الكتاب: الشرح الكبير
المؤلف: عبد الرحمن بن قدامه
الجزء: ١٠
الوفاة: ٦٨٢
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

الشرح الكبير
على متن المقنع، تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد
ابن قدامة المقدسي المتوفي سنة 682 ه‍
كلاهما على مذهب إمام الأئمة (أبي عبد الله أحمد بن محمد بن
حنبل الشيباني) مع بيان خلاف سائر الأئمة وأدلتهم رضي الله عنهم
الجزء العاشر
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
باب القسامة
وهي الايمان المكررة في دعوى القتل والقسامة مصدر أقسم قسامة ومعناه حلف حلفا،
والمراد بالقسامة ههنا الايمان المكررة في دعوى القتل، وقال القاضي هي الايمان إذا كثرت على
وجه المبالغة، قال وأهل اللغة يذهبون إلى انها القوم الذين يحلفون سموا باسم المصدر كما يقال رجل
عدل ورضى، وأي الامرين كان فهو من القسم الذي هو الحلف، والأصل في القسامة ما روي عن
سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج ان محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا إلى خيبر فتفرقا
في النخيل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن وأبناء عمه حويصة ومحيصة
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كبر الكبر) أو قال
2

(ليبدأ الأكبر) فتكلما في أمر صاحبهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون منكم على رجل
منهم فيدفع إليكم برمته) فقالوا أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال (فتبرئكم يهود بايمان خمسين منهم)
قالوا يا رسول الله قوم كفار ضلال قال فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله قال سهل فدخلت مربدا لهم
فركضتني ناقة من تلك الإبل) متفق عليه
(مسألة) (ولا يثبت إلا بشروط أربعة: أحدها دعوى القتل ذكرا كان المقتول أو أنثى
حرا أو عبدا مسلما أو ذميا وأما الجراح فلا قسامة فيها)
دعوى القتل شرط في القسامة ولا تسمع الدعوى إلا محررة بأن يقول ادعي ان هذا قتل وليي
فلان ابن فلان عمدا أو خطأ أو شبه عمد، ويصف القتل فإن كان عمدا قال قصد إليه بسيف أو بما
يقتل مثله غالبا. فإن كانت الدعوى على واحد فأقر ثبت القتل فإن أنكر وثم بينة حكم بها وإلا صار
الامر إلى الايمان، وان كانت الدعوى على أكثر من واحد لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن
يقول قتله هذا وهذا تعمد قتله، ويصف العمد بصفته فيقال له عين واحدا فإن القسامة الموجبة للقود
لا تكون على أكثر من واحد (الحال الثاني) أن يقول تعمد هذا وهذا كان خاطئا فهو يدعي قتلا
غير. موجب للقود فيقسم عليهما ويأخذ نصف الدية من مال العامد ونصفها من مال الخاطئ
(الحال الثالث) أن يقول عمد هذا ولا أدري أكان قتل الثاني عمدا أو خطأ فقيل لا تسوغ القسامة
3

ههنا لأنه يحتمل أن يكون الآخر مخطئا فيكون موجبها الدية عليهما ويحتمل أن يكون عامدا فلا
يسوغ ههنا ويجب تعيين واحد والقسامة عليه فيكون موجبها القود فلم تجز القسامة مع هذا، فإن عاد
فقال علمت أن الآخر كان عامدا فله أن يعين واجدا ويقسم عليه، وإن قال كان مخطئا ثبتت القسامة
حينئذ ويسئل الآخر فإن أنكر ثبتت القسامة وإن أقر ثبت عليه القتل ويكون عليه نصف الدية في
ماله لأنه ثبت باقراره لا بالقسامة، وقال القاضي يكون على عاقلته والأول أصح لأن العاقلة لا تحمل
اعترافا (الحال الرابع) أن يقول قتلاه خطأ أو شبه عمدا أو أحدهما خاطئا والآخر شبهه العمد فله أن
يقسم عليهما، فإن ادعى انه قتل وليه عمدا فسئل عن تفسيره العمد ففسره بعمد الخطأ قبل تفسيره
وأقسم على ما فسره به لأنه أخطأ في وصف القتل بالعمدية، ونقل المزني عن الشافعي لا يحلف عليه
لأنه بدعوى العمد برأ العاقلة فلم تسمع دعواه بعد ذلك ما يوجب عليهم المال
ولنا ان دعواه قد تحررت وإنما غلط في تسمية شبه العمد عمدا وهذا مما يشتبه فلا يؤاخذ به
ولو أحلفه الحاكم قبل تحرير الدعوى وتبيين نوع القتل لم يعتد باليمين لأن الدعوى لا تسمع غير محررة
فكأنه أحلفه قبل الدعوى ولأنه إنما يحلفه ليوجب له ما يستحقه فإذا لم يعلم ما يستحقه بدعواه لم
يحصل المقصود باليمين فلم يصح
(فصل) قال القاضي يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم انه قتله وإن كانوا
4

غائبين عن مكان القتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار (تحلفون وتستحقون دم صاحبكم) وكانوا
بالمدينة والقتل بخيبر، ولان للانسان أن يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من انسان شيئا فجاء
آخر يدعيه جاز أن يحلف انه لا يستحقه لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه وكذلك إذا وجد شيئا
بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز أن يحلف، وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا فادعى عليه المشتري
انه معيب وأراد رده كان له ان يحلف انه باعه بريئا من العيب، ولا ينبغي أن يحلف المدعي إلا بعد
الاستثبات وغلبه ظن يقارب اليقين، وينبغي للحاكم أن يقول لهم اتقوا الله واستثبتوا ويعظهم
ويحذرهم ويقرأ عليهم (ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) ويعرفهم ما في اليمين
الكاذبة وظلم البرئ وقتل النفس بغير الحق ويعرفهم ان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة
وهذا كله مذهب الشافعي
(مسألة) (وسواء كان المقتول ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا مسلما أو ذميا)
أما إذا كان المقتول مسلما حرا فليس فيه اختلاف سواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا فإن
الأصل في القسامة قصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فاتهم اليهود بقتله فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة
وأما إن كان المقتول كافرا أو عبدا وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله وهو المماثل له في حاله أو دونه
ففيه القسامة، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي، وقال الزهري والثوري ومالك والأوزاعي
لا قسامة في العبد لأنه مال فلم تجب القسامة فيه كالبهيمة
5

ولنا انه قتل موجب للقصاص فأوجب القسامة كقتل الحر بخلاف البهيمة فإنه لا قصاص فيها
ويقسم على العبد سيده لأنه المستحق لدمه، وأم الود والمدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة كالقن لأن
الرق ثابت فيهم، فإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه كالمسلم يقتل كافرا والحر يقتل عبدا فلا قسامة
فيه في ظاهر قول الخرقي وهو قول مالك لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود وقال القاضي فيها
القسامة وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة فشرعت القسامة فيه
كقتل الحر المسلم، ولان ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل العبد والكافر كالبينة،
ووجه قول الخرقي انه قتل لا يوجب القصاص فأشبه قتل البهيمة ولا يلزم من شرعها فيما يوجب
القصاص شرعها مع عدمه بدليل ان العبد لو اتهم بقتل سيده وجبت القسامة إذا كان القتل موجبا
للقصاص ذكره القاضي لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك ولو لم يكن موجبا للقصاص لم تشرع القسامة
(فصل) وإن قتل عبد المكاتب فللمكاتب أن يقسم على الجاني لأنه مالك العبد يملك التصرف
فيه وفي بدله وليس لسيده انتزاعه منه وله شراؤه منه، ولو اشترى المأذون له في التجارة عبدا فقتل
فالقسامة لسيده دونه لأن ما اشتراه المأذون يملكه سيده دونه ولهذا يملك انتزاعه منه، وإن عجز
المكاتب قبل أن يقسم فلسيده أن يقسم لأنه صاو المستحق لبدل المقتول بمنزلة ورثة الحر إذا مات
قبل أن يقسم، ولو ملك السيد عبده أو أم ولده عبدا فقتل فالقسامة للسيد سواء قلنا يملك العبد
6

بالتمليك أولا يملك لأنه ان لم يملك فالملك لسيده وان ملك فهو ملك غير ثابت ولهذا يملك سيده
انتزاعه منه ولا يجوز له التصرف بغير اذن سيده بخلاف المكاتب، وان أوصى لام ولده ببدل العبد
صحت الوصية وإن كان لم يجب بعد كما تصح الوصية بثمرة لم تخلق والقسامة للورثة لأنهم القائمون
مقام الموصي في اثبات حقوقه فإذا حلفوا ثبت لها البدل بالوصية فإن لم يحلفوا لم يكن لها أن تحلف
كما إذا امتنع الورثة باليمين مع الشاهد لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه
(فصل) والمحجور عليه لسفه أو فلس كغير المحجور عليه في دعوى القتل والدعوى عليه لأنه
إذا أقر بمال أو لزمته الدية بالنكول عن اليمين لم تلزمه في حال حجره لأن اقراره بالمال في الحال غير
مقبول بالنسبة إلى أخذ شئ من ماله في الحال على ما عرف في موضعه
(فصل) ولو جرح مسلم فارتد فمات على الردة فلا قسامة فيه لأن نفسه غير مضمونة ولا قسامة
فيما دون النفس ولان ماله يصير فيأ والفئ ليس له مستحق معين فتثبت القسامة له، وان مات مسلما
فارتد وارثه قبل القسامة فقال أبو بكر ليس له أن يقسم وان أقسم لم يصح لأن ملكه يزول عن
ماله وحقوقه فلا يبقى مستحقا للقسامة وهذا قول المزني ولان المرتد قد أقدم على الكفر الذي لا
ذنب أعظم منه فلا يستحق بيمينه دم مسلم ولا يثبت بها قتل، وقال القاضي الأولى أن تعرض عليه
القسامة فإن أقسم وجبت الدية وهذا قول الشافعي لأن استحقاق المال بالقسامة حق له فلا يبطل
7

بردته كاكتساب المال بوجوه الاكتساب وكفره لا يمنع يمينه لأن الكافر تصح يمينه ويعرض
عليه في الدعاوى فإن حلف ثبت القصاص أو الدية، فإن عاد إلى الاسلام كان له وان مات كان فيئا
والصحيح إن شاء الله ما قاله أبو بكر لأن مال المرتد اما أن يكون ملكه قد زال عنه واما موقوف
وحقوق المال حكمها حكمه، فإن قلنا يزول ملكه فلا حق له وان قلنا هو موقوف فهو قبل انكشاف
حاله مشكوك فيه فلا يثبت الحكم بشئ مشكوك فيه كيف وقتل المسلم أمر كبير لا يثبت مع
الشبهات ولا يستوفى مع الشك؟ فأما ان ارتد قبل موت مورثه لم يكن وارثا ولا حق له وتكون
القسامة لغيره من الوارث فإن لم يكن للميت وارث سواه فلا قسامة فيه لما ذكرنا، فإن عاد إلى
الاسلام قبل قسامة غيره فقياس المذهب أنه يدخل في القسامة لأنه متى رجع قبل قسم الميراث
قسم له. وقال القاضي لا تعود القاسمة إليه لأنها استحقت على غيره وان ارتد رجل فقتل عبده
أو قتل عبده ثم ارتد فهل له أن يقسم؟ عل وجهين بناء على الاختلاف المتقدم فإن عاد إلى الاسلام
عادت القسامة لأنه يستحق بدل العبد
(مسألة) (فأما الجراح فلا قسامة فيها)
لا قسامة فيما دون النفس من الأطراف والجراح لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم وبه قال مالك
وأبو حنيفة والشافعي لأن القسامة تثبت في النفس لحرمتها فاختصت بها دون الأطراف كالكفارة
8

ولأنها تثبت حيث كان المجني عليه لا يمكنه التعبير عن نفسه وتعيين قاتله ومن قطع طرفه يمكنه
ذلك وحكم الدعوى فيه حكم الدعوى في سائر الحقوق، والبينة على المدعي واليمين على المنكر يمينا
واحدة لأنها دعوى لا قسامة فيها فلا تغلظ بالعدد كالدعوى في المال (الثاني) اللوث وهو العداوة
الظاهرة كنحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا بثأر في
ظاهر المذهب، اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في اللوث فروي عنه أن العداوة الظاهرة بين
المقتول والمدعى عليه كنحو ما كان بين الأنصار ويهود خيبر وما بين القبائل والاحياء وأهل القرى
الذين بينهم الدماء والحروب وما بين البغاة وأهل العدل وما بين الشرطة واللصوص وكل من بينه
وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله نقل مهنا عن أحمد فيمن وجد قتيلا في المسجد الحرام
ينظر من بينه وبينه في حياته شئ يعني ضغنا يؤخذون به ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة
الا أنه قد قال في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل فاللوث على الطائفة التي القتيل من غيرها
سواء كان القتال بالتحام أو مراماة بالسهام وان لم تبلغ السهام فاللوث على طائفة القتيل إذا ثبت هذا
فإنه لا يشترط مع العداوة ان لا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو نص عليه أحمد في رواية
مهنا التي ذكرناها وكلام الخرقي يدل عليه أيضا واشترط القاضي أن يوجد القتيل في موضع عدو
9

لا يختلط بهم غيرهم وهذا مذهب الشافعي لأن الأنصاري قتل في خيبر ولم يكن بها الا اليهود وجميعهم
أعداء ولأنه متى اختلط بهم غيرهم احتمل أن يكون القاتل ذلك الغير ثم ناقض قوله فقال في قوم
ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل فقال إن كان في القوم من بينه وبينه عداوة وأمكن أن يكون
هو قتله لكونه بقربه فهو لوث فجعل العداوة لوثا مع وجود غير العدو
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل كان بخيبر غير اليهود أم لا؟ مع أن الظاهر وجود غيرهم
فيها لأنها كانت أملاكا للمسلمين يقصدونها لاخذ غلات أملاكهم منها وعمارتها والاطلاع عليها
والامتيار منها ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها وقول الأنصار ليس لنا بخيبر عدو
الا اليهود يدل على أنها قد كان بها غيرهم ممن ليس بعدو ولان اشتراكهم في العداوة لا يمنع من
وجود اللوث في حق واحد وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله فلان لا يمنع ذلك
وجود من يبعد منه القتل أولى وما ذكروه من الاحتمال لا ينفي اللوث فإن اللوث لا يشترط فيه
يقين القتل من المدعى عليه فلا ينافيه الاحتمال ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيج إلى الايمان
ولو اشترط نفي الاحتمال لما صحت الدعوى على واحد من جماعة لاحتمال أن القاتل غيره ولا على
الجماعة كلهم لأنه يحتمل أن لا يشترك الجميع في قتله والرواية الثانية عن أحمد أن اللوث ما يغلب
على الظن صدق المدعي ذلك من وجوه
10

(أحدها) العداوة المذكورة
(الثاني) أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم فإن ادعى الولي
على واحد فأنكر كونه مع المجاعة فالقول قوله مع يمينه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن
الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت ببينة
(الثالث) أن يزدحم الناس في مضيق فيوجد بينهم قتيل فظاهر كلام أحمد أن هذا ليس
بلوث فإنه قال فيمن مات من الزحام يوم الجمعة: فديته في بيت المال وهذا قول إسحاق وروي
ذلك عن عمر وعلي فإن سعيدا روى في سننه عن إبراهيم قال قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء
أهله إلى عمر فقال: بينتكم على من قتله فقال علي يا أمير المؤمنين لا تطل دم امرئ مسلم ان علمت
قاتله والا فاعط ديته من بيت المال وقال أحمد فيمن وجد مقتولا في المسجد الحرام ينظر من كان
بينه وبينه شئ في حياته يعني عداوة فلم يجعل الحضور لوثا وإنما جعل اللوث العداوة وقال الحسن
والزهري فيمن مات في الزحام ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم، وقال مالك دمه هدر
لأنه لا يعلم له قاتل ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة فيه وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إليه
في رجل وجد قتيلا ولم يعرف قاتله فكتب إليهم إن من القضايا قضايا لا يحكم فيها الا في الدار الآخر ة وهذا منها
(الرابع) أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بدم ولا يوجد
غيره ممن يغلب على الظن قتله مثل أن يرى رجلا هاربا يحتمل انه قاتل أو سبعا يحتمل ذلك فيه
11

(الخامس) أن تقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما فاللوث على الأخرى. ذكره القاضي
فإن كانوا بحيث لا يصل سهام بعضهم بعضا فاللوث على طائفة القتيل وهذا قول الشافعي، وروي عن أحمد
ان عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان الا أن يدعوا على واحد بعينه وهذا قول
مالك. وقال ابن أبي ليلى: عقله على الفريقين جميعا لأنه يحتمل انه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه
وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعضهم: فدية المقتولين على المجروحين يسقط منه دية
الجراح وإن كان فيهم من لا جرح فيه فهل عليه من الديات شئ على وجهين ذكرهما ابن حامد
(السادس) ان يشهد بالقتل عبيد ونساء ففيه عن أحمد روايتان (إحداهما) انه لوث لأنه يغلب
على الظن صدق المدعي فأشبه العداوة (والثانية) ليس بلوث لأنها شهادة مردودة فلم تكن لوثا كما
لو شهد به كفار وان شهد به فساق أو صبيان ففيه وجهان (أحدهما) ليس بلوث لأنه لا يتعلق
بشهادتهم حكم فلا يثبت اللوث بها كشهادة الأطفال والمجانين (والثاني) يثبت بها اللوث لأنها
شهادة فغلب على الظن صدق المدعي فأشبه شهادة النساء والعبيد وقول الصبيان معتبر في الأدب في
دخول الدار وقبول الهدية ونحوها وهذا مذهب الشافعي. ويعتبر أن يجئ الصبيان متفرقين لئلا
يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب. فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد انها لوث لأنها تغلب على الظن
صدق المدعي اشبهت العداوة. وروي ان هذا ليس بلوث وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام
12

لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل بخيبر ولا يجوز القياس عليها لأن الحكم
ثبت بالمظنة ولا يجوز القياس على المظان لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه والقياس بالمظان جمع
بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم والظنون تختلف ولا تأتلف وتنخبط ولا تنضبط وتختلف باختلاف
القرائن والأحوال والأشخاص فلا يمكن ربط الحكم بها ولا تعديته بتعديها ولأنه يعتبر في التعدية والقياس
التساوي بين الأصل والفرع والمقتضي ولا سبيل إلى تغير التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات
وترددها. فعلى هذه الرواية حكم هذه الصور حكم غيرها مما لا لوث فيه
(فصل) وان شهد رجلان على رجل انه قتل أحد هذين القتيلين لم تثبت هذه الشهادة ولم يكن
لوثا عند أحد علمنا قوله وان شهدا ان هذا القتيل قتله أحد هذين الرجلين أو شهد أحدهما ان هذا
قتله وشهد الآخر انه أقر بقتله أو شهد أحدهما انه قتله بسيف وشهد الآخر انه قتله بسكين لم تكمل
الشهادة ولم يكن لوثا. هذا قول القاضي واختياره. والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله
والآخر بالاقرار بقتله انه يثبت القتل واختار أبو بكر ثبوت القتل ههنا وفيما إذا شهد أحدهما انه
قتله بسيف وشهد الآخر انه قتله بسكين لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته
وقال الشافعي هو لوث في هذه الصورة في أحد القولين وفي الصورتين اللتين قبلها هو لوث لأنها
شهادة يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء والعبيد. ولنا انها شهادة مردودة للاختلاف
فيها فلم تكن لوثا كالصورة الأولى
13

(فصل) وليس من شرط اللوث أن يكون بالقتيل أثر وبهذا قال مالك والشافعي. وعن أحمد
انه شرط وهذا قول حماد وأبي حنيفة والثوري لأنه إذا لم يكن به أثر احتمل انه مات حتف أنفه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل كان بقتيلهم أثر أو لا؟ ولان القتل يحصل بما لا أثر
له كغم الوجه والخنق وعصر الخصيتين وضربة الفؤاد فأشبه من به أثر، وم به اثر قد يموت حتف
انفه لسقطته أو صرعته أو يقتل نفسه. فعلى قول من اعتبر الأثر ان خرج الدم من اذنه فهو لوث
لأنه لا يكون الا لخنق أو أمر أصيب به، وان خرج من انفه فهل يكون لوثا على وجهين
(مسألة) (فاما قول القتيل فلان قتلني فليس بلوث)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي. وقال مالك والليث هو
لوث لأن قتيل بني إسرائيل قال قتلني فلان فكان حجة. ويروى هذا القول عن عبد الملك بن مروان
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى، قوم دماء رجال وأموالهم) ولأنه يدعي
حقا لنفسه فلم يقبل قوله كما لو لم يمت، ولأنه خصم فلم تكن دعواه لوثا كالولي فأما قتيل بني إسرائيل
فلا حجة فيه فإنه لا قسامة فيه فإن ذلك كان من آيات الله ومعجزات نبيه موسى عليه السلام حيث
أحياه الله تعالى بعد موته وأنطقه بقدرته بما اختلفوا فيه ولم يكن الله تعالى لينطقه بالكذب بخلاف الحي
ولا سبيل إلى مثل هذا اليوم، ثم ذاك في تبرئة المتهمين فلا يجوز تعديته إلى تهمة البريئين
14

(مسألة) (ومتى ادعى القتل مع عدم اللوث عمدا فقال الخرقي لا يحكم له بيمين ولاغيرها
وعن أحمد انه يحلف يمينا واحدة وهي الأولى. وإن كان خطأ حلف يمينا واحدة)
إذا ادعى القتل مع عدم اللوث لم يخل من حالين (أحدهما) إذا وجد قتيل في موضع فادعى أولياؤه
قتله على رجل أو جماعة ولم يكن بينهم عداوة ولا لوث فهي كسائر الدعاوى ان كانت لهم بينه حكم
لهم بها وإلا فالقول قول المنكر وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر. وقال أبو حنيفة وأصحابه:
إذا ادعى أولياؤه قتله على أهل المحلة أو على معين فللولي ان يختار من الموضع خمسين رجلا يحلفون
خمسين يمينا والله ما قتلناه ولا علمنا قاتله فإذا نقصوا عن الخمسين كررت الايمان عليهم حتى تتم فإذا
حلفوا وجبت الدية على باقي الخطة فإن لم يكن وجبت على سكان الموضع فإن لم يحلفوا حبسوا حتى
يحلفوا أو يقروا لما روي أن رجلا وجد قتيلا بين حيين فحلفهم عمر رضي الله عنه خمسين يمينا
وقضى بالدية على أقربهما يعني أقرب الحيين فقالوا: والله ما وقت أيماننا أموالنا ولا أموالنا ايماننا.
فقال عمر حقنتم بأموالكم دماءكم
ولنا حديث عبد الله بن سهل وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء
قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم وقول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين
على من أنكر) ولان المدعى عليه الأصل براءة ذمته ولم يظهر كذبه فكان القول قوله كسائر الدعاوى
15

ولأنه مدعى عليه فلم تلزمه اليمين والغرم كسائر الدعاوى وقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قول عمر وأحق
بالاتباع. ثم قضية عمر يحتمل انهم اعترفوا بالقتل خطأ وأنكروا العمد فأحلفوا على العمد ثم إنهم
لا يعلمون بخبر النبي صلى الله عليه وسلم المخالف للأصول وقد صاروا ههنا إلى ظاهر قول عمر المخالف للأصول
وهو ايجاب الايمان على غير المدعى عليه وإلزامهم الغرم مع عدم الدعوى عليهم والجمع بين تحليفهم
وتغريمهم وحبسهم على الايمان
قال ابن المنذر: سن النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وسن القسامة في القتيل
الذي وجد بخيبر، وقول أصحاب الرأي خارج عن هذه السنن
(فصل) ولا تسمع الدعوى على غير معين فلو كانت الدعوى على أهل مدينة أو محلة أو واحد
غير معين أو جماعة منهم بغير أعيانهم لم تسمع وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي تسمع ويستحلف
خمسون منهم لأن الأنصار ادعوا القتل على يهود خيبر ولم يعينوا القاتل فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم دعواهم
ولنا انها دعوى في حق فلم تسمع على غير معين كسائر الدعاوى فأما الخبر فإن دعوى الأنصار
التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن الدعوى التي بين الخصمين المختلف فيها فإن تلك من شرطها
حضور المدعى عليه عليه عندهم أو تعذر حضوره عندنا وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ان الدعوى لا تصح
الا على واحد بقوله (تقسمون على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) وفي هذا بيان ان الدعوى
لا تصح على غير معين
16

[فصل] فأما ادعى القتل من غير وجود قتل ولا عداوة فهي كسائر الدعاوى في اشتراط
تعيين المدعى عليه وان القول قوله لا نعلم فيه خلافا (الحال الثاني) انه إذا ادعى القتل ولم يكن عداوة
ولا لوث فإنه لا يحكم على المدعى عليه بيمين ولا بشئ في إحدى الروايتين ويخلى سبيله هذا الذي
ذكره الخرقي، سواء كانت الدعوى خطأ أو عمدا لأنها دعوى فيما لا يجوز بذله فلم يستحلف فيها
كالحدود، ولأنه لا يقضى في هذه الدعوى بالنكول فلم يحلف فيها كالحدود (والثانية) يستحلف وبه قال
الشافعي وهو الصحيح لعموم قوله عليه السلام (اليمين على المدعى عليه) وقوله عليه السلام (لو يعطى الناس
بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم ظاهر في ايجاب
اليمين ههنا لوجهين (أحدهما) عموم اللفظ فيه (والثاني) ان النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في صدر الخبر بقوله (لا دعى
قوم دماء رجال وأموالهم - ثم عقبه بقوله - ولكن اليمين على المدعى عليه) فيعود إلى المدعى عليه المذكور
في الحديث، ولا يجوز اخراجه منه الا بدليل أقوى منه، ولأنها دعوى في حق آدمي فيستحلف كدعوى
المال ولأنها دعوى لو أقر بها لم يقبل رجوعه عنها فيجب اليمين فيها كالأصل المذكور. إذا ثبت هذا
فالمشروع يمين واحدة وعن أحمد انه يشرع خمسون يمينا لأنها دعوى في القتل فيشرع فيها
خمسون يمينا كما لو كان بينهم لوث وللشافعي فيها كالروايتين
17

ولنا ان قوله عليه الصلاة والسلام (ولكن اليمين على المدعى عليه) ظاهر في أنها يمين واحدة
لوجهين (أحدهما) أنه وحد اليمين فينصرف إلى واحدة (الثاني) انه لم يفرق في اليمين المشروعة في الدم
والمال ولأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل فلم تغلظ كسائر الايمان، ولأنها يمين مشروعة في جنبة
المنكر ابتداء فلم تغلظ بالتكرير كسائر الايمان وبهذا فارق ما ذكروه
(فصل) فإن نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب القصاص بغير خلاف في المذهب، وقال
أصحاب الشافعي ان نكل المدعى عليه ردت اليمين على المدعي فحلف خمسين يمينا واستحق القصاص
أو الدية ان كانت الدعوى عمدا موجبا للقتل لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة أو
الاقرار والقصاص يجب بكل واحد منهما
ولنا أن القتل يثبت ببينة ولا اقرار ولم يعضده لوث فلم يجب القصاص كما لو لم ينكل ولا يصح
الحاق الايمان مع النكول ببينة ولا اقرار لأنها أضعف منها بدليل انها لا تشرع إلا عند عدمهما فتكون بدلا
عنهما والبدل أضعف من المبدل ولا يلزم من ثبوت الحكم بالأقوى ثبوته بالأضعف ولا يلزم من وجوب
الدية وجوب القصاص لأنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولا بالشاهد واليمين ويحتاط له ويدرأ
بالشبهات والدية بخلافه، فاما الدية فتثبت بالنكول عند من يثبت المال به أو يرد اليمين على المدعي
18

فيحلف يمينا واحدة ويستحقها كما لو كانت الدعوى في مال وسواء كانت الدعوى عمدا أو خطأ فإن
العمد متى تعذر ايجاب القصاص فيه وجب به المال وتكون الدعوى ههنا كسائر الدعاوى والله علم
(الثالث) اتفاق الأولياء في الدعوى فإن ادعى بعضهم وأنكر بعض لم تثبت القسامة)
من شرط ثبوت القسامة اتفاق الأولياء على الدعوى فإن كذب بعضهم بعضا فقال أحدهم قتله
هذا وقال الآخر لم يقتله هذا أو قال بل قتله هذا الآخر لم تثبت القسامة نص عليه أحمد، وسواء كان
المكذب عدلا أو فاسقا، وعن الشافعي ان القسامة لا تبطل بتكذيب الفاسق لأن قوله غير مقبول
ولنا انه مقر على نفسه بتبرئة من ادعى عليه أخوه فقبل كما لو ادعيا دينا لهما وإنما لا يقبل قوله
على غيره وأما على نفسه فهو كالعدل لأنه لا يتهم في حقها، فاما ان لم يكذبه ولم يوافقه في الدعوى مثل
ان قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر لا نعلم قاتله فظاهر قوله ههنا ان القسامة لا تثبت وهو ظاهر كلام
الخرقي لاشتراط دعاء الأولياء على واحد وهذا قول مالك، وكذلك إن كان أحد الوليين غائبا
فادعى الحاضر دون الغائب أو ادعيا جميعا على واحد ونكل أحدهما عن الايمان لم يثبت القتل في
قياس قول الخرقي، ومقتضى قول أبي بكر والقاضي ثبوت القسامة وكذلك مذهب الشافعي لأن
أحدهما لم يكذب الآخر فلم تبطل القسامة كما لو كان أحد الوارثين امرأة أو صغيرا، فعلى قولهم
يحلف المدعي خمسين يمينا ويستحق نصف الدية لأن الايمان ههنا بمنزلة البينة لا يثبت
19

شئ من الحق الا بعد كمال البينة فأشبه ما لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما فإنه لا يستحق نصيبه من الدين
الا ان يقيم بينة كامله
ولنا انهما لم يتفقا في الدعوى فلم تثبت القسامة كما لو كذبه ولان الحق في محل الوفاق إنما ثبت
بأيمانهما التي أقيمت مقام البينة ولا يجوز ان يقوم أحدهما مقام الآخر في الايمان كما في سائر الدعاوى
فعلى هذا ان قدم الغائب فوافق أخاه أو عاد من لم يعلم فقال قد عرفنه هو الذي عينه أخي أقسما حينئذ
وان قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر قتله هذا وفلان فعلى قول الخرقي لا تثبت القسامة لأنها لا تكون
الاعلى واحد وعلى قول غيره يحلفان على من اتفقا عليه ويستحقان نصف الدية ولا يجب القود لأنه
إنما يجب في الدعوى على واحد ويحلفان جميعا على هذا الذي اتفقا عليه على حسب دعواهما ويستحقان
نصف الدية ولا يجب أكثر من نصف الدية لأن أحدهما يكذب الآخر في النصف الآخر فبقي اللوث
في حقه في نصف الدم الذي اتفقا عليه ولم يثبت في النصف الذي كذبه أخوه فيه، ولا يحلف الآخر على
الآخر لأن أخاه كذبه في دعواه عليه، وان قال أحدهما قتل أبي زيد وآخر لا أعرفه وقال الآخر قتله
عمرو وآخر لا أعرفه لم تثبت القسامة في ظاهر قول الخرقي لأنها لا تكون الا على واحد ولأنهما
ما اتفقا في الدعوى على أحد ولا يمكن ان يحلفا على من لم يتفقا على الدعوى عليه والحق إنما يثبت
في محل الوفاق بايمان الجميع فكيف يثبت في الفرع بيامان البعض؟ وقال أبو بكر والقاضي تثبت
القسامة وهذا مذهب الشافعي لأنه ليس ههنا تكذيب فإنه يجوز أن يكون الذي جهله كل واحد منهما
20

هو الذي عرفه أخوه فيحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينا ويستحق ربع الدية وان عاد كل واحد
منهما فقال قد عرفت الذي جهلته وهو الذي عينه أخي حلف أيضا على الذي حلف عليه أخوه وأخذ منه ربع
الدية، ويحلف خمسا وعشرين يمينا لأنه يبني على ايمان أخيه فلم يلزمه أكثر من خمس وعشرين كما
لو عرفه ابتداء، وفيه وجه آخر يحلف خمسين لأن أخاه حلف خمسين يمينا، وللشافعي في هذا قولان
كالوجهين، ويجئ في المسألة وجه آخر ان الأول لا يحلف أكثر من خمس وعشرين يمينا لأنه إنما
يحلف على ما يستحقه والذي يستحقه النصف فيكون عليه نصف الايمان كما لو حلف أخوه معه، وان
قال كل واحد منهما الذي كنت جهلته غير الذي عينه أخي بطلت القسامة التي أقسماها لأن التكذيب
يقدح في اللوث فيرد كل واحد منهما ما أخذ من الدية، وان كذب أحدهما أخاه ولم يكذبه الآخر بطلت
قسامة المكذب دون الذي لم يكذب
(فصل) إذا قال الولي بعد القسامة غلطت ما هذا الذي قتله، أو ظلمته بدعوى القتل عليه أو
قال كان هذا المدعى عليه في بلد آخر يوم قتل وليي وكان بينهما بعد ولا يمكنه أن يقتله إذا كان
فيه بطلت القسامة ولزمه رد ما أخذه لأنه مقر على نفسه فقبل اقراره، وان قال ما أخذته حرام سئل
عن ذلك فإن قال أردت انني كذبت في دعواي عليه بطلت قسامته أيضا، فإن قال أردت أن
الايمان تكون في جنبه المدعى عليه كمذهب أبي حنيفة لم تبطل القسامة لأنها تثبت باجتهاد الحاكم
فيقدم على اجتهاده، وان قال هذا مغصوب وأقر بمن غصبه منه لزمه رده عليه ولا يقبل قوله على من
21

أخذ منه لأن الانسان لا يقبل اقراره على غيره وان لم يقر به لاحد لم ترفع يده عنه لأنه لم يتعين مستحقه
وإن اختلفا في مراده فالقول قوله لأنه أعرف بقصده
(فصل) وإن أقام المدعى عليه بينة أنه كان يوم القتل في بلد بعيد من بلد المقتول لا يمكن
مجيئه منه إليه في يوم واحد بطلت الدعوى، وان قالت البينة نشهد أن فلانا لم يقتله لم تسمع هذه
الشهادة لأنه نفي مجرد، فإن قالا ما قتله فلان بل قتله فلان سمعت لأنها شهدت باثبات تضمن النفي
فسمعت كما لو قالت ما قتله فلان لأنه كان يوم القتل في بلد بعيد
(فصل) فإن جاء انسان فقال ما قتله المدعى عليه بل أنا قتلته فكذبه الولي لم تبطل دعواه وله
القسامة ولا يلزمه رد الدية وإن كان أخذها لأنه قول واحد ولا يلزم المقر شئ لأنه أقر لمن يكذبه
وان صدقه الولي أو طالبه بموجب القتل لزمه رد ما أخذ وبطلت دعواه على الأول لأن ذلك جرى
مجرى الاقرار ببطلان الدعوى وهل له مطالبة المقر؟ فيه وجهان
(أحدهما) له مطالبته لأنه أقر له بحق فملك مطالبته به كسائر حقوق (والثاني) ليس له مطالبته لأن
دعواه على الأول انفراده بالقتل ابراء لغيره فلا يملك مطالبة من أبرأه والمنصوص عن أحمد أنه يسقط
القود عنهما وله مطالبة الثاني بالدية فإنه قال في رجل شهد عليه شاهدان بالقتل فأخذ ليقاد منه فقام
رجل فقال ما قتله هذا أنا قتلته فالقود يسقط عنهما والدية على الثاني، ووجه ذلك ما روي أن رجلا
22

ذبح رجلا في خربة وتركه وهرب وكان قصاب يذبح شاة وأراد ذبح أخرى فهربت منه إلى الخربة
فتبعها حتى وقف على القتيل والسكين بيده عليها الدم فأخذ على تلك الحال وجئ به إلى عمر فأمر
بقتله، فقال القاتل في نفسه يا ويله قتلت نفسا ويقتل بسبي آخر فقام فقال أنا قتلته لم يقتله هذا فقال
عمر: إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا، ودرأ عنه القصاص، ولان الدعوى على الأول شبهة
في درء القصاص عن الثاني وتجب الدية عليه لا قراره بالقتل الموجب لها، وهذا القول أصح
وأعدل مع شهادة الأثر بصحته
(الرابع) أن يكون في المدعين رجال عقلاء ولا مدخل للنساء والصبيان والمجانين في القسامة
عمدا كان القتل أو خطأ أما الصبيان فلا خلاف بين أهل العلم أنهم لا يقسمون سواء كانوا من
الأولياء أو مدعى عليهم لأن الايمان حجة على الحالف والصبي لا يثبت بقوله حجة، ولو أقر على
نفسه لم يقبل فلان لا يقبل قوله في حق غيره أولى، والمجنون في معناه لأنه غير مكلف فلا حكم لقوله
وأما النساء فإذا كن من أهل القتيل لم يستحلفن وبهذا قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي،
وقال مالك لهن مدخل في قسامة الخطأ دون العمد. قال ابن القاسم: ولا يقسم في العمد إلا اثنان
فصاعدا كما أنه لا يقتل الا بشاهدين، وقال الشافعي يقسم كل وارث بالغ لأنها يمين في دعوى
فتشرع في حق النساء كسائر الايمان
23

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون رجلا منكم ويستحقون دم صاحبكم) ولأنها حجة
يثبت بها قتل العمد فلم تسمع من النساء كالشهادة، ولان الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي
القتل ولا مدخل للنساء في اثباته وإنما يثبت المال ضمنا، فجرى ذلك مجرى رجل ادعى زوجية امرأة
بعد موتها ليرثها فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين ولا بشهادة رجل وامرأتين وإن كان مقصودها
المال، فأما ان كانت المرأة مدعى عليها القتل فإن قلنا إنه يقسم من العصبة رجال لم تقسم المرأة أيضا
لأن ذلك مختص بالرجال، وان قلنا يقسم المدعى عليه فينبغي أن تستحلف لأنها لا تثبت بقولها حقا
ولا قتلا وإنما هي كتبرئتها منه فتشرع في حقها اليمين كما لو لم يكن لوث، فعلى هذا إذا كان في الأولياء
نساء ورجال أقسم الرجال وسقط حكم النساء، وإن كان منهم صبيان ورجال بالغون أو كان منهم
حاضرون وغائبون فإن القسامة لا تثبت حتى يحضر الغائب ويبلغ الصبي لأن الحق لا يثبت الا
بالبينة الكاملة، والبينة ايمان الأولياء كلهم والايمان لا تدخلها النيابة ولان الحق إن كان قصاصا
فلا يمكن تبعيضه فلا فائدة في قسامة الحاضر والبالغ، وإن كان غيره فلا يثبت إلا بواسطة
ثبوت القتل وهو لا يتبعض أيضا، وقال القاضي إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ
الصغير ولا الحاضر حتى يقدم الغائب لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئا في الحال، وإن كان
موجبا للمال كالخطأ وشبه العمد فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق قسطه من الدية وهذا قول
24

أبي بكر ومذهب الشافعي، واختلفوا في كم يقسم الحاضر؟ فقال ابن حامد يقسم بقسطه من الايمان
وإن كان الأولياء اثنين أقسم الحاضر خمسة وعشرين يمينا، وان كانوا ثلاثة أقسم سبع عشرة
يمينا، وان كانوا أربعة أقسم ثلاث عشرة يمينا وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه واستوفى حقه
لأنه لو كان الجميع حاضرين لم يلزمه أكثر من قسطه فكذلك إذا غاب بعضهم كما في سائر الحقوق
ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية فلا يلزمه أكثر من قسطه من الايمان وقال أبو بكر
يحلف الأول خمسين يمينا وهو قول الشافعي لأن الحكم لا يثبت الا بالبينة الكاملة والبينة هي
الايمان كلها، وكذلك لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما لم يستحق نصيبه منه الا بالبينة المثبتة لجميعه
ولان الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق، ولو ادعى مالا له فيه شركة له به
شاهد يحلف يمينا كاملة فإذا قدم الثاني أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحدا عند أبي بكر لأنه
يبني على أيمان أخيه المتقدمة وقال الشافعي فيه قول آخر يحلف خمسين يمينا أيضا لأن أخاه إنما
استحق بخمسين فكذلك هو، وحكي ذلك عن أبي بكر والقاضي أيضا فإذا قدم ثالث وبلغ فعلى قول
أبي بكر يحلف سبع عشرة يمينا لأنه يبني على ايمان أخويه وكذلك على أحد قولي الشافعي وعلى
الثاني يقسم خمسين يمينا وان قدم رابع فهل يحلف ثلاثة عشر يمينا أو خمسين؟ فيه قولان
25

(فصل) والخنثى المشكل يحتمل أن يقسم لأن سبب القسامة وجد في حقه وهو الاستحقاق
من الدية ولم يتحقق المانع من يمينه ويحتمل أن لا يقسم لأنه لا يحمل من العقل فلا يثبت القتل بيمينه كالمرأة
(مسألة) (وذكر الخرقي من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمدا يوجب القصاص إذا
ثبت القتل وأن تكون الدعوى على واحد)
لا يختلف المذهب أنه لا يستحق بالقسامة أكثر من قتل واحد وبهذا قال الزهري ومالك
وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم يستحق بها قتل الجماعة لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها
الواحد والجماعة كالبينة وقول أبي ثور نحو هذا
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) فخص بها الواحد ولأنها بينة ضعيفة
خولف بها الأصول في قتل الواحد فيقتصر عليه ويبقى على الأصل فيما عداه وبيان مخالفة الأصل بها انها تثبت
باللوث واللوث شبهة مغلبة على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات فكيف يثبت بها؟ ولان الايمان ثبتت
ابتداء في سائر الدعاوى في جانب المدعى عليه وهذه بخلافه وبيان ضعفها انها تثبت بقول المدعي ويمينه مع
التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من صحة الشهادة عليه في اثبات حق لغيره
فلان يمنع من قبول قوله وحده في اثبات حق له أولى وأحرى وفارق البينة فإنها قويت بالعدد
وعدالة الشهود وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين في كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقا ولا نفعا
26

فلا يدفعون عنها ضررا ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه ولهذا يثبت بها سائر الحقوق والحدود
التي تنتفي بالشبهات. إذا ثبت هذا فلا قسامة فيما لا قود فيه في قول الخرقي فيطرد قوله في أن القسامة
لا تسوغ إلا في حق واحد، وعند غيره من أصحابنا أن القسامة تجري فيما لاقود فيه فيجوز أن
يقسموا على جماعة وهذا قول مالك والشافعي فعلى هذا إذا ادعى على رجلين على أحدهما لوث دون
الآخر حلف على من عليه اللوث خمسين يمينا واستحق الدية عليه وحلف على الآخر يمينا واحدة
وبرئ، وإن نكل عن اليمين فعليه نصف الدية وإن ادعى على ثلاثة عليهم لوث ولم يحضر إلا أحدهم
حلف على الحاضر منهم خمسين يمينا واستحق ثلث الدية فإذا حضر الثاني ففيه وجهان
(أحدهما) يحلف عليه خمسين يمينا أيضا ويستحق ثلث الدية لأن الحق لا يثبت على أحد
الرجلين إلا بما يثبت على صاحبه كالبينة فإنه يحتاج إلى إقامة البينة الكاملة على الثاني كإقامتها على الأول
(والثاني) يحلف عليه خمسا وعشرين يمينا لأنهما لو حضرا معا لحلف عليهما خمسينا حصة كل
واحد منهما خمس وعشرون وهذا الوجه ضعيف فإن اليمين لا تقسم عليهم إذا حضروا ولو حلف
على كل واحد منفردا حصته من الايمان لم يصح ولم يثبت له حق وإنما الايمان عليهم جميعهم وتتناولهم
27

تناولا واحدا ولأنها لو قسمت عليهم بالحصص لوجب أن لا يقسم على الأول أكثر من سبع عشرة
يمينا وإن قيل إنما حلف بقدر حصته وحصة الثالث فينبغي أن يحلف أربعا وثلاثين يمينا، وإذا قدم
الثالث ففيه وجهان
(أصحهما) يحلف عليه خمسين يمينا ويستحق ثلث الدية (والآخر) يحلف سبع عشرة يمينا
وإن حضروا جميعا حلف عليهم خمسين يمينا واستحق الدية عليهم أثلاثا وهذا التفريع يدل على
اشتراط حضور المدعى عليه وقت الايمان وذلك أنها أقيمت مقام البينة فاشترط حضور من أقيمت
عليه كالبينة وكذلك إن ردت الايمان على المدعى عليهم اشترط حضور المدعين وقت حلف المدعى
عليهم لأن الايمان له عليهم فيعتبر رضاه بها وحضوره إلا أن يوكل وكيلا فيقوم مقام الموكل
(فصل) ويبدأ في القسامة بايمان المدعين فيحلفون خمسين يمينا، الكلام في هذا الفصل في أمرين
(أحدهما) أن الايمان تشرع في حق المدعين أولا فيحلفون خمسين يمينا على المدعى عليه
أنه قتلهم ويثبت حقهم فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ وهذا قول يحيى بن
28

سعيد وربيعة وأبي الزناد والليث ومالك والشافعي وقال الحسن يستحلف المدعى عليهم أولا خمسين
يمينا ويبرؤون فإن أبوا أن يحلفوا استحلف خمسين من المدعين أن حقنا قبلكم ثم يعطون الدية لقول
النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم، وفي لفظ (البينة على المدعي واليمين
على المدعى عليه) رواه الشافعي في مسنده
وروى أبو داود باسناده عن سليمان بن يسار عن رجال من الأنصار ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ليهود
وبدأ بهم (يحلف منكم خمسون رجلا) فأبوا فقال للأنصار (استحقوا) قالوا نحلف على الغيب
يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود ابتداء ولأنه وجد بين أظهرهم ولأنها يمين في دعوى
فوجبت في جانب المدعى عليه ابتداء كسائر الدعاوى، وقال الشعبي والنخعي والثوري وأصحاب
الرأي يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ويغرمون
الدية لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فكان اجماعا وتكلموا في حديث
سهل بما روى أبو داود عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن بن بجيد بن قنطى
أحد بني حارثة قال ابن إبراهيم ويم الله ما كان سهل بأعلم منه ولكنه كان أسن منه قال والله ما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (احلفوا على ما لا علم لكم به) ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار انه وجد
29

بين أبنائكم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه رسول الله صلى الله
عليه وسلم من عنده
ولنا حديث سهل وهو صحيح متفق عليه، ورواه مالك في موطئه وعمل به وما عارضه من
الحديث لا يصح لوجوه
(أحدها) انه نفي فلا يرد به قول المثبت (والثاني) أن سهلا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم شاهد القصة وعرفها حتى أنه قال: ركضتني ناقة من الإبل والآخر يقول برأيه وظنه من
غير أن يرويه عن أحد ولا حضر القصة
(والثالث) ان حديثنا مخرج في الصحيحين وحديثهم بخلافه
(الرابع) انهم لا يعلمون بحديثهم ولا حديثنا فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه
30

فيه؟ وحديث سليمان بن يسار عن رجال من الأنصار لم يذكر لهم صحبة فهو أدنى حالا من حديث محمد
ابن إبراهيم وقد خالف الحديثين جميعا فكيف يجوز أن يعتمد عليه وحديث اليمين على المدعى عليه
لم يرد به هذه القضية لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم وههنا قد أعطوا بدعواهم على أن
حديثنا أخص منه فيجب تقديمه وهو حجة عليهم لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير
بينة ولا يمين منهم
وقد رواه ابن عبد البر باسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة) وهذه الزيادة يتعين العمل بها لأن الزيادة
31

من الثقة مقبولة ولأنها أيمان مكررة فيبدأ فيها بأيمان المدعين كاللعان. إذا ثبت هذا فإن أيمان
القسامة خمسون على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة. وأجمع عليه أهل العلم لا نعلم أحدا خالف فيه
(الأمر الثاني) أن الايمان تختص بالوارث دون غيرهم هذا ظاهر المذهب وظاهر قول الخرقي
واختيار ابن حامد وهو قول الشافعي لأنها يمين في دعوى حق فلا تشرع في حق غير المتداعيين
كسائر الايمان فعلى هذه الرواية يقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر
ارثهم ان كانوا جماعة وإن كان واحدا حلفها فإن انقسمت من غير كسر مثل أن يخلف المقتول
32

ابنين أو أخا وزوجا حلف كل واحد منهم خمسا وعشرين يمينا، وإن كان فيها كسر جبر عليهم
مثل زوج وابن يحلف الزوج ثلاثة عشر يمينا والابن ثمانية وثلاثين يمينا لأن تكميل الخمسين واجب
ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم لها عن بعض فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق
كل واحد منهم فإن كانوا ثلاثة بنين أو جدا وأخوين جبر الكسر فحلف كل واحد سبع عشرة
يمينا، وإن خلف أخا من أب وأخا من أم فعلى الأخ من الام سدس الايمان ثم يجبر الكسر فيكون
عليه تسع أيمان وعلى الأخ من الأب اثنان وأربعون وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر يحلف كل
33

واحد من المدعين خمسين يمينا سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه لأن ما حلفه الواحد إذا
انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى وعن مالك أنه قال ينظر إلى
من عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط عن الآخر
ولنا على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاريين (تحلفون خمسين يمينا وتستحقون
دم صاحبكم) وأكثر ما روي عنه في الايمان خمسون ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة ومائتين
وهذا خلاف النص، ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة ويفارق اليمين
34

على المدعى عليه فإنها ليست حجة للمدعي ولأنها لم يمكن قسمتها فكملت في حق كل واحد كاليمين
المنكسرة في القسامة فإنها تجبر وتكمل في حق كل واحد لكونها لا تتبعض ومالا يتبعض يكمل كالطلاق
والعتق، وما ذكره مالك لا يصح لأنه اسقاط لليمين عمن عليه بعضها فلم يجز كما لو تساوى الكسران
بأن يكون على كل واحد نصفها أو ثلثها إن كانوا ثلاثة وبالقياس على من عليه أكثرها، ولان
اليمين في سائر الدعاوى تكمل في حق كل واحد ويستوي من له في المدعى قليل وكثير كذا ههنا
ولأنه يفضي إلى أن يتحمل اليمين غير من وجبت عليه عمن وجبت عليه فلم يجز ذلك كاليمين
الكاملة وكالجزء الأكبر
35

(فصل) فإن كان فيهم من لا قسامة عليه بحال وهو النساء سقط حكمه فإذا كان ابن وبنت حلف
الابن الخمسين كلها وإن كان أخ وأخت لام وأخ وأخت لأب قسمت الايمان بين الأخوين على أحد
عشر: على الأخ من الام ثلاثة وعلى الآخر ثمانية ثم يجبر الكسر عليهما فيحلف الأخ من الأب سبعا
وثلاثين يمينا والأخ من الام أربع عشرة يمينا
(فصل) فإن مات المستحق انتقل إلى وارثه ما عليه من الايمان وكانت الايمان بينهم على حسب
مواريثهم ويجبر الكسر فيها عليهم كما يجبر في حق ورثه القتيل. فإن مات بعضهم قسم نصيبه من
الايمان بين ورثته فلو كان للقتيل ثلاثة بنين كان على كل واحد سبع عشرة يمينا، فإن مات بعضهم قبل
36

أن يقسم وخلف ثلاثة بنين قسمت أيمانه بينهم فكان على كل واحد منهم ستة أيمان، وان خلف اثنين
حلف كل واحد تسعة أيمان. وإنما قلنا هذا لأن الوارث يقوم مقام الموروث في إثبات حججه كما
يقوم مقامه في استحقاق ماله وهذا من حججه ولذلك يملك إقامة البينة والحلف في الانكار ومع
الشاهد الواحد في دعوى المال، فإن كان موته بعد شروعه في الايمان فحلف بعضها فإن ورثته
يستأنفون الايمان ولا يبنون على ايمانه لأن الخمسين جرت مجرى اليمين الواحدة ولأنه لا يجوز أن
يستحق أحد شيئا بيمين غيره ولا يبطل هذا بما إذا حلف جميع الايمان ثم مات لأنه لا يستحق المال
إرثا عنه، لا بيمينه ولا بما إذا حلف الوارثان كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا فإن الدية تستحق
37

. بيمينهما لأنهما يشتركان في الايمان ويستحق كل واحد بقدر أيمانه ولا يستحق بأيمان غيره وإن كان
اجتماع العدد شرطا في استحقاقها
(فصل) ولو حلف بعض الايمان ثم جن ثم أفاق فإنه يتمم ولا يلزمه الاستئناف لأن ايمانه
وقعت موقعها بخلاف الموت فإن الموت يتعذر معه اتمام الايمان منه وغيره لا يبني على يمينه وههنا يمكنه
أن يتمها إذا أفاق ولا يبطل بالتفريق بدليل ان الحاكم إذا أحلفه بعض الايمان ثم تشاغل عنه لم يبطل
ويتمها وما لا يبطله التفريق لا يبطله تخلل الجنون كالسعي بين الصفا والمروة. وان حلف بعض الايمان
38

ثم عزل الحاكم وولي غيره أتمها عند الثاني ولم يلزمه استئنافها لأن الايمان وقعت موقعها، وكذلك لو حلف
بعضها ثم سأل الحاكم إنظاره فأنظره بنى على ما مضى ولم يلزمه الاستئناف لما ذكرنا
(فصل) وإذا حلف الأولياء استحقوا القود إذا كانت الدعوى عمدا الا أن يمنع منه مانع،
روي ذلك عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وبه قال مالك وأبو ثور وابن المنذر، وعن معاوية وابن
عباس والحسن وإسحاق لا يجب بها لا الدية لقول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود (إما أن تدوا صاحبكم وإما
أن تؤذنوا بحرب من الله ورسوله) ولان ايمان المدعين إنما هي لغلبة الظن وحكم الظاهر فلا يجوز
إشاطة الدم بها لقيام الشبهة المتمكنة ولأنها حجة لا يثبت بها النكاح فلا يجب بها القصاص كالشاهد
واليمين وللشافعي قولان كالمذهبين
39

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته وفي رواية مسلم
ويسلم إليكم وفي لفظ وتستحقون دم صاحبكم) وأراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل
اليمين، ولزمه الحبل الذي يربط به من عليه القود، ولأنها حجة يثبت بها العمد فيجب بها القود
كالبينة، وقد روى الأثرم باسناده عن عامر الأحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة بالطائف وهذا
نص، ولان الشارع جعل القول قول المدعي مع يمينه احتياطا للدم فإن لم يجب القود سقط هذا المعنى
(مسألة) (وعن أحمد يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث خمسون رجلا كل واحد يمينا)
اختلفت الرواية عن أحمد فيمن تجب عليه ايمان القسامة فروي انها تختص بالذكور من الوارث
وهو ظاهر المذهب وقد ذكرناه وروي عنه رواية ثانية انه يحلف من العصبة وغير الوارث خمسون
40

رجلا كل واحد يمينا واحدة وهذا قول لمالك فعلى هذا يحلف الوراث منهم الذين يستحقون دمه
فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة يؤخذ الأقرب منهم فالأقرب من قبيلته التي ينتسب إليها
ويعرف كيفية نسبه من المقتول، فأما من عرف انه من القبيلة ولم يعرف وجه النسب لم يقسم مثل أن
يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشي ولا يعرف كيفية نسبه منه فلا يقسم لأننا نعلم أن الناس كلهم من
آدم ونوح وكلهم يرجعون إلى أب واحد، ولو قتل من لا يعرف نسبه لم يقسم عنه سائر الناس فإن لم
يوجد من نسبه خمسون رددت الايمان عليهم وقسمت عليهم فإن انكسرت بينهم عليهم جبر كسرها
41

عليهم حتى تبلغ خمسين لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار (يحلف خمسون رجلا منكم وتستحقون دم
صاحبكم) وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم انه لم يكن لعبد الله بن سهل خمسون رجلا وارثا فإنه لا يرثه الا اخوة
أو من هو في درجته) أو أقرب منه نسبا ولأنه خاطب بهذا ابني عمه وهما غير وارثين
(فصل) ويستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في القسامة تأكيدا فيقول: والله الذي لا إله الا
هو عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فإن اقتصر على لفظة والله كفى ويقول والله أو بالله أو تالله
بالجر كما تقتضيه العربية فإن قاله مضموما أو منصوبا فقد لحن، قال القاضي ويجزئه تعمده أو لم يتعمده
لأنه لحن لا يحيل المعنى وهو قول الشافعي وما زاد على هذا تأكيد ويقول لقد قتل فلان بن فلان
الفلاني ويشير إليه فلانا ابني أو أخي منفردا بقتله ما شركه غيره وان كنا اثنين قال منفردين
بقتله ما شركهما غيرهما، ثم يقول عمدا أو خطأ وبأي اسم من أسماء الله سبحانه أو صفة من صفات ذاته
42

حلف أجزأ إذا كان اطلاقه ينصرف إلى الله تعالى، ويقول المدعى عليه في اليمين والله ما قتلته ولا
شاركت في قتله ولا فعلت سببا مات منه ولا كان سببا في موته ولا معينا على موته
(مسألة) (فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ)
هذا ظاهر المذهب وهو الذي ذكره الخرقي وبه قال يحيى الأنصاري وربيعة وأبو الزناد
والليث والشافعي وأبو ثور وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد انهم يحلفون ويغرمون الدية
لقضية عمر وخبر سليمان بن يسار وهو قول أصحاب الرأي
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم) اي يبرؤون منكم وفي لفظ قال
(فيحلفون خمسين يمينا ويبرؤون من دمه) وقد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود وانه أداها من
عنده ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ بها كسائر الايمان ولان ذلك إعطاء بمجرد
43

الدعوى فلم يجز للخبر ومخالفة مقتضى الدليل فإن قول الانسان لا يقبل على غيره بمجرده كدعوى
المال وسائر الحقوق ولان في ذلك جمعا ين اليمين والغرم فلم يشرع كغيره من الحقوق
(فصل) وإذا ردت الايمان على المدعى عليهم وكان عمدا لم يجز على أكثر من واحد فيحلف
خمسين يمينا وإن كانت على غير عمد كالخطأ وشبه العمد فلا قسامة في ظاهر كلام الخرقي لأن القسامة
من شرطها اللوث والعداوة وهي إنما تؤثر في تعمد القتل لا في خطئه فإن احتمال الخطأ في العدو
وغيره سواء وقال غيره ومن أصحابنا فيه قسامة وهو قول الشافعي لأن اللوث يختص العداوة عندهم
فعلى هذا تجوز الدعوى على جماعة فإذا ادعى على جماعة حلف كل واحد منهم خمسين يمينا وقال بعض
أصحابنا تقسم الايمان بينهم بالحصص كقسمها بين المدعين إلا انها ههنا تقسم بالسوية لأن المدعى
44

عليهم متساوون فيها فه كبني الميت وللشافعي قولان كالوجهين والحجة لهذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم
(تبرئكم يهود بخمسين يمينا) وفي لفظ قال (فيحلفون لكم خمسين يمينا ويبرؤون من دمه) ولأنهم
أحد المتداعبين في القسامة فتقسط الايمان على عددهم كالمدعين، وقال مالك يحلف من المدعى عليهم
خمسون رجلا خمسين يمينا فإن لم يبلغوا خمسين رجلا رددت على من حلف منهم حتى تكمل خمسين يمينا
فإن لم يجد أحدا يحلف إلا الذي ادعى عليه حلف وحده خمسين يمينا
ولنا أن هذه أيمان يبرئ بها كل واحد نفسه من القتل فكان على كل واحد خمسون كما لو ادعى
على كل واحد وحده قتيل ولأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حالة الانفراد ولان
كل واحد منهم يحلف على غير ما حلف عليه صاحبه بخلاف المدعين فإن أيمانهم على شئ واحد فلا يلزم
من تلفيقها تلفيق ما يختلف مدلوله ومقصوده
45

(مسألة) (فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال)
يعني أدى ديته لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فأبى الأنصار أن يحلفوا وقالوا كيف
نقبل أيمان قوم كفار؟ فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده كراهية أن يطل دمه فإن تعذر فداؤه من بيت
المال لم يجب على المدعى عليهم شئ لأن الذي توجه عليهم اليمين، وقد امتنع مستحقوها من
استيفائها فلم يجب لهم شئ كدعوى المال
(مسألة) (وإن طلبوا أيمانهم فنكلوا لم يحبسوا وهل تلزمهم الدية أو تكون في بيت المال؟ على روايتين)
إذا امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا، وعن أحمد رواية أخرى انهم
يحبسون حتى يحلفوا وهو قول أبي حنيفة
ولنا انها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الايمان. إذا ثبت هذا
46

فإنه لا يجب القصاص بالنكول لأنه حجة ضعيفة فلا يناط بها الدم كالشاهد واليمين قال القاضي ويديه
الإمام من بيت المال نص عليه احمد وروى عنه حرب بن إسماعيل أن الدية تجب عليهم وهذا و
الصحيح وهو اختيار أبي بكر لأنه حكم يثبت بالنكول فيثبت في حقهم ههنا كسائر الدعاوى ولان
وجوبها في بيت المال يفضي إلى إهدار الدم وإسقاط حق المدعين مع إمكان جبره فلم يجز كما في سائر
الدعاوى وههنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله ولم يجبر على اليمين لخلا من وجوب شئ عليه
بالكلية، وقال أصحاب الشافعي إذا نكل المدعى عليهم ردت الايمان على المدعين إن قلنا موجبها
المال فإن حلفوا استحقوا وإن نكلوا فلا شئ لهم، وإن قلنا موجبها القصاص فهل ترد على المدعين؟
فيه قولان وهذا القول لا يصح لأن اليمين إنما شرعت في حق المدعى عليه إذا نكل عنها المدعي فلا
ترد عليه كما لا ترد على المدعى عليه إذا نكل المدعي عنها بعد ردها عليه في سائر الدعاوى ولأنه يمين
مردودة على أحد المتداعبين فلا ترد على من ردها كدعوى المال
47

(باب قتال أهل البغي)
والأصل في هذا قول الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله - إلى قوله - إنما المؤمنون اخوة
فأصلحوا بين أخويكم) ففيها خمس فوائد
(أحدها) أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الايمان فإنه سماهم مؤمنين (الثانية) انه أوجب قتالهم
(الثالثة) أنه أسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله (الرابعة) أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم إذا
فاءوا إلى أمر الله (الخامسة) ان الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقا عليه
وروى عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من أعطى إماما صفقة يده
وثمرة قبله فليطعه ما استطاع فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر) رواه مسلم. وروى عرفجة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ستكون هنات وهنات (ورفع صوته) ألا من خرج على أمتي وهم جميع
فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان) فكل من ثبتت إمامته وجبت طاعته وحرم الخروج عليه
وقتاله لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)
48

وروى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره
وأن لا ننازع الامر أهله
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية)) رواه
ابن عبد البر من حديث أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد وأجمعت الصحابة رضي
الله عنهم على قتال البغاة فإن أبا بكر رضي الله انه قاتل ما نعي الزكاة، وعلي رضي الله عنه قاتل أهل
الجمل وأهل صفين وأهل النهروان
(مسألة) (وهم القوم الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ ولهم منعة وشوكة)
الخارجون عن قبضة الإمام أصناف أربعة (أحدها) قوم امتنعوا من طاعته وخرجوا عن قبضته
بغير تأويل فهؤلاء قطاع الطريق ساعون في الأرض بالفساد وقد ذكرنا حكمهم
(الثاني) قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم كالعشيرة ونحوهم فهؤلاء حكمهم حكم
الصنف الذي قبلهم في قول أكثر الأصحاب ومذهب الشافعي لأن ابن ملجم لما جرح عليا قال للحسن
إن برئت رأيت رأيي وإن مت فلا تمثلوا به فلم يثبت لفعله حكم البغاة، ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير
49

حكم البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه أفضى إلى اتلاف أموال الناس، وقال أبو بكر لا فرق بين الكثير
والقليل وحكمهم حكم البغاة إذا خرجوا عن قبضة الإمام
(الثالث) الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عليا وعثمان وطلحة والزبير وكثيرا من
الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء المتأخرين من
أصحابنا أنهم بغاة لهم حكمهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث
وأما مالك فيرى استتابتهم فإن تابوا وإلا قتلوا على افسادهم لاعلى كفرهم، وذهبت طائفة من أهل
الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين تباح دماؤهم وأموالهم فإن تحيزوا في مكان
وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم
كاستتابة المرتدين فإن تابوا وإلا قتلوا وكانت أموالهم فيأ لا يرثهم ورثتهم المسلمون لما روى أبو سعيد
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم
وأعمالكم مع أعمالهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية
ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق) وهو حديث صحيح ثابت
الاسناد رواه البخاري ومالك في موطئه وفي لفظ قال (يخرج في آخر الزمان احداث الأسنان سفهاء
الأحلام يقولون من خير قول الآية يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم
50

من الرمية فأينما لقيتهم فاقتلهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة) رواه البخاري، وروي معناه من
وجوه، يقول كما خرج هذا السهم نقيا خاليا من الدم والفرث لم يتعلق منهما شئ كذلك خروج هؤلاء
من الدين يعني الخوارج
وعن أبي أمامة انه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال: كلاب النار، شر قتلى تحت
أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) إلى آخر الآية فقيل له أنت
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لو لم أسمعه الامرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه
قال الترمذي هذا حديث حسن ورواه مالك عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب أنه سمع أبا أمامة يقول
شر قتلى تحت أديم السماء وخير قتلى من قتلوه، كلاب أهل النار كلاب أهل النار كلاب أهل النار
كانوا مسلمين فصاروا كفارا. قلت يا أبا أمامة هذا شئ تقوله؟ قال بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن
علي في قوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) قال هم أهل النهروان وعن أبي سعيد في حديث
آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (هم شر الخلق والخليقة لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وقيل لا يجاوز ايمانهم
حناجرهم، وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم، قال ابن المنذر لا أعلم أحدا وافق أهل
الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين، وقال ابن عبد البر في الحديث الذي رويناه قوله عليه
السلام (يتمارى في الفوق) يدل على أنه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الاسلام بشئ بحيث يشك في
51

خروجهم: وروي أن عليا لما قاتل أهل النهر قال لأصحابه لا تبدؤوهم بالقتال وبعث إليهم أقيدونا
بعبد الله بن خباب قالوا كلنا قتله فحينئذ استحل قتالهم لا قرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم وذكر
ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن أهل النهر أكفار هم؟ قال من الكفر فروا قيل
فمنافقون؟ قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قال فماهم؟ قال هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا
وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم، ولما جرحه ابن ملجم قال للحسن أحسنوا أساره وان عشت فانا ولي
دمي وان مت فضربة كضربتي وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من العلماء، وقال شيخنا
رحمه الله والصحيح إن شاء الله تعالى ان الخوارج يجوز قتلهم فإن عليا رضي الله عنه قال لولا أن
ينظروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ولان بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي
حل دمائهم بدليل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من عظم ذنبهم وانهم شر الخلق والخليقة وأنهم يمرقون
من الدين وأنهم كلاب النار، وحثه على قتالهم واخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد فلا يجوز الحاقهم
من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم، وتورع كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم ولا بدعة فيهم
52

(الصنف الرابع) (قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم
منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش فهؤلاء البغاة الذين يذكر في الباب حكمهم)
وجملة الأمران من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته لما ذكرنا من النص في
أول الباب مع الاجماع على ذلك وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم أو بعهد إمام قبله إليه، فإن
أبا بكر رضي الله عنه ثبتت إمامته باجماع الصحابة على بيعته وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه واجماع
الصحابة على قبوله، ولو خرج رجل على إمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته
وبايعوه صار إماما يحرم قتاله والخروج عليه، فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله
واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها وصار إماما يحرم الخروج عليه، وذلك لما في الخروج
عليه من شق عصا المسلمين إراقة دمائهم وذهاب أموالهم، ويدخل الخارج عليه في عموم قوله
عليه الصلاة والسلام (من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان) فمن خرج
على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه باغيا وجب قتاله
(مسألة) (وعلى الإمام أن يراسلهم ويسألهم ما ينقمون منه ويزل ما يذكرونه من مظلمة
ويكشف من شبهة فإن فاؤا والا قاتلهم)
وجملة ذلك أن الإمام لا يجوز له قتالهم حتى يبعث إليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب إلا
53

أن يخاف كلبهم فلا يمكن ذلك في حقهم، فأما إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك وأزال يذكرونه من المظالم وأزال
حججهم فإن لجوا قاتلهم حينئذ لأن الله تعالى بدأ بالامر بالاصلاح قبل القتال فقال سبحانه (وان طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله)
وروي أن عليا رضي الله عنه راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل ثم آمر أصحابه أن لا يبدء وهم
بالقتال ثم قال: ان هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم سمعهم يقولون الله أكبر يا ثارات عثمان
فقال اللهم أكب قتلة عثمان لوجوههم. وروى عبد الله بن شداد بن الهادي أن عليا لما اعتزله الحرورية
بعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعه آلاف
(فصل) فإن أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال وإنما كان ذلك لأن المقصود كفهم ودفع
شرهم لا قتلهم فإذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر بالفريقين فإن فاؤا والا
قاتلهم لقوله سبحانه (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله)
(مسألة) (وعلى رعيته معونته على حربهم) للآية
(مسألة) (فإن استنظروه مدة رجا رجوعهم فيها أنظرهم ويكشف عن حالهم ويبحث عن
أمرهم فإن بان له أن قصدهم الرجوع إلى الطاعة ومعرفة الحق أمهلهم، قال ابن المنذر أجمع على هذا
كل من نحفظ عنه من أهل العلم
(مسألة) (فإن ظن أنها مكيدة لم ينظرهم وقاتلهم)
إذا ظهر له أن استنظارهم مكيدة ليجتمعوا على قتاله وان لهم مددا ينتظرونه ليتقووا به أو خديعة
54

الإمام ليأخذوه على غرة ويفترق عسكره عاجلهم بالقتال لأنه لا يأمن أن يصير هذا طريقا إلى قهر
أهل الحق والعدل، وهذا لا يجوز، وان أعطوه عليه مالا لأنه لا يجوز أن يأخذ المال على اقرارهم على
مالا يحل اقرارهم عليه، وان بذلوا له رهائن على إنظارهم لم يجز أخذها لذلك ولان الرهائن لا يجوز
قتلهم لغدر أهلهم عليه فلا يفيد شيئا، وإن كان في أيديهم أسارى من أهل العدل وأعطوا بذلك رهائن
منهم قتلهم الإمام واستظهر للمسلمين فإن أطلقوا أسرى المسلمين الذين عندهم أطلقت رهائنهم وان
قتلوا من عندهم لم يجز قتل رهائنهم لأنهم لا يقتلون بقتل غيرهم وإذا انقضت الحرب خلى الرهائن
كما يخلى الأسارى منهم، وان خاف الإمام على الفئة العادلة الضعف عنهم أخر قتالهم إلى أن تمكنه
القوة عليهم لأنه لا يأمن الاصطلام والاستئصال فيؤخرهم حتى تقوى شوكة أهل العدل ثم يقاتلهم
وان سألوه أن ينظرهم أبدا ويدعهم وما هم عليه ويكفوا عن المسلمين نظرت فإن لم تعلم قوته عليهم
وخاف قهرهم له ان قاتلهم تركهم وان قوى عليهم لم يجز اقرارهم على ذلك لأنه لا يجوز أن يترك بعض
المسلمين طاعة الإمام لا يأمن قوة شوكتهم بحيث يفضي إلى قهر الإمام العادل ومن معه، ثم إن
أمكن دفعهم بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم ولان الدفع إذا حصل بغير القتل لم يجز
القتل من غير حاجة وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله، وقال أصحاب الشافعي فيه وجه آخر يجوز
55

لأن عليا رضي الله عنه نهى أصحابه عن قتل محمد بن طلحة السجاد وقال: إياكم وصاحب البرنس
فقتله رجل وأنشا يقول:
وأشعث قوام بآيات ربه * كثير التقى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه * فخر صريعا لليدين وللفم
على غير ذنب غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يظلم
يناشدني حم والرمح شاجر * فهلا تلاحم قبل التقدم
وكان السجاد حامل راية أبيه ولم يكن يقاتل فلم ينكر علي قتله ولأنه صار ردءا لهم
ولنا قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) والأخبار الواردة في تحريم قتل المسلم
والاجماع على تحريمه وإنما خص من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصائل ففيما عداه يبقى على
العموم والاجماع، ولهذا حرم قتل مدبرهم وأسرهم والاجهاز على جريحهم مع أنهم إنما تركوا القتال
عجزا عنه ومتى ما قدر عليه عادوا إليه، فمن لا يقاتل تورعا عنه مع قدرته عليه ولا يخالف منه القتال بعد
ذلك أولى، ولأنه مسلم لم يحتج إلى دفعه ولا صدر منه أحد الثلاثة فلم يحل دمه لقوله عليه الصلاة
والسلام (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) فأما حديث علي في نهيه عن قتل السجاد فهو
حجة عليهم فإن نهي علي أولى من فعل من خالفه ولم يمتثل قول الله تعالى ولا قول رسوله ولا قول إمامه
وقولهم فلم ينكر قتله قلنا لم ينقل إلينا أن عليا علم حقيقة الحال في قتله ولا حضر قتله فينكره، وقد جاء
أن عليا رضي الله عنه حين طاف في القتلى رآه فقال السجاد ورب الكعبة هذا الذي قتله بره بأبيه
وهذا يدل على أنه لم يشعر بقتله ورأي كعب بن سور فقال: يزعمون إنما خرج إلينا الرعاع وهذا
56

الحبر بين أظهرهم ويجوز أن يكون تركه الانكار عليهم اجتزاء بالنهي المتقدم ولان القصد من قتالهم
كفهم وهذا كاف لنفسه فلم يجز قتله كالمنهزم
(فصل) وإذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان فهم كالرجل الحر البالغ يقاتلون مقبلين ويتركون
مدبرين لأن قتالهم للدفع، ولو أراد أحد هؤلاء قتل انسان جاز دفعه وقتاله وان أتى على نفسه ولذلك
قلنا في أهل الحرب إذا كان معهم النساء والصبيان قوتلوا وقتلوا
(مسألة) (ولا يقاتلهم بما يعم اتلافه كالمنجنيق والنار إلا لضرورة)
لأنه لا يجوز قتل من لا يقاتل وما يعم اتلافه يقع على من لا يقاتل فإن دعت إلى ذلك ضرورة
مثل أن يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم المتخلص إلا برميهم بما يعم اتلافه جاز وهذا قول الشافعي وقال
أبو حنيفة إذا تحصن الخوارج واحتاج الإمام إلى رميهم بالمجنيق فعل ذلك ما كان لهم عسكر وما لم
ينهزموا وان رماهم البغاة بالمنجنيق والنار جاز رميهم بمثله
(فصل) قال أبو بكر إذا اقتتلت طائفتان من أهل البغي فقدر الإمام على قهرهما لم يعن واحدة
منهما لأنهما جميعا على الخطأ وإن عجز عن ذلك وخاف اجتماعهما على حربه ضم إليه أقربهما إلى الحق
فإن استويا اجتهد برأيه في ضم إحداهما ولا يقصد بذلك معونة إحداها بل الاستعانة على الآخر فإذا
هزمها لم يقاتل من معه حتى يدعوهم إلى الطاعة لأنهم قد حصلوا في أمانه وهذا مذهب الشافعي
(مسألة) (ولا يستعين في حربهم بكافر ولا بمن يرى قتلهم مدبرين)
وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا بأس ان يستعين عليهم بأهل الذمة والمستأمنين
وصنف آخر منهم إذا كان أهل العدل هم الظاهرين على من يستعينون به
57

ولنا ان القصد كفهم وردهم إلى الطاعة لأقتلهم وهؤلاء يقصدون قتلهم فإن دعت الحاجة إلى
الاستعانة بهم فإن كان يقدر على كفهم عن فعل مالا يجوز استعان بهم وان لم يقدر لم يجز
(مسألة) (وهل يجوز ان يستعين عليهم بسلاحهم وكراعهم؟ على وجهين)
(أحدهما) لا يجوز لأنه لا يحل أخذ مالهم لكونه معصوما بالاسلام وإنما أبيح قتالهم لردهم إلى
الطاعة يبقى المال على العصمة كمال قاطع الطريق الا ان تدعو ضرورة فيجوز كما يجوز أكل مال الغير
في المخمصة (والوجه الثاني) يجوز قياسا على أسلحة الكفار
(مسألة) (وذكر القاضي ان احمد اومأ إلى جواز الانتفاع به حال الحرب)
وهذا أحد الوجهين الذين ذكرناهما ولا يجوز في غير قتالهم وهو قول أبي حنيفة لأن هذه
الحال لا يجوز فيها اتلاف نفوسهم وحبس سلاحهم وكراعهم فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب،
وقال الشافعي لا يجوز ذلك الامن ضرورة إليه لأنه مال مسلم فلم يجز الانتفاع به بغير اذنه كغيره
من أموالهم ومتى انقضت الحرب وجب رده إليهم كما ترد سائر أموالهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل
مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه) والله أعلم
[مسألة] (ولا يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريح)
وجملة ذلك أن أهل البغي إذا تركوا القتال إما بالرجوع إلى الطاعة وإما بالقاء السلاح أو بالهزيمة
إلى فئة أو إلى غير فئة وإما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر فإنه يحرم قتالهم واتباع مدبرهم وبهذا قال
الشافعي. وقال أبو حنيفة إذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا وان كانت لهم فئة يلجأون إليها جاز قتل
مدبرهم وأسرهم والإجازة على جريحهم، فأما إذا لم تكن لهم فئة لا يقتلون ولكن يضربون ضربا وجيعا
58

ويحبسون حتى يقلعوا عما هم عليه ويحدثوا توبة، ذكر هذا في الخوارج ويروى عن ابن عباس نحو
هذا واختاره بعض أصحاب الشافعي لأنه متى لم يقتلهم اجتمعوا وعادوا إلى المحاربة
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل (لا يذفف على جريح ولا يهتك ستر ولا
يفتح باب ومن أغلق بابا - أو بابه - فهو آمن ولا يتبع مدبر) وروي نحو ذلك عن عمار وعن علي
انه ودي قوما من بيت مال المسلمين قتلوا مدبرين. وعن أبي أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا
يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا
وروى القاضي في شرحه عن عبد الله بن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا ابن أم عبد ما حكم من
بغى
على أمتي؟) فقلت الله ورسوله أعلم فقال (لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا
يقسم فيئهم) لأن المقصود دفعهم وكفهم وقد حصل فلم يجز قتلهم كالصائل ولا يقتلون لما يخاف في
ثاني الحال كما لو لم تكن لهم فئة، فعلى هذا إذا قتل انسانا منع من قتله ضمنه لأنه قتل معصوما لم يؤمر
بقتله ويجب عليه القصاص في أحد الوجهين لأنه قتل مكافئا معصوما (والثاني) لا يجب لأن في قتلهم
اختلافا بين الأئمة فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص لأنه مما يندرئ بالشبهات، وأما أسيرهم
فإن دخل في الطاعة خلي سبيله
(مسألة) (ولا يغنم لهم مال ولا يسبى لهم ذرية)
ولا نعلم في تحريمه بين أهل العلم خلافا لما ذكرنا من حديث أبي أمامة وابن مسعود ولأنهم
معصومون وإنما أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم وما عداه يبقى على أصل
التحريم وقد روي أن عليا يوم الجمل قال من عرف شيئا من ماله مع أحد فليأخذه وكان بعض أصحاب
59

علي قد اخذ قدرا وهو يطبخ فيها فجاء صاحبها ليأخذها فسأله الذي يطبخ فيها إمهاله حتى ينضج
الطبيخ فأبى وكبه وأخذها وهذا من جملة ما نقم الخوارج من علي فإنهم قالوا إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم
فإن حلت له دماؤهم فقد حلت له أموالهم وان حرمت عليه أموالهم فقد حرمت عليه دماؤهم فقال
لهم ابن عباس أفتسبون أمكم عائشة رضي الله عنها أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فإن قلتم
ليست أمكم كفرتم وان قلتم انها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم يعني بقوله انكم ان جحدتم انها
أمكم فقد قال الله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) فإن لم تكن أما لكم لم
تكونوا من المؤمنين، ولان قتال البغاة إنما هو كدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم فلا يستباح منهم
الا ما حصل ضرورة الدفع كالصائل وقاطع الطريق ويبقى حكم المال والذرية على أصل العصمة وما أخذ
من سلاحهم وكراعهم لم يرد إليهم حال الحرب لئلا يقاتلونا به
(مسألة) (ومن أسر من رجالهم حبس حتى تنقضي الحرب ثم يرسل)
وجملة ذلك أن حكم من أسر منهم انه يخلى سبيله ان دخل في الطاعة وان أبى ذلك وكان رجلا جلدا
من أهل القتال حبس ما دامت الحرب قائمة فإذا انقضت الحرب خلي سبيله وشرط عليه أن لا يعود إلى القتال
(مسألة) (وان أسر صبي أو امرأة فهل يفعل به ذلك أو يخلى سبيله في الحال؟ يحتمل وجهين)
(أحدهما) يخلى سبيلهم في الحال (والثاني) يحبسون لأن فيه كسر قلوب البغاة والأول أصح
(فصل) فإن أسر كل واحد من الفريقين أسارى من الفريق الآخر جاز فداء أسارى أهل
العدل بأسارى البغاة فإن قتل أهل البغي أسارى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أساراهم لأنهم
لا يقتلون بجناية غيرهم ولا يزرون وزر غيرهم فإن أبى أهل البغي مفاداة الاسرى الذين معهم وحبسوهم
60

احتمل ان لا يجوز لأهل العدل حبس من معهم ليتوصلوا إلى تخليص أساراهم بحبس الأسارى الذين
معهم واحتمل أن لا يجوز حبسهم ويطلقون لأن الذنب في حبس أسارى أهل العدل لغيرهم
مسألة (وإذا انقضى الحرب فمن وجد ماله في يد انسان أخذه)
لما ذكرنا من قول علي: من عرف شيئا أخذه ولأنه مال معصوم بالاسلام فأشبه مال غير البغاة
مسألة (ولا يضمن أهل العدل ما أتلفوه عليهم حال الحرب من نفس أو مال وهل يضمن البغاة
ما أتلفوه على أهل العدل في الحرب؟ على روايتين)
وجملة ذلك أنه إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم جاز ولا شئ على من قتلهم من اثم ولا
ضمان ولا كفارة لأنه فعل ما أمر به وقتل من أحل الله قتله وكذلك ما أتلفه أهل العدل على أهل البغي
حال الحرب من المال لا ضمان فيه لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال أولى
(فصل) وان قتل العادل كان شهيدا لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به بقوله سبحانه (فقاتلوا التي
تبغي) وهل يغسل ويصلى عليه؟ فيه روايتان [إحداهما] لا يغسل ولا يصلى عليه لأنه شهيد معركة أمر
بالقتال فيها فأشبه شهيد معركة الكفار [والأخرى] يغسل ويصلى عليه وهو قول الأوزاعي وابن
المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على من قال لا إله إلا الله واستثنى قتيل الكفار في المعركة ففيما عداه
يبقى على الأصل ولان شهيد معركة الكفار اجره أعظم وفضله أكثر وقد جاء انه يشفع في سبعين من أهل بيته
وهذا لا يلحق به في فضله فلا يثبت فيه مثل حكمه لأن الشئ إنما يقاس على مثله
(فصل) وليس على أهل البغي أيضا ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس ولا مال وبه قال
أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وعن أحمد رواية ثانية أنهم يضمنون وهو القول الثاني للشافعي
61

لقول أبي بكر رضي الله عنه لأهل الردة: تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم ولأنها نفوس وأموال
معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح فوجب ضمانه كالذي تلف في غير حال الحرب
ولنا ما روى الزهري أنه قال كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن
لا يقام حد على رجل ارتكب فرجا حراما بتأويل القرآن ولا يلزم مالا أتلفه بتأويل القرآن. ولأنها
طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى كأهل العدل ولان تضمينهم يفضي
إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع كتضمين أهل الحرب. فأما قول أبي بكر رضي الله
عنه فقد رجع عنه ولم يمضه فإن عمر قال له اما ان يدوا قتلانا فلا فإن قتلانا قتلوا في سبيل الله على ما أمر
الله فوافقه أبو بكر ورجع إلى قوله فصار إجماعا حجة ولم ينقل انه غرم أحدا شيئا من ذلك وقد قتل
طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أرقم ثم أسلم فلم يغرم شيئا ثم لو وجب التغريم في حق المرتدين لم يلزم
مثله ههنا فإن أولئك كفار لا تأويل لهم وهؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأويل سائغ فكيف يصح إلحاقهم به؟
مسألة (ومن أتلف في غير حال الحرب شيئا ضمنه سواء كان قبل الحرب أو بعده)
وبهذا قال الشافعي ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن خباب ارسل إليهم علي أقيدونا من عبد الله
بن حباب ولما قتل ابن ملجم عليا في غير المعركة قتل به وهل يتحتم قتل الباغي إذا قتل أحدا من أهل
العدل في غير المعركة؟ فيه وجهان [أحدهما] يتحتم لأنه قتل باشهار السلاح والسعي في الأرض بالفساد فأشبه
قطاع الطريق [والثاني] لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي رضي الله عنه ان شئت اعفو وان شئت استقدت.
فاما الخوارج فالصحيح على ما ذكرنا إباحة قتلهم فلا قصاص على واحد منهم ولا ضمان عليه في ماله
62

(فصل) ومن قتل من أهل البغي غسل وصلي عليه وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي ان لم يكن
لهم فئة صلي عليهم وان كانت لهم فئة لم يصل عليهم لأنه يجوز قتلهم في هذه الحالة فلم يصل عليهم كالكفار
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا على من قال لا إله إلا الله) رواه الخلال في جامعه ولأنهم مسلمون
لم
يثبت لهم حكم الشهادة فيغسلون ويصلى عليهم كما لو لم تكن لهم فئة. وما ذكروه ينتقض بالزاني
المحصن والمقتص منه والقاتل في المحاربة
(فصل) ولم يفرق أصحابنا بين الخوارج وغيرهم في هذا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي
وظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه لا يصلى على الخوارج فإنه قال أهل البدع ان مرضوا فلا تعودوهم
وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم، وقال أحمد رضي الله عنه الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم قد ترك
النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بأقل من هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقاتل خيبر ناحية من نواحيها فقاتل رجل
من تلك الناحية فقتل فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له فإن كان في قرية أهلها نصارى ليس فيها
من يصلي عليه قال أنا لا أشهده يشهده من شاء وقال مالك: لا يصلى على الأباضية ولا القدرية
وسائر أهل الأهواء ولا تتبع جنائزهم ولا تعاد مرضاهم، والأباضية صنف من الخوارج نسبوا إلى
عبد الله بن أباض صاحب مقالتهم والأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق والنجدات أصحاب نجدة
الحروري والبيهسية أصحاب بيهس والصفرية قيل إنهم نسبوا إلى صفرة ألوانهم وأصنافهم كثيرة
63

والحرورية نسبوا إلى أرض يقال لها حروراء خرجوا بها قال أبو بكر بن عياش: لا أصلي على الرافضي
لأنه يزعم أن عمر كافر ولا على الحروري لأنه يزعم أن عليا كافر، وقال الفريابي: من سب أبا بكر
فهو كافر لا يصلى عليه، ووجه ترك الصلاة عليهم أنهم يكفرون أهل الاسلام ولا يرون الصلاة
عليهم فلا يصلى عليهم كالكفار من أهل الذمة وغيرهم لأنهم مرقوا من الدين فأشبهوا المرتدين
(فصل) والبغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين وإنما هم مخطئون في تأويلهم
والإمام وأهل العدل مصيبون في قتالهم فهم جميعا كالمجتهدين من الفقهاء في الأحكام من شهد منهم
قبلت شهادته إذا كان عدلا وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافا فأما الخوارج وأهل
البدع إذا خرجوا على الإمام لم تقبل شهادتهم لأنهم فساق، وقال أبو حنيفة يفسقون بالبغي
وخروجهم ولكن تقبل شهادتهم لأن فسقهم من جهة الدين فلا ترد به الشهادة والاختلاف في
ذلك يذكر في كتاب الشهادة إن شاء الله تعالى
(فصل) ذكر القاضي أنه لا يكره للعادل قتل ذوي رحمه الباغين لأنه قتل بحق أشبه إقامة
الحد عليه وكرهت طائفة من أهل العلم القصد إلى ذلك قال شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله تعالى
64

لقول الله تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا
معروفا) وقال الشافعي كف النبي صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه وقال بعضهم لا يحل ذلك
لأن الله تعالى أمر بمصاحبته بالمعروف وليس هذا من المعروف فإن قتله فهل يرثه؟ على روايتين
(إحداهما) يرثه اختارها أبو بكر وهو مذهب أبي حنيفة لأنه قتل بحق فلم يمنع الميراث كالقصاص والقتل
في الحد (والثانية) لا يرثه وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (ليس
لقاتل شئ) فأما الباغي إذا قتل العادل فلا يرثه وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة يرثه لأنه قتل
بتأويل أشبه قتل العادل الباغي
ولنا أنه قتله بغير حق فلم يرثه كالقتل خطأ، وفارق ما إذا قتله العادل لأنه قتله بحق وقال قوم
إذا تعمد العادل قتل قريبه فقتله ابتداء لم يرثه وان قصد ضربه ليصير غير ممتنع فجرحه ومات من
هذا الضرب ورثه ولأنه قتله بحق وهذا قول ابن المنذر وهو أقرب الأقاويل
(مسألة) (وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج أو جزية لم يعد عليهم، ولا على صاحبه)
إذا غلب أهل البغي على بلد فجبوا الخراج والزكاة والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك موقعه فإذا ظهر
65

أهل العدل بعد على البلد وظفروا بأهل البغي لم يطالبوا بشئ مما جبوه ولم يرجع به على من أخذ منه
وروي نحو هذا عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي
سواء كان من الخوارج أو من غيرهم وقال أبو عبيد على من أخذوا منه الزكاة الإعادة لأن أخذها
ممن لا ولاية له صحيحة فأشبه ما لو اخذها آحاد الرعية
ولنا أن عليا رضي الله عنه لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشئ مما جبوه وكان ابن عمر
إذا اتاه ساعي نجدة الحروري دفع إليه الزكاة وكذلك سلمة بن الأكوع ولان في ترك الاحتساب
بها ضررا عظيما ومشقة كبيرة فإنهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة فلو لم يحتسب بما أخذوه
أدى إلى ثنا الصدقات في تلك المدة كلها
(مسألة) (ومن ادعى دفع زكاته إليهم قبل بغير يمين) قال أحمد لا يستخلف الناس على صدقاتهم
(مسألة) (وان ادعى ذمي دفع جزيته إليهم لم يقبل الا ببينة)
لأنهم غير مأمونين ولان ما يجب عوض وليس بمواساة فلم يقبل قولهم فيه كأجرة الدار
ويحتمل أن يقبل قولهم إذا مضى الحول لأن الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم فكان القول قولهم
66

لأن الظاهر معهم ولأنه إذا مضى لذلك سنون كثيرة شق عليهم إقامة البينة على كل عام فيؤدي
ذلك إلى تغريمهم الجزية مرتين
(مسألة) (وإن ادعى دفع خراجه إليهم فهل يقبل بغير بينة؟ على وجهين)
(أحدهما) يقبل لأنه حق على مسلم فقبل قوله فيه كالزكاة (والثاني) لا يقبل لأنه عوض فأشبه الجزية
(مسألة) (وتجوز شهادتهم)
لأنهم أخطئوا في فروع الاسلام باجتهادهم فأشبه المجتهدين من الفقهاء في الأحكام وإذا لم يكونوا
من أهل البدع قبلت شهادتهم كأهل العدل وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه خلافا
(مسألة) (ولا ينقض من حكم حاكمهم الا ما ينقض من حكم غيره)
إذا نصب أهل البغي قاضيا يصلح للقضاء فهو كقاضي أهل العدل ينفذ من أحكامه ما ينفذ
من أحكام قاضي أهل العدل ويرد منه ما يرد فإن كان ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم لم
يجز قضاؤه لأنه ليس بعدل وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز قضاؤه بحال لأن أهل البغي
يفسقون ببغيهم والفسق ينافي القضاء
67

ولنا انه اختلاف في الفروع بتأويل سائغ فلم يمنع صحة القضاء ولم يفسق به كاختلاف الفقهاء
إذا ثبت هذا فإنه إذا حكم بما لا يخالف نصا ولا اجماعا نفذ حكمه وان خالف ذلك نقض حكمه
كقاضي أهل العدل، فإن حكم بسقوط الضمان على أهل البغي فيما أتلفوه حال الحرب جاز حكمه لأنه
موضع اجتهاد، وإن كان حكمه فيما أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ لأنه مخالف للاجماع، وان حكم على
أهل العدل بوجوب الضمان فيما أتلفوه حال الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته للاجماع وان حكم بوجوب
ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب نفذ حكمه، وان كتب قاضيهم إلى قاضي أهل العدل جاز قبول
كتابه لأنه قاض ثابت القضايا نافذ الأحكام، والأولى انه لا يقبله كسرا لقلوبهم وقال أصحاب الرأي لا يجوز
وقد سبق الكلام في هذا فأما الخوارج إذا ولوا قاضيا لم يجز قضاؤه لأن أقل أحوالهم الفسق وهو يمنع القضاء
ويحتمل أن يصح قضاؤه وتنفذ أحكامه لأن هذا مما يتطاول وفي القضاء بفساد قضاياه وعقوده الأنكحة وغيرها
ضرر كثير فجاز دفعا للضرر كما لو أقام الحدود وأخذ الجزية والخراج والزكاة
(فصل) وإذا ارتكب أهل البغي في حال امتناعهم ما يوجب الحد ثم قدر عليهم أقيمت
فيهم حدود الله تعالى ولا تسقط باختلاف الدار، وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر وقال
أبو حنيفة: إذا امتنعوا بدار لم يجب الحد على أحد منهم ولا على من تاجر أو أسر لأنهم خارجون
عن دار الإمام فأشبهوا من دار الحرب
ولنا عموم الآيات والاخبار ولان كل موضع تجب فيه العبادات في أوقاتها تجب الحدود فيه
68

عند وجود أسبابها كدار أهل العدل، ولأنه زان أو سارق ولا شبهة في زناه وسرقته فوجب عليه
الحد كالذي في دار العدل، وهكذا القول فيمن أتى حدا في دار الحرب فإنه يجب عليه لكن لا يقام
الا في دار الاسلام على ما ذكرناه في موضعه
(مسألة) (وإن استعانوا بأهل الذمة فأعانوهم انتقض عندهم الا أن يدعوا أنهم ظنوا أنه
تجب عليهم معونة من استعان بهم من المسلمين ونحو ذلك فلا ينتقض عهدهم)
إذا استعان البغاة بأهل الذمة في قتال أهل العدل وقاتلوا معهم فقد ذكر أبو بكر فيهم وجهين
(أحدهما) ينتقض عهدهم لأنهم قاتلوا أهل الحق فانتقض عهدهم كما لو انفردوا بقتالهم (والثاني) لا ينتقض لأن أهل الذمة لا يعرفون المحق من المبطل فيكون ذلك شبهة لهم وللشافعي قولان كالوجهين
فإن قلنا ينتقض عدهم صاروا كاهل الحرب فيما نذكره وان قلنا لا ينتقض عهدهم فحكمهم حكم
أهل البغي في قتل مقبلهم والكف عن أسيرهم ومدبرهم وجريحهم، وان أكرههم البغاة على معونتهم
أو ادعوا ذلك قبل منهم لأنهم تحت أيديهم وقدرتهم، وكذلك ان قالوا ظننا ان من استعان من استعان بنا من المسلمين
لزمتنا معونته لأن ما ادعوه محتمل فلا ينتقض عهدهم مع الشبهة
(فصل) ويغرمون ما أتلفوه من نفس ومال حال القتال وغيره بخلاف أهل البغي فإنهم لا يضمنون
69

ما اتلفوا حال الحرب لأنهم أتلفوه بتأويل سائغ وهؤلاء لا تأويل لهم ولان سقوط الضمان عن المسلمين
كيلا يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة وأهل الذمة لا حاجة بنا إلى ذلك فيهم
(مسألة) (وان استعانوا بأهل الحرب وآمنوهم لم يصح أمانهم وأبيح قتلهم)
إذا استعان أهل البغي بالكفار لم يخل من ثلاثة أصناف (أحدها) أهل الذمة وقد ذكرنا حكمهم
(الثاني) أهل الحرب فإذا استعانوا بهم وآمنوهم وعقدوا لهم ذمة لم يصح واحد منهما لأن الأمان
من شرط صحته التزام كفهم عن المسلمين وهؤلاء يشترطون عليهم قتال المسلمين فلا يصح ولأهل
العدل قتلهم كمن لم يؤمنوه سواء وحكم أسيرهم حكم أسير سائر أهل الحرب قبل الاستعانة بهم
فأما البغاة فلا يجوز لهم قتلهم لأنهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم
(الثالث) المستأمنون فمتى استعانوا بهم فأعانوهم نقضوا عهدهم وصاروا كأهل الحرب لأنهم
تركوا الشرط وهو كفهم عن المسلمين، فإن فعلوا ذلك مكرهين لم ينتقض أمانهم لأن لهم عذر أو ان
ادعو الاكراه لم يقبل الا ببينة لأن الأصل عدمه فإن ادعوا انهم ظنوا انه يجب عليهم معونة من
70

استعان بهم من المسلمين انتقض عهدهم ولم يكن ذلك عذرا لهم والفرق بينهم وبين أهل الذمة ان
أن أهل الذمة أقوى حكما لأن عهدهم مؤبد ولا يجوز نقضه بخوف الخيانة منهم ويلزم الإمام الدفع
عنهم والمستأمنون بخلاف ذلك
(مسألة) (وان أظهر قوم رأي الخوارج ولم يجتمعوا لحرب لم يتعرض لهم)
مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء المسلمين وأموالهم الا انهم لم
يجتمعوا لحرب ولم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام، فحكى القاضي عن أبي بكر انه
لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه روي ذلك عن عمر
ابن عبد العزيز فعلى هذا حكمهم في ضمان النفس والمسلمين
(مسألة) (وان سبوا الإمام عزرهم وكذلك إن سبوا غيره من أهل العدل)
لأنهم ارتكبوا محرما لا حد فيه وان عرضوا بالسب فهل يعزرون؟ على وجهين، وقال مالك في
الأباضية وسائر أهل البدع يستتابون فإن تابوا والا ضربت أعناقهم قال إسماعيل بن إسحاق رأى
مالك قتل الخوارج وأهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين كقطاع الطريق فإن تابوا والا
71

قتلوا على افسادهم لا على كفرهم، وأما من رأى تكفيرهم فمقتضى قوله انهم يستتابون فإن تابوا والا قتلوا
لكفرهم كما يقتل المرتد، وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي أنكر عليه وقال إنها قسمة ما أريد بها
وجه الله لأبي بكر (اذهب فاقتله) ثم قال لعمر مثل ذلك فأمر بقتله قبل قتاله وهو الذي قال (يخرج
من ضئضئ هذا قوم) يعني الخوارج وقول عمر لضبيع لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف
يعني لقتلتك وإنما يقتله لكونه من الخوارج فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيماهم التسبيد يعني حلق رؤوسهم
واحتج الأولون بفعل علي رضي الله عنه فروي عنه انه كان يخطب يوما فقال رجل بباب المسجد لاحكم
الا الله فقال علي كلمة حق أريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا
فيها اسم الله ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال، وروى أبو يحيى قال صلى علي
صلاة فناداه رجل (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فأجابه علي (فاصبر ان وعد
الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) وكتب علي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز ان الخوارج
يسبونك فكتب إليه ان سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم وان شهروا السلاح فاشهروا وان ضربوا
فاضربوا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة فلان يتعرض لغيرهم أولى
72

وقد روي في خبر الخارجي الذي أنكر عليه ان خالدا قال يا رسول الله الا أضرب عنقه قال (لا لعله
يصلي؟) قال رب مصل لا خير فيه قال (أني لم اومر أن أنقب على قلوب الناس)
(مسألة) (وان جنوا جناية أو اتوا حدا أقامه عليهم)
لأن ابن ملجم جرح عليا فقال أطعموه واسقوه واحبسوه فإن عشت فانا ولي دمي اعفوا ان
شئت وان شئت استقدت وان مت فاقتلوه ولا تمثلوا به
(مسألة) (وان اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان وتضمن كل واحدة
منهما ما أتلفت على الأخرى)
لأنها أتلفت نفسها معصومة أو مالا معصوما هذا إذا لم تكن واحدة منهما في طاعة الإمام فإن
كانت إحداهما في طاعة الإمام تقاتل بأمره فهي محقة وحكم الأخرى حكم من يقاتل الإمام لأنهم يقاتلون
من اذن له الإمام في قتالهم فأشبه المقاتل لجيش الإمام فيكون حكمهم حكم البغاة
73

باب حكم المرتد
المرتد هو الذي يكفر بعد اسلامه قال الله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر
فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم
(من بدل دينه فاقتلوه) وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان
وعلي عليه السلام ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد رضي الله عنهم وغيرهم فلم ينكر فكان اجماعا
(مسألة) (فمن أشرك بالله تعالى أو جحد ربوبيته أو وحد وحدانيته أو صفة من صفاته أو اتخذ صاحبة
أو ولدا أو جحد نبيا أو كتابا من كتب الله أو شيئا منه أو سب الله سبحانه وتعالى أو رسوله كفر)
وجملة ذلك أن المرتد هو الراجع عن دين الاسلام إلى الكفر فمن أقر بالاسلام ثم أنكره
وأنكر الشهادتين أو إحداهما كفر بغير خلاف
(مسألة) (فإن جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئا منها أو أحل الزنا أو الخمر أو شيئا من
المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها لجهل عرف ذلك فإن كان ممن لا يجهل ذلك كفر)
وجملة ذلك أنه قد مضى شرح حكم وجوب الصلاة وغيرها من العبادات الخمس في كتاب
74

الصلاة ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من ترك الصلاة جاحدا لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله
ذلك فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الاسلام والناشئ بغير دار الاسلام أو بادية بعيدة
عن الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره وعرف ذلك وثبتت له أدلة وجوبها فإن جحدها بعد ذلك كفر
واما ذا كان الجاحد ناشئا بين المسلمين في الأمصار بين أهل العلم فإن يكفر بمجرد جحدها وكذلك
الحكم في مباني الاسلام كلها وهي الزكاة والصيام والحج لأنها مباني الاسلام وأدلة وجوبها لا تكاد تخفى
إذا كان الكتاب والسنة مشحونين بادلتها والاجماع منعقد عليها فلا يجحدها الا معاند للاسلام
ممتنع من التزام الأحكام غير قابل لكتاب الله تعالى وسنة رسوله واجماع الأمة وكذلك من اعتقد حل
شئ أجمع المسلمون على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم
الخنزير والزنا الخمر وأشباه هذه مما لا خلاف فيه كفر إذا كان قد نشأ بين المسلمين وهو ممن لا يجهل
مثله ذلك وقد ذكرناه في تارك الصلاة
(فصل) ومن سب الله تعالى أو رسوله كفر سواء كان جادا أو مازحا وكذلك من استهزأ بالله
سبحانه وتعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه لقوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب
قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم) وينبغي أن لا يكتفي من
الهازئ بذلك بمجرد الاسلام حتى يؤدب أدبا يزجره عن ذلك لأنه إذا لم يكتف ممن سب رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالتوبة فهذا أولى
75

(فصل) فإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر لما ذكرنا وإن
كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن كثيرا من العلماء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين
وأموالهم وفعلهم ذلك متقربين إلى الله تعالى وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق
في زمنه ولا يكفر المادح له على ذلك أيضا المتمني مثل فعله وهو عمران بن حطان قال بمدحه لقتل علي
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ عند الله رضوانا
اني لأذكره يوما فاحسبه * أوفي البرية عند الله ميزانا
وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم
واعتقادهم التقرب إلى ربهم بقتلهم ومع هذا لم يحكم أكثر الفقهاء بكفرهم لتأويلهم وكذلك يخرج
في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا فقد روي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلا فأقام
عمر عليه الحد ولم يكفره وكذلك أبو جندل بن سهيل وجماعة شربوا الخمر بالشام مستحلين لها
مستدلين بقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فلم يكفروا
وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم عليهم حدها فيخرج فيمن كان مثلهم مثل حكمهم وكذلك كل جاهل
بشئ يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك، وقد
76

قال احمد من قال الخمر حلال فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وهذا محمول على من
لا يخفى على مثله تحريمه لما ذكرنا، فأما إن أكل لحم الخنزير أو ميتة أو شرب خمرا لم يحكم بردته بمجرد
ذلك سواء فعله في دار الحرب أو دار الاسلام لأنه يجوز أن يكون فعله معتقدا تحريمه كما يفعل
غير ذلك من المحرمات
(فصل) والاسلام شهادة ان لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله وأقام الصلوات الخمس، وإيتاء
الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت فمن أقر بهذا فهو مسلم وتجري عليه أحكام الاسلام ومن أنكر
هذا أو شيئا منه كفر لأن الاقرار بالجميع واجب بالاتفاق ولا يكون مسلما إلا بذلك فمن أنكر ذلك
لم يكن مسلما ومن أنكر البعض كان كمن أنكر الجميع لأنه إذا أنكر البعض كان البعض الآخر كالمعدوم
والدليل على ذلك أن من ترك ركنا من أركان الصلاة عامدا بطلت وكان وجود باقي الأركان
كالمعدوم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته (ارجع فصل فإنك لم تصل) فجعل وجود صلاته
كعدمها حيث ترك بعض أركانها وقال تعالى (كذبت قوم نوح المرسلين) وإنما كذبوا نوحا
وحده فكان تكذيبهم إياه كتكذيبهم جميع المرسلين، وعلى هذا لو جحد حكما من أحكام
الاسلام مجمعا عليه كان كمن جحده جميعه
77

(مسألة) (ومن ترك شيئا من العبادات الخمس تهاونا لم يكفر وعنه يكفر)
وقد ذكرنا توجيه الروايتين في باب من ترك الصلاة فأما الحج فلا يكفر بتأخيره بحال لأن في
وجوبه على الفور خلافا بين العلماء على ما ذكر في موضعه
(مسألة) (ومن ارتد عن الاسلام من الرجال والنساء وهو بالغ عاقل دعي إليه ثلاثة أيام
وضيق عليه فإن لم يتب قتل)
الكلام في هذه المسألة في خمسة فصول: (أحدها) أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب
القتل، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول
وحماد ومالك والليث والشافعي وإسحاق وروي عن علي والحسن وقتادة انها تسترق ولا تقتل لأن
أبا بكر استرق نساء بني حنيفة وذراريهم وأعطى عليا امرأة منهم فولدت له محمد بن الحنفية وهذا
بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان اجماعا وقال أبو حنيفة تجبر على الاسلام بالحبس والضرب ولا
تقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقتلوا امرأة) ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري وأبو داود، وقال عليه الصلاة
والسلام (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه
المفارق للجماعة) متفق عليه
78

وروى الدارقطني ان امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الاسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل
وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المرأة فالمراد به الأصلية قال ذلك حين رأى امرة مقتولة وكانت كافرة
أصلية وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إلى ابن أبي الحقيق عن قتل النساء ولم يكن فيهم مرتد
ويخالف الكفر الأصلي الطارئ بدليل أن الرجل يقر عليه ولا يقتل الشيوخ ولا المكافيف ولا
تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس والكفر الأصلي بخلافه والصبي غير مكلف بخلاف المرأة
وأما بنو حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له اسلام ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم وإنما
أسلم بعضهم والظاهر أن الذين أسلموا كانوا رجالا فمنهم من ثبت على اسلامه منهم ثمامة بن أثال ومنهم
من ارتد منهم الدجال الحنفي
(الفصل الثاني) ان الردة لا تصح الا من عاقل فأما الطفل الذي لا يعقل والمجنون ومن زال
عقله بنوم أو إغماء أو شرب دواء مباح شربه فلا تصح ردته ولا حكم لكلامه بغير خلاف، قال
ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المجنون إذا ارتد في حال جنونه مسلم على ما كان
عليه قبل ذلك ولو قتله قاتل عمدا كان عليه القود إذا طلب أولياؤه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (رفع
القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) أخرجه
79

أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ولأنه غير مكلف فلم يؤاخذ بكلامه كما لو يؤاخذ به في
اقراره ولا طلاقه ولا عتاقه. وأما السكران والصبي العاقل فيذكر حكمهما فيما بعد إن شاء الله تعالى
(الفصل الثالث) أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعطاء
والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي وهذا أحد قولي الشافعي، وعن أحمد
رواية أخرى لا تجب استتابته قيل تستحب وهو القول الثاني للشافعي وبه قال عبيد بن عمير
وطاوس ويروى عن الحسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) ولم يذكر استتابته
وروي أن معاذا قدم على أبي موسى فوجد عنده رجلا موثقا فقال ما هذا؟ قال رجل كان يهوديا
فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود فقال لا أجلسن حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فامر
به فقتل. متفق عليه ولم يذكر استتابته، ولأنه يقتل لكفره فلم تجب استتابته كالأصلي ولأنه لو
قتل قبل الاستتابة لم يضمن ولو حرم قتله قبله ضمن، وقال عطاء إن كان مسلما أصليا لم يستتب،
وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب
ولنا حديث أم مروان فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تستتاب وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن
ابن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر
هل كان من معربة خيبر؟ قال نعم رجل كفر بعد اسلامه فقال ما فعلتم به؟ قال قربناه فضربنا
80

عنقه فقال عمر فهلا حبستموه ثلاثا فأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر
الله اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني، ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم ولأنه أمكن
استصلاحه فلم يجز اتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس، وأما الامر بقتله فالمراد به بعد الاستتابة بدليل
ما ذكرناه، وأما حديث معاذ فإنه قد جاء فيه وكان قد استتيب، ويروى أن أبا موسى استتابه شهرين
قبل قدوم معاذ عليه وفي رواية فدعاه عشرين ليلة أو قريبا من ذلك فجاء معاذ فدعاه وأبى فضربت
عنقه رواهن أبو داود، ولا يلزم من تحريم القتل وجوب الضمان بدليل نساء أهل الحرب وصبيانهم
إذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام روي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال مالك وإسحاق
وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر ان تاب والاقتل مكانه وهذا أصح قوليه
وهو قول ابن المنذر لحديث أم مروان لأنه مصر على كفره أشبه بعد الثلاث، وقال الزهري يدعى
ثلاث مرات فإن أبى ضربت عنقه وهذا يشبه قول الشافعي، وقال النخعي يستتاب أبدا وهذا
يفضي إلى أنه لا يقتل أبدا وهو مخالف للسنة والاجماع وعن علي أنه استتاب رجلا شهرا
ولنا حديث علي ولان الردة إنما تكون لشبهة ولا تزول في الحال فوجب ان ينظر مدة
؟ يرتئي، فيها وأولى كل ذلك ثلاثة أيام للأثر فيها وانها مدة قريبة وينبغي أن يضيق عليه في مدة
81

الاستتابة ويحبس لقول عمر: هلا حبستموه وأطعتموه كل يوم رغيفا؟ وتتكرر دعايته لعله
ينعطف قلبه فيراجع دينه. (الفصل الرابع) ان لم يتب قتل لما تقدم ذكره وهو قول عامة الفقهاء
(مسألة) (ويقتل بالسيف لأنه آلة القتل ولا يحرق بالنار)
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق المرتدين وفعل ذلك بهم خالد
والأولى أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله) يعني النار أخرجه
البخاري وقال عليه الصلاة والسلام (ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)
(الفصل الخامس) أن مفهوم كلام المصنف في هذه المسألة إذا تاب قبلت توبته وسنذكره إن شاء الله تعالى
(مسألة) (ولا يقتله الا الإمام أو نائبه حرا كان المرتد أو عبدا)
وهذا قول عامة أهل العلم الا الشافعي في أحد الوجهين في العبد أن لسيده قتله، وعن أحمد
رحمه الله أن له قتله في الردة وقطعه في السرقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أقيموا الحدود على ما ملكت
أيمانكم) ولان حفصة قتلت جارية سحرتها وابن عمر قطع عبدا سرق ولأنه حد لله تعالى فملك
السيد إقامته كحد الزاني.
ولنا أنه قتل لحق الله تعالى فكان إلى الإمام كقتل الحر، فأما قوله (أقيموا الحدود على ما
82

ملكت أيمانكم) فلا يتناول القتل في الردة فإنه قتل لكفره لا حدا في حقه، وأما خبر حفصة
فإن عثمان تغيظ عليها وشق عليه، فأما الجلد في الزنا فإنه تأديب عبده بخلاف القتل وقد ذكرنا ذلك في الحدود
(مسألة) (فإن قتله غيره بغير إذنه أساء وعزر لاساءته وافتياته على الإمام ولا ضمان عليه)
لأنه محل غير معصوم وسواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها لذلك
(مسألة) (وان عقل الصبي الاسلام صح اسلامه وردته وعنه يصح اسلامه دون ردته وعنه
لا يصح منهما شئ حتى يبلغ)
والمذهب الأول يصح اسلام الصبي في الجملة وبهذا قال أبو حنيفة وإسحاق وابن أبي شيبة وأبو
أيوب، وقال الشافعي وزفر لا يصح اسلامه حتى يبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي
حتى يبلغ) حديث حسن ولأنه قول تثبت به الأحكام فلم يصح من الصبي كالهبة والعتق ولأنه أحد
من رفع عنه القلم فلم يصح اسلامه كالنائم والمجنون ولأنه غير مكلف أشبه الطفل
ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وقوله (أمرت ان
أقاتل الناس حق يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم الا بحقها وحسابهم على الله)
وقال عليه الصلاة والسلام (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه حتى يعرب عنه
لسانه اما شاكرا واما كفورا) وهذه الأخبار يدخل في عمومها الصبي ولان الاسلام عبادة محضة فصحت
83

من الصبي العاقل كالصلاة والحج، ولان الله تعالى دعا عباده إلى دار السلام وجعل طريقها الاسلام
وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم والعذاب الأليم، فلا يجوز منع الصبي من إجابة دعوة الله تعالى
مع اجابته إليها وسلوكه طريقها ولا الزامه بعذاب الله والحكم عليه بالنار وسد طريق النجاة عليه مع
هربه منها ولان ما ذكرناه اجماع فإن عليا رضي الله عنه أسلم صبيا وقال
سبقتكم إلى الاسلام طرا صبيا ما بغلت أوان حلمي
ولهذا قيل: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء
خديجة، ومن العبيد بلال، وقال عروة أسلم على والزبير وهما ابنا ثمان سنين وبايع النبي صلى الله عليه وسلم ابن الزبير
لسبع أو ثمان سنين ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على أحد اسلامه من صغير أو كبير، فأما قوله عليه السلام
(رفع القلم عن ثلاثة) فلا حجة لهم فيه فإنه يقتضي أن لا يكتب عليه ذنب والاسلام يكتب له لا
عليه ويسعد به في الدنيا والآخرة فهو كالصلاة تصح منه وتكتب له وإن لم تجب عليه وكذلك
غيرها من العبادات المحضة، فإن قيل فالاسلام يوجب عليه الزكاة في ماله ونفقة قريبه المسلم ويحرمه
ميراث قريبه الكفار ويفسخ نكاحه، قلنا اما الزكاة فإنها نفع لأنها سبب الزيادة والنماء وتحصين
المال والثواب، واما الميراث والنفقة فأمر متوهم وهو مجبور بميراثه من أقاربه المسلمين وسقوط نفقة أقاربه
الكفار ثم هذا الضرر مغمور في جنب ما يحصل له من سعادة الدنيا والآخرة وخلاصه من شقاء
الدارين والخلود في الجحيم منزل منزلة الضرر في أكل القوت المتضمن فوت ما يأكله وكلفة تحريك
فيه لما كان بقاؤه لم يعد ضررا والضرر في مسئلتنا في جنب ما يحصل من النفع أدنى من ذلك بكثير
84

(فصل) واشترط الخرقي لصحة اسلامه: أن يكون له عشر سنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضربه
على الصلاة لعشر، وأن يكون ممن يعقل الاسلام ومعناه أن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له وأن
محمدا عبده ورسوله وهذا لا خلاف في اشتراطه فإن الطفل الذي لا يعقل لا يتحقق منه اعتقاد
الاسلام وإنما كلامه لقلقة بلسانه لا يدل على شئ، فأما اشتراط العشر فإن أكثر المصححين لاسلامه
لم يشترطوا ذلك ولم يحدوا له حدا من السنين، وحكاه ابن المنذر عن أحمد لأن المقصود متى حصل
لم يحتج إلى زيادة عليه، وروي عن أحمد إذا كان ابن سبع سنين فاسلامه اسلام وذلك لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (مروهم بالصلاة لسبع) فدل على أن ذلك حد لأمرهم وصحة عبادتهم فيكون حدا لصحة
اسلامهم، وقال ابن أبي شيبة إذا أسلم وهو ابن خمس سنين جعل اسلامه اسلاما ولعله يقول إن عليا عليه السلام
أسلم وهو ابن خمس لأنه قد قيل إنه قد مات وهو ابن ثمان وخمسين سنه فعلى هذا يكون اسلامه وهو ابن خمس لأن
مدة النبي منذ بعث إلى أن مات ثلاث وعشرون سنة وعاش علي بعده ثلاثين سنة فذلك ثلاث وخمسون
فإذا ضممنا إليها خمسا كانت ثمانيا وخمسين وقال أبو أيوب أجيز اسلام ابن ثلاث سنين من أصاب
الحق من صغير أو كبير أجزناه وهذا لا يكاد يعقل الاسلام ولا يدري ما يقول ولا يثبت لقوله حكم
فإن وجد ذلك منه ودلت أحواله وأقواله على معرفة الاسلام وعقله إياه صح منه كغيره
(مسألة) (وإن أسلم ثم قال لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى قوله وأجبر على الاسلام)
متى حكمنا بصحة اسلام الصبي لمعرفتنا بفعله بأدلته فرجع وقال لم أدر ما قلت لم يقبل قوله ولم
يبطل اسلامه الأول، وروي عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الاسلام
85

قال أبو بكر هذا قول محتمل لأن الصبي في مظنة النقص فيجوز أن يكون صادقا قال والعمل
على الأول لأنه قد ثبت عقله للاسلام ومعرفته به بأفعاله أفعال العقلاء وتصرفاته تصرفاتهم وتكلمه
بكلامهم وهذا يحصل به معرفة عقله، ولهذا اعتبرنا رشده بعد بلوغه بأفعاله وتصرفاته، وعرفنا
جنون المجنون وعقل العاقل بما يصدر عنه من أقواله وأفعاله وأحواله فلا يزول ما عرفناه بمجرد
دعواه وهكذا كل من تلفظ بالاسلام أو أخبر عن نفسه ثم أنكر معرفته بما قال لم يقبل انكاره
وكان مرتدا نص عليه أحمد في مواضع، فعلى هذا إذا ارتد صحت ردته وأجبر على الاسلام وهو قول
أبي حنيفة والظاهر من مذهب مالك، وعند الشافعي لا يصح اسلامه ولا ردته وقد روي أنه يصح
اسلامه ولا تصح ردته لقوله عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ)
وهذا يقتضى أنه لا يكتب عليه ذنب ولا شئ ولو صحت ردته لكتبت، وأما الاسلام فلا يكتب
عليه إنما يكتب له ولان الردة أمر يوجب القتل فلم يثبت حكمه في حق الصبي كالزنا، ولان الاسلام
إنما صح منه لأنه تمحض مصلحة فأشبه الوصية والتدبير، والردة تمحضت مضرة ومفسدة فلم يلزم
صحتها، منه فعلى هذا حكمه حكم من لم يرتد فإذا بلغ فإن أصر على الكفر كان مرتدا حينئذ
(مسألة) (ولا يقتل حتى يبلغ ويجاوز ثلاثة أيام من وقت بلوغه فإن ثبت على كفره قتل)
وجملة ذلك أن الصبي لا يقتل إذا ارتد سواء قلنا بصحة ردته أو لا لأن الغلام لا يجب عليه عقوبة
86

بدليل انه لا يتعلق به حكم الزنا والسرقة وسائر الحدود ولا يقتل قصاصا فإذا بلغ وثبت على ردته
ثبت حكم الردة حينئذ فيستتاب ثلاثا فإن تاب والا قتل سواء قلنا إنه كان مرتدا قبل بلوغه أو لم نقل
وسواء كان مسلما أصليا فارتد أو كان كافرا فاسلم صبيا ثم ارتد
[مسألة] (ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يصحو ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته فإن مات
في سكره مات كافرا وعنه لا تصح ردته)
اختلفت الرواية عن أحمد في ردة السكران فروي عنه انها تصح قال أبو الخطاب وهو أظهر
الروايتين عنه وهو مذهب الشافعي وعنه لا تصح ردته وهو قول أبي حنيفة لأن ذلك يعلق بالاعتقاد
والقصد والسكران لا يصح عقده فأشبه المعتوه ولأنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم والمجنون ولأنه
غير مكلف فأشبه المجنون.
ووجه الرواية الأولى أن الصحابة قالوا في السكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه
حد المفتري وأوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره وأقاموا مظنتها (مظلتها) مقامها ولأنه يقع طلاقه
فصحت ردته كالصاحي، وقولهم ليس بمكلف ممنوع فإن الصلاة واجبة عليه وكذلك سائر أركان
الاسلام، ويأثم بفعل المحرمات وهذا معنى التكليف، ولان السكران لا يزول عقله بالكلية ولهذا يتقى
المحذورات ويفرح بما يسره ويساء بما يضره ويزول سكره عن قريب من الزمان فأشبه الناعس
بخلاف المجنون، واما استتابته فتؤخر إلى حين صحوه فيكمل عقله ويفهم ما يقال له وتزول شبهته إن كان
قد قال الكفر معتقدا له كما تؤخر استتابته إلى حين زوال شدة عطشه وجوعه ويؤخر الصبي
87

إلى حين بلوغه وكمال عقله ولان القتل جعل للزجر ولا يحصل في حال سكره وإن قتله قاتل في حال سكره لم يضمنه
لأن عصمته زالت بردته وإن مات أو قتل لم يرثه ورثته، ولا يقتل حتى يتم له ثلاثة أيام من وقت ردته فإن
استمر سكره أكثر من ثلاث لم يقتل حتى يصحو ثم يستتاب عقيب صحوه فإن تاب والا قتل في الحال
(فصل) فإن أسلم في سكره صح اسلامه كما صحت ردته ثم يسئل بعد صحوه فإن ثبت على إسلامه
فهو مسلم من حين أسلم لأن إسلامه صح وإنما يسئل استظهارا فإن مات بعد إسلامه في سكره مات
مسلما ويصح اسلامه في سكره سواء كان أصليا أو مرتدا لأنه إذا صحت ردته مع أنها محض
مضرة وقول باطل فلان يصح إسلامه الذي هو محض مصلحة أولى، ويتخرج أن لا يصح فإن من لا
تصح ردته لا يصح اسلامه كالمجنون
(فصل) ولا تصح ردة المجنون ولا إسلامه لأنه لا قول له فإن ارتد في صحته ثم جن لم يقتل في
حال جنونه لأنه يقتل بالاصرار على الردة والمجنون لا يوصف بالاصرار ولا يمكن استتابته، ولو وجب
عليه القصاص فجن قتل لأن القصاص لا يسقط عنه بسبب من جهته وههنا يسقط برجوعه ولان
القصاص إنما يسقط بسبب من جهة المستحق له فنظير مسئلتنا ان يجن المستحق للقصاص فإنه
لا يستوفى في حال جنونه.
88

