الكتاب: نيل الأوطار
المؤلف: الشوكاني
الجزء: ٦
الوفاة: ١٢٥٥
المجموعة: مصادر فقهية مستقلة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٩٧٣
المطبعة:
الناشر: دار الجيل - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

نيل الأوطار
من أحاديث سيد الأخيار
شرح
منتقى الاخبار للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني
قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي
ابن محمد الشوكاني المتوفى
سنة 1255 ه‍
الجزء السادس - 1973
دار الجيل
بيروت - لبنان ص. ب 8737
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الوكالة
باب ما يجوز التوكيل فيه من العقود وإيفاء الحقوق
وإخراج الزكوات وإقامة الحدود وغير ذلك
قال أبو رافع: استسلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكرا فجاءت إبل
الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره. وقال ابن أبي أوفى أتيت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بصدقة مال أبي فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر
به كاملا موفرا طيبة به نفسه حتى يدفعه إلي الذي أمر له به أحد المتصدقين.
وقال: واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. وقال علي
عليه السلام: أمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أقوم على بدنة وأقسم
جلودها وجلالها. وقال أبو هريرة: وكلني النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في حفظ زكاة رمضان وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقبة بن
عامر غنما يقسمها بين أصحابه.
هذه الأحاديث لم يذكر المصنف في هذا الموضع من خرجها. وحديث أبي
رافع قد تقدم في باب استقراض الحيوان من كتاب القرض، وأورده ههنا للاستدلال
به على جواز التوكيل في قضاء القرض. وحديث ابن أبي أوفى تقدم في باب تفرقة
الزكاة في بلدها من كتاب الزكاة، وذكره المصنف ههنا للاستدلال به على جواز
توكيل صاحب الصدقة من يوصلها إلى الامام. وحديث الخازن ذكره المصنف في
2

باب العاملين على الصدقة من كتاب الزكاة، وسيذكر الأحاديث الواردة في تصرف
المرأة في مال زوجها، والعبد في مال سيده، والخازن في مال من جعله خازنا، في
آخر كتاب الهبة والعطية. وذكر حديث الخازن ههنا للاستدلال به على جواز
التوكيل في الصدقة لقوله فيه: الذي يعطي ما أمر به كاملا. وقوله اغد يا أنيس
سيأتي في كتاب الحدود وفيه دليل على أنه يجوز للامام توكيل من يقيم الحد
على من وجب عليه. وحديث علي عليه السلام تقدم في باب الصدقة بالجلود من
أبواب الضحايا والهدايا، وفيه دليل على جواز توكيل صاحب الهدي لرجل أن
يقسم جلودها وجلالها. وحديث أبي هريرة هو في صحيح البخاري وغيره، وقد
أورده في كتاب الوكالة وبوب عليه باب إذا وكل رجل رجلا فترك الوكيل شيئا
فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز، وذكر فيه مجئ السارق
إلى أبي هريرة وأنه شكا إليه الحاجة فتركه يأخذ، فكأنه أسلفه إلى أجل وهو
وقت إخراج زكاة الفطر. وحديث عقبة ابن عامر تقدم في باب السن الذي يجزئ
في الأضحية وفيه دليل على جواز التوكيل في قسمة الضحايا. (وهذه الأحاديث)
تدل على صحة الوكالة وهي بفتح الواو وقد تكسر التفويض والحفظ، تقول: وكلت
فلانا إذا استحفظته، ووكلت الامر إليه بالتخفيف إذا فوضته إليه، وهي في الشرع
إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقا أو مقيدا، وقد استدل على جواز الوكالة من
القرآن بقوله تعالى: * (فابعثوا أحدكم بورقكم) * (سورة الكهف، الآية: 19). وقوله تعالى: * (اجعلني على خزائن
الأرض) * (سورة يوسف، الآية: 55) وقد دل على جوازها أحاديث كثيرة منها ما ذكره المصنف في هذا
الكتاب، وقد أورد البخاري في كتاب الوكالة ستة وعشرين حديثا، ستة معلقة
والباقية موصولة. وقد حكى صاحب البحر الاجماع على كونها مشروعة، وفي كونها
نيابة أو ولاية وجهان: فقيل نيابة لتحريم المخالفة، وقيل ولاية لجواز المخالفة إلى الأصلح
كالبيع بمعجل وقد أمر بمؤجل.
وعن سليمان بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا رافع
مولاه رجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث وهو بالمدينة قبل أن يخرج رواه
مالك في الموطأ. وهو دليل على أن تزوجه بها سبق إحرامه وأنه خفي على ابن عباس.
وعن جابر قال: أردت الخروج إلى خيبر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا
3

أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته رواه أبو داود
والدارقطني. وعن يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أتتك
رسلي فأعطهم ثلاثين درعا وثلاثين بعيرا، فقال له: العارية مؤداة يا رسول الله؟ قال:
نعم رواه أحمد وأبو داود وقال فيه: قلت يا رسول الله عارية مضمونة أو عارية
مؤداة؟ قال: بل مؤداة.
الحديث الأول أخرجه أيضا الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي وابن حبان،
وقد أعله ابن عبد البر بالانقطاع بين سليمان بن يسار وأبي رافع لأنه لم يسمع منه،
وتعقب بأنه قد وقع التصريح بسماعه في تاريخ ابن أبي خيثمة في حديث نزول الأبطح،
ورجح ابن القطان اتصاله، ورجح أن مولد سليمان سنة سبع وعشرين، ووفاة أبي رافع
سنة ست وثلاثين، فيكون سنة عند موت أبي رافع ثمان سنين، وقد تقدم الكلام على
زواجه صلى الله عليه وآله وسلم بميمونة، واختلاف الأحاديث في ذلك في كتاب
الحج في باب ما جاء في نكاح المحرم، وفيه دليل على جواز التوكيل في عقد النكاح من الزوج،
والحديث الثاني علق البخاري طرفا منه في الخمس، وحسن الحافظ في التلخيص إسناده،
ولكنه من حديث محمد بن إسحاق قوله: فإن ابتغى منك آية أي علامة. قوله: ترقوته بفتح
المثناة من فوق وضم القاف وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان
من الجانبين. (وفي الحديث) دليل على صحة الوكالة، وأن الامام له أن يوكل ويقيم
عاملا على الصدقة في قبضها، وفي دفعها إلى مستحقها، وإلى من يرسله إليه بإمارة. وفيه
أيضا دليل على جواز العمل بالأمارة أي العلامة، وقبول قول الرسول إذا عرف المرسل إليه
صدقه، وهل يجب الدفع إليه؟ قيل: لا يجب لأن الدفع إليه غير مبرئ لاحتمال أن ينكر الموكل
أو المرسل إليه، وبه قال الهادي وأتباعه. وقيل: يجب مع التصديق بأمارة أو نحوها، لكن
له الامتناع من الدفع إليه حتى يشهد عليه بالقبض، وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
(وفي الحديث) أيضا دليل على استحباب اتخاذ علامة بين الوكيل وموكله لا
يطلع عليها غيرهما ليعتمد الوكيل عليها في الدفع لأنها أسهل من الكتابة، فقد لا يكون
أحدهما ممن يحسنها ولان الخط يشتبه. والحديث الثالث أخرجه أيضا النسائي
وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص. وقال ابن حزم: إنه أحسن
ما ورد في هذا الباب، وقد ورد في معناه أحاديث يأتي ذكرها في العارية عند الكلام
4

على حديث صفوان إن شاء الله، وفيه دليل على جواز التوكيل من المستعير لقبض
العارية. قوله: العارية مؤداة سيأتي الكلام على هذا في العارية إن شاء الله تعالى.
باب من وكل في شراء شئ فاشترى بالثمن أكثر منه وتصرف في الزيادة
عن عروة بن أبي الجعد البارقي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أعطاه دينارا ليشتري به له شاة فاشترى له به شاتين فباع أحدهما بدينار وجاءه
بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه رواه أحمد
والبخاري وأبو داود. وعن حبيب بن أبي ثابت عن حكيم بن حزام أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار فاشترى أضحية فأربح فيها
دينارا، فاشترى أخرى مكانها فجاء بالأصحية والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فقال: ضح بالشاة وتصدق بالدينار رواه الترمذي وقال: لا نعرفه إلا من
هذا الوجه، وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم. ولأبي داود نحوه من
حديث أبي حصين عن شيخ من أهل المدينة عن حكيم.
الحديث الأول أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجة والدارقطني. وفي إسناد
من عدا البخاري سعيد بن زيد أخو حماد وهو مختلف فيه عن أبي لبيد لمازة بن
زبار. وقد قيل إنه مجهول، لكنه قال الحافظ: إنه وثقه ابن سعد. وقال حرب: سمعت
أحمد يثني عليه. وقال في التقريب: إنه ناصبي جلد. قال المنذري والنووي: إسناده
صحيح لمجيئه من وجهين، وقد رواه البخاري من طريق ابن عيينة عن شبيب بن
غرقد: سمعت الحي يحدثون عن عروة، ورواه الشافعي عن ابن عيينة وقال: إن صح
قلت به. ونقل المزني عنه أنه ليس بثابت عنده، قال البيهقي إنما ضعفه لأن الحي غير
معروفين، وقال في موضع آخر: هو مرسل لأن شبيب بن غرقد لم يسمعه من عروة وإنما
سمعه من الحي، وقال الرافعي: هو مرسل، قال الحافظ: الصواب أنه متصل في إسناده
مبهم. والحديث الثاني منقطع في الطريق الأولى لعدم سماع حبيب من حكيم، وفي
الطريق الثانية في إسناده مجهول، قال الخطابي: إن الخبرين معا غير متصلين لأن في
أحدهما وهو خبر حكيم رجلا مجهولا لا يدري من هو، وفي خبر عروة أن الحي
5

حدثوه، وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم به الحجة. وقال البيهقي: ضعف حديث
حكيم من أجل هذا الشيخ. (وفي الحديثين) دليل على أنه يجوز للوكيل إذا قال له المالك:
اشتري بهذا الدينار شاة ووصفها أن يشتري به شاتين بالصفة المذكورة، لأن مقصود
الموكل قد حصل وزاد الوكيل خيرا، ومثل هذا لو أمره أن يبيع شاة بدرهم فباعها
بدرهمين، أو بأن يشتريها بدرهم فاشتراها بنصف درهم، وهو الصحيح عند الشافعية،
كما نقله النووي في زيادات الروضة. قوله: فباع أحدها بدينار فيه دليل على
صحة بيع الفضولي، وبه قال مالك أحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي في القديم،
وقواه النووي في الروضة، وهو مروي عن جماعة من السلف منهم علي عليه السلام
وابن عباس وابن مسعود وابن عمر، وإليه ذهبت الهادوية، وقال الشافعي في الجديد
وأصحابه والناصر: إن البيع الموقوف والشراء الموقوف باطلان للحديث المتقدم في
البيع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تبع ما ليس عندك. وأجابوا عن
حديثي الباب بما فيهما من المقال، وعلى تقدير الصحة فيمكن أنه كان وكيلا بالبيع
بقرينة فهمها منه صلى الله عليه وآله وسلم. وقال أبو حنيفة: إنه يكون البيع الموقوف
صحيحا دون الشراء، والوجه أن الاخراج عن ملك المالك مفتقر إلى إذنه بخلاف
الادخال، ويجاب بأن الادخال للمبيع في الملك يستلزم الاخراج من الملك للثمن، وروي
عن مالك العكس من قول أبي حنيفة، فإن صح فهو قوي لأن فيه جمعا بين الأحاديث.
قوله: فاشترى أخرى مكانها فيه دليل على أن الأضحية لا تصير أضحية بمجرد
الشراء، وأنه يجوز البيع لابدال مثل أو أفضل. قوله: وتصدق بالدينار جعل جماعة
من أهل العلم هذا أصلا فقالوا: من وصل إليه مال من شبهة وهو لا يعرف له مستحقا
فإنه يتصدق به. ووجه الشبهة ههنا أنه لم يأذن لعروة في بيع الأضحية، ويحتمل أن
يتصدق به لأنه قد خرج عنه للقربة لله تعالى في الأضحية فكره أكل ثمنها.
باب من وكل في التصدق بماله فدفعه إلى ولد الموكل
عن معن بن يزيد قال: كان أبي خرج بدنانير يتصدق بها فوضعها
عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت بها،
6

فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لك ما نويت يا يزيد، ولك يا معن ما
أخذت رواه أحمد والبخاري.
قوله: عند رجل قال في الفتح لم أقف على اسمه. قوله: فأتيته بها
أي أتيت أبي بالدنانير المذكورة. قوله: والله ما إياك أردت يعني لو أردت أنك
تأخذها لأعطيتك إياها من غير توكيل، وكأنه كان يرى أن الصدقة على الولد لا
تجزئ أو تجزئ، ولكن الصدقة على الأجنبي أفضل. قوله لك ما نويت أي أنك
نويت أن تتصدق بها على من يحتاج إليها وابنك محتاج فقد وقعت موقعها، وإن كان
لم يخطر ببالك أنه يأخذها ولابنك ما أخذ لأنه أخذ محتاجا إليها، واستدل بالحديث
على جواز دفع الصدقة إلى كل أصل وفرع ولو كان ممن تلزمه نفقته، قال في الفتح: ولا
حجة فيه لأنها واقعة حال، فاحتمل أن يكون معن كان مستقلا لا يلزم أباه نفقته،
والمراد بهذه الصدقة صدقة التطوع لا صدقة الفرض، فإنه قد وقع الاجماع على
أنها لا تجزئ في الولد كما تقدم في الزكاة. وفي الحديث جواز التوكيل في صرف
الصدقة، ولهذا الحكم ذكر المصنف هذا الحديث ههنا.
كتاب المساقاة والمزارعة
عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامل أهل خيبر
بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع رواه الجماعة. وعنه أيضا: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لما ظهر على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها
ولهم نصف الثمرة فقال لهم: نقركم بها على ذلك ما شئنا متفق عليه. وهو حجة
في أنها عقد جائز. وللبخاري: أعطى يهود خيبر أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر
ما يخرج منها ولمسلم وأبي داود والنسائي: دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها
على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شطر ثمرها
قلت: وظاهر هذا أن البذر منهم، وأن تسمية نصيب العامل تغني عن تسمية نصيب
رب المال ويكون الباقي له. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
عمل يهود خيبر على أن نخرجهم متى شئنا رواه أحمد والبخاري بمعناه.
7

وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفع خيبر أرضها ونخلها
مقاسمة على النصف رواه أحمد وابن ماجة. وعن أبي هريرة قال قالت
الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال: لا، فقالوا:
تكفونا العمل ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا رواه البخاري.
وعن طاوس: أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع فهو يعمل به إلى يومك هذا
رواه ابن ماجة. قال البخاري: وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة
أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي عليه السلام وسعد
بن مالك وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل
علي وآل عمر. قال: وعامل عمر الناس على أن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر،
وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا.
حديث ابن عباس رواه ابن ماجة من طريق إسماعيل بن توبة وهو صدوق،
وبقية رجاله رجال الصحيح. وحديث معاذ رجال إسناده رجال الصحيح، ولكن
طاوس لم يسمع من معاذ وفيه نكارة، لأن معاذا مات في خلافة عمر ولم يدرك أيام
عثمان. قوله: كتاب المساقاة والمزارعة، المساقاة: ما كان في النخل والكرم وجميع
الشجر الذي يثمر بجزء معلوم من الثمرة للأجير وإليه ذهب الجمهور، وخصها
الشافعي في قوله الجديد بالنخل والكرم، وخصها داود بالنخل، وقال مالك: تجوز
في الزرع والشجر ولا تجوز في البقول عند الجمع. وروي عن ابن دينار أنه أجازها
فيها. (والحاصل) أن مقال إنها واردة على خلاف القياس قصرها على مورد النص.
ومن قال إنها واردة على القياس الحق بالمنصوص غيره. والمزارعة: مفاعلة من الزراعة
قاله المطرزي. وقال صاحب الاقليد من الزرع. والمخابرة مشتقة من الخبير على
وزن العليم وهو الأكار بهمزة مفتوحة وكاف مشددة وراء مهملة وهو الزراع والفلاح
الحراث، وإلى هذا الاشتقاق ذهب أبو عبيد والأكثرون من أهل اللغة والفقهاء. وقال
آخرون: هي مشتقة من الخبار بفتح الخاء المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وهي الأرض
الرخوة، وقيل: من الخبر بضم الخاء وهو النصيب من سمك أو لحم وقال ابن الاعرابي:
هي مشتقة من خيبر لأن أول هذه المعاملة فيها. وفسر أصحاب الشافعي المخابرة بأنها
8

العمل على الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل.
وقيل: إن المساقاة والمزارعة
والمخابرة بمعنى واحد، وإلى ذلك يشير كلام الشافعي فإنه قال في الام في باب المزارعة:
وإذا دفع رجل إلى رجل أرضا بيضاء على أن يزرعها المدفوع إليه فما خرج منها
من شئ فله جزء من الاجزاء فهذه المحاقلة والمخابرة والمزارعة التي ينهي عنها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اه. وإلى نحو ذلك يشير كلام البخاري وهو
وجه للشافعية. وقال في القاموس: المزارعة المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها ويكون
البذر من مالكها. وقال: المخابرة أن يزرع على النصف ونحوه اه. قوله: بشطر
ما يخرج فيه جواز المزارعة بالجزء المعلوم من نصف أو ربع أو ثمن أو نحوها،
والشطر هنا بمعنى النصف، وقد يأتي بمعنى النحو والقصد. ومنه قوله تعالى: * (فول وجهك
شطر المسجد الحرام) * (سورة البقرة، الآية: 149) أي نحوه. قوله نقركم بها على ذلك ما شئنا المراد أنا نمكنكم من المقام إلى أن
نشاء إخراجكم لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان عازما
على إخراجهم من جزيرة العرب كما أمر بذلك عند موته. واستدل به على جواز
المساقاة مدة مجهولة، وبه قال أهل الظاهر، وخالفهم الجمهور وتأولوا الحديث بأن المراد
مدة العهد، وأن لنا إخراجكم بعد انقضائها ولا يخفى بعده. وقيل: إن ذلك كان في أول الأمر
خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يحتاج إلى دليل. قوله: ما بالمدينة
أهل بيت هجرة الخ، هذا الأثر أورده البخاري ووصله
عبد الرزاق. قوله: وزارع علي عليه السلام الخ، أما أثر علي عليه السلام فوصله
ابن أبي شيبة، وأما أثر ابن مسعود وسعد بن مالك فوصلهما ابن أبي شيبة،
وأما أثر عمر بن عبد العزيز فوصله ابن أبي شيبة أيضا. وأما أثر القاسم وهو
ابن محمد بن أبي بكر فوصله عبد الرزاق. وأما أثر عروة وهو ابن الزبير فوصله
ابن أبي شيبة. وأما أثر آل أبي بكر وآل علي وآل عمر فوصله ابن أبي شيبة أيضا
وعبد الرزاق. وأما أثر عمر في معاملة الناس فوصله ابن أبي شيبة أيضا والبيهقي،
وقد ساق البخاري في صحيحه عن السلف غير هذه الآثار، ولعله أراد بذكرها
الإشارة إلى أن الصحابة لم ينقل عنهم الخلاف في الجواز خصوصا أهل المدينة، وقد
تمسك بالأحاديث المذكورة في الباب جماعة من السلف. قال الحازمي: روي عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعيد بن
9

المسيب ومحمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وابن شهاب الزهري،
ومن أهل الرأي أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن فقالوا: تجوز المزارعة والمساقاة
بجزء من التمر أو الزرع، قالوا: ويجوز العقد على المزارعة والمساقاة مجتمعين، فتساقيه
على النخل وتزارعه على الأرض كما جرى في خيبر، ويجوز العقد على كل واحدة
منهما منفردة، وأجابوا عن الأحاديث القاضية بالنهي عن المزارعة بأنها محمولة على
التنزيه، وقيل: إنها محمولة على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها معينة.
وقال طاوس وطائفة قليلة: لا يجوز كراء الأرض مطلقا، لا بجزء من التمر والطعام،
ولا بذهب ولا بفضة، ولا بغير ذلك، وذهب إليه ابن حزم وقواه واحتج له بالأحاديث
المطلقة في ذلك وستأتي وقال الشافعي وأبو حنيفة وعترة وكثيرون: إنه يجوز كراء
الأرض بكل ما يجوز أن يكون ثمنا في المبيعات من الذهب والفضة والعروض، وبالطعام
سواء كان من جنس ما يزرع في الأرض أو غيره لا بجزء من الخارج منها، وقد أطلق ابن
المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، ونقل ابن بطال اتفاق
فقهاء الأمصار عليه، وتمسكوا بما سيأتي من النهي عن المزارعة بجزء من الخارج، وأجابوا
عن أحاديث الباب بأن خيبر فتحت عنوة فكان أهلها عبيدا له صلى الله عليه وآله وسلم، فما
أخذه من الخارج منها فهو له. وما تركه فهو له. وروى الحازمي هذا المذهب عن عبد الله بن
عمر وعبد الله بن عباس ورافع بن خديج وأسيد بن حضير وأبي هريرة ونافع، قال: وإليه
ذهب مالك والشافعي، ومن الكوفيين أبو حنيفة اه. وقال مالك: إنه يجوز كراء الأرض
بغير الطعام والثمر لا بهما، لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام، وحمل النهي على ذلك، هكذا
حكى عنه صاحب الفتح. قال ابن المنذر: ينبغي أن يحمل ما قاله مالك على ما إذا كان المكري
به من الطعام جزءا مما يخرج منها، فأما إذا اكتراها بطعام معلوم في ذمة المكتري، أو بطعام
حاضر يقضيه المالك فلا مانع من الجواز. وقال أحمد بن حنبل: يجوز إجارة الأرض بجزء
من الخارج منها إذا كان البذر من رب الأرض، حكى ذلك عنه الحازمي، واعلم أنه قد وقع
لجماعة لا سيما من المتأخرين اختباط في نقل المذاهب في هذه المسألة، حتى أفضى ذلك
إلى أن بعضهم يروي عن العالم الواحد الامرين المتناقضين، وبعضهم يروي قولا
لعالم، وآخر يروي عنه نقيضه ولا جرم، فالمسألة باعتبار اختلاف المذاهب فيها
وتعيين راجحها من مرجوحها من المعضلات، وقد جمعت فيها رسالة مستقلة
10

وسيأتي تحقيق ما هو الحق وتفصيل بعض المذاهب والإشارة إلى حجة
كل طائفة ودفعها.
باب فساد العقد إذا شرط أحدهما لنفسه التبن أو بقعة بعينها ونحوه
عن رافع بن خديج قال: كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض
على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك فأما الورق
فلم ينهنا أخرجاه. وفي لفظ: كنا أكثر أهل الأرض مزدرعا، كذا نكري الأرض
بالناحية منها تسمى لسيد الأرض، قال: فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض، وربما تصاب
الأرض ويسلم ذلك فنهينا، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ رواه البخاري. وفي
لفظ: قال إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما
على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ويسلم هذا، ويهلك
هذا، ولم يكن للناس كرى إلا هذا فلذلك زجر عنه، فأما شئ معلوم مضمون فلا بأس
به رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وفي رواية عن رافع: قال: حدثني عماي
أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما ينبت
على الأربعاء وبشئ يستثنيه صاحب الأرض، قال: فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
عن ذلك رواه أحمد والبخاري والنسائي. وفي رواية عن رافع: أن الناس كانوا
يكرون المزارع في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالماذيانات وما يسقي الربيع
وشئ من التبن، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كري المزارع بهذا ونهى
عنها رواه أحمد.
قوله: حقلا أي أهل مزارعة. قال في القاموس: المحاقل
المزارع، والمحاقلة بيع الزرع قبل بدو صلاحه أو بيعه في سنبلة بالحنطة أو المزارعة بالثلث والربع
أو أقل أو أكثر، أو إكراء الأرض بالحنطة اه. قوله: فنهانا عن ذلك أي عن كري
الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فيصلح التمسك بهذا المذهب من قال: إن النهي عنه
إنما هو هذا النوع ونحوه من المزارعة. وقد حكي في الفتح عن الجمهور أن النهي
محمول على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة لا عن إكرائها مطلقا حتى بالذهب
11

والفضة، قال: ثم اختلف الجمهور في جواز إكرائها بجزء مما يخرج منها، فمن قال بالجواز
حمل أحاديث النهي على التنزيه، قال: ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج قال النهي
عن كرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها، أو شرط ما ينبت
على النهر لصاحب الأرض لما في كل ذلك من الغرر والجهالة اه. قوله: فأما الورق
فلم ينهنا لا منافاة بين هذه الرواية وبين الرواية والثانية، أعني قوله: فأما الذهب والورق
فلم يكن يومئذ، لأن عدم النهي عن الورق لا يستلزم وجوده ولا وجود المعاملة به،
وفي رواية عن رافع عند البخاري أنه قال: ليس بها بأس بالدينار والدرهم. قال في
الفتح: يحتمل أن يكون رافع قال ذلك باجتهاده، ويحتمل أن يكون علم ذلك بطريق
التنصيص على جوازه، أو علم أن النهي عن كري الأرض ليس على إطلاقه، بل بما إذا
كان بشئ مجهول ونحو ذلك، فاستنبط من ذلك جواز الكري بالذهب والفضة، ويرجح كونه
مرفوعا بما أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عنه قال: نهى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال: إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض، ورجل
منح أرضا، ورجل اكترى أرضا بذهب أو فضة لكن بين النسائي من وجه آخر
أن المرفوع منه النهي عن المحاقلة والمزابنة، وأن بقيته مدرج من كلام سعيد بن المسيب.
وقد أخرج أبو داود والنسائي ما هو أظهر في الدلالة على الرفع من هذا وهو حديث
سعد بن أبي وقاص الآتي. قوله: بما على الماذيانات بذال معجمة مكسورة ثم مثناة تحتية
ثم ألف ثم نون ثم ألف ثم مثناة فوقية هذا هو المشهور. وحكى القاضي عياض عن
بعض الرواة فتح الذال في غير صحيح مسلم وهي ما ينبت على حافة النهر ومسايل الماء،
وليست عربية لكنها سوادية، وهي في الأصل مسايل المياه، فتسمية النابت عليها باسمها، كما
وقع في بعض الروايات. بلفظ يؤاجرون على الماذيانات مجاز مرسل، والعلاقة المجاورة أو
الحالية والمحلية. قوله: وأقبال الجداول بفتح الهمزة وسكون القاف وتخفيف الموحدة
أي أوائل. والجداول السواقي جمع جدول وهو النهر الصغير. قوله: وأشياء
من الزرع يعني مجهول المقدار، ويدل على ذلك قوله في آخر الحديث فأما شئ معلوم
مضمون فلا بأس به. قوله: فيهلك بكسر اللام أي فربما يهلك. قوله: زجر عنه على
البناء للمجهول أي نهى عنه، وذلك لما فيه من الغرر المؤدي إلى التشاجر وأكل أموال
الناس بالباطل. قوله: على الأربعاء جمع ربيع وهو النهر الصغير كنبي وأنبياء، ويجمع
12

أيضا على ربعان كصبي وصبيان. قوله: يستثنيه من الاستثناء، كأنه يشير إلى استثناء
الثلث والربع، كذا قال في الفتح، واستدل على أن هذا هو المراد برواية أخرى
ذكرها البخاري، ولكنه ينافي هذا التفسير قوله في الرواية الأولى: فأما شئ معلوم
مضمون فلا بأس به وهذا الحديث يدل على تحريم المزارعة على ما يفضي إلى الغرر
والجهالة ويوجب المشاجرة، وعليه تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن المخابرة
كما هو شأن حمل المطلق على المقيد، ولا يصح حملها على المخابرة التي فعلها النبي صلى
الله عليه وآله وسلم في خيبر لما ثبت من أنه صلى الله عليه وآله وسلم استمر عليها إلى
موته، واستمر على مثل ذلك جماعة من الصحابة، ويؤيد هذا تصريح رافع في هذا
الحديث بجواز المزارعة على شئ معلوم مضمون، ولا يشكل على جواز المزارعة بجزء
معلوم حديث أسيد بن ظهير الآتي، فإن النهي فيه ليس بمتوجه إلى المزارعة بالنصف
والثلث والربع فقط، بل إلى ذلك مع اشتراط ثلاث جداول والقصارة وما يسقي
الربيع، ولا شك أن مجموع ذلك غير المخابرة التي أجازها صلى الله عليه وآله وسلم
وفعلها في خيبر، نعم حديث رافع عند أبي داود والنسائي وابن ماجة بلفظ: من كانت
له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يكارها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى. وكذلك
حديثه أيضا عند أبي داود بإسناد فيه بكر بن عامر البجلي الكوفي وهو متكلم فيه:
قال: إنه زرع أرضا فمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسقيها، فسأله: لمن الزرع
ولمن الأرض؟ فقال: زرعي ببذري وعملي، ولي الشطر ولبني فلان الشطر، فقال: أربيتما فرد
الأرض على أهلها وخذ نفقتك. ومثله حديث زيد بن ثابت عند أبي داود قال: نهى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المخابرة، قلت: وما المخابرة؟ قال: أن يأخذ الأرض
بنصف أو ثلث أو ربع. فيها دليل على المنع من المخابرة بجزء معلوم، ومثل هذه
الأحاديث حديث أسيد الآتي على فرض أنه نهى عن المزارعة بجزء معلوم، وعدم
تقييده بما فيه من كلام أسيد كما سيأتي، ولكنه لا سبيل إلى جعلها ناسخة لما فعله
صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر لموته وهو مستمر على ذلك وتقريره لجماعة من
الصحابة عليه، ولا سبيل إلى جعل هذه الأحاديث المشتملة على النهي منسوخة بفعله
صلى الله عليه وآله وسلم وتقريره لصدور النهي عنه في أثناء مدة معاملته، ورجوع
جماعة من الصحابة إلى رواية من روى النهي، والجمع ما أمكن هو الواجب، وقد
13

أمكن هنا بحمل النهي على معناه المجازي وهو الكراهة، ولا يشكل على هذا قوله
صلى الله عليه وآله وسلم: أربيتما في حديث رافع المذكور، وذلك بأن يقال: قد وصف
النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المعاملة بأنها ربا والربا حرام بالاجماع، فلا يمكن
الجمع بالكراهة لأنا نقول: الحديث لا ينتهض للاحتجاج به للمقال الذي فيه، ولا
سيما مع معارضته للأحاديث الصحيحة الثابتة من طرق متعددة الواردة بجواز
المعاملة بجزء معلوم، وكيف يصح أن يكون ذلك ربا وقد مات رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عليه ومات عليه جماعة من أجلاء الصحابة، بل يبعد أن يعامل النبي صلى
الله عليه وآله وسلم المعاملة المكروهة ويموت عليها، ولكنه ألجأنا إلى القول بذلك
الجمع بين الأحاديث، وهذا ما نرجحه في المسألة، ولا يصح الاعتذار عن الأحاديث
القاضية بالجواز بأنها مختصة به صلى الله عليه وآله وسلم لما تقرر من أنه صلى الله
عليه وآله وسلم إذا نهى عن شئ نهيا مختصا بالأمة وفعل ما يخالفه كان ذلك الفعل
مختصا به. لأنا نقول: أولا النهي غير مختص بالأمة. وثانيا أنه صلى الله عليه وآله وسلم
قرر جماعة من الصحابة على مثل معاملته في خيبر إلى عند موته. وثالثا: أنه قد استمر
على ذلك بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من أجلاء الصحابة، ويبعد كل
البعد أن يخفى عليهم مثل هذا، ومن أوضح ما استدل به على كراهة المزارعة بجزء
معلوم حديث ابن عباس الآتي.
وعن أسيد بن ظهير قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أو افتقر
إليها أعطاها بالنصف والثلث والربع، ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما يسقي
الربيع، وكان يعمل فيها عملا شديدا ويصيب منها منفعة، فأتانا رافع بن خديج فقال:
نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمر كان لكم نافعا، وطاعة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم خير لكم، نهاكم عن الحقل رواه أحمد وابن ماجة. والقصارة
بقية الحب في السنبل بعدما يداس.
الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي بدون كلام أسيد بن ظهير، ورجال إسناد
الحديث رجال الصحيح. قوله: والقصارة قال في القاموس: والقصارة بالضم والقصرى
بالكسر والقصر والقصرة محركتين، والقصرى كبشرى ما يبقى في المنخل بعد الانتخال،
أو ما يخرج من ألقت بعد الدوسة الأولى والقشرة العليا من الحبة اه. قوله: عن
14

الحقل بفتح الحاء المهملة وإسكان القاف أصله كما قال الجوهري الحقل الزرع إذا
تشعب ورقه قبل أن تغلظ سوقه، فالحقل القراح الطيب يعني من الأرض الصالحة
للزراعة، والمحاقل. مواضع الزراعة، كما أن المزارع مواضعها. وقد بين البخاري المحاقل
التي نهى عنها صلى الله عليه وآله وسلم من رواية رافع قال فيه: ما تصنعون بمحاقلكم؟
قالوا: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من الثمر والشعير، قال: لا تفعلوا. (والحديث)
يدل على عدم جواز مطلق المزارعة، ولكنه ينبغي أن يقيد بما في أوله من كلام
أسيد من ضم الاشتراط المقتضي للفساد، وعلى فرض عدم تقييده بذلك فيحمل على
كراهة التنزيه لما أسلفنا.
وعن جابر قال: كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فنصيب من القصرى ومن كذا، ومن كذا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
من كان له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه وإلا فليدعها رواه أحمد ومسلم.
والقصرى القصارة.
قوله: والقصرى قد سبق ضبطه وتفسيره. قوله: فليزرعها بفتح التحتية
والراء أي بنفسه. قوله: أو ليحرثها بضم التحتية وكسر الراء أي يجعلها مزرعة
لأخيه بلا عوض، وذلك بأن يعيره إياها، ويشهد لهذا المعنى الرواية الآتية بلفظ:
لأن يمنح أحدكم أخاه أي يجعلها منحة له والمنحة العارية، وفيه دليل على المنع
من مؤاجرة الأرض مطلقا لقوله: وإلا فليدعها ولكن ينبغي أن يحمل هذا
المطلق على المقيد بما سلف في حديث رافع، أو يكون الامر للندب فقط لما أسلفنا
ولما سيأتي، وقد كره بعض العلماء تعطيل الأرض عن الزراعة لأن فيه تضييع المال، وقد نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن إضاعة المال، وقدم في هذا الحديث زراعة
الأرض من المالك بنفسه لما في ذلك من الفضيلة، فإن الاشتغال بالعمل فيها والاستغناء
عن الناس بما يحصل من القرب العظيمة مع ما في ذلك من الاشتغال عن الناس والتنزه
عن مخالطتهم التي هي لا سيما في مثل هذا الزمان سم قاتل، وشغل عن الرب جل جلاله
شاغل، إذا لم يكن في الاقبال على الزراعة تثبط عن شئ من الأمور الواجبة
كالجهاد، وقد أورد البخاري في صحيحه حديثا في فضل الزرع والغرس وترجم
عليه باب فضل الزرع والغرس، ورواه مسلم من حديث أنس.
15

وعن سعد بن أبي وقاص أن أصحاب المزارع في زمن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي وما سعد بالماء
مما حول النبت، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاختصموا في بعض ذلك
بذلك فنهاهم أن يكروا بذلك وقال: اكروا بالذهب والفضة رواه أحمد وأبو داود
والنسائي، وما ورد من النهي المطلق عن المخابرة والمزارعة يحمل على ما فيه مفسدة
كما بينته هذه الأحاديث، أو يحمل على اجتنابها ندبا واستحبابا فقد جاء ما يدل على
ذلك. فروى عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها، فقال: إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عنها وقال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ
عليها خراجا معلوما رواه أحمد والبخاري وابن ماجة وأبو داود. وعن
ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق
بعضهم ببعض رواه الترمذي وصححه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه، فإن
أبى فليمسك أرضه أخرجاه. وبالاجماع تجوز الإجارة ولا تجب الإعارة فعلم
أنه أراد الندب.
حديث سعد سكت عنه أبو داود والمنذري. قال في الفتح: ورجاله
ثقات، إلا أن محمد بن عكرمة المخزومي لم يرو عنه إلا إبراهيم بن سعد. قوله:
وما سعد. بفتح السين وكسر العين المهملتين قيل معناه بما جاء من الماء
سيحا لا يحتاج إلى ساقية، وقيل معناه ما جاء من الماء من غير طلب. وقال
الأزهري: والسعيد النهر مأخوذ من هذا، وسواعد النهر التي تنصب إليه مأخوذة
من هذا، وفي رواية: ما صعد بالصاد بدل السين أي ما ارتفع من النبت بالماء دون ما
سفل منه. قوله: بالذهب والفضة فيه رد على طاوس حيث كره إجارة الأرض
بالذهب والفضة، كما روى عنه مسلم والنسائي عن طريق حماد بن زيد عن عمرو
بن دينار، قال: كان طاوس يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة ولا يرى بالثلث
والربع بأسا، فقال له مجاهد: اذهب إلى ابن رافع بن خديج فاسمع حديثه عن أبيه،
فقال: لو أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنه لم أفعله، ولكن حدثني
من هو أعلم منه ابن عباس فذكر الحديث الذي ذكره المصنف. وللنسائي أيضا
16

من طريق عبد الكريم عن مجاهد قال: أخذت بيد طاوس فأدخلته إلى ابن رافع
ابن خديج فحدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كراء الأرض
فأبى طاوس وقال: سمعت ابن عباس لا يرى بذلك بأسا وهذه الرواية عن طاوس
تدل على أنه كان لا يمنع من كراء الأرض مطلقا، وقد حكى صاحب الفتح عنه أنه
يمنع مطلقا كما قدمنا. واستدل بهذا الحديث من جوز كراء الأرض بالذهب والفضة
وقد تقدم ذكرهم، وألحقوا بهما غيرهما من الأشياء المعلومة لأنهم رأوا أن محل النهي
فيما لم يكن معلوما ولا مضمونا، وفي هذا الحديث أيضا رد على من منع من كراء
الأرض مطلقا كما تقدم. قوله: وما ورد من النهي الخ، مثل حديث جابر عند أبي داود
بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من لم يذر المخابرة فليؤذن
بحرب من الله ورسوله وحديث زيد بن ثابت عن أبي داود قال: نهى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن المخابرة وقد تقدم. ومثل حديث جابر أيضا عند مسلم
وأبي داود وابن ماجة بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المحاقلة
والمزابنة والمخابرة الحديث. ومثل حديث ثابت بن الضحاك عند مسلم: أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المزارعة. وحديث رافع عن أبي داود: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كراء الأرض وأصله في الصحيحين، ونحو
هذه الأحاديث الواردة بالنهي على الاطلاق، وقد ذكر المصنف في هذا الباب طرفا
منها وأوردنا بعضا من ذلك فيما سلف، وكلام المصنف هذا كلام حسن، ولا بد
من المصير إليه للجمع بين الأحاديث المختلفة وهو الذي رجحناه فيما سلف. قوله:
لم ينه عنها هذا لا ينافي رواية من روى النهي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، لان
المثبت مقدم على النافي، ومن علم حجة على من لم يعلم ولكن قوله: لأن يمنح أحدكم
أخاه خير له الخ، يصلح جعله قرينة لصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة كما
سلف. وقوله: يمنح بفتح التحتية وسكون الميم وفتح النون بعدها حاء مهملة
ويجوز كسر النون، والمراد بجعلها منيحة أي عطية وعارية كما تقدم، وهكذا يدل
على أن النهي ليس على حقيقته ما في الرواية الثانية عن ابن عباس من أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ليحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض. قوله: فليزرعها
أو ليحرثها قد تقدم الكلام على هذا. قوله: فليمسك أرضه قد قدمنا أن بعض
17

العلماء كره تعطيل الأرض عن الزراعة لما ورد من النهي عن إضاعة المال، وهذه
الرواية والتي سلفت في حديث جابر يدلان على جواز ترك الأرض بغير زراعة، وقد
جمع بين الرواية القاضية بالنهي عن ذلك وبين ما هنا يحمل النهي عن الإضاعة
على إضاعة عين المال أو المنفعة التي لا يخلفها منفعة، والأرض إذا تركت بغير
زرع لم تتعطل منفعتها، فإنها قد تنبت من الحطب والحشيش وسائر الكلأ ما ينفع
في الرعي وغيره، وعلى تقدير أن لا يحصل ذلك فقد يكون التأخير للزرع عن الأرض
إصلاحا لها، فتخلف في السنة التي تليها ما لعله فات في سنة الترك، وهذا كله إن حمل
النهي على عمومه، فأما لو حمل على ما كان مألوفا لهم من الكراء بجزء مما يخرج منها ولا
سيما إذا كان غير معلوم فلا يستلزم ذلك تعطيل الانتفاع بها في الزراعة
بل يكريها بالذهب أو الفضة كما تقرر ذلك. قوله: وبالاجماع تجوز الإجارة
الخ استدل المصنف رحمه الله بهذا على ما ذكره من الندب، لأن العارية
إذا لم تكن واجبة بالاجماع من غير فرق بين المزارعة وغيرها لم يجب على
الانسان أن يزرع أرضه بنفسه أو يعيرها أو يعطلها، بل يجوز له أمر رابع وهو
الإجارة لأنها جائزة بالاجماع، والعارية لا تجب بالاجماع فلا تجب عليه، وإذا انتفى
الوجوب بقي الندب.
أبواب الإجارة
باب ما يجوز الاستئجار عليه من النفع المباح
عن عائشة في حديث الهجرة قالت: واستأجر النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا، والخريت الماهر بالهداية وهو
على دين كفار قريش وأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال،
فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا رواه أحمد والبخاري.
قوله واستأجر الواو ثابتة في نفس الحديث الطويل لأن هذه القصة
معطوفة على قصة قبلها وقد ساقها البخاري مستوفاة الهجرة. قوله: الديل
18

بالكسر للدال حي من عبد القيس، ذكره صاحب القاموس في مادة دول، وذكر
في مادة دأل أنه يطلق على قبائل، وأنه يأتي بفتح الدال وبضمها وكعنب. قوله:
خريتا بكسر المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة فوقانية.
وقوله: الماهر بالهداية مدرج من قول الزهري. قوله: وأمناه بفتح الهمزة وكسر
الميم المخففة ضد الخيانة. قوله: غار ثور هو الغار المذكور في التنزيل، وثور جبل
بمكة وليس هو الجبل الذي في المدينة المذكور في الحديث الصحيح أن المدينة حرام
ما بين عير إلى ثور، وقد سبق الاختلاف فيه في كتاب الحج. (والحديث) فيه دليل
على جواز استئجار المسلم للكافر على هداية الطريق إذا أمن إليه، وقد ذكر البخاري هذا
الحديث في كتاب الإجارة، وترجم عليه باب استئجار المشركين عند الضرورة،
وإذا لم يوجد أهل الاسلام فكأنه أراد الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه
وآله وسلم: أنا لا أستعين بمشرك أخرجه مسلم وأصحاب السنن. قال ابن بطال:
الفقهاء يجيزون استئجارهم يعني المشركين عند الضرورة وغيرها لما في ذلك
من الذلة لهم، وإنما الممتنع أن يؤجر المسلم نفسه من المشرك لما فيه
من الاذلال اه.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بعث الله
نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة
رواه أحمد والبخاري وابن ماجة. وقال سويد بن سعيد: يعني كل شاة بقيراط. وقال إبراهيم
الحربي: قراريط اسم موضع.
قوله على قراريط في رواية ابن ماجة كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط وكذا
رواه الإسماعيلي، وقد صوب ابن الجوزي وابن ناصر التفسير الذي ذكره إبراهيم
الحربي، لكن رجح تفسير سويد بأن أهل مكة لا يعرفون بها مكانا يقال له قراريط.
وقد روى النسائي من حديث نصر بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها نون قال:
افتخر أهل الإبل والغنم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بعث موسى وهو
راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم أهلي بجياد وزعم
بعضهم أن في هذه الرواية ردا لتأويل سويد بن سعيد لأنه ما كان يرعى بالأجرة
لأهله فيتعين أنه أراد المكان، فعبر تارة بجياد وتارة بقراريط، وتعقب بأنه لا مانع
19

من الجمع، وأنه كان يرعى لأهله بغير أجرة ولغيرهم بأجرة، وهم المراد بقوله: أهل
مكة. ويؤيد تفسير سويد قوله على قراريط فإن المجئ بعلى يدل على ما قاله، ولا ينافي
ذلك جعلها بمعنى الباء التي للسببية وأما جعلها بمعنى الباء التي للظرفية فبعيد. قال العلماء:
الحكمة في الهام رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما سيكلفونه
من القيام بأمر أمتهم، لأن في مخالطتها ما يحصل الحلم والشفقة، لأنهم إذا صبروا على رعيها
وجمعها بعد تفريقها في الرعي ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره
كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة
ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا
كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما
لو كلفوا القيام به من أول وهلة لما يحصل لهم من التدرج بذلك،
وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولان تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لامكان ضبط
الإبل والبقر بالربط دونها. (وفي الحديث) دليل على جواز الإجارة على رعي
الغنم ويلحق بها في الجواز غيرها من الحيوانات.
وعن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر،
فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه
وثم رجل يزن بالاجر فقال له: زن وأرجح رواه الخمسة وصححه الترمذي، وفيه
دليل على أن من وكل رجلا في إعطاء شئ لآخر ولم يقدر جاز، ويحمل على
ما يتعارفه الناس في مثله، ويشهد لذلك حديث جابر في بيعه جمله: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: يا بلال اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا
رواه البخاري ومسلم. وعن رافع بن رفاعة قال: نهانا النبي صلى الله عليه وآله
وسلم عن كسب الأمة إلا ما عملت بيديها وقال هكذا بأصابعه نحو الخبز والغزل
والنفش رواه أحمد وأبو داود.
حديث سويد بن قيس سكت عنه أبي داود والمنذري، وأخرج نحوه أبو داود
والنسائي وابن ماجة عن أبي صفوان بن عمير، وقد تقدم في كتاب اللباس. وحديث
رافع ابن رفاعة إسناده ثقات، ولكنه قال أبو القاسم الدمشقي الحافظ في الاشراق
عقب هذا الحديث: رافع هذا غير معروف، وقال غيره: هو مجهول، وقد أخرجه أبو داود
20

وغيره من حديث أبي هريرة لكن بدون قوله: إلا ما عملت بيديها الخ. قوله: ومخرمة
بفتح الميم وسكون المعجمة وفتح الراء وهو حليف بني عبد شمس. قوله: بزا
بفتح الباء الموحدة بعدها زاي مشددة وهو الثياب وهجر، بفتح الهاء والجيم، وهي
مدينة قرب البحرين بينها وبينها عشرة مراحل. قوله: سراويل معرب جاء على
لفظ الجمع وهو واحد أشبه ما لا ينصرف. قوله: بالاجر أي بالأجرة، وفيه
دليل على جواز الاستئجار على الوزن، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الوزان
أن يزن ثمن السروايل. قال أصحاب الشافعي: وأجرة وزان الثمن على المشتري، كما
أن أجرة وزان السلعة إذا احتيج إليه على البائع. قوله: وأرجح بفتح الهمزة وكسر
الجيم أي أعطه راجحا، وفيه وفي حديث جابر الذي بعده دليل على استحباب ترجيح
المشتري في وزن الثمن، ويقاس عليه ترجيح البائع في وزن المبيع أو كيله، وفيهما
أيضا دليل على جواز هبة المشاع، وذلك لأن مقدار الرجحان هبة منه للبائع وهو
غير متميز من الثمن، وفيهما أيضا جواز التوكيل من الهبة المجهولة، ويحمل على ما يتعارفه
الناس كما قال المصنف، وقد ذكر ههنا طرفا من حديث جابر، وقد تقدم طرف منه
في البيع. قوله: عن كسب الأمة الكسب في الأصل مصدر، تقول: كسبت المال
أكسبه كسبا، والمراد به ههنا المكسوب. وفي الموطأ عن عثمان أنه خطب فقال: لا تكلفوا
الأمة غير ذات الصنعة فإنكم متى ما كلفتموها ذلك كسبت بفرجها، ولا تكلفوا الصغير
الكسب فإنه إذا لم يجد سرق. وفي حديث: أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن
كسب الأمة مخافة أن تبغي وقد كانت الجاهلية تجعل عليهن ضرائب فيوقعهن ذلك
في الزنى وربما أكرهوهن عليه، فلما جاء الاسلام نهى عن ذلك ونزل قول الله
تعالى: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) * (سورة النور، الآية: 33) الآية. قوله: وقال هكذا بأصابعه يعني الثلاث،
والخبز بفتح الخاء وسكون الباء بعدها زاي يعني عجن العجين وخبزه، والغزل غزل
الصوف والقطن والكتان والشعر، وقد روى الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة
وعلموهن الغزل وسورة النور وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي، قال
الدارقطني: كذاب. وأخرج الطبراني أيضا عن هند بنت المهلب بن أبي صفرة
وهي امرأة الحجاج بن يوسف أن زياد بن عبد الله القرشي دخل عليها وبيدها
21

مغزل تغزل به فقال لها: تغزلين وأنت امرأة أمير فقالت: سمعت أمي تحدث عن
جدي قال: سمعت رسول الله عليه وآله وسلم يقول: أطولكن طاقة
أعظمكن أجرا والمراد بالطاقة طاقة الغزل من الكتان أو القطن، وفي إسناده
يزيد بن مروان الخلال، قال ابن معين: كذاب. قوله: والنفش بفتح النون
وسكون الفاء بعدها شين معجمة والمراد نفش الصوف والشعر وندف القطن
والصوف ونحو ذلك. وفي رواية: النقش بالقاف وهو التطريز.
باب ما جاء في كسب الحجام
عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كسب
الحجام ومهر البغي وثمن الكلب رواه أحمد. وعن رافع بن خديج أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن
الكلب خبيث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه النسائي ولفظه: شر
المكاسب ثمن الكلب وكسب الحجام ومهر البغي. وعن محيصة بن مسعود
أنه كان له غلام حجام فزجره النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كسبه فقال: ألا
أطعمه أيتاما لي؟ قال: لا، قال: أفلا أتصدق به، قال: لا، فرخص له أن يعلفه ناضحة
رواه أحمد. وفي لفظ: أنه استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إجارة الحجام
فنهاه عنها، ولم يزل يسأله فيها حتى قال: اعلفه ناضحك أو أطعمه رقيقك رواه
أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
حديث أبي هريرة قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح. وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط، وأخرجه
أيضا الحازمي في الناسخ والمنسوخ بلفظ: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من السحت مهر البغي وأجرة الحجام ويشهد
له ما أخرجه الحازمي أيضا عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: نهى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن كسب الحجام وحديث رافع أخرجه أيضا مسلم.
وحديث محيصة أخرجه أيضا مالك وابن ماجة، قال في الفتح: ورجاله ثقات. وأخرج
نحوه أحمد في مسنده من حديث جابر ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
22

سئل عن كسب الحجام فقال: أطعمه ناضحك. وقال في مجمع الزوائد: أنه أخرج
حديث محيصة المذكور أهل السنن الثلاث باختصار والطبراني في الأوسط، قال
في مجمع الزوائد أيضا: ورجال أحمد رجال الصحيح. وقال في حديث جابر الذي
ذكرناه أن رجاله رجال الصحيح. قوله: البغي بفتح الموحدة وكسر المعجمة
وتشديد الياء فعيل بمعنى فاعلة أو مفعولة وهي الزانية. ومنه قوله تعالى: * (ولا تكرهوا
فتياتكم على البغاء) * (سورة النور، الآية: 33) أي على الزنا، وأصل البغي الطلب، غير أنه أكثر ما يستعمل في
طلب الفساد والزنا، والمراد ما تكتسبه الأمة بالفجور لا بالصنائع الجائزة، وقد
قدمنا في أول كتاب البيع أنه مجمع على تحريم مهر البغي. قوله: ثمن الكلب
قد تقدم الكلام عليه في أول البيع، وقد استدل بأحاديث الباب من قال بتحريم
كسب الحجام وهو بعض أصحاب الحديث كما في البحر، لأن النهي حقيقة في التحريم
والخبيث حرام، ويؤيد هذا تسمية ذلك سحتا كما في حديث أبي هريرة
الذي ذكرناه. وذهب الجمهور من العترة وغيرهم إلى أنه حلال واحتجوا بحديث أنس وابن
عباس الآتيين، وحملوا النهي على التنزيه لأن في كسب الحجام دناءة والله يحب معالي الأمور،
ولان الحجامة من الأشياء التي تجب للمسلم على المسلم للإعانة له عند الاحتياج إليها، ويؤيد
هذا إذنه صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله عن الجرة الحجامة أن يطعم منها ناضحة ورقيقه،
ولو كانت حراما لما جاز الانتفاع بها بحال. ومن أهل هذا القوم من زعم أن النهي
منسوخ وجنح إلى ذلك الطحاوي، وقد عرفت أن صحة النسخ متوقفة على العلم بتأخر
الناسخ وعدم إمكان الجمع بوجه، والأول غير ممكن هنا، والثاني ممكن بحمل النهي على
كراهة التنزيه بقرينة إذنه صلى الله عليه وآله وسلم بالانتفاع بها في بعض المنافع،
وبإعطائه صلى الله عليه وآله وسلم الاجر لمن حجمه ولو كان حراما لما مكنه منه،
ويمكن أن يحمل النهي عن كسب الحجام على ما يكتسبه من بيع الدم، فقد كانوا في
الجاهلية يأكلونه، ولا يبعد أن يشتروه للاكل فيكون ثمنه حراما، ولكن الجمع بهذا
الوجه بعيد، فيتعين المصير إلى الجمع بالوجه الأول، ويبقى الاشكال في صحة إطلاق
اسم الخبث والسحت على المكروه تنزيها. قال في القاموس: الخبيث ضد الطيب، وقال:
السحت بالضم وبضمتين الحرام أو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار انتهى وهذا
يدل على جواز إطلاق اسم الخبث والسحت على المكاسب الدنية وإن لم تكن
23

محرمة والحجامة كذلك فيزول الاشكال. وجمع ابن العربي بين الأحاديث بأن محل
الجواز إذا كانت الأجرة على عمل معلوم، ومحل الزجر على ما إذا كانت على عمل
مجهول. وحكى صاحب الفتح عن أحمد وجماعة الفرق بين الحر والعبد، فكرهوا
للحر الاحتراف بالحجامة وقالوا: يحرم عليه الانفاق على نفسه منها، ويجوز له الانفاق
على الرقيق والدواب منها، وأباحوها للعبد مطلقا، وعمدتهم حديث محيصة لأنه أذن له
صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلف منه ناضحة. والناضح اسم للبعير والبقرة التي
ينضح عليها من البئر أو النهر، ورواية الموطأ: وأطعمه نضاحك، بضم النون وتشديد
الضاد جمع ناضح. قال ابن حبيب: النضاح الذين يسقون النخيل، واحده ناضح
من الغلمان ومن الإبل، وإنما يفترقون في الجمع، فجمع الإبل نواضح والغلمان نضاح.
وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم حجمه أبو طيبة
وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه متفق عليه. وفي لفظ: دعا
غلاما منا حجمه فأعطاه أجره صاعا أو صاعين وكلم مواليه أن يخففوا عنه من ضريبته
رواه أحمد والبخاري. وعن ابن عباس قال: احتجم النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وأعطى الحجام أجره ولو كان سحتا لم يعطه رواه أحمد والبخاري ومسلم.
ولفظه: حجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد لبني بياضة فأعطاه النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أجره وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته، ولو كان سحتا لم يعطه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: أبو طيبة بفتح الطاء المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة واسمه
نافع. قوله: وأعطاه صاعين من طعام في الرواية الأخرى: صاعا أو صاعين.
وفي رواية أبي داود: فأمر له بصاع من تمر وفي رواية لمسلم: فأمر له بصاع أو مد
أو مدين على الشك. قوله: وكلم مواليه في رواية أبي داود: فأمر أهله
والمراد بمواليه ساداته، وجمع لكونه كان مملوكا لجماعة، كما يدل على ذلك رواية
مسلم: حجم النبي عبد لبني بياضة. قوله: فخففوا عنه في الكلام حذف، والتقدير
كلم مواليه أن يخففوا فخففوا عنه كما في الرواية الأخرى. ولفظ أبي داود:
فأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه وفيه جواز الشفاعة للعبد إلى مواليه في
تخفيف الخراج عنه. قوله: ولو كان سحتا قد تقدم ضبطه وتفسير معناه في
24

شرح الأحاديث التي قبل هذا. وفي رواية للبخاري: ولو علم كراهة لم يعطه
يعني كراهة تحريم. وفي رواية له أيضا: ولو كان حراما لم يعطه وذلك ظاهر
في الجواز. قوله: من ضريبته الضريبة تطلق على أمور منها غلة العبد كما في
القاموس وهي بفتح المعجمة فعيلة بمعنى مفعولة وجمعها ضرائب. ويقال لها خراج
وغلة وأجر. (والحديثان) يدلان على أن أجرة الحجامة حلال، وقد قدمنا
الخلاف في ذلك وما هو الحق.
باب ما جاء في الأجرة على القرب
عن عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اقرؤوا
القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به رواه أحمد.
وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اقرؤوا القرآن
واسألوا الله به فإن من بعدكم قوما يقرؤون القرآن يسألون به الناس رواه أحمد
والترمذي. وعن أبي بن كعب قال: علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا، فذكرت
ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوسا من نار فرددتها
رواه ابن ماجة. ولأبي داود وابن ماجة نحو ذلك من حديث عبادة بن الصامت:
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعثمان بن أبي العاص: لا تتخذ مؤذنا يأخذ على
أذانه أجرا.
أما حديث عبد الرحمن بن شبل فقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات.
وأخرجه أيضا البزار ويشهد له أحاديث. منها: حديث عمران بن حصين وأبي بن
كعب المذكوران في الباب. ومنها حديث جابر عند أبي داود قال: خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الاعرابي والعجمي فقال اقرؤوا فكل حسن،
وسيجئ أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه ومنها: حديث سهل
بن سعد عن أبي داود أيضا وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اقرؤه قبل أن
يقرأه قوم يقيمونه كما يقام السهم يتعجل أجره ولا يتأجله. وأما حديث عمران بن
حصين فقال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن ليس إسناده بذاك. وأما
حديث أبي بن كعب فأخرجه أيضا البيهقي والروياني في مسنده قال البيهقي وابن
25

عبد البر: هو منقطع يعني بين عطية الكلاعي وأبي بن كعب. وكذلك قال المزي.
وتعقبهم الحافظ بأن عطية ولد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأعله ابن
القطان بالجهل بحال عبد الرحمن بن سلم الراوي عن عطية وله طرق عن أبي: قال
ابن القطان: لا يثبت منها شئ، قال الحافظ: وفيما قال نظر، وذكر المزي في الأطراف له
طرقا. منها: أن الذي أقرأه أبي هو الطفيل بن عمرو ويشهد له ما أخرجه الطبراني
في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي قال: أقرأني أبي بن كعب القرآن
فأهديت إليه قوسا فغدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقلدها، فقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: تقلدها من جهنم، قلت: يا رسول الله إنا ربما حضر طعامهم
فأكلنا، فقال: أما ما عمل لك فإنما تأكله بخلاقك، وأما ما عمل لغيرك فحضرته فأكلت منه
فلا بأس. وما أخرجه الأثرم في سننه عن أبي قال: كنت أختلف إلى رجل
مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن فيؤتى بطعام لا آكل مثله
بالمدينة، فحاك في نفسي شئ فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن كان
ذلك الطعام طعامه وطعم أهله فكل منه، وإن كان بحقك فلا تأكله وأما حديث
عبادة الذي أشار إليه المصنف فلفظه: قال علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب
والقرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوس فقلت: ليست بمال وأرمي عليها في سبيل
الله عز وجل لآتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول
الله إنه رجل أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال
وأرمي عليها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها
وفي إسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي، وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين
وتكلم فيه جماعة. وقال الإمام أحمد: ضعيف الحديث حدث بأحاديث مناكير، وكل
حديث رفعه هو منكر. وقال أبو زرعة: الرازي لا يحتج بحديثه، ولكنه قد روي عن
عبادة من طريق أخرى عند أبي داود بلفظ: فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟
فقال: جمرة بين كتفيك، تقلدتها، أو تعلقتها. وفي هذه الطريق بقية بن الوليد، وقد
تكلم فيه جماعة ووثقه الجمهور إذا روي عن الثقات. وقد أورد الحافظ حديث
عبادة هكذا في كتاب النفقات من التلخيص وتكلم عليه فليراجع. (وفي الباب)
عن معاذ عند الحاكم والبزار بنحو حديث أبي، وعن أبي الدرداء عند الدارمي بإسناد
26

على شرط مسلم بنحوه أيضا. وأما حديث عثمان بن أبي العاص فقد تقدم الكلام
عليه في الاذان. وقد استدل بأحاديث الباب من قال: إنها لا تحل الأجرة على تعليم
القرآن وهو أحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة والهادوية، وبه قال عطاء والضحاك
بن قيس والزهري وإسحاق وعبد الله بن شقيق، وظاهره عدم الفرق بين أخذها
على تعليم من كان صغيرا أو كبيرا، وقالت الهادوية: إنما يحرم أخذها على تعليم
الكبير لأجل وجوب تعليمه القدر الواجب وهو غير متعين، ولا يحرم على تعليم
الصغير لعدم الوجوب عليه، وذهب الجمهور إلى أنها تحل الأجرة على تعليم القرآن،
وأجابوا عن أحاديث الباب بأجوبة. منها: أن حديث أبي وعبادة قضيتان في عين،
فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أنهما فعلا ذلك خالصا لله فكره أخذ
العوض عنه. وأما من علم القرآن على أنه لله وأن يأخذ من المتعلم ما دفعه إليه بغير سؤال
ولا استشراف نفس فلا بأس به. وأما حديث عمران بن حصين فليس فيه إلا تحريم السؤال
بالقرآن وهو غير اتخاذ الاجر على تعليمه وأما حديث عبد الرحمن بن شبل فهو أخص
من محل النزاع، لأن المنع من التأكل بالقرآن لا يستلزم المنع من قبول ما دفعه المتعلم بطيبة
من نفسه. وأما حديث عثمان بن أبي العاص فالقياس للتعليم عليه فاسد الاعتبار لما
سيأتي، هذا غاية ما يمكن أن يجاب به عن أحاديث الباب، ولكنه لا يخفى أن ملاحظة
مجموع ما تقضى به يفيد ظن عدم الجواز وينتهض للاستدلال به على المطلوب، وإن
كان في كل طريق من طرق هذه الأحاديث مقال فبعضها يقوي بعضا، ويؤيد ذلك أن
الواجبات إنما تفعل لوجوبها، والمحرمات إنما تترك لتحريمها، فمن أخذ على شئ
من ذلك أجرا فهو من الآكلين لأموال الغير بالباطل لأن الاخلاص
شرط، ومن أخذ الأجرة غير مخلص، والتبليغ للأحكام الشرعية واجب
على كل فرد من الافراد قبل قيام غيره به. ومن جملة ما أجاب به المجوزون
دعوى النسخ بأحاديث ابن عباس الآتي وسيأتي الجواب عن ذلك، واستدلوا
على الجواز أيضا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا،
فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال صلى الله عليه وآله
وسلم: هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذه، فقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئا، فقال:
27

ما أجد شيئا، فقال: التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: هل معك من القرآن شئ؟ فقال: نعم سورة كذا وسورة
كذا يسميها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن.
وفي رواية: قد ملكتكها بما معك من القرآن. ولمسلم: زوجتكها تعلمها من القرآن
وفي رواية لأبي داود: علمها عشرين آية وهي امرأتك. ولأحمد: أنكحتكها
على ما معك من القرآن. وقد أجاب المانعون من الجواز عن هذا الحديث بأجوبة
منها أنه زوجها به بغير صداق إكراما له لحفظه ذلك المقدار من القرآن ولم يجعل
التعليم صداقا، وهذا مردود برواية مسلم وأبي داود المذكورة. ومنها: أن هذا مختص
بتلك المرأة وذلك الرجل ولا يجوز لغيرهما، ويدل على ذلك ما أخرجه سعيد بن
منصور عن أبي النعمان الأزدي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج امرأة على
سورة من القرآن ثم قال: لا يكون لأحد بعدك مهرا. ومنها: أنه صلى الله عليه وآله
وسلم لم يسم لها مهرا ولم يعطها صداقا وأوصى لها بذلك عند موته، ويؤيده ما أخرجه
أبو داود من حديث عقبة بن عامر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم زوج رجلا امرأة
ولم يفرض لها مهرا ولم يعطها شيئا فأوصى لها عند موته بسهمه من خيبر فباعته بمائة
ألف. ومنها: أنها قضية فعل لا ظاهر لها. ومن جملة ما احتجوا به على الجواز حديث
عمر بن الخطاب المتقدم في الزكاة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه الحديث، ويجاب عنه بأنه
عموم مخصص بأحاديث الباب.
وعن ابن عباس: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مروا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق؟ فإن
في الماء رجلا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء،
فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا
المدينة فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله رواه البخاري. وعن أبي
سعيد قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة سافروها
حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد
28

ذلك الحي فسعوا له بكل شئ لا ينفعه شئ، فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم
أن يكون عندهم بعض شئ فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل
شئ لا ينفعه فهل عند أحد منكم من شئ؟ قال بعضهم: إني والله لأرقي ولكن والله
لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع
من غنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال فانطلق
يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال
بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنذكر له الذي كان
فننظر الذي يأمرنا، فقدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا له ذلك فقال:
وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: اقتسموا واضربوا لي معكم سهما، وضحك
النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه الجماعة إلا النسائي، وهذا لفظ
البخاري وهو أتم. قوله: فيهم لديغ اللديغ بالدال المهملة والغين المعجمة هو اللسيع وزنا
ومعنى، واللدغ اللسع، وأما اللذع بالذال المعجمة والعين المهملة فهو الاحراق الخفيف،
واللدغ المذكور في الحديث هو ضرب ذات الحمة من حية أو عقرب أو غيرهما
وأكثر ما يستعمل في العقرب، وقد صرح الأعمش في روايته بالعقرب. قوله: أو سليم
هو اللديغ أيضا. قوله: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله استدل به
الجمهور على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأجيب عن ذلك بأن المراد
بالاجر هنا الثواب، ويرد بأن سياق القصة يأبى ذلك، وادعى بعضهم نسخة بالأحاديث
السابقة، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال، وبأن الأحاديث القاضية بالمنع
وقائع أعيان محتملة للتأويل لتوافق الأحاديث الصحيحة كحديثي الباب، وبأنها
مما لا تقوم به الحجة فلا تقوى على معارضة ما في الصحيح، وقد عرفت مما سلف أنها تنتهض
للاحتجاج بها على المطلوب، والجمع ممكن إما بحمل الاجر المذكور ههنا على الثواب كما سلف
وفيه ما تقدم، أو المراد أخذ الأجرة على الرقية فقط كما يشعر به السياق، فيكون
مخصصا للأحاديث القاضية بالمنع، أو يحمل الاجر هنا على عمومه، فيشمل الاجر
على الرقية والتلاوة والتعليم، ويخص أخذها على التعليم بالأحاديث المتقدمة ويجوز
ما عداه، وهذا أظهر وجوه الجمع فينبغي المصير إليه. قوله: فاستضافوهم أي
29

طلبوا منهم الضيافة. وفي رواية للترمذي أنهم ثلاثون رجلا. قوله: فلم يضيفوهم
بالتشديد للأكثر وبكسر الضاد المعجمة مخففا. قوله: فسعوا له بكل شئ أي
مما جرت العادة أن يتداوى به من اللدغة. قوله: إني والله لأرقي ضبطه صاحب
الفتح بكسر القاف، والرقية كلام يستشفى به من كل عارض. قال في القاموس:
والرقية بالضم العوذة، والجمع رقى ورقاه رقيا ورقيا ورقيه نفث في عوذته. قوله:
جعلا بضم الجيم وسكون المهملة ما يعطي على عمل. قوله: على قطيع قال ابن
التين: هو الطائفة من الغنم، وتعقب بأن القطيع هو الشئ المنقطع من غنم كان أو
من غيرها: قال بعضهم: الغالب استعماله فيما بين العشرة والأربعين. وفي رواية للبخاري:
إنا نعطيكم ثلاثين شاة وهو مناسب لعدد الرهط المذكور سابقا، فكأنهم جعلوا
لكل رجل شاة. قوله: يتفل بضم الفاء وكسرها وهو نفخ معه قليل بزاق وقد
سبق تحقيقه في الصلاة. قال ابن أبي جمرة: محل النفل في الرقية يكون بعد القراءة لتحصل
بركة القراءة في الجوارح التي يمر عليها الريق. قوله: ويقرأ الحمد لله رب العالمين
في رواية أنه قرأها سبع مرات. وفي أخرى: ثلاث مرات والزيادة أرجح.
قوله: نشط بضم النون وكسر المعجمة من الثلاثي كذا لجميع الرواة. قال الخطابي
وهو لغة والمشهور نشط إذا عقد وأنشط إذا حل، وأصله الأنشوطة بضم الهمزة
والمعجمة بينهما نون ساكنة وهي الحبل، والعقال بكسر المهملة بعدها قاف وهو الحبل
الذي يشد به ذراع البهيمة. قوله: وما به قلبة بفتح القاف واللام أي علة، وسميت
العلة قبلة لأن الذي تصيبه يقلب من جنب إلى جنب ليعلم موضع الداء، قاله ابن
الاعرابي. ومنه قول الشاعر: وقد برئت فما بالصدر من قلبه وحكي عن ابن الاعرابي أن القلبة داء مأخوذ من القلاب يأخذ البعير فيؤلمه قلبه من يومه.
قوله: فقال الذي رقى بفتح القاف. قوله: وما يدريك أنها رقية؟ قال الداودي
معناه: وما أدراك؟ وقد روي كذلك ولعله هو المحفوظ لأن ابن عيينة قال: إذا قال
وما يدريك؟ فلم يعلم، وإذا قال: وما أدراك؟ فقد علم، وتعقبه ابن التين بأن ابن عيينة
إنما قال ذلك فيما وقع في القرآن، وإلا فلا فرق بينهما في اللغة في نفي الدراية، وهي
كلمة تقال عند التعجب من الشئ، وتستعمل في تعظيم الشئ أيضا وهو لائق هنا كما
قال الحافظ. وفي رواية بعد قوله: وما يدريك أنها رقية؟ قلت: ألقي في روعي. وللدارقطني:
30

قلت: يا رسول الله شئ ألقي في روعي وذلك ظاهر في أنه لم يكن عنده علم
متقدم بمشروعية الرقي بالفاتحة. قوله: ثم قال قد أصبتم يحتمل أن يكون صوب
فعلهم في الرقية، ويحتمل أن يكون ذلك في توقفهم عن التصرف في الجعل حتى استأذنوه،
ويحتمل ما هو أعم من ذلك. قوله: واضربوا لي معكم سهما أي اجعلوا منه نصيبا،
وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد المبالغة في تأنيسهم كما وقع في قصة الحمار
الوحشي وغير ذلك. (وفي الحديث) دليل على جواز الرقية بكتاب الله تعالى،
ويلتحق به ما كان في بالذكر والدعاء المأثور، وكذا غير المأثور مما لا يخالف ما في
المأثور. وأما الرقي بغير ذلك فليس في الأحاديث ما يثبته ولا ما ينفيه إلا ما سيأتي
في حديث خارجة. وفي حديث أبي سعيد مشروعية الضيافة على أهل البوادي والنزول
على مياه العرب وطلب ما عندهم على سبيل القرى أو الشراء، وفيه مقابلة من
امتنع من المكرمة بنظير صنعه، وفيه الاشتراك في العطية، وجواز طلب الهدية ممن
يعلم رغبته في ذلك وإجابته إليه.
وعن خارجة بن الصلت عن عمه أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ثم أقبل راجعا من عنده، فمر على قوم عندهم رجل مجنون موثق بالحديد فقال
أهله: إنا قد حدثنا أن صاحبكم قد جاء بخير فهل عندك شئ تداويه؟ قال: فرقيته
بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام كل يوم مرتين فبرأ فأعطوني مائتي شاة، فأتيت النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فأخبرته فقال: خذها فلعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية
حق رواه أحمد وأبو داود. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج
امرأة رجلا على أن يعلمها سورا من القرآن ومن ذهب إلى الرخصة لهذه الأحاديث
حمل حديث أبي وعبادة على أن التعليم كان قد تعين عليهما، وحمل فيما سواهما من
الأمر والنهي على الندب والكراهة.
حديث خارجة أخرجه أيضا النسائي، وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال
الصحيح إلا خارجة المذكور وقد وثقه ابن حبان. وأخرجه أيضا
ابن حبان والحاكم وصححاه. وحديث تزويج المرأة قد ذكرناه في أول الباب.
قوله: عن عمه هو علاقة بن صحار بضم الصاد وتخفيف الحاء المهملة التميمي
الصحابي، وقال خليفة: هو عبد الله بن عثير بكسر العين المهملة وسكون المثلثة بعدها
31

مثناة تحتية مفتوحة ثم راء مهملة. وقيل: اسمه علاثة، ويقال سحار بالسين، والأول
أكثره. قوله: ثلاثة أيام لفظ أبي داود: ثلاثة أيام غدوة وعشية كلما ختمها جمع
بزاقه ثم تفل. قوله: فلعمري أقسم بحياة نفسه كما أقسم الله بحياته، والعمر والعمر
بفتح العين وضمها واحد، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لايثار الأخف، وذلك لان
الحلف كثير الدور على ألسنتهم ولذلك حذفوا الخبر، وتقديره لعمرك مما أقسم، كما
حذفوا الفعل في قولك بالله. قوله: برقية باطل أي برقية كلام باطل، فحذف
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والرقى الباطلة المذمومة هي التي كلامها كفر، أو التي
لا يعرف معناها كالطلاسم المجهولة المعنى. قوله: على أن يعلمها سورا من القرآن
قد تقدم الجواب عن الاستدلال بهذا الحديث وتحقيق ما هو الحق، والأحاديث
المذكورة في هذا الباب تدل على أنه يجوز للانسان أن يسترقي، ويحمل الحديث
الوارد في الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون على
بيان الأفضلية، واستحباب التوكل والاذن لبيان الجواز، ويمكن أن يجمع بحمل الأحاديث
الدالة على ترك الرقية على قوم كانوا يعتقدون نفعها وتأثيرها بطبعها كما كانت الجاهلية
يزعمون في أشياء كثيرة.
باب النهي أن يكون النفع والاجر مجهولا
وجواز استئجار الأجير بطعامه وكسوته
عن أبي سعيد قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره، وعن
النجش واللمس وإلقاء الحجر رواه أحمد. وعن أبي سعيد أيضا قال: نهى عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان رواه الدارقطني،
وفسر قوم قفيز الطحان بطحن الطعام بجزء منه مطحونا لما فيه من استحقاق طحن
قدر الأجرة لكل واحد منهما على الآخر وذلك متناقض. وقيل: لا بأس بذلك مع
العلم بقدره وإنما المنهي عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها وإن شرط حبا لان
ما عداه مجهول فهو كبيعها إلا قفيزا منها. وعن عتبة بن الندر فقال: كنا عند
32

النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ طس حتى بلغ قصة موسى عليه السلام فقال: إن
موسى أجر نفسه ثمان سنين على عفة فرجه وطعام بطنه رواه
أحمد وابن ماجة.
حديث أبي سعيد الأول قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، إلا
أن إبراهيم النخعي لم يسمع من أبي سعيد فيما أحسب اه. وأخرجه أيضا البيهقي وعبد
الرزاق وإسحاق في مسنده، وأبو داود في المراسيل، والنسائي في الزراعة غير مرفوع،
ولفظ بعضهم: من استأجر أجيرا فليسم له أجرته وحديثه الثاني أخرجه أيضا
البيهقي وفي إسناده هشام أبو كليب قال ابن القطان: لا يعرف. وكذا قال الذهبي
وزاد: وحديثه منكر. وقال مغلطاي. هو ثقة، وأورده ابن حبان في الثقات. وحديث
عتبة بن الندر بضم النون وتشديد المهملة في إسناده مسلمة بن علي الحسني وهو
متروك، وقيل اسمه مسلم والأول أصح. قوله: حتى يبين له أجره فيه دليل لمن
قال: إنه يجب تعيين قدر الأجرة وهم العترة والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال مالك
وأحمد بن حنبل وابن شبرمة: لا يجب للعرف واستحسان المسلمين. قال في البحر: قلنا
لا نسلم بل الاجماع على خلافه اه. ويؤيد القول الأول القياس على ثمن المبيع. قوله:
وعن النجش إلى آخر الحديث قد تقدم الكلام على ذلك في البيع، وإلقاء
الحجر هو بيع الحصاة الذي تقدم تفسيره، وإذا أخذ النهي عن النجش على عمومه
صح الاستدلال به على عدم جواز الاستئجار عليه، ولكنه يبعد ذلك عطف اللمس
وإلقاء الحجر عليه. قوله: نهى عن عسب الفحل قد سبق ضبطه وتفسيره في
البيع والمراد به الكراهة كما قال الجوهري، يقال: عسبت الرجل أي أعطيته الكراء،
وقيل: ماء الفحل نفسه لقول زهير:
ولولا عسبه لتركتموه * وشر منيحة فحل معار
وقد ذهبت الشافعية والحنفية والعترة إلى أنه لا يجوز تأجير الفحل للضراب. وقال مالك
وابن أبي هريرة: يصح كالإعارة وهو قياس فاسد الاعتبار. قوله: وعن قفيز
الطحان حكى الحافظ في التلخيص عن ابن المبارك أحد رواة الحديث بأن صورته
أن يقال للطحان: اطحن بكذا وكذا وزيادة قفيز من نفس الطحين، وقد استدل بهذا
الحديث أبو حنيفة والشافعي ومالك والليث والناصر، على أنه لا يجوز أن تكون الأجرة
33

بعض المعمول بعد العمل. وقالت الهادوية والامام يحيى والمزني: إنه يصح بمقدار منه
معلوم، وأجابوا عن الحديث بأن مقدار القفيز مجهول، أو أنه كان الاستئجار على
طحن صبرة بقفيز منها بعد طحنها وهو فاسد عندهم. قوله: وطعام بطنه فيه متمسك
لمن قال بجواز الاستئجار بالنفقة ومثلها الكسوة وهو أبو حنيفة والامام يحيى. وقال
الشافعي وأبو يوسف ومحمد والهادوية والمنصور بالله: لا يصح للجهالة.
باب الاستئجار على العمل مياومة أو مشاهرة أو معاومة أو معاددة
عن علي رضي الله عنه قال: جعت مرة جوعا شديدا فخرجت لطلب
العمل في عوالي المدينة فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرا فظننتها تريد بلة. فقاطعتها
كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداي، ثم أتيتها فعدت لي
ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته فأكل معي منها رواه
أحمد. وعن أنس: لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم
شئ، فكانت الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم نصف
ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤنة أخرجاه. قال البخاري: وقال ابن
عمر: أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر بالشطر فكان ذلك على عهد النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ولم يذكر أن أبا بكر وعمر
جددا الإجارة بعد ما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
حديث علي عليه السلام جود الحافظ إسناده، وأخرجه ابن ماجة بسند صححه
ابن السكن. وأخرج البيهقي وابن ماجة من حديث ابن عباس بلفظ: أن عليا
عليه السلام أجر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة، وعندهما أن عدد التمر
سبعة عشر وفي إسناده حنش راويه عن عكرمة وهو ضعيف. قوله: ذنوبا هو
الدلو مطلقا، أو التي فيها ماء، أو الممتلئة، أو التي هي غير ممتلئة، أفاد معنى ذلك في
القاموس. وقد قدمنا تحقيقه في أول هذا الشرح. قوله: مجلت بكسر الجيم
أي غلظت وتنفطت، وبفتح الجيم غلظت فقط. قال في القاموس: مجلت يده كنصر
وفرح مجلا ومجولا. نفطت من العمل فمرنت كأمجلت، وقد أمجلها العمل أو المجل
34

أن يكون بين الجلد واللحم ماء، أو المجلة جلدة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل.
وحديث علي عليه السلام فيه بيان ما كانت الصحابة عليه من الحاجة وشدة
الفاقة والصبر على الجوع، وبذل الأنفس وإتعابها في تحصيل القوام من العيش
للتعفف عن السؤال وتحمل المتن، وإن تأجير النفس لا يعد دناءة، وإن كان المستأجر
غير شريف أو كافرا، والأجير من أشراف الناس وعظمائهم. وأورده المصنف للاستدلال
به على جواز الإجارة معاددة يعني أن يفعل الأجير عددا معلوما من العمل بعدد
معلوم من الأجرة وإن لم يبين في الابتداء مقدار جميع العمل والأجرة. وحديث
أنس فيه دليل على جواز إجارة الأرض بنصف الثمرة الخارجة منها في كل عام،
وكذلك حديث ابن عمر، وقد تقدم بسط الكلام على إجارة الأرض وما يصح منها
وما لا يصح في المزارعة.
باب ما يذكر في عقد الإجارة بلفظ البيع
عن سعيد بن ميناء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: من كان له فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا تبيعوها، قيل لسعيد: ما لا
تبيعوها يعني الكراء؟ قال: نعم رواه أحمد ومسلم.
قد تقدم الكلام على ما اشتمل عليه الحديث في المزارعة، وأعاده المصنف ههنا
للاستدلال به على صحة إطلاق لفظ البيع على الإجارة وهو مجاز من باب إطلاق
الحكم على الشئ، وهو لما هو من الأشياء التابعة له كإطلاق البيع هنا على
الأرض وهو لمنفعتها.
باب الأجير على عمل متى يستحق الأجرة وحكم سراية عمله
عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله
عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر،
ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه
35

أجره رواه أحمد والبخاري. وعن أبي هريرة في حديث له عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أنه يغفر لامته في آخر ليلة من رمضان، قيل: يا رسول الله أهي
ليلة القدر؟ قال: لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله رواه أحمد. وعن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من تطبب
ولم يعلم منه طب فهو ضامن رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
حديث أبي هريرة الثاني أخرجه أيضا البزار وفي إسناده هشام بن زياد
أبو المقدام وهو ضعيف. وحديث عمرو بن شعيب قال أبو داود بعد إخراجه: هذا لم
يروه إلا الوليد بن مسلم لا يدري هو صحيح أم لا؟ وأخرجه النسائي مسندا ومنقطعا.
(وفي الباب) عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: حدثني بعض الوفد الذين
قدموا على أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما طبيب تطبب على
قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن أخرجه أبو داود وفي
إسناده مجهول لا يعلم هل له صحبة أم لا؟ قوله: ثلاثة أنا خصمهم قال ابن التين:
هو سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح
والخصم يطلق على الواحد والاثنين وعلى أكثر من ذلك. وقال الهروي: الواحد
بكسر أوله، قال الفراء: الأول قول الفصحاء، ويجوز في الاثنين خصمان وفي الثلاثة
خصوم قوله: ومن كنت خصمه خصمته هذه الزيادة ليست في صحيح البخاري،
ولكنه أخرجها أحمد وابن حبان وابن خزيمة والإسماعيلي. قوله: أعطى بي ثم غدر
المفعول محذوف، والتقدير: أعطى يمينه بي أي عاهد وحلف بالله ثم لم يف. قوله: باع
حرا وأكل ثمنه خص الاكل لأنه أعظم مقصود. وفي رواية لأبي داود: ورجل
اعتبد محرره وهو أعم من الأول في الفعل وأخص منه في المفعول. قال الخطابي: اعتباد
الحر يقع بأمرين: أن يعتقه ثم يكتم ذلك أو يجحده. والثاني أن يستخدمه كرها بعد العتق،
والأول أشدهما قال في الفتح: والأول أشد لأن فيه مع كتم الفعل أو جحده العمل بمقتضى
ذلك من البيع وأكل الثمن، فمن ثم كان الوعيد عليه أشد. قال المهلب: وإنما كان إثمه شديدا
لأن المسلمين أكفاء بالحرية، فمن باع حرا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له وألزمه الذي
أنقذه الله منه. وقال ابن الجوزي الحر عبد الله فيمن جنى عليه فخصمه سيده. قال ابن المنذر:
36

لم يختلفوا في أن من باع حرا أنه لا قطع عليه، يعني إذا لم يسرقه من حرز مثله، إلا
ما يروى عن علي عليه السلام أنه تقطع يد من باع حرا، قال: وكان في جواز بيع
الحر خلاف قديم، ثم ارتفع فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من أقر على
نفسه بأنه عبد فهو عبد. وروى ابن أبي شيبة من طريق قتادة أن رجلا باع نفسه
فقضى عمر بأنه عبد وجعل ثمنه في سبيل الله. ومن طريق زرارة بن أوفى أحد
التابعين أنه باع حرا في دين ونقل ابن حزم أن الحر كان يباع في الدين حتى
نزلت: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * (سورة البقرة، الآية: 280) ونقل عن الشافعي مثل ذلك ولا يثبت
أكثر أصحابه. وقد استقر الاجماع على المنع. قوله: ولم يوفه أجره هو في معنى
من باع حرا وأكل ثمنه لأنه استوفى منفعته بغير عوض فكأنه أكلها، ولأنه استخدمه
بغير أجرة فكأنه استعبده. قوله: إنما يوفى أجره إذا قضى عمله فيه دليل على أن
الأجرة تستحق بالعمل، وأما الملك فعند العترة وأبي حنيفة وأصحابه إنما تملك بالعقد
فتتبعها أحكام الملك. وعند الشافعي وأصحابه أنها تستحق بالعقد وهذا في الصحيحة،
وأما الفاسدة فقال في البحر: لا تجب بالعقد إجماعا وتجب بالاستيفاء إجماعا. قوله: فهو
ضامن فيه دليل على أن متعاطي الطب يضمن ما حصل من الجناية بسبب علاجه،
وأما من علم منه أنه طبيب فلا ضمان عليه وهو من يعرف العلة ودواءها، وله مشايخ
في هذه الصناعة شهدوا له بالحذف فيها وأجازوا له المباشرة.
كتاب الوديعة والعارية
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: لا ضمان على مؤتمن رواه الدارقطني.
الحديث قال الحافظ: في إسناده ضعف. وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى
عنه بلفظ: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان وقال:
إنما نروي هذا عن شريح غير مرفوع. قال الحافظ: وفي إسناده ضعيفان. قوله:
الوديعة هي في اللغة مأخوذة من السكون، يقال: ودع الشئ يدع إذا سكن
فكأنها ساكنة عند المودع. وقيل: مأخوذة من الدعة وهي خفض العيش لأنها غير
مبتذلة بالانتفاع. وفي الشرع: العين التي يضعها مالكها عند آخر ليحفظها وهي
37

مشروعة إجماعا. والعارية بتشديد الياء قال في النهاية: كأنها منسوبة إلى العار لان
طلبها عار ويجمع على عواري مشددا. وفي الشرع إباحة منافع العين بغير عوض وهي
أيضا مشروعة إجماعا. قوله: لا ضمان على مؤتمن فيه دليل على أنه لا ضمان على
من كان أمينا على عين من الأعيان كالوديع والمستعير، أما الوديع فلا يضمن قيل:
إجماعا إلا لجناية منه على العين. وقد حكى في البحر الاجماع على ذلك، وتأول ما
حكي عن الحسن البصري أن الوديع لا يضمن إلا بشرط الضمان، بأن ذلك محمول
على ضمان التفريط لا الجناية المتعمدة، والوجه في تضمينه الجناية أنه صار بها
خائنا، والخائن ضامن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ولا على المستودع غير المغل ضمان والمغل
هو الخائن، وهكذا يضمن الوديع إذا وقع منه تعد في حفظ العين لأنه
نوع من الخيانة، وأما العارية فذهبت العترة والحنفية والمالكية إلى أنها غير مضمونة
على المستعير إذا لم يحصل منه تعد. وقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء والشافعي
وأحمد وإسحاق وعزاه صاحب الفتح إلى الجمهور: أنها إذا تلفت في يد المستعير ضمنها
إلا فيما إذا كان ذلك على الوجه المأذون فيه. وعن حسن البصري والنخعي والأوزاعي
وشريح والحنفية أنها غير مضمونة. وإن شرط الضمان. وعند العترة وقتادة والعنبري
أنه إذا شرط الضمان كانت مضمونة. وحكي في البحر عن مالك والبتي أن غير الحيوان مضمون
أو الحيوان غير مضمون. واستدل من قال إنه لا ضمان على غير المعتدي بما تقدم من قوله صلى
الله عليه وآله وسلم: ليس على المستعير غير المغل ضمان. وبقوله: لا ضمان على مؤتمن وبما
أخرجه ابن ماجة عن ابن عمرو بلفظ: من أودع وديعة فلا ضمان عليه وفي إسناده المثنى
بن الصباح وهو متروك، وتابعه ابن لهيعة فيما ذكره البيهقي. وبما أخرجه أبو داود وحسنه
الترمذي وصححه ابن حبان من حديث أبي أمامة أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يقول في حجة الوداع: العارية مؤداة والزعيم غارم وتعقب بأن التصريح بضمان الزعيم
لا يدل على عدم ضمان المستعير. واستدل من قال بالضمان بحديث سمرة الآتي
وبقوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * (سورة النساء، الآية: 58) ولا يخفى أن الامر بتأدية
الأمانة لا يستلزم ضمانها إذا تلفت. واستدل من فرق بين الحيوان وغيره بحديث
صفوان الآتي، ولا يخفى أن دلالته على أن غير الحيوان مضمون لا يستفاد منها
38

أن حكم الحيوان بخلافه. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أد الأمانة
إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه في إسناده طلق بن غنام عن شريك،
واستشهد له الحاكم بحديث أبي التياح عن أنس، وفي إسناده أيوب بن سويد
مختلف فيه وقد تفرد به كما قال الطبراني، وقد استنكر حديث الباب أبو حاتم
الرازي. وأخرجه أيضا البيهقي ومالك. (وفي الباب) عن أبي بن كعب عند ابن
الجوزي في العلل المتناهية. وفي إسناده من لا يعرف. وأخرجه أيضا الدارقطني. وعن
أبي أمامة عند البيهقي والطبراني بسند ضعيف. وعن أنس عند الدارقطني والطبراني
والبيهقي وأبي نعيم. وعن رجل من الصحابة عند أحمد وأبي داود والبيهقي
وفي إسناده مجهول آخر غير الصحابي، لأن يوسف بن ماهك رواه عن فلان عن آخر
وقد صححه ابن السكن. وعن الحسن مرسلا عند البيهقي. قال الشافعي: هذا الحديث
ليس بثابت. وقال ابن الجوزي: لا يصح من جميع طرقه. وقال أحمد: هذا حديث
باطل لا أعرفه من وجه يصح، ولا يخفى أن وروده بهذه الطرق المتعددة مع تصحيح
إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها، وتحسين إمام ثالث منهم مما يصير به الحديث
منتهضا للاحتجاج. قوله: ولا تخن من خانك فيه دليل على أنه لا يجوز مكافأة
الخائن بمثل فعله فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (سورة الشورى، الآية: 40). وقوله
تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (سورة البقرة، الآية: 194). وقوله تعالى: * (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (سورة النحل، الآية: 126). والحاصل أن الأدلة القاضية بتحريم مال الآدمي
ودمه وعرضه عمومها مخصص بهذه الثلاث الآيات. وحديث الباب مخصص لهذه
الآيات، فيحرم من مال الآدمي وعرضه ودمه ما لم يكن على طريق المجازاة
فإنها حلال إلا الخيانة لأنها لا تحل، ولكن الخيانة إنما تكون في الأمانة كما يشعر
بذلك كلام القاموس، فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث، على أنه لا يجوز لمن
تعذر عليه استيفاء حقه حبس حق خصمه على العموم كما فعله صاحب البحر وغيره،
إنما يصح الاستدلال به، على أنه لا يجوز للانسان إذا تعذر عليه استيفاء حقه أن
يحبس عنده وديعة لخصمه أو عارية، مع أن الخيانة إنما تكون على جهة الخديعة
والخفية وليس محل النزاع من ذلك، ومما يؤيد الجواز إذنه صلى الله عليه وآله وسلم
39

لامرأة أبي سفيان أن تأخذ لها ولولدها من مال زوجها ما يكفيها كما في الحديث
الصحيح. وقد اختلف في مسألة الحبس المذكورة، فذهب الهادي إلى أنه لا يجوز
مطلقا لا من الجنس ولا من غيره. قال المؤيد بالله: إن قول الهادي مسبوق بالاجماع.
وقال الشافعي والمنصور بالله: يجوز من الجنس وغيره. وقال أبو حنيفة والمؤيد بالله:
يجوز من الجنس فقط. وقال الامام يحيى: يجوز من الجنس ثم من الجنس من غيره لتعذره
دينا. قال في البحر بعد حكاية الخلاف قلت: الأقرب اشتراط الحاكم حيث يمكن
للخبر يعني حديث الباب، فإن تعذر جاز الحبس وغيره لئلا تضيع الحقوق ولظواهر الآي.
وعن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: على
اليد ما أخذت حتى تؤديه رواه الخمسة إلا النسائي، زاد أبو داود والترمذي: قال
قتادة ثم نسي الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه يعني العارية.
الحديث صححه الحاكم، وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف مشهور قد تقدم،
وفيه دليل على أنه يجب على الانسان رد ما أخذته يده من مال غيره بإعارة أو
إجارة أو غيرهما حتى يرده إلى مالكه، وبه استدل من قال: بأن الوديع والمستعير
ضامنان، وقد تقدم الخلاف في ذلك، وهو صالح للاحتجاج به على التضمين، لان
المأخوذ إذا كان على اليد الآخذة حتى ترده فالمراد أنه في ضمانها كما يشعر لفظ
على من غير فرق بين مأخوذ ومأخوذ. وقال المقبلي في المنار: يحتجون بهذا الحديث
في مواضع على التضمين ولا أراه صريحا، لأن اليد الأمينة أيضا عليها ما أخذت حتى
ترد وإلا فليست بأمينة. ومستخبر عن سر ليلى تركته * بعمياء من ليلى بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها * وما أنا إن خبرتهم بأمين
إنما كلامنا هل يضمنها لو تلفت بغير جناية وليس الفرق بين المضمون
وغير المضمون إلا هذا؟ وأما الحفظ فمشترك وهو الذي تفيده على فعلي هذا لم ينس الحسن كما زعم
قتادة حين قال: هو أمينك لا ضمان عليه بعد رواية الحديث اه. ولا يخفى عليك
ما في هذا الكلام من قلة الجدوى وعدم الفائدة، وبيان ذلك أن قوله: لأن اليد
الأمينة عليها ما أخذت حتى ترد وإلا فليست بأمينة، يقتضي الملازمة بين عدم الرد وعدم
الأمانة فكيف تلف الوديعة والعارية بأي وجه من الوجوه قبل الرد مقتضيا لخروج الأمين
40

عن كونه أمينا وهو ممنوع، فإن المقتضي لذلك إنما هو التلف بخيانة أو جناية،
ولا نزاع في أن ذلك موجب للضمان، إنما النزاع في تلف لا يصير به الأمين خارجا
عن كونه أمينا كالتلف بأمر لا يطاق دفعه، أو بسبب سهو أو نسيان، أو بآفة سماوية
، أو سرقة أو ضياع بلا تفريط، فإنه يوجد التلف في هذه الأمور مع بقاء الأمانة.
وظاهر الحديث يقتضي الضمان وقد عارضه ما أسلفنا. وقال في ضوء النهار: إن الحديث
إنما يدل على وجوب تأدية غير التالف، والضمان عبارة عن غرامة التالف اه. ولا
يخفى أن قوله في الحديث: على اليد ما أخذت من المقتضي الذي يتوقف فهم
المراد منه على مقدر وهو إما الضمان أو الحفظ أو التأدية، فيكون معنى الحديث على اليد
ضمان ما أخذت، أو حفظ ما أخذت، أو تأدية ما أخذت، ولا يصح ههنا تقدير التأدية لأنه قد
جعل قوله حتى تؤديه غاية لها، والشئ لا يكون غاية لنفسه. وأما الضمان والحفظ فكل واحد
منهما صالح للتقدير، ولا يقدران معا لما تقرر من أن المقتضي لا عموم له، فمن قدر
الضمان أوجبه على الوديع والمستعير، ومن قدر الحفظ أوجبه عليهما، ولم يوجب
الضمان إذا وقع التلف مع الحفظ المعتبر، وبهذا تعرف أن قوله إنما يدل الحديث على وجوب
التأدية لغير التالف ليس على ما ينبغي، وأما مخالفة رأي الحسن لروايته فقد تقرر في الأصول
أن العمل بالرواية لا بالرأي.
وعن صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعار منه
يوم حنين أدرعا فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة، قال: فضاع بعضها فعرض
عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم في الاسلام أرغب
رواه أحمد وابن داود. وعن أنس بن مالك قال: كان فزع بالمدينة فاستعار النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فرسا من أبي طلحة يقال له المندوب فركبه، فلما رجع قال:
ما رأينا من شئ وإن وجدناه لبحرا متفق عليه.
حديث صفوان أخرجه أيضا النسائي والحاكم، وأورد له شاهدا من حديث
ابن عباس ولفظه: بل عارية مؤداة وفي رواية لأبي داود: أن الأدراع كانت
ما بين الثلاثين إلى الأربعين ورواه البيهقي عن أمية بن صفوان مرسلا وبين أن
الأدراع كانت ثمانين. رواه الحاكم من حديث جابر وذكر أنها مائة درع. وأعل
ابن حزم وابن القطان طرق هذا الحديث. قال ابن حزم: أحسن ما فيها حديث يعلى
41

بن أمية، وقد تقدم في كتاب الوكالة. قوله: أغصبا معمول لفعل مقدر هو مدخول
الهمزة، أي: أتأخذها غصبا لا تردها علي؟ فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: بل
عارية مضمونة فمن استدل بهذا الحديث على أن العارية مضمونة جعل لفظ مضمونة
صفة كاشفة لحقيقة العارية أي أن شأن العارية الضمان. ومن قال: إن العارية غير
مضمونة جعل لفظ مضمونة صفة مخصصة، أي أستعيرها منك عارية متصفة بأنها
مضمونة لا عارية مطلقة عن الضمان. قوله: فعرض عليه أن يضمنها فيه دليل على
أن الضياع من أسباب الضمان لا على أن مطلق الضياع تفريط، وأنه يوجب
الضمان على كل حال، لاحتمال أن يكون تلف ذلك البعض وقع فيه تفريط.
قوله: فزع أي خوف من عدو، وأبو طلحة المذكور هو زيد بن سهل زوج أم أنس.
قوله: يقال له المندوب قيل: سمي بذلك من الندب وهو الرهن عند السباق. وقيل:
لندب كان في جسمه وهو أثر الجرح. قوله: وإن وجدناه لبحرا قال الخطابي: إن
هي النافية، واللام بمعنى ألا، أي ما وجدناه إلا بحرا. وقال ابن التين: هذا مذهب
الكوفيين، وعند البصريين أن إن مخففة من الثقيلة واللام زائدة، قال الأصمعي: يقال
للفرس بحر إذا كان واسع الجري أو لأن جريه لا ينفد كما لا ينفد البحر، ويؤيده
ما وقع في رواية للبخاري بلفظ: فكان بعد ذلك لا يجارى.
وعن ابن مسعود قال: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم عارية الدلو والقدر رواه أبو داود.
الحديث سكت عنه أبو داود وحسنه المنذري. وروي عن ابن مسعود وابن
عباس أنهما فسرا قوله تعالى: * (ويمنعون الماعون) * (سورة الماعون، الآية: 7) أنه متاع البيت الذي يتعاطاه الناس
بينهم من الفاس والدلو والحبل والقدر وما أشبه ذلك. وعن عائشة: الماعون الماء
والنار والملح، وقيل: الماعون الزكاة، قال الشاعر:
قوم على الاسلام لما يمنعوا * ماعونهم ويضيعوا التهليلا
قال في الكشاف: وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن
اضطرار، وقبيحا في المروءة في غير حال الضرورة. وأخرج أبو داود والنسائي عن
بهيسة بضم الموحدة وفتح الهاء وسكون الياء التحتية بعدها سين مهملة الفزارية عن
أبيها قالت: استأذن أبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل بينه وبين قميصه فجعل
42

يقبله ويلتزم ثم قال: يا رسول الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء، قال: يا نبي الله
ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح، قال: يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال: إن
تفعل الخير خير لك وسيأتي حديث بهيسة هذا في باب إقطاع المعادن من كتاب
إحياء الموات. وروى ابن أبي حاتم عن قرة بن دعموص النميري: أنهم وفدوا على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله ما تعهد إلينا؟ قال: لا تمنعون الماعون
قالوا: يا رسول الله وما الماعون؟ قال: في الحجر والحديد وفي الماء، قالوا: فأي الحديد؟ قال:
قدوركم النحاس وحديد الفاس الذين تمتهنون به، قالوا: وما الحجر؟ قال قدوركم الحجارة
وهذا حديث غريب. وروي عن عكرمة: أن رأس الماعون زكاة المال وأدناه المنخل
والدلو والإبرة. وروى ابن أبي حاتم أن الماعون العواري، وأصل الماعون من المعن
وهو الشئ القليل فسميت الزكاة ماعونا لأنها قليل من كثير، وكذلك الصدقة وغيرها،
وهذه التفاسير ترجع كلها إلى شئ واحد وهو المعاونة بمال أو منفعة، ولهذا قال محمد
بن كعب: الماعون المعروف. وفي الحديث: كل معروف صدقة.
وعن عائشة: أنها قالت وعليها درع قطري ثمن خمسة دراهم كان لي
منهن درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة
إلا أرسلت إلي تستعيره رواه أحمد والبخاري.
قوله: درع الدرع قميص المرأة وهو مذكر. قال الجوهري: ودرع الحديد
مؤنثة، وحكى أبو عبيدة أنه أيضا يذكر ويؤنث. قوله: قطري بكسر القاف وسكون
المهملة بعدها راء، وفي رواية المستملي والسرخسي: بضم القاف وسكون المهملة وآخره
نون، والقطري نسبة إلى القطر وهي ثياب من غليظ القطن وغيره. وقيل: من القطن
خاصة تعرف بالقطرية فيها حمرة، قال الأزهري: الثياب القطرية منسوبة إلى قطر قرية
من البحرين فكسروا القاف للنسبة وخففوا. قوله: ثمن خمسة دراهم بنصب ثمن
بتقدير فعل، وخمسة بالخفض على الإضافة أو برفع ثمن، وخمسة على حذف الضمير
والتقدير ثمنه خمسة. وروي بضم أوله وتشديد الميم على لفظ الماضي ونصب خمسة
على نزع الخافض أي قوم بخمسة دراهم. قوله: تقين بالقاف والتحتانية المشددة
أي تزين، من قان الشئ قيانة أي أصلحه، والقينة يقال للماشطة وللمغنية. وحكى ابن
التين أنه روي تفنن بالفاء أي تعرض وتجلى على زوجها. قال في الفتح: ولم يضبط
43

ما بعد الفاء، قال: ورأيته بخط بعض الحفاظ بمثناة فوقانية. قال ابن الجوزي: أرادت
عائشة أنهم كانوا أولا في حال ضيق، فكان الشئ المحتقر عندهم إذ ذاك عظيم القدر،
وفي الحديث أن عارية الثياب للعرس أمر معمول به مرغب فيه، وأنه لا يعد من التشبع.
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من صاحب إبل
ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الظلف
بظلفها وتنطحه ذات القرن، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن، قلنا: يا رسول
الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها
في سبيل الله رواه أحمد ومسلم.
الحديث قد سبق شرح بعض ألفاظه في أول كتاب الزكاة. قوله: إطراق
فحلها أي عارية الفحل لمن أراد أن يستعيره من مالكه ليطرق به على ماشيته.
قوله: وإعارة دلوها أي من حقوق الماشية أن يعير صاحبها الدلو الذي يسقيها
به إذا طلبه منه من يحتاج إليه. قوله: ومنحتها بالنون والمهملة، والمنحة في الأصل
العطية، قال أبو عبيدة: المنحة عند العرب على وجهين: أحدهما أن يعطي الرجل صاحبه
فيكون له، والآخر أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها زمنا ثم يردها، والمراد
بها هنا عارية ذوات الألبان ليؤخذ لبنها ثم ترد لصاحبها. قال القزاز قيل: لا تكون
المنيحة إلا ناقة أو شاة والأول أعرف. قوله: وحلبها على الماء بالحاء المهملة في
جميع الروايات، وأشار الداودي إلى أنه روي بالجيم وقال: أراد أنها تساق إلى
موضع سقيها، وتعقب بأنه لو كان كذلك لقال: وحلبها إلى الماء لا على الماء، وإنما المراد
حلبها هناك لنفع من يحضر من المساكين. قوله: حمل عليها الخ، أي من حقها
أن يبذلها المالك لمن أراد أن يستعيرها لينتفع بها في الغزو.
كتاب إحياء الموات
عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أحيا أرضا ميتة فهي له
رواه أحمد والترمذي وصححه. وفي لفظ: من أحاط حائطا على أرض فهي له رواه أحمد
وأبو داود. ولأحمد مثله من رواية سمرة. وعن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى
44

الله عليه وآله وسلم: من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق رواه أحمد وأبو
داود والترمذي. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من عمر
أرضا ليست لأحد فهو أحق بها رواه أحمد والبخاري. وعن أسمر بن مضرس
قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعته فقال: من سبق إلى ما لم يسبق
إليه مسلم فهو له، قال: فخرج الناس يتعادون يتخاطون رواه أبو داود.
حديث جابر أخرجه بنحوه النسائي وابن حبان. وحديث سمرة أخرجه
أيضا أبو داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجارود، وهو من رواية الحسن عنه،
وفي سماعه منه خلاف ولفظه: من أحاط حائطا على أرض فهي له. وحديث سعيد
أخرجه أيضا النسائي وحسنه الترمذي وأعله بالارسال فقال: وروي مرسلا، ورجح
الدارقطني إرساله أيضا. وقد اختلف مع ترجيح الارسال من هو الصحابي الذي
روي من طريقه فقيل: جابر، وقيل: عائشة، وقيل: عبد الله بن عمر، ورجح الحافظ الأول.
وقد اختلف فيه على هشام بن عروة اختلافا كثيرا. ورواه أبو داود الطيالسي
من حديث عائشة وفي إسناده زمعة وهو ضعيف ورواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن
راهويه في مسنديهما من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن
جده وعلقه البخاري، وحديث أسمر بن مضرس صححه الضياء في المختارة. وقال
البغوي: لا أعلم بهذا الاسناد غير هذا الحديث. قوله: من أحيا أرضا ميتة الأرض الميتة
هي التي لم تعمر، شبهت عمارتها بالحياة وتعطيلها بالموت، والاحياء أن يعمد شخص
إلى أرض لم يتقدم ملك عليها لأحد فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء
فتصير بذلك ملكه كما يدل عليه أحاديث الباب، وبه قال الجمهور وظاهر الأحاديث المذكورة
أنه يجوز الاحياء سواء كان بإذن الامام أو بغير إذنه. وقال أبو حنيفة: لا بد من إذن الإمام.
وعن مالك: يحتاج إلى إذن الإمام فيما قرب مما لأهل القرية إليه حاجة من مرعى
ونحوه، وبمثله قالت الهادوية. قوله: من أحاط حائطا فيه أن التحويط على
الأرض من جملة ما يستحق به ملكها والمقدار المعتبر ما يسمى حائطا في اللغة.
قوله: وليس لعرق ظالم حق قال في الفتح: رواية الأكثر بتنوين العرق والظالم
نعت له وهو راجع إلى صاحب العرق، أي
ليس لذي عرق ظالم، أو إلى العرق أي ليس لعرق ذي ظالم. ويروى بالإضافة، ويكون الظالم صاحب العرق، ويكون المراد
45

بالعرق الأرض، وبالأول جزم مالك والشافعي والأزهري وابن فارس وغيرهم،
وبالغ الخطابي فغلط رواية الإضافة. وقال ربيعة: العرق الظالم يكون ظاهرا أو يكون
باطنا، فالباطن يكون ما احتفره الرجل من الآبار، واستخرجه من المعادن، و الظاهر ما بناه
أو غرسه. وقال غيره: العرق الظالم من غرس أو زرع أو بنى أو حفر في أرض غيره
بغير حق ولا شبهة. قوله: من عمر أرضا بفتح العين وبتخفيف الميم، ووقع في
البخاري من أعمر بزيادة الهمزة في أوله وخطئ راويها. وقال ابن بطال: يمكن أن
يكون اعتمر فسقطت التاء من النسخة، وقال غيره وقد سمع فيه الرباعي يقال: أعمر الله
بك منزلك. ووقع في رواية أبي ذر من أعمر بضم الهمزة أي أعمره غيره. قال الحافظ:
وكأن المراد بالغير الامام. قوله: يتعادون يتخاطون المعاداة الاسراع بالسير،
والمراد بقوله يتخاطون يعملون على الأرض علامات بالخطوط، وهي تسمى الخطط
واحدتها خطة بكسر الخاء، وأصل الفعل يتخاططون فأدغمت الطاء في الطاء، والتقييد
بالمسلم في حديث أسمر يشعر بأن المراد بقوله في حديث عائشة: ليست لأحد أي من
المسلمين، فلا حكم لتقدم الكافر، أما إذا كان حربيا فظاهر، وأما الذمي ففيه خلاف معروف.
باب النهي عن منع فضل الماء
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تمنعوا
فضل الماء لتمنعوا به الكلاء متفق عليه. ولمسلم: لا يباع فضل الماء ليباع به
الكلأ. وللبخاري: لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ. وعن
عائشة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يمنع نقع البئر رواه أحمد وابن ماجة. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: من منع فضل مائه أو فضل كلأه منعه الله عز وجل فضله
يوم القيامة رواه أحمد. وعن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قضى بين أهل المدينة في النخل أن لا يمنع نقع بئر، وقضى بين أهل البادية
أن لا يمنع فضل ماء ليمنع به الكلأ رواه عبد الله بن أحمد في المسند.
حديث عمرو بن شعيب في إسناده محمد بن راشد الخزاعي وهو ثقة، وقد ضعفه
بعضهم، لكن حديث أبي هريرة يشهد لصحة الأحاديث المذكورة بعده، ومما
46

يشهد لصحتها حديث جابر عند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع
فضل الماء. وحديث إياس بن عبد عند أهل السنن بنحوه وصححه الترمذي. وقال أبو الفتح
القشيري: هو على شرطهما، ولكن حديث عمرو بن شعيب في إسناده ليث بن أبي سليم، وقد
رواه الطبراني في الصغير من حديث الأعمش عن عمرو بن شعيب، ورواه في الكبير من
حديث وائلة بلفظ آخر وإسناده ضعيف، وحديث عائشة رواه ابن ماجة من طريق
عبد الله بن إسماعيل وهو ابن أبي خالد الكوفي، قال أبو حاتم: مجهول، وكذا قال في التقريب.
قوله: فضل الماء المراد به ما زاد عن الحاجة، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد
من حديث أبي هريرة بلفظ: ولا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه قال في
الفتح: وهو محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الأرض المملوكة. وكذلك
في الموات إذا كان لقصد التملك، والصحيح عند الشافعية ونص عليه في القديم وحرملة
أن الحافر يملك ماءها، وأما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق لا التملك، فإن
الحافر لا يملك ماءها، بل يكون أحق به إلى أن يرتحل. وفي الصورتين يجب عليه
بذل ما يفضل عن حاجته، والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته، هذا هو
الصحيح عند الشافعية، وخص المالكية هذا الحكم بالموات، وقالوا في البئر التي لا
تملك: لا يجب عليه بذل فضلها، وأما الماء المحرز في الاناء فلا يجب بذل فضله لغير
المضطر على الصحيح اه. قال في البحر: والماء على أضرب. حق إجماعا كالأنهار غير
المستخرجة والسيول. وملك إجماعا كماء يحرز في الجرار ونحوها. ومختلف فيه كماء
الآبار والعيون والقنا المحتفرة في الملك اه. والقنا هي بفتح القاف الكظامة التي تحت
الأرض، وسيأتي ذكر الخلاف في ذلك. قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن
صاحب الحق أحق بمائة حتى يروى. قال الحافظ: وما نفاه من الخلاف هو على القول
بأن الماء يملك، فكأن الذين يذهبون إلى أنه يملك وهم الجمهور هم الذين لا خلاف
عندهم في ذلك، وقد استدل بتوجه النهي إلى الفضل على جواز بيع الماء الذي لا
فضل فيه، وقد تقدم الكلام على ذلك في البيع. قوله: ليمنع به الكلأ بفتح
الكاف واللام بعدها همزة مقصورة وهو النبات رطبه ويابسه، والمعنى: أن يكون
حول البئر كلا ليس عنده ماء غيره، ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا مكنوا
من سقي بهائمهم من تلك البئر لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي، فيستلزم منعهم من
47

