الكتاب: القواعد الفقهية
المؤلف: السيد البجنوردي
الجزء: ٥
الوفاة: ١٣٩٥
المجموعة: مصطلحات ومفردات فقهية
تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسين الدرايتي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٩ - ١٣٧٧ ش
المطبعة: الهادي
الناشر: نشر الهادي - قم - ايران
ردمك: ٩٦٤-٤٠٠-٠٣٠-٧
ملاحظات:

القواعد الفقهية
الجزء الخامس
آية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي
تحقيق
مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي
1

الناشر: نشر الهادي
الطبع: مطبعة الهادي
الطبعة الأولى: 1419 ه‍. ق
بمساعدة معاونية الشؤون الثقافية
وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

46 - قاعدة الصلح جائز بين المسلمين
7

قاعدة الصلح جائز بين المسلمين *
ومن القواعد المشهورة الفقهية قاعدة " الصلح جائز بين المسلمين أو الناس " كما
في بعض الروايات.
وفيها جهات من البحث:
(الجهة) الأولى
في مدركها، وهو أمور
الأول: الآيات:
فمنها: قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح
عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) (1)
ومنها: قوله تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) (2)
ومنها: قوله تعالى: (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) (3)
ومنها: قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) (4)

*. " عناوين الأصول " عنوان 41، " مناط الأحكام " ص 197.
1. النساء (4): 128.
2. أنفال (8): 1.
3. النساء (4) 35.
4. الحجرات
9

ومنها: قوله تعالى: (فإن فائت فأصلحوا بينهما بالعدل) (1)
ومنها: قوله تعالى: (أو إصلاح بين الناس) (2)
وهذه الآيات صريحة في إمضاء الشارع الأقدس الصلح المتعارف بين أهل
العرف والعقلاء، وتدل على حسنه ومطلوبيته عنده، سواء كان إيقاعه بعقد الصلح، أو
كان بعمل، أو قول ليس بعقد.
وبعبارة أخرى: حقيقة الصلح عبارة عن التراضي والتسالم والموافقة على أمر،
سواء كان ذلك الامر مالا من الأموال، عروضا كان ذلك المال أو كان من النقود على
أقسامها، أو كان ذلك الامر الذي اتفقا فيه وتسالما وتراضيا عليه من الأعمال، أو كان
غير ذلك، وسواء أنشأ ذلك التسالم بصيغة عقد الصلح أو بغير ذلك، وسواء كان
مسبوقا بالخصومة أو ملحوقا بها أو كان متوقعا حصولها، ففي جميع هذه الموارد
المذكورة يصدق إطلاق " الصلح " عليها إطلاقا حقيقيا، لا عنائيا مجازيا. وسنذكر إن
شاء الله عدم دخالة هذه الأمور في تحقق الصلح وإطلاقه من ناحية هذه القيود.
إذا عرفت ما ذكرنا تعرف دلالة جميع الآيات المذكور على صحة الصلح، وإمضاء
الشارع الأقدس لما عليه بناء العقلاء في باب الصلح من اختصاصه بصنف دون صنف
وقسم دون قسم.
الثاني: من مداركها الروايات:
منها: النبوي الذي رواه العامة والخاصة: " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا
أحل حراما أو حرم حلالا ". (3)

1. الحجرات (49): 9.
2. النساء (4): 114.
3. " الفقيه " ج 3، ص 32، باب الصلح، ح 3267، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 164، أبواب كتاب الصلح، باب
3، ح 2، " عوالي اللئالي " ج 2، ص 257، " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 443، أبواب كتاب الصلح،
باب 3، ح 2.
10