(مسألة) (وهل تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته أو من سب الله تعالى أو رسوله
أو الساحر؟ على روايتين: (إحداهما) لا تقبل توبته ويقتل بكل حال والأخرى تقبل توبته كغيره)
مفهوم كلام الشيخ رحمه الله أن المرتد إذا تاب تقبل توبته ولم يقتل أي كافر كان وهو ظاهر
كلام الخرقي سواء كان زنديقا أو لم يكن وهذا مذهب الشافعي والعنبري ويروى ذلك عن علي وابن
مسعود وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال وقال إنه أولى على مذهب أبي عبد الله
(والرواية الأخرى) لا تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته وهو قول مالك والليث وإسحاق
وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين واختيار أبي بكر انها لا تقبل لقول الله تعالى (إلا الذين تابوا وأصلحوا
وبينوا) والزنديق لا يظهر منه ما يبين به رجوعه وتوبته لأنه كان مظهرا للاسلام مسرا للكفر
فإذا أظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار الاسلام وأما من تكررت ردته فقد قال الله
تعالى (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم
سبيلا) وروى الأثرم باسناده عن ظبيان بن عمارة ان رجلا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة
فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة فرجع إلى ابن مسعود فذكر ذلك له فبعث إليهم فاتي بهم فاستتابهم
89

فتابوا فخلى سبيلهم الا رجلا منهم يقال له ابن النواحة قال اتيت بك مرة فزعمت انك قد تبت واراك
قد عدت فقتله ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
وروي ان رجلا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدر ما ساره به فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أليس يشهد ان لا إله إلا الله؟) قال بلى ولا شهادة له قال (أليس يصلي؟) قال بلى ولا
صلاة له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم) وقد قال الله تعالى (ان المنافقين في الدرك
الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا الا الذين تابوا) وروي ان محش بن حمير كان في النفر الذين انزل فيهم
(ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) فأتي النبي صلى الله عليه وسلم وتاب إلى إلى الله تعالى فقبل توبته
وهو الطائفة التي عفا الله عنها بقوله سبحانه (ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) وروي انه سأل الله
تعالى ان يقتل شهيدا في سبيله ولا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ولم يعلم موضعه ولان النبي صلى الله عليه وسلم كف
عن المنافقين بما أظهروا من الشهادة مع اخبار الله تعالى له بباطنهم بقوله تعالى (يحلفون بالله انهم لمنكم
وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) وغيرها من الآيات وحديث ابن مسعود حجة في قبول توبتهم
مع اسرارهم بكفرهم فأما قتل ابن النواحة فيحتمل انه قتله لظهور كذبه في توبته لأنه أظهرها وتبين
انه ما زال عما كان عليه من كفره ويحتمل انه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم له حين جاء رسولا لمسيلمة (لولا أن
الرسل لا تقتل لقتلتك) تحقيقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه قتله لذلك
(فصل) فأما من سب الله سبحانه وتعالى ورسوله فروى القاضي عن أحمد أنه قال لا توبة لمن
سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبو الخطاب رواية أخرى ان توبته مقبولة لقول الله تعالى (قل للذين
90

كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولحديث محش ابن حمير ولان من زعم أن لله ولدا فقد سب
الله تعالى بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عن ربه تعالى أنه قال (شتمني ابن آدم وما ينبغي له ان يشتمني
اما شتمه إياي فزعم أن لي ولدا) وتوبته مقبولة بغير خلاف وإذا قبلت توبة من سب الله تعالى فمن
سب نبيه صلى الله عليه وسلم أولى أن تقبل توبته
(فصل) وهل تقبل توبة الساحر؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يستتاب وهو ظاهر ما نقل عن
الصحابة رضي الله عنهم فإنه لم ينقل عن أحد منهم انه استتاب ساحرا وفي الحديث الذي رواه هشام
عن عروة عن عائشة ان امرأة جاءتها فقالت يا أم المؤمنين ان عجوز أذهبت بي إلى هاروت وماروت
فقلت علماني السحر فقالا اتقي الله ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فقلت علماني السحر فقالا اذهبي
إلى ذلك التنور فبولي فيه ففعلت فرأيت كأن فارسا مقنعا في الحديد خرج مني حتى طار فغاب
في السماء فرجعت إليهما فأخبرتهما فقالا: ذلك ايمانك وذكرت باقي القصة إلى أن قالت والله يا أمير
المؤمنين ما صنعت شيئا غير هذا ولا أصنعه أبدا فهل لي من توبة؟ قالت عائشة رأيتها تبكي بكاء
شديدا فكانت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون تسألهم هل لها من توبة؟ فما أفتاها
أحد إلا ابن عباس قال إن كان أحد من أبويك حيا فبريه وأكثري من عمل البر ما استطعت
ولان السحر معنى في قلبه لا يزول بالتوبة فيشبه من لم يتب
(والرواية الثانية) يستتاب فإن تاب قبلت توبته فإن الله تعالى قبل توبة سحرة فرعون وجعلهم
من أوليائه في ساعة ولان الساحر لو كان كافرا فأسلم صح اسلامه وتوبته فإذا صحت التوبة منهما
صحت من أحدهما كالكفر ولأنه الكفر والقتل ما هو الا بعمله بالسحر بدليل الساحر إذا أسلم والعمل
به تمكن التوبة منه وكذلك اعتقاد ما يكفر باعتقاده تمكن التوبة منه كالشرك
91

(فصل) والخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم إنما هو في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك
قتلهم وثبوت أحكام الاسلام في حقهم فأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفران ذنوبهم لمن تاب
وأقلع ظاهرا وباطنا فلا خلاف فيه فإن الله تعالى قال في المنافقين (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا
بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما)
[مسألة] (وتوبة المرتد اسلامه وهو أن يشهد ان لا إله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله الا أن
تكون ردته بانكار فرض أو احلال محرم أو جحد نبي أو كتاب أو إلى دين من يعتقد أن محمدا
بعث إلى العرب خاصة فلا يصح اسلامه حتى يقر بما جحده ويشهد أن محمدا بعث إلى العالمين أو يقول
انا برئ من كل دين يخالف الاسلام)
من ثبتت ردته باقرار أو بينة فتوبته أن يشهد أن لا إله الا الله ولا يكشف عن صحة ما شهد به
عليه ويخلى سبيله ولا يكلف الاقرار لما نسب إليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت ان أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله) متفق
عليه. ولان هذا يثبت به اسلام الكافر الأصلي فكذلك اسلام المرتد ولا حاجة مع ثبوت اسلامه
إلى الكشف عن صحه ردته وهذا يكفي فيمن كانت ردته بجحد الوحدانية أو جحد رسالة محمد
صلى الله عليه وسلم أو جحدهما معا، فأما من كفر بغير هذا فلا يحصل اسلامه إلا بالاقرار بما جحده فمن أقر
برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنكر انه مبعوث إلى العالمين فلا يثبت اسلامه حتى يشهد أن محمدا رسول الله
92

بعث إلى الخلق أجمعين أو تبرأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الاسلام، فإن زعم أن محمدا رسول
مبعوث بعد غير هذا لزمه الاقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل
انه أراد ما اعتقدوه وإن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد الشهادتين لأنه كذب
الله ورسوله بما اعتقده وكذلك إن جحد نبيا أو آية من كتاب الله تعالى أو كتابا من كتبه أو
ملكا من ملائكته الذين ثبت انهم ملائكة الله أو استباح محرما فلابد في اسلامه من الاقرار بما
جحده، وأما الكافر بجحد الدين من أصله إذا شهد أن محمدا رسول الله واقتصر على ذلك ففيه روايتان
(إحداهما) يحكم باسلامه لأنه روي أن يهوديا قال أشهد ان محمدا رسول الله ثم مات فقال النبي
صلى الله عليه وسلم (صلوا على صاحبكم) ولأنه يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وقد جاء بتوحيده
(والثانية) إن كان مقرا بالتوحيد كاليهود حكم باسلامه لأن توحيد الله ثابت في حقه وقد
ضم إليه الاقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكمل اسلامه وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس وعبدة
الأوثان لم يحكم باسلامه حتى يشهد ان لا إله إلا الله وبهذا جاءت أكثر الاخبار وهو الصحيح لأن
من يجحد شيئين لا يزول جحدهما الا باقراره بهما جميعا وإن قال أشهد ان النبي رسول الله لم يحكم
باسلامه لأنه يحتمل انه يريد غير نبينا. وان قال أنا مؤمن أو أنا مسلم فقال القاضي يحكم باسلامه
93

بهذا وإن لم يأت بلفظ الشهادتين لأنهما اسمان لشئ معلوم معروف وهو الشهادتان فإذا أخبر عن
نفسه بما تضمن الشهادتين كان مخبرا بهما
وروى المقداد أنه قال يا رسول الله: إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي
بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال (لا تقتله
فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها) وعن عمر ان
ابن حصين قال: أصاب المسلمون رجلا من بني عقيل فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد اني مسلم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو كنت قلت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) رواهما مسلم
ويحتمل أن هذا في الكافر الأصلي أو من جحد الوحدانية أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو
فريضة أو نحو هذا فإنه لا يصير مسلما بذلك لأنه ربما اعتقد أن الاسلام ما هو عليه فإن أهل البدع
يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر
[مسألة] (وإذا أتى الكافر بالشهادتين ثم قال لم أرد الاسلام صار بذلك مرتدا ويجبر على الاسلام)
نص عليه أحمد في رواية جماعة ونقل عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الاسلام لأنه يحتمل
الصدق فلا يراق دمه بالشهادة والأول أولى لأنه قد حكم باسلامه فلم يقبل إذا رجع كما لو طالت مدته
[مسألة] (وإذا مات المرتد فأقام وارثه بينة أنه صلى بعد الردة حكم باسلامه)
94

متى صلى الكافر حكم باسلامه أصليا كان أو مرتدا جماعة أو فرادى في دار الحرب أو في دار
الاسلام، وقال الشافعي يحكم باسلامه إذا صلى في دار الحرب ولا نحكم باسلامه في دار الاسلام
لأنه يحتمل أنه صلى رياء وتقية.
ولنا أن ما كان اسلاما في دار الحرب كان اسلاما في دار الاسلام كالشهادتين واحتمال التقية
والرياء يبطل بالشهادتين وأما سائر أركان الاسلام من الزكاة والصيام والحج فلا يحكم باسلامه به
فإن المشركين كانوا يحجون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى منعهم فقال (لا يحج بعد العام مشرك)
والزكاة صدقة وهم يتصدقون وقد فرض على نصارى بني تغلب من الزكاة مثلا ما يؤخذ من المسلمين
فلم يصيروا بذلك مسلمين وأما الصيام فلكل أهل دين صيام ولان الصيام ليس بفعل إنما هو امساك
عن أفعال مخصوصة وقد يتفق هذا من الكافر كاتفاقه من المسلم ولا عبرة بالنية فإنها أمر باطن لا
علم به بخلاف الصلاة فإنها أفعال تتميز عن أفعال الكفار ويختص بها أهل الاسلام ولا يثبت بها
الاسلام حتى يأتي بصلاة يتميز بها عن صلاة الكفار من استقبال قبلتنا والركوع والسجود ولا
يحصل بمجرد القيام لأنهم يقومون في صلاتهم إذا ثبت هذا فإنه متى مات المرتد فأقام وارثه بينة
أنه صلى بعد ردته حكم لهم بالميراث الا أن يثبت أنه ارتد بعد صلاته أو تكون ردته بجحد فريضة
95

أو كتاب أو نبي أو ملك أو نحو ذلك من البدع التي ينسب أهلها إلى الاسلام فإنه لا يحكم
باسلامه بصلاته لأنه يعتقد وجوب الصلاة ويعتقدها مع كفره فأشبه فعله غيرها
[مسألة] (ولا يبطل احصان المسلم بردته ولا عباداته التي فعلها في اسلامه إذا عاد إلى الاسلام)
يعني إذا كان محصنا فارتد ثم أسلم لم يصر غير محصن بل متى زنا رجم لأنه يثبت له حكم
الاحصان والأصل بقاء ما كان على ما كان ولا تبطل عباداته التي فعلها في اسلامه إذا عاد إلى الاسلام
لأنه فعلها على وجهها وبرئت ذمته منها فلم تعد إلى ذمته كديون الآدميين وإن كان قد حج حجة
الاسلام قبل ردته لم يجب عليه اعادتها إذا عاد إلى الاسلام لما ذكرنا
[فصل] قال الشيخ رحمه الله (ومن ارتد لم يزل ملكه بل يكون موقوفا وتصرفاته موقوفة
فإن أسلم ثبت ملكه وتصرفاته والا بطلت)
لا يحكم بزوال ملك المرتد بردته في قول أكثر أهل العلم فعلى هذا ان قتل أو مات زال ملكه
بموته وان راجع الاسلام فملكه باق له فعلى هذا تصرفاته في ردته بالبيع والهبة والعتق والتدبير
والوصية ونحو ذلك موقوفة ان أسلم تبينا ان تصرفه كان صحيحا فإن قتل أو مات كان باطلا وقال
مالك يزول ملكه بردته فإن راجع الاسلام رد إليه تمليكا مستأنفا لأن عصمة نفسه وماله إنما تثبت
96

باسلامه فزوال اسلامه يزيل عصمتهما كما لو لحق بدار الحرب ولان المسلمين ملكوا إراقة دمه بردته
فوجب أن يملكوا أمواله بها وقال أصحاب أبي حنيفة ماله موقوف ان أسلم تبينا بقاء ملكه وان
مات أو قتل تبينا زواله من حين ردته، وقال الشريف أبو جعفر: هذا ظاهر كلام احمد وعن
الشافعي الأقوال الثلاثة
ولنا ان الردة سبب يبيح دمه كزنا المحصن، وقتل من يكافئه عمدا لا يلزم منه زوال الملك بدليل
الزاني المحصن والقاتل في المحاربة فإن ملكهم ثابت مع عدم عصمتهم، ولو لحق المرتد بدار الحرب لم
يزل ملكه لكن يباح لكل أحد قتله بغير استتابة وأخذ ماله لمن قدر عليه لأنه صار حربيا حكمه
حكم أهل الحرب، ولو ارتد جماعة وامتنعوا في دارهم عن طاعة الإمام زالت عصمتهم في أنفسهم وأموالهم
لأن الكفار الأصليين لا عصمة لهم في دارهم فالمرتدون أولى
(فصل) فأما على قول أبي بكر فتصرف المرتد باطل لأنه ملكه قد زال بردته وهذ أحد
أقوال الشافعي وعن الشافعي قول آخر انه ان تصرف قبل الحجر عليه انبنى على الأقوال الثلاثة وان
تصرف بعد الحجر عليه لم يصح تصرفه كالسفيه
ولنا ان ملكه تعلق به حق غيره مع بقاء ملكه فيه فكان تصرفه موقوفا كتبرع المريض
97

(فصل) وان تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقر على النكاح وما منع الاقرار على النكاح منع انعقاده
كنكاح الكافر المسلمة وان زوج موليته لم يصح لأن ولايته على موليته قد زالت بردته وكذلك ان
زوج أمته لأن النكاح لا يكون موقوفا ولان النكاح وإن كان في الأمة فلابد في عقده من ولاية
صحيحة بدليل ان المرأة لا يجوز ان تزوج أمتها وكذلك الفاسق والمرتد لا ولاية له فإنه أدنى حالا
من الفاسق الكافر
(فصل) ويؤخذ مال المرتد فيترك عند ثقة من المسلمين فإن كان له إماء جعلن عند امرأة ثقة
لأنهن محرمات عليه فلا يمكن منهن، وذكر القاضي انه يؤجر عقاره وعبيده وإماءه، قال شيخنا والأولى
ان لا يفعل ذلك لأن مدة انتظاره قريبة ليس في انتظاره فيها ضرر فلا يفوت عليه منافع ملكه
فيما لا يرضاه من أجلها فإنه ربما راجع الاسلام فيمتنع عليه التصرف في ماله بإجارة الحاكم له، وان
لحق بدار الحرب أو تعذر قتله مدة طويلة فعل الحاكم له ما يرى الحظ فيه من بيع الحيوان الذي
يحتاج إلى النفقة وغيره وإجارة ما يرى ابقاءه والمكاتب يؤدي إلى الحاكم ويعتق بالأداء لأنه نائب عنه
(مسألة) (ويقضى ديونه وأروش جناياته وينفق على من تلزمه مؤنته)
يعني إذا مات أو قتل فإنه يبدأ بقضاء ديونه وأرش جنايته ونفقة زوجته وأقاربه الذين تلزمه
مؤنتهم لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها وأولى ما يؤخذ من ماله في الصحيح من المذهب وعنه
98

انه لورثته من المسلمين وعنه انه لورثته من أهل الدين الذي انتقل إليه وقد ذكرنا ذلك في الفرائض
(فصل) وإذا وجد من المرتد سبب يقتضي الملك كالصيد والاحتشاش والاتهاب والشراء وايجار
نفسه إجارة خاصة أو مشتركة ثبت الملك له لأنه أهل للملك ولذلك بقيت أملاكه الثابتة له ومن قال إن
ملكه يزول لم يثبت له ملكا لأنه ليس بأهل للملك ولهذا زالت املاكه الثابتة، فإن أسلم احتمل ان لا يثبت
له شئ أيضا لأن السبب لم يثبت حكمه واحتمل ان يثبت الملك له حينئذ لأن السبب موجود وإنما
امتنع ثبوت حكمه لعدم أهليته فإذا وجدت تحقق الشرط فيثبت الملك حينئذ كما تعود إليه املاكه التي زالت عنه
عند عود أهليته، فعلى هذا ان مات أو قتل انتقل الملك إلى من ينتقل إليه ماله لأن هذا في معناه
(فصل) وان لحق المرتد بدار الحرب فالحكم فيه حكم من هو في دار الاسلام الا ان ما كان
معه من ماله يصير مباحا لمن قدر عليه كما أبيح دمه، واما املاكه وماله الذي في دار الاسلام فملكه
ثابت فيه ويتصرف فيه الحاكم بما يرى المصلحة فيه وقال أبو حنيفة يورث ماله كما لو مات لأنه قد صار
في حكم الموتى بدليل حل دمه وماله الذي معه لكل من قدر عليه
ولنا انه حي فلم يورث كالحربي الأصلي وحل دمه لا يوجب توريث ماله بدليل الحربي الأصلي
وإنما حل ماله الذي معه لأنه زال العاصم له فأشبه مال الحربي الذي في دار الحرب واما الذي في دار
الاسلام فهو باق على العصمة كمال الحربي الذي مع مضاربه في دار الاسلام أو عند مودعه
(مسألة) (وما أتلف من شئ ضمنه ويتخرج في الجماعة الممتنعة ان لا يضمن ما أتلفه
99

إذا ارتد قوم فأتلفوا مالا للمسلمين لزم ضمان ما أتلفوه سواء تحيزوا وصاروا في منعة أو لم يصيروا
ذكره أبو بكر قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد وقال الشافعي حكمهم حكم أهل البغي فيما أتلفوه
من الأنفس والأموال لأن تضمينهم يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الاسلام فأشبهوا أهل البغي
ولنا ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لأهل الردة حين رجعوا تردون علينا ما أخذتم
منا ولا نرد عليكم ما أخذنا منكم وان تدوا قتلانا ولا ندي قتلاكم قالوا نعم يا خليفة رسول الله قال
عمر كل ما قلت كما قلت الا أن يدوا ما قتل منافلا لأنهم قوم قتلوا في سبيل الله واستشهدوا، ولأنهم
أتلفوه بغير تأويل فأشبهوا هل الذمة، فاما القتلى فحكمهم حكم أهل البغي لما ذكرنا من خبر أبي بكر
وعمر ولان طليحة الأسدي قتل عكاشة بن محصن وثابت بن أرقم الأسديين فلم يغر مهما وبنو حنيفة
قتلوا من قتلوا من المسلمين يوم اليمامة فلم يغرموا شيئا، ويحتمل ان يحمل قول احمد وكلامه في المال
على وجوب رد ما هو في أيديهم دون ما أتلفوه وعلى من أتلف من غير أن تكون له منعة أو أتلف في
غير الحرب وما أتلفوه حال الحرب فلا ضمان عليهم فيه لأنه إذا سقط ذلك عن أهل البغي كيلا يؤدي
إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلان يسقط ذلك كيلا يؤدي إلى التنفير عن الاسلام أولى لأنهم إذا امتنعوا
صاروا كفارا ممتنعين بدارهم فأشبهوا أهل الحرب ويحمل قول أبي بكر على ما بقي في أيديهم من المال
فيكون مذهب احمد ومذهب الشافعي في هذا سواء وهذا اعدل وأصح إن شاء الله تعالى، فاما من لا منعة له
100

فيضمن ما أتلف من نفس ومال كالواحد من المسلمين أو أهل الذمة لأنه لا منعة له ولا يكثر ذلك منه
فبقي المال والنفس بالنسبة إليه على عصمته ووجوب ضمانه والله أعلم
(مسألة) (وإذا أسلم فهل يلزمه قضاء ما ترك من العبادات؟ على روايتين)
(إحداهما) عليه القضاء لأنها عبادة واجبة التزم بوجوبها واعترف به في زمن اسلامه فلزم
قضاؤها عند فواتها كغير المرتد (والثانية) لا يلزمه قضاؤها لقول الله تعالى (قل للذين كفروا ان
ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولأنه كافر أسلم فلم يلزمه قضاء العبادات التي كانت في كفره كالحربي
ولان أبا بكر لم يأمر المرتدين حين أسلموا بقضاء ما فاتهم
(مسألة) (وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب لم يجز استرقاقهما ولا استرقاق أولادهما الذين ولدوا
في الاسلام ومن لم يسلم منهم قتل ويجوز استرقاق من ولد بعد الردة وهل يقرون على كفرهم؟ على روايتين)
وجملة ذلك أن الرق لا يجرى على المرتد سواء كان رجلا أو امرأة وسواء لحق بدار الحرب
أو أقام بدار الاسلام وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لحقت المرتدة بدار الحرب جاز استرقاقها
لأن أبا بكر سبى بني حنفية واسترق نساءهم وأم محمد بن الحنفية منهم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ولأنه لا يجوز اقراره على كفره فلم يجز استرقاقه
كالرجل ولم ينقل ان الذين سباهم أبو بكر رضي الله عنه كانوا أسلموا ولا ثبت لهم حكم الردة، فإن قيل فقد
روي عن علي رضي الله عنه ان المرتدة تسبى قلنا هذا الحديث ضعفه احمد، فأما أولاد المرتدين فإن كانوا ولدوا
قبل الردة فإنهم محكوم باسلامهم تبعا لابائهم ولا يتبعونهم في الردة لأن الاسلام يعلو وقد تبعوهم فيه فلا يتبعونهم
101

في الكفر فلا يجوز استرقاقهم صغارا لأنهم مسلمون ولا كبارا لأنهم ان ثبتوا على اسلامهم بعد كفرهم فهم
مسلمون وإن كفروا فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة وتحريم الاسترقاق، وأما من حديث بعد
الردة فهو محكوم بكفره لأنه ولد بين أبوين كافرين، ويجوز استرقاقه لأنه ليس بمرتد نص عليه أحمد وهو
ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر، ويحتمل أن لا يجوز استرقاقهم لأن آباءهم لا يجوز استرقاقهم ولأنهم
لا يقرون بالجزية فلا يقرون بالاسترقاق وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن ولدوا في دار
الاسلام لم يجز استرقاقهم وإن ولدوا في دار الحرب جاز استرقاقهم كولد الحربيين بخلاف آبائهم
فعلى هذا إذا وقع في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب فحكمه حكم سائر أهل الحرب وإن كان
في دار الاسلام لم يقر بالجزية وكذلك لو بذل الجزية بعد لحوقه بدار الحرب لم يقر بها لأنه انتقل
إلى الكفر بعد نزول القرآن، فأما من كان حملا حال ردته فظاهر كلام الخرقي أنه كالحادث بعد
كفره وعند الشافعي هو كالمولود ولهذا يرث
ولنا أن أكثر الأحكام إنما تتعلق بعد الوضع فكذلك هذا الحكم، وهل يقر من ولد بعد الردة
على كفره؟ فيه روايتان (إحداهما) يقر كأولاد أهل الحرب (والثانية) لا يقرون فإذا أسلموا رقوا
لأنهم أولاد من لا يقر على كفره فلا يقرون على كفرهم كالموجودين قبل ردتهم
(فصل) ومن لم يسلم من الذين كانوا موجودين قبل الردة فقدر عليهم أو على آبائهم استتيب
منهم من كان بالغا عاقلا فمن لم يتب قتل ومن لم يبلغ انتظر بلوغه فإن لم يتب قتل إذا استتيب
وينبغي أن يحبس حتى لا يهرب
(فصل) ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيهم أحكامهم صاروا دار خرب في اغتنام أموالهم وسبي
102

ذراريهم الحادثين بعد الردة، وعلى الإمام قتالهم فإن أبا بكر رضي الله عنه قاتل أهل الردة بجماعة
من الصحابة ولان الله تعالى قد أمر بقتال الكفار في مواضع من كتابه وهؤلاء أحقهم بالقتال لأن
تركهم ربما أغرى أمثالهم بالتشبه بهم والارتداد معهم فيكثر الضرر بهم، وإذا قاتلهم قتل من قدر
عليه ويتبع مدبرهم ويجاز على جريحهم وتغنم أموالهم وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تصير
دار حرب حتى يجتمع فيها ثلاثة أشياء: أن تكون متاخمة لدار الحرب لا شئ بينهما من دار الاسلام
(الثاني) لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمن (الثالث) أن تجري فيها أحكامهم
ولنا أنها دار كفار فيها أحكامهم فكانت دار حرب كما لو اجتمع فيها هذه الخصال أو
دار الكفرة الأصليين.
(فصل) وإن قتل المرتد من يكافئه عمدا فعليه القصاص نص عليه احمد والولي مخير بين قتله
والعفو عنه فإن اختار القصاص قدم على قتل الردة سواء تقدمت الردة أو تأخرت لأنه حق آدمي
وان عفا على مال وجبت الدية في ماله وكذلك إن كان القتل خطأ تجب الدية في ماله أيضا لأنه لا
عاقلة له قال القاضي: وتؤخذ منه الدية في ثلاث سنين لأنها دية الخطأ وإن قتل أو مات اخذت من
ماله في الحال لأن الدين المؤجل يحل بالموت في حق من لا وارث له ويحتمل ان تجب الدية حالة
عليه لأنها إنما أجلت في حق العاقلة تخفيفا عليهم لأنهم يحملون عن غيرهم على سبيل المواساة فأما
الجاني فتجب عليه حالة لأنها بدل عن متلف فكانت حالة كسائر ابدال المتلفات
103

(فصل) ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب
الرأي إذا أسلم أبواه أو أحدهما وأدرك فأبى الاسلام أجبر عليه ولم يقتل، وقال مالك ان أسلم الأب
تبعه أولاده وان أسلمت الام لم يتبعوها لأن ولد الحرين يتبع أباه دون أمه بدليل الموليين إذا كان
لهما ولد كان ولاؤه لمولى أبيه دون أمه ولو كان الأب عبدا والام مولاة فأعتق العبد لجر ولاء ولده
إلى مواليه، ولان الولد يشرف بشرف أبيه وينسب إلى قبيلته دون قبيلة أمه فوجب ان يتبع أباه في
دينه اي دين كان، وقال الثوري إذا بلغ خير بين دين أبيه ودين أمه فأيهما اختاره كان على دينه
ولعله يحتج بحديث الغلام الذي أسلم أبوه وأبت أمه ان تسلم فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أبيه وأمه
ولنا ان الولد يتبع أبويه في الدين فإذا اختلفا وجب أن يتبع المسلم منهما كولد المسلم من الكتابية
ولان الاسلام يعلو ولا يعلى، ويترجح بأشياء (منها) انه دين الله الذي رضيه لعباده وبعث به رسله
ودعا خلقه إليه (ومنها) انه تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة ويتخلص به في الدنيا من القتل
والاسترقاق وأداء الجزية وفي الآخرة من سخط الله وعذابه (ومنها) أن الدار دار الاسلام يحكم باسلام
لقيطها ومن لا تعرف حاله فيها، وإذا كان محكوما باسلامه أجبر عليه إذا امتنع منه بالقتل كولد المسلمين
ولأنه مسلم فإذا رجع عن اسلامه وجب قتله لقوله عليه الصلاة والسلام (من بدل دينه فاقتلوه) وبالقياس على غيره
ولنا على مالك أن الام أحد الأبوين فتبعها ولدها في الاسلام كالأب بل الام أولى لأنها
أخص به لأنه مخلوق منها حقيقة وتختص بحمله ورضاعه ويتبعها في الرق والحرية والتدبير والكتابة ولان
سائر الحيوانات يتبع الولد أمه دون أبيه وهذا يعارض ما ذكره، وأما تخيير الغلام فهو في الحضانة لا في الدين
104

(فصل) ومن مات من الأبوين الكافرين على كفره قسم للولد الميراث وكان مسلما بموت
من مات منهما وأكثر الفقهاء على أنه لا يحكم باسلامه بموتهما ولا بموت أحدهما لأنه ثبت كفره
تبعا ولم يوجد منه اسلام ولا ممن هو تابع له فوجب بقاؤه على ما كان عليه لأنه لم ينقل عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه أنه أجبر أحدا من أهل الذمة على الاسلام بموت أبيه مع أنه لم يخل
زمنه عن موت بعض أهل الذمة عن بنيهم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)
متفق عليه فجعل كفره بفعل أبويه فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب ابقاؤه على الفطرة التي
ولد عليها ولان المسألة مفروضة فيمن مات أبوه في دار الاسلام وقضية الدار الحكم باسلام أهلها
وكذلك حكمنا باسلام لقيطها وإنما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان فإذا عدما أو أحدهما وجب
ابقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته لمن يكفر بها وإنما قسم له الميراث لأن اسلامه إنما ثبت بموت
أبيه الذي استحق به الميراث فهو سبب لهما فلم يتقدم الاسلام المانع من الميراث على استحقاقه ولان
الحرية المعلقة بالموت لا توجب الميراث فيما إذا قال سيد العبد له إذا مات أبوك فأنت حر فمات أبوه
فإنه يعتق ولا يرث فيجب أن يكون الاسلام المعلق بالموت لا يمنع الميراث وهذا فيما إذا كان في
دار الاسلام لأنه متى قطعت تبعيته لأبويه أو أحدهما ثبت له حكم الدار فأما دار الحرب فلا يحكم
باسلام ولد الكافر فيها بموتهما ولا موت أحدهما لأن الدار لا يحكم باسلام أهلها ولذلك لم يحكم باسلام لقيطها
105

(فصل) وتثبت الردة بشيئين: الاقرار والبينة فمتى شهد بالردة على المرتد من ثبتت الردة
بشهادته فأنكر لم يسمع انكاره واستتيب فإن تاب وإلا قتل، وحكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة
ان انكاره يكفي في الرجوع إلى الاسلام ولا يلزمه النطق بالشهادة لأنه لو أقر بالكفر ثم أنكره
قبل منه ولم يكلف الشهادتين فكذلك هذا
ولنا ما روى الأثرم باسناده عن علي رضي الله عنه انه اتي برجل عربي فاستتابه فأبى ان
يتوب فقتله واتى برهط يصلون وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا
ليس لنا دين الا الاسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال: تدرون لم استتبت النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه فأما
الزنادقة الذين قامت عليهم البينة فإنما قتلهم لأنهم جحدوا وقد قامت عليهم البينة ولأنه قد ثبت
كفره فلم يحكم باسلامه بدون الشهادتين كالكافر الأصلي ولان انكاره تكذيب للبينة فلم يسمع
كسائر الدعاوى فأما إذا أقر بالكفر ثم أنكر فيحتمل ان القول فيه كمسئلتنا وإن سلمنا فالفرق
بينهما ان الحد وجب بقوله فقبل رجوعه عنه وما ثبت بالبينة لم يثبت بقوله فلا يقبل رجوعه عنه
كالزنا و السرقة وتقبل الشهادة على الردة من عدلين في قول أكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي
والأوزاعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا خالفهم الا الحسن قال: لا يقبل في القتل
إلا أربعة لأنها شهادة بما يوجب القتل فلم يقبل فيها الا أربعة قياسا على الزنا.
ولنا انها شهادة بغير الزنا فقبلت من عدلين كالشهادة على السرقة ولا يصح قياسه على الزنا فلم
106

يعتبر فيه إلا أربعة لعلة القتل بدليل اعتبار ذلك في زنا البكر ولا قتل فيه وإنما العلة كونه زنا ولم
يوجد ذلك في الردة ثم الفرق بينهما ان القذف بالزنا يوجب ثمانين جلدة بخلاف القذف بالردة
(فصل) وإذا أكره على الاسلام من يجوز اكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم لم يثبت له حكم
الاسلام حتى يوجد منه ما يدل على اسلامه طوعا مثل أن يثبت على الاسلام بعد زوال الاكراه عنه
وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على
الاسلام وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال محمد بن الحسن يصير مسلما في الظاهر وإن رجع عنه
قتل إذا امتنع من الاسلام لعموم قوله عليه السلام (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا
الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) ولأنه أتى بقول الحق فلزمه حكمه كالحربي
إذا أكره عليه.
ولنا انه أكره على ما لا يجوز اكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالمسلم إذا أكره على الكفر
والدليل على تحريم الاكراه قول الله تعالى (لا إكراه في الدين) وأجمع أهل العلم على أن الذمي إذا
قام على ما هو عليه والمستأمن لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه ولأنه أكره على ما لا يجوز
اكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالاقرار والعتق وفارق الحربي والمرتد فإنه يجوز قتلهما واكراههما
على الاسلام بان يقول إن أسلمت والا قتلناك فمتى أسلم حكم باسلامه ظاهر وإن مات قبل زوال
الاكراه عنه فحكمه حكم المسلمين لأنه أكره بحق فحكم بصحة ما يأتي به كما لو أكره المسلم على الصلاة
فصلى. وأما في الباطن فبينهم وبين ربهم فمن اعتقد الاسلام بقلبه وأسلم فيما بينه وبين ربه فهو مسلم
107

عند الله موعود بما وعد به من أسلم طائعا ومن لم يعتقد الاسلام بقلبه فهو باق على كفره لاحظ له
في الاسلام وسواء في هذا من يجوز اكراهه ومن لا يجوز فإن الاسلام لا يحصل بدون اعتقاده من
العاقل بدليل ان المنافقين كانوا يظهرون الاسلام ويقومون بفرائضه ولم يكونوا مسلمين
(فصل) ومن أكره على الكفر لم يصر كافرا وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وقال
محمد بن الحسن هو كافر في الظاهر تبين منه امرأته ولا يرثه المسلمون إن مات ولا يغسل ولا يصلى
عليه وهو مسلم فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نطق بكلمة الكفر فأشبه المختار
ولنا قول الله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا
فعليهم غضب من الله) ويروى ان عمارا أكرهه المشركون فضربوه حتى تكلم بما طلبوا منه ثم
أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فأخبره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ان عادوا فعد)
وروي أن الكفار كانوا يعذبون المستضعفين من المؤمنين فما منهم أحد إلا أجابهم الا بلالا
فإنه كان يقول أحد أحد وقال النبي صلى الله عليه وسلم (عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يثبت في حقه كما لو أكره على الاقرار وفارق ما إذا أكره بحق
فإنه خير بين أمرين يلزمه أحدهما فأيهما اختاره ثبت حكمه في حقه فإذا ثبت انه لم يكفر فمتى زال
عنه الاكراه أمر باظهار اسلامه فإن أظهره فهو باق على اسلامه وإن أظهر الكفر حكم انه كفر من
حين نطق به لأننا تبينا بذلك انه كان منشرح الصدر بالكفر من حين نطق به مختارا له وإن قامت
عليه بينة انه نطق بكلمة الكفر وكان محبوسا عند الكفار ومقيدا عندهم في حالة خوف لم يحكم بردته
108

لأن ذلك ظاهر في الاكراه، وإن شهدت انه كان آمنا حال نطقه بردته فإن ادعى ورثته رجوعه
إلى الاسلام لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل بقاؤه على ما هو عليه وإن شهدت البينة عليه بأكل لحم
الخنزير لم يحكم بردته لأنه قد يأكله معتقدا تحريمه كما يشرب الخمر من يعتقد تحريمها، وإن قال بعض
ورثته أكله مستحلا له أو أقر بردته حرم ميراثه لأنه مقر بأنه لا يستحقه ويدفع إلى مدعي اسلامه قدر
ميراثه لأنه لا يدعي أكثر منه ويدفع الباقي إلى بيت المال لعدم من يستحقه فإن كان في الورثة صغير
أو مجنون دفع إليه نصيبه ونصيب المقر بردة الموروث لأنه لم تثبت ردته بالنسبة إليه
(فصل) ومن أكره على كلمة الكفر فالأفضل أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه لما
روى خباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن كان الرجل ممن قبلكم ليحفر له في الأرض فيجعل فيها
فيجاء بمنشار فيوضع على شق رأسه ويشق باثنتين ما يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد
ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه) وجاء في تفسير قوله تعالى (قتل أصحاب الأخدود
النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) ان بعض ملوك الكفار أخذ قوما
من المؤمنين فحفر لهم أخدودا في الأرض وأوقدوا فيها نارا ثم قال من لم يرجع عن دينه فالقوه في النار
فجعلوا يلقونهم فيها حتى جاءت امرأة على كتفها صبي لها فتقاعست من أجل الصبي فقال يا أمه اصبري
فإنك على الحق فذكرهم الله تعالى في كتابه
وروى الأثرم عن أبي عبد الله انه سئل عن رجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه أله ان يرتد؟
فكرهه كراهة شديدة وقال ما يشبه هذا عندي الذي أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
109

أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاءوا وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر
وترك دينهم وذلك أن الذي يكره على الكلمة يقولها ثم يخلى لا ضرر فيها وهذا المقيم بينهم يلتزم
بإجابتهم إلى الكفر المقام عليه واستحلال المحرمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المنكرات
والمحظورات وإن كانت امرأة يزوجونها ويستولدونها أولادا كفارا وكذلك الرجل وظاهر حالهم
المصير إلى الكفر الحقيقي والانسلاخ من الدين الحنيفي
(فصل) ومن أصاب حدا ثم ارتد ثم أسلم أقيم عليه حده وبهذا قال الشافعي سواء لحق بدار
الحرب في ردته أو لم يلحق بها، وقال قتادة في مسلم أحدث حدثا ثم لحق بالروم ثم قدر عليه إن كان
ارتد درئ عنه الحد وان لم يكن ارتد أقيم عليه ونحو هذا قال أبو حنيفة والثوري الا حقوق الناس
لأن ردته أحبطت عمله فأسقطت ما عليه من حقوق الله تعالى كمن فعل ذلك في حال شركه فإنه لم يثبت
حكمه في حقه. واما قوله الاسلام (يجب ما قبله) فالمراد به ما فعله في كفره لأنه لو أراد ما قبل ردته أفضى
إلى كون الردة التي هي أعظم الذنوب مكفرة للذنوب وان من كثرت ذنوبه ولزمته حدود يكفر
ثم يسلم فتكفر ذنوبه وتسقط حدوده
(فصل) فأما فعله في ردته فقد نقل مهنا عن أحمد قال: سألته عن رجل ارتد عن الاسلام
فقطع الطريق ثم لحق بدار الحرب وأخذه المسلمون قال تقام عليه الحدود و يقتص منه وسألته عن
رجل ارتد فلحق بدار الحرب فقتل بها مسلما ثم رجع تائبا و قد أسلم فاخذه وليه يكون عليه القصاص؟
فقال قد زال عنه الحكم لأنه إنما قتل وهو مشرك ثم توقف بعد ذلك وقال لا أقول في هذا شيئا
110

وقال القاضي ما أصاب في ردته من نفس أو مال أو جرح فعليه ضمانه سواء كان في منعة وجماعة أو
لم يكن لأنه التزم حكم الاسلام باقراره فلم يسقط بجحده كما لا يسقط ما التزمه عند الحاكم بجحده.
قال شيخنا والصحيح ان ما أصابه المرتد بعد لحوقه بدار الحرب أو كونه في جماعة ممتنعة لا يضمنه لما
ذكرناه فيما تقدم في مسألة وما أتلف من شئ ضمنه وما فعله قبل هذا اخذ به إذا كان مما يتعلق به
حق آدمي كالجناية على نفس أو مال لأنه في دار الاسلام فلزمه حكم جنايته كالذمي والمستأمن واما من
ارتكب حدا خالصا لله تعالى كالزنا وشرب الخمر والسرقة فإنه ان قتل بالردة سقط ما سوى القتل
من الحدود لأنه متى اجتمع مع القتل حد انتفى بالقتل، وان رجع إلى الاسلام أخذ بحد الزنا والسرقة
لأنه من أهل دار الاسلام فأخذ بهما كالذمي والمستأمن. فأما حد الخمر فيحتمل انه لا يجب عليه
لأنه كافر فلا يقام عليه حد الخمر كسائر الكفار ويحتمل ان يجب لأنه أقر بحكم الاسلام قبل ردته
وهذا من أحكامه فلم يسقط بجحده بعده
(فصل) ومن ادعى النبوة أو صدق من ادعاها فقد ارتد لأن مسيلمة لما ادعى النبوة فصدقه
قومه صاروا بذلك مرتدين وكذلك طليحة الأسدي ومصدقوه وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة
حتى يخرج ثلاثون كذابون كلهم يدعى انه رسول الله)
(فصل) قال رحمه الله والساحر الذي يركب المكنسة فتسير به في الهواء ونحوه يكفر ويقتل
فاما الذي يسحر بالأدوية والتدخين ويتقي شيئا يضر فلا يكفر ولا يقتل ولكن يعذر ويقتص منه
111

ان فعل ما يوجب القصاص. وجملة ذلك أن السحر عقد ورقى وكلام يتكلم به ويكتبه أو يعمل شيئا
يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له وله حقيقة فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ
الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ومنه ما يفرق به بين المرء وزوجه وما يبغض أحدهما إلى الآخر أو
يجب بين اثنين وهذا قول الشافعي وذهب بعض أصحابه إلى أنه لا حقيقة له إنما هو تخييل قال الله
تعالى (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان شيئا يصل إلى بدن المسحور
كدخان ونحوه جاز ان يحصل منه ذلك فاما ان يحصل المرض والموت من غير أن يصل انى بدنه شئ
فلا يجوز ذلك لأنه لو جاز لبطلت معجزات الأنبياء عليهم السلام لأن ذلك يخرق العادات فإذا جاز
من غير الأنبياء بطلت معجزاتهم وأدلتهم
ولنا قول الله تعالى (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر
النفاثات في العقد) يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن عليه ولولا أن السحر حقيقة
لما أمر بالاستعاذة منه وقال الله تعالى (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت
وماروت) إلى قوله (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) وروت عائشة رضي الله عنها
ان النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله وأنه قال لها ذات يوم (أشعرت ان
112

الله أفتاني فيما استفتيته؟ إنه اتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال ما وجع
الرجل؟ قال مطبوب قال من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر
ذي أروان) ذكره البخاري وغيره جف الطلعة وعاؤها والمشاطة الشعر الذي يخرج من شعر الرأس أو
غيره إذا مشط، فقد أثبت لهم سحرا، وقد اشتهر بين الناس وجود عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها
فلا يقدر على اتيانها وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متوترا لا يمكن جحده، وروي
من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه، واما ابطال المعجزات فلا يلزم من هذا
لأنه لا يبلغ ما تأتي به الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم ان ينتهي إلى أن تسعى العصا والحبال
(فصل) وتعليم السحر وتعلمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم قال أصحابنا ويكفر الساحر
بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو اباحته، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فإن حنبلا روى
عنه قال قال عمي في العراف والكاهن والساحر: أرى ان يستتاب من هذه الأفاعيل كلها فإنه عندي
في معنى المرتد فإن تاب وراجع يعني خلي سبيله قلت له يقتل؟ قال لا لعله يراجع قلت له لم لا تقتله؟ قال
إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع، وهذا يدل على أنه لم يكفره لأنه لو كفره لقتله، وقوله في معنى المرتد
113

يعني في الاستتابة وقال أصحاب أبي حنيفة ان اعتقد ان الشياطين تفعل له ما يشاء كفر وان اعتقد
أنه تخييل لم يكفر وقال الشافعي ان اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب السبعة انها
تفعل ما يلتمس أو اعتقد حل السحر كفر لأن القرآن نطق بتحريمه وثبت بالنقل المتواتر والاجماع
وإلا فسق ولم يكفر لأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة ولو
كفرت لصارت مرتدة يجب قتلها ولم يجز استرقاقها ولأنه شئ يضر بالناس فلم يكفر بمجرده كأذاهم
ووجه قول الأصحاب قول الله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان
إلى قوله وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) وقوله تعالى (وما كفر سليمان)
أي ما كان ساحرا كفر بسحره وقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تتعلمه فتكفر بذلك وقد
ذكرنا حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ان الساحرة سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهم متوافرون هل لها من توبة فما أفتاها أحد
(فصل) وحد الساحر القتل روي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله
وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز وهو قول أبي حنيفة، ومالك ولم ير الشافعي عليه
القتل بمجرد السحر وهو قول ابن المنذر ورواية عن أحمد وقد ذكرناها ووجهها ما ذكرنا من حديث
عائشة في المدبرة التي سحرتها فباعتها، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:
114

كفر بعد ايمان أو زنا بعد احصان أو قتل نفس بغير حق) ولم يصدر منه أحد الثلاثة فوجب أن لا يحل دمه
ولنا ما روى جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حد الساحر ضربه بالسيف) قال
ابن المنذر رواه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وروى سعيد وأبو داود في كتابيهما عن بجالة قال
كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاء كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر
فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، وهذا اشتهر فلم ينكر فكان اجماعا وقتلت حفصة جارية لها سحرتها
وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدي الوليد بن عقبة ولأنه كافر فقتل للخبر المروي
(فصل) والسحر الذي ذكرنا حكمه هو الذي يعد في العرف سحرا مثل فعل لبيد بن الأعصم
حين سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، وروينا في مغازي الأموي ان النجاشي دعا السواحر فنفخن
في إحليل عمارة بن الوليد فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى امارة عمر بن الخطاب فامسكه انسان
فقال خلني وإلا مت فلم يخله فمات من ساعته، وبلغنا ان بعض الامراء أخذ ساحرة فجاء زوجها كأنه
محترق فقال قولوا لها تحل عني فقالت ائتوني بخيوط وباب فأتوها به فجلست على الباب وجعلت تعقد
فطار بها الباب فلم يقدروا عليها، فهذا وأمثاله مثل ان يعقد الرجل المتزوج فلا يطيق وطئ امرأته هو
السحر المختلف في حكم صاحبه
115

(مسألة) (فاما الذي يسحر بالأودية والتدخين وسقي شئ يضر فلا يكفر ولا يقتل)
لأن الله تعالى وصف الساحرين الكافرين بأنهم يفرقون بين المرء وزوجه فيختص الكفر بهم
ويبقى من سواهم من الذين يسحرون بالأدوية والتدخين على أصل العصمة لا يجب قتلهم ولا يكفرون
بسحرهم لكن يعزرون ان ارتكبوا معصية ويقتص منهم ما يوجب القصاص كما يقتص من غيرهم من المسلمين
(مسألة) (واما الذي يعزم على الجن ويزعم أنه يجمعها فتطيعه فلا يكفر ولا يقتل)
116

وذكره أبو الخطاب في السحرة الذين يقتلون وكذلك ذكره القاضي. فاما الذي يحل بالسحر
فإن كان بشئ من القرآن أو شئ من الذكر والأقسام والكلام المباح فلا بأس به فإن كان بشئ
من السحر فقد توقف أحمد عنه، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر
فقال قد رخص فيه بعض الناس، قيل لأبي عبد الله انه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه ويعمل كذا
فنفض يده كالمنكر وقال ما أدري ما هذا، قيل له فترى ان يؤتي مثل هذا يحل السحر؟ فقال ما أدري
ما هذا، وروي عن محمد بن سيرين أنه سئل عن امرأة تعذبها السحرة فقال رجل أخط خطا عليها
وأغرز السكين عند مجمع الخط واقرأ القرآن فقال محمد ما أعلم بقراءة القرآن بأسا على حال ولا أدري
117

ما الخط والسكين، وروي عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه فقال
إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع وقال أيضا ان استطعت ان تنفع أخاك فافعل فهذا من قولهم
يدل على أن المعزم ونحوه لم يدخلوا في حكم السحرة لأنهم لا يسمون به وهو مما ينفع ولا يضر
(فصل) فأما الكافر الذي له رئي من الجن يأتيه بالاخبار، والعراف الذي يحدس ويتخرص فقد
قال أحمد في رواية حنبل في العراف والساحر والكاهن أرى ان يستتاب من هذه الأفاعيل، قيل له
يقتل قال لا، يحبس لعله يرجع، قال والعرافة طرف من السحر والساحر أخبث لأن السحر شعبة من
الكفر وقال الساحر والكاهن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا لأنهما يلبسان أمرهما وحديث عمر
اقتلوا كل ساحر وكاهن وليس هو من أمر الاسلام، وهذا يدل على أن كل واحد فيه روايتان (إحداهما)
أنه يقتل إذا لم يتب (والثانية) لا يقتل لأن حكمه أخف من حكم الساحر وقد اختلف فيه فهذا بدرء القتل عنه أولى
(فصل) فأما ساحر أهل الكتاب فلا يقتل لسحره إلا أن يقتل به ويكون مما يقتل غالبا فيقتل قصاصا، وقال
أبو حنيفة يقتل لعموم ما تقدم من الاخبار ولأنه جناية أوجبت قتل المسلم فأوجبت قتل الذمي كالقتل قصاصا
ولنا ان لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتله ولان الشرك أعظم من سحره فلا يقتل
به والاخبار وردت في ساحر المسلمين لأنه يكفر بسحره وهذا كافر أصلي وقياسهم ينتقض باعتقاد
الكفر والتكلم به وينتقض بالزنا من المحصن فإنه لا يقتل به الذمي عندهم ويقتل به المسلم والله أعلم
118

كتاب الحدود
(مسألة) (ولا يجب الحد إلا على بالغ عاقل عالم بالتحريم)
أما البلوغ والعقل فلا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد وصحة الاقرار لأنهما قد رفع القلم
عنهما قال عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم
حتى يستيقظ) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن، وفي حديث ابن عباس في قصة ماعز
أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قومه (أمجنون هو؟) قالوا ليس به بأس. وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين
أقر عنده (أبك جنون؟) وروى أبو داود باسناده قال اتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها
أناسا فأمر بها عمر أن ترجم فمر بها علي بن أبي طالب فقال ما شأن هذه؟ فقالوا مجنونة بني فلان
زنت فأمر بها عمر أن ترجم، فقال ارجعوا بها ثم أتاه فقال يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم قد
رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل؟ قال بلى،
قال فما بال هذه؟ قال لا شئ، قال فأرسلها فأرسلها، قال فجعل عمر (يك؟) ولأنه إذا سقط عنه
التكليف في العبادات والاثم في المعاصي فالحد المبني على الدرء بالشبهات أولى بالاسقاط
(فصل) ولا يجب على النائم لما ذكرنا من الحديث، فلو زنى بنائمة أو استدخلت ذكر نائم
119

إن وجد منه الزنا حال نومه فلا حد عليه لأنه مرفوع عنه القلم، ولو أقر حال نومه لم يلتفت إلى
اقراره لأن كلامه ليس بمعتبر ولا يدل على صحة مدلوله
(فصل) فإن كان يجن مرة ويفيق أخرى فأقر في افاقته انه زنى وهو مفيق أو قامت عليه بينة
انه زنى في افاقته فعليه الحد لا نعلم فيه خلافا وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الزنا
الموجب للحد وجد منه في حال افاقته وهو مكلف والقلم غير مرفوع عنه واقراره وجد في حال
اعتبار كلامه، فإن أقر في افاقته ولم يضفه إلى حال أو شهدت عليه البينة بالزنى ولم تضفه إلى حال
افاقته لم يجب الحد لأنه يحتمل انه وجد في حال جنونه فلم يجب الحد مع الاحتمال، وقد روى أبو داود
في حديث المجنونة التي أتي بها عمر أن عليا قال هذه معتوهة بني فلان لعل الذي أتاها أتاها في
بلائها، فقال عمر لا أدري فقال علي وأنا لا أدري
(مسألة) (ولا يجب الحد إلا على عالم بالتحريم)
قال عمر وعلي وعثمان لا حد إلا على من علمه وبهذا قال عامة أهل العلم، وقد روى سعيد بن
المسيب قال ذكر الزنا بالشام فقال رجل زنيت البارحة، قالوا ما تقول؟ قال ما علمت أن الله حرمه
فكتب بها إلى عمر فكتب إن كان يعلم أن الله حرمه فحدوه وإن لم يكن علم فأعلموه فإن عاد
120

فارجموه، وسواء جهل تحريم الزنا أو تحريم عين المرأة مثل أن يزف إليه غير امرأته فيظنها زوجته
أو يدفع إليه جارية فيظنها جاريته فيطؤها فلا حد عليه
(مسألة) (ولا يجوز أن يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه)
لأنه حق لله تعالى فيفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن من استيفائه الحيف فوجب تفويضه إلى نائب
الله تعالى في خلقه ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد في حياته وخلفاؤه بعده ولا يلزم حضور الإمام
اقامته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) وأمر برجم ماعز
ولم يحضر وأتي بسارق فقال (اذهبوا به فاقطعوه) وجميع الحدود في هذا سواء حد القذف وغيره
لأنه لا يؤمن فيه الحيف والزيادة على الواجب ويفتقر إلى الاجتهاد فأشبه سائر الحدود
(مسألة) (إلا السيد فإن له إقامة الحد بالجلد خاصة على رقيقه القن وهل له القتل في الردة
والقطع في السرقة؟ على روايتين)
وجمله ذلك أن للسيد إقامة الحد بالجلد على رقيقه القن في قول أكثر العلماء، روي نحو ذلك علي
وابن مسعود وابن عمر وأبي حميد وأبي أسيد الساعديين وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقمة والأسود
والزهري وهبيرة والحسن بن أبي مريم وأبي ميسرة ومالك والثوري والشافعي وأبي ثور وابن المنذر
121

وقال ابن أبي ليلى أدركت بقايا الأنصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم الحدود إذا زنوا، وعن
الحسن بن محمد أن فاطمة حدت جارية لها زنت وعن إبراهيم ان علقمة والأسود كانا يقيمان الحدود
على من زنا من خدم عشائرهم روى ذلك سعيد في سننه، وقال أصحاب الرأي ليس له ذلك لأن
الحدود إلى السلطان ولان من لا يملك إقامة الحد على الحر لا يملكه على العبد كالصبي ولان الحد
لا يجب إلا ببينة أو اقرار وتعتبر لذلك شروط من عدالة الشهود ومجيئهم مجتمعين أو في مجلس واحد
وذكر حقيقة الزنا وغير ذلك من الشروط التي تحتاج إلى فقيه يعرفها ويعرف الخلاف فيها وكذلك
الاقرار، فينبغي أن يفوض ذلك إلى الإمام أو نائبه كحد الأحرار ولأنه حد هو حق الله تعالى
فيفوض إلى الإمام كالقتل والقطع
ولنا ما روى سعيد ثنا سفيان عن أيوب بن موسى عن سعيد بن سعيد عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب بها فإن عادت فليجلدها ولا
يثرب بها فإن عادت فليجلدها ولا يثرب بها فإن عادت الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير) وقال
حدثنا أبو الأحوص ثنا عبد الاعلى عن أبي جميلة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (وأقيموا
الحدود
على ما ملكت أيمانكم) ورواه الدارقطني ولان السيد يملك تأديب أمته وتزويجها فملك إقامة الحد
عليها كالسلطان وبهذا فارق الصبي إذا ثبت هذا فإنما يملك الحد بشروط أربعة
122

(أحدها) أن يكون جلدا كحد الزنا والشرب وحد القذف، فأما القتل في الردة والقطع في
السرقة فلا يملكهما الا الإمام، وهذا قول أكثر أهل العلم وفيها رواية أخرى أن السيد يملكهما
وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم)
وروي أن ابن عمر قطع عبدا سرق وكذلك عائشة، وعن حفصة أنها قتلت أمة لها سحرتها
ولان ذلك حدا يشبهه الجلد
ولنا أن الأصل تفويض الحد إلى الإمام لأنه حق لله تعالى فيفوض إلى نائبه كما في حق الأحرار
ولما ذكره أصحاب أبي حنيفة وإنما فوض إلى السيد الجلد خاصة لأنه تأديب والسيد يملك تأديب
عبده وضربه على الذنب وهذا من جنسه وإنما افترقا في أن هذا مقدر والتأديب غير مقدر، وهذا
لا اثر له في منع السيد منه بخلاف القطع والقتل فإنهما اتلاف لجملته أو بعضه الصحيح ولا يملك
السيد هذا من عبده ولا شيئا من جنسه والخبر الوارد في حد السيد عبده إنما جاء في الزنا خاصة
وإنما قسنا عليه ما يشبهه من الجلد وقوله (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) إنما جاء في سياق
الحد في الزنا فإن أول الحديث عن علي رضي الله عنه قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمة له فجرت فأرسلني
إليها فقال (اجلدها الحد - قال فانطلقت فوجدتها لم تجف من دمها فرجعت إليه فقال - أفرغت؟
فقلت وجدتها لم تجف من دمها قال - إذا جفت من دمها فاجلدها الحد وأقيموا الحدود على ما
123

ملكت أيمانكم) فالظاهر أنه إنما أراد ذلك الحد وشبهه، وأما فعل حفصة فقد أنكره عثمان عليها
وشق عليه، وما روي عن ابن عمر فلا نعلم ثبوته عنه
(مسألة) (ولا يملك اقامته على من بعضه حر ولا أمته المزوجة)
وقال مالك والشافعي يملك السيد إقامة الحد على الأمة المزوجة لعموم الخبر ولأنه مختص بملكها
وإنما يملك الزوج بعض منافعها فأشبهت المستأجرة
ولنا ما روي عن ابن عمر أنه قال: إذا كانت الأمة ذات زوج رفعت إلى السلطان، وإن
لم يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصن ولا نعرف له مخالفا في عصره ولان نفعها
مملوك لغيره مطلقا أشبهت المشتركة ولان المشترك إنما منع من إقامة الحد عليه لأنه يقيمه في غير
ملكه لأن الجزء الحر أو المملوك لغيره ليس بمملوك له وهذا شبهه لأن محل الحد هو محل استمتاع
الزوج وهو بدنها فلا يملكه والخبر مخصوص بالمشترك فنقيس عليه والمستأجرة اجارتها مؤقتة
تنقضي، ويحتمل أن نقول لا يملك إقامة الحد عليها في حال اجارتها لأنه ربما أفضى إلى تفويت
حق المستأجر وكذلك الأمة المرهونة يخرج فيها وجهان
(فصل) ويشترط أن يكون السيد بالغا عاقلا عالما بالحدود وكيفية اقامتها لأن الصبي والمجنون
ليسا من أهل الولايات والجاهل بالحد لا يمكنه اقامته على الوجه الشرعي فلا يفوض إليه
124

(مسألة) (فإن كان السيد فاسقا أو امرأة فله اقامته في ظاهر كلامه ويحتمل أن لا يملكه)
في الفاسق وجهان (أحدهما) لا يملكه لأن هذه ولاية فنافاها الفسق كولاية التزويج (والثاني)
يملكه لأنها ولاية استفادها بالملك فلم ينافها الفسق كبيع العبد وفي المرأة أيضا وجهان (أحدهما)
لا تملكه لأنها ليست من أهل الولايات (والثاني) تملكه لأن فاطمة جلدت أمة لها وعائشة قطعت
أمة لها سرقت وحفصة قتلت أمة لها سحرتها ولأنها مالكة تامة الملك من أهل التصرفات أشبهت
الرجل وفيه وجه ثالث أن الحد يفوض إلى وليها لأنه يزوج أمتها
(مسألة) (ولا يملكه المكاتب لأنه ليس من أهل الولاية، وفيه وجه أنه يملكه) لأنه
يستفاد بالملك فأشبه سائر تصرفاته
(مسألة) (وسواء ثبت ببينة أو اقرار)
إذا ثبت باعتراف فللسيد اقامته إن كان يعترف الاعتراف الذي يثبت به الحد وشروطه، وإن
ثبت ببينة اعتبر ان تثبت عند الحاكم لأن البينة تحتاج إلى البحث في العدالة ومعرفة شروط سماعها
ولفظها ولا يقوم بذلك إلا الحاكم، وقال القاضي يعقوب: إن كان السيد يحسن سماع البينة ويعرف
شروط العدالة جاز أن يسمعها ويقيم الحد بها كما يقيمه بالاقرار وهذا ظاهر نص الشافعي لأنها أحد
ما يثبت به الحد فأشبهت الاقرار.
125

(مسألة) (وان ثبت بعلمه فله اقامته نص عليه، ويحتمل أن لا يملكه كالإمام) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فروي عنه أن السيد لا يقيمه بعلمه وهذا قول مالك
لأن الإمام لا يقيمه بعلمه فالسيد أولى ولان ولاية الإمام للحد أقوى من ولاية السيد لكونها متفقا
عليها وثابتة بالاجماع فإذا لم يثبت الحد في حقه بالعلم فههنا أولى، وعن أحمد رواية أخرى أنه يقيمه
بعلمه لأنه قد ثبت عنده فملك اقامته كما لو أقر به ولأنه يملك تأديب عبده بعلمه وهذا يجري مجرى
التأديب ويفارق الحاكم لأن الحاكم متهم لا يملك محل إقامته وهذا بخلافه وهذا ظاهر المذهب
(مسألة) (ولا يقيم الإمام الحد بعلمه)
هذا ظاهر المذهب روي ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبه قال مالك وأصحاب
الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر: له اقامته بعلمه وهو قول أبي ثور وعن أحمد رحمه
الله نحو ذلك لأنه إذا جازت له اقامته بالبينة والاعتراف الذي لا يفيد فبما يفيد العلم أولى
ولنا قول الله تعالى (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) وقال سبحانه (فإذا لم يأتوا بالشهداء
فأولئك عند الله هم الكاذبون) وقال عمر أو كان الحبل أو الاعتراف ولأنه لا يجوز له أن يتكلم
126

به ولو رماه بما علمه منه لكان قاذفا يلزمه حد القذف فلم تجز إقامة الحد لقول غيره ولأنه إذا
حرم النطق به فالعمل به أولى
(مسألة) (ولا تقام الحدود في المساجد)
لما روى حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد في المسجد وأن ينشد فيه الاشعار
وأن تقام فيه الحدود لأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شئ يتلوث به المسجد فإن أقيم فيه
سقط الفرض لحصول المقصود وهو الزجر ولان المرتكب للنهي غير الحدود فلم يمنع ذلك سقوط
الفرض عنه كما لو اقتص في المسجد
(مسألة) (ويضرب الرجل قائما)
وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يضرب جالسا قال أبو الخطاب، وقد روى حنبل
أنه يضرب قاعدا لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام ولأنه مجلود في حد أشبه المرأة
ولنا قول علي رضي الله عنه: لكل موضع من الحسد حظ الا الوجه والفرج، وقال للجلاد
اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه ولان قيامه وسيلة إلى اعطاء كل عضو حظه من الضرب وقوله
ان الله لم يأمر بالقيام قلنا ولم يأمر بالجلوس ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر ولا يصح
قياس الرجل على المرأة في هذا لأن المرأة يقصد سترها ويخشى هتكها. إذا ثبت هذا فإنه يضرب
127

بسوط، وحكي عن بعضهم ان حد الشرب يقام بالأيدي والنعال وأطراف الثياب لما روى أبو هريرة
ان النبي صلى الله عليه وسلم اتي برجل قد شرب فقال (اضربوه) قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب
بنعله والضارب بثوبه رواه أبو داود
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا شرب الخمر فاجلدوه) والجلد إنما يفهم من اطلاقه الضرب بالسوط
والخلفاء الراشدون ضربوا فيه بالسياط وكذلك غيرهم فصار اجماعا ولأنه جلد في حد فكان بالسوط كغيره
فأما حديث أبي هريرة فكان في بدء الاسلام ثم جلد النبي صلى الله عليه وسلم واستقرت الأمور فقد صح ان
النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وفي حديث ابن عمر قال ائتوني
بسوط فجاءه أسلم مولاه بسوط دقيق فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لاسلم ائتني بسوط غير هذا
فأتاه به تاما فأمر عمر بقدامة فجلد. إذا ثبت هذا فإن السوط يكون وسطا لا حديدا فيجرح ولا خلعا
فلا يؤلم لما روي أن رجلا اعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بسوط مكسور فقال فوق هذا مأتي بسوط
حديد لم يكسر بموته فقال بين هذين رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا وروي عن أبي هريرة مسندا
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين يعني وسطا لا شديد
فيقتل ولا ضعيف فلا يردع
(مسألة) (ولا يمد ولا يربط ولا يجرد قال ابن مسعود ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد)
128

وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا قيد ولا تجريد بل يكون عليه
القميص والقميصان، وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب
قال أحمد لو تركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب، وقال مالك يجرد لأن الامر بجلده يقتضي مباشرة جسمه
ولنا قول ابن مسعود ولم نعلم عن أحد من الصحابة خلافه والله تعالى لم يأمر بتجريده وإنما أمر
بجلده ومن جلد من فوق الثوب فقد جلد
(مسألة) (ولا يبالغ في ضربه بحيث يشق الجلد)
لأن المقصود أدبه لا هلاكه، ويفرق الضرب على أعضائه وجسده فيأخذ كل عضو منه حصته
ويكثر منه في مواضع اللحم كالأليتين والفخذين ويتقى المقاتل وهي الرأس والوجه والفرج من المرأة
والرجل جميعا لقول علي رضي الله عنه لكل موضع من الجسد حظ الا الوجه والفرج لأن ما عدا الأعضاء
الثلاثة ليس بمقتل فأشبه الظهر ولان الرأس مقتل فأشبه الوجه ولأنه ربما أدى في رأسه إلى ذهاب
سمعه أو بصره أو عقله أو قتله والمقصود أدبه لا قتله
(مسألة) (والمرأة كذلك فيما ذكرنا من صفة الجلد الا انها تضرب جالسة وتشد عليها ثيابها
وتمسك يداها لئلا تنكشف)
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ومالك وقال أبو يوسف تحد المرأة قائمة كاللعان
129

ولنا قول علي ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي إلى كشف العورة وما عدا الأعضاء الثلاثة
(مسألة) (والجلد في الزنا أشد الجلد ثم جلد القذف ثم الشرب ثم التعزير)
وكذلك قال أصحابنا وقال مالك كلها واحد لأن الله تعالى أمر بجلد الزاني والقاذف أمرا واحدا
ثم مقصود جميعها واحد وهو الزجر فيجب تساويها في الصفة، وعن أبي حنيفة التعزير أشدها ثم حد الزاني
ثم الشرب ثم حد القذف
ولنا ان الله تعالى خص الزنا بمزيد تأكيد بقوله (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) فاقتضى
مزيد تأكيد ولا يمكن ذلك في العدد فجعل في الصفة، ولان ما دونه أخف منه في العدد فلا يجوز ان
يزيد عليه في ايلامه ووجعه وهذا دليل على أن ما خف في عدده كان أخف في صفته ولان ما دونه
أخف منه عددا فلا يجوز ان يزيد عليه في ايلامه ووجعه لأنه يفضي إلى التسوية أو زيادة القليل
على ألم الكثير
(مسألة) (وان رأى الإمام الجلد في حد الخمر بالجريد والنعال فله ذلك)
لما ذكرنا من حديث أبي هريرة قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال (اضربوه) قال أبو
هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعلين والضارب بثوبه، رواه أبو داود
(مسألة) (قال أصحابنا ولا يؤخر الحد للمرض فإن كان جلدا وخشي عليه من السوط أقيم
130

بأطراف الثياب والعثكول ويحتمل ان يؤخر للمرض المرجو زواله
أما إذا كان الحد رجما لم يؤخر لأنه لا فائدة فيه إذا كان قتله متحتما وإذا كان جلدا فالمريض على ضربين
(أحدهما) يرجى برؤه فقال أصحابنا يقام عليه الحد ولا يؤخر فإن خشي عليه من السوط
ضرب بسوط يؤمن معه التلف فإن خيف من السوط أقيم بالعثكول وهذا قول أبي بكر وبه قال
إسحاق وأبو ثور لأن عمر رضي الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون في مرضه ولم يؤخره وانتشر
ذلك في الصحابة ولم ينكروه فكان اجماعا، ولان الحد واجب على الفور فلا يؤخر ما أوجبه الله تعالى
بغير حجة قال القاضي ظاهر قول الخرقي تأخيره لقوله من يجب عليه الحد وهو صحيح عاقل وهذا
قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لحديث علي رضي الله عنه في التي هي حديثة عهد بنفاس ولان في تأخيره
إقامة الحد على الكمال من غير اتلاف فكان أولى، وأما حديث عمر في جلد قدامة فإنه يحتمل انه
كان مرضا خفيفا لا يمنع من إقامة الحد على الكمال ولهذا لم ينقل عنه انه خفف عنه في السوط وإنما
اختار له سوطا وسطا كالذي يضرب به الصحيح، ثم إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على فعل عمر مع أنه
اختيار علي وفعله وكذلك الحكم في تأخيره في الحر والبرد المفرط (الضرب الثاني) المريض الذي
لا يرجى برؤه فهذا يقام عليه الحد في الحال ولا يؤخر بسوط يؤمن معه التلف كالقضيب الصغير
131

وشمراخ النخل فإن خيف عليه من ذلك جمع ضغثا فيه مائة شمراخ فضربه ضربة واحدة وبهذا
قال الشافعي وأنكر مالك هذا وقال قد قال الله تعالى (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهذا جلده واحدة
ولنا ما روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ان رجلا اشتكى
حتى ضني فدخلت عليه امرأة فهش لها فوقع بها فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان
يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه ضربة واحدة، رواه أبو داود والنسائي وقال ابن المنذر في اسناده
مقال، ولأنه لا يخلو من أن يقام عليه الحد على ما ذكرنا أو لا يقام أصلا أو يضرب ضربا كاملا: لا يجوز
تركه بالكلية لأنه يخالف الكتاب والسنة ولا ان يجلد جلدا تاما لأنه يفضي إلى اتلافه فتعين
ما ذكرناه، وقولهم هذا جلده واحدة قلنا يجوز ان يقام ذلك في حال العذر كما قال الله تعالى في حق أيوب
(وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) وهذا أولى من ترك حده بالكلية أو قتله بما لا يوجب القتل
(فصل) وإذا وجب الحد على حامل لم يقم عليها حتى تضع سواء كان الحمل من زنا أو غيره قال ابن
المنذر أجمع أهل العلم على أن الحامل لا ترجم حتى تضع، وروى بريدة ان امرأة من بني غامد قالت يا رسول
الله طهرني قال (وما ذاك) قالت انها حبلى من زنا قال (أنت) قالت نعم فقال (لها ارجعي حتى
132

تضعي ما في بطنك) قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قال قد وضعت الغامدية
فقال (إذا لا نرجمها وتدع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه) فقام رجل من الأنصار فقال إلي
رضاعه يا نبي الله قال فرجمها رواه مسلم وأبو داود، وروي ان امرأة زنت في أيام عمر رضي الله عنه
فهم عمر برجمها وهي حامل فقال معاذ إن كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على حملها فقال عجز
النساء أن يلدن مثلك ولم يرجمها وعن علي مثله، ولان في إقامة الحد عليها في حال حملها اتلافا لمعصوم
ولا سبيل إليه وسواء كان الحد رجما أو غيره لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الضرب وربما سرى
إلى نفس المضروب فيفوت الولد بفواته، فإذا وضعت الولد فإن كان الحد رجما لم ترجم حتى تسقيه
اللبأ لأن الولد لا يكاد يعيش الا به، ثم إن كان له من يرضعه أو تكفل أحد برضاعه رجمت والا تركت
حتى تفطمه لما ذكرنا من حديث الغامدية ولما روى أبو داود باسناده عن بريدة ان امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت اني فجرت فوالله اني لحبلى فقال لها (ارجعي حتى تلدي) فرجعت فلما ولدت أتت بالصبي فقال (ارجعي
فأرضعيه حتى تفطميه) فجاءت به قد فطمته وفي يده شئ يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين
وأمر بها فحفر لها وأمر بها فرجمت وأمر بها فصلي عليها ودفنت. وان لم يظهر حملها لم تؤخر لاحتمال
أن تكون حملت من الزنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهودية والجهنية ولم يسأل عن استبرائهما وقال
لأنيس (اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يأمره بسؤالها عن استبرائها، ورجم علي رضي
133

الله عنه شراحة ولم يستبرئها، وان ادعت الحمل قبل قولها كما قبل قول الغامدية، فإن كان الحد جلدا
فإذا وضعت الولد وانقطع النفاس وكانت قوية يؤمن تلفها أقيم عليها الحد وان كانت في نفاسها
أو ضعيفة يخاف تلفها لم يقم عليها الحد حتى تطهر وتقوى وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وذكر
القاضي أنه ظاهر كلام الخرقي وقال أبو بكر يقام عليها الحد في الحال بسوط يؤمن معه التلف فإن
خيف عليها من السوط أقيم بالعثكول وأطراف الثياب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضرب المريض الذي زنى
فقال (خذوا له مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة)
ولنا ما روى علي رضي الله عنه أنه قال إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني ان اجلدها فإذا
هي حديثة عهد بنفاس فخشيت ان انا جلدتها ان اقتلها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أحسنت)
رواه مسلم وأبو داود ولفظه قال فأتيته فقال يا علي (أفرغت؟) فقلت اتيتها ودمها يسيل فقال (دعها حتى
ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد) وفي حديث أبي بكرة ان المرأة انطلقت فولدت غلاما فجاءت به
النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها (انطلقي فتطهري من الدم) رواه أبو داود ولأنه لو توالى عليه حدان فاستوفى
أحدهما لم يستوف الثاني حتى يبرأ من الأول
(مسألة) (وإذا مات المحدود في الجلد فالحق قتله ولا يجب على أحد ضمانه جلدا كان أو غيره)
لأنه حد وجب لله عز وجل فلم يود من مات به كالقطع في السرقة وهذا قول مالك وأصحاب
134

الرأي وبه قال الشافعي إذا لم يزد في حد الخمر على الأربعين وان زاد على الأربعين فمات فعليه الضمان
لأن ذلك تعزير إنما يفعله الإمام برأيه، وفي قدر الضمان قولان (أحدهما) نصف الدية لأنه تلف من
فعلين مضمون وغير مضمون فكان عليه نصف الضمان (والثاني) تقسط الدية على عدد الضربات
كلها فيجب من الدية بقدر زيادته على الأربعين روي عن علي رضي الله عنه أنه قال ما كنت لاقيم
حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي الا صاحب الخمر لو مات وديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه
ولنا أنه حد وجب لله تعالى فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود وما زاد على الأربعين فهو
من الحد على ما نذكره، وإن كان تعزيرا فالتعزير يجب فهو بمنزلة الحد، وأما حديث علي فقد صح عنه
أنه قال جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وثبت الحد بالاجماع فلم يبق فيه شبهة
(فصل) ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في سائر الحدود أنه إذا أتي بها على الوجه المشروع من
غير زيادة أنه لا يضمن من تلف بها لأنه فعلها بأمر الله وأمر رسوله فلا يؤاخذ به ولأنه نائب عن
الله تعالى فكان التلف منسوبا إلى الله سبحانه
(مسألة) (وان زاد على الحد سوطا أو أكثر فتلف ضمنه وهل يضمن جميع الدية أو نصفها؟ على وجهين)
إذا زاد على الحد فتلف المحدود وجب الضمان بغير خلاف نعلمه لأنه تلف بعدوانه فأشبه ما لو
ضربه في غير الحد، قال أبو بكر وفي قدر الضمان وجهان (أحدهما) كمال الدية لأنه قتل حصل من
جهة الله تعالى وعدوان الضارب فكان الضمان على العادي كما لو ضرب مريضا سوطا فمات به ولأنه
135

تلف بعدوان وغيره أشبه ما لو القى على سفينة موقرة حجرا فغرقها (والثاني) عليه نصف الضمان لأنه
تلف بفعل مضمون وغير مضمون فوجب نصف الدية حسب كما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمات
وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر يجب من الدية بقدر ما تعدى به
تقسط الدية على الأسواط كلها وسواء زاد خطأ أو عمدا لأن الضمان يجب في الخطأ والعمد، ثم ينظر
فإن كان الجلاد زاده من عند نفسه بغير أمر فالضمان على عاقلته لأن العدوان منه وكذلك ان قال
له الإمام اضرب ما شئت، وإن كان له من يعد عليه فزاد في العدد ولم يجبره فالضمان على من يعد
سواء تعمد ذلك أو أخطأ في العدد لأن الخطأ منه، وان امره الإمام بالزيادة على الحد فزاد فقال
القاضي الضمان على الإمام، وقياس المذهب انه ان اعتقد وجوب طاعة الإمام وجهل تحريم الزيادة
فالضمان على الإمام وإن كان عالما بذلك فالضمان عليه كما لو امره الإمام بقتل رجل ظلما فقتله، وكل
موضع قلنا يضمن الإمام فهل يلزم عاقلته أو بيت المال؟ فيه روايتان (إحداهما) هو في بيت المال لأن
خطأه يكثر فلو وجب ضمانه على عاقلته أجحف بهم قال القاضي هذا أصح (والثاني) هو على عاقلته
لأنها وجبت بخطائه فكانت على عاقلته كما لو رمى صيدا فقتل آدميا، ويحتمل أن تكون الروايتان فيما
إذا وقعت الزيادة منه خطأ أما إذا تعمدها فهذا ظلم قصده فلا وجه لتعلق ضمان ببيت المال بحال
كما لو تعمد جلد من لاحد عليه، واما الكفارة التي تلزم الإمام فلا يحملها عنه غيره لأنها عبادة فلا
136

تتعلق بغير من وجد منه سببها ولأنها كفارة لفعله فلا تحصل إلا بتحمله إياها ولهذا لا يدخلها التحمل بحال
(مسألة) (وإذا كان الحد رجما لم يحفر له رجلا كان أو امرأة في أحد الوجهين)
سواء ثبت ببينة أو اقرار أما إذا كان الزاني رجلا لم يوثق بشئ ولم يحفر له سواء ثبت الزنا
ببينة أو اقرار لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز قال أبو سعيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
برجم ماعز خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكنه قام لنا رواه أبو داود ولان
الحفر له ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه فوجب ان لا يثبت
(مسألة) (واما المرأة فإن كان ثبت باقرارها لم يحفر لها وان ثبت ببينة حفر لها إلى الصدر)
ظاهر كلام احمد ان المرأة لا يحفر لها أيضا وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف وذكر في
المجرد انه ان ثبت الحد باقرارها لم يحفر لها وان ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر قال أبو الخطاب
وهذا أصح عندي وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكرة وبريدة ان النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة
فحفر لها إلى الثندوة رواه أبو داود ولا حاجة إلى تمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة فلا
يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالاقرار فإنها تترك على حال لو أرادت الهرب تمكنت منه لأن
رجوعها عن إقرارها مقبول
137

ولنا ان أكثر الأحاديث على ترك الحفر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولا لليهوديين والحديث
الذي احتجوا به غير معمول به ولا يقولون به فإن التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها باقرارها ولا
خلاف بيننا فيها فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم إياه، إذا ثبت هذا فإن ثياب المرأة تشد
عليها لئلا تنكشف وقد روى أبو داود باسناده عن عمران بن حصين قال فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم
فشدت عليها ثيابها ولان ذلك استر لها
(مسألة) (ويستحب ان يبدأ الشهود بالرجم وان ثبت بالاقرار استحب ان يبدأ الإمام)
السنة ان يدور الناس حول المرجوم فإن كان الزنا ثبت ببينة استحب ان يبدأ الشهود بالرجم
وإن كان ثبت باقرار بدأ به الإمام أو الحاكم إن كان ثبت عنده ثم يرجم الناس بعده وقد روى سعيد
باسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال الرجم رجمان فما كان منه باقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس
وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس ولان فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه
(مسألة) (ومتى رجع المقر بالحد عن اقراره قبل منه، وإن رجع في أثناء الحد لم يتمم)
وجملة ذلك أن من شرط إقامة الحد بالاقرار البقاء عليه إلى تمام الحد فإن رجع عن اقراره
كف عنه وبهذا قال عطاء ويحيى بن يعمر والزهري وحماد ومالك والثوري وإسحاق وأبو حنيفة
وأبو يوسف وقال الحسن وسعيد بن جبير وابن أبي ليلى يقام عليه الحد لا يترك لأن ماعزا هرب
138

فقتلوه، وروي أنه قال ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي هم غروني من نفسي وأخبروني أن
النبي صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه رواه أبو داود ولو قبل رجوعه للزمتهم ديته ولأنه
حق وجب باقراره فلم يقبل رجوعه كسائر الحقوق، وحكي عن الأوزاعي أنه إن رجع حد للفرية
على نفسه، وإن رجع عن السرقة أو الشرب ضرب دون الحد.
ولنا أن ماعزا هرب فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال (هل لا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟) قال
لما بن عبد البر: ثبت من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم بن هزال ونصر بن داهر وغيرهم أن ماعزا
هرب فقال لهم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (فهلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟) ففي
هذا أوضح الدلائل على أنه يقبل رجوعه
وعن بريدة قال: كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا
بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلقهما وإنما رجمهما عند الرابعة رواه أبو داود
ولان رجوعه شبهة والحد يدرأ بالشبهات ولان الاقرار أحد بينتي الحد فيسقط بالرجوع عنه كالبينة
إذا رجعت قبل إقامة الحد وفارق سائر الحقوق فإنها لا تدرأ بالشبهات وإنما لم يجب ضمان ماعز على
الذين قتلوه بعد هربه لأنه ليس بصريح في الرجوع
(مسألة) (وإن رجم ببينة فهرب لم يترك وإن كان باقرار ترك)
139

إذا ثبت الحد عليه باقراره فهرب لم يتبع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (هلا تركتموه؟) وإن لم يترك
وقتل لم يضمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضمن ماعزا من قتله ولان هربه ليس بصريح في رجوعه فإن
قال ردوني إلى الحاكم وجب رده ولم يجز اتمام الحد فإن أتم فلا ضمان على من أتمه لما ذكرنا في هربه
وإن رجع عن اقراره وقال كذبت في اقراري أو رجعت عنه أو لم أفعل ما أقررت به وجب تركه
فإن قتله قاتل بعد ذلك فعليه ضمانه لأنه قد زال اقراره بالرجوع عنه فصار كمن لم يقر ولا قصاص
على قاتله لأن العلماء اختلفوا في صحة رجوعه فكان اختلافهم شبهة درئ به القصاص ولان صحة
الرجوع ما يخفي فيكون ذلك عذرا مانعا من وجوب القصاص فأما إن رجم ببينة فهرب لم يترك لأن
زناه ثبت على وجه لا يبطل برجوعه فلم يؤثر فيه هربه كسائر الأحكام والله أعلم
(فصل) وإذا اجتمعت حدود لله تعالى فيها قتل استوفي وسقط سائرها إذا اجتمعت الحدود
لم تخل من ثلاثة أقسام: (أحدها) أن تكون خالصة لله تعالى فهي نوعان (أحدها) أن يكون فيها
قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن ويشرب ويقتل في المحاربة فهذا يقتل ويسقط سائرها وهذا
قول ابن مسعود وعطاء والشعبي والنخعي والأوزاعي ومالك وحماد وأبي حنيفة وقال الشافعي تستوفى
جميعها لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصا ولنا قول ابن مسعود قال سعيد ثنا حسان
بن منصور ثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن
140

عبد الله قال: إذا اجتمع حدان أحدها القتل أحاط القتل بذلك، وقال إبراهيم يكفيه القتل وثنا
هشيم انا حجاج عن إبراهيم والشعبي وعطاء أنهم قالوا مثل ذلك، وهذه أقوال انتشرت في عهد
الصحابة والتابعين ولم يظهر لها مخالف فكان اجماعا ولأنها حدود لله فيها قتل فسقط ما دونه
كالمحارب إذا قتل وأخذ المال فإنه يكتفى بقتله ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر ومع القتل لا
حاجة إلى زجره لأنه لا فائدة فلا يشرع فيه ويفارق القصاص فإن فيه غرض التشفي والانتقام ولا
يقصد فيه مجرد الزجر إذا ثبت هذا فإنه إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة
أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص،
وإنما اثرت المحاربة تحتمه وحق الآدمي يجب تقديمه
(النوع الثاني) أن لا يكون فيها قتل فإن كانت من جنس مثل أن زنى أو سرق أو شرب
مرارا قبل إقامة الحد عليه أجزأ حد واحد بغير خلاف علمناه. قال ابن المنذر. أجمع على هذا
كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم عطاء والزهري ومالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو يوسف
وأبو ثور وهو مذهب الشافعي فإن أقيم عليه الحد ثم حدثت منه جناية أخرى ففيها حدها لا نعلم
فيه خلافا، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة تزني قبل أن تحيض فقال (اجلدوها ان زنت ثم إن
زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها) ولان تداخل الحدود إنما يكون مع اجتماعها والحد الثاني
وجب بعد سقوط الحد الأول باستيفائه، وان كانت من أجناس استوفيت كلها من غير خلاف
141

ويبدأ وبالأخف فالأخف فإذا شرب وزنى وسرق حد للشرب أولا تم حد للزنا ثم قطع للسرقة
وان أخذ المال في المحاربة قطع لذلك ويدخل فيه القطع للسرقة لأن محل القطعين واحد فتداخلا
كالقتلين، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يتخير بين البداءة بحد الزنا وقطع السرقة لأن كل
واحد منهما ثبت بنص القرآن ثم بحد الشرب ولنا أن حد الشرب أخف فيقدم كحد القذف ولا نسلم
أن حد الشرب غير منصوص عليه فإنه منصوص عليه في السنة ومجمع على وجوبه وهذا التقدير على سبيل
الاستحباب ولو بدأ بغيره جاز ووقع الموقع ولا يوالي بين هذه الحدود لأنه ربما أفضى إلى تلفه بل
متى برأ من حد أقيم عليه الذي يليه
(مسألة) (وأما حقوق الآدميين فتستوفى كلها سواء كان فيها قتل أو لم يكن)
ويبدأ بغير القتل وهي القصاص وحد القذف فهذه تستوفى كلها ويبدأ بأخفها فيحد للقذف ثم
يقطع ثم يقتل لأنها حقوق لآدميين أمكن استيفاؤها فوجب كسائر حقوقهم وهذا قول الأوزاعي
والشافعي وقال أبو حنيفة يدخل ما دون القتل فيه لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا
اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك رواه سعيد في سننه وقياسا على الحدود الخالصة لله تعالى
ولنا أن ما دون القتل حق لآدمي فلم يسقط به كديونهم وفارق حق الله تعالى فإنه مبني على المسامحة
(مسألة) (فإن اجتمعت مع حدود الله بدئ بها)
142

إذا اجتمعت حدود الله تعالى وحدود الآدميين فهذه ثلاثة أنواع
(أحدها) أن لا يكون فيها قتل فهذه تستوفى كلها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وعن مالك
ان حد الشرب والقذف يتداخلان لاستوائهما فهما كالقتلين والقطعين
ولنا انهما حدان من جنسين لا يفوت بهما المحل فلم يتداخلا كحد الزنا والشرب ولا نسلم
استواءهما فإن حد الشرب أربعون وحد القذف ثمانون وان سلم استواءهما لم يلزم تداخلهما لأن ذلك لو اقتضى
تداخلهما لوجب دخولهما في حد الزاني لأن الأقل مما يتداخل يدخل في الأكثر وفارق القتلين
والقطعين فإن المحل يفوت بالأول فيتعذر استيفاء الثاني فهذا بخلافه فعلى هذا يبدأ بحد القذف
لأنه اجتمع فيه معنيان خفته وكونه حقا لادمي صحيح إلا إذا قلنا حد الشرب أربعون فإنه يبدأ به
لخفته ثم بحد القذف وأيهما قدم فالآخر يليه ثم بحد الزنا لأنه لا اتلاف فيه ثم بالقطع هكذا ذكره
القاضي وقال أبو الخطاب يبدأ بالقطع قصاصا لأنه حق آدمي يتمحض فإذا بر أحد للقذف إذا قلنا
هو حق آدمي ثم بحد الشرب فإذا برأ حد للزنا لأن حق الآدمي يجب تقديمه لتأكده (النوع الثاني) ان تجتمع حدود الله تعالى وحدود لآدمي وفيها قتل فإن حدود الله تعالى تدخل
في القتل سواء كان من حدود الله تعالى كالرجم في الزنا والقتل في المحاربة أو الردة أو لحق آدمي
كالقصاص لما قدمنا. واما حقوق الآدمي فتستوفى كلها ثم إن كان القتل حقا لله تعالى استوفيت
143

الحقوق كلها متوالية لأنه لابد من فوات نفسه فلا فائدة في التأخير وإن كان القتل حقا لآدمي انتظر
باستيفاء الثاني برؤه من الأول لوجهين (أحدهما) ان الموالاة بينهما يحتمل ان تفوت نفسه قبل القصاص
فيفوت حق الآدمي (والثاني) ان العفو جائز فتأخيره يحتمل ان يعفو الولي فيحيى بخلاف
القتل حقا لله سبحانه
(النوع الثالث) ان يتفق الحقان في محل واحد كالقتل والقطع قصاصا وحدا فاما القتل فإن كان
فيه ما هو خالص لحق الله تعالى كالرجم في الزنا وما هو حق لآدمي كالقصاص قدم القصاص لتأكد
حق الآدمي وان اجتمع القتل في المحاربة والقصاص بدئ بأسبقهما لأن القتل في المحاربة فيه
حق لآدمي أيضا فقدم اسبقهما فإن سبق القتل في المحاربة استوفي ووجب لولي المقتول الآخر ديته في
مال الجاني وان سبق القصاص قتل قصاصا ولم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد سقط الحد
بالقصاص فسقط الصلب كما لو مات ويجب لولي المقتول في المحاربة ديته لأن القتل تعذر استيفاؤه وهو
قصاص فصار الوجوب إلى الدية وهكذا لو مات القاتل في المحاربة وجبت الدية في تركته لتعذر
استيفاء القتل من القاتل ولو كان القصاص سابقا فعفى ولي المقتول استوفي القتل للمحاربة سواء عفى
مطلقا أو إلى الدية وهذا مذهب الشافعي وأما القطع فإذا اجتمع وجوب القطع في يد أو رجل قصاصا
144

وحدا قدم القصاص على الحد المتمحض لله تعالى لما ذكرناه وسواء تقدم سببه أو تأخر، وان عفا ولي
الجناية استوفى الحد فإذا قطع يدا وأخذ المال في المحاربة قطعت يده قصاصا وينتظر برؤه فإذا برأ
قطعت رجله للمحاربة لأنهما حدان وإنما قدم القصاص في القطع دون القتل لأن القطع في المحاربة حد
محض وليس بقصاص والقتل فيهما يتضمن القصاص ولهذا لو فات القتل في المحاربة وجبت الدية ولو
فات القطع لم يجب له بدل، وإذا ثبت أنه تقدم القصاص على القطع في المحاربة فقطع اليد قصاصا فإن
رجله تقطع وهل تقطع يده الأخرى؟ نظرنا فإن كان المقطوع بالقصاص قد كان مستحق القطع بالمحاربة
قبل الجناية الموجبة للقصاص فيه لم يقطع أكثر من العضو الباقي من العضوين اللذين استحق
قطعهما لأن محل القطع ذهب بعارض حادث فلم يجب قطع بدله كما لو ذهب بعدوان أو مرض، وعلى
هذا لو ذهب العضوان جميعا سقط القطع عنه بالكلية، وإن كان سبب القطع قصاصا سابقا على محاربته
أو كان المقطوع غير العضو الذي وجب قطعه في المحاربة مثل ان وجب عليه القصاص في يساره بعد
وجوب قطع يمناه في المحاربة فهل تقطع اليد الأخرى للمحاربة؟ على وجهين بناء على الروايتين في قطع
يسرى السارق بعد قطع يمينه ان قلنا تقطع ثم قطعت ههنا وإلا فلا، وان سرق وأخذ المال في المحاربة قطعت
يده اليمنى لأسبقهما فإن كانت المحاربة سابقة قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا
145

وهل تقطع يسرى يديه للسرقة؟ على الروايتين فإن قلنا تقطع انتظر برؤه من القطع للمحاربة لأنهما
حدان وان كانت السرقة سابقة قطعت يمناه للسرقة ولا تقطع رجله للمحاربة حتى تبرأ يده وهل
تقطع يسرى يديه للمحاربة على وجهين
(فصل) وان سرق وقتل في المحاربة ولم يأخذ المال قتل حتما ولم يصلب ولم تقطع يده لأنهما حدان
فيهما قتل فدخل ما دون القتل فيه ولم يصلب لأن الصلب من تمام حد قاطع الطريق إذا أخذ المال مع
القتل ولم يوجد وهذان حدان كل واحد منهما منفصل عن صاحبه فإذا اجتمعا تداخلا، وان قتل في
المحاربة جماعة قتل بالأول حتما وللباقين ديات أوليائهم لأن قتله استحق بقتل الأول وتحتم بحيث
لا يسقط فتعينت حقوق الباقين في الدية كما لو مات
(فصل) ومن قتل أو أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه ولكن لا يبايع ولا يشارى
حتى يخرج فيقام عليه الحد
وجملة ذلك أن من قتل خارج الحرم ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه، هذا قول ابن عباس وعطاء
وعبيد بن عمير والزهري ومجاهد وإسحاق والشعبي وأبي حنيفة وأصحابه، واما غير القتل من الحدود
كلها والقصاص فيما دون النفس فعن احمد فيه روايتان (إحداهما) لا يستوفى من الملتجئ إلى الحرم
فيه (والثانية) يستوفى وهذا مذهب أبي حنيفة لأن المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القتل بقوله
146

عليه السلام (فلا يسفك فيها دم) وحرمة النفس أعظم فلا يقاس عليها غيرها ولان الحد بالجلد
جرى مجرى التأديب فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده: والأولى ظاهر المذهب وظاهر قول الخرقي،
قال أبو بكر هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه ان الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل والعمل على أن
كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه، وقال مالك والشافعي وابن المنذر يستوفى
منه لعموم الامر بجلد الزاني وقطع السارق واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ان الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بجزية ولا دم) وقد أمر النبي
صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة حديث صحيح ولأنه حيوان أبيح قتله لعصيانه
فأشبه الكلب العقور
ولنا قول الله تعالى (ومن دخله كان آمنا) يعني الحرم بدليل قوله تعالى (فيه آيات بينات
مقام إبراهيم) والخبر أريد به الامر لأنه لو أريد الخبر لافضى إلى وقوع الخبر خلاف المخبر وقال
النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله حرم مكة ولم يحرمها الناس فلا يحل لا مرئ يؤمن بالله واليوم الآخر
ان يسفك فيها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله اذن
لرسوله ولم يأذن لكم وإنما اذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ
الشاهد الغائب) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وإنما أحلت لي
147

ساعة من نهار ثم عادت إلى حرمتها فلا يسفك فيه دم) متفق عليهما، والحجة فيه من وجهين (أحدهما) أنه حرم
سفك الدم بها على الاطلاق وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم فإنه لو أراد سفك الدم الحرام لم تختص
به مكة فلا يكون التخصيص مفيدا (والثاني) قوله (إنما حلت لي ساعة من نهار) ثم عادت حرمتها ومعلوم أنه إنما
أحل له سفك دم حلال في غير الحرم فحرمها الحرم ثم أحلت له ساعة ثم عادت الحرمة ثم أكد هذا
بمنه قياس غيره عليه والاقتداء به بقوله (فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله
أذن لرسوله ولم يأذن لكم) وهذا يدفع ما احتجوا به من قتل ابن خطل فإنه من رخصة رسول الله
صلى الله عليه وسلم التي منع الناس أن يقتدوا به فيها وبين أنها له على الخصوص وما رووه من الحديث فهو من
كلام عمرو بن سعيد الأشدق يرد به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح هذا الحديث
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع، وأما جلد الزاني وقطع السارق والامر بالقصاص فإنما هو
مطلق في الأمكنة والأزمنة فإنه يتناول مكانا غير معين ضرورة أنه لابد من مكان فيمكن إقامته
في مكان غير الحرم ثم لو كان عاما فإنما رويناه خاصا يختص به مع أنه قد خص مما ذكروه الحامل
والمريض المرجو برؤه فتأخر الحد عنه وتأخر قتل الحامل فجاز أن يخص أيضا بما ذكرناه، والقياس
على الكلب العقور لا يصح فإن ذلك طبعه الأذى فلم يحرمه الحرم ليدفع اذاه عن أهله، وأما الآدمي
فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من
148

المأكولات فإن الحرم يعصمها. إذا ثبت هذا فإنه لا يبايع ولا يشارى ولا يطعم ولا يؤوى ويقال له اتق
الله واخرج إلى الحل يستوفى منك الحق الذي قبلك فإذا خرج استوفي حق الله منه وهذا قول
جميع من ذكرناه، وإنما كان كذلك لأنه لو أطعم أو أووي لتمكن من الإقامة دائما فيضيع الحق
الذي عليه وإذا منع من ذلك كان وسيلة إلى خروجه فيقام فيه حق الله تعالى وليس علينا إطعامه
كما أن الصيد لا يصاد في الحرم وليس علينا القيام به، قال ابن عباس رحمه الله من أصاب حدا فلجأ
إلى الحرم فإنه لا يجالس ولا يبايع ولا يؤوى ويأتيه الذي يطلبه فيقول أي فلان اتق الله فإذا خرج
من الحرم أقيم عليه الحد، رواه الأثرم، فإن قتل من له عليه قصاص في الحرم أو أقام حد الجلد أو
قتل أو قطع طرفا أساء ولا شئ عليه لأنه استوفى حقه في حال لم يكن له استيفاؤه فيه فأشبه
ما لو اقتص في حر شديد أو برد مفرط.
(مسألة) (فإن فعل ذلك في الحرم استوفي منه فيه)
وجملة ذلك أن من انتهك حرمة الحرم بجناية فيه توجب حدا أو قصاصا فإنه يقام عليه حدها
لا نعلم فيه خلافا، وقد روى الأثرم باسناده عن ابن عباس أنه قال من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه
ما أحدث فيه من شئ وقد أمر الله تعالى بقتال من قاتل في الحرم فقال تعالى (ولا تقاتلوهم عند
المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) فأباح قتلهم عند قتالهم في الحرم، ولان
149

أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عن ارتكاب المعاصي كغيرهم حفظا لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم
فلو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الحد في الحرم لتعطلت حدود الله تعالى في حقهم وفاتت
هذه المصالح التي لابد منها ولا يجوز الاخلال بها، ولان الجاني في الحرم هاتك لحرمته فلا تنتهض
الحرمة لتحريم دمه وصيانته بمنزلة الجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك بخلاف الملتجئ إليها
لجناية صدرت منه في غيرها.
(فصل) فأما حرم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمنع إقامة حد ولا قصاص، لأن النص إنما ورد
في حرم الله تعالى، وحرم المدينة دونه في الحرمة فلا يصح قياسه عليه وكذلك سائر البقاع لا تمنع من
استيفاء حق ولا إقامة حد، لأن أمر الله تعالى باستيفاء الحقوق وإقامة الحد مطلق في الأمكنة
والأزمنة خرج منها الحرم لمعنى لا يلقى في غيره لأنه محل الانساك وقبلة المسلمين وفيه بيت الله
المحجوج وأول بيت وضع للناس ومقام إبراهيم وآيات بينات فلا يلحق به سواه ولا يقاس عليه لأنه
ليس في معناه والله سبحانه أعلم.
(مسألة) (وان أتى حدا في الغزو لم يستوف منه في أرض العدو حتى يرجع إلى دار
الاسلام فيقام عليه)
وجملة ذلك أن من أتى حدا من الغزاة أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب لم يقم عليه حتى
150

يقفل فيقام عليه حده وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر
يقام الحد في كل موضع، لأن أمر الله تعالى بإقامته مطلق في كل مكان وزمان إلا أن الشافعي قال
إذا لم يكن أمير الجيش الإمام أو أمير إقليم ليس له اقامته يؤخر حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحدود
إليه وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود أو قوة به أو شغل عنه أخر وقال أبو حنيفة لاحد
ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع
ولنا على وجوب الحد أمر الله تعالى ورسوله به وعلى تأخيره ما روى بسر بن أبي أرطأة انه
اتى برجل في الغزاة قد سرق جنيبة فقال لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تقطع الأيدي
في الغزاة) قطعتك أخرجه أبو داود وغيره، ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم فروى سعيد باسناده
عن الأحوص بن حكيم عن أبيه ان عمر كتب إلى الناس ان لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا
رجلا من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار
151

وعن أبي الدرداء، مثل ذلك وعن علقمة قال كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان
وعلينا والوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نحده فقال حذيفة أتحدون أميركم وقد دنوتم من
عدوكم فيطمعوا فيكم؟ وأني سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد
فلما التقى الناس قال أبو محجن.
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا * واترك مشدودا علي وثاقيا
وقال لابنة حفصة امرأة سعد أطلقيني ولك الله علي ان سلمني الله ان ارجع حتى أضع رجلي
في القيد وان قتلت استرحتم مني، قال فحلته حتى التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ
إلى الناس قال وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة فوثب
أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم اخذ رمحا فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم
وجعل الناس يقولون هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول الصبر صبر البلقاء والطعن طعن
152

أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد فأخبرت ابنة
حصفة سعدا بما كان من أمره فقال سعد لا والله لا أضرب اليوم رجلا ابلى الله المسلمين على يديه ما أبلاهم
فخلى سبيله، فقال أبو محجن قد كنت أشربها إذ تقام علي الحد وأطهر منها فأما إذ بهرجتني
فوالله لا أشربها ابدا. وهذا اتفاق لم يظهر خلافه فأما إذا رجع فإنه يقام عليه الحد لعموم الآيات
والاخبار وإنما أخر لعارض كما يؤخر لمرض أو شغل فإذا زال العارض أقيم الحد لوجود مقتضيه
وانتفاء معارضه ولهذا قال عمر حتى يقطع الدرب قافلا
(فصل) وتقام الحدود في الثغور بغير خلاف نعلمه لأنها من بلاد الاسلام والحاجة داعية إلى
زجر أهلها كالحاجة إلى زجر غيرهم، وقد كتب عمر إلى أبي عبيدة أن يجلد من شرب الخمر ثمانين
وهو بالشام وهو من الثغور.
باب حد الزنا
الزنا حرام وهو من الكبائر العظام بدليل قوله تعالى (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة
وساء سبيلا) وقال تعالى (والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق
ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) وعن عبد الله بن مسعود
153

قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب؟ أعظم قال (ان تجعل لله ندا وهو خلقك) قال قلت
ثم أي قال (ان تقتل ولدك مخافة ان يطعم معك) قال قلت ثم أي قال (ان تزاني حليلة جارك)
متفق عليه وكان حد الزاني في صدر الاسلام الحبس في البيت والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر لقوله
سبحانه (واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في
البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فاذوهما فإن تابا وأصلحا
فاعرضوا عنهما ان الله كان توابا رحيما) قال بعض أهل العلم المراد بقوله من نسائكم الثيب لأن قوله من
نسائكم إضافة إلى زوجية كقوله (للذين يؤلون من نسائهم) ولا فائدة في اضافته ههنا نعلمها الا اعتبار
الثيوبة ولأنه قد ذكر عقوبتين
(إحداهما) أغلظ من الأخرى فكانت الأغلظ للثيب والأخرى للبكر كالرجم والجلد ثم
نسخ هذا بما روى عبادة بن الصامت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر
بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) رواه مسلم فإن قيل فكيف ينسخ
القرآن بالسنة؟ قلنا قد ذهب أصحابنا إلى جوازه لأن الكل من عند الله وان اختلفت طريقه ومن
منع ذلك قال ليس هذا نسخا إنما هو تفسير للقرآن وتبيين له لأن النسخ رفع حكم ظاهره الاطلاق
154

فأما ما كان مشروطا بشرط وزال الشرط لا يكون نسخا وههنا شرط الله سبحانه حبسهن إلى أن
يجعل الله لهن سبيلا فبينت السنة السبيل فكان بيانا لا نسخا ويمكن ان يقال إن نسخه حصل بالقرآن
فإن الجلد كان في كتاب الله تعالى والرجم كان فيه فنسخ رسمه وبقي حكمه
(مسألة) (إذا زنى الحر المحصن فحده الرجم حتى يموت وهل يجلد قبل الرجم؟ على روايتين)
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (أحدها) في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلا كان
أو امرأة هذا قول عامة أعمل العلم من الصحابة والتابعين من بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار
ولا نعلم أحدا خالف فيه الا الخوارج فإنهم قالوا الجلد للبكر والثيب لقول الله تعالى (الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وقال لا يجوز ترك كتاب الله تعالى الثابت بالقطع واليقين لاخبار
آحاد يجوز الكذب فيها ولان هذا يفضي إلى نسخ الكتاب بالسنة وهو غير جائز
ولنا انه قد ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله في اخبار تشبه المتواتر واجمع عليه
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما نذكره في أثناء الباب في موضعه إن شاء الله تعالى قد أنزله الله
تعالى في كتابه وإنما نسخ رسمه دون حكمه فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال إن
الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وانزل عليه الكتاب فكان فيما انزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها
ووعيتها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى ان طال بالناس زمان يقول قائل ما نجد الرجم
في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال
155

والنساء إذا قامت به البينة أو كان الحبل أو الاعتراف وقد قرأتها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) متفق عليه وأما آية الجلد فنقول بها فإن الزاني يجب جلده
فإن كان ثيبا رجم مع الجلد والآية لم تتعرض إلى كيفية والى هذا أشار علي رضي الله عنه حين جلد
ثم رجمها جلدتها بكتاب الله ثم رجمتها بسنة رسول الله ثم لو قلنا إن الثيب لا تجلد لكان هذا شراحة
تخصيصا للآية العامة وهذا سائغ بغير خلاف فإن عمومات القرآن في الاثبات كلها مخصصة وقولهم
ان هذ نسخ ليس بصحيح وإنما هو تخصيص ثم لو كان نسخا لكان نسخا بالآية التي ذكرها عمر رضي الله
عنه وقد روينا ان رسل الخوارج جاءوا عمر بن عبد العزيز رحمه الله فكان من جملة ما عابوا عليه
الرجم وقالوا ليس في كتاب الله الا الجلد وقالوا الحائض أوجبتم عليها قضاء الصوم دون الصلاة
والصلاة أوكد فقال لهم عمر وأنتم لا تأخذون الا بما في كتاب الله؟ قالوا نعم قال فأخبروني عن عدد
الصلوات المفروضات وعدد ركعاتها وأركانها وواجباتها أين تجدونه في كتاب الله؟ واخبروني عما
تجب الزكاة فيه ونصبها ومقاديرها؟ قالوا انظرنا فرجعوا يومهم ذلك فلم يجدوا شيئا مما سألهم عنه
في القرآن فقالوا لم نجده في القرآن قال فكيف ذهبتم إليه؟ قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وفعله المسلمون
بعده فقال لهم فكذلك الرجم وقضاء الصوم فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ورجم خلفاؤه بعده والمسلمون
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الصوم دون الصلاة وفعل ذلك نساؤه ونساء أصحابه. إذا ثبت هذا فمعنى
156

الرجم ان يرمى بالحجارة وغيرها حتى يموت بذلك قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن المرجوم يداوم
عليه الرجم حتى يموت ولأن اطلاق الرجم يقتضي القتل به لقوله تعالى (لتكونن من المرجومين) وقد
رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين للذين زنيا وماعزا والغامدية حتى ماتوا
(الفصل الثاني) انه يجلد ثم يرجم في إحدى الروايتين فعل ذلك علي رضي الله عنه وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب وأبو ذر رضي الله عنهم واختاره وذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز عنهم وبه
قال الحسن وداود وابن المنذر
(والرواية الثانية) يرجم ولا يجلد روي عن عمر وعثمان انهما رجما ولم يجلدا وروي عن ابن
مسعود أنه قال إذا اجتمع حدان لله فيهما القتل أحاط القتل بذلك وبهذا قال النخعي والزهري والأوزاعي
ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي واختاره الجوزجاني والأثرم ونصراه في سننهما لأن
جابرا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يجلده ورجم الغامدية ولم يجلدها وقال (واغد
يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) متفق عليه ولم يأمره بجلدها وكان هذا آخر الامرين
من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجب تقديمه، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة انه أول
حديث نزل وان حديث ماعز بعده رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجلده وعمر رجم ولم يجلد ونقل عنه
إسماعيل بن سعيد نحو هذا ولأنه حد فيه قتل فلم يجتمع معه جلد كالردة ولان الحدود إذا اجتمعت
157

وفيها قتل سقط ما سواه فالحد الواحد أولى ووجه الرواية الأولى قوله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا
كل واحد منهما مائه جلدة) وهذا عام ثم جاءت السنة بالرجم في حق الثيب والتغريب في حق البكر
فوجب الجمع بينهما والى هذا أشار علي بقوله جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله وقد صرح
النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث عبادة (والثيب بالثيب الجلد والرجم) وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك
الا بمثله والأحاديث الباقية ليست صريحة فإنه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح
بدليل ان التغريب يجب بذكره في هذا الحديث وليس بمذكور في الآية ولأنه زان فيجلد كالبكر
ولأنه قد شرع في حق البكر عقوبتان الجلد والتغريب فيكون الجلد في مكان التغريب فعلى هذه
الرواية يبدأ بالجلد أولا ثم يرجم فإن والى بينهما جاز لأن اتلافه مقصود فلا تضر الموالاة بينهما وان
جلده يوما ثم رجمه في آخر جاز كما فعل علي رضي الله عنه جلد شراحة يوم الخميس ثم رجمها يوم الجمعة
(الفصل الثالث) ان الرجم لا يجب الا على المحصن باجماع أهل العلم وفي حديث عمران (الرجم حق على من
زني وقد أحصن) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث) ذكر منها (أو زنا بعد احصان)
(مسألة) (والمحصن من وطئ امرأته في قبلها في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران
فإن اختل شرط منها فلا احصان لواحد منهما)
يشترط للاحصان شروط سبعة (أحدها) الوطئ في القبل ولا خلاف في اشتراطه لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (والثيب بالثيب الجلد والرجم) والثيابة تحصل بالوطئ في القبل فوجب اعتباره ولا خلاف في أن النكاح
158

الخالي عن الوطئ لا يحصل به احصان سواء حصلت فيه خلوة أو وطئ فيما دون الفرج أو في الدبر
أو لم يحصل شئ من ذلك لأن هذا لا تصير به المرأة ثيبا ولا تخرج به عن حد الابكار الذين
حدهم جلد مائة وتغريب عام بمقتضى الخبر ولابد أن يكون وطأ حصل به تغييب الحشفة في الفرج
لأن ذلك الوطء الذي تتعلق به أحكامه
(الثاني) أن يكون في نكاح لأن النكاح يسمى احصانا بدليل قوله تعالى (والمحصنات من
النساء) يعني المتزوجات ولا خلاف بين أهل العلم في أن وطئ الزنا ووطئ الشبهة لا يصير به الواطئ
محصنا ولا نعلم خلافا في أن التسري لا يحصل به الاحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح
ولا تثبت فيه أحكامه.
(الثالث) أن يكون النكاح صحيحا وهو قول أكثر أهل العلم منهم عطاء وقتادة ومالك
والشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور يحصل الاحصان بالوطئ في نكاح فاسد، وحكي ذلك عن
الليث والأوزاعي لأن الصحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام من وجوب المهر والعدة وتحريم
الربيبة وأم المرأة ولحاق الولد فكذلك الاحصان
ولنا أنه وطئ في غير ملك فلم يحصل به الاحصان كوطئ الشبهة ولا نسلم ثبوت ما ذكروه من
الأحكام وإنما ثبت بالوطئ فيه وهذه ثبتت في كل وطئ وليست مختصة النكاح الا ان النكاح
ههنا صار شبهة فصار الوطئ فيه كوطئ الشبهة سواء
159

(الرابع) الحرية وهي شرط في قول جميع أهل العلم الا أبا ثور قال: العبد والأمة هما محصنان
يرجمان إذا زنيا الا أن يكون الاجماع يخالف ذلك، وحكي عن الأوزاعي في العبد تحته حرة هو محصن
يرجم إذا زنى، وإن كان تحته أمة لم يرجم وهذه أقوال تخالف النص والاجماع فإن الله تعالى قال
(فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) والرجم لا يتنصف وايجابه كله
يخالف النص مع مخالفة الاجماع المنعقد قبله الا أن يكون إذا عتقا بعد الإصابة فهذا فيه اختلاف
سنذكره إن شاء الله، وقد وافق الأوزاعي على أن العبد إذا وطئ الأمة ثم عتقا لم يصيرا محصنين
وهو قول الجمهور وزاد فقال في المملوكين: إذا عتقا وهما متزوجان ثم وطئها الزوج لا يصيران
محصنين بذلك، وهذا أيضا قول شاذ خالف أهل العلم به فإن الوطئ وجد منهما حال كمالهما
فحصنهما كالصبيين إذا بلغا
(الشرط الخامس والسادس) البلوغ والعقل فلو وطئ وهو صبي أو مجنون ثم بلغ أو عقل
لم يكن محصنا. هذا قول أكثر أهل العلم وقول الشافعي ومن أصحابه من قال يكون محصنا
وكذلك العبد إذا وطئ ثم عتق يصير محصنا لأن هذا وطئ يحصل به الاحلال للمطلق ثلاثا
فحصل به الاحصان كالموجود حال الكمال
ولنا قوله عليه السلام (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) فاعتبر الثيوبة خاصة، ولو كانت
تحصل قبل ذلك لكان يجب عليه الرجم قبل بلوغه وعقله وهو خلاف الاجماع، ويفارق الاحصان
160

الاحلال لأن اعتبار الوطئ في حق المطلق يحتمل أن يكون عقوبة له بتحريمها عليه حتى يطأها غيره
لأن هذا مما تأباه الطباع ويشق على النفوس فاعتبره الشارع زجرا عن الطلاق الثلاث، وهذا يستوي
فيه العاقل والمجنون بخلاف الاحصان فإنه اعتبر لكمال النعمة فإن من كملت النعمة في حقه كانت
جنايته أفحش واحق بزيادة العقوبة والنعمة في العاقل البالغ أكمل
(الشرط السابع) ان يوجد الكمال فيهما جمعا (جميعا) حال الوطئ فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة
عاقلة حرة، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ونحوه قول عطاء والحسن وابن سيرين والنخعي وقتادة
والثوري وإسحاق قالوه في الرقيق، وقال مالك: إذا كان أحدهما كاملا صار محصنا إلا الصبي إذا
وطئ الكبيرة لم يحصنها، ونحوه عن الأوزاعي، واختلف عن الشافعي فقيل له قولان (أحدهما)
كقولنا (والثاني) الكامل يصير محصنا وهو قول ابن المنذر، وذكر ابن أبي موسى نحو ذلك
في الارشاد فقال: إذا وطئ الحر البالغ حرة صغيرة في نكاح صحيح صار محصنا دونها وإذا
وطئ الصبي الحر الصغير الكبيرة صارت محصنة دونه كما أنه لا يجب على الصغير الحد ويجب على الكبير
ولنا انه وطئ لم يحصن أحد المتواطئين فلم يحصن الآخر كالتسري ولأنه متى كان أحدهما
ناقصا لم يكمل الوطئ فلا يحصل به الاحصان كما لو كانا غير كاملين وبهذا فارق ما قاسوا عليه
(مسألة) (ويثبت الاحسان للذميين وهل تحصن الذمية مسلما؟ على روايتين)
161

لا يشترط الاسلام في الاحصان، وبه قال الزهري والشافعي فعلى هذا يكون الذميان محصنين
فإن تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين وفيه رواية أخرى ان الذمية لا تحصن المسلم، وقال
عطاء والنخعي والشعبي ومجاهد والثوري هو شرط في الاحصان فلا يكون الكافر محصنا ولا
تحصن الذمية مسلما لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أشرك بالله فليس بمحصن) ولأنه
احصان من شروطه الحرية فكان الاسلام شرطا فيه كاحصان القذف وقال مالك كقولهم إلا أن
الذمية تحصن المسلم بناء على أصله في أنه لا يعتبر الكمال في الزوجين وينبغي أن يكون ذلك قولا للشافعي
ولنا ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا
له ان رجلا وامرأة زنيا وذكر الحديث فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما متفق عليه ولان الجناية
بالزنا استوت من المسلم والذمي فيجب ان يستويا في الحد، وحديثهم لم يصح ولا نعرفه في مسند
وقيل هو موقوف على ابن عمر ثم يتعين حمله على إحصان القذف جمعا بين الحديثين فإن راويهما
واحد وحديثنا صريح في الرجم فيتعين حمل خبرهم على الاحصان الآخر فإن قالوا إنما رجم رسول
الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين بحكم التوراة بدليل انه راجعها فلما تبين له ان ذلك حكم الله تعالى عليهم اقامه
فيهم وفيها انزل الله سبحانه (انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا
162

للذين هادوا) قلنا إنما حكم عليهم بما أنزل الله عز وجل إليه بدليل قوله تعالى (وأن احكم بينهم
بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) ولأنه لا
يسوغ للنبي صلى الله عليه وسلم الحكم بغير شريعته ولو ساغ ذلك له ساغ لغيره وإنما راجع التوراة لتعريفهم أن
حكم التوراة موافق لما يحكم به عليهم وأنهم تاركون شريعتهم مخالفون لحكمهم ثم هذا حجة لنا
فإن حكم الله في وجوب الرجم إن كان ثابتا في حقهم يجب أن يحكم به عليهم فقد ثبت وجود
الاحصان فيهم فإنه لا معنى له سوى وجوب الرجم على من زنى منهم بعد وجود شروط الاحصان فيه
وإن منعوا ثبوت الحكم في حقهم فلم حكم به النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولا يصح القياس على احصان القذف لأن
من شرطه العفة وليست شرطا ههنا
(مسألة) (وإن كان لرجل ولد من امرأة فقال ما وطئتها لم يثبت احصانه ولا يرجم إذا زنى)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يرجم لأن الولد لا يكون إلا من وطئ فقد حكم بالوطئ
ضرورة الحكم بالولد.
ولنا ان الولد يلحق بامكان الوطئ واحتماله والاحصان لا يثبت الا بحقيقة الوطئ فلا يلزم
من ثبوت ما يكتفى فيه بالامكان وجود ما يعتبر فيه الحقيقة وهو أحق الناس بهذا فإنه قال لو
تزوج امرأة بحضرة الحاكم في مجلسه ثم طلقها فيه فأتت بولد لحقه مع العلم بأنه لم يطأها في الزوجية
163

فكيف يحكم بحقيقة الوطئ مع تحقق انتفائه؟ وهكذا لو كان لامرأة ولد من زوج فأنكرت أن يكون
وطئها لم يثبت احصانها لذلك
(فصل) ولو شهدت بينة الاحصان أنه دخل بزوجته فقال أصحابنا يثبت الاحصان به لأن المفهوم
من لفظ الدخول كالمفهوم من لفظ المجامعة (وقول) محمد بن الحسن لا يكتفى به حتى تقول جامعها أو
باضعها أو نحوها لأن الدخول يطلق على الخلوة بها ولهذا تثبت بها أحكامه قال شيخنا وهذا أصح
القولين إن شاء الله تعالى، أما إذا قالت جامعها أو باضعها أو نحوه فلا نعلم خلافا في ثبوت الاحصان
وكذلك ينبغي إذا قالت وطئها وان قالت باشرها أو مسها أو أصابها أو أتاها فينبغي ان لا يثبت به
الاحصان لأن هذا يستعمل فيما دون الجماع في الفرج كثيرا فلا يثبت به الاحصان الذي يندرئ بالاحتمال
(فصل) وإذا جلد الزاني على أنه بكر ثم بان محصنا رجم لما روى جابر أن رجلا زنى بامرأة فأمر به
رسول الله صلى الله عليه وسلم به فجلد الحد ثم أخبر أنه محصن فرجم رواه أبو داود، ولأنه ان وجب الجمع بينهما
فقد أتى ببعض الواجب فيجب اتمامه وان لم يجب الجمع بينهما تبين أنه لم يأت بالحد الواجب
(فصل) وإذا رجم الزانيان غسلا وصلي عليهما ودفنا إذا كانا مسلمين، اما غسلهما ودفنهما فلا
خلاف فيه بين أهل العلم، وأكثر أهل العلم يرون الصلاة عليهما قال الإمام أحمد سئل علي عن شراحة
وكان رجمها فقال اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم وصلى علي عليها وقال مالك من قتله الإمام في حد فلا
164

يصلى عليه لأن جابرا قال في حديث ماعز فرجم حتى مات فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا ولم يصل عليه
متفق عليه، ووجه الأول ما روى أبو داود باسناده عن عمران بن الحصين في حديث الجهنية فأمر
بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها فقال عمر يا رسول الله تصلي عليها وقد زنت؟ فقال والذي
نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن
جادت بنفسها؟) ورواه الترمذي وفيه فرجمت وصلي عليها وقال حديث حسن صحيح وقال النبي صلى الله عليه وسلم
(صلوا على من قال لا إله إلا الله) ولأنه مسلم لو مات قبل الحد صلي عليه فصلي عليه بعده كالسارق
واما حديث ماعز فيحتمل ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضره أو اشتغل عنه بأمر أو غير ذلك فلا يعارض ما رويناه
(مسألة) (وان زنى الحر غير المحصن جلد مائة وغرب عاما إلى مسافة القصر وإن كان ثيبا)
ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصنا وقد جاء بيان ذلك في كتاب الله تعالى
بقوله سبحانه وتعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وجاءت لأحاديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لما جاء به الكتاب، ويجب مع الجلد تغريبه عاما في قول الجمهور روي ذلك عن
الخلفاء الراشدين وعن أبي وأبي ذر وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم واليه ذهب عطاء وطاوس
وابن أبي ليلى والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك والأوزاعي يغرب الرجل دون المرأة لأن المرأة
تحتاج إلى حفظ وصيانة ولأنها لا تخلو من التغريب بمحرم أو بغير محرم: لا يجوز بغير محرم لقول رسول الله
165

صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم) ولان
تغريبها بغير محرم اغراء لها بالفجور وتضييع لها وان غربت بمحرم افضى إلى تغريب من ليس بزان
ونفي من لاذنب له وان كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به كما لو زاد ذلك
على الرجل، والخبر الخاص في التغريب إنما هو في حق الرجل وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم والعام
يجوز تخصيصه لأنه يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه فإنه دل بمفهومه على أنه ليس على الزاني أكثر
من العقوبة المذكورة فيه وايجاب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك وفوات حكمه لأن الحد
وجب زجرا عن الزيادة وفي تغريبها اغراء به وتمكين منه مع أنه قد يخصص في حق الثيب باسقاط
الجلد في قول الأكثرين فتخصيصه ههنا أولى قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا يجب التغريب لأن
عليا رضي الله عنه قال حسبهما من الفتنة ان ينفيا وعن ابن المسيب ان عمر غرب ربيعة بن أمية بن خلف
في الخر إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا اغرب مسلما بعد هذا ابدا ولان الله تعالى أمر
بالجلد دون التغريب فايجاب التغريب زيادة على النص
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) وروى أبو هريرة وزيد بن
خالد ان رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما ان ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته
وانني افتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت رجالا من أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب
166

عام والرجم على امرأة هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: على ابنك
جلد مائة وتغريب عام) وجلد ابنه وغربه عاما وأمر أنيسا الأسلمي يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت
رجمها فاعترفت فرجمها متفق عليه وفي الحديث فسألت رجالا من أهل العلم فقالوا إنما على ابنك
جلد مائة وتغريب عام، وهذا يدل على أن هذا كان مشهورا عندهم من حكم الله وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم
وقد قيل إن الذي قال لهم هذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولان التغريب فعله الخلفاء الراشدون
ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف فكان اجماعا، ولان الخبر يدل على عقوبتين في حق الثيب فكذلك
في حق البكر وما رووه عن علي لا يثبت لضعف رواية وإرساله وقول عمر لا اغرب بعده مسلما
فلعله أراد تغريبه في الخمر الذي أصابت الفتنة ربيعة فيه. قال شيخنا وقول مالك يخالف عموم الخبر
والقياس لأن ما كان حدا في الرجل يكون حدا في المرأة كسائر الحدود، وقال مالك فيما يقع لي أصح
الأقوال وأعدلها، وعموم الخبر مخصوص بخبر النهي عن سفر المرأة بغير محرم، والقياس على سائر
الحدود لا يصح لأنه يستوى الرجل والمرأة في الضرر الحاصل بها بخلاف هذا الحد ويمكن قلب هذا
القياس بأنه حد فلا تزاد فيه المرأة على ما على الرجل كسائر الحدود
(فصل) ويغرب البكر الزاني حولا فإن عاد قبل مضي الحول أعيد تغريبه حتى يكمل الحول
مسافرا ويبني على ما مضى، ويغرب الرجل إلى مسافة القصر لأن ما دونها في حكم الحضر بدليل انه
لا يثبت في حقه أحكام المسافرين ولا يستبيح شيئا من رخصهم
167

(مسألة) (وعنه ان المرأة تنفى إلى دون مسافة القصر)
وقيل عنه ان خرج معها محرمها نفيت إلى مسافة القصر وان لم يخرج معها محرمها فنقل عن أحمد
ان المرأة تغرب إلى مسافة القصر كالرجل وهذا مذهب الشافعي وروي عنه أنها تغرب إلى دون
مسافة القصر لتقرب من أهلها فيحفظوها، ويحتمل كلام احمد ان لا يشترط في التغريب مسافة القصر
فيهما فإنه قال في رواية الأثرم ينفى من عمله إلى عمل غيره وقال أبو ثور وابن المنذر لو نفى من قرية
إلى قرية أخرى بينهما ميل أو أقل جاز وقال إسحاق يجوز من مصر إلى مصر ونحوه قال ابن أبي
ليلى لأن النفي ورد مطلقا غير مقدر فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم، والقصر يسمى سفرا تجوز فيه
صلاة النافلة على الراحة ولا يحبس في البلد الذي نفى إليه وبهذا قال الشافعي وقال مالك يحبس
ولنا أنها زيادة لم يرد بها الشرع فلم تشرع كالزيادة على العام
(فصل) وإن زنى الغريب غرب إلى بلد غير وطنه وان زنى في البلد الذي غرب إليه غرب منه
إلى غير البلد الذي غرب منه لأن الامر بالتغريب حيث كان لأنه قد انس بالبلد الذي يسكنه (فيبعد) عنه
(مسألة) (ويخرج مع المرأة محرمها ليسكنها في موضع ثم إن شاء رجع إذا أمن عليها وان شاء
أقام معها حتى يكمل حولها، وإن أبى الخروج معها بذلت له الأجرة)
قال أصحابنا: وتبذل من مالها لأن هذا من مؤونة سفرها ويحتمل ان لا يجب ذلك عليها لأن
الواجب عليها التغريب بنفسها فلم يلزمها زيادة عليه كالرجل ولان هذا من مؤونة إقامة الحد فلم
يلزمها كأجرة الجلاد. فعلى هذا تبذل الأجرة من بيت المال وعلى قول أصحابنا إن لم يكن لها مال بذلت
168

من بيت المال فإن أبى محرمها الخروج معها لم يجبر، وإن لم يكن لها محرم غربت مع نساء ثقات
والقول في أجرة من يسافر معها منهن كالقول في أجرة المحرم فإن أعوز فقال أحمد تنفى بغير محرم
وهو قول الشافعي لأنه لا سبيل إلى تأخيره فأشبه سفر الهجرة والحج إذا مات المحرم في الطريق،
ويحتمل ان يسقط النفي إذا لم تجد محرما كما يسقط سفر الحج إذا لم يكن لها محرم فإن تغريبها على
هذه الحال اغراء لها بالفجور وتعريض لها للفتنة وعموم الحديث مخصوص بعوم النهي عن سفرها بغير محرم
(فصل) ويجب ان يحضر الحد طائفة من المؤمنين لقول الله تعالى (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)
قال أصحابنا: والطائفة واحد فما فوقه وهذا قول ابن عباس ومجاهد، والظاهر أنهم أرادوا واحدا مع
الذي يقيم الحد لأن الذي يقيم الحد حاصل ضرورة فيتعين صرف الامر إلى غيره، وقال عطاء
وإسحاق اثنان فإن أراد به واحدا مع الذي يقيم الحد فهو كالقول الأول وإن أراد اثنين غيره
فوجهه ان الطائفة اسم لما زاد على الواحد وأقله اثنان، وقال الزهري ثلاثة لأن الطائفة جماعة وأقل
الجمع ثلاثة، وقال مالك أربعة لأنه العدد الذي يثبت به الزنا وللشافعي قولان كقولي الزهري
ومالك، وقال ربيعة خمسة وقال الحسن عشرة وقال قتادة نفر واحتج أصحابنا بقول ابن عباس فإن
اسم الطائفة يقع على الواحد بدليل قول الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا - ثم قال -
فأصلحوا بين أخويكم) وقيل في قوله تعالى (ان نعف عن طائفة منكم) إنه محش بن حمير وحده ولا يجب
169

أن يحضر الإمام ولا الشهود وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وقال أبو حنيفة ان ثبت الحد ببينة
فعليها الحضور والبداءة بالرجم، وإن ثبت باعتراف وجب على الإمام الحضور والبداءة بالرجم لما روي
عن علي رضي الله عنه أنه قال: الرجم رجمان فما كان منه باقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس
وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس رواه سعيد باسناده ولأنه إذا لم يحضر البينة ولا الإمام
كان في ذلك شبهة والحد يسقط بالشبهات
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضرهما والحد ثبت باعترافهما وقال (يا أنيس
اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يحضرها ولأنه حد فلم يلزم ان يحضره الإمام ولا
البينة كسائر الحدود ولا نسلم ان تخلفهم عن الحضور ولا امتناعهم من البداءة بالرجم شبهة، وأما
قول علي رضي الله عنه فهو على سبيل الاستحباب والفضيلة قال أحمد: سنة الاعتراف ان يرجم
الإمام ثم الناس ولا نعلم خلافا في استحباب ذلك والأصل فيه قول علي، وقد روي في حديث
رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال
(ارموا واتقوا الوجه) رواه أبو داود
(مسألة) (وإن كان الزاني رقيقا فحده خمسون جلدة بكل حال ولا يغرب)
حد العبد والأمة خمسون جلدة بكرين كانا أو ثيبين في قول أكثر العلماء منهم
170

عمر وعلي وابن مسعود والحسن والنخعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي والبتي والعنبري
وقال ابن عباس وأبو عبيد إن كانا مزوجين فعليهما نصف الحد ولا حد على غيرهما لقول الله تعالى
(فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) فيدل بخطابه على أنه
لا حد على غير المحصنات، وقال داود، على الأمة نصف الحد إذا زنت بعد ما زوجت، وعلى العبد
جلد مائة بكل حال وفي الأمة إذا لم تتزوج روايتان (إحداهما) لا حد عليها (والأخرى) تجلد
مائة لأن قول الله تعالى (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) عام خرجت منه الأمة المحصنة بقوله
(فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) فيبقى العبد والأمة التي
لم تحصن على مقتضى العموم، ويحتمل دليل الامر في الخطاب ان لا حد عليها كقول ابن عباس
وقال أبو ثور: إذا لم يحصنا بالتزويج فعليهما نصف الحد، وإن أحصنا فعليهما الرجم لعموم الاخبار
فيه ولأنه حد لا يتبعض فوجب تكميله كالقطع في السرقة
ولنا ما روى ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله وزيد بن خالد قالوا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال (إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن
زنت فبيعوها ولو بضفير) متفق عليه قال ابن شهاب: وهذا نص في جلد الأمة إذا لم تحصن وهو حجة على
ابن عباس وموافقيه وداود وجعل داود عليها مائة إذا لم تحصن وخمسين إذا كانت محصنة خلاف
171

ما شرع الله تعالى فإن الله تعالى ضاعف عقوبة المحصنة على غيرها فجعل الرجم على المحصنة والجلد
على الكبر وداود ضاعف عقوبة البكر على المحصنة واتباع شرع الله تعالى أولى، واما دليل الخطاب
فقد روي عن ابن مسعود أنه قال احصانها اسلامها وقرأها بفتح الألف ثم دليل الخطاب إنما يكون
دليلا إذا لم تكن (للتخصيص) بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم، ومتى كانت له فائدة أخرى لم يكن
دليلا مثل ان يخرج مخرج الغالب أو للتنبيه أو لمعنى من المعاني ولهذا قال الله تعالى (وربائبكم اللاتي
في حجوركم) ولم يختص التحريم باللائي في حجورهم وقال (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)
وحرم حلائل الأبناء من الرضاع وأبناء الأبناء وقال (ليس عليكم ان تقصروا من الصلاة ان يفتنكم
الذين كفروا) وأبيح القصر بدون الخوف، وأما العبد فلا فرق بينه وبين الأمة فالتنصيص على
أحدهما يثبت حكمه في حق الآخر كما أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد ثبت حكمه
في حق الأمة) ثم المنطوق أولى منه على كل حال، واما أبو ثور فخالف نص قوله تعالى (فإذا أحصن
فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وعمل به فيما لم يتناوله النص وخرق
الاجماع في ايجاب الرجم على المحصنات كما خرق داود الاجماع في تكميل الجلد على العبد وتضعيف
حد الابكار على المحصنات
(فصل) ولا تغريب على عبد ولا أمة وبهذا قال الحسن وحماد ومالك وإسحاق وقال الثوري
172

وأبو ثور يغرب نصف عام لقوله تعالى (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وجلد بن عمر
مملوكا ونفاه إلى فدك، وعن الشافعي قولان، واحتج من أوجبه بعموم قوله عليه السلام (البكر
بالبكر جلد مائة وتغريب عام)
ولنا الحديث المذكور في حجتنا ولم يذكر فيه تغريبا ولو كان واجبا لذكره لأنه لا يجوز تأخير
البيان عن وقت الحاجة، وحديث علي رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن
ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني ان اجلدها فذكر الحديث رواه أبو داود ولم
يذكر انه غربها واما الآية فإنها حجة لنا فإن العذاب المذكور في القرآن مائة جلدة لا غير فينصرف
التنصيف إليه دون غيره بدليل انه لم ينصرف إلى تنصيف الرجم ولان التغريب في حق العبد عقوبة
لسيده دونه فلم يجب في الزنا كالتغريم ثم بيان ذلك أن العبد لا ضرر عليه في تغريبه لأنه غريب
في موضعه ويترفه بتغريبه من الخدمة ويتضرر سيده بتفويت خدمته والخطر بخروجه من تحت
يده والكلفة في حفظه والانفاق عليه مع بعده عنه فيصير الحد مشروعا في حق غير الزاني
والضرر على غير الجاني وما فعل ابن عمر ففي حق نفسه واسقاط حقه وله فعل ذلك من غير زنا ولا
جناية فلا يكون حجة في حق غيره
(فصل) إذا زنى العبد ثم عتق فعليه حد الرقيق لأنه إنما يقام عليه الحد الذي وجب عليه ولو زنى
173

حر ذمي ثم لحق بدار الحرب ثم سبي فاسترق حد حد الأحرار لأنه وجب عليه وهو حر، ولو كان أحد الزانيين
رقيقا والآخر حرا فعلى كل واحد منهما حده لأن كل واحد منهما إنما تلزمه عقوبة جنايته، ولو زني بعد العتق
وقبل العلم به فعليه حد الأحرار لأنه زنى وهو حر وان أقيم عليه حد الرقيق قبل العلم بحريته ثم علمت
بعد تمم عليه حد الأحرار وان عفى السيد عن عبده لم يسقط عنه الحد في قول عامة أهل العلم إلا
الحسن فإنه قال يصح عفوه وليس بصحيح لأنه حق لله تعالى فلا يسقط باسقاط سيده كالعبادات
وكالحر إذا عفا عنه الإمام
(فصل) فإن فجر بأمة ثم قتلها فعليه الحد وقيمتها وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور وقال
أبو يوسف إذا وجبت عليه قيمتها أسقطت الحد عنه لأنه يملكها بغرامته إياها فيكون ذلك
شبهة في سقوط الحد
ولنا ان الحد وجب عليه فلم يسقط بقتل المزني بها كما لو كانت حرة فغرم ديتها وقوله إنه يملكها
غير صحيح لأنه إنما غرمها بعد قتلها ولم يبق محلا للملك ثم لو ثبت أنه ملكها فإنما ملكها بعد وجوب
الحد فلم يسقط عنه كما لو اشتراها
(مسألة) (وإن كان نصفه حرا فحده خمس وسبعون جلدة ويغرب نصف عام ويحتمل ان لا يغرب
اما الرجم فلا يجب عليه وإن كان محصنا)
لأن الحرية لم تكمل فيه وعليه نصف حد الحر خمسون جلدة ونصف حد العبد خمس وعشرون
174

فيكون عليه خمس وسبعون جلدة ويغرب نصف عام نص عليه أحمد ويحتمل ان لا يغرب لأن حق السيد في
جميعه في كل الزمان ونصيبه من العبد لا تغريب عليه فلا يلزمه ترك حقه في بعض الزمان بما لا يلزمه ولا تأخير حقه
بالمهايأة من غير رضاه، وان قلنا بوجوب تغريبه فينبغي أن يكون زمن التغريب محسوبا على العبد من نصيبه الحر
وللسيد نصف عام بدلا عنه وما زاد عن الحرية أو نقص عنها فبحساب ذلك، فإن كان فيها كسر مثل أن يكون
ثلثه حرا فيلزم بمقتضى ما ذكرنا ان يلزمه ثلثا حد الحر وهو ست وستون جلدة وثلثان فينبغي ان يسقط
الكسر لأن الحد متى دار بين الوجوب والاسقاط سقط، والمدبر والمكاتب وأم الولد بمنزلة القن في
الحد لأنه رقيق كله وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم)
(مسألة) (وحد اللوطي كحد الزاني سواء وعنه حده الرجم بكل حال)
أجمع أهل العلم على تحريم اللواط وقد ذمه الله تعالى في كتابه وعاب من فعله وذمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم
لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لعن الله
من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط) واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في حده
فروي عنه ان حده الرجم بكرا كان أو ثيبا وهذا قول علي وابن عباس وجابر بن زيد وعبيد الله
ابن معمر والزهري وأبى حبيب وربيعة ومالك وإسحاق وأحد قولي الشافعي (والرواية الثانية)
175

ان حده حد الزنا وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والنخعي وقتادة والأوزاعي وأبو يوسف
ومحمد ابن الحسن وهو المشهور من قولي الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أتى الرجل الرجل فهما
زانيان) ولأنه ايلاج في فرج آدمي لا ملك له فيه ولا شبهة ملك فكان زنا كالايلاج في فرج المرأة.
إذا ثبت كونه زنا دخل في عموم الآية والاخبار فيه لأنه فاحشة فكان زنا كالفاحشة بين الرجل
والمرأة وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق اللوطي وهو قول ابن الزبير لما
روى صفوان بن سليم عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة
فكتب إلى أبي بكر فاستشار أبو بكر الصحابة فيه فكان علي أشدهم قولا فيه فقال ما فعل هذا إلا
أمة من الأمم واحدة وقد علمتم ما فعل الله بها أرى ان يحرق بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد فحرقه
وقال الحكم وأبو حنيفة لا حد عليه لأنه ليس بمحل للوطئ أشبه غير الفرج ووجه الرواية الأولى قول
النبي صلى الله عليه وسلم (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) رواه أبو داود وفي لفظ
فارجموا الاعلى والأسفل ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أجمعوا على قتله وإنما اختلفوا في
صفته واحتج أحمد بعلي رضي الله عنه أنه كان يرى رجمه ولان الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم
فينبغي ان يعاقب من فعل فعلهم بمثل عقوبتهم وقول من أسقط الحد عنه يخالف النص والاجماع
وقياس الفرج على غيره لا يصح لما بينهما من الفرق. إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكون في مملوك له
176

أو أجنبي لأن الذكر ليس بمحل لوطئ الذكر فلا يؤثر ملكه له، ولو وطئ زوجته أو مملوكته في
دبرها كان محرما ولا حد فيه لأن المرأة محل للوطئ في الجملة وقد ذهب بعض العلماء إلى حله فكان
ذلك شبهة مانعة من الحد بخلاف التلوط
(مسألة) (ومن أتى بهيمة فحده حد اللوطي عند القاضي واختار الخرقي وأبو بكر أنه يعزر وتقتل البهيمة)
اختلفت الرواية عن أحمد في الذي يأتي البهيمة فروي عنه أنه يعزر ولا حد عليه اختاره الخرقي وأبو بكر
وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء والشعبي والنخعي والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي وإسحاق وهو
قول الشافعي (والرواية الثانية) حكمه حكم اللائط سواء، وقال الحسن حده حد الزاني وعن أبي سلمة بن عبد
الرحمن يقتل هو والبهيمة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) رواه أبو داود. ووجه
الرواية الأولى أنه لم يصح فيه نص ولا يمكن قياسه على الوطئ في فرج الآدمي لأنه لا حرمة لها وليس
بمقصود يحتاج في الزجر عنه إلى الحد فإن النفوس تعافه وعامتها تنفر منه فيبقى على الأصل في انتفاء
الحد والحديث يرويه عمر وبن أبي عمر ولم يثبته احمد وقال الطحاوي هو ضعيف ومذهب ابن عباس
خلافه وهو الذي روى عنه قال أبو داود هذا يضعف الحديث عنه قال إسماعيل بن سعيد سألت
177

أحمد عن الرجل يأتي البهيمة فوقف عندها ولم يثبت حديث عمرو بن أبي عمرو في ذلك ولان الحد
يدرأ بالشبهات فلا يجوز ان يثبت بحديث فيه هذه الشبهة والضعف لكنه يعزر ويبالغ في تعزيره
لأنه وطئ في فرج محرم لا شبهة له فيه لم يوجب الحد فأوجب التعزير كوطئ الميتة
(فصل) وتقتل البهيمة وهذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وأحد قولي الشافعي وسواء كانت
مملوكة له أو لغيره مأكولة أو غير مأكولة، وذكر ابن أبي موسى في الارشاد في وجوب قتلها روايتين
وقال أبو بكر الاختيار قتلها وان تركت فلا بأس، وقال الطحاوي ان كانت مأكولة ذبحت وإلا لم
تقتل وهذا القول الثاني للشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة. ووجه الأول
الحديث المذكور وفيه الامر بقتل البهيمة فلم يفرق بين كونها مأكولة وغير مأكولة ولا بين ملكه
وملك غيره، فإن قيل الحديث ضعيف ولم يعملوا به في قتل الفاعل الجاني ففي حق حيوان لا جناية
منه أولى، قلنا إنما لم يعمل به في قتل الفاعل على إحدى الروايتين لوجهين (أحدهما) لأنه حد والحد
يدرأ بالشبهات وهذا اتلاف مال فلا تؤثر الشبهة فيه (الثاني) أنه اتلاف آدمي وهو أعظم المخلوقات
حرمة فلم يجز التهجم على اتلافه إلا بدليل في غاية القوة ولا يلزم مثل هذا في اتلاف مال ولا حيوان
سواه، فعلى هذا إن كان الحيوان للفاعل ذهبت هدرا وإن كان لغيره فعلى الفاعل غرامته لأنه سبب
اتلافه فيضمنه كما لو نصب له شبكة فتلف بها
178

(مسألة) (وكره احمد أكل لحمها وهل يحرم؟ على وجهين)
وللشافعي أيضا في ذلك وجهان (أحدهما) يحل أكلها لقول الله تعالى (أحلت لكم بهيمة الأنعام)
ولأنه حيوان ذبحه من هو أهل للذكاة يجوز اكله فأشبه ما لو لم يفعل به هذا الفعل ولكن يكره أكله
لشبهة التحريم (والثاني) لا يحل أكلها لما روي عن ابن عباس أنه قيل له ما شأن البهيمة؟ قال ما أراه
قال ذلك إلا أنه كره أكلها وقد فعل بها هذا الفعل، ولأنه حيوان يجب قتله لحق الله تعالى فلم يجز
أكله كسائر المقتولات، واختلف في علة قتلها فقيل إنما قتلت لئلا يعير فاعلها ويذكر برؤيتها وقد
روى ابن بطة باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة)
قالوا يا رسول الله ما بال البهيمة. قال (لا يقال هذه وهذه) وقيل لئلا تلد خلقا مشوها وقيل لئلا
تؤكل واليه أشار ابن عباس في تعليله ولا يجب قتلها حتى يثبت هذا العمل بها ببينة فاما ان أقر الفاعل
فإن كانت البهيمة له ثبت باقراره وان كانت لغيره لم يجز قتلها بقوله لأنه اقرار على ملك غيره فلم يقبل
كما لو أقر بها لغير مالكها وهل يثبت هذا بشاهدين عدلين واقرار مرة ويعتبر فيه ما يعتبر في الزنا
على وجهين نذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ولا يجب الحد إلا بشروط ثلاثة (أحدها) أن يطأ
في الفرج قبلا أو دبرا).
179

لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطئ امرأة في قبلها حراما لا شبهة له في وطئها أنه يجب عليه
حد الزنا إذا كملت شروطه والوطئ في الدبر مثله في كونه زنا لأنه وطئ في فرج امرأة لا ملك له
ولا شبهة ملك فكان زنا كالوطئ في القبل، ولان الله تعالى قال (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم)
الآية ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جعل لهن سبيلا (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) والوطئ في الدبر
فاحشة لقول الله تعالى في قوم لوط (أتأتون الفاحشة؟) يعني الوطئ في ادبار الرجال ويقال أول ما بدأ
قوم لوط بوطئ النساء في أدبارهن ثم صاروا إلى ذلك في الرجال
(مسألة) (وأقل ذلك تغييب الحشفة في الفرج) لأن أحكام الوطئ تتعلق به ولا تتعلق بما دونه
(مسألة) (وان وطئ دون الفرج فلا حد عليه)
لما روى ابن مسعود أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني وجدت امرأة في البستان فأصبت
منها كل شئ غير أني لم أنكحها فافعل بي ما شئت فقرأ عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل
ان الحسنات يذهبن السيئات) الآية رواه النسائي وعليه التعزير لأنه معصية ليس فيها حد ولا
كفارة فأشبه ضرب الناس والتعدي عليهم وظاهر الحديث يدل على أنه لا تعزير عليه إذا جاء
تائبا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ويفارق ضرب الناس والتعدي عليهم لأنه حق آدمي
180

(مسألة) (وان أتت المرأة المرأة فلا حد عليهما)
إذا تدالكت امرأتان فهما ملعونتان لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أتت المرأة المرأة فهما
زانيتان) ولاحد عليهما لأن لا يتضمن إيلاجا فأشبه المباشرة دون الفرج وعليهما التعزير لأنه زنا
لا حد فيه فأشبه مباشرة الرجل المرأة من غير جماع.
(فصل) ولو وجد رجل مع امرأة يقبل كل واحد منهما صاحبه ولم يعلم هل وطئها أولا فلا
حد عليهما، فإن قالا نحن زوجان واتفقا على ذلك فالقول قولهما، وبه قال الحكم وحماد والشافعي
وأصحاب الرأي، فإن شهد عليهما بالزنا فقالا نحن زوجان فقيل عليهما الحد ان لم تكن بينة بالنكاح
وبه قال أبو ثور وابن المنذر لأن الشهادة بالزنا تنفى كونهما زوجين فلا تبطل بمجرد قولهما ويحتمل
ان لا يجب الحد إذا لم يعلم كونها أجنبية منه لأن ما ادعياه محتمل فيكون ذلك شبهة كما لو شهد عليه
بالسرقة فادعى أن المسروق ملكه.
(فصل) الثاني انتفاء الشبهة فإن وطئ (جارية) ولده أو جارية له فيها شرك أو لولده فلا حد عليه،
وجملة ذلك أن من وطئ جارية ولده فإنه لا حد عليه في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأهل
المدينة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور وابن المنذر عليه الحد إلا أن يمنع منه
اجماع لأنه وطئ في غير ملك أشبه وطئ جارية أبيه
181

ولنا انه وطئ تمكنت الشبهة منه فلا يجب به الحد كوطئ الأمة المشتركة، والدليل على تمكن
الشبهة قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) فأضاف مال ولده إليه وجعله له فإذا لم تثبت حقيقة
الملك فلا أقل من جعله شبهة دارئة للحد الذي يندرئ بالشبهات ولان القائلين بانتفاء الحد في عصر
مالك والأوزاعي ومن وافقهما قد اشتهر قولهم ولم يعرف لهم مخالف فكان ذلك إجماعا وكذلك
إن كان لولده فيها شرك لما ذكرنا ولا حد على الجارية لأن الحد انتفى عن الواطئ لشبهة الملك
فينتفي عن الموطوءة كوطئ الجارية المشتركة ولان الملك من قبيل المتضايفات إذا ثبت في أحد المتضايفين
ثبت في الآخر فكذلك شبهته ولا يصح القياس على وطئ جارية الأب لأنه لا ملك للولد فيها ولا
شبهة ملك بخلاف مسئلتنا وحكي عن ابن أبي موسى قول في وطئ جارية الأب والام انه لا يحد
لأنه لا يقطع بسرقة ماله أشبه الأب والأول أصح وعليه عامة أهل العلم فيما علمنا
(فصل) ولا يجب الحد بوطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره وبه قال مالك والشافعي وأصحاب
الرأي وقال أبو ثور يجب. ولنا انه فرج له فيه ملك فلا يجد بوطئه كالمكاتبة والمرهونة
(مسألة) (أو وجد امرأة نائمة على فراشه ظنها امرأته أو جاريته، أو (دعا) الضرير امرأته
أو جاريته فأجابه غيرها فوطئها فلا حد عليه)
182

وجملة ذلك أن من زفت إليه غير زوجته وقيل له هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد
عليه لا نعلم فيه خلافا. وان لم يقل له هذه زوجتك أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته أو
جاريته فوطئها أو دعا زوجته فجاءته غيرها فوطئها يظنها المدعوة أو اشتبه عليه ذلك لعماه يعتقدها
زوجته فلا حد عليه وبه قال الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة ان عليه الحد لأنه وطئ في محل لا ملك له فيه
ولنا انه وطئ اعتقد إباحته بما تعذر مثله فيه فأشبه ما لو قيل له هذه زوجتك ولان الحدود
تدرأ بالشبهات وهذه من أعظمها، فأما ان دعا محرمة عليه فأجابه غيرها فوطئها يظنها المدعوة
فعليه الحد سواء كانت المدعوة ممن له شبهة كالجارية المشتركة أو لم يكن لأنه لا يعذر بهذا فأشبه ما لو
قتل رجلا يظنه ابنه فبان أجنبيا.
(مسألة) (أو وطئ في نكاح مختلف في صحته أو وطئ امرأته في دبرها أو حيضها أو نفاسها)
لا يجب الحد بالوطئ في نكاح مختلف في صحته كنكاح المتعة والشغار والنكاح بلا ولي والتحليل
والنكاح بغير شهود ونكاح الأخت في عدة أختها والخامسة في عدة الرابعة والبائن: ونكاح
المجوسية وهذا قول أكثر أهل العلم لأن الاختلاف في إباحة الوطئ فيه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات
وحكي عن ابن حامد وجوب الحد بالوطئ في النكاح بلا ولي والمذهب الأول قال ابن المنذر أجمع
183

كل من نحفظ عنه من أهل العلم ان الحدود تدرأ بالشبهات وكذلك ان وطئ امرأته في دبرها أو
جاريته فهو محرم ولا يجب به الحد لأن المرأة محل للوطئ في الجملة، وقد ذهب بعض العلماء إلى
حله فكان ذلك شبهة مانعة من الحد والوطئ في الحيض والنفاس صادف ملكا فكان شبهة
(مسألة) (ولا حد على من لم يعلم بتحريم الزنا)
قال عمر وعلي وعثمان لا حد إلا على من علمه وهو قول عامة أهل العلم فإن ادعى الجهل بالتحريم
وكان يحتمل ان يجهله كحديث العهد بالاسلام والناشئ ببادية قبل منه لأنه يجوز أن يكون صادقا
وإن كان ممن لا يخفى عليه ذلك كالمسلم الناشئ بين المسلمين وأهل العلم لم يقبل لأن تحريم الزنا لا يخفى
على من هو كذلك فقد علم كذبه فإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله لأن عمر قبل قول
المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة ولان مثل هذا يجهل كثيرا ويخفى على غير أهل العلم.
(مسألة) (أو أكره على الزنا فلا حد عليه وقال أصحابنا إن أكره الرجل فزنى حد)
لا يجب الحد على مكرهة على الزنا في قول عامة أهل العلم روي ذلك عن عمر والزهري وقتادة
والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (عفي لامتي عن
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه النسائي وعن عبد الجبار بن وائل عن أبيه ان امرأة
استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد رواه الأثرم قال واتي عمر بإماء من إماء
184

الامارة استكرههن غلمان من غلمان الامارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء، وروى سعيد باسناده
عن طارق بن شهاب قال: اتي عمر بامرأة قد زنت قالت اني كنت نائمة فلم استيقظ الا برجل قد
جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها ولأن هذه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولا فرق بين الاكراه
بالالجاء وهو أن يغلبها على نفسها وبين الاكراه بالتهديد بالقتل ونحوه نص عليه احمد في راع جاءته
امرأة قد عطشت فسألته ان يسقيها فقال لها أمكنيني من نفسك قال هذه مضطرة، وقد روي عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان امرأة استسقت راعيا فأبى ان يسقيها الا ان تمكنه من نفسها
ففعلت فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي ما ترى فيها؟ قال إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئا وتركها، فإن
أكره الرجل فزنى فقال أصحابنا عليه الحد وبه قال محمد بن الحسن وأبو ثور لأن الوطئ لا يكون
الا بالانتشار والاكراه ينافيه فإذا وجد الانتشار انتفى الاكراه فيلزمه الحد كما لو أكره على غير الزنا
فزنى، وقال أبو حنيفة ان أكرهه السلطان فلا حد عليه وان أكرهه غيره حد استحسانا، وقال الشافعي
وابن المنذر لا حد عليه لعموم الخبر ولان الحدود تدرأ بالشبهات والاكراه شبهة فيمنع الحد كما لو
كانت امرأة، يحققه ان الاكراه إذا كان بالتخويف أو بمنع ما تفوت حياته بمنعه كان الرجل فيه
كالمرأة فإذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه، وقولهم ان التخويف ينافي الانتشار لا يصح لأن
التخويف بترك الفعل والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك وهذا أصح الأقوال إن شاء الله تعالى
(مسألة) (وان وطئ ميتة أو ملك أمة أو أخته من الرضاع فوطئها فهل يحد أو يعزر؟ على وجهين)
185

إذا وطئ ميتة فعليه الحد في أحد الوجهين وهو قول الأوزاعي لأنه وطئ في فرج آدمية أشبه وطئ
الحية ولأنه أعظم ذنبا وأكثر اثما لأنه انضم إلى فاحشته هتك حرمة الميتة (الثاني) لا حد عليه
وهو قول الحسن، قال أبو بكر وبهذا أقول لأن الوطئ في الميتة كلا وطئ لأنه عوض مستهلك ولأنها
لا يشتهى مثلها وتعافها النفس فلا حاجة إلى تسرع (شرع) الزاجر عنها، وأما إذا ملك أمة (أمه) أو أخته من الرضاع
فوطئها فذكر القاضي عن أصحابنا ان عليه الحد لأنه فرج لا يستباح بحال فوجب الحد بالوطئ فيه
كفرج الغلام وقال بعض أصحابنا لا حد فيه وهو قول أصحاب الرأي، الشافعي لأنه وطئ في فرج
مملوك له يملك المعاوضة عنه وأخذ صداقه فلم يجب الحد عليه كالوطء في الجارية المشتركة فاما ان
اشترى ذات محرمه من النسب ممن يعتق عليه ووطئها فعليه الحد لا نعلم فيه خلافا لأن الملك لا
يثبت فيها فلم توجد الشبهة
(مسألة) (وإن وطئ في نكاح مجمع على بطلانه كنكاح المزوجة والمعتدة والخامسة وذوات
المحارم من النسب والرضاع فعليه الحد)
إذا تزوج ذات محرمه فالنكاح باطل بالاجماع فإن وطئها فعليه الحد في قول أكثر أهل العلم
منهم الحسن وجابر بن زيد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة والثوري
لا حد عليه لأنه وطئ تمكنت الشبهة منه فلم يوجب الحد كما لو اشترى أخته من الرضاع ثم وطئها
وبيان الشبهة انه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح الذي هو سبب للإباحة فإذا لم يثبت
186

حكمه وهو الإباحة بقيت صورته دارئة للحد الذي يندرئ بالشبهات.
ولنا انه وطئ في فرج امرأة مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك والواطئ من أهل
الحد عالم بالتحريم فلزمه الحد كما لو لم يوجد العقد، وصورة المبيح إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة
والعقد ههنا باطل محرم وفعله جناية تقتضي العقوبة انضمت إلى الزنا فلم تكن شبهة كما لو أكرهها
وعاقبها ثم زنى بها ثم يبطل بالاستيلاء عليها فإن الاستيلاء سبب للملك في المباحات وليس بشبهة،
وأما إذا اشترى أخته من الرضاع فهو ممنوع وإن سلمناه فإن الملك المقتضي للإباحة صحيح ثابت وإنما
تخلفت الإباحة لمعارض بخلاف مسئلتنا فإن المبيح غير موجود فإن عقد النكاح باطل والملك به غير
ثابت فالمقتضي معدوم فهو كما لو اشترى خمرا فشربه، إذا ثبت هذا فاختلف في الحد فروي عن أحمد
انه يقتل على كل حال وبهذا قال جابر بن زيد وإسحاق وأبو أيوب وابن أبي خيثمة، وروى
إسماعيل بن سعيد عن أحمد في رجل تزوج امرأة أبيه فقال يقتل ويؤخذ ماله إلى بيت المال (والرواية
(الثانية) حده حد الزنا وبه قال الحسن ومالك والشافعي لعموم الآية والخبر، ووجه الأولى ما روى البراء
قال: لقيت عمي ومعه الراية فقلت إلى أين تريد؟ فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج
امرأة أبيه من بعده ان ضرب عنقه وآخذ ماله رواه أبو داود والجوزاني والترمذي، وقال
حديث حسن وسمى الجوزجاني عمه الحارث بن عمرو، وروى الجوزجاني وابن ماجة باسنادهما إلى
ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) ورفع إلى الحجاج رجل
اغتصب أخته على نفسها فقال احبسوه وسلوا من ههنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عبد الله
ابن أبي مطرف فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من تخطى المؤمنين فخطوا رأسه بالسيف) وهذه
187

الأحاديث مما ورد في الزنا فتقدم، والقول فيمن زنى بذات محرمه من غير عقد كالقول فيمن وطئها بعد العقد
(فصل) وكل عقد أجمع على بطلانه كنكاح الخامسة أو مزوجة أو معتدة أو نكاح المطلقة
ثلاثا إذا وطئ فيه عالما بالتحريم فهو زنا موجب للحد المشروع فيه قبل العقد، وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة وصاحباه لا حد فيه لما ذكروه فيما إذا عقد على ذوات محارمه. وقال النخعي يجلد مائة ولا ينفى
ولنا ما ذكرناه فيما مضى وروى أبو نصر المروزي باسناده عن عبيد بن نضيلة قال: رفع إلى عمر بن
الخطاب امرأة تزوجت في عدتها فقال هل علمتها؟ قالا لا قال لو علمتما لرجمتكما فجلده أسواطا ثم
فرق بينهما، وروى أبو بكر باسناده قال: رفع إلى علي عليه السلام امرأة تزوجت ولها زوج
كتمته فرجمها وجلد زوجها الأخير مائة جلدة، فإن لم يعلم تحريم ذلك فلا حد عليه لعذر الجهل ولذلك
درأ عمر عنهما الحد لجهلهما.
(مسألة) (أو استأجر امرأة للزنا أو لغيره فزنى بها أو زني بامرأة له عليها القصاص أو
بصغيرة أو مجنونة أو بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها أو أمكنت العاقلة البالغة من نفسها
مجنونا أو صغيرا فوطئها فعليهم الحد)
إذا استأجر امرأة لعمل شئ فزنى بها أو استأجرها ليزني بها وفعل ذلك أو زنى بامرأة
ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها فعليهما الحد، وبه قال أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة لا حد عليهما
في هذه المواضع إلا إذا استأجرها لعمل شئ لأن ملكه لمنفعتها شبهة دارئة للحد ولا يحد
بوطئ امرأة هو مالك لها.
188

ولنا عموم الآية والاخبار ووجود المعنى المقتضى لوجوب الحد، وقوله ان ملكه لمنفعتها شبهة
لا يصح فإنه إذا لم يسقط عنه الحد ببذلها نفسها له ومطاوعتها إياه فلان لا يسقط بملك محل آخر أولى
وأما إذا استأجر امرأة للزنا لم تصح الإجارة فوجود ذلك كعدمه فأشبه وطئ من لم يستأجرها،
وأما إذا زنى بامرأة له عليها قصاص فعليه الحد لأنه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك أشبه ما لو لم يكن
له عليها قصاص وكما لو كان له عليها دين، وأما إذا زنى بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها فإنه
ما وجب عليه الحد بوطئ مملوكته ولا زوجته وإنما وجب بوطئ أجنبية فتغير حالها لا يسقطه كما لو ماتت،
وأما إذا أمكنت المكلفة من نفسها صغيرا أو مجنونا فوطئها أو استدخلت ذكر نائم فعليها الحد
دونه، وقال أبو حنيفة لا حد عليها لأن فعل الصبي والمجنون ليس زنا فلم يجب عليها الحد إذا
أمكنته منه كما لو أمكنته من ادخال أصبعه في فرجها.
ولنا أن سقوط الحد عن أحد الواطئين لمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر كما لو زنى
المستأمن بمسلمة أو زنى بمجنونة أو نائمة، وقولهم ليس بزنا لا يصح لأنه لا يلحق به النسب وإنما لم
يجب الحد عليه لعذره وزوال تكليفه، وكذلك الحكم في الرجل يظن أن المرأة زوجته فيطؤها وهي تعلم
أنه أجنبي وفي المرأة تظنه زوجها وهو يعلم أنها أجنبية
(فصل) فأما الصغيرة فإن كانت ممن يمكن وطؤها فهو زنا يوجب الحد لأنها كالكبيرة في ذلك
وان كانت ممن لا تصلح للوطئ ففيها وجهان كالميتة على ما ذكرنا، وقال القاضي لا حد على من وطئ
صغيرة لم تبلغ تسعا لأنها لا ينتهي مثلها أشبه ما لو أدخل إصبعه في فرجها، وكذلك لو استدخلت
المرأة ذكر صبي لم يبلغ عشرا فلا حد عليها. قال شيخنا والصحيح انه متى وطئ من أمكن وطؤها
189

أو أمكنت المرأة من يمكنه الوطئ فوطئها أن الحد يجب على المكلف منهما ولا يصح تحديد ذلك
بتسع ولا عشر لأن التحديد إنما يكون بالتوقيف ولا توقيف في هذا، وكون التسع وقتا لامكان
الاستمتاع غالبا لا يمنع وجوده قبله كما أن البلوغ يوجد في خمس عشرة عاما غالبا ولا يمنع من وجوده قبله
(فصل) الثالث ان يثبت الزنا ولا يثبت الا بأحد شيئين (أحدهما) ان يقر أربع مرات في مجلس
أو مجالس وهو بالغ عاقل ويصرح بذكر حقيقة الوطئ ولا ينزع عن اقراره حتى يتم الحد،
لا يثبت الزنا الا باقرار أو بينة فإن ثبت باقرار اعتبر اقرار أربع مرات وبهذا قال الحكم وابن
أبي ليلى وأصحاب الرأي، وقال الحسن وحماد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يحد باقراره مرة لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) واعتراف مرة اعتراف وقد
أوجب عليها الرجم به ورجم الجهنية وإنما اعترفت مرة، وقال عمران الرجم حق واجب على من زنى وقد
أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولأنه حق فثبت باعتراف مرة كالاقرار بالقتل
ولنا ما روى أبو هريرة قال اتى رجل من الأسلميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال
يا رسول الله اني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه فقال يا رسول الله اني زنيت فأعرض عنه
حتى ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أبك
جنون - قال لا - قال هل أحصنت؟ - قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ارجموه) متفق عليه
190

ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى، وروى
نعيم بن هزال حديثه وفيه حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انك قد قلتها أربع مرات
فبمن؟) قال بفلانة رواه أبو داود وهذا تعليل منه يدل على أن اقرار الأربع هو الموجب، وروى
أبو برزة الأسلمي ان أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم ان أقررت أربعا رجمك رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهذا يدل من وجهين (أحدهما) أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قوله
لأنه لا يقر على الخطأ (الثاني) أنه قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه وسلم لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين
يديه، فأما أحاديثهم فإن الاعتراف لفظ للمصدر يقع على القليل والكثير وحديثنا يفسره ويبين أن
الاعتراف الذي يثبت به كان أربعا
(فصل) وسواء كان في مجلس واحد أو مجالس متفرقة، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن
الزاني يردد أربع مرات؟ قال نعم على حديث ماعز هو أحوط، قلت له في مجلس واحد أو في مجالس
شتى؟ قال اما الأحاديث فليست تدل إلا على مجلس واحد إلا على ذلك الشيخ بشير بن المهاجر عن
عبد الله بن بريدة عن أبيه وذلك عندي منكر الحديث، وقال أبو حنيفة لا يثبت إلا بأربع اقرارات
في أربعة مجالس لأن ماعزا أقر في أربعة مجالس
ولنا ان الحديث الصحيح إنما يدل أنه أقر أربعا في مجلس واحد وقد ذكرنا الحديث ولأنه
أحد حجتي الزنا فاكتفي به في مجلس واحد كالبينة
(فصل) ويعتبر في صحة الاقرار ان يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة، لأن الزنا يعبر به عن ما ليس
بموجب للحد وقد روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز (لعلك قبلت أو غمزت؟) قال لا قال
191

(أفنكتها؟) قال نعم قال (حتى غاب ذاك منك في ذاك منها؟) قال نعم قال (كما يغيب المرود في
المكحلة والرشاء في البئر؟) قال نعم قال (أتدري ما الزنا؟) قال نعم اتيت منها حراما ما يأتي الرجل
من امرأته حلالا وذكر الحديث رواه أبو داود
(فصل) وان أقر أنه زني بامرأة فكذبته فعليه الحد دونها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف لا حد عليه لأنا صدقناها في انكارها فصار محكوما بكذبه
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم ان رجلا اتاه فاقر عنده أنه
زنى بامرأة فسماها له فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت
فجلده الحد وتركها، ولان انتفاء ثبوته في حقها لا يبطل قراره كما لو سكتت أو كما لو لم تسأل ولان عموم
الخبر يقتضي وجوب الحد عليه باعترافه وهو قول عمر إذا كان الحبل أو الاعتراف، وقولهم انا
صدقناها في انكارها غير صحيح فانا لم نحكم بصدقها وانتفاء الحد إنما كان لعدم المقتضى وهو الاقرار
أو البينة لا لوجود التصديق بدليل ما لو سكتت أو لم تكمل البينة. إذا ثبت هذا فإن الحر والعبد والبكر
والثيب في الاقرار سواء لأنه أحد حجتي الزنا فاستوى الكل فيه كالبينة
(فصل) ويشترط أن يكون المقر بالغا عاقلا ولا خلاف في اعتبار ذلك في وجوب الحد وصحة
الاقرار لأن الصي والمجنون قد رفع القلم عنهما ولا حكم لكلامهما لما روى علي رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى
يعقل) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
(فصل) والنائم مرفوع عنه القلم، فلو زنى بنائمة أو استدخلت امرأة ذكر نائم أو وجد منه
192

الزنى حال نومه فلا حد عليه لأن القلم مرفوع عنه، ولو أقر في حال نومه لم يلتفت إلى اقراره لأن كلامه
غير معتبر ولا يدل على صحة مدلوله: واما السكران ونحوه فعليه حد الزنى والسرقة والشرب والقذف
إذا فعله في حال سكره لأن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا عليه حد الفرية لكون السكر مظنة لها
ولأنه تسبب إلى هذه المحرمات بسبب لا يعذر فيه فأشبه من لا عذر له، وفيه وجه آخر لا يجب عليه الحد
لأنه غير عاقل فيكون ذلك شبهة في درء ما يندري بالشبهات ولان طلاقه لا يقع في رواية فأشبه
النائم، والأول أولى لأن اسقاط الحد عنه يفضي إلى أن من أراد فعل هذه المحرمات شرب الخمر وفعل
ما أحب فلا يلزمه شئ ولان السكر مظنة لفعل المحارم وسبب إليه فقد تسبب إلى فعلها حال صحوه
فاما ان أقر بالزنا وهو سكران لم يعتبر اقراره لأنه لا يدري ما يقول ولا يدل قوله على صحة خبره فأشبه
قول النائم والمجنون وقد روى بريدة ان النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزا، رواه أبو داود وإنما فعل ذلك
ليعلم هل هو سكران أو لا ولو كان السكران مقبول الاقرار لما احتيج إلى تعرف براءته منه
(فصل) واما الأخرس فإن لم تفهم إشارته فلا يتصور منه اقرار وان فهمت إشارته فقال القاضي
عليه الحد وهو قول الشافعي وابن القاسم صاحب مالك وأبو ثور وابن المنذر لأن من صح اقراره
بغير الزنا صح اقراره به كالناطق وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحد باقرار ولا بينة لأن الإشارة تحتمل
ما فهم منها وغيره فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات ولا يجب بالبينة لاحتمال أن يكون
له شبهة لم يمكنه التعبير عنها ولم يعرف كونها شبهة ويحتمل كلام الخرقي ان لا يلزمه الحد باقراره
لأنه شرط أن يكون صحيحا وهذا غير صحيح ولان الحد لا يجب بالشبهة فاما الإشارة فلا تنتفي معها الشبهات
وأما البينة فيجب عليه بها الحد لأن قوله معها غير معتبر
193

(فصل) ولا يصح الاقرار من المكره فلو ضرب الرجل ليقر بالزنى لم يجب عليه الحد ولم يثبت
عليه الزنى ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن اقرار المكره لا يجب به حد، وروي عن عمر رضي الله
عنه قال ليس الرجل مأمونا على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته رواه سعيد وقال ابن شهاب
في رجل اعترف بعد جلده ليس عليه حد ولان الاقرار إنما يثبت به المقر به لوجود الداعي إلى الصدق
وانتفاء التهمة عنه فإن العاقل لا يتهم بقصد الاضرار بنفسه ومع الاكراه يغلب على الظن ان اقراره
لدفع ضرر الاكراه فانتفى ظن الصدق عنه فلم يقبل
(فصل) وان أقر بوطئ امرأة وادعى أنها امرأته فأنكرت المرأة الزوجية نظرنا فإن لم تقر المرأة
بوطئه إياها فلا حد عليه لأنه لم يقر بالزنى ولا مهر لها لأنها لا تدعيه، وان اعترفت بوطئه إياها أو اعترفت
بأنه زنى بها مطاوعة فلا مهر عليه أيضا ولا حد على واحد منهما الا ان يقر أربع مرات لأن الحد لا يجب
بدون اقرار أربع، وان ادعت أنه أكرهها عليه أو اشتبه عليه فعليه المهر لأنه أقر بسببه وقد روى
منها عن أحمد انه سأله عن رجل وطئ امرأة وزعم أنها زوجته وأنكرت هي أن يكون زوجها وأقرت
بالوطئ فقال هذه قد أقرت على نفسها بالزنا ولكن يدرأ عنه الحد بقوله انها امرأته ولا مهر عليه
وادرأ عنها الحد حتى تعترف مرارا، قال احمد وأهل المدينة يرون عليها الحد يذهبون إلى قول النبي
صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) وقد تقدم الجواب عن قولهم
(فصل) ولا ينزع عن اقراره حتى يتم الحد لأن من شروط إقامة الحد بالاقرار البقاء عليه على
تمام الحد فإن رجع عن اقراره أو هرب كف عنه وبهذا قال عطاء ويحيى بن يعمر والزهري وحماد
ومالك والشافعي والثوري وإسحاق وأبو حنيفة وأبو يوسف وقال الحسن وسعيد بن جبير وابن
194

أبي ليلى يقام الحد ولا يترك لأن ماعزا هرب فقتلوه وروي أنه قال ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإن قومي هم غروني من نفسي واخبروني ان النبي صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه رواه
أبو داود وقد ذكرنا ذلك في كتاب الحدود
(مسألة) (ومتى رجع المقر بالحد عن اقراره قبل منه) وقد ذكرنا الخلاف فيه والله أعلم
(الثاني) ان يشهد عليه أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا ويجيئون في مجلس واحد سواء
جاءوا مجتمعين أو متفرقين
يشترط في شهود الزنا سبعة شروط ذكرها الخرقي (أحدها) ان يكونوا أربعة وهذا اجماع ليس
فيه اختلاف بين أهل العلم لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم
ثمانين جلدة) وقال تعالى (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون)
وقال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نعم) رواه مالك في الموطأ وأبو داود
(الشرط الثاني) ان يكونوا رجالا كلهم ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال ولا نعلم فيه خلافا
إلا شيئا يروى عن عطاء وحماد انه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان وهو قول شاذ لا يعول عليه لأن
لفظ الأربعة اسم لعدد المذكورين ويقتضي ان يكتفى فيه بأربعة ولا خلاف في أن الأربعة إذا كان
بعضهم نساء انه لا يكتفى بهم وان أقل ما يجزئ خمسة وهذا خلاف النص ولان في شهادتهن شبهة لتطرق
الضلال إليهن قال الله تعالى (ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والحدود تدرأ بالشبهات
(الشرط الثالث) الحرية فلا تقبل شهادة العبيد ولا نعلم في ذلك خلافا الا رواية حكيت عن
195

احمد وهو قول أبي ثور لعموم النصوص فيه ولأنه عدل مسلم ذكر فتقبل شهادته كالحر
ولنا أنه مختلف في شهادته في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع من قبول شهادته في الحد
لأنه يندرئ بالشبهات
(الشرط الرابع) العدالة ولا خلاف في اشتراطها فإنها تشترط في سائر الشهادات فههنا مع
مزيد الاحتياط فيها أولى فلا تقبل شهادة الفاسق ولا مستور الحال الذي لا تعلم عدالته لجواز أن يكون فاسقا
(الشرط الخامس) ان يكونوا مسلمين فلا تقبل شهادة أهل الذمة فيه سواء كانت الشهادة
على مسلم أو ذمي لأن أهل الذمة كفار لا تتحقق العدالة فيهم فلا تقبل روايتهم ولا أخبارهم الدينية
ولا تقبل شهادتهم كعبدة الأوثان
(الشرط السادس) ان يصفوا الزنى فيقولوا رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشاء
في البئر وهذا قول معاوية بن أبي سفيان والزهري والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي
لما روينا في قصة ماعز أنه لما أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنى فقال (أنكتها؟ - فقال نعم قال - حتى غاب ذلك
منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟) قال نعم وإذا اعتبر التصريح في الاقرار
كان اعتباره في الشهادة أولى وروى أبو داود باسناده عن جابر قال جاءت اليهود برجل منهم
وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ائتوني بأعلم رجلين منكم) فأتوه بابني صوريا فنشدهما (كيف
تجدان أمر هذين في التوراة؟) قالا إذا شهد أربعة انهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما
قال (فما يمنعكم ان ترجموهما؟) قالوا ذهب سلطاننا وكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود (فجاؤوا له)
196

أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما ولأنهم إذا
لم يصفوا الزنا أحتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه قال بعض أهل العلم يجوز
للشهود ان ينظروا إلى ذلك منهما لإقامة الشهادة عليهما فيحصل الردع بالحد فإن شهدوا انهم رأوا
ذكره قد غيبه في فرجها كفى والتشبيه تأكيد
(فصل) فأما تعيين المزني بها إن كانت الشهادة على رجل أو الزاني إن كانت الشهادة على امرأة
ومكان الزنا فذكر القاضي أنه يشترط لئلا تكون المرأة ممن اختلف في إباحتها ويعتبر ذكر المكان
لئلا تكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم (إنك أقررت
أربعا فبمن؟) وقال ابن حامد لا يعتبر ذكر هذين لأنه لا يعتبر ذكرهما في الاقرار ولم يأت ذكرهما
في الحديث الصحيح وليس في حديث الشهادة في رجم اليهوديين ذكر المكان ولان ما لا يشترط
فيه ذكر الزمان لا يشترط فيه ذكر المكان كالنكاح ويبطل ما ذكروه بالزمان
(الشرط السابع) مجئ الشهود كلهم في مجلس واحد ذكره الخرقي فقال: وإن جاءوا
أربعة متفرقين والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبل شهادتهم وإن جاء بعضهم بعد أن قام
الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي والبتي وابن المنذر
لا يشترط ذلك لقول الله تعالى (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) ولم يذكر المجلس، وقال تعالى
(فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت) ولان كل شهادة مقبولة إذا
اتفقت (وغير) مقبولة إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات
ولنا أن أبا بكرة ونافعا وسهل بن معبد شهدوا عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنا ولم يشهد
197

زياد فحد الثلاثة ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ولأنه لو شهد
ثلاثة فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم وبهذا فارق
سائر الشهادات، وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط ولهذا لم يذكروا العدالة وصفة الزنا ولان قوله
(ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) لا يخلو من أن يكون مطلقا في الزمان كله أو مقيدا لا يجوز
أن يكون مطلقا لأنه يمنع من جواز جلدهم لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء أو
بكمالهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به فيكون متناقضا، وإذا ثبت أنه مقيد بالمجلس
لأن المجلس كله بمنزلة الحالة الواحدة ولهذا ثبت فيه خيار المجلس واكتفي فيه بالقبض فيما يعتبر
القبض فيه إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءوا متفرقين واحدا بعد واحد
في مجلس واحد قبل شهادتهم وقال مالك وأبو حنيفة إن جاءوا متفرقين فهم قذفة لأنهم لم يجتمعوا
في مجيئهم فلم تقبل شهادتهم كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد
ولنا قصة المغيرة فإن الشهود جاءوا واحدا بعد واحد وسمعت شهادتهم وإنما حدوا لعدم كمالها في المجلس
وفي حديثه أن أبا بكرة قال أرأيت لو جاء آخر يشهد أكنت ترجمه؟ قال عمر: اي والذي نفسي
بيده ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه ما لو جاءوا مجتمعين ولان المجلس كله بمنزلة ابتدائه
لما ذكرنا وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد لأن من شهد بالزنا ولم تكمل الشهادة يلزمه الحد
لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
(مسألة) (وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم أو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة
198

أو لم يكملها فهم قذفه وعليهم الحد)
إذا لم يكمل شهود الزنا فعليهم الحد في قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي
وذكر أبو الخطاب فيهم روايتين وحكي عن الشافعي فيهم قولان (أحدهما) لا حد عليهم لأنهم شهود
فلم يجب عليهم الحد كما لو كانوا أربعة أحدهم فاسق
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
وهذا يوجب الجلد على كل رام لم يشهد بما قال أربعة ولأنه إجماع الصحابة فإن عمر جلد أبا بكرة
وأصحابه حين لم يكمل الرابع شهادته بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد
وروى صالح باسناده عن أبي عثمان النهدي قال جاء رجل إلى عمر فشهد على المغيرة بن شعبة
فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فاستنكر ذلك عمر ثم جاء شاب
يخطر بيديه فقال عمر ما عندك يا سلح العقاب؟ وصاح به عمر صيحة فقال أبو عثمان: والله لقد كدت
يغشى علي فقال يا أمير المؤمنين: رأيت أمرا قبيحا فقال الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب
محمد قال فأمر بأولئك النفر فجلدوا، وفي رواية أن عمر لما شهد عنده على المغيرة شهد ثلاثة وبقي زياد
فقال عمر أرى شابا حسنا وأرجو الا يفضح الله على لسانه رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال:
يا أمير المؤمنين رأيت استا تنبو ونفسا يعلو ورأيت رجليها فوق عنقه كأنهما أذنا حمار ولا أدري
ما وراء ذلك فقال عمر: الله أكبر الله أكبر وامر بالثلاثة فضربوا، وقول عمر يا سلح العقاب
معناه انه يشبه سلح العقاب الذي يحرق كل شئ اصابه كذلك هو يوقع العقوبة بأحد الفريقين
لا محالة، إن كملت شهادته حد المشهود عليه وإن لم تكمل حد أصحابه، فإن قيل فقد خالفهم أبو بكرة
وأصحابه الذين شهدوا قلنا لم يخالفوا في وجوب الحد عليهم إنما خالفوهم في صحة ما شهدوا به ولأنه
199

رام بالزنا لم يأت بأربعة شهداء فيجب عليه الحد كما لو لم يأت بأحد
(مسألة) (وان كانوا افساقا أو عميانا أو بعضهم فعليهم الحد وعنه انه لاحد عليهم)
إذا كانوا أربعة غير مرضيين كالعبيد والفساق والعميان ففيهم ثلاث روايات
(إحداهن) عليهم الحد وهو قول مالك قال القاضي وهو الصحيح لأنها شهادة لم تكمل
فوجب الحد على الشهود كما لو لم يكمل العدد
(والثانية) لا حد عليهم وهو قال الحسن والشعبي وأبي حنيفة ومحمد لأن هؤلاء قد جاءوا
بأربعة شهداء فدخلوا في عموم الآية ولان عددهم قد كمل ورد الشهادة لمعنى غير تفريطهم فأشبه
ما لو شهد أربعة مستورون ولم تثبت عدالتهم ولا فسقهم
(الثالث) إن كانوا عميانا أو بعضهم جلدوا وإن كانوا عبيدا أو فساقا فلا حد عليهم وهو
قول الثوري وإسحاق لأن العميان معلوم كذبهم لكونهم شهدوا بما لم يروه يقينا والآخرون يجوز
صدقهم وقد كمل عددهم فأشبهوا مستوري الحال.
وقال أصحاب الشافعي إن كان رد الشهادة لمعنى ظاهر كالعمى والرق والفسق الظاهر ففيهم
قولان وإن كان لمعنى خفي فلا حد عليهم لأن ما يخفى يخفى على الشهود فلا يكون ذلك تفريطا منهم
بخلاف ما يظهر، فإن شهد ثلاثة رجال وامرأتان حد الجميع لأن شهادة النساء في هذا الباب كعدمها
وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وهذا يقوي رواية ايجاب الحد على الأولين وينبه على ايجاب الحد
فيما إذا كانوا عميانا أو بعضهم لأن المرأتين يحتمل صدقهما وهما من أهل الشهادة في الجملة والأعمى
كاذب يقينا وليس من أهل الشهادة على الافعال فوجوب الحد عليهم وعلى من معهم أولى
200

(مسألة) (وإن كان أحدهم زوجا حد لثلاثة ولاعن الزوج ان شاء)
لأن الزوج لا تقبل شهادته على امرأته لأنه بشهادته مقر بعداوته لها فلا تقبل شهادته عليها فيبقى
الشهود ثلاثة فيحدون كما يحد شهود المغيرة بن شعبة ولان الله سبحانه قال (والذين يرمون المحصنات
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
(مسألة) (وإن شهد اثنان انه زنى بها في بيت أو بلد واثنان أنه زنا بها في بيت أو بلد
آخر فهم فذفة وعليهم الحد وعنه يحد المشهود عليه وهو بعيد)
وجملة ذلك أنه إذا شهد اثنان أنه زنا بها في هذا البيت واثنان انه زنا بها في بيت آخر وشهد
كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد صاحباهما أو اختلفوا في اليوم فالجميع قذفة وعليهم
الحد وبهذا قال مالك والشافعي، واختار أبو بكر: أنه لا حد عليهم وبه قال النخعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي لأنهم كملوا أربعة
ولنا انه لم يكمل أربعة على زنا واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان واما المشهود
عليه فلا حد عليه في قولهم جميعا، وقال أبو بكر عليه الحد، وحكاه قولا لأحمد وهو بعيد لأنه
لم يثبت زنا واحد بشهادة أربعة فلم يجب الحد ولان جميع ما يعتبر له البينة يعتبر كمالها في حق واحد
فالموجب للحد أول لأنه مما يحتاط له ويدرء بالشبهات وقد قال أبو بكر انه لو شهد اثنان انه زنى
بامرأة بيضاء وشهد اثنان انه زنا بسوداء فهم قذفة ذكره القاضي وهذا ينقض قوله
(مسألة) وإن شهد اثنان انه زنى بها في زاوية بيت وشهد اثنان انه زنى بها في زاوية منه
أخرى كملت شهادتهم ان كانت الزاويتان متقاربتين وحد المشهود عليه)
201

وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا حد عليه لأن شهادتهم لم تكمل ولأنهم اختلفوا في المكان
أشبه ما لو اختلفا في البيتين، فأما ان كانت الزاويتان متباعدتين فالقول فيهما كالقول في البيتين وعلى
قول أبي بكر تكمل الشهادة سواء تقاربت الزاويتان أو تباعدتا
ولنا أنهما إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود بان يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى
أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا بخلاف ما إذا
كانتا متباعدتين فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا، فإن قيل فقد يمكن أن يكون المشهود به
فعلين فلم أوجبتهم الحد مع الاحتمال والحد يدرأ بالشبهات، قلنا ليس هذا شبهة بدليل ما لو اتفقوا على
موضع واحد فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب والقول في الزمان كالقول في هذا متى كان بينهما زمن
متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ومتى تقاربا كملت شهادتهم.
(مسألة) (وان شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض وشهد آخران أنه زنى بها في قميص
أحمر كملت شهادتهم ويحتمل أن لا تكمل كما لو شهد كل اثنان أنه زنى بها في بيت غير الذي شهد به صاحباهما)
وكذلك ان شهد اثنان انه زنى بها في قميص كتان أو شهد اثنان أنه زنى بها في قميص خز تكمل
الشهادة، وقال الشافعي لا تكمل لتنافي الشهادتين.
ولنا انه لا تنافي بينهما فإنه يمكن أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين واحدا وتركا ذكر
الآخر ويمكن أن يكون عليه قميص أبيض وعليها قميص أحمر وإذا أمكن التصديق لم يجز التكذيب.
(مسألة) (وان شهد أنه زنى بها مطاوعة وشهد آخران أنه زنى بها مكرهة فلا حد عليها
اجماعا، لأن الشهادة لم تكمل على فعل موجب للحد وفي الرجل وجهان.
202

(أحدهما) لا حد عليه وهو قول أبي بكر والقاضي وأكثر الأصحاب وهو قول أبي حنيفة
واحد الوجهين لأصحاب الشافعي، لأن البينة لا تكمل على فعل واحد فإن فعل المطاوعة غير فعل
المكرهة ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين ولان كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين وذلك
يمنع قبول الشهادة أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون كل واحد منهما مكذبا للآخر
إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما ومكرهة في الآخر وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على
فعل واحد، ولان شاهدي المطاوعة قاذفان لها ولا تكمل البينة عليها فلا تقبل شهادتهم على غيرها
والوجه الثاني يجب الحد على الرجل اختاره أبو الخطاب وهو قول أبي يوسف ومحمد ووجه ثان
للشافعي، لأن الشهادة كملت على وجود الزنا منه واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله فلا
يمنع كمال الشهادة عليه.
(مسألة) (وهل يحد الجميع أو شاهد المطاوعة؟ على وجهين)
في الشهود ثلاثة أوجه (أحدها) لا حد عليهم وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم
(والثاني) عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنا فلم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد كما لو لم يكمل عددهم (والثالث)
يجب الحد على شاهدي المطاوعة لأنهما قذفا المرأة بالزنا فلم تكمل شهادتهما عليها ولا يجب على شاهدي
الاكراه لأنهما لم يقذفا المرأة وقد كملت شهادتهم على الرجل وإنما انتفى عنه الحد للشبهة وعند أبي
الخطاب يحد الزاني المشهود علية دون المرأة والشهود وقد ذكرناه.
(مسألة) (وان شهد أربعة فرجع أحدهم فلا شئ على الراجع ويحد الثلاثة وإن كان رجوعه
بعد الحد فلا حد على الثلاثة ويغرم الرابع ربع ما أتلفوه).
203

وجملة ذلك أن الشهود إذا رجعوا عن الشهادة أو واحد منهم ففيهم روايتان (إحداهما) يجب
الحد على الجميع لأنه نقص عدد الشهود فلزمهم الحد كما كانوا ثلاثة وان رجعوا كلهم فعليهم الحد
لأنهم يقرون انهم قذفة، وهو قول أبي حنيفة (والثانية) يحد الثلاثة دون الراجع اختارها أبو بكر
وابن حامد لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله فيسقط عنه الحد لأن في
درء الحد عنه تمكينا له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة الشهود وفي إيجاب الحد عليه زجر له
عن الرجوع خوفا من الحد فتفوت تلك المصلحة وتتحقق المفسدة فناسب ذلك نفي الحد عنه،
وقال الشافعي يحد الراجع دون الثلاثة لأنه أقر على نفسه بالكذب في قذفه واما الثلاثة فقد وجب
الحد بشهادتهم وإنما سقط بعد وجوبه برجوع الرابع ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا فلم
يحد كما لو لم يرجع أحد.
ولنا انه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحد فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من
الشهادة وقولهم وجب الحد بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلهم وبالراجع وحده فإن الحد وجب ثم
سقط ووجب الحد بسقوطه ولان الحد إذا وجب على الراجع مع المصلحة في رجوعه باسقاط الحد
عن المشهود عليه بعد وجوبه واحيائه المشهود عليه بعد اشرافه على التلف فعلى غيره أولى فاما إن كان
رجوعه بعد الحد فلا حد على الثلاثة لأن إقامة الحد كحكم الحاكم الحاكم لا تسقط برجوع الشاهد بعده
وعلى الراجع ربع ما تلف بشهادتهم ويذكر ذلك في الرجوع عن الشهادة إن شاء الله تعالى.
(فصل) وإذا ثبتت الشهادة بالزنا فصدقهم المشهود عليه لم يسقط الحد وقال أبو حنيفة يسقط
لأن صحة البينة يشترط لها الانكار وما كمل بالاقرار.
ولنا قول الله (فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا)
204

وبين النبي صلى الله عليه وسلم (السبيل بالحد فتجب إقامته ولان البينة تمت عليه فوجب الحد كما لو لم يعترف
ولان البينة أحد حجتي الزنا فلم تبطل بوجود الحجة الأخرى وبعضها كالاقرار يحققه ان وجود
الاقرار يؤكد البينة ويوافقها ولا ينافيها فلا يقدح فيها كتزكية الشهود والثناء عليهم ولا نسلم
اشتراط الانكار وإنما يكتفى بالاقرار في غير الحد إذا وجد بكماله وههنا لم يكمل فلم يجب الاكتفاء
به ووجب سماع البينة والعمل بها وعلى هذا لو أقر مره أو دون الأربع لم يمنع ذلك سماع البينة عليه
ولو تمت البينة وأقر على نفسه اقرارا تاما ثم رجع عن اقراره لم يسقط عنه الحد برجوعه وقوله يقتضي خلاف ذلك
(فصل) فإن شهد شاهدان واعترف هو مرتين لم تكمل البينة ولم يجب الحد لا نعلم في ذلك
خلافا بين من اعتبر اقرار أربع مرات وهو قول أصحاب الرأي لأن إحدى الحجتين لم تكمل ولا
تلفق أحداهما بالأخرى كاقرار بعض مرة.
(فصل) فإن كملت البينة ثم مات الشهود أو غابوا جاز الحكم بها وإقامة الحد، وبه قال
الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقام الحد لجواز أن يكونوا رجعوا وهذا شبهة تدرأ الحد
ولنا أن كل شهادة جاز الحكم بها مع حضور الشهود جاز الحكم مع غيبتهم كسائر الشهادات
واحتمال رجوعهم ليس بشبهة كما لو حكم بشهادتهم.
(فصل) وإن شهدوا بزنا قديم أو أقر به وجب الحد، وبهذا قال مالك والأوزاعي والثوري
وإسحاق وأبو ثور وقال أبو حنيفة لا أقبل بينة على زنا قديم واحده بالاقرار به وهذا قول ابن
حامد وذكره ابن موسى مذهبا لأحمد لما روي عن عمر أنه قال أيما شهود شهدوا بحد لم
يشهدوا بحضرته فإنما هم شهود ضغن ولان تأخيره للشهادة إلى هذا الوقت يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد
ولنا عموم الآية وانه حق ثبت على الفور فيثبت بالبينة بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق والحديث
205

مرسل رواه الحسن ومراسيل الحسن ليست بالقوية والتأخير يجوز أن يكون لعذر أو غيبة والحد
لا يسقط بمجرد الاحتمال فإنه لو سقط بكل احتمال لم يجب حد أصلا.
(فصل) وتجوز الشهادة بالحد من غير مدع لا نعلم فيه اختلافا ونص عليه احمد واحتج
بقصة أبي بكرة حيث شهد هو وأصحابه على المغيرة من غير تقدم دعوى وشهد الجارود وصاحبه
على قدامة بن مظعون بشرب الخمر ولم يتقدمه دعوى، ولان الحد حق لله تعالى لم تفتقر الشهادة
به إلى تقدم دعوى كسائر العبادات يبينه أن الدعوى في سائر الحقوق إنما تكون من المستحقين وهذا
لا حق فيه لاحد من الآدميين فيدعيه فلو وقفت الشهادة به على الدعوى لامتنع اقامتها
(مسألة) (وان شهد أربعة بالزنا بامرأة فشهد ثقات من النساء أنها عذراء فلا حد عليها ولا
الشهود نص عليه)
وبهذا قال الشعبي والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك عليها الحد، لأن شهادة
النساء لا مدخل لها في الحدود فلا يسقط بشهادتهن
ولنا ان البكارة تثبت بشهادة النساء ووجودها يمنع من الزنا ظاهرا لأن الزنا لا يحصل بدون
الايلاج في الفرج ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها وإذا انتفى الزنا
لم يجب الحد كما لو قامت البينة بان المشهود عليه بالزنا مجبوب وإنما لم يجب الحد على الشهود لكمال
عدتهم مع احتمال صدقهم بأنه يحتمل أن يكون وطئها ثم عادت عذرتها فيكون ذلك شبهة في درء
الحد عنهم غير موجب له عليها فإن الحد لا يجب بالشبهات ويكتفي بشهادة امرأة واحدة لأن شهادتها
مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال فأما ان شهدت بأنها رتقاء أو ثبت ان الرجل المشهود عليه
مجبوب فينبغي أن يجب الحد على الشهود لأنه يتيقن كذبهم في شهادتهم بأمر لا يعلمه كثير من
الناس فوجب عليهم الحد.
206

(مسألة) (وان شهد أربعة انه زنى بامرأة وشهد أربعة آخرون أنهم هم الزناة بها لم يحد المشهود
عليه وهل يحد الشهود الأولون حد الزنا؟ على روايتين)
(إحداهما) لا يجب الحد على واحد منهم، وهذا قول أبي حنيفة لأن الأولين قد جرحهم الآخرون
بشهادتهم عليهم والآخرون تتطرق إليهم التهمة (والثانية) يجب الحد على الشهود الأولين اختارها أبو
الخطاب لأن شهادة الآخرين صحيحة فيجب الحكم بها، وهذا قول أبي يوسف وذكر أبو الخطاب
في صدر المسألة كلاما معناه لا يحد أحد منهم حد الزنا وهل يحد الأولون حد القذف؟ على وجهين بناء على
القاذف إذا جاء مجئ الشاهد هل يحد على روايتين
(فصل) وكل زنا أوجب الحد لا يقبل فيه إلا أربعة شهود باتفاق العلماء لتناول النص له بقوله
تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) ويدخل فيه اللواط
ووطء المرأة في دبرها لأنه زنا وعند أبي حنيفة يثبت بشاهدين بناء على أصله بأنه لا يوجب الحد
وقد بينا وجوب الحد به ويخص هذا بان الوطئ في الدبر فاحشة بدليل قوله تعالى (أتأتون الفاحشة
ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ وقال تعالى (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن
أربعه منكم) فإذا وطئت في الدبر دخلت في عموم الآية. واما وطئ البهيمة إن قلنا بوجوب الحد
به لم يثبت الا بشهود أربعة، وإن قلنا لا يوجب الا التعزير ففيه وجهان:
(أحدهما) يثبت بشاهدين لأنه لا يوجب الحد فيثبت بشاهدين كسائر الحقوق (والثاني) لا يثبت
الا بأربعة وهو قول القاضي لأنه فاحشة ولأنه ايلاج في فرج محرم فأشبه الزنا وعلى قياس هذا كل
وطئ يوجب التعزير ولا يوجب الحد كوطئ الأمة المشتركة وأمته المزوجة فإن لم يكن وطئا كالمباشرة
دون الفرج ونحوها ثبت بشاهدين وجها واحدا لأنه ليس بوطئ أشبه سائر الحقوق
207

(مسألة) (وان حملت امرة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بذلك بمجرده لكنها تسأل فإن ادعت
انها أكرهت ووطئت بشبهة أو لم تعرف بالزنا لم تحد)
وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة الا أن تظهر
امارات الاكراه بأن تأتي مستغيثة أو صارخة لقول عمر رضي الله عنه والرجم واجب على كل من زنى
من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قلعت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروي ان عثمان
اتى بامرأة ولدت لستة أشهر فامر بها عثمان ان ترجم فقال علي ليس لك عليها سبيل. قال الله تعالى
(وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وهذا يدل على أنه كان يرجمها بحملها، وعن عمر نحو من هذا وروي
عن علي رضي الله عنه أنه قال أيها الناس إن الزنا زناآن زنا سر وزنا علانية فزنا السر ان يشهد
الشهود فيكون الشهود أول من يرمي وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الإمام أول من
يرمي، وهذا قول سادة الصحابة لم يظهر لهم في عصرهم مخالف فيكون اجماعا
ولنا أنه يحتمل انه من وطئ اكراه أو شبهة والحد يسقط بالشبهات وقد قيل إن المرأة تحمل
من غير وطئ بأن يدخل ماء الرجل في فرجها اما بفعلها أو فعل غيرها ولهذا تصور حمل البكر وقد
وجد ذلك، واما قول الصحابة فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد ثنا خلف بن خليفة ثنا أبو
هشام ان امرأة رفعت إلى عمر رضي الله عنه ليس لها زوج وقد حملت فسألها عمر فقالت إني امرأة
ثقيلة الرأس وقع علي رجل وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرأ عنها الحد، وروى النوال بن
سبرة عن عمر انه أتي بامرأة حامل فادعت أنها أكرهت فقال خل سبيلها وكتب إلى أمراء الأجناد
أن لا يقتل أحد الا باذنه، وروي عن علي وابن عباس انهما قالا إذا كان في الحد لعل وعسى فهو
معطل وروى الدارقطني باسناده عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر أنهم
208

قالوا إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت ولا خلاف ان الحد يدرأ بالشبهات وهي متحققه ههنا
(فصل) ويستحب للإمام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالاقرار التعريض له بالرجوع إذا
تم والوقوف عن اتمامه إذا لم يتم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اعرض عن ماعز حين أقر عنده ثم
جاءه من الناحية الأخرى فاعرض عنه حتى تمم اقراره أربعا ثم قال (لعلك قبلت لعلك لمست) وروي
أنه قال للذي أقر بالسرقة (ما اخالك فعلت) رواه سعيد عن سفيان عن يزيد بن خصفة عن محمد بن
عبد الرحمن بن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ثنا هشيم عن الحكم بن عتبة عن يزيد بن أبي كبشة عن
أبي الدرداء انه اتي بجارية سوداء سرقت فقال لها أسرقت قولي لا فقالت لا فخلى سبيلها، ولا بأس
ان يعرض بعض الحاضرين بالرجوع أو بان لا يقر وروينا عن الأحنف انه كان جالسا عند معاوية
فاتي بسارق فقال له معاوية أسرقت؟ فقال له بعض الشرطة أصدق الأمير فقال الأحنف الصدق في
كل المواطن معجزة فعرض له بترك الاقرار
وروي عن بعض السلف أنه قال: لا يقطع ظريف يعني أنه إذا قامت عليه بينة ادعى شبهة فدفع
عنه القطع فلا يقطع، ويكره لمن علم حاله أن يحثه على الاقرار لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهزال
وقد كان قال لماعز بادر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ان ينزل فيك قرآن (ألا سترته بثوبك كان خيرا
لك؟) رواه سعيد
وروى باسناده أيضا عن سعيد بن المسيب قال جاء ماعز بن مالك إلى عمر بن الخطاب فقال له
إنه أصاب فاحشة فقال له أخبرت بهذا أحدا قبلي؟ قال لا قال فاستر يستر الله وتب إلى الله فإن
الناس يعيرون ولا يغيرون والله يغير ولا يعير فتب إلى الله ولا تخبر به أحدا فانطلق إلى أبي بكر
فقال له مثل ما قال عمر فلم تقره نفسه حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك
209

(باب القذف)
وهو الرمي بالزنا وهو محرم باجماع الأمة والأصل في تحريمه الكتاب والسنة. أما الكتاب
فقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا
لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) وقال سبحانه (ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات
لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات)
قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال (الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله وأكل الربا وأكل
مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقدف المحصنات الغافلات المؤمنات) متفق عليه.
(مسألة) (ومن قذف حرا محصنا فعليه جلد ثمانين جلدة إن كان القاذف حرا وأربعين إن كان
عبدا وقذف غير المحصن يوجب التعزير)
المحصنات في القرآن جاءت بأربعة معان (أحدها) العفائف وهو المراد ههنا.
(الثاني) بمعنى المزوجات كقوله تعالى (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) وقوله
تعالى (ومحصنات غير مسافحات)
. (والثالث) بمعنى الحرائر كقوله تعالى (فمن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات
المؤمنات) وقوله تعالى (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)
وقوله [فعليهن نصف ما على المحصنات]
(والرابع) بمعنى الاسلام كقوله (فإذا أحصن) قال ابن مسعود إحصانها إسلامها. وأجمع العلماء
على وجوب الحد على من قذف محصنا إذا كان القاذف مكلفا
210

(مسألة) (والمحصن هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله، وهل يشترط البلوغ؟ على روايتين)
فهذه الخمسة شروط الاحصان وبه يقول جماعة الفقهاء قديما وحديثا سوى ما روي عن داود انه
أوجب الحد على قاذف العبد. وقال ابن أبي موسى إذا قذف أم ولد رجل وله منها ولد حد. وعن ابن
المسيب وابن أبي ليلى قالوا إذا قذف ذمية لها ولد مسلم يحد، وقال ابن أبي موسى إذا قذف مسلم
ذمية تحت مسلم أو لها منه ولد حد في إحدى الروايتين، والأول أولى لأن ما لا يحد قاذفه إذا لم يكن
له ولد لا يحد وله ولد كالمجنونة
واختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط البلوغ فروي عنه انه شرط وبه قال الشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي لأنه أحد شرطي التكليف فأشبه العقل، ولان زنا الصبي لا يوجب عليه الحد فلا يجب
الحد بالقذف به كزنا المجنون (والثانية) لا يشترط لأنه حر عاقل عفيف يتعير بهذا القول الممكن صدقه
فأشبه الكبير وهذا قول مالك وإسحاق، فعلى هذه الرواية لابد أن يكون كبيرا يجامع مثله وأدناه
أن يكون للغلام عشر وللجارية سبع
(فصل) ويجب بقذف المحصن ثمانون جلدة إذا كان القاذف حرا وأربعون إن كان عبدا كما
ذكره وقد أجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف محصنا وأن حده ثمانون إن كان حرا وقد دل
عليه قوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وإن كان
القاذف عبدا فحده أربعون جلدة، وأجمعوا على وجوب الحد على العبد إذا قذف محصنا لدخوله في
211

عموم الآية وحده أربعون في قول أكثر العلماء فروي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال: أدركت
أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف الا أربعين. وروى
خلاس ان عليا قال في عبد قذف حرا عليه نصف الحد، وجلد أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
عبدا قذف حرا ثمانين وبه قال قبيصة وعمر بن عبد العزيز عملا بعموم الآية، والصحيح الأول
للاجماع المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم ولأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من حد
الحر كحد الزنا وهذا يخص عموم الآية وقد عيب على أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم جلده العبد
ثمانين فقال عبد الله بن عامر بن ربيعة ما رأيت أحدا جلد العبد ثمانين قبله
وقال سعيد ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبدا في
فرية ثمانين فأنكر ذلك من حضره من الناس وغيرهم من الفقهاء فقال لي عبد الله بن عامر بن ربيعة
اني رأيت والله عمر بن الخطاب فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية فوق أربعين
قال الخرقي ويكون بدون السوط الذي يجلد به الحر لأنه لما خفف في عدده خفف في سوطه كما
أن الحدود في نفسها كلما قل منها كان سوطه أخف، وظاهر ما ذكره شيخنا أنه يكون بسوط الحر
فيتساووا في الجلد ليتحقق التنصيف لأنه إنما يتحقق بذلك
(مسألة) (وقذف غير المحصن يوجب التعزير فإذا قذف مشركا أو عبدا أو مسلما له دون
عشر سنين أو مسلمة لها دون تسع أو من ليس بعفيف فعليه التعزير)
212

لأنه لما انتفى وجوب الحد عن القاذف وجب التأديب ردعا له عن أعراض المعصومين وكفا له عن أذاهم
(فصل) ويجب الحد على قاذف الخصي والمجبوب والمريض المدنف والرتقاء والقرناء. وقال
الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لا حد على قاذف مجبوب. قال ابن المنذر وكذلك الرتقاء. وقال
الحسن لا حد على قاذف الخصي لأن العار منتف على المقذوف بدون الحد للمسلم بكذب القاذف،
والحد إنما يجب لنفي العار
ولنا عموم قوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
والرتقاء داخلة في عموم الآية ولأنه قاذف محصنا فيلزمه الحد كالقاذف للقادر على الوطئ ولان إمكان
الوطئ أمر خفي لا يعلمه كثير من الناس فلا ينتفي العار عند من لم يعلمه بدون الحد فيجب كقذف المريض
(فصل) ويجب الحد على القاذف في غير دار الاسلام وبهذا قال الشافعي. وقال أصحاب الرأي لا حد
عليه لأنه في دار لا حد على أهلها. ولنا عموم الآية ولأنه مسلم مكلف حر قذف محصنا فأشبه من في دار الاسلام
(فصل) ويشترط لإقامة الحد على القاذف شرطان (أحدهما) مطالبة المقذوف لأنه حق له فلا
يستوفى قبل طلبه كسائر حقوقه (الثاني) ان لا يأتي ببينة لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) الآية ولذلك يشترط عدم إقرار المقذوف لأنه في معنى البينة. وإن كان
القاذف زوجا اعتبر شرط آخر وهو امتناعه من اللعان، ولا نعلم في هذا كله خلافا ويعتبر استدامة
213

الطلب إلى إقامة الحد فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال الحسن
وأصحاب الرأي لا يسقط بعفوه لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود
ولنا انه حد لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص. وفارق سائر
الحدود فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها، فأما حد السرقة فإنما يعتبر فيه المطالبة بالمسروق
لا استيفاء الحد ولأنهم قالوا تصح دعواه ويستحلف فيه ويحكم الحاكم فيه بعلمه ولا يقبل رجوعه بعد
الاعتراف فدل على أنه حق لآدمي
(فصل) وإذا قلنا بوجوب الحد بقذف من لم يبلغ لم تجز إقامته حتى يبلغ ويطالب به بعد بلوغه
لأن مطالبته قبل البلوغ لا توجب الحد لعدم اعتبار كلامه وليس لوليه المطالبة عنه لأنه حق شرع للتشفي
فلم يقم غيره مقامه في استيفائه كالقصاص فإذا بلغ وطالب أقيم حينئذ، ولو قذف غائبا لم يقم عليه الحد
حتى يقدم ويطالب الا ان يثبت انه طالب في غيبته، ويحتمل أن لا تجوز إقامته في غيبته بحال لأنه يحتمل
ان يعفو بعد المطالبة فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه يندرئ بالشبهات، ولو جن المقذوف
بعد قذفه وقبل طلبه لم تجز إقامته حتى يفيق ويطالب وكذلك إن أغمي عليه فإن كان قد طالب به قبل
جنونه وإغمائه جازت إقامته كما لو وكل في استيفاء القصاص ثم جن أو أغمي عليه قبل استيفائه
(فصل) وإذا قذف ولده لم يجب عليه الحد وان نزل سواء كان القاذف رجلا أو امرأة وبهذا
214

قال الحسن وعطاء والشافعي وأصحاب الرأي، وقال عمر بن عبد العزيز ومالك وأبو ثور وابن المنذر
عليه الحد لعموم الآية ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنا
ولنا انه عقوبة تجب حقا لآدمي فلا تجب للولد على الوالد كالقصاص أو نقول إنه حق لا يستوفى
الا بالمطالبة باستيفائه فأشبه القصاص ولان الحد يدرأ بالشبهات فلا يجب للابن على أبيه كالقصاص
ولان الأبوة معنى يسقط القصاص فمنعت الحد كالكفر وبهذا خص عموم الآية، ثم ما ذكروه
ينتقض بالسرقة فإن الأب لا يقطع بالسرقة من مال ابنه، والفرق بين القذف والزنا ان حد الزنا
خالص لحق الله تعالى لا حق للآدمي فيه وحد القذف حق لآدمي فلا يثبت للابن على أبيه كالقصاص
وعلى انه لو زنى بجارية ابنه لم يجب عليه حد
إذا ثبت هذا فإنه لو قذف أم ابنه وهي أجنبية منه فماتت قبل استيفائه لم يكن لابنه المطالبة لأن
ما منع ثبوته ابتداء أسقطه طارئا كالقصاص فإن كان لها ابن آخر من غيره كان له استيفاؤه إذا ماتت
بعد المطالبة به لأن الحد يملك بعض الورثة استيفاءه كله بخلاف القصاص وأما قذف سائر الأقارب
فيوجب الحد على القاذف في قولهم جميعا
(مسألة) (وإن قال زنيت وأنت صغيرة وفسره بصغر عن تسع لم يحد والا خرج على روايتين)
أما إذا فسره بصغر عن تسع سنين فإنه لا يحد فإنه لا يجب بقذفها الحد على ما ذكرنا وكذلك
215

ان قذف صغيرا له دون عشر سنين وإن لم يفسره بذلك وفسره بما زاد عليه خرج على الروايتين
في اشتراط البلوغ فإن قلنا هو شرط في الاحصان لم يحد وعليه التعزير وإن قلنا ليس بشرط لزمه
الحد كالبالغ لأنه قذف محصنا
(فصل) فإن اختلف القاذف والمقذوف فقال القاذف كنت صغيرا حين قذفتك وقال المقذوف
كنت كبيرا فذكر القاضي أن القول قول القاذف لأن الأصل الصغر وبراءة الذمة من الحد فإن
أقام كل واحد منهما بينة بدعواه وكانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخين مختلفين فهما قذفان موجب
أحدهما التعزير والآخر الحد وان ثبتتا تاريخا واحدا وقالت إحداهما وهو صغير وقالت الأخرى
وهو كبير تعارضتا وسقطتا وكذلك لو كان تاريخ بينة المقذوف قبل تاريخ بينة القاذف
(مسألة) وإن قال لحرة مسلمة زنيت وأنت نصرانية أو أمة ولم تكن كذلك فعليه الحد)
إذا قال زنيت إذ كنت مشركا أو إذ كنت رقيقا فقال المقذوف ما كنت رقيقا ولا مشركا نظرنا
فإن ثبت أنه كان مشركا أو رقيقا فهي كالتي قبلها وان ثبت أنه لم يكن كذلك فعليه الحد لأنه يعلم كذبه في وصفه
بذلك، وإن لم يثبت واحد منهما وجب عليه الحد في إحدى الروايتين، لأن الأصل عدم الشرك والرق ولان
الأصل الحرية واسلام أهل دار الاسلام (والثانية) لا يجب لأن الأصل براءة ذمته، وأما إذا قال زنيت
وأنت مشرك فقال المقذوف أردت قذفي بالزنا والشرك معا وقال القاذف بل أردت قذفك بالزنا إذ
216

كنت مشركا فقال أبو الخطاب القول قول القاذف وهو قول بعض الشافعية لأن الخلاف في
نيته وهو أعلم بها، وقوله وأنت مشرك مبتدأ وخبر وهو حال لقوله زنيت كقوله تعالى (الا استمعوه
وهم يلعبون) وقال القاضي: يجب الحد وهو قول بعض الشافعية لأن قول زنيت خطاب في الحال
والظاهر أنه أراد زناه في الحال وهكذا ان قال زنيت وأنت عبد، فأما إن قال زنيت وقال أردت
انه زنى وهو مشرك فقال الخرقي جيب عليه الحد، وكذلك إن كان عبدا لأنه قذفه في حال كونه
حرا مسلما محصنا وكذلك يقتضي وجوب الحد عليه لعموم الآية ووجود المعنى، فإذا ادعى ما يسقط
الحد عنه لم يقبل منه كما لو قذف كبيرا ثم قال أردت انه زنى وهو صغير، فأما إن قال زنيت في
شركك أو وأنت مشرك ففيه وجهان
(أحدهما) لا حد عليه وهو قول الزهري وأبي ثور وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية أخرى
وعن مالك أنه يحد وهو قول الثوري لأن القذف وجد في حال كونه محصنا. ووجه الأول أنه
أضاف القذف إلى حال ناقصة أشبه ما لو قذفه في حال الشرك ولأنه قذفه بما لا يوجب الحد على
المقذوف أشبه ما لو قذفه بالوطئ دون الفرج، وهكذا الحكم لو قذف من كان رقيقا، فإن قال زنيت
وأنت صبي أو صغير سئل عن الصغر فإن فسره بما لا يجامع مثله ففيها الوجهان، وإن فسره بصغر
يجامع في مثله خرج على الروايتين في اشتراط البلوغ للاحصان
(فصل) وان قذف مجهولا وادعى انه رقيق أو مشرك وقال المقذوف بل أنا حر مسلم
217

فالقول قوله، وقال أبو بكر القول قول القاذف في الرق لأن الأصل براءة ذمته من الحد وهو يدرأ بالشبهات
وما ادعاه محتمل فيكون شبهة وعن الشافعي كالوجهين
ولنا أن الأصل الحرية وهو الظاهر فلم يلتفت إلى ما خالفه كما لو فسر صريح القذف بما يحيله
(مسألة) (ومن قذف محصنا فزال احصانه قبل إقامة الحد عليه لم يسقط الحد عن القاذف)
وبهذا قال الثوري وأبو ثور والمزني وداود، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لاحد عليه لأن
الشروط تجب استدامتها إلى حال إقامة الحد بدليل انه لو ارتد أو جن لم يقم الحد لأن وجود الزنا يقوي
قول القاذف ويدل على تقدم الفسق منه فأشبه الشهادة إذا طرأ الفسق بعد أدائها قبل الحكم بها
ولنا ان الحد قد وجب وتم بشروطه فلم يسقط بزوال شرط الوجوب كما لو زنى بأمة ثم اشتراها
أو سرق عينا فنقصت قيمتها أو ملكها أو كما لو جن المقذوف بعد المطالبة، وقولهم ان الشروط تعتبر
استدامتها قلنا الشروط ههنا للوجوب فيعتبر وجودها إلى حين الوجوب وقد وجب الحد بدليل انه
ملك المطالبة به وتبطل الأصول التي ذكروها بالأصول التي قسنا عليها، وأما إذا جن من وجب
له الحد فلا يسقط الحد وإنما يتأخر استيفاؤه لتعذر المطالبة فأشبه ما لو غاب من له الحد، فإن ارتد من وجب له
الحد لم يملك المطالبة لأن حقوقه واملاكه تزول أو تكون موقوفة، وفارق الشهادة فإن العدالة شرط للحكم
بها فيعتبر وجودها إلى حين الحكم بها بخلاف مسئلتنا فإن العفة شرط للوجوب فلا تعتبر الا إلى حين الوجوب
(فصل) ولو وجب الحد على ذمي أو مرتد ملحق بدار الحرب ثم عاد لم يسقط عنه وقال أبو حنيفة يسقط
ولنا انه حد وجب فلم يسقط بدخول دار الحرب كما لو كان مسلما دخل بأمان
(فصل) ويحد من قذف ابن الملاعنة نص عليه احمد، وهو قول ابن عمر وابن عباس والحسن
218

والشعبي وطاوس ومجاهد ومالك والشافعي وجمهور العلماء ولا نعلم فيه خلافا، وقد روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قضى في الملاعنة أن ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد رواه أبو داود
ولان حضانتها لم تسقط باللعان ولا يثبت الزنا به ولذلك لم يلزمها به حد، ومن قذف ابن الملاعنة فقال هو
ولد زنا فعليه الحد للخبر والمعنى، وكذلك ان قال هو من الذي رميت به، فاما ان قال ليس هو ابن فلان
يعني الملاعن وأراد أنه منفي عنه شرعا فلا حد عليه لأنه صادق
(فصل) فاما ان ثبت زناه ببينة أو اقرار أو حد للزنا فلا حد على قاذفه لأنه صادق ولان احصان المقذوف
قد زال بالزنا. ولو قال لمن زنى في شركه أو من كان مجوسيا تزوج بذات محرم بعد أن أسلم يا زاني فلا
حد عليه إذا فسره بذلك وقال مالك عليه الحد لأنه قذف مسلما لم يثبت زناه في اسلامه
ولنا انه قذف من ثبت زناه أشبه ما لو ثبت زناه في الاسلام لأنه صادق ومقتضى كلام الخرقي وجوب
الحد عليه لقوله ومن قذف من كان مشركا وقال أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله وحد.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (والقذف محرم ما ذكرنا من الآية والخبر والاجماع إلا في موضعين
(أحدهما) ان يرى امرأته تزني في طهر لم يصبها فيه فيعتزلها وتأتي بولد يمكن أن يكون من
الزاني فيجب عليه قذفها ونفيه لأن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزاني لكونها أتت
به لستة أشهر من حين الوطئ فإذا لم ينفه لحقه الولد وورثه وورث أقاربه وورثوا منه ونظر إلى بناته
وأخواته وليس ذلك بجائز فيجب نفيه لإزالة ذلك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أيما امرأة
أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ ولن يدخلها جنته، وأيما رجل جحد ولده
وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين) رواه أبو داود وقوله
(وهو ينظر إليه) يعني يراه منه فكما حرم على المرأة ان تدخل على قوم من ليس منهم فالرجل مثلها
وكذا لو أقرت بالزنا ووقع في نفسه صدقها فهو كما لو رآها
219

(الثاني) ان لا تأتي بولد يجب نفيه مثل ان يراها تزني ولا تأتي بولد يلحقه نسبه أو يكون ثم
ولد لكن لا يعلم أنه من الزنا أو استفاض زناها في الناس أو أخبره ثقة ورأي رجلا يعرف بالفجور يدخل
عليها فيباح قذفها لأنه يغلب على ظنه فجورها ولا يجب لأنه يمكنه مفارقتها وقد روى علقمة أن رجلا أتى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت
على غيظ فذكر أنه يتكلم أو يسكت فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسكوت ههنا أولى إن شاء الله تعالى
لأنه استر ولان قذفها يلزم منه ان يحلف أحدهما كاذبا أو يقر فيفتضح)
(مسألة) (وان أتت بولد يخالف لونه لونهما لم يبح نفيه بذلك وقال أبو الخطاب ظاهر كلامه اباحته)
إذا أتت بولد يخالف لونه لونهما ويشبه رجلا غير والديه لم يبح نفيه بذلك لما روى أبو هريرة قال جاء رجل من بني
فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي جاءت بولد اسود يعرض بنفيه - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (هل لك من إبل قال
نعم قال - فما ألوانها؟ - قال - حمر قال - هل فيها من اورق؟ قال إن فيها لورقا قال - فأنى أتاها ذلك؟ قال عسى أن يكون
نزعه عرق قال - وهذا عسى أن يكون نزعه عرق) قال ولم يرخص له في الانتفاء منه متفق عليه ولان الناس
كلهم من آدم وحواء وألوانهم وخلقهم مختلفة ولولا مخالفتهم شبه والديهم لكانوا على صفة واحدة ولان
دلالة الشبه ضعيفة ودلالة ولادته على الفراش قوية فلا يجوز ترك القوي لمعارضة الضعيف ولذلك لما
تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ورأي النبي صلى الله عليه وسلم شبها بينا بعتبة
الحق الولد بالفراش وترك الشبه وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامد وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي
وذكر القاضي وأبو الخطاب ان ظاهر كلام أحمد جواز نفيه وهو الوجه الثاني لأصحاب
الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث اللعان (ان جاءت به اورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ
الأليتين فهو للذي رميت به) فاتت به على النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لولا الايمان لكان
لي ولها شأن) فجعل الشبه دليلا على نفيه عنه والصحيح الأول وهذا الحديث إنما يدل على نفيه
220

عنه مع ما تقدم من لعانه ونفيه إياه عن نفسه فجعل الشبه مرجحا لقوله دليلا على تصديقه وما تقدم
من الأحاديث يدل على عدم استقلال الشبه بالنفي، ولان هذا كان في موضع زال الفراش وانقطع
نسب الولد عن صاحبه فلا يثبت مع بقاء الفراش المقتضي لحوق النسب بصاحبه وإن كان يعزل عن
امرأته لم يبح له نفيه لما روى أبو سعيد أنه قال يا رسول الله انا نصيب النساء ونحب الأثمان أفنعزل
عنهن؟ فقال (ان الله إذا قضى خلق نسمة خلقها) ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فيعلق)
(فصل) ولا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره لأنه غير مأمون على الكذب عليها ولا برؤيته
رجلا خارجا من عندها من غير أن يستفيض زناها لأنه يجوز أن يكون دخل سارقا أو هاربا أو لحاجة
أو لغرض فاسد فلم تمكنه ولا لاستفاضة ذلك في الناس من غير قرينة تدل على صدقهم لاحتمال أن يكون
أعداؤها أشاعوا ذلك عنها، وفيه وجه أنه يجوز لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة
(فصل) قال رحمه الله وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية فالصريح قوله يا زاني يا عاهر
زنى فرجك مما لا يحتمل غير القذف فلا يقبل قوله بما يحيله لأنه صريح فيه فأشبه التصريح بالطلاق
(مسألة) (وان قال يا لوطي أو يا معفوج فهو صريح في المنصوص عن أحمد وعليه الحد)
إذا قذفه بعمل قوم لوط اما فاعلا أو مفعولا به فعليه حد القذف وبه قال الحسن والنخعي
والزهري ومالك وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وقال عطاء وقتادة وأبو حنيفة لا حد عليه لأنه قذف
بما لا يوجب الحد عنده، وعندنا هو موجب للحد وقد بيناه فيما مضى وكذلك لو قذف امرأة
أنها وطئت في دبرها أو قذف رجلا بوطئ امرأة في دبرها فعليه الحد عندنا وعند أبي حنيفة لا حد
عليه، ومبني الخلاف ههنا على الخلاف في وجوب حد الزنى على فاعل ذلك وقد تقدم الكلام
فيه، فإن قذف رجلا باتيان بهيمة انبنى ذلك على وجوب الحد على فاعله فمن أوجب عليه الحد أوجب
حد القذف على قاذفه ومن لا فلا، وكل مالا يجب الحد بفعله لا يجب الحد على القاذف به كما لو
قذف انسانا بالمباشرة فيما دون الفرج أو بالوطئ بالشبهة أو قذف امرأة بالمساحقة أو بالوطئ مستكرهة
لم يجب الحد على القاذف لأنه رماه بما لا يوجب الحد فأشبه ما لو قذفه باللمس والنظر وكذلك لو قال
221

يا كافر يا فاسق يا سارق يا منافق يا فاجر يا خبيث يا أعور يا اقطع يا أعمى يا مقعد يا ابن الزمن الأعمى
الأعرج فلاحد في ذلك كله لأنه قذفه بما لا يوجب الحد فهو كما لو قال يا كاذب يا نمام ولا نعلم في
هذا خلافا بين أهل العلم ولكنه يعزر لسب الناس وأذاهم فأشبه ما لو قذف من لا يوجب قذفه الحد
(مسألة) (فإن قال أردت بقولي يا لوطي أنك تعمل عمل قوم لوط فقال الخرقي لا حد عليه وهو بعيد)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فروى عنه جماعة أنه يجب عليه الحد بقوله يا لوطي
ولا يسمع تفسيره بما يحيل القذف وهو اختيار أبي بكر ونحوه قال الزهري ومالك (والثانية) لا حد عليه نقلها
المروذي ونحو هذا قال الحسن والنخعي، قال الحسن إذا قال نويت ان دينه دين لوط فلا حد عليه، وان قال
أردت أنه يعمل عمل قوم لوط فعليه الحد. ووجه ذلك أنه فسر كلامه بما لا يوجب الحد فلم يجب عليه
حد كما لو فسره به متصلا بكلامه. وعن أحمد رواية ثالثة أنه إذا كان في غضبه قال إنه لأهل ان يقام
عليه الحد لأن قرينة الغضب تبدل على إرادة القذف بخلاف حال الرضاء والصحيح في المذهب الرواية
الأولى لأن هذه الكلمة لا يفهم منها إلا القذف بعمل قوم لوط فكانت صريحة فيه كقوله يا زاني ولان قوم
لوط لم يبق منهم أحد فلا يحتمل ان ينسب إليهم
(مسألة) (فإن قال أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير اتيان الرجال احتمل وجهين)
نحو ان يقول أردت أنك على دين لوط أو أنك تحب الصبيان وتقبلهم أو تنظر إليهم أو انك
تتخلق باخلاق قوم لوط في أنديتهم غير اتيان الفاحشة أو انك تنهى عن الفاحشة كنهي لوط عنها
ونحو ذلك خرج في ذلك كله وجهان بناء على الروايتين المنصوصتين في المسألة المذكورة لأن هذا في معناه
(فصل) وان قال يا معفوج فالمنصوص عن أحمد ان عليه الحد وكلام الخرقي يقتضي انه يرجع إلى تفسيره
فإن فسره بغير الفاحشة مثل ان قال أردت يا مفلوج أو مصابا دون الفرج ونحو ذلك فلا حد عليه لأنه فسره بما
لا حد فيه، وان فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد كما لو صرح به ووجه القولين ما تقدم في التي قبلها
222

(مسألة) (وإن قال لست بولد فلان فقد قذف أمه)
إذا نفى رجلا عن أبيه فعليه الحد لأنه قذف أمه نص عليه احمد الا أنه يسأل عما أراد فإن فسره بالقذف فهو قاذف
وإن كان منفيا باللعان ثم استلحقه أبوه فهو قذف أيضا نص عليه، وان لم يكن استلحقه فلا حد لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى
الولد المنفي باللعان عن أبيه الا أن يفسره بان أمه زنت فيكون قاذفا وان لم يكن كذلك فهو قذف في الظاهر
للام لأنه لا يكون لغير أبيه الا بزنى أمه ويحتمل ان لا يكون قذفا لأنه يجوز أن يريد أنك لا تشبهه
في كرمه وأخلاقه وكذلك ان نفاه عن قبيلته، وبهذا قال النخعي وإسحاق وبه قال أبو حنيفة والثوري
وحماد إذا نفاه عن أمه وكانت أمه مسلمة حرة، وان كانت ذمية أو رقيقة فلا حد عليه لأن القذف لها
ووجه الأول ما روى الأشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقول (لا اوتى برجل يقول إن كنانة
ليست من قريش الا جلدته) وعن ابن مسعود أنه قال لا جلد الا في اثنين رجل قذف محصنة أو نفى رجلا عن
أبيه وهذا لا يقوله الا توقيفا فاما ان نفاه عن أمه فلا حد عليه لأنه لم يقذف أحدا بالزنى، وكذلك إن قال
إن لم تفعل كذا فلست بابن فلان لأن القذف لا يتعلق بالشرط قال شيخنا والقياس يقتضي ان لا يجب
الحد بنفي الرجل عن قبيلته لأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا فأشبه ما لو قال للأعجمي إنك عربي
(مسألة) (وإن قال لست بولدي فعلى وجهين)
(أحدهما) أنه يكون قذفا لها لأنه إذا لم يكن ولده كان لغيره فأشبه ما لو قال لأجنبي لست
بولد فلان فإنه يكون قذفا لامه كذا ههنا
(والثاني) لا يكون قاذفا قاله القاضي لأن للرجل أن يغلظ لولده في القول والفعل
(مسألة) (وإن قال أنت أزنى الناس أو أزنى من فلانة فهو قاذف له لأنه أضاف إليه الزنا
بصفة المبالغة وهذا قول أبي بكر
223

وأما الثاني ففيه وجهان (أحدهما) يكون قاذفا له اختاره القاضي لأنه أضاف الزنا إليهما وجعل
أحدهما فيه أبلغ من الآخر فإن لفظة أفعل التفضيل تقتضي اشتراك المذكورين في أصل الفعل
وتفضيل أحدهما على الآخر فيه كقوله أجود من حاتم
(والثاني) يكون قاذفا للمخاطب خاصة لأن لفظه أفعل تستعمل للمنفرد بالفعل كقوله تعالى
(أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى؟) وقال تعالى (فأي الفريقين
أحق بالأمن؟) وقال لوط (بناتي هن أطهر لكم) اي من أدبار الرجال ولا طهارة فيهم وقال الشافعي
وأصحاب الرأي ليس بقذف للأول ولا للثاني إلا أن يريد به القذف وهو قول ابن حامد
ولنا أن موضوع اللفظ يقتضي ما ذكرنا فحمل عليه كما لو قال أنت زان
(مسألة) (وإن قال لرجل يا زانية أو لامرأة يا زان أو قال زنت يداك ورجلاك فهو صريح
في القذف في قول أبي بكر وليس بصريح عند ابن حامد)
أما إذا قال لرجل يا زانية أو لامرأة يا زان فاختار أبو بكر انه صريح في قذفهما وهو مذهب
الشافعي واختار ابن حامد انه ليس بقذف الا ان يفسره به وهو قول أبي حنيفة لأنه يحتمل انه يريد
بقوله يا زانية أي يا علامة في الزنا كما يقال للعالم علامة وللكثير الرواية راوية ولكثير الحفظ حفظة
ولنا ان ما كان قذفا لاحد الجنسين كان قذفا للآخر كقوله زنيت بفتح التاء وبكسرها لهما
جميعا ولان هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها
وكذلك لو قال للمرأة يا شخصا زانيا وللرجل يا نسمة زانية كان قاذفا، وقولهم انه يريد بذلك انه
علامة في الزنا لا يصح فإن ما كان اسما للفعل إذا دخلته الهاء كانت للمبالغة كقولهم حفظة وراوية
للمبالغة في الرواية كذلك همزة ولمزة وصرعة ولان كثيرا من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر
ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادا بما يراد باللفظ الصحيح، وان قال زنت يداك أو رجلاك
لم يكن قاذفا في ظاهر المذهب وهو قول ابن حامد لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحد بدليل
224

قول النبي صلى الله عليه وسلم (العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان
وزناهما المشي) ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه وفيه وجه آخر أنه يكون قذفا لأنه أضاف الزنى إلى
عضو منه فأشبه ما لو اضافه إلى الفرج والأولى ان يرجع إلى تفسيره
(مسألة) (وإن قال زنأت في الجبل مهموزا فهو صريح عند أبي بكر، وقال ابن حامد
إن كان يعرف العربية فليس بصريح)
إذا قال زنات في الجبل بالهمز فهو صريح عند أبي بكر وأبي الخطاب لأن عامة الناس لا يفهمون
من ذلك إلا القذف فكان قذفا كما لو قال زنيت وقال ابن حامد إن كان عاميا فهو قذف لأنه لا يريد به
إلا القذف وإن كان من أهل العربية لم يكن قذفا لأن معناه في العربية طلعت كقول الشاعر * وارق
إلى الخيرات زنأ في الجبل * فالظاهر أنه يريد موضوعه ولأصحاب الشافعي في كونه قذفا وجهان، وإن
قال زنأت ولم يقل في الجبل فالحكم كالتي قبلها، وقال الشافعي ومحمد بن الحسن ليس بقذف،
قال الشافعي ويستحلف على ذلك
ولنا انه إذا كان عاميا لا يعرف موضوعه في اللغة تعين مراده في القذف ولم يفهم منه سواه
فوجب أن يكون قذفا كما لو فسره بالقذف أو لحن لحنا غير هذا
(فصل) إذا قال لرجل زنيت بفلانة كان قذفا لهما وقد نقل عن أبي عبد الله انه سئل عن رجل
قال لرجل يا ناكح أمه ما عليه؟ قال إن كانت أمه حية فعليه للرجل حد ولامه حد، وقال مهنا:
سألت أبا عبد الله إذا قال الرجل للرجل يا زاني ابن الزاني؟ قال: عليه حدان قلت أبلغك في هذا
225

شئ؟ قال مكحول قال فيه حدان، وإن أقر انسان أنه زنى بامرأة فهو قاذف لها سواء لزمه حد الزنا
باقراره أو لم يلزمه، وبهذا قال ابن المنذر وأبو ثور ونسبه مذهبا للشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزمه
حد القذف لأنه يتصور منه الزنا بغير زناها لاحتمال أن تكون مكرهة أو موطوءة بشبهة
ولنا ما روى ابن عباس أن رجلا من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع
مرات فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة وكان بكرا ثم سأله البينة على المرأة فقال كذب والله يا رسول الله فجلده
حد الفرية ثمانين، والاحتمال الذي ذكره لا ينافي الحد بدليل ما لو قال يا نايك أمه فإنه يلزمه الحد
مع احتمال أن يكون فعل ذلك بشبهة، وقد روي عن أبي هريرة أنه جلد رجلا قال لرجل ذلك ويتخرج
لنا مثل قول أبي حنيفة بناء على ما إذا قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت، فإن أصحابنا قالوا لا حد
عليها في قولها: بك زنيت، لاحتمال وجود الزنا به مع كونه واطئا بشبهة ولا يجب الحد عليه لتصديقها
إياه وقال الشافعي عليه الحد دونها وليس هذا باقرار صحيح
ولنا أنها صدقته فلم يلزمه حد كما لو قال يا زانية أنت أزنى مني فقال أبو بكر هي كالتي قبلها
في سقوط الحد ويلزمها له ههنا حد القذف بخلاف التي قبلها فإنها أضافت الزنا إليه، وفي التي قبلها
أضافته إلى نفسها.
(مسألة) (والكنايات نحو قوله لامرأته قد فضحته وغطيت أو نكست رأسه وجعلت له
قرونا وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه أو يقول لمن يخاصمه يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس
بالزنا يا عفيفة أو يا فاجرة يا قحبة يا خبيثة أو يقول لعربي يا نبطي يا فارسي يا رومي، أو يسمع رجلا
يقذف رجلا فيقول صدقت أو اخبرني فلان انك زنيت وكذبه الآخر فهذا كناية ان فسره
بما يحتمله غير القذف قبل قوله في أحد الوجهين وفي الآخر هذا كله صريح)
226

ظاهر كلام الخرقي أن الحد لا يجب على القاذف إلا باللفظ الصريح الذي لا يحتمل غير القذف
وهو أن يقول يا زاني أو ينطق باللفظ الحقيقي في الجماع، فأما ما عداه من الألفاظ فيرجع فيه إلى تفسيره
كما ذكر في قوله يا لوطي يا معفوج، فلو قال لرجل يا مخنث ولامرأة يا قحبة وفسره بما ليس بقذف
نحو أن يريد بالمخنث أن فيه طباع التأنيث والتشبه بالنساء ويا قحبة أنها تستعد لذلك فلا حد عليه
وكذلك إذا قال يا فاجرة يا خبيثة.
وحكي أبو الخطاب في هذا رواية أخرى أنه كله صريح يجب به الحد، والصحيح الأول.
قال احمد في رواية حنبل: لا أرى الحد إلا على من صرح بالقذف والشتيمة، وقال ابن المنذر الحد
على من نصب الحد نصبا ولأنه قول يحتمل غير الزنا فلم يكن صريحا في القذف كقوله: يا فاسق،
وكذلك إذا قال أردت بالنبطي نبطي اللسان أو فارسي الطبع أو رومي الخلقة فإنه لا حد عليه، وعنه
فيمن قال يا فارسي أنه يحد لأنه جعله لغير أبيه، والأول أصح لأنه يحتمل ما ذكرناه فلا يكون قذفا
وكذلك إن قال أفسدت عليه فراشه اي خرقت فراشه أو أتلفته، وفي قوله علقت عليه أولادا من
غيره أي التقطت ولدا وذكرت انه ولده فإن فسر شيئا من ذلك بالزنا فلا شك في كونه قذفا. ومن
صور التعريض أن يقول لزوجة الآخر قد فضحته وغطيت أو نكست رأسه وجعلت له قرونا
وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه فذكر أبو الخطاب في جميع ذلك روايتين، وذكر
أبو بكر عبد العزيز أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في التعريض بالقذف مثل ان يقول لمن يخاصمه ما أنت بزان
ما يعرفك الناس بالزنا يا حلال ابن الحلال ويقول ما انا بزان ولا أمي بزانية فروى عنه حنبل انه لا حد عليه
وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر وبه قال عطاء وعمرو بن دينار وقتادة والثوري والشافعي وأبو ثور
227

وأصحاب الرأي وابن المنذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل ان امرأتي ولدت غلاما
اسود يعرض بنفيه فلم يلزمه بذلك حد ولاغيره، وقد فرق الله تعالى بين التعريض بالخطبة والتصريح
بها فأباح التعريض وحرم التصريح وكذلك في القذف ولان كل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفا
كقوله يا فاسق. وروى الأثرم وغيره ان عليه الحد روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال
إسحاق لأن عمر حين شاورهم في الذي قال لصاحبه ما أبى بزان ولا أمي بزانية فقالوا قد مدح أباه
وأمه فقال عمر قد عرض بصاحبه فجلده الحد وروى الأثرم أن عثمان جلد رجلا قال لآخر يا ابن
سافة (1) الوذر يعرض له بزنا أمه والوذر قدر اللحم يعرض بكمر الرجال ولان الكناية مع القرينة الصارفة
إلى أحد محتملاتها كالتصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بها، فأما ان لم يكن
في حال الخصومة ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف فلا شك في أنه لا يكون قذفا
(فصل) فأما ان قال لرجل يا ديوث يا كشحان فقال أحمد يعزر قال إبراهيم الحربي الديوث الذي يدخل
الرجال على امرأته وقال ثعلب القرطبان الذي يرضى ان يدخل الرجال على نسائه وقال القرنان والكشحان
لم أرهما في كلام العرب ومعناه عند العامة مثل معنى الديوث أو قريبا منه فعلى القاذف به التعزيز على قياس
قوله في الديوث لأنه قذفه بما لا حد فيه وقال خالد بن يزيد عن أبيه في الرجل يقول للرجل يا قرنان
إذا كان له أخوات أو بنات في الاسلام ضرب الحد يعني أنه قاذف لهن وقال خالد عن أبيه
القرنان عند العامة من له بنات والكشحان من له أخوات يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن
والقواد عند العامة السمسار في الزنا، والقذف بذلك كله يوجب التعزير لأنه قذف بما لا يوجب الحد
(مسألة) (أو يسمع رجلا يقذف فيقول صدقت أو أخبرني فلان أنك زنيت وكذبه
228

الآخر فهو كناية إذا فسره بما يحتمله غير القذف قبل في قوله في أحد الوجهين وفي الآخر صريح)
إذا سمع رجلا يقذف فقال صدقت فالمصدق قاذف في أحد الوجهين لأن تصديقه ينصرف
إلى ما قاله، بدليل ما لو قال لي عليك الف فقال صدقت كان اقرارا بها، ولو قال اعطني ثوبي هذا قال
صدقت كان اقرارا، وفيه وجه آخر لا يكون قاذفا وهو قول زفر لأنه يحتمل أن يكون أراد تصديقه
في غير القذف، ولو قال اخبرني فلان انك زنيت لم يكن قاذفا سواء صدقه المخبر عنه أو كذبه وبه
قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وفيه وجه آخر أنه يكون قاذفا إذا كذبه الآخر وذكره
أبو الخطاب وبه قال عطاء ومالك ونحوه عن الزهري لأنه أخبر بزناه
ولنا انه إنما أخبر انه مقذوف فلم يكن قذفا كما لو شهد على رجل انه قذف رجلا
(مسألة) (وان قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور الزنا من جميعهم عزر ولم يحد)
لأنه لا عار على المقذوف بذلك للقطع بكذب القاذف ويعزر على ما اتى به من المعصية والزور
فهو كما لو سبهم بغير القذف
(مسألة) (وإن قال لامرأته يا زانية قالت بك زنيت لم تكن قاذفة)
لأنها صدقته فيما قال فلم يجب عليه حد كما لو قالت صدقت، ولا يجب عليها حد القذف لأنه
يمكن الزنا منها به من غير أن يكون زانيا بأن يكون قد وطئها بشبهة ولا يجب عليها حد الزنا
لأنها لم تقر أربع مرات
(مسألة) (وإن قال لرجل اقذفني فقذفه فهل يحد أو يعزر؟ على وجهين)
وهذا مبني على الاختلاف في حد القذف إن قلنا هو حق لله تعالى وجب عليه ولم يسقط
بالاذن فيه كالزنا، وإن قلنا هو حق لآدمي لم يجب عليه الحد كما لو أذن في اتلاف ماله ويعزر
لأنه فعل محرما لا حد فيه.
229

(مسألة) (وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الام في الحياة، وان قذفت
وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة حد القاذف إذا طالب الابن وكان حرا مسلما ذكره
الخرقي وقال أبو بكر لا يجب الحد بقذف ميتة)
أما إذا قذفت وهي في الحياة فليس لولدها المطالبة لأن الحق لها فلا يطالب به غيرها ولا يقوم غيرها
مقامها سواء كان محجورا عليها أو غير محجور عليها لأنه حق ثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير
المستحق مقامه كالقصاص، وتعتبر حصانتها لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد، وأما
ان قذفت وهي ميتة فإن لولدها المطالبة لأنه قدح في نسبه لأنه بقذف أمه ينسبه إلى أنه من زنا ولا
يستحق ذلك بطريق الإرث فلذلك تعتبر الحصانة فيه ولا تعتبر الحصانة في أمه لأن القذف له،
وقال أبو بكر: لا يجب الحد بقذف ميتة بحال وهو قول أصحاب الرأي لأنه قذف لمن لا تصح منه
المطالبة فأشبه قذف المجنون، وقال الشافعي إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة وينقسم بانقسام
الميراث، وان لم يكن محصنا فلا حد على قاذفه لأنه ليس بمحصن فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان
حيا، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من لم يقذف محصنا حيا ولا ميتا لأنه إذا لم يحد بقذف
غير المحصن إذا كان حيا فلان لا يحد بقذفه بعد موته أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في ابن الملاعنة (من رمى ولدها فعليه الحد) يعني من رماه بأنه ولد
زنا، وإذا وجب بقذف ابن الملاعنة بذلك فبقذف غيره أولى، ولان أصحاب الرأي أوجبوا الحد
على من نفى رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين وان كانا ميتين والحد إنما وجب للولد لأن
الحد لا يورث عندهم، فأما ان قذفت أمه بعد موتها وهو مشرك أو عبد فلا حد عليه في ظاهر
230

كلام الخرقي سواء كانت الام حرة مسلمة أو لم تكن، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي إذا قال لكافر أو عبد
لست لأبيك وأبواه حران مسلمان فعليه الحد، وان قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد لست لأبيك
فعليه الحد، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور، وقال أصحاب الرأي يستقبح أن يحد المولى لعبده
واحتجوا بأن هذا قذف لامه فيعتبر احصانها دون احصانه لأنها لو كانت حية كان القذف لها
فكذلك إذا كانت ميتة ولان معنى هذا ان أمك زنت فأتت بك من الزنا وإذا كان الزنا منسوبا
إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها
ولنا ما ذكرناه ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد لأن الكافر لا يرث المسلم والعبد لا
يرث الحر ولأنهم لا يوجبون الحد بقذف ميتة بحال فثبت ان القذف له فيعتبر احصانه دون احصانها
(فصل) فإن قذفت جدته فقياس قول الخرقي أنه كقذف أمه ان كانت حية فالحق لها وتعتبر
حصانتها وليس لغيرها المطالبة عنها، وان كانت ميتة فله المطالبة إذا كان محصنا لأن ذلك قدح
في نسبه، فأما ان قذف أباه أو جده أو أحدا من أقاربه غير أمهاته بعد موته لم يجب الحد بقذفه
في ظاهر كلام الخرقي لأنه إنما وجب الحد بقذف أمه حقا له لنفي نسبه لاحقا للميت ولهذا لم يعتبر
احصان المقذوفة واعتبر احصان الولد وإذا كان المقذوف من غير أمهاته لم يتضمن نفي نسبه فلم
يجب الحد وهذا قول أبي بكر وأصحاب الرأي، وقال الشافعي إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة
به وينقسم انقسام الميراث لأنه قذف محصنا فيجب الحد على قاذفه كالحي
ولنا أنه قذف من لا يتصور منه المطالبة فلم يجب الحد بقذفه كالمجنون أو نقول قذف من لا
يجب الحد له فلم يجب كقذف غير المحصن وفارق قذف الحي فإن الحد يجب له
(مسألة) (وان مات المقذوف سقط الحد عن القاذف)
إذا كان قبل المطالبة بالحد ولم يجب، وان مات بعد المطالبة قام وارثه مقامه ولأنه حق له
231

