسألة) * (ويغسل المحرم بماء وسدر ولا يلبس المخيط ولا يخمر رأسه ولا يقرب طيبا)
إذا مات المحرم لم يبطل حكم احرامه بموته ويجنب ما يجنبه المحرم من الطيب وتغطية الرأس
ولبس المخيط وقطع الشعر، روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس وبه قال عطاء والثوري والشافعي
وإسحق، وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة يبطل احرامه بموته ويصنع به ما يصنع بالحلال. وروي
ذلك عن عائشة وابن عمر وطاوس لأنها عبادة شرعية فبطلت بالموت كالصلاة والصيام
ولنا ما روى ابن عباس أن رجلا وقصه بعيره ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اغسلوه
بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تمسوه طيبا ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبدا "
وفي رواية " ملبيا " متفق عليه. فإن قيل هذا خاص له لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا قلنا حكم النبي
صلى الله عليه وسلم في واحد حكمه في مثله إلا أن يرد تخصيصه، ولهذا ثبت حكمه في شهداء أحد وفي سائر الشهداء
قال أبو داود سمعت أحمد يقول: في هذا الحديث خمس سنن - كفنه في ثوبيه أي يكفن في
ثوبين، وأن يكون في الغسلات كلها سدر، ولا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبا، وكون الكفن
من جميع المال. قال أحمد في موضع يصب عليه الماء صبا، ولا يغسل كما يغسل الحلال، وإنما كره
عرك رأسه ومواضع الشعر كيلا ينقطع شعره
(فصل) واختلف عن أحمد في تغطية وجهه فعنه لا يغطى نقلها عنه إسماعيل بن سعيد لأن في
بعض الحديث " ولا تخمروا رأسه ولا وجهه " وعنه لا بأس بتغطية وجهة. نقلها عنه سائر أصحابه
لحديث ابن عباس المذكور فإنه أصح ما روي فيه وليس فيه سوى المنع من تغطية الرأس، ولا يلبس
المخيط لأنه يحرم عليه في حياته فكذلك بعد الموت، واختلف عن أحمد أيضا في تغطية رجليه، فروى
حنبل عنه لا يغطى رجلاه كذلك ذكره الخرقي. وقال الخلال لا أعرف هذا في الأحاديث ولا رواه
أحد عن أبي عبد الله غير حنبل وهو عندي وهم من حنبل، والعمل على أنه يغطى جميع المحرم إلا
رأسه ولان المحرم لا يمنع من تغطية رجليه في حياته فكذلك بعد موته، فإن كان الميت امرأة محرمة
ألبست القميص وخمرت كما تفعل في حياتها ولم تقرب طيبا ولم يغط وجهها لأنه يحرم عليها في حياتها
فكذلك بعد موتها، فإن ماتت المتوفى عنها زوجها في عدتها احتمل أن لا تطيب لأنها ممنوعة حال
حياتها، واحتمل أن تطيب لأن التطيب إنما حرم لكونه يدعو إلى نكاحها وقد زال بالموت وهو
أصح، ولأصحاب الشافعي وجهان
332

* (مسألة) * (والشهيد لا يغسل إلا أن يكون جنبا)
إذا مات الشهيد في المعركة لم يغسل رواية واحدة إذا لم يكن جنبا، وهذا قول أكثر أهل العلم
ولا نعلم خلافا إلا عن الحسن وسعيد بن المسيب فإنهما قالا يغسل ما مات ميت إلا جنبا
ولنا ما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم
متفق عليه. إذا ثبت هذا فيحتمل ان ترك الغسل لما يتضمنه من إزالة أثر العبادة المستطاب شرعا
فإنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم
في سبيله إلا جاء يوم القيامة اللون لون دم والريح ريح مسك " رواه البخاري. وروى عبد الله بن
ثعلبة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " زملوهم بدمائهم فإنه ليس كلم يكلم في الله إلا يأتي يوم القيامة يدمى لونه
لون الدم وريحه ريح المسك " رواه النسائي، ويحتمل ان الغسل لا يجب إلا من أجل الصلاة إلا أن
الميت لا فعل له فأمرنا بغسله ليصلى عليه، فمن لم تجب الصلاة عليه لم يجب غسله كالحي، ويحتمل
ان الشهداء في المعركة يكثرون فيشق غسلهم فعفي عنه لذلك
(فصل) فإن كان الشهيد جنبا غسل وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك لا يغسل لعموم الخبر في
الشهداء وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا ما روي أن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما شأن حنظلة فاني رأيت
الملائكة تغسله " قالوا إنه جامع ثم سمع الهيعة فخرج إلى القتال رواه ابن إسحاق في المغازي ولأنه
غسل واجب لغير الموت فلم يسقط بالموت كغسل النجاسة. وحديثهم ورد في شهداء أحد وحديثنا
خاص في حنظلة وهو من شهداء أحد فيجب تقديمه، وعلى هذا كل من وجب عليه الغسل بسبب
سابق على الموت كالمرأة تطهر من حيض أو نفاس ثم تقتل فهي كالجنب لما ذكرنا من العلة، ولو
قتلت في حيضها أو نفاسها لم يجب الغسل لأن الطهر شرط في الغسل أو في السبب الموجب فلا يثبت
الحكم بدونه، فإن أسلم ثم استشهد قبل الغسل فلا غسل عليه لأنه روي أن أصيرم بني عبد الأشهل
أسلم يوم أحد ثم قبل فلم يؤمر بغسل
* (مسألة) * (وينزع عنه السلاح والجلود ويزمل في ثيابه وان أحب فيكفنه في غيرها)
أما دفنه في ثيابه فلا نعلم فيه خلافا وقد ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم " ادفنوهم في ثيابهم " وعن
ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم
بدمائهم رواه أبو داود وابن ماجة، وليس ذلك بواجب لكنه الأولى، ويجوز للولي أن ينزع ثيابه
ويكفنه بغيرها، وقال أبو حنيفة لا ينزع ثيابه لظاهر الخبر
333

ولنا ما روي أن صفية أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن فيهما حمزة فكفنه في أحدهما
وكفن في الآخر رجلا آخر رواه يعقوب بن شيبة وقال هو صالح الاسناد، وحديثهم يحمل على
الإباحة والاستحباب، إذا ثبت هذا فإنه ينزع عنه ما لم يكن من عامة لباس الناس من الجلود والفراء
والحديد. قال أحمد لا يترك عليه فرو ولا خف ولا جلد وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك لا ينزع
عنه فرو ولا خف ولا محشو لعموم الخبر وهو قوله " ادفنوهم في ثيابهم " وما رويناه أخص فكان أولى
* (مسألة) * (ولا يصلى عليه في أصح الروايتين)
وهذا قول مالك والشافعي وإسحق، وعن أحمد رواية أخرى انه يصلى عليه اختارها الخلال
وهو قول الثوري وأبي حنيفة إلا أن كلام أحمد رحمه الله في هذه الرواية يشير إلى أن الصلاة عليه
مستحبة غير واجبة، وقد صرح بذلك في رواية المروذي فقال: الصلاة عليه أجود وإن لم يصلوا عليه
أجزأه، وقال في موضع آخر يصلى عليه وأهل الحجاز لا يصلون عليه وما تضره الصلاة لا بأس به،
فكأن الروايتين في استحباب الصلاة لا في وجوبها، إحداهما يستحب لما روى عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم
خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر متفق عليه، وعن ابن عباس
ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد. ووجه الرواية الأولى ما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن
شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم متفق عليه، وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد
فإنه صلى عليهم في القبور بعد سنين وهم لا يصلون على القبر أصلا ونحن لا نصلي عليه بعد شهر، وحديث
ابن عباس يرويه الحسن بن عمارة وهو ضعيف، وقد أنكر عليه شعبة رواية هذا الحديث، إذا ثبت
هذا فيحتمل أن يكون سقوط الصلاة عليهم لكونهم أحياء عند ربهم، والصلاة إنما شرعت في حق
الموتى، ويحتمل ان ذلك لغناهم عن الشفاعة لهم، فإن الشهيد يشفع في سبعين من أهله فلا يحتاج إلى
شفيع، والصلاة إنما شرعت للشفاعة
(فصل) والبالغ وغيره سواء في ترك غسله والصلاة عليه إذا كان شهيدا وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف
ومحمد وأبو ثور وابن المنذر، وقال أبو حنيفة لا يثبت حكم الشهادة لغير البالغ لأنه ليس من أهل القتال
ولنا انه مسلم قتل في معترك المشركين بقتالهم أشبه البالغ ولأنه يشبه البالغ في غسله والصلاة
عليه إذا لم يكن شهيدا فيشبه في سقوط ذلك عنه بالشهادة، وقد كان في شهداء أحد حارثة بن النعمان
وهو صغير، والحديث عام في الكل وما ذكروه يبطل بالنساء
* (مسألة) * (وإن سقط من دابته ووجد ميتا لا أثر به أو حمل فأكل أو طال بقاؤه غسل وصلي عليه)
إذا سقط من دابته فمات أو وجد ميتا ولا أثر به فإنه يغسل ويصلى عليه، نص عليه أحمد.
334

وتأول الحديث: ادفنوهم بكلومهم فإذا كان به كلم (1) لم يغسل، وهذا قول أبي حنيفة في الذي يوجد
ميتا لا أثر به. وقال الشافعي لا يغسل بحال لأنه مات بسبب من أسباب القتال
ولنا أن الأصل وجوب الغسل فلا يسقط بالاحتمال ولان سقوط الغسل في محل الوفاق مقرون
بمن كلم فلا يجوز ترك اعتبار ذلك
(فصل) وكذلك ان حمل فأكل أو طال بقاؤه لأن النبي صلى الله عليه وسلم غسل سعد بن معاذ وصلى عليه
وكان شهيدا رماه ابن العرقة يوم الخندق بسهم فقطع أكحله فحمل إلى المسجد فلبث فيه أياما ثم مات
وظاهر كلام الخرقي انه متى طالت حياته بعد حمله غسل وصلي عليه، وإن مات في المعركة أو عقب
حمله لم يغسل ولم يصل عليه. وقال مالك إن أكل أو شرب أو بقي يومين أو ثلاثة غسل، وقال
أحمد في موضع: ان تكلم أو أكل أو شرب صلي عليه. وعن أحمد انه سئل عن المجروح إذا بقي
في المعركة يوما إلى الليل ثم مات فرأى أن يصلى عليه. وقال أصحاب الشافعي ان مات حال الحرب
لم يغسل ولم يصل عليه وإلا غسل وصلى عليه. قال شيخنا: والصحيح التحديد بما ذكرنا من طول
الفصل والاكل لأن الاكل لا يكون إلا من ذي حياة مستقرة وطول الفصل يدل على ذلك وقد
ثبت اعتبارهما في كثير من المواضع. وأما الكلام والشرب وحالة الحرب فلا يصح التحديد بشئ
منها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد " من ينظر ما فعل سعد بن الربيع؟ " فقال رجل أنا أنظر
يا رسول الله، فنظر فوجده جريحا به رمق. فقال له: ان رسول الله أمرني أن أنظر في الاحياء أنت
أم في الأموات؟ قال: فأنا في الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام. وذكر الحديث قال:
ثم لم أبرح أن مات، وروي ان أصيرم بني عبد الأشهل وجد صريعا يوم أحد فقيل له: ما جاء بك؟
قال أسلمت ثم جئت، وهما من شهداء أحد دخلا في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم " ادفنوهم بدمائهم وثيابهم "
ولم يغسلا ولم يصل عليهما وقد تكلما وماتا بعد انقضاء الحرب، وفي حديث أهل اليمامة عن ابن عمر
انه طاف في القتلى فوجد أبا عقيل الأنفي قال فسقيته ماء وبه أربعة عشر جرحا كلها قد خلص إلى
مقتل، فخرج الماء من جراحاته كلها فلم يغسل
(فصل) فإن كان الشهيد قد عاد عليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول بأيدي العدو. وقال القاضي
يغسل ويصلى عليه لأنه مات بغير أيدي المشركين أشبه من أصابه ذلك في غير المعترك
ولنا ما روى أبو داود عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أغرنا على حي من جهينة
فطلب رجل من المسلمين رجلا منهم فضربه فأخطأه فأصاب نفسه بالسيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أخوكم يا معشر المسلمين " فابتدره الناس فوجدوه قد مات فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه
وصلى عليه. فقالوا يا رسول الله أشهيد هو؟ قال " نعم وأنا له شهيد " وعامر بن الأكوع بارز مرحبا

(1) الكلم الجرح وجمعه كلوم كفرح وقروح، وجرح وجروح
335

يوم خيبر فذهب سيف له فرجع سيفه على نفسه فكانت فيها نفسه فلم يفرد عن الشهداء بحكم ولأنه
شهيد المعركة أشبه ما لو قتله الكفار، وبهذا فارق ما لو كان في المعترك
(فصل) ومن قتل من أهل العدل في المعركة فحكمه في الغسل حكم من قتل في معركة المشركين
وقال القاضي يخرج على روايتين كالمقتول ظلما
ولنا ان عليا رضي الله عنه لم يغسل من قتل معه وعمار أوصى أن لا يغسل وقال ادفنوني في ثيابي
فأني مخاصم ولأنه شهيد المعركة أشبه قتيل الكفار وهذا قول أبي حنيفة، وقال الشافعي في أحد
قوليه يغسلون لأن أسماء غسلت ابنها عبد الله بن الزبير والأول أولى لما ذكرنا، فأما عبد الله بن
الزبير فإنه أخذ وصلب فصار كالمقتول ظلما ولأنه ليس بشهيد المعركة، وأما الباغي فيحتمل أن يغسل
ويصلى عليه اختاره الخرقي والقاضي، ويحتمل إلحاقه بأهل العدل لأنه لم ينقل غسل أهل الجمل
وصفين من الجانبين ولأنهم يكثرون في المعترك فيشق عليهم غسلهم أشبهوا أهل العدل، وهل يصلى
على أهل العدل فيه احتمالان: أحدهما لا يصلى عليهم لأنهم أشبهوا شهداء المشركين، ويحتمل أن
يصلى عليهم لأن عليا رضي الله عنه صلى عليهم، والمرجوم يغسل ويصلى عليه، وكذلك المقتول
قصاصا كسائر الموتى
* (مسألة) * (ومن قتل مظلوما فهل يلحق بالشهيد على روايتين)
إحداهما يغسل ويصلى عليه اختارها الخلال وهو قول الحسن ومذهب مالك والشافعي لأن
رتبته دون رتبة الشهيد في المعترك أشبه المبطون ولان هذا لا يكثر القتل فيه فلم يجز إلحاقه بشهيد
المعترك، والثانية حكمه حكم الشهيد وهو قول الشعبي والأوزاعي وإسحق في الغسل لأنه شهيد أشبه
شهيد المعترك. قال النبي صلى الله عليه وسلم " من قتل دون ماله فهو شهيد "
(فصل) فأما الشهيد بغير قتل كالمطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والنفساء فإنهم
يغسلون ويصلى عليهم لا نعلم فيه خلافا، إلا أنه روي عن الحسن لا يصلى على النفساء
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها متفق عليه. وصلى المسلمون
على عمر وعلي رضي الله عنهما وهما شهيدان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الشهداء خمس: المطعون والمبطون
والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وكلهم غير
الشهيد في سبيل الله يغسلون ويصلى عليهم ولان النبي صلى الله عليه وسلم ترك غسل شهيد المعركة لما يتضمنه من
إزالة الدم المستطاب شرعا أو لمشقة غسلهم لكثرتهم أو لما فيهم من الجراح ولا يوجد ذلك ها هنا
* (مسألة) * (وإذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلي عليه)
السقط الولد الذي تضعه المرأة لغير تمام أو ميتا، فإن خرج حيا واستهل غسل وصلى عليه
336

بغير خلاف حكاه ابن المنذر اجماعا، وان خرج ميتا فقال أحمد إذا أتى له أربعة أشهر غسل وصلي
عليه. وهذا قول سعيد بن المسيب وابن سيرين واسحق، وصلى ابن عمر على ابن لأبيه ولد ميتا،
وقال الحسن وإبراهيم والحكم وحماد ومالك والأوزاعي وأصحاب الرأي لا يصلى عليه حتى يستهل
وللشافعي قولان كالمذهبين لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا
يورث حتى يستهل " رواه الترمذي، ولأنه لم يثبت له حكم الحياة ولا يرث ولا يورث فلا يصلى عليه
كمن دون أربعة أشهر
ولنا ما روى المغيرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " والسقط يصلى عليه " رواه أبو داود والترمذي.
وفي رواية الترمذي " والطفل يصلى عليه "، وقال هذا حديث حسن صحيح وذكره أحمد واحتج به،
ولحديث أبي بكر الصديق أنه قال: ما أحد أحق أن يصلى عليه من الطفل ولأنه نسمة نفخ فيها
الروح فيصلى عليه كالمستهل فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في حديث الصادق والمصدوق انه ينفخ
فيه الروح لأربعة أشهر، وحديثهم قال الترمذي: قد اضطرب الناس فيه فرواه بعضهم مرفوعا،
قال الترمذي: كان هذا أصح من المرفوع وإنما لم يرث لأنه لا يعلم حياته حال موت مورثه وذلك من
شرط الإرث والصلاة من شرطها أن تصادق من كانت فيه حياة، وقد علم ذلك بما ذكرنا من
الحديث ولان الصلاة دعاء له ولوالديه فلم يحتج فيها إلى الاحتياط واليقين بخلاف الميراث. فأما من
لم يبلغ أربعة أشهر فلا يغسل ولا يصلى عليه ويلف في خرقة ويدفن لعدم وجود الحياة لا نعلم فيه خلافا
إلا عن ابن سيرين فإنه قال: يصلى عليه إذا علم أنه نفخ فيه الروح. وحديث الصادق المصدوق
يدل عى انه لا ينفخ فيه الروح إلا بعد الأربعة أشهر وقبل ذلك لا يكون نسمة فلا يصلى عيه كسائر
الجمادات ذكره شيخنا، وحكى ابن أبي موسى انه يصلى على السقط إذا استبان فيه بعض خلق
الانسان والأول أولى
(فصل) ويستحب أن يسمى السقط لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سموا أسقاطكم
فإنهم أسلافكم " رواه ابن السماك باسناده، قيل إنهم يسمون ليدعون يوم القيامة بأسمائهم، فإذا لم
يعلم أذكر هو أم أنثى سمى اسما يصلح لهما جميعا كسلمة وقتادة وهبة الله وما أشبه
* (مسألة) * (ومن تعذر غسله يمم)
من تعذر غسله لعدم الماء وللخوف عليه من التقطع بالغسل كالمجدور والغريق والمحترق يمم إذا
أمكن كالحي العادم للماء أو الذي يؤذيه الماء، وإن أمكن غسل بعضه غسل ويمم للباقي كالحي، ويحتمل
ألا يمم ويصلى عليه على حسب حاله، ذكره ابن عقيل لأن المقصود بغسل الميت التنظيف ولا يحصل ذلك
337

بالتيمم، والأول أصح ان أمكن غسله بأن يصب عليه الماء صبا ولا يمس غسل كذلك والله أعلم
* (مسألة) * (وعلى الغاسل ستر ما رآه ان لم يكن حسنا)
ينبغي للغاسل ومن حضر إذا رأى من الميت شيئا مما يحب الميت ستره أن يستره ولا يحدث
به لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من غسل ميتا ثم لم يفش ما عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته
أمه "
رواه ابن ماجة، وقال " من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة " فإن رأى حسنا مثل أمارات
الخير من وضاءة الوجه والتبسم ونحو ذلك استحب اظهاره ليكثر الترحم عليه والتشبه بجميل سيرته،
قال ابن عقيل الا أن يكون مغموصا عليه في الدين والسنة، مشهورا ببدعة فلا بأس باظهار السر عليه
لتحذر طريقته، وعلى هذا ينبغي أن يكتم ما يرى عليه من أمارات الخير لئلا يغتر به فيقتدى به في بدعته
* (فصل في الكفن) *
* (مسألة) * (ويجب كفن الميت في ماله مقدما على الدين وغيره)
من الوصية والميراث لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به ولان سترته واجبة في الحياة فكذلك بعد الموت
ويكون ذلك من رأس ماله لأن حمزة ومصعب رضي الله عنهما لم يوجد لكل واحد منهما الا ثوب
فكفن فيه ولان لباس المفلس مقدم على قضاء دينه فكذلك كفن الميت، ولا ينتقل إلى الورثة
من مال الميت الا ما فضل عن حاجته الأصلية وهذا قول أكثر أهل العلم وفيه قولان شاذان: أحدهما
قول خلاس بن عمرو: ان الكفن من الثلث، والآخر قال طاوس: إن كان المال قليلا فمن الثلث.
والصحيح الأول لما ذكرنا، وكذلك مؤونة دفنه وتجهيزه ومالا بد للميت منه قياسا على الكفن:
فأما الحنوط والطيب فليس بواجب ذكره ابن حامد لأنه لا يجب في الحياة فكذلك بعد الموت: وقال
القاضي يحتمل انه واجب لأنه مما جرت العادة به، وليس بصحيح لأن العادة جرت بتحسين الكفن
وليس بواجب، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
* (مسألة) * (فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته الا الزوج لا يلزمه كفن امرأته)
إذا لم يكن للميت مال فكفنه على من تلزمه مؤونته في الحياة وكذلك دفنه وما لا بد للميت
منه لأن ذلك يلزمه حال الحياة فكذلك بعد الموت الا الزوج لا يلزمه كفن امرأته وهذا قول الشعبي
وأبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي: وقال بعضهم يجب على الزوج واختلف فيه عن مالك واحتجوا
بأن كسوتها واجبة عليه في الحياة فوجب كفنها كسيد العبد
ولنا ان النفقة والكسوة وجبت في النكاح للتمكين من الاستمتاع ولهذا تسقط بالنشوز والبينونة
وقد انقطع ذلك بالموت فأشبه ما لو انقطع بالفرقة في الحياة ولأنها بانت منه في الموت فأشبهت الأجنبية
338

وفارقت المملوك فإن نفقته بحق الملك لا بالانتفاع، ولهذا تجب نفقة الآبق وفطرته والوالد تجب
نفقته بالقرابة، ولا تبطل بالموت بدليل ان السيد والوالد أحق بدفنه وتوليه. إذا تقرر هذا فإن لم
يكن لها مال فعلى من تلزمه نفقتها من الأقارب، فإن لم يكن ففي بيت المال كمن لا زوج لها
(فصل) ويستحب تحسين الكفن لما روى مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من أصحابه قبض
فكفن في كفن غير طائل فقال " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " فإن تساح الورثة جعل
بحسب حال الحياة إن كان موسرا كان حسنا رفيعا على نحو ما كان يلبس في حال الحياة، وإن كان
دون ذلك فعلى حسب حاله وليس لثمنه حد لأن ذلك يختلف باختلاف البلدان والأوقات ولان
التحديد إنما يكون بنص أو اجماع ولم يوجد واحد منهما. وقال الخرقي إذا تشاح الورثة في الكفن
جعل بثلاثين، وإن كان موسرا فبخمسين وهذا محمول على وجه التقريب، ولعل الجيد في زمنه
والمتوسط كان يحصل بهذا القدر، وقد روي عن ابن مسعود انه أوصى أن يكفن بنحو من ثلاثين درهما
(فصل) والمستحب أن يكفن في جديد الا أن يوصي الميت بغيره فتمتثل وصيته كما روي عن
الصديق رضي الله عنه أنه قال: كفنوني في ثوبي هذين فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت وإنما
هما للهلة والتراب رواه البخاري بمعناه، وذهب ابن عقيل إلى أن التكفين في الخليع أولى لهذا الخبر
والأول أولى لدلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه به
* (مسألة) * (ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض يبسط بعضها فوق بعض بعد تجميرها)
الأفضل عند إمامنا رحمه الله أن يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيض ليس فيها قميص ولا عمامة
لا يزيد عليها ولا ينقص منها قال الترمذي، والعمل عليها عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وغيرهم وهو مذهب الشافعي، ويستحب كون الكفن أبيض لأن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب
بيض ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " البسوا من ثيابكم البياض فإنه أطهر وأطيب وكفنوا فيه موتاكم "
رواه النسائي، وحكي عن أبي حنيفة ان المستحب أن يكون في إزار ورداء وقميص لما روى عبد الله
ابن المغفل ان النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قميصه ولان النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه رواه النسائي
ولنا قول عائشة كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا
عمامة متفق عليه، وهو أصح حديث يروى في كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم
واعرف بأحواله، ولهذا لما ذكر لها قول الناس ان النبي صلى الله عليه وسلم كفن في برد، قالت: قد أتي بالبرد
ولكنهم لم يكفنوه فيه فحفظت ما أغفله غيرها، وقالت أيضا: أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة يمنية
كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلة وقال: أكفن فيها؟ ثم قال:
لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكفن فيها فتصدق بها رواه مسلم، ولان حال الاحرام
339

أكمل أحوال الحي، وهو لا يلبس المخيط فكذلك حالة الموت. وأما إلباس النبي صلى الله عليه وسلم
عبد الله بن أبي قميصه فإنما فعل ذلك تكرمة لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي لأنه كان سأله ذلك
ليتبرك به أبوه ويندفع عنه العذاب ببركة قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل إنما فعل ذلك
جزاء لعبد الله بن أبي عن كسوته العباس قميصه يوم بدر
(فصل) ويستحب تجمير الأكفان وهو تجميرها بالعود فيجعل العود على النار في مجمر ثم
يبخر به الكفن حتى تعبق رائحته ويكون ذلك بعد أن يرش عليه ماء الورد لتعلق به الرائحة،
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا " رواه الإمام أحمد
وأوصى أبو سعيد وابن عمر وابن عباس أن تجمر أكفانهم بالعود، ولان هذا عادة الحي عند غسله
وتجديد ثيابه أن تجمر بالطيب والعود فكذلك الميت
* (مسألة) * (ثم يوضع عليها مستلقيا ويجعل الحنوط فيما بينها ويجعل منه في قطن يجعل بين أليتيه
ويشد فوقه خرقة مشقوقة لطرف كالتبان يجمع أليتيه ومثانته ثم يجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع
سجوده وإن طيبه كله كان حسنا)
وجملة ذلك أن المستحب أن يؤخذ أوسع اللفائف وأحسنها فتبسط أولا لتظهر للناس لأن هذا
عادة الحي يجعل الظاهر أفخر ثيابه ويجعل عليها حنوطا ثم تبسط الثانية التي تليها في الحسن والسعة عليها
ويجعل فوقها حنوطا وكافورا ثم تبسط فوقها الثالثة ويجعل فوقها حنوطا وكافورا ولا يجعل على وجه
العليا ولا على النعش شيئا من الحنوط لأن الصديق رضي الله عنه قال: لا تجعلوا على أكفاني حنوطا
ثم يحمل الميت مستورا بثوب فيوضع عليها مستلقيا لأنه أمكن لادراجه فيها، ويجعل من الحنوط
والكافور في قطن ويجعل منه بين أليتيه برفق ويكثر ذلك ليرد شيئا ان خرج منه حين تحريكه،
ويشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف كالتبان وهو السراويل بلا أكمام ليجمع أليتيه ومثانته ويجعل باقي
الطيب على منافذ وجهه في فيه ومنخره وعينيه لئلا يحدث منهن حادث وكذلك في الجراح النافذة
ويترك منه على مواضع السجود تشريفا لهذه الأعضاء المختصة بالسجود، ويطيب رأسه ولحيته لأن الحي
يتطيب هكذا، وإن طيبه كله كان حسنا
* (مسألة) * (ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر)
وإنما استحب ذلك لئلا يسقط عنه الطرف الأيمن إذا وضع على يمينه في القبر ثم يفعل بالثانية
والثالثة كذلك ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه لأنه أحق بالستر من رجليه، فالاحتياط
لستره بتكثير ما عنده أولى ثم يجمع ما فضل جمع وطرف العمامة (1) فيرده عند رأسه ورجليه، وإن خاف
انتشارها عقدها فإذا وضعه في قبره حلها لأن عقد هذا إنما كان للخوف من انتشارها وقد أمن بدفنه

(1) كذا بالأصل وفي المغنى (ثم يجمع ما فضل عند رأسه ورجليه فيرده على رأسه ورجليه)
340

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه لما أدخل نعيم بن مسعود الأشجعي القبر نزع الأخلة بفيه
وعن ابن مسعود وسمرة نحوه ولا يخرق الكفن لأنه افساد له
(فصل) وتكره الزيادة في الكفن على ثلاثة أثواب لما فيه من إضاعة المال وقد نهى عنه عليه
السلام، ويحرم ترك شئ مع الميت من ماله لغير حاجة لما ذكرنا إلا مثل ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم انه ترك تحته قطيفة في قبره فإن ترك نحوه فلا بأس
* (مسألة) * (وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز)
التكفين في القميص واللفافة والمئزر جائز إلا أن الأول أفضل، وهذا جائز لا كراهة فيه،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات رواه البخاري، فيؤزر بالمئزر ويلبس
القميص ثم يلف باللفافة بعد ذلك، وقال أحمد إن جعلوه قميصا فأحب إلي أن يكون مثل قميص له كمان
وتخاريصان وأزرار ولا يزر عليه القميص
(فصل) قال أبو داود قلت لأحمد يتخذ الرجل كفنه يصلي فيه أياما أو قلت يحرم فيه ثم يغسله
ويضعه لكفنه فرآه حسنا؟ قال: يعجبني أن يكون جديدا أو غسيلا وكره أن يلبسه حتى يدنسه
(فصل) ويجوز التكفين في ثوبين لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته دابته
" وكفنوه في ثوبين " رواه البخاري
(فصل) قال أحمد: يكفن الصبي في خرقة وان كفن في ثلاثة فلا بأس، وكذلك قال إسحق
ونحوه قال سعيد بن المسيب والثوري وأصحاب الرأي وغيرهم لا اختلاف بينهم في أن ثوبا يجزيه،
وان كفن في ثلاثة فلا بأس
* (مسألة) * (وتكفن المرأة في خمسة أثواب إزار وخمار وقميص ولفافتين)
قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب منهم
الشعبي ومحمد بن سيرين والنخعي والأوزاعي والشافعي وإسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي وكان عطاء
يقول تكفن في ثلاثة أثواب درع وثوب تحت الدرع تلف به وثوب فوقه تلف فيه. وقال موسى
341

ابن سليمان: درع وخمار ولفافة والصحيح الأول، وإنما استحب ذلك لأن المرأة تزيد في حال حياتها
على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته فكذلك بعد الموت، ولما كانت تلبس المخيط في احرامها
وهو أكمل أحوال الحي استحب إلباسها إياه بعد موتها بخلاف الرجل، وقد روى أبو داود باسناده
عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عند وفاتها فكان أول ما أعطانا الخفاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر
قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند الباب معه كفنها يناولناها ثوبا ثوبا، وروت أم عطية
ان النبي صلى الله عليه وسلم ناولها إزارا ودرعا وخمارا وثوبين
(فصل) قال المروذي: سألت أبا عبد الله في كم تكفن الجارية إذا لم تبلغ؟ قال في لفافتين وقميص
لا خمار فيه، وكفن ابن سيرين بنتا له قد أعصرت أي قاربت المحيض في قميص ولفافتين، وروي
في بقير ولفافتين. قال أحمد النقير القميص الذي ليس له كمان. والحد الذي تصير به الجارية في حكم
المرأة في الكفن هو البلوغ، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية المروذي لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " مفهومه ان غيرها لا تحتاج إلى خمار في صلاتها كذلك في كفنها
وروى عن أحمد أكثر أصحابه: إذا كانت بنت تسع يصنع بها ما يصنع بالمرأة واحتج بأن النبي صلى الله
عليه وسلم دخل بعائشة وهي بنت تسع، وقالت عائشة إذا بلغت الجارية تسعا فهي امرأة
342

(فصل) قال أحمد لا يعجبني أن يكفن في شئ من الحرير، وكره ذلك الحسن وابن المبارك
وإسحق قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم، وفي جواز تكفين المرأة بالحرير احتمالان:
أحدهما الجواز وهو أقيس لأنه من لبسها في حياتها، والثاني المنع لأنها إنما تلبسه في حياتها لأنها محل
للزينة والشهوة وقد زال ذلك، وعلى كل حال فهو مكروه، وكذلك يكره تكفينها بالمعصفر ونحوه لما
ذكرنا قال الأوزاعي: لا تكفين في الثياب المصبغة إلا ما كان من العصب يعني ما صنع بالعصب وهو بنت باليمن
(فصل) وان أحب أهل الميت أن يروه لم يمنعوا لما روى جابر قال: لما قتل أبي جعلت أكشف
الثوب عن وجهه وأبكي والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، وقالت عائشة رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبل عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل: والحديثان صحيحان
* (مسألة) * (والواجب من ذلك ثوب يستر جميعه لما روت أم عطية قالت: لما فرغنا يعني من غسل
ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إلينا حقوه فقال " أشعرنها إياه " ولم يزد على ذلك رواه البخاري،
وقال معنى أشعرنها الففنها فيه ولان العورة المغلظة يجزي في سترها ثوب واحد فكفن الميت أولى،
وهذا وجه لأصحاب الشافعي، وظاهر مذهبهم ان الواجب ما يستر العورة كالحي: وقال القاضي
لا يجزي للقادر أقل من ثلاثة أثواب، وروي نحوه عن عائشة. قال: لأنه لو أجزأ أقل منها لم يجز
التكفين بها في حق من له أيتام احتياطا لهم والصحيح الأول، وما احتج به القاضي لا يصح لأنه يجوز
التكفين بالحسن مع حصول الاجزاء بما دونه
(فصل) فإن لم يجد ثوبا يستر جميعه ستر رأسه وجعل على رجليه حشيش أو ورق كما روي عن
مصعب انه قتل يوم أحد فلم يوجد له شئ يكفن فيه إلا نمرة، فكانت إذا وضعت على رأسه بدت
رجلاه وإذا وضعت على رجليه خرج رأسه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطى رأسه ويجعل على
رجليه الإذخر رواه البخاري، فإن لم يجد الا ما يستر العورة سترها كحال الحياة، فإن كثر القتلى
وقلت الأكفان كفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، قال أنس: كثر القتلى وقلت
الثياب يعني يوم أحد قال: فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد ثم يدفنون في قبر واحد
رواه أبو داود والترمذي وهذا لفظه وقال حديث حسن غريب
343

* (فصل في الصلاة على الميت) *
والصلاة على الميت فرض كفاية لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا على من قال لا إله الا الله "
* (مسألة) * (السنة أن يقوم الإمام عند رأس الرجل ووسط المرأة)
المستحب أن يقوم الإمام في صلاة الجنازة حذاء رأس الرجل ووسط المرأة، وان وقف في غير
هذا الموضع خالف السنة وصحت صلاته وبه قال اسحق والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال الخرقي:
يقوم عند صدر الرجل وهو قريب من القول الأول لقرب أحدهما من الآخر، فالواقف عند أحدهما
واقف عند الآخر، وقال أبو حنيفة يقوم عند صدر الرجل والمرأة لأنهما سواء، فإذا وقف عند
صدر الرجل فكذلك المرأة، وقال مالك يقف عند وسط الرجل لأن ذلك يروى عن ابن مسعود
ويقف عند منكب المرأة لأن الوقوف عند أعاليها أمثل وأسلم، وروى سعيد قال حدثني خالد بن
يزيد بن أبي مالك الدمشقي قال حدثي أبي قال: رأيت واثلة بن الأسقع يصلي على الجنائز فإذا كانوا
رجالا صفهم ثم قام أوسطهم، وإذا كانوا رجالا ونساء جعل رأس أول امرأة عند ركبة الرحل
ثم يقوم وسط الرجال
ولنا ما روي أن أنسا صلى على رجل فقام عند رأسه ثم صلى على امرأة فقام حبال وسط السرير
فقال له العلاء بن زياد هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها، ومن
الرجل مقامك منه، قال نعم. فلما فرغ قال احفظوا، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن سمرة
قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها متفق عليه. والمرأة
تخالف الرجل في موقف الصلاة فجاز أن تخالفه ها هنا، وقيام الإمام عند وسطها أستر لها فكان أولى
* (مسألة) * (ويقدم إلى الإمام أفضلهم ويجعل وسط المرأة حذاء رأس الرجل، وقال القاضي
يسوى بين رؤوسهم)
إذا كانت الجنائز نوعا واحدا قدم أفضلهم إلى الإمام لأن الأفضل يلي الإمام في صف المكتوبة
فكذلك ها هنا، وقد دل على الأصل قوله عليه السلام " ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى فإن
تساووا في الفضل قدم الأكبر فالأكبر " نص عليه أحمد في رواية الميموني، فإن تساووا قدم السابق
وقال القاضي يقدم السابق وإن كان صبيا ولا تقدم المرأة وان كانت سابقة لموضع الذكورية، فإن
تساووا قدم الإمام من شاء، فإن تشاحوا أقرع بينهم
(فصل) فإن كانوا أنواعا كرجال وصبيان وخناثى ونساء قدم الرجال بغير خلاف في المذهب
الا ما حكينا من قول القاضي إذا سبق الصبي وهذا قول أكثر أهل العلم ثم يقدم بعدهم الصبيان.
هذا المنصوص عن أحمد في رواية الجماعة وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال الخرقي يقدم النساء
344

على الصبيان لأن المرأة شخص مكلف فهي أحوج إلى الشفاعة. وروى عمار مولى الحارث بن نوفل
انه شهد جنازة أم كلثوم وابنها فجعل الغلام مما يلي القبلة فأنكرت ذلك وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد
وأبو قتادة وأبو هريرة فقالوا هذا السنة
ولنا انهم يقدمون عليهن في الصف في الصلاة المكتوبة إذا اجتمعوا فكذلك عند اجتماع الجنائز
كالرجال. فأما حديث عمار فالصحيح فيه انه جعلها مما يلي القبلة وجعل ابنها مما يليه كذلك رواه
سعيد وعمار مولى بني سلمة عن عمار مولى بني هاشم، وأخرجه كذلك أبو داود والنسائي وغيرهما
ولفظه قال: شهدت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم ووضعت المرأة وراءه وفي القوم
أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة فقلنا لهم. فقالوا السنة
أما الحديث الأول فغير صحيح فإن زيد بن عمر هو ابن أم كلثوم الذي صلي عليه معها وكان
رجلا له أولاد، كذلك قال الزبير بن بكار ولان زيدا ضرب في حرب كانت بين بني عدي
في خلافة بعض بني أمية فصرع وحمل فمات ومثل هذا لا يكون الا رجلا
(فصل) ولا نعلم خلافا في تقديم الخنثى على المرأة لأنه يحتمل أن يكون رجلا، وأدنى أحواله
مساواته لها، ويقدم الحر على العبد لشرفه وتقديمه عليه في الإمامة وذلك في تقديم الكبير على الصغير
لذلك. وقد روى الخلال باسناده عن علي رضي الله عنه في جنازة حر وعبد ورجل وامرأة وصغير
وكبير، يجعل الرجل مما يلي الإمام والمرأة أمام ذلك، والكبير مما يلي الإمام والصغير أمام ذلك،
والحر مما يلي الإمام والمملوك أمام ذلك، فإن اجتمع حر صغير وعبد كبير فقال أحمد في رواية الحسن
ابن محمد يقدم الحر وإن كان غلاما، ونقل أبو الحارث يقدم الأكبر. قال شيخنا وهو أصح إن شاء الله
تعالى لأنه يقدم في الصف في الصلاة، وقول علي متعارض فإنه قد قال: يقدم الكبير على الصغير
كقوله يقدم الحر على العبد
(فصل) وإذا اجتمع رجل وامرأة فصلى عليهما جميعا جعل رأس الرجل حذاء وسط المرأة
في إحدى الروايتين عن أحمد اختاره أبو الخطاب ليكون موقف الإمام عند رأس الرجل ووسط
المرأة، والرواية الثانية يسوي بين رؤسهم اختارها القاضي وهو قول إبراهيم وأهل مكة وأبي حنيفة
ويروى ذلك عن ابن عمر، وروى سعيد باسناده عن الشعبي ان أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر
توفيا جميعا فأخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمير المدينة فسوى بين رؤوسهما وأرجلهما حين صلى عليهما
* (مسألة) * (ثم يكبر أربع تكبيرات يقرأ في الأولى الفاتحة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية)
وجملة ذلك أن التكبير على الجنازة أربع لا يجوز النقص منها ولا تسن الزيادة عليها لأن النبي
صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربعا متفق عليه. فيكبر الأولى ثم يستعيذ في الصحيح من
345

المذهب. وقال القاضي يخرج على روايتين كالاستفتاح ويقرأ الحمد يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم
كسائر الصلوات، ولا يسن الاستفتاح في المشهور عنه، قال أبو داود: سمعت أحمد يسأل عن الرجل
يستفتح الصلاة على الجنازة بسبحانك اللهم وبحمدك؟ قال ما سمعت. قال ابن المنذر: كان الثوري
يستحب أن يستفتح في صلاة الجنازة ولم نجده في كتب سائر أهل العلم، وقد روي عن أحمد مثل
قول الثوري لأن الاستعاذة فيها مشروعة فسن فيها الاستفتاح كسائر الصلوات
ولنا ان صلاة الجنازة شرع فيها التخفيف ولهذا لا يقرأ فيها بعد الفاتحة بشئ وليس فيها ركوع
ولا سجود. فأما التعوذ فهو سنة للقراءة مطلقا في الصلاة وغيرها لقول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن
فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) ولأصحاب الشافعي في الاستعاذة والاستفتاح وجهان
(فصل) وقراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الشافعي
وإسحق، وقال الثوري والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة لا يقرأ فيها بشئ لأن ابن مسعود قال: إن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيها قولا ولا قراءة ولان مالا ركوع فيه لا قراءة فيه كسجود التلاوة
ولنا ما روت أم شريك قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة
الكتاب رواه ابن ماجة. وعن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الجنازة أربعا وقرأ بفاتحة
الكتاب بعد التكبيرة الأولى رواه الشافعي في مسنده، ثم هو داخل في عموم قوله عليه السلام " لا صلاة
لمن لا يقرأ بأم القرآن " ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كسائر الصلوات. وحديث
ابن مسعود إن سح فإنما قال: لم يوقت أي لم يقدر، ولا يدل هذا على نفي أصل القراءة، وقد روى
عنه ابن المنذر انه قرأ على جنازة بفاتحة الكتاب، ثم لا يعارض ما رويناه لأنه نفي مقدم عليه الاثبات
وفارق سجود التلاوة فإنه لا قيام فيه والقراءة محلها القيام، ويستحب اسرار القراءة والدعاء والصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم فيها لا نعلم فيه خلافا ولا يقرأ بعد الفاتحة شيئا. وقد روي عن ابن عباس
انه جهر بفاتحة الكتاب في صلاة الجنازة، قال أحمد: إنما جهر ليعلمهم
(فصل) ويكبر الثانية ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، لما روي عن ابن عباس انه صلى
على جنازة بمكة فكبر ثم قرأ وجهر وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا لصاحبه فأحسن
ثم انصرف وقال: هكذا ينبغي أن تكون الصلاة على الجنازة، وعن أبي أمامة بن سهل انه أخبره
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن من السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم
يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى يقرأ في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص
الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شئ منهن ثم يسلم سرا في نفسه. رواه الشافعي في مسنده.
346

وصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كصفة الصلاة عليه في التشهد نص عليه أحمد وهو مذهب
الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألوه كيف نصلي عليك؟ علمهم ذلك، وإن أتى بها على
غير صفة التشهد فلا بأس لأن القصد مطلق الصلاة. وقال القاضي يقول: اللهم صلى على ملائكتك
المقربين، وأنبيائك والمرسلين، وأهل طاعتك أجمعين، من أهل السماوات وأهل الأرضين،
انك على كل شئ قدير. لأن أحمد قال في رواية عبد الله يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي
على الملائكة المقربين
* (مسألة) * (ويدعو في التكبيرة الثالثة)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " رواه أبو داود.
والدعاء ها هنا واجب لهذا الحديث ولأنه المقصود فلا يجوز الاخلال به، ويكفي أدنى دعاء لهذا
الحديث. قال أحمد: ليس على الميت دعاء مؤقت والأولى أن يدعو لنفسه ولوالديه وللميت وللمسلمين
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال " اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا،
وذكرنا وأنثانا " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى أبو داود عن أبي هريرة مثل
حديث أبي إبراهيم وزاد " اللهم من أحييته منا فأحيه على الايمان، ومن توفيته منا فتوفه على الاسلام،
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده " وفي حديث آخر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
" اللهم أنت ربها، فأنت خلقتها، وأنت هديتها للاسلام، وأنت قبضتها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها،
جئنا شفعاء، فاغفر له " رواه أبو داود. وعن عوف بن مالك الأشجعي قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم
على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول " اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله وأوسع
مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وابدله
دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأعذه من عذاب القبر ومن
عذاب النار " حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت، رواه مسلم. وذكر ابن أبي موسى انه يقول مع
ذلك: الحمد لله الذي أمات وأحيا، الحمد لله الذي يحي الموتى، له العظمة والكبرياء والملك والقدرة
والسناء، وهو على كل شئ قدير. اللهم انه عبدك ابن عبدك ابن أمتك، وأنت خلقته ورزقته،
وأنت أمته وأنت تحييه، وأنت تعلم سره، جئناك شفعاء له، فشفعنا فيه. اللهم إنا نستجير بحبل
جوارك له، انك ذو وفاء وذمة. اللهم وقه من فتنة القبر، ومن عذاب جهنم. اللهم إن كان محسنا
فجازه باحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه. اللهم قد نزل بك، وأنت خير منزول به، فقيرا إلى
رحمتك، وأنت غني عن عذابه. اللهم ثبت عند المسألة منطقه، ولا تبتله في قبره " وقال الخرقي
347

يقول في الدعاء: اللهم انه عبدك وابن أمتك، نزل بك وأنت خير منزول به، ولا نعلم إلا خيرا،
وقوله لا نعلم إلا خيرا إنما يقوله لمن لم يعلم منه شرا لئلا يكون كاذبا. وقد روى القاضي حديثا عن
عبد الله بن الحارث عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم علمهم الصلاة على الميت " اللهم اغفر لاحيائنا
وأمواتنا وصغيرنا وكبيرنا وشاهدنا وغائبنا. اللهم ان عبدك وابن عبدك نزل بفنائك، فاغفر له
وارحمه، ولا نعلم إلا خيرا " فقلت وأنا أصغر الجماعة يا رسول الله وإن لم أعلم خيرا؟ قال " لا تقل
إلا ما تعلم " وإنما شرع هذا للخبر ولان النبي صلى الله عليه وسلم لما أثني عنده على جنازة بخير قال
" وجبت " وأثني على جنازة أخرى بشر قال " وجبت " ثم قال " ان بعضكم على بعض شهداء "
رواه أبو داود. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما من عبد مسلم يموت فشهد له اثنان
من جيرانه الادنين بخير إلا قال الله تعالى قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا وغفرت له ما أعلم "
رواه الإمام أحمد في المسند، في لفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما من مسلم يموت فيقوم
رجلان من جيرانه الادنين فيقولان اللهم لا نعلم إلا خيرا. إلا قال الله تعالى قد قبلت شهادتهما لعبدي
وغفرت له ما لا يعلمان " أخرجه للالكائي
* (مسألة) * (وإن كان صبيا جعل مكان الاستغفار له اللهم اجعله ذخرا لوالديه وفرطا وأجرا
وشفيعا مجابا، اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما، واجعله في كفالة أبيه إبراهيم، وألحقه
بصالح سلف المؤمنين، وقه برحمتك عذاب الجحيم، اللهم اغفر لاسلافنا وافراطنا ومن سبقنا بالايمان)
وبأي شئ دعا مما ذكرنا أو نحوه أجزأ
* (مسألة) * (ثم يقف بعد الرابعة قليلا ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه)
ظاهر كلام شيخنا رحمه الله انه لا يدعو بعد الرابعة نقل ذلك عن أحمد جماعة من أصحابه أنه قال
: لا أعلم فيه شيئا لأنه لو كان فيه دعاء مشروع لنقل، وعن أحمد انه يدعو ثم يسلم لأنه قيام في
صلاة الجنازة فكان فيه ذكر مشروع كالذي قبل الرابعة. قال ابن أبي موسى وأبو الخطاب يقول:
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) وقيل يقول: اللهم لا تحرمنا أجره،
ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله. والخلاف ها هنا في الاستحباب ولا خلاف في المذهب انه غير
واجب. وقد روى الجوزجاني باسناده ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر أربعا ثم يقول ما شاء الله
ثم ينصرف. قال الجوزجاني: أحسب هذه الوقفة ليكبر آخر الصفوف، فإن الإمام إذا كبر ثم سلم
خفت أن يكون تسليمه قبل أن يكبر آخر الصفوف، فإن كان هكذا فالله عز وجل الموفق له، وإن
كان غير ذلك فاني أبرأ إلى الله عز وجل من أن أتأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا لم
يرده، أو أراد خلافه
348

(فصل) والتسليم واجب فيها لقوله عليه السلام " وتحليلها التسليم " والسنة أن يسلم على الجنازة
تسليمة واحدة. قال أحمد: التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن ستة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وليس فيها اختلاف إلا عن إبراهيم، روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وجابر
وأبي هريرة وأنس وابن أبي أوفى وواثلة بن الأسقع وبه قال سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين
وأبو إمامة بن سهل والقاسم بن محمد وإبراهيم النخعي والثوري وابن عيينة وابن المبارك وعبد الرحمن
ابن مهدي وإسحق. قال ابن المبارك: من سلم على الجنازة تسليمتين فهو جاهل جاهل، واختار
القاضي أن المستحب تسليمتان وواحدة تجزي وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي قياسا على سائر الصلوات
ولنا ما روى عطاء بن السائب ان النبي صلى الله عليه وسلم سلم على الجنازة تسليمة واحدة رواه
الجوزجاني ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا، واختيار
القاضي في هذه المسألة مخالف لقول إمامه وأصحابه ولاجماع الصحابة والتابعين رحمة الله عليهم.
ويستحب أن يسلمها عن يمينه وإن سلم تلقاء وجهه فلا بأس. وسئل أحمد يسلم تلقاء وجهه؟ قال كل
هذا جائز. وأكثر ما روي فيه عن يمينه، قيل خفية؟ قال نعم. يعني إن الكل جائز. والتسليم عن
يمينه أولى لأنه أكثر ما روي وهو أشبه بسائر الصلوات. قال أحمد: يقول السلام عليكم ورحمة الله
وروى عنه علي بن سعيد أنه قال: إذا قال السلام عليكم أجزأه، وروى الخلال باسناده عن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه انه صلى على يزيد بن المكفف فسلم واحدة عن يمينه السلام عليكم
(فصل) وروي عن مجاهد أنه قال: إذا صليت فلا تبرح مصلاك حتى ترفع. قال ورأيت
عبد الله بن عمر لا يبرح مصلاه إذا صلى على جنازة حتى يراها على أيدي الرجال. قال الأوزاعي
لا تنقص الصفوف حتى ترفع الجنازة
* (مسألة) * (ويرفع يديه مع كل تكبيرة)
أجمع أهل العلم على أن المصلي على الجنازة يرفع يديه في التكبيرة الأولى، ويستحب أن يرفع
يديه في كل تكبيرة، يروى ذلك عن سالم وعمر بن عبد العزيز وعطاء وقيس بن أبي حازم والزهري
وإسحق وابن المنذر والأوزاعي والشافعي، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة لا يرفع يديه إلا في
الأولى لأن كل تكبيرة مقام ركعة ولا ترفع الأيدي في جميع الركعات
ولنا ما روى عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في كل تكبيرة
رواه ابن أبي موسى. وعن ابن عمر وأنس انهما كانا يفعلان ذلك ولأنها تكبيرة حال الاستقرار
أشبهت الأولى وما قاسوا عليه ممنوع. إذا ثبت ذلك فإنه يحط يديه إذا رفعهما عند انقضاء التكبيرة
349

ويضع يده اليمنى على اليسرى كما في بقية الصلوات، وفيما روى ابن أبي موسى ان النبي صلى الله عليه
وسلم صلى على جنازة فوضع يمينه على شماله
(فصل) والواجب من ذلك التكبيرات والقيام وقراءة الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم وأدنى دعاء للميت والسلام لما ذكرنا من قبل.
ويشترط لها النية وسائر شروط المكتوبة قياسا عليها إلا الوقت ويسقط بعض واجباتها عن
المسبوق على ما سيأتي، ولا يجزي أن يصلي على الجنازة راكبا لأنه يفوت القيام الواجب وهو قول
أبي حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا
(فصل) ويستحب أن يصف في الصلاة على الجنازة ثلاثة صفوف لما روى الخلال باسناده
عن مالك بن هبيرة وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى عليه ثلاثة
صفوف فقد أوجب " قال فكان مالك بن هبيرة إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة أجزاء. قال
الترمذي هذا حديث حسن. قال أحمد أحب إذا كان فيهم قلة أن يجعلهم ثلاثة صفوف. قيل له
فإن كان وراءه أربعة؟ قال يجعلهم صفين في كل صف رجلين، وكره أن يكون في صف رجل واحد
وذكر ابن عقيل ان عطاء بن أبي رباح روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكانوا
سبعة فجعل الصف الأول ثلاثة والثاني اثنين والثالث واحدا. قال ابن عقيل ويعايا بها فيقال أين
تجدون فذا انفراده أفضل؟ قال شيخنا: ولا أحسب هذا الحديث صحيحا فإنني لم أره في غير
كتاب ابن عقيل وقد صار أحمد إلى خلافه ولو علم فيه حديثا لم يعده إلى غيره، والصحيح في هذا
أن يجعل كل اثنين صفا
(فصل) ويستحب تسوية الصف في صلاة الجنازة نص عليه أحمد. وقيل لعطاء حد على
الناس أن يصفوا على الجنازة كما يصفون في الصلاة؟ قال لا قوم يدعون ويستغفرون. وكره أحمد قول
عطاء هذا وقال يسوون صفوفهم فإنها صلاة ولان النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم
الذي مات فيه وخرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا متفق عليه. وعن أبي المليح انه صلى على
جنازة فالتفت فقال استووا ولتحسن شفاعتكم
* (مسألة) * (وان كبر الإمام خمسا كبر بتكبيره، وعنه لا يتابع في زيادة على أربع، وعنه يتابع إلى سبع)
لا يختلف المذهب انه لا تجوز الزيادة على سبع تكبيرات ولا النقص من أربع، والأولى أن لا
يزاد على أربع فإن كبر الإمام خمسا تابعه المأموم في ظاهر المذهب، ولا يتابعه فيما زاد عليها كذلك
رواه الأثرم وهو ظاهر كلام الخرقي، وعنه لا يتابعه في زيادة على أربع ولكن لا يسلم الا مع الإمام،
350

نقلها عنه حرب اختارها ابن عقيل، وهذا قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي لأنها زيادة غير
مسنونة للإمام فلا يتابعه المأموم فيها كالقنوت في الركعة الأولى والرواية الأولى هي الصحيحة.
قال الخلال كل من روى عن أبي عبد الله يخالف حربا
ولنا ما روي عن زيد بن أرقم انه كبر على جنازة خمسا وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبرها
أخرجه مسلم ورواه سعيد وفيه فسئل عن ذلك فقال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى سعيد
باسناده عن مولى لحذيفة انه كبر على جنازة خمسا فقيل له؟ فقال مولاي وولي نعمتي صلى على جنازة
وكبر عليها خمسا، وذكر حذيفة ان النبي صلى عليه وسلم فعل ذلك، وباسناده أن عليا صلى على
سهل بن حنيف فكبر عليه خمسا، وروى الخلال باسناده قال: كل ذلك قد كان أربعا وخمسا
وأمر الناس بأربع. قال أحمد في اسناد حديث زيد بن أرقم اسناده جيد، ومعلوم ان المصلين معه
كانوا يتابعونه وهذا أولى مما ذكروه. فأما ان زاد على خمس ففيه أيضا روايتان: إحداهما لا يتابعه
المأموم لأن المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خلافها، والثانية يتابعه إلى سبع. قال الخلال
ثبت القول عن أبي عبد الله انه يكبر مع الإمام إلى سبع ثم لا يزاد عليه، وهذا قول بكر بن عبد الله
المزني لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كبر على حمزة سبعا رواه ابن شاهين وكبر علي على
ابن أبي قتادة سبعا وعلى سهل بن حنيف ستا وقال إنه بدري. وروى أن عمر رضي الله عنه جمع
الناس فاستشارهم فقال بعضهم كبر النبي صلى الله عليه وسلم سبعا، وقال بعضهم أربعا فجمع عمر الناس
على أربع تكبيرات وقال: هو أطول الصلاة. وإذا قلنا لا يتابعه لم يسلم حتى يسلم إمامه. قال ابن
عقيل لا يختلف قول أحمد إذا كبر الإمام زيادة على أربع انه لا يسلم قبل إمامه على الروايات الثلاث
بل يقف ويسلم معه وهو مذهب الشافعي. وقال الثوري وأبو حنيفة ينصرف كما لو قام الإمام إلى
خامسة. قال أبو عبد الله ما أعجب حال الكوفيين سفيان ينصرف إذا كبر الخامسة والنبي صلى الله
عليه وسلم كبر خمسا وفعله زيد بن أرقم وحذيفة. وقال ابن مسعود كبر ما كبر إمامك ولأن هذه
زيادة مختلف فيها فلم يسلم قبل إمامه إذا اشتغل به كما لو صلى خلف من يقنت في صلاة يخالفه المأموم
في القنوت فيها، وهذا يخالف ما قاسوا عليه من وجهين: أحدهما ان زيادة الركعة الخامسة لا خلاف
فيه، الثاني ان الركعة زيادة فعل وهذه زيادة قول، وكل تكبيرة قلنا يتابع الإمام فيها فله فعلها وما لا فلا
(فصل) فإن زاد على سبع لم يتابعه نص عليه أحمد. وقال في رواية أبي داود: ان زاد على
سبع فينبغي أن يسبح به ولا أعلم أحدا قال بالزيادة على سبع الا عبد الله بن مسعود. قال علقمة روي أن
أصحاب عبد الله قالوا له ان أصحاب معاذ يكبرون على الجنائز خمسا فلو وقت لنا وقتا؟ فقال إذا
تقدمكم إمام فكبروا ما يكبر فإنه لا وقت ولا عدد. رواه سعيد والأثرم، والصحيح انه لا يزاد عليها
351

لأنه لم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، ولكن لا يسلم حتى يسلم
إمامه لما ذكرنا
(فصل) والأفضل أن لا يزيد على أربع لأن فيه خروجا من الخلاف وأكثر أهل العلم
يرون التكبير أربعا منهم عمر وابنه وزيد بن ثابت وجابر وابن أبي أوفى والحسن بن علي والبراء بن
عازب وأبو هريرة وعقبة بن عامر وابن الحنفية وعطاء والأوزاعي وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري
والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربعا متفق عليه، وكبر على قبر بعدما دفن
أربعا، وجمع عمر الناس على أربع ولان أكثر الفرائض لا يزيد على أربع
(فصل) ولا يجوز النقص من أربع وروي عن ابن عباس أنه كبر على الجنازة ثلاثة ولم يعجب
ذلك أبا عبد الله وقال قد كبر أنس ثلاثا ناسيا فأعاد ولأنه خلاف ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولان
الصلاة الرباعية إذا أنقص منها ركعة بطلت كذا هنا فعلى هذا ان نقص منها تكبيرة عامدا بطلت
لأنه ترك واجبا فيها عمدا وان تركها سهوا احتمل أن يعيدها كما فعل أنس واحتمل أن يكبرها ما لم
يطل الفصل كما لو نسي ركعة ولا يشرع لها سجود سهو في الموضعين
(فصل) قال أحمد يكبر إلى سبع ثم يقطع لا يزيد على ذلك حتى ترفع الأربع، قال أصحابنا إذا
كبر على جنازة ثم جئ بأخرى كبر الثانية عليهما أو ينويهما فإن جئ بثالثة كبر الثالثة عليهن
ونواهن فإن جئ برابعة كبر الرابعة عليهن ونواهن ثم يكمل التكبير عليهن إلى سبع ليحصل للرابعة
أربع إذ لا يجوز النقصان منهن ويحصل للأولى سبع وهو أكثر ما ينتهي إليه التكبير فإن جئ بخامسة
لم ينوها بالتكبير لأنه دائر بين أن يزيد على سبع أو ينقص في تكبيرها عن أربع، وكلاهما لا يجوز
وهكذا ان جئ بثانية بعد أن كبر الرابعة لم يجز أن يكبر عليها الخامسة لما بينا، فإن أراد أهل
الجنازة الأولى دفعها قبل سلام الإمام لم يجز لأن السلام ركن لا تتم الصلاة الا به إذا تقرر هذا فإنه
يقرأ في التكبيرة الخامسة الفاتحة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في السادسة ويدعو للميت في
السابعة ليكمل لجميع الجنائز القراءة والأذكار كما كمل لهن التكبيرات وذكر ابن عقيل وجها قال يحتمل
أن يكبر ما زاد على الأربع متابعا كما قلنا في القضاء للمسبوق، والصحيح الأول لأن ما بعد الأول
جنائز فاعتبر في الصلاة عليهن شروط الصلاة كالأولى
* (مسألة) * (ومن فاته شئ من التكبير قضاه على صفته وقال الخرقي يقضيه متتابعا)
يستحب للمسبوق في صلاة الجنازة قضاء ما فاته منها وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي
والزهري وابن سيرين وقتادة ومالك والثوري والشافعي واسحق وأصحاب الرأي لقوله عليه السلام
" فما أدركتم فصلوا " وفي لفظ " فأتموا " وقياسا على سائر الصلوات ويكون القضاء على صفة الأداء لما
352

ذكرنا، فعلى هذا إذا أدرك الإمام في الدعاء تابعه فيه فإذا سلم الإمام كبر وقرأ الفاتحة ثم كبر وصلى
على النبي صلى الله عليه وسلم ثم كبر وسلم وقال الشافعي متى دخل المسبوق في الصلاة ابتدأ الفاتحة ثم
أتى بالصلاة في الثانية، ووجه الأولى أن المسبوق في سائر الصلوات يقرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة
على صفة ما فاته فينبغي أن يأتي ها هنا بالقراءة على صفة ما فاته قياسا عليه. وقال الخرقي يقضيه متتابعا
وكذلك روي عن أحمد وحكاه عن إبراهيم قال يبادر بالتكبير متتابعا، لما روى نافع عن ابن عمر أنه قال
لا يقضي فإن كبر متتابعا فلا بأس ولم يعرف له مخالف في الصحابة فكان إجماعا وكذا قال ابن
المنذر يقضيه متواليا وقال القاضي وأبو الخطاب: ان رفعت الجنازة قبل اتمام التكبير قضاه متواليا وإن
لم ترفع قضاه على صفته كما سبق.
* (مسألة) * (فإن سلم ولم يقضه فعلى روايتين)
إحداهما لا تصح وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لما ذكرنا من الحديث والمعنى،
والثانية تصح اختارها الخرقي لما ذكرنا من حديث ابن عمر. وقد روي عن عائشة انها قالت: يا رسول الله
إني أصلي على الجنازة ويخفى علي بعض التكبير؟ قال " ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك "
وهذا صريح، ولأنها تكبيرات متواليات حال القيام فلم يجب قضاء ما فات منها كتكبيرات العيد.
وحديثهم ورد في الصلوات الخمس بدليل قوله في صدر الحديث " فلا تأتوها وأنتم تسعون " وفي
رواية سعى في جنازة سعد حتى سقط رداؤه عن منكبيه فعلم أنه لم يرد بالحديث هذه الصلاة، والقياس
على سائر الصلوات لا يصح لأنه لا يقضي في شئ من الصلوات التكبير المنفرد ويبطل بتكبيرات العيد
(فصل) إذا أدرك لإمام بين تكبيرتين فعن أحمد انه ينتظر الإمام حتى يكبر معه وهو قول
أبي حنيفة والثوري وإسحق لأن التكبيرات كالركعات ثم لو فاتته ركعة لم يتشاغل بقضائها كذلك
التكبيرة، والثانية يكبر ولا ينتظر وهو قول الشافعي لأنه في سائر الصلوات إذا أدرك الإمام كبر معه
ولم ينتظر، وليس هذا اشتغالا بقضاء ما فاته وإنما يصلي معه ما أدركه فيجزيه ذلك كالذي يتأخر عن
تكبير الإمام قليلا وعن مالك كالروايتين. قال ابن المنذر: سهل أحمد في القولين جميعا ومتى أدرك الإمام
في التكبيرة الأولى فكبر وشرع في القراءة ثم كبر الإمام قبل أن يتمها فإنه يكبر ويتابعه ويقطع القراءة
كالمسبوق في بقية الصلوات إذا ركع الإمام قبل اتمامه القراءة
* (مسألة) * (ومن فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر إلى شهر)
من فاتته الصلاة على الجنازة فله أن يصلي عليها ما لم تدفن، فإن دفنت فله أن يصلي على القبر
إلى شهر، هذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن أبي موسى وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم
وهو مذهب الأوزاعي والشافعي. وقال النخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة لا تعاد الصلاة على الميت
353

إلا للولي إذا كان غائبا ولا يصلى على القبر إلا كذلك، ولو جاز ذلك لصلي على قبر النبي صلى الله
عليه وسلم في جميع الأعصار
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا مات فقال " فدلوني على قبره " فأتى قبره فصلى
عليه متفق عليه. وعن ابن عباس انه مر مع النبي صلى الله عليه وسلم بقبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه
قال أحمد ومن يشك في الصلاة على القبر يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها
حسان، ولان غير الولي من أهل الصلاة فسنت له الصلاة كالولي وإنما لم يصل على قبر النبي صلى الله
عليه وسلم لأنه لا يصلى على القبر بعد شهر
(فصل) ولا يصلى على القبر بعد شهر ويصلى قبله وبهذا قال بعض أصحاب الشافعي. وقال
بعضهم يصلى عليه أبدا واختاره ابن عقيل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد بعد
ثماني سنين حديث صحيح. وقال بعضهم يصلى عليه ما لم يبل جسده، وقال أبو حنيفة يصلي عليه الولي
خاصة إلى ثلاث. وقال إسحق يصلي عليه الغائب إلى شهر والحاضر إلى ثلاث
ولنا ما روى سعيد بن المسيب ان أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب فلما قدم صلى
عليها وقد مضى لذلك شهر. قال أحمد: أكثر ما سمعت ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد
ابن عبادة بعد شهر، ولأنها مدة يغلب على الظن بقاء الميت أشبهت الثلاثة أو كالغائب، وتجويز
الصلاة عليه مطلقا باطل بأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلى عليه الآن اجماعا، وكذلك التحديد
ببلى الميت لكونه عليه السلام لا يبلى، فإن قيل فالخبر دل على الصلاة بعد شهر فكيف منعتموه.
قلنا تحديده بالشهر يدل على أن صلاته عليه الصلاة والسلام كانت عند رأس الشهر ليكون مقاربا للحد
وتجوز الصلاة بعد الشهر قريبا منه لدلالة الخبر عليه، ولا يجوز بعد ذلك لعدم وروده فيه
(فصل) ومن صلى عليها مرة فلا تسن له إعادة الصلاة عليها، وإذا صلى على الجنازة لم توضع
لاحد يصلي عليها ويبادر بدفنها. قال القاضي الا أن يرجى مجئ الولي فتؤخر الا أن يخاف تغيره،
وقال ابن عقيل لا ينتظر به أحدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن البراء " عجلوا به فإنه
لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله " وأما من أدرك الجنازة ممن لم يصل فله أن يصلي
عليها فعله علي وأنس وسلمان بن ربيعة وأبو حمزة رضي الله عنهم
(فصل) ويصلى على القبر وتعاد عليه الصلاة جماعة وفرادى نص عليهما أحمد. وقال وما
بأس بذلك قد فعله عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث ابن عباس قال: انتهى
النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصفوا خلفه فكبر أربعا. متفق عليه
* (مسألة) * (ويصلى على الغائب بالنية فإن كان في أحد جانبي البلد لم تصح عليه بالنية في أصح الوجهين)
354

تجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية بعيدا كان البلد أو قريبا، فيستقبل القبلة ويصلي عليه
كصلاته على الحاضر، وسواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن وبهذا قال الشافعي. وقال مالك
وأبو حنيفة لا يجوز، وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية كقولهما ليس من شرط الصلاة على الجنازة
حضورها بدليل ما لو كان في البلد
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه وصلى بهم
بالمصلى فكبر عليه أربعا متفق عليه. فإن قيل فيحتمل ان النبي صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض
فأري الجنازة قلنا لم ينقل ذلك ولو كان لاخبر به
ولنا الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه ولان الميت مع البعد لا تجوز الصلاة
عليه، وان رئي ثم لو اختصت الرؤية بالنبي صلى الله عليه وسلم لا اختصت الصلاة به وقد صف النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه فصلى بهم، فإن قيل لم يكن بالحبشة من يصلي عليه. قلنا ليس هذا مذهبكم فإنكم لا تجيزون
الصلاة على الغريق والأسير، وإن كان لم يصلى عليه ولان هذا بعيد لأن النجاشي كان ملك الحبشة
وقد أظهر اسلامه فيبعد انه لم يوافقه أحد يصلي عليه
(فصل) فإن كان الميت في أحد جانبي البلد لم يصل عليه من في الجانب الآخر في أصح الوجهين
اختاره أبو حفص البرمكي لأنه يمكنه الحضور للصلاة عليه أو على قبره أشبه ما لو كانا في جانب واحد
والثاني يجوز كما لو كان في بلد آخر. وقد روي عن ابن حامد انه صلى على ميت مات في أحد
جانبي بغداد وهو في الآخر
* (فصل) * وتتوقت الصلاة على الغائب بشهر كالصلاة عى القبر لأنه لا يعلم بقاؤه من غير تلاش
أكثر من ذلك، فعلى هذا قال ابن عقيل في أكيل السبع والمحترق بالنار يحتمل أن لا يصلى عليه
لذهابه، ويصلى على الغريق إذا غرق قبل الغسل كالغائب البعيد لأن الغسل تعذر لمانع أشبه الحي
إذا عجز عن الغسل والتيمم صلى على حسب حاله
* (مسألة) * (ولا يصلي الإمام على الغال ولا من قتل نفسه)
الغال هو الذي يكتم غنيمته أو بعضها ليأخذها لنفسه ويختص بها فهذا لا يصلي عليه الإمام ولا
على قاتل نفسه عمدا ويصلي عليهما سائر الناس نص على هذا أحمد: وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي
لا يصلى على قاتل نفسه بحال لأن من لا يصلي عليه الإمام لا يصلي عليه غيره كشهيد المعركة، وقال
عطاء والنخعي والشافعي يصلي الإمام وغيره على جميع المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا على من
قال لا إله إلا الله " رواه الحلال باسناده
ولنا ما روى جابر بن سمرة ان النبي صلى الله عليه وسلم جاؤه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه
355

رواه مسلم. وروى أبو داود نحوه، وعن زيد بن خالد الجهني قال: توفي رجل من جهينة يوم خيبر
فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " صلوا على صاحبكم " فتغيرت وجوه القوم، فلما رآى ما بهم
قال " ان صاحبكم غل من الغنيمة " احتج به أحمد واختص الامتناع بالإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما
امتنع من الصلاة على الغال قال " صلوا على صاحبكم " وروي انه أمر بالصلاة على قاتل نفسه، وكان
صلى الله عليه وسلم هو الإمام فألحق به من ساواه في ذلك، ولا يلزم من ترك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ترك صلاة غيره
فإنه كان في بدء الاسلام لا يصلي على من عليه دين لا وفاء له ويأمرهم بالصلاة عليه، فإن قيل هذا
خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن صلاته سكن. قلنا ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه ثبت في
حق غيره ما لم يقم على اختصاصه به دليل. فإن قيل فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من
عليه دين. قلنا ثم صلى عليه بعد، فروى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه
الدين فيقول " هل ترك لدينه من وفاء " فإن حدث انه ترك وفاء صلى عليه وإلا قال للمسلمين " صلوا
على صاحبكم " فلما فتح الله الفتوح قام فقال " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين
وترك دينا علي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته " قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولولا النسخ
كان كمسئلتنا، وهذه الأحاديث خاصة فيجب تقديمها على قوله " صلوا على من قال لا إله إلا الله "
* (فصل) * قال أحمد: لا أشهد الجهمية ولا الرافضة ويشهده من شاء، قد ترك النبي صلى الله عليه وسلم
الصلاة على أقل من ذا: الدين والغلول وقاتل نفسه، وقال: لا يصلى على الواقفي " وقال أبو بكر بن
عياش: لا أصلي على رافضي ولا حروري. وقال الفريابي: من شتم أبا بكر فهو كافر لا يصلى عليه. قيل له
فكيف تصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال لا تمسوه بأيديكم ادفعوا بالخشب حتى تواروه. وقال
أحمد: أهل البدع لا يعادون ان مرضوا، ولا تشهد جنائزهم ان ماتوا، وهو قول مالك. قال ابن
عبد البر: وسائر العلماء يصلون على أهل البدع والخوارج وغيرهم لعموم قوله عليه السلام " صلوا
على من قال لا إله إلا الله "
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة بأدون من هذا فأولى أن تترك الصلاة به، وروى ابن عمر
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان لكل أمة مجوسا وان مجوس أمتي الذين يقولون لا قدر،
فإن مرضوا فلا تعودوهم، وان ماتوا فلا تشهدوهم " رواه الإمام أحمد
* (فصل) * ولا يصلى على أطفال المشركين لأن لهم حكم آبائهم الامن حكمنا باسلامه بان يسلم أحد
أبويه أو يموت أو يسبى منفردا من أبويه أو من أحدهما فإنه يصلى عليه، وقال أبو ثور فيمن سبي مع
أحد أبويه لا يصلى عليه حتى يختار الاسلام ولنا أنه محكوم باسلامه أشبه من سبي منفردا منهما
356

* (فصل) * ويصلى على سائر المسلمين أهل الكبائر والمرجوم في الزنا وغيرهم قال أحمد من استقبل
قبلتنا وصلى صلاتنا نصلى عليه وندفنه ونصلي على ولد الزنا والزانية والذي يقاد منه في القصاص أو
يقتل في حد. وسئل عمن لا يعطى زكاة ماله قال نصلي عليه ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد
إلا على قاتل نفسه والغال وهذا قول عطاء والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة قال لا يصلى
على البغاة ولا على المحاربين لأنهم باينوا أهل الاسلام أشبهوا أهل دار الحرب وقال مالك لا يصلى
على من قتل في حد لأن أبا برزة الأسلمي قال لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك ولم
ينه عن الصلاة عليه، رواه أبو داود
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا على من قال لا إله إلا الله " رواه الخلال وروي عن
أبي شميلة، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء فاستقبله رهط من الأنصار يحملون جنازة على
باب فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ قالوا مملوك لآل فلان قال " أكان يشهد أن لا إله الا الله " قالوا
نعم ولكنه كان وكان فقال " أكان يصلي؟ " قالوا قد كان يصلي ويدع فقال لهم " ارجعوا به فغسلوه
وكفنوه وصلوا عليه وادفنوه والذي نفسي بيده لقد كادت الملائكة تحول بيني وبينه "
وأما أهل الحرب فلا يصلى عليهم لكفرهم لا تقبل فيهم شفاعة ولا يستجاب فيهم دعاء وقد نهينا
عن الاستغفار لهم، وأما ترك الصلاة على ماعز فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة عليه
لعذر بدليل أنه صلى على الغامدية فقال له عمر ترجمها وتصلي عليها فقال " لقد تابت توبة لو قسمت على
أهل المدينة لوسعتهم " كذلك رواه الأوزاعي وروى معمر وهشام أنه أمرهم بالصلاة عليها والله أعلم
* (مسألة) * (وان وجد بعض الميت غسل وصلي عليه وعنه لا يصلى على الجوارح)
وهذا المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعي وعنه لا يصلى على الجوارح نقلها عنه ابن منصور
قال الخلال ولعله قول قديم لأبي عبد الله والأول الذي استقر عليه قوله. وقال أبو حنيفة ومالك ان
وجد الأكثر صلي عليه والا فلا لأنه بعض لا يزيد على النصف فلم يصل عليه كالذي بان في حياة
صاحبه والشعر والظفر.
ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم قال أحمد صلى أبو أيوب على رجل وصلى عمر على عظام بالشام
وصلى أبو عبيدة على رؤوس بالشام رواهما عبد الله بن أحمد باسناده وقال الشافعي القى طائر يدا بمكة
من وقعة الجمل عرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فصلى عليها أهل مكة وكان
ذلك بمحضر من الصحابة ولم نعرف من الصحابة مخالفا في ذلك ولأنه بعض من جملة تجب الصلاة
عليها فيصلى عليه كالأكثر وفارق ما بان في الحياة لأنه من جملة لا يصلى عليها والشعر والظفر لا حياة فيه
357