ومنها: ما رواه حفص ابن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " الصلح جائز بين
الناس " (1). إلى غير ذلك من الروايات الواردة في باب الصلح وهي كثيرة.
وعقد في الوسائل بابا لفضله، بل وفي استحبابه، بل مفاد بعضها أنه أفضل من
عامة الصلاة والصيام. وروى ذلك في الوسائل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه عليه السلام قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام " (2).
الثالث: من مدارك هذه القاعدة، هو الاجماع المحصل من جميع طوائف المسلمين،
بل قيل: إنه لا خلاف بين أهل العلم في ذلك، ولم ينكر أحد من الفقهاء شرعيته بل
حسنه واستحبابه.
الرابع: العقل. ولا شك في استقلال العقل بحسنه، لان الاصلاح والموافقة
والتراضي والتسالم على أمر من تمليك عين أو منفعة أو إسقاط حق أو ثبوته أو غير
ذلك بين شخصين أو أزيد قد يكون بالعقد أو بغير العقد، مقابل الافساد والاختلاف
والسخط والتخاصم، فكما أن العقل حاكم بقبح الأمور الأخيرة، فكذلك حاكم بحسن
المذكورات أولا التي تكون الصلح عين تلك الأمور، فبقاعدة الملازمة يثبت
مشروعيته ومطلوبيته وإن كانت استحبابية.
الجهة الثانية
في بيان مفادها وشرح حقيقتها
أقول: إن الصلح - كما عرفه جماعة من الفقهاء - عقد شرع لقطع التجاذب
والتنازع بين المتخاصمين. ولكن أنت عرفت وذكرنا أنه ليس من شرط تحقق الصلح

1. " الكافي " ج 5، ص 259، باب الصلح، ح 5، " التهذيب " ج 6، ص 208، ح 479، باب الصلح بين الناس،
ح 10، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 164، أبواب كتاب الصلح، باب 3، ح 1.
2. " وسائل الشيعة " ج 13، ص 164، أبواب كتاب الصلح، باب 1، ح 6، " ثواب الأعمال " ص 178، ح 1.
11

سبق خصومة وتنازع في البين، بل ولا توقع وجودهما فيما بعد، وهكذا ليس منحصرا
ومختصا بما أنشأ بالعقد.
فهذا تعريف بالأخص للصلح لاختصاصه بما ينشأ بالعقد في مورد التخاصم
والتنازع.
ولكن يمكن أن يقال: إن جعل رفع التنازع وقطع التجاذب غاية لتشريعه، يكون
من باب حكمة التشريع لا علته كي يكون شرعيته دائرا مدار وجود هذه العلة، فإذا لم
يكن تنازع وتخاصم بين المتسالمين على أمر مالي أو غير مالي لا يصدق عليه الصلح،
وذلك من جهة الفرق بين حكمة التشريع وعلته، ففي الأول لا يكون الحكم وما شرع
وجوده دائرا مدار حكمة التشريع. وأما في الثاني - أي علة التشريع - يكون وجود
الحكم دائرا مدار وجودها، فمثل استبراء الرحم حكمة لتشريع العدة، ولذلك لو كانت
المرأة في سن من تحيض ولم يكن زوجها لامسها منذ زمان طويل لمرض أو سفر أو
غير ذلك يجب عليها الاعتداد، مع أن الرحم لا يحتاج إلى الاستبراء، وهكذا بالنسبة
إلى تشريع وجوب القصر والافطار في السفر، حيث أن في تشريعهما حكمة هي
المشقة، وفي كثير من الاسفار لا مشقة، خصوصا في هذه الأزمان والسفر مع الطيارة،
ومع ذلك عند عدم وجود هذه الحكمة الحكم لا ينعدم.
فليكن فيما نحن فيه أيضا كذلك، أي لا ينافي عدم وجود نزاع في البين ومع ذلك
يكون الصلح موجودا، فيكون التنازع حكمة تشريع الصلح، لا علة تشريعه.
ثم إن هاهنا أمورا يجب أن نذكرها
(الامر) الأول: أن الصلح معاملة مستقلة، وليس من فروع البيع تارة، والإجارة
أخرى، والعارية ثالثة وهكذا كما توهم،
وجه التوهم: أن الصلح على عين متمول بعوض مالي يفيد فائدة البيع، لان البيع
12