يجب بالمطالبة أشبه رجوع الأب فيما وهب ولده وكالشفعة تسقط بموت الشفيع قبل المطالبة دون ما بعدها
(مسألة) (وان قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما كان أو كافرا)
يعني ان حده القتل ولا تقبل توبته نص عليه أحمد، وحكي أبو الخطاب رواية أخرى أن
توبته تقبل، وبه قال أبو حنيفة والشافعي مسلما كان أو كافرا لأن هذا منه ردة والمرتد
يستتاب وتصح توبته.
ولنا أن هذا حد قذف فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه لو قبلت توبته وسقط
حده لكان أخف حكما من قذف آحاد الناس لأن قذف غيره لا يسقط بالتوبة ولابد من إقامته
واختلفت الرواية فيما إذا كان القاذف كافرا فأسلم فروي انه لا يسقط باسلامه لأنه حد قذف فلم
يسقط بالاسلام كقذف غيرها، وروي أنه يسقط لأنه لو سب الله سبحانه وتعالى في كفره ثم أسلم
سقط عنه القتل فسب نبيه أولى ولان الاسلام يجب ما قبله والخلاف في سقوط القتل عنه، فأما توبته
فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة فإن الله تعالى يقبل التوبة من الذنوب كلها والحكم في قذف النبي
صلى الله عليه وسلم كالحكم في قذف أمه لأن قذف أمه إنما أوجب القتل لكونه قذفا للنبي
صلى الله عليه وسلم وقدحا في نسبه.
(فصل) وقذف النبي صلى الله عليه وسلم وقذف أمه ردة عن الاسلام وخروج عن الملة وكذلك سبه
بغير القذف إلا أن سبه بغير القذف يسقط بالاسلام لأن سب الله سبحانه وتعالى يسقط بالاسلام
فسب النبي صلى الله عليه وسلم أولى وقد جاء في الأثر ان الله تعالى يقول (شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني
أما شتمه إياي فقوله اني اتخذت ولدا وانا لم ألد ولم أولد) ولا خلاف في أن اسلام النصراني
القائل لهذا القول يصح.
232

(مسألة) (ومن قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم وعنه ان
طالبوا متفرقين حد لكل واحد حدا)
أما إذا قذف الجماعة بكلمة واحدة فالمشهور في المذهب أنه لا يلزمه الا حد واحد إذا طالبوا أو
واحد منهم، وبهذا قال طاوس والزهري والشعبي والنخعي وقتادة وحماد ومالك والثوري وأبو
حنيفة وصاحباه وابن أبي ليلى وإسحاق وعنه رواية ثانية أنه يحد لكل واحد حدا كاملا وبه قال
الحسن وأبو ثور وابن المنذر، وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم فلزمه
له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات.
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
لم يفرق بين قذف واحد أو جماعة ولان الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة فلم يحدهم عمر الا حدا
واحدا، ولأنه قذف واحد فلم يجب الا حد واحد كما لو قذف واحدا ولان الحد إنما وجب بادخال
المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف وتزول المعرة فوجب ان يكتفي به
بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفا مفردا فإن كذبه في قذف لا يلزم منه كذبه في الآخر ولا تزول
المعرة عن أحد المقذوفين بحده الآخر. إذا ثبت هذا فإنهم ان طلبوا جملة حد لهم وان طلبه واحد
أقيم الحد لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل فأيهم طالب به استوفي وسقط فلم يكن لغيره الطلب
به كحق المرأة على أوليائها في تزويجها إذا قام به واحد سقط عن الباقين وان أسقطه أحدهم فلغيره
المطالبة به واستيفاؤه لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه وليس للعافي الطلب به لأنه قد أسقط حقه
منه وعن أحمد رواية ثالثة انهم ان طلبوه دفعة واحدة فحد واحد وكذلك ان طلبوه واحدا بعد
233

واحد الا انه ان لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد وان طلبه فأقيم له ثم طلبه آخر أقيم له وكذلك
جميعهم وهذا قول عروة لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع استيفاؤه لجميعهم فإذا طلبه واحد منهم
كان استيفاؤه له وحده فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ولا اسقاطهم.
(مسألة) (وان قذفهم بكلمات حد لكل واحد حدا).
وبهذا قال عطاء والشعبي وقتادة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة والشافعي وقال حماد ومالك لا يجب
الا حد واحد لأنها جناية توجب حدا فإذا تكررت كفى حد واحد كما لو سرق من جماعة أو زنى
بنساء أو شرب أنواعا من المسكر
ولنا انها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص وفارق ما قاسوا عليه فإنه حق الله تعالى
(فصل) إذا قال لرجل يا ابن الزانيين فهو قاذف لما بكلمة واحدة، فإن كانا ميتين ثبت الحق
لولدهما ولم يجب إلا حد واحد وجها واحدا، وان قال يا زاني ابن الزاني فهو قذف لهما بكلمتين فإن
كان أبوه حيا فلكل واحد منهما حد وإن كان ميتا فالظاهر في المذهب انه لا يجب الحد بقذفه وان قال
يا زاني ابن الزانية وكانت أمة (أمه) في الحياة فكل واحد حد، وان كانت ميتة فالقذفان جميعا له، وان قال زنيت
بفلانة فهو قذف لهما بكلمة واحدة وكذلك إذا قال يا ناكح أمه ويخرج فيها الروايات الثلاث
(مسألة) (وان حد للقذف فأعاده لم يعد عليه الحد أما إذا قذف رجل مرات ولم يحد فحد
واحد رواية واحدة سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات، وان قذفه فحد ثم أعاد قذفه وكان قذفه بذلك
الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد في قول عامة أهل العلم وحكي عن ابن القسم انه أوجب
حدا ثانيا وهذا يخالف إجماع الصحابة فإن أبا بكرة لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا عليه حدا
ثانيا فروى الأثرم باسناده عن ظبيان بن عمارة قال شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر انه زنى
234

فبلغ ذلك عمر فكبر عليه وقال شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة وجاء زياد فقال ما عندك؟ فلم يثبت
فأمر بهم فجلدوا وقال شهود زور فقال أبو بكرة أليس ترضى ان اتاك رجل عدل يشهد برجمه؟ قال
نعم والذي نفسي بيده قال أبو بكرة وأنا أشهد انه زان فأراد أن يعيد عليه الجلد فقال علي يا أمير
المؤمنين انك ان أعدت عليه الجلد أوجبت عليه الرجم وفي حديث آخر فلا يعاد في فرية جلد مرتين
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله قول علي ان جلدته فارجم صاحبك قال كأنه جعل شهادته شهادة
رجلين قال أبو عبد الله وكنت انا أفسره على هذا حتى رأيته في الحديث فأعجبني ثم قال يقول إذا
235

جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدا آخر، فأما ان حد له ثم قذفه بزنا ثان نظرت فإن قذفه بعد طول
الفصل فحد ثان لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف ابدا بحيث يتمكن من قذفه بكل
حال، وان قذفه عقيب حده ففيه روايتان.
(إحداهما) يحد أيضا لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد فيلزمه فيه حد كما لو طال الفصل ولان
236

سائر أسباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه كالزنا والسرقة وغيرهما من
الأسباب (والثانية) لا يحد لأنه قد حد له مرة فلم يحد له بالقذف عقيبه كما لو قذفه بالزنا الأول
(فصل) إذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل فلا حد عليه في قول أحد من أهل العلم
وكذلك ان اختلف رجلان في شئ فقال أحدهما الكاذب هو ابن الزانية فلا حد عليه، نص عليه
احمد لأنه لم يعين أحدا بالقذف وكذلك ما أشبه هذا.
(فصل) إذا ادعى على رجل انه قذفه فأنكر لم يستحلف وبه قال الشعبي وحماد والثوري
237

وأصحاب الرأي وعن أحمد انه يستحلف حكاها ابن المنذر وهو قول الزهري ومالك والشافعي وإسحاق
وأبي ثور وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم ولكن اليمين على المدعى عليه ولأنه حق لآدمي فيستحلف
فيه كالدين ووجه الأول انه حد فلا يستحلف فيه كالزنا والسرقة فإن نكل عن اليمين لم يقم عليه الحد
لأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يقضى فيه بالنكول كسائر الحدود.
238

باب القطع في السرقة
الأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع، اما الكتاب فقول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما) واما السنة فروت عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (تقطع اليد في ربع دينار) فصاعدا وقال النبي
صلى الله عليه وسلم (إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف
قطعوه) متفق عليه في أخبار سوى هذه نذكرها إن شاء الله تعالى في مواضعها، وأجمع المسلمون
على وجوب قطع السارق في الجملة
(مسألة) (ولا يجب إلا بسبعة شروط) (أحدها) السرقة وهي أخذ المال على وجه الاختفاء
ومنه استراق السمع ومسارقة النظر إذا كان يستخفي بذلك
(مسألة) ولا قطع على منتهب ولا مختلس ولا غاصب ولا خائن ولا جاحد وديعة ولا عارية
وعنه يقطع جاحد العارية)
لا يقطع مختطف ولا مختلس عند أحد علمناه غير إياس بن معاوية قال اقطع المختلس ولأنه
يستخفي بأخذه فيكون سارقا، وأهل الفقه والفتوى من علماء الأمصار على خلافه وقد روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على الخائن ولا المختلس قطع) وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (ليس على
239

المنتهب قطع) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على الخائن والمختلس قطع) رواهما أبو داود وقال لم
يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير ولان الواجب قطع السارق وهذا غير سارق ولان الاختلاس نوع
من الخطف والنهب، إنما استخفى في ابتداء اختلاسه بخلاف السارق
(فصل) ولا يقطع جاحد الوديعة ولا غيرها من الأمانات لا نعلم فيه خلافا فاما جاحد العارية فقد
اختلف عن أحمد رحمه الله فيه فعنه أنه يقطع وهو قول إسحاق لما روت عائشة قالت كانت امرأة
تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال
النبي صلى الله عليه وسلم (الا أراك تكلمني في حد من حدود الله؟) ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال (إنما هلك
من كان من قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي
نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) قالت فقطع يدها، قال أحمد لا اعرف شيئا
يدفعه متفق عليه وعن أحمد رواية ثانية أنه لا قطع عليه وهو قول الخرقي وأبي إسحاق بن شاقلا
وأبي الخطاب وسائر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول رسول صلى الله عليه وسلم (لا قطع على الخائن)
ولان الواجب قطع السارق والخائن ليس بسارق فأشبه جاحد الوديعة فاما المرأة التي كانت تستعير
المتاع فإنما قطعت لسرقتها لا لجحدها: الا تسمع قوله (ذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم
الضعيف قطعوه) وقوله (والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) وفي بعض ألفاظ
240

رواة هذه القصة عن عائشة ان قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت وذكر القصة رواه البخاري
وفي حديث أنها سرقت قطيفة فروى الأثرم باسناده عن مسعود بن الأسود قال لما سرقت المرأة تلك
القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك وكانت امرأة من قريش فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا نحن
نفديها بأربعين أوقية فقال (تطهر خير لها) فلما سمعنا لين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم اتينا أسامة فقلنا كلم
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث بنحو سياق حديث عائشة وهذا ظاهر في أن القصة واحدة
وانها سرقت فقطعت لسرقتها وإنما عرفتها عائشة بجحدها للعارية لكونها مشهورة بذلك ولا يلزم
أن يكون ذلك سببا كما لو عرفتها بصفة من صفاتها، وفيما ذكرناه جمع بين الأحاديث وموافقة لظاهر
الأحاديث والقياس وفقهاء الأمصار فيكون أولى
(مسألة) (ويقطع الطرار وهو الذي يبط الجيب وغيره ويأخذ منه وعنه لا يقطع)
قال احمد الطرار سرا يقطع وان اختلس لم يقطع، ومعنى الطرار الذي يسرق من جيب الرجل
أو كمه أو صفنه وسواء بط ما أخذ منه المسروق أو قطع الصفن فأخذه أو ادخل يده في الجيب فاخذ
ما فيه فإن عليه القطع، وروي عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل وكمه لاقطع عليه وفي ذلك
روايتان (إحداهما) يقطع لأنه سرق من حرز (والثانية) لا يقطع كالمختلس
241

(فصل) الثاني أن يكون المسروق مالا محترما سواء كان مما يسرع إليه الفساد كالفاكهة والبطيخ
أولا وسواء كان ثمينا كالمتاع والذهب أو غير ثمين كالخشب والقصب وكذلك يقطع بسرقة الأحجار
والصيد والنورة والجص والزرنيخ والتوابل والفخار والزجاج وغيره وبه قال مالك والشافعي
وأبو ثور، وقال أبو حنيفة لا قطع على سارق الطعام الرطب الذي يتسارع إليه الفساد كالفواكه
والطبائخ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا قطع في ثمر ولا كثر) رواه أبو داود ولان هذا معرض للهلاك
أشبه ما لم يحرز، ولا قطع فيما كان أصله مباحا في دار الاسلام كالصيود والخشب الا في الساج والأبنوس
والصندل والقنا والمعمول من الخشب فإنه يقطع به وما عدا هذا لا يقطع به لأنه يوجد كثيرا مباحا
في دار الاسلام فأشبه التراب، ولا قطع في القرون وان كانت معمولة لأن الصنعة لا تكون غالبة عليها
بل القيمة لها بخلاف معمول الخشب ولا قطع عنده في التوابل والنورة والجص والزرنيخ والملح
والحجارة واللبن والزجاج والفخار وقال الثوري ما يفسد في يومه كالثريد واللحم لا قطع فيه
ولنا عموم قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وروى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فذكر الحديث ثم قال (ومن سرق منه شيئا
بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع) رواه أبو داود وغيره وروي ان عثمان رضي الله عنه
أتي برجل قد سرق أترجة فأمر بها عثمان فأقيمت فبلغت قيمتها ربع دينار فأمر به عثمان فقطع رواه
242

سعيد ولان هذا مال يتمول عادة ويرغب فيه فيقطع سارقه إذا اجتمعت الشروط كالمجفف ولان
ما وجب القطع في معموله وجب فيه قبل العمل كالذهب والفضة، وحديثهم أراد به الثمر المعلق بدليل
حديثنا فإنه مفسر له وتشبيهه بغير المحرز لا يصح لأن غير المحرز مضيع وهذا محفوظ ولهذا افترق
سائر الأموال بالحرز وعدمه، وقولهم يوجد مباحا في دار الاسلام ينتقض بالذهب والفضة والحديد
والنحاس وسائر المعادن
(مسألة) (ويقطع بسرقة العبد الصغير في قول عامة أهل العلم)
قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم الحسن ومالك والثوري والشافعي
وأبو ثور وأصحاب الرأي، والصغير الذي يقطع بسرقته هو الذي لا يميز فإن كان كبيرا لم يقطع سارقه الا
أن يكون نائما أو مجنونا أو أعجميا لا يميز بين سيده وغيره في الطاعة فيقطع سارقه، وقال أبو يوسف
لا يقطع سارق العبد وإن كان صغيرا لأن من لا يقطع بسرقته كبيرا لا يقطع بسرقته صغيرا كالحر
ولنا انه سرق مالا مملوكا تبلغ قيمته نصابا فوجب القطع عليه كسائر الحيوانات وفارق الحر
فإنه ليس بمال ولا مملوك وفارق الكبير لأنه لا يسرق وإنما يخدع بشئ فإن كان المسروق في حال
نومه أو جنونه أم ولد ففي قطع سارقها وجهان (أحدهما) لا يقطع لأنها لا يحل بيعها ولا نقل الملك
243

فيها فأشبهت الحرة (والثاني) يقطع لأنها مملوكة تضمن بالقيمة فأشبهت القن وحكم المدبر حكم القن
لأنه يجوز بيعه ويضمن بقيمته، فاما المكاتب فلا يقطع سارقه لأن ملك سيده ليس بتام عليه لكونه
لا يملك منافعه ولا استخدامه ولا اخذ أرش الجناية عليه ولو جنى السيد عليه لزمه له الأرش ولو
استوفى منافعه كرها لزمه عوضها ولو حبسه لزمه اجرة مدة حبسه أو انظاره مقدار تلك المدة، ولا يجب
القطع لأجل ملك المكاتب في نفسه لأن الانسان لا يملك نفسه فأشبه الحر فاما ان سرق مال المكاتب
فعليه القطع لأن ملك المكاتب ثابت في مال نفسه الا أن يكون السارق سيده فلا قطع عليه لأن له
في ماله حقا وشبهة تدرأ الحد ولذلك لو وطئ جاريته لم يحد
(مسألة) (ولا يقطع بسرقة حر وإن كان صغيرا وعنه انه يقطع بسرقة الصغير)
ظاهر المذهب انه لا يقطع بسرقة الحر الصغير وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي
وابن المنذر وعن أحمد رواية ثانية انه يقطع بسرقة الصغير وذكرها أبو الخطاب وهو قول الحسن
والشعبي ومالك وإسحاق لأنه غير مميز أشبه العبد
ولنا انه ليس بمال فلا يقطع بسرقته كالكبير النائم
(مسألة) (فإن كان عليه حلي أو ثياب تبلغ نصابا لم يقطع وبه قال أبو حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي)
وفيه وجه آخر انه يقطع حكاه أبو الخطاب وبه قال أبو يوسف وابن المنذر لظاهر الكتاب
ولأنه سرق نصابا من المال فأشبه ما لو سرقه منفردا
244

ولنا انه تابع لما لا قطع في سرقته فأشبه ثياب الكبير ولان يد الصبي على ما عليه بدليل أن
ما يوجد مع اللقيط يكون له وهكذا لو كان الكبير نائما على متاع فسرقه وثيابه لم يقطع لأن يده عليه
(فصل) وإن سرق ماء فلا قطع فيه قاله أبو بكر وأبو إسحاق بن شاقلا لأنه لا يتمول عادة
ولا نعلم فيه خلافا فإن سرق كلا أو ملحا فقال أبو بكر لاقطع عليه لأنه مما ورد الشرع باشتراك
الناس فيه فأشبه المال، وقال أبو إسحاق عليه القطع لأنه يتمول عادة فأشبه التبن والشعير، واما الثلج
فقال القاضي هو كالماء لأنه ماء جامد فأشبه الجليد
قال شيخنا والأشبه انه كالملح لأنه يتمول عادة فأشبه الملح المنعقد من الماء، واما التراب فإن
كان مما تقل الرغبات فيه كالمعد للتطيين والبناء فلا قطع فيه لأنه لا يتمول وإن كان مما له قيمة
كثيرة كالطين الأرمني الذي يعد للدواء أو المعد للغسل به أو الصبغ كالمغرة احتمل وجهين
(أحدهما) لا قطع فيه لأنه من جنس ما لا يتمول أشبه الماء
(والثاني) فيه القطع لأنه يتمول عادة ويحمل إلى البلدان للتجارة فيه فأشبه العود الهندي ولا يقطع
بسرقة السرجين لأنه إن كان نجسا فلا قيمة له وإن كان طاهرا فلا يتمول عادة ولا تكثر الرغبات
فيه أشبه التراب الذي للبناء وما عمل من التراب كاللبن والفخار ففيه القطع لأنه يتمول عادة
(مسألة) (ولا يقطع بسرقة مصحف وعند أبي الخطاب يقطع)
245

قال أبو بكر والقاضي لا قطع فيه وهو قول أبي حنيفة لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله
تعالى وهو مما لا يجوز اخذ العوض عنه، واختار أبو الخطاب وجوب قطعه، وقال هو ظاهر كلام
احمد فإنه سئل عمن سرق كتابا فيه علم لينظر فيه فقال كلما بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع، وهذا
قول مالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لعموم الآية في كل سارق ولأنه متقوم تبلغ قيمته نصابا
فوجب القطع بسرقته ككتب الفقه
(مسألة) (ويقطع بسرقة سائر كتب العلم)
ولا نعلم فيه خلافا بين أصحابنا في القطع بسرقة كتب الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية لعموم الأدلة
(فصل) فإن قلنا لا يقطع بسرقة المصحف وكان عليه حلية تبلغ نصابا خرج فيه وجهان
(أحدهما) لا يقطع وهو قياس قول أبي إسحاق بن شاقلا ومذهب أبي حنيفة لأن الحلي
تابع لما لا يقطع بسرقته فأشبهت ثياب الحر
(والثاني) يقطع وهو قول القاضي لأنه سرق نصابا من الحلي فأشبه ما لو سرقه منفردا واصل
هذين الوجهين من سرق صبيا عليه حلي
(فصل) وإن سرق عينا موقوفة وجب القطع لأنها مملوكة للموقوف عليه ويحتمل أن لا يقطع
بناء على الوجه الذي يقول إن الموقوف لا يملكه الموقوف عليه، فعلى هذا إن كان وقفا غير معين
لم يقطع بسرقته.
246

(مسألة) (ولا يقطع بسرقة آلة لهو ولا محرم كالخمر)
لا يقطع بسرقة آلة لهو كالطنبور والمزمار والشبابة وإن بلغت قيمته مفصلا نصابا وبهذا قال
أبو حنيفة، وقال أصحاب الشافعي إن كانت قيمته بعد زوال تأليفه نصابا ففيه القطع وإلا فلا لأنه
سرق ما قيمته نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله وهو من أهل القطع فوجب قطعه كما لو كان ذهبا مكسورا
ولنا انه آلة للمعصية بالاجماع فلم يقطع بسرقته كالخمر ولان له حقا في أخذها لكسرها فكان
ذلك شبهه مانعة من القطع كاستحقاقه مال ولده فإن كانت عليه حلية تبلغ نصابا فلا قطع فيه أيضا
في قياس قول أبي بكر لأنه متصل بما لا قطع فيه أشبه الخشب والأوتار وقال القاضي فيه القطع وهو
مذهب الشافعي لأنه سرق نصابا من حرزه أشبه المنفرد
(فصل) ولا يقطع بسرقة محرم كالخمر والخنزير والميتة ونحوها سواء سرقه من مسلم أو كافر
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن عطاء أن سارق خمر الذمي يقطع وإن كان
مسلما لأنه مال لهم أشبه ما لو سرق دراهمهم
ولنا أنها عين محرمة فلا يقطع بسرقتها كالخنزير ولان ما لا يقطع بسرقته من المسلم لا يقطع
بسرقته من الذمي كالميتة والدم، وما ذكروه ينتقص بالخنزير ولا اعتبار به فإن الاعتبار بحكم الاسلام
وهو يجري عليهم دون أحكامهم
(مسألة) (وإن سرق آنية فيها الخمر أو صليبا أو صنم ذهب لم يقطع وعند أبي الخطاب يقطع)
247

إذا سرق إناء فيه خمر يقطع وهو مذهب الشافعي كما لو سرقه ولا شئ فيه، وقال غيره من أصحابنا
لا يقطع لأنه متصل بما لا قطع فيه فأشبه ما لو سرق شيئا مشتركا بينه وبين غيره بحيث تبلغ قيمته
بالشركة نصابا وقال ابن شاقلا لو سرق إداوة فيها ماء لم يقطع لاتصالها بما لا قطع فيه ووجه
الأول أنه سرق نصابا من حرز لا شبهة له فيه أشبه ما لو سرقه فارغا، وإن سرق صليبا أو صنما من
ذهب أو فضة يبلغ نصابا متصلا فقال القاضي لا قطع فيه وهو قول أبي حنيفة، وقال أبو الخطاب
يقطع سارقه وهو مذهب الشافعي، ووجه الوجهين ما تقدم فيما إذا سرق آلة لهو محلاة والفرق بين
هذه المسألة والتي قبلها ان التي قبلها له كسره بحيث لا يبقى له قيمة تبلغ نصابا وههنا لو كسر
الذهب والفضة بكل وجه لم تنقص قيمته عن النصاب ولان الذهب والفضة جوهرهما غالب على
الصنعة المحرمة فكانت الصناعة فيها مغمورة بالنسبة إلى قيمة جوهرهما وغيرهما بخلافهما فتكون
الصناعة غالبة عليه فيكون تابعا للصناعة المحرمة فأشبه الأوتار
(فصل) ولو سرق اناء من ذهب أو فضة قيمته نصابا إذا كان منكسرا فعليه القطع لأنه غير
مجمع على تحريمه وقيمته بدون الصناعة المختلف فيها نصاب وان سرق اناء معدا لحمل الخمر ووضعه فيه
ففيه القطع لأن الاناء لا تحريم فيه وإنما يحرم عليه نيته وقصده فأشبه ما لو سرق سكينا معدة لذبح
248

الخنازير أو سيفا يعد لقطع الطريق ولو سرق منديلا في طرفه دينار مشدود يعلم به فعليه القطع وإن
لم يعلم به فلا قطع فيه لأنه لم يقصد سرقته فأشبه ما لو تعلق بثوبه، وقال الشافعي يقطع لأنه سرق
نصابا فأشبه ما لو سرق ما لا يعلم أن قيمته نصاب والفرق بينهما أنه علم بالمسروق ههنا وقصد سرقته
بخلاف الدينار فإنه لم يرده ولم يقصد أخذه فلا يؤاخذ به بايجاب الحد عليه
(فصل) الثالث أن يسرق نصابا وهو ثلاثة دراهم أو قيمة ذلك من الذهب والعروض، وعنه
أنه ثلاثة دراهم أو ربع دينار أو ما يبلغ قيمة أحدهما من غيرهما وعنه لا تقوم العروض إلا بالدراهم
فلا يجب القطع بسرقة دون النصاب في قول الفقهاء كلهم إلا الحسن وداود وابن بنت الشافعي
والخوارج فإنهم قالوا يقطع في القليل والكثير لعموم الآية ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده) متفق عليه ولأنه سارق
من حرز فتقطع يده كسارق الكبير
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا) متفق عليه واجماع الصحابة
على ما سنذكره وهذا يخص عموم الآية، والحبل يحتمل أن يساوي ذلك، وكذلك البيضة يحتمل
أن يراد بها البيضة السلاح وهي تساوي ذلك، واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في قدر النصاب الذي
249

يجب القطع بسرقته فروى عنه أبو إسحاق الجوزجاني أنه ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من
الورق أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما وهذا قول مالك وإسحاق وروى عنه الأثرم أنه إن سرق من
غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع وعنه أن الأصل الورق ويقوم الذهب به فإن
نقص ربع دينار عن ثلاثة دراهم لم يقطع سارقه وهذا يحكى عن الليث وأبي ثور وقالت عائشة لا قطع
الا في ربع دينار فصاعدا، وروي هذا عن عمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم، وبه قال الفقهاء
السبعة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والشافعي وابن المنذر لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (لا قطع الا في ربع دينار فصاعدا) وقال عثمان البتي تقطع اليد في درهم فما فوقه
وعن أبي هريرة وأبي سعيد ان اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا، وعن عمر رضي الله عنه ان
الخمس لا تقطع الا في الخمس وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة. وروي ذلك
عن الحسن قال انس رضي الله عنه قطع أبو بكر في مجن قيمته خمس دراهم رواه الجوزجاني
باسناده وقال عطاء وأبو حنيفة وأصحابه لا تقطع اليد الا في دينار أو عشرة دراهم لما روى الحجاج
ابن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا قطع الا في عشرة
دراهم) وروى ابن عباس قال قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم
وعن النخعي لا تقطع اليد الا في أربعين درهما
250

ولنا ما روى ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه قيمته ثلاثة دراهم متفق
عليه قال ابن عبد البر هذا أصح حديث يروى في هذا الباب لا يختلف أهل العلم في ذلك وحديث
أبي حنيفة الأول يرويه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، والذي روي عن الحجاج ضعيف أيضا
والحديث الثاني لا دلالة فيه على أنه لا يقطع بما دونه فإن من أوجب القطع بثلاثة دراهم أوجبه
بعشرة ويدل هذا الحديث على أن العرض يقوم بالدراهم لأن المجن قوم بها ولان ما كان الذهب فيه
أصلا كان الورق فيه أصلا كنصب الزكوات والديات وقيم المتلفات، وقد روى أنس أن سارقا
سرق مجنا ما يسرني انه لي بثلاثة دراهم أو ما يساوي ثلاثة دراهم فقطعه أبو بكر وأتي عثمان
برجل قد سرق أترجة فأمر بها عثمان فقومت فبلغت قيمتها ربع دينار فقطع
(فصل) وإذا سرق ربع دينار من المضروب الخالص ففيه القطع وإن كان فيه غش أو تبر
يحتاج إلى تصفية لم يجب القطع حتى يبلغ ما فيه من الذهب ربع دينار لأن السبك ينقصه وان سرق
ربع دينار قراضة أو تبرا خالصا أو حليا ففيه القطع نص عليه احمد في رواية الجوزجاني قال قلت
له كيف يسرق ربع دينار فقال قطعة ذهب أو خاتما أو حليا وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي
وذكر القاضي في وجوب القطع احتمالين
(أحدهما) لا قطع عليه وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الدينار اسم للمضروب
251

ولنا ان ذلك ربع دينار لأنه يقال له دينار قراضه ومكسور أو دينار خلاص ولأنه لا يمكنه
سرقة ربع دينار مفرد في الغالب إلا مكسورا، وقد أوجب عليه القطع بذلك ولأنه حق لله تعالى
تعلق بالمضروب فتعلق بما ليس بمضروب كالزكاة والخلاف فيما إذا سرق من المكسور والتبر ما لا
يساوي ربع دينار صحيح فإن بلغ ذلك ففيه القطع، والدينار هو المثقال من مثاقيل الناس اليوم وهو
الذي كل سبعة منها عشرة دراهم وهو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله ولم يتغير وإنما كانت
الدراهم مختلفة فجمعت وجعلت كل عشرة منها سبعة مثاقيل فهي التي يتعلق القطع بثلاثة منها إذا
كانت خالصة مضروبة كانت أو غير مضروبة على ما ذكرناه في الذهب وعند أبي حنيفة ان النصاب
إنما يتعلق بالمضروب منها، وقد ذكر ما دل عليه ويحتمل ما قاله في الدراهم لأن اطلاقها يتناول الصحاح
المضروبة بخلاف ربع الدينار على اننا قد ذكرنا فيها احتمالا متقدما فههنا أولى وما قوم من غيرهما بهما
فلا قطع فيه حتى يبلغ ثلاثة دراهم صحاحا لأن اطلاقها ينصرف إلى المضروب دون المكسر
(مسألة) (وان سرق نصابا ثم نقصت قيمته أو ملكه ببيع أو هبة أو غيرهما لم يسقط القطع)
إذا نقصت قيمة العين عن النصاب بعد إخراجها من الحرز لم يسقط القطع وبهذا قال مالك والشافعي
وقال أبو حنيفة يسقط لأن النصاب شرط فتعتبر استدامته
ولنا قول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولأنه نقص حدث في العين فلم يمنع
252

القطع كما لو حدث باستعماله، والنصاب شرط لوجوب القطع فلا تعتبر استدامته كالحرز وما ذكره
يبطل بالحرز فإنه لو زال الحرز لم يسقط عنه القطع وسواء نقصت قيمتها بعد الحكم أو قبله لأن سبب
الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ. فأما ان نقص النصاب قبل الاخراج لم يجب القطع لعدم
الشرط قبل تمام السبب وسواء نقصت بفعله أو بغير فعله. فإن وجدت ناقصة ولم يدر هل كانت
ناقصة حين السرقة أو حدث النقص بعدها لم يجب القطع لأن الوجوب لا يثبت مع الشك في
شرطه ولان الأصل عدمه
(مسألة) (وان ملك العين المسروقة بهبة أو بيع أو غير ذلك من أسباب الملك وكان ملكها
قبل رفعه إلى الحاكم والمطالبة بها عنده لم يجب القطع)
وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه خلافا، وان ملكها بعده
لم يسقط القطع عند مالك والشافعي وإسحاق، وقال أصحاب الرأي يسقط لأنها صارت ملكه
فلا يقطع في عين هي ملكه كما لو ملكها قبل المطالبة بها ولان المطالبة شرط والشروط يعتبر دوامها
ولم يبق لهذه العين مطالب
ولنا ما روى الزهري عن ابن صفوان عن صفوان بن أمية انه نام في المسجد وتوسد رداءه
فأخذ من تحت رأسه فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ان يقطع فقال صفوان
253

يا رسول الله لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فهلا كان قبل ان تأتيني به؟)
رواه ابن ماجة والجوزجاني وفي لفظ قال فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهم؟ أنا أبيعه وأنسئه
ثمنها قال (فهلا كان قبل ان تأتيني به؟) رواه الأثرم وأبو داود فهذا يدل على أنه لو وجد قبل
رفعه إليه لدرأ القطع وبعده لا يسقطه، وقولهم ان المطالبة شرط قلنا هي شرط الحكم لا شرط القطع
بدليل أنه لو استرد العين لم يسقط القطع وقد زالت المطالبة
(مسألة) (وإن دخل الحرز فذبح شاه قيمتها نصاب فنقصت عن النصاب ثم أخرجها لم يقطع)
لأن من شرط وجوب القطع أن يخرج من الحرز العين وهي نصاب ولم يوجد الشرط
(مسألة) (وان سرق فرد خف قيمته منفردا درهمان وقيمته مع الآخر أربعة لم يقطع)
لأنه لم يسرق نصابا فلم يوجد الشرط
(مسألة) (وان اشتركوا في سرقة نصاب قطعوا سواء أخرجوه جملة أو اخرج كل واحد جزءا)
إذا اشترك جماعة في سرقة نصاب قطعوا ذكره الخرقي وهو قول أصحابنا وبه قال مالك وأبو ثور وقال
الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق لا قطع عليهم الا ان تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا لأن كل واحد
لم يسرق نصابا فلم يجب عليه قطع كما لو انفرد بدون النصاب. قال شيخنا: وهذا القول أحب إلي
لأن القطع ههنا لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه فلا يجب والاحتياط باسقاطه
254

أولى من الاحتياط بايجابه ولأنه مما يدرأ بالشبهات، واحتج من أوجبه بأن النصاب أحد شرطي
القطع فإذا اشترك الجماعة كانوا كالواحد قياسا على هتك الحرز ولان سرقة النصاب فعل يوجب
القطع فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص ولم يفرق أصحابنا بين كون المسروق ثقيلا يشترك
الجماعة في حمله وبين ان يخرج كل واحد منهم جزءا ونص أحمد على هذا وقال مالك: ان انفرد كل
واحد منهم بجزء لم يقطع واحد منهم كما لو انفرد كل واحد من قاطعي اليد بقطع جزء
منها لم يجب القصاص.
ولنا انهم اشتركوا في هتك الحرز واخراج النصاب فلزمهم القطع كما لو كان ثقيلا فحملوه
وفارق القصاص فإنه يعتمد المماثلة ولا توجد المماثلة الا ان توجد أفعالهم في جميع اجزاء اليد وفي
مسئلتنا القصد الزجر من غير اعتبار مماثلة والحاجة إلى الزجر عن اخراج المال موجودة وسواء دخلا
الحرز معا أو دخل أحدهما فاخرج بعض النصاب ثم دخل الآخر فأخرج باقيه لأنهما اشتركا في هتك
الحرز واخراج النصاب فوجب عليهما القطع كما لو حملاه معا
(فصل) فإن كان أحد الشريكين مما لاقطع عليه كأبي المسروق منه قطع شريكه في أحد
الوجهين كما لو شاركه في قطع يد ابنه والثاني لا يقطع وهو أصح لأن سرقتهما جميعا صارت علة
لقطعهما سرقة الأب لا تصلح موجبة للقطع لأنه أخذ ماله اخذه بخلاف قطع يد ابنه فإن الفعل تمحض
255

عدوانا وإنما سقط القصاص لفضيلة الأب لا لمعنى في فعله وههنا فعله قد تمكنت الشبهة منه فوجب
ان لا يجب القطع به كاشتراك العامد والخاطئ فأما ان أخرج كل واحد منهما نصابا وجب القطع
على شريك الأب لأنه انفرد بما يوجب القطع فإن أخرج الأب نصابا وشريكه دون النصاب ففيه
الوجهان، وان اعترف اثنان بسرقة نصاب ثم رجع أحدهما فالقطع على الآخر لأنه اختص بالاسقاط
فيختص بالسقوط ويحتمل أن يسقط عن شريكه، لأن السبب السرقة منهما وقد اختل أحد جزأيها
وكذلك لو أقر بمشاركة آخر في سرقة نصاب ولم يقر الآخر ففي القطع وجهان.
(مسألة) (وان هتك اثنان حرزا ودخلاه فأخرج أحدهما نصابا وحده أو دخل أحدهما
فقدمه إلى باب النقب وأدخل الآخر يده فأخرجه قطعا)
أما إذا هتك اثنان حرزا ودخلاه فاخرج أحدهما نصابا وحده فقال أصحابنا القطع عليهما.
وبه قال أبو حنيفة وصاحباه إذا أخرج نصابين وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يختص
القطع بالمخرج لأنه هو السارق، وان أخرج أحدهما دون النصاب والآخر أكثر من نصاب فما
نصابين فعند أصحابنا وأبي حنيفة وصاحبيه يجب القطع عليهما وعند الشافعي وموافقيه لاقطع على
من لم يخرج نصابا وان أخرج أحدهما نصابا والآخر دون النصاب فعند أصحابنا عليهما القطع وعند
256

الشافعي القطع على مخرج النصاب وحده وعند أبي حنيفة لا قطع على واحد منهما لأن المخرج لم يبلغ
نصبا بعدد السارقين وقد ذكرنا وجه ما قلنا فيما تقدم.
(مسألة) (فإن نقبا حرزا فدخل أحدهما فقرب المتاع من النقب وأدخل الآخر يده فأخرجه
فقال أصحابنا قياس قول أحمد أن القطع عليهما).
وقال الشافعي القطع على الخارج لأنه مخرج للمتاع وقال أبو حنيفة لا قطع على واحد منهما
ولنا انهما اشتركا في هتك الحرز واخراج المتاع فلزمهما القطع كما لو حملاه معا فأخرجاه، وان
وضعه في النقب فمد الآخر يده فأخرجه فأخذه فالقطع عليهما ونقل عن الشافعي في هذه المسألة قولان
كالمذهبين في الصورة التي قبلها.
(فصل) قال أحمد في رجلين دخلا دارا أحدهما في سفلها جمع المتاع وشده بحبل والآخر
في علوها مد الحبل فرمى به وراء الدار فالقطع عليهما لأنهما اشتركا في اخراجه.
(مسألة) (وان رماه الداخل إلى خارج فأخذه الآخر فالقطع على الداخل وحده)
وان اشتركا في النقب، لأن الداخل اخرج المتاع وحده فاختص القطع به.
(مسألة) (وان نقب أحدهما ودخل الآخر فأخرجه فلا قطع عليهما ويحتمل ان يقطعا)
257

وإنما لم يقطعا لأن الأول لم يسرق والثاني لم يهتك الحرز وإنما سرق من حرز هتكه غيره فأشبه
ما لو نقب رجل وانصرف وجاء آخر فصادف الحرز مهتوكا فسرق منه، ويحتمل ان يقطعا لأنهما اشتركا
في سرقة نصاب أشبه ما لو دخلا معا فاخرج أحدهما المتاع
(مسألة) (إلا أن ينقب أحدهما ويذهب فيأتي الآخر من غير علم فيسرق فلا قطع)
لأنه لم يهتك الحرز ومن شرط وجوب القطع هتكه فقد فات الشرط فيفوت المشروط.
(فصل) فإن اشترك رجلان في النقب ودخل أحدهما فاخرج المتاع وحده أو اخذه وناوله
لآخر خارجا من الحرز فالقطع على الداخل وحده لأنه اخرج المتاع وحده مع مشاركته في النقب
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة لاقطع عليهما، لأن الداخل لم ينفصل
عن الحزر ويده على السرقة فلم يلزمه القطع كما لو أتلفه داخل الحرز
ولنا أن المسروق خرج من الحرز ويده عليه فوجب عليه القطع كما لو خرج به بخلاف ما لو
أتلفه لأنه لم يخرجه من الحرز.
(فصل) الرابع أن يخرجه من الحرز، يشترط أن يسرق من حرز ويخرجه منه وهذا قول أكثر
أهل العلم منهم عطاء والشعبي وأبو الأسود الديلي وعمر بن عبد العزيز والزهري وعمرو بن دينار
258

والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم عن أحد من أهل العلم خلافهم إلا قولا حكي عن
عائشة والحسن والنخعي فيمن جمع المتاع فلم يخرج به من الحرز: عليه القطع وعن الحسن مثل قول
الجماعة وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز لأن الآية لا تفصيل فيها وهذه أقوال شاذة غير ثابتة
عمن نقلت عنه قال ابن المنذر ليس في خبر ثابت ولا مقال لأهل العلم إلا ما ذكرناه فهو كالاجماع
والاجماع حجة على من خالفه وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا من مزينة سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر فقال (ما أخذ من غير اكمامه واحتمل ففيه قيمته ومثله معه، وما كان
في الجران ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن) رواه أبو داود وابن ماجة وهذا الخبر يخص الآية
كما خصصناها في اعتبار النصاب.
(مسألة) (فإن سرق من غير حرز فلا قطع عليه) لفوات شرطه مثل أن يجد حرزا مهتوكا
أو بابا مفتوحا فيأخذ منه فلا قطع عليه لذلك.
(مسألة) (فإن دخل الحرز فاتلف فيه نصابا ولم يخرجه فلا قطع عليه)
لأنه لم يسرق لكن يلزمه ضمانه لأنه أتلفه ولا يقطع حتى يخرجه من الحرز فمتى أخرجه من الحرز
فعليه القطع سواء حمله إلى منزله أو تركه خارجا من الحرز.
(مسألة) (وان ابتلع جوهرا أو ذهبا فخرج به أو نقب ودخل فترك المتاع على بهيمة فخرجت به
259

أو في ماء جار فأخرجه أو قال لصغير أو معتوه ادخل فأخرجه ففعل فعليه القطع)
أما إذا دخل الحرز فابتلع جوهرة أو ذهبا وخرج فإن لم يخرج ما ابتلعه فلا قطع عليه لأنه أتلفه في الحرز،
وان خرج ففيه وجهان (أحدهما) يجب لأنه أخرجها في وعائها فأشبه اخراجها في كمه (والثاني) لا يجب
القطع لأنه ضمنها بالبلع فكان اتلافا لها ولأنه ملجأ إلى اخراجها لأنه لا يمكنه الخروج بدونها، وان ترك
المتاع على دابة فخرجت بنفسها من غير سوقها أو ترك المتاع في ماء راكد فانفتح فخرج المتاع
أو على حائط في الدار فأطارته الريح ففي ذلك وجهان (أحدهما) عليه القطع لأن فعله سبب
خروجه فأشبه ما لو ساق البهيمة أو فتح الماء وحلق الثوب في الهواء (والثاني) لا قطع عليه لأن الماء
لم يكن آلة للاخراج وإنما خرج المتاع بسبب حادث من غير فعله والبهيمة لها اختيار لنفسها، فأما
ان ساق الدابة فخرجت بالمسروق أو تركه في ماء جار فخرج به فعليه القطع لأنه هو المخرج اما بنفسه
واما بآلته فوجب عليه القطع كما لو حمله فأخرجه وكذلك لو أمر صبيا لا يميز أو معتوها فأخرجه
فعليه القطع لأنه آلة له.
(فصل) وسواء دخل الحرز فأخرجه أو نقبه ثم أدخل إليه يده أو عصا لها شجنة فاجتذبه
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا حد عليه إلا أن يكون البيت صغيرا لا يمكنه دخوله لأنه لم
يهتك الحرز بما أمكنه فأشبه المختلس.
ولنا انه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه وهو من أهل القطع فوجب عليه كما لو كان
260

البيت ضيقا ويخالف المختلس لأنه يهتك الحرز، وان رمى المتاع فاطارته الريح فأخرجته فعليه القطع
لأنه متى كان ابتداء الفعل منه لم يؤثر فعل الريح كما لو رمى صيدا فأعانت الريح السهم حتى قتل الصيد
حل، ولو رمى الجمار فأعانتها الريح حتى وقعت في المرمى احتسب به وصار هذا كما لو ترك المتاع
في الماء فجرى به فأخرجه.
(فصل) إذا أخرج المتاع من بيت في الدار أو الخان إلى الصحن فإن كان باب البيت مغلقا
ففتحه أو نقبه فقد أخرج المتاع من الحرز وإن لم يكن مغلقا فما أخرجه من الحرز، وقد قال احمد إذا
أخرج المتاع من البيت إلى الدار يقطع وهو محمول على الصورة الأولى
(فصل) إذا دخل السارق الحرز فاحتلب لبنا من ماشية وأخرجه فعليه القطع وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لا قطع عليه لأنه من الأشياء الرطبة وقد مضى الكلام معه في هذا وإن شربه في
الحرز أو شرب منه فانتقص النصاب فلا قطع عليه لأنه لم يخرج من الحرز نصابا، وان ذبح الشاة
في الحرز أو شق الثوب ثم أخرجهما وقيمتهما بعد الشق والذبح نصاب فعليه القطع وبه قال الشافعي
وقال الثوري لا قطع عليه في الشاة لأن اللحم لا يقطع بسرقته عنده والثوب ان شق أكثره فلا قطع
فيه لأن صاحبه مخير بين (1) أن يضمنه قيمة جميعه فيكون قد أخرجه وهو ملكه وقد تقدم الكلام
معه في هذه الأصول، وان تطيب وخرج ولم يبق عليه من الطيب ما إذا جمع كان نصابا فلا قطع عليه

(1) كذا بالأصل ونسخ المغنى
261

لأن ما لا يجتمع قد أتلفه باستعماله فأشبه ما لو أكل الطعام، وإن كان يبلغ نصابا فعليه القطع لأنه
أخرج نصابا وذكر فيه وجه آخر فيما إذا كان ما تطيب به يبلغ نصبا فعليه القطع وإن نقص ما يجتمع
عن النصاب لأنه أخرج نصابا والأول أولى لأنه حين الاخراج ناقص عن النصاب، وإن جر خشبة
فألقاها بعد أن خرج بعضها من الحرز فلا قطع عليه سواء خرج منها ما يساوي نصابا أو لا لأن
بعضها لا ينفرد عن البعض وكذلك لو أمسك الغاصب طرف عمامته والطرف الآخر في يد مالكها
لم يضمنها وكذلك لو سرق ثوبا أو عمامة فأخرج بعضهما
(فصل) فإن نقب الحرز ثم دخل فأخرج ما دون النصاب ثم دخل فأخرج ما بقي من النصاب
وكان في وقتين متباعدين أو ليلتين لم يجب القطع لأن كل واحدة منهما سرقة منفردة لا تبلغ نصابا
وكذلك إن كانا في ليلة واحدة وبينهما مدة طويلة وإن تقاربا وجب القطع لأنها سرقة واحدة ولأنه
إذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه إذا سرقا نصابا فبناء فعل الواحد بعضه على بعض أولى
(مسألة) (والحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل
السلطان وجوره وقوته وضعفه)
الحرز ما عدا حرزا في العرف فإنه لم ثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنه
262

رد ذلك إلى أهل العرف لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته فرجع إليه كما رجعنا إليه في معرفة
القبض والفرقة في البيع وأشباه ذلك. إذا ثبت ذلك فحرز الأثمان والجواهر والقماش في الدور
والدكاكين في العمران وراء الأبواب والاغلاق الوثيقة، وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر
والنحاس والرصاص في الدكاكين والبيوت المقفلة في العمران أو يكون فيها حافظ فيكون حرزا
وإن كانت مفتوحة إن لم تكن مغلقة ولا فيها حافظ فليست بحرز وإن كانت فيها خزائن مغلقة
فالخزائن حرز لما فيها وما خرج عنها فليس بحرز
وقد روي عن أحمد في البيت الذي ليس عليه غلق فسرق منه: أراه سارقا وهذا محمول على أن
أهله فيه فاما البيوت التي في البساتين أو الطرق أو الصحراء فإن لم يكن فيها أحد فليست حرزا
سواء كانت مغلقة أو مفتوحة لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران وانصرف عنه
لا يعد حافظا له وإن أغلق عليه، وإن كان فيها أهلها أو حافظ فهو حرز سواء كانت مغلقة أو مفتوحة
وإذا كان لابسا للثوب أو متوسدا له نائما أو مستيقظا أو مفترشا له أو متكئا عليه في أي موضع
كان من البلد أو برية فهو محرز بدليل رداء صفوان سرق وهو متوسده فقطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقه
وان تدحرج عن الثوب زال الحرز إن كان نائما، وإن كان الثوب بين يديه أو غيره من المتاع كبز
263

البزازين وقماش الباعة وخبز الخبازين بحيث يشاهده وينظر إليه فهو محرز وان نام أو كان غائبا
عن موضع مشاهدته فليس بمحرز وان جعل المتاع في الغرائر وعكم عليها ومعها حافظ يشاهدها
فهي محرزة والا فلا.
(فصل) والخيمة والخركاة ان نصبت وكان فيها أحد نائما أو منتبها فهي محرزة وما فيها لأنها
هكذا تحرز في العادة وإن لم يكن فيها أحد ولا عندها حافظ فلا قطع على سارقها، وممن أوجب القطع
في السرقة من الفسطاط الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا: يقطع
السارق من الفسطاط دون سارق الفسطاط. ولنا أنه محرز بما جرت به العادة أشبه ما فيه
(مسألة) (وحرز البقل والباقلا ونحوه وقدوره وراء الشرائج إذا كان في السوق حارس)
والشرائج تكون من القصب والخشب
(مسألة) (وحرز الخشب الحطب الحظائر)
وكذلك القصب وتعبئة بعضه على بعض وتقييده بقيد بحيث يعسر أخذ شئ منه على ما جرت
العادة إلا أن يكون في فندق مغلق عليه فيكون محرزا وإن لم يقيد
(مسألة) (وحرز المواشي الصير وحرزها في المراعى بالراعي ونظره إليها)
264

فما غاب منها عن مشاهدته فقد خرج عن الحرز لأن الراعية هكذا تحرز
(مسألة) (وحرز حمولة الإبل بتقطيرها وقائدها وسائقها إذا كان يراها)
الإبل على ثلاثة أضرب: باركة وراعية وسائرة فأما الباركة فإن كان معها حافظ لها وهي معقولة
فهي محرزة وإن لم تكن معقولة وكان الحافظ ناظرا إليها أو مستيقظا بحيث يراها فهي محرزة
وإن كان نائما أو مشغولا عنها فليست محرزة لأن العادة أن الرعاة إذا أرادوا النوم عقلوا إبلهم ولان
المعقولة تنبه النائم والمشتغل، وإن لم يكن معها أحد فهي غير محرزة سواء كانت معقولة أو
لم تكن. وأما الراعية فحرزها بنظر الراعي إليها فما غاب عن نظره أو نام عنه فليس بمحرز لأن
الراعية إنما تحرز بالراعي ونظره. وأما السائرة فإن كان معها من يسوقها فحرزها بنظره إليها سواء
كانت مقطرة أو غير مقطرة فما كان منها بحيث لا يراه فليس بمحرز وإن كان معها قائد فحرزها
أن يكثر الالتفات إليها والمراعاة لها وتكون بحيث يراها إذا التفت وبهذا قال الشافعي. وقال
أبو حنيفة: لا يحرز القائد إلا التي زمامها بيده لأنه يوليها ظهره ولا يراها إلا نادرا فيمكن أخذها
من حيث لا يشعر
ولنا أن العادة في حفظ الإبل المقطرة بمراعاتها بالالتفات وإمساك زمام الأول فكان ذلك حرزا
265

لها كالتي زمامها في يده فإن سرق من احمال الجمال السائرة المحرزة متاعا قيمته نصاب قطع وكذلك
إن سرق الحمل وإن سرق الجمل بما عليه وصاحبه نائم عليه لم يقطع لأنه في يد صاحبه وإن لم يكن
صاحبه عليه قطع وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه لأن ما في الحمل محرز به فإذا
اخذ جميعه لم يهتك حرز المتاع فصار كما لو سرق أجزاء الحرز
ولنا أن الجمل محرز بصاحبه ولهذا لو لم يكن معه لم يكن محرزا فقد سرقه من حرز مثله فأشبه
ما لو سرق المتاع ولا نسلم ان سرقة الحرز من حرزه لا توجب القطع فإنه لو سرق الصندوق بما فيه
من بيت هو محرز فيه وجب قطعه وهذا التفصيل في الإبل التي في الصحراء فأما التي في البيوت
والمكان المحصن على الوجه الذي ذكرناه في الثياب فهي محرزة والحكم في سائر المواشي كالحكم
في الإبل على ما ذكرنا من التفصيل فيها
(مسألة) (وحرز الثياب في الحمام بالحافظ) فإن سرق من الحمام ولا حافظ فيه فلا قطع عليه
في قول عامتهم وإن كان ثم حافظ فقال احمد ليس على سارق الحمام قطع. وقال في رواية ابن
منصور لا يقطع سارق الحمام إلا أن يكون على المتاع قاعد مثل ما صنع بصفوان وهذا قول أبي حنيفة
لأنه مأذون للناس في دخوله فجرى مجرى سرقة الضيف من البيت المأذون له في دخوله ولان دخول
الناس إليه يكثر فلا يتمكن الحافظ من حفظ ما فيه، وفيه رواية أخرى انه يجب القطع إذا كان فيه
266

حافظ حكاها القاضي وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر لأنه متاع له حافظ فيجب
قطع سارقه كما لو كان في البيت. قال شيخنا: والصحيح الأول وهذا يفارق ما في البيت من الوجهين اللذين
ذكرناهما، فأما إن كان صاحب الثياب قاعدا عليها أو متوسدا لها أو جالسا وهي بين يديه يحفظها
قطع سارقها بكل حال كما قطع سارق رداء صفوان من المسجد وهو متوسد له، وكذلك إن كان صاحب
الثياب اما الحمامي واما غيره حافظا لها على هذا الوجه قطع سارقها لأنها محرزة وان لم تكن كذلك
فقال القاضي ان نزع الداخل ثيابه على ما جرت به العادة ولم يستحفظها لاحد فلا قطع على سارقها
ولا غرم على الحمامي لأنه غير مودع فيضمن ولا هي محرزة فيقطع سارقها، وان استحفظها الحمامي فهو
مودع تلزمه مراعاتها بالنظر والحفظ فإن تشاغل عنها وترك النظر إليها فسرقت فعليه الغرم لتفريطه
ولا قطع على السارق لأنه لم يسرق من حرز وإن تعاهدها الحمامي بالحفظ والنظر فسرقت فلا غرم
عليه لعدم تفريطه وعلى السارق القطع لأنها محرزة وهذا مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد أنه لا
قطع عليه أيضا في هذه الصورة لما تقدم. قال ابن المنذر قال احمد أرجو ان لا قطع عليه لأنه مأذون
للناس في دخوله. ولو استحفظ رجل آخر متاعه في المسجد فسرق فإن كان قد فرط في مراعاته
ونظره إليه فعليه الغرم إذا كان التزم حفظه واجابه إلى ما سأله وان لم يجبه لكن سكت لم يلزمه
غرم لأنه ما قبل الاستيداع ولا قبض المتاع، ولا قطع على السارق في الموضعين لأنه غير محرز، وإن
حفظ المتاع بنظره إليه وقربه منه فسرق فلا غرم عليه وعلى السارق القطع لأنه سرق من حرز
267

ويفارق المتاع في الحمام فإن الحفظ فيه غير ممكن لأن الناس يضع بعضهم ثيابه عند ثياب بعض
ويشتبه على الحمامي صاحب الثياب فلا يمكنه منع اخذها لعدم علمه بمالكها
(مسألة) (وحرز الكفن في القبر على الميت فلو نبش قبرا واخذ الكفن قطع)
روي عن ابن الزبير أنه قطع نباشا، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة والشعبي
والنخعي وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة والثوري لا قطع
عليه لأن القبر ليس بحرز لأن الحرز ما يوضع فيه المتاع للحفظ والكفن لا يوضع في القبر لذلك
ولأنه ليس بحرز لغيره فلا يكون حرزا لغيره، ولان الكفن لا مالك له ولأنه لا يخلو اما أن يكون
ملكا للميت أو لوارثه وليس ملكا لواحد منهما لأن الميت لا يملك شيئا ولم يبق اهلا للملك
والوارث إنما يملك ما فضل عن حاجة الميت ولأنه لا يجب القطع الا بمطالبة المالك أو نائبه ولم يوجد ذلك
ولنا قول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وهذا سارق ولان عائشة رضي الله
عنها قالت: سارق أمواتنا كسارق أحيائنا وما ذكروه لا يصح فإن الكفن يحتاج إلى تركه في
القبر دون غيره ويكتفى به في حرزه الا ترى انه لا يترك الميت في غير القبر من غير أن يحفظ كفنه
ويترك في القبر وينصرف عنه؟ وقولهم انه لا مالك له ممنوع بل هو مملوك للميت لأنه كان مالكا
268

له في حياته ولا يزول ملكه الا عما لا حاجة به إليه ووليه يقوم مقامه في المطالبة كقيام ولي الصبي
في الطلب بماله. إذا ثبت هذا فلابد من اخراج الكفن من القبر لأنه الحرز فإن أخرجه من اللحد
ووضعه في القبر فلا قطع عليه فيه لأنه لم يخرجه من الحرز فأشبه ما لو نقل المتاع في البيت من جانب
إلى جانب فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى القبر بيتا
(فصل) والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعا فإن كفن الرجل في أكثر من ثلاث
لفائف أو المرأة في أكثر من خمس فسرق الزائد عن ذلك أو ترك في تابوت فسرق التابوت أو
ترك معه طيبا مجموعا أو ذهبا أو فضة أو جوهرا لم يقطع بأخذ شئ من ذلك لأنه ليس بكفن مشروع
فتركه فيه سفه وتضييع فلا يكون محرزا ولا يقطع سارقه
(فصل) وهل يفتقر في قطع النباش إلى المطالبة؟ يحتمل وجهين
(أحدهما) يفتقر إلى المطالبة كسائر المسروقات فعلى هذا المطالب الوارث لأنه يقوم مقام
الميت في حقوقه وهذا من حقوقه
(والثاني) لا يفتقر إلى طلب لأن الطلب في السرقة من الاحياء شرط لئلا يكون المسروق
مملوكا للسارق وقد يئس من ذلك ههنا
269

(فصل) وحرز جدار الدار كونه مبنيا فيها إذا كانت في العمران أو كانت في الصحراء وفيها
حافظ فإن أخذ من اجزاء الجدار أو خشبة تبلغ نصابا في هذه الحال وجب قطعه لأن الحائط حرز
لغيره فيكون حرزا لنفسه، وان هدم الحائط ولم يأخذه فلا قطع فيه كما لو تلف المتاع في الحرز ولم
يسرقه وإن كانت الدار بحيث لا تكون حرزا لما فيها كدار في الصحراء لا حافظ لها فلا قطع على
من اخذ من جدارها شيئا لأنها إذا لم تكن حرزا لما فيها فلنفسها أولى
(مسألة) (وحرز الباب تركيبه في موضعه)
سواء كان مغلقا أو مفتوحا لأنه هكذا يحفظ وعلى سارقه القطع إذا كانت الدار محرزة بما
ذكرناه، واما أبواب الخزائن في الدار فإن كان باب الدار مغلقا فهي محرزة سواء كانت مغلقة
أو مفتوحة وإن كان مفتوحا لم تكن محرزة الا أن تكون مغلقة أو يكون في الدار حافظ والفرق
بين الدار وباب الخزانة أن أبواب الخزائن تحرز بباب الدار وباب الدار لا يحرز الا بنصبه ولا يحرز
بغيره، وأما حلقة الباب فإن كانت مسمورة فهي كحرزه والا فلا لأنها تحرز بتسميرها
(مسألة) (فلو سرق رتاج الكعبة أو باب مسجد أو تأزيره قطع)
إذا سرق باب مسجد منصوبا أو باب الكعبة المنصوب أو سرق من سقفه شيئا أو تأزيره ففيه
وجهان (أحدهما) عليه القطع وهو مذهب الشافعي وابن القاسم صاحب مالك وأبي ثور وابن المنذر
270

لأنه سرق نصابا محرزا بحرز مثله لا شبهة له فيه فلزمه القطع كباب بيت الآدمي (والثاني) لا قطع
عليه وهو قول أصحاب الرأي لأنه لا مالك له من المخلوقين فلا يقطع كحصر المسجد وقناديله فإنه
لا يقطع بسرقة ذلك وجها واحدا ولأنه مما ينتفع به الناس فيكون له فيه شبهة فلم يقطع به كالسرقة من
بيت المال وقال احمد لا يقطع بسرقة ستارة الكعبة الخارجة منها قال القاضي: هذا محمول على ما ليست
بمخيطة لأنها إنما تحرز بخياطتها وقال أبو حنيفة لا قطع فيها بحال لما ذكرنا في الباب
(مسألة) (وإن سرق قناديل المسجد أو حصره فعلى وجهين)
(أحدهما) يقطع لأن المسجد حرز لها فقطع بسرقتها كالباب
(والثاني) لا يقطع وهو قول أبي حنيفة لأن له فيه حقا وشبهة فأشبه السرقة من بيت المال.
ولأنه لا مالك له من المخلوقين، وهذا أصح إن شاء الله تعالى. وذكر شيخنا في كتاب المغني انه
لا يقطع بسرقة ذلك وجها واحدا
(مسألة) (وإن نام انسان على ردائه في المسجد فسرقه سارق قطع)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارق رداء صفوان، وإن مال رأسه عنه فسرقه لم يقطع لأنه لم يبق محرزا
(مسألة) (وإن سرق من السوق غزلا وثم حافظ قطع) لأن حرزه بحافظه فإذا سرقه
قطع كما يقطع بسرقة الثياب من الحمام إذا كان ثم حافظ
(مسألة) (ومن سرق من النخل أو الشجر من غير حرز فلا قطع عليه ويضمن عوضهما مرتين
271

يعني بذلك الثمر في البستان قبل ادخاله الحرز. وهذا قول أكثر الفقهاء وكذلك جمار
النخل ويسمى الكثر، وروي معنى هذا القول عن ابن عمر وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي
وأصحاب الرأي وقال أبو ثور إن كان من بستان محرز ففيه القطع وبه قال ابن المنذر إذا لم يصح
خبر رافع ولا احسبه ثابتا واحتجا بظاهر الآية وبقياسه على سائر المحرزات
ولنا ما روى رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا قطع في ثمر ولا كثر) أخرجه
أبو داود وابن ماجة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم انه سئل عن الثمر المعلق فقال (من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شئ عليه ومن
خرج بشئ منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه
القطع) وهذا يخص عموم الآية ولان البستان ليس بحرز لغير الثمر فلم يكن حرزا له كما لو لم يكن
محفوظا، فأما إن كانت شجرة في دار محرزة فسرق منها نصابا فعليه القطع والله أعلم
(فصل) وإذا سرق من الثمر المعلق فعليه غرامة مثليه وبه قال إسحاق للخبر المذكور، قال أحمد
لا أعلم شيئا يدفعه، وقال أكثر الفقهاء لا يجب أكثر من مثله قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا من
272

من الفقهاء قال بوجوب غرامة مثليه واعتذر بعض أصحاب الشافعي عن هذا الخبر بأنه كان حين كانت
العقوبة في الأموال ثم نسخ ذلك.
ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا تجوز مخالفته إلا بمعارضة مثله أو أقوى منه وهذا الذي اعتذر
به هذا القائل دعوى للنسخ بالاحتمال من غير دليل عليه وهو فاسد بالاجماع ثم هو فاسد من وجه
آخر لقوله ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع فقد بين وجوب
القطع مع إيجاب غرامة مثليه وهذا يبطل ما قاله وقد احتج أحمد بأن عمر أغرم حاطب بن أبي بلتعة حين
نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها روى الأثرم الحديثين في سننه قال أصحابنا وفي الماشية
تسرق من المرعى من غير أن تكون محرزة: مثلا قيمتها لأن في سياق حديث عمرو بن شعيب أن
السائل قال الشاة الحريسة منهن يا نبي الله، قال (ثمنها ومثله معه والفكاك وما كان من المراح ففيه القطع
إذا كان ما يأخذ من ذلك ثمن المجن) هذا لفظ رواية ابن ماجة وما عدا هذين لا يضمن بأكثر من
قيمته أو مثله إن كان مثليا، وهذا قول أصحابنا وغيرهم إلا أبا بكر فإنه ذهب إلى غرامة المسروق من غير
حرز بمثيله قياسا على الثمر المعلق وحريسة الحبل واستدلا بحديث حاطب.
ولنا أن الأصل وجوب غرامة المثلي بمثله والمتقوم بقيمته بدليل المتلف والمغصوب والمنتهب
273

والمختلس وسائر ما تجب غرامته خولف في هذين الموضعين للأثر ففيما عداهما يبقى على الأصل.
(مسألة) (قال أبو بكر ما كان حرزا لمال فهو حرز لمال آخر قياسا لأحدهما على الآخر
والصحيح خلاف ذلك) لأنا إنما رجعنا في الحرز إلى العرف والعادة أن الجواهر والدراهم والدنانير
لا تحرز في الصبر والحظائر ومن أحرزها أو نحوها في ذلك عد مفرطا فكان العمل بالمعروف أولى
(فصل) وإذا سرق الضيف من مال مضيفه شيئا نظرت، فإن كان من الموضع الذي أنزل فيه
أو موضع لم يحرزه عنه لم يقطع لأنه لم يسرق من حرز وان سرق من موضع محرز دونه فإن كان
منعه فرآه سرق بقدره فلا قطع عليه أيضا وان لم يمنع فرآه فعليه القطع، وقد روي عن أحمد أنه
لا قطع على الضيف وهو محمول على إحدى الحالتين الأوليين وقال أبو حنيفة لا قطع عليه بحال لأن
المضيف بسطه في بيته وماله فأشبه ابنه.
ولنا أنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه فلزمه القطع كالأجنبي وقوله انه بسطه فيه لا يصح
فإنه أحرز عنه هذا المال ولم يبسطه فيه وبسطه في غيره لا يوجب بسطه فيه كما لو تصدق على مسكين
بصدقة أو أهدى إلى صديقه هدية فإنه لا يسقط عنه القطع بالسرقة من غير ما تصدق به عليه أو اهدى إليه
(فصل) وإذا أحرز المضارب مال المضاربة أو الوديعة أو العارية أو المال الذي وكل فيه فسرقه
أجنبي فعليه القطع لا نعلم فيه مخالفا لأنه ينوب مناب المالك في حفظ المال واحرازه ويده كيده وان
274

غصب عينا وأحرزها أو سرقها وأحرزها فسرقها سارق فلا قطع عليه وقال مالك عليه القطع لأنه
سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه وللشافعي قولان كالمذهبين وقال أبو حنيفة كقولنا
في السارق وكقول مالك في الغاصب.
ولنا أنه لم يسرق المال من مالكه ولا ممن يقوم مقامه فأشبه ما لو وجده ضائعا فأخذه وفارق
السارق من المالك أو نائبه فإنه أزال يده الشرعية وسرق من حرزه.
(فصل) فإن غصب شيئا فأحرز فيه ماله فسرقه منه أجنبي فلا قطع عليه لأنه لا حكم لحرزه
إذا كان متعديا به ظالما فيه.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (الخامس انتفاء الشبه فلا يقطع بالسرقة من مال ابنه وان
سفل ولا الولد من مال أبيه وان علا والأب والام في ذلك سواء).
وجملة ذلك أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده وان سفل وسواء في ذلك الأب والام
والابن والبنت والجد والجدة من قبل الأب والام هذا قول عامة أهل العلم منهم مالك والثوري
والشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور وابن المنذر القطع على كل سارق بظاهر الكتاب إلا أن
يجمعوا على شئ فيستثنى.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن أطيب ما أكل الرجل من
275

كسبه وان ولده من كسبه) وفي لفظ (فكلوا من كسب أولادكم) ولا يجوز قطع الانسان بقطع
ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذه ولا أخذ ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم مالا له مضافا إليه ولان الحدود تدرأ بالشبهات
وأعظم الشبهات أخذ الانسان من مال جعله الشرع له وأمره بأخذه وأكله.
(فصل) ولا يقطع الابن وان سفل بسرقة مال والده وان علا وبه قال الحسن والشافعي
وإسحاق والثوري وأصحاب الرأي وظاهر قول الخرقي أنه يقطع لأنه لم يذكره فيمن لا قطع عليه
وهو قول مالك وأبي ثور وابن المنذر لظاهر الكتاب ولأنه يقاد بقتله ويحد بالزنا بجاريته فيقطع
بسرقته ماله كالأجنبي ووجه الأول أن بينهما قرابة تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه فلم يقطع بسرقة
ماله كالأب ولان الفقه تجب في مال الأب لابنه حفظا له فلا يجوز اتلافه حفظا للمال وأما الزنا
بجاريته ففيه منع وان سلم فإنما وجب عليه الحد لأنه لا شبهه له فيها.
(مسألة) (ولا يقطع العبد بالسرقة من مال سيده في قول الجميع ووافقهم أبو ثور فيه وحكي
عن داود انه يقطع لعموم الآية.
ولنا ما روى السائب بن يزيد قال شهدت عمر بن الخطاب قد جاءه عبد الله بن عمر والحضرمي
بغلام له فقال إن غلامي هذا سرق فاقطع يده فقال عمر ما سرق؟ قال سرق مرآة امرأتي ثمنها
ستون درهما فقال أرسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم، ولكنه لو سرق من غيره قطع وفي لفظ
276

قال مالكم سرق بعضه بعضا لا قطع عليه رواه سعيد، وعن ابن مسعود ان رجلا جاءه فقال عبد لي سرق
قباء لعبد لي آخر فقال لا قطع مالك وسرق مالك وهذه قضايا تشتهر ولم يخالفها أحد فتكون اجماعا
وهذا يخص عموم الآية ولان هذا اجماع من أهل العلم لأنه قول من سمينا من الأئمة ولم يخالفهم
في عصرهم أحد فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم كما لا يجوز ترك اجماع الصحابة بقول واحد من التابعين
(فصل) وأم الولد والمدبر والمكاتب كالقن في هذا وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي
ولا يقطع سيد المكاتب بسرقة ماله لأنه عبد ما بقي عليه درهم، وكل من لا يقطع الانسان بسرقة ماله
لا يقطع عبده بسرقة ماله كآبائه وأولاده وغيرهم وقال أبو ثور يقطع بسرقة من عدا سيده ونحوه
قول مالك وابن المنذر.
ولنا حديث عمر رضي الله عنه، ولان مالهم ينزل منزلة ماله في قطعه فكذلك في قطع عبده.
(مسألة) (ولا يقطع مسلم بالسرقة من بيت المال)
يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي وأصحاب
الرأي، وقال حماد ومالك وابن المنذر يقطع لظاهر الكتاب.
ولنا ما روى ابن ماجة باسناده عن ابن عباس أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس فرفع
ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه وقال (مال الله سرق بعضه بعضا) ويروى ذلك عن عمر رضي الله
277

عنه وسأل ابن مسعود عمر عمن سرق من بيت المال فقال أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال
حق، وقال سعيد ثنا هشيم ثنا مغيرة عن الشعبي عن علي عليه السلام أنه كان يقول ليس على من سرق
من بيت المال قطع ولان له في المال حقا فيكون شبهة تمنع وجوب القطع كما لو سرق من مال له فيه شركة
(مسألة) (ولا يقطع بالسرقة من مال له فيه شرك أو لاحد ممن لا يقطع بالسرقة منه)
كالأب لا يقطع بسرقة مال ابنه والعبد لا يقطع بسرقة مال سيده فكذلك إذا سرق من مال
لابنه فيه شرك أو لسيده فلا قطع عليه لذلك.
(فصل) ومن سرق من الوقف أو من غلته وكان من الموقوف عليهم كالمسكين يسرق من
مال وقف المساكين أو من قوم معينين عليهم وقف لم يقطع لأنه شريك، وإن كان من غيرهم قطع
لأنه لا حق له فيه فإن قيل فقد قلتم لا يقطع بالسرقة من بيت المال من غير تفريق بين غني وفقير
فلم فرقتم ههنا؟ قلنا لأن للغني في بيت المال حقا بدليل قول عمر رضي الله عنه ما من أحد إلا وله في هذا
المال حق بخلاف وقف المساكين فإنه لا حق للغني فيه.
(مسألة) (ومن سرق من الغنيمة ممن له حق أو لولده أو لسيده لم يقطع)
لما ذكرنا من المسألة قبلها.
278

وحكى عن ابن أبي موسى أنه يحرق رحله كالغال، وان لم يكن من الغانمين ولا أحد ممن ذكرنا فسرق
منها قبل اخراج الخمس لم يقطع لأن له في الخمس حقا، وان اخرج الخمس فسرق من أربعة الأخماس
قطع وان سرق من الخمس لم يقطع لأن له فيه شركة فإن قسم الخمس خمسة أقسام فسرق من خمس
الله ورسوله لم يقطع، وان سرق من غيره قطع الا أن يكون من أهل ذلك الخمس
(مسألة) (وهل يقطع أحد الزوجين بالسرقة من مال الآخر المحرز عنه؟ على روايتين)
(إحداهما) لا قطع عليه وهو اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لقول عمر رضي الله عنه
لعبد الله بن عمرو الحضرمي حين قال له ان غلامي سرق مرآة امرأتي أرسله لا قطع عليه خادمكم
أخذ متاعكم، وإذا لم يقطع عبده بسرقة مالها فهو أولى ولان كل واحد منهما يرث صاحبه بغير حجب
ويسقط في مال الاخر عادة فأشبه الوالد والولد (والثانية) يقطع وهو مذهب مالك وأبي ثور وابن المنذر
وهو ظاهر كلام الخرقي لعموم الآية ولأنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه فأشبه الأجنبي وللشافعي
كالروايتين وقول ثالث ان الزوج يقطع بسرقة مال الزوجة لأنه لا حق له فيه ولا تقطع بسرقة ماله
لأن لها النفقة فيه، فاما ان لم يكن مال أحدهما محرزا عن الاخر لم يقطع رواية واحدة لأنه لم يسرق من حرز
(مسألة) (ويقطع سائر الأقارب بالسرقة من مال أقاربهم كالاخوة والأخوات ومن عداهم)
279

وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقطع بالسرقة من ذي رحم وحكاه ابن أبي موسى في الارشاد
مذهبا لأحمد لأنها قرابة تمنع النكاح وتبيح النظر وتوجب النفقة أشبه قرابة الولادة
ولنا أنها قرابة لا تمنع الشهادة فلا تمنع القطع لغير ذي الرحم وبهذا فارق قرابة الولادة
(مسألة) (ويقطع المسلم بالسرقة من مال الذمي والمستأمن ويقطعان بسرقة ماله)
اما قطع المسلم بالسرقة من مال الذمي وقطع الذمي بالسرقة من مال مسلم فلا نعلم فيه خلافا وبه
قال الشافعي وأصحاب الرأي واما الحربي إذا دخل إلينا مستأمنا فسرق فإنه يقطع أيضا وقال ابن حامد
لا يقطع وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأنه حد لله تعالى فلا يقام الحد عليه كالزنا ونص احمد على أنه
لا يقام عليه حد الزنا وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أنه حد يطالب به فوجب كحد القذف يحققه ان القطع يجب صيانة للأموال وحد القذف
يجب صيانة للاعراض فإذا وجب في حقه أحدهما وجب الآخر، فاما الزنا فإنما لم يجب لأنه يجب به
قتله لنقض العهد ولا يجب مع القتل حد سواه إذا ثبت هذا فإن المسلم يقطع بسرقة ماله وعند
أبي حنيفة لا يجب
280

ولنا أنه سرق مالا معصوما لا شبهة له فيه من حرز مثله فوجب قطعه كسرقة مال الذمي ويقطع
المرتد إذا سرق فإن أحكام الاسلام جارية عليه
(مسألة) (ومن سرق عينا وادعى أنها ملكه لم يقطع وعنه يقطع وعنه لا يقطع الا أن يكون معروفا بالسرقة)
من ثبتت عليه السرقة ببينة فأنكر لم يسمع انكاره، وان قال أحلفوه لي أني سرقت منه لم يحلف
لأن السرقة قد ثبتت بالبينة وفي احلافه عليها قدح في الشهادة فإن قال الذي أخذته ملكي كان لي
عنده وديعة أو رهنا أو ابتعته منه أو وهبه لي أو اذن لي في أخذه أو غصبه مني أو من أبي أو بعضه لي
فالقول قول المسروق منه مع يمينه لأن اليد ثبتت له فإن حلف سقطت دعوى السارق ولا قطع عليه
لأن صدقه محتمل ولهذا أحلفنا المسروق منه وان نكل قضينا عليه بنكوله وهذا إحدى الروايات
عن أحمد وهو منصوص الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه يقطع لأن سقوط القطع بدعواه يؤدي
إلى أن لا يجب قطع سارق فتفوت مصلحة الزجر وعنه رواية ثالثة أنه إن كان معروفا بالسرقة قطع لأنه
يعلم كذبه والا سقط عنه القطع والأولى أولى لأن الحدود تدرأ بالشبهات وافضاؤه إلى سقوط القطع
لا يمنع اعتباره كما أن الشرع اعتبر في شهادة الزنا شروطا لا يكاد يقع معها إقامة حد ببينة ابدا على
أنه لا يفضي إليه لازما فإن السراق لا يعلمون هذا ولا يهتدون إليه في الغالب وإنما يختص بعلم هذا
الفقهاء الذين لا يسرقون غالبا فإن لم يحلف المسروق منه سقط القطع وجها واحدا لأنه يقضى عليه بالنكول
281

(مسألة) (وإذا سرق المسروق منه مال السارق أو المغصوب منه مال الغاصب من الحرز
الذي فيه العين المسروقة أو المغصوبة لم يقطع وان سرق من غير ذلك أو سرق من مال من له عليه دين
قطع الا ان يعجز عن اخذه منه فيسرق قدر حقه فلا يقطع وقال القاضي يقطع)
إذا سرق من مال انسان أو غصبه فأحرزه فجاء المالك فهتك الحرز وأخذ ماله فلا قطع
فيه عند أحده سواء أخذه سرقة أو غيرها لأنه أخذ ماله وان سرق غيره ففيه وجهان
(أحدهما) لا قطع عليه لأن له شبهة في هتك الحرز واخذ ماله فصار كالسارق من غير حرز ولان له
شبهة في أخذ قدر ماله لذهاب بعض أهل العلم إلى جواز أخذ الانسان قدر دينه من مال من هو عليه
(والثاني) عليه القطع لأنه سرق نصابا من حرزه لا شبهة له فيه وإنما يجوز له أخذ قدر ماله إذا عجز
عن أخذ ماله وهذا أمكنه أخذ ماله فلم يجز له أخذ غيره وكذلك الحكم إذا أخذ ماله وأخذ نصابا من
غيره متميزا عن ماله فإن كان مختلطا بماله غير متميز منه فلا قطع عليه لأنه أخذ ماله الذي له اخذه
وحصل غيره مأخوذا ضرورة اخذه فيجب ان لا يضع فيه، ولان له في اخذه شبهة والحد يدرأ بالشبهات
فاما ان سرق منه مالا من غير الحرز الذي فيه ماله أو كان له دين على انسان فسرق من ماله قدر
دينه من حرزه نظرت فإن كان الغاصب أو الغريم باذلا لما عليه غير ممتنع من أدائه أو قدر المالك على
اخذ ماله فتركه وسرق مال الغاصب أو الغريم فعليه القطع لأنه لا شبهة له فيه، وان عجز عن استيفاء
282

دينه أو أرش جنايته فسرق قدر دينه أو حقه فلا قطع عليه وقال القاضي عليه القطع بناء على أصلنا
في أنه ليس له اخذ قدر دينه
ولنا ان هذا مختلف في حله فلم يجب الحد به كالوطئ في نكاح مختلف فيه وتحريم الاخذ لا يمنع
الشبهة الناشئة عن الاختلاف والحدود تدرأ بالشبهات فإن سرق أكثر من دينه فهو كالمغصوب منه
إذا سرق أكثر من دينه على ما مضى
(فصل) ومن قطع بسرقة عين فعاد فسرقها قطع، إذا سرق سارق فقطع ثم سرق ثانيا قطع
ثانيا سواء سرق من الذي سرق منه أو من غيره وسواء سرق تلك العين التي قطع بسرقتها أو غيرها
وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا قطع بسرقة عين مرة لم يقطع بسرقتها مرة ثانية الا أن يكون
قد قطع بسرقه غزل ثم سرقه منسوجا أو قطع بسرقة رطب ثم سرقه تمرا واحتج بان هذا يتعلق
استيفاؤه بمطالبة آدمي فإذا تكرر سببه في العين الواحدة لم يتكرر كحد القذف
ولنا أنه حد يجب بفعل في عين فتكرره في عين واحدة كتكرره في الأعيان كالزنا وما ذكروه
يبطل بالغزل إذا نسج وبالرطب إذا أتمر ولا نسلم حد القذف فإنه متى قذفه بغير ذلك الزنا حد، وان
قذفه بذلك الزنا حد، وان قذفه بذلك الزنا عقيب حده لم يحد لأن الغرض اظهار كذبه وقد ظهر
وههنا الغرض ردعه عن السرقة ولم يرتدع فيردع بالثاني كما لو سرق عينا أخرى
283

(فصل) فإن سرق مرات قبل القطع أجزأ حد واحد عن جميعها وتداخلت حدودها لأنه حد
من حدود الله فإذا اجتمعت أسبابه تداخل كحد الزنا، وذكر القاضي فيما إذا سرق من جماعة وجاءوا
متفرقين رواية أخرى أنها لا تتداخل ولعله يقيس ذلك على حد القذف والصحيح أنها تتداخل لأن
القطع خالص حق لله تعالى فيتداخل كحد الزنا والشرب، وفارق حد القذف فإنه لآدمي ولهذا يتوقف
على المطالبة باستيفائه ويسقط بالعفو عنه
(مسألة) (ومن أجر داره أو أعارها ثم سرق منها مال المستعير أو المستأجر قطع)
إذا سرق مال المستأجر من العين المستأجرة فعليه القطع وبهذا قال الشافعي، وأبو حنيفة وقال
صاحباه لا قطع عليه لأن المنفعة تحدث في ملك المؤجر ثم تنقل إلى المستأجر
ولنا انه هتك حرزا وسرق منه نصابا لا شبهة له فيه فوجب القطع كما لو سرق من ملك المستأجر
وما قالاه غير مسلم
(مسألة) (وان استعار دارا فنقبها المعير وسرق مال المستعير منها قطع أيضا)
وبهذا قال الشافعي في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة لا قطع عليه لأن المنفعة ملك له فما هتك
حرز غيره ولان له الرجوع متى شاء وهذا يكون رجوعا
284

ولنا ما تقدم في التي قبلها ولا يصح ما ذكروه لأن هذا قد صار حرز المال غيره فلا يجوز له
الدخول إليه وإنما يجوز له الرجوع في العارية والمطالبة برده إليه
(فصل) قال احمد رحمه الله لا قطع في المجاعة، يعني ان المحتاج إذا سرق ما يأكله لا قطع عليه لأنه
كالمضطر وروى الجوزجاني عن عمر أنه قال لا قطع في عام سنة وقال سألت أحمد عنه فقلت تقول
به؟ فقال أي لعمري إذا حملته الحاجة والناس في شده ومجاعة، وعن الأوزاعي مثل ذلك وهذا محمول على
من لا يجد ما يشتري به ما يأكله وقد روي عن عمر رضي الله عنه ان غلمان حاطب بن أبي بلتعة
انتحروا ناقة للمزني فامر عمر بقطعهم ثم قال لحاطب اني أراك تجيعهم فدرأ عنهم الحد لما ظنه يجيعهم
فأما الواجد لما يأكله والواجد لما يشتري به فعليه القطع وإن كان بالثمن الغالي ذكره القاضي
وهو مذهب الشافعي
فصل ولا قطع على المرأة إذا منعها الزوج قدر كفايتها أو كفاية ولدها إذا أخذت من ماله
سواء أخذت قدر ذلك أو أكثر منه لأنها تستحق قدر ذلك فالزائد يكون مشتركا بما يستحق أخذه
(فصل) السادس ثبوت السرقة بشهادة عدلين أو اقرار مرتين ولا ينزع عن اقراره حتى يقطع
وجملة ذلك أن القطع إنما يجب بأحد شيئين بينة أو اقرار لا غير، فاما البينة فيشترط فيها ان يكونا
رجلين مسلمين حرين عدلين سواء كان السارق مسلما أو ذيما وقد ذكرنا ذلك في شهود الزنا بما
285

يغني عن اعادته ههنا ويشترط ان يصفا السرقة والحرز وجنس النصاب وقدره ليزول الاختلاف فيه
فيقولان نشهد أن هذا سرق كذا قيمته كذا من حرز ويصفا الحرز فإن كان المسروق منه غائبا
فحضر وكيله وطالب بالسرقة احتاج الشاهدان ان يرفعا في نسبه فيقولان من حرز فلان بن فلان
ابن فلان بحيث يتميز عن غيره فإذا اجتمعت هذه الشروط وجب القطع في قول عامتهم، وقال ابن
المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان
حران مسلمان ووصفا ما يوجب القطع وإذا وجب القطع بشهادتهما لم يسقط بغيبتهما ولا موتهما على
ما مضى في الشهادة بالزنا وإذا شهد بسرقة مال غائب فإن كان له وكيل حاضر فطالب به قطع السارق
والا فلا وقال القاضي يحبس ولا يقطع حتى يحضر الغائب
(فصل) وإذا اختلف الشاهدان في الوقت أو الزمان أو المسروق فشهد أحدهما انه سرق يوم
الخميس والآخر انه سرق يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه سرق من هذا البيت والآخر انه سرق من
هذا البيت الآخر أو قال أحدهما سرق ثورا وقال الآخر سرق بقرة أو قال الآخر سرق حمارا لم
يقطع في قولهم جميعا وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وان قال أحدهما سرق ثوبا أبيض
وقال الآخر اسود أو قال أحدهما سرق هرويا وقال الآخر سرق مرويا لم يقطع أيضا وبه قال
الشافعي وأبو ثور وابن المنذر لأنهما لم يتفقا على الشهادة بشئ واحد فأشبه ما لو اختلفا في الذكورية
286

والأنوثية وقال أبو الخطاب يقطع وهو قول أصحاب الرأي لأن الاختلاف لم يرجع إلى نفس الشهادة
فيحتمل ان أحدهما غلب على ظنه انه هروي والآخر انه مروي أو كان الثوب فيه سواد وبياض قال
ابن المنذر اللون أقرب إلى الظهور من الذكورية والأنوثية فإذا كان اختلافهم فيما يخفى يبطل
شهادتهما ففيما يظهر أولى ويحتمل ان أحدهما ظن المسروق ذكرا وظنه الآخر أنثى وقد أوجب
هذا رد شهادتهما فكذلك ههنا (الأمر الثاني) الاعتراف ويشترط فيه ان يعترف مرتين روي ذلك
عن علي رضي الله عنه، وبه قال ابن أبي ليلي وأبو يوسف وزفر وابن شبرمة، وقال عطاء والثوري
وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن يقطع باعتراف مرة لأنه حق يثبت بالاقرار فلم يعتبر فيه
التكرار كحق الآدمي
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن أبي أمية المخزومي ان النبي صلى الله عليه وسلم اتي بلص قد اعترف فقال له (ما إخالك
سرقت) قال بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع ولو وجب القطع بأول مرة لما اخره وروى سعيد
عن هشيم وسفيان وأبي الأحوص وأبي معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال
شهدت عليا واتاه رجل فاقر بالسرقة فرده وفي لفظ فانتهره وفي لفظ فسكت عنه وقال غير هؤلاء فطرده ثم
287

عاد بعد ذلك فأقر فقال له علي شهدت على نفسك مرتين وأمر به فقطع وفي لفظ قد أقررت على
نفسك مرتين ومثل هذا يشتهر فلم ينكر ولأنه يتضمن اتلافا في حد فكان من شرطه التكرار كحد
الزنا ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة وقياسهم ينتقض بالزنا عند من اعتبر التكرار
ويفارق حق الآدمي لأن حقه مبني على الشح والضيق ولا يقبل رجوعه عنه بخلاف مسئلتنا
(فصل) ويعتبر ان يذكر في اقراره شروط السرقة من النصاب والحرز واخراجه منه، والحر
والعبد في هذا سواء نص عليه أحمد لعموم النص فيهما ولما روى الأعمش عن القاسم عن أبيه أن
عليا قطع عبدا أقر عنده بالسرقة وفي رواية قال كان عبدا يعني الذي قطعه علي ويعتبر ان يقر مرتين.
وروى منها عن أحمد: إذا أقر العبد انه سرق أربع مرات قطع فظاهر هذا أنه اعتبر إقراره أربع مرات
ليكون على النصف من الحر، والأول أصح لخبر علي ولأنه اقرار بحد فاستوى فيه الحر والعبد كسائر الحدود
(مسألة) (ولا ينزع عن اقراره حتى يقطع)
هذا قول أكثر الفقهاء وقال ابن أبي ليلي وداود لا يقبل رجوعه لأنه لو أقر لآدمي بحد
قصاص لم يقبل رجوعه عنه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للسارق (ما إخالك سرقت) يعرض له ليرجع ولان حديثه ثبت بالاعتراف
فقبل رجوعه عنه كحد الزنا ولان الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعه شبهة لاحتمال أن يكون كذب
288

على نفسه في اعترافه ولأنه أحد حجتي القطع فيبطل بالرجوع عنه كالشهادة ولان حجة القطع زالت
قبل استيفائه فسقط كما لو رجع الشهود وفارق حق الآدمي لأنه مبني على الشح والضيق، ولو رجع
الشهود عن الشهادة بعد الحكم في حق الادمي لم يبطل برجوعهم ولم يمنع استيفاءها، إذا ثبت هذا
فإنه إذا رجع قبل القطع سقط القطع ولم يسقط غرم المسروق لأنه حق آدمي، ولو أقر مرة واحدة
لزمه غرامة المسروق دون القطع، وإن كان رجوعه وقد قطع بعض المفصل لم يتممه إن كان يرجى
برؤه لكونه قطع الأقل وان قطع الأكثر فالمقطوع بالخيار ان شاء قطعه ويستريح من تعليق كفه
ولا يلزم القاطع قطعه لأن قطعه تداو وليس بحد
(فصل) قال احمد لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن اقراره وهذا قول عامة الفقهاء روي
عن عمر انه اتي بسارق فسأله أسرقت؟ قل لا فقال لا فتركه وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وأبي
هريرة وابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهم وبه قال إسحاق وأبو ثور، وقد روينا ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال للسارق (ما إخالك سرقت) وقال لماعز (لعلك قبلت أو لمست) وعن علي ان رجلا أقر عنده
بالسرقة فانتهره. ولا بأس بالشفاعة في السارق إذا لم يبلغ الإمام فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد وجب) وقال الزبير بن العوام في الشفاعة في الحد يفعل ذلك
دون السلطان فإذا بلغ الإمام فلا أعفاه الله ان أعفاه، وممن رأى ذلك عمار وابن عباس وسعيد بن جبير
والزهري والأوزاعي وقال مالك ان لم يعرف بشر فلا باس ان يشفع له ما لم يبلغ الإمام وأما من
عرف بشر وفساد فلا أحب ان يشفع له ولكن يترك حتى يقام عليه الحد وأجمعوا على أنه إذا بلغ
289

الإمام لم تجز الشفاعة فيه لأن ذلك اسقاط حق وجب لله تعالى وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين شفع أسامة
في المخزومية التي سرقت وقال (أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟) وقال ابن عمر من حالت
شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه
(فصل) السابع مطالبة المسروق منه بما له وقال أبو بكر ليس ذلك بشرط
وجملة ذلك أن السارق لا يقطع وان اعترف أو قامت بينة حتى يأتي مالك المسروق يدعيه وبهذا
قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو بكر: ولا يفتقر إلى دعوى ولا مطالبة وهذا قول مالك وأبي ثور
وابن المنذر لعموم الآية ولان موجب القطع ثبت فوجب من غير مطالبة كحد الزنا
ولنا ان المال يباح بالبذل والإباحة فيحتمل ان مالكه اباحه إياه أو وقفه على المسلمين أو على
طائفة السارق منهم أو اذن له في دخول حرزه فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة وعلى هذا يخرج الزنا
فإنه لا يباح بالإباحة ولان القطع أوسع في الاسقاط الا ترى انه إذا سرق مال أبيه لم يقطع ولو زنى بجاريته
حد؟ ولان القطع شرع لصيانة مال الآدمي فله به تعلق فلم يستوف من غير حضور مطالب به والزنا
حق لله تعالى محض فلم يفتقر إلى طلب به. إذا ثبت هذا فإن وكيل الغائب يقوم مقامه في الطلب
وقال القاضي إذا أقر بسرقة مال غائب حبس حتى يحضر الغائب لأنه يحتمل أن يكون قد اباحه
ولو أقر بحق مطلق لغائب لم يحبس لأنه لا حق عليه لغير الغائب ولم يأمر بحبسه فلم يحبس وفي مسئلتنا
تعلق به حق الله تعالى وحق الآدمي فحبس لما عليه من حق الله تعالى، فإن كانت العين في يده أخذها
الحكام وحفظها للغائب وإن لم يكن في يده شئ فإذا جاء الغائب كان الخصم فيها
(فصل) ولو أقر بسرقة لرجل فقال المالك لم تسرق مني ولكن غصبتني أو كان لي قبلك
وديعة فجحدتني لم يقطع لأن اقراره لم يوافق دعوى المدعي، وهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي وإن
290

أقر انه سرق نصابا من رجلين فصدقه أحدهما دون الآخر أو قال الآخر بل غصبتنيه أو جحدتنيه
لم يقطع وبه قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور يقطع
ولنا أنه لم يوافق على سرقة نصاب فلم يقطع كالتي قبلها وان وافقاه جميعا قطع وان حضر أحدهما
فطالب ولم يحضر الآخر لم يقطع لأن ما حصلت المطالبة به لا يوجب القطع بمفرده، وإن أقر انه
سرق من رجل شيئا فقال الرجل قد فقدته من مالي فينبغي ان يقطع لما روي عن عبد الرحمن بن ثعلبة
الأنصاري عن أبيه أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
يا رسول الله اني سرقت جملا لبني فلان فطهرني فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا انا افتقدنا جملا لنا
فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده، قال ثعلبة انا انظر إليه حين وقعت يده وهو يقول الحمد لله الذي
طهرني منك أردت ان تدخلي جسدي النار رواه ابن ماجة
(مسألة) (وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت وهو ان تغمس
في زيت مغلي فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكف وحسمت)
لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف وهو
الكوع وفي قراءة عبد الله بن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) وهذا إن كان قراءة والا فهو تفسير، وقد
روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع ولا مخالف
لهما في الصحابة ولان البطش بها أقوى فكانت البداءة بها اردع ولأنها آلة السرقة فناسبت عقوبته
باعدام آلتها، وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى وبذلك قال الجماعة الاعطاء حكي عنه أنه تقطع
291

يده اليسرى لقوله سبحانه (فاقطعوا أيديهما) ولأنها آلة السرقة والبطش فكانت العقوبة بقطعها
أولى، وروي ذلك عن ربيعة وداود وهذا شذوذ يخالف قول جماعة الفقهاء من الصحابة والتابعين
ومن بعدهم وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في
السارق (إذا سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله) ولأنه في المحاربة الموجبة قطع عضوين
إنما تقطع يده ورجله ولا تقطع يداه فنقول جناية أوجبت قطع عضوين فكانا يدا ورجلا كالمحاربة
ولان قطع يديه يفوت منفعة الجنس فلا تبقى له يد يأكل بها ولا يتوضأ ولا يستطيب ولا يدفع عن
نفسه فيصير كالهالك فكان قطع الرجل الذي لا يشتمل على هذه المفسدة أولى، وأما الآية فالمراد بها
قطع يد كل واحد منهما بدليل أنه لا تقطع اليد ان في المرة الأولى، وفي قراءة عبد الله (فاقطعوا
أيمانهما) وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن المثنى إذا أضيف إلى المثنى ذكر بلفظ الجمع كقوله تعالى (فقد صغت
قلوبكما) إذا ثبت هذا فإنه تقطع رجله اليسرى لقول الله تعالى (أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف)
ولان قطع اليسرى أرفق به لأنه يمكنه المشي على خشبة ولو قطعت رجله اليمنى لم يمكنه المشي بحال،
وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم وفعل ذلك عمر رضي الله عنه وكان
علي رضي الله عنه بقطع من نصف القدم من معقد الشراك ويدع له عقبا يمشي عليها وهو قول أبي ثور
ولنا أنه أحد العضوين المقطوعين في السرقة فيقطع من المفصل كاليد، وإذا قطع حسم وهو أن
أن يغلى الزيت فإذا قطع غمس عضوه في الزيت لتنسد أفواه العروق لئلا ينزف الدم فيموت وقد روي أن
292

النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال (اقطعوه واحسموه) وهو حديث فيه مقال قاله ابن المنذر
وممن استحب ذلك الشافعي وأبو ثور وغيرهما من أهل العلم
(فصل) ويقطع السارق بأسهل ما يمكن فيجلس ويضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه وتشد يده بحبل
ويجر حتى يبين مفصل الكف من مفصل الذراع ثم توضع بينهما سكين حادة ويدق فوقها بقوة ليقطع
في مرة واحدة أو توضع السكين على المفصل وتمد مدة واحدة وان علم قطع أوحى من هذا قطع به
(فصل) ويسن تعليق اليد في عنقه لما روى فضالة بن عبيد ان النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق
فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه رواه أبو داود وابن ماجة وفعل ذلك علي رضي الله عنه
ولان فيه ردعا وزجرا.
(فصل) ولا يقطع في شدة حر ولا برد لأن الزمان ربما أعان على قتله والغرض الزجر دون
القتل، ولا يقطع مريض في مرضه لئلا يأتي ذلك على نفسه، ولو سرق فقطعت يده ثم سرق قبل
اندمال يده لم يقطع ثانيا حتى يندمل القطع الأول وكذلك لو قطعت رجله قصاصا لم تقطع اليد في
السرقة حتى تبرأ الرجل فإن قيل أليس لو وجب عليه قصاص في اليد الأخرى لقطعت قبل الاندمال
والمحارب تقطع يده ورجله دفعة واحدة وقد قلتم في المريض الذي وجب عليه الحد لا ينتظر برؤه
فلم خالفتم ذلك ههنا؟ قلنا القصاص حق آدمي يخاف فوته وهو مبني على الضيق لحاجته إليه ولان
القصاص قد يجب في يد ويجب في يدين وأكثر في حالة واحدة فلهذا جاز ان يوالي بين
قصاصين بخلاف الحد فإن كل معصية لها حد مقدر ولا تجوز الزيادة عليه فإذا والى بين حدين صار
293

كالزيادة على الحد فلم يجز، فأما قطاع الطريق فإن قطع اليد والرجل حد واحد بخلاف ما نحن
فيه وأما تأخير الحد للمرض فممنوع وإن سلم فإن الجلد يمكن تخفيفه فيؤتى به في المرض على وجه يؤمن
معه التلف والقطع لا يمكن تخفيفه
(مسألة) (فإن عاد حبس ولم يقطع وعنه أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة ورجله اليمنى في الرابعة)
وجملة ذلك أنه إذا سرق بعد قطع يديه ورجليه لم يقطع منه شئ آخر وحبس وبهذا قال علي
رضي الله عنه والحسن والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي، وعن أحمد
أنه يقطع في الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وفي الخامسة يعزر ويحبس، وروي عن أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل وهو قول قنادة ومالك والشافعي وأبي ثور
وابن المنذر، وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز أنه تقطع يده اليسرى في
الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ويقتل في الخامسة لأن جابرا قال: جئ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقال
(اقتلوه) قالوا يا رسول الله إنما سرق قال (اقطعوه) قال فقطع ثم جئ به الثانية فقال (اقتلوه)
فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال (اقطعوه) قال فقطع ثم جئ به الثالثة فقال (اقتلوه) قالوا
يا رسول الله إنما سرق قال (اقطعوه) قال ثم أتي به الرابعة فقال (اقتلوه)، قالوا يا رسول الله إنما
سرق قال (اقطعوه) ثم أتي به الخامسة فقال (اقتلوه) فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في
بئر رواه أبو داود والنسائي، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق (ان سرق
فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله) ولان
294

اليسار تقطع قودا فجاز قطعها في السرقة كاليمني ولأنه فعل أبي بكر رضي الله عنهما، وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)
ولنا ما روى سعيد ثنا أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه قال حضرت علي بن
أبي طالب رضي الله عنه أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق فقال لأصحابه ما ترون في هذا؟
قالوا اقطعه يا أمير المؤمنين قال قتلته إذا وما عليه القتل باي شئ يأكل الطعام؟ باي شئ يتوضأ للصلاة؟
بأي شئ يغتسل من جنابته؟ بأي شئ يقوم على حاجته؟ فرده إلى السجن أياما ثم أخرجه فاستشار أصحابه
فقالوا مثل قولهم الأول وقال مثل ما قال أول مرة فجلده جلدا شديدا ثم أرسله وروي عنه أنه قال
إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ولا رجلا يمشي عليها ولان في قطع اليدين تفويت
منفعة الجنس فلم يشرع في حد كالقتل، ولأنه لو جاز قطع اليدين لقطعت اليسرى في المرة الثالثة
لأنها آلة البطش كاليمنى وإنما لم تقطع للمفسدة في قطعها لأن ذلك بمنزلة الاهلاك فإنه لا يمكنه أن
يتوضأ ويغتسل ولا يستنجي ولا يحترز من نجاسة ولا يزيلها عنه ولا يدفع عن نفسه ولا يأكل
ولا يبطش وهذه المفسدة حاصلة بقطعها في المرة الثالثة، فأما حديث جابر ففي حق رجل استحق القتل
بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في أول مرة وفي كل مرة وقال النسائي فيه: حديث منكر وأما الحديث
الآخر فلم يكره أصحاب السنن ولم نعلم صحته وفعل أبي بكر وعمر قد عارضه قول علي وروي
عن عمر أنه رجع إلى قول علي فروى سعيد حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن
295

بن عائذ قال أتي عمر برجل أقطع اليد والرجل قد سرق فأمر به عمر أن تقطع رجله فقال علي إنما
قال الله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) إلى آخر الآية وقد قطعت يد هذا ورجله فلا
ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها اما ان تعزره أو تستودعه السجن فاستودعه السجن
(مسألة) (ومن سرق وليس له يد يمنى قطعت رجله اليسرى وان سرق وله يمنى فذهبت
سقط القطع، وان ذهبت يده اليسرى لم تقطع اليمنى على الرواية الأولى وتقطع على الأخرى)
إذا سرق ولا يمنى له قطعت رجله اليسرى كما تقطع في السرقة الثانية فإن كانت يمناه شلاء ففيه روايتان
(إحداهما) تقطع رجله اليسرى لأن الشلاء لا نفع فيها ولا جمال فأشبهت كفا لا أصابع عليه قال
إبراهيم الحربي عن أحمد فيمن سرق ويمناه جافة تقطع رجله (والثانية) أنه يسئل أهل الخبرة فإن قالوا
إنها إذا قطعت رقأ دمها وانحسمت عروقها قطعت لأنه أمكن قطع يمينه فوجب كما لو كانت صحيحة
وان قالوا لا يرقأ دمها لم تقطع لأنه يخاف تلفه وتقطع رجله وهذا مذهب الشافعي، فإن كانت أصابع
اليمنى كلها ذاهبة ففيها وجهان (أحدهما) لا تقطع وتقطع الرجل لأن الكف لا يجب فيه دية اليد
فأشبه الذراع (والثاني) تقع لأن الراحة بعض ما يقطع في السرقة فإذا كان موجودا قطع كما لو ذهب
الخنصر أو البنصر، وان ذهب بعض الأصابع وكان الذاهب الخنصر أو البنصر أو واحدة سواهما
قطعت لأن معظم نفعها باق، وان لم يبق الا واحدة فهي كالتي ذهب جميع أصابعها وان بقي اثنتان
فهل تلحق بالصحيحة أو بما قطع جميع أصابعها؟ على وجهين والأولى قطعها لأن نفعها لم يذهب بالكلية
(مسألة) (وان سرق وله يمنى فذهبت سقط القطع)
أما إذا سرق وله يمنى قطعت في قصاص أو ذهبت بأكلة أو تعدى عليها متعد فقطعها سقط
القطع ولا شئ على العادي إلا الأدب
وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال قتادة يقتص من القاطع وتقطع رجل
السارق وهذا غير صحيح فإن يد السارق ذهبت والقاطع قطع عضوا غير معصوم، وان قطعها قاطع
بعد السرقة وقبل ثبوتها والحكم بالقطع ثم ثبت ذلك فكذلك، ولو شهد بالسرقة فحبسه الحاكم ليعدل
296

الشهود فقطعه قاطع ثم عدلوا فكذلك وان لم يعدلوا وجب القصاص على القاطع، وبهذا قال الشافعي
وقال أصحاب الرأي لا قصاص عليه، لأن صدقهم محتمل فيكون ذلك شبهة.
ولنا أنه قطع طرفا ممن يكافئه عمدا بغير حق فلزمه القطع كما لو قطعه ولم تقم بينة.
(مسألة) (وان ذهبت يده اليسرى أو كانت مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الأصابع أو شلت
قبل قطع يمناه لم تقطع يمناه على الرواية الأولى وتقطع على الثانية.
(فصل) وان قطع قاطع يسراه عمدا فعليه القود لأنه قطع طرفا معصوما وان قطعه غير متعمد
فعليه ديته ولا تقطع يمين السارق، وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي وفيه وجه آخر أنها تقطع
بناء على قطعها في المرة الثالثة وان قلنا لا تقطع فهل تقطع رجله؟ فيه وجهان (أصحهما) لا يجب لأنه لم
يجب بالسرقة وسقوط القطع عن يمينه لا يقتضي قطع رجليه كما لو كان المقطوع يمينه (والثاني)
تقطع رجله لأنه تعذر قطع يمينه فقطعت رجله كما لو كانت اليسرى مقطوعة حال السرقة وان كانت
يمناه صحيحة ويسراه ناقصة نقصا يذهب بمعظم نفعها مثل أن تذهب منها الوسطى أو السبابة أو
الابهام احتمل انه كقطعها وينتقل إلى رجله، وهذا قول أصحاب الرأي واحتمل أن تقطع يمناه
لأن له يدا ينتفع بها أشبه ما لو قطعت خنصرها، وان كانت يداه صحيحتين ورجله اليمنى شلاء أو
مقطوعة فقال شيخنا لا أعلم فيها قولا لأصحابنا ويحتمل وجهين (أحدهما) تقطع يمينه وهو مذهب
الشافعي ولأنه سارق له يمنى فقطعت عملا بالكتاب والسنة ولأنه سارق له يدان فقطعت يمناه كما
لو كانت المقطوعة رجله اليسرى (والثاني) لا يقطع منه شئ وهو قول أصحاب الرأي، لأن قطع
يمناه يذهب بمنفعة المشي من الرجلين فأما ان كانت رجله اليسرى شلاء ويداه صحيحتان قطعت
297

يده اليمنى لأنه لا يخشى تعدي ضرر القطع إلى غير المقطوع، وعلى قياس هذه المسألة لو سرق ويده
اليسرى مقطوعة أو شلاء لم يقطع منه شئ لذلك وأنكر هذا ابن المنذر، وقال: أصحاب الرأي
بقولهم هذا خالفوا كتاب الله وسنة رسوله.
(مسألة) (وإذا وجب قطع يمناه فقطع القاطع يسراه بدلا عن يمينه أجزأت ولا شئ على
القاطع إلا الأدب) وهو قول الشعبي وأصحاب الرأي لأن قطع يمنى السارق يفضي إلى تفويت منفعة
الجنس وقطع يديه بسرقة واحدة فلا يشرع فإذا انتفى قطع يمينه حصل قطع يساره مجزئا عن القطع
الواجب فلا يجب على فاعله قصاص، وقال أصحابنا في وجوب قطع يمنى السارق وجهان وللشافعي فيما
إذا لم يعلم القاطع كونها يسار وظن أن قطعها يجزئ قولان (أحدهما) لا تقطع يمين السارق كيلا
تقطع يداه بسرقة واحدة (والثاني) تقطع كما لو قطعت يسراه قصاصا، فأما القاطع فاتفق أصحابنا
وأصحاب الشافعي على أنه ان قطعها من غير اختيار من السارق أو كان السارق أخرجها دهشة أو
ظنا منه انها تجزئ وقطعها القاطع عالما بأنها يسراه وانها لا تجزئ فعليه القصاص وإن لم يعلم أنها يسراه
أو ظن أنها مجزئة فعليه ديتها، وإن كان السارق أخرجها مختارا عالما بالامرين فلا شئ على القاطع
لأنه أذن في قطعها فأشبه غير السارق والذي اختاره شيخنا ما ذكرناه في أول الفصل.
(مسألة) (ويجتمع القطع والضمان فترد العين المسروقة إلى مالكها وان كانت تالفة غرم قيمتها وقطع)
لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية وإن كانت تالفة فعلى
السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قطع أو لم يقطع موسرا كان أو معسرا، وهذا قول الحسن
والنخعي وحماد والبتي والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور وقال الثوري وأبو حنيفة لا يجتمع الغرم
298

والقطع، ان غرمها قبل القطع سقط القطع وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم وقال عطاء وابن سيرين
والشعبي ومكحول لا غرم على السارق إذا قطع ووافقهم مالك في المعسر ووافقنا في الموسر. قال
أبو حنيفة في رجل سرق مرات ثم قطع يغرم الكل الا الأخيرة، وقال أبو يوسف لا يغرم شيئا لأنه قطع بالكل
فلا يغرم شيئا منه كالسرقة الأخيرة واحتجا بما روي عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال (إذا أقمتم الحد على السارق فلا غرم عليه) ولان التضمين يقتضي التمليك والملك يمنع القطع فلا يجمع بينهما
ولنا أنها عين يجب ضمانها بالرد لو كانت باقية فيجب ضمانها إذا كانت تالفة كما لو لم يقطع ولان
القطع والغرم حقان يجبان لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك وحديثهم ويرويه
سعد بن إبراهيم عن ابن منصور وسعد بن إبراهيم مجهول قاله ابن المنذر، وقال ابن عبد البر الحديث
ليس بالقوي ويحتمل انه أراد ليس عليه أجرة القاطع وما ذكروه فهو بناء على أصولهم ولا نسلمها لهم.
(فصل) إذا فعل في العين فعلا نقصها به كقطع الثوب ونحوه وجب رده ورد نقصه ووجب
القطع وقال أبو حنيفة إن كان نقصا لا يقطع حق المغصوب منه إذا فعله الغاصب رد العين ولا ضمان عليه
وإن كان يقطع حق المالك كقطع الثوب وخياطته فلا ضمان عليه ويسقط حق المسروق منه من العين
وإن كان زيادة في العين كصبغه احمر أو اصفر فلا يرد العين ولا يحل له التصرف فيها وقال أبو يوسف
ومحمد يرد العين وبنى هذا على أصله في أن الغرم يسقط عنه القطع، وأما إذا صبغه فقال لا يرده لأنه
299

لو رده لكان شريكا فيه بصبغه ولا يجوز ان يقطع فيما هو شريك فيه وهذا ليس بصحيح لأن صبغه
كان قبل القطع فلو كان شريكا بالصبغ لسقط القطع وإن كان يصير شريكا بالرد فالشركة الطارئة
بعد القطع لا تؤثر كما لو اشترى نصفه من مالكه بعد القطع، وقد سلم أبو حنيفة أنه لو سرق فضة
فضربها دراهم قطع ولزمه ردها وقال صاحباه لا يقطع ويسقط حق صاحبها منها بضربها وهذا شئ بنيناه على
أصولهما في أن تغيير اسمها يزيل ملك صاحبها وان ملك السارق لها يسقط القطع عنه وهو غير مسلم لهما.
(فصل) ويستوي في وجوب الحد على السارق الحر والحرة والعبد والأمة ولا خلاف في وجوب الحد على
الحر والحرة لقول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولأنهما استويا في سائر الحدود فكذلك في
هذا وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارق رداء صفوان وقطع المخزومية التي سرقت القطيفة فاما العبد والأمة فإن
جمهور الفقهاء وأهل الفتوى على وجوب القطع عليهما بالسرقة الا ما حكي عن ابن عباس أنه قال لا قطع عليهما لأنه
حد ولا يمكن تنصيفه فلم يجب في حقهما كالرجم ولأنه حد فلا يساوي العبد فيه الحر كسائر الحدود
ولنا عموم الآية وروى الأثرم أن رقيقا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة
فانتحروها فامر كثير بن الصلت ان يقطع أيديهم ثم قال عمر والله اني لا أراك تجيعهم ولكن لأغرمنك
300

غرما يشق عليك ثم قال للمزني كم ثمن ناقتك؟ قال أربعمائة درهم قال عمر أعطه ثمانمائة درهم، وروى
القاسم عن أبيه ان عبدا أقر بالسرقة عند علي فقطعه، وفي رواية قال كان عبدا يعني الذي قطعه علي
رواه الإمام أحمد في مسنده وهذه قصص تنتشر وتشهر ولم تنكر فتكون إجماعا، وقولهم لا يمكن تنصيفه
قلنا ولا يمكن تعطيله فيجب تكميله وقياسهم نقلبه عليهم فنقول حق فلا يتعطل في حق العبد والأمة
كسائر الحدود، وفارق الرجم فإن حد الزنا لا يتعطل بتعطيله بخلاف القطع فإن حد السرقة يتعطل بتعطيله
(فصل) ويقطع الآبق بسرقته روي ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وبه قال مالك والشافعي
وقالا مروان وسعيد بن العاص وأبو حنيفة لا يقطع لأن قطعه قضاء على سيده ولا يقضى على الغائب
ولنا عموم الكتاب والسنة وأنه مكلف سرق نصابا من حرز مثله فيقطع كغير الآبق، وقولهم
انه قضاء على سيده ممنوع فإنه لا يعتبر فيه اقرار السيد ولا يضر انكاره وإنما يعتبر ذلك من العبد ثم
القضاء على الغائب بالبينة جائز على ما ذكر في موضعه
(مسألة) (وهل يجب الزيت الذي يحسم به من بيت المال أو من مال السارق؟ على وجهين)
(أحدهما) من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به القاطع في حديث سارق الشملة فقال (اقطعوه واحسموه)
ولأنه من المصالح وذلك يقتضي أن يكون من بيت المال فإن لم يحسم فذكر القاضي أنه لا شئ عليه لأن عليه القطع
لا مداواة المحدود (والثاني) من مال السارق لأنه مداواة له فكان في ماله كمداواته في مرضه، ويستحب
للمقطوع حسم نفسه فإن لم يفعل لم يأثم لأنه ترك التداوي في المرض وهذا مذهب الشافعي
301

باب حد المحاربين
(وهم قطاع الطريق)
والأصل في حكمهم قول الله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض
فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) وهذه الآية
في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وبه يقول مالك والشافعي
وأبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن ابن عمر أنه قال نزلت هذه الآية في المرتدين وحكي ذلك عن
الحسن وعطاء وعبد الكريم لأن سبب نزولها قصه العرنيين وكانوا ارتدوا عن الاسلام وقتلوا الرعاة
واستاقوا إبل الصدقة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم من جاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم
في الحرة حتى ماتوا، قال أنس فأنزل الله تعالى في ذلك (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) الآية
أخرجه أبو داود والنسائي ولان محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار لا من المسلمين
ولنا قول الله تعالى (الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) والكفار تقبل توبتهم بعد
القدرة كما تقبل قبلها ويسقط عنهم القتل والقطع في كل حال والمحاربة قد تكون من المسلمين بدليل
قوله تعالى (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا
بحرب من الله ورسوله)
302

(مسألة) (وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة، فاما من يأخذه
على وجه السرقة فليس بمحارب)
المحاربون الذين تثبت لهم أحكام المحاربة التي نذكرها بعد إن شاء الله تعالى يعتبر لهم ثلاثة شروط:
(أحدها) لا يكون ذلك في الصحراء
(مسألة) (وان فعلوا ذلك في البنيان لم يكونا محاربين)
في قول الخرقي وقد توقف أحمد رحمه الله فيهم فظاهر كلام احمد أنهم غير محاربين، وبه
قال أبو حنيفة والثوري لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق وقطع الطريق إنما هو في الصحراء
ولان من في المصر يلحق به الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين والمختلس ليس بقاطع
ولا حد عليه، وقال أبو بكر وكثير من أصحابنا حكمهم في المصر والصحراء واحد، وبه قال الأوزاعي
والليث والشافعي وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب، ولان ذلك إذا وجد في المصر كان أعظم
جورا وأكثر ضررا فكان بذلك أولى، وذكر القاضي ان هذا إن كان في المصر بحيث لو كبسوا دارا
فكان أهل الدار بحيث لو صاحوا جاءهم الغوث فليس هؤلاء قطاع طريق لأنهم في موضع يلحقهم الغوث
عادة فإن حضروا قرية أو بلدة ففتحوه وغلبوا على أهله أو محلة مفرده بحيث لا يلحقهم الغوث عادة فهم
محاربون لأنهم لا يلحقهم الغوث عادة فأشبه قطاع الطريق في الصحراء
(الشرط الثاني) أن يكون معهم سلاح فإن لم يكن سلاح فليسوا محاربين لأنهم لا يمنعون من
يقصدهم ولا نعلم في هذا خلافا، فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون وبه قال الشافعي وأبو ثور
وقال أبو حنيفة ليسوا محاربين لأنهم لا سلاح معهم
303

ولنا ان ذلك من جملة السلاح الذي يأتي على النفس والطرف فأشبه الحد
(الشرط الثالث) ان يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا، فاما ان أخذوه مختفين فهم سراق وان
اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم وكذلك ان خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة
فاستلبوا منها شيئا فليسوا بمحاربين لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة، وان خرجوا على عدد يسير
فقهروهم فهم قطاع طريق
(مسألة) (فإذا قدر عليهم فمن كان منهم قد قتل من يكافئه وأخذ المال قتل حتما وصلب
حتى يشتهر وقال أبو بكر يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب وعن أحمد أنه يقطع مع ذلك)
وجملة ذلك أن المحارب إذا قتل من يكافئه وأخذ المال قتل حتما وصلب حتى يشتهر، روي نحو
هذا عن ابن عباس وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي، وعن أحمد أنه إذا قتل واخذ المال
قتل وقطع لأن كل واحدة من الجنايتين توجب حدا منفردا فإذا اجتمعا وجب حدهما معا كما لو زنى
وسرق وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي لأن أو تقتضي التخيير
كقوله تعالى (فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة)
وهذا قول سعيد بن المسيب ومجاهد وعطا والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود
304

وروي عن ابن عباس ما كان في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار وقال أصحاب الرأي إن قتل قتل وان أخذ المال
قطع وان قتل وأخذ المال فالإمام مخير بين قتله وصلبه وبين قتله وقطعه وبين أن يجمع ذلك كله لأنه
قد وجه منه ما يوجب القتل والقطع فكان للإمام فعلهما كما لو قتل وقطع في غير قطع طريق، وقال
مالك إذا قطع الطريق فرآه الإمام جلدا ذا رأي قتله وإن كان جلدا لا رأي له قطعه ولم يعتبر فعله
ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث:
كفر بعد ايمان أو زنا بعد احصان أو قتل نفس بغير حق) فاما أو فقد قال ابن عباس مثل قولنا
فاما أن يكون توقيفا أو لغة وأيهما كان فهو حجة يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ وعرف
القرآن فيما أريد به التخيير البداءة بالأخف ككفارة اليمين وما أريد به الترتيب بدأ بالأغلظ
ككفارة الظهار والقتل، ويدل عليه أيضا ان العقوبات تختلف باختلاف الاجرام ولذلك اختلف حكم
الزاني والقاذف والسارق وقد سووا بينهم ههنا مع اختلاف جناياتهم، وهذا يرد على مالك فإنه إنما اعتبر
الجلد والرأي دون الجنايات و هو مخالف للأصول التي ذكرناها، واما قول أبي حنيفة فلا يصح لأن
القتل لو وجب لحق الله تعالى لم يخير الإمام فيه كقطع السارق وكما لو انفرد بأخذ المال ولان حدود الله
تعالى إذا كان فيها قتل سقط سائرها كما لو سرق وزنى وهو محصن وقد روي عن ابن عباس قال وادع
رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا برزة (1) الأسلمي فجاء ناس يريدون الاسلام فقطع عليهم أصحابه فنزل جبريل
عليه السلام بالحد فيهم ان من قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ
المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وقيل إنه رواه أبو داود وهو كالمسند وهو نص. إذا

(1) في المعنى أبا بردة
305

ثبت هذا فإن قاطع الطريق لا يخلو من خمسة أحوال (الأولى) إذا قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب
في ظاهر المذهب وقتله متحتم لا يدخله عفو أجمع على هذا كل أهل العلم حكاه ابن المنذر وروي
ذلك عن ابن عمر وبه قال سليمان بن موسى والزهري ومالك وأصحاب الرأي ولأنه حد من حدود
الله فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود
(مسألة) (وان قتل من لا يكافئه فهل يقتل؟ على روايتين)
(إحداهما) لا يعتبر بل يؤخذ الحر بالعبد والمسلم بالذمي والأب بالابن لأن هذا القتل حق لله
تعالى فلا تعتبر فيه المكافأة كالزنا والسرقة (والثانية) تعتبر المكافأة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يقتل
مسلم بكافر) والحد فيه انحتامه بدليل أنه لو مات قبل القدرة عليه سقط عنه الانحتام ولم يسقط القصاص
فعلى هذه الرواية إذا قتل المسلم ذميا والحر عبدا وأخذ ماله قطعت يده ورجله لاخذه المال وغرم
دية الذمي وقيمة العبد وان قتله ولم يأخذ مالا غرم ديته ونفي، وذكر القاضي أنه إنما يتحتم قتله إذا قتله
ليأخذ المال وان قتله لغير ذلك مثل ان يقصد قتله لعداوة بينهما فالواجب قصاص غير متحتم، وإذا
قتل صلب لقول الله تعالى (أو يصلبوا) والكلام فيه في ثلاثة أمور (أحدها) في وقته وهو بعد القتل
وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي ومالك والليث وأبو حنيفة وأبو يوسف يصلب حيا ثم يقتل
مصلوبا، يطعن بالحربة لأن الصلب عقوبة وإنما يعاقب الحي لا الميت ولأنه جزاء على المحاربة فيشرع
في الحياة كسائر الا جزية ولان الصلب بعد قتله يمنع دفنه وتكفينه فلا يجوز
ولنا ان الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف فيجب تقديم
الأول في اللفظ كقوله تعالى (ان الصفا والمروة من شعائر الله) ولان القتل إذا اطلق على لسان الشرع
306