الماء منعهم من الرعي، وإلى هذا التفسير ذهب الجمهور، وعلى هذا يختص البذل بمن
له ماشية، ويلحق به الرعاة إذا احتاجوا إلى الشرب، لأنه إذا منعهم من الشرب
امتنعوا من الرعي هناك، ويحتمل أن يقال: يمكنهم حمل الماء لأنفسهم لقلة ما يحتاجون
إليه منه بخلاف البهائم والصحيح الأول، ويلتحق بذلك الزرع عند مالك، والصحيح
عند الشافعية، وبه قالت الحنفية الاختصاص بالماشية، وفرق الشافعي فيما حكاه المزني
عنه بين المواشي والزرع، بأن الماشية ذات أرواح يخشى من عطشها موتها بخلاف
الزرع، وبهذا أجاب النووي وغيره، واستدل لمالك بحديث جابر المتقدم لاطلاقه
وعدم تقييده وتعقب بأنه يحمل على المقيد، وعلى هذا لو لم يكن هناك كلا يرعى
فلا منع من المنع لانتقاء العلة. قال الخطابي: والنهي عند الجمهور للتنزيه، وهو محتاج
إلى دليل يصرف النهي عن معناه الحقيقي وهو التحريم. قال في الفتح: وظاهر
الحديث وجوب بذله مجانا، وبه قال الجمهور، وقيل لصاحبه: طلب القيمة من المحتاج
إليه كما في طعم المضطر، وتعقب بأنه يلزم منه جواز البيع حالة امتناع المحتاج من
بذل القيمة ورد بمنع الملازمة، فيجوز أن يقال: يجب عليه البذل وتثبت له القيمة
في ذمة المبذول له، فيكون له أخذ القيمة منه متى أمكن، ولكنه لا يخفى أن رواية
لا يباع فضل الماء أو رواية النهي عن بيع فضل الماء يدلان على تحريم البيع، ولو جاز
له أخذ العوض لجاز له البيع. قوله: نقع البئر أي الماء الفاضل فيها عن حاجة
صاحبها. وفيه دليل على أنه لا يجوز منع فضل الماء الكائن في البئر، كما لا يجوز
منع فضل ماء النهر، وأنه لا فرق بينهما، والنقع بفتح النون وسكون القاف بعدها
عين مهملة.
باب الناس شركاء في ثلاث وشرب الأرض العليا
قبل السفلى إذا قل الماء واختلفوا فيه
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يمنع الماء
والنار والكلأ. رواه ابن ماجة. عن أبي خراش عن بعض أصحاب النبي
48

صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المسلمون شركاء
في ثلاثة: في الماء والكلأ والنار رواه أحمد وأبو داود، ورواه ابن ماجة من حديث
ابن عباس وزاد فيه: وثمنه حرام.
حديث أبي هريرة قال الحافظ: إسناده صحيح، وحديث بعض الصحابة رواه
أبو نعيم في الصحابة في ترجمة أبي خراش ولم يذكر الرجل، وقد سئل أبو حاتم
عنه فقال: أبو خراش لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال
الحافظ: وهو كما قال، فقد سماه أبو داود في روايته حبان بن زيد وهو الشرعبي تابعي معروف. قال الحافظ في بلوغ
المرام ورجاله ثقات. وحديث ابن
عباس فيه عبد الله بن خراش وهو متروك، وقد صححه ابن السكن. (وفي الباب) عن ابن عمر عند الخطيب وزاد: والملح وفيه عبد الحكيم بن ميسرة.
ورواه الطبراني بسند حسن عن زيد بن جبير عن ابن عمرو له عنده طريق أخرى.
وعن بهيسة عن أبيها عند أبي داود، وقد تقدم لفظه في شرح حديث ابن مسعود
من كتاب الوديعة والعارية، وسيأتي في باب اقطاع المعادن. وعن عائشة عند
ابن ماجة أنها قالت: يا رسول الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح والماء والنار
الحديث. وإسناده ضعيف كما قال الحافظ. وعن أنس عند الطبراني في الصغير بلفظ:
خصلتان لا يحل منعهما الماء والنار قال أبو حاتم في العلل: هذا حديث منكر. وعن
عبد الله بن سرجس عند العقيلي في الضعفاء نحو حديث بهيسة. قوله: الماء فيه
دليل على أن الناس شركة في جميع أنواع الماء من غير فرق بين المحرز وغيره، وقد
تقدم في الباب الأول أن الماء المحرز في الجرار ونحوها ملك إجماعا، ومن لازم الملك
الاختصاص وعدم الاشتراك بين غير منحصرين كما يقضي به الحديث، فإن صح هذا
الاجماع كان مخصصا لأحاديث الباب. وأما ماء الأنهار فقد تقدم أنه حق بالاجماع.
واختلف في ماء الآبار والعيون والكظائم، فعند الشافعية والحنفية وأبي العباس
وأبي طالب: أنه حق لا ملك واستدلوا بأحاديث الباب. وقال الامام يحيى والمؤيد بالله
في أحد قوليه وبعض أصحاب الشافعي: إنه ملك وقاسوه على الماء المحرز في الجرار ونحوها،
ورد بأنه بالسيول أشبه منه بماء الجرة ونحوها قال في البحر فصل: ومن احتفر بئرا
أو نهرا فهو أحق بمائه إجماعا وإن بعدت منه أرضه وتوسط غيرها اه. واختلف في
ماء البرك فقيل: حق، وقيل: ملك. قوله: والنار قيل: المراد بها الشجر الذي يحطبه الناس،
49

وقيل: المراد بها الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها. وقيل: المراد بها الحجارة التي
توري النار إذا كانت في موات الأرض، وإذا كان المراد بها الضوء فلا خلاف أنه لا
يختص به صاحبه، وكذلك إذا كان المراد بها الحجارة المذكورة، وإن كان المراد بها
الشجر فالخلاف فيه كالخلاف في الحطب وسيأتي. قوله: والكلأ فقد تقدم تفسيره
في الباب الذي قبل هذا وهو أعم من الخلا والحشيش، لأن الخلا مختص بالرطب من
النبات، والحشيش مختص باليابس، والكلأ يعمهما، قيل: المراد بالكلأ هنا هو الذي
يكون في المواضع المباحة كالأودية والجبال والأراضي التي لا مالك لها. وأما
ما كان قد أحرز بعد قطعه فلا شركة فيه بالاجماع كما قيل. وأما النابت في الأرض
المملوكة والمتحجرة ففيه خلاف، فقيل: مباح مطلقا وإليه ذهبت الهادوية، وقيل: تابع
للأرض فيكون حكمه حكمها، وإليه ذهب المؤيد بالله. (واعلم) أن أحاديث الباب تنتهض
بمجموعها، فتدل على الاشتراك في الأمور الثلاثة مطلقا، ولا يخرج شئ من ذلك
إلا بدليل يخص به عمومها إلا بما هو أعم منها مطلقا، كالأحاديث القاضية بأنه لا
يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه
لأنها مع كونها إنما تصلح للاحتجاج بها بعد ثبوت الملك وثبوته في الأمور الثلاثة محل النزاع.
وعن عبادة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في شرب النخل من
السبيل أن الأعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى
الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء رواه ابن ماجة وعبد الله
بن أحمد. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قضى في سيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل
رواه أبو داود وابن ماجة.
حديث عبادة أخرجه أيضا البيهقي والطبراني وفيه انقطاع، وحديث عمرو
بن شعيب في إسناده عبد الرحمن بن الحرث المخزومي المدني تكلم فيه الإمام أحمد،
وقال الحافظ في الفتح: إن إسناد هذا الحديث حسن ورواه الحاكم في المستدرك من
حديث عائشة: أنه قضى صلى الله عليه وآله وسلم في سيل مهزور أن الأعلى يرسل
إلى الأسفل ويحبس قدر الكعبين، وأعله الدارقطني بالوقف وصححه الحاكم، ورواه
ابن ماجة وأبو داود من حديث ثعلبة بن أبي مالك، ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن أبي
50

حاتم القرظي عن أبيه عن جده أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له
سهم في بني قريظة فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مهزور السيل
الذي يقسمون ماءه، فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الماء إلى
الكعبين لا يحبس إلا على الأسفل. قوله: مهزور بفتح الميم وسكون الهاء
بعدها زاي مضمومة ثم واو ساكنة ثم راء وهو وادي بني قريظة بالحجاز. قال
البكري في المعجم: هو واد من أودية المدينة. وقيل: موضع سوق المدينة، وكان قد
تصدق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين، فأقطعه عثمان الحرث بن
الحكم أخا مروان، وأقطع مروان فدك. وقال ابن الأثير والمنذري: أما مهزور بتقديم
الراء على الزاي فموضع سوق المدينة. (وأحاديث الباب) تدل على أن الأعلى
تستحق أرضه الشرب بالسيل والغيل وماء البئر قبل الأرض التي تحتها، وإن الأعلى
يمسك الماء حتى يبلغ إلى الكعبين أي كعبي رجل الانسان الكائنين عند مفصل
الساق والقدم ثم يرسله بعد ذلك. وقال في البحر: إن الماء إذا كان قليلا فحده أن
يعم أرض الأعلى إلى الكعبين في النخيل وإلى الشراك في الزرع لقضائه صلى الله
عليه وآله وسلم بذلك في خبر عبادة يعني المذكور في الباب، قال: وأما قوله صلى الله
عليه وآله وسلم للزبير: اسق أرضك حتى يبلغ الجدر فقيل: عقوبة لخصمه، وقيل:
بل هو المستحق، وكان أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتفضل، فإن كانت الأرض
بعضها مطمئن فلا يبلغ في بعضها الكعبين إلا وهو في المطمئن إلى الركبتين قدم
المطمئن إلى الكعبين ثم حبسه وسقى باقيها. وقال أبو طالب: العبرة بالكفاية للأعلى
اه، وهو المختار عند الهادوية. قال ابن التين: الجمهور على أن الحكم أن يمسك إلى
الكعبين، وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر، قال: وأما الزرع فإلى الشراك، وقال الطبري:
الأراضي مختلفة فيمسك لكل أرض ما يكفيها، وسيأتي بقية الكلام على هذه المسألة
في شرح حديث الزبير إن شاء الله تعالى، وقد أورده المصنف رحمه الله في باب النهي
عن الحكم في حال الغضب من كتاب الأقضية.
51

باب الحمى لدواب بيت المال
عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمى النقيع للخيل خيل
المسلمين رواه أحمد. والنقيع بالنون موضع معروف. وعن الصعب بن جثامة أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمى النقيع وقال: لا حمى إلا لله ولرسوله رواه أحمد
وأبو داود، وللبخاري منه: لا حمى إلا لله ولرسوله وقال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى شرف والربذة. وعن أسلم مولى عمر أن
عمر استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى فقال: يا هني أضمم جناحك على المسلمين
واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة
وإياي، ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل
وزرع، ورب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه يقول: يا أمير المؤمنين
أفتاركهم أنا لا أبالك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وأيم الله إنهم ليرون
إني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الاسلام والذي
نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم
شيئا رواه البخاري.
حديث ابن عمر أخرجه أيضا ابن حبان، وحديث الصعب أخرجه أيضا الحاكم. قال
البيهقي: إن قوله حمى النقيع من قول الزهري، وروى الحديث النسائي فذكر الموصول
فقط أعني قوله: لا حمى إلا لله ولرسوله ويؤيد ما قاله البيهقي أن أبا داود أخرجه
من حديث ابن وهب عن يونس عن الزهري فذكره، وقال في آخره: قال ابن شهاب:
وبلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمى النقيع، وقد وهم الحاكم فزعم أن
حديث لا حمى إلا لله متفق عليه وهو من إفراد البخاري، وتبع الحاكم في وهمه
أبو الفتح القشيري في الالمام وابن الرفعة في المطلب. وأثر عمر أخرجه أيضا الشافعي
عن الدراوردي عن زيد بن أسلم عن أبيه مثله. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر
عن الزهري مرسلا. قوله: حمى النقيع أصل الحمى عند العرب أن الرئيس منهم
كان إذا نزل منزلا مخصبا استعوى كلبا على مكان عال، فإلى حيث انتهى صوته حماه
52

من كل جانب فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه، والحمى هو المكان
المحمي، وهو خلاف المباح ومعناه أن يمنع من الاحياء في ذلك الموات ليتوفر فيه
الكلأ، وترعاه مواشي مخصوصة ويمنع غيرها، والنقيع هو بالنون كما ذكر المصنف، وحكى
الخطابي أن بعضهم صحفه فقال بالموحدة وهو على عشرين فرسخا من المدينة وقدره
ميل في ثمانية أميال، ذكر ذلك ابن وهب في موطئه، وأصل النقيع كل موضع يستنقع
فيه الماء، وهذا النقيع المذكور في هذا الحديث غير نقيع الخضمات الذي جمع فيه أسعد بن
زرارة بالمدينة على المشهور كما قال الحافظ. وقال ابن الجوزي: بعضهم قال: إنهما واحد،
قال: والأول أصح. قوله: لا حمى إلا لله ولرسوله قال الشافعي: يحتمل معنى الحديث شيئين:
أحدهما ليس لأحد أن يحمي المسلمين إلا ما حماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والآخر معناه إلا على مثل ما حماه عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فعلى الأول:
ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وهو الخليفة خاصة. قال في الفتح: وأخذ أصحاب الشافعي
من هذا أن له في المسألة قولين والراجح عندهم الثاني، والأول أقرب إلى ظاهر
اللفظ اه. ومن أصحاب الشافعي من الحق بالخليفة ولاة الأقاليم. قال الحافظ: ومحل
الجواز مطلقا أن لا يضر بكافة المسلمين اه. وظاهر قوله في الحديث الأول للخيل خيل
المسلمين أنه لا يجوز للامام على فرض إلحاقه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
أن يحمي لنفسه، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعية والحنفية والهادوية، قالوا:
بل يحمي لخيل المسلمين وسائر أنعامهم، ولا سيما أنعام من ضعف منهم عن الانتجاع كما
فعله عمر في الأثر المذكور. وقد ظن بعضهم أن بين الأحاديث القاضية بالمنع من الحمى
والأحاديث القاضية بجواز الاحياء معارضة، ومنشأ هذا الظن عدم الفرق بينهما
وهو فاسد، فإن الحمى أخص من الاحياء مطلقا. قال ابن الجوزي: ليس بين الحديثين
معارضة، فالحمى المنهي عنه ما يحمى من الموات الكثيرة العشب لنفسه خاصة كفعل
الجاهلية، والاحياء المباح ما لا منفعة للمسلمين فيه شاملة فافترقا، قال: وإنما تعد أرض
الحمى مواتا لكونها لم يتقدم فيها ملك لأحد، لكنها تشبه العامرة لما فيها من
المنفعة العامة. قوله: وأن عمر حمى شرف لفظ البخاري الشرف بالتعريف، قال
في الفتح: والشرف بفتح المعجمة والراء بعدها فاء في المشهور. وذكر عياض أنه عند
53

البخاري بفتح المهملة وكسر الراء. وقال
في موطأ ابن وهب: بفتح المهملة والراء، قال: وكذا رواه بعض رواة البخاري أو أصلحه وهو الصواب. وأما شرف فهو موضع
بقرب مكة ولا يدخله الألف واللام. قوله: والربذة بفتح الراء والموحدة بعدها
ذال معجمة موضع معروف بين مكة والمدينة. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح
أن عمر حمى الربذة لنعم الصدقة. قوله: هنيا بضم الهاء وفتح النون وتشديد
التحتية. قوله: الصريمة تصغير صرمة وهي ما بين العشرين إلى الثلاثين من
الإبل، أو من العشر إلى الأربعين منها.
باب ما جاء في اقطاع المعادن
عن ابن عباس قال: أقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلال بن
الحارث المزني معادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث يصلح الزرع من قدس ولم
يعطه حق مسلم رواه أحمد وأبو داود، وروياه أيضا من حديث عمرو بن عوف
المزني. وعن أبيض بن حمال أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
استقطعه الملح فقطع له، فلما أن ولى قال رجل: أتدري ما اقتطعت له؟ إنما أقطعته الماء
العد، قال: فانتزعه منه، قال: وسأله عما يحمى من الأراك فقال: ما لم تنله خفاف الإبل
رواه الترمذي وأبو داود. وفي رواية له: أخفاف الإبل قال محمد بن الحسن
المخزومي: يعني أن الإبل تأكل منتهى رؤوسها ويحمى ما فوقه. وعن بهيسة قالت:
استأذن أبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يدنو منه ويلتزمه ثم قال: يا نبي الله
ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء، قال: يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال:
الملح، قال: يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال: أن تفعل الخير خير لك رواه
أحمد وأبو داود.
حديث ابن عباس في إسناده أبو أويس عبد الله بن عبد الله، أخرج له مسلم
في الشواهد وضعفه غير واحد. قال أبو عمر: هو غريب من حديث ابن عباس، ليس
يرويه عن أبي أويس غير ثور. وحديث عمرو بن عوف الذي أشار إليه المصنف في
إسناده ابن ابنه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، وقد تقدم أنه لا يحتج
54

بحديثه. وحديث أبيض بن حمال أخرجه أيضا ابن ماجة والنسائي، وحسنه
الترمذي، وصححه ابن حبان، وضعفه ابن القطان، ولعل وجه التضعيف كونه
في إسناده السبائي المازني، قال ابن عدي: أحاديثه مظلمة منكرة. وحديث بهيسة أعله
عبد الحق والقطان بأنها لا تعرف، وتعقب بأنه ذكرها ابن حبان وغيره في الصحابة،
ولحديثه شواهد فقد تقدمت في كتاب الوديعة والعارية عند الكلام على حديث
ابن مسعود في الماعون. قوله: القبيلة منسوبة إلى قبل بفتح القاف والموحدة
وهي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام. وفي رواية لأبي داود:
معادن القبيلة وهي من ناحية الفرع، وقد تقدم مثل هذا التفسير في باب ما جاء في
الزرع والمعدن من كتاب الزكاة، لأن حديث إقطاع بلال تقدم هنالك
بلفظ غير ما هنا. وقال في القاموس: والقبل محركة نشر من الأرض يستقبلك،
أو رأس كل أكمة أو جبل أو مجتمع رمل والمحجة الواضحة اه. قوله: جلسيها بفتح الجيم
وسكون اللام وكسر السين المهملة بعدها ياء النسب، والجلس كل مرتفع من الأرض
ويطلق على أرض نجد كما في القاموس. قوله: وغوريها بفتح الغين المعجمة
وسكون الواو وكسر الراء نسبة إلى غور، قال في القاموس: إن الغور يطلق على ما بين
ذات عرق إلى البحر، وكل ما انحدر مغربا عن تهامة، وموضع منخفض بين القدس
وحوران مسيرة ثلاثة أيام في عرض فرسخين، وموضع في ديار بني سليم، وماء لبني
العدوية اه. والمراد ههنا المواضع المرتفعة والمنخفضة من
معادن القبيلة. قوله: من قدس بضم القاف وسكون الدال المهملة بعدها سين مهملة وهو جبل عظيم بنجد
كما في القاموس. وقيل: الموضع المرتفع الذي يصلح للزرع كما في النهاية. قوله: العد
بكسر العين المهملة وتشديد الدال المهملة أيضا، قال في القاموس: الماء الذي له مادة
لا تنقطع كماء العين اه. وجمعه اعداد، وقيل: العد ما يجمع ويعد، ورده الأزهري
ورجع الأول. (وأحاديث الباب) تدل على أنه يجوز للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم ولمن بعده من الأئمة إقطاع المعادن، والمراد بالاقطاع جعل بعض الأراضي
الموات مختصة ببعض الاشخاص، سواء كان ذلك معدنا أو أرضا لما سيأتي، فيصير
ذلك البعض أولى به من غيره، ولكن بشرط أن يكون من الموات التي لا يختص
بها أحد، وهذا أمر متفق عليه. وقال في الفتح: حكى عياض أن الاقطاع تسويغ الامام
55

من مال الله شيئا لمن يراه أهلا لذلك، وأكثر ما يستعمل في الأرض وهو أن
يخرج منها لمن يراه ما يحوزه، إما بأن يملكه إياه فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته
مدة. قال السبكي: والثاني هو الذي يسمى في زماننا هذا اقطاعا، ولم أر أحدا من
أصحابنا ذكره، وتخريجه على طريق فقهي مشكل، قال: والذي يظهر أنه يحصل
للمقطع بذلك اختصاص كاختصاص المتحجر ولكنه لا يملك الرقبة بذلك، وبهذا
جزم الطبري، وادعى الأذرعي نفي الخلاف في جواز تخصيص الامام بعض الجند
بغلة أرضه إذا كان مستحقا لذلك، هكذا في الفتح. وحكى صاحب الفتح أيضا عن
ابن التين أنه إنما يسمى اقطاعا إذا كان من أرض أو عقار، وإنما يقطع من الفئ، ولا
يقطع من حق مسلم ولا معاهد، قال: وقد يكون الاقطاع تمليكا وغير تمليك، وعلى
الثاني يحمل اقطاعه صلى الله عليه وآله وسلم الدور بالمدينة. قال الحافظ: كأنه يشير
إلى ما أخرجه الشافعي مرسلا، ووصله الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم
المدينة أقطع الدور يعني أنزل المهاجرين في دور الأنصار برضاهم. قوله: قال محمد
بن الحسن الخ، ذكر الخطاب وجها آخر فقال: إنما يحمى من الأراك ما بعد عن
حضرة العمارة، فلا تبلغه الإبل الرائحة إذا أرسلت في الراعي اه. وحديث بهيسة يدل
على أنه لا يحل منع الماء والملح، وقد تقدم في الكلام في الماء، وأما الملح فظاهر
الحديث عدم الفرق بين ما كان في معدنه أو قد انفصل عنه، ولا فرق بين جميع
أنواعه الصالحة للانتفاع بها.
باب إقطاع الأراضي
عن أسماء بنت أبي بكر في حديث ذكرته قالت: كنت أنقل
النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأسي
وهو مني على ثلثي فرسخ متفق عليه. وهو حجة في سفر المرأة اليسير بغير محرم.
وعن ابن عمر قال: أقطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزبير حضر فرسه
وأجرى الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه فقال: اقطعوه حيث بلغ السوط رواه
أحمد وأبو داود. وعن عمرو بن حريث قال: خط لي رسول الله صلى الله عليه
56

وآله وسلم دارا بالمدينة بقوس وقال: أزيدك رواه أبو داود. وعن وائل بن
حجر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقطعه أرضا بحضرموت وبعث معاوية
ليقطعها إياه رواه الترمذي وصححه. وعن عروة بن الزبير أن عبد الرحمن
بن عوف قال: أقطعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمر بن الخطاب أرض
كذا وكذا، فذهب الزبير إلى آل عمر فاشترى نصيبه منهم، فأتى عثمان بن عفان
فقال: إن عبد الرحمن بن عوف زعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقطعه وعمر
بن الخطاب أرض كذا وكذا وإني اشتريت نصيب آل عمر، فقال عثمان: عبد الرحمن
حائز الشهادة له وعليه رواه أحمد. وعن أنس قال: دعا النبي صلى الله
عليه وآله وسلم الأنصار ليقطع لهم البحرين فقالوا: يا رسول الله إن فعلت فاكتب
لإخواننا من قريش بمثلها، فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:
إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني رواه أحمد والبخاري.
حديث ابن عمر في إسناده عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن
الخطاب وفيه مقال وهو أخو عبيد الله بن عمر العمري. وحديث عمرو بن حريث سكت
عنه أبو داود والمنذري وحسن إسناده الحافظ. ولفظ أبي داود: أزيدك أزيدك
مرتين. وحديث وائل بن حجر أخرجه أيضا أبو داود والبيهقي وابن حبان
والطبراني. وحديث عروة ابن الزبير لم أجده لغير أحمد، ولم أجده في باب الاقطاع من
مجمع الزوائد، مع أنه يذكر كل حديث لأحمد خارج عن الأمهات الست. قوله: من
أرض الزبير الخ، يمكن أن تكون هذه الأرض هي المذكورة في حديث ابن عمر
المذكور بعده. وفي البخاري في آخر كتاب الخمس من حديث أسماء: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أقطع الزبير أرضا من أموال بني النضير وفي سنن أبي داود
عن أسماء: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقطع الزبير نخلا. قوله: حضر فرسه
بضم الحاء المهملة وإسكان الضاد المعجمة وهو العدو. قوله: وبعث معاوية أي النبي
صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: ليقطع لهم البحرين قال الخطابي: يحتمل أنه أراد الموات
منها ليتملكوه بالاحياء، ويحتمل أنه أراد العامر منها لكن في حقه من الخمس، لأنه كان
ترك أرضها فلم يقسمها، وتعقب بأنها فتحت صلحا وضربت على أهلها الجزية، فيحتمل
أن يكون المراد أنه أراد أن يخصهم بتناول جزيتها، وبه جزم إسماعيل القاضي. ووجهه
57

ابن بطال بأن أرض الصلح لا تقسم فلا تملك. قال في الفتح: والذي يظهر لي أنه صلى
الله عليه وآله وسلم أراد أن يخص الأنصار بما يحصل من البحرين، أما الناجز يوم
عرض ذلك عليهم فهو الجزية لأنهم كانوا صالحوا عليها، وأما بعد لك إذا وقعت الفتوح
فخراج الأرض أيضا، وقد وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في عدة أراض بعد
فتحها وقبل فتحها. منها إقطاعه تميما الداري بيت إبراهيم، فلما فتحت في عهد عمر
نجز ذلك لتميم، واستمر في أيدي ذريته من ابنته رقية وبيدهم كتاب من النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وقصته مشهورة ذكرها ابن سعد وأبو عبيد في كتاب
الأموال وغيرهما. قوله: فلم يكن عنده ذلك يعني بسبب قلة الفتوح، وأغرب ابن
بطال فقال معناه: أنه لم يرد فعل ذلك لأنه اقطع المهاجرين أرض بني النضير. قوله:
أثرة بفتح الهمزة والمثلثة على المشهور، وأشار صلى الله عليه وآله وسلم بذلك إلى
ما وقع من استئثار الملوك من قريش على الأنصار بالأموال والتفضيل بالعطاء وغير
ذلك فهو من أعلام نبوته، وفيه ما كانت فيه الأنصار من الايثار على أنفسهم كما
وصفهم بذلك فقال: * (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) * (سورة الحشر، الآية: 9) وأحاديث الباب فيها
دليل، على أنه يجوز للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده من الأئمة إقطاع
الأراضي وتخصيص بعض دون بعض بذلك إذا كان فيه مصلحة، وقد ثبت عنه صلى
الله عليه وآله وسلم في الاقطاع غير أحاديث هذا الباب والباب الذي قبله. منها: أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقطع صخر بن أبي العيلة البجلي الأحمسي ماء لبني سليم
لما هربوا عن الاسلام وتركوا ذلك الماء ثم رده إليهم في قصة طويلة مذكورة
في سنن أبي داود. ومنها ما أخرجه أبو داود عن سبرة بن معبد الجهني أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم نزل في موضع المسجد تحت دومة فأقام ثلاثا ثم خرج إلى تبوك
وإن جهينة لحقوه بالرحبة فقال لهم من أهل ذي المروة فقالوا بنو رفاعة من جهينة
فقال قد أقطعتها لبني رفاعة، فاقتسموها فمنهم من باع ومنهم من أمسك فعمل ومنها
عند أبي داود عن قيلة بنت مخرمة قالت: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وتقدم صاحبي يعني حريث بن حسان وافد بكر وائل فبايعه على الاسلام
عليه وعلى قومه ثم قال: يا رسول الله أكتب بيننا وبين بني تميم بالدهناء أن لا يجاوزها
إلينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاور، فقال: أكتب له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر
58

له بها شخص بي وهي وطني وداري فقلت: يا رسول الله إنه لم يسألك السوية من
الأرض إذ سألك إنما هذه الدهناء عندك مقيد الجمل ومرعى الغنم ونساء بني تميم وأبناؤها
وراء ذلك فقال: أمسك يا غلام صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان
على الفتان يعني الشيطان. وأخرجه أيضا الترمذي مختصرا. ومنها ما أخرجه البيهقي
والطبراني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة أقطع الدور وأقطع ابن
مسعود فيمن أقطع وإسناده قوي.
باب الجلوس في الطرقات المتسعة للبيع وغيره
عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إياكم
والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال: إذا أبيتم إلا
المجلس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر،
وكف الأذى، ورد السلام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر متفق عليه. وعن
الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لأن يحمل أحدكم حبلا
فيحتطب ثم يجئ فيضعه في السوق فيبيعه ثم يستغني به فينفقه على نفسه خير له
من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه رواه أحمد.
حديث الزبير أخرجه البخاري أيضا بنحو ما هنا، وقد اتفق الشيخان على
مثل معناه من حديث أبي هريرة، وقد تقدم في باب ما جاء في الفقير والمسكين، والمسألة
من أبواب الزكاة. قوله: إياكم والجلوس بالنصب مع التذكير. قوله: ما لنا من
مجالسنا بد فيه دليل على أن التحذير للإرشاد لا للوجوب، إذ لو كان للوجوب لم
يراجعوه كما قال القاضي عياض، وفيه متمسك لمن يقول: إن سد الذرائع بطريق
الأولى لا على الحتم، لأنه نهى أولا عن الجلوس حسما للمادة، فلما قالوا: ما لنا من مجالسنا
بد، ذكر لهم المقاصد الأصلية للمنع، فعرف أن النهي الأول للارشاد إلى الأصلح،
ويؤخذ منه أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة لندبه أولا إلى ترك الجلوس
مع ما فيه من الاجر لمن عمل بحق الطريق وذلك أن الاحتياط في طلب السلامة
آكد من الطمع في الزيادة. قال الحافظ: ويحتمل أنهم رجوا وقوع النسخ تخفيفا
59

لما شكوا من شدة الحاجة إلى ذلك، يعني فلا يكون قولهم المذكور دليلا على أن
التحذير الذي في قوة الامر للارشاد، قال: ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر
وظن القوم أنها عزيمة. قوله: إذا أبيتم إلا المجلس في رواية للبخاري: فإذا
أتيتم إلى المجلس. قوله: غض البصر الخ، زاد أبو داود في حديث أبي هريرة:
وإرشاد السبيل وتشميت العاطس إذا حمد. وزاد الطبراني من حديث عمر: وإغاثة
الملهوف. وزاد البزار من حديث ابن عباس: وأعينوا على الحمولة. وزاد الطبراني
من حديث سهل بن حنيف: وذكر الله كثيرا وزاد الطبراني أيضا من حديث
وحشي بن عرب: واهدوا الأغبياء وأعينوا المظلوم وجاء في حديث أبي طلحة
من الزيادة: وحسن الكلام وقد نظم الحافظ هذه الآداب فقال:
جمعت آداب من رام الجلوس على * الطريق من قول خير الخلق إنسانا
افش السلام وأحسن في الكلام * وشمت عاطسا وسلاما رد إحسانا
في الحمل عاون ومظلوما أعن وأغث * لهفان واهد سبيلا واهد حيرانا
بالعرف مروانه عن نكر وكف أذى * وغض طرفا وأكثر ذكر مولانا
والعلة في التحذير من الجلوس على الطرق ما فيه من التعرض للفتنة بالنظر
إلى من يحرم النظر إليه، وللحقوق لله وللمسلمين التي لا تلزم غير الجالس في ذلك
المحل وقد أشار في حديث الباب بغض النظر إلى السلامة من التعرض للفتنة بمن
يمر من النساء وغيرهن، وبكف الأذى إلى السلامة من الاحتقار والغيبة، وبرد
السلام إلى إكرام المار، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى استعمال جميع ما يشرع
وترك جميع ما لا يشرع. وعلى هذا النمط بقية الآداب التي أشرنا إليها، ولكل منها
شاهد صحيح أو حسن. وقد استوفى ذلك الحافظ في الفتح في كتاب الاستئذان.
وحديث الزبير قد سبق شرح ما اشتمل عليه في كتاب الزكاة، وذكره المصنف ههنا
لقوله فيه: فيضعه في السوق فيبيعه، فإن فيه دليلا على جواز الجلو س في السوق
للبيع، ولا تخلو غالب الأسواق من كثرة الطرق فيه.
60

باب من وجد دابة قد سيبها أهلها رغبة عنها
عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن الشعبي أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها
فأحياها فهي له. قال عبيد الله: فقلت له: عمن هذا؟ فقال: عن غير واحد من أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه أبو داود والدارقطني. وعن الشعبي يرفع
الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ترك دابة بمهلكة فأحياها رجل
فهي لمن أحياها رواه أبو داود.
الحديث الأول في إسناده عبيد الله بن حميد وقد وثق. وحكى ابن أبي حاتم عن
يحيى بن معين أنه سئل عنه فقال: لا أعرفه يعني لا أعرف تحقيق أمره، وأما جهالة
الصحابة الذين أبهمهم الشعبي فغير قادحة في الحديث، لأن مجهولهم مقبول على ما هو
الحق، وقد حققنا ذلك في رسالة مستقلة. والشعبي قد لقي جماعة من الصحابة،
حكى الذهبي أنه سمع من ثمانية وأربعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وحكى منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي أنه قال: أدركت خمسمائة من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: علي وطلحة والزبير في الجنة،
والحديث الثاني مع إرساله فيه عبيد الله بن حميد المذكور. قوله: فسيبوها وكذلك
قوله: من ترك دابة يؤخذ من الاطلاق أنه يجوز لمالك الدابة التسييب في الصحراء
إذا عجز عن القيام بها، وقد ذهبت العترة والشافعي وأصحابه إلى أنه يجب على مالك الدابة
أن يعلفها أو يبيعها أو يسيبها في مرتع فإن تمرد أجبر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: بل
يؤمر استصلاحا لا حتما كالشجر، وأجيب بأن ذات الروح تفارق الشجر. والأولى إذا
كانت الدابة مما يؤكل لحمه أن يذبحها مالكها ويطعمها المحتاجين. قال ابن رسلان: وأما
الدابة التي عجزت عن الاستعمال لزمن ونحوه فلا يجوز لصاحبها تسييبها بل يجب
عليه نفقتها. قوله: فأحياها يعني بسقيها وعلفها وخدمتها وهو من باب المجاز كقوله
تعالى: * (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) * (سورة المائدة، الآية: 32). قوله: فهي له أخذ بظاهره أحمد
والليث والحسن وإسحاق فقالوا: من ترك دابة بمهلكة فأخذها إنسان فأطعمها
61

وسقاها وخدمها إلى أن قويت على المشي والحمل وعلى الركوب ملكها، إلا أن يكون
مالكها تركها لا لرغبة عنها بل ليرجع إليها أو ضلت عنه. وإلى مثل ذلك ذهبت الهادوية.
وقال مالك: هي لمالكها الأول ويغرم ما أنفق عليها الآخذ. وقال الشافعي وغيره:
إن ملك صاحبها لم يزل عنها بالعجز وسبيلها سبيل اللقطة، فإذا جاء ربها وجب على
واجدها ردها عليه ولا يضمن ما أنفق عليها لأنه لا يأذن فيه. قوله: بمهلكة بضم
الميم وفتح اللام اسم لمكان الاهلاك وهي قراءة الجمهور في قوله تعالى: * (ما شهدنا مهلك
أهله) * (سورة النحل، الآية: 49) وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام.
كتاب الغصب والضمانات
باب النهي عن جده وهزله
عن السائب بن يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه
فليردها عليه رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه رواه الدارقطني. وعمومه
حجة في الساحة الغصب يبنى عليها، والعين تتغير صفتها أنها لا تملك. وعن عبد
الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا
يسيرون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل
معه فأخذه ففزع فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل لمسلم أن يروع
مسلما رواه أبو داود.
حديث السائب حسنه الترمذي، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي
ذئب اه. وقد سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه أيضا البيهقي وقال: إسناده
حسن، وحديث أنس في إسناده الحارث بن محمد الفهري وهو مجهول، وله طريق
أخرى عند الدارقطني أيضا عن حميد عن أنس وفي إسنادها داود بن الزبرقان وهو
متروك. ورواه أحمد والدارقطني من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه وفي إسناده
62

علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس من
طريق عكرمة، وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس أيضا من طريق مقسم
وفي إسناده العرزمي وهو ضعيف، ورواه البيهقي وابن حبان والحاكم في صحيحيهما
من حديث أبي حميد الساعدي بلفظ: لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير
طيب نفس منه قال البيهقي: وحديث أبي حميد أصح ما في الباب، وحديث ابن أبي
ليلى سكت عنه أبو داود والمنذري وإسناده لا بأس به. قوله: متاع أخيه المتاع
على ما في القاموس المنفعة والسلعة وما تمتعت به من الحوائج، الجمع أ متعة. قوله: ولا
لاعبا فيه دليل على عدم جواز أخذ متاع الانسان على جهة المزح والهزل. قوله:
لا يحل مال امرئ مسلم الخ، هذا أمر مصرح به في القرآن الكريم، قال الله تعالى: *
(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (سورة المائدة، الآية: 188)، ولا شك أن من أكل مال مسلم بغير طيبة
نفسه آكل له بالباطل ومصرح به في عدة أحاديث. منها حديث: إنما أموالكم
ودماؤكم عليكم حرام وقد تقدم. ومجمع عليه عند كافة المسلمين، ومتوافق على معناه
العقل والشرع، وقد خصص هذا العموم بأشياء منها أخذ الزكاة كرها والشفعة وإطعام
المضطر والقريب والمعسر والزوجة وقضاء الدين وكثير من الحقوق المالية. قوله:
لا يحل لمسلم أن يروع مسلما فيه دليل على أنه لا يجوز ترويع المسلم ولو بما
صورته صورة المزح.
باب إثبات غصب العقار
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ظلم شبرا من
الأرض طوقه الله من سبع أرضين متفق عليه. وعن سعيد بن زيد قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة
من سبع أرضين متفق عليه. وفي لفظ لأحمد من سرق. وعن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من اقتطع شبرا من الأرض بغير حقه
طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين رواه أحمد. وعن ابن عمر قال: قال
63

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف
به يوم القيامة إلى سبع أرضين رواه أحمد والبخاري.
حديث أبي هريرة هو في صحيح مسلم. وفي الباب عن يعلى بن مرة عند أبي حبان
في صحيحه، وابن أبي شيبة في مسنده وأبي يعلى. وعن المسور بن مخرمة عند
العقيلي في تاريخ الضعفاء. وعن شداد بن أوس عن الطبراني في الكبير وعن سعد
بن أبي وقاص عند الترمذي. وعن أبي مالك الأشعري عند ابن أبي شيبة بإسناد
حسن. وعن الحكم بن الحرث السلمي عن الطبراني وأبي يعلى. وعن أبي شريح
الخزاعي عند الطبراني أيضا. وعن ابن مسعود عنده أيضا وأحمد. وعن ابن عباس عند
الطبراني أيضا. قوله: من ظلم شبرا وفي رواية للبخاري: قيد شبر بكسر القاف وسكون
التحتانية أي قدر شبر، وكأنه ذكر الشبر إشارة إلى استواء القليل والكثير في الوعيد،
كذا في الفتح. قوله: يطوقه بضم أوله على البناء للمجهول. قال: من سبع أرضين
بفتح الراء ويجوز إسكانها. قال الخطابي: له وجهان. أحدهما: أن معناه أنه يكلف نقل
ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر، ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة. الثاني:
أن معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، أي فتكون كل أرض في تلك الحالة
طوقا في عنقه اه. ويؤيد الوجه الثاني حديث ابن عمر المذكور، وقليل معناه كالأول
، لكن بعد أن ينقل جميعه يجعل كله في عنقه ويعظم قدر عنقه حتى يسع ذلك، كما
ورد في غلظ جلد الكافر ونحو ذلك. ويؤيده حديث يعلى بن مرة المشار إليه سابقا
بلفظ: أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر مبلغ
سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس. وحديث الحكم السلمي
المشار إليه أيضا قال الحافظ: وإسناده حسن ولفظه: من أخذ من طريق المسلمين
شبرا جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون
المراد بقوله يطوقه يكلف أن يجعله طوقا ولا يستطيع ذلك فيعذب به كما جاء في
حق: من كذب في منامه كلف أن يعقد شعيرة. ويحتمل أن يكون التطويق
تطويق الاثم، والمراد به أن الظلم المذكور لازم له في عنقه لزوم الاثم. ومنه قوله تعالى:
* (ألزمناه طائره في عنقه) * (سورة الإسراء، الآية: 13) ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه المعصية أو
تنقسم بين من تلبس بها، فيكون بعضهم معذبا ببعض، وبعضهم بالبعض الآخر بحسب
64

قوة المفسدة وضعفها، هذا جملة ما ذكر من
الوجوه في تفسير الحديث. قوله: من اقتطع فيه استعارة شبه من أخذ ملك غيره ووصله إلى ملك نفسه بمن اقتطع
قطعة من شئ يجري فيه القطع الحقيقي. وأحاديث الباب تدل على تغليظ عقوبة
الظلم والغصب وإن ذلك من الكبائر، وتدل على أن تخوم الأرض تملك، فيكون للمالك
منع من رام أن يحفر تحتها حفيرة. قال في الفتح: إن الحديث يدل على أن من ملك
أرضا ملك أسفلها إلى منتهى الأرض، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا بغير
رضاه، وأن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة وأبنية ومعادن
وغير ذلك، وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره. وفيه أن الأرضين
السبع متراكمة لم يفتق بعضها من بعض، لأنها لو فتقت لاكتفى في حق هذا الغاصب
بتطويق التي غصبها لانفصالها عما تحتها، أشار إلى ذلك الداودي وفيه أن الأرضين
السبع أطباق كالسماوات وهو ظاهر قوله تعالى: * (ومن الأرض مثلهن) * (سورة الطلاق، الآية: 12) خلافا لمن
قال: إن المراد بقوله: سبع أرضين سبعة أقاليم لأنه لو كان كذلك لم يطوق الغاصب
شبرا من إقليم آخر قاله ابن التين، وهو والذي قبله مبني على أن العقوبة متعلقة بما
كان سببها، وإلا فمع قطع النظر عن ذلك لا تلازم بين ما ذكروها اه.
وعن الأشعث بن قيس أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أرض باليمن فقال الحضرمي: يا رسول الله أرضي اغتصبها
هذا وأبوه، فقال الكندي: يا رسول الله أرضي ورثتها من أبي، فقال الحضرمي: يا رسول
الله استحلفه أنه ما يعلم أنها أرضي وأرض والدي اغتصبها أبوه فتهيأ الكندي لليمين، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يقتطع عبد أو رجل بيمينه مالا إلا لقي الله يوم
يلقاه وهو أجذم، فقال الكندي: هي أرضه وأرض والده رواه أحمد.
الحديث رواه أيضا الطبراني في الأوسط وفي إسناده محمد بن سلام المسبحي
له غرائب وبقية رجاله رجال الصحيح. وللأشعث أيضا حديث آخر أخرجه
الطبراني في الكبير والأوسط وإسناده ضعيف، وقصة الحضرمي والكندي سيأتي
ذكرها في باب استحلاف المنكر من كتاب الأقضية من حديث وائل بن حجر
عند مسلم في صحيحه والترمذي وصححه بنحو ما هنا، ولعله يأتي الكلام عليه هنالك
إن شاء الله. قال في التلخيص: والحضرمي هو وائل بن حجر، والكندي هو امرؤ
القيس بن عابس واسمه ربيعة اه، وفيه نظر، فإنه سيأتي عن وائل بن حجر في
65

كتاب الأقضية بلفظ: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم الخ، وهذا يشعر بأن الحضرمي غير وائل، وأيضا قال في البدر
المنير: اسم الحضرمي ربيعة بن عبدان، وكذا جاء مبينا في إحدى روايتي صحيح مسلم
، وعبدان بكسر المهملة وبعدها موحدة. (والحديث) فيه دليل على أنها إذا طلبت يمين العلم
وجبت، وعلى أنه يستحب للقاضي أن يعظ من رام الحلف. قوله: إنه لا يقتطع عبد
الخ، لفظ الصحيحين من حديث الأشعث: من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم
هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان وسيأتي في كتاب الأقضية.
باب تملك زرع الغاصب بنفقته وقلع غرسه
عن رافع بن خديج: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من زرع في
أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ وله نفقته رواه الخمسة إلا النسائي.
وقال البخاري: هو حديث حسن. وعن عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال: من أحيا أرضا فهي له، وليس لعرق ظالم حق، قال: ولقد أخبرني
الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب
النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وأنها لتضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل
عم رواه أبو داود والدارقطني.
حديث رافع ضعفه الخطابي، ونقل عن البخاري تضعيفه، وهو خلاف ما نقله
الترمذي عن البخاري من تحسينه. وضعفه أيضا البيهقي وهو من طريق عطاء بن أبي
رباح عن رافع، قال أبو زرعة: لم يسمع عطاء من رافع، وكان موسى بن هارون يضعف
هذا الحديث ويقول: لم يروه غير شريك، ولا رواه عن عطاء غير أبي إسحاق، ولكن
قد تابعه قيس بن الربيع وهو سيئ الحفظ. وقد أخرج هذا الحديث أيضا البيهقي
والطبراني وابن أبي شيبة والطيالسي وابن ماجة وأبو يعلى. وحكى ابن المنذر عن
أحمد بن حنبل أنه قال: إن أبا إسحاق زاد في هذا الحديث زرع بغير إذنهم وليس
غيره يذكر هذا الحرف. وحديث عروة سكت عنه أبو داود والمنذري وحسن الحافظ
66

في بلوغ المرام إسناده. وفي رواية لأبي داود: فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وأكثر ظني أنه أبو سعيد الخدري، فأنا رأيت الرجل يضرب في
أصول النخل. وأول حديث عروة هذا قد تقدم في أول كتاب الاحياء من حديث سعيد بن زيد. وأخرج أبو داود من حديث جعفر بن محمد بن علي عن أبيه الباقر
عن سمرة بن جندب: أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار قال:
ومع الرجل أهله، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل ويشق عليه، فطلب
إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: فهبه لي ولك كذا وكذا
أمرا رغبه فيه. فأبى فقال: أنت مضار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
للأنصاري: اذهب فاقلع نخله وفي سماع الباقر من سمرة بن جندب نظر، فقد نقل من
مولده ووفاة سمرة ما يتعذر معه سماعه. قوله: فليس له من الزرع شئ فيه
دليل على أن من غصب أرضا وزرعها كان الزرع للمالك للأرض، وللغاصب ما غرمه في
الزرع يسلمه له مالك الأرض، قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل
العلم وهو قول أحمد وإسحاق. قال ابن رسلان: وقد استدل به كما قال الترمذي أحمد، على
أن من زرع بذرا في أرض غيره واسترجعها صاحبها فلا يخلو، إما أن يسترجعها مالكها
ويأخذها بعد حصاد الزرع أو يسترجعها والزرع قائم قبل أن يحصد، فإن أخذها
مستحقها بعد حصاد الزرع فإن الزرع لغاصب الأرض لا يعلم فيها خلافا، وذلك لأنه
نماء ما له وعليه أجرة الأرض إلى وقت التسليم، وضمان نقص الأرض وتسوية حفرها،
وإن أخذ الأرض صاحبها من الغاصب والزرع قائم فيها لم يملك إجبار الغاصب على
قلعه، وخير المالك بين أن يدفع إليه نفقته ويكون الزرع له أو يترك الزرع للغاصب،
وبهذا قال أبو عبيد. وقال الشافعي وأكثر الفقهاء: إن صاحب الأرض يملك إجبار
الغاصب على قلعه، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم ليس لعرق ظالم حق
ويكون الزرع لمالك البذر عندهم على كل حال وعليه كراء الأرض. ومن جملة
ما استدل به الأولون ما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وغيرهم: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم رأى زرعا في أرض ظهير فأعجبه فقال: ما أحسن زرع ظهير،
فقالوا: إنه ليس لظهير ولكنه لفلان، قال: فخذوا زرعكم وردوا عليه نفقته فدل
67

على أن الزرع تابع للأرض، ولا يخفى أن حديث رافع بن خديج أخص من قوله
صلى الله عليه وآله وسلم: ليس لعرق ظالم حق مطلقا فيبنى العام على الخاص،
وهذا على فرض أن قوله: ليس لعرق ظالم حق يدل على أن الزرع لرب البذر
فيكون الراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول من أن الزرع لصاحب الأرض إذا استرجع
أرضه والزرع فيها، وأما إذا استرجعها بعد حصاد الزرع فظاهر الحديث أنه أيضا
لرب الأرض، ولكنه إذا صح الاجماع على أنه للغاصب كان مخصصا لهذه الصورة.
وقد روي عن مالك وأكثر علماء المدينة مثل ما قاله الأولون. وفي البحر: أن مالكا
والقاسم يقولان: الزرع لرب الأرض، واحتج لما ذهب إليه الجمهور من أن الزرع
للغاصب بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الزرع للزارع وإن كان غاصبا ولم أقف
على هذا الحديث فينظر فيه. وقال ابن رسلان: إن حديث: ليس لعرق ظالم حق ورد
في الغرس الذي له عرق مستطيل في الأرض، وحديث رافع ورد في الزرع، فيجمع
بين الحديثين ويعمل بكل واحد منهما في موضعه، ولكن ما ذكرناه من الجمع أرجح
، لأن بناء العام على الخاص أولى من المصير إلى قصر العام على السبب من غير ضرورة،
والمراد بقوله: وله نفقته ما أنفقه الغاصب على الزرع من المؤنة من الحرث والسقي
وقيمة البذر وغير ذلك. وقيل: المراد بالنفقة قيمة الزرع فتقدر قيمته ويسلمها
المالك والظاهر الأول. قوله: وليس لعرق ظالم حق قد تقدم ضبطه وتفسيره
في أول كتاب الاحياء. قوله: وأمر صاحب النخل الخ، فيه دليل على أنه يجوز
الحكم على من غرس في أرض غيره غروسا بغير إذنه بقطعها. قال ابن رشد في النهاية:
أجمع العلماء على أن من غرس نخلا أو ثمرا وبالجملة نباتا في غير أرضه أنه يؤمر
بالقلع، ثم قال: إلا ما روي عن مالك في المشهور أن من زرع فله زرعه وكان على
الزارع كراء الأرض. وقد روي عنه ما يشبه قول الجمهور ثم قال: وفرق قوم بين
الزرع والثمار إلى آخر كلامه. قوله: عم بضم المهملة وتشديد الميم جمع عميمة وهي
الطويلة. وفي القاموس ما يدل على أنه يجوز فتح أوله لأنه قال بعد تفسيره بالنخل
الطويل ويضم.
68

باب ما جاء فيمن غصب شاة فذبحها وشواها أو طبخها
عن عاصم بن كليب أن رجلا من الأنصار أخبره قال: خرجنا مع النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجئ بالطعام فوضع يده
ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلوك
لقمة في فمه ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها، فقالت المرأة، يا رسول الله إني
أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل
بها إلي بثمنها فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: أطعميه الأسارى رواه أحمد وأبو داود والدارقطني. وفي لفظ له:
ثم قال: إني لأجد لحم شاة ذبحت بغير إذن أهلها فقالت: يا رسول الله أخي وأنا
من أعز الناس عليه، ولو كان خيرا منها لم يغير علي، وعلي أن أرضيه بأفضل منها، فأبى
أن يأكل منها، وأمر بالطعام للأسارى.
الحديث في إسناده عاصم بن كليب، قال علي بن المديني: لا يحتج به إذا انفرد. وقال
الإمام أحمد: لا بأس به، وقال أبو حاتم الرازي: صالح. وقد أخرج له مسلم. وأما
جهالة الرجل الصحابي فغير قادحة لما قررناه غير مرة من أن مجهول الصحابة مقبول، لان
عموم الأدلة القاضية بأنهم خير الخليقة من جميع الوجوه أقل أحوالها أن تثبت
لهم بها هذه المزية أعني قبول مجاهيلهم لاندراجهم تحت عمومها. ومن تولى الله
ورسوله تعديله فالواجب حمله على العدالة حتى ينكشف خلافها ولا انكشاف في
المجهول. قوله: يلوك قال في القاموس: اللوك أهون المضغ أو مضغ صلب. قوله:
لقمة بضم اللام وسكون القاف ويجوز فتح اللام. قال في القاموس: اللقمة وتفتح
ما يهيأ للفم. قوله: فلم يوجد بضم أوله وسكون الواو وكسر الجيم أي لم يعطني
ما طلبته، وفي القاموس: أوجده أغناه وفلانا مطلوبه أظفره به. (والحديث) فيه
دليل على مشروعية إجابة الداعي وإن كان امرأة والمدعو رجلا أجنبيا إذا لم يعارض
ذلك مفسدة مساوية أو راجحة، وفيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ظاهرة لعدم إساغته لذلك اللحم، وإخباره بما هو الواقع من أخذها بغير إذن أهلها،
69

وفيه تجنب ما كان من المأكولات حراما أو مشتبها وعدم الاتكال على تجويز إذن
مالكه بعد أكله. وفيه أيضا أنه يجوز صرف ما كان كذلك إلى من يأكله كالأسارى
ومن كان على صفتهم. وقد أورد المصنف هذا الحديث للاستدلال به على حكم من غصب
شاة فذبحها وشواها أو طبخها كما وقع في الترجمة، وقد اختلف العلماء في ذلك، فحكي
في البحر عن القاسمية وأبي حنيفة أن المالك مخير بين طلب القيمة وبين أخذ العين كما
هي وعدم لزوم الأرش، لأن الغاصب لم يستهلك ما ينفرد بالتقويم. وحكي عن المؤيد
بالله والناصر والشافعي ومالك أنه يأخذ العين مع الأرش كما لو قطع الاذن ونحوها
، وعن محمد أنه يخير بين القيمة أو العين مع الأرش.
باب ما جاء في ضمان المتلف بجنسه
عن أنس قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه
طعاما في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: طعام بطعام وإناء بإناء رواه الترمذي وصححه، وهو بمعناه لسائر الجماعة
إلا مسلما. وعن عائشة أنها قالت: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، أهدت إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طعام فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت: يا رسول الله
ما كفارته؟ قال: إناء كإناء، وطعام كطعام، رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
الحديث الأول لفظه في البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان
عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام فضربت
بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة
للرسول وحبس المكسورة هذا أحد ألفاظ البخاري، وله ألفاظ أخر وليس فيه
تسمية الضاربة وهي عائشة كما وقع في رواية الترمذي كما ذكرها المصنف. والحديث
الثاني في إسناده أفلت بن خليفة أبو حسان. ويقال فليت العامري، قال الإمام أحمد:
ما أرى به بأسا. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. وقال الخطابي في إسناد الحديث مقال.
وقال في الفتح: إن إسناده حسن. قوله: بعض أزواج النبي هي زينب بنت جحش
كما رواه ابن حزم في المحلى عن أنس، ووقع قريب من ذلك لعائشة مع أم سلمة كما روى
70

النسائي عنها أنها أتت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطعام في صحفة فجاءت عائشة
متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة الحديث. والرواية المذكورة في الباب عن
عائشة تشعر بأنه قد وقع لها مثل ذلك مع صفية. وقد روى الدارقطني عن أنس من طريق
عمران بن خالد نحو ذلك، قال عمران: أكثر ظني أنها حفصة يعني التي كسرت عائشة صحفتها،
قال في الفتح: ولم يصب عمران في ظنه أنها حفصة بل هي أم سلمة ثم قال: نعم وقعت القصة
لحفصة أيضا، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة وابن ماجة من طريق رجل من بني سوأة غير
مسمى عن عائشة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه فصنعت له
طعاما وصنعت له حفصة طعاما فسبقتني فقلت للجارية: انطلقي فاكفئ قصعتها، فأكفأتها
فانكسرت وانتشر الطعام فجمعه على النطع فأكلوه ثم بعث بقصعتي إلى حفصة فقال:
خذوا ظرفا مكان ظرفكم وبقية رجاله ثقات. قال الحافظ: وتحرر من ذلك أن المراد
بمن أبهم في حديث الباب هي زينب لمجئ الحديث من مخرجه وهو حميد عن أنس،
وما عدا ذلك فقصص أخرى لا تليق بمن تحقق أن يقول في مثل هذا، قيل: المرسلة
فلانة، وقيل: فلانة من غير تحرير. قوله: إناء بإناء فيه دليل على أن القيمي
يضمن بمثله، ولا يضمن بالقيمة إلا عند عدم المثل، ويؤيده ما في رواية البخاري
المتقدمة بلفظ: ودفع القصعة الصحيحة للرسول وبه احتج الشافعي والكوفيون،
وقال مالك: إن القيمي يضمن بقيمته مطلقا، وفي رواية عنه كالمذهب الأول. وفي رواية
عنه أخرى: ما صنعه الآدمي فالمثل وأما الحيوان فالقيمة وعنه أيضا ما كان مكيلا
أو موزونا فالقيمة وإلا فالمثل قال في الفتح: وهو المشهور عندهم، وقد ذهب إلى ما قاله
مالك من ضمان القيمي بقيمته مطلقا جماعة من أهل العلم منهم الهادوية، ولا خلاف
في أن المثلي يضمن بمثله، وأجاب القائلون بالقول الثاني عن حديث الباب وما في
معناه بما حكاه البيهقي من أن القصعتين كانتا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيتي
زوجتيه. فعاقب الكاسرة بجعل القصعة المكسورة في بيتها وجعل الصحيحة في
بيت صاحبتها ولم يكن هناك تضمين، وتعقب بما وقع في رواية لابن أبي حاتم بلفظ:
من كسر شيئا فهو له وعليه مثله وبهذا يرد على من زعم أنها واقعة عين لا عموم فيها،
ومن جملة ما أجابوا به عن حديث الباب وما في معناه بأنه يحتمل أن يكون في ذلك
الزمان كانت العقوبة فيه بالمال، فعاقب الكاسرة بإعطاء قصعتها للأخرى، وتعقب بأن
التصريح بقوله: إناء بإناء يبعد ذلك. قوله: طعام بطعام قيل: إن الحكم بذلك من باب
71

المعونة والاصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل فيه لأنه ليس له مثل معلوم. قال
الحافظ: وفي طرق الحديث يدل على أن الطعامين كانا مختلفين. قوله: فما ملكت
نفسي أن كسرته. لفظ أبي داود: فأخذني أفكل بفتح الهمزة وإسكان الفاء
وفتح الكاف ثم لام وزنه أفعل، والمعنى: أخذتني رعدة الأفكل وهي الرعدة من
برد أو خوف، والمراد هنا أنها لما رأت حسن الطعام غارت وأخذتها مثل الرعدة.
باب جناية البهيمة
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: العجماء جرحها جبار.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الرجل جبار رواه أبو داود.
وعن حرام بن محيصة: أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه، فقضى
نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن
ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها رواه أبو أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن النعمان بن
بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين
أو في سوق من أسواقهم فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن رواه الدارقطني، وهذا
عند بعضهم، فيما إذا وقفها في طريق ضيق أو حيث تضر المار.
حديث العجماء جرحها جبار، أخرجه الجماعة من حديث أبي هريرة، وقد تقدم
في باب ما جاء في الركاز والمعدن من كتاب الزكاة. وحديث أبي هريرة أخرجه
أيضا النسائي. وقال الدارقطني: لم يروه غير سفيان بن حسين، وخالفه الحفاظ
عن الزهري منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج وعقيل وليث بن سعد
وغيرهم كلهم رووه عن الزهري فقالوا: العجماء والبئر جبار، والمعدن جبار، ولم يذكروا
الرجل وهو الصواب. وقال الخطابي: قد تكلم الناس في هذا الحديث، وقيل: إنه غير
محفوظ، وسفيان بن حسين، معروف بسوء الحفظ. وقد روى آدم بن أبي إياس عن شعبة عن
محمد بن زياد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الرجل
جبار قال الدارقطني: تفرد به آدم بن أبي إياس عن شعبة، وسفيان بن حسين المذكور
قد استشهد به البخاري وأخرج له مسلم في المقدمة ولم يحتج به واحد منهما
وتكلم فيه غير واحد. وحديث حرام بن محيصة أخرجه أيضا مالك في الموطأ،
72

والشافعي والنسائي والدارقطني وابن حبان، وصححه الحاكم والبيهقي قال الشافعي:
أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله. قال الحافظ: ومداره على الزهري، واختلف عليه
فقيل: عن الزهري عن ابن محيصة. ورواه معن بن عيسى عن مالك فزاد فيه عن جده محيصة
ورواه معمر عن الزهري عن حرام عن أبيه ولم يتابع عليه. ورواه الأوزاعي وإسماعيل بن
أمية وعبد الله بن عيسى كلهم عن الزهري عن حرام عن البراء، قال عبد الحق: وحرام لم يسمع
من البراء وسبقه إلى ذلك ابن حزم، ورواه النسائي من طريق محمد بن أبي حفصة عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن البراء، ورواه ابن عيينة عن الزهري عن حرام وسعيد
بن المسيب أن البراء. ورواه ابن جريج عن الزهري، أخبرني أبو أسامة بن سهل أن
ناقة البراء. ورواه ابن أبي ذئب عن الزهري قال: بلغني أن ناقة البراء. وحديث النعمان
قال في الجامع الكبير: رواه البيهقي وضعفه. قوله: جبار بضم الجيم أي هدر، قال في القاموس:
هو الهدر والباطل، وظاهره أن جناية البهائم غير مضمونة، ولكن المراد، إذا فعلت
ذلك بنفسها ولم تكن عقورا ولا فرط مالكها في حفظها حيث يجب عليه الحفظ
وذلك في الليل كما يدل عليه حديث حرام ابن محيصة، وكذلك في أسواق المسلمين
وطرقهم ومجامعهم كما يدل عليه حديث النعمان بن بشير. قوله: الرجل بكسر
الراء وسكون الجيم يعني أنه لا ضمان فيما جنته الدابة برجلها، ولكن بشرط أن
لا يكون ذلك بسبب من مالكها كتوقيفها في الأسواق والطرق والمجامع وطردها
في تلك الأمكنة كما يدل على ذلك حديث النعمان، وبشرط أن لا يكون ذلك في الأوقات
التي يجب على المالك حفظها فيها كالليل، وهذا الحديث وإن كان فيه المقال
المتقدم ولكنه يشهد له ما في الحديث المتفق عليه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
جرحها جبار فإن عمومه يقتضي عدم الفرق بين جنايتها برجلها أو بغيرها، والكلام
في ذلك مبسوط في الكتب الفقهية. قوله: ضامن على أهلها أي مضمون على
أهلها. وفي حديث البراء: وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية
ما أصابت ماشيتهم بالليل. وقد استدل بذلك من قال: إنه لا يضمن مالك البهيمة
ما جنته بالنهار ويضمن ما جنته بالليل، وهو مالك والشافعي والهادوية. وذهب أبو
حنيفة وأصحابه إلى أنه لا ضمان على أهل الماشية مطلقا، واحتجوا بقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: جرحها جبار ولا شك أنه عموم مخصوص بحديث
73

حرام بن محيصة والنعمان بن بشير. قال الطحاوي: إلا أن تحقيق مذهب أبي
حنيفة أنه لا ضمان إذا أرسلها مع حافظ، وأما إذا أرسلها من دون حافظ ضمن انتهى.
ولا دليل على هذا التفصيل. وذهب الليث وبعض المالكية إلى أنه يضمن مالكها
ما جنته ليلا أو نهارا وهو إهدار للدليل العام والخاص. وروي عن عمر أنه لا
يضمن ما أتلفته مما لا يقدر على حفظه ويضمن ما أمكنه حفظه، وهو أيضا
تفصيل لا دليل عليه، ولا يشكل على المذهب الأول قول الله تعالى: * (إذ
نفشت فيه غنم القوم) * (سورة الأنبياء، الآية: 78) في قصة داود وسليمان، على القول بأن شرع من قبلنا
يلزمنا لأن النفش إنما يكون بالليل، كما جزم بذلك الشعبي وشريح ومسروق
، روى ذلك البيهقي عنهم.
باب دفع الصائل وإن أدى إلى قتله وأن المصول عليه يقتل شهيدا
عن أبي هريرة قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء
رجل يريد أخذ مالي، قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله، قال:
أرأيت إن قتلني، قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار رواه
مسلم وأحمد وفي لفظه: يا رسول الله أرأيت إن عدا على مالي، قال: أنشد الله، قال: فإن أبوا علي، قال: أنشد الله،
قال: فإن أبوا علي، قال: قاتل فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي
النار فيه من الفقه أنه يدفع بالأسهل فالأسهل. وعن عبد الله بن عمرو أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قتل دون ماله فهو شهيد متفق عليه. وفي لفظ:
من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه.
وعن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من قتل دون
دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون
أهله فهو شهيد رواه أبو داود والترمذي وصححه.
حديث سعيد بن زيد أخرجه أيضا بقية أهل السنن وابن حبان والحاكم، وقد أخرج أحمد
والنسائي وأبو داود والبيهقي وابن حبان من حديث أبي هريرة من رواية قتادة عن النضر
بن أنس عن بشير بن نهيك عنه بلفظ: ولا قصاص ولا دية. وفي رواية البيهقي من حديث
74

ابن عمر: ما كان عليك فيه شئ وقد تعقب الحافظ في صلاة الخوف من التلخيص
من زعم أن حديث ابن عمرو بن العاص متفق عليه وقال: إنه من أفراد البخاري،
وفي هذا التعقب نظر، فإن الحديث في صحيح مسلم وفيه قصة، وقد اعترف الحافظ
في الفتح في كتاب المظالم والغصب بأن مسلما أخرج هذا الحديث من طريق ابن
عمرو وذكر القصة. وأحاديث) الباب فيها دليل على أنها تجوز مقاتلة من أراد
أخذ مال إنسان، من غير فرق بين القليل والكثير إذا كان الاخذ بغير حق وهو
مذهب الجمهور، كما حكاه النووي والحافظ في الفتح. وقال بعض العلماء: إن المقاتلة
واجبة. وقال بعض المالكية: لا تجوز إذا طلب الشئ الخفيف، ولعل متمسك من
قال بالوجوب ما في حديث أبي هريرة من الامر بالمقاتلة والنهي عن تسليم المال
إلى من رام غصبه، وأما القاتل بعدم الجواز في الشئ الخفيف فعموم أحاديث الباب
يرد عليه، ولكنه ينبغي تقديم الأخف فالأخف، فلا يعدل المدافع إلى القتل مع
إمكان الدفع بدونه، ويدل على ذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإنشاد الله قبل
المقاتلة وكما تدل الأحاديث المذكورة عن جواز المقاتلة لمن أراد أخذ المال، تدل
على جواز المقاتلة لمن أراد إراقة الدم والفتنة في الدين والأهل. وحكى ابن المنذر
عن الشافعي أنه قال: من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله المقاتلة وليس عليه عقل
ولا دية ولا كفارة. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما
ذكر إذا أريد ظلما بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين
على استثناء السلطان للآثار الواردة بالامر بالصبر على جوره وترك القيام عليه
انتهى. ويدل على عدم لزوم القود والدية في قتل من كان على الصفة المذكورة
ما ذكرنا من حديث أبي هريرة وحمل الأوزاعي أحاديث الباب على الحالة التي
للناس فيها إمام، وأما حالة الفرقة والاختلاف فليستسلم المبغى على نفسه أو ماله
ولا يقاتل أحدا، قال في الفتح: ويرد عليه حديث أبي هريرة عند مسلم يعني حديث
الباب، وأحاديث الباب مصرحة بأن المقتول دون ماله ونفسه وأهله ودينه شهيد،
ومقاتله إذا قتل في النار لأن الأول محق والثاني مبطل. قوله: دون ماله قال
القرطبي: دون في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت وتستعمل للخلفية على المجاز، ووجهه
75

أن الذي يقاتل عن ماله غالبا إنما يجعله خلفه أو تحته ثم يقاتل عليه اه. ولكنه
يشكل على هذا قوله في حديث سعيد بن زيد: دون دينه دون دمه.
باب في أن الدفع لا يلزم المصول عليه ولا يلزم الغير مع القدرة
عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما يمنع
أحدكم إذا جاء من يريد قتله أن يكون مثل ابني آدم القاتل في النار والمقتول في
الجنة رواه أحمد. وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال
في الفتنة: كسروا فيها قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دخل
على أحدكم بيته فليكن كخير ابني آدم رواه الخمسة إلا النسائي. وعن سعد بن
أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنها ستكون فتنة، القاعد فيها
خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، قال: أرأيت إن دخل
على بيتي فبسط يده إلي ليقتلني قال: كن كابن آدم رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وعن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أذل عنده مؤمن
فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم
القيامة رواه أحمد.
حديث ابن عمر أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وأخرج نحوه أبو داود من
حديثه بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من مشى إلى رجل من
أمتي ليقتله فليقل هكذا أي فليمد رقبته فالقاتل في النار والمقتول في الجنة. وحديث
أبي موسى أخرجه أيضا ابن حبان وصححه القشيري في الاقتراح على شرط الشيخين،
وقال الترمذي: حسن غريب اه، وفي إسناده عبد الرحمن بن ثروان تكلم فيه بعضهم ووثقه
يحيى بن معين واحتج به البخاري. وحديث سعد بن أبي وقاص حسنه الترمذي وسكت عنه
أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده ثقات إلا حسين بن عبد
الرحمن الأشجعي، وقد وثقه ابن حبان. وحديث سهل بن حنيف أخرجه أيضا الطبراني
وفي إسناده ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات، يشهد لصحته حديث البراء بن عازب عند
البخاري وغيره وفيه: الامر بسبع والنهي عن سبع، ومن السبع المأمور بها نصر المظلوم،
76

وحديث أبي موسى عند البخاري وغيره بلفظ: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
وحديث: انصر أخاك ظالما أو مظلوما أخرجه البخاري وغيره. (وفي الباب) عن
أبي بكرة بنحو حديث سعد عند أبي داود وعن أبي هريرة بنحوه أيضا عند البخاري
ومسلم. وعند ابن مسعود بنحوه عند أبي داود. وعن خريم بن فاتك بنحوه أيضا
عند أبي داود. وعن أبي ذر عند أبي داود والترمذي بلفظ: قال لي رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: يا أبا ذر، قلت: لبيك وسعديك، قال: كيف أنت إذا رأيت
أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بمن أنت منه،
قلت: يا رسول الله أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذا، قلت: فما
تأمرني؟ قال: تلزم بيتك، قلت: فإن دخل على بيتي، قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع
السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه. وعن المقداد بن الأسود عند
أبي داود قال: أيم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ثلاثا:
إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر فواها. معنى قوله: فواها التلهيف.
وعن أبي بكرة غير الحديث الأول عند الشيخين وأبي داود والنسائي قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما
فالقاتل والمقتول في النار، قال: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد
قتل صاحبه. وعن خالد بن عرفطة عند أحمد والحاكم والطبراني وابن نافع
بلفظ: ستكون بعدي فتنة واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل
فافعل. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وقد أخرجه الطبراني
من حديث حذيفة ومن حديث خباب. وعن أبي واقد وخرشة أشار إلى ذلك
الترمذي. قوله: كسروا فيها قسيكم قيل: المراد الكسر حقيقة ليسد على نفسه باب
هذا القتال، وقيل: هو مجاز والمراد ترك القتال. ويؤيد الأول: واضربوا بسيوفكم الحجارة
قال النووي: والأول أصح. قوله: القاعد فيها خير من القائم الخ، معناه بيان
عظم خطر الفتنة والحث على تجنبها والهرب منها، ومن التسبب في شئ من أسبابها،
فإن شرها وفتنها يكون على حسب التعلق بها. قوله: كن كابن آدم يعني الذي
قال لأخيه لما أراد قتله: * (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) *
(سورة المائدة، الآية: 28) كما حكى الله ذلك في كتابه. (والأحاديث) المذكورة في الباب تدل على مشروعية ترك
77

المقاتلة وعدم وجوب المدافعة عن النفس والمال، وقد اختلف العلماء في ذلك فقالت
طائفة: لا يقاتل في فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله، ولا تجوز له المدافعة عن
نفسه لأن الطالب متأول، وهذا مذهب أبي بكرة الصحابي وغيره. وقال ابن عمر وعمران بن
الحصين وغيرهما: لا يدخل فيها لكن إن قصد دفع عن نفسه. قال النووي: فهذان
المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن المسلمين. قال القرطبي: اختلف
السلف في ذلك، فذهب سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة
وغيرهم إلى أنه يجب الكف عن المقاتلة، فمنهم من قال: يجب عليه أن يلزم بيته،
وقالت طائفة: يجب عليه التحول عن بلد الفتنة أصلا. ومنهم من قال: يترك المقاتلة
حتى لو أراد قتله لم يدفعه عن نفسه. ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وعن
ماله وعن أهله وهو معذور إن قتل أو قتل، وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب
نصر الحق وقتال الباغين، وكذا قال النووي وزاد: إنه مذهب عامة علماء الاسلام،
واستدلوا بقوله تعالى: * (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) * (سورة الحجرات، الآية: 9) قال النووي: وهذا
هو الصحيح، وتتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق أو على طائفتين ظالمتين
لا تأويل لواحدة منهما، قال: ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغي
والمبطلون اه. وقال بعضهم بالتفصيل: وهو أنه إذا كان القتال بين طائفتين لا إمام
لهم فالقتال ممنوع يومئذ وتنزل الأحاديث على هذا وهو قول الأوزاعي كما تقدم.
وقال الطبري: إنكار المنكر واجب على من يقدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن
أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الامر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها،
فذهب البعض إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين، وإن النهي
مخصوص بمن خوطب بذلك، وقيل: إن النهي إنما هو في آخر الزمان حيث يحصل
التحقق أن المقاتلة إنما هي في طلب الملك، وقد أتى هذا في حديث ابن مسعود،
فأخرجه أبو داود عنه أنه قال له وابصة بن معبد: ومتى ذلك يا ابن مسعود؟ فقال:
تلك أيام الهرج وهو حيث لا يأمن الرجل جليسه. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور
قول الله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (سورة البقرة، الآية: 4 19) وقوله تعالى: * (وجزاء
سيئة سيئة مثلها) * (سورة النور، الآية: 33) ونحو ذلك من الآيات والأحاديث،
وتؤيده أيضا الآيات والأحاديث الواردة في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيأتي للمقام زيادة تحقيق
في باب ما جاء في توبة القاتل من كتاب القصاص. وحديث سهل بن حنيف وما
78

ورد في معناه يدل على أنه يجب نصر المظلوم ودفع من أراد إذلاله بوجه من
الوجوه، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، وهو مندرج تحت أدلة النهي عن المنكر.
باب ما جاء في كسر أواني الخمر
عن أنس عن أبي طلحة أنه قال: يا رسول الله إني اشتريت خمرا
لأيتام في حجري، فقال: أهرق الخمرة واكسر الدنان رواه الترمذي والدارقطني.
وعن ابن عمر قال: أمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن آتيه بمدية وهي
الشفرة فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال: اغد علي بها ففعلت فخرج
بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام، فأخذ المدية
مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معه أن
يمضوا معي ويعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا
شققته ففعلت، فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته رواه أحمد. وعن عبد
الله بن أبي الهذيل قال: كان عبد الله يحلف بالله أن التي أمر بها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم حين حرمت الخمر أن تكسر دنانه وأن تكفأ لمن التمر والزبيب
رواه الدارقطني.
حديث أنس عن أبي طلحة رجال إسناد ه ثقات وأصله في صحيح مسلم.
وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أنس قال الترمذي: وهو أصح.
وحديث ابن عمر أشار إليه الترمذي وذكره الحافظ في الفتح وعزاه إلى أحمد كما
فعل المصنف ولم يتكلم عليه، وقال في مجمع الزوائد: إنه رواه أحمد بإسنادين
في أحدهما أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط، وفي الآخر أبو طعمة وقد وثقه
محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وبقية رجاله ثقات. وحديث عبد الله رواه الدارقطني
من طريق شيخه العباس بن العباس بن المغيرة الجوهري بإسناده رجاله ثقات، وقد
أشار إليه الترمذي أيضا. (وفي الباب) عن جابر وعائشة وأبي سعيد (وأحاديث
الباب) تدل على جواز إهراق الخمر وكسر دنانها وشق أزقاقها وإن كان مالكها
غير مكلف، وقد ترجم البخاري في صحيحه لهذا فقال باب: هل تكسر الدنان التي
فيها خمر وتخرق الزقاق؟ قال في الفتح: لم يثبت الحكم لأن المعتمد فيه التفصيل، فإن كانت
الأوعية بحيث يراق ما فيها فإذا غسلت طهرت وانتفع بها لم يجز إتلافها وإلا جاز، ثم ذكر
79

أنه أشار البخاري بالترجمة إلى حديث أبي طلحة وابن عمر وقال: إن الحديثين إن
ثبتا فإنما أمر بكسر الدنان وشق الزقاق عقوبة لأصحابها، وإلا فالانتفاع بها بعد
تطهيرها ممكن، كما دل عليه حديث سلمة المذكور في البخاري وغيره في غسل القدور
التي طبخت فيها الخمر وإذنه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك بعد أمره بكسرها، قال ابن
الجوزي: أراد التغليظ عليهم في طبخهم ما نهى عن أكله، فلما رأى إذعانهم اقتصر على غسل
الأواني، وفيه رد على من زعم أن دنان الخمر لا سبيل إلى تطهيرها لما يداخلها من الخمر،
فإن الذي دخل القدور من الماء الذي طبخت به الخمر نظيره، وقد أذن صلى الله
عليه وآله وسلم في غسلها فدل على إمكان تطهيرها.
كتاب الشفعة
عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم
يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة رواه أحمد والبخاري. وفي
لفظ: إنما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشفعة الحديث. رواه أحمد والبخاري
وأبو داود وابن ماجة. وفي لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة رواه الترمذي وصححه. وعن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قسمت الدار وحدت فلا
شفعة فيها رواه أبو داود وابن ماجة بمعناه. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة، أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى
يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به رواه
مسلم والنسائي وأبو داود.
حديث أبي هريرة رجال إسناده ثقات. قوله: قضى بالشفعة قال في الفتح:
الشفعة بضم المعجمة وسكون الفاء وغلط من حركها، وهي مأخوذة لغة من الشفع
وهو الزوج، وقيل: من الزيادة. وقيل: من الإعانة. وفي الشرع انتقال حصة شريك
إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى، ولم يختلف العلماء في
مشروعيتها إلا ما نقل عن أبي بكر الأصم من إنكارها اه. قوله: في كل ما لم يقسم
80

ظاهر هذا العموم ثبوت الشفعة في جميع الأشياء، وأنه لا فرق بين الحيوان والجماد
والمنقول وغيره. وقد ذهب إلى ذلك العترة ومالك وأبو حنيفة وأصحابه، وسيأتي
تفصيل الخلاف في ذلك. قوله: فإذا وقعت الحدود أي حصلت قسمة الحدود
في المبيع واتضحت بالقسمة مواضعها. قوله: وصرفت بضم الصاد وتخفيف الراء
المكسورة، وقيل: بتشديدها أي بينت مصارفها وكأنه من التصريف والتصرف. قال
ابن مالك: معناه خلصت وبانت وهو مشتق من الصرف بكسر المهملة وهو الخالص
من كل شئ سمي بذلك لأنه صرف عنه الخلط، فعلى هذا صرف مخفف الراء،
وعلى الأول أي التصريف والتصرف مشدد. قوله: فلا شفعة استدل به من قال:
إن الشفعة لا تثبت إلا بالخلطة لا بالجوار، وقد حكى في البحر هذا القول عن علي
وعمر وعثمان وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وربيعة
ومالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن والامامية، وحكى
في البحر أيضا عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وابن
سيرين ثبوت الشفعة بالجوار، وأجابوا عن حديث جابر بما قاله أبو حاتم أن قوله: إذا
وقعت الحدود الخ مدرج من قوله، ورد ذلك بأن الأصل أن كل ما ذكر في الحديث
فهو منه حتى يثبت الادراج بدليل، وورود ذلك في حديث غيره مشعر بعدم الادراج
كما في حديث أبي هريرة المذكور في الباب، واستدل في ضوء النهار على الادراج بعدم
إخراج مسلم لتلك الزيادة، ويجاب عنه بأنه قد يقتصر بعض الأئمة على ذكر بعض
الحديث والحكم للزيادة لا سيما وقد أخرجها مثل البخاري، على أن معنى هذه
الزيادة التي ادعى أهل القول الثاني إدراجها هو معنى قوله: في كل ما لم يقسم، ولا
تفاوت إلا بكون دلالة أحدهما على هذا المعنى بالمنطوق والآخر بالمفهوم. (احتج)
أهل القول الثاني بالأحاديث الواردة في إثبات الشفعة بالجوار كحديث سمرة والشريد
بن سويد وأبي رافع وجابر وستأتي. وأما الأحاديث القاضية بثبوت الشفعة
لمطلق الشريك كما في حديث جابر المذكور في قوله في كل شركة وكما في حديث
عبادة بن الصامت الآتي فلا تصلح للاحتجاج بها على ثبوت الشفعة المجار، إذ لا
شركة بعد القسمة، وقد أجاب أهل القول الأول عن الأحاديث القاضية بثبوت الشفعة
المجار بأن المراد بها الجار الأخص وهو الشريك المخالط لأن كل شئ قارب شيئا
81

يقال له جار، كما قيل لامرأة الرجل جارة لما بينهما من المخالطة، وبهذا يندفع
ما قيل: إنه ليس في اللغة ما يقتضي تسمية الشريك جارا. قال ابن المنير: ظاهر حديث
أبي رافع الآتي أنه كان يملك بيتين من جملة دار سعد لا شقصا شائعا من منزل سعد،
ويدل على ذلك ما ذكره عمر بن شبة أن سعدا كان اتخذ دارين بالبلاط متقابلتين
بينهما عشرة أذرع، وكانت التي عن يمين المسجد منهما لأبي رافع فاشتراها سعد منه، ثم ساق
الحديث الآتي، فاقتضى كلامه أن سعدا كان جارا لأبي رافع قبل أن يشتري منه، داره لا شريكا
، كذا قال الحافظ. وقال أيضا: إنه ذكر بعض الحنفية أنه يلزم الشافعية القائلين
بحمل اللفظ على حقيقته، ومجازه أن يقولوا بشفعة الجار لأن الجار حقيقة في المجاور مجاز في
الشريك. وأجيب بأن محل ذلك عند التجرد، وقد قامت القرينة هنا على المجاز، فاعتبر
الجمع بين حديثي جابر وأبي رافع، فحديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك،
وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل
أحد حتى من الشريك، والذين قالوا بشفعة الجوار قدموا الشريك مطلقا، ثم المشارك في
الشرب، ثم المشارك في الطريق، ثم الجار على من ليس بمجاور، وأجيب بأن المفضل عليه
مقدر أي الجار أحق من المشتري الذي لا جوار له. قال في القاموس: الجار المجاور
والذي أجرته من أن يظلم، والمجير والمستجير والشريك في التجارة وزوج المرأة وما قرب من
المنازل والمقاسم والحليف والناصر اه. (والحاصل) أن الجار المذكور في الأحاديث
الآتية إن كان يطلق على الشريك في الشئ والمجاور له بغير شركة كانت مقتضية
بعمومها لثبوت الشفعة لهما جمعا، وحديث جابر وأبي هريرة المذكوران يدلان على
عدم ثبوت الشفعة للجار الذي لا شركة له، فيخصصان عموم أحاديث الجار، ولكنه
يشكل على هذا حديث الشريد بن سويد، فإن قوله: ليس لأحد فيها شرك ولا قسم
إلا الجوار مشعر بثبوت الشفعة لمجرد الجوار، وكذلك حديث سمرة لقوله فيه:
جار الدار أحق بالدار فإن ظاهره أن الجوار المذكور جوار لا شركة فيه، ويجاب
بأن هذين الحديثين لا يصلحان لمعارضة ما في الصحيح، على أنه يمكن الجمع بما في
حديث جابر الآتي بلفظ: إذا كان طريقهما واحدا فإنه يدل على أن الجوار
لا يكون مقتضيا للشفعة إلا مع اتحاد الطريق لا بمجرده ولا عذر لمن قال بحمل
المطلق على المقيد من هذا إن قال بصحة هذا الحديث، وقد قال بهذا أعني
82

ثبوت الشفعة للجار مع اتحاد الطريق بعض الشافعية، ويؤيده أن شرعية
الشفعة إنما هي لدفع الضرر، وهو إنما يحصل في الأغلب مع المخالطة في
الشئ المملوك أو في طريقه، ولا ضرر على جار لم يشارك في أصل ولا طريق إلا نادرا،
واعتبار هذا النادر يستلزم ثبوت الشفعة للجار مع عدم الملاصقة، لأن حصول
الضرر له قد يقع في نادر الحالات، كحجب الشمس والاطلاع على العورات ونحوهما
من الروائح الكريهة التي يتأذى بها، ورفع الأصوات، وسماع بعض المنكرات، ولا قائل
بثبوت الشفعة لمن كان كذلك، والضرر النادر غير معتبر، لأن الشارع علق الاحكام
بالأمور الغالبة، فعلى فرض أن الجار لغة لا يطلق إلا على من كان ملاصقا غير مشارك
ينبغي تقييد الجوار باتحاد الطريق، ومقتضاه أن لا تثبت الشفعة بمجرد الجوار وهو
الحق، وقد زعم صاحب المنار أن الأحاديث تقتضي ثبوت الشفعة للجار والشريك
ولا منافاة بينها. ووجه حديث جابر بتوجيه بارد والصواب ما حررناه. قوله: في
كل شركة في مسلم وسنن أبي داود: في كل شرك وهو بكسر الشين المعجمة وإسكان
الراء من أشركته في البيع إذا جعلته لك شريكا، ثم خفف المصدر بكسر الأول
وسكون الثاني فيقال: شرك وشركة، كما يقال: كلم وكلمة. قوله: ربعة بفتح الراء
وسكون الموحدة تأنيث ربع وهو المنزل الذي يرتبعون فيه في الربيع، ثم سمي به
الدار والمسكن. قوله: لا يحل له أن يبيع الخ، ظاهره أنه يجب على الشريك إذا أراد
البيع أن يؤذن شريكه، وقد حكى مثل ذلك القرطبي عن بعض مشايخه، وقال في شرح
الارشاد: الحديث يقتضي أنه يحرم البيع قبل العرض على الشريك. قال ابن الرفعة:
ولم أظفر به عن أحد من أصحابنا ولا محيد عنه، وقد قال الشافعي: إذا صح الحديث
فاضربوا بقولي عرض الحائط. وقال الزركشي: إنه صرح به الفارقي. قال الأذرعي:
إنه الذي يقتضيه نص الشافعي، وحمله الجمهور من الشافعية وغيرهم على الندب وكراهة
ترك الاعلام، قالوا: لأنه يصدق على المكروه أنه ليس بحلال، وهذا إنما يتم إذا كان
اسم الحلال مختصا بما كان مباحا أو مندوبا أو واجبا وهو ممنوع، فإن المكروه من
أقسام الحلال كما تقرر في الأصول. قوله: فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به فيه
دليل على ثبوت الشفعة للشريك الذي لم يؤذنه شريكه بالبيع، وأما إذا أعلمه الشريك
بالبيع فأذن فيه فباع ثم أراد الشريك أن يأخذه بالشفعة فقال مالك والشافعي
83

وأبو حنيفة والهادوية وابن أبي ليلى والبتي وجمهور أهل العلم: أن له أن يأخذه
بالشفعة، ولا يكون مجرد الاذن مبطلا لها. وقال الثوري والحكم وأبو عبيد وطائفة
من أهل الحديث: ليس له أن يأخذه بالشفعة بعد وقوع الاذن منه بالبيع، وعن
أحمد روايتان كالمذهبين، ودليل الآخرين مفهوم الشرط فإنه يقتضي عدم ثبوت
الشفعة مع الايذان من البائع. ودليل الأولين الأحاديث الواردة في شفعة الشريك
والجار من غير تقييد، وهي منطوقات لا يقاومها ذلك المفهوم، ويجاب بأن المفهوم
المذكور صالح لتقييد تلك المطلقات عند من عمل بمفهوم الشرط من أهل العلم، والترجيح
إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وقد أمكن ههنا بحمل المطلق على المقيد.
وعن عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى
بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور رواه عبد الله بن أحمد في المسند، ويحتج
بعمومه من أثبتها للشريك فيما تضره القسمة. وعن سمرة عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: جار الدار أحق بالدار من غيره رواه أحمد وأبو داود
والترمذي وصححه. وعن الشريد بن سويد قال: قلت يا رسول الله أرض ليس لأحد
فيها شرك ولا قسم إلا الجوار، فقال: الجار أحق بسقبه ما كان رواه أحمد
والنسائي وابن ماجة. ولابن ماجة مختصرا: الشريك أحق بسقبه ما كان.
حديث عبادة أخرجه أيضا الطبراني في الكبير وهو من رواية إسحاق عن عبادة
ولم يدركه، وتشهد لصحته الأحاديث الواردة في ثبوت الشفعة فيما هو أعم من الأرض والدار،
كحديث جابر المتقدم، وكحديث ابن عباس عند البيهقي مرفوعا بلفظ: الشفعة
في كل شئ ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالارسال. وأخرج الطحاوي له شاهدا من
حديث جابر بإسناد لا بأس برواته كما قال الحافظ، ويشهد لحديث عبادة أيضا الأحاديث
الواردة بثبوت الشفعة في خصوص الأرض، كحديث شريد بن سويد المذكور في
خصوص الدار، كحديث سمرة المذكور أيضا، وهكذا تشهد له الأحاديث القاضية بثبوت
الشفعة للجار على العموم، وحديث سمرة أخرجه أيضا البيهقي والطبراني والضياء، وفي
سماع الحسن عن سمرة مقال معروف قد تقدم التنبيه عليه، ولكنه أخرج هذا الحديث أبو بكر
بن أبي خيثمة في تاريخه والطحاوي وأبو يعلى والطبراني في الأوسط والضياء عن أنس،
وأخرجه ابن سعد عن الشريد بن
84

سويد بلفظ حديث سمرة المذكور، وحديث الشريد بن سويد أخرجه أيضا عبد الرزاق والطيالسي والدارقطني والبيهقي، قال في المعالم: إن حديث
الجار أحق بسقبه لم يروه أحد غير عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر، وتكلم
شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث قال: وقد تكلم الناس في إسناد هذا الحديث
واضطراب الرواة فيه، فقال بعضهم عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع، وقال بعضهم
عن أبيه عن أبي رافع، وأرسله بعضهم، والأحاديث التي جاءت في نقيضه أسانيدها
جياد ليس في شئ منها اضطراب. قوله: جار الدار أحق قال في شرح السنة: هذه
اللفظة تستعمل فيمن لا يكون غيره أحق منه، والشريك بهذه الصفة أحق من غيره
وليس غيره أحق منه، وقد استدل بهذا القائلون بثبوت الشفعة للجار، وأجاب المانعون
بأنه محمول على تعهده بالاحسان والبر بسبب قرب داره، كذا قال الشافعي ولا
يخفى بعده، ولكنه ينبغي أن يقيد بما سيأتي من اتحاد الطريق، ومقتضاه عدم ثبوت
الشفعة بمجرد الجوار. قوله: أحق بسقبه بفتح السين المهملة والقاف وبعدها
باء موحدة، ويقال: بالصاد المهملة بدل السين المهملة، ويجوز فتح القاف وإسكانها وهو
القرب والمجاورة. وقد استدل بهذا الحديث القائلون بثبوت شفعة الجار، وأجاب
المانعون بما سلف، قال البغوي: ليس في هذا الحديث ذكر الشفعة فيحتمل أن
يكون المراد به الشفعة، ويحتمل أن يكون أحق بالبر والمعونة اه. ولا يخفى بعد
هذا الحمل لا سيما بعد قوله: ليس لأحد فيها شرك والأولى الجواب بحمل هذا المطلق
على المقيد الآتي من حديث جابر. (لا يقال) أن نفي الشرك فيها يدل على اتحاد
الطريق فلا يصح تقييده بحديث جابر الآتي لأنا نقول: إنما نفي الشرك عن الأرض
لا عن طريقها، ولو سلم عدم صحة التقييد باتحاد الطريق فأحاديث إثبات الشفعة
بالجوار مخصصة بما سلف، ولو فرض عدم صحة التخصيص للتصريح بنفي الشركة فهي
مع ما فيها من المقال لا تنتهض لمعارضة الأحاديث القاضية بنفي شفعة الجار الذي
ليس بمشاركة ما تقدم.
وعن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور
ابن مخرمة ثم جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا سعد ابتع مني
بيتي في دارك، فقال سعد: والله ما أبتاعها، فقال المسور: والله
لتبتاعنها، فقال سعد: والله ما أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة
85

دينار، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الجار أحق
بسقبه ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطي بها خمسمائة دينار فأعطاها إياه
رواه البخاري.
قوله: ابتع بيتي بلفظ التثنية أي البيتين الكائنين في دارك. قوله: فقال
المسور في رواية: أن أبا رافع سأل المسور أن يساعده على ذلك. قوله: منجمة
أو مقطعة شك من الراوي، والمراد مؤجلة على أقساط معلومة. قوله: أربعة
آلاف في رواية للبخاري في كتاب ترك الحيل من صحيحه أربع مائة مثقال، وهو
يدل على أن المثقال إذ ذاك كان بعشرة دراهم، والحديث فيه مشروعية العرض على
الشريك، وقد تقدم الكلام على ذلك، وفيه أيضا ثبوت الشفعة بالجوار وقد
سلف بيانه. قال المصنف رحمه الله: ومعنى الخبر والله أعلم أنما هو الحث على عرض
المبيع قبل البيع على الجار وتقديمه على غيره من الزبون كما فهمه الراوي فإنه أعرف
بما سمع اه. الزبن: الدفع، ويطلق على بيع المزابنة وقد تقدم، وعلى بيع المجهول
بالمجهول من جنسه، وعلى بيع المغابنة في الجنس الذي لا يجوز فيه الغبن، أفاد معنى
ذلك في القاموس.
وعن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر قال: قال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما
واحدا رواه الخمسة إلا النسائي.
الحديث حسنه الترمذي قال: ولا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير عبد الملك
بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر، وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل
هذا الحديث، وعبد الملك هو ثقة مأمون عند أهل الحديث اه. وقال الشافعي: نخاف
أن لا يكون محفوظا. وقال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال:
لا أعلم أحدا رواه عن عطاء غير عبد الملك تفرد به، ويروي عن جابر خلاف
هذا اه. قال المصنف رحمه الله تعالى: وعبد الملك هذا ثقة مأمون ولكن قد أنكر
عليه هذا الحديث، قال شعبة: سها فيه عبد الملك، فإن روي حديثا مثله طرحت حديثه،
ثم ترك شعبة التحديث عنه. وقال أحمد: هذا الحديث منكر. وقال ابن معين: لم يروه غير
عبد الملك وقد أنكروه عليه. قلت: ويقوي ضعفه رواية جابر الصحيحة المشهورة
86

المذكورة في أول الباب اه. ولا يخفى أنه لم يكن في شئ من كلام هؤلاء الحفاظ ما يقدح
بمثله، وقد احتج مسلم في صحيحه بحديث عبد الملك بن أبي سليمان وأخرج له أحاديث
واستشهد به البخاري ولم يخرجا له هذا الحديث. قوله: ينتظر بها مبني للمفعول،
قال ابن رسلان: يحتمل انتظار الصبي بالشفعة حتى يبلغ وقد أخرج الطبراني في الصغير
والأوسط عن جابر أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصبي على شفعته حتى
يدرك، فإذا أدرك فإن شاء أخذ وإن شاء ترك في إسناده عبد الله بن بزيع. قوله: وإن
كان غائبا فيه دليل على أن شفعة الغائب لا تبطل وإن تراخى، وظاهره أنه لا يجب
عليه السير متى بلغه للطلب أو البعث برسول كما قال مالك، وعند الهادوية أنه يجب
عليه ذلك إذا كان مسافة غيبته ثلاثة أيام فما دونها، وإن كانت المسافة فوق ذلك لم يجب.
قوله: إذا كان طريقهما واحدا فيه دليل على أن الجوار بمجرده لا تثبت
به الشفعة، بل لا بد معه من اتحاد الطريق، ويؤيد هذا الاعتبار قوله في حديث جابر
وأبي هريرة المتقدمين، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وقد أسلفنا
الكلام على الشفعة بمجرد الجوار.
(فائدة): من الأحاديث الواردة في الشفعة حديث ابن عمر عند ابن ماجة
والبزار بلفظ: لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل عقال وفي إسناده محمد بن عبد
الرحمن بن البيلماني وله مناكير كثيرة. وقال الحافظ: إن إسناده ضعيف جدا، وضعفه
ابن عدي، وقال ابن حبان: لا أصل له. وقال أبو زرعة: منكر. وقال البيهقي: ليس بثابت.
وروى هذا الحديث ابن حزم عن ابن عمر أيضا بلفظ: الشفعة كحل العقال فإن قيدها
مكانه ثبت حقه وإلا فاللوم عليه وذكره عبد الحق في الاحكام عنه، وتعقبه ابن القطان
بأنه لم يروه في المحلى ولعله في غير المحلى. وأخرج عبد الرزاق من قول شريح: إنما الشفعة
لمن واثبها وذكره قاسم بن ثابت في دلائله، ورواه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ
والماوردي بلا إسناد بلفظ: الشفعة لمن واثبها أي بادر إليها، ويروي الشفعة كنشط عقال.
كتاب اللقطة
عن جابر قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العصا
87

والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به رواه أحمد وأبو داود. وعن
أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: لولا أني أخاف
أن تكون من الصدقة لأكلتها أخرجاه. وفيه إباحة المحقرات في الحال.
حديث جابر في إسناده المغيرة بن زياد، قال المنذري: تكلم فيه غير واحد. وفي
التقريب: صدوق له أوهام. وفي الخلاصة: وثقه وكيع وابن معين وابن عدي وغيرهم.
وقال أبو حاتم: شيخ لا يحتج به. قوله: اللقطة بضم اللام وفتح القاف على المشهور
لا يعرف المحدثون غيره كما قال الأزهري، وقال عياض: لا يجوز غيره. وقال الخليل
: هي بسكون القاف، وأما بالفتح فهو كثير الالتقاط، قال الأزهري: هذا الذي قاله هو
القياس، ولكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح. وقال
الزمخشري في الفائق: بفتح القاف والعامة تسكنها. قال في الفتح: وفيها لغتان أيضا:
لقاطة بضم اللام ولقطة بفتحهما. قوله: وأشباهه يعني كل شئ يسير. قوله: ينتفع
به فيه دليل على جواز الانتفاع بما يوجد في الطرقات من المحقرات ولا يحتاج
إلى تعريف، وقيل: إنه يجب التعريف بها ثلاثة أيام لما أخرجه أحمد والطبراني والبيهقي
والجوزجاني، واللفظ لأحمد من حديث يعلى بن مرة مرفوعا من التقط لقطة يسيرة حبلا
أو درهما أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام زاد
الطبراني: فإن جاء صاحبها وإلا فليتصدق بها وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى
وقد صرح جماعة بضعفه، ولكنه قد أخرج له ابن خزيمة متابعة وروى عنه جماعات،
وزعم ابن حزم أنه مجهول، وزعم هو وابن القطان أن يعلى وحكيمة التي روت هذا
الحديث عن يعلى مجهولان. قال الحافظ: وهو عجب منهما لأن يعلى صحابي معروف
الصحبة، قال ابن رسلان: ينبغي أن يكون هذا الحديث معمولا به لأن رجال إسناده
ثقات، وليس فيه معارضة للأحاديث ا لصحيحة بتعريف سنة، لأن التعريف سنة هو
الأصل المحكوم به عزيمة، وتعريف الثلاث رخصة تيسيرا للملتقط، لأن الملتقط اليسير
يشق عليه التعريف سنة مشقة عظيمة بحيث يؤدي إلى أن أحدا لا يلتقط اليسير،
والرخصة لا تعارض العزيمة بل لا تكون إلا مع بقاء حكم الأصل كما هو مقرر
في الأصول، ويؤيد تعريف الثلاث ما رواه عبد الرزاق عن أبي سعيد: أن عليا جاء
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدينار وجده في السوق فقال النبي صلى الله عليه
88

وآله وسلم: عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعرفه فقال: كله اه. وينبغي أيضا أن يقيد
مطلق الانتفاع المذكور في حديث الباب بالتعريف بالثلاث المذكور، فلا يجوز للملتقط
أن ينتفع بالحقير إلا بعد التعريف به ثلاثا حملا للمطلق على المقيد، وهذا إذا لم يكن
ذلك الشئ الحقير مأكولا، فإن كان مأكولا جاز أكله، ولم يجب التعريف به أصلا
كالتمرة ونحوها لحديث أنس المذكور، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بين أنه
لم يمنعه من أكل التمرة إلا خشية أن تكون من الصدقة، ولولا ذلك لاكلها. وقد روى
ابن أبي شيبة عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنها وجدت تمرة
فأكلتها وقالت لا يحب الله الفساد. قال في الفتح: يعني أنها لو تركتها فلم تأخذه فتأكل
لفسدت. قال: وجواز الاكل هو المجزوم به عن الأكثر اه. ويكن أن يقال: إنه يقيد
حديث التمرة بحديث التعريف ثلاثا كما قيد به حديث الانتفاع، ولكنها لم تجر
للمسلمين عادة بمثل ذلك، وأيضا الظاهر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأكلتها
أي في الحال، ويبعد كل البعد أن يريد صلى الله عليه وآله وسلم لأكلتها بعد التعريف
بها ثلاثا، وقد اختلف أهل العلم في مقدار التعريف بالحقير، فحكي في البحر عن زيد بن
علي والناصر والقاسمية والشافعي أنه يعرف به سنة كالكثير، وحكي عن المؤيد بالله
والامام يحيى وأصحاب أبي حنيفة أنه يعرف به ثلاثة أيام. (واحتج) الأولون بقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: عرفها سنة قالوا: ولم يفصل، واحتج الآخرون بحديث يعلى بن مرة
وحديث علي وجعلوهما مخصصين لعموم حديث التعريف سنة وهو الصواب لما سلف،
قال الإمام المهدي: قلت الأقوى تخصيصه بما مر للحرج اه. يعني تخصيص حديث السنة
بحديث التعريف ثلاثا.
وعن عياض بن حمار قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من
وجد لقطة فليشهد ذوي عدل أو ليحفظ عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها فلا
يكتم فهو أحق بها، وإن لم يجئ صاحبها فهو مال الله يؤتيه من يشاء رواه أحمد
وابن ماجة. وعن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يأوي
الضالة إلا ضال ما لم يعرفها رواه أحمد ومسلم. وعن زيد بن خالد قال سئل رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اللقطة الذهب والورق فقال: اعرف وكاءها وعفاصها
ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من
89

الدهر فأدها إليه. وسأله عن ضالة الإبل فقال: ما لك ولها دعها فإن معها حذاءها
وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها. وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما
هي لك أو لأخيك أو للذئب متفق عليه. ولم يقل فيه أحمد الذهب أو الورق،
وهو صريح في التقاط الغنم. وفي رواية: فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها
ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك رواه مسلم. وهو دليل على دخوله في ملكه
وإن لم يقصده. وعن أبي بن كعب في حديث اللقطة أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها فأعطها إياه وإلا
فاستمتع بها مختصر من حديث أحمد ومسلم والترمذي. وهو دليل وجوب
الدفع بالصفة.
حديث عياض بن حمار أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن حبان ولفظه:
ثم لا يكتم ولا يغيب، فإن جاء صاحبها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من
يشاء وفي لفظ للبيهقي: ثم لا يكتم وليعرف ورواه الطبراني وله طرق. (وفي الباب)
عن مالك بن عمير عن أبيه أخرجه أبو موسى المديني في الذيل. قوله: فليشهد ظاهر
الامر على وجوب الاشهاد وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال أبو حنيفة. وفي
كيفية الاشهاد قولان: أحدهما يشهد أنه وجد لقطة ولا يعلم بالعفاص ولا غيره
لئلا يتوصل بذلك الكاذب إلى أخذها. والثاني: يشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات
لم يتصرف فيها الوارث، وأشار بعض الشافعية إلى التوسط بين الوجهين فقال:
لا يستوعب الصفات ولكن يذكر بعضها، قال النووي: وهو الأصح والثاني من قولي
الشافعي أنه لا يجب الاشهاد، وبه قال مالك وأحمد وغيرهما قالوا: وإنما يستحب
احتياطا لأن النبي صلى الله وعليه وآله وسلم لم يأمر به في حديث زيد بن خالد ولو
كان واجبا لبينه. قوله: عفاصها بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء وبعد الألف صاد
مهملة وهو الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره، وقيل له العفاص أخذا
من العفص وهو الثني لأن الوعاء يثنى على ما فيه. وقد وقع في زوائد المسند لعبد
الله بن أحمد في حديث أبي: وخرقتها بدل عفاصها، والعفاص أيضا الجلد الذي يكون
على رأس القارورة، وأما الذي يدخل فم القارورة من جلدا وغيره فهو الصمام بكسر
الصاد المهملة، فحيث يذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثاني وحيث يذكر العفاص مع
90

الوكاء فالمراد به الأول، كذا في الفتح. والوكاء بكسر الواو والمد الخيط الذي يشد به الوعاء
التي تكون فيه النفقة، يقال: أوكيته إيكاء فهو موكأ، ومن قال: الوكا بالقصر فهو وهم.
قوله: فلا يكتم أي لا يجوز كتم اللقطة إذا جاء لها صاحبها وذكر من أوصافها ما
يغلب الظن بصدقه. قوله: يؤتيه من يشاء استدل به من قال: إن الملتقط يملك
اللقطة بعد أن يعرف بها حولا وهو أبو حنيفة لكن بشرط أن يكون فقيرا، وبه
قالت الهادوية واستدلوا على اشتراط الفقر بقوله في هذا الحديث: فهو مال الله، قالوا: وما
يضاف إلى الله إنما يتملكه من يستحق الصدقة، وذهب الجمهور إلى أنه يجوز له أن
يصرفها في نفسه بعد التعريف، سواء كان غنيا أو فقيرا، لاطلاق الأدلة الشاملة للغني والفقير
كقوله: فاستمتع بها وفي لفظ: فهي كسبيل مالك. وفي لفظ: فاستنفقها وفي لفظ: فهي
لك وأجابوا عن دعوى أن الإضافة تدل على الصرف إلى الفقير بأن ذلك لا دليل
عليه، فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله، قال الله تعالى: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) *.
قوله: لا يأوي الضالة الخ، في نسخة: يؤوي وهو مضارع آوى بالمد، والمراد
بالضال من ليس بمهتد، لأن حق الضالة أن يعرف بها، فإذا أخذها من دون تعريف
كان ضالا، وسيأتي بقية الكلام على هذا في آخر الباب. قوله: اعرف عفاصها
ووكاءها الغرض من هذه المعرفة معرفة الآلات التي تحفظ فيها اللقطة، ويلتحق
بما ذكر حفظ الجنس والصفة والقدر وهو الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن،
والزرع فيما يزرع، وقد اختلفت الروايات ففي بعضها: معرفة العفاص والوكاء قبل
التعريف كما في الرواية المذكورة في الباب. وفي بعضها التعريف مقدم على معرفة
ذلك كما في رواية للبخاري بلفظ: عرفها سنة ثم عرف عفاصها قال النووي:
يجمع بين الروايتين بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين، فيعرف العلامات وقت
الالتقاط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها، ثم يعرفها مرة أخرى بعد تعريفها سنة
إذا أراد أن يتملكها ليعلم قدرها وصفتها إذا جاء صاحبها بعد ذلك فردها إليه. قال
الحافظ: ويحتمل أن تكون ثم في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا فلا تقتضي
تخالفا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المخرج واحدا والقصة واحدة، وإنما يحسن الجمع
بما تقدم لو كان المخرج مختلفا أو تعددت القصة، وليس الغرض إلا أن يقع التعرف
والتعريف مع قطع النظر عن أيهما يسبق. قال: واختلف العلماء في هذه المعرفة
91

على قولين: أظهرهما الوجوب لظاهر الامر، وقيل: يستحب. وقال بعضهم: يجب عند
الالتقاط ويستحب بعده. قوله: ثم عرفها بتشديد الراء وكسرها أي اذكرها
للناس. قال في الفتح: قال العلماء محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والأسواق ونحو
ذلك يقول: من ضاعت له نفقة ونحو ذلك من العبارات ولا يذكر شيئا من الصفات.
قوله: سنة الظاهر أن تكون متوالية، ولكن على وجه لا يكون على جهة
الاستيعاب، فلا يلزمه التعريف بالليل ولا استيعاب الأيام، بل على المعتاد فيعرف في
الابتداء كل يوم مرتين في طرفي النهار، ثم
في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة، ثم في كل شهر مرة، ولا يشترط أن يعرفها بنفسه، بل يجوز له
توكيل غيره، ويعرفها في مكان
وجودها وفي غيره، كذا قال العلماء، وظاهرة أيضا وجوب التعريف لأن الامر
يقتضي الوجوب، ولا سيما وقد سمى صلى الله عليه وآله وسلم من لم يعرفها ضالا كما
تقدم، وفي وجوب المبادرة إلى التعريف خلاف مبناه هل الامر يقتضي الفور أم لا؟
وظاهرة أيضا أنه لا يجب التعريف بعد السنة، وبه قال الجمهور، وادعى في البحر
الاجماع على ذلك. ووقع في رواية من حديث أبي عند البخاري وغيره بلفظ: وجدت
صرة فيها مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: عرفها حولا فعرفتها
فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته ثانيا فقال
عرفها حولا فلم أجد، ثم أتيته ثالثا فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت، فلقيته
يعد بمكة فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا هكذا في البخاري وذكر البخاري
الحديث في موضع آخر من صحيحه فزاد: ثم أتيته الرابعة فقال: أعرف
وعاءها الخ، قال في الفتح: القائل فلقيته بعد بمكة هو شعبة، والذي قال لا أدري هو شيخه
سلمة بن كهيل وهو الراوي لهذا الحديث عن سويد عن أبي بن كعب، قال شعبة: فسمعته
بعد عشر سنين يقول: عرفها عاما واحدا. وقد بين أبو داود الطيالسي في مسنده القائل فلقيته والقائل
لا أدري، فقال في آخر الحديث: قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال:
لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا. وبهذا يتبين بطلان ما قاله ابن بطال أن الذي
شك هو أبي بن كعب، والقائل هو سويد بن غفلة، وقد رواه عن شعبة عن سلمة بن كهيل بغير
شك جماعة وفيه ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمة فإن في حديثة عامين أو ثلاثة، وجمع بعضهم
بين حديث أبي هذا وحديث زيد بن خالد المذكورة فيه سنة فقط بأن حديث أبي محمول على
92