تمليك عين متمول بعوض مالي، والصلح على العين المتمول بعوض مالي يكون عين
ذلك الذي ذكرنا، غاية الأمر بصيغة الصلح فهو بيع، والاختلاف في اللفظ فقط.
وهكذا الصلح على منفعة معلومة بعوض معلوم يكون تمليك منفعة معلومة
بعوض معلوم، وهذا عين الإجارة غاية الأمر بلفظ الصلح. وإن كان تمليك المنفعة
بلا عوض يكون عارية بلفظ الصلح، فليس الصلح عقدا برأسه ومعاملة مستقلة، بل
في كل باب يكون من فروع ذلك الباب.
هذا غاية ما توهموا.
ولكن أنت خبير بأنه أولا: قد يوجد مورد للصلح حسب النصوص الواردة في
باب الصلح لا ينطبق لا على البيع، ولا على الإجارة، ولا على العارية، ولا على الهبة كما
روى: إذا كان رجلان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه، ولا يدري كل واحد منهما
كم له عند صاحبه فقال كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي، فقال: "
لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما ". (1) فهذا ليس ببيع، لان العوضين مجهولان
من حيث المقدار، ولا هبة، لأنه ليس إعطاء مجان بل لكل واحد منهما عوض،
ولا عارية وليس بإجارة، لأنه تمليك عين لا منفعة، ولا ينطبق على أي واحد من
عناوين المعاملات، فلابد وأن يكون عقدا مستقلا، إذ لا يمكن أن يكون من فروع أي
عقد آخر ومعاملة أخرى، هذا أولا.
وثانيا: أن المنشأ في عقد الصلح عنوان التسالم والموافقة، وفي سائر العقود عناوين
أخر. وصرف الاشتراك في الأثر لا يخرج الشئ عما وقع عليه، وحيث أن المنشأ فيه
مختلف مع المنشأ في سائر العقود والمعاملات، فلا يصح إطلاق البيع أو الإجارة أو
العارية أو الهبة عليه، فالقول بأنه في كل باب يعد من فروع ذلك الباب لا أساس له،

1. " الكافي " ج 5، ص 258، باب الصلح، ح 2، " الفقيه " ج 3، ص 33، باب الصلح، ح 3268، " تهذيب الأحكام
" ج 6، ص 206، ص 470، باب الصلح بين الناس، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 165، أبواب
كتاب الصلح، باب 5، ح 1.
13

وإن نسب في الجواهر هذا القول إلى الشيخ رحمة الله عليه. (1)
وثالثا: ثمرة هذا البحث تظهر في الآثار المترتبة على هذه العناوين، مثلا إذا قلنا
بأن صلح الأعيان المتمولة بعوض مالي بيع يثبت فيه خيار المجلس، وإلا فلا بناء على
اختصاص هذا الخيار بالبيع وعدم ثبوته في غيره من المعاملات.
ولكن يرد عليه: أن الأحكام الشرعية تلحق العناوين التي جعلت موضوعات
لها في ألسنة أدلتها، فإذا قال الشارع: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فهذا الحكم جعل
موضوعه في لسان دليله عنوان البيعين، وعنوان البيعين غير عنوان المتصالحين
والمتسالمين أو المتوافقين وأمثالها، فلا يترتب على هذا البحث هذه الثمرة. فإذا كان
الغرض من القول بأن الصلح في كل باب من فروع ذلك الباب ترتيب هذه الثمرة فلا
سبيل إلى ذلك.
وخلاصه الكلام في هذا المقام: أن الآثار والأحكام المختصة بكل عنوان لا يترتب
إلا على نفس ذلك العنوان، لا على ما يفيد فائدته، ولا شك في أن عنوان الصلح والبيع
والإجارة والهبة والعارية مختلفات لا يلحق حكم أحدها للاخر، وإن كانت نتيجة
الاثنين وفائدتهما واحدة.
(الامر) الثاني: أن الصلح يصح مع الاقرار والانكار، أي مع إقرار المدعى عليه
بما يدعيه المدعي، وإنكاره لما يدعيه.
أما مع إقراره فوجهه أوضح، وذلك من جهة إقراره يثبت عليه ما يدعي المدعي،
فلا مانع من أن يصالح المدعي عن حق ثابت بمال.
وأما مع إنكاره فإن كان كاذبا في إنكاره فيكون من حيث صحة الصلح مثل
إقراره، لأنه في الواقع عليه شئ إما عينا أو دينا، فيكون المصالحة على ذلك المال الذي
عنده أو على ما في ذمته، والصلح صحيح واقعا.