كان قتلا بالسيف ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا
القتل) وحسن القتل هو القتل بالسيف وفي صلبه حيا تعذيب له وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب
الحيوان، وقولهم انه جزاء على المحاربة قلنا لو شرع لردعه لسقط بقتله كما تسقط سائر الحدود مع القتل
وإنما شرع الصلب ردعا لغيره ليشتهر امره وهذا يحصل بصلبه بعد قتله، وقولهم يمنع تكفينه ودفنه
قلنا هذا لازم لهم لأنهم يتركونه بعد قتله مصلوبا
(الثاني) في قدره ولا توقيت فيه الا قدر ما يشتهر امره هكذا ذكره الخرقي وقال أبو بكر
يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب لأن احمد لم يوقت في الصلب شيئا، والصحيح توقيته بما
ذكره الخرقي من الشهرة لأن المقصود يحصل به وقال الشافعي وأبو حنيفة يصلب ثلاثا وهذا توقيت
بغير توقيف فلا يجوز مع أنه في الظاهر يفضي إلى تغيره ونتنه واذى المسلمين برائحته ونظره ويمنع
تغسيله وتكفينه ودفنه فلا يجوز بغير دليل
(الثالث) في وجوبه وهو واجب حتم في حق من قتل واخذ المال لا يسقط بعفو ولا غيره وقال
أصحاب الرأي ان شاء الإمام صلب وان شاء لم يصلب
ولنا حديث ابن عباس ان جبريل نزل بأن من قتل واخذ المال صلب ولأنه شرع حدا فلم
يتخير بين فعله وتركه كالقتل وسائر الحدود. إذا ثبت هذا فإنه إذا اشتهر انزل ودفع إلى أهله
فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن
(فصل) فإن مات قبل قتله لم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد فات الحد بموته فيسقط
307

ما هو من تمامه، وان قتل في المحاربة بمثقل قتل كما لو قتل بمحدد لاستوائهما في وجوب القصاص بهما
وان قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها كالسوط والعصا والحجر الصغير فالظاهر أنهم يقتلون
أيضا لأنهم دخلوا في العموم
(مسألة) (وان جنى جناية توجب القصاص فيما دون النفس فهل يتحتم استيفاؤه؟ على روايتين)
إذا جرح المحارب جرحا في مثله القصاص فهل يتحتم فيه القصاص؟ على روايتين (إحداهما) لا يتحتم
لأن الشرع لم يرد بشرع الحد في حقه بالجراح فإن الله تعالى ذكر في حدود المحاربين القتل والصلب
والقطع والنفي فلم يتعلق بالمحاربة غيرها فلا يتحتم بخلاف القتل فإنه حد فتحتم كسائر الحدود فحينئذ
لا يجب فيه أكثر من القصاص (والثانية) يتحتم لأن الجراح تابعة للقتل فيثبت فيها مثل حكمه ولأنه
نوع قود أشبه القود في النفس والأولى أولى، فإن جرحه جرحا لا قصاص فيه كالجائفة فليس فيه إلا
الدية، وان جرح انسانا وقتل آخر اقتص منه للجراح وقتل للمحاربة وقال أبو حنيفة تسقط الجراح
لأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سوى القتل
ولنا أنها جناية يجب بها القصاص في غير المحاربة فيجب بها في المحاربة كالقتل ولا نسلم أن القصاص
في الجراح حد إنما هو قصاص متمحض فأشبه ما لو كان الجرح في غير المحاربة، وان سلمنا أنه حد
فإنه مشروع مع القتل فلم يسقط به كالصلب وقطع اليد والرجل عندهم
(مسألة) (وحكم الردء حكم المباشر.)
308

وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي ليس على الردء الا التعزير، ولان الحد يجب بارتكاب
المعصية فلا يتعلق بالمعين كسائر الحدود.
ولنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة فاستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق الغنيمة، ولان المحاربة مبنية
على حصول المنفعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء بخلاف سائر الحدود
فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم فيجب قتل الكل وان قتل بعضهم
وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الامرين كل واحد منهم. (فصل) وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه لم يسقط الحد عن غيره
في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة يسقط عن جميعهم ويصير القتل للأولياء ان شاءوا قتلوا وان
شاءوا عفوا لأن حكم الجميع واحد فالشبهة في فعل واحد شبهة في حق الجميع.
ولنا أنها شبهة اختص بها واحد فلم يسقط الحد عن الباقين كما لو اشتركوا في وطئ امرأة وما
ذكروه لا أصل له، فعلى هذا لا حد على الصبي والمجنون وان باشرا القتل واخذا المال لأنهما ليسا من
أهل الحدود وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما ودية قتلهما على عاقلتهما ولا شئ على الردء
لهما لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى، وإن كان المباشر غيرهما لم
يلزمهما شئ لأنهما لم يثبت في حقهما حكم المحاربة،
(فصل) فإن كان فيهم امرأة ثبت لها حكم المحاربة فمتى قتلت أو اخذت المال فحكمها حكم
309

قطاع الطريق، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب عليها الحد ولا على من معها لأنها ليست
من أهل المحاربة فأشبهت الصبي والمجنون.
ولنا أنها تحد في السرقة فيلزمها حكم المحاربة كالرجل، وتخالف الصبي والمجنون لأنها مكلفة يلزمها
سائر القصاص وسائر الحدود فيلزمها هذا الحد كالرجل. إذا ثبت هذا فإنها ان باشرت القتل أو
أخذ المال ثبت حكم المحاربة في حق من معها لأنهم ردء لها، وان فعل ذلك غيرها ثبت حكمه في حقها
لأنها ردء له كالرجل سواء، وان قطع أهل الذمة الطريق أو كان مع المسلمين المحاربين ذمي فهل
ينتقض عهدهم بذلك؟ فيه روايتان، فإن قلنا ينتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم بكل حال وان قلنا
لا ينتقض عهدهم حكمنا عليهم بما يجب على المسلمين.
(مسألة) (ومن قتل ولم يأخذ المال قتل وهل يصلب؟ على روايتين)
(إحداهما) يصلبون لأنهم محاربون يجب قتلهم فيصلبون كالذين أخذوا المال (والثانية)
لا يصلبون وهي أصح لأن الخبر المروي فيهم قال فيه (ومن قتل ولم يأخذ المال قتل) ولم يذكر صلبا
ولان جنايتهم بأخذ المال مع القتل تزيد على الجناية بالقتل وحده فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ
ولو شرع الصلب ههنا لاستويا والحكم في تحتم القتل وكونه حدا ههنا كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال
(مسألة) (ومن اخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا)
وهذا معنى قوله سبحانه (من خلاف) وإنما قطعنا يده اليمنى للمعنى الذي قطعنا به يمين
السارق ثم قطعنا رجله اليسري لتتحقق المخالفة. ويكون أرفق به في امكان مشيه ولا ينتظر اندمال
310

اليد في قطع الرجل بل يقطعان معا يبدأ بيمينه فتقطع وتحسم ثم برجله، لأن الله تعالى بدأ بذكر
الأيدي، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل إذا كانت يداه ورجلاه صحيحتين
(مسألة) (ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله).
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر للإمام أن يحكم عليه حكم
المحارب لأنه محارب لله ورسوله يسارع في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية، ولأنه لا يعتبر
الحرز فكذلك النصاب.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا) ولم يفصل ولأن هذه جناية تعلقت
بها عقوبة في حق غير المحارب فلا تتغلظ في المحارب بأكثر من وجه واحد كالقتل يغلظ بالانحتام كذلك
ههنا يغلظ بقطع الرجل معها ولا يتغلظ بما دون النصاب، وأما الحرز فهو معتبر فإنهم لو أخذوا مالا
مضيعا لا حافظ له لم يجب القطع، فإن اخذوا مالا يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا
على قياس قولنا في السرقة، وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل
واحد منهم نصابا، ويشترط أيضا أن لا تكون لهم شبهة فيما يأخذونه من المال على ما ذكرنا في المسروق
(مسألة) (فإن كانت يمينه مقطوعة أو مستحقة في قصاص أو شلاء قطعت رجله اليسرى
وهل تقطع يسرى يديه؟ ينبني على الروايتين في قطع يسرى السارق في المرة الثالثة)
إذا كان معدوم اليد أو الرجل اما لكونه قد قطع في قطع طريق أو سرقة أو قصاص أو بمرض
أو تكون مستحقة في قصاص أو شلاء قطعت رجله اليسرى كما لو كانت يمناه موجودة وكذلك
311

ان كانت يده اليمنى موجودة ورجله اليسرى معدومة فانا نقطع الموجود منهما حسب، ويسقط في المعدوم
لأن ما تعلق به الغرض معدوم فسقط كالغسل في الوضوء، وهل تقطع يسرى يديه ينبني؟ على الروايتين
في قطع يسرى السارق في المرة الثالثة، فإن قلنا تقطع ثم قطعت ههنا، وان قلنا لا تقطع وهو المختار سقط
قطعها لأن قطعها يفضي إلى تفويت منفعة البطش وإن كان ما وجب قطعه أشل فذكر أهل الطب
ان قطعه يفضي إلى تلفه لم يقطع وكان حكمه حكم المعدوم وان قالوا لا يفضي إلى تلفه ففي قطعه روايتان
ذكرناهما في قطع السارق.
(مسألة) (ومن لم يقتل ولا اخذ المال نفي وشرد فلا يترك يأوي إلى بلد، وعنه ان نفيه
تعزيره بما يردعه).
وجملته ان المحاربين إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولا اخذوا المال فإنهم ينفون من الأرض لقوله
سبحانه (أو ينفوا من الأرض) يروى عن ابن عباس ان النفي يكون في هذا الحالة وهو قول النخعي
وقتادة وعطاء الخراساني والنفي هو تشريدهم عن الأمصار والبدان فلا يتركون يأوون بلدا، يروى
نحو هذا عن الحسن والزهري وعن ابن عباس انه ينفى من بلده إلى غيره كنفي الزاني، وبه قال
طائفة من أهل العلم. قال أبو الزناد كان منفى الناس إلى باضع من ارض الحبشة وذلك أقصى تهامة
اليمن وقال مالك يحبس في البلد الذي نفي إليه كقوله في الزاني وقال أبو حنيفة يحبس حتى يحدث
توبة ونحو هذا قال الشافعي فإنه قال في هذه الحال يعزرهم الإمام وان رأى أن يحبسهم حبسهم
وقيل عنه النفي طلب الإمام لهم ليقيم فيهم حدود الله وروي ذلك عن ابن عباس وقال ابن شريح
يحبسهم في غير بلدهم وهذا مثل قول مالك، لأن تشريدهم إخراج لهم إلى مكان يقطعون فيه الطريق
312

ويؤذون به الناس فكان حبسهم أولى وعن أحمد رواية أخرى حكاها أبو الخطاب معناها ان نفيهم
طلب الإمام لهم فإذا ظفر بهم عزرهم بما يردعهم.
ولنا ظاهر الآية فإن النفي الطرد والابعاد والحبس إمساك وهما يتنافيان فأما نفيهم إلى مكان
غير معين فلقوله تعالى (أو ينفوا من الأرض) وهذا يتناول نفيه من جميعها وما ذكروه يبطل بنفي
الزاني فإنه ينفى إلى مكان يحتمل أن يوجد فيه الزنا ولم يذكر أصحابنا قدر مدة نفيهم فيحتمل أن تتقدر
مدته بما يظهر فيه توبتهم وتحسن سيرتهم ويحتمل أن ينفوا عاما كنفي الزنا.
(مسألة) (ومن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله تعالى من الصلب والقطع
والنفي وانحتام القتل وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال الا أن يعفى له عنها)
لا نعلم في هذا خلافا. وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل في هذا قول الله
تعالى (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم)) فاما إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط
عنه شئ من الحدود للآية فأوجب عليهم الحد ثم استثنى التائبين بعد القدرة فمن عداهم يبقى على قضية
العموم لأنه إذا تاب قبل القدرة فالظاهر أنها توبة إخلاص، وبعدها الظاهر أنها تقية من إقامة الحد عليه
ولان في قبول توبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة ترغيبا في توبته والرجوع عن محاربته وافساده
فناسب ذلك الاسقاط عنه، وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة
(فصل) فإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة
313

فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة لأنها حدود الله تعالى فسقطت التوبة كحد المحاربة إلا حد القذف
فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي ولان في إسقاطها ترغيبا في التوبة، ويحتمل أن لا تسقط لأنها لا تختص المحاربة
فكانت في حقه كهي في حق غيره، فإن أتى حدا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة لم يسقط الحد
الأول لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره
(مسألة) (ومن وجب عليه حد سوى ذلك فتاب قبل إقامته لم يسقط عنه، وعنه أنه يسقط
بمجرد التوبة قبل إصلاح العمل)
من تاب وعليه حد من المحاربين وأصلح ففيه روايتان (إحداهما) يسقط عنه لقول الله تعالى
(واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما) وذكر حديث السارق ثم قال (فمن
تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب
له) ومن لاذنب له لا حد عليه وقال في ماعز لما أخبر بهربه (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه؟)
ولأنه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب
(والثانية) لا يسقط وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقول الله تعالى (الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهو عام في التائب وغيره وقال الله تعالى (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة، وقد
314

جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعلم توبة فقال في حق المرأة (لقد
تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول
الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الحد، ولان الحد كفارة فلم
يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل ولأنه مقدور عليه فلم يسقط الحد عنه كالمحارب بعد القدرة عليه فإن قلنا
يسقط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان
(أحدهما) يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب
قبل القدرة عليه (والثاني يعتبر اصلاح العمل لقول الله تعالى (فإن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما)
وقال تعالى (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) فعلى هذا الوجه يعتبر مضي مدة يعلم
بها صدق توبته وصلاح نيته وليست مقدرة بمدة معلومة، وقال بعض أصحاب الشافعي مدة ذلك
سنة وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز
(مسألة) (ومن مات وعليه حد سقط عنه) لفوات محله كما يسقط غسل ما ذهب من
أعضاء الطهارة في الوضوء والغسل
(فصل) (ومن أريدت نفسه أو حرمته أو ماله فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يعلم دفعه به فإن لم
يحصل إلا بالقتل فله ذلك ولا شي عليه، وان قتل كان شهيدا، وهل يلزمه الدفع عن نفسه؟ على روايتين
وسواء كان الصائل آدميا أو غيره، وان دخل رجل منزله متلصصا أو صائلا فحكمه حكم ما ذكرنا)
وجملة ذلك أن الرجل إذا دخل منزل غيره بغير إذنه فلصاحب المنزل أمره بالخروج من منزله سواء كان
معه سلاح أو لم يكن لأنه متعد بدخول ملك غيره فكان لصاحب المنزل مطالبته بترك التعدي كما لو
315

غصب منه شيئا فإن خرج بالامر لم يكن له ضربه لأن المقصود إخراجه، وقد روي عن ابن عمر أنه رأي
لصا فأصلت عليه السيف قال الراوي فلو تركناه لقتله، وجاء رجل إلى الحسن فقال لص دخل بيتي ومعه
حديدة أقتله؟ قال نعم باي قتلة قدرت أن تقتله
ولنا أنه أمكن إزالة العدوان بغير القتل فلم يجز القتل كما لو غصب منه شيئا فأمكن أخذه بغير
القتل وفعل ابن عمر يحمل على قصد الترهيب لا على أنه قصد إيقاع الفعل، فإن لم يخرج بالامر فله
ضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به لأن المقصود دفعه، فإذا اندفع بقليل فلا حاجة إلى أكثر منه، فإن علم
أنه يخرج بالعصا لم يكن له ضربه بالحديد لأن الحديد آلة للقتل بخلاف العصا، وإن ذهب هاربا لم
يكن له قتله ولا اتباعه كالبغاة، وإن ضربه ضربة عصلته لم يكن له أن يثني عليه لأنه كفي شره، وان
ضربه فقطع يمينه فولى مدبرا فضربه فقطع فالرجل مضمونة بالقصاص أو الدية لأنه في حال لا يحل
له ضربه وقطع اليد غير مضمون، فإن مات من سراية القطع فعليه نصف الدية كما لو مات من جراحة
اثنين، وان عاد إليه بعد قطع رجله فقطع يده الأخرى فاليدان غير مضمونتين فإن مات فعليه ثلث
الدية كما لو مات من جراحة ثلاثة أنفس، وقياس المذهب أن يضمن نصف الدية لأن الجرحين قطع
رجل واحد فكان حكمهما واحدا كما لو جرح رجل رجلا جراحات وجرحه آخر جرحا واحدا ومات
كانت ديته بينهما نصفين، ولا تقسم الدية على عدد الجراحات كذا هذا فإن لم يمكنه دفعه إلا بالقتل
أو خاف أن يبدره بالقتل ان لم يعاجله بالدفع فله ضربه بما يقتله ويقطع طرفه، وما أتلف منه فهو هدر
لأنه يتلف لدفع شره فلم يضمنه كالباغي ولأنه اضطر صاحب المنزل إلى قتله فصار كالقاتل لنفسه
316

وإن قتل صاحب المنزل فهو شهيد لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد) رواه الخلال باسناده ولأنه قتل لدفع ظالم فكان
شهيدا كالعادل إذا قتله الباغي
(فصل) وكل من عرض لانسان يريد ماله أو نفسه فحكمه ما ذكرنا فيمن دخل منزله من دفعهم
بأسهل ما يمكن دفعه به، فإن كان بينهما نهر كبير أو خندق أو حصن لا يقدرون على اقتحامه فليس له
رميهم، فإن لم يمكن إلا بقتالهم فله قتالهم وقتلهم. قال احمد في اللصوص يريدون نفسك ومالك: قاتلهم
تمنع نفسك ومالك، وقال عطاء في المحرم يلقاه اللصوص يقاتلهم أشد القتال، وقال ابن سيرين ما أعلم
أحدا ترك قتال الحرورية واللصوص تأثما إلا أن يجبن، وقال الصلت بن طريف قلت للحسن إني
أخرج في هذه الوجوه، أخوف شئ عندي يلقاني اللصوص يعرضون لي في مالي فإن كففت يدي
ذهبوا بمالي، وإن قاتلت اللص ففيه ما قد علمت، قال أي بني من عرض لك في مالك فإن قتلته فإلى
النار، وإن قتلك فشهيد، ونحو ذلك عن أنس والنخعي والشعبي، وقال أحمد في امرأة أرادها رجل على
نفسها فقتلته لتحصن نفسها قال إذا عملت أنه لا يريد إلا نفسها فقاتلته لتدفع عن نفسها فلا شئ
عليها وذكر حديثا يرويه الزهري عن القاسم بن محمد عن عبيد بن عمير أن رجلا أضاف ناسا من
هذيل فأراد امرأة على نفسها فرمته بحجر فقتلته فقال عمر والله لا يودى أبدا، ولأنه إذا جاز الدفع عن
ماله الذي يجوز له بذله وإباحته فدفع المرأة عن نفسها وصيانتها عن الفاحشة التي لا تباح بحال أولى. إذا ثبت
هذا فإنه يجب عليها أن تدفع عن نفسها ان أمكنها ذلك لأن التمكين منها محرم وفي ترك الدفع نوع
تمكين فاما من أريد ماله فلا يجب عليه الدفع لأن بذل المال مباح
317

(مسألة) (فإن أريدت نفسه لم يلزمه الدفع)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة (اجلس في بيتك فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك)
وفي لفظ (فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل) وفي لفظ (كن كخير ابني آدم) ولان عثمان رضي
الله عنه لم يدفع عن نفسه وترك القتال مع إمكانه، فإن قيل قلتم في المضطر إذا وجد ما يدفع به الضرورة
لزمه الاكل منه في أحد الوجهين، (1) قلنا الاكل تحيى به نفسه من غير تفويت غيره (2) فلزمه كالأكل في المخمصة
(والثاني) لا يلزمه لأنه دفع عن نفسه فلم يلزمه كالدفع بالقتال وفيه رواية أخرى يلزمه الدفع عن
نفسه لأنه لا يجوز إقرار المنكر مع إمكان دفعه. والأولى إن شاء الله أنه يلزمه الدفع عن حرمته ولا يلزمه
الدفع عن ماله لأنه يجوز له بذله، فإن أريدت نفسه فالأولى في الفتنة ترك الدفع لما ذكرنا من الأحاديث
والأثر في دفع اللصوص، وإذا صالت عليه بهيمة ففيه روايتان أولاهما وجوب الدفع إذا أمكنه كما لو
خاف من سيل أو نار وأمكنه أن يتنحى عن ذلك، وإن أمكنه الهرب ففيه وجهان (أولاهما)
يلزمه كالأكل في المخمصة (والثاني) لا يلزمه كالدفع بالقتال
(فصل) وإذا صال على انسان صائل يريد نفسه أو ماله ظلما أو يريد امرأة ليفجر بها فلغير
المصول عليه معونته في الدفع، ولو عرض اللصوص لقافلة جاز لغير أهل القافلة، الدفع عنهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) وفي حديث (ان المؤمنين يتعاونون على القتال) ولأنه لولا التعاون
لذهبت أموال الناس وأنفسهم لأن قطاع الطريق إذا انفردوا بأخذ مال انسان ولم يعنه غيره فإنهم
يأخذون أموال الكل واحدا واحدا وكذلك غيرهم
(فصل) إذا وجد رجلا يزني بامرأته فقتله فلا قصاص عليه لما روي أن عمر رضي الله عنه بينما

(1) فلم لم تقولوا ذلك ههنا اه‍ من المغنى
(2) وههنا في احياء نفسه فوات نفس غيره فلم يجب عليه فأما ان أمكنة الهرب فهل
يلزمه؟ فيه وجهان أحدهما يلزمه لأنه أمكنة الدفع عن نفسه من غير ضرر يلحق
غيره اه‍ من المغنى
318

هو يتعدى يوما إذ أقبل رجل يعدو ومعه سيف مجرد ملطخ بالدم فجاء حتى قعد مع عمر فجعل يأكل
وأقبل جماعة من الناس فقالوا يا أمير المؤمنين ان هذا قتل صاحبنا مع امرأته فقال عمر ما يقول هؤلاء؟
قال ضرب الآخر فخذ امرأته بالسيف، فإن كان بينهما أحد فقد قتله فقال لهم عمر ما يقول؟ قالوا ضرب
بسيفه فقطع فخذي امرأته فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنين فقال عمر إن عادوا فعد. رواه هشيم عن
مغيرة عن إبراهيم أخرجه سعيد، فإن كانت المرأة مطاوعة فلا ضمان عليه فيها، وان كانت مكرهة فعليه
القصاص، فأما ان قتل رجلا وادعى انه وجده مع امرأته فقتلها أو قتله فقال علي ان جاءوا بأربعة
شهداء والا فليعط برقبته، فعلى هذا يفتقر إلى أربعة شهود لحديث علي، وروي انه يكفي شاهدان لأن
البينة تشهد على وجوده مع المرأة وهذا يثبت بشاهدين وإنما الذي يحتاج إلى أربعة الزنا وهذا لا يحتاج
إلى اثبات الزنا، فإن قبل فحديث عمر في الذي وجد مع امرأته رجلا ليس فيه بينة وكذلك روي أن
رجلا من المسلمين خرج غازيا وأوصى بأهله رجلا فبلغ الرجل أن يهوديا يختلف إلى امرأته فكمن له
حتى جاء فجعل ينشد
وأشعث غره الاسلام مني * خلوت بفرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها ويصحي * على جرداء لاحقة الحزام
كأن مواضع الرتلات منها * فئام ينهضون إلى فئام
فقام إليه فقتله فرفع ذلك إلى عمر فاهدر دمه، فالجواب ان ذلك ثبت عنده باقرار الولي، وإن لم
تكن بينة فادعى علم الولي بذلك فالقول قول الولي مع يمينه
319

(فصل) فإن قتل رجل رجلا وادعى انه قد هجم منزله فلم يمكنه دفعه الا بالقتل لم يقبل قوله
الا ببينة وعليه القود سواء كان المقتول يعرف بسرقه أو عيارة أو لا يعرف بذلك فإن شهدت البينة
انهم رأوا هذا مقبلا إلى هذا بسلاح مشهور فضربه هذا فقد هدر دمه وان شهدوا انهم رأوه داخلا
داره ولم يذكروا سلاحا أو ذكروا سلاحا غير مشهور لم يسقط القود بذلك لأنه قد يدخل لحاجة
ومجرد الدخول المشهود به لا يوجب اهدار دمه
(مسألة) (وان عض انسان انسانا فانتزع يده من فيه فسقطت ثناياه ذهبت هدرا)
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وروى سعيد عن هشيم عن محمد بن عبد الله ان رجلا عض
رجلا فانتزع يده من فيه فسقطت بعض أسنان العاض فاختصما إلى شريح فقال شريح انزع يدك
من في السبع وأبطل أسنانه وحكي عن مالك وابن أبي ليلى عليه الضمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم في
السن خمس من الإبل
ولنا ما روى يعلى بن أمية قال كان لي أجير فقاتل رجلا فعض أحدهما يد الآخر قال فانتزع
المعضوض يده من في العاض فانتزع أحد ثنيتيه فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فاهدر ثنيته فحسبت أنه قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم أفيدع يده في فمك تقضمها قضم الفحل) متفق عليه ولأنه عضو تلف ضرورة دفع شر
صاحبه فلم يضمن كما لو صال عليه فلم يمكنه دفعه الا بقطع عضوه وحديثهم يدل على دية السن إذا قلعت
ظلما وهذه لم تقلع ظلما وسواء كان المعضوض ظالما أو مظلوما لأن العض محرم، الا أن يكون العض
مباحا له مثل ان يمسكه في موضع يتضرر بامساكه أو يعصر يده بما لا يقدر على التخلص من ضرره
الا بعضه فيعضه فما سقط من أسنانه ضمنه لأنه عاد وكذلك لو عض أحدهما يد الآخر ولم يمكن المعضوض تخليص يده الا بعضه فله عضه ويضمن الظالم منهما ما تلف من المظلوم وما تلف من الظالم كان هدرا
وكذلك الحكم فيما إذا عضه في غير يده أو عمل به عملا غير العض افضى إلى تلف شئ من الفاعل لم يضمنه
وقد روى محمد بن عبيد الله أن غلاما أخذ قمعا من اقماع الزياتين فادخله بين رجلي رجل ونفخ فيه فذعر
الرجل من ذلك وخبط برجله فوقع على الغلام فكسر بعض أسنانه فاختصموا إلى شريح فقال شريح
لا أعقل الكلب الهرار قال القاضي يخلص المعضوض يده بأسهل ما يمكنه، فإن أمكنه فك لحييه بيده
320

الأخرى فعل وان لم يمكنه لكمه على فكه فإن لم يمكنه فله ان يبعج بطنه وان أتى على نفسه، قال شيخنا
والصحيح ان هذا الترتيب غير معتبر وله ان يجذب يده أولا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل ولأنه
لا يلزمه ترك يده في فم العاض حتى يتحيل بهذه الأشياء المذكورة ولان جذب يده تخليص وما حصل
من سقوط الأسنان حصل ضرورة التخليص الجائز ولكم فكه جناية غير التخليص وربما تضمنت
التخليص وربما أتلفت الأسنان التي لم يحصل العض بها فكانت البداءة بجذب يده أولى وينبغي
انه متى أمكنه جذب يده فعدل إلى لكم فكه فأتلف سنا ضمنه لامكان التخلص بما هو أولى منه
(مسألة) (وان نظر في بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذف عينه ففقأها فلا شئ عليه)
وجملة ذلك أن من اطلع في بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه فرماه صاحب الدار بحصاة
أو طعنه بعود فقلع عينه لم يكن عليه جناح ولا يضمنها، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يضمنها
لأنه لو دخل منزله ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه فبمجرد النظر أولى.
ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لو أن امرأ اطلع عليك بغير اذن فحذفته
بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) وعن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر من باب النبي
صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بمدرى في يده فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لو علمت أنك تنظرني لطمت - أو - لطعنت بها
عينك) متفق عليهما، ويفارق ما قاسوا عليه لأن من دخل المنزل يعلم به فيستتر منه بخلاف الناظر من
ثقب فإنه يرى من غير علم به ثم الخبر أولى من القياس، وظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر في هذا أنه
321

لا يمكنه دفعه إلا بذلك لظاهر الخبر، وقال ابن حامد يدفعه بأسهل ما يمكنه دفعه يقول له أولا انصرف
فإن لم يفعل أشار إليه أنه يحذفه فإن لم ينصرف فله حذفه حينئذ واتباع السنة أولى، فإن ترك الاطلاع
ومضى لم يجز رميه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطعن الذي اطلع ثم انصرف، ولأنه ترك الجناية فأشبه من
عض ثم ترك العض لم يجز قلع أسنانه وسواء كان المكان المطلع منه صغيرا كثقب أو شق أو واسعا
كنقب كبير، وذكر بعض أصحابنا أن الباب المفتوح كذلك، والأولى انه لا يجوز حذف من نظر
من باب مفتوح، لأن التفريط من تارك الباب مفتوحا والظاهر أن من ترك الباب مفتوحا أنه يستتر
لعلمه أن الناس ينظرون منه وبعلم بالناظر فيه والواقف عليه فلم (يجز رميه) كداخل الدار وان اطلع
322

فرماه صاحب الدار فقال المطلع ما تعمدته لم يضمنه على ظاهر كلام أحمد، لأن الاطلاع قد وجد والرامي لا يعلم ما في قلبه وعلى قول ابن حامد يضمنه لأنه لم يدفعه بما هو أسهل وكذلك لو قال لم أر
شيئا حين اطلعت، وإن كان المطلع أعمى لم يجز رميه لأنه لا يرى شيئا ولو كان إنسان عريانا في طريق
لم يكن له رمي من نظر إليه لأنه المفرط، وإن كان المطلع في الدار من محارم النساء اللائي فيها، فقال
323

بعض أصحابنا ليس لصاحب الدار رميه الا أن يكن متجردات فيصرن كالأجانب، وظاهر الخبر
أن لصاحب الدار رميه سواء كان فيها نساء أو لم يكن لأنه لم يذكر انه كان في الدار التي اطلع فيها
على النبي صلى الله عليه وسلم نساء وقوله (لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته) عام في الدار التي فيها نساء وغيرها
(فصل) وليس لصاحب الدار رمي الناظر بما يقتله ابتداء فإن رماه بحجر يقتله أو حديدة تقتله
ضمنه بالقصاص لأنه إنما له ما يقلع به العين المبصرة التي حصل الأذى منها دون ما يتعدى إلى غيرها
فإن لم يندفع المطلع برميه بالشئ اليسير جاز رميه بأكبر منه حتى يأتي ذلك على نفسه وسواء كان
الناظر في الطريق أو ملك نفسه أو غير ذلك.
324

باب حد المسكر
الخمر محرم بالكتاب والسنة والاجماع. اما الكتاب فقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والآية التي
بعدها إلى قوله (فهل أنتم منتهون) واما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر وكل خمر حرام)
رواه الإمام أحمد وأبو داود، وروى عبد الله بن عمران النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله الخمر وشاربها
وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) رواه أبو داود وثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر وأجمعت الأمة على تحريمه، وإنما حكي عن قدامة
ابن مظعون وعمرو بن معد يكرب وأبي جندل بن سهل أنهم قالوا هي حلال لقول الله تعالى (ليس
على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فبين لهم علماء الصحابة معنى هذه الآية
وتحريم الخمر وأقاموا عليهم الحد لشربهم إياه فرجعوا إلى ذلك فانعقد الاجماع فمن استحلها الآن
فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريمه فيكفر بذلك ويستتاب فإن تاب
325

والا قتل روى الجوزجاني باسناده عن ابن عباس ان قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر:
ما حملك على ذلك فقال إن الله عز وجل يقول [ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما
طعموا] الآية واني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد فقال عمر للقوم أجيبوا الرجل فسكتوا
عنه فقال لابن عباس أجبه فقال إنما أنزلها الله عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل (إنما
الخمر والميسر) حجة على الناس، ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب إذا شرب هذى وإذا
هذى افترى فاجلدوا ثمانين فجلده عمر ثمانين: وروى الواقدي ان عمر قال له أخطأت التأويل
يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك، وروى الخلال باسناده عن محارب بن دثار أن أناسا
شربوا بالشام الخمر فقال لهم يزيد بن أبي سفيان شربتم الخمر؟ قالوا نعم يقول الله تعالى (ليس على
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب فكتب
إليه ان أتاك كتابي هذا نهارا فلا تنتظر بهم إلى الليل وإن اتاك ليلا فلا تنتظر بهم نهارا حتى تبعث
بهم إلي لئلا يفتنوا عباد الله فبعث بهم إلى عمر فشاور فيهم الناس فقال لعلي ما ترى؟ فقال أرى انهم
326

قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم فقد أحلوا ما حرم الله وان زعموا
أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين فقد افتروا على الله وقد أخبرنا الله بحد ما يفتري بعضنا على بعض
قال فجلدهم عمر ثمانين ثمانين. إذا ثبت هذا فالمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده وما
عداه من الأشربة المسكرة فهو محرم وفيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى
(مسألة) (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام من أي شئ كان ويسمى خمرا حكمه حكم
عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه)
روي تحريم ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي
ابن كعب وأنس وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والقاسم وقتادة وعمر بن
عبد العزيز ومالك والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد وإسحاق، وقال أبو حنيفة في عصير العنب إذا طبخ
وذهب ثلثاه ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وان لم يذهب ثلثاه ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو
ذلك نقيعا كان أو مطبوخا كل ذلك حلال الا ما بلغ السكر، فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده
أو طبخ فذهب أقل من ثلثيه ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ فهذا محرم قليله وكثيره لما روى
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب)
327

ولنا ما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر وكل خمر حرام) وعن
جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواهما أبو داود والأثرم وغيرهما
وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف
منه حرام) رواه أبو داود وغيره وقال عمر رضي الله عنه نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر
والعسل والبر والشعير، والخمر ما خامر العقل متفق عليه، ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب فأما حديثهم
فقال احمد ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح وحديث ابن عباس رواه سعيد عن مسعر عن
أبي عون عن ابن شداد عن ابن عباس قال والمسكر من كل شراب، وقال ابن المنذر جاء أهل الكوفة
بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها وذكر الأثرم أحاديثهم التي يحتجون بها عن النبي صلى الله عليه وسلم
والصحابة فضعفها كلها وبين عللها، وقد قيل إن خبر ابن عباس موقوف عليه مع أنه يحتمل أنه أراد
بالسكر المسكر من كل شراب فإنه يروي هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كل مسكر حرام)
(مسألة) (ولا يجوز شربه للذة ولا للتداوي ولا لعطش ولا غيره إلا أن يضطر إليه لدفع
لقمة غص بها فيجوز)
328

لا يجوز شربه للذة لما ذكرنا ولا للتداوي بها لذلك، فإن فعل فعليه الحد وقال أبو حنيفة يباح
شربها للتداوي، وللشافعي وجهان كالمذهبين، وله وجه ثالث يباح للتداوي دون العطش لأنها حال
ضرورة فأبيح فيها كدفع الغصة وسائر ما يضطر إليه
ولنا ما روى الإمام أحمد باسناده عن طارق بن سويد انه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنما أصنعها
للدواء فقال (انه ليس بدواء ولكنه داء) وباسناده عن مخارق ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة
وقد نبذت نبيذا في جرة فخرج والنبيذ يهدر فقال (ما هذا؟) فقالت فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها فدفعه
برجله فكسره وقال (ان الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء) ولأنه محرم لعينه فلم يبح للتداوي كلحم
الخنزير، ان شربها للعطش وكانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة كما
تباح الميتة عند المخمصة وكإباحتها لدفع الغصة، وقد روينا في حديث عبد الله بن حذافة أنه حبسه
طاغية الروم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر ولحم خنزير مشوي ليأكله ويشرب الخمر وتركه ثلاثة
أيام فلم يفعل ثم أخرجوه حين خشوا موته فقال والله لقد كان الله أحله لي فاني مضطر ولكن لم أكن
329

أشمتكم بدين الاسلام وان كانت صرفا أو ممزوجة بشئ يسير لا يروي من العطش لم تبح وعليه الحد
وقال أبو حنيفة تباح وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه حال ضرورة
ولنا أن العطش لا يندفع به فلم يبح كما لو تداوى بها فيما لا يصلح له فاما شربها لدفع الغصة فيجوز
كما يجوز أكل الميتة في حال المخمصة ولا نعلم في ذلك خلافا
(مسألة) (ومن شربه مختارا عالما أن كثيره يسكر قليلا كان أو كثيرا فعليه الحد ثمانين
جلدة وعنه أربعون)
ولا نعلم بينهم خلافا في عصير العنب غير المطبوخ، واختلفوا في سائرها فمذهب احمد التسوية
بين عصير العنب وغيره من المسكرات وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة والأوزاعي
ومالك والشافعي، وقالت طائفة لا يحد إلا أن يسكر، منهم أبو وائل والنخعي وكثير من أهل الكوفة
وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور من شربه معتقدا تحريمه حد، ومن شربه متأولا فلا حد عليه لأنه
مختلف فيه فأشبه النكاح بلا ولي
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من شرب الخمر فاجلدوه) رواه أبو داود وغيره وقد
330

ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليله وكثيره ولأنه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد
بقليله كالخمر والاختلاف فيها لا يمنع وجوب الحد فيها بدليل ما لو اعتقد تحريمها، وبهذا فارق النكاح
بلا ولي وغيره من المختلف فيه وقد حد عمر رضي الله عنه قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم
حل ما شربوه والفرق بين هذا وبين سائر المختلف فيه من وجهين
(أحدهما) أن فعل المختلف فيه ههنا داعية إلى فعل ما أجمع على تحريمه وفعل سائر المختلف فيه
يصرف عن جنسه من المجمع على تحريمه (الثاني) ان السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفاضت بتحريم
المختلف فيه فلم يبق فيه لاحد عذر في اعتقاد إباحته بخلاف غيره من المجتهدات. قال أحمد بن
القاسم سمعت أبا عبد الله يقول في تحريم المسكر عشرون وجها عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعضها (كل مسكر
خمر) وبعضها (كل مسكر حرام)
(فصل) وحده ثمانون في إحدى الروايتين، وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة ومن تبعهم
لاجماع الصحابة فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن اجعله كأخف
331

الحدود ثمانين فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام، وروي أن عليا قال في المشورة
إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري روى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما
(والرواية الثانية) أن الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لأن عليا رضي الله عنه جلد
الوليد بن عقبة أربعين ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا
أحب إلي رواه مسلم، وعن أنس قال اتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين
ثم أتي به أبو بكر فصنع مثل ذلك ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحدود فقال ابن عوف أقل الحدود ثمانون
فضربه عمر متفق عليه وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه لفعل غيره ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما فتحمل الزيادة على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآها الإمام
(فصل) وإنما يلزم الحد من شربها مختارا لشربها فإن شربها مكرها فلا حد عليه ولا اثم سواء
أكره بالوعيد أو الضرب أو ألجئ إلى شربها بأن يفتح فوه وتصب فيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
332

(عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه النسائي وكذلك من اضطر إليها لدفع
غصة بها إذا لم يجد مائعا سواها فإن الله تعالى قال في آية التحريم (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا
إثم عليه) وكذلك ان شربها لعطش شديد وكانت ممزوجة بما يروي من العطش فإنها تباح بذلك
عند الضرورة كما تباح الميتة في المخمصة
(فصل) فإذا ثرد في الخمر أو اصطبغ به أو طبخ به لحما فأكل من مرقه فعليه الحد لأن عين الخمر موجودة
وكذلك ان لت به سويقا فأكله فإن عجن به دقيقا فخبزه وأكله لم يحد لأن النار أكلت أجزاء الخمر فلم
يبق الا أثره، وإن احتقن بالخمر لم يحد لأنه ليس بشرب ولا أكل ولأنه لم يصل إلى حلقه فأشبه ما لو
داوى به جرحه فإن استعط به فعليه الحد لأنه أوصله إلى باطنه من حلقه ولذلك نشر الحرمة في الرضاع
دون الحقنة، وحكي عن أحمد أن على من احتقن به الحد لأنه أوصله إلى جوفه والأول أولى لما ذكرنا
(فصل) ويشترط لوجوب الحد على من شربها ان يعلم أن كثيرها يسكر فإن لم يعلم فلا حد عليه
لأنه غير عالم بالتحريم ولا قصد ارتكاب المعصية بها فأشبه من رفت إليه غير امرأته وهذا قول عامة
333

أهل العلم فأما من شربها غير عالم بتحريمها فلا حد فيه أيضا لأن عمر وعثمان قالا لا حد الا على من
علمه ولأنه غير عالم بالتحريم أشبه من لم يعلم أنها خمر، ومتى ادعى الجهل بتحريمها وكان ناشئا ببلد
الاسلام بين المسلمين لم تقبل دعواه لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله فلم تقبل دعواه فيه وإن كان
حديث عهد بالاسلام أو ناشئا ببادية بعيدة عن البلد قبل منه لأنه يحتمل ما قاله
(مسألة) (والرقيق على النصف من ذلك)
أي على النصف من حد الحر وهو أربعون ان قلنا إن الحد ثمانون ويستوي في ذلك العبد
والأمة وعلى الرواية الأخرى عشرون
(فصل) ويجلد العبد والأمة بدون سوط الحر ذكره الخرقي لأنه لما خفف عنه في عدده خفف
عنه في صفته كالتعزير مع الحد ويحتمل أن يكون سوطه كسوط الحر لأنه إنما يتحقق التنصيف إذا
كان السوط مثل السوط، أما إذا كان نصفا في عدده وأخف منه في سوطه كان أقل من النصف
والله سبحانه قد أوجب النصف بقوله (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)
(مسألة) (والذمي لا يحد بشربه في الصحيح عنه)
لأنه يعتقد حله فلم يحد بفعله كنكاح المجوس ذوات محارمهم، وعنه يحد لأنه شرب مسكرا
عالما به مختارا أشبه شارب النبيذ إذا اعتقد حله
334

(فصل) ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين الاقرار أو البينة ويكفي الاقرار مرة
واحدة في قول عامة أهل العلم لأنه لا يتضمن اتلافا فأشبه حد القذف، ومتى رجع عن اقراره قبل
رجوعه لأنه حد لله سبحانه فقبل رجوعه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الاقرار وجود الرائحة وحكي
عن أبي حنيفة لا حد عليه الا أن توجد رائحة
ولنا انه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة ولأنه قد يقر بعد زوال
الرائحة عنه ولأنه اقرار بحد فاكتفي به كسائر الحدود
(مسألة) (وهل يجب الحد بوجود الرائحة؟ على روايتين)
لا يجب الحد برائحة الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي
وعن أحمد أنه يحد بذلك رواها عنه أبو طالب وهو قول مالك لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه
رائحة الخمر، وروي عن عمر أنه قال إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلاء
فقال عمر اني سائل عنه فإن كان ينكر جلدته، ولان الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الاقرار
والأول أولى لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو ظنها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا
تسكر أو كان مكرها أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر وإذا
335

احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فإنه لم يكتف بوجود الرائحة
ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر
(فصل) وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرها أو لم
يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي، ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة تدل على وجوب الحد
ههنا بطريق الأولى لأن ذلك لا يكون الا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها وقد روى
سعيد ثنا هشيم ثنا المغيرة عن الشعبي قال لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي قال أشهد أني
رأيته يتقيؤها فقال عمر من قاءها فقد شربها فضربه الحد، وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال شهدت
عثمان واتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه شربها وشهد الآخر أنه
رآه يتقيؤها فقال عثمان انه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي أقم عليه الحد فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه
رواه مسلم وفي رواية قال له عثمان لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم
فلم ينكر فكان اجماعا ولأنه يكتفى بالشهادة عليه أنه شربها ولا يتقايؤها أو لا يسكر منها حتى يشربها
336

(فصل) وأما البينة فلا تكون الا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه شرب مسكرا ولا يحتاجان
إلى بيان نوعه لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد والى مالا يوجبه بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح
وعلى دواعيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (العينان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)
فلهذا احتاج الشاهد إلى تفسيره وفي مسئلتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه،
ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الاكراه ولا ذكر علمه أنه مسكر لأن الظاهر الاختيار والعلم
وما عداهما نادر فلم يحتج إلى إثباته ولذلك لم يعتبر في شئ من الشهادات ولم يعتبره عثمان في الشهادة
على الوليد بن عقبة ولا عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة
ولو شهد بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ههنا
337

(مسألة) (والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام حرم إلا أن يغلى قبل ذلك فيحرم نص عليه)
أما إذا غلي العصير كغليان القدر وقذف بزبده فلا خلاف في تحريمه، وان أتت عليه ثلاثة أيام
ولم يغل فقال أصحابنا هو حرام وقال أحمد اشربه ثلاثا ما لم يغل فإذا أتت عليه أكثر من ثلاثة أيام
فلا تشربه، وأكثر أهل العلم يقولون هو مباح ما لم يغل ويسكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشربوا في
كل وعاء ولا تشربوا مسكرا) أخرجه أبو داود، ولأن علة تحريمه الشدة المطربة وإنما ذلك في المسكر خاصة ووجه الأول ما روى أبو داود باسناده عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب
فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى الخدم أو يهراق، وروى الشالنجي
باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل) وقال ابن عمر اشربه ما لم يأخذه
شيطانه قيل وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال في ثلاث ولان الشدة تحصل في الثلاث غالبا وهي خفية تحتاج
338

إلى ضابط فجاز جعل الثلاث ضابطا لها، قال شيخنا ويحتمل أن يكون شربه بعد الثلاث إذا لم يغل
مكروها غير محرم فإن احمد لم يصرح بالتحريم وقال في موضع أكرهه وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يكن يشربه بعد ثلاث
(مسألة) (وقال أبو الخطاب عندي ان كلام احمد في ذلك محمول على عصير الغالب أنه
يتخمر في ثلاثة أيام)
(فصل) وكذلك النبيذ مباح ما لم يغل أو يأتي عليه ثلاثة أيام والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب
أو نحوهما ليحلوا به الماء وتذهب ملوحته فلا بأس به ما لم يغل أو يأتي عليه ثلاثة أيام لما روينا عن
ابن عباس، وقال أبو هريرة علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في
دباء
ثم اتيته به فإذا هو ينش فقال (اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر)
رواه أبو داود ولأنه إذا بلغ ذلك صار مسكرا وكل مسكر حرام
339

(مسألة) (ولا يكره ان يترك في الماء تمر أو زبيب ونحوه ليأخذ ملوحته ما لم يشتد أو يأتي عليه ثلاث
لما ذكرنا في الفصل الذي قبله
(مسألة) (ولا يكره الانتباذ في الدباء والختم (والحنتم) والنقير والمزفت)
يجوز الانتباذ في الأوعية كلها وعن أحمد أن يكره الانتباذ في الدباء والختم (والحنتم) والنقير والمزفت
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ فيها والدباء اليقطين والختم (والحنتم) الجرار والنقير الخشب والمزفت الذي
يطلى بالزفت والصحيح أنه لا يكره لما روى بريدة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نهيتكم عن ثلاث وانا
آمركم بهن نهيتكم عن الأشربة ان لا تشربوا الا في ظروف الادم فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا)
رواه مسلم وهذا دليل على نسخ النهي ولا حكم للمنسوخ
(فصل) وما طبخ من النبيذ والعصير قبل غليانه حتى صار غير مسكر كالدبس ورب الخروب
وغيرهما من المربيات والسكر فهو مباح لأن التحريم إنما ثبت في المسكر ففيما عداه يبقى على أصل
340

الإباحة وما اسكر كثيره فقليله حرام سواء ذهب منه الثلثان أو أقل أو أكثر قال أبو داود
سألت احمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثه وبقي ثلثه قال لا بأس به قيل لأحمد إنهم يقولون إنه
يسكر قال لا يسكر لو كان يسكر ما أحله عمر
(مسألة) (ويكره الخليطان وهو ان ينبذ شيئين كالتمر والزبيب)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين، وقال أحمد الخليطان حرام وقال في رجل ينقع الزبيب والتمر
الهندي والعناب ونحوه ينقعه غدوة ويشربه عشية للدواء: أكرهه لأنه نبيذ ولكن يطبخه ويشربه
على المكان وقد روى أبو داود باسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى ان ينبذ الرطب والبسر جميعا
ونهى ان ينتبذ التمر والزبيب جميعا، وفي رواية انتبذوا كل واحد على حدة وعن أبي قتادة قال نهى النبي
صلى الله عليه وسلم ان يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب ولينتبذ كل واحد منهما على حدة متفق عليه قال
القاضي يعني احمد بقوله هو حرام إذا اشتد وأسكر وإذا لم يسكر لم يحرم وهذا هو الصحيح ان شاء
341

الله وانا نهى النبي صلى الله عليه وسلم لعلة اسراعه إلى السكر المحرم فإذا لم يوجد لم يثبت التحريم كما أنه عليه
السلام نهى عن الانتباذ في الأوعية المذكورة لهذه العلة ثم أمرهم بالشرب فيها ما لم توجد حقيقة
الاسكار وقد دل على صحة هذا ما روي عن عائشة قالت كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنأخذ قبضة
من تمر وقبضة من زبيب فنطرحها فيه ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية وننبذه عشية
فيشربه غدوة رواه أبو داود وابن ماجة فلما كانت مدة الانتباذ قريبة وهي يوم وليلة لا يتوهم الاسكار
فيها لم يكره ولو كان مكروها لما فعل هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم له فعلى هذا لا يكره ما كان في المدة
اليسيرة ويكره ما كان في مدة يحتمل افضاؤه إلى الاسكار ولا يثبت التحريم ما لم يغل أو تمضي عليه ثلاثة أيام
(مسألة) (ولا بأس بالفقاع وبه قال إسحاق وابن المنذر) قال شيخنا ولا أعلم فيه خلافا لأنه
لا يسكر و إذا ترك يفسد بخلاف الخمر والأشياء على الإباحة ما لم يرد بتحريمها حجة
(فصل) والخمرة إذا أفسدت فصيرت خلا لم تحل، وان قلب الله عينها فصارت خلا فهي حلال
342

روي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الزهري ونحوه قول مالك وقال الشافعي ان
القي فيها شئ يفسدها كالملح فتخللت فهي على تحريمها وان نقلت من شمس إلى ظل أو من ظل إلى
شمس فتخللت ففي اباحتها قولان وقال أبو حنيفة تطهر في الحالين لأن علة تحريمها زالت بتخليلها
فطهرت كما لو تخللت بنفسها يحققه ان التطهير لا فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل الآدمي
كتطهير الثوب والبدن والأرض ونحو هذا قول عطاء وعمرو بن دينار والحارث العكلي وذكره
أبو الخطاب وجها في مذهبنا
343

ولنا ما روى أبو سعيد قال كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت النبي صلى الله عليه
وسلم فقلت يا رسول الله إنه ليتيم قال (أهريقوه) رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن أنس قال
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيتخذ الخمر خلا؟ قال (لا) رواه مسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح
وعن أبي طلحة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فقال (أهرقها) قال: أفلا أخللها؟
قال (لا) رواه أبو داود وهذا نهي يقتضي التحريم ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز
344

إراقتها بل ارشدهم إليه سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم ولأنه إجماع الصحابة فروي ان عمر
رضي الله عنه صعد المنبر فقال لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله تعالى هو الذي تولى افسادها
ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يتعمد لافسادها، رواه أبو عبيد في الأموال بنحو
من هذا المعنى وهذا قول يشتهر لأنه خطب به الناس على المنبر فلم ينكر، فاما إذا انقلبت بنفسها فإنها
تطهر وتحل في قول جميعهم فقد روي عن جماعة من الأوائل انهم اصطبغوا بخل خمر منهم علي
وأبو الدرداء ورخص فيه الحسن وسعيد بن جبير وليس في شئ من أخبارهم أنهم اتخذوه خلا ولأنه
انقلب بنفسه لكن قد بينه عمر بقوله لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله تعالى هو الذي يتولى
345

إفسادها ولأنها إذا انقلبت بنفسها فقد زالت علة تحريمها من غير علة خلفتها فطهرت كالماء إذا زال
تغيره بمكثه، وإذا القي فيها شئ ينجس بها ثم انقلبت بقي ما القي فيها نجسا فنجسها وحرمها فاما
ان نقلها من موضع إلى آخر فتخللت من غير أن يلقي فيها شيئا فإن لم يكن قصد تخليلها حلت بذلك
لأنها تخللت بفعل الله تعالى فيها، وان قصد بذلك تخليلها احتمل ان تطهر لأنه لا فرق بينهما الا القصد
فلا يقتضي تحريمها ويحتمل ان لا تطهر لأنها خللت فلم تطهر كما لو القي فيها شئ
346

باب التعزير
وهو التأديب وهو واجب في كل معصية لاحد فيها ولا كفارة كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد
واتيان المرأة المرأة وسرقة مالا يوجب القطع و الجناية على الناس بما لا قصاص فيه والقذف بغير الزنا
ونحوه والنهب والغصب والاختلاس، وسمي تعزيرا لأنه يمنع من الجناية والأصل في التعزير المنع ومنه
التعزير بمعني النصرة لأنه منع لعدوه من اذاه
347

(مسألة) (ومن وطئ جارية امرأته فعليه الحد الا أن تكون قد أحلتها له فيجلد مائة وهل
يلحقه نسب ولدها؟ على روايتين)
أما إذا وطئ جارية امرأته باذنها فإنه يجلد مائة ولا يرجم إن كان ثيبا وإن كان بكرا لم يغرب
وان لم تكن أحلتها له فهو زان حكمه حكم الزاني بجارية الأجنبي، وحكي عن النخعي انه يعزر ولا حد
عليه لأنه يملك امرأته فكانت له شبهة في مملوكتها، وعن عمر وعلي وعطاء وقتادة ومالك والشافعي
348

أنه كوطئ الأجنبية سواء أحلتها له أو لم تحلها لأنه لا شبهة له فيها فأشبه جارية أخته ولأنه إباحة
لوطئ محرمة عليه فلم تكن شبهة كإباحة سائر الملاك وعن ابن مسعود والحسن إن كان استكرهها فعليه
غرم مثلها وتعتق وإن كانت طاوعته فعليه غرم مثلها ويملكها لأن هذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه
ابن عبد البر وقال هذا حديث صحيح
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن حبيب بن سالم ان رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع
349

على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير الكوفة فقال لأقضين فيك بقضية رسول الله
صلى الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة وان لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة فوجدوها
أحلتها له فجلدوه مائة
350

(مسألة) (وهل يلحقه نسب ولدها إذا حملت من هذا الوطئ؟ على روايتين)
(إحداهما) يلحق لأنه وطئ لا يجب به الحد فلحق به النسب كوطئ الجارية المشتركة (والأخرى)
لا يلحق به لأنه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك أشبه الزنا المحض
(مسألة) (ولا يسقط الحد بالإباحة في غير هذا الموضع) لعموم النصوص الدالة على وجوب الحد
على الزاني وإنما سقط الحد في هذا الموضع لحديث النعمان
351

(مسألة) (ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات في غير هذا الموضع)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في قدر التعزير فروي عنه انه لا يزاد على عشر جلدات نص
عليه في مواضع وهو قول إسحاق لما روى أبو بردة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يجلد أحد
فوق عشرة أسواط الا في حد من حدود الله) متفق عليه
352

(والرواية الثانية) لا يبلغ به الحد وهو الذي ذكره الخرقي فيحتمل انه أراد لا يبلغ به أدنى حد
مشروع وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، فعلى هذا لا يبلغ به أربعين سوطا لأنها حد العبد في الخمر
وهذا قول أبي حنيفة وان قلنا إن حد الخمر أربعون لم يبلغ به عشرين سوطا في حق العبد وأربعين
353

في حق الحر وهذا مذهب الشافعي فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا ولا الحر على تسعة وثلاثين وقال
ابن أبي ليلى وأبو يوسف أدنى الحدود ثمانون فلا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين ويحتمل كلام احمد
والخرقي ان لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها ويجوز ان يزيد على حد غير جنسها، فعلى هذا
ما كان سببه الوطئ جاز ان يجلد مائة الا سوطا لينقص عن حد الزنا، وما كان سببه غير الوطئ لم
يبلغ به أدنى الحدود لما ذكرنا من حديث النعمان بن بشير في الذي وطئ جارية امرأته باذنها انه يجلد
354

مائة وهذا تعزيز لأنه في حق المحصن إنما هو الرجم، وعن سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين
وطئها أحدهما يجلد الحد الا سوطا واحدا رواه الأثرم واحتج به أحمد قال القاضي هذا عندي من نص
أحمد لا يقتضي اختلافا في التعزير بل المذهب انه لا يزاد على عشر جلدات اتباعا للأثر الا في وطئ
355

جارية امرأته لحديث النعمان وفي الجارية المشتركة لحديث عمر وما عداهما يبقى على العموم لحديث
أبي بردة وهذا قول حسن، إذا ثبت تقدير أكثره فليس أقله مقدرا لأنه لو يقدر لكان حدا ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قدر أكثره ولم يقدر أقله فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام أو الحاكم فيما يراه وما يقتضيه
356

حال الشخص وقال مالك يجوز ان يزاد التعزير على الحد إذا رأى الإمام لما روي أن معن بن زائدة
عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالا فبلغ عمر رضي الله عنه
فضربه مائة وحبسه وكلم فيه فضربه مائة أخرى فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه، وروى أحمد باسناده
357

ان عليا أتي بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان فضربه ثمانين الحد وعشرين سوطا لفطره في رمضان
وروي ان أبا الأسود استخلفه ابن عباس على قضاء البصرة فأتي بسارق قد كان جمع المتاع في البيت ولم
يخرجه فقال أبو الأسود أعجلتم المسكين فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلى سبيله
358

ولنا حديث أبي بردة وهو صحيح متفق عليه وروى الشالنجي باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين) ولان العقوبة على قدر الاجرام والمعاصي المنصوص على
حدودها أعظم من غيرها فلا يجوز ان يبلغ في أهون الامرين عقوبة أعظمهما وما قالوه يفضي إلى أن
359

من قبل امرأة حراما يضرب أكثر من حد الزنا وهذا غير جائز لأن الزنا مع عظمه وفحشه لا
يجوز ان يزاد على حده فما دونه أولى، فما حديث معن فلعله كانت له ذنوب كثيرة فأدب على جميعها
أو تكرر منه الاخذ أو كان ذنبه مشتملا على جنايات (أحدها) تزويره (والثاني) أخذه لمال بيت
المال بغير حقه (والثالث) فتحه باب هذه الحيلة لغيره وغير هذا، واما حديث النجاشي فإن عليا ضربه
الحد لشربه ثم عزره عشرين لفطره فلم يبلغ بتعزيره حدا وقد ذهب احمد إلى هذا ورأي أن من
360

شرب الخمر في رمضان يحد ثم يعزر لجنايته من وجهين والذي يدل عل صحة ما ذكرناه ما روي أن
عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى ان لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا
(فصل) والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ولا يجوز قطع شئ منه ولا جرحه ولا أخذ ماله
لأن الشرع لم يرد بشئ من ذلك عن أحد يقتدى به ولان الواجب أدب والتأديب لا يكون بالاتلاف
وإن رأى الإمام العفو عنه جاز
361

(فصل) والتعزير فيما شرع فيه التعزير واجب إذا رآه الإمام وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال
الشافعي ليس بواجب لأن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال (اني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها
فقال (أصليت معنا؟) قال نعم فتلى عليه (ان الحسنات يذهبن السيئات) وقال في الأنصار (اقبلوا من
محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حكم حكم به للزبير: أن كان ابن عمتك؟
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعزره على مقالته وقال له رجل: ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله
362

ولنا ان ما كان من التعزير منصوصا عليه كوطئ جارية امرأته وجارية مشتركة فيحب امتثال
الامر فيه، وما لم يكن منصوصا عليه إذا رأى الإمام المصلحة فيه أو علم أنه لا ينزجر الا به وجب فإنه زجر
مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد، وان رأى الإمام العفو عنه جاز لما ذكرنا من النصوص والله أعلم
وإن كان التعزير لحق آدمي فطلبه لزم اجابته كسائر حقوق الآدميين
(مسألة) (وان استمنى بيده لغير حاجة عزر) لأنه معصية وان فعله خوفا من الزنا فلا شئ
عليه لأنه لو فعل ذلك خوفا على بدنه لم يلزمه شئ ففعله خوفا على دينه أولى
363

كتاب الجهاد
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا
جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه
الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) متفق عليه ولمسلم (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل
الصائم القائم) وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لغدوة أو روحة في سبيل الله
خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري
(مسألة) (وهو فرض كفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين)
معنى فرض الكفاية الذي إذا قام به من يكفي سقط عن سائر الناس وان لم يقم به من يكفي أثم
الناس كلهم فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الأعيان ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط
بفعل البعض وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره، والجهاد من فروض الكفايات في قول
عوام أهل العلم، وحكي عن ابن المسيب انه فرض عين لقوله تعالى (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا
بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله - ثم قال - إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) وقال سبحانه (كتب
364

عليكم القتال) وروى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات
على شعبة من النفاق) رواه أبو داود
ولنا قول الله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل
الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله
الحسنى) وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال تعالى (وما كان المؤمنون
لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويقيم هو
وأصحابه. فأما الآية التي احتجوا بها فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما نسخها قوله تعالى (وما كان
المؤمنون لينفروا كافة) رواه الأثرم وأبو داود. ويحتمل انه أراد حين استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى
غزوة تبوك وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم ولذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وأصحابه
الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وكذلك يجب على من استنفره الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا
استنفرتم فانفروا) متفق عليه
ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما أن يكونوا جندا لهم دواوين
من اجل ذلك أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم
ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو
365

(مسألة) (ولا يجب إلا على ذكر حر مكلف مستطيع وهو الصحيح الواجد لزاده وما
يحمله إذا كان بعيدا)
يشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الاسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من
الضرر ووجود النفقة، فأما الاسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع، ولان
الكافر غير مأمون في الجهاد، والمجنون لا يتأتى منه الجهاد، والصبي ضعيف البنية، وقد روي عن
ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في
المقاتلة: متفق عليه، وأما الحرية فتشترط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الاسلام
والجهاد ويبايع العبد على الاسلام دون الجهاد، ولان الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على
العبد كالحج، وأما الذكورية فتشترط لما روت عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على
النساء جهاد؟ فقال (جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها
ولذلك لا يسهم لها، ولا يجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه ذكرا فلا يجب عليه مع الشك
في شرطه، وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة من العمى والعرج والمرض وذلك شرط لقول الله
سبحانه (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) ولأن هذه الاعذار
يمنعه من الجهاد، فاما العمى فمعروف، وأما العرج فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد
366

والركوب كالزمانة ونحوها، اما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي وإنما يتعذر عليه شدة
العدو فلا يمنع وجوب الجهاد لأنه ممكن منه فأشبه الأعور، والمرض المانع هو الشديد، فاما اليسير
الذي لا يمنع الجهاد كوجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع الوجوب كالعور، وأما وجود النفقة
فيشترط لقول الله تعالى [ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج
إذا نصحوا لله ورسوله] ولان الجهاد لا يمكن إلا بآلة فاعتبرت القدرة عليها، فإن كان الجهاد على
مسافة قريبة اشترط أن يجد الزاد ونفقة عياله في مدة غيبته وسلاحا يقاتل به، ولا تعتبر الراحلة
لقرب السفر، وان كانت المسافة تقصر فيها الصلاة اعتبر مع ذلك الراحلة لقول الله تعالى [ولا على
الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون]
(مسألة) (وأقل ما يفعل مرة في كل عام إلا أن تدعو الحاجة إلى تأخيره)
أقل ما يفعل الجهاد في كل عام مرة لأن الجزية تجب على أهل الذمة مرة في كل عام وهي بدل عن النصرة
فكذلك مبدلها وهو الجهاد فإن دعت الحاجة إلى تأخيره مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو
عدة أو يكون متنظرا لمدد يستعين به أو يكون في الطريق إليهم مانع أوليس فيها علف أو ماء أو يعلم
من عدوه حسن الرأي في الاسلام ويطمع في اسلامهم ان أخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى المصلحة
معه في ترك القتال فيجوز تركه بهدنة وبغير هدنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريشا عشر سنين واخر
367

قتالهم حتى نقضوا عهده واخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة، وإن دعت الحاجة إلى القتال في عام
أكثر من مرة وجب لأنه فرض كفاية فوجب منه ما تدعو الحاجة إليه
(فصل) (ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد أو حضر العدو بلده تعين عليه)
وجملة ذلك أن الجهاد يتعين في ثلاثة مواضع (أحدها) إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان يحرم على من حضر
الانصراف ويتعين عليه المقام لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا - وقوله -
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار) الآية (الثاني) إذا نزل الكفار
ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم (الثالث) إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه لقول الله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟) الآية ولقول
النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) متفق عليه
(مسألة) (وأفضل ما يتطوع به الجهاد)
قال أحمد رحمه الله لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد روى ذلك عنه جماعة
من أصحابه قال الأثرم قال أحمد لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل من السبيل وقال الفضل بن زياد
سمعت أبا عبد الله وذكر له أمر الغزو فجعل يبكي ويقول ما من أعمال البر أفضل منه وقال عنه غيره
ليس يعدل لقاء العدو شئ ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال والذين يقاتلون العدو هم الذين
368

يدفعون عن الاسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل منه؟ الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج
أنفسهم، وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم اي الأعمال أفضل؟ قال (الصلاة
بمواقيتها - قلت ثم أي؟ قال - بر الوالدين - قلت - ثم أي؟ قال - الجهاد في سبيل الله) متفق على معناه
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى أبو هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم اي الأعمال أفضل؟
أو أي الأعمال خير؟ قال (الايمان بالله ورسوله - قيل ثم اي شئ؟ قال - الجهاد سنام العمل - قيل ثم اي قال -
حج مبرور) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى أبو سعيد قال قيل يا رسول الله أي
الناس أفضل قال (من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) متفق عليه وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(الا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله) قال الترمذي هذا حديث حسن
صحيح وروى الخلال باسناده عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده ما بين
السماء والأرض من عمل أفضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال)
ولان الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغيرهم وكبيرهم وقويهم وضعيفهم ذكرهم
وأنثاهم وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا يساويه في فضله
369

(مسألة) [وغزو البحر أفضل من البر]
غزو البحر مشروع وفضله كبير قال انس بن مالك نام رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو
يضحك قالت أم حرام فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟ قال (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في
سبيل الله يركبون ثبح هذا البحر ملوكا على الأسرة - أو - مثل الملوك على الأسرة) متفق عليه قال ابن
عبد البر: أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعته أخت لهما
ثالثة ولم يرو هذا عن أحد سواه وأظنه إنما قال هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام في بيتها وينظر إلى
شعرها ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب وروى أبو داود باسناده عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(المائد في البحر الذي يصيبه القئ له اجر شهيد والغرق له اجر شهيدين) وروى ابن ماجة باسناده
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر
وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وان الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر
فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين)
ولان البحر أعظم خطرا ومشقة فإنه بين خطر العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع
أصحابه فكان أفضل من غيره
[فصل] وقتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم وكان ابن المبارك رضي الله عنه يأتي من مرو لغزو
الروم فقيل له في ذلك فقال إن هؤلاء يقاتلون على دين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لام خلاد (ان
ابنك له اجر شهيدين) قالت ولم ذاك يا رسول الله؟ قال (لأنه قتله أهل الكتاب) رواه أبو داود
370

(مسألة) (ويغزى مع كل بر وفاجر)
يعني مع كل إمام برا كان أو فاجرا وقد سئل أحمد عن الرجل يقول انا لا أغزو ويأخذه ولد
العباس إنما يوفر الفئ عليهم فقال سبحان الله هؤلاء قوم سوء هؤلاء القعدة مثبطون جهال فيقال
أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم من كان يغزو؟ أليس كان قد ذهب الاسلام؟ ما كانت تصنع
الروم؟ وقد روى أبو داود باسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجهاد
واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا) وباسناده عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(ثلاث من أصل الايمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الاسلام بعمل
والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والايمان
بالاقدار) ولان ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطعه وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وظهور
كلمة الكافر وفيه فساد عظيم، قال الله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)
(فصل) قال أحمد لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين
وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين فإن كان يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه
إنما ذلك في نفسه ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)
(مسألة) (ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو).
371

الأصل في هذا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ولان
الأقرب أكثر ضررا وفي قتاله دفع ضرره عن المقاتل له وعمن وراءه ولان الاشتغال بالبعيد عنه
يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه قيل لأحمد رحمه الله: يحكون عن ابن المبارك أنه
قيل له تركت قتال العدو عندك وجئت إلى ههنا قال؟ هؤلاء أهل كتاب؟ فقال أبو عبد الله سبحان
الله ما أدري ما هذا القول يترك العدو عنده ويجئ إلى ههنا؟ أفيكون هذا؟ أو يستقيم هذا؟ وقد قال الله
تعالى [قاتلوا الذين يلونكم من الكفار] ولو أن أهل خراسان كلهم عملوا على هذا لم يجاهد الترك
أحد وهذا والله أعلم إنما فعله ابن المبارك لكونه متبرعا بالجهاد والكفاية حاصلة بغيره من أهل الديوان
وأجناد المسلمين والمتبرع له ترك الجهاد بالكلية فكان له أن يجاهد حيث شاء ومع من شاء. إذا ثبت
هذا فإن كان له عذر في البداية بالابعد لكونه أخوف أو لمصلحة في البداية به لقربه وامكان الفرصة
منه أو لكون الأقرب مهادنا أو يمنع مانع من قتاله فلا بأس بالبداية بالابعد للحاجة.
(فصل) وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك وينبغي
أن يبتدئ بترتيب قوم في أطراف البلاد يكفون من بإزائهم من المشركين ويأمر بعمل حصونهم وحفر
خنادقهم وجميع مصالحهم ويؤمر في كل ناحية أميرا يقلدهم أمر الحرب وتدبير الجهاد ويكون ممن
له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة العدو مع أمانة ورفق بالمسلمين ونصح لهم وإنما يبدأ
372

بذلك لأنه لا يأمن عليها من المشركين، ويغزو كل قوم من يليهم إلا أن يكون في بعض الجهات من
لا يكفيه من يليه فينجدهم بقوم آخرين ويكونون معهم ويوصي من يؤمره أن لا يحمل المسلمين على مهلكة
ولا يأمرهم بدخول مطمورة يخاف أن يقتلوا تحتها فإن فعل ذلك فقد أساء ويستغفر الله تعالى ولا عقل
عليه ولا كفارة إذا أصيب واحد منهم بطاعته لأنه فعل ذلك باختياره، فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد
لأن مصلحته تفوت بتأخيره، وان حصلت غنيمة قسموها على موجب الشرع، قال القاضي وتؤخر
قسمة الإماء حتى يقوم إمام احتياطا للفروج فإن بعث الإمام جيشا وأمر عليهم أميرا فقتل أو مات
فللجيش ان يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة لما قتل أمراؤهم أمروا عليهم
خالد بن الوليد فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فرضي أمرهم وصوب رأيهم وسمى خالدا يومئذ (سيف الله)
[فصل] قال احمد قال عمر رضي الله عنه وفروا الأظفار في ارض العدو فإنه سلاح قال احمد
يحتاج إليها في ارض العدو ألا ترى انه إذا أراد أن يحل الحبل أو الشئ فإذا لم يكن له أظفار لم
يستطع وقال عن الحكم بن عمرو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لا نحفي الأظفار في الجهاد فإن القوة الأظفار
[فصل] قال احمد يشيع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه شيع علي رضي الله عنه ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ولم يتلقه، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه شيع
يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام ويزيد راكب وأبو بكر رضي الله عنه يمشي فقال
373

له يزيد يا خليفة رسول اما ان تركب واما ان انزل انا فامشي معك فقال لا أركب
ولا تنزل اني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله تعالى، وشيع أبو عبد الله أبا الحارث الصائغ
ونعلاه في يديه وذهب إلى فعل أبي بكر رضي الله عنه أراد ان تغبر قدماه في سبيل الله وقال عن عوف
بن مالك الخثعمي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) قال أحمد ليس
للخثعمي صحبة وهو قديم
(مسألة) (وتمام الرباط أربعون يوما وهو لزوم الثغر للجهاد)
معنى الرباط الإقامة بالثغر مقويا للمسلمين على الكفار والثغر كل مكان يخيف أهل العدو ويخيفهم
وأصله من رباط الخيل لأن هؤلاء يربطون خيولهم وهؤلاء يربطون خيولهم كل يعد لصاحبه فسمي
المقام بالثغر رباطا وان لم يكن خيل، وفيه فضل عظيم وأجر كبير قال أحمد ليس يعدل الجهاد والرباط
شئ والرباط دفع عن المسلمين وعن حريمهم وقوة لأهل الثغر ولأهل الغزو فالرباط عندي أصل الجهاد
وفرعه والجهاد أفضل منه للعناء والتعب والمشقة وقد روي في فضل الرباط اخبار منها ما روى سلمان
رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه
فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن الفتان) رواه مسلم وعن فضالة
بن عبيد رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كل ميت يختم على عمله الا المرابط في سبيل الله فإنه
374

ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
صحيح وعن عثمان بن عثمان رضي الله عنه أنه قال على المنبر: اني كنت كتمتكم حديثا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي ان أحدثكموه ليختار امرؤ منكم لنفسه سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (رباط يوم في سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل) رواه
أبو داود والأثرم وغيرهما. إذا ثبت هذا فإن الرباط يقل ويكثر فكل مدة أقامها بنية الرباط فهي
رباط قلت أو كثرت ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (رباط يوم - ورباط ليلة) قال أحمد يوم رباط وليلة
رباط وساعة رباط وقال عن أبي هريرة رضي الله عنه من رابط يوما في سبيل الله كتب له أجر الصائم
القائم ومن زاد زاده الله، وروى سعيد باسناده عن أبي هريرة قال رباط يوم في سبيل الله أحب إلي
من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رابط أربعين
يوما فقد استكمل الرباط وتمام الرباط أربعون يوما روي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد ذكرنا
خبر أبي هريرة، وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تمام الرباط
أربعون يوما) وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما انه قدم على عمر بن الخطاب من الرباط فقال
له كم رابطت قال ثلاثين يوما قال عزمت عليك الا رجعت حتى تتمها أربعين يوما فإن رابط أكثر
فله أجره كما قال أبو هريرة ومن زاد زاده الله
(فصل) وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا لأنهم أحوج ومقامه به أنفع قال أحمد رحمه
375

الله: أفضل الرباط أشدهم كلبا وقيل لأبي عبد الله فأين أحب إليك ان ينزل الرجل باهله؟ قال كل مدينة
معقل للمسلمين مثل دمشق وقال أرض الشام أرض المحشر ودمشق موضع يجتمع الناس إليه إذا
غلبت الروم، قيل لأبي عبد الله فهذه الأحاديث التي جاءت (ان الله تكفل لي باهل الشام) ونحو هذا
قال ما أكثر ما جاء فيه، وقيل له ان هذا في الثغور فأنكره وقال أرض القدس أين هي ولا يزال أهل
الغرب ظاهرين؟ هم أهل الشام ففسر أحمد الغرب في هذا الحديث بالشام وهو صحيح رواه مسلم وإنما
فسره بذلك لأن الشام يسمى مغربا لأنه مغرب للعراق كما يسمى العراق مشرقا ولهذا قيل ولأهل
المشرق ذات عرق وقد جاء في حديث مصرحا به (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم
من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم بالشام) وفي حديث مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه قال (وهم
بالشام) رواه البخاري وروى في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تزال
طائفة بدمشق ظاهرين) وقد روي في الشام أخبار كثيرة منها حديث عبد الله بن حوالة الأزدي رضي
الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا بالعراق وجندا باليمن فقلت خر لي
يا رسول الله قال عليك بالشام فإنها خيرة الله من ارضه يجتبي إليها خيرته من عباده فمن أبى فليلحق
باليمن ويشق من غدره فإن الله تكفل لي بالشام وأهله) رواه أبو داود بمعناه وكان أبو إدريس إذا روى
هذا الحديث قال ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه وروي عن الأوزاعي قال اتيت المدينة فسألت من
376

بها من العلماء؟ فقيل محمد بن المنكدر ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس
ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فقلت والله لأبدأن بهذا قبلهم فدخلت إليه فأخذ
بيدي وقال من أي إخواننا أنت؟ قلت من أهل الشام قال من أيهم؟ قلت من أهل دمشق قال
حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (يكون للمسلمين ثلاث معاقل فمعقلهم في الملحمة
الكبرى التي تكون بعمق أنطاكية دمشق، ومعقلهم من الدجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج
ومأجوج طور سيناء)) رواه أبو نعيم في الحلية وعن أبي الدرداء رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(ان فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن
الشام) رواه أبو داود
(مسألة) (ولا يستحب نقل أهله إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رباط يوم في سبيل الله خير
من الف يوم فيما سواه من المنازل)
قد ذكرنا هذا الحديث وهو صحيح رواه أبو داود وغيره وأراد بالثغر ههنا الثغر المخوف وهذا قول
الحسن والأوزاعي لما روى يزيد بن عبد الله قال قال: عمر رضي الله عنه لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر
رواه الأثرم، ولان الثغور المخوفة لا يؤمن ظفر العدو بها وبمن فيها واستيلاؤهم على الذرية والنساء
377

قيل لأبي عبد الله رحمه الله فتخاف على المنتقل بعياله إلى الثغر الاثم؟ قال كيف لا أخاف الاثم وهو
يعرض ذريته للمشركين؟ وقال كنت آمر بالتحول بالأهل والعيال إلى الشام قبل اليوم فانا انهى عنه
الآن لأن الامر قد اقترب، وقال لابد لهؤلاء القوم من يوم قيل فذلك في آخر الزمان قال فهذا آخر
الزمان قيل له فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها قال هذا للواحدة ليس الذرية
قال الشيخ رحمه الله وهذا من كلام أحمد محمول على أن غير أهل الثغر لا يستحب لهم الانتقال بأهلهم
إلى ثغر مخوف فأما أهل الثغر فلابد لهم من السكنى بأهلهم لولا ذلك لخربت الثغور وتعطلت وخص
الثغر المخوف بالكراهة لأن الخوف عليها أكثر ولان الغالب من غير المخوفة سلامتها وسلامة أهلها
(فصل) ويستحب لأهل الثغر ان يجتمعوا في مسجد واحد بحيث إذا حضر النفير صادفهم مجتمعين
فيبلغ الخبر جميعهم ويراهم عين الكفار فيعلم كثرتهم فيخوف بهم لأنهم إذا كانوا متفرقين رأى الجاسوس
قلتهم، وروي عن الأوزاعي أنه قال في المساجد التي بالثغر لو أن لي عليها ولاية لسمرت أبوابها حتى تكون
صلاتهم في مسجد واحد حتى إذا جاء النفير وهم متفرقون لم يكونوا مثلهم إذا كانوا في موضع واحد
(فصل) في الحرس في سبيل الله وفيه ثواب عظيم وفضل كبير قال ابن عباس رضي الله عنهما
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من حشية الله وعين باتت تحرس
في سبيل الله) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وعن سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول
378

الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية قال من يحرسنا الليلة؟) قال أنس بن أبي مرثد الغنوي
أنا يا رسول الله قال (فاركب) فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له (استقبل هذا
الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة) فلما أصبحنا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه
فركع ركعتين ثم قال (هل أحسستم فارسكم؟) قالوا لا فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أبشروا قد جاء فارسكم)
فإذا هو قد جاء حتى إذا وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب
حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال له
رسول الله (هل نزلت الليلة؟) قال لا إلا مصليا أو قاضي حاجة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد
أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها) رواه أبو داود، وعن عثمان رضي الله عنه قال سمعت رسول
الله صلى عليه وسلم يقول (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها) رواه ابن سنجر
(مسألة) (وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب وتستحب لمن قدر عليه)
الهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار الاسلام قال الله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة
ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن ارض الله واسعة
فتهاجروا فيها؟) الآيات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا برئ من مسلم بين مشركين)
379

رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت
في آي وأخبار سوى هذين كثير
(فصل) وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم، وقال قوم قد انقطعت
الهجرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا هجرة بعد الفتح) وقال (قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية)
وروى أن صفوان بن أمية لما أسلم قيل له لا دين لمن لم يهاجر فأتى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما جاء
بك أبا وهب؟) قال قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر قال (ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة أقروا على مساكنكم
فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية) روى ذلك كله سعيد
ولنا ما روى معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تنقطع الهجرة حتى
تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه أبو داود، وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد) رواه سعيد وغيره مع إطلاق الآيات والأخبار الدالة
عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان
وأما الأحاديث الأول فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح، وقوله لصفوان (ان الهجرة
قد انقطعت) يعني من مكة لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار فإذا فتح لم يبق بلد الكفار فلا تبقى منه
هجرة، وهكذا كل بلد فتح لا تبقى منه هجرة إنما الهجرة النية
380

(فصل) والناس في الهجرة على ثلاثة أضرب [أحدها] من تجب عليه وهو ممن يقدر عليها ولا
يمكنه إظهار دينه أو لا يمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقول
الله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض
قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) وهذا وعيد شديد
يدل على الوجوب، ولان القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه والهجرة من ضرورة الواجب
وتتمته وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
[الثاني] من لا هجرة عليه وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف من
النساء والولدان وشبههم فهذا لا هجرة عليه لقول الله تعالى (إلا المستضعفين من الرجال والنساء
والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا
غفورا) فهذه لا توصف باستحباب لعدم القدرة عليها
(الثالث) من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه مع
إقامته في دار الكفار فيستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم ويتخلص من تكثير
الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لامكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه مقيما بمكة مع إسلامه
381

وروي ان نعيم النحام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له أقم عندنا وأنت
على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك واكفنا ما كنت تكفينا وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم
فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد وقال له النبي صلى الله عليه وسلم (قومك كانوا خيرا لك من قومي لي:
قومي أخرجوني وأرادوا قتلي وقومك حفظوك ومنعوك) فقال يا رسول الله قومك أخرجوك إلى طاعة
الله وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله أو نحو هذا القول
(مسألة) (ولا يجاهد من عليه دين لا وفاء له، ومن أحد أبويه مسلم إلا باذن غريمه وأبيه الا
أن يتعين عليه الجهاد فإنه لا طاعة لهما في ترك فريضة
من كان عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو الا باذن غريمه الا أن يترك وفاء
أو يقيم به كفيلا أو يوثقه برهن وبهذا قال الشافعي، ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء
دينه لأنه لا تتوجه عليه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين
ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها، وقد روي أن
رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا يكفر عني
خطاياي؟ قال (نعم إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك)
وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لأنه تعلق بعينه فكان مقدما على ما في ذمته كسائر فروض
الأعيان، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغريرا
382

بتفويت الحق، فإن ترك وفاء أو أقام كفيلا فله الغزو بغير اذن نص عليه أحمد فيمن ترك وفاء لأن
عبد الله بن عمرو بن حرام خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد وقضاه عنه ابنه جابر بعلم النبي
صلى الله عليه وسلم ولم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر فعله بل مدحه وقال (ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها
حتى رفعتموه) وقال لابنه جابر (أشعرت ان الله أحيا أباك وكلمه كفاحا)
(فصل) ومن كان أبواه مسلمين لم يجاهد بغير اذنهما تطوعا روي نحو ذلك عمر وعثمان رضي
الله عنهما وبه قال مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وسائر أهل العلم لما روى عبد الله بن عمرو بن
العاص رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أجاهد؟ قال (ألك
أبوان؟) قال نعم قال (ففيهما فجاهد) وروى ابن عباس نحوه قال الترمذي هذا حديث حسن
صحيح وفي رواية قال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال (ارجع إليهما
فاضحكهما كما أبكيتهما) وعن أبي سعيد ان رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم (هل لك باليمن أحد؟) قال نعم أبواي، قال (أذنا لك؟)
قال لا، قال (فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد والا فبرهما) رواهن أبو داود، ولان
بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين يقدم وكذلك إن كان أحدهما مسلما لم
يجاهد بغير إذنه لأن بره فرض عين فقدم على الجهاد كالأبوين، فأما ان كانا غير مسلمين فلا اذن لهما
وهذا قول الشافعي وقال الثوري لا يغزو إلا باذنهما لعموم الاخبار
383

ولنا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وفيهم من أبواه كافران ولم يستأذنهما منهم أبو بكر
الصديق وأبو حذيفة بن عتبة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأبوه رئيس المشركين يومئذ وأبو عبيدة
قتل أباه في الجهاد فأنزل الله تعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر) الآية وهذا يخص عموم
الاخبار فإن كانا رقيقين فعموم كلامه ههنا يقتضي وجوب استئذانهما وهو ظاهر كلام الخرقي لظاهر
الاخبار ولأنهما مسلمان أشبها الحرين ويحتمل أن لا يعتبر اذنهما لأنه لا ولاية لهما فإن كانا مجنونين فلا
اذن لهما لعدم اعتبار قولهما.
(فصل) فإن تعين عليه الجهاد سقط اذنهما وكذلك كل فرائض الأعيان لا طاعة لهما في تركها لأن
تركها معصية ولا طاعة لاحد في معصية الله وكذلك كل ما وجب كالحج وصلاة الجماعة والجمع والسفر
للعلم الواجب لأنها فرض عين فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة ولان الله تعالى قال (ولله على الناس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ولم يشترط اذن الوالدين.
(فصل) فإن خرج في جهاد تطوع باذنهما فمنعاه منه بعد سيره وقبل تعينه عليه فعليه الرجوع
لأنه معنى لو وجد في الابتداء منع فمنع إذا وجد في أثنائه كسائر الموانع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع
أو يحدث له عذر من مرض أو نحوه فإن أمكنه الإقامة في الطريق وإلا مضى مع الجيش وإذا حضر
الصف تعين عليه لحضوره وسقط اذنهما وإن كان رجوعهما عن الاذن بعد تعين الجهاد عليه لم يؤثر
384

شيئا وان كانا كافرين فأسلما ومنعاه كان كمنعهما بعد اذنهما سواء، وحكم الغريم يأذن في الجاد ثم يمنع
منه حكم الوالد على ما فصلناه، فأما ان حدث للانسان في نفسه مرض أو عمى أو عرج فله الانصراف
سواء التقى الصفان أو لا لأنه لا يمكنه القتال فلا فائدة في مقامه.
(فصل) فإن أذن له والداه في الجهاد وشرطا عليه أن لا يقاتل فحضر القتال تعين عليه وسقط
شرطهما كذلك قال الأوزاعي وابن المنذر لأنه صار واجبا عليه فلم يبق لهما في تركه طاعة ولو خرج بغير
اذنهما فحضر القتال ثم بدا له الرجوع لم يجز له ذلك.
(مسألة) (ولا يجوز للمسلمين الفرار من ضعفهم إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة
فإن زاد الكفار فلهم الفرار إلا أن يغلب على ظنهم الظفر)
وجملة ذلك أنه إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات وحرم الفرار لقوله تعالى (يا أيها الذين
آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) وقوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا
تولوهم الادبار) الآية، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الفرار من الزحف من الكبائر وحكي عن الحسن والضحاك
أن هذا كان يوم بدر خاصة ولا يجب في غيرها.
385

ولنا أن الامر مطلق والخبر عام فلا يجوز التقييد والتخصيص إلا بدليل، وإنما يجب الثبات
بشرطين (أحدهما) أن لا يزيد الكفار على ضعف المسلمين فإن زادوا جاز الفرار لقول الله تعالى
(الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) وهذا وإن كان
لفظه لفظ الخبر فهو أمر بدليل قوله (الآن خفف الله عنكم) ولو كان خبرا على حقيقته لم
يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفا ولان خبر الله تعالى صدق لا يقع بخلاف
مخبره وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون
فعلم أنه أمر وفرض ولم يأت شئ ينسخ هذه الآية في كتاب ولا سنة فوجب الحكم بها، قال ابن
عباس رضي الله عنهما نزلت (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) فشق ذلك على المسلمين
حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء تخفيف فقال (الآن خفف الله عنكم - إلى قوله -
يغلبوا مائتين) فلما خفف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد، رواه أبو
داود وقال ابن عباس من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر (الثاني) ان لا يقصد بفراره
التحيز إلى فئة ولا التحرف لقتال فإن قصد أحد هذين أبيح له لأن الله تعالى قال (إلا متحرفا
لقتال أو متحيزا إلى فئة) ومعنى التحرف للقتال أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن مثل
أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما أو من نزول إلى علو أو من معطشة إلى موضع
386

ماء أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم أو تنفرد خيلهم من رجالتهم أو ليجد فيهم فرصة
أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب، وقد روي عن عمر رضي الله عنه
أنه كان يوما في خطبته إذا قال يا سارية بن زنيم الجبل ظلم الذئب من استرعاه الغنم فأنكرها
الناس، فقال علي رضي الله عنه دعوه فلما نزل سألوه عما قال لهم فلم يعترف به وكان بعث سارية إلى ناحية
العراق لغزوهم فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم الجمعة فظفر عليهم فسمعوا صوت
عمر فتحيزوا إلى الجبل فنجوا من عدوهم وانتصروا عليهم وأما التحيز إلى فئة فهو ان يصير إلى فئة
من المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على عدوه وسواء بعدت المسافة أو قربت قال القاضي لو كانت
الفئة بخراسان والفئة بالحجاز جاز التحيز إليها ونحوه ذكر أصحاب الشافعي لأن ابن عمر
رضي الله عنهما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إني فئة لكم) كانوا بمكان بعيد
عنه وقال عمر رضي الله عنه انا فئة كل مسلم وكانوا بالمدينة وجيوشه بمصر والشام
والعراق وخراسان رواهما سعيد، وقال عمر رضي الله عنه رحم الله أبا عبيد لو كان تحيز إلي
لكنت له فئة. وإذا خشي الأسر فالأولى ان يقاتل حتى يقتل ولا يسلم نفسه للأسر لأنه يفوز بالثواب
والدرجة الرفيعة ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة، فإن استأسر جاز لما
روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فنفرت
387

إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤا إلى فدفد فقالوا لهم أنزلوا
فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ان لا نقتل منكم أحدا فقال عاصم اما انا فلا أنزل في ذمه مشرك
فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما مع سبعة معه ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن
الدثنة فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها متفق عليه فعاصم أخذ بالعزيمة وخبيب
وزيد أخذا بالرخصة وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم
(فصل) فإن كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب عن ظن المسلمين الظفر فالأولى لهم
الثبات لما في ذلك من المصلحة ويجوز لهم الانصراف لأنهم لا يأمنون العطب والحكم علق على
مظنته وهو كونهم أقل من نصف عدوهم ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وإن كان
غلب عل ظنهم الهلاك فيه، ويحتمل ان يلزمهم الثبات إذا غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة فإن
غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والسلامة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف وان ثبتوا جاز لأن
لهم غرضا في الشهادة مع جواز الغلبة أيضا وان غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف فالأولى
لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونوا أفضل من المولين ولأنه يجوز
ان يغلبوا أيضا فقد قال تعالى (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) الآية ولذلك صبر
عاصم وأصحابه فقاتلوا حتى أكرمهم الله بالشهادة
388

[فصل] فإن جاء العدو بلدا فلأهله التحصن منهم وان كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد
أو قوة ولا يكون ذلك توليا ولا فرارا إنما التولي بعد اللقاء فإن لقوهم خارج الحصن فلهم التحيز إلى
الحصن لأنه بمنزلة التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة، وان غزوا فذهبت دوابهم فليس ذلك عذرا
في الفرار لأن القتال ممكن للرجالة وان تحيزوا إلى جبل ليقاتلوا فيه رجالة فلا بأس لأنه تحرف للقتال
وان ذهب سلاحهم فتحيزوا إلى مكان يمكنهم القتال فيه بالحجارة والتستر بالشجر ونحوه أولهم في
التحيز إليه فائدة جاز
(فصل) وان فروا قبل احراز الغنيمة فلا شئ لهم إذا أحرزها غيرهم لأن ملكها لمن أحرزها
وان ادعوا أنهم فروا متحيزين إلى فئة أو متحرفين للقتال فلا شئ لهم أيضا لذلك وان فروا بعد
احراز الغنيمة لم يسقط سهمهم منها لأنهم ملكوا الغنيمة بحيازتها فلم يزل ملكهم عنها بفرارهم
(مسألة) (فإن القي في مركبهم نار فاشتعلت فيه فالذي يغلب على ظنهم السلامة فيه من المقام
أو إلقاء أنفسهم في الماء فالأولى لهم فعله وان استوى عندهم الأمران فقال أحمد رحمه الله كيف شاء صنع)
قال الأوزاعي هما موتتان فاختر أيسرهما وعنه يلزمهم المقام ذكرها أبو الخطاب لأنهم إذا رموا
أنفسهم بالماء كان موتهم بفعلهم وإذا أقاموا فموتهم بفعل غيرهم
(فصل) قال رضي الله عنه (ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق وقطع المياه عنهم وهدم حصونهم)
معنى تبييت الكفار كبسهم ليلا وقتلهم وهم غارون قال أحمد لا بأس بالبيات وهل غزو
389

الروم الا بالبيات؟ قال ولا نعلم أحدا كره بيات العدو وذلك لما روى الصعب بن جثامة الليثي رضي
الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن الديار من ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم
وذراريهم فقال (هم منهم) متفق عليه وقد قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فغزونا ناسا من المشركين فبيتناهم رواه أبو داود، فإن قيل فقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والذرية، قلنا هذا محمول على التعمد قتلهم (لقتلهم) قال أحمد أما ان يتعمد قتلهم فلا قال
وحديث الصعب بعد نهيه وعن قتل النساء لأن نهيه عن قتل النساء حين بعث إلى ابن أبي الحقيق وعلى
ان الجمع بينهما يحمل النهي على التعمد والإباحة على ما عداه ويجوز رميهم بالمنجنيق لأن النبي صلى الله عليه وسلم
نصب المنجنيق على أهل الطائف، وظاهر كلامه ههنا أنه يجوز مع الحاجة وعدمها للحديث وممن رأى
ذلك الثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقد روي عن عمرو بن العاص انه نصب
المنجنيق على الإسكندرية ولان القتال به معتاد أشبه الرمي بالسهام ويجوز رميهم بالنار وهدم
حصونهم وقطع المياه عنهم وان تضمن ذلك اتلاف النساء والصبيان لحديث الصعب بن جثامة في
البيات وهذا في معناه ولان النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق وهو يهدم الحصون عادة
(مسألة) (ولا يجوز احراق نحل ولا تغريقه)
هذا قول عامة أهل العلم منهم الأوزاعي والليث والشافعي وقيل لمالك انحرق بيوت نحلهم؟ فقال
390

ما النحل فلا أدري ما هو؟ ومقتضى مذهب أبي حنيفة اباحته لأن فيه غيظا لهم واضعافا فأشبه قتل
بهائمهم حال قتالهم
ولنا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه أميرا على
على القتال بالشام ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه انه قدم عليه ابن
أخيه من غزاة غزاها فقال لعلك حرقت حرثا؟ قال نعم قال لعلك حرقت نحلا؟ قال نعم قال لعلك قتلت صبيا
قال نعم قال ليكن غزوك كفافا أخرجهما سعيد ونحو ذلك عن ثوبان ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل
النحلة ولأنه افساد فيدخل في عموم قوله تعالى (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث
والنسل والله لا يجب الفساد) ولأنه حيوان ذو روح فلم يجز قتله ليغيظهم كنسائهم وصبيانهم فاما
أخذ العسل وأكله فمباح لأنه من الطعام المباح، وهل يجوز أخذ الشهد كله؟ فيه روايتان [إحداهما]
لا يجوز لأن فيه هلاك النحل [والثانية] يجوز لأن هلاكه إنما يحصل ضمنا غير مقصود فأشبه
قتل النساء في البيات
(مسألة) (ولا يجوز عقر دابة ولا ذبح شاة إلا لاكل يحتاج إليه)
اما عقر دوابهم في غير حال الحرب لمغايظتهم والافساد عليهم فلا يجوز سواء خفنا اخذهم لها أو
391

لم نخف وبهذا قال الليث والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وقال أبو حنيفة ومالك يجوز لأن فيه غيظا لهم
وإضعافا لقوتهم فأشبه قتلها حال قتالهم
ولنا ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في وصيته ليزيد حين بعثه أميرا: يا يزيد لا تقتل
صبيا ولا امرأة ولا هرما ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شجرا مثمرا ولا دابة عجماء ولا شاة إلا لمأكلة
ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل شئ من الدواب صبرا،
ولأنه حيوان ذو حرمة فأشبه قتل النساء والصبيان، فاما حال الحرب فيجوز فيها قتل المشركين كيف
أمكن بخلاف حالهم إذا قدر عليهم ولهذا جاز قتل النساء والصبيان في البيات وفي المطمورة وإذا لم يتعمد
قتلهم منفردين بخلاف حالة القدرة عليهم، وقتل بهائمهم حال القتال يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم وقد
روي أن حنظلة بن الراهب عقر فرس أبي سفيان به يوم أحد فرمت به فخلصه ابن شعوب
وليس في هذا خلاف
(فصل) فاما عقرها للاكل فإن كانت الحاجة داعية إليه ولابد منه فمباح لأن الحاجة تبيح
مال المعصوم فمال الكفار أولى، وان لم تكن الحاجة داعية وكان الحيوان لا يراد إلا للاكل كالدجاج
والحمام وسائر الطير والصيود فحكمه حكم الطعام في قول الجميع لأنه لا يراد لغير الاكل وتقل قيمته
فأشبه الطعام، وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل لم يجز ذبحه للاكل في قولهم جميعا وإن كان غير
392

ذلك كالبقر والغنم لم يبح وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي ظاهر كلام أحمد اباحته لأن هذا
الحيوان في باب الاكل مثل الطعام فكان مثله في اباحته كالطير وإذا ذبح الحيوان أكل لحمه وليس
له الانتفاع بجلده لأنه إنما أبيح له ما يأكله دون غيره قال عبد الرحمن بن معاذ كلوا لحم الشاة وردوا
إهابها إلى المغنم. ووجه الأول ما روى سعيد عن أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم
قال أصبنا غنما للعدو فانتهبناها فنصبنا قدورنا فمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور وهي تغلي فأمر بها فأكفئت
ثم قال لهم (ان النهبة لا تحل) ولأن هذه الحيوانات تكثر قيمتها وتشح بها أنفس الغانمين ويمكن حملها إلى
دار الاسلام بخلاف الطير والطعام لكن ان اذن الأمير فيها جاز لما روى عطية بن قيس قال كنا
إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنما نادى منادي الإمام الا من أراد ان يتناول شيئا من هذه الغنم
فليتناول انا لا نستطيع سياقتها رواه سعيد وكذلك قسمها لما روى معاذ رضي الله عنه قال غزونا
مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فأصبنا غنما فقسم بيننا النبي صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم رواه أبو داود
وروى سعيد باسناده ان رجلا نحر جزورا بأرض الروم فلما بردت قال أيها الناس خذوا من لحم
هذا الجزور فقد اذنا لكم فقال مكحول يا غساني ألا تأتينا من لحم هذا الجزور فقال يا أبا عبد الله ألا ترى
ما عليها من النهي؟ قال مكحول لا نهي في المأذون فيه
393

قال شيخنا ولم يفرق أصحابنا بين جميع البهائم في هذ المسألة، ويقوى عندي ان ما عجز المسلمون عن
سياقته وأخذه إن كان مما يستعين به الكفار كالخيل جاز عقره واتلافه لأنه مما يحرم إيصاله إلى الكفار
بالبيع فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم، وإن كان مما يصلح للاكل فللمسلمين ذبحه والاكل منه مع
الحاجة وعدمها، وما عدا هذين القسمين لا يجوز اتلافه لأنه مجرد افساد واتلاف وقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة
(مسألة) (وفي حرق شجرهم، وزرعهم وقطعه روايتان (إحداهما) يجوز ان لم يضر بالمسلمين (والثانية)
لا يجوز إلا أن لا يقدر عليهم الا به أو يكونوا يفعلونه بنا وكذلك رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم
وجملة ذلك أن الزرع والشجر ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) ما تدعو الحاجة إلى اتلافه كالذي
يقرب من حصونهم ويمنع من قتالهم أو يستترون به من المسلمين أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة الطريق
أو تمكن من قتال أو سد شئ أو اصلاح طريق أو ستارة منجنيق أو غيره أو لا يقدر عليهم الا به
أو يكونوا يفعلون ذلك بنا فيفعل ذلك بهم لينتهوا فهذا يجوز بغير خلاف نعلمه
(الثاني) ما يتضرر المسلمون بقطعه لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفهم أو يستظلون به أو يأكلون
394

من ثمره أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم لما فيه
من الاضرار بالمسلمين
(الثالث) ما عدا هذين القسمين مما لا ضرر فيه بالمسلمين فلا نفع سوى غيظ الكفار والاضرار
بهم ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لحديث أبي بكر رضي الله عنه ووصيته وقد روي نحو ذلك مرفوعا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولان فيه اتلافا محضا فلم يجز كعقر الحيوان، وبه قال الأوزاعي والليث وأبو ثور
(والرواية الثانية) يجوز به قال مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر، قال إسحاق التحريق
سنة إذا كان أنكى في العدو ولقول الله تعالى (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن
الله وليخزي الفاسقين]
وروى ابن عمر رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطعه وهي البويرة
فأنزل الله تعالى (ما قطعتهم من لينة) ولها يقول حسان
وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير
متفق عليه. وعن الزهري قال: فحدثني عروة قال فحدثني أسامة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه
فقال (أغر على أبناء صباحا وحرق) رواه أبو داود، قيل لأبي مسهر أبناء؟ قال نحن أعلم هي ببنا فلسطين
والصحيح انها أبناء كما جاءت الرواية وهي قريبة من أرض الكرك في أطراف الشام في الناحية التي
قتل فيها أبوه، فأما ببنا فهي من أرض فلسطين ولم يكن أسامة ليصل إليها ولا أمره النبي صلى الله عليه وسلم
395

بالإغارة عليها لبعدها والخطر بالمصير إليها لتوسطها في البلاد وبعدها من أطراف الشام، فما كان النبي
صلى الله عليه وسلم ليأمره بالتغرير بالمسلمين فكيف يحمل الخبر عليها مع مخالفة لفظ الرواية وفساد المعنى؟
(فصل) ومتى قدر على العدو لم يجز تحريقه بالنار بغير خلاف نعلمه وقد كان أبو بكر الصديق
رضي الله عنه يأمر بتحريق أهل الردة بالنار وفعله خالد بن الوليد بأمره. فأما اليوم فلا نعلم فيه خلافا
بين الناس، وقد روى حمزة الأسلمي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امره على سرية قال فخرجت فيها فقال إن
أخذتم فلانا فأحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت فقال (ان أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه
فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار) رواه أبو داود وسعيد، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث حمزة
فأما رميهم بالنار قبل أخذهم فإن أمكن أخذهم بدونها لم يجز لأنهم في معنى المقدور عليه وأما عند
العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم منهم الأوزاعي والثوري والشافعي
وقد روى سعيد باسناده عن صفوان بن عمرو وجرير بن عثمان ان جنادة بن أبي أمية الأزدي
و عبد الله بن قيس الفزاري وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم
بالنار ويحرقونهم هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء، قال عبد الله بن قيس ولم يزل أمر المسلمين على ذلك
396

وكذلك الحكم في فتح البثوق عليهم لغرقهم وان قدر عليهم بغيره لم يجز إذا تضمن ذلك إتلاف
النساء والذرية الذين يحرم إتلافهم قصدا، وان لم يقدر عليهم إلا به جاز كما يجوز البيات المتضمن لذلك
(فصل) قال الأوزاعي: إذا كان العدو في المطمورة فعلمت انك تقدر عليهم بغير النار فأحب
إلي ان يكف عن النار وان لم يمكن ذلك وأبوا أن يخرجوا فلا أرى بأسا وإن كان معهم ذرية قد كان
المسلمون يقاتلون بها ونحو ذلك قال سفيان وهشام ويدخن عليهم قال أحمد أهل الشام أعلم بهذا
(مسألة) (وإذا ظفر بهم لم يقتل صبي ولا امرة ولا راهب ولا شيخ فإن ولا أعمى،
لا رأي لهم الا ان يقاتلوا)
إذا ظفر بالكفار لم يجز قتل صبي لم يبلع بغير خلاف لما روى ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، متفق عليه ولان الصبي يصير رقيقا بنفس السبي
ففي قتله إتلاف المال وإذا سبي منفردا صار مسلما فاتلافه اتلاف من يمكن جعله مسلما، والبلوغ
يحصل بثلاثة أشياء الاحتلام وهو خروج المني من ذكر الرجل أو قبل المرأة في يقظة أو منام ولا
خلاف فيه وقد دل عليه قوله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم)
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا) وقال (لا يتم بعد احتلام) رواهما أبو داود
(الثاني) نبات الشعر الخشن حول القبل وهو علامة على البلوغ لما روى عطية القرظي قال:
كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم
397

ينبت رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن كثير بن السائب قال حدثني أبناء قريظة
انهم عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم فمن كان منهم محتلما أو نبتت عانته قتل، ومن لا ترك أخرجه الأثرم
وحكي عن الشافعي أن هذا بلوغ في حق الكفار لأنه لا يمكن الرجوع إلى قولهم في الاحتلام وعدد السنين
وليس بعلامة عليه في المسلمين لامكان ذلك فيهم
ولنا قول أبي بصرة وعقبة بن عامر رضي الله عنهما حين اختلف في بلوغ قرع المهري: انظروا
فإن كان قد أشعر فأقسموا له فنظر إليه بعض القوم فإذا هو قد أنبت فقسموا له ولم يظهر خلافه فكان
إجماعا، ولان ما كان علما على البلوغ في حق الكفار كان علما عليه في حق المسلم كالاحتلام والسن
وقولهم انه يتعذر في حق الكافر معرفة الاحتلام والسن. قلنا لا يتعذر معرفة السن في الذمي الناشئ
بين المسلمين ثم تعذر المعرفة لا يوجب جعل ما ليس بعلامة علامة بغير الاثبات
(الثالث) بلوغ خمس عشرة سنة لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي
صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني في المقاتلة
قال نافع فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال هذا فصل ما بين الرجل وبين الغلمان متفق عليه
وهذه العلامات الثلاث في حق الذكر والأنثى وتزيد الأنثى بالحمل والحيض فمن لم يوجد فيه علامة
منهن فهو صبي يحرم قتله
398

(فصل) ولا تقتل امرأة ولا شيخ فإن وبذلك قال مالك وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن
أبي بكر الصديق ومجاهد، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى (ولا تعتدوا) يقول تقتلوا النساء والصبيان
والشيخ الكبير، وقال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر يجوز قتل الشيوخ لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
ولأنه يدخل في عموم قوله تعالى (اقتلوا المشركين) ولأنه كافر لا نفع في حياته فيقتل كالشاب
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة) رواه أبو داود، وروي
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى يزيد حين وجهه إلى الشام فقال: لا تقتل امرأة ولا
صبيا ولا هرما، وعن عمر رضي الله عنه أنه أوصي سلمة بن قيس فقال لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا
شيخا هرما رواهما سعيد ولأنه ليس من أهل القتال فلا يقتل كالمرأة، وقد أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه
العلة في المرأة فقال (ما بالها قتلت وهي لا تقاتل؟) والآية مخصوصة بما روينا ولأنه قد خرج عن عمومها
المرأة والشيخ الهرم في معناها وحديثهم أراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال ومعونة عليه
برأي أو تدبير جمعا بين الأحاديث، ولان حديثنا خاص في الشيخ الهرم، وحديثهم عام في الشيوخ
والخاص يقدم على العام. وقياسهم ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها، ولا يقتل خنثى مشكل
لأنه لا يعلم كونه رجلا
399

(فصل) ولا يقتل زمن ولا أعمى ولا راهب والخلاف فيهم كالخلاف في الشيخ وحجتهم فيه
ولنا ان الزمن والأعمى ليسا من أهل القتال أشبها المرأة ولان في حديث أبي بكر الصديق رضي الله
عنه وستمرون على أقوام في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها فدعهم حتى يميتهم الله على ضلالتهم ولأنهم
لا يقاتلوه تدينا فأشبهوا من لا يقدر على القتال
(فصل) ولا يقتل العبيد وبه قال الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أدركوا خالدا فمروه أن لا يقتل
ذرية ولا عسيفا وهم العبيد) ولأنهم يصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي أشبهوا النساء والصبيان
(فصل) ومن قاتل مما ذكرنا جميعهم جاز قتله. لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم
قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال
(من قتل هذه؟) قال رجل أنا يا رسول الله قال (ولم؟) قال نازعتني قائم سيفي قال فسكت ولان
النبي صلى الله عليه وسلم وقف على امرأة مقتولة فقال (ما بالها قتلت وهي لا تقاتل؟) وفيه دليل على أنه إنما نهى
عن قتل المرأة إذا لم تقاتل وكذلك من كان من هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في
الحرب جاز قتله لأن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه وكانوا خرجوا به معهم
400

يتيمنون به ويستعينون برأيه فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ولان الرأي من أعظم المعونة في الحرب وربما
كان أبلغ من القتال كما قال المتنبي
الرأي قبل شجاعة الشجعان * هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة * بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه * بالرأي قبل تطاعن الفرسان
وقد جاء عن معاوية رضي الله عنه أنه قال لمروان والأسود أمددتما عليا بقيس بن سعد وبرأيه
ومكايدته فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان بأغيظ لي من ذلك، فأما المريض فيقتل
إذا كان ممن لو كان صحيحا قاتل لأنه كالاجهاز على الجريح فإن كان مأيوسا من برئه فهو بمنزلة الزمن
فلا يقتل لأنه لا يخاف منه أن يصير إلى حال يقاتل فيها
(فصل) فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي ان لا يقتل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال
(اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب) وقال الأوزاعي لا يقتل الحراث إذا علم أنه
ليس من المقاتلة وقال الشافعي يقتل الا أن يؤدي الجزية لدخوله في عموم المشركين
ولنا قول عمر ولان الصحابة رضي الله عنهم لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد ولأنهم لا يقاتلون
أشبهوا الشيوخ والرهبان
401

(مسألة) (فإن تترسوا بهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة)
إذا تترسوا في الحرب بالنساء والصبيان ومن لا يجوز قتله جاز رميهم ويقصد المقاتلة لأن النبي صلى
الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان ولان كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد
لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم وسواء كانت الحرب ملتحمة أو لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب
(فصل) ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم
جاز رميها قصدا لما روى سعيد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال لما حاصر رسول الله
صلى الله عليه وسلم الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقالت (ها دونكم فارموا) فرماها رجل
من المسلمين فما أخطأ ذاك منها ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها لأنه من ضرورته وكذلك
يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم الماء أو تحرضهم على القتال لأنها في معنى المقاتل
وكذلك الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منعنا قتله منهم
(مسألة) (وان تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار)
إذا تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة أو لامكان القدرة عليهم
بدونه أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم فإن رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه وان دعت الحاجة إلى
402

رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم للضرورة ويقصد الكفار فإن لم يخف على المسلمين لكن لم
يقدر عليهم إلا بالرمي فقال الأوزاعي والليث لا يجوز رميهم وهو ظاهر كلامه في هذا الكتاب لقول
الله تعالى (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) الآية قال الليث ترك فتح حصن يقدر على فتحه
أفضل من قتل مسلم بغير حق وقال القاضي يجوز رميهم حال قيام الحرب لأن تركه يفضي إلى تعطيل
الجهاد فعلى هذا ان قتل مسلما فعليه الكفارة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان ووجههما يذكر
في موضعه وقال أبو حنيفة لا دية ولا كفارة فيه لأنه رمي أبيح مع العلم بحقيقة الحال فلم يوجب شيئا
كرمي من أبيح رميه
ولنا قوله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه قتل معصوما
بالايمان وهو من أهل الضمان أشبه ما لو لم يتترس به
(مسألة) (ومن أسر أسيرا لم يجز له قتله حتى يأتي به الإمام الا أن يمتنع من السير معه
ولا يمكنه إكراهه)
لا يجوز لمن أسر أسيرا قتله حتى يأتي به الإمام فيرى فيه رأيه لأنه إذا صار أسيرا فالخيرة فيه
إلى الإمام وقد روي عن أحمد كلام يدل على إباحة قتله فإنه قال لا يقتل أسير غيره إلا أن يشاء الوالي
403

فمفهومه ان له قتل أسيره بغير إذن الوالي لأن له ان يقتله ابتداء فكان له قتله دواما كما لو هرب
منه أو قاتله، فإن امتنع الأسير أن ينقاد معه فله إكراهه بالضرب وغيره فإن لم يمكن إكراهه فله قتله
وكذلك إن خافه أو خاف هربه وإن امتنع من الانقياد معه بجرح أو مرض فله قتله وتوقف احمد
عن قتله والصحيح الأول كالتذفيف على الجريح ولان تركه حيا ضرر على المسلمين وتقوية للكفار
فتعيين القتل كحالة الابتداء وكجريحهم إذا لم يأسره. فأما أسير غيره فلا يجوز قتله إلا أن يصير إلى
حال يجوز قتله لمن اسره وقد روى يحيى بن أبي بكير ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يتعاطين أحدكم أسير
صاحبه إذا أخذه فيقتله) رواه سعيد فإن قتل أسيره أو أسير غيره قبل ذلك أساء ولا ضمان عليه وبه قال
الشافعي وقال الأوزاعي ان قتله قبل ان يأتي به الإمام لم يضمنه وإن قتله بعد ذلك ضمنه لأنه أتلف
من الغنيمة ماله قيمة فضمنه بقيمته كما لو قتل امرأة
ولنا ان عبد الرحمن بن عوف أسر أمية بن خلف وابنه عليا يوم بدر فرأهما بلال فاستصرخ
الأنصار عليهما حتى قتلوهما ولم يغرموا شيئا ولأنه أتلف ما ليس بمال فلم يغرمه كما لو أتلفه قبل ان يأتي
به الإمام ولأنه أتلف ما لا قيمة له قبل ان يأتي به الإمام فلم يغرمه كما لو أتلف كلبا فأما إن قتل امرأة أو
صبيا ضمنه لأنه صار رقيقا بنفس السبي
404

(فصل) ومن أسر أسيرا فادعى أنه كان مسلما لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعي أمرا الظاهر
خلافه يتعلق به اسقاط حق تعلق برقبته، فإن شهد له واحد حلف معه وخلي سبيله وقال الشافعي لا
يقبل إلا شهادة عدلين لأنه ليس بمال ولا يقصد منه المال
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر (لا يبقى منهم أحد
الا أن يفدى أو يضرب عنقه) فقال عبد الله بن مسعود الا سهيل بن بيضاء فاني سمعته يذكر
الاسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إلا سهيل بن بيضاء) فقبل شهادة عبد الله وحده
(مسألة) (ويخير الأمير في الاسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء بمسلم أو بمال وعنه
لا يجوز بمال إلا غير الكتابي ففي استرقاقه روايتان ولا يجوز ان يختار الا الأصلح للمسلمين)
وجملة ذلك أن من أسر من دار الحرب على ثلاثة أضرب (أحدها) النساء والصبيان فلا يجوز
قتلهم بغير خلاف ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء
والولدان متفق عليه وكان عليه الصلاة والسلام يسترقهم إذا سباهم
(الثاني) الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية فيتخير الإمام فيهم بين
أربعة أشياء القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم
(الثالث) الرجال ممن لا يقر بالجزية فيخير الإمام فيهم بين القتل والمن والفداء ولا يجوز
405

استرقاقهم في إحدى الروايتين اختارها الخرقي وهو قول الشافعي [والثانية] يجوز استرقاقهم لأنه
كافر أصلي أشبه أهل الكتاب ويحتمل أن يكون جواز استرقاقهم مبنيا على أخذ الجزية منهم فإن
قلنا بجوازها جاز استرقاقهم وإلا فلا وقال أبو حنيفة يجوز في العجم دون العرب بناء على قوله في
أخذ الجزية منهم
ولنا أنه كافر لا يقر بالجزية فلم يجز استرقاقه كالمرتد، والدليل على أنه لا يقر بالجزية يذكر في
باب عقد الذمة إن شاء الله تعالى
(فصل) وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور وعن مالك كمذهبنا
وعنه لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه وإنما يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة وحكي عن
الحسن وعطاء وسعيد بن جبير كراهية قتل الاسرى وقالوا لو من عليه أو فأداه كما صنع بأسارى بدر
ولان الله تعالى قال (فشدوا الوثاق فاما منا بعد واما فداء) فخيره بعد الأسر بين هذين لا غير وقال
أصحاب الرأي ان شاء قتلهم وان شاء استرقهم لا غير ولا فداء لأن الله تعالى قال (اقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم) بعد قوله (فاما منا بعد واما فداء) وكان عمر بن عبد العزيز وعياض بن
عقبة يقتلان الأسارى
ولنا على جواز المن والفداء الآية المذكورة وان النبي صلى الله عليه وسلم من على ثمامة بن أثال وأبي عزة
الشاعر وأبي العاص بن الربيع وقال في أسارى بدر (لو كان مطعم بن عدي حيا ثم سألني هؤلاء
406

النتنى لأطلقتهم له) وفادى اسرى بدر وفادى يوم أحد رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين وأما
القتل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة وقتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي
معيط صبرا وقتل أبا عزة يوم أحد وهذه قصص اشتهرت وعلمت وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم
مرات وهو دليل على جوازها، ولان كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الاسرى
فإن فيهم من له قوة ونكاية في المسلمين فقتله أصلح، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح
ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى اسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم أو الدفع
عنهم فالمن عليه أصلح ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان
والإمام أعلم بالمصلحة ففوض ذلك إليه. إذا ثبت ذلك فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة
فمتى رأى المصلحة في خصلة لم يجز اختيار غيرها لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر لهم فلم يجز له ترك
ما فيه الحظ كولي اليتيم ومتى حصل عنده تردد في هذه الخصال فالقتل أولى قال مجاهد في أميرين
(أحدهما) يقتل الاسرى وهو أفضل وكذلك قال مالك وقال إسحاق الاثخان أحب إلى إلا أن يكون
معروفا يطمع به في الكثير فمتى رأى القتل ضرب عنقه بالسيف لقول الله تعالى [فإذا لقيتم الذين
كفروا فضرب الرقاب] ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضرب أعناق الذين قتلهم ولا يجوز
التمثيل به لما روى بريدة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر رجلا على جيش أو سرية قال (اغزوا
407

بسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تعذبوا ولا تمثلوا) وان اختار الفداء جاز ان يفدي بهم أسارى
المسلمين وجاز بالمال لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الامرين وفيه رواية أخرى انه لا يجوز بمال
كمالا يجوز بيع رقيق المسلمين للكفار في إحدى الروايتين ولأنه إذا لم يجز ان نبيعهم السلاح لما فيه من تقويتهم على
المسلمين فبيع أنفسهم أولى ومنع احمد رحمه الله من فداء النساء بالمال لأن في بقائهن تعريضا لهن للاسلام لبقائهن
عند المسلمين وجوز ان يفادى بهن أسارى المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم فادى بالمرأة التي اخذها من سلمة بن
الأكوع ولان في ذلك استنقاذ مسلم متحقق اسلاما فاحتمل تفويت غرضية الاسلام من أجله ولا يلزم
من ذلك احتمال فدائها لتحصيل المال
فأما الصبيان فقال احمد لا يفادى بهم لأن الصبي يصير مسلما باسلام سابيه فلا يجوز رده إلى
المشركين وكذلك المرأة إذا أسلمت لا يجوز ردها إلى الكفار لقول الله تعالى (فلا ترجعوهن إلى الكفار
لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) وإن كان الصبي غير محكوم باسلامه كمن سبي مع أبويه فلا يجوز فداؤه
بمال كالمرأة ويجوز فداؤه بمسلم في أحد الوجهين
(فصل) ومن استرق منهم أو بلغ فودي بمال وكان الرقيق والمال للغانمين حكمه حكم الغنيمة.
لا نعلم في هذا خلافا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فداء أسارى بدر بين الغانمين ولأنه مال غنمه
المسلمون أشبه الخيل والسلاح، فإن قيل فالأسير لم يكن للغانمين فيه حق فكيف تعلق حقهم ببدله؟
408

قلنا إنما يفعل الإمام في الأسير ما يرى فيه المصلحة لأنه لم يصر مالا فإذا صار مالا تعلق حق الغانمين به لأنهم
أسروه وقهروه وهذا غير ممتنع ألا ترى أن من عليه دين إذا قتل قتلا يوجب القصاص كان لورثته الخيار بين
القتل والعفو إلى الدية فإذا اختاروا الدية تعلق حق الغرماء بها
(فصل) فإن سأل الأسارى من أهل الكتاب تخليتهم على إعطاء الجزية لم يجز ذلك في
صبيانهم ونسائهم لأنهم صاروا غنيمة بالسبي ويجوز في الرجال ولا يزول التخيير الثابت فيهم قال
أصحاب الشافعي يحرم قتلهم كما لو أسلموا
ولنا انه بدل تجوز الإجابة إليه فلم يحرم قتلهم كبدل عبدة الأوثان
(فصل) وإذا أسر العبد صار رقيقا للمسلمين لأنه مال لهم استولي عليه فكان للغانمين كالبهيمة
فإن رأى الإمام قتله لضرر في ابقائه جاز لأن مثل هذا لا قيمة له فهو كالمرتد، وأما من يحرم
قتلهم غير النساء والصبيان كالشيخ والزمن والأعمى والراهب فلا يحل سبيهم لأن قتلهم
حرام ولا نفع في اقتنائه
(فصل) ذكر أبو بكر ان الكافر إذا كان مولى مسلم لم يجز استرقاقه لأن في استرقاقه تفويت
ولاء المسلم المعصوم، وعلى قوله لا يسترق ولده أيضا إذا كان عليه ولاء لذلك، وإن كان معتقه ذميا
409

جاز استرقاقه لأن سيده يجوز استرقاقه فاسترقاق مولاه أولى وهذا مذهب الشافعي، وظاهر كلام
الخرقي جواز استرقاقه لأنه لا يجوز قتله وهو من أهل الكتاب فجاز استرقاقه كغيره، ولان سبب
جواز الاسترقاق قد تحقق فيه وهو الاستيلاء عليه مع كون مصلحة المسلمين في استرقاقه ولأنه إن كان
السبي امرأة أو صبيا لم يجز فيه سوى الاسترقاق فيتعين ذلك فيه، وما ذكروه يبطل بالقتل
فإنه يفوت الولاء وهو جائز فيه، وكذلك يجوز استرقاق من عليه ولاء الذمي وقوله ان سيده الذمي يجوز
استرقاقه غير صحيح فإن الذمي لا يجوز استرقاقه ولا تفويت حقوقه وقد قال علي رضي الله عنه إنما بذلوا
الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا
(مسألة) (فإن أسلموا رقوا في الحال)
يعني إذا أسلم الأسير صار رقيقا في الحال وزال التخيير فيه وصار حكمه حكم النساء وبه قال
الشافعي في أحد قوليه لأنه أسير يحرم قتله فصار رقيقا كالمرأة وفيه قول آخر أنه يحرم قتله لقول
النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث) ويتخير بين الخصال الثلاث
الباقية المن والفداء والاسترقاق وهو القول الثاني للشافعي لأنه إذا جاز المن عليه في حال كفره ففي
حال اسلامه أولى لأن الاسلام حسنه يقتضي اكرامه والانعام عليه لا منع ذلك في حقه وهذا هو
الصحيح إن شاء الله تعالى، ولا يجوز رده إلى الكفار الا أن يكون له من يمنعه من المشركين
410