مزيد من الروع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها. وحديث زيد على ما لا بد منه.
وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن الزيادة في حديث أبي غلط. قال ابن الجوزي: والذي
يظهر لي أن سلمه أخطأ فيها ثم ثبت واستمر على عام واحد، ولا يؤخذ إلا بما لم
يشك فيه لا بما يشك فيه راويه. وقال أيضا: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم
عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي فأمر ثانيا بإعادة التعريف كما قال
للمسئ صلاته: ارجع فصل فإنك لم تصل قال الحافظ: ولا يخفى بعد هذا على مثل
أبي مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم قال المنذري: لم يقل أحد من أئمة الفتوى
أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام إلا شريح عن عمر، وقد حكاه الماوردي عن شواذ
من الفقهاء، وحكى ابن منذر عن عمر أربعة أقوال يعرف بها ثلاثة أحوال: عاما واحدا،
ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام. وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر، قال
في الفتح: ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها. قوله: فإن لم تعرف فاستنفقها الخ،
قال يحيى بن سعيد الأنصاري: لا أدري هذا في حديث أم هو شئ من عند يزيد
مولى المنبعث يعني الراوي عن زيد بن خالد، كما حكى ذلك البخاري عن يحيى. قال في
الفتح: شك يحيى بن سعد هل قوله: ولتكن وديعة عنده مرفوع أم لا وهو القدر
المشار إليه بهذا دون ما قبله في أكثر الروايات وخلوها. عن ذكر
الوديعة، وقد جزم يحيى بن سعيد برفعه مرة أخرى كما في صحيح مسلم بلفظ: فاستنفقها
ولتكن وديعة عندك وكذلك جزم برفعها خالدين مخلد عن سليمان عن ربيعة عند مسلم،
وقد أشار البخاري إلى رجحان رفعها، فترجم باب إذا جاء صاحب اللقطة ردها
عليه لأنها وديعة عنده، والمراد بكونها وديعة أنه يجب ردها، فتجوز بذكر الوديعة
عن وجوب رد بدلها بعد الاستنفاق، لا أنها وديعة حقيقة يجب أن تبقي عينها، لان
المأذون في استنفاقه لا تبقى عينه كذا قال ابن دقيق العيد قال: ويحتمل أن تكون
الواو في قوله ولتكن وديعة بمعنى أو أي إما أن تستنفقها وتغرم بدلها، وإما أن تتركها
عندك على سبيل الوديعة حتى يجئ صاحبها فتعطيها إياه، ويستفاد من تسميتها
وديعة أنها لو تلفت لم يكن عليه ضمانها، قال في الفتح: وهو اختيار البخاري تبعا لجماعة
من السلف. قوله: فإن معها حذاءها وسقاءها الحذاء بكسر المهملة بعدها ذال
معجمة مع المد أي خفها، والمراد بالسقاء جوفها وقيل عنقها، وأشار بذلك إلى
93

استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش، وتناول المأكول
بغير تعب لطول عنقها فلا تحتاج إلى ملتقط. قوله: لك أو لأخيك أو للذئب فيه
إشارة إلى جواز أخذها كأنه قال: هي ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك،
مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك. قال الحافظ: والمراد به ما هو أعم من صاحبها
أو من ملتقط آخر. والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع، وفيها حث على
أخذها، لأنه إذا علم أنها لم تؤخذ بقيت للذئب كان ذلك أدعى له إلى أخذها،
وفيه رد على ما روي عن أحمد في رواية أن الشاة لا تلتقط، وتمسك به مالك في أنه
يملكها بالأخذ ولا تلزمه غرامة ولو جاء صاحبها، واحتج على ذلك بأن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم سوى بين الذئب والملتقط، والذئب لا غرامه عليه فكذلك الملتقط؟
وأجيب بأن اللام ليست للتمليك لأن الذئب لا يملك، وقد أجمعوا أنه لو جاء
صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط كان له أخذها، فدل على أنها باقية على ملك صاحبها،
ولا فرق بين قوله في اللقطة شأنك بها أو أخذها، وبين قوله: هي لك أو لأخيك أو
للذئب، بل الأول أشبه بالتمليك لأنه لم يشرك معه ذئبا ولا غيره. قوله: فإن جاء
أحد يخبرك الخ، فيه دليل على أنه يجوز للملتقط أن يرد اللقطة إلى من وصفها
بالعلامات المذكورة من دون إقامة البينة، وبه قال المؤيد بالله والامام يحيى وبعض
أصحاب الشافعي وأبو بكر الرازي الحنفي قالوا: لأنه يجوز العمل بالظن لاعتماده
في أكثر الشريعة، إذ لا تفيد البينة إلا الظن، وبه قال مالك وأحمد، وحكي في البحر
عن القاسمية والحنفية والشافعية أن اللقطة لا ترد للواصف وإن ظن الملتقط صدقه
إذ هو مدع فلا تقبل. وحكي في الفتح عن أبي حنيفة والشافعي أنه يجوز له الرد
إلى الواصف إن وقع في نفسه صدقه، ولا يجبر على ذلك إلا ببينة. قال الخطابي: إن
صحت هذه اللفظة يعني قوله: فإن جاء صاحبها يخبرك الخ لم يجز مخالفتها وهي فائدة
قوله: اعرف عفاصها إلى آخره، وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرد إلا بالبينة، قال:
ويتأولون قوله: اعرف عفاصها على أنه أمره بذلك لئلا تختلط بماله أو لتكون الدعوى
فيها معلومة، وذكر غيره من فوائد ذلك أيضا أن يعرف صدق المدعي من كذبه، وأن
فيها تنبيها على حفظ المال وغيره وهو الوعاء، لأن العادة جرت بإلقائه إذا أخذت
النفقة، وأنه إذا نبه على حفظ الوعاء كان فيه تنبيه على حفظ النفقة من باب الأولى.
94

قال الحافظ: قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها اه. وهذا هو الحق. فترد اللقطة لمن
وصفها بالصفات التي اعتبرها الشارع، وأما إذا ذكر صاحب اللقطة يعض الأوصاف دون بعض كأن يذكر العفاص دون
الوكاء أو العفاص دون العدد فقد اختلف في ذلك فقيل: لا شئ
له إلا بمعرفة جميع الأوصاف المذكورة، وقيل: تدفع إليه إذا جاء ببعضها، وظاهره الحديث الأول.
وظاهره أيضا أن مجرد الوصف يكفي ولا يحتاج إلى اليمين، وهذا إذا كانت اللقطة
لها عفاص ووكاء وعدد، فإن كان لها البعض من ذلك فالظاهر أنه يكفي ذكره، وإن
لم يكن لها شئ من ذلك فلا بد من ذكر أوصاف مختصة بها تقوم مقام وصفها
بالأمور التي اعتبرها الشارع. قوله: وإلا فاستمتع بها الامر فيه للإباحة. وكذا في قوله:
فاستنفقها وقد اختلف العلماء فيما إذا تصرف الملتقط في اللقطة بعد تعريفها سنة
ثم جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا؟ فذهب الجمهور إلى وجوب الرد إن كانت العين
موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت، وخالف في ذلك الكرابيسي صاحب الشافعي
، ووافقه صاحباه البخاري وداود بن علي إمام الظاهرية، لكن وافق داود الجمهور
إذا كانت العين قائمة، ومن أدلة قول الجمهور ما تقدم بلفظ: ولتكن وديعة عندك
فإن جاء طالبها الخ، وكذلك قوله: فإن جاء صاحبها فلا تكتم فهو أحق بها الخ، وفي
رواية للبخاري من حديث زيد بن خالد: فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء
صاحبها فأدها إليه أي بدلها، لأن العين لا تبقى بعد أكلها وفي رواية لأبي داود
: فإن جاء باغيها فأدها إليه وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها
فأدها إليه فأمر بأدائها إليه قبل الاذن في أكلها وبعده. وفي رواية لأبي داود
أيضا: فإن جاء صاحبها دفعتها إليه وإلا عرفت وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك فإن
جاء صاحبها فادفعها إليه والمراد بقوله: اقبضها في مالك اجعلها من جملة ما لك وهو بالقاف
وكسر الباء من الاقباض. قال ابن رشد اتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي
وأبو حنيفة والشافعي أن له أن يتصرف فيها، ثم قال مالك والشافعي: له أن يتملكها، وقال
أبو حنيفة: ليس له إلا أن يتصدق بها. وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من
التابعين. وقال الأوزاعي: إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال، وروي مثل قول مالك
والشافعي عن عمر وابن مسعود وابن عمر، وكلهم متفق على أنه إن أكلها ضمنها
لصاحبها إلا أهل الظاهر اه. قال في البحر مسألة: ولا يضمن الملتقط إجماعا إلا لتفريط
أو جناية إذ هو أمين، حيث لم يؤخذ لغرض نفسه، فإن جنى أو فرط فالأكثر يضمن،
95

وداود والكرابيسي لا يضمن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فإن جاء صاحبها الخبر ولم
يذكر وجوب البدل. قلنا: أمر عليا عليه السلام بغرامة الدينار في الخبر المشهور،
وخبركم محمول على من أيس من معرفة صاحبها اه. وحديث علي الذي أشار إليه
أخرجه أبو داود عن بلال بن يحيى العبسي عنه أنه التقط دينارا فاشترى به دقيقا
فعرفه صاحب الدقيق فرد عليه الدينار فأخذه علي فقطع منه قيراطين فاشترى
به لحما قال المنذري في سماع بلال بن يحيى من على نظر. وقال الحافظ: إسناده حسن
ورواه أيضا أبو داود عن أبي سعيد الخدري: أن علي بن أبي طالب وجد دينارا
فأتى به فاطمة فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هو رزق الله،
فأكل منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكل علي وفاطمة، فلما كان بعد ذلك
أتته امرأة تنشد الدينار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا علي أد الدينار وفي
إسناده رجل مجهول. وأخرجه أبو داود أيضا من وجه آخر عن أبي سعيد وذكره
مطولا وفي إسناده موسى بن يعقوب الزمعي وثقه ابن معين. وقال ابن عدي: لا بأس به.
وقال النسائي ليس بقوي. وروى هذا الحديث الشافعي عن الدراوردي عن
شريك بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد وزاد: أنه أمره أن يعرفه.
ورواه عبد الرزاق من هذا الوجه وزاد: فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام،
وفي إسناده هذه الزيادة أبو بكر بن أبي سبرة وهو ضعيف جدا، وقد أعل البيهقي
هذه الروايات لاضطرابها ولمعارضتها لأحاديث اشتراط السنة في التعريف، قال:
ويحتمل أن يكون إثما أباح له الاكل قبل التعريف للاضطرار. وعن عبد الرحمن
بن عثمان قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لقطة الحاج. رواه أحمد
ومسلم، وقد سبق قوله: في بلد مكة ولا تحل لقطتها إلا لمعرف، واحتج بهما من قال:
لا تملك لقطة الحرم بحال بل تعرف أبد. الحديث الثاني قد سبق في باب صيد
الحرم وشجرة من كتاب الحاج. قوله: نهى عن لقطة الحاج هذا النهي تأوله الجمهور
بأن المراد به النهي عن التقاط ذلك للملك، وأما للانشاد بها فلا بأس، ويدل على
ذلك قوله في الحديث الاخر: ولا تحل لقطتها إلا لمعرف. وفي لفظ آخر ولا تحل
ساقطتها إلا لمنشد. قوله: إلا لمعرف قد استشكل تخصيص لقطة الحاج يمثل هذا، مع
أن التعريف لا بد منه في كل لقطة من غير فرق بين لقطة الحاج وغيره، وأجيب
عن هذا الاشكال بأن المعنى أن لقطة الحاج لا تحل إلا لمن يريد التعريف فقط من
96

دون تملك، فأما من أراد أن يعرفها ثم يتملكها فلا. وقد ذهب الجمهور إلى أن لقطة
مكة لا تلتقط للتملك بل للتعريف خاصة. قال في الفتح: وإنما اختصت بذلك عندهم
لامكان ايصالها إلى أربابها، لأنها إن كانت للمكي فظاهر، وإن كانت للآفاقي فلا يخلو
أفق غالبا من وارد إليها، فإذا عرفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة
صاحبها، قال ابن بطال: وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد
، وإنما تختص مكة بمبالغة في التعريف، لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود، فاحتاج
الملتقط لها إلى المبالغة في التعريف، واحتج ابن المنير لمذهبه بظاهر الاستثناء لأنه
نفى الحل واستثنى المنشد، فدل على أن الحل ثابت للمنشد، لأن الاستثناء
من نفي اثبات. قال: ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء، والسياق يقتضي تخصيصها.
قال الحافظ: والجواب أن التخصيص إذا وافق الغالب لم يكن له مفهوم، والغالب
أن لقطة مكة ييأس ملتقطها من صاحبها، وصاحبها من وجدانها، لتفرق الخلق في الآفاق
البعيدة، فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة ولا يعرفها، فنهى الشارع
عن ذلك وأمر أن لا يأخذها إلا من عرفها. وقال إسحاق بن راهويه: معنى قوله في
الحديث: إلا لمنشد أي من سمع ناشدا يقول من رأى كذا فحينئذ يجوز لواجد اللقطة
أن يرفعها ليردها على صاحبها، وهو أضيق من قول الجمهور، لأنه قيده بحالة للمعرف دون
حالة، ويرد عليه قوله: إلا لمعرف، والحديث يفسر بعضه بعضا. وقد حكي في البحر عن
العترة وأبي حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي أنه لا فرق بين لقطة الحرم وغيره،
واحتج لهم بأن الأدلة لم تفصل.
وعن منذر بن جرير قال: كنت مع أبي جرير بالبوازيج في السواد
فراحت البقر فرأى بقرة أنكرها فقال، ما هذه البقرة؟ قالوا: بقرة لحقت بالبقر، فأمر بها
فطردت حتى توارت ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يأوي الضالة
إلا ضال رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. ولمالك في الموطأ عن ابن شهاب قال:
كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب إبلا مؤبلة تتناتج لا يمسكها
أحد، حتى إذا كان عثمان أمر بمعرفتها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها
أعطي ثمنها.
حديث منذر أخرجه أيضا النسائي وأبو يعلى والطبراني في الكبير، والضياء في
المختارة، ويشهد له ما في صحيح مسلم حديث زيد بن خالد بلفظ: لا يأوي الضالة إلا ضال
97

وقد تقدم. قوله عن منذر بن جرير يعني ابن عبد الله البجلي. وقد أخرج لمنذر
مسلم في الزكاة والعلم من صحيحه. قوله: بالبوازيج بفتح الباء الموحدة وبعد
الألف زاي معجمة بعدها تحتية ثم جيم، كذا ضبطه البكري في معجم البلدان ثم
قال: كذا اتفقت الروايات فيه عند أبي داود، قال: ولا أعلم هذا الاسم ورد إلا في هذا
الحديث، وصوابه عندي الموازج بالميم وهو المحفوظ، قال: والموازج من ديار هذيل
وهي متصلة بنواحي المدينة. وقال ابن السمعاني: بوازيج بالباء الموحدة وبعد الألف
زاي بلدة قديمة فوق بغداد خرج منها جماعة من العلماء قديما وحديثا. وقال المنذري:
بوازيج الأنبار فتحها جرير بن عبد الله وبها قوم من مواليه، وليست بوازيج
الملك التي بين تكريت وإربل. قوله: لا يأوي الضالة الخ، قد تقدم ضبطه وتفسيره،
والمراد بالضالة هنا ما يحمي نفسه من الإبل والبقر ويقدر على الابعاد في طلب المرعى
والماء بخلاف الغنم، فالحيوان الممتنع من صغار السباع لا يجوز التقاطه، سواء كان لكبر
جثته كالإبل والخيل والبقر، أو يمنع نفسه بطيرانه كالطيور المملوكة، أو بنابه كالفهود،
ولا يجوز لغير الامام ونائبه أخذها، ويمكن أن يقيد مطلق هذا الحديث بما تقدم في
حديث زيد بن خالد لقوله فيه: ما لم يعرفها، ويكون وصف الذي يأوي الضالة
بالضلال مقيدا بعدم التعريف، وأما التقاط الإبل ونحوها فقد استفيد المنع منه من قوله
صلى الله عليه وآله وسلم: ما لك ولها دعها. قوله: مؤبلة كمعظمة أي كثيرة
متخذة للقنية. وفي هذا الأثر جواز التقاط الإبل للامام وجواز بيعها، وإذا جاء
مالكها دفع إليه الامام ثمنها.
كتاب الهبة والهدية
باب افتقارها إلى القبول و القبض وأنه على ما يتعارفه الناس
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو دعيت إلى
كراع أو ذراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت رواه البخاري.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو أهدي إلي كراع لقبلت،
ولو دعيت عليه لأجبت رواه أحمد والترمذي وصححه.
98

في الباب عن أم حكيم الخزاعية عند الطبراني قالت: قلت يا رسول الله تكره رد اللطف؟
قال: ما أقبحه لو أهدي إلي كراع لقبلت قال في القاموس: اللطف بالتحريك اليسير من
الطعام. قوله: كتاب الهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة قال في الفتح: تطلق بمعنى
الأعم على أنواع الابراء وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهي هبة ما يتمحض به طلب
ثواب الآخرة، والهدية وهي ما يلزم به المرهون له عوضه، ومن خصها بالحياة أخرج الوصية،
وهي تكون أيضا بالأنواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يصدق له بدل، وعليه
ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بل عوض اه. قوله: والهدية بفتح الهاء وكسر الدال
المهملة بعدها ياء مشددة ثم تاء تأنيث، قال في القاموس: الهدية كالغنيمة ما أتحف به. قوله: إلي
كراع هو ما دون الكعب من الدابة. وقيل: هو اسم مكان. قال الحافظ: ولا يثبت، ويرده
حديث أنس وحديث أم حكيم المذكوران، وخص الكراع والذراع بالذكر ليجمع بين
الحقير والخطير، لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له، وفي المثل: أعط
العبد كراعا يطلب ذراعا، هكذا في الفتح، والظاهر أن مراده صلى الله عليه وآله وسلم الحض
على إجابة الدعوة، ولو كانت إلى شئ حقير كالكراع والذراع، وعلى قبول الهدية
ولو كانت شيئا حقيرا من كراع أو ذراع، وليس المراد الجمع بين حقير وخطير، فإن
الذراع لا يعد على الانفراد خطيرا، ولم تجر عادة بالدعوة إليه ولا بإهدائه، فالكلام
من باب الجمع بين حقيرين، وكون أحدهما أحقر من الآخر لا يقدح في ذلك، ومحبته
صلى الله عليه وآله وسلم للذراع لا تستلزم أن تكون في نفسها خطيرة ولا سيما في
خصوص هذا المقام، ولو كان ذلك مرادا له صلى الله عليه وآله وسلم لقابل الكراع الذي
هو أحقر ما يهدى ويدعى إليه بأخطر ما يهدى ويدعى إليه كالشاة وما فوقها، ولا
شك أن مراده صلى الله عليه وآله وسلم الترغيب في إجابة الدعوة وقبول الهدية
وإن كانت إلى أمر حقير وفي شئ يسير. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث فقال باب
القليل من الهدية، وفي الحديثين المذكورين دليل على اعتبار القبول لقوله صلى الله
عليه وآله وسلم: لقبلت وسيأتي الخلاف في ذلك.
وعن خالد بن عدي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من جاءه
من أخيه معروف من غير إشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقة الله إليه
رواه أحمد. وعن عبد الله بن بسر قال: كانت أختي ربما تبعثني بالشئ إلى
99

النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطرفه إياه فيقبله مني وفي لفظ: كانت تبعثني إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بالهدية فيقبلها رواهما أحمد، وهو دليل على قبول الهدية برسالة الصبي،
لأن عبد الله بن بسر كان كذلك مدة حياة رسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: لما تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة
قال لها: إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا
قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة، فإن ردت علي فهي لك، قالت: وكان كما قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردت عليه هديته، فأعطى كل امرأة من
نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة رواه أحمد.
حديث خالد بن عدي قد تقدم في باب ما جاء في الفقير والمسكين من كتاب
الزكاة، وأعاده المصنف ههنا للاستدلال به على أن الهدية تفتقر إلى القبول
لقوله فيه: فليقبله. وحديث عبد الله بن بسر أخرجه أيضا الطبراني في الكبير،
قال في مجمع الزوائد: ورجالهما يعني أحمد والطبراني رجال الصحيح، وله حديث آخر
أخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده الحكم بن الوليد، ذكره ابن عدي في الكامل، وذكر
له هذا الحديث وقال: لا أعرف هذا عن عبد الله بن بسر إلا عن الحكم هكذا، هذا معنى
كلامه. قال في مجمع الزوائد: وبقية رجاله ثقات. وحديث أم كلثوم أخرجه أيضا الطبراني
وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي، وثقه ابن معين وغيره وضعفه جماعة. وفي إسناده أيضا أم
موسى بنت عقبة، قال في مجمع الزوائد لا أعرفها وبقية رجاله رجال الصحيح. قوله في
حديث خالد: فليقبله فيه الامر بقبول الهدية والهبة ونحوهما من الأخ في الدين لأخيه والنهي
عن الرد، لما في ذلك من جلب الوحشة وتنافر الخواطر، فإن التهادي من الأسباب المؤثرة
للمحبة لما أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي وابن طاهر في مسند الشهاب من
حديث محمد بن بكير عن ضمام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة عنه صلى
الله عليه وآله وسلم: تهادوا تحابوا قال الحافظ: وإسناده حسن، وقد اختلف فيه على ضمام
فقيل عنه عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمر أورده ابن طاهر، ورواه في مسند
الشهاب من حديث عائشة بلفظ: تهادوا تزدادوا حبا وفي إسناده محمد بن سليمان،
قال ابن طاهر: لا أعرفه، وأورده أيضا من وجه آخر عن أم حكيم بنت وداع
الخزاعية وقال: إسناده غريب وليس بحجة. وروى مالك في الموطأ عن عطاء
100

الخراساني رفعه: تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء وفي الأوسط
للطبراني من حديث عائشة تهادوا تحابوا وهاجروا تورثوا أولادكم مجدا، وأقيلوا
الكرام عثراتهم قال الحافظ: وفي إسناده نظر وأخرج في الشهاب عن عائشة: تهادوا
فإن الهدية تذهب الضغائن ومداره عن محمد بن عبد النور عن أبي يوسف الأعشى
عن هشام عن أبيه عنها، والراوي له عن محمد هو أحمد بن الحسن المقري، قال
الدارقطني: ليس بثقة، وقال ابن طاهر: لا أصل له عن هشام، ورواه ابن حبان في
الضعفاء من طريق بكر بن بكار عن عائذ بن شريح عن أنس بلفظ: تهادوا فإن الهدية
قلت أو كثرت تذهب السخيمة وضعفه بعائذ، قال ابن طاهر: تفرد به عائذ، وقد رواه عنه
جماعة، قال: ورواه كوثر بن حكيم عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا.
وكوثر متروك، وروى الترمذي عن حديث أبي هريرة: تهادوا فإن الهدية تذهب وحر
الصدر وفي إسناده أبو معشر المدني تفرد به وهو ضعيف ورواه ابن طاهر في أحاديث
الشهاب من طريق عصمة بن مالك بلفظ: الهدية تذهب بالسمع والبصر. ورواه ابن
حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر بلفظ: تهادوا فإن الهدية تذهب الغل رواه محمد
بن غيزغة وقال: لا يجوز الاحتجاج به وقال فيه البخاري: منكر الحديث. وروى
أبو موسى المديني في الذيل في ترجمة زعبل بالزاي والعين المهملة والباء الموحدة يرفعه:
تزاوروا وتهادوا فإن الزيارة تثبت الوداد والهدية تذهب السخيمة قال الحافظ:
وهو مرسل، وليس لزعبل صحبة. قوله: فإنما هو رزق ساقه الله إليه فيه دليل على
أن الأشياء الواصلة إلى العباد على أيدي بعضهم هي من الأرزاق الإلهية لمن وصلت
إليه وإنما جعلها الله جارية على أيدي العباد لإثابة من جعلها على يده، فالمحمود على
جميع ما كان من هذا القبيل هو الله تعالى. قوله: تطرفه إياه بالطاء المهملة والراء بعدها
فاء. قال في القاموس: الطرفة بالضم الاسم من الطريف والطارف والمطرف للمال
المستحدث. قال: والغريب من الثمر وغيره. قوله: فيقبلها فيه دليل على اعتبار القبول،
ولأجل ذلك ذكره المصنف، وكذلك حديث أم كلثوم فيه دليل أيضا على اعتبار
القبول، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قبض الهدية التي بعث بها إلى النجاشي
بعد رجوعها دل على ذلك على أن الهدية لا تملك بمجرد الاهداء بل لا بد من القبول،
ولو كانت تملك بمجرد ذلك لما قبضها صلى الله عليه وآله وسلم لأنها قد صارت ملكا
101

للنجاشي عند بعثه صلى الله عليه وآله وسلم بها، فإذا مات بعد ذلك وقبل وصولها إليه صارت
لورثته، وإلى اعتبار القبول في الهبة ذهب الشافعي ومالك والناصر والهادوية والمؤيد بالله
في أحد قوليه، وذهب بعض الحنفية والمؤيد بالله في أحد قوليه إلى أن الايجاب
كاف، وقد تمسك بحديث أم كلثوم أحمد وإسحاق فقالا في الهدية التي مات
من أهديت إليه قبل وصولها: إن كان حاملها رسول المهدى رجعت إليه، وإن
كان حاملها رسول المهدى إليه فهي لورثته، وذهب الجمهور إلى أن الهدية
لا تنتقل إلى المهدى إليه إلا بأن يقبضها هو أو وكيله. وقال الحسن: أيهما مات فهي
لورثه المهدى له إذا قبضها الرسول. قال ابن بطال: وقول مالك كقول الحسن. وروى
البخاري عن أبي عبيدة تفصيلا بين أن تكون الهدية قد انفصلت أم لا مصيرا
منه إلى أن قبض الرسول يقوم مقام قبض المهدى إليه. وحديث أم كلثوم هذا أخرجه أيضا
الطبراني والحاكم، وحسن صاحب الفتح إسناده. قوله: ولا أرى النجاشي إلا قد
مات قد سبق في صلاة الجنازة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلم أصحابه بموت النجاشي
على جهة الجزم وصلى هو وهم عليه، وتقدم أنه رفع له نعشه حتى شاهده، وكل ذلك يخالف ما
وقع من تظننه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرواية.
وعن أنس قال: أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال من البحرين
فقال: انثروه في المسجد، وكان أكثر مال أتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي وعقيلا، قال: خذ، فحثى
في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلي، قال: لا، قال: ارفعه أنت
علي، قال: لا، فنثر منه، ثم ذهب يقله فلم يرفعه قال: مر بعضهم برفعه علي قال: لا، قال ارفعه أنت
علي، قال: لا، فنثر منه، ثم احتمله على كاهله ثم انطلق، فما زال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبا من حرصه، فما قام النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وثم منها درهم رواه البخاري، وهو دليل على جواز التفضيل في ذوي القربى
وغيرهم، وترك تخميس الفئ، وأنه متى كان في الغنيمة ذو رحم لبعض الغانمين لم يعتق
عليه. وعن عائشة: أن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقا من ماله
بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: يا بنية إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا ولو كنت
جددته واحترثته كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث فاقتسموه على كتاب الله
102

رواه مالك في الموطأ. حديث عائشة رواه مالك من طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة. وروى البيهقي
من طريق ابن وهب عن مالك وغيره عن ابن شهاب. وعن حنظلة بن أبي سفيان عن القاسم
بن محمد نحوه. قوله: بمال من البحرين روى ابن أبي شيبة من طريق حميد بن هلال. مرسلا أنه
كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين قال: وهو أول خراج
حمل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى البخاري في المغازي من حديث عمرو بن عوف
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث
أبا عبيدة بن الجراح إليهم فقدم أبو عبيدة بمال فسمعت الأنصار بقدومه الحديث،
فيستفاد منه تعيين الآتي بالمال، لكن في كتاب الردة للواقدي أن رسول العلاء ابن
الحضرمي بالمال هو العلاء بن حارثة الثقفي فلعله كان رفيق أبي عبيدة. وأما حديث
جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: لو قد جاء مال البحرين
أعطيتك. وفيه: فلم يقدم مال البحرين حتى مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحديث
فهو صحيح، والمراد به أنه لم يقدم في السنة التي مات فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
لأنه كان مال خراج أو جزية فكان يقدم في كل سنة. قوله: انثروه
أي صبوه. قوله: وفاديت عقيلا أي ابن أبي طالب، وكان أسر مع عمه العباس
في غزوة بدر، ويقال: إنه أسر معهما الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب،
وأن العباس افتداه أيضا، وقد ذكر ابن إسحاق كيفية ذلك. قوله: فحثى بمهملة ثم مثلثة
مفتوحة، والضمير في ثوبه يعود على العباس. قوله: يقله بضم أوله من الاقلال وهو الرفع
والحمل. قوله: مر بعضهم بضم الميم وسكون الراء، وفي رواية: أؤمر بالهمز. قوله: يرفع
بالجزم لأنه جواب الامر، ويجوز الرفع أي فهو يرفعه والكاهل بين الكتفين. قوله: يتبعه
بضم أوله من الاتباع. قوله: وثم منها درهم بفتح المثلثة أي هناك، وفي هذا
الحديث بيان كرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التفاته إلى المال قل أو كثر،
وأن الامام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في
مستحقيها، وأنه يجوز للامام أن يضع في المسجد ما يشترك فيه المسلمون من صدقة ونحوها. واستدل به ابن بطال على جواز
إعطاء بعض الأصناف من الزكاة،
قال الحافظ ولا دلالة لأن المال لم يكن من الزكاة وعلى تقدير كونه منها فالعباس ليس من أهل الزكاة. فإن قيل:
إنما أعطاه من سهم
الغارمين كما أشار إليه الكرماني فقد تعقب، ولكن الحق أن المال المذكور كان من
103

الخراج أو الجزية وهما من مال المصالح انتهى. قوله: لم يعتق عليه يريد أن
العباس وعقيلا قد كان غنمهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون وهما رحمان
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعلي رضي الله ولم يعتقا، وسيأتي ما يدل على أن
هذا مراد المصنف رحمه الله في كتاب العتق في باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم،
ولا يظهر لذكر هذا الحديث في هذا الموضع وجه مناسبة، فإن المصنف ترجم لافتقار
الهبة إلى القبول والقبض، وأنه على ما يتعارفه الناس، فإن أراد أن قبض العباس قام
مقام القبول فغير ظاهر، لأن تقدم سؤاله يقوم مقامه، على أن المال المذكور في الحديث
لم يكن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكون الدفع منه إلى العباس وإلى غيره
من باب الهبة، بل هو من مال الخراج أو الجزية كما عرفت، والنبي صلى الله عليه وآله
وسلم إنما تولى قسمته بين مصارفه. قوله: جاد عشرين وسقا بجيم وبعد الألف
دال مهملة مشددة أي أعطاها مالا يجد عشرين وسقا، والمراد أنه يحصل من ثمرته
ذلك، والجد صرام النخل، وهذا الأثر يدل على أن الهبة إنما تملك بالقبض لقوله: لو
كنت جددته واحترثته كان لك وذلك لأن قبض الثمرة يكون بالجداد وقبض الأرض
بالحرث. وقد نقل ابن بطال اتفاق العلماء أن القبض في الهبة هو غاية القبول، قال
الحافظ: وغفل عن مذهب الشافعي، فإن الشافعية يشترطون القبول في الهبة دون الهدية.
باب ما جاء في قبول هدايا الكفار والاهداء لهم
عن علي رضي الله عنه قال: أهدى كسرى لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فقبل منه، وأهدى له قيصر فقبل، وأهدت له الملوك فقبل منها رواه
أحمد والترمذي. وفي حديث عن بلال المؤذن قال: انطلقت حتى أتيته يعني
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن، فاستأذنت
فقال لي: أبشر فقد جاءك الله بقضائك، قال: ألم تر الركائب المناخات الأربع؟ فقلت: بلى،
فقال: إن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعاما أهداهن إلي عظيم فدك
فاقبضهن واقض دينك ففعلت مختصر لأبي داود.
حديث علي أخرجه أيضا البزار، وأورده في التلخيص ولم يتكلم عليه، ولم
104

يذكره صاحب مجمع الزوائد في باب هدايا الكفار، وقد حسنه الترمذي وفي
إسناده نوير بن أبي فاختة وهو ضعيف. وحديث بلال سكت عنه أبو داود والمنذري
ورجال إسناده ثقات، وهو حديث طويل أورده أبو داود في باب الامام يقبل
هدايا المشركين من كتاب الخراج وفيه: أن بلالا كان يتولى نفقة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وكان إذا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنسان مسلما عاريا
يأمر بلالا أن يستقرض له البرد حتى لزمته ديون فقضاها عنه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بالأربع الركائب وما عليها. (وفي الباب) عن عبد الرحمن بن
علقمة الثقفي عند النسائي قال: لما قدم وفد ثقيف قدموا معهم بهدية، فقال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أهدية أم صدقة فإن كانت هدية فإنما يبتغي بها وجه رسول الله
(ص) وقضاء الحاجة وإن كانت صدقة فإنما يبتغي بها وجه الله، قالوا
الإبل هدية فقبلها منهم وعن أنس عند الشيخين: أن أكيدر دومة أهدى لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم جبة سندس. ولأبي داود: أن ملك الروم: أهدى
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستقة سندس فلبسها الحديث. والمستقة بضم
الفوقانية وفتحها الفروة الطويلة الكمين وجمعها مساتق. وعن أنس أيضا عن أبي
داود: أن ملك ذي يزن أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلة أخذها
بثلاثة وثلاثين بعيرا فقبلها. وعن علي أيضا عند الشيخين: أن أكيدر دومة الجندل
أهدى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثوب حرير فأعطاه عليا فقال: شققه خمرا بين
الفواطم. وعن أبي حميد الساعدي عند البخاري قال: غزونا مع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم تبوك وأهدى ابن العلماء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بردا وكتب
له ببحرهم وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب أيلة بكتاب
وأهدى إليه بغلة بيضاء. الحديث. وفي مسلم: أهدى فروة الجذامي إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بغلة بيضاء ركبها يوم حنين. وعن بريدة عند إبراهيم الحربي
وابن خزيمة وابن أبي عاصم: أن أمير القبط أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم جاريتين وبغلة، فكان يركب البغلة بالمدينة، وأخذ إحدى الجاريتين لنفسه
فولدت له إبراهيم ووهب الأخرى لحسان، وفي كتاب الهدايا لإبراهيم الحربي: أهدى
يوحنا ابن رؤبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلته البيضاء. وعن أنس أيضا
105

عند البخاري وغيره: أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة
فأكل منها الحديث. والأحاديث المذكورة في الباب تدل على جواز قبول
الهدية من الكافر، ويعارضها حديث عياض بن حمار الآتي، وسيأتي
الجمع بينها وبينه.
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتتني أمي راغبة في عهد قريش وهي
مشركة، فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصلها قال: نعم متفق عليه، زاد
البخاري، قال ابن عيينة: فأنزل الله فيها: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) *
(سورة الممتحنة، الآية: 8) ومعنى راغبة أي طامعة تسألني شيئا. وعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال:
قدمت قتيلة ابنة عبد العزى بن سعد على ابنتها أسماء بهدايا ضباب وأقط وسمن
وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها فسألت عائشة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم
في الدين) * إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها.
رواه أحمد.
حديث عامر بن عبد الله بن الزبير ذكره المصنف هكذا مرسلا ولم يقل عن أبيه،
وقد أخرجه ابن سعد وأبو داود الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير. وأخرجه
أيضا الطبراني كأحمد وفي إسنادهما مصعب بن ثابت ضعفه أحمد وغيره ووثقه ابن
حبان. قوله: أتتني أمي في رواية للبخاري في الأدب مع ابنها، وذكر الزبير
أن اسم ابنها المذكور الحرث بن مدرك بن عبيد بن عمر بن محروم. قوله: راغبة
اختلف في تفسيره فقيل: ما ذكره المصنف من أنها راغبة في شئ تأخذه من بنتها
وهي على شركها، وقيل: راغبة في الاسلام، وتعقب بأن الرغبة لو كانت في الاسلام لم يحتج
إلى الاستئذان. وقيل معناه رغب عن ديني، وقيل: راغبة في القرب مني ومجاورتي، ووقع في
رواية لأبي داود راغمة بالميم أي كارهة للاسلام ولم تقدم مهاجرة. قوله: قال: نعم فيه دليل
على جواز الهدية للقريب الكافر، والآية المذكورة تدل على جواز الهدية للكافر مطلقا
من القريب وغيره، ولا منافاة ما بين ذلك وما بين قوله تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم
الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) * (سورة المجادلة، الآية: 22) الآية فإنها عامة في حق من قاتل ومن
لم يقاتل،
والآية المذكورة خاصة بمن لم يقاتل، وأيضا البر والصلة والاحسان لا تستلزم التحاب
106

والتواد المنهي عنه، ومن الأدلة القاضية بالجواز قوله تعالى: * (وإن جاهداك على أن
تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) * (سورة لقمان، الآية: 15) ومنها أيضا حديث
ابن عمر عند البخاري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كسا عمر حلة
فأرسل بها إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم. قوله: قال ابن عيينة الخ، لا ينافي
هذا ما رواه ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين
جانبا للمسلمين وأحسن أخلاقا من سائر الكفار، لأن السبب خاص واللفظ عام
فيتناول كل من كان في معنى والدة أسماء كذا قال الحافظ ولا يخفى ما فيه لأن محل
الخلاف تعيين سبب النزول وعموم اللفظ لا يرفعه، وقيل: إن هذه الآية منسوخة
بالامر بقتل المشركين حيث وجدوا. قوله: قتيلة بضم القاف وفتح الفوقية وسكون
التحتية مصغرا، ووقع عند الزبير بن بكار أن اسمها قيلة بفتح القاف وسكون التحتية،
وضبطه ابن مأكولا بسكون الفوقية. قوله: ضباب وأقط في رواية غير أحمد
: زبيب وسمن وقرظ ووقع في نسخة من هذا الكتاب قرظ مكان أقط. قوله:
فأمرها أن تقبل هديتها الخ فيه دليل على جواز قبول هدية المشرك كما دلت على
ذلك الأحاديث السالفة وعلى جواز إنزاله منازل المسلمين.
وعن عياض بن حمار أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هدية
أو ناقة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أسلمت؟ قال: لا، قال: إني نهيت عن زبد
المشركين رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
الحديث صححه أيضا ابن خزيمة. وفي الباب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك
عند موسى بن عقبة في المغازي: أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة قدم على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مشرك فأهدى له فقال: إني لا أقبل هدية
مشرك الحديث، قال في الفتح: رجاله ثقات إلا أنه مرسل وقد وصله بعضهم ولا يصح.
قوله: زبد المشركين بفتح الزاي وسكون الموحدة بعدها دال. قال في الفتح:
هو الرفد انتهى، يقال: زبده يزبده بالكسر، وأما بزبده بالضم فهو إطعام الزبد، قال
الخطابي: يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخا، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد قبل
هدية غير واحد من المشركين، وقيل: إنما ردها ليغيظه فيحمله ذلك على الاسلام.
وقيل: ردها لأن للهدية موضعا من القلب، ولا يجوز أن يميل إليه بقلبه فردها قطعا
لسبب الميل، وليس ذلك مناقضا لقبول هدية النجاشي وأكيدر دومة والمقوقس
107

لأنهم أهل كتاب كذا في النهاية. وجمع الطبري بين الأحاديث فقال: الامتناع فيما
أهدى له خاصة، والقبول فيما أهدى للمسلمين وفيه نظر، لأن من جمله أدلة الجواز
السابقة ما وقعت الهدية فيه له صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، وجمع غيره بأن
الامتناع في حق من يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول في حق من يرجى بذلك
تأنيسه وتأليفه على الاسلام، قال الحافظ: وهذا أقوى من الذي قبله، وقيل: يمتنع ذلك
لغيره من الامراء ويجوز له خاصة. وقال بعضهم: أن أحاديث الجواز منسوخة
بحديث الباب عكس ما تقدم عن الخطابي، ولا يخفى أن النسخ لا يثبت بمجرد
الاحتمال، وكذا الاختصاص وقد أورد البخاري في صحيحه حديثا استنبط منه
جواز قبول هدية الوثني، ذكره في باب قبول الهدية من المشركين من كتاب الهبة
والهدية. قال الحافظ في الفتح: وفيه فساد قول من حمل رد الهدية على الوثني دون
الكتابي، وذلك لأن الواهب المذكور في ذلك الحديث وثني.
باب الثواب على الهدية والهبة
عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية
ويثيب عليها رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي. وعن ابن عباس: أن
أعرابيا وهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هبة فأثابه عليها، قال: أرضيت؟ قال: لا، فزاده،
قال: أرضيت؟ قال: لا، فزاده، قال: أرضيت؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
لقد هممت ألا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي رواه أحمد.
حديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه. وقال في مجمع الزوائد:
رجال أحمد رجال الصحيح. وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة
بنحوه، وطوله الترمذي ورواه من وجه آخر وبين أن الثواب كان ست بكرات، وكذا
رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم. قوله: ويثيب عليها أي يعطي المهدي بدلها،
والمراد بالثواب المجازاة وأقله ما يساوي قيمة الهدية، ولفظ ابن أبي شبية: ويثيب ما هو خير
منها، وقد أعل حديث عائشة المذكور بالارسال، قال البخاري: لم يذكر وكيع ومحاضر عن
هشام عن أبيه عن عائشة، وفيه إشارة إلى أن عيسى بن يونس تفرد بوصله عن هشام، وقال
108

الترمذي والبزار: لا نعرفه إلا من حديث عيسى بن يونس وقال أبو داود تفرد بوصله عيسى
بن يونس وهو عند الناس مرسل انتهى. وقد استدل بعض المالكية بهذا الحديث على
وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدي وكان ممن مثله يطلب الثواب كالفقير
للغني، بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى. ووجه الدلالة منه مواظبته صلى الله عليه وآله وسلم
. ومن حيث المعنى: أن الذي أهدى قصد أن يعطي أكثر مما أهدى فلا أقل أن يعوض
بنظير هديته، وبه قال الشافعي في القديم والهادوية، ويجاب بأن مجرد الفعل لا يدل على
الوجوب ولو وقعت المواهبة كما تقرر في الأصول، وذهبت الحنفية والشافعية في الجديد
أن الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لأنها بيع مجهول، ولان موضع الهبة التبرع. قوله: إلا
من قرشي الخ، لفظ أبي داود: وأيم الله لا أقبل هدية بعد يومي هذا من أحد
إلا أن يكون مهاجريا أو قرشيا أو أنصاريا أو روسيا أو ثقفيا وسبب همه صلى الله عليه
وآله وسلم بذلك ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: أهدى رجل من فزارة
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناقة من إبله فعوضه منها بعض العوض فتسخطه
فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر: إن رجالا من العرب
يهدي أحدهم الهدية فأعوضه عنها بقدر ما عندي فيظل بسخط علي الحديث، وقد كان
بعض أهل العلم والفضل يمتنع هو وأصحابه من قبول الهدية من أحد أصلا لا من صديق
ولا من قريب ولا غيرهما، وذلك لفساد النيات في هذا الزمن، حكى ذلك ابن رسلان.
باب التعديل بين الأولاد في العطية والنهي
أن يرجع أحد في عطيته إلا الوالد
عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعدلوا
بين أبنائكم اعدلوا بين أبنائكم اعدلوا بين أبنائكم رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وعن جابر قال: قالت امرأة بشير: نحل ابني غلاما وأشهد لي رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن ابنة فلان سألتني
أن أنحل ابنها غلامي، فقال: له أخوة؟ قال: نعم، قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال:
109

لا، قال: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق رواه أحمد ومسلم وأبو داود
ورواه أبو داود من حديث النعمان بن بشير وقال فيه لا تشهدني على جور أن لبنيك
عليك من الحق أن تعدل بينهم. وعن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال: فارجعه متفق عليه
ولفظ مسلم قال: تصدق علي أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى
حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلق أبي إليه يشهده على صدقتي،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، فقال: اتقوا
الله واعدلوا في أولادكم. فرجع أبي في تلك الصدقة وللبخاري مثله لكن ذكره
بلفظ العطية لا بلفظ الصدقة.
حديث النعمان بن بشير الأول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده
ثقات إلا المفضل بن المهلب بن أبي صفرة وهو صدوق. (وفي الباب) عن ابن عباس عند
الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور بلفظ: سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا
أحدا لفضلت النساء وفي إسناده سعيد بن يوسف وهو ضعيف. وذكر ابن عدي في
الكامل أنه لم ير له أنكر من هذا، وقد حسن الحافظ في الفتح إسناده. قوله: اعدلوا
بين أولادكم تمسك به من أوجب التسوية بين الأولاد في العطية، وبه صرح
البخاري، وهو قول طاوس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية، قال في الفتح:
والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة، وعن أحمد تصح ويجب أن يرجع، وعنه يجوز التفاضل
إن كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين. وقال
أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الاضرار، وذهب الجمهور إلى أن التسوية
مستحبة، فإن فضل بعضا صح وكره وحملوا الامر على الندب، وكذلك حملوا النهي
الثابت في رواية لمسلم بلفظ: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال:
بلى، قال: فلا إذن على التنزيه، وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة عشرة ذكرها في فتح الباري،
وسنوردها ههنا مختصرة مع زيادات مفيدة فقال أحدهما: أن الموهوب للنعمان كان
جميع مال والده، حكاه ابن عبد البر وتعقبه بأن كثيرا من طرق الحديث مصرحة
بالبعضية كما في حديث الباب أن الموهوب كان غلاما، وكما في لفظ مسلم المذكور قال:
110

تصدق علي أبي ببعض ماله الجواب الثاني: أن العطية المذكورة لم تنجز وإنما جاء
بشير يستشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك فأشار عليه بأن لا يفعل فترك،
حكاه الطبري. ويجاب عنه بأن أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالارتجاع يشعر بالتنجيز،
وكذلك قول عمرة: لا أرضى حتى تشهد الخ. الجواب الثالث: أن النعمان كان كبيرا ولم
يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي. قال الحافظ: وهو خلاف
ما في أكثر طرق الحديث خصوصا. قوله: أرجعه فإنه يدل على تقدم وقوع القبض،
والذي تظافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره، فأمره برد
العطية المذكورة بعدما كانت في حكم المقبوض. الرابع: أن قوله أرجعه دليل الصحة، ولو لم
تصح الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهب لولده،
وإن كان الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به.
قال في الفتح: وفي الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر أن معنى قوله أرجعه أي
لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة. الخامس: أن قوله:
أشهد على هذا غيري إذن بالاشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الامام
وكأنه قال: لا أشهد لأن الامام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه
الطحاوي وارتضاه ابن القصار وتعقب بأنه لا يلزم من كون الامام ليس من شأنه
أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه، والاذن المذكور
مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث. قال ا لحافظ: وبذلك صرح الجمهور
في هذا الموضع. وقال ابن حبان: قوله أشهد صيغة أمر والمراد به نفي الجواز وهي
كقوله لعائشة: اشترطي لهم الولاء اه ويؤيد هذا تسميته صلى الله عليه وآله وسلم
لذلك جورا كما في الرواية المذكورة في الباب. السادس: التمسك بقوله: ألا سويت
بينهم؟ على أن المراد بالامر الاستحباب وبالنهي التنزيه، قال الحافظ: وهذا جيد
لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما رواية سوي بينهم. السابع:
قالوا المحفوظ في حديث النعمان: قاربوا بين أولادكم لا سووا، وتعقب بأنكم لا توجبون
المقاربة كما لا توجبون التسوية. الثامن: في التشبيه الواقع بينهم في التسوية بينهم
بالتسوية منهم في البر قرينة تدل على أن الامر للندب، ورد بأن إطلاق الجور على
عدم التسوية والنهي عن التفضيل يدلان على الوجوب، فلا تصلح تلك القرينة لصرفهما
111

وإن صلحت لصرف الامر. التاسع: ما تقدم عن أبي بكر من نحلته لعائشة. وقوله
لها: فلو كنت احترثته كما تقدم في أول كتاب الهبة، وكذلك ما رواه الطحاوي عن
عمر أنه نحل ابنه عاصما دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من
الخليفتين. قال في الفتح: وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين،
ويجاب بمثل ذلك عن قصة عاصم اه. على أنه لا حجة في فعلهما لا سيما إذا عارض
المرفوع. العاشر: أن الاجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا
جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض أولاده
بالتمليك لبعضهم، ذكره ابن عبد البر. قال الحافظ: ولا يخفى ضعفه لأنه قياس مع
وجود النص اه. فالحق أن التسوية واجبة وأن التفضيل محرم، واختلف الموجبون في
كيفية التسوية فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية: العدل
أن يعطى الذكر حظين كالميراث، واحتجوا بأن ذلك حظه من المال لو مات عنه
الواهب، وقال غيرهم: لا فرق بين الذكر والأنثى، وظاهر الامر بالتسوية معهم، ويؤيده
حديث ابن عباس المتقدم. قوله: وعن النعمان بن بشير أن أباه الخ، قد روي هذا
الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين منهم عروة بن الزبير عند مسلم، والنسائي
وأبي داود وأبو الضحى عند النسائي، وابن حبان وأحمد والطحاوي والمفضل بن المهلب
عند أحمد، وأبي داود والنسائي وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أحمد، وعون بن عبد الله
عند أبي عوانة، والشعبي عند الشيخين، وأبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان
وغيرهم، وقد رواه النسائي من مسند بشير والد النعمان فشذ بذلك. قوله: نحلت ابني
هذا بفتح النون والحاء المهملة أي أعطيت، والنحلة بكسر النون وسكون المهملة
العطية بغير عوض. قوله: غلاما في رواية لابن حبان والطبراني عن الشعبي
أن النعمان خطب بالكوفة فقال: إن والدي بشير بن سعد أتى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فقال: إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام وإني سميته النعمان، وأنها أبت
أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل مال هو لي، وإنها قالت: أشهد على ذلك رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه قوله: لا أشهد على جور وجمع ابن حبان بين الروايتين
بالحمل على واقعتين: إحداهما عند ولادة النعمان وكانت العطية حديقة، والأخرى
بعد أن كبر النعمان وكانت العطية عبدا، قال في الفتح: وهو جمع لا بأس به إلا أنه يعكر
112

عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته الحكم في المسألة حتى يعود إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيستشهده على العطية الثانية بعد أن قال له في الأولى:
لا أشهد على جور، وجوز ابن حبان أن يكون بشير ظن نسخ الحكم، وقال غيره: يحتمل
أن يكون حمل الأمر الأول على كراهة التنزيه، أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة
الامتناع في العبد، لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد. قال الحافظ: ثم ظهر
وجه آخر من الجمع يسلم من هذا الخدش ولا يحتاج إلى جوابه، وهو أن عمرة لما امتنعت
من تربيته إلا أن يهب له شيئا يخصه به وهبه الحديقة المذكورة تطيبا بخاطرها، ثم
بدا له فارتجعها لأنه لم يقبضها منه غيره، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين
ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما ورضيت عمرة بذلك إلا أنها خشيت
أن يرتجعه أيضا فقالت له: أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تريد
بذلك تثبيت العطية، وأن تؤمن رجوعه فيها، ويكون مجيئه للاشهاد إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم مرة واحدة وهي الأخيرة، وغاية ما فيه أن بعض الرواة حفظ ما لم
يحفظ غيره، أو كان النعمان يقص بعض القصة تارة وبعضها أخرى، فسمع كل ما رواه
فاقتصر عليه اه. ولا يخفى ما في هذا الجمع من التكلف، وقد وقع في رواية عند ابن
حبان عن النعمان قال: سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله، زاد مسلم والنسائي
من هذا الوجه: فالتوى بها سنة أي مطلها، وفي رواية لابن حبان أيضا: بعد حولين،
ويجمع بينهما بأن المدة كانت سنة وشيئا، فجبر الكسر تارة وألغاه أخرى. وفي رواية له
قال: فأخذ بيدي وأنا غلام ولمسلم انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، ويجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض
الطريق وحمله في بعضها لصغر سنه. قوله: فقال أرجعه لفظ مسلم: أردده وله أيضا والنسائي: فرجع فرد
عطيته ولمسلم أيضا: فرد تلك الصدقة زاد في رواية لابن حبان: لا تشهدني على جور
ومثله لمسلم، وقد تقدم لابن حبان أيضا والطبراني مثل ذلك، وذكر هذا اللفظ
البخاري تعليقا في الشهادات. وفي رواية لابن حبان من طريق أخرى: لا تشهدني
إذن فإني لا أشهد على جور وله في طر يق أخرى أيضا: فإني لا أشهد على جور
أشهد على هذا غيري وله وللنسائي من طريق أخرى: فأشهد على هذا غيري ولعبد
الرزاق عن طاوس مرسلا: لا أشهد إلا على الحق لا أشهد بهذه. وللنسائي: فكره
113

أن يشهد له. وفي رواية لمسلم: اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن
يعدلوا بينكم في البر ولأحمد: أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى،
قال: فلا إذن ولأبي داود: إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما لك عليهم
من الحق أن يبروك وللنسائي: ألا سويت بينهم؟ وله ولابن حبان: سوي بينهم وقال الحافظ:
واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد. قوله: أفعلت
هذا بولدك كلهم؟ قال مسلم: أما معمر ويونس فقالا: أكل بنيك. وأما الليث وابن عيينة
فقالا: أكل ولدك، قال الحافظ: ولا منافاة بينهما لأن لفظ الولد يشمل الذكور والإناث،
وأما لفظ البنين فإن كانوا ذكورا فظاهر، وإن كانوا إناثا وذكورا
فعلى سبيل التغليب.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: العائد في هبته
كالعائد يعود في قيئه متفق عليه، وزاد أحمد والبخاري: ليس لنا مثل السوء ولأحمد
في رواية قال قتادة: ولا أعلم القئ إلا حراما. وعن طاوس أن ابن
عمر وابن عباس رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحل للرجل أن يعطي العطية
فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الرجل يعطي العطية ثم يرجع
فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه رواه الخمسة
وصححه الترمذي.
حديث طاوس أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه. قوله: العائد
في هبته الخ، استدل بالحديث على تحريم الرجوع في الهبة لأن القئ حرام
فالمشبه به مثله، ووقع في رواية أخرى للبخاري وغيره كالكلب يرجع في قيئه وهي
تدل على عدم التحريم لأن الكلب غير متعبد فالقئ ليس حراما عليه، وهكذا قوله في
حديث طاوس المذكور كمثل الكلب الخ، وتعقب بأن ذلك للمبالغة في الزجر كقوله صلى
الله عليه وآله وسلم فيمن لعب بالنردشير: فكأنما غمس يده في لحم خنزير وأيضا الرواية
الدالة على التحريم غير منافية للرواية الدالة على الكراهة على تسليم دلالتها على
الكراهة فقط، لأن الدال على التحريم قد دل على الكراهة وزيادة، وقد قدمنا في باب
نهي المتصدق أن يشتري ما تصدق به من كتاب الزكاة عن القرطبي أن التحريم هو الظاهر من
سياق الحديث، وقدمنا أيضا أن الأكثر حملوه على التنفير خاصة لكون القئ مما يستقذر،
114

ويؤيد القول بالتحريم. قوله: ليس لنا مثل السوء وكذلك قوله: لا يحل للرجل قال في الفتح:
وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء إلا هبة الوالد لولده
وستأتي. وذهب الحنيفة والهادوية إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة إلا إذا
حصل مانع من الرجوع كالهبة لذي رحم ونحو ذلك مما هو مذكور في كتب الفقه من
الموانع. قال الطحاوي: إن قوله لا يحل لا يستلزم التحريم، قال: وهو كقوله: لا تحل الصدقة
لغني وإنما معناه لا يحل له من حيث يحل لغيره من ذوي الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في
الكراهة، قال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب ومن كان
والدا والموهوب له ولده والهبة لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الاخبار
باستثناء كل ذلك، وأما ما عدا ذلك كالغني يثيب الفقير، ونحو من يصل رحمه فلا رجوع،
قال: ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة، قال في الفتح: اتفقوا على
أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض اه. وقد أخرج مالك عن عمر أنه قال: من
وهب هبة يرجو ثوابها فهي ترد على صاحبها ما لم يثب منها ورواه البيهقي عن ابن عمر
مرفوعا وصححه الحاكم، قال الحافظ: والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر، ورواه عبد الله
بن موسى مرفوعا قيل: وهو وهم. قال الحافظ: صححه الحاكم وابن حزم،
ورواه ابن حزم أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها. وأخرجه أيضا ابن
ماجة والدارقطني ورواه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة مرفوعا بلفظ: إذا كانت
الهبة لذي رحم محرم لم يرجع. ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس قال الحافظ:
وسنده ضعيف. قال ابن الجوزي: أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وسمرة ضعيفة وليس منها
ما يصح. وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس مرفوعا: من وهب هبة فهو أحق بها
حتى يثاب عليها، فإن رجع في هبته فهو كالذي يقئ ويأكل منه فإن صحت هذه الأحاديث
كانت مخصصة لعموم حديث الباب، فيجوز الرجوع في الهبة قبل الإثابة عليها.
ومفهوم حديث سمرة يدل على جواز الرجوع في الهبة لغير ذي الرحم. قوله: إلا الوالد فيما
يعطي ولده استدل به على أن للأب أن يرجع فيما وهب لابنه، وإليه ذهب الجمهور وقال
أحمد: لا يحل للواهب أن يرجع في هبته مطلقا، وحكاه في البحر عن أبي حنيفة والناصر
والمؤيد بالله تخريجا له. وحكي في الفتح عن الكوفيين أنه لا يجوز للأب الرجوع إذا كان
الابن الموهوب له صغيرا أو كبيرا وقبضها، وهذا التفصيل لا دليل عليه، واحتج المانعون
115

مطلقا بحديث ابن عباس المذكور في الباب، ويرد عليهم الحديث المذكور بعده المقترن
بمخصصه. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور الأحاديث الآتية في الباب الذي بعد هذا
المصرحة بأن الولد وما ملك لأبيه، فليس رجوعه في الحقيقة رجوعا، وعلى تقدير كونه
رجوعا فربما اقتضته مصلحة التأديب ونحو ذلك. واختلف في الام هل حكمها حكم
الأب في الرجوع أم لا؟ فذهب أكثر الفقهاء إلى الأول كما قال صاحب الفتح، واحتجوا بأن
لفظ الوالد يشملها. وحكى في البحر عن الاحكام والمؤيد بالله وأبي طالب والامام يحيى
أنه لا يجوز لها الرجوع، إذ رجوع الأب مخالف للقياس فلا يقاس عليه، والمالكية فرقوا
بين الأب والام فقالوا للام: أن ترجع إذا كان الأب حيا دون ما إذا مات، وقيدوا رجوع
الأب بما إذا كان الابن الموهوب له لم يستحدث دينا أو ينكح وبذلك قال إسحاق، والحق
أنه يجوز للأب الرجوع في هبته لولده مطلقا، كذلك الام إن صح أن لفظ الوالد يشملها
لغة أو شرعا لأنه خاص، وحديث المنع من الرجوع عام فيبنى العام على الخاص. قال في
المصباح: الوالد الأب وجمعه بالواو والنون، والوالدة الام وجمعها بالألف والتاء، والوالدان
الأب والام للتغليب اه. وحديث سمرة المتقدم بلفظ: إذا كانت الهبة لذي رحم محرم
لن يرجع مخصص بحديث الباب، لأن الرحم على فرض شموله للابن أعم من هذا
الحديث مطلقا، وقد قيل: إن الرحم غلب على غير الولد فهو حقيقة عرفية لغوية
فيما عداه، فإن صح ذلك فلا تعارض.
باب ما جاء في أخذ الوالد من مال ولده
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أطيب
ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم رواه الخمسة. وفي لفظ: ولد الرجل
من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئا رواه أحمد. وعن جابر أن رجلا
قال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: أنت ومالك
لأبيك رواه ابن ماجة. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا
أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: أنت ومالك
لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا رواه
116

أحمد وأبو داود وقال فيه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي
مالا وولدا وإن والدي الحديث.
حديث عائشة أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم، ولفظ أحمد أخرجه
أيضا الحاكم وصححه أبو حاتم وأبو زرعة وأعله ابن القطان بأنه عن عمارة عن
عمته وتارة عن أمه وكلتاهما لا يعرفان. وزعم الحاكم في موضع من مستدركه بعد أن
أخرجه من طريق حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة بلفظ:
أموالهم لكم إذا احتجتم إليها أن الشيخين أخرجاه باللفظ الأول الذي فيه الامر
بالاكل من أموال الأولاد ووهم في ذلك فإنهما لم يخرجاه. وقال أبو داود زيادة:
إذا احتجتم إليها منكرة ونقل عن ابن المبارك عن سفيان قال: حدثني به حماد ووهم
فيه. وحديث جابر قال ابن القطان: إسناده صحيح. وقال المنذري: رجاله ثقات. وقال
الدارقطني: تفرد به عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وطريق أخرى عن الطبراني
في الصغير والبيهقي في الدلائل فيها قصة مطولة. وحديث عمرو بن شعيب أخرجه
أيضا ابن خزيمة وابن الجارود. (وفي الباب) عن سمرة عند البزار، وعن عمر
عند البزار أيضا. وعن ابن مسعود عند الطبراني. وعن ابن عمر عند أبي يعلى،
وبمجموع هذه الطرق ينتهض للاحتجاج، فيدل على أن الرجل مشارك لولده في ماله
فيجوز له الاكل منه، سواء أذن الولد أو لم يأذن، ويجوز له أيضا أن يتصرف به كما
يتصرف بماله ما لم يكن ذلك على وجه السرف والسفه، وقد حكي في البحر الاجماع
على أنه يجب على الولد الموسر مؤنة الأبوين المعسرين. قوله: يريد أن يجتاح
بالجيم بعدها فوقية وبعد الألف حاء مهملة وهو الاستئصال كالاجاحة ومنه الجائحة
للشدة المجتاحة للمال. كذا في القاموس. قوله: أنت ومالك لأبيك قال ابن
رسلان: اللام للإباحة لا للتمليك، فإن مال الولد له وزكاته عليه وهو موروث عنه.
باب العمرى والرقبى
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: العمرى ميراث
لأهلها، أو قال: جائزة متفق عليه. وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله
117

صلى الله عليه وآله وسلم: من أعمر عمري فهي لمعمره محياه ومماته، لا ترقبوا من أرقب
شيئا فهو سبيل الميراث رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وفي لفظ: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم الرقبى للذي أرقبها رواه أحمد النسائي. وفي لفظ: جعل الرقبى
جائزة رواه النسائي. وفي لفظ: جعل الرقبى للوارث رواه أحمد.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: العمرى جائزة
لمن أعمرها، والرقبى جائزة لمن أرقبها رواه أحمد والنسائي. وعن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تعمروا ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئا وأرقبه فهو له حياته
ومماته رواه أحمد والنسائي. وعن جابر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بالعمرى لمن وهبت له متفق عليه. وفي لفظ: قال أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فمن
أعمر عمري فهي للذي أعمر حيا وميتا ولعقبه رواه أحمد ومسلم. وفي رواية قال: العمرى
جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها رواه الخمسة. وفي رواية: من أعمر رجلا
عمري له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر وعقبه رواه أحمد ومسلم
والنسائي وابن ماجة. وفي رواية قال: أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه فإنها
للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث رواه
أبو داود والنسائي والترمذي وصححه. وفي لفظ عن جابر: إنما العمرى التي
أجازها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال:
هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي
رواية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالعمرى أن يهب الرجل للرجل
ولعقبه الهبة، ويستثني إن حدث بك حدث ولعقبك فهي إلي وإلى عقبي إنها
لمن أعطيها ولعقبه رواه النسائي. وعن جابر أيضا: أن رجلا من الأنصار
أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت، فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء،
قال: فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقسمها بينهم ميراثا
رواه أحمد.
حديث زيد بن ثابت أخرجه أيضا ابن ماجة وابن حبان وحديث ابن عباس قال
الحافظ في الفتح: إسناده صحيح. وحديث ابن عمر هو من طريق ابن جريج عن
عطاء عن حبيب بن أبي ثابت عنه، وقد اختلف في سماع حبيب من ابن عمر، فصرح به
118

النسائي ورجال إسناده ثقات. وحديث جابر الآخر أخرجه أبو داود وسكت
عنه هو والمنذري. وقال ابن رسلان في شرح السنن ما لفظه: هذا الحديث رواه
أحمد ورجاله رجال الصحيح اه. ويشهد لصحته أحاديث الباب المصرحة بأن المعمر
والمرقب يكون أولى بالعين في حياته وورثته من بعده. (وفي الباب) عن سمرة عند
أحمد وأبي داود والترمذي وهو من سماع الحسن عنه وفيه مقال كما تقدم. قوله:
العمرى بضم العين المهملة وسكون الميم مع القصر. قال في الفتح: وحكي ضم الميم مع
ضم أوله، وحكي فتح أوله مع السكون وهي مأخوذة من العمر وهو الحياة، سميت
بذلك لأنهم كانوا في الجاهلية يعطي الرجل الرجل الدار ويقول له: أعمرتك إياها
أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك، فقيل لها عمري لذلك. والرقبى بوزن العمرى
مأخوذة من المراقبة، لأن كلا منهما يرقب الآخر متى يموت لترجع إليه، وكذا ورثته
يقومون مقامه، هذا أصلها لغة. قال في الفتح: ذهب الجمهور إلى أن العمرة إذا وقعت
كانت ملكا للآخر ولا ترجع إلى الأول إلا إذا صرح باشتراط ذلك، وإلى أنها صحيحة
جائزة، وحكى الطبري عن بعض الناس والماوردي عن داود طائفة وصاحب البحر
عن قوم من الفقهاء أنها غير مشروعة، ثم اختلف القائلون بصحتها إلى ما يتوجه
التمليك، فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقبة كسائر الهبات حتى لكان المعمر عبدا فأعتقه
الموهوب له نفذ بخلاف الواهب، وقيل: يتوجه إلى المنفعة دون الرقبة، وهو قول
مالك والشافعي في القديم، وهل يسلك بها مسلك العارية أو الوقف؟ روايتان عند
المالكية، وعند الحنفية التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة، وفي الرقبى إلى المنفعة،
وعنهم أنها باطلة، وقد حصل من مجموع الروايات ثلاثة أحوال: الأول أن يقول:
أعمرتكها ويطلق، فهذا تصريح بأنها للموهوب له وحكمها حكم المؤبدة لا ترجع
إلى الواهب، وبذلك قالت الهادوية والحنفية والناصر ومالك، لأن المطلقة عندهم
حكمها حكم المؤبدة وهو أحد قولي الشافعي والجمهور، وله قول آخر أنها تكون عارية
ترجع بعد الموت إلى المالك، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن
المطلقة للمعمر ولورثته من بعده كما في أحاديث الباب. الحال الثاني أن
يقول: هي لك ما عشت فإذا مت رجعت إلي، فهذه عارية مؤقتة ترجع إلى المعير
عند موت المعمر، وبه قال أكثر العلماء ورجحه جماعة من الشافعية، والأصح عند
أكثرهم لا ترجع إلى الواهب، واحتجوا بأنه شرط فاسد فيلغى، واحتجوا
بحديث جابر الأخير فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم على الأنصاري الذي
119

أعطى أمه الحديقة حياتها أن لا ترجع إليه بل تكون لورثتها. ويؤيد هذا الحديث
الرواية التي قبله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في العمرى مع الاستثناء بأنها لمن
أعطيها، ويعارض ذلك ما في حديث جابر أيضا المذكور في الباب بلفظ: فأما إذا قلت هي
لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها ولكنه قال معمر: كان الزهري يفتي به ولم
يذكر التعليل، وبين من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري أن التعليل من قول أبي
سلمة. قال الحافظ: وقد أوضحته في كتاب المدرج. (والحاصل) أن الروايات المطلقة
في أحاديث الباب تدل على أن العمرى والرقبى تكون للمعمر والمرقب ولعقبه، سواء
كانت مقيدة بمدة العمر أو مطلقة أو مؤبدة، ويؤيد ذلك الروايتان المتقدمتان
في دليل من قال: إن المقيدة بمدة الحياة لها حكم المؤبدة، وهذه الرواية القاضية بالفرق
بين التقييد بمدة الحياة وبين الاطلاق والتأبيد معلولة بالادراج، فلا تنتهض لتقييد
المطلقات ولا لمعارضة ما يخالفها. الحال الثالث أن يقول: هي لك ولعقبك من بعدك،
أو يأتي بلفظ يشعر بالتأبيد فهذه حكمها حكم الهبة عند الجمهور، وروي عن مالك
أنه يكون حكمها حكم الوقف إذا انقرض المعمر وعقبه رجعت إلى الواهب، وأحاديث
الباب القاضية بأنها ملك للموهوب له ولعقبه ترد عليه. قوله: فهي لمعمره بضم
الميم الأولى وفتح الثانية اسم مفعول من أعمر. قوله: محياه ومماته بفتح الميمين
أي مدة حياته وبعد موته. قوله: لا تعمروا الخ. قال القرطبي: لا يصح
حمل هذا النهي على التحريم لصحة الأحاديث المصرحة بالجواز. وقيل: إن
النهي يتوجه إلى اللفظ الجاهلي لأن الجاهلية كانت تستعملها كما تقدم. وقيل: النهي
يتوجه إلى الحكم ولا ينافي الصحة وفيه نظر، لأن معنى النهي حقيقة التحريم المستلزم
للفساد المرادف للبطلان، إلا أن يحمل على الكراهة بقرينة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
العمرى جائزة. قوله: فمن أعمر بضم الهمزة وكذا قوله أو أرقبه. قوله: ولعقبه بكسر
القاف وسكونها للتخفيف، والمراد ورثته الذين يأتون بعده. قوله: حديقة هي البستان
يكون عليه الحائط فعيلة بمعنى مفعولة، لأن الحائط أحدق بها أي أحاط، ثم توسعوا
حتى أطلقوا الحديقة على البستان وإن كان بغير حائط. قوله: شرع بفتح
الشين المعجمة والراء أي سواء. ذكر معنى ذلك في القاموس.
120

باب ما جاء في تصرف المرأة في مالها ومال زوجها
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها
أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا رواه
الجماعة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أنفقت
المرأة من كسب زوجها عن غير أمره فله نصف أجره متفق عليه. ورواه أبو
داود. وروي أيضا عن أبي هريرة موقوفا: في المرأة تصدق من بيت زوجها؟ قال:
لا، إلا من قوتها والاجر بينهما، ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه.
وعن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: يا رسول الله ليس لي شئ إلا ما أدخل
علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي؟ فقال: ارضخي ما استطعت ولا توعي
فيوعي الله عليك متفق عليه. وفي لفظ عنها: أنها سألت النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أن الزبير رجل شديد ويأتيني المسكين فأتصدق عليه من بيته بغير إذنه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارضخي فلا توعي فيوعي الله عليك
رواه أحمد.
أثر أبي هريرة الموقوف عليه سكت عنه أبو داود والمنذري وإسناده لا بأس
به. ومحمد بن سوار قد وثقه ابن حبان وقال يغرب. (وفي الباب) عن أبي أمامة
عن الترمذي وحسنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تنفق المرأة
من بيت زوجها إلا بإذنه، قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا.
قوله: إذا أنفقت المرأة الخ، قال ابن العربي: اختلف السلف فيما إذ تصدقت المرأة
من بيت زوجها، فمنهم من أجازه لكن في الشئ اليسير الذي لا يؤبه له ولا يظهر
به النقصان، ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الاجمال وهو اختيار
البخاري، وأما التقييد بغير الافساد فمتفق عليه. ومنهم من قال: المراد بنفقة المرأة
والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وليس ذلك بأن ينفقوا على
الغرباء بغير إذن. ومنهم من فرق بين المرأة فقال: المرأة لها حق في مال الزوج والنظر
121

في بيتها فجاز لها أن تتصدق، بخلاف الخادم فليس له تصرف في متاع مولاه فيشترط
الاذن فيه. قال الحافظ وهو متعقب: بأن المرأة إن استوفت حقها فتصدقت منه
فقد تخصصت به، وإن تصدقت من غير حقها رجعت المسألة كما كانت. قوله: وللخازن
في رواية للبخاري من حديث أبي موسى التقييد بكون الخازن مسلما فأخرج
الكافر لكونه لا نية له وبكونه أمينا، فأخرج الخائن لأنه مأزور وتكون نفسه
بذلك طيبة لئلا تعدم النية فيفقد الاجر وهي قيود لا بد منها. قوله: مثل
ذلك ظاهره يقتضي تساويهم في الاجر، ويحتمل أن يكون المراد بالمثل حصول
الاجر في الجملة وإن كان أجر الكاسب أوفر، لكن قوله في حديث أبي هريرة:
فله نصف أجره يشعر بالتساوي. قوله: لا ينقص بعضهم الخ، المراد عدم المساهمة
والمزاحمة في الاجر، ويحتمل أن يراد مساواة بعضهم بعضا. قوله: عن غير أمره
ظاهر هذه الرواية أنه يجوز للمرأة أن تنفق من بيت زوجها بغير إذنه ويكون
لها أوله نصف أجره على اختلاف النسختين كما سيأتي، وكذلك ظاهر رواية أحمد
المذكور في حديث أسماء، ولكن ليس فيها تعرض لمقدار الاجر، ويمكن أن
يقال: يحمل المطلق على المقيد، ولا يعارض ذلك قول أبي هريرة المذكور في الباب،
لأن أقوال الصحابة ليست بحجة ولا سيما إذا عارضت المرفوع، وإنما يعارضه حديث
أبي أمامة الذي ذكرناه، فإن ظاهره نهي المرأة عن الانفاق من مال الزوج إلا بإذن،
والنهي حقيقة في التحريم، والمحرم لا يستحق فاعله عليه ثوابا، ويمكن أن
يقال: إن النهي للكراهة فقط، والقرينة الصارفة إلى ذلك حديث أبي هريرة وحديث أسماء،
وكراهة التنزيه لا تنافي الجواز ولا تستلزم عدم استحقاق الثواب. قال في الفتح:
والأولى أن يحمل يعني حديث أبي هريرة على ما إذا أنفقت من الذي يخصها إذا تصدقت
به بغير استئذانه، فإنه يصدق كونه من كسبه فيؤجر عليه وكونه بغير أمره، ويحتمل أن
يكون أذن لها بطريق الاجمال لكن انتفى ما كان بطريق التفصيل، قال: ولا بد من الحمل
على أحد هذين المعنيين، وإلا فحيث كان من ماله بغير إذنه لا إجمالا ولا تفصيلا فهي مأزورة
بذلك لا مأجورة، وقد ورد فيه حديث ابن عمر عند الطيالسي وغيره اه. قوله: فله نصف
أجره هكذا في رواية للبخاري. وفي رواية أخرى: فلها نصف أجره وعلى
النسخة الأولى يكون للرجل الذي تصدقت امرأته من كسبه بغير إذنه نصف أجره
122

على تقدير وقوع الاذن منه لها، وعلى النسخة الثانية يكون للمرأة المتصدقة بغير إذن
زوجها نصف أجرها على تقدير إذنه لها. قال في الفتح: أو المعنى بالنصف أن أجره
وأجرها إذا جمعا كان لها النصف من ذلك، فلكل منهما أجر كامل وهما اثنان فكأنهما
نصفان. قوله: أن أرضخ بالضاد والخاء المعجمتين قال في القاموس: رضخ له
أعطاه عطاء غير كثير. قوله: ولا توعي فيوعي الله عليك بالنصب لكونه جواب
النهي، والمعنى: لا تجمعي في الوعاء وتبخلي بالنفقة فتجازي بمثل ذلك.
وعن سعد قال: لما بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساء قالت
امرأة جليلة كأنها من نساء مضر: يا نبي الله إناء كل على آبائنا وأولادنا؟ قال أبو داود:
وأرى فيه وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرطب تأكلنه وتهدينه رواه
أبو داود. وقال: الرطب الخبز والبقل والرطب. وعن جابر قال: شهدت العيد مع
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام
متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم، ثم
مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم،
فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن
تكثرن الشكاة وتكفرن العشير، قالت: فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب
بلال من أقراطهن وخواتيمهن متفق عليه.
حديث سعد سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح
إلا محمد بن سوار، وقد وثقه ابن حبان وقال: يغرب. قوله: قال الرطب بفتح
الراء وسكون الطاء المهملة، والرطب المذكور آخرا بضم الراء وفتح الطاء. قال في
القاموس: الرطب ضد اليابس، ثم قال: وبضمة وبضمتين الرعي الأخضر من البقل
والشجر، قال: وثمر رطيب مرطب وأرطب النخل حان أوان رطبه. (وفي الحديث) دليل
على أنه يجوز للمرأة أن تأكل من مال ابنها وأبيها وزوجها بغير إذنهم وتهادي، ولكن
ذلك مختص بالأمور المأكولة التي لا تدخر، فلا يجوز لها أن تهادي بالثياب
والدراهم والدنانير والحبوب وغير ذلك. وقوله: إنا كل بكسر الهمزة وتشديد
النون، وكل بفتح الكاف وتشديد اللام خبر إن، أي نحن عيال عليهم ليس لنا من
الأموال ما ننتفع به. قوله: فقامت امرأة قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذه
123

المرأة إلا أنه يختلج في خاطري أنها أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة
النساء، فإنها روت أصل هذه القصة في حديث أخرجه البيهقي والطبراني وغيرهما
بلفظ: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى النساء وأنا معهن فقال:
يا معشر النساء إنكن أكثر حطب جهنم، فناديت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وكنت عليه جريئة: ولم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لأنكن
تكثرن اللعن وتكفرن العشير فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته فإن القصة
واحدة. قوله: من سطة النساء أي من خيارهن، والسفعاء التي في خدها غبرة
وسواد. والعشير المراد به ههنا الزوج. (والحديث) فيه فوائد منها ما ذكره المصنف
ههنا لأجله وهو جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها أو
على مقدار معين من مالها كالثلث. ووجه الدلالة من القصة ترك الاستفصال عن ذلك
كله. قال القرطبي: ولا يقال في هذا أن أزواجهن كانوا حضورا لأن ذلك لم ينقل،
ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك، فإن من ثبت له حق فالأصل
بقاؤه حتى يصرح بإسقاطه، ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك، وسيأتي الخلاف في
ذلك قريبا. ومنها أن الصدقة من دوافع العذاب لأنه أمرهن بالصدقة ثم
علل بأنهن أكثر أهل النار لما يقع منهن من كفران النعم وغير ذلك. ومنها بذل
النصيحة والاغلاظ بها لمن احتيج إلى ذلك في حقه. ومنها جواز طلب الصدقة من
الأغنياء للمحتاجين ولو كان الطالب غير محتاج. ومنها مشروعية وعظ النساء
وتعليمهن أحكام الاسلام، وتذكيرهن بما يجب عليهن، وحثهن على الصدقة
وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد، ومحل ذلك كله إذا أمنت الفتنة والمفسدة.
وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا
يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها رواه أحمد والنسائي وأبو داود. وفي لفظ:
لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها رواه الخمسة إلا الترمذي.
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقد أخرجه البيهقي والحاكم في المستدرك
وفي إسناده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحديثه من قسم الحسن، وقد صحح له
الترمذي أحاديث، ومن دون عمرو بن شعيب هم رجال الصحيح عند أبي داود.
(وفي الباب) عن خيرة امرأة كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
124

نحوه. قوله: أمر أي عطية من العطايا، ولعله عدل عن العطية إلى الامر لما بين
لفظ المرأة، والامر من الجناس الذي هو نوع من أنواع البلاغة. وقد استدل بهذا
الحديث على أنه لا يجوز للمرأة أن تعطي عطية من مالها بغير إذن زوجها ولو كانت
رشيدة، وقد اختلف في ذلك فقال الليث: لا يجوز لها ذلك مطلقا لا في الثلث ولا
فيما دونه إلا في الشئ التافه. وقال طاوس ومالك: إنه يجوز لها أن تعطي مالها
بغير إذنه في الثلث لا فيما فوقه فلا يجوز إلا بإذنه، وذهب الجمهور إلى أنه يجوز لها
مطلقا من غير إذن من الزوج إذا لم تكن سفيهة فإن كانت سفيهة لم يجز. قال في
الفتح: وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة انتهى. وقد استدل البخاري في
صحيحه على جواز ذلك بأحاديث ذكرها في باب هبة المرأة لغير زوجها من
كتاب الهبة، ومن جملة أدلة الجمهور حديث جابر المذكور قبل هذا، وحملوا حديث
الباب على ما إذا كانت سفيهة غير رشيدة، وحمل مالك أدلة الجمهور على الشئ اليسير
وجعل حده الثلث فما دونه، ومن جملة أدلة الجمهور الأحاديث المتقدمة في أول الباب
القاضية بأنه يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه، وإذا جاز لها ذلك في ماله
بغير إذنه فبالأولى الجواز في مالها، والأولى أن يقال: يتعين الاخذ بعموم حديث عبد الله
بن عمرو، وما ورد من الواقعات المخالفة له تكون مقصورة على مواردها أو مخصصة
لمثل من وقعت له من هذا العموم، وأما مجرد الاحتمالات فليست مما تقوم به الحجة.
باب ما جاء في تبرع العبد
عن عمير مولى آبي اللحم قال: كنت مملوكا فسألت النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: أتصدق من مالي مولاي بشئ؟ قال: نعم والاجر بينكما رواه مسلم. وعنه
قال: أمرني مولاي أن أقدر لحما، فجاءني مسكين فأطعمته منه فضربني، فأتيت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له ذلك فدعاه فقال: لم ضربته؟ فقال: يعطي طعامي
من غير أن آمره، فقال: الاجر بينكما رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن سلمان
الفارسي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطعام وأنا مملوك فقلت: هذه
صدقة، فأمر أصحابه فأكلوا ولم يأكل، ثم أتيته بطعام فقلت: هذه هدية أهديتها
125

لك أكرمك بها فإني رأيتك لا تأكل الصدقة، فأمر أصحابه فأكلوا وأكل معهم
رواه أحمد. وعن سلمان قال: كنت استأذنت مولاي في ذلك فطيب لي فاحتطبت
حطبا فبعته فاشتريت ذلك الطعام رواه أحمد.
حديث سلمان الأول في إسناده ابن إسحاق وبقية رجاله رجال الصحيح،
وحديث سلمان الثاني في إسناده أبو مرة سلمة بن معاوية. قال في مجمع الزوائد:
ولم أجد من ترجمه انتهى. ويشهد لصحة معناه ما في صحيح البخاري من حديث
عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى بطعام يسأل: أهدية أم
صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا، وإن قيل هدية ضرب به فأكل معهم
والأحاديث في هذا الباب كثيرة. قوله: قال نعم والاجر بينكما فيه دليل على أنه
يجوز للعبد أن يتصدق من مال مولاه، وأنه يكون شريكا للمولى في الاجر، وقد بوب
البخاري في صحيحه لذلك فقال: باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه.
وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أحد المتصدقين، ثم أورد حديث
عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير
مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره. بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص
بعضهم أجر بعض. قال ابن رشيد: نبه يعني البخاري بالترجمة على أن هذا الحديث مفسر
لها، لأن كلا من الخازن والخادم والمرأة أمين ليس له أن يتصرف إلا بإذن المالك نصا أو
عرفا، إجمالا أو تفصيلا انتهى. ولكن الرواية الأخرى من الحديث مشعرة بأن يكتب
للعبد أجر الصدقة وإن كان بغير إذن سيده، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم
بأن الاجر بينهما بعد أن قال له سيد العبد أنه يعطي طعامه من غير أمره. قوله:
أن أقدر لحما. بفتح الهمزة وسكون القاف وكسر الدال المهملة أي اجعله في القدر،
والقدير والقادر ما يطبخ في القدر، ويطلق أيضا على القسمة، قال في القاموس: قدر
الرزق قسمه، وقال أيضا: قدرته أقدره قدارة هيأت ووقت وآبي اللحم المذكور هو
بالمد بزنة فاعل من الآباء، وقد قدمنا في هذا الشرح التنبيه على ذلك، وإنما أعدناه
ههنا لكثرة التباسه.
126

كتاب الوقف
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا مات
الانسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح
يدعو له رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. وعن ابن عمر أن عمر أصاب
أرضا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبت أرضا بخيبر لم أصب
مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها،
فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب
والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير
متمول وفي لفظ: غير متأثل مالا رآه الجماعة. وفي حديث عمرو بن دينار
قال في صدقة عمر: ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكل صديقا له غير متأثل.
قال: وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر، ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم
أخرجه البخاري. وفيه من الفقه أن من وقف شيئا على صنف من الناس وولده
منهم دخل فيه. وعن عثمان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة
127

وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال: من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه
مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي رواه النسائي
والترمذي. وقال حديث حسن وفيه جواز انتفاع الواقف بوقفه العام.
حديث عثمان أخرجه البخاري أيضا تعليقا. قوله: إلا من ثلاثة أشياء فيه
دليل على أن ثواب هذه الثلاثة لا ينقطع بالموت، قال العلماء: معنى الحديث أن عمل
الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كاسبها،
فإن الولد من كسبه، وكذا ما يخلفه من العلم كالتصنيف والتعليم، وكذا الصدقة الجارية
وهي الوقف، وفيه الارشاد إلى فضيلة الصدقة الجارية، والعلم الذي يبقى بعد موت
صاحبه، والزوج الذي هو سبب حدوث الأولاد، وهذا الحديث قد قدمنا الكلام عليه
وعلى ما ورد مورده في باب وصول ثواب القراءة المهداة إلى الموتى من كتاب الجنائز.
قوله: أرضا بخيبر هي المسماة بثمغ كما في رواية للبخاري وأحمد، وثمغ بفتح المثلثة
والميم، وقيل: بسكون الميم وبعدها غين معجمة. قوله: أنفس منه النفيس الجيد، قال
الداودي: سمي نفيسا لأنه يأخذ بالنفس. قوله: وتصدقت بها أي بمنفعتها، وفي رواية للبخاري:
حبس أصلها وسبل ثمرتها. وفي أخرى له: تصدق بثمره وحبس أصله. قوله: ولا
يورث زاد الدارقطني: حبيس ما دامت السماوات والأرض. في رواية للبيهقي: تصدق
بثمره وحبس أصله لا يباع ولا يورث. قال الحافظ: وهذا ظاهر أن الشرط من كلام النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف بقية الروايات فإن الشرط فيها ظاهر أنه من كلام
عمر. وفي البخاري بلفظ: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تصدق بأصله لا يباع
ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره. وفي البخاري أيضا في المزارعة قال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لعمر: تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولكن ينفق
ثمره فتصدق به. فهذا صريح أن الشرط من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولا منافاة، لأنه يمكن الجمع بأن عمر شرط ذلك الشرط بعد أن أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم
به، فمن الرواة من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من وقفه على عمر لوقوعه
منه امتثالا للامر الواقع منه صلى الله عليه وآله وسلم به. قوله: وذوي القربى
قال في الفتح: يحتمل أن يكون المراد بهم من ذكر في الخمس، ويحتمل أن يكون المراد
128

بهم قربى الواقف وبهذا جزم القرطبي. قوله: والضيف هو من نزل بقوم يريد
القرى. قوله: أن يأكل منها بالمعروف قيل: المعروف هنا هو ما ذكر في ولي اليتيم، وقد تقدم
الكلام على ذلك في باب ما يحل لولي اليتيم من كتاب التفليس. قال القرطبي: جرت
العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل لاستقبح
ذلك منه، والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة، وقيل: القدر الذي يدفع الشهوة،
وقيل: المراد أن يأخذ منه بقدر عمله، والأول أولى كذا في الفتح. قوله: غير متمول
أي غير متخذ منها مالا أي ملكا. قال الحافظ: والمراد أنه لا يمتلك شيئا من رقابها.
قوله: غير متأثل بمثناة ثم مثلثة بينهما همزة وهو اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده
قديم، وأثلة كل شئ أصله. قوله: قال في صدقة عمر أي في روايته لها عن ابن
عمر كما جزم بذلك المزي في الأطراف، ورواه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عمر.
قوله: وكان ابن عمر هو موصول
الاسناد كما في رواية الإسماعيلي. قوله: لناس بين الإسماعيلي أنهم آل عبد الله
بن خالد بن أسيد بن أبي العاص، وإنما كان ابن عمر يهدي منه أخذا بالشرط المذكور
وهو ويؤكل صديقا له، ويحتمل أن يكون إنما أطعمهم من نصيبه الذي جعل له أن
يأكل منه بالمعروف، فكان يؤخره ليهدي لأصحابه منه. قال في الفتح: وحديث
عمر هذا أصل في مشروعية الوقف، وقد روى أحمد عن ابن عمر قال: أول صدقة أي موقوفة كانت في الاسلام صدقة
عمر ورواه عمر بن شبة عن عمر وبن سعد بن
معاذ قال: سألنا عن أول حبس في الاسلام فقال المهاجرون: صدقة عمر، وقال
الأنصار: صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي إسناده الواقدي. وفي
مغازي الواقدي: أن أول صدقة موقوفة كانت في الاسلام أراضي مخيريق بالمعجمة
مصغرا التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقفها. وقد ذهب إلى جواز
الوقف ولزومه جمهور العلماء. قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم
خلافا في جواز وقف الأرضين، وجاء عن شريح أنه أنكر الحبس، وقال أبو حنيفة:
لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه إلا زفر. وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه
قال: لو بلغ أبا حنيفة لقال به. واحتج الطحاوي لأبي حنيفة بأن قوله صلى الله
عليه وآله وسلم حبس أصلها لا يستلزم التأبيد بل يحتمل أن يكون أراد مدة
129

اختياره، قال في الفتح: ولا يخفى ضعف هذا التأويل، ولا يفهم من قوله وقفت وحبست إلا
التأبيد حتى يصرح بالشرط عند من يذهب إليه، وكأنه لم يقف على الرواية التي
فيها حبيس ما دامت السماوات والأرض. قال القرطبي: راد الوقف مخالف للاجماع
فلا يلتفت إليه انتهى. ومما يؤيد هنا ما ذهب إليه الجمهور حديث: أما خالد فقد حبس
أدراعه وأعتده في سبيل الله وهو متفق عليه، وقد تقدم في الزكاة، ومن ذلك حديث
أبي هريرة المذكور في أول الباب فإن قوله: صدقة جارية يشعر بأن الوقف يلزم
ولا يجوز نقضه، ولو جاز النقض لكان الوقف صدقة منقطعة، وقد وصفه في الحديث
بعدم الانقطاع. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يباع ولا يوهب ولا يورث
كما تقدم، فإن هذا منه صلى الله عليه وآله وسلم بيان لماهية التحبيس التي أمر
بها عمر، وذلك يستلزم لزوم الوقف وعدم جواز نقضه وإلا لما كان تحبيسا والمفروض
أنه تحبيس، ومن ذلك حديث أبي قتادة عند النسائي وابن ماجة وابن حبان
مرفوعا: خير ما يخلفه الرجل بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها،
وعلم يعمل به من بعده. والجري يستلزم عند جواز النقض من الغير، ومن ذلك
وقف أبي طلحة الآتي. وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له: أرى أن تجعلها
في الأقربين. وما روي من حديث أنس عند الجماعة أن حسان باع نصيبه منه،
فمع كون فعله ليس بحجة روي أنه أنكر عليه، ومن ذلك وقف جماعة من
الصحابة منهم علي وأبو بكر والزبير، وسعيد وعمرو بن العاص، وحكيم بن حزام
وأنس وزيد بن ثابت، روى ذلك كله البيهقي، ومنه أيضا وقف عثمان لبئر رومة كما في حديث
الباب. (واحتج) لأبي حنيفة ومن معه بما أخرجه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لما نزلت آية الفرائض: لا حبس بعد سورة النساء
ويجاب عنه بأن في إسناده ابن لهيعة ولا يحتج بمثله، ويجاب أيضا بأن المراد بالحبس
المذكور توقيف المال عن وارثه وعدم إطلاقه إلى يده، وقد أشار إلى مثل ذلك
في النهاية. وقال في البحر: أراد حبس الجاهلية للسائبة والوصيلة والحام سلمنا، فليس
في آية الميراث منع الوقف لافتراقهما انتهى. وأيضا لو فرض أن المراد بحديث ابن عباس
الحبس الشامل للوقف لكونه نكرة في سياق النفي لكان مخصصا بالأحاديث
المذكورة في الباب، واحتج لهم أيضا على عدم لزوم حكم الوقف بما رواه الطحاوي
130

وابن عبد البر عن الزهري أن عمر قال: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لرددتها وهو يشعر بأن الوقف لا يمتنع الرجوع عنه، وأن الذي منع
عمر من الرجوع كونه ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكره أن يفارقه على أمر
ثم يخالفه إلى غيره، ويجاب عنه بأنه لا حجة في أقوال الصحابة وأفعالهم إلا إذا
وقع الاجماع منهم ولم يقع ههنا، وأيضا هذا الأثر منقطع لأن الزهري لم يدرك عمر،
فالحق أن الوقف من القربات التي لا يجوز نقضها بعد فعلها لا للواقف ولا لغيره.
وقد حكي في البحر عن محمد وابن أبي ليلى أن الوقف لا ينفذ إلا بعد القبض،
وإلا فللواقف الرجوع لأنه صدقة ومن شرطها القبض، ويجاب بأنه بعد التحبيس
قد تعذر الرجوع وإلحاقه بالصدقة إلحاق مع الفارق. قوله: من يشتري بئر رومة
بضم الراء وسكون الواو. وفي رواية للبغوي في الصحابة من طريق بشر بن بشير الأسلمي
عن أبيه أنها كانت للرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة
بمد، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول
الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم،
ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ قال: نعم، قال: قد
جعلتها للمسلمين. وللنسائي من طريق الأحنف عن عثمان قال: اجعلها سقاية للمسلمين
وأجرها لك وزاد أيضا في رواية من هذه الطريق: أن عثمان قال ذلك وهو محصور،
وصدقه جماعة منهم علي بن أبي طالب عليه السلام وطلحة والزبير وسعد بن أبي
وقاص. قوله: فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين فيه دليل على أنه يجوز للواقف
أن يجعل لنفسه نصيبا من الوقف، ويؤيده جعل عمر لمن ولي وقفه أن يأكل منه
بالمعروف، وظاهره عدم الفرق بين أن يكون هو الناظر أو غيره. قال في الفتح:
ويستنبط منه صحة الوقف عن النفس وهو قول ابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد
في الأرجح عنه، وقال به ابن شعبان من المالكية وجمهورهم على المنع إلا إذا استثنى
لنفسه شيئا يسيرا بحيث لا يتهم أنه قصد حرمان ورثته. ومن الشافعية ابن سريج
وطائفة، وصنف فيه محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري جزءا ضخما، واستدل
له بقصة عمر هذه وبقصة راكب البدنة، وبحديث أنس في أنه صلى الله عليه وآله وسلم
أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. ووجه الاستدلال به أنه أخرجها من ملكه
131

بالعتق وردها إليه بالشرط اه. وقد حكي في البحر جواز الوقف على النفس عن العترة
وابن شبرمة والزبيري وابن الصباغ، وعن الشافعي ومحمد والناصر أنه لا يصح الوقف
على النفس، قالوا: لأنه تمليك، فلا يصح أن يتملكه لنفسه من نفسه كالبيع والهبة،
ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: سبل الثمرة وتسبيل الثمرة تمليكها للغير. وقال في
الفتح وتعقب بأن امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم الفائدة، والفائدة
في الوقف حاصلة لأن استحقاقه إياه ملكا غير استحقاقه إياه وقفا اه. ويؤيد
صحة الوقف على النفس حديث الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندي
دينار، فقال: تصدق به على نفسك أخرجه أبو داود والنسائي، وأيضا المقصود من
الوقف تحصيل القربة وهي حاصلة بالصرف إلى النفس.
باب وقف المشاع والمنقول
عن ابن عمر قال: قال عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن المائة السهم
التي لي بخيبر لم أصب مالا قط أعجب إلي منها قد أردت أن أتصدق بها،
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أحبس أصلها وسبل ثمرتها رواه النسائي
وابن ماجة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا فإن شبعه وروثه
وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات رواه أحمد والبخاري. وعن ابن عباس قال:
أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها: أحجني
مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: أحجني
على جملك فلان، قال: ذلك حبيس في سبيل الله، فأتى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فسأله فقال: أما أنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله رواه أبو داود.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حق خالد: قد احتبس أدراعه
وأعتاده في سبيل الله.
حديث ابن عمر أخرجه أيضا الشافعي ورجال إسناده ثقات، وهو متفق عليه
من حديث أبي هريرة كما تقدم، وله طرق عند الشيخين. وحديث ابن عباس
132

أخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه، وأخرجه أيضا البخاري والنسائي مختصرا،
وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات، وقد تقدم نحوه من حديث
أم معقل الأسدية في باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل من كتاب الزكاة.
وحديث تحبيس خالد لأدراعه وأعتاده ثم تقدم أيضا في باب ما جاء في تعجيل الزكاة
من كتاب الزكاة. قوله: إن المائة السهم الخ، استدل المصنف بهذا الحديث على صحة
وقف المشاع، وقد حكي صحة ذلك في البحر عن الهادي والقاسم والناصر والشافعي
وأبي يوسف ومالك، واحتج لهم بأن عمر وقف مائة سهم بخيبر ولم تكن مقسومة. وحكي
في البحر أيضا عن الامام يحيى ومحمد أنه لا يصح وقف المشاع لأن من شرطه التعيين.
وحكي أيضا عن المؤيد بالله أنه يصح فيما قسمته مهايأة لا في غيره لتأديته إلى منع
القسمة أو بيع الوقف. وعن أبي طالب يصح فيما قسمته إفراز كالأرض المستوية
وإلا فلا. وأوضح ما احتج به من منع من وقف المشاع أن كل جزء من المشترك
محكوم عليه بالمملوكية للشريكين، فيلزم مع وقف أحد الشريكين أن يحكم عليه
بحكمين مختلفين متضادين، مثل صحة البيع بالنسبة إلى كونه مملوكا، وعدم الصحة
بالنسبة إلى كونه موقوفا، فيتصف كل جزء بالصحة وعدمها، ويتصف بذلك الجملة.
وأجاب صاحب المنار عن هذا بأنه نظير العتق المشاع، وقد صح ذلك هناك كحديث
الستة الأعبد كما صح هنا، وإذا صح من جهة الشارع بطل هذا الاستدلال. وقد استدل
البخاري على صحة وقف المشاع بحديث أنس في قصة بناء المسجد وأن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: ثامنوني حائطكم، فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل
وهذا ظاهر في جواز وقف المشاع، ولو كان غير جائز لأنكر عليه النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قولهم هذا وبين لهم الحكم. وحكى ابن المنير عن مالك أنه لا يجوز وقف
المشاع إذا كان الواقف واحدا لأنه يدخل الضرر على شريكه. قوله: من احتبس
فرسا الخ، فيه دليل على أنه يجوز وقف الحيوان، وإليه ذهب العترة والشافعي والجمهور.
وقال أبو حنيفة: لا يصح لعدم دوامه. وقال محمد: يصح في الخيل فقط إذ هي معروضة
للتلف. وحديث الباب يرد عليهما. ويؤيد الصحة حديث عمر بن الخطاب المتقدم
في باب نهي المتصدق أن يشتري ما تصدق به من كتاب الزكاة فإن فيه: أن عمر حمل
على فرس في سبيل الله واطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وقرره ونهاه
133

عن شرائه برخص وقد ترجم عليه البخاري في كتاب الوقف باب وقف الدواب
والكراع والعروض والصامت، ومن أدلة الصحة حديث ابن عباس المذكور،
وحديث تحبيس خالد، يدل على جواز وقف المنقولات، وقد تقدم الكلام عليه.
باب من وقف أو تصدق على أقربائه أو وصى لهم من يدخل فيه
عن أنس أن أبا طلحة قال: يا رسول الله إن الله يقول: * (لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون) * وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله،
فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال: بخ بخ ذلك مال رابح مرتين وقد سمعت أرى
أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه
وبني عمه متفق عليه. وفي رواية: لما نزلت هذه الآية: * (لن تنالوا البر) * قال
أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك أني جعلت أرضي بيرحاء
لله فقال: اجعلها في قرابتك، قال: فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب رواه
أحمد ومسلم. وللبخاري معناه وقال فيه: اجعلها لفقراء قرابتك قال محمد بن عبد
الله الأنصاري: أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن
زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان إلى
حرام وهو الأب الثالث، وأبي بن كعب بن قيس بن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك
بن النجار، فعمرو يجمع حسانا وأبا طلحة وأبيا، وبين أبي وأبي طلحة ستة آباء. وعن أبي
هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * دعا رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قريشا، فاجتمعوا فعم وخص فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا
أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا
أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا
أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك
من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها متفق
عليه ولفظ لمسلم.
قوله: بيرحاء بفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الراء وبالمهملة والمد،
وجاء في ضبطه أوجه كثيرة جمعها ابن الأثير في النهاية فقال: ويروى بفتح الباء
134

وكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمد والقصر، فهذه ثمان لغات. وفي رواية حماد بن
سلمة بريحا بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية وهي عند مسلم، ورجح
هذه صاحب الفائق وقال: هي وزن فعيلة من البراح وهي الأرض الظاهرة المنكشفة،
وعند أبي داود بأريحا وهي بإشباع الموحدة والباقي مثله، ووهم من ضبطه بكسر
الموحدة وفتح الهمزة فإن أريحا من الأرض المقدسة. قال الباجي: أفصحها بفتح الباء
الموحدة وسكون الياء وفتح الراء مقصورا، وكذا جزم به الصغاني. وقال الباجي
أيضا: أدركت أهل العلم ومنهم أبو ذر يفتحون الراء في كل حال، قال الصوري: وكذا
الباء الموحدة. قوله: بخ بخ كلاهما بفتح الموحدة وسكون المعجمة وقد ينون
مع التثقيل أو التخفيف بالكسر وبالرفع لغات. قال في الفتح: وإذا كررت فالاختيار
أن تنون الأولى وتسكن الثانية وقد يسكنان جميعا، كما قال الشاعر:
بخ بخ لوالد وللمولود
ومعناهما تفخيم الامر والاعجاب به. قوله: رابح شك القعنبي هل
هو بالتحتانية أو بالموحدة؟ ورواه البخاري عنه بالشك. قوله: في الأقربين
اختلف العلماء في الأقارب فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذي رحم محرم من قبل الأب
أو الام، ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الام. وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم
أب منذ الهجرة من قبل أب أو أم من غير تفصيل، زاد زفر: ويقدم من قرب وهو
رواية عن أبي حنيفة، وأقل من يدفع له ثلاثة، وعند محمد اثنان، وعند أبي يوسف
واحد، ولا يصرف للأغنياء عندهم، إلا إن شرط ذلك. وقالت الشافعية: القريب من اجتمع
في النسب، سواء قرب أم بعد، مسلما كان أو كافرا، غنيا أو فقيرا، ذكرا أو أنثى، وارثا
أو غير وارث، محرما أو غير محرم، واختلفوا في الأصول والفروع على وجهين وقالوا:
إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا. وقيل: يقتصر على ثلاثة، وإن
كانوا غير محصورين فنقل الطحاوي الاتفاق على البطلان. قال الحافظ: وفيه نظر،
لأن عند الشافعية وجها بالجواز ويصرف منهم لثلاثة ولا يجب التسوية. وقال أحمد
في القرابة كالشافعي إلا أنه أخرج الكافر، وفي رواية عنه: القرابة كل من جمعه،
والموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه. وقال مالك: يختص بالعصبة سواء كان
يرثه أو لا، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا، ثم يعطي الأغنياء، هكذا في الفتح. وحكي في
البحر عن مالك أن ذلك يختص بالوارث، وعند الهادوية: أن القرابة والأقارب لمن
135

ولده جدا أبوي الواقف، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل سهم
ذوي القربى لبني هاشم جد أبيه عبد الله، وهذا ظاهر في جد الأب، وأما
جد الام فلا، بل هو يدل على خلاف المدعي من هذه الحيثية، إذ لم يصرف النبي
صلى الله عليه وآله وسلم إلى من ينسب إلى جد أمه، وأجاب صاحب شرح الأنمار
أن خروج من ينتسب إلى جد الام هنا مخصص من عموم الآية، والعموم يصح
تخصيصه، فلا يلزم إذا خص ههنا أن يخرجوا حيث لم يخص. وقد استدل أيضا على
خروج من ينتسب إلى جد الام بأنهم ليسوا بقرابة، لأن القرابة العشيرة والعصبة،
وليس من كان من قبل الام بعصبة ولا عشيرة وإن كانوا أرحاما وأصهارا،
ولهذا قال في البحر: وقرابتي وأقاربي أو ذوو أرحامي لمن ولده جد أبيه ما تناسلوا
لصرفه صلى الله عليه وآله وسلم سهم ذوي القربى في الهاشميين والمطلبيين، وعلل
إعطاء المطلبيين بعدم الفرقة لا القرب وهو الظاهر، كما وقع منه صلى الله عليه وآله
وسلم التصريح بذلك لما سأله بعض بني عبد شمس عن تخصيص المطلبيين بالعطاء دونهم
فقال: إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام. ولو كان الصرف إليهم لقرابتي فقط لكان
حكمهم وحكم بني عبد شمس واحدا، لأنهم متحدون في القرب إليه صلى الله عليه وآله
وسلم. قوله أفعل بضم اللام على أنه قول أبي طلحة. قوله: فقسمها أبو طلحة
فيه تعيين أحد الاحتمالين في لفظ أفعل، فإنه احتمل أن يكون فاعله أبو طلحة
كما تقدم، واحتمل أن يكون صيغة أمر، وانتفى هذا الاحتمال الثاني بهذه الرواية.
وذكر ابن عبد البر أن إسماعيل القاضي رواه عن القعنبي عن مالك فقال في روايته:
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أقاربه وبني عمه، أي في أقارب أبي
طلحة وبني عمه. قال ابن عبد البر: إضافة القسم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن
كان شائعا في لسان العرب على معنى أنه الآمر به لكن أكثر الرواة لم يقولوا
ذلك، والصواب رواية من قال: فقسمها أبو طلحة. قوله: في أقاربه وبني عمه في
الرواية الثانية فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب، وقد تمسك به من قال:
أقل من يعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان وفيه نظر، لأنه وقع
في رواية للبخاري فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه وكان منهم حسان وأبي بن كعب،
فدل ذلك على أنه أعطى غيرهما معهما، وفي مرسل أبي بكر بن حزم: فرده على
136

أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت، وأخيه أو ابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن
جابر فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم. قوله: ابن حرام
بالمهملتين. قوله: ابن زيد مناة هو بالإضافة. قوله: وبين أبي وأبي طلحة ستة آباء
قال في الفتح: هو ملبس مشكل. وشرع الدمياطي في بيانه: ويغني عن ذلك ما وقع
في رواية المستملي حيث قال عقب ذلك: وأبي بن كعب هو ابن قيس بن عبيد بن
زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار فعمرو بن مالك يجمع حسانا وأبا
طلحة وأبيا اه. وفي قصة أبي طلحة هذه فوائد منها أن الوقف لا يحتاج في انعقاده
إلى قبول الموقوف عليه. (واستدل) به الجمهور، على أن من أوصى أن يفرق ثلث
ماله حيث أرى الله الوصي أنها تصح وصيته ويفرقه الوصي في سبيل الخير، ولا
يأكل منه شيئا، ولا يعطي منه وارثا للميت، وخالف في ذلك أبو ثور. وفيه جواز
التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله، لأنه صلى الله عليه وآله
وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به. وقال لسعد بن أبي وقاص في مرضه:
الثلث كثير. وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم. وفيه جواز إضافة حب
المال إلى الرجل الفاضل العالم ولا نقص عليه في ذلك. وقد أخبر الله تعالى عن
الانسان أنه لحب الخير لشديد، والخير هنا المال اتفاقا كما قال صاحب الفتح. وفيه
التمسك بالعموم، لأن أبا طلحة فهم من قوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما
تحبون) * (سورة آل عمران، الآية: 92) تناول ذلك لجميع أفراده، فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شئ بعينه، بل
بادر إلى إنفاق ما يحبه، فأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك. وفيه جواز تولي
المتصدق لقسم صدقته. وفيه جواز أخذ الغني من صدقة التطوع إذا حصلت له بغير
مسألة، واستدل به على مشروعية الحبس والوقف. قال الحافظ: ولا حجة فيه لاحتمال
أن تكون صدقة أبي طلحة صدقة تمليك، قال: وهو ظاهر سياق الماجشون عن
إسحاق يعني في رواية البخاري وفيه: أنه لا يجب الاستيعاب لأن بني حرام الذي
اجتمع فيه أبو طلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيرا. قوله: فعم وخص أي جاء
بالعام أولا فنادى بني كعب، ثم خص بعض البطون فنادى بني مرة بن كعب وهم
بطن من بني كعب ثم كذلك. وفيه دليل على أن جميع من ناداهم رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يطلق عليهم لفظ الأقربين، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
137

فعل ذلك ممتثلا لقوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (سورة الشعراء، الآية: 214) واستدل به أيضا على دخول
النساء في الأقارب لعموم اللفظ ولذكره صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة. وفي
رواية للبخاري من حديث أبي هريرة هذا أيضا: أنه صلى الله عليه وآله وسلم
ذكر عمته صفية. واستدل به أيضا على دخول الفروع وعلى عدم التخصيص
بمن يرث ولا بمن كان مسلما. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون لفظ الأقربين صفة
لازمة للعشيرة، والمراد بعشيرته قومه وهم قريش. وقد روى ابن مردويه من حديث
عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر قريشا فقال: * (وأنذر عشيرتك
الأقربين) * يعني قومه، وعلى هذا فيكون قد أمر بإنذار قومه، فلا يختص بالأقرب منهم
دون الأبعد، فلا حجة فيه في مسألة الوقف، لأن صورتها ما إذا وقف على قرابته أو على
أقرب الناس إليه مثلا، والآية تتعلق بإنذار العشيرة. وقال ابن المنير: لعله كان هناك
قرينة فهم بها صلى الله عليه وآله وسلم تعميم الانذار ولذلك عمهم اه. ويحتمل أن
يكون أولا خص أتباعا لظاهر القرابة، ثم عم لما عنده من الدليل على التعميم لكونه
أرسل إلى الناس كافة. قوله: سأبلها ببلالها بكسر الباء قال في القاموس: بل رحمه
بلا وبلالا بالكسر وصلها وكقطام اسم لصلة الرحم اه.
باب أن الوقف على الولد يدخل فيه ولد الولد بالقرينة لا بالاطلاق
عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت، فدخل عليها
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تبكي وقالت: قالت لي حفصة أنت ابنة يهودي، فقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، فبم
تفتخر عليك؟ ثم قال: اتق الله يا حفصة رواه أحمد والترمذي وصححه. وعن
أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد المنبر فقال: إن ابني هذا سيد
يصلح الله على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين يعني الحسن بن علي رواه
أحمد والبخاري والترمذي. وفي حديث عن أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال لعلي: وأما أنت يا علي فختني وأبو ولدي رواه أحمد. وعن
أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وحسن وحسين على
138

وركيه: هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما، فأحبهما وأحب من يحبهما
رواه الترمذي. وقال: حديث حسن غريب. وقال البراء: عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب وهو في حديث متفق
عليه. وعن زيد بن أرقم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اللهم
اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار رواه أحمد والبخاري.
وفي لفظ: اغفر للأنصار ولذراري الأنصار ولذراري ذراريهم رواه
الترمذي وصححه.
حديث أنس أخرجه أيضا النسائي. وحديث أسامة بن زيد الأول قد ورد في
معنى المقصود منه أحاديث: منها عن عمر بن الخطاب رفعه عند الطبراني بلفظ: كل
ولد أم فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم. وعن ابن عباس
عند الخطيب بنحوه. وعن جابر عند الطبراني في الكبير بنحوه أيضا قال السخاوي
في رسالته الموسومة بالاسعاف بالجواب على مسألة الاشراف بعد أن ساق حديث
جابر بلفظ: أن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه وأن الله جعل ذريتي في صلب علي بن
أبي طالب ما لفظه: وقد كنت سئلت عن هذا الحديث وبسطت الكلام عليه وبينت
أنه صالح للحجة وبالله التوفيق اه. وفي الميزان في حرف العين منه في ترجمة عبد
الرحمن بن محمد الحاسب ما لفظه: لا يدري من ذا وخبره مكذب. وروى الخطيب
من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد عن أبيه عن خزيمة بن حازم: حدثني
المنصور يعني الدوانيقي، حدثني أبي عن أبيه علي عن جده قال: كنت أنا وأبي
العباس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخل علي فقال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: لله أشد حبا لهذا مني إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه وجعل ذريتي في
صلب علي اه. وذكر في الميزان أيضا في ترجمة عثمان بن أبي شيبة أحاديث
عنه من جملتها حديث: لكل بني أب عصبة ينتمون إليه إلا ولد فاطمة أنا عصبتهم
ثم حكي عن العقيلي بعد أن ساق هذا الحديث وغيره أنه قال: عبد الله بن
أحمد بن حنبل أنكر أبي هذه الأحاديث أنكرها جدا وقال: هذه موضوعة مع أحاديث
من هذا النحو. قال الذهبي بعد ذلك قلت: عثمان بن أبي شيبة لا يحتاج إلى متابع
ولا ينكر له أن ينفرد بأحاديث لسعة ما روي وقد يغلط. وقد اعتمده الشيخان في
139