* (فصل) * وان وجد الجزء بعد دفن الميت غسل وصلي عليه ودفن إلى جانب القبر أو نبش
بعض القبر ودفن فيه ولا حاجة إلى كشف الميت لأن ضرر نبش الميت وكشفه أعظم من
الضرر بتفرقة أجزائه.
* (مسألة) * (وإن اختلط من يصلى عليه بمن لا يصلى عليه صلي على الجميع ينوي من يصلى عليه)
قال أحمد ويجعلهم بينه وبين القبلة ثم يصلي عليهم، وهذا قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة
إن كان المسلمون أكثر صلي عليهم والا فلا لأن الاعتبار بالأكثر بدليل أن دار المسلمين الظاهر
فيها الاسلام لكثرة المسلمين بها وعكسها دار الحرب لكثرة الكفار بها
ولنا أنه أمكن الصلاة على المسلمين من غير ضرر فوجب كما لو كانوا أكثر ولأنه إذا جاز أن
يقصد بصلاته ودعائه الأكثر جاز أن يقصد الأقل ويبطل ما قالوه بما إذا اختلطت أخته بأجنبيات
أو ميتة بمذكيات فإنه يثبت الحكم للأقل دون الأكثر
* (فصل) * وإن وجد ميت فلم يعلم أمسلم هو أم كافر؟ نظر إلى العلامات من الختان والثياب
والخضاب فإن لم يكن عليه علامة وكان في دار الاسلام غسل وصلي عليه، وإن كان في دار الكفر
لم يغسل ولم يصل عليه، نص عليه أحمد لأن الأصل أن من كان في دار فهو من أهلها يثبت له
حكمهم ما لم يقم على خلافه دليل.
* (مسألة) * (ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد إذا لم يخف تلويثه)
وبهذا قال الشافعي وإسحق وأبو ثور وداود وكره ذلك مالك وأبو حنيفة لأنه روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له " رواه أحمد في المسند
ولنا ما روى مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن
بيضاء إلا في المسجد، وروى سعيد قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه قال
صلي على أبي بكر في المسجد وقال حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال صلي على عمر بالمسجد وهذا
كان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر فكان اجماعا ولأنها صلاة فلم يمنع منها في المسجد
كسائر الصلوات وحديثهم يرويه صالح مولى التؤمة وقد قال فيه ابن عبد البر: من أهل العلم من لا يحتج
بحديثه أصلا لضعفه، ومنهم من يقبل منه ما رواه عن ابن أبي ذئب خاصة ثم يحمل على من خيف
منه الانفجار وتلويث المسجد.
* (فصل) * فاما الصلاة على الجنازة في المقبرة ففيها روايتان إحداهما لا بأس بها لأن النبي صلى
358

صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وهو في المقبرة، وقال ابن المنذر ذكر نافع أنه صلي على عائشة وأم
سلمة وسط قبور البقيع، صلى على عائشة أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر وفعله عمر بن عبد العزيز
والرواية الثانية يكره، روي ذلك عن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وبه قال عطاء
والنخعي والشافعي واسحق وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة
والحمام " ولأنه ليس بموضع للصلاة غير صلاة الجنازة فكرهت فيه صلاة الجنازة كالحمام
* (مسألة) * (وإن لم يحضره إلا النساء صلين عليه)
لأن عائشة رضي الله عنها أمرت أن يؤتى بسعد بن أبي وقاص لتصلي عليه، ولان الصلاة على
الميت صلاة مشروعة فتشرع في حقهن كسائر الصلوات
* (فصل في حمل الميت ودفنه) *
* (مسألة) * (يستحب التربيع في حمله)
ومعناه الأخذ بقوائم السرير الأربع وهو سنة لقول ابن مسعود رضي الله عنه: إذا اتبع أحدكم
جنازة فيأخذ بجوانب السرير الأربع ثم ليتطوع بعد أو ليذر فإنه من السنة رواه سعيد في سننه وهذا
يقتضي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
* (مسألة) * قال (وهو أن يضع قائمة السرير اليسرى المقدمة على كتفه اليمنى ثم ينتقل إلى
المؤخرة ثم يضع قائمته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى المؤخرة)
هذا صفة لتربيع في المشهور في المذهب اختاره الخرقي واليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وعن أحمد
أنه يدور عليها فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة يامنة المؤخرة ثم المقدمة وهو مذهب اسحق، روي ذلك عن
ابن مسعود وابن عمر وسعيد بن جبير وأيوب ولأنه أخف، ووجه الأول أنه أحد الجانبين فينبغي
أن يبدأ فيه بمقدمه كالأول.
* (مسألة) * (وإن حمل بين العمودين فحسن) حكاه ابن المنذر عن عثمان وسعد بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير وقال به الشافعي
وأحمد وأبو ثور وابن المنذر وكرهه النخعي والحسن وأبو حنيفة واسحق والصحيح الأول لأن الصحابة
رضي الله عنهم فعلوه وفيهم أسوة حسنة وقال مالك ليس في حمل الميت توقيت يحمل من حيث شاء
ونحوه قال الأوزاعي واتباع الصحابة رضي الله عنهم فيما فعلوه وقالوه أحسن
* (مسألة) * (ويستحب الاسراع بها)
359

لا نعلم فيه خلافا بين الأئمة رحمهم الله وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أسرعوا بالجنازة
فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وان كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم " متفق عليه واختلفوا
في الاسراع المستحب فقال القاضي هو اسراع لا يخرج عن المشي المعتاد وهو قول الشافعي، وقال
أصحاب الرأي يخب ويرمل، لما روى أبو داود عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال كنا في جنازة
عثمان بن أبي العاص وكنا نمشي مشيا خفيفا فلحقنا أبو بكر فرفع سوطه فقال لقد رأيتنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم نرمل رملا:
ولنا ما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة تمخض مخضا فقال " عليكم
بالقصد في جنائزكم " رواه الإمام أحمد في المسند ولان الاسراف في الاسراع يمخضها ويؤذي حامليها
ومتبعيها ولا يؤمن على الميت، وقال ابن عباس في جنازة ميمونة لا تزلزلوا وارفقوا فإنها أمكم
* (فصل) * واتباع الجنائز سنة لقول البراء أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز متفق عليه
واتباع الجنائز على ثلاثة أضرب أحدها، أن يصلي عليها ثم ينصرف قال زيد بن ثابت إذا صليت
فقد قضيت الذي عليك، وقال أبو داود رأيت أحمد ما لا احصي صلى على جنائز ولم يتبعها إلى القبر
360

ولم يستأذن، الثاني أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شهد الجنازة
حتى يصلي فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن فله قيراطان - قيل وما القيراطان؟ قال مثل الجبلين
العظيمين " متفق عليه.
الثالث: أن يقف بعد الدفن فيستغفر له ويسأل الله له التثبيت ويدعو له بالرحمة فإنه روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دفن ميتا وقف فقال " استغفروا الله (1) واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسئل "
رواه أبو داود، وروي عن ابن عمر أنه كان يقرأ عنده عند الدفن أول البقرة وخاتمتها
ويستحب لمتبع الجنازة أن يكون متخشعا متفكرا في حاله متعظا بالموت وبما يصير إليه الميت،
لا يتحدث بأحاديث الدنيا ولا يضحك، قال سعد بن معاذ ما تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هو
مفعول بها ورأي بعض السلف رجلا يضحك في جنازة فقال تضحك وأنت تتبع الجنازة لا كلمتك أبدا
* (مسألة) * (ويستحب أن يكون المشاة أمامها والركبان خلفها)
أكثر أهل العلم يرون الفضيلة للماشي أن يكون أمام الجنازة، روي ذلك عن أبي بكر وعمر
وعثمان وابن عمر وأبي هريرة والحسن بن علي وابن الزبير وأبي قتادة وأبي أسيد وشريح والقاسم بن
محمد وسالم والزهري ومالك والشافعي. وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي المشي خلفها أفضل لما روى
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الجنازة متبوعة ولا تتبع ليس منها من تقدمها " وقال علي رضي
الله عنه: فضل الماشي خلف الجنازة على الماشي قدامها كفضل المكتوبة على التطوع سمعته من رسول

(1) كذا والرواية المشهورة " استغفروا لأخيكم " الخ
361

الله صلى الله عليه وسلم، ولأنها متبوعة فيجب أن تقدم كالإمام في الصلاة. ولهذا قال في الحديث
الصحيح " من تبع جنازة "
ولنا ما روى ابن عمر قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة، رواه أبو داود
والترمذي وعن أنس نحوه رواه ابن ماجة قال ابن المنذر ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا
يمشون أمام الجنازة، وقال أبو صالح كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون أمام الجنازة ولأنهم شفعاء
له بدليل قوله عليه السلام " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة لهم يشفعون له الا شفعوا
فيه " رواه مسلم، والشفيع يتقدم المشفوع له، وحديث ابن مسعود يرويه أبو ماجد وهو مجهول، قيل
ليحيى من أبو ماجد هذا؟ قال طائر طار قال الترمذي سمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث
والحديث الآخر لم يذكره أصحاب السنن وقالوا هو ضعيف ثم نحمله على من تقدمها إلى موضع الصلاة
أو الدفن ولم يكن معها وقياسهم يبطل بسنة الصبح والظهر فإنها تابعة لهما وتتقدمهما في الوجود
* (فصل) * ويكره الركوب في اتباع الجنائز لما روى ثوبان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في جنازة فرأى ناسا ركبانا فقال " ألا تستحون أن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب "
رواه الترمذي. فإن ركب فالسنة أن يكون خلف الجنازة، قال الخطابي: في الراكب لا أعلمهم اختلفوا
362

في أنه يكون خلفها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الراكب يمشي خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها
وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها " رواه أبو داود والترمذي، ولفظه " الراكب خلف الجنازة
والماشي حيث شاء منها. والطفل يصلى عليه " وقال هذا حديث صحيح ولان سير الراكب أمامها يؤذي
المشاة، فأما الركوب في الرجوع من الجنازة فلا بأس به. قال جابر بن سمرة: إن النبي صلى الله عليه
وسلم اتبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس، قال الترمذي هذا حديث صحيح
* (فصل) * ويكره رفع الصوت عند الجنائز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تتبع الجنائز بصوت، قال ابن المنذر:
روينا عن قيس بن عباد أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت
عند ثلاث: عند الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال. وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير
والحسن والنخعي وإمامنا وإسحق قول القائل خلف الجنازة استغفروا له. قال الأوزاعي بدعة. وقال
سعيد بن المسيب في مرضه إياي وحاديهم هذا الذي يحدو لهم يقول استغفروا له غفر الله لكم.
وقال فضيل بن عمرو بينا ابن عمر في جنازة إذ سمع قائلا يقول: استغفروا له غفر الله لكم. فقال
ابن عمر لا غفر الله لك. رواهما سعيد. قال أحمد ولا يقول خلف الجنازة سلم رحمك الله فإنه بدعة،
363

ولكن يقول بسم الله وعلى ملة رسول الله ويذكر الله إذا تناول السرير. ومس الجنازة بالأيدي
أو الأكمام والمناديل محدث مكروه ولا يؤمن معه فساد الميت، وقد منع العلماء مس القبر فمس الجسد
مع احتمال الأذى أولى بالمنع
* (فصل) * ويكره اتباع الميت بنار، قال ابن المنذر: يكره ذلك كل من يحفظ عنه من أهل العلم
روي عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن مغفل ومعقل بن يسار وأبي سعيد وعائشة وسعيد بن المسيب
أنهم وصوا أن لا يتبعوا بنار، وروى ابن ماجة أن أبا موسى حين حضره الموت قال: لا تتبعوني
بمجمر. قالوا له أو سمعت فيه شيئا؟ قال نعم. من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أبو داود باسناده أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار " فإن دفن ليلا فاحتاجوا إلى ضوء فلا بأس به إنما
كره المجامر فيها البخور، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم انه دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج، قال
الترمذي هذا حديث حسن
* (فصل) * ويكره اتباع النساء الجنائز لما روي عن أم عطية قالت: نهينا عن اتباع الجنائز ولم
يعزم علينا متفق عليه. كره ذلك ابن مسعود وابن عمر وأبو أمامة وعائشة ومسروق والحسن والنخعي
والأوزاعي وإسحق. وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج فإذا نسوة جلوس، قال " ما يجلسكن؟ " قلن
ننتظر الجنازة. قال " هل تغسلن " قلن لا. قال " هل تحملن " قلن لا. قال " هل تدلين فيمن
364

يدلي " قلن: لا. قال " فارجعن مأزورات غير مأجورات " رواه ابن ماجة. وروي ان النبي صلى الله
عليه وسلم لقي فاطمة قال " ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟ " قالت يا رسول الله أتيت أهل هذا البيت
فرحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به. قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلعلك بلغت معهم الكدى "
قالت معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر. قال " لو بلغت معهم الكدى " فذكر تشديدا رواه أبو داود
* (فصل) * فإن كان مع الجنازة منكر يراه أو يسمعه، فإن قدر على انكاره وإزالته زاله، وان لم
365

يقدر على ازالته ففيه وجهان: أحدهما ينكره ويتبعها فيسقط فرضه بالانكار ولا يترك حقا لباطل،
(والثاني) يرجع لأنه يؤدي إلى استماع محظور ورؤيته مع قدرته على ترك ذلك
366

* (مسألة) * (ولا يجلس من تبعها حتى توضع)
وممن رأى أن لا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال الحسن بن علي وابن عمر وأبو هريرة
367

وابن الزبير والنخعي والشعبي والأوزاعي واسحق، ووجه ذلك ما روى مسلم باسناده عن أبي سعيد
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع " وقال الشافعي
368

هذا منسوخ بقول علي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد رواه مسلم. قال إسحق معنى قول
علي: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الجنازة قام ثم ترك ذلك بعد. وعلى هذا التفسير لا يصح
369

دعوى النسخ، وليس في اللفظ عموم فيعم الامرين جميعا فلم يجز النسخ بأمر محتمل ولان قول علي
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد يدل على ابتداء فعل القيام، وها هنا إنما وجدت منه الاستدامة
إذ ثبت هذا فأظهر الروايتين أنه أريد وضعها عن أعناق الرجال وهو قول من ذكرنا من قبل.
370

وقد روي الحديث " إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع بالأرض " ورواه أبو معاوية " حتى
يوضع في اللحد " وحديث سفيان أصح.
371

وأما من تقدم الجنازة فلا بأس أن يجلس قبل أن تنتهي إليه. قال الترمذي: روي عن بعض
أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انهم كانوا يتقدمون الجنازة فيجلسون قبل أن تنتهي
إليهم، وإذا جاءت وهو جالس لم يقم لها لما يأتي بعد
372

* (مسألة) * (وان جاءت وهو جالس لم يقم لها لما ذكرنا من حديث علي وقد فسره اسحق بما حكينا)
وقد روي عن أحمد أنه قال: ان قام لم أعبه وان قعد فلا بأس. وذكر ابن أبي موسى والقاضي
373

ان القيام مستحب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى
تخلفه " رواه مسلم. وقد ذكرنا ان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك القيام لها
374

والاخذ من آخر أمره أولى. وقد روي في حديث ان يهوديا رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام للجنازة
375

فقال يا محمد: هكذا نصنع؟ فترك النبي صلى الله عليه وسلم القيام لها
376

* (مسألة) * (ويدخل قبره من عند رجل القبر إن كان أسهل عليهم)
المستحب أن يوضع رأس الميت عند رجل القبر ثم يسل سلا إلى القبر روي ذلك عن ابن عمر
وأنس وعبد الله بن يزيد الأنصاري والنخعي والشعبي والشافعي. وقال أبو حنيفة توضع الجنازة على
جانب القبر مما يلي القبلة ثم يدخل القبر معترضا لأنه يروى عن علي رضي الله عنه، وقال النخعي حدثني
من رأى أهل المدينة في الزمن الأول يدخلون موتاهم من قبل القبلة وان السل شئ أحدثه أهل المدينة
ولنا ان الحارث أوصى أن يليه عند موته عبد الله بن يزيد الأنصاري فصلى عليه ثم دخل القبر
فأدخله من رجلي القبر وقال هذه السنة وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد.
وروى ابن عمر وابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا، وما ذكر عن النخعي
لا يصح لأن مذهبه بخلافه ولأنه لا يجوز على العدد الكثير أن يغيروا سنة الا بسبب ظاهر أو سلطان
قاهر ولم ينقل شئ من ذلك، ولو نقل فسنة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة على فعل أهل المدينة
فأما إن كان أخذه من قبل القبلة أو من رأس القبر أسهل عليهم فلا حرج فيه لأن استحباب
أخذه من عند رجل القبر إنما كان طلبا للأسهل. قال أحمد كل لا بأس به
* (فصل) * قال أحمد يعمق القبر إلى الصدر الرجل والمرأة في ذلك سواء. كان الحسن
377

وابن سيرين يستحبان ذلك، وروى سعيد باسناده ان عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره
إلى السرة ولا يعمقوا، فإن ما على ظهر الأرض أفضل مما سفل منها. وذكر أبو الخطاب انه يستحب
أن يعمق قدر قامة وبسطة وهو قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " احفروا وأوسعوا
وأعمقوا " رواه أبو داود ولان ابن عمر أوصى بذلك. والمنصوص عن أحمد ما ذكرنا أولا لأن
التعميق قدر قامة وبسطة يشق ويخرج عن العادة وقوله صلى الله عليه وسلم " اعمقوا " ليس فيه بيان
قدر التعميق ولم يصح ما رووه عن ابن عمر، ولو صح عند أحمد لم يعده إلى غيره. إذا ثبت هذا
فإنه يستحب تحسينه وتعميقه وتوسيعه للخبر. وقد روى زيد بن أسلم قال: وقف رسول الله صلى الله
عليه وسلم على قبر فقال اصنعوا كذا اصنعوا كذا ثم قال: " ما بي أن يكون يغني عنه شيئا،
ولكن الله يحب إذا عمل العمل أن يحكم " قال معمر وبلغني أنه قال " ولكنه أطيب لانفس أهله "
رواه عبد الرزاق في كتاب الجنائز
* (مسألة) * قال (ولا، يسجى القبر الا أن يكون لامرأة)
قال الشيخ رحمه الله لا نعلم في استحباب تغطية قبر المرأة خلافا بين أهل العلم، وقد روى
ابن سيرين ان عمر قال يغطى قبر المرأة، ومن علي رضي الله عنه بقوم قد دفنوا ميتا وبسطوا على قبره
الثوب فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء ولأن المرأة عورة ولا يؤمن أن يبدو منها شئ فيراه الحاضرون
فأما قبر للرجل فيكره ستره لما ذكرنا وكرهه عبد الله بن يزيد ولم يكرهه أصحاب الرأي وأبو ثور
والأول أولى لأن فعل علي يدل على كراهته ولان كشفه أمكن وأبعد من التشبه بالنساء مع ما فيه
من اتباع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
378

* (مسألة) * (ويلحد له لحدا وينصب عليه اللبن نصبا)
لقول سعد بن أبي وقاص: ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم
رواه مسلم. ومعنى اللحد انه إذا بلغ أرض القبر حفر فيه مما يلي القبلة مكانا يوضع فيه الميت، فإن
كانت الأرض رخوة جعل له شبه اللحد من الحجارة. قال أحمد ولا أحب الشق لما روى ابن عباس
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللحد لنا والشق لغيرنا " رواه أبو داود والنسائي والترمذي
وقال غريب، فإن عجز عن اللحد شق له في الأرض، ومعنى الشق أن يحفر في أرض القبر شقا يضع
الميت فيه ويسقفه عليه بشئ
379

* (مسألة) * (ولا يدخل القبر خشبا ولا شيئا مسته النار)
قال إبراهيم كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب، ولا يستحب الدفن في تابوت لأنه خشب
ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وفيه تشبه بأهل الدنيا والأرض أنشف لفضلاته، ويكره
الآجر وسائر ما مسته النار تفاؤلا أن لا تمسه النار
* (مسألة) * (ويقول الذي يدخله بسم الله وعلى ملة رسول الله)
لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميت القبر قال " بسم الله وعلى ملة رسول الله "
وروي " في سبيل الله وعلى سنة رسول الله " قال الترمذي هذا حديث حسن غريب. وروى ابن ماجة
عن سعيد بن المسيب قال: حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال " بسم الله وعلى ملة
رسول الله " فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد قال " اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر،
اللهم جافي الأرض عن جنبيها، وصعد روحها، ولقها منك رضوانا " قلت يا ابن عمر أشئ سمعته
من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قلته برأيك؟ قال إني إذا لقادر على القول بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
روي عن عمر انه كان إذا سوى على الميت قال: الله أسلمه إليك الأهل والمال والعشيرة وذنبه
عظيم وفاغفر له. رواه ابن المنذر
380

* (فصل) * وإذا مات في سفينة في البحر فقال أحمد ينتظر به إن كانوا يرجون أن يجدوا له
موضعا يدفنونه حبسوه يوما أو يومين ما لم يخافوا عليه، فإن لم يجدوا غسل وكفن وحنط ويصلى عليه
ويثقل بشئ ويلقى في الماء. وهذا قول عطاء. قال الحسن: يترك في زنبيل ويلقى في البحر. وقال
الشافعي يربط بين لوحين ليحمله البحر إلى الساحل فربما وقع إلى قوم يدفنونه، وإن ألقوه في البحر
لم يأثموا، والأول أولى لأنه يحصل به الستر المقصود من دفنه، وإلقاؤه بين لوحين يعرض له التغير
والهتك وربما بقي على الساحل مهتوكا عريانا وربما وقع إلى قوم من المشركين فكان ما ذكرنا أولى
* (مسألة) * (ويضعه في لحده وعلى جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا نام
أحدكم فليتوسد يمينه " ويستحب أن يضع تحت رأسه لبنة أو حجرا أو شيئا مرتفعا كما يصنع الحي
وإن تركه فلا بأس لأن عمر رضي الله عنه قال: إذا جعلتموني في اللحد فافضوا بخدي إلى الأرض.
ويدنى من الحائط لئلا ينكب على وجهه، ويسند من ورائه بتراب لئلا ينقلب. قال أحمد ما أحب
أن يجعل في القبر مضربة ولا مخدة وقد جعل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء فإن جعلوا قطيفة فلعلة،
فإذا فرغوا نصبوا عليه للبن نصبا لما ذكرنا من حديث سعد ويسد عليه بالطين لئلا يصل إليه التراب
وإن جعل مكان اللبن قصبا فحسن لأن الشعبي قال جعل على لحد النبي صلى الله عليه وسلم طن قصب. قال الخلال
381

كان أبو عبد الله يميل إلى اللبن ويختاره على القصب ثم ترك ذلك ومال إلى استحباب القصب على اللبن
وأما الخشب فكرهه على كل حال ورخص فيه الضرورة
قال شيخنا: وأكثر الروايات عن أحمد استحباب اللبن وتقديمه على القصب لحديث سعد
وقوله أولى من قول الشعبي لأن الشعبي لم ير ولم يحضر وكلاهما حسن. قال حنبل: قلت لأحمد
فإن لم يكن لبن قال ينصب عليه القصب والحشيش وما أمكن من ذلك
* (مسألة) * (ويحثو (1) التراب في القبر ثلاث حثيات ويهال عليه التراب)
روي عن أبي عبد الله انه حضر جنازة فلما ألقي عليها التراب قام إلى القبر فحثى عليه ثلاث حثيات
ثم رجع إلى مكانه وقال: قد جاء عن علي وصح انه حثى على قبر ابن المكفف وروي عنه أنه قال:
إن فعل فحسن وإن لم يفعل فلا بأس، ووجه استحبابه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على
جنازة ثم أتى قبر الميت من قبل رأسه فحثى عليه ثلاثا أخرجه ابن ماجة. وعن جعفر بن محمد عن أبيه
ان النبي صلى الله عليه وسلم حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعا رواه الشافعي. وعن ابن عباس انه لما

(1) ورد حثا يحثوا حثوا وحثى يحثي حثيا وهو أن يأخذه بيده ويرميه في القبر
382

دفن زيد بن ثابت حثى في قبره ثلاثا وقال هكذا يذهب العلم، فإذا فرغ من لحده أهال عليه التراب
لأن دفنه واجب وذلك يحصل بإهالة التراب عليه
* (فصل) ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنما.
ويستحب رفع القبر عن الأرض ليعرف انه قبر فيتوقى ويترحم على صاحبه. وقد روى الساجي
عن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر، وروى القاسم بن محمد قال: قلت لعائشة
يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة
مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء رواه أبو داود. ولا يستحب رفعه أكثر من ذلك لما ذكرنا ولقول
النبي صلى الله عليه وسلم لعلي " لا تدع تمالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " رواه مسلم وغيره، والمشرف
ما رفع كثيرا بدليل قول القاسم في صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لا مشرفة ولا لاطئة. ولا يستحب
383

رفع القبر بأكثر من ترابه نص عليه أحمد ورواه عن عقبة بن عامر. وروى الحلال باسناده عن
جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد على القبر على حفرته
(فصل) وتسنيم القبر أفضل من تسطيحه وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وقال الشافعي تسطيحه أفضل، قال: وبلغنا ان النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم. وعن القاسم قال: رأيت قبر
النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر مسطح
ولنا ما روى سفيان التمار قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما رواه البخاري، وعن الحسن مثله
ولان التسطيح أشبه بأبنية أهل الدنيا وهو أشبه بشعار أ؟ ل البدع فكان مكروها وحديثنا أثبت
من حديثهم وأصح فكان أولى
* (مسألة) * (ويرش عليه الماء ليتلبد ترابه)
قال أبو رافع: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدا ورش على قبر: ماء رواه ابن ماجة، وعن جابر:
إن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبره ماء رواه الخلال
384

(فصل) ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشبة يعرفه بها نص عليه أحمد لما روى أبو داود
باسناده عن عبد المطلب قال: لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازة فدفن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن
يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر عن ذراعيه ثم حملها فوضعها عند رأسه
وقال " أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهله " ورواه ابن ماجة عنه عليه السلام من رواية أنس
(فصل) فأما التلقين بعد الدفن فقال شيخنا: فلم نسمع فيه عن أحمد شيئا، ولا أعلم فيه للأئمة
قولا سوى ما رواه الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت يقف الرجل
فيقول يا فلان ابن فلان أذكر ما فارقت عليه: شهادة أن لا إله إلا الله؟ فقال ما رأيت أحدا فعل هذا
إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة جاء انسان فقال ذلك. قال وكان أبو المغيرة يروي فيه عن
أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم انهم كانوا يفعلونه. وقال القاضي وأبو الخطاب يستحب ذلك ورويا
فيه عن أبي أمامة الباهلي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم
385

عند رأس قبره ثم ليقل يا فلان بن فلانة؟ فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثانية، فيستوي
قاعدا، ثم ليقل يا فلان بن فلانة؟ فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تسمعون. فيقول أذكر
ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وانك رضيت بالله ربا،
وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما. فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما فيقول:
انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته. ويكون الله تعالى حجته دونهما " فقال رجل يا رسول الله
فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال " فلينسبه إلى حواء " رواه ابن شاهين باسناده في كتاب ذكر الموت
* (مسألة) * (ولا بأس بتطيينه)
وممن رخص في ذلك الحسن والشافعي، وروى أحمد باسناده عن نافع قال: توفي ابن لعبد الله
ابن عمر وهو غائب فقدم فسألنا عنه فدللناه عليه فكان يتعاهد القبر ويأمر باصلاحه. وقال ابن عقيل
روي عن جعفر بن محمد عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره من الأرض شبرا، وطين بطين أحمر من
العرصة، وجعل عليه من الحصباء. وان تركه كان حسنا لما روى الحسن عن عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال الميت يسمع الاذان ما لم يطين قبره " أو قال " ما لم يطو قبره "
386

* (مسألة) * (ويكره تجصيصه والبناء عليه والجلوس والوطئ عليه والاتكاء إليه والكتابة عليه)
لما روى جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجصص القبر وأن نبنى عليه وأن نقعد عليه رواه
مسلم والترمذي، وزاد وأن يكتب عليها وقال حديث حسن صحيح، ولان ذلك من زينة الدنيا فلا
حاجة بالميت إليه، وكره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط لأن أبا هريرة أوصى حين حضره الموت
أن لا تضربوا علي فسطاطا، وروي أبو مرثد الغنوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تجلسوا على القبور ولا
تصلوا إليها " رواه مسلم. وقال الخطابي ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توطأ القبور. قال:
وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد اتكأ على قبر فقال " لا تؤذ صاحب القبر " وعن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من
أن يجلس عى قبر مسلم " رواه مسلم. ويكره التغوط بين القبور لما روى عقبة بن عامر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم، ولا أبالي أوسط
القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق " رواه الخلال وابن ماجة
(فصل) ولا يجوز اتخاذ السرج على القبور لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الله زوارات القبور
والمتخذات عليها المساجد والسرج " رواه أبو داود والنسائي بمعناه، ولو أبيح لم يلعن النبي صلى الله عليه وسلم
387

من فعله، ولان فيه تضييعا للمال في غير فائدة، ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر مثل ما صنعوا متفق عليه
ولان تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها. وقد روي أن ابتداء عبادة
الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها
(فصل) ويستحب خلع النعال لمن دخل المقابر لما روى بشير بن الخصاصية قال: بينا أنا أماشي
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال له " يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتك "
فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعها فرمى بهما رواه أبو داود. قال أحمد اسناده جيد
اذهب الامر عليه!! وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا. قال جرير بن حازم: رأيت الحسن
وابن سيرين يمشيان بين القبور بنعالهما. ومنهم من احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الميت إذا دفن وتولى
عنه أصحابه انه يسمع قرع نعالهم رواه البخاري. وقال الخطابي: يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه
وسلم إنما كره للرجل المشي في نعليه لما فيه من الخيلاء فإن نعال السبت من لباس أهل التنعم، قال
عنترة * يحذى نعال السبت ليس بتوأم *
ولنا أمره عليه السلام في الحديث المتقدم، وأدنى أحوال الامر الندب، ولان خلع النعلين
أقرب إلى الخشوع وزي أهل التواضع واحترام أموات المسلمين. وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع
قرع نعالهم لا ينفي الكراهة إنما يدل على وقوع هذا منهم ولا نزاع فيه. فأما إن كان للماشي عذر
يمنعه من الخلع من شوك يخاف منه على قدميه، أو نجاسة تمسهما لم يكره المشي فيهما لأن العذر يمنع
الوجوب في بعض الأحوال فالاستحباب أولى، ولا يدخل في الاستحباب نزع الخفاف لأنه يشق
388

وقد روي عن أحمد انه كان إذا أراد أن يخرج إلى الجنازة لبس خفيه مع أمره بخلع النعال، فأما
غير النعال مما يلبس كالتمشكات وغيرها ففيه وجهان: أحدهما يخلع قياسا على النعال، والثاني ان
الكراهة لا تتعدى النعال ذكره القاضي لأن النهي غير معلل فلا يتعدى محله
(فصل) والدفن في مقابر المسلمين أعجب إلى أبي عبد الله من الدفن في البيوت لأنه أقل ضررا
على الاحياء من الورثة، وأشبه بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء له والترحم عليه، ولم يزل الصحابة
والتابعون ومن بعدهم يقبرون في الصحاري. فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنما قبر في بيته قالت عائشة: لئلا
يتخذ قبره مسجدا رواه البخاري ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع وفعله أولى من فعل غيره
وإنما أصحابه رأوا تخصيصه بذلك، ولأنه روي يدفن الأنبياء حيث يموتون، وصيانة له عن كثرة
الطراق، وتمييزا له عن غيره صلى الله عليه وسلم
(فصل) ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع
الشريفة فقد روي في البخاري ومسلم أن موسى عليه السلام لما حضره الموت سأل الله تعالى أن
يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر
(فصل) وجمع الأقارب في الدفن حسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين حضر عثمان بن مظعون " ادفن
إليه من مات من أهله " ولأنه أسهل لزيارتهم وأكثر للترحم عليهم، ويسن تقديم الأب ثم من يليه
في السن والفضيلة إذا أمكن
(فصل) ويستحب دفن الشهيد حيث قتل. قال أحمد: أما القتلى فعلى حديث جابر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " ادفنوا القتلى في مصارعهم " وروى ابن ماجة ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن يردوا
إلى مصارعهم ولا ينقل الميت من بلد إلى آخر إلا لغرض صحيح وهذا قول الأوزاعي وابن المنذر.
389

قال عبد الله بن أبي مليكة: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشة فحمل إلى مكة فدفن، فلما قدمت
عائشة أتت قبره ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت الا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك، ولان
ذلك أخف لمؤنته وأسلم له من التغيير، فأما إن كان فيه غرض صحيح جاز. قال أحمد: ما أعلم
بنقل الرجل يموت في بلدة إلى بلدة أخرى بأسا. وسئل الزهري عن ذلك فقال: قد حمل سعد
ابن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة. وقال ابن عيينة: مات ابن عمر هاهنا فأوصى
أن لا يدفن هاهنا وأن يدفن بسرف
(فصل) وإذا تنازع اثنان من الورثة فقال أحدهما يدفن في المقبرة المسبلة وقال الآخر يدفن
في ملكه دفن في المسبلة لأنه لا منة فيها وهو أقل ضررا على الورثة، فإن تشاحا في الكفن قدم
قول من قال نكفنه من ملكه لأن ضرره على الوارث بلحوق المنة وتكفينه من ماله قليل الضرر:
وسئل أحمد عن الرجل يوصي أن يدفن في داره؟ قال: يدفن في المقابر مع المسلمين وان دفن بداره
أضر بالورثة، وقال لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره ويوصي أن يدفن فيه، فعل ذلك عثمان
وعائشة وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، وإذا تشاح اثنان في الدفن في المقبرة المسبلة قدم أسبقهما
كما لو تنازعا في مقاعد الأسواق ورحاب المساجد، فإن تساويا أقرع بينهما
390

(فصل) وإذا تيقن ان الميت قد بلي وصار رميما جاز نبش قبره ودفن غيره فيه، وان شك في
391

ذلك رجع إلى قول أهل الخبرة، فإن حفر فوجد فيها عظاما دفنها وحفر في مكان آخر نص عليه،
392

واستدل بأن كسر عظم الميت ككسره وهو حي. وسئل أحمد عن الميت يخرج من قبره إلى غيره؟ فقال:
393

إذا كان شئ يؤذيه، قد حول طلحة وحولت عائشة. وسئل عن قوم دفنوا في بساتين ومواضع رديئة؟
394

فقال: قد نبش معاذ امرأته وقد كانت كفنت في خلقان فكفنها، ولم ير أبو عبد الله بأسا أن يحولوا
395

* (مسألة) * (ولا يدفن فيه اثنان إلا لضرورة ويقدم الأفضل إلى القبلة ويجعل بين كل اثنين
حاجز من التراب)
396

لا يدفن في القبر أكثر من واحد إلا لضرورة. وسئل احمد عن الاثنين والثلاثة يدفنون في
397

قبر واحد؟ قال أما في مصر فلا. ولكن في بلاد الروم تكثر القتلى وهذا قول الشافعي ولان النبي
398

صلى الله عليه وسلم كان يدفن كل ميت في قبر ولأنه لا يتعذر في الغالب أفراد كل واحد بقبر في المصر ويتعذر
399

ذلك غالبا في دار الحرب وفي موضع المعترك، فإن وجدت الضرورة جاز دفن الاثنين والثلاثة سواء
400

كان في مصر أو غيره للحاجة، ومتى دفنوا في قبر واحد قدم الأفضل إلى القبلة ثم الذي يليه على
401

حسب تقديمهم إلي الإمام في الصلاة عليهم على ما ذكرنا لما روى هشام بن عامر قال: شكي إلى
402

رسول الله صلى الله عليه وسلم الجراحات يوم أحد فقال " احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة
403

في قبر واحد وقدموا أكثرهم قرآنا " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وينبغي أن يجعل
404

بين كل اثنين حاجز من تراب لأن الكفن حائل غير حصين، قال أحمد: ولو حفر لهم شبه النهر
405

وجعل رأس أحدهم عند رجل الآخر وجعل بينهما حاجزا من تراب لم يكن به بأس
406

(فصل) فإن مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره، فإن استووا في ذلك بدأ بأقربهم إليه على
407

ترتيب النفقات، فإن استووا في القرب قدم أسنهم وأفضلهم.
408

.
409

.
410

.
411

.
412

.
413

* (مسألة) * (وإن وقع في القبر ماله قيمة نبش وأخذ)
قال أحمد إذا الحفار مسحاته في القبر جاز أن ينبش عنها. قيل فإن أعطاه أولياء الميت؟
قال: إن أعطوه حقه أي شئ يريد؟ وقد روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمة في قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم قال خاتمي. ففتح موضع منه فأخذ المغيرة خاتمة، وكان يقول أنا أقربكم عهدا برسول الله
صلى الله عليه وسلم ولأنه أمكن رده إلى صاحبه من غير ضرر فوجب
* (مسألة) * (وإن كفن بثوب غصب أو بلع مال غيره غرم ذلك من تركته، وقيل ينبش
ويؤخذ الكفن ويشق جوفه فيخرج)
إذا بلع الميت ما لا يخل من أن يكون له أو لغيره، فإن كان له لم يشق بطنه لأنه استهلكه في
حياته، ويحتمل انه إن كان كثير القيمة شق بطنه وأخرج لأن فيه حفظ المال عن الضياع ونفع
الورثة الذين تعلق حقهم بماله في مرضه، وإن كان المال لغيره وابتلعه بأذنه فهو كماله لأن صاحبه
414

أذن في اتلافه، وإن ابتلعه غصبا ففيه وجهان: أحدهما لا يشق بطنه ويغرم من تركته لما في ذلك
من المثلة ولأنه إذا لم يشق بطن الحامل من أجل الولد المرجو حياته فمن أجل المال أولى. والثاني
يشق ان كثرت قيمته لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه، وعن الميت بابراء ذمته، وعن
الورثة بحفظ التركة لهم. ويفارق الجنين من وجهين: أحدهما انه لا يتحقق حياته، والثاني انه ما حصل
بجنايته، فإن لم يكن له تركة ولم يتبرع انسان بتخليص ذمته شق بطنه على كلا الوجهين. وعلى الوجه
الأول إذا بلي جسده وغلب على الظن ظهور المال وتخليصه من أعضاء الميت جاز نبشه وإخراجه،
لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هذا قبر أبي رغال، وآية ذلك أن معه غصنا من ذهب
إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه " فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن: ولو كان في أذن الميت حلق
أو في أصبعه خاتم أخذ، فإن صعب أخذه برد وأخذ لأن تركه تضييع للمال، وإن كفن بثوب
مغصوب غرم قيمته من تركته ولا ينبش ذكره القاضي لما فيه من هتك حرمته مع إمكان دفع الضرر
بدونها، ويحتمل أن ينبش إن كان الكفن باقيا بحاله ليرد إلى مالكه عين ماله، وإن كان باليا فقيمته
في تركته، وان دفن في أرض غصب أو أرض مشتركة بينه وبين غيره بغير إذن الشريك نبش
وأخرج لأن القبر في الأرض يدوم ضرره ويكثر بخلاف الكفن، وإن أذن المالك في الدفن في
أرضه ثم أراد إخراجه لم يملك ذلك لأن في ذلك ضررا، وإن بلي الميت وعاد ترابا فلصاحب الأرض
أخذها، وكل موضع أخزنا نبشه لحرمة ملك الآدمي فالأفضل تركه
(فصل) وإن دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة نبش وغسل ووجه إلا أن يخاف عليه أن يتفسخ
فيترك، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وقال أبو حنيفة لا ينبش لأن النبش مثلة وقد نهي عنها
ولنا ان هذا واجب فلا يسقط بذلك كاخراج ماله قيمة وقولهم ان النبش مثلة قلنا إنما هو مثلة
في حق من تغير وهو لا ينبش
(فصل) وإن دفن قبل الصلاة عليه، فروي عن أحمد انه ينبش ويصلى عليه، وعنه إن صلي على القبر
415

جاز. واختار القاضي انه يصلى على القبر ولا ينبش وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى على قبر المسكينة ولم ينبشها
ولنا انه دفن قبل واجب أشبه ما لو دفن من غير غسل، وإنما يصلى على القبر عند الضرورة. وأما
المسكينة فقد كان صلي عليها فلم تبق الصلاة عليها واجبة فلذلك لم تنبش، فإن تغير الميت لم ينبش بحال
(فصل) وان دفن بغير كفن ففيه وجهان: أحدهما يترك لأن القصد بالكفن ستره وقد
حصل بالتراب، والثاني ينبش ويكفن لأن التكفين واجب فأشبه الغسل والله أعلم
(فصل) ولا يجوز الدفن في الساعات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدفن فيها في حديث عقبة بن
416

عامر وهو قوله: ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الصلاة فيهن وأن نقبر فيهن موتانا " حين
تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب "
رواه مسلم، ومعنى تتضيف أي تجنح وتميل للغروب، من قولك تصيفت فلانا إذا ملت إليه. فأما
في غير هذه الأوقات فيجوز الدفن ليلا ونهارا. قال أحمد في الدفن بالليل وما بأس بذلك، أبو بكر
417

دفن ليلا، وعلي دفن فاطمة ليلا. وحديث عائشة: كنا سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في
دفن النبي صلى الله عليه وسلم، ودفن عثمان وعائشة ليلا وهذا قول عقبه بن عامر وسعيد بن المسبب وعطاء والثوري
والشافعي وإسحق، وعنه انه يكره وهو قول الحسن لما روى ملسم ان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من
أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل ودفن ليلا فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل الا أن
يضطر انسان إلى ذلك. ووجه الأول ما ذكرنا من فعل الصحابة، وروى ابن مسعود قال: والله
لكأني أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبر ذي البجادين وأبو بكر وعمر وهو يقول
418

" ادنيا مني أخاكما حتى أسنده في لحده " ثم قال لما فرغ من دفنه وقام على قبره مستقبل القبلة " اللهم إني
أمسيت عنه راضيا فارض عنه " وكان ذلك ليلا قال: فوالله لقد رأيتني ولوددت اني مكانه،
ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة، وأخذه من قبل القبلة، رواه الخلال في جامعه. وعن ابن عباس
ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذ من قبل القبلة وقال " رحمك الله ان كنت
لأواها تلاء للقرآن " قال الترمذي حديث حسن ولأنه أحد الزمانين فجاز الدفن فيه كالنهار.
419

وحديثهم محمول على التأديب، والدفن بالنهار أولى لأنه أسهل على متبعها وأكثر للمصلين عليها وأمكن
لاتباع السنة في دفنه وإلحاده
* (مسألة) * (وان ماتت حامل لم يشق بطنها وتسطو عليه القوابل فيخرجنه)
إذا ماتت حامل وفي بطنها ولد يتحرك وترجي حياته لم يشق بطنها مسلمة كانت أو ذمية،
ويدخل القوابل أيديهن في فرجها فيخرجن الولد من مخرجه، فإن لم يوجد نساء لم يسطوا الرجال
420

عليه لما فيه من هتك الميتة وتترك حتى يتيقن موته، ومذهب مالك وأسحق نحو هذا، ويحتمل أن
يشق بطنها إذا غلب على الظن انه يحيا وهو مذهب الشافعي لأنه اتلاف جزء من الميت لابقاء حي
فجاز كما لو خرج بعضه حيا ولم يمكن خروج باقيه الا بالشق ولأنه يشق لاخراج المال فابقاء الحي أولى
ولنا ان هذا الولد لا يعيش عادة ولا يتحقق انه يحيا فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم
وقد قال عليه السلام " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي " رواه أبو داود، وفيه مثلة وقد نهى
421

النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وفارق الأصل فإن حياته متيقنة وبقاؤه مظنون. فعلى هذا ان خرج بعض
الولد حيا ولم يمكن اخراجه الا بالشق شق المحل وأخرج لما ذكرنا، وان مات على حاله فأمكن
اخراجه أخرج وغسل، وان تعذر خروجه غسل ما ظهر من الولد وما بقي ففي حكم الباطن لا يحتاج
422

إلى تيمم لأن الجميع كان في حكم الباطن وظهر البعض فتعلق الحكم به وما بقي فهو على ما كان عليه،
ذكره ابن عقيل وقال: هي حادثة سئلت عنها
(فصل) وان ماتت ذمية حامل من مسلم دفنت وحدها وتجعل ظهرها إلى القبلة. وإنما اختار
أحمد ذلك لأنها كافرة فلا تدفن في مقبرة المسلمين وولدها محكوم باسلامه فلا يدفن بين الكفار مع
423

ان؟ لك روي عن واثلة بن الأسقع وعن عمر انها تدفن في مقابر المسلمين. قال ابن المنذر: لا يثبت
ذلك، قال أصحابنا ويجعل ظهرها إلى القبلة على جانبها الأيسر ليكون وجه الجنين إلى القبلة على
جانبه الأيمن لأن وجه الجنين إلى ظهرها
* (مسألة) * (ولا تكره القراءة على القبر في أصح الروايتين)
هذا هو المشهور عن أحمد فإنه روي عنه أنه قال: إذا دخلتم المقابر اقرأ آية الكرسي وثلاث
مرار قل هو الله أحد ثم قل اللهم ان فضله لأهل المقابر، وروي عنه أنه قال: القراءة عند القبر بدعة،
وروي ذلك عن هشيم. قال أبو بكر نقل ذلك عن أحمد جماعة ثم رجع رجوعا أبان به عن نفسه.
فروى جماعة ان أحمد نهى ضريرا يقرأ عند القبر وقال له: القراءة عند القبر بدعة. فقال له محمد
424

ابن قدامة الجوهري: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال ثقة. قال فأخبرني مبشر عن أبيه
انه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها. وقال سمعت ابن عمر يوصي بذلك؟ فقال
أحمد بن حنبل: فارجع فقل للرجل يقرأ. وقال الخلال: حدثني أبو علي الحسن بن الهيثم البزار
شيخنا الثقة المأمون قال: رأيت أحمد بن جنبل يصلي خلف ضريرا يقرأ على القبور، وقد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من زار قبر والديه أو أحدهما فقرأ عنده أو عندهما (يس) غفر له " وروي عنه
عليه السلام أنه قال " من دخل المقابر فقرأ سورة (يس) خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات
* (مسألة) * (وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك)
أما الدعاء والاستغفار والصدقة وقضاء الدين وأداء الواجبات فلا نعلم فيه خلافا إذا كانت
الواجبات مما يدخله النيابة قال الله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا
الذين سبقونا بالايمان) وقال سبحانه (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم
لأبي سلمة حين مات وللميت الذي صلى عليه ولذي النجادين حين دفنه، وشرع الله تعالى ذلك
لكل من صلى على ميت. وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، ان أمي ماتت أينفعها
إن تصدقت عنها؟ قال " نعم " رواه أبو داود. وجاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت
يا رسول الله ان فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج
عنه؟ قال " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته " قالت نعم. قال " فدين الله أحق أن
تقضي " وقال في الذي سأله ان أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال " نعم " وكلها أحاديث
صحاح وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار كلها عبادات
بدنية وقد أوصل الله نفعها إلى الميت فكذلك ما سواها مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ
(يس) وتخفيف الله عز وجل عن أهل المقابر بقراءته، ولأنه عمل بر وطاعة فوصل نفعه وثوابه كالصدقة
والصيام والحج الواجب. وقال الشافعي ما عدا الواجبات والصدقة والدعاء والاستغفار لا يفعل عن
425

الميت ولا يصل ثوابه إليه لقول الله تعالى (وأن ليس للانسان الا ما سعى) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا
مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح
يدعو له " ولان نفعه لا يتعدى فاعله يتعداه فلا ثوابه. وقال بعضهم إذا قرئ القرآن عند الميت أو
أهدي إليه ثوابه كان الثواب لقارئه ويكون الميت كأنه حاضرها فترجى له الرحمة
ولنا ما ذكرناه وانه اجماع المسلمين فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرأون القرآن ويهدون
ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، ولان الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم " ان الميت يعذب ببكاء أهله عليه "
والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة، والآية مخصوصة بما سلموه فيقاس
عليه ما اختلفنا فيه لكونه في معناه ولا حجة لهم في الخبر الذي احتجوا به لأنه إنما دل على انقطاع
عمله، وليس هذا من عمله فلا دلالة عليه فيه، ولو دل عليه كان مخصوصا بما سلموه فيتعدى إلى
ما منعوه، وما ذكروه من المعنى غير صحيح، فإن تعدي الثواب ليس بفرع لتعدي النفع ثم هو باطل
بالصوم والدعاء والحج وليس له أصل يعتبر به والله أعلم (1)
* (مسألة) * (ويستحب أن يصلح لأهل الميت طعاما يبعث إليهم ولا يصلحون هم طعاما للناس)
لما روى عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اصنعوا لآل جعفر
طعاما فقد جاءهم أمر شغلهم " رواه أبو داود. ويروى عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: فما زالت
السنة فينا حتى تركها، من تركها ولان أهل الميت ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن اصلاح
طعام لهم ولان فيه جبرا لقلوبهم. فأما لصلاح أهل الميت طعاما للناس فمكروه لأنه زيادة على مصيبتهم
وشغلا لهم إلى شغلهم، وتشبيها بصنيع أهل الجاهلية، وقد روي أن جريرا وفد على عمر فقال: هل
يناح على ميتكم قال لا. قال فهل يجتمعون عند أهل الميت ويجعلون الطعام؟ قال نعم. قال ذلك النوح.
وإن دعت الحالة إلى ذلك جاز فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من أهل القرى البعيدة ويبيت عندهم
فلا يمكنهم إلا أن يطعموه
(فصل) (ويستحب للرجال زيارة القبور، وهل يكره للنساء على روايتين)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في استحباب زيارة الرجال القبور. قال علي بن سعيد قلت لأحمد
426

زيارة القبور أفضل أم تركها؟ قال: زيارتها. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كنت نهيتكم عن
زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الموت " وللترمذي " فإنها تذكر الآخرة "
فأما زيارة القبور للنساء ففيها روايتان (إحداهما) الكراهة لما روت أم عطية قالت: نهينا عن
زيارة القبور ولم يعزم علينا. متفق عليه، ولقول النبي صلى الله عيله وسلم " لعن الله زائرات القبور " قال الترمذي
حديث صحيح. وهذا خاص في النساء، والنهي المنسوخ كان عاما للرجال والنساء، ويحتمل انه كان
خاصا للرجال. ويحتمل كون الخبر في لعن زوارات القبور بعد أمر الرجال بزيارتها فقد دار بين الحظر
والإباحة فأقل أحواله الكراهة، ولأن المرأة قليلة الصبر كثيرة الجزع وفي زيارتها للقبر تهييج للحزن
وتجديد لذكر مصابها فلا يؤمن أن يفضي بها ذلك إلى فعل ما لا يحل - بخلاف الرجل - ولهذا
اختصصن بالنوح والتعديد وخصصن بالنهي عن الحلق والصلق ونحوهما.
(والرواية الثانية) لا يكره لعموم قوله عليه السلام " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها "
وهو يدل على سبق النهي ونسخه فيدخل فيها الرجال والنساء، وروى ابن أبي مليكة عن عائشة انها
زارت قبر أخيها فقال لها قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور، قالت نعم قد نهى ثم أمر بزيارتها،
وروى الترمذي ان عائشة زارت قبر أخيها، وروي عنها انها قالت لو شهدته ما زرته
(مسألة) ويقول إذا زارها أو مر بها ما روى مسلم عن بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم
إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله
بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية. وفي حديث عائشة: ويرحم الله المستقدمين منا
والمستأخرين. وفي حديث آخر: اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم - وان زاد - اللهم اغفر
لنا ولهم - كان حسنا.
(مسألة) (ويستحب تعزية أهل الميت) لا نعلم فيه خلافا، وسواء في ذلك قبل الدفن وبعده الا أن
الثوري قال: لا يستحب بعد الدفن لأنه خاتمة أمره
ولنا قوله عليه السلام " من عزى مصابا فله مثل أجره " قال الترمذي حديث غريب
وروى ابن ماجة باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة الا كساه الله
من حلل الكرامة يوم القيامة، والمقصود بالتعزية تسلية أهل المصيبة وقضاء حقوقهم وسواء في ذلك
427

قبل الدفن وبعده، ويستحب تعزية كل أهل المصيبة كبارهم وصغارهم ويبدأ بخيارهم والمنظور إليه
منهم ليستن به غيره، وذا الضعف منهم عن تحمل المصيبة لحاجته إليها، ولا يعزى الرجل الأجنبي
شواب النساء مخافة الفتنة
(فصل) ويكره الجلوس لها، وذكره أبو الخطاب لأنه محدث، وقال ابن عقيل: يكره الاجتماع
بعد خروج الروح لأن فيه تهييجا للحزن، وقال احمد أكره التعزية عند القبر الا لمن لم يعز فيعزي إذا
دفن الميت أو قبله، وقال: ان شئت أخذت بيد الرجل في التعزية وان شئت فلا. وإذا رأى الرجل
قد شق ثوبه على المصيبة عزا ولم يترك حقا لباطل وان نهاه فحسن
ويقول في تعزية المسلم بالمسلم: عظم الله أجرك، وأحسن عزاءك ورحم ميتك. هكذا ذكره بعض
أصحابنا، قال شيخنا ولا أعلم في التعزية شيئا محدودا إلا أنه يروى ان النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلا فقال
" رحمك الله وآجرك " رواه الإمام أحمد، وعزى أحمد أبا طالب فوقف على باب المسجد فقال:
أعظم الله أجركم وأحسن عزاءكم. واستحب بعض أهل العلم أن يقول ما روى جعفر بن محمد عن أبيه
عن جده قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: ان في الله عزاء من
كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا، وإياه فأرجو فإن المصاب من حرم
الثواب. رواه الشافعي في مسنده. وان عزى مسلما بكافر قال أعظم الله اجرك وأحسن عزاءك
(مسألة) ويقول في تعزية الكافر بالمسلم أحسن الله عزاك، وغفر لميتك، وفي تعزيته عن كافر:
أخلف الله عليك ولا نقص عددك. توقف أحمد عن تعزية أهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم وفيها
روايتان (إحداهما) لا نعودهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبدؤوهم بالسلام " وهذا في معناه
(والثانية) نعودهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى غلاما من اليهود كان مرض يعوده فقعد عند رأسه
فقال له " أسلم " فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو
يقول " الحمد لله الذي أنقذه بي من النار " رواه البخاري، فعلى هذا يعزيهم ويقول ما ذكرنا، ويقصد
بقوله لا نقص عددك زيادة عددهم لتكثر جزيتهم، وقال أبو عبد الله بن بطة: يقول أعطاك الله
على مصيبتك أفضل ما أعطى أحدا من أهل دينك
428

(فصل) فأما الرد من المعزي فروي عن أحمد بن الحسن قال سمعت أبا عبد الله وهو يعزي في
عبثر بن عمه وهو يقول استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك
(مسألة) ويجوز البكاء على الميت وان يجعل المصاب على رأسه ثوبا ليعرف به ليعزى، البكاء بمجرده
لا يكره في حال، وقال الشافعي يباح قبل الموت ويكره بعده لما روى عبد الله بن عتيك قال: جاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن ثابت يعوده فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع وقال " غلبنا
عليك يا أبا الربيع " فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم " دعهن فإذا
وجب فلا تبكين باكية " يعني إذا مات
ولنا ما روى انس قال شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت
عينيه تدمعان، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وعيناه تهراقان، وقالت عائشة
دخل أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ثم بكى، وكلها أحاديث صحاح
وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن عبادة وهو في غاشيته فبكى وبكى أصحابه وقال
" ألا تسمعون ان الله لا يعذب بدمع العين ولا يحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه -
أو يرحم " متفق عليه، وحديثهم محمول على رفع الصوت والندب وشبهها بدليل ما روى جابر أن
النبي اخذ ابنه فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن بن عوف أتبكي؟ أو لم تكن نهيت عن
البكاء؟ قال " لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشق
جيوب ورنة شيطان " حديث حسن وهذا يدل على أنه لم ينه عن مطلق البكاء إنما نهى عنه موصوفا
بهذه الصفات. وقال: عمر ما على نساء بني المغيرة أن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقه
اللقلقة رفع الصوت والنقع التراب
429

(مسألة) ولا يجوز الندب ولا النياحة ولا شق الثياب ولطم الخدود وما أشبه ذلك
الندب هو تعداد محاسن الميت وما يلقون بعده بلفظ الندبة كقولهم وا رجلاه وا جبلاه وانقطاع
ظهراه، فهذا وأشباهه من النوح وشق الجيوب ولطم الخدود والدعاء بالويل والثبور ونحوه لا يجوز،
وقال بعض أصحابنا هو مكروه، ونقل حرب عن أحمد كلاما يحتمل إباحة النوح والندب، واختاره
الخلال وصاحبه لأن واثلة بن الأسقع وأبا وائل كانا يستمعان النوح ويبكيان، وقال احمد: إذا ذكرت
المرأة مثل ما حكي عن فاطمة في مثل الدعاء لا يكون مثل النوح، يعني لا بأس به، وروي عن فاطمة
انها قالت: يا أبتاه، من ربه ما أدناه، إلى جبريل أنعاه، يا أبتاه، أجاب ربا دعاه،
وروي عن علي عن فاطمة رضي الله عنهما انها أخذت قبضة من تراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم
فوضعتها على عينها ثم قالت
ماذا على مشتم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام عدن لياليا
ووجه الأولى ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حديث جابر الذي ذكرناه، وقال الله تعالى (ولا
يعصينك في معروف) قال احمد هو النوح، ولعن رسول الله صلى اله عليه وسلم النائحة والمستمعة وقالت أم
عطية: اخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ان لا ننوح. متفق عليه
وعن أبي موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم برئ من الحالقة والصالقة والشاقة. الصالقة التي ترفع
صوتها، وعن ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب
ودعى بدعوى الجاهلية " متفق عليهما. ولان ذلك يشبه التظلم والاستغاثة والتسخط بقضاء الله،
ولان شق الجيوب افساد المال بغير الحاجة
(فصل) وينبغي للمصاب أن يستعين بالله، ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر
والصلاة، ويستنجز ما وعد الله الصابرين، قال الله تعالى (وبشر الصابرين) الآيتين ويسترجع
430

ويقول اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها. لقول أم سلمة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي
خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها " قلت: فلما مات أبو سلمة قلت كما
أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم. وليحذر
أن يتكلم بشئ يحبط أجره، ويسخط ربه مما يشبه التظلم والاستغاثة فإن الله عدل لا يجور، له ما أخذ
وله ما أعطى، ولا يدعو على نفسه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما مات أبو سلمة " لا تدعو على أنفسكم فإن
الملائكة يؤمنون على ما تقولون " ويحتسب ثواب الله تعالى وبحمده، لما روى أبو موسى ان النبي
صلى الله عليه وسلم قال " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم. فيقولون:
قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم. فيقول. ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك واسترجع. فيقول: ابنوا
لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد " حديث حسن غريب
(فصل) وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان الميت يعذب في قبره بما يناح عليه "
وفي لفظ إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " متفق عليهما. واختلف أهل العلم في معنى الحديث
فحمله قوم على ظاهره وقالوا. ينصرف الله سبحانه في خلقه بما يشاء، وأيدوا ذلك بما روى أبو موسى
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: وا جبلاه، وا سيداه،
ونحو ذلك إلا وكل الله به ملكين يلهزانه أهكذا كنت؟ " حديث حسن. وروى النعمان بن بشير
قال: أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي وا جبلاه، وا كذا وا كذا تعدد عليه.
فقال حين أفاق ما قلت شيئا إلا قيل أنت كذاك. فلما مات لم تبك عليه أخرجه البخاري. وأنكرت
عائشة رضي الله عنها حمله على ظاهره ووافقها ابن عباس فقالت: يرحم الله عمر، والله ما حدث
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه " ولكن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال " ان الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه " وقالت: حسبكم القرآن ولا تزروا وازرة
وزر أخرى. وذكر ذلك ابن عباس لابن عمر حين روى حديثه فما قال شيئا رواه مسلم، وحمله قوم
431

على من كان النوح سنته ولم ينه عنه أهله لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " وحمله آخرون على من
أوصى بذلك في حياته كقول طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله * وشقي علي الجيب يا بنت معبد
وقال آخر: من كان من أمهاتي باكيا أيدا * فاليوم إني أراني اليوم مقبوضا
ولا بد من حمل البكاء في هذا الحديث على البكاء الذي معه ندب ونياحة ونحو هذا بدليل
ما قدمنا من الأحاديث
(فصل) ويكره النعي، وهو أن يبعث مناديا ينادي في الناس إن فلانا مات لتشهد جنازته،
لما روى حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي. قال الترمذي هذا
حديث حسن، واستحب جماعة من أهل العلم أن لا يعلم الناس بجنائزهم منهم ابن مسعود وعلقمة
والربيع بن خيثم وعمرو بن شرحبيل قال: إذا أنا مت فلا أنعى. وقال كثير من أهل العلم لا بأس
من أن يعلم بالرجل إخوانه ومعارفه وذوو الفضل من غير نداء. قال إبراهيم النخعي لا بأس أن يعلم
الرجل إخوانه وأصحابه إنما كانوا يكرهون أن يطاف في المجالس: أنعي فلانا كفعل أهل الجاهلية،
وممن رخص في هذا أبو هريرة وابن عمر وابن سيرين، فروي عن ابن عمر انه لما نعي له رافع بن خديج
432

قال: كيف تريدون أن تصنعوا به؟ قالوا: نحبسه حتى نرسل إلى قباء والى من قد بات حول المدينة ليشهدوا
جنازته. قال: نعم ما رأيتم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي دفن ليلا " ألا أذنتموني " وقد
صح ان النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه متفق عليه، ولان في كثرة
المصلين عليه أجرا لهم ونفعا للميت، فإنه يحصل لكل مصل منهم قيراط من الاجر. وروى الإمام أحمد
باسناده عن أبي المليح انه صلى على جنازة فالتفت فقال: استووا ولتحسن شفاعتكم، ألا وانه
حدثني عبد الله بن سليط عن إحدى أمهات المؤمنين وهي ميمونة وكان أخاها من الرضاعة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من مسلم يصلي عليه أمة من الناس إلا شفعوا فيه " فسألت
أبا المليح عن الأمة؟ فقال أربعون. آخر الصلاة والحمد لله رب العالمين
كتاب الزكاة
قال ابن قتيبة: الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه، يقال زكا
الزرع إذا كثر ريعه، وزكت النفقة إذا بورك فيها، وهي في الشريعة: حق يجب في المال، فعند
اطلاق لفظها في الشرع تنصرف إلى ذلك. والزكاة أحد أركان الاسلام وهي واجبة بالكتاب
والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله تعالى (وآتوا الزكاة) وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم
433

بعث معاذا إلى اليمن فقال " اعلمهم ان الله قد افترض عليهم صدقه تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم "
متفق عليه. وأجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوبها، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على
قتال مانعي الزكاة، فروى البخاري باسناده عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وارتدت العرب وكفر من كفر من العرب فقال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلا الا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله
ونفسه الا بحقه، وحسابه على الله " فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن
الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على
منعها. قال عمر: فوالله ما هو الا اني رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت انه الحق
رواه أبو داود وقال: لو منعوني عقالا قال أبو عبيد: العقال صدقة العام قال الشاعر:
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا * فكيف لو قد سعى عمر وعقالين
وقيل: كانوا إذا أخذوا الفريضة أخذوا معها عقالها، ومن روى عناقا ففي روايته دليل على
جواز أخذ الصغيرة من الصغار
* (مسألة) * (وتجب الزكاة في أربعة أصناف من المال: السائمة من بهيمة الأنعام، والخارج
من الأرض، والأثمان، وعروض التجارة. وسيأتي شرح ذلك في مواضعه إن شاء الله)
ولا تجب في غير ذلك لأن الأصل عدم الوجوب وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة
في الخيل الزكاة إذا كانت ذكورا وإناثا، فإن كانت ذكورا أو إناثا مفردة ففيها روايتان. وزكاتها
دينار عن كل فرس، أو ربع عشر قيمتها، والخيرة في ذلك إلى صاحبها، لما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال في الخيل السائمة " في كل فرس دينار " وعن عمر انه كان يأخذ من الرأس عشرة، ومن الفرس
434

عشرة، ومن البر دون خمسة، ولأنه حيوان يطلب نماؤه لجهة السوم أشبه النعم
ولنا قوله عليه السلام " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " متفق عليه. وقوله عليه
السلام " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " حديث صحيح، ولان ما لا تخرج زكاته من جنسه
لا تجب فيه الزكاة كسائر الدواب، وحديثهم يرويه غورل السعدي وهو ضعيف. وأما عمر فإنما
أخذ منهم شيئا تبرعوا به وعوضهم عنه رزق عبيدهم. كذلك رواه أحمد، والزكاة لا يؤخذ عنها عوض
ولان عمر حين عرضوا عليه ذلك شاور الصحابة فيه. فقال علي: هو حسن إن لم يكن جزية يؤخذون
بها من بعدك، فدل على أن أخذهم بذلك غير جائز، وقياسها على النعم لا يصح لكمال نفعها بدرها ولحمها
ويضحى بجنسها وتكون هديا، وتجب الزكاة من عينها ويعتبر كمال نصابها، والخيل بخلاف ذلك والله أعلم
* (مسألة) * (وقال أصحابنا تجب في المتولد بين الوحشي والأهلي)
وسواء كانت الوحشية الفحول أو الأمهات. وقال أبو حنيفة ومالك: إن كانت الأمهات أهلية
وجبت الزكاة فيها وإلا فلا، لأن ولد البهيمة يتبع أمه. وقال الشافعي: لا زكاة فيها لأنها متولدة من
وحشي أشبه المتولد من وحشيين، وحجة أصحابنا انها متولدة بين ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب
فوجب فيها الزكاة كالمتولد بين سائمة ومعلوفة، وزعم بعضهم ان غنم مكة متولدة بين الظباء والغنم وفيها
الزكاة بالاتفاق. فعلى هذا القول تضم إلى جنسها من الأهلي في وجوب الزكاة وتكون كأحد أنواعه
قال شيخنا والقول بانتفاء الزكاة فيها أصح لأن الأصل انتفاء الوجوب وإنما يثبت بنص أو اجماع
أو قياس ولا نص فيها ولا إجماع ولا قياس، لأن النص إنما هو في بهيمة الأنعام من الأزواج الثمانية
وليس هذا منها ولا داخلة في اسمها ولا حكمها ولا حقيقتها، فإن المتولد بين شيئين منفرد باسمه وجنسه
كالبغل، والسمع المتولد بين الضبع والذئب، فكذلك المتولد بين الظبي والمعز في كونه لا يجزي في
435

هدي ولا أضحية ولا دية، ولو وكل وكيلا في شراء شاة لم يدخل في الوكالة ولا يحصل منه ما يحصل
من الشاة من الدر وكثرة النسل. بل الظاهر أنه لا نسل له كالبغل فامتنع القياس، فاذن ايجاب الزكاة
فيه تحكم بغير دليل، فإن قيل تجب الزكاة فيه احتياطا وتغليبا للايجاب كما أثبتنا التحريم فيها في الحرم
والاحرام احتياطا لم يصح لأن الواجبات لا تثبت احتياطا بالشك، ولهذا لا تجب الطهارة على من
تيقنها وشك في الحدث. وأما السوم والعلف فالاعتبار فيه بما تجب فيه الزكاة لا بأصله الذي تولد
منه، بدليل انها تجب في أولاد المعلوفة إذا أسامها، ولا تجب في أولاد السائمة إذا علفها، وقول
من زعم أن غنم مكة متولدة من الظباء والغنم لا يصح وإلا لحرمت في الحرم والاحرام كسائر
المتولد بين الوحشي والأهلي ولما كان لها نسل كالبغل والسمع
* (مسألة) * (وفي بقر الوحش روايتان)
إحداهما فيها الزكاة اختارها أبو بكر لأن اسم البقر يشملها فتدخل في مطلق الخبر. والثانية
لا زكاة فيها وهي أصح وهو قول أكثر أهل العلم لأن اسم البقر عند الاطلاق لا ينصرف إليها، ولا
تسمى بقرا إلا بالإضافة إلى الوحش ولأنها حيوان لا يجزي نوعه في الأضحية والهدي فلم تجب فيه
الزكاة كالظباء، وليست من بهيمة الأنعام فلم تجب فيها الزكاة كسائر الوحش. يحقق ذلك أن الزكاة
إنما وجبت في بهيمة الأنعام دون غيرها لكثرة النماء فيها من درها ونسلها وكثرة الانتفاع بها وخفة
مؤنتها، وهذا المعنى مختص بها فاختصت الزكاة بها، ولا تجب الزكاة في الظباء لا نعلم فيه خلافا
لعدم تناول اسم الغنم لها والله أعلم
* (مسألة) * (ولا تجب إلا بشروط خمسة: الاسلام والحرية فلا تجب على كافر ولا عبد ولا مكاتب)
لا تجب الزكاة على كافر لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " انك تأتي قوما أهل كتاب
436

فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - إلى قوله - فإن هم أطاعوك لذلك
فأعلمهم أن الله تعالى قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم " متفق عليه.
فجعل الاسلام شرطا لوجوب الزكاة، ولأنها أحد أركان الاسلام فلم تجب على كافر كالصيام، وذهب
بعض العلماء إلى أنها تجب عليه في حال كفره بمعنى أنه يعاقب عليها إذا مات على كفره وهذا لا يتعلق
به حكم فلا حاجة إلى ذكره. هذا حكم الكافر الأصلي، فأما المرتد فلنا فيه وجه أنه يجب عليه قضاء
الزكاة في حال ردته إذا أسلم. ولأصحاب الشافعي فيه قولان مبنيان على زوال ملكه بالردة، فإن قلنا
يزول فلا زكاة عليه، وإن قلنا لا يزول ملكه أو هو موقوف وجبت عليه لأنه حق التزمه بالاسلام فلم
يسقط بالردة كحقوق الآدميين والأول ظاهر المذهب. ولا تجب على عبد وهذا قول أكثر أهل العلم
وروي عن عطاء وأبي ثور أنه يجب على العبد زكاة ماله
ولنا أن العبد ليس بتام الملك فلم يلزمه زكاة كالمكاتب، ولان الزكاة إنما وجبت على سبيل
المواساة وملك العبد ناقص لا يحتمل المواساة بدليل أنه لا تجب عليه نفقة أقاربه لكونها وجبت مواساة
ولا يعتقون عليه، ولا تجب على مكاتب لأنه عبد لقوله عليه السلام " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم "
رواه أبو داود. ولان ملكه غير تام فهو كالعبد ولا نعلم أحدا قال بوجوب الزكاة على المكاتب الا
أبا ثور ذكره عنه ابن المنذر، واحتج أبو ثور بأن الحجر من السيد لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على
الصبي والمجنون والمرهون، وحكي عن أبي حنيفة أنه أوجب العشر في الخارج من أرضه بناء على أصله
في أن العشر مؤونة الأرض وليس بزكاة
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا زكاة في مال المكاتب " رواه الفقهاء في كتبهم، ولان
الزكاة تجب على طريق المواساة فلم تجب في مال المكاتب كنفقة الأقارب وفارق المحجور عليه فإنه
منع التصرف لنقص تصرفه لا لنقص ملكه، والمرهون منع من التصرف فيه بعقده فلم يسقط حق
437

الله تعالى، ومتى كان منع التصرف فيه لدين لا يمكنه وفاؤه من غيره فلا زكاة عليه وسيأتي ذلك إن شاء الله
تعالى، فإن عجز المكاتب ورد في الرق صار ما في يده لسيده فاستقبل به حولا إن كان
نصابا وإلا ضمه إلى ما في يده كالمستفاد، وإن أدى المكاتب ما عليه وبقي في يده نصاب فقد صار
حرا تام الملك فيستأنف الحول من حين عتقه ويزكي كسائر الأحرار
* (مسألة) * (فإن ملك السيد عبده مالا وقلنا إنه يملكه فلا زكاة فيه، وإن قلنا لا يملكه فزكاته على سيده)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في زكاة مال العبد الذي ملكه إياه سيده فروي عنه زكاته
على سيده هذا مذهب سفيان وأصحاب الرأي واسحق وعنه لا زكاة فيه على واحد منهما. قال ابن
المنذر وهذا قول ابن عمر وجابر والزهري وقتادة ومالك، وللشافعي قولان كالمذهبين. وقال أبو بكر
المسألة مبنية على الروايتين في ملك العبد بالتمليك (إحداهما) لا يملك. قال أبو بكر: وهو اختياري
وهو ظاهر كلام الخرقي لأن العبد مال فلا يملك المال كالبهائم، فعلى هذا تكون زكاته على السيد
لأنه ملك له في يد عبده فكانت زكاته عليه كالمال الذي في يد المضارب والوكيل (والثانية) يملك
لأنه آدمي يملك النكاح فملك المال كالحر ولان قوله عليه السلام " من باع عبدا وله مال " يدل على
أنه يملك، ولأنه بالآدمية يتمهد للملك من قبل أن الله تعالى خلق المال لبني آدم ليستعينوا به على
القيام بوظائف العبادات، وأعباء التكاليف قال الله تعالى (خلق لكم ما في الأرض جميعا) فبالآدمية
يتمهد للملك كما تمهد للتكليف فعلى هذا لا زكاة على السيد في مال العبد لأنه لا يملكه، ولا على العبد
لنقص ملكه والزكاة إنما تجب على تام الملك
(فصل) ومن بعضه حر عليه زكاة ماله لأنه يملك بجزئه الحر ويورث عنه فملكه كامل فهو
كالحر في وجوب الزكاة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وفيه لهم وجه آخر لا تجب لأنه ناقص
438

أشبه القن والأول أولى، فأما أم الولد والمدبر فحكمها حكم القن لأنه لا حرية فيهما
* (مسألة) * (الثالث ملك نصاب، فإن نقص عنه فلا زكاة فيه إلا أن يكون نقصا يسيرا كالحبة والحبتين)
ملك النصاب شرط لوجوب الزكاة لما يأتي في أبوابه مفصلا إن شاء الله، فإن نقص عن النصاب
فلا زكاة فيه إن كان النقص كثيرا بالاتفاق، وإن كان يسيرا فقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله
في ذلك فروي أنه قال في نصاب الذهب إذا نقص ثمنا لا زكاة فيه. اختاره أبو بكر وهو ظاهر قول الخرقي
ومذهب الشافعي واسحق وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " وقال
" ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب صدقة " وروي عن أحمد أن نصاب الذهب إذا نقص
ثلث مثقال زكاه وهو قول عمر بن عبد العزيز وسفيان، وإن نقص نصفا لا زكاة فيه. وقال أصحابنا
إن كان النقص يسيرا كالحبة والحبتين وجبت الزكاة لأنه لا ينضبط غالبا فهو كنقص الحول ساعة
أو ساعتين، وإن كان نقصا بينا كالدانق والدانقين فلا زكاة فيه. وقال مالك: إذا نقص نقصا
يسيرا يجوز جواز الوازنة وجبت الزكاة لأنها تقوم مقام الوازنة أشبهت الوازنة والأول ظاهر
الاخبار فينبغي أن لا يعدل عنه
* (مسألة) * (وتجب فيما زاد على النصاب بالحساب الا في السائمة)
فلا شئ في أوقاصها على ما يأتي بيانه. واتفقوا على زيادة الحب أن الزكاة تجب فيها بالحساب،
واختلفوا في زيادة الذهب والفضة فروي وجوب الزكاة فيها عن علي وابن عمر رضي الله عنهما، وبه قال عمر
ابن عبد العزيز والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وأبو عبيد
وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والحسن والشعبي ومكحول والزهري وعمر وبن
دينار وأبو حنيفة: لا شئ في زيادة الدراهم حتى تبلغ أربعين، ولا في زيادة الذهب حتى تبلغ أربعة
دنانير لقوله عليه السلام " من كل أربعين درهما درهما " وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا
439

بلغ الورق مائتين ففيه خمسة دراهم، ثم لا شئ فيه حتى يبلغ إلى أربعين درهما " ولان له عفوا في
الابتداء فكان له عفو بعد النصاب كالسائمة
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهما، وليس
عليكم شئ حتى يتم مائتين، فإذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم فما زاد فبحساب ذلك " رواه
الأثرم والدار قطني، وروي ذلك عن علي وابن عمر موقوفا عليهما ولم نعرف لهما مخالفا في الصحابة
فيكون اجماعا، ولأنه مال يتجزأ فلم يكن له عفو بعد النصاب كالحبوب، وما احتجوا به من الخبر
الأول فهو احتجاج بدليل الخطاب والمنطوق راجح عليه، والخبر الثاني يرويه أبو العطوف الجراح بن
منهال وقد قال الدارقطني هو متروك الحديث. وقال مالك هو دجال، ويرويه عن عبادة بن نسي
عن معاذ ولم يلق عبادة معاذا فيكون منقطعا والماشية يشق تشقيصها بخلاف الأثمان
* (مسألة) * (والشرط الرابع تمام الملك) فلا زكاة في دين المكاتب بغير خلاف علمناه لنقصان
الملك فيه فإن له أن يعجز نفسه ويمتنع من أدائه
* (مسألة) * (ولا تجب في السائمة الموقوفة ولا في حصة المضارب من الربح قبل القسمة على أحد الوجهين فيهما)
لا تجب زكاة في السائمة الموقوفة لأن الملك لا يثبت فيها في وجه وفي وجه يثبت ناقصا لا يتمكن
من التصرف فيها بأنواع التصرفات، وذكر شيخنا في هذا الكتاب المشروح وجها آخر أن الزكاة
تجب فيها، وذكره القاضي ونقل مهنا عن أحمد ما يدل على ذلك لعموم قوله عليه السلام " في أربعين
شاة شاة " ولعموم غيره من النصوص، ولان الملك ينتقل إلى الموقوف عليه في الصحيح من
المذهب أشبهت سائر املاكه وللشافعية وجهان كهذين فإذا قلنا بوجوب الزكاة فيه فينبغي أن يخرج
من غيره لأن الوقف لا يجوز نقل الملك فيه
440