من عشيرة أو نحوها، وإنما جاز فداؤه لأنه يتخلص به من الرق، فاما ان أسلم قبل أسره حرم
قتله واسترقاقه والمفاداة به سواء أسلم وهو في حصن أو جوف أو مضيق أو غير ذلك
لأنه لم يحصل في أيدي الغانمين
(مسألة) (ومن سبي من أطفالهم منفردا أو مع أحد أبويه فهو مسلم. ومن سبي
مع أبويه فهو على دينهما)
المسبي من أطفال المشركين ينقسم ثلاثة أقسام
(أحدها) أن يسبى منفردا عن أبويه فيصير مسلما بالاجماع لأن الدين إنما يثبت له تبعا، وقد
انقطعت تبعيته لأبويه لانقطاعه عنهما واخراجه عن دارهما ومصيره إلى دار الاسلام تبعا لسابيه
المسلم فكان تابعا له في دينه
(الثاني) أن يسبى مع أحد أبويه فيحكم باسلامه أيضا وبه قال الأوزاعي وقال أبو الخطاب
يتبع أباه، وقال القاضي فيه روايتان أشهرهما أنه يحكم باسلامه [والثانية يتبع أباه، وقال أبو حنيفة
والشافعي يكون تابعا لأبيه في الكفر لأنه لم ينفرد عن أحد أبويه فلم يحكم باسلامه كما لو سبي معهما وقال مالك
ان سبي مع أبيه تبعه لأن الولد يتبع أباه في الدين كما يتبعه في النسب وان سبي مع أمه فهو مسلم لأنه
لا يتبعها في النسب فكذلك في الدين
411

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) رواه
مالك فمفهومه أنه لا يتبع أحدهما لأن الحكم متى علق بشيئين لا يثبت بأحدهما ولأنه يتبع سابيه منفردا
فيتبعه مع أحد أبويه قياسا على ما لو أسلم أحد الأبوين، تحقيقه ان كل شخص غلب حكم اسلامه منفردا
غلب مع أحد الأبوين كالمسلم من الأبوين
(الثالث) أن يسبى مع أحد أبويه فيكون على دينهما وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، وقال
الأوزاعي يكون مسلما لأن السابي أحق به لكونه ملكه بالسبي وزالت ولاية أبويه عنه وانقطع
ميراثهما منه وميراثه منهما فكان أولى به منهما
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) وهما معه وملك السابي
له لا يمنع اتباعه لأبويه بدليل ما لو ولد في ملكه من عبده وأمته الكافرين
(مسألة) (ولا ينفسخ النكاح باسترقاق الزوجين وان سبيت المرأة وحدها انفسخ
نكاحها وحلت لسابيها)
إذا سبي المتزوج من الكفار لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يسبى الزوجان معا فلا ينفسخ
نكاحهما وبهذا قال أبو حنيفة والأوزاعي ويحتمل أن ينفسخ وبه قال مالك والثوري والليث والشافعي
412

وأبو ثور لقول الله تعالى (والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم) والمحصنات المتزوجات [الا
ما ملكت أيمانكم] بالسبي قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه نزلت هذه الآية في سبي أوطاس،
وقال ابن عباس رضي الله عنهما الا ذوات الأزواج من المسبيات ولأنه استولى على محل حق الكافر
فزال ملكه كما لو سباها وحدها
ولنا ان الرق معنى لا يمنع ابتداء النكاح فلا يقطع استدامته كالعتق، والآية نزلت في سبايا
أو طاوس وكانوا أخذوا النساء دون أزواجهن، وعموم الآية مخصوص بالمملوكة المزوجة في دار
الاسلام فيخص منه محل النزاع بالقياس عليه
(الحال الثاني) أن تسبى المرأة وحدها فينفسخ النكاح بلا خلاف علمناه والآية دالة عليه وقد
روى أبو سعيد الخدري قال أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فنزلت [والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم] رواه الترمذي وقال حديث حسن
الا أن أبا حنيفة قال إذا سبيت المرأة وحدها ثم سبي زوجها بعدها بيوم لم ينفسخ النكاح، ولنا ان
السبي المقتضي للفسخ وجد فانفسخ النكاح كما لو سبيت قبله بشهر
(الحال الثالث) سبي الرجل وحده فلا ينفسخ النكاح لأنه لا نص فيه ولا القياس يقتضيه وقد
سبى النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من الكفار يوم بدر فمن على بعضهم وفادى بعضا فلم يحكم عليهم بفسخ
413

أنكحتهم، ولأننا إذا لم نحكم بفسخ النكاح فيما إذا سبيا معا مع الاستيلاء على محل حقه فلان لا
ينفسخ نكاحه مع عدم الاستيلاء عليه أولى
وقال أبو الخطاب إذا سبي أحد الزوجين انفسخ النكاح ولم يفرق وبه قال أبو حنيفة لأن
الزوجين افترقت بهما الدار وطرأ الملك على أحدهما فانفسخ النكاح كما لو سبيت المرأة وحدها،
وقال الشافعي ان سبي واسترق انفسخ نكاحه وان من عليه أو فودي لم ينفسخ، ولنا ما ذكرناه وأن
السبي لم يزل ملكه عن ماله في دار الحرب فلم يزل عن زوجته كما لو لم يزل عن أمته
(فصل) ولم يفرق أصحابنا في سبي الزوجين بين ان يسبيهما رجل واحد أو رجلان وينبغي
ان يفرق بينهما فإنهما إذا كانا مع رجلين كان مالك المرأة منفردا بها ولا زوج معها فتحل له لقوله
تعالى (الا ما ملكت ايمانكم)
وذكر الأوزاعي ان الزوجين إذا سبيا فهما على النكاح في المقاسم فإن اشتراهما رجل فله أن
يفرق بينهما إن شاء أو يقرهما على النكاح
ولنا ان تجدد الملك في الزوجين لرجل لا يقتضي جواز الفسخ كما لو اشترى زوجين مسلمين،
إذا ثبت هذا فإنه لا يحرم التفريق بينهما في القسمة والبيع لأن الشرع لم يرد بذلك
414

(مسألة) (وهل يجوز بيع من استرق منهم للمشركين؟ على روايتين)
لا يجوز بيع شئ من رقيق المسلمين لكافر سواء كان مسلما أو كافرا وهذا قول الحسن، وقال
احمد ليس لأهل الذمة أن يشتروا مما سبى المسلمون قال وكتب عمر بن الخطاب ينهى عنه امراء
الأمصار هكذا حكى أهل الشام، وعنه انه يجوز ذلك وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه لا يمنع
من إثبات يده عليه فلا يمنع من ابتدائه كالمسلم، ولأنه رد الكافر إلى الكفار فجاز كالمفاداة بهم قبل
الاسترقاق والأول أولى لأنه قول عمر رضي الله عنه ولم ينكره منكر فكان إجماعا ولان فيه تفويتا
للاسلام الذي يظهر وجوده فإنه إذا بقي رقيقا للمسلمين الظاهر أنه يسلم فيفوت ذلك ببيعه لكافر
بخلاف ما إذا كان رقيقا لكافر في ابتدائه فإنه لم تثبت له هذه الغرضية
(مسألة) (ولا فرق في البيع بين ذي رحم محرم إلا بعد البلوغ على إحدى الروايتين)
أجمع أهل العلم على أن التفريق بين الام وولدها الطفل غير جائز منهم مالك والأوزاعي والليث
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم لما روى أبو أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) قال الترمذي هذا حديث
حسن غريب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا توله والدة عن ولدها) قال احمد لا يفرق بين الام وولدها وان
415

رضيت وذلك والله أعلم لما فيه من الاضرار بالولد ولأن المرأة قد ترضى بما فيه ضررها ثم يتغير قلبها
فتندم، ولا يجوز التفريق بين الأب وولده هذا قول أصحاب الرأي والشافعي
وقال مالك والليث يجوز وبه قال بعض الشافعية لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه ولأنه لا نص فيه
ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الام أشفق منه
ولنا انه أحد الأبوين أشبه الام ولا نسلم انه ليس من أهل الحضانة، ولا فرق بين أن يكون
الولد بالغا أو طفلا في ظاهر كلام الخرقي وإحدى الروايتين عن أحمد لعموم الخبر ولان الوالدة
تتضرر بمفارقة ولدها الكبير ولهذا حرم عليه الجهاد إلا باذنها (والثانية) يختص تحريم التفريق بالصغير
وهو قول الأكثرين منهم مالك والأوزاعي والليث وأبو ثور وهو قول الشافعي لأن سلمة بن الأكوع
أتى بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبها له ولم ينكر التفريق بينهما
ولان الأحرار يتفرقون بعد الكبر فإن المرأة تزوج ابنتها وتفارقها فالعبيد أولى، واختلفوا في حد
الكبر الذي يجوز التفريق فعن أحمد رحمه الله حده بلوغ الولد وهو قول سعيد بن عبد العزيز وأصحاب
الرأي وقول للشافعي، وقال مالك إذا أثغر وقال الأوزاعي والليث إذا استغنى عن أمه ونفع نفسه
وللشافعي قول إذا صار ابن سبع أو ثمان، وقال أبو ثور إذا كان يلبس وحده ويتوضأ وحده لأنه
416

إذا كان كذلك استغنى عن أمه ولذلك خير الغلام بين أمه وأبيه إذا كان كذلك ولأنه جاز التفريق
بينهما بتخييره فجاز ببيعه وقسمته
ولنا ما روي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يفرق بين الوالدة وولدها) فقيل
إلى متى؟ قال (حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية) ولان من دون البلوغ يولى عليه أشبه الطفل
(فصل) فإن فرق بينهما بالبيع فالبيع فاسد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح البيع لأن النهي
لمعنى في غير المعقود عليه فأشبه البيع في وقت النداء ولنا ما روى أبو داود في سننه عن علي رضي الله
عنه انه فرق بين الام وولدها فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع والأصل ممنوع وما ذكروه
لا يصح فإنه نهي عنه لما يلحق المبيع من الضرر فهو لمعنى فيه
(فصل) والجد والجدة في تحريم التفريق بينهما وبين ولد ولدهما كالأبوين لأن الجد أب
والجدة أم ولذلك يقومان مقام الأبوين في استحقاق الحضانة والميراث والنفقة فقاما مقامهما في تحريم
التفريق ويستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الأب والام لأن لهم ولادة ومحرمية فاستووا في ذلك
كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض
(فصل) ويحرم التفريق بين الاخوة في القسمة والبيع أيضا كما يحرم بين الولد ووالده وبهذا
417

قال أصحاب الرأي وقال مالك والليث والشافعي وابن المنذر لا يحرم لأنها قرابة لا تمنع قبول شهادته
فلم يحرم التفريق كابن العم
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه قال وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما فعل غلامك؟) فأخبرته فقال (رده رده) رواه الترمذي
وقال حديث حسن غريب، وروى عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال كتب إلينا عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الام وولدها في البيع، ولأنه ذو رحم محرم فحرم التفريق
بينهما كالوالد والولد وإنما يحرم التفريق بينهما في حال الصغر وما بعده فيه الروايتان كالأصل والأولى
الجواز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت له مارية و أختها سيرين فأمسك مارية ووهب سيرين
لحسان بن ثابت.
(فصل) فأما سائر الأقارب فظاهر كلام الخرقي جواز التفريق بينهم وقال غيره من أصحابنا
لا يجوز التفريق بين ذوي رحم محرم كالعمة مع ابن أخيها والخالة مع ابن أختها لما ذكرنا من القياس
والأولى جواز التفريق لأن الأصل حل البيع والتفريق ولا يصح القياس على الاخوة لأنهم أقرب
418

ولذلك يحجبون غيرهم عن الميراث وهم أقرب فيبقى من عداهم على الأصل، فأما من ليس بينهما
رحم محرم فلا يمنع من التفريق بينهما عند أحد علمناه لعدم النص فيهم وامتناع قياسهم على المنصوص
وكذلك يجوز التفريق بين الام من الرضاع وولدها والأخت وأخيها لما ذكرنا ولان قرابة الرضاع
لا توجب عتق أحدهما على الآخر ولا نفقة ولا ميراثا فأشبهت الصداقة
(مسألة) (وإذا حصر الإمام حصنا لزمه مصابرته إذا رأى المصلحة فيها)
إذا حصر الإمام حصنا لزمه مصابرته ولا ينصرف عنه إلا بخصلة من خصال خمس (أحدها)
أن يسلموا فيحرزوا بالاسلام دماءهم وأموالهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) (الثانية) أن يبذلوا مالا
على الموادعة فيجوز قبوله منهم سواء أعطوه جملة أو جعلوه خراجا مستمرا يؤخذ منهم كل عام،
فإن كانوا ممن تقبل منهم الجزية فبذلوها لزم قبولها منهم وحرم قتالهم لقوله تعالى (حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون) فإن بذلوا مالا على غير وجه الجزية فرأى المصلحة في قبوله له قبله ولا
يلزمه إذا لم ير المصلحة (الثالثة) أن يفتحه (الرابعة) أن يرى المصلحة في الانصراف إما لضرر في
الإقامة وإما لليأس منه أو لغير ذلك فينصرف عنهم لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر
أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال (إنا قافلون إن شاء الله غدا) فقال المسلمون أنرجع ولم نفتحه؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغدوا على القتال) فغدوا عليه فأصابهم الجراح، فقال لهم
419

رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا قافلون غدا) فأعجبهم، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم
متفق عليه (الخامسة) أن ينزلوا على حكم حاكم وسنذكره في موضعه إن شاء الله
(مسألة) (ومن أسلم منهم أحرز دمه وماله وأولاده الصغار)
متى أسلم أهل الحصن أو بعضهم أحرز دمه وماله وأولاده الصغار كما ذكر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث المذكور (فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) ويحرز أولاده الصغار من السبي لأنهم
تبع له ولذلك يحكم باسلامهم تبعا لاسلامه وكذلك كل من أسلم في دار الحرب وان دخل دار الاسلام
فأسلم وله أولاد صغار في دار الحرب صاروا مسلمين ولم يجز سبيهم وبه قال مالك و الشافعي والأوزاعي
وقال أبو حنيفة ما كان في يده من ماله ورقيقه ومتاعه وولده الصغار ترك له وما كان من أولاده
وأمواله بدار الحرب جاز سبيهم لأنهم لم يثبت اسلامهم باسلامه لاختلاف الدارين بينهم ولهذا إذا
سبي الطفل وأبواه في دار الكفر لم يتبعهما وتبع سابيه في الاسلام وما كان من أرض أو دار فهو
فئ وكذلك زوجته إذا كانت كافرة وما على بطنها فئ
ولنا ان أولاده أولاد مسلم فوجب ان يتبعوه في الاسلام كما لو كانوا معه في الدار ولان ماله مال
مسلم ولا يجوز اغتنامه كما لو كان في دار الاسلام، وبذلك يفارق مال الحربي وأولاده وما ذكره أبو حنيفة
لا يلزم فانا تجعله تبعا للسابي لأنا لا نعلم بقاء أبويه فاما أولاده الكبار فلا يعصمهم لأنهم لا يتبعونه ولا يعصم
420

زوجته لذلك فإن سبيت صارت رقيقة ولم ينفسخ نكاحه برقها ولكن يكون حكمها في النكاح وفسخه
حكم ما لو لم تسب على ما نذكر في نكاح أهل الشرك فإن كانت حاملا من زوجها لم يجز استرقاق
الحمل وكان حرا مسلما وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يحكم برقه مع أمه لأن ما سرى إليه العتق سرى
إليه الرق كسائر أعضائها
ولنا أنه محكوم بحريته واسلامه فلم يجز استرقاقه كالمنفصل بخلاف الأعضاء فإنها لا تنفرد عن حكم الأصل
(فصل) إذا أسلم الحربي في دار الحرب وله مال وعقار أو دخل إليها مسلم فابتاع عقارا ومالا
فظهر المسلمون على ماله وعقاره لم يملكوه وكان له وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يغنم العقار
وأما غيره فما كان في يده أو يد مسلم لم يغنم، واحتج بأنها بقعة من دار الحرب فجاز اغتنامها كما لو
كانت لحربي. ولنا انه مال مسلم فأشبه ما لو كانت في دار الاسلام
(فصل) إذا استأجر المسلم أرضا من حربي ثم استولى عليها المسلمون فهي غنيمة ومنافعها للمستأجر
لأن المنافع ملك المسلم، فإن قيل فلم أجزتم استرقاق الكفارة الحربية إذا كان قد أسلم زوجها وفي
استرقاقها ابطال حق زوجها؟ قلنا يجوز استرقاقها لأنها كافرة ولا أمان لها فجاز استرقاقها كما لو لم تكن
زوجة مسلم ولا يبطل نكاحه بل هو باق ولان منفعة النكاح لا تجري مجرى الأموال بدليل انها
لا تضمن باليد فلا يجوز أخذ العوض عنها بخلاف حق الإجارة
(فصل) إذا أسلم عبد الحربي أو أمته وخرج إلينا فهو حر وإن أسر سيده وأولاده وخرج إلينا
421

فهو حر والمال له والسبي رقيقه، وإن أسلم وأقام بدار الحرب فهو على رقه، وإن أسلمت أم ولد الحربي
وخرجت إلينا عتقت واستبرأت نفسها وهذا قول أكثر العلماء، قال ابن المنذر وقال به كل من
نحفظ عنه من أهل العلم إلا أن أبا حنيفة قال في أم الولد تزوج ان شاءت من غير استبراء وأهل العلم
على خلافه لأنها أم ولد عتقت فلم يجز أن تزوج قبل الاستبراء كما لو كانت لذمي، وروى سعيد بن
منصور باسناده عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم
وعن أبي سعيد الأعسم قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين قضى ان العبد
إذا خرج من دار الحرب قبل سيده انه حر فإن خرج سيده بعد لم يرد عليه، وقضى ان السيد إذا
خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على سيده رواه سعيد، وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال سألنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبدا لنا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو محاصر ثقيف فأسلم فأبى أن يرده علينا وقال (هو طليق الله ثم طليق رسوله) فلم يرده علينا
(مسألة) (وإن سألوا الموادعة بمال أو غيره جاز ان كانت المصلحة فيه) وقد ذكرنا ذلك
(مسألة) (وان نزلوا على حكم حاكم جاز إذا كان حرا مسلما بالغا عاقلا من أهل الاجتهاد)
إذا نزل أهل الحصن على حكم حاكم جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة ورضوا
بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك، والكلام فيه في فصلين (أحدهما) في صفة
422

الحاكم (والثاني) في صفة الحكم، فأما الحاكم فيتعين فيه سبعة أوصاف: الاسلام والحرية
والذكورية والعقل والبلوغ والعدالة والاجتهاد كما يشترط في حاكم المسلمين، ولا يشترط البصر
لأن عدمه لا يضر في مسئلتنا لأن لمقصود (المقصود) رأيه ومعرفته المصلحة في أحد أقسام الحكم وهذا
لا يضر عدم البصر فيه بخلاف القضاء فإنه لا يستغني عن البصر ليعرف المدعي من المدعى عليه
والشاهد من المشهود عليه والمقر من المقر له ويعتبر من الفقه ما يتعلق به هذا الحكم مما يجوز فيه ويعتبر
له ويجوز ذلك ولا يحتاج أن يكون مجتهدا في جميع الأحكام التي لا تعلق لها بهذا وقد حكم سعد
ابن معاذ ولم يثبت أنه كان عالما بجميع الأحكام، فإن حكم رجلين جاز ويكون الحكم ما اجتمعا عليه
وان جعلوا الحكم إلى رجل يعينه الإمام جاز لأنه لا يختار إلا من يصلح وان نزلوا على حكم رجل
منهم أو جعلوا التعيين إليهم لم يجز لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح، وان عينوا رجلا يصلح. فرضيه
الإمام جاز لأن بني قريظة عينوا سعد بن معاذ فرضيه النبي صلى الله عليه وسلم وأجاز حكمه وتدل (لقد حكمت
بحكم الله) وان مات من انفقوا عليه فاتفقوا على غيره ممن يصلح قام مقامه وان لم يتفقوا وطلبوا حكما
لا يصلح ردهم إلى مأمنهم وكانوا على الحصار حتى يتفقوا وكذلك ان رضوا باثنين فمات أحدهما
فاتفقوا على من يقوم مقامه جاز وإلا ردوا إلى مأمنهم وكذلك إذا رضوا بتحكيم من لا تجتمع الشرائط
فيه ووافقهم الإمام عليه ثم بان أنه لا يصلح لم يحكم ويردون إلى مأمنهم كما كانوا
423

(مسألة) (ولا يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين من القتل والسبي والفداء فإن حكم بالمن
لزم قبوله في أحد الوجهين)
إذا حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم نفذ حكمه لأن سعد بن معاذ حكم في قريظة بذلك
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة) وان حكم بالفداء
جاز لأن الإمام يخير في الاسرى بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فكذلك الحاكم، وإن حكم
عليهم باعطاء الجزية لم يلزم حكمه لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي ولذلك لا يملك
الإمام إجبار الأسير على إعطاء الجزية، وان حكم بالمن على المقاتلة وسبي الذرية فقال القاضي يلزم
حكمه وهو مذهب الشافعي لأن الحكم إليه فيما يرى المصلحة فيه فكان له المن كالإمام في الاسرى
واختار أبو الخطاب ان حكمه لا يلزم لأن عليه ان يحكم بما فيه الحظ ولاحظ في المن، وان حكم بالمن على
الذرية فينبغي ان لا يجوز لأن الإمام لا يملك المن على الذرية إذا سبوا فكذلك الحاكم ويحتمل الجواز
لأن هؤلاء لا يتعين السبي فيهم بخلاف من سبي فإنه يصير رقيقا بنفس السبي
(مسألة) (وان حكم بقتل أو سبي فاسلموا عصموا دماءهم وفي استرقاقهم وجهان)
إذا حكم عليهم بالقتل والسبي جاز للإمام المن على بعضهم لأن ثابت بن قيس سأل في الزبير
ابن باطا من قريظة وماله وأولاده رسول الله صلى الله عليه فاجابه، ويخالف مال الغنيمة إذا حازه
الإمام لأن ملكهم قد استقر عليه ومتى أسلموا قبل الحكم عليهم عصموا دماءهم وأموالهم لأنهم
424

فلم يجز استرقاقهم بخلاف الأسير، وان أسلموا بعد الحكم عليهم بالقتل سقط لأن من أسلم فقد عصم
دمه ولم يجز استرقاقهم لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم قال أبو الخطاب ويحتمل ان يجوز كما لو أسلموا
بعد الأسر ويكون المال على ما حكم فيه وان حكم بان المال للمسلمين كان غنيمة لأنهم أخذوه بالقهر والحصر
(باب ما يلزم الإمام والجيش)
(مسألة) (يلزم الإمام عند مسير الجيش تعاهد الخيل والرجال فما لا يصلح للحرب
يمنعه من الدخول)
يستحب للإمام أو الأمير إذا أراد الغزو ان يعرض الجيش ويتعاهد الخيل والرجال فلا يدع
فرسا حطما وهو الكسير ولا قحما وهو الكبير ولا ضرعا وهو الصغير ولا هزيلا يدخل معه أرض
العدو لئلا ينقطع فيها وربما كان سببا للهزيمة
(مسألة) (ويمنع المخذل والمرجف)
والمخذل هو الذي يفند الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج إليه والقتال ومثل من يقول الحر
أو البرد شديد والمشقة شديدة ولا يؤمن هزيمة هذا الجيش ونحو هذا والمرجف هو الذي يقول
قد هلكت سرية المسلمين ومالهم مدد ولا طاقة لهم بالكفار والكفار لهم قوة ومدد وصبر ولا يثبت
425

لهم أحد وأشباه هذا ولا يأذن لمن يعين على المسلمين بالتجسس للكفار واطلاعهم على عورات
المسلمين ولا لمن يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد بينهم ولا لمن يعرف بالنفاق والزندقة
لقول الله تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن
تقاتلوا معي عدوا - وقوله تعالى - ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو
خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) قيل معناه لأوقعوا بينكم
الاختلاف وقيل لأسرعوا في تفريق جمعكم ولان في حضورهم ضررا فيجب صيانة المسلمين عنه
ولا يأذن لطفل ولا مجنون لأن دخولهم تعرض للهلاك بغير فائدة ويجوز ان يأذن لمن اشتد من
الصبيان لأن فيهم معونة ونفعا
(مسألة) (ويمنع النساء الا طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى)
يكره دخول النساء الشواب أرض العدو لأنهن لسن من أهل القتال وقلما ينتفع بهن فيه
لاستيلاء الجبن والخور عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن
وقد روى حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه انها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر
سادسة ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال) (مع من
خرجتن؟) فقلنا يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول
426

السهام ونسقي السويق فقال (قمن) حتى إذا فتح الله خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، قلت لها يا جدة
ما كان ذاك؟ قالت تمرا
قيل للأوزاعي هل كانوا يغزون معهم بالنساء في الصوائف؟ قال لا إلا بالجواري، فأما المرأة
الطاعنة في السن وهي الكبيرة إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء ومعالجة الجرحى فلا بأس به لما روينا من
الخبر وقد كانت أم سليم ونسيبة بنت كعب تغزوان مع النبي صلى الله عليه وسلم فأما نسيبة فكانت تقاتل
وقطعت يدها يوم اليمامة
وقالت الربيع كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم لسقي الماء ومعالجة الجرحى. وقال أنس كان رسول
الله (ص) يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى قال الترمذي هذا
حديث حسن صحيح، فإن قيل فقد كان النبي (ص) يخرج معه من تقع عليه القرعة من نسائه، قلنا
تلك امرأة واحدة يأخذها للحاجة إليها ويجوز مثل ذلك للأمير عند حاجته، ولا يرخص لسائر الرعية
لئلا يفضي إلى ما ذكرنا
(مسألة) (ولا يستعين بمشرك الا عند الحاجة إليه)
لما روت عائشة قالت خرج رسول الله (ص) إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبر أدركه رجل من
المشركين كان يذكر منه جراءة ونجدة فسر المسلمون به فقال يا رسول الله جئت لاتبعك وأصيب
427

معك فقال له رسول الله (ص) (أتؤمن بالله ورسوله؟) قال لا قال (فارجع فانا لا نستعين بمشرك)
ثم مضى رسول الله (ص) حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله (ص) (أتؤمن
بالله ورسوله؟) قال نعم قال (فانطلق) متفق عليه
وروى الإمام أحمد باسناده عن عبد الرحمن بن حبيب قال أتيت رسول الله (ص) وهو يريد
غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم قال (فأسلمتما؟)
قلنا لا قال (فانا لا نستعين بالمشركين على المشركين) قال فأسلمنا وشهدنا معه، وهذا اختيار ابن المنذر
والجوزجاني في جماعة من أهل العلم
وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة بهم، وكلام الخرقي يدل على جواز الاستعانة بهم عند
الحاجة وهو الذي ذكره شيخنا في هذا الكتاب وبه قال الشافعي لما روى الزهري ان رسول الله
(ص) استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم رواه سعيد، وروي ان صفوان بن أمية خرج مع
النبي (ص) يوم حنين وهو على شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة، وذكر الحديث
إذا ثبت هذا فيشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين فإن كان غير مأمون
عليهم لم تجز الاستعانة بهم لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين كالمخذل والمرجف فالكافر أون
428

(فصل) ويستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى كعب بن مالك قال قلما كان رسول الله
[ص] يخرج في سفر الا يوم الخميس
(مسألة) (ويرفق بهم في المسير فيسير بهم سير أضعفهم لئلا يشق عليهم فإن دعت الحاجة
إلى الجد في السير جاز)
لأن النبي [ص] جد في السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي ليخرجن الأعز منها الأذل ليشغل
الناس عن الخوض فيه، ويعد لهم الزاد لأنه لابد منه في الغزو وفي غيره وبه قوامهم ويقوي نفوسهم
بما يخيل إليهم من أسباب النصر لأنه مما يطمعهم في عدوهم، ويعرف عليهم العرفاء وهو أن يكون
لكل طائفة من يكون كالمقدم عليهم ينظر في حالهم ويفتقدهم ويعقد لهم الألوية والرايات، ويجعل
لكل طائفة لواء لما روى ابن عباس ان أبا سفيان حين أسلم قال النبي (ص) للعباس احبسه على الوادي
حتى تمر به جنود الله فيراها قال فحبسته حيث امرني رسول الله [ص [ومرت به القبائل على راياتها
وهو مخير في ألوانها لكنه يغاير ألوانها ليعرف كل قوم رايتهم
ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به عند الحرب لئلا يقع بعضهم على بعض وهي علامة بينهم
يعرفونها، ويتخير لهم من المنازل أصلحها لهم ويتتبع مكانها فيحفظها لئلا يؤتوا منها، ولا يغفل الحرس
والطلائع ليحفظهم من البيات، ويبعث العيون على العدو حتى لا يخفى عليه أمرهم فيحترز منهم ويتمكن
429

من الفرصة فيهم، ويمنع جيشه من الفساد والمعاصي ومن التجارة المانعة لهم من القتال، ولان
المعاصي من أسباب الخذلان، ويعد ذا الصبر بالاجر والنفل ترغيبا في الجهاد، ويخفي من أمره ما أمكن
اخفاؤه لئلا يعلم به عدوه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها ويشاور ذا الرأي منهم لقول
الله تعالى (وشاورهم في الامر) وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه
(فصل) وإذا وجد رجل رجلا قد أصيبت فرسه ومعه فرس فضل استحب حمله ولم يجب نص
عليه فإن خاف تلفه فقال القاضي يجب عليه بذل فضل مركوبه ليحيي به صاحبه كما يلزمه بذل فضل
طعامه للمضطر إليه وتخليصه من عدوه، ويصف جيشه لقول الله تعالى (ان الله يحب الذين يقاتلون
في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)
ويجعل في كل جنبة كفؤا لما روى أبو هريرة قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خالدا على
إحدى الجنبتين وجعل الزبير على الأخرى وجعل أبا عبيدة على الساقة، ولان ذلك أحوط للحرب وأبلغ
في إرهاب العدو، ولا يميل مع قريبه وذي مذهبه على غيره لئلا تنكسر قلوبهم فيخذلوه عند الحاجة
ويراعي أصحابه ويرزق كل واحد بقدر حاجته
(فصل) ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية لقول الله تعالى (قاتلوا
الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من
430

الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) والمجوس حكمهم في قبول الجزية منهم
حكم أهل الكتاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ولا نعلم بين أهل
العلم خلافا في هذين القسمين. فاما من سواهم من الكفار كعبدة الأوثان ونحوهم فلا يقبل منهم إلا
الاسلام في ظاهر المذهب وفيه اختلاف يذكر في باب عقد الذمة إن شاء الله تعالى
(فصل) ومن بلغته الدعوة من الكفار يجوز قتاله من غير دعاء ومن لم تبلغه الدعوة يدعى
قبل القتال، ولا يجوز قتالهم قبل الدعاء لما روى بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث
أميرا على سرية أو جيش امره بتقوى الله في خاصته وبمن معه من المسلمين، وقال (إذا لقيت عدوك
من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: أدعهم
إلى الاسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فادعهم إلى اعطاء الجزية فإن أجابوك فاقبل
منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) رواه مسلم وهذا والله أعلم كان في بدء الامر قبل انتشار
الدعوة وظهور الاسلام فاما اليوم فقد انتشرت الدعوة واستغني بذلك عن الدعاء عند القتال
قال احمد ان الدعوة قد بلغت وانتشرت لكن ان جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف
الترك بهذه الصفة لم يجز قتالهم قبل الدعوة، ومن بلغته الدعوة يجوز قتالهم قبل ذلك، وان دعاهم
فحسن لما ذكرنا من الحديث
431

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا حين أعطاه الراية يوم خيبر وأمره بقتالهم ان يدعوهم
وهم ممن قد بلغته الدعوة رواه البخاري ودعا خالد بن الوليد طليحة حين ادعى النبوة فلم يرجع فأظهره
الله عليه ودعا سلمان أهل فارس
(مسألة) (ويجوز أن يبذل جعلا لمن يدله على طريق أو قلعة أو ماء ويجب أن يكون معلوما إلا أن
يكون من مال الكفار فيجوز أن يكون مجهولا)
لا نعلم خلافا في أنه يجوز للإمام ونائبه أن يبذل جعلا لمن يدله على ما فيه مصلحة للمسلمين مثل
طريق سهل أو ماء في مغازة أو قلعة يفتحها أو مال يأخذه أو عدو يغير عليه أو ثغرة يدخل منها.
لا نعلم في هذا خلافا لأنه جعل في مصلحة فجاز كأجرة الدليل، وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر رضي الله عنه في الهجرة من دلهم على الطريق، ويستحق الجعل بفعل ما جعل له فيه سواء كان
مسلما أو كافرا من الجيش أو من غيره، فإن جعل له الجعل مما في يده وجب أن يكون معلوما لأنها
جعالة بعوض من مال معلوم فوجب أن يكون معلوما كالجعالة في رد الآبق، فإن كان الجعل من مال
الكفار جاز أن يكون مجهولا لا يمنع التسليم ولا يفضي إلى التنازع لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل
للسرية الثلث والربع مما غنموه وهو مجهول لأن الغنيمة كلها مجهولة ولأنه مما تدعو الحاجة إليه،
والجعالة إنما تجوز بحسب الحاجة
432

(مسألة) (فإن شرط له جارية معينة على قلعة يفتحها نحو أن يشرط له بنت فلان من أهل القلعة
لم يستحق شيئا حتى يفتح القلعة)
لأن جعالة شئ منها اقتضت اشتراط فتحها فمتى فتحت القلعة عنوة سلمت إليه فإن ماتت قبل
الفتح أو بعده فلا شئ له لأنه تعلق حقه بمعين وقد تلفت بغير تفريط فسقط حقه كالوديعة، وان
أسلمت قبل الفتح فله قيمتها لأنها عصمت نفسها باسلامها فتعذر دفعها إليه فاستحق القيمة لأن النبي
صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلما رده إليهم فجاءه نساء مسلمات
فمنعه الله من ردهن وكذلك لو كان الجعل رجلا فأسلم قبل الفتح لأنه عصم نفسه فلم يجز دفعه إليه
وله قيمته كالجارية وإن كان اسلامهما بعد الفتح سلما إليه إن كان مسلما لأنهما أسلما بعد أسرهما
فصارا رقيقين، وإن كان كافرا فله قيمتهما لأنه لا يجوز للكفار أن يبتدئ الملك على المسلم وإنما لم.
تجب له القيمة إذا ماتا وتجب إذا أسلما لأن تسليمهما ممكن إذا أسلما لكن منع الشرع منه
(مسألة) (وان فتحت صلحا ولم يشترطوا الجارية فله قيمتها ان رضي بها وإن أبى الا الجارية
وأبى صاحب القلعة تسليمها فقال القاضي يفسخ الصلح)
433

لأنه قد تعذر امضاء الصلح لأن حق صاحب الجعل سابق ولا يمكن الجمع بينه وبين الصلح ونحو
هذا مذهب الشافعي ولصاحب القلعة أن يحصنها مثلما كانت من غير زيادة ويحتمل أن لا يكون له
إلا قيمتها ويمضي الصلح لأنه تعذر دفعها إليه مع بقائها فدفعت إليه القيمة كما لو أسلمت قبل الفتح
قولهم ان حق صاحب الجعل سابق قلنا الا ان المفسدة في فسخ الصلح أعظم لأن ضرره يعود على
الجيش كله وربما تعدى إلى غيره من المسلمين في كون هذه القلعة يتعذر فتحها بعد ذلك ويبقى
ضررها على المسلمين ولا يجوز تحمل هذه المضرة لدفع ضرر يسير عن واحد فإن ضرر صاحب
الجعل إنما هو في فوات عين الجعل وتفاوت ما بين عين الشئ وقيمته يسير لا سيما وهو في حق شخص
واحد ومراعاة حق المسلمين بدفع الضرر الكثير عنهم أولى من دفع الضرر اليسير عن واحد منهم
أو من غيرهم ولهذا قلنا لمن وجد ماله قبل قسمه انه أحق به فإن وجده بعد قسمه لم يأخذه الا بثمن
لئلا يؤدي إلى الضرر بنقض القسمة أو حرمان من وقع ذلك في سهمه
(مسألة) وله ان ينفل في البداءة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعده وذلك أنه إذا دخل
الجيش بعث سرية تغير وإذا رجع بعث أخرى فما أتت به اخرج خمسه وأعطى السرية ما جعل لها
وقسم الباقي للجيش والسرية معا)
النفل الزيادة على السهم المستحق ومنه نفل الصلاة وهو ما زيد على الفرض وقول الله تعالى
434

(ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) كأنه سأل الله ولدا فأعطاه ما سأل وزاده الله ولد الولد، والمراد
بالبداءة هنا ابتداء دخول دار الحرب والرجعة رجوعه عنها، والنفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام
(أحدها) هذا وهو ان الإمام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازيا بعث بين يديه سرية تغير
على العد ويجعل لهم الربع بعد الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسه ثم أعطى السرية ما جعل لهم
وهو ربع الباقي ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية معا فإذا قفل بعث سرية تغير وجعل لهم الثلث بعد
الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسه ثم أعطى السرية ثلث ما بقي ثم قسم سائره في الجيش والسرية
معه وبهذا قال حبيب بن مسلمة والحسن والأوزاعي وجماعة من أهل العلم
وروي عن عمرو بن شعيب انه لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعله احتج بقوله تعالى (قل
الأنفال لله والرسول) فخصه بها، وكان ابن المسيب ومالك يقولان: لا نفل إلا من الخمس. وقال
الشافعي يخرج من خمس الخمس لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله بن
عمر فغنموا إبلا كثيرا فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا متفق عليه. ولو أعطاهم
من أربعة أخماس الغنيمة التي هي لهم لم يكن نفلا وكان من سهمانهم
ولنا ما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال شهدت رسول الله (ص) نفل الربع في البداءة والثلث
435

في الرجعة، وفي لفظ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس
إذا قفل. رواهما أبو داود
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البداءة الربع وفي القفول
الثلث، رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وروى الأثرم باسناده عن جرير بن عبد الله
البجلي أنه لما قدم على عمر في قومه قال له عمر هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل
أرض وشئ؟ فأما قول عمرو بن شعيب فإن مكحولا قال له حين قال لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر له حديث حبيب بن سلمة: شغلك أكل الزبيب بالطائف، وما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم
ثبت للأئمة بعده ما لم يقم على تخصيصه به دليل
وأما حديث ابن عمر فهو حجة عليهم فإن بعيرا على اثني عشر يكون جزءا من ثلاثة عشر،
وخمس الخمس جزء من خمسة وعشرين جزءا وجزء من ثلاثة عشر أكثر فلا يتصور أخذ الشئ
من أقل منه فيتعين أن يكون من غيره أو ان النفل كان للسرية دون سائر الجيش، على أن ما رويناه
صريح في الحكم ولا يعارض بشئ مستنبط يحتمل غير ما حمله عليه من استنبطه
إذا ثبت هذا فظاهر كلام احمد انهم إنما يستحقون هذا بالشرط السابق فإن لم يكن شرطه لهم
436

فلا، قيل له أليس قد نفل النبي صلى الله عليه وسلم في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث؟ قال نعم ذاك إذا نفل
وتقدم القول فيه، فعلى هذا إن رأى الإمام أن لا ينفلهم فله ذلك، وان رأى أن ينفلهم دون الثلث
والربع فله ذلك لأنه إذا جاز ترك النفل كله جاز ترك البعض
ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث نص عليه أحمد وهذا قول مكحول والأوزاعي وجمهور
العلماء، وقال الشافعي لا حد للنفل بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام لأن النبي (ص) نفل مرة
الثلث ومرة الربع، وفي حديث ابن عمر نفل نصف السدس فهذا يدل على أنه ليس للنفل حد
لا يتجاوزه الإمام فينبغي أن يكون موكولا إلى اجتهاده
ولنا ان نفل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الثلث فينبغي أن لا يتجاوزه، وما ذكره الشافعي يدل على أنه
ليس لأقل النفل حد وانه يجوز ان ينفل أقل من الثلث والربع ونحن نقول به، على أن هذا
القول مع قوله ان النفل من خمس الخمس تناقض، فإن شرط لهم الإمام زيادة على الثلث ردوا إليه
وقال الأوزاعي لا ينبغي أن يشترط النصف فإن زادهم على ذلك فليف لهم به ويجعل ذلك من
الخمس وإنما زيد في الرجعة على البداءة في النفل لمشقتها فإن الجيش في البداءة ردء للسرية تابع لها
والعدو خائف وربما كان غارا وفي الرجعة لا ردء للسرية لأن الجيش منصرف عنهم والعدو مستيقظ
كلب قال أحمد في البداءة إذا كان ذاهبا الربع في القفلة إذا كان في الرجوع الثلث لأنهم يشتاقون
إلى أهليهم فهنا (فهذا) أكثر
437

(القسم الثاني) ان ينفل الإمام بعض الجيش لغنائه وبأسه وبلائه أو لمكروه تحمله دون سائر
الجيش قال أحمد في الرجل يأمره الأمير يكون طليعة أو عنده يدفع إليه رأسا من السبي أو دابة قال
إذا كان رجل له غناء أو يقاتل فلا بأس ذلك أنفع لهم يحرض هو وغيره ويقاتلون ويغنمون وقال
إذا نفذ الإمام صبيحة المغار الخيل فيصيب بعضهم وبعضهم لا يأتي بشئ فللوالي ان يخص بعض هؤلاء
الذين جاءوا بشئ دون هؤلاء وظاهر هذا ان له إعطاء من هذا حاله من غير شرط وحجة هذا
حديث سلمة بن الأكوع أنه قال غار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعتهم فذكر
الحديث فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل رواه مسلم وعنه ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر
قال فبيتنا عدونا فقتلت ليلتئذ تسعة أهل أبيات وأخذت منهم امرأة فنفلنيها أبو بكر فلما قدمت
المدينة استوهبنيها النبي صلى الله عليه وسلم فوهبتها له رواه مسلم
(القسم الثالث) ان يقول الأمير من طلع هذا الحصن أو هدم هذا السور أو نقب هذا النقب
أو فعل كذا فله كذا أو من جاء بأسير فله كذا فهذا جائز في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري
قال أحمد إذا قال من جاء بعشر دواب أو بقر أو غنم فله واحد فمن جاء بخمسة أعطاه نصف ما قال لهم ومن
جاء بشئ أعطاه بقدره قيل له إذا قال من جاء بعلج فله كذا وكذا فجاء بعلج يطيب له ما يعطى؟
قال نعم وكره مالك هذا القسم ولم يره وقال قتالهم على هذا الوجه إنما هو للدنيا وقال هو وأصحابه
438

لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة وقال مالك: ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) إلا
بعد أن برد القتال
ولنا ما تقدم من حديث حبيب وعبادة وما شرطه عمر لجرير بن عبد الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم (من
قتل قتيلا فله سلبه) ولان فيه تحريضا على القتال فجاز كاستحقاق الغنيمة وزيادة السهم للفارس
واستحقاق السلب وما ذكره يبطل بهذه المسائل، وقوله ان النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل السلب للقاتل بعد أن
برد القتال قلنا قوله ذلك ثابت الحكم فيما يأتي من الغزوات بعد قوله فهو بالنسبة إليها كالمشروط
في أول الغزاة، قال القاضي لا يجوز هذا إلا إذا كان فيه مصلحة للمسلمين فإن لم تكن فيه فائدة لم يجز
لأنه إنما يخرج على وجه المصلحة فاعتبرت الحاجة فيه كأجرة الحمال والحافظ. إذا ثبت هذا فإن النفل
لا يختص بنوع من المال وذكر الخلال أنه لا نفل في الدراهم والدنانير وهو قول الأوزاعي لأن القاتل
لا يستحق شيئا منها فكذلك غيره
لنا حديث حبيب بن مسلمة وعبادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لهم الثلث والربع وهو عام في كل
ما غنمه ولأنه نوع مال فجاز النفل فيه كسائر الأموال وأما القاتل فإنما نفل السلب وليست الدراهم
والدنانير من السلب فلم يستحق غير ما جعل له
(فصل) نقل أبو داود عن أحمد أنه قال له: إذا قال من رجع إلى الساقة فله دينار والرجل
439

يعمل في سياقة الغنم قال لم يزل أهل الشام يفعلون هذا وقد يكون في رجوعهم إلى الساقة وسياقة
الغنم منفعة، قيل له فإن أغار على قرية فنزل فيها والسبي والدواب والخرثي معهم في القرية ويمنع الناس
من جمعه الكسل لا يخافون عليه العدو فيقول الإمام من جاء بعشرة أثواب فله ثوب ومن جاء بعشرة
رؤوس فله رأس قال أرجو ان لا يكون به بأس، قيل له فإن قيل من جاء بعدل من دقيق الروم فله
دينار يريده لطعام السبي ما ترى في أخذ الدينار؟ فما رأى به بأسا، قيل فالإمام يخرج السرية وقد نفلهم
جميعا فلما كان يوم المغار نادى من جاء بعشرة رؤوس فله رأس ومن جاء بكذا فله كذا فذهب
الناس فطلبوا فما ترى في هذا النفل؟ قال لا بأس به إذا كان يحرضهم على ذلك ما لم يستغرق الثلث
قلت لا بأس بنفلين في شئ واحد قال نعم ما لم يستغرق الثلث سمعته غير مرة يقول ذلك
(فصل) قال أحمد والنفل من أربعة أخماس الغنيمة، هذا قول أنس بن مالك وفقهاء الشام منهم
رجاء بن حياة وعبادة بن نسي وعدي بن عدي ومكحول والقاسم بن عبد الرحمن ويزيد بن أبي
مالك ويحيى بن جابر والأوزاعي وبه قال إسحاق وأبو عبيد قال أبو عبيد والناس اليوم على هذا، قال
أحمد وكان سعيد بن المسيب ومالك بن أنس يقولان لا نفل الا من الخمس فكيف خفي عنهما هذا مع
علمهما؟ وقال النخعي وطائفة ان شاء الإمام نفلهم قبل الخمس وان شاء بعده وقال أبو ثور إنما النفل قبل
الخمس واحتج من ذهب إلى هذا بحديث ابن عمر الذي أوردناه
440

ولنا ما روى معن بن يزيد السلمى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا نفل الا بعد الخمس)
رواه أبو داود وابن عبد البر وهذا صريح وحديث حبيب بن أبي مسلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل
الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس وحديث جرير حين قال له عمر لك الثلث بعد الخمس ولان
النبي صلى الله عليه وسلم نفل الثلث ولا يتصور إخراجه من الخمس ولان الله تعالى قال (واعلموا أنما غنمتم من
شئ فأن لله خمسه) يقتضي أن يكون الخمس خارجا من الغنيمة كلها وأما حديث ابن عمر فقد رواه
شعيب عن نافع عن ابن عمر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد وابتعث سرية من
الجيش فكان سهمهمان الجيش اثني عشر بعيرا ونفل أهل السرية بعيرا بعيرا فكانت سهمانهم ثلاثة
عشر بعيرا فهذا يمكن أن يكون نفلهم من أربعة أخماس الغنيمة دون بقية الجيش كما يفعل السرايا
ويتعين حمل هذا الخبر على هذا لأنه لو أعطى جميع الجيش لم يكن ذلك نفلا وكان قد قسم لهم أكثر
من أربعة الأخماس وهو خلاف الآية والاخبار
(فصل) وكلام أحمد في أن النفل من أربعة الأخماس عام لعموم الخبر فيه ويحتمل أن يحمل على
441

القسمين الأولين من النفل، فأما القسم الثالث وهو أن يقول من جاء بشئ فله كذا أو من جاء
بعشرة رؤوس فله رأس منها فيحتمل ان يستحق ذلك من الغنيمة كلها لأنه ينزل منزلة الجعل
فأشبه السلب فإنه غير مخموس ويحتمل في القسم الثاني وهو زيادة بعض الغانمين على سهمه أن يكون
من خمس الخمس المعد للمصالح لأن عطية هذا من المصالح والمذهب الأول لأن عطية سلمة بن الأكوع
سهم الفارس زيادة على سهمه إنما كان من أربعة الأخماس
(فصل) قال الخرقي ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه
ومعناه إذا بعث سرية ونفلها الثلث أو الربع فخص به بعضهم أو جاء بعضهم بشئ فنفله ولم يأت بعضهم
بشئ فلم ينفله شارك من نفل من لم ينفل، وقد نص أحمد على هذا لأن هؤلاء إنما أخذوا بقوة هؤلاء ولأنهم
استحقوا النفل على وجه الإشاعة بينهم بالشرط السابق فلم يختص به واحد منهم كالغنيمة، فأما النفل
في القسمين الأخيرين مثل أن يخص بعض الجيش بنفل لغنائه أو يجعله له كقوله من جاء بعشر رؤوس
فله رأس فجاء واحد بعشرة دون سائر الجيش فيختص بنفله دون غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خص
من قتل بسلب قتيله اختص به ولما خص سلمة بن الأكوع بسهم الفارس والراجل اختص به
ولذلك اختص بالمرأة التي نفلها إياه أبو بكر دون الناس ولان هذا جعل تحريضا على القتال وحثا
على فعل ما يحتاج المسلمون إليه لتحمل فاعله كلفة فعله رغبة فيما جعل له فلو لم يختص به فاعله ما خاطر
أحد بنفسه فيه ولا حصلت مصلحة النفل فوجب أن يختص الفاعل لذلك بنفله كثواب الآخرة
442

(فصل) قال رضي الله عنه ويلزم الجيش طاعة الأمير والنصح له والصبر معه لقول الله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (من أطاعني
فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد
عصاني) رواه النسائي.
(مسألة) (ولا يجوز لاحد أن يتعلف ولا يحتطب ولا يبارز ولا يخرج من العسكر ولا
تحدث حدثا إلا باذن الأمير)
يعني لا يحرج لتعلف وهو تحصيل العلف ولا احتطاب ولا غيره إلا باذن الأمير لقول الله تعالى
(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه)
ولان الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم وقربهم وبعدهم فإذا خرج أحد بغير اذنه
لم يأمن أن يصادف كمينا للعدو أو طليعة لهم فيأخذوه أو يرحل الأمير ويدعه فيهلك فإذا كان باذن
الأمير لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن وربما يبعث معهم من الجيش من يحرسهم
(فصل) فأما المبارزة فتجوز باذن الأمير في قول عامة أهل العلم إلا الحسن فإنه كرهها. ولنا ان
حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر باذن النبي صلى الله عليه وسلم وبارز علي عمرو بن عبد ود في غزوة
الخندق وبارز مرحبا يوم خيبر وقيل بارزه محمد بن مسلمة وبارز البراء بن مالك مرزبان المرازبه فقتله
443

وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفا، وروي عنه أنه قال قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة
سوى من شاركت فيهم ولم يزل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبارزون في عصر النبي صلى الله عليه
وسلم ومن
بعده لم ينكره منكر فكان اجماعا وكان أبو ذر يقسم ان قوله تعالى (هذان خصمان اختصموا في
ربهم) نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة وعلي وعبيدة، بارزوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة
رواه البخاري. إذا ثبت هذا فإنه ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن وبه قال الثوري
وإسحاق ورخص فيها مالك والشافعي وابن المنذر لأن أبا قتادة قال بارزت رجلا يوم حنين وقتلته
ولم يعلم أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أكثر من حكينا عنهم المبارزة لم نعلم منهم استئذانا
ولنا ان الإمام اعلم بفرسانه وفرسان عدوه، ومتى برز الانسان لمن لا يطيقه كان معرضا نفسه للهلاك
فتنكسر قلوب المسلمين فينبغي ان يفوض ذلك إلى الإمام ليختار للمبارزة من يرضاه لها فيكون أقرب إلى
الظفر وجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب الكافرين، فإن قيل فقد أبحتم له ان ينغمس في الكفار وهو سبب قتله
قلنا إذا كان مبارزا تعلقت قلوب الجيش به وارتقبوا ظفره، فإن ظفر جبر قلوبهم وسرهم وكسر
قلوب الكافرين وان قتل كان بالعكس والمنغمس يطلب الشهادة لا يترقب منه ظفره ولا مقاومته
444

فافترقا وأما مبارزة أبي قتادة فغير لازمة فإنها كانت بعد التحام الحرب رأى رجلا يريد أن يقتل مسلما
فضربه أبو قتادة فالتفت إلى أبي قتادة فضمه ضمة كاد يقتله وليس هذا هو المبارزة المختلف فيها بل
المبارزة المختلف فيها ان يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب يدعو إلى المبارزة فهذا هو الذي
يتعين له اذن الإمام لأن أعين الطائفتين تمتد إليهما وقلوب الفريقين تتعلق بهما بخلاف غير ذلك.
(مسألة) (فإن دعى كافر إلى البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة أن
يبارزه باذن الأمير).
المبارزة تنقسم ثلاثة أقسام مستحبة ومباحة ومكروهة (فالمستحبة) إذا خرج كافر يطلب البراز
فيستحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة أن يبارزه باذن الأمير، لأن فيه ردا عن المسلمين وإظهارا
لقوتهم (والمباحة) أن يبتدئ الرجل الشجاع فيطلبها فتباح ولا تستحب لأنه لا حاجة إليها ولا يؤمن
ان يغلب فيكسر قلوب المسلمين الا أنه لما كان شجاعا واثقا من نفسه أبيحت له لأنه بحكم الظاهر
غالب، (والمكروهة) أن يبرز الضعيف البنية الذي لا يثق من نفسه فتكره له المبارزة لما فيه من كسر
قلوب المسلمين بقتله ظاهرا.
(مسألة) (فإن شرط الكافر ان لا يقاتله غير الخارج إليه فله شرطه)
إذا خرج كافر يطلب البراز فشرط ان لا يعين الذي يبارزه غيره فله شرطه لقول الله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند شروطهم) ويجوز رميه
وقتله قبل المبارزة لأنه كافر لا عهد له ولا أمان فأبيح قتله كغيره الا أن تكون العادة جارية بينهم
أن من خرج يطلب المبارزة لا يعرض له فيجري ذلك مجرى الشرط.
445

(مسألة) (فإن انهزم المسلم أو أثخن بالجراح جاز الدفع عنه)
إذا انهزم المسلم تاركا للقتال أو مثخنا بالجراح جاز لكل أحد قتال الكافر لأن المسلم إذا صار
إلى هذه الحال فقد انقضى قتاله والأمان إنما كان حال القتال وقد زال وإن كان المسلم شرط عليه ان
لا يقاتل حتى يرجع إلى صفه وفي له بالشرط الا أن يترك قتاله أو يثخنه بالجراح فيتبعه ليقتله أو يجهز
عليه فيجوز ان يحولوا بينه وبينه، وان قاتلهم قاتلوه لأنه إذا منعهم انقاذه فقد نقض أمانه وان أعان
الكفار صاحبهم فعلى المسلمين أن يعينوا صاحبهم ويقاتلوا من أعان عليه ولا يقاتلون المبارز لأنه
ليس بسبب من جهته فإن كان قد استنجدهم أو علم منه الرضا بفعلهم انتقض أمانه وجاز قتله وذكر
الأوزاعي أنه ليس للمسلمين معاونة صاحبهم وان أثخن بالجراح قيل له فخاف المسلمون على صاحبهم قال
وان، لأن المبارزة إنما تكون هكذا ولكن لو حجزوا بينهما وخلوا سبيل العلج قال فإن أعان العدو
صاحبهم فلا بأس ان يعين المسلمون صاحبهم
ولنا أن حمزة وعليا أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة حين ثخن عبيدة.
(فصل) وتجوز الخدعة في الحرب للمبارز وغيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الحرب خدعة وهو
حديث حسن صحيح، وروي ان عمرو بن عبد ود لما بارز عليا رضي الله عنه قال علي ما برزت
لا قاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب عليه فضربه فقال عمرو خدعتني فقال الحرب خدعة.
446

(فصل قال أحمد وإذا غزوا في البحر فأراد رجل ان يقيم بالساحل يستأذن الوالي الذي هو على
جميع المراكب ولا يكفيه أن يستأذن الوالي الذي في مركبه.
(مسألة) (وان قتله المسلم فله سلبه).
اما استحقاق سلب القتيل في الجملة فلا نعلم فيه خلافا وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم
من قتل كافرا فله سلبه، رواه جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم منهم انس وسمرة بن جندب
وغيرهما، وروي أبو قتادة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا رأيت
رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف
على حبل عاتقه ضربة فأدركه الموت ثم إن الناس رجعوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا له
عليه بينة فله سلبه) قال فقمت فقلت من يشهد لي؟ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (مالك يا أبا قتادة،
فاقتصصت عليه القصة فقال رجل من القوم صدق يا رسول سلب ذلك القتيل عندي فارضه منه فقال
أبو بكر الصديق لاها الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسول الله يعطيك سلبه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صدق فأسلمه إليه) قال فأعطانيه متفق عليه، وعن أنس قال قال رسول
447

الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين (من قتل قتيلا فله سلبه) فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا
فأخذ أسلابهم، رواه أبو داود.
(مسألة) (وكل من قتل قتيلا فله سلبه غير مخموس إذا قتله حال الحرب منهمكا على القتال
غير مثخن وغرر بنفسه في قتله وعنه لا يستحقه إلا من شرط له).
الكلام في هذه المسألة في فصول (إحداها) في أن القاتل يستحق السلب وقد ذكرناه
(الثاني) ان السلب لكل قاتل يستحق السهم أو الرضخ كالعبد والمرأة والصبي والمشرك
وقال ابن أبي موسى من بارز بغير إذن الإمام لم يستحق السلب ذكره في الارشاد وروي عن ابن
عمر أن العبد إذا بارز بإذن مولاه لم يستحق السلب ويرضخ له منه وللشافعي فيمن لا سهم له قولان
(أحدهما) لا يستحق السلب لأن السهم آكد منه للاجماع عليه فإذا لم يستحقه فالسلب أولى
ولنا عموم الخبر ولأنه قاتل من أهل الغنيمة فاستحق السلب كذي السهم ولان الأمير لو جعل
جعلا لمن منع شيئا فيه نفع للمسلمين لاستحقه فاعله من هؤلاء فالذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم أولى
وفارق
السهم لأنه علق على المظنة ولهذا يستحق بالحضور ويستوي فيه الفاعل وغيره والسلب يستحق بحقيقة الفعل
وقد وجد منه ذلك فاستحقه كالمجعول له جعلا على فعل إذا فعله فإن كان القاتل ممن لا يستحق سهما
ولا رضخا كالمرجف والمخذل والمعين على المسلمين لم يستحق السلب وان قل وهو قول الشافعي لأنه
448

ليس من أهل الجهاد وكذلك ان بارز العبد بغير إذن مولاه لا يستحق السلب لأنه عاص وكذلك
كل عاص مثل من دخل بغير إذن الأمير وعن أحمد فيمن دخل بغير إذن انه يؤخذ منه الخمس وباقيه
له كالغنيمة ويخرج مثل ذلك في العبد المبارز بغير إذن سيده ويحتمل أن يكون سلب قتيل العبد له على كل
حال لأن ما كان له فهو لسيد ففي حرمانه حرمان سيده ولم يعص
(الفصل الثالث) السلب للقاتل في كل حال إلا أن ينهزم العدو وبه قال الشافعي وأبو ثور
وداود وابن المنذر وقال مسروق إذا التقى الزحفان فلا سلب له إنما النفل قبل وبعد ونحوه قول
نافع وكذلك قال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأبو بكر بن أبي مريم: السلب للقاتل ما لم تمتد
الصفوف بعضها إلى بعض فإذا كان كذلك فلا سلب لاحد
ولنا عموم قوله عليه السلام من قتل قتيلا فله سلبه ولان أبا قتادة إنما قتل الذي أخذ سلبه في
حال التقاء الزحفين الا تراه يقول فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين؟
وكذلك قول أنس قتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم وكان ذلك بعد التقاء الزحفين
لأن هوازن لقوا المسلمين فجأة فالحموا الحرب قبل تقدم مبارزة
449

(الفصل الرابع) انه إنما يستحق السلب بشروط أربعة
[أحدها] أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم فأما ان قتل امرأة أو صبيا أو شيخا
فانيا أو ضعيفا مهينا ونحوهم ممن لا يقاتل لم يستحق سلبه لا نعلم فيه خلافا وإن كان أحد هؤلاء يقاتل
استحق قاتله سلبه لجواز قتله ومن قتل أسيرا له أو لغيره لم يستحق سلبه لذلك
[الثاني] أن يكون المقتول فيه منعة غير مثخن بالجراح فإن كان مثخنا فليس لقاتله شئ من
سلبه وبهذا قال مكحول وجرير بن عثمان والشافعي لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل
وذفف عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ولم
يعط ابن مسعود شيئا
[الثالث] أن يقتله أو يثخنه بالجراح فيعجله في حكم المقتول فيستحق سلبه لحديث معاذ
ابن عمرو بن الجموح
[الرابع] ان يغرر بنفسه في قتله فإن رماه بسهم من صف المسلمين فقتله فلا سلب له قال أحمد
السلب للقاتل إنما هو في المبارزة لا يكون في الهزيمة وان حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه
فسلبه غنيمة لأنهم لم يغرروا بأنفسهم في قتله
(فصل) وإنما يستحق السلب إذا قتله حال الحرب فإن انهزم الكفار كلهم فأدرك انسانا منهزما
450

فقتله فلا سلب له لأنه لم يغرر في قتله، وان كانت الحرب قائمة فانهزم أحدهم فقتله انسان فله سلبه
لأن الحرب كر وفر وقد قتل سلمة بن الأكوع طليعة للكفار وهو منهزم وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من
قتله؟) قالوا ابن الأكوع قال (له سلبه أجمع) وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور وداود وابن المنذر السلب
لكل قاتل لعموم الخبر واحتجاجا بحديث سلمة هذا
ولنا ان ابن مسعود ذفف على أبي جهل فلم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه وأمر بقتل عقبه بن أبي معيط والنضر
ابن الحارث صبرا ولم يعط سلبهما من قتلهما وقتل بني قريظة صبرا فلم يعط من قتلهم أسلابهم وإنما
أعطي السلب من قتل مبارزا وكفى المسلمين شره وغرر في قتله والمنهزم بعد انقضاء الحرب قد كفى
المسلمين شر نفسه ولم يغرر قاتله بنفسه في قتله فهو كالأسير وأما الذي قتله سلمة فكان متحيزا إلى
فئة وكذلك من قتل حال قيام الحرب فإنه وإن كان منهزما فهو متحيز إلى فئة وراجع إلى القتال فأشبه
الكار فإن القتال كر وفر. إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط في استحقاق السلب أن تكون المبارزة باذن
الأمير لأن كل من قضي له بالسلب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من نقل إلينا انه أذن له في المبارزة
مع أن عموم الخبر يقتضي استحقاق السلب لكل قاتل الا من خصه الدليل
(الفصل الخامس) ان السلب لا يخمس روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وبه
قال الشافعي وابن المنذر وقال ابن عباس يخمس وبه قال الأوزاعي ومكحول لعموم قوله تعالى (واعلموا
451

أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) وقال إسحاق ان استكثر الإمام السلب خمسه وذلك إليه لما روى ابن
سيرين ان البراء ابن مالك بارز مرزبان المرازبة بالبحرين فطعنه فدق صلبه وأخذ سواريه وسلبه،
فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره فقال إنا كنا لا نخمس السلب وان سلب البراء قد بلغ مالا
وأنا خامسه، فكان أول سلب خمس في الاسلام سلب البراء. رواه سعيد في السنن وفيها ان
سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا
ولنا ما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس
السلب. رواه أبو داود، وخبر عمر حجة لنا فإنه قال إنا كنا لا نخمس السلب وقول الراوي كان
أول سلب خمس في الاسلام يعني ان النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر صدرا من خلافته لم يخمسوا سلبا
واتباعهم أولى، قال الجوزجاني: لا أظنه يجوز لاحد في شئ سبق فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ
الا اتباعه ولا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه يصلح ان يخصص به عموم
الآية إذا ثبت هذا فإن السلب من أصل الغنيمة، وقال مالك يحسب من خمس الخمس
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى به للقاتل مطلقا ولم ينقل عنه انه احتسب به من خمس الخمس،
ولأنه لو احتسب به من خمس الخمس احتيج إلى معرفة قيمته وقدره ولم ينقل ذلك، ولان سببه
لا يفتقر إلى اجتهاد الإمام فلم يكن من خمس الخمس كسهم الراجل والفارس
452

(الفصل السادس) ان القاتل يستحق السلب قال الإمام ذلك أو لم يقله وبه قال الأوزاعي
والليث والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور
وقال أبو حنيفة والثوري لا يستحقه الا ان يشرطه الإمام وكذلك قال مالك ولم ير أن يقول
الإمام ذلك إلا بعد انقضاء الحرب على ما تقدم من مذهبه في النفل وجعلوا السلب ههنا من جملة
الأنفال، وقد روي عن أحمد مثل قولهم وهو اختيار أبي بكر لما روى عوف بن مالك ان مدديا
تبعهم فقتل علجا فأخذ خالد بعض سلبه وأعطاه بعضه فذكر ذلك لرسول الله (ص) فقال (لا تعطه
يا خالد) رواه سعيد وأبو داود بمعناه بأطول من هذا
وروينا باسنادهما عن شبر بن علقمة قال بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه فأتيت
به سعدا فخطب سعد أصحابه وقال إن هذا سلب شبر خير من اثني عشر ألفا وانا قد نفلناه إياه ولو
كان حقا لم يحتج أن ينفله ولان عمر أخذ الخمس من سلب البراء ولو كان حقا له لم يجز أن يأخذ منه
شيئا ولان النبي (ص) دفع سلب أبي قتادة إليه من غير بينة ولا يمين
ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) وهذا من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورة
التي عمل بها الخلفاء بعده، وأخبارهم التي احتجوا بها تدل على ذلك فإن عوف بن مالك احتج على
خالد حين اخذ بعض سلب المددي فقال له عوف أما تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال
453

بلى، وقول عمر إنا كنا لا نخمس السلب يدل على أن هذه قضية عامة في كل غزوة وحكم مستمر
لكل قاتل وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالدا ان لا يرد على المددي عقوبة حين أغضبه عوف بتقريعه خالدا
بين يديه وقوله قد أنجزت لك ما ذكرت لك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما خبر شبر فإنما أنفذ له سعد ما قضى له به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه نفلا لأنه في الحقيقة نفل
لأنه زيادة على سهمه، وأما أبو قتادة فإن خصمه اعترف له به وصدقه فجرى مجرى البينة ولان
السلب مأخوذ من الغنيمة بغير تقدير الإمام واجتهاده فلم يفتقر إلى شرطه كالسهم
إذا ثبت هذا فإن احمد قال لا يعجبني ان يأخذ السلب الا باذن الإمام وهو قول الأوزاعي،
وقال ابن المنذر والشافعي له اخذه بغير اذن لأنه استحقه بجعل النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك ولا يأمن ان
أظهره عليه ان لا يعطاه
ووجه قول احمد انه فعل مجتهد فيه فلم ينفذ امره فيه الا باذن الإمام كأخذ سهمه، ويحتمل
أن يكون هذا من حمد على سبيل الاستحباب ليخرج من الخلاف لا على سبيل الايجاب، فعلى هذا ان
اخذه بغير اذن ترك الفضيلة وله ما اخذه
(مسألة) (وان قطع أربعته وقتله آخر فسلبه للقاطع دون القاتل)
لأن القاطع هو الذي كفى المسلمين شره ولان معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل وذفف
عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ
454

(مسألة) (وان قتله اثنان فسلبه غنيمة)
هذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال في رواية حرب له السلب إذا انفرد بقتله. وقال القاضي انهما
يشتركان في سلبه لقوله (من قتل قتيلا فله سلبه) وهو يتناول الاثنين، ولأنهما اشتركا في
السبب فاشتركا في السلب
ولنا ان السلب إنما يستحق بالتغرير في قتله ولا يحصل ذلك بقتل الاثنين أشبه ما لو قتله جماعة
ولم يبلغنا ان النبي صلى الله عليه وسلم شرك بين اثنين في سلب، فإن اشترك اثنان في ضربه وكان أحدهما أبلغ
في قتله من الآخر فالسلب له لأن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء ضربا أبا جهل وأتيا النبي
صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال (كلاكما قتله) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح
(مسألة) (وان أسره وقتله الإمام فسلبه غنيمة)
إذا أسر رجلا لم يستحق سلبه سواء قتله الإمام أو لم يقتله، وقال مكحول: لا يكون السلب
إلا لمن أسر علجا أو قتله
وقال القاضي إذا أسر رجلا فقتله الإمام صبرا فسلبه لمن اسره لأن الأسر أصعب من القتل
فإذا استحق سلبه بالقتل كان تنبيها على استحقاقه بالأسر قال وان استبقاه الإمام كان له فداؤه أو رقبته
وسلبه لأنه كفى المسلمين شره
ولنا ان المسلمين أسروا اسرى يوم بدر فقتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة والنضر بن الحارث
455

واستبقى سائرهم فلم يعط من أسرهم أسلابهم ولا فداءهم وكان فداؤهم غنيمة ولان النبي صلى الله عليه
وسلم أنما جعل السلب للقاتل وليس الأسر بقتل ولان الإمام مخير في الاسرى ولو كان لمن اسره كان
امره إليه دون الإمام
(مسألة) (وان قطع يده ورجله وقتله آخر فسلبه غنيمة وقيل هو للقاتل)
إذا قطع يده ورجله وقتله آخر فالسلب للقاطع في أحد الوجهين لأنه عطله فأشبه الذي قتله
(والثاني) هو غنيمة لأنه لم ينفرد أحدهما بقتله ولا يستحقه القاتل لأنه مثخن بالجراح وقيل هو للقاتل
لعموم الخبر وكذلك ان قطع يديه أو رجليه وان قطع إحدى يديه أو إحدى رجليه ثم قتله آخر
احتمل أن يكون سلبه غنيمية لأنهما اشتركا في قتله فلم ينفرد به أحدهما واحتمل انه للقاتل لأنه قتل من
لم يكتف المسلمون شره وان عانق رجلا فقتله آخر فالسلب للقاتل وبهذا قال الشافعي وقال
الأوزاعي هو للمعانق
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) ولأنه كفى المسلمين شره أشبه ما لو
لم يعانقه الآخر وكذلك لو كان الكافر مقبلا على رجل يقاتله فجاء آخر من ورائه فضربه فقتله فسلبه
لقاتله بدليل قصة قتيل أبي قتادة
456

(فصل) ولا تقبل دعوى القتل الا ببينة وقال الأوزاعي يعطي السلب إذا قال انا قتلته ولا
يسأل بينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول أبي قتادة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) متفق عليه وأما أبو قتادة
فإن خصمه اعترف له فاكتفي باقراره قال أحمد لا يقبل الا شاهدان وقالت طائفة من أهل
الحديث يقبل شاهد ويمين لأنها دعوى في المال ويحتمل ان يقبل شاهد بغير يمين لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قبل قول الذي شهد لأبي قتادة من غير يميز ووجه الأول ان النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر البينة
واطلاقها ينصرف إلى شاهدين ولأنها دعوى للقتل فاعتبر شاهدان كدعوى قتل العمد
(مسألة) (والسلب ما كان عليه من ثياب وحلي وسلاح والدابة بآلتها وعنه ان الدابة ليست
من السلب ونفقته وخيمته ورحله غنيمة)
سلب القتيل ما كان لابسه من ثياب وعمامة وقلنسوة ومنطقة ودرع ومغفر وبيضة وتاج
وأسورة وران وخف بما في ذلك من حلية لأن المفهوم من السلب اللباس وكذلك السلاح من
السيف والرمح واللت والقوس ونحوه لأنه يستعين به في قتال فهو أولى بالأخذ من اللباس فأما المال
الذي معه في هميانه وخريطته فليس بسلب لأنه ليس من الملبوس ولا مما يستعين به في الحرب وكذلك
457

رحله وإناؤه وما ليست يده عليه من ماله وبه قال الأوزاعي ومكحول والشافعي الا أن الشافعي قال
مالا يحتاج إليه في الحرب كالتاج والسوار والطوق والهميان الذي للنفقة ليس من السلب في أحد
القولين لأنه مما لا يستعان به في الحرب فأشبه المال الذي في خريطته
ولنا ان البراء بارز مرزبان المرازبه فقتله فبلغ سواره ومنطقته ثلاثين ألفا فخمسه عمر ودفعه إليه
وفي حديث عمرو بن معدي كرب انه حمل على سوار فطعنه فدق صلبه فصرعه فنزل إليه فقطع يده وأخذ
سوارين كانا عليه ويلقا من ديباج وسيفا ومنطقة فسلم ذلك إليه ولأنه من ملبوسه أشبه ثيابه ولأنه
داخل في اسم السلب أشبه الثياب والمنطقة ويدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (فله سلبه) واختلفت
الرواية عن أحمد رحمه الله في الدابة فنقل عنه انها ليست من السلب اختاره أبو بكر لأن السلب ما كان
على بدنه والدابة ليست كذلك فلا تدخل في الخبر وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معدي كرب
فأخذ سواريه ومنطقته يعنى ولم يذكر الدابة ونقل عنه انها من السلب وهو ظاهر المذهب وبه قال
الشافعي لما روى عوف بن مالك قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من
أهل اليمن فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل
يغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه
فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب قال عوف فأتيته فقلت يا خالد أما علمت أن
458

رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال بلى رواه الأثرم وفي حديث شبر بن علقمة انه أخذ
فرسه كذلك قال أحمد كقوله فيه ولان الفرس يستعان بها في الحرب فأشبهت السلاح وما ذكروه يبطل
بالرمح والقوس واللت فإنها من السلب وليست ملبوسة إذا ثبت هذا فإن الدابة وما عليها من سرجها ولجامها
وتحقيبها وحلية ان كانت عليه وجميع آلتها من السلب لأنه تابع لها ويستعان به في الحرب وإنما
تكون من السلب إذا كان راكبا عليها فإن كانت في منزله أو مع غيره أو منقلبة لم تكن من السلب
كالسلاح الذي ليس معه وإن كان عليها فصرعه عنها أو أشعره عليها ثم قتله بعد نزوله عنها فهي
من السلب وهذا قول الأوزاعي وإن كان ممسكا بعنانها غير راكب عليها فعن أحمد فيها روايتان
(إحداهما) هي سلب وهو قول الشافعي لأنه متمكن من القتال عليها فأشبهت سيفه ورمحه في يده
(والثانية) ليست من السلب وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ليس براكب عليها فأشبه ما لو كانت مع
غلامه وإن كان على فرس وفي يده جنيبة لم تكن الجنيبة من السلب لأن لا يمكنه ركوبهما معا
(فصل) ويجوز سلب القتلى وتركهم عراة وهذا قول الأوزاعي وكرهه الثوري وابن المنذر
لما فيه من كشف عوراتهم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في قتيل سلمة بن الأكوع له سلبه أجمع وقال (من قتل قتيلا فله سلبه)
وهذا يتناول جميعه
(فصل) ويكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم لما روى سلمة
459

ابن جندب قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة وعن عبد الله قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (ان أعف الناس قتلة أهل الايمان) رواهما أبو داود وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال (ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)
رواه النسائي وعن عقبة بن عامر أنه قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس بباق البطريق
فأنكر ذلك فقال يا خليفة رسول فإنهم يفعلون ذلك بنا قال (فاستنان بفارس والروم) لا يحمل إلي
رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر وقال الزهري لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط وحمل إلى أبي بكر
فأنكره وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير ويكره رميها في المنجنيق نص عليه أحمد وإن
فعلوا ذلك لمصلحة جاز لما روينا ان عمرو بن العاص حين حاصر الإسكندرية ظفر أهلها برجل
من المسلمين فاخذوا رأسه فجاء قومه عمرا متعصبين فقال لهم عمرو خذوا رجلا منهم فاقطعوا رأسه
فارموا به إليهم في المنجنيق ففعلوا ذلك فرمى أهل الإسكندرية رأس المسلم إلى قومه
(فصل) ولا يجوز الغزو إلا بأذن الأمير الا ان يفجأهم عدو يخافون كلبه)
إذا جاء العدو لزم جميع الناس ممن هو من أهل القتال الخروج إليهم إذا احتيج إليهم ولا يجوز لاحد
التخلف إلا من يحتاج إلى التخلف لحفظ المكان والاهل والمال ومن يمنعه الأمير الخروج ومن لا قدرة له
على الخروج لقول الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا استنفرتم فانفروا) وقد ذم الله
460

تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب فقال (ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن
بيوتنا عورة وما هي بعورة ان يريدون إلا فرارا) ولأنهم يصير الجهاد عليهم فرض عين إذا
جاء العدو فلا يجوز لاحد التخلف عنه. إذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بأذن الأمير لأن أمر الحرب
موكول إليه وهو أعلم بقلة العدو وكثرتهم ومكامنهم وكيدهم فينبغي ان يرجع إلى رأيه لأنه أحوط
للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم فلا يجب استئذانه حينئذ لأن المصلحة تتعين في قتالهم
والخروج إليهم لتعين الفساد في تركهم ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فصادفهم سلمة
ابن الأكوع خارجا من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير اذن فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال (خير رجالنا
سلمة بن الأكوع) وأعطاه سهم فارس وراجل وكذلك ان عرضت لهم فرصة يخافون فوتها ان تركوها
حتى يستأذنوا الأمير فلهم الخروج بغير اذنه لئلا تفوتهم
(فصل) وسئل أحمد عن الإمام إذا غضب على الرجل فقال أحرج عليك ان لا تصحبني فنادى بالنفير
يكون اذنا له؟ قال لا إنما قصد له وحده فلا يصحبه حتى يأذن له، قال وإذا نودي بالصلاة والنفير فإن
كان العدو بالبعد إنما جاءهم طليعة العدو صلوا ونفروا إليهم وإذا استغاثوهم وقد جاء العدو أغاثوا
ونصروا وصلوا على ظهور دوابهم ويؤمون الغياث عندي أفضل من صلاة الجماعة والطالب والمطلوب
في هذا الموضع يصلي على ظهر دابته وهو يسير إن شاء الله وإذا سمع النفير وقد أقيمت الصلاة يصلي
ويخفف ويتم الركوع والسجود ويقرأ بسور قصار وقد نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو جنب
461

يعني حنظلة بن الراهب غسيل الملائكة قال ولا يقطع الصلاة إذا كان فيها، وإذا جاء النفير والإمام
يخطب يوم الجمعة لا نرى ان ينفروا قال ولا تنفر الخيل الا على حقيقة ولا تنفر على الغلام إذا أبق إذا
نفروهم ولا يكون هلاك الناس بسبب غلام وإذا نادى الإمام الصلاة جامعة لأمر يحدث فيشاور
فيه لم يتخلف عنه أحد الا لعذر
(فصل) وسئل أحمد عن الرجلين يشتريان الفرس بينهما يغزوان عليه يركب هذا عقبة وهذا
عقبة فقال ما سمعت فيه بشئ وأرجو أن لا يكون به بأس قيل له أيما أحب إليك يعتزل الرجل في الطعام أو يرافق؟
قال يرافق هذا أرفق يتعاونون وإذا كنت وحدك لم يمكنك الطبخ ولا غيره ولا بأس بالنهد قد
تناهد الصالحون كان الحسن إذا سافر القى معهم ويزيد أيضا بعدما يلقي ومعنى النهد أن يخرج كل
واحد من الرفقة شيئا من النفقة يدفعونه إلى رجل ينفق عليهم منه ويأكلون جميعا وكان الحسن
يدفع إلى وكيلهم مثل واحد منهم ثم يعود فيأتي سرا بمثل ذلك يدفعه إليه قال أحمد ما أرى أن يغزو
ومعه مصحف يعني لا يدخل به أرض العدو لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو
رواه أبو داود والأثرم.
(فصل) ومن أعطي شيئا يستعين به في غزاته فما فضل فهو له إذا كان قد أعطي لغزوة بعينها
462

هذا قول عطاء ومجاهد وسعيد بن المسيب وكان ابن عمر إذا أعطى شيئا في الغزو يقول لصاحبه إذا
بلغت وادي القرى فشأنك به ولأنه أعطاه على سبيل المعاونة والنفقة لا على سبيل الإجارة فكان
الفاضل له كما لو وصى له أن يحج عنه فلان حجة بألف وان أعطاه شيئا لينفقه في سبيل الله أو في الغزو
مطلقا ففضل منه فضل أنفقه في غزاة أخرى لأنه أعطاه الجميع لينفقه في جهة قربة فلزمه انفاق الجميع
فيها كما لو وصى أن يحج عنه بألف.
(فصل) ومن أعطي شيئا يستعين به في الغزو فقال احمد لا يترك لأهله منه شيئا لأنه ليس
بملكه إلا أن يصير إلى رأس مغزاة فيكون كهيئة ماله فيبعث إلى عياله منه ولا يتصرف فيه قبل
الخروج لئلا يتخلف عن الغزو فلا يكون مستحقا لما أنفقه الا أن يشتري منه سلاحا أو آلة الغزو فإن
قصد اعطاءه لمن يغزو به فقال أحمد لا يتخذ منها سفرة فيها طعام فيطعم منها أحدا لأنه إنما أعطيها
لينفقها في جهة مخصوصة وهي الجهاد.
(فصل) وإذا أعطي الرجل دابة ليغزو عليها فإذا غزا عليها ملكها كما يملك النفقة المدفوعة إليه
الا أن تكون عارية فتكون لصاحبها أو حبسا فيكون حبسا بحاله قال عمر رضي الله عنه حملت على
فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه الذي كان عنده فأردت ان اشتريه وظنت انه بائعه
برخص فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (لا تشتره ولا تعد في صدقتك وان أعطاكه بدرهم
فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه) متفق عليه، وهذا يدل على أنه ملكه لولا ذلك ما باعه
463

ويدل على أنه ملكه بعد الغزو لأنه أقامه للبيع بالمدينة ولم يكن ليأخذه من عمر ثم يقيمه للبيع في الحال
فدل على أنه اقامه للبيع بعد غزوه عليه ذكر احمد نحو هذا الكلام وسئل متى تطيب له الفرس؟
قال إذا غزا عليه قيل له فإن العدو جاءنا فخرج على هذا الفرس في الطلب إلى خمس فراسخ ثم رجع؟
قال لا حتى يكون غزا قيل له فحديث ابن عمر إذا بلغت وادي القرى فشأنك به قال ابن عمر كان
يضع ذلك في ماله وروي انه إنما يستحقه إذا غزا عليه وهذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن
المسيب ومالك وسالم والقاسم والأنصاري والليث والثوري ونحوه عن الأوزاعي قال ابن المنذر ولم
اعلم أن أحدا قال له ان يبيعه في مكانه وكان مالك لا يرى أن ينتفع بثمنه في غير سبيل الله إلا أن
يقول له شأنك به ما أردت.
ولنا ان حديث عمر ليس فيه ما اشترط مالك فأما ان قال هي حبس فلا يجوز بيعها وسنذكر
ذلك في الوقف إن شاء الله تعالى،
(فصل) قال احمد لا يركب دواب السبيل في حاجة ويركبها ويستعملها في سبيل الله ولا يركب
في الأمصار والقرى ولا بان يركبها ويعلفها وأكره سباق الرمك على الفرس الحبس وسهم الفرس
الحبيس لمن غزا عليه، وإذا أراد أن يشتري فرسا ليحمل عليه فقال أحمد يستحب شراؤها من غير
الثغر ليكون توسعة على أهل الثغر في الجلب
464

(مسألة) (وان دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير اذن الإمام فغنموا فعن أحمد
فيها ثلاث روايات)
[إحداهن] ان غنيمتهم كغنيمة غيرهم يخمسه الإمام ويقسم باقيه بينهم هذا قول أكثر أهل
العلم منهم الشافعي لعموم قوله سبحانه (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) الآية، والقياس
على ما إذا دخلوا باذن الإمام
[والثانية] هو لهم من غير أن يخمس وهو قول أبي حنيفة لأنه اكتساب مباح من غير جهاد
فأشبه الاحتطاب فإن الجهاد باذن الإمام أو من طائفة لهم منعة وقوة، فأما هذا فتلصص وسرقة ومجرد اكتساب
[الثالثة] انه لا حق لهم فيه
قال أحمد في عبد أبق إلى الروم ثم رجع ومعه متاع: العبد لمولاه وما معه من المتاع والمال فهو
للمسلمين، لأنهم عصاة بفعلهم فلم يكن لهم فيه حق والأولى أولى
قال الأوزاعي لما أقفل عمر بن عبد العزيز الجيش الذين كانوا مع مسلمة كسر مركب بعضهم
فأخذ المشركون ناسا من القبط فكانوا خدما لهم فخرجوا يوما إلى عيد لهم وخلفوا القبط في مركبهم
وشرب الآخرون ورفع القبط القلع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم فلم يضعوا قلعهم حتى
465

أتوا بيروت فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر نفلوهم القلع وكل شئ جاءوا به الا
الخمس، رواه سعيد والأثرم، فإن كانت الطائفة ذات منعة غزوا بغير اذن الإمام ففيهم روايتان
(إحداهما) لا شئ لهم وهو فئ المسلمين (والثانية) يخمس والباقي لهم وهي أصح، ووجه الروايتين ما تقدم
ويخرج فيه وجه كالرواية الثالثة وهو ان الجميع لهم لكونه اكتسابا مباحا من غير جهاد
(فصل) قال الخرقي ولا يتزوج في أرض العدو الا أن تغلب عليه الشهوة فيتزوج مسلمة ويعزل
عنها ولا يتزوج منهم ومن اشترى جارية لم يطأها في الفرج وهو في أرضهم
قال شيخنا رحمه الله تعالى يريد والله أعلم من دخل أرض العدو بأمان، فأما إن كان في جيش
المسلمين فله ان يتزوج لما روي عن سعيد عن أبي هلال انه بلغه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج أسماء
بنت عميس أبا بكر وهم تحت الرايات، أخرجه سعيد ولان الكفار لا يد لهم عليه أشبه من في دار
الاسلام، وأما الأسير فظاهر كلام احمد انه لا يحل له التزوج ما دام أسيرا لأنه منعه من وطئ امرأته
إذا أسرت معه مع صحة نكاحهما وهذا قول الزهري فإنه قال لا يحل للأسير أن يتزوج ما كان في
ارض المشركين ولان الأسير إذا ولد له ولد كان رقيقا لهم ولا يأمر ان يطأ امرأته غيره منهم،
وسئل أحمد عن أسير أسرت معه امرأته أيطؤها؟ فقال كيف يطؤها ولعل غيره منهم يطؤها؟
قال الأثرم قلت له فلعلها تعلق بولد فيكون معهم فقال وهذا أيضا
وأما الذي يدخل إليهم بأمان كالتاجر ونحوه فهو الذي أراد الخرقي إن شاء الله تعالى فلا ينبغي
466

له ان يتزوج لأنه لا يأمن ان تأتي امرأته بولد فيستولي عليه الكفار وربما نشأ بينهم فيصير على
دينهم فإن غلبت عليه الشهوة أبيح له نكاح مسلمة لأنه حال ضرورة ويعزل عنها كيلا تأتي بولد
ولا يتزوج منهم لأنها تغلبه على ولدها فيتبعها على دينها
قال القاضي قول الخرقي هذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأن الله تعالى قال (وأحل لكم ما وراء
ذلكم) ولان الأصل الحل فلا يحرم بالشك والتوهم وإنما كرهنا له التزوج منهم مخافة ان يغلبوا على
ولده فيسترقوه ويعلموه الكفر ففي تزويجه تعريضه لهذا الفساد العظيم وازدادت الكراهة إذا تزوج
منهم لأن الظاهر أن امرأته تغلبه على ولدها فتكفره كما أن حكم الاسلام يغلب للاسلام فيما إذا أسلم
أحد الأبوين أو تزوج مسلم ذمية، وإذا اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج في أرضهم مخافة ان
يغلبوه على ولدها فيسترقوه ويكفروه
(مسألة) (ومن أخذ من دار الحرب طعاما أو علفا فله اكله وعلف دابته بغير اذن وليس
له بيعه فإن باعه رد ثمنه في المغنم)
أجمع أهل العلم الا من شذ منهم على أن للغزاة إذا دخلوا ارض الحرب ان يأكلوا ما وجدوا من
الطعام ويعلفوا دوابهم من علفهم منهم سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي والقاسم وسالم
والثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الزهري لا يؤخذ الا باذن الإمام
وقال سليمان بن موسى لا يترك الا أن ينهى عنه الإمام فيتبع نهيه
467

ولنا ما روى عبد الله بن أبي أوفى قال أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يأخذ منه مقدار
ما يكفيه ثم ينصرف. رواه سعيد وأبو داود
وروي ان صاحب جيش الشام كتب إلى عمر إنا أصبنا أرضا كثيرة الطعام والعلف وكرهت
ان أتقدم في شئ من ذلك فكتب إليه دع الناس يأكلون ويعلفون فمن باع منهم شيئا بذهب أو
فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين، رواه أبو سعيد
وقد روى عبد الله بن مغفل قال دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت والله لا أعطي
أحدا منه شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فاستحييت منه، متفق عليه، ولان الحاجة
تدعو إلى هذا وفي المنع منه مضرة بالجيش وبدوابهم فإنه يعسر عليهم نقل الطعام والعلف من دار
الاسلام ولا يجدون بدار الحرب ما يشترونه ولو وجدوه لم يجدوا ثمنه ولا يمكن قسمة ما يأخذه
الواحد منهم ولو قسم لم يحصل للواحد منهم شئ ينتفع به ولا يدفع به حاجته فأبيح لهم ذلك فمن أخذ
من الطعام شيئا مما يقتات أو يصلح به القوت من الادم أو غيره أو العلف لدابته فهو أحق به سواء
كان له ما يستغني به عنه أولا. ويكون أحق بما يأخذه من غيره فإن فضل منه مالا حاجة به إليه رده
على المسلمين لأنه إنما أبيح له ما يحتاج إليه، وان أعطاه أحد من أهل الجيش ما يحتاج إليه جاز له أخذه
وصار أحق به من غيره
468

وان باع شيئا من الطعام أو العلف رد قيمته في الغنيمة لما ذكرنا من حديث عمر وبه قال
سليمان بن موسى والثوري والشافعي، وكره القاسم وسالم ومالك بيعه، وقال القاضي لا يخلو إما أن
يبيعه من غاز أو غيره فإن باعه لغيره فالبيع باطل لأنه باع مال الغنيمة بغير ولاية ولا نيابة فيجب رد
المبيع ورفض البيع فإن تعذر رده رد قيمته أو ثمنه إن كان أكثر من قيمته إلى المغنم
وان باعه لغاز لم يخل من أن يبدله بطعام أو علف مما له الانتفاع به أو بغيره فإن باعه بمثله فليس
هذا بيعا في الحقيقة إنما سلم إليه مباحا وأخذ مثله مباحا، ولكل واحد منهما الانتفاع بما أخذه وصار أحق به
من غيره لثبوت يده عليه، فعلى هذا لو باع صاعا بصاعين أو افترقا قبل القبض جاز، وان باعه به نسيئة أو أقرضه
إياه فأخذه فهو أحق به ولا يلزمه ايفاؤه فإن وفاه ورده إليه عادت اليد إليه وان باعه بغير الطعام والعلف فالبيع غير
صحيح ويصير المشترى أحق به لثبوت يده عليه ولا ثمن عليه وان أخذه منه وجب رده إليه
(فصل) (وان وجد دهنا فهو كسائر الطعام)
لما ذكرنا من حديث عبد الله بن مغفل ولأنه طعام فأشبه البر والشعير
وإن كان غير مأكول فاحتاج ان يدهن به أو يدهن دابته فظاهر كلام أحمد جوازه إذا
كان من حاجة قال في زيت الروم إذا كان من ضرورة أو صداع فلا بأس فاما التزين فلا يعجبني
وقال الشافعي ليس له دهن دابته من جرب الا بالقيمة لأن ذلك لا تعم الحاجة إليه ويحتمل
469

كلام أحمد مثل هذا لأنه ليس بطعام ولا علف ووجه الأول ان هذا مما يحتاج إليه لاصلاح نفسه
ودابته أشبه الطعام والعلف وله أكل ما يتداوى به ويشرب الشراب من الجلاب والسكنجبين
وغيرهما عند الحاجة إليه لأنه من الطعام وقال أصحاب الشافعي ليس له تناوله لأنه ليس من القوت
ولا يصلح به القوت ولأنه لا يباح مع عدم الحاجة إليه فلم يبح مع الحاجة كغير الطعام
ولنا أنه طعام احتيج إليه أشبه الفواكه وما ذكروه يبطل بالفاكهة وإنما اعتبرنا الحاجة ههنا
لأن هذا لا يتناول في العادة الا عند الحاجة إليه
(فصل) وللغازي ان يطعم دوابه ورقيقه مما يجوز له الاكل منه سواء كانوا للقنية أو للتجارة
قال أبو داود قلت لأبي عبد الله يشتري الرجل السبي في بلاد الروم يطعمهم من طعام الروم؟ قال نعم
وروى عنه ابنه عبد الله أنه قال سألت أبي عن الرجل يدخل بلاد الروم ومعه الجارية والدابة
للتجارة أيطعمها يعني الجارية وعلف الدابة؟ قال لا يعجبني ذلك فإن لم يكن للتجارة فلم ير به بأسا
فظاهر هذا أنه لا يجوز إطعام ما كان للتجارة لأنه ليس مما يستعين به على الغزو وقال الخلال
رجع أحمد عن هذه الرواية وروى عنه جماعة بعد هذا أنه لا بأس به وذلك لأن الحاجة داعية إليه
فأشبه مالا يراد به التجارة
(فصل) قال أحمد ولا يغسل ثوبه بالصابون لأن ذلك ليس بطعام ولا علف ويراد للتحسين
والزينة ولا يكون في معناهما ولو كان مع الغازي فهد وكلب للصيد لم يكن له اطعامه من الغنيمة
470

فإن أطعمه غرم قيمة ما أطعمه لأن هذا يراد للتفرج والزينة وليس مما يحتاج إليه في الغزو بخلاف الدواب
(فصل) ولا يجوز لبس الثياب ولا ركوب دابة من دواب المغنم لما روى رويفع بن ثابت
الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من
فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فئ المسلمين
حتى إذا اخلقه رده فيه) رواه سعيد
(فصل) ولا يجوز الانتفاع بجلودهم واتخاذ النعل والجرب (والجورب) منها ولا الخيوط ولا الحبال وبهذا
قال ابن محيريز ويحيى بن أبي كثير وإسماعيل بن عياش والشافعي ورخص في اتخاذ الجرب من جلود
الغنم سليمان بن موسى ورخص مالك في الإبرة وفي الحبل يتخذ من الشعر والنعل والخف
يتخذ من جلود البقر.
ولنا ما روى قيس بن أبي حازم ان رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكمنة شعر من المغنم فقال يا رسول
الله انا نعمل الشعر فهبها لي فقال (نصيبي منها لك) رواه سعيد وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أدوا
الخيط والمخيط فإن الغلول نار وشنان يوم القيامة) ولان ذلك من الغنيمة ولا تدعو إلى أخذه حاجة
عامة فأشبه الثياب
(فصل) فاما كتبهم فإن كانت مما ينتفع به ككتب الطب واللغة والشعر فهي غنيمة وان كانت
471

مما لا ينتفع به ككتب التوراة والإنجيل وأمكن الانتفاع بجلودها أو ورقها بعد غسله غسل وهو غنيمة
وإلا فلا ولا يحوز بيعها
(فصل) وان أخذوا من الكفار جوارح للصيد كالفهد والبزاة فهي غنيمة تقسم
وان كانت كلابا لم يجز بيعها وان لم يردها أحد من الغانمين جاز إرسالها وإعطاؤها غير الغانمين وان
رغب فيها بعض الغانمين دون بعض دفعت إليه ولم تحسب عليه لأنها لا قيمة لها وان رغب فيها الجميع أو جماعة
كثيرة فأمكن قسمتها قسمت عددا من غير تقويم، وإن تعذر ذلك أو تنازعوا في الجيد منها فطلبه
كل واحد منهم أقرع بينهما وان وجدوا خنازير قتلوها لأنها مؤذية ولا نفع فيها وان وجدوا خمرا
أراقوه فإن كان في أوعيته نفع للمسلمين أخذوها وإلا كسروها لئلا يعودوا إلى استعمالها
(مسألة) فإن فضل معه منه شئ فادخله البلد رده في الغنيمة إلا أن يكون يسيرا فله
أكله في إحدى الروايتين)
أما الكثير فيجب رده بغير خلاف علمناه لأن ما كان مباحا له في حال الحرب فإذا أخذه على
وجه ففضل منه كثير إلى دار الاسلام فقد أخذ مالا يحتاج إليه فيلزمه رده لأن الأصل تحريمه لكونه
مشتركا بين الغانمين فهو كسائر المال وإنما أبيح منه ما دعت الحاجة إليه فما زاد يبقى على أصل التحريم
ولهذا لم يبح بيعه وأما اليسير ففيه روايتان
472

(إحداهما) يجب رده أيضا اختاره أبو بكر وهو قول أبي حنيفة وابن المنذر وأبي ثور وهو
أحد قولي الشافعي لما ذكرنا في الكثير ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (أدوا الخيط والمخيط) ولأنه من
الغنيمة ولم يقسم فلم يبح في دار الاسلام كالكثير وكما لو أخذه في دار الاسلام
(والثانية) يباح وهو قول مكحول وخالد بن معدان وعطاء الخراساني ومالك والأوزاعي، قال
أحمد أهل الشام يتساهلون في هذه وقد روى القاسم بن عبد بن الرحمن عن بعض أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم قال كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى أن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملوءة
رواه أبو داود وسعيد، وعن عبد الله بن يسار السلمي قال دخلت على رجل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقدم إلي تميرا من تمير الروم فقلت لقد سبقت الناس بهذا؟ قال ليس هذا من العام هذا من
العام الأول رواه الأثرم في سننه، وقال الأوزاعي أدركت الناس يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم
إلى بعض لا ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة، وهذا نقل للاجماع ولأنه أبيح امساكه عن القسمة فأبيح
في دار الاسلام كمباحات دار الحرب التي لا قيمة لها فيها ويفارق الكثير لأنه لا يجوز امساكه عن
القسمة ولان اليسير تجري فيه المسامحة ونفعه قليل بخلاف الكثير
473

(فصل) وإذا جمعت المغانم وفيها طعام أو علف لم يجز لاحد أخذه إلا للضرورة لأننا إنما أبحنا
أخذه قبل جمعه لأنه لم يثبت فيه ملك المسلمين بعد فأشبه المباحات من الحطب والحشيش فإذا جمعت
ثبت ملك المسلمين فيها فخرجت عن حيز المباحات وصارت كسائر املاكهم فلم يجز الاكل منها إلا
لضرورة وهو أن لا يجدوا ما يأكلونه فحينئذ يجوز لأن حفظ نفوسهم ودوابهم أهم وسواء حيزت
في دار الحرب أو في دار الاسلام، وقال القاضي يجوز الاكل منها ما كانت في دار الحرب،
وإن حيزت لأن دار الحرب مظنة الحاجة لعسر نقل الميرة إليها بخلاف دار الاسلام والأولى أولى
لأن ما ثبت عليه أيدي المسلمين وتحقق ملكهم له لا ينبغي أن يؤخذ إلا برضاهم كسائر املاكهم ولان
حيازته في دار الحرب تثبت الملك فيه بدليل جواز قسمته وثبوت أحكام الملك فيه بخلاف ما قبل
الحيازة فإن الملك لم يثبت فيه بعد
(مسألة) (ومن أخذ سلاحا فله ان يقاتل به حتى تنقضي الحرب ثم يرده وليس له ركوب
الفرس في إحدى الروايتين)
إذا دعت الحاجة إلى القتال بسلاحهم فلا بأس قال احمد إذا كان أبلى فيهم أو خاف على نفسه
فنعم وذكر ما روي عن عبد الله بن مسعود قال انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضربت رجله
474

فقلت الحمد لله الذي أخزاك يا أبا جهل فأضربه بسيف معي غير طائل فوقع سيفه من يده فأخذت
سيفه فضربته به حتى برد رواه الأثرم ولأنهم أجمعوا على أنه يجوز ان يلتقط النشاب ثم يرمي به العدو
وهذا أبلغ من الذي يقاتل بسيف ثم يرده إلى المغنم أو يطعن برمح ثم يرده لأن النشاب يرمي به فلا
يرجع إليه والسيف يرده في الغنيمة وفي ركوب الفرس للجهاد عليه روايتان
(إحداهما) يجوز كالسلاح (والثانية) لا يجوز لحديث رويفع بن ثابت ولأنها تتعرض للعطب
غالبا وقيمتها كثيرة بخلاف السلاح والله تعالى أعلم
(باب قسمة الغنائم)
الغيمة كل ما أخذ من المشركين قهرا بالقتال واشتقاقها من الغنم وهي الفائدة وخمسها لأهل الخمس
وأربعة أخماسها للغانمين لقول الله تعالى (واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) فأضافها إليهم ثم جعل
خمسها لله فدل على أن أربعة أخماسها لهم ثم قال (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) ولان النبي صلى الله عليه
وسلم قسم الغنائم كذلك
(فصل) ولم تكن الغنائم تحل لمن مضى بدليل قوله عليه السلام (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي
قبلي) فذكر منها (أحلت لي الغنائم) متفق عليه وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
475

(لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس غيركم كانت تنزل نار من السماء تأكلها) متفق عليه ثم كانت في أول
الاسلام لرسول الله بقوله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) ثم صار أربعة أخماسها
للغانمين وخمسها لغيرهم لما ذكرنا وقال تعالى (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا)
(مسألة) (وان أخذ منهم مال مسلم فأدركه صاحبه قبل قسمه فهو أحق به، وان أدركه
مقسوما فهو أحق به بثمنه وعنه لا حق لهم فيه، وان اخذه منهم أحد الرعية بثمن فصاحبه أحق به بثمنه
وان أخذه بغير عوض فصاحبه أحق به بغير شئ)
إذا اخذ الكفار أموال المسلمين ثم أخذها المسلمون منهم قهرا فإن علم صاحبها قبل قسمها ردت
إليه بغير شئ في قول عامة أهل العلم منهم عمر رضي الله عنه وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث
والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري لا يرد إليه وهو للجيش ونحوه عن
عمرو بن دينار لأن الكفار ملكوه باستيلائهم فصار غنيمة كسائر أموالهم
ولنا ما روى بن عمران غلاما له أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر
ولم يقسم وعنه قال ذهب فرس له فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
رواهما أبو داود وعن رجاء بن حياة ان أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب فيما أحرز المشركون
من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليه بعد قال من وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم رواه سعيد والأثرم
476

وكذلك ان علم الإمام بمال مسلم قبل قسمه فقسمه وجب رده وصاحبه أحق به بغير شئ لأن قسمته
كانت باطلة من أصلها فهو كما لو لم يقسم فأما ان أدركه بعد القسم ففيه روايتان
(إحداهما) يكون صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه وكذلك ان بيع ثم قسم
ثمنه فهو أحق به بالثمن وهذا قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك لما روى ابن عباس ان
رجلا وجد بعيرا له كان المشركون أصابوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ان أصبته قبل ان نقسمه فهو لك
وان أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة) ولأنه إنما امتنع أخذه له بشئ كيلا يفضي إلى حرمان آخذه من
الغنيمة أو تضييع الثمن على المشتري وحقهما ينجبر بالثمن فيرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري
الشقص المشفوع الا ان المحكي عن مالك وأبي حنيفة انه يأخذه بالقيمة ونحوه عن مجاهد
(والرواية الثانية انه لا حق له فيه بعد القسم بحال نص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره وهو
قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث قال أحمد أما قول من قال فهو أحق به بالقيمة
فهو قول ضعيف عن مجاهد وقال الشافعي وابن المنذر يأخذه صاحبه قبل القسمة و؟ ويعطي مشتريه
ثمنه من خمس المصالح لأنه لم يزل عن ملك صاحبه فوجب ان يستحق أخذه بغير شئ كما قبل القسمة ويعطي
من حسب عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان أخذه حقه من الغنيمة وجعل من بهم؟ المصالح لأن هذا منها
477

ولنا ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى السائب أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه
فهو أحق به من غيره، وان أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل إليه وقال سلمان بن ربيعة إذا
قسم فلا حق له فيه رواهما سعيد في سننه ولأنه إجماع قال أحمد أنما قال الناس فيها
قولين إذا اقتسم فلا شئ له وقال قوم إذا اقتسم فهو له بالثمن فاما أن يكون له بعد القسمة بغير ذلك
فلم يقله أحد ومتى انقسم أهل العصر على قولين في حكم لم يجز إحداث قول ثالث لمخالفته الاجماع
وقد روى أصحابنا عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أدرك ماله قبل ان يقسم فهو له)
وان أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شئ والمعول على ما ذكرنا من الاجماع وقولهم لم يزل
ملك صاحبه ممنوع
(فصل) فإن أخذه أحد من الرعية بهبة أو سرقة أو بغير شئ فصاحبه أحق به بغير شئ وقال
أبو حنيفة لا يأخذه الا بقيمة لأنه صار ملكا لواحد بعينه أشبه ما لو قسم
ولنا ما روي أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فاخذوا ناقة وجارية من الأنصار فأقامت
عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليل قالت فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة
ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة ونذرت ان نجاني الله عليها ان انحرها فلما قدمت المدينة
استعرفت الناقة فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخذها فقلت يا رسول الله أني نذرت ان انحرها
478

قال (بئس ما جازيتها لا نذر في معصية الله) وفي رواية (لا نذر فيما لا يملك ابن آدم) أخرجه مسلم
ولأنه لم يحصل في يده بعوض فكان صاحبه أحق به بغير شئ كما لو أدركه في الغنيمة قبل القسمة فاما
إن اشتراه رجل من العدو فليس لصاحبه أخذه الا بثمنه وقال القاضي وما حصل في يده بهبة أو سرقة
أو شراء فهو كما لو وجده صاحبه بعد القسمة هل يكون صاحبه أحق به بالقيمة؟ على روايتين
ولنا الحديث المذكور وما روى سعيد باسناده قال أغار أهل ماه وجلولا على العرب فأصابوا
شيئا من سبايا العرب ورقيقا ومتاعا ثم إن السائب بن الأكوع عامل عمر غزاهم ففتح ماه فكتب إلى
عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب إليه عمر إن المسلم أخو
المسلم لا يحزنه ولا يخذله فأيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به وان اصابه
في أيدي التجار بعد ما انقسم فلا سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد عليهم رؤوس أموالهم
فإن الحر لا يباع ولا يشتري
(فصل) وحكم أموال أهل الذمة إذا استولى عليها الكفار ثم قدر عليها حكم أموال المسلمين
فيما ذكرنا قال علي رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا ولان
أموالهم معصومة فأشبهت أموال المسلمين
479

(فصل) فإن غنم المسلمون من المشركين شيئا عليه علامة المسلمين ولم يعلم صاحبه فهو غنيمة
قال احمد في مركب يجئ من مصر يقطع عليها الروم فيأخذونها ثم يأخذها المسلمون منهم ان عرف
صاحبها فلا يؤكل منها وهذا يدل على جواز الأكل منها إذا لم يعرف صاحبها ونحو هذا قول الثوري
والأوزاعي قال في المصحف يحصل في الغنائم يباع وقال الشافعي يوقف حتى يجئ صاحبه وان وجد
شئ موسوم عليه حبس في سبيل الله رد كما كان نص عليه احمد وبه قال الأوزاعي والشافعي وقال
الثوري يقسم ما لم يأت صاحبه
ولنا ان هذا قد عرف هذا مصرفه وهو الحبس فهو بمنزلة ما لو عرف صاحبه قيل لأحمد فالجواميس
تدرك قد ساقها العدو للمسلمين وقد ردت يؤكل منها؟ قال إذا عرف لمن هي فلا يوكل منها قيل فما حازه العدو
للمسلمين فأصابه المسلمون أعليهم أن يقفوه حتى يبين صاحبه؟ قال إذا عرف فقيل هذا لفلان وكان صاحبه بالقرب
قيل له أصيب غلام في بلاد الروم فقال أنا لفلان رجل بمصر؟ قال إذا عرف الرجل لم يقسم ورد
على صاحبه قيل له أصبنا مركبا في بلاد الروم فيها النواتية قالوا هذا لفلان وهذا لفلان؟ قال هذا قد
عرف صاحبه لا يقسم.
(مسألة) (وبذلك الكفار أموال المسلمين بالقهر ذكره القاضي وقال أبو الخطاب ظاهر كلام
أحمد انهم لا يملكونها، وروي عن أحمد في ذلك روايتان).
480

(إحداهما) أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر هذا قول مالك وأبي حنيفة.
(والرواية الثانية) لا يملكونها وهو قول الشافعي لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو الخطاب
وهو ظاهر كلام احمد حيث قال إن أدركه صاحبه قبل القسم فهو أحق به قال إنما منعه أخذه بعد
القسمة لأن قسمة الإمام له تجري مجرى الحكم ومتى صادف الحكم أمرا مجتهدا فيه نفذ حكمه
ولأنه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم يملك بها كالغصب ولان من لا يملك رقبة غيره بالقهر لا يملك
ماله به كالمسلم مع المسلم. ووجه الأول أن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر فملك به الكفار مال
المسلم كالبيع، فأما الناقة فإنما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أدركها غير مقسومة ولا مشتراة فعلى هذا يملكونها
قبل حيازتها إلى دار الكفر وهو قول مالك، وذكر القاضي انهم إنما يملكونها بالحيازة إلى دارهم وهو
قول أبي حنيفة وحكي عن أحمد في ذلك روايتان: ووجه الأول أن الاستيلاء سبب للملك فيثبت قبل
الحيازة إلى الدار كاستيلاء المسلمين على مال الكافر، ولان ما كان سببا للملك أثبته حيث وجد كالهبة
والبيع، وفائدة الخلاف في ثبوت الملك وعدمه ان من أثبت الملك للكافر في أموال المسلمين أباح
للمسلمين إذا ظهروا عليها قسمتها والتصرف فيها ما لم يعلم صاحبها وان الكافر إذا أسلم وهي في يده
فهو أحق بها، ومن لم يثبت الملك اقتضى مذهبه عكس ذلك، قال الشيخ رحمه الله ولا أعلم خلافا
481

في أن الكافر الحربي إذا أسلم أو دخل إلينا بأمان بعد أن استولى على مال مسلم فاتلفه أنه لا يلزمه ضمانه فإن أسلم وهو في
يده فهو له بغير خلاف في المذهب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أسلم على شئ فهو له) وإن كان أخذه من المستولي
عليه بهبة أو سرقة أو شراء فكذلك لأنه استولى عليه في حال كفره فأشبه ما لو استولى عليه بقهره المسلم، وعن أحمد
ان صاحبه يكون أحق به بالقيمة وان استولى على جارية مسلم فاستولدها ثم أسلم فهي له وهي أم ولده،
نص عليه أحمد لأنها مال فأشبهت سائر الأموال وان غنمها المسلمون وأولادها قبل اسلام سابيها فعلم صاحبها
ردت إليه وكان أولادها غنيمة لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها.
(فصل) وان استولوا على حر لم يملكوه مسلما كان أو ذميا، لا نعلم فيه خلافا لأنه لا يضمن
بالقيمة ولا تثبت عليه اليد بحال، وإذا قدر المسلمون على أهل الذمة بعد ذلك وجب ردهم إلى ذمتهم
ولم يجز استرقاقهم في قول عامة العلماء منهم الشعبي ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق
ولا نعلم لهم مخالفا لأن ذمتهم باقية ولم يوجد منهم ما يوجب نقضها وكلما يضمن بالقيمة كالعروض
يملكونه بالقهر وكذلك العبد القن والمدبر والمكاتب وأم الولد، وقال أبو حنيفة لا يملكون المكاتب
وأم الود لأنه لا يجوز نقل الملك فيهما فهما كالحر.
ولنا انهما يضمنان بالقيمة فملكوهما كالقن ويحتمل ان لا يملكوا أم الولد لأنها لا يجوز نقل
الملك فيها ولا يثبت فيها لغير سيدها، وفائدة الخلاف ان من قال بثبوت الملك فيهما قال متى قسما أو
482

اشتراهما انسان لم يكن لسيدهما اخذهما إلا بالثمن قال الزهري في أم الولد يأخذها سيدها بقيمة عدل
وقال مالك يفديها الإمام فإن لم يفعل يأخذها سيدها بقيمة عدل ولا يدعها يستحل فرجها من لا تحل
له، ومن قال لا يثبت الملك فيهما ردا إلى ما كانا عليه على كل حال كالحر وان اشتراهما انسان فالحكم
فيهما كالحكم في الحر إذا اشتراه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(فصل) وإذا ابق عبد المسلم إلى دار الحرب فأخذوه ملكوه كالدابة وهو قول مالك وأبي
يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يملكونه وعن أحمد مثل ذلك لأنه إذا صار في دار الحرب زالت يد
مولاه عنه وصار في يد نفسه فلم يملك كالحر.
ولنا أنه مال لو أخذوه من دار الاسلام ملكوه فإذا اخذوه من دار الحرب ملكوه كالبهيمة
(مسألة) (وما اخذوا من دار الحرب من ركاز أو مباح له قيمة فهو غنيمة)
اما الركاز إذا وجده في موضع يقدر عليه بنفسه فهو له كما لو وجده في دار الاسلام فيه الخمس
وباقيه له، وان لم يقدر عليه الا بجماعة من المسلمين فهو غنيمة، ونحو هذا قول مالك والأوزاعي والليث
وقال الشافعي ان وجده في مواتهم فهو كما لو وجده في دار الاسلام.
ولنا ما روى عاصم بن كليب عن أبي الجوين الحرمي قال لقيت بأرض الروم جرة فيها ذهب في
483

امرة معاوية وعلينا معن بن يزيد السلمي فاتيته بها فقسمها بين المسلمين وأعطاني مثل ما اعطى رجلا منهم ثم قال
لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا نفل الا بعد الخمس لأعطيتك) ثم اخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت
أخرجه أبو داود ولأنه مال مشترك مظهور عليه بقوة جيش المسلمين فكان غنيمة كأموالهم الظاهرة.
(فصل) ومن وجد في دارهم لقطة فإن كانت من متاع المسلمين فهو كما وجده في غير دار الحرب
وان كانت من متاع المشركين فهي غنيمة، وان احتمل الامرين عرفها حولا ثم جعلها في الغنيمة
نص عليه احمد، ويعرفها في بلد المسلمين لأنها تحتمل الامرين فغلب فيها حكم مال المسلمين في التعريف
وحكم مال أهل الحرب في كونها غنيمة احتياطا
(فصل) وأما غير الركاز من المباح فما كان له قيمة في دار الحرب كالصيود والحجارة والخشب
فالمسلمون شركاؤه فيه وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال الشافعي ينفرد أخذه بملكه لأنه لو أخذه
من دار الاسلام ملكه فكذلك إذا اخذه من دار الحرب كالشئ التافه وهذا قول مكحول
والأوزاعي ونقل ذلك عن القاسم وسالم
484

ولنا انه مال ذو قيمة مأخوذ من دار الحرب بقوة المسلمين فكان غنيمة كالمطعومات، وفارق ما أخذه
من دار الاسلام لأنه لا يحتاج إلى الجيش في أخذه فإن احتاج إلى أكله والانتفاع به فله اكله ولا يرده لأنه
لو وجد طعاما مملوكا للكافر كان له اكله إذا احتاج إليه فما اخذه من الصيود والمباحات فهو أولى
(فصل) فإن أخذ ما لا قيمة له في أرضهم كالمسن والأقلام والأدوية فله اخذه وهو أحق به
وان صارت له قيمة بمعالجته أو نقله نص احمد رحمه الله على نحو هذا وبه قال مكحول والأوزاعي
والشافعي، وقال الثوري إذا جاء به إلى دار الاسلام رده في المقسم وان عالجه فصار له ثمن أعطي بقدر
علمه فيه وبقيته في المقسم، ولنا ان القيمة إنما صارت له بعمله أو بنقله فلم يكن غنيمة كما لو لم تصر له قيمة
(فصل) وان ترك صاحب المقسم شيئا من الغنيمة عجزا عن حمله فقال من اخذ شيئا فهو له فمن
أخذ شيئا ملكه نص عليه احمد، وسئل عن قوم غنموا غنائم كثيرة فبقي خرثي المتاع مما لا يباع ولا
يشترى فيدعه الوالي بمنزلة الفخار وما أشبه ذلك أيأخذه الانسان لنفسه؟ قال نعم إذا ترك ولم يشتر
ونحو هذا قول مالك، ونقل عنه أبو الخطاب في المتاع لا يقدرون على حمله إذا حمله رجل: يقسم وهذا
قول إبراهيم، قال الخلال روى أبو طالب هذه في ثلاثة مواضع في موضع منها وافق أصحابه وفي
موضع خالفهم قال ولا أشك ان أبا عبد الله قال هذا أولا ثم تبين له بعد ذلك أن للإمام ان يبيحه
وان يحرمه وان لهم أن يأخذوه إذا تركه الإمام إذا لم يجد من يحمله لأنه إذا لم يجد من يحمله ولم يقدر
على حمله بمنزلة ما لا قيمة له فصار كالذي ذكرناه في الفصل قبل هذا
485

(مسألة) وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب ويجوز قسمها فيها)
والدليل على ثبوت الملك عليها في دار الحرب ثلاثة أمور [أحدها] ان سبب الملك الاستيلاء
التام وقد وجد فإن أيدينا قد ثبتت عليها حقيقة وقهرناهم ونفيناهم عنها والاستيلاء يدل على حاجة
المستولي فيثبت به الملك كما في المباحات
[الثاني] ان ملك الكفار قد زال عنها بدليل انه لا ينفذ عتقهم في العبيد الذين حصلوا في
الغنيمة ولا ينفذ تصرفهم فيها ولا يزول ملكهم إلى غير مالك إذ ليست في هذه الحال مباحة
علم أن ملكهم زال إلى الغانمين
[الثالث] انه لو أسلم عبد الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حرا وهذا يدل على زوال ملك
الكافر وثبوت الملك لمن قهره
(فصل) وإذا ثبت الملك فيها جازت قسمتها وبهذا قال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور
وابن المنذر، وقال أصحاب الرأي لا يقسم إلا في دار الاسلام لأن الملك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء
التام ولا يحصل إلا باحرازها في دار الاسلام فإن قسمت أساء قاسمها وجازت قسمته لأنها مسألة
مجتهد فيها فإذا حكم فيها الإمام بما يوافق قول بعض المجتهدين نفذ حكمه
ولنا ما روى أبو إسحاق الفزاري قال قلت للأوزاعي هل قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من
الغنائم بالمدينة؟ قال لا أعلمه إنما كان الناس يبتغون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوهم ولم يقفل
486

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزاة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسه وقسمه من قبل ان يقفل، ومن ذلك غزوة
بني المصطلق وهوازن وخيبر، ولان كل دار صحت القسمة فيها جارت كدار الاسلام ولان الملك
ثبت فيها بالقهر بما ذكرنا من الأدلة فصحت قسمتها كما لو أحرزت بدار الاسلام، وبهذا
يحصل الجواب عما ذكروه
(مسألة) (وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال، قاتل أو لم يقاتل من تجار العسكر
وأجرائهم الذين يستعدون للقتال)
قوله: وأجرائهم يعني اجراء التجار، وإنما كانت الغنيمة لمن شهد الوقعة وان لم يقاتل لما
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة ولان غير المقاتل ردء له
معين فشاركه كردء المحارب
فصل والتاجر والصانع كالخياط والخباز والبيطار ونحوهم يسهم لهم إذا حضروا نص عليه احمد
قال أصحابنا قاتلوا أو لم يقاتلوا وبه قال في التاجر الحسن وابن سيرين والثوري والأوزاعي والشافعي
وقال مالك وأبو حنيفة لا يسهم لهم الا ان يقاتلوا، وعن الشافعي لا يسهم لهم بحال
487

قال القاضي في التاجر والأجير إذا كانا مع المجاهدين وقصدهما الجهاد وإنما معه المتاع ان طلب؟
منه باعه والأجير قصده الجهاد أيضا فهذان يسهم لهما لأنهما غازيان والصناع بمنزلة التجار متى كانوا
مستعدين للقتال ومعهم السلاح فمتى عرض اشتغلوا به أسهم لهم لما ذكرنا من حديث عمر ولأنهم
في الجهاد بمنزلة غيرهم وإنما يشتغلون بغيره عند فراغهم منه، وان لم يكونوا مستعدين للقتال لم يسهم
لهم لأنهم لا نفع في حضورهم أشبهوا المخذل
(مسألة) (فاما المريض العاجز عن القتال والمخذل والمرجف والفرس الضعيف العجيف فلا حق له)
أما المريض الذي لا يتمكن من القتال فإن خرج بمرضه عن أهلية الجهاد كالزمن والأشل والمفلوج
فلا سهم له لأنه لم يبق من أهل الجهاد، وان لم يخرج بمرضه عن ذلك كالمحموم ومن به الصداع فإنه
يسهم له ويعين برأيه وتكثيره ودعائه وكذلك المخذل والمرجف ومن في معناه ممن يدل على عوارات
المسلمين ويؤوي جواسيس الكفار ويوقع بينهم العداوة لا يسهم له وان قاتل لأن ضرره أكثر من
نفعه، وكذلك لا يسهم لفرس ينبغي للإمام منعه كالحطم والصدع والأعجف وان شهد عليه الوقعة
وبهذا قال مالك وقال الشافعي يسهم له كما يسهم للمريض
ولنا أنه لا ينتفع به فلم يسهم له كالمخذل والمرجف ولأنه حيوان يتعين منعه من الدخول فلم يسهم
له كالمرجف وأما المريض فإنه يعين برأيه وتكثيره ودعائه بخلاف الفرس
488

(مسألة) (وإذا ألحق مدد وهرب أسير فأدركوا الحرب قبل تقضيها أسهم لهم، وان جاءوا
بعد إحراز الغنيمة فلا شئ لهم)
وجملة ذلك أن الغنيمة إنما هي لمن شهد الوقعة لما ذكرنا من قول عمر رضي الله عنه لأنهم إذا
قدموا قبل انقضاء الحرب فقد شاركوا الغانمين في السبب فشاركوهم في الاستحقاق كما لو قدموا قبل
الحرب فمن تجدد بعد ذلك من مدد يلحق بالمسلمين أو أسير ينفلت من الكفار فيلحق بجيش المسلمين
أو كافر يسلم فلا حق له فيها وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة في المدد يلحقهم قبل القسمة
أو احرازها بدار الاسلام: شاركهم لأن ملكها لا يتم الا بتمام الاستيلاء وهو الاحراز إلى دار الاسلام
أو قسمها فمن جاء قبل ذلك فقد أدركها قبل ملكها فاستحق منها كما لو جاء في أثناء الحرب، وان مات
أحد من العسكر قبل ذلك فلا شئ له لما ذكرنا وقد روى الشعبي ان عمر رضي الله عنه كتب إلى
سعد أسهم لمن اتاك قبل ان تتفقأ قتلى فارس.
ولنا ما روي أبو هريرة ان أبان بن سعيد بن العاص وأصحابه قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر
بعد أن فتحها فقال ابان أقسم لنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجلس يا أبان) ولم يقسم له
رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود وعن طارق بن شهاب أن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل
الكوفة فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر إن الغنيمة لمن شهد الوقعة، رواه سعيد
489