1. " جوهر الكلام " ج 26، ص 212.
14

وأما إن كان صادقا في إنكاره ولم يكن عليه شئ، لا في ذمته ولا عنده عين مال
المدعي، فحيث لا يكون شئ في البين يقع الصلح عليه، فهذا الصلاح صحته يكون
ظاهرية، ويجب ترتيب آثار الصحة عليه ما لم ينكشف الحال وأن المدعي دعواه كاذبة.
كما هو الحال في جميع الأحكام الظاهرية من مؤديات الأصول والامارات، حيث يجب
ترتيب الآثار عليها ما لم ينكشف الخلاف.
وعلى كل حال صحة هذا الصلح مع الاقرار والانكار إجماعي لا خلاف فيها
عندنا، غاية الأمر في الصورة الثانية أي صورة إنكار المدعى عليه لابد من القول
بالتفصيل المتقدم، وأنه إن كان صادقا في إنكاره فصحة ذلك الصلح ظاهرية لا واقعية،
ويجب على المدعي رد ما أخذ بعنوان مال المصالحة، ويكون ما أخذ من المقبوض
بالعقد الفاسد، فعليه الضمان، لان المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب عند
المحصلين إلا في الاثم إذا كان جاهلا بالفساد فإنه حينئذ لا إثم له وهو معذور.
هذا ما حكاه الشيخ الأعظم الأنصاري (1) عن ابن إدريس (2)، وكلامه هذا حسن
وصحيح. ولا فرق في عدم صحة الصلح واقعا بين إن يكون المدعي كاذبا في تمام
ما يدعيه أو في بعضه، مثلا لو كان المدعي يدعي أن الدار التي في يدك تمامها لي، وفي
الواقع نصفها له ونصفها الآخر لنفس ذي اليد، فأنكر المدعى عليه كون تمام الدار له،
ولم يكن له طريق لرد دعواه الكاذبة في النصف الذي لا يملكه، فاضطر للصلح معه
على تمام الدار، فهذا الصلح أيضا فاسد واقعا ويكون صحته ظاهرية ومن باب أصالة
الصحة والجهل بالحال، ولذلك متى انكشف الحال وعلم أنه كاذب في دعواه وأن تمام
الدار له، لا يجب ترتيب آثار الصحة على هذا الصلح.
ثم إن هاهنا كلاما: وهو انه هل يجب على المدعي الكاذب رد تمام ما اخذ بعنوان
مال المصالحة لفساد هذا الصلح، أو رد نصف ما اخذ لصحة الصلح بالنسبة إلى

1. " المكاسب " ص 104.
2. " السرائر " ج 2، ص 326.
15

النصف الذي كان يملكه، أو لا يجب رد شئ مما اخذ لصحة هذا الصلح وان كانت
صحته باعتبار وقوعه مقابل ذلك النصف الذي يملكه لا مقابل تمام الدار؟ وجوه
واحتمالات.
والحق بطلان هذا الصلح الواحد البسيط، فيجب رد تمام ما اخذ بعنوان مال
المصالحة ويرجع إليه نصف الدار الذي كان يملكه. ومرادنا بقولنا: يرجع إلى نصفه
الذي يملكه، اي بحسب الظاهر والحكم بصحة ذلك الصلح ظاهرا، وإلا فبحسب
الواقع لم يخرج عن ملكه كي يرجع.
ولا يتوهم: انه يمكن تصحيحه في النصف الذي يملكه من باب تبعض الصفقة،
والفقهاء يلتزمون بذلك في البيع ويقولون، لو باع تمام الدار فتبين ان نصفها ليس له،
فالبيع صحيح بالنسبة إلى النصف الذي يملكه، غاية الأمر أنه يكون للمشتري خيار
تبعض الصفقة. فليكن هاهنا أيضا كذلك، فيكون الصلح صحيحا بالنسبة إلى النصف
الذي يملكه، غاية الأمر يكون الخيار للمصالح له، فالنتيجة ان لا يكون الواجب على
المدعي الكاذب رد تمام مال المصالحة، بل الواجب عليه رد النصف الا ان يعمل
المصالح خياره ويفسخ الصلح، فيجب عليه رد تمام مال المصالحة ويرجع نصف الدار
إليه بالمعنى الذي ذكرنا للرجوع.
ودفع هذا التوهم: بان باب الصلح على الأعيان الخارجية غير باب بيعها، و
ذلك لان التسالم على كون عين خارجية ملكا لشخص وهو أحد المتسالمين لا
يتبعض، ولم يقع التسالم والاتفاق على كون كل جزء من هذه العين الخارجية ملكا
للمصالح له بإزاء ما يساويه من مال المصالحة بحسب المقدار أو القيمة، وهذا بخلاف
باب البيع فان حقيقة البيع جعل كل واحد من العوضين بدلا عن الاخر في مقام
الملكية، والبدلية تسري إلى كل جزء من العوضين، فكل جزء منها مقابل الجزء الذي
يساويه بحسب المقدار أو بنسبة قيمته إلى قيمة المجموع.
16