(فصل) فأما حصة المضارب من الربح قبل القسمة فلا تجب فيها الزكاة نص عليه احمد في
رواية صالح وابن منصور فقال: إذا احتسبا يزكي المضارب إذا حال الحول من حين احتسبا لأنه
علم ماله في المال، ولأنه إذا أبضع بعد ذلك كانت الوضيعة على صاحب المال يعني إذا اقتسما لأن
القسمة في الغالب تكون عند المحاسبة فقول احمد يدل على أنه أراد بالمحاسبة القسمة لقوله: إن الوضيعة
تكون على رب المال وهذا إنما يكون بعد القسمة وهذا اختيار شيخنا، واختار أبو الخطاب وجوب
الزكاة فيها من حين ظهور الربح إذا كملت نصابا الا إذا قلنا إن الشركة تؤثر في غير الماشية لأن العامل
يملك الربح بظهوره فإذا ملكه جرى في الحول الزكاة، ولان من أصلنا أن الزكاة تجب في الضال
والمغصوب وإن كان رجوعه مظنونا كذلك هذا
ولنا أن المضارب لا يملك الربح بالظهور على رواية وعلى رواية يملكه ملكا غير تام لأنه وقاية
لرأس المال فلو نقصت قيمة الأصل أو خسر فيه أو تلف بعضه لم يحصل للمضارب، ولأنه ممنوع من
التصرف فيه فلم يكن فيه زكاة كمال المكاتب. ولان ملكه لو كان تاما لاختص بربحه كما لو اقتسما ثم
خلطا المال والامر بخلاف ذلك، فإن من دفع إلى رجل عشرة مضاربة فربح فيها عشرين ثم أتجر فربح
ثلاثين، فإن الخمسين التي ربحها بينهما نصفان، ولو تم ملكه بمجرد ظهور الربح لملك من العشرين
الأولى عشرة واختص بربحها وهي عشرة من الثلاثين وكانت العشرون الباقية بينهما نصفين فيصير
للمضارب ثلاثون وفارق المغصوب والضال، فإن الملك فيه تام وإنما حيل بينه وبينه بخلاف مسئلتنا
ومن أوجب الزكاة على المضارب فإنما يوجبها عليه إذا حال الحول من حين تبلغ حصته نصابا أو
يضمها إلى ما عنده من جنس المال أو من الأثمان إلا إذا قلنا إن الشركة تؤثر في غير السائمة، وليس
عليه اخراجها قبل القسمة كالدين، وإن أراد اخراجها من المال قبل القسمة لم يجز لأن الربح وقاية
441

لرأس المال، ويحتمل أن يجوز لأنهما دخلا على حكم الاسلام، ومن حكمه وجوب الزكاة واخراجها من المال:
(فصل) وإن دفع إلى رجل ألفا مضاربة على أن الربح بينهما نصفان فحال الحول وقد ربح ألفين
فعلى رب المال زكاة ألفين، وقال الشافعي في أحد قوليه: عليه زكاة الجميع لأن الأصل له والربح إنما نمى
ولنا أن حصة المضارب له دون رب المال لأن للمضارب المطالبة بها، ولو أراد رب المال دفع
حصته إليه من غير هذا المال لم يلزمه قبوله، ولا يجب علي الانسان زكاة ملك غيره وقوله: إنما نمى ماله
قلنا إلا أنه لغيره فلم تجب عليه زكاته كما لو وهب نتاج سائمته لغيره. إذا ثبت هذا فإنه يخرج الزكاة
من المال لأنها من مؤنته فكانت منه كمؤنة حمله ويحسب من الربح لأنه وقاية لرأس المال.
* (مسألة) * (ومن كان له دين على ملي من صداق أو غيره زكاه إذا قبضه لما مضى)
الدين على ضربين أحدهما دين على معترف به باذل له فعلى صاحبه زكاته الا أنه لا يلزمه اخراجها
حتى يقبضه فيزكيه لما مضى. يروى ذلك عن علي رضي الله عنه، وبهذا قال الثوري وأبو ثور وأصحاب
الرأي، وقال عثمان بن عفان وابن عمر وجابر وطاوس والنخعي وجابر بن زيد والحسن والزهري
وقتادة والشافعي وإسحق وأبو عبيد: عليه اخراج الزكاة في الحال وان لم يقبضه لأنه قادر على أخذه
والتصرف فيه أشبه الوديعة، وروي عن عائشة وابن عمر: ليس في الدين زكاة وهو قول عكرمة لأنه غير تام
فلم تجب زكاته كعرض القنية، وروي عن سعيد بن المسيب وعطاء وأبي الزناد يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة.
ولنا أن ملكه يقدر على قبضه والانتفاع به فلزمته زكاته لما مضى كسائر أمواله، ولا يجب عليه
زكاته قبل قبضه لأنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الاخراج قبل قبضه كالدين على المعسر ولان
الزكاة تجب على سبيل المواساة وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به
وأما المستودع فهو كالذي في يده لأن المستودع نائب عنه فيده كيده.
442

* (مسألة) * (وفي الدين على غير الملي والمؤجل والمجحود والمغصوب والضائع روايتان)
هذا الضرب الثاني وهو الدين على المماطل والمعسر والمجحود الذي لا بينة به والمغصوب والضال
حكمه حكم الدين على المعسر وفي ذلك كله روايتان، أحداهما لا تجب فيه الزكاة وهو قول قتادة واسحق
وأبي ثور وأهل العراق لأنه مال ممنوع منع غير قادر على الانتفاع به أشبه الدين على المكاتب
والرواية الثانية: يزكيه إذا قبضه لما مضى، وهو قول الثوري وأبي عبيد لما روي عن علي رضي
الله عنه أنه قال في الدين المظنون إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى، وعن ابن عباس نحوه
رواهما أبو عبيد ولأنه مال يجوز التصرف فيه أشبه الدين على الملئ ولان ملكه فيه تام أشبه ما لو نسي
عند من أودعه؟ وللشافعي قولان كالروايتين وعن عمر بن عبد العزيز والحسن والليث والأوزاعي
ومالك يزكيه إذا قبضه لعام واحد لأنه كان في ابتداء الحول في يده، ثم حصل بعد ذلك في يده
فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد.
ولنا أن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة
أو سقوطها كسائر الأموال. قولهم إنه حصل في يده في كل الحول (قلنا) هذا لا يؤثر لأن المانع إذا
وجد في بعض الحول منع كنقص النصاب ولا فرق بين كون الغريم يجحده في ظاهر دون الباطن أو فيهما
(فصل) وظاهر كلام أحمد أنه لا فرق بين الحال والمؤجل لأن البراءة تصح من المؤجل ولولا
أنه مملوك لم تصح منه البراءة لكنه في حكم الدين على المعسر لتعذر قبضه في الحال.
(فصل) ولو أجر داره سنين بأربعين دينارا ملك الأجرة من حين العقد وعليه زكاة الجميع إذا
حال الحول لأن ملكه عليها تام بدليل جواز التصرف فيها بأنواع التصرفات ولو كانت جارية كان
له وطؤها وكونها بعرض الرجوع لانفساخ العقد لا يمنع وجوب الزكاة كالصداق قبل الدخول ثم إن
443

كان قد قبض الأجرة أخرج الزكاة منها، وان كانت دينا فهي كالدين معجلا أو مؤجلا، وقال
ابن أبي موسى فيه رواية أنه يزكيه في الحال كالمعدن، والصحيح الأول لقوله عليه السلام " لا زكاة
في مال حتى يحول عليه الحول " وكما لو ملكه بهبة أو ميراث أو نحوه، وقال مالك وأبو حنيفة لا يزكيها
حتى يقبضها ويحول عليها حول بناء على أن الأجرة إنما تستحق بانقضاء مدة الإجارة وهذا يذكر
في موضعه إن شاء الله تعالى.
(فصل) ولو اشترى شيئا بعشرين دينارا أو أسلم نصابا في شئ فحال الحول قبل أن يقبض
المشتري المبيع أو المسلم فيه والعقد باق فعلى البائع والمسلم إليه زكاة الثمن لأن ملكه ثابت فيه فإن
انفسخ العقد لتلف المبيع أو تعذر السلم فيه وجب رد الثمن وزكاته على البائع والمسلم إليه.
(فصل) والغنيمة يملك الغانمون أربعة أخماسها بانقضاء الحرب فإن كانت جنسا واحدا تجب فيه
الزكاة كالأثمان والسائمة، ونصيب كل واحد منهم نصاب فعليه زكاته إذا انقضى الحول ولا يلزمه
اخراج زكاته قبل قبضه كالدين على الملئ، وإن كان دون النصاب فلا زكاة فيه الا أن يكون
أربعة أخماسها يبلغ النصاب فتكون خلطة ولا تضم إلى الخمس لأنه لا زكاة فيه فإن كانت أجناسا كإبل
وبقر وغنم فلا زكاة على واحد منهم لأن للإمام أن يقسم بينهم قسمة تحكم فيعطي لكل واحد منهم
من أي أصناف المال شاء فما تم ملكه على شئ معين بخلاف الميراث.
(فصل) وقد ذكرنا أن حكم المال المغصوب حكم الدين على المعسر على ما فيه من الخلاف فإن
كان سائمة وكانت معلوفة عند صاحبها وغاصبها فلا زكاة فيها لفقدان الشرط، وإن كانت سائمة
عندهما ففيها الزكاة على الرواية في وجوب الزكاة في المغصوب، وان كانت معلوفة عند المالك
سائمة عند الغاصب ففيه ووجهان أحدهما لا زكاة فيها لأن صاحبها لم يرض باسامتها فلم تجب عليه الزكاة
444

بفعل الغاصب كما لو رعت من غير أن يسيمها.
والثاني عليه الزكاة لأن السوم يوجب الزكاة من المالك فأوجبها من الغاصب كما لو كانت سائمة
عندهما وكما لو غصب بذرا فزرعه وجب العشر فيما خرج منه، وان كانت سائمة عند المالك، معلوفة
عند الغاصب، فلا زكاة فيها لفقدان الشرط، وقال القاضي فيه وجه آخر ان الزكاة تجب فيها لأن
العلف محرم فلم يؤثر في الزكاة كما لو غصب أثمانا فصاغها حليا، قال أبو الحسن الآمدي هذا هو
الصحيح لأن العلف إنما أسقط الزكاة لما فيه من المؤنة ولا مؤنة عليه هاهنا.
ولنا أن السوم شرط لوجوب الزكاة وقد فقد فلم يجب كنقص النصاب.
(قوله) إن العلف محرم ممنوع إنما المحرم الغصب والعلف تصرف في ماله باطعامها إياه ولا تحريم
فيه ولهذا لو علفها عند مالكها لم يحرم عليه، وما ذكره الآمدي من خفة المؤنة غير صحيح فإن الخفة
لا تعتبر بنفسها وإنما تعتبر بمظنتها وهو السوم ثم يبطل ما ذكراه بالمعلوفة عندهما جميعا، ويبطل ما ذكره
القاضي بما إذا علفها مالكها علفا محرما أو أتلف شاة من النصاب فإنه محرم وتسقط به الزكاة
وأما إذا غصب ذهبا فصاغه حليا فلا يشبه ما اختلفنا فيه، لأن العلف فات به شرط الوجوب
والصياغة لم يفت بها شئ وإنما اختلف في كونها مسقطة بشرط كونها مباحة فإذا كانت محرمة لم
يوجد شرط الاسقاط، ولان المالك لو علفها علفا محرما سقطت الزكاة ولو صاغها صياغة محرمة لم
تسقط فافترقا. ولو غصب حليا مباحا فكسره أو ضربه نقدا وجبت فيه الزكاة لأن المسقط لها زال
ويحتمل أن لا يجب كما لو غصب معلوفة فأسامها. ولو غصب عروضا فاتجر فيها لم تجب فيها الزكاة
445

لأن نية التجارة شرط ولم توجد من المالك، وسواء كانت للتجارة عند مالكها أولا لأن بقاء النية
شرط ولم ينو التجارة بها عند الغاصب، ويحتمل أن تجب فيها الزكاة إذا كانت للتجارة عند مالكها
واستدام النية لأنها لم تخرج عن ملكه بغصبها وان نوى بها الغاصب القنية. وكل موضع أوجبنا الزكاة
فعلى الغاصب ضمانها لأنه نقص حصل في يده فضمنه كتلفه
* (فصل) * إذا ضلت واحدة من النصاب أو أكثر أو غصبت فنقص النصاب فالحكم فيه
كما لو ضل جميعه أو غصب لأن كمال النصاب شرط لوجوب الزكاة لكن ان قلنا بوجوب الزكاة فعليه
الاخراج عن الموجود عنده، وإذا رجع الضال والمغصوب أخرج عنه كما لو رجع جميعه
(فصل) وإن أسر المالك لم تسقط الزكاة عنه سواء حيل بينه وبين ماله أو لم يحل لأن تصرفه
في ماله نافذ يصح بيعه وهبته وتوكيله فيه. وقال بعض أصحاب الشافعي يخرج فيه وجه انه لا تجب
فيه الزكاة إذا حيل بينه وبينه كالمغصوب
(فصل) وإن ارتد قبل مضي الحول، وحال الحول وهو مرتد فلا زكاة عليه لأن الاسلام
شرط لوجوب الزكاة فعدمه في بعض الحول يسقط الزكاة كالملك، وإن رجع إلى الاسلام قبل مضي
الحول استأنف حولا لما ذكرنا نص عليه أحمد فأما إن ارتد بعد الحول لم تسقط عنه الزكاة وهو قول
الشافعي. وقال أبو حنيفة تسقط لأن من شرطها النية فسقطت بالردة كالصلاة
ولنا أنه حق مالي فلا يسقط بالردة كالدين. وأما الصلاة فلا تسقط أيضا لكن لا يطالب بفعلها
لأنها لا تصح منه ولا تدخلها النيابة فإذا عاد لزمه قضاؤها، والزكاة تدخلها النيابة ويأخذها الإمام
446

من الممتنع فكذا هاهنا يأخذ الإمام منه ماله فإن أسلم بعد أخذها لم يلزمه أداؤها لأنها سقطت
بأخذ الإمام كسقوطها بالأخذ من المسلم الممتنع. ويحتمل أن لا تسقط لأنها عبادة فلا تصح بغير نية. وأصل
هذا إذا اخذ من المسلم الممتنع قهرا. وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وان أخذها غير الإمام أو نائبه
لم تسقط عنه لأنه لا ولاية له عليه فلا يقوم مقامه بخلاف نائب الإمام وان أداها في حال ردته لم يجزه
لأنه كافر فلا تصح منه لكونها عبادة كالصلاة
(فصل) وحكم الصداق حكم الدين لأنه دين للمرأة في ذمة الرجل. فإن كان على ملئ وجبت
فيه الزكاة فإذا قبضته أدت لما مضى، وإن كان على جاحد أو معسر فعلى الروايتين، ولا فرق بين ما قبل
الدخول وبعده لأنه دين في الذمة فهو كثمن مبيعها، فإن سقط نصفه بطلاقها قبل الدخول وقبضت
النصف فعليها زكاة ما قبضته خاصة لأنه دين لم تتعوض عنه، ولم تقبضه فأشبه ما تعذر قبضه لفلس أو
جحد. وكذلك لو سقط الصداق كله قبل قبضه لانفساخ النكاح بسبب من جهتها ليس عليها زكاة لما
ذكرنا، ويحتمل أن تجب عليها زكاة لأن سقوطه بسبب من جهتها أشبه الموهوب. وكذلك كل دين
سقط قبل قبضه من غير إسقاط صاحبه. أو أيس صاحبه من استيفائه. والمال الضال إذا أيس منه
فإنه لا زكاة على صاحبه لأن الزكاة مواساة فلا تلزمه المواساة الا مما حصل له، وإن كان الصداق
نصابا فحال عليه الحول ثم سقط نصفه وقبضت النصف فعليها زكاة النصف المقبوض لأن الزكاة
وجبت فيه ثم سقطت من نصفه لمعنى اختص به فاختص السقوط به، وان مضى عليه حول قبل قبضه
ثم قبضته كله زكته لذلك الحول وان مضت عليه أحوال قبل قبضه ثم قبضته زكته لما مضى كله وقال
أبو حنيفة لا تجب الزكاة عليها ما لم تقبضه لأنه بدل عما ليس بمال فلم تجب الزكاة فيه قبل قبضه كدين الكتابة
447

ولنا انه دين يستحق قبضه ويجبر المدين على أدائه فوجبت فيه الزكاة كثمن المبيع بخلاف دين
الكتابة يستحق قبضه وللمكاتب الامتناع من أدائه ولا يصح قياسهم عليه لأنه عوض عن مال
(فصل) وان قبضت صداقها قبل الدخول ومضى عليه حول فزكته ثم طلقها الزوج قبل الدخول
رجع عليها بنصفه وكانت الزكاة من النصف الباقي لها. وقال الشافعي في قول يرجع الزوج بنصف الموجود
ونصف قيمة المخرج لأنه لو تلف الكل رجع عليها بنصف قيمته فكذلك إذا تلف البعض
ولنا قوله تعالى (فنصف ما فرضتم) ولأنه يمكنه الرجوع في العين فلم يكن له الرجوع إلى القيمة
كما لو لم يتلف منه شئ ويخرج على هذا إذا تلف كله لعدم إمكان الرجوع في العين، وان طلقها بعد
الدخول وقبل الاخراج لم يكن لها الاخراج من النصاب لأن حق الزوج تعلق به على وجه الشركة
والزكاة لا نتعلق به على وجه الشركة لكن يخرج الزكاة من غيره أو يقتسمانه ثم تخرج الزكاة من
حصتها فإن طلقها قبل الدخول ملك النصف مشاعا، وكان حكم ذلك كما لو باعت نصفه قبل الحول
مشاعا وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى
(فصل) فإن كان الصداق دينا فأبرأت الزوج منه بعد مضي الحول ففيه روايتان إحداهما
عليها الزكاة لأنها تصرفت فيه أشبه ما لو قبضته، والثانية زكاته على الزوج لأنه ملك ما ملك عليه
فكأنه لم يزل ملكه عنه. والأول أصح وما ذكرناه لهذه الرواية لا يصح فإن الزوج لم يملك شيئا وإنما
448

سقط عنه ثم لو ملك في الحال لم يقتض هذا وجوب زكاة ما مضى. ويحتمل أن لا تجب الزكاة على واحد
فيهما لم ذكرنا في الزوج. وأما المرأة فلم تقبض الدين أشبه ما لو سقط بغير إسقاطها. وهذا إذا كان
الدين مما تجب فيه الزكاة إذا قبضته، وكل دين على انسان أبرأه صاحبه منه بعد مضي الحول عليه
فحكمه حكم الصداق فيما ذكرنا. قال أحمد: إذا وهبت المرأة مهرها لزوجها وقد مضى له عشر سنين فإن
الزكاة على المرأة لأن المال كان لها، وإذا وهب رجل لرجل مالا فحال الحول ثم ارتجعه الواهب فالزكاة
على الذي كان عنده. وقال في رجل باع شريكه نصيبه من داره لم يعطه شيئا فلما كان بعد سنة قال
ليس عندي دراهم فأقلني فأقاله قال عليه أن يزكي لأنه قد ملكه حولا
* (مسألة) * (قال الخرقي: واللقطة إذا جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها)
قد ذكرنا في المال الضائع روايتين وهذا منه وعلى مقتضى قول الخرقي أن الملتقط لو لم يملكها
كمن لم يعرفها فإنه زكاة على ملتقطها. وإذا جاء ربها زكاها للزمان كله وإذا كانت ماشية فإنما تجب
عليه زكاتها إذا كانت سائمة عند الملتقط. فإن علفها فلا زكاة على صاحبها على ما ذكرنا في المغصوب
449

(فصل) وزكاتها بعد الحول الأول على الملتقط في ظاهر المذهب لأن اللقطة تدخل في ملكه
كالميراث فتصير كسائر ماله يستقبل بها حولا، وعند أبي الخطاب انه لا يملكها حتى يختار ذلك
وهو مذهب الشافعي وسنذكر ذلك إن شاء الله في بابه. وحكى القاضي في موضع ان الملتقط إذا
ملكها وجب عليه مثلها إن كانت مثلية أو قيمتها ان لم تكن مثلية وهو مذهب الشافعي. ومقتضى
هذا أن لا تجب عليه زكاتها لأنه دين فمنع الزكاة كسائر الديون. وقال ابن عقيل يحتمل أن لا تجب
الزكاة فيها لمعنى آخر وهو ان ملكه غير مستقر عليها، ولصاحبها أخذها منه متى وجدها. والمذهب
الأول، وما ذكره القاضي يفضي إلى ثبوت معاوضة في حق من لا ولاية عليه بغير فعله ولا اختياره
ويقتضي ذلك أن يمنع الدين الذي عليه الميراث والوصية كسائر الديون، والامر بخلافه. وما ذكره
بن عقيل يبطل بما وهبه الأب لولده، وبنصف الصداق فإن لهما استرجاعه ولا يمنع وجوب الزكاة
* (مسألة) * (ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب إلا في المواشي والحبوب في إحدى الروايتين)
وجملة ذلك أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة، وهي الأثمان وعروض
التجارة وبه قال عطاء وسليمان بن يسار والحسن والنخعي والليث ومالك والثوري والأوزاعي واسحق
وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال ربيعة وحماد بن أبي سليمان والشافعي في الجديد لا يمنع لأنه حر مسلم
ملك نصابا حولا فوجبت عليه الزكاة كمن لا دين عليه
450

ولنا ما روى السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان
عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم. رواه أبو عبيد في الأموال، وفي لفظ: من كان عليه
دين فليقض دينه، وليترك بقية ماله. قال ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروه فدل على اتفاقهم عليه
وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إذا كان لرجل ألف درهم، وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه " وهذا نص، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال
" أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، فأردها في فقرائكم " فدل على أنها إنما تجب على الأغنياء
ولا تدفع الا إلى الفقراء، وهذا ممن يحل له أخذ الزكاة فيكون فقيرا فلا تجب عليه الزكاة لأنها
إنما تجب على الأغنياء للخبر، وكذلك قوله عليه السلام " لا صدقة الا عن ظهر غنى " فأما من لا
دين عليه فهو غني بملك النصاب فهو بخلاف هذا يحقق هذا ان الزكاة إنما وجبت مواساة للفقراء
وشكرا لنعمة الغنى، والمدين محتاج إلى قضاء دينه كحاجة الفقير أو أشد، وليس من الحكمة تعطيل
حاجة الملك لدفع حاجة غيره وقد قال عليه الصلاة والسلام " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " إذا ثبت
ذلك فظاهر كلام شيخنا انه لا فرق بين الحال والمؤجل لما ذكرنا من الأدلة. وقال ابن أبي موسى
ان المؤجل لا يمنع وجوب الزكاة لأنه غير مطالب به في الحال
(فصل) فأما الأموال الظاهرة وهي المواشي والحبوب والثمار ففيها روايتان: إحداهما أن
الدين يمنع وجوب الزكاة فيها لما ذكرنا. قال أحمد في رواية إسحق بن إبراهيم: يبتدئ بالدين
451

فيقضيه ثم ينظر ما بقي عنده بعد اخراج النفقة فيزكيه، ولا يكون على أحد - دينه أكثر من ماله - صدقة
في إبل أو بقر أو غنم أو زرع وهذا قول عطاء والحسن والنخعي وسليمان بن يسار والثوري والليث
وإسحق. والرواية الثانية لا يمنع الزكاة فيها وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي، وروي عن أحمد
أنه قال: قد اختلف ابن عمر وابن عباس فقال ابن عمر: يخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله
ويزكي ما بقي، وقال الآخر: يخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته ويزكي ما بقي، واليه أذهب أن لا يزكي
ما أنفق على ثمرته ويزكي ما بقي لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلا أو بقرا أو غنما لم يسأل أي شئ على
صاحبها من الدين؟ وليس المال هكذا، فظاهر ذلك أن هذه رواية ثالثة وهو أنه لا يمنع الدين الزكاة في الأموال
الظاهرة إلا في الزروع والثمار فيما استدانه للانفاق عليها خاصة. وهذا ظاهر كلام الخرقي. وقال أبو حنيفة: الدين
الذي تتوجه به المطالبة يمنع في سائر الأموال إلا الزروع والثمار بناء منه على أن الواجب فيها ليس بصدقة.
والفرق بين الأموال الباطنة والظاهرة أن تعلق الزكاة بالظاهرة آكد لظهورها وتعلق قلوب
الفقراء بها، ولهذا يشرع ارسال السعاة لاخذها من أربابها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة
فيأخذون الصدقات من أربابها وكذلك الخلفاء بعده ولم يأت عنهم انهم طالبوا أحدا بصدقة الصامت
ولا استكرهوه عليها إلا أن يأتي بها طوعا، ولان السعاة يأخذون زكاة ما يجدون ولا يسألون عما
على صاحبها من الدين، فدل انه لا يمنع زكاتها، ولان تعلق الأطماع من الفقراء بها أكثر،
والحاجة إلى حفظها أوفر، فتكون الزكاة فيها أوكد
452

(فصل) وإنما يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ولا يجد ما يقضيه به سوى
النصاب أو مالا يستغنى عنه مثل أن يكون له عشرون مثقالا وعليه مثقال أو أقل مما ينقص به النصاب
إذا قضاه ولا يجد له قضاء من غير النصاب، فإن كان ينقص به النصاب أسقط مقدار الدين وأخرج
زكاة الباقي، فإن كان له ثلاثون مثقالا وعليه عشرة فعليه زكاة العشرين، وإن كان عليه أكثر من
عشرة فلا زكاة عليه. وكذلك لو أن له مائة من الغنم وعليه ما يقابل ستين فعليه زكاة الأربعين
، وإن قابل إحدى وستين فلا زكاة عليه لأنه ينقص النصاب، وإن كان له مالان من جنسين وعليه
دين جعلته في مقابلة ما يقضي منه، فلو كان عليه خمس من الإبل وله خمس من الإبل ومائتا درهم
فإن كانت عليه سلما أو دية أو نحو ذلك مما يقضى بالإبل جعلت الدين في مقابلتها ووجبت عليه
زكاة الدراهم، فإن كان أتلفها جعلت قيمتها في مقابلة الدراهم لأنها تقضى منها، وان كانت قرضا
خرج على الوجهين فيما يقضي منه، فإن كانت إذا جعلناها في مقابلة أحد المالين فضلت منها فضلة
تنقص النصاب الآخر، وإذا جعلناها في مقابلة الآخر لم يفضل منها شئ كرجل له مائتا درهم
وخمس من الإبل وعليه ست من الإبل قيمتها مائتا درهم إذا جعلناها في مقابلة المائتين لم يبق من
الدين شئ ينقص نصاب السائمة، وان جعلناها في مقابلة الإبل فضل منها بعير ينقص نصاب الدراهم
أو كانت بالعكس مثل أن يكون عليه مائتان وخمسون درهما وله من الإبل خمس أو أكثر تساوي
الدين أو تفضل عليه - جعلنا الدين في مقابلة الإبل هاهنا وفي مقابلة الدراهم في الصورة الأولى لأن
له من المال ما يقضي به الدين سوى النصاب، وكذلك إن كان عليه مائة درهم وله مائتا درهم
453

وتسع من الإبل فإذا جعلناها في مقابلة الإبل لم ينقص نصابها لكون الأربع الزائدة عنه تساوي
المائة أو أكثر منها، وان جعلناها في مقابلة الدراهم سقطت الزكاة منها جعلناها في مقابلة الإبل لما
ذكرنا ولان ذلك أحظ للفقراء، ذكر القاضي نحو هذا فقال: إذا كان النصابان زكويين جعلت الدين
في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته وإن كان من غير جنس الدين، وإن كان أحد
المالين لا زكاة فيه والآخر فيه الزكاة كرجل عليه مائتا درهم وله مثلها وعروض للقنية تساوي مائتين
فقال القاضي يجعل الدين في مقابلة العروض وهذا مذهب مالك وأبي عبيد، قال أصحاب الشافعي وهو
مقتضى قوله لأنه مالك لمائتين زائدة عن مبلغ دينه فوجبت عليه زكاتها كما لو كان جميع ماله جنسا
واحدا وهذا ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه انه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى عنه، فإنه قال في
رجل عنده ألف وعليه ألف وله عروض بألف، إن كانت العروض للتجارة زكاها، وإن كانت
لغير التجارة فليس عليه شئ وهذا مذهب أبي حنيفة. ويحكى عن الليث بن سعد لأن الدين يقضى
من جنسه عند التشاح فجعل الدين في مقابلة أولى كما لو كان النصابان زكويين
قان شيخنا: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد هاهنا على ما إذا كان العرض يتعلق به حاجته
الأصلية ولا فضل فيه عن حاجته فلا يلزمه صرفه في وفاء الدين لأن حاجته أهم، ولذلك لم تجب
الزكاة في الحلي المعد للاستعمال ويكون قول القاضي محمولا على من كان العرض فاضلا عن حاجته،
وهذا أحسن لأنه في هذه الحال مالك لنصاب فاضل عن حاجته وقضاء دينه فلزمته زكاته كما لو لم
يكن عليه دين. فأما إن كان عنده نصابان زكويان وعليه دين من غير جنسهما ولا يقضى من
أحدهما فإنك تجعله في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته
* (مسألة) * (والكفارة كالدين في أحد الوجهين)
454

دين الله تعالى كالنذر والكفارة فيه وجهان: أحدهما يمنع الزكاة لأنه دين يجب قضاؤه فهو
كدين الآدمي وقد قال عليه السلام " دين الله أحق أن يقضى " والآخر لا يمنع لأن الزكاة آكد منه
لتعلقها بالعين فهي كأرش الجناية، ويفارق دين الآدمي لتأكده وتوجه المطالبة به فإن نذر الصدقة
بمعين فقال الله علي أن أتصدق بهذه المائتي درهم إذا حال الحول. فقال ابن عقيل: يخرجها ولا
زكاة عليه لأن النذر آكد لتعلقه بالعين والزكاة مختلف فيها، ويحتمل أن تلزمه زكاتها وتجزيه
الصدقة بها إلا أنه ينوي الزكاة بقدرها ويكون ذلك صدقة مجزية عن الزكاة والنذر لكون الزكاة
صدقة وباقيها يكون صدقة لنذره وليس بزكاة، وان نذر الصدقة ببعضها وكان ذلك البعض قدر الزكاة
أو أكثر. فعلى هذا الاحتمال يخرج المنذور وبنوي الزكاة بقدرها منه، وعلى قول ابن عقيل يحتمل أن
تجب الزكاة عليه لأن النذر إنما تعلق بالبعض بعد وجود سبب الزكاة وتمام شرطه فلا يمنع الوجوب لكون
المحل متسعا لهما جميعا، وإن كان المنذور أقل من قدر الزكاة وجب قدر الزكاة ودخل النذر فيه في
أحد الوجهين، وفي الآخر يجب اخراجهما جميعا
(فصل) وإذا قلنا لا يمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة فحجر الحاكم عليه بعد وجوب
الزكاة لم يملك اخراجها لأنه قد انقطع تصرفه في ماله وإن أقربها بعد الحجر لم يقبل اقراره ويتعلق
بذمته كدين الآدمي، ويحتمل أن تسقط إذا حجر عليه قبل امكان أدائها كما لو تلف ماله، فإن أقر
الغرماء بوجوب الزكاة عليه أو ثبت ببينة أو كان قد أقر بها قبل الحجر عليه وجب اخراجها من المال
455

فإن تركوها فعليهم اثمها، فإن حجر الحاكم على المفلس في أمواله الزكوية فهل ينقطع حولها - يخرج على
الروايتين في المال المغصوب وقد ذكرناه
(فصل) وإذا جنى العبد المعد للتجارة جناية تعلق أرشها برقبته ومنع وجوب الزكاة فيه إن كان
ينقص النصاب لأنه دين وإن لم ينقص النصاب منع الزكاة في قدر ما يقابل الأرش
* (مسألة) * (الشرط الخامس مضي الحول شرط إلا في الخارج من الأرض) مضي الحول شرط لوجوب الزكاة في السائمة والأثمان وعروض التجارة لا يعلم في ذلك خلافا إلا
ما نذكره في المستفاد. والأصل فيه ما روى ابن ماجة باسناده عن عائشة قالت: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " رواه ابن عمر أيضا وأخرجه الترمذي وهو
لفظ عام. فأما ما يكال ويدخر من الزروع والثمار والمعدن فلا يعتبر لهما حول، والفرق بين ما اعتبر
له الحول وما لا يعتبر أن ما اعتبر له الحول مرصد للنماء، فالماشية مرصدة للدر والنسل، وعروض التجارة
مرصدة للربح، وكذا الأثمان فاعتبر له الحول لكونه مظنة النماء ليكون إخراج الزكاة من الربح
فإنه أسهل وأيسر، ولان الزكاة إنما وجبت مواساة ولم يعتبر حقيقة النماء لكثرة اختلافه وعدم ضبطه
ولان ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقته كالحكم مع الأسباب، ولان الزكاة تتكرر في هذه الأموال
فلا بد لها من ضابط كيلا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد فينفذ مال المالك. أما الزروع
والثمار فهي نماء في نفسها تتكامل عند اخراج الزكاة منها فتؤخذ الزكاة منها حينئذ ثم تعود في النقص
بملا تجب فيها زكاة ثانية لعدم ارصادها للنماء، وكذلك الخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض
فنزلة الزروع والثمار إلا أنه إن كان من جنس الأثمان وجبت وجبت فيه الزكاة عند كل حول لأنه مظنة
456

للنماء من حيث إن الأثمان قيم الأموال ورؤوس مال التجارات وبها تحصل المضاربة والشركة وهي
مخلوقة لذلك فكانت بأصلها وخلقتها كمال التجارة المعد لها
* (مسألة) * (فإذا استفاد مالا فلا زكاة حتى يتم عليه الحول الانتاج السائمة وربح التجارة
فإن حوله حول مثله إن كان نصابا، وإن لم يكن نصابا فحوله من حين كمل النصاب)
وجملة ذلك أن من استفاد مالا زكويا مما يعتبر له الحول ولم يكن له مال سواه وكان المستفاد
نصابا أو كان له مال من جنسه لا يبلغ نصابا فبلغ بالمستفاد نصابا انعقد عليه حول الزكاة من حينئذ،
فإذا تم وجبت فيه الزكاة لعموم قوله عليه السلام " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " وهذا
مذهب الشافعي واسحق وأبي ثور وأصحاب لرأي لأنه لم يحل الحول على النصاب فلم تجب الزكاة فيها
كما لو كملت بغير سخالها، والحكم في فصلان الإبل وعجول البقر كالحكم في السخال، وعن أحمد
فيمن ملك النصاب من الغنم فكمل بالسخال احتسب الحول من حين ملك الأمهات وهو قول مالك
والمذهب الأول لأن النصاب هو السبب فاعتبر مضي الحول على جميعه. وإن كان عنده نصاب لم يخل
المستفاد من ثلاثة أقسام:
أحدها أن يكون من نمائه كربح مال التجارة ونتاج السائمة فهذا يجب ضمه إلى ما عنده من
أصله في الحول لا نعلم في ذلك خلافا الا ما حكي عن الحسن والنخعي: لا زكاة في السخال حتى يحول
عليها الحول للحديث المذكور، والأول أولى لقول عمر رضي الله عنه لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة
457

يروح بها الراعي على يديه. والحديث مخصوص بربح التجارة لأنه تبع له من جنسه أشبه زيادة القيمة
في العروض وثمن العبد والجارية
القسم الثاني: أن يكون المستفاد من غير جنس النصاب فهذا له حكم نفسه لا يضم إلى ما عنده
في حول ولا نصاب، بل إن كان نصابا استقبل به حولا وزكاه والا فلا شئ فيه وهذا قول جمهور
العلماء. وروي عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية ان الزكاة تجب فيه حين استفاده. قال أحمد
عن غير واحد: يزكيه حين يستفيده. وعن الأوزاعي فيمن باع عبده انه يزكي الثمن حين يقع في
يده إلا أن يكون له شهر يعلم فيؤخره حتى يزكيه مع ماله، وجمهور العلماء على القول الأول منهم
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قال ابن عبد البر: والخلاف في ذلك شذوذ لم يعرج عليه
أحد من العلماء ولا قال به أحد من أهل الفتوى لما ذكرنا من الحديث. وقد روي عن أحمد فيمن
باع دار. بعشرة آلاف إلى سنة إذا قبض المال يزكيه، وهذا محمول من قوله على أنه يزكيه لكونه
دينا في ذمة المشتري فيجب على البائع زكاته كسائر الديون. وقد صرح بذلك في رواية بكر بن
محمد عن أبيه فقال: إذا أكرى عبدا أو دارا في سنة بألف فحصلت له الدراهم وقبضها زكاها إذا
حال عليها الحول من حين قبضها، وان كانت على المكتري فمن يوم وجبت له فيها الزكاة يمنزلة الدين
إذا وجب له على صاحبه زكاه من يوم وجب له
القسم الثالث: أن يستفيد مالا من جنس نصاب عنده قد انعقد عليه حول الزكاة بسبب مستقل
كمن عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول فيشتري أو يرث أو يهب مائة فهذا لا يجب فيه
458

الزكاة حتى يمضي عليه حول أيضا وبهذا قال الشافعي، ولا يبني الوارث حوله على حول الموروث وهو أحد
القولين للشافعي لأنه تجديد ملك، والقول الثاني انه يبنى على حول موروثه لأن ملكه مبني على ملك
الموروث بدليل انه لو اشترى شيئا معيبا ثم مات قام الوارث مقامه في الرد بالعيب والأول أولى.
وقال أبو حنيفة يضمها إلى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعا عند تمام حول المال الأول الذي كان
عنده إلا أن يكون عوضا من مال مزكى. والدليل على ذلك أنه مال يضم إلى جنسه في النصاب فضم
إليه في الحول كالنتاج ولأنه إذا ضم في النصاب وهو سبب فضمه إليه في الحول الذي هو شرط
أولى، وبيان ذلك أنه لو أن عنده مائتا درهم مضى عليها بعض الحول فوهب له مائة أخرى فإن
الزكاة تجب فيها إذا تم حولها بغير خلاف، ولولا المائتان ما وجب فيها شئ، فإذا ضمت إلى المائتين
في أصل الوجوب فكذلك في وقته، ولان افراده بالحول يفضي إلى تشقيص الواجب في السائمة
واختلاف أوقات الواجب والحاجة إلى ضبط أوقات التملك ومعرفة قدر الواجب في كل جزء ملكه
ووجوب القدر اليسير الذي لا يتمكن من إخراجه ويتكرر ذلك وهذا حرج منفي بقوله تعالى (وما جعل
عليكم في الدين من حرج) وقد اعتبر الشارع ذلك بايجاب غير الجنس فيما دون خمس وعشرين من
الإبل وضم الأرباح والنتاج إلى حول أصلها مقرونا بدفع هذه المفسدة، فدل على أنه علة لذلك
فيتعدى الحكم إلى محل النزاع
وقال مالك كقول أبي حنيفة في السائمة دفعا للتشقيص في الواجب وكقولنا في الأثمان لعدم ذلك فيها
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " رواه ابن ماجة. وروى
الترمذي باسناده عن ابن عمر أنه قال: من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، ورواه
مرفوعا إلا أنه قال الموقوف أصح. وإنما رفعه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف، ولأنه
مملوك أصلا فيعتبر له الحول شرطا كالمستفاد من غير الجنس. وأما الأرباح والنتاج فإنما ضمت إلى
أصلها لأنها تبع لها ومتولدة منها لا لما ذكرتم، وإن سلمنا إن علة ضمها ما ذكرتم من الحرج إلا أن
الحرج في الأرباح يكثر ويتكرر في الأيام والساعات ويعسر ضبطها، وكذلك النتاج وقد يوجد
ولا يشعر به فالمشقة فيه أتم لكثرة تكرره بخلاف هذه الأسباب المستقلة فإن الميراث والاغتنام
والاتهاب ونحو ذلك يندر ولا يتكرر غالبا فلا يشق ذلك فيه وإن شق فهو دون المشقة في الأولاد
والأرباح فيمتنع الالحاق، وقولهم: ذلك حرج. قلنا التيسير فيما ذكرنا أكثر لأن المالك يتخير بين التعجيل
والتأخير وهم يلزمونه بالتعجيل، ولا يشك بأن التخيير بين شيئين أيسر من تعيين أحدهما، لأنه
459

حينئذ يختار أيسرهما عليه، وأما ضمه إليه في النصاب فلان النصاب معتبر لحصول الغنى وقد حصل
الغنى بالنصاب الأول، والحول معتبر لاستنماء المال ليحصل أداء الزكاة من الربح، ولا يحصل ذلك
بمرور الحول على أصله فوجب أن يعتبر له الحول
* (مسألة) * (وإن ملك نصابا صغارا انعقد عليه الحول من حين ملكه وعنه لا ينعقد حتى يبلغ
سنا يجزي مثله في الزكاة).
الرواية الأولى هي المشهورة في المذهب لعموم قوله عليه السلام " في خمس من الإبل شاة "
ولان السخال تعد مع غيرها فتعد منفردة كالأمهات.
والرواية الثانية: لا ينعقد عليه الحول حتى يبلغ سنا يجزي مثله في الزكاة وهو قول أبي حنيفة،
وحكى عن الشعبي لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليس في السخال زكاة " ولان السن معنى
يتغير به الفرض فكان لنقصانه تأثير في الزكاة كالعدد، والأولى أولى، والحديث يرويه جابر الجعفي وهو ضعيف عن الشعبي مرسلا ثم يمكن حمله على أنه لا يجب فيها قبل حولان الحول والعدد تزيد الزكاة
بزيادته بخلاف السن، فإذا قلنا بالرواية الثانية وماتت الأمهات كلها إلا واحدة لم ينقطع الحول، وان
ماتت كلها انقطع، وقال ابن عقيل إذا كانت السخال لا تأكل المرعى بل تشرب اللبن احتمل أن
لا تجب فيها الزكاة لعدم تحقق السوم فيها واحتمل أن تجب لأنها تبع للأمهات كما تتبعها في الحول
* (مسألة) * (ومتى نقص النصاب في بعض الحول أو باعه أو أبدله بغير جنسه انقطع الحول)
وجود النصاب في جميع الحول شرط لوجوب شرط لوجوب الزكاة فإن نقص الحول نقصا يسيرا، فقال أبو بكر
ثبت أن نقص الحول ساعة أو ساعتين معفو عنه، وقال شيخنا في كتاب الكافي: ان نتجت واحدة
ثم هلكت واحدة لم ينقطع الحول، وإن خرج بعضها وهلكت الأخرى قبل خروج بقيتها انقطع
الحول لأنه لا يثبت لها حكم الوجود في الزكاة حتى يخرج جميعها وقال القاضي إن كان النتاج والموت
حصلا في وقت واحد لم تسقط الزكاة لأن النصاب لم ينقص وإن تقدم الموت النتاج سقطت الزكاة
وظاهر قولهما أنه لا يعفى عن النقص في الحول وإن كان يسيرا لعموم قوله عليه السلام " لا زكاة في
مال حتى يحول عليه الحول " ويحتمل ان يحمل كلام أبى بكر على أنه أراد النقص في طرف الحول فيكون
كنقص النصاب حبة أو حبتين والله أعلم. وقال بعض أصحابنا: ان نقص الحول أقل من يوم لا يؤثر
لأنه يسير أشبه الحبة والحبتين، وظاهر الحديث يقتضي التأثير وهو أولى إن شاء الله تعالى
(فصل) ومتى باع النصاب في أثناء الحول أو أبدله بغير جنسه انقطع حول الزكاة واستأنف له
460

حولا لما ذكرنا من الحديث ولا نعلم في ذلك خلافا إلا أن يبدل ذهبا بفضة أو فضة بذهب فإنه مبني
على الروايتين في ضم أحدهما إلى الآخر إحداهما يضم لأنهما كالجنس الواحد إذ هما أروش الجنايات
وقيم المتلفات فهما كالمال الواحد فعلى هذا لا ينقطع الحول:
والرواية الثانية لا يضم أحدهما إلى الآخر لأنهما جنسان في باب الربا فلم يضم أحدهما إلى الآخر
كالتمر والزبيب فعلى هذا ينقطع الحول، ولا يبنى أحدهما على حول الآخر كالجنسين من الماشية
* (مسألة) * (الا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة عند قرب وجوبها فلا تسقط)
وكذا لو أتلف جزءا من النصاب لينقص النصاب فتسقط عنه الزكاة لم تسقط وتؤخذ منه في
آخر الحول، وهذا قول مالك والأوزاعي وابن الماجشون وإسحق وأبي عبيد، وقال أبو حنيفة والشافعي
تسقط عنه الزكاة لأنه نقص قبل تمام حوله فلم تجب فيه الزكاة كما لو أتلفه لحاجته.
ولنا قوله عز وجل (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة - إلى قوله - فأصبحت كالصريم) فعاقبهم
الله تعالى بذلك لفرارهم من الصدقة ولأنه قصد اسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه فلم يسقط
كما لو طلق امرأته في مرض موته ولأنه لما قصد قصدا فاسدا اقتضت الحكمة عقوبته بنقيض قصده
كمن قتل موروثه لاستعجال ميراثه عاقبه الشرع
بالحرمان. أما إذا أتلفه لحاجة فلم يقصد قصدا فاسدا
وإنما يؤثر ذلك إذا كان عند قرب الوجوب لأنه حينئذ مظنة الفرار فإن فعل ذلك في أول الحول لم
تجب الزكاة لكونه ليس بمظنة للفرار وقيل تجب لما ذكرنا.
(فصل) وإذا قلنا لا تسقط الزكاة وحال الحول أخرج الزكاة من جنس المال المبيع دون
الموجود لأنه الذي وجبت الزكاة بسببه ولولاه لم يجب في هذه زكاة.
(فصل) وإذا باع النصاب فانقطع الحول ثم وجد بالثاني عيبا فرده استأنف حولا لزوال ملكه
بالبيع قل الزمان أو كثر وان حال الحول على النصاب المشترى وجبت فيه الزكاة فإن وجد به عيبا
قبل اخراج زكاته فله الرد سواء قلنا الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة لأن الزكاة لا تتعلق بالعين بمعنى
استحقاق الفقراء جزءا منه بل بمعنى تعلق حقهم به كتعلق الأرش بالجاني فعلى هذا يرد النصاب وعليه
إخراج زكاته من مال آخر فإن أخرج الزكاة منه ثم أراد رده انبنى على المعيب إذا حدث به عيب
آخر عن المشتري هل له رد؟ على روايتين ومتى رده فعليه عوض الشاة المخرجة تحسب عليه بحصتها
من الثمن والقول قول المشتري في قيمتها مع يمينه لأنه غارم إذا لم يكن بينة، وفيه وجه أن القول قول
البائع لأنه يغرم ثمن المبيع فبرده والأول أصح لأن الغارم لثمن الشاة المدعاة هو المشتري فإن أخرج
الزكاة من غير النصاب فله الرد وجها واحدا.
461

(فصل) وإن كان البيع بالخيار انقطع الحول في ظاهر المذهب سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري
أو لهما لأن ظاهر المذهب أن البيع بشرط الخيار ينقل الملك عقيب العقد ولا يقف على انقضاء الخيار
فعلى هذا إذا رد المبيع على البائع استقبل به حولا، وعن أحمد لا ينتقل الملك حتى ينقضي الخيار وهو
قول مالك وقال أبو حنيفة لا ينتقل الملك إن كان الخيار للبائع وإن كان للمشتري خرج عن البائع ولم
يدخل في ملك المشتري، وعن الشافعي ثلاثة أقوال قولان كالروايتين وقول ثالث أنه مراعى فإن
فسخاه تبينا أنه لم ينتقل والا تبينا أنه انتقل.
ولنا أنه بيع صحيح فانتقل الملك عقيبه كما لو يشترط الخيار وهكذا الحكم لو فسخا البيع في
المجلس بخيارهما لأنه لا يمنع نقل الملك فهو كخيار الشرط. ولو مضى الحول في مدة الخيار ثم فسخا
البيع كانت زكاته على المشتري لأنه ملكه، وان قلنا بالرواية الأخرى لم ينقطع الحول ببيعه لأن
ملك البائع لم يزل عنه ولو حال عليه الحول في مدة الخيار كانت زكاته على البائع، فإن أخرجها من
غيره فالبيع بحاله وان أخرجها منه بطل البيع في المخرج وهل يبطل في الباقي؟ على وجهين بناء على تفريق
الصفقة وان لم يخرجها حتى سلمت إلى المشتري وانقضت مدة الخيار لزم البيع فيه وكان عليه الاخراج
من غيره كما لو باع ما وجبت فيه الزكاة، ولو اشترى عبدا فهل هلال شوال ففطرته على المشتري وإن كان
في مدة الخيار على الصحيح، وعلى الرواية الأخرى يكون في مدة الخيار على البائع.
(فصل) فإن كان البيع فاسدا لم ينقطع به الحول وبني على حوله الأول لأنه لا ينقل الملك الا
أن يقبضه المشتري ويتعذر رده فيصير كالمغصوب على ما مضى.
(فصل) ويجوز التصرف في النصاب الذي وجبت فيه الزكاة بالبيع وأنواع التصرفات وليس
للساعي فسخ البيع، وقال أبو حنيفة يصح الا أنه إذا امتنع من أداء الزكاة نقض البيع في قدرها وقال
الشافعي في أحد قوليه لا يصح لأننا إذا قلنا إن الزكاة تتعلق بالعين فقد باع ما لا يملكه، وان قلنا تتعلق
بالذمة فقدر الزكاة مرتهن بها وبيع الرهن لا يجوز.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها متفق عليه، ومفهومه صحة بيعها إذا
بدأ صلاحها وهو عام فيما تجب فيه الزكاة وغيره، ونهى عن بيع الحب حتى يشتد والعنب حتى يسود
وهما مما تجب الزكاة فيه، ولان الزكاة ان وجبت في الذمة لم تمنع صحة بيع النصاب كما لو باع ماله
وعليه دين لآدمي وان تعلقت بالعين فهو تعلق لا يمنع التصرف في جزء من النصاب فلم يمنع بيع جميعه
462

كأرش الجناية وقولهم: باع ما لا يملكه لا يصح فإن الملك لم يثبت للفقراء في النصاب بدليل أن له أداء
الزكاة من غيره بغير رضاهم وليس برهن فإن أحكام الرهن غير ثابتة فيه فعلى هذا إذا تصرف في
النصاب ثم أخرج الزكاة من غيره والا كلف اخراجها وتحصيلها ان لم تكن عنده فإن عجز بقيت في
ذمته كسائر الديون، ويحتمل أن يفسخ البيع في قدر الزكاة ههنا وتؤخذ من النصاب ويرجع البائع
عليه بقدرها لأن على الفقراء ضررا في إتمام البيع وتفويتا لحقوقهم فوجب فسخه لقوله عليه السلام
" لا ضرر ولا ضرار " وهذا أصح.
* (مسألة) * (وان أبدله بنصاب من جنسه بني على حوله)
ويتخرج أن ينقطع إذا باع نصابا للزكاة مما يعتبر له الحول بجنسه كالإبل بالإبل والذهب بالذهب
لم ينقع الحول، ويبنى حول الثاني على حول الأول وبهذا قال مالك، ويتخرج أن ينقطع الحول ويستأنف
الحول من حين الشراء وهذا مذهب الشافعي لقوله عليه السلام " لا زكاة في مال حتى يحول عليه
الحول " ولأنه أصل بنفسه فلم يبن على حول غيره كما لو اختلف الجنسان، ووافقنا أبو حنيفة في الأثمان
ووافق الشافعي فيما سواها لأن الزكاة إنما وجبت في الأثمان لكونها ثمنا وهذا المعنى يشمله بخلاف غيرها
ولنا أنه نصاب يضم إليه نماؤه في الحول فبني حول بدله من جنسه على حوله كالعروض والحديث
مخصوص بالنماء والعروض والنتاج فنقيس عليه محل النزاع والجنسان لا يضم أحدهما إلى الآخر مع
وجودهما فأولى أن لا يبنى حول أحدهما على الآخر.
(فصل) قال أحمد بن سعيد سألت أحمد عن الرجل يكون عنده غنم سائمة فيبيعها بضعفها من
الغنم أعليه أن يزكيها كلها أم يعطي زكاة الأصل؟ قال بل يزكيها كلها على حديث عمر في السخلة يروح
بها الراعي لأن نماها معها (قلت) فإن كانت للتجارة؟ قال يزكيها كلها على حديث حماس. فأما ان
باع النصاب بدون النصاب انقطع الحول، وإن كان عنده مائتان فباعها بمائة فعليه زكاة مائة وحدها
* (مسألة) * (وإذا تم الحول وجبت الزكاة في عين المال وعنه تجب في الذمة)
الزكاة تجب في عين المال إذا تم الحول في إحدى الروايتين عن أحمد واحد قولي الشافعي وهذه
الرواية هي الظاهرة عند أكثر الأصحاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " في أربعين شاة شاة - وقوله - فيما
سقت السماء العشر " وغير ذلك من الألفاظ الواردة بحرف في وهي للنظر فيه، وإنما جاز الاخراج
من غير النصاب رخصة.
463

والرواية الثانية: أنها تجب في الذمة وهو القول الثاني للشافعي واختيار الخرقي لأن اخراجها من
غير النصاب جائر فلم تكن واجبة فيد كزكاة الفطر ولأنها لو وجب فيه لامتنع المالك من التصرف
فيه ولتمكن المستحقون من الزامه أداء الزكاة من عينه أو ظهر شئ من أحكام ثبوته فيه ولسقطت
الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني، وفائدة الخلاف فيما إذا كان
له نصاب فحال عليه حولان لم يؤد زكاتها وسنذكره إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (ولا يعتبر في وجوبها مكان الأداء)
الزكاة تجب بحولان الحول وان لم يتمكن من الأداء، وبهذا قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي،
وقال في الآخر هو شرط وهو قول مالك، حتى لو أتلف الماشية بعد الحول قبل امكان الأداء فلا زكاة
عليه إذا لم يقصد الفرار من الزكاة لأنها عبادة، فاشترط لوجوبها مكان الأداء كسائر العبادات.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " فمفهومه وجوبها عليه إذا حال
الحول ولأنه لو لم يتمكن من الأداء حتى حال عليه حولان وجبت زكاة الحولين، ولا يجوز وجوب
فرضين في نصاب واحد في حال واحدة وقياسهم ينقلب عليهم فيقال عبادة فلا يشترط لوجوبها امكان
الأداء كسائر العبادات فإن الصوم يجب على الحائض والمريض والعاجز عن آدائه، والصلاة تجب
على المغمى عليه والنائم ومن أدرك من أول الوقت جزءا ثم جن أو حاضت المرأة، ثم الفرق بينهما أن
تلك العبادات بدنية يكلف فعلها ببدنه فأسقطها تعذر فعلها، وهذه عبادة مالية يمكن ثبوت الشركة
للمساكين في ماله والواجب في ذمته مع عجزه عن الآداء كثبوت الديون في ذمة المفلس وتعلقها بماله بجنايته
* (مسألة) * (ولا تسقط بتلف المال وعنه أنها تسقط إذا لم يفرط)
المشهور عن أحمد أن الزكاة لا تسقط بتلف المال سواء فرط أو لم يفرط وحكى عنه الميموني أنه
ان أتلف النصاب قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة وان تلف بعده لم تسقط، وحاكه ابن المنذر
مذهبا لأحمد وهو قول الشافعي والحسن بن صالح واسحق وأبي ثور وابن المنذر وبه قال مالك الا
في الماشية فإنه قال لا شئ فيها حتى يجئ المصدق فإن هلكت قبل مجيئه فلا شئ عليه وقال أبو حنيفة
تسقط الزكاة بتلف النصاب على كل حال الا أن يكون الإمام قد طالبه بها فمنعه لأنه تلف قبل محل
الاستحقاق فسقطت الزكاة كما لو تلف الثمرة قبل الجذاذ ولأنه تعلق بالعين فسقط بتلفها كأرش
الجناية في العبد الجاني، ومن اشترط التمكن قال هذه عبادة يتعلق وجوبها بالمال فيسقط فرضها بتلفه
قبل إمكان آدائها كالحج، ومن نصر الأول قال مال وجب في الذمة فلم يسقط بتلف النصاب كالدين
464

أو فلم يشترط في ضمانه امكان الأداء كثمن المبيع، فأما الثمرة فلا تجب زكاتها في الذمة حتى تحرز
لأنها في حكم غير المقبوض ولهذا لو تلفت كانت من ضمان البائع على ما دل عليه الخبر، وإذا قلنا
بوجوب الزكاة في العين فليس هو بمعنى استحقاق جزء منه ولهذا لا يمنع التصرف فيه والحج لا يجب
حتى يتمكن من الأداء فإذا وجب لم يسقط بتلف المال بخلاف الزكاة فإن التمكن ليس بشرط لوجوبها
على ما قدمنا قال شيخنا والصحيح إن شاء الله أن الزكاة تسقط بتلف المال إذا لم يفرط في الأداء لأنها
تجب على سبيل المواساة فلا تجب على وجه يجب أداؤها مع عدم المال وفقر من تجب عليه ولأنه حق
يتعلق بالعين فيسقط بتلفها من غير تفريط كالوديعة والتفريط ان يمكنه اخراجها فلا يخرجها فإن لم يتمكن
من اخراجها فليس بمفرط سواء كان لعدم المستحق أو لبعد المال أو لكون الفرض لا يوجد في المال ولا يجد
ما يشتري أو كان في طلب الشراء ونحو ذلك، وإن قلنا بوجوبها بعد التلف فأمكنه أداؤها أداها وإلا
أمهل إلى ميسرته وتمكنه من أدائها من غير مضرة عليه، لأنه إذا لزم انظاره بدين الادمي المعين فهذا
أولى فإن تلف الزائد عن النصاب في السائمة لم يسقط شئ من الزكاة لأنها تتعلق بالنصاب دون العفو:
* (مسألة) * (وإذا مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاتهما فعليه زكاة واحدة ان قلنا تجب في
العين وزكاتان ان قلنا تجب في الذمة الا ما كان زكاته الغنم من الا بل فإن فيه لكل حول زكاة)
إذا كان عنده أربعون شاة مضى عليها ثلاثة أحول لم يؤد زكاتها فعليه شاة واحدة، ان قلنا
تجب في العين لأن الزكاة تعلقت في الحول الأول من النصاب بقدرها فلم تجب فيه فيما بعده زكاة
لنقصه عن النصاب وهذا هو المنصوص عن أحمد في رواية جماعة فإنه قال في رواية محمد بن الحكم إذا
كانت الغنم أربعين فلم يأته المصدق عامين فإذا أخذ المصدق شاة فليس عليه شئ في الباقي وفيه خلاف
وقال في رواية صالح إذا كان عند الرجل مائتا درهم فلم يزكها حتى حال عليها حول آخر يزكيها للعام
الأول لأن هذه تصير مائتين غير خمسة دراهم وقال في رجل له ألف درهم فلم يزكها سنين زكى في أول
سنة خمسة وعشرين ثم في كل سنة بحساب ما بقي وهذا قول مالك والشافعي وأبي عبيد فإن كان عنده
أربعون من الغنم نتجت سخلة في كل حول وجب عليه في كل سنة شاة لأن النصاب كمل بالسخلة
الحادثة فإن كان نتاج السخلة بعد وجوب الزكاة عليه استؤنف الحول الثاني من حين نتجت لأنه
حينئذ كمل وإن قلنا إن الزكاة تجب في الذمة وجب عليه لكل حول زكاة، مثل من له أربعون شاة
مضى عليها ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها فعليه ثلاث شياه وكذلك من له مائة دينار مضى عليها ثلاثة
أحوال لم يؤد زكاتها فعليه فيها سبعة دنانير ونصف لأن الزكاة وجبت في ذمته فلم تؤثر في تنقيص
465

النصاب لكن إن لم يكن له مال آخر يؤدي الزكاة منه احتمل أن تسقط الزكاة في قدرها لأن الدين
يمنع وجوب الزكاة، وقال ابن عقيل لا تسقط الزكاة بهذا الحال لأن الشئ لا يسقط نفسه وقد يسقط
غيره بدليل ان تغير الماء بالنجاسة في محلها لا يمنع صحة طهارتها وازالتها به ويمنع إزالة نجاسة غيرها
والأول أولى لأن الزكاة الثانية غير الأولى.
(فصل) فأما ما كانت زكاته الغنم من الإبل كما دون خمس وعشرين فإن عليه لكل حول
زكاة نص عليه أحمد فقال في رواية الأثرم المال غير الإبل إذا أدي عن الإبل لم تنقص ذلك لأن
الفرض يجب من غيرها فلا يمكن تعلقه بالعين وقال الشافعي في أحد قوليه إن الزكاة تنقصه كسائر
الأموال فإذا كان عنده خمس من الإبل فمضى عليها أحوال فعلى قولنا يجب فيها لكل حول شاة
وعلى قوله لا يجب فيها الا شاة واحدة لأنها نقصت بوجوب الزكاة فيها في الحول الأول عن خمسة
كاملة فلم يجب فيها شئ كما لو ملك أربعا وجزءا من بعير
ولنا أن الواجب من غير جنس النصاب فلم ينقص به النصاب كما لو أداه وفارق غيره من المال،
فإن الزكاة يتعلق وجوبها بعينه فتنقصه كما لو أداه من النصاب. فعلى هذا لو ملك خمسا وعشرين
فحالت عليها أحوال فعليه للحول الأول بنت مخاض وعليه لكل حول بعده أربع شياه؟ وإن بلغت
قيم الشياه الواجبة أكثر من خمس من الإبل
* (مسألة) * (وإن كان أكثر من نصاب فعليه زكاة جميعه لكل حول)
إن قلنا تجب في الذمة، وإن قلنا تجب في العين نقص من زكاته لكل حول بقدر نقصه لها، وقد
ذكرنا شرح ذلك في المسألة قبلها
* (مسألة) * (وإذا مات من عليه الزكاة أخذت من تركته، فإن كان عليه دين اقتسموا بالحصص)
إذا مات من عليه الزكاة أخذت من تركته ولم تسقط بموته، هذا قول عطاء والحسن والزهري
وقتادة ومالك والشافعي وإسحق وأبي ثور وابن المنذر. وقال الأوزاعي والليث: تؤخذ من الثلث
مقدما على الوصايا ولا يجاوز الثلث. وقال ابن سيرين والشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان والنبي
والثوري وأصحاب الرأي لا يخرج إلا أن يوصي بها فتكون كسائر الوصايا تعتبر من الثلث ويزاحم
بها أصحاب الوصايا لأنها عبادة من شرطها النية فسقطت بموت من هي عليه كالصوم والصلاة
ولنا انه حق واجب تصح الوصية به فلم تسقط بالموت كدين الآدمي، ويفارق الصوم والصلاة
فإنهما عبادتان بدنيتان لا تصح الوصية بهما. فعلى هذا إذا كان عليه دين وضاق ماله عن الدين
466

والزكاة اقتسموا ماله بالحصص كديون الآدميين إذا ضاق عنها المال، ويحتمل أن تقدم الزكاة إذا
قلنا إنها تتعلق بالعين كما تقدم حق المرتهن على سائر الغرماء بثمن الرهن لتعلقه به
* (باب زكاة بهيمة الأنعام) *
* (مسألة) * (ولا تجب إلا في السائمة منها)
والسائمة الراعية وقد سامت تسوم سوما إذا رعت، وأسمتها إذا رعيتها ومنه قوله تعالى (فيه
تسيمون) وذكر السائمة هاهنا احترازا من المعلوفة والعوامل فإنه لا زكاة فيها عند أكثر أهل العلم.
وحكي عن مالك ان فيها الزكاة لعموم قوله عليه السلام " في كل خمس شاة " قال أحمد ليس في
العوامل زكاة وأهل المدينة يرون فيها الصدقة وليس عندهم في هذا أصل
467

ولنا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بهز بن حكيم " في كل سائمة في أربعين بنت لبون " قيده بالسائمة
فدل على أنه لا زكاة في غيرها، وحديثهم مطلق فيحمل على المقيد. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم " ليس في العوامل صدقة " رواه الدارقطني، ولان وصف النماء معتبر في
الزكاة، والمعلوفة يستغرق علفها نماءها ولأنها تعد للانتفاع دون النماء أشبهت ثياب البذلة إلا أن
تكون للتجارة فيجب فيها زكاة التجارة على ما يأتي إن شاء الله
* (مسألة) * (وهي التي ترعى في أكثر الحول)
متى كانت سائمة في أكثر الحول وجبت فيها الزكاة وهذا مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي
يعتب السوم في جميع الحول لأنه شرط في الزكاة أشبه الملك وكمال النصاب ولان العلف مسقط
والسوم موجب، فإذا اجتمعا غلب الاسقاط كما لو كان فيها سائمة ومعلوفة
468

ولنا عموم النصوص الدالة على وجوب لزكاة في الماشية، واسم السوم لا يزول بالعلف اليسير
فلم يمنع دخولها في الاخبار، ولأنه لا يمنع خفة المؤونة أشبه السائمة في جميع الحول، ولان العلف اليسير
لا يمكن التحرز عنه، فاعتباره في جميع الحول يفضي إلى اسقاط الزكاة بالكلية لا سيما عند من يسوغ
له الفرار من الزكاة فإنه متى أراد إسقاط الزكاة علفها يوما فأسقطها ولان هذا وصف معتبر في رفع
الكلفة فاعتبر فيه الأكثر كالسقي بغير كلفة في الزروع والثمار. قولهم السوم شرط ممنوع بل العلف
في نصف الحول فما زاد مانع، كما أن السقي بكلفة كذلك مانع من وجوب العشر، ولئن سلمنا انه
شرط فيجوز أن يكون الشرط وجوده في أكثر الحول كالسقي بغير كلفة شرط في وجوب العشر.
ويكتفى فيه بالوجود في الأكثر، ويفارق ما إذا كان بعض النصاب معلوفا لأن النصاب سبب الوجوب
469

فلا بد من وجود الشرط في جميعه، والحول والسوم شرط الوجوب فجاز أن يعتبر الشرط في أكثره
* (مسألة) * وهي ثلاثة أنواع (أحدها الإبل فلا زكاة فيها حتى تبلغ خمسا فتجب فيها شاة)
بدأ بذكر الإبل لأنها أهم لكونها أعظم النعم قيمة وأجساما وأكثر أموال العرب، ووجوب
الزكاة فيها مما أجمع عليه علماء الاسلام وصحت فيه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أحسن ما روي فيها
ما روى البخاري باسناده عن أنس بن مالك ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له كتابا لما
وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي
أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط في
أربع وعشرين فما دونها من الإبل في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين
470

ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا
بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين
ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى
عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون،
وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس عليه فيها صدقة إلا أن يشاري بها،
فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة، وتمام الحديث نذكره إن شاء الله في أبوابه. وقول الصديق
التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني قدر، ومنه فرض الحاكم للمرأة بمعنى التقدير
وقول المصنف: ولا شئ فيها حتى تبلع خمسا مجمع عليه، وقد دل عليه قوله في هذا الحديث
" ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة " وقوله عليه السلام " ليس فيما دون خمس ذود
صدقة، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة " وهذا مجمع عليه أيضا، وقد دل عليه الحديث المذكور أيضا،
471

وإنما أوجب الشارع فيما دون خمس وعشرين من الإبل الشاة لأنها لا تحتمل المواساة من جنسها
لأن واحدة منها كثير وايجاب شقص منها يضر بالمالك والفقير، والاسقاط غير ممكن فعدل إلى
ايجاب الشاة جمعا بين الحقوق فصارت أصلا في الوجوب لا يجوز اخراج الإبل مكانها
(فصل) ولا يجزي في الغنم المخرجة في الزكاة إلا الجذع من الضأن وهو ماله ستة أشهر فما زاد،
والثني من المعز وهو ماله سنة، وكذلك شاة الجبران وأيهما أخرج أجزأه، ولا يعتبر كونها من
جنس غنمه ولا جنس غنم البلد لأن الشاة مطلقة في الخبر الذي ثبت به وجوبها، وليس غنمه ولا
غنم البلد سببا لوجوبها فلم يتقيد بذلك كالشاة الواجبة في الفدية وتكون أنثى ولا يجزئ الذكر كالشاة
الواجبة في نصاب الغنم، ويحتمل أن تجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الشاة ومطلق الشاة يتناول الذكر
472

والأنثى وقياسا على الأضحية، فإن لم يكن له غنم لزمه شراء شاة. وقال أبو بكر يخرج عشرة دراهم
قياسا على شاة الجبران
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الشاة فيجب العمل بنصه ولان هذا اخراج قيمة فلم يجز كالشاة
الواجبة في نصبها، وشاة الجبران مختصة بالبدل بالدراهم بدليل انها لا تجوز بدلا عن الشاة الواجبة
في سائمة الغنم، ولان شاة الجبران يجوز ابدالها بالدراهم مع وجودها بخلاف هذه
(فصل) وتكون الشاة المخرجة كحال الإبل في الجودة والرداءة التوسط فيخرج عن السمان
سمينة وعن الهزال هزيلة، وعن الكرام كريمة، وعن اللئام لئيمة، فإن كانت مراضا أخرج شاة
صحيحة على قدر قيمة المال، فيقال لو كانت الإبل صحاحا كانت قيمتها مائة وقيمة مائة وقيمة الشاة خمسة
473

فينقص من قيمتها قدر ما نقصت الإبل، فإن نقصت الإبل خمس قيمتها وجب شاة قيمتها أربعة،
وقيل تجزئه شاة تجزئ في الأضحية من غير نظر إلى القيمة، وعلى القولين لا يجزئه مريضة لأن
المخرج من غير جنسها وليس كله مراضا فتنزل منزلة الصحاح، والمراض لا تجزئ فيها إلا صحيحة
* (مسألة) * (فإن أخرج بعيرا لم يجزئه)
يعني إذا أخرج بعيرا عن الشاة الواجبة في الإبل لم يجزه سواء كانت قيمته أكثر من قيمة الشاة
أو لم يكن، حكي ذلك عن مالك وداود. وقال الشافعي وأصحاب الرأي: يجزئ البعير عن العشرين فما دونها
ويتخرج لنا مثل ذلك إذا كان المخرج مما يجزي عن خمس وعشرين لأنه يجزئ عن خمس وعشرين
والعشرون داخلة فيها ولان ما أجزأ عن الكثير أجزأ عما دونه كابنتي لبون عما دون ست وسبعين
474

ولنا انه أخرج غير المنصوص عليه من غير جنسه فلم يجزه كما لو أخرج البعير عن أربعين شاة، ولأنها
فريضة وجبت فيها شاة فلم يجز عنها البعير كنصاب الغنم، ويفارق ابنتي لبون عن الجذعة لأنهما من الجنس
* (مسألة) * (وفي العشر شاتان، وفي خمسة عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه)
وهذا كله مجمع عليه وثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رويناها وغيرها
* (مسألة) * (فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض وهي التي لها سنة)
متى بلغت الإبل خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض لا نعلم فيه خلافا إلا أنه يحكى عن علي رضي الله
عنه في خمس وعشرين خمس شياه. قال ابن المنذر: ولا يصح ذلك عنه وحكاه إجماعا، وابنة المخاض
التي لها سنة وقد دخلت في الثانية سميت بذلك لأن أمها قد حملت، والماخض الحامل وليس كون
أمها ماخضا شرطا وإنما ذكر تعريفا لها بغالب حالها كتعريفه الربيبة بالحجر، وكذلك بنت اللبون
475

وبنت المخاض أدنى سن تؤخذ في الزكاة، ولا تجب إلا في خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين
خاصة لما ذكرنا من الحديث
* (مسألة) * (فإن عدمها أجزاه ابن لبون وهو الذي له سنتان، فإن عدمه لزمه بنت مخاض)
إذا لم يكن في إبله بنت مخاض أجزاه ابن لبون ولا يجزئه مع وجودها لأن في حديث أنس
" فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين، فإن لم يكن فيها ابنة مخاض
ففيها ابن لبون ذكر " رواه أبو داود، وهذا مجمع عليه أيضا، فإن اشترى ابنة مخاض وأخرجها جاز
لأنها الأصل، وان أراد اخراج ابن لبون بعد شرائها لم يجز لأنه صار في إبله بنت مخاض، وان لم
يكن في إبله ابن لبون وأراد الشراء لزمه شراء بنت مخاض وهذا قول مالك. وقال الشافعي يجزئه
شراء ابن لبون لظاهر الخبر
476

ولنا انهما استويا في العدم فلزمته ابنه مخاض كما لو استويا في الوجود، والحديث محمول على
حال وجوده لأن ذلك للرفق به اغناء له عن الشراء، ومع عدمه لا يستغني عن الشراء. على أن في
بعض ألفاظ الحديث " فمن لم يكن عنده ابنة مخاض على وجها وعند ابن لبون فإنه يقبل منه وليس
معه شئ " فشرط في قبوله وجوده وعدمها وهذا في حديث أبي بكر، وفي بعض الألفاظ أيضا " ومن
بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليس عنده الا ابن لبون " وهذا تقييد يتعين حمل المطلق عليه.
وان لم يجد الا ابنة مخاض معيبة فله الانتقال إلى ابن لبون لقوله في الخبر " فمن لم يكن عنده ابنة
مخاض على وجهها " ولان وجودها كعدمها لكونها لا يجوز اخراجها فأشبه الذي لا يجد الا ماء لا يجوز
الوضوء به في انتقاله إلى البدل، وان وجد ابنة مخاض أعلا من صفة الواجب لم يجزه ابن لبون
477

لوجود بنت مخاض على وجهها ويخير بين اخراجها وبين شراء بنت مخاض على صفة الواجب.
وقال أبو بكر: يجب عليه اخراجها بناء على قوله انه يخرج عن المراض صحيحة حكاه عنه ابن عقيل
والأول أولى لأن الزكاة وجبت على وجه المساواة وكانت من جنس المخرج عنه كزكاة الحبوب
(فصل) ولا يجبر نقص الذكورية بزيادة سن في غير هذا الموضع فلا يجزئه أن يخرج عن بنت لبون
حقا، ولا عن الحقة جذعا مع وجودها ولا عدمها. وقال القاضي وابن عقيل: يجوز ذلك عند العدم
كابن لبون عن بنت مخاض
ولنا انه لا نص فيها ولا يصح قياسهما وعلى ابن لبون مكان بنت مخاض لأن زيادة سن ابن لبون
على بنت مخاض يمتنع بها من صغار السباع ويرعى الشجر بنفسه وير الماء ولا يوجد هذا في الحق
478

مع بنت لبون لأنهما يشتركان في هذا فلم يبق الا مجرد زيادة السن فلم يقابل الأنوثية، ولان تخصيصه
في الحديث بالذكر دون غيره يدل على اختصاصه بالحكم بدليل الخطاب
* (مسألة) * (وفى ست وثلاثين بنت لبون وفي ست وأربعين حقة وهي التي لها ثلاث سنين
وفي إحدى وستين جذعة وهي التي لها أربع سنين، وفي ست وسبعين ابنتا لبون، وفي إحدى
وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين)
وهذا كله مجمع عليه، والخبر الذي رويناه يدل عليه، وبنت اللبون التي تمت لها سنتان ودخلت
في الثانية سميت بذلك لأن أمها قد وضعت فهي ذات لبن، والحقة التي لها ثلاث سنين ودخلت في
الرابعة سميت بذلك لأنها قد استحقت أن يطرقها الفحل واستحقت أن يحمل عليها وتركب، والجذعة
التي لها أربع سنين ودخلت في الخامسة وقيل لها ذلك لأنها تجذع إذا سقطت سنها، وهي أعلا سن
479

تجب في الزكاة، وان رضي رب المال أن يخرج مكانها ثنية جاز وهي التي لها خمس سنين ودخلت
في السادسة سميت بذلك لأنها قد ألقت ثنيتها، وهذا المذكور في الأسنان ذكره أبو عبيد حكاية
عن الأصمعي وأبي زيد الأنصاري وأبي زياد الكلابي وغيرهم
* (مسألة) * (فإذا زادت على عشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون ثم في كل أربعين
بنت لبون وفي كل خمسين حقة)
إذا زادت الإبل على عشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون كما ذكر في أظهر الروايتين
وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي واسحق، وفيه رواية ثانية لا يتغير الفرض إلى ثلاثين ومائة فيكون
فيها حقة وبنتا لبون وهذا مذهب محمد بن إسحاق وأبي عبيد واحدى الروايتين عن مالك لأن الفرض
لا يتغير بزيادة الواحدة بدليل سائر الفروض
480