في سننه وروي نحوه عن عثمان رضي الله عنه في غزوة أرمينية ولأنه مدد لحق بعد تقضي الحرب أشبه
ما لو جاء بعد القسمة أو بعد احرازها بدار الاسلام وقولهم إن ملكها باحرازها إلى دار الاسلام
ممنوع بل هو بالاستيلاء وقد استولى عليها الجيش قبل المدد وحديث الشعبي مرسل يرويه مجالد
وقد تكلم فيه ثم هم لا يعملون به ولا نحن فقد حصل الاجماع على خلافه فكيف يحتج به؟
(فصل) وحكم الأسير يهرب إلى المسلمين حكم المدد سواء قاتل أو لم يقاتل في أنه يستحق
من الغنيمة إذا هرب قبل تقضي الحرب، وقال أبو حنيفة لا يسهم له الا أن يقاتل لأنه لم يأت
للقتال بخلاف المدد.
ولنا ان من استحق إذا قاتل استحق وان لم يقاتل كالمدد وسائر من حضر الوقعة.
(فصل) فإن لحقهم المدد بعد تقضي الحرب وقبل احراز الغنيمة أو جاءهم الأسير فظاهر
كلام الخرقي انه يشاركهم لأنه جاء قبل إحرازها، وقال القاضي تملك الغنيمة بانقضاء الحرب قبل
حيازتها فعلى هذا لا يسهم لهم، وان حازوا الغنيمة ثم جاءهم قوم من الكفار يقاتلونهم فادركهم المدد
فقاتلوا معهم فقد قال احمد إذا غنم المسلمون غنيمة فلحقهم العدو وجاء المسلمين مدد فقاتلوا العدو
معهم حتى سلموا الغنيمة فلا شئ لهم في الغنيمة لأنهم إنما قاتلوا عن أصحابهم دون الغنيمة لأن الغنيمة
قد صارت في أيديهم وحووها قيل له فإن أهل المصيصة غنموا ثم استنقذه منهم العدو فجاء أهل
طرسوس فقاتلوا معهم حتى استنقذوه فقال أحب إلى (إلي) ان يصطلحوا، اما في الصورة الأولى فإن الأولين
490

قد أحرزوا الغنيمة وملكوها بحيازتها فكانت لهم دون من قاتل معهم وأما في الصورة الثانية فإنما
حصلت الغنيمة بقتال الذين استنقذوها في المرة الثانية فينبغي ان يشتركوا فيها لأن الاحراز الأول
قد زال بأخذ الكفار لها ويحتمل ان الأولين قد ملكوها بالحيازة الأولى ولم يزل ملكهم بأخذ
الكفار لها منهم فلهذا أحب أحمد أن يصطلحوا على هذا.
(فصل) ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش مثل الرسول والدليل والجاسوس وأشباههم فإنه
يسهم له وان لم يحضر لأنه في مصلحة الجيش أشبه السرية ولأنه إذا أسهم للمتخلف عن الجيش فهؤلاء
أولى وبهذا قال أبو بكر بن أبي مريم وراشد بن سعد وعطية بن قيس قالوا وقد تخلف عثمان رضي الله عنه يوم بدر
فاجرى له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهما من الغنيمة ويروى عن عمر رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قام
يعني يوم بدر فقال (ان عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله وإني أبايع له) فضرب له رسول الله
صلى الله عليه وسلم بسهمه ولم يضرب لاحد غاب غيره رواه أبو داود وعن ابن عمر قال إنما تغيب عثمان عن بدر
لأنه كانت تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ان لك أجر رجل ممن
شهد بدار وسهمه) رواه البخاري
(فصل) وسئل أحمد عن قوم خلفهم الأمير في بلاد العدو وغزا وغنم ولم يمر بهم فرجعوا هل يسهم
لهم؟ قال نعم يسهم لهم لأن الأمير خلفهم قيل له وان نادى الأمير من كان صبيا فليتخلف فتخلف قوم
491

فصاروا إلى لؤلؤة وفيها المسلمون فأقاموا حتى فصلوا فقال إذا كانوا قد التجئوا إلى مأمن لهم لم يسهم
لهم، ولو تخلفوا وأقاموا في موضع خوف أسهم لهم، وقال في قوم خلفهم الأمير واغار في جلد الخيل فقال إن
أقاموا في بلد العدو حتى رجع أسهم لهم، وان رجعوا حتى صاروا إلى مأمنهم فلا شئ لهم قيل له
فإن اعتل رجل أو اعتلت دابته وقد ادرب فقال له الأمير أقم أسهم لك أو انصرف إلى أهلك
أسهم لك فكرهه وقال هذا ينصرف إلى أهله فكيف يسهم له؟
(مسألة) (وإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها)
وإن كان فيها مال لمسلم أو لذمي دفع إليه لأن صاحبه متعين ولأنه استحقه بسبب سابق ثم بمؤنة
الغنيمة من اجرة النقال والجمال والحافظ والمخزن والحاسب لأنه لمصلحة الغنيمة ثم بالرضخ في أحد
الوجهين لأنه استحق بالمعاونة في تحصيل الغنيمة أشبه اجرة النقالين والحافظين في الآخر يبدأ
بالخمس قبله لأنه استحق بحضور الوقعة فأشبه سهام الغانمين وهذا أقيس وللشافعي قولان كالروايتين
(مسألة) (ثم يخمس الباقي فيقسم خمسة على خمسة أسهم سهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يصرف
مصرف الفئ وسهم لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطالب حيث كانوا للذكر مثل حظ الأنثيين
غنيهم وفقيرهم فيه سواء وسهم لليتامى الفقراء وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل من المسلمين)
لا خلاف بين أهل العلم في أن الغنيمية مخموسة بقوله تعالى (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فإن لله
492

خمسه) الآية لكن اختلف في أشياء منها سلب القاتل والأكثرون على أنه مخموس ومنها إذا قال
الإمام من جاء بعشرة رؤوس فله رأس ومن طلع الحصن فله كذا والظاهر أن هذا غير مخموس
لأنه في معنى السلب وقد ذكرنا الاختلاف في السلب ومنها إذا قال الإمام من اخذ شيئا فهو له وقلنا بجواز
ذلك فقد قيل لا خمس فيه لأنه في معنى ما قبله قال شيخنا والصحيح ان الخمس لا يسقط ههنا لدخوله
في عموم الآية وليس هو في معنى السلب والنفل لأن ترك تخميسها لا يسقط خمس الغنيمة بالكلية وهذا يسقطه
بالكلية فلا يكون تخصيصا للآية بل نسخا لحكمها ونسخا بالقياس غير جائز اتفاقا ومنها ان دخل
قوم لا منعة لهم دار الحرب فغنموا بغير إذن الإمام وقد ذكرناه
(فصل) والخمس مقسوم على خمسة أسهم كما ذكرنا ههنا وبه قال عطاء ومجاهد والشعبي والنخعي
وقتادة وابن جريج والشافعي وقيل يقسم على سته أسهم سهم لله تعالى وسهم لرسوله لظاهر قوله تعالى
(واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)
فعد ستة وجعل الله تعالى لنفسه سهما سادسا وهو مردود على عباد الله أهل الحاجة، وقال أبو العالية سهم
الله عز وجل هو أنه إذا عزل الخمس ضرب بيده فيه فما قبض عليه من شئ جعله للكعبة فهو الذي
سمى الله لا تجعلوا لله نصيبا فإن لله الدنيا والآخرة ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة أسهم
وروي عن الحسن وقتادة في سهم ذوي القربى: كانت طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فلما توفي
حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله وروى ابن عباس ان أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قسما الخمس
على ثلاثة أسهم وهو قول أصحاب الرأي قالوا يقسم الخمس على ثلاثة اليتامى والمساكين وابن السبيل
493

وأسقطوا سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته وسهم قرابته أيضا وقال مالك الفيئ والخمس واحد يجعلان في
بيت المال قال ابن القاسم وبلغني عن من أثق به ان مالكا قال يعطي الإمام أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم
على ما يرى وقال الثوري الخمس يضعه الإمام حيث أراه الله
ولنا قوله تعالى (واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل) وسهم الله والرسول واحد كذا قال عطاء والشعبي، وقال الحسن بن محمد
ابن الحنيفة وغيره قوله (فأن لله خمسه) افتتاح كلام يعني ان ذكر الله تعالى لافتتاح الكلام باسمه
تبركا به لا لافراده بسهم فإن لله تعالى الدنيا والآخرة
وقد روي عن ابن عمر وابن عباس قالا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الخمس على خمسة، وما
ذكره أبو العالية فشئ لا يدل عليه رأي ولا يقتضيه قياس فلا يصار إليه إلا بنص صحيح ولا نعلم
في ذلك أثرا صحيحا سوى قوله، فلا يترك له ظاهر النص وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله من أجل
قول أبي العالية، وما قاله أبو حنيفة فمخالف لظاهر الآية فإن الله تعالى سمى لرسوله وقرابته شيئا
وجعل لهما في الخمس حقا كما سمى الثلاثة الأصناف الباقية فمن خالف ذلك فقد خالف نص الكتاب،
وأما حمل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما سهم ذي القربى في سبيل الله فقد ذكر لأحمد فسكت ولم
يذهب إليه ورأي أن قول ابن عباس ومن وافقه أولى لموافقته كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم فإن
ابن عباس لما سئل عن سهم ذي القربى فقال إنا كنا نزعم انه لنا فأبى ذلك علينا قومنا، ولعله أراد
494

بقوله أبى ذلك علينا قومنا فعل أبي بكر وعمر في حملهما عليه في سبيل الله ومن تبعهما على ذلك،
ومتى اختلف الصحابة وكان قول بعضهم يوافق الكتاب والسنة كان أولى وقول ابن عباس موافق
للكتاب والسنة فإن جبير بن مطعم روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل
من الخمس شيئا كما كان يقسم لبني هاشم وبني المطلب، وان أبا بكر كان يقسم الخمس نحو قسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يعطيهم وكان عمر يعطيهم
وعثمان من بعده، رواه أحمد في مسنده
وقد تكلم في رواية ابن عباس عن أبي بكر وعمر انهما حملا على سهم ذي القربى في سبيل الله
فقيل إنه يرويه محمد بن مروان وهو ضعيف عن الكلبي وهو ضعيف أيضا ولا يصح عند أهل النقل
فإن قالوا فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس بباق فكيف يبقى سهمه؟ قلنا جهة صرفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة المسلمين
والمصالح باقية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يحل لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس
وهو مردود عليكم) رواه سعيد
(فصل) فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف في مصالح المسلمين لما روى جبير بن مطعم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تناول بيده وبرة من بعير ثم قال (والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس
مردود عليكم) فجعله لجميع المسلمين ولا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم من سد الثغور
495

وكفاية أهلها وشراء الكراع والسلاح ثم الأهم فالأهم على ما نذكره في الفيئ إن شاء الله تعالى ونحوه
قول الشافعي فإنه قال أختار ان يضعه الإمام في كل أمر خص به الاسلام وأهله من سد ثغر وإعداد
كراع وسلاح وإعطائه أهل البلاء في الاسلام نفلا عند الحرب وغير الحرب
وعن أحمد ان سهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم يختص بأهل الديوان لأن النبي صلى الله عليه وسلم استحقه بحصول
النصرة فيكون لمن يقوم مقامه في النصرة، وعنه انه يصرف في الكراع والسلاح لأن ذلك يروى
عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا السهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنيمة حضر أو لم يحضر
كما أن بقية أصحاب الخمس يستحقون وان لم يحضروا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع به ما شاء فلما
توفي وليه أبو بكر ولم يسقط بموته، وقد قيل إنما أضافه الله تعالى إلى نفسه وإلى رسوله ليعلم ان جهته
جهة المصلحة وانه ليس بمختص بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسقط بموته وقد زعم قوم انه سقط بموته ويرد على
الانصباء الباقية من الخمس لأنهم شركاؤه، وقال آخرون بل يرد على الغانمين لأنهم استحلوها
بقتالهم وحرمت منها سهام منها سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام حيا فلما مات وجب رده إلى من وجد
فيه سبب الاستحقاق كما أن تركة الميت إذا خرج منها سهم بوصية ثم بطلت الوصية رد إلى التركة،
وقالت طائفة هو للخليفة بعده لأن أبا بكر رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أطعم
الله نبيا طعمة ثم قبضه فهي للذي يقوم بها من بعده وقد رأيت أن أرده على المسلمين) والصحيح
انه باق وانه يصرف في مصالح المسلمين لكن الإمام يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في صرفه فيما يرى فإن أبا بكر
496

قال لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه الا صنعته، متفق عليه، واتفق هو وعمر
والصحابة
رضي الله عنهم على وضعه في الخيل والعدة في سبيل الله، هكذا روي عن الحسن بن محمد بن الحنفية
(فصل) وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المغنم الصفي وهو شئ يختاره من المغنم قبل القسمة كالجارية
والعبد والثوب والسيف ونحوه هذا قول محمد بن سيرين والشعبي وقتادة وغيرهم من أهل العلم وقال
أكثرهم ان ذلك انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد الصفي إنما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصا لم يبق
بعده لا نعلم مخالفا لهذا إلا أبا ثور فإنه قال كان الصفي ثابتا للنبي صلى الله عليه وسلم فللإمام ان يأخذه على نحو
ما كان يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله مجعل سهم النبي صلى الله عليه وسلم من خمس الخمس فجمع بين الشك فيه في
حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة الاجماع في ابقائه بعد موته، قال ابن المنذر لا أعلم أحدا سبق أبا ثور إلى هذا
القول وقد أنكر قوم كون الصفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم واحتجوا بحديث جبير بن مطعم وقد روى
أبو داود باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ولان الله تعالى قال (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه
) فمفهومه ان باقيها للغانمين
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى بني زهير بن قيس (إنكم ان شهدتم ان لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم الصفي إنكم آمنون بأمان الله ورسوله)) رواه
497

أبو داود، وفي حديث وفد عبد القيس الذي رواه ابن عباس (وان تعطوا سهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي)
وقالت عائشة رضي الله عنها كانت صفية من الصفي رواه أبو داود، وأما انقطاعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فثابت
باجماع الأمة قبل أبي ثور وبعده وكون الخلفاء الراشدين ومن بعدهم لم يأخذوه ولا يجمعون الاعلى الحق
(فصل) (والسهم الثاني) لذي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب حيث كانوا غنيهم وفقيرهم
فيه سواء للذكر مثل حظ الأنثيين وسهم ذوي القربى ثابت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا ذلك
والخلاف فيه وقد دل عليه ما روى جبير بن مطعم قال وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى في
بني هاشم وبني المطلب وذكر الحديث وهو حديث صحيح رواه أبو داود ولم يأت لذلك نسخ
ولا تغيير فوجب القول به والعمل بحكمه
(فصل) وهم بنو هاشم وبنو المطلب ابنا عبد مناف دون غيرهم لما روى جبير بن مطعم قال لما
قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى من حنين بين بني هاشم وبني المطلب اتيت انا وعثمان بن
عفان فقلنا يا رسول الله أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم فما بال
إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال (إنهم لم يفارقوني في
498

جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد) وشبك بين أصابعه رواه أحمد وروى
البخاري فراعى لهم النبي صلى الله عليه وسلم نصرتهم وموافقتهم بني هاشم، ولا يستحق من كانت أمه منهم وأبوه
من غيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفع إلى أقارب أمه وهو بنو زهرة شيئا ولم يدفع أيضا إلى بني عماته
كالزبير بن العوام وعبد الله بن جحش ونحوهم
(فصل) ويستوي فيه الذكر والأنثى لدخولهم في اسم القرابة واختلفت الرواية في قسمه بينهم
فعن أحمد أنه يقسم للذكر مثل حظ الأنثيين هذا اختيار الخرقي ومذهب الشافعي لأنه سهم استحق
بالقرابة من الأب شرعا ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث ويفارق الوصية وولد الام لأن الوصية
استحقت بقول الموصي وولد الام استحقوا الميراث بقرابة الام وعنه أنه يساوى بين الذكر والأنثى
وهو قول أبي ثور والمزني وابن المنذر لأنهم أعطوا باسم القرابة والذكر والأنثى فيها سواء فأشبه
ما لو وقف على قرابة فلان ألا ترى ان الجد يأخذ مع الأب وابن الأب يأخذ مع الابن وهذا يدل
على مخالفة المواريث ولأنه سهم من خمس الخمس لجماعة فاستوى فيه الذكر والأنثى كسهم اليتامى
ويسوى بين الصغير والكبير على الروايتين لاستوائهم في القرابة وقياسا على الميراث
(فصل) ويفرق فيهم حيث كانوا ويجب تعميمهم به حسب الامكان وهذا قول الشافعي وقال
قوم يختص كل أهل ناحية بخمس مغزاها الذي ليس لهم مغزى سواه فما يوجد من مغزى الروم لأهل
الشام والعراق وما يوجد من مغزى الترك لمن في خراسان من ذوي القربى لما يلحق من المشقة في نقله
ولأنه بتعذر تعميمهم فلم يجب كأصناف الزكاة ووجه الأول أنه سهم مستحق بقرابة الأب فوجب
499

دفعه إلى كل المستحقين كالميراث فعلى هذا يبعث الإمام إلى عماله في الأقاليم وينظر كم حصل من
ذلك فإن استوت فيه فرق كل خمس خمس فيمن قاربه وان اختلفت أمر بحمل الفضل ليدفع إلى مستحقه
كالميراث وفارق الصدقة حيث لا تنقل لأن كل بلد لا يكاد يخلو من صدقة تفرق على فقراء أهله
والخمس يوجد في بعض الأقاليم فلو لم ينقل لأدى إلى اعطاء البعض وحرمان البعض قال شيخنا
والصحيح إن شاء الله أنه لا يجب التعميم لأنه يتعذر فلم يجب كتعميم المساكين وما ذكر من
بعث الإمام عماله فهو متعذر في زماننا لأن الإمام لم يبق له حكم إلا في بعض بلاد الاسلام ولم يبق
له جهة في الغزو ولا له فيه أمر ولان هذا سهم من سهام الخمس فلم يجب تعميمه كسائر سهامه فعلى هذا
يفرقه كل سلطان فيما أمكن من بلاده
(فصل) ويستوي فيه غنيهم وفقيرهم، وهذا قول الشافعي وأبي ثور. وقيل يختص
بالفقير كبقية السهام.
ولنا عموم قوله تعالى (ولذي القربى) وهو عام لا يجوز تخصيصه بغير دليل ولان النبي صلى الله عليه وسلم
كان يعطي أقاربه كلهم وفيهم الغني كالعباس وغيره ولم ينقل عنه تخصيص الفقراء منهم ولأنه مال
مستحق بالقرابة فاستوى فيه الغني والفقير كالميراث والوصية للأقارب ولان عثمان وجبيرا طلبا
حقهما وسألا عن علة المنع لهما ولأقاربهما وهما موسران فعلله النبي صلى الله عليه وسلم بنصرة بني المطلب دونهم
500

وكونهم مع بني هاشم كالشئ الواحد ولو كان اليسار مانعا والفقر شرطا لم يطلبا مع عدمه ولعل النبي
صلى الله عليه وسلم منعهما بيسارهما وانتفاء فقرهما
(فصل) والسهم الثالث لليتامى واليتيم الذي لا أب له ولم يبلغ الحلم لقول النبي (لا يتم بعد
احتلام) قال بعض أصحابنا لا يستحقون الا مع الفقر وهو المشهور من مذهب الشافعي لأن ذا الأب
لا يستحق والمال أنفع من وجود الأب، ولأنه صرف إليهم لحاجتهم فإن اسم اليتيم يطلق عليهم في
العرف للرحمة ومن كان اعطاؤه لذلك اعتبرت الحاجة وفارق ذوي القربى فإنهم استحقوا لقربهم
من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرمة لهم والغني والفقير في القرب سواء فاستويا في الاستحقاق. قال شيخنا:
ولم أعلم هذا نصا عن أحمد والآية تقتضي تعميمهم وقال بعض أصحاب الشافعي له قول آخر أنه للغني
والفقير لعموم النص في كل يتيم ولأنه لو خص به الفقير لكان داخلا في جملة المساكين الذين هم
أصحاب السهم الرابع وكان يستغنى عن ذكرهم وتسميتهم، وقال أصحابنا ويفرقه الإمام في
جميع الأقطار ولا يختص به أهل ذلك المغزى، والقول فيه كالقول في سهم ذي القربى وقد
تقدم القول فيه:
(فصل) والسهم الرابع للمساكين للآية وهم أهل الحاجة فيدخل فيهم الفقراء فالفقراء والمساكين
صنفان في الزكاة وصنف واحد ههنا وفي سائر الأحكام وإنما يقع التميز بينهما إذا جمع بينهما بلفظين
ولم يرد ذلك الا في الزكاة، وقد ذكرناهم في أصنافها. قال أصحابنا: ويعم بها جميعهم في جميع
501

البلاد كقولهم في سهم ذي القربى واليتامى وقد تقدم القول في ذلك ولان تعميمهم يتعذر فلم يجب
كما لا يجب تعميمهم في الزكاة
(فصل) والسهم الخامس لأبناء السبيل وقد ذكرناه في الزكاة ويعطى كل واحد منهم قدر ما
يصل به إلى بلده كما ذكرنا في الزكاة فإن اجتمع في واحد أسباب كالمسكين واليتيم وابن السبيل استحق
بكل واحد منهما لأنها أسباب لأحكام فوجب أن تثبت أحكامها كما لو انفردت، فإن أعطاه ليتمه فزال
فقره لم يعط لفقره شيئا
(فصل) ولا حق في الخمس لكافر لأنه عطية من الله تعالى فلم يكن لكافر فيه حق كالزكاة ولا لعبد
لأن ما يعطاه لسيده فكانت العطية لسيده دونه
(مسألة) (ثم يعطي النفل بعد ذلك)
لأنه حق ينفرد به بعض الغانمين فقدم على القسمة كالأسلاب والنفل من أربعة أخماس الغنيمة
وفيه اختلاف ذكرناه فيما مضى
(مسألة) (ويرضخ لمن لا سهم له وهم العبيد والنساء والصبيان)
ومعنى الرضخ أن يعطوا شيئا من الغنيمة دون السهم ولا تقدير لما يعطونه بل ذلك إلى اجتهاد
الإمام فإن رأى التسوية بينهم سوى، وان رأى التفضيل فضل وهذا قول أكثر العلماء منهم سعيد
ابن المسيب والثوري والليث وإسحاق والشافعي وبه قال مالك في المرأة والعبد وروي عن ابن عباس
502

وقال أبو ثور يسهم للعبد، وروي عن عمر بن عبد العزيز والحسن والنخعي لما روي عن الأسود بن
يزيد انه شهد فتح القادسية عبيد فضرب لهم سهامهم ولان حرمة العبد في الدين كحرمة الحر وفيه
من الغناء مثل ما فيه فوجب ان يسهم له كالحر وحكي عن الأوزاعي ليس للعبيد سهم ولا رضخ الا
ان يجيئوا بغنيمة أو يكون لهم غناء فيرضخ لهم قال ويسهم للمرأة لما روى جبير بن زياد عن جدته أنها
حضرت فتح خيبر قالت فأسهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسهم للرجال وأسهم أبو موسى في غزوة
تستر لنسوة معه، وقال أبو بكر بن أبي مريم أسهم للنساء يوم اليرموك، وروى سعيد باسناده عن
ابن شبل ان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لسهلة بنت عاصم يوم حنين فقال رجل من القوم
أعطيت سهلة مثل سهمي.
ولنا ما روى ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوا بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من
الغنيمة واما سهم فلم يضرب لهن رواه مسلم، وروى سعيد عن يزيد بن هارون ان نجدة كتب
إلى ابن عباس يسأله عن المرأة والمملوك يحضران الفتح ألهما من الغنيمة شئ؟ وفي رواية ليس لهما سهم
وقد يرضخ لهما وعن عمير مولى أبي اللحم قال شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر
أبي مملوك فأمر لي بشئ من خرثي المتاع رواه أبو داود واحتج به أحمد ولأنهما ليسا من أهل وجوب
القتال أشبها الصبي فأما ما روي في سهام النساء فيحتمل ان الراوي سمي الرضخ سهما بدليل ان في
حديث حشرج انه جعل لهن نصيبا تمرا ولو كان سهما ما اختص التمر ولان خيبر قسمت على أهل
503

الحديبية نفر مخصوصين في غير حديثها ولم يذكرن منهم ويحتمل انه أسهم لهن مثل سهم الرجال
من التمر خاصة أو من المتاع دون الأرض وأما حديث سهلة فإن في الحديث انها ولدت فأعطاها
النبي صلى الله عليه وسلم لها ولولدها فبلغ رضخهما سهم رجل ولذلك عجب الرجل فقال أعطيت سهلة مثل سهمي
ولو كان هذا مشهورا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما عجب منه
(فصل) والمدبر والمكاتب كالقن لأنهم عبيد فمن عتق منهم قبل تقضي الحرب أسهم له وكذلك
ان قتل سيد المدبر قبل تقضي الحرب فخرج من الثلث فأما من بعضه حر فقال أبو بكر يرضخ له بقدر
ما فيه من الرق ويسهم له بقدر ما فيه من الحرية فإذا كان نصفه حرا أعطي نصف سهم ونصف رضخ
لأن هذا مما يمكن تبعيضه فقسم على قدر ما فيه من الحرية والرق كالميراث وظاهر كلام أحمد انه يرضخ
له لأنه ليس من أهل وجوب القتال فأشبه الرقيق
(فصل) والخنثى المشكل يرضخ له لأنه لم يثبت انه رجل فيسهم له ولأنه ليس من أهل وجوب
الجهاد فأشبه المرأة ويحتمل أن يقسم له نصف سهم ونصف الرضخ كالميراث فإن انكشف حاله فتبين
انه رجل أتم له سهم رجل سواء انكشف قبل تقضي الحرب أو بعد أو قبل القسمة أو بعدها
لأنا تبينا انه كان مستحقا للسهم وانه أعطي دون حقه فأشبه ما لو أعطى بعض الرجال دون حقه غلطا
(فصل) والصبي يرضخ له وبه قال الثوري والليث وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وعن القاسم
في الصبي يغزو انه ليس له شئ وقال مالك يسهم له إذا قاتل وأطاق ذلك ومثله قد بلغ القتال لأنه حر
504

ذكر مقاتل فيسهم له كالرجل وقال الأوزاعي يسهم له وقال أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر
وأسهم أئمة المسلمين لكل مولود ولد في أرض الحرب وروى الجوزجاني باسناده عن الوضين بن
عطاء قال حدثتني جدتي قالت كنت مع حبيب بن سلمة وكان يسهم لأمهات الأولاد لما في بطونهن
ولنا ما روي عن سعيد بن المسيب قال كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو
في صدر هذه الأمة وروى الجوزجاني باسناده ان تميم بن قرع المهري كان في الجيش الذي فتح
الإسكندرية في المرة الأخيرة قال فلم يقسم لي عمرو من الفئ شيئا وقال غلام لم يحتلم حتى كاد يكون بين
قومي وبين أناس من قريش لذلك ثائرة فقال بعض القوم فيكم أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاسألوهم فسألوا أبا نضرة الغفاري وعقبة بن عامر فقالوا أنظروا فإن كان قد أشعر فأقسموا له فنظر إلي
بعض القوم فإذا انا قد انبت فقسم لي قال الجوزجاني هذا من مشاهير حديث مضر وجيده ولأنه ليس
من أهل القتال فلم يسهم له كالعبد ولم يثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم قسم لصبي بل كان لا يجيزهم في القتال
قال ابن عمر عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن
خمس عشرة فأجازني وما ذكروه يحتمل ان الراوي سمي الرضخ سهما بدليل ما ذكرناه
(فصل) فإن انفرد بالغنيمة من لا يسهم له مثل عبيد دخلوا دار الحرب فغنموا أو صبيان أو
505

عبيد وصبيان أخذ خمسه وما بقي لهم فيحتمل ان يقسم بينهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لأنهم تساووا
فأشبهوا الرجال الأحرار ويحتمل ان يقسم بينهم على ما يراه الإمام من المفاضلة لأنه لا تجب التسوية بينهم مع غيرهم
فلا تجب مع الانفراد قياسا لاحدى الحالتين على الأخرى، وإن كان فيهم رجل حر أعطي سهما وفضل
عليهم بقدر ما يفضل الأحرار على العبيد والصبيان في غير هذا الموضع ويقسم الباقي بين من بقي على ما يراه
الإمام من التفضيل لأن فيهم من له سهم بخلاف التي قبلها
(مسألة) (وفي الكافر روايتان إحداهما يرضخ له والأخرى يسهم له)
اختلفت الرواية في الكافر يغزو مع الإمام باذنه فروي عن أحمد أنه يسهم له كالمسلم وبهذا قال
الزهري والأوزاعي والثوري وإسحاق قال الجوزجاني هذا قول أهل الثغور وأهل العلم بالصوائف
والبعوث وعن أحمد لا يسهم له وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي لأنه من غير أهل الجهاد فلم
يسهم له ولكن يرضخ له كالعبد
ولنا ما روى الزهري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم رواه
سعيد في سننه وروي ان صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو على شركه فأسهم له
وأعطاه من سهم المؤلفة ولان الكفر نقص في الدين فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق وبهذا فارق
العبد فإن نقصه في دنياه وأحكامه، وان غزا بغير اذن الإمام فلا سهم له لأنه غير مأمون على الدين فهو
كالمرجف وشر منه وان غزا جماعة من الكفار وحدهم فغنموا احتمل أن تكون غنيمتهم لهم لا خمس
506

فيها لأن هذا اكتساب مباح لم يوجد على وجه الجهاد فكان لهم لا خمس فيه كالاحتشاش والاحتطاب
ويحتمل ان يؤخذ خمسه والباقي لهم لائه غنيمة قوم من أهل دار الاسلام فأشبهت غنيمة المسلمين
(مسألة) (ولا يبلغ بالرضخ للراجل سهم راجل ولا للفارس سهم فارس)
كما لا يبلغ بالتعزير الحد ولا بالحكومة دية العضو، ويقسم الإمام بين أهل الرضخ كما يرى فيفضل
العبد المقاتل ذو البأس على من ليس مثله ويفضل المرأة المقاتلة والتي تسقي الماء وتداوي الجرحى وتنفع
على غيرها، فإن قيل هلا سويتم بينهم كما سويتم بين أهل السهمان؟ قلنا السهم منصوص عليه غير
موكول إلى الاجتهاد فلم يختلف كالحد ودية الحر، والرضخ غير مقدر بل هو مجتهد فيه مردود إلى
اجتهاد الإمام فاختلف كالتعزير وقيمة العبد والرضخ بعد الخمس في أحد الوجهين، وفيه وجه آخر
انه من أصل الغنيمة وقد ذكرناه
(مسألة) (فإن تغيرت حالهم قبل تقضي الحرب أسهم لهم)
يعني ان بلغ الصبي أو عتق العبد أو أسلم الكافر أسهم لهم لأنهم شهدوا الوقعة وهم من أهل القتال
فأسهم لهم كغيرهم ولقول عمر رضي الله عنه: الغنيمة لمن شهد الوقعة
(مسألة) (وان غزا العبد على فرس لسيده قسم لفرس ورضخ للعبد)
أما الرضخ للعبد فلما تقدم. وأما الفرس الذي تحته فيستحق مالكها سهمها، فإن كان معه فرسان
507

أو أكثر أسهم لفرسين كما لو كانتا مع السيد. ويرضخ للعبد نص على هذا أحمد، وقال أبو حنيفة
والشافعي لا يسهم للفرس لأنه تحت من لا يسهم له فلم يسهم له كما لو كان تحت مخذل
ولنا انه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فأسهم له كما لو كان السيد راكبه. إذا ثبت هذا فإن
سهم الفرس ورضخ العبد لسيده لأنه مالكه ومالك فرسه وسواء حضر السيد القتال أو غاب عنه،
وفارق فرس المخذل لأن الفرس له فإذا لم يستحق شيئا بحضوره فلان لا يستحق بحضور فرسه أولى
(فصل) فإن غزا الصبي على فرس أو المرأة أو الكافر إذا قلنا لا يسهم له لم يسهم للفرس في
ظاهر قول أصحابنا لأنهم قالوا لا يبلغ بالرضخ للفرس سهم فارس وظاهر هذا انه يرضخ له ولفرسه
ما لم يبلغ سهم الفارس، ولان سهم الفرس له فإذا لم يستحق السهم بحضوره فبفرسه أولى
بخلاف العبد فإن الفرس لغيره
(فصل) وان غزا المخذل أو المرجف على فرس فلا شئ له ولا للفرس لما ذكرنا، وان غزا العبد
بغير إذن سيده لم يرضخ له لأنه عاص بغزوه فهو كالمخذل والمرجف، وان غزا الرجل بغير اذن
والديه أو بغير اذن غريمه استحق السهم لأن الجهاد تعين عليه بحضور الصف فلا يبقى عاصيا به بخلاف العبد
(فصل) ومن استعار فرسا ليغزو عليه فسهم الفرس للمستعير وبهذا قال الشافعي لأنه متمكن
508

من الغزو عليه باذن صحيح شرعي أشبه ما لو استأجره
وعن أحمد ان سهم الفرس لمالكه لأنه من نمائه فأشبه ولده وبهذا قال بعض الحنفية، وقال
بعضهم لا سهم للفرس لأن مالكه لم يستحق سهما فلم يستحق الفرس شيئا كالمخذل والمرجف، والأول
أصح لأنه فرس قاتل عليه من يستحق سهما وهو مالك نفعه فاستحق سهم الفرس كالمستأجر ولان
سهم الفرس مستحق بمنفعته وهي للمستعير بإذن المالك فيها، وفارق النماء فإنه غير مأذون فيه، فأما
ان استعاره لغير الغزو ثم غزا عليه فهو كالفرس المغصوب عليه ما سنذكره إن شاء الله تعالى
(فصل) فإن استأجر فرسا للغزو فغزا عليه فسهم الفرس له،
لا نعلم فيه خلافا لأنه مستحق لنفعه استحقاقا لازما أشبه المالك وإن كان المستأجر والمستعير ممن
لا سهم له إما لكونه لا شئ له كالمخذل والمرجف أو ممن يرضخ له كالصبي فحكمه حكم فرسه على
ما ذكرنا، وان غزا على فرس حبيس فسهم الفرس له كما لو استأجره
(فصل) ينبغي أن يقدم قسم أربعة الأخماس على قسم الخمس لأن أهلها حاضرون وأهل الخمس
غائبون ولان رجوع الغانمين إلى أوطانهم يقف على قسمة الغنيمة وأهل الخمس في أوطانهم، ولان
الغنيمة حصلت بتحصيل الغانمين وتعبهم وأهل الخمس بخلاف ذلك فكان الغانمون أولى بالتقديم،
ولان الغنيمة إذا قسمت بين الغانمين أخذ كل واحد نصيبه فكفى الإمام همه ومؤنته بخلاف الخمس
509

فإن الإمام لا يكتفي مؤنته بقسمه فلا تحصل الفائدة به، ولان الخمس لا يمكن قسمه بين أهله كلهم
لأنه يحتاج إلى معرفتهم وعددهم ولا يمكن ذلك مع غيبتهم، ولان الغانمين ينتفعون بسهامهم ويتمكنون
من التصرف فيها والله تعالى اعلم
(مسألة) (ثم يقسم باقي الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه)
أجمع أهل العلم على أن للغانمين أربعة أخماس الغنيمة، وقد دل النص على ذلك بقوله تعالى
(واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) يفهم منه ان أربعة أخماسها الباقية لهم لأنه أضافها إليهم
ثم أخذ منها سهما لغيرهم فبقي سائرها لهم كقوله تعالى (وورثه أبواه فلأمه الثلث) ففهم منه ان
الباقي للأب وقال عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة
(فصل) (ويقسم بينهم للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه)
هذا قول أكثر أهل العلم ان الغنيمة تقسم للفارس ثلاثة أسهم له سهم ولفرسه سهمان وللراجل
سهم، قال ابن المنذر هذا مذهب عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعوام
علماء الاسلام قي القديم والحديث منهم مالك ومن تبعه من أهل المدينة والثوري ومن وافقه من أهل العراق
والليث ومن تبعه من أهل مصر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة
للفرس سهم واحد لما روى مجمع بن حارثة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم خيبر على أهل الحديبية فأعطى الفارس
510

سهمين وأعطى الراجل سهما، رواه أبو داود ولأنه حيوان ذو سهم فلم يزد على سهم كالآدمي
ولنا ما روى ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم سهمان لفرسه
وسهم له متفق عليه وعن أبي رهم وأخيه أنهما كانا فارسين يوم خيبر فأعطيا ستة أسهم أربعة أسهم
لفرسيهما وسهمين لهما رواه سعيد بن منصور وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفارس ثلاثة
أسهم وأعطى الرجال سهما وقال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم هكذا للفرس
سهمين ولصاحبه سهما وللراجل سهما، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: أما بعد
فإن سهمان الخيل فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين للفرس وسهما للراجل ولعمري لقد كان حديثا
ما أشعر ان أحدا من المسلمين هم بانتقاص ذلك والسلام عليك رواهما سعيد والأثرم وهذا يدل على
ثبوت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وأنه أجمع عليه فلا يعول على ما خالفه، فاما حديث مجمع فيحتمل أنه
أراد أعطى الفارس سهمين لفرسه وأعطى الراجل سهما يعني صاحبه فيكون ثلاثة أسهم على أن
حديث ابن عمر أصح منه وقد وافقه حديث أبي رهم وأخيه وابن عباس وهؤلاء أحفظ وأعلم وابن
عمر وأبو رهم وأخوه ممن شهدوا وأخذوا السهمان وأخبروا عن أنفسهم فلا يعارض ذلك بخبر شاذ
تعين غلطه أو حمله على ما ذكرنا وقياس الفرس على الآدمي لا يصح لأن أثرها في الحرب أكثر
وكلفتها أعظم فينبغي أن يكون سهما أكثر
511

(مسألة) (إلا أن يكون فرسه هجينا أو برذونا فيكون له سهم وعنه له سهمان كالعربي)
الهجين الذي أبوه عربي وأمه برذونة والعربي بالعكس قالت هند بنت النعمان ابن (1) بشير
وما هند إلا مهرة عربية * سليلة أفراس تحللها بغسل
فإن ولدت مهرا كريما فبالحري * وان يك اقراف فما تجب الفحل
وقد حكي عن أحمد أنه قال الهجين البرذون واختلفت الرواية عنه في سهمانها فقال الخلال
تواترت الروايات عن أبي عبد الله في سهام البرذون انه سهم واحد واختاره أبو بكر والخرقي وهو
قول الحسن، قال الخلال وروى عنه ثلاثة منقطعون انه يسهم للبرذون سهم العربي اختاره الخلال
وبه قال عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي والثوري لأن الله تعالى قال (والخيل والبغال) وهذا
من الخيل، ولان الرواة رووا ان النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما وهذا عام في كل فرس
ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى فيه العربي وغيره كالآدمي وحكى أبو بكر عن أحمد رواية ثالثة ان
البرازين ان أدركت ادراك العراب أسهم لها سهم العربي والا فلا وهذا قول ابن أبي شيبة وابن
أبي خثيمة وأبي أيوب والجوزجاني لأنها من الخيل وقد عملت عمل العراب فأعطيت سهما كالعربي
وحكى القاضي رواية رابعة أنها لا سهم لها وهو قول مالك بن عبد الله الخثعمي لأنه حيوان لا يعمل
عمل الخيل العراب فأشبه البغال ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق منها لما روى
الجوزجاني باسناده عن أبي موسى أنه كتب إلى عمر بن الخطاب انا وجدنا بالعراق خيلا عرابا دكنا فما

(1) لعله ابن المنذر
512

ترى يا أمير المؤمنين في سهمانها؟ فكتب إليه تلك البراذين بما قارب العتاق منها فاجعل له سهما واحدا
وألغ ما سوى ذلك ووجه الأولى ما روى سعيد باسناده عن أبي الأقمر قال أغارت الخيل على الشام
فأدركت العراب من يومها وأدركت الكوادن صحي الغدو على الخيل رجل من همدان يقال له المنذر
ابن أبي حميضة فقال لا أجعل الذي أدرك من يومه مثل الذي لم يدرك ففضل الخيل العراب فقال
عمر هبلت الوادعي أمه امضوها على ما قال ولم يعرف عن الصحابة خلاف هذا القول وروى مكحول
ان النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهما رواه سعيد ولان نفع العربي وأثره
في الحرب أكثر فيكون سهمه أرجح كتفاضل من يرضخ له وأما قولهم إنه من الخيل قلنا الخيل في
أنفسها تتفاضل فتتفاضل سهامها وقولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفرس سهمين من غير تفريق قلنا هذه
قضية في عين لا عموم لها فيحتمل أنه لم يكن فيها برذون وهو الظاهر فإنها من خيل العرب ولا براذين
فيها ويدل على صحة ذلك أنهم لما وجدوا البراذين في العراق أشكل عليهم أمرها وان عمر فرض لها
سهما واحدا وأمضى ما قال المنذر بن أبي حميضة في تفضيل العراب عليها ولو خالفه لما سكت الصحابة
عن انكاره عليه سيما وابنه هو راوي الخبر فكيف يخفى عليه ذلك؟ ويحتمل أنه فضل العراب فلم
يذكر الرواي ذلك لغلبة العراب وقلة البراذين وقد دل على ذلك التأويل خبر مكحول الذي رويناه
513

وقياسها على الآدمي لا يصح لأن العربي منهم لا أثر له في الحرب زيادة على غيره بخلاف العربي من
الخيل فإنه يفضل على غيره والله أعلم
(فصل) ويعطى الراجل سهما بغير خلاف لما ذكرنا من الاخبار ولان الراجل لا يحتاج إلى
ما يحتاج إليه الفارس من النفقة ولا يغني كغنائه فاقتضى ان ينقص سهمه عن سهمه وسواء كانت
الغنيمة من فتح مدينة أو حصن وبه قال الشافعي وقال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي عن اسهام
الخيل من غنائم الحصون فقال كانت الولاة قبل عمر بن عبد العزيز لا يسهمون للخيل من الحصون
ويجعلون الناس كلهم رجالة حتى ولي عمر فأنكر ذلك وأمر باسهام الخيل من الحصون والمدائن
ووجهه ان النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر ففضل الفارس وهي حصون ولان الخيل ربما احتيج إليها ان
خرج أهلا الحصن ويلزم صاحبه مؤنة له فأشبه الغنيمة من غير الحصن
(مسألة) (ولا يسهم لأكثر من فرسين).
يعني إذا كان مع الرجل خيل أسهم لفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهما ولم يزد على ذلك، وقال
أبو حنيفة ومالك والشافعي لا يسهم لأكثر من فرس واحد لأنه لا يمكن أن يقاتل على أكثر منها
فلم يسهم لما زاد عليها كالزائد على الفرسين.
ولنا ما روى الأوزاعي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين
514

وان كانت معه عشرة أفراس، وعن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى
أبي عبيدة بن الجراح ان يسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهما فذلك خمسة
أسهم وما كان فوق الفرسين فهي جنائب رواهما سعيد ولان به إلى الثاني حاجة فإن إدامة ركوب
واحد تضعفه وتمنع القتال عليه فيسهم له كالأول بخلاف الثالث فإنه مستغنى عنه.
(مسألة) (ولا يسهم لغير الخيل، وقال الخرقي من غزا على بعير لا يقدر على غيره قسم
له ولبعيره سهمان).
أما ما عدا الخيل والإبل من البغال والحمير والفيلة وغيرها فلا سهم لها وان عظم غناؤها وقامت
مقام الخيل، وذكر القاضي ان الفيلة حكمها حكم الهجين لها سهم ذكره في الأحكام السلطانية والأول
أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لها ولا أحد من خلفائه ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم
يسهم لها كالبقر، وأما الإبل فقد روي عن أحمد انه يسهم للبعير سهم ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره
وحكي نحو هذا عن الحسن لأن الله تعالى قال (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) ولأنه خيل
تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس. يحققه أن تجويز المسابقة بعوض إنما أبيح في ثلاثة
أشياء دون غيرها لأنها آلات الجهاد فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها تحريضا على رباطها وتعلم
الاتقان فيها، وروي عن أحمد مثل ما ذكر الخرقي وظاهر ذلك أن لا يسهم للبعير مع امكان الغزو
515

على فرس إذا ثبت ذلك فلا يزاد على سهم البرذون لأنه دونه ولا يسهم له إلا أن يشهد الوقعة عليه
ويكون مما يمكن القتال عليه فأما هذه الإبل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا تستحق شيئا لأن راكبها
لا يكر ولا يفر فهو أدنى حالا من الراجل، واختار أبو الخطاب انه لا سهم له وهو قول الأكثرين
قال ابن المنذر أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم ان من غزا على بعير فله سهم راجل كذلك قال
الحسن ومكحول والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم ينقل عنه انه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيرا ولم تخل غزوة من غزواته
من الإبل بل هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل انه أسهم لها ولو أسهم لها لنقل وكذلك من بعد النبي
صلى الله عليه وسلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه انه أسهم لبعير ولو أسهم
لم يخف ذلك ولأنه لا يمكن صاحبه الكر والفر فلم يسهم له كالبغل.
(مسألة) (ومن دخل دار الحرب راجلا ثم ملك فرسا أو استعاره أو استأجره فشهد به
الوقعة فله سهم فارس ومن دخل فارسا فنفق فرسه أو شرد حتى تقضى الحرب فله سهم راجل).
قال احمد أرى ان كل من شهد الوقعة على اي حالة كان يعطى إن كان فارسا ففارس وإن كان
راجلا فراجل لأن عمر رضي الله عنه قال الغنيمة لمن شهد الوقعة، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي
وأبو ثور وإسحاق ونحوه قال ابن عمر وقال أبو حنيفة الاعتبار بدخول دار الحرب فإن دخل
516

فارسا فله سهم فارس وإن نفق فرسه قبل القتال وإن دخل راجلا فله سهم الرجال وإن استفاد فرسا
فقاتل عليه وعنه رواية أخرى كقولنا قال احمد كان سليمان بن موسى يعرضهم إذا أدركوا الفارس
فارس والراجل راجل لأنه دخل في الحرب بنية القتال فلا يتغير سهمه بذهاب دابته أو حصول دابة
له كما لو كان بعد القتال وقال الخرقي الاعتبار بحال احراز الغنيمة فإن أحرزت الغنيمة وهو راجل
فله سهم راجل وإن أحرزت وهو فارس فله سهم فارس فيحتمل انه أراد بحيازة الغنيمة الاستيلاء
عليها فيكون كما ذكرنا ويحتمل أن يكون أراد جمع الغنيمة وضمها واحرازها وقد ذكرنا فيما إذا
لحق مدد أو هرب أسير بعد تقضي الحرب وقبل احراز الغنيمة هل يسهم له منها؟ على وجهين فيخرج
ههنا مثل ذلك والله أعلم.
ولنا ان الفرس حيوان يسهم له فاعتبر وجوده حالة القتال فيسهم له مع الوجود فيه ولا يسهم
له مع العدم كالآدمي والأصل في هذا أن حالة استحقاق السهم حال تقضي الحرب بدليل قول عمر
الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك بخلاف ما قبل
ذلك فإن الأموال في أيدي أصحابها فلا ندري هل يظفر بهم أولى ولأنه لو مات بعض المسلمين قبل
الاستيلاء لم يستحق شيئا ولو وجد مددا في تلك الحال استحقوا السهم فدل على أن الاعتبار بحالة
الاستيلاء فوجب اعتباره دون غيره
517

(مسألة) (ومن غصب فرسا فقاتل عليه فسهم الفرس لمالكه)
نص عليه أحمد وقال بعض الحنفية لا سهم للفرس وهو وجه لأصحاب الشافعي وقال بعضهم سهم
الفرس للغاصب وعليه أجرته لمالكه لأنه آلة فكان الحاصل بها لمستعملها كما لو غصب منجلا فاحتش
بها أو سيفا فقاتل به.
ولنا أنه فرس قاتل عليه من يستحق السهم فاستحق السهم كما لو كان مع صاحبه فإذا ثبت أن
له سهما كان لمالكه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما وما كان للفرس كان
لصاحبه وفارق ما يحتش به فإنه لا شئ له ولان السهم مستحق بنفع الفرس ونفعه لمالكه فوجب أن يكون
ما يستحق به له.
(فصل) فإن الغاصب ممن لا سهم له اما لكونه لا شئ له كالمخذل أو ممن يرضخ له كالصبي
احتمل أن يكون حكم فرسه حكمه على ما ذكرنا لأن الفرس تتبع الفارس في حكمه فتتبعه إذا كان
مغصوبا قياسا على فرسه واحتمل أن يكون سهم الفرس لمالكه لأن الجناية من راكبه والنقص فيه
فيخص المنع به وبما هو تابع له وفرسه تابعة له لأن ما كان لها فهو له والفرس ههنا لغيره وسهمها لمالكها
فلا ينقص سهمها بنقص سهمه كما لو قاتل العبد على فرس لسيده ولو قاتل العبد بغير إذن سيده على
فرس لسيده خرج فيه الاحتمالان اللذان ذكرناهما فيما إذا غصب فرسا فقاتل عليه لأنه
ههنا بمنزلة المغصوب.
518

(مسألة) (وإذا قال الإمام من أخذ شيئا فهو له أو فضل بعض الغانمين على بعض لم يجز في
إحدى الروايتين ويجوز في الأخرى)
إذا قال الإمام من أخذ شيئا فهو له جاز في إحدى الروايتين وبه قال أبو حنيفة وهو أحد قولي
الشافعي، قال أحمد في السرية تخرج فيقول الوالي من جاء بشئ فهو له ومن لم يجئ بشئ فلا شئ
له: الأنفال إلى الإمام ما فعل من شئ جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم بدر (من اخذ شيئا فهو له)
ولأنهم على هذا غزوا ورضوا به
(والثانية) لا يجوز وهو القول الثاني للشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم والخلفاء بعده ولان
ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال وظفر العدو بهم فلا يجوز ولان الاغتنام سبب لاستحقاقهم
لها على سبيل التساوي فلا يزول ذلك بقول الإمام كسائر الاكتساب فأما قضية بدر فإنها منسوخة
فإنهم اختلفوا فيها فأنزل الله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) الآية
(فصل) فاما تفضيل بعض الغانمين على بعض فإن كان على سبيل النفل لبعضهم زيادة على سهمه
فقد ذكرناه في الأنفال فاما غير ذلك فلا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل
سهما وسوى بينهم ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فتجب التسوية بينهم كسائر الشركاء
ولأنه يفضي إلى إيقاع العداوة بينهم وافساد قلوبهم
519

(مسألة) (ومن استؤجر للجهاد ممن لا يلزمه من العبيد والكفار فليس له الا الأجرة
إذا استأجر الإمام قوما يغزون مع المسلمين لم يسهم لهم وأعطوا ما استؤجروا به نص عليه
احمد في رواية جماعة فقال في رواية عبد الله وحنبل في الإمام يستأجر قوما يدخل بهم في بلاد
العدو: لا يسهم لهم ويوفى لهم بما استؤجروا عليه
وقال القاضي هذا محمول على استئجار من لا يجب عليه الجهاد كالعبيد والكفار، اما الرجال
المسلمون الأحرار فلا يصح استئجارهم على الجهاد لأن الغزو يتعين بحضوره على من كان من أهله،
فإذا تعين عليه الفرض لم يجز أن يفعله عنه غيره كمن عليه حجة الاسلام لا يجوز ان يحج عنه غيره،
وهذا مذهب الشافعي
قال شيخنا ويحتمل ان يحمل كلام احمد على ظاهره في صحة الاستئجار على الغزو لمن لم يتعين
عليه وهو ظاهر ما ذكره الخرقي لما روى أبو داود باسناده عن عبد الله بن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
للغازي اجره وللجاعل اجره وأجر الغازي وروى سعيد بن منصور عن جبير بن نفير قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى
ترضع ولدها وتأخذ أجرها) ولأنه أمر لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فصح الاستئجار
عليه كبناء المساجد أو لم يتعين عليه الجهاد فصح أن يؤجر نفسه عليه كالعبد، ويفارق الحج حيث إنه
520

ليست بفرض عين وان الحاجة داعية إليه، وفي المنع من أخذ الجعل عليه تعطيل له ومنع له مما
للمسلمين فيه نفع وبهم إليه حاجة فينبغي أن يجوز بخلاف الحج
إذا ثبت هذا فإن قلنا بالأول فالإجارة فاسدة وعليه رد الأجرة وله سهمه لأن غزوه بغير أجرة
وان قلنا بصحة الإجارة فظاهر كلام أحمد والخرقي انه لا يسهم له لما روى أبو داود باسناده عن يعلى
ابن منير قال أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم فالتمست أجيرا يكفيني
وأجري له سهمه فوجدت رجلا فلما دنى الرحيل قال ما أدري ما السهمان؟ وما يبلغ سهمي؟ فسم لي شيئا
كان السهم أو لم يكن فسميت له ثلاثة دنانير فلما حضرت غنيمة أردت أن أجري له سهمه فذكرت
الدنانير فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أمره فقال (ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة
إلا دنانيره التي سمى) ولان غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلم يستحق شيئا
ويحتمل أن يسهم له وهذا اختيار الخلال قال وروى جماعة عن أحمد ان للأجير السهم إذا قاتل
وروى عنه جماعة أن كل من شهد القتال فله السهم إذا قاتل قال وهذا أعتمد عليه من قول أبي عبد الله
ووجهه ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو وحديث جبير بن نفير وقول عمر الغنيمة لمن شهد الوقعة
ولأنه حضر الوقعة وهو من أهل القتال فيسهم له كغير الأجير
521

فأما الذين يعطون حقهم من الفئ فلهم سهامهم لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا ولأنه
عوض عن جهادهم بل نفع جهادهم لهم لا لغيرهم، وكذلك من يعطى من الصدقات للغزو فإنهم يعطون
معونة لهم لا عوضا، وكذلك إذا دفع دافع إلى الغزاة ما يتقوون به ويستعينون به كان له فيه الثواب
ولم يكن عوضا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من جهز غازيا كان له مثل أجره)
(فصل) فأما الأجير للخدمة في الغزو والذي يكري دابة له ويخرج معها ويشهد الوقعة فعن
أحمد فيه روايتان (إحداهما) لا سهم له وهو قول الأوزاعي وإسحاق قالا: المستأجر على خدمة
القوم لا سهم له لحديث يعلى بن منبه
(والثانية) يسهم له إذا شهد القتال مع المسلمين وهو قول مالك وابن المنذر وبه قال الليث إذا
قاتل، وان اشتغل بالخدمة فلا سهم له واحتج ابن المنذر بحديث سلمه بن الأكوع انه كان أجيرا لطلحة
حين أدرك عبد الرحمن بن عيينة حين أغار على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه
وسلم سهم الفارس والراجل
وقال القاضي يسهم له إذا كان مع المجاهدين وقصد الجهاد فأما لغير ذلك فلا، وقال الثوري
يسهم له إذا قاتل ويرفع عمن استأجره نفقة ما اشتغل عنه
(فصل) ومن أجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة وحملها وسوق الدواب ورعيها أبيح له
522

أخذ الأجرة على ذلك ولم يسقط من سهمه شئ لأن ذلك من مؤنة الغنيمة فهو كعلف الدواب وطعام السبي
يجوز للإمام بذله ويباح للأجير أخذ الأجرة عليه لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة فحلت له
الأجرة كالدلالة على الطريق ولا يجوز له ان يركب من دواب المغنم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها) قال أحمد لا بأس
ان يؤجر الرجل نفسه على دابته وكره ان يستأجر القوم على سباق الرمك على فرس حبس لأنه يستعمل
الفرس الموقوفة للجهاد فيما يختص نفعه بنفسه فإن آجر نفسه فركب الدابة الحبيس أو دابة من المغنم لم
تطب له اجرة لأن المعين له على العمل يختص نفع نفسه فلا يجوز ان يستعمل فيه دواب المغنم ولا دواب
الحبس وينبغي ان يلزمه بقدر أجرة الدابة ترد في الغنيمة ان كانت من الغنيمة أو تصرف في نفقة
دواب الجيش ان كانت جيشا فإن شرط في الإجارة ركوب دابة من الحبس لم يجز لأنها إنما حبست
على الجهاد وليس هذا بجهاد وإنما هو نفع لأهل الغنيمة وان شرط ركوب دابة من الغنيمة جاز لأن
ذلك بمنزلة أجرة تدفع إليه من المغنم ولو أجر نفسه بدابة معينة من المغنم صح فإذا جعلت أجرته ركوبها
كان أولى ويشترط أن يكون العمل معلوما فإن كان مجهولا لم يجز لأن من شرط صحة اجارتها
كون عوضها معلوما
523

(مسألة) (ومن مات بعد انقضاء الحرب فسهمه لوارثه)
إذا مات الغازي أو قتل قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له في ظاهر كلام الخرقي لأنه مات قبل ثبوت
ملك المسلمين عليها وسواء مات حال القتال أو قبله وان مات بعد ذلك فسهمه لورثته لأنه مات بعد
ثبوت ملكه عليها فكان سهمه لورثته كسائر أمواله، وان مات بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة
الغنيمة فقال الشافعي وأبو ثور متى حضر القتال أسهم سواء مات قبل حيازة الغنيمة أو بعدها وان
لم يحضر فلا سهم له ونحوه قال مالك والليث، والذي ذكر شيخنا في هذا الكتاب أنه إذا مات بعد
انقضاء الحرب انه يستحق السهم ويقتضيه كلام القاضي لأنه قال في الأسير يهرب بعد انقضاء الحرب
وقبل حيازة الغنيمة لا يستحق شيئا فدل على أنهم يملكونها بالاستيلاء عليها ونفي الكفار عنها
ووجه الأول انه إذا مات قبل حيازتها فقد مات قبل ثبوت اليد عليها فلم يستحق شيئا كما لو مات قبل
انقضاء الحرب، وقال أبو حنيفة ان مات قبل احراز الغنيمة في دار الاسلام أو قسمها في دار الحرب
فلا شئ له لأن ملك المسلمين لا يتم عليها الا بذلك، وقال الأوزاعي ان مات بعد ما يدرب فاصلا في
سبيل الله قبل أو بعد أسهم له
ولنا على أبي حنيفة انه مات بعد الاستيلاء عليها في حال لو قسمت صحت قسمتها وكان له سهمه
منها فيجب ان يستحق سهمه فيها كما لو مات بعد احرازها في دار الاسلام وعلى الأوزاعي أنه مات
524

قبل الاستيلاء عليها فلم يتسحق شيئا كما لو مات قبل دخول الدرب وان أسر أو مات أو قتل قبل تقضى
الحرب فلا شي له بغير خلاف في المذهب لأنه لم يملك شيئا والله أعلم
(مسألة) (ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم)
وجملة ذلك أن الجيش إذا فصل غازيا فخرجت منه سرية أو أكثر فأيهما غنم شاركه الآخر في
قول عامة العلماء منهم مالك والثوري والأوزاعي والليث وحماد والشافعي واسحق وأبو ثور وأصحاب
الرأي وقال النخعي ان شاء الإمام خمس ما تأتي به السرية وان شاء نفلهم إياه كله
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية
فاشرك بينها وبين الجيش قال ابن المنذر روينا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (وترد سراياهم على قعدهم) رفي
وفي تنفيل النبي صلى الله عليه وسلم في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث دليل على اشتراكهم فيما سوى ذلك لأنهم
لو اختصوا بما غنموه لما كان ثلثه نفلا ولأنهم جيش واحد وكل واحد منهم ردء لصاحبه فيشتركون
كما لو غنم أحد جانبي الجيش وان أقام الأمير ببلاد الاسلام وبعث سرية أو جيشا فما غنمت السرية فهو
لها وحدها لأنه إنما يشترك المجاهدون والمقيم في بلد الاسلام ليس بمجاهد، وان نفذ من بلد الاسلام
جيشين أو سريتين فكل واحدة تنفرد بما غنمته لأن كل واحدة منهما انفردت بالغزو فانفردت
بالغنيمة بخلاف ما إذا فصل الجيش فدخل بجملته بلاد الكفار فإن جميعهم اشتركوا في الجهاد
فاشتركوا في الغنيمة
525

(مسألة) (وإذا قسمت الغنيمة في أرض الحرب فتبايعوها ثم غلب عليها العدو فهي مال
المشتري في إحدى الروايتين اختارها الخلال وصاحبه والأخرى هي من مال البائع اختارها الخرقي)
يجوز للأمير البيع في الغنيمة قبل القسمة للغانمين ولغيرهم إذا رأى المصلحة فيه لأن الولاية ثابتة
له عليها وقد تدعوا الحاجة إلى ذلك لإزالة كلفة نقلها أو تعذر قسمتها بعينها ويجوز لكل واحد
من الغانمين بيع ما يحصل له بعد القسم والتصرف فيه كيف شاء لأن ملكه ثابت فيه فإن باع الأمير
أو بعض الغانمين في دار الحرب شيئا فغلب عليه العدو قبل اخراجه إلى دار الاسلام فإن كان
التفريط من المشتري مثل ان يخرج به منه العسكر ونحو ذلك فضمانه عليه لأن ذهابه حصل بتفريطه
فكان من ضمانه كما لو أتلفه وإن كان بغير تفريطه ففيه روايتان
(إحداهما) ينفسخ البيع ويرد الثمن إلى المشتري من الغنيمة ان باعه الإمام أو من مال البائع
وإن كان الثمن لم يؤخذ من المشتري سقط عنه وهي اختيار الخرقي لأن القبض لم يكمل لكون المال في
دار الحرب غير محرز وكونه على خطر من العدو فأشبه الثمر المبيع على رؤوس النخل إذا تلف قبل الجذاذ
(والثانية) هو من ضمان المشتري وعليه ثمنه وهذا أكثر الروايات عن أحمد رحمه الله واختاره
الخلال وصاحبه أبو بكر وهو مذهب الشافعي لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه فكان عليه ضمانه
كما لو أحرز إلى دار الاسلام ولان أخذ العدو له تلف فلم يضمنه البائع كسائر أنواع التلف ولان
526

نماءه للمشتري فكان ضمانه عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخراج بالضمان) وان اشتراه
مشتر من المشتري الأول وقلنا هو من ضمان البائع رجع البائع الثاني على البائع الأول بما رجع به عليه
(فصل) قال أحمد في الرجل يشتري الجارية من المغنم معها الحلي في عنقها والثياب: يرد ذلك في المغنم
إلا شيئا تلبسه من قميص ومقنعة وازار وهذا قول حكيم بن حزام ومكحول ويزيد بن أبي مالك
وإسحاق وابن المنذر ويشبه قول الشافعي واحتج إسحاق بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبدا وله مال
فماله للبائع) وقال الشعبي يجعله في بيت المال وكان مالك يرخص في اليسير كالقرطين وأشباههما ولا
يرد ذلك في الكثير، قال شيخنا ويمكن التفصيل في ذلك فيقال ما كان ظاهرا يشاهده البائع والمشتري
كالقرط والخاتم والقلادة فهو للمشتري لأن الظاهر أن البائع إنما باعها بما عليها والمشتري اشتراها
بذلك فيدخل في البيع كثياب البذلة وحلية السيف، وما خفي فلم يعلم به البائع رده لأن البيع وقع عليها
بدونه فلم يدخل في البيع كجارية أخرى.
(فصل) قال أحمد لا يجوز لأمير الجيش أن يشتري من مغنم المسلمين شيئا لأنه يحابى ولان عمر
رضي الله عنه رد ما اشتراه ابنه في غزوة جلولاء وقال إنه يحابى احتج به أحمد ولأنه هو البائع أو وكيله
فكأنه يشتري من نفسه أو من وكيله قال أبو داود قيل لأبي عبد الله إذا قوم أصحاب المغانم شيئا معروفا
فقالوا في جلود المعاعز بكذا وفي جلود الخرفان بكذا يحتاج إليه يأخذه بتلك القيمة ولا يأتي المغانم فرخص فيه
527

لأنه يشق الاستئذان فيه فسومح فيه كما سومح في دخول الحمام وركوب سفينة الملاح من
غير تقدير أجرة
(فصل) ومن اشترى من المغنم اثنين أو أكثر أو حسبوا عليه بنصيبه بناء على أنهم أقارب
يحرم التفريق بينهم فبان أنه لا نسب بينهم رد الفضل الذي فيهم على المغنم لأن قيمتهم تزيد بذلك
فإن من اشترى اثنتين بناء على أن إحداهما أم الأخرى لا يحل له الجمع بينهما في الوطئ ولا بيع إحداهما
دون الأخرى كانت قيمتهما قليلة لذلك فإذا أبان ان إحداهما أجنبية من الأخرى أبيح له وطؤهما
وبيع إحداهما فتكثر قيمتهما فيجب رد الفضل كما لو اشتراهما فوجد معهما حليا أو ذهبا وكما لو أخذ
دراهم فبانت أكثر مما حسب عليه.
(مسألة). (وإن وطئ جارية من المغنم ممن له فيها حق أو لولده أدب ولم يبلغ به الحد وعليه
مهرها إلا أن تلد منه فيكون عليه قيمتها وتصير أم ولد له والولد حر ثابت النسب).
إذا وطئ جارية من المغنم وكان له في الغنيمة حق أو لولده أدب لأنه فعل ما لا يحل له ولم يبلغ
به الحد، لأن الملك ثبت للغانمين في الغنيمة فيكون للواطئ حق في الجارية الموطوءة وان قل فيدرأ
عنه الحد للشبهة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك وأبو ثور عليه الحد لقول الله تعالى (الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهذا زان ولأنه وطئ في غير ملك عامدا عالما بالتحريم
528

فلزمه الحد كما لو وطئ جارية غيره وقال الأوزاعي كل من سلف من علمائنا يقول عليه
أدنى الحدين مائة جلدة ومنع بعض الفقهاء ثبوت الملك في الغنيمة وقال إنما يثبت بالاحتياز بدليل ان
أحدهم لو قال أسقطت حقي سقط ولو ثبت ملكه لم يزل بذلك كالوارث.
ولنا ان له فيها شبهة ملك فلم يجب عليه الحد كوطئ جارية له فيها شرك والآية مخصوصة
بوطئ الجارية المشتركة وجارية ابنه فنقيس عليه هذا ومنع الملك لا يصح لأن ملك الكفار قد زال
ولا يزول إلا إلى مالك ولأنه تصح قسمته ويملك الغانمون طلب قسمتها فأشبهت حال الوارث وإنما
كثر الغانمون فقل نصيب الواطئ ولم يستقر في شئ بعينه وكان للإمام تعيين نصيب كل واحد
بغير اختياره فلذلك جاز ان يسقط بالاسقاط بخلاف الميراث وضعف الملك لا يخرجه عن كونه شبهة
في الحد الذي يدرأ بالشبهات ولهذا أسقط الحد بأدنى شئ وان لم يكن حقيقة الملك فهو شبهة. إذا
ثبت هذا فإنه يعزر ولا يبلغ بالتعزير الحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى ويؤخذ منه مهرها فيطرح
في المغنم، وبهذا قال الشافعي وقال القاضي إنه يسقط عنه من المهر قدر حصته منها وتجب عليه بقيته
كالجارية المشتركة بينه وبين غيره ولا يصح ذلك لأننا إذا أسقطنا عنه حصته وأخذنا الباقي فطرحناه
في المغنم ثم قسمناه على الجميع وهو فيهم عاد إليه سهمه من حصة غيره ولان حصته قد لا تمكن معرفتها
529

لقلة المهر وكثرة الغانمين ثم إذا أخذناه فإن قسمناه مفردا على من سواه لم يمكن وان خلطناه بالغنيمة
ثم قسمنا الجميع أخذ سهما مما ليس فيه حقه فإن ولدت منه فالولد حر يلحقه نسبه، وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة هو رقيق لا يلحقه نسبه، لأن الغانمين إنما يملكون بالقسمة فقد صادف
وطؤه غير ملكه
ولنا انه وطئ سقط فيه الحد بشبهة الملك فيلحق فيه النسب كوطئ جارية ابنه وما ذكره غير
مسلم ثم يبطل بوطئ جارية ابنه وفارق الزنا فإنه يوجب الحد، وإذا ثبت ذلك فإن الأمة تصير أم ولد
له في الحال وقال الشافعي لا تصير أم ولد له في الحال لأنها ليست ملكا له فإذا ملكها بعد ذلك فهل
تصير أم ولد له؟ فيها قولان
ولنا انه وطئ يلحق به النسب لشبهة الملك فتصير به أم ولد كوطئ جارية ابنه وبه يبطل ما ذكروه
ولا نسلم أنه ليس له فيها ملك فانا قد تبينا ان الملك قد ثبت في الغنيمة بمجرد الاغتنام وعليه قيمتها
تطرح في المغنم لأنه فرتها؟ عليهم بفعله فلزمته قيمتها كما لو قتلها فإن كان معسرا كان في ذمته قيمتها
وقال القاضي إن كان معسرا حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد وباقيها رقيق للغانمين لأن
كونها أم ولد إنما يثبت بالسراية إلى ملك غيره فلم يسر في حق المعسر كالاعتاق.
530

ولنا أنه استيلاء جعل بعضها أم ولد فيجعل جميعها أم ولد كاستيلاء جارية الابن وفارق العتق
لأن الاستيلاء أقوى لكونه فعلا وينفذ من المجنون فاما قيمة الولد فقال أبو بكر فيها روايتان
(إحداهما) تلزمه قيمته حين وضعه تطرح في المغنم لأنه فوت رقه فأشبه ولد المغرور
(والثانية) لا تلزمه لأنه ملكها حين علقت ولم يثبت ملك الغانمين في الولد بحال فأشبه ولد
الأب من جارية ابنه إذا وطئها ولأنه يعتق حين علوقها به ولا قيمة حينئذ وقال القاضي إذا صار
نصفها أم ولد يكون الولد كله حرا وعليه قيمة نصفه
(مسألة) (ومن أعتق منهم عبدا عتق عليه قدر حصته وقوم عليه باقيه إن كان موسرا
وكذلك إن كان فيهم من يعتق عليه)
إذا أعتق بعض الغانمين أسيرا من الغنيمة وكان رجلا لم يعتق لأن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وعم
علي وعقيلا أخا علي كانا في اسرى بدر فلم يعتقا عليهما ولان الرجل لا يصير رقيقا بنفس السبي وان
استرق وقلنا بجواز استرقاقه أو كان امرأة أو صبيا عتق منه قدر نصيبه وسرى إلى باقيه إن كان
موسرا وإن كان معسرا لم يعتق عليه الا ما ملكه منه ويؤخذ منه قيمة باقيه تطرح في المغنم إذا كان
موسرا فإن كان بقدر حقه من الغنيمة عتق ولم يأخذ شيئا وإن كان دون حقه أخذ باقي حقه فإن
أعتق عبدا ثانيا وفضل من حقه عن الأول شئ عتق بقدره من الثاني وان لم يفضل شئ لم يعتق
من الثاني شئ وكذلك الحكم إذا كان فيهم من يعتق عليه لأنه نسب إلى ملكه أشبه ما لو اشتراه
531

وقال ابن أبي موسى في الارشاد لا يعتق إلا أن يحصل في سهمه أو بعضه وقال الشافعي لا يعتق منه
شئ وهذا مقتضى قول أبي حنيفة لأنه لا يملكه بمجرد الاغتنام ولو ملك لم يتعين ملكه فيه وان
قسم وحصل في نصيبه واختار تملكه عتق عليه وإلا فلا وان جعل له بعضه فاختار تملكه عتق
عليه وقوم عليه الباقي
ولنا ما بيناه من أن الملك يثبت للغانمين لكون الاستيلاء التام وجد منهم وهو سبب للملك
ولان ملك الكفار زال ولا يزول إلا إلى المسلمين
(مسألة) (والغال من الغنيمة يحرق رحله كله إلا السلاح والمصحف والحيوان)
الغال الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة ولا يطلع الإمام عليه ولا يطرحه في الغنيمة فحكمه ان يحرق
رحله كله وبه قال الحسن وفقهاء الشام منهم مكحول والأوزاعي والوليد بن هشام ويزيد بن يزيد بن جابر
وأني سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله واحرقه وعمر بن عبد العزيز حاضر فلم يعبه وقال يزيد بن
يزيد بن جابر السنة في الذي يغل ان يحرق رحله رواهما سعيد في سننه وقال مالك والليث والشافعي
وأصحاب الرأي لا يحرق لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق فإن عبد الله بن عمرو روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل بعد
ذلك بزمام من شعر فقال يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة فقال (سمعت بلالا ينادي
532

ثلاثا قال نعم قال (فما منعك ان تجئ به) فاعتذر فقال (كن أنت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك)
رواه أبو داود ولان احراق المتاع إضاعة له وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال
ولنا ما روى صالح بن محمد بن زائدة قال دخلت مع مسلمة أرض الروم فاتي برجل قد غل
فسأل سالما عنه فقال سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا
وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه) قال فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه فقال
بعه وتصدق بثمنه رواه سعيد وأبو داود والأثرم وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر احرقوا متاع الغال رواه أبو داود فاما حديثهم فلا حجة لهم فيه
فإن الرجل لم يعترف انه اخذ ما اخذ على سبيل الغلول ولا اخذه لنفسه وإنما توانى في المجئ به وليس
الخلاف فيه ولان الرجل جاء به من عند نفسه تائبا معتذرا والتوبة تجب ما قبلها وأما النهي عن إضاعة
المال فإنما نهي عنه إذا لم يكن فيه مصلحة فاما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس ولا يعد تضييعا كالقاء
المتاع في البحر عند خوف الغرق وقطع يد العبد السارق مع أن المال لا تكاد المصلحة تحصل به إلا
بذهابه فأكله اتلافه وايقافه اذهابه ولا يعد شئ من ذلك تضييعا ولا افسادا ولا ينهى عنه. إذا
ثبت ذلك فإن السلاح لا يحرق لأنه يحتاج إليه في القتال ولا نفقته لأنه مما لا يحرق عادة ولا يحرق
المصحف لحرمته ولما ذكرنا من حديث سالم فيه فعلى هذا يحتمل ان يباع ويتصدق بثمنه لما ذكرنا
533

من حديث سالم ويحتمل أن يكون له كالحيوان والسلاح وكذلك الحيوان لا يحرق لنهي النبي صلى الله عليه وسلم
ان يعذب بالنار إلا ربها ولحرمة الحيوان في نفسه ولأنه لا يدخل في اسم المتاع المأمور باحراقه وهذا
لا خلاف فيه ولا تحرق آلة الدابة أيضا نص عليه أحمد لأنه يحتاج إليها للانتفاع بها ولأنها تابعة لما
لا يحرق أشبه جلد المصحف وكيسه وقال الأوزاعي يحرق سرجه وإكافه
ولنا انه ملبوس حيوان فلا يحرق كثياب الغال فإنه لا تحرق ثيابه التي عليه لأنه لا يجوز ان
يترك عريانا ولا يحرق ما غل لأنه من غنيمة المسلمين قيل لأحمد فالذي أصاب في الغلول اي شئ يصنع
به قال يرفع إلى المغنم وكذلك قال الأوزاعي وجميع ما لا يحرق وما أبقت النار من حديد أو غيره
فهو لصاحبه لأن ملكه كان ثابتا عليه ولم يوجد ما يلزمه وإنما عوقب باحراق متاعه فما لم يحترق يبقى
على ما كان، وإن كان معه شئ من كتب العلم والحديث فينبغي ان لا يحرق أيضا لأن نفع ذلك يعود
إلى الدين وليس المقصود الاضرار به في دينه وإنما القصد الاضرار به في بعض دنياه
(فصل) فإن لم يحرق رحله حتى استحدث متاعا آخر أو رجع إلى بلده أحرق ما كان معه حال
الغلول، نص عليه أحمد في الذي يرجع إلى بلده قال ينبغي أن يحرق ما كان معه في أرض العدو فإن
مات قبل إحراق رحله لم يحرق نص عليه لأنه عقوبة فيسقط بالموت كالحدود ولأنه بالموت انتقل إلى
ورثته وإحراقه عقوبة لغير الجاني
534

وان باع متاعه أو وهبه احتمل أن لا يحرق لأنه صار لغيره أشبه انتقاله بالموت واحتمل أن ينقض
البيع والهبة ويحرق لأنه تعلق به حق سابق على البيع والهبة فوجب تقديمه كالقصاص في حق الجاني
(فصل) وإن كان العال صبيا لم يحرق متاعه وبه قال الأوزاعي لأن الاحراق عقوبة وليس هو
من أهلها فأشبه الحد، وإن كان عبدا لم يحرق متاعه لأنه لسيده فلا يعاقب سيده بجناية عبده، وان
استهلك ما غله فهو في رقبته لأنه من جنايته
وان غلت المرأة أو ذمي أحرق متاعهما لأنهما من أهل العقوبة ولذلك يقطعان في السرقة
ويحدان في الزنا، وان أنكر الغلول وذكر انه ابتاع ما بيده لم يحرق متاعه حتى يثبت غلوله ببينة أو
إقرار لأنه عقوبة قلا يجب قبل ثبوته بذلك كالحد ولا يقبل في بينته إلا عدلان لذلك
(فصل) ولا يحرم الغال سهمه، وقال أبو بكر في ذلك روايتان (إحداهما) يحرم سهمه لأنه قد
جاء في الحديث يحرم سهمه فإن صح فالحكم له، وقال الأوزاعي في الصبي يغل يحرم سهمه ولا يحرق متاعه
ولنا ان سبب الاستحقاق موجود فيستحق كما لو لم يغل ولم يثبت حرمان سهمه في خبر ولا يدل
عليه قياس فيبقى بحاله ولا يحرق سهمه لأنه ليس من رحله
(فصل) إذا تاب الغال قبل القسمة رد ما أخذه في المقسم بغير خلاف لأنه حق تعين رده إلى
أهله فإن تاب بعد القسمة فمقتضى المذهب أن يؤدي خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي وهذا قول
535

الحسن والزهري ومالك والأوزاعي والثوري والليث. وقال الشافعي لا أعرف للصدقة وجها، وحديث
الغال ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له (لا أقبله منك حتى تجئ به إلى يوم القيامة)
ولنا ما روى سعيد بن منصور عن عبد الله بن المبارك عن صفوان بن عمرو عن حوشب بن سيف
قال غزا الناس الروم وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فغل رجل مائة دينار فلما قسمت الغنيمة
وتفرق الناس ندم فاتى عبد الرحمن فقال قد غللت مائة دينار فامضها فقال قد تفرق الناس فلن
أقبضها منك حتى توافي الله بها يوم القيامة، فأتي معاوية فذكر ذلك له فقال له مثل ذلك فخرج وهو
يبكي فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال ما يبكيك؟ فأخبره فقال إنا لله وإنا إليه راجعون أمطيع
أنت يا عبد الله؟ قال نعم قال فانطلق إلى معاوية فقل له خذ مني خمسك فاعطه عشرين دينارا وانظر إلى
الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش فإن الله تعالى يعلم أسماءهم ومكانهم وان الله يقبل التوبة
عن عباده، فقال معاوية: أحسن والله لأن أكون أنا أفتيته بهذا أحب إلي من أن يكون
لي مثل كل شئ امتلكت
وعن ابن مسعود رضي الله عنه انه رأى أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه فقد قال به ابن
مسعود ومعاوية ومن بعدهم ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فيكون إجماعا، ولان تركه تضييع له
وتعطيل لمنفعته التي خلق لها ولا يتخفف به شئ من اثم الغال، وفي الصدقة به نفع لمن يصل إليه من
536

المساكين، وما يحصل من أجر الصدقة يصل إلى صاحبه فيذهب به الاثم عن الغال فيكون أولى
(مسألة) (وما أخذ من الفدية أو أهداه الكفار إلى أمير الجيش أو بعض قواده فهو غنيمة)
ما أخذ من فدية الأسارى فهو غنيمة، لا نعلم فيه خلافا فأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فداء أسارى بدر
بين الغانمين ولأنه مال حصل بقوة الجيش أشبه الخيل والسلاح وأما الهدية للإمام والقواد فإن
كان في حال الغزو فهي غنيمة وهكذا ذكر أبو الخطاب لأن الظاهر أنه لا يفعل ذلك الا لخوف من
المسلمين فظاهر هذا يدل على أن ما أهدي لآحاد الرعية فهو له، وقال القاضي هو غنيمة لما ذكرنا،
وان كانت الهدية من دار الحرب إلى دار الاسلام فهي لمن أهديت له سواء كان الإمام أو غيره
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية المقوقس فكانت له دون غيره، وهذا قول الشافعي ومحمد بن الحسن،
وقال أبو حنيفة هو للمهدى له بكل حال لأنه خص بها أشبه ما إذا كان في دار الاسلام،
وحكي ذلك رواية عن أحمد
ولنا انه أخذ ذلك بظهر الجيش أشبه ما لو اخذه قهرا ولأنه إذا أهدي إلى الإمام أو أمير فالظاهر أنه
يداري عن نفسه به فأشبه ما أخذ منه قهرا، وأما الهدية لآحاد المسلمين فلا يقصد بها ذلك في
الظاهر لعدم الخوف منه فيكون كما لو أهدى إليه إلى دار الاسلام، ويحتمل أن ينظر فإن كانت
بينهما مهاداة قبل ذلك فله ما أهدي إليه. وان تجدد ذلك بالدخول إلى دارهم فهو للمسلمين
كقولنا في الهدية إلى القاضي
537

(باب حكم الأرضين المغنومة)
وهي على ثلاثة أضرب (أحدها) ما فتح عنوة وهي ما أجلي عنها أهلها بالسيف فيخير الإمام
بين قسمها ووقفها للمسلمين ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي في يده يكون أجرة لها.
وعنه تصير وقفا بنفس الاستيلاء وعنه تقسم بين الغانمين
الأرضون المغنومة تنقسم قسمين عنوة وصلح (فالعنوة) ما أجلي عنها أهلها بالسيف وهي نوعان
(أحدهما) ما فتح ولم يقسم بين الغانمين فتصير وقفا للمسلمين يضرب عليها خراج معلوم يؤخذ
منها في كل عام يكون أجرة لها وتقر بأيدي أربابها ما داموا يؤدون خراجها مسلمين كانوا أو من أهل
الذمة لا يسقط خراجها باسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم لأنه بمنزله اجرتها ولم نعلم أن شيئا مما فتح عنوة
قسم بين الغانمين الا خيبر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم نصفها فصار لأهله لاخراج عليه وسائر ما فتح عنوة
مما فتحه عمر رضي الله عنه ومن بعده كأرض الشام والعراق ومصر وغيرها لم يقسم منه شئ فروى
أبو عبيد في كتاب الأصول ان عمر رضي الله عنه قدم الجابية فأراد قسم الأرض بين المسلمين
فقال له معاذ رضي الله عنه والله إذا ليكونن ما تكره انك ان قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي
القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة ثم يأتي من بعدهم قوم يمدون من الاسلام
538

الاسلام مسداهم لا يجدون شيئا فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم فصار عمر إلى قول معاذ وروى أيضا
قال قال: الماجشون قال بلال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القرى التي افتتحوها عنوة اقسمها
بيننا وخذ خمسها فقال عمر لا هذا عن المال ولكني أحبسه فيئا يجري عليهم وعلى المسلمين فقال بلال
وأصحابه اقسمها بيننا فقال عمر اللهم اكفني بلالا وذويه قال فما جاء الحول وفيهم عين تطرف وروى
باسناده عن سفيان بن وهب الخولاني قال لما افتتح عمرو بن العاص مصر قال الزبير يا عمرو بن العاص
اقسمها فقال عمرو لا أقسمها فقال الزبير لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
خيبر فقال عمرو لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إلى عمر فكتب إليه دعها حتى
يغزو منها حبل الحبلة قال القاضي ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة انه قسم
أرضا عنوة الا خيبر
(فصل) قال أحمد ومن يقوم على أرض الصلح وأرض العنوة؟ ومن أين هي؟ وإلى أين هي؟ وقال
أرض الشام عنوة الا حمص وموضعا آخر وقال ما دون النهر صلح وما وراء عنوة وقال فتح المسلمون
السواد عنوة إلا ما كان منه صلح وهي أرض الحيرة وأرض بانقيا وقال أرض الري خلطوا في
أمرها فأما ما فتح عنوة فمن نهاوند وطبرستان خراج وقال أبو عبيد أرض الشام عنوة ما خلا مدنها
فإنها فتحت صلحا إلا قيسارية افتتحت عنوة وأرض السواد والجبل ونهاوند والأهواز ومصر
والمغرب وقال موسي بن علي بن رباع عن أبيه: المغرب كله عنوة فأما أرض الصلح فارض هجر والبحر بن
539

وأيلة ودومة الجندل وأذرح فهذه القرى التي أدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية ومدن الشام ما خلا
أرضيها الا قيسارية وبلاد الجزيرة كلها وبلاد خراسان كلها أو أكثرها صلح وكل موضع فتح عنوة
فإنه وقف على المسلمين
(النوع الثاني) ما استأنف المسلمون فتحه عنوة ففيه ثلاث روايات
(إحداهما) أن الإمام مخير بين قسمها على الغانمين وبين وقفها على جميع المسلمين ويضرب عليها
خراجا مستمرا على ما ذكرنا هذا ظاهر المذهب لأن كلا الامرين قد ثبت فيه حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم نصف خيبر ووقف نصفها لنوائبه ووقف عمو الشام والعراق ومصر وسائر
ما فتحه وأقره على ذلك علماء الصحابة وأشاروا عليه به، وكذلك من بعده من الخلفاء ولم نعلم أن أحدا
منهم قسم شيئا من الأرض التي افتتحوها
(والثانية) انها تصير وقفا بنفس الاستيلاء عليها لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم عليه وقسمة
النبي صلى الله عليه وسلم خيبر كانت قي بدء الاسلام وشدة الحاجة وكانت المصلحة فيه وقد تعينت المصلحة
فيما بعد ذلك في وقف الأرض فكان هو الواجب (والثالثة) ان الوجب قسمها وهو قول مالك وأبي
ثور لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وفعله أولى من فعل غيره مع عموم قوله تعالى (واعلموا إنما غنمتم من
شئ فأن لله خمسه يفهم من ذلك أن أربعة أخماسها للغانمين
540

(والرواية الأولى) أولى لما ذكرنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولان عمر رضي الله عنه قال لولا آخر
الناس لقسمت الأرض كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فقد وقف الأرض مع علمه بفعل
النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن فعله ذلك لم يكن متعينا كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد وقف
نصف خيبر ولو كانت للغانمين لم يكن له وقفها، قال أبو عبيد تواترت الاخبار في افتتاح الأرض عنوة
بهذين الحكمين، حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر حين قسمها، وبه أشار بلال وأصحابه على
عمر في ارض الشام والزبير في ارض مصر وحكم عمر في ارض السواد وغيره حين وقفه، وبه أشار
علي ومعاذ على عمر وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم رادا لفعل عمر لأن كل واحد منهما اتبع آية
محكمة قال الله تعالى (واعلموا إنما غنمتم منه شئ فأن لله خمسه - وقال - ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى)
الآية فكان كل واحد من الامرين جائزا والنظر في ذلك إلى الإمام فما رأى منه ذلك فعليه وهذا
قول الثوري وأبي عبيد. إذا ثبت هذا فإن التخيير المفوض إلى الإمام تخيير مصلحة لا تخيير تشهي
فيلزمه فعل ما يرى فيه المصلحة لا يجوز له العدول عنه كالخيرة في الاسرى بين القتل والاسترقاق والمن
والفداء ولا يحتاج إلى النطق بالوقف بل تركه لها من غير قسمة وقف لها كما أن قسمتها بين الغانمين
لا يحتاج معه إلى لفظ ولان عمر وغيره لم ينقل عنهم في وقف الأرض لفظ بالوقف ولان معنى وقفها
541

هاهنا أنها باقية لجميع المسلمين يؤخذ خراجها يصرف في مصالحهم ولا يخص أحد بملك شئ منها
وهذا حاصل بتركها
(فصل) وكلما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من وقف وقسمة أو فعله الأئمة بعده فليس لأحد نقضه ولا
تغييره وإنما الروايات فيما استؤنف فتحه على ما ذكرنا والذي قسم بين الغانمين ليس عليه خراج،
وكذلك ما أسلم أهله عليه كالمدينة ونحوها فهي ملك لأربابها لهم التصرف فيها كيف شاؤوا،
وكذلك ما صولح أهله على أن الأرض لهم كأرض اليمن والحيرة وبانقيا وما أحياه المسلمون كأرض البصرة
كانت سبخة أحياها عتبة بن غزوان وعثمان بن أبي العاص
(مسألة) (الضرب الثاني) ما جلا عنها أهلها خوفا وفزعا فهذه تصير وقفا بنفس الظهور عليها
لأن ذلك يتعين فيها لأنها ليست غنيمة فنقسم فكان حكمها حكم الفيئ يكون للمسلمين كلهم، وعنه
يكون حكمها حكم العنوة قياسا عليها، فعلى هذا لا تصير وقفا حتى يقفها الإمام لأن الوقف لا يثبت بنفسه
(الضرب الثالث) ما صولحوا عليه وهو قسمان (أحدهما) أن يصالحهم على أن الأرض لنا ونقرها
معهم بالخراج فهذه تصير وقفا أيضا حكمها حكم ما ذكرنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر وصالح أهلها على أن
يعمروا أرضها ولهم نصف ثمرتها فكانت للمسلمين دونهم، وصالح بني النضير على أن يجليهم من المدينة
542

ولهم ما أقلت الإبل من المتعة والأموال الا الحلقة يعني السلاح وكانت مما أفاء الله على رسوله
(القسم الثاني) ان يصالحهم على الأرض لهم ويؤدون إلينا خراجها معلوما فهذه ملك لأربابها
وهذا الخراج في حكم الجزية متى أسلموا أسقط عنهم لأن الخراج الذي ضرب عليها إنما كان من أجل
كفرهم فهو كالجزية على رؤوسهم فإذا أسلموا سقط كما تسقط الجزية وتبقى الأرض ملكا لهم لا خراج عليها
يتصرفون فيها كيف شاءوا بالبيع والهبة والرهن، وان انتقل إلى مسلم فلا خراج عليه لما ذكرنا
(مسألة) (ويقرون فيها بغير جزية) لأنهم في غير دار الاسلام بخلاف التي قبلها
(مسألة) (والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان على قدر الطاقة
وعنه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله عنه لا يزاد ولا ينقص وعنه تجوز الزيادة دون النقص)
ظاهر المذهب أن المرجع في الخراج إلى اجتهاد الإمام وهو اختيار الخلال وعامة شيوخنا لأنه
أجرة فلم يقدر بمقدار لا يختلف كأجرة المساكن وفيه رواية ثانية انه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي
الله عنه لا يزاد عليه ولا ينقص منه لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره كيف ولم ينكره أحد من
الصحابة مع شهرته فكان اجماعا؟ وعنه رواية ثالثة أن الزيادة تجوز دون النقص لما روى عمر بن ميمون انه
سمع عمر يقول لحذيفة وعثمان بن حنيف لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقال عثمان والله لو زدت عليهم
فلا تجهدهم فدل على إباحة الزيادة ما لم تجهدهم وأما الجزية فتذكر في باب عقد الذمة إن شاء الله تعالى
543

قال أحمد رضي الله عنه وأبو عبيد القاسم بن سلام: أعلى وأصح حديث في أرض السواد حديث
عمرو بن ميمون، ويعني ان عمر رضي الله عنه وضع على كل جريب درهما وقفيزا، وقدر القفيز ثمانية
أرطال يعني بالمكي، نص عليه أحمد واختاره القاضي فيكون ستة عشر رطلا بالعراقي، وقال أبو بكر
قد قيل إن قدره ثلاثون رطلا
وينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الأرض لأنه روي عن عمر انه ضرب على الطعام درهما
وقفيز حنطة وعلى الشعير درهما وقفيز شعير ويقاس عليه غيره من الحبوب. والجريب عشر قصبات
في عشر قصبات والقصبة ستة أذرع بذراع عمر وهو ذراع وسط لا أطول ذراع ولا أقصرها وقبضة
وإبهام قائمة، وما بين الشجر من بياض الأرض تبع لها، فإن ظلم في خراجه لم يحتسبه من العشر لأنه
ظلم فلم يحتسب به من العشر كالغصب، وعنه يحتسبه من العشر لأن الاخذ لهما واحد اختاره أبو بكر
وقد اختلف عن عمر رضي الله عنه قي قدر الخراج فروى أبو عبيد باسناده عن الشعبي ان عمر
بعث ان حنيف إلى السواد فضرب الخراج على جريب الشعير درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة
دراهم وعلى جريب القضب وهو الرطبة ستة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب
الكرم عشرة دراهم وعلى جريب الزيتون اثني عشر درهما، هذا ذكره أبو الخطاب في كتاب الهداية
وذكر بعده حديث عمرو بن ميمون الذي ذكرناه وهو أصح على ما ذكره أحمد وأبو عبيد
544

(مسألة) (وما لا يناله الماء مما لا يمكن زرعه فلا خراج عليه)
لأن الخراج أجرة الأرض وما لا منفعة فيه لا أجرة له، وعنه يجب فيه الخراج إذا كان على صفة
يمكن إحياؤه ليحييه من هو في يده أو يرفع يده عنه فيحييه غيره وينتفع به
(مسألة) (فإن أمكن زرعه عاما بعد عام وجب نصف خراجه في كل عام) لأن نفع هذه الأرض
على النصف فكذلك الخراج لكونه في مقابلة النفع
(مسألة) (ويجب الخراج على المالك دون المستأجر) لأنه يجب على رقبة الأرض فكان على
مالكها كما تجب الفطرة على مالك العبد وعنه انه على المستأجر كالعشر والأول أصح
(مسألة) (والخراج كالدين يحبس به الموسر وينظر المعسر) لأنه أجرة أشبه أجرة المساكن
(مسألة) (ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على اجارتها أو رفع يده عنها)
من كانت في يده أرض فهو أحق بها بالخراج كالمستأجر وتنتقل إلى وارثه بعده على الوجه الذي
كانت في يد موروثه فإن آثر بها أحدا صار الثاني أحق بها، فإن عجز من هي في يده عن عمارتها
545

وأداء خراجها أجبر على رفع يده عنها بإجارة أو غيرها ويدفعها إلى من يعمرها ويقوم بخراجها لأن
الأرض للمسلمين فلا يجوز تعطيلها عليهم
(فصل) ويكره للمسلم أن يشتري من أرض الخراج المزارع لأن في الخراج معنى الذلة وبهذا وردت الاخبار عن
عمر رضي الله عنه وغيره ومعنى الشراء ههنا ان يتقبل الأرض بما عليها من خراجها لأن شراء هذه
الأرض غير جائز أو يكون على الرواية التي أجازت شراءها لكونه استنقاذا لها فهو كاستنقاذ الأسير
(فصل) ويجوز لصاحب الأرض ان يرشو العامل ليدفع عنه الظلم في خراجه لأنه يتوصل بماله
إلى كف اليد العادية عنه ولا يجوز له ذلك ليدفع له شيئا من خراجه لأنه رشوة لابطال حق فحرمت
على الآخذ والمعطي كرشوة الحاكم ليحكم له بغير الحق
(مسألة) (وان رأى الإمام المصلحة في اسقاط الخراج أو تخفيفه عن انسان جاز لأنه فيئ
فكان النظر فيه إلى الإمام)
ولأنه لو أخذ الخراج وصار في يده جاز له ان يخص به شخصا إذا رأى المصلحة فيه فجاز
له تركه بطريق الأولى
546

باب الفيئ
وهو ما أخذ من مال المشركين بغير قتال كالجزية والخراج والعشر وما تركوه فزعا وخمس
الغنيمة ومال من مات لا وارث له فهو معروف في مصالح المسلمين لهم كلهم فيه حق غنيهم
وفقيرهم إلا العبيد هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وذكر أحمد رحمه الله الفيئ فقال فيه حق لكل
المسلمين وهو بين الغني والفقير وقال عمر رضي الله عنه ما من أحد من المسلمين الا له في هذا المال نصيب
إلا العبيد ليس لهم فيه شئ وقرأ عمر (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى - حتى بلغ - والذين جاءوا
من بعدهم) فقل استوعبت المسلمين عامة ولان عشت ليأتين الراعي بستر وحمير نصيبه منها لم تعرق
فيه جبينه وذكر القاضي ان الفيئ مختص باهل الجهاد من المرابطين في الثغور وجند المسلمين ومن
يقوم بمصالحهم لأن ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته لحصول النصرة والمصلحة به فلما مات صارت مختصة
بالجند ومن يحتاج إليه المسلمون فصار لهم ذلك دون غيرهم فاما الاعراب ونحوهم ممن لا يعد نفسه
للجهاد فلا حق لهم فيه والذين يعرضون إذا نشطوا يعطون من سهم سبيل الله من الصدقة قال القاضي
ومعنى كلام أحمد أنه بين الغني والفقير يعني الذي فيه مصلحة للمسلمين من المجاهدين والقضاة والفقهاء
قال ويحتمل أن يكون معنى كلامه ان لجميع المسلمين الانتفاع بذلك المال لكونه يصرف إلى من يعود
نفعه إلى جميع المسلمين وكذلك ينتفعون بالعبور على القناطر والجسور المعقودة بذلك المال وبالأنهار
547

والطرقات التي أصلحت به وسياق كلام احمد يدل على أنه غير مختص بالجند وإنما هو معروف في
مصالح المسلمين لكن يبدأ بجند المسلمين لأنهم أهم المصالح لكونهم يحفظون المسلمين فيعطون
كفاياتهم فما فضل قدم الأهم فالأهم من عمارة الثغور وكفايتها بالكراع والسلاح وما يحتاج إليه
ثم الأهم فالأهم من عمارة المساجد والقناطر واصلاح الطرق وكراء الأنهار وسد بثوقها وأرزاق
القضاة والأئمة والمؤذنين والفقهاء وما يحتاج إليه المسلمون وكلما يعود نفعه على المسلمين ثم يقسم ما فضل
على المسلمين لما ذكرنا من الآية وقول عمر رضي الله عنه وللشافعي قولان كنحو ما ذكرناه
واستدلوا على أن أربعة أخماس الفيئ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بما روى مالك بن أوس بن الحدثان
قال سمعت عمر بن الخطاب والعباس وعليا يختصمان إليه في أموال النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر كانت
أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول صلى الله عليه وسلم
خالصا دون المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة فما فضل جعله في الكراع
والسلاح ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوليها أبو بكر بمثل ما وليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وليتها بمثل ما وليها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر متفق عليه الا ان فيه فيجعل ما بقي أسوة المال قال شيخنا
وظاهر أخبار عمر تدل على أن لجميع المسلمين في الفيئ حقا وهو ظاهر الآية فإنه لما قرأ الآية التي
في سورة الحشر قال هذه استوعبت جميع المسلمين وقال ما أحد إلا له في هذا المال نصيب فاما أموال
548

بني النضير فيحتمل ان النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق منها على أهله لأن ذلك من أهم المصالح
فبدأ بهم ثم جعل باقيه أسوة المال ويحتمل أن تكون أموال بني النضير اختص بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الفيئ وترك سائره لمن سمي في الآية وهذا مبين في قول عمر كانت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم خالصا دون المسلمين
(مسألة) (ولا يخمس وقال الخرقي يخمس فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه في المصالح)
ظاهر المذهب ان الفيئ لا يخمس نقلها أبو طالب فقال إنما تخمس الغنيمة وعنه يخمس كما تخمس
الغنيمة اختارها الخرقي وهو قول الشافعي لقول الله تعالى (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فظاهر هذا ان جميعه لهؤلاء وهو أهل
الخمس وجاءت الاخبار دالة على اشتراك جميع المسلمين فيه عن عمر رضي الله عنه مستدلا بالآيات
التي بعدها فوجب الجمع بينهما كيلا تتناقض الآية والاخبار وتتعارض وفي ايجاب الخمس فيه جمع
بينهما وتوقيف فإن خمسه لمن سمي في الآية وسائره يصرف إلى ما ذكر في الآيتين الأخيرتين
والاخبار وقد روى البراء بن عازب قال لقيت خالي ومعه الراية فقلت إلى أين؟ قال بعثني رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى رجل عرس بامرأة أبيه ان أضرب عنقه وأخمس ماله والرواية الأولى هي
المشهورة قال القاضي لم أجد بما قال الخرقي من أن الفيئ مخموس نصا فاحكيه وإنما نص على أنه غير
549

مخموس وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر لا نحفظ عن أحد قبل الشافعي في أن في الفيئ خمسا
كخمس الغنيمة والدليل على ذلك قوله تعالى (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل
ولا ركاب) الآيات إلى قوله (والذين جاءوا من بعدهم) فجعله كله لهم ولم يذكر خمسا ولما قرأ عمر
هذه الآية قال هذه استوعبت جميع المسلمين
(فصل) فإن قلنا إنه يخمس صرف خمسه إلى أهل الخمس في الغنيمة عند من يرى تخميس الفيئ
من أصحابنا وأصحاب الشافعي وحكمهما واحد لا اختلاف بينهم في هذا لأنه في معنى خمس الغنيمة ثم يصرف
الباقي في مصالح المسلمين على ما ذكرنا ويبدأ بالأهم فالأهم من سد الثغور وأرزاق الجند ونحو ذلك.
(مسألة) (فإن فضل منه فضلة قسمه بين المسلمين ويبدأ بالمهاجرين ويقدم الأقرب فالأقرب
من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ينبغي ان يبدأ في القسمة بالمهاجرين ويقدم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى أبو
هريرة قال قدمت على عمر رضي الله عنه ثمانمائة ألف درهم فلما أصبح أرسل إلي نفر من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم قد جاء الناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الاسلام أشيروا علي بمن أبدأ؟
قالوا بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك قال لا ولكن ابدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرب فالأقرب
550

فوضع الديوان على ذلك وينبغي للإمام أن يضع ديوانا يكتب فيه أسماء المقاتلة وقدر ارزاقهم ويجعل
لكل طائفة عريفا يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء ووقت الغزو لأنه يروى ان النبي صلى الله عليه وسلم جعل
عام خيبر على كل عشرة عريفا ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل في أقل من ذلك لئلا
يشغلهم عن الغزو ويبدأ ببني هاشم لأنهم أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من خبر عمر ثم ببني
المطلب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما بنوا هاشم وبنوا المطلب شئ واحد) وشبك بين أصابعه ثم
ببني عبد شمس لأنه أخو هاشم لأبيه وأمه ثم بني نوفل لأنه أخو هاشم لأبيه ثم يعطي بني عبد الدار
وعبد العزى ويقدم عبد العزى لأن فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خديجة منهم
وعلى هذا يعطى الأقرب فالأقرب حتى تنقضي قريش وهم بنو النضر بن كنانة وقيل بنو فهر بن مالك
(مسألة) (ثم الأنصار ثم سائر المسلمين وهل يفاضل بينهم؟ على روايتين).
يقدم الأنصار بعد قريش لفضلهم وسابقتهم وآثارهم الجميلة ثم سائر العرب ثم العجم والموالي
فإن استوى اثنان في الدرجة قدم أسنهما ثم أقدمهما هجرة وسابقة ويخص في كل ذا الحاجة.
(فصل) واختلف الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم في قسم الفئ بين أهله فذهب أبو بكر
رضي الله عنه إلى التسوية بينهم وهو المشهور عن علي رضي الله عنه فروي ان أبا بكر سوى بين
الناس في العطاء وأدخل فيه العبيد فقال له عمر يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتجعل الذين جاهدوا في سبيل
551

الله بأموالهم وأنفسهم وهجروا ديارهم له كمن إنما دخلوا في الاسلام كرها؟ فقال أبو بكر إنما عملوا لله
وإنما أجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ فلما ولي عمر رضي الله عنه فاضل بينهم وأخرج العبيد فلما
ولي علي رضي الله عنه سوى بينهم واخرج العبيد وذكر عن عثمان رضي الله عنه انه فضل بينهم
في القسمة فعلى هذا مذهب اثنين منهم أبي بكر وعلي التسوية ومذهب اثنين عمر وعثمان التفضيل
وقد روى عن أحمد رحمه الله فروي عنه الحسن بن (علي) بن الحسن أنه قال للإمام أن يفضل قوما على
قوم لأن عمر قسم بينهم على السوابق وقال لا أجعل من قاتل على الاسلام كمن قوتل عليه، ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قسم النفل بين أهله متفاضلا على قدر غنائهم وهذا في معناه وروي عنه انه لا يجوز التفضيل
قال أبو بكر اختار أبو عبد الله ان لا يفضلوا وهو قول الشافعي لما ذكرنا من فعل أبي بكر رضي الله
عنه قال الشافعي إني رأيت أنه قسم المواريث على العدد يكون الاخوة متفاضلين في الغناء عن الميت
والصلة في الحياة والحفظ بعد الموت فلا يفضلون وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس
الغنيمة على العدد ومنهم من يغني غاية الغناء ويكون الفتح على يديه ومنهم من يكون محضره إما
غير نافع وإما ضرر أبا لجبن والهزيمة وذلك انهم استووا في سبب الاستحقاق وهو انتصابهم للجهاد
فصاروا كالغانمين، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله ان ذلك مفوض إلى اجتهاد الإمام يفعل ما يراه
من تسوية وتفضيل لما ذكرنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأنفال وهذا في معناه وقد روي
عن عمر رضي الله عنه انه فرض للمهاجرين من أهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف ولأهل بدر من
الأنصار أربعة آلاف أربعه آلاف وفرض لأهل الحديبية ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف ولأهل
الفتح الفين الفين.
(فصل) قال القاضي ويتعرف قدر حاجة أهل العطاء وكفايتهم ويزيد ذا الولد من اجل ولده
552

وذا الفرس من اجل فرسه وإن كان له عبيد في مصالح الحرب حسبت مؤنتهم في كفايتهم وإن كانوا
لزينة أو تجارة لم تحسب مؤنتهم وينظر في أسعارهم في بلدانهم لأن اسعار البلاد تختلف والغرض الكفاية
ولهذا تعتبر الذرية والولد فيختلف عطاؤهم لاختلاف ذلك وان كانوا سواء في الكفاية لا يفضل بعضهم
على بعض وإنما تتفاضل كفايتهم ويعطون قدر كفايتهم في كل عام مرة وهذا والله أعلم على قول من
رأى التسوية، فأما من رأى التفضيل فإنه يفضل أهل السوابق والغناء في الاسلام على غيرهم بحسب ما يراه
كما فعل عمر رضي الله عنه ولم يقدر ذلك بالكفاية والعطاء الواجب لا يكون إلا لبالغ يطيق مثله
القتال ويكون عاقلا حرا بصيرا صحيحا ليس به مرض يمنعه القتال فإن مرض الصحيح مرضا
غير مرجو الزوال كالزمانة ونحوها خرج من المقاتلة وسقط سهمه فإن كان مرضا مرجو الزوال كالحمى
والصداع والبرسام لم يسقط عطاؤه لأنه في حكم الصحيح ولذلك لا يستنيب في الحج كالصحيح.
(مسألة) (ومن مات بعد حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته حقه لأنه مات بعد الاستحقاق
فانتقل حقه إلى وارثه كسائر الموروثات)
(مسألة) (ومن مات من أجناد المسلمين دفع إلى امرأته وأولاده الصغار ما يكفيهم)
لأن فيه تطييب قلوب المجاهدين فمتى علموا ان عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم توفروا على
553

الجهاد وإذا علموا خلاف ذلك توفروا على الكسب وآثروه على الجهاد مخافة الضيعة على عيالهم
ولهذا قال أبو خالد الهناي:
لقد زاد الحياة إلي حبا * بناتي انهن من الضعاف
مخافة أن يرين الفقر بعدي * وأن يشربن رنقا بعد صافي
وأن يعرين ان كسي الجواري * فتنبو العين عن كرم عجاف
ولولا ذاك قد سومت مهري * وفي الرحمن للضعفاء كافي
ومتى تزوجت المرأة سقط حقها لأنها خرجت عن عيال الميت
(مسألة) (فإذا بلغ ذكورهم فاختاروا ان يكونوا في المقاتلة فرض لهم وان لم يختاروا تركوا
سقط حقهم من عطاء المقاتلة
554

(باب الأمان)
يصح أمان المسلم المكلف ذكرا كان أو أنثى حرا أو عبدا مطلقا أو أسيرا، وفي أمان
الصبي المميز روايتان)
وجملة ذلك أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم، ويصح من كل
مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا أو عبدا وبهذا قال الثوري والشافعي والأوزاعي وإسحاق
وابن القاسم وأكثر أهل العلم وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:
لا يصح أمان العبد الا أن يكون مأذونا له في القتال لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانه كالصبي
ولأنه مجلوب من دار الحرب فلا يؤمن ان ينظر لهم في تقديم مصلحتهم
ولنا ما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم
فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منهم صرف ولا عدل) رواه البخاري
والعبد إما أن يكون أدناهم فيصح أمانه بالحديث أو يكون غيره أدنى منه فيصح أمانه بطريق التنبيه.
وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيهم فحضرنا موضعا
فرأينا انا نستفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح وبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في
صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال:
العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، رواه سعيد ولأنه مسلم مكلف فصح أمانه كالحر والمرأة،
وما ذكروه من التهمة يبطل بما إذا أذن له في القتال فإنه يصح أمانه وبالمرأة.
555

(فصل) ويصح أمان المرأة في قول الجميع. قالت عائشة رضي الله عنها ان كانت المرأة لتجير
على المسلمين فيجوز وعن أم هانئ انها قالت يا رسول الله قد أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وان ابن
أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ إنما يجير على المسلمين
أدناهم) رواهما سعيد. وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(فصل) ويصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره لدخوله في عموم الخبر، ولأنه مسلم مكلف
مختار أشبه غير الأسير، وكذلك يصح أمان الأجير والتاجر في دار الحرب وبهذا قال الشافعي، وقال
الثوري لا يصح أمان أحد منهم
ولنا عموم الحديث والقياس. فأما الصبي المميز ففيه روايتان (إحداهما) لا يصح أمانه وهو قول
أبي حنيفة والشافعي لأنه غير مكلف ولا يلزمه بقوله حكم فلا يلزم غيره كالمجنون (والثانية) يصح
أمانه وهو قول مالك. قال أبو بكر يصح أمانه رواية واحدة وحمل رواية المنع على غير المكلف واحتج
بعموم الحديث ولأنه مسلم عاقل فصح أمانه كالبالغ بخلاف المجنون فإنه لا قول له أصلا
(فصل) ولا يصح أمان كافر وإن كان ذميا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى
بها أدناهم) فجعل الذمة للمسلمين فلا تحصل لغيرهم، ولأنه تهم على الاسلام وأهله فأشبه الحربي
ولا يصح أمان مجنون ولا طفل لأن كلامه غير معتبر فلا يثبت به حكم. ولا يصح أمان زائل العقل
بنوم أو سكر أو إغماء لذلك ولأنه لا يعرف المصلحة من غيرها أشبه المجنون. ولا يصح من مكره لأنه
قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالاقرار
(مسألة) (ويصح أمان الإمام لجميع الكفار وآحادهم)
556

لأن ولايته عامة على المسلمين. ويصح أمان الأمير لمن جعل بإذائه من الكفار فأما في حق
غيرهم فهو كآحاد المسلمين لأن ولايته على قتال أولئك دون غيرهم، ويصح أمان أحد الرعية للواحد
والعشرة والقافلة الصغيرة والحصن الصغير لأن عمر رضي الله عنه أجاز أمان العبد لأهل الحصن
الذي ذكرنا حديثه ولا يصح أمانه لأهل بلدة ورستاق وجمع كثير لأن ذلك يفضي إلى تعطيل
الجهاد والافتيات على الإمام. ويصح أمان الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه لأن عمر رضي الله
عنه أمن الهرمزان وهو أسير. رواه سعيد. ولان الأمان دون المن عليه وقد جاز المن عليه. فأما
أحد الرعية فليس له ذلك وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب انه يصح أمانه لأن زينب بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بعد اسره فأمضاه النبي صلى الله عليه وسلم وحكي عن الأوزاعي
ولنا ان أمر الأسير مفوض إلى الإمام فلم يجز الافتيات عليه بما يمنعه ذلك كقتله. وحديث زينب
رضي الله عنها في أمانها إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم
(فصل) وإذا شهد للأسير اثنان أو أكثر من المسلمين انهم أمنوه قبل إذا كانوا بصفة الشهود
وقال الشافعي لا تقبل شهادتهم لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم
ولنا أنهم عدول من المسلمين غير متهمين شهدوا بامانه فوجب ان يقبل كما لو شهدوا على غيرهم
أنه امنه وما ذكره لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة المرضعة على فعلها في حديث عقبة بن الحارث
فإن شهد واحد: اني أمنته فقال القاضي قياس قول أحمد أنه يقبل كما لو قال الحاكم بعد عزله كنت
حكمت لفلان على فلان بحق فإنه يقبل قوله وعلى قول أبي الخطاب يصح أمانه فقبل خبره لأنه كالحاكم
557

في حال ولايته وهو قول الأوزاعي ويحتمل ان لا يقبل لأنه ليس له ان يؤمنه في الحال فلم يقبل
اقراره به كما لو أقر بحق على غيره وهذا قول الشافعي
(مسألة) (ومن قال لكافر أنت آمن أو لا بأس عليك أو اجرتك أوقف أو الق سلاحك
أو مترس نفذ أمنه)
قد ذكرنا من يصح أمانه وقد ذكرنا ههنا صفة الأمان والذي ورد به الشرع لفظتان اجرتك
وأمنتك قال الله تعالى (وان أحد من المشركين استجارك فأجره) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من
اجرت وامنا من امنت - وقال - من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) وفي معنى ذلك قوله (لا تخف
لا تذهل لا تخش لاخوف عليك لا بأس عليك) وقد روي عن عمر أنه قال إذا قلتم لا بأس أو لا تذهل
أو مترس فقد أمنتموهم فإن الله تعالى يعلم الألسنة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال للهرمزان
تكلم ولا بأس عليك فلما تكلم أمر عمر بقتله فقال أنس بن مالك ليس لك إلى ذلك سبيل قد أمنته
قال عمر كلا قال الزبير إنك قد قلت تكلم ولا بأس عليك فدرأ عنه عمر القتل رواه سعيد وغيره
ولا نعلم في هذا كله خلافا وأما ان قال له قف أو قم أو الق سلاحك فقال أصحابنا هو أمان أيضا
لأن الكافر يعتقد هذا أمانا فأشبه قوله أمنتك وقال الأوزاعي ان ادعى الكافر أنه أمان وقال
558

إنما وقفت لذلك فهو آمن وان لم يدع ذلك فلا يقبل قال شيخنا ويحتمل ان هذا ليس بأمان لأن لفظه
لا يشعر به وهو يستعمل للارهاب والتخويف فأشبه قوله لأقتلنك لكن يرجع إلى القائل فإن قال
نويت به الأمان فهو أمان وان قال لم أرد أمانه نظرنا في الكافر فإن قال اعتقدته أمانا رد إلى مأمنه
ولم يجز قتله وان لم يعتقده أمانا فليس بأمان كما لو أشار إليهم بما اعتقدوه أمانا
(فصل) فإن أشار إليهم بما اعتقدوه أمانا وقال أردت به الأمان فهو أمان، وان قال لم أرد به
الأمان فالقول قوله لأنه أعلم بنيته فإن خرج الكفار من حصنهم بناء على أن هذه الإشارة أمان
لم يجز قتلهم ويردون إلى مأمنهم فقد قال عمر رضي الله عنه والله لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء
إلى مشرك فنزل بامانه فقتله لقتلته به رواه سعيد وان مات المسلم أو غاب فإنهم يردون إلى مأمنهم
وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر فإن قيل فكيف صححتم الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق
بخلاف البيع والطلاق والعتق؟ قلنا تغليبا لحقن الدم كما حقن دم من له شبهة كتاب تغليبا لحقن دمه
ولان الكفار في الغالب لا يفهمون كلام المسلمين ولا يفهم المسلمون كلامهم فدعت الحاجة إلى
الاشار بخلاف غيره ومن قال لكافر أنت آمن فرد الأمان لم ينعقد لأنه ايجاب حق بقد (بعقد) فلم يصح
مع الرد كالبيع وان قبله ثم رده انتقض لأنه حق له فسقط باسقاطه كالرق
(فصل) إذا سبيت كافرة وجاء ابنها يطلبها وقال إن عندي أسيرا مسلما فأطلقوها حتى احضره
فقال الإمام أحضره فأحضره لزم اطلاقها لأن المفهوم من هذا اجابته إلى ما سأل فإن قال الإمام لم
559

أراد اجابته لم يجبر على ترك أسيره ورد إلى مأمنه وقال أصحاب الشافعي يطلق الأسير ولا تطلق
المشركة لأن المسلم حر لا يجوز أن يكون ثمن مملوكة ويقال ان اخترت شراءها فائت بثمنها
ولنا ان هذا يفهم منه الشرط فوجب الوفاء به كما لو صرح به ولان الكافر فهم منه ذلك وبنى
عليه فأشبه ما لو فهم الأمان من الإشارة وقولهم لا يكون الحر ثمن مملوكة قلنا لكن يصلح ان يفادى
بها فقد فادى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسيرة التي أخذها من سلمة بن الأكوع برجلين من المسلمين وفادى
برجلين من المسلمين بأسير من الكفار ووفى لهم برد من جاء مسلما وقال (انه لا يصلح في ديننا الغدر)
وإن كان رد المسلم إليهم ليس بحق لهم، ولأنه التزم اطلاقها فلزمه ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام
(المسلمون على شروطهم - وقوله - انه لا يصلح في ديننا الغدر)
(مسألة) (ومن جاء بمشرك فادعى أنه أمنه فأنكره فالقول قوله وعنه القول قول الأسير
وعنه قول من يدل الحال على صدقه)
إذا جاء المسلم بمشرك فادعى المشرك انه امنه وادعى المسلم اسره ففيه ثلاث روايات (إحداهن)
القول قول المسلم لأن الأصل إباحة دم الكافر وعدم الأمان
(والثانية) القول قول الأسير لأن صدقه محتمل فيكون ذلك شبهة تمنع قتله وهذا اختيار أبي بكر (والثالثة) يرجع إلى قول من يدل ظاهر الحال على صدقه فإن كان الكافر ذا قوة معه سلاحه
فالظاهر صدقه وإن كان ضعيفا مسلوب السلاح فالظاهر كذبه فلا يلتفت إلى قوله وقال أصحاب
560

الشافعي لا يقبل قوله وان صدقه المسلم لأنه لا يقدر على أمانه فلم يقبل اقراره به ولنا أنه كافر لم يثبت
اسره ولا نازعه فيه منازع فقبل قوله في الأمان كالرسول
(فصل) ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله تعالى ويعرف شرائع الاسلام لزمه اجابتهم ثم يرد
إلى مأمنه لا نعلم فيه خلافا وبه قال قتادة ومكحول والأوزاعي والشافعي وكتب بذلك عمر بن
عبد العزيز إلى الناس لقول الله تعالى (وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام
الله ثم ابلغه مأمنه) قال الأوزاعي هي إلى يوم القيامة
(مسألة) (ومن أعطي أمانا ليفتح حصنا ففتحه واشتبه علينا حرم قتلهم واسترقاقهم).
إذا حصر المسلمون حصنا فناداهم رجل أمنوني أفتح لكم الحصن جاز أن يعطوه أمانا فإن زياد
بن لبيد لما حصر النحير قال الأشعث بن قيس اعطوني الأمان لعشرة افتح لكم الحصن ففعلوا فإن
أشكل عليهم وادعى كل واحد من الحصن انه الذي أمنوه لم يجز قتل واحد منهم، لأن كل واحد
منهم يحتمل صدقه وقد اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه فحرم الكل كما لو اشتبهت ميتة بمذكاة
وأخته بأجنبيات أو زان محصن بمعصومين، وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه خلافا ويحرم استرقاقهم
أيضا في أحد الوجهين وذكر القاضي ان احمد نص عليه وهو مذهب الشافعي لما ذكرنا في تحريم
561

القتل فإن استرقاق من لا يحل استرقاقه محرم (والوجه الثاني) يقرع فيخرج صاحب الأمان بالقرعة
ويسترق الباقون، قاله أبو بكر لأن الحق لواحد منهم غير معلوم فأخرج بالقرعة كما لو أعتق عبدا
من عبيده واشكل ويخالف القتل فإنه إراقة دم يندرئ بالشبهات بخلاف الرق، ولهذا يمتنع القتل
في النساء والصبيان دون الاسترقاق، وقال الأوزاعي إذا أسلم واحد من أهل الحصن قبل فتحه
أشرف علينا ثم أشكل فادعى كل واحد منهم انه الذي أسلم سعى كل واحد منهم في قيمة نفسه ويترك
له عشر قيمته وقياس المذهب أن فيها وجهين كالتي قبلها.
(فصل) قال احمد إذا قال الرجل كف عني حتى أدلك على كذا فبعث معه قوما ليدلهم فامتنع
من الدلالة فلهم ضرب عنقه لأن أمانه بشرط ولم يوجد.
قال أحمد إذا لقي علجا وطلب منه الأمان فلا يؤمنه لأنه يخاف شره وان كانوا سرية فلهم
أمانه يعني أن السرية لا يخافون من غدر العلج بخلاف الواحد وان لقيت السرية اعلاجا فادعوا انهم
جاءوا مستأمنين فإن كان معهم سلاح لم يقبل منهم لأن حملهم السلاح يدل على محاربتهم وان لم يكن
معهم سلاح قبل قوله لأنه دليل على صدقهم.
(مسألة) (ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن ويقيمون مدة الهدنة بغير جزية وعند أبي
الخطاب لا يقيمون سنة إلا بجزية).
562

يجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمن رسل المشركين ولما جاءه
رسولا مسيلمة قال لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما ولان الحاجة تدعو إلى ذلك لأننا لو قتلنا رسلهم
لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة ويجوز عقد الأمان لكل واحد منهما مطلقا ومقيدا بمدة سواء
كانت طويلة أو قصيرة بخلاف الهدنة فإنها لا تجوز إلا مقيدة لأن في جوازها مطلقة ترك للجهاد
وهذا بخلافه ويجوز أن يقيموا مدة الهدنة بغير جزية، ذكره القاضي، قال أبو بكر هذا
ظاهر كلام أحمد.
وقال أبو الخطاب عندي أنه لا يجوز أن يقيم سنة بغير جزية وهو قول الأوزاعي والشافعي لقول
الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ووجه الأول انه كافر أبيح له الإقامة في دار
الاسلام من غير التزام جزية فلم يلزمه كالنساء والصبيان ولان الرسول لو كان مما لا يجوز أخذ الجزية منه
لاستوى في حقه السنة وما دونها في أن الجزية لا تؤخذ منه في المدتين فإذا جازت له الإقامة في إحداهما
جازت في الأخرى قياسا لها عليها وقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون) أي يلتزمونها
ولم يرد حقيقة الاعطاء وهذا مخصوص منها بالاتفاق فإنه تجوز له الإقامة من غير التزام لها ولان
الآية تخصصت بما دون الحول فنقيس على المحل المخصوص.
563