صحيحهما اه. وحديث أسامة الآخر أخرج نحوه الترمذي أيضا من حديث البراء
بدون قوله هذان ابناي ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبصر حسنا
وحسينا فقال: اللهم إني أحبهما فأحبهما وأخرجه أيضا الشيخان من حديثه بلفظ:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحسن على عاتقه يقول: اللهم إني أحبه
فأحبه. قوله: إنك لابنة نبي إنما قال لها ذلك لأنها من ذرية هارون وعمها
موسى، وبنو قريظة من ذرية هارون فسمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
هارون أبا لها، وبينها وبينه آباء متعددون، وكذلك جعل الحسن ابنا له وهو ابن
ابنته، وكذلك الحسين كما في سائر الأحاديث، ووصف نفسه بأنه ابن عبد
المطلب وهو جده، وجعل لأبناء الأنصار وأبنائهم حكم الأنصار، وذلك كله يدل
على أن حكم أولاد الأولاد حكم الأولاد، فمن وقف على أولاده دخل في ذلك
أولاد الأولاد ما تناسلوا وكذلك أولاد البنات. وفي ذلك خلاف، ومما يؤيد
القول بدخول أولاد البنات ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ابن أخت
القوم منهم. وللأحاديث المذكورة في الباب فوائد خارجة عن مقصود المصنف
من ذكرها في هذا الباب، والتعرض لذلك يستدعي بسطا طويلا
فلنقتصر على بيان
المطلوب منها ههنا.
باب ما يصنع بفاضل مال الكعبة
عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد فقال: جلس إلي
عمر في مجلسك هذا فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا
قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك، فقال: هما المرآن
يقتدى بهما رواه أحمد والبخاري. وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقول: لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال بكفر
لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر.
140

قوله: جلست إلى شيبة هو ابن عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن
عبد الله بن عبد الدار بن قصي العبدري الحجبي بفتح المهملة والجيم ثم موحدة نسبة
الحجابة الكعبة. قوله: فيها أي في الكعبة، والمراد بالصفراء الذهب وبالبيضاء الفضة.
قال القرطبي: غلط من ظن أن المراد بذلك حلية الكعبة، وإنما أراد الكنز الذي بها وهو
ما كان يهدي إليها فيدخر ما يزيد على الحاجة، وأما الحلي فمحبسة عليها كالقناديل فلا يجوز
صرفها في غيرها. وقال ابن الجوزي: كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة المال
تعظيما لها فيجتمع فيها. قوله: هما المرآن تثنية مرء بفتح الميم ويجوز ضمها والراء ساكنة
على كل حال بعدها همزة أي الرجلان. قوله: يقتدى بهما في رواية للبخاري: أقتدي بهما قال
ابن بطال: أراد عمر ذلك لكثرة إنفاقه في منافع المسلمين، ثم لما ذكر أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لم يتعرض له أمسك، وإنما ترك ذلك لأن ما جعل في الكعبة وسبل لها
يجري مجرى الأوقاف فلا يجوز تغييره عن وجهه، وفي ذلك تعظيم للاسلام وترهيب
للعدو. قال في الفتح: أما التعليل الأول فليس بظاهر من الحديث، بل يحتمل أن يكون
تركه صلى الله عليه وآله وسلم لذلك رعاية لقلوب قريش، كما ترك بناء الكعبة على
قواعد إبراهيم، ثم أيد هذا الاحتمال بحديث عائشة المذكور في الباب ثم قال: فهذا
هو التعليل المعتمد اه. والمصير إلى هذا الاحتمال لا بد منه لنصه صلى الله عليه وآله
وسلم عليه، فلا يلتفت إلى الاحتمالات المخالفة له، وعلى هذا فإنفاقه جائز، كما جاز لابن الزبير
بناء البيت على قواعد إبراهيم لزوال السبب الذي لأجله ترك بناءه صلى الله عليه
وآله وسلم. واستدل التقي السبكي بحديث أبي وائل هذا على جواز تحلية
الكعبة بالذهب والفضة وتعليق قناديلهما فيها وفي مسجد المدينة فقال: هذا الحديث
عمدة في مال الكعبة وهو ما يهدي إليها أو ينذر لها. قال: وأما قول الشافعي لا يجوز
تحلية الكعبة بالذهب والفضة ولا تعليق قناديلهما فيها، ثم حكي وجهين في ذلك
أحدهما الجواز تعظيما كما في المصحف والآخر المنع إذ لم يقل أحد من السلف به
فهذا مشكل، لأن للكعبة من التعظيم ما ليس لبقية المساجد بدليل تجويز سترهما
بالحرير والديباج، وفي جوز ستر المساجد بذلك خلاف، ثم تمسك للجواز بما وقع في
أيام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد النبوي قال: ولم ينكر ذلك عمر
بن عبد العزيز ولا أزاله في خلافته، ثم استدل للجواز بأن تحريم استعمال الذهب والفضة
141

إنما هو فيما يتعلق بالأواني المعدة للاكل والشرب ونحوهما، قال: وليس في تحلية
المساجد بالقناديل الذهب شئ من ذلك، ويجاب عنه بأن حديث أبي وائل لا يصلح
للاستدلال به على جواز تحلية الكعبة وتعليق القناديل من الذهب والفضة كما زعم،
لأنه إن أراد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك وقرره فقد عرفت الحامل
له صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وإن أراد وقوع الاجماع من الصحابة أو
ممن بعدهم عليه فممنوع، وإن أراد غير ذلك فما هو. وأما القياس على ستر الكعبة
بالحرير والديباج فقد تعقب بأن تجويز ذلك قام الاجماع عليه، وأما التحلية بالذهب
والفضة فلم ينقل عن فعل من يقتدي به كما قال في الفتح، وفعل الوليد وترك عمر بن
عبد العزيز لا حجة فيهما، نعم القول بالتحريم يحتاج إلى دليل، ولا سيما مع ما
قدمنا من اختصاص تحريم استعمال آنية الذهب والفضة بالاكل والشرب ولكن
لا أقل من الكراهة، فإن وضع الأموال التي
ينتفع بها أهل الحاجات في المواضع التي لا ينفع الوضع فيها آجلا ولا عاجلا مما لا يشك في كراهته. كتاب الوصايا
باب الحث على الوصية والنهي عن الحيف فيها
وفضيلة التنجيز حال الحياة
عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما حق امرئ
مسلم يبيت ليلتين وله شئ يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه رواه
الجماعة واحتج به من يعمل بالخط إذا عرف.
قوله كتاب الوصايا قال في الفتح: الوصايا جمع وصية كالهدايا، وتطلق على فعل
الموصي وعلى ما يوصي به من مال أو غيره من عهد ونحوه، فتكون بمعنى المصدر وهو الايصاء،
وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم. وهي في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت، قال
الأزهري: الوصية من وصيت الشئ بالتخفيف أصيه إذا وصلته، وسميت وصية لأن الميت
142

يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، ويقال: وصية بالتشديد، ووصاة بالتخفيف بغير
همز، وتطلق شرعا أيضا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات.
قوله: ما حق ما نافية بمعنى ليس والخبر ما بعد إلا. وروى الشافعي عن سفيان
بلفظ: ما حق امرئ يؤمن بالوصية الحديث أي يؤمن بأنها حق، كما حكاه ابن عبد
البر عن ابن عيينة، ورواه ابن عبد البر والطحاوي بلفظ: لا يحل لامرئ مسلم له
مال وقال الشافعي: معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون
وصيته مكتوبة عنده، وكذا قال الخطابي. قوله: مسلم قال في الفتح: هذا
الوصف خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة إلى الامتثال
لما يشعر به من نفي الاسلام عن تارك ذلك، ووصية الكافر جائزة في الجملة، وحكى
ابن المنذر فيه الاجماع. قوله: يبيت صفة لمسلم كما جزم به الطيبي. قوله: ليلتين في رواية
للبيهقي وأبي عوانة: ليلة أو ليلتين. ولمسلم والنسائي: ثلاث ليال. قال الحافظ: وكأن ذكر
الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا
القدر ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا للتحديد،
والمعنى: لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة، وفي إشارة إلى اغتفار
الزمن اليسير وكأن الثلاث غاية التأخير، ولذلك قال ابن عمر: لم أبت ليلة منذ سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي قال الطيبي في
تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة: أي لا ينبغي أن يبيت زمنا
ما وقد سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك. قال العلماء: لا يندب
أن يكتب جميع الأشياء المحقرة ولا ما جرت العادة بالخروج منه والوفاء به عن قرب.
(وقد استدل) بهذا الحديث مع قوله تعالى: * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) * (سورة البقرة، الآية: 180) الآية
على وجوب الوصية، وبه قال جماعة من السلف منهم عطاء والزهري وأبو مجلز
وطلحة بن مصرف في آخرين، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحاق
وداود وأبو عوانة الأسفراييني وابن جرير. قال في الفتح وآخرون وذهب الجمهور
إلى أنها مندوبة وليست بواجبة، ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى
الاجماع وهي مجازفة لما عرفت. وأجاب الجمهور عن الآية بأنها منسوخة كما في
البخاري عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من
143

ذلك ما أحب فجعل لكل واحد من للأبوين السدس. وأجاب القائلون بالوجوب
بأن الذي نسخ الوصية للوالدين والأقارب الذين يرثون، وأما من لا يرث فليس في
الآية ولا في تفسير ابن عباس ما يقتضي النسخ في حقه. وأجاب من قال بعدم الوجوب
عن الحديث بأن قوله: ما حق الخ للحزم والاحتياط، لأنه قد يفجؤه الموت وهو على
غير وصية. وقيل: الحق لغة الشئ الثابت، ويطلق شرعا على ما ينبت به الحكم وهو
أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا، وقد يطلق على المباح قليلا، قاله القرطبي. وأيضا
تفويض الامر إلى إرادة الموصي يدل على عدم الوجوب، ولكنه يبقى الاشكال
في الرواية المتقدمة بلفظ: لا يحل لامرئ مسلم وقد قيل: إنه يحتمل أن راويها ذكرها
بالمعنى وأراد بنفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الذي يدخل تحته الواجب
والمندوب والمباح، وقد اختلف القائلون بالوجوب فقال أكثرهم: تجب الوصية في
الجملة، وقال طاوس وقتادة وجابر بن زيد في آخرين: تجب للقرابة الذين لا يرثون
خاصة. وقال أبو ثور: وجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حق شرعي
يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به كالوديعة والدين ونحوهما، قال: ويدل
على ذلك تقييده بقوله: له شئ يريد أن يوصي فيه. قال في الفتح: وحاصله يرجع
إلى قول الجمهور أن الوصية غير واجبة بعينها وإنما الواجب بعينه الخروج من الحقوق
الواجبة للغير، سواء كانت بتنجيز أو وصية، ومحل وجوب الوصية إنما هو إذا كان عاجزا
عن تنجيزه ولم يعلم بذلك غيره ممن يثبت الحق بشهادته، فأما إذا كان قادرا أو علم بها غيره
فلا وجوب، قال: وعرف من مجموع ما ذكرنا أن الوصية قد تكون واجبة، وقد تكون مندوبة
فيمن رجا منها كثرة الاجر، ومكروهة في عكسه، ومباحة فيمن استوى الأمران فيه، ومحرمة
فيما إذا كان فيها إضرار كما ثبت عن ابن عباس: الاضرار في الوصية من الكبائر
رواه سعيد بن منصور موقوفا بإسناد صحيح، ورواه النسائي مرفوعا ورجاله
ثقات. وقد استدل من قال بعدم وجوب الوصية بما ثبت في البخاري وغيره عن
عائشة: أنها أنكرت أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى وقالت: متى
أوصى وقد مات بين سحري ونحري؟ وكذلك ما ثبت أيضا في البخاري عن ابن
أبي أوفى أنه قال: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يوص. وأخرج أحمد
وابن ماجة قال الحافظ بسند قوي عن ابن عباس في أثناء حديث فيه أمر النبي
144

صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر أن يصلي في الناس قال في آخره: مات رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ولم يوص. قالوا: ولو كانت الوصية واجبة لما تركها رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم. وأجيب بأن المراد بنفي الوصية منه صلى الله عليه وآله وسلم
ففي الوصية بالخلافة لا مطلقا، بدليل أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم
الوصية بعدة أمور كأمره صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه لعائشة بإنفاق الذهبية
كما ثبت من حديثها عند أحمد وابن سعد وابن خزيمة. وفي المغازي لابن إسحاق عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: لم يوص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند موته إلا
بثلاث لكل من الداريين والرهاويين والأشعريين بجاد مائة وسق من خيبر، وأن
لا يترك في جزيرة العرب دينان، وأن ينفذ بعث أسامة. وفي صحيح مسلم عن ابن
عباس: وأوصى بثلاث أن يجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. الحديث. وأخرج
أحمد والنسائي وابن سعد عن أنس: كانت غاية وصية رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم. وله شاهد من حديث علي عند
أبي داود وابن ماجة. ومن حديث أم سلمة عند النسائي بسند جيد، والأحاديث
في هذا الباب كثيرة أورد منها صاحب الفتح في كتاب الوصايا شطرا صالحا وقد
جمعت في ذلك رسالة مستقلة. واستدلوا أيضا على توجيه نفي من نفي الوصية مطلقا
إلى الخلافة بما في البخاري عن عمر: قال: مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولن
يستخلف. وبما أخرجه البيهقي عن علي: أنه لما ظهر يوم الجمل قال: يا أيها
الناس إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعهد إلينا في هذه الامارة شيئا
الحديث. قال القرطبي: كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أوصى بالخلافة لعلي، فرد ذلك جماعة من الصحابة وكذا من بعدهم، فمن ذلك
ما استدلت به عائشة يعني الحديث المتقدم. ومن ذلك أن عليا لم يدع ذلك لنفسه ولا
بعد أن ولي الخلافة، ولا ذكره لأحد من الصحابة يوم السقيفة، وهؤلاء ينتقصون عليا
من حيث قصدوا تعظيمه لأنهم نسبوه مع شجاعته العظمى وصلابته إلى المداهنة
والتقييد والاعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك اه. ولا يخفى أن نفي عائشة
للوصية حال الموت لا يستلزم نفيها في جميع الأوقات، فإذا أقام البرهان الصحيح
من يدعي الوصاية في شئ معين قبل. قوله: مكتوبة عند رأسه استدل بهذا على
145

جواز الاعتماد على الكتابة والخط ولو لم يقترن ذلك بالشهادة، وخص محمد بن نصر
من الشافعية ذلك بالوصية لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الاحكام. قال الحافظ:
وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذكرت لما فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى
قوله: وصيته مكتوبة عنده أي بشرطها. وقال المحب الطبري: إضمار الاشهاد فيه بعد،
وأجيب بأنهم استدلوا على اشتراط الاشهاد بأمر خارج كقوله تعالى: * (شهادة بينكم
إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية) * (سورة البقرة، الآية: 180) فإنه يدل على اعتبار الاشهاد في الوصية. وقال القرطبي:
ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثق، وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها ولو لم تكن
مكتوبة اه. وقد استوفينا الأدلة على جواز العمل بالخط في الاعتراضات التي كتبناها
على رسالة الجلال في الهلال فليراجع ذلك فإنه مفيد.
وعن أبي هريرة قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله أي الصدقة
أفضل أو أعظم أجرا؟ قال: أما وأبيك لتفتأن أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخشى
الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا
وقد كان لفلان رواه الجماعة إلا الترمذي.
قوله: أي الصدقة أفضل أو أعظم في رواية للبخاري أفضل، وفي أخرى
له أعظم. قوله: لتفتأن بفتح اللام وضم الفوقية وسكون الفاء وبعدها فوقية
أيضا ثم همزة مفتوحة ثم نون مشددة وهو من الفتيا. وفي نسخة: لتنبأن بضم التاء
وفتح النون بعدها باء موحدة ثم همزة مفتوحة ثم نون مشددة من النبأ. قوله: أن
تصدق بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين وأصله أن تتصدق والتشديد على
الادغام. قوله: شحيح قال صاحب المنتهى: الشح
بخل مع حرص. وقال صاحب المحكم: الشح مثلث الشين والضم أولى وقال صاحب الجامع: كأن الفتح في المصدر والضم في الاسم،
قال الخطابي فيه: أن المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه
لا تمحو عنه سمة البخل، فلذلك شرط صحة البدن في الشح بالمال لأنه في الحالتين يجد للمال
وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيحذر معه الفقر. قال ابن بطال وغيره: لما كان الشح
غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية وأعظم للاجر، بخلاف من يئس من
الحياة ورأي مصير المال لغيره قوله: وتأمل بضم الميم أي تطمع. قوله:
ولا تمهل بالاسكان على أنه نهي، وبالرفع على أنه نفي، ويجوز النصب. قوله: حتى إذا
146

بلغت الحلقوم أي قاربت بلوغه، إذ لو بلغته حقيقة لم يصح شئ من تصرفاته،
والحلقوم مجرى النفس. قاله أبو عبيدة. قوله: قلت لفلان كذا الخ، قال في الفتح:
الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال. وقال الخطابي: فلان الأول والثاني الموصى
له، وفلان الأخير الوارث، لأنه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه. وقال غيره: يحتمل
أن يكون المراد بالجميع من يوصى له، وإنما أدخل كان في الثالث إشارة إلى تقدير
القدر له بذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأول للوارث، والثاني الموروث، والثالث
الموصى له. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون بعضها وصية وبعضها إقرارا. (والحديث يدل)
على أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في حال الصحة أفضل منه حال المرض، لأنه
في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزين
له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال كما قال تعالى: * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم
بالفحشاء) * (سورة البقرة، الآية: 268) وفي معنى الحديث قوله تعالى: * (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي
أحدكم الموت) * (سورة المائدة، الآية: 106) الآية. وفي معناه أيضا ما أخرج الترمذي بإسناد حسن وصححه
ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا. قال: مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته
مثل الذي يهدي إذا شبع. وأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد مرفوعا لأن يتصدق
الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة.
وعن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن
الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية
فيجب لهما النار ثم قرأ أبو هريرة: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية
من الله، إلى قوله: وذلك الفوز العظيم رواه أبو داود والترمذي. ولأحمد وابن ماجة
معناه وقالا فيه: سبعين سنة.
الحديث حسنه الترمذي وفي إسناده شهر بن حوشب، وقد تكلم فيه غير واحد
من الأئمة. ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، ولفظ أحمد وابن ماجة الذي
أشار إليه المصنف: أن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف
في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وأن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين
سنة فيعدل في وصيته فيدخل الجنة وفيه وعيد شديد وزجر بليغ وتهديد، لان
147

مجرد المضارة في الوصية إذا كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في
السنين المتعددة بلا شك أنها من أشد الذنوب التي لا يقع في مضيقها إلا من سبقت
له الشقاوة، وقراءة أبي هريرة للآية لتأييد معنى الحديث وتقويته، لأن الله سبحانه
قد قيد ما شرعه من الوصية بعدم الضرار، فتكون الوصية المشتملة على الضرار
مخالفة لما شرعه الله تعالى، وما كان كذلك فهو معصية. وقد تقدم قريبا عن ابن
عباس مرفوعا وموقوفا بإسناد صحيح أن وصية الضرار من الكبائر. وذلك
مما يؤيد معنى الحديث، فما أحق وصية الضرار بالابطال من غير فرق بين
الثلث وما دونه وما فوقه، وقد جمعت في ذلك رسالة مشتملة على فوائد
لا يستغنى عنها.
باب ما جاء في كراهة مجاوزة الثلث والايصاء للوارث
عن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الثلث والثلث كثير متفق عليه. وعن سعد بن
أبي وقاص أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني من وجع
اشتد بي فقلت: يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال، ولا يرثني
إلا ابنة لي أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا، قلت:
فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير أو كبير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من
أن تدعهم عالة يتكففون الناس رواه الجماعة. وفي رواية أكثرهم: جاءني
يعودني في حجة الوداع وفي لفظ: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في مرضي فقال: أوصيت؟ قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بمالي كله في سبيل الله، قال: فما تركت لولدك؟
قلت: هم أغنياء، قال: أوص بالعشر، فما زال يقول وأقول حتى قال: أوص بالثلث
والثلث كثير وكبير رواه النسائي وأحمد بمعناه إلا أنه قال: قلت: نعم جعلت مالي
كله في الفقراء والمساكين وابن السبيل هو دليل على نسخ وجوب الوصية
للأقربين. وعن أبي الدرداء: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله
تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في
148

أعمالكم رواه الدارقطني. حديث أبي الدرداء أخرجه أيضا أحمد، وأخرجه أيضا البيهقي وابن ماجة
والبزار من حديث أبي هريرة بلفظ: إن الله تصدق عليكم عند موتكم بثلث أموالكم
زيادة لكم في أعمالكم قال الحافظ: وإسناده ضعيف. وأخرجه أيضا الدارقطني
والبيهقي من حديث أبي أمامة بلفظ: إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند
وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعل لكم زكاة في أموالكم وفي إسناده إسماعيل بن
عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان. ورواه العقيلي في الضعفاء عن أبي بكر
الصديق وفي إسناده حفص بن عمرو بن ميمون وهو متروك. وعن خالد بن عبد
الله السلمي عند ابن عاصم وابن السكن وابن قانع وأبي نعيم والطبراني وهو
مختلف في صحبته، رواه عنه ابنه الحرث وهو مجهول. وقد ذكر الحافظ في التلخيص
حديث أبي الدرداء ولم يتكلم عليه. قوله: غضوا بمعجمتين أي نقصوا ولو للتمني،
فلا تحتاج إلى جواب أو شرطية والجواب محذوف. ووقع التصريح بالجواب في رواية
ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان بلفظ: كان أحب إلي وأخرجه الإسماعيلي
من طريقه ومن طريق أحمد بن عبدة عن سفيان. وأخرجه من طريق العباس بن
الوليد عن سفيان بلفظ: كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله:
إلى الربع زاده أحمد في الوصية، وكذا ذكر هذه الزيادة الحميدي قوله: فإن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو كالتعليل لما اختاره من النقصان عن الثلث،
وكأنه أخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وآله وسلم للثلث بالكثرة. قوله:
والثلث كثير في رواية مسلم: كثير أو كبير بالشك هل هو بالموحدة
أو المثلثة؟ والمراد أنه كثير بالنسبة إلى ما دونه، وفيه دليل على جواز الوصية بالثلث،
وعلى أن الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه. قال الحافظ: وهو ما يبتدره الفهم، ويحتمل
أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل أي كبير أجره، ويحتمل أن يكون
معناه كثير غير قليل، قال الشافعي: وهذا أولى معانيه يعني أن الكثرة أمر نسبي،
وعلى الأول عول ابن عباس كما تقدم، والمعروف من مذهب الشافعي استحباب
النقص عن الثلث. وفي شرح مسلم للنووي إن كان الورثة فقراء استحب أن ينقص
منه، وإن كانوا أغنياء فلا، وقد استدل بذلك على أنها لا تجوز الوصية بأزيد من
الثلث. قال في الفتح: واستقر الاجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث، لكن
149

اختلف فيمن ليس له وارث خاص، فذهب الجمهور، إلى منعه من الزيادة على الثلث،
وجوز له الزيادة الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية وهو قول علي وابن
مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية، فقيدتها السنة لمن له وارث فبقي من
لا وارث له على الاطلاق. وحكاه في البحر عن العترة. قوله: قال الثلث والثلث
كثير أو كبير يعني بالمثلثة أو الموحدة وهو شك من الراوي. قال الحافظ: والمحفوظ
في أكثر الروايات بالمثلثة، قال: الثلث بالنصب على الاغراء أو بفعل مضمر نحو
عين الثلث، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف. قوله:
إنك أن تذر بفتح أن على التعليل وبكسرها على الشرطية، قال النووي: هما
صحيحان، وقال القرطبي: لا معنى للشرط ههنا لأنه يصير لا جواب له ويبقى خير لا
رافع له. وقال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأنكره ابن الخشاب
وقال: لا يجوز الكسر لأنه لا جواب له لخلو لفظ خير عن الفاء وغيرها مما اشترط
في الجواب، وتعقب بأنه لا مانع من تقديرها كما قال ابن مالك. قوله: ورثتك
قال ابن المنير: إنما عبر له صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ الورثة ولم يقل بنتك مع أنه
لم يكن له يومئذ إلا ابنة واحدة، لكون الوارث حينئذ لم يتحقق، لأن سعدا إنما
قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز
أن تموت هي قبله فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم بكلام كلي مطابق لكل حالة
وهو قوله: ورثتك ولم يخص بنتا من غيرها. وقال الفاكهي شارح العمدة: إنما عبر
صلى الله عليه وآله وسلم بالورثة لأنه اطلع على أن سعدا سيعيش ويحصل له
أولاد غير البنت المذكورة فإنه ولد له بعد ذلك أربعة بنين اه. وهم: عامر ومصعب ومحمد وعمر، وزاد بعضهم: إبراهيم ويحيى وإسحاق، وزاد ابن سعد: عبد الله وعبد الرحمن
وعمر أو عمران وصالحا وعثمان وإسحاق، الأصغر وعمرا الأصغر وعميرا مصغرا، وذكر
له من البنات اثنتي عشرة بنتا. قال الحافظ ما معناه: أنه قد كان لسعد وقت الوصية ورثة
غير ابنته وهم أولاد أخيه عتبة بن أبي وقاص منهم هاشم بن عتبة وقد كان
موجودا إذ ذاك. قوله: عالة أي فقراء وهو جمع عائل وهو الفقير، والفعل منه عال
يعيل إذا افتقر. قوله: يتكففون الناس أي يسألونهم بأكفهم. يقال: تكفف الناس
واستكف إذا بسط كفه للسؤال، أو سأل ما يكف عنه الجوع، أو سأل كفافا من طعام
150

. قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث تقييد مطلق القرآن بالسنة لأنه سبحانه قال: * (من بعد
وصية يوصي بها أو دين) * (سورة النساء، الآية: 12) فأطلق وقيدت السنة الوصية بالثلث. قال في الفتنة: وفيه أن
خطاب الشارع للواحد يعم من كان بصفته من المكلفين لاطباق العلماء على الاحتجاج
بحديث سعد هذا وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الافراد، ولقد أبعد من قال
إن ذلك يختص بسعد ومن كان في مثل حاله ممن يخلف وارثا ضعيفا أو كان
ما يخلفه قليلا. وفي حديث أبي الدرداء وما ورد في معناه دليل على أن الاذن لنا
بالتصرف في ثلث أموالنا في أواخر أعمارنا من الألطاف الإلهية بنا والتكثير لأعمالنا
الصالحة، وهو من الأدلة الدالة على اشتراط القربة في الوصية
وعن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب
على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها وإن لغامها يسيل بين كتفي فسمعته
يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث رواه الخمسة إلا أبا
داود وصححه الترمذي. وعن أبي أمامة قال سمعت النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث رواه
الخمسة إلا النسائي. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة
رواهما الدارقطني.
حديث عمرو بن خارجة أخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي. وحديث أبي
أمامة حسنه الترمذي والحافظ وفي إسناده إسماعيل بن عياش وقد قوي حديثه إذا
روى عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري، وهذا من روايته عن
الشاميين، لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته
بالتحديث. وحديث ابن عباس حسنه في التلخيص، وقال في الفتح رجاله ثقات لكنه
معلول، فقد قيل: إن عطاء الذي رواه عن ابن عباس هو الخراساني وهو لم يسمع من
ابن عباس. وأخرج نحوه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس
موقوفا. قال الحافظ: إلا أنه في تفسير وأخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن
فيكون في حكم المرفوع. وأخرجه أيضا أبو داود في المراسيل عن مرسل عطاء
151

الخراساني، ووصله يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال الحافظ:
والمعروف المرسل. وحديث عمرو بن شعيب قال في التلخيص: إسناده واه (وفي الباب)
عن أنس عند ابن ماجة. وعن جابر عند الدارقطني وصوب إرساله وعن علي عنده
أيضا وإسناده ضعيف وهو عند ابن أبي شيبة. وعن مجاهد مرسلا عند الشافعي. قال في
الفتح: ولا يخلو إسناد كل منها من مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا، بل
جنح الشافعي في الام إلى أن هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن
حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال عام الفتح: لا وصية لوارث ويأثرونه عمن حفظوه فيه ممن
لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد، وقد نازع الفخر
الرازي في كون هذا الحديث متواترا قال: وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من
مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة، قال الحافظ: لكن الحجة في هذا إجماع
العلماء على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره قال: والمراد بعدم صحة وصية الوارث
عدم اللزوم، لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة. وقيل: إنها لا تصح
الوصية لوارث أصلا وهو الظاهر، لأن النفي إما أن يتوجه إلى الذات والمراد
لا وصية شرعية، وإما إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة، ولا يصح أن يتوجه
ههنا إلى الكمال الذي هو أبعد المجازين. وحديث ابن عباس المذكور وإن دل على
صحة الوصية لبعض الورثة مع رضا البعض الآخر فهو لا يدل على أن النفي غير
متوجه إلى الصحة بل هو متوجه إليها، وإذا رضي الوارث كانت صحيحة كما هو
شأن بناء العام على الخاص، وهكذا حديث عمرو بن شعيب. وحكى صاحب البحر
عن الهادي والناصر وأبي طالب وأبي العباس أنها تجوز الوصية للوارث، واستدلوا بقوله
تعالى: * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) *
(سورة البقرة، الآية: 180) قالوا: ونسخ الوجوب لا يستلزم نسخ الجواز، وأجاب الجمهور عن ذلك بأن الجواز أيضا
منسوخ، كما صرح بذلك حديث ابن عباس المذكور في الباب. وقد اختلف في
تعيين ناسخ آية الوصية للوالدين والأقربين فقيل: آية الفرائض، وقيل: الأحاديث
المذكورة في الباب، وقيل: دل الاجماع على ذلك وان لم يتعين دليله هكذا في الفتح. وقد
قيل: إن الآية مخصوصة لأن الأقربين أعم من أن يكونوا وارثين أم لا، فكانت
152

الوصية واجبة لجميعهم، وخص منها الوارث بآية الفرائض وبأحاديث الباب، وبقي
حق من لا يرث من الأقربين من الوصية على حاله، قاله طاوس وغيره. قوله: وأنا تحت
جرانها بكسر الجيم، قال في القاموس، جران البعير بالكسر مقدم عنقه من مذبحه
إلى منحره. قوله: وهي تقصع بجرتها الجرة بكسر الجيم وتشديد الراء. قال في
القاموس: الجرة بالكسر هيئة الجر وما يفيض به البعير فيأكله ثانية وقد اجتر
وأجر، واللقمة يتعلل بها البعير إلى وقت علفه، والقصع البلع. قال في القاموس: قصع
كمنع ابتلع جرع الماء والناقة بجرتها ردتها إلى جوفها أو مضغتها، أو هو بعد الدسع
وقبل المضغ، أو هو أن تملأ بها فاها أو شدة المضغ اه. قوله: وإن لغامها بضم
اللام بعدها غين معجمة وبعد الألف ميم هو اللعاب. قال في القاموس: لغم الجمل
كمنع رمى بلعابه لزبده. قال: والملاغم ما حول الفم. قوله: إلا أن يشاء الورثة في
ذلك رد على المزني وداود والسبكي حيث قالوا: إنها لا تصح الوصية بما زاد على الثلث
ولو أجاز الورثة، واحتجوا بالأحاديث الآتية في الباب الذي بعد هذا، ولكن في
هذا الحديث، وحديث عمرو بن شعيب المذكور بعده زيادة يتعين القول بها. قال
الحافظ: إن صحت هذه الزيادة فهي حجة واضحة، واحتجوا من جهة المعنى بأن
المنع إنما كان في الأصل لحق الورثة، فإذا أجازوه لم يمتنع، واختلفوا بعد ذلك في وقت
الإجازة، فالجمهور على أنهم إن أجازوا في حياة الموصي كان لهم الرجوع متى شاؤوا وإن
أجازوا بعد نفذ. وفصل المالكية في الحياة بين مرض الموت وغيره فألحقوا مرض
الموت بما بعده، واستثنى بعضهم ما إذا كان المجيز في عائلة الموصي وخشي من امتناعه
انقطاع معروفه عنه لو عاش فإن لمثل هذا الرجوع. وقال الزهري وربيعة: ليس
لهم الرجوع مطلقا، واتفقوا على اعتبار كون الموصى له وارثا يوم الموت حتى
لو أوصى لأخيه الوارث، حيث لا يكون للموصي ابن ثم ولد له ابن قبل موته
صحت الوصية للأخ المذكور، ولو أوصى لأخيه وله ابن فمات الابن قبل موت الموصي فهي وصية لوارث.
153

باب في أن تبرعات المريض من الثلث
عن أبي زيد الأنصاري: أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس
له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعتق اثنين وأرق أربعة
رواه أحمد وأبو داود بمعناه وقال فيه: لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في
مقابر المسلمين. وعن عمران بن حصين: أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند
موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجزأهم
أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا رواه الجماعة إلا
البخاري. وفي لفظ: أن رجلا أعتق عند موته ستة رجلة له فجاء ورثته من الاعراب
فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما صنع قال أو فعل ذلك لو علمنا إن
شاء الله ما صلينا عليه، فأقرع بينهم فأعتق منهم اثنين وأرق أربعة رواه أحمد
واحتج بعمومه من سوى بين متقدم العطايا ومتأخرها، لأنه لم يستفصل هل أعتقهم
بكلمة أو بكلمات.
حديث أبي زيد أخرجه أيضا النسائي، وسكت عنه أبو داود والمنذري، ورجال
إسناده رجال الصحيح. قوله: أعتق ستة أعبد عند موته قال القرطبي: ظاهره أنه
نجز عتقهم في مرضه. قوله: فأقرع بينهم هذا نص في اعتبار القرعة شرعا، وهو حجة
لمالك والشافعي وأحمد والجمهور على أبي حنيفة حيث يقول: القرعة من القمار وحكم الجاهلية،
ويعتق من كل واحد من العبيد ثلثه، ويستسعي في باقيه ولا يقرع بينهم، وبمثل ذلك قالت
الهادوية. قوله: فأعتق اثنين وأرق أربعة في هذا أيضا حجة على أبي حنيفة ومن معه
حيث يقولون: يعتقون جميعا. قال ابن عبد البر: في هذا القول ضروب من الخطأ
والاضطراب. قال ابن رسلان وفيه ضرر كثير، لأن الورثة لا يحصل لهم شئ
في الحال أصلا، وقد لا يحصل من السعاية شئ، أو يحصل في الشهر خمسة دراهم أو أقل،
وفيه ضرر على العبيد لالزامهم السعاية من غير اختيارهم. قوله: لو شهدته قبل أن يدفن الخ،
هذا تفسير للقول الشديد الذي أبهم في الرواية الأخرى، وفيه تغليظ شديد وذم
متبالغ، وذلك لأن الله سبحانه لم يأذن للمريض بالتصرف إلا في الثلث، فإذا
154

تصرف في أكثر منه كان مخالفا لحكم الله تعالى ومشابها لمن وهب غير ماله. قوله:
فجزأهم بتشديد الزاي وتخفيفها لغتان مشهورتان أي قسمهم، وظاهره أنه اعتبر عدد
أشخاصهم دون قيمتهم، وإنما فعل ذلك لتساويهم في القيمة والعدد. قال ابن رسلان:
فلو اختلفت قيمتهم لم يكن بد من تعديلهم بالقيمة مخافة أن يكون ثلثهم في العدد
أكثر من ثلث الميت في القيمة. قوله:
رجلة بفتح الراء وسكون الجيم جمع رجل. قوله: ما صلينا عليه هذا أيضا من تفسير القول الشديد المبهم في الرواية المتقدمة. (والحديثان)
يدلان على أن تصرفات المريض إنما تنفذ من الثلث ولو كانت منجزة في الحال ولم
تضف إلى بعد الموت، وقد قدمنا حكاية الاجماع على المنع من
الوصية بأزيد من
الثلث لمن كان له وارث، والتنجيز حال المرض المخوف حكمه حكم الوصية. واختلفوا
هل يعتبر ثلث التركة حال الوصية أو حال الموت؟ وهما وجهان للشافعية أصحهما
الثاني، وبه قال أبو حنيفة وأحمد والهادوية، وهو قول علي رضي الله عنه وجماعة من
التابعين. وقال بالأول مالك وأكثر العراقيين والنخعي وعمر بن عبد العزيز، وتمسكوا
بأن الوصية عقد والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله اعتبر ذلك
حال النذر اتفاقا، وأجيب بأن الوصية ليست عقدا من كل وجه، ولذلك لا يعتبر
فيها الفورية ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصية بأنها يصح الرجوع فيها والنذر
يلزم، وثمرة هذا الخلا ف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصية، واختلفوا أيضا
هل يحسب الثلث من جميع المال أو يتقيد بما علمه الموصي دون ما خفي عليه، أو
تجدد له ولم يعلم به؟ وبالأول قال الجمهور، وبالثاني قال مالك. وحجة الجمهور أنه
يشترط أن يستحضر مقدار المال حال الوصية اتفاقا ولو كان عالما بجنسه، فلو كان
العلم به شرطا لما جاز ذلك.
باب وصية الحربي إذا أسلم ورثته هل يجب تنفيذها
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن العاص بن وائل أوصى
أن يعتق عنه مائة رقبة فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، فأراد ابنه عمرو أن يعتق
عنه الخمسين الباقية فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى بعتق مائة رقبة وإن هشاما أعتق
155

عنه خمسين رقبة وبقيت خمسون رقبة أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لو كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك رواه أبو داود.
الحديث سكت عنه أبو داود، وأشار المنذري إلى الاختلاف في حديث
عمرو بن شعيب، وقد قدمنا غير مرة أن حديثه عن أبيه عن جده من قسم
الحسن. وقد صحح له الترمذي بهذا الاسناد عدة أحاديث، والحديث يدل على أن
الكافر إذا أوصى بقربة من القرب لم يلحقه ذلك لأن الكفر مانع، وهكذا لا يلحقه
ما فعله قرابته المسلمون من القرب كالصدقة والحج والعتق من غير وصية منه، ولا
فرق بين أن يكون الفاعل لذلك ولدا أو غيره، وليس في هذا الحديث ما يدل على
عدم صحة وصية الكافر، إذ لا ملازمة بين عدم قبول ما أوصى به من القرب وعدم
صحة الوصية مطلقا، نعم فيه دليل أنه لا يجب على قريب الكافر من المسلمين تنفيذ
وصيته بالقرب. قال في البحر مسألة: ولا تصح يعني الوصية من كافر في معصية
كالسلاح لأهل الحرب. وبناء البيع في خطط المسلمين. وتصح بالمباح
إذ لا مانع اه.
باب الايصاء بما يدخله النيابة من خلافة وعتاقة ومحاكمة
في نسب وغيره
عن ابن عمر قال: حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه وقالوا: جزاك
الله خيرا، فقال راغب وراهب، قالوا: استخلف، فقال: أتحمل أمركم حيا وميتا، لوددت
أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني
يعني أبا بكر، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال عبد الله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم غير مستخلف متفق عليه. وعن عائشة: أن عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص
اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ابن أمة زمعة فقال سعد: يا رسول الله
أوصاني أخي إذا قدمت أن أنظر ابن أمة زمعة
156

فأقبضه فإنه ابني، وقال ابن زمعة: أخي وابن أمة أبي ولد على فراش أبي. فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شبها بينا بعتبة
فقال: هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة رواه
البخاري. وعن الشريد بن سويد الثقفي: أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة
مؤمنة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال عندي جارية سوداء،
فقال: ائت بها، فدعا بها فجاءت فقال لها: من ربك؟ قالت: الله قال: من أنا؟ قالت: أنت
رسول الله، قال أعتقها فإنها مؤمنة رواه أحمد والنسائي.
حديث الشريد رواه النسائي من طريق موسى بن سعيد وهو صدوق لا بأس
به وبقية رجاله ثقات، وقد أخرجه أيضا أبو داود وابن حبان. قوله: فقد استخلف
من هو خير مني استدل بهذا المصنف على جواز الوصية بالخلافة، وقد ذهبت
الأشعرية والمعتزلة إلى أن طريقها العقد والاختيار في جميع الأزمان، وذهبت
العترة إلى أن طريقها الدعوة، وللكلام في هذا محل آخر. قوله: أنه حين
ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير مستخلف يعني أنه سيقتدي
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ترك الاستخلاف ويدع الاقتداء بأبي بكر،
وإن كان الكل عنده جائزا، ولكن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
الترك أولى من الاقتداء بأبي بكر في الفعل. قوله: وعن عائشة أن عبد بن زمعة
سيأتي الكلام على هذا الحديث في باب أن الولد للفراش إن شاء الله
لأن المصنف رحمه الله سيذكره هنالك وهو الموضع الذي يليق به، وإنما ذكره ههنا للاستدلال به، على جواز
الايصاء بالنيابة في دعوى النسب والمحاكمة. ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لم ينكر على سعد بن أبي وقاص دعواه بوصاية أخيه في ذلك، ولو كانت
النيابة بالوصية في مثله غير جائزة لأنكر عليه. قوله: وعن الشريد بن سويد الخ،
استدل به المصنف على جواز النيابة في العتق بالوصية، ووجهه أنه أخبر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الوصية ولم يبين له أن مثل ذلك لا يجوز، ولو كان
غير جائز لبينه، لما تقرر من عدم جواز تأخر البيان عن وقت الحاجة. قوله: فقال لها من
ربك؟ الخ، قد اكتفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعرفة الله والرسول في كون
تلك الرقبة مؤمنة، وقد ثبت مثل ذلك في عدة أحاديث. منها حديث معاوية بن
الحكم السلمي عند مسلم وغيره. ومنها عن رجل من الأنصار عند أحمد. ومنها عن أبي
157

هريرة عند أبي داود. وعن حاطب عند أبي أحمد الغسال في كتاب السنة. وعن
ابن عباس عند الطبراني وغير ذلك.
باب وصية من لا يعيش مثله عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب
بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف قال: كيف فعلتما أتخافان
أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمرا هي له مطيقة وما فيها كثير
فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، قال قالا: لا، فقال عمر: لئن
سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا، قال: فما أتت
عليه رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة
أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهن خللا تقدم وكبر،
وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع
الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار
العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه، حتى طعن
ثلاثة عشر رجلا مات منهم تسعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه
برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف
فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير
أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن
صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء فقال:
غلام المغيرة، فقال: الصنع؟ قال: نعم، قاتله الله لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم
يجعل منيتي بين رجل يدعي الاسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج
بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقا فقال: إن شئت فعلت أي إن شئت قتلنا، قال:
كذبت بعد ما تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم، فاحتمل إلى بيته فانطلقنا
معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه
فخرج من جوفه ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس
158

يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقدم في الاسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت
ثم شهادة، فقال: وددت ذلك كفافا لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض
فقال: ردوا علي الغلام، قال يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك
وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا ونحوه،
قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف
أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فأد عني هذا المال، انطلق إلى عائشة
أم المؤمنين فقل: يقرأ عليكم عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم
للمؤمنين أميرا وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثم
دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال يقرأ عمر بن الخطاب عليكم السلام ويستأذن
أن يدفن مع صاحبيه، فقالت، كنت أريده لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما
أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟
قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت، قال: الحمد لله ما كان شئ أهم إلي من ذلك، فإذا
قبضت فاحملوني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن
ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير تتبعها فلما
رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلا، لهم فسمعنا
بكاءها من الداخل فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف، فقال: ما أجد أحق بهذا
الامر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عنهم وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن وقال:
يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الامر شئ كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمرة
سعدا فهو ذلك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة، وقال:
أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم،
وأوصيه بالأنصار خيرا، الذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم
وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فهم ردء الاسلام وجباة المال
وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا
فإنهم أصل العرب ومادة الاسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد في فقرائهم،
159

وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم
ولا يكلفوا إلا طاقتهم فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر
فقال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما
فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم
فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال
سعد، قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن بن عوف: أيكما
تبرأ من هذا الامر فتجعله إليه والله عليه والاسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت
الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم،
فأخذ بيد أحدهم فقال: لك من قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقدم
في الاسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن
ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان
فبايعه وبايعه علي وولج أهل الدار فبايعوه رواه البخاري وقد تمسك به من رأى
للوصي والوكيل أن يوكلا.
قوله: عن عمرو بن ميمون هو الأودي، وهذا الحديث بطوله رواه عن عمرو
بن ميمون جماعة. قوله: قبل أن يصاب بأيام أي أربعة كما بين فيما بعد. قوله:
بالمدينة أي بعد أن صدر من الحج. قوله: أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق
الأرض المشار إليها هي أرض السواد، وكان عمر بعثهما يضربان عليها الخراج وعلى
أهلها الجزية كما بين ذلك أبو عبيد في كتاب الأموال من رواية عمرو بن ميمون
المذكور، والمراد بقوله: انظرا أي في التحميل أو هو كناية عن الحذر لأنه يستلزم
النظر. قوله: قال حملناها أمرا هي له مطيقة في رواية ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن
حصين بهذا الاسناد فقال حذيفة: لو شئت لأضعفت أرضي أي جعلت خراجها ضعفين.
وقال عثمان بن حنيف: لقد حملت أرضي أمرا هي له مطيقة. وفي رواية له: أن عمر قال لعثمان
بن حنيف: لئن زدت على كل رأس درهمين وعلى كل جريب درهما وقفيزا من طعام لأطاقوا
ذلك؟ قال: نعم. قوله: إني لقائم أي في الصف ننتظر صلاة الصبح. قوله: قتلني أو أكلني
الكلب حين طعنه في رواية أخرى: فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فناجى عمر غير
بعيد ثم طعنه ثلاث طعنات، فرأيت عمر قائلا بيده هكذا يقول: دونكم الكلب فقد قتلني
160

واسم أبي لؤلؤة فيروز وروى ابن سعد بإسناد صحيح إلى الزهري قال: كان عمر
لا يأذن لسبي قد احتلم دخول المدينة حتى كتب المغيرة بن شعبة وهو على
الكوفة يذكر له غلاما عنده صنعا ويستأذنه أن يدخله المدينة ويقول: إن عنده
أعمالا تنفع الناس، إنه حداد نقاش نجار، فأذن له فضرب عليه المغيرة كل شهر مائة،
فشكى إلى عمر شدة الخراج، فقال له عمر: ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل،
فانصرف ساخطا، فلبث عمر ليالي فمر به العبد فقال له: ألم أحدث أنك تقول: لو
أشاء لصنعت رحا تطحن بالريح، فالتفت إليه عابسا فقال له: لاصنعن لك رحا يتحدث
الناس بها، فأقبل عمر على من معه فقال: توعدني العبد، فلبث ليالي ثم اشتمل على خنجر
ذي رأسين نصابه وسطه، فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس حتى خرج عمر
يوقظ الناس الصلاة الصلاة وكان عمر يفعل ذلك، فلما دنا منه عمر وثب عليه فطعنه
ثلاث طعنات إحداهن تحت السرة قد خرقت الصفاق وهي التي قتلته. قوله: حتى
طعن ثلاثة عشر رجلا في رواية ابن إسحاق: اثني عشر رجلا معه وهو ثالث عشر.
وزاد ابن إسحاق من رواية إبراهيم التيمي عن عمرو بن ميمون: وعلى عمر إزار
أصفر قد رفعه على صدره، فلما طعن قال: وكان أمر الله قدرا مقدورا. قوله: مات
منهم تسعة أي وعاش الباقون. قال الحافظ: وقفت من أسمائهم على كليب بن البكير
الليثي. قوله: فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا. وقع في ذيل
الاستيعاب لابن فتحون من طريق سعيد بن يحيى الأموي قال: حدثنا أبي، حدثني
من سمع حصين بن عبد الرحمن في هذه القصة قال: فلما رأى ذلك رجل من المهاجرين
يقال له خطاب التميمي اليربوعي فذكر الحديث. وروى ابن سعد بإسناد ضعيف
منقطع قال: فأخذ أبا لؤلؤة رهط من قريش منهم عبد الله بن عوف وهاشم بن
عتبة الزهريان ورجل من بني تميم وطرح عليه عبد الله بن عوف خميصة كانت
عليه. قال الحافظ: فإن ثبت هذا حمل على أن الكل اشتركوا في ذلك. قوله: فقدمه
أي للصلاة بالناس. قوله: فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة في رواية ابن إسحاق:
بأقصر سورتين في القرآن: * (إنا أعطيناك الكوثر) * (سورة الكوثر، الآية: 1) و * (إذا جاء نصر الله والفتح) * (سورة النصر، الآية: 1) زاد في
رواية ابن شهاب: ثم غلب على عمر النزف فغشي عليه فاحتملته في رهط حتى أدخلته
بيته، فلم يزل في غشيته حتى أسفر فنظر في وجوهنا فقال: أصلى الناس؟ فقلت: نعم، قال:
161

لا إسلام لمن ترك الصلاة ثم توضأ وصلى. وفي رواية ابن سعد من طريق ابن عمر
قال فتوضأ وصلى الصبح، فقرأ في الأولى * (والعصر) * وفي الثانية * (قل يا أيها الكافرون) *
قال: وتساند إلى وجرحه يثعب دما إني لا أضع أصبعي الوسطى فما تسد الفتق. قوله:
فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني في رواية ابن إسحاق فقال عمر:
يا عبد الله بن عباس أخرج فناد في الناس عن ملا منكم كان هذا، فقالوا: معاذ الله ما علمنا
ولا اطلعنا. وزاد مبارك بن فضالة: فظن عمر أن له ذنبا إلى الناس لا يعلمه، فدعا
ابن عباس وكان يحبه ويدنيه فقال: أحب أن تعلم عن ملا من الناس كان هذا، فخرج
لا يمر بملا من الناس إلا وهم يبكون، فكأنما فقدوا أبكار أولادهم، قال ابن عباس:
فرأيت البشر في وجهه. قوله: الصنع بفتح المهملة والنون، وفي رواية ابن فضيل
عن حصين عند ابن أبي شيبة وابن سعد الصناع بتخفيف النون، قال أهل اللغة: رجل
صنع اليد واللسان وامرأة صناع. وحكى أبو زيد: الصناع والصنع يقعان معا على الرجل
والمرأة. قوله: لم يجعل ميتتي بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها مثناة فوقية
أي قتلني. وفي رواية الكشميهني: منيتي بفتح الميم وكسر النون وتشديد التحتانية.
قوله: رجل يدعي الاسلام في رواية ابن شهاب فقال: الحمد لله الذي لم يجعل
قاتلي يحاجني عند الله لسجدة سجدها له قط. وفي رواية مبارك بن فضالة: يحاجني
يقول لا إله إلا الله. وفي حديث جابر فقال عمر: لا تعجلوا على الذي قتلني، فقيل: إنه قد
قتل نفسه، فاسترجع عمر، فقيل له: إنه أبو لؤلؤة، فقال: الله أكبر. قوله: قد كنت
أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة. في رواية ابن سعد فقال عمر: هذا
من عمل أصحابك كنت أريد أن لا يدخلها علج من السبي فغلبتموني. وروى
عمر بن شبة من طريق ابن سيرين قال: بلغني أن العباس قال لعمر لما قال: لا
تدخلوا علينا من السبي إلا الوصيف، أن عمل أهل المدينة شديد لا يستقيم
إلا بالعلوج. قوله: إن شئت فعلت الخ، قال ابن التين: إنما قال له ذلك لعلمه
بأن عمر لا يأمره بقتلهم. قوله: كذبت الخ، هو على ما ألف من شدة عمر
في الدين، لأنه فهم من ابن عباس أن مراده إن شئت قتلناهم فأجابه بذلك، وأهل
الحجاز يقولون: كذبت في موضع أخطأت، ولعل ابن عباس إنما أراد قتل من لم يسلم منهم.
قوله: فأتي بنبيذ فشربه زاد في حديث أبي رافع: لينظر ما قدر جرحه. قوله: فخرج
162

من جرحه هذه رواية الكشميهني وهي الصواب، ورواية غيره: فخرج من جوفه وفي
رواية أبي رافع: فخرج النبيذ فلم يدر أنبيذ هو أم دم. وفي رواية أيضا فقال: لا بأس عليك
يا أمير المؤمنين، فقال: إن يكن اقتل بأسا فقد قتلت، والمراد بالنبيذ المذكور تمرات نبذن
في ماء أي نقعت فيه كانوا يصنعون ذلك لاستعذاب الماء، وسيأتي الكلام عليه.
قوله: وجاء رجل شاب في رواية للبخاري في الجنائز: وولج عليه شاب من
الأنصار، وفي إنكار عمر على الشاب المذكور استرسال إزاره مع ما هو فيه من
مكابدة الموت أعظم دليل على صلابته في الدين ومراعاته لمصالح المسلمين. قوله:
وقدم بفتح القاف وكسرها، فالأول بمعنى الفصل، والثاني بمعنى السبق. قوله: ثم
شهادة بالرفع عطفا على ما قد علمت لأنه مبتدأ وخبره لك المتقدم، ويجوز عطفه
على صحبة فيكون مجرورا، ويجوز النصب على أنه مفعول مطلق لمحذوف، وفي
رواية جرير: ثم الشهادة بعد هذا كله. قوله: لا علي ولا لي أي سواء بسواء.
قوله: أنقى لثوب بالنون ثم القاف للأكثر، وبالموحدة بدل النون للكشميهني.
قوله: فحبسوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا ونحوه في حديث جابر ثم قال: يا عبد
الله أقسمت عليك بحق الله وحق عمر إذا مت فدفنتني أن لا تغسل رأسك حتى
تبيع من رباع آل عمر بثلاثين ألفا فتضعها في بيت مال المسلمين، فسأله عبد الرحمن
بن عوف فقال: أنفقتها في حجج حججتها، وفي نوائب كانت تنوبني، وعرف بهذا
جهة دين عمر. ووقع في أخبار المدينة لمحمد بن الحسن بن زبالة أن دين عمر كان
ستة وعشرين ألفا، وبه جزم عياض، قال الحافظ: والأول هم المعتمد. قوله: فإن
وفى له مال آل عمر كأنه يريد نفسه، ومثله يقع في كلامهم كثيرا، ويحتمل أن يريد
رهطه. قوله: وإلا فسل في بني عدي بن كعب هو البطن الذي هو منهم وقريش
قبيلته. قوله: لا تعدهم بسكون العين أي لا تتجاوزهم، وقد أنكر نافع مولى ابن
عمر أن يكون على عمر دين، فروى عمر بن شبة في كتاب المدينة بإسناد صحيح
أن نافعا قال: من أين يكون على عمر دين وقد باع رجل من ورثته ميراثه بمائة ألف اه.
قال في الفتح: وهذا لا ينفي أن يكون عند موته عليه دين، فقد يكون الشخص كثير
المال ولا يستلزم نفي الدين عنه، فلعل نافعا أنكر أن يكون دينه لم يقض. قوله:
فإني لست اليوم للمؤمنين أمير قال ابن التين: إنما قال ذلك عندما أيقن بالموت،
163

أشار بذلك إلى عائشة حتى لا تحابيه لكونه أمير المؤمنين، وأشار ابن التين أيضا إلى
أنه أراد أن تعلم أن سؤاله لها بطريق الطلب لا بطريق الامر. قوله: ولأوثرنه
استدل بذلك على أنها كانت تملك البيت وفيه نظر، بل الواقع أنها كانت تملك
منفعته بالسكنى فيه والاسكان ولا يورث عنها، وحكم أزواج النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كالمعتدات لأنهن لا يتزوجن بعده صلى الله عليه وآله وسلم. قوله:
ارفعوني أي من الأرض، كأنه كان مضطجعا فأمرهم أن يقعدوه. قوله: فأسنده
رجل إليه قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه ويحتمل أنه ابن عباس. قوله:
فإن أذنت لي فأدخلوني ذكر ابن سعد عن معن بن عيسى عن مالك أن عمر
كان يخشى أن تكون أذنت في حياته حياء منه وأن ترجع عن ذلك بعد موته،
فأراد أن لا يكرهها على ذلك. قوله: فولجت عليه أي دخلت على عمر، في رواية
الكشميهني فبكت. وفي رواية غيره: فمكثت. وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن
المقدام بن معد يكرب أنها قالت: يا صاحب رسول الله، يا صهير رسول الله، يا أمير
المؤمنين، فقال عمر: لا صبر لي على ما أسمع، أحرج عليك بما لي من الحق عليك أن
تندبيني بعد مجلسك هذا فأما عيناك فلن أملكهما. قوله: فولجت داخلا لهم
أي مدخلا كان في الدار. قوله: أوص يا أمير المؤمنين استخلف في البخاري
في كتاب الأحكام منه أن الذي قال ذلك هو عبد الله بن عمر. قوله: من هؤلاء
النفر أو الرهط شك من الراوي. قوله: فسمى عليلا الخ، قد استشكل اقتصاره
على هؤلاء الستة من العشرة المبشرين بالجنة، وأجيب بأنه أحدهم وكذلك أبو
بكر، ومنهم أبو عبيدة وقد مات قبله، وأما سعيد بن زيد فلما كان ابن ابن عم عمر لم
يسمه فيهم مبالغة في التبري من الامر، وصرح المدائني بأسانيده أن عمر عد سعيد
بن زيد فيمن توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنهم راض إلا أنه استثناه من
أهل الشورى لقرابته منه، وقال: لا أرب لي في أموركم فارغب فيها لأحد من أهلي. قوله: يشهدكم عبد الله بن عمر الخ، في رواية للطبري: فقال له رجل:
استخلف عبد الله بن عمر، قال: والله ما أردت الله بهذه. وأخرج نحوه ابن سعد
بإسناد صحيح من مرسل النخعي ولفظه: فقال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت
الله بهذا أستخلف من لم يحسن أن يطلق امرأته. قوله: كهيئة التعزية له أي
164

لابن عمر، لأنه لما أخرجه من أهل الشورى في الخلافة أراد جبر خاطره بأن جعله من
أهل المشاورة. وزعم الكرماني أن هذا من كلام الراوي لا من كلام عمر. قوله:
الامرة بكسر الهمزة، وللكشميهني: الامارة، زاد المدائني: وما أظن أن يلي هذا الامر
إلا علي أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي فستختلف عليه
الناس. قوله: بالمهاجرين الأولين هم من صلى للقبلتين. وقيل: من شهد بيعة
الرضوان. قوله: الذين تبوؤا أي سكنوا المدينة قبل الهجرة، وادعى بعضهم أن
الايمان المذكور هنا من أسماء المدينة وهو بعيد. قال الحافظ: والراجح أنه ضمن
تبوؤا هنا معنى لزموا، أو عامل نصبه محذوف تقديره: واعتقدوا أن الايمان
لشدة ثبوته في قلوبهم، كأنه أحاط بهم فكأنهم نزلوه. قوله: فهم ردء الاسلام
أي عون الاسلام الذي يدفع عنه، وغيظ العدو أي يغيظون العدو بكثرتهم وقوتهم.
قوله: إلا فضلهم أي إلا ما فضل عنهم. قوله: من حواشي أموالهم أي ما
ليس يختار، والمراد بذمة الله أهل الذمة، والمراد بالقتال من ورائهم أي إذا قصدهم
عدو. قوله: فانطلقنا في رواية الكشميهني: فانقلبنا أي رجعنا. قوله: فوضع
هنالك مع صاحبيه قد اختلف في صفة القبور الثلاثة المكرمة، فالأكثر على أن
قبر أبي بكر وراء قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبر عمر وراء قبر أبي بكر،
وقيل: إن قبره صلى الله عليه وآله وسلم تقدم إلى القبلة، وقبر أبي بكر حذاء منكبيه،
وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر. وقيل: قبر أبي بكر عند رجلي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وقبر عمر عند رجلي أبي بكر. وقيل غير ذلك. قوله: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة
منكم أي في الاختيار ليقل الاختلاف، كذا قال ابن التين، وصرح ابن المدائني في
روايته بخلاف ذلك. قوله: والله عليه والاسلام بالرفع فيهما والخبر محذوف، أي
عليه رقيب أو نحو ذلك. قوله: أفضلهم في نفسه أي في معتقده، زاد المدائني في
رواية فقال عثمان: أنا أول من رضي، وقال علي: أعطني موثقا لنؤثرن الحق ولا تخصن
ذا رحم، فقال: نعم. قوله: فأسكت بضم الهمزة وكسر الكاف، كأن مسكتا أسكتهما،
ويجوز فتح الهمزة والكاف أو هو بمعنى سكت، والمراد بالشيخين علي وعثمان.
قوله: فأخذ بيد أحدهما هو علي، والمراد بالآخر في قوله ثم خلا بالآخر هو
عثمان، كما يدل على ذلك سياق الكلام. قوله: والقدم بكسر القاف وفتحها كما
165

تقدم، زاد المدائني: أن عبد الرحمن قال لعلي: أرأيت لو صرف هذا الامر عنك فلم
تحضر من كنت ترى أحق بها من هؤلاء الرهط؟ قال: عثمان، ثم قال لعثمان كذلك
فقال: علي وزاد أيضا: أن سعدا أشار على عبد الرحمن بعثمان، وأنه دار تلك الليالي
كلها على الصحابة، ومن وافى المدينة من أشراف الناس لا يخلو برجل منهم إلا
أمره بعثمان، وفي هذا الأثر دليل على أنه يجوز جعل أمر الخلافة شورى بين
جماعة من أهل الفضل والعلم والصلاح، كما يجوز الاستخلاف وعقد أهل الحل والعقد.
قال النووي وغيره: أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد
أهل الحل والعقد لانسان حيث لا يكون هناك استخلاف غيره، وعلى جواز جعل الخلافة
شورى بين عدد محصور أو غيره، وأجمعوا على أنه يجب نصب خليفة، وعلى أن
وجوبه بالشرع لا بالعقل، وخالف بعضهم كالأصم وبعض الخوارج فقالوا: لا يجب
نصب الخليفة، وخالفه بعض المعتزلة فقالوا: يجب بالعقل لا بالشرع وهما باطلان،
وللكلام موضع غير هذا.
باب أن ولي الميت يقضي دينه إذا علم صحته
عن سعد الأطول: أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا قال:
فأردت أن أنفقها على عياله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أخاك محتبس
بدينه فاقض عنه، فقال: يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس
لها بينة، فأعطها فإنها محقة رواه أحمد وابن ماجة.
الحديث إسناده في سنن ابن ماجة هكذا: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عفان قال:
حدثنا حماد بن سلمة قال: أخبرني عبد الملك أبو جعفر عن أبي
نضرة عن سعد الأطول فذكره، وعبد الملك هو أبو جعفر ولا يعرف اسم أبيه. وقيل:
إنه ابن أبي نضرة، وقد وثقه ابن حبان، ومن عداه من رجال الاسناد فهم رجال الصحيح.
وأخرجه أيضا ابن سعد وعبد بن حميد وابن قانع والباوردي والطبراني في الكبير والضياء
في المختارة، وهو في مسند أحمد بهذا الاسناد فإنه قال: حدثنا عفان فذكره، وفيه دليل
على تقديم إخراج الدين على ما يحتاج إليه من نفقة أولاد الميت ونحوها، ولا أعلم في ذلك
166

خلافا، وهكذا يقدم الدين على الوصية. قال في الفتح: ولم يختلف العلماء في أن الدين يقدم على
الوصية إلا في صورة واحدة، وهي ما لو أوصى لشخص بألف مثلا وصدقه الوارث
وحكم به، ثم ادعى آخر أن له في ذمة الميت دينا يستغرق موجوده وصدقه الوارث،
ففي وجه للشافعية أنها تقدم الوصية على الدين في هذه الصورة الخاصة، وأما تقديم
الوصية على الدين في قوله تعالى: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * (سورة النساء، الآية: 12) فقد قيل في ذلك
إن الآية ليس فيها صيغة ترتيب، بل المراد أن المواريث إنما تقع بعد قضاء الدين
وإنفاذ الوصية، وأتى بأو للإباحة وهي كقولك: جالس زيدا أو عمرا، أي لك مجالسة
كل واحد منهما اجتمعا أو افترقا. وإنما قدمت لمعنى اقتضى الاهتمام بتقديمها، واختلف
في تعيين ذلك المعنى، وحاصل ما ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة أمور، أحدها:
الخفة والثقل كربيعة ومضر، فمضر أشرف من ربيعة، لكن لفظ ربيعة لما كان أخف
قدم في الذكر وهذا يرجع إلى اللفظ. ثانيها: بحسب الزمان كعاد وثمود. ثالثها:
بحسب الطبع كثلاث ورباع. رابعها: بحسب الرتبة كالصلاة والزكاة، لأن الصلاة حق البدن
والزكاة حق المال، فالبدن مقدم على المال. خامسها: تقديم السبب على المسبب كقوله
تعالى: * (عزيز حكيم) * (سورة البقرة، الآية: 209). وقال بعض السلف: عز فلما عز حكم. سادسها: بالشرف والفضل
كقوله تعالى: * (من النبيين والصديقين) * (سورة النساء، الآية: 69) وإذا تقرر ذلك فقد ذكر السهيلي أن
تقديم الوصية في الذكر على الدين، لأن الوصية إنما تقع على سبيل البر والصلة،
بخلاف الدين فإنه إنما يقع غالبا بعد الميت بنوع تفريط، فوقعت البداءة بالوصية
لكونها أفضل. وقال غيره: قدمت الوصية لأنها شئ يؤخذ بغير عوض، والدين يؤخذ
بعوض، فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين، وكان أداؤها
مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإن الوارث مطمئن بإخراجه فقدمت الوصية لذلك،
وأيضا فهي حظ فقير ومسكين غالبا، والدين حظ غريم يطلبه بقوة، وله مقال كما صح
عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن لصاحب الدين مقالا. وأيضا فالوصية ينشئها
الموصي من قبل نفسه، فقدمت تحريضا على العمل بها بخلاف الدين. قال الزين بن
المنير: تقديم الوصية في الذكر على الدين لا يقتضي تقديمها في المعنى لأنهما معا قد
ذكرا في سياق البعدية، لكن الميراث يلي الوصية ولا يلي الدين في اللفظ، بل هو
بعد بعده، فيلزم أن الدين يقدم في الأداء باعتبار القبلية فيقدم الدين على الوصية،
167

وباعتبار البعدية فتقدم الوصية على الدين اه. وقد أخرج أحمد والترمذي وغيرهما
من طريق الحرث الأعور عن علي عليه سلام الله ورضوانه قال: قضى محمد أن الدين
قبل الوصية، وأنتم تقرؤون الوصية قبل الدين والحديث وإن كان إسناده ضعيفا
لكنه معتضد بالاتفاق الذي سلف قال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم.
قوله: قد أديت عنه فيه دليل على أنه يجوز للوصي أن يستقل بنفسه في قضاء
ديون الميت، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر عليه ذلك. قال في البحر
مسألة: وللوصي استيفاء ديون الميت وإيفاؤها إجماعا لنيابته عنه اه. قوله: فإنها محقة
لعله صلى الله عليه وآله وسلم حكم بعلمه أو بوحي.
كتاب الفرائض
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تعلموا
الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم وهو ينسى، وهو أول شئ ينزع من أمتي
رواه ابن ماجة والدارقطني. وعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال: العلم ثلاثة وما سوى ذلك فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو
فريضة عادلة رواه أبو داود وابن ماجة. وعن الأحوص عن ابن مسعود
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تعلموا القرآن وعلموه الناس،
وتعلموا الفرائض وعلموها، فإني امرؤ مقبوض والعلم مرفوع، ويوشك أن يختلف
اثنان في الفريضة والمسألة فلا يجدان أحدا يخبرهما ذكره أحمد بن حنبل في رواية
ابنه عبد الله. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرحم
أمتي بأمتي أبا بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال
والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله عز وجل أبي، وأعلمها بالفرائض
زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح رواه أحمد
وابن ماجة والترمذي والنسائي.
حديث أبي هريرة أخرجه أيضا الحاكم ومداره على حفص بن عمر بن أبي العطاف
وهو متروك، وحديث عبد الله بن عمرو في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم
168

الإفريقي وقد تكلم فيه غير واحد، وفيه أيضا عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي
إفريقية، وقد غمزه البخاري وابن أبي حاتم. وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا
النسائي والحاكم والدارمي والدارقطني من رواية عوف عن سليمان بن جابر عنه، وفيه
انقطاع بين عوف وسليمان، ورواه النضر بن شميل وشريك وغيرهما متصلا. وأخرجه
أيضا الطبراني في الأوسط وفي إسناده محمد بن عقبة السدوسي، وثقه ابن حبان
وضعفه أبو حاتم، وفيه أيضا سعيد بن أبي بن كعب وقد ذكره ابن حبان في الثقات،
وأخرجه أيضا أبو يعلى والبزار وفي إسنادهما من لا يعرف. وأخرج نحوه الطبراني
في الأوسط عن أبي بكر والترمذي عن أبي هريرة. وحديث أنس صححه الترمذي
والحاكم وابن حبان وقد أعل بالارسال، وسماع أبي قلابة من أنس صحيح إلا أنه
قيل: لم يسمع منه هذا. وقد ذكر الدارقطني الاختلاف على أبي قلابة في العلل،
ورجح هو والبيهقي والخطيب في المدرج أن الموصول منه ذكر أبي عبيدة والباقي
مرسل. ورجح ابن المواق وغيره رواية الموصول، وله طريق أخرى عن أنس
أخرجها الترمذي. (وفي الباب) عن جابر عند الطبراني في الصغير بإسناد ضعيف.
وعن أبي سعيد عن العقيلي في الضعفاء. وعن ابن عمر عند ابن عدي وفي إسناده
كوثر وهو متروك. قوله: الفرائض جمع فريضة كحدائق جمع حديقة وهي مأخوذة
من الفرض وهو القطع، يقال: فرضت لفلان كذا أي قطعت له شيئا من المال، وقيل:
هي من فرض القوس وهو الحز الذي في طرفه حيث يوضع الوتر ليثبت فيه
ويلزمه ولا يزول، كذا قال الخطابي. وقيل: الثاني خاص بفرائض الله تعالى، وهي
ما ألزم به عباده لمناسبة اللزوم لما كان الوتر يلزم محله. قوله: فإنه نصف العلم قال
ابن الصلاح: لفظ النصف ههنا عبارة عن القسم الواحد وإن لم يتساويا. وقال ابن
عيينة: إنما قيل له نصف العلم لأنه يبتلى به الناس كلهم، وفيه الترغيب في تعلم الفرائض
وتعليمها والتحريض على حفظها، لأنها لما كانت تنسى وكانت أول ما ينزع من العلم
كان الاعتناء بحفظها أهم ومعرفتها لذلك أقوم. قوله: وما سوى ذلك فضل فيه
دليل على أن العلم النافع الذي ينبغي تعلمه وتعليمه هو الثلاثة المذكورة، وما عداها
ففضل لا تمس إليه حاجة. قوله: فلا يجدان أحدا يخبرهما فيه الترغيب في طلب
العلم، خصوصا علم الفرائض لما سلف من أنه ينسى وأول ما ينزع. قوله: وعن
169

أنس الخ، فيه دليل على فضيلة كل واحد من الصحابة المذكورين، وأن زيد بن
ثابت أعلمهم بالفرائض، فيكون الرجوع إليه عند الاختلاف فيها أولى من
الرجوع إلى غيره، ويكون قوله فيها مقدما على أقوال سائر الصحابة، ولهذا اعتمده
الشافعي في الفرائض.
باب البداءة بذوي الفروض وإعطاء العصبة ما بقي
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألحقوا الفرائض
بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر متفق عليه.
قوله: ألحقوا الفرائض بأهلها الفرائض الأنصباء المقدرة وأهلها المستحقون
لها بالنص. قوله: فما بقي أي ما فضل بعد إعطاء ذوي الفروض المقدرة فروضهم.
وقوله: لأولى أفعل تفضيل من الولي بمعنى القرب، أي لأقرب رجل من الميت. قال
الخطابي: المعنى أقرب رجل من العصبة. وقال ابن بطال: المراد أن الرجال من العصبة
بعد أهل الفروض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد،
فإن استووا اشتركوا. وقال ابن التين: المراد به العم مع العمة، وابن الأخ
مع بنت الأخ، وابن العم مع بنت العم، فإن الذكور يرثون دون الإناث، وخرج من ذلك الأخ
مع الأخت لأبوين أو لأب فإنهم يشتركون بنص قوله تعالى: * (وإن كانوا إخوة
رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) * (سورة النساء، الآية: 176) وكذلك الاخوة لام فإنهم يشتركون هم
والأخوات لام لقوله تعالى: * (فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من
ذلك فهم شركاء في الثلث) * (سورة النساء، الآية: 12). قوله: رجل ذكر هكذا في جميع الروايات، ووقع عند
صاحب النهاية والغزالي وغيرهما من أهل الفقه فلأولى عصبة ذكر، واعترض ذلك
ابن الجوزي والمنذري بأن لفظة العصبة ليست محفوظة. وقال ابن الصلاح: فيها بعد
عن الصحة من حيث اللغة فضلا عن الرواية، لأن العصبة في اللغة اسم للجمع لا
للواحد، وتعقب ذلك الحافظ فقال: إن العصبة اسم جنس يقع على الواحد فأكثر،
ووصف الرجل بأنه ذكر زيادة في البيان. وقال ابن التين: إنه للتوكيد. وتعقبه
القرطبي بأن العرب تعتبر حصول فائدة في التأكيد ولا فائدة هنا، ويؤيد ذلك ما
170

صرح به أئمة المعاني من أن التأكيد لا بد له من فائدة، وهي إما دفع توهم التجوز أو السهو
أو عدم الشمول. وقيل: إن الرجل قد يطلق على مجرد النجدة والقوة في الامر فيحتاج إلى
ذكر ذكر. وقيل: قد يراد برجل بمعنى الشخص فيعم الذكر والأنثى وقال ابن العربي:
فائدته هي أن الإحاطة بالميراث جميعه إنما تكون للذكر لا للأنثى، وأما البنت المفردة
فأخذها للمال جميعه بسببين. الفرد والرد. وقيل: احترز به عن الخنثى. وقيل: إنه قد يطلق
الرجل على الأنثى تغليبا كما في حديث: من وجد متاعه عند رجل
وحديث: أيما رجل ترك مالا وقال السهيلي: إن ذكر صفة لقوله أولى لقوله رجل، وأطال الكلام في
تقوية ذلك وتضعيف ما عداه، وتبعه الكرماني، وقيل: غير ذلك. (والحديث) يدل على
أن الباقي بعد استيفاء أهل الفروض المقدرة لفروضهم يكون لأقرب العصبات من
الرجال، ولا يشاركه من هو أبعد منه، وقد حكى النووي الاجماع على ذلك، وقد استدل به
ابن عباس ومن وافقه على أن الميت إذا ترك بنتا وأختا وأخا يكون للبنت النصف
والباقي للأخ ولا شئ للأخت.
وعن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بابنتيها من سعد فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع
قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان
إلا بمال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو
لك رواه الخمسة إلا النسائي.
الحديث حسنه الترمذي، وأخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده عبد الله بن محمد
بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي، ولا يعرف إلا من حديثه كما قال الترمذي وقد
اختلف الأئمة فيه. قال الترمذي: هو صدوق سمعت محمدا يقول: كان أحمد وإسحاق
والحميدي يحتجون بحديثه. وروى هذا الحديث أبو داود بلفظ: فقالت: يا رسول الله هاتان
بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد قال أبو داود: أخطأ فيه بشر، وهما بنتا سعد بن الربيع،
وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. قوله: ولا ينكحان إلا بمال يعني أن
الأزواج لا يرغبون في نكاحهن إلا إذا كان معهن مال وكان ذلك معروفا في العرب.
قوله: فنزلت آية الميراث أي قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل
حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين) * (سورة النساء، الآية: 11) الآية. (الحديث) فيه دليل على أن للبنتين
171

الثلثين، وإليه ذهب الأكثر. وقال ابن عباس: بل للثلاث فصاعدا لقوله تعالى: * (فوق
اثنتين) * (سورة النساء، الآية: 11) وحديث الباب نص في محل النزاع ويؤيده أن الله سبحانه جعل للأختين
الثلثين والبنتان أقرب إلى الميت منهما.
وعن زيد بن ثابت: أنه سئل عن زوج وأخت لأبوين، فأعطى
الزوج النصف والأخت النصف وقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قضى بذلك رواه أحمد. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، واقرؤوا إن شئتم: * (النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم) * (سورة الأحزاب، الآية: 6) فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن
ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه متفق عليه.
الحديث الأول في إسناده أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط وبقية رجاله رجال
الصحيح. وفيه دليل على أن الزوج يستحق النصف والأخت النصف من مال الميت
الذي لم يترك غيرهما، وذلك مصرح به في القرآن الكريم، أما الزوج فقال الله تعالى:
* (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) * (سورة النساء، الآية: 12) الآية. وأما الأخت فقال الله تعالى: * (إن امرؤ
هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) * (سورة النساء، الآية: 106). قوله: فليرثه عصبته في لفظ
للبخاري: فلورثته. وفي رواية لمسلم: فهو لورثته. وفي لفظ له: فإلى العصبة.
قوله: ومن ترك دينا أو ضياعا الضياع بفتح المعجمة بعدها تحتانية قال الخطابي:
هو وصف لمن خلفه الميت بلفظ المصدر أي ترك ذوي ضياع أي لا شئ لهم. قوله:
فليأتني في لفظ آخر: فعلي وإلي. وقد اختلف هل كان رسول الله يقضي دين
المديونين من مال المصالح أو من خالص مال نفسه؟ وقد تقدم في كتاب الحوالة حديث
جابر بلفظ: فلما فتح على رسوله. وفي لفظ: فلما فتح الله عليه وفي ذلك
إشعار بأنه كان يقضي من مال المصالح، واختلفوا هل كان القضاء واجبا عليه صلى
الله عليه وآله وسلم أم لا؟ وقد تقدم بقية الكلام على الحديث في كتاب الحوالة.
باب سقوط ولد الأب بالاخوة من الأبوين
عن علي رضي الله عنه قال: إنكم تقرؤون هذه الآية: * (من بعد وصية
172

يوصى بها أو دين) * (سورة النساء، الآية: 12) وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدين قبل الوصية،
وأن أعيان بني الام يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون
أخيه لأبيه رواه أحمد والترمذي وابن ماجة. وللبخاري منه تعليقا: قضى بالدين
قبل الوصية.
الحديث أخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده الحرث الأعور وهو ضعيف، وقد قال
الترمذي: إنه لا يعرفه إلا من حديثه لكن العمل عليه وكان عالما بالفرائض. وقد
قال النسائي: لا بأس به. قوله: قضى بالدين قبل الوصية قد تقدم الكلام على هذا
في آخر كتاب الوصايا. قوله: وأن أعيان بني الام الأعيان من الاخوة
هم الاخوة من أب وأم. قال في القاموس في مادة عين: وواحد الأعيان للإخوة من أب وأم،
وهذه الاخوة تسمى المعاينة انتهى. قوله: دون بني العلات هم أولاد الأمهات
المتفرقة من أب واحد. قال في القاموس: والعلة الضرة، وبنو العلات بنو أمهات شتى
من رجل انتهى. ويقال للاخوة لام فقط أخياف بالخاء المعجمة والياء التحتية وبعد
الألف فاء. (والحديث) يدل على أنه تقدم الاخوة لأب وأم على الاخوة لأب،
ولا أعلم في ذلك خلافا.
باب الأخوات مع البنات عصبة
عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن ابنه وابنة ابن
وأخت فقال: للابنة النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود، فسئل ابن مسعود
وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين
وما بقي فللأخت رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. وزاد أحمد والبخاري: فأتينا
أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
وعن الأسود أن معاذ بن جبل ورث أخت وابنة، جعل لكل واحدة منهما
النصف وهو باليمن ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ حي رواه أبو داود
والبخاري بمعناه.
173

قوله: هزيل قال النووي: هو بالزاي إجماعا انتهى. ووقع في كلام كثير
من الفقهاء هذيل بالذال المعجمة، قال الحافظ: وهو تحريف. قوله: سئل أبو موسى
هذا لفظ البخاري، ولفظ غيره: جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن أبي ربيعة
فسألهما عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم، فقالا: للابنة النصف، وللأخت لأب وأم
النصف، ولم يورثا ابنة الابن شيئا. وبقية الحديث كلفظ البخاري، وفيه دليل على أن
الأخت مع البنت عصبة تأخذ الباقي بعد فرضها إن لم يكن معها ابنة ابن كما في حديث
معاذ، وتأخذ الباقي بعد فرضها وفرض بنت الابن كما في حديث هزيل، وهذا
مجمع عليه. وقد رجع أبو موسى إلى ما رواه ابن مسعود، وكانت هذه الواقعة في أيام
عثمان، لأن أبا موسى كان وقت السؤال أميرا على الكوفة، وسلمان بن ربيعة قاضيا بها،
وإمارة أبي موسى على الكوفة كانت في ولاية عثمان. قال ابن بطال: يؤخذ من هذه
القصة أن للعالم أن يجتهد إذا ظن أن لا نص في المسألة ولا يترك الجواب إلى أن يبحث
عن ذلك، وأن الحجة عند التنازع هي السنة فيجب الرجوع إليها، قال: ولا خلاف
بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود. قال ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى
وسلمان بن ربيعة الباهلي. وقد رجع أبو موسى عن ذلك، ولعل سلمان أيضا رجع
عن ذلك كأبي موسى انتهى. وقد اختلف في صحبة سلمان المذكور. قوله: لقد
ضللت إذا أي إذا وقعت مني المتابعة لهما وترك ما وردت به السنة. قوله: هذا
الحبر بفتح المهملة وبكسرها أيضا وسكون الموحدة ورجح الجوهري الكسر للمهملة،
وإنما سمي حبرا لتحبيره الكلام وتحسينه، قاله أبو عبيد الهروي. وقيل: سمي باسم
الحبر الذي يكتب به. قال في الفتح: وهو بالفتح في رواية جميع المحدثين، وأنكر
أبو الهيثم الكسر، وقال الراغب: يسمى العالم حبرا لما يبقى من أثر علومه. وقوله:
ونبي الله يومئذ حي فيه إشارة إلى أن معاذا لا يقضي بمثل هذا القضاء
في حياته صلى الله عليه وآله وسلم إلا لدليل يعرفه، ولو لم يكن لديه دليل
لم يعجل بالقضية.
174

باب ما جاء في ميراث الجدة والجد
عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها
فقال: ما لك في كتاب الله شئ، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم شيئا فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟
فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه
لها أبو بكر. قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها فقال:
ما لك في كتاب الله شئ ولكن هو ذاك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما،
وأيكما خلت به فهو لها. رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. وعن عبادة
بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى للجدتين من الميراث بالسدس
بينهما رواه عبد الله بن أحمد في المسند. وعن بريدة: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم رواه أبو داود.
وعن عبد الرحمن بن يزيد: قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ثلاث جدات السدس: ثنتين من قبل الأب وواحدة من قبل الام رواه
الدارقطني هكذا مرسلا. وعن القاسم بن محمد قال: جاءت الجدتان إلى أبي
بكر الصديق فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الام فقال له رجل من الأنصار:
أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث فجعل السدس بينهما رواه
مالك في الموطأ.
حديث قبيصة أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم، قال الحافظ: وإسناده
صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح سماعه من
الصديق، ولا يمكن شهوده القصة، قاله ابن عبد البر. وقد اختلف في مولده والصحيح
أنه ولد عام الفتح فيبعد شهوده القصة، وقد أعله عبد الحق تبعا لابن حزم بالانقطاع.
وقال الدارقطني في العلل بعد أن ذكر الاختلاف فيه على الزهري: يشبه أن
يكون الصواب قول مالك ومن تابعه. وحديث عبادة بن الصامت أخرجه أيضا
أبو القاسم بن منده في مستخرجه، والطبراني في الكبير بإسناد منقطع، لأن إسحاق
175

بن يحيى لم يسمع من عبادة. وحديث بريدة أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده
عبد الله العتكي وهو مختلف فيه، وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن الجارود
وقواه ابن عدي. وحديث عبد الرحمن بن يزيد هو مرسل كما ذكر المصنف،
ورواه أبو داود في المراسيل بسند آخر عن إبراهيم النخعي. ورواه الدارقطني
والبيهقي من مرسل الحسن أيضا. وأخرج نحوه الدارقطني من طريق أبي الزناد
عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه كان يورث ثلاث جدات إذا استوين،
ثنتان من قبل الأب وواحدة من قبل الام. ورواه البيهقي من طرق عن زيد بن
ثابت. وروى الدارقطني من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب عن زيد بلفظ حديث
عبد الرحمن المذكور، وحديث القاسم
بن محمد رواه مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم وهو منقطع، لأن القاسم لم يدرك جده أبا بكر. ورواه الدارقطني من طريق ابن عيينة،
وفي الباب عن معقل بن يسار عند أبي القاسم بن منده، وقد ذكر القاضي حسين
أن الجدة التي جاءت إلى الصديق أم الام، وأن التي جاءت إلى عمر أم الأب. وفي
رواية ابن ماجة ما يدل له، والأحاديث المذكورة في الباب تدل على أن فرض الجدة
الواحدة السدس، وكذلك فرض الجدتين والثلاث، وقد نقل محمد بن نصر من أصحاب
الشافعي اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك حكى ذلك عنه البيهقي. قال في البحر
مسألة: فرضهن يعني الجدات السدس وإن كثرن إذا استوين، وتستوي أم الام وأم
الأب لا فضل بينهما، فإن اختلفن سقط الأبعد بالأقرب، ولا يسقطهن إلا الأمهات،
والأب يسقط الجدات من جهته، والام من الطرفين، وكل جدة أدرجت أبا بين
أمين، وأما بين أبوين فهي ساقطة. مثال الأول: أم أبي الام فبينها وبين الميت أب. ومثال
الثاني: أم أبي أم الأب انتهى. ولأهل الفرائض في الجدات كلام طويل ومسائل
متعددة، فمن أحب الوقوف على تحقيق ذلك فليرجع إلى كتب الفن.
وعن عمران بن حصين: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن ابن ابني
مات فما لي من ميراثه؟ قال: لك السدس فلما أدبر دعاه
قال: لك سدس آخر، فلما أدبر دعاه فقال: إن السدس الآخر طعمة رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
وعن الحسن: أن عمر سأل عن فريضة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجد،
فقام معقل بن يسار المزني فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال:
176

ماذا؟ قال: السدس، قال: مع من؟ قال: لا أدري، قال: لا دريت فما تغني إذا رواه أحمد.
حديث عمران بن حصين هو من رواية الحسن البصري عنه، وقد قال
علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وغيرهما: أنه لم يسمع منه. وحديث معقل بن
يسار أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجة ولكنه منقطع، لأن الحسن
البصري لم يدرك السماع من عمر فإنه ولد في سنة إحدى وعشرين وقتل عمر في
سنة ثلاث وعشرين. وقيل: سنة أربع وعشرين. وذكر أبو حاتم الرازي أنه لم يصح
للحسن سماع من معقل بن يسار وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث
الحسن عن معقل. وحديث عمران يدل على أن الجد يستحق ما فرض له رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، قال قتادة: لا ندري مع أي شئ ورثه، قال: وأقل ما يرثه
الجد السدس. قيل: وصورة هذه المسألة أنه ترك الميت بنتين وهذا السائل فللبنتين
الثلثان والباقي ثلث، دفع صلى الله عليه وآله وسلم منه إلى الجد سدسا بالفرض لكونه
جدا، ولم يدفع إليه السدس الآخر الذي يستحقه بالتعصيب، لئلا يظن أن فرضه
الثلث وتركه حتى ولى أي ذهب فدعاه وقال: لك سدس آخر، ثم أخبره أن هذا السدس
طعمة أي زائد على السهم المفروض، وما زاد على المفروض فليس بلازم كالفرض.
(وقد اختلف) الصحابة في الجد اختلافا طويلا، ففي البخاري تعليقا يروى عن علي
وعمر وزيد بن ثابت وابن مسعود في الجد قضايا مختلفة. وقد ذكر البيهقي في
ذلك آثارا كثيرة. وروى الخطابي في الغريب بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين
قال: سألت عبيدة عن الجد فقال: ما يصنع بالجد فقد حفظت فيه عن عمر مائة قضية
يخالف بعضها بعضا، ثم أنكر الخطابي هذا إنكارا شديدا، وسبقه إلى ذلك ابن قتيبة.
قال الحافظ: هو محمول على المبالغة كما حكى ذلك البزار، وجعله ابن عباس كالأب
كما رواه البيهقي عنه وعن غيره. وروي أيضا من طريق الشعبي قال: كان من
رأي أبي بكر وعمر أن الجد أولى من الأخ وكان عمر يكره الكلام فيه. وروى
البيهقي أيضا على أنه شبه الجد بالبحر والنهر الكبير، والأب بالخليج المأخوذ منه،
والميت وإخوته كالساقيتين الممتدتين من الخليج، والساقية إلى الساقية أقرب منها
إلى البحر، ألا ترى إذا سدت إحداهما أخذت الأخرى ماءها ولم يرجع إلى البحر،
وشبهه زيد بن ثابت الأنصاري بساق الشجرة وأصلها، والأب كغصن منها، والاخوة
177

كغصنين تفرعا من ذلك الغصن، وأحد الغصنين إلى الآخر أقرب منه إلى أصل
الشجرة. ألا ترى أنه إذا قطع أحدهما امتص الآخر ما كان يمتص المقطوع ولا يرجع
إلى الساق هكذا؟ رواه البيهقي. ورواه الحاكم بغير هذا السياق. وأخرجه ابن حزم
في الاحكام من طريق إسماعيل القاضي عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبي الزناد عن أبيه
عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه فذكر قصة زيد بن ثابت قال في البحر مسألة:
علي وابن مسعود وزيد بن ثابت والأكثر: ولا يسقط الاخوة الجد بل يقاسمهم
بخلاف الأب وإن اختلفوا في كيفية المقاسمة. أبو بكر وعائشة وابن الزبير ومعاذ
والحسن البصري وبشر بن غياث: بل يسقط الاخوة كالأب إذ سماه الله أبا فقال:
* (ملة أبيكم إبراهيم) * (سورة الحج، الآية: 78) لنا قوله تعالى في الأب: * (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) * (سورة النساء، الآية: 176) وهذا عام لا
يخرج منه إلا ما خصه دليل، ولولا الاجماع لما سقط مع الأب لهذه الآية، وأن
الاخوة كالبنين بديل تعصيبهم أخواتهم فوجب أن لا يسقط مع الجد، وأما تسميته
الجد أبا فمجاز فلا يلزمنا. قال فرع: اختلف في كيفية المقاسمة، فقال علي وابن أبي
ليلى والحسن بن زياد والامامية: يقاسمهم ما لم تنقصه المقاسمة عن السدس، فإن
نقصته رد إلى السدس. وعن علي أنه يقاسم إلى التسع روته الامامية، قلنا: روايتنا
أشهر إذ راويها زيد بن علي عن أبيه عن جده. وقال ابن مسعود وزيد بن علي
والشافعي وأبو يوسف ومحمد والناصر ومالك: بل يقاسمهم إلى الثلث، فإن نقصته
المقاسمة عنه رد إليه، ثم استدل لهم بحديث عمران بن حصين المذكور. وقال الناصر:
أن الجد يقاسم الاخوة أبدا. وقد روى ابن حزم عن قوم من السلف أن الاخوة
يسقطون الجد، وقد قيل: إن المثل الذي ذكره علي والمثل الذي ذكره ابن مسعود
يستلزمان أن يكون الاخوة أولى من الأب ولا قائل به، وللأب مزايا منها النص
على ميراثه في القرآن وتعصيبه لأخته. وأجيب عن الأولى بأن الجد مثله فيها لأنه
أب وهو منصوص على ميراثه في القرآن، ورد بأن ذلك مجاز لا حقيقة. وأجيب بأن
الأصل في الاطلاق الحقيقة. وأيضا للجد مزايا: منها أنه يرث مع الأولاد. ومنها أنه
يسقط الاخوة لام اتفاقا.
178

باب ما جاء في ذوي الأرحام والمولى من أسفل
ومن أسلم على يد رجل وغير ذلك
عن المقدام بن معد يكرب: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من
ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرث، والخال وارث من لا
وارث له يعقل عنه ويرثه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن أبي أمامة
بن سهل: أن رجلا رمى رجلا بسهم فقتله وليس له وارث إلا خال، فكتب في ذلك
أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر، فكتب عمر إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الله
ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له رواه أحمد وابن ماجة،
وللترمذي منه المرفوع وقال: حديث حسن.
حديث المقدام أخرجه أيضا النسائي والحاكم وابن حيان وصححاه،
وحسنه أبو زرعة الرازي، وأعله البيهقي بالاضطراب، ونقل عن يحيى بن
معين أنه كان يقول: ليس فيه حديث قوي. وحديث عمر ذكره في التلخيص
ولم يتكلم عليه وقد حسنه الترمذي كما ذكره المصنف، ورواه عن بندار عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان عن
عبد الرحمن بن الحرث عن حكيم بن حكيم بن
عباد بن حنيف عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كتب عمر بن الخطاب
فذكره في الباب عن عائشة عند الترمذي والنسائي والدارقطني من رواية طاوس
عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الخال وارث من لا وارث له
قال الترمذي: حسن غريب، وأعله النسائي بالاضطراب، ورجح الدارقطني والبيهقي
وقفه. قال الترمذي: وقد أرسله بعضهم ولم يذكر فيه عائشة. وقال البزار: أحسن
إسناد فيه حديث أبي أمامة بن سهل، وأخرجه عبد الرزاق عن رجل من أهل
المدينة، والعقيلي وابن عساكر عن أبي الدرداء، وابن النجار عن أبي هريرة، كلها
مرفوعة. وقد استدل بحديثي الباب وما في معناهما على أن الخال من جملة الورثة.
قال الترمذي: واختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فورث بعضهم
الخال والخالة والعمة، وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي
179

الأرحام، وأما زيد بن ثابت فلم يورثهم وجعل الميراث في بيت المال اه. وقد حكى
صاحب البحر القول بتوريث ذوي الأرحام عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء
والشعبي ومسروق ومحمد ابن الحنفية والنخعي والثوري والحسن بن صالح وأبي
نعيم ويحيى بن آدم والقاسم بن سلام والعترة وأبي حنيفة وإسحاق والحسن
بن زياد، قالوا: إذا لم يكن معهم أحد من العصبة وذوي السهام، وإلى ذلك ذهب
فقهاء العراق والكوفة والبصرة وغيرهم. وحكي في البحر أيضا عن زيد بن ثابت
والزهري ومكحول والقاسم بن إبراهيم والامام يحيى ومالك والشافعي أنه لا ميراث
لهم. وبه قال فقهاء الحجاز، احتج الأولون بالأحاديث المتقدمة وبحديث عائشة الآتي،
وبعموم قوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) * (سورة الأنفال، الآية: 75) وقوله تعالى: * (للرجال
نصيب مما ترك الوالدان والأقربون
وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) * (سورة النساء، الآية: 7) ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشملهم والدليل على مدعي التخصيص. وأجاب
الآخرون عن ذلك فقالوا: عمومات الكتاب محتملة وبعضها منسوخ، والأحاديث
فيها ما تقدم من المقال، ويجاب عن ذلك بأن دعوى الاحتمال إن كان لأجل
العموم فليس ذلك مما يقدح في الدليل والاستلزام إبطال الاستدلال بكل دليل عام
وهو باطل، وإن كانت لأمر آخر فما هو. وأما الاعتذار عن أحاديث الباب بما فيها
من المقال فقد عرفت من صححها من الأئمة ومن حسنها، ولا شك في انتهاض
مجموعها للاستدلال إن لم ينتهض الافراد. (ومن جملة) ما استدلوا به على إبطال
ميراث ذوي الأرحام حديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال: سألت الله
عز وجل عن ميراث العمة والخالة فسارني أن لا ميراث لهما أخرجه أبو داود في
المراسيل، والدارقطني من طريق الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن
يسار مرسلا. وأخرجه النسائي من مرسل زيد بن أسلم، ويجاب بأن المرسل
لا تقوم به الحجة قالوا: وصله الحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد والطبراني،
ويجاب بأن إسناد الحاكم ضعيف، وإسناد الطبراني فيه محمد بن الحرث المخزومي.
قالوا: وصله أيضا الطبراني من حديث أبي هريرة. ويجاب بأنه ضعفه بمسعدة
بن اليسع الباهلي، قالوا: وصله الحاكم أيضا من حديث ابن عمر وصححه. ويجاب
بأن في إسناده عبد الله بن جعفر المديني وهو ضعيف، قالوا: روى له الحاكم شاهدا
من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن الحرث بن عبد مرفوعا. ويجاب
180

بأن في إسناده سليمان بن داود الشاذكوني وهو متروك، قالوا: أخرجه الدارقطني
من وجه آخر عن شريك. ويجاب بأنه مرسل، وكل هذه الطرق لا تقوم بها حجة،
وعلى فرض صلاحيتها للاحتجاج فهي واردة في الخالة والعمة فغايتها أنه لا ميراث
لهما، وذلك لا يستلزم إبطال ميراث ذوي الأرحام، على أنه قد قيل: إن المراد بقوله لا
ميراث لهما أي مقدور ومما يؤيد ثبوت ميراث ذوي الأرحام ما سيأتي في باب ميراث ابن
الملاعنة من جعله صلى الله عليه وآله وسلم ميراثه لورثتها من بعدها وهم أرحام له لا غير، ومن
المؤيدات لميراث ذوي الأرحام ما أخرجه أبو داود من حديث أبي موسى أنه
صلى الله عليه وآله وسلم قال: ابن أخت القوم منهم وأخرجه النسائي من حديث
أنس بلفظ: من أنفسهم قال المنذري في مختصر السنن: وقد أخرج البخاري ومسلم
والنسائي والترمذي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ابن أخت القوم منهم مختصرا
ومطولا، ومن الأجوبة المتعسفة قول ابن العربي: أن المراد بالخال السلطان، وأما
ما يقال من أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الخال وار ث من لا وارث له يدل على
أنه غير وارث، فيجاب عنه بأن المراد من لا وارث له سواء، ونظير هذا التركيب
كثير في كلام العرب، على أن محل النزاع هو إثبات الميراث له، وقد أثبته له صلى
الله عليه وآله وسلم وهو المطلوب.
وعن ابن عباس: أن رجلا مات على عهد رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ولم يترك وارثا إلا عبدا هو أعتقه فأعطاه ميراثه. وعن قبيصة
عن تميم الداري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما السنة في الرجل
من أهل الشرك يسلم على يد رجل من المسلمين؟ فقال: هو أولى الناس بمحياه
ومماته وهو مرسل قبيصة لم يلق تميما الداري. وعن عائشة: أن مولى للنبي صلى
الله عليه وآله وسلم خر من عذق نخلة فأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل له
من نسيب أو رحم؟ قالوا: لا، قال: أعطوا ميراثه بعض أهل قريته رواهن الخمسة إلا النسائي.
وعن بريدة قال: توفي رجل من الأزد فلم يدع وارثا، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: ادفعوه إلى أكبر خزاعة رواه أحمد وأبو داود.
وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين أصحابه وكانوا
181

يتوارثون بذلك حتى نزلت: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) *
(سورة الأنفال، الآية: 75) فتوارثوا بالنسب رواه الدارقطني.
حديث ابن عباس الأول حسنه الترمذي وهو من رواية عوسجة عن ابن
عباس. قال البخاري: عوسجة مولى ابن عباس الهاشمي روى عنه ابن دينار ولم
يصح. وقال أبو حاتم: ليس بالمشهور. وقال النسائي: عوسجة ليس بالمشهور ولا
نعلم أحدا يروي عنه غير عمرو. وقال أبو زرعة الرازي: ثقة. وحديث تميم قال
الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن موهب ويقال ابن وهب عن تميم
الداري، وقد أدخل بعضهم بين عبد الله بن موهب وتميم الداري قبيصة بن ذؤيب
وهو عندي ليس بمتصل اه. وقال الشافعي في هذا الحديث: ليس بثابت إنما يرويه عبد
العزيز بن عمر عن ابن وهب عن تميم الداري، وابن وهب ليس بالمعروف عندنا ولا
نعلمه لقي تميما. ومثل هذا لا يثبت عندنا ولا عندك من قبل أنه مجهول ولا أعلمه
متصلا. وقال الخطابي: ضعف أحمد بن حنبل حديث تميم الداري هذا وقال:
عبد العزيز راويه ليس من أهل الحفظ والاتقان. وقال البخاري في الصحيح: واختلفوا
في صحة هذا الخبر. وقال أبو مسهر: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ضعيف الحديث
، وقد احتج بعبد العزيز المذكور البخاري في صحيحه وأخرج له وهو مسلم وقال
يحيى بن معين: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ثقة. وقال ابن عمار: ثقة ليس بين
الناس فيه اختلاف. وحديث عائشة حسنه الترمذي، وقال عزا المنذري في مختصر
السنن حديث عائشة هذا والحديثين اللذين قبله إلى النسائي فينظر في قول المصنف
: رواهن الخمسة إلا النسائي. وحديث بريدة أخرجه أيضا النسائي مسندا ومرسلا،
وقال جبريل بن أحمر: ليس بالقوي والحديث منكر اه. وقال الموصلي: فيه نظر.
وقال أبو زرعة الرازي: شيخ. وقال يحيى بن معين: كوفي ثقة. ولفظ أبي داود عن
بريدة قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: إن عندي ميراث رجل من
الأزد ولست أجد أزديا أدفعه إليه، قال: فاذهب فالتمس أزديا، فالتمس أزديا حولا قال:
فأتاه بعد الحول فقال: يا رسول الله لم أجد أزديا أدفعه إليه، قال: فانطلق فانظر أول
خزاعي تلقاه فادفعه إليه فلما ولى قال: علي بالرجل فلما جاء قال: انظر أكبر خزاعة
فادفعه إليه وفي لفظ آخر قال: مات رجل من خزاعة فأتي النبي صلى الله عليه وآله
182

وسلم بميراثه فقال: التمسوا له وارثا أو ذا رحم، فلم يجدوا له وارثا، فقال: انظروا
أكبر رجل من خزاعة وحديث ابن عباس الثاني أخرجه أيضا أبو داود بلفظ:
كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما من الآخر، فنسخ
ذلك الأنفال فقال * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) * وفي إسناده علي بن
الحسين بن واقد وفيه مقال. وأخرج نحوه ابن سعد عن عروة بن الزبير وفيه:
فصارت المواريث بعد للأرحام والقرابة، وانقطعت تلك المواريث بالمؤاخاة ذكره
الأسيوطي في أسباب النزول، ومعناه في الدر المنثور. قوله: فأعطاه ميراثه قيل:
إن ذلك من باب الصرف لا من باب التوريث. قوله: هو أولى الناس بمحياه
ومماته فيه دليل على أن من أسلم على يد رجل من المسلمين ومات ولا وارث له
غيره كان له ميراثه. وقال الناصر والشافعي ومالك والأوزاعي: لا وارث له، بل
يصرف الميراث إلى بيت المال دونه. وقالت الحنفية والقاسمية وزيد بن علي وإسحاق
أنه يرث، إلا أن الحنفية والمؤيد بالله يشترطون في إرثه المحالفة. قوله: هل له من
نسيب أو رحم فيه دليل على توريث ذوي الأرحام، وقد تقدم الكلام على ذلك.
قوله: أعطوا ميراثه بعض أهل قريته فيه دليل على جواز صرف ميراث من
لا وارث له معلوم إلى واحد من أهل بلده، وظاهر قوله: ادفعوه إلى أكبر خزاعة أن ذلك
من باب التوريث، لأن الرجل إذا كان يجتمع هو وقبيلته في جد معلوم ولم يعلم له وارث
منهم على التعيين فأكبرهم سنا أقربهم إليه نسبا، لأن كبر السن مظنة لعلو الدرجة.
قوله: وكانوا يتوارثون بذلك قال في البحر: أراد بالآية أن العصبات وذوي
السهام أولى بالميراث من الحلفاء والمدعين. قال أبو عبيد: نسخت ميراثهما. وقوله
تعالى: * (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) * (سورة الأحزاب، الآية: 6) أي إلى حلفائكم. وقال جابر بن زيد ومقاتل
بن محمد وعطاء: بل إلى قرابتهم المشركين فأجازوا الوصية لهم للآية. قال
المهدي: وهو ظاهر البطلان لقوله تعالى: * (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)
* (سورة الممتحنة، الآية: 1) فكيف سماهم أولياء المؤمنين اه.
183

باب ميراث ابن الملاعنة والزانية منهما
وميراثهم منهم وانقطاعهم من الأب
في حديث المتلاعنين الذي يرويه سهل بن سعد قال: وكانت حاملا
وكان ابنها ينسب إلى أمه، فجرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله
أخرجاه. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا مساعاة
في الاسلام، من ساعى في الجاهلية فقد ألحقته بعصبته، ومن ادعى ولدا من غير
رشدة فلا يرث ولا يورث رواه أحمد وأبو داود. وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما رجل عاهر بحرة
أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث رواه الترمذي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لامه
ولورثتها من بعدها رواه أبو داود.
حديث ابن عباس في إسناده رجل مجهول في سنن أبي داود. وأخرج أبو داود
أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قضى أن كل مستلحق ولد زنا لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة وذلك
فيما استلحق في أول الاسلام، وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الشامي وفيه مقال، ووثقه
أحمد وابن معين والنسائي، وقال دحيم: يذكر بالقدر. وحديث عمرو بن شعيب الأول
في إسناده أبو محمد عيسى بن موسى القرشي الدمشقي، قال البيهقي: ليس بمشهور
وحديث عمرو بن شعيب الثاني في إسناده ابن لهيعة وفيه مقال معروف. قال الترمذي:
وروى يونس هذا الحديث عن الزهري عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. وروى مالك عن الزهري
عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا.
(وفي الباب) عن واثلة بن الأسقع عن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها
184

الذي لاعنت عنه قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد
بن حرب اه. وفي إسناده عمر بن رويبة التغلبي قال البخاري: فيه نظر، وسئل عنه
أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث، قيل: تقوم به الحجة، فقال: لا ولكن صالح وقال
الخطابي: هذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل. وقال البيهقي: لم يثبت البخاري ولا
مسلم هذا الحديث لجهالة بعض رواته اه. وقد صححه الحاكم وأحاديث الباب تدل
على أنه لا يرث ابن الملاعنة من الملاعن له ولا من قرابته شيئا، وكذلك لا يرثون
منه. وكذلك ولد الزنا وهو مجمع على ذلك، ويكون ميراثه لامه ولقرابتها، كما يدل
على ذلك حديث عمرو بن شعيب المذكور وتكون عصبته عصبة أمه. وقد روي نحو
ذلك عن علي وابن عباس، فيكون للام سهمها ثم لعصبتها على الترتيب، وهذا حيث
لم يكن غير الام وقرابتها من ابن للميت أو زوجة، فإن كان له ابن أو زوجة أعطى
كل واحد ما يستحقه كما في سائر المواريث. قوله: لا مساعاة في الاسلام المساعاة
الزنا وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر، لأنهن كن يسعين لمواليهن
فيكتسبن لضرائب كانت عليهن، يقال: ساعت الأمة إذ فجرت، وساعاها فلان إذ
فجر بها، كذا في النهاية.
باب ميراث الحمل
عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا استهل
المولود ورث رواه أبو داود. وعن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله والمسور
بن مخرمة قالا: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرث الصبي حتى يستهل
ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله.
حديث أبي هريرة في إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف، وقد روي
عن ابن حبان تصحيح الحديث. وحديث جابر أخرجه أيضا الترمذي والنسائي
وابن ماجة والبيهقي بلفظ: إذا استهل السقط صلي عليه وورث وفي إسناده إسماعيل
بن مسلم وهو ضعيف، قال الترمذي: وروي مرفوعا والموقوف أصح وبه جزم النسائي،
وقال الدارقطني في العلل: لا يصح رفعه. قوله: إذا استهل قال ابن الأثير: استهل
185

المولود إذا بكى عند ولادته، وهو كناية عن ولادته حيا وإن لم يستهل بل وجدت
منه أمارة تدل على حياته، وقد تقدم الكلام على الاستهلال في كتاب الجنائز.
(والحديثان) يدلان على أن المولود إذا وقع منه الاستهلال أو ما يقوم مقامه ثم مات
ورثه قرابته وورث هو منهم وذلك مما لا خلاف فيه، وقد اختلف في الامر الذي
تعلم به حياة المولود، فأهل الفرائض قالوا بالصوت أو الحركة وهو قول الكرخي،
وروي عن علي وزفر والشافعي. وروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله
وشريح النخعي ومالك وأهل المدينة أنه لا يرث ما لم يستهل صارخا. وفي شرح
الإبانة: الاستهلال عند الهادي والفريقين الحركة أو الصوت، وعند الناصر
ومالك ورواية عن أبي حنيفة وأبي طالب الصوت فقط، ويكفي عند الهادوية
خبر عدلة بالاستهلال، وعند مالك والهادي لا بد من عدلتين، وعند الشافعي أربع.
باب الميراث بالولاء
صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الولاء لمن أعتق
وللبخاري في رواية: الولاء لمن أعطى الورق وولي النعمة. وعن
قتادة عن سلمى بنت حمزة: أن مولاها مات وترك ابنته فورث النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ابنته النصف، وورث يعلى النصف وكان ابن سلمى رواه أحمد. وعن جابر
بن زيد عن ابن عباس: أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنة حمزة، فأعطى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته النصف وابنة حمزة النصف رواه الدارقطني.
واحتج أحمد بهذا الخبر في رواية أبي طالب وذهب إليه، وكذلك روي عن إبراهيم النخعي
ويحيى بن آدم وإسحاق بن راهويه أن المولى كان لحمزة. وقد روي أنه كان لبنت حمزة، فروى
محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الله بن شداد عن بنت حمزة
وهي أخت ابن شداد لامه: قالت: مات مولاي وترك ابنته فقسم رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ماله بيني وبين ابنته، فجعل لي النصف ولها النصف رواه
ابن ماجة. وابن أبي ليلى فيه ضعف، فإن صح هذا لم يقدح في الرواية الأولى، فإن
186