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون " والواحدة
زيادة وقد جاء مصرحا به في حديث الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عند آل عمر بن
الخطاب رواه أبو داود والترمذي وقال هو حديث حسن. وقال ابن عبد البر: هو أحسن شئ
روي في أحاديث الصدقات فإن فيه " فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون "
وهذا صريح لا يجوز العدول عنه ولان سائر ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم غاية للفرض إذا زاد عليه واحدة
تغير الفرض، كذا هذا قولهم ان الفرض لا يتغير بزيادة الواحدة، قلنا هذا ما تغير بالواحدة وحدها
بل تغير بها مع ما قبلها فهي كالواحدة الزائدة على التسعين والستين وغيرها. وقال ابن مسعود والنخعي
481

والثوري وأبو حنيفة: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة في كل خمس شاة إلى
خمس وأربعين ومائة فيكون فيها حقتان وبنت مخاض إلى خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق،
ويستأنف الفريضة في كل خمس شاة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابا ذكر فيه
الصدقات والديات وذكر فيه مثل هذا. ولنا ان في حديثي الصدقات الذي كتبه أبو بكر لانس
والذي كان عند آل عمر بن الخطاب مثل مذهبنا وهما صحيحان
وأما كتاب عمرو بن حزم فقد اختلف في صفته فرواه الأثرم في سننه مثل مذهبنا والاخذ
بذلك أولى لموافقته الأحاديث الصحيحة مع موافقته القياس فإن المال إذا وجب فيه من جنسه لم يجب
من غير جنسه كسائر بهيمة الأنعام، وإنما وجبت في الابتداء من غير جنسه لأنه ما احتمل المواساة
482

من جنسه فعدلنا إلى غير الجنس ضرورة وقد زال بكثرة المال وزيادته ولأنه عندهم ينتقل من
بنت مخاض إلى حقة بزيادة خمس من الإبل وهي زيادة يسيرة لا تقتضي الانتقال إلى حقة، فانا لم
ننتقل في محل الوفاق من بنت مخاض إلى حقة الا بزيادة إحدى وعشرين، فإن زادت على عشرين
ومائة جزءا من بعير لم يتغير الفرض اجماعا لأن في بعض الروايات فإذا زادت واحدة وهذا يقيد
مطلق الزيادة في الرواية الأخرى ولان سائر الفروض لا يتغير بزيادة جزء كذا هذا. وعلى كلتا
الروايتين متى بلغت مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون،
وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، ثم كلما زادت على ذلك عشرا
أبدلت بنت لبون بحقة، ففي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين حقتان وابنتا
لبون، وفى مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون
483

* (مسألة) * (فإذا بلغت مائتين أنفق الفرضان، فإن شاء أخرج أربع حقاق، وان شاء خمس
بنات لبون، والمنصوص انه يخرج الحقاق)
إذا بلغت إبله مائتين اجتمع الفرضان لأن فيها أربع خمسينات وخمس أربعينات فيجب عليه
أربع حقاق أو خمس بنات لبون أي الفرضين شاء أخرج لوجود المقتضي لكل واحد منهما، وإن كان
أحدهما أفضل من الاخر، ومنصوص أحمد رحمه الله أنه يخرج الحقاق وذلك محمول على أن عليه
أربع حقاق بصفة التخيير اللهم إلا أن يكون المخرج ولي يتيم أو مجنون فليس له أن يخرج من ماله الا
أدنى الفرضين، وقال الشافعي الخيرة إلى الساعي، ومقتضى قوله إن رب المال إذا أخرج لزمه اخراج
أعلا الفرضين، واحتج بقول الله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ولأنه وجد سبب الفرضين
484

فكانت الخيرة إلى المستحق أو نائبه كقتل العمد الموجب للقصاص أو الدية.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقات الذي كان عند آل عمر بن الخطاب " فإذا كانت
مائتان ففيها أربع حقان أو خمس بنات لبون أي الشيئين وجدت أخذت " وهذا نص لا يعرج معه
على ما يخالفه ولأنها زكاة ثبت فيها الخيار فكان ذلك لرب المال، كالخيرة في الجبران بين الشياه
والدراهم وبين النزول والصعود والآية لا تتناول ما نحن فيه لأنه إنما يأخذ الفرض بصفة المال بدليل
أنه يأخذ من الكرام كريمة ومن غيرها من الوسط فلا يكون خبيثا ولان الأدنى ليس بخبيث وكذلك
لو لم يكن يوجد إلا سبب وجوبه وجب إخراجه، وقياسنا أولى من قياسهم، لأن قياس الزكاة على
مثلها أولى من قياسها على الديات، فإن كان أحد الفرضين في ماله دون الآخر فهو مخير بين اخراجه
485

وشراء الآخر، ولا يتعين عليه اخراج الموجود لأن الزكاة لا تجب من عين المال، وقال القاضي يتعين
عليه اخراج الموجود وهو بعيد لما ذكرنا الا أن يكون أراد إذا عجز عن شراء الاخر.
(فصل) فإن أراد إخراج الفرض من نوعين نظرنا فإن لم نحتج إلى تشقيص كزكاة الثلاثمائة
يخرج عنها حقتين وخمس بنات لبون جاز، وهذا مذهب الشافعي وان احتاج إلى تشقيص كزكاة
المائتين لم يجز لأنه لا يمكن من غير تشقيص، وقيل يحتمل أن يجوز على قياس قول أصحابنا في جواز
عتق نص عبدين في الكفارة وهذا غير صحيح فإن الشرع لم يرد بالتشقيص في زكاة السائمة الا من
حاجة ولذلك جعل لها أوقاصا دفعا للتشقيص عن الواجب فيها وعدل فيما دون خمس وعشرين من
الإبل عن الجنس إلى الغنم فلا يجوز القول بجوازه مع امكان العدول عنه إلى فريضة كاملة وان وجد
486

أحد الفرضين كاملا والآخر ناقصا لا يمكنه اخراجه الا بجبران معه مثل أن يجد في المائتين خمس
بنات لبون وثلاث حقاق تعين أخذ الفريضة الكاملة لأن الجبران بدل لا يجوز مع المبدل وإن كان
كل واحد يحتاج إلى جبران، مثل أن يجد أربع بنات لبون وثلاث حقاق فهو مخير أيهما شاء أخرج
بنات اللبون وحقة وأخذ الجبران، وان شاء أخرج الحقاق وبنت اللبون مع جبرانها، فإن قال خذوا
مني حقة وثلاث بنات لبون مع الجبران لم يجز لأنه لا يعدل عن الفرض مع وجوده إلى الجبران ويحتمل
الجواز لكونه لا بد من الجبران، وان لم يجد الا حقة وأربع بنات لبون أداها وأخذ الجبران ولم يكن
له دفع ثلاث بنات لبون وحقة مع الجبران في أصح الوجهين، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإن كان
الفرضان معدومين أو معيبين فله العدول عنهما مع الجبران فإن شاء أخرج أربع جذعات وأخذ
487

ثماني شياه أو ثمانين درهما وان شاء دفع خمس بنات مخاض ومعها عشر شياه أو مائة درهم، وان
أحب أن ينتقل عن الحقاق إلى بنات المخاض أو عن بنات اللبون إلى الجذع لم يجز لأن الحقاق وبنات
اللبون منصوص عليهن في هذا المال فلا يصعد إلى الحقاق بجبران ولا ينزل إلى بنات اللبون بجبران
* (مسألة) * (وليس فيما بين الفريضتين شئ)
ما بين الفريضتين يسمى الأوقاص ولا شئ فيها لعفو الشارع عنها، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله
الأوقاص كما بين الثلاثين إلى الأربعين في البقر وما أشبه هذا؟ قال نعم. والشنق ما دون الفريضة قلت
له كأنه ما دون الثلاثين من البقر؟ قال نعم؟ وقال الشعبي الشنق ما بين الفريضتين أيضا، قال أصحابنا
والزكاة تتعلق بالنصاب دون الوقص، ومعناه أنه إذا كان عنده ثلاثون من الإبل فالزكاة تتعلق
488

بخمس وعشرين دون الخمسة الزائدة فعلى هذا لو وجبت الزكاة فيها وتلفت الخمسة قبل التمكن
من أدائها، وقلنا إن تلف المال قبل التمكن يسقط الزكاة لم يسقط ههنا منها شئ لأن التالف لم
تتعلق الزكاة به، وان تلف منها عشر سقط من الزكاة خمسها لأن الاعتبار بتلف جزء من النصاب
وإنما تلف من النصاب، خمسة، وأما من قال: لا تأثير لتلف النصاب في اسقاط الزكاة فلا فائدة في
الخلاف عنده في هذه المسألة فيما أعلم.
* (مسألة) * (ومن وجبت عليه سن فعدمها أخرج سنا أسفل منها ومعها شاتان أو عشرون درهما
وإن شاء أخرج أعلى منها وأخذ مثل ذلك من الساعي)
هذا هو المذهب الا أنه لا يجوز أن يخرج أدنى من ابنة مخاض لأنها أدنى سن تجب في الزكاة
489

ولا يخرج أعلى من الجذعة الا أن يرضى رب المال باخراجها بغير جبران فيقبل منه، والاختيار في
الصعود والنزول والشياه والدراهم إلى رب المال، وبهذا قال النخعي والشافعي وابن المنذر واختلف
فيه عن إسحاق، وقال الثوري يخرج شاتين أو عشرة دراهم لأن الشاة مقومة في الشرع بخمسة دراهم
بدليل أن نصابها أربعون، ونصاب الدراهم مائتان، وقال أصحاب الرأي يدفع قيمة ما وجب عليه أو
دون السن الواجبة وفضل ما بينهما دراهم.
ولنا أن في حديث الصدقات الذي كتبه أبو بكر لانس أنه قال: ومن بلغت عنده من الإبل صدقة
الجذعة وليست عنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو
عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة
490

ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الا ابنة لبون
فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما، ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست
عنده وعنده بنت مخاض فإنها نقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين، وهذا نص
ثابت صحيح فلا يلتفت إلى ما سواه، إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز العدول إلى هذا الجبران مع وجود
الأصل لأنه مشروط في الخبر بعدم الأصل، فإن أراد أن يخرج في الجبران شاة وعشرة دراهم. فقال
القاضي يجوز كما قلنا في الكفارة له اخراجها من جنسين، ولان الشاة مقام عشرة دراهم فإذ اختار
اخراجها وعشرة جاز، ويحتمل المنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم " خير بين شاتين أو عشرين درهما " وهذا قسم
ثالث فتجويزه يخالف الخبر والله أعلم.
491

* (مسألة) * (فإن عد السن التي تليها انتقل إلى الأخرى وجبرها بأربع شياه أو أربعين درهما
وقال أبو الخطاب لا ينتقل إلا إلى سن تلي الواجب)
وذلك كمن وجبت عليه جذعة فعدمها وعدم الحقة أو وجبت عليه حقة فعدمها وعدم الجذعة
وبنت اللبون فيجوز أن ينتقل إلى السن الثالث مع الجبران، فيخرج في الصورة الأولى ابنة لبون
ومعها أربع شياه أو أربعين درهما ويخرج ابنة مخاض في الثانية ويخرج معها مثل ذلك ذكره القاضي
وذكر أن أحمد أومأ إليه وهو مذهب الشافعي، وقال أبو الخطاب لا ينتقل الا إلى سن تلي الواجب
فأما ان انتقل من حقة إلى بنت مخاض أو من جذعة إلى بنت لبون، لم يجز لأن النص إنما ورد
بالعدول إلى سن واحدة فيجب الاقتصار عليه كما اقتصرنا في أخذ الشاة عن الإبل على الموضع الذي
492

ورد به النص وهذا قول ابن المنذر، ووجه الأول أنه قد جوز الانتقال إلى السن التي تليه مع
الجبران وجوز العدول عنها أيضا إذا عدم مع الجبران إذا كان هو الفرض وههنا لو كان موجودا
أجزأ فإذا عدم جاز العدول إلى ما يليه مع الجبران، والنص إذا عقل عدي وعمل بمعناه، وعلى مقتضى
هذا القول يجوز العدول عن الجذعة إلى بنت مخاض مع ست شياه أو ستين درهما، ومن بنت مخاض
إلى الجذعة ويأخذ ست شياه، أو ستين درهما، وان أراد أن يخرج عن الأربع شياه شاتين وعشرين
درهما جاز لأنهما جبرانان فهما كالكفارتين وكذلك في الجبران الذي يخرجه عن فرض المائتين من
الإبل إذا أخرج عن خمس بنات لبون خمس بنات مخاض أو مكان أربع حقاق أربع بنات لبون
جاز أن يخرج بعض الجبران دراهم وبعضه شياها. ومتى وجد سنا تلي الواجب لم يجز العدول إلى
493

سن لا تليه لأن الانتقال عن السن التي تليه إلى السن الأخرى بدل لا يجوز مع امكان الأصل فلو عدم
الحقة وابنة اللبون ووجد الجذعة وابنة المخاض وكان الواجب الحقة لم يجز العدول إلى بنت المخاض
وإن كان الواجب ابنة لبون لم يجز اخراج الجذعة.
(فصل) فإن كان النصاب كله مراضا وفريضته معدومة فله أن يعدل إلى السن السفلى مع دفع
الجبران، وليس له أن يصعد مع أخذ الجبران لأن الجبران أكثر من الفضل الذي بين الفرضين وقد
يكون الجبران خيرا من الأصل فإن قيمة الصحيحين أكثر من قيمة المريضين وكذلك قيمة ما بينهما
وإذا كان كذلك لم يجز في الصعود وجاز في النزول لأنه متطوع بالزائد، ورب المال يقبل منه الفضل
ولا يجوز للساعي أن يعطي الفضل من المساكين لذلك فإن كان المخرج وليا ليتيم لم يجز له النزول أيضا
494

لأنه لا يجوز أن يعطي الفضل من مال اليتيم فيتعين شراء الفرض من غير المال
* (مسألة) * ولا مدخل للجبران في غير الإبل. وذلك لأن النص إنما ورد فيها ولبس غيرها في
معناها لأنها أكثر قيمة ولان الغنم لا تختلف فريضتها باختلاف سنها وما بين الفريضتين في البقر
يخالف ما بين الفريضتين في الإبل فامتنع القياس فمن عدم فريضة البقر أو الغنم ووجد دونها لم يجز
له اخراجها وان وجد أعلى منها فأحب أن يدفعها متطوعا بغير جبران قبلت منه وان لم يفعل كلف
شراءها من غير ماله.
(فصل) قال رضي الله عنه: (النوع الثاني البقر: ولا شئ فيها حتى تبلغ ثلاثين فيجب فيها
تبيع أو تبيعة وهي التي لها سنة، وفي الأربعين مسنة وهي التي لها سنتان، وفى الستين تبيعان ثم في
كل ثلاثين تبيع وفى كل أربعين مسنة)
495

صدقة البقر ثابتة بالسنة والاجماع، أما السنة فروى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت
وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس "
متفق عليه. وعن معاذ قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله
معافر. وأمرني أن آخذ من كل أربعين مسنة ومن كل ثلاثين بقرة تبيعا حوليا. رواه الإمام أحمد
وهذا لفظه وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ولم يذكر الترمذي حوليا وقال حديث حسن
وعند النسائي قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمن أن لا آخذ من البقر شيئا
حتى تبلغ ثلاثين فإذا بلغت ثلاثين ففيها عجل تابع جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين فإذا بلغت أربعين
496

بقرة مسنة. وروى الإمام أحمد باسناده عن يحيى بن الحكم ان معاذا قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصدق أهل اليمن وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة. قال:
فعرضوا علي أن آخذ مما بين الأربعين والخمسين وبين الستين والسبعين وما بين الثمانين والتسعين
فأبيت ذلك وقلت لهم حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني ان
آخذ من كل ثلاثين تبيعا ومن أربعين مسنة ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن
الثمانين مسنتين ومن التسعين ثلاثة أتباع ومن المائة مسنة وتبيعين ومن العشرة ومائة مسنتين
وتبيعا ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع. وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لا آخذ فيما
بين ذلك شيئا حتى تبلغ مسنة أو جذعا يعني تبيعا. وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها ولا نعلم خلافا
497

في وجوب الزكاة في البقر قال أبو عبيد: لا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم، ولا تجب في البقر زكاة حتى
تبلغ ثلاثين في قول جمهور العلماء وحكي عن سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا في كل خمس شاة
لأنها عدلت بالإبل في الهدي والأضحية كذلك في الزكاة
ولنا ما تقدم من الخبر، ولان نصب الزكاة إنما تثبت بالنص والتوقيف وليس فيما ذكراه نص
ولا توقيف فلا يثبت وقياسهم منتقض بخمس وثلاثين من الغنم فإنها تعدل بخمس من الإبل في الهدي
ولا زكاة فيها وإنما تجب الزكاة فيها إذا كانت سائمة وحكي عن مالك في العوامل والمعلوفة زكاة كقوله
في الإبل لعموم الخبر.
498

ولنا ما روى عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس في العوامل صدقة "
رواه الدارقطني. وعن علي رضي الله عنه قال الراوي أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صدقة البقر قال:
" وليس في العوامل شئ " رواه أبو داود. وهذا مقيد يحمل عليه المطلق ولأنه قول علي ومعاذ وجابر
ولان صفة النماء معتبرة في الزكاة وإنما توجد في السائمة
* (فصل) * والواجب فيها في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة وهو الذي له سنة ودخل في الثانية وقيل له
ذلك لأنه يتبع أمه، وفي كل أربعين مسنة وهي التي لها سنتان وهي الثنية، ولا فرض في البقر غيرهما
499

وفى الستين تبيعان كما ذكر في أول المسألة وهذا قول جمهور العلماء منهم الشعبي والنخعي والحسن
ومالك والليث والثوري والشافعي واسحق وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة في رواية عنه
فيما زاد على الأربعين بحسابه في كل بقرة ربع عشر مسنة فرارا من جعل الوقص تسعة عشر فإنه مخالف
لجميع أوقاصها فإنها عشرة عشرة
ولنا حديث معاذ المذكور وهو صريح في محل النزاع ولان البقر أحد بهيمة الأنعام فلم يجب في
زكاتها كسر كسائر الأنواع ولا ينتقل من فرضها فيها بغير وقص كسائر الفروض وكما بين الثلاثين
500

والأربعين، ومخالفة قولهم للأصول أشد من الوجوه التي ذكرناها وعلى ان أوقاص الإبل والغنم مختلفة
فجاز الاختلاف ههنا فإن رضي رب المال باعطاء المسنة عن التبيع والتبيعين عن المسنة أو أكبر منها
سنا عنها جاز والله أعلم.
* (مسألة) * ولا يجزئ الذكر في الزكاة في غير هذا الا ابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها
إلا أن يكون النصاب كله ذكورا فيجزئ الذكر في الغنم وجها واحدا وفى البقر والإبل في أحد
501

الوجهين. الذكر لا يخرج في الزكاة أصلا إلا في البقر فأما ابن لبون مكان بنت مخاض فليس بأصل
ولهذا لا يجزئ مع وجودها وإنما يجزئ الذكر في البقر عن الثلاثين وما تكرر منها كالستين والتسعين
وما تركب من الثلاثين وغيرها كالسبعين فيها تبيع ومسنة، وان شاء أخرج مكان الذكور إناثا
لورود النص بهما فأما الأربعون وما تكرر منها كالثمانين فلا يجزئ في فرضها إلا الإناث لنص
الشارع عليها الا أن يخرج عن المسنة تبيعين فيجوز، فإذا بلغت مائة وعشرين خير المالك بين إخراج
502

ثلاث مسنات أو أربعة أتباع أيهما شاء أخرج على ما نطق به الخبر، هذا التفصيل فيما إذا كان في بقره إناث
* (فصل) * وإذا كان في ماشيته إناث لم يجز اخراج الذكر وجها واحدا الا في الموضعين المذكورين
وقال أبو حنيفة: يجوز اخراج الذكر من الغنم الإناث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " في أربعين شاة شاة "
503

ولفظ الشاة يقع على الذكر والأنثى ولان الشاة إذا أمر بها مطلقا أجزأ فيها الذكر والأنثى كالأضحية
ولنا أنه حيوان تجب الزكاة في عينه فكانت الأنوثية معتبرة في فرضه كالإبل والمطلق يتقيد
بالقياس على سائر النصب، والأضحية غير معتبرة بالمال بخلاف مسئلتنا
(فصل) فإن كانت ماشيته كلها ذكورا أجزأ الذكر في الغنم وجها واحدا ولان الزكاة مواساة
فلا يكلف المواساة من غير ماله، ويجوز إخراجه في البقر في أصح الوجهين لذلك، وفيه وجه آخر انه
504

لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على المسنات في الأربعينات، فيجب اتباع مورده فيكلف شراءها إذا
عدمها كما لو لم يكن في ماشيته إلا معيبا. والصحيح الأول لأنا قد جوزنا الذكر في الغنم مع أنه لا مدخل
له في زكاتها مع وجود الإناث، فالبقر التي للذكر فيها مدخل أولى وفي الإبل وجهان أوجههما ما ذكرنا
والفرق بين النصب الثلاثة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الأنثى في فرائض الإبل والبقر، وأطلق الشاة
الواجبة، وقال في الإبل من لم يجد بنت مخاض أخرج ابن لبون ذكرا ومن حيث المعنى أن الإبل
يتغير فرضها بزيادة السن فإذا جوزنا اخراج الذكر أفضى إلى التسوية بين الفرضين لأنه يخرج ابن
لبون عن خمس وعشرين للخبر وعن ست وثلاثين، وهذا المعنى يختص الإبل فعلى هذا يخرج أنثى
ناقصة بقدر قيمة الذكر فإن قيل فالبقر أيضا يأخذ منها تبيعا عن ثلاثين وتبيعا عن أربعين إذا كانت
505

كلها أتبعة وقلنا بأخذ الصغيرة من الصغار قلنا هذا يلزم مثله في اخراج الأنثى فلا فرق، ومن جوز
اخراج الذكر في الكل قال يأخذ ابن لبون من خمس وعشرين قيمته دون قيمة ابن لبون يأخذه من
ستة وثلاثين ويكون بينهما في القيمة كما بينهما في العدد ويكون الفرض بصفة المال وإذا اعتبرنا القيمة
لم يرد إلى التسوية كما قلنا في الغنم، ويحتمل أن يخرج ابن مخاض عن خمسة وعشرين من الإبل فيقوم
الذكر مقام الأنثى التي في سنه كسائر النصب.
* (مسألة) * (ويؤخذ من الصغار صغيرة ومن المراض مريض، وقال أبو بكر لا يؤخذ إلا كبيرة
صحيحة على قدر المال).
متى كان حال نصاب كله صغارا جاز أخذ الصغيرة في الصحيح من المذهب وإنما يتصور ذلك
506

بان تبديل كبار بصغار في أثناء الحول أو يكون عنده نصاب من الكبار فتوالد نصابا من الصغار ثم تموت
الأمهات، ويحول الحول على الصغار، وقال أبو بكر لا يؤخذ الا كبيرة تجزي في الأضحية وهو قول
مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما حقنا في الجذعة أو الثنية " ولان زيادة السن في المال لا يزيد بها الواجب
كذلك نقصانه لا ينقص به.
ولنا قول الصديق رضي الله عنه والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم
عليها، فدل على أنهم كانوا يؤدون العناق ولأنه مال تجب فيه الزكاة من غير اعتبار قيمته فيجزي الاخذ
من عينه كسائر الأموال.
وأما زيادة السن فليس يمتنع الرفق بالمالك في الموضعين كما أن ما دون النصاب عفو وما فوقه عفو والحديث
507

محمول على مال فيه كبار وظاهر ما ذكره شيخنا هاهنا وقول الأصحاب أن الحكم في الفصلان والعجول
كالحكم في السخال لما ذكرنا في الغنم ويكون التعديل بالقيمة مكان زيادة السن كما قلنا في اخراج الذكر
من الذكور، قال شيخنا ويحتمل أن لا يجوز اخراج الفصلان والعجول وهو قول الشافعي لئلا يفضي
إلى التسوية بين الفروض فيخرج ابنة مخاض عن خمس وعشرين وست وثلاثين وست وأربعين
وإحدى وستين، ويخرج ابنتي اللبون عن ست وسبعين واحدى وتسعين ومائة وعشرين ويفضي
الانتقال من بنت اللبون الواحدة من إحدى وستين إلى ابنتي لبون في ست وسبعين مع تقارب الوقص
بينهما وبينهما في الأصل أربعون، والخبر ورد في السخال فيمتنع قياس الفصلان والعجول عليها لما
ذكرنا من الفرق.
508

(فصل) وكذلك إذا كان النصاب كله مراضا فالصحيح من المذهب جواز اخراج الفرض منه
ويكون وسطا في القيمة ولا اعتبار بقلة العيب وكثرته لأن القيمة تأتي على ذلك وهو قول الشافعي
وأبي يوسف ومحمد وقال مالك ان كانت كلها جربا اخرج جرباء وان كانت هتما كلف شراء صحيحة
وقال أبو بكر لا يجزئ الا صحيحة لأن احمد قال لا يؤخذ الا ما يجوز في الأضاحي وللنهي عن أخذ
ذات العوار فعلى هذا يكلف شراء صحيحة بقدر قيمة المريضة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إياك وكرائم أموالهم " وقال " ان الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره " رواه
أبو داود، ولان مبنى الزكاة على المواساة وتكليف الصحيحة عن المراض اخلال بالمواساة ولهذا
يأخذ من الردئ من الحيوان والثمار من جنسه، ومن اللئام والهزال من المواشي من جنسه كذا هذا
509

وأما الحديث فيحمل على ما إذا كان فيه صحيح فإن الغالب الصحة وإن كان في النصاب بعض
الفريضة صحيحا أخرج الصحيحة وتمم الفريضة من المراض على قدر المال ولا فرق في هذا بين الإبل
والبقر والغنم، والحكم في الهرمة والمعيبة كالحكم في المريضة سواء لأنها في معناها والله أعلم
(فصل) فإن اجتمع كبار وصغار وصحاح ومراض وذكور وإناث لم يؤخذ إلا أنثى كبيرة
صحيحة على قدر قيمة المالين
متى كانت عنده نصاب فنتجت منه سخال في أثناء الحول وجبت الزكاة في الجميع في قول أكثر
أهل العلم وكأن حول السخال حول أصلها، وحكي عن الحسن والنخعي لا زكاة في السخال حتى يحول
عليها الحول لقوله عليه السلام " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول "
510

ولنا قول عمر رضي الله عنه لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها
منهم. وهو مذهب علي رضي الله عنه ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة فكان اجماعا.
والخبر مخصوص بمال التجارة فإنه يضم إليه نماؤه بالاتفاق فيقاس عليه والحكم في فصلان الإبل
وعجاجيل البقر كالحكم في السخال. إذا ثبت هذا فإن السخلة لا تؤخذ في الزكاة لما ذكرنا من قول عمر
ولما ذكرنا في المسألة التي قبلها
(فصل) وإن كان في النصاب ذكور وإناث لم يؤخذ الا أنثى وقد ذكرنا ذلك، وإن كان فيه
صحاح وأمراض أخرج صحيحة قيمتها على قدر قيمة المالين ولا يجوز اخراج المريضة لقوله تعالى
(ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ولقوله عليه السلام " ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار
ولا تيس الا أن يشاء المصدق "
511

وإن كان النصاب كله مراضا الا مقدار الفرض فهو مخير بين اخراجه وبين شراء فريضة قليلة
القيمة فيخرجها، ولو كانت الصحيحة غير الفريضة بعدد الفريضة مثل من وجب عليه ابنتا لبون
وعنده حواران صحيحان فإن عليه شراء صحيحتين فيخرجهما وان وجبت عليه حقتان وعنده ابنتا
لبون صحيحتان خير بين اخراجهما مع الجبران وبين شراء حقتين صحيحتين على قدر قيمة المال،
وإن كان عنده جذعتان صحيحتان فله اخراجهما مع أخذ الجبران، وإن كان عليه حقتان ونصف
ماله صحيح ونصفه مريض فقال ابن عقيل له اخراج حقة صحيحه وحقة مريضة لأن النصف الذي
يجب فيه إحدى الحقتين مريض كله، والصحيح في المذهب خلاف ذلك لأن في ماله صحيحا ومريضا
فلم يملك اخراج مريضة كما لو كان نصابا واحدا ولم يتعين النصف الذي وجبت فيه الحقة في المراض
512

وكذلك لو كان لشريكين لم يتعين حق أحدهما في المراض دون الآخر، وإن كان النصاب كله
صحيحا لم يجز اخراج المعيبة وان كثرت قيمتها للنهي عن أخذها، ولما فيه من الاضرار بالفقراء
ولهذا يستحق ردها في البيع وان كثرت قيمتها
* (مسألة) * (وإن كان نوعين كالبخاتي والعراب والبقر والجواميس والضأن والمعز، أو كان فيه
كرام ولئام وسمان ومهازيل أخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين.
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في ضم أنواع الأجناس بعضها إلى بعض في إيجاب الزكاة، قال ابن
المنذر أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على ضم الضأن إلى المعز إذا ثبت هذا فإنه يخرج الزكاة من
أي الأنواع أحب سواء دعت الحاجة إلى ذلك، بان يكون الواجب واحدا أو لا يكون أحد النوعين
513

موجبا لواحد أو لم تدع بأن يكون كل واحد من النوعين فيه فريضة كاملة، وقال عكرمة ومالك واسحق
يخرج من أكثر العددين فإن استويا أخرج من أيهما شاء، وقال الشافعي القياس أن يؤخذ من كل
نوع ما يخصه اختاره ابن المنذر لأنها أنواع تجب فيها الزكاة فتجب زكاة كل نوع منه كأنواع الثمرة والحبوب
ولنا أنهما نوعا جنس من الماشية فجاز الاخراج من أيهما شاء، كما لو استوى العددان وكالسمان
والمهازيل، وما ذكره الشافعي يفضي لي تشقيص الفرض، وقد عدل إلى غير الجنس فيما دون خمس
وعشرين من الإبل من أجل ذلك فالعدول إلى النوع أولى إذا ثبت ذلك فإنه يخرج من أحد النوعين
ما قيمته كقيمة المخرج من النوعين فإذا كان النوعان سواء وقيمة المخرج من أحدهما اثنى عشر وقيمة
المخرج من الآخر خمسة عشر أخرج من أحدهما ما قيمته ثلاثة عشر وإن كان الثلث معزا والثلثان ضأنا
514

أخرج ما قيمته أربعة عشر، وإن كان بالعكس أخرج ما قيمته ثلاثة عشر، وإن كان في أبله عشر بخاتي
وعشر مهرية وعشر عرابية وقيمة ابنة المخاض البختية ثلاثون والمهرية أربعة وعشرون والعرابية اثنى عشر
أخرج ابنة مخاض قيمتها ثلث قيمة بنت مخاض بختية وهو عشرة وثلث قيمة مهرية ثمانية وثلث
قيمة عرابية أربعة فصار الجميع اثنين وعشرين وكذلك الحكم في أنواع البقر وفي السمان مع
المهازيل والكرائم مع اللئام.
(فصل) والأولى أن يخرج عن ماشيته من نوعها فيخرج عن البخاتي بختية وعن العراب عربية
وعن الكرا؟ كريمة فإن أخرج عن الكرام هزيلة بقيمة السمينة جاز ذكره أبو بكر وحكي عن القاضي أنه
لا يجوز، والصحيح الأول لأن القيمة مع اتحاد الجنس هي المقصودة فإن أخرج عن النصاب من غير
نوعه مما ليس في ما له منه شئ ففيه وجهان أحدهما يجزي لأنه أخرج عنه من جنسه فجاز كما لو أخرج
515

من أحد النوعين عنهما اختاره أبو بكر، والثاني لا يجزي لأنه أخرج من غير نوع ما له أشبه ما لو أخرج
من غير الجنس وفارق ما إذا أخرج من أحد نوعي ما له لأنه جاز فرارا من تشقيص الفرض
بخلاف مسئلتنا والله أعلم.
(فصل) قال رضي الله عنه
* (النوع الثالث في الغنم) *
* (مسألة) * (ولا شئ فيها حتى تبلغ أربعين فتجب فيها شاة إلى مائة وعشرين فإذا زادت واحدة
ففيها ثلاث شياه ثم في كل مائة شاة شاة)
الأصل في وجوب صدقة الغنم السنة والاجماع، أما السنة فما روى أنس في كتاب الصدقات
الذي كتبه له أبو بكر رضي الله عنه أنه قال في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين
516

ومائة شاة فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتين فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه
فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة
الا أن يشاء ربها، ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيسا الا ما شاء المصدق واختار سوى هذا
وأجمع المسمون على وجوب الزكاة فيها وهذا المذكور هاهنا مجمع عليه حكاه أين المنذر الا أنه
حكي عن معاذ رضي الله عنه أن الفرض لا يتغير بعد المائة واحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين واثنين
وأربعين ليكون مثل مائة واحدى وعشرين، ورواه سعيد بن خالد عن مغيرة عن الشعبي عن معاذ أنه
كان إذا بلغت الشياه مائتين لم يغيرها حتى تبلغ أربعين ومائتين فيأخذ منها ثلاث شياه، فإذا بلغت
ثلاثمائة لم يغيرها حتى تبلغ أربعين وثلاثمائة فيأخذ منها أربعا ولا يثبت عنه.
517

والحديث الذي رويناه دليل على خلاف ما روي عنه، والاجماع على خلاف هذا القول دليل على
فساده، وما رواه سعيد منقطع فإن الشعبي لم يلق معاذا، وظاهر المذهب أن فرض الغنم لا يتغير بعد
مائتين وواحدة حتى يبلغ أربعمائة فيجب في كل مائة شاة ويكون ما بين مائتين وواحدة إلى أربعمائة
وقصا وذلك مائة وتسعة وتسعون، وهذا قول أكثر العلماء وعن أحمد رواية أخرى أنها إذا زادت
على ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياه ثم لا يتغير الفرض حتى تبلغ خمسمائة فيكون في كل مائة شاة ويكون
الوقص الكبير ما بين ثلاثمائة وواحدة إلى خمسمائة اختاره أبو بكر وهو قول النخعي والحسن بن صالح
لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاثمائة حدا للوقص وغاية فيجب أن يتعقبه تغير النصاب كالمائتين.
ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا زادت ففي كل مائة شاة " يقتضي ألا يجب فيما دون المائة شئ
518

وفي كتاب الصدقات الذي كان عند آل عمر بن الخطاب: فإذا زادت على ثلاثمائة واحدة فليس فيها
شئ حتى تبلغ أربعمائة شاة ففيها أربع شياه وهذا صريح لا يجوز خلافه وتحديد النصاب لاستقرار
الفريضة لا للغاية.
* (مسألة) * (ويؤخذ من المعز الثني ومن الضأن الجذع)
لا يجزي في صدقة الغنم الا الجذع من الضأن وهو ما له ستة أشهر والثني من المعز وهو ما له ستة
فإن تطوع المالك بأعلى منهما في السن جاز لما نذكره فإن كان الفرض في النصاب أخذه للساعي وإن كان
فوق الفرض خير المالك بين دفع واحدة منه وبين شراء الفرض فيخرجه وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
في إحدى الروايتين عنه لا يجزي الا الثنية منهما جميعا لأنهما نوعا جنس فكان الفرس منهما واحدا
519

كالإبل والبقر وقال مالك تجزي الجذعة منهما لذلك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما حقنا في الجذعة أو الثنية "
ولنا على أبي حنيفة هذا الخبر وقول سعد بن دليم أتاني رجلان على بعير فقالا إنا رسولا رسول
الله إليك لتؤدي صدقة غنمك؟ قلت فأي شئ تأخذان قالا عناق جذعة أو ثنية أخرجه أبو داود
ولنا على مالك ما روى سويد بن غفلة قال أتانا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم وقال أمرنا أن نأخذ الجذعة
من الضأن والثنية من المعز، وهذا صريح وفيه بيان للمطلق في الحديثين قبله، ولان جذعة الضأن
تجزي في الأضحية بخلاف جذعة المعز بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة أين دينار في جذعة
المعز تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك.
* (مسألة) * (ولا يؤخذ في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عوار وهي المعيبة)
520

هذه الثلاث لا تؤخذ لدنائتها ولقول الله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ولان في حديث
أنس " ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيسا الا أن يشاء المصدق وقد قيل لا يؤخذ تيس
الغنم لفضيلته وكان أبو عبيد يروي هذا الحديث " الا ما شاء المصدق " بفتح الدال يعني صاحب المال فعلى
هذا يكون الاستثناء في الحديث راجعا إلى التيس وحده، وذكر الخطابي أن جميع الرواة يخالفونه
في هذا فيروونه المصدق بكسر الدال أي العامل وقال: التيس لا يؤخذ لنقصه وفساد لحمه، وعلى هذا
لا يأخذ المصدق وهو الساعي أحد هذه الثلاثة الا أن يرى ذلك بان يكون جميع المال من جنسه فيكون
له أن يأخذ من جنس المال فيأخذ هرمة من الهرمات ومعيبة من المعيبات وتيسا من التيوس، وقال
مالك والشافعي إن رأى الساعي أن أخذ هذه الثلاث خير له وأنفع للفقراء فله أخذها لظاهر الاستثناء
521

ووجه الأول ما ذكرنا. ولان في أخذ المعيبة عن الصحاح اضرارا بالفقراء ولذلك يستحق ردها في
البيع ولأنها من شرار المال وقد قال عليه السلام " إن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره "
* (مسألة) * (ولا الربى وهي التي تربي ولدها ولا الماخض ولا كرائم المال الا أن يشاء ربه)
الربى قريبة العهد بالولادة تقول العرب في ربائها كما تقول في نفاسها قال الشاعر: جنين أم البو في ربائها.
قال أحمد: والماخض التي قد حان ولادها فإن لم يقرب ولادها فهي خلفة، وهذه الثلاثة لا تؤخذ
لحق رب المال ولا تؤخذ أيضا الأكولة لذلك قال عمر رضي الله عنه لساعيه لا تأخذ الربا ولا الماخض
522

ولا الأكولة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " إياك وكرائم أموالهم " متفق عليه ولا فحل
الغنم، فإن تطوع رب المال باخراجها جاز أخذها وله ثواب الفضل لأن الحق له فجاز برضاه كما لو دفع
فرضين مكان فرض، وإذا تقرر أنه لا يجوز أخذ الردئ لأجل الفقراء، ولا كرائم المال من أجل أربابه،
ثبت أن الحق في الوسط من المال. قال الزهري: إذا جاء المصدق قسم الشياه ثلاثا ثلث خيار وثلث أوساط وثلث
شرار، وأخذ من الوسط، وروى نحو ذلك عن عمر رضي الله عنه، والأحاديث تدل على نحو هذا، فروى أبو داود
والنسائي باسنادهما عن سعد بن دليم قال كنت في غنم لي فجاءني رجلان على بعير فقالا انا رسولا
رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك لتؤدي إلينا صدقة غنمك قلت وما علي فيها؟ قالا شاة فاعمد إلي شاة قد عرفت
523

مكانها ممتلئة محضا وشحما فأخرجتها إليهما قالا هذه شافع وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شاة
شافعا، والشافع الحامل سميت بذلك لأن ولدها قد شفعها والمحض اللبن، وروى أبو داود باسناده
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الايمان من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو
وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط
اللئيمة ولكن من أوسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره ". رافدة معينة (1) والدرنة
الجرباء والشرط رذالة المال:
* (مسألة) * (ولا يجوز اخراج القيمة وعنه يجوز)
ظاهر المذهب أنه لا يجوز اخراج القيمة في شئ من الزكوات وبه قال مالك والشافعي. وقال الثوري
524

وأبو حنيفة يجوز، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن وعن أحمد مثل قولهم فيما عدا زكاة الفطر
فاما زكاة الفطر فقد نص على أنه لا يجوز. قال أبو داود قيل لأحمد وأنا أعطي دراهم، يعني في صدقة
الفطر قال أخاف أن لا يجزئه، خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو طالب قال أحمد لا يعطي قيمته
قيل له قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة قال يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون
قال فلان؟ قال ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وقال الله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) ونقل
عن أحمد في غير زكاة الفطر جواز اخراج القيمة، قال أبو داود وسئل أحمد عن رجل باع ثمرة نخله
قال عشره على الذي باعه قيل له فيخرج تمرا أو ثمنه قال إن شاء أخرج تمرا وان شاء أخرج من
الثمن، ووجه ذلك قول معاذ لأهل اليمن ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم فإنه أيسر عليكم وأنفع
525

للمهاجرين بالمدينة، وروى سعيد باسناده قال لما قدم معاذ إلى اليمن قال ائتوني بعرض ثياب آخذه
منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة، ولان المقصود دفع حاجة الفقراء
ولا يختلف ذلك باختلاف صور الأموال إذا حصلت القيمة.
ولنا قول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير، فإذا
عدل عن ذلك فقد ترك المفروض وقال النبي صلى الله عليه وسلم " في أربعين شاة شاة وفي مائتي درهم خمسة
دراهم " وهو وارد بيانا لقوله تعالى (وآتوا الزكاة) فتكون الشاة المذكورة هي المأمور بها والامر
للوجوب، وفي كتاب أبي بكر رضي الله عنه: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفسرها
بالشاة والبعير، والفريضة واجبة والواجب لا يجوز تركه، وقوله عليه السلام " فإن لم يكن بنت مخاض
526

فابن لبون ذكر " يمنع اخراج ابنة اللبون مع وجود ابنة المخاض ويدل على أنه أراد البعير دون المالية
فإن خمسا وعشرين من الإبل لا تخلو من مالية بنت مخاض واخراج القيمة يخالف ذلك ويفضي
إلى اخراج الفريضة مكان الأخرى من غير جبران وهو خلاف النص، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقر من
البقر " رواه أبو داود وابن ماجة، ولان الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير من كل نوع ما تندفع به حاجته
ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه ولأنه عدل عن الجنس المنصوص عليه فهو كما
لو عدل عنه إلى منافع دار أو عبد أو ثوب، وحديث معاذ الذي رووه - في الجزية بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم
527

أمره بتفريق الصدقة في فقرائهم ولم يأمره بحملها وفي حديثه هذا: فإنه أنفع للمهاجرين بالمدينة
* (مسألة) * (وإن أخرج سنا أعلى من الفرض من جنسه جاز)
وذلك مثل أن يخرج بنت لبون عن بنت مخاض أو عن الجذعة ابنتي لبون أو حقتين فإن
ذلك جائز لا نعلم فيه خلافا لأنه زاد على الواجب من جنسه ما يجزي عنه مع غيره فكان مجزيا عنه على
انفراده كما لو كانت الزيادة في العدد، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود باسنادهما عن أبي بن كعب
قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه الا بنت مخاض فقلت
أد بنت مخاض فإنها صدقتك فقال ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذوها
فقلت ما أنا بآخذ ما لم أومر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإن أجبت أن تأتيه فتعرض عليه
ما عرضت علي فافعل فإن قبله منك قبلته وان رده عليك رددته قال فاني فاعل فخرج معي وخرج بالناقة
528

التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة
ما لي وأيم الله ما قام في مالي رسول الله ولا رسوله قبله فجمعت له مالي فزعم أن ما علي فيه بنت
مخاض وذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية سمينة عظيمة ليأخذها فأبى وقال ها هي
ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذاك الذي وجب عليك فإن تطوعت
بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك " قال فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها، قال فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة.
529

* (فصل في الخلطة) *
* (مسألة) * (وإذا اختلط نفسان أو أكثر من أهل الزكاة في نصاب من الماشية حولا لم يثبت
لهما حكم الانفراد في بعضه فحكمها في الزكاة حكم الواحد سواء كانت خلطة أعيان بان يكون مشاعا
بينهما أو خلطة أوصاف بان يكون مال كل واحد منهما متميزا فخلطاه واشتركا في المراح والمسرح
والمشرب والراعي والفحل)
الخلفة في السائمة تجعل المالين كالمال الواحد إذا وجدت فيها الشروط المذكورة فتجب فيها الزكاة
إذا بلغ المجموع نصابا، فإذا كان لكل واحد منهما عشرون فعليهما شاة وإن زاد المالان على النصاب
530

لم يتغير الفرض حتى يبلغا فريضة ثانية مثل أن يكون لكل واحد منهما ستون شاة فلا يجب عليهما
إلا شاة وسواء كانت خلطة أعيان بان تكون الماشية مشتركة بينهما لكل واحد منهما نصيب مشاع
مثل أن يرثا نصابا أو يشترياه فيبقياه بحاله أو خلطة أوصاف وهي أن يكون مال كل واحد منهما متميزا
فخلطاه واشتركا في الأوصاف التي ذكرناها، وسواء تساويا في الشركة أو اختلفا مثل أن يكون لرجل
شاة ولآخر تسعة وثلاثون أو يكون لأربعين رجلا أربعون شاة لكل واحد منهم شاة نص عليهما أحمد
531

وهذا قول عطاء والأوزاعي والليث والشافعي وإسحق وقال مالك إنما تؤثر الخلطة إذا كان لكل
واحد من الشركاء نصاب، وحكي ذلك عن الثوري وأبي ثور واختاره ابن المنذر وقال أبو حنيفة
لا أثر لها بحال لأن ملك كل واحد دون النصاب فلم يجب عليه زكاة كما لو انفرد، وعلى قول مالك أن
كل واحد منهما يملك أربعين م الغنم فوجبت عليه شاة لقوله عليه الصلاة والسلام " في أربعين شاة شاة ".
ولنا ما روى البخاري في حديث أنس " ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة
وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " ولا يجئ التراجع الا على قولنا في خلطة الأوصاف
532

وقوله " لا يجمع بين متفرق " إنما يكون هذا إذا كان لجماعة فإن الواحد يضم بعض ماله إلى بعض وإن كان
في أماكن وهكذا قوله " لا يفرق بين مجتمع " ولان للخلطة تأثيرا في تخفيف المؤنة فجاز أن تؤثر في
الزكاة كالسوم، وقياسهم مع مخالفة النص غير مسموع.
(فصل) ويعتبر للخلطة شروط أربعة (أولها) أن يكون الخليطان من أهل الزكاة فإن كان
أحدهما ذميا أو مكاتبا لم يعتد بخلطته لأنه لا زكاة في ماله فلم يكمل النصاب (الثاني) أن يختلطا في
نصاب لما في خمس من الإبل أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم فإن اختلطا فيما دون النصاب
لم تؤثر الخلطة سواء كان لهما مال سواه أو لم يكن لأن المجتمع دون النصاب فلم تجب الزكاة فيه
533

(الثالث) أن يختلطا في جميع الحول فإن اختلطوا في بعضه لم يؤثر اختلاطهم، وبه قال الشافعي في
القول الجديد، وقال مالك لا يعتبر اختلاطهم في أول الحول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجمع بين متفرق ولا يفرق
بين مجتمع " يعني في وقت الزكاة.
ولنا أن هذا مال ثبت له حكم الانفراد في بعض الحول أشبه ما لو انفرد في آخر الحول ولان
الخلطة معنى يتعلق به ايجاب الزكاة فاعتبرت في جميع الحول كالنصاب (الرابع) أن يكون اختلاطهم
في السائمة وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
(فصل) ويعتبر لخلطة الأوصاف اشتراكهم في الأوصاف المذكورة وهي ستة (المراح) وهو الذي
تروح إليه الماشية، قال الله تعالى (حين تريحون وحين تسرحون) و (المسرح) وهو المرعى الذي
534

ترعى فيه الماشية، و (المحلب) المكان الذي تحلب فيه الماشية، وليس المراد منه خلط اللبن في إناء واحد
لأن هذا ليس بموافق بل مشقة لما فيه من الحاجة إلى قسم اللبن (والفحل) وهو أن لا يكون فحولة
أحد المالين لا نطرق غيره (والراعي) وهو أن لا يكون لكل مال راع ينفرد برعايته دون الآخر
والأصل في هذه الشروط ما روى سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يجمع
بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة " والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي
رواه الدارقطني وروي المرعى، وبنحو هذا قال الشافعي وقال بعض أصحاب مالك لا يعتبر إلا شرطان
الراعي والمرعى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق " والاجتماع يحصل
بذلك ويسمى خلطة فاكتفي به.
ولنا قوله " والخليطان ما اجتمعا في الحوض والراعي والفحل " وحكى ابن أبي موسى عن أحمد أنه
لا يعتبر إلا الحوض والراعي والمراح وهو بعيد لأنه ترك ذكر الفحل وهو مذكور في الحديث فإن قيل
535

فلم اعتبرتم زيادة على هذا، قلنا هذا تنبيه على بقية الشرائط وإلغاء لما ذكروه ولان لكل واحد من
هذه الأوصاف تأثيرا فاعتبر كالمرعى، ولا تعتبر نية الخلطة وحكي عن القاضي أنه اشترطها.
ولنا قوله عليه السلام " والخليطان ما اجتمعا في الحوض والراعي والفحل " ولان النية لا تؤثر في
الخلطة فلا تؤثر في حكمها، ولان المقصود من الخلطة من الارتفاق يحصل بدونها فلم يعتبر وجودها
معه كما لا تعتبر نية السوم في السائمة ولا نية السقي في الزروع والثمار.
* (مسألة) * (فإن اختل شرط منها أو ثبت لهما حكم الانفراد في بعض الحول زكيا
زكاة المنفردين فيه) متى اختل شرط من شروط الخلطة المذكورة بطل حكمها لفوات شرطها وصار وجودها كعدمها
فيزكي كل واحد ماله ان بلغ نصابا وإلا فلا، وكذلك ان ثبت لهما حكم الانفراد في بعض الحول
كرجلين لهما ثمانون شاة بينهما نصفين وكانا منفردين فاختلطا في أثناء الحول فعلى كل واحد منهما عند
536

تمام حوله شاة، وفيما بعد ذلك من السنين يزكيان زكاة الخلطة فإن اتفق حولاهما أخرجا شاة عند
تمام الحول على كل واحد نصفها، وان اختلف فعلى الأول منهما عند تمام حوله نصف شاة، فإذا تم
حول الثاني فإن كان الأول أخرجها من غير المال فعلى الثاني نصف شاة أيضا وإن أخرجها من النصاب
فعلى الثاني أربعون جزأ من تسعة وسبعين جزأ ونصف من شاة
* (مسألة) * (وإن ثبت لأحدهما حكم الانفراد وحده فعليه زكاة المنفرد وعلى الثاني زكاة الخلطة
ثم يزكيان فيما بعد ذلك الحول زكاة الخلطة كلما تم حول أحدهما فعليه بقدر ما له منها)
يتصور ثبوت حكم الانفراد لأحدهما بان يملك رجلان نصابين فيخلطانهما ثم يبيع أحدهما نصيبه
أجنبيا أو يكون لأحدهما نصاب وللآخر، دون النصاب فيختلطان في أثناء الحول فإذا تم حول الأول
537

فعليه شاة، فإذا تم حول الثاني فعليه زكاة الخلطة على التفصيل المذكور ويزكيان فيما بعد ذلك الحول
زكاة الخلطة كلما تم حول أحدهما فعليه بقدر ماله منه، فإذا كان المال جميعا ثمانين شاة وأخرج الأول
منها شاة عن الأربعين فإذا تم حول الثاني فعليه أربعون جزأ من تسعة وسبعين جزأ فإن أخرج الشاة
كلها من ملكه وحال الحول الثاني فعلى الأول نصف شاة زكاة الخلطة فإن أخرجه وحده فعلى الثاني
تسعة وثلاثون جزأ من سبعة وسبعين جزأ ونصف جزء من شاة وإن توالدت شيئا حسب معها
(فصل) وإن كان بينهما ثمانون شاة مختلطة مضى عليها بعض الحول فتبايعاها بأن باع كل واحد منهما
غنمه صاحبه مختلطة وبقيا على الخلطة لم ينقطع حولهما ولم تزل خلطتهما، وكذلك لو باع بعض غنمه
ببعض غنمه من غير إفراد قل المبيع أو كثر فاما إن أفرداها ثم تبايعاها ثم خلطاها وتطاول زمن
الانفراد بطل حكم الخلطة، وان خلطاها عقيب البيع ففيه وجهان أحدهما لا ينقطع لأن هذا زمن يسير
فعفى عنه، والثاني ينقطع لوجود الانفراد في بعض الحول، وإن أفرد كل واحد منهما نصف نصاب
538

وتبايعاه لم ينقطع حكم الخلطة لأن ملك الانسان يضم بعضه إلى بعض فكأن الثمانين مختلطة بحالها
وكذلك إن تبايعا أقل من النصف، وان تبايعا أكثر من النصف منفردا بطل حكم الخلطة لأن من شرطها
كونها في نصاب فمتى بقيت فيما دون النصاب صارا منفردين، وقال القاضي تبطل الخلطة في جميع
هذه المسائل في المبيع ويصير منفردا وهذا مذهب الشافعي لأن عنده أن المبيع بجنسه ينقطع حكم
الحول فيه فتنقطع الخلطة بانقطاع الحول وقد بينا فيما مضى أن حكم الحول لا ينقطع إذا باع الماشية بجنسها
فلا تنقطع الخلطة لأن الزكاة إنما تجب في المشترى ببنائه على حول المبيع فيجب أن يبنى عليه في الصفة
التي كان عليها، فأما إن كان مال كل واحد منهما منفردا فخلطاه ثم تبايعاه فعليهما في الحول الأول
زكاة الانفراد لأن الزكاة تجب فيه ببنائه على أول الحول وهو منفرد فيه، ولو كان لرجل نصاب
منفردا فباعه بنصاب مختلط زكا كل واحد منهما زكاة الانفراد لأن الزكاة في الثاني تجب ببنائه
539

على الأول فيهما كالمال الواحد الذي حصل الانفراد في أحد طرفيه، فإن كان لكل واحد منهما
أربعون مختلطة مع مال آخر فتبايعاها وبقيت مختلطة لم يبطل حكم الخلطة، وان اشترى أحدهما بالأربعين
المختلطة أربعين منفردة وخلطها في الحال، احتمل أن يزكي زكاة الخلطة لأنه يبني حولها على حول
مختلطة وزمن الانفراد يسير فعفي عنه واحتمل أن يزكي زكاة المنفرد لوجود الانفراد في بعض الحول
* (مسألة) * (ولو ملك رجل نصابا شهرا ثم باع نصفه مشاعا أو أعلم على بعضه وباعه مختلطا
فقال أبو بكر ينقطع الحول ويستأنفانه من حين البيع) لأن النصف المشترى قد انقطع الحول فيه
فكأنه لم يجر في حول الزكاة أصلا فلزم انقطاع الحول في الآخر (وقال ابن حامد لا ينقطع حول البائع
وعليه عند تمام حوله زكاة حصته) لأن حدوث الخلطة لا يمنع ابتداء الحول فلا يمنع استدامته ولأنه لو
خالط غيره في جميع الحول وجبت الزكاة فإذا خالط في بعضه نفسه وفي نعضه غيره كان أولى بالايجاب
وإنما بطل حول المبيعة لانتقال الملك فيها والا فهذه العشرون لم تزل مخالطة لمال جار في حول الزكاة
540

وهكذا الحكم فيما إذا كانت الأربعون لرجلين، فباع أحدهما نصيبه أجنبيا فعلى هذا إذا تم حول
الأول فعليه نصف شاة.
* (مسألة) * (فإن أخرجها من المال انقطع حول المشتري لنقصان النصاب) في بعض الحول ألا
أن يكون الفقير مخالطا لهما بالنصف الذي صار له فلا ينقص النصاب إذا ويخرج الثاني نصف شاة
أيضا على قول ابن حامد.
* (مسألة) * (وإن أخرجها من غيره وقلنا الزكاة في العين فكذلك، وإن قلنا في الذمة فعليه
عند تمام حوله زكاة حصة)
إذا أخرج البائع الزكاة من غير المال في هذه المسألة وقلنا الزكاة تتعلق بالعين، فقال القاضي
يجب نصف شاة أيضا لأن تعلق الزكاة بالعين لا بمعنى أن الفقراء يملكون جزأ من النصاب بل بمعنى
541

أن تعلق حقهم به، كتعلق أرش الجناية بالجاني فلم يمنع وجوب الزكاة، والصحيح أنه لا شئ على
المشتري، ذكره شيخنا وهو قول أبي الخطاب لأن تعلق الزكاة بالعين نقص النصاب فمنع وجوب
الزكاة على المشتري، ولان فائدة قولنا الزكاة تتعلق بالعين إنما تظهر في منع الزكاة وقد ذكره
القاضي في غير هذا الموضع، وإن قلنا الزكاة تتعلق بالذمة لم يمنع وجوب الزكاة على المشتري، لأن
النصاب لم ينقص وعلى قياس هذا لو كان لرجلين نصاب خلطة فباع أحدهما خليطه في بعض الحول
فهي عكس المسألة الأولى في الصورة ومثلها في المعنى لأنه كان في الأول خليط نفسه ثم صار خليط
أجنبي وهاهنا كان خليط أجنبي ثم صار خليط نفسه، ومثله لو كان رجلان متوارثان لهما نصاب خلطة
فمات أحدهما في بعض الحول فورثه صاحبه فعلى قياس قول أبي بكر لا يجب عليه شئ حتى يتم الحول
على المالين من حين ملكه لهما الا أن يكون أحدهما بمفرده يبلغ نصابا، وعلى قياس قول ابن حامد تجب
الزكاة في النصف الذي كان له خاصة إذا تم حوله.
* (مسألة) * (وان أفرد بعضه وباعه ثم اختلطا انقطع الحول)
ذكره ابن حامد لثبوت حكم الانفراد في البعض، وقال القاضي: يحتمل أن يكون كما لو باعها
مختلطة إذا كان زمنا يسيرا لأن اليسير معفو عنه
* (مسألة) * (وان ملك نصابين شهرا ثم باع أحدهما مشاعا فعلى قياس قول أبي بكر
يثب للبائع حكم الانفراد وعليه عند تمام حوله زكاة المنفرد (لثبوت حكم الانفراد له) وعلى قياس
542

قول ابن حامد عليه زكاة خليط) لأنه لم يزل مخالطا في جميع الحول (فإذا تم حول المشتري فعليه زكاة
خليط وجها واحدا) لكونه لم يثبت به حكم الانفراد أصلا
* (مسألة) * (ولو مالك رجل نصابا شهرا ثم ملك آخر لا يتغير به الفرض) مثل أن يملك أربعين
شاة في المحرم وأربعين في صفر فعليه زكاة الأول عند تمام حوله شاة لأنه ملك نصابا حولا، فإذا تم
حول الثاني فعلى وجهين أحدهما لا زكاة فيه لأن الجميع ملك واحد فلم يزد فرضه على شاة كما لو اتفقت
أحواله، والثاني فيه زكاة خليط لأن الأول استقل بشاة فتجب الزكاة في الثاني وهو نصف شاة
لاختلاطها بالأربعين الأولى كالأجنبي في المسألة التي قبلها
(فصل) فإن كان ملك أربعين أخرى في ربيع ففيها وجهان: أحدهما لا زكاة فيها والثاني فيها
ثلث شاة لأنه ملكها مختلطة بالثمانين المتقدمة. وذكر أبو الخطاب وجها ثالثا أنه يجب في الثاني شاة
وكذلك في الثالث لأنه نصاب كامل وجبت الزكاة فيه بنفسه أشبه ما لو انفرد وهذا ضعيف لأنه لو
كان مالك الثاني والثالث أجنبيين ملكاهما مختلطين لم يجب عليهما إلا زكاة خلطة، فإذا كانا لمالك
الأول كان أولى لأن ضم بعض ملكه إلى بعض أولى من ضم ملك الخليط إلى خليطه
* (مسألة) * (وإن كان الثاني يتغير به الفرض، مثل أن يملك مائة شاة فعليه زكاته إذا تم حوله وجها واحدا)
كما لو اتفقت أحواله والواجب فيه شاة على الوجه الأول والثالث، لأنه لو ملكها دفعة واحدة
لم يجب عليه أكثر من شاتين، وعلى الوجه الثاني يجب عليه شاة وثلاثة أسباع شاة لأنه لو ملك المالين
دفعة واحدة كان عليه فيهما شاتان حصة المائة منها خمسة أسباعهما وهو شاة وثلاثة أسباع، فإن كان
ملك مائة أخرى في ربيع فعلى الوجه الأول والثالث عليه فيها شاة، وعلى الوجه الثاني عليه شاة
وربع لأنه لو ملك المائتين وأربعين دفعة واحدة كان عليه فيها ثلاث شياة حصة المائة الثانية منهن
543

ربعهن وسدسهن وذلك شاة وربع، ولو كان المالك للأموال الثلاثة ثلاثة أشخاص وملك الثاني
والثالث سائمتهما مختلطة لكان الواجب على الثاني والثالث كالواجب على المالك في الوجه الثاني لا غير
(فصل) وإن مك عشرين من الإبل في المحرم وخمسا في صفر فعليه في العشرين إذا تم حولها
أربع شياه وفي الخمس عند تمام حولها خمس بنات مخاض على الوجهين الأولين، وعلى الوجه الثالث
عليه شاة وإن ملك في المحرم خمسا وعشرين وخمسا في صفر، فعليه في الأول عند تمام حوله بنت
مخاض ولا شئ عليه في الخمس على الأول وعلى الثاني عليه سدس بنت مخاض، وعلى الثالث عليه شاة
فإن ملك مع ذلك ستا في ربيع فعليه في الأول عند تمام حوله بنت مخاض ولا شئ عليه في الخمس على
الوجه الأول حتى يتم حول الست فيجب فيها ربع بنت لبون ونصف تسعها، وفي الوجه الثاني عليه
في الخمس سدس بنت مخاض إذا تم حولها وفي الست سدس بنت لبون، وفي الوجه الثالث عليه في
الخمس والست عند تمام حول كل واحد منهما شاة
* (مسألة) * (وإذا كان الثاني يتغير به الفرض ولا يبلغ نصابا)
مثل أن يملك ثلاثين من البقر في المحرم وعشرا في صفر فعليه في الثلاثين إذا تم حولها تبيع
وفي العشر إذا تم حولها ربع مسنة على الوجهين الأولين لأن الفريضة الموجبة للمسنة قد كملت وقد
أخرج زكاة الثلاثين فوجب في العشر بقسطها من المسنة وهو ربعها، وعلى الوجه الثالث يقتضي أن
لا يجب عليه في العشر شئ كما لو ملكها منفردة
* (مسألة) * (وان ملك مالا يغير الفرض كخمس فلا شئ فيها على الوجه الأول كما لو ملك الجميع
544

دفعة واحدة وعلى الوجه الثاني عليه سبع تبيع إذا تم حولها، كما لو كان المالك لها أجنبيا ولا شئ عليه
فيها في الوجه الثالث).
* (مسألة) * (وإذا كان لرجل ستون شاة كل عشرين فيها مختلطة بعشرين لآخر فعلى الجميع
شاة نصفها على صاحب الستين ونصفها على الخلطاء على كل واحد سدس شاة)
كما لو كانت لشخص واحد ولو كان رجلان لكل واحد منهما ستون فخالط كل واحد منهما
صاحبه بعشرين فقط وجب عليهما شاة بينهما نصفين لذلك فإن كان له ستون كل عشر منها مختلطة
بعشر لآخر فعليه شاة ولا شئ على خلطائه لم يختلطوا (؟) في نصاب كذلك قال أصحابنا
* (مسألة) * (وإذا كانت ماشية الرجل متفرقة في بلدين لا تقصر بينهما الصلاة فهي كالمجتمعة
يضم بعضها إلى بعض ويزكيها كالمختلطة)
لا نعلم في ذلك خلافا وإن كان بينهما مسافة القصر، وكذلك في إحدى الروايتين عن أحمد.
اختارها أبو الخطاب وهو قول سائر العلماء وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله عليه السلام " في
أربعين شاة شاة " ولأنه ملك واحد أشبه ما لو كان في بلدان متقاربة وكغير السائمة فعلى هذا يخرج
الفرض في أحد البلدين لأنه موضع حاجة (والرواية الثانية) أن لكل مال حكم نفسه يعتبر على حدته
إن كان نصابا ففيه الزكاة وإلا فلا، نص عليه احمد. قال ابن المنذر: لا أعلم هذا القول عن غير احمد
واحتج يظاهر قوله عليه السلام " لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة " وهذا
متفرق فلا يجمع، ولأنه لا أثر لاجتماع مالين لرجلين في كونهما كالمال الواحد يجب أن يؤثر افتراق
مال الرجل الواحد حتى يجعله كالمالين والحديث محمول على المجتمعة، ولا يصح القياس على غير السائمة
لأن الخلطة لا تؤثر فيها كذلك الافتراق والبلدان المتقاربة بمنزلة البلد الواحد، والصحيح الأول على
545

ما بينا وكلام احمد محمول على أن الساعي لا يأخذها، فأما رب المال فيخرج إذا بلغ ماله نصابا فإنه قد
روي عنه فيمن له مائة شاة في بلدان متفرقة لا يأخذ المتصدق منها شيئا لأنه لا يجمع بين متفرق
وصاحبها إذا ضبط ذلك وعرفه أخرج هو بنفسه يضعها في الفقراء كذلك رواه الميموني وحنبل عنه
* (مسألة) * (ولا تؤثر الخلطة في غير السائمة وعنه أنها تؤثر)
لا تؤثر الخلطة في غير السائمة كالذهب والفضة والزروع والثمار وعروض التجارة ويكون حكمهم
حكم المنفردين وهذا قول أكثر أهل العلم، وعن أحمد أن شركة الأعيان تؤثر في غير الماشية، فإذا
كان بينهم نصاب يشتركون فيه فعليهم الزكاة وهذا قول اسحق والأوزاعي في الحب والتمر قياسا على
خلطة الماشية، والمذهب الأول قال احمد: الأوزاعي يقول في الزرع إذا كانوا شركاء يخرج لهم خمسة
أوسق فيه الزكاة قاسه على الغنم ولا يعجبني قول الأوزاعي، فأما خلطة الأوصاف فلا مدخل لها
في غير الماشية بحال لأن الاختلاط لا يحصل، وخرج القاضي وجها أنها تؤثر لأن المؤنة تخف إذا كان
الملقح واحدا والناطور والجرين وكذلك أموال التجارة الدكان والمخزن والميزان والبائع فأشبه الماشية
ومذهب الشافعي على نحو مذهبنا والصحيح الأول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " والخليطان ما اشتركا في الحوض
والفحل والراعي " فدل على أن ما لم يوجد فيه ذلك لا يكون خلطة مؤثرة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجمع
بين متفرق خشية الصدقة " إنما يكون في الماشية لأن الزكاة يقل جمعها تارة ويكثر أخرى، وسائر
الأموال يجب فيما زاد على النصاب بحسابه فلا أثر لجمعها، ولان خلطة الماشية تؤثر في النفع تارة وفي
الضرر أخرى، وفي غير الماشية تؤثر ضررا محضا برب المال فلا يصح القياس، فعلى هذا إذا كان
لجماعة وقف أو حائط مشترك بينهم فيه ثمرة أو زرع فلا زكاة عليهم إلا أن يحصل في يد بعضهم نصابا
546

فتجب عليه الزكاة، وعلى الرواية الأخرى إذا كان الخارج نصابا ففيه الزكاة، فإن كان الوقف
نصابا من السائمة وقلنا إن الزكاة تجب في السائمة الموقوفة فينبغي أن تجب عليهم الزكاة لاشتراكهم
في ملك نصاب تؤثر الخلطة فيه
* (مسألة) * (ويجوز للساعي أخذ الفرض من مال أي الخليطين شاء
هذا ظاهر كلام احمد وسواء دعت الحاجة إلى ذلك بأن تكون الفريضة عينا واحدة لا يمكن
أخذها من المالين ونحو ذلك، أو لم تدع الحاجة إلى ذلك بأن يجد فرض كل واحد من المالين فيه.
قال احمد: إنما يجئ المصدق فيجد الماشية فيصدقها ليس يجئ فيقول: أي شئ لك وأي شئ لك
قال الهيثم بن خارجة لأبي عبد الله: أنا رأيت مسكينا كانت له في غنم شاتان فجاء المصدق فأخذ
إحداهما. ووجه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما
بالسوية " يعني إذا أخذ من مال أحدهما، ولان المالين قد صارا كالمال الواحد في وجوب
الزكاة فكذلك في اخراجها
* (مسألة) * (ويرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته من القيمة لما ذكرنا من النص والمعنى)
فإذا كان لأحدهما ثلث المال وللآخر ثلثاه فأخذ الفرض من مال صاحب الثلث رجع بثلثي قيمة
المخرج على شريكه، وان أخذه من الآخر رجع بالثلث على شريكه
* (مسألة) * (فإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرجوع عليه) إذا عدمت البينة لأنه غارم فأشبه
الغاصب إذا اختلفا في قيمة المغصوب بعد تلفه وعليه اليمين لأنه منكر
* (مسألة) * (وإذا أخذ الساعي أكثر من الفرض ظلما لم يرجع بالزيادة على خليطه)
إذا أخذ الساعي أكثر من الفرض بغير تأويل مثل أن يأخذ مكان الشاة شاتين، أو جذعة
547

مكان حقة لم يكن للمأخوذ منه الرجوع الا بقدر الواجب لأن شريكه لم يظلمه فلم يكن له الرجوع فيه
كغيره، ولأنه ظلم اختص به الساعي فلم يرجع به على غيره كما لو غصبه على غير وجه الزكاة
* (مسألة) * (وان أخذه بقول بعض العلماء رجع عليه)
وذلك مثل أن يأخذ الصحيحة عن المراض والكبيرة عن الصغار لأن ذلك إلى اجتهاد الإمام
فإذا أداه اجتهاده إلى أخذه وجب دفعه وصار بمنزلة الفرض الواجب والساعي نائب الإمام فعله كفعل
الإمام، وكذلك إذا أخذ القيمة يرجع على شريكه بما يخصه منها لما ذكرنا والله أعلم
* (باب زكاة الخارج من الأرض) *
والأصل فيها الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من
طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) والزكاة تسمى نفقة بدليل قوله تعالى (والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) وقال تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده) قال ابن
548

عباس حقة: الزكاة المفروضة. وقال مرة: العشر ونصف العشر، ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس
فيما دون خمسة أوسق صدقة " متفق عليه وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " فيما سقت السماء
أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر " أخرجه البخاري وأبو داود وعن جابر أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " فيما سقت الأنهار والغيم العشر، وفيما سقي بالسانبة نصف
العشر " رواه مسلم وأبو داود، وأجمع أهل العلم على وجوب الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب
حكاه ابن المنذر وابن عبد البر
* (مسألة) * (تجب الزكاة في الحبوب كلها وفي كل ثمر يكال ويدخر كالتمر والزبيب واللوز والفستق
والبندق ولا يجب في سائر الثمر ولا في الخضر والزهر والبقول)
وجملة ذلك أن الزكاة تجب فيما اجتمع فيه الكيل والادخار من الثمر والحبوب مما ينبته الآدميون
سواء كان قوتا كالحنطة والشعير والسلت والأرز والذرة والدخن، أو من القطنيات كالباقلا والعدس
والماش والحمص، أو من الابازير كالكسفرة والكمون والكراويا أو البزور كبزر الكتان والقثاء
549

والخيار، وحب البقول كالرشاد، حب الفجل والقرطم والترمس والسمسم وسائر الحبوب. ويجب
أيضا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار كالتمر والزبيب والقشمش واللوز والفستق والبندق. ولا زكاة في سائر
الفواكه من الخوخ والرمان والإجاص والكمثرى والتفاح والمشمش والتين والجوز ونحوه، ولا في الخضر
كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر، وبهذا قال عطاء في الحبوب كلها ونحوه قول أبي يوسف
ومحمد. وقال أبو عبد الله ابن حامد: لا شي في الابازير، ولا البزور، ولا حب البقول ولعله لا يوجب
الزكاة الا فيما كان قوتا، أو أدما لأن ما عداه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه فيبقى على
النفي الأصلي، وقال مالك والشافعي لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب ولا في حب الا ما كان قوتا في حالة
الاختيار - لذلك إلا في الزيتون على اختلاف، وحكي عن أحمد، لا زكاة الا في الحنطة والشعير والتمر
والزبيب، وهذا قول ابن عمر وموسى بن طلحة والحسن وابن سيرين والشعبي وابن أبي ليلى وابن
المبارك. والسلت وهو نوع من الشعير ووافقهم إبراهيم وزاد الذرة ووافقهم ابن عباس وزاد الزيتون
لأن ما عدا هذا لا نص فيه ولا اجماع ولا هو في معنى المنصوص ولا المجمع عليه فيبقى على الأصل وقد
550

روى عمر وبن شعيب عن أبية عن عبد الله بن عمر وأنه قال إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحنطة والشعير
والتمر والزبيب، وعن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلي اليمن يعلمان
الناس أمر دينهم فأمرهم أن لا يأخذوا الصدقة الا من هذه الأربعة الحنطة والشعير والتمر والزبيب،
رواهن الدارقطني ولان غير هذه الأربعة لا يساويها في غلبة الاقتيات بها، وكثرة نفعها ووجودها
فلا يصح قياسه عليها، وقال أبو حنيفة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلا الحطب والقصب
والحشيش، لقوله عليه السلام " فيما سقت السماء العشر " وهو عام ولان هذا يقصد بزراعته
نماء الأرض أشبه الحبوب.
ولنا (1) عموم قوله عليه السلام " فيما سقت السماء العشر " وقوله لمعاذ " خذ الحب من الحب "
خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب بمفهوم قوله عليه السلام " ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة
أوسق " رواه مسلم والنسائي وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس في الخضراوات صدقة "
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس فيما أنبتت الأرض من الخضر صدقة " رواهما الدارقطني
وقال موسى بن طلحة جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة أشياء " الشعير والحنطة والسلت
551

والزبيب والتمر وما سوى ذلك مما أخرجت الأرض فلا عشر فيه " وروى الأثرم باسناده أن عامل
عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك والرمان ما هو أكثر غلة من الكروم أضعافا فكتب إليه
عمر ليس عليها عشر هي من العضاة
(فصل) ولا يجب فيما ليس بحب ولا ثمر سواء وجد فيه الكيل والادخار أو لا فلا يجب في ورق
مثل السدر والخطمي والأشنان والصعتر والآس ونحوه لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معناه ولان
قوله عليه السلام " ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق " يدل على أن الزكاة لا تجب
في غيرهما، قال ابن عقيل ولأنه لا زكاة في ثمر السدر فورقه أولى، ولان الزكاة لا تجب في الحب المباح
ففي الورق أولى، وقال أبو الخطاب تجب الزكاة في الصعتر والأشنان لأنه مكيل مدخر والأول أولى
لما ذكرنا ولأنه ليس بمنصوص ولا هو في معنى المنصوص، ولا تجب في الزهر كالزعفران والعصفر
والقطن لأنه ليس بحب ولا تمر ولا مكيل فلم تجب فيه الزكاة وكالخضراوات قال أحمد ليس في القطن
شئ وقال ليس في الزعفران زكاة وهذا ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر، وروي عن علي رضي
الله عنه ليس في الفاكهة والبقل والتوابل والزعفران زكاة، وعنه انها تجب في الزيتون والقطن والزعفران
إذا بلغا بالوزن نصابا، وروي عن أحمد رواية أخرى أن في القطن والزعفران زكاة، وخرج أبو الخطاب
في العصفر والورس وجها قياسا على الزعفران، وقال القاضي الورس عندي بمنزلة الزعفران يخرج
552

على روايتين لاجتماع الكيل والادخار فيه أشبه الجنوب والأول أولى، وهذا مخالف لأصول أحمد فإن
المروي عنه روايتان إحداهما أنه لا زكاة إلا في الأربعة، والثانية أنها تجب في الحنطة والشعير والتمر
والزبيب والذرة والسلت والأرز والعدس وكل شئ يقوم مقام هذه حتى يدخر ويجري فيه القفيز
مثل اللوبيا والحمص والسماسم والقطنيات ففيه الزكاة وهذا لا يجري فيه القفيز ولا هو في معنى ما سماه
وإذا قلنا بوجوب الزكاة في القطن احتمل أن يجب في الكتان والقنب لأنه في معنى القطن ولا تجب
الزكاة في التين وقشور الحب كما لا تجب في كرب النخل وخوصه
(فصل) واختلفت الرواية في الزيتون عن أحمد فقال في رواية ابنه صالح: فيه العشر إذا بلغ. يعني
خمسة أوسق وان عصر قوم ثمنه لأن الزيت له بقاء، وهذا قول الزهري والأوزاعي ومالك والليث
والثوري وأبي ثور وأصحاب الرأي واحد قولي الشافعي، وروي عن ابن عباس لقول الله تعالى.
553