(مسألة) (ومن دخل دار الاسلام بغير أمان وادعى أنه رسول أو تاجر معه متاع
يبيعه قبل منه).
إذا دخل حربي دار الاسلام بغير أمان وادعى أنه رسول قبل منه ولم يجز التعرض له لقول النبي
صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة (لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما) ولان العادة جارية بذلك وان ادعى أنه تاجر
وقد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا لم يعرض له إذا كان معه ما يبيعه لأنهم دخلوا يعتقدون الأمان
أشبه ما لو دخلوا بإشارة مسلم.
قال أحمد إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو ويريدون بلاد
الاسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل من دخل بلاد المسلمين من أرض الحرب بتجارة بويع ولم
يسأل عن شئ وإن لم يكن معه تجارة فقال جئت مستأمنا لم يقبل منه وكان الإمام فيه مخيرا ونحو
هذا قول الأوزاعي والشافعي وكذلك إن كان جاسوسا لأنه حربي أخذ بغير أمان فأشبه المأخوذ
في حال الحرب وإن كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح في مركب إلينا فهو لمن أخذه في إحدى الروايتين
لأنه أخذ بغير قتال في دار الاسلام فكان لآخذه كالصيد والحشيش والأخرى يكون فيئا للمسلمين
لأنه أخذ بغير قتال أشبه ما لو أخذ في دار الحرب، وقد روي عن أحمد رحمه الله انه سئل عن الدابة
تخرج من بلد الروم أو تنفلت فتدخل القرية وعن القوم يضلون عن الطريق فيدخلون القرية من
564

قرى المسلمين فيأخذونهم فقال يكون لأهل القرية كلهم وسئل عن مركب بعث به ملك الروم وفيه
رجاله فطرحته الريح إلى طرسوس فخرج إليه أهل طرسوس فقتلوا الرجالة وأخذوا الأموال فقال
هذا فيئ للمسلمين مما أفاء الله عليهم، وقال الزهري هو غنيمة وفيه الخمس.
(فصل) ومن دخل دار الحرب رسولا أو تاجرا بأمانهم فخيانتهم محرمة عليه لأنهم إنما اعطوه
الأمان مشروطا بترك خيانتهم وأمنه إياهم من نفسه وان لم يكن ذلك مذكورا في اللفظ فهو معلوم
في المعنى وكذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا فهو ناقض لامانه ولان خيانتهم غدر ولا يصلح في
ديننا الغدر فإن خانهم أو سرق منهم أو أقترض شيئا وجب عليه رد ما أخذ إلى أربابه فإن جاء أربابه
إلى دار الاسلام بأمان أو ايمان رده إليهم والا بعث به إليهم لأنه أخذه على وجه يحرم عليه أخذه
فلزمه رده كما لو أخذه من مال مسلم.
(مسألة) (وإذا أودع المستأمن ماله مسلما أو أقرضه إياه ثم عاد إلى دار الحرب بقي الأمان
في ماله يبعث إليه ان طلبه)
وجملة ذك (ذلك) ان من دخل من أهل الحرب إلى دار الاسلام بأمان فأودع ماله مسلما أو ذميا أو
أقرضهما إياه ثم عاد إلى دار الحرب لحاجة يقضيها أو رسولا ثم يعود إلى دار الاسلام فهو على أمانه في
نفسه وماله لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة بدار الاسلام فأشبه الذمي إذا دخل لذلك، وان دخل مستوطنا
565

أو محاربا بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله لأنه بدخوله دار الاسلام بأمان ثبت الأمان لماله الذي
معه تبعا فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله لاختصاص المبطل في نفسه فيختص البطلان
به، فإن قيل إنما يثبت الأمان لماله تبعا فإذا بطل في المتبوع بطل في التبع قلنا بل يثبت له الأمان لمعنى
وجد فيه وهو إدخاله معه وهذا يقتضي ثبوت الأمان له وان لم يثبت في نفسه بدليل ما لو بعثه مع مضارب
له أو وكيل فإنه يثبت له الأمان وان لم يثبت في نفسه ولم يوجد فيه ههنا ما يقتضي نقض الأمان فيه
فبقي على ما كان عليه فإن أخذه معه إلى دار الحرب انتقض الأمان فيه كما انتقض في نفسه لوجود المبطل
فيهما. إذا ثبت هذا فإذا طلبه صاحبه بعث إليه وان تصرف فيه ببيع أو هبة أو نحوهما صح تصرفه لأنه
ملكه وان مات في دار الحرب انتقل المال إلى وارثه ولم يبطل الأمان فيه، وقال أبو حنيفة يبطل وهو
قول الشافعي لأنه قد صار لوارثه ولم يعقد فيه أمانا فوجب ان يبطل فيه كسائر أمواله
ولنا ان الأمان حق واجب لازم متعلق بالمال فإذا انتقل إلى الوارث انتقل بحقه كسائر الحقوق
من الرهن والضمين والشفعة وهذا اختيار المزني ولأنه مال له أمان فينقل إلى وارثه مع بقاء الأمان فيه
كالمال الذي مع مضاربه وان لم يكن له وارث صار فيئا لبيت المال كمال الذمي إذا مات وليس له
وارث فإن كان له وارث في دار الاسلام لم يرثه ذكره القاضي لاختلاف الدارين والأولى انه يرثه
566

لأن ملتهما واحدة فورثه كالمسلمين فإن مات المستأمن في دار الاسلام فهو كموته في دار الحرب سواء
لأن المستأمن حربي تجري عليه أحكامهم وان رجع إلى دار الحرب فسبي واسترق فقال القاضي يكون
أمره موقوفا حتى يعلم آخر أمره فإن مات كان فيئا لأن الرقيق لا يورث وان عتق كان له وان لم يسترق
ولكن من عليه الإمام أو فأداه فماله له وان قتله فماله لورثته كما لو مات ان لم يسب لكن دخل
دار الاسلام بغير أمان ليأخذ ماله جاز قتله وسبيه لأن ثبوت الأمان لماله لا يثبت الأمان لنفسه كما
لو كان ماله وديعة بدار الاسلام وهو مقيم بدار الحرب
(فصل) وان أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالا مضاربة أو وديعة ودخل به دار الاسلام
فهو في أمان حكمه حكم ما ذكرنا وان اخذه ببيع في الذمة أو قرض فالثمن في ذمته عليه أداؤه إليه
وان اقترض حربي من حربي مالا ثم دخل إلينا فأسلم فعليه رد البدل لأنه أخذه على سبيل المعاوضة
فأشبه ما لو تزوج حربية ثم أسلم لزمه مهرها
(فصل) وإذا سرق المستأمن في دار الاسلام أو قتل أو غصب ثم عاد إلى دار الحرب ثم
خرج مستأمنا مرة ثانية استوفي منه ما لزمه في أمانه الأول كما لو لم يدخل دار الحرب وان اشترى عبدا
مسلما فخرج به إلى دار الحرب ثم قدر عليه لم يغنم لأنه لم يثبت ملكه عليه لكون الشراء باطلا
567

ويرد بائعه الثمن إلى الحرب لأنه حصل في أمان فإن كان العبد تالفا فعلى الحربي قيمته ويترادان الفضل
(فصل) وإذا دخلت الحربية إلينا بأمان فتزوجت ذميا في دارنا ثم أرادت الرجوع لم تمنع إذا
رضي زوجها أو فارقها وقال أبو حنيفة تمنع ولنا انه عقد لا يلزم الرجل به المقام فلا يلزم المرأة كعقد الإجارة
(مسألة) (وإذا أسر الكفار مسلما فأطلقوه بشرط ان يقيم عندهم مدة لزمه الوفاء لهم
ولم يكن له ان يهرب)
نص عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند شروطهم) وقال الشافعي لا يلزمه، وان أطلقوه وأمنوه
صاروا في أمان منه لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه فإن أمكنه المضي إلى دار الاسلام لزمه وان
تعذر عليه أقام وكان حكمه حكم من أسلم في دار الحرب فإن خرج فادركوه وتبعوه قاتلهم وبطل
الأمان لأنهم طلبوا منه الأمان وهو معصية
(مسألة) (فإن لم يشترطوا شيئا أو شرطوا كونه رقيقا فله ان يقتل ويسرق ويهرب)
أما إذا أطلقوه ولم يؤمنوه فله ان يأخذ منهم ما قدر عليه ويسرق ويهرب لم يؤمنهم ولم يؤمنوه
وكذلك ان شرطوا كونه رقيقا فرضي بذلك أولم يرض لأن كونه رقيقا حكم شرعي لا يثبت
عليه بقوله ولو ثبت لم يقتض أمانا له منهم ولا لهم منه وهذا مذهب الشافعي وان احلفوه على ذلك
وكان مكرها لم تنعقد يمينه وإن كان مختارا انعقدت يمينه ويحتمل ان تلزمه الإقامة إذا قلنا يلزمه
الرجوع إليهم على ما نذكره في المسألة التي بعدها وهو قول الليث
568

(مسألة) (وان أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالا وإن عجز عنه عاد إليهم لزمه الوفاء لهم
إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم وقال الخرقي لا يرجع الرجل أيضا)
وجملة ذلك أن الأسير إذا أطلقه الكفار وشرطوا عليه ان يبعث إليهم بفدائه أو يعود إليهم
واحلفوه فإن كان مكرها لم يلزمه الوفاء لهم برجوع ولا فداء لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عفي لامتي عن الخطا
والنسيان وما استكرهوا عليه، وان لم يكره وقدر على الفداء الذي شرط على نفسه لزمه أداؤه وبه
قال الحسن وعطاء والزهري والنخعي والثوري والأوزاعي ونص الشافعي على أنه لا يلزمه لأنه
حر لا يستحقون بدله
ولنا قول الله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) ولما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على رد من
جاءه مسلما وفي لهم وقال (إنا لا يصلح في ديننا الغدر) ولان في الوفاء مصلحة للأسارى وفي الغدر
مفسدة في حقهم لأنهم لا يأمنون بعده والحاجة داعية إليه فلزمه الوفاء كما يلزمه الوفاء بعقد الهدنة
ولأنه عاهدهم على أداء مال فلزمه الوفاء لهم كثمن المبيع والمشروط في عقد الهدنة في موضع يجوز
شرطه فإن عجز عن الفداء وكانت امرأة لم ترجع إليهم ولم يحل لها ذلك لقول الله تعالى (فلا ترجعونهن
إلى الكفار) ولان في رجوعها تسليطا لهم على وطئها حراما وقد منع الله رسوله رد النساء إلى الكفار
569

بعد صلحه على ردهن في قضية الحديبية وفيها فجاء نسوة مؤمنات فنهاهم الله ان يردوهن رواه أبو
داود وغيره وإن كان المفادى رجلا فقيه روايتان (إحداهما) لا يرجع اختاره الخرقي وهو قول الحسن
والنخعي والثوري والشافعي لأن الرجوع إليهم معصية فلم يلزم بالشرط كما لو كان امرأة وكما لو شرط
قتل مسلم أو شرب الخمر
(والثانية) يلزمه وهو قول عثمان والزهري والأوزاعي لما ذكرنا في بعث الفداء ولان النبي صلى الله عليه وسلم
عاهد قريشا على رد من جاءه مسلما فرد أبا بصير وأبا جندل وقال (إنا لا يصلح في ديننا الغدر) وفارق
رد المرأة فإن الله تعالى فرق بينهما في هذا الحكم حين صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا على
رد من جاءه منهم مسلما فامضى الله سبحانه ذلك في الرجال ونسخه في النساء وسنذكر الفرق بينهما
في هذا الباب الذي بعده انشاء الله تعالى
(فصل) فإن اشترى الأسير شيئا مختارا أو اقترضه فالعقد صحيح ويلزمه الوفاء لهم لأنه عقد
معاوضة فأشبه ما لو فعله غير الأسير وإن كان مكرها لم يصح وان اكرهوه على قبضه لم يضمنه
ولكن عليه رده إليهم إن كان باقيا لأنهم دفعوه إليه بحكم العقد وإن قبضه باختياره ضمنه لأنه قبضه
باختياره عن عقد فاسد وان باعه والعين قائمة لزمه ردها وان عدمت رد قيمتها
(فصل) وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو فإن كان باذنه لزمه ان يؤدي إلى الذي اشتراه
ما أداه فيه بغير خلاف علمناه لأنه إذا أذن فيه كان نائبه في شراء نفسه فكان الثمن على الآمر
كالوكيل، وإن كان بغير اذنه لزم الأسير الثمن أيضا وبه قال الحسن والزهري والنخعي
570

ومالك والأوزاعي، وقال الثوري والشافعي وابن المنذر لا يلزمه لأنه تبرع بما لا يلزمه ولم يؤذن
له فيه أشبه ما لو عمر داره
ولنا ما روى سعيد بن عثمان بن مطر ثنا أبو جرير عن الشبعي (الشعبي) قال أغار أهل ماه وأهل جلولاء على
العرب فأصابوا سبايا العرب فكتب السائب بن الأكوع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم
فكتب عمر: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار
بعد ما قسم فلا سبيل إليه. وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع ولا
يشترى. فحكم للتجار برؤوس أموالهم، ولان الأسير يجب عليه فداء نفسه ليتخلص من حكم الكفار
فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه كما لو قضى الحاكم عنه حقا امتنع من أدائه، فعلى هذا
إذا اختلفا في قدر الثمن فالقول قول الأسير وهو قول الشافعي إذا أذن له، وقال الأوزاعي القول قول
المشتري لأنهما اختلفا في فعله وهو اعلم به
ولنا ان الأسير منكر للزيادة والقول قول المنكر ولان الأصل براءة ذمته من الزيادة فيرجح قوله بالأصل
(فصل) ويجب فداء أسير المسلمين إذا أمكن وبه قال عمر بن عبد العزيز ومالك وإسحاق.
ويروى عن ابن الزبير انه سأل الحسن بن علي رضي الله عنهما على من فكاك الأسير؟ قال على الأرض
التي يقاتل عليها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (اطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني)
571

وروى سعيد باسناده عن حبان بن أبي جبلة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان على المسلمين في فيئهم
أن يفادوا أسيرهم ويؤدوا عن غارمهم) وفادى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين بالرجل
الذي أخذه من بني عقيل، وفادى بالمرأة التي استوهب من سلمة بن الأكوع رجلين. ويجب فداء
أسير أهل الذمة سواء كانوا في معونتنا أو لا هذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول عمر بن عبد العزيز
والليث لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا المدافعة من ورائهم والقيام دونهم
فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك كمن يحرم عليه إتلاف شئ فإذا أتلفه ضمن غرمه
وقال القاضي إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام في قتالهم فسبوا وجب عليه ذلك لأن
أسرهم كان لمعنى من جهته وهو المنصوص عن أحمد، ومتى وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم
لأن حرمة المسلم أعظم والخوف عليه أشد وهو معرض لفتنته عن دينه الحق بخلاف أهل الذمة
572

(باب الهدنة)
ومعناها أن يعقد الإمام أو نائبه عقدا على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض ويسمى مهادنة
وموادعة ومعاهدة وهي جائزة لقوله تعالى (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)
وقوله تعالى (فإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وروى مروان والمسور بن مخرمة ان النبي صلى الله عليه وسلم صالح
سهيل بن عمرو على وضع القتال عشر سنين، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى
المسلمون، وإنما تجوز للنظر للمسلمين إما لضعفهم عن القتال أو للطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في
أدائهم الجزية أو غير ذلك من المصالح، وتجوز على غير مال لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح يوم الحديبية
على غير مال، وتجوز على مال يأخذه منهم فإنها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى، فاما إن
صالحهم على ما يبذله لهم فقد أطلق احمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لأن فيه صغارا للمسلمين
قال شيخنا وهذا محمول على غير حال الضرورة مثل أن يخاف على المسلمين الهلاك والأسر فيحوز
لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال كذا هذا. ولان بذل المال وإن كان صغارا فإنه يجوز تحمله لدفع
صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم إلى كفرهم
573

وقد روى عبد الرزاق في المغازي عن الزهري قال أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن
وهو مع أبي سفيان يعني يوم الأحزاب (أرأيت ان جعلت لك ثلث ثمر الأنصار أترجع بمن معك
من غطفان وتخذل بين الأحزاب؟) فأرسل إليه عيينة ان جعلت لي الشطر فعلت قال فحدثني ابن
أبي نجيح ان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قالا يا رسول الله والله لقد كان يجر سرمه في الجاهلية في عام السنة
حول المدينة ما يطيق أن يدخلها فالآن حين جاء الله بالاسلام نعطيهم ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فنعم
إذا) ولولا أن ذلك جائز لما بذله النبي صلى الله عليه وسلم
(مسألة) (ولا يجوز عقد الهدنة إلا من الإمام أو نائبه)
لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ولأنه يتعلق بنظر الإمام وما يراد من المصلحة على
ما قدمنا، ولان تجويزه لغير الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه افتيات
على الإمام، فإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح، فإن دخل بعضم دار الاسلام بهذا الصلح كان
آمنا لأنه دخل معتقدا للأمان ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الاسلام لأن الأمان لم يصح،
وإن عقد الإمام الهدنة ثم مات أو عزل لم ينتقض عهده وعلى من بعده الوفاء به لأن الإمام عقده
باجتهاده فلم يجز نقضه اجتهاد غيره كما لا يجوز للحاكم نقض أحكام من قبله باجتهاده، وإذا عقد الهدنة
لزمه الوفاء بها لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال تعالى (فأتموا إليهم عهدهم إلى
574

مدتهم) ولأنه إذا لم يف بها لم يسكن إلى عهده وقد يحتاج إلى عقدها
(فصل) فإن نقضوا العهد بقتال أو مظاهرة أو قتل مسلم أو اخذ مال انتقض عهدهم لأن
الهدنة تقتضي الكف فانتقضت بتركه ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام لأنه إنما يحتاج إلى حكمه
في أمر محتمل وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد وإذا انتقض جاز قتالهم لقول الله تعالى (وان نكثوا
ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر) الآيتين. وقال تعالى (فما استقاموا
لكم فاستقيموا لهم) ولما نقضت قريش عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم وقاتلهم وفتح
مكة، وان نقض بعضهم دون بعض فسكت باقيهم عن الناقض ولم يوجد منهم إنكار ولا مراسلة
الإمام ولا تبرؤ فالكل ناقضون لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما هادن قريشا دخلت خزاعة في
حلف النبي صلى الله عليه وسلم وبنو بكر في حلف قريش فعدت بنو بكر على خزاعة وأعانهم بعض
قريش وسكت الباقون فكان ذلك نقص عهدهم وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم
ولان سكوتهم يدل على رضاهم كما أن عقد الهدنة مع بعضهم يدخل فيه جميعهم لدلالة سكوتهم على
رضاهم كذلك في النقض، فإن أنكر من لم ينقض على الباقين بقول أو فعل ظاهر أو اعتزال أو راسل
الإمام بأني منكر لما فعله الناقض مقيم على العهد لم ينتقض في حقه ويأمره الإمام بالتمييز ليأخذ الناقض
وحده فإن امتنع من التميز أو إسلام الناقض صار ناقضا لأنه منع من اخذ الناقض فصار بمنزلته، وان
575

لم يمكنه التميز لم ينتقض عهده لأنه كالأسير. فإن أسر الإمام منهم قوما فادعى الأسير انه لم ينقض
وأشكل ذلك عليه قبل قول الأسير لأنه لا يتوصل إلى ذلك الا من قبله
(مسألة) (فمتى رأى المصلحة جاز له عقدها مدة معلومة وان طالت وعنه لا يجوز في زيادة على
العشر فإن زاد على عشر بطل في الزيادة وفي العشر وجهان)
إذا رأى الإمام المصلحة في عقد الهدنة جاز عقدها لما ذكرنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن
قريشا ولا يجوز عقدها إذا لم يرى المصلحة فيه لأنه يتصرف لهم على وجه النظر أشبه ولي اليتيم ولا يجوز
عقدها الا على مدة معلومة لأن مهادنتهم مطلقا تفضي إلى تعطيل الجهاد بالكلية لكونها تقتضي
التأييد فلم يجز ذلك وتجوز على المدة القصيرة والطويلة على حسب ما يراه الإمام من المصلحة في إحدى
الروايتين وبهذا قال أبو حنيفة لأنه عقد يجوز في العشر فجاز في الزيادة عليها كعقد الإجارة (والرواية
الثانية) لا يجوز على أكثر من عشر سنين قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد واختاره أبو بكر وهو
مذهب الشافعي لأن قوله تعالى (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) عام خص منه مدة العشر
لمصالحة النبي صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية عشرا فما زاد يبقى على مقتضى العموم فعلى هذا ان زاد على
العشر يبطل في الزيادة وهل يبطل في العشر؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة وكذلك ان هادنهم
أكثر من قدر الحاجة
576

(مسألة) (وان هادنهم مطلقا لم يصح) لأن ذلك يقتضي التأبيد فيفضي إلى ترك الجهاد
بالكلية وذلك لا يجوز
(مسألة) (وان شرط فيها شرطا فاسدا كنقضها متى شاء أو رد النساء إليهم أو صداقهن
أو سلاحهم أو ادخالهم الحرم لم يصح الشرط وفي العقد وجهان)
الشروط في عقد الهدنة تنقسم قسمين صحيح وفاسد فالفاسد مثل ان يشترط نقضها لمن شاء
منهما فلا يصح ذلك لأنه يفضي إلى ضد المقصود منها وان قال هادنتكم ما شئتم لم يصح لأنه جعل
الكفار متحكمين على المسلمين، وان قال ما شئنا أو شاء فلان أو شرط ذلك لنفسه دونهم لم يجز
أيضا ذكره أبو بكر لأنه ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في البيع والنكاح وقال القاضي
يصح وهذا قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل خيبر على أن يقرهم ما أقرهم الله تعالى
ولنا انه عقد لازم فلم يجز اشتراط نقضه كسائر العقود اللازمة ولم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين
أهل خيبر هدنة فإنه فتحها عنوة وإنما ساقاهم وقال لهم ذلك وإنما يدل ذلك على جواز المساقاة وليس
هو بهدنة اتفاقا، وقد وافقوا الجماعة في أنه لو شرط في عقد الهدنة اني أقركم ما أقركم الله لم يصح فكيف يصح
منهم الاحتجاج به مع الاجماع على أنه لا يجوز اشتراط؟ وكذلك ان شرط رد النساء المسلمات إليهم
577

أو مهورهن أو رد سلاحهم أو إعطائهم شيئا من سلاحنا أو من آلة الحرب أو يشرط لهم مالا في موضع
لا يجوز بذله أو يشترط رد الصبيان أو رد الرجال مع عدم الحاجة إليه فهذه كلها شروط فاسدة
وكذلك ان شرط ادخالهم الحرم لقول الله تعالى (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد
عامهم هذا) ولا يجوز الوفاء بشئ من هذه الشروط وإنما لم يصح شرط رد النساء المسلمات لقول
الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بايمانهن فإن
علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله منع الصلح في النساء)
وتفارق المرأة الرجل من ثلاثة أوجه
(أحدها) أنها لا تأمن ان تزوج كافرا يستحلها أو يكرهها من ينالها واليه أشار الله سبحانه
بقوله (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) (الثاني) أنها ربما فتنت عن دينها لأنها أضعف قلبا وأقل
معرفة من الرجل
(الثالث) ان المرأة لا يمكنها الهرب عادة بخلاف الرجل ولا يجوز رد الصبيان العقلاء إذا جاءوا
مسلمين لأنهم بمنزلة المرأة في ضعف العقل والمعرفة والعجز عن التخلص والهرب، فاما الطفل الذي
لا يصح اسلامه فيجوز شرط رده لأنه ليس بمسلم وهل يفسد العقد بالشروط الفاسدة؟ على وجهين بناء
على الشروط الفاسدة في البيع إلا فيما إذا شرط ان لكل واحد منهما نقضها متى شاء فينبغي ان لا يصح
العقد وجها واحدا لأن طائفة الكفار يبنون على هذا الشرط فلا يحصل الامن منهم ولا أمنهم
578

منا فيفوت معنى الهدنة ومتى وقع العقد باطلا فدخل بعض الكفار دار الاسلام معتقدا للأمان
كان آمنا لأنه دخل بناء على العقد ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الاسلام لأن الأمان لم يصح
(فصل) وإذا عقد الهدنة من غير شرط فجاءنا منهم إنسان مسلما أو بأمان لم يجب رده إليهم
ولم يجز ذلك سواء كان حرا أو عبدا أو رجلا أو امرأة ولا يجب رد مهر المرأة، وقال أصحاب الشافعي
ان خرج العبد إلينا لم يصر حرا لأنهم في أمان منا والهدنة تمنع من جواز القهر وقال الشافعي في قول
له: إذا جاءت امرأة مسلمة وجب رد مهرها لقول الله تعالى (وآتوهم ما انفقوا) يعني رد المهر إلى زوجها
إذا جاء يطلبها وان جاء غيره لم يرد إليه شئ
ولنا أنه من غير أهل دار الاسلام خرج إلينا فلم يجب رده ولا رد شئ عنه كالحر من الرجال
وكالعبد إذا خرج ثم أسلم، قولهم إنهم في أمان منا. قلنا إنما أمناهم ممن هو في دار الاسلام الذين هم في
قبضة الإمام فاما من هو في دارهم ومن ليس في قبضته فلا يمنع منه بدليل ما لو خرج العبد قبل اسلامه
ولهذا لما قتل أبو بصير الرجل الذي جاء ليرده لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضمنه ولما انفرد
هو وأبو جندل وأصحابهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فقطعوا الطريق عليهم
وقتلوا من قتلوا منهم وأخذوا المال لم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم برد ما أخذوه ولا
غرامة ما أتلفوه وهذا الذي أسلم كان في دارهم وقبضتهم وقهرهم على نفسه فصار حرا كما لو أسلم بعد
خروجه وأما المرأة فلا يجب رد مهرها لأنها لم تأخذ منهم شيئا ولو أخذته كانت قد قهرتهم عليه في
579

دار القهر، ولو وجب عليها عوضه لوجب مهر المثل دون المسمى، وأما الآية فقد قال قتادة نسخ رد
المهر، وقال عطاء والزهري والثوري لا يعمل بها اليوم، وعلى ان الآية إنما نزلت في قضية الحديبية
حين كان النبي صلى الله عليه وسلم شرط رد من جاءه مسلما، فلما منع الله رد النساء وجب رد مهورهن، وكلامنا
فيما إذا وقع الصلح من غير شرط فليس هو في معنى ما تناوله الامر، وان وقع الكلام فيما إذا شرط
رد النساء لم يصح أيضا لأن الشرط الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم شرطه كان صحيحا وقد نسخ فإذا شرط
الآن كان باطلا ولا يجوز قياسه على الصحيح والالحاق به.
(مسألة) (وإن شرط رد من جاء من الرجال مسلما جاز ولا يمنعهم أخذه ولا يجبره على
ذلك وله ان يأمرهم بقتالهم والفرار منهم).
قد ذكر قسم الشروط الفاسدة والشروط الصحيحة مثل أن يشترط عليهم مالا أو معونة المسلمين
عند حاجتهم إليهم أو يشترط رد من جاء من الرجال مسلما أو بأمان فهذا صحيح وقال أصحاب الشافعي
لا يصح شرط رد المسلم إلا أن تكون له عشيرة تحميه وتمنعه
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في صلح الحديبية ووفى لهم به فرد أبا جندل وأبا بصير ولم يخص
بالشرط ذا العشيرة ولان ذا العشيرة إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه وتؤذيه فهو كمن لا عشيرة له
لكن إنما يجوز هذا الشرط عند شدة الحاجة إليه وتعين المصلحة فيه ومتى شرط لهم ذلك لزم الوفاء به
بمعنى انهم إذا جاءوا في طلبه لم يمنعهم أخذه ولا يجبره عل المضي معهم، وله أن يأمره سرا بالهرب.
580

منهم ومقاتلتهم فإن أبا بصير لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الكفار في طلبه قال له النبي صلى الله عليه وسلم (إنا لا يصلح
في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله ان يجعل لك فرجا ومخرجا) فلما رجع مع
الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول قد أوفى الله ذمتك قد رددتني
إليهم وأنجاني الله منهم فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلمه بل قال (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه
رجال) فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر وانحاز إليه أبو جندل بن سهيل ومن معه من
المستضعفين بمكة، فجعلوا لا تمر عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها وقتلوا من معها، فأرسلت قريش
إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم ان يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحدا جاءه ففعل، فيجوز حينئذ لمن
أسلم من الكفار ان يتحيزوا ناحية ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار ويأخذوا أموالهم ولا يدخلون
في الصلح، فإن ضمهم الإمام إليه باذن الكفار دخلوا في الصلح وحرم عليهم قتل الكفار وأخذ
أموالهم، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه لما جاء أبو جندل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
هاربا من الكفار يرسف في قيوده قام إليه أبوه فلطمه وجعل يرده قال عمر فقمت إلى جانب
أبي جندل وقلت إنهم الكفار وإنما دم أحدهم دم كلب وجعلت أدنى منه قائم السيف لعله ان يأخذه
فيضرب به أباه قال فضن الرجل بأبيه،
(فصل) وإذا طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عند الكفار جاز لكل مسلم إخراجها
لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مر بها علي
قالت يا ابن عم إلى من تدعني فتناولها فدفعها إلى فاطمة حتى قدم بها المدينة.
581

(مسألة) (وعلى الإمام حماية من هادنه من المسلمين دون غيرهم وان سباهم كفار آخرون
لم يجز لنا شراؤهم).
وذلك أن الإمام إذا عقد الهدنة لقوم فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة، لأنه أمنه ممن هو
في قبضته وتحت يده كما أمن من في قبضته منهم، ومن أتلف من المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئا
فعليه ضمانه ولا يلزمه حمايتهم من أهل الحرب ولا حماية بعضهم من بعض، لأن الهدنة التزام الكف
عنهم فقط، فإن أغار عليهم قوم آخرون فسبوهم لم يلزمه استنقاذهم وليس للمسلمين شراؤهم لأنهم
في عهدهم ولا يجوز لهم شراؤهم ولا استرقاقهم، وذكر عن الشافعي ما يدل على هذا ويحتمل جواز
ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجب عليه من يدفع عنهم فلم يحرم استرقاقهم بخلاف أهل
الذمة، فعلى هذا ان استولى المسلمون على الذين اشتروهم واخذوا أموالهم لم يلزم رده إليهم على هذا
القول، ومقتضى القول الأول وجوب رده كما يجب رد أموال أهل الذمة.
(مسألة) (وان خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم لقول الله تعالى (واما تخافن من قوم
خيانة فانبذ إليهم على سواء).
أي أعلمهم بنقض عهدهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم، ولا يكفي وقوع ذلك في قلبه حتى يكون عن أمارة
تدل عليه، ولا يفعل ذلك إلا الإمام لأن نقضها لخوف الخيانة يحتاج إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم ومتى
582

نقضها وفي دارنا منهم أحد وجب ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا بأمان فوجب ردهم إلى مأمنهم
كما لو أفردهم بالأمان، وإن كان عليهم حق استوفي منهم، ولا يجوز ان يبدأهم بقتال ولا غارة قبل اعلامهم
بنقض العهد للآية، ولأنهم آمنون منه بحكم العهد فلا يجوز قتلهم ولا اخذ مالهم، فإن قيل فقد قلتم ان
الذمي إذا خيف منه الخيانة لم ينتقض عهده؟ قلنا عقد الذمة آكد لأنه يجب على الإمام اجابتهم إليه
وهو نوع معاوضة وعقده مؤبد بخلاف الهدنة والأمان، ولهذا لو نقض بعض أهل الذمة لم ينتقض عهد
الباقين بخلاف الهدنة، ولان أهل الذمة في قبضة الإمام وتحت ولايته ولا يخشى الضرر كثيرا من
نقضهم بخلاف أهل الهدنة فإنه يخشى منهم الغارة والضرر الكثير
(فصل) ومن أتلف منهم شيئا على مسلم فعليه ضمانه وان قتله فعليه القصاص وإن قذفه فعليه
الحد، لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم وأمانهم من المسلمين في النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب
في ذلك ومن شرب منهم خمرا أو زنى لم يحد لأنه حق لله تعالى ولم يلتزموه بالهدنة، وان سرق مال مسلم
ففيه وجهان (أحدهما) لا يقطع لأنه حد خالص لله تعالى أشبه حد الزنا
(والثاني) يقطع لأنه يجب صيانة لحق الآدمي فهو كحد القذف
(فصل) وإذا نقضوا العهد حلت دماؤهم وأموالهم وسبي ذراريهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة
حين نقضوا عهدهم وسبى ذراريهم واخذ أموالهم ولما هادن قريشا فنقضوا عهده حل له منهم ما كان حرم عليه
منهم، ولان الهدنة عقد مؤقت ينتهي بانقضاء مدته فيزول بنقضه وفسخة كعقد الإجارة بخلاف عقد الذمة
583

(باب عقد الذمة)
لا يجوز عقد الذمة الا من الإمام أو نائبه وبهذا قال الشافعي، ولا نعلم فيه خلافا لأن ذلك يتعلق
بنظر الإمام وما يراه من المصلحة، ولأنه عقد مؤبد فلم يجز ان يفتات به على الإمام، فإن فعله غيرهما لم
يصح لكن ان عقده على مال لا يجوز ان يطلب منهم أكثر منه لزم الإمام اجابتهم إليه وعقدها
عليه، والأصل في جواز عقد الذمة واخذ الجزية الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقول الله
تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون
دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وأما السنة فما روى
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند: أمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله
وحده، أو تؤدوا الجزية رواه البخاري: وعن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث
أميرا على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرا وقال له إذا لقيت
عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث أدعهم إلى الاسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف
عنهم، فإن أبوا فادعهم إلى اعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منه وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)
رواه مسلم في أخبار كثيرة وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة
(مسألة) (ولا يجوز عقدها الا لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن يوافقهم في التدين
584

بالتوراة والإنجيل كالسامرة والفرنج ومن له شبهة كتاب وهم المجوس وعنه يجوز عقدها لجميع الكفار الا
عبدة الأوثان من العرب)
وجملة ذلك أن الذين تقبل منهم الجزية صنفان أهل كتاب ومن له شبهة كتاب في ظاهر المذهب
فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوراة ويعملون
بشريعة موسى وإنما خالفوهم في فروع دينهم وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية
والفرنج والروم والأرمن وغيرهم ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى دين عيسى والعمل بشريعته فكلهم
من أهل الإنجيل ومن عدا هؤلاء من الكفار فليسوا من أهل الكتاب بدليل قوله تعالى (أن
تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) فأما أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود فلا
تقبل منهم الجزية لأنهم من غير الطائفتين ولأن هذه الصحف لم تكن فيها شرائع إنما هي مواعظ
وأمثال كذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم صحف إبراهيم وزبور داود في حديث أبي ذر، واما الذين لهم
شبهة كتاب فهم المجوس فإنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع فصار بذلك شبهة أوجبت حقن
دمائهم واخذ الجزية منهم ولم ينتهض في إباحة نكاح نسائهم ولا ذبائحهم هذا قول أكثر أهل العلم
ونقل عن أبي ثور انهم من أهل الكتاب وتحل ذبائحهم ونساؤهم لما روي عن علي رضي الله
عنه أنه قال انا اعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وان ملكهم سكر فوقع
على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم ودعي
أهل مملكته وقال أتعلمون دينا خيرا من دين آدم وقد انكح بنيه بناته؟ فانا على دين آدم
قال فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ورفع العلم الذي
585

في صدورهم فهم أهل كتاب وقد اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - واراه قال - وعمر منهم الجزية
رواه الشافعي وسعيد وغيرهما ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب
ولنا قول الله تعالى (ان تقولوا إنما انزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) والمجوس من غير
الطائفتين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) فدل على أنهم غيرهم
وروى البخاري باسناده عن بجالة أنه قال: ولم يكن عمر رضي الله عنه اخذ الجزية من المجوس
حتى قال له عبد الرحمن بن عوف ان النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ولو كانوا أهل
كتاب لما وقف عمر في اخذ الجزية منهم مع أمر الله تعالى بأخذ الجزية من أهل الكتاب. وما
ذكروه هو الذي صار لهم به شبهة كتاب. وما رووه عن علي فقد قال أبو عبيد لا أحسبه محفوظا
ولو كان له أصل لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم نساءهم وهو كان أولى بعلم ذلك، ويحوز أن
يصح هذا الذي ذكر عن علي مع تحريم نسائهم لأن الكتاب المبيح لذلك هو الكتاب المنزل على
إحدى الطائفتين وليس هؤلاء منهم ولان كتابهم رفع فلم ينتهض للإباحة وثبت به حقن دمائهم،
فاما قول أبي ثور في حل ذبائحهم ونسائهم فيخالف الاجماع فلا يلتفت إليه، وقول النبي صلى الله
عليه وسلم (سنو بهم سنة أهل الكتاب) اي في أخذ الجزية منهم
إذا ثبت ذلك فإن أخذ الجزية من أهل الكتابين والمجوس إذا لم يكونوا من العرب ثابت
بالاجماع لا نعلم فيه خلافا فإن الصحابة رضي الله عنه أجمعوا على ذلك وعمل به الخلفاء الراشدون ومن
بعدهم مع دلاله الكتاب العزيز على اخذ الجزية من أهل الكتابين ودلالة السنة المذكورة على أخذها
من المجوس فإن كانوا من العرب فحكمهم حكم العجم فيما ذكرنا وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي
وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو يوسف لا تؤخذ الجزية من العرب لأنهم شرفوا بكونهم من رهط
النبي صلى الله عليه وسلم
586

ولنا عموم الآية وان النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلي دومة الجندل فاخذ أكيدر دومة فصالحه
على الجزية وهو من العرب رواه أبو داود واخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب وبعث معاذا
إلى اليمن فقال إنك تأتي قوما من أهل كتاب وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ولو كانوا عربا
ولان ذلك إجماع فإن عمر أراد اخذ الجزية من نصارى بني تغلب وأبوا ذلك وسألوه ان يأخذ منهم
مثلما يأخذ من المسلمين فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم ثم صالحهم على ما يأخذ منهم عوضا عن الجزية
فالمأخوذ منهم جزية غير أنه على غير صفة جزية غيرهم ولم ينكر ذلك أحد فكان إجماعا. وقد ثبت بطريق
القطع ان كثيرا من نصارى العرب ويهودهم كانوا في عصر الصحابة في بلاد الاسلام ولا يجوز إقرارهم
فيها بغير جزية فثبت يقينا انهم أخذوا الجزية منهم
(فصل) ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين (أحدهما) التزام إعطاء الجزية في كل حول
(والثاني) التزام أحكام الاسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقول الله
تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة (فادعهم إلى
أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) ولا تعتبر حقيقة الاعطاء ولا جريان الأحكام
لأن الاعطاء إنما يكون في آخر الحول والكف عنهم في ابتدائه عند البذل. والمراد بقوله تعالى (حتى
يعطوا الجزية عن يد) أي يلتزموا وهذا كقوله (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)
فإن المراد به التزام ذلك فإن الزكاة إنما يجب أداؤها عند الحول
587

(فصل) فأما غير اليهود والنصارى والمجوس من الكفار فلا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها
ولا يقبل منهم الا الاسلام أو القتل هذا ظاهر المذهب. وروى عنه الحسن بن ثواب انها تقبل من
جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب لأن حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل
كافر الا انه خرج منه عبدة الأوثان من العرب لتغليظ كفرهم من وجهين (أحدهما) دينهم
(والثاني) كونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس
لكن في أهل الكتب غير اليهود والنصارى مثل أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود ومن تمسك بدين آدم وجهان (أحدهما) يقرون بالجزية لأنهم أهل كتاب فأشبهوا اليهود والنصارى. وقال
أبو حنيفة تقبل من جميع الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقرون على غير دينه وغيرهم
يقر بالجزية لأنه يقر بالاسترقاق فأقر بالجزية كالمجوس. وعن مالك انها تقبل من جميعهم إلا مشركي
قريش لأنهم ارتدوا. وعن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز انها تقبل من جميعهم وهو قول عبد الرحمن
ابن يزيد بن جابر لحديث بريدة ولأنه كافر فأقر بالجزية كأهل الكتاب
ولنا قول الله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) وهذا عام خص
منه جميع أهل الكتاب بالآية والمجوس بالسنة فمن عداهم من الكفار يبقى على قضية العموم وقد بينا ان
أهل الصحف من غير أهل الكتاب المراد بالآية
588

(فصل) وإذا عقد الذمة لكفار زعموا انهم أهل كتاب ثم تبين انهم عبدة أوثان فالعقد
باطل من أصله وان شككنا فيهم لم ينتقض عهدهم بالشك لأن الأصل صحته فإن أقر بعضهم بذلك
دون بعض قبل من المقر في نفسه فانتقض عهده وبقي فيمن لم يقر بحاله
(مسألة) (فاما الصابئ فينظر فيه فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله وإلا فلا)
اختلف أهل العلم في الصابئين فروي عن أحمد انهم جنس من النصارى وقال في موضع آخر
بلغني انهم يسبتون فإذا أسبتوا فهم من اليهود وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال هم يسبتون
وقال مجاهد هم بين اليهود والنصارى وقال السدي والربيع هم بين أهل الكتاب وتوقف الشافعي في
أمرهم والصحيح ما ذكر ههنا من أنه ينظر فيهم فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم
وكتابهم فهم منهم، وان خالفوهم في ذلك فليسوا منهم ويروى عنهم انهم يقولون الفلك حي ناطق
وان الكواكب السبعة آلهة فإن كانوا كذلك فهم كعبدة الأوثان
(مسألة) (ومن تهود أو تنصر بعد بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو ولد بين أبوين لا يقبل الجزية
من أحدهما فعلى وجهين)
(أحدهما) انه لا فرق بين من دخل في دينهم قبل تبديل كتابهم أو بعده ولا بين أن يكون
ابن كتابيين أو كتابي ووثني وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال أبو الخطاب من دخل في دينهم بعد
تبديل كتابهم لم تقبل منهم الجزية لأنه دخل في دين باطل ومن ولد بين أبوين أحدهما تقبل من
589

الجزية والآخر لا تقبل منه ففيه وجهان وهذا مذهب الشافعي والصحيح الأول لعموم النص فيهم
ولأنهم من أهل دين تقبل منه الجزية فيقرون بها كغيرهم وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين
على ما عوهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية
اي يلتزموا أداءها فما لم يوجد ذلك يبقوا على إباحة دمائهم وأموالهم
(مسألة) (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلي
ما تؤخذ من أموال المسلمين)
بنو تغلب بن وائل من العرب من ولد ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم
عمر رضي الله عنه إلى بذل الجزية فأبوا وانفوا وقالوا نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض
باسم الصدقة فقال عمر لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة يا أمير
المؤمنين ان القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عدوك عليك بهم وخذ
منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين
ومن كل ثلاثين بقره تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم وفيما
590

سقت السماء الخمس وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه
أحد من الصحابة فكان اجماعا وقال به العلماء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى والحسن بن صالح
وأبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي ويروى عن عمر بن عبد العزيز انه أبى على نصارى بني تغلب إلا
الجزية وقال لا والله إلا الجزية والا فقد آذنتكم بالحرب وحجته عموم الآية فيهم وروي عن علي رضي الله
عنه أنه قال لأن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم فقد
نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم وذلك أن عمر رضي الله عنه صالحهم على أن
لا ينصروا أولادهم والعمل على الأول لما ذكرنا من الاجماع وأما الآية فإن هذا المأخوذ منهم
جزية باسم الصدقة فإن الجزية يجوز اخذها عروضا
(مسألة) (ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم)
كذلك قال أصحابنا تؤخذ الزكاة منهم مضاعفة من مال من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما وبه
قال أبو حنيفة وأبو عبيد وذكر انه قول أهل الحجاز فعلى هذا تؤخذ من نسائهم وصبيانهم
ومجانينهم وزمناهم ومكافيفهم وشيوخهم الا ان أبا حنيفة لا يوجب الزكاة في مال صبي ولا مجنون من المسلمين فكذلك الواجب في مال بني تغلب لا يجب على صبي ولا مجنون إلا في الأرض خاصة
وذهب الشافعي إلى أن هذا جزية تؤخذ باسم الصدقة فعنده لا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالنساء
والصبيان والمجانين قال وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم
591

وقال النعمان بن زرعة خذ منهم الجزية باسم الصدقة ولأنهم أهل ذمة فكان الواجب عليهم جزية
لا صدقة كغيرهم من أهل الذمة ولأنه مال يؤخذ من أهل الكتاب لحقن دمائهم فكان جزية كما لو
أخذ باسم الجزية، يحققه ان الزكاة طهرة وهؤلاء لا طهرة لهم قال شيخنا وهذا أقيس وحجة أصحابنا
أنهم سألوا عمر ان يأخذ منهم ما يأخذ بعضهم من بعض فأجابهم عمر إليه بعد الامتناع منه والذي
يأخذه بعضنا من بعض هو الزكاة من كل مال زكوي لأي مسلم كان من صغير وكبير وصحيح ومريض
كذلك المأخوذ من بني تغلب ولان نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في
حكمه فجاز ان يدخلوا في الواجب به كالرجال والعقلاء وعلى هذا من كان منهم فقيرا أو له مال غير
زكوي كالرقيق والدور وثياب البذلة فلا شئ عليه كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين ولا تؤخذ
من مال لم يبلغ نصابا
(مسألة) (ومصرفه مصرف الجزية اختاره القاضي)
وهو مذهب الشافعي لأنه مأخوذ من مشرك ولأنه جزية مسماة بالصدقة وقال أبو الخطاب
مصرفه مصرف الصدقات لأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به فيمن يؤخذ منه مسلك الصدقة فيكون
مصرفه مصرفها والأول أقيس وأصح لأن معنى الشئ أخص به من اسمه ولهذا لو سمي رجل أسدا
592

لم يصر له حكم المسمى بذلك ولأنه لو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من اخذت منهم لقول
النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)
(فصل) فإن بذل التغلبي أداء الجزية وتحط عنه الصدقة لم يقبل منه لأن الصلح وقع على هذا
فلا يغير، ويحتمل ان يقبل لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) أي يبذلوها
وهذا قد أعطى الجزية وإن كان الذي بذلها منهم حربيا قبلت منه للآية وخبر بريدة ولأنه لم يدخل
في صلح الأولين فلم يلزمه حكمه وهو كتابي باذل للجزية فيحقن بها دمه فإن أراد الإمام نقض العهد
وتجديد الجزية عليهم كفعل عمر بن عبد العزيز لم يكن له ذلك لأن عقد الذمة على التأبيد وقد عقده
معهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يكن لاحد نقضه ما داموا على العهد.
(مسألة) (ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم، وقال القاضي تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم)
وجملته ان سائر أهل الكتاب من اليهود والنصارى العرب وغيرهم تقبل منهم الجزية إذا
بذلوها ولا يؤخذون بما يؤخذ به نصارى بني تغلب، نص عليه احمد رواه عن الزهري قال ونذهب
إلى أن يأخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة وتضعف عليهم كما فعل عمر رضي الله عنه وذكر
القاضي وأبو الخطاب ان حكم من تنصر من تنوخ وبهرا وتهود من كنانة وحمير وتمجس من
593

تميم حكم بني تغلب سواء وذكر ان الشافعي نص عليه في تنوخ وبهرا لأنهم من العرب
فأشبهوا بني تغلب.
ولنا عموم قوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وان النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا
إلى اليمن فقال (خذ من كل حالم دينارا) وهم عرب وقبل الجزية من أهل نجران وكانوا نصارى واخذ
الجزية من أكيدر دومة وهو عربي ولان حكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة في كل كتابي
عربيا كان أو غير عربي الا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر إياهم ففيما عداهم يبقى الحكم على عموم
الكتاب وشواهد السنة ولم يكن بين غير بني تغلب وبين أحد من الأئمة صلح كصلح بني تغلب
فيما بلغنا ولا يصح قياس غير بني تغلب عليهم لوجوه
(أحدها) ان قياس سائر العرب عليهم يخالف النصوص التي ذكرناها ولا يصح قياس المنصوص
عليه على ما يلزم منه مخالفة النص
(الثاني) ان العلة في بني تغلب الصلح ولم يوجد في غيرهم ولا يصح القياس مع تخلف العلة
(الثالث) ان بني تغلب كانوا ذوي قوة وشوكة لحقوا بالروم وخيف منهم الضرر ان لم يصالحوا
ولم يوجد هذا في غيرهم فإن وجد في غيرهم فامتنعوا من أداء الجزية أو خيف الضرر بترك مصالحتهم
فرأى الإمام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة جاز إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم
594

من الجزية أو زيادة، وذكر هذا أبو إسحاق في كتابه المهذب والحجة في هذا قصة بني تغلب
وقياسهم عليهم قال علي بن سعيد سمعت أحمد يقول أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقة
ولا في أموالهم إنما تؤخذ منهم الجزية، إلا أن يكونوا صولحوا على أن تؤخذ منهم كما صنع عمر بنصارى
بني تغلب حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه إياهم إذا كانوا في معناهم، أما قياس من لم يصالح عليهم
في جعل جزيتهم صدقة فلا يصح
(مسألة) (ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير يعجز عنها)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن الجزية لا تجب على صبي ولا امرأة ولا زائل العقل وهو قول
مالك وأبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأبي ثور وقال ابن المنذر لا أعلم من غيرهم خلافا وقد دل على
هذا ان عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد ان اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان
ولا تضربوها إلا على من جرت عليه الموسى رواه سعيد وأبو عبيد والأثرم والمجنون كالصبي لأنه
غير مكلف وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا) دليل على أنها لا تجب على غير بالغ ولان
الجزية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها ولا تجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا
(فصل) فإن بذلت المرأة الجزية أخبرت أنها لا جزية عليها، فإن قالت انا أتبرع بها أو انا أؤديها
قبلت منها ولم تكن جزية بل هبة تلزم بالقبض فإن شرطته على نفسها ثم رجعت فلها ذلك وان بذلت
595

الجزية لتصير إلى دار الاسلام مكنت من ذلك بغير شئ ولكن يشترط عليها التزام أحكام الاسلام
وتعقد لها الذمة ولا يؤخذ منها شئ إلا أن تتبرع به بعد معرفتها ان لا شئ عليها وان أخذ منها على
غير ذلك رد إليها لأنها بذلته معتقدة أنه عليها وان دمها لا يحقن إلا به فأشبه من أدى مالا إلى من
يعتقد أنه له فتبين أنه ليس له. ولو حاصر المسلمون حصنا ليس فيه الا نساء فبذلن الجزية لتعقد لهن
الذمة عقدت لهن بغير شئ وحرم استرقاقهن كالتي قبلها سواء، فإن كان في الحصن رجال فسألوا
الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم يصح لأنهم جعلوها على غير من هي عليه
وبرءوا من تجب عليه، وان بذلوا جارية عن الرجال ويؤدوا عن النساء والصبيان من أموالهم جاز وكان
ذلك زيادة في جزيتهم وإن كان من أموال النساء والصبيان لم يجز لأنهم يجعلون الجزية على من
لا تلزمه فإن كان القدر الذي بذلوه من أموالهم مما يجزئ في الجزية أخذوه وسقط الباقي
(فصل) ولا تجب على زمن ولا أعمى ولا شيخ فإن ولا على من هو في معناهم
كمن به داء لا يستطيع معه القتال ولا يرجى برؤه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه تجب
عليهم الجزية بناء على قتلهم وقد سبق قولنا في أنهم لا يقتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان
(فصل) وأما العبد فإن كان لمسلم لم تجب عليه الجزية بغير خلاف علمناه لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال (لا جزية على العبد) وعن ابن عمر مثله ولان ما لزم العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي ايجابها على
596

العبد المسلم إلى ايجابها على المسلم وإن كان لكافر فكذلك نص عليه أحمد وهو قول عامة أهل العلم قال
ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد وذلك لما ذكرنا من الحديث
ولأنه محقون الدم أشبه النساء والصبيان، أو لا مال له أشبه الفقير العاجز ويحتمل كلام الخرقي وجوب
الجزية عليه وروي ذلك عن أحمد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا تشتروا رقيق أهل الذمة
ولا مما في أيديهم لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذا نفذه الله منه قال
أحمد رضي الله عنه أراد عمر ان تتوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي
يؤدي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم وروي عن علي مثل حديث عمر ولأنه ذكر مكلف قوي
مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر والأول أولى
(فصل) وإذا أعتق لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان معتقه مسلما أو كافرا هذا الصحيح عن
أحمد وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان والليث والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
وعنه يقر بغير جزية وروي نحوه عن الشعبي لأن الولاء شعبة كشعبة الرق وهو ثابت عليه ووهن
الخلال هذه الرواية وقال هذا قول قديم رجع عنه وعن مالك كقول الجماعة وعنه إن كان المعتق له
مسلما فلا جزية عليه لأن عليه الولاء لمسلم أشبه ما لو كان عليه الرق
ولنا أنه حر مكلف موسر من أهل القتال فلم يقر في دارنا بغير جزية كالحر الأصلي. إذا ثبت
597

هذا فإن حكمه فيما يستقبل من جزيته حكم من بلغ من صبيانهم أو افاق من مجانينهم على ما ذكرناه
(فصل) ومن بعضه حر فقياس المذهب ان عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأنه حكم
يختلف بالرق والحرية فينقسم على قدر ما فيه كالإرث
ولا جزية على أهل الصوامع من الرهبان ويحتمل ان تجب عليهم وهذا أحد قولي الشافعي وروي
عن بن عبد العزيز أنه فرض على رهبان الديارات الجزية على كل راهب دينارا لعموم النصوص ولأنه كافر
صحيح حر قادر على أداء الجزية فأشبه الشماس. ووجه الأول أنهم محقونون بدون الجزية فلم تجب
عليهم كالنساء وقد ذكرنا دليل تحريم قتلهم والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء في معناهن ولأنه
لا كسب له أشبه الفقير غير المعتمل
(فصل) ولا تجب على فقير عاجز عنها وهذا أحد قولي الشافعي وله قول أنها تجب عليه لقوله
عليه السلام (خذ من كل حالم دينارا) ولان دمه غير محقون فلا تسقط عنه الجزية كالقادر
ولنا ان عمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات جعل أدناها على الفقير المعتمل فدل
على أن غير المعتمل لا شئ عليه ولان الله تعالى قال (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ولأنه مال يجب
بحلول الحول فلم يلزم الفقير العاجز كالزكاة ولان الخراج ينقسم إلى خراج ارض وخراج رؤوس
وقد ثبت ان خراج الأرض على قدر طاقتها وما لا طاقة له لا شئ عليه كذلك خراج الرؤوس
وأما الحديث فيتناول الاخذ ممن يمكن الاخذ منه والاخذ ممن لا يقدر على شئ مستحيل فكيف
يؤمر به ويؤخذ منه بقدر ما أدرك؟
598

(مسألة) (ومن بلغ أو افاق أو استغنى فهو من أهلها بالعقد الأول ويؤخذ منه في آخر الحول
بقدر ما أدرك)
ولا يحتاج إلى استئناف عقد له وقال القاضي في موضع هو مخير بين التزام العقد وبين ان يرد
إلى مأمنه فيجاب إلى ما يختار وهو قول الشافعي
ولنا أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه تجديد عقد لهؤلاء ولان العقد يكون
مع سادتهم فدخل فيه سائرهم ولأنه عقد مع الكفار فلم يحتج إلى استئنافه كذلك كالهدنة ولان
الصغار والمجانين دخلوا في العقد فلم يحتج إلى تجديده له عند تغير أحوالهم كغيرهم. إذا ثبت هذا فإن
كان البلوغ والإفاقة في أول أحوال قومه أخذ منه في آخره معهم، وإن كان في أثناء الحول أخذ
منه عند تمام الحول بقسطه ولم يترك حتى يتم لئلا يحتاج إلى افراده بحول وضبط حول كل انسان
منهم وربما أفضى إلى أن يصير لكل واحد حول مفرد وذلك يشق.
(مسألة) (ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته فإذا بلغت حولا أخذت منه ويحتمل أن يؤخذ
في آخر كل حول بقدر إفاقته منه).
إذا كان يجن ويفيق لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون غير مضبوط مثل من يفيق
ساعة من أيام أو من يوم أو يصرع ساعة من يوم أو من أيام فهذا يعتبر حاله بالأغلب لأن هذه الإفاقة
غير ممكن ضبطها فلم تمكن مراعاتها.
599

(الثاني) أن يكون مضبوطا مثل من يجن يوما ويفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر إلا أنه
مضبوط ففيه وجهان (أحدهما) يعتبر الأغلب من حاله وهذا مذهب أبي حنيفة لأنه يجن ويفيق
فاعتبر الأغلب من حاله كالأول. (والوجه الثاني) تلفق أيام إفاقته لأنه لو كان مفيقا في الكل
وجبت الجزية فإذا وجدت الإفاقة في بعض الحول وجب فيه ما يجب به لو انفرد فعلى هذا الوجه
في أخذ الجزية وجهان (أحدهما) أن الأيام تلفق فإذا بلغت حولا أخذت منه لأن أخذها قبل ذلك
أخذ لجزيته قبل كمال الحول فلم يجز كالصحيح
(والثاني) يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق منه كما لو أفاق في بعض الحول إفاقة
مستمرة، وإن كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا، فإن استوت افاقته
وجنونه مثل من يجن يوما ويفيق يوما أو يجن نصف الحول ويفيق نصفه عادة لفقت افاقته لأنه تعذر
اعتبار الأغلب لعدمه فتعين الوجه الآخر.
(الحال الثالث) أن يجن نصف حول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا
مستمرا فلا جزية عليه في الثاني وعليه في الأول من الجزية بقدر ما أفاق كما تقدم.
600

(مسألة) (وتقسم الجزية بينهم فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط أربعة
وعشرون وعلى الفقير اثنا عشر).
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) في تقدير الجزية (والثاني) في كمية مقدارها فأما
الأول ففيه ثلاث روايات.
(إحداهن) أنها مقدرة بمقدار لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي
لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها مقدرة بقوله لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر) وفرضها عمر
بمحضر من الصحابة فلم ينكر فيكون اجماعا.
[والثانية] أنها غير مقدرة بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان قال الأثرم قيل
لأبي عبد الله فيزاد اليوم وينقص؟ يعني من الجزية قال نعم يزاد فيها وينقص على قدر طاقتهم على قدر
ما يرى الإمام وذكر انه زيد عليهم فيما مضى درهمان فجعله خمسين، قال الخلال العمل في قول أبي
عبد الله على ما رواه الجماعة بأنه لا بأس للإمام ان يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة
مواضع فاستقر قوله على ذلك وهو قول الثوري وأبي عبيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا ان يأخذ من
كل حالم دينارا وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب، رواهما أبو
داود، وعمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط
601

أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير اثني عشر درهما وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة
وهذا يدل على أنها إلى رأي الإمام لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع ولم يجز
ان يختلف فيها، قال البخاري قال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم
أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال جعل ذلك من قبل اليسار ولأنها عوض فلم تتقدر كالأجرة.
(والرواية الثالثة) ان أقلها مقدر بدينار وأكثرها غير مقدر وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة
ولا يجوز النقص لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص منه وروي انه زاد على
ثمانية وأربعين فجعلها خمسين.
(والفصل الثاني) أننا إذا قلنا بالرواية الأولى وانها مقدرة فقدرها في حق الموسر ثمانية وأربعون
درهما وفي حق المتوسط أربعة وعشرون وفي حق الفقير اثنا عشر وهذا قول أبي حنيفة، وقال مالك
هي في حق الغني أربعون درهما أو أربعة دنانير وفي حق الفقير عشرة دراهم أو دينار وروي ذلك عن
عمر وقال الشافعي الواجب دينار في حق كل أحد لحديث معاذ الا ان المستحب جعلها على ثلاث
طبقات كما ذكرناه لنخرج من الخلاف قالوا وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من غيره.
ولنا حديث عمر رضي الله عنه وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة رضي الله
عنهم وغيرهم ولم ينكره منكر ولا خالف فيه وعمل به من بعده من الخلفاء رحمة الله عليهم فكان
602

إجماعا لا يجوز الخطأ عليه وقد وافق الشافعي على استحباب العمل به وأما حديث معاذ فلا يخلوا من وجهين
(أحدهما) انه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم بدليل قول مجاهد ان ذلك من أجل اليسار
(والوجه الثاني) أن يكون التقدير غير واجب بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام ولان الجزية
وجبت صغارا وعقوبة فتخلف (فتختلف) باختلاف أحوالهم كالعقوبة في البدن منهم من يقتل ومنهم من يسترق
ولا يصح كونها عوضا عن سكنى الدار لأنها لو كانت كذلك لوجبت على النساء والصبيان
والزمني والمكافيف
(مسألة) (والغني منهم من عده الناس غنيا في ظاهر المذهب)
وليس ذلك بمقدر لأن التقديرات بابها التوقيف ولا توقيف في هذا فيرجع فيه إلى العادة والعرف
(مسألة) (وإذا بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله وحرم قتالهم)
لقول الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) الآية إلى قوله (حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون) فجعل اعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها لم يجز قتادة (قتالهم) للآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم
في حديث بريدة (فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) فإن قلنا إن الجزية غير
مقدرة الأكثر لم يحرم قتالهم حتى يجيبوا إلى بذل مالا يجوز طلب أكثر منه
(فصل) وتجب الجزية في آخر كل حول وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة تجب بأوله ويطالب
بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول الثاني لقول تعالى (حتى يعطوا الجزية)
ولنا انه مال يتكرر بتكرر الحول أو يؤخذ في آخر كل حول فلم يجب بأوله كالزكاة والدية
603

وأما الآية فالمراد بها التزام إعطائها دون نفس الاعطاء ولهذا يحرم قتالهم بمجرد بذلها قبل أخذها
(فصل) وتؤخذ الجزية مما يسر من أموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة نص عليه أحمد
وهو قول الشافعي وأبي عبيد وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن أمره
ان يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من نصارى نجران الفي حلة وكان عمر
رضي الله عنه يؤتى بنعم كثيرة يأخذها من الجزية وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يأخذ الجزية
من كل ذي صنعة من متاعه من صاحب الابر إبرا ومن صاحب المسال مسالا ومن صاحب الحبال
حبالا ثم يدعوا الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول خذوا أو اقتسموا فيقولون لا حاجة
لنا فيه فيقول أخذتم خياره وتركتم شراره لتحملنه. إذا ثبت هذا فإنه يؤخذ بالقيمة لقوله عليه
السلام (أو عدله معافر) ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم عن جزية رؤوسهم وخراج أرضهم
لقول عمر رضي الله عنه ولوهم ببيعها وخذوا أنتم من الثمن ولأنها من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها
فجاز أخذ أثمانها كثيابهم
(مسألة) (ومن أسلم بعد الحول سقطت عنه الجزية وان مات أخذت من تركته
وقال القاضي تسقط)
إذا أسلم من عليه الجزية في أثناء الحول لم تجب الجزية عليه وان أسلم بعده سقطت عنه وهذا قول
مالك والثوري وأبي عبيد وأصحاب الرأي وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر ان أسلم بعد الحول
604

لم تقسط لأنه دين استحقه صاحبه واستحق المطالبة به في حال الكفر فلم يسقط بالاسلام كالخراج
وسائر الديون وللشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان
(أحدهما) عليه من الجزية بالقسط كما لو افاق بعض الحول
ولنا قول الله تعالى (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وروى ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على المسلمين جزية) رواه الخلال وذكر ان احمد سئل عنه فقال ليس يرويه غير جرير
قال وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا ينبغي للمسلم ان يؤدي الخراج) يعني الجزية وروي ان ذميا أسلم فطولب بالجزية وقيل إنما
أسلم تعوذا قال إن في الاسلام معاذا فرفع إلى عمر فقال عمر ان في الاسلام معاذا وكتب ان لا تؤخذ
منه الجزية رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى ولان الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو أسلم قبل الحول
ولان الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الاسلام كالقتل وبهذا فارق الخراج وسائر الديون
(فضل) فإن مات بعد الحول لم تسقط عنه الجزية في ظاهر كلام أحمد وهو مذهب الشافعي
وحكي عن القاضي انها تسقط بالموت وهو قول أبي حنيفة ورواه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز
لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولأنها تسقط بالاسلام فسقطت بالموت كما قبل الحول
ولنا انه دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته كديون الآدميين والحد إنما سقط لفوات محله
وتعذر استيفائه بخلاف الجزية وفارق الاسلام فإنه الأصل والجزية بدل عنه فإذا أتى بالأصل استغنى
605

عن البدل كمن وجد الماء لا يحتاج معه إلى التيمم بخلاف الموت ولان الاسلام قربة وطاعة يصلح
أن يكون معاذا من الجزية كما ذكر عمر رضي الله عنه والموت بخلافه
(مسألة) (وان اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها ولم تتداخل)
وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تتداخل لأنها عقوبة فتتداخل كالحدود. ولنا انها حق مال
يجب في آخر كل حول فلم يتداخل كالدية
(مسألة) (وتؤخذ الجزية منهم في آخر الحول ويمتهنون عند أخذها ويطال قيامهم وتجر أيديهم)
وإنما تؤخذ منهم في آخر الحول لأنه مال يتكرر بتكرر الحول فلم يؤخذ قبل حولان الحول كالزكاة
ويمتهنون عند اخذها منهم وهكذا ذكر أبو الخطاب، ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند اخذها لقول
الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وقد قيل الصغار التزام الجزية وجريان أحكامنا
عليهم، ولا يقبل منهم إرسالها بل يحضر الذمي بنفسه ويؤديها وهو قائم والآخذ جالس
(فصل) ولا يعذبون في اخذها ولا يشط عليهم فإن عمر رضي الله عنه أتي بمال كثير قال
أبو عبيد أحسبه من الجزية فقال إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا
قال فلا سوط ولا بوط؟ قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني، وقدم
عليه سعيد بن عامر بن خريم فعلاه عمر بالدرة فقال سعيد سبق سيلك مطرك ان تعاقب نصبر وان
606

تعف نشكر وان تستعتب نعتب فقال ما على المسلمين إلا هذا مالك تبطئ بالخراج فقال امرتنا أن
لا نزيد الفلاحين على أربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكنا نؤخرهم إلى غلاتهم فقال عمر:
لا أعزلنك ما حييت. رواهما أبو عبيد وقال إنما وجه التأخير إلى الغلة الرفق بهم، وقال ولم نسمع في
استيداء الجزية والخراج وقتا غير هذا
واستعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلا على عكبرى فقال له على رؤوس الناس لا تدعن
لهم درهما من الخراج وشدد عليه القول ثم قال ائتني عند انتصاف النهار فأتا فقال اتي كنت أمرتك
بأمر واني أتقدم إليك الآن فإن عصيتني نزعتك لا تبيعن لم في خراجهم حمارا ولا بقرة ولا كسوة
شتاء ولا صيف وارفق بهم وافعل بهم
(مسألة) (ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين ويبين أيام الضيافة وقدر
الطعام والإدام والعلف وعدد من يضاف ولا يجب ذلك من غير شرط وقيل يجب)
يجوز ان يشترط في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الإمام أحمد رضي الله
عنه باسناده عن الأحنف بن قيس ان عمر شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وان يصلحوا
القناطر وان قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته
قال ابن المنذر وروي عن عمر انه قضى على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام
وعلف دوابهم وما يصلحهم. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار وكانوا
607

ثلاثمائة نفس في كل سنة وان يضيفوا من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام، ولان في هذا ضربا من
المصلحة لأنهم ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين إضرارا بهم فإذا شرطت عليهم الضيافة أمن ذلك
فإن لم يشرط عليهم الضيافة لم يجب ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي. ومن أصحابنا من قال تجب
بغير شرط لوجوبها على المسلمين والأول أصح لأنه أداء مال لم يجب بغير رضاهم كالجزية، فإن شرطها
عليهم فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة، وقال الشافعي لا يجوز قتالهم عليها
(فصل) قال القاضي إذا شرط الضيافة فإنه يشترط ان يبين أيام الضيافة وعدد من يضاف من
الرجالة والفرسان فيقول تضيفون في كل سنة مائة يوم في كل يوم عشرة من المسلمين من خبز كذا
وادم كذا وللفرس من الشعير كذا ومن التبن كذا لأنه من الجزية فاعتبر العلم به كالنقود فإن
شرط الضيافة مطلقا صح في الظاهر لأن عمر رضي الله عنه شرط عليهم ذلك من غير عدد ولا تقدير
قال أبو بكر وإذا أطلق مدة الضيافة فالواجب يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلمين ولا
يكلفون الذبيحة ولا أن يضيفوهم بأرفع من طعامهم لأنه يروى عن عمر رضي الله عنه انه شكى إليه
أهل الذمة ان المسلمين يكلفونهم الذبيحة فقال أطعموهم مما تأكلون
وقال الأوزاعي ولا يكلفون الذبيحة ولا الشعير، وقال القاضي إذا وقع الشرط مطلقا لم يلزمهم
الشعير ويحتمل ان يلزمهم ذلك للخيل لأن العادة جارية به فهو كالخبز للرجل. وللمسلمين النزول
في الكنائس والبيع فإن عمر رضي الله عنه صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب بيعهم وكنائسهم
608

لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلوا ركبانا، فإن لم يجدوا مكانا فلهم النزول في الأفنية وفضول
المنازل، وليس لهم تحويل صاحب المنزل منه، والسابق إلى منزل أحق به ممن يأتي بعده فإن امتنع
بعضهم من القيام بما يجب عليه أجبر عليه، فإن امتنع الجميع اجبروا، فإن لم يكن إلا بالقتال قوتلوا
فإن قاتلوا انتقض عهدهم
(فصل) وتقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فإن جعل الضيافة مكان الجزية جاز لما روي أن عمر رضي
الله عنه كتب لراهب من أهل الشام اني ان وليت هذه الأرض أسقطت عنك خراجك فلما قدم
الجابية وهو أمير المؤمنين جاءه بكتابه فعرفه وقال إني جعلت لك ما ليس لي ولكن اختر ان شئت
أداء الجزية وان شئت ان تضيف المسلمين فاختار الضيافة ويشترط أن تكون الضيافة يبلغ قدرها
أقل الجزية إذا قلنا مقدرة الأقل لئلا ينقص خراجه عن أقل الجزية وذكر ان من الشروط الفاسدة
لاكتفاء بضيافتهم عن جزيتهم لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية فإذا لم يعطوها
كان قتالهم مباحا.
ولنا ان هذا اشتراط مال يبلغ قدر الجزية فجاز كما لو شرط عليهم عدل الجزية معافر.
وإذا شرط في عقد الذمة شرطا فاسدا مثل ان يشترط ان لا جزية عليهم أو اظهار المنكر أو اسكانهم
الحجاز أو ادخالهم الحرم أو نحو هذا فقال القاضي يفسد به العقد لأنه شرط فعل محرم فافسد العقد
كما لو شرط قتال المسلمين ويحتمل أن يبطل الشرط وحده بناء على الشروط الفاسدة
في البيع والمضاربة.
609

(مسألة) (وإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم أقرهم عليه، فإن لم يعرف رجع
إلى قولهم فإن بان كذبهم رجع عليهم وعند أبي الخطاب انه يستأنف العقد معهم)
إذا مات الإمام أو عزل وتولى غيره فإن عرف ما عقد عليه عقد الذمة الذي قبله وكان عقدا
صحيحا أقرهم عليه ولم يحتج إلى تجديد عقد لأن الخلفاء رضي الله عنهم أقروا عهد عمر ولم يجددوا
عقدا سواه ولان عقد الذمة مؤبد، وإن كان فاسدا رده إلى الصحة وان لم يعرف فشهد به مسلمان
أو كان امره ظاهرا عمل به، وان أشكل عليهم سألهم فإن ادعوا العقد بما يصلح أن يكون جزية قبل
قولهم وعمل به، وان شاء استحلفهم استظهارا فإن بان له بعد ذلك انهم نقصوا من المشروط رجع
عليهم بما نقصوا، وان قالوا كنا نؤدي كذا وكذا جزية وكذا كذا هدية استحلفهم يمينا واحدة لأن الظاهر
فيما يدفعونه انه جزية وان قال بعضهم كنا نؤدي دينارا وقال بعضهم كنا نؤدي دينارين اخذ
كل واحد منهم باقراره ولم يقبل قول بعضهم على بعض لأن أقوالهم غير مقبولة واختار أبو الخطاب
انه إذا لم يعرف ما عوهدوا عليه استأنف العقد معهم، لأن عقد الأول لم يثبت عنده فصار كالمعدوم
(فصل) وما يذكره بعض أهل الذمة من أن معهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم باسقاط الجزية عنهم
لا يصح وسئل عن ذلك أبو العباس بن سريج فقال ما نقل ذلك أحد من المسلمين وروي انهم طولبوا
بذلك فأخرجوا كتابا وذكروا أنه بخط علي كتبه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه شهادة سعد بن معاذ
610

ومعاوية وتاريخه بعد موت سعد قبل اسلام معاوية فاستدل بذلك على بطلانه ولان قولهم غير مقبول
ولم يرو ذلك من يعتمد على روايته.
(مسألة) (وإذا عقد الذمة معهم كتب أسماءهم وأسماء آبائهم وعددهم وحلاهم ودينهم).
فيقول فلان بن فلان الفلاني طويل أو قصير أو ربعة أسمر أو أبيض أدعج العين أقنى الانف
مقرون الحاجبين ونحو هذا من صفاتهم التي يتميز بها كل واحد عن الآخر ويجعل لكل طائفة
عريفا يجمعهم عند أداء الجزية ويعرف من يبلغ من غلمانهم ويفيق من مجانينهم ويقدم من غيابهم
ومن يموت أو يسلم أو يستغني أو يسافر لأنه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط ويبين حال من خرق
شيئا من أحكام الذمة أو نقض العهد ليفعل فيه الإمام ما يجب عليه ومن أخذت منه الجزية كتب
له براءة لتكون له حجة إذا احتاج إليها.
(باب أحكام الذمة)
يلزم الإمام أن يأخذهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما
يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله.
لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية والتزام أحكام الملة من حقوق الآدميين في العقود
والمعاملات وأروش الجنايات وقيم المتلفات فإن عقد على غير هذا من الشروط لم يصح لقول الله تعالى
611

(حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، قيل الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم وتلزمه إقامة
الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه في دينهم كالزنا والسرقة والقتل والقذف سواء كان الحد واجبا في دينهم
أو لا لما روى أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وروى ابن
عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين قد فجرا بعد احصانهما فرجمهما ولأنه محرم في دينه
وقد التزم حكم الاسلام فأما ما يعتقدون حله كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونكاح ذوات المحارم
للمجوس فيقرون عليه ولا حد عليهم فيه لأنهم يعتقدون حله ولأنهم يقرون على كفرهم وهو أعظم
اثما من ذلك إلا أنهم يمنعون من إظهاره بين المسلمين لأنهم يتأذون بذلك والمأخوذ من أحكام الذمة
ينقسم خمسة أقسام.
(أحدهما) ما لا يتم العقد إلا بذكره وهو التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم فإن أخل بذكر
واحد منها لم يصح العقد لما ذكرنا وفي معنى ذلك ترك قتال المسلمين فإنه وان لم يذكر لفظه
فذكر المعاهدة يقتضيه. (القسم الثاني) ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وذلك ثمانية خصال تذكر
في نقض العهد إن شاء الله تعالى.
(القسم الثالث) ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو رسولهم بسوء
(القسم الرابع) ما فيه إظهار منكر كاحداث الكنائس والبيع ورفع أصواتهم بكتابهم وإظهار
612

الخمر والخنزير والضرب بالنواقيس وتعلية البنيان على أبنية المسلمين والإقامة بالحجاز ودخول الحرم
فيلزمهم الكف عنه سواء شرط عليهم أو لم يشرط في جميع هذه الأقسام الأربعة
[القسم الخامس] التميز عن المسلمين في أربعة أشياء لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم
(مسألة) (ويلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم وترك الفرق
وكناهم فلا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وركوبهم بترك الركوب على السروج
وركوبهم عرضا على الأكف، ولباسهم فيلبسون ثيابا تخالف ثيابهم كالعسلي والأدكن، وتشد الخرق
في قلانسهم وعمائمهم، ويؤمر النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم ويجعل في رقابهم خواتيم الرصاص
وجلجل يدخل معهم الحمام)
ينبغي للإمام إذا عقد الذمة أن يشرط عليهم شروطا نحو ما شرطه عمر رضي الله عنه، وقد
رويت عن عمر رضي الله عنه أخبار منها ما رواه الخلال باسناده عن إسماعيل بن عياش قال حدثنا غير
واحد من أهل العلم قالوا كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: انا حين قدمنا بلادنا طلبنا إليك
الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على انا شرطنا لك على أنفسنا وأهل ملتنا انا لا نحدث في مدينتنا
كنيسة ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا
ولا ما كان منها في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وان
نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا وأن لا نكتم أمر من
غش المسلمين وان لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا، ولا نظهر علينا صليبا
613

ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ولا نخرج صليبنا ولا
كتابنا في سوق المسلمين وان لا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا، ولا نظهر
النيران معهم في أسواق المسلمين، وان لا نجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور ولا نظهر شركا ولا نرغب
في ديننا ولا ندعوا إليه أحدا ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين وان لا نمنع
أحدا من أقربائنا إذا أرادوا الدخول في الاسلام، وان نلزم زينا حيثما كنا وان لا نتشبه بالمسلمين في
لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى
بكناهم، وان نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا ولا ننقش خواتيمنا
بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وان نوقر
المسلمين في مجالسهم ونرشد الطريق ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ولا نطلع عليهم في
منازلهم ولا نعلم أولادنا القرآن ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر
التجارة، وان نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد، ضمنا ذلك على أنفسنا
وذرارينا وأزواجنا ومساكننا، وان نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه
فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق. فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى
عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن امض لهم ما سألوا وألحق فيها حرفين اشترطها عليهم مع ما شرطوا
على أنفسهم أن لا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده. فأنفذ عبد الرحمن بن
غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط
614

فهذه جملة شروط عمر رضي الله عنه فلذلك يلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم بحذف
مقادم رؤوسهم ويجزون شعورهم ولا يفرقونها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره
وأما في الكني فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وأبي محمد وأبي بكر
وأبي الحسن وشبهها. ولا يمنعون الكنى بالكلية فإن احمد قال لطبيب نصراني يا أبا إسحاق وقال
أليس النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل على سعد بن عبادة قال (ألا ترى ما يقول أبو الحباب؟) وقال لأسقف
نجران (أسلم يا أبا الحارث) وقال عمر لنصراني يا أبا حسان أسلم تسلم
وأما الركوب فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز، ولهم ركوب ما سواها، ولا يركبون السروج
ويركبون عرضا، رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر لما روى الخلال ان عمر رضي الله عنه أمر بجز
نواصي أهل الذمة وان يشدوا المناطق وان يركبوا الأكف بالعرض
وأما في اللباس فهو ان يلبسوا ما يخالف لونه لون سائر الثياب فعادة اليهود العسلي وعادة النصارى
الأدكن وهو الفاختي وبكون هذا في ثوب واحد لا في جميعها ليقع الفرق ويضيف إلى هذا شد الزنار
فوق ثوبه إن كان نصرانيا أو علامة أخرى ان لم يكن نصرانيا كخرقة يجعلها في عمامته أو قلنسوة
يخالف لونه لونها ويختم في رقبته خاتم رصاص أو حديد وجلجل يدخل معه الحمام ليفرق بينه وبين
615

المسلمين، ويلبس نساؤهم ثوبا ملونا وتشد الزنار تحت ثيابها وتختم في رقبتها، ولا يمنعون فاخر الثياب
ولا العمائم ولا الطيلسان لحصول التميز بالغيار والزنار
(مسألة) (ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام فإن سلم أحدهم قيل له عليكم)
لا يتصدرون في المجالس عند المسلمين لأن في كتاب عبد الرحمن بن غنم وان نوقر المسلمين في
مجالسهم ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ولا يبدؤون بالسلام وذلك لما روى أبو هريرة
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم
إلى أضيقها) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (انا غادون
غدا فلا تبدؤوهم بالسلام وان سلموا عليكم فقولوا وعليكم) رواه الإمام أحمد باسناده عن أنس رضي
الله عنه أنه قال نهينا أو أمرنا ان لا نزيد أهل الكتاب على وعليكم وقال أبو داود قلت لأبي عبد الله
رحمه الله تكره ان يقول الرجل للذمي كيف أصبحت؟ أو كيف؟ أنت أو كيف حالك؟ قال نعم أكرهه
هذا عندي أكثر من السلام وقال أبو عبد الله رحمه الله إذا لقيته في طريق فلا توسع له لما تقدم
من حديث أبي هريرة وروي عن ابن عمر انه مر على رجل فسلم عليه فقيل إنه كافر فقال رد علي
ما سلمت عليك فرد عليه فقال أكثر الله مالك وولدك ثم التفت إلى أصحابه فقال أكثر للجزية وقال
يعقوب بن يحيى سألت أبا عبد الله فقلت نعامل اليهود والنصارى ونأتيهم في منازلهم وعندهم قوم
616

مسلمون أنسلم عليهم قال نعم تنوي السلام على المسلمين وسئل عن مصافحة أهل الذمة فكرهه
(فصل) ولا يجوز تمكينهم من شراء مصحف ولا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فقه وان فعل
فالشراء باطل لأن ذلك يتضمن ابتذاله وكره احمد بيعهم الثياب المكتوب عليها ذكر الله تعالى قال
منها سألت أبا عبد الله هل يكره للمسلم ان يعلم غلاما مجوسيا شيئا من القرآن؟ قال إن أسلم فنعم والا
فأكره ان يضع القرآن في غير موضعه قلت فنعلمه ان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم وقال الفضل
ابن زياد سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف عند أهل الذمة قال لا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان يسافر بالقرآن إلى ارض العدو مخافة ان يناله العدو
(مسألة) (وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان)
تهنئتهم وتعزيتهم تخرج على عيادتهم فيها روايتان (إحداهما) لا نعودهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن بداءتهم بالسلام وهذا في معناه (والثانية) تجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى غلاما من اليهود كان مريضا
يعوده فقعد عند رأسه فقال (له أسلم) فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال أطع أبا القاسم فاسلم فقام
النبي صلى الله عليه وسلم فقال (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) رواه البخاري
(مسألة) (ويمنعون من تعلية البنيان على المسلمين وفي مساواتهم وجهان)
لقولهم في شروطهم ولا نطلع عليهم في منازلهم ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الاسلام
617

يعلو ولا يعلى) ولان في ذلك رتبة على المسلمين فمنعوا منه كما يمنعون التصدير في المجالس وإنما يمنع
من تعليته على المسلم المجاور له ولا يمنع من تعليتها على من ليس بمجاور له لأن الضرر إنما يحصل عليه
دون غيره وفي المساواة وجهان (أحدهما) يجوز لأنه لا يفضي إلى علو الكفر (والثاني) المنع لقوله
عليه السلام (الاسلام يعلو ولا يعلى) ولأنهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم
وركوبهم وكذلك في بنيانهم فإن كان للذمي دار عالية فملك المسلم دارا إلى جانبها أو بني المسلم إلى
جنب دار الذمي دارا دونها أو اشترى ذمي دارا عالية من المسلم فله سكنى داره ولا يلزمه هدمها
لأنه ملكها على هذه الصفة ولأنه لم يعل على المسلمين شيئا ويحتمل ان يلزمه لقوله عليه السلام
(الاسلام يعلو ولا يعلى) فإن انهدمت داره العالية ثم جدد بناءه لم تجز له تعليته على بناء المسلمين
وان انهدم ما علا منها لم تكن له اعادته فإن تشعث منه شئ ولم ينهدم فله رمه واصلاحه لأنه ملك
استدامته فملك رم شعثه كالكنيسة
(مسألة) (وان ملكوا دارا عالية من مسلم لم يجب نقضها لأنهم ملكوها على هذه الصفة)
ويحتمل ان يجب لقولهم فيما شرطوا على أنفسهم ولا نطلع عليهم في منازلهم ولقوله عليه السلام
(الاسلام يعلو ولا يعلى)
(مسألة) (ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع ولا يمنعون رم شعثها وفي بناء ما
استهدم منها روايتان)
أمصار المسلمين ثلاثة أقسام (أحدها) ما مصره المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد
وواسط فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعة ولا مجتمع لصلاتهم ولا يجوز صلحهم على ذلك
لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم ان يبنوا فيه بيعة
ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا رواه الإمام أحمد واحتج
618

به ولان هذا البلد ملك للمسلمين ولا يجوز ان يبنوا فيه مجامع للكفر وما وجد في هذه البلاد من
البيع والكنائس مثل كنيسة الروم في بغداد فهذه كانت في قرى أهل الذمة فأقرت على ما كانت عليه
(القسم الثاني) ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز احداث شئ من ذلك فيه لأنها صارت ملكا
للمسلمين وما فيه من ذلك ففيه وجهان
(أحدهما) يجب هدما (هدمها) وتحرم تبقيته لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم يجز أن تكون فيها بيعة كالبلاد
التي اختطها المسلمون (والثاني) يجوز لأن في حديث ابن عباس أيما مصر مصرته العجم ثم فتحه الله على
العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم ولان الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرا من البلاد عنوة فلم يهدموا
شيئا من الكنائس ويشهد بصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة ومعلوم
انها لم تحدث فلزم أن تكون موجودة فأبقيت، وقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله
ان لا تهدموا بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار ولان الاجماع قد حصل على ذلك فإنها موجودة في بلاد
المسلمين من غير نكير
(القسم الثالث) ما فتح صلحا وهو نوعان (أحدهما) ان يصالحهم على أن الأرض لهم، ولنا الخراج
عنها فلم احداث ما يختارون لأن الدار لهم
(الثاني) ان يصالحهم على أن الدار للمسلمين فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح
من احداث ذلك وعمارته لأنه إذا جاز ان يصالحهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن بعض
البلد لهم ويكون موضع الكنائس والبيع معنا والأولى ان يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر رضي الله
619

عنه ويشترط عليهم الشروط المذكورة في كتاب عبد الرحمن بن غنم وفيه ان لا تحدثوا كنيسة ولا
بيعة ولا صومعة راهب ولا قلاية، وان وقع الصلح مطلقا من غير شرط عمل على ما وقع عليه صلح
عمر وأخذوا بشروطه، فأما الذين صالحهم عمر وعقد معهم الذمة فهم على ما في كتاب عبد الرحمن بن
غنم مأخوذون بشروطه كلها وما وجدوا في بلاد المسلمين من الكنائس والبيع فهي على ما كانت
عليه في زمن من فتحها ومن بعدهم وكل موضع قلنا بجواز إقرارها لم يجز هدمها ولهم رم ما تشعث منها
وإصلاحها لأن المنع من ذلك يفضي إلى خرابها فجرى مجرى هدمها فأما ان استهدمت كلها ففيها روايتان
(إحداهما) لا يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي (والثانية) يجوز وهو قول أبي حنيفة والشافعي
لأنه بناء لما استهدم أشبه بناء بعضها إذا انهدم ورم شعثها ولان استدامتها جائزة وبناؤها كاستدامتها
وحمل الخلال قول أحمد لهم ان يبنوا ما انهدم منها على ماذا انهدم بعضها ومنعه من بناء ما انهدم
على ما إذا انهدمت كلها فجمع بين الروايتين. ووجه الرواية الأولى ان في كتاب أهل الجزيرة
لعياض بن غنم ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، وروى كثير بن مرة قال علي سمعت عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تبنى الكنيسة في الاسلام ولا يجدد
ما خرب منها) ولأنه بناء كنيسة في دار الاسلام فلم يجز كما لو ابتدأ بناءها وفارق رم ما شعث
فإنه إبقاء واستدامة وهذا إحداث
(مسألة) (ويمنعون من إظهار المنكر وضرب الناقوس والجهر بكتابهم)
يمنعون من إظهار المنكر كالخمر والخنزير وضرب الناقوس ورفع أصواتهم بكتابهم وإظهار أعيادهم
620

وصلبهم لأن في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم ان لا نضرب نواقيسنا الا ضربا خفيا في جوف
كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في صلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون
وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين وأن لا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا
مع موتانا وان لا نجاورهم بالخنازير ولا نظهر شركا وقد ذكرنا بقية الكتاب
(مسألة) (وان صولحوا في بلادهم علي اعطاء الجزية لم يمنعوا شيئا من ذلك ولم يؤخذوا
بغيار ولا زنار ولا تغيير شعورهم ولا مراكبهم) لأنهم في بلدانهم فلم يمنعوا من اظهار دينهم كاهل
الحرب في الهدنة
(مسألة) (ويمنعون من دخول الحرم)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لهم دخوله كالحجاز ولا يستوطنون به ولهم دخول الكعبة
والمنع من الاستيطان لا يمنع الدخول والتصرف كالحجاز
ولنا قوله تعالى (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) والمراد به
الحرم بدليل قوله (سبحانه سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)
وإنما أسري به من بيت أم هانئ وهو خارج المسجد ويخالفه الحجاز لأن الله تعالى منع منه مع إذنه
في الحجاز فإن هذه الآية نزلت واليهود بخيبر والمدينة وغيرهما من الحجاز ولم يمنعوا الإقامة به
وأول من أجلاهم عمر رضي الله عنه ولان الحرم أشرف لتعلق النسك به ويحرم شجره وصيده
والملتجئ إليه فلا يصح قياس غيره عليه
(مسألة) (فإن قدم رسول لا بدله من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له فإن دخل عزر
وهدد واخرج فإن مرض أو مات أخرج وان دفن نبش واخرج الا أن يكون قد بلى)
621

إذا أراد كافر الدخول إلى الحرم منع على ما ذكرنا فإن كانت معه تجارة أو ميرة خرج إليه من يشترى
منه ولم يمكن من الدخول للآية وإن كان رسولا إلى الإمام بالحرم خرج إليه من يسمع رسالته فإن قال
لابد لي من لقاء الإمام خرج إليه الإمام ولم يأذن له فإن دخل عالما بالمنع عزر وان دخل جاهلا هدد وأخرج
فإن مرض بالحرم أو مات أخرج ولم يدفن به لأن حرمة الحرم أعظم ويفارق الحجاز من وجهين
(أحدهما) ان دخوله إلى الحرم حرام وإقامته به حرام بخلاف الحجاز
(والثاني) ان خروجه من الحرم سهل ممكن لقرب الحل منه وخروجه من الحجاز في مرضه صعب
ممتنع وان دفن نبش وأخرج لأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فدفن جيفته أولى أن لا يجوز فإن كان قد بلي
أو يصعب إخراجه لنتنه وتقطعه ترك للمشقة فيه
(فصل) فإن صالحهم الإمام على دخول الحرم بعوض فالصلح باطل فإن دخلوا إلى الموضع
الذي صالحهم عليه لم يرد عليهم العوض لأنهم قد استوفوا ما صالحهم عليه، وان وصلوا إلى بعضه
أخذ من العوض بقدره، ويحتمل أن يرد عليهم العوض بكل حال لأن ما استوفوه لا قيمة له، والعقد
لم يوجب العوض لبطلانه
(مسألة) (ويمنعون من الإقامة بالحجاز كالمدينة واليمامة وخيبر وفدك وما والاها)
وبهذا قال مالك والشافعي إلا أن مالكا قال أرى أن يجلوا من ارض العرب كلها لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) وروى أبو داود باسناده عن عمر رضي الله عنه
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا
مسلما) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وعن ابن عباس قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بثلاثة أشياء قال (اخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم)
وسكت عن الثالث رواه أبو داود
622

وجزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن قاله سعيد بن عبد العزيز، وقال الأصمعي وأبو عبيد
هي من ريف العراق إلى عدن طولا ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضا وقال أبو عبيدة هي من
حفر أبي موسى إلى اليمن طولا ومن رمل تبرين إلى منقطع السماوة عرضا
وقال الخيل إنما قيل لها جزيرة العرب لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها
ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها. قال احمد جزيرة العرب المدينة وما والاها يعني
ان الممنوع من سكنى الكفار به المدينة وما والاها وهو مكة والمدينة وخيبر والينبع وقيل ومخاليفها
وما والاها وهو قول الشافعي لأنهم لم يجلوا من تيماء ولا من اليمن، وقد روي عن أبي عبيدة بن
الجراح أنه قال آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اخرجوا اليهود من الحجاز) وأما إخراج
أهل نجران منه فلان النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده فكأن جزيرة العرب في تلك
الأحاديث أريد بها الحجاز وإنما سمي حجازا لأنه؟ حجز بين تهامة ونجد
(مسألة) (فإن دخلوا بتجارة لم يقيموا في موضع واحد أكثر من أربعة أيام)
يجوز لهم دخول الحجاز لتجارة لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في زمن عمر رضي الله
عنه وأتاه شيخ بالمدينة وقال: انا الشيخ النصراني وان عاملك عشرني مرتين فقال عمر وأنا الشيخ
الحنيف، وكتب له عمر ألا يعشروا في السنة الا مرة فعلى هذا لا يأذن لهم في الإقامة أكثر من
ثلاثة أيام على ما روى عمر رضي الله عنه ثم ينتقل عنه، وقال القاضي يقيمون أربعة أيام حد ما يتم المسافر
الصلاة والحكم في دخولهم إلى الحجاز في اعتبار الاذن كالحكم في دخول أهل الحرب دار الاسلام لا يجوز
الا باذن الإمام فيأذن لهم إذا رأى المصلحة فيه
(مسألة) (فإن مرض لم يخرج حتى يبرأ وان مات دفن به)
إذا مرض بالحجاز جازت له الإقامة لمشقة الانتقال على المريض وتجوز الإقامة
623

لمن يمرضه لأنه لا يستغني عنه فإن كان له دين حال أجبر غريمه على وفائه فإن تعذر لمطل أو تغيب
فينبغي أن تجوز له الإقامة ليستوفي دينه لأن التعدي من غيره، وفي اخراجه ذهاب ماله، وإن كان الدين مؤجلا
لم يمكن من الإقامة ويوكل من يستوفيه له لأن التفريط منه، وان دعت الحاجة إلى الإقامة ليبيع بضاعته
احتمل الجواز لأن في تكليفه تركها وحملها معه ضياع ماله وذلك مما يمنع من الدخول إلى الحجاز
بالبضائع فتفوت مصلحتهم وتلحقهم المضرة بانقطاع الجلب عنهم، ويحتمل أن يمنع من الإقامة لأن
له من الإقامة بدا فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز ويقيم فيه أيضا ثلاثة أيام أو أربعة
على الخلاف فيه وكذلك ان انتقل منه إلى مكان آخر، ولو حصلت الإقامة في الجميع شهرا، وإذا
مات بالحجاز دفن لأنه يشق نقله وإذا جازت الإقامة للمريض فدفن الميت أولى
(مسألة) (ولا يمنعون من تيماء وفيد ونحوهما) لأن عمر لم يمنعهم من ذلك
(مسألة) (وهل لهم دخول المساجد باذن مسلم؟ على روايتين)
لا يجوز لهم دخول مساجد الحل بغير إذن المسلمين لما روت أم عراب قالت رأيت عليا رضي الله
عنه على المنبر وبصر بمجوسي فنزل فضربه وأخرجه من أبواب كندة، فإن أذن لهم في دخولها
جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد من أهل الطائف فأنزلهم
في المسجد قبل اسلامهم
وقال سعيد بن المسيب كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه وقدم عمير بن
وهب فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم فيه ليفتك به فرزقه الله الاسلام وفيه رواية أخرى ليس لهم دخوله
بحال لأن أبا موسى دخل على عمر ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله فقال له عمر ادع الذي
كتبه ليقرأه قال إنه لا يدخل المسجد قال ولم لا يدخل المسجد؟ قال إنه نصراني فانتهره عمر وهذا اتفاق
منهم على أنه لا يدخل المسجد وفيه دليل على شهرة ذلك بينهم وتقريره عندهم لأن حدث الحيض
624

والجنابة والنفاس يمنع الإقامة في المسجد فحدث الشرك أولى والأول أصح لأنه لو كان محرما لما
أقرهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم
(فصل) قال احمد في الرجل له المرأة النصرانية لا يأذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب إلى
بيعة وله ان يمنعها ذلك وكذلك في الأمة قيل له أله ان يمنعها من شرب الخمر؟ قال يأمرها فإن لم تقبل
فليس له منعها قيل له فإن طلبت منه ان يشتري لها زنارا قال لا يشتري زنارا؟ تخرج هي تشتري لنفسها
(فصل) قال رضي الله عنه وان أتجر ذمي إلى غير بلده ثم عاد فعليه نصف العشر وقال الشافعي
ليس عليه الا الجزية الا ان يدخل ارض الحجاز فينظر في حاله فإن كان لرسالة أو نقل ميرة اذن
له بغير شئ وإن كان لتجارة لا حاجة باهل الحجاز إليها لم يأذن له إلا أن يشترط عليه عوضا
بحسب ما يراه. والأولى أن يشترط نصف العشر لأن عمر شرط نصف العشر على من دخل
الحجاز من أهل الذمة
ولنا ما روى أبو داود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود
والنصارى) وعن أنس بن سيرين قال بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت بعثتني إلى العشور من
بين عمالك قال ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمرني أن آخذ
من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر رواه الإمام أحمد وهذا كان بالعراق
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال باسناده عن لاحق بن عميد أن عمر بعث عثمان بن حنيف
إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهما درهما وهذا كان
بالعراق واشتهرت هذه القصص وعمل بها الخلفاء بعده ولم ينكر ذلك فكان اجماعا ولم يأت تخصيص
الحجاز بنصف العشر في شئ من الأحاديث عن عمر ولا غيره فيما علمنا ولان ما وجب في الحجاز
من الأموال وجب في غيره كالديون والصدقات
إذا ثبت هذا فلا فرق في ذلك بين بني تغلب ولا غيرهم. وروي عن أحمد ان التغلبي يؤخذ
منه العشر ضعف ما يؤخذ من أهل الذمة لما روي باسناده عن زياد بن حدير ان عمر رضي الله عنه
625

بعثه مصدقا فأمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر ومن نصارى أهل الذمة نصف العشر رواه
أبو عبيد قال: والعمل على حديث داود بن كردوس والنعمان بن زرعة وهو أن يكون عليهم الضعف
مما على المسلمين الا تسمعه يقول من كل عشرين درهما درهم؟ وإنما يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهما
درهم فذلك ضعف هذا وهو ظاهر كلام الخرقي وهو أقيس فإن الواجب في سائر أموالهم ضعف ما على
المسلمين لا ضعف ما على أهل الذمة
(فصل) ولا يؤخذ من غير مال التجارة شئ فلو مر بالعاشر منهم منتقل ومعه أمواله أو سائمة لم يؤخذ
منه شئ نص عليه احمد رحمه الله الا أن تكون الماشية للتجارة فيؤخذ منها نصف العشر
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في العاشر يمر عليه الذمي بخمر أو خنزير فقال عمر: قال
في موضع ولو هم بيعها ولا يكون الا على الاخذ منها
وروى باسناده عن سويد بن غفلة في قول عمر ولو هم بيع الخمر والخنزير لعشرها قال احمد
اسناده جيد، وممن رأى ذلك مسروق والنخعي وأبو حنيفة وبه قال محمد بن الحسن في الخمر خاصة
وذكر القاضي ان احمد نص على أنه لا يؤخذ وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو عبيد وأبو ثور قال عمر
بن عبد العزيز الخمر لا يعشرها مسلم. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان عتبة بن
فرقد بعث إليه بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر بعث إلي بصدقة الخمر وأنت أحق
بها من المهاجرين فأخبر بذلك الناس
وقال والله لا استعملتك علي شئ بعدها قال فنزعه قال أبو عبيد معنى قول عمر ولوهم بيعها وخذوا
أنتم من الثمن ان المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم وخراج أرضهم
بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فأنكره عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا من أثمانها إذا كان أهل الذمة المتولين
لبيعها وروي باسناده عن سويد بن غفلة ان بلالا قال لعمر ان عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج
فقال لا تأخذوه ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن
626

(فصل) وإذا مر الذمي بالعشر وعليه دين بقدر ما معه أو ينقص ما معه عن النصاب فظاهر كلام احمد
ان ذلك يمنع أخذ نصف العشر منه لأنه حق يعتبر له النصاب والحول فمنعه الدين كالزكاة فإن ادعى
الدين احتاج إلى بينة مسلمين وان مر بجارية فادعى انها ابنته أو أخته قبل قوله في إحدى الروايتين
لأن الأصل عدم ملكه. (والثانية) لا يقبل لأنها في يده اشبهت البهيمة ولأنه تمكنه إقامة البينة.
(مسألة) (فإن انجر حربي إلينا أخذ منه العشر ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير).
هذا قول احمد رحمه الله وقال أبو حنيفة لا يؤخذ منهم شئ إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئا
فنأخذ منهم مثله لما روي عن أبي مجلز قال قالوا لعمر كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟
قال كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم؟ قالوا العشر قال فكذلك خذوا منهم وعن زياد بن حدير
قال كنا لا نعشر مسلما ولا معاهدا قال من كنتم تعشرون؟ قال كفار أهل الحرب نأخذ منهم كما
يأخذون منا، وقال الشافعي إن دخل إلينا لتجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوض
يشرطه وما شرطه جاز ويستحب ان يشرط العشر ليوافق فعل عمر رضي الله عنه، وإن أذن مطلقا من
غير شرط فالمذهب أنه لا يؤخذ منهم شئ لأنه أمان من غير شرط فلم يستحق به شئ كالهدنة ويحتمل
أن يجب عشر لأن عمر أخذه.
ولنا ما رويناه في المسألة التي قبلها ولان عمر أخذ منهم العشر واشتهر ذلك فيما بين الصحابة
وعمل به الخلفاء بعده والأئمة في كل عصر من غير نكير فأي إجماع يكون أقوى من هذا؟ ولم ينقل
عنه انه شرط عليهم ذلك عند دخولهم ولا يثبت ذلك بالظن من غير نقل ولان مطلق الامر
يحمل على المعهود في الشرع وقد اشتهر أخذ العشر منهم في زمن الخلفاء الراشدين فيجب أخذه فاما
سؤال عمر عما يأخذون منا فإنما كان لأنهم سألوا عن كيفية الاخذ ومقداره ثم استمر الاخذ من غير
سؤال، ولو تقيد أخذنا منهم بأخذهم منا لوجب أن يسأل عنه في كل وقت
627

(فصل) ويؤخذ منهم العشر لكل مال للتجارة في ظاهر كلامه ههنا وهو ظاهر قول الخرقي،
. وقال القاضي ان دخلوا في نقل ميرة بالناس إليها حاجة اذن لهم في الدخول بغير عشر وهو قول الشافعي
لأن في دخولهم نفع المسلمين.
ولنا عموم ما رويناه، وقد روى صالح عن أبيه عن عبد الرحمن بن مهدي عن الزهري عن سالم
عن أبيه عن عمر انه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر ومن الحنطة والزبيب نصف العشر ليكثر
الحمل إلى المدينة فعلى هذا يجوز للإمام التخفيف عنهم إذا رأى المصلحة فيه وله الترك أيضا إذا رأى
المصلحة لأنه فيئ فملك تخفيفه وتركه كالخراج.
(فصل) ويؤخذ العشر من كل حربي تاجر ونصف العشر من كل ذمي تاجر ذكرا كان أو
أنثى صغيرا أو كبيرا، وقال القاضي ليس على المرأة عشر ولا نصف عشر سواء كانت حربية أو
ذمية لكن ان دخلت الحجاز عشرت لأنها ممنوعة من الإقامة به، قال شيخنا ولا نعرف هذا
التفصيل عن أحمد ولا يقتضيه مذهبه لأنه يوجب الصدقة في أموال نساء بني تغلب وصبيانهم فكذلك
يوجب العشر ونصفه في مال النساء وعموم الأحاديث المروية ليس فيها تخصيص للرجال دون النساء
وليس هذا بجزية إنما هو حق يختص بمال التجارة لتوسعه في دار الاسلام وانتفاعه بالتجارة فيه فيستوي
فيه الذكر والأنثى كالزكاة في حق المسلمين.
(فصل) واختلفت الرواية في القدر الذي يؤخذ منه العشر ونصف العشر فروى صالح عنه في نصف
العشر من كل عشرين دينارا دينارا يعني فإذا نقصت عن العشرين فليس عليه شئ لأن ما دون النصاب
لا يجب فيه زكاة على مسلم ولا على تغلبي فلا يجب على ذمي كالذي دون العشرة وروى صالح أيضا
أنه قال إذا مروا بالعاشر فإن كانوا أهل الحرب أخذ منهم العشر من العشرة واحدا فإن كانوا من
أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارا دينارا فإذا نقصت فليس عليه شئ وان
نقص مال الحربي عن عشرة دنانير لم يؤخذ منه شئ ولا يؤخذ منهم إلا مرة واحدة المسلم والذمي
في ذلك سواء وروي عن أحمد أن في العشرة نصف مثقال وليس فيما دون العشرة شئ، نص عليه
628

في رواية أبي الحارث قال قلت إذا كان مع الذمي عشرة دنانير قال نأخذ منه نصف دينار قلت فإن
كان معه أقل من عشرة دنانير، قال إذا نقصت لم يؤخذ منه شئ وذلك لأن العشرة مال يبلغ واجبه
نصف دينار فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم ولأنه مال معشور فوجب في العشرة منه كمال الحربي
وقال ابن حامد يؤخذ عشر الحربي ونصف عشر الذمي من كل مال قل أو كثر لأن عمر قال خذ من كل عشرين
درهما درهما ولأنه حق عليه فوجب في قليله وكثيره نصيب المالك في أرضه التي عامله عليها.
ولنا أنه عشر ونصف عشر وجب بالشرع فاعتبر له نصاب كزكاة الزرع والثمرة ولأنه حق
يقدر بالحول فاعتبر له النصاب كالزكاة، وأما قول عمر فالمراد به والله أعلم بيان قدر المأخوذ وانه
نصف العشر ومعناه إذا كان معه عشرة دنانير فخذ من كل عشرين درهما درهما
لأن في صدر الحديث ان عمر أمر مصدقا وأمره ان يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما
ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا، وإنما يؤخذ ذلك
من المسلم إذا كان معه نصاب فكذلك من غيرهم
(مسألة) (ويؤخذ منه في كل عام مرة، وقال ابن حامد يؤخذ من الحربي كلما دخل إلينا
لا يعشر الذمي ولا الحربي في السنة إلا مرة، نص عليه احمد لما روى الإمام أحمد باسناده قال
جاء شيخ نصراني إلى عمر فقال إن عاملك عشرني في السنة مرتين، قال ومن أنت؟ قال انا الشيخ النصراني فقال وأنا الشيخ الحنيف ثم كتب إلى عامله لا تعشروا في السنة إلا مرة، ولان الجزية
والزكاة إنما تؤخذ في السنة مرة فكذلك هذا، ومتى اخذ منهم ذلك مرة كتب لهم حجة بأدائهم
لتكون وثيقة لهم وحجة على من يمرون عليه فلا يعشرهم ثانية الا أن يكون معه أكثر من المال الأول
فيأخذ منه الزيادة لأنها لم تعشر
وحكي عن أبي عبد الله بن حامد ان الحربي يعشر كلما دخل إلينا وهو قول بعض أصحاب
الشافعي لأننا لو أخذنا منه واحدة لا يأمن أن يدخلوا فإذا جاء وقت السنة لم يدخلوا فيتعذر الاخذ منهم
629

ولنا انه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة كنصف العشر من الذمي، وقولهم
يفوت لا يصلح فإنه يؤخذ منه أول ما يدخل مرة ويكتب الآخذ له بما أخذ منه ثم لا يؤخذ منه شئ
حتى تمضي تلك السنة فإذا جاء في العام الثاني أخذ منه في أول ما يدخل فإن لم يدخل فما فات من حق
السنة الأولي شئ
(مسألة) (وعلى الإمام حفظهم والمنع من أذاهم واستنقاذ من أسر منهم)
تلزمه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة لأنه التزم بالعهد حفظهم ولهذا قال علي
رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا
وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرا أن يوفى لهم
بعهدهم ويحاطوا من ورائهم ويجب فداء أسراهم سواء كانوا في معونتنا أو لم يكونوا وهذا ظاهر
قول الخرقي وهو قول عمر بن عبد العزيز والليث لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا
القتال من ورائهم والقيام دونهم فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك
وقال القاضي إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام في قتال فسبوا وجب عليه فداءهم لأن
أسرهم كان لمعنى من جهته وهو المنصوص عن أحمد ومتى وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم
ولان حرمة المسلم أعظم والخوف عليه أشد وهو معرض الفتنة عن دين الحق بخلاف أهل الذمة
(فصل) ومن هرب منهم إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا حكمه حكم الحربي سواء كان
رجلا أو امرأة ومتى قدر عليه أبيح منه ما يباح من الحربي من القتل والأسر وأخذ المال فإن هرب
بأهله وذريته أبيح من الهاربين منهم ما يباح من أهل الحرب ولم يبح سبي الذرية لأن النقض إنما
وجد من البالغين دون الذرية، وإن نقضت طائفة من أهل الذمة جاز غزوهم وقتالهم، وإن نقص بعضهم
دون بعض اختص حكم النقض بالناقض وإن لم ينقضوا لكن خاف النقض منهم لم يجز أن ينبذ إليهم
عهدهم لأن عقد الذمة لحقهم بدليل ان الإمام تلزمه اجابتهم بخلاف عقد الأمان والهدنة فإنه لمصلحة
المسلمين ولان عقد الذمة آكد لأنه مؤبد وهو معاوضة وكذلك إذا نقض بعض أهل الذمة العهد
630

وسكت بقيتهم لم يكن سكوتهم نقضا وفي عقد الهدنة يكون نقضا
(مسألة) وإن تحاكموا إلى الحاكم مع مسلم لزمه الحكم بينهم وإن تحاكم بعضهم مع بعض أو
استعدى بعضهم على بعض خير بين الحكم بينهم وبين تركهم)
لأن انصاف المسلم والانصاف منه وأحب وطريقه الحكم لقول الله تعالى (فإن جاءوك فاحكم
بينهم أو اعرض عنهم) ولأنهما كافران فلم يجب الحكم بينهما كالمستأمنين ولا يحكم بينهم إلا بحكم
الاسلام لقول الله تعالى (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) وعنه يلزمه الحكم بينهم لقول الله تعالى
وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ولان رفع الظلم عنهم واجب وطريقه الحكم فوجب كالحكم بين المسلمين
(فإن استعدت المرأة على زوجها في طلاق أو ايلاء أو ظهار فإن شاء أعداهما وإن شاء تركهما على
الرواية الأولى فإن أحضرت زوجها حكم عليه بحكم المسلمين في مثل ذلك، فإن كان قد ظاهر منها منعه
وطأها حتى يكفر وتكفيره بالاطعام لأنه لا يصح منه الصوم ولا يصح شراؤه للعبد المسلم ولا تملكه
(مسألة) (وإن تبايعوا بيوعا فاسدة وتقابضوا لم ينقض فعلهم لأنه عقدتم قبل اسلامهم على ما يجوز ابتداء
العقد عليه فأقروا عليه ولم ينقض كأنكحتهم وإن لم يتقابضوا فسخه سواء كان قد حكم بينهم حاكمهم أم لا)
لأنه عقد لم يتم ولا يجوز الحكم باتمامه لكونه فاسدا فتعين نقضه وحكم حاكمهم وجوده كعدمه
لأن من شرط الحاكم النافذة أحكامه الاسلام ولم يوجد
(فصل) سئل احمد رحمه الله عن الذمي يعامل بالربا ويبيع الخمر والخنزير ثم يسلم وذلك المال
في يده فقال لا يلزمه أن يخرج منه شيئا لأن ذلك مضى في حال كفره فأشبه نكاحه في الكفر
إذا أسلم، وسئل عن المجوسيين يجعلان ولدهما مسلما فيموت وهو ابن خمس سنين، فقال يدفن في مقابر
المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) يعني ان هذين لم يمجساه
فبقي على الفطر (الفطرة):، وسئل عن أطفال المشركين فقال: اذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (اعلم بما كانوا عاملين)
قال وكان ابن عباس يقول (وأبواه يهودانه وينصرانه - حتى سمع - الله أعلم بما كانوا عاملين) فترك قوله
وسأله ابن الشافعي فقال يا أبا عبد الله ذراري المشركين والمسلمين؟ فقال هذه مسائل أهل
الزيغ وقال أبو عبد الله سأل بشر بن السري سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال
631

يا صبي أنت تسأل عن هذا؟ قال احمد ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت ولا نقول شيئا وسئل
عن أطفال المسلمين فقال ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة وذكروا له حديث عائشة الذي قالت فيه
عصفور من عصافير الجنة فقال وهذا حديث؟ وذكر فيه رجلا ضعفه طلحة وسئل عن الرجل يسلم
بشرط أن لا يصلي إلا صلاتين فقال يصح إسلامه ويؤخذ بالخمس وقال معنى حديث حكيم بن حزام
بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخر إلا قائما انه لا يركع في الصلاة بل يقرأ ثم يسجد من غير ركوع قال
وحديث قتادة عن نصر بن عاصم ان رجلا منهم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يصلي طرفي النهار.
(مسألة) (وان تهود نصراني أو تنصر يهودي لم يقر ولم يقبل منه إلا الاسلام أو الدين الذي
كان عليه ويحتمل أن لا يقبل منه الا الاسلام فإن أبي هدد ويحبس ويحتمل أن يقبل وعنه انه يقر)
إذا انتقل الكتابي إلى دين آخر من دين أهل الكتاب ففيه ثلاث روايات
(إحداهن) لا يقر لأنه انتقل إلى دين باطل قد أقر ببطلانه فلم يقر عليه كالمرتد. فعلى هذا
يجبر على الاسلام ولان ما سواه باطل اعترف ببطلانه قبل ينتقل إليه ثم اعترف ببطلان دينه
حين انتقل عنه فلم يبق الا الاسلام
(والثانية) لا يقبل منه الا الاسلام أو الدين الذي كان عليه لأننا أقررناه عليه أولا فنقره عليه ثانيا
(والثالثة) يقر نص عليه احمد وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار الخلال وصاحبه وقول أبي حنيفة
وأحد قولي الشافعي لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب فأشبه غير المنتقل ولأنه دين أهل الكتاب فيقر
عليه كأهل ذلك الدين وفي صفة اجباره على ترك ما انتقل إليه روايتان
(أحدهما) يجبر عليه بالقتل لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (من بدل دينه فاقتلوه) ولأنه ذمي
نقض العهد فأشبه ما لو نقضه بترك التزام الذمة وهل يستتاب؟ يحتمل وجهين (أحدهما) يستتاب لأنه
استرجع عن دين باطل انتقل إليه فيستتاب كالمرتد
(والثاني) لا يستتاب لأنه كافر أصلي أبيح دمه فأشبه الحربي فعلى هذا ان بادر وأسلم أو رجع
إلى ما يقر عليه عصم دمه والا قتل (والثانية) أنه يجبر بالضرب والحبس فإن احمد قال إذا دخل اليهودي
في النصرانية رددته إلى اليهودية فقيل له أتقتله قال لا ولكن يضرب ويحبس لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب
فلم يقتل كالباقي على دينه ولأنه مختلف فيه فلا يقتل للشبهة
632

(مسألة) (وان انتقل إلى غير دين أهل الكتاب أو انتقل المجوسي إلى غير دين أهل
الكتاب لم يقر وأمر ان يسلم فإن أبى قتل
إذا انتقل الكتابي إلى غير دين أهل الكتاب لم يقر عليه لا نعلم فيه خلافا لأنه انتقل إلى دين
لا يقر عليه بالجزية كعبدة الأوثان فالأصلي منهم لا يقر فالمنتقل أولى وان انتقل إلى المجوسية لم
يقر لأنه انتقل إلى أدنى من دينه فلم يقر كالمسلم إذا ارتد وكذلك الحكم في المجوسي إذا انتقل إلى
إلى أدنى من دينه كعبادة الأوثان كذلك
وإذا قلنا لا يقر ففيه ثلاث روايات (إحداهن) لا يقبل منه الا الاسلام، نص عليه احمد واختاره
الخلال وصاحبه وهو أحد قولي الشافعي لأن غير الاسلام أديان باطلة فقد أقر ببطلانها فلم يقر عليها
كالمرتد وإذا قلنا لا يقبل منه الا الاسلام فأبى أجبر عليه بالقتل لأنه انتقل إلى دين أدنى من دينه أشبه المرتد.
(والثانية) لا يقبل منه الا الاسلام أو الدين الذي كان عليه لأن دينه الأول قد أقررناه عليه
مرة ولم ينتقل إلى خير منه فنقره عليه ان رجع إليه ولأنه انتقل من دين يقر عليه إلى دين لا يقر عليه
فقبل رجوعه إلى دينه كالمرتد إذا رجع إلى الاسلام.
(والثالثة) انه يقبل منه أحد ثلاثة أشياء الاسلام أو الدين الذي كان عليه أو دين أهل الكتاب
لأنه دين أهل الكتاب فيقر عليه كغيره من أهل ذلك الدين وإذا انتقل المجوسي إلى غير دين أهل
الكتاب ثم رجع إلى المجوسية أقر عليه في إحدى الروايتين لأنه أقر عليه أولا فيقر عليه ثانيا.
(مسألة) (وان انتقل غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أقر ويحتمل أن لا يقبل منه الا الاسلام)
إذا انتقل المجوسي إلى دين أهل الكتاب ففيه أيضا الروايات الثلاث (إحداهن) لا يقبل منه
إلا الاسلام لما ذكرنا (والثانية) يقر على ما انتقل إليه لأنه أعلى من دينه ولأنه انتقل إلى دين يقر
عليه أهله والثالثة لا يقبل منه إلا الاسلام أو دينه الذي كان عليه لما تقدم
(مسألة) (وإن تمجس الوثني فهل يقر؟ على روايتين) إحداهما يقر لما ذكرنا والثانية لا يقر لأنه
انتقل إلى دين لا تحل ذبائح أهله ولا تنكح نساؤهم أشبه ما لو انتقل إلى دين لا يقر عليه أهله والأولى أولى
(فصل) (في نقض العهد وإذا امتنع الذمي من بذل الجزية أو التزام أحكام الملة انتقض عهده)
633

إذا امتنع الذمي من بذل الجزية أو التزام أحكام الملة إذا حكم بها حاكم انتقض عهده بغير
خلاف في المذهب سواء شرط عليهم أو لا، وهو مذهب الشافعي لقول الله تعالى (حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون) قيل الصغار التزام أحكام المسلمين فأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية
ويلتزموا أحكام الملة، فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد وفي معنى هذين
قتالهم للمسلمين منفردين أو مع الحرب لأن اطلاق الأمان يقتضي ذلك وقال أبو حنيفة لا ينتقض
العهد الا بالامتناع من الإمام بحيث يتعذر أخذ الجزية منهم
ولنا ما ذكرناه ولأنه ينافي الأمان أشبه ما لو امتنعوا من بذل الجزية
(مسألة) وان تعدى على مسلم بقتل أو قذف أو زنا أو قطع طريق أو تجسس أو إيواء جاسوس
أو ذكر الله تعالى أو كتابه أو رسوله بسوء فعلى روايتين)
ويلتحق بذلك أو فتن مسلم عن دينه أو إصابة المسلمة باسم نكاح (إحداهما) ينتقض عهده اختاره
القاضي والشريف أبو جعفر سواء شرط عليهم أو لم يشرط ومذهب الشافعي نحو هذا فيما إذا شرط
عليهم لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه رفع إليه رجل أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا فقال ما
على هذا صالحناكم وامر به فصلب في بيت المقدس وقيل لابن عمر ان راهبا يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
لو سمعته لقتلته انا لم نعط الأمان على هذا
ولما روي عن عمر انه أمر عبد الرحمن بن غنم ان يلحق في كتاب صلح الجزيرة ومن ضرب
مسلما عمدا فقد خلع عهده ولان فيه ضررا على المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية ولأنه لم يف
بمقتضى الذمة وهو الامن من جانبه فانتقض عهده كما لو قاتل المسلمين
(والثانية) لا ينتقض العهد به لكن يقام عليه الحد فيما يوجب الحد أو يقتص منه فيما يوجب القصاص
ويعذر فيما سوى ذلك بما ينكف به أمثاله عن فعله لأن ما يقتضيه العهد من التزام الجزية وأحكام
المسلمين والكف عن قتالهم باق فوجب بقاء العهد
(مسألة) (وان أظهر منكرا أو رفع صوته بكتابه لم ينتقض عهده)
وظاهر كلام الخرقي أنه ينتقض إن كان مشروطا عليهم اما ما سوى الخصال المذكورة في المسألة
634

التي قبلها كالتميز عن المسلمين وترك اظهار المنكر ونحو ذلك فإن لم يشرط عليهم لم ينتقض عهدهم به
لأن العقد لا يقتضيها ولا ضرر فيها على المسلمين وان شرطت عليهم فظاهر كلام الخرقي أن عهدهم
ينتقض بمخالفتنا لقوله ومن نقض العهد بمخالفة شئ مما صولحوا عليه حل دمه وماله.
ووجه ذلك أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم بعد استيفاء الشروط: وان نحن غيرنا أو خالفنا
عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق ولأنه عقد
بشرط فزال بزوال الشرط كما لو امتنع من بذل الجزية وقال غيره من أصحابنا لا ينتقض العهد به لأنه لا ضرر على
المسلمين فيه ولا ينافي عقد الذمة أشبه ما لو لم يشرطه ولكنه يعزر ويلزم ما تركه
(مسألة) (ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقض عهده وإذا انتقض عهده خير الإمام فيه كالأسير الحربي)
لأن النقض وجد منه دونهم فاختص حكمه به قال شيخنا في كتاب العمدة الا ان يذهب بهم
إلى دار الحرب وذكر في كتاب المغني انه لا يباح سبي الذرية وان ذهب بهم إلى دار الحرب وإذا
انتقض عهده خير الإمام فيه كالأسير الحربي فيخير فيه بين القتل والاسترقاق والمن والفداء لأن
عمر رضي الله عنه صلب الذي أراد استكراه امرأة ولأنه كافر لا أمان له قدرنا عليه في دارنا بغير عقد
ولا عهد ولا شبهة ذلك فأشبه اللص الحربي هذا اختيار القاضي، وقال بعض أصحابنا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم
إنه يقتل بكل حال وذكر أن احمد نص عليه
(مسألة) (وماله فيئ عند الخرقي وقال أبو بكر هو لورثته)
لأنه إنما عصم بعقد الذمة فزال بزواله كالمرتد لأن ماله كان معصوما فلا تزول عصمته بنقضه
العهد كأولاده الصغار
(آخر كتاب الجهاد والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)
(تسليما كثيرا)
(تم بحمد الله وعونه الجزء العاشر من كتاب الشرح الكبير)
(ويليه بمشيئة الله وتوفيقه الجزء الحادي عشر منه وأوله (كتاب الصيد والذبائح)
635