وهذا معنى الانحلال في باب تبعض الصفقة. واما هذا المعنى فلا يأتي في الصلح،
لان المنشأ فيه التسالم، وهو بسيط لا يتبعض، فبناء على هذا إذا وقع الصلح على عين
يدعيها المدعي، فكما انه لو لم يكن المدعي صادقا في دعواه ولم يكن شئ من تلك
العين فصالح المدعى عليه بمال عن تلك العين مع المدعي يكون الصلح بحسب الواقع
باطلا، فكذلك الصلح يكون باطلا لو لم يكن بعضها له.
ولا وجه للقول بصحة الصلح بالنسبة إلى البعض الذي يملكه، وبطلانه بالنسبة
إلى البعض الذي لا يملكه، فيصير من باب تبعض الصفقة، لما ذكرنا من أن الصلح
الواقع على عين خارجية لا يتبعض بالنسبة إلى اجزائه أو كسوره كالنصف والثلث
والربع وأمثالها، فتأمل.
فظهر مما ذكرنا: ان الأصح من الاحتمالات الثلاث التي ذكرناها هو الاحتمال
الأول، وهو وجوب رد تمام ما اخذه المدعي الكاذب في بعض ما ادعاه، وذلك لفساد
الصلح. ولا فرق فيما ذكرنا من فساد الصلح لو تبين عدم كون تمام ما يصالح عنه له بين
أن يكون الكاذب هو المدعي أو المدعى عليه.
ثم إن ها هنا روايتين تدلان على عدم صحة الصلح واقعا، وعدم ذهاب الحق
بالمرة فيما إذا لم يقع الصلح بين ما هو الحق الواقعي وبين ما يعطيه المصالح مع خفاء
المقدار الواقعي على صاحب المال الذي يريد ان يصالح معه من بيده المال.
إحديهما: ما رواه علي بن حمزة، عن أبي الحسن عليه السلام قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام:
رجل يهودي أو نصراني ي كانت له عندي أربعة آلاف درهم فمات ألي ان أصالح ورثته
ولا اعلمهم كم كان؟ قال عليه السلام: " لا يجوز حتى تخبرهم ". (1)

1. " الكافي " ج 5، ص 259، باب الصلح، ح 6، " الفقيه " ج 3 ص 33، باب الصلح، 3269، 2 تهذيب الأحكام "
ج 6، ص 206، ح 472، باب الصلح بين الناس، ح 3، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 166، أبواب كتاب
الصلح، باب 5، ح 2.
17

والأخرى: ما رواه عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال عليه السلام: " إذا كان لرجل
على رجل دين فمطله حتى مات، ثم صالح ورثته على شئ، فالذي اخذه الورثة لهم
وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة، وفان هو لم يصالحهم على شئ حتى مات
ولم يقض عنه، فهو كله للميت يأخذه به ". (1)
فالرواية الأولى تدل على أن المصالحة على مال مع جهل صاحب المال بمقداره
لا يجوز ولا اثر لها، والرواية الثانية تدل على أن المصالحة مع صاحب المال بأقل منه
لا يوجب براءة ذمته عن الجميع مع جهل صاحب المال، بل تؤثر في المقدار الذي
أعطاه فقط والباقي باق في ذمته، وان لم يصالح مع صاحب المال أصلا حتى مات،
ولا مع ورثته حتى هلكوا فجميع المال يبقى في ذمته.
وهذا الأخير هو مقتضى القواعد الأولية أيضا، اي ولو لم تكن هذه الرواية في
البين كان الحكم هكذا وكما ذكرنا.
والمقصود من ذكر هاتين الروايتين ان صحة هذا الصلح حكم ظاهري، ولا يحل
للمدعي الكاذب التصرف فيما اخذه بعنوان مال المصالحة، إلا فيما إذا أحرز رضا من
يعطي المال وطيب نفسه على كل حال، لما ذكرنا وتقدم من أن ما يأخذه بعنوان مال
المصالحة يكون من المقبوض بالعقد الفاسد واقعا، وإن كان بحسب الظاهر صحيحا.
الأمر الثالث: ان الصلح نافذ وجائز بين الناس فيما إذا لم يكن أحل حراما
كاسترقاق الحر، أو استباحة المحرمات كبضع المحارم وشرب الخمر وغير ذلك من
المحرمات، أو حرم حلالا كما أنه لو صالحا وتسالما على أن لا يطأ حليلته أو لا يأكل
اللحم أو لا ينتفع بماله وأمثال ذلك مما أحله الله له.
والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله: " الصلح جائز بين الناس الا صلحا أحل حراما أو