(وأتوا حقه يوم حصاده) في سياق قوله تعالى (والزيتون والرمان) ولأنه يمكن ادخار غلته أشبه
التمر، وروي عنه لا زكاة فيه نقلها عنه يعقوب بن بختان وهو اختيار أبي بكر وظاهر كلام الخرقي
وهذا قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبي عبيد وأحد قولي الشافعي لأنه لا يدخر يابسا فهو
كالخضراوات ولأنه لم يرد بها الزكاة لأنها مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة ولهذا ذكر الرمان
ولا عشر فيه، وقال النخعي وأبو جعفر هذه الآية منسوخة على أنها محمولة على ما يتأتى حصاده بدليل
أن الرمان مذكور بعده ولا زكاة فيه
(فصل) (ونصابه خمسة أوسق) نص عليه أحمد في رواية صالح. فاما نصاب الزعفران
والقطن وما الحق بهما من الموزونات فهو الف وستمائة رطل بالعراقي لأنه ليس بمكيل فيقوم
وزنه مقام كيله ذكره القاضي في المجرد. وحكي عنه إذا بلغت قيمته نصابا من أدنى ما تخرجه
الأرض مما فيه الزكاة ففيه الزكاة وهذا قول أبي يوسف في الزعفران لأنه لا يمكن اعتباره بنفسه
فاعتبر بغيره كالعروض تقوم بأدنى النصابين من الأثمان، وقال أصحاب الشافعي في الزعفران
تجب الزكاة في قليله وكثيره وحكاه القاضي في المجرد قولا في المذهب، قال شيخنا رحمه الله ولا
أعلم لهذين القولين دليلا ولا أصلا يعتمد عليه ويردهما قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمسة أوسق
صدقة " ولان إيجاب الزكاة في قليله وكثيره مخالف لجميع أموال الزكاة واعتباره بغيره مخالف
لجميع ما يجب فيه العشر واعتباره بأقل ما تجب الزكاة فيه قيمة لا نظير له أصلا، ولا يصح قياسه على
العروض لأنها لا تجب الزكاة في عينها وإنما تجب في قيمتها فيؤدي من القيمة التي اعتبرت بها والقيمة
554

ترد إليها كل الأموال المتقومات فلا يلزم من الرد إليها الرد إلى ما لم يرد إليه شئ أصلا ولا تخرج الزكاة
منه ولان هذا مال تخرج الزكاة من جنسه فاعتبر بنفسه كالحبوب
* (مسألة) * (وقال ابن حامد لا زكاة في حب البقول كحب الرشاد والأبازير كالكسفرة
والكمون وبزر القثاء والخيار ونحوه لما ذكرنا)
* (مسألة) * (ويعتبر لوجوبها شرطان أحدهما أن يبلغ نصابا قدره بعد التصفية في الحبوب
والجفاف في الثمار خمسة أوسق)
لا تجب الزكاة في شئ من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق، هذا قول أكثر أهل العلم
منهم ابن عمر وجابر وأبو أمامة بن سهل وعمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء ومكحول والنخعي ومالك
وأهل المدينة والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمد ولا نعلم أحدا خالف فيه إلا مجاهدا
وأبا حنيفة ومن تابعة قالوا تجب الزكاة في قليل ذلك وكثيره لعموم قوله عليه السلام " فيما سقت
السماء العشر " ولأنه لا يعتبر له حول فلا يعتبر له نصاب كالركاز
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " وهذا خاص يجب تقديمه على
ما رووه كما خصصنا قوله " في سائمة الإبل الزكاة " بقوله " ليس فيما دون خمس ذود صدقة " وقوله
" في الرقة ربع العشر " بقوله " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " ولأنه مال تجب فيه الزكاة فلم تجب
في يسيره كسائر الأموال الزكوية وإنما لم يعتبر الحول لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحول
في غيره لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال، والنصاب اعتبر ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه فلهذا
اعتبر فيه، يحققه أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء لما ذكرنا فيما تقدم ولا يحصل الغنى بدون النصاب
فهو كسائر الأموال الزكوية:
(فصل) وتعتبر الخمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب، والجفاف في الثمار، فلو كان له عشرة
أوسق عنبا لا يجئ منها خمسة أوسق زبيبا لم يجب عليه شئ لأنه حال وجوب الاخراج منه فاعتبر
النصاب بحاله حينئذ.
* (مسألة) * (والوسق ستون صاعا، والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي، فيكون ذلك
ألفا وستمائة رطل).
الوسق ستون صاعا بغير خلاف حكاه ابن المنذر، وروى الأثرم باسناده عن سلمة بن صخر
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الوسق ستون صاعا " وروى أبو سعيد وجابر نحوه رواه ابن ماجة، والصاع
خمسة أرطال وثلث بالعراقي وفيه خلاف بين العلماء، وقد ذكرنا في كتاب الطهارة ذلك وبيناه فيكون
555

النصاب ألفا وستمائة رطل بالعراقي كما ذكر، والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع
درهم، ووزنه بالمثاقيل تسعون ثم زيد في الرطل مثقال واحد وهو درهم وثلاثة أسباع، فصار إحدى
وتسعين مثقالا كمل وزنه بالدراهم مائة وثلاثون درهما، والاعتبار به قبل الزيادة فيكون الصاع بالرطل
الدمشقي الذي وزنه ستمائة درهم رطلا وسبعا، وتكون خمسة الأوسق ثلاثمائة واثنين وأربعين رطلا وستة
أسباع رطل، والنصاب معتبر بالكيل لأن الأوساق مكيلة، وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ
وتنقل لعدم امكان ضبط الكيل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات، والمكيلات
تختلف في الوزن فمنها الثقيل كالحنطة والعدس ومنها الخفيف كالشعير والذرة ومنها المتوسط، وقد
نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة، رواه عنه جماعة وقال حنبل: قال أحمد
أخذت الصاع من أبي النضر وقال أبو النضر أخذته من ابن أبي ذئب وقال هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي
يعرف بالمدينة، قال أبو عبد الله فاخذنا العدس فعبرنا به وهو أصلح ما يكال به لأنه لا يتجافى عن
مواضعه فكلنا به ثم وزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث، قال هذا أصلح ما وقفنا عليه وما بين لنا من
صاع النبي صلى الله عليه وسلم فمتى بلغ القمح ألفا وستمائة رطل أو نحوه من العدس ففيه الزكاة لأنهم قدروا الصاع
بالثقيل، فاما الخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وإن لم يبلغه، ومتى شك في وجوب الزكاة
فيه ولم يجد مكيا لا يقدر به فالاحتياط الاخراج، فإن لم يخرج فلا حرج، لأن الأصل عدم وجوب
الزكاة فلا تجب بالشك:
(فصل) قال القاضي، النصاب معتبر تحديدا فمتى نقص شيئا لم تجب الزكاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " إلا أن يكون نقصا يسيرا يدخل في المكاييل، كالأوقية
ونحوها فلا عبرة به لأن مثل ذلك يجوز أن يدخل في المكاييل، فلا ينضبط فهو كنقص
الحول ساعة أو ساعتين.
* (مسألة) * (قال إلا الأرز والعلس - نوع من الحنطة يدخر في قشره -، فإن نصاب كل واحد
منهما مع قشره عشرة أوسق)
العلس نوع من الحنطة يدخر في قشره زعم أهله أنه يخرج على النصف، وأنه إذا أخرج من قشره
لا يبقى بقاء غيره فاعتبر نصابه في قشره للضرر في اخراجه، فإذا بلغ بقشره عشرة أوسق ففيه العشر
لأن فيه خمسة أوسق حبا، وإن شككنا في بلوغه نصابا خير صاحبه بين إخراج عشره، وبين اخراجه
من قشره كقولنا في مغشوش الذهب والفضة ولا يجوز تقدير غيره من الحنطة في قشره ولا إخراجه
قبل تصفيته لأن العادة لم تجربة، ولا تدع الحاجة إليه ولا نعلم قدر ما يخرج منه
556

(فصل) ونصاب الأرز كنصاب العلس كذلك ذكره أبو الخطاب لأنه يدخر مع قشره، وإذا
خرج من قشره لا يبقى بقاء ما في القشر فهو كالعلس فيما ذكرنا سواء، وقال بعض أصحابنا لا يعتبر
نصابه بذلك الا أن يقول ثقات من أهل الخبرة إنه يخرج على النصف فيكون كالعلس فعلى هذا
متى لم يوجد ثقات يخبرون بهذا، أو شككنا في بلوغه نصابا خير ربه بين تصفيته وبين الاخراج،
ليعلم قدره كمغشوش الأثمان.
* (مسألة) * (وعنه أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطبا ويؤخذ عشره يابسا)
روى الأثرم عن أحمد أنه يعتبر نصاب النخل والكرم عنبا ورطبا ويؤخذ منه مثل عشر الرطب
تمرا اختاره أبو بكر، قال شيخنا وهذا محمول على أنه أراد يؤخذ عشر ما يجئ منه من التمر إذا بلغ
رطبها خمسة أوسق لأن إيجاب قدر عشر الرطب من التمر ايجاب لأكثر من العشر وذلك يخالف
النص والاجماع فلا يجوز حمل كلام الإمام عليه، وظاهر ما حكى عنه الأثرم أنه يؤخذ مقدار عشر
الرطب يابسا فإنه روي أنه قيل لأحمد خرص عليه مائة وسق رطبا يعطيه عشرة أوسق تمرا؟ قال نعم
على ظاهر الحديث والصحيح الأول لما ذكرنا.
557

* (مسألة) * (وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب)
تضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض سواء اتفق وقت اطلاعها وإدراكها أو اختلف فلو أن
الثمرة جدت ثم أطلعت أخرى وجدت ضم إحداهما إلى الأخرى، وكذلك زرع العام الواحد يضم
بعضه إلى بعض في تكميل النصاب كما قلنا في الثمرة سواء اتفق زرعه وادراكه أو اختلف، ويضم الصيفي
إلى الربيعي ولو حصدت الدخن والذرة ثم نبتت أصولها ضم أحدهما إلى الآخر لأن الجميع زرع عام
واحد فضم بعضه إلى بعض كما لو تقارب زرعه وادراكه.
* (مسألة) * (فإن كان له نخل يحمل في السنة حملين ضم أحدهما إلى الاخر. وقال القاضي لا يضم)
وهو قول الشافعي لأنه حمل ينفصل عن الأول فكان حكمه حكم عام آخر كحمل العامين، وإن كان
له نخل يحمل مرة ونخل يحمل حملين ضممنا الحمل الأول إلى الحمل المنفرد ولم يجب في الثاني شئ
الا أن يبلغ بمفرده نصابا، والصحيح الأول اختاره أبو الخطاب وابن عقيل لأنها ثمرة عام واحد فضم
بعضها إلى بعض كزرع العام الواحد وكالذرة التي تنبت مرتين، ولان الحمل الثاني يضم إلى الحمل
المنفرد لو لم يكن حمل أول فكذلك إذا كان لأن وجود الحمل الأول لا يصلح أن يكون مانعا بدليل
حمل الذرة الأول وبها يبطل ما ذكروه من الانفصال.
558

* (مسألة) * (ولا يضم جنس إلى آخر في تكميل النصاب وعنه أن الحبوب يضم بعضها إلى بعض
وعنه تضم الحنطة إلى الشعير والقطنيات بعضها إلى بعض)
القطنيات بكسر القاف جمع قطنية ويجمع أيضا قطاني، قال أبو عبيد هي صنوف الحبوب من
العدس والحمص والأرز والجلبان والجلجلان وهو السمسم، وزاد غيره الدخن واللوبيا والفول والماش
وسميت قطنية فعلية من قطن يقطن في البيت أي يمكث فيه.
وجملة ذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم في غير الحبوب والأثمان أنه لا يضم جنس إلى جنس
آخر في تكميل النصاب، فالماشية ثلاثة أجناس الإبل والبقر والغنم لا يضم جنس إلى غيره وكذلك
الثمار لا يضم جنس إلى آخر فلا يضم التمر إلى الزبيب ولا إلى غيره من الثمار ولا تضم الأثمان إلى
السائمة ولا إلى الحبوب والثمار، ولا خلاف بينهم فيما ذكرنا من أن أنواع الأجناس يضم بعضها إلى
بعض في الكمال النصاب ولا نعلم بينهم خلافا في أن العروض والأثمان يضم كل واحد منهما إلى الآخر
إلا أن الشافعي لا يضمها الا إلى جنس ما اشتريت به لأن نصابها عنده معتبر بذلك.
فاما الحبوب فاختلفوا في ضم بعضها إلى بعض، وفى ضم أحد النقدين إلى الآخر، فروي عن
أحمد في الحبوب ثلاث روايات إحداهن لا يضم جنس منها إلى غيره، ويعتبر النصاب في كل جنس
559

مفردا وهذا قول عطاء ومكحول وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والحين بن صالح وشريك والشافعي
وأبي ثور وأبي عبيد وأصحاب الرأي لأنها أجناس فاعتبر النصاب في كل واحد منفردا كالنصاب والمواشي
والثانية: أن الحبوب كلها يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب اختارها أبو بكر وهذا قول
عكرمة وحكاه ابن المنذر عن طاوس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة
أوسق " فمفهومه وجوب الزكاة فيه إذا بلغ خمسة أوسق، ولأنها تتفق في النصاب وقدر المخرج فوجب
ضم بعضها إلى بعض كأنواع الجنس وهذا الدليل منتقض بالثمار.
والثالثة: أن الحنطة تضم إلى الشعير وتضم القطنيات بعضها إلى بعض، حكاها الخرقي ونقلها
أبو الحرث عنه قال القاضي وهذا هو الصحيح وهو مذهب مالك والليث إلا أنه زاد فقال الذرة والدخن
والأرز والقمح والشعير صنف واحد لأن هذا كله مقتات فضم بعضه إلى بعص كأنواع الحنطة، وقال
الحسن والزهري تضم الحنطة إلى الشعير لأنها تتفق في الاقتيات والمنبت والحصاد والمنافع فوجب
ضمها كما يضم العلس إلى الحنطة والأولى أصح إن شاء الله لأنها أجناس يجوز التفاضل فيها فلم يضم
بعضها إلى بعض كالثمار ولا يصح القياس على العلس مع الحنطة لأنه نوع منها، وإذا انقطع القياس
لم يجز إيجاب الزكاة بالتحكم ولا يوصف غير معتبر ثم هو باطل بالثمر فإنها تتفق فيما ذكروه ولا يضم
560

بعضها إلى بعض ولا خلاف فيما نعلمه في ضم الحنطة إلى العلس لأنه نوع منها وعلى قياسه السلت إلى الشعير
(فصل) ولا تفريع على الروايتين الأوليين لوضوحهما. فاما الثالثة وهي ضم الحنطة إلى الشعير
والقطنيات بعضها إلى بعض فإن الذرة تضم إلى الدخن لتقاربهما في المقصد فإنهما يتخذان خبزا وأدما
وقد ذكر من جملة القطنيات فيضمان إليها والبزور لا تضم إلى القطنيات ولا إلى الابازير وينبغي أن
يضم بعضها إلى بعض وكل ما تقارب من الحبوب ضم بعضه إلى بعض والا فلا، وما شككنا فيه لا يضم
لأن الأصل عدم الوجوب فلا يجب بالشك
(فصل) ومتى قلنا بالضم فإن الزكاة تؤخذ من كل جنس على قدر ما يخصه ولا يؤخذ من جنس
عن غيره، فإننا إذا قلنا في أنواع الجنس يؤخذ من كل نوع ما يخصه ففي الأجناس مع تقارب مقاصدها
أولى. الثاني أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة فلا زكاة فيما يكتسبه اللقاط ولا فيما
يأخذه أجرة بحصاده نص عليه أحمد وقال هو بمنزلة المباحات ليس فيه صدقة فهو كما لو اتهبه وكذلك
561

ما ينبت من المباح الذي لا يملك الا بأخذه كالبطم والعفص والزعبل وهو شعير الجبل وبزر قطونا
وحب الثمام وبزر البقلة وحب الأشنان إذا أدرك حصلت فيه مزوزة وملوحة وأشباه هذا ذكروه ابن
حامد لأنه إنما يملك بحيازته وأخذه، والزكاة إنما تجب فيه إذا بدا صلاحه وفي تلك الحال لم يكن
مملوكا له فلا يتعلق به الوجوب كالذي يلتقطه اللقاط وكالموهب له وقال أبو الخطاب فيه الزكاة لاجتماع
الكيل والادخار فيه، والصحيح الأول لما ذكرنا، وقال القاضي فيه الزكاة إذا نبت في أرضه يعنى
في المباح ولعله بنى هذا على أن ما ينبت في أرضه من الكلأ يملكه، والصحيح خلافه فاما ما ينبت في
أرضه مما يزرعه الآدميون كمن سقط في أرضه حب من الحنطة أو الشعير فنبتت ففيه الزكاة لأنه يملكه
ولو اشترى زرعا بعد بدو الصلاح فيه أو ثمرة قد بدا صلاحها أو ملكها بجهة من جهات الملك لم تجب
فيه الزكاة وسنذكر ذلك أن شاء الله تعالى.
(فصل) (ويجب العشر فيما سقي بغير مؤنة كالغيث والسيوح وما يشرب بعروقه. ونصف العشر
فيما سقي بكلفة كالدوالي والنواضح) وهذا قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر " رواه البخاري،
قال أبو عبيد العثري ما تسقيه السماء وتسميه العامة العدي، وقال القاضي هو الماء المستنقع في بركة أو نحوها
يصب إليه ماء المطر في سواقي تشق له فإذا اجتمع سقي منه واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجري
فيها الماء لأنه يعثر بها من يمر بها، والنواضح الإبل يستقى عليها لشرب الأرض وهي السواني أيضا
وعن معاذ قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن آخذ مما سقت السماء أو سقي بعلا العشر وما سقي
بدالية نصف العشر قال أبو عبيد البعل ما يشرب بعروقه من غير سقي، وفي الجملة كل ما سقي بكلفة أو
562

مؤنة من دالية أو سانية أو دولاب أو ناعورة أو نحو ذلك ففيه نصف العشر وما سقي بغير مؤنة ففيه
العشر لما ذكرنا من النص ولان للكلفة تأثيرا في اسقاط الزكاة بالكلية في المعلوفة ففي تخفيفها أولى
ولا يؤثر حفر الأنهار والسواقي في نقصان الزكاة لأن المؤنة تقل فيه لكونها من جملة إحياء الأرض
ولا يتكرر كل عام وكذلك احتياجها إلى من يسقيها ويحول الماء في نواحيها ولان ذلك لا بد منه في
السقي بكلفة أيضا فهو زيادة على المؤنة فجرى مجرى حرث الأرض وتسحيتها ون كان الماء يجري
من النهر في ساقية إلى الأرض ويستقر في مكان قريب من وجهتها الا أنه لا يصل إليها الا بغرف أو
دولاب فهو من الكلفة المسقطة لنصف العشر ولان مقدار الكلفة وقرب الماء وبعده لا يعتبر والضابط
لذلك الاحتياج في ترقية الماء إلى الأرض إلى آلة أو نضح أو دالية أو نحو ذلك وقد وجد.
* (مسألة) * (فإن سقى نصف السنة بهذا ونصفها بهذا ففيه ثلاثة أرباع العشر)
وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا لأن كل واحد منهما لو وجد في
جميع السنة لا رجب مقتضاه، فإذا وجد في نصفها أوجب نصفه، وان سقى بأحدهما أكثر من الآخر
اعتبر أكثرهما نص عليه أحمد وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأن اعتبار
مقدار السقي وعدد مراته وقدر ما يشرب في كل سقية يشق فاعتبر الأكثر كالسوم في الماشية
وقال ابن حامد تؤخذ بالقسط وهو القول الثاني للشافعي لأن ما وجب فيه بالقسط عند التماثل وجب
عند التفاضل كفطرة العبد المشترك، وان جهل المقدار وجب العشر احتياطا نص عليه أحمد في رواية
عبد الله لأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط بوجود الكلفة فما لم يتحقق المسقط يبقى على الأصل
ولان الأصل عدم الكلفة في الأكثر فلا يثبت وجودها مع الشك فيه، وان اختلف رب المال والساعي
في أيها سقى به أكثر فالقول قول رب المال بغير يمين فإن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم
(فصل) وإذا كان لرجل حائطان يسقى أحدهما بمؤنة والآخر بغيرها ضم غلة أحدهما إلى
الآخر في تكميل النصاب وأخرج من الذي سقي بغير مؤنة عشره ومن الآخر نصف عشره، كما
يضم أحد النوعين إلى الآخر ويخرج من كل منهما ما وجب فيه.
* (مسألة) * (وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح في الثمر وجبت الزكاة)
لأنه حينئذ يقصد للاكل والاقتيات به فأشبه الياس وقبله لا يقصد لذلك فهو كالرطبة وقال ابن
أبي موسى تجب زكاة الحب يوم حصاده لقوله عز وجل (وآتوا حقه يوم حصاده) وفائدة الخلاف أنه
563

لو تصرف في الثمرة أو الحب قبل الوجوب لا شئ عليه كما لو أكل السائمة أو باعها قبل الحول، وان
تصرف فيها بعد الوجوب لم تسقط الزكاة كما لو فعل ذلك في السائمة، فإن قطعها قبل ذلك سقطت
الا أن يقطعها فرارا من الزكاة فتلزمه لأنه فوت الواجب بعد انعقاد سببه، أشبه ما لو طلق
امرأته في مرض موته.
* (مسألة) * (ولا يستقر الوجوب الا بجعلها في الجرين وبجعل الزرع في البيدر فإن تلفت قبله بغير
تعد منه سقطت الزكاة سواء كانت خرصت أو لم تخرص)
إذا خرص وترك في رؤس النخل فعليهم حفظه فإن أصابته جائحة فلا شئ عليه إذا كان قبل
الجداد نص عليه أحمد وحكاه ابن المنذر اجماعا ولأنه قبل الجداد في حكم ما لم تثبت عليه اليد بدليل
أنه لو اشترى ثمرة فتلفت بجائحة رجع بها على البائع، وإن تلف بعض الثمرة فقال القاضي إن كان
الباقي نصابا ففيه الزكاة وإلا فلا وهذا القول يوافق قول من قال إنه لا تجب الزكاة فيه الا يوم حصاده
لأن وجود النصاب شرط في الوجوب فمتى لم يوجد وقت الوجوب لم يجب، وأما من قال إن الوجوب
يثبت إذا بدا الصلاح واشتد الحب فقياس قوله إن تلف البعض إن كان قبل الوجوب فهو كما قال
القاضي وإن كان بعده وجب في الباقي بقدره سواء كان نصابا أو لم يكن لأن المسقط اختص بالبعض
فاختص السقوط به كما لو تلف بعض نصاب السائمة بعد وجوب الزكاة فيها وهذا فيما إذا تلفت بغير
تفريطه ولا عدوانه، فاما إن أتلفها أو تلفت بتفريطه بعد الوجوب لم تسقط عنه الزكاة، وإن كان
564

قبل الوجوب سقطت الا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة فيضمنها ولا تسقط عنه لما ذكرنا
* (مسألة) * (ومتى ادعى رب المال تلفها من غير تفريطه قبل قوله من غير يمين سواء كان ذلك
قبل الخرص أو بعده ويقبل قوله أيضا في قدرها وكذلك في سائر الدعاوى قال أحمد لا يستحلف الناس
على صدقاتهم وذلك لأنه حق لله تعالى فلا يستحلف فيه كالصلاة والحد)
(فصل) وان أحرز الثمرة في الجرين أو الحب في البيدر استقر وجوب الزكاة عليه عند من لم ير
التمكين من الأداء شرطا في استقرار الوجوب فإن تلف بعد ذلك لم تسقط الزكاة عنه وعليه ضمانها
كما لو تلف نصاب الأثمان بعد الحول وعلى قولنا في الرواية الأخرى التمكن من الأداء معتبر لا يستقر
الوجوب فيها حتى تجف الثمرة ويصفى الحب ويتمكن من الأداء فلا يؤدي وان تلف قبل ذلك فلا
شئ عليه على ما ذكرنا من قبل.
(فصل) ويصح تصرف المالك في النصاب قبل الخرص وبعده بالبيع والهبة وغيرهما فإن باعه
أو وهبه بعد بدو صلاحه فصدقته على البائع والواهب، وبهذا قال الحسن ومالك والثوري والأوزاعي
وهو قول الليث الا أن يشترطها على المبتاع لأنها كانت واجبة عليه قبل البيع فبقي الوجوب على ما كان
عليه وعليه اخراج الزكاة من جنس المبيع، وعنه أنه مخير بين ذلك وبين أن يخرج من الثمن بناء على
جواز اخراج القيمة في الزكاة، والصحيح الأول ولان عليه القيام بالثمرة حتى يؤدي الواجب فيها
ثمرا فلا يسقط ذلك عنه ببيعها ويتخرج أن تجب الزكاة على المشتري عند من قال إن الزكاة إنما تجب
565

يوم الحصاد لأن الوجوب إنما تعلق بها في ملكه فكانت عليه، ولو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها
ثم بدا صلاحها في يده على وجه صحيح كمن اشترى شجرة مثمرة واشترط ثمرتها أو وهبت له ثمرة
قبل بدو صلاحها فبدا صلاحها في يده أو وصي له بالثمرة فقبلها بعد موت الموصي ثم بدا صلاحها
فالصدقة عليه في هذه الصور لأن سبب الوجوب وجد في ملكه فهو كما لو ملك عبدا أو ولد له ولد
آخر يوم من رمضان وجبت عليه فطرته
* (فصل) * وإذا اشترى الثمرة قبل بدو صلاحها فتركها حتى بدا صلاحها من غير شرط القطع
فالبيع باطل وزكاتها على البائع وإن شرط القطع بطل البيع أيضا ويكون كما لو لم يشترط القطع القطع وعنه
أنه صحيح ويشتركان في الزيادة فعلى هذا يكون على المشتري زكاة حصته منها إن بلغت نصابا فإن
لم يكن المشترى من الزكاة فلا صدقة فيها فإن عاد البائع فاشتراها بعد بدو الصلاح فلا زكاة فيها
إلا أن يكون قصد ببيعها الفرار من الزكاة فلا تسقط
* (مسألة) * (ويجب إخراج زكاة الحب مصفى والثمر يابسا)
لأنه أوان الكمال وحال الادخار. والمؤنة التي تلزم الثمرة إلى حين الاخراج على رب المال لأن
الثمرة كالماشية ومؤنة الماشية وحفظها ورعيها على ربها إلى حين الاخراج كذلك هذا فإن أخذ الساعي
الزكاة قبل التجفيف فقد أساء ويرده إن كان رطبا بحاله وان تلف رد مثله، وان جففه وكان قدر
الزكاة فقد استوفى الواجب وإن كان دونه أخذ الباقي وإن كان زائدا رد الفضل وإن كان المخرج
رب المال لم يجزه ولزمه إخراج الفرض بعد التجفيف لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه كما لو أخرج
الصغيرة من الماشية عن الكبار.
* (مسألة) * (فإن احتيج إلى قطع الثمرة قبل كمالها وبعد بدو الصلاح للخوف من العطش أو
566

لضعف الأصل جاز قطعها لأن حق الفقراء إنما يجب على طريق المواساة فلا يكلف الانسان
ما يهلك أصل ماله). ولان حفظ الأصل أحظ للفقراء من حفظ الثمرة لأن حقهم يتكرر بحفظها في كل سنة فهم شركاء
رب النخل ثم إن كان يكفي تخفيف الثمرة دون قطع جميعها خففها وان لم يكف الا قطع الجميع جاز
وكذلك ان قطع بعض الثمرة لتحسين الباقي وكذلك إن كان عنبا لا يجئ منه زبيب كالخمري أو
رطا لا يجئ منه تمر كالبرني والهلبات فإنه يخرج منه عنبا ورطبا للحاجة ولان الزكاة مواساة فلم
تجب عليه من غير ما عنده كردئ الجنس، وقال القاضي يخير الساعي إذا أردا ذلك رب المال بين
أن يقاسم رب المال قبل الجداد بالخرص ويأخذ نصيبهم نخلات منفردة يأخذ ثمرتها وبين أن يجدها
ويقاسمه إياها بالكيل ويقسم الثمرة في الفقراء وبين بيعها من رب المال ومن غيره قبل الجداد وبعده
ويقسم ثمنها، والمنصوص أنه لا يخرج الا يابسا وأنه لا يجوز له شراء زكاته، اختاره أبو بكر لأن
اليابس حال الكمال في تلك الحال والدليل على أنه لا يجوز له شراء زكاته حديث عمر حين استأذن
النبي صلى الله عليه وسلم في شراء الفرس الذي حمل عليه فقال " لا تشتره ولا تعد في صدقتك وان باعكه بدرهم "
فإن قيل فهلا قلتم لا زكاة في العنب والرطب الذي لا يجئ منه زبيب لكونه لا يدخر فهو كالخضراوات
قلنا بل يدخر في الجملة وإنما لم يدخر هاهنا لأن أخذه رطبا أنفع فلم تسقط منه الزكاة بذلك ولا تجب
فيه الزكاة حتى يبلغ حدا يكون منه خمسة أوسق تمرا أو زبيبا الا على الرواية الأخرى فإن أتلف رب
المال هذه الثمرة، فقال القاضي عليه قيمتها كما لو أتلفها غيره وعلى قول أبي بكر يجب عليه العشر تمرا أو
زبيبا كما في غير هذه الثمرة، قال فإن لم يجد التمر ففيه وجهان: أحدهما تؤخذ منه قيمته والثاني يبقى
في ذمته إلى أن يجده فيأتي به.
* (مسألة) * (وينبغي أن يبعث الإمام ساعيا إذا بدا الصلاح في الثمر فيخرصه عليهم ليتصرفوا
فيه فيعرف بذلك قدر الزكاة ويعرف المالك ذلك)
567

وممن كان يرى الخرص عمر بن الخطاب وسهل بن أبي حثمة ومروان والقاسم بن محمد والحسن
وعطاء والزهري ومالك والشافعي وأكثر أهل العلم، وحكي عن الشعبي أن الخرص بدعة وقال أهل
الرأي الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم وإنما كان تخويفا للأكرة من الخيانة
ولنا ما روى عتاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم
رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي، وفي لفظ قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرص العنب كما نخرص
النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا، وقالت عائشة وهي تذكر شأن خيبر كان النبي صلى الله عليه وسلم
يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه رواه أبو داود
وقولهم هو ظن قلنا بل هو اجتهاد في معرفة قدر الثمر بالخرص الذي هو نوع من المقادير فهو كتقويم
المتلفات ووقت الخرص حين يبدو الصلاح لحديث عائشة، ولان فائدة الخرص معرفة قدر الزكاة
واطلاق أرباب الثمار في التصرف فيها وأنما تدعو الحاجة إلى ذلك حين يبدو الصلاح
(فصل) ويجزئ خارص واحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث ابن رواحة يخرص ولم يذكر معه
غيره ولان الخارص يفعل ما يؤديه إليه اجتهاده فهو كالحكم والقائف ويعتبر فيه أن يكون أمينا كالحكم
* (مسألة) * (فإن كان أنواعا خرص كل نوع وحده) لأن الأنواع تختلف فمنها ما يكثر رطبه ويقل
568

ثمره ومنها بالعكس وهكذا العنب ولأنه يحتاج إلى معرفة قدر كل نوع حتى يخرج عشره
* (مسألة) * (وإن كان نوعا واحدا فله خرص كل شجرة وحدها)
فيطيف بها وله خرص الجميع دفعة واحدة دفعا للمشقة وينظر كم يجئ منه تمرا أو زبيبا ثم يعرف
المالك قدر الزكاة ويخيره بين أن يضمن قدر الزكاة ويتصرف فيها بما شاء من أكل أو غيره وبين حفظها
إلى وقت الجداد والجفاف فإن حفظها وجففها فعليه زكاة الموجود لا غير سواء اختار الضمان أو الحفظ
وسواء كانت أكثر مما خرصه الخارص أو أقل، وبهذا قال الشافعي وقال مالك يلزمه ما قال الخارص
زاد أو نقص إذا كانت الزكاة متقاربة وعن أحمد نحو ذلك فإنه قال إذا خرص الخارص فإذا فيه فضل
كثير مثل الضعف تصدق بالفضل لأنه يخرص بالسوية لأن الحكم انتقل إلى ما قال الساعي بدليل
وجوب ما قال عند تلف المال
ولنا أن الزكاة أمانة فلا تصير مضمونة بالشرط كالوديعة، ولا نسلم أن الحكم انتقل إلى ما قال الساعي
وإنما يعمل بقوله إذا تصرف في الثمرة ولم يعلم قدرها لأن الظاهر أصابته قال أحمد إذا تجافى السلطان
569

عن شئ من العشر يخرجه فيؤديه، وقال إذا حط من الخرص عن الأرض يتصدق بقدر ما نقصوه
من الخرص، وان أخذ منهم أكثر من الواجب عليهم فقال أحمد يحتسب لهم من الزكاة لسنة أخرى
ونقل عنه أبو داود لا يحتسب بالزيادة لأن هذا غصب اختاره أبو بكر، قال شيخنا: ويحتمل الجمع بين
الروايتين فيحتسب إذا نوى صاحبه به التعجيل ولا يحتسب إذا لم ينو
(فصل) وإذا ادعى رب المال غلط الخارص وكان ما ادعاه محتملا قبل قوله بغير يمين، وان لم
يكن محتملا مثل أن ادعى غلط النصف ونحوه لم يقبل لأنه لا يحتمله فيعلم كذبه وان قال لم يحصل في
يدي الا كذ قبل قوله لأنه قد يتلف بعضه بآفة لا نعلمها
(فصل) فإن أتلف رب المال الثمرة أو تلفت بتفريطه بعد خرصها فعليه ضمان نصيب الفقراء
بالخرص وان أتلفها أجنبي فعليه قيمة ما أتلف والفرق بينهما أن رب المال وجب عليه تجفيف هذا
الرطب بخلاف الأجنبي ولهذا قلنا فيمن أتلف ضحيته المعينة فعليه أضحية مكانها وان أتلفها أجنبي
فعليه قيمتها، وان تلفت بجائحة من السماء سقط عنهم الخرص نص عليه، لأنها تلفت قبل استقرار
زكاتها وان ادعى تلفها قبل قوله بغير يمين وقد ذكرناه
* (مسألة) * (ويجب أن يترك في الخرص لرب المال الثلث أو الربع)
570

توسعة على رب المال لأنه يحتاج إلى الاكل هو وأضيافه ويطعم جيرانه وأهله ويأكل منها المارة ويكون
في الثمرة الساقطة وينتابها الطير فلو استوفى الكل منهم أضربهم وبهذا قال اسحق وأبو عبيد والمرجع
في تقدير المتروك إلى اجتهاد الساعي فإن رأى الاكلة كثيرا ترك الثلث والا ترك الربع لما روى سهل
ابن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا
الربع " رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وروي أبو عبيد باسناده عن مكحول قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال " خففوا على الناس فإن في المال العرية والواطئة والاكلة " قال أبو عبيد
الواطئة السابلة سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين والاكلة أرباب الثمار وأهلوهم ومن لصق بهم
ومنه حديث سهل في مال سعد بن أبي سعد حين قال لولا أني وجدت فيه أربعين عريشا لخرصته بسبعمائة
وسق فكانت تلك العرش لهؤلاء الاكلة، والعرية النخلة أو النخلات يهب انسانا ثمرتها فجاء عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليس في العرايا صدقة " والحكم في العنب كالحكم في الرطب سواء لأنه في معناه
* (مسألة) * (فإن لم يفعل فلرب المال الاكل بقدر ذلك)
ولا يحتسب عليه نص عليه أحمد لأنه حق لهم فإن لم يخرج الإمام خارصا فاحتاج رب المال إلى
التصرف في الثمرة فأخرج خارصا جاز أن يأخذ بقدر ذلك ذكره القاضي فإن خرص هو وأخذ بقدر
571

ذلك جاز ويحتاط أن لا يأخذ أكثر مما له أخذه ثم إن بلغ الباقي نصابا زكاه والا فلا
(فصل) ويخرص النخل والكرم لما ذكرنا من الأثر فيهما ولا يخرص الزرع في سنبله وبهذا قال
عطاء والزهري ومالك لأن الشرع لم يرد بالخرص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن ثمرة النخل
والكرم تؤكل رطبا فيخرص على أهله للتوسعة عليهم ليخلي بينهم وبين الاكلة والتصرف فيه ولان
ثمرة الكرم والنخل ظاهرة مجتمعة فخرصها أسهل من خرص غيرها وما عداهما لا يخرص وإنما على أهله
فيه الأمانة إذا صار مصفى يابسا ولا بأس أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله ولا يحتسب عليهم وقد
سئل أحمد عما يأكله أرباب الزروع من الفريك قال لا بأس به أن يأكل منه صاحبه ما يحتاج إليه وذلك
لأن العادة جارية به فأشبه ما يأكله أرباب الثمار من ثمارهم وإذا صفى الحب أخرج زكاة الموجود كله
ولم يترك منه شئ لأنه إنما ترك لهم في الثمر شئ لكون النفوس تتوق إلى أكلها رطبة والعادة جارية
به وفي الزرع إنما يؤكل منه شئ يسير لا وقع له ولا يخرص الزيتون ولا غير النخل والكرم لأن حبه
متفرق في شجره مستور بورقه، ولا حاجة باهله إلى اكله بخلاف النخل والكرم، وبهذا قال مالك
وقال الزهري والأوزاعي والليث يخرص قياسا على الرطب والعنب.
572

ولنا ما ذكرنا من المعنى ولأنه لا نص فيه ولا هو في معنى النصوص
* (مسألة) * (ويخرج العشر من كل نوع على حدته فإن شق ذلك أخذ من الوسط)
وجملة ذلك أنه إذا كان المال الزكوي نوعا واحدا أخذ منه جيدا كان أو رديا لأن حق الفقراء
يجب على طريق المواساة فهم بمنزلة الشركاء ولا نعلم في هذا خلافا وإن كان أنواعا أخذ من كل نوع
ما يخصه وهذا قول أكثر العلماء، وقال مالك والشافعي يؤخذ من الوسط وكذلك ذكره شيخنا ههنا
وأبو الخطاب إذا شق عليه إخراج زكاة كل نوع منه دفعا للحرج والمشقة وقياسا على السائمة والأول
أولى لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فينبغي أن يتساووا في كل نوع ولا مشقة في ذلك بخلاف الماشية فإن
إخراج زكاة كل نوع منها يفضي إلى التشقيص وفيه مشقة بخلاف الثمار، ولا يجوز اخراج الردئ لقوله
تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) قال أبو أمامة سهل بن حنيف في هذه الآية هو الجعرور ولون
الحبيق فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة. رواه النسائي وأبو عبيد قال وهما ضربان من
573

التمر أحدهما إنما يصير قشرا على نوى والآخر إذا أثمر صار حشفا. ولا يجوز أخذ الجيد عن الردئ
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياك وكرائم أموالهم ". فاما إن تطوع رب المال باخراج الجيد عن الردئ
جاز وله أجر ذلك على ما ذكرنا في الماشية
(فصل) وأما الزيتون فإن كان مما لا زيت فيه فإنه يحرج منه عشره حبا إذا بلغ نصابا لأنه حال
كماله وادخاره، وإن كان له زيت أخرج منه زيتا إذا بلغ الحب نصابا، وهذا قول الزهري والأوزاعي
ومالك والليث قالوا يخرص الزيتون ويؤخذ منه زيتا صافيا وقال مالك إذا بلغ خمسة أوسق أخذ العشر
من زيته بعد أن يعصر، وقال الثوري وأبو حنيفة يخرج من حبه كسائر الثمار ولأنه الحالة التي يعتبر
فيها الأوساق فكان اخراجه فيها كسائر الثمار وهذا جائز، واخراج الزيت أولى وأفضل لأنه يكفي
الفقراء مؤنته ولأنه حال كما له وادخاره أشبه الرطب إذا يبس والله أعلم
* (مسألة) * (ويجب العشر على المستأجر دون المالك)
وبهذا قال مالك والثوري وشريك وابن المبارك والشافعي وابن المنذر، وقال أبو حنيفة هو على
ملك الأرض لأنه من مؤنتها أشبه الخراج
ولنا أنه واجب في الزرع فكان على مالكه كزكاة القيمة فيما إذا أعده للتجارة وكعشر زرعه في
ملكه ولا يصح قولهم إنه من مؤنة الأرض لأنه لو كان من مؤنتها لوجب فيها وان لم تزرع ولوجب على
الذمي كالخراج ولتقدر بقر الأرض لا بقدر الزرع ولوجب صرفه إلى مصارف الفئ فإن استعار أرضا
فزرعها فالزكاة على صاحب الزرع لأنه مالكه وان غصبها فزرعها وأخذ الزرع فالعشر عليه لأنه نبت
على مالكه وان أخذه مالكها قبل اشتداد حبه فالعشر عليه، وان أخذه بعده احتمل أن يجب عليه
أيضا لأن أخذه إياه استند إلى أول زرعه فكأنه أخذه من تلك الحال، ويحتمل أن تكون زكاته على
الغاصب لأنه كان ملكا له حين وجوب عشره وهو حين اشتداد الحب، وان زارع رجلا مزارعة فاسدة
574

فالعشر على من يجب الزرع له وان كانت صحيحة فعلى كل واحد منهما عشر حصته ان بلغت نصابا
أو كان له من الزرع ما يبلغ بضمه إليه نصابا والا فلا، وان بلغت حصة أحدهما نصابا دون الآخر
فعلى من بلغت حصته العشر دون صاحبه الا إذا قلنا الخلطة تؤثر في غير السائمة فيلزمهما العشر إذا
بلغ زرعهما نصابا ويخرج كل واحد منهما عشر نصيبه الا أن يكون أحدهما ممن لا عشر عليه كالمكاتب
فلا يلزم شريكه شئ الا أن تبلغ حصته نصابا وكذلك الحكم في المساقاة
* (مسألة) * (ويجتمع العشر والخراج في كل أرض فتحت عنوة)
الأرض أرضان صلح وعنوة، فاما الصلح فهو كل أرض صولح أهلها عليها لتكون ملكا لهم
ويؤدون عليها خراجا فهذه الأرض ملك لأربابها وهذا الخراج كالجزية متى أسلموا سقط عنهم ولهم
بيعها وهبتها ورهنها وكذلك كل أرض أسلم عليها أهلها، كأرض المدينة وشبهها ليس عليها خراج
ولا شئ الا الزكاة فهي واجبة على كل مسلم، ولا خلاف في وجوب العشر في الخارج من هذه الأرض
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على كل أرض أسلم عليها أهلها قبل قهرهم
عليها الزكاة فيما زرعوا فيها
وأما العنوة فالمراد بها ما فتح عنوة ووقف على المسلمين وضرب عليه خراج معلوم فإنه يؤدى
الخراج عن رقبة الأرض وعليه العشر عن غلتها إذا كانت لمسلم وكذلك الحكم في كل أرض خراجية
وهذا قول عمر بن عبد العزيز والزهري ويحي الأنصاري وربيعة والأوزاعي ومالك والثوري والشافعي
وابن المبارك واسحق وأبو عبيد وقال أصحاب الرأي لا عشر في الأرض الخراجية لقوله عليه السلام " لا يجتمع
العشر والخراج في أرض مسلم " ولأنهما حقان سبباهما متنافيان فلم يجتمعا، كزكاة السوم والتجارة وكالعشر
وزكاة القيمة، وبيان تنافيهما أن الخراج وجب عقوبة لأنه جزية للأرض والزكاة وجبت طهورا وشكرا.
ولنا قوله تعالى (ومما أخرجنا لكم من الأرض)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء العشر "
وغيره من عمومات الأخبار، قال ابن المبارك يقول الله تعالى (ومما أخرجنا لكم من الأرض) ثم قال
نترك القرآن لقول أبي حنيفة ولأنهما حقان يجبان لمستحقين يجوز وجوب كل واحد منهما على المسلم
فجاز اجتماعهما كالكفارة والقيمة في الصيد الحرمي المملوك وحديثهم يرويه يحيى بن عنبسة وهو ضعيف
عن أبي حنيفة ثم نحمله على الخراج الذي هو جزية وقولهم إن سببيها متنافيان غير صحيح فإن الخراج
أجرة الأرض والعشر زكاة الزرع ولا يتنافيان كما لو استأجر أرضا فزرعها وقولهم الخراج عقوبة قلنا
لو كان عقوبة لما وجب على مسلم كالجزية، وان كانت الأرض لكافر فليس عليه فيها سوى الحرج
575

قال أحمد ليس في أرض أهل الذمة صدقة إنما قال الله تعالى (تطهرهم وتزكيهم بها) فأي طهرة للمشركين؟
(فصل) فإن كان في غلة الأرض ما لا عشر فيه كالثمار التي لا زكاة فيها والخضراوات وفيها
زرع فيه الزكاة جعل ما لا زكاة فيه في مقابلة الخراج وزكي ما فيه الزكاة إذا كان ما لا زكاة فيه وافيا
بالخراج وان لم يكن لها غلة الا ما تجب فيه الزكاة أدى الخراج من غلتها وزكى ما بقي في أصح
الروايات اختارها الخرقي، وهذا قول عمر بن عبد العزيز قال أبو عبيد عن إبراهيم بن أبي عبلة كتب
عمر بن عبد العزيز إلى عامله على فلسطين فيمن كانت في يده أرض بجزيتها من المسلمين أن يقبض
منها حزيتها ثم تؤخذ منها زكاة ما بقي بعد الجزية وذلك لأن الخراج من مؤنة الأرض فيمنع وجوب
الزكاة في قدره لقول ابن عباس يحسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله وفيه رواية ثانية ان
الدين كله يمنع وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة فعلى هذه الرواية يحسب كل دين عليه ثم يخرج
العشر مما بقي ان بلغ نصابا يروى نحو ذلك عن ابن عمر لأنه دين فمنع وجوب العشر كالخراج وما
أنفقه على زرعه وفيه رواية ثالثة ان الدين لا يمنع وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة مطلقا سواء
استدانه لنفقة زرعه أو لنفقة أهله فيحتمل على هذه ان يزكي الجميع وقد ذكرنا ذلك في باب الزكاة
* (مسألة) * (ويجوز لأهل الذمة شراء الأرض العشرية ولا عشر عليهم، وعنه عليهم
عشران يسقط أحدهما بالاسلام)
وجملة ذلك أنه لم يكره للمسلم بيع أرضه من الذمي واجارتها منه لافضائه إلى اسقاط عشر الخارج
منها. قال محمد بن موسى: سألت أبا عبد الله عن المسلم يؤاجر أرض الخراج من الذمي؟ قال: لا يؤاجر من
الذمي إنما عليه الجزية وهذا ضرر، وقال في موضع آخر لأنهم لا يؤدون الزكاة فإن أجرها من الذمي أو
باع أرضه التي لا خراج عليها لذمي صح البيع والإجارة وهو مذهب الثوري والشافعي وأبي عبيد وليس
عليهم فيها عشر ولا خراج. قال حرب سألت احمد عن الذمي يشتري أرض العشر قال لا أعلم شيئا
وأهل المدينة يقولون في هذا قولا حسنا، يقولون لا يترك الذمي يشتري أرض العشر، وأهل البصرة
يقولون قولا عجبا يقولون يضاعف عليهم
وقد روي عن أحمد أنهم يمنعون من شرائها اختارها الخلال وهو قول مالك وصاحبه، فإن
اشتروها ضوعف عليهم العشر فأخذ منهم الخمس كما لو اتجروا بأموالهم إلى غير بلدهم يؤخذ منهم نصف
العشر وهذا قول أهل البصرة وأبي يوسف ويروى ذلك عن الحسن وعبيد الله بن الحسن العنبري.
وقال محمد بن الحسن: العشر بحاله، وقال أبو حنيفة: تصير أرض خراج
ولنا ان هذه أرض لا خراج عليها فلا يلزم فيه الخراج ببيعها كما لو باعها مسلما ولأنها مال مسلم
576

يجب الحق فيه للفقراء فلم يمنع من بيعه للذمي كالسائمة وإذا ملكها الذمي فلا عشر عليه فيما يخرج منها
لأنه زكاة فلا تجب على الذمي كزكاة السائمة وما ذكروه ينتقض بزكاة السائمة وما ذكروه من تضعيف
العشر تحكم لا نص فيه ولا قياس (1)
(فصل) وفي العسل العشر سواء أخذه من موات أو من ملكه ونصابه عشرة أفراق كل فرق
ستون رطلا. قال الأثرم: سئل أبو عبد الله أنت تذهب إلى أن في العسل زكاة؟ قال نعم أذهب إلى
أن في العسل زكاة العشر قد أخذ عمر منهم الزكاة، قلت ذلك على أنهم تطوعوا به، قال لا بل أخذ
منهم. ويروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري والأوزاعي واسحق. وقال مالك والشافعي
وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر لا زكاة فيه لأنه مائع خارج من حيوان أشبه اللبن. قال
ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في العسل حديث يثبت ولا اجماع فلا زكاة فيه. وقال أبو حنيفة
إن كان في أرض العشر ففيه الزكاة والا فلا زكاة فيه، ووجه الأول ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ في زمانه من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها
رواه أبو عبيد والأثرم وابن ماجة، وعن سليمان بن موسى أن أبا سيارة المتعي قال: قلت يا رسول الله
ان لي نحلا، قال " أد العشر " قال فاحم إذا جبلها فحماه له رواه أبو عبيد وابن ماجة
وروى الأثرم عن ابن أبي ذبابة عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه أمره في العسل بالعشر
577

أما اللبن فإن الزكاة وجبت في أصله وهو السائمة بخلاف العسل وقول أبي حنيفة ينبني على أن العشر
والخراج لا يجتمعان وقد ذكرناه ونصابه عشرة أفراق وهذا قول الزهري، وقال أبو يوسف ومحمد
خمسة أوساق لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " وقال أبو حنيفة تجب في قليله
وكثيره بناء على أصله في الحبوب والثمار
(ووجه الأول) ما روي عن عمر رضي الله عنه أن ناسا سألوه فقالوا: ان رسول صلى الله عليه وسلم قطع
لنا واديا باليمن فيه خلايا من نحل وانا نجد ناسا يسرقونها، فقال عمر: ان أديتم صدقتها من كل عشرة
أفراق فرقا حميناها لكم. رواه الجوزجاني. وهذا تقدير من عمر رضي الله عنه فيجب المصير إليه،
إذا ثبت هذا فقد اختلف المذهب في قدر الفرق، فروي عن أحمد ما يدل على أنه ستة عشر رطلا،
فإنه قال في رواية أبي داود قال الزهري في عشرة أفراق فرق والفرق ستة عشر رطلا فيكون نصابه
مائة وستون رطلا بالعراقي. وقال ابن حامد: الفرق ستون رطلا فيكون النصاب ستمائة رطل وكذلك
ذكره القاضي في المجرد فإنه يروى عن الخليل بن أحمد قال: الفرق باسكان الراء مكيال ضخم من مكاييل
أهل العراق، وحكي عن القاضي أن الفرق ستة ثلاثون رطلا، وقيل هو مائة وعشرون رطلا. قال
578

شيخنا: ويحتمل أن يكون نصابه ألف رطل لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه كان يأخذ
من كل عشر قرب قربة من أوسطها، والقربة مائة رطل بالعراقي بدليل قرب القلتين. ووجه الأول
قول عمر: من كل عشرة أفراق فرقا - والفرق بتحريك الراء ستة عشر رطلا. قال أبو عبيد: لا خلاف
بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة " أطعم ستة مساكين
فرقا من طعام " فقد بين أنه ثلاثة آصع. وقالت عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من
اناء هو الفرق هذا المشهور فينصرف الاطلاق إليه والفرق الذي هو مكيال ضخم لا يصح حمله عليه
لوجوه (أحدها) أنه غير مشهور في كلامهم فلا يحمل عليه المطلق من كلامهم. قال ثعلب. قل فرق
ولا تقل فرق (الثاني) أن عمر قال: من كل عشرة أفراق فرقا - والافراق جمع فرق بفتح الراء
وجمع الفرق باسكان الراء فروق لأن ما كان على وزن فعل ساكن العين غير معتل فجمعه في القلة أفعل
وفي الكثرة فعال أو فعول (والثالث) أن الفرق الذي هو ضخم من مكاييل أهل العراق لا يحمل
عليه كلام عمر، وإنما يحمل كلام عمر رضي الله عنه على مكاييل أهل الحجاز لأنه بها ومن أهلها ويؤكد
ذلك تفسير الزهري له في نصاب العسل بما قلنا والإمام أحمد ذكره في معرض الاحتجاج به
فيدل على أنه ذهب إليه والله أعلم
579

* (فصل في المعدن) *
* (مسألة) * (ومن استخرج من معدن نصابا من الأثمان أو ما قيمته نصاب من الجواهر والقار
والصفر والزئبق والكحل والزرنيخ وسائر ما يسمى معدنا ففيه الزكاة في الحال ربع العشر من قيمته أو
من عينها ان كانت أثمانا سواء استخرجه في دفعة أو دفعات لم يترك العمل بينها ترك اهمال)
الكلام في هذه المسألة في فصول أربعة (أحدها) في صفة المعدن الذي تتعلق به الزكاة وهو كل ما
خرج من الأرض مما خلق فيها من غيرها مما له قيمة كالذي ذكر ههنا ونحوه من البلور والعقيق والحديد
والسبج والزاج والمغرة والكبريت ونحو ذلك، وقال الشافعي ومالك: لا تتعلق الزكاة الا بالذهب
والفضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا زكاة في حجر " ولأنه مال مقوم مستفاد من الأرض أشبه الطين الأحمر
وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: تتعلق الزكاة بكل ما ينطبع كالرصاص والحديد والنحاس دون غيره
ولنا عموم قوله تعالى (ومما أخرجنا لكم من الأرض) ولأنه معدن فتعلقت الزكاة به كالأثمان
ولأنه مال لو غنمه خمسه فإذا أخرجه من معدن وجبت زكاته كالذهب فأما الطين فليس بمعدن لأنه
تراب والمعدن ما كان في الأرض من غير جنسها
(الفصل الثاني) في قدر الواجب فيه وصفته، وقدر الواجب فيه ربع العشر وهو زكاة وهذا
580

قول عمر بن عبد العزيز ومالك. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه الخمس وهو فئ واختاره أبو عبيد.
وقال الشافعي هو زكاة واختلف عنه في قدره كالمذهبين واحتج من أوجب الخمس بقوله عليه الصلاة
والسلام " ما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس " رواه النسائي
والجوزجاني، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي الركاز الخمس " قيل يا رسول الله ما الركاز؟
قال " الذهب والفضة المخلوقان في الأرض يوم خلق الله السماوات والأرض " وعن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الركاز هو الذهب الذي ينبت مع الأرض " وفي حديث علي عليه السلام أنه
قال " وفي السيوب الخمس " قال والسيوب عروق الذهب والفضة التي تحت الأرض
ولنا ما روى أبو عبيد باسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية
من ناحية الفرع قال فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الركاز إلى اليوم، وقد أسنده كثير بن عبد الله
ابن عمر وبن عون المزني عن أبيه عن جده، ورواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال عن
بلال بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منه زكاة المعادن القبلية، قال أبو عبيد القبلية بلاد معروفة بالحجاز
ولأنها زكاة أثمان فكانت ربع العشر كسائر الأثمان، أو تتعلق بالقيمة أشبهت زكاة التجارة، وحديثهم
الأول لا يتناول محل النزاع لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر ذلك في جواب سؤاله عن اللقطة وهذا ليس
بلقطة فلا يتناوله النص، وحديث أبي هريرة يرويه عبد الله بن سعيد وهو ضعيف وسائر أحاديثهم
لا نعرف صحتها ولا هي مذكورة في المسانيد
581

(الفصل الثالث) في نصاب المعدن وهو عشرون مثقالا من الذهب أو مائتا درهم من الفضة
أو قيمة ذلك من غيرهما وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجب الخمس في قليله وكثيره بناء
على أنه ركاز لعموم الأحاديث التي احتجوا بها، ولأنه لا يشترط له حول فلم يشترط له نصاب كالركاز
ولنا قوله عليه السلام " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " وقوله عليه السلام " ليس في الذهب
شئ حتى يبلغ عشرين مثقالا " ولأنها زكاة تتعلق بالأثمان أو بالقيمة فاعتبر لها النصاب كالأثمان والعروض
وقد بينا أن هذا ليس بركاز وأنه مفارق للركاز من حيث إن الركاز مال كافر مظهور عليه في الاسلام
فهو كالغنيمة وهذا وجب مواساة وشكرا لنعمة الغنى فاعتبر له النصاب كسائر الزكوات، وإنما لم يعتبر
له الحول لحصوله دفعة واحدة فأشبه الزروع والثمار، ولان النماء يتكامل فيه بالوجود والاخذ فهو
كالزرع، إذا ثبت هذا فإنه يشترط إخراج النصاب دفعة واحدة أو دفعات لا يترك العمل بينهن ترك
اهمال، فإن أخرج دون النصاب ثم ترك العمل مهملا له ثم أخرج دون النصاب فلا زكاة فيهما،
وإن بلغا بمجموعهما نصابا لفوات الشرط، وإن بلغ أحدهما نصابا دون الآخر زكى النصاب وحده،
ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه كالأثمان والخارج من الأرض، فأما ترك العمل ليلا وللاستراحة
أو لعذر من مرض أو لاصلاح الأداة أو إباق عبد ونحوه فلا يقطع حكم العمل، وحكمه حكم المتصل
لأن العادة كذلك، وكذلك إن كان مشتغلا بالعمل فخرج بين المعدنين تراب لا شئ فيه
582

(فصل) وإن اشتمل المعدن على أجناس كمعدن فيه الذهب والفضة فذكر القاضي انه لا يضم
أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب لأنها أجناس فلا يضم أحدهما إلى غيره كغير المعدن قال
شيخنا والصواب إن شاء الله انه إن كان المعدن يشتمل على ذهب وفضة ففي ضم أحدهما إلى الآخر
وجهان مبنيان على الروايتين في ضم أحدهما إلى الآخر في غير المعدن وإن كان فيه أجناس من
الذهب والفضة ضم بعضها إلى بعض لأن الواجب في قيمتها فأشبهت عروض التجارة وإن كان
فيها إحدى النقدين وجنس آخر ضم أحدهما إلى الآخر كما تضم العروض إلى الأثمان وان استخرج
نصابا من معدنين وجبت الزكاة فيه كالزرع في مكانين
(الفصل الرابع) في وقت الوجوب وتجب الزكاة فيه حين يتناوله ويكمل نصابه ولا يعتبر
له حول وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال إسحق وابن المنذر يعتبر له الحول لعموم
قوله عليه السلام " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول "
ولنا أنه مستفاد من الأرض فلا يعتبر في وجوب حقه حوله كالزرع والثمار والركاز، ولان
الحول إنما يعتبر في غير هذا ليكمل النماء وهذا يتكامل نماؤه دفعة واحدة فلم يعتبر له حول كالزرع
والخبر مخصوص بالزرع والثمر فنقيس عليه محل النزاع
* (مسألة) * (ولا يجوز اخراجها إذا كانت أثمانا إلا بعد السبك والتصفية كالحب والثمرة فإن
583

أخرج ربع عشر ترابه قبل تصفيته وجب رده إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا) والقول في قدر
المقبوض قول الآخذ لأنه غارم فإن صفاه الآخذ فكان قدر الزكاة أجزأ وإن زاد رد الزيادة الا
أن يسمح له المخرج وان نقص فعلى المخرج، وما أنفقه الآخذ على تصفيته فهو من ماله لا يرجع به على
المالك، ولا يحتسب المالك ما أنفقه على المعدن في استخراجه ولا تصفيته من المعدن لأن الواجب
فيه زكاة فلا يحتسب بمؤنة استخراجه وتصفيته كالحبوب فإن كان ذلك دينا عليه احتسب به على
الصحيح من المذهب كما يحتسب بما أنفق على الزرع وقال أبو حنيفة لا تلزمه المؤنة من حقه وشبهه بالغنيمة
وبناه على أصله في أنه ركاز وقد مضى الكلام في ذلك
* (مسألة) * (ولا زكاة فيما يخرج من البحر واللؤلؤ والمرجان ونحوه في أحد الوجهين) وهو
اختيار أبي بكر وظاهر قول الخرقي روي نحو ذلك عن ابن عباس وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء
ومالك والثوري وابن أبي ليلى - والحسن بن صالح والشافعي وأبو حنيفة ومحمد وأبو ثور والرواية
الأخرى فيه الزكاة لأنه خارج من معدن أشبه الخارج من معدن البر ويروى عن عمر بن عبد العزيز
انه أخذ من العنبر الخمس وهو قول الحسن والزهري وزاد الزهري في اللؤلؤ يخرج من البحر
ولنا أن ابن عباس قال ليس في العنبر شئ إنما هو شئ ألقاه البحر وعن جابر نحوه رواهما أبو
عبيد ولأنه قد كان يخرج على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه فلم يأت فيه سنة عنه ولا عنهم من وجه يصح
584

ولان الأصل عدم الوجوب فيه ولا يصح قياسه على معدن البر لأن العنبر إنما يلقيه البحر فيوجد على
الأرض فيؤخذ من غير تعب فهو كالمباحات المأخوذة من البر كالمن وغيره فأما السمك فلا شئ عليه
بحال في قول أهل العلم كافة الا شئ روي عن عمر بن عبد العزيز رواه عنه أبو عبيد وقال ليس الناس
على هذا ولا نعلم أحدا قال به وعن أحمد أن فيه الزكاة كالعنبر والصحيح أن هذا لا شئ فيه لأنه صيد
فلم تجب فيه زكاة كصيد البر ولأنه لا نص فيه ولا اجماع ولا يصح قياسه على ما فيه الزكاة فلا وجه لايجابها
(فصل) (وفي الركاز الخمس أي نوع كان من المال قل أو أكثر لأهل الفئ وعنه أنه زكاة
وباقيه لواجده). الواجب في الركاز الخمس لما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي الركاز
الخمس " متفق عليه وقال ابن المنذر لا نعلم أحدا خالف هذا الحديث الا الحسن فإنه فرق بين ما يوجد في
أرض الحرب وأرض العرب فقال فيما يوجد في أرض الحرب الخمس وفيما يوجد في أرض العرب الزكاة
(فصل) والركاز الذي فيه الخمس كل ما كان مالا على اختلاف أنواعه من الذهب والفضة
والحديد والرصاص والصفر والآنية وغير ذلك وهو قول اسحق وأبى عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي
والشافعي في قول واحد الروايتين عن مالك وقال الشافعي في الآخر لا يجب الا في الأثمان
585

ولنا عموم قوله عليه السلام " وفي الركاز الخمس " ولأنه مال مظهور عليه من مال الكفار فوجب
فيه الخمس على اختلاف أنواعه كالغنيمة. إذا ثبت هذا فإن الخمس يجب في كثيره وقليله وهذا قول
مالك وإسحق وأصحاب الرأي والشافعي في القديم وقال في الجديد يعتبر فيه النصاب لأنه مستخرج
من الأرض يجب فيه حق أشبه المعدن والزرع
ولنا الحديث المذكور ولأنه مال مخموس فلا يعتبر له النصاب كالغنيمة والمعدن والزرع يحتاج
إلى كلفة فاعتبر فيه النصاب تخفيفا بخلاف الركاز
(فصل) وقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في مصرف خمس الركاز فروي عنه أنه
لأهل الفئ نقلها عنه محمد بن الحكم وبه قال أبو حنيفة والمزني لما روي أبو عبيد باسناده عن الشعبي
أن رجلا وجد ألف دينار خارجا من المدينة فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ منها الخمس
مائتي دينار ودفع إلى الرجل بقيتها وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضره من المسلمين إلى أن
فضل منها فضلة فقال أين صاحب الدنانير فقام إليه فقال عمر خذها فهي لك ولو كان زكاة لخص به أهل الزكاة
ولم يرده على واجده ولأنه يجب على الذمي والزكاة لا تجب عليه ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكفار
أشبه خمس الغنيمة وهذه الرواية أقيس في المذهب وروي عنه أن مصرفه مصرف الصدقات نص عليه أحمد
في رواية حنبل فقال يعطي الخمس من الركاز على مكانه وإن تصدق به على المساكين أجزأه واختاره
الخرقي وهذا قول الشافعي لما روى الإمام أحمد باسناده عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن رجل من
586

قومه يقال له ابن حممة قال سقطت على جرة من دير قديم بالكوفة عند جبانة بشر فيها أربعة آلاف درهم
فذهبت بها إلى علي عليه السلام فقال اقسمها خمسة أخماس فقسمتها فأخذ منها علي خمسا وأعطاني
أربعة أخماس فلما أدبرت دعاني فقال في جيرانك فقراء ومساكين؟ قلت نعم قال فخذها فاقسمها بينهم
والمساكين مصرف الصدقات ولأنه حق يجب في الخارج من الأرض فأشبه صدقة المعدن
(فصل) ويجوز لواجد الركاز أن يتولى تفرقة الخمس بنفسه وبه قال أصحاب الرأي وابن
المنذر لما ذكرنا من حديث علي ولأنه أدى الحق إلى مستحقه فبرئ منه كما لو فرق الزكاة ويتخرج
أن لا يجوز لأنه فئ فلم يملك تفرقته بنفسه كخمس الغنيمة وبهذا قال أبو ثور وان فعل ضمنه الإمام. قال
القاضي ليس للإمام رد خمس الركاز على واجده لأنه حق مال فلم يجز رده على من وجب عليه
كالزكاة وخمس الغنيمة وقال ابن عقيل يجوز لأن عمر رضي الله عنه رد بعضه على واجده ولأنه فئ
فجاز رده أورد بعضه على واجده كخراج الأرض وهذا قول أبي حنيفة
(فصل) ويجب الخمس على من وجد الركاز من مسلم وذمي وحر وعبد ومكاتب
وكبير وصغير وعاقل ومجنون الا أن الواجد له إذا كان عبدا فهو لسيده لأنه كسب مال أشبه
الاحتشاش والمكاتب يملكه وعليه خمسه لأنه بمنزلة كسبه، والصبي والمجنون يملكانه ويخرج
عنهما وليهما وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم على أن على
587

الذمي في الركاز يجده الخمس قاله مالك وأهل المدينة والثوري والأوزاعي وأهل العراق من أصحاب
الرأي وغيرهم وقال الشافعي لا يجب الخمس الا على من تجب عليه الزكاة لأنه زكاة وحكي عنه في الصبي والمرأة
انهما لا يملكان الركاز وقال الثوري والأوزاعي وأبو عبيد إذا وجده عبد يرضخ له منه ولا يعطاه كله
ولنا عموم قوله عليه السلام " وفي الركاز الخمس " فإنه يدل بعمومه على وجوب الخمس في كل ركاز
وبمفهومه على أن باقيه لواجده كائنا من كان ولأنه مال كافر مظهور عليه فكان فيه الخمس على
من وجده وباقيه لواجده كالغنيمة ولأنه اكتساب مال فكان لواجده إن كان حرا ولسيده إن كان
عبدا كالاحتشاش والاصطياد
ويتخرج لنا أن لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة بناء على أنه زكاة والأول أصح
(فصل) وباقي الركاز لواجده لما ذكرنا ولان عمر وعليا رضي الله عنهما دفعا باقي الركاز بعد
الخمس إلى واجده ولأنه مال كافر مظهور عليه فكان لواجده بعد الخمس كالغنيمة وقد ذكرنا الخلاف فيه
* (مسألة) * قال (إن وجده في موات أو أرض لا يعلم مالكها وإن علم مالكها أو كانت
مستقلة إليه فهو له أيضا وعنه انه لمالكها أو لمن انتقلت عنه إن اعترف به وإلا فهو لأول مالك وإن
وجده في أرض حربي ملكه إلا أن لا يقدر عليه إلا بجماعة من المسلمين فيكون غنيمة)
وجملة ذلك أن موضع الركاز لا يخلو من أربعة أقسام أحدهما أن يجده في موات أو أرض لا يعلم لها
588

مالكا كالأرض التي يوجد فيها آثار الملك من الأبنية القديمة والتلول وجدران الجاهلية وقبورهم
فهذا فيه الخمس بغير خلاف فيه الا ما ذكرنا ولو وجده في هذه الأرض على وجهها أو في طريق غير مسلوك
أو قرية خراب فهو كذلك في الحكم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال " ما كان في طريق مأني أو في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس " رواه النسائي
(القسم الثاني) أن يجده في ملكه المنتقل إليه فهو له في إحدى الروايتين لأنه مال كافر مظهور
عليه في الاسلام فكان لمن ظهر عليه كالغنائم ولان الركاز لا يملك بملك الأرض لأنه مودع فيها وإنما
يملك بالظهور عليه وهذا قد ظهر عليه فوجب أن يملكه والرواية الثانية هو للمالك قبله ان اعترف
به وإن لم يعترف به فهو للذي قبله كذلك إلى أول مالك وهذا مذهب الشافعي لأنه كانت يده على
الدار فكانت على ما فيها وان انتقلت الدار بالميراث حكم بأنه ميراث فإن اتفق الورثة على أنه لم يكن
لمورثهم فهو لأول مالك فإن لم يعرف أول مالك فهو كالمال الضائع الذي لا يعرف له مالك والأول
أصح إن شاء الله لأن الركاز لا يملك بملك الدار لأنه ليس من اجزائها وإنما هو مودع فيها فهو
كالمباحات من الحطب والحشيش والصيد يجده في أرض غيره فيأخذه لكن ان ادعى المالك الذي
589

انتقل عنه المالك انه له فالقول قوله لأن يده كانت عليه بكونه على محله وان لم يدعه فهو لواجده وان
اختلف الورثة فادعى بعضهم أنه لمورثهم وأنكر البعض فحكم من أنكر في نصيبه حكم المالك الذي لم
يعترف به وحكم المدعين حكم المالك المعترف
(القسم الثالث) أن يجده في ملك آدمي معصوم مسلم أو ذمي فعن احمد ما يدل على أنه لصاحب
الدار فإنه قال فيمن استأجر حفارا ليحفر له في داره فأصاب كنزا عاديا فهو لصاحب الدار وهذا
قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، ونقل عن أحمد ما يدل على أنه لواجده لأنه قال في مسألة من
استأجر أجيرا ليحفر له في داره فأصاب في الدار كنزا فهو للأجير، نقل عنه ذلك محمد بن يحيى
الكحال. قال القاضي هو الصحيح، وهذا يدل أن الركاز لواجده وهو قول الحسن بن صالح وأبي
ثور واستحسنه أبو يوسف، وذلك لأن الكنز لا يملك بملك الدار على ما ذكرنا في القسم الذي قبله،
لكن إن ادعاه المالك فالقول قوله لأن يده عليه بكونها على محله وإن لم يدعه فهو لواجده. وقال
الشافعي: هو لمالك الدار إن اعترف به وإلا فهو لأول مالك، ويخرج لنا مثل ذلك على ذكرنا في
القسم الثاني، وإن استأجر حفارا ليحفر له طلبا لكنز يجده فوجده فهو للمستأجر لأنه استأجره لذلك
أشبه ما لو استأجره ليحتش له أو ليصطاد، فإن الحاصل من ذك للمستأجر دون الأجير، وإن استأجره
لأمر غير طلب الركاز فالواجد له هو الأجير وهكذا قال الأوزاعي
590

(فصل) وإن اكترى دارا فوجد فيها ركازا فهو لواجده في أحد الوجهين، وفي الآخر هو
للمالك بناء على الروايتين فيمن وجد ركازا في ملك انتقل إليه، وإن اختلفا فقال كل واحد منهما
هذا كان لي فعلى وجهين أيضا (أحدهما) القول قول المالك لأن الدفن تابع للأرض (والثاني) القول
قول المكتري لأن هذا مودع في الأرض وليس منها فكان القول قول من يده عليه كالقماش
(القسم الرابع) أن يجده في أرض الحرب، فإن لم يقدر عليه إلا بجماعة المسلمين فهو غنيمة لهم
وإن قدر عليه بنفسه فهو لواجده حكمه حكم ما لو وجده في موات من أرض المسلمين. وقال أبو حنيفة
والشافعي: إن عرف مالك الأرض وكان حربيا فهو غنيمة أيضا لأنه في حرز مالك معين أشبه
ما لو أخذه من بيت أو خزانة
591

ولنا أنه ليس لموضعه مالك محترم أشبه ما لو لم يعرف مالكه ويخرج لنا مثل قولهم بناء على قولنا
أن الركاز في دار الاسلام يكون لمالك الأرض
* (مسألة) * (والركاز ما وجد من دفن الجاهلية عليه علامتهم، فإن كان عليه علامة المسلمين أو
لم تكن عليه علامة فهو لقطة)
الدفن بكسر الدال المدفون والركاز هو المدفون في الأرض واشتقاقه من ركز يركز إذا أخفى
592

يقال ركز الرمح إذا غرز أسفله في الأرض ومنه الركز وهو الصوت الخفي، قال الله تعالى (أو تسمع
لهم ركزا) والركاز الذي يتعلق به وجوب الخمس ما كان من دفن الجاهلية، هذا قول الحسن والشعبي
ومالك والشافعي وأبي ثور، ويعتبر ذلك بأن يرى عليه علامتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم
وصور أصنامهم ونحو ذلك لأن الظاهر أنه لهم، فإن كان عليه علامة الاسلام أو اسم النبي صلى الله عليه وسلم أو
593

أحد من خلفاء المسلمين أو ولاتهم أو آية من القرآن ونحو ذلك فهو لقطة لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله
عنه، وإن كان على بعضه علامة الاسلام وعلى بعضه علامة الكفر فكذلك نص عليه احمد في رواية
ابن منصور لأن الظاهر أنه صار إلى مسلم ولم يعلم زواله عن ملكه فأشبه ما على جميعه علامة المسلمين
وكذلك إن لم يكن عليه علامة فهو لقطة تغليبا لحكم الاسلام إلا أن يجده في ملك انتقل إليه فيدعيه
594

المالك قبله بلا بينة ولا صفة فهل يدفع إليه؟ فيه روايتان ذكرهما ابن تيمية في كتاب المحرر (إحداهما)
لا يدفع إليه كاللقطة (والثانية) يدفع إليه لأنه تبع للملك، فإن كان على بعضه علامة الكفار وليس
على بعضه علامة فينبغي أن يكون ركازا لأن الظاهر أنه ملك الكفار
595

* (باب زكاة الأثمان) *
وهي الذهب والفضة، والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقوله تعالى
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) وأما السنة فما
روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من صاحب ذهب ولا فضه لا يؤدي منها حقها إلا
إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره
كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد " أخرجه مسلم إلى
غير ذلك من الأحاديث، وأجمع المسلمون على أن في مائتي درهم خمسة دراهم، وعلى أن الذهب إذا كان
عشرين مثقالا قيمتها مائتا درهم أن الزكاة تجب فيه إلا ما اختلف فيه عن الحسن
* (مسألة) * (ولا شئ في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا فيجب فيه نصف مثقال)
596

لا يجب في الذهب زكاة إلا أن يبلغ عشرين مثقالا، إلا أن يتم بعرض تجارة أو ورق على ما فيه
من الخلاف. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالا قيمتها مائتا درهم
ان الزكاة تجب فيها إلا ما حكي عن الحسن أنه قال. لا شئ فيها حتى تبلغ أربعين، وأجمعوا على أنه
إذا كان أقل من عشرين مثقالا ولا يبلغ قيمة مائتي درهم فلا زكاة فيه. وقال عامة الفقهاء: نصاب
الذهب عشرون مثقالا من غير اعتبار قيمتها، وحكي عن عطاء وطاوس والزهري وسليمان بن حرب
وأيوب السختياني أنهم قالوا. هو معتبر بالفضة فما كان قيمته مائتي درهم ففيه الزكاة وإلا فلا لأنه لم
يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير في نصابه فثبت أنه حمله على الفضة
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " قال ليس في أقل من
عشرين مثقالا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة " رواه أبو عبيد
597

وروى ابن ماجة عن عمر وعائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا فصاعدا نصف دينار،
ومن الأربعين دينارا وروى سعيد والأثرم عن علي: على كل أربعين دينارا دينار وفي كل عشرين دينارا نصف
دينار ورواه غيرهما مرفوعا، ولأنه مال تجب الزكاة في عينه فلم يعتبر بغيره كسائر الأموال الزكوية
* (مسألة) * قال (ولا في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم فيجب فيها خمسة دراهم)
لا يجب فيما دون المائتي درهم من الفضة صدقة، لا نعلم فيه خلافا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما
دون خمس أواق صدقة " متفق عليه. والأوقية أربعون درهما، فإذا بلغت مائتي درهم ففيها خمسة
دراهم لا خلاف بين العلماء في ذلك، والواجب فيه ربع العشر بغير خلاف، وقد روى البخاري
باسناده في كتاب أنس " وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شئ إلا أن
598

يشاء ربها " الرقة الدراهم المضروبة والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشرة منها
سبعة مثاقيل بمثقال الذهب، وكل درهم نصف مثقال وخمسه وهي الدراهم الاسلامية التي يقدر بها
نصب الزكاة ومقدار الجزية والديات ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك، وكانت الدراهم في صدر
الاسلام صنفين سودا وطبرية، وكانت السود ثمانية دوانيق، والطبرية أربعة دوانيق فجمعا في الاسلام
وجعلا درهمين متساويين كل درهم ستة دوانيق فعل دلك بنو أمية ولا فرق في ذلك بين التبر
والمضروب، ومتى نقص النصاب فلا زكاة فيه. هذا ظاهر كلام الخرقي لظاهر الحديث. قال أصحابنا
إلا أن يكون نقصا يسيرا وقد ذكرنا الخلاف فيما مضى
* (مسألة) * (ولا زكاة في مغشوشهما حتى يبلغ قدر ما فيه نصابا)
من ملك ذهبا أو فضه معشوشا أو مختلطا بغيره فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب والفضة
نصابا لما ذكرنا من الأحاديث
599