من المحتمل تعدد الواقعة ومن المحتمل أنه أضاف مولى الوالد إلى الولد بناء على
القول بانتقاله إليه أو توريثه به.
الحديث الذي أشار إليه المصنف بقوله: صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قد تقدم في باب من اشترى عبدا بشرط أن يعتقه من كتاب البيع، وتقدم أيضا
في باب من شرط الولاء أو شرطا فاسدا من كتاب البيع أيضا، وسيأتي أيضا في باب
المكاتب. وحديث قتادة ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وقال في مجمع
الزوائد: رجال أحمد ثقات، إلا أن قتادة لم يسمح من سلمى بنت حمزة، قال: وأخرجه
بأسانيد رجال بعضها رجال الصحيح. وحديث جابر بن زيد ذكره أيضا في
التلخيص وسكت عنه. وحديث محمد بن عبد الرحمن رواه النسائي من حديث ابنة
حمزة أيضا، وفي إسناده ابن أبي ليلى المذكور وهو القاضي وهو ضعيف كما قال المصنف،
وأعل الحديث النسائي بالارسال، وصحح هو والدارقطني الطريق المرسلة، وأخرجه
أيضا الحاكم وصرح بأن اسمها أمامة، وهو يخالف ما في
حديث أحمد المذكور في الباب من التصريح بأن اسمها سلمى. وفي مصنف ابن أبي شيبة أنها فاطمة، قال البيهقي:
اتفق الرواة على أن ابنة حمزة هي المعتقة وقال: إن قول إبراهيم النخعي إنه مولى
حمزة غلط، والأولى الجمع بين الروايتين بمثل ما ذكره المصنف رحمه الله. وحديث
ابنة حمزة فيه على فرض أنها هي المعتقة دليل على أن المولى الأسفل إذا مات
وترك أحدا من ذوي سهامه ومعتقا كان لذوي السهام من قرابته مقدار ميراثهم
المفروض والباقي للمعتق، ولا فرق بين أن يكون ذكرا أو أنثى، ويؤيد ذلك عموم
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الولاء لمن أعتق، والولاء لمن أعطى الورق وولي النعمة
وقد وقع الخلاف فيمن ترك ذوي أرحامه ومعتقه، فروي عن عمر بن الخطاب وابن
مسعود وابن عباس وزيد بن علي والناصر أن مولى العتاق لا يرث إلا بعد ذوي
أرحام الميت، وذهب غيرهم إلى أنه يقدم على ذوي أرحام الميت، ويأخذ الباقي بعد
ذوي السهام ويسقط مع العصبات، والرواية المذكورة عن قتادة تدل على أن العتيق إذا
مات وترك ذوي سهامه وعصبة مولاه كان لذوي السهام فرضهم والباقي لعصبة
المولى. ورواية ابن عبا س المذكورة تدل على أن العتيق إذا مات وترك ذوي سهامه
وذوي سهام مولاه كان لذوي سهامه نصيبهم والباقي لذوي سهام مولاه والذي جزم
187

به جماعة من أهل الفرائض أن ذوي سهام الميت يسقطون ذوي سهام المعتق، ويدل
على ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: ميراث الولاء للأكبر من الذكور، ولا ترث النساء من الولاء
إلا ولاء من أعتقن أو أعتقه من أعتقن. وأخرج البيهقي عن علي وعمر وزيد بن ثابت
أنهم كانوا لا يورثون النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن.
باب النهي عن بيع الولاء وهبته وما جاء في السائبة
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نهى عن بيع
الولاء وهبته رواه الجماعة. وعن علي: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل
الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا متفق عليه. وليس لمسلم فيه بغير إذن مواليه،
لكن له مثله بهذه الزيادة من حديث أبي هريرة. وعن هزيل بن شرحبيل
قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني أعتقت عبدا لي وجعلته سائبة فمات وترك
مالا ولم يدع وارثا، فقال عبد الله: إن أهل الاسلام لا يسيبون، وإنما كان أهل الجاهلية
يسيبون، وأنت ولي نعمته ولك ميراثه، وإن تأثمت وتحرجت في شئ فنحن نقبله
ونجعله في بيت المال رواه البرقاني على شرط الصحيح. وللبخاري منه: أن أهل
الاسلام لا يسيبون وأن أهل الجاهلية كانوا يسيبون.
في الباب عن عبد الله بن عمر عند الحاكم وابن حبان وصححه، والبيهقي وأعله
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع
ولا يوهب. قوله: نهى عن بيع الولاء وعن هبته فيه دليل على أنه لا يصح بيع
الولاء ولا هبته لأنه أمر معنوي كالنسب فلا يتأتى انتقاله. قال ابن بطال: أجمع العلماء
على أنه لا يجوز تحويل النسب وحكم الولاء حكمه لحديث: الولاء لحمة كلحمة النسب
وحكي في البحر عن مالك أنه يجوز بيع الولاء. وقال ابن بطال وغيره: جاء عن
عثمان جواز بيع الولاء وكذلك عن عروة، وجاء عن ميمونة جواز هبته، قال الحافظ:
قد أنكر ذلك ابن مسعود في زمن عثمان، فأخرج عبد الرزاق عنه أنه كان يقول:
188

أيبيع أحدكم نسبه؟ ومن طريق على الولاء شعبة من النسب. ومن طريق جابر: أنه
أنكر بيع الولاء وهبته. ومن طريق ابن عمر وابن عباس: أنهما كانا ينكران
ذلك وسنده صحيح، ويغني عن ذلك كله حديث ابن عمر المذكور في الكتاب، وحديثه
الثاني الذي ذكرناه فإنه حديث صحيح، وقد جمع أبو نعيم طرقه فرواه عن نحو
من خمسين رجلا من أصحاب عبد الله بن دينار عنه. ورواه أبو جعفر الطبري في
تهذيبه، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم أيضا من حديث عبد الله بن أبي أوفى، فلا
وجه لما قاله البيهقي من أنه يروى بأسانيد كلها ضعيفة. قوله: صرفا ولا عدلا
الصرف التوبة، وقيل: النافلة. والعدل الفدية، وقيل: الفريضة. (والحديث) يدل على أنه
يحرم على المولى أن يوالي غير مواليه لأن اللعن لمن فعل ذلك من الأدلة القاضية
بأنه من الذنوب الشديدة. قوله: وجعلته سائبة قال في القاموس: السائبة
المهملة والعبد يعتق على أن لا ولاء له انتهى. وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك
ثم هدمه الاسلام.
باب الولاء هل يورث أو يورث به
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: تزوج رياب بن حذيفة
بن سعيد ابن سهم أم وائل بنت معمر الجمحية، فولدت له ثلاثة فتوفيت أمهم، فورثها
بنوها رباعها وولاء مواليها، فخرج بهم عمرو بن العاص معه إلى الشام فماتوا في طاعون
عمواس فورثهم عمرو وكان عصبتهم، فلما رجع عمرو وجاء بنو معمر بن حبيب
يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب فقال: أقضي بينكم بما سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان
، فقضى لنا به، وكتب لنا كتابا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت
رواه ابن ماجة وأبو داود بمعناه. ولأحمد وسطه من قوله: فلما رجع عمرو وجاء
بنو معمر، إلى قوله: فقضى لنا به قال أحمد في رواية ابنه صالح: حديث عمر عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان هكذا
يرويه عمرو بن شعيب. وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود: أنهم
189

قالوا: الولاء للكبر فهذا الذي نذهب إليه، وهو قول أكثر الناس فيما بلغنا.
الحديث أخرجه أيضا النسائي مسندا ومرسلا، وصححه ابن المديني وابن عبد البر،
وزاد أبو داود بعد قوله وزيد بن ثابت: ورجل آخر، فلما استخلف عبد الملك
اختصموا إلى هشام بن إسماعيل أو إلى إسماعيل بن هشام فرفعهم إلى عبد الملك
فقال: هذا من القضاء الذي ما كنت أراه، قال: فقضى لنا بكتاب عمر بن الخطاب
فنحن فيه إلى الساعة. وأثر عمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود أخرجه أيضا
عبد الرزاق والبيهقي وسعيد بن منصور. قوله: رياب بكسر الراء المهملة وبعدها
ياء مثناة تحتية وبعد الألف باء موحدة، وذكره صاحب القاموس في مادة المهموز.
قوله: عمواس هي قرية بين الرملة وبيت المقدس. قوله: أنهم قالوا الولاء للكبر الخ،
أراد أحمد بن حنبل أن مذهب الجمهور يقتضي أن ولاء عتقاء أم وائل بنت معمر يكون
لأخوتها دون بنيها كما هو مذهب الجمهور، ذكر معنى ذلك في نهاية المجتهد. وحديث
عمر وفعله يقتضي تقديم البنين ثم رده إلى الاخوة بعدهم، وهو مذهب شريح وجماعة
وحجتهم ظاهر خبر عمر لأن البنين عصبتها، ولما كان عمرو بن العاص ليس بعصبة
لها رد الولاء إلى إخوتها لأنهم عصبتها، وفي ذلك دلالة على أن الولاء لا يورث، وإلا
لكان عمرو أحق به منهم. قال في البحر مسألة: الأكثر ولا يورث يعني الولاء.
بل تختص العصبات للخبر العترة والفريقان، ولا يعصب فيه ذكر أنثى فيختص به
ذكور أولاد المعتق وإخوته، إذ قد ثبت أن الأعمام لا يعصبون لضعفهم والولاء ضعيف،
فلم يقع فيه تعصيب بحال شريح وطاوس بل يورث ويعصبون لقوله صلى الله عليه
وآله وسلم: كلحمة النسب قلت: مخصص بالقياس. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
لا يورث انتهى، ومراده بالقياس القياس على عدم تعصيب الأعمام لأخواتهم. ومعنى
كون الولاء للكبر أنها لا تجري فيه قواعد الميراث، وإنما يختص بإرثه الكبر من
أولاد المعتق أو غيرهم، فإذا خلف رجل ولدين وقد كان أعتق عبدا فمات أحد
الولدين وخلف ولدا ثم مات العتيق اختص بولائه ابن المعتق دون ابن ابنه، وكذلك
لو أعتق رجل عبدا ثم مات وترك أخوين ثم مات أحدهما وترك ابنا ثم مات المعتق
فميراثه لأخي المعتق دون ابن أخيه. ووجه الاستدلال بما روي عن هؤلاء الصحابة
بأنهم لا يخالفون التوريث إلا توقيفا.
190

باب ميراث المعتق بعضه
عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المكاتب يعتق
بقدر ما أدى، ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه، ويورث بقدر ما عتق منه رواه
النسائي، وكذلك أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن ولفظهما: إذا أصاب
المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه والدارقطني مثلهما وزاد: وأقيم
عليه الحد بحساب ما عتق منه وقال أحمد في رواية محمد بن الحكم: إذا كان
العبد نصفه حرا ونصفه عبدا ورث بقدر الحرية، كذلك روي عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم.
الحديث رجال إسناده ثقات كما قال الحافظ في الفتح، لكنه اختلف في إرساله
ووصله، وقد اختلف في حكم المكاتب إذا أدى بعض مال الكتابة، فذهب أبو طالب
والمؤيد بالله إلى أنه إذا سلم شيئا من مال الكتابة صار لقدره حكم الحرية فيما
يتبعض من الاحكام حيا وميتا، كالوصية والميراث والحد والأرش، وفيما لا يتبعض
كالقود والرجم والوطئ بالملك له حكم العبد. وقال أبو حنيفة والشافعي: إنه لا يثبت
له شئ من أحكام الأحرار، بل حكمه حكم العبد حتى يستكمل الحرية، وحكاه الحافظ
في الفتح عن الجمهور. وحكي في البحر عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت
وعائشة وأم سلمة والحسن البصري وسعيد بن المسيب والزهري والثوري والعترة
وأبي حنيفة والشافعي ومالك أن المكاتب لا يعتق حتى يوفي ولو سلم الأكثر، واحتجوا
بما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من طرق عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده مرفوعا: المكاتب قن ما بقي عليه درهم ورواه النسائي وابن
حبان من وجه آخر من حديثه بلفظ: ومن كان مكاتبا على مائة درهم فقضاها إلا
أوقية فهو عبد. وروي عن علي أن المكاتب إذا أدى الشطر عتق ويطالب بالباقي.
وروي عنه أيضا أنه يعتق منه بقدر ما أدى. وعن ابن مسعود: لو كاتبه على مائتين
وقيمته مائة فأدى المائة عتق. وعن عطاء: إذا أدى ثلاثة أرباع كتابته عتق. وعن
شريح: إذا أدى ثلثا عتق وما بقي أداه في الحرية. وحديث الباب يدل على ما قاله
191

المؤيد بالله وأبو طالب، ويؤيده ما أخرجه النسائي عن عكرمة عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: يؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي دية عبد. قال
البيهقي: قال أبو عيسى فيما بلغني عنه: سألت البخاري عن هذا الحديث قال: روى بعضهم
هذا الحديث عن أيوب عن عكرمة عن علي، قال البيهقي: فاختلف عن عكرمة فيه وروي
عنه مرسلا. ورواه حماد بن زيد وإسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا، وجعله إسماعيل من قول عكرمة، وروي
موقوفا عن علي أخرجه البيهقي من طرق مرفوعا. وفي المسألة مذهب آخر وهو
أن المكاتب يعتق بنفس الكتابة، ورجح هذا المذهب بأن حكم الكتابة حكم
البيع، لأن المكاتب اشترى نفسه من السيد، ورجح مذهب الجمهور بأنه أحوط، لان
ملك السيد لا يزول إلا بعد تسليم ما قد رضي به من المال، وإذا لم يمكن الجمع بين
الحديثين المذكورين فالحديث الذي تمسك به الجمهور أرجح من حديث الباب،
وسيأتي حديث عمرو بن شعيب في باب المكاتب من كتاب العتق.
باب امتناع الإرث باختلاف الدين وحكم
من أسلم على ميراث قبل أن يقسم
عن أسامة بن زيد: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يرث
المسلم الكافر ولا الكافر المسلم رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. وفي رواية:
قال: يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع
أو دور؟ وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا علي
شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين أخرجاه. وعن عبد
الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يتوارث أهل ملتين شتى رواه أحمد
وأبو داود وابن ماجة. وللترمذي مثله من حديث جابر. وعن جابر: أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده
أو أمته رواه الدارقطني، ورواه من طريق آخر موقوفا على جابر وقال: موقوف
192

وهو محفوظ. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم،
وكل قسم أدركه الاسلام فإنه على ما قسم الاسلام رواه أبو داود وابن ماجة.
حديث أسامة بن زيد هو باللفظ الأول في مسلم لا كما زعم المصنف، قال الحافظ:
وأغرب ابن تيمية في المنتقى فادعى أن مسلما لم يخرجه وكذا ابن الأثير في الجامع
ادعى أن النسائي لم يخرجه اه. وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه أيضا الدارقطني
وابن السكن، وسند أبي داود فيه إلى عمرو بن شعيب صحيح. وحديث جابر الأول
استغربه الترمذي وفي إسناده ابن أبي ليلى ولفظه: لا يتوارث أهل ملتين وحديث
ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه أيضا أبو يعلى
والضياء في المختار ة (وفي الباب) عن ابن عمر عن ابن حبان بنحو حديث عمرو بن
شعيب. وعن أبي هريرة عند البزار بلفظ: لا ترث ملة من ملة وفيه عمر بن راشد تفرد به وهو
لين الحديث، وأحاديث الباب تدل على أنه لا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم. قال
في البحر إجماعا: واختلف في ميراث المرتد فقيل يكون للمسلمين، قال في البحر: قيل إجماعا
إذ هي كموته الأكثر: ولا يرث المسلم من الذمي معاذ ومعاوية والناصر والامامية بل يرث لنا.
لا توارث بين أهل ملتين قالوا: قال صلى الله عليه وآله وسلم: الاسلام يعلو ولا يعلى قلنا:
نقول بموجبه، والإرث ممنوع بما رويناه، قالوا: قال صلى الله عليه وآله وسلم: نرثهم
ولا يرثونا قلنا: لعله أراد المرتدين جمعا بين الاخبار، ثم قال مسألة الهادي وأبو يوسف
ومحمد: ويرث المرتد ورثته المسلمون الشافعي: لا بل لبيت المال. أبو حنيفة: ما كسبه قبل
الردة فلورثته المسلمين وبعدها لبيت المال. لنا: قتل علي عليه السلام المستورد العجلي
حين ارتد وجعل ميراثه لورثته المسلمين ولم يفصل. قالوا: لا يرث المسلم الكافر. قلنا:
مخصوص بعمل علي. قالوا: غنم أموال أهل الردة. قلنا: كان لهم منعة فصاروا حربيين اه.
كلام البحر. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الاسلام يعلو هو حديث أخرجه
أبو داود الحاكم وصححه. وأما قوله: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، فليس من
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما زعم في البحر، بل هو من قول معاوية كما روى
ذلك ابن أبي شيبة، وقد قال بقول معاوية ومن معه عبد الله بن مغفل ومسروق
وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي، ولكنه اجتهاد مصادم لعموم قوله صلى الله
193

عليه وآله وسلم: لا يرث المسلم الكافر وما في معناه. ومصادم أيضا لنص حديث
جابر المذكور في الباب، ولتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لما فعله عقيل.
(والحاصل) أن أحاديث الباب قاضية بأن لا يرث المسلم من الكافر، من غير فرق
بين أن يكون حربيا أو ذميا أو مرتدا، فلا يقبل التخصيص إلا بدليل. وظاهر قوله:
لا يتوارث أهل ملتين أنه أهل ملة كفرية من أهل ملة كفرية أخرى، وبه قال
الأوزاعي ومالك وأحمد والهادوية، وحمله الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين
الاسلام وبالأخرى الكفر، ولا يخفى بعد ذلك. وفي ميراث المرتد أقوال أخر غير
ما سلف والظاهر ما قدمنا.
باب أن القاتل لا يرث، وأن دية المقتول لجميع ورثته مع زوجة وغيرها
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: لا يرث القاتل شيئا رواه أبو داود. وعن عمر قال: سمعت النبي صلى
الله عليه وآله وسلم يقول: ليس لقاتل ميراث رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن
ماجة. وعن سعيد بن المسيب: أن عمر قال: الدية للعاقلة لا ترث المرأة من دية
زوجها حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب
إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها رواه أحمد وأبو داود والترمذي
وصححه. ورواه مالك من رواية ابن شهاب عن عمر وزاد: قال ابن شهاب: وكان قتلهم
أشيم خطأ. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم. رواه الخمسة إلا
الترمذي. وعن قرة بن دعموص قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا
وعمي، فقلت: يا رسول الله عند هذا دية أبي فمره يعطنيها وكان قتل في الجاهلية، فقال: أعطه
دية أبيه، فقلت: هل لأمي فيها حق؟ قال: نعم، وكانت ديته مائة من الإبل رواه
البخاري في تاريخه.
حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا النسائي وأعله الدارقطني، وقواه ابن
عبد البر. وحديث عمر أخرجه أيضا الشافعي وعبد الرزاق والبيهقي وهو منقطع،
194

قال البيهقي: ورواه محمد بن راشد عن
سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا، قال الحافظ: وكذا أخرجه النسائي من وجه آخر عن عمر وقال:
إنه خطأ. وأخرجه ابن ماجة والدارقطني من وجه آخر عن عمر أيضا. (وفي الباب)
عن ابن عباس عن الدارقطني بلفظ: لا يرث القاتل شيئا وفي إسناده كثير بن مسلم
وهو ضعيف. وعن ابن عباس أيضا حديث آخر عن البيهقي بلفظ: من قتل
قتيلا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره وفي لفظ: وإن كان والده أو ولده. وفي
إسناده عمرو بن برق. وهو ضعيف وعن أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجة بلفظ: القاتل
لا يرث وفي إسناده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة تركه أحمد وغيره، وأخرجه النسائي
في السنن الكبرى وقال: إسحاق متروك. وعن عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي عند
الطبراني في قصة وأنه قتل امرأته خطأ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أعقلها ولا ترثها وعن
عدي الجذامي نحوه أخرجه الخطابي. وحديث سعيد بن المسيب أخرجه أيضا النسائي، وقال الترمذي
: حسن صحيح. زاد أبو داود بعد قوله: من دية زوجها فرجع عمرو في رواية: وكان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعمله على الاعراب. وحديث
عمرو بن شعيب هو حديث طويل ساقه أبو داود بطوله في باب ديات الأعضاء وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي
المكحولي وقد اختلف فيه، فتكلم فيه غير واحد ووثقه غير واحد. وحديث قرة
بن دعموص يشهد له حديث الضحاك المذكور. وحديث عمرو بن شعيب. قوله:
لا يرث القاتل شيئا استدل به من قال: بأن القاتل لا يرث سواء كان القتل عمدا
أو خطأ، وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر أهل العلم، قالوا: ولا يرث
من المال ولا من الدية. وقال مالك والنخعي والهادوية: إن قاتل الخطأ يرث من المال
دون الدية، ولا يخفى أن التخصيص لا يقبل إلا بدليل. وحديث عمر بن شيبة بن
أبي كثير الأشجعي نص في محل النزع، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له:
ولا ترثها. وكذلك حديث عدي الجذامي الذي أشرنا إليه ولفظه في سنن البيهقي:
أن عديا كانت له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما فماتت فلما قدم رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أتاه فذكر له ذلك فقال له: أعقلها ولا ترثها وأخرج البيهقي أيضا
: أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك فأراد نصيبه من ميراثها فقال له
إخوته: لا حق لك، فارتفعوا إلى علي رضي الله عنه فقال له: حقك من ميراثها الحجر
195

أو غرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئا وأخرج أيضا عن جابر بن زيد أنه قال: أيما
رجل قتل رجلا أو امرأة عمدا أو خطأ فلا ميراث له منهما وأيما امرأة قتلت رجلا
أو امرأة عمدا أو خطأ فلا ميراث لها منهما وقال: قضى بذلك عمر بن الخطاب
وعلي وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين. وقد ساق البيهقي في الباب آثارا عن عمر
وابن عباس وغيرهما تفيد كلها أنه لا ميراث للقاتل مطلقا. قوله: أشيم بفتح
الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الياء المثناة من تحت. قوله: من دية زوجها
فيه دليل على أن الزوجة ترث من دية زوجها كما ترث من ماله وكذلك يدل على
ذلك حديث عمرو بن شعيب المذكور لعموم قوله فيه: بين ورثة القتيل والزوجة
من جملتهم. وكذلك قوله في حديث قرة المذكور: هل لأمي فيها حق؟ قال: نعم.
باب في أن الأنبياء لا يورثون
عن أبي بكر الصديق: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث
ما تركناه صدقة. وعن عمر: أنه قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد
وعلي والعباس: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة؟ قالوا: نعم. وعن عائشة:
أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى
أبي بكر يسألنه ميراثهن فقالت عائشة: أليس قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
لا نورث ما تركناه صدقة؟. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: لا تقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو
صدقة متفق عليه. وفي لفظ لأحمد: لا يقتسم ورثتي دينارا ولا درهما. وعن
أبي هريرة: أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي
وأهلي، قالت: فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: سمعت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: إن النبي لا يورث، ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يعول، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ينفق رواه أحمد والترمذي وصححه.
196

قوله: لا نورث بالنون وهو الذي توارد عليه أهل الحديث في القديم،
والحديث كما قال الحافظ في الفتح: وما تركنا في موضع الرفع بالابتداء، و: صدقة خبره.
وقد زعم بعض الرافضة لا نورث بالياء التحتانية وصدقة بالنصب على الحال، وما
تركناه في محل رفع على النيابة، والتقدير: لا يورث الذي تركناه حال كونه صدقة،
وهذا خلاف ما جاءت به الرواية ونقله الحفاظ، وما ذلك بأول تحريف من أهل
تلك النحلة، ويوضح بطلانه ما في حديث أبي هريرة المذكور في الباب بلفظ:
فهو صدقة. وقوله: لا تقتسم ورثتي دينارا. وقوله: أن النبي لا يورث ومما ينادي على
بطلانه أيضا أن أبا بكر احتج بهذا الكلام على فاطمة رضي الله عنهما فيما التمسته
منه من الذي خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأراضي، وهما من أفصح
الفصحاء وأعلمهم بمدلولات الألفاظ، فلو كان اللفظ كما تقرؤه الروافض لم يكن فيما
احتج به أبو بكر حجة ولا كان جوابه مطابقا لسؤالها. قوله: أنشدكم الله أي
أسألكم رافعا نشدتي أي صوتي، وقد قدمنا الكلام على هذا التركيب ومعناه. قوله:
ومؤنة عاملي اختلف في المراد به فقيل هو الخليفة بعده. قال الحافظ: وهذا هو
المعتمد. وقيل: يريد بذلك العامل على النخل، وبه جزم الطبري وابن بطال، وأبعد
من قال: المراد بعامله حافر قبره. وقال ابن دحية في الخصائص: المراد بعامله خادمه. وقيل:
العامل على الصدقة. وقيل: العامل فيها كالأجير، ونبه بقوله دينارا بالأدنى على
الأعلى، وظاهر الأحاديث المذكورة في الباب أن الأنبياء لا يورثون، وأن جميع ما تركوه
من الأموال صدقة، ولا يعارض ذلك قوله تعالى: * (وورث سليمان داود) * (سورة النمل، الآية: 16) فإن المراد
بالوراثة المذكورة وراثة العلم لا المال، كما صرح بذلك جماعة من أئمة التفسير. وقد
استشكل ما وقع في الباب عن عمر أنه قال لعثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد وعلي
والعباس: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث ما تركناه
صدقة؟ فقالوا: نعم. ووجه الاستشكال أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليا
قد علما بأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث فإن كانا سمعاه من النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يطلبانه من أبي بكر؟ وإن كانا إنما سمعاه من
أبي بكر أو في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟ وأجيب
يحمل ذلك على أنهما اعتقدا أن عموم لا نورث مخصوص ببعض ما يخلفه دون
197

بعض، ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما، كما وقع
في صحيح البخاري وغيره. وأما مخاصمتهما بعد ذلك عند عمر فقال إسماعيل القاضي
فيما رواه الدارقطني من طريقه: لم يكن في الميراث إنما تنازعا في ولاية الصدقة
وفي صرفها كيف تصرف؟ كذا قال، لكن في رواية النسائي وعمر بن شبة من طريق
أبي البختري ما يدل على أنهما أرادا أن يقسم بينهما على سبيل الميراث، ولفظه في
آخره: ثم جئتماني الآن تختصمان يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول
هذا: أريد نصيبي من امرأتي، والله لا أقضي بينكما إلا بذلك أي إلا بما تقدم من تسليمها
لهما على سبيل الولاية. وكذا وقع عند النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن مالك
بن أوس نحوه. وفي السنن لأبي داود وغيره: أراد أن عمر يقسمها بينهما لينفرد كل
منهما بنظر ما يتولاه، فامتنع عمر من ذلك، وأراد أن لا يقع عليهما اسم القسمة، ولذلك
أقسم على ذلك. وعلى هذا اقتصر أكثر شراح الحديث واستحسنوه وفيه من النظر ما
تقدم. وأعجب من ذلك جزم ابن الجوزي ثم الشيخ محيي الدين بأن عليا وعباسا لم
يطلبا من عمر إلا ذلك، مع أن السياق في صحيح البخاري صريح في أنهما جاءا مرتين
في طلب شئ واحد، لكن العذر لابن الجوزي والنووي أنهما شرحا اللفظ الوارد
في مسلم دون اللفظ الوارد في البخاري. وأما ما ثبت في الصحيح من قولهما: جئتني يا عباس
تسألني نصيبك من ابن أخيك فإنما عبر بذلك لبيان قسمة الميراث كيف يقسم بينهم لو كان
هناك ميراث، لا أنه أراد الغض منهما بهذا الكلام وزاد الإمامي عن ابن شهاب عن عمر بن شبة ما
لفظه: فأصلحا أمركما وإلا لم يرجع والله إليكما. قوله: ولكن أعول من كان رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يعول الخ، فيه دليل على أنه يتوجه على الخليفة القائم بعد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعول من كان الرسول صلوات الله عليه وآله وسلم يعوله،
وينفق على من كان الرسول ينفق عليه.
198

كتاب العتق
باب الحث عليه
عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أعتق
رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه متفق عليه.
وعن سالم بن أبي الجعد: عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى
الله عليه وآله وسلم يعني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما امرئ مسلم
أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزى كل عضو منه عضوا منه، وأيما امرئ
مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزى كل عضو منهما عضوا
منه رواه الترمذي وصححه. ولأحمد وأبي داود معناه من رواية كعب بن مرة
أو مرة بن كعب السلمي وزاد فيه: وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت
فكاكها من النار يجزى بكل عضو من أعضائها عضوا من أعضائها.
حديث كعب بن مرة أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة وإسناده صحيح،
وفي الباب عن عمر بن عبسة عند أبي داود والترمذي. وعن أبي موسى عند أحمد
والنسائي. وعن عقبة بن عامر عند الحاكم. وعن واثلة عند الحاكم أيضا. وعن مالك
بن الحرث عنده أيضا. قوله: كتاب العتق بكسر العين المهملة وسكون الفوقية
وهو زوال الملك وثبوت الحرية. قال في الفتح: يقال عتق يعتق عتقا بكسر أوله
ويفتح وعتاقا وعتاقة. قال الأزهري: وهو مشتق من قولهم عتق الفرس إذا سبق، وعتق
الفرخ إذا طار، لأن الرقيق يخلص بالعتق ويذهب حيث شاء. قوله: مسلمة
هذا مقيد لباقي الروايات المطلقة، فلا يستحق الثواب المذكور إلا من أعتق رقبة
مسلمة ووقع في حديث عمر بن عبسة: من أعتق رقبة مؤمنة وهو أخص من قيد
الاسلام، ولا خلاف أن معتق الرقبة الكافر مثاب على العتق ولكنه ليس كثواب
الرقبة المؤمنة. قوله: حتى فرجه بفرجه استشكله ابن العربي فقال: الفرج لا يتعلق به ذنب يوجب النار إلا الزنا، فإن حمل على ما يتعاطاه من الصغائر كالمفاخذة
199

لم يشكل عتقه من النار بالعتق وإلا فالزنا كبيرة لا تكفر إلا بالتوبة. قال: فيحتمل
أن يكون المراد أن العتق يرجع عند الموازاة بحيث يكون مرجحا لحسنات المعتق
ترجيحا يوازي سيئة الزنا اه. قال الحافظ: ولا اختصاص لذلك بالفرج، بل يأتي
في غيره من الأعضاء كاليد في الغصب مثلا. قوله: أيما امرئ مسلم فيه دليل
على أن هذا الاجر مختص بمن كان من المعتقين مسلما فلا أجر للكافر في عتقه إلا
إذا انتهى أمره إلى الاسلام، فسيأتي قوله: فكاكه بفتح الفاء وكسرها لغة أي كانتا خلاصة.
قوله: يجزى بضم الياء وفتح الزاي غير مهموز. (وأحاديث الباب) فيها دليل على أن العتق
من القرب لموجبة للسلامة من النار، وإن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى، وقد ذهب
البعض إلى تفضيل عتق الأنثى على الذكر، واستدل على ذلك بأن عتقها يستلزم حرية
ولدها سواء تزوجها حر أو عبد، ومجرد هذه المناسبة لا يصلح لمعارضة ما وقع التصريح
به في الأحاديث من فكاك المعتق إما رجل أو امرأتين، وأيضا عتق الأنثى ربما أفضى في
الغالب إلى ضياعها لعدم قدرتها على التكسب بخلاف الذكر. قال في الفتح: وفي قوله: أعتق
الله بكل عضو عضوا منه إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكون في الرقبة نقصان
لتحصيل الاستيعاب، وأشار الخطابي إلى أنه يغتفر البعض المجبور بمنفعته كالخصي مثلا، واستنكره النووي وغيره وقال: لا يشك أن في عتق الخصي
وكل ناقص فضيلة
لكن الكامل أولى.
وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الايمان
بالله والجهاد في سبيل الله قال قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها
ثمنا. وعن ميمونة بنت الحرث: أنها أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، فلما كان يومها الذي كان يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أني أعتقت وليدتي؟ قال: أو فعلت؟ قالت: نعم، قال: أما أنك لو أعطيتها
أخوالك كان أعظم لاجرك متفق عليهما، وفي الثاني دليل على جواز تبرع المرأة
بدون إذن زوجها، وأن صلة الرحم أفضل من العتق. وعن حكيم بن حزام
قال: قلت: يا رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة وعتاق
وصلة رحم هل لي فيها من أجر؟ قال: أسلمت على ما سلف لك من خير متفق
عليه. وقد احتج به على أن الحربي ينفذ عتقه، ومتى نفذ فله ولاؤه بالخبر.
200

قوله: الايمان بالله والجهاد قال النووي: ذكر في هذا الحديث الجهاد بعد
الايمان ولم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بالصلاة ثم البر ثم
الجهاد، وفي حديث آخر ذكر السلامة من اليد واللسان. قال العلماء: اختلاف الأجوبة
في ذلك باختلاف الأحوال واحتياج المخاطبين وذكر ما لا يعلمه السائل والسامعون
وترك ما علموه. قال في الفتح: ويمكن أن يقال: إن لفظة من مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس
والمراد من أعقلهم، ومنه حديث: خيركم خيركم لأهله ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك
خير الناس اه. قوله: أنفسها عند أهلها أي اغتباطهم بها أشد، فإن عتق مثل ذلك ما يقع
غالبا إلا خالصا وهو كقوله
تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (سورة آل عمران، الآية: 92). قوله:
وأكثرها ثمنا في رواية للبخاري: أعلاها ثمنا بالعين المهملة وهي رواية النسائي أيضا،
وللكشميهني بالغين المعجمة وكذا النسفي. قال ابن قرقول: معناهما متقارب ورواية مسلم كما هنا
قال النووي: محله والله أعلم فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع
شخص ألف درهم مثلا فأراد أن يشتري بها رقبة يعتقها فوجد رقبة نفيسة
ورقبتين مفضولتين فالرقبتان أفضل. قال: وهذا بخلاف الأضحية فإن الواحدة
السمينة فيها أفضل لأن المطلوب هنا فك الرقبة وهناك طيب اللحم. قال الحافظ:
والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الاشخاص، فرب شخص واحد إذا عتق انتفع بالعتق
أضعاف ما يحصل من النفع لعتق أكثر عددا منه. ورب محتاج إلى كثرة
اللحم لتفرقته على المحاويج الذين ينتفعون به أكثر مما ينتفع به هو بطيب اللحم،
فالضابط أن مهما كان أكثر نفعا كان أفضل سواء قل أو كثر. واحتج به لمالك
في أن عتق الرقبة الكافرة إذا كانت أعلى ثمنا من المسلمة أفضل، وخالفه أصبغ وغيره
وقالوا: المراد بقوله: أعلى ثمنا من المسلمين وقد تقدم تقييده بذلك. قوله: أشعرت
بفتح الشين المعجمة والعين المهملة وهو من الشعور. قوله: وفي الثاني دليل على جواز
تبرع المرأة الخ. قد قدمنا الكلام على ذلك في باب ما جاء في تصرف المرأة في
مالها ومال زوجها من كتاب الهبة. قوله: أسلمت على ما سلف لك من خير فيه
دليل على أن ما فعله الكافر حال كفره من القرب يكتب له إذا أسلم، فيكون هذا
الحديث مخصصا لحديث الاسلام يجب ما قبله، وقد تقدم في أوائل كتاب الصلاة
وجب ذنوب الكافر في الاسلام أيضا مشروط بأن يحسن في الاسلام، لما أخرجه مسلم
201

في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا
في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الاسلام لم يؤاخذ بما عمل في
الجاهلية، ومن أساء في الاسلام أوخذ بالأول والآخر. وحديث حكيم المذكور يدل على أنه يصح
العتق من الكافر في حال كفره، ويثاب عليه إذا أسلم بعد ذلك، وكذلك
الصدقة وصلة الرحم.
باب من أعتق عبدا وشرط عليه خدمة
عن سفينة أبي عبد الرحمن قال: أعتقتني أم سلمة وشرطت علي أن
أخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما عاش رواه أحمد وابن ماجة. وفي
لفظ: كنت مملوكا لام سلمة فقالت: أعتقك وأشترط عليك أن تخدم رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ما عشت، فقلت: لو لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ما عشت، فأعتقتني واشترطت علي رواه أبو داود.
الحديث أخرجه أيضا النسائي وقال: لا بأس بإسناده، وأخرجه أيضا الحاكم
وفي إسناده سعيد بن جمهان أبو حفص الأسلمي، وثقه يحيى بن معين وأبو داود
السجستاني. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به. وقد استدل
بهذا الحديث على صحة العتق المعلق على شرط. قال ابن رشد: ولم يختلفوا أن
العبد إذا أعتقه سيده على إن يخدمه سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمته. قال ابن رسلان:
وقد اختلفوا في هذا فكان ابن سيرين يثبت الشرط في مثل هذا، وسئل عنه
أحمد فقال: يشتري هذه الخدمة من صاحبه الذي اشترط له، قيل له: يشتري بالدراهم؟
قال: نعم اه. وقال الخطابي: هذا وعد عبر عنه باسم الشرط ولا يلزم الوفاء به، وأكثر
الفقهاء لا يصححون إيقاع الشرط بعد العتق، لأنه شرط لا يلاقي ملكا، ومنافع الحر
لا يملكها غيره إلا في إجارة أو ما في معناها. قال في البحر مسألة: ومن قال أخدم أولادي
في ضيعتهم عشر سنين فإذا مضت فأنت حر، عتق باستكمال ذلك إجماعا لحصول
الشرط والوقت. قال قلت: ولو خدمهم في غير تلك الضيعة، إذ القصد الخدمة لامكانها،
وكذلك لو فرق السنين عليهم لم يضر، قال الامام يحيى: وللسيد فيه قبل الوفاء كل
تصرف إجماعا. قال في البحر: في دعوى الاجماع نظر، قال الامام يحيى: وتلزمه
الخدمة إجماعا إذ قد وهبها السيد لهم، قال الهادي: ويعتق بمضي المدة. وإن لم يخدم
202

إذ علق بمضيها حيث قال: فإذا مضت قال: وإذا مات الأولاد قبل الخدمة ومضى
السنين بطل العتق لبطلان شرطه، وقيل: إن كان لهم أولاد عتق بخدمتهم إذ يعمهم
اللفظ لا غيرهم من الورثة.
باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه رواه الجماعة إلا
البخاري. وعن الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
من ملك ذا رحم محرم فهو حر رواه الخمسة إلا النسائي. وفي لفظ لأحمد:
فهو عتيق ولأبي داود عن عمر بن الخطاب موقوفا مثل حديث سمرة. وروى
أنس: أن رجالا من الأنصار استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله
ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه فقال: لا تدعوا منه درهما رواه
البخاري، وهو يدل على أنه إذا كان في الغنيمة ذو رحم لبعض الغانمين ولم
يتعين له لم يعتق عليه، لأن العباس ذو رحم محرم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومن علي رضي الله عنه.
حديث سمرة قال أبو داود والترمذي: لم يروه إلا حماد بن سلمة عن قتادة عن
الحسن. ورواه شعبة عن قتادة عن الحسن مرسلا، وشعبة أحفظ من حماد، ولكن
الرفع من الثقة زيادة لولا ما في سماع الحسن بن سمرة من المقال. وقال علي بن
المديني: هو حديث منكر. وقال البخاري: لا يصح. وأثر عمر أخرجه أيضا النسائي
وهو من رواية قتادة عنه ولم يسمع منه، فإن مولده بعد موت عمر بنيف وثلاثين
سنة (وفي الباب) عن ابن عمر مرفوعا عند النسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ملك ذا رحم محرم فهو حر.
وهو من رواية ضمرة عن الثوري عن عبد الله بن دينار عنه. قال النسائي: حديث
منكر ولا نعلم أحدا رواه عن سفيان غير ضمرة.
وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة بن ربيعة على هذا الحديث، وهو خطأ عند أهل الحديث. وقال البيهقي: إنه وهم فاحش.
203

وقال الطبراني: وهم فيه ضمرة، والمحفوظ بهذا الاسناد حديث النهي عن بيع الولاء
وعن هبته. وقد رد الحاكم هذا وقال: إنه روي من طريق ضمرة الحديثين بالاسناد
الواحد، وضمرة هذا وثقه يحيى بن معين وغيره ولم يخرج له الشيخان، وقد صحح
حديثه هذا ابن حزم وعبد الحق وابن القطان. قوله: لا يجزي بفتح أوله أي
لا يكافئه بماله من الحقوق عليه إلا بأن يشتريه فيعتقه، وظاهره أنه لا يعتق بمجرد
الشراء بل لا بد من العتق، وبه قالت الظاهرية، وخالفهم غيرهم فقالوا: إنه يعتق بنفس
الشراء. قوله: ذا رحم بفتح الراء وكسر الحاء وأصله موضع تكوين الولد ثم
استعمل للقرابة، فيقع على كل من بينك وبينه نسب يوجب تحريم النكاح. قوله:
محرم بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الراء المخففة، ويقال: محرم بضم الميم
وفتح الحاء وتشديد الراء المفتوحة. والمحرم من لا يحل نكاحه من الأقارب كالأب
والأخ والعم ومن في معناهم. قال ابن الأثير: الذي ذهب إليه أكثر أهل العلم
من الصحابة والتابعين إليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد أن من ملك ذا رحم
محرم عتق عليه ذكرا كان أو أنثى. وذهب الشافعي وغيره من الأئمة والصحابة
والتابعين إلى أنه يعتق عليه الأولاد والآباء والأمهات، ولا يعتق عليه غيرهم من
قرابته. وذهب مالك إلى أنه يعتق عليه الولد والوالد والاخوة ولا يعتق غيرهم.
قال البيهقي: وافقنا أبو حنيفة في بني الأعمام أنهم لا يعتقون بحق الملك، واستدل
الشافعي ومن وافقه بأن غير الوالدين والأولاد قرابة لا يتعلق بها رد الشهادة
ولا تجب بها النفقة مع اختلاف الدين، فأشبه قرابة ابن العم وبأنه لا يعصبه فلا يعتق
عليه بالقرابة كابن العم، وبأنه لو استحق العتق عليه بالقرابة لمنع من بيعه إذا
اشتراه وهو مكاتب كالوالد والولد، ولا يخفى أن نصب مثل هذه الأقيسة في مقابلة
حديث سمرة. وحديث ابن عمر مما لا يلتفت إليه منصف، والاعتذار عنهما بما فيهما
من المقال المتقدم ساقط، لأنهما يتعاضدان فيصلحان للاحتجاج. وحكي في الفتح عن
داود الظاهري أنه لا يعتق أحد على أحد. قوله: لابن أختنا بالمثناة من فوق،
والمراد أنهم أخوال أبيه عبد المطلب، فإن أم العباس هي نتيلة بالنون والفوقية
مصغرا بنت جنان بالجيم والنون وليست من الأنصار، وإنما أرادوا بذلك أن
أم عبد المطلب منهم لأنها سلمى بنت عمرو بن أحيحة بمهملتين مصغرا، وهي من
204

بني النجار. ومثله ما وقع في حديث الهجرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم نزل على
أخواله بني النجار، وأخواله حقيقة إنما هم بنو زهرة، وبنو النجار هم أخوال جده
عبد المطلب. ولقد استدل بحديث أنس هذا ما قاله: إنه لا يعتق ذو رحم على رحمه،
لقد ترجم عليه البخاري فقال: باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى؟
قال في الفتح: قيل إنه أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف ما ورد فيمن ملك
ذا رحم محرم.
باب أن من مثل بعبده عتق عليه
عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن
عمرو أن زنباعا أبا روح وجد غلاما له مع جارية له فجدع أنفه وجبه، فأتى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من فعل هذا بك؟ قال: زنباع، فدعاه النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: كان من أمره كذا وكذا، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: اذهب فأنت حر، فقال: يا رسول الله فمولى من أنا؟ فقال: مولى الله ورسوله،
فأوصى به المسلمين، فلما قبض جاء إلى أبي بكر فقال: وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فقال: نعم تجري عليك النفقة وعلى عيالك، فأجراها عليه حتى قبض، فلما استخلف عمر جاءه
فقال: وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: نعم أين تريد؟ قال: مصر، قال:
فكتب عمر إلى صاحب مصر أن يعطيه أرضا يأكلها رواه أحمد. وفي رواية أبي
حمزة الصيرفي: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: قال: جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم صارخا فقال له: ما لك؟ قال: سيدي رآني أقبل جارية له
فجب مذاكيري، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: علي بالرجل، فطلب فلم يقدر عليه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذهب فأنت حر رواه أبو داود وابن
ماجة وزاد: قال: على من نصرتي يا رسول الله؟ قال تقول أرأيت إن استرقني مولاي،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: على كل مؤمن أو مسلم وروي: أن رجلا أقعد
أمة له في مقلى حار فأحرق عجزها فأعتقها عمر وأوجعه ضربا حكاه أحمد في رواية
ابن منصور قال وكذلك أقول.
205

حديث عمرو بن شعيب سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: في إسناده عمرو
بن شعيب، وقد تقدم اختلاف الأئمة في حديثه وفي إسناده. الحجاج بن أرطأة
وهو ثقة لكنه مدلس وبقية رجال أحمد ثقات وأخرجه أيضا الطبراني. وأثر
عمر أخرجه مالك في الموطأ بلفظ: أن وليدة أتت عمر وقد ضربها سيدها بنار
فأصابها فأعتقها عليه. وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك وفي الباب عن ابن
عمر عند مسلم وأبي داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه. وعن سويد بن مقرن عند مسلم وأبي
داود والترمذي قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس
لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
أعتقوها وفي رواية: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا خادم لبني
مقرن غيرها، قال: فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها. وعن سمرة
بن جندب وأبي هريرة ذكرهما ابن الأثير في الجامع وبيض لهما وكلاهما بلفظ: من
مثل بعبده عتق عليه. وعن أبي مسعود البدري عند مسلم وغيره وفيه: كنت
أضرب غلاما بالسوط فسمعت صوتا من خلفي، إلى أن قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقول: إن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. وفيه: قلت يا رسول الله هو
حر لوجه الله فقال: لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار. (والأحاديث) تدل على أن
المثلة من أسباب العتق، وقد اختلف هل يقع العتق بمجردها أم لا؟ فحكي في البحر
عن علي والهادي والمؤيد بالله والفريقين أنه لا يعتق بمجردها بل يؤمر السيد
بالعتق فإن تمرد فالحاكم. وقال مالك والليث وداود والأوزاعي: بل يعتق بمجردها.
وحكي في البحر أيضا عن الأكثر أن من مثل بعبد غيره لم يعتق. وعن الأوزاعي
أنه يعتق ويضمن القيمة للمالك. قال النووي في شرح مسلم عند الكلام على حديث
سويد بن مقرن المتقدم: أنه أجمع العلماء أن ذلك العتق ليس واجبا وإنما هو مندوب
رجاء الكفارة وإزالة إثم اللطم. وذكر من أدلتهم على عدم وجوب إذنه صلى
الله عليه وآله وسلم لهم بأن يستخدموها، ورد بأن إذنه صلى الله عليه وآله وسلم لهم
باستخدامها لا يدل على عدم الوجوب بل الامر قد أفاد الوجوب والاذن
بالاستخدام دل على كونه وجوبا متراخيا إلى وقت الاستغناء عنها، ولذا أمرهم عند
206

الاستغناء بالتخلية لها. ونقل النووي أيضا عن القاضي عياض أنه أجمع العلماء على
أنه لا يجب إعتاق بشئ مما يفعله المولى من مثل هذا الامر الخفيف، يعني اللطم
المذكور في حديث سويد بن مقرن. قال: واختلفوا فيما كثر من ذلك، وشنع من
ضرب مبرح لغير موجب أو تحريق بنار أو قطع عضو أو إفساده أو نحو ذلك،
فذهب مالك والأوزاعي والليث إلى عتق العبد بذلك ويكون ولاؤه له ويعاقبه
السلطان على فعله. وقال سائر العلماء: لا يعتق عليه اه. وبهذا يتبين أن الاجماع الذي
أطلقه النووي مقيد بمثل ما ذكره القاضي عياض. (واعلم) أن ظاهر حديث ابن عمر
الذي ذكرناه يقتضي أن اللطم والضرب يقتضيان العتق من غير فرق بين القليل
والكثير والمشروع وغيره، ولم يقل بذلك أحد من العلماء، وقد دلت الأدلة على أنه يجوز
للسيد أن يضرب عبده للتأديب، ولكن لا يجاوز به عشرة أسواط، ومن ذلك حديث:
إذا ضرب أحدكم خادمه فليجتنب الوجه فأفاد أنه يباح ضربه في غيره، ومن
ذلك الاذن لسيد الأمة يحدها، فلا بد من تقييد مطلق الضرب الوارد في حديث
ابن عمر هذا بما ورد من الضرب المأذون به، فيكون الموجب للعتق هو ما عداه.
باب من أعتق شركا له في عبد
عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أعتق شركا له في
عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق
عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق رواه الجماعة والدارقطني. وزاد: ورق ما بقي
وفي رواية متفق عليها: من أعتق عبدا بينه وبين آخر قوم عليه في ماله قيمة عدل
لا وكس ولا شطط ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرا وفي رواية: من أعتق عبدا
بين اثنين فإن كان موسرا قوم عليه ثم يعتق رواه أحمد والبخاري. وفي رواية: من
أعتق شركا له في مملوك وجب عليه أن يعتق كله إن كان له مال قدر ثمنه يقام قيمة
عدل ويعطي شركاءه حصصهم ويخلي سبيل المعتق رواه البخاري. وفي رواية: من
أعتق نصيبا له في مملوك أو شركا له في عبد وكان له من مال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق
رواه أحمد والبخاري. وفي رواية: من أعتق شركا له في عبد عتق ما بقي في ماله إذا
كان له مال يبلغ ثمن العبد رواه مسلم وأبو داود. وعن ابن عمر: أنه كان يفتي
207

في العبد أو الأمة يكون بين شركاء فيعتق أحدهم نصيبه منه يقول: قد وجب عليه
عتقه إذا كان للذي أعتق من المال ما يبلغ يقوم من ماله قيمة العدل ويدفع إلى
الشركاء أنصباءهم ويخلي سبيل المعتق يخبر بذلك ابن عمر عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم رواه البخاري. وعن أبي المليح عن أبيه: أن رجلا من قومنا أعتق
شقصا له من مملوكه فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل خلاصه عليه في
ماله وقال: ليس لله عز وجل شريك رواه أحمد. وفي لفظ: هو حر كله ليس لله
شريك رواه أحمد، ولأبي داود معناه. وعن إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده قال:
كان لهم غلام يقال له طهمان أو ذكوان فأعتق جده نصفه فجاء العبد إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تعتق في عتقك
وترق في رقك، قال: فكان يخدم سيده حتى مات رواه أحمد. وعن أبي هريرة:
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من أعتق شقيصا له من مملوكه فعليه
خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعي في نصيب
الذي لم يعتق غير مشقوق عليه رواه الجماعة إلا النسائي.
حديث أبي المليح أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة. وقال النسائي:
أرسله سعيد بن أبي عروبة وساقه عنه مرسلا. وقال هشام وسعيد: أثبت من
همام في قتادة وحديثهما أولى بالصواب، وأبو المليح اسمه عامر ويقال عمر
ويقال زيد، وهو ثقة محتج بحديثه في الصحيحين، وأبو أسامة بن عمير هذلي
بصري له صحبة، ولا يعلم أن أحدا روى عنه غير ابنه أبي المليح، وقوى الحافظ في
الفتح إسناد حديث أبي المليح، قال: وأخرجه أحمد بإسناد حسن من حديث سمرة
أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هو حر كله
وليس لله شريك. وحديث إسماعيل بن أمية قال في مجمع الزوائد: هو مرسل ورجاله
ثقات. وأخرجه الطبراني ويشهد له ما في حديث ابن عمر المذكور بلفظ: وإلا فقد
عتق عليه ما عتق وما أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد حسن عن ابن التلب بالتاء
الفوقانية عن أبيه: أن رجلا أعتق نصيبا له من مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وحديث أبي هريرة قال أبو داود ورواه روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة لم
يذكر السعاية اه. ورواه يحيى بن سعيد وابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة لم يذكرا
208

فيه السعاية. ورواه يزيد بن زريع عن سعيد فذكر فيه السعاية. وقال البخاري:
رواه سعيد عن قتادة فلم يذكر فيه السعاية. وقال الخطابي اضطرب سعيد بن أبي
عروبة في السعاية مرة يذكرها ومرة لا يذكرها، فدل على أنها ليست من متن الحديث
عنده، وإنما هي من كلام قتادة، وتفسيره على ما ذكر همام وبينه، قال: ويدل على ذلك
حديث ابن عمر يعني الذي فيه: وإلا فقد عتق عليه ما عتق. وقال الترمذي: روى شعبة
هذا الحديث عن قتادة ولم يذكر فيه السعاية. وقال النسائي:: أثبت أصحاب قتادة
شعبة وهمام على خلاف سعيد بن أبي عروبة وصوب روايتهما قال: وقد بلغني
أن هماما روى هذا الحديث عند قتادة فجعل قوله: وإن لم يكن مال الخ من قول قتادة. وقال
عبد الرحمن بن مهدي: أحاديث همام عن قتادة أصح من حديث غيره لأنه كتبه
إملاء. قال أبو بكر النيسابوري: ما أحسن ما رواه همام وضبطه فصل قول قتادة. وقال
ابن عبد البر: الذين لم يذكروا السعاية أثبت ممن ذكرها. وقال أبو محمد الأصيلي
وأبو الحسن بن القصار وغيرهما: من أسقط السعاية أولى ممن ذكرها. وقال البيهقي:
قد اجتمع ههنا شعبة من فضل حفظه وعلمه بما سمع من قتادة وما لم يسمع، وهشام
مع فضل حفظه، وهمام مع صحة كتابه وزيادة معرفته بما ليس من الحديث على
خلاف سعد بن أبي عروبة ومن تابعه في إدراج السعاية في الحديث. وذكر أبو
بكر الخطيب أن أبا عبد الرحمن بن يزيد المقري قال: رواه همام وزاد فيه ذكر
الاستسعاء وجعله من قول قتادة وميزه من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال
ابن العربي: اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وإنما هو من قول قتادة، وقد ضعف أحمد رواية سعيد بن أبي عروبة، ولكنه
قد تابع سعيدا على ذكر الاستسعاء جماعة كما ذكر ذلك البخاري. ومنهم جرير بن
حازم، ومنهم حجاج بن حجاج عن قتادة. ومنهم أحمد بن حفص أحد شيوخ
البخاري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن حجاج وفيها ذكر السعاية. ورواه
عن قتادة أيضا حجاج بن أرطاة كما رواه الطحاوي. ورواه أيضا عن قتادة أبان
كما في سنن أبي داود ورواه أيضا موسى بن خلف عن قتادة كما ذكر ذلك الخطيب.
ورواه أيضا شعبة عن قتادة كما في صحيح مسلم والنسائي. وقد رجح رواية سعيد
للسعاية ورفعهما جماعة. منهم ابن دقيق العيد قالوا: لأن سعيد بن أبي عروبة أعرف
209

بحديث قتادة لكثرة ملازمته له وكثرة أخذه عنه، وإن كان همام وهشام أحفظ منه،
لكنه لم يناف ما روياه وإنما اقتصرا من الحديث على بعضه، وليس المجلس متحدا
حتى يتوقف في زيادة سعيد، ولهذا صحح صاحبا الصحيحين كون الجميع مرفوعا.
قال في الفتح: وأما ما أعل به حديث سعيد من كونه اختلط أو تفرد به فمردود،
لأنه في الصحيحين وغيرهما من رواية من سمع منه قبل الاختلاط كيزيد بن
زريع، ووافقه عليه أربعة وآخرون معهم لا نطيل بذكرهم، وهمام هو الذي انفرد
بالتفضيل، وهو الذي خالف الجميع في القدر والمتفق على رفعه، فإنه جعله واقعة عين،
وهم جعلوه حكما عاما، فدل على أنه لم يضبط كما ينبغي. والعجب ممن طعن في رفع
الاستسعاء بكون همام جعله من قول قتادة ولم يطعن فيما يدل على ترك الاستسعاء
وهو قوله في حديث ابن عمر: وإلا فقد عتق منه ما عتق بكون أيوب جعله من قول
نافع وميزه كما صنع همام سواء فلم يجعلوه مدرجا كما جعلوا حديث همام مدرجا، مع
كون يحيى بن سعيد وافق أيوب في ذلك وهمام لم يوافقه أحد، وقد جزم بكون
حديث نافع مدرجا محمد بن وضاح وآخرون، والذي يظهر أن الحديثين صحيحان
مرفوعان وفاقا لصاحبي الصحيح. قال ابن المواق: والانصاف أن لا يوهم الجماعة
بقول واحد مع احتمال أن يكون سمع قتادة يفتي به، فليس بين تحديثه به مرة
وفتياه أخرى منافاة. ويؤيده أن البيهقي أخرج عن قتادة أنه أفتى به ومما يؤيد
الرفع في حديث ابن عمر. أعني قوله: وإلا فقد عتق عليه ما عتق أن الذي رفعه مالك
وهو أحفظ لحديث نافع من أيوب، وقد تابعه عبيد الله بن عمر بن حفص بن
عاصم بن عمر بن الخطاب كما قال البيهقي، ولا شك أن الرفع زيادة معتبرة لا يليق
إهمالها كما تقرر في الأصول وعلم الاصطلاح، وما ذهب إليه بعض أهل الحديث من
الاعلال لطريق الرفع بالوقف في طريق أخرى لا ينبغي التعويل عليه وليس له
مستند، ولا سيما بعد الاجماع على قبول الزيادة التي لم تقع منافية مع تعدد مجالس
السماع، فالواجب قبول الزيادتين المذكورتين في حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة
وظاهرهما التعارض والجمع ممكن لا كما قال الإسماعيلي، وقد جمع البيهقي بين الحديثين بأن
معناهما أن المعسر إذا أعتق حصته لم يسر العتق في حصة شريكه، بل تبقى حصة شريكه
على حالها وهي الرق، ثم يستسعي العبد في عتق بقيته فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده
210

ويدفعه إليه ويعتق وجعلوه في ذلك كالمكاتب وهو الذي جزم به البخاري. قال
الحافظ: والذي يظهر أنه في ذلك باختياره لقوله: غير مشقوق عليه فلو كان على ذلك
سبيل اللزوم بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل ذلك
لحصل له غاية المشقة، وهي لا تلزم في الكتابة بذلك عند الجمهور لأنها غير واجبة
فهذه مثلها. قال البيهقي: لا يبقى بين الحديثين بعد هذا الجمع معارضة أصلا، قال
الحافظ: وهو كما قال، إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق في حصة الشريك إذا لم يختر
العبد الاستسعاء، فيعارضه حديث أبي المليح الذي ذكره المصنف، قال: ويمكن حمله
على ما إذا كان المعتق غنيا، أو على ما إذا كان جميعه له فأعتق بعضه، واستدل على ذلك
بحديث ابن التلب الذي تقدم ثم قال: وهو محمول على المعسر وإلا لتعارضا. وجمع بعضهم
طرح بطريق أخرى فقال أبو عبد الملك: المراد بالاستسعاء أن العبد يستمر في حصة الذي لم
يعتق رقيقا فيسعى في خدمته بقدر ما له فيه من الرق، قال: ومعنى قوله: غير مشقوق
عليه أي من جهة سيده المذكور، فلا يكلفه من الخدمة فوق حصة الرق، ويؤيد هذا
حديث إسماعيل بن أمية الذي ذكره المصنف، ولكنه يرد عليه ما وقع في رواية
للنسائي وأبي داود بلفظ: واستسعي في قيمته لصاحبه. واحتج من أبطال السعاية
بحديث الرجل الذي أعتق ستة مماليك عند موته فجزأهم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقد تقدم في باب
تبرعات المريض من كتاب الوصايا. ووجه الدلالة منه أن الاستسعاء لو كان مشروعا
لنجز من كل واحد منهم عتق ثلثه، واستسعى في بقية قيمته لورثة الميت. وأجاب
من أثبت السعاية بأنها واقعة عين، فيحتمل أن تكون قبل مشروعية السعاية، ويحتمل
أن تكون السعاية مشروعة في غير هذه الصورة. وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد
رجاله ثقات: أن رجلا من بني عذرة أعتق مملوكا له عند موته وليس له مال غيره
فأعتق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلثه وأمره أن يسعى في الثلثين واحتجوا
أيضا بما أخرجه النسائي عن ابن عمر من حديث وفيه: وليس على العبد شئ. وأجيب
بأن ذلك مختص بصورة اليسار لقوله في هذا الحديث: وله وفاء والسعاية إنما هي
في صورة الاعسار. وقد ذهب إلى الاخذ بالسعاية إذا كان المعتق معسرا أبو حنيفة
وصاحباه الأوزاعي والثوري وإسحاق وأحمد في رواية، وإليه ذهبت الهادوية
211

وآخرون، ثم اختلفوا فقال الأكثر: يعتق جميعه في الحال ويستسعي العبد في تحصيل
قيمة نصيب الشريك، وزاد ابن أبي ليلى فقال: ثم يرجع العبد على المعتق الأول
بما دفعه إلى الشريك. وقال أبو حنيفة: وحده يتخير بين السعاية وبين عتق نصيبه
، وهذا يدل أنه لا يعتق عنده ابتداء إلا النصيب الأول فقط، وعن عطاء يتخير الشريك
بين ذلك وبين إبقاء حصته في الرق، وخالف الجميع زفر فقال: يعتق كله وتقوم
حصة الشريك فتؤخذ إن كان المعتق موسرا، وتبقى في ذمته إن كان معسرا، وقد
حكي في البحر عن الفريقين من الحنفية والشافعية مثل قول زفر فينظر في صحة
ذلك. وحكي أيضا عن الشافعي أنه يبقى نصيب شريك المعسر رقيقا. وعن الناصر
أنه يسعى العبد مطلقا. وعن أبي حنيفة يسعى عن المعسر ولا يرجع عليه، والموسر
يخير شريكه بين تضمينه أو السعاية أو إعتاق نصيبه كما مر. وعن عثمان البتي أنه
لا شئ على المعتق إلا أن تكون جارية تراد للوطئ، فيضمن ما أدخل على شريكه
فيها من الضرر. وعن ابن شبرمة أن القيمة في بيت المال. وعن محمد بن إسحاق أن
هذا الحكم للعبيد دون الإماء. قوله: قيمة عدل بفتح العين أي لا زيادة فيه ولا
نقص. قوله: لا وكس بفتح الواو وسكون الكاف بعدها سين مهملة أي لا نقص، والشطط
بشين معجمة ثم طاء مهملة مكررة وهو الجور بالزيادة على القيمة من قولهم: شطني
فلان إذا شق عليك وظلمك حقك. قوله: أو شركا له في مملوك الشرك بكسر
الشين المعجمة وسكون الراء الحصة والنصيب. قال ابن دقيق العيد: هو في الأصل
مصدر. قوله: شقصا بكسر الشين المعجمة وسكون القاف. وفي الرواية
الثانية: شقيصا بفتح الشين وكسر القاف، والشقص والشقيص مثل النصف
والنصيف وهو القليل من كل شئ، وقيل: هو النصيب قليلا كان أو كثيرا.
باب التدبير
عن جابر أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه
إليه متفق عليه. وفي لفظ: قال أعتق رجل من الأنصار غلاما له عن دبر وكان
محتاجا وكان عليه دين فباعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثمانمائة درهم فأعطاه
212

فقال: اقض دينك وأنفق على عيالك رواه النسائي. وعن محمد بن قيس بن
الأحنف عن أبيه عن جده: أنه أعتق غلاما له عن دبر وكاتبه فأدى بعضا وبقي
بعض ومات مولاه، فأتوا ابن مسعود فقال: ما أخذ فهو له وما بقي فلا شئ لكم رواه
البخاري في تاريخه.
حديث جابر أخرجه أيضا الأربعة وابن حبان والبيهقي من طرق كثيرة
بألفاظ متنوعة. وفي الباب عن ابن عمر مرفوعا عند البيهقي بلفظ: المدبر
من الثلث ورواه الشافعي والحافظ يقفونه على ابن عمر. ورواه الدارقطني مرفوعا
بلفظ: المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث وفي إسناده عبيدة بن حسان
وهو منكر الحديث. وقال الدارقطني في العلل: الأصح وقفه. وقال العقيلي: لا يعرف إلا
بعلي بن ظبيان وهو منكر الحديث. وقال أبو زرعة: الموقوف أصح. وقال ابن القطان:
المرفوع ضعيف. وقال البيهقي: الصحيح موقوف. وقد روي نحوه عن علي موقوفا عليه. وعن
أبي قلابة مرسلا: أن رجلا أعتق عبدا له عن دبر فجعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
الثلث وروى الشافعي والحاكم عن عائشة أنها باعت مدبرة سحرتها. قوله: أن رجلا في مسلم
: إنه أبو مذكور الأنصاري والغلام اسمه يعقوب. ولفظ أبي داود: أن رجلا يقال له أبو
مذكور أعتق غلاما يقال له يعقوب اه. وهو يعقوب القبطي كما في رواية مسلم
وابن أبي شيبة. قوله: عن دبر بضم الدال والموحدة وهو العتق في دبر الحياة،
كأن يقول السيد لعبده: أنت حر بعد موتي، أو إذا مت فأنت حر، وسمى السيد مدبرا
بصيغة اسم الفاعل لأنه دبر أمر دنياه باستخدامه ذلك المدبر واسترقاقه، ودبر أمر
آخرته بإعتاقه وتحصيل أجر العتق. قوله: فاشتراه نعيم بن عبد الله في رواية
للبخاري: نعيم بن النحام بالنون والحاء المهملة المشددة وهو لقب والد نعيم،
وقيل: إنه لقب لنعيم وظاهر الرواية بخلاف ذلك. (والحديث) يدل على جواز بيع المدبر مطلقا من غير تقييد
بالفسق والضرورة، وإليه ذهب الشافعي وأهل الحديث ونقله البيهقي في المعرفة
عن أكثر الفقهاء. وحكى النووي عن الجمهور أنه لا يجوز بيع المدبر مطلقا والحديث
يرد عليهم. وروي عن الحنفية والمالكية أنه لا يجوز بيع المدبر تدبيرا مطلقا لا
المدبر تدبيرا مقيدا، نحو أن يقول: إن مت من مرضي هذا ففلان حر، فإنه يجوز
بيعه لأنه كالوصية فيجوز الرجوع فيه كما يجوز الرجوع فيها. وقال أحمد: يمتنع بيع
213

المدبرة دون المدبر. وقال الليث: يجوز بيعه إن شرط على المشتري عتقه. وقال ابن
سيرين: لا يجوز بيعه إلا من نفسه. وقال مالك وأصحابه: لا يجوز بيعه إلا إذا كان
على السيد دين فيباع له. قال النووي: وهذا الحديث صريح أو ظاهر في الرد عليهم،
لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما باعه لينفقه سيده على نفسه، ولعله لم يقف على
رواية النسائي التي ذكرها المصنف، نعم لا وجه لقصر جواز البيع على حاجة قضاء
الدين، بل يجوز البيع لها ولغيرها من الحاجات، والرواية المذكورة قد تضمنت أن
الرجل المذكور كان محتاجا للبيع لما عليه من الدين ومن نفقة أولاده. وقد ذهب
إلى جواز البيع لمطلق الحاجة عطاء والهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو طالب، كما حكي
ذلك عنهم في البحر، وإليه مال ابن دقيق العيد فقال: من منع البيع مطلقا كان الحديث
حجة عليه، لأن المنع الكلي يناقضه الجواز الجزئي، ومن أجازه في بعض الصور
فله أن يقول قلت بالحديث في الصورة التي ورد فيها، فلا يلزمه القول به في غير
ذلك من الصور، وأجاب من أجازه مطلقا بأن قوله في الحديث وكان محتاجا لا
مدخل له في الحكم، وإنما ذكر لبيان السبب في المبادرة لبيعه ليبين للسيد جواز
البيع، ولا يخفى أن في الحديث إيماء إلى المقتضى لجواز البيع بقوله: فاحتاج وبقوله:
اقض دينك وأنفق على عيالك. (لا يقال) الأصل جواز البيع والمنع منه يحتاج إلى
دليل، ولا يصلح لذلك حديث الباب، لأن غايته أن البيع فيه وقع للحاجة، ولا دليل
على اعتبارها في غيره، بل مجرد ذلك الأصل كاف في الجواز لأنا نقول: قد عارض
ذلك الأصل إيقاع العتق المعلق، فصار الدليل بعده على مدعي الجواز، ولم يرد الدليل
إلا في صورة الحاجة، فيبقى ما عداها على أصل المنع. وأما ما ذهب إليه الهادوية
من جواز بيع المدبر للفسق كما يجوز للضرورة فليس على ذلك دليل إلا ما تقدم
عن عائشة من بيعها للمدبرة التي سحرتها، وهو مع كونه أخص من الدعوى لا يصلح
للاحتجاج به لما قررناه غير مرة من أن قول الصحابي وفعله ليس بحجة. (واعلم)
أنها قد اتفقت طرق هذا الحديث على أن البيع وقع في حياة السيد إلا ما أخرجه
الترمذي بلفظ: أن رجلا من الأنصار دبر غلاما له فمات وكذلك رواه الأئمة
أحمد وإسحاق وابن المديني والحميدي وابن أبي شيبة عن ابن عيينة، ووجه البيهقي الرواية
المذكورة بأن أصلها: أن رجلا من الأنصار أعتق مملوكه إن حدث به حدث فمات
214

فدعا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فباعه من نعيم كذلك رواه مطر الوراق
عن عمر. وقال البيهقي: فقوله: فمات من بقية الشرط، أي فمات من ذلك الحدث،
وليس إخبارا عن أن المدبر مات، فحذف من رواية ابن عيينة قوله: إن حدث به حدث فوقع الغلط بسبب ذلك اه. (وقد استدل) بحديث الباب
وما في معناه على مشروعية التدبير وذلك مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف هل ينفذ
من رأس المال أو من الثلث، فذهب الفريقان من الشافعية والحنفية ومالك والعترة
وهو مروي عن علي وعمر أنه ينفذ من الثلث، واستدلوا بما قدمنا من قوله صلى الله
عليه وآله وسلم: وهو حر من الثلث وذهب ابن مسعود والحسن البصري وابن المسيب
والنخعي وداود ومسروق إلى أنه ينفذ من رأس المال قياسا على الهبة وسائر الأشياء التي
يخرجها الانسان من ماله في حال حياته، واعتذروا عن الحديث الذي احتج به الأولون بما
فيه من المقال المتقدم، ولكنه معتضد بالقياس على الوصية، ولا شك أنه بالوصية أشبه منه
بالهبة لما بينه وبين الوصية من المشابهة التامة. قوله: ما أخذ فهو له وما بقي فلا شئ لكم
استدل به القاضي زيد والهادوية على أن الكتابة لا يبطل بها التدبير، ويعتق
العبد عندهم بالأسبق منهما. وقال المنصور بالله: لا تصح الكتابة بعد التدبير لأنها
بيع فلا تصح إلا حيث يصح البيع، ورد بأن ذلك تعجيل للعتق مشروط.
باب المكاتب
عن عائشة: أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت
في كتابتها شيئا فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك
كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا وقالوا إن شاءت
أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون لنا ولاؤك، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ابتاعي فأعتقي فإنما
الولاء لمن أعتق، ثم قام فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله
تعالى، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله وإن شرطه مائة مرة شرط
الله أحق وأوثق متفق عليه. وفي رواية قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت
أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية الحديث متفق عليه.
215

قوله: باب المكاتب بفتح الفوقانية من تقع له الكتابة، وبكسرها من تقع
منه. والكتابة بكسر الكاف وفتحها قال الراغب: اشتقاقها من كتب بمنى أوجب،
ومنه قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام) * (سورة البقرة، الآية: 183) أو بمعنى جمع وضم ومنه كتب الخط. قال الحافظ:
وعلى الأول تكون مأخوذة من معنى الالتزام. وعلى الثاني تكون مأخوذة من
الخط لوجوده عند عقدها غالبا. قال الروياني: الكتابة إسلامية ولم تكن تعرف
في الجاهلية. وقال ابن التين: كانت الكتابة متعارفة قبل الاسلام فأقرها النبي صلى
الله عليه وآله وسلم. وقال ابن خزيمة: وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية بالمدينة. قوله:
أن بريرة قد تقدم ضبط هذا الاسم وبيان اشتقاقه في باب من اشترى عبدا
بشرط أن يعتقه من كتاب البيع، وقد تقدم أيضا طرف من شرح هذا الحديث في
باب أن من شرط الولاء أو شرط شرطا فاسدا من كتاب البيع أيضا. قوله:
فإن أحبوا الخ، ظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال
الكتابة ولم يقع ذلك، إذ لو وقع لكان اللوم على عائشة بطلبها ولاء من أعتقه
غيرها. وقد رواه أبو أسامة بلفظ يزيل الاشكال فقال: إن أعدها لهم عدة واحدة
وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت وكذلك رواه وهيب عن هشام، فعرف بذلك
أنها أرادت أن تشتريها شراء صحيحا ثم تعتقها، إذ العتق فرع ثبوت الملك، ويؤيده
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ابتاعي فأعتقي والمراد بالأهل هنا في قول
عائشة: ارجعي إلى أهلك السادة، والأهل في الأصل الآل، وفي الشرع من تلزم
نفقته. قوله: إن شاءت أن تحتسب هو من الحسبة بكسر الحاء المهملة. أي تحتسب
الاجر عند الله ولا يكون لها ولاء. قوله: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في رواية للبخاري: فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فسألني، وفي أخرى له: فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بلغه. قوله:
ابتاعي فأعتقي هو كقوله في حديث ابن عمر: لا يمنعك ذلك. قوله: على تسع
أواق في رواية معلقة للبخاري: خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين
ولكن المشهور رواية التسع، وقد جزم الإسماعيلي بأن رواية الخمس غلط، ويمكن
الجمع بأن التسع أصل، والخمس كانت بقيت عليها، وبهذا جزم القرطبي والمحب الطبري،
ويعكر عليه ما في تلك الرواية بلفظ: ولم تكن قضت من كتابتها شيئا. وأجيب
216

بأنها كانت حصلت الأربع الآواق قبل أن تستعين ثم جاءتها وقد بقي عليها خمس.
وقال القرطبي: يجاب بأن الخمس هي التي كانت استحقت عليها بحلول نجمها من جملة
التسع الآواق المذكورة، ويؤيده ما وقع في رواية للبخاري ذكرها في أبواب
المساجد بلفظ: فقال أهلها إن شئت أعطيت ما يبقى وقد قدمنا بقية الكلام على هذا
الحديث في ذلك الباب من كتاب البيع فليرجع إليه، وله فوائد أخر خارجة عن
المقصود. قال ابن بطال: أكثر الناس من تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلغوها نحو
مائة وجه. وقال النووي: صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا
فيهما من استنباط الفوائد.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأداها إلا عشر أوقيات فهو رقيق رواه
الخمسة إلا النسائي. وفي لفظ: المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم رواه
أبو داود. وعن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان لإحداكن مكاتب وكان
عنده ما يؤدي فلتحتجب منه رواه الخمسة إلا النسائي
وصححه الترمذي، ويحمل الامر بالاحتجاب على الندب. وعن ابن عباس: عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية الحر وما بقي
دية العبد رواه الخمسة إلا ابن ماجة. وعن علي عليه السلام: عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: يؤدي المكاتب بقدر ما أدى رواه أحمد.
حديث عمرو بن شعيب باللفظ الأول أخرجه أيضا الحاكم وصححه. وقال
الترمذي: غريب. قال الشافعي: لم أجد أحدا روى هذا عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم إلا عمرا، ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبته وعلى هذا فتيا المفتين. وأخرجه
باللفظ الثاني أيضا النسائي والحاكم وابن حبان، وحسن الحافظ إسناده في بلوغ
المرام وهو من رواية إسماعيل بن عياش وفيه مقال. وقال النسائي: هو حديث منكر
وهو عندي خطأ اه. وفي إسناده أيضا عطاء الخراساني عن عمرو بن شعيب ولم
يسمع عنه كما قال ابن حزم. وحديث أم سلمة قال الشافعي: لم أر أحدا ممن رضيت
من أهل العلم يثبت واحدا من هذين الحديثين. قال البيهقي: أراد هذا وحديث
عمرو بن شعيب يعني الذي قبله اه. وهو من رواية الزهري عن نبهان مولى أم
217

سلمة عنها. وقد صرح معمر بسماع الزهري من نبهان. وقد أخرجه ابن خزيمة عن
نبهان من طريق أخرى. وحديث ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري، وهو
عند النسائي مسند ومرسل، ورجال إسناده عند أبي داود ثقات. وحديث علي
عليه السلام أخرجه أيضا أبو داود لأنه قال في السنن بعد إخراجه لحديث ابن عباس
ما لفظه: ورواه يعني حديث ابن عباس وهيب عن أيوب عن عكرمة عن علي عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله إسماعيل بن علية من قول عكرمة، وأخرجه
البيهقي من طرق. قوله: فهو رقيق أي تجري عليه أحكام الرق، وفيه دليل
على جواز بيع المكاتب لأنه رق مملوك، وكل مملوك يجوز بيعه وهبته والوصية به
وهو القديم من مذهب الشافعي، وبه قال أحمد وابن المنذر، قال: بيعت بريرة بعلم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي مكاتبة ولم ينكر ذلك، ففيه أبين بيان
أن بيعه جائز، قال: ولا أعلم خبرا يعارضه، قال: ولا أعلم دليلا على عجزها. وقال الشافعي
في الجديد ومالك وأصحاب الرأي: أنه لا يجوز بيعه، وبه قالت العترة قالوا: لأنه قد أخرج
عن ملكه بدليل تحريم الوطئ والاستخدام، وتأول الشافعي حديث بريرة على أنها
كانت قد عجزت وكان بيعها فسخا لكتابتها، وهذا التأويل يحتاج إلى دليل.
قوله: فلتحتجب منه ظاهر الامر الوجوب إذا كان مع المكاتب من المال ما يفي
بما عليه من مال الكتابة، لأنه قد صار حرا وإن لم يكن قد سلمه إلى مولاته، وقيل:
إنه محمول على الندب. قال الشافعي: يجوز أن يكون أمر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أم سلمة بالاحتجاب من مكاتبها إذا كان عنده ما يؤدي لتعظيم أزواج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون ذلك مختصا بهن، ثم قال: ومع هذا فاحتجاب
المرأة ممن يجوز له أن يراها واسع، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سودة
أن تحتجب من رجل قضى أنه أخوها وذلك يشبه أن يكون للاحتياط، وأن الاحتجاب
ممن له أن يراها مباح اه. والقرينة القاضية بحمل هذا الامر على الندب حديث
عمرو بن شعيب المذكور فإنه يقتضي أن حكم المكاتب قبل تسليم جميع مال الكتابة
حكم العبد، والعبد لا يجوز له النظر إلى سيدته، كما هو مذهب أكثر السلف لقوله تعالى: *
(أو ما ملكت أيمانهن) * (سورة النور، الآية: 31) وذهب جماعة من أهل العلم منهم الهادوية إلى أنه لا يجوز
للعبد النظر إلى سيدته. ومن متمسكاتهم لذلك ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال:
218

لا تغرنكم آية النور فالمراد بها الإماء. قال في البحر: وخصهن بالذكر لتوهم مخالفتهن
للحرائر في قوله تعالى: * (أو نسائهن) * (سورة النور، الآية: 31) اه. وهو تمسك بحديث عمرو بن شعيب جمهور
أهل العلم من الصحابة وغيرهم فقالوا: حكم المكاتب قبل تسليم جميع مال الكتابة
حكم العبد في جميع الأحكام من الإرث والأرش والدية والحد وغير ذلك، وتمسك
من قال بأنه يعتق من المكاتب بقدر ما أدى من مال الكتابة، وتتبعض الاحكام
التي يمكن تبعضها في حقه بحديث ابن عباس وحديث علي المذكورين، وقد قدمنا في باب
ميراث المعتق بعضه من كتاب الفرائض أقوالا في المكاتب الذي قد أدى بعض مال
كتابته. قوله: يؤدي المكاتب بضم أوله وفتح الدال المهملة مبنيا للمجهول، أي يؤدي
الجاني عليه من ديته أو أرشه لما كان منه حرا بحساب دية الحر وأرشه، ولما كان منه عبدا
بحساب دية العبد وأرشه.
وعن موسى بن أنس: أن سيرين سأل أنس بن مالك المكاتبة وكان
كثير المال فأبى، فانطلق إلى عمر فقال كاتبه فأبى فضربه عمر بالدرة وتلا عمر:
* (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * (سورة النور، الآية: 33) أخرجه البخاري. وعن أبي سعيد المقبري
قال: اشترتني امرأة من بني ليث بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم ثم قدمت فكاتبتني
على أربعين ألف درهم فأذهبت إليها عامة المال ثم حملت ما بقي إليها فقلت: هذا
مالك فاقبضيه، فقالت: لا والله حتى آخذه منك شهرا بشهر وسنة بسنة، فخرجت به
إلى عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له فقال عمر: ارفعه إلى بيت المال، ثم بعث إليها:
هذا مالك في بيت المال وقد عتق أبو سعيد فإن شئت فخذي شهرا بشهر وسنة بسنة،
قال: فأرسلت فأخذته رواه الدارقطني.
حديث أبي سعيد المقبري هو من رواية ابنه سعيد بن أبي سعيد، وأخرجه أيضا
البيهقي وأورده صاحب التلخيص وسكت عنه. قوله: أن سيرين هو والد محمد
بن سيرين الفقيه المشهور وكنيته أبو عمرة وكان من سبي عين التمر، اشتراه
أنس في خلافة أبي بكر وروى عن عمر وغيره، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين،
وموسى بن أنس الراوي عنه لم يدرك وقت سؤال سيرين الكتابة من أنس.
وقد رواه عبد الرزاق والطبراني من وجه آخر متصل من طريق سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة عن أنس قال: أرادني سيرين على المكاتبة فأبيت، فأتى عمر بن
219

الخطاب فذكر نحوه. وقد استدل بالآية المذكورة من قال بوجوب الكتابة، وقد
نقله ابن حزم عن مسروق والضحاك، وزاد القرطبي معهما عكرمة، وهو قول للشافعي،
وبه قالت الظاهرية، واختاره ابن جرير الطبري، وحكاه في البحر عن عطاء وعمرو
بن دينار. وقال إسحاق بن راهويه: إنها واجبة إذا طلبها العبد. وذهبت العترة
والشافعية والحنفية وجمهور العلماء إلى عدم الوجوب، وأجابوا عن الآية بأجوبة منها
ما قاله أبو سعيد الإصطخري أن القرينة الصارفة للامر المذكور آخر الآية أعني
قوله تعالى: * (إن علمتم فيهم خيرا) * (سورة النور، الآية: 33) فإنه وكل الاجتهاد في ذلك إلى المولى، ومقتضاه
أنه إذا رأى عدمه لم يجبر عليه فدل على أنه غير واجب. وقال غيره: الكتابة عقد
غرر فكان الأصل أن لا تجوز، فلما وقع الاذن فيها كان أمرا بعد منع، والامر بعد
المنع للإباحة، ولا يرد على هذا كونها مستحبة لأن استحبابها ثبت بأدلة أخرى.
قال القرطبي: لما ثبت أن رقبة العبد وكسبه ملك لسيده دل على أن الامر بالكتابة
غير واجب، لأن قوله: خذ كسبي وأعتقني يصير بمنزلة اعتقني بلا شئ وذلك غير
واجب اتفاقا. وأجاب عن الآية في البحر بأن القياس على المعاوضات صرفها عن الظاهر
كالتخصيص، ورد بأن القياس المذكور فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص، ويجاب
بأن المراد بالقياس المذكور هو الأصل المعلوم من الأصول المقررة، وهو
صالح للصرف لا القياس الذي هو إلحاق أصل بفرع حتى يرد بما ذكر،
واستدل بفعل عمر المذكور في قصة أبي سعيد المقبري من لم يشترط التنجيم في
الكتابة وهم أبو حنيفة ومالك والناصر والمؤيد بالله. وذهب الشافعي والهادي وأبو
العباس وأبو طالب إلى اشتراط التأجيل والتنجيم، واستدلوا على ذلك بأن الكتابة
مشتقة من الضم، وهو ضم بعض النجوم إلى بعض، وأقل ما يحصل به الضم نجمان، واحتجوا
أيضا بما رواه ابن أبي شيبة عن علي بلفظ: إذا تتابع على المكاتب نجمان فلم يؤد
نجومه رد إلى الرق.. ولا يخفى أن مثل هذا لا ينتهض للاحتجاج به على الاشتراط،
أما أولا فلأنه قول صحابي، وأما ثانيا فليس فيه ما يشعر بأن ذلك على جهة الحتم،
والتأجيل في الأصل إنما جعل لأجل الرفق بالعبد لا بالسيد، فإذا قدر العبد على
التعجيل وتسليم المال دفعة فكيف يمنع من ذلك. والحاصل أن التنجيم جائز بالاتفاق
كما حكي ذلك في الفتح، وأما كونه شرطا أو واجبا فلا مستند له.
220

باب ما جاء في أم الولد
عن ابن عباس: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من وطئ
أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه رواه أحمد وابن ماجة. وفي لفظ: أيما
امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه أو قال: من بعده رواه أحمد.
وعن ابن عباس قال: ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال: أعتقها ولدها رواه ابن ماجة والدارقطني.
الحديث الأول أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وله طرق وفي إسناده الحسين بن عبد الله
الهاشمي وهو ضعيف جدا، وقد رجح جماعة وقفه على عمر، وفي رواية للدارقطني والبيهقي
من حديث ابن عباس أيضا أم الولد حرة وإن كان سقطا وإسناده ضعيف. قال الحافظ:
والصحيح أنه من قول ابن عمر. والحديث الثاني في إسناده أيضا حسين بن عبد الله الهاشمي
وهو ضعيف جدا كما تقدم. قال البيهقي: وروي عن ابن عباس من قوله قال: وله علة. ورواه
مسروق عن عكرمة عن عمرو عن خصيف عن عكرمة عن ابن عمر قال: فعاد الحديث
إلى عمر، وله طرق أخرى، رواه البيهقي من حديث ابن لهيعة عن عبيد الله بن
جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لام إبراهيم أعتقك ولدك وهو معضل
وقال ابن حزم: صح هذا بسند رواته ثقات عن ابن عباس، ثم ذكره من طريق
قاسم بن أصبغ عن محمد بن مصعب عن عبيد الله بن عمر عن عبد الكريم الجزري
عن عكرمة عن ابن عباس، وتعقبه ابن القطان بأن قوله عن محمد بن مصعب خطأ
وإنما هو عن محمد وهو ابن وضاح عن مصعب وهو ابن سعيد المصيصي وفيه ضعف.
(والحديثان) يدلان على أن الأمة تصير حرة إذا ولدت من سيدها، وسيأتي
الكلام على ذلك قريبا والخلاف فيه. وأم الولد هي الأمة التي علقت من سيدها بحمل
ووضعته متخلقا وادعاه.
وعن أبي سعيد قال: جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إنا نصيب
سبيا فنحب الأثمان فكيف ترى في العزل؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وإنكم لتفعلون
ذلكم لا عليكم أن لا تفعلوا ذلكم فإنها ليست نسمة كتب الله عز وجل أن تخرج إلا وهي
خارجة رواه أحمد والبخاري.
221

الحديث فيه دليل على جواز العزل عن الإماء، وسيذكر المصنف حديث أبي
سعيد هذا في باب ما جاء في العزل من كتاب الوليمة والبناء، ويأتي شرحه إن
شاء الله تعالى هنالك، فإنه الموضع الأليق به، وفي مطلق العزل خلاف طويل، وكذلك
في خصوص العزل عن الحرة أو الأمة أو أم الولد، وسيأتي هنالك مبسوطا بمعونة الله،
ولعل مراد المصنف رحمه الله بإيراد الحديث الاستدلال بقوله: فنحب الأثمان على منع
بيع أمهات الأولاد وهو محتمل.
وعن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع أمهات
الأولاد وقال: لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن، يستمتع بها السيد ما دام حيا، وإذا مات
فهي حرة رواه الدارقطني، ورواه مالك في الموطأ والدارقطني من طريق آخر
عن ابن عمر عن عمر من قوله. وهو أصح. وعن أبي الزبير عن جابر: أنه
سمعه يقول: كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم فينا حي
لا نرى بذلك بأسا رواه أحمد وابن ماجة. وعن عطاء عن جابر قال: بعنا
أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر
نهانا فانتهينا رواه أبو داود. قال بعض العلماء: إنما وجه هذا أن يكون ذلك مباحا
ثم نهى عنه، ولم يظهر النهي لمن باعها، ولا علم أبو بكر بمن باع في زمانه لقصر مدته
واشتغاله بأهم أمور الدين، ثم ظهر ذلك زمن عمر فأظهر النهي والمنع، وهذا مثل
حديث جابر أيضا في المتعة قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام
على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتى نهانا عنه عمر في شأن
عمرو بن حريث رواه مسلم، وإنما وجهه ما سبق لامتناع النسخ بعد وفاة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم. وعن الخطاب بن صالح عن أمه قالت: حدثتني سلامة بنت
معقل قالت: كنت للحباب بن عمرو ولي منه غلام فقالت لي امرأته: الآن
تباعين في دينه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال: من
صاحب تركة الحباب بن عمرو؟ قالوا: أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو، فدعاه فقال: لا
تبيعوها وأعتقوها، فإذا سمعتم برقيق قد جاءني فأتوني أعوضكم، ففعلوا فاختلفوا
فيما بينهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قوم: أم الولد مملوكة لولا
ذلك لم يعوضكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بعضهم: هي حرة قد أعتقها
222

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففي كان الاختلاف رواه أحمد في مسنده قال الخطابي:
وليس إسناده بذلك.
حديث ابن عمر أخرجه أيضا البيهقي مرفوعا وموقوفا وقال: الصحيح وقفه على
عمر، وكذا قال عبد الحق. وقال صاحب الالمام المعروف فيه الوقف والذي رفعه
ثقة، قيل: ولا يصح مسندا. وحديث جابر الأول أخرجه أيضا الشافعي والبيهقي.
وحديثه الثاني أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم. وحديث سلامة بنت معقل أخرجه
أيضا أبو داود وفي إسناده محمد بن إسحاق بن يسار وفيه مقال. وذكر البيهقي
أنه أحسن شئ روي في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال هذا بعد أن ذكر
أحاديث في أسانيدها مقال. (وفي الباب) عن أبي سعيد عند الحاكم بنحو حديث جابر
الآخر وإسناده ضعيف. قال البيهقي: وليس في شئ من الطرق أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم اطلع على ذلك يعني بيع أمهات الأولاد وأقرهم عليه. وقال
الحافظ: أنه روى ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق أبي سلمة عن جابر ما يدل على
ذلك يعني الاطلاع والتقرير. قوله: قال بعض العلماء قد روي نحو هذا الكلام
عن الخطابي فقال: يحتمل أن يكون بيع أمهات الأولاد كان مباحا، ثم نهى عنه
صلى الله عليه وآله وسلم في آخر حياته ولم يشتهر ذلك فلما بلغ ذلك عمر نهاهم.
قوله: ومثل هذا حديث جابر سيأتي الكلام عليه في النكاح إن شاء الله تعالى. قوله:
عن الخطاب بن صالح هو المدني مولى الأنصار معدود في الثقات، توفي سنة
ثلاث وأربعين ومائة، وسلامة بتخفيف اللام وهي امرأة من قيس عيلان، والحباب
بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة، وأبو اليسر بفتح التحتية والسين المهملة
اسمه كعب يعد في أهل المدينة وهو صحابي أنصاري بدري عقبي. وقد استدل
بحديثي ابن عباس المذكورين في الباب وحديث ابن عمر القائلون بأنه لا يجوز
بيع أمهات الأولاد وهم الجمهور، وقد حكى ابن قدامة إجماع الصحابة على ذلك، ولا
يقدح في صحة هذه الحكاية ما روي عن علي وابن عباس وابن الزبير من الجواز،
لأنه قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة، كما حكى ذلك ابن رسلان في شرح السنن.
وأخرج عبد الرزاق عن علي بإسناد صحيح أنه رجع عن رأيه الآخر إلى قول
جمهور الصحابة، وأخرج أيضا عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة
223

السلماني قال: سمعت عليا يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم رأيت بعد أن
يبعن، قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة
أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة وهذا الاسناد معدود في أصح الأسانيد،
ورواه البيهقي من طريق أيوب. وأخرج نحوه ابن أبي شيبة وروى ابن قدامة في
الكافي أن عليا لم يرجع رجوعا صريحا إنما قال لعبيدة وشريح: اقضوا كما كنتم
تقضون فإني أكره الخلاف وهذا واضح في أنه لم يرجع عن اجتهاده، وإنما أذن
لهم أن يقضوا باجتهادهم الموافق لرأي من تقدم. قال ابن قدامة أيضا: وقد روى
صالح عن أحمد أنه قال: أكره بيعهن وقد باع علي بن أبي طالب. قال أبو الخطاب:
فظاهر هذا أنه يصح مع الكراهة. وروى البيهقي من طرق منها عن
الثوري عن عبد الله بن دينار قال: جاء رجلان إلى ابن عمر فقال: من
أين أقبلتما؟ قالا: من قبل ابن الزبير. فأحل لنا أشياء كانت تحرم علينا، قال: ما أحل لكم؟ قالا: أحل لنا
بيع أمهات الأولاد، قال: أتعرفان أبا حفص عمر؟ فإنه نهى أن تباع أو تورث يستمتع
بها ما كان حيا، فإذا مات فهي حرة. ومن القائلين بجواز البيع الناصر والباقر والصادق
والامامية وبشر المريسي ومحمد بن المطهر وولده والمزني وداود الظاهري وقتادة،
ولكنه إنما يجوز عند الباقر والصادق والامامية بشرط أن يكون بيعها في حياة
سيدها، فإن مات ولها منه ولد باق عتقت عندهم، وقد قيل: إن هذا مجمع عليه. وقد
روي في جامع آل محمد عن القاسم بن إبراهيم أن من أدرك من أهله لم يكونوا
يثبتون رواية بيع أمهات الأولاد، وقد ادعى بعض المتأخرين الاجماع على تحريم
بيع أم الولد مطلقا، وهو مجازفة ظاهرة. وادعى بعض أهل العلم أن تحريم بيعهن
قطعي وهو فاسد، لأن القطع بالتحريم إن كان لأجل الأدلة القاضية بالتحريم ففيها
ما عرفت من المقال السالف، وإن كان لأجل الاجماع المدعي ففيه ما عرفت، وكيف
يصح الاحتجاج بمثل ذلك والخلاف ما زال منذ أيام الصحابة إلى الآن؟ وقد تمسك
القائلون بالجواز بحديثي جابر المذكورين وحديث سلامة، وقد عرفت أن حديثي
جابر ليس فيهما ما يدل على اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على البيع وتقريره
كما تقدم عن البيهقي. وأيضا قوله: فلا نرى بذلك بأسا الرواية فيه بالنون التي
للجماعة، ولو كانت بالياء التحتية لكان فيه دلالة على التقرير. وأما حديث
224

سلامة فدلالته على عدم الجواز، أظهر لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
نهاهم عن البيع وأمرهم بالاعتاق، وتعويضهم عنها ليس فيه دليل، على أنه
كان يجوز بيعها لاحتمال أنه عوضهم لما رأى من احتياجهم، وهذه المسألة طويلة
الذيل. وقد أفردها ابن كثير بمصنف مستقل. وحكي عن الشافعي فيها أربعة
أقوال، وذكر أن جملة ما فيها من الأقوال للعلماء ثمانية، ولا شك أن الحكم بعتق
أم الولد مستلزم لعدم جواز بيعها، فلو صحت الأحاديث القاضية بأنها تصير حرة
بالولادة لكانت دليلا على عدم جواز البيع. ولكن ما فيها ما سلف، والأحوط اجتناب
البيع، لأن أقل أحواله أن يكون من الأمور المشتبهة، والمؤمنون وقافون عندها كما
أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، والله أعلم.
كتاب النكاح
باب الحث عليه وكراهة تركه للقادر عليه
عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر
وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء رواه الجماعة.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عثمان
بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا. وعن أنس: أن نفرا من أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلي ولا أنام،
وقال بعضهم أصوم ولا أفطر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء
فمن رغب عن سنتي فليس مني متفق عليهما. وعن سعيد بن جبير قال: قال
لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: تزوج فإن خير هذه أكثرها نساء
رواه أحمد والبخاري. وعن قتادة عن الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم نهى عن التبتل وقرأ قتادة: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا
لهم أزواجا وذرية) * (سورة الرعد، الآية: 38) رواه الترمذي وابن ماجة.
225

حديث سمرة قال الترمذي: إنه حسن غريب. قال: وروى الأشعث بن
عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، ويقال: كلا الحديثين صحيح انتهى. وفي سماع الحسن. من سمرة
خلاف مشهور وقد ذكرناه فيما تقدم. وحديث عائشة الذي أشار إليه الترمذي أخرجه
أيضا النسائي (وفي الباب) عن ابن عمر عن الديلمي في مسند الفردوس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حجوا تستغنوا، وسافروا تصحوا، وتناكحوا
تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم وفي إسناده محمد بن الحرث عن محمد بن عبد الرحمن
البيلماني وهما ضعيفان. ورواه البيهقي أيضا عن الشافعي أنه ذكره بلاغا، وزاد في
آخره حتى بالسقط. وعن أبي أمامة عن البيهقي بلفظ: تزوجوا فإني مكاثر بكم
الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى وفي إسناده محمد بن ثابت وهو ضعيف.
وعن حرملة بن النعمان عن الدارقطني في المؤتلف وابن قانع في الصحابة بلفظ:
امرأة ولود أحب إلى الله من امرأة حسناء لا تلد، إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة
قال الحافظ: وإسناده ضعيف. وعن عائشة أيضا عند ابن ماجة: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا
فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإن
الصوم له وجاء وفي إسناده عيسى بن ميمون وهو ضعيف. وعن عمرو بن العاص
عند مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الدنيا متاع وخير متاعها المرأة
الصالحة وعن أنس عند النسائي والطبراني بإسناد حسن عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة
وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في باب الاكتحال والادهان والتطيب من
كتاب الطهارة. وعن عائشة أيضا عند الحاكم وأبي داود في المراسيل بلفظ:
تزوجوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح
الدارقطني المرسل على الموصول. وعن أبي هريرة عند الترمذي والحاكم
والدارقطني وصححه بلفظ: ثلاثة حق على الله إعانتهم: المجاهد في سبيل الله، والناكح
يريد أن يستعفف، والمكاتب يريد الأداء. وعن أنس أيضا عند الحاكم بلفظ:
226

من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني
قال الحافظ: وسنده ضعيف. وعنه أيضا: من تزوج امرأة صالحة فقد أعطي
نصف العبادة وفي إسناده زيد العمي وهو ضعيف. وعن ابن عباس عند أبي
داود والحاكم بلفظ: ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر
إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته. وعن ثوبان عند الترمذي
نحوه ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا. وعن أبي نجيح عند البيهقي والبغوي في
معجم الصحابة بلفظ: من كان موسرا فلم ينكح فليس منا قال البيهقي: هو
مرسل، وكذا جزم به أبو داود والدولابي وغيرهما. وعن ابن عباس عند ابن ماجة
والحاكم: لم ير للمتحابين مثل التزويج. وعنه أيضا عند أحمد وأبي داود والحاكم
وصححه والطبراني: لا صرورة في الاسلام وهو من رواية عطاء عن عكرمة.
عنه. قال ابن طاهر: هو ابن وراز وهو ضعيف. وفي رواية الطبراني: ابن أبي الجوار
وهو موثق، هكذا في التلخيص أنه من رواية عطاء عن عكرمة ولا رواية له،
ولعله من رواية عمرو بن عطاء بن وراز وهو مجهول من السادسة، أو عمرو بن عطاء بن
أبي الجوار وهو مقبول من الخامسة، وكأنه سقط من التلخيص اسم عمرو.
والصرورة بفتح الصاد المهملة الذي لم يتزوج والذي لم يحج. وعن عياض بن
غنم عند الحاكم بلفظ: لا تزوجوا عاقرا ولا عجوزا فإني مكاثر بكم الأمم
وإسناده ضعيف. وفيه أيضا عن الصنابح بن الأعسر وسهل بن حنيف وحرملة
بن النعمان ومعاوية بن حيدة أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح. وفي الباب
عن أنس أيضا وعبد الله بن عمرو، ومعقل بن يسار، وأبي هريرة أيضا وجابر،
وسيأتي ذلك في الباب الذي بعد هذا. قوله: كتاب النكاح هو في اللغة: الضم
والتداخل: وفي الشرع: عقد بين الزوجين يحل به الوطئ، وهو حقيقة في العقد مجاز
في الوطئ، وهو الصحيح لقوله تعالى: * (فانكحوهن بإذن أهلهن) * (سورة النساء، الآية: 25) والوطئ لا يجوز بالاذن.
وقال أبو حنيفة: هو حقيقة في الوطئ مجاز في العقد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
تناكحوا تكاثروا. وقوله: لعن الله ناكح يده. وقال الامام يحيى وبعض أصحاب
أبي حنيفة أنه مشترك بينهما، وبه قال أبو القاسم الزجاجي. وقال الفارسي: إنه إذا
227

قيل نكح فلانة أو بنت فلان فالمراد به العقد، وإذا قيل نكح زوجته فالمراد به
الوطئ، ويدل على القول الأول ما قيل إنه لم يرد في القرآن إلا للعقد كما صرح بذلك
الزمخشري في كشافه في أوائل سورة النور ولكنه منتقض لقوله تعالى: * (حتى
تنكح زوجا غيره) * (سورة البقرة، الآية: 230) وقال أبو الحسين بن فارس: إن النكاح لم يرد في القرآن إلا
للتزويج إلا قوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح) * (سورة النساء، الآية: 6) فإن المراد
به الحلم.
قوله: يا معشر الشباب المعشر جماعة يشملهم وصف ما، والشباب جمع شاب، قال
الأزهري: لم يجمع فاعل على فعال غيره وأصله الحركة والنشاط وهو اسم لمن بلغ
إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشافعية، حكى ذلك عنهم صاحب الفتح وقال
القرطبي في المفهم: يقال له حدث إلى ست عشرة سنة ثم شاب إلى اثنين وثلاثين
ثم كهل. قال الزمخشري: إن الشباب من لدن البلوغ إلى اثنين وثلاثين. وقال
ابن شاس المالكي في الجواهر: إلى أربعين. وقال النووي: الأصح المختار أن الشباب من
بلغ ولم يجاوز الثلاثين ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ. وقال
الروياني وطائفة: من جاوز الثلاثين سمي شيخا، زاد ابن قتيبة إلى أن يبلغ الخمسين.
وقال أبو إسحاق الأسفراييني عن الأصحاب. المرجع في ذلك اللغة، وأما بياض الشعر
فيختلف باختلاف الأمزجة، هكذا في الفتح. قوله: الباءة بالهمز وتاء التأنيث
ممدودا، وفيها لغة أخرى بغير همز ولا مد، وقد تهمز وتمد بلا هاء. قال الخطابي: المراد
بالباءة النكاح وأصله الموضع يتبوأه ويأوي إليه. وقال النووي: اختلف العلماء في المراد
بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد، أصحهما أن المراد معناها اللغوي
وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنة وهي مؤنة النكاح
فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع
شر منيه كما يقطعه الوجاء. والقول الثاني: أن المراد بالباءة مؤنة النكاح سميت
باسم ما يلازمها وتقديره: من استطاع منكم مؤون النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع
فليصم، قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة
على المؤن. وقال القاضي عياض لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد
بقوله: من استطاع الباءة، أي بلغ الجماع وقدر عليه فليتزوج، ويكون قوله: ومن لم
يستطع أي لم يقدر على التزويج، وقيل: الباءة بالمدة القدرة على مؤن النكاح، وبالقصر
228

الوطئ. قال الحافظ: ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطئ
ومؤن التزويج، وقد وقع في رواية عند الإسماعيلي من طريق أبي عوانة بلفظ: من استطاع
منكم أن يتزوج فليتزوج وفي رواية للنسائي: من كان ذا طول فلينكح ومثله
لابن ماجة من حديث عائشة والبزار من حديث أنس. قوله: أغض للبصر
الخ، أي أشد غضا وأشد إحصانا له ومنعا من الوقوع في الفاحشة. قوله: فعليه
قيل هذا من إغراء الغائب، ولا تكاد العرب تغري إلا الشاهد تقول: عليك زيدا،
ولا تقول: عليه زيدا. قال الطيبي: وجوابه أنه لما كان الضمير للغائب راجعا إلى
لفظة من وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: يا معشر الشباب. وبيان لقوله: منكم
جاز قوله عليه لأنه بمنزلة الخطاب. وأجاب القاضي عياض بأن الحديث ليس
فيه إغراء الغائب، بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولا بقوله: من استطاع
منكم وقد استحسنه القرطبي والحافظ والارشاد إلى الصوم لما فيه من الجوع
والامتناع عن مثيرات الشهوة ومستدعيات طغيانها. قوله: وجاء بكسر الواو
والمد وأصله الغمز، ومنه وجأه في عنقه إذا غمزه، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ
أنثييه غمزهما حتى رضهما. وتسمية الصيام وجاء استعارة والعلاقة المشابهة لأن الصوم
لما كان مؤثرا في ضعف شهوة النكاح شبه بالوجاء. وقد استدل بهذا
الحديث على أن من لم يستطع الجماع فالمطلوب منه ترك التزويج لارشاده صلى الله
عليه وآله وسلم من كان كذلك إلى ما ينافيه ويضعف داعيه. وذهب بعض أهل
العلم إلى أنه مكروه في حقه. قوله: رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عثمان
بن مظعون التبتل هو في الأصل الانقطاع، والمراد به هنا الانقطاع عن النكاح
وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة، والمراد بقوله تعالى: * (وتبتل إليه تبتيلا) * (سورة المزمل، الآية: 8) انقطع
إليه انقطاعا، وفسره مجاهد بالاخلاص وهو لازم الانقطاع. قوله: ولو أذن له
لاختصينا الخصي هو شق الأنثيين وانتزاع البيضتين. قال الطيبي: كان الظاهر أن
يقول: ولو أذن له لتبتلنا، لكنه عدل عن هذا الظاهر إلى قوله: لاختصينا الإرادة المبالغة،
أي لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الامر إلى الاختصاء، ولم يرد به حقيقة الاختصاء لأنه حرام،
وقيل: بل هو على ظاهره وكان ذلك قبل النهي عن الاختصاء. وأصل حديث عثمان
بن مظعون أنه قال: يا رسول الله إني رجل يشق علي العزوبة فأذن لي في الاختصاء
229

قال: لا ولكن عليك بالصيام الحديث. وفي لفظ آخر: أنه قال: يا رسول الله أتأذن
لي في الاختصاء؟ قال إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنفية السمحة. وأخرج ذلك من
طريق عثمان بن مظعون الطبري. قوله: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه
وآله وسلم الخ، أصل الحديث: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله
عليه وآله وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أخبروا
كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقد غفر الله له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال بعضهم الحديث. قوله: لكني أصوم وأفطر الخ،
فيه دليل على أن المشروع هو الاقتصاد في الطاعات، لأن إتعاب النفس فيها والتشديد
عليها يفضي إلى ترك الجميع والدين يسر، ولن يشاد أحد الدين إلا غلبه، والشريعة المطهرة
مبنية على التيسير وعدم التنفير. قوله: فمن رغب عن سنتي فليس مني المراد بالسنة
الطريقة. والرغبة الاعراض. وأراد صلى الله عليه وآله وسلم أن التارك لهديه
القويم المائل إلى الرهبانية خارج عن الاتباع إلى الابتداع، وقد أسلفنا الكلام على
مثل هذه العبارة في مواطن من هذا الشرح. قوله: فإن خير هذه الأمة أكثرها
نساء وقيل: مراد ابن عباس بخير هذه الأمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل
على ذلك ما وقع عند الطبراني بلفظ: فإن خيرنا كان أكثرنا نساء وعلى هذا
فيكون التقييد بهذه الأمة لاخراج مثل سليمان فإنه كان أكثر نساء. وقيل: أراد
ابن عباس أن خير أمة محمد من كان أكثرها نساء من غيره ممن يساويه فيما عدا
ذلك من الفضائل. قال الحافظ: والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وبالأمة أخصاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح،
إذ لو كان راجحا ما آثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيره. قوله: نهى عن التبتل
قد استدل بهذا النهي. وبقوله في الحديث الأول: فليتزوج وبقوله: فمن رغب
عن سنتي وبسائر ما في أحاديث الباب من الأوامر ونحوها من قال بوجوب النكاح.
قال في الفتح: وقد قسم العلماء الرجل في التزويج إلى أقسام. التائق إليه القادر على
مؤنة الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية
أنه يجب، وبذلك قال أبو عوانة الأسفراييني من الشافعية وصرح به في صحيحه،
ونقله المصعبي في شرح مختصر الجويني وجها، وهو قول داود وأتباعه. انتهى. وبه
230

قالت الهادوية مع الخشية على النفس من المعصية. قال ابن حزم: وفرض على كل
قادر على الوطئ إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن
ذلك فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف انتهى. والمشهور عن أحمد أنه لا يجب
على القادر التائق إلا إذا خشي العنت، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن هبيرة. وقال
الماوردي: الذي نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حق من
لا ينكف عن الزنا إلا به. وقال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه
من العزوبة لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج لا يختلف في وجوب التزويج عليه.
وحكى ابن دقيق العيد الوجوب على من خاف العنت عن المازري، وكذلك حكى
عنه التحريم على من يخل بالزوجة في الوطئ والانفاق مع عدم قدرته عليه.
والكراهة حيث لا يضر بالزوجة مع عدم التوقان إليه، وتزداد الكراهة إذا كان
ذلك يفضي إلى الاخلال بشئ من الطاعات التي يعتادها، والاستحباب فيما إذا
حصل به معنى مقصود من كسر شهوة وإعفاف نفس وتحصين فرج ونحو ذلك،
والإباحة فيما إذ اتفقت الدواعي والموانع. وقد ذهبت الهادوية إلى مثل
هذا التفصيل. ومن العلماء من جزم بالاستحباب فيمن هذه صفته لما تقدم
من الأدلة المقتضية للترغيب في مطلق النكاح. قال القاضي عياض: هو مندوب
في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطئ شهوة، وكذا في حق
من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطئ، فأما من لا نسل له ولا أرب
له في النساء ولا في الاستماع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت.
وقد يقال: إنه مندوب أيضا لعموم لا رهبانية في الاسلام قال الحافظ: لم أره
بهذا اللفظ لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني أن الله أبدلنا بالرهبانية
الحنيفية السمحة.
باب صفة المرأة التي يستحب خطبتها
عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بالباءة وينهى
عن التبتل نهيا شديدا ويقول: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم
231

القيامة. وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
انكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة رواهما أحمد. وعن
معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وأنها لا تلد فأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية
فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم رواه
أبو داود والنسائي.
حديث أنس أخرجه أيضا ابن حبان وصححه، وذكره في مجمع الزوائد في
موضعين فقال في أحدهما: رواه أحمد والطبراني في الأوسط من طريق حفص بن عمر
عن أنس، وقد ذكره ابن أبي حاتم وروى عنه جماعة وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال في
موضع آخر: وإسناده حسن. وحديث عبد الله بن عمرو أشار إليه الترمذي، وقال في مجمع
الزوائد: وفيه جرير بن عبد الله العامري وقد وثق وهو ضعيف. وحديث معقل أخرجه
أيضا ابن حبان وصححه الحاكم. (وفي الباب) أحاديث قد تقدمت الإشارة إليها وقد
تقدم تفسير التبتل. والولود كثيرة الولد، والودود المودودة لما هي عليه من حسن الخلق
والتودد إلى الزوج وهو فعول بمعنى مفعول. والمكاثرة يوم القيامة إنما تكون بكثرة
أمته صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على مشروعية
النكاح، ومشروعية أن تكون المنكوحة ولودا. قال الحافظ في الفتح بعد أن
ذكر بعض أحاديث الباب ما لفظه: وهذه الأحاديث وإن كان في الكثير
منها ضعف فمجموعها يدل على أن لما يحصل به المقصود من الترغيب في التزويج
أصلا لكن في حق من يتأتى منه النسل انتهى. وقد تقدم الكلام
على أقسام النكاح.
وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: يا جابر تزوجت
بكرا أم ثيبا؟ قال: ثيبا، فقال: هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك رواه الجماعة
. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تنكح المرأة لأربع:
لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك رواه الجماعة
إلا الترمذي. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن المرأة
232