1. " الكافي " ج 5، ص 259، باب الصلح، ح 8، " تهذيب الأحكام " ج 6، ص 208، باب الصلح بين
الناس، ح 11، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 166، أبواب كتاب الصلح، باب 5، ح 4.
18

حرم حلالا ". (1)
فالصلح الذي أحل حراما، اي كان مفاده لزوم ارتكاب محرم، والصلح الذي
حرم حلالا، اي كان مفاده لزوم ترك ما هو حلال، وهذا هو معنى تحريم الحلال
وتحليل الحرام، وإلا فالحلال لا يصير محرما واقعا الا بتبديل الحكم من طرف الشارع،
فالمراد من تحليل الحرام وتحريم الحلال هو أن يكون مفاد الصلح هو أحد الامرين:
اما لزوم فعل محرم وهو هو تحليل الحرام، أو لزوم ترك مباح أو ما هو راجح فعله
وهذا تحريم الحلال، فمفاد الاستثناء هو عدم نفوذ مثل هذا الصلح الذي يحرم حلالا
أو يحلل حراما، وانه ليس بجائز وهذا واضح جدا.
الأمر الرابع: في أن الصلح صحيح وجائز مع علم الطرفين ومع جهلهما بالمقدار
الذي يقع الصلح عنه، فإذا كان أحد الوارثين أو أحد الشريكين المقدار الذي يملكه
من المال المشترك غير معلوم لنفسه ولا لشريكه، فيجوز ان يصطلحا على حصته من
ذلك المشترك مع جهل الطرفين، كما أنه يجوز الصلح عن حصته مع علمهما أيضا.
وهذا الحكم اجماعي، ويدل عليه قبل الاجماع ما رواه محمد بن مسلم عن أبي
جعفر عليه السلام انه عليه السلام قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه، ولا يدري
كل واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال: كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك ولي ما
عندي فقال: " لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما ". (2)
فهذه الرواية صريحة في صحة الصلح مع جهلهما بمقدار ما يصالحان عنه
ويصطلحان عليه، لان مورد الحكم بعد البأس هو عدم علم المصطلحين بمقدار ما
يصطلحان عليه، لان المورد حسب تصريح الراوي وفرضه هو انه كل واحد منهما
لا يدري كم له عند صاحبه.

1. تقدم تخريجه في ص 10، (3).
2. تقدم تخريجه في ص 13.
19

هذا، مضافا إلى شمول المطلقات مثل قوله تعالى: (الصلح خير) (1) ومثل
قوله صلى الله عليه وآله: " الصلح جائز بين المسلمين " (2) - أو " الناس " كما في رواية أخرى (3) - لكلتا
حالتي علمهما وجهلهما، لان الصلح في كلتا الحالتين صلح، وكل صلح خير باطلاق
الآية، وهكذا كل صلح جائز ونافذ باطلاق الحديث، فعدم الصحة في صورة جهلهما
أو علمهما يحتاج إلى دليل مخصص للعمومات أو مقيد للاطلاقات.
ثم إنه كما أن جهلهما بالمقدار لا يضر بصحة الصلح، كذلك لا يضر جهلهما بجنس
ما يصطلحان عليه، للاجماع والاطلاقات.
الأمر الخامس: ان الصلح عقد لازم لا ينحل الا بالإقالة من الطرفين وذلك
لقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (4) ولا شك في أن الصلح من العقود العهدية، وقد ذكرنا
تفصيل شمول (أوفوا بالعقود) للعقود العهدية ودلالتها على اللزوم في قاعدة أصالة
اللزوم في العقود، وذكرنا سائر الأدلة أيضا هناك من قبيل: " الناس مسلطون على
أموالهم: (5) وقوله صلى الله عليه وآله: " لا يحل مال امرء مسلم الا بطيب نفسه " (6) وقوله عليه السلام: " حرمة
مال المسلم كحرمة دمه " (7) واستصحاب بقاء اثر العقد بعد النسخ.
واما انحلاله بالإقالة فلا ينافي لزومه، وذلك من جهة ان اللزوم ههنا حقي، بمعنى
ان التزام كل واحد من الطرفين بالبقاء عند هذا العقد والعهد والوفاء بمضمونه الذي
هو مدلول التزامي للعقد - ولذلك قلنا بعدم هذا الالتزام في المعاطاة، لعدم كون