* (مسألة) * (فإن شك فيه خير بين سبكه وبين الاخراج)
إذا شك في بلوغ قدر ما في المغشوش من الذهب والفضة نصابا خير بين سبكهما ليعلم قدر ما فيهما
وبين أن يستظهر ويخرج ليسقط الفرض بيقين، فإن أحب أن يخرج استظهارا فأراد اخراج الزكاة
من المغشوشة وكان الغش لا يختلف مثل أن يكون الغش في كل دينار سدسه، وعلم ذك جاز أن يخرج
منها لأنه يكون مخرجا لربع العشر، وإن اختلف قدر ما فيها أو لم يعلم لم يجزه الاخراج منها إلا أن
يستظهر باخراج ما يتيقن أن فيما أخرجه من العين قدر لزكاة، فإن أخرج عنها ذهبا أو فضة لا غش
فيه فهو أفضل، وإن أراد اسقاط الغش واخراج الزكاة عن قدر ما فيه من الذهب والفضة كمن معه
أربعة وعشرون دينارا سدسها غش فأسقط السدس أربعة وأخرج نصف دينار عن عشرين جاز لأنه
لو سبكها لم يلزمه إلا ذلك، ولان غشها لا زكاة فيه إلا أن يكون غش الذهب فضة وعنده من الفضة
ما يتم به النصاب وله نصاب سواه فيكون عليه زكاة الغش حينئذ، وكذلك إن قلنا بضم الذهب إلى
الفضة، وإن ادعى رب المال أنه علم الغش أو أنه استظهر وأخرج الفرض فيلزمه بغير يمين، وإن
زادت قيمة المغشوش بالغش فصارت قيمة العشرين تساوي اثنين وعشرين فعليه اخراج ربع عشرها
مما قيمته كقيمتها لأن عليه اخراج زكاة المال الجيد من جنسه بحيث لا ينقص عن قيمته والله أعلم
* (مسألة) * (ويخرج عن الجيد الصحيح من جنسه)
ويخرج عن كل نوع من جنسه لأن الفقراء شركاؤه وهذه وظيفة الشركة فإن كان أنواعا متساوية
القيم جاز إخراج الزكاة من أحدهما كما يخرج من أحد نوعي الغنم، وإن كانت مختلفة القيم أخذ من
600

من كل نوع ما يخصه وإن أخرج من أوسطها ما يفي بقدر الواجب جاز وله ثواب الزيادة لأنه زاد خيرا
وإن أخرجه بالقيمة مثل أن يخرج عن نصف دينار ردئ ثلث دينار جيد لم يجز لأن النبي صلى الله عليه وسلم
نص على نصف دينار فلم يجز النقص منه، وان أخرج من الأدنى من غير زيادة لم يجزئ لقوله تعالى
(ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) وإن زاد في المخرج ما يفي بقيمة الواجب كمن أخرج عن دينار
دينارا ونصفا يفي بقيمته جاز، لأن الربا لا يجري بين العبد وسيده، وقال أبو حنيفة يجوز إخراج
الرديئة عن الجيدة من غير جبران لأن الجودة إذا لاقت جنسها فيما فيه الربا لا قيمة لها
ولنا أن الجودة متقومة في الاتلاف ولأنه إذا لم يجبره بما يتم به قيمة الواجب دخل في قوله تعالى
(ولا تيمموا الخبيث) الآية ولأنه أخرج رديئا عن جيد بقدره فلم يجزئ كالماشية.
وأما الربا فلا يجرى ها هنا لأنه لا ربا بين العبد وسيده فإن قيل فلو أخرج في الماشية عن الجيدة
رديئين لم يجزئ أو اخرج عن القفيز الجيد قفيزين رديئين لم يجزئ فلم أجزتم ها هنا؟ قلنا الفرق بينهما أن
القصد في الأثمان القيمة لا غير فإذا تساوى الواجب والمخرج في القيمة والوزن جاز وسائر الأموال
يقصد الانتفاع بعينها فلا يلزم من التساوي في الامرين الجواز لفوات بعض المقصود
* (مسألة) * (فإن أخرج مكسرا أو بهرجا وزاد قدر ما بينهما من الفضل جاز نص عليه)
إذا أخرج عن الصحاح مكسرة وزاد بقدر ما بينهما من الفضل جاز لأنه أدى الواجب عليه قيمة
601

وقدرا وإن أخرج بهرجا عن الجيد وزاد بقدر ما يساوي قيمة الجيد جاز لذلك وهكذا ذكر أبو الخطاب
وقال القاضي يلزمه اخراج جيد ولا يرجع فيما أخرجه من المعيب لأنه أخرج معيبا في حق الله فأشبه
ما لو أخرج مريضة عن صحاح وبهذا قال الشافعي الا أن أصحابه قالوا له الرجوع فيما أخرج من المعيب
في أحد الوجهين.
* (مسألة) * (وهل يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب أو يخرج أحدهما عن الآخر؟ على روايتين)
إذا كان له من كل واحد من الذهب والفضة مالا يبلغ نصابا بمفرده فقد نقل عن أحمد أنه توقف في
ضم أحدهما إلى الآخر في رواية الأثرم وجماعة وقطع في رواية حنبل أنه لا زكاة عليه حتى يبلغ كل
واحد منهما نصابا وقد نقل الخرقي فيها روايتين ونقلهما غيره من الأصحاب إحداهما لا يضم وهو قول
ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وشريك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور واختيار أبي بكر عبد العزيز لقوله
عليه السلام " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " متفق عليه ولأنهما مالان يختلف نصابهما فلم يضم
أحدهما إلى الآخر كاجناس الماشية، والثانية يضم وهو قول الحسن وقتادة ومالك والثوري والأوزاعي
وأصحاب الرأي لأن أحدهما يضم إلى ما يضم إليه الآخر فيضم إلى الآخر كأنواع الجنس ولأنهما
نفعهما واحد والمقصود منهما متحد فإنهما قيم المتلفات وأروش الجنايات وثمن البياعات وحلي لمن
يريدهما فاشبها النوعين والحديث مخصوص بعرض التجارة فنقيس عليه
(فصل) وهل يخرج أحدهما عن الآخر في الزكاة فيه روايتان نص عليهما أحمد أحدهما لا يجوز
اختاره أبو بكر لأنهما جنسان فلم يجز إخراج أحدهما عن الآخر كسائر الأجناس، ولان أنواع الجنس
602

إذا لم يخرج أحدهما عن الآخر إذا كان أقل في المقدار فمع اختلاف الجنس أولى، والثانية يجوز لأن
المقصود من أحدهما يحصل باخراج الآخر فيجزي كأنواع الجنس وذلك لأن المقصود منهما جمعيا
التنمية والتوسل بهما إلى المقاصد وهما يشتركان فيه على السواء فأشبه اخراج المكسرة عن الصحاح بخلاف
سائر الأجناس والأنواع مما تجب فيه الزكاة فإن لكل جنس مقصودا مختصا به لا يحصل من الجنس
الآخر، وكذلك أنواعها فلا يحصل من اخراج غير الواجب من الحكمة ما يحصل من إخراج الواجب
وها هنا المقصود حاصل فوجب إجزاؤه إذ لا فائدة في اختصاص الاجزاء بعين مساواة غيرها لها في
الحكمة ولان ذلك أوفق بالمعطي والآخذ وأرفق بهما فإنه لو تعين اخراج زكاة الدنانير منها شق على
من يملك أربعين دينارا إخراج جزء من دينار ويحتاج إلى التشقيص ومشاركة الفقير له في دينار من
ماله أو بيع أحدهما نصيبه، ولأنه إذا دفع إلى الفقير قطعة من الذهب في موضع لا يتعامل بها فيه أو
قطعة في مكان لا يتعاملون به فيه لا يقدر على قضاء حاجته بها، وان أراد بيعها احتاج إلى كلفة البيع
والظاهر أنها تنقص عوضها عن قيمتها فقد دار بين ضررين، وفي جواز إخراج أحدهما عن الآخر
دفع لهذا الضرر وتحصيل لحكمة الزكاة على الكمال فلا وجه لمنعه وان توهمت ههنا منفعة تفوت بذلك
فهي يسيرة مغمورة فيما يحصل من النفع الظاهر ويندفع من الضرر والمشقة من الجانبين فلا يعتبر وهذا
اختيار شيخنا وعلى هذا لا يجوز الا بدال في موضع يلحق الفقير ضرر مثل أن يدفع إليه مالا ينفق عوضا
603

عما ينفق لأنه إذا لم يجز إخراج أحد النوعين عن الآخر مع الضرر فمع غيره أولى، وإن اختار المالك
الدفع من الجنس واختار الفقير الاخذ من غيره لضرر يلحقه في أخذ الجنس لم يلزم المالك اجابته لأنه
أدى ما فرض الله عليه فلم يكلف سواه والله أعلم.
* (مسألة) * (ويكون الضم بالاجزاء وقيل بالقيمة فيما فيه الحظ للمساكين)
إذا قلنا يضم أحد النقدين إلى الآخر في تكميل النصاب فإنما يضم بالاجزاء فيحسب كل واحد
منهما من نصابه فإذا كملت أجزاؤهما نصابا وجبت الزكاة مثل أن يكون عنده نصف نصاب من
أحدهما ونصف نصاب أو أكثر من الآخر أو ثلث من أحدهما وثلثان من الاخر وهو أن يملك مائة
درهم وعشرة دنانير أو خمسة عشر دينارا وخمسين درهما أو بالعكس فيجب عليه فيه الزكاة فإن نقصت
أجزاؤهما عن نصاب فلا زكاة فيها، سئل أحمد عن رجل يملك مائة درهم وثمانية دنانير فقال: إنما قال
من قال فيها الزكاة إذا كان عنده عشرة دنانير ومائة درهم وهذا قول مالك وأبي يوسف ومحمد
والأوزاعي لأن كل واحد منهما لا تعتبر قيمته في إيجاب الزكاة إذا كان منفردا فلا يعتبر إذا كان مضموما
كالحبوب وأنواع الأجناس كلها وقد قيل يضم بالقيمة إذا كان أحظ للمساكين، قال أبو الخطاب ظاهر
كلام أحمد في رواية المروذي أنها تضم بالأحوط من الاجزاء والقيمة، ومعناه أنه يقوم الغالي منها
بقيمة الرخيص فإذا بلغت قيمتها بالرخيص نصابا وجبت الزكاة فيهما، كمن ملك مائة درهم وتسعة
604

دنانير قيمتها مائة درهم أو عشرة دنانير وتسعين درهما قيمتها عشرة دنانير فتجب عليه الزكاة وهذا
قول أبي حنيفة في تقويم الدنانير بالفضة لأن كل نصاب وجب فيه ضم الذهب إلى الفضة ضم بالقيمة
كنصاب القطع في السرقة، ولان أصل الضم يحظ الفقراء فكذلك صفته والأول أصح لأن الزكاة
تجب في عين الأثمان فلم تعتبر قيمتها كما لو انفردت وتخالف نصاب القطع فإن النصاب فيه الورق خاصة
في إحدى الروايتين وفي الأخرى أنه لا يجب في الذهب حتى يبلغ ربع دينار
* (مسألة) * (وتضم قيمة العروض إلى كل واحد منهما)
يعني إذا كان في ملكه ذهب أو فضة وعروض للتجارة فإن قيمة العروض تضم إلى كل واحد منهما
ويكمل به نصابه، قال شيخنا: لا أعلم فيه خلافا، وقال الخطابي لا أعلم عامتهم اختلفوا فيه وذلك لأن
الزكاة إنما تجب في قيمة العروض وهو يقوم بكل واحد منهما فيضم إلى كل واحد منهما فلو كان ذهب
وفضة وعروض وجب ضم الجميع بعضه إلى بعض في تحميل النصاب لأن العرض مضموم إلى كل واحد
منهما فيجب ضمهما إليه.
(فصل) قال (ولا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال في ظاهر المذهب) روي ذلك عن ابن
عمر وجابر وأنس وعائشة وأسماء أختها رضي الله عنهم، وبه قال القاسم والشعبي وقتادة ومحمد بن علي
ومالك والشافعي في أحد قوليه وأبو عبيد واسحق وأبو ثور وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى
605

أن فيه الزكاة، روي ذلك عن عمر وابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وابن
جبير وعطاء ومجاهد والزهري والثوري وأصحاب الرأي وغيرهم لعموم قوله عليه السلام " في الرقة
ربع العشر وليس فيما دون خمس أواق صدقه " مفهومه أن فيها صدقة إذا بلغت خمس أواق وعن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أتت امرأة من أهل اليمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها
في يدها مسكتان من ذهب فقال " هل تعطين زكاة هذا؟ " قالت: لا. قال " أيسرك أن يسورك الله
بسوارين من نار " رواه أبو داود ولأنه من جنس الأثمان أشبه التبر، وقال الحسن وعبيد الله بن عتبة
زكاته عاريته قال أحمد خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ليس في الحلي زكاة، زكاته عاريته
ووجه الأولى ما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليس في الحلي زكاة " ولأنه مرصد لاستعمال
مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من البقر وثياب القنية، والأحاديث الصحيحة التي احتجوا بها
لا تتناول محل النزاع لأن الرقة هي الدراهم المضروبة، قال أبو عبيد لا نعلم هذا الاسم في الكلام المعقول
عند العرب الا على الدراهم المضروبة ذات السكة السائرة في الناس وكذلك الأواقي ليس معناها الا
الدراهم كل أوقية أربعون درهما، وأما حديث المسكتين فقال أبو عبيد لا نعلمه الا من وجه قد تكلم
الناس فيه قديما وحديثا وقال الترمذي ليس يصح في هذا الباب شئ ويحتمل أنه أراد بالزكاة العارية
كما قد ذهب إليه جماعة من الصحابة وغيرهم، والتبر غير معد للاستعمال بخلاف الحلي ولا فرق بين الحلي
606

المباح أن يكون مملوكا لامرأة تلبسه أو تعيره أو لرجل يحلي به أهله أو يعيره أو يعده لذلك لأنه مصروف
عن جهة النماء إلى استعمال مباح أشبه حلي المرأة فإن اتخذ حليا فرارا من الزكاة لم تسقط عنه الزكاة
لأنها إنما سقطت عن عما أعد للاستعمال لصرفه عن جهة النماء ففيما عداه يبقى على الأصل
(فصل) فإن انكسر الحلي كسرا لا يمنع اللبس قهو كالصحيح الا أن ينوي ترك لبسه، وإن كان
كسرا يمنع الاستعمال ففيه الزكاة لأنه صار كالبقرة وان نوى يحل اللبس التجارة والكري انعقد عليه
حول الزكاة من حين نوى لأن الوجوب الأصل فانصرف إليه بمجرد النية كما لو نوى بمال التجارة القنية
(فصل) وكذلك ما يباح للرجال من الحلي كخاتم الفضة وقبيعة السيف وحلية المنطقة على الصحيح
من المذهب والجوشن والخوذة وما في معناه وأنف الذهب وكل ما أبيح للرجل حكمه حكم حلي المرأة
في عدم وجوب الزكاة لأنه مصروف عن جهة النماء أشبه حلي المرأة
607

* (مسألة) * (فاما الحلي المحرم والآنية وما أعد للكرى والنفقة ففيه الزكاة إذا بلغ نصابا)
كل ما أعد للكرى والنفقة إذا احتاج إليه ففيه الزكاة لأنها إنما سقطت عما أعد للاستعمال لصرفه عن
جهة النماء ففيما عداه يبقى على الأصل، ولأصحاب الشافعي وجه فيما أعد للكرى لا زكاة فيه وكل ما كان اتخاذه
محرما من الأثمان ففيه الزكاة لأن الأصل وجوب الزكاة فيها لكونها مخلوقة للتجارة والتوسل بها إلى
غيرها ولم يوجد ما يسقط الزكاة فيا فبقيت على الأصل، قال أحمد ما كان على سرج أو لجام ففيه الزكاة
ونص على حلية الثفر والركاب واللجام أنه محرم، وقال في رواية الأثرم أكره رأس المكحلة فضة ثم
قال هذا شئ تأولته وعلى قياس ما ذكره حلية الدواة والمقلمة والسرج ونحوه مما على الدابة ولو موه
سقفه بذهب أو فضة فهو محرم وفيه الزكاة، وقال أصحاب الرأي يباح لأنه تابع للمباح فتبعه في الإباحة
608

ولنا أنه سرف ويفضي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء فحرم كاتخاذ الآنية وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن التختم بخاتم الذهب للرجل فتمويه السقف أولى فإن صار التمويه الذي في السقف مستهلكا لا يجتمع
منه شئ لم تحرم استدامته لأنه لا فائدة في إتلافه وإزالته ولا زكاة فيه لأن ما ليته ذهبت وان لم تذهب
ماليته ولم يكن مستهلكا حرمت استدامته، وقد بلغنا أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي أراد
جمع ما في مسجد دمشق مما موه به من الذهب فقيل له إنه لا يجتمع منه شئ فتركه، ولا يجوز تحلية
المصاحف ولا المحاريب ولا اتخاذ قناديل من الذهب والفضة لأنها بمنزلة الآنية، وان وقفها على مسجد
أو نحوه لم يصح لأنه ليس ببر ولا معروف ويكون ذلك بمنزلة الصدقة فتكسر وتصرف في مصلحة المسجد
609

وعمارته، وكذلك ان حبس الرجل فرسا له لجام مفضض، وقد قال أحمد في الرجل يقف فرسا في
سبيل الله ومعه لجام مفضض فهو على ما وقفه وإن بيعت الفضة من السرج واللجام وجعلت في وقف
مثله فهو أحب إلي لأن الفضة لا ينتفع بها ولعله يشتري بذلك سرجا ولجاما فيكون أنفع للمسلمين قيل
فتباع الفضة وتنفق على الفرس؟ قال نعم وهذا يدل على إباحة حلية السرج واللجام بالفضة لولا ذلك
لما قال هو على ما وقفه وهذا لأن العادة جارية به فأشبه حلية المنطقة، وإذا قلنا بتحريمه فصار بحيث
لا يجتمع منه شئ لم تحرم استدامته كقولنا في تمويه السقف، وقال القاضي، تباح علاقة المصحف ذهبا
610

وفضة للنساء خاصة وليس بجيد لأن حلية المرأة ما لبسته وتحلت به في بدنها أو ثيابها وما عداه فحكمه
حكم الأواني يستوي فيه الرجال والنساء ولو أبيح لها ذلك لأبيح علاقة الأواني ونحوه ذكره ابن
عقيل، ويحرم على الرجل خاتم الذهب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه وكذلك طوق الفضة لأنه غير معتاد في
حقه فهذا وكل ما يحرم اتخاذه إذا بلغ نصابا ففيه الزكاة أو بلغ نصابا بضمه إلى ما عنده لما ذكرنا
(فصل) واتخاذ الأواني محرم على الرجال والنساء وكذلك استعمالها، وقال الشافعي في أحد
قوليه لا يحرم اتخاذها وقد ذكرنا ذلك في باب الآنية ففيها الزكاة بغير خلاف نعلمه بين أهل العلم،
ولا زكاة فيه حتى يبلغ نصابا أو يكون عنده ما يبلغ بضمه إليه نصابا فإن لم يبلغ نصابا فلا زكاة فيه لعموم
الاخبار لقوله عليه السلام " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " وغير ذلك
611

* (مسألة) * (والاعتبار بوزنه إلا ما كان مباح الصناعة فإن الاعتبار في النصاب بوزنه وفي الاخراج
بقيمته) اعتبار النصاب في الذهب المحلى والآنية وغيره مما تجب فيه الزكاة بالوزن للخبر، فإن كانت
قيمته أكثر من وزنه لصناعة محرمة فلا عبرة بها لأنها لا قيمة لها في الشرع وله أن يخرج عنها قدر
ربع عشرها بقيمته غير مصوغ وله كسرها واخراج ربع عشرها مكسورا وان أخرج ربع عشرها
مصوغا جاز لأن الصناعة لم تنقصها عن قيمه المكسور وذكر أبو الخطاب وجها في اعتبار قيمتها إذا كانت
صناعتها مباحة كمن عنده حلي للكراء وزنه مائة وخمسون درهما وقيمته مائتان تجب فيه الزكاة والأول
أصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمس أواق صدقة "
(فصل) وما كان مباح الصناعة كحلي التجارة فالاعتبار في النصاب بوزنه لما ذكرنا وفي الاخراج
612

بقيمته فإذا كان وزنه مائتين وقيمته ثلاثمائة فعليه قدر ربع عشره في زنته وقيمته لأن زيادة القيمة
ههنا بغير محرم أشبه زيادة قيمته لنفاسة جوهره فإن أخرج ربع عشره مشاعا جاز وان دفع قدر ربع
عشره وزاد في الوزن بحيث يستويان في القيمة بان أخرج سبعة دراهم ونصف جاز وكذلك إن
أخرج حليا وزنه خمسة دراهم وقيمته سبعة ونصف لأن الربا لا يجري ههنا وإن أراد كسره ودفع
ربع عشره مكسورا لم يجز لأن كسره ينقص قيمته، وحكي القاضي في المجرد إذا نوى بالحلي القنية
أن الاعتبار في الاخراج بوزنه أيضا فإن كان للتجارة اعتبر بقيمته قال وعندي في الحلي المعد للقنية أنه
تعتبر قيمته أيضا، فإن كان في الحلي جواهر ولآلئ وكان للتجارة قوم جميعه، وإن كان لغيرها فلا
زكاة فيها لأنها لا زكاة فيها منفردة فكذلك مع غيرها.
613

* (مسألة) * (ويباح للرجال من الفضة الخاتم وقبيعة السيف، وفي حلية المنطقة روايتان وعلى
قياسها الجوشن والخوذة والخف والران والحمائل)
يباح للرجال خاتم الفضة لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق متفق عليه، ويباح حلية السيف
من القبيعة وتحليتها لأن أنسا قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة، وقال هشام بن عروة
كان سيف الزبير محلى بالفضة رواهما الأثرم، والمنطقة يباح تحليتها بالفضة في أظهر الروايتين لأنها
حلية معتادة للرجل فهي كالخاتم وعنه كراهة ذلك لما فيه من الفخر والخيلاء أشبه الطوق والأول أولى
614

لأن الطوق ليس بمعتاد في حق الرجل وعلى قياس المنطقة الجوشن والخوذة والخف والران والحمائل
وكذلك الضبة في الاناء وما أشبهها للحاجة، وقد ذكرنا ذلك في باب الآنية، وقال القاضي يباح
اليسير وان لم يكن لحاجة وإنما كره أحمد الحلقة لأنها تستعمل
* (مسألة) * (ومن الذهب قبيعة السيف وما دعت إليه الضرورة كالأنف وما ربط به أسنانه
وقال أبو بكر يباح يسير الذهب)
يباح من الذهب للرجل ما دعت الضرورة إليه كالأنف لمن قطع أنفه لما روي أن عرفجة بن أسعد
615

قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فانتن على فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفا من ذهب رواه
أبو داود، وقال الإمام أحمد يجوز ربط الأسنان بالذهب أن خشي عليها أن تسقط قد فعله الناس
ولا بأس به عند الضرورة وروى الأثرم عن أبي جمرة الضبعي وموسى بن طلحة وأبي رافع وثابت البناني
وإسماعيل بن زيد بن ثابت والمغيرة بن عبد الله أنهم شدوا أسنانهم بالذهب وما عدا ذلك من الذهب
فقد روي عن أحمد الرخصة فيه في السيف، قال أحمد قد روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف
مسمار من ذهب وقال إنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب من حديث إسماعيل بن أمية عن نافع
616

وروى الترمذي باسناده عن مزيدة العصري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى سيفه ذهب وفضة وروي
عن أحمد رواية أخرى تدل على تحريم ذلك قال الأثرم قلت لأبي عبد الله يخاف على أن يسقط يجعل
فيه مسمارا من ذهب؟ قال إنما رخص في الأسنان وذلك إنما هو على وجه الضرورة. فأما المسمار فقد
روي من تحلى بخريصيصة قلت أي شئ خريصيصة قال شئ صغير مثل الشعيرة، وروى الأثرم
باسناده عن عبد الرحمن بن غنم " من تحلى بخريصيصه كوي بها يوم القيامة مغفورا له أو معذبا " وحكي عن
أبي بكر من أصحابنا أنه أباح يسير الذهب ولعله يحتج بما روينا من الاخبار ولأنه أحد الثلاثة المحرمة
617

على الذكور دون الإناث فلم يحرم يسيره كسائرها وكل ما أبيح من الحلي فلا زكاة فيه إذا أعد للاستعمال
* (مسألة) * (ويباح للنساء من الذهب والفضة كل ما جرت عادتهن بلبسه قل أو كثر وقال ابن
حامد إن بلغ ألف مثقال حرم وفيه الزكاة)
ويباح للنساء من حلي الذهب والفضة والجواهر كل ما جرت عادتهن بلبسه كالسوار والخلخال
والقرط والخاتم وما يلبسنه على وجوههن وفي أعناقهن وأيديهن وأرجلهن وآذانهن وغيره فأما ما لم تجر
عادتهن بلبسه كالمنطقة وشبهها من حلي الرجال فهو محرم وعليها زكاته، كما لو اتخذ الرجل لنفسه حلى
المرأة، وقليل الحلي وكثيره سواء في الإباحة والزكاة وقال ابن حامد يباح ما لم يبلغ ألف مثقال فإن
618

بلغها حرم وفيه الزكاة لما روى أبو عبيد والأثرم عن عمرو بن دينار قال: سئل جابر عن الحلي هل فيه
زكاة؟ قال لا؟ فقيل ألف دينار قال إن ذلك لكثير ولأنه يخرج إلى السرف والخيلاء ولا يحتاج إليه
في الاستعمال، والأول أصح لأن الشرع أباح التحلي مطلقا من غير تقييد، فلا يجوز تقييده بالرأي
والتحكم، وحديث جابر ليس بصريح في نفي الوجوب بل يدل على التوقف وقد روي عنه خلافه
فروى الجوزجاني باسناده عن أبي الزبير قال: سألت جابر بن عبد الله عن الحلي فيه زكاة قال لا؟
619

قلت إن الحلي يكون فيه ألف دينار. قال وإن كان فيه يعار ويلبس، ثم إن قول جابر قول صحابي وقد
620

خالفه غيره من الصحابة ممن يرى التحلي مطلقا فلا يبقى قوله حجة والتقييد بمجرد الرأي والتحكم
غير جائز والله أعلم.
621

* (باب زكاة العروض) *
(تجب الزكاة في عروض التجارة إذا بلغت قيمتها نصابا)
العروض جمع عرض وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه من الحيوان والعقار والثياب
وسائر المال والزكاة واجبة فيها في قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن في
العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وبه
قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي
وأبو عبيد وأصحاب الرأي واسحق وحكي عن مالك وداود أنه لا زكاة فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق "
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن سمرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما
نعده للبيع، وروى الدارقطني عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " في الإبل صدقتها
وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته " قاله بالزاي ولا خلاف بين أهل العلم أن الزكاة لا تجب في عينها
وثبت أنها تجب في قيمتها وعن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: أمرني عمر فقال أد زكاة مالك فقلت
مالي مال الا جعاب وأدم، فقال قومها ثم أد زكاتها رواه الإمام أحمد وأبو عبيد وهذه قضية يشتهر مثلها
622

ولم تنكر فتكون إجماعا ولأنه مال تام فوجبت فيه الزكاة كالسائمة وخبرهم المراد به زكاة العين لا زكاة
القيمة بدليل ما ذكرنا على أن خبرهم عام وحديثنا خاص فيجب تقديمه
(فصل) ويعتبر أن تبلغ قيمته نصابا لأنه مال تام يعتبر له الحول فاعتبر له النصاب كالماشية يعتبر
له الحول لقوله عليه السلام " لا زكاة في مال حتى يحول على الحول " ولا نعلم فيه خلافا فعلى هذا من
ملك عرضا للتجارة فحال عليه الحول وهو نصاب قومه في آخر الحول فما بلغ أخرج زكاته ولا تجب فيه
الزكاة إلا إذا بلغت قيمته نصابا وحال عليه الحول وهو نصاب، فلو ملك سلعة قيمتها دون النصاب
فمضى نصف حول وهي كذلك ثم زادت قيمتها فبلغت نصابا أو باعها بنصاب أو ملك في أثناء الحول
عرضا أخرا وأثمانا ثم بها النصاب ابتداء الحول من حينئذ ولا يحتسب عليه بما مضى وهذا قول الثوري
وأهل العراق والشافعي وإسحق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، ولو ملك للتجارة نصابا فنقص عن
النصاب في أثناء الحول ثم زاد حتى بلغ نصابا استأنف الحول عليه لكونه انقطع بنقصه في أثناء الحول
623

وقال مالك ينعقد الحول على ما دون النصاب فإذا كان في آخره نصابا زكاه وقال أبو حنيفة يعتبر كونه
نصابا في طرفي الحول دون وسطه لأن التقويم يشق في جميع الحول فعفى عنه إلا في آخره فصار
الاعتبار به ولأنه يحتاج إلى تعرف قيمته في كل وقت ليعلم أن قيمته تبلغ نصابا وذلك يشق
ولنا أنه مال يعتبر له الحول والنصاب فيجب اعتبار كمال النصاب في جميع الحول كسائر الأموال
التي يعتبر لها ذلك وقولهم يشق التقويم لا يصح لأن غير المقارب للنصاب لا يحتاج إلى تقويم لظهور
معرفته، والمقارب للنصاب إن سهل عليه التقويم والا فله الأداء والاخذ بالاحتياط كالمستفاد في أثناء
الحول إن سهل على ضبط حوله وإلا فله تعجيل زكاته مع الأصل
(فصل) (والواجب فيه ربع عشر قيمته لأنها زكاة تتعلق بالقيمة فأشبهت زكاة الأثمان ويجب
فيما زاد بحسابه كالأثمان) إذا ثبت هذا فإنه تجب فيه الزكاة في كل حول وبهذا قال الثوري والشافعي
وإسحق وأبو عبيد وأصحاب الرأي، وقال مالك لا يزكيه إلا لحول واحد إلا أن يكون مدبرا لأن الحول
الثاني لم يكن المال عينا في أحد طرفيه فلم تجب فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عينا
624

ولنا أنه مال تجب فيه الزكاة في الحول الأول لم ينقص عن النصاب ولم تتبدل صفته فوجبت زكاته
في الحول الثاني كما لو نض (1) في أوله ولا نسلم أنه إذا لم يكن في أوله عينا لا تجب الزكاة فيه، وإذا اشترى
عرضا للتجارة بعرض للقنية جرى في حول الزكاة من حين الشراء
* (مسألة) * (ويؤخذ منها لا من العروض)
تخرج الزكاة من قيمة العروض دون عينها لأن نصابها يعتبر بالقيمة لا بالعين فكانت الزكاة منها
كالعين في سائر الأموال وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر هو مخير بين الاخراج من قيمتها
ومن عينها وهو قول أبي حنيفة لأنه مال تجب فيه الزكاة فجاز اخراجها منه كسائر الأموال
ولنا ما ذكرنا من المعنى ولا نسلم أن الزكاة وجبت في المال إنما وجبت في قيمته
(فصل) وإذا ملك نصبا للتجارة في أوقات متفرقة لم يضم بعضها إلى بعض لما ذكرنا في المستفاد
وإن كان العرض الأول ليس بنصاب فكمل بالثاني نصابا فحولهما من حين ملك الثاني ونماؤهما تابع لهما
ولا يضم الثالث إليهما بل ابتداء الحول فيه من حين ملكه، وتجب زكاته إذا حال عليه الحول وإن
كان دون النصاب لأن في ملكه نصابا قبله ونماؤه تابع له
* (مسألة) * (ولا تصير للتجارة إلا أن يملكها بفعله بنية التجارة بها)
لا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين أحدهما أن يملكه بفعله كالبيع والكاح والخلع وقبول الهبة
والوصية والغنيمة واكتساب المباحات لأن ما لا يثبت له حكم الزكاة بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد
النية كالسوم، ولا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغير عوض وهكذا ذكره أو الخطاب وابن عقيل لأنه
ملكه بفعله أشبه ما لو ملكه بعوض، وذكر القاضي أنه لا يصير للتجارة الا أن يملكه بعوض وهو قول
الشافعي فإن ملكه بغير عوض كالهبة والغنيمة ونحوهما لم يصر للتجارة لأنه لم يملكه بعوض أشبه
الموروث، الثاني أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة، فإن لم ينو عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة
لقوله في الحديث " مما نعده للبيع " ولأنها مخلوقة في الأصل للاستعمال فلا تصير للتجارة الا بنيتها كما أن
ما خلق للتجارة لا يصير للقنية إلا بنيتها

(1) في القاموس: نض الدرهم أو الدينار إذا تحول عينا بعد أن كان متاعا
625

* (مسألة) * (فإن ملكها بإرث أو ملكها بفعله بغير نية التجارة ثم نوي التجارة بها لم تصر للتجارة)
إذا ملك العرض بالإرث لم يصر للتجارة وإن نواها لأنه ملكه بغير فعله فجرى مجرى الاستدامة فلم
يبق الا مجرد النية ومجرد النية لا يصير بها العرض للتجارة لما ذكرنا وكذلك إن ملكها بفعله بغير نية
التجارة ثم نواها بعد ذلك لم يصر للتجارة لأن الأصل في العروض القنية فإذا صارت للقنية لم تنتقل
عنه بمجرد النية كما لو نوى الحاضر السفر وعكسه ما لو نوى المسافر الإقامة يكتفي فيه مجرد النية
* (مسألة) * (وإن كان عنده عرض للتجارة فنواه للقنية ثم نواه للتجارة لم يصر للتجارة، وعنه
أن العروض تصير للتجارة بمجرد النية)
ولا يختلف المذهب أنه إذا نوى بعرض التجارة القنية أنه يصير للقنية وتسقط الزكاة منه وبهذا
قال الشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك في إحدى الروايتين لا يسقط حكم التجارة بمجرد النية
كما لو نوى بالسائمة العلف.
ولنا أن القنية الأصل والرد إلى الأصل يكفي فيه مجرد النية كما لو نوى بالحلي التجارة أو نوى
المسافر الإقامة، ولان نية التجارة شرط لوجوب الزكاة في العروض فإذا نوى القنية زالت نية التجارة
ففات شرط الوجوب، وفارق السائمة إذا نوى علفها لأن الشرط فيها الأسامة دون نيتها فلا ينتفى
الوجوب الا بانتفاء السوم وإذا صار العرض للقنية ثم نواه للتجارة لم يصر للتجارة لما ذكرنا. وهذا قول
أبي حنيفة ومالك والشافعي والثوري وذهب أبو بكر وابن عقيل إلى أنها تصير للتجارة بمجرد النية
وحكوه رواية عن أحمد قال بعض أصحابنا هذا على أصح الروايتين لقول سمرة أمرنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع وهذا داخل في عمومه، ولان نية القنية كافية بمجردها فكذلك
نية التجارة بل هذا أولى لأن الايجاب يغلب على الاسقاط احتياطا، ولأنه نوى به التجارة أشبه ما لو
نوى حال الشراء، ووجه الأولى أن كل ما لا يثبت له الحكم بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية كما لو
نوى بالمعلوفة السوم، ولان القنية الأصل والتجارة فرع عليها فلا ينصرف إلى الفرع بمجرد النية
كالمقيم ينوي السفر، ويعتبر وجود النية في جميع الحول لأنها شرط أمكن اعتباره في جميع
الحول، فاعتبر فيه كالنصاب.
(فصل) وإذا كانت عنده ماشية للتجارة نصف حول فنوى بها الأسامة وقطع نية التجارة انقطع
حول التجارة واستأنف حولا كذلك قال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن حول التجارة انقطع
بنية الاقتناء وحول السوم لا يبنى على حول التجارة. قال شيخنا والأشبه بالدليل أنها متى كانت سائمة
626

من أول الحول وجبت الزكاة فيها عند تمامه، يروى نحو هذا عن إسحاق لأن السوم سبب لوجوب
الزكاة وجد في جميع الحول خاليا عن معارض فوجبت به الزكاة، كما لو لم ينو التجارة أو كما لو كانت
السائمة لا تبلغ نصاب القيمة.
* (مسألة) * (وتقوم العروض عند الحول بما هو أحظ للمساكين من عين أو ورق ولا يعتبر ما اشتريت
به) إذا حال الحول على عروض التجارة وقيمتها بالفضة نصاب ولا تبلغ نصابا بالذهب قومناها بالفضة
وان كانت قيمتها بالذهب تبلغ نصابا ولا تبلغ نصابا بالفضة قومناها بالذهب لتجب الزكاة فيها ويحصل
الحظ للفقراء سواء اشتراها بذهب أو عروض وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي تقوم بما اشتراه من
ذهب أو فضة، لأن نصاب العرض مبني على ما اشتراه به فوجبت الزكاة فيه واعتبرت به، كما لو
لم يشتر به شيئا.
ولنا أن قيمته بلغت نصابا فوجبت الزكاة فيه كما لو اشتراه بعرض وفي البلد نقدان مستعملان
تبلغ قيمة العرض بأحدهما نصابا ولان تقويمه يحظ المساكين فيعتبر مالهم فيه الحظ كالأصل، وأما إذا
لم يشتر بالنقد شيئا فإن الزكاة في عينه لا في قيمته بخلاف العرض فإن كان النقد معدا للتجارة فينبغي
أن تجب الزكاة فيه إذا بلغت قيمته بالنقد الآخر نصابا وان لم يبلغ بعينه نصابا كالسائمة التي للتجارة
فإن بلغت قيمة العروض نصابا بكل واحد من النقدين قومه بما شاء منهما وأخرج ربع عشر قيمته
627

من أي النقدين شاء، لكن الأولى أن يخرج من النقد المستعمل في البلد لأنه أحظ للمساكين فإن
كانا مستعملين أخرج من الغالب في الاستعمال لذلك فإن تساويا أخرج من أيهما شاء، وان باع
العروض بنقد وحال الحول عليه قوم النقد دون العروض لأنه إنما يقوم ما حال عليه الحول دون غيره
* (مسألة) * (وان اشترى عرضا بنصاب من الأثمان أو من العروض بنى على حوله) لأن مال
التجارة إنما تتعلق الزكاة بقيمته، وقيمته هي الأثمان، إنما كانت ظاهرة فخفيت فأشبه ما لو كان له نصاب
فأقرضه لم ينقطع حوله بذلك، وهكذا الحكم إذا باع العرض بنصاب أو بعرض قيمته نصاب لأن
القيمة كانت خفية فظهرت أو بقيت على خفائها فأشبه ما لو كان له قرض فاستوفاه أو أقرضه انسانا
آخر، ولان النماء في الغالب في التجارة إنما يحصل بالتقليب ولو كان ذلك يقطع الحول لكان السبب
الذي وجبت فيه الزكاة لأجله يمنعها لأن الزكاة لا تجب الا في زمان تام، وان قصد بالأثمان غير التجارة
لم ينقطع الحول، وقال الشافعي: ينقطع لأنه مال تجب الزكاة في عينه دون قيمته فانقطع الحول بالبيع كالسائمة
ولنا انه من جنس القيمة التي تتعلق الزكاة بها فلم ينقطع الحول ببيعها به كما لو قصد به التجارة
وفارق السائمة فإنها من غير جنس القيمة
628

* (مسألة) * (وان اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن على حوله)
إذا أبدل عرض التجارة بنصاب من السائمة ولم ينو به التجارة أو اشترى بنصاب من السائمة
عرضا للتجارة لم يبن حول أحدهما على الاخر لأنهما مختلفان، وان أبدل عرض التجارة بعرض القنية
بطل الحول، وان اشترى عرض التجارة بعرض القنية انعقد عليه الحول من حين ملكه إن كان نصابا
لأنه اشتراه بما لا زكاة فيه فلم يمكن بناء الحول عليه وان اشتراه بما دون النصاب من الأثمان أو من
عروض التجارة انعقد عليه الحول من حين تصير قيمته نصابا لأن مضي الحول على نصاب كامل
شرط لوجوب الزكاة وقد ذكرناه.
(مسألة) (وان ملك نصابا من السائمة للتجارة فعليه زكاة التجارة دون السوم فإن لم تبلغ قيمته
نصاب التجارة فعليه زكاة السوم)
إذا اشترى للتجارة نصابا من السائمة فحال الحول والسوم ونية التجارة موجودان زكاه زكاة
التجارة. وبهذا قال أبو حنيفة والثوري، وقال مالك والشافعي في الجديد: يزكيها زكاة السوم لأنها
أقوى لانعقاد الاجماع عليها واختصاصها بالعين فكانت أولى
ولنا ان زكاة التجارة أحظ للمساكين لأنها تجب فيما زاد على النصاب بالحساب، ولان الزائد
عن النصاب قد وجد سبب وجوب زكاته فوجب كما لو لم يبلغ بالسوم نصابا، وان سبق وقت وجوب
زكاة السوم وقت وجوب زكاة التجارة مثل أن يملك أربعين من الغنم قيمتها دون مائتي درهم، ثم
صارت قيمتها في أثناء الحول مائتي درهم فقال القاضي: يتأخر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة
629

لأنه أنفع للفقراء ولا يفضي إلى سقوطها لأن الزكاة تجب فيها إذا تم حول التجارة، ويحتمل أن تجب
زكاة العين عند تمام حولها لوجود مقتضيها من غير معارض، فإذا تم حول التجارة وجبت زكاة الزائد
عن النصاب لوجود مقتضيها لأنه مال للتجارة حال عليه الحول وهو نصاب، ولا يمكن ايجاب الزكاتين
بكمالهما لأنه يفضي إلى إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد، فلم يجز ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" لا تثني في الصدقة " وفارق هذا زكاة التجارة وزكاة القطر في العبد الذي للتجارة لأنهما يجتمعان
لكونهما بسببين فإن زكاة الفطر تجب عن بدن المسلم طهرة له، وزكاة التجارة تجب عن قيمته شكرا
لنعمة الغني مواساة للفقراء، فأما ان وجد نصاب السوم دون التجارة كمن ملك نصابا من السائمة
للتجارة لا تبلغ قيمتها مائتي درهم وحال الحول عليها كذلك فإن زكاة العين لا تجب فيها بغير خلاف
لأنه لم يوجد لها معارض أشبه إذا لم تكن للتجارة، وكذلك ان ملك أربعا من الإبل قيمتها مائتا درهم
تجب فيها زكاة التجارة بغير خلاف لما ذكرنا
* (مسألة) * (وان اشتري أرضا أو نخلا للتجارة فأثمرت النخل أو زرعت الأرض فعليه فيهما
العشر ويزكي الأصل للتجارة)
630

زكاة التجارة فيها أنفع للفقراء. فأما ان سبق وجوب العشر حول التجارة وجب عليه العشر لوجود
سببه من غير معارض وهو أحظ للفقراء كما بينا
إذا اشترى أرضا أو نخلا للتجارة فأثمرت النخل، أو زرعت الأرض واتفق حولاهما بأن يكون
بدو الصلاح في الثمرة واشتداد الحب عند تمام الحول وكانت قيمة الأصل تبلغ نصابا للتجارة فإنه يزكي
الحب والثمرة زكاة العشر إذا بلغ نصابا، ويزكي الأصل زكاة القيمة. وهذا قول أبي حنيفة وأبي ثور
وقال القاضي وأصحابه: يزكي الجميع زكاة القيمة، وذكر ان أحمد أومأ إليه لأنه مال تجارة فوجبت
فيه زكاة التجارة كالسائمة
ولنا ان زكاة العشر أحظ للفقراء فإن العشر أحظ من ربع العشر فيجب تقديم ما فيه الحظ،
ولان الزيادة على ربع العشر قد وجد سبب وجوبها فتجب، وفارق زكاة السوم المعدة للتجارة لأن
631

(فصل) وإذا حال الحول أدى زكاة الأصل والنماء لأنه تابع له في الملك فتبعه في الحول كالسخال
والنتاج، وبهذا قال مالك واسحق وأبو يوسف، وأما أبو حنيفة فإنه يبني حول كل مستفاد على حول
جنسه النماء وغيره. وقال الشافعي: ان نضت الفائدة قبل الحول لم يبن حولها على حول النصاب،
ويستأنف لها حولها لقوله عليه السلام " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " ولأنها فائدة تامة
لم تتولد مما عنده أشبه المستفاد من غير الربح. وان اشترى سلعة بنصاب فزادت قيمتها عند رأس
الحول فإنه يضم الفائدة ويزكي عن الجميع بخلاف ما إذا باع السلعة قبل الحول
ولنا أنه نماء جار في حول تابع لاصله في الملك فضم إليه في الحول كالنتاج وكما لو لم ينض ولأنه
ثمن عرض تجب زكاة بعضه يضم إليه الباقي قبل البيع فضم إليه بعده كبعض النصاب ولأنه لو بقي
عرضا زكي جميع القيمة، فإذا نض كان أولى لأنه يصير متحققا والحديث فيه مقال وهو مخصوص
632

بالنتاج وبما لم ينض فنقيس عليه.
(فصل) وإذا اشترى للتجارة شقصا مشفوعا بألف فحال الحول وهو يساوي الفين فعليه زكاة
الفين فإن جاء الشفيع أخذه بألف لأن الشفيع إنما يأخذ بالثمن لا بالقيمة، والزكاة على المشتري لأنها
وجبت في ملكه ولو لم يأخذه الشفيع لكن وجد المشتري به عيبا فرده فإنما يأخذ من البائع ألفا، ولو
اشتراه بألفين وحال الحول وقيمته الف فعليه زكاة الف ويأخذه الشفيع ان أخذه ويرده بالعيب بألفين
لأنهما الثمن الذي وقع به البيع.
(فصل) وإذا دفع إلى رجل ألفا مضاربة على أن الربح بينهما فحال الحول وهو ثلاثة آلاف فعلى
رب المال زكاة الفين لأن ربح التجارة حوله حول أصله على ما بينا، وقال الشافعي في أحد قوليه عليه
زكاة الجميع لأن الأصل له والربح نماء ماله ولا يصح ذلك لأن حصة المضارب له وليست ملكا لرب
المال بدليل أن للمضارب المطالبة بها ولو أراد رب المال دفع حصته إليه من غير هذا المال لم يلزمه
633

قبوله، ولا يجب على الانسان زكاة ملك غيره ولان رب المال يقول حصتك أيها العامل مترددة بين
أن تسلم فتكون لك أو تتلف فلا تكون لي ولا لك فكيف يجب علي زكاة ما ليس لي بوجه ما؟ وقوله إنها
نماء ماله فلنا الا أنه لغيره فلم تجب عليه زكاته كما لو وهب نتاج سائمته لغيره
إذا ثبت هذا فإنه يخرج الزكاة من المال لأنه من مؤنته فكان منه كمؤنة حمله، ويحتسب من الربح
لأنه وقاية لرأس المال كذلك ذكره شيخنا في كتاب المغني، وقال في كتاب تحتسب الزكاة
من حصة رب المال لأنها واجبة عليه فحسبت من نصيبه كدينه، فاما حصة المضارب فمن أوجبها لم
يجوز اخراجها من المال لأن الربح وقاية لرأس المال، ويحتمل أن يجوز لأنهما دخلا على حكم الاسلام
634

ومن حكمه وجوب الزكاة واخراجها من المال ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة نحو مما ذكرنا
* (مسألة) * (وإذا اذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في اخراج زكاته أو أذن رجلان غير
635

الشريكين كل واحد منهما للآخر في إخراج زكاته فأخرج كل واحد منهما زكاته وزكاة صاحبه
636

معا في حال واحدة ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه لأن كل واحد منهما انعزل من طريق الحكم
637

عن الوكالة لاخراج الموكل زكاته بنفسه)
638

ويحتمل أن لا يضمن إذا لم يعلم باخراج صاحبه إذا قلنا إن الوكيل لا ينعزل قبل العلم بعزل الموكل
639

أو بموته ويحتمل أن لا يضمن وإن قلنا إنه ينعزل لأنه غره بتسليطه على الاخراج وأمره به ولم يعلمه
640

باخراجه فكان خطر التغرير عليه كما لو غره بحرية أمة، قال شيخنا وهذا أحسن إن شاء الله تعالى. وعلى
641

هذا إن علم أحدهما دون الآخر فعلى العالم الضمان دون الآخر
642

* (مسألة) * (فإن أخرجها أحدهما قبل الآخر ضمن الثاني نصيب الأول علم أو لم يعلم) لما ذكر
643

وهذا على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني لا ضمان عليه إذا لم يعلم لما ذكرنا والله أعلم
644

باب زكاة الفطر
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض. قال إسحق هو كالاجماع من أهل
العلم وحكى ابن عبد البر أن بعض المتأخرين من أصحاب مالك وداود يقولون هي سنة مؤكدة وسائر
العلماء على أنها واجبة لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس
صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر وعبد ذكر أو أنثى من المسلمين. متفق عليه، وللبخاري
والصغير والكبير من المسلمين وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس
إلى الصلاة، وعن أبي سعيد قال كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا
من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب. متفق عليهما. وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في
قوله تعالى (قد أفلح من تزكى) هو زكاة الفطر وأضيفت هذه الزكاة إلى الفطر لأنها تجب بالفطر من
رمضان قال ابن قتيبة وقبل لها فطرة لأن الفطرة الخلقة قال الله تعالى (فطرة الله التي فطر الناس عليها)
وهذه يراد بها الصدقة عن البدن والنفس، قال بعض أصحابنا وهل تسمى فرضا مع القول بوجوبها على
645

روايتين والصحيح أنها فرض لقول ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر ولان الفرض إن
كان الواجب فهي واجبة وإن كان الواجب المتأكد فهي متأكدة مجمع عليها على ما حكاه ابن المنذر
* (مسألة) * (وهي واجبة على كل مسلم تلزمه مؤنة نفسه إذا فضل عنده عن قوته وقوت عياله
يوم العيد وليلته صاع وإن كان مكاتبا)
وجملة ذلك أن زكاة الفطر تجب على كل مسلم تلزمه مؤنة نفسه صغيرا كان أو كبيرا حرا أو عبدا
ذكرا أو أنثى لما ذكرنا من حديث ابن عمر وهذا قول عامة أهل العلم وتجب على اليتيم ويخرج عنه
وليه من ماله لا نعلم أحدا خالف فيه إلا محمد بن الحسن قال ليس في مال الصغير صدقة، وقال الحسن
صدقة الفطر على من صام من الأحرار وعلى الرقيق، وعموم حديث ابن عمر يقتضي وجوبها على
اليتيم والصغير مطلقا ولأنه مسلم فوجبت فطرته كما لو كان له أب
(فصل) ولا تجب صدقة الفطر على أهل البادية في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن
الزبير، وهو قول الحسن ومالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي، وقال عطاء والزهري
وربيعة لا صدقة عليهم:
ولنا عموم الحديث، ولأنها زكاة فوجبت عليهم كزكاة المال ولأنهم مسلمون أشبهوا أهل الأمصار
(فصل) ولا تجب على كافر أصلي حرا كان أو عبدا، أما المرتد ففي وجوبها عليه اختلاف
ذكرناه فيما مضى، قال شيخنا ولا نعلم خلافا بينهم في الحر البالغ الكافر أنها لا تجب عليه وقال إمامنا
ومالك والشافعي وأبو ثور لا تجب على العبد أيضا ولا على الصغير ويروى عن عمر بن عبد العزيز وعطاء
646

ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والثوري وإسحق وأصحاب الرأي أن على السيد المسلم اخراج الفطرة
عن عبده الذمي، وقال أبو حنيفة يخرج عن ابنه الصغير إذا ارتد، ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أدوا
عن كل حر وعبد صغير أو كبير يهودي أو نصراني أو مجوسي نصف صاع من بر " ولان كل زكاة
وجبت بسبب عبده المسلم وجبت عبده الكافر كزكاة التجارة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر من المسلمين، وروى أبو داود عن ابن عباس قال فرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة
فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقه من الصدقات، وحديثهم لم نعرفه ولم يذكره صحاب
السنن، وزكاة التجارة تجب عن القيمة ولذلك تجب في سائر الحيوانات وسائر الأموال وهذه طهرة
للبدن ولهذا اختص بها الآدميون بخلاف زكاة التجارة
(فصل) فإن كان لكافر عبد مسلم وهل هلال شوال وهو ملكه، فحكي عن أحمد أن على
الكافر إخراج صدقة الفطر عنه، واختاره القاضي وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يجب، قال ابن المنذر
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لا صدقة على الذمي في عبده المسلم لقوله عليه السلام " من المسلمين "
ولأنه كافر فلم تجب عليه الفطرة كسائر الكفار، ولأنها زكاة فلم تجب على الكفرة كزكاة المال ووجه
647

الأولى أن العبد من أهل الطهرة فوجب أن تؤدي عنه الفطرة كما لو كان سيده مسلما وقوله من المسلمين
يحتمل أنه أراد به المؤدى عنه بدليل أنه لو كان للمسلم عبد كافر لم تجب فطرته ولأنه ذكر في الحديث
كل عبد وصغير وهذا يدل على أنه أراد المؤدى عنه لا المؤدي ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان كالمذهبين
(فصل) وهي واجبة على من قدر عليها ولا يعتبر في وجوبها النصاب، وبهذا قال أبو هريرة
وأبو العالية والشعبي وعطاء وابن سيرين والزهري ومالك وابن المبارك والشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب
الرأي، لا تجب إلا على من يملك مائتي درهم أو ما قيمته نصاب فاضلا عن مسكنه لقوله عليه السلام
" لا صدقة الا عن ظهر غنى، والفقر لا غنى له فلا تجب عليه ولأنه تحل له الصدق فلا تجب عليه كالعاجز عنها
ولنا ما روى ثعلبه بس أبي صغير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أدوا صدقة الفطر صاعا من
قمح " أو قال " بر عن كل إنسان صغير أو كبير حر أو مملوك غني أو فقير ذكر أو أنثى أما غنيكم فيزكيه
الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى " وفي رواية أبي داود صاع من بر أو قمح عن كل اثنين
ولأنه حق مال لا يزيد يزيادة المال فلم يعتبر وجود النصاب له لكفارة ولا يمتنع أن يؤخذ منه ويعطى
كمن وجب عليه العشر والقياس على العاجز لا يصح وحديثهم محمول على زكاة المال
648

(فصل) ومن له دار يحتاج إليها لسكناه أو إلى أجرها لنفقته أو ثياب بذلة له أو لمن تلزمه مؤنته
أو رقيق يحتاج إلى خدمتهم هو أو من يمونه أو بهائم يحتاجون إلى ركوبها والانتفاع بها في حوائجهم
الأصلية أو سائمة يحتاج إلى نمائها لذلك أو بضاعة يختل ربحها الذي يحتاج إليه باخراج الفطرة منها
فلا فطرة عليه لذلك لأن هذا مما تتعلق به حاجته الأصلية فلم يلزمه بيعه كمؤنة نفسه يوم العيد ومن له
كتب يحتاج إليها للنظر فيها والحفظ منها لا يلزمه بيعها، والمرأة إذا كان لها حلي للبس أو الكرى
المحتاج إليه لم يلزمها بيعه في الفطرة وما فضل من ذلك كله عن حوائجه الأصلية وأمكن بيعه أو صرفه
في الفطرة وجبت الفطرة به لأنه أمكنه أداؤها من غير ضرر أصلي أشبه ما لو ملك من الطعام
ما يؤديه فاضلا عن حاجته.
(فصل) وليس على السيد في مكاتبه زكاة الفطر، وهذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن والثوري
والشافعي في أشهر قوليه وأصحاب الرأي وقال عطاء ومالك وابن المنذر على السيد لأنه عبد أشبه سائر العبيد
ولنا قوله عليه السلام " ممن تمونون " وهذا لا يمونه ولأنه لا تلزمه مؤنته أشبه الأجنبي وبهذا
فارق سائر عبيده. إذا ثبت هذا فإن على المكاتب فطرة نفسه وفطرة من تلزمه نفقته كزوجته ورقيقه
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجب عليه قياسا على الثمن ولأنها زكاة فلم تجب على المكاتب كزكاة المال
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى وهذا عبد لا يخلو من
كونه ذكرا أو أنثى ولأنه تلزمه مؤنة نفسه فلزمته الفطرة كالحر ويفارق زكاة المال لأنه يعتبر لها الغنى
والنصاب والحول ولا يحملها أحد عن غيره بخلاف الفطرة ولا يصح قياسه على القن لأن مؤنة القن على
سيده بخلاف المكاتب ويجب على المكاتب فطرة من يمونه لعموم قوله عليه السلام " عمن تمونون "
* (مسألة) * (وإن فضل بعض صاع فهل يلزمه إخراجه؟ على روايتين)
649

إحداهما لا يلزمه اختارها ابن عقيل لأنها طهرة فلا تجب على من يعجز عن بعضها كالكفارة
والثانية يلزمه إخراجه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ولأنها طهرة فوجب
منها ما قدر عليه كالطهارة بالماء ولان بعض الصاع يخرج بمن العبد المشترك فجاز أن يخرج عن غيره كالصاع
* (مسألة) * (ويلزمه فطرة من يمونه من المسلمين). إذا وجد ما يؤدي عنهم لحديث ابن عمر
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر عن كل صغير وكبير حر وعبد ممن تمونون
(فصل) والذين يلزم الانسان فطرتهم ثلاثة أصناف الزوجات والعبيد والأقارب
فاما الزوجات فتلزمه فطرتهن في قول مالك والليث والشافعي وإسحق، وقال أبو حنيفة والثوري
وابن المنذر لا تجب عليه وعلى المرأة فطرة نفسها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدقة الفطر على كل ذكر
وأنثى " ولأنها زكاة فوجبت عليها كزكاة مالها
ولنا الخبر الذي رويناه ولان النكاح سبب تجب به النفقة فوجبت به الفطرة كالملك والقرابة
بخلاف زكاة المال فإنها لا تتحمل بالملك والقرابة، فإن كان لامرأته من يخدمها بأجره فليس على
الزوج فطرته لأن الواجب الاجر دون النفقة وإن كان لها نظرت، فإن كانت ممن لا يجب لها خادم
فليس عليه نفقة خادمها ولا فطرته وإن كانت ممن يخدم مثلها فعلى الزوج أن يخدمها ثم هو مخير بين
أن يشتري لها خادما أو يكتري أو ينفق على خادمها فإن اختار الانفاق على خادمها فعليه فطرته
وإن استأجر لها خادما فليس عليه نفقته ولا فطرته سواء شرط عليه مؤنته أو لم يشترط لأن المؤنة إذا كانت
أجرة فهي من مال المستأجر وإن كانت تبرعا فهو كما لو تبرع بالانفاق أجنبي وسنذكره إن شاء الله تعالى
(فصل) الثاني العبيد وتجب فطرتهم على السيد إذا كانوا لغير التجارة اجماعا وإن كانوا
للتجارة فكذلك وهو قول مالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحق وابن المنذر. وقال عطاء
650

والنخعي والثوري وأصحاب الرأي لا تلزمه فطرتهم لأنها زكاة ولا تجب في مال واحد زكاتان وقد
وجب فيهم زكاة التجارة فيمتنع وجوب الزكاة الأخرى كالسائمة إذا كانت للتجارة
ولنا عموم الأحاديث وقول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الحر والعبد وفي
حديث عمرو بن شعيب " ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى حر أو عبد صغير أو
كبير " ولان نفقتهم واجبة أشبهوا عبيد القنية وزكاة الفطر تجب على البدن ولهذا تجب على الأحرار
وزكاة التجارة تجب عن القيمة وهي المال بخلاف السوم والتجارة فأنهما يجبان بسبب مال واحد ومتى
كان عبيد التجارة في يد المضارب وجبت فطرتهم من مال المضاربة لأن مؤنتهم منها وحكى ابن المنذر
عن الشافعي انها على رب المال
ولنا أن الفطرة تابعة للنفقة وهي من المال فكذلك الفطرة
(فصل) وأما عبيد عبيده فإن قلنا إن العبد لا يملكهم بالتمليك ففطرتهم على السيد لأنهم ملكه
وهذا ظاهر كلام الخرقي وقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وإن قلنا يملك بالتمليك فقد قيل
لا تجب فطرتهم على أحد لأن السيد لا يملكهم وملك العبد ناقص والصحيح وجوب فطرتهم على العبد لأن
نفقتهم واجبة عليه فكذلك فطرتهم وعدم تمام الملك لا يمنع وجوب الفطرة بدليل وجوبها على
المكاتب عن نفسه وعبيده مع نقص ملكه
(فصل) وأما زوجة العبد فذكر أصحابنا المتأخرون أن فطرتها على نفسها إن كانت حرة
وعلى سيدها ان كانت أمة قال شيخنا رحمه الله وقياس المذهب عندي وجوب فطرتها على سيد العبد
لوجوب نفقتها عليه كما أنه يجب على الزوج نفقة خادم امرأته مع أنه لا يملكها لوجوب نفقتها ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قال " أدوا صدقة الفطر عمن تمونون " وهذه ممن يمون وهكذا لو زوج الابن أباه وكان
ممن تجب عليه نفقته ونفقة امرأته فعليه فطرتهما
651

* (مسألة) * (فإن لم يجد ما يؤدي عن جميعهم بدأ بنفسه ثم بامرأته ثم برقيقه ثم بولده ثم بأمه ثم
بأبيه ثم بالأقرب فالأقرب في الميراث)
إذا لم يفضل عنده الا صاع أخرجه عن نفسه لقوله عليه السلام " أبدا بنفسك ثم بمن تعول "
ولان الفطرة تبنى عليه النفقة فكما انه يبدأ بنفسه في النفقة فكذلك في الفطرة فإن فضل صاع أخرجه
عن امرأته لأن نفقتها آكد لأنها تجب على سبيل المعاوضة مع اليسار والاعسار ونفقة الأقارب صلة
إنما تجب مع اليسار فإن فضل آخر أخرجه عن رقيقه لوجوب نفقتهم في الاعسار أيضا قال ابن عقيل
ويحتمل تقديمهم على الزوجة لأن فطرتهم متفق عليها وفطرتها مختلف فيها فإن فضل آخر أخرجه عن
ولده الصغير لأن نفقته منصوص عليها ومجمع عليها وفي الوالد والولد الكبير وجهان أحدهما يقدم
الولد لأنه كبعضه أشبه الصغير والثاني الوالد لأنه كبعض ولده ويقدم فطرة الام على فطرة الأب لأن
الام مقدمة في البر بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي حين قال من أبر؟ قال " أمك " قال ثم من؟
قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أباك " ولأنها ضعيفة عن
الكسب ويحتمل تقديم فطرة الأب وحكاه ابن أبي موسى رواية عن أحمد لقوله عليه السلام " أنت
ومالك لأبيك " ثم بالجد ثم بالأقرب على ترتيب الميراث ويحتمل تقديم فطرة الولد على فطرة المرأة لما روى
أبو هريرة قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقام رجل فقال يا رسول الله عندي دينار قال " تصدق به على
نفسك " قال عندي آخر قال " تصدق به على ولدك " قال عندي آخر قال " تصدق به على زوجك "
قال عندي آخر قال " تصدق به على خادمك " قال عندي آخر قال " أنت أبصر " فقدم الولد في الصدقة
عليها فكذلك الصدقة عنه ولان الولد كبعضه فيقدم كتقديم نفسه ولأنه إذا ضيع ولده لم يجد من
ينفق عليه والزوجة إذا لم ينفق عليها فرق بينهما وكان لها من يمونها من زوج أو ذي رحم ولان نفقة
652

الزوجة على سبيل المعاوضة فكانت أضعف في استتباع الفطرة من النفقة الواجبة على سبيل الصلة لأن
وجوب زيادة عليه يتصدق بها عنه ولذلك لم تجب فطرة الأجير المشروط نفقته بخلاف القرابة فإنها
كما اقتضت صلته بالانفاق عليه اقتضت صلته بتطهيره باخراج الفطرة عنه والله أعلم
* (مسألة) * (ويستحب الاخراج عن الجنين ولا يجب) يستحب إخراج الفطرة عن الجنين
لأن عثمان رضي الله عنه كان يخرجها عنه ولأنها صدقة عمن لا تجب عليه فكانت مستحبة كسائر
صدقات التطوع وظاهر المذهب أن فطرة الجنين غير واجبة وهو قول أكثر أهل العلم قال ابن
المنذر كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار لا يوجب على الرجل زكاة الفطر عن الجنين في بطن أمه
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنها تجب عليه لأنه آدمي تصح الوصية له وبه ويرث فيدخل في
عموم الاخبار ويقاس على المولود
ولنا انه جنين فلم تتعلق به الزكاة كأجنة البهائم ولأنه لم تثبت له أحكام الدنيا إلا في الإرث
والوصية بشرط خروجه حيا فحكم هذا كسائر الأحكام
* (مسألة) * (ومن تكفل بمؤنة شخص في شهر رمضان لم تلزمه فطرته عند أبي الخطاب والمنصوص
انها تلزمه) وهذا قول أكثر الأصحاب وقد نص عليه أحمد في رواية أبي داود فيمن ضم إلى نفسه
يتيمة يؤدي عنها لعموم قوله عليه السلام " أدوا صدقة الفطر عمن تمونون " وهذا ممن يمون ولأنه شخص
يتفق عليه فلزمته فطرته كعبده واختار أبو الخطاب أنه لا تلزمه فطرته لأنه لا تلزمه مؤنته فلم تلزمه
فطرته كما لو لم يمنه وهذا قول أكثر أهل العلم وهو الصحيح إن شاء الله وكلام أحمد في هذا محمول
على الاستحباب والحديث محمول على من تلزمه مؤنته لا على حقيقة المؤنة بدليل انه تلزمه فطرة الآبق
ولم يمنه ولو ملك عبدا عند غروب الشمس أو تزوج أو ولد له ولد لزمته فطرتهم لوجوب مؤنتهم
653

عليه وإن لم يمنهم ولو باع عبده أو طلق امرأته أو ماتا أو مات ولده لم تلزمه فطرتهم وان مانهم ولان
قوله " عمن تونون " فعل مضارع يقتضي الحال لو الاستقبال دون الماضي ومن مانه في رمضان إنما
وجدت منه المؤنة في رمضان وإنما وجدت منه المؤنة في الماضي فلا يدخل في الخبر ولو دخل فيه
لاقتضى بعمومه وجوب الفطرة على من مانه ليلة واحدة لأنه ليس في الخبر ما يقتضي تقييده بالشهر
ولا بغيره فالتقييد بمؤنة الشهر تحكم، فعلى هذا تكون فطرته على نفسه كما لو لم يمنه وعلى قول أصحابنا
المعتبر الانفاق في جميع الشهر وقال ابن عقيل قياس مذهبنا انه إذا مانه آخر ليلة وجبت فطرته قياسا
على من ملك عبدا عند غروب الشمس، فإن مانه جماعة في الشهر كله أو مانه انسان في بعض الشهر فعلى
تخريج ابن عقيل تكون فطرته على من مانه آخر ليلة وعلى قول غيره يحتمل أن لا تجب فطرته على أحد
ممن مانه لأنه سبب الوجب المؤنة في جميع الشهر ولم توجد ويحتمل أن تجب على الجميع فطرة واحدة
بالحصص لأنهم اشتركوا في سبب الوجوب أشبه ما لو اشتركوا في ملك عبد
* (مسألة) * (وإذا كان العبد بين شركاء فعليهم صاع وعنه على كل واحد صاع وكذلك الحكم فيمن بعضه حر)
فطرة العبد المشترك واجبة على مواليه وبه قال مالك ومحمد بن سلمة وعبد الملك والشافعي
ومحمد بن الحسن وأبو ثور وقال الحسن وعكرمة والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف لا فطرة على واحد
منهم لأنه ليس عليه لاحد منهم ولاية تامة أشبه المكاتب
ولنا عموم الأحاديث ولأنه عبد مسلم مملوك لمن يقدر على الفطرة وهو من أهلها فلزمته كمملوك
الواحد وفارق المكاتب فإنه لا يلزم سيده مؤنته ولان المكاتب يخرج عن نفسه زكاة الفطر بخلاف
القن والولاية غير معتبرة في وجوب الفطرة بدليل عبد الصبي، ثم إن ولايته للجميع فتكون فطرته
654

عليهم واختلفت الرواية في قدر الواجب على كل واحد منهم ففي إحداهما على كل واحد صاع لأنها
طهرة فوجب تكميلها على كل واحد من الشركاء ككفارة القتل والثانية على الجميع صاع واحد على كل
واحد بقدر ملكه فيه هذا الظاهر عن أحمد قال قوران رجع أحمد عن هذه المسألة وقال يعطي كل
واحد منهم نصف صاع يعني رجع عن إيجاب صاع كامل على كل واحد وهذا قول سائر من أوجب
فطرته على سادته لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب صاعا عن كل واحد وهذا عام في المشترك وغيره ولان
نفقته تقسم عليهم فكذلك فطرته التابعة لها ولأنه شخص واحد فلم يجب عنه أكثر من صاع كسائر الناس
ولأنها طهرة فوجبت على سادته بالحصص كماء الغسل من الجنابة إذا احتيج إليه وبهذا ينتقض
ما ذكرناه للرواية الأولى
(فصل) (ومن بعضه حر ففطرته عليه وعلى سيده وبه قال الشافعي وأبو ثور وقال مالك على الحر
بحصته وليس على العبد شئ)
ولنا انه مسلم تلزم مؤنته شخصين من أهل الفطرة فكانت فطرته عليهما كالمشترك وهل يلزم
كل واحد منهما صاع أو بالحصص ينبني على ما ذكرنا في العبد المشترك فإن كان أحدهما معسرا فلا شئ عليه
وعلى الأحرار القدر الواجب عليه فإن كان بين السيد والعبد مهايأة أو كان المشتركون في العبد قدتها يؤوا
عليه لم تدخل الفطرة في المهايأة لأن المهايأة معاوضة كسب بكسب والفطرة حق لله تعالى فلم تدخل
في ذلك كالصلاة) ولو ألحقت القافة ولدا برجلين أو أكثر فالحكم في فطرته كالحكم في العبد المشترك وكذلك
المعسر القريب لاثنين أو لجماعة نفقته عليهم وفطرته عليهم حكمها حكم فطرة العبد المشترك على ما ذكر فيه
* (مسألة) * (وإن عجز زوج المرأة عن فطرتها فعليها أو على سيدها إن كانت أمة فطرتها ويحتمل أن
لا تجب) إذا أعسر بفطرة زوجته فعليها فطرة نفسها أو على سيدها إن كانت مملوكة لأنها تتحمل إذا
655

كان ثم متحمل فإذا لم يكن عاد إليها كالنفقة ويحتمل أن لا يجب عليها شئ لأنها لم نجب على من وجد سبب
الوجوب في حقه لعسرته فلم تجب على غيره كفطرة نفسه ويفارق النفقة فإن وجوبها آكد لأنها مما لابد
منه وتجب على المعسر والعاجز وبرجع عليه بها عند يساره والفطرة بخلافها
* (مسألة) * (ومن كان له غائب أو آبق فعليه فطرته الا أن يشك في حياته فتسقط) تجب فطرة
العبد الحاضر والغائب الذي تعلم حياته والآبق والمرهون والمغصوب قال ابن المنذر أجمع عوام أهل
العلم على أن على المرء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر غير المكاتب والمغصوب والآبق والغائب تجب
فطرته إذا علم أنه حي سواء رجا رجعته أو أيس منها، وسواء كان مطلقا أو محبوسا كالأسير وغيره
قال ابن المنذر: أكثر أهل العلم يرون أن تؤدى زكاة الفطر عن الرقيق غائبهم وحاضرهم لأنه مالك
لهم فوجبت فطرتهم عليه كالحاضرين، وممن أوجب فطرة الآبق الشافعي وأبو ثور وابن المنذر والزهري
إذا علم مكانه، والأوزاعي إن كان في دار الاسلام، ومالك إن كانت غيبته قريبة، ولم يوجبها عطاء
والثوري وأصحاب الرأي لأنه لا يلزمه الانفاق عليه فلا تجب فطرته كالمرأة الناشز
ولنا أنه ماله فوجبت زكاته في حال غيبته كمال التجارة، ويحتمل أن لا يلزمه اخراج زكاته حتى
يرجع كزكاة الدين والمغصوب ذكره ابن عقيل، ووجه القول الأول أن زكاة الفطر تجب تابعة للنفقة والنفقة
تجب مع الغيبة بدليل أن من رد الآبق رجع بنفقته، فأما من شك في حياته وانقطعت أخباره لم
تجب فطرته. نص عليه في رواية صالح لأنه لا يعلم بقاء ملكه عليه، ولأنه لو أعتقه عن كفارته
لم يجزئه فلم تجب فطرته كالميت
* (مسألة) * (وإن علم حياته بعد ذلك أخرج لما مضى)
لأنه بان له وجود سبب الوجوب في الزمن الماضي فوجب عليه الاخراج لما مضى كما لو سمع بهلاك
656

ماله الغائب، ثم بان له أنه كان سليما والحكم في القريب الغائب كالحكم في العبيد لأنهم ممن تجب
فطرتهم مع الحضور فكذلك مع الغيبة كالعبيد، ويحتمل أن لا تجب فطرتهم مع الغيبة لأنه لا يلزمه بعث
نفقتهم إليهم ولا يرجعون بالنفقة الماضية
* (مسألة) * (ولا يلزم الزوج فطرة الناشز وقال أبو الخطاب تلزمه)
إذا نشزت المرأة في وقت وجوب الفطرة ففطرتها على نفسها دون زوجها لأن نفقتها لا تلزمه،
واختار أبو الخطاب أن عليه فطرتها لأن الزوجية ثابتة عليها فلزمته فطرتها كالمريضة التي لا تحتاج إلى
نفقة والأول أصح لأن هذه ممن لا تلزمه مؤنته فلا تلزمه فطرته كالأجنبية، وفارق المريضة لأن عدم
الانفاق عليها لعدم الحاجة لا لخلل في المقتضي لها فلا يمنع ذلك من ثبوت تبعها بخلاف الناشز وكذلك
كل امرأة لا تلزمه نفقتها كغير المدخول بها إذا لم تسلم إليه، والصغيرة التي لا يمكن الاستمتاع بها فإنه
لا تلزمه نفقتها ولا فطرتها لأنها ليست ممن يمون
* (مسألة) * (ومن لزم غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير اذنه فهل يجزئه على وجهين)
من وجبت نفقته على غيره كالمرأة والنسيب الفقير إذا أخرج عن نفسه باذن من تجب عليه صح
بغير خلاف نعلمه لأنه نائب عنه، وإن أخرج بغير اذنه ففيه وجهان (أحدهما) يجزئه لأنه أخرج
فطرة نفسه فأجزأه كالتي وجبت عليه (والثاني) لا يجزئه لأنه أدى ما وجب على غيره بغير اذنه فلم
يصح كالمؤدي عن غيره
* (مسألة) * (ولا يمنع الدين وجوب الفطرة إلا أن يكون مطالبا به)
إنما لم يمنع الدين الفطرة لأنها آكد بدليل وجوبها على الفقير وشمولها لكل مسلم قدر على اخراجها
ووجوب تحملها عمن وجبت نفقته على غيره ولا تتعلق بقدر من المال فجرى مجرى النفقة، ولان زكاة
657

المال تجب بالملك والدين يؤثر في الملك فأثر فيها، وهذه تجب على البدن والدين لا يؤثر فيه. فأما عند
المطالبة بالدين فتسقط الفطرة لوجوب أدائه عندها وتأكده بكونه حق آدمي معين لا يسقط بالاعسار
وكونه أسبق سببا وأقدم وجوبا يأثم بتأخيره
(فصل) وإن مات من وجبت عليه الفطرة قبل أدائها أخرجت من ماله، فإن كان عليه دين
وله مال يفي بهما قضيا جميعا، وإن لم يف بهما قسم بين الدين والصدقة بالحصص نص عليه احمد في
زكاة المال أن التركة تقسم بينهما فكذا ههنا، فإن كان عليه زكاة مال وصدقة الفطر ودين فزكاة الفطر
والمال كالشئ الواحد لاتحاد مصرفهما فيحاصان الدين، وأصل هذا أن حق الله تعالى وحق الآدمي
إذا تعلقا بمحل واحد فكانا في الذمة أو كانا في العين تساويا في الاستيفاء
(فصل) وإذا مات المفلس وله عبيد فهل شوال قبل قسمتهم بين الغرماء ففطرتهم على الورثة لأن
الدين لا يمنع نقل التركة، بل غايته أن يكون رهنا بالدين وفطرة الرهن على مالكه
(فصل) ولو مات عبيده أو من يمونه بعد وجوب الفطرة لم تسقط لأنها دين ثبت في ذمته
بسبب عبده فلم يسقط بموته كما لو استدان العبد باذنه دينا وجب في ذمته، ولان زكاة المال لا تسقط
بفطرته فالفطرة أولى، فإن زكاة المال تتعلق بالعين في إحدى الروايتين وزكاة الفطر بخلافه
* (مسألة) * (وتجب بغروب الشمس من ليلة الفطر، فمن أسلم بعد ذلك أو ملك عبدا أو
زوجة أو ولد لم تلزمه فطرته، وإن وجد ذلك قبل الغروب وجبت)
ولو كان حين الوجوب معسرا ثم أيسر في ليله تلك أو في يومه لم يجب عليه شئ، ولو كان
وقت الوجوب موسرا ثم أعسر لم تسقط عنه اعتبارا بحالة الوجوب ومن مات ليلة الفطر بعد غروب
الشمس فعليه صدقة الفطر نص عليه احمد، وبهذا قال الثوري وإسحق ومالك في إحدى الروايتين
658