تنكح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك رواه مسلم
والترمذي وصححه.
قوله: بكرا هي التي لم توطأ. والثيب: هي التي قد وطئت. قوله: تلاعبها
وتلاعبك. زاد البخاري في رواية له في النفقات: وتضاحكها وتضاحكك. وفي
رواية لأبي عبيد: تداعبها وتداعبك بالدال المهملة مكان اللام، وفيه دليل على
استحباب نكاح الأبكار إلا لمقتض لنكاح الثيب كما وقع لجابر فإنه قال للنبي صلى
الله عليه وآله وسلم لما قال له ذلك: هلك أبي وترك سبع بنات أو تسع بنات فتزوجت
ثيبا كرهت أن أجيئهن بمثلهن، فقال: بارك الله لك هكذا في البخاري في النفقات.
وفي رواية له ذكرها في المغازي من صحيحه: كن لي تسع أخوات فكرهت أن أجمع
إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن وتمشطهن قال: أصبت. قوله:
تنكح المرأة لأربع أي لأجل أربع. قوله: لحسبها بفتح الحاء والسين المهملتين
بعدهما باء موحدة أي شرفها، والحسب في الأصل الشرف بالآباء وبالأقارب مأخوذ
من الحساب، لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها،
فيحكم لمن زاد عدده على غيره. وقيل: المراد بالحسب ههنا الأفعال الحسنة. وقيل:
المال وهو مردود بذكره قبله، ويؤخذ منه أن الشريف النسيب يستحب له أن
يتزوج نسيبة، إلا أن تعارض نسيبة غير دينة وغير نسيبة دينة فتقدم ذات الدين
وهكذا في كل الصفات. وأما ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان
والحاكم من حديث بريدة رفعه: إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال
فقال الحافظ: يحتمل أن يكون المراد أنه حسب من لا حسب له، فيقوم النسب الشريف
لصاحبه مقام المال لمن لا نسب له، ومنه حديث سمرة رفعه: الحسب المال
والكرم التقوى أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم. قوله: وجمالها
يؤخذ منه استحباب نكاح الجميلة، ويلحق بالجمال في الذات الجمال في الصفات.
قوله: فاظفر بذات الدين فيه دليل على أن اللائق بذي الدين والمروءة أن
يكون الدين مطمح نظره في كل شئ، لا سيما فيما تطول صحبته كالزوجة، وقد وقع
في حديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجة والبزار والبيهقي رفعه: لا تزوجوا
النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن
233

تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولامة سوداء ذات دين أفضل. ولهذا
قيل: إن معنى حديث الباب الاخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم بما يفعله الناس
في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر
أيها المسترشد بذات الدين. قوله: تربت يداك أي لصقت بالتراب وهي كناية
عن الفقر. قال الحافظ: وهو خبر بمعنى الدعاء لكن لا يراد به حقيقته، وبهذا جزم
صاحب العمدة، وزاد غيره: أن صدور ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق
مسلم لا يستجاب لشرطه ذلك على ربه. وحكى ابن العربي أن المعنى استغنت،
ورد بأن المعروف أترب إذا استغنى وترب إذا افتقر. وقيل معناه ضعف عقلك.
وقيل افتقرت من العلم. وقيل فيه شرط مقدر أي وقع لك ذلك إن
لم تفعل ورجحه ابن العربي. وقيل معنى تربت خابت. قال القرطبي: معنى الحديث
أن هذه الخصال الأربع هي التي يرغب في نكاح المرأة لأجلها، فهو خبر عما
في الوجود من ذلك لا لأنه وقع الامر به، بل ظاهره إباحة النكاح لقصد كل من
ذلك، قال: ولا يظن من هذا الحديث أن هذه الأربع يؤخذ منها الكفاءة أي
تنحصر فيها، فإن ذلك لم يقل به أحد فيما علمت، وإن كانوا اختلفوا في الكفاءة
ما هي، وسيأتي الكلام على الكفاءة.
باب خطبة المجبرة إلى وليها والرشيدة إلى نفسها
عن عراك عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب عائشة
إلى أبي بكر فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال: أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي
حلال رواه البخاري هكذا مرسلا. وعن أم سلمة قالت: لما مات أبو سلمة
أرسل إلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت له:
إن لي بنتا وأنا غيور، فقال: أما ابنتها فتدعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب
بالغيرة مختصر من مسلم.
الحديث الأول فيه دليل على أن خطبة المرأة الصغيرة البكر تكون إلى وليها،
قال ابن بطال: وفيه أن النهي عن إنكاح البكر حتى تستأمر مخصوص بالبالغة التي
234

يتصور منها الاذن. وأما الصغيرة فلا إذن لها. وسيأتي الكلام على ذلك في باب
ما جاء في الاجبار والاستئمار. قوله: وأنا غيور هذه الصيغة يستوي فيها المذكر
والمؤنث فيقول كل واحد منهما: أنا غيور، والمراد بالغيرة التي وصفت بها نفسها أنها
تغار إذا تزوج زوجها امرأة أخرى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كان له
زوجات قبلها. قال في القاموس: وأغار أهله تزوج عليها فغارت انتهى. وفيه دليل
على أن المرأة البالغة الثيبة تخطب إلى نفسها، وسيأتي الكلام على هذا.
باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه
عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: المؤمن
أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه
حتى يذر رواه أحمد ومسلم. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك رواه البخاري
والنسائي. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب
رواه أحمد والبخاري والنسائي.
قوله: أن يبتاع على بيع أخيه قد تقدم الكلام على هذا في كتاب البيع.
قوله: ولا يخطب الخ، استدل بهذا الحديث على تحريم الخطبة على الخطبة لقوله في
أول الحديث: لا يحل. وكذلك استدل بالنهي المذكور في حديث
أبي هريرة وحديث ابن عمر. وفي لفظ للبخاري: نهي أن يبيع بعضكم على بيع بعض أو يخطب. وفي
لفظ لأحمد من حديث الحسن عن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
نهى أن يخطب الرجل على أخيه. وقد ذهب إلى هذا الجمهور وجزموا بأن
النهي للتحريم، كما حكى ذلك الحافظ في فتح الباري. وقال الخطابي: إن النهي
ههنا للتأديب وليس بنهي تحريم يبطل العقد عند أكثر الفقهاء. قال الحافظ: ولا ملازمة
بين كونه للتحريم وبين البطلان عند الجمهور، بل هو عندهم للتحريم ولا يبطل العقد.
وحكى النووي أن النهي فيه للتحريم بالاجماع ولكنهم اختلفوا في شروطه، فقالت
235

الشافعية والحنابلة: محل التحريم إذا صرحت المخطوبة بالإجابة أو وليها الذي أذنت له،
وبذلك قالت الهادوية، فلو وقع التصريح بالرد فلا تحريم، وليس في الأحاديث
ما يدل على اعتبار الإجابة. وأما ما احتج به من قول فاطمة بنت قيس للنبي صلى
الله عليه وآله وسلم: إن معاوية وأبا جهم خطباها، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ذلك عليهما بل خطبها لأسامة، فليس فيه حجة كما قال النووي لاحتمال أن
يكونا خطباها معا، أو لم يعلم الثاني بخطبة الأول، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
أشار بأسامة ولم يخطب كما سيأتي. وعلى تقدير أن يكون ذلك خطبة فلعله كان بعد
ظهور رغبتها عنهما. وظاهر حديث فاطمة الآتي قريبا: أن أسامة خطبها مع معاوية
وأبي جهم قبل مجيئها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن بعض المالكية: لا تمتنع
الخطبة إلا بعد التراضي على الصداق ولا دليل على ذلك. وقال داود الظاهري:
إذا تزوجها الثاني فسخ النكاح قبل الدخول وبعده، وللمالكية في ذلك قولان، فقال
بعضهم: يفسخ قبله لا بعده. قال في الفتح: وحجة الجمهور أن المنهي عنه الخطبة وهي
ليست شرطا في صحة النكاح، فلا يفسخ النكاح بوقوعها غير صحيحة. قوله:
لا يخطب الرجل على خطبة الرجل ظاهره أنه لا يجوز للرجل أن يخطب على
خطبة الفاسق ولا على خطبة الكافر، نحو أن يخطب ذمية، فلا يجوز لمن يجوز نكاحها
أن يخطبها، ولكنه يقيد هذا الاطلاق بقوله في حديث أبي هريرة: لا يخطب الرجل
على خطبة أخيه فإنه لا أخوة بين المسلم والكافر، وبقوله في حديث عقبة: المؤمن
أخو المؤمن الخ، فإنه يخرج بذلك الفاسق، وإلى المنع من الخطبة على خطبة الكافر
والفاسق ذهب الجمهور قالوا: والتعبير بالأخ خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وذهب
الأوزاعي وجماعة من الشافعية إلى أنها تجوز الخطبة على خطبة الكافر وهو
الظاهر. قوله: حتى يترك وفي حديث عقبة: حتى يذر، في ذلك دليل على أنه
يجوز للآخر أن يخطب بعد أن يعم رغبة الأول عن النكاح. وأخرج أبو الشيخ
من حديث أبي هريرة مرفوعا: حتى ينكح أو يدع قال الحافظ: وإسناده صحيح.
236

باب التعريض في الخطبة في العدة عن فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل لها رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم سكنى ولا نفقة، قالت: وقال لي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: إذا حللت فآذنيني فأذنته، فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما معاوية فرجل ترب لا مال له، وأما أبو جهم
فرجل ضراب للنساء، ولكن أسامة، فقالت بيدها هكذا أسامة أسامة، فقال لها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: طاعة الله وطاعة رسوله، قالت: فتزوجته فاغتبطت
رواه الجماعة إلا البخاري. وعن ابن عباس فيما عرضتم به من خطبة النساء
يقول: إني أريد التزويج ولوددت أنه يسر لي امرأة صالحة رواه البخاري.
وعن سكينة بنت حنظلة قالت: استأذن علي محمد بن علي ولم تنقض عدتي من
مهلكة زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وقرابتي من علي، وموضعي من العرب، قلت: غفر الله لك يا أبا جعفر إنك رجل يؤخذ
عنك وتخطبني في عدتي، فقال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ومن علي، وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة
فقال: علمت أني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وخيرته من خلقه وموضعي من قومي، كانت تلك خطبته رواه الدارقطني.
حديث سكينة رواه الدارقطني من طريق عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل
عنها وهي عمته وهو منقطع، لأن محمد بن علي هو الباقر، ولم يدرك النبي صلى الله
عليه وآله وسلم. قوله: لا سكنى ولا نفقة سيأتي الكلام على ذلك. قوله:
معاوية اختلف فيه فقيل هو ابن أبي سفيان وقيل غيره. وفي صحيح مسلم
التصريح بأنه هو. قوله: فرجل ضراب في رواية: لا يضع عصاه عن عاتقه
وهو كناية عن كثرة ضربه للنساء، كما وقع التصريح بذلك في حديث الباب.
قوله: فاغتبطت الغبطة بكسر الغين المعجمة حسن الحال والمسرة كما في القاموس.
قوله: يقول إني أريد التزويج هو تفسير التعريض المذكور في الآية. قال
237

الزمخشري التعريض أن يذكر المتكلم شيئا يدل به على شئ لم يذكره، وتعقب
بأن هذا التعريف لا يخرج المجاز، وأجاب سعد الدين بأنه لم يقصد التعريف، ثم
حقق التعريض بأنه ذكر شئ مقصود بلفظ حقيقي أو مجازي أو كنائي ليدل به
على شئ آخر لم يذكر في الكلام مثل أن يذكر المجئ للتسليم ومراده التقاضي،
فالسلام مقصود، والتقاضي عرض، أي أميل إليه الكلام عن عرض أي جانب،
وامتاز عن الكناية فلم يشتمل على جميع أقسامها. والحاصل أنهما يجتمعان ويفترقان،
فمثل: جئت لأسلم عليك كناية وتعريض. ومثل: طويل النجاد كناية لا تعريض،
ومثل: آذيتني فستعرف خطابا لغير المؤذي تعريض بتهديد المؤذي لا كناية، وقد قيل
في تفسير التعريض المذكور في الآية أن يقول لها: إني فيك لراغب، ولا يستلزم
التصريح بالرغبة التصريح بالخطبة. ومن التعريض ما وقع في حديث فاطمة بنت
قيس عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: لا تفوتينا بنفسك.
ومنه قول الباقر المذكور في الباب. ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لام سلمة
كما في الحديث المذكور. قال في الفتح: واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم من
مات عنها زوجها، واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن، وكذا من وقف نكاحها. وأما
الرجعية فقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها، والحاصل أن التصريح
بالخطبة حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح للأولى وحرام في الأخيرة مختلف
فيه في البائن. واختلف فيمن صرح بالخطبة في العدة لكن لم يعقد إلا بعد انقضائها
فقال مالك: يفارقها دخل أو لم يدخل. وقال الشافعي: يصح العقد وإن ارتكب النهي
بالتصريح المذكور لاختلاف الجهة. وقال المهلب: علة المنع من التصريح في العدة أن
ذلك ذريعة إلى المواقعة في المدة التي هي محبوسة فيها على ماء الميت أو المطلق، وتعقب بأن
هذه العلة تصلح أن تكون لمنع العقد لا لمجرد التصريح، إلا أن يقال: التصريح ذريعة إلى العقد والعقد ذريعة إلى
الوقاع، وقد وقع الاتفاق على أنه إذا وقع العقد في العدة لزم
التفريق بينهما. واختلفوا هل تحل له بعد ذلك؟ فقال مالك والليث والأوزاعي: لا يحل
نكاحها بعد، وقال الباقون: بل يحل له إذا انقضت العدة أن يتزوجها إذا شاء.
238

باب النظر إلى المخطوبة
في حديث الواهبة المتفق عليه فصعد فيها النظر وصوبه. وعن المغيرة بن شعبة
أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما
رواه الخمسة إلا أبا داود. وعن أبي هريرة قال: خطب رجل امرأة فقال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا رواه أحمد والنسائي. وعن جابر
قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا خطب أحدكم المرأة فقدر
أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل رواه أحمد وأبو داود. وعن
موسى بن عبد الله عن أبي حميد أو حميدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان، إنما
ينظر إليها لخطبة وإن كانت لا تعلم رواه أحمد. وعن محمد بن مسلمة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا ألقى الله عز وجل في قلب
امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها رواه أحمد وابن ماجة.
حديث الواهبة نفسها سيأتي في باب جعل تعليم القرآن صداقا، ويأتي الكلام
عليه هنا لك إن شاء الله. وحديث المغيرة أخرجه أيضا الدارمي وابن حبان
وصححه. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا مسلم في صحيحه من حديث أبي
حازم عنه ولفظه: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه رجل فأخبره
أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنظرت إليها؟
قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا. وحديث جابر أخرجه
أيضا الشافعي وعبد الرزاق والبزار والحاكم وصححه. قال الحافظ: ورجاله ثقات
وفي إسناده محمد بن إسحاق، وأعله ابن القطان بواقد بن عبد الرحمن وقال: المعروف
واقد بن عمرو. ورواية الحاكم فيها واقد بن عمرو، وكذا رواية الشافعي وعبد الرزاق.
وحديث أبي حميدة أخرجه أيضا الطبراني والبزار وأورده الحافظ في التلخيص
وسكت عنه. وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح. وحديث محمد بن
مسلمة أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه، وسكت عنه الحافظ في التلخيص.
239

(وفي الباب) عن أنس بن حبان والدارقطني والحاكم وأبي عوانة وصححوه وهو
مثل حديث المغيرة. وعنه أيضا عند أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بعث أم سليم إلى امرأة فقال: انظري إلى عرقوبيها وشمي
معاطفها واستنكره أحمد، والمشهور فيه من طريق عمارة عن ثابت عنه. ورواه
أبو داود في المراسيل عن موسى بن إسماعيل عن حماد مرسلا. قال: ورواه محمد بن
كثير الصنعاني عن حماد موصولا. وعن محمد ابن الحنفية عند عبد الرزاق وسعيد
بن منصور: أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم فذكر له صغرها فقال: أبعث بها
إليك فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها فقالت: لولا أنك
أمير المؤمنين لصككت عينيك. قوله: أن يؤدم بينكما أي تحصل الموافقة
والملائمة بينكما. قوله: فإن في أعين الأنصار شيئا قيل: عمش، وقيل: صغر، قال في
الفتح: الثاني وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه فهو المعتمد، وأحاديث الباب فيها
دليل على أنه لا بأس بنظر الرجل إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها، والامر
المذكور في حديث أبي هريرة وحديث المغيرة وحديث جابر للإباحة بقرينة
قوله في حديث أبي حميد: فلا جناح عليه، وفي حديث محمد بن مسلمة: فلا بأس، وإلى
ذلك ذهب جمهور العلماء وحكى القاضي عياض كراهته وهو خطأ مخالف للأدلة
المذكورة ولأقوال أهل العلم. وقد وقع الخلاف في الموضع الذي يجوز النظر إليه
من المخطوبة، فذهب الأكثر إلى أنه يجوز إلى الوجه والكفين فقط، وقال داود: يجوز
النظر إلى جميع البدن، وقال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم، وظاهر الأحاديث أنه
يجوز له النظر إليها سواء كان ذلك بإذنها أم لا، وروي عن مالك اعتبار الاذن.
باب النهي عن الخلوة بالأجنبية
والامر بغض النظر والعفو عن نظر الفجأة
عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان.
240

وعن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يخلون
رجل بامرأة لا تحل له فإن ثالثهما الشيطان إلا محرم رواهما أحمد. وقد سبق
معناه لابن عباس في حديث متفق عليه. وعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة،
ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد.
وعن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن
نظر الفجأة فقال: اصرف بصرك رواهما أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: يا علي لا تتبع
النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة رواه أحمد وأبو داود
والترمذي. وعن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال:
الحمو الموت رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه. ومعنى الحمو يقال
هو أخو الزوج كأنه كره أن يخلو بها.
حديث جابر وعامر يشهد لهما حديث ابن عباس الذي أشار إليه المصنف، وقد
تقدم في باب النهي عن سفر المرأة للحج من كتاب الحج، وقد أشار الترمذي إلى
حديث عامر. وحديث بريدة قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث
شريك، وأخرجه بهذا اللفظ من حديث علي البزار والطبراني في الأوسط، قال في
مجمع الزوائد: ورجال الطبراني ثقات، والخلوة بالأجنبية مجمع على تحريمها كما حكى
ذلك الحافظ في الفتح. وعلة التحريم ما في الحديث من كون الشيطان ثالثهما، وحضوره
يوقعهما في المعصية، وأما مع وجود المحرم فالخلوة بالأجنبية جائزة لامتناع وقوع
المعصية مع حضوره، واختلفوا هل يقوم غيره مقامه في ذلك كالنسوة الثقات فقيل:
يجوز لضعف التهمة. وقيل: لا يجوز وهو ظاهر الحديث. وحديث أبي سعيد أخرج
نحوه أحمد والحاكم من حديث جابر، وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم
من حديث ابن عباس، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط من حديث أبي موسى،
وأخرجه أيضا البزار من حديث سمرة. قوله: لا ينظر الرجل إلى عورة
الرجل الخ، فيه دليل على أنه يحرم على الرجل نظر عورة الرجل، وعلى المرأة
241

نظر عورة المرأة. وقد تقدم في كتاب الصلاة بيان العورة من الرجل والعورة
من المرأة. والمراد هنا العورة المغلظة. قال في البحر فصل: يجب ستر العورة المغلظة
من غير من له الوطئ إجماعا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: احفظ عورتك الخبر
ونحوه انتهى. قوله: ولا يفضي الرجل الخ، فيه دليل على أنه يحرم أن يضطجع
الرجل مع الرجل أو المرأة مع المرأة في ثوب واحد من الافضاء ببعض البدن، لان
ذلك مظنة لوقوع المحرم من المباشرة أو مس العورة أو غير ذلك. وحديث بريدة فيه دليل
على أن النظر الواقع فجأة من دون قصد وتعمل لا يوجب إثم الناظر، لأن التكليف به
خارج عن الاستطاعة، وإنما الممنوع منه النظر الواقع على طريقة التعمد، أو ترك صرف
البصر بعد نظر الفجأة، وقد استدل بذلك من قال بتحريم النظر إلى الأجنبية، ولم يحكه
في البحر إلا عن المؤيد بالله وأبي طالب. وحكي في البحر أيضا عن الفقهاء والامام يحيى أنه
يجوز ولو لشهوة، وتعقبه صاحب المنار أن كتب الفقهاء ناطقة بالتحريم قال: ففي منهاج
النووي وهو عمدتهم: ويحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة أجنبية وكذا وجهها وكفيها
عند خوف فتنة، وكذا عند الامن على الصحيح، ثم قال في نظر الأجنبية إلى الأجنبي
كهو إليها. وفي المنتهى من كتب الحنابلة: ولشاهد ومعامل نظر وجه مشهود عليها
ومن تعامله وكفيها لحاجة، والحنفية لا يجيزون النظر إلى الوجه والكفين مع الشهوة،
ولفظ الكنز: ولا ينظر من اشتهى. قال الشارح العيني في الشاهد: لا يجوز له وقت
التحمل أن ينظر إليها لشهوة، هذا ما تعقب به صاحب المنار قال في بهجة المحافل
للعامري الشافعي في حوادث السنة الخامسة ما لفظه. وفيها نزول الحجاب، وفيه
مصالح جليلة وعوائد في الاسلام جميلة، ولم يكن لأحد بعده النظر إلى أجنبية لشهوة
أو لغير شهوة، وعفى عن نظر الفجأة انتهى. وفي شرح السليقية للامام يحيى في
شرح الحديث الرابع والعشرين في شرح قوله: إياكم وفضول النظر فإنه يبذر الهوى
ويولد الغفلة التصريح بتحريم النظر إلى النساء الأجانب لشهوة أو لغير شهوة.
وقال ابن مظفر في البيان: إنه يحرم النظر إلى الأجنبية مع الشهوة اتفاقا. وقال
الامام عز الدين في جواب له: والصحيح المعمول عليه رواية شرح الأزهار وهي
رواية البحر أن الامام يحيى ومن معه يجوزون النظر ولو مع شهوة انتهى. ومن
جملة ما استدل به المانعون من النظر مطلقا قوله تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من
242

أبصارهم) * (سورة النور، الآية: 30) وقوله تعالى: * (فاسألوهن من وراء حجاب) * (سورة الأحزاب، الآية: 53) وأجيب بأن ذلك خاص بأزواج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه إنما شرع قطعا لذريعة وقوف أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، ولا يخفى أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب. (ومن جملة) ما استدلوا به حديث ابن عباس عند البخاري: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه وفيه قصة المرأة
الوضيئة الخثعمية فطفق الفضل ينظر إليها فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بذقن الفضل فحول وجهه عن النظر إليها. وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم إنما فعل ذلك لمخافة الفتنة لما أخرجه الترمذي وصححه من حديث علي وفيه:
فقال العباس: لويت عنق ابن عمك، فقال: رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة. وقد
استنبط منه ابن القطان جواز النظر عند أمن الفتنة حيث لم يأمرها بتغطية وجهها،
فلو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل، ولو لم يكن ما فهمه جائزا ما أقره عليه.
وهذا الحديث لا يصلح أيضا للاستدلال به على اختصاص آية الحجاب السابقة بزوجات
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن قصة الفضل في حجة الوداع وآية الحجاب في
نكاح زينب في السنة الخامسة من الهجرة كما تقدم. وأما قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن
إلا ما ظهر منها) * (سورة النور، الآية: 31) فروى البيهقي عن ابن عباس أن المراد بما ظهر الوجه والكفان.
وروى البيهقي أيضا عن عائشة نحوه، وكذلك روى الطبراني
عنها. وروى الطبراني أيضا عن ابن عباس قال: هي الكحل. وروى نحو ذلك عنه البيهقي. وقال في الكشاف:
الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرا منها كالخاتم
والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفي منها كالسوار
والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لهؤلاء
المذكورين، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الامر بالتصون والتستر، لأن هذه
الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الذراع والساق
والعضد والعنق والرأس والصدر والاذن، فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن
النظر إليها إذا لم يحل لملابستها تلك المواقع، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها
لا مقال في حله، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم
في الحرمة، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في
243

الكشف عنها انتهى. (والحاصل) أن المرأة تبدي من مواضع الزينة ما تدعو
الحاجة إليه عند مزاولة الأشياء والبيع والشراء والشهادة، فيكون ذلك
مستثنى عن عموم النهي عن إبداء مواضع الزينة، وهذا على فرض عدم ورود
تفسير مرفوع، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا ما يدل على أن الوجه والكفين
مما يستثني. قوله: الحمو الموت أي الخوف منه أكثر من غيره، كما أن الخوف
من الموت أكثر من الخوف من غيره. قال الترمذي: يقال هو أخو الزوج،
وروى مسلم عن الليث أنه قال: الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج
ابن العم ونحوه. وقال النووي: اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة
كأبيه وأخيه وابن أخيه وابن عمه ونحوهم، وأن
الأختان أقارب زوجة الرجل، وأن الأصغر تقع على النوعين انتهى.
باب أن المرأة عورة إلا الوجه والكفين وأن عبدها
كمحرمها في نظر ما يبدو منها غالبا
عن خالد بن دريك عن عائشة: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: يا أسماء إن المرأة
إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه
رواه أبو داود وقال: هذا مرسل خالد بن دريك لم يسمع من عائشة. وعن أنس:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها قال: وعلى فاطمة ثوب
إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك
رواه أبو داود، ويعضد ذلك قوله: إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي
فلتحتجب منه.
حديث عائشة في إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن النصري. نزيل
دمشق مولى بني نصر وقد تكلم فيه غير واحد. وذكر الحافظ أبو أحمد الجرجاني.
244

هذا الحديث وقال: لا أعلم رواه عن قتادة غير سعيد بن بشير. وقال مرة فيه عن
خالد بن دريك عن أم سلمة بدل عائشة. وحديث أنس أخرجه أيضا البيهقي
وابن مردويه وفي إسناده أبو جميع سالم بن دينار الهجيمي البصري. قال ابن
معين: ثقة. وقال أبو زرعة الرازي: بصري لين الحديث، والحديث الذي أشار إليه المصنف
وجعله عاضدا لحديث أنس قد تقدم في باب المكاتب من كتاب العتق. قوله: دريك
بضم الدال مصغرا وهو ثقة. وقيل بفتح الدال والضم أكثر. قوله: لم يصلح
بفتح الياء وضم اللام. قوله: إلا هذا وهذا فيه دليل لمن قال: إنه يجوز نظر
الأجنبية. قال ابن رسلان: وهذا عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع
أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة
، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات
الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق. وحكى القاضي عياض عن العلماء أنه لا يلزمها
ستر وجهها في طريقها، وعلى الرجال غض البصر للآية، وقد تقدم الخلاف في
أصل المسألة. قوله: إذا قنعت بفتح النون المشددة سترت وغطت. قوله: إنما هو
أبوك وغلامك فيه دليل على أنه يجوز للعبد النظر إلى سيدته وأنه من محارمها
يخلو بها ويسافر معها وينظر منها ما ينظر إليه محرمها، وإلى ذلك ذهبت عائشة
وسعيد بن المسيب والشافعي في أحد قوليه وأصحابه وهو قول أكثر السلف.
وذهب الجمهور إلى أن المملوك كالأجنبي بدليل صحة تزوجها إياه بعد العتق، وحمل
الشيخ أبو حامد هذا الحديث على أن العبد كان صغيرا لاطلاق لفظ الغلام ولأنها
واقعة حال، واحتج أهل القول الأول أيضا بحديث الاحتجاب من المكاتب
الذي أشار إليه المصنف وبقوله تعالى: * (أو ما ملكت أيمانكم) * (سورة النساء، الآية: 3) وقد تقدم
ما أجاب به سعيد بن المسيب من أن الآية خاصة بالإماء كما رواه عنه
ابن أبي شيبة.
باب في غير أولي الإربة
عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عندها وفي البيت
245

مخنث فقال لعبد الله بن أبي أمية أخي أم سلمة يا عبد الله: إن فتح الله عليكم الطائف
فإني أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: لا يدخلن هؤلاء عليكم متفق عليه. وعن عائشة قالت: كان
يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخنث قالت: وكانوا يعدونه من غير
أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما وهو عند بعض نسائه
وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أرى هذا يعرف ما ههنا لا يدخلن عليكم
هذا فحجبوه رواه أحمد ومسلم وأبو داود وزاد في رواية له: وأخرجه، وكان
بالبيداء ويدخل كل جمعة يستطعم. وعن الأوزاعي في هذه القصة فقيل: يا رسول
الله إنه إذا يموت من الجوع، فأذن له أن يدخل في كل جمعة مرتين فيسأل ثم
يرجع رواه أبو داود.
قوله مخنث بفتح النون وكسرها والفتح المشهور، وهو الذي يلين في
قوله، ويتكسر في مشيته، ويتثنى فيها كالنساء، وقد يكون خلقه وقد يكون تصنعا من
الفسقة، ومن كان ذلك فيه خلقة فالغالب من حاله أنه لا إرب له في النساء،
ولذلك كان أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعددن هذا المخنث من غير أولي
الإربة، وكن لا يحجبنه إلا إن ظهر منه ما ظهر من هذا الكلام، واختلف في اسمه
فقال القاضي: الأشهر أن اسمه هيت بكسر الهاء ثم تحتية ساكنة ثم فوقية،
وقيل: صوابه هنب بالنون والباء الموحدة قاله ابن درستويه وقال: إن ما سواه تصحيف،
وإنه الأحمق المعروف، وقيل: اسمه ماتع بالمثناة فوق مولى فاختة المخزومية بنت
عمرو بن عائد. قوله: تقبل بأربع وتدبر بثمان المراد بالأربع هي العكن جمع عكنة
وهي الطية التي تكون في البطن من كثرة السمن، يقال: تعكن البطن إذا صار ذلك
فيه، ولكل عكنة طرفان فإذا رآهن الرائي من جهة البطن وجدهن أربعا، وإذا
رآهن من جهة الظهر وجدهن ثمانيا. وقال ابن حبيب عن مالك معناه: أن
أعكانها يتعطف بعضها على بعض وهي في بطنها أربع طرائق، وتبلغ أطرافها إلى
خاصرتها وفي كل جانب أربع. قال الحافظ: وتفسير مالك المذكور تبعه فيه الجمهور
وحاصله أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها عكن، وذلك لا يكون إلا
246

للسمينة من النساء، وجرت عادة الرجال غالبا في الرغبة فيمن تكون بتلك الصفة،
وقيل: الأربع هي الشعب التي هي اليدان والرجلان، والثمان الكتفان والمثنتان
والأليتان والساقان، ولا يخفى ضعف ذلك، لأن كل امرأة فيها ما ذكر، فلا وجه
لجعله من صفات المدح المقصودة في المقام. قوله: هؤلاء إشارة إلى جميع المخنثين.
وروى البيهقي أنه كان المخنثون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة:
ماتع وهدم وهيت. قوله: " من غير أولي الإربة " الإربة والأرب الحاجة و الشهوة،
قيل: ويحتمل أنهم التابعون الذين يتبعون الرجل ليصيبوا من طعامه، ولا حاجة لهم
إلى النساء لكبر أو تخنيث أو عنة. قوله: أرى هذا الخ. بفتح الهمزة والراء، قال
القرطبي: هذا يدل على أنهم كانوا يظنون أنه لا يعرف شيئا من أحوال النساء ولا
يخطر له ببال، ويشبه أن التخنيث فيه خلقة وطبيعة ولم يعرف منه إلا ذلك، ولهذا
كانوا يعدونه من غير أولي الإربة. قوله: وأخرجه لفظ البخاري: أخرجوهم
من بيوتكم، قال: فأخرج فلانا وفلانا ورواه البيهقي وزاد: وأخرج عمر مخنثا. وفي
رواية: وأخرج أبو بكر آخر. قال العلماء: وإخراج المخنث ونفيه كان لثلاثة معان،
أحدهما: أنه كان يظن أنه من غير أولي الإربة ثم لما وقع منه ذلك الكلام
زال الظن. والثاني: وصفه النساء ومحاسنهن وعوراتهن بحضرة الرجال، وقد نهى أن
يصف المرأة زوجها فكيف إذا وصفها غيره من الرجال لسائرهم؟ الثالث: أنه ظهر
له منه أنه كان يطلع من النساء وأجسامهن وعوراتهن على ما لا يطلع عليه كثير
من النساء. قوله: فيسأل ثم يرجع أي يسأل الناس شيئا ثم يرجع إلى البادية،
والبيداء بالمد القفر، وكل صحراء في بيداء كأنها تبيد سالكها أي تكاد تهلكه، وفي
ذلك دليل على جواز العقوبة بالاخراج من الوطن لما يخاف من الفساد والفسق،
وجواز الاذن بالدخول في بعض الأوقات للحاجة.
باب في نظر المرأة إلى الرجل عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وميمونة،
فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال رسول الله
247

صلى الله عليه وآله وسلم: احتجبا منه، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟
فقال: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
وعن عائشة قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسترني بردائه وأنا
أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأمه فاقدروا قدر
الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو متفق عليه. ولأحمد: أن الحبشة كانوا
يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم عيد قالت: فاطلعت من
فوق عاتقه فطأطأ لي منكبيه فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى
شبعت ثم انصرفت.
حديث أم سلمة أخرجه أيضا النسائي وابن حبان وفي إسناده نبهان مولى أم
سلمة شيخ الزهري وقد وثق. وفي الباب عن عائشة عند مالك في الموطأ أنها احتجبت
من أعمى فقيل لها: إنه لا ينظر إليك قالت: لكني أنظر إليه. وقد استدل بحديث
أم سلمة هذا من قال: إنه يحرم على المرأة نظر الرجل، كما يحرم على الرجل نظر
المرأة، وهو أحد قولي الشافعي وأحمد والهادوية. قال النووي: وهو الأصح، ولقوله
تعالى: * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) * (سورة النور، الآية: 31) ولأن النساء أحد نوعي الآدميين
فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر قياسا على الرجال، ويحققه أن المعنى المحرم
للنظر هو خوف الفتنة، وهذا في المرأة أبلغ فإنها أشد شهوة وأقل عقلا، فتسارع
إليها الفتنة أكثر من الرجل، واحتج من قال بالجواز فيما عدا ما بين سرته وركبته
بحديث عائشة المذكور في الباب، ويجاب عنه بأنها كانت يومئذ غير مكلفة على ما
تقضي به العبارة المذكورة في الباب، ويؤيد هذا احتجابها من الأعمى كما تقدم، وقد
جزم النووي بأن عائشة كانت صغيرة دون البلوغ أو كان ذلك قبل الحجاب، وتعقبه
الحافظ بأن في بعض طرق الحديث أن ذلك كان بعد قدوم وفد الحبشة وأن قدومهم
كان سنة سبع. ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة. واحتجوا أيضا بحديث فاطمة
بنت قيس المتفق عليه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تعتد في بيت ابن
أم مكتوم وقال: إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده، ويجاب بأنه يمكن ذلك مع غض البصر
منها، ولا ملازمة بين الاجتماع في البيت والنظر، واحتجوا أيضا بالحديث الصحيح
في مضي رسول الله عليه وآله وسلم إلى النساء في يوم العيد عند الخطبة
248

فذكرهن ومعه بلال فأمرهن بالصدقة وقد تقدم،، ويجاب أيضا بأن ذلك لا يستلزم
النظر منهن إليهما لامكان سماع الموعظة ودفع الصدقة مع غض البصر، وقد أجمع أبو داود
بين الأحاديث فجعل حديث أم سلمة مختصا بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث
فاطمة وما في معناه لجميع النساء. قال الحافظ في التخليص قلت: وهذا جمع حسن،
وبه جمع المنذري في حواشيه واستحسنه شيخنا انتهى. وجمع في الفتح بأن الامر
بالاحتجاب من ابن أم مكتوم لعله لكون الأعمى مظنة أن ينكشف منه شئ
ولا يشعر به، فلا يستلزم عدم جواز النظر مطلقا. قال: ويؤيد الجواز استمرار العمل
على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والاسفار منتقبات لئلا يراهن
الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدل على مغايرة الحكم
بين الطائفتين وبهذا احتج الغزالي. قوله: يلعبون في المسجد فيه دليل على جواز
ذلك في المسجد، وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي أن اللعب بالحراب في
المسجد منسوخ بالقران والسنة، أما القران فقوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع
) * (سورة النور، الآية: 36) وأما السنة فحديث: جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم. وتعقب بأن الحديث
ضعيف وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه ولا عرف التاريخ فيثبت النسخ.
وحكى بعض المالكية عن مالك أن لعبهم كان خارج المسجد وكانت عائشة في
المسجد، وهذا لا يثبت عن مالك فإنه خلا ف ما صرح به طرق هذا الحديث،
كذا قال في الفتح. وفي الحديث أيضا جواز النظر إلى اللهو المباح، وفيه حسن
خلقه مع أهله وكرم معاشرته. قوله: حتى شبعت فيه استعارة الشبع لقضاء
الوطر من النظر.
باب لا نكاح إلا بولي
عن أبي موسى: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نكاح إلا بولي.
وعن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة: أن صلى الله عليه
وآله وسلم قال: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان
249

ولي من لا ولي له رواها الخمسة إلا النسائي. وروى الثاني أبو داود الطيالسي
ولفظه: لا نكاح إلا بولي، وأيما امرأة نكحت بغير إذن ولها فنكاحها باطل باطل
باطل، فإن لم يكن لها ولي فالسلطان ولي من لا ولي له وعن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها،
فإن الزانية هي التي تزوج نفسها رواه ابن ماجة والدارقطني. وعن عكرمة بن خالد
قال: جمعت الطريق ركبا فجعلت امرأة منهن ثيب أمرها بيد رجل غير ولي فأنكحها،
فبلغ ذلك عمر فجلد الناكح والمنكح ورد نكاحها رواه الشافعي والدارقطني.
وعن الشعبي قال: ما كان أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد في
النكاح بغير ولي من علي كان يضرب فيه رواه الدارقطني.
حديث أبي موسى أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه وذكر له الحاكم
طرقا. قال: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة
وأم سلمة وزينب بنت جحش ثم سرد تمام ثلاثين صحابيا وقد جمع طرقه الدمياطي
من المتأخرين، وقد اختلف في وصله وإرساله، فرواه شعبة والثوري عن أبي إسحاق
مرسلا، ورواه إسرائيل عنه فأسنده وأبو إسحاق مشهور بالتدليس، وأسند الحاكم
من طريق علي بن المديني ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم أنهم صححوا حديث
إسرائيل. وحديث عائشة أخرجه أيضا أبو عوانة وابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي،
وقد أعل بالارسال وتكلم فيه بعضهم من جهة أن ابن جريج قال: ثم لقيت الزهري
فسألته عنه فأنكره، وقد عد أبو القاسم بن منده عدة من رواه عن ابن جريج
فبلغوا عشرين رجلا، وذكر أن معمرا وعبيد الله بن زحر تابعا ابن جريج على
روايته إياه عن سليمان بن موسى، وأن قرة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وأيوب
بن موسى وهشام بن سعد وجماعة تابعوا سليمان بن موسى عن الزهري. قال:
ورواه أبو مالك الجنبي ونوح بن دارج ومندل وجعفر بن برقان وجماعة عن
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وقد أعل ابن حبان وابن عدي وابن عبد البر
والحاكم وغيره الحكاية عن ابن جريج بإنكار الزهري، وعلى تقدير الصحة لا يلزم من
نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا
البيهقي، قال ابن كثير: الصحيح وقفه على أبي هريرة، وقال الحافظ: رجاله ثقات وفي
250

لفظ للدارقطني: كنا نقول التي تزوج نفسها هي الزانية. قال الحافظ: فتبين أن هذه
الزيادة من قول أبي هريرة، وكذلك رواها البيهقي موقوفة في طريق ورواها مرفوعة في
أخرى. (وفي الباب) عن ابن عباس عند أحمد وابن ماجة والطبراني بلفظ: لا نكاح
إلا بولي وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف ومداره عليه، قال الحافظ: وغلط
بعض الرواة فرواه عن ابن المبارك عن خالد الحذاء عن عكرمة والصواب حجاج
بدل خالد. وعن أبي بردة عند أبي داود الطيالسي بلفظ حديث ابن عباس. وعن
غيرهما كما تقدم في كلام الحاكم. قوله: لا نكاح إلا بولي هذا النفي يتوجه إما إلى
الذات الشرعية لأن الذات الموجودة أعني صورة العقد بدون ولي ليست شرعية،
أو يتوجه إلى الصحة التي هي أقرب المجازين إلى الذات، فيكون النكاح بغير ولي
باطلا، كما هو مصرح بذلك في حديث عائشة المذكور، وكما يدل عليه حديث أبي هريرة
المذكور، لأن النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان. وقد ذهب إلى هذا علي وعمر
وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو هريرة وعائشة والحسن البصري وابن المسيب وابن
شبرمة وابن أبي ليلى والعترة وأحمد وإسحاق والشافعي وجمهور أهل
العلم فقالوا: لا يصح العقد بدون ولي. قال ابن المنذر: إنه لا يعرف عن أحد من الصحابة
خلاف ذلك. وحكي في البحر عن أبي حنيفة أنه لا يعتبر الولي مطلقا لحديث: الثيب
أحق بنفسها من وليها وسيأتي. وأجيب بأن المراد اعتبار الرضا منها جمعا بين الاخبار،
كذا في البحر. وعن أبي يوسف ومحمد: للولي الخيار في غير الكفء وتلزمه الإجازة
في الكفء. وعن مالك: يعتبر الولي في الرفيعة دون الوضيعة. وأجيب عن ذلك
بأن الأدلة لم تفصل، وعن الظاهرية أنه يعتبر في البكر فقط، وأجيب عنه بمثل ما
أجيب به عن الذي قبله. وقال أبو ثور: يجوز لها أن تزوج نفسها بإذن وليها أخذا
بمفهوم. قوله: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها. ويجاب عن ذلك بحديث أبي هريرة
المذكور، والمراد بالولي هو الأقرب من العصبة من النسب، ثم من السبب، ثم من
عصبته، وليس لذوي السهام ولا لذوي الأرحام ولاية، وهذا مذهب الجمهور. وروي
عن أبي حنيفة أن ذوي الأرحام من الأولياء، فإذا لم يكن ثم ولي أو كان موجودا
وعضل انتقل الامر إلى السلطان لأنه ولي من لا ولي له، كما أخرجه الطبراني من
حديث ابن عباس وفي إسناده الحجاج بن أرطاة.
251

باب ما جاء في الاجبار والاستئمار
عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوجها وهي بن ست
سنين وأدخلت عليه وهي بنت تسع سنين ومكثت عنده تسعا متفق عليه. وفي رواية:
تزوجها وهي بنت سبع سنين وزفت إليه وهي بنت تسع سنين رواه أحمد ومسلم.
الحديث أورده المصنف للاستدلال به على أنه يجوز للأب أن يزوج ابنته
الصغيرة بغير استئذانها، ولعله أخذ ذلك من عدم ذكر الاستئذان، وكذلك صنع
البخاري، قال الحافظ: وليس بواضح الدلالة، بل يحتمل أن يكون ذلك قبل ورود
الامر باستئذان البكر وهو الظاهر، فإن القصة وقعت بمكة قبل الهجرة. وفي الحديث
أيضا دليل على أنه يجوز للأب أن يزوج ابنته قبل البلوغ. قال المهلب: أجمعوا أنه
يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلا أن الطحاوي
حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ، وحكى ابن حزم عن ابن شبرمة مطلقا
أن الأب لا يزوج ابنته الصغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أن تزوج النبي صلى الله
عليه وآله وسلم عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه، ويقابله تجويز الحسن
والنخعي للأب أن يجبر ابنته كبيرة كانت أو صغيرة بكرا كانت أو ثيبا. وفي الحديث
أيضا دليل على أنه يجوز تزويج الصغيرة بالكبير، وقد بوب لذلك البخاري وذكر
حديث عائشة، وحكي في الفتح الاجماع على جواز ذلك. قال: ولو كانت في المهد
لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطئ.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الثيب أحق بنفسها
من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها رواه الجماعة إلا البخاري وفي رواية
لأحمد ومسلم وأبي داود والنسائي: والبكر يستأمرها أبوها. وفي رواية لأحمد والنسائي:
واليتيمة تستأذن في نفسها. وفي رواية لأبي داود والنسائي: ليس للولي مع الثيب أمر،
واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها. وعن خنساء بنت خدام الأنصارية: أن أباها زوجها
وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرد نكاحها أخرجه
الجماعة إلا مسلما. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تنكح
252

الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن
تسكت رواه الجماعة. وعن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله تستأمر النساء في أبضاعهن؟
قال: نعم، قلت: إن البكر تستأمر فتستحي فتسكت، فقال: سكاتها إذنها. وفي رواية قالت: قال
رسول الله (ص): البكر تستأذن قلت: إن البكر تستأذن وتستحي، قال: إذنها
صماتها متفق عليهما. وعن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تستأمر
اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنت وإن أبت لم تكره رواه أحمد. وعن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تستأمر اليتيمة في نفسها
فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها رواه الخمسة إلا ابن ماجة. وعن
ابن عباس: أن جارية بكرا أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت أن
أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجة والدارقطني. ورواه الدارقطني أيضا عن عكرمة عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم مرسلا وذكر أنه أصح. وعن ابن عمر قال: توفي عثمان بن مظعون
وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، وأوصى إلى
أخيه قدامة بن مظعون، قال عبد الله: وهما خالاي، فخطبت إلى قدامة بن مظعون
ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة يعني إلى أمها فأرغبها
في المال فحطت إليه وحطت الجارية إلى هوى أمها فأبتا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال قدامة بن مظعون: يا رسول
الله ابنة أخي أوصى بها إلي فزوجتها ابن عمتها فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة ولكنها امرأة
وإنما حطت إلى هوى أمها، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هي
يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها، قال: فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة
بن شعبة رواه أحمد والدارقطني، وهو دليل على أن اليتيمة لا يجبرها وصي ولا
غيره. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: آمروا النساء في
بناتهن رواه أحمد وأبو داود.
حديث أبي موسى أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وأبو يعلى والدارقطني
والطبراني، قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح، وحديث أبي هريرة
أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي. وحديث ابن عباس أخرجه
253

أيضا ابن أبي شيبة. قال الحافظ: ورجاله ثقات وأعل بالارسال، وبتفرد جرير بن
حازم عن أيوب، وبتفرد حسين عن جرير وأجيب بأن أيوب بن سويد رواه عن الثوري عن
أيوب موصولا، وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقي عن زيد بن حباب
عن أيوب موصولا، وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله حكم لمن وصل على طريقة
الفقهاء، وعن الثاني بأن جريرا توبع عن أيوب كما ترى. وعن الثالث أن سليمان
بن حرب تابع حسين بن محمد عن جرير، وانفصل البيهقي عن ذلك بأنه محمول
على أنه زوجها من غير كف ء. وحديث ابن عمر الأول أورده الحافظ في التلخيص
وسكت عنه. قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات. وحديثه الثاني فيه رجل
مجهول. (وفي الباب) عن جابر عند النسائي وعن عائشة غير ما ذكره المصنف عند
النسائي أيضا. قوله: يستأمرها أبوها، الاستئمار طلب الامر، والمعنى: لا يعقد عليها حتى
يطلب الامر منها. قوله: خنساء بنت خدام وهي بخاء معجمة ثم نون مهملة على وزن
حمراء، وأبوها بكسر الخاء المعجمة وتخفيف المهملة كذا في الفتح. قوله: لا تنكح
الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن عبر للثيب بالاستئمار والبكر بالاستئذان،
ويؤخذ منه فرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة وجعل
الامر إلى المستأمرة، ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها، فإذا صرحت بمنعه امتنع
اتفاقا، والبكر بخلاف ذلك، والاذن دائر بين القول والسكوت بخلاف الامر فإنه
صريح في القول، هكذا في الفتح ويعكر عليه ما في رواية حديث ابن عباس من
أن البكر يستأمرها أبوها، وأن اليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها. وفي حديث عائشة:
أن البكر تستأمر الخ، وكذلك في حديث أبي موسى وأبي هريرة. قوله:
فحطت إليه أي مالت إليه وأسرعت بفتح الحاء المهملة
وتشديد الطاء المهملة أيضا، وقد استدل بأحاديث الباب على اعتبار الرضا من المرأة التي يراد تزويجها،
وأنه لا بد من صريح الاذن من الثيب، ويكفي السكوت من البكر، والمراد
بالبكر التي أمر الشارع باستئذانها هي البالغة، إذ لا معنى لاستئذان الصغيرة
لأنها لا تدري ما الاذن. قال ابن المنذر: يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن،
لكن لو قالت بعد العقد: ما علمت أن صمتي إذن لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور
وأبطله بعض المالكية. وقال ابن شعبان: منهم يقال لها ذلك ثلاثا: إن رضيتي فاسكتي،
254

وإن كرهتي فانطقي. ونقل ابن عبد البر عن مالك أن سكوت البكر اليتيمة قبل
إذنها وتفويضها لا يكون رضا منها، بخلاف ما إذا كان بعد تفويضها إلى وليها، وخص
بعض الشافعية الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما،
لأنها تستحي منهما أكثر من غيرهما، والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث
في جميع الأبكار، وظاهر أحاديث الباب أن البكر البالغة إذا زوجت بغير إذنها لم
يصح العقد، وإليه ذهب الأوزاعي والثوري والعترة والحنفية، وحكاه الترمذي عن
أكثر أهل العلم، وذهب مالك والشافعي والليث وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق
إلى أنه يجوز للأب أن يزوجها بغير استئذان ويرد عليهم ما في أحاديث الباب
من قوله: والبكر يستأمرها أبوها. ويرد عليهم أيضا حديث عبد الله بن بريدة الذي
سيأتي في باب ما جاء في الكفاءة، وأما ما احتجوا به من مفهوم قوله صلى الله عليه
وآله وسلم: الثيب أحق بنفسها من وليها فدل على أن ولي البكر أحق بها منها، فيجاب
عنه بأن المفهوم لا ينتهض للتمسك به في مقابلة المنطوق، وقد أجابوا على دليل أهل
القول الأول بما قاله الشافعي من أن المؤامرة قد تكون على استطابة النفس، ويؤيده
حديث ابن عمر المذكور بلفظ: وآمروا النساء في بناتهن قال: ولا خلاف أنه ليس
للام أمر لكنه على معنى استطابة النفس. وقال البيهقي: زيادة ذكر الأب في حديث
ابن عباس غير محفوظة، قال الشافعي: زادها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر
والقاسم وسالم يزوجون الأبكار لا يستأمرونهن. قال الحافظ: هذا لا يدفع زيادة
الثقة الحافظ انتهى. وأجاب بعضهم: بأن المراد بالبكر المذكورة في حديث ابن عباس
اليتيمة لما وقع في الرواية الأخرى من حديثه، واليتيمة تستأمر فيحمل المطلق
على المقيد، وأجيب بأن اليتيمة هي البكر، وأيضا الروايات الواردة بلفظ تستأمر
وتستأذن بضم أوله هي تفيد مفاد. قوله: يستأمرها أبوها وزيادة لأنه يدخل فيه
الأب وغيره فلا تعارض بين الروايات، ومما يؤيد ما ذهب إليه الأولون حديث ابن عباس
المذكور: أن جارية بكرا الخ. وأما الثيب فلا بد من رضاها من غير فرق بين أن يكون الذي
زوجها هو الأب أو غيره، وقد حكي في البحر الاجماع على اعتبار رضاها، وحكي أيضا
الاجماع، على أنه لا بد من تصريحها بالرضا بنطق أو ما في حكمه، والظاهر أن استئذان الثيب
والبكر شرط في صحة العقد لرده صلى الله عليه وآله وسلم لنكاح خنساء بنت خدام كما في
255

الحديث المذكور، وكذلك تخييره صلى الله عليه وآله وسلم للجارية كما في حديث ابن عباس
المذكور، وكذلك حديث ابن عمر المذكور أيضا، ويدل على ذلك أيضا حديث أبي
هريرة المذكور لما فيه من النهي. وظاهر قوله: الثيب أحق بنفسها أنه لا فرق بين
الصغيرة والكبيرة، وبين من زالت بكارتها بوطئ حلال أو حرام، وخالف في ذلك
أبو حنيفة فقال: هي كالبكر واحتج بأن علة الاكتفاء بسكوت البكر هي الحياء وهو
باق فيمن زالت بكارتها بزنا، لأن المسألة مفروضة فيمن لم تتخذ الزنا ديدنا
وعادة، وأجيب بأن الحديث نص على أن الحياء تعلق بالبكر، وقابلها بالثيب فدل على
أن حكمها مختلف، وهذه ثيب لغة وشرعا، وأما بقاء حيائها كالبكر فممنوع.
باب الابن يزوج أمه
عن أم سلمة: أنها لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطبها قالت: ليس
أحد من أوليائي شاهدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس أحد من
أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك، فقالت لابنها: يا عمر قم فزوج رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فزوجه رواه أحمد والنسائي.
الحديث قد أعل بأن عمر المذكور كان عند تزوجه صلى الله عليه وآله وسلم
بأمه صغيرا له من العمر سنتان لأنه ولد في الحبشة في السنة الثانية من الهجرة، وتزوجه
صلى الله عليه وآله وسلم بأمه كان في السنة الرابعة. قيل: وأما رواية: قم يا غلام فزوج
أمك فلا أصل لها. وقد استدل بهذا الحديث من قال: بأن الولد من جملة الأولياء في
النكاح وهم الجمهور. وقال الشافعي ومحمد بن الحسن وروي عن الناصر أن ابن المرأة
إذ لم يجمعها وإياه جد فلا ولاية له، ورد بأن الابن يسمى عصبة اتفاقا بأنه داخل
في عموم قوله تعالى: * (وانكحوا الأيامى منكم) * (سورة النور، الآية: 32) لأنه خطاب للأقارب وأقربهم الأبناء،
وأجاب عن هذا الرد في ضوء النهار بأن ظاهر انكحوا صحة عقد غير الأقارب،
وإنما خصصهم الاجماع استنادا إلى العادة، والمعتاد إنما هو غير الابن،
كيف والابن متأخر عن التزويج في الغالب، والمطلق يقيد بالعادة كما عرف في الأصول والعموم
لا يشمل النادر، ولان نكاح العاقلة خاصة مفوض إلى نظرها، وإنما الولي وكيل
256

في الحقيقة، ولهذا لو لم يمتثل الولي أمرها بالعقد لكف ء لصح توكيلها غيره، والوكالة
لا تلزم المعين، ودفع بأن هذا يستلزم أن لا يبقى للولي حق، وأنه خلاف الاجماع
والتحقيق أنه ليس إلى نظر المكلفة إلا الرضا، ويجاب عن دعوى خروج الابن
بالمنع إن أراد عدم الوقوع، وإن أراد الغلبة فلا يضرنا ولا ينفعه، ومن جملة
ما أجاب به القائلون بأنه لا ولاية للابن أن هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به، لأنه
صلى الله عليه وآله وسلم لا يفتقر في نكاحه إلى ولي، ومن جملة ما يستدل به على
عدم ولاية الأب في النكاح قول أم سلمة: ليس أحد من أوليائي شاهد مع كون
ابنها حاضرا، ولم ينكر عليها صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.
باب العضل
عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي، فأتاني ابن عم لي
فأنكحتها إياه ثم طلقها طلاقا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي
أتاني يخطبها فقلت: لا والله لا أنكحكها أبدا. قال: ففي نزلت هذه الآية: * (وإذا طلقتم
النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) * (سورة البقرة، الآية: 232) الآية. قال: فكفرت عن
يميني وأنكحتها إياه رواه البخاري وأبو داود والترمذي وصححه ولم يذكر
التكفير. وفيه في رواية للبخاري: وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع
إليه وهو حجة في اعتبار الولي.
قوله: كانت لي أخت اسمها جميل بالضم مصغرا بنت يسار، ذكره الطبري
وجزم به ابن مأكولا، وقيل: اسمها ليلى حكاه السهيلي في مبهمات القرآن وتبعه المنذري.
وقيل: فاطمة ذكره ابن إسحاق، ويحمل على التعدد بأن يكون لها اسمان ولقب أو
لقبان واسم. قوله: ففي نزلت هذه الآية هذا تصريح بنزول هذه الآية في هذه
القصة، ولا يمنع ذلك كون ظاهر الخطاب في السياق للأزواج حيث وقع فيها * (وإذا
طلقتم النساء) * لكن قوله فيها نفسها * (أن ينكحن أزواجهن) * ظاهر في أن ذلك يتعلق
بالأولياء. قوله: فكفرت عن يميني وأنكحتها في لفظ للبخاري فقلت: الآن أفعل
يا رسول الله. قوله: وكان رجلا لا بأس به. قال ابن التين: أي كان جيدا وقد غيرته
257

العامة فكنوا به عمن لا خير فيه. (والحديث) يدل على أنه يشترط الولي في النكاح،
ولو لم يكن شرطا لكان رغوب الرجل في زوجته ورغوبها فيه كافيا، وبه يرد القياس
الذي احتج به أبو حنيفة على عدم الاشتراط فإنه احتج بالقياس على البيع، لأن المرأة
تستقل به بغير إذن وليها فكذلك النكاح، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط
الولي المتقدمة على الصغيرة وخص بهذا القياس عمومها، ولكنه قياس فاشل الاعتبار
لحديث معقل هذا، وانفصل بعضهم عن هذا الايراد بالتزامهم اشتراط الولي، ولكن لا يمنع
ذلك تزويجها نفسها، ويتوقف النفوذ على إجازة الولي كما في البيع وهو مذهب
الأوزاعي، وكذلك قال أبو ثور ولكنه يشترط إذن الولي لها في تزويج نفسها،
وتعقب بأن إذن الولي لا يصح إلا لمن ينوب عنه، والمرأة لا تنوب عنه في ذلك
لأن الحق لها، ولو أذن لها في إنكاح نفسها صارت كمن أذن لها في البيع من نفسها ولا يصح،
وفي حديث معقل هذا دليل على أن السلطان لا يزوج المرأة إلا بعد أن يأمر وليها
بالرجوع عن العضل فإن أجاب فذاك وإن أصر زوجها.
باب الشهادة في النكاح
عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: البغايا اللاتي
ينكحن أنفسهن بغير بينة رواه الترمذي وذكر أنه لم يرفعه غير عبد الأعلى، وانه
قد وقفه مرة وان الوقف أصح وهذا لا يقدح لأن عبد الأعلى ثقة فيقبل رفعه
وزيادته، وقد يرفع الراوي الحديث وقد يقفه. وعن عمران بن حصين: عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ذكره أحمد بن حنبل
في رواية ابنه عبد الله. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له
258

رواه الدارقطني. ولمالك في الموطأ عن أبي الزبير المكي: أن عمر بن الخطاب أتي
بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال: هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو كنت
تقدمت فيه لرجمت.
حديث ابن عباس قال الترمذي: هذا حديث غير محفوظ لا نعلم أحدا رفعه
إلا ما روي عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة مرفوعا. وروي عن عبد الأعلى عن
سعيد هذا الحديث موقوفا، والصحيح ما روي عن ابن عباس: لا نكاح إلا ببينة
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن أبي عروبة نحو هذا موقوفا. وحديث عمران
بن حصين أشار إليه الترمذي وأخرجه الدارقطني والبيهقي في العلل في حديث
الحسن عنه وفي إسناده عبد الله بن محرز وهو متروك. ورواه الشافعي من وجه
اخر عن الحسن مرسلا وقال: هذا وإن كان منقطعا فإن أكثر أهل العلم يقولون
به: وحديث عائشة أخرجه أيضا البيهقي من طريق محمد بن أحمد بن الحجاج
الرقي عن عيسى بن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة كذلك، وقد توبع
الرقي عن عيسى. ورواه سعيد بن خالد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ويزيد بن
سنان ونوح بن دراج وعبد الله بن حكيم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
كذلك، وقد ضعف ابن معين ذلك كله وأقره البيهقي، وقد تقدم في باب لا نكاح
إلا بولي طرف منه. (وفي الباب). عن ابن عباس غير حديثه المذكور عند
الشافعي والبيهقي من طريق ابن خيثم عن سعيد بن جبير عنه موقوفا بلفظ: لا نكاح
إلا بولي مرشد وشاهدي عدل. وقال البيهقي بعد أن رواه من طريق أخرى عن
أبي خيثم بسنده مرفوعا. بلفظ: لا نكاح إلا بإذن ولي مرشد أو سلطان قال:
والمحفوظ الموقوف. ثم رواه من طريق الثوري عن أبي خيثم به، ومن طريق عدي
بن الفضل عن أبي خيثم زاده مرفوعا بلفظ: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل،
فإن نكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل وعدي بن الفضل ضعيف. وعن
أبي هريرة مرفوعا وموقوفا عند البيهقي بلفظ: لا نكاح إلا بأربعة: خاطب وولي
وشاهدين وفي إسناده المغيرة بن موسى البصري قال البخاري: منكر الحديث.
وعن عائشة غير حديث الباب عند الدارقطني بلفظ: لا بد في النكاح من أربعة:
الولي والزوج والشاهدين وفي إسناده أبو الخصيب نافع بن ميسرة مجهول. وروى
259

نحوه البيهقي في الخلافيات عن ابن عباس موقوفا وصححه، وابن أبي شيبة بنحوه
عنه أيضا. وعن أنس أشار إليه الترمذي وقد استدل بأحاديث الباب من جعل
الاشهاد شرطا، وقد حكي ذلك في البحر عن علي وعمر وابن عباس والعترة والشعبي
وابن المسيب والأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل. قال الترمذي:
والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن
بعدهم من التابعين وغيرهم قالوا: لا نكاح إلا بشهود لم يختلفوا في ذلك من
مضى منهم إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم، وإنما اختلف أهل العلم في هذا
إذا شهدوا واحدا بعد واحد، فقال أكثر أهل العلم من الكوفة وغيرهم: لا يجوز النكاح
حتى يشهد الشاهدان معا عند عقدة النكاح وقد روى بعض أهل المدينة: إذا شهد
واحد بعد واحد فإنه جائز إذا أعلنوا ذلك، وهو قول مالك بن أنس وغيره. وقال
بعض أهل العلم: يجوز شهادة رجل وامرأتين في النكاح وهو قول أحمد وإسحاق،
انتهى كلام الترمذي. وحكي في البحر عن ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن
بن مهدي وداود أنه لا يعتبر الاشهاد. وحكي أيضا عن مالك أنه يكفي الاعلان
بالنكاح، والحق ما ذهب إليه الأولون لأن أحاديث الباب يقوي بعضها بعضا، والنفي
في قوله لا نكاح يتوجه إلى الصحة، وذلك يستلزم أن يكون الاشهاد شرطا لأنه
قد استلزم عدمه وعدم الصحة، وما كان كذلك فهو شرط. واختلفوا في اعتبار
العدالة في شهود النكاح، فذهبت القاسمية والشافعي إلى أنها تعتبر. وذهب زيد
بن علي وأحمد بن عيسى وأبو عبد الله الداعي وأبو حنيفة أنها لا تعتبر، والحق القول
الأول لتقييد الشهادة المعتبرة في حديث عمران بن حصين وعائشة اللذين ذكرهما
المصنف، وكذلك حديث ابن عباس الذي ذكرناه بالعدالة.
باب ما جاء في الكفاءة في النكاح
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: جاءت فتاة إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال: فجعل
الامر إليها فقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس
260

إلى الآباء من الامر شئ رواه ابن ماجة، ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن
بريدة. عن عائشة وعن عمر قال: لا منعن تزوج ذوات الأحساب إلا من
الأكفاء رواه الدارقطني. وعن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في
الأرض وفساد كبير، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون
دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب.
وعن عائشة: أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان ممن شهد
بدرا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة
بن ربيعة وهو مولى امرأة من الأنصار رواه البخاري والنسائي وأبو داود.
وعن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن أمه قالت: رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف
تحت بلال رواه الدارقطني.
حديث عبد الله بن بريدة أخرجه ابن ماجة بإسناد رجاله رجال الصحيح. فإنه
قال في سننه: حدثنا هناد بن السري، حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن ابن بريدة
عن أبيه وأخرجه النسائي من طريق زياد بن أيوب وهو ثقة عن علي بن غراب
وهو صدوق عن كهمس بهذا الاسناد، ويشهد له حديث ابن عباس في الجارية البكر
التي زوجها أبوها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك تشهد
له الأحاديث الواردة في استئمار النساء على العموم، كذلك حديث خنساء بنت
خدام، وقد تقدم جميع ذلك في باب ما جاء في الاجبار والاستئمار، وإنما ذكر المصنف
حديث بريدة ههنا لقولها فيه: ليرفع بي خسيسته فإن ذلك مشعر بأنه غير كفوء لها.
وحديث أبي حاتم المزني ذكر المصنف أن الترمذي حسنه ووافقه المناوي على ثقل
التحسين عن الترمذي، ثم نقل عن البخاري أنه لم يعده محفوظا، وعده أبو داود في
المراسيل، وأعله ابن القطان بالارسال وضعف راويه، وأبو حاتم المزني له صحبة،
ولا يعرف له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير هذا الحديث، وقد أخرج
الترمذي أيضا هذا الحديث من حديث أبي هريرة ولفظه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن
فتنة في الأرض وفساد عريض وقال: قد خولف عبد الحميد بن سليمان في هذا
261

الحديث. ورواه الليث بن سعد عن أبي عجلان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
قال البخاري: وحديث الليث أشبه ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظا. وفي الباب
عن أبي هريرة عند أبي داود: أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليافوخ
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وانكحوا
إليه. وأخرجه أيضا الحاكم وحسنه الحافظ في التلخيص. وعن علي عند الترمذي:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت، والجنازة
إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤا وعن ابن عمر عند الحاكم أنه صلى الله
عليه وآله وسلم قال: العرب أكفاء بعضهم لبعض، قبيلة لقبيلة، وحي لحي، ورجل
لرجل، إلا حائك أو حجام وفي إسناده رجل مجهول وهو الراوي له عن ابن جريج.
وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث فقال: هذا كذب لا أصل له، وقال في
موضع آخر: باطل. ورواه ابن عبد البر في التمهيد من طريق أخرى عنه قال الدارقطني
في العلل: لا يصح انتهى. وفي إسناد ابن عبد البر عمران بن أبي الفضل، قال
ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات. وقال ابن أبي حاتم: سألت عنه أبي فقال
: منكر، وقد حدث به هشام بن عبيد الله الرازي فزاد فيه بعد: أو حجام أو دباغ، قال:
فاجتمع به الدباغون وهموا به. وقال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع. وذكره في
العلل المتناهية من طريقين إلى ابن عمر، في إحداهما: علي بن عروة وقد رماه ابن
حبان بالوضع. وفي الأخرى: محمد بن الفضل بن عطية وهو متروك والأولى في ابن عدي،
والثانية في الدارقطني، وله طريق أخرى عن غير ابن عمر رواهما البزار في مسنده
من حديث معاذ بن جبل رفعه: العرب بعضها لبعض أكفاء وفيه سليمان بن أبي
الجون. قال ابن القطان: لا يعرف ثم هو من رواية خالد بن معدان عن معاذ ولم يسمع منه،
وفي المتفق عليه من حديث أبي هريرة: خياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام إذا فقهوا.
قوله: إلا من الأكفاء جمع كف ء بضم أوله وسكون الفاء بعدها همزة وهو المثل والنظير.
قوله: من ترضون دينه وخلقه فيه دليل على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق، وقد جزم
بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين مالك. ونقل عن عمر وابن مسعود، من التابعين
عن محمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز، ويدل عليه قوله تعالى: * (إن أكرمكم عند
الله أتقاكم) * واعتبر الكفاءة في النسب الجمهور. وقال أبو حنيفة: قريش أكفاء بعضهم بعضا
262

والعرب كذلك، وليس أحد من العرب كفؤا لقريش، كما ليس أحد من غير
العرب كفؤا للعرب وهو وجه للشافعية. قال في الفتح: والصحيح تقديم بني هاشم
والمطلب على غيرهم، ومن عدا هؤلاء أكفاء بعضهم لبعض. وقال الثوري: إذا
نكح المولى العربية يفسخ النكاح، وبه قال أحمد في رواية، وتوسط الشافعي
فقال: ليس نكاح غير الأكفاء حراما فأرد به النكاح، وإنما هو تقصير بالمرأة
والأولياء، فإذا رضوا صح ويكون حقا لهم تركوه، فلو رضوا إلا واحدا فله فسخه،
قال: ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب من حديث، وأما ما أخرجه البزار من حديث
معاذ رفعه: العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض فإسناده ضعيف.
واحتج البيهقي بحديث: إن الله اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل الحديث وهو
صحيح أخرجه مسلم، لكن في الاحتجاج به لذلك نظر، وقد ضم إليه بعضهم حديث
قدموا قريشا ولا تقدموها ونقل ابن المنذر عن البويطي أن الشافعي قال: الكفاءة
في الدين وهو كذلك في مختصر البويطي، قال الرافعي: وهو خلاف المشهور، قال في
الفتح: واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه فلا تحل المسلمة لكافر، قال الخطابي:
إن الكفاءة معتبرة في قول أكثر العلماء بأربعة أشياء: الدين والحرية والنسب والصناعة،
ومنهم من اعتبر السلامة من العيوب واعتبر بعضهم اليسار، ويدل على ذلك ما أخرجه
أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة رفعه: أن أحساب أهل
الدنيا الذي يذهبون إليه المال وما أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم
من حديث سمرة رفعه: الحسب المال والكرم التقوى قال في الفتح: يحتمل أن
يكون المراد أنه حسب من لا حسب له، فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام المال
لمن لا نسب له، أو إن من شأن أهل الدنيا رفعة من كان كثير المال ولو كان وضيعا،
وضعة من كان مقلا ولو كان رفيع النسب، كما هو موجود مشاهد، فعلى الاحتمال الأول
يمكن أن يؤخذ من الحديث اعتبار الكفاءة بالمال لا على الثاني، وقد قدمنا الإشارة
إلى شئ من هذا في باب صفة المرأة التي تستحب خطبتها. قوله: تبنى سالما
بفتح المثناة الفوقية والموحدة وتشديد النون أي اتخذه ابنا، وسالم هو ابن معقل
مولى أبي حذيفة ولم يكن مولاه وإنما كان يلازمه، بل هو مولى امرأة من الأنصار
كما وقع في حديث الباب، وهذا حديث فيه دليل على أن الكفاءة تغتفر برضا
263

الأعلى لا مع عدم الرضا، فقد خير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بريرة لما لم يكن زوجها
كفؤا لها بعد الحرية، وقد قدمنا الخلاف هل كان عبدا أو حرا؟ والراجح أنه كان
عبدا كما سيأتي في باب الخيار للأمة إذا عتقت تحت عبد. قال الشافعي: أصل الكفاءة
في النكاح حديث بريرة يعني هذا، ومن جملة الأمور الموجبة برفعة المنصف بها
الصنائع العالية وأعلاها على الاطلاق العلم لحديث: العلماء ورثة الأنبياء أخرجه
أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان من حديث أبي الدرداء وبعثه الدارقطني
في العلل. قال المنذري: وهو مضطرب بالاسناد، وقد ذكره البخاري في صحيحه بغير
إسناد، والقرآن شاهد صدق على ما ذكرنا، فمن ذلك قوله تعالى: * (هل يستوي
الذين الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (سورة الزمر، الآية: 9) وقوله تعالى: * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا
العلم درجات) * (سورة المجادلة، الآية: 11) قوله تعالى: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) *
(سورة آل عمران، الآية: 18) وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتكاثرة منها حديث: خياركم في الجاهلية
وقد تقدم.
باب استحباب الخطبة للنكاح وما يدعى به للمتزوج
عن ابن مسعود قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التشهد
في الصلاة والتشهد في الحاجة، وذكر تشهد الصلاة قال: والتشهد في الحاجة أن الحمد
لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن
يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال:
ويقرأ ثلاث آيات ففسرها سفيان الثوري: * (واتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون) * (سورة آل عمران، الآية: 102) * (اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله
كان عليكم رقيبا) * (سورة الأحزاب، الآية: 70) * (اتقوا الله وقولوا قولا سديدا) * (سورة النساء، الآية: 1) الآية، رواه الترمذي وصححه. وعن إسماعيل بن إبراهيم
عن رجل من بني سليم قال: خطبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمامة بنت
عبد المطلب فأنكحني من غير أن يتشهد رواه أبو داود. وعن أبي هريرة:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رفأ إنسانا إذا تزوج قال: بارك الله لك
وبارك عليك وجمع بينكما في خير رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.
264

وعن عقيل بن أبي طالب: أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: بالرفاء
والبنين، فقال: لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: اللهم بارك لهم وبارك عليهم رواه النسائي وابن ماجة وأحمد بمعناه. وفي
رواية له: لا تقولوا ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نهانا عن ذلك، قولوا:
بارك الله فيك وبارك لك فيها.
حديث ابن مسعود أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي، وهو من
رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ولم يسمع منه. وقد رواه الحاكم
من طريق أخرى عن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن ابن مسعود وليس فيه الآيات. ورواه أيضا من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص
وأبي عبيدة أن عبد الله قال: فذكر نحوه. ورواه البيهقي من حديث واصل الأحدب
عن شقيق عن ابن مسعود بتمامه. وفي رواية للبيهقي: إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة
من النكاح أو غيره فليقل: الحمد لله نحمده ونستعينه الخ، وروى المصنف عن
الترمذي أنه صحح حديث ابن مسعود، والذي رأيناه في نسخة صحيحة منه التحسين
فقط، وكذلك روى الحافظ عنه في بلوغ المرام، والمنذري في مختصر السنن التحسين
فقط، ولكنه قال الترمذي بعد أن ذكر أن الحديث حسن ما لفظه: رواه الأعمش
عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وكلا الحديثين صحيح لأن إسرائيل جمعهما فقال: عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص
وأبي عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث إسماعيل بن
إبراهيم أخرجه أيضا البخاري في تاريخه الكبير وقال: إسناده مجهول، ووقع عنده
في رواية أمامة بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، فكأنها نسبت في رواية
أبي داود إلى جدها انتهى. وأما جهالة الصحابي المذكور فغير قادحة كما قررنا في
هذا الشرح غير مرة. وحديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال
الترمذي: حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان والحاكم. وحديث عقيل أخرجه
أيضا أبو يعلى والطبراني وهو من رواية الحسن عن عقيل، قال في الفتح:
ورجاله ثقات، إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل فيما يقال. وفي الباب
عن هبار عند الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهد نكاح رجل
265

فقال: على الخير والبركة والألفة والطائر الميمون والسعة والرزق، بارك الله
لكم. قوله: أن الحمد لله جاء في رواية بحذف أن، وفي رواية للبيهقي بحذف
أن وإثباتها بالشك فقال: الحمد لله أو أن الحمد لله، وفي آخره قال شعبة: قلت لأبي إسحاق
هذه القصة في خطبة النكاح وفي غيرها؟ قال: في كل حاجة. ولفظ ابن ماجة في
أول هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي جوامع الخير وخواتيمه
فعلمنا خطبة الصلاة وخطبة الحاجة فذكر خطبة الصلاة ثم خطبة الحاجة. قوله:
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. زاد أبو داود في رواية: ومن يطع الله ورسوله
فقد فاز فوزا عظيما. وفي رواية أخرى بعد قوله: ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا
بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر
الله شيئا. وقد استدل بحديث ابن مسعود هذا على مشروعية الخطبة عن عقد النكاح
وعند كل حاجة. قال الترمذي في سننه: وقد قال أهل العلم إن النكاح جائز بغير خطبة، وهو
قول سفيان الثوري وغيره من أهل العلم انتهى. ويدل على الجواز حديث إسماعيل بن
إبراهيم المذكور، فيكون على هذا الخطبة في النكاح مندوبة. قوله: رفأ قال في
الفتح: بفتح الراء وتشديد الفاء مهموز معناه دعا له. وفي القاموس: رفأه ترفئة وترفيا
قال له: بالرفاء والبنين أي بالالتئام وجمع الشمل انتهى. وذلك لأن الترفئة في الأصل
الالتئام، يقال: رفأ الثوب لام خرقه وضم بعضه إلى بعض، وكانت هذه ترفئة الجاهلية،
ثم نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وأرشد إلى ما في أحاديث الباب.
قوله: تزوج امرأة من بني جشم في جامع الأصول عن الحسن: أن عليا هو المتزوج
من بني جشم وعزاه إلى النسائي، واختلف في علة النهي عن الترفئة التي كانت تفعلها
الجاهلية فقيل: لأنه لا حمد فيها ولا ثناء ولا ذكر لله. وقيل: لما فيه من الإشارة إلى
بعض البنات لتخصيص البنين بالذكر، وإلا فهو دعاء للزوج بالالتئام والائتلاف
فلا كراهة فيه. وقال ابن المنير: الذي يظهر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كره
اللفظ لما فيه من موافقة الجاهلية أنهم كانوا يقولونه تفاؤلا لا دعاء، فيظهر أنه لو قيل
بصورة دعاء لم يكره كأن يقول: اللهم ألف بينهما وارزقهما بنين صالحين.
266

باب ما جاء في الزوجين يوكلان واحدا في العقد
عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: أترضى
أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم، وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلانا؟ قالت: نعم، فزوج
أحدهما صاحبه فدخل بها ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا وكان ممن شهد الحديبية،
وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا وإني أشهدكم
أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمه فباعته بمائة ألف رواه أبو داود.
وقال عبد الرحمن بن عوف لام حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم،
قال: فقد تزوجتك ذكره البخاري في صحيحه، وهو يدل على أن مذهب عبد
الرحمن أن من وكل في تزويج أو بيع شئ فله أن يبيع ويزوج لنفسه وأن
يتولى ذلك بلفظ واحد.
حديث عقبة بن عامر سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده عبد العزيز
بن يحيى صدوق يهم. وأثر عبد الرحمن ذكره البخاري معلقا، ووصله ابن سعد من
طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد: أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن
بن عوف: أنه قد خطبني غير واحد فزوجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين ذلك إلي؟
فقالت: نعم، قال: قد تزوجتك قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه. وقد ذكر ابن سعد أم
حكيم المذكورة في النساء اللواتي لم يدركن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروين عن
أزواجه وهي بنت قارظ بن خالد بن عبيد حليف بني زهرة. وقد استدل بحديث عقبة
من قال: إنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد، وهو مروي عن الأوزاعي وربيعة
والثوري ومالك وأبي حنيفة وأكثر أصحابه، والليث والهادوية وأبي ثور، وحكي
في البحر عن الناصر والشافعي وزفر أنه لا يجوز لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
كل نكاح لا يحضره أربعة وقد تقدم. وأجيب بأنه أراد أو من يقوم مقامهم.
قال في الفتح وعن مالك: لو قالت الثيب لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه
أو ممن اختار لزمها ذلك ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعي: يزوجه السلطان
267

أو ولي آخر مثله أو أبعد منه، ووافقه زفر وداود، وحجتهم أن الولاية شرط في العقد،
فلا يكون الناكح منكحا كما لا يبيع من نفسه وروى البخاري عن المغيرة تعليقا أنه
خطب امرأة هو أولى الناس بها فأمر رجلا فزوجه، ووصل هذا الأثر وكيع في
مصنفه. وللبيهقي من طريقه عن الثوري عن عبد الملك بن عمير أن المغيرة بن شعبة
أراد أن يتزوج امرأة هو وليها فجعل أمرها إلى رجل المغيرة أولى منه فزوجه.
وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري وقال فيه: فأمر أبعد منه فزوجه. وأخرجه سعيد
بن منصور من طريق الشعبي ولفظه: أن المغيرة خطب بنت عمه عروة بن مسعود
فأرسل إلى عبد الله بن أبي عقيل فقال: زوجنيها، فقال: ما كنت لأفعل أنت أمير
البلد وابن عمها، فأرسل المغيرة إلى عثمان بن أبي العاص فزوجها منه. والمغيرة هو
ابن شعبة بن مسعود من ولد عوف بن ثقيف فهي بنت عمه، وعبد الله بن أبي عقيل
هو ابن عمها أيضا لأن جده هو مسعود المذكور. وأما عثمان بن أبي العاص فهو
وإن كان ثقفيا لكنه لا يجتمع معهم إلا في جدهم الأعلى ثقيف لأنهم من ولد جشم
بن ثقيف. وقد استدل محمد بن الحسن على الجواز بأن الله لما عاتب الأولياء في
تزويج من كانت من أهل المال والجمال بدون صداقها، وعاتبهم على ترك تزويج من كانت قليلة المال والجمال، دل على أن الولي يصح منه تزويجها من نفسه، إذ لا يعاتب
أحدا على ترك ما هو حرام عليه.
باب ما جاء في نكاح المتعة وبيان نسخه
عن ابن مسعود قال: كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ليس معنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة
بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله
لكم) * (سورة المائدة، الآية: 87) الآية متفق عليه. وعن أبي جمرة قال: سألت ابن عباس عن متعة النساء
فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه، فقال
ابن عباس: نعم رواه البخاري. وعن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: إنما
كانت المتعة في أول الاسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له فيها معرفة فيتزوج
268

المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى نزلت هذه
الآية: * (إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم) * (سورة المؤمنون، الآية: 6) قال ابن عباس: فكل فرج سواهما
حرام رواه الترمذي. وعن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر. وفي رواية:
نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية متفق عليهما. وعن
سلمة بن الأكوع قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في متعة
النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها. وعن سبرة الجهني: أنه غزا
مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة قال: فأقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في متعة النساء وذكر الحديث إلى أن قال: فلم أخرج
حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي رواية: أنه كان مع النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من
النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شئ فليخل
سبيله ولا تأخذوا مما أتيتموهن شيئا رواهن أحمد ومسلم. وفي لفظ عن سبرة
قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة،
ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها رواه مسلم. وفي وراية عنه: أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع نهى عن نكاح المتعة رواه أحمد وأبو داود.
حديث ابن عباس الذي رواه المصنف من طريق أبي جمرة ونسبه إلى البخاري
قيل ليس هو في البخاري. قال الحافظ في التلخيص: وأغرب المجد بن تيمية يعني
المصنف فذكره عن أبي جمرة الضبعي أنه سأل ابن عباس عن متعة النساء فرخص
فيه فقال لهم مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة، فقال: نعم، رواه البخاري،
وليس هذا في صحيح البخاري، بل استغربه ابن الأثير في جامع الأصول فعزاه
إلى رزين وحده، ثم قال الحافظ قلت: قد ذكره المزي في الأطراف في ترجمة
أبي جمرة عن ابن عباس وعزاه إلى البخاري باللفظ الذي ذكره ابن تيمية سواء،
ثم راجعته من الأصل فوجدته في باب النهي عن نكاح المتعة أخيرا، ساقه بهذا
الاسناد والمتن فاعلم بذلك. وحديث ابن عباس الثاني الذي رواه المصنف من طريق
محمد بن كعب في إسناده موسى بن عبيد الربذي وهو ضعيف. وقد روى الرجوع
269

عن ابن عباس جماعة منهم محمد بن خلف القاضي المعروف بوكيع في كتابه الغرر
من الاخبار بسنده متصل بسعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ما تقول في المتعة
فقد أكثر الناس فيها حتى قال فيها الشاعر؟ قال: وما قال؟ قال: قال:
قد قلت للشيخ لما طال محبسه * يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
وهل ترى رخصة الأطراف آنسة * تكون مثواك حتى مصدر الناس
قال: وقد قال فيه الشاعر؟ قلت: نعم، قال: فكرهها أو نهى عنها. ورواه الخطابي
أيضا بإسناده إلى سعيد بن جبير قال: قلت لا بن عباس: قد سارت بفتياك الركبان
وقالت فيها الشعراء، قال: وما قالوا؟ فذكر البيتين، فقال: سبحان الله والله ما بهذا أفتيت،
وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر. وروى الرجوع أيضا البيهقي وأبو عوانة
في صحيحه. قال في الفتح: بعد أن ساق عن ابن عباس روايات الرجوع، وساق حديث
سهل بن سعد عند الترمذي بلفظ: إنما رخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المتعة
لعزبة كانت بالناس شديدة ثم نهى عنها بعد ذلك ما لفظه: فهذه أخبار يقوي بعضها
بعضها. وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العزبة في حال السفر. ثم قال:
وأخرج البيهقي من حديث أبي ذر بإسناد حسن: إنما كانت المتعة لحربنا وخوفنا.
وروى عبد الرزاق في مصنفه أن ابن عباس كان يراها حلالا ويقرأ: * (فما استمتعتم به
منهن) * (سورة النساء، الآية: 24) قال: وقال ابن عباس في حرف أبي بن كعب إلى أجل مسمى قال: وكان يقول:
يرحم الله عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها عباده، ولولا نهي عمر لما احتيج
إلى الزنا أبدا. وذكر ابن عبد البر عن عمارة مولى الشريد سألت ابن عباس عن
المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ فقال: لا نكاح ولا سفاح قلت: فما هي؟ قال: المتعة كما قال
الله تعالى، قلت: وهل عليها حيضة؟ قال: نعم، قلت: ويتوارثان؟ قال: لا. وقد روى ابن حزم
في المحلى عن جماعة من الصحابة غير ابن عباس فقال: وقد ثبت على تحليلها بعد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من السلف منهم من الصحابة أسماء بنت أبي بكر،
وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، وابن عباس، ومعاوية، وعمرو بن حريث، وأبو سعيد
وسلمة ابنا أمية بن خلف. ورواه جابر عن الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، ومدة أبي بكر، ومدة عمر إلى قرب آخر خلافته، وروي عنه إنما أنكرها
إذ لم يشهد عليها عدلان فقط وقال بها من التابعين: طاوس وعطاء وسعيد بن جبير
270

وسائر فقهاء مكة، انتهى كلامه. ثم ذكر الحافظ في التلخيص بعد أن نقل هذا
الكلام ابن حزم: من روى من المحدثين حل المتعة عن المذكورين. ثم قال:
ومن المشهورين بإباحتها ابن جريج فقيه مكة، ولهذا قال الأوزاعي فيما رواه الحاكم
في علوم الحديث: يترك من قول أهل الحجاز خمس، فذكر منها متعة النساء من قول
أهل مكة، وإتيان النساء في أدبارهن من قول أهل المدينة، ومع ذلك فقد روى
أبو عوانة في صحيحه عن ابن جريج أنه قال لهم بالبصرة: اشهدوا أني قد رجعت
عنها، بعد أن حدثهم فيها ثمانية عشر حديثا أنه لا بأس بها. ومن حكى القول بجواز
المتعة عن ابن جريج الإمام المهدي في البحر، وحكاه عن الباقر والصادق والامامية
انتهى. وقال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحدا يجيزها
إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال عياض: ثم
وقع الاجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض، وأما ابن عبا س فروي
عنه أنه أباحها، وروي عنه أنه رجع عن ذلك. قال ابن بطال: روى أهل مكة واليمن
عن ابن عباس إباحة المتعة، وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة، وإجازة المتعة عنه
أصح وهو مذهب الشيعة، قال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أبطل، سواء كان قبل
الدخول أم بعده، إلا قول زفر أنه جعلها كالشروط الفاسدة، ويرده قوله صلى الله
عليه وآله وسلم: فمن كان عنده منهن شئ فليخل سبيله. وقال الخطابي: تحريم المتعة
كالاجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات
إلى علي فقد صح عن علي أنها نسخت، ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن
المتعة فقال: هي الزنا بعينه. وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفية عن مالك
من الجواز خطأ، فقد بالغ المالكية في منع النكاح المؤقت حتى أبطلوا توقيت الحل
بسببه فقالوا: لو علق على وقت لا بد من مجيئه وقع الطلاق الآن لأنه توقيت للحل
فيكون في معنى نكاح المتعة. قال عياض: وأجمعوا على أن شرط البطلان التصريح
بالشرط، فلو نوى عند العقد أن يفارق بعد مدة صح نكاحه إلا الأوزاعي فأبطله،
واختلفوا هل يحد ناكح المتعة أو يعذر على قولين. وقال القرطبي: الروايات
كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف
على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض وجزم جماعة من الأئمة بتفرد
271

ابن عباس بإباحتها، ولكن قال ابن عبد البر: أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن
على إباحتها ثم اتفق فقهاء الأمصار على تحريمها. وقد ذكر الحافظ في فتح الباري
بعدما حكى عن ابن حزم كلامه السالف المتضمن لرواية جواز المتعة عن جماعة
من الصحابة ومن بعدهم مناقشات فقال: وفي جميع ما أطلقه نظر، أما ابن مسعود إلى
آخر كلامه فليراجع. وقال الحازمي في الناسخ والمنسوخ بعد أن ذكر حديث
ابن مسعود المذكور في الباب ما لفظه: وهذا الحكم كان مباحا مشروعا في صدر الاسلام،
وإنما إباحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم للسبب الذي ذكره ابن مسعود، وإنما
ذلك يكون في أسفارهم، ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أباحه لهم وهم
في بيوتهم، ولهذا نهاهم عنه غير مرة، ثم أباحه لهم في أوقات مختلفة، ثم حرمه عليهم
في آخر أيامه صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في حجة الوداع، وكان تحريم تأييد
لا توقيت، فلم يبقى اليوم في ذلك خلاف بين فقهاء الأمصار وأئمة الأمة إلا شيئا ذهب
إليه بعض الشيعة. ويروى أيضا عن ابن جرير جوازه انتهى. إذا تقرر لك معرفة
من قال بإباحة المتعة فدليلهم على الإباحة ما ثبت من إباحته صلى الله عليه وآله
وسلم لها في مواطن متعددة. منها في عمرة القضاء كما أخرجه عبد الرزاق عن الحسن
البصري وابن حبان في صحيحه من حديث سبرة. ومنها في خيبر كما في حديث
علي المذكور في الباب. ومنها عام الفتح كما في حديث سبرة بن معبد المذكور
أيضا. ومنها يوم حنين رواه النسائي من حديث علي. قال الحافظ: ولعله تصحيف
عن خيبر، وذكره الدارقطني عن يحيى بن سعيد بلفظ حنين. ووقع في حديث
سلمة المذكور في الباب في عام أوطاس. قال السهيلي: هو موافق لرواية من روى
عام الفتح فإنهما كانا في عام واحد. ومنها في تبوك رواه الحازمي والبيهقي عن جابر،
لكنه لم يبحها لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنالك، فإن لفظ حديث جابر
عند الحازمي: قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك
حتى إذا كنا عند الثنية مما يلي الشام جاءتنا نسوة تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فسألنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم فأخبرناه فغضب وقام فينا خطيبا، فحمد الله
وأثنى عليه ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ ولم نعد ولا نعود فيها أبدا، فلهذا سميت
ثنية الوداع. قال الحافظ: وهذا إسناد ضعيف، لكن عند ابن حبان من حديث
272

أبي هريرة ما يشهد له وأخرجه البيهقي أيضا، وأجيب بما قاله الحافظ في الفتح أنه
لا يصح من روايات الاذن بالمتعة شئ بغير علة إلا في غزوة الفتح وذلك لأن الاذن
في عمرة القضاء لا يصح لكونه من مراسيل الحسن ومراسيله ضعيفة، لأنه كان
يأخذ عن كل أحد، وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيام خيبر لأنهما كانا في سنة واحدة
كما في الفتح وأوطاس لأنهما في غزوة واحدة، ويبعد كل البعد أن يقع الاذن في
غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح في أيام الفتح قبلها فإنها حرمت إلى يوم
القيامة، وأما في غزوة خيبر فطريق توجيه الحديث وإن كانت صحيحة، ولكنه
قد حكى الحميدي عن البيهقي أن سفيان كان يقول: إن قوله في الحديث يوم خيبر
يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة. وذكر السهيلي أن ابن عيينة روى عن الزهري
بلفظ: نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر وعن المتعة بعد ذلك أو في غير ذلك
اليوم انتهى. وروى ابن عبد البر أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن
خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، قال ابن عبد
البر: وعلى هذا أكثر الناس. وقال أبو عوانة في صحيحه: سمعت أهل العلم يقولون:
معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فسكت عنها
وإنما نهى عنها يوم الفتح انتهى. قال في الفتح: والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة
فيما بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقي، ولكنه يشكل على كلام هؤلاء ما في
البخاري في الذبائح من طريق مالك. بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية. وهكذا أخرجه
مسلم من رواية ابن عيينة. وأما في غزوة حنين فهو تصحيف كما تقدم والأصل
خيبر، وعلى فرض عدم ذلك التصحيف فيمكن أن يراد ما وقع في غزوة أوطاس
لكونها هي وحنين واحدة، وأما في غزوة تبوك فلم يقع منه صلى الله عليه وآله
وسلم إذن بالاستمتاع كما تقدم، وإذا تقرر هذا فالاذن الواقع منه صلى الله عليه
وآله وسلم بالمتعة يوم الفتح منسوخ بالنهي عنها المؤبد كما في حديث سبرة الجهني.
وهكذا لو فرض وقوع الاذن منه صلى الله عليه وآله وسلم بها في موطن من المواطن
قبل يوم الفتح كان نهيه عنها يوم الفتح ناسخا له. وأما رواية النهي عنها في حجة
الوداع فهو اختلاف على الربيع بن سبرة، والرواية عنه بأن النهي يوم الفتح
273

أصح وأشهر، ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد إعادة النهي ليشيع ويسمعه
من لم يسمعه قبل ذلك، ولكنه يعكر على ما في حديث سبرة من التحريم المؤبد ما أخرجه
مسلم وغيره عن جابر قال: كنا نستمتع بالقبضة من الدقيق والتمر الأيام على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر،
حتى نهانا عنها عمر في شأن حديث عمرو بن حريث، فإنه يبعد كل البعد أن يجهل جمع من الصحابة
النهي المؤبد الصادر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في جمع كثير من الناس ثم يستمرون
على ذلك حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته حتى ينهاهم عنها عمر. وقد
أجيب عن حديث جابر هذا بأنهم فعلوا ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لم
يبلغه النسخ حتى نهى عنها عمر، واعتقد أن الناس باقون على ذلك لعدم الناقل، وكذلك
يحمل فعل غيره من الصحابة، ولذا ساغ لعمر أن ينهى ولهم الموافقة. وهذا الجواب
وإن كان لا يخلو عن تعسف ولكنه أوجب المصير إليه حديث سبرة الصحيح
المصرح بالتحريم المؤبد، وعلى كل حال فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع، وقد
صح لنا عنه التحريم المؤبد، ومخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته،
ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به، كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم
وعملوا به ورووه لنا؟ حتى قال ابن عمر فيما أخرجه عنه ابن ماجة بإسناد صحيح:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها، والله
لا أعلم أحدا تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة. وقال أبو هريرة فيما يرويه
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هدم المتعة الطلاق والعدة والميراث أخرجه
الدارقطني وحسنه الحافظ، ولا يمنع من كونه حسنا كون في إسناده مؤمل بن
إسماعيل، لأن الاختلاف فيه لا يخرج حديثه عن حد الحسن إذا انضم إليه
من الشواهد ما يقويه كما هو شأن الحسن لغيره، وأما ما يقال من أن تحليل المتعة
مجمع عليه والمجمع عليه قطعي، وتحريمها مختلف فيه والمختلف فيه ظني، والظني
لا ينسخ القطعي، فيجاب عنه أولا بمنع هذه الدعوى أعني كون القطعي لا ينسخه
الظني فما الدليل عليه؟ ومجرد كونها مذهب الجمهور غير مقنع لمن قام في مقام المنع
يسائل خصمه عن دليل العقل والسمع بإجماع المسلمين، وثانيا بأن النسخ بذلك
الظني إنما هو لاستمرار الحل لا لنفس الحل والاستمرار ظني لا قطعي. وأما
274

قراءة ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وسعيد بن جبير: * (فما استمتعتم به
منهن) * إلى أجل مسمى فليست بقرآن عند مشترطي التواتر، ولا سنة لأجل روايتها
قرآنا، فيقول من قبيل التفسير للآية وليس ذلك بحجة. وأما عند من لم يشترط التواتر
فلا مانع من نسخ ظني القرآن بظني السنة كما تقرر في الأصول.
باب نكاح المحلل
عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
المحلل والمحلل له رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، والخمسة إلا النسائي
من حديث علي مثله. وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل لعن الله
المحلل والمحلل له رواه ابن ماجة.
حديث ابن مسعود صححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري،
وله طريق أخرى أخرجه عبد الرزاق، وطريق ثالثة أخرجها إسحاق في مسنده.
وحديث علي صححه ابن السكن وأعله الترمذي فقال: روي عن مجالد عن الشعبي
عن جابر وهو وهم انتهى. وفي إسناده مجالد وفيه ضعف. وحديث عقبة بن عامر
أخرجه أيضا الحاكم وأعله أبو زرعة وأبو حاتم بالارسال. وحكى الترمذي عن
البخاري أنه استنكره. وقال أبو حاتم: ذكرته ليحيى بن بكير فأنكره إنكارا
شديدا، وسياق إسناده في سنن ابن ماجة هكذا: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح
المصري قال: حدثنا أبي قال: سمعت الليث بن سعد يقول: قال لي مشرح بن عاهان،
قال عقبة بن عامر فذكره. ويحيى بن عثمان ضعيف. ومشرح قد وثقه ابن معين.
(وفي الباب) عن ابن عباس عند ابن ماجة وفي إسناده زمعة بن صالح وهو ضعيف.
وعن أبي هريرة عند أحمد وإسحاق والبيهقي والبزار وابن أبي حاتم في العلل
والترمذي في العلل وحسنه البخاري، والأحاديث المذكورة تدل على تحريم التحليل
لأن اللعن إنما يكون على ذنب كبير. قال الحافظ في التلخيص: استدلوا بهذا الحديث
على بطلان النكاح إذا اشترط الزوج أنه إذا نكحها بانت منه، أو شرط أنه يطلقها،
275

أو نحو ذلك، وحملوا الحديث على ذلك، ولا شك أن إطلاقه يشمل هذه الصورة
وغيرها، لكن روى الحاكم والطبراني في الأوسط عن عمر أنه جاء إليه رجل
فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة ليحلها لأخيه
هل تحل للأول؟ قال: لا إلا بنكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم. قال: وقال ابن حزم: ليس الحديث على عمومه في كل
محلل، إذ لو كان كذلك لدخل فيه كل واهب وبائع ومزوج، فصح أنه أراد به بعض
المحللين، وهو من أحل حراما لغيره بلا حجة، فتعين أن يكون ذلك فيمن شرط
ذلك، لأنهم لم يختلفوا في أن الزوج إذا لم ينو تحليلها للأول ونوت هي أنها
لا تدخل في اللعن فدل على أن المعتبر الشرط انتهى. ومن المجوزين للتحليل بلا
شرط أبو ثور وبعض الحنفية المؤيد بالله والهادوية، وحملوا أحاديث التحريم على
ما إذا وقع الشرط أنه نكاح تحليل. قالوا: وقد روى عبد الرزاق أن امرأة أرسلت
إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها، فأمره عمر بن الخطاب أن يقيم معها
ولا يطلقها وأوعده أن يعاقبه إن طلقها، فصحح نكاحه ولم يأمره باستئنافه. وروى
عبد الرزاق أيضا عن عروة بن الزبير أنه كان لا يرى بأسا بالتحليل إذا لم يعلم أحد
الزوجين. قال ابن حزم: وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد. قال ابن
القيم في أعلام الموقعين: وصح عن عطاء فيمن نكح امرأة محللا ثم رغب فيها فأمسكها
قال: لا بأس بذلك. وقال الشعبي: لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج. وقال الليث عن
سعد: إن تزوجها ثم فارقها فترجع إلى زوجها. وقال الشافعي وأبو ثور: المحلل الذي يفسد
نكاحه هو من تزوجها ليحلها ثم يطلقها، فأما من لم يشترط ذلك في عقد النكاح فعقده
صحيح لا داخلة فيه، سواء شرط عليه ذلك قبل العقد أو لم
يشرط، نوى ذلك أو لم ينوه. قال أبو ثور: وهو مأجور. وروى بشر بن الوليد عن أبي
يوسف عن أبي حنيفة مثل هذا سواء. وروي أيضا عن محمد وأبي يوسف عن أبي حنيفة أنه إذا
نوى الثاني المرأة التحليل للأول لم تحل له بذلك. وروى الحسن بن زياد عن
زفر وأبي حنيفة أنه إذا شرط عليه في نفس العقد أنه إنما تزوجها ليحلها للأول فإنه
نكاح صحيح ويبطل الشرط وله أن يقيم معها، فهذه ثلاث روايات عن أبي حنيفة،
قالوا: وقد قال الله تعالى: * (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * (سورة البقرة، الآية: 230) وهذا زوج
276

قد عقد بمهر وولي ورضاها وخلوها عن الموانع الشرعية، وهو راغب في ردها إلى
زوجها الأول، فيدخل في حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: لا إلا نكاح رغبة وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم كما أمر الله
تعالى بقوله: * (حتى تنكح زوجا غيره) * (سورة البقرة، الآية: 230) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما شرط
في عودها إلى الأول مجرد ذوق العسيلة بينهما، فالعسيلة حلت له بالنص، وأما لعنه
صلى الله عليه وآله وسلم للمحلل فلا ريب أنه لم يرد كل محلل ومحلل له، وأن الولي محلل
لما كان حراما قبل العقد، والحاكم المزوج محلل بهذا الاعتبار، والبائع أمته محلل
للمشتري وطأها، فإن قلنا: العام إذا خصص صار مجملا فلا احتجاج بالحديث، وإن
قلنا: هو حجة فيما عدا محل التخصيص فذلك مشروط ببيان المراد منه، ولسنا ندري
المحل المراد من هذا النص أهو الذي نرى التحليل أو شرطه قبل العقد أو شرطه
في صلب العقد؟ أو الذي أحل ما حرمه الله تعالى ورسوله؟ ووجدنا كل من تزوج
مطلقة ثلاثا فإنه محلل، ولو لم يشترط التحليل أو لم ينوه، فإن الحل حصل بوطئه
وعقده، ومعلوم قطعا أنه لم يدخل في النص، فعلم أن النص إنما أراد به من أحل الحرام
بفعله أو عقده، وكل مسلم لا يشك في أنه أهل للعنه، وأما من قصد الاحسان إلى
أخيه المسلم ورغب في جمع شمله بزوجته ولم شعثه وشعث أولاده وعياله فهو
محسن، وما على المحسنين من سبيل، فضلا عن أن يلحقهم لعنة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، ولا يخفاك أن هذا كله بمعزل عن الصواب بل هو من المجادلة بالباطل
البحت، ودفعه لا يخفى على عارف.
باب نكاح الشغار
عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما
صداق رواه الجماعة، لكن الترمذي لم يذكر تفسير الشغار، وأبو داود جعله من
كلام نافع، وهو كذلك في رواية متفق عليها. وعن ابن عمر أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: لا شغار في الاسلام رواه مسلم. وعن أبي هريرة قال:
277

نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشغار، والشغار أن يقول الرجل:
زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي رواه أحمد
ومسلم. وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: أن العباس بن عبد الله بن عباس
أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته وقد كانا جعلاه
صداقا، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى مروان بن الحكم يأمر بالتفريق بينهما
وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
رواه أحمد وأبو داود. وعن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام، ومن انتهب فليس منا رواه
أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
حديث معاوية في إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدم اختلاف الأئمة في
الاحتجاج بحديثه. (وفي الباب) عن أنس عند أحمد والترمذي وصححه والنسائي.
وعن جابر عند مسلم، وأخرج البيهقي عن جابر أيضا: نهى عن الشغار، والشغار أن
تنكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه،
وبضع هذه صداق هذه. وأخرج عبد الرازق عن أنس أيضا مرفوعا: لا شغار في الاسلام والشغار أن يزوج
الرجل الرجل أخته بأخته. وأخرج أبو الشيخ من حديث أبي ريحانة: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المشاغرة والمشاغرة أن يقول: زوج هذا من هذه،
وهذه من هذا بلا مهر. وأخرج الطبراني عن أبي بن كعب مرفوعا: لا شغار،
قالوا: يا رسول الله وما الشغار؟ قال: إنكاح المرأة بالمرأة لا صداق بينهما قال
الحافظ: وإسناده وإن كان ضعيفا لكنه يستأنس به في هذا المقام. قوله: الشغار
بمعجمتين الأولى مكسورة. قوله: والشغار أن يزوج الخ، قال الشافعي: لا أدري
التفسير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك.
هكذا حكى عن الشافعي البيهقي في المعرفة، قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو من قول مالك، وهكذا قال غير الخطيب قال
القرطبي: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة، فإن كان مرفوعا فهو المقصود،
وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وللشغار صورتان:
إحداهما المذكورة في الأحاديث وهي خلو بضع كل منهما من الصداق. والثانية أن يشرط
278

كل واحد من الوليين على الآخر أن يزوجه وليته، فمن العلماء من اعتبر الأولى فقط فمنعها
دون الثانية، وليس المقتضى للبطلان عندهم مجرد ترك ذكر الصداق، لأن النكاح يصح
بدون تسميته، بل المقتضى لذلك جعل البضع صداقا، واختلفوا فيما إذا لم يصرح
بذكر البضع فالأصح عندهم الصحة. قال القفال: العلة في البطلان التعليق والتوفيق
وكأنه يقول: لا ينعقد لك نكاح ابنتي حتى ينعقد لي نكاح ابنتك. وقال الخطابي:
كان ابن أبي هريرة يشبهه برجل تزوج امرأة ويستثني عضوا منها، وهذا مما لا خلاف
في فساده. قال الحافظ: وتقرير ذلك أنه يزوج وليته ويستثني بضعها حيث يجعله
صداقا للأخرى. وقال المؤيد بالله، وأبو طالب: العلة كون البضع صار ملكا للأخرى
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في
صحته فالجمهور على البطلان. وفي رواية عن مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده،
وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، وذهبت الحنفية إلى صحته ووجوب المهر، وهو
قول الزهري ومكحول والثوري والليث ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور،
هكذا في الفتح، قال: وهو قوي على مذهب الشافعي لاختلاف الجهة، لكن قال
الشافعي: النساء محرمات إلا ما أحل الله أو ملك يمين، فإذا ورد النهي عن نكاح تأكد
التحريم انتهى. وظاهر ما في الأحاديث من النهي والنفي أن الشغار حرام باطل،
وهو غير مختص بالبنات والأخوات. قال النووي: أجمعوا على أن غير البنات من
الأخوات وبنات الأخ وغيرهن كالبنات في ذلك انتهى. وتفسير الجلب
والجنب قد تقدم في الزكاة.
باب الشروط في النكاح وما نهي عنه منها
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج رواه الجماعة. وعن أبي
هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة
أخيه أو يبيع على بيعه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها أو
إنائها فإنما رزقها على الله تعالى متفق عليه. وفي لفظ متفق عليه: نهى أن
279

تشترط المرأة طلاق أختها. وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى رواه أحمد.
قوله: أحق الشروط أن يوفى به في رواية للبخاري: أحق ما أوفيتم
من الشروط وفي أخرى له: أحق الشروط أن توفوا به. قوله: ما استحللتم
به الفروج أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح، لأن أمره أحوط وبابه
أضيق. قال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة، فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو
ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث.
ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كسؤال المرأة طلاق أختها. ومنها ما اختلف فيه، كاشتراط
أن لا يتزوج عليها، أو لا يتسرى، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله. وعند الشافعية الشروط
في النكاح على ضربين: منها ما يرجع إلى الصداق فيجب الوفاء به، وما يكون خارجا
عنه فيختلف الحكم فيه. قوله: نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه قد تقدم
الكلام على هذا في أول كتاب النكاح. قوله: أو يبيع على بيعه قد تقدم الكلام عليه
في كتاب البيع. قوله: ولا تسأل المرأة طلاق أختها ظاهر هذا التحريم وهو محمول على
ما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك لريبة في المرأة لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج،
ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة، أو لضرر يحصل لها من الزوج، أو للزوج
منها، أو يكون سؤالها ذلك تفويضا وللزوج رغبة في ذلك فيكون كالخلع من الأجنبي، إلى
غير ذلك من المقاصد المختلفة. وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النهي على
الندب فلو فعل ذلك لم يفسخ النكاح، وتعقبه ابن بطال بأن نفي الحل صريح في التحريم،
ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى ولترض
وما قسم الله لها، والتصريح بنفي الحل وقع في رواية أحمد المذكورة في الباب، ووقع
أيضا في رواية للبخاري. قوله: لتكتفئ بفتح المثناة الأولى وسكون الكاف من كفأت
الاناء إذا قلبته وأفرغت ما فيه. وفي رواية للبخاري: لتستفرغ ما في صحفتها. وفي
رواية له: لتكفأ وأخرجه أبو نعيم في المستخرج بلفظ: لا يصلح لامرأة
أن تشترط طلاق أختها لتكتفئ إناءها وأخرجه الإسماعيلي وقال: لتكتفئ
وكذا البيهقي وهو بفتح المثناة وسكون الكاف وبالهمزة. وفي رواية للبخاري
: لتكفئ بضم المثناة من أكفأته بمعنى أملته، والمراد بقوله: ما في صحفتها ما يحصل
280

لها من الزوج، وكذلك معنى أو إنائها. قوله: طلاق أختها قال الثوري: معنى
هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلا طلاق زوجته وأن يتزوجها هي،
فيصير لها من نفقته ومعونته ومعاشرته ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بقوله لتكتفئ
ما في صحفتها، والمراد بأختها غيرها، سواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين
. وحمل ابن عبد البر الأخت هنا على الضرة، ومن الشروط التي هي من مقتضيات
النكاح ومقاصده شرطها عليه العشرة بالمعروف والانفاق والكسوة والسكنى، وأن
لا يقصر في شئ من حقها من قسمة ونحوها، وشرطه عليها أن لا تخرج إلا بإذنه،
ولا تمنعه نفسها، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه. وأما الشروط التي تنافي مقتضى
العقد كأن تشرط عليه أن لا يقسم لضرتها، أو لا ينفق عليها، أو لا يتسرى أو يطلق
من كانت تحته، فلا يجب الوفاء بشئ من ذلك ويصح النكاح. وفي قول للشافعي
يبطل النكاح. وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشروط مطلقا، وقد استشكل ابن
دقيق العيد حمل الحديث على الشروط التي هي من مقتضيات النكاح. وقال: تلك
الأمور لا تؤثر الشروط في إيجادها وسياق الحديث يقتضي الوفاء بها، والشروط
التي هي من مقتضى العقد مستوية في وجوب الوفاء بها. (واختلف) أهل العلم في
اشتراط المرأة أن لا يخرجها زوجها من بلدها. فحكى الترمذي عن أهل العلم من
الصحابة قال: ومنهم عمر أنه يلزم، قال: وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. وروى
ابن وهب بإسناد جيد ان رجلا تزوج امرأة فشرط أن لا يخرجها من دارها،
فارتفعوا إلى عمر فوضع الشرط وقال: المرأة مع زوجها. قال أبو عبيد: تضادت
الروايات عن عمر في هذا. وحكى الترمذي عن علي أنه قال: سبق شرط الله
شرطها. قال: وهو قول الثوري وبعض أهل الكوفة. قال أبو عبيد وقد قال بقول عمر
عمرو بن العاص، ومن التابعين طاوس وأبو الشعثاء وهو قول الأوزاعي. وقال
الليث والثوري والجمهور بقول علي، حتى لو كان صداق مثلها مائة مثلا فرضيت بخمسين
على أن لا يخرجها فله إخراجها ولا يلزمه إلا المسمى. وقالت الحنفية: لها أن ترجع
عليه بما نقصت له من الصداق. وقال الشافعي: يصح النكاح ويلغو الشرط ويلزمه
مهر المثل، وعنه يصح وتستحق الكل، كذا في الفتح. قال أبو عبيد: والذي نأخذ به
أنا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن نحكم عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنها لو اشترطت
281