1. النساء (4): 128.
2. " الفقيه " ج 3، ص 32، باب الصلح، ج 3267، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 164، أبواب كتاب الصلح
باب 3، ح 2.
3. " الكافي " ج 5، ص 259، باب الصلح، ح 5، " وسائل الشيعة " ج 13، 164، أبواب كتاب الصلح،
باب 3، ص 1.
4. المائدة (5): 1.
5. " عوالي اللئالي " ج 1 ص 222، ح 99، وص 457، ح 198، و ج 2، ص 138، 383.
6. " عوالي اللئالي " ج 1، ص 222، ح 98، وص 113، ح 309، و ج 2، ص 240، ح 6.
7. " عوالي اللئالي " ج 3، ص 473، ح 4.
20

الالتزام بالوفاء بمضمون المعاملة مدلولا التزاميا للعمل وإنما هو مدلول التزامي للعقد
- ملك للطرف الآخر ومن حقوقه.
وهذا معنى اللزوم الحقي مقابل اللزوم الحكمي كما في باب النكاح، وذلك لان
اللزوم الحكمي في النكاح عبارة عن حكم الشارع بان هذا العقد لازم لا يقدر أحد
على حله الا اللزوم بالطلاق، وهو أيضا ليس فسخا أو انفساخا، بل هو عبارة عن
رفع العلاقة التي أوجدها بعقد النكاح، فكما ان عقد النكاح سبب لوجودها يكون
الطلاق سببا لارتفاعها، ولذلك لا يأتي الخيار ولا الإقالة في النكاح، لان الحكم
الشرعي لا يرتفع الا برفع الشارع تخصيصا أو نسخا، على اشكال في الأول من حيث
التعبير بالرفع في التخصيص، لان التخصيص يدل على أن الحكم في مورد الخاص من
أول الأمر لم يكن، لا انه كان وارتفع بالتخصيص.
وعلى هذا المبنى قلنا في باب النكاح ان الخيار في الموارد السبعة ليس من الخيار
بمعناه الحقيقي، بل هو تخصيص في اللزوم الذي حكم الشارع به في باب النكاح.
إذا عرفت هذا، فنقول: ان في كل مورد كان اللزوم حقيا: اي كان التزام كل
واحد من الطرفين ملكا وحقا للاخر يأتي الإقالة، لان حقيقة الإقالة رفع اليد عن
حقه وما ملكه بالعقد من التزام طرفه له، فإذا رفع اليد عن حقه لا يبقى محل الالتزام
طرفه، لان هذا الالتزام كان رعاية لحقه ولمراعاته، لا ان الملتزم مجبور من طرف
الشارع بالبقاء عند التزامه، والا لو كان كذلك كان اللزوم حكميا - اي بحكم الشارع
- لا حقيا ولمراعاة طرفه، ففي اللزوم الحقي إذا رفع كلاهما يدهما كل واحد عما التزم
له صاحبه فلا يبقى مانع عن الفسخ.
واما في اللزوم الحكمي فلا تأتي الإقالة، لان اللزوم حكم شرعي ليس مربوطا
بالطرفين كي يقبل كل واحد منهما صاحبه، ولذلك لا تأتي الإقالة في باب النكاح.
وبعد ان ثبت ان الصلح من العقود اللازمة العهدية التي لزومه حقي لا حكمي،
21