عنه، والشافعي في أحد قوليه. وقال الليث وأبو ثور وأصحاب الرأي: تجب بطلوع الفجر يوم العيد وهي
رواية عن مالك لأنها قربة تتعلق بالعيد فلم يتقدم وقتها يوم العيد كالأضحية
ولنا قول ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو، ولأنها
تضاف إلى الفطر فكانت واجبة به كزكاة المال، وذلك لأن الإضافة دليل الاختصاص والسبب
أخص بحكمه من غيره، والأضحية لا تتعلق بطلوع الفجر ولا هي واجبة، ولا تشبه ما نحن فيه، فعلى
هذا إذا غربت والعبد المبيع في مدة الخيار، أو وهب له عبد فقبله ولم يقبضه أو اشتراه ولم يقبضه فالفطرة
على المشتري والمتهب لأن الملك له والفطرة على المالك، ولو أوصي له بعبد أو مات الموصي قبل غروب
الشمس فلم يقبل الموصى له حتى غربت فالفطرة عليه في أحد الوجهين، والآخر على ورثة الموصي بناء على
الوجهين في الموصى به هل ينتقل بالموت أو من حين القبول، ولو مات الموصى له قبل الرد والقبول فقبل ورثته
وقلنا بصحة قبولهم فهل تكون فطرته على ورثة الموصي أو في تركة الموصى له؟ على وجهين. وقال القاضي
فطرته في تركة الموصى له لأنا حكمنا بانتقال الملك من حين موت الموصى له، فإن كان موته بعد هلال
شوال ففطرة العبد في تركته لأن الورثة إنما قبلوه له، وإن كا موته قبل هلال شوال ففطرته على
الورثة، ولو أوصى لرجل برقبة عبد ولآخر بنفعه فقبلا كانت الفطرة على مالك الرقبة لأن الفطرة
تجب بالرقبة لا بالمنفعة، ولهذا تجب على من لا نفع فيه، ويحتمل أن تكون تبعا لنفقته وفيها ثلاثة أوجه
(أحدها) أنها على مالك نفعه (والثاني) أنها على مالك رقبته (والثالث) في كسبه
* (مسألة) * (ويجوز اخراجها قبل العيد بيومين)
ولا يجوز قبل ذلك. قال ابن عمر: كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين. وقال بعض أصحابنا
659

يجوز تعجيلها بعد نصف الشهر كما يجوز تعجيل أذان الفجر والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل. وقال
أبو حنيفة: يجوز تعجيلها من أول الحول لأنها زكاة أشبهت زكاة المال. وقال الشافعي: يجوز من
أول شهر رمضان لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها كزكاة
المال بعد مالك النصاب
ولنا ما روى الجوزجاني ثنا يزيد بن هارون أنا أبو معشر عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يأمر به فيقسم. قال يزيد: أظن قال يوم الفطر ويقول " أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم "
والامر للوجوب، ومتى قدمها بالزمن الكثير لم يحصل اغناؤهم بها يوم العيد، وسبب وجوبها الفطر
بدليل اضافتها إليه وزكاة المال سببها ملك النصاب، والمقصود اغناء الفقير بها في الحول كله فجاز
اخراجها في جميعه، وهذا المقصود منها الاغناء في وقت مخصوص فلم يجز تقديمها قبل الوقت، أما
تقديمها بيوم أو يومين فجائز لما روى البخاري باسناده عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة
الفطر من رمضان - وقال في آخره - وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين، وهذا إشارة إلى جميعهم
فيكون اجماعا، ولان تعجيلها بهذا القدر لا يخل بالمقصود منها، فإن الظاهر أنها تبقى أو بعضها إلى يوم
العيد فيستغنى بها عن الطواف والطلب فيه، ولأنها زكاة فجاز تعجيلها قبل وجوبها كزكاة المال
* (مسألة) * (والأفضل اخراجها يوم العيد قبل الصلاة)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة في حديث ابن عمر، وقال في
حديث ابن عباس " من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من
الصدقات " فإن أخرها عن الصلاة ترك الأفضل لما ذكرنا من السنة، ولان المقصود منها الاغناء عن
الطواف والطلب في هذا اليوم فمتى أخرها لم يحصل اغناؤهم في جميعه، ومال إلى هذا القول عطاء
660

ومالك وموسى بن وردان وأصحاب الرأي. وقال القاضي: إذا أخرجها في بقية اليوم لم يكره،
وقد ذكرنا من الخبر والمعنى ما يقتضي الكراهة
* (مسألة) * (ويجوز في سائر اليوم لحصول الاغناء في اليوم إلا أنه يكون قد ترك الأفضل على ما ذكرنا)
فإن أخرها عنه أثم لتأخيره الحق الواجب عن وقته ولزمه القضاء لأنه حق مال وجب فلا يسقط
بفوات وقته كالدين، وحكى عن ابن سيرين والنخعي الرخصة في تأخيرها عن يوم العيد، وحكاه
ابن المنذر عن أحمد، وروى محمد بن يحيى الكحال قال: قلت لأبي عبد الله: فإن أخرج الزكاة ولم
يعطها؟ قال نعم إذا أعدها لقوم واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى
(فصل) قال الشيخ رحمه الله: والواجب في الفطرة صاع من البر والشعير ودقيقهما وسويقهما
والتمر والزبيب ومن الاقط في إحدى الروايتين
الكلام في هذه المسألة في أمور ثلاثة (أحدها) أن الواجب في صدقة الفطر صاع عن كل انسان
من جميع أجناس المخرج، وبه قال مالك والشافعي وإسحق، وروي عن أبي سعيد الخدري والحسن
وأبي العالية. وروي عن ابن الزبير ومعاوية أنه يجزئ نصف صاع من البر خاصة وهو مذهب سعيد
ابن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وأبي سلمة وسعيد بن جبير
وأصحاب الرأي، واختلفت الرواية عن علي وابن عباس والشعبي فروي صاع وروي نصف صاع،
وعن أبي حنيفة في الزبيب روايتان: إحداهما صاع والأخرى نصف صاع، واحتجوا بما روى ثعلبة
ابن أبي صعير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " صاع من بر أو قمح على كل اثنين " رواه أبو داود
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا في فجاج مكة ألا إن صدقة الفطر
واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه صاعا من
طعام. قال الترمذي هذا حديث حسن غريب
661

ولنا ما روى أبو سعيد الخدري قال: كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا
من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط، فلم نزل نخرجه
حتى قدم معاوية المدينة فتكلم فكان فيما كلم الناس: اني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا
من تمر. فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير، فعدل الناس
إلى نصف صاع من بر. متفق عليهما. ولأنه جنس يخرج في صدقة الفطر فكان صاعا كسائر الأجناس
فأما أحاديثهم فال تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قاله ابن المنذر، وحديث ثعلبة ينفرد به النعمان بن راشد
قال البخاري وهو يهم كثيرا. وقال مهنا. ذكرت لأحمد حديث ثعلبة بن أبي صعير في صدقة الفطر
نصف صاع من بر، فقال ليس بصحيح إنما هو مرسل يرويه معمر وابن جريج عن الزهري مرسلا
قلت من قبل من هذا؟ قال من قبل النعمان بن أبي راشد ليس هو بقوي في الحديث، وسألته عن
ابن أبي صعير أمعروف هو؟ قال من يعرف ابن أبي صعير؟ ليس هو معروف وضعفه احمد وابن المديني
جميعا. وقال ابن عبد البر: ليس دون الزهري من تقوم به حجة، وقد روى أبو إسحاق الجوزجاني
حديث ثعلبة باسناده عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أدوا صدقة الفطر صاعا من قمح - أو
قال بر - عن كل انسان صغير أو كبير " وهذا حجة لنا واسناده حسن، قال الجوزجاني والنصف
صاع ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وروايته ليس تثبت، ولان ما ذكرناه أحوط مع موافقته القياس
(فصل) والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي وقد دللنا عليه فيما مضى وذكرنا الاختلاف فيه والأصل
فيه الكيل وإنما قدره العلماء بالوزن ليحفظ وينقل وقد روى جماعة عن أحمد أنه قال الصاع وزنته
وقدرته فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة، وروي عنه تقديره بالعدس أيضا وإذا كان الصاع خمسة
أرطال وثلثا من الحنطة والعدس وهما من اثقل الحبوب فمتى أخرج من غيرهما خمسة أرطال وثلثا
662

فهي أكثر من صاع وقال محمد بن الحسن ان أخرج خمسة أرطال وثلثا برا لم يجزئه لأن البر يختلف
فيكون ثقيلا وخفيفا وقال الطحاوي يخرج ثمانية أرطال مما يستوي كيله ووزنه وهو الزبيب والماش
ومقتضى كلامه انه إذا أخرج ثمانية أرطال مما هو أثقل منهما لم يجزئه حتى يزيد شيئا يعلم أنه قد بلغ
صاعا قال شيخنا والأولى لمن أخرج من الثقيل بالوزن أن يحتاط فيزيد شيئا يعلم به انه قد بلغ صاعا
وقدر الصاع بالرطل الدمشقي رطل وسبع وقدره بالدراهم ستمائة درهم وخمسة وثمانون درهما وخمسة
أسباع درهم ويجزى إخراج مد بالدمشقي من سائر الأجناس لأنه أكثر من صاع يقينا والله أعلم.
(الأمر الثاني) انه لا يجوز العدول عن هذه الأجناس المذكورة مع القدرة عليها سواء كان
المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن وقال أبو بكر يتوجه قول آخر انه يعطى ما قام مقام الخمسة على ظاهر
الحديث صاعا من طعام والطعام قد يكون البر والشعير وما دخل في الكيل قال وكلا القولين محتمل
وأقيسهما لا يجوز غير الخمسة إلا أن يعدمها فيعطي ما قام مقامها وقال مالك يخرج من غالب قوت
البلد وقال الشافعي أي قوت كان الأغلب على الرجل أدى زكاة الفطر منه واختلف أصحابه فمنهم من
قال كقول مالك ومنهم من قال الاعتبار بغالب قوت المخرج ثم إن عدل عن الواجب إلى أعلى
منه جاز وان عدل إلى دونه جاز في أحد القولين لقوله عليه السلام " اغنوهم عن الطلب " والغنى يحصل
بالقوت والثاني لا يجوز لأنه عدل عن الواجب إلى أدنى منه فلم يجزئه كما لو عدل عن الواجب في
زكاة المال إلى أدنى منه
ولنا قول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير. متفق
عليه. وروى أبو سعيد قال كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير
أو صاعا من زبيب، متفق عليه، وفي لفظ لمسلم كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن
كل صغير أو كبير حر أو مملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر
أو صاعا من زبيب. فقصروها على أجناس معدودة فلم يجز العدول عنها كما لو أخرج القيمة وكما لو أخرج
عن زكاة المال من غير جنسه والاغناء يحصل بالاخراج من المنصوص عليه فلا منافاة بين الخبرين
663

لكونهما جميعا يدلان على وجوب الاغناء بأحد الأجناس المفروضة. والسلت نوع من الشعير فيجوز
اخراجه لدخوله في المنصوص عليه وقد صرح بذكره في بعض ألفاظ حديث ابن عمر قال كان الناس
يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب رواه أبو داود
(الأمر الثالث) انه يجوز اخراج أحد الأصناف المذكورة أيها شاء وإن لم يكن قوتا له وقال
مالك يخرج من غالب قوت البلد وقال الشافعي أي قوت كان أغلب على الرجل أخرج منه
ولنا أن خبر الصدقة ورد بحرف " أو " هي للتخيير بين هذه الأصناف فوجب التخيير فيه ولأنه
عدل إلى منصوص عليه فجاز كما لو عدل إلى الأعلا ولأنه خير بين الزبيب والتمر والأقط ولم يكن
الزبيب والأقط قوتا لأهل المدينة فدل على أنه لا يعتبر أن يكون قوتا للمخرج
(فصل) ويجوز إخراج الدقيق نص عليه أحمد وكذلك السويق قال أحمد قد روي عن
ابن سيرين دقيق أو سويق وقال مالك والشافعي لا يجوز اخراجهما لحديث ابن عمر ولان
منافعه نقصت فهو كالخبز
ولنا حديث أبي سعيد وفي بعض ألفاظه أو صاعا من دقيق رواه النسائي ثم شك سفيان بعد
فقال دقيق أو سلت ولان الدقيق والسويق أجزاء الحب بحتا يمكن كيله وادخاره فجاز إخراجه كالحب
وذلك لأن الطحن إنما فرق أجزاءه وكفى الفقير مؤنته فأشبه ما لو نزع نوى التمر ثم أخرجة ويفارق
الخبز فإنه قد خرج عن حال الادخار والكيل والمأمور به صاع وهو مكيل وحديث ابن عمر لم
يقتض ما ذكروه ولم يعملوا به
(فصل) وفي جواز إخراج الاقط إذا قدر على غيره من الأجناس المذكورة روايتان أحدهما
يجزئه لحديث أبي سعيد المذكور والثانية لا يجزئه لأنه جنس لا تجب الزكاة فيه فلم يجز اخراجه مع
القدرة على غيره من الأصناف المنصوص عليها كاللحم ويحمل الحديث علي من هو قوت له أو لم
664

يقدر على غيره وقال الخرقي ان أخرج أهل البادية الاقط أجزأ إذا كان قوتهم فظاهر انه يجوز
اخراجه وان قدر على غيره إذا كان من أهل البادية وكان قوتا له وعلى قوله ينبغي ان يجزئ غير أهل
البادية إذا كان قوتهم أيضا لأن الحديث لم يفرق وحديث أبي سعيد يدل عليه وهم من غير أهل
البادية ولعله إنما ذكر أهل البادية لأن الغالب انه لا يقتاته غيرهم وقال أبو الخطاب في اخراج
الاقط لمن قدر عليه غيره مطلقا روايتان وظاهر حديث أبي سعيد يدل على خلافه وذكر القاضي انا
إذا قلنا بجواز اخراج الاقط وعدمه اخرج لبنا لأنه أكمل من الاقط لكونه يجئ منه الاقط وغيره
وحكاه أبو ثور عن الشافعي وقال الحسن ان لم يكن بر ولا شعير اخرج صاعا من لبن وما ذكره
القاضي لا يصح فإنه لو كان أكمل من الاقط لجاز اخراجه مع وجوده ولان الاقط أكمل من اللبن من
وجه لأنه بلغ حالة الادخار وهو جامد بخلاف اللبن لكن يكون حكم اللبن حكم اللحم يجزئ اخراجه
عند عدم الأصناف المنصوص عليها على قول ابن حامد ومن وافقه وكذلك الجبن وما أشبهه
* (مسألة) * ولا يجزئ غير ذلك إلا أن يعدمه فيخرج مما يقتات عند ابن حامد وعند ابن بكر
يخرج ما يقوم مقام المنصوص لا يجوز اخراج غير الأجناس المذكورة مع القدرة عليها لأن في بعض ألفاظ
حديث أبي سعيد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر
أو صاعا من أقط رواه النسائي ولما ذكرنا الا أن يعدمها فيخرج مما يقتات عند ابن حامد كالذرة
والدخن واللحم واللبن وسائر ما يقتات لأن مبناها على المواساة وقال أبو بكر يخرج ما يقوم مقام
المنصوص عند عدمه من كل مقتات من الحب والتمر كالذرة والدخن والأرز والتين اليابس وأشباهه
لأنه أشبه بالمنصوص عليه فكان أولى من غيره وهذا ظاهر كلام الخرقي.
* (مسألة) * (ولا يخرج حبا معيبا ولا خبزا) لا يجوز أن يخرج حبا معيبا كالمسوس والمبلول
والقديم الذي تغير طعمه لقول الله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) فإن كان القديم لم يتغير طعمه
إلا أن الحديث أكثر قيمة جاز اخراجه لعدم العيب فيه والأفضل الأجود قال أحمد كان ابن
665

سيرين يجب أن ينقى الطعام وهو أحب إلي ليكون على الكمال ويسلم مما يخالطه من غيره فإن كان
المخالط له يأخذ حظا من المكيال وكان كثيرا بحيث يعد عيبا فيه لم يجزئه وإن لم يكثر جاز إخراجه
إذا زاد على المخرج قدرا يزيد على ما فيه من غيره ليكون المخرج صاعا كاملا. ولا يجوز اخراج الخبز
ولا الهريسة ولا الكبولا وأشباهها لأنه خرج عن الكيل والادخار ولا الخل والدبس لأنهما ليسا قوتا
* (مسألة) * (ويجزئ اخراج صاع من أجناس)
إذا كان من الأجناس المنصوص عليها لأن كل واحد منهما يجزئ منفردا فأجزأ بعض من
هذا وبعض من الآخر كفطرة العبد المشترك إذا أخرج كل واحد من جنس
* (مسألة) * (وأفضل المخرج التمر ثم ما هو أنفع للفقراء بعده)
وهذا قول مالك قال ابن المنذر واستحب مالك اخراج العجوة منه واختار الشافعي وأبو عبيد
اخراج البر وقال بعض أصحاب الشافعي يحتمل أن الشافعي قال ذلك لأن البر كان أغلا في زمنه
لأن المستحب أن يخرج أغلاها ثمنا وأنفسها لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الرقاب فقال " أغلاها
ثمنا وأنفسها عند أهلها " وإنما اختار أحمد اخراج التمر اقتداء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي
باسناده عن أبي مجلز قال قلت لابن عمر ان الله قد أوسع والبر أفضل من التمر قال إن أصحابي سلكوا
طريقا وأحب أن أسلكه (1) وظاهر هذا أن جماعة الصحابة كانوا يخرجون التمر فأحب ابن عمر موافقتهم
وسلوك طريقهم وأحب أحمد أيضا الاقتداء بهم واتباعهم وروى البخاري عن ابن عمر قال فرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير فعدل الناس به نصف صاع من بر
فكان ابن عمر يخرج التمر فاعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرا ولان التمر فيه قوت وحلاوة
وهو أقرب تناولا وأقل كلفة فكان أولى.
والأفضل بعد التمر البر وقال بعض أصحابنا الزبيب لأنه أقرب تناولا وأقل كلفة أشبه التمر
ولنا أن البر أنفع في الاقتيات وأبلغ في دفع حاجة الفقير ولذلك قال أبو مجلز لابن عمر البر

(1) سبب ذلك الظاهر أنه كان غالب قوت أهل المدينة وفقراء مصر والشام إذا وجد عندهم التمر يوم العيد لا يغنيهم عن سؤال القوت لأنه في عرفهم حلوى وعقبة طعام لا قوت وكذلك الزبيب
666

أفضل من التمر فلم ينكره بن عمر وإنما عدل عنه اتباعا لأصحابه وسلوك طريقتهم ولهذا عدل نصف صاع
منه بصاع من غيره وتفضيل التمر إنما كان لاتباع الصحابة فيبقى فيما عداه على قضية الدليل ويحتمل
أن يكون الأفضل بعد التمر ما كان أعلا قيمة وأكثر نفعا لما ذكرنا من الحديث
* (مسألة) * (ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد والواحد ما يلزم الجماعة)
أما إعطاء الجماعة ما يلزم الواحد فلا نعلم فيه خلافا إذا أعطى من كل صنف ثلاثة لأنه دفع
الصدقة إلى مستحقها وأما إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة فإن الشافعي ومن وافقه أوجبوا تفريق
الصدقة على ستة أصناف من كل صنف ثلاثة وقد روي مثل هذا عن أحمد وسنذكر ذلك فيما بعد
هذا الباب إن شاء الله تعالى وظاهر المذهب الجواز وبه قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن
المنذر لأنها صدقة لغير معين فجاز صرفها إلى واحد كالتطوع
(فصل) ومصرف صدقة الفطر مصرف سائر الزكوات لعموم قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء)
الآية ولأنها زكاة أشبهت زكاة المال فلا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع زكاة المال إليه وبهذا قال
مالك والليث والشافعي وأبو ثور وقال أبو حنيفة يجوز وعن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل
ومرة الهمداني انهم كانوا يعطون منها الرهبان
ولنا انها زكاة فلم يجز دفعها إلى غير المسلمين كزكاة المال، وزكاة المال لا يجوز دفعها إلى غير
المسلمين اجماعا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز أن يعطي من زكاة المال أحدا من أهل الذمة
(فصل) فإن دفعها إلى مستحقها فأخرجها آخذها إلى دافعها أو جمعت الصدقة عند الإمام ففرقها
على أهل السهمان فعادت إلى انسان صدقته فاختار القاضي جواز ذلك قال لأن أحمد نص فيمن له نصاب
من الماشية والزروع أن الصدقة تؤخذ منه وترد إليه إذا لم يكن له قدر كفايته وهو مذهب الشافعي
لأن قبض الإمام أو المستحق أزال ملك المخرج وعادت إليه بسبب آخر أشبه ما لو عادت
667

إليه بميراث وقال أبو بكر مذهب أحمد انه لا يحل له اخذها لأنها طهرة فلم يجز له أخذها كشراتها لأن عمر
رضي الله عنه أراد أن يشتري الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لا تسترها ولا تعد في
صدقتك فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه " فإن عادت إليه بالشراء ففيه من الخلاف مثل ما ذكرنا
والمنصوص انه لا يجوز فإن عادت إليه بالميراث فله اخذها لأنها رجعت إليه بغير فعل منه والله أعلم.
باب اخراج الزكاة
(لا يجوز تأخيره عن وقت وجوبها مع إمكانه إلا لضرر مثل أن يخشى رجوع الساعي عليه أو نحو ذلك)
الزكاة واجبة على الفور ولا يجوز تأخير إخراجها مع القدرة عليه إذا لم يخش ضررا، وبهذا
قال الشافعي. وقال أبو حنيفة له التأخير ما لم يطالب لأن الامر بأدائها مطلق فلا يتعين الزمن
للأداء دون غيره كما لا يتعين المكان
ولنا ان الامر المطلق يقتضي الفور على ما يذكر في موضعه، ولذلك يستحق مؤخر الامتثال العقاب
بدليل ان الله تعالى أخرج إبليس وسخط عليه بامتناعه من السجود. ولو أن رجلا أمر عبده ان
يسقيه فأخر ذلك استحق العقوبة، ولأن جواز التأخير ينافي الوجوب لكون الواجب ما يعاقب على
تركه ولو جاز التأخير لجاز إلي غير غاية فتنتفي العقوبة بالترك. ولو سلمنا ان مطلق الامر لا يقتضي
الفور لاقتضاه في مسئلتنا إذ لو جاز التأخير ههنا لاخره بمقتضى طبعه ثقة منه بأنه لا يأتم بالتأخير
فيسقط عنه بالموت أو بتلف ماله أو بعجزه عن الأداء فيتضرر الفقراء، ولان هنا قرينة تقتضي
الفور وهو ان الزكاة وجبت لحاجة الفقراء وهي ناجزة فيجب أن يكون الوجوب ناجزا، ولأنها
668

عبادة تتكرر فلم يجز تأخيرها إلى وقت وجوب مثلها كالصلاة والصوم، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله
يسأل عن الرجل يحول الحول على ماله فيؤخر عن وقت الزكاة فقال لا، ولم يؤخر إخراجه؟ وشدد في
ذلك، قيل فابتدأ في إخراجها فجعل يخرج أولا فأولا فقال لا بل يخرجها كلها إذا حال الحول، فأما
إن كان يتضرر بتعجيل الاخراج مثل أن يخشى ان أخرجها بنفسه أخذها الساعي منه مرة أخرى فله
تأخيرها، نص عليه أحمد وكذلك ان خشي في اخراجها ضررا في نفسه أو مال له سواها فله تأخيرها
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " ولأنه إذا جاز تأخير دين الآدمي فتأخير الزكاة أولى
(فصل) فإن أخرها ليدفعها إلى من هو أحق بها من ذي قرابة أو حاجة شديدة فإن كان شيئا
يسيرا فلا بأس وإن كان كثيرا لم يجز. قال أحمد: لا يجزئ على أقرابه من الزكاة في كل شهر يعني
لا يؤخر اخراجها حتى يدفعها إليهم مفرقة في كل شهر شيئا، فأما إن عجلها فدفعها إليهم والى غيرهم
مفرقة أو مجموعة جاز لأنه لم يؤخرها عن وقتها، وكذلك ان كانت عنده أموال أحوالها مختلفة
مثل أن يكون عنده نصاب وقد استفاد في أثناء الحول من جنسه لم يجز تأخير الزكاة ليجمعها كلها لأنه
يمكنه جمعها بتعجيلها في أول واجب منها
(فصل) فإن أخرج الزكاة فضاعت قبل دفعها إلى الفقير لم تسقط عنه، وهذا قول الزهري
وحماد والثوري وأبي عبيد والشافعي الا أنه قال: ان لم يكن فرط في اخراج الزكاة وفي حفظ ذلك
المخرج رجع إلى ماله فإن كان فيما بقي زكاة أخرج والا فلا. وقال أصحاب الرأي: يزكى ما بقي الا
أن ينقص عن النصاب وان فرط. وقال مالك: أراها تجزئه إذا أخرجها في محلها، وان أخرجها بعد
ذلك ضمنها. وقال مالك: يزكي ما بقي بقسطه وان بقي عشرة دراهم
ولنا انه حق متعين على رب المال تلف قبل وصوله إلى مستحقه فلم يبرأ منه بذلك كدين
الادمي. قال أحمد: ولو دفع إلى رجل زكاته خمسة دراهم فقبل أن يقبضها منه قال اشتر لي ثوبا بها
669

أو طعاما فذهبت الدراهم أو اشترى بها ما قال فضاع منه فعليه أن يعطي مكانها لأنه لم يقبضها منه ولو
قبضها ثم ردها إليه وقال: اشتر لي بها أو اشتر بها فضاعت أو ضاع ما اشتراه فلا ضمان عليه إذا لم
يكن فرط، وإنما قال ذلك لأن الفقير لا يملكها الا بقبضه فإذا وكله في الشراء بها لم يصح التوكيل
وبقيت على ملك رب المال فإذا تلفت كانت من ضمانه، ولو عزل قدر الزكاة ينوي انه زكاة فتلف
فهو من ضمان رب المال ولا تسقط الزكاة عنه بذلك سواء قدر على دفعها أو لم يقدر وهي كالمسألة قبلها
* (مسألة) (فإن جحد وجوبها جهلا به عرف ذلك فإن أصر كفر وأخذت منه واستتيب ثلاثا
فإن لم يتب قتل) من جحد وجوب الزكاة جهلا به وكان ممن يجهل ذلك اما لحداثة عهده بالاسلام
أو لأنه نشأ ببادية بعيدة عرف وجوبها ولم يحكم بكفره لأنه معذور، وإن كان مسلما ناشئا ببلاد
الاسلام بين أهل العلم فهو مرتد تجري عليه أحكام المرتدين ويستتاب ثلاثا فإن تاب والا قتل لأن
أدلة وجوب الزكاة ظاهرة في الكتاب والسنة واجماع الأمة فلا تكاد تخفى على من هذا حاله فإذا جحدها
لا يكون الا لتكذيبه الكتاب والسنة وكفره بهما
* (مسألة) * (وان منعها بخلا بها أخذت منه وعزر، فإن غيب ماله أو كتمه أو قاتل دونها وأمكن
أخذها أخذت من غير زيادة، وقال أبو بكر: يأخذها وشطر ماله)
إذا منع الزكاة مع اعتقاد وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره قال ابن عقيل إلا
أن يكون كتمها لفسق الإمام لكونه يصرفها في غير مصرفها فلا يعزر لأن له عذرا في ذلك ولم يأخذ
زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم، وكذلك ان غل ماله
فكتمه أو قاتل دونها فقدر عليه الإمام، وقال إسحاق بن راهويه وأبو بكر عبد العزيز يأخذها وشطر
ماله لما روى أبو داود والنسائي والأثرم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان
يقول " في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون لا تفرق الإبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا
670

فله أجرها، ومن أبى فانا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شئ "
وسئل أحمد عن اسناده فقال هو عندي صالح الاسناد وقال ما أدري ما وجهه ووجه الأول قول النبي
صلى الله عليه وسلم " ليس في المال حق سوى الزكاة " ولان منع الزكاة كان عقيب موت النبي صلى الله عليه وسلم مع توفر
الصحابة فلم ينقل عنهم أخذ زيادة ولا قول بذلك، واختلف أهل العلم في العذر عن هذا الخبر فقيل
كان في بدء الاسلام حيث كانت العقوبات في المال ثم نسخ بالحديث الذي رويناه ولذلك انعقد الاجماع
على ترك العمل به في المانع غير الغال. وحكى الخطاب عن إبراهيم الحربي أنه يؤخذ منه السن الواجب
عليه من خيار ماله من غير زيادة في سن ولا عدد لكن ينتقي من خيار ماله ما يزيد به صدقته في القيمة
بقدر شطر قيمة الواجب عليه فيكون المراد بماله ههنا الواجب عليه من ماله فيزاد في القيمة بقدر شطره والله أعلم
* (مسألة) * (فإن لم يكن أخذها استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل وأخذت من تركته، وقال
بعض أصحابنا ان قاتل عليها كفر)
متى كان مانع الزكاة خارجا عن قبضة الإمام قاتله لأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على قتال
مانعي الزكاة وقال أبو بكر: والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
فإن ظفر به وبماله أخذها من غير زيادة لما ذكرنا ولم يسب ذريته لأن الجناية من غيرهم ولان المانع
لا يسبى فذريته أولى، وإن ظفر به دعاه إلى أدائها فإن تاب وأدى وإلا قتل قياسا على تارك الصلاة
ولم يحكم بكفره في ظاهر المذهب. وعن أحمد أنه قال: إذا منعوا الزكاة وقاتلوا عليها كما قاتلوا أبا بكر
لم يورثوا ولم يصل عليهم. وهذا حكم منه بكفرهم واختاره بعض أصحابنا. قال عبد الله بن مسعود
وما تارك الصلاة بمسلم، ووجه ذلك ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم وعضتهم الحرب قالوا
نؤديها قال لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. ولم ينقل انكار ذلك عن أحد
من الصحابة فدل على كفرهم. ووجه الأول أن عمر وغيره امتنعوا من القتال في بدء الامر ولو اعتقدوا
671

كفرهم لما توقفوا عنه ثم اتفقوا على القتال وبقي الكفر على أصل النفي ولان الزكاة فرع من فروع الدين
فلم يكفر بتركه كالحج، وإذا لم يكفر بتركه لم يكفر بالقتال عليه كأهل البغي، وأما الذين قال لهم
أبو بكر هذا القول فيحتمل انهم جحدوا وجوبها فإنه نقل عنهم انهم قالوا إنما كنا نؤدي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأن صلاته سكن لنا وليس صلاة أبي بكر سكنا لنا فلا نؤدي إليه. وهذا يدل على أنهم
جحدوا وجوب الأداء إلى أبي بكر رضي الله عنه، ولأن هذه قضية في عين ولم يتحقق من الذين
قال لهم أبو بكر هذا القول فيحتمل انهم كانوا مرتدين ويحتمل انهم جحدوا وجوب الزكاة ويحتمل
غير ذلك فلا يجوز الحكم به في محل النزاع
ويحتمل أن أبا بكر قال ذلك لأنهم ارتكبوا كبائر وماتوا عليها من غير توبة فحكم لهم بالنار ظاهرا
كما حكم لقتلى المجاهدين بالجنة ظاهرا والامر إلى الله تعالى في الجميع، ولأنه لم يحكم عليهم بالتخليد
ولا يلزم من الحكم بالنار الحكم بالكفر فقد أخبر عليه السلام أن قوما من أمته يدخلون النار ثم يخرجهم
الله تعالى منها ويدخلهم الجنة
* (مسألة) * (وإن ادعى ما يمنع وجوب الزكاة من نقصان الحول، أو النصاب، أو انتقاله عنه في
بعض الحول قبل قوله بغير يمين)
نص عليه احمد لأن الزكاة عبادة وحق لله فلم يستحلف عليه كالصلاة والحد
* (مسألة) * (والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما)
تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون إذا كان حرا مسلما تام الملك، روي ذلك عن عمر وعلي وابن
عمر وعائشة والحسن بن علي وجابر رضي الله عنهم، وبه قال جابر بن زيد وعطاء ومجاهد وربيعة
ومالك والحسن بن صالح وابن أبي ليلى والشافعي والعنبري وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وحكي عن
672

ابن مسعود والثوري والأوزاعي أنهم قالوا: تجب الزكاة ولا يخرج حتى يبلغ الصبي ويفيق المعتوه
وقال الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأبو وائل والنخعي وأبو حنيفة: لا تجب الزكاة في
أموالهما. قال أبو حنيفة: إلا العشر وصدقة الفطر وذلك لقوله عليه السلام " رفع القلم عن ثلاث: عن
الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق " (1) ولأنها عبادة محضة فلا تجب عليهما كالصلاة والحج
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ولي يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة "
أخرجه الدارقطني، وفي رواته المثنى بن الصباح وفيه مقال (2) وروي موقوفا عن عمر رضي الله عنه
وإنما تأكله الصدقة باخراجها، وإنما يجوز اخراجها إذا كانت واجبة لأنه ليس له أن يتبرع بمال اليتيم
ولان من وجب العشر في زرعه وجب نصف العشر في ورقه كالبالغ العاقل وتخالف الصلاة والصوم
فإنها مختصة بالبدن ونية الصبي ضعيفة عنها، والمجنون لا يتحقق منه نيتها والزكاة حق يتعلق بالمال
أشبه نفقة الأقارب والزوجات وأروش الجنايات، والحديث أريد به رفع الاثم والعبادات البدنية
بدليل وجوب العشر وصدقة الفطر والحقوق المالية، ثم هو مخصوص بما ذكرنا والزكاة في المال في
معناه ومقيسة عليه. إذا تقرر هذا فإن الولي يخرج عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة فوجب اخراجها
كزكاة البالغ العاقل والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه، ولأنه حق واجب على الصبي والمجنون فكان
على الولي أداؤه عنهما كنفقة أقاربه، وتعتبر نية الولي في الاخراج كما تعتبر النية من رب المال
* (مسألة) * (ويستحب للانسان تفرقة زكاته بنفسه ويجوز دفعها إلى الساعي، وعنه يستحب أن
يدفع إليه العشر ويتولى تفريق الباقي)
وإنما استحب ذلك ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها، وسواء كانت من الأموال
الظاهرة والباطنة. قال احمد: أعجب إلي أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز. وقال الحسن
ومكحول وسعيد بن جبير: يضعها رب المال في مواضعها. وقال الثوري احلف لهم واكذبهم ولا

(1) الظاهر أنه ذكر منه ما يتعلق بغرضه بالمعنى. والمروي عن
أحمد وأصحاب السنن الا الترمذي والحاكم عن عائشة مرفوعا " رفع القلم عن ثلاثة عن
النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلي حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر " والاولان والأخير
في واقعة مع علي وعمر " رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله حتى
يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم
(2) والحديث رواه الترمذي من طريقه أيضا وهو ضعيف لا يحتج به
673

تعطهم شيئا إذا لم يضعوها مواضعها. وقال طاوس: لا تعطهم. وقال عطاء: أعطهم إذا وضعوها
مواضعها. وقال الشعبي وأبو جعفر: إذا رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة. وقال إبراهيم
ضعوها في مواضعها، فإن أخذها السلطان أجزأك. وقال ثنا سعيد ثنا أبو عوانة عن مهاجر أبي الحسن
قال: أتيت أبا وائل وأبا بردة بالزكاة وهما على بيت المال فأخذاها، ثم جئت مرة أخرى فرأيت أبا
وائل وحده فقال لي: ردها فضعها مواضعها، وقد روي عن أحمد أنه قال: أما صدقة الأرض فيعجبني
دفعها إلى السلطان، وأما زكاة الأموال كالمواشي فلا بأس أن يضعها في الفقراء والمساكين، فظاهر
هذا أنه استحب دفع العشر خاصة إلى الأئمة، وذلك لأن العشر قد ذهب قوم إلى أنه مؤنة الأرض
يتولاه الأئمة كالخراج بخلاف سائر الزكاة. قال شيخنا: والذي رأيت في الجامع قال: أما صدقة
الفطر فيعجبني دفعها إلى السلطان، ثم قال أبو عبد الله قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب
ويشربون بها الخمور، قال ادفعها إليهم
* (مسألة) * (وعند أبي الخطاب دفعها إلى الإمام العادل أفضل)
اختاره ابن أبي موسى وهو قول أصحاب الشافعي، وممن قال بدفعها إلى الإمام الشعبي ومحمد بن
علي والأوزاعي لأن الإمام أعلم بمصارفها ودفعها إليه يبرئه ظاهرا وباطنا ودفعها إلى الفقير لا يبرئه باطنا
لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من الخلاف وتزول عنه التهمة، وكان ابن عمر يدفع
زكاته إلى من جاءه من سعاة ابن الزبير أو نجدة الحروري، وقد روي عن سهيل ابن أبي صالح قال
أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال وأريد أن أخرج زكاته وهؤلاء القوم على ما ترى فما
تأمرني، قال ادفعها إليهم، فأتيت ابن عمر فقال مثل ذلك، فأتيت أبا هريرة فقال مثل ذلك، فأتيت
أبا سعيد فقال مثل ذلك، وروي نحوه عن عائشة رضي الله عنهم. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يفرق
الأموال الظاهرة إلا الإمام لقول الله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ولان أبا بكر
674

رضي الله عنه طالبهم بالزكاة وقاتلهم عليها وقال: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقاتلتهم عليها. ووافقه الصحابة على هذا، ولان ما للإمام قبضه بحكم الولاية لا يجوز دفعه إلى المولى عليه
كولي اليتيم وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا على جواز دفعها بنفسه أنه دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه فأجزأه كما لو دفع الدين إلى
غريمه وكزكاة الأموال الباطنة والآية تدل على أن للإمام أخذها ولا خلاف فيه ومطالبة أبي بكر لهم
بها لكونهم لم يؤدوها إلى أهلها ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها لأن ذلك مختلف في إجزائه ولا
يجوز المقاتلة من أجله وإنما يطالب الإمام بحكم الولاية والنيابة عن مستحقها، فإذا دفعها إليهم جاز
لأنهم أهل رشد بخلاف اليتيم
وأما وجه فضيلة دفعها بنفسه فلانه إيصال للحق إلى مستحقه مع توفير أجر العمالة وصيانة حقهم
عن خطر الجناية، ومباشرة تفريج كربة مستحقها واغنائه بها مع اعطائها للأولى بها من محاويج أقاربه
وذوي رحمه وصلة رحمه بها فكان أفضل كما لو لم يكن اخذها من أهل العدل، فإن قيل فالكلام في
الإمام العادل والخيانة مأمونة في حقه، قلنا الإمام لا يتولى ذلك بنفسه وإنما يفوضه إلى نوابه فلا تؤمن
منهم الخيانة، ثم ربما لا يصل إلى المستحق الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه شئ منها وهم أحق
الناس بصلته وصدقته ومؤاساته، وقولهم إن أخذ الإمام يبرئه ظاهرا وباطنا، قلنا يبطل هذا بدفعها
إلى غير العادل فإنه يبرأ أيضا وقد سلموا أنه ليس بأفضل، ثم إن البراءة الظاهرة تكفي وقولهم إنه
تزول به التهمة، قلنا متى أظهرها زالت التهمة سواء أخرجها بنفسه أو دفعها إلى الإمام، ولا يختلف
المذهب أن دفعها إلى الإمام جائز سواء كان عادلا أو غير عادل، وسواء كانت من الأموال الظاهرة
أو الباطنة، ويبرأ بدفعها سواء تلفت في يد الإمام أو لا، أو صرفها في مصارفها أو لم يصرفها، لما ذكرنا
عن الصحابة رضي الله عنهم، ولان الإمام نائب عنهم شرعا فبرئ بدفعها إليه كولي اليتيم إذا قبضها
675

له، ولا يختلف المذهب أيضا في أن صاحب المال يجوز أن يفرقها بنفسه
(فصل) وإذا أخذ الخوارج والبغاة الزكاة أجزأت عن صاحبها، حكاه ابن المنذر عن أحمد
والشافعي وأبي ثور في الخوارج أنها تجزئ، وكذلك كل من أخذها من السلاطين أجزأت عن صاحبها
سواء عدل فيها أو جار، وسواء أخذها قهرا أو دفعها إليه اختيارا لما ذكرنا من حديث أبي صالح.
وقال إبراهيم: تجزئ عنك ما أخذ العشارون، وعن سلمة بن الأكوع أنه دفع صدقته إلى نجدة، وعن
ابن عمر أنه سئل عن مصدق ابن الزبير ومصدق نجدة فقال: إلى أيهما دفعت أجزأ عنك، وبهذا
قال أصحاب الرأي فيما غلبوا عليه وقالوا: إذا مر على الخوارج فعشره لا يجزئ عن زكاته. وقال أبو
عبيد: على من أخذ الخوارج منه الزكاة الإعادة لأنهم ليسوا بأئمة أشبهوا قطاع الطريق
ولنا قول الصحابة رضي الله عنهم من غير خلاف في عصرهم علمناه فيكون اجماعا، ولأنه دفعها
إلى أهل الولاية فأشبه دفعها إلى أهل البغي.
" مسألة " (ولا يجزئ اخراجها إلا بنية إلا أن يأخذها الإمام منه قهرا. وقال أبو الخطاب
لا تجزئه أيضا بغير نية)
مذهب عامة أهل العلم أن النية شرط في اخراج الزكاة، وحكي عن الأوزاعي أنها لا تجب لها
النية لأنها دين فلا تجب لها النية كسائر الديون، ولهذا يخرجها ولي اليتيم ويأخذها السلطان من الممتنع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " وأداؤها عمل ولأنها عبادة منها فرض ونفل
فافتقرت إلى النية كالصلاة وتفارق قضاء الدين فإنه ليس بعبادة فإنه يسقط باسقاط مستحقة وولي
اليتيم والسلطان ينويان عند الحاجة إذا ثبت ذلك فالنية أن يعتقد انها زكاته أو زكاة من يخرج عنه
كالصبي والمجنون ومحلها القلب لأنها محل الاعتقادات كلها
(فصل) ويجوز تقديم النية على الآداء بالزمن اليسير كسائر العبادات ولأنها يجوز التوكيل
فيها فاعتبار مقارنة النية للاخراج يؤدي إلى التقرين بماله ولو تصدق الانسان بجميع ماله ولم ينو به
676

الزكاة لم يجزئه وهذا قول الشافعي وقال أصحاب أبي حنيفة يجزئه استحسانا
ولنا انه لم ينو الفرض فلم يجزئه كما لو تصدق ببعض ماله وكما لو صلى مائة ركعة لم ينو الفرض بها
(فصل) ومن له مال غائب يشك في سلامته يجوز اخراج الزكاة عنه وتصح منه نية الاخراج
لأن الأصل بقاؤه فإن نوى أن هذا زكاة مالي إن كان سالما وإلا فهو تطوع فبان سالما أجزأت
لأنه أخلص النية للفرض ثم رتب عليها النقل وهذا حكمها لو لم يقله فإذا قاله لم يضر ولو قال هذا
زكاة مالي الغائب والحاضر صح لأن التعيين لا يشترط بدليل أن من له أربعون دينارا إذا أخرج
نصف دينار عنها صح وإن كان يقع عن عشرين غير معينة وان قال هذا زكاة مالي الغائب أو تطوع لم
تجزئه ذكره أبو بكر لأنه لم يخلص النية للفرض أشبه ما لو قال أصلي فرضا أو تطوعا وان قال هذا زكاة
مالي الغائب إن كان سالما والا فهو زكاة لمالي الحاضر أجزأه عن السالم منهما، فإن كانا سالمين فعن أحدهما
لأن التعيين ليس بشرط وان قال زكاة مالي الغائب وأطلق فبان تالفا لم يكن له أن يصرفه إلى كفارة غيره
انه عينه فأشبه ما لو أعتق عبدا عن كفارة عينها فلم يقع عنها لم يكن له صرفه إلى كفارة أخرى. هذا
التفريع فيما إذا كانت الغيبة مما لا تمنع اخراج زكاته في بلد رب المال أما لقربه أو لكون البلد لا يوجد
فيه أهل السهمان أو على الرواية التي نقول باجزاء اخراجها في بلد بعيد من بلد المال وإن كان له
موروث غائب فقال إن كان موروثي قد مات فهذه زكاة ماله الذي ورثته عنه فبان ميتا لم يجزئه لأنه
ينبني على غير أصل فهو كقوله ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي وإلا فهو نفل
(فصل) فإن اخذها الإمام منه قهرا أجزأت بغير نية وهذا قول الخرقي ومفهوم هذا الكلام
انه متى دفعها طوعا لم يجزئه الا بنية سواء دفعها إلى الإمام وغيره أما في حال القهر فتسقط النية لأن
تعذرها في حقه أسقطها كالصغير والمجنون وقال القاضي لا تشترط النية إذا أخذها الإمام في حال
الطوع والكره وهو قول الشافعي لأن أخذ الإمام بمنزلة القسم بين الشركاء فلم يحتج إلى نية ولان
للإمام ولاية في أخذها ولذلك يأخذها من الممتنع اتفاقا ولو لم تجزئه لما أخذها ولاخذها ثانيا
677

وثالثا حتى ينفد ماله لأن أخذها إن كان لاجزائها فهو لا يحصل بدون النية وإن كان لوجوبها فهو
باق بحاله واختار أبو الخطاب وابن عقيل انها لا تجزئه أيضا من غير نية فيما بينه وبين الله تعالى لأن
الإمام إما وكيله وإما وكيل الفقراء أو وكيلهما وأي ذلك كان فلا بد من نية رب المال ولأنها عبادة
تجب لها النية فلا تجزئ عمن وجبت عليه إذا كان من أهل النية بغير نية كالصلاة وإنما أخذت
منه حراسة للعلم الظاهر كالممتنع من الصلاة يحبر عليها ليأتي بصورتها ولو صلى بغير نية لم تجزئه والمرتد
يطالب بالشهادة فإذا أتى بها حكم باسلامه ظاهرا وإن لم يعتقد صحتها لم يصح اسلامه باطنا ومن نصر
القول الأول قال إن للإمام ولاية على الممتنع فقامت نيته مقام نيته كولي المجنون واليتيم وفارق الصلاة
فإن النيابة فيها لا تصح فلابد من نية فاعلها وقوله لا يخلو من كونه وكيلا له أو للفقراء أو لهما قلنا بل
هو وكيل على المالك والحاق الزكاة بالقسمة غير صحيح لأنها ليست عبادة ولا يعتبر لها نية بخلاف الزكاة
* (مسألة) * (وان دفعها إلى وكيله اعتبرت النية في الموكل دون الوكيل)
إذا وكل في دفع الزكاة فدفعها الوكيل إلى مستحقها قبل تطاول الزمن أجزأت نية الموكل ولم
يفتقر إلى نية الوكيل لأن الموكل هو الذي عليه الفرض فاكتفى بنيته ولان تأخر الأداء عن النية
بالزمن اليسير جائز على ما ذكرنا فإن تطاول الزمن فقال أبو الخطاب يجزئ كما لو تقارب الدفع وهو
ظاهر كلام شيخنا ها هنا والصحيح انه لابد من نية الموكل حال الدفع إلى الوكيل ونية الوكيل عند الدفع إلى
المستحق لئلا يخلو الدفع إلى المستحق عن نية مقارنة أو مقاربة ولو نوى الوكيل دون الموكل لم يجز
تتعلق الفرض بالموكل ووقوع الاجزاء عنه وإن دفعها إلى الإمام ناويا ولم ينو الإمام حال دفعها إلى
الفقراء جاز وان طال الزمن لأنه وكيل الفقراء
* (مسألة) * (ويستحب أن يقول عند الدفع اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما)
ويحمد الله على التوفيق لأدائها لما روي أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أعطيتم الزكاة
678

فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما " أخرجه ابن ماجة
* (مسألة) * (ويقول الآخذ آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورا)
(فصل) وان دفعها إلى الساعي أو الإمام شكره ودعا له لقول الله تعالى (خذ من أموالهم صدقة
تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم) وقال عبد الله بن أبي أوفى كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم
قال " اللهم صل على آل فلان " فأتاه أبي بصدقته فقال " اللهم صلى على آل أبي أوفى " متفق عليه والصلاة
ها هنا الدعاء والتبرك وليس هذا بواجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذا أو أمره يأخذ الزكاة منهم
لم يأمره بالدعاء ولان ذلك لا يجب على الفقير المدفوع إليه فالنائب أولى
* (مسألة) * ولا يجوز نقلها إلى بلد تقصر إليه الصلاة فإن فعل فهل تجزئه؟ على روايتين قال
أبو داود سمعت أحمد سئل عن الزكاة يبعث بها من بلد إلى بلد؟ قال لا، قيل وإن كان قرابته بها؟
قال لا. واستحب أكثر أهل العلم أن لا تنقل من بلدها وروي عن الحسن والنخعي انهما كرها نقل
الزكاة من بلد إلى بلد الا لذي قرابة وكان أبو العالية يبعث بزكاته إلى المدينة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ أخبرهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم وهذا
يختص فقراء بلدهم وقال سعيد حدثنا سفيان عن معمر عن بن طاوس عن أبيه قال في كتاب معاذ
ابن جبل من أخرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره ترد إلى مخلافه وروي عن عمر بن
عبد العزيز انه رد زكاة أتي بها من خراسان إلى الشام إلى خراسان ولما بعث معاذ الصدقة من اليمن
إلى عمر أنكر ذلك عمر وقال لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس
فترد في فقرائهم فقال معاذ ما بعثت إليك بشئ وأنا أجد من يأخذه مني، رواه أبو عبيد في الأموال
وروي أيضا عن إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين أن زيادا أو بعض الامراء بعث عمران على
الصدقة فلما رجع قال أين المال؟ قال أللمال بعثتني؟ أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله
679

صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان المقصود اغناء الفقراء بها فإذا
أبحنا نقلها أفضى إلى بقاء فقراء أهل ذلك البلد محتاجين فإن خالف ونقل ففيه روايتان إحداهما
تجزئه وهو قول أكثر أهل العلم واختارها أبو الخطاب لأنه دفع الحق إلى مستحقه فبرئ كالدين وكما
لو فرقها في بلدها والأخرى لا تجزئه اختارها أبن حامد لأنه دفع الزكاة إلى غير من أمر بدفعها إليه
أشبه ما لو دفعها إلى غير الأصناف
(فصل) فإن استغنى عنها فقرا أهل بلدها جاز نقلا نص عليه أحمد فقال قد تحمل الصدقة
إلى الإمام إذا لم يكن فقراء أو كان فيها فضل عن حاجتهم وقال أيضا لا تخرج صدقة قوم عنهم من
بلد إلى بلد الا أن يكون فيها فضل لكن الذي كان يجئ إلى المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
وعمر من الصدقة إنما كان عن فضل منهم يعطون ما يكفيهم ويخرج الفضل عنهم
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال باسناده عن عمرو بن شعيب أن معاذا لم يزل بالجند إذ بعثه
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدم على عمر فرده على ما كان عليه فبعث إليه معاذ بثلث
صدقة الناس فأنكر ذلك عمر وقال: لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية، لكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس
فتردها على فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشئ وأنا أجد من يأخذه مني، فلما كان العام الثاني
بعث إليه بشرط الصدقة فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها فراجعه عمر بمثل
ما راجعه فقال معاذ: ما وجدت أحدا يأخذ منى شيئا، وكذلك إذا كان ببادية ولم يجد من يدفعها
إليه فرقها على فقراء أقرب البلاد إليه
(فصل) ويستحب أن يفرق الصدقة في بلدها ثم الأقرب فالأقرب من القرى والبلدان. قال
أحمد في رواية صالح: لا بأس أن يعطي زكاته في القرى التي حوله ما لم تقصر الصلاة في اتيانها
ويبدأ بالأقرب فالأقرب، فإن نقلها إلى البعيد لتحري قرابة أو من كان أشد حاجة فلا بأس
ما لم يجاوز مسافة القصر
680

" مسألة " (فإن كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلده وفطرته في البلد الذي هو فيه)
قال احمد في رواية محمد بن الحكم: إذا كان الرجل في بلد وماله في بلد فأحب إلي أن يؤدي
حيث كان المال، فإن كان بعضه حيث هو وبعضه في مصر يؤدي زكاة كل مال حيث هو، فإن كان
غائبا عن مصره وأهله والمال معه فأسهل أن يعطي بعضه في هذا البلد بعضه في البلد الآخر، فأما
إن كان المال في البلد الذي هو فيه حتى يمكث فيه حولا تاما فلا يبعث بزكاته إلى بلد آخر، فإن كان
المال تجارة يسافر به فقال القاضي: يفرق زكاته حيث حال حوله في أي موضع كان، ومفهوم كلام
احمد في اعتباره الحول التام أنه يسهل في أن يفرقها في ذلك البلد وغيره من البلدان التي أقام بها في
ذلك الحول. وقال في الرجل يغيب عن أهله فتجب عليه الزكاة يزكيه في الموضع الذي أكثر مقامه
فيه، فأما زكاة الفطر فإنه يفرقها في البلد الذي وجبت عليه فيه سواء كان ماله فيه أو لم يكن لأنه سبب
وجوب الزكاة ففرقت في البلد الذي سببها فيه
(فصل) إذا أخذ الساعي الصدقة فاحتاج إلى بيعها لمصلحة من كلفة نقلها أو مرضها ونحوهما فله
ذلك لما روى قيس بن أبي حازم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء فسأل عنها فقال
المصدق: اني ارتجعتها بابل فسكت عنه. رواه أبو عبيد في الأموال وقال: الرجعة أن يبيعها ويشتري
بثمنها مثلها أو غيرها، فإن لم يكن حاجة إلى بيعها فقال القاضي: لا يجوز والبيع باطل وعليه الضمان
قال شيخنا: ويحتمل الجواز لحديث قيس فإن النبي صلى الله عليه وسلم سكت حين أخبره
المصدق بارتجاعها ولم يستفصل
" مسألة " (وإذا حصل عند الإمام ماشية استحب له وسم الإبل في أفخاذها والغنم في آذانها
فإن كانت زكاة كتب لله أو زكاة، وإن كانت جزية كتب صغارا أو جزية)
681

إنما استحب ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسميها، ولان الحاجة تدعو إلى ذلك لتمييزها من غنم
الجزية والضوال ولترد إلى مواضعها إذا شردت
ويسم الإبل والبقر في أفخاذها لأنه موضع صلب يقل ألم الوسم فيه وهو قليل الشعر فتطهر السمة
ويسم الغنم في آذانها لأنه مكان تظهر فيه السمة لا تضرر به الغنم
(فصل) قال ويجوز تعجيل الزكاة عن الحول إذا كمل النصاب ولا يجوز قبل ذلك
وجملة ذلك أنه متى وجد سبب وجوب الزكاة وهو النصاب الكامل جاز تقديم الزكاة، وبهذا
قال الحسن وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق وأبو عبيد، وحكي
عن الحسن أنه لا يجوز، وبه قال ربيعة ومالك وداود لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تؤدى
زكاة قبل حلول الحول " ولان الحول أحد شرطي الزكاة فلم يجز تقديم الزكاة عليه كالنصاب، ولان
للزكاة وقتا فلم يجز تقديمها عليه كالصلاة
ولنا ما روي علي أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في
ذلك، وفي لفظ في تعجيل الزكاة فرخص له في ذلك. رواه أبو داود، وقال يعقوب بن شيبة هو
أثبتها اسنادا، وروى الترمذي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر " انا قد أخذنا زكاة العباس
عام أول للعام " وفي لفظ قال " إنا كنا تعجلنا صدقة العباس لعامنا هذا عام أول " رواه سعيد عن عطاء
وابن أبي مليكة والحسن بن مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ولان تعجيل المال وجد سبب وجوبه
فجاز كتعجيل قضاء الدين قبل حلول أجله، وأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث، وكفارة
القتل بعد الجرح قبل الزهوق، وقد سلم مالك تعجيل الكفارة وفارق تقديمها قبل النصاب لأنه تقديم
لها على سببها فأشبه تقديم الكفارة على اليمين وكفارة القتل على الجرح، ولأنه قدمها على الشرطين
وههنا قدمها على أحدهما، وقولهم إن للزكاة وقتا قلنا الوقت إذا دخل في الشئ رفقا بالانسان كان له
682

أن يعجله ويترك الارفاق بنفسه كالدين المؤجل وكمن أدى زكاة مال غائب: وإن لم يكن على يقين
من وجوبها، ومن الجائز أن يكون المال تالفا في ذلك الوقت، وأما الصلاة والصيام فتعبد محض
والتوقيت فيها غير معقول فيجب أن يقتصر عليه
(فصل) فأما تعجيلها قبل ملك النصاب فلا يجوز بغير خلاف نعلمه، فلو ملك بعض نصاب
فعجل زكاته أو زكاه نصاب لم يجز لأنه تعجل الحكم قبل سببه
" مسألة " (وفي تعجيلها لأكثر من حول روايتان)
(إحداهما) لا يجوز لأن النص لم يرد بتعجيلها لأكثر من حول فاقتصر عليه (والثانية) يجوز
لأنه قد روي في حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وأما العباس فهي علي ومثلها " متفق عليه ورواه
الإمام أحمد، وروي أنه قال عليه السلام في حديث العباس " انا استسلفنا زكاة عامين " ولأنه
تعجيل لها بعد وجود النصاب أشبه تقديمها على الحول الواحد وما لم يرد به النص يقاس على المنصوص
إذا كان في معناه، ولا يعلم معنى سوى أنه تقديم للمال الذي وجد سبب وجوبه على شرط وجوبه
وهذا متحقق في التقديم في الحولين كتحققه في الحول الواحد، فعلى هذا إذا كان عنده أكثر من
النصاب فعجل زكاته لحولين جاز، وإن كان قدر النصاب مثل من عنده أربعون شاة فعجل شاتين
لحولين وكان المعجل من غيره جاز، وإن أخرج شاة منه وشاة من غيره أجزأ عن الحول الأول ولم
يجز عن الثاني لأن النصاب نقص، فإن تكمل بعد ذلك صار اخراج زكاته وتعجيله لها قبل كمال نصابها
وإن أخرج الشاتين جميعا من النصاب لم تجب الزكاة في الحول الأول إذا قلنا ليس له ارتجاع ما عجله
لأنه كالتالف فيكون النصاب ناقصا، فإن كمل بعد ذلك استؤنف الحول من حين كمل النصاب وكان
ما عجله سابقا على كمال النصاب فلم يجز عنه
(فصل) فأما تعجيلها لما زاد على الحولين فقال ابن عقيل: لا يجوز رواية واحدة لأن التعجيل
على خلاف الأصل وإنما جاز في عامين للنص فيبقى فيما عداه على قضية الأصل
683

" مسألة " (وإن عجلها عن النصاب وما يستفيده أجزأ عن النصاب دون الزيادة)
إذا ملك نصابا فعجل زكاته وزكاة ما يستفيده وما ينتج منه أو يربحه فيه أجزأه عن النصاب دون
الزيادة، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يجزئه لأنه تابع لما هو مالكه، وحكى ابن عقيل عن أحمد
رواية فيما إذا ملك مائتي درهم وعجل زكاة أربعمائة أنه يجزئه عنهما لأنه قد وجد سبب
وجوب الزكاة في الجملة بخلاف تعجيل الزكاة قبل ملك النصاب، وكذلك لو كان عنده نصاب من
الماشية فعجل زكاة نصابين
ولنا أنه عجل زكاة ما ليس في ملكه فلم يجز كالنصاب الأول، ولان الزائد من الزكاة على زكاة
النصاب إنما سببها الزائد في الملك فقد عجل الزكاة قبل وجود سببها فأشبه ما لو عجل الزكاة قبل ملك
النصاب، وقوله انه تابع قلنا إنما يتبع في الحول، فأما في الايجاب فإن الوجوب ثبت بالزيادة لا بالأصل
ولأنه إنما يصير له حكم بعد الوجود، فأما قبل ظهوره فلا حكم له في الزكاة
(فصل) وإن عجل زكاة نصاب من الماشية فتوالدت نصابا، ثم ماتت الأمهات وحال الحول على
النتاج أجزأ المعجل عنها لأنها دخلت في حول الأمهات وقامت مقامها فأجزأت زكاتها عنها، فإذا كان
عنده أربعون من الغنم فعجل عنها شاة ثم توالدت أربعين سخلة وماتت الأمهات وحال الحول على
السخال أجزأت المعجلة عنها لأنها كانت مجزئة عنها وعن أمهاتها لو بقيت فلان تجزئ عن أحدهما
أولى. وإن كان عنده ثلاثون من البقر فعجل عنها تبيعا ثم توالدت ثلاثين عجلة وماتت الأمهات وحال
الحول على العجول احتمل أن يجزئ عنها لأنها تابعة لها في الحول واحتمل أن لا يجزئ عنها لأنه
لو عجل عنها تبيعا مع بقاء الأمهات لم يجزئ عنها فلان لا يجزئ عنها إذا كان التعجيل عن غيرها أولى
وهكذا الحكم في مائة شاة إذا عجل عنها شاة فتوالدت مائة ثم ماتت الأمهات وحال الحول على السخال
وإن توالد نصفها ومات نصف الأمهات وحال الحول على الصغار ونصف الكبار، فإن قلنا بالوجه
الأول أجزأ المعجل عنهما جميعا، وإن قلنا بالثاني فعليه في الخمسين سخلة شاة لأنها نصاب لمم تؤد
684

زكاته، وليس عليه في العجول إذا كانت خمس عشر شئ لأنها لم تبلغ نصابا، وإنما وجبت الزكاة
فيها بناء على أمهاتها التي عجلت زكاتها، وإن ملك ثلاثين من البقر فعجل مسنة زكاة لها ولنتاجها فنتجت
عشرا أجزأته عن الثلاثين دون العشر ووجب عليه في العشر ربع مسنة، ويحتمل أن تجزئه المسنة
المعجلة عن الجميع لأن العشر تابعة للثلاثين في الوجوب والحول فإنه لولا ملكه للثلاثين لما وجب عليه
في العشر شئ فصارت الزيادة على النصاب منقسمة أربعة أقسام
(الأول) ما لا يتبع في وجوب ولا حول وهو المستفاد من غير الجنس فهذا لا يجزئ تعجيل
زكاته قبل وجوده وملك نصابه بغير خلاف
(الثاني) ما يتبع في الوجوب دون الحول وهو المستفاد من الجنس بسبب مستقل فلا يجزئ
تعجيل زكاته أيضا قبل وجوده مع الخلاف في ذلك وحكى ابن عقيل رواية أنه يجزئ
(الثالث) ما يتبع في الحول دون الوجوب كالنتاج والريح إذا بلغ نصابا فإنه يتبع أصله في الحول
فلا يجزئ التعجيل عنه قبل وجوده كالذي قبله
(الرابع) ما يتبع في الحول والوجوب وهو الربح والنتاج إذا لم يبلغ نصابا فهذا يحتمل وجهين:
(أحدهما) لا يجزئ تعجيل زكاته قبل وجوده كالذي قبله (والثاني) يجزئ لأنه تابع في الوجوب
والحول أشبه الموجود
* (مسألة) * (وإن عجل عشر الثمرة قبل طلوع الطلع والحصرم لم يجزه)
لأنه تقديم لها قبل وجود سببها فاما تعجيلها بعد وجود الطلع والحصرم وتعجيل عشر الزرع بعد
نباته فظاهر كلام القاضي أنه لا يجوز لأنه قال: كل ما تتعلق الزكاة فيه بشيئين حول ونصاب جاز تعجيل
زكاته فمفهومه أنه لا يجوز تعجيل زكاة غيره لأن الزكاة معلقة بسبب واحد وهو ادراك الزرع والثمرة،
فإذا قدمها كان قبل وجود سببها، لكن إن أداها بعد الادراك وقبل اليبس والتصفية جاز. وقال
أبو الخطاب: يجوز بعد ظهور الطلع والحصرم ونبات الزرع، ولا يجوز قبل ذلك لأن وجود الزرع
685

واطلاع النخل بمنزلة ملك النصاب والادراك بمنزلة حولان الحول فجاز تقديمها عليه، وتعلق الزكاة
بالادراك لا يمنع جواز التعجيل بدليل أن زكاة الفطر يتعلق وجوبها بهلال شوال وهو زمن
الوجوب ويجوز تعجيلها قبله
* (مسألة) * (وإن عجل زكاة النصاب فتم الحول وهو ناقص قدر ما عجله جاز)
لأن حكم ما عجله حكم الموجود في ملكه يتم النصاب به، فإذا زاد ماله حتى بلغ النصاب أو زاد
عليه وحال الحول أجزأ المعجل عن زكاته لما ذكرنا، فإن نقص أكثر مما عجله فقد نقص بذلك عن
كونه سببا للزكاة مثل من له أربعون شاة فعجل شاة، ثم تلفت أخرى فقد خرج عن كونه سببا للزكاة
فإن زاد بعد ذلك إما بنتاج أو شراء ما يتم به النصاب استؤنف الحول كمل النصاب ولم يجز
ما عجله كما ذكرنا من قبل
* (مسألة) * (وإن عجل زكاة المائتين فنتجت عند الحول سخلة لزمته شاة ثالثة)
وبما ذكرنا قال الشافعي في المسألتين. وقال أبو حنيفة: ما عجله في حكم التالف فقال في المسألة
الأولى لا تجب الزكاة ولا يكون المخرج زكاة. وقال في هذه المسألة: لا يجب عليه زيادة لأن ما عجله زال
ملكه عنه فلم يحسب من ماله كما لو تصدق به تطوعا
ولنا أن هذا نصاب تجب الزكاة فيه بحلول الحول فجاز تعجيلها منه كما لو كان أكثر من أربعين
ولان ما عجله بمنزلة الموجود في إجزائه عن ماله فكان بمنزلة الموجود في تعلق الزكاة به، ولأنها لو لم
تعجل كان عليه شاتان، فكذلك إذا عجلت لأن التعجيل إنما كان رفقا بالمساكين فلا يصير سببا
لنقص حقوقهم والتبرع يخرج ما تبرع به عن حكم الموجود في ماله، وهذا في حكم الموجود
في الاجزاء عن الزكاة
(فصل) وكل موضع قلنا لا يجزئه ما عجله عن الزكاة فإن كان دفعها إلى الفقراء مطلقا فليس له
686

الرجوع فيها، وإن كان دفعها بشرط أنها زكاة معجلة فهل له الرجوع؟ على وجهين يأتي توجيههما
إن شاء الله تعالى
(فصل) وإن عجل زكاة ماله ثم مات فأراد الوارث الاحتساب بها عن زكاة حوله لم يجز، وذكر
القاضي وجها في جوازه بناء على ما لو عجل زكاة عامين ولا يصح لأنه تعجيل للزكاة قبل وجود سببها
أشبه ما لو عجل زكاة نصاب لغيره ثم اشتراه وذلك لأن سبب الزكاة ملك النصاب وملك الوارث
حادث ولا يبني الوارث على حول الموروث، ولأنه لم يخرج الزكاة وإنما أخرجها غيره عن نفسه،
واخراج الغير عنه من غير ولاية ولا نيابة لا يجزئ ولو نوى فكيف إذا لم ينو؟ وقد قال أصحابنا:
لو أخرج زكاته وقال: إن كان موروثي قد مات فهذه زكاة ماله فبان أنه قد مات لم يقع الموقع وهذا
أبلغ ولا يشبه هذا تعجيل الزكاة لعامين لأنه ثم عجل بعد وجود السبب وأخرجها بنفسه بخلاف هذا
فإن قيل فإنه لو مات الموروث قبل الحول كان للوارث ارتجاعها فإذا لم يرتجعها احتسب بها كالدين
قلنا فلو أراد أن يحسب الدين عن زكاته لم يصح، ولو كان له عند رجل شاة من غصب أو قرض فأراد
أن يحسبها عن زكاته لم يجزئه
" مسألة " (وإن عجلها فدفعها إلى مستحقها فمات أو ارتد أو استغنى أجزأت عنه)
إذا دفع الزكاة المعجلة إلى مستحقها لم يخل من أربعة أقسام (أحدها) أن لا يتغير الحال ففي هذا
القسم يقع المدفوع موقعه ويجزئ عن المزكي ولا يلزمه بدله ولا له استرجاعه كما لو دفعها بعد وجوبها
(الثاني) أن يتغير حال الاخذ بأن يموت قبل الحول أو يستغنى أو يرتد فهذا في حكم القسم الذي
قبله وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: لا يجزئ لأن ما كان شرطا للزكاة إذا عدم قبل الحول لم
يجزء كما لو تلف المال أو مات ربه
ولنا أنه أدى الزكاة إلى مستحقها فلم يمنع الاجزاء تغير حاله كما لو استغني بها، ولأنه حق
أداه إلى مستحقه فبرئ منه كالدين يعجله قبل أجله وما ذكروه منتقض بما إذا استغنى بها والحكم
687

في الأصل ممنوع ثم الفرق بينهما ظاهر، فإن المال إذا تلف تبين عدم الوجوب فأشبه ما لو أدى إلى
غريمه دراهم يظنها عليه فتبين أنها ليست عليه، وكما لو أدى الضامن الدين فبان أن المضمون عنه قضاه
وفي مسألتنا الحق واجب وقد أخذه مستحقه (القسم الثالث) أن يتغير حال رب المال وسيأتي ذكر
ذلك إن شاء الله تعالى (القسم الرابع) أن يتغير حالهما فهو كالقسم الثالث
" مسألة " (وإن دفعها إلى غني فافتقر عند الوجوب لم يجزه)
لأنه لم يدفعها إلى مستحقها أشبه ما لو لم يفتقر
" مسألة " (وإن عجلها ثم تلف المال لم يرجع على الآخذ. وقال ابن حامد: إن كان الدافع الساعي
أو أعلمه أنها زكاة معجلة رجع عليه)
وجملة ذلك أن من عجل زكاة ماله فدفعها إلى مستحقها ثم تلف المال أو بعضه فنقص عن النصاب
قبل الحول أو تغير حال رب المال بموت أو ردة أو باع النصاب فقال أبو بكر: لا يرجع بها على الفقير
سواء أعلمه أنها زكاة معجلة أو لم يعلمه. قال القاضي: وهو المذهب عندي لأنها وصلت إلى الفقير فلم
يكن له ارتجاعها كما لو لم يعلمه، ولأنها زكاة دفعت إلى مستحقها فلم يجز ارتجاعها كما لو تغير حال الآخذ
وحده، وقال أبو عبد الله بن حامد: إن كان الدافع لها الساعي استرجعها بكل حال، وإن كان رب
المال وأعلمه أنها زكاة معجلة رجع بها، وإن أطلق لم يرجع وهذا مذهب الشافعي لأنه مال دفعه عما يستحقه
القابض في الثاني، فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق وجب رده كالأجرة إذا انهدمت الدار قبل السكنى، أما
إذا لم يعلمه فيحتمل أن يكون تطوعا ويحتمل أن يكون هبة فلم يقبل قوله في الرجوع، فعلى قول ابن
حامد إن كانت العين لم تتغير أخذها وان زادت زيادة متصلة بزيادتها لأنها تتبع في الفسوخ، وإن
كانت منفصلة أخذها دون زيادتها لأنها حدثت في ملك الفقير، وإن كانت ناقصة رجع على الفقير بالنقص
لأن الفقير قد ملكها بالقبض فكان نقصها عليه كالمبيع إذا نقص في يد المشتري ثم علم عيبه، وإن كانت
تالفة أخذ قيمتها يوم القبض لأن ما زاد بعد ذلك أو نقص فإنما هو في ملك الفقير فلم يضمنه كالصداق
يتلف في يد المرأة فإن تغير حالهما فهو كما لو تغير حال رب المال سواء
688

(فصل) إذا قال رب المال قد أعلمته أنها زكاة معجلة فلي الرجوع وأنكر الاخذ فالقول قوله
لأنه منكر والأصل عدم الاعلام وعليه اليمين، وإن مات الآخذ واختلف وارثه والمخرج فالقول قول
الوارث ويحلف أنه لا يعلم أن موروثه أعلم بذلك
(فصل) إذا تسلف الإمام الزكاة فهلكت في يده فلا ضمان عليه وكانت من ضمان الفقراء ولا
فرق بين أن يسأله ذلك رب المال أو الفقراء أو لم يسأله أحد لأن يده كيد الفقراء. وقال الشافعي
إن تسلفها من غير سؤال ضمنها لأن الفقراء رشد لا يولى عليهم، فإذا قبض بغير اذنهم ضمن
كالأب إذا قبض لابنه الكبير، وإن كان بسؤالهم كان من ضمانهم لأنه وكيلهم، وإن كان
بسؤال أرباب الأموال لم يجزهم الدفع وكان من ضمانهم لأنه وكيلهم، وإن كان بسؤالهما ففيه وجهان
أصحهما أنه في ضمان الفقراء
ولنا أن للإمام ولاية على الفقراء بدليل جواز قبض الصدقة لهم بغير اذنهم سلفا وغيره، فإذا
تلفت في يده من غير تفريط لم يضمن كولي اليتيم إذا قبض له، وما ذكروه يبطل بالقبض بعد الوجوب
وفارق الأب فإنه لا يجوز له القبض لولده الكبير لعدم ولايته عليه ولهذا يضمن ما قبضه له بعد وجوبه
* (باب ذكر أهل الزكاة) *
وهم ثمانية أصناف سماهم الله تعالى فقال (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله، والله عليم حكيم) وروي أن رجلا قال:
يا رسول الله أعطني من هذه الصدقات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره
في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك "
ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا يجوز دفع هذه الزكاة إلى غير هذه الأصناف إلا ما روي عن
أنس والحسن أنهما قالا: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة قاضية. والصحيح الأول لأن الله
تعالى قال (إنما الصدقات) وإنما للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه لأنها مركبة من حرفي نفي
واثبات وذلك كقوله تعالى (إنما الله إله واحد) أي لا إله الا الله وكقول النبي صلى الله عليه وسلم
" إنما الولاء لمن أعتق "
689

* (مسألة) * (الفقراء وهم الذين لا يجدون ما يقع موقعا من كفايتهم (الثاني) المساكين وهم
الذين يجدون معظم كفايتهم)
الفقراء والمساكين صنفان في الزكاة وصنف واحد في سائر الأحكام لأن كل واحد من الاسمين
ينطلق عليهما، فأما إذا جمع بين الاسمين وميز المسميين تميزا وكلاهما يشعر بالحاجة والفاقة وعدم
الغنى إلا أن الفقير أشد حاجة من المسكين لأن الله تعالى بدأ به وإنما يبدأ بالأهم فالأهم، وبهذا قال
الشافعي والأصمعي، وذهب أبو حنيفة إلى أن المسكين أشد حاجة، وبه قال الفراء وثعلب وابن قتيبة
لقول الله تعالى (أو مسكينا ذا متربة) وهو المطروح على التراب لشدة حاجته وأنشد
أما الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيان فلم يترك له سبد
فأخبر أن الفقير حلوبته وفق عياله
ولنا أن الله تعالى بدأ بالفقراء فيدل على أنهم أهم، وقال تعالى (أما السفينة فكانت لمساكين
يعملون في البحر) فأخبر أن المساكين لهم سفينة يعملون فيها. ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللهم أحيني
مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين " (1) وكان يستعيذ من الفقر، ولا يجوز أن
يسأل شدة الحاجة ويستعيذ من حالة أصلح منها، ولان الفقير مشتق من فقر الظهر فعيل بمعنى مفعول
أي مفقور وهو الذي نزعت فقره ظهره فانقطع صلبه قال الشاعر:
لما رأى لبد النسور تطايرت * رفع القوادم كالفقير الأعزل
أي لم يطق الطيران كالذي انقطع صلبه والمسكين مفعيل من السكون وهو الذي أسكنته الحاجة
ومن كسر صلبه أشد حالا من الساكن، فأما الآية فهي حجة لنا لأن نعت الله سبحانه المسكين بكونه
ذا متربة يدل على أن هذا النعت لا يستحقه باطلاق اسم المسكنة كما يقال ثوب ذو علم ويجوز التعبير عن
الفقير بالمسكين بقرينة وبغير قرينة والشعر أيضا حجة لنا، فإنه أخبر أن الذي كانت حلوبته وفق
العيال لم يترك له سبد فصار فقيرا لا شئ له
إذا تقرر ذلك فالفقير الذي لا يقدر على كسب ما يقع موقعا من كفايته ولا له من الأجرة أو من
المال الدائم ما يقع موقعا من كفايته ولا له خمسون درهما ولا قيمتها من الذهب مثل الزمنى والمكافيف

(1) رواه الحاكم من حديث أبي سعيد وصححه
690

وهم العميان لأن هؤلاء في الغالب لا يقدرون على اكتساب ما يقع موقعا من كفايتهم، وربما لا يقدرون
على شئ أصلا، قال الله تعالى (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) فمعنى قوله يقع موقعا من
كفايته أنه يحصل به معظم الكفاية أو نصفها مثل من يكفيه عشرة فيحصل له من مسكنه أو غيره
خمسة فما زاد، والذي لا يجد إلا ما لا يقع موقعا من كفايته كالذي لا يحصل إلا ثلاثة أو دونها فهذا
هو الفقير والأول هو المسكين، فأما الذي يسأل فيحصل الكفاية أو معظمها من مسئلته فهو من
المساكين لكنه يعطى جميع كفايته ليغتني عن السؤال، فإن قيل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ليس المسكين
بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه " (1)
قلنا هذا تجوز وإنما نفي المسكنة عنه مع وجودها حقيقة فيه مبالغة في اثباتها في الذي لا يسأل الناس كما
قال عليه السلام " ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " وأشباه
ذلك كقوله " ما تعدون الرقوب فيكم؟ قالوا: الذي لا يعيش له ولد، قال: لا ولكن الرقوب الذي
لم يقدم من ولده شيئا "
* (مسألة) * (ومن ملك من في الأثمان مالا يقوم بكفايته فليس يغني وإن كثرت قيمته)
وجملة ذلك أنه إذا ملك مالا تتم به كفايته من غير الأثمان، فإن كان مما لا تجب فيه الزكاة كالعقار
ونحوه لم يكن ذلك مانعا من أخذها نص عليه احمد فقال في رواية محمد ابن الحكم: إذا كان له عقار
يستغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة، وهذا قول الثوري
والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه خلافا لأنه فقير محتاج فيدخل في عموم الآية، فاما إن
ملك نصابا زكويا لا تتم به الكفاية كالمواشي والحبوب فله الاخذ من الزكاة. قال الميموني ذاكرت احمد
فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير ويكون له أربعون شاة ويكون له
الضيعة لا تكفيه يعطى من الصدقة؟ قال نعم، وذكر قول عمر: أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل
كذا وكذا، قلت فلهذا قدر من العدد أو الوقت؟ قال لم أسمعه. وهذا قول الشافعي. وقال أصحاب
الرأي: ليس له أن يأخذ منها لأنه تجب عليه الزكاة فلم تجب له لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ

(1) هذا الحديث وما بعده متفق عليهما من حديث أبي هريرة
691

" أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " فجعل الأغنياء من تجب عليهم الزكاة
وإذا كان غنيا لم يكن له الاخذ من الزكاة للخبر
ولنا أنه لا يملك ما يغنيه ولا يقدر على كسب ما يكفيه فجاز له الاخذ من الزكاة كما لو كان ما يملكه
لا تجب فيه الزكاة، ولأنه فقير فجاز له الاخذ لأن الفقر عبارة عن الحاجة، قال الله تعالى (يا أيها الناس
أنتم الفقراء إلى الله) وقال الشاعر: * واني إلى معروفها لفقير * أي محتاج وهذا محتاج فقيرا
غير غني، ولأنه لو كان ما يملكه لا زكاة فيه لكان فقيرا ولا فرق في دفع الحاجة بين المالين، فأما الخبر
فيجوز أن يكون الغنى الموجب للزكاة غير الغنى المانع منها لما ذكرنا من المعنى فيكون المانع منها
وجود الكفاية والموجب لها ملك النصاب جمعا بين الأدلة
(فصل) فإن ملك غير الأثمان ما يقوم بكفايته كمن له مكسب يكفيه أو أجرة عقار أو غيره
فليس له الاخذ من الزكاة وهذا قول الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وابن المنذر. وقال أبو حنيفة وأصحابه
إن كان المال مما لا تجب فيه الزكاة جاز الدفع إليه إلا أن أبا يوسف قال: إن دفع إليه الزكاة فهو قبيح
وأرجو أن يجزئه لأنه ليس بغني لما ذكرنا لهم في المسألة قبلها
ولنا ما روى الإمام أحمد ثنا يحيى بن سعيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عدي بن
الخيار عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه
الصدقة فصعد فيهما النظر فرأهما جلدين فقال " إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي
مكتسب " قال احمد: ما أجوده من حيث. وقال هو أحسنها اسنادا، ولان له ما يغنيه عن الزكاة
فلم يجز الدفع إليه كما لك النصاب
* (مسألة) * (وإن كان من الأثمان فكذلك في إحدى الروايتين والأخرى إن ملك خمسين
درهما أو قيمتها من الذهب فهو غني)
لا يجوز دفع الصدقة إلى غني لأجل الفقر والمسكنة بغير خلاف لأن الله تعالى جعلها للفقراء
والمساكين والغني غير داخل فيهم ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب "
692

واختلف العلماء في الغنى المانع من أخذ الزكاة فنقل عن أحمد فيها روايتان (إحداهما) أنه
ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من مكسب
أو تجارة أو أجر أو عقار أو نحو ذلك، ولو ملك من الحبوب أو العروض أو العقار أو السائمة
مالا تحصل به الكفاية لم يكن غنيا اختاره الخرقي وهذا قول الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق
وروي عن علي وابن مسعود انهما قالا لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو قيمتها أو عدلها
من الذهب لما روى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل وله ما يغنيه جاءت مسئلته
يوم القيمة خموشا أو خدوشا أو كدوحا في وجهه) فقيل يا رسول الله ما الغنى؟ قال " خمسون درهما أو
قيمتها من الذهب " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن فإن قيل هذا يرويه حكيم ابن جبير
وكان شعبة لا يروي عنه وليس بقوي في الحديث قلنا قد قال عبد الله بن عثمان لسفيان حفظي
أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير فقال سفيان حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن وقد قال علي
وعبد الله مثل ذلك
(الثانية) أن الغنى ما تحصل به الكفاية فإذا لم يكن محتاجا حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئا وإن
كان محتاجا حلت له المسألة وان ملك نصابا والأثمان وغيرهما في هذا سواء وهذا اختيار أبي الخطاب
وابن شهاب العكبري وقول مالك والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة بن المخارق " لا تحل المسألة
الا لاحد ثلاثة: رجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا فاقة
فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش " رواه مسلم فمد إباحة المسألة إلى وجود
إصابة القوام أو السداد ولان الحاجة هي الفقر والغني ضدها فمن كان محتاجا فهو فقير فيدخل في
عموم النص ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة، والحديث الأول فيه ضعف ثم يجوز أن تحرم
المسألة ولا يحرم أخذ الصدقة إذا جاءته من غير مسألة فإن المذكور فيه تحريم المسألة فيقتصر عليه
وقال الحسن وأبو عبيد الغنى ملك أوقية وهي أربعون درهما لما روى أبو سعيد الخدري قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف " وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين
درهما رواه أبو داود. وقال أصحاب الرأي: الغنى المانع من أخذ الزكاة هو الموجب لها وهو
ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان أو العروض المعدة للتجارة أو السائمة أو غيرها لقول النبي
693

صلى الله عليه وسلم لمعاذ " أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " فجعل الأغنياء من تجب
عليهم الزكاة فدل ذلك على أن من تجب عليه غني ومن لا تجب عليه ليس بغني فيكون فقيرا فتدفع الزكاة
إليه لقوله " فترد في فقرائهم " ولان الموجب للزكاة غنى والأصل عدم الاشتراك، ولان من لا نصاب
له لا تجب عليه الزكاة فلا يمنع منها كمن له دون الخمسين
ووجه الرواية الأولى أنه يجوز أن يكون الغنى المانع من أخذ الزكاة غير الموجب لها بدليل
حديث ابن مسعود وهو أخص من حديثهم فيجب تقديمه، ولان فيما ذكرنا جمعا بين الحديثين
وهو أولى من التعارض، ولان حديث معاذ إنما يدل على أن من تجب عليه الزكاة غني، أما أنه
يدل على أن من لا تجب عليه الزكاة فقير فلا، وعلى هذا فلا يلزم من عدم الغنى وجود الفقر فلا يدل
على جواز الدفع إلى غير الغني إذا لم يثبت فقره، وقولهم الأصل عدم الاشتراك قلنا قد قام دليله بما
ذكرنا فيجب الاخذ به والله أعلم
(فصل) فمن قال الغنى هو الكفاية سوى بين الأثمان وغيرها وجوز الاخذ لكل من لا كفاية
له وإن ملك نصبا من جميع الأموال، ومن قال بالرواية الأخرى فرق بين الأثمان وغيرها لحديث
ابن مسعود، ولان الأثمان آلة الانفاق المعدة له دون غيرها فجوز الاخذ لكل من لا يملك خمسين
درهما ولا قيمتها من الذهب ولا ما تحصل بها الكفاية من مكسب أو أجرة عقار أو غيره، فإن
كان له مال معد للانفاق من غير الأثمان فينبغي أن تعتبر الكفاية في حول كامل لأن الحول يتكرر
وجوب الزكاة بتكرره فيأخذ منها كل حول ما يكفيه إلى مثله والله أعلم
* (مسألة) * (الثالث: العاملون عليها وهم الجباة لها والحافظون لها)
العاملون على الزكاة هم الصنف الثالث من أصناف الزكاة وهم السعادة الذين يبعثهم الإمام لاخذها
من أربابها وجمعها وحفظها ونقلها ومن يعينهم ممن يسوقها ويرعاها ويحملها، وكذلك الحاسب
والكاتب والكيال والوزان والعداد وكل من يحتاج إليه فيها يعطى أجرته منها لأن ذلك من
مؤنتها فهو كعلفها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث على الصدقة سعاة ويعطيهم عمالتهم فبعث عمر وأبا موسى
وابن اللتبية وغيرهم وليس فيه اختلاف مع ما ورد من نص الكتاب ما يغني عن التطويل
* (مسألة) * (ويشترط أن يكون العامل مسلما أمينا من غير ذوي القربى ولا يشترط حريته ولا
فقره. وقال القاضي: لا يشترط اسلامه ولا كونه من غير ذوي القربى)
694

وجملة ذلك أن من شرط العامل أن يكون بالغا عاقلا أمينا لأن ذلك ضرب من الولاية والولاية
يشترط ذلك فيها، ولان الصبي والمجنون لا قبض لهما والخائن يذهب بمال الزكاة ويضيعه ويشترط
اسلامه، اختاره شيخنا وأبو الخطاب، وذكر الخرقي والقاضي أنه لا يشترط اسلامه لأنه إجارة على
عمل فجاز أن يتولاه الكافر كجباية الخراج وقيل عن أحمد في ذلك روايتان
ولنا أنه يشترط له الأمانة فاشترط له الاسلام كالشهادة، ولأنه ولاية على المسلمين فاشترط لها
الاسلام كسائر الولايات، ولان الكافر ليس بأمين، ولهذا قال عمر: لا تأمنوهم وقد خونهم الله.
وأنكر على أبي موسى تولية الكتابة نصرانيا. فالزكاة التي هي ركن الاسلام أولى، ويشترط كونه من
غير ذوي القربى إلا أن تدفع إليه أجرته من غير الزكاة. وقال أصحابنا: لا يشترط لأنها أجرة على
عمل تجوز للغني فجازت لذوي القربى كأجرة النقال وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي
ولنا أن الفضل بن عباس والمطلب بن ربيعة بن الحارث سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعثهما
على الصدقة فأبى أن يبعثهما وقال " إنما هذه الصدقة أوساخ الناس وانها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد "
وهذا ظاهر في تحريم أخذهم لها عمالة فلا تجوز مخالفته ويفارق النقال والحمال فإنه يأخذ أجرة لحمله
لا لعمالته، ولا يشترط حريته لأن العبد يحصل منه المقصود فأشبه الحر، ولا كونه فقيها إذا كتب له
ما يأخذه وحد له كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم لعماله فرائض الصدقة وكذلك كتب أبو بكر لعماله أو بعث
معه من يعرفه ذلك ولا يشترط كونه فقيرا لأن الله تعالى جعل العامل صنفا غير الفقراء والمساكين
فلا يشترط وجود معناهما فيه كما لا يشترط معناه فيهما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تحل
الصدقة لغني الا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل ابتاعها بماله أو لرجل كان
له رجل مسكين فتصدق على المسكين فاهدى المسكين إلى الغني " رواه أبو داود وذكر أصحاب
الشافعي انه يشترط الحرية لأنه ولاية فنافاها الرق كالقضاء ويشترط الفقه ليعلم قدر الواجب وصفته
ولنا ما ذكرنا ولا نسلم منافاة الرق للولايات الدينية فإنه يجوز أن يكون إماما في الصلاة ومفتيا
وراويا للحديث وشاهدا وهذه منه الولايات الدينية وأما الفقه فإنما يحتاج إليه في معرفة ما يأخذه
ويتركه ويحصل ذلك بالكتابة له كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه
(فصل) ذكر أبو بكر في التنبيه في قدر ما يعطى العامل روايتين إحداهما يعطى الثمن مما يجبيه
والثانية يعطى بقدر عمله، فعلى هذه الرواية يخير الإمام بين أن يستأجر العامل إجارة صحيحة بأجر
695

معلوم اما على عمل معلوم أو مدة معلومة بين أن يجعل له جعلا معلوما على عمله فإذا فعله استحق الجعل
وإن شاء بعثه من غير تسمية ثم أعطاه فإن عمر رضي الله عنه قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة
فلما رجعت عملني فقلت أعطه من هو أحوج إليه مني وذكر الحديث
(فصل) ويعطى منها أجرة الحاسب والكاتب والحاشر والخازن والحافظ والراعي ونحوهم
لأنهم من العاملين ويدفع إليهم من حصة العاملين فأما الكيال والوزن ليقبض العامل الزكاة فعلى
رب المال لأنه من مؤنة دفع الزكاة
* (مسألة) * (فإن تلفت الصدقة في يده من غير تفريط أعطي أجرته من بيت المال)
إذا تلفت الزكاة في يد الساعي من غير تفريط فلا ضمان عليه لأنه أمين ويعطى أجرته من بيت
المال لأنه لمصالح المسلمين وهذا من مصالحهم وان لم تتلف أعطى أجر عمله منها وكان أكثر من ثمنها
لأن ذلك من مؤنتها فجرى مجرى علفها ومداواتها وان رأى الإمام أعطاه أجره من بيت المال أو يجعل
له رزقا في بيت المال ولا يعطيه منها شيئا فعل وان تولى الإمام أو الوالي من قبله أخذ الصدقة
وقسمها لم يستحق منها شيئا لأنه يأخذ رزقه من بيت المال
(فصل) ويجوز للإمام أن يولي الساعي جبايتها وتفريقها وأن يوليه أحدهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم
ولى ابن اللتبية فقدم بصدقته على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي " وقال لقبيصة " أقم
يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " وأمر معاذا أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم فيردها في فقرائهم
ويروى أن زيادا ولى عمران بن حصين الصدقة فلما جاء قيل له أين المال؟ قال أو للمال بعثتني.
أخذناها كما كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود. وعن أبي جحيفة قال: أتانا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا
فوضعها في فقرائنا وكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا. أخرجه الترمذي
* (مسألة) * (الرابع: المؤلفة قلوبهم وهم السادة المطاعون في عشائرهم ممن يرجى إسلامه أو
يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة ايمانه أو اسلام نظيره أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها أو الدفع عن
المسلمين وعنه ان حكمهم انقطع)
696

المؤلفة قلوبهم قسمان: كفار ومسلمون، وهم جميعا السادة المطاعون في عشائرهم كما ذكرنا.
فالكفار ضربان (أحدهما) من يرجى إسلامه فيعطى لتقوى نيته في الاسلام وتميل نفسه إليه فيسلم فإن
النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أعطى صفوان بن أمية الأمان واستصبره صفوان أربعة أشهر لينظر في
أمره وخرج معه إلى حنين، فلما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم العطايا قال صفوان: مالي؟ فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم
إلى واد فيه إبل محملة فقال " هذا لك " فقال صفوان هذا عطاء من لا يخشى الفقر
(والضرب الثاني) من يخشى شره فيرجى بعطيته كف شره وكف شر غيره معه. فروى ابن عباس أن
قوما كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فإن أعطاهم مدحوا الاسلام وقالوا هذا دين حسن، وإن منعهم ذموا وعابوا.
وقال أبو حنيفة: انقطع سهم هؤلاء، وهو أحد أقوال الشافعي لما روي أن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا
فلم يعطه وقال: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولأنه لم ينقل عن عثمان ولا علي أنهم أعطوهم شيئا
من ذلك، ولان الله تعالى أظهر الاسلام وقمع المشركين فلا حاجة بنا إلى التأليف عليه
ولنا قول الله تعالى (والمؤلفة قلوبهم) وهذه الآية في سورة براءة وهي من آخر ما نزل من القرآن
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة من المشركين والمسلمين وأعطى أبو بكر رضي الله عنه عدي بن
حاتم حين قدم عليه من الصدقة بثلاثمائة حمل ثلاثين بعيرا، ومخالفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله
واطراحها بلا حجة لا يجوز، ولا يثبت النسخ بترك عمر وعثمان وعلي اعطاءهم، ولعلهم لم يحتاجوا لهم فتركوا
ذلك لعدم الحاجة إلى اعطائهم لا لسقوط سهمهم ومثل هذا لا يثبت به النسخ والله أعلم
وأما المسلمون فأربعة أضرب: (قوم) من سادات المسلمين لهم نظراء من الكفار، أو من المسلمين
الذين لهم نية حسنة في الاسلام، فإذا أعطوا رجي اسلام نظرائهم وحسن نياتهم فيجوز اعطاؤهم
لأن أبا بكر رضي الله عنه أعطى عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر مع حسن نياتهما واسلامهما
(الضرب الثاني) سادات مطاعون في قومهم يرجى بعطيتهم قوة ايمانهم ومناصحتهم في الجهاد فيعطون
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وعلقمة بن علاثة والطلقاء من أهل مكة
وقال للأنصار: " يا معشر الأنصار على ما تأسون؟ على لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما لا إيمان لهم وكلتكم
إلى إيمانكم " وروى البخاري عن عمرو بن تغلب أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى ناسا وترك ناسا، فبلغه عن
الذين ترك أنهم عتبوا فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " اني أعطي ناسا لما في قلوبهم من الجزع
697

والهلع، وأكل ناسا إلى ما في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب " وعن أنس قال: حين أفاء
الله على رسوله أموال هوازن طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا من قريش مائة من الإبل، فقال
ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويمنعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اني أعطي رجالا حديث عهد بكفر أتألفهم " متفق عليه
(الضرب الثالث) قوم في طرف بلاد الاسلام إذا أعطوا دفعوا عمن يليهم من المسلمين
(الضرب الرابع) قوم إذا أعطوا جبوا الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخاف فكل هؤلاء يجوز الدفع
إليهم من الزكاة لأنهم من المؤلفة قلوبهم فيدخلون في عموم الآية، وحكى حنبل عن أحمد أنه قال:
المؤلفة قد انقطع حكمهم اليوم والمذهب الأول لما ذكرنا، ولعل معنى قول احمد انقطع حكمهم أنه
لا يحتاج إليهم في الغالب، أو أن الأئمة لا يعطونهم اليوم شيئا لعدم الحاجة إليهم، فإنهم إنما يجوز
اعطاؤهم عند الحاجة إليهم والله سبحانه أعلم
(فصل) الخامس الرقاب وهم المكاتبون
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في ثبوت سهم الرقاب، ولا يختلف المذهب في أن المكاتبين من
الرقاب يجوز صرف الزكاة إليهم وهو قول الجمهور. وقال مالك: إنما يصرف سهم الرقاب في اعتاق
العبيد ولا يعجبني أن يعان منها مكاتب، وقوله مخالف لظاهر الآية لأن المكاتب من الرقاب لأنه
عبد واللفظ عام فيدخل في عمومه. إذا ثبت ذلك فإنه إنما يدفع إليه إذا لم يكن معه ما يقضي به كتابته
ولا يدفع إلى من معه وفاء كتابته شئ لأنه مستغن عنه في وفاء الكتابة، فإن كان معه بعض الكتابة
تمم له وفاء كتابته لأن حاجته لا تندفع إلا بذلك، وإن لم يكن معه شئ أعطي جميع ما يحتاج إليه لوفاء
الكتابة لما ذكرنا، ولا يعطى بحكم الفقر شيئا لأنه عبد ويجوز اعطاؤه قبل حلول كتابته لئلا يحل
النجم ولا شئ معه فتفسخ الكتابة ولا يدفع إلى مكاتب كافر شئ لأنه ليس من مصارف الزكاة
* (مسألة) * (ويجوز أن يشتري بها أسيرا مسلما نص عليه)
لأنه فك رقبة من الأسر فهو كفك رقبة العبد من الرق، ولان فيه اعزازا للدين فهو كصرفه إلى
المؤلفة قلوبهم، ولأنه يدفعه إلى الأسير في فك رقبته أشبه ما يدفعه إلى الغارم لفك رقبته من الدين
* (مسألة) * (وهل يجوز أن يشتري بها رقبة يعتقها؟ على روايتين)
698

اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في جواز الاعتاق من الزكاة فروي عنه جواز ذلك وهو قول
ابن عباس والحسن والزهري ومالك واسحق وأبي عبيد والعنبري وأبي ثور لعموم قوله تعالى (وفي
الرقاب) وهو متناول للقن، بل هو ظاهر فيه فإن الرقبة تنصرف إليه إذا أطلقت كقوله تعالى (فتحرير
رقبة) وتقدير الآية وفي اعتاق الرقاب، ولأنه اعتاق للرقبة فجاز صرف الزكاة فيه كدفعه في الكتابة
(والثانية) لا يجوز وهو قول إبراهيم والشافعي لأن الآية تقتضي صرف الزكاة إلى الرقاب كقوله
(في سبيل الله) يرد الدفع إلى المجاهدين كذلك ههنا، والعبد القن لا يدفع إليه شئ. قال احمد في
رواية أبي طالب قد كنت أقول: يعتق من زكاته ولكن أهابه اليوم لأنه يجر الولاء، وفي موضع آخر
قبل له فما يعجبك من ذلك؟ قال يعين في ثمنها فهو أسلم، وقد روي نحو هذا عن النخعي وسعيد بن
جبير فإنهما قالا: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في رقبة ويعين مكاتبا، وبه قال أبو
حنيفة وصاحباه: لأنه إذا أعتق من زكاته انتفع بالولاء من أعتقه فكأنه صرف الزكاة إلى نفسه وأخذ
ابن عقيل من هذه الرواية أن احمد رجع عن القول بالاعتاق من الزكاة، وهذا والله أعلم إنما كان على
سبيل الورع من احمد فلا يقتضي رجوعا لأن العلة التي علل بها جر الولاء ومذهبه في إحدى الروايتين
عنه إنما رجع من الولاء رد في مثله فلا ينتفع إذا باعتاقه من الزكاة
(فصل) ولا يجوز أن يشتري من زكاته من يعتق عليه بالرحم، فإن فعل عتق عليه ولم تسقط عنه الزكاة.
وقال الحسن. لا بأس أن يعتق أباه من الزكاة لأن دفع الزكاة لم يكن إلى أبيه، وإنما دفع الثمن إلى البائع
ولنا أن نفع زكاته عاد إلى أبيه فلم يجز كما لو دفعها إليه، ولان عتقه حصل بنفس الشراء مجازاة
وصلة للرحم فلم يجز أن يحسب له من الزكاة كنفقة أقاربه، ولو أعتق عبده المملوك له عن زكاته لم يجزئه
لأن أداء الزكاة عن كل مال من جنسه والعبد ليس من جنس ما تجب الزكاة فيه، وكذلك لو أعتق
عبدا من عبيد التجارة لم يجز لأن الزكاة تجب في قيمتهم لا في عينهم
* (مسألة) * (السادس الغارمون وهم المدينون وهم ضربان: (ضرب) غرم لاصلاح ذات البين،
(وضرب) غرم لاصلاح نفسه في مباح)
الغارمون ضربان (أحدهما) الغارمون لاصلاح نفوسهم ولا خلاف في استحقاقهم وثبوت سهمهم
في الزكاة، وأن المدينين العاجزين عن وفاء ديونهم منهم، لكن من غرم في معصية مثل أن يشتري
خمرا، أو يصرفه في زنا، أو قمار، أو غناء، أو نحوه لم يدفع إليه قبل التوبة شئ لأنه إعانة له على
699

المعصية وسنذكر ذلك، ولا يدفع إلى غارم كافر لأنه ليس من أهل الزكاة، ولذلك لم يدفع إلى فقيرهم
ومكاتبهم. وإن كان من ذوي القربى فقال أصحابنا: يجوز الدفع إليه لأن علة منعه من الاخذ منها لفقره
صيانته عن أكلها لكونها أوساخ الناس، وإذا أخذها للغرم صرفه إلى الغرماء فلا يناله دناءة وسخها. قال
شيخنا: ويحتمل أن لا يجوز لعموم النصوص في منعهم من أخذها وكونها لا تحل لهم، ولان دناءة أخذها
تحصل سواء أكلها أو لم يأكلها، ولا يدفع إلى غارم له ما يقضي به دينه لأن الدفع إليه لحاجته وهو مستغن عنها
(الضرب الثاني) من غرم لاصلاح ذات البين وهو أن يقع بين الحيين أو أهل القريتين عداوة
وضغائن يتلف بها نفس أو مال ويتوقف صلحهم عمن يتحمل ذلك فيسعى انسان في الاصلاح بينهم
ويتحمل الدماء التي بينهم والأموال فيسمى ذلك حمالة بفتح الحاء وكانت العرب تعرف ذلك فكان
الرجل منهم يتحمل الحمالة ثم يخرج في القبائل فيسأل حتى يؤديها فورد الشرع بإباحة المسألة فيها وجعل
لهم نصيبا من الصدقة، فروى مسلم باسناده عن قبيصة ابن المخارق قال: تحملت حمالة فأتيت النبي
صلى الله عليه وسلم وسألته فيها فقال " أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " ثم قال " يا قبيصة إن الصدقة
لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة فيسأل فيها حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت
ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يشهد
ثلاثة من ذوي الجحى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش
أو قواما من عيش وما سوى ذلك فهو سحت يأكلها صاحبها سحتا يوم القيامة " وروى أبو سعيد الخدري
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة " ذكر منهم الغارم
* (مسألة) * (السابع في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم)
هذا الصنف السابع من أصناف الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم، ولا خلاف في أنهم
الغزاة لأن سبيل الله عند الاطلاق هو الغزو (1) وقال الله تعال (وقاتلوا في سبيل الله) وقال (ويجاهدون

(1) هذا غير صحيح بل سبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته وجنته وهو الاسلام في جملته
وآيات الانفاق في سبيل الله تشمل جميع أنواع النفقة المشروعة. وماذا يقول في آيات الصد والاضلال عن
سبيل الله والهجرة في سبيل الله بل لا يصح أن يفسر سبيل الله في آيات القتال نفسها بالغزو لأن القتال
هو الغزو وإنما يكون في سبيل الله إذا أريد به أن يكون كلمة الله هي العليا ودينه هو المتبع، فسبيل الله في
الآية يعم الغزو الشرعي وغيره من مصالح الاسلام بحسب لفظه العربي ويحتاج التخصيص إلى دليل
صحيح. وكتبه محمد رشيد رضا
700

في سبيله) (1) وقال (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) ذكر ذلك في غير موضع من كتابه العزيز
(فصل) وإنما يستحق هذا السهم الغزاة الذين لا ديوان لهم وإنما يتطوعون بالغزو إذا نشطوا.
قال احمد: يعطي ثمن الفرس ولا يتولى مخرج الزكاة شراء الفرس بنفسه لأن الواجب إيتاء الزكاة،
فإن اشتراها بنفسه فما أعطى إلا فرسا، وكذلك الحكم في شراء السلاح والمؤنة. وقال في موضع آخر
إن دفع ثمن الفرس وثمن السيف فهو أعجب إلي، وإن اشتراه هو رجوت أن يجزئه. وقال أيضا:
يشتري الرجل من زكاته الفرس ويحمل عليه والقناة ويجهز الرجل، وذلك لأنه قد صرف الزكاة في
سبيل الله فجاز كما لو دفعها إلى الغازي فاشترى بها وقال: ولا يشتري من الزكاة فرسا يصير حبيسا
في سبيل الله ولا دارا ولا ضيعة يصيرها للرباط ولا يقفها على المجاهدين لأنه لم يؤت الزكاة لاحد
وهو مأمور بايتائها. قال: ولا يغزو الرجل على الفرس الذي أخرجه من زكاة ماله لأنه لا يجوز
أن يجعل نفسه مصرفا لزكاته كما لا يجوز أن يقضي بها دينه، ومتى أخذ الفرس الذي اشتريت بماله
صار هو مصرفا لزكاته
* (مسألة) * (ولا يعطى منها في الحج وعنه يعطي الفقير قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه)
اختلف الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك، فروي عنه أنه لا يصرف منها في الحج، وبه قال
مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وهي أصح لأن سبيل الله عند الاطلاق إنما
ينصرف إلى الجهاد، فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن
يحمل ما في آية الزكاة على ذلك لأن الظاهر ارادته به، ولان الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين محتاج
إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل
والغازي والمؤلف والغارم لاصلاح ذات البين، والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه
ولا حاجة به أيضا لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه، ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة
قد رفهه الله منها وخفف عنه إيجابها، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف، أو
دفعه في مصالح المسلمين أولى

(1) هذا اللفظ لا يوجد في القرآن وإنما يوجد فيه (يجاهدون في سبيل الله) وهو في سورة المائدة
الآية 57 وفيها أيضا " وجاهدوا في سبيله " وهي الآية 38
701

وروي عنه أن الفقير يعطى قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه، يروى اعطاء الزكاة في
الحج عن ابن عباس وعن ابن عمر الحج من سبيل الله وهو قول إسحاق لما روي أن رجلا جعل
ناقة له في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " اركبيها فإن الحج من سبيل الله " (1) رواه أبو داود
بمعناه والأول أولى، وأما الخبر فلا يمتنع أن يكون الحج من سبيل الله والمراد بالآية غيره لما ذكرنا
(فصل) فإذا قلنا يدفع في الحج منها فلا يعطى إلا بشرطين أحدهما أن يكون ممن ليس له ما يحج
به سواها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " وقال " لا تحل الصدقة إلا
لخمسة " ولم يذكر الحاج فيهم ولأنه يأخذ لحاجته لا لحاجة المسلمين إليه فاعتبرت فيه الحاجة كمن يأخذ
لفقره. الثاني أن يأخذ لحجة الفرض وكذلك ذكره أبو الخطاب لأنه يحتاج إلى اسقاط فرضه وابراء
ذمته، أما التطوع فله عنه مندوحة. وقال القاضي ظاهر كلام أحمد جوازه في الفرض والنفل معا
وهو ظاهر قول الخرقي لأن الكل من سبيل الله ولان الفقير لا فرض عليه فالفرض منه كالتطوع
فعلى هذا يجوز أن يدفع ما يحج به حجة كاملة وما يعينه في حجه، ولا يجوز أن يحج من زكاة نفسه
كما لا يجوز أن يغزو بها
* (مسألة) * (الثامن ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به دون المنشئ للسفر من بلده)
ابن السبيل هو الصنف الثامن من أصناف الزكاة ولا خلاف في استحقاقه وبقاء سهمه وهو
المسافر الذي ليس له ما يرجع به إلى بلده وإن كان يسار في بلده فيعطى ما يرجع به إلى بلده، وهذا
قول قتادة ونحوه قول مالك وأصحاب الرأي. وقال الشافعي هو المجتاز، ومن يريد انشاء السفر إلى
بلد أيضا فيدفع إليهما ما يحتاجان إليه لذهابهما وعودهما لأنه يريد السفر لغير معصية فأشبه المجتاز
ولنا ان السبيل هو الطريق وابن السبيل الملازم للطريق الكائن فيها كما يقال ولد الليل للذي
يكثر الخروج فيه والقاطن في بلده ليس في طريق ولا يثبت له حكم الكائن فيها ولهذا لا يثبت له
حكم السفر بعزمه عليه دون فعله ولأنه لا يفهم من ابن السبيل إلا الغريب دون من هو في وطنه ومنزله
وإن انتهت به الحاجة منتهاها فوجب أن يحمل المذكور في الآية على الغريب دون غيره وإنما يعطى
وله اليسار في بلده لأنه عاجز عن الوصول إليه والانتفاع به فهو كالمعدوم في حقه، فإن كان ابن السبيل
فقيرا في بلده أعطي لفقره، وكونه ابن سبيل لوجود الامرين فيه، ويعطى لكونه ابن سبيل قدر ما
يوصله إلى بلده لأن الدفع إليه للحاجة إلى ذلك فيقدر بقدرها
(فصل) وإن كان ابن السبيل مجتازا يريد بلدا غير بلده فقال أصحابنا يدفع إليه ما يكفيه في
مضيه إلى مقصده ورجوعه إلى بلده لأن فيه إعانة على السفر المباح وبلوغ الغرض الصحيح، لكن

(1) الحج من سبيل الله قطعا ولكن المتبادر من جعل قسم من الزكاة في سبيل الله انه ما يكون في مصالح الاسلام العامة
كتأمين طريق الحج وتسهيله مثلا وليس منه اعطاء الفقير ما يحج به فإن الفقير إنما يعطى لفقره ما يدفع به حاجته وحاجة من يمونه وهو لا يدخل في عموم كلمة سبيل الله. وكتبه محمد رشيد رضا
702

يشترط كون السفر مباحا إما قربة كالحج والجهاد وزيارة الوالدين أو مباحا كطلب المعاش وطلب
التجارات، وأما المعصية فلا يجوز الدفع إليه فيها لأنه إعانة عليها فهو كفعلها فإن وسيلة الشئ جارية
مجراه، وإن كان السفر للنزهة ففيه وجهان: أحدهما يدفع إليه لأنه غير معصية. والثاني لا يدفع إليه
لأنه لا حاجة به إلى هذا السفر. قال شيخنا ويقوى عندي انه لا يجوز الدفع للسفر إلى غير بلده لأنه
لو جاز ذلك لجاز للمنشئ للسفر من بلده ولان هذا السفر إن كان لجهاد فهو يأخذ له من سهم سبيل الله
وإن كان حجا فغيره أهم منه، وإذا لم يجز الدفع في هذين ففي غيرهما أولى، وإنما ورد الشرع بالدفع
إليه لرجوعه إلى بلده لأنه أمر تدعو حاجته إليه ولا غناء به عنه فلا يجوز إلحاق غيره به لأنه ليس في
معناه فلا يصح قياسه عليه ولأنه لا نص فيه فلا يثبت جوازه لعدم النص والقياس
* (مسألة) * (ويعطى الفقير والمسكين ما يغنيهما)
لأن الدفع إليهما للحاجة فيقدر بقدرها فإن قلنا إن الغنى هو ما تحصل به الكفاية أعطي ما يكفيه
في حول كامل لأن الحول يتكرر وجوب الزكاة بتكرره فينبغي أن يأخذ ما يكفيه إلى مثله ويعتبر وجود
الكفاية له ولعائلته ومن يمونه لأن كل واحد منهم مقصود دفع حاجته فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد.
وان قلنا إن الغنى يحصل بخمسين درهما جاز أن يأخذ له ولعائلته حتى يصير لكل واحد منهم خمسون
قال أحمد في رواية أبى داود فيمن يعطى الزكاة وله عيال يعطي كل واحد من عياله خمسين خمسين
* (مسألة) * (ويعطى العامل قدر أجرته)
لأن الذي يأخذه بسبب العمل فوجب أن يكون بمقداره (والمؤلف ما يحصل به التأليف لأنه المقصود)
" مسألة " (والغارم والمكاتب ما يقضيان به دينهما) لأن حاجتهما إنما تندفع بذلك
" مسألة " (والغازي ما يحتاج إليه لغزوه وإن كثر)
فيدفع إليه قدر كفايته وشراء السلاح والفرس إن كان فارسا وحمولته ودرعه وسائر ما يحتاج
إليه لغزوه وان كثر لأن الغزو إنما يحصل بذلك، ومتى ادعى انه يريد الغزو قبل قوله لأنه لا يمكن
إقامة البينة على نيته ويدفع إليه دفعا مراعى، فإن لم يغز رده لأنه أخذه لذلك، وان مضى إلى الغزو
فرجع من الطريق أو لم يتم الغزو الذي دفع إليه من أجله رد ما فضل معه لأن الذي أخذ لأجله لم يفعله كله
" مسألة " (ولا يزاد أحد منهم على ذلك لما ذكرنا)
ولان الدفع لحاجة فوجب أن يتقيد بها، وان اجتمع في واحد سببان كالغارم الفقير دفع إليه
لهما لأن كل واحد منهما سبب للاخذ فوجب أن يثبت حكمه حيث وجد
703

" مسألة " (ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم لما ذكرنا)
" مسألة " (ولا يعطي أحد منهم مع الغنى إلا أربعة: العامل والمؤلف والغارم لاصلاح ذات البين والغازي)
يجوز للعامل الاخذ مع الغنى بغير خلاف علمناه لأنه يأخذ أجر عمله ولان الله تعالى جعل العامل
صنفا غير الفقراء والمساكين فلا يشترط وجود معناهما فيه كما لا يشترط وجود معناه فيهما، وكذلك
المؤلف يعطى مع الغنى لظاهر الآية ولأنه يأخذ لحاجتنا إليه أشبه العامل ولأنهم إنما أعطوا لأجل
التأليف وذلك يوجد مع الغنى.
والغارم لاصلاح ذات البين والغازي يجوز الدفع إليهم مع الغنى وبهذا قال مالك والشافعي
وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر. وقال أبو حنيفة وصاحباه لا يدفع إلا إلى الفقير لعموم قوله
عليه السلام " أعلمهم ان عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " فظاهر هذا انها كلها
ترد في الفقراء. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة إلا لخمسة. لغاز في سبيل الله أو لغارم "
وذكر بقيتهم، ولان الله تعالى جعل الفقراء والمساكين صنفين وعد بعدهما ستة أصناف لم يشترط
فيهم الفقر فيجوز لهم الاخذ مع الغنى بظاهر الآية ولان هذا يأخذ لحاجتنا إليه أشبه العامل والمؤلف
ولان الغارم لاصلاح ذات البين إنما يوثق بضمانه ويقبل إذا كان مليئا ولا ملاءة مع الفقر، فإن أدى
الغرم من ماله لم يكن له الاخذ من الزكاة لأنه لم يبق غارما، وإن استدان وأداها جاز له الاخذ لبقاء الغرم
(فصل) وخمسة لا يأخذون إلا مع الحاجة وهم الفقراء والمساكين والمكاتب والغارم لمصلحة
نفسه في مباح وابن السبيل لأنهم يأخذون لحاجتهم لا لحاجتنا إليهم إلا أن ابن السبيل إنما تعتبر
حاجته في مكانه وإن كان له مال في بلده لأنه الآن كالمعدوم، وإذا كان الرجل غنيا وعليه دين
لمصلحة لا يطيق قضاءه جاز أن يدفع إليه ما يتم به قضاءه مع ما زاد عن حد الغنى، فإذا قلنا الغنى
يحصل بخمسين درهما وله مائة وعليه مائة جاز أن يعطى خمسين ليتم قضاء المائة من غير أن ينقص
غناؤه. قال أحمد لا يعطى من عنده خمسون درهما أو حسابها من الذهب إلا مدينا فيعطى دينه،
ومتى أمكنه قضاء الدين من غير نقص من الغنى لم يعط شيئا، وان قلنا إن الغنى لا يحصل إلا بالكفاية
وكان عليه دين إذا قضاه لم يبق له ما يكفيه أعطي ما يتم به قضاء دينه بحيث يبقى له قدر كفايته بعد
قضاء الدين على ما ذكرنا، وان قدر على قضائه مع بقاء الكفاية لم يدفع إليه شئ. وقد روي عن
أحمد أنه قال إذا كان له مائتان وعليه مثلها لا يعطى من الزكاة لأن الغنى خمسون درهما وهذا يدل على أنه
اعتبر في الدفع إلى الغارم كونه فقيرا، وإذا أعطي للغرم وجب صرفه إلى قضاء الدين، وان
أعطي للفقر جاز أن يقضي به دينه
704

(فصل) وإذا أراد الرجل دفع زكاته إلى الغارم فله أن يسلمها إليه ليدفعها إلى غريمه فإن دفعها
إلى الغريم قضاء الدين ففيه عن أحمد روايتان: إحداهما يجوز ذلك نص عليه أحمد في ما نقل عنه
أبو الحرث قال قلت لأحمد رجل عليه ألف وكان على رجل زكاة ماله ألف فأداها عن هذا الذي عليه
الدين يجوز هذا من زكاته؟ قال نعم ما أرى بذلك بأسا لأنه دفع الزكاة في قضاء دين المدين أشبه
ما لو دفعها إليه فقضى بها دينه. والثانية لا يجوز، قال أحمد أحب إلي أن يدفعه إليه حتى يقضي هو
عن نفسه، قيل هو محتاج يخاف أن يدفعه إليه فيأكله ولا يقضي دينه قال فقل له يوكله حتى يقضيه.
وظاهر هذا انه لا يدفعها إلى الغريم الا بوكالة الغارم لأن الدين إنما هو على الغارم فلا يصح قضاؤه الا
بتوكيله، ويحتمل أن يحمل هذا على الاستحباب ويكون قضاؤه عنه جائزا، وإن كان دافع الزكاة الإمام
جاز أن يقضيها عنه من غير توكيله لأن للإمام ولاية عليه في ايفاء الدين ولهذا يجبره عليه إذا امتنع منه
" مسألة " (وان فضل مع المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل شئ بعد حاجتهم لزمهم رده
والباقون يأخذون أخذا مستقرا فلا يردون شيئا، وظاهر كلام الخرقي ان المكاتب يأخذ أخذا مستقرا)
أصناف الزكاة قسمان: قسم يأخذون أخذا مستقرا فلا يراعى حالهم بعد الدفع وهم الفقراء
والمساكين والعاملون والمؤلفة فمتى أخذوها ملكوها ملكا مستقرا لا يجب عليهم ردها بحال.
وقسم يأخذون أخذا مراعى وهم أربعة المكاتبون والغارمون والغراة وابن السبيل فإن صرفوه في
الجهة التي استحقوا لاخذ لأجلها والا استرجع منهم، والفرق بين هذا القسم والذي قبله ان هؤلاء
أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم للزكاة، والقسم الأول صحل المقصود بأخذهم وهو غنى الفقراء
والمساكين وتأليف المؤلفين وأداء أجر العاملين، وان قضى المذكورون في القسم الثاني حاجتهم
وفضل معهم فضل ردوا الفضل لأنهم أخذوه للحاجة وقد زالت، وذكر الخرقي في غير هذا الباب
ان الغازي إذا فضل معه شئ بعد غزوه فهو له لأننا دفعنا إليه قدر الكفاية وإنما ضيق على نفسه.
وظاهر قول الخرقي في المكاتب انه يأخذ أخذا مستقرا فلا يرد ما فضل لأنه قال وإذا عجز المكاتب
ورد في الرق وكان قد تصدق عليه بشئ فهو لسيده ونص عليه أحمد في رواية المروذي والكوسج
ونقل عنه حنبل إذا عجز يرد ما في يديه في المكاتبين. وقال أبو بكر عبد العزيز إن كان باقيا بعينه
استرجع منه لأنه إنما دفع إليه ليعتق به ولم يقع. وقال القاضي كلام الخرقي محمول على أن الذي بقي
في يده لم يكن عين الزكاة وإنما نصرف فيها وحصل عوضها وفائدتها، ولو تلف المال الذي في يد
هؤلاء بغير تفريط لم يرجع عليهم بشئ
705

* (مسألة) * (وإن ادعى الفقر من عرف بالغنى لم يقبل قوله إلا ببينة)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أن المسألة لا تحل لاحد إلا لثلاثة: رجل أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من
ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو سدادا
من عيش " رواه مسلم، ولان الأصل بقاء الغنى فلم يقبل قوله بمجرده فيما يخالف الأصل، وهل يعتبر
في البينة على الفقر ثلاثة أو يكتفي باثنين فيه وجهان (أحدهما) لا يكتفي إلا بثلاثة لظاهر الخبر (والثاني)
يقبل اثنين لأن قولهما يقبل في الفقر بالنسبة في حقوق الآدميين المبنية على الشح والضيق ففي حق الله
تعالى أولى والخبر إنما ورد في حل المسألة فيقتصر عليه
* (مسألة) * (وإن ادعى أنه مكاتب، أو غارم، أو ابن سبيل لم يقبل قوله إلا ببينة)
لأن الأصل عدم ما يدعيه وبراءة الذمة، فإن كان يدعي الغرم من جهة اصلاح ذات البين فالامر
فيه ظاهر لا يكاد يخفى ويكفى اشتهار ذلك فإن خفي لم يقبل إلا بينة
* (مسألة) * (فإن صدق المكاتب سيده أو الغارم غريمه فعلى وجهين)
(أحدهما) يقبل لأن الحق في العبد لسيده، فإذا أقر بانتقال حقه عنه قبل، ولان الغريم إذا
صدق الغارم قبت عليه ما أقر به (والثاني) لا يقبل لأنه متهم في أن يواطئه ليأخذ المال به
* (مسألة) * (وإن ادعى الفقر من لم يعرف بالغنى قبل قوله لأن الأصل عدم الغنى)
فإن رآه جلدا وذكر أنه لا كسب له أعطاه من غير يمين بعد أن يخبره أنه لاحظ فيها لغني ولا لقوي
مكتسب. إذا كان الرجل صحيحا جلدا وذكر أنه لا كسب له أعطى من الزكاة وقبل قوله بغير يمين إذا
لم يعلم كذبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين الذين سألاه ولم يحلفهما، وفي بعض رواياته أنه قال
:
أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه من الصدقة فصعد فينا النظر فرآنا جلدين فقال " إن شئتما أعطيتكما
ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " رواه أبو داود
(فصل) وإن رآه متجملا قبل قوله أيضا. لأنه لا يلزم من ذلك الغنى بدليل قوله سبحانه
(يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) لكن ينبغي أن يخبره أنها زكاة لئلا يكون ممن لا تحل له، وإن
رآه ظاهر المسكنة أعطاه منها ولم يحتج أن يبين له شرط جواز الاخذ، ولا أن ما يدفعه إليه زكاة.
قال احمد رحمه الله وقد سئل عن الرجل يدفع زكاته إلى رجل هل يقول له هذه زكاة؟ فقال: يعطيه
ويسكت ولا يقرعه فاكتفى بظاهر حاله عن السؤال
* (مسألة) * (وإن ادعى أن له عيالا قلد وأعطى)
ذكره القاضي وأبو الخطاب كما يقلد في دعوى حاجته، ويحتمل أن لا يقبل إلا ببينة اختاره ابن
706

عقيل لأن الأصل عدمهم، ولا يتعذر إقامة البينة عليه وفارق ما إذا ادعى أنه لا كسب له لأنه يدعي
ما يوافق الأصل، ولان الأصل عدم الكسب والمال ويتعذر إقامة البينة عليه
* (مسألة) * (ومن سافر أو غرم في معصية لم يدفع إليه شئ فإن تاب فعلى وجهين)
من غرم في معصية كالخمر والزنا والقمار والغناء ونحوه لم يدفع إليه شئ قبل التوبة لأنه إعانة على
المعصية، وكذلك إذا سافر في معصية فأراد الرجوع إلى بلده لا يدفع إليه شئ قبل التوبة لما ذكرنا،
فإن تاب من المعصية فقال القاضي وابن عقيل: يدفع إليه لأن بقاء الدين في الذمة ليس من المعصية
بل يجب تفريغها والإعانة على الواجب قربة لا معصية فأشبه من أتلف ماله في المعاصي حتى افتقر فإنه
يدفع إليه من سهم الفقراء (والوجه الثاني) لا يدفع إليه لأنه استدانه للمعصية فلم يدفع إليه كما لو لم يتب
ولأنه لا يؤمن أن يعود إلى الاستدانة للمعاصي ثقة منه بأن دينه يقضى بخلاف من أتلف في المعاصي
فإنه يعطى لفقره لا لمعصيته، وكذلك من سافر إلى معصية ثم تاب أو أراد الرجوع إلى بلده يجوز
الدفع إليه في أحد الوجهين لأن رجوعه ليس بمعصية أشبه غيره، بل ربما كان رجوعه إلى بلده تركا
للمعصية واقلاعا عنها كالعاق يريد الرجوع إلى أبوية (والوجه الثاني) لا يدفع إليه لأن سبب ذلك
المعصية أشبه الغارم في المعصية
* (مسألة) * (ويستحب صرفها في الأصناف كلها فإن اقتصر على انسان واحد أجزأه، وعنه
لا يجزئه إلا ثلاثة من كل صنف إلا العامل فإنه يجوز أن يكون واحدا)
يستحب صرف الزكاة إلى جميع الأصناف، أو إلى من أمكن منهم لأنه يخرج بذلك من الخلاف
ويحصل الاجزاء يقينا، فإن اقتصر على انسان واحد أجزأه وهذا قول عمر وحذيفة وابن عباس،
وبه قال سعيد بن جبير والحسن وعطاء، واليه ذهب الثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي، وروي عن
النخعي إن كان المال كثيرا يحتمل الأصناف قسمه عليهم، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد
وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى: وقال عكرمة والشافعي: يجب أن
يقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف الستة الذين سهمانهم ثابتة قسمة على السواء
ثم حصة كل صنف منهم لا تصرف إلى أقل من ثلاثة أو أكثر، فإن لم يجد إلا واحدا صرف حصة
ذلك الصنف إليه. وروى الأثرم ذلك عن أحمد اختاره أبو بكر لأن الله تعالى جعل الصدقة لجميعهم
وشرك بينهم فيها فلم يجز الاقتصار على بعضهم كأهل الخمس
ولنا قول الله تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) وقول
النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " متفق
707

عليه، فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفا واحدا (1)، وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر
وقال لقبيصة " أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف
لم يجز صرفها إلى واحد، ولأنه لا يجب صرفها إلى جميع الأصناف إذا فرقها الساعي فكذلك المالك
ولأنه لا يجب عليهم تعميم أهل كل صنف بها فجاز الاقتصار على واحد كما لو وصى لجماعة لا يمكن حصرهم
ويخرج على هذين المعنيين الخمس فإنه يجب على الإمام تفريقه على جميع مستحقيه بخلاف الزكاة، وهذا
الذي اخترناه هو اللائق بحكمة الشرع وحسنه، إذ غير جائز أن يكلف الله سبحانه وتعالى من وجبت
عليه شاة أو صاع من البر أو نصف مثقال دفعه إلى ثمانية عشر نفسا، أو أحد وعشرين نفسا،
أو أربعة وعشرين من ثمانية أصناف لكل ثلاثة منهم ثمنها، الغالب تعذر وجودهم في الإقليم العظيم،
فكيف يكلف الله تعالى كل من وجبت عليه زكاة جمعهم وإعطاؤهم وهو سبحانه القائل (وما جعل عليكم
في الدين من حرج) وقال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وأظن من قال بوجوب دفعها
على هذا الوجه إنما يقوله بلسانه ولا يفعله، ولا يقدر على فعله، وما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا
في صدقة من الصدقات، ولا أحد من خلفائه، ولا من صحابته ولا غيرهم، ولو كان هذا هو الواجب
في الشريعة المطهرة لما أغفلوه ولو فعلوه مع مشقته لنقل ولما أهمل، إذ لا يجوز على أهل التواتر اهمال
نقل ما تدعو الحاجة إلى نقله لا سيما من كثرة من تجب عليهم الزكاة ووجود ذلك في كل زمان في كل
عصر وبلد، وهذا أمر ظاهر إن شاء الله تعالى، والآية إنما سيقت لبيان من يجوز الصرف إليه لا لايجاب
الصرف إلى الجميع بدليل أنه لا يجب تعميم كل صنف بها، فأما العامل فإنه يجوز أن يكون واحدا لأنه
إنما يأخذ أجر عمله فلم تجز الزيادة عليه مع الغناء عنه، ولان الرجل إذا تولى اخراجها بنفسه سقط سهم
العامل لعدم الحاجة إليه، فإذا جاز تركهم بالكلية جاز الاقتصار على بعضهم بطريق الأولى
(فصل) وقد ذكرنا أنه يستحب تفريقها على من أمكن من الأصناف وتعميمهم بها، فإن كان
المتولي لتفريقها الساعي استحب احصاء أهل السهمان من عمله حتى يكون فراغه من قبض الصدقات
بعد تناهي أسمائهم وانسابهم وحاجاتهم وقدر كفاياتهم ليكون تفريقه عقيب جمع الصدقة، ويبدأ
باعطاء العامل لأنه يأخذ على وجه المعاوضة فكان استحقاقه أولى، ولذلك إذا عجزت الصدقة عن أجره
تمم من بيت المال ولان ما يأخذه أجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف
عرقه " ثم الأهم فالأهم، وأهمهم أشدهم حاجة، ويعطى كل صنف قدر كفايته على ما ذكرنا، فإن فضلت
عن كفايتهم نقل الفاضل إلى أقرب البلاد إليه وإن نقصت أعطى كل انسان منهم ما يرى
* (مسألة) * (ويستحب صرفها إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم وتفريقها فيهم على قدر حاجتهم

(1) لم يقل أحد من المسلمين بجواز دفع جميع الزكاة إلى الفقراء
وحدهم مع وجود غيرهم من الأصناف معهم، ولا يتفق مع أصول أحد من أئمة الفقه أن يكون
حديث معاذ ناسخا لآية (إنما الصدقات) الخ وكذا ما بعده من الأحاديث
التي يجب حملها على أحوال أو وقائع لا تنافى الآية. ولم يقل عكرمة والشافعي
ولا احمد في الرواية الأخرى عنه انه يجب على من عليه صاع من زكاة الفطر ان
يتكلف البحث في البلد أو القطر 24 حاصلة من ضرب 3 في 8 فيدفعه إليهم كما
ذكره الشارح بعبارة كالتهكم أو التجهيل، وإنما يقولون بوجوب ما اعتمد هو انه
مستحب عند امكانه
708

إذا تولى الرجل تفريق زكاته استحب أن يبدأ بأقاربه الذين يجوز الدفع إليهم لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة " رواه الترمذي والنسائي ويخص ذوي الحاجة
لأنهم أحق، فإن استووا في الحاجة فأولاهم أقربهم نسبا
* (مسألة) * (ويجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه والى غريمه)
يجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه في الصحيح من المذهب لأنه صار معه في باب المعاملة كالأجنبي
يجري بينهما الربا فهو كالغريم يدفع زكاته إلى غريمه، ويجوز للمكاتب ردها إلى سيد بحكم الوفاء
أشبه إيفاء الغريم دينه بها. قال ابن عقيل: ويجوز دفع الزكاة إلى سيد المكاتب وفاء عن دين الكتابة
وهو الأولى لأنه أعجل لعتقه وأوصل إلى المقصود الذي كان الدفع من أجله لأنه إذا أخذه المكاتب
قد يدفعه وقد لا يدفعه: ونقل حنبل عن أحمد أنه قال: قال سفيان لا تعط مكاتبا لك من الزكاة.
قال وسمعت أبا عبد الله يقول: وأنا أرى مثل ذلك. قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يسئل: يعطى
المكاتب من الزكاة؟ قال المكاتب بمنزلة العبد وكيف يعطى، ومعناه والله أعلم لا يعطي مكاتبه من
الزكاة لأنه عبده وماله يرجع إليه إن عجز وإن عتق، وله ولاؤه، ولأنه لا تقبل شهادته لمكاتبه ولا شهادة
مكاتبه له فلم يعط من زكاته كولده، وكذلك يجوز للرجل دفع زكاته إلى غريمه لأنه من جملة الغارمين
فإن رده إليه الغارم فله أخذه. نص عليه احمد في رواية مهنا لأن الغريم قد ملكه بالأخذ أشبه ما لو
وفاه من مال آخر، وإن سقط الدين عن الغريم وحسبه زكاة لم تسقط عنه الزكاة لأنه مأمور بأدائها
وهذا اسقاط. قال مهنا: سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دين برهن وليس عنده قضاؤه
ولهذا الرجل زكاة مال يريد أن يفرقها على المساكين فيدفع إليه رهنه ويقول له: الدين الذي عليك
هو لك: يحسبه من زكاة ماله؟ قال لا يجزئه ذلك. فقلت له فيدفع إليه زكاته، فإن رده إليه قضاء من
ماله له أخذه؟ قال نعم. وقال في موضع آخر: وقيل له فإن أعطاه ثم رده إليه؟ قال إذا كان بحيلة فلا
يعجبني، قبل له فإن استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه إياها ثم ردها عليه وحسبها من الزكاة
قال إذا أراد بهذا احياء ماله فلا يجوز. فحصل من كلامه أن دفع الزكاة إلى الغريم جائز سواء دفعها
ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع ما استوفاه إليه، إلا أنه متى قصد بالدفع احياء ماله واستيفاء دينه لم يجز
لأن الزكاة لحق الله تعالى فلا يجوز صرفها إلى نفعه والله أعلم
(فصل) قال رحمه الله: (ولا يجوز دفعها إلى كافر ولا عبد، ولا فقيرة لها زوج غني)
قال الشيخ رحمه الله لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن زكاة المال لا تعطى لكافر ولا لمملوك. قال
ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، وقد قال
709

النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ " اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " فخصهم بصرفها إلى
فقرائهم كما خصهم بوجوبها على أغنيائهم، ولان المملوك لا يملك ما يدفع إليه، وإنما يملكه سيده فكأنه
دفع إلى السيد، ولأنه تجب نفقته على السيد فهو غني بغناه
(فصل) إلا أن يكون الكافر مؤلفا قلبه فيجوز الدفع إليه، وكذلك إن كان عاملا على إحدى
الروايتين وقد ذكرنا الخلاف فيه، وكذلك العبد إذا كان عاملا يجوز أن يعطى من الزكاة أجر عمله
وقد مضى ذكر ذلك
(فصل) والفقيرة إذا كان لها زوج غني ينفق عليها لم يجز دفع الزكاة إليها لأن الكفاية حاصلة
لها بما يصلها من النفقة الواجبة فأشبهت من له عقار يستغنى بأجرته، وإن لم ينفق عليها وتعذر ذلك
جاز الدفع إليها كما تعطلت منفعة العقار وقد نص احمد على هذا
* (مسألة) * (ولا إلى الوالدين وإن علوا، ولا إلى الولد وإن سفل)
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الولدين في الحال التي يجبر الدافع
إليهم على النفقة عليهم، ولان دفع زكاته إليهم تغنيهم عن نفقته ويسقطها عنه فيعود نفعها إليه فكأنه
دفعها إلى نفسه فلم يجز كما لو قضى بها دينه، وأراد المصنف بالوالدين الأب والام، وقوله وإن علوا
يعني آباءهما وأمهاتهما وإن ارتفعت درجتهم من الدافع، كأبوي الأب وأبوي الام من يرث منهم
ومن لا يرث، وقوله ولا إلى الولد وإن سفل، يعني وإن نزلت درجته من أولاد البنين وأولاد البنات
الوارث وغيره. نص عليه احمد فقال: لا يعطى الوالدين من الزكاة، ولا الولد، ولا ولد الولد، ولا
الجد ولا الجدة، ولا ولد البنت، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن ابني هذا سيد " يعني الحسن فجعله ابنه لأنه
من عمودي نسبه فأشبه الوارث، ولان بينهما قرابة جزئية وبعضية بخلاف غيرهما
* (مسألة) * قال (ولا إلى الزوجة)
وذلك اجماع. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة،
وذلك لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن أخذ الزكاة، فلم يجز دفعها إليها كما لو دفعها إليها
على سبيل الانفاق عليها
* (مسألة) * (ولا بني هاشم ولا مواليهم)
لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الصدقة لا تنبغي
لآل محمد إنما هي أوساخ الناس " أخرجه مسلم، وعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كخ كخ " ليطرحها وقال " أما شعرت انا لا نأكل الصدقة " متفق عليه، وسواء
710

أعطوا من خمس الخمس أو لم يعطوا لعموم النصوص، ولان منعهم من الزكاة لشرفهم وشرفهم باق
فيبقى المنع، فإن أعطوا منها لغزو أو حمالة جاز ذلك ذكره شيخنا، وإن كان الهاشمي عاملا، أو
غارما لم يجزئه الاخذ في أظهر الوجهين وقد ذكرنا ذلك
(فصل) وحكم مواليهم حكمهم عند احمد رحمه الله. وقال أكثر أهل العلم: يجوز الدفع إليهم
لأنهم ليسوا بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمنعوا الصدقة كسائر الناس
ولنا ما روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي
رافع اصحبني كيما تصيب منها، فقال لا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فسأله فقال " إنا لا تحل لنا الصدقة، وإن موالي القوم منهم " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي
وقال حديث حسن صحيح، ولأنهم ممن يرثه بنو هاشم بالتعصيب فلم يجز دفع الصدقة إليهم كبني هاشم
وقولهم انهم ليسوا بقرابة، قلنا هم بمنزلة القرابة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " الولاء لحمة كلحمة النسب "
ويثبت فيهم حكم القرابة من الإرث والعقل والنفقة فلا يمتنع ثبوت حكم تحريم الصدقة فيهم
(فصل) وروى الخلال باسناده عن أبي مليكة أن خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى عائشة
سفرة من صدقة فردتها وقالت: انا آل محمد لا تحل لنا الصدقة. وهذا يدل على تحريمها على أزواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم
* (مسألة) * (ويجوز لبني هاشم الاخذ من صدقة التطوع، ووصايا الفقراء، والنذور
وفي الكفارة وجهان)
قال احمد رحمه الله في رواية ابن القاسم إنما لا يعطون من الصدقة المفروضة فأما التطوع فلا، وعن أحمد
رواية أخرى أنهم يمنعون من صدقة التطوع أيضا لعموم قوله عليه السلام " انا لا تحل لنا
الصدقة " والأول أظهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المعروف كله صدقة " متفق عليه، وقال الله تعالى
(فمن تصدق به فهو كفارة له) وقال تعالى (فنظرة إلي ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم) ولا خلاف
في إباحة إيصال المعروف إلى الهاشمي والعفو عنه وانظاره. وقال أخوة يوسف (وتصدق علينا) والخبر
أريد به صدقة الفرض لأن الطلب كان لها والألف واللام تعود إلى المعهود، وروى جعفر بن محمد
عن أبيه عن جده أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقلت له أتشرب من الصدقة!
فقال إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة (1)، ويجوز أن يأخذوا من الوصايا للفقراء ومن النذور
لأنهما تطوع فأشبه ما لو وصى لهم، وفي الكفارة وجهان (أحدهما) يجوز لأنها ليست بزكاة ولا هي
أوساخ الناس فأشبهت صدقة التطوع (والثاني) لا يجوز لأنها واجبة لايجابه على نفسه أشبهت الزكاة

(1) بقي ان تعليل تحريم الصدقة عليهم بأنها من أوساخ أظهر في صدقة التطوع لما فيها من المنة بكونها اختيارية. وزكاة مال حق في النصاب. وتسمية المعروف صدقة مجاز واخوة يوسف لم تكن الصدقة محرمة عليهم. وتقدم مثل هذا في حواشي المغني
711

ولو أهدى المسكين مما تصدق به عليه إلى الهاشمي حل له لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مما تصدق
به على أم عطية وقال " انها بلغت محلها " متفق عليه
(فصل) وكل من حرم صدقة الفرض من الأغنياء وقرابة المتصدق ولكافر وغيرهم يجوز دفع
صدقة التطوع إليهم ولهم أخذها، قال الله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)
ولم يكن الأسير يومئذ الا كافرا، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي
وهي مشركة فقلت يا رسول الله: ان أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال " نعم صلي أمك "
وكسا عمر أخا له مشركا حلة كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه إياها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد " ان نفقتك على
أهلك صدقة، وأن ما تأكل امرأتك صدقة " متفق عليه (1)
(فصل) فأما النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن الصدقة جميعها كانت محرمة عليه فرضها ونقلها لأن
اجتنابها كان من دلائل نبوته فلم يكن ليحل بذلك بدليل أن في حديث سلمان الفارسي أن الذي أخبره
عن النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه له قال: انه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. وقال أبو هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قيل صدقة قال لأصحابه " كلوا " ولم يأكل، وان قيل هدية ضرب
بيديه وأكل معهم أخرجه البخاري. وقال في لحم تصدق به على بريرة " هو عليها صدقة وهو لينا هدية "
ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان أشرف الخلق وكان له من المغانم خمس الخمس والصفي فحرم نوعي الصدقة فرضها
ونفلها، وآله دونه في الشرف ولهم خمس الخمس وحده فحرموا أحد نوعيها وهو الفرض، وقد روي
عن أحمد أن صدقة التطوع لم تكن محرمة عليه والصحيح الأول إن شاء الله تعالى لما ذكرنا من
الأدلة والله تعالى أعلم
* (مسألة) * (وهل يجوز دفعها إلى سائر من تلزمه مؤنته من أقاربه أو إلى الزوج أو بني المطلب على روايتين)
الأقارب غير الوالدين قسمان: من لا يرث منهم دفع الزكاة إليه سواء كان انتفاء الإرث
لانتفاء سببه لكونه بعيد القرابة ليس من أهل الميراث في حال أو كان لمانع مثل أن يكون محجوبا
عن الميراث كالأخ المحجوب بالابن والعم المحجوب بالأخ وابنه فيجوز دفع الزكاة إليه لأنه لا قرابة
جزئية بينهما ولا ميراث فأشبها الأجانب. والثاني من يرث كالأخوين اللذين يرث كل واحد منهما
الآخر ففيه روايتان: إحداهما يجوز لكل واحد منهما دفع زكاته إلى الاخر وهي الظاهرة عنه
رواها عنه الجماعة قال في رواية إسحق بن إبراهيم وإسحاق بن منصور وقد سأله يعطى الأخ والأخت
والخالة من الزكاة؟ قال يعطى كل القرابة إلا الأبوين والولد وهذا قول أكثر أهل العلم لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " الصدقة على المسكين صدقة وهي لذي الرحم اثنتان صدقة وصلة " فلم يشترط نافلة ولا

(1) وحديث أسماء متفق عليه أيضا وقال سفيان بن عيينة أحد رواته عند البخاري: فأنزل الله فيها (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين)
712

فريضة ولم يفرق بين الوارث وغيره ولأنه ليس من عمودي نسبه فأشبه الأجنبي (والرواية الثانية)
لا يجوز دفعها إلى الموروث وهو ظاهر قول الخرقي لأن على الوارث مؤنة الموروث فإذا دفع إليه الزكاة
أغناه عن مؤنته فيعود نفع زكاته إليه فلم يجز كدفعها إلى والده أو قضاء دينه بها، والحديث يحتمل
صدقة التطوع فيحمل عليها. فعلى هذا إن كان أحدهما يرث الآخر ولا يرثه الآخر كالعمة مع ابن
أخيها والعتيق مع معتقه فعلى الوارث منهما نفقة موروثة وليس له دفع زكاته إليه على هذه الرواية
وليس على الموروث منهما نفقة وارثة ولا يمنع من دفع الزكاة إليه لانتفاء المقتضي للمنع، ولو كان
أخوان لأحدهما ابن والآخر لا ولد له فعلى أبي الابن نفقة أخيه وليس له دفع زكاته إليه وللذي لا
ولد له دفع زكاته إلى أخيه ولا تلزمه نفقته لأنه محجوب عن ميراثه، ونحو هذا قول الثوري. فأما
ذوو الأرحام في الحال يرثون فيها فيجوز دفعها إليهم في ظاهر المذهب لأن قرابتهم ضعيفة لا يرث
بها مع عصبة ولا ذي فرض غير أحد الزوجين فلم يمنع دفع الزكاة كقرابة سائر المسلمين فإن ماله
بصير إليهم عند عدم الوارث
(فصل) فإن كان في عائلته من لا يجب عليه الانفاق عليه كيتيم أجنبي، فظاهر كلام أحمد انه
لا يجوز دفع زكاته إليه لأنه ينتفع بدفعها إليه لاغنائه بها عن مؤنته. والصحيح إن شاء الله جواز دفعها
إليه لأنه داخل في الأصناف المستحقين للزكاة ولم يرد في منعه نص ولا اجماع ولا قياس صحيح
فلم يجز اخراجه عن عموم النص بغير دليل. وقد روى البخاري ان امرأة عبد الله سألت النبي صلى الله عليه وسلم
عن بني أخ لها أيتام في حجرها فتعطيهم زكاتها؟ قال " نعم " فإن قيل فهو ينتفع بدفعها إليه قلنا قد
لا ينتفع به لامكان صرفها في مصالحه التي لا يقوم بها الدافع، وان قدر الانتفاع به فإنه نفع لا يسقط
به واجبا عليه ولا يجتلب به مالا إليه فلم يمنع ذلك الدفع كما لو لم يكن من عائلته
(فصل) ويجوز أن يعطي الانسان ذا قرابته من الزكاة لكونه غارما أو مؤلفا أو عاملا أو غارما
لاصلاح ذات البين ولا يعطى لغير ذلك
(فصل) وفي دفع الزكاة إلى الزوج روايتان: إحداهما لا يجوز دفعها إليه اختارها أبو بكر وهو
مذهب أبو حنيفة لأنه أحد الزوجين فلم يجز دفع الزكاة إليه كالآخر ولأنها تنتفع بدفعها إليه لأنه إن كان
عاجزا عن الانفاق عليها تمكن بأخذ الزكاة من الانفاق فيلزمه وان لم يكن عاجزا لكنه
أيسر بها فلزمته نفقة الموسرين فينتفع بها في الحالين فلم يجز لها ذلك كما لو دفعتها في أجرة دار أو
نفقة رقيقها أو بهائمها، فإن قيل فيلزم على هذا الغريم فإنه يجوز له دفع زكاته إلى غريمه ويلزم
713

الاخذ بذلك وفاء دينه، قلنا الفرق بينهما من وجهين: أحدهما لن حق الزوجة في النفقة آكد
من حق الغريم بدليل ان نفقة المرأة مقدمة في مال المفلس على وفاء دينه وانها تملك أخذها من ماله
بغير علمه إذا امتنع من أدائها. والثاني ان المرأة تنبسط في مال زوجها بحكم العادة ويعد مال كل
واحد منهما مالا للآخر. ولهذا قال ابن مسعود في عبد سرق مرآة امرأة سيده: عبدكم سرق
مالكم، ولم يقطعه وروى ذلك عن عمر. والرواية الثانية يجوز للمرأة دفع زكاتها إلى زوجها
وهو مذهب الشافعي وابن المنذر وطائفة من أهل العلم لأن زينب امرأة عبد الله بن مسعود
قالت يا رسول الله انك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن
مسعود انه هو وولده أحق من تصدقت عليهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدق ابن مسعود زوجك وولدك
أحق من تصدقت به عليهم " رواه البخاري ولأنه لا تجب نفقته فلم يمنع دفع الزكاة إليه كالأجنبي،
وبهذا فارق الزوجة فإن نفقتها واجبة عليه ولان الأصل جواز الدفع إلى الزوج لدخوله في عموم
الأصناف المسمين في الزكاة وليس في المنع نص ولا اجماع وقياسه على من يثبت المنع في حقه لا يصح
لوضوح الفرق بينهما فيبقى جواز الدفع ثابتا والاستدلال بهذا أقوى من الاستدلال بحديث ابن مسعود
لأنه في صدقة التطوع لقولها أردت أن أتصدق بحلي لي ولا تجب الصدقة بالحلي وقول النبي صلى الله عليه وسلم
" زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم " والولد لا تدفع إليه الزكاة
(فصل) وهل يجوز دفع الزكاة إلى بني المطلب على روايتين: إحداهما ليس لهم ذلك نقلها عنه
عبد الله بن أحمد وغيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا اسلام إنما
نحن وهم شئ واحد " وفي لفظ رواه الشافعي في مسنده " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد "
وشبك بين أصابعه ولأنهم يستحقون من خمس الخمس فمنعوا من الزكاة كبني هاشم. وقد أكد
ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم علل منعهم من الصدقة باستغنائهم عنها بخمس الخمس فقال " أليس في
خمس الخمس ما يغنيكم " والرواية الثانية لهم الاخذ منها وهو قول أبي حنيفة لدخولهم في عموم الصدقات
لكن خرج بنو هاشم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ان الصدقة لا تنبغي لآل محمد " فوجب أن يختص المنع
بهم ولا يصح قياسهم على بني هاشم لأن بني هاشم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف وهم
آل النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه بمجرد القرابة بدليل
ان بني عبد شمس وبنى نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئا وإنما شاركوهم بالنصرة أو بهما
جميعا والنصرة لا تقتضي منع الزكاة
714

* (مسألة) * (وان دفعها إلى من لا يستحقها وهو لا يعلم ثم علم لم يجزه إلا الغني إذا ظنه
فقيرا في أحدي الروايتين)
إذا دفع الزكاة إلى من لا يستحقها جاهلا بحاله كالعبد والكافر والهاشمي وقرابة المعطي ممن
لا يجوز دفعها إليه لم يجزئه رواية واحدة لأنه ليس بمستحق ولا يخفى حاله غالبا فلم يجزئه الدفع إليه
كديون الآدميين. فأما ان أعطى من يظنه فقيرا فبان غنيا ففيه روايتان: إحداهما يجزئه اختارها
أبو بكر وهو قول الحسن وأبي عبيد وأبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعطى الرجلين الجلدين وقال " إن شئتما
أعطيتكما منها ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " وقال للرجل الذي سأله من الصدقة
" إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك " ولو اعتبر حقيقة الغنى لما اكتفى بقولهم. وروى
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال رجل لاتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا
يتحدثون: تصدق على غني، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد تقبلت لعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله "
رواه النسائي. والرواية الثانية لا يجزيه لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه فلم يخرج من عهدته كما لو
دفعها إلى كافر أو ذي قرابة وكديون الآدميين. وهذا قول الثوري وأبي يوسف وابن المنذر،
وللشافعي قولان كالروايتين والأول أولى إن شاء الله تعالى لأن الفقر والغنى يعسر الاطلاع عليه
والمعرفة بحقيقته قال الله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم) فاكتفى بظهور
الفقر ودعواه بخلاف غيره والله أعلم.
(فصل) وصدقة التطوع مستحبة في جميع الأوقات لقول الله تعالى (من ذا الذي يقرض الله
قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) وأمر بالصدقة في آيات كثيرة وحث عليها ورغب فيها،
وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد
إلى الله إلا طيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل "
متفق عليه. وصدقة السر أفضل من العلانية لقول الله تعالى (إن تبدو الصدقات فنعما هي، وإن
تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " سبعة يظلهم الله
في ظله يوم لا ظل إلا ظله " ذكر منهم رجلا " تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "
متفق عليه. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " صدقة السر تطفئ غضب الرب " رواه الترمذي
* (مسألة) * (وأفضل ما تكون في شهر رمضان وأوقات الحاجات)
لقول الله تعالى (أو اطعام في يوم ذي مسغبة) ولان الحسنات تضاعف في شهر رمضان وفيها
715

إعانة على أداء الصوم المفروض، ومن فطر صائما كان له مثل أجره. وتستحب الصدقة على ذي القرابة
لقوله سبحانه (يتيما ذا مقربة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم
اثنتان صدقة وصلة " وهو حديث حسن، وسألت زينب امرأة ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم هل
يسعها أن تضع صدقتها في زوجها وبني أخ لها يتامى قال " نعم لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة "
رواه النسائي. ويستحب أن يخص بالصدقة من اشتدت حاجته لقول الله تعالى (أو مسكينا ذا متربة)
* (مسألة) * (وتستحب الصدقة بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وابدأ بمن تعول " متفق عليه فإن تصدق
بما ينقص مؤنة من تلزمه مؤنته اثم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " كفى بالمرء اثما أن يضيع من يقوت " وروى
أبو هريرة قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي دينار، فقال " تصدق
به على نفسك " فقال عندي آخر، قال " تصدق به على ولدك " قال عندي آخر، قال " تصدق به
على زوجك " قال عندي آخر، قال " تصدق به على خادمك " قال عندي آخر، قال " أنت أبصر "
رواهما أبو داود، فإن وافقه عياله على الايثار فهو أفضل لقوله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أفضل الصدقة جهد من مقل إلى فقير في السر "
* (مسألة) * (ومن أراد الصدقة بماله كله وهو يعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة فله
ذلك وإن لم يثق من نفسه بذلك كره له)
من أراد الصدقة بجميع ماله وكان وحده أو كان لمن يمونه كفايتهم وكان مكتسبا أو واثقا من
نفسه بحسن التوكل والصبر على الفقر والتعفف عن المسألة فله ذلك لما ذكرنا من الآية والخبر في المسألة
قبلها، ولما روى عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي
فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أبقيت
لأهلك " قلت أبقيت لهم مثله، فأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال له " ما أبقيت لأهلك " قال أبقيت
لهم الله ورسوله، فقلت لا أسابقك إلى شئ أبدا، فكان هذا فضيلة في حق الصديق رضي الله عنه
لقوة يقينه وكمال إيمانه وكان تاجرا ذا مكسب، فإنه قال حين ولي: قد علم الناس أن مكسبي لم يكن
ليعجز عن مؤنة عيالي، وإن لم يوجد في المتصدق أحد هذين كره له لما روى أبو داود عن جابر بن
عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إد جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله: أصبت
هذه من معدن خذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه
الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم
716

أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لعقرته أو لأوجعته، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر
غني " فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على المعنى الذي كره الصدقة بجميع ماله وهو " أن يستكف الناس " أي
يتعرض للصدقة فيأخذها ببطن كفه، يقال تكفف واستكف إذا فعل ذلك
وروى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجلا ثوبين من الصدقة، ثم حث على الصدقة فطرح الرجل
أحد ثوبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألم تروا إلى هذا دخل بهيئة بذة فأعطيته ثوبين ثم قلت تصدقوا
فطرح أحد ثوبيه " خذ ثوبك وانتهره، ولان الانسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر وشدة
نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم فيذهب ماله ويبطل أجره ويصير كلا على الناس
* (مسألة) * (ويكره لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفسه من الكفاية التامة)
والله أعلم
* (تم طبع الجزء الثاني) *
كتاب الشرح الكبير للمقنع وكان ذلك في أواخر شهر رجب من سنة 1345 ه‍
ويليه الجزء الثالث
وأوله في الكتابين (كتاب الصيام)
717