عليه أن لا يطأها لم يجب الوفاء بذلك الشرط فكذلك هذا، ومما يقوي حمل حديث
عقبة على الندب حديث عائشة في قصة بريرة المتقدم بلفظ: كل شرط ليس في
كتاب الله فهو باطل وقد تقدم أيضا حديث: المسلمون عند شروطهم إلا شرطا
أحل حراما أو حرم حلالا وأخرج الطبراني في الصغير بإسناد حسن عن جابر: أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب أم مبشر بنت البراء بن معرور
فقالت: إني شرطت لزوجي أن لا أتزوج بعده، فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: أن هذا لا يصلح.
باب نكاح الزاني والزانية
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الزاني
المجلود لا ينكح إلا مثله رواه أحمد وأبو داود. وعن عبد الله بن عمرو بن
العاص: أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امرأة
يقال لها أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه، قال: فاستأذن نبي الله صلى
الله عليه وآله وسلم أو ذكر له أمرها فقرأ عليه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم:
* (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) * (سورة النور، الآية: 3) رواه أحمد. وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان
بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقا؟ قال: فسكت عني فنزلت * (والزانية لا ينكحها إلا
زان أو مشرك) * فدعاني فقرأها علي وقال: لا تنكحها رواه أبو داود والنسائي
والترمذي.
حديث أبي هريرة قال الحافظ في بلوغ المرام: رجاله ثقات. وحديث
عبد الله بن عمرو أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط. قال في مجمع
الزوائد: ورجال أحمد ثقات، وحديث عمرو بن شعيب حسنه الترمذي (وفي الباب) عن
عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله
وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: استوصوا في النساء خيرا فإنما هن عندكم عوان،
282

ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن
في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا
أخرجه ابن ماجة والترمذي وصححه. وعن ابن عباس عند أبي داود والنسائي
قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس،
قال: غربها، قال أخاف أن تتبعها نفسي، قال: فاستمتع بها قال المنذري: ورجال إسناده
يحتج بهم في الصحيحين. وذكر الدارقطني أن الحسن بن واقد تفرد به عن عمارة
بن أبي حفصة، وأن الفضل بن موسى السيناني بكسر المهملة ثم تحتية ثم نونين بينهما
ألف تفرد به عن الحسن بن واقد، وأخرجه النسائي من حديث عبد الله بن عبيد
بن عمير عن ابن عباس وبوب عليه في سننه تزويج الزانية، وقال: هذا الحديث ليس
بثابت، وذكر أن المرسل فيه أولى بالصواب. وقال الإمام أحمد: لا تمنع يد لامس تعطي من
ماله قلت فإن أبا عبيد يقول من الفجور، قال: ليس عندنا إلا أنها تعطي من ماله، ولم يكن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ليأمره بإمساكها وهي تفجر وسئل عنه ابن الاعرابي فقال: من
الفجور. وقال الخطابي: معناه الزانية وأنها مطاوعة لمن أرادها لا ترد يده. وعن جابر
عند البيهقي بنحو حديث ابن عباس. قوله: الزاني المجلود الخ، هذا الوصف
خرج مخرج الغالب باعتبار من ظهر منه الزنا، وفيه دليل على أنه لا يحل للمرأة
أن تتزوج من ظهر منه الزنا، وكذلك لا يحل للرجل ان يتزوج بمن ظهر منها الزنا،
ويدل على ذلك الآية المذكورة في الكتاب لأن في آخرها * (وحرم ذلك على
المؤمنين) * (سورة النور، الآية: 3) فإنه صريح في التحريم. قال في نهاية المجتهد: اختلفوا في قوله تعالى: * (وحرم
ذلك على المؤمنين) * هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ وهل الإشارة في
قوله ذلك إلى الزنا أو إلى النكاح؟ قال: وإنما صار الجمهور إلى حمل الآية على الذم
لا على التحريم لحديث ابن عباس الذي قدمناه. وقد حكي في البحر عن علي وابن
عباس وابن عمر وجابر وسعيد بن المسيب وعروة والزهري والعترة ومالك والشافعي
وربيعة وأبي ثور أنها لا تحرم المرأة على من زنى بها لقوله تعالى: * (وأحل لكم
ما وراء ذلكم) * (سورة النساء، الآية: 24) وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يحرم الحلال الحرام أخرجه ابن ماجة من
حديث ابن عمر. وحكي عن الحسن البصري أنه يحرم على الرجل نكاح من زنى
بها واستدل بالآية. وحكاه أيضا عن قتادة وأحمد إلا إذا تابا لارتفاع سبب التحريم.
283

وأجاب عنه في البحر بأنه أراد بالآية الزاني المشرك، واستدل على ذلك بقوله تعالى: *
(أو مشركة) * (سورة النور، الآية: 3) قال: وهي تحرم على الفاسق المسلم بالاجماع. وأراد أيضا الزانية المشركة
بدليل قوله: * (أو مشرك) * (سورة النور، الآية: 3) هو يحرم على الفاسقة المسلمة بالاجماع. ولا يخفى ما في هذا
الجواب، لأن حاصله أن المراد المشرك الزاني والمشركة الزانية، وهذا تأويل يفضي
إلى تعطيل فائدة الآية، إذ منع النكاح مع الشرك والزنا حاصل بغير هذه الآية،
ويستلزم أيضا امتناع عطف المشرك والمشركة على الزاني والزانية، إذ قد ألغى
خصوصية الزنا، وأيضا قد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب. قال ابن القيم: وأما نكاح الزانية فقد صرح الله بتحريمه في سورة النور،
وأخبر أن من نكحها فهو زان أو مشرك، فهو إما أن يلتزم حكمه تعالى ويعتقد
وجوبه عليه أو لا، فإن لم يعتقده فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو
زان، ثم صرح بتحريمه فقال: * (وحرم ذلك على المؤمنين) * (سورة النور، الآية: 3) وأما جعل الإشارة في
قوله: * (وحرم ذلك) * إلى الزنا فضعيف جدا، إذ يصير معنى الآية: الزاني لا يزني
إلا بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك. وهذا مما ينبغي أن يصان
عنه القرآن، ولا يعارض ذلك حديث عمرو بن الأحوص وحديث ابن عباس
المذكوران، فإنهما في الاستمرار على نكاح الزوجة الزانية، والآية وحديث أبي
هريرة في ابتداء النكاح، فيجوز للرجل أن يستمر على نكاح من زنت وهي
تحته، ويحرم عليه أن يتزوج بالزانية، وأما ما ذكر ه المقبلي في المنار من أنه لا يصح أن
يراد به بقوله: لا ترد يد لامس الزنا بل عدم نفورها عن الريبة، فقصر للفظ المحتمل
على أحد المحتملات بغير دليل، فالأولى أن ينزل ترك استفصاله صلى الله عليه وآله
وسلم عن مراده بقوله: لا ترد يد لامس منزلة العموم، ولا ريب أن العرب تكنى
بمثل هذه العبارة عن عدم العفة عن الزنا. وأيضا حديث عمرو بن الأحوص من
أعظم الأدلة على جواز إمساك الزانية لقول فيه: إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة فإن فعلن فاهجروهن الخ، فتفسير حديث لا ترد يد لامس بغير الزنا لا يأتي
بفائدة باعتبار محل النزاع. وقد حكى صاحب البحر عن الأكثر أن من زنت لم ينفسخ
نكاحها. وحكي أيضا عن المؤيد بالله أنه يجب تطليقها ما لم تتب. قوله: أن مرثد
بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة بعدها دال مهملة. والغنوي بفتح الغين المعجمة
284

وبعدها نون مفتوحة نسبة إلى غني بفتح الغين وكسر النون وهو غني بن يعصر
ويقال أعصر بن سعد بن قيس عيلان. وعناق بفتح العين المهملة وبعدها نون وبعد
الألف قاف. قال المنذري: وللعلماء في الآية خمسة أقوال: أحدها أنها منسوخة قاله
سعيد بن المسيب وقال الشافعي في الآية: القول فيها كما قال سعيد أنها منسوخة،
وقال غيره: الناسخ * (وانكحوا الأيامى منكم) * (سورة النور، الآية: 32) فدخلت الزانية في أيامى المسلمين، وعلى
هذا أكثر العلماء يقولون: من زنا بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها.
والثاني: أن النكاح ههنا الوطئ، والمراد أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه
في مراده إلا زانية مثله أو مشركة لا تحرم الزنا. وتمام الفائدة في قوله سبحانه * (وحرم
ذلك على المؤمنين) * (سورة النور، الآية: 3) يعني الذين امتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي. الثالث: أن الزاني
المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة أو مشركة وكذلك الزانية. الرابع: أن هذا
كان في نسوة كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا،
واحتج بأن الآية نزلت في ذلك. الخامس: أنه عام في تحريم نكاح الزانية على
العفيف والعفيف على الزانية انتهى.
باب النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها
عن أبي هريرة قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تنكح
المرأة على عمتها أو خالتها رواه الجماعة وفي رواية نهي أن يجمع بين المرأة
وعمتها وبين المرأة وخالتها. رواه الجماعة إلا ابن ماجة والترمذي. ولأحمد والبخاري
والترمذي من حديث جابر مثل اللفظ الأول. وعن ابن عباس: أنه جمع بين امرأة
رجل وابنته من غيرها بعد طلقتين وخلع. وعن رجل من أهل مصر: كانت
له صحبة يقال له جبلة أنه جمع بين امرأة رجل وابنته من غيرها رواهما الدارقطني.
قال البخاري: وجمع عبد الله بن جعفر بين ابنة علي وامرأة علي.
حديث أبي هريرة قال ابن عبد البر: أكثر طرقه متواترة عنه، وزعم قوم
أنه تفرد به وليس كذلك. وقال البيهقي عن الشافعي: إن هذا الحديث لم يرو من
وجه يثبته أهل الحديث إلا عن أبي هريرة وروي من وجوه لا يثبتها أهل العلم
285

بالحديث. قال البيهقي: هو كما قد جاء من حديث علي وابن مسعود وابن
عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأنس وأبي سعيد وعائشة، وليس فيها شئ على شرط
الصحيح، وإنما اتفقا على إثبات حديث أبي هريرة. وأخرج البخاري رواية عاصم
عن الشعبي عن جابر، وبين الاختلاف على الشعبي فيه قال: والحفاظ يرون رواية عاصم
خطأ، والصواب رواية ابن عون وداود بن أبي هند انتهى. قال الحافظ: وهذا
الاختلاف لم يقدح عند البخاري، لأن الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة، وللحديث
طريق أخرى عن جابر بشرط الصحيح أخرجها النسائي من طريق ابن جريج
عن أبي الزبير عن جابر. وقول من نقل عنهم البيهقي تضعيف حديث جابر معارض
بتصحيح الترمذي وابن حبان وغيرهما له، وكفى بتخريج البخاري له موصولا
قوة. قال ابن عبد البر: كان بعض أهل الحديث يزعم أنه لم يرو هذا الحديث غير
أبي هريرة يعني من وجه يصح، وكأنه لم يصح حديث الشعبي عن جابر وصححه
عن أبي هريرة، والحديثان جميعا صحيحان. قال الحافظ: وأما من نقل البيهقي
أنهم رووه من الصحابة غير هذين فقد ذكر مثل هذا الترمذي بقوله: وفي
الباب، لكن لم يذكر ابن مسعود ولا ابن عباس ولا أنسا، وزاد بدلهم: أبا موسى
وأبا أمامة وسمرة، قال: ووقع لي أيضا من حديث أبي الدرداء، ومن حديث عتاب
بن أسيد ومن حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود. قال:
وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة وأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة
وأبي يعلى والبزار والطبراني وابن حبان وغيرهم، ولولا خشية التطويل لأوردتها
مفصلة. قال: لكن في لفظ حديث ابن عباس عند أبي داود أنه كره أن يجمع بين
العمة والخالة وبين العمتين والخالتين. وفي رواية عند ابن حبان نهى أن تزوج
المرأة على العمة والخالة وقال: إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن انتهى.
وأخرج أبو داود في المراسيل عن عيسى بن طلحة قال: نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة. وأخرجه أيضا ابن
أبي شيبة وأخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه
عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضغائن.
(وأحاديث الباب) تدل على تحريم الجمع بين من ذكر في حديث أبي هريرة لان
ذلك هو معنى النهي حقيقة، وقد حكاه الترمذي عن عامة أهل العلم وقال: لا نعلم
286

بينهم اختلافا في ذلك. وكذلك حكاه الشافعي عن جميع المفتين. وقال: لا اختلاف
بينهم في ذلك. وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم، وإنما قال بالجواز
فرقة من الخوارج، وهكذا حكى الاجماع القرطبي واستثنى الخوارج. قال: ولا يعتد
بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين، وهكذا نقل الاجماع ابن عبد البر ولم يستثن. ونقله
أيضا ابن حزم واستثنى عثمان البتي. ونقله أيضا النووي واستثنى طائفة من الخوارج
والشيعة. ونقله ابن دقيق العيد عن جمهور العلماء ولم يعين المخالف، وحكاه صاحب
البحر عن الأكثر وحكي الخلاف عن البتي وبعض الخوارج والروافض، واحتجوا
بقوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (سورة النساء، الآية: 24) وحملوا النهي المذكور في الباب على الكراهة
فقط، وجعلوا القرينة ما في حديث ابن عباس من التعليل بلفظ: فإنكن إذا فعلتن
ذلك قطعتن أرحامكن وقد رواه ابن حبان هكذا بلفظ الخطاب للنساء. وفي رواية
ابن عدي بلفظ الخطاب للرجال. والمراد بذلك أنه إذا جمع الرجل بينهما صارا
من نسائه كأرحامه، فيقطع بينهما بما ينشأ بين الضرائر من التشاحن، فنسب القطع
إلى الرجل لأنه السبب، وأضيفت إليه الرحم لذلك. وحديث ابن عباس هذا
المصرح بالعلة في إسناده أبو حريز بالحاء المهملة ثم الزاي اسمه عبد الله بن حسين
وقد ضعفه جماعة، ولكنه قد علق له البخاري ووثقه ابن معين وأبو زرعة، قال في
التلخيص: فهو حسن الحديث ويقويه المرسل الذي ذكرنا قالوا: ولا شك أن مجرد مخافة
القطيعة لا يستلزم حرمة النكاح، وإلا لزم حرمة الجمع بين بنات عمين وخالين لوجود
علة النهي في ذلك، ولا سيما مع التصريح بذلك كما في مرسل عيسى بن طلحة
فإنه يعم جميع القرابات. وأجيب بأن قطيعة الرحم من الكبائر بالاتفاق، فما كان
مفضيا إليها من الأسباب يكون محرما، وأما الالزام بتحريم الجمع بين سائر القرابات
فيرده الاجماع على خلافه فهو مخصص لعموم العلة أو لقياسها. وأما قوله تعالى: * (وأحل
لكم ما وراء ذلكم) * فعموم مخصص بأحاديث الباب. قوله: وجمع عبد الله بن جعفر
هذا وصله البغوي في الجعديات، وسعيد بن منصور من وجه آخر، وبنت علي هي
زينب، وامرأته هي ليلى بنت مسعود النهتلية. وفي رواية سعيد بن منصور: أن بنت
علي هي أم كلثوم بنت فاطمة، ولا تعارض بين الروايتين في زينب وأم كلثوم، لأنه
تزوجهما عبد الله بن جعفر واحدة بعد أخرى مع بقاء ليلى في عصمته، وقد وقع
287

مبينا عند ابن سعد وحكى البخاري عن ابن سيرين أنه قال: لا بأس به يعني الجمع
بين زوجة الرجل وبنته من غيرها، ووصله سعيد بن منصور بسند صحيح، والأثر
عن الرجل الذي من أهل مصر أخرجه أيضا ابن أبي شيبة مطولا من طريق أيوب
عن عكرمة بن خالد أن عبد الله بن صفوان تزوج امرأة رجل من ثقيف وابنته
أي من غيرها. قال أيوب: فسئل عن ذلك ابن سيرين فلم ير به بأسا وقال: نبئت
أن رجلا كان بمصر اسمه جبلة جمع بين امرأة رجل وبنته من غيرها. وروى البخاري
عن الحسن البصري أنه كرهه مرة ثم قال: لا بأس به، ووصله الدارقطني، وأخرج
ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه كرهه. وعن سليمان بن يسار ومجاهد والشعبي
أنه قال: لا بأس به، واعتبرت الهادوية في الجمع المحرم أن يكون بين من لو كان
أحدهما ذكرا حرم على الآخر من الطرفين، وزوجة الرجل وابنته من غيرها التحريم
إنما هو من طرف واحد، لأنا لو فرضنا البنت رجلا حرمت عليه امرأة أبيه،
بخلاف ما لو فرضنا امرأة الأب رجلا فإنه أجنبي عن البنت ضرورة فتحل له.
وحكى البخاري عن الحسن بن الحسن بن علي أنه جمع بين ابنتي عم، قال: وكره
جابر بن زيد القطيعة وليس فيه تحريم لقوله * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (سورة النساء، الآية: 24) وحكى في الفتح
عن أبي المنذر أنه قال: لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح، قال: وكان يلزم من يقول
بدخول القياس في مثل هذا أن يحرمه.
باب العدد المباح للحر والعبد وما خص به النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك
عن قيس بن الحرث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال: اختر منهن أربعا رواه أبو داود وابن
ماجة. وعن عمر بن الخطاب قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد
الأمة حيضتين رواه الدارقطني. وعن قتادة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة. وفي
288

رواية: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من
الليل والنهار وهن إحدى عشرة، قلت لأنس: وكان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي
قوة ثلاثين رواهما أحمد والبخاري.
حديث قيس بن الحرث، وفي رواية الحرث بن قيس في إسناده محمد بن عبد
الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة. وقال أبو القاسم البغوي: ولا
أعلم للحرث بن قيس حديثا غير هذا. وقال أبو عمر النمري: ليس له إلا حديث واحد
ولم يأت من وجه صحيح. وفي معنى هذا الحديث حديث غيلان الثقفي لما أسلم وتحته
عشر نسوة، وسيأتي في باب من أسلم وتحته أختان أو أكثر من أربع ويأتي الكلام
عليه هنالك، وفي الباب عن نوفل بن معاوية عند الشافعي: أنه أسلم وتحته خمس نسوة
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمسك أربعا وفارق الأخرى. وفي إسناده
رجل مجهول، لأن الشافعي قال: حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد
بن سهل عن عوف بن الحرث عن نوفل بن معاوية قال: أسلمت فذكره. وفي الباب
أيضا عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقي، وأثر عمر يقويه ما رواه
البيهقي وابن أبي شيبة من طريق الحكم بن عتيبة أنه أجمع الصحابة على أن لا ينكح
العبد أكثر من اثنتين. وقال الشافعي بعد أن روى ذلك عن علي وعمر وعبد الرحمن
بن عوف أنه لا يعرف لهم من الصحابة مخالف. وأخرجه ابن أبي شيبة عن جماهير
التابعين عطاء والشعبي والحسن وغيرهم. قوله: اختر منهن أربعا استدل به الجمهور
على تحريم الزيادة على أربع. وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا،
ولعل وجهه قوله تعالى: * (مثنى وثلاث ورباع) * (سورة النساء، الآية: 3) ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من
العدل تسع، وحكي ذلك عن ابن الصباغ والعمراني وبعض الشيعة، وحكي أيضا عن
القاسم بن إبراهيم، وأنكر الامام يحيى الحكاية عنه، وحكاه صاحب البحر عن
الظاهرية وقوم مجاهيل، وأجابوا عن حديث قيس بن الحرث المذكور بما فيه من المقال
المتقدم، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما سيأتي فيه من المقال، وكذلك أجابوا عن
حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كون إسناد فيه مجهول، قالوا: ومثل هذا الأصل
العظيم لا يكتفي فيه بمثل ذلك ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم جمع بين تسع أو إحدى عشرة. وقد قال تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله
289

أسوة حسنة) * (سورة الأحزاب، الآية: 21) وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع ولم يقم
عليه دليل. وأما قوله تعالى: * (مثنى وثلاث ورباع) * (سورة النساء، الآية: 3) قالوا فيه للجمع لا للتخيير،
وأيضا لفظ مثنى معدول به عن اثنين اثنين، وهو يدل على تناول ما كان متصفا من
الاعداد بصفة الاثنينية، وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف
فإنك تقول: جاءني القوم مثنى أي اثنين اثنين وهكذا ثلاث ورباع، وهذا معلوم في
لغة العرب لا يشك فيه أحد، فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز
للانسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، وليس من
شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى من العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها،
فإنه لا شك أنه يصح لغة وعرفا أن يقول الرجل لألف رجل عنده: جاءني هؤلاء
اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة. فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد
من النساء كثير، سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير، لأن خطاب الجماعة بحكم من
الاحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم، فكأن الله سبحانه وتعالى قال لكل فرد من
الناس: انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، ومع هذا فالبراءة الأصلية
مستصحبة وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها. وقد
يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره
فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال. ويؤيد ذلك
كون الأصل في الفروج الحرمة كما صرح به الخطابي، فلا يجوز الاقدام على
شئ منها إلا بدليل، وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالاجماع على عدم جواز الزيادة على
الأربع كما صرح بذلك في البحر. وقال في الفتح: اتفق العلماء على أن من خصائصه صلى
الله عليه وآله وسلم الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن. قوله: ينكح العبد امرأتين
قد تمسك بهذا من قال: إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين وهو مروي عن علي
وزيد بن علي والناصر والحنفية والشافعية. ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة
على من لم يقل بحجيته، نعم لو صح إجماع الصحابة على ذلك كما أسلفنا لكان دليلا
عند القائلين بحجية الاجماع. ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي
ثور والقاسم بن محمد وسالم والقاسمية أنه يجوز له أن ينكح أربعا كالحر، حكى ذلك
عنهم صاحب البحر، فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى: * (فانكحوا
290

ما طاب لكم من النساء) * (سورة النساء، الآية: 3) والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم، إلا أن يقوم دليل
يقتضي المخالفة كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما. قوله: ويطلق تطليقتين
سيأتي الكلام على هذا في باب ما جاء في طلاق العبد، وكذلك يأتي الكلام على عدة الأمة.
قوله: تسع نسوة هن عائشة وسودة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش وصفية
وجويرية وأم حبيبة وميمونة، هؤلاء الزوجات اللاتي مات عنهن، واختلف في
ريحانة هل كانت زوجة أو سرية؟ وهل ماتت في حياته أو بعده؟ ودخل أيضا
بخديجة ولم يتزوج عليها حتى ماتت، وبزينب أم المساكين وماتت في حياته قبل أن
يتزوج صفية ومن بعدها. قال الحافظ في التلخيص: وأما حديث أنس أنه تزوج
خمس عشرة امرأة ودخل منهن بإحدى عشرة ومات عن تسع فقد قواه الضياء
في المختارة. قال: وأما من عقد عليها ولم يدخل بها أو خطبها ولم يعقد عليها فضبطنا
منهن نحوا من ثلاثين امرأة، وقد حررت ذلك في كتابي في الصحابة. وقد ذكر
الحافظ في الفتح والتلخيص الحكمة في تكثير نسائه صلى الله عليه وآله وسلم
فليراجع ذلك.
باب العبد يتزوج بغير إذن سيده
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما عبد تزوج
بغير إذن سيده فهو عاهر رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال:
حديث حسن.
الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه، وأخرجه أيضا ابن ماجة
من حديث ابن عمر. قال الترمذي: لا يصح إنما هو عن جابر. وأخرجه أيضا أبو داود
من حديث العمري عن نافع عن ابن عمر بلفظ: فنكاحه باطل وتعقبته بالتضعيف
وبتصويب وقفه. ورواه ابن ماجة من حديث ابن عمر وفي إسناده مندل بن علي
وهو ضعيف، وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر، وصوب الدارقطني وقفه علي
بن عمر وأخرجه أيضا عبد الرزاق عن ابن عمر موقوفا. وقد استدل بحديث جابر
من قال: إن نكاح العبد لا يصح إلا بإذن سيده، وذلك للحكم عليه بأنه عاهر،
291

والعاهر الزاني والزنا باطل. وقال الامام يحيى: أراد أنه كالعاهر وليس بزان حقيقة لاستناده
إلى عقد، قال في البحر قلت: بل زان إن علم التحريم فيحد ولا مهر. وقال داود: إن
نكاح العبد بغير إذن مولاه صحيح لأن النكاح عنده فرض عين، وفروض الأعيان
لا تحتاج إلى إذن وهو قياس في مقابلة النص. واختلفوا هل ينفذ بالإجازة من السيد
أم لا؟ فذهبت العترة والحنفية إلى أن عقد العبد بغير إذن مولاه موقوف ينفذ
بالإجازة. وقال الناصر والشافعي: إنه لا ينفذ بالإجازة بل هو باطل، والإجازة لا تلحق
العقود الباطلة. وقال مالك: إن العقد نافذ وللسيد نسخه، ورد بأنه لا وجه لنفوذه مع قوله
صلى الله عليه وآله وسلم باطل كما وقع في رواية من حديث جابر، قالت العترة
والشافعي: ولا يحتاج في بطلانه إلى فسخ، وخالف في ذلك مالك.
باب الخيار للأمة إذا أعتقت تحت عبد
عن القاسم عن عائشة: أن بريرة كانت تحت عبد فلما أعتقتها قال لها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد
وإن شئت أن تفارقيه رواه أحمد والدارقطني. وعن القاسم عن عائشة: أن
بريرة خيرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان زوجها عبدا رواه مسلم وأبو
داود وابن ماجة. وعن عروة عن عائشة: أن بريرة أعتقت وكان زوجها
عبدا فخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان حرا لم يخيرها رواه أحمد
ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وعن عروة عن عائشة: أن بريرة أعتقت
وهي عند مغيث عبد لآل أبي أحمد فخيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:
إن قربك فلا خيار لك رواه أبو داود، وهو دليل على أن الخيار على التراخي
ما لم تطأ. وعن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبدا أسود يقال له مغيث عبدا
لبني فلان، كأني أنظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة رواه البخاري. وفي
لفظ: أن زوج بريرة كان عبدا أسود لبني مغيرة يوم أعتقت بريرة، والله لكأني
به في المدينة ونواحيها وأن دموعه لتسيل على لحيته يترضاها لتختاره فلم تفعل رواه
الترمذي وصححه، وهو صريح ببقاء عبوديته يوم العتق. وعن إبراهيم عن الأسود
292

عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حرا فلما أعتقت خيرها رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فاختارت نفسها رواه الخمسة. قال البخاري: قول الأسود منقطع ثم عائشة عمة
القاسم وخالة عروة فروايتهما عنها أولى من رواية أجنبي يسمع من وراء حجاب.
رواية أنه كان عبدا ثابتة أيضا من طريق ابن عمر عند الدارقطني والبيهقي
قال: كان زوج بريرة عبدا وفي إسناده ابن أبي ليلى وهو ضعيف، ومن طريق صفية
بنت أبي عبيد عند النسائي والبيهقي بإسناد صحيح. وروى ابن سعد في الطبقات عن
عبد الوهاب عن داود بن عطاء بن أبي هند عن عامر الشعبي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال لبريرة لما عتقت: قد عتق بضعك معك فاختاري ووصل هذا المرسل
الدارقطني من طريق أبان بن صالح عن هشام عن أبيه عن عائشة، وهذه الرواية
مطلقة ليس فيها ذكر أنه كان عبدا أو حرا. وروى شعبة عن عبد الرحمن أنه قال:
ما أدري أحر أم عبد؟ وهذا شك، وهو غير قادح في روايات الجزم، وكذلك الرواية
المطلقة تحمل على الروايات المقيدة. (والحاصل) أنه قد ثبت من طريق ابن عباس
وابن عمر وصفية بنت أبي عبيد أنه كان عبدا، ولم يرو عنهم ما يخالف ذلك. وثبت
عن عائشة من طريق القاسم وعروة أنه كان عبدا، ومن طريق الأسود أنه كان حرا،
ورواية اثنين أرجح من رواية واحد على فرض صحة الجمع، فكيف إذا كانت رواية
الواحد معلولة بالانقطاع كما قال البخاري. وروي عن البخاري أيضا أنه قال: هي من
قول الحكم، وقول ابن عباس أنه كان عبدا أصح. وقال البيهقي: روينا عن القاسم ابن
أخيها وعن عروة ومجاهد وعمرة كلهم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال لها: إن شئت أن تثوي تحت العبد قال المنذري: وروي عن الأسود أنه كان عبدا
فاختلف عليه، مع أن بعضهم يقول: إن لفظ أنه كان حرا من قول إبراهيم، وإذا
تعارضت الرواية عن الأسود فتطرح ويرجع إلى رواية الجماعة عن عائشة، على أنا
لو فرضنا أن الروايات عن عائشة متعارضة ليس لبعضها مرجح على بعض كان الرجوع
إلى رواية غيرها بعد إطراح روايتها، وقد روى غيرها أنه كان عبدا على طريق الجزم،
فلم يبق حينئذ شك في رجحان عبوديته. وقال أحمد بن حنبل: إنما يصح أنه كان حرا
عن الأسود وحده، وما جاء عن غيره فليس بذاك. وصح عن ابن عباس وغيره أنه
كان عبدا ورواه علماء المدينة، وإذا روى علماء المدينة شيئا وعملوا به فهو أصح. وقال
293

الدارقطني: قال عمران بن جرير عن عكرمة عن عائشة: كان حرا وهو وهم في
شيئين: في قوله كان حرا، وفي قوله عن عائشة، وإنما هو من رواية عكرمة عن ابن
عباس، ولم يختلف على ابن عباس أنه كان عبدا، وكذا جزم الترمذي عن ابن عمر.
وقال ابن القيم في الهدى: إن حديث عائشة رواه ثلاثة: الأسود وعروة والقاسم. فأما
الأسود فلم يختلف عنه أنه كان حرا. وأما عروة فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان:
إحداهما أنه كان حرا، والثانية أنه كان عبدا. وأما عبد الرحمن بن القاسم فعنه روايتان
صحيحتان: إحداهما أنه كان حرا، والثانية الشك انتهى. وقد عرفت مما سلف ما يخالف
هذا، وعلى فرض صحته فغاية الامر أن الروايات عن عائشة متعارضة فيرجع إلى
رواية غيرها، وقد عرفت أنها متفقة على الجزم بكونه عبدا. وقد اختلف أهل العلم فيما
إذا كان الزوج حرا هل يثبت للزوجة الخيار أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت،
وجعلوا العلة في الفسخ عدم الكفاءة، لأن المرأة إذا صارت حرة وكان زوجها عبدا
لم يكن كفؤا لها، ويؤيد هذا قول عائشة في حديث الباب: ولو كان حرا لم يخيرها،
ولكنه قد تعقب ذلك بأن هذه الزيادة مدرجة من قول عروة، كما صرح بذلك
النسائي في سننه، وبينه أيضا أبو داود في رواية مالك، ولو سلم أنه من قولها فهو اجتهاد
وليس بحجة. وذهبت العترة والشعبي والنخعي والثوري والحنفية إلى أنه يثبت
الخيار ولو كان الزوج حرا، وتمسكوا أولا بتلك الرواية التي فيها أنه كان زوج بريرة
حرا، وقد عرفت عدم صلاحية ذلك للتمسك به، ومما يصلح للتمسك به ما وقع في بعض
روايات حديث بريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: ملكت نفسك
فاختاري فإن ظاهر هذا مشعر بأن السبب في التخيير هو ملكها لنفسها وذلك مما
يستوي فيه الحر والعبد. وقد أجيب عن ذلك بأنه يحتمل أن المراد من ذلك أنها
استقلت بأمر النظر في مصالحها من غير إجبار عليها من سيدها كما كانت من قبل
يجبرها سيدها على الزوج. ومن جملة ما يصلح للاحتجاج به على عدم الفسخ إذا كان
الزوج حرا ما في سنن النسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما أمة
كانت تحت عبد فعتقت فهي بالخيار ما لم يطأها زوجها وفي إسناده حسين بن عمرو
بن أمية الضمري وهو مجهول وأخرج النسائي أيضا عن القاسم بن محمد قال: كان لعائشة
غلام وجارية قالت: فأردت أن أعتقهما، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله
294

وسلم فقال: ابدئي بالغلام قبل الجارية. قالوا: ولم يكن التخيير ممتنعا إذا كان الزوج
حرا لم يكن للبداءة بعتق الغلام فائدة، فإذا بدأت به عتقت تحت حر فلا يكون لها
اختيار، وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن عبد الرحمن وهو ضعيف. قال العقيلي:
لا يعرف إلا به قال ابن حزم: لا يصح هذا الحديث، ولو صح لم يكن فيه حجة لأنه ليس
فيه أنهما كانا زوجين، ولو كانا زوجين يحتمل أن تكون البداءة بالرجل لفضل عتقه
على الأنثى كما في الحديث الصحيح. قوله: وهي عند مغيث بضم الميم وكسر
المعجمة ثم تحتية ساكنة ثم مثلثة. ووقع عند العسكري بفتح المهملة وتشديد التحتية
وآخره باء موحدة، وجزم ابن مأكولا وغيره بالأول، ووقع عند المستغفري في الصحابة
أن اسمه مقسم. قال الحافظ: وما أظنه إلا تصحيفا. قوله: إن قربك فلا خيار لك
فيه دليل على أن خيار من عتقت على التراخي، وأنه يبطل إذا مكنت الزوج من
نفسها، وإلى ذلك ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد والهادوية وهو قول للشافعي، وله
قول آخر أنه على الفور. وفي رواية عنه أنه إلى ثلاثة أيام. وقيل: بقيامها من مجلس
الحاكم. وقيل: من مجلسها، وهذان القولان للحنفية، والقول الأول هو الظاهر
لاطلاق التخيير لها إلى غاية هي تمكينها من نفسها. ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ: إذا عتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها
إن تشأ فارقته، وإن وطئها فلا خيار لها ولا تستطيع فراقه. وفي رواية للدارقطني: إن وطئك فلا خيار لك.
باب من أعتق أمة ثم تزوجها
عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما رجل
كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها
فله أجران، وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وأيما
رجل مملوك أدى حق مواليه وحق ربه فله أجران رواه الجماعة إلا أبا داود فإنما
له منه: من أعتق أمته ثم تزوجها كان له أجران. ولأحمد قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها بمهر جديد كان له أجران.
295

وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعتق صفية وتزوجها فقال له ثابت:
ما أصدقها؟ قال: نفسها أعتقها وتزوجها رواه الجماعة إلا الترمذي وأبا داود. وفي لفظ:
أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها رواه البخاري. وفي لفظ: أعتق صفية
ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها رواه الدارقطني. وفي لفظ: أعتق صفية ثم تزوجها وجعل
عتقها صداقها رواه أحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه. وفي رواية:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اصطفى صفية بنت حيي فاتخذها لنفسه وخيرها
أن يعتقها وتكون زوجته أو يلحقها بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته رواه
أحمد، وهو دليل على أن من جرى عليه ملك المسلمين من السبي يجوز رده إلى الكفار
إذا كان على دينه.
حديث أبي موسى فيه دليل على مشروعية تعليم الإماء وإحسان تأديبهن
ثم إعتاقهن والتزوج بهن، وأن ذلك مما يستحق به فاعله أجرين، كما أن من آمن
من أهل الكتاب يستحق أجرين بإيمانه بالنبي الذي كان على دينه، وأجرا
بإيمانه بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك المملوك الذي يؤدي حق الله وحق
مواليه يستحق أجرين، وليس في هذا الحديث ما يدل على أنه يصح أن يجعل العتق
صداق المعتقة، ولكن الذي يدل على ذلك حديث أنس المذكور لقوله فيه: ما أصدقها
قال نفسها وكذلك سائر الألفاظ المذكورة في بقية الروايات. وقد أخذ بظاهر
ذلك من القدماء سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وطاوس والزهري، ومن فقهاء
الأمصار الثوري وأبو يوسف وأحمد وإسحاق. وحكاه في البحر عن العترة والأوزاعي
والشافعي والحسن بن صالح فقالوا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها
صح العقد والعتق والمهر. وذهب من عدا هؤلاء إلى أنه لا يصح أن يكون العتق
مهرا، ولم يحك هذا القول في البحر إلا عن مالك وابن شبرمة. وحكي في موضع
آخر عن أبي حنيفة ومحمد أنها تستحق مهر المثل لأنها قد صارت حرة، فلا يستباح
وطؤها إلا بالمهر. وحكى بعضهم عدم صحة جعل العتق مهرا عن الجمهور، وأجابوا
عن ظاهر الحديث بأجوبة ذكرها في فتح الباري. منها: أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها
فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها، ولكنه لا يخفى أن ظاهر
الروايات أنه جعل المهر نفس العتق
296

لا قيمة المعتقة. ومنها: أنه جعل نفس العتق مهرا ولكنه من خصائصه، ويجاب عنه بأن دعوى الاختصاص تفتقر إلى دليل. ومنها أن
معنى قوله أعتقها وتزوجها أنه أعتقها ثم تزوجها ولم يعلم أنه ساق لها صداقا فقال: أصدقها
نفسها أي لم يصدقها شيئا فيما أعلم، ولم ينف نفس الصداق، ويجاب بأنه يبعد أن يأتي
الصحابي الجليل بمثل هذه العبارة في مقام التبليغ ويكون مريدا لما ذكرتم،
فإن هذا لو صح لكان من باب الألغاز و التعمية، وقد أيدوا هذا التأويل
البعيد بما أخرجه البيهقي من حديث أميمة بنت زريبة عن أمها: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أعتق صفية وخطبها وتزوجها وأمهرها رزينة، وكان أتى بها
سبية من بني قريظة والنضير. قال الحافظ: وهذا لا يقوم به حجة لضعف إسناده.
ويعارضه ما أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها قالت: أعتقني
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعل عتقي صداقي قال الحافظ: وهذا موافق
لحديث أنس وفيه رد على من قال: إن أنسا قال ذلك بناء على ما ظنه. ومنها: أنه
يحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها بغير مهر فلزمها الوفاء بذلك، ويكون
خاصا به صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يخفى أن هذا تعسف لا ملجئ إليه. ومنها:
ما قاله ابن الصلاح من أن العتق حل محل المهر وليس بمهر، قال: وهذا كقولهم:
الجوع زاد من لا زاد له وجعل هذا أقرب الوجوه إلى لفظ الحديث، وتبعه
النووي والحامل لمن خالف الحديث على هذه التأويل ظن مخالفته للقياس قالوا:
لأن العقد إما أن يقع قبل عتقها وهو محال لتناقض حكم الحرية والرق، أو بعده
وذلك غير لازم لها، وأجيب بأن العقد يكون بعد العتق، فإذا وقع منها الامتناع لزمتها
السعاية بقيمتها ولا محذور في ذلك، وبالجملة فالدليل قد ورد بهذا، ومجرد الاستبعاد لا يصلح
لابطال ما صح من الأدلة والأقيسة مطرحة في مقابلة النصوص الصحيحة فليس
بيد المانع برهان. ويؤيد الجواز ما أخرجه الطحاوي عن ابن عمر: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم جعل عتق جويرية بنت الحرث المصطلقية صداقها وأخرج نحوه
أبو داود من طريق عائشة، وقد نسب القول بالجواز ابن القيم في الهدى إلى علي بن
أبي طالب وأنس بن مالك والحسن البصري وأبي سلمة قال: وهو الصحيح الموافق
للسنة وأقوال الصحابة والقياس، وأطال البحث في المقام بما لا مزيد عليه فليراجع.
297

باب ما يذكر في رد المنكوحة بالعيب
عن جميل بن زيد قال: حدثني شيخ من الأنصار ذكر أنه كانت له صحبة
يقال له كعب بن زيد أو زيد بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوج امرأة
من بني غفار، فلما دخل عليها فوضع ثوبه فقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضا
فانحاز عن الفراش ثم قال: خذي عليك ثيابك، ولم يأخذ مما آتاها شيئا رواه أحمد
ورواه سعيد في سننه. وقال عن زيد بن كعب بن عجرة ولم يشك. وعن عمر
أنه قال: أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جزام أو برص فلها مهرها بما أصاب
منها، وصداق الرجل على من غره رواه مالك في الموطأ والدارقطني. وفي لفظ:
قضى عمر في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فرق بينهما والصداق لها
بمسيسه إياها وهو له على وليها رواه الدارقطني.
حديث كعب بن زيد أو زيد بن كعب قد اختلف فيه، فقيل هكذا، وقيل: إنه من
حديث كعب بن عجرة، وقيل: من حديث ابن عمر، وقد أخرجه أيضا من حديث
كعب بن زيد أو زيد بن كعب بن عدي والبيهقي، ومن حديث كعب بن عجرة الحاكم
في المستدرك. ومن حديث ابن عمر أبو نعيم في الطب والبيهقي. وجميل بن زيد
المذكور هو ضعيف وقد اضطرب في هذا الحديث. وأثر عمر أخرجه أيضا سعيد
بن منصور عن هشيم عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب عنه، ورواه الشافعي من طريق
مالك، وابن أبي شيبة عن أبي إدريس عن يحيى، قال الحافظ في بلوغ المرام: ورجاله ثقات.
(وفي الباب) عن علي أخرجه سعيد بن منصور. قوله: امرأة من بني غفار قيل: اسمها الغالية، وقيل:
أسماء بنت النعمان، قاله الحاكم يعني الجونية. وقال الحافظ: الحق أنها
غيرها. (وقد استدل) بحديثي الباب على أن البرص والجنون والجذام عيوب يفسخ
بها النكاح، ولكن حديث كعب ليس بصريح في الفسخ لأن قوله: خذي عليك ثيابك
وفي رواية: الحقي بأهلك يمكن أن يكون كناية طلاق. وقد ذهب جمهور أهل
العلم من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه يفسخ النكاح بالعيوب، وإن اختلفوا في تفاصيل
ذلك وفي تعيين العيوب التي يفسخ بها النكاح. وقد روي عن علي وعمر وابن عباس
298

أنها لا ترد النساء إلا بأربعة عيوب: الجنون والجذام والبرص والداء في الفرج، وخالف
الناصر في البرص فلم يجعله عيبا يرد به النكاح، والرجل يشارك المرأة في الجنون والجذام
والبرص، وتفسخه المرأة بالجب والعنة. وذهب بعض الشافعية إلى أن المرأة ترد بكل عيب
ترد به الجارية في البيع، ورجحه ابن القيم، واحتج له في الهدى بالقياس على البيع، وقال
الزهري: يفسخ النكاح بكل داء عضال. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وهو قول للشافعي: أن
الزوج لا يرد الزوجة بشئ لأن الطلاق بيده، والزوجة لا ترده بشئ إلا الجب والعنة، وزاد
محمد الجذام والبرص، وزاد ت الهادوية على ما سلف الرق وعدم الكفاءة في الرجل أو المرأة،
والرتق والعقل والقرن في المرأة، والجب والخصاء والسل في الرجل والكلام مبسوط
على العيوب التي يثبت بها الرد والمقدار المعتبر منها وتعدادها في الكتب الفقهية.
ومن أمعن النظر لم يجد في الباب ما يصلح للاستدلال به على الفسخ بالمعنى المذكور عند
الفقهاء. أما حديث كعب فلما أسلفنا من كونه غير صريح في محل النزاع لذلك الاحتمال.
وأما أثر عمر فلما تقرر من أن قول الصحابي ليس بحجة، نعم حديث بريرة الذي
سلف دليل على ثبوت الفسخ للرق إذا عتق، وأما غير ذلك فيحتاج إلى دليل.
قوله: وصداق الرجل على من غره قد ذهب إلى هذا مالك وأصحاب الشافعي
والهادوية فقالوا: إنه يرجع الزوج بالمهر على من غرر عليه بمن أوهمه أن المرأة
لا عيب فيها، فانكشف أنها معيبة بأحد تلك العيوب، لكن بشرط أن يعلم بذلك العيب
لا إذا جهل. وذهب أبو حنيفة والشافعي أنه لا رجوع للزوج على أحد لأنه قد
لزمه المهر بالمسيس. وقال المؤيد بالله وأبو طالب: أنه يرجع الزوج بالمهر على المرأة.
ولا يخفى أن قول عمر لا يصلح للاحتجاج به وتضمين الغير بلا دليل لا يحل، فإن
كان الفسخ بعد الوطئ فقد استوفى الزوج ما في مقابلة المهر فلا يرجع به على أحد،
وإن كان قبل الوطئ فالرجوع على المرأة أولى، لأنه لم يستوف منها في مقابلة
المهر ولا سيما على أصل الهادوية، لأن الفسخ بعيب من جهة الزوجة، ولا شئ لها
عندهم فيما كان كذلك.
299

أبواب أنكحة الكفار
باب ذكر أنكحة الكفار وإقرارهم عليها
عن عروة: أن عائشة أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة
أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها
ثم ينكحها. ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى
فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل
الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة
في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر يجتمع
الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم فيصيبونها فإذا حملت ووضعت ومر ليال
بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها
فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان في أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، فتسمي من
أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل ونكاح رابع يجتمع
الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا ينصبن على أبوابهن
الرايات وتكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت جمعوا
لها ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من
ذلك، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله
إلا نكاح الناس اليوم رواه البخاري وأبو داود.
قوله: أربعة أنحاء جمع نحو أي ضرب وزنا ومعنى، ويطلق النحو أيضا على الجهة
والنوع وعلى العلم المعروف اصطلاحا. قال الداودي وغيره: بقي عليها أنحاء لم تذكرها
الأول نكاح الخدن وهو قوله تعالى: * (ولا متخذات أخدان) * (سورة النساء، الآية: 25) كانوا يقولون ما استتر
فلا بأس به وما ظهر فهو لوم. الثاني: نكاح المتعة قد تقدم. الثالث: نكاح البدل
وقد أخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة: كان البدل في الجاهلية أن يقول
الرجل للرجل: انزلي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، وإسناده ضعيف جدا. قال
300

الحافظ: والأول لا يرد لأنها أرادت ذكر بيان نكاح من لا زوج لها، أو من
أذن لها زوجها في ذلك. والثاني يحتمل أن لا يرد لأن الممنوع منه كونه
مقدرا بوقت لا أن عدم الولي فيه شرط. وعدم ورود الثالث أظهر من الجميع انتهى.
قوله: وليته أو ابنته التخيير للتنويع لا للشك. قوله: فيصدقها بضم أوله: ثم ينكحها
أي يعين صداقها ويسمي مقداره ثم يعقد عليها. قوله: من طمثها بفتح الطاء المهملة
وسكون الميم بعدها مثلثة أي حيضها، وكأن السر في ذلك أن يسرع علوقها منه.
قوله: فاستبضعي منه بموحدة بعدها ضاد معجمة أي اطلبي منه المباضعة وهو
الجماع. ووقع في رواية الدارقطني: استرضعي براء بدل الباء الموحدة، قال محمد بن إسحاق
الصغاني: الأول هو الصواب، والمعنى: اطلبي الجماع منه لتحملي، والمباضعة المجامعة
مشتقة من البضع وهو الفرح. قوله: في نجابة الولد لأنهم كانوا يطلبون ذلك
من أكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة أو الكرم أو غير ذلك. قوله: فهو ابنك يا فلان
هذا إذا كان الولد ذكرا، أو تقول: هي ابنتك إذا كانت أنثى. قال في الفتح: لكن يحتمل
أن لا يفعل ذلك إلا إذا كان ذكرا لما عرف من كراهتهم في البنت، وقد كان منهم من
يقتل ابنته التي يتحقق أنها بنته فضلا عمن يكون بمثل هذه الصفة. قوله: علما بفتح
اللام أي علامة. وأخرج الفاكهي من طريق ابن أبي مليكة قال: تبرز عمر بأجياد
فدعا بماء فأتته أم مهزول وهي من البغايا التسع اللاتي كن في الجاهلية فقالت: هذا
ماء ولكنه في إناء لم يدبغ، فقال: هلم فإن الله جعل الماء طهورا. وروى الدارقطني
أيضا من طريق مجاهد قال في قوله تعالى: * (الزاني لا ينكح إلا زانية) * (سورة النور، الآية: 3) هن بغايا كن
في الجاهلية معلومات لهن رايات يعرفن بها. ومن طريق عاصم بن المنذر عن عروة
مثله وزاد: كرايات البيطار. وقد ساق هشام بن الكلبي في كتاب المثالب أسامي
صواحبات الرايات في الجاهلية، فسمى منهن أكثر من عشرة نسوة مشهورات. قوله:
القافة بقاف ثم فاء جمع قائف وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد بالآثار
الخفية. قوله: فالتاط به بالمثناة الفوقية بعدها طاء مهملة أي استلحقه. وأصل
اللوط بفتح اللام اللصوق. قوله: إلا نكاح الناس اليوم أي الذي بدأت بذكره،
وهو أن يخطب الرجل فتزوجه، وقد احتج بهذا الحديث على اشتراط الولي، وتعقب
بأن عائشة وهي الراوية كانت تجيز النكاح بغير ولي، ويجاب بأن فعلها ليس بحجة.
301

باب من أسلم وتحته أختان أو أكثر من أربع
عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان،
فأمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أطلق إحداهما رواه الخمسة إلا النسائي. وفي
لفظ الترمذي: اختر أيهما شئت. وعن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال:
أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أن يختار منهن أربعا رواه أحمد وابن ماجة والترمذي، وزاد أحمد
في رواية: فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر
فال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك
لا تمكث إلا قليلا، وأيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك، ولآمرن
بقبرك أن يرجم كما رجم قبر أبي رغال قوله: لتراجعن نساءك دليل على أنه كان
رجعيا، وهو يدل على أن الرجعية ترث وإن انقضت عدتها في المرض، وإلا فنفس الطلاق
الرجعي لا يقطع ليتخذ حيلة في المرض.
حديث الضحاك أخرجه أيضا الشافعي، وصححه ابن حبان والدارقطني والبيهقي،
وحسنه الترمذي، وأعله البخاري والعقيلي (وفي الباب) عن أم حبيبة عند الشيخين: أنها
عرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينكح أختها فقال: لا تحل لي وحديث ابن
عمر أخرجه أيضا الشافعي عن الثقة عن معمر من الزهري بإسناده المذكور، وأخرجه أيضا
ابن حبان والحاكم وصححاه قال البزار: جوده معمر بالبصرة وأفسده باليمن فأرسله. وحكى
الترمذي عن البخاري أنه قال: هذا الحديث غير محفوظ. قال البخاري: وأما حديث الزهري
عن سالم عن أبيه فإنما هو أن رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر: لتراجعن نساءك
أو لأرجمنك. وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح. وحكى الحاكم عن مسلم
أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة
قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة. وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر الحكم فأخرجوه
من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه قال
الحافظ: ولا يفيد ذلك شيئا، فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا
302

منه بالبصرة، وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب، لأنه كان يحدث في بلده من
كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها، اتفق على
ذلك أهل العلم كابن المديني والبخاري وابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم. وحكى
الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح والعمل عليه وأعله بتفرد معمر في
وصله وتحريفه به في غير بلده. وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة. وقد أطال
الدارقطني في العلل تخريج طرقه. ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهري مرسلا. ورواه
عبد الرزاق عن معمر كذلك. وقد وافق معمر على وصله. بحر كنيز السقاء عن
الزهري ولكنه ضعيف، وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك ويحيى ضعيف، وأما
الزيادة التي رواها أحمد عن عمر فأخرجها أيضا النسائي والدارقطني، قال الحافظ:
وإسناده ثقات، وهذا الموقوف على عمر هو الذي حكم البخاري بصحته. (وفي الباب)
عن قيس بن الحرث أو الحرث بن قيس وقد تقدم في باب العدد المباح للحر،
تقدم الكلام في تحريم الزيادة على الأربع هنالك فليرجع إليه. وحديث الضحاك
استدل به على تحريم الجمع بين الأختين ولا أعرف في ذلك خلافا وهو نص القرآن،
قال الله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) * (سورة النساء، الآية: 23) فإذا أسلم كافر وعنده
أختان أجبر على تطليق إحداهما، وفي ترك استفصاله عن المتقدمة منهما من المتأخرة
دليل على أنه يحكم لعقود الكفار بالصحة وإن لم توافق الاسلام، فإذا أسلموا
أجرينا عليهم في الأنكحة أحكام المسلمين. وقد ذهب إلى هذا مالك والشافعي
وأحمد وداود. وذهبت العترة وأبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي والزهري
وأحد قولي الشافعي إلى أنه لا يقر من أنكحة الكفار إلا ما وافق الاسلام فيقولون:
إذا أسلم الكافر وتحته أختان وجب عليه إرسال من تأخر عقدها، كذلك إذا
كان تحته أكثر من خمس أمسك من تقدم العقد عليها منهن، وأرسل من تأخر
عقدها إذا كانت خامسة أو نحو ذلك، وإذا وقع العقد على الأختين أو على أكثر
من أربع مرة واحدة بطل وأمسك من شاء من الأختين وأرسل من شاء، وأمسك
أربعا من الزوجات يختارهن ويرسل الباقيات، وا لظاهر ما قاله الأولون لتركه صلى
الله عليه وآله وسلم للاستفصال في حديث الضحاك وحديث غيلان، ولما في قوله:
اختر أيهما. وفي قوله: اختر أربعا من الاطلاق. قوله: قبر أبي رغال بكسر
303

الراء المهملة بعدها غين معجمة. قال في القاموس في فصل الراء من باب اللام: وأبو
رغال ككتاب في سنن أبي داود ودلائل النبوة وغيرهما عن ابن عمر: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر
فقال: هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع
عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه الحديث. وقول
الجوهري: كان دليلا للحبشة حين توجهوا إلى مكة فمات في الطريق غير معتد به. وكذا قول ابن
سيده: كان عبدا لشعيب وكان عشارا جائرا انتهى. قوله: لتراجعن نساءك يمكن أن يكون
المراد بهذه المراجعة المراجعة اللغوية، أعني إرجاعهن إلى نكاحه وعدم الاعتداد
بذلك الطلاق الواقع كما ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم فيمن طلق زوجته
أو زوجاته مريدا لابطال ميراثهن منه أنه لا يقع الطلاق ولا يصح، وقد جعل ذلك
أئمة الأصول قسما من أقسام المناسب، وجعلوا هذه الصورة مثالا له، والمصنف رحمه
الله لما فهم أن الرجعة هي الاصطلاحية أعني الواقعة بعد طلاق رجعي معتد به
جعل ذلك الطلاق الواقع منه رجعيا، ثم ذكر أن الرجعية ترث وإن انقضت عدتها
فأردف الاشكال بإشكال.
باب الزوجين الكافرين يسلم أحدهما قبل الآخر
عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد ابنته زينب على
زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول لم يحدث شيئا رواه أحمد وأبو
داود. وفي لفظ: رد ابنته زينب على أبي العاص زوجها بنكاحها الأول بعد
سنتين ولم يحدث صداقا رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وفي لفظ: رد ابنته
زينب على أبي العاص وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول
ولم يحدث شهادة ولا صداقا رواه أحمد وأبو داود. وكذلك الترمذي وقال فيه: لم
يحدث نكاحا وقال: هذا حديث ليس بإسناده بأس. وقد روي بإسناد ضعيف:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد ابنته
على أبي العاص بمهر جديد قال الترمذي: في إسناده مقال. وقال
304

أحمد: هذا حديث ضعيف. والحديث الصحيح الذي روي أنه أقرهما على النكاح
الأول. وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ردها بالنكاح الأول. وعن ابن شهاب: أنه بلغه
أن ابنة الوليد بن المغيرة كانت تحت صفوان بن أمية فأسلمت يوم الفتح وهرب
زوجها صفوان بن أمية من الاسلام، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أمانا وشهد حنينا والطائف وهو كافر وامرأته مسلمة، فلم يفرق رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بينهما حتى أسلم صفوان واستقرت عنده بذلك النكاح. قال ابن
شهاب: وكان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر مختصر من الموطأ
لمالك. وعن ابن شهاب: أن أم حكيم ابنة الحرث بن هشام أسلمت يوم الفتح
بمكة وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الاسلام حتى قدم اليمن، فارتحلت
أم حكيم حتى قدمت على زوجها باليمن ودعته إلى الاسلام فأسلم وقدم على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فبايعه فثبتا على نكاحهما ذلك. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا
أن امرأة هاجرت إلى الله وإلى رسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها
بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. وأنه
لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها رواه عنه
مالك في الموطأ.
حديث ابن عباس صححه الحاكم، وقال الخطابي: هو أصح من حديث عمرو بن
شعيب، وكذا قال البخاري. قال ابن كثير في الارشاد: هو حديث جيد قوي، وهو
من رواية ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس انتهى. إلا أن
حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس نسخه، وقد ضعف أمرها علي
بن المديني وغيره من علماء الحديث وابن إسحاق فيه مقال معروف. وحديث عمرو
بن شعيب أخرجه أيضا ابن ماجة وفي إسناده حجاج بن أرطاة وهو معروف
بالتدليس، وأيضا لم يسمعه من عمرو بن شعيب كما قال أبو عبيد، وإنما حمله عن العرزمي وهو
ضعيف، وقد ضعف هذا الحديث جماعة من أهل العلم قد تقدم ذكر بعضهم، وحديث ابن شهاب
الأول هو مرسل، وقد أخرجه ابن سعد في الطبقات، وحديثه الثاني مرسل أيضا، وأخرجه
ابن سعد في الطبقات أيضا. (وفي الباب) عن ابن عباس عند البخاري قال: كان المشركون
305

على منزلتين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن المؤمنين، كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم
ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت المرأة من
أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، وإن جاء
زوجها قبل أن تنكح ردت إليه. وروى البيهقي عن الشافعي عن جماعة من أهل
العلم من قريش وأهل المغازي وغيرهم عن عدد مثلهم: أن أبا سفيان أسلم بمر
الظهران وامرأته هند بنت عتبة كافرة بمكة ومكة يومئذ دار حرب، وكذلك حكيم
بن حزام، ثم أسلم المرأتان بعد ذلك، وأقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم النكاح.
قوله: بعد سنتين وفي الرواية الثانية بست سنين ووقع في رواية بعد
ثلاث سنين وأشار في الفتح إلى الجمع فقال: المراد بالست ما بين هجرة زينب
وإسلامه، وبالسنتين أو الثلاث ما بين نزول قوله تعالى: * (لا هن حل لهم) * وقدومه
مسلما فإن بينهما سنتين وأشهرا. قال الترمذي في حديث ابن عباس أنه لا يعرف
وجهه قال الحافظ وأشار بذلك إلى أن ردها إليه بعد ست سنين أو بعد سنتين أو
ثلا ث مشكل لاستبعاد أن تبقى في العدة هذه المدة قال ولم يذهب أحد إلى جواز
تقرير المسلمة تحت المشرك إذا تأخر إسلامه عن إسلامها حتى انقضت عدتها وممن
نقل الاجماع في ذلك ابن عبد البر وأشار إلى أن بعض أهل الظاهر قال بجوازه
ورده بالاجماع المذكور وتعقب بثبوت الخلاف فيه قديما فقد أخرجه ابن أبي شيبة
عن علي وإبراهيم النخعي بطرق قوية وأفتى به حماد شيخ أبي حنيفة. وأجاب
الخطابي عن الاشكال بأن بقاء العدة تلك المدة ممكن وإن لم تجر به عادة في الغالب
ولا سيما إن كان المدة إنما هي سنتان وأشهر فإن الحيض قد يبطئ عن ذات الأقراء
لعارض وبمثل هذا أجاب البيهقي قال الحافظ وهو أولى ما يعتمد في ذلك. وقال
السهيلي في شرح السيرة إن حديث عمرو بن شعيب هو الذي عليه العمل وإن
كان حديث ابن عباس أصح إسنادا لكن لم يقل به أحد من الفقهاء لأن الاسلام
قد كان فرق بينهما قال الله تعالى: * (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) * (سورة الممتحنة، الآية: 10) ومن جمع
بين الحديثين. قال: معنى حديث ابن عباس ردها على النكاح الأول في
الصداق والحباء، ولم يحدث زيادة على ذلك من شرط ولا غيره انتهى. وقد أشار
إلى مثل هذا الجمع ابن عبد البر، وقيل: إن زينب لما أسلمت وبقي زوجها على الكفر
306

لم يفرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ لم يكن قد نزل تحريم نكاح المسلمة على
الكافر، فلما نزل قوله تعالى: * (لا هن حل لهم) * (سورة الممتحنة، الآية: 10) الآية أمر النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ابنته أن تعتد، فوصل أبو العاص مسلما قبل انقضاء العدة، فقررها النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بالنكاح الأول فيندفع الاشكال. قال ابن عبد البر: وحديث عمرو
بن شعيب تعضده الأصول، وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد، والاخذ بالصريح
أولى من الاخذ بالمحتمل، ويؤيده مخالفة ابن عباس لما رواه كما حكى ذلك عنه
البخاري. قال الحافظ: وأحسن المسالك في تقرير الحديثين ترجيح حديث ابن عباس
كما رجحه الأئمة وحمله على تطاول العدة فيما بين نزول آية التحريم وإسلام أبي
العاص ولا مانع من ذلك، وأغرب ابن حزم فقال: إن قوله ردها إليه بعد كذا
مراده جمع بينهما، وإلا فإسلام أبي العاص كان قبل الحديبية وذلك قبل أن ينزل
تحريم المسلمة على المشرك هكذا زعم. قال الحافظ: وهو مخالف لما أطبق عليه أهل
المغازي أن إسلامه كان بعد نزول آية التحريم. وقال ابن القيم في الهدى ما محصله:
أن اعتبار العدة لم يعرف في شئ من الأحاديث، ولا كان النبي صلى الله عليه وآله
وسلم يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا، ولو كان الاسلام بمجرده فرقة لكانت
طلقة بائنة ولا رجعة فيها، فلا يكون الزوج أحق بما إذا أسلم، وقد دل حكمه صلى الله
عليه وآله وسلم أن النكاح موقوف، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته،
وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت، وإن أحبت انتظرته، وإذا أسلم كانت
زوجته من غير حاجة إلى تجديد نكاح، قال: ولا نعلم أحدا جدد بعد الاسلام
نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد الامرين: إما افتراقهما ونكاحها غيره، وإما
بقاؤهما على النكاح الأول إذا أسلم الزوج، وأما تنجيز الفرقة أو مراعاة العدة ولم
يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بواحد منهما مع كثرة من أسلم في عهده،
وهذا كلام في غاية الحسن والمتانة، قال: وهذا اختيار الخلال وأبي بكر صاحبه
وابن المنذر وابن حزم، وهو مذهب الحسن وطاوس وعكرمة وقتادة والحكم. قال
ابن حزم: وهو قول عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس ثم عد آخرين، وقد
ذهب إلى أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها لم تخطب حتى تحيض وتطهر ابن عباس وعطاء
وطاوس والثوري وفقهاء الكوفة، ووافقهم أبو ثور، واختاره ابن المنذر، وإليه جنح
307

البخاري، وشرط أهل الكوفة ومن وافقهم أن يعرض على زوجها الاسلام في تلك المدة
فيمتنع إن كانا معا في دار الاسلام. وقد روي عن أحمد أن الفرقة تقع بمجرد الاسلام من
غير توقف على مضي العدة كسائر أسباب الفرقة من رضاع أو خلع أو طلاق. وقال في
البحر مسألة: إذا أسلم أحدهما دون الآخر انفسخ النكاح إجماعا، ثم قال بعد ذلك
مسألة: المذهب والشافعي ومالك وأبو يوسف والفرقة بإسلام أحدهما فسخ لا طلاق،
إذ العلة اختلاف الدين كالردة. وقال أبو العباس وأبو حنيفة ومحمد: بل طلاق
حيث أسلمت وأبى الزوج فصل إذ امتناعه كالطلاق، قلنا: بل كالردة انتهى. قوله: وكان
إسلامها الخ، المراد بإسلامها هنا هجرتها وإلا فهي لم تزل مسلمة منذ بعثه الله
تعالى كسائر بناته صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت هجرتها بعد بدر بقليل، وبدر في
رمضان من السنة الثانية، وتحريم المسلمات على الكفار في الحديبية سنة ست في ذي
القعدة، فيكون مكثها بعد ذلك نحوا من سنتين، هكذا قيل: وفيه بعض مخالفة لما تقدم.
باب المرأة تسبى وزوجها بدار الشرك
عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين بعث جيشا
إلى أوطاس فلقي عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسا من
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن
من المشركين، فأنزل الله تعالى في ذلك: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *
(سورة النساء، الآية: 24) أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن رواه مسلم والنسائي وأبو داود، وكذلك
أحمد وليس عنده الزيادة في آخره بعد الآية، والترمذي مختصرا ولفظه: أصبنا
سبايا يوم أوطاس لهن أزواج في قومهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فنزلت: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * (سورة النساء، الآية: 24). وعن عرباض بن
سارية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرم وطئ السبايا حتى يضمن ما في بطونهن رواه
أحمد والترمذي وهو عام في ذوات الأزواج وغيرهن.
حديث العرباض رجال إسناده ثقات، وقد أخرج الترمذي نحوه من حديث رويفع بن
ثابت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه
308

ولد غيره وحسنه الترمذي. وأخرجه أيضا أبو داود وسيأتي في باب استبراء الأمة:
إذا ملكت من كتاب العدة. ولأبي داود من حديث: لا يحل لامرئ يؤمن بالله
واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها. وسيأتي أيضا في ذلك
الباب من حديث أبي سعيد في سبي أوطاس بلفظ: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا
غير حامل حتى تحيض حيضة وسيأتي أيضا هنالك من حديث أبي الدرداء المنع من
وطئ الحامل، والكلام على هذه الأحاديث سيأتي هنالك مستوفى إن شاء الله تعالى.
وإنما ذكر المصنف رحمه الله ما ذكره في هذا الباب للاستدلال به على أن البغايا
حلال من غير فرق بين ذوات الأزواج وغيرهن، وذلك مما لا خلاف فيه فيما أعلم،
ولكن بعد مضي العدة المعتبرة شرعا. قال الزمخشري في تفسير الآية المذكورة: *
(إلا ما ملكت أيمانكم) * يريد ما ملكت أيمانكم من اللاتي سبين ولهن أزواج
في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين وإن كن محصنات، وفي معناه قول الفرزدق:
وذات حليل أنكحتها رماحنا * حلال لمن يبني بها لم تطلق
كتاب الصداق
باب جواز التزويج على القليل والكثير واستحباب القصد فيه
عن عامر بن ربيعة: أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم،
فأجازه رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. وعن جابر: أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعاما
كانت له حلالا رواه أحمد وأبو داود بمعناه. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال: ما هذا؟ قال: تزوجت
امرأة على وزن نواة من ذهب، قال: بارك الله لك أولم ولو بشاة رواه الجماعة ولم
يذكر فيه أبو داود: بارك الله لك.
حديث عامر بن ربيعة قال الحافظ في بلوغ المرام بعد أن حكى تصحيح الترمذي له أنه
خولف في ذلك. وحديث جابر في إسناده موسى بن مسلم وهو ضعيف، هكذا في مختصر
309

الترمذي. وقال في التلخيص في إسناده مسلم بن رومان وهو ضعيف انتهى. قال أبو داود: إن
بعضهم رواه موقوفا، قال: ورواه أبو عاصم عن صالح بن رومان عن أبي الزبير عن جابر قال:
كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستمتع بالقبضة من الطعام على معنى
المتعة. قال: ورواه ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر على معنى أبي عاصم
وهذا الذي ذكره أبو داود معلقا قد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن
جريج عن أبي الزبير قال: سمعت جابرا يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق
الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أبو بكر البيهقي: وهذا وإن كان
في نكاح المتعة، ونكاح المتعة منسوخا فإنما فسخ منه شرط الاجل، فأما ما يجعلونه
صداقا فإنه لم يرد فيه نسخ. قوله: وزن نواة من ذهب في رواية للبخاري: نواة
من ذهب ورجحها الداودي واستنكر رواية من روى وزن نواة. قال الحافظ
واستنكاره المنكر لأن الذين جزموا بذلك أئمة حفاظ. قال عياض: لا وهم في الرواية
لأنها إن كانت نواة تمر أو غيره أو كان للنواة قدر معلوم صح أن يقال في كل ذلك وزن
نواة، فقيل: المراد واحدة نوى التمر، وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم. وقيل: كان
قدرها يومئذ ربع دينار، ورد بأن نوى التمر يختلف في الوزن فكيف يجعل معيارا
لما يوزن به؟ وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، وجزم
به الخطابي واختاره الأزهري، ونقله عياض عن أكثر العلماء، ويؤيده أن في رواية
للبيهقي وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم، وقيل: وزنها من الذهب خمسة دراهم
، حكاه ابن قتيبة وجزم به ابن فارس وجعله البيضاوي الظاهر. ووقع في رواية للبيهقي:
قومت ثلاثة دراهم وثلثا وإسناده ضعيف، ولكن جزم به أحمد، وقيل ثلاثة ونصف
وقيل: ثلاثة وربع. وعن بعض المالكية: النواة عند أهل المدينة ربع دينار. ووقع في
رواية للطبراني قال أنس: حزرناها ربع دينار. وقال الشافعي: النواة ربع النش، والنش
نصف أوقية، والأوقية أربعون درهما فتكون خمسة دراهم. وكذا قال أبو عبيد: أن
عبد الرحمن دفع خمسة دراهم وهي تسمى نواة، كما تسمى الأربعون أوقية، وبه جزم
أبو عوانة وآخرون. (والأحاديث) المذكورة تدل على أنه يجوز أن يكون المهر
شيئا حقيرا كالنعلين والمد من الطعام ووزن نواة من ذهب. قال القاضي عياض: الاجماع
على أن مثل الشئ الذي لا يتمول ولا له قيمة لا يكون صداقا ولا يحل به النكاح فإن
310

ثبت نقله فقد خرق هذا الاجماع أبو محمد بن حزم فقال: يجوز بكل شئ ولو كان
حبة من شعير، ويؤيد ما ذهب إليه الكافة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: التمس
ولو خاتما من حديد كما سيأتي، لأنه أورده مورد التقليل بالنسبة لما فوقه، ولا شك أن
الخاتم من الحديد له قيمة وهو أعلى خطرا من النواة وحبة من الشعير. وكذلك حكي
في البحر الاجماع على أنه لا يصح تسمية ما لا قيمة له. قال الحافظ: وقد وردت أحاديث
في أقل الصداق لا يثبت منها شئ، وذكر منها حديث عامر بن ربيعة وحديث جابر
المذكورين في الباب، وحديث أبي لبيبة مرفوعا عند ابن أبي شيبة: من استحل بدرهم
في النكاح فقد استحل. وحديث أبي سعيد عند الدارقطني في أثناء حديث في المهر: ولو على
سواك من أراك قال: وأقوى شئ في ذلك حديث جابر عند مسلم: كنا نستمتع بالقبضة
من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم ذكر كلام البيهقي
الذي قدمناه. (وقد اختلف) في أقل المهر، فحكي في البحر عن العترة جميعا وأبي
حنيفة وأصحابه أن أقله عشرة دراهم أو ما يوازيها، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني
من حديث جابر بلفظ: لا مهر أقل من عشرة دراهم وهذا لو صح لكان معارضا لما
تقدم من الأحاديث الدالة على أنه يصح أن يكون المهر دونها، ولكنه لم يصح فإن
في إسناده مبشر بن عبيد وحجاج بن أرطاة وهما ضعيفان، وقد اشتهر حجاج بالتدليس
ومبشر متروك كما قال الدارقطني وغيره. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أحمد:
روى عنه بقية أحاديث كذب. وقد روى الحديث البيهقي من طرق منها عن علي عليه
السلام وفي إسناده داود الأودي، وهذا الاسم يطلق على اثنين: أحدهما داود بن
زيد وهو ضعيف بلا خلاف. والثاني داود بن عبد الله وقد وثقه أحمد، واختلفت
الرواية فيه عن يحيى بن معين. ومنها عن جابر قال البيهقي بعد إخراجه: هو حديث
ضعيف بمرة. وروي أيضا عن علي عليه السلام من طريق فيها أبو خالد الواسطي،
فهذه طرق ضعيفة لا تقوم بها حجة، وعلى فرض أنها يقوي بعضها بعضا فهي لا تبلغ بذلك
إلى حد الاعتبار، لا سيما وقد عارضها ما في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة
مثل حديث الخاتم الذي سيأتي، وحديث نواة الذهب، وسائر الأحاديث التي قدمناها.
وحكي في البحر أيضا عن عمر وابن عباس والحسن البصري وابن المسيب وربيعة
والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق والشافعي أن أقله ما يصح ثمنا أو أجرة، وهذا
311

مذهب راجح، وقال سعيد بن جبير: أقله خمسون درهما، وقال النخعي: أربعون، وقال
ابن شبرمة: خمسة دراهم، وقال مالك: ربع دينار، وليس على هذه الأربعة الأقوال
دليل يدل على أن الأقل هو أحدها لا دونه، ومجرد موافقة مهر من المهور الواقعة
في عصر النبوة لواحد منها كحديث النواة من الذهب فإنه موافق لقول ابن شبرمة
ولقول مالك على حسب الاختلاف في تفسيرها، لا يدل على أنه المقدر الذي لا
يجزي دونه إلا مع التصريح بأنه لا يجزي دون ذلك المقدار ولا تصريح. فلاح
من هذا التقرير أن كل ما له قيمة صح أن يكون مهرا، وسيأتي في باب جعل تعليم
القرآن صداقا زيادة تحقيق للمقام.
وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أعظم
النكاح بركة أيسره مؤنة رواه أحمد. وعن أبي هريرة قال: كان صداقنا
إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر أواقي رواه النسائي وأحمد
وزاد: وطبق بيديه وذلك أربعمائة. وعن أبي سلمة قال: سألت عائشة:
كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي
عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا، قالت: نصف أوقية فتلك خمسمائة
درهم رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. وعن أبي العجفاء قال: سمعت
عمر يقول: لا تغلوا صدق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة
كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم امرأة من نساءه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة
أوقية رواه الخمسة وصححه الترمذي. وعن أبي هريرة قال: جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا، قال قد
نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق، فقال له النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما
نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه، قال: فبعث بعثا إلى بني عبس
بعث ذلك الرجل فيهم رواه مسلم. وعن عروة عن أم حبيبة: أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم تزوجها وهي بأرض الحبشة، زوجها النجاشي وأمهرها
312

أربعة آلاف وجهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل ابن حسنة، ولم يبعث إليها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشئ، وكان مهر نسائه أربعمائة درهم رواه
أحمد والنسائي.
حديث عائشة الأول أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط بلفظ: أخف النساء
صداقا أعظمهن بركة وفي إسناده الحرث بن شبل وهو ضعيف، وأخرجه أيضا
الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه. وأخرج نحوه أبو داود والحاكم وصححه
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير الصداق
أيسره. وحديث أبي هريرة رجال إسناده ثقات. وحديث أبي العجفاء صححه
أيضا ابن حبان الحاكم. وأبو العجفاء اسمه هرمز بن نسيب، قال يحيى بن معين:
بصري ثقة. وقال البخاري: في حديثه نظر. وقال أبو أحمد الكرابيسي: حديثه ليس
بالقائم. وحديث أم حبيبة أخرجه أيضا أبو داود بلفظ: أنه زوجها النجاشي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم مع شرحبيل ابن حسنة وأخرج أبو داود أيضا عن
الزهري مرسلا: أن النجاشي زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم على صداق أربعة آلاف درهم وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وقيل: بمائتي دينار. قوله: أيسره مؤنة فيه دليل على
أفضلية النكاح مع قلة المهر، وأن الزواج بمهر قليل مندوب إليه، لأن المهر إذا كان
قليلا لم يستصعب النكاح من يريده، فيكثر الزواج المرغب فيه، ويقدر عليه الفقراء،
ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب النكاح، بخلاف ما إذا كان المهر كثيرا فإنه لا
يتمكن منه إلا أرباب الأموال، فيكون الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير مزوجين،
فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سلف في أول
النكاح. قوله: وذلك أربعمائة أي درهم لأن الأوقية كانت قديما عبارة عن
أربعين درهما كما صرح به صاحب النهاية. قوله: كان صداقه لأزواجه الخ،
ظاهره أن زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهن كان صداقهن ذلك
المقدار، وليس الامر كذلك وإنما هو محمول على الأكثر، فإن أم حبيبة أصدقها
النجاشي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المقدار المتقدم. وقال ابن إسحاق عن
313

أبي جعفر: أصدقها أربعمائة دينار، أخرجه ابن أبي شيبة من طريقه، وأخرج
الطبراني عن أنس أنه أصدقها مائتي دينار وإسناده ضعيف، وصفية كان
عتقها صداقها، وخديجة وجويرية لم يكونا كذلك كما قال الحافظ. قوله: ونش
بفتح النون بعدها شين معجمة وقع مرفوعا في هذا الكتاب، والصواب ونشا بالنصب مع
وجود لفظ كان كما في غير هذا الكتاب، أو الرفع مع عدمها كما في رواية أبي داود
. قوله: لا تغلوا صدق النساء الخ، ظاهر النهي التحريم. وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر
أنه قال: لا تغالوا في مهر النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر إن الله تعالى يقول:
* (وآتيتم إحداهن قنطارا) * (سورة النساء، الآية: 20) كما في قراءة ابن مسعود، فقال عمر: امرأة خاصمت
عمر فخصمته. وأخرجه الزبير بن بكار بلفظ: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وأخرجه
أبو يعلى مطولا، وقد وقع الاجماع على أن المهر لا حد لأكثره بحيث تصير الزيادة
على ذلك الحد باطلة للآية. وقد اختلف في تفسير القنطار المذكور في الآية فقال
أبو سعيد الخدري: هو ملء مسك ثور ذهبا، وقال معاذ: ألف ومائتا أوقية ذهبا،
وقيل: سبعون ألف مثقال، وقيل: مائة رطل ذهبا. قوله: زوجها النجاشي فيه دليل
على جواز التوكيل من الزوج لمن يقبل عنه النكاح، وكانت أم حبيبة المذكورة مهاجرة
بأرض الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش فمات بتلك الأرض فزوجها النجاشي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأم حبيبة هي بنت أبي سفيان، وقد تقدم اختلاف
الروايات في مقدار صداقها.
باب جعل تعليم القرآن صداقا
عن سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءته امرأة
فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال:
يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئا، فقال: ما أجد شيئا، فقال: التمس ولو خاتما
من حديد، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل معك من
314

القرآن شئ؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا لسور يسميها، فقال له النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن متفق عليه. وفي رواية
متفق عليها: قد ملكتكها بما معك من القرآن وفي رواية متفق عليها: فصعد
فيها النظر وصوبه. وعن أبي النعمان الأزدي: قال: زوج رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم امرأة على سورة من القرآن ثم قال: لا يكون لأحد بعدك مهرا رواه
سعيد في سننه وهو مرسل.
حديث أبي النعمان مع إرساله قال في الفتح: فيه من لا يعرف. وفي الباب عن
أبي هريرة عند أبي داود والنسائي. وعن ابن مسعود عند الدارقطني. وعن ابن
عباس عند أبي الشيخ وأبي عمر بن حيويه في فوائده. وعن ضميرة جد حسين بن
عبد الله عند الطبراني. وعن أنس البخاري والترمذي. وعن أبي أمامة عند تمام
في فوائده. وعن جابر عند أبي الشيخ. قوله: جاءته امرأة قال الحافظ: هذه المرأة
لم أقف على اسمها، ووقع في الاحكام لابن الطلاع أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك، وهذا
نقل من اسم الواهبة الوارد في قوله تعالى: * (وامرأة مؤمنة أن وهبت نفسها للنبي) *
(سورة الأحزاب، الآية: 50) صلى الله عليه وآله وسلم ولكن هذه غيرها. قوله: وهبت نفسي هو على حذف
مضاف أي أمر نفسي لأن رقبة الحر لا تملك. قوله: فقام رجل الحافظ: لم أقف
على اسمه، ووقع في رواية الطبراني: فقام رجل أحسبه من الأنصار. قوله: ولو
خاتما في رواية: ولو خاتم بالرفع على تقدير حصل. ولو في قوله ولو خاتما
تعليلية. قال عياض: ووهم من زعم خلاف ذلك، ووقع في رواية عند الحاكم والطبراني
من حديث سهل: زوج رجلا بخاتم من حديد فصه فضة قوله: هل معك من القرآن
شئ؟ المراد بالمعية هنا الحفظ عن ظهر قلبه. وقد وقع في رواية: أتقرؤهن على ظهر
قلبك؟ بعد قوله: معي سورة كذا ومعي سورة كذا وكذلك في رواية الثوري عند
الإسماعيلي بلفظ: قال: عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. قوله: سورة كذا وسورة كذا
وقع في رواية من حديث أبي هريرة: سورة البقرة أو التي تليها كذا عند أبي
داود والنسائي، ووقع في حديث ابن مسعود: نعم سورة البقرة وسورة من المفصل
وفي حديث ضميرة: زوج صلى الله عليه وآله وسلم رجلا على سورة البقرة لم يكن
عنده شئ وفي حديث أبي أمامة: زوج صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من أصحابه
315

امرأة على سورة من المفصل جعلها مهرا وأدخلها عليه وقال: علمها وفي حديث
أبي هريرة: فعلمها عشرين آية وهي امرأتك. وفي حديث ابن عباس: أزوجها منك
على أن تعلمها أربع أو خمس سور من كتاب الله وفي حديث ابن عباس وجابر
هل تقرأ من القران شيئا؟ قال: نعم إنا أعطيناك الكوثر، أصدقها إياها قال
الحافظ: ويجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو أن القصص
متعددة. (والحديث يدل) على جواز جعل المنفعة صداقا ولو كانت تعليم القرآن. قال
المازري: هذا ينبني على أن الباء للتعويض كقولك: بعتك ثوبي بدينار قال: وهذا هو
الظاهر، وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكرمه لكونه حاملا للقرآن لصارت المرأة
بمعنى الموهوبة، والموهوبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الطحاوي
والأبهري وغيرهما: بأن هذا خاص بذلك الرجل لكون النبي صلى الله عليه وآله
وسلم كان يجوز له نكاح الواهبة، فكذلك يجوز له إنكاحها من شاء بغير صداق،
واحتجوا على هذا بمرسل أبي النعمان المذكور لقوله فيه: لا يكون لأحد بعدك
مهرا وأجيب عنه بما تقدم من إرساله وجهالة بعض رجال إسناده. وأخرج أبو
داود من طريق مكحول قال: ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج أبو عوانة من طريق الليث بن سعد نحوه، ولا حجة في أقوال التابعين. قال
عياض: يحتمل قوله: بما معك من القرآن وجهين: أظهرهما أن يعلمها ما معه من
القرآن أو مقدارا معينا منه ويكون ذلك صداقها، وقد جاء هذا التفسير عن مالك،
ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة: فعلمها من القرآن وعين في حديث أبي
هريرة مقدار ما يعلمها وهو عشرون آية، ويحتمل أن تكون الباء بمعنى اللام أي
لأجل ما معك من القرآن، فأكرمه بأن زوجه المرأة بلا مهر لأجل كونه حافظا
للقرآن أو لبعضه، ونظيره قصة أبي طلحة مع أم سليم وذلك فيما أخرجه النسائي
وصححه عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يرد ولكنك
كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك
غيره فكان ذلك مهرها. وأخرج النسائي أيضا نحوه من طريق أخرى، ويؤيد
الاحتمال الأول ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي من حديث أنس: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم سأل رجلا من أصحابه يا فلان هل تزوجت؟ قال: لا وليس
316

عندي ما أتزوج به، قال: أليس معك قل هو الله أحد؟. وأجاب بعضهم عن الحديث
بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجها إياه لأجل ما معه من القرآن الذي حفظه وسكت
عن المهر، فيكون ثابتا في ذمته إذا أيسر كنكاح التفويض، ويؤيده ما في حديث ابن عباس
حيث قال فيه: فإذا رزقك الله فعوضها قال في الفتح: لكنه غير ثابت. وأجاب البعض باحتمال
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجه لأجل ما حفظه من القرآن وأصدق عنه،
كما كفر عن الذي واقع امرأته في رمضان، ويكون ذكر القرآن وتعليمه على سبيل
التحريض على تعلم القرآن وتعليمه والتنويه بفضل أهله، وأجيب بما تقدم من التصريح
بجعل التعليم عوضا. وقد ذهب إلى جواز جعل المنفعة صداقا الشافعي وإسحاق
والحسن بن صالح، وبه قالت العترة، وعند المالكية فيه خلاف، ومنعه الحنفية في
الحر وأجازوه في العبد إلا في الإجارة على تعليم القرآن فمنعوه مطلقا بناء على
أصلهم في أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يجوز، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وقد نقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة إلا الحنفية.
وقال ابن العربي من العلماء: من قال زوجه على أن يعلمها من القرآن فكأنها
كانت إجارة، وهذا كرهه مالك ومنعه أبو حنيفة. وقال ابن القاسم: يفسخ قبل
الدخول ويثبت بعده، قال: والصحيح جوازه بالتعليم. وقال القرطبي: قوله علمها نص
في الامر بالتعليم، والسياق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح، فلا يلتفت لقول من قال:
إن ذلك كان إكراما للرجل، فإن الحديث مصرح بخلافه، وقولهم: إن الباء بمعنى
اللام ليس بصحيح لغة ولا مساقا (وفي الحديث) فوائد منها ثبوت ولاية الامام على
المرأة التي لا قريب لها، وقد أطال الكلام على ما يتعلق بالحديث من الفوائد في الفتح
وذكر أكثر من ثلاثين فائدة، فمن أحب الوقوف على ذلك فليرجع إليه.
باب من تزوج ولم يسم صداقا
عن علقمة قال: أتي عبد الله في امرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم
يفرض لها صداقا ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه فقال: أرى لها مثل مهر نسائها
ولها الميراث وعليها العدة، فشهد معقل بن سنان الأشجعي أن النبي صلى الله عليه
317

وآله وسلم قضى في بروع ابنة واشق بمثل ما قضى رواه الخمسة وصححه الترمذي.
الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن حبان وصححه أيضا ابن مهدي. وقال
ابن حزم: لا مغمز فيه لصحة إسناده. وقال الشافعي: لا أحفظه من وجه يثبت مثله، ولو
ثبت حديث يروع لقلت به، وقد قيل: إن في راوي الحديث اضطرابا، فروي مرة
عن معقل بن سنان ومرة عن رجل من أشجع أو ناس من أشجع، وقيل غير ذلك:
قال البيهقي: قد سمى فيه ابن سنان وهو صحابي مشهور، والاختلاف فيه لا يضر، فإن
جميع الروايات فيه صحيحة، وفي بعضها ما دل على أن جماعة من أشجع شهدوا
بذلك. وقال ابن أبي حاتم: قال أبو زرعة: الذي قال معقل بن سنان أصح. وروى
الحاكم في المستدرك عن حرملة بن يحيى أنه قال: سمعت الشافعي يقول: إن صح
حديث بروع بنت واشق قلت به، قال الحاكم: قال شيخنا أبو عبيد الله: لو حضرت الشافعي
لقمت على رؤوس الناس وقلت: قد صح الحديث فقل به، وللحديث شاهد أخرجه أبو داود
والحاكم من حديث عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج امرأة رجلا
فدخل بها ولم يفرض لها صداقها فحضرته الوفاة فقال: أشهدكم أن سهمي بخيبر لها
(والحديث) فيه دليل على أن المرأة تستحق بموت زوجها بعد العقد قبل فرض
الصداق جميع المهر، وإن لم يقع منه دخول ولا خلوة. وبه قال ابن مسعود وابن سيرين وابن
أبي ليلى وأبو حنيفة وإسحاق وأحمد. وعن علي عليه السلام وابن
عباس وابن عمر ومالك والأوزاعي والليث والهادي وأحمد قولي الشافعي وإحدى
الروايتين عن القاسم إنها لا تستحق إلا الميراث فقط، ولا تستحق مهرا ولا متعة، لان
المتعة لم ترد إلا للمطلقة، والمهر عوض عن الوطئ، ولم يقع من الزوج، وأجابوا عن حديث
الباب بالاضطراب ورد بما سلف، قالوا: روي عن علي أنه قال: لا نقبل قول أعرابي بوال
على عقبيه فيما يخالف كتاب الله وسنة نبيه، ورد بأن ذلك لم يثبت عنه من وجه صحيح،
ولو سلم ثبوته فلم ينفرد بالحديث معقل المذكور بل روي من طريق غيره، بل معه الجراح
كما وقع عند أبي داود والترمذي وناس من أشجع كما سلف، وأيضا الكتاب والسنة
إنما نفيا مهر المطلقة قبل المس، والفرض لا مهر من مات عنها زوجها، وأحكام الموت
غير أحكام الطلاق. وفي رواية عن القاسم أن لها المتعة. قوله: ولها الميراث هو مجمع
على ذلك كما في البحر، وإنما اتفق على أنها تستحقه لأنه يجب لها بالعقد، إذ هو سببه
318

لا الوطئ. قوله: بروع قال في القاموس: كجدول ولا يكسر بنت واشق صحابية، وفي
المغني بفتح الباء عند أهل اللغة، وكسرها عند أهل الحديث.
باب تقدمة شئ من المهر قبل الدخول والرخصة في تركه
عن ابن عباس: قال: لما تزوج علي فاطمة قال له رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: أعطها شيئا، قال: ما عندي شئ، قال: أين درعك الحطمية؟ رواه أبو داود والنسائي.
وفي رواية: أن عليا لما تزوج فاطمة أراد أن يدخل بها فمنعه رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم حتى يعطيها شيئا، فقال: يا رسول الله ليس لي شئ، فقال له: أعطها درعك الحطمية،
فأعطاها درعه ثم دخل بها رواه أبو داود، وهو دليل على جواز الامتناع من تسليم
المرأة ما لم تقبض مهرها. وعن عائشة قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا رواه أبو داود وابن ماجة.
حديث ابن عباس صححه الحاكم وسكت عنه أبو داود والمنذري، والرواية الثانية
منه هي في سنن أبي داود عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل عن ابن عباس كما في الرواية الأولى. وحديث عائشة
سكت عنه أبو داود والمنذري، إلا أن أبا داود قال: خيثمة لم يسمع من عائشة انتهى.
وفي شريك مقال. وقال البيهقي: وصله شريك وأرسله غيره. (وقد استدل) بحديث
ابن عباس من قال: إنه يجوز الامتناع من تسليم المرأة حتى يسلم الزوج مهرها، وكذلك
للمرأة الامتناع حتى يسمي الزوج مهرها، وقد تعقب بأن المرأة إذا كانت قد رضيت
بالعقد بلا تسمية أو أجازته فقد نفذ وتعين به مهر المثل ولم يثبت لها الامتناع، وإن
لم تكن رضيت به بغير تسمية ولا إجازة فلا عقد رأسا، فضلا عن الحكم بجواز الامتناع،
وكذلك يجوز للمرأة أن تمتنع حتى يعين الزوج مهرها ثم حتى يسلمه، قيل: وظاهر
الحديث أن المهر لم يكن مسمى عند العقد، وتعقب بأنه يحتمل أنه كان مسمى عند العقد
ووقع التأجيل به، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم أمره بتقديم شئ منه كرامة للمرأة
وتأنيسا. وحديث عائشة المذكور يدل على أنه لا يشترط في صحة النكاح أن يسلم
الزوج إلى المرأة مهرها قبل الدخول، ولا أعرف في ذلك خلافا. قوله: الحطمية
319

بضم الحاء المهملة وفتح الطاء المهملة أيضا منسوبة إلى الحطم، سميت بذلك لأنها تحطم
السيوف، وقيل: منسوبة إلى بطن من عبد القيس يقال له حطمة بن محارب كانوا يعملون
الدروع، كذا في النهاية.
باب حكم هدايا الزوج للمرأة وأوليائها
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح
فهو لمن أعطيه، وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنته
وأخته رواه الخمسة إلا الترمذي.
الحديث سكت عنه أبو داود، وأشار المنذري إلى أنه من رواية عمرو بن شعيب
وفيه مقال معروف قد تقدم بيانه في أوائل هذا الشرح، ومن دون عمرو بن شعيب
ثقات. وفيه دليل على أن المرأة تستحق جميع ما يذكر قبل العقد من صداق أو
حباء وهو العطاء أو عدة بوعد، ولو كان ذلك الشئ مذكورا لغيرها، وما يذكر بعد
عقد النكاح فهو لمن جعل له سواء كان وليا أو غير ولي أو المرأة نفسها. وقد ذهب
إلى هذا عمر بن عبد العزيز والثوري وأبو عبيد ومالك والهادوية. وقال أبو يوسف:
إن ذكر قبل العقد لغيرها استحقه. وقال الشافعي: إذا سمى لغيرها كانت التسمية
فاسدة وتستحق مهر المثل، وقد وهم صاحب الكافي فقال: إنه لم يقل بالقول الأول
إلا الهادي، وأن ذلك القول خلاف الاجماع، قال: والصحيح أن ما شرطه الولي
لنفسه سقط وعليه عامة السادة والفقهاء، وقد عرفت من قال بذلك القول وإنه الظاهر
من الحديث. قوله: وأحق ما يكرم عليه الخ، فيه دليل على مشروعية صلة أقارب الزوجة
وإكرامهم والاحسان إليهم وأن ذلك حلال لهم، وليس من قبيل الرسوم المحرمة
إلا أن يمتنعوا من التزويج إلا به.
320

كتاب الوليمة والبناء على النساء وعشرتهن
باب استحباب الوليمة بالشاة فأكثر وجوازها بدونها
قال صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الرحمن: أولم ولو بشاة. وعن
أنس قال: ما أولم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شئ من نساءه ما أولم
على زينب أولم بشاة متفق عليه. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أولم على صفية بتمر وسويق رواه الخمسة إلا النسائي. وعن صفية بنت شيبة
أنها قالت: أولم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير
أخرجه البخاري هذا مرسلا. وعن أنس في قصة صفية: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم جعل وليمتها التمر والأقط والسمن رواه أحمد ومسلم. وفي
رواية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني
بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته ما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن
أمر بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر والأقط والسمن فقال المسلمون إحدى
أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه، فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات
المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه فلما ارتحل وطأها خلفه ومد الحجاب
متفق عليه.
حديث أولم ولو بشاة قد تقدم في أول كتاب الصداق. وحديث أنس
الثاني أخرجه أيضا ابن حبان. قوله: أولم قال الأزهري: الوليمة مشتقة من الولم
وهو جمع لأن الزوجين يجتمعان. وقال ابن الاعرابي: أصلها تمام الشئ واجتماعه،
وتقع على كل طعام يتخذ لسرور، وتستعمل في وليمة الأعراس بلا تقييد، وفي
غيرها مع التقييد، فيقال مثلا: وليمة مأدبة هكذا. قال بعض الفقهاء: وحكاه في الفتح
عن الشافعي وأصحابه، وحكى ابن عبد البر عن أهل اللغة وهو المنقول عن الخليل
وثعلب، وبه جزم الجوهري وابن الأثير أن الوليمة هي الطعام في العرس خاصة. قال
ابن رسلان: وقول أهل اللغة أقوى لأنهم أهل اللسان وهم أعرف بموضوعات
321

اللغة وأعلم بلسان العرب انتهى. ويمكن أن يقال: الوليمة في اللغة وليمة العرس
فقط، وفي الشرع للولائم المشروعة. وقال في القاموس: الوليمة طعام العرس أوكل
طعام صنع لدعوة وغيرها وأولم صنعها. وقال صاحب المحكم: الوليمة طعام العرس
والاملاك، وسيأتي تفسير الولائم، وظاهر الامر الوجوب، وقد روى القول
به القرطبي عن مذهب مالك وقال: مشهور المذهب أنها مندوبة وروى ابن
التين الوجوب أيضا عن مذهب أحمد، لكن الذي في المغني أنها سنة، وكذلك
حكى الوجوب في البحر عن أحد قولي الشافعي، وحكاه ابن حزم عن أهل
الظاهر، وقال سليم الرازي: أنه ظاهر نص الام، ونقله أبو إسحاق الشيرازي عن النص،
وحكاه في الفتح أيضا عن بعض الشافعية، وبهذا يظهر ثبوت الخلاف في الوجوب
لا كما قال ابن بطال، ولا أعلم أحدا أوجبها، وكذا قال صاحب المغني ومن جملة ما استدل به
من أوجبها ما أخرجه الطبراني من حديث وحشي بن حرب رفعه: الوليمة حق وفي
مسلم: شر الطعام طعام الوليمة ثم قال: وهو حق. وفي رواية لأبي الشيخ والطبراني في
الأوسط من حديث أبي هريرة رفعه: الوليمة حق وسنة فمن دعي إليها فلم يجب فقد عصى.
وأخرج أحمد من حديث بريدة قال: لما خطب علي فاطمة قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: إنه لا بد للعروس من وليمة، قال الحافظ وسنده لا بأس به قال ابن بطال: قوله حق أي
ليست بباطل بل يندب إليها وهي سنة فضيلة، وليس المراد بالحق الوجوب، وأيضا هو الطعام
لسرور حادث فأشبه سائر الأطعمة، والامر محمول على الاستحباب، ولكونه أمر بشاة وهي
غير واجبة اتفاقا. قال في الفتح: وقد اختلف السلف في وقتها هل هو عند العقد أو عقبه؟ أو
عند الدخول أو عقبه؟ أو يوسع من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول؟ على أقوال. قال
النووي: اختلفوا فحكى القاضي عياض أن الأصح عند المالكية استحبابها بعد الدخول،
وعن جماعة منهم عند العقد. وعن ابن جندب: عند العقد وبعد الدخول. قال السبكي:
والمنقول من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها بعد الدخول انتهى. وفي حديث
أنس عند البخاري وغيره التصريح بأنها بعد الدخول لقوله: أصبح عروسا بزينب
فدعا القوم. قوله: ولو بشاة لو هذه ليست الامتناعية وإنما هي التي للتقليل.
(وفي الحديث) دليل على أن الشاة أقل ما يجزي في الوليمة عن الموسر، ولولا ثبوت أنه
صلى الله عليه وآله وسلم أولم على بعض نسائه بأقل من الشاة لكان يمكن أن
يستدل به على أن الشاة أقل ما يجزي في الوليمة مطلقا، ولكن هذا الامر من
322

خطاب الواحد، وفي تناوله لغيره خلاف في الأصول معروف. قال القاضي عياض:
وأجمعوا على أنه لا حد لأكثر ما يؤلم به، وأما أقله فكذلك، ومهما تيسر أجزأ،
والمستحب أنها على قدر حال الزوج. قوله: ما أولم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على
شئ من نسائه الخ، هذا محمول على ما انتهى إليه علم أنس، أو لما وقع من البركة في
وليمتها، حيث أشبع المسلمين خبزا ولحما من الشاة الواحدة، وإلا فالذي يظهر أنه أولم على
ميمونة بنت الحرث التي تزوجها في عمرة القضية بمكة، وطلب من أهل مكة أن يحضروا
وليمتها، فامتنعوا أن يكون ما أولم به عليها أكثر من شاة لوجود التوسعة عليه في تلك الحال،
لأن ذلك كان بعد فتح خيبر، وقد وسع الله على المسلمين في فتحها عليهم، هكذا في الفتح
وما ادعاه من الظهور ممنوع، لأن كونه دعا أهل مكة لا يستلزم أن تكون تلك الوليمة
بشاة أو بأكثر منها، بل غايته أن يكون فيها طعام كثير يكفي من دعاهم، مع أنه يمكن
أن يكون في تلك الحال الطعام الذي دعاهم إليه قليلا ولكنه يكفي الجميع بتبريكه
صلى الله عليه وآله وسلم عليه، فلا تدل كثرة المدعوين على كثرة الطعام ولا سيما وهو
في تلك الحال مسافر، فإن السفر مظنة لعدم التوسعة في الوليمة الواقعة فيه، فيعارض
هذا مظنة التوسعة لكون الوليمة واقعة بعد فتح خيبر. قال ابن بطال: لم يقع من النبي
صلى الله عليه وآله وسلم القصد إلى تفضيل بعض النساء على بعض بل باعتبار ما اتفق،
وأنه لو وجد الشاة في كل منهن لا ولم بها لأنه كان أجود الناس، ولكن كان لا يبالغ
فيما يتعلق بأمور الدنيا في التأنق، وقال غيره: يجوز أن يكون فعل ذلك لبيان الجواز.
وقال الكرماني: لعل السبب في تفضيل زينب في الوليمة على غيرها كان الشكر لله على ما أنعم
به عليه من تزوجه إياها بالوحي. وقال ابن المنير: يؤخذ من تفضيل بعض النساء
على بعض في الوليمة جواز تخصيص بعضهن دون بعض في الاتحاف والالطاف.
قوله: وعن صفية بنت شيبة صفية هذه ليست بصحابية وحديثها مرسل، وقد
رواه البعض عنها عن عائشة، ورجح النسائي قول من لم يقل عن عائشة، ولكنه قد
روى البخاري عنها في كتاب الحج أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وقد ضعف ذلك المزي بأنه مروي من طريق أبان بن صالح، وكذلك صرح
بتضعيفه ابن عبد البر في التمهيد، ويجاب بأنه قد وثقه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة
وغيرهم، حتى قال الذهبي في التهذيب: ما رأيت أحدا ضعف أبان بن صالح،
323

ومما يدل علي ثبوت صحبتها ما أخرجه أبو داود وابن ماجة من حديثها: قالت: طاف
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بعير يستلم الحجر بمحجن وأنا أنظر إليه. قال المزي:
هذا يضعف قول من أنكر أن يكون لها رؤية فإن إسناده حسن، فيحتمل أن يكون
مراد من أطلق أنه مرسل يعني من مراسيل الصحابة، لأنها ما حضرت قصة زواج
المرأة المذكورة في الحديث، لأنها كانت بمكة طفلة أو لم تولد بعد، والتزوج كان بالمدينة.
قوله: على بعض نسائه قال الحافظ: لم أقف على تعيين اسمها صريحا، وأقرب ما يفسر
به أم سلمة فقد أخرج ابن سعد عن شيخه الواقدي بسنده إلى أم سلمة قالت: لما
خطبني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر قصة تزويجه قالت: فأدخلني بيت
زينب بنت خزيمة فإذا جرة فيها شئ من شعير فأخذته فطحنته ثم عصدته في البرمة وأخذت
شيئا من إهالة فأدمته، فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج
ابن سعد أيضا بإسناد صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث أن أم سلمة
أخبرته فذكرت قصة خطبتها وتزويجها وقصة الشعير. قوله: يبني بصفية أصله
يبني خباء جديدا مع صفية أو بسببها، ثم استعمل البناء في الدخول بالزوجة، يقال:
بنى الرجل بالمرأة أي دخل بها. (وفيه دليل) على أنها تؤثر المرأة الجديدة ولو في
السفر. قوله: التمر والأقط والسمن هذه الأمور الثلاثة إذا خلط بعضها ببعض
سميت حيسا. قوله: بالأنطاع جمع نطع بفتح النون وكسرها مع فتح الطاء وإسكانها
أفصحهن كسر النون مع فتح الطاء، والأقط بفتح الهمزة وكسر القاف وقد تسكن
بعدها طاء مهملة وقد تقدم تفسيره في الفطرة، وفي هذه القصة دليل على اختصاص
الحجاب بالحرائر من زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم لجعل الصحابة رضي الله عنهم
الحجاب أمارة كونها حرة.
باب إجابة الداعي
عن أبي هريرة قال: شر الطعام طعام الوليمة تدعى لها الأغنياء
وتترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله متفق عليه. وفي
رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شر الطعام طعام الوليمة يمنعها
من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله
324

رواه مسلم. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أجيبوا هذه
الدعوة إذا دعيتم لها، وكان ابن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس ويأتيها
وهو صائم متفق عليه. وفي رواية: إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها متفق
عليه، ورواه أبو داود وزاد: فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليدع. وفي
رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من دعي فلم يجب فقد عصى الله
ورسوله، ومن دخل على غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا رواه أبو داود. وفي
لفظ: إذا دعا أحدكم أخاه فليجب رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي لفظ: إذا
دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب. وفي لفظ: من دعي إلى عرس أو نحوه
فليجب رواهما مسلم وأبو داود. وعن جابر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك
رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وقال فيه: وهو صائم. وعن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان
صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي لفظ:
إذا دعي أحدكم إلى الطعام وهو صائم فليقل: إني صائم رواه الجماعة إلا البخاري
والنسائي. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دعي أحدكم
إلى الطعام فجاء مع الرسول فذلك له إذن رواه أحمد وأبو داود.
الرواية التي انفرد بها أبو داود بلفظ: ومن دخل على غير دعوة دخل سارقا
الخ، في إسنادها أبان بن طارق البصري سئل عنه أبو زرعة الرازي فقال: شيخ مجهول. وقال
أبو أحمد بن عدي: وأبان بن طارق لا يعرف إلا بهذا الحديث، وهذا الحديث معروف
به وليس له أنكر من هذا الحديث. وفي إسناده أيضا درست بن زياد ولا يحتج
بحديثه، ويقال: هو درست بن حمزة، وقيل: بل هما اثنان ضعيفان. وحديث أبي هريرة
الآخر رجال إسناده ثقات، لكنه قال أبو داود: يقال قتادة لم يسمع من أبي رافع
شيئا. قوله: شر الطعام طعام الوليمة إنما سماه شرا لما ذكر عقبه، فكأنه قال: شر
الطعام الذي شأنه كذا. وقال الطيبي: اللام في الوليمة للعهد إذ كان من عادة
الجاهلية أن يدعوا الأغنياء ويتركوا الفقراء. قوله: يدعى الخ، استئناف وبيان
لكونها شر الطعام، وقال البيضاوي: من مقدرة كما يقال: شر الناس من أكل وحده
325

أي من شرهم. قوله: تدعى الخ، الجملة في موضع الحال. ووقع في رواية للطبراني
من حديث ابن عباس: بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الشبعان
ويحبس عنه الجيعان. قوله: فقد عصى الله ورسوله احتج بهذا من قال
بوجوب الإجابة إلى الوليمة لأن العصيان لا يطلق إلا على ترك الواجب، وقد نقل
ابن عبد البر والقاضي عياض والنووي الاتفاق على وجوب الإجابة لوليمة
العرس. قال في الفتح: وفيه نظر، نعم المشهور من أقوال العلماء الوجوب، وصرح
جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين ونص عليه مالك. وعن بعض الشافعية
والحنابلة أنها مستحبة، وذكر اللخمي من المالكية أنه المذهب، وعن بعض الشافعية
والحنابلة هي فرض كفاية. وحكي في البحر عن العترة والشافعي أن الإجابة
إلى وليمة العرس مستحبة كغيرها، ولم يحك الوجوب إلا عن أحد
قولي الشافعي، فانظركم التفاوت بين من حكى الاجماع على الوجوب وبين من لم يحكه
إلا عن قول لبعض العلماء، والظاهر الوجوب للأوامر الواردة بالإجابة من غير صارف
لها عن الوجوب، ولجعل الذي لم يجب عاصيا، وهذا في وليمة النكاح في غاية الظهور، وأما في
غيرها من الولائم الآتية فإن صدق عليها اسم الوليمة شرعا كما سلف في أول الباب
كانت الإجابة إليها واجبة. (لا يقال) ينبغي حمل مطلق الوليمة على الوليمة المقيدة
بالعرس كما وقع في رواية حديث ابن عمر المذكورة بلفظ: إذا دعي أحدكم إلى وليمة
عرس فليجب. (لأنا نقول) ذلك غير ناتج للتقييد لما وقع في الرواية المتعقبة لهذه
الرواية بلفظ: من دعي إلى عرس أو نحوه. وأيضا قوله: من لم يجب الدعوة فقد عصى
الله يدل على وجوب الإجابة إلى غير وليمة العرس. قال في الفتح: وأما الدعوة فهي أعم
من الوليمة، وهي بفتح الدال على المشهور وضمها قطرب في مثلثاته وغلطوه في ذلك
على ما قال النووي. وقال في الفتح أيضا في باب آخر: والذي يظهر أن اللام في الدعوة
للعهد من الوليمة المذكورة أولا. قال: وقد تقدم أن الوليمة إذا أطلقت حملت على
طعام العرس بخلاف سائر الولائم فإنها تقيد انتهى. ويجاب أولا بأن هذا مصادرة
على المطلوب لأن الوليمة المطلقة هي محل النزاع. وثانيا بأن في أحاديث الباب ما يشعر
بالإجابة إلى كل دعوة، ولا يمكن فيه ما ادعاه في الدعوة، وذلك نحو ما في رواية ابن عمر
بلفظ: من دعي فلم يجب فقد عصى الله. وكذلك قوله: من دعي إلى عرس أو نحوه
326

فليجب. وقد ذهب إلى وجوب الإجابة مطلقا بعض الشافعية، ونقله عبد البر عن
عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة
والتابعين. وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكية والحنفية والحنابلة
وجمهور الشافعية، وبالغ السرخسي منهم فنقل فيه الاجماع، وحكاه صاحب البحر
عن العترة، ولكن الحق ما ذهب إليه الأولون لما عرفت، قال في الفتح بعد أن حكى وجوب
الإجابة إلى وليمة العرس: إن شرط وجوبها أن يكون الداعي مكلفا حرا رشيدا، وأن
لا يخص الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يظهر قصد التودد لشخص لرغبة فيه أو رهبة
منه، وأن يكون الداعي مسلما على الأصح، وأن يختص باليوم الأول على المشهور، وأن
لا يسبق فمن سبق تعينت الإجابة له دون الثاني، وأن لا يكون هناك ما يتأذى بحضوره
من منكر أو غيره، وأن لا يكون له عذر. وسيأتي البحث عن أدلة هذه الأمور إن شاء الله
تعالى. قوله: دخل سارقا وخرج مغيرا بضم الميم وكسر الغين المعجمة اسم فاعل من
أغار يغير إذا نهب مال غيره، فكأنه شبه دخوله على الطعام الذي لم يدع إليه بدخول
السارق الذي يدخل بغير إرادة المالك لأنه اختفى بين الداخلين، وشبه خروجه بخروج
من نهب قوما وخرج ظاهرا بعد ما أكل، بخلاف الدخول فإنه دخل مختفيا
خوفا من أن يمنع، وبعد الخروج قد قضى حاجته فلم يبق له حاجة إلى التستر. قوله:
فإن شاء طعم بفتح الطاء وكسر العين أي أكل. قوله: وإن شاء ترك فيه دليل على أن نفس الاكل لا يجب على
المدعي في عرس أو غيره وإنما الواجب الحضور، وصحح
النووي وجوب الاكل ورجحه أهل الظاهر، ولعل متمسكه ما في الرواية الأخرى
من قوله: وإن كان مفطرا فليطعم. قوله: فإن كان صائما فليصل وقع في رواية هشام
بن حسان في آخره والصلاة الدعاء، ويؤيده ما وقع عند أبي داود من طريق
أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع في آخر الحديث المرفوع: فإن كان مفطرا
فليطعم، وإن كان صائما فليدع وهو يرد قول بعض الشراح أنه محمول على ظاهره، وأن
المراد فليشتغل بالصلاة ليحصل له فضلها ويحصل لأهل المنزل والحاضرين بركتها،
ويرده أيضا حديث: لا صلاة بحضرة طعام. (وفي الحديث) دليل على أنه
يجب الحضور على الصائم ولا يجب عليه إلا كل، ولكن هذا بعد أن يقول للداعي: إني
صائم كما في الرواية الأخرى، فإن عذره من الحضور بذلك وإلا حضر، وهل يستحب
327

به أن يفطر إن كان صومه تطوعا؟ قال أكثر الشافعية وبعض الحنابلة: إن كان يشق على
صاحب الدعوة صومه فالأفضل الفطر وإلا فالصوم. وأطلق الروياني استحباب
الفطر، وهذا على رأي من يجوز الخروج من صوم النفل، وأما من يوجب الاستمرار
فيه بعد التلبس به فلا يجوزه. قوله: فذلك إذن له فيه دليل على أنه لا يجب الاستئذان
على المدعو إذا كان معه رسول الداعي، وأن كون الرسول معه بمنزلة الاذن.
باب ما يصنع إذا اجتمع الداعيان
عن حميد بن عبد الرحمن الحميري: عن رجل من أصحاب النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابا، فإن أقربهما
بابا أقربهما جوارا، فإذا سبق أحدهما فأجب الذي سبق رواه أحمد وأبو داود.
وعن عائشة: أنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن لي جارين
فإلى أيهما أهدي؟ فقال: إلى أقربهما منك بابا ورواه أحمد والبخاري.
الحديث الأول في إسناده أبو خالد يزيد بن عبد الرحمن المعروف بالدالاني
وقد وثقه أبو حاتم الرازي، وقال الإمام أحمد: لا بأس به. وقال ابن معين: ليس به
بأس. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن عدي: في حديثه لين إلا أنه
يكتب حديثه. وحكي عن شريك أنه قال: كان مرجئا. وقال في التلخيص: إن إسناد
هذا الحديث ضعيف. ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة من رواية حميد بن عبد
الرحمن عن أبيه به، وقد جعل الحافظ حديث عائشة المذكور شاهدا للحديث الأول،
ووجه ذلك أن إيثار الأقرب بالهدية يدل على أنه أحق من الأبعد في الاحسان
إليه، فيكون أحق منه بإجابة دعوته مع اجتماعهما في وقت واحد، فإن تقدم أحدهما
كان أولى بالإجابة من الآخر، سواء كان السابق هو الأقرب أو الأبعد، فالقرب
وإن كان سببا للإيثار ولكنه لا يعتبر إلا مع عدم السبق، فإن وجد السبق فلا
اعتبار للقرب، فإن وقع الاستواء في قرب الدار وبعدها مع الاجتماع في
الدعوة فقال الامام يحيى: يقرع بينهما، وقد قيل: إن من مرجحات الإجابة
لأحد الداعيين كونه رحما أو من أهل العلم أو الورع أو القرابة من النبي صلى
الله عليه وآله وسلم.
328

باب إجابة من قال لصاحبه: ادع من لقيت،
وحكم الإجابة في اليوم الثاني والثالث
عن أنس قال: تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل بأهله
فصنعت أم سليم حيسا فجعلته في تور فقالت: يا أنس اذهب به إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فذهبت به فقال: ضعه، ثم قال: اذهب فادع لي فلانا وفلانا ومن لقيت،
فدعوت من سمى ومن لقيت متفق عليه ولفظه لمسلم.
قوله: حيسا بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية بعدها سين مهملة، وهو ما
يتخذ من الأقط والتمر والسمن، وقد جعل عوض الأقط الدقيق. قوله: في تور
بفتح الفوقية وسكون الواو وآخره راء مهملة وهو إناء من نحاس أو غيره. (والحديث)
فيه دليل على جواز الدعوة إلى الطعام على الصفة التي أمر بها صلى الله عليه وآله
وسلم من دون تعيين المدعو، وفيه جواز إرسال الصغير إلى من يريد المرسل دعوته
إلى طعامه، وقبول الهدية من المرأة الأجنبية، ومشروعية هدية الطعام، وفيه معجزة
ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه قد روي أن ذلك الطعام كفى جميع
من حضر إليه وكانوا جمعا كثيرا مع كونه شيئا يسيرا، كما يدل على ذلك قوله: فجعلته في تور
وكون الحامل له ذلك الصغير.
وعن قتادة عن الحسن عن عبد الله بن عثمان الثقفي: عن رجل من
ثقيف يقال إن له معروفا وأثنى عليه، قال قتادة: إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان فلا أدري
ما اسمه؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الوليمة أول يوم حق، واليوم
الثاني معروف، واليوم الثالث سمعة ورياء رواه أحمد وأبو داود، ورواه الترمذي من حديث
ابن مسعود وابن ماجة من حديث أبي هريرة.
الحديث الأول أخرجه أيضا النسائي والدارمي والبزار، وأخرجه البغوي في
معجم الصحابة فيمن اسمه زهير قال: ولا أعلم له غيره. وقال ابن عبد البر: في إسناده
نظر يقال إنه مرسل وليس له غيره. وذكر البخاري هذا الحديث في تاريخه الكبير
329

في ترجمة زهير بن عثمان وقال: لا يصح إسناده ولا يعرف له صحبة، ووهم ابن قانع
فذكره في الصحابة فيمن اسمه معروف، وذلك أنه وقع في السنن والمسند عن رجل
من ثقيف كان يقال له معروفا أي يثني عليه، وحديث ابن مسعود استغربه
الترمذي. وقال الدارقطني: تفرد به زياد بن عبد الله عن عطاء بن السائب
عن أبي عبد الرحمن السلمي عنه. قال الحافظ: وزياد مختلف في الاحتجاج به، ومع
ذلك فسماعه عن عطاء بعد الاختلاط وحديث أبي هريرة في إسناده عبد الملك
بن حسين النخعي الواسطي قال الحافظ: ضعيف. وفي الباب عن أنس عند البيهقي
وفي إسناده بكر بن خنيس وهو ضعيف. وذكره ابن أبي حاتم والدارقطني في
العلل من حديث الحسن عن أنس ورجحا رواية من أرسله عن الحسن. (وفي الباب)
أيضا عن وحشي بن حرب عند الطبراني بإسناد ضعيف. وعن ابن عباس عنده
أيضا بإسناد كذلك. (الحديث) فيه دليل على مشروعية الوليمة في اليوم الأول وهو من
متمسكات من قال بالوجوب كما سلف، وعدم كراهتها في اليوم الثاني لأنها معروف،
والمعروف ليس بمنكر ولا مكروه، وكراهتها في اليوم الثالث لأن الشئ إذا كان
للسمعة والرياء لم يكن حلالا. قال النووي: إذا أولم ثلاثا فالإجابة في اليوم الثالث
مكروهة، وفي الثاني لا تجب قطعا، ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم
الأول انتهى. وذهب بعض العلماء إلى الوجوب في اليوم الثاني، وبعضهم إلى الكراهة، وإلى كراهة
الإجابة في اليوم الثالث ذهبت الشافعية والحنابلة والهادوية. وأخرج
ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت: لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة
أيام، فلما كان يوم الأنصار دعا أبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهما، فكان أبي
صائما فلما طعموا دعا أبي. وأخرجه عبد الرزاق وقال فيه ثمانية أيام. وقد ذهب
إلى استحباب الدعوة إلى سبعة أيام المالكية، كما حكى ذلك القاضي عياض عنهم،
وقد أشار البخاري إلى ترجيح هذا المذهب فقال باب إجابة الوليمة والدعوة:
ومن أولم سبعة أيام ولم يؤقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما ولا يومين انتهى.
ولا يخفى أن أحاديث الباب يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها، على أن الدعوة بعد اليومين مكروهة.
330

باب من دعي فرأى منكرا فلينكره وإلا فليرجع قد سبق قوله: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وعن علي رضي الله عنه قال: صنعت طعاما
فدعوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى في البيت تصاوير فرجع
رواه ابن ماجة. وعن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن مطعمين عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر وأن يأكل وهو منبطح
رواه أبو داود. وعن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر، ومن كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كانت تؤمن بالله واليوم
الآخر فلا تدخل الحمام رواه أحمد. ورواه الترمذي بمعناه من رواية جابر وقال:
حديث حسن غريب. قال أحمد: وقد خرج أبو أيوب حين دعاه ابن عمر فرأى البيت
قد ستر ودعا حذيفة فخرج، وإنما رأى شيئا من زي الأعاجم. قال البخاري: ورأي
ابن مسعود صورة في البيت فرجع.
الحديث الأول الذي أشار المصنف إليه قد سبق في باب خطبة العيد وأحكامها
من كتاب العيدين. وحديث علي أخرجه ابن ماجة بإسناد رجاله رجال الصحيح
وسياقه هكذا حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن
سعيد بن المسيب عن علي فذكره. وتشهد له أحاديث قد تقدمت في باب حكم ما فيه
صورة من الثياب من كتاب اللباس. وحديث ابن عمر أخرجه أيضا النسائي
والحاكم وهو من رواية جعفر بن برقان عن الزهري ولم يسمع منه، وقد أعل
الحديث بذلك أبو داود والنسائي وأبو حاتم، ولكنه قد روى أحمد والنسائي
والترمذي والحاكم عن جابر مرفوعا: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا
يقعد على مائدة يدار عليها الخمر. وأخرجه أيضا الترمذي عن طريق ليث بن أبي سليم
عن طاوس عن جابر. وهذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف وقد حسنه
الترمذي، وقال الحافظ: إسناده جيد. وأما الطريق الأخرى التي انفرد بها الترمذي
331

فإسنادها ضعيف. وأخرج نحوه البزار من حديث أبي سعيد والطبراني من
حديث ابن عباس وعمران بن حصين. وحديث عمر إسناده ضعيف كما قاله الحافظ
في التلخيص، وأثر أبي أيوب رواه البخاري في صحيحه معلقا بلفظ: ودعا ابن عمر
أبا أيوب فرأى في البيت سترا فقال: غلبنا عليه النساء، فقال: من كنت أخشى عليه فلم
أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاما فرجع وقد وصله أحمد في كتاب الورع،
ومسدد في مسنده، والطبراني، وأثر ابن مسعود قال الحافظ: كذا في رواية المستملي
والأصيلي والقابسي. وفي رواية الباقين أبو مسعود والأول تصحيف فيما أظن، فإني
لم أر الأثر المعلق إلا عن أبي مسعود وعقبة بن عمر، وأخرجه البيهقي من طريق
عدي بن ثابت عن خالد بن سعد عن أبي مسعود وسنده صحيح، وخالد بن
سعد هو مولى أبي مسعود الأنصاري، ولا أعرف له عن عبد الله بن مسعود رواية،
ويحتمل أن يكون ذلك وقع لعبد الله بن مسعود أيضا لكن لم أقف عليه. وأخرج
أحمد في كتاب الزهد من طريق عبد الله بن عتبة قال: دخل ابن عمر بيت رجل دعاه
إلى عرس فإذا بيته قد ستر بالكرور فقال ابن عمر: يا فلان متى تحولت الكعبة في بيتك؟
فقال لنفر معه من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ليهتك كل رجل ما يليه.
(وأحاديث) الباب وآثاره فيه دليل على أنه لا يجوز الدخول في الدعوة يكون فيها
منكر مما نهى الله ورسوله عنه لما في ذلك من إظهار الرضا بها. قال في الفتح: وحاصله إن
كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله فلا بأس وإن لم يقدر فليرجع، وإن كان مما
يكره كراهة تنزيه فلا يخفى الورع. قال: وقد فصل العلماء في ذلك، فإن كان هناك
له مما اختلف فيه فيجوز الحضور والأولى الترك، وإن كان هناك حرام كشرب الخمر
نظر، فإن كان المدعو ممن إذا حضر رفع لأجله فليحضر، وإن لم يكن كذلك ففيه للشافعية
وجهان: أحدهما يحضر وينكر بحسب قدرته وإن كان الأولى أن لا يحضر، قال البيهقي:
وهو ظاهر نص الشافعي وعليه جرى العراقيون من أصحابه، وقال صاحب الهداية
من الحنفية: لا بأس أن يقعد ويأكل إذ لم يقتدى به، فإن كان ولم يقدر على منعهم
فليخرج لما فيه من شين الدين وفتح باب المعصية، وحكي عن أبي حنيفة أنه قعد
وهو محمول على أنه وقع له ذلك قبل أن يصير مقتدى به، قال: وهذا كله بعد الحضور،
فإن علم قبله لم يلزمه الإجابة. والوجه الثاني للشافعية تحريم الحضور لأنه كالرضا
332

بالمنكر، وصححه المروزي فإن لم يعلم حتى حضر فلينههم، فإن لم ينتهوا فليخرج إلا
إن خاف على نفسه من ذلك، وعلى ذلك جرى الحنابلة، وكذا اعتبر المالكية في وجوب
الإجابة أن لا يكون هناك منكر، وكذلك الهادوية. وحكى ابن بطال وغيره عن مالك أن
الرجل إذا كان من أهل الهيبة لا ينبغي له أن يحضر موضعا فيه لهو أصلا، ويؤيد
منع الحضور حديث عمران بن حصين: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن إجابة طعام الفاسقين أخرجه الطبراني في الأوسط. قوله: فلا يدخل الحمام
الخ، قد تقدم الكلام على ذلك في باب ما جاء في دخول الحمام من كتاب الغسل.
قوله: فرأى البيت قد ستر اختلف العلماء في حكم ستر البيوت والجدران، فجزم
جمهور الشافعية بالكراهة. وصرح الشيخ نصر الدين المقدسي منهم بالتحريم
واحتج بحديث عائشة عنه عند مسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله
لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين وجذب الستر حتى هتكه. قال البيهقي:
هذه اللفظة تدل على كراهة ستر الجدر، وإن كان في بعض ألفاظ الحديث أن المنع
كان بسبب الصورة، وقال غيره: ليس في السياق ما يدل على التحريم، وإنما فيه نفي
الامر بذلك، ونفي الامر لا يستلزم ثبوت النهي، لكن يمكن أن يحتج بفعله صلى الله
عليه وآله وسلم في هتكه. وقد جاء النهي عن ستر الجذر صريحا منها في حديث
ابن عباس عند أبي داود وغيره: لا تستروا الجدر بالثياب وفي إسناده ضعف وله
شاهد مرسل عن علي بن الحسين أخرجه ابن وهب ثم البيهقي من طريقه، وعند
سعيد بن منصور من حديث سلمان موقوفا أنه أنكر ستر البيت وقال: أمحموم
بيتكم؟ وتحولت الكعبة عندكم؟ ثم قال: لا أدخله حتى يهتك. وأخرج الحاكم
والبيهقي من حديث محمد بن كعب عن عبد الله بن يزيد الخطمي أنه رأى بيتا مستورا
فقعد وبكى وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه: كيف بكم إذا سترتم
بيوتكم الحديث وأصله في النسائي.
باب حجة من كره النثار والانتهاب منه
عن زيد بن خالد: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى
333

عن النهبة والخلسة رواه أحمد. وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري: أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المثلة والنهب وراه أحمد والبخاري.
وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من انتهب فليس منا
رواه أحمد والترمذي وصححه، وقد سبق من حديث عمران بن حصين مثله.
حديث زيد بن خالد قال في مجمع الزوائد: أخرجه أحمد والطبراني في
إسناده رجل لم يسم. وحديث عمران قد تقدم، وتقدم في شرحه الكلام عليه
وعلى النثار. (والحاصل) أن أحاديث النهي عن النهبي ثابتة عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم من طريق جماعة من الصحابة في الصحيح وغيره، وهي تقتضي تحريم كل
انتهاب، ومن جملة ذلك انتهاب النثار، ولم يأت ما يصلح لتخصيصه، ولو صح حديث جابر الذي
أورده الجويني وصححه وأورده الغزالي والقاضي حسين من الشافعية لكان مخصصا لعموم
النهي عن النهبي، ولكنه لم يثبت عنه أئمة الحديث المعتبرين حتى قال الحافظ إنه لا يوجد ضعيفا
فضلا عن صحيح، والجويني وإن كان من أكابر العلماء فليس هو من علماء الحديث،
وكذلك الغزالي والقاضي حسين، وإنما هم من الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع
وغيره، كما يعرف ذلك من له أنسة بعلم السنة واطلاع على مؤلفات هؤلاء. ولفظ حديث
جابر عندهم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر في أملاك فأتي بأطباق فيها جوز
ولوز فنثرت فقبضنا أيدينا فقال: ما لكم لا تأخذون؟ فقالوا: إنك نهيت عن النهبي، فقال:
إنما نهيتكم عن نهبي العساكر خذوا على اسم الله فتجاذبناه. ولكنه قد روى هذا
الحديث البيهقي من حديث معاذ بن جبل بإسناد ضعيف منقطع. ورواه الطبراني من
حديث عائشة عن معاذ وفيه بشر بن إبراهيم المفلوج، قال ابن عدي: وهو عندي ممن يضع
الحديث، وساقه العقيلي من طريقه ثم قال: لا يثبت في الباب شئ، وأورده ابن الجوزي
في الموضوعات، ورواه أيضا من حديث أنس وفي إسناده خالد بن إسماعيل، قال ابن عدي:
يضع الحديث وقال غيره كذاب. وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن والشعبي
إنهما كانا لا يريان به بأسا. وأخرج كراهيته عن ابن مسعود وإبراهيم النخعي وعكرمة،
قال في البحر فصل: والنثار بضم النون وكسرها ما ينثر في النكاح أو غيره. مسألة: الحسن
البصري ثم القاسم وأبو حنيفة وأبو عبيد وابن المنذر من أصحاب الشافعي وهو مباح،
إذ ما نثره مالكه إلا إباحة له الامام يحيى، ولا قول للهادي فيه ولا نصا ولا تخريجا. عطاء
334

وعكرمة وابن أبي ليلى وابن شبرمة ثم الشافعي ومالك: بل يكره لمنافاته المروءة
والوقار. الصميري: يندب ويكره الانتهاب لذلك، قلت: الأقرب ندبهما لخبر جابر انتهى
. وقد تقدم في باب من أذن في انتهاب أضحيته من أبواب الضحايا حديث جعله المصنف
حجة لمن رخص في النثار.
باب ما جاء في إجابة دعوة الختان
عن الحسن قال: دعي عثمان بن أبي العاص إلى ختان فأبى أن يجيب،
فقيل له فقال: إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ولا ندعى له رواه أحمد.
الأثر هو في مسند أحمد بإسناد لا مطعن فيه إلا أن فيه ابن إسحاق وهو ثقة ولكنه
مدلس، وقد أخرجه الطبراني في الكبير بإسناد أحمد، وأخرجه أيضا بإسناد آخر فيه حمزة
العطار، وثقه ابن أبي حاتم وضعفه غيره. وقد استدل به على عدم مشروعية إجابة
وليمة الختان لقوله: كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وقد قدمنا أن مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وجوب الإجابة إلى سائر
الولائم، وهي على ما ذكره القاضي عياض والنووي ثمان: الاعذار: بعين مهملة ودال
معجمة للختان. والعقيقة: للولادة. والخرس: بضم المعجمة وسكون الراء بعدها السين
المهملة لسلامة المرأة من الطلق، وقيل: وهو طعام الولادة. والعقيقة: مختص بيوم السابع.
والنقيعة: لقدوم المسافر مشتقة من النفع وهو الغبار. والوكيرة: للمسكن المتجدد
مأخوذ من الوكر وهو المأوى. والمستقر. والوضيمة: بضاد معجمة لما يتخذ عند
المصيبة. والمأدبة: لما يتخذ بلا سبب ودالها مضمومة ويجوز فتحها انتهى. وقد زيد
وليمة الاملاك وهو التزوج. ووليمة الدخول وهو العرس، وقل من غاير بينهما. ومن
الولائم الاحذاق بكسر الهمزة وسكون المهملة وتخفيف الذال المعجمة وآخره قاف
الطعام الذي يتخذ عند حذق الصبي، ذكره ابن الصباغ في الشامل، وقال ابن الرفعة:
هو الذي يصنع عند ختم القرآن. وذكر المحاملي في الولائم العتيرة بفتح المهملة ثم
مثناة مكسورة وهي شاة تذبح في أول رجب، وتعقب بأنها في معنى الأضحية، فلا معنى
335

لذكرها مع الولائم، قيل: ومن جملة الولائم تحفة الزائر.
باب الدف واللهو في النكاح
عن محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فصل
ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح رواه الخمسة إلا أبو داود. وعن
عائشة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالغربال
رواه ابن ماجة. وعن عائشة: أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة ما كان معكم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو
رواه أحمد والبخاري. وعن عمرو بن يحيى المازني عن جده أبي حسن: أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره نكاح السر حتى يضرب بدف ويقال: أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم رواه عبد الله بن أحمد في المسند. وعن ابن عباس قال:
أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال: أهديتكم الفتاة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: إن الأنصار قوم فيها غزل فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم
أتيناكم فحيانا وحياكم رواه ابن ماجة. وعن خالد بن ذكوان عن الربيع
بنت معوذ قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم غداة بني علي فجلس على
فراشي كمجلسك مني وجويرات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائي يوم بدر
حتى قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقولي
هكذا فقولي كما كنت تقولين رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي.
حديث محمد بن حاطب حسنه الترمذي قال: ومحمد بن حاطب قد رأى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وهو صغير وأخرجه الحاكم. وحديث عائشة في إسناده خالد
بن إلياس وهو متروك. وقد أخرجه أيضا الترمذي بلفظ: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا
عليه بالدفوف قال الترمذي: هذا حديث غريب، وعيسى بن ميمون الأنصاري
يضعف في الحديث، وعيسى بن ميمون الذي يروي عن ابن أبي نجيح
336

هو ثقة انتهى. وقد روى الترمذي هذا الحديث من طريق الأول. وأخرجه
أيضا البيهقي وفي إسناده خالد بن إلياس وهو منكر الحديث. وحديث عمرو بن
يحيى سياقه في سنن ابن ماجة، هكذا حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا
جعفر بن عون، أخبرنا الأجلح عن أبي الزبير عن ابن عباس فذكره.
والأجلح وثقه ابن معين العجلي وضعفه النسائي وبقية رجال الاسناد رجال الصحيح،
يشهد له حديث ابن عباس المذكور. وحديث ابن عباس في إسناده الحسين بن عبد الله
بن ضميرة، قال في مجمع الزوائد: وهو متروك، وأخرجه أيضا الطبراني وأبو الشيخ.
(وفي الباب) عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرضة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري
في عرس: وإذا جوار يغنين فقلت: أي صاحبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل
بدر يفعل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس، إن شئت فاستمع معنا وإن شئت فاذهب، فإنه
قد رخص لنا اللهو عند العرس أخرجه النسائي والحاكم وصححه. وأخرج الطبراني
من حديث السائب بن يزيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في ذلك. قوله: الدف
والصوت أي ضرب الدف ورفع الصوت. وفي ذلك دليل على أنه يجوز في النكاح ضرب
الأدفاف ورفع الأصوات بشئ من الكلام نحو: أتيناكم أتيناكم ونحوه، لا بالأغاني
المهيجة للشرور المشتملة على وصف الجمال والفجور ومعاقرة الخمور، فإن ذلك يحرم
في النكاح كما يحرم في غيره، وكذلك سائر الملاهي المحرمة. قال في البحر:
الأكثر وما يحرم من الملاهي في غير النكاح يحرم فيه لعموم النهي. النخعي
وغيره: يباح في النكاح لقوله: واضربوا عليه بالدفوف فيقاس
المزمار وغيره، قال قلنا: هذا لا ينافي عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما نهيت
عن صوتين أحمقين الخبر ونحوه، فيحمل على ضربة غير ملهية. قال الامام يحيى:
دف الملاهي مدور جلده من رق أبيض ناعم في عرضه سلاسل يسمى الطار له
صوت يطرب لحلاوة نغمته، وهذا لا إشكال في تحريمه وتعلق النهي به. وأما دف
العرب فهو على شكل الغربال خلا أنه لا خروق فيه وطوله إلى أربعة أشبار، فهو الذي
أراده صلى الله عليه وآله وسلم لأنه المعهود حينئذ. وقد حكى أبو طالب عن الهادي
إنه محرم أيضا إذ هو آلة لهو. وحكى المؤيد بالله عن الهادي أنه يكره فقط وهو
الذي في الاحكام. وقال أبو العباس وأبو حنيفة وأصحابه: بل مباح لقوله صلى
337

الله عليه وآله وسلم: واضربوا عليه بالدفوف وهذا هو الظاهر للأحاديث المذكورة
في الباب، بل لا يبعد أن يكون ذلك مندوبا، ولان ذلك أقل ما يفيده الامر في
قوله: أعلنوا هذا النكاح الحديث ويؤيد ذلك ما في حديث المازني المذكور أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره نكاح السر حتى يضرب الدف. قوله: ما كان
معكم لهو قال في الفتح في رواية شريك فقال: فهل بعثتم جارية تضرب بالدف
وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال: تقول: أتيناكم أتيناكم * فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر * ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء * ما سمنت عذاريكم
قوله: بنى علي أي تزوج بي. قوله: كمجلسك بكسر اللام أي مكانك، قال
الكرماني: هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية
الحجاب، أو عند الامن من الفتنة. قال الحافظ: والذي صح لنا بالأدلة القوية أن
من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها. قال
الكرماني: ويجوز أن تكون الرواية كمجلسك بفتح اللام. قوله: يندبن من
الندبة بضم النون وهي ذكر أوصاف الميت بالثناء عليه، قال المهلب: وفي هذا الحديث
إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح، وفيه إقبال الامام إلى العرس وإن كان فيه
لهو ما لم يخرج عن حد المباح، وسيأتي الكلام في الغناء وآلات الملاهي مبسوطا
في أبواب السبق إن شاء الله تعالى.
باب الأوقات التي يستحب فيها البناء على النساء
وما يقول إذا زفت إليه
عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
شوال وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحظى
عنده مني، وكانت عائشة تستحب أن يدخل نساؤها في شوال رواه أحمد ومسلم
والنسائي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: عن النبي صلى الله عليه وآله
338

وسلم قال: إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادما أو دابة فليأخذ بناصيتها وليقل: اللهم
إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها
عليه. رواه ابن ماجة وأبو داود بمعناه.
حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا النسائي وسكت عنه أبو داود، ورجال
إسناده إلى عمرو بن سعيد ثقات، وقد تقدم اختلاف الأئمة في حديث عمرو بن شعيب
ولفظه في سنن أبي داود: إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل: اللهم
إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه.
وإذا اشترى بعيرا فليأخذ بذروة سنامه وليكن مثل ذلك. وفي رواية: ثم
ليأخذ بناصيتهما يعني المرأة والخادم وليدع بالبركة. (استدل) المصنف
بحديث عائشة على استحباب البناء بالمرأة في شوال، وهو إنما يدل على ذلك إذا
تبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصد ذلك الوقت لخصوصية له لا توجد
في غيره، لا إذا كان وقوع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم على طريق الاتفاق،
وكونه بعض أجزاء الزمان فإنه لا يدل على الاستحباب لأنه حكم شرعي يحتاج
إلى دليل، وقد تزوج صلى الله عليه وآله وسلم بنسائه في أوقات مختلفة على حسب
الاتفاق ولم يتحر وقتا مخصوصا، ولو كان مجرد الوقوع يفيد الاستحباب لكان كل
وقت من الأوقات التي تزوج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستحب البناء
فيه وهو غير مسلم. والحديث الثاني فيه استحباب الدعاء بما تضمنه الحديث عند
تزوج المرأة وملك الخادم والدابة وهو دعاء جامع، لأنه إذا لقي الانسان الخير من
زوجته أو خادمه أو دابته وجنب الشر من تلك الأمور كان في ذلك جلب النفع
واندفاع الضرر. قوله: إذا أفاد أحدكم قال في القاموس: أفدت المال استفدته
وأعطيته، انتهى والمراد هنا الأول.
باب ما يكره من تزين النساء به وما لا يكره
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم امرأة
فقالت: يا رسول الله إن لي ابنة عريسا وأنه أصابها حصبة فتمرق شعرها أفأصله؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعن الله الواصلة والمستوصلة متفق عليه،
339

ومتفق على مثله من حديث عائشة. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة. وعن ابن مسعود أنه
قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق
الله تعالى، وقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن معاوية أنه قال، وتناول قصة من شعر: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه
نساؤهم متفق عليهن. وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: أيما امرأة أدخلت في شعرها من شعر غيرها فإنما تدخله زورا رواه
أحمد. وفي لفظ: أيما امرأة زادت في شعرها شعرا ليس منه فإنه زور تزيد فيه
رواه النسائي ومعناه متفق عليه. وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن النامصة والواشرة والواصلة والواشمة إلا من
داء. وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلعن القاشرة
المقشورة، والواشمة والموشومة، والواصلة والموصولة رواهما أحمد. والنامصة: ناتفة
الشعر من الوجه، والواشرة: التي تشر الأسنان حتى تكون لها أشر أي تحدد ورقة
تفعله المرأة الكبيرة تتشبه بالحديثة السن، والواشمة: التي تغرز في اليد بإبرة ظهر
الكف والمعصم ثم تحشي بالكحل أو بالنؤر وهو دخان الشحم حتى يخضر،
والمنتمصة والمؤتشرة والمستوشمة اللاتي يفعل بهن ذلك بإذنهن. وأما القاشرة
والمقشورة فقال أبو عبيد: نراه أراد هذه الغمرة التي يعالج بها النساء وجوههن حتى
ينسحق أعلى الجلد ويبدو ما تحته من البشرة وهو شبيه بما جاء في النامصة.
حديث عائشة الثاني قال في مجمع الزوائد: وفيه من لم أعرفه من النساء. (وفي
الباب) عن ابن عباس قال: لعنت الواصلة والمستوصلة والنامصة والمنتمصة والواشمة
والمشومة من غير داء أخرجه أبو داود. وعن جابر عند مسلم: زجر رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم المرأة أن تصل شعرها بشئ وعن معقل بن يسار عند
أحمد الطبراني. وعن أبي أمامة عند الطبراني بإسناد صحيح. وعن ابن عباس أيضا
حديث آخر عند الطبراني. قوله: عريسا بضم العين وفتح الراء وتشديد الياء
المكسورة تصغير عروس، والعروس يقع على المرأة والرجل في وقت الدخول.
340

قوله: حصبة بفتح الخاء وإسكان الصاد المهملتين، ويقال أيضا بفتح الصاد وكسرها
ثلاث لغات حكاهن الجماعة والاسكان أشهر، وهي بثر تخرج في الجلد تقول منه
حصب جلده بكسر الصاد يحصب. قوله: فتمرق بالراء المهملة بمعنى تساقط.
هكذا حكى القاضي عياض في المشارق عن جمهور الرواة، وحكى عن جماعة من
رواة صحيح مسلم أنه بالزاي قال: وهذا وإن كان قريبا من معنى الأول ولكنه
لا يستعمل في الشعر في حال المرض. قوله: الواصلة هي التي تصل شعر امرأة بشعر
امرأة أخرى لتكثر به شعر المرأة. والمستوصلة هي التي تستدعي أن يفعل بها ذلك،
ويقال لها موصولة كما في الرواية الأخرى، والواشمة فاعلة الوشم وهو أن يغرز في ظهر
الكف أو المعصم أو الشفة حتى يسيل الدم ثم يحشى ذلك الموضع بالكحل أو النؤر فيخضر
ذلك الموضع، وهو مما تستحسنه الفساق والنؤر الذي ذكره المصنف. قال المصنف: قال في
القاموس: كصبور وهو دخان الشحم كما ذكر، وقد يطلق على أشياء أخر كما في القاموس. وقد
يكون الوشم بدارات ونقوش، وقد يكثر وقد يقلل، والوصل حرام لأن اللعن لا يكون على
أمر غير محرم، قال النووي وهذا هو الظاهر المختار، قال: وقد فصله أصحابنا فقالوا:
إن وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف، وسواء كان شعر رجل أو امرأة،
وسواء شعر المحرم والزوج وغيرهما بلا خلا ف لعموم الأدلة، ولأنه يحرم الانتفاع
بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه،
وإن وصلته بشعر غير آدمي، فإن كان شعرا نجسا وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل
لحمه إذا انفصل في حياته فهو حرام أيضا للحديث، ولأنه حمل نجاسة في صلاتها
وغيرها عمدا، وسواء في هذين النوعين المزوجة وغيرها من النساء والرجال، وأما
الشعر الطاهر من غير الآدمي فإن لم يكن لها زوج ولا سيد فهو حرام أيضا، وإن
كان فثلاثة أوجه: أحدها لا يجوز لظاهر الأحاديث والثاني يجوز وأصحها عندهم
إن فعلته بإذن الزوج أو السيد جاز وإلا فهو حرام انتهى. وقال القاضي عياض: اختلف
العلماء في المسألة فقال مالك والطبري وكثيرون أو الأكثرون: الوصل ممنوع بكل
شئ، سواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق، واحتجوا بحديث جابر أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم زجر أن تصل المرأة برأسها شيئا. وقال الليث بن سعد: النهي مختص
بالوصل بالشعر، ولا بأس بوصله بصوف وخرق وغيرهما. وقال الإمام المهدي: إن وصل
341

شعر النساء بشعر الغنم لا وجه لتحريمه، ويرده عموم حديث جابر المذكور فإنه
شامل للشعر والصوف والوبر وغيرها. وحكى النووي عن عائشة أنه يجوز الوصل
مطلقا قال: ولا يصح عنها بل الصحيح عنها كقول الجمهور. قال القاضي عياض: فأما
ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه لأنه ليس
بوصل، ولا هو في معنى مقصود الوصل، وإنما هو للتجمل والتحسين، ويجاب بأن
تخصيص عموم حديث جابر لا يكون إلا بدليل فما هو؟ وذهبت الهادوية إلى جواز
الوصل بشعر المحرم، ويجاب بأن تحريم مطلق الوصل يستلزم تحريم الوصل بشعر المحرم،
وكذلك عموم حديث جابر وحديث معاوية، وقال الامام يحيى: إنما يحرم على غير
ذوات الأزواج، ويجاب عنه بحديث أسماء المذكور فإنه مصرح بأن الوصل فيه للعروس
ولم يجزه صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الوشم فهو حرام أيضا لما تقدم. قال أصحاب
الشافعي: هذا الموضع الذي وشم يصير نجسا، فإن أمكن إزالته بالعلاج وجب إزالته
وإن لم يكن إلا بالجرح، فإن خافت منه التلف أو فوات عضو أو منفعته أو شيئا
فاحشا في عضو ظاهر لم تجب إزالته، وإذا تابت لم يبق عليها إثم، وإن لم تخف
شيئا من ذلك ونحوه لزمها إزالته وتعصي بتأخيره وسواء في هذا كله الرجل والمرأة.
قوله: والمتنمصات بالتاء الفوقية ثم النون ثم الصاد المهملة جمع متنمصة وهي
التي تستدعي نتف الشعر من وجهها، ويروى بتقديم النون على التاء، قال النووي:
والمشهور تأخيرها، والنامصة المزيلة له من نفسها أو من غيرها وهو حرام، قال النووي
وغيره: إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب فلا تحرم إزالتها بل تستحب. وقال ابن
جرير: لا يجوز حلق لحيتها ولا عنفقتها ولا شاربها. قوله: والمنفلجات بالفاء والجيم
جمع منفلجة وهي التي تبرد ما بين أسنانها الثنايا والرباعيات وهو من الفلج بفتح
الفاء واللام وهو الفرجة بين الثنايا والرباعيات تفعل ذلك العجوز ومن قاربها في
السن إظهارا للصغر وحسن الأسنان، لأن هذه الفرجة اللطيفة بين الأسنان تكون
للبنات الصغائر، فإذا عجزت المرأة كبرت سنها فتبردها بالمبرد لتصير لطيفة حسنة
المنظر وتوهم كونها صغيرة. قال النووي: ويقال له الوشر وهذا الفعل حرام على الفاعلة
والمفعول بها. قوله: قصة بضم القاف وتشديد الصاد المهملة وهو القطعة من
الشعر من قصصت الشعر أي قطعته. قال الأصمعي وغيره: وهو شعر مقدم الرأس
342

المقبل على الجبهة، وقيل: شعر الناصية. قوله: عن مثل هذه أي عن التزين بمثل هذه
القصة من الشعر. قوله: إنما هلكت بنو إسرائيل الخ، هذا
تهديد شديد، لأن كون مثل هذا الذنب كان سببا لهلاك مثل تلك الأمة يدل على أنه من أشد الذنوب، قال القاضي
عياض: قيل يحتمل أنه كان محرما عليهم فعوقبوا باستعماله وهلكوا بسببه، وقيل: يحتمل أن
ذلك الهلاك كان به وبغيره مما ارتكبوه من المعاصي، فعند ظهور ذلك فيهم هلكوا
، وفيه معاقبة العامة بظهور المنكر انتهى. قوله: إلا من داء ظاهره أن التحريم
المذكور إنما هو فيما إذا كان لقصد التحسين لا لداء وعلة فإنه ليس بمحرم، وظاهر قوله: المغيرات
خلق الله أنه لا يجوز تغيير شئ من الخلقة عن الصفة التي هي عليها. قال أبو جعفر الطبري: في
هذا الحديث دليل على أنه لا يجوز تغيير شئ مما خلق الله المرأة عليه بزيادة أو نقص التماسا
للتحسين لزوج أو غيره، كما لو كان لها سن زائدة أو عضو زائد فلا يجوز لها قطعه ولا نزعه
لأنه من تغيير خلق الله، وهكذا لو كان لها أسنان طوال فأرادت تقطيع أطرافها، وهكذا
قال عياض وزاد: إلا أن تكون هذه الزوائد مؤلمة وتتضرر بها فلا بأس بنزعها.
قيل: وهذا إنما هو في التغيير الذي يكون باقيا، فأما ما لا يكون باقيا كالكحل ونحوه
من الخضابات فقد أجازه مالك وغيره من العلماء. قوله: هذه الغمرة بفتح الغين
المعجمة وسكون الميم بعدها راء طلاء من الورس، وفي القاموس في مادة الغمر،
وبالضم الزعفران كالغمرة.
وعن عائشة قالت: كانت امرأة عثمان بن مظعون تخضب وتطيب فتركته،
فدخلت علي فقلت: أمشهد أم مغيب؟ فقالت: مشهد، قالت: عثمان لا يريد
الدنيا ولا يريد النساء، قالت عائشة: فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك،
فلقي عثمان فقال: يا عثمان تؤمن بما نؤمن به؟ قال نعم يا رسول الله، قال: قال فأسوة
مالك بنا. وعن كريمة بنت همام قالت: دخلت المسجد الحرام فأخلوه لعائشة،
فسألتها امرأة: ما تقولين يا أم المؤمنين في الحناء؟ فقالت: كان حبيبي صلى الله عليه
وآله وسلم يعجبه لونه ويكره ريحه، وليس بمحرم عليكن بين كل حيضتين أو عند
كل حيضة رواهما أحمد. وعن أنس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال وفي
رواية: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات
343

من النساء: وقال أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلانة،
وأخرج عمر فلانا رواهما أحمد والبخاري.
حديث عائشة الأول أخرجه أحمد من طرق مختلفة متعددة هذه المذكورة
هنا أحدها، قال في مجمع الزوائد: وأسانيد أحمد رجالها ثقات، وقد تقدم ما
يشهد له في أول كتاب النكاح. وحديثها الثاني أيضا تقدم ما يشهد له في كتاب
الطهارة. قوله: أمشهد أم مغيب أي أزوجك شاهد أم غائب، والمراد أن ترك
الخضاب والطيب إن كان لأجل غيبة الزوج فذاك، وإن كان لأمر آخر مع حضوره
فما هو؟ فأخبرتها أن زوجها لا حاجة له بالنساء فهي في حكم لا زوج لها،
واستنكار عائشة عليها ترك الخضاب والطيب يشعر بأن ذوات الأزواج يحسن
منهن التزين للأزواج بذلك، وكذلك قوله في الحديث الآخر: وليس بمحرم
عليكن بين كل حيضتين يدل على أنه لا بأس بالاختضاب بالحناء، وقد تقدم الكلام
في الخضاب في الطهارة. وقد ذكر في البحر أنه يستحب الخضاب للنساء. قوله: لعن
الله المتشبهين من الرجال الخ، فيه دليل على أنه يحرم على الرجال التشبه بالنساء،
وعلى النساء التشبه بالرجال في الكلام واللباس والمشي وغير ذلك، والمرتجلات
من النساء المتشبهات بالرجال، وقد تقدم الكلام على المخنثين ضبطا وتفسيرا وذكر من
أخرجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم. وقد أخرج أبو داود من حديث أبي
هريرة قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه
بالحناء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال هذا؟ قالوا: يتشبه بالنساء، فأمر
به فنفي إلى النقيع بالنون، فقيل: يا رسول الله ألا تقتله؟ فقال: إني نهيت أن أقتل
المصلين. وروى البيهقي أن أبا بكر أخرج مخنثا وأخرج عمر واحدا. وأخرج الطبراني
من حديث واثلة بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرج الخنيث.
باب التسمية والتستر عند الجماع
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو أن أحدكم
إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدر
بينهما في ذلك ولد ولن يضر ذلك الولد الشيطان أبدا رواه الجماعة إلا النسائي. وعن
344

عتبة بن عبد السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أتى أحدكم
أهله فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين رواه ابن ماجة. وعن ابن عمر: أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند
الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم رواه الترمذي وقال:
هذا حديث غريب.
زاد الترمذي بعد قوله: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وحديث عتبة
في إسناده رشدين بن سعد وهو ضعيف وكذلك في إسناده الأحوص بن
حكيم وهو أيضا ضعيف، ولكنه قد تابع رشدين بن سعد عبد الأعلى بن عدي وهو
ثقة، ويشهد لصحة الحديثين حديث عتبة بن عبد السلمي وحديث ابن عمر، الأحاديث
الواردة في الامر بستر العورة والمبالغة في ذلك منها حديث بهز بن حكيم عن أبيه
عن جده قال: قلت: يا نبي الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك
إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: يا رسول الله إذا كان القوم بعضهم
في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يراها، قال قلت: إذا كان أحدنا خاليا؟
قال: فالله أحق أن يستحيا من الناس هذا لفظ الترمذي وقال: حديث حسن.
ففي الحديث الامر بستر العورة في جميع الأحوال، والاذن بكشف ما لا بد
منه للزوجات والمملوكات حال الجماع، ولكنه ينبغي الاقتصار على كشف المقدار
الذي تدعو الضرورة إليه حال الجماع، ولا يحل التجرد كما في حديث عتبة المذكور.
قوله: إذا أتى أهله في رواية للبخاري: حين يأتي أهله. وفي رواية للإسماعيلي:
حين يجامع أهله وذلك ظاهر في أن القول يكون مع الفعل. وفي رواية لأبي
داود: إذا أراد أن يأتي أهله، وهي مفسرة لغيرها من الروايات، فيكون القول
قبل الشروع، ويحمل ما عدا هذه الرواية على المجاز كقوله تعالى: * (وإذا قرأت القرآن
فاستعذ بالله) * أي إذا أردت القراءة. قوله: جنبنا في رواية للبخاري بالافراد.
قوله: فإن قدر بينهما في ذلك ولد في رواية للبخاري: فإن قضى الله بينهما ولدا.
قوله: لن يضر ذلك الولد الشيطان في رواية لمسلم وأحمد: لم يسلط عليه الشيطان
ولفظ البخاري: لم يضره شيطان واللفظ الذي ذكره المصنف لأحمد، واختلف
في الضرر المنفي بعد الاتفاق على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر على ما نقل
القاضي عياض وإن كان ظاهرا في الحمل على عموم الأحوال من صيغة النفي مع
345

التأبيد، وكأن سبب ذلك الاتفاق ما ثبت في الصحيح أن كل بني آدم يطعن الشيطان
في بطنه حين يولد إلا من استثني فإن هذا الطعن نوع من الضرر، ثم اختلفوا فقيل
المعنى لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية بل يكون من جملة العباد الذين قيل
فيهم: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وقيل: المراد لم يطعن في بطنه وهو بعيد
لمنابذته لظاهر الحديث المتقدم، وليس تخصيصه بأولى من تخصيص هذا وقيل: المراد
لم يصرعه. قيل لم يضره في بدنه وقال ابن دقيق العبد يحتمل أن لا يضره في دينه
أيضا، ولكن يبعده انتفاء العصمة لاختصاصها بالأنبياء وتعقب بأن اختصاص من خص
بالعصمة بطريق الوجوب لا بطريق الجواز، فلا مانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية
عمدا وإن لم يكن ذلك واجبا له. وقال الداودي: معنى لم يضره أي لم يفتنه
عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية. وقيل: لم يضره بمشاركة
أبيه في جماع أمه، كما جاء عن مجاهد: إن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان
على إحليله فيجامع معه.
باب ما جاء في العزل
عن جابر قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والقرآن ينزل متفق عليه. ولمسلم: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا. وعن جابر: أن رجلا أتى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف
عليها وأكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها رواه
أحمد ومسلم وأبو داود. وعن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب، فاشتهينا النساء واشتدت
علينا العزبة وأحببنا العزلة فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: عليكم أن لا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم
القيامة متفق عليه. وعن أبي سعيد قال: قالت اليهود: العزل المؤودة الصغرى، فقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كذبت يهود إن الله عز وجل لو أراد
346

أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه رواه أحمد وأبو داود. وعن
أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العزل أنت تخلقه
أنت ترزقه أقره قراره فإنما ذلك القدر رواه أحمد. وعن أسامة بن زيد أن رجلا جاء
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له صلى الله
عليه وآله وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال له الرجل: أشفق على ولدها أو على أولادها،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو كان ضارا ضر فارس والروم رواه
أحمد ومسلم. وعن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في أناس وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت
في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا. ثم سألوه عن العزل
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك الوأد الخفي وهي * (وإذا المؤودة
سئلت) * (سورة التكوير، الآية: 8) رواه أحمد ومسلم. وعن عمر بن الخطاب قال: نهى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها رواه أحمد وابن ماجة
وليس إسناده بذلك.
حديث أبي سعيد الثاني أخرجه أيضا الترمذي والنسائي. قال الحافظ: ورجاله
ثقات. وقال في مجمع الزوائد: رواه البزار وفيه موسى بن وردان وهو ثقة وقد
ضعف وبقية رجاله ثقات. وأخرج نحوه النسائي من حديث جابر وأبي هريرة،
وجزم الطحاوي بكونه منسوخا وعكسه ابن حزم. وحديث عمر بن الخطاب في إسناده
ابن لهيعة وفيه مقال معروف، ويشهد له ما أخرجه عبد الرازق والبيهقي عن ابن
عباس قال: نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها وروى عنه ابن أبي شيبة أنه كان
يعزل عن أمته. وروى البيهقي عن ابن عمر مثله. (ومن أحاديث) هذا الباب عن أنس
عند أحمد والبزار وابن حبان وصححه: أن رجلا سأل عن العزل فقال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج
الله منها ولدا وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس، وفي الأوسط له
عن ابن مسعود. قوله: كنا نعزل العزل النزع بعد الايلاج لينزل خارج
الفرج. قوله: والقرآن ينزل فيه جواز الاستدلال بالتقرير من الله ورسوله
على حكم من الاحكام لأنه لو كان ذلك الشئ حراما لم يقررا عليه، ولكن بشرط
347

أن يعلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ذهب الأكثر من أهل الأصول
على ما حكاه في الفتح إلى أن الصحابي إذا أضاف الحكم إلى زمن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم كان له حكم الرفع، قال: لا ن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم اطلع على ذلك وأقره لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الاحكام. قال
وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك. وأخرج مسلم من حديث جابر
قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله
عليه وآله وسلم فلم ينهنا. ووقع في حديث الباب المذكور الاذن له
بالعزل فقال: اعزل عنها إن شئت. قوله: ما عليكم أن لا تفعلوا وقع في رواية في
البخاري وغيره: لا عليكم أن لا تفعلوا قال ابن سيرين: هذا أقرب إلى النهي وحكى
ابن عون عن الحسن أنه قال: والله لكان هذا زجرا. قال القرطبي: كأن هؤلاء فهموا
من لا النهي عما سألوا عنه فكأنه قال: لا تعزلوا وعليكم أن لا تفعلوا. ويكون قوله:
وعليكم إلى آخره تأكيدا للنهي، وتعقب بأن الأصل عدم هذا التقرير. وإنما معناه
ليس عليكم أن تتركوا وهو الذي يساوي أن لا تفعلوا. وقال غيره: معنى لا عليكم أن لا تفعلوا
أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل، فأفهم ثبوت الحرج
في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا إلا أن يدعي
أن لا زائدة فيقال الأصل عدم ذلك (وقد اختلف) السلف في حكم العزل فحكي في
الفتح عن ابن عبد البر أنه قال: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة
إلا بإذنها لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا
يلحقه عزل. قال الحافظ: ووافقه في نقل هذا الاجماع ابن هبيرة قال: وتعقب بأن
المعروف عند الشافعية أنه لا حق للمرأة في الجماع، وهو أيضا مذهب الهادوية، فيجوز عندهم
العزل عن الحرة بغير إذنها على مقتضى قولهم: إنه لا حق لها في الوطئ، ولكنه وقع
التصريح في كتب الهادوية بأنه لا يجوز العزل عن الحرة إلا برضاها، ويدل على
اعتبار الاذن من الحرة حديث عمر المذكور ولكن فيه ما سلف، وأما الأمة فإن
كانت زوجة فحكمها حكم الحرة، واختلفوا هل يعتبر الاذن منها أو من سيدها
وإن كانت سرية فقال في الفتح: يجوز بلا خلاف عندهم إلا في وجه حكاه الروياني
في المنع مطلقا كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرية مستولدة فالراجح الجواز
348

فيها مطلقا لأنها ليست راسخة في الفراش، وقيل: حكمها حكم الأمة المزوجة. قوله:
كذبت يهود فيه دليل على جواز العزل، ومثله ما أخرجه الترمذي وصححه عن
جابر قال: كانت لنا جوار وكنا نعزل فقالت اليهود إن تلك الموؤودة الصغرى، فسئل
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: كذبت اليهود لو أراد الله خلقه لم
يستطع رده. وأخرج نحوه النسائي من حديث أبي هريرة، ولكنه يعارض ذلك
ما في حديث جذامة المذكور من تصريحه صلى الله عليه وآله وسلم بأن ذلك الوأد
الخفي، فمن العلماء من جمع بين هذا الحديث وما قبله، فحمل هذا على التنزيه، وهذه
طريقة البيهقي، ومنهم من ضعف حديث جذامة هذا لمعارضته لما هو أكثر منه طرقا.
قال الحافظ وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم والحديث صحيح لا ريب فيه
والجمع ممكن، ومنهم من ادعى أنه منسوخ ورد بعدم معرفة التاريخ. وقال الطحاوي:
يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الامر أولا من موافقة أهل
الكتاب فيما لم ينزل عليه ثم أعلمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه، وتعقبه
ابن رشد وابن العربي بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحرم شيئا تبعا لليهود
ثم يصرح بتكذيبهم فيه، ومنهم من رجح حديث جذامة بثبوته في الصحيح، وضعف
مقابله بالاختلاف في إسناده والاضطراب، قال الحافظ: ورد بأنه إنما يقدح في
حديث لا فيما يقوي بعضه بعضا فإنه يعمل به وهو هنا كذلك والجمع ممكن، ورجح
ابن حزم العمل بحديث جذامة بأن أحاديث غيرها موافقة لأصل الإباحة
وحديثها يدل على المنع، قال: فمن ادعى أنه أبيح بعد أن منع فعليه البيان، وتعقب
بأن حديثها ليس بصريح في المنع، إذ لا يلزم من تسميته وأدا خفيا على طريق
التشبيه أن يكون حراما، وجمع ابن القيم فقال: الذي كذب فيه صلى الله عليه وآله وسلم
اليهود هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا، وجعلوه بمنزلة قطع النسل
بالوأد، فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن
وأدا حقيقة، وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جذامة، لأن الرجل إنما يعزل هربا
من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر
بالمباشرة اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد فقط فلذلك وصفه بكونه
خفيا، وهذا الجمع قوي، وقد ضعف أيضا حديث جذامة أعني الزيادة التي في آخره
349

بأنه تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود، ورواه مالك ويحيى بن أيوب
عن أبي الأسود فلم يذكراها وبمعارضتها لجميع أحاديث الباب، وقد حذف هذه
الزيادة أهل السنن الأربع، وقد احتج بحديث جذامة هذا من قال بالمنع من
العزل كابن حبان. قوله: أشفق على ولدها هذا أحد الأمور التي تحمل على العزل،
ومنها الفرار من كثرة العيال، والفرار من حصولهم من الأصل، ومنها خشية علوق
الزوجة الأمة لئلا يصير الولد رقيقا، وكل ذلك لا يغني شيئا لاحتمال أن يقع الحمل بغير
الاختيار. قوله: أن أنهى عن الغيلة بكسر الغين المعجمة بعدها تحتية ساكنة، ويقال لها
الغيل بفتح الغين والياء، والغيال بكسر الغين المعجمة، والمراد بها أن يجامع امرأته
وهي مرضع. وقال ابن السكيت: هي أن ترضع المرأة وهي حامل وذلك لما يحصل
على الرضيع من الضرر بالحبل حال إرضاعه، فكان ذلك سبب همه صلى الله عليه
وآله وسلم بالنهي، ولكنه لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الغيلة لا تضر
فارس والروم ترك النهي عنها.
باب نهي الزوجين عن التحدث بما يجري حال الوقاع
عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من شر
الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر
سرها رواه أحمد ومسلم. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم صلى فلما سلم أقبل عليهم بوجهه فقال: مجالسكم هل منكم
الرجل إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول:
فعلت بأهلي كذا، وفعلت بأهلي كذا؟ فسكتوا، فأقبل على النساء فقال: هل منكن
من تحدث؟ فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتيها وتطاولت ليراها رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ويسمع كلامها فقالت: إي والله إنهم يتحدثون وإنهن
ليتحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ إن مثل
من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبة بالسكة فقضى حاجته منها والناس ينظرون
إليه رواه أحمد وأبو داود. ولأحمد نحوه من حديث أسماء بنت يزيد.
حديث أبي هريرة أخرجه أيضا النسائي والترمذي وحسنه وقال: إلا أن
350

الطفاوي لا نعرفه إلا في هذا الحديث ولا نعرفه اسمه. وقال أبو الفضل محمد بن
طاهر: والطفاوي مجهول. وقد رواه أبو داود من طريقه فقال عن أبي نضرة قال:
حدثني شيخ من طفاوة. قوله: إن شر الناس لفظ مسلم: أشر قال القاضي
عياض: وأهل النحو يقولون: لا يجوز وأشر وأخير، وإنما يقال: هو خير منه وشر منه، وقال:
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللغتين جميعا وهي حجة في جواز الجميع. قوله: كعاب على
وزن سحاب وهي الجارية المكعب. (والحديثان) يدلان على تحريم إفشاء أحد الزوجين
لما يقع بينهما من أمور الجماع، وذلك لأن كون الفاعل لذلك من أشر الناس، وكونه بمنزلة
شيطان لقي شيطانة فقضى حاجته منها والناس ينظرون من أعظم الأدلة الدالة
على تحريم نشر أحد الزوجين للاسرار الواقعة بينهما الراجعة إلى الوطئ ومقدماته،
فإن مجرد فعل المكروه لا يصير به فاعله من الأشرار فضلا عن كونه من شرهم، وكذلك
الجماع بمرأى من الناس لا شك في تحريمه، وإنما خص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
حديث أبي سعيد الرجل فجعل الزجر المذكور خاصا به ولم يتعرض للمرأة، لأن وقوع
ذلك الامر في الغالب من الرجال، قيل: وهذا التحريم إنما هو في نشر أمور الاستمتاع،
ووصف التفاصيل الراجعة إلى الجماع، وإنشاء ما يجري من المرأة من قول أو فعل حالة
الوقاع، وأما مجرد ذكر نفس الجماع فإن لم يكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه
خلاف المروءة، ومن التكلم بما لا يعني، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وقد ثبت
في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل
خيرا أو ليصمت فإن كان إليه حاجة أو ترتبت عليه فائدة فلا كراهة في ذكره، وذلك
نحو أن تنكر المرأة نكاح الزوج لها وتدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك،
كما روى أن الرجل الذي ادعت عليه امرأته العنة قال: يا رسول الله إني لأنفضها نفض
الأديم. ولم ينكر عليه. وما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إني لأفعله أنا وهذه
وقال لأبي طلحة: أعرستم الليلة ونحو ذلك كثير.
باب النهي عن إتيان المرأة في دبرها
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ملعون
351

من أتى امرأة في دبرها رواه أحمد وأبو داود. وفي لفظ: لا ينظر الله إلى رجل
جامع امرأته في دبرها رواه أحمد وابن ماجة. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قال: من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر
بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والترمذي وأبو داود وقال:
فقد برئ مما أنزل. وعن خزيمة بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها رواه أحمد وابن ماجة. وعن أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال لا تأتوا
النساء في أعجازهن، أو قال: في أدبارهن. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الذي يأتي امرأته في دبرها: هي اللوطية الصغرى
رواهما أحمد. وعن علي بن طلق قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول: لا تأتوا النساء في أستاههن فإن الله لا يستحي من الحق رواه أحمد والترمذي
وقال: حديث حسن. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر رواه الترمذي وقال: حديث غريب.
حديث أبي هريرة الأول أخرجه أيضا بقية أهل السنن والبزار وفي إسناده
الحرث بن مخلد. قال البزار: ليس بمشهور. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله، وقد اختلف
فيه على سهيل بن أبي صالح، فرواه عنه إسماعيل بن عياش عن
محمد بن المنكدر عن جابر كما أخرجه الدارقطني وابن شاهين، ورواه عمر مولى عفرة عن سهيل عن أبيه
عن جابر كما أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، قال الحافظ في بلوغ المرام: إن رجال
حديث أبي هريرة هذا ثقات لكن أعل بالارسال. وحديث أبي هريرة الثاني هو
من رواية أبي تميمة عن أبي هريرة قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث أبي تميمة
عن أبي هريرة. وقال البخاري: لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة. وقال البزار:
هذا حديث منكر. وفي الاسناد أيضا حكيم الأثرم. قال البزار: لا يحتج به وما تفرد به
فليس بشئ، ولأبي هريرة حديث ثالث نحو حديثه الأول أخرجه النسائي من رواية
الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وفي إسناده عن عبد الملك بن محمد الصنعاني وقد
تكلم فيه دحيم وأبو حاتم وغيرهما ولأبي هريرة أيضا حديث رابع أخرجه النسائي
من طريق بكر بن خنيس عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة بلفظ: من أتى شيئا
352

من الرجال والنساء في الادبار فقد كفر وفي إسناده بكر بن خنيس وليث بن أبي سليم
وهما ضعيفان. ولأبي هريرة أيضا حديث خامس رواه عبد الله بن عمر بن أبان عن مسلم
بن خالد الزنجي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: ملعون من أتى النساء في
أدبارهن وفي إسناده مسلم بن خالد وهو ضعيف. وحديث خزيمة بن ثابت أخرجه
الشافعي أيضا بنحوه وفي إسناده عمر بن أحيحة وهو مجهول. واختلف في إسناده
اختلافا كثيرا. ورواه النسائي من طريق أخرى وفيها هرمي بن عبد الله ولا يعرف
حاله. وأخرجه أيضا من طريق هرمي أحمد وابن حبان وحديث الإمام علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، قال في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات. وحديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا
النسائي وأعله، قال الحافظ: والمحفوظ عن عبد الله بن عمرو من قوله كذا أخرجه عبد الرزاق
وغيره، وحديث علي بن طلق قال الترمذي بعد أن حسنه: سمعت محمدا يقول: لا أعرف
لعلي بن طلق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير هذا الحديث الواحد، ولا أعرف
هذا الحديث الواحد من حديث طلق بن علي السحيمي، وكأنه رأى أن هذا آخر
من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا النسائي
وابن حبان والبزار وقال: لا نعلمه يروي عن ابن عباس بإسناد حسن وكذا قال
ابن عدي. ورواه النسائي عن هناد عن وكيع عن الضحاك موقوفا وهو أصح عندهم
من المرفوع. ولابن عباس حديث آخر من طريق أخرى موقوفة رواها عبد الرزاق
أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال: سألتني عن الكفر. وأخرجه
النسائي بإسناد قوي. وفي الباب عن جماعة من الصحابة منها ما سيأتي ومنها عن أبي
بن كعب عند الحسن بن عرفة بإسناد ضعيف. وعن ابن مسعود عند ابن عدي بإسناد
واه وعن عقبة بن عامر عند أحمد بإسناد فيه ابن لهيعة. وعن عمر عند النسائي والبزار
بإسناد فيه زمعة بن صالح وهو ضعيف. (وقد استدل) بأحاديث الباب من قال:
إنه يحرم إتيان النساء في أدبارهن. وقد ذهب إلى ذلك جمهور أهل العلم. وحكى ابن عبد الحكم
عن الشافعي أنه قال: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تحريمه ولا في تحليله شئ
والقياس أنه حلال. وقد أخرجه عنه ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي. وأخرجه الحاكم في
مناقب الشافعي عن الأصم عنه. وكذلك رواه الطحاوي عن ابن عبد الحكم عن الشافعي.
وروى الحاكم عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال: سألني محمد بن الحسن
353

فقلت له: إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات وإن لم تصح فأنت أعلم، وإن
تكلمت بالمناصفة كلمتك، قال علي: المناصفة، قلت: فبأي شئ حرمته؟ قال: يقول الله عز
وجل: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * (سورة البقرة، الآية: 222) وقال: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * (سورة البقرة، الآية: 223) والحرث
لا يكون إلا في الفرج، قلت: أفيكون ذلك محرم لما سواه؟ قال: نعم، قلت: فما تكون لو
وطأها بين ساقيها أو في أعكانها أو تحت إبطيها، أو أخذت ذكره بيدها، أو في ذلك
حرث؟ قال: لا، قلت: فيحرم ذلك؟ قال: لا، قلت: فلم تحتج بما لا حجة فيه؟ قال
: فإن الله قال: * (والذين هم لفروجهم حافظون) * (سورة المؤمنون، الآية: 5) الآية، قال: فقلت له: هذا مما يحجون به للجواز،
إن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته وما ملكت يمينه، فقلت له: أنت تتحفظ
من زوجتك وما ملكت يمينك انتهى. وقد أجيب عن هذا بأن الأصل تحريم.
المباشرة إلا ما أحل الله بالعقد، ولا يقاس عليه غيره لعدم المشابهة في كونه مثلا محلا
للزرع، وأما تحليل الاستمتاع فيما عدا الفرج فهو مأخوذ من دليل آخر، ولكنه
لا يخفى ورود ما أورده الشافعي على من استدل بالآية، وأما دعوى أن الأصل
تحريم المباشرة فهذا محتاج إلى دليل ولو سلم فقوله تعالى: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) *
رافع للتحريم المستفاد من ذلك الأصل، فيكون الظاهر بعد هذه الآية الحل، ومن
ادعى تحريم الاتيان في محل مخصوص طولب بدليل يخصص عموم هذه الآية،
ولا شك أن الأحاديث المذكورة في الباب القاضية بتحريم إتيان النساء في أدبارهن
يقوي بعضها بعضا، فتنتهض لتخصيص الدبر في ذلك العموم، وأيضا الدبر في أصل
اللغة اسم لخلاف الوجه ولا اختصاص له بالمخرج كما قال تعالى: * (ومن يولهم يومئذ
دبره) * (سورة الأنفال، الآية: 16) فلا يبعد حمل ما ورد من الادبار على الاستمتاع بين الأليتين. وأيضا قد
حرم الله الوطئ في الفرج لأجل الأذى، فما الظن بالحش الذي هو موضوع الأذى
اللازم في زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل الذي هو العلة الغائية في مشروعية
النكاح، والذريعة القريبة جدا الحاملة على الانتقال من ذلك إلى إدبار المرد. وقد
ذكر ابن القيم لذلك مفاسد دينية ودنيوية فليراجع، وكفى مناديا على خساسته
أنه لا يرضى أحد أن ينسب إليه ولا إلى إمامه تجويز ذلك إلا ما كان من
الرافضة مع أنه مكروه عندهم، وأوجبوا للزوجة فيه عشرة دنانير عوض النطفة،
وهذه المسألة هي إحدى مسائلهم التي شذوا بها. وقد حكى الإمام المهدي في البحر
354

عن العترة جميعا وأكثر الفقهاء أنه حرام. قال الحاكم بعد أن حكى عن الشافعي ما سلف
لعل الشافعي كان يقول ذلك في القديم، فأما الجديد فالمشهور أنه حرمه. وقد روى
الماوردي في الحاوي وأبو نصر بن الصباغ في الشامل وغيرهما عن الربيع أنه قال
كذب والله يعني ابن عبد الحكم، فقد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب، وتعقبه
الحافظ في التلخيص فقال: لا معنى لهذا التكذيب فإن ابن عبد الحكم لم يتفرد بذلك،
بل قد تابعه عليه عبد الرحمن بن عبد الله أخوه عن الشافعي ثم قال: إنه لا خلاف
في ثقة ابن عبد الحكم وأمانته، وقد روي الجواز أيضا عن مالك، قال القاضي أبو
الطيب في تعليقه: أنه روى ذلك عنه أهل مصر وأهل المغرب ورواه عنه أيضا ابن
رشد في كتاب البيان والتحصيل، وأصحاب مالك العراقيون لم يثبتوا هذه الرواية
، وقد رجع متأخرو أصحابه عن ذلك وأفتوا بتحريمه، وقد استدل للمجوزين بما رواه
الدارقطني عن ابن عمر أنه لما قرأ قوله تعالى: * (نساؤكم حرث لكم) * (سورة البقرة، الآية: 223) فقال: ما تدري
يا نافع فيما أنزلت هذه الآية؟ قال قلت: لا، قال لي: في رجل من الأنصار
أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك فأنزل الله تعالى: * (نساؤكم حرث لكم) * قال نافع: فقلت لابن عمر: من دبرها في قبلها؟ قال: لا إلا في دبرها. وروي نحو ذلك
عنه الطبراني والحاكم وأبو نعيم. وروى النسائي والطبراني في طريق زيد بن أسلم
عن ابن عمر نحوه ولم يذكر. قوله: لا إلا في دبرها. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه
في تفسيره الطبري والطحاوي من طرق عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصاب
امرأته في دبرها فأنكر الناس ذلك عليه فأنزل الله: * (نساؤكم حرث لكم فأتوا
حرثكم أنى شئتم) * وسيأتي بقية الأسباب في نزول الآية.
وعن جابر أن يهود كانت تقول: إذا أتيت المرأة من دبرها ثم حملت
كان ولدها أحول، قال: فنزلت: * (نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) * (سورة البقرة، الآية: 223). رواه
الجماعة إلا النسائي، وزاد مسلم: إن شاء غير مجبية غير أن ذلك في
صمام واحد. وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: *
(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) * يعني صماما واحدا رواه أحمد
والترمذي وقال: حديث حسن. وعنها أيضا قالت: لما قدم المهاجرون المدينة
على الأنصار تزوجوا من نسائهم، وكان المهاجرون يجبون وكانت الأنصار لا تجبي،
355

فأراد رجل امرأته من المهاجرين على ذلك، فأبت عليه حتى تسأل النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: فأته، فاستحيت أن تسأله، فسألته أم سلمة فنزلت: * (نسائكم
حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) * وقال: لا إلا في صمام واحد رواه أحمد. ولأبي
داود هذا المعنى من رواية ابن عباس. وعن ابن عباس قال: جاء عمر إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله هلكت، قال: وما الذي أهلكك
قال: حولت رحلي البارحة، فلم يرد عليه بشئ، قال: فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية
: * (نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) * أقبل وأدبر، واتقوا الدبر والحيضة
رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب. وعن جابر: أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: استحيوا فإن الله لا يستحي من الحق، لا يحل
مأتاك النساء في حشوشهن رواه الدارقطني.
حديث أم سلمة الثاني أورده في التلخيص وسكت عنه، ويشهد له حديث ابن
عباس الذي أشار إليه المصنف، وهو من رواية محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح
عن مجاهد عن ابن عباس وفيه: إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن
مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب، وكانوا يرون لهم فضلا عليهم من العلم،
وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على
حرث، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش
يشرخون النساء شرخا منكرا ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات،
فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك
فأنكرته عليه وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، فسرى
أمرها حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عز وجل: * (نسائكم حرث
لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) * يعني مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع
الولد. وحديث ابن عباس الثاني في قصة عمر لعله الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه من
طريق عمر نفسه وقد سبق ما فيه. وحديث جابر الآخر قد قدمنا في أول الباب الإشارة
إليه، وإنه من اختلاف على سهيل بن أبي صالح، وقد أخرجه ما تقدم ذكره. قوله:
مجبية بضم الميم وبعدها جيم مفتوحة ثم موحدة أي باركة، والتجبية الانكباب على
الوجه، وأخرج الإسماعيلي من طريق يحيى بن أبي زائدة عن سفيان الثوري بلفظ:
356

باركة مدبرة في فرجها من ورائها، وهذا يدل على أن المراد بقولهم: إذا أتيت من دبرها
يعني في قبلها، ولا شك أن ذلك هو المراد، ويزيد ذلك وضوحا قوله عقب ذلك: ثم حملت،
فإن الحمل لا يكون إلا من الوطئ في القبل. قوله: غير أن ذلك في صمام واحد هذه
الزيادة تشبه أن تكون من تفسير الزهري لخلوها من رواية غيره من أصحاب ابن
المنكدر مع كثرتهم كذا قيل وهو الظاهر، ولو كانت مرفوعة لما صح قول البزار
هو الوطئ في الدبر: لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا لا في الحصر ولا في الاطلاق.
وكذا روى نحو ذلك الحاكم عن أبي علي النيسابوري، ومثله عن النسائي، وقاله قبلهما
البخاري، كذا قال الحافظ. والصمام بكسر الصاد المهملة وتخفيف الميم وهو في الأصل
سداد القارورة ثم سمي به المنفذ كفرج المرأة، وهذا أحد الأسباب في نزول الآية،
وقد ورد ما يدل على أن ذلك هو السبب من طرق عن جماعة من الصحابة في بعضها
التصريح بأنه لا يحل إلا في القبل، وفي أكثرها الرد على اعتراض اليهود وهذا أحد
الأقوال، والقول الثاني: أن سبب النزول إتيان الزوجة في الدبر، وقد تقدم ذلك
عن ابن عمر وأبي سعيد. والثالث: أنها نزلت في الاذن بالعزل عن الزوجة، روي ذلك
عن ابن عباس، أخرجه عنه جماعة منهم ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم. وروي ذلك أيضا عن ابن عمر،
أخرجه عن ابن أبي شيبة قال: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * إن شاء عزل، وإن شاء لم
يعزل. وروي عن سعيد بن المسيب، أخرجه عنه ابن أبي شيبة. القول الرابع: إن * (أنى شئتم) *
بمعنى إذا شئتم، روى ذلك عبد بن حميد عن محمد ابن الحنفية عليه السلام.
باب إحسان العشرة وبيان حق الزوجين
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن المرأة كالضلع إن
ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها استمتعت بها على عوج. وفي لفظ: استوصوا بالنساء
فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن
تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء متفق عليهما. وعن أبي هريرة: أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي
357

منها آخر رواه أحمد ومسلم. قوله: كالضلع بكسر الضاد وفتح اللام ويسكن قليلا والأكثر الفتح وهو
واحد الأضلاع، والفائدة في تشبيه المرأة بالضلع التنبيه على أنها معوجة الأخلاق
لا تستقيم أبدا، فمن حاول حملها على الأخلاق المستقيمة أفسدها، ومن تركها
على ما هي عليه من الاعوجاج انتفع بها، كما أن الضلع المعوج ينكسر عند إرادة
جعله مستقيما وإزالة اعوجاجه، فإذا تركه الانسان على ما هو عليه انتفع به، وأراد
بقوله: وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه المبالغة في الاعوجاج، والتأكيد لمعنى
الكسر بأن تعذر الإقامة في الجهة العليا أمره أظهر. وقيل: يحتمل أن يكون ذلك
مثلا لا على المرأة لأن أعلاها رأسها وفيه لسانها وهو الذي ينشأ منه الاعوجاج، قيل:
وأعوج ههنا من باب الصفة لا من باب التفضيل، لأن أفعل التفضيل لا يصاغ من الألوان
والعيوب، وأجيب بأن الظاهر ههنا أنه للتفضيل، وقد جاء ذلك على قلة مع عدم
الالتباس بالصفة، والضمير في قوله: فإن ذهبت تقيمه يرجع إلى الضلع لا إلى
أعلاه وهو يذكر ويؤنث، ولهذا قال في الرواية الأولى: تقيمها، وفي هذه: تقيمه.
قوله: استوصوا بالنساء أي اقبلوا الوصية، والمعنى: أني أوصيكم بهن خيرا فاقبلوا،
أو بمعنى: ليوص بعضكم بعضا بهن. قوله: خلقت من ضلع أي من ضلع آدم
الذي خلقت منه حواء. قال الفقهاء: إنها خلقت من ضلع آدم، ويدل على ذلك قوله: *
(خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) * (سورة النساء، الآية: 1) وقد روي ذلك من حديث ابن
عباس عند ابن إسحاق. وروي من حديث مجاهد مرسلا عند ابن أبي حاتم.
قوله: لا يفرك بالفاء ساكنة بعدها راء وهو البغض، قال في القاموس: الفرك
بالكسر ويفتح البغضة عامة كالفروك والفركان أو خاص ببغضة الزوجين، فركها
وفركته كسمع فيهما وكنصر شاذ فركا وفروكا فهي فارك وفروك، ورجل مفرك
كمعظم تبغضه النساء، ومفركة ببغضها الرجال انتهى. (والحديث) الأول فيه
الارشاد إلى ملاطفة النساء والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، والتنبيه على أنهن
خلقن على تلك الصفة التي لا يفيد معها التأديب ولا ينجع عندها النصح، فلم
يبق إلا الصبر والمحاسنة وترك التأنيب والمخاشنة. (والحديث) الثاني فيه
الارشاد إلى حسن العشرة والنهي عن البغض للزوجة بمجرد كراهة خلق من أخلاقها، فإنها
لا تخلو مع ذلك عن أمر يرضاه منها، وإذا كانت مشتملة على المحبوب والمكروه
358

فلا ينبغي ترجيح مقتضى الكراهة على مقتضى المحبة. قال النووي: ضبط بعضهم
قوله استمتعت بها على عوج بفتح العين وضبطه بعضهم بكسرها ولعل الفتح أكثر،
وضبطه ابن عساكر وآخرون بالكسر قال: وهو الأرجح، ثم ذكر كلام أهل اللغة
في تفسير معنى المكسور والمفتوح وهو معروف، وقد صرح صاحب المطالع بأن
أهل اللغة يقولون في الشخص المرئي عوج بالفتح، وفيما ليس بمرئي كالرأي، والكلام
عوج بالكسر، قال: وانفرد أبو عمرو الشيباني فقال: كلاهما بالكسر ومصدرهما
بالفتح وكسرها طلاقها. وقد حقق صاحب الكشاف الكلام في ذلك في تفسير قوله
تعالى: * (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) *.
وعن عائشة قالت: كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في بيته وهن اللعب، وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسر بهن إلي فيلعبن معي متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكمل المؤمنين
إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم رواه أحمد والترمذي وصححه.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم
لأهلي رواه الترمذي وصححه.
قوله بالبنات قال في القاموس: والبنات التماثيل الصغار يلعب بها انتهى. قوله:
اللعب بضم اللام جمع لعبة، قال في القاموس: واللعبة بالضم التمثال، وما يلعب به
كالشطرنج ونحوه والأحمق يسخر به. قوله: ينقمعن قال في القاموس: القمع
دخل البيت مستخفيا. (وفي هذا الحديث) دليل على أنه يجوز تمكين الصغار من
اللعب بالتماثيل، وقد روي عن مالك أنه كره للرجل أن يشتري لبنته ذلك. وقال
القاضي عياض: إن اللعب بالبنات للبنات الصغار رخصة. وحكى النووي عن بعض
العلماء أن إباحة اللعب لهن بالبنات منسوخة بالأحاديث الواردة في تحريم التصوير
ووجوب تغييره. قوله: فيسر بهن بضم حرف المضارعة وفتح السين المهملة وكسر
الراء المشددة بعدها موحدة والتسرب الدخول. قال في القاموس: وانسرب في جحره
وتسرب دخل، والمراد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدخل البنات إلى عائشة
ليلعبن معها. قوله: أكمل المؤمنين الخ، فيه دليل على أن من ثبت له مزية حسن
359

الخلق كان من أهل الايمان الكامل، فإن كان أحسن الناس
خلقا كان أكمل الناس إيمانا، وإن خصلة يختلف حال الايمان باختلافها لخليقة بأن ترغب إليها نفوس
المؤمنين. قوله: وخياركم خياركم لنسائهم وكذلك قوله في الحديث الآخر: خيركم
خيركم لأهله في ذلك تنبيه على أعلى الناس رتبة في الخير وأحقهم بالاتصاف به
هو من كان خير الناس لأهله،
فإن الأهل هم الأحقاء بالبشر وحسن الخلق والاحسان وجلب
النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك فهو خير الناس، وإن كان على العكس من ذلك فهو في
الجانب الآخر من الشر، وكثيرا ما يقع الناس في هذه الورطة فترى الرجل إذا لقي أهله
كان أسوأ الناس أخلاقا، وأشحهم نفسا، وأقلهم خيرا، وإذا لقي غير الأهل من الأجانب
لأنت عريكته وانبسطت أخلاقه وجادت نفسه وكثر خيره، ولا شك أن من كان كذلك
فهو محروم التوفيق زائغ عن سواء الطريق نسأل الله السلامة.
وعن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما امرأة ماتت
وزوجها راض عنها دخلت الجنة رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دعا الرجل امرأته
إلى فراشه فأبت أن تجئ فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح متفق
عليه. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو كنت آمرا أحدا أن
يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يصلح لبشر أن يسجد
لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها
، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنحبس بالقيح والصديد
ثم استقبلته تلحسه ما أدت حقه رواه أحمد. وعن عائشة: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها،
ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود ومن جبل أسود إلى
جبل أحمر لكان نولها أن تفعل رواه أحمد وابن ماجة. وعن عبد الله بن أبي
أوفى قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما هذا يا معاذ؟
قال: أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فرددت في نفسي أن أفعل ذلك
لك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد
360

لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة
حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه رواه
أحمد وابن ماجة.
حديث أم سلمة: ذكر المصنف أن الترمذي قال فيه حديث حسن غريب، والذي وقفنا
عليه في نسخة صحيحة هذا حديث غريب، وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي، واللفظ الذي
ذكره المصنف هو في الترمذي بعد الحديث الذي قبل هذا وهو حديث طلق بن علي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا الرجل دعا زوجته لحاجته فلتأته وإن
كانت على التنور قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وحديث أبي هريرة الثاني
ذكر المصنف أن الترمذي حسنه، والذي وجدناه في نسخة صحيحة ما لفظه: قال
أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث غريب من هذا الوجه من حديث محمد بن عمرو وعن
أبي سلمة عن أبي هريرة انتهى. وحديث أنس وعائشة وعبد الله بن أبي أوفى
أشار إليها الترمذي بأنه قال في جامعه بعد إخراج حديث أبي هريرة المذكور ما لفظه:
(وفي الباب) عن معاذ بن جبل وسراقة بن مالك بن جعشم وعائشة وابن عباس
و عبد الله بن أبي أوفى وطلق بن علي وأسامة بن زيد وأنس وابن عمر انتهى. وقد
روى حديث أبي هريرة المذكور البزار بإسناد فيه سليمان بن داود اليمامي وهو
ضعيف، وروى البزار بإسناد رجاله رجال الصحيح عن أبي سعيد مرفوعا إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: حق الزوج على زوجته لو كانت به قرحة فلحستها
أو أنتن منخراه صديدا أو دما ثم ابتلعته ما أدت حقه وأخرج مثل هذا اللفظ
البزار من حديث أبي هريرة وأخرج قصة معاذ المذكورة في الباب البزار بإسناد رجاله
رجال الصحيح وأخرجها أيضا البزار والطبراني بإسناد آخر وفيه النهاس بن قهم وهو
ضعيف. وأخرجها أيضا البزار والطبراني بإسناد آخر رجاله ثقات، وقضية السجود
ثابتة من حديث ابن عباس عند البزار، ومن حديث سراقة عند الطبراني، ومن حديث
عائشة عند أحمد وابن ماجة، ومن حديث عصمة عند الطبراني وعن غير هؤلاء.
وحديث عائشة الذي ذكره المصنف ساقه ابن ماجة بإسناد فيه علي بن زيد بن جدعان
وفيه مقال، وبقية إسناده من رجال الصحيح. وحديث عبد الله بن أبي أوفى ساقه
ابن ماجة بإسناد صالح، فإن أزهر بن مروان والقاسم الشيباني صدوقان، فهذه أحاديث
361

في أنه لو صلح السجود لبشر لأمرت به الزوجة لزوجها، يشهد بعضها لبعض، ويقوي
بعضها بعضا. ويؤيد أحاديث الباب ما أخرجه أبو داود عن قيس بن سعد قال: أتيت
الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فقلت: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن
يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم
يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، قال: أرأيت لو مررت بقبري
أكنت تسجد له؟ قال قلت: لا، قال: فلا تفعلوا، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد
لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق وفي إسناده
شريك بن عبد الله القاضي، وقد تكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم في المتابعات. قوله:
دخلت الجنة فيه الترغيب العظيم إلى طاعة الزوج وطلب مرضاته وأنها موجبة للجنة.
قوله: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه قال ابن أبي جمرة الظاهر أن الفراش كناية عن الجماع،
ويقويه قوله: الولد للفراش أي لمن يطأ في الفراش، والكناية عن الأشياء التي يستحيا منها
كثيرة في القرآن والسنة، قال: وظاهر الحديث اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلا
لقوله: حتى تصبح وكأن السر فيه تأكيد ذلك لا أنه يجوز لها الامتناع في النهار،
وإنما خص الليل بالذكر لأنه المظنة لذلك. قال في الفتح: وقد وقع في رواية يزيد
بن كيسان عن أبي حازم عند مسلم بلفظ: والذي نفسي بيده ما من رجل يدعوا
امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى
عنها. ولابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر رفعه: ثلاثة لا تقبل لهم صلاة ولا
تصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة
الساخط عليها زوجها حتى يرضى هذه الاطلاقات تتناول الليل والنهار. قوله: فأبت
أن تجئ فبات غضبان عليها المعصية منها تتحقق بسبب الغضب منه، بخلاف ما إذا لم
يغضب من ذلك فلا تكون المعصية متحققة، إما لأنه عذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك
وقد وقع في رواية للبخاري: إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها وليس لفظ
المفاعلة على ظاهره بل المراد أنها هي التي هجرت، وقد يأتي لفظ المفاعلة ويراد
بها نفس الفعل، ولا يتجه عليها اللوم إلا إذا بدأت هي بالهجرة فغضب هو لذلك،
أو هجرها وهي ظالمة فلم تتنصل من ذنبها وهجرتها، أما لو بدأ هو بهجرها ظالما
لها فلا ووقع في رواية مسلم: إذا باتت المرأة هاجرة. قوله: لعنتها الملائكة
362

حتى تصبح في رواية للبخاري: حتى ترجع وهو كما قال الحافظ: أكثر فائدة،
قال: والأولى محمولة على الغالب كما تقدم وأخرج الطبراني والحاكم وصححه
من حديث ابن عمر مرفوعا: اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما عبد آبق، وامرأة
عصت زوجها حتى ترجع قال في الفتح حاكيا عن المهلب. (وفي الحديث)
جواز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الارهاب عليه لئلا يواقع الفعل، فإذا
واقعه فإنما يدعي له بالتوبة والهداية. قال الحافظ: ليس هذا التقييد مستفادا من
هذا الحديث بل من أدلة أخرى، قال: وقدر ارتضى بعض مشايخنا ما ذكره المهلب
من الاستدلال بهذا الحديث على جواز لعن العاصي المعين وفيه نظر. والحق
أن الذي منع اللعن أراد به المعنى اللغوي وهو الابعاد من الرحمة،
وهذا لا يليق أن يدعي به على المسلم، بل يطلب الهداية والتوبة والرجوع
عن المعصية، والذي أجازه أراد به معناه العرفي وهو مطلق السب، قال: ولا يخفى
أن محله إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر. وأما حديث الباب
فليس فيه إلا أن الملائكة تفعل ذلك ولا يلزم منه جوازه على الاطلاق.
(وفي الحديث) دليل على أن الملائكة تدعو على المغاضبة لزوجها الممتنعة
من إجابته إلى فراشه، وأما كونها تدعو على أهل المعاصي على الاطلاق كما قال
في الفتح، فإن كان من هذا الحديث فليس فيه إلا الدعاء على فاعل هذه المعصية
الخاصة، وإن كان من دليل آخر فذاك، وأما الاستدلال بهذا الحديث على أنهم
يدعون لأهل الطاعة كما فعل أيضا في الفتح ففاسد، فإنه لا يدل على ذلك بوجه من
وجوه الدلالة، وغايته أنه يدل بالمفهوم، على أن غير العاصية لا تلعنها الملائكة، فمن
أين أن المطيعة تدعو لها الملائكة؟ بل من أين أن كل صاحب طاعة يدعون له؟ نعم
قول الله تعالى: * (ويستغفرون الذين آمنوا) * يدل على أنهم يدعون للمؤمنين بهذا الدعاء
الخاص. وحكي في الفتح عن ابن أبي جمرة أنه قال: وهل الملائكة التي تلعنها هم
الحفظة أو غيرهم؟ يحتمل الامرين قال الحافظ: يحتمل أن يكون بعض الملائكة موكلا
بذلك، ويرشد إلى التعميم ما في رواية لمسلم بلفظ: لعنتها الملائكة الذي في السماء
فإن المراد به سكانها، وإخبار الشارع بأن هذه المعصية يستحق فاعلها لعن ملائكة
السماء يدل أعظم دلالة على تأكد وجوب طاعة الزوج وتحريم عصيانه ومغاضبته.
363

قوله: قرحة أي جرح. قوله: تنبجس بالجيم والسين المهملة. قال في القاموس:
بجس الماء والجرح يبجسه شقه، قال: وبجسه تبجيسا فجره فانبجس وتبجس.
قوله: بالقيح قال في القاموس: القيح المدة لا تخالطها دم، قاح الجرح يقيح كقاح
يقوح. والصديد ماء الجرح الرقيق على ما في القاموس. قوله: نولها بفتح
النون وسكون الواو أي حظها وما يجب عليها أن تفعل، والنول العطاء في الأصل.
قوله: لأساقفتهم الأسقف من النصارى العالم الرئيس، والبطريق الرجل العظيم.
وفي هذا الحديث دليل على أن من سجد جاهلا لغير الله لم يكفر.
وعن عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: استوصوا بالنساء خيرا
فإنما هن عندكم عوان، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم
فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن لكم من نسائكم حقا، ولنساؤكم عليكم حقا، فإما
حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون،
ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن. رواه ابن ماجة والترمذي
وصححه، وهو دليل على أن شهادته عليها بالزنا لا تقبل لأنه شهد لنفسه بترك حقه
والجناية عليه. وعن معاوية القشيري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
سأله رجل: ما حق المرأة على الزوج؟ قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا
اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجة. وعن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
أنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا، وأخفهم في الله رواه
أحمد. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحل
للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه متفق عليه. وفي رواية لا تصوم امرأة
وزوجها شاهد يوما من غير رمضان إلا بإذنه رواه الخمسة إلا النسائي، وهو حجة
لمن يمنعها من صوم النذر وإن كان معينا إلا بإذنه.
حديث عمرو بن الأحوص أخرجه أيضا بقية أهل السنن. وحديث معاوية
القشيري أخرجه النسائي، وسكت عنه أبو داود والمنذري، وصححه الحاكم
364

وابن حبان. وحديث معاذ أخرج نحوه الطبراني في الصغير والأوسط
عن ابن عمر مرفوعا ولفظه: لا ترفع العصا عن أهلك وأخفهم في الله
عز وجل قال في مجمع الزوائد: وإسناده جيد. قوله: عوان جمع عانية والعاني
الأسير. قوله: فإن فعلن فاهجروهن الخ، في صحيح مسلم من حديث فإن
فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح. وظاهر حديث الباب أنه لا يجوز الهجر في
المضجع والضرب إلا إذا أتين بفاحشة مبينة لا بسبب غير ذلك وقد ورد النهي عن
ضرب النساء مطلقا، فأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم
من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب بضم الذال المعجمة وبموحدتين مرفوعا
بلفظ: لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر فقال: قد ذئر النساء على أزواجهن فأذن لهم
فضربوهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساء كثيرة فقال: لقد أطاف
بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعون امرأة كلهن يشكين أزواجهن ولا
تجدون أولئك خياركم. ولفظ أبي داود: لقد طاف بآل محمد نساء كثيرة يشكون
أزواجهن ليس أولئك بخيارهم. وله شاهد من حديث ابن عباس في صحيح
ابن حبان، وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عند البيهقي. وذئر النساء
بفتح الذال المعجمة وكسر الهمزة بعدها راء أي نشزن وقيل عصين. قال الشافعي:
يحتمل أن يكون قبل نزول الآية بضربهن يعني قوله تعالى: * (واضربوهن) * (سورة غافر، الآية: 7). ثم أذن
بعد نزولها فيه، ومحل ذلك أن يضربها تأديبا إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها
فيه طاعته، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكن الوصول إلى الغرض
بالإبهام لا يعدل إلى الفعل لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة
المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله وقد أخرج النسائي عن
عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة له ولا خادما قط،
ولا ضرب بيده شيئا قط إلا في سبيل الله أو تنتهك محارم الله فينتقم لله وفي الصحيحين:
لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم. وفي رواية من آخر الليلة
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته. قوله: فلا يوطئن فرشكم من
تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون هذا محمول على عدم العلم برضا
365

الزوج، أما لو علمت رضاه بذلك فلا حرج عليها، كمن جرت عادته بإدخال الضيفان
موضعا معدا لهم فيجوز إدخالهم سواء كان حاضرا أو غائبا، فلا يفتقر ذلك إلى
الاذن من الزوج. وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: ولا يأذن في بيته
إلا بإذنه وهو يفيد بأن حديث الباب مقيد بعدم الاذن. قوله: ولا تضربوا
الوجه فيه دليل على وجوب اجتناب الوجه عند التأديب. قوله: ولا تقبح أي
لا تقول لامرأتك قبحها الله. قوله: ولا تهجر إلا في البيت المراد أنه إذا رابه
منها أمر فيهجرها في المضجع ولا يتحول عنها إلى دار أخرى أو يحولها إليها، لكنه
ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هجر نساءه وخرج إلى
مشربة له. قوله: ولا ترفع عنهم عصاك فيه أنه ينبغي لمن كان له عيال أن يخوفهم
ويحذرهم الوقوع فيما لا يليق ولا يكثر تأنيسهم ومداعبتهم فيفضي ذلك إلى الاستخفاف
به، ويكون سببا لتركهم للآداب المستحسنة وتخلقهم بالأخلاق السيئة. قوله: لا
يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد أي حاضر، ويلحق بالزوج السيد بالنسبة
إلى أمته التي يحل له وطؤها. ووقع في رواية للبخاري: وبعلها حاضر وهي أفيد
لأن ابن حزم نقل عن أهل اللغة أن البعل اسم للزوج والسيد، فإن ثبت وإلا كان
السيد ملحقا بالزوج للاشتراك في المعنى. قوله: إلا بإذنه يعني في غير صيام
أيام رمضان، وكذا سائر الصيامات الواجبة، ويدل على اختصاص ذلك بصوم التطوع.
قوله في حديث الباب: من غير رمضان. وما أخرجه عبد الرزاق من طريق الحسن بن
علي بلفظ: لا تصوم المرأة غير رمضان وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا في أثناء حديث: ومن حق الزوج على زوجته أن لا تصوم تطوعا
إلا بإذنه فإن فعلت لم يقبل منها والحديث يدل على تحريم صوم التطوع على
المرأة بدون إذن زوجها الحاضر وهو قول الجمهور. وقال بعض أصحاب الشافعي
يكره. قال النووي: والصحيح الأول، قال: فلو صامت بغير إذنه صح وأثمت لاختلاف
الجهة وأمر القبول إلى الله. قال النووي أيضا: ويؤكد التحريم ثبوت الخبر بلفظ
النهي، ووروده بلفظ الخبر لا يمنع ذلك بل هو أبلغ لأنه يدل على تأكيد الامر فيه
فيكون على التحريم. قال: وسبب هذا التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بها في كل وقت،
وحقه واجب على الفور فلا تفوته بالتطوع وإذا أراد الاستمتاع بها جاز ويفسد
366

صومها، وظاهر التقييد بالشاهد أنه يجوز لها التطوع إذا كان الزوج غائبا، فلو صامت
وقد في أثناء الصيام قيل: فله إفساد صومها ذلك من غير كراهة، وفي معنى الغيبة أن
يكون مريضا بحيث لا يستطيع الجماع. وحمل المهلب النهي المذكور على التنزيه فقال:
هو من حسن المعاشرة، ولها أن تفعل من غير الفرائض بغير إذنه لا يضره، وليس
له أن يبطل شيئا من طاعة الله إذا دخلت فيه بغير إذنه. قال الحافظ: وهو خلاف
ظاهر الحديث.
باب نهي المسافر أن يطرق أهله بقدومه ليلا
عن أنس قال: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يطرق أهله ليلا، وكان يأتيهم
غدوة أو عشية. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أطال أحدكم الغيبة
فلا يطرق أهله ليلا. وعن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة
فلما قدمنا ذهبنا لندخل فقال: أمهلوا حتى ندخل ليلا أي عشاء لكي تمتشط الشعثة
وتستحد المغيبة متفق عليهن. وعن جابر قال: نهى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم
أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يطلب عثراتهم رواه مسلم. قوله: كان لا يطرق
قال أهل اللغة: الطروق بالضم المجئ بالليل من سفر أو غيره على غفلة، ويقال لكل
آت بالليل طارق، ولا يقال في النهار إلا مجازا. وقال بعض أهل اللغة: أصل الطروق
الدفع والضرب، وبذلك سميت الطريق لأن المارة تدفعها بأرجلها، وسمي الآتي
بالليل طارقا لأنه محتاج غالبا إلى دق الباب. وقيل: أصل الطروق السكون ومنه
أطرق رأسه، فلما كان الليل يسكن فيه سمي الآتي فيه طارقا. قوله: إذا أطال
أحدكم الغيبة فيه إشارة إلى أن علة النهي إنما توجد حينئذ، فالحكم يدور مع
علته وجودا وعدما، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلا نهارا ويرجع ليلا لا يتأتى
له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة، قيد الشارع النهي عن الطروق بالغيبة الطويلة،
والحكمة في النهي عن الطروق أن المسافر ربما وجد أهله مع الطروق وعدم
شعورهم بالقدوم على غير أهبة من التنظيف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك
سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى هذا في الحديث الذي بعده. وقد أخرج ابن خزيمة
367

في صحيحه عن ابن عمر قال: قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة
فقال: لا تطرقوا النساء، وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون وأخرج ابن خزيمة
أيضا من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطرق
النساء ليلا، فطرق رجل مع امرأته. وأخرج نحوه من حديث
ابن عباس وقال: رجلان فكلاهما وجد مع امرأته رجلا. وأخرج أبو عوانة
في صحيحه عن جابر: أن عبد الله بن رواحة أتى امرأة
ليلا وعندها امرأة تمشطها فظنها رجلا فأشار إليه بالسيف، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
ذلك نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا. قوله: حتى تدخل ليلا. ظاهره المعارضة
بما تقدم من النهي عن الطروق ليلا، وقد جمع بأن المراد بالليل ههنا أوله، وبالنهي
الدخول في أثنائه، فيكون أول الليل إلى وقت العشاء مخصصا من عموم ذلك النهي،
والأولى في الجمع أن الاذن بالدخول ليلا لمن كان قد أعلم أهله بقدومه فاستعدوا
له، والنهي لمن لم يكن قد أعلمهم. قوله: الشعثة بفتح المعجمة وكسر العين
المهملة بعدها مثلثة وهي التي لم تدهن شعرها وتمشطه. قوله: وتستحد بحاء
مهملة أي تستعمل الحديدة وهي الموسى. والمغيبة بضم الميم وكسر المعجمة بعدها
تحتانية ساكنة ثم موحدة التي غاب عنها زوجها، والمراد إزالة الشعر عنها، وعبر
بالاستحداد لأن الغالب استعماله في إزالة الشعر، وليس فيه منع من الإزالة بغير
الموسى. قوله: يتخونهم أو يطلب عثراتهم هكذا بالشك، قال سفيان: لا أدري
هكذا في الحديث أم لا، يعني يتخونهم أو يطلب عثراتهم، والتخون أن يظن وقوع
الخيانة له من أهله وعثراتهم بفتح المهملة والمثلثة جمع عثرة وهي الزلة، ووقع في
حديث جابر عند أحمد والترمذي بلفظ: لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان
يجري من ابن آدم مجرى الدم.
باب القسم للبكر والثيب الجديدتين
عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما تزوجها أقام
عندها ثلاثة أيام وقال: إنه ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت سبعت لك، وإن سبعت
368

لك سبعت لنسائي رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة. ورواه الدارقطني
ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها حين دخل بها: ليس بك
على أهلك هوان، إن شئت أقمت عندك ثلاثا خالصة لك، وإن شئت سبعت لك وسبعت
لنسائي، قالت: تقيم معي ثلاثا خالصة. وعن أبي قلابة عن أنس قال: من
السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم، وإذا تزوج الثيبة أقام
عندها ثلاثا ثم قسم، قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أخرجاه. وعن أنس قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول: للبكر سبعة أيام وللثيب ثلاث ثم يعود إلى نسائه
رواه الدارقطني. وعن أنس قال: لما أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم
صفية أقام عندها ثلاثة وكانت ثيبا رواه أحمد وأبو داود.
لفظ الدارقطني في حديث أم سلمة في إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا،
وحديث أنس الآخر في الإقامة عند صفية أخرجه أيضا النسائي ورجال أبي داود
رجال الصحيح. قوله: سبعت لك في رواية لمسلم: وإن شئت ثلثت ثم درت
قالت ثلث. وفي رواية للحاكم أنها أخذت بثوبه مانعة له من الخروج من بيتها
قال لها إن شئت الحديث. وفي حديث أم سلمة دليل على أن الزوج إذا تعدى
السبع للبكر والثلاث للثيب بطل الايثار، ووجب قضاء سائر الزوجات مثل تلك المدة
بالنص في الثيب والقياس في البكر، ولكن إذا وقع من الزوج تعدي تلك المدة
بإذن الزوجة. ومعنى قوله: ليس بك على أهلك هوان أنه لا يلحقك هوان ولا يضيع
من حقك، قال القاضي عياض: المراد بأهلك هنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه،
أي إني لا أفعل فعلا به هوانك. قوله: قال أبو قلابة الخ، قال ابن دقيق العيد:
قول أبي قلابة يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون ظن أنه سمعه عن أنس مرفوعا
لفظا فتحرز عنه تورعا. والثاني أن يكون رأى أن قول أنس من السنة في حكم المرفوع،
فلو عبر عنه بأنه مرفوع على حسب اعتقاده لصح لأنه في حكم المرفوع. قال: والأول
أقرب، لأن قوله من السنة يقتضي أن يكون مرفوعا بطريق اجتهادي محتمل. وقوله
إنه رفعه نص في رفعه، وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهر محتمل إلى ما هو نص في
رفعه، وبهذا يندفع ما قاله بعضهم من عدم الفرق بين قوله من السنة كذا وبين رفعه
369

إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد روى هذا الحديث جماعة عن أنس وقالوا
فيه: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في البيهقي، ومستخرج الإسماعيلي، وصحيح
أبي عوانة، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، والدارمي، والدارقطني، وأحاديث
الباب تدل على أن البكر تؤثر بسبع والثيب بثلاث، قيل: وهذا في حق من كان له زوجة
قبل الجديدة. وقال ابن عبد البر حاكيا عن جمهور العلماء: إن ذلك حق للمرأة بسبب
الزفاف، وسواء كان عنده زوجة أم لا، وحكى النووي أنه يستحب إذا لم يكن عنده غيرها
وإلا فيجب. قال في الفتح: وهذا يوافق كلام الأصحاب، واختار النووي أن
لا فرق، وإطلاق الشافعي يعضده، ويمكن التمسك لقول من اشترط أن يكون عنده زوجة قبل
الجديدة بقوله في حديث أنس المذكور: إذا تزوج البكر على الثيب ويمكن الاستدلال
لمن لم يشترط بقوله في حديث أنس أيضا: للبكر سبع وللثيب ثلاث. قال الحافظ: لكن
القاعدة أن المطلق محمول على القيد، قال: وفيه يعني حديث أنس المذكور حجة على
الكوفيين في قولهم: إن البكر والثيب سواء في الثلاث، وعلى الأوزاعي في قوله للبكر
ثلاث، وللثيب يومان، وفيه حديث مرفوع عن عائشة أخرجه الدارقطني بسند ضعيف
جدا انتهى. وحكي في البحر عن أبي حنيفة وأصحابه والحكم وحماد أنها تؤثر
البكر والثيب بذلك المقدار تقديما، ويقضي البواقي مثله. وحكي في البحر أيضا عن
الحسن البصري وابن المسيب أنها تؤثر البكر بليلتين والثيب بليلة. قال في الفتح
تنبيه: يكره أن يتأخر في السبع أو الثلاث عن الصلاة وسائر أعمال البر قال: وعن ابن
دقيق العيد أنه قال: أفرط بعض الفقهاء فجعل مقامه عندها عذرا في إسقاط الجمعة وبالغ
في التشنيع، وأجيب بأنه قياس قول من يقول بوجوب المقام عندها وهو قول الشافعية.
ورواه ابن قاسم عن مالك، وعنه يستحب وهو وجه للشافعية، فعلى الأصح يتعارض عنده
الواجبان، فيقدم حق الآدمي فليس بشنيع وإن كان مرجوحا انتهى. ولا يخفى
أن مثل هذا لا يرد به على تشنيع ابن دقيق العيد لأنه شنع على القائل كائنا من كان
وهو قول شنيع كما ذكر، فكيف يجاب عنه بأن هذا قد قال به فلان وفلان؟ اللهم إلا أن
يكون ابن دقيق العيد موافقا في وجوب المقام بلا استثناء.
370

باب ما يجب فيه التعديل بين الزوجات وما لا يجب
عن أنس قال: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تسع نسوة، وكان إذا
قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلى تسع، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها
رواه مسلم. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما من
يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا، امرأة امرأة، فيدنو ويلمس من غير مسيس حتى يفضي
إلى التي هو يومها فيبيت عندها رواه أحمد وأبو داود بنحوه. وفي لفظ: كان إذا
انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن متفق عليه. وعن
أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كانت له امرأتان يميل لإحداهما
على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا رواه الخمسة.
حديث عائشة أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه ولفظ أبي داود في رواية:
كان لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان ما من يوم إلا وهو يطوف
علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها
وحديث أبي هريرة أخرجه الدارمي وابن حبان والحاكم قال: وإسناده على شرط
الشيخين، واستغربه الترمذي مع تصحيحه. وقال عبد الحق: هو خبر ثابت، لكن
علته أن هماما تفرد به، وأن هشاما رواه عن قتادة فقال: كان يقال. وأخرج أبو نعيم
عن أنس نحوه. قوله: إلى تسع فيه دليل على أن القسمة كانت بين تسع، ولكن
المشهور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسم بين ثمان من نسائه فقط، فكان
يجعل لعائشة يومين يومها ويوم سودة الذي وهبته لها، ولكل واحدة يوما، وفيه
دليل على أنه لا يشترط في العدل بين الزوجات أن يفترض لكل واحدة ليلة بحيث
لا يجتمع فيها مع غيرها، بل يجوز مجالسة غير صاحبة النوبة ومحادثتها، ولهذا كن يجتمعن
كل ليلة في بيت صاحبة النوبة، وكذلك يجوز للزوج دخول بيت غير صاحبة النوبة
والدنو منها واللمس إلا الجماع، كما في حديث عائشة المذكور. قوله: يميل لإحداهما
فيه دليل على تحريم الميل إلى إحدى الزوجتين دون الأخرى إذا كان ذلك في
أمر يملكه الزوج كالقسمة والطعام والكسوة، ولا يجب على الزوج التسوية بين
الزوجات فيما لا يملكه كالمحبة ونحوها لحديث عائشة الآتي. وقد ذهب أكثر الأئمة
إلى وجوب القسمة بين الزوجات. وحكي في البحر عن قوم مجاهيل أنه يجوز لمن
371

له زوجتان أن يقف مع إحداهما ليلة ومع أخرى ثلاثا، لأن له أن ينكح أربعا،
وله إيثار أيهما شاء بالليلتين. ومثله عن الناصر لكن حمله أصحابه على الحكاية
دون أن يكون مذهبه، ولا شك أن مثل هذا يعد من الميل الكلي والله يقول: *
(فلا تميلوا كل الميل) *.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم فيعدل ويقول:
اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك رواه الخمسة إلا
أحمد. وعن عمر قال قلت: يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها:
لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يريد عائشة فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم متفق عليه. وعن عائشة:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا
غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان في بيت عائشة
حتى مات عندها متفق عليه. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كان إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها
معه متفق عليه.
حديث عائشة الأول أخرجه أيضا الدارمي وصححه ابن حبان والحاكم،
ورجح الترمذي إرساله فقال: رواية حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة
مرسلا أصح، وكذا أعله النسائي والدارقطني. وقال أبو زرعة: لا أعلم أحدا تابع
حماد بن سلمة على وصله. قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم
فيعدل استدل به من قال: إن القسم كان واجبا عليه، وذهب بعض المفسرين
والاصطخري والمهدي في البحر إلى أنه لا يجب عليه واستدلوا بقوله تعالى: * (ترجي
من تشاء منهن) * (سورة النساء، الآية: 129) الآية، وذلك في خصائصه. قوله: فلا تلومني فيما تملك ولا أملك
قال الترمذي: يعني به الحب والمودة، كذلك فسره أهل العلم. وقد أخرج البيهقي من
طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين
النساء) * (سورة الأحزاب، الآية: 51) قال: في الحب والجماع. وعند عبيدة بن عمر والمسلماني مثله. قوله: أن كانت
جارتك بالفتح للهمزة وبالكسر كما في الفتح، والمراد بالجارة ههنا الضرة أو هو
على حقيقته لأنها كانت مجاورة لها. قال في الفتح: والأولى أن يحمل اللفظ هنا على معنييه
372

لصلاحيته لكل منهما، والعرب تطلق على الضرة جارة لتجاورهما المعنوي لكونهما
عند شخص واحد وإن لم يكن حسيبا. قوله: أوضأ منك من الوضاءة ووقع في
رواية المعمر: أوسم من الوسامة والمراد أجمل كأن الجمال وسمة أي علامة. قوله:
يريد يوم عائشة فيه دليل على أنه مجرد إرادة الزوج أن يكون عند بعض
نساءه في مرضه أو في غيره لا يكون محرما عليه بل يجوز له ذلك، ويجوز للزوجات
الاذن له بالوقوف مع واحدة منهن. قوله: إذا أراد أن يخرج سفرا مفهومه
اختصاص القرعة بحالة السفر وليس على عمومه، بل لتعين القرعة من يسافر بها،
ويجري القرعة أيضا فيما إذا أراد أن يقسم بين نسائه، فلا يبدأ بأيتهن شاء بل
يقرع بينهن، فيبدأ بالتي تخرج لها القرعة إلا أن يرضين بتقديم من يختاره جاز بلا
قرعة. قوله: أقرع استدل بذلك على مشروعية القرعة في القسمة بين الشركاء
وغير ذلك، والمشهور عن الحنفية المالكية عدم اعتبار القرعة. قال القاضي
عياض: هو مشهور عن مالك وأصحابه لأنها من باب الخطر والقمار، وحكي
عن الحنفية إجازتها، انتهى.
باب المرأة تهب يومها لضرتها أو تصالح الزوج على إسقاطه
عن عائشة: أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة متفق عليه. وعن عائشة
في قوله تعالى: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو
إعراضا) * (سورة النساء، الآية: 129) قالت: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج
غيرها تقول له: أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة علي
والقسم لي فذلك قوله تعالى: * (فلا جناح عليهما أن يصلح بينهما صلحا والصلح خير) *
(سورة النساء، الآية: 128) وفي رواية قالت: وهو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرا أو غيره فيريد فراقها
فتقول: أمسكني وأقسم لي ما شئت، قالت: فلا بأس إذا تراضيا متفق عليهما. وعن
عطاء عن ابن عباس قال: كان عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسع وكان يقسم
لثمان ولا يقسم لواحدة، قال عطاء: التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب رواه
373

أحمد ومسلم، والتي ترك القسم لها يحتمل أن يكون عن صلح ورضا منها، ويحتمل أنه
كان مخصوصا بعدم وجوبه عليه لقوله تعالى: * (ترجي من تشاء منهن) * (سورة الأحزاب، الآية: 51) الآية.
قوله: أن سودة قال في الفتح: هي زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان
تزوجها وهي بمكة بعد موت خديجة ودخل عليها بها وهاجرت معه. ووقع لمسلم
من طريق شريك عن هشام في آخر حديث الباب قالت عائشة: وكانت
امرأة تزوجها بعدي ومعناه عقد عليها بعد أن عقد على عائشة. وأما
الدخول بعائشة فكان بعد سودة بالاتفاق، وقد نبه على ذلك ابن الجوزي.
قوله: وهبت يومها في لفظ للبخاري في الهبة يومها وليلتها وزاد في آخره: تبتغي بذلك
رضا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولفظ أبي داود: ولقد قالت سودت بنت زمعة حين
أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله يومي لعائشة
فقيل ذلك منها ففيها وأشباهها نزلت: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا) * (سورة النساء، الآية: 128) الآية.
ورواه أيضا ابن سعد وسعيد بن منصور والترمذي وعبد الرزاق. قال الحافظ في
الفتح: فتواردت هذه الروايات على أنها خشيت الطلاق فوهبت. قال: وأخرج ابن
سعد بسند رجاله ثقات من رواية القاسم بن أبي برة مرسلا: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم طلقها فقعدت له على طريقه فقالت: والذي بعثك بالحق ما لي في
الرجال حاجة، ولكن أحب أن أبعث مع نسائك يوم القيامة فأنشدك الذي أنزل
عليك الكتاب هل طلقتني لموجدة وجدتها علي؟ قال: لا، قالت: فأنشدك لما راجعتني،
فراجعها، قالت: فإني قد جعلت يومي وليلتي لعائشة حبة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: يومها ويوم سودة لا نزاع أنه يجوز إذا كان يوم الواهبة.
واليا ليوم الموهوب لها بلا فصل أن يوالي الزوج بين اليومين للموهوب لها، وأما
إذا كان بينهما نوبة زوجة أخرى أو زوجات فقال العلماء: إنه لا يقدمه من رتبته
في القسم إلا برضا من بقي، وهل يجوز للموهوب لها أن تمتنع عن قبول النوبة الموهوبة؟
فإن كان قد قبل الزوج لم يجز لها الامتناع، وإن لم يكن قد قبل لم يكره على ذلك،
حكي ذلك في الفتح عن العلماء، قال: وإن وهبت يومها لزوجها ولم تتعرض للضرة
فهل له أن يخص واحدة إن كان عنده أكثر من اثنتين أو يوزعه بين من بقي؟ قال:
وللواهبة في جميع الأحوال الرجوع عن ذلك متى أحبت، لكن فيما
374

يستقبل لا فيما مضى. قال في البحر: وللواهبة الرجوع متى شاءت فيقضيها ما فوت بعد العلم برجوعها
لا قبله. وحديث عائشة يدل على أنه يجوز للمرأة أن تهب يومها لضرتها وهو مجمع
عليه كما في البحر، والآية المذكورة تدل على أنه يجوز للمرأة أن تصالح زوجها
إذا خافت منه أن يطلقها بما تراضيا عليه من إسقاط نفقة أو إسقاط قسمها
أو هبة نوبتها أو غير ذلك مما يدخل تحت عموم الآية. قوله: قال عطاء التي
لا يقسم لها صفية. قد ذكر ابن القيم في أول الهدى عند الكلام على هديه
صلى الله عليه وآله وسلم في النكاح: والقسم أن هذا غلط، وأن صفية إنما
أسقطت نوبتها من القسمة مرة واحدة وقالت: هل لك أن تطيب نفسك عني
وأجعل يومي لعائشة؟ أي ذلك اليوم بعينه في تلك المرة، هذا معنى كلامه فليراجع فإنه لم
يحضرني وقت الرقم.
375