فلا مانع من ثبوت الإقالة فيه وتأثيرها في جواز فسخ كل واحد من المصطلحين له.
وحيث ثبت ان الإقالة على مقتضى القواعد الأولية فثبوتها في كل معاملة بالخصوص
لا يحتاج إلى دليل خاص في تلك المعاملة بالخصوص، فكذلك في باب الصلح لا
يحتاج إلى وجود دليل على صحة الإقالة، بل هي مقتضى القواعد الأولية.
الأمر السادس: قال في الشرايع: إذا اصطلح الشريكان على أن يكون الربح
والخسران على أحدهما وللآخر رأس ماله صح. (1)
والدليل على صحة هذا الصلح أولا شمول الاطلاقات له فان قوله صلى الله عليه وآله الصلح
جائز بين المسلمين أو الناس الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا يشمل مثل
هذا لان هذا صلح ولم يحرم حلالا ولم يحلل حراما فيكون من مصاديق الصلح
الصحيح
وثانيا هو الاجماع
وثالثا روايات منها ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام في
رجلين اشتركا في مال فربحا فيه وكان من المال دين وعليهما دين فقال أحدهما
لصاحبه اعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى فقال لا بأس إذا اشترطا
فإذا كان شرط يخالف كتاب الله فهو رد إلى كتاب الله عز وجل، (2)
وقد روي هذه الرواية بعدة طرق اخر كما هو مذكور في الوسائل ودلالتها على
ما نقلناه عن الشرايع واضح لا يحتاج إلى البيان.
ثم إنه هل مفاد هذه الرواية وغيرها من الروايات الواردة في خصوص المقام هو
صحة هذا الصلح بالنسبة إلى الربح والخسران المتقدم كي يكون به انتهاء الشركة

1. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 99.
2. " الكافي " ج 5، 258، باب الصلح، ح 1، " الفقيه " ج 3، ص 229، باب المضاربة، ح 3848، " تهذيب الأحكام
" ج 6، ص 207، ح 476، باب الصلح بين الناس، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 165، أبواب
كتاب الصلح: باب 4، ح 1.
22

ويكون هذا الصلح في التقسيم، أولا بل صحته مطلقا سواء كان في أول الشركة
أو في وسطها أو في آخرها؟
اختار المحقق الثاني قده الأول حيث يقول: هذا إذا انتهت الشركة وأريد بها فسخها
وكان بعض المال دينا لصحيحة أبي الصباح (1) ثم ذكر الرواية التي نقلناه عن الحلي
وكذلك الشهيد الثاني في المسالك حمل الرواية على ما اختاره المحقق الثاني. (2)
والانصاف ان صدر الرواية ظاهر في ما ذكراه لان قوله عليه السلام لا بأس ظاهر
في نفي البأس عما سأل عنه الراوي وعن فرضه وفرضه في حصول ربح لهما بعد
حصول الاشتراك فكأنه قال بعد أن اشتركا في مال واتجرا به فحصل ربح من كسبهما
فيه، ان لي رأس مالي والباقي لك فصالح بهذه العبارة انه صالح بجميع حقه في هذا المال
المشترك بمقدار رأس ماله وما سوى مقدار رأس ماله للاخر سواء كان زائد على
رأس مال الاخر فيكون الربح له أو كان أقل منه فيكون التوى اي الخسارة
عليه.
فيظهر من هذا الكلام أنه إذا اصطلحا على أن يكون مقدار رأس مال أحدهما
له والباقي أي مقدار كان للاخر سواء كان زائدا على رأس مال الاخر أو كان أقل
أن بهذا الصلح ينتهي الشركة وهذا شبه تقسيم بالمصالحة ورضا الطرفين ولكن
حيث قيد عليه السلام نفي البأس بقوله إذا اشترطا فربما يخرج الصدر عن ظهوره في انتهاء
الشركة لان المراد بالاشتراط اما الاشتراط في عقد الشركة أي لا بأس بهذا الصلح
إذا كانا اشترطا في عقد الشركة أن يكون رأس مال أحدهما له والباقي قليلا كان أم
كثيرا للاخر.
فهذا الشرط في عقد الشركة إن كان مرجعه إلى أن لا يكون ربح المال له ولا

1. " جامع المقاصد " ج 5 * ص 413.
2. " المسالك الافهام " ج 4، 265.
23

خسارته عليه بل يكون ربحه لشريكه وخسارته أيضا على شريكه يكون باطلا
لأنه خلاف مقتضى أصل العقد لا انه خلاف مقتضى اطلاق العقد كي يكون
صحيحا فلا يمكن أن يكون تقييده عليه السلام عدم البأس بالاشتراط بهذا المعنى اي
بالاشتراط بالشرط الباطل.
وحيث قيده به فلابد وأن يكون بمعنى آخر يلائم مع هذا التقييد وهو أن يكون
انشاء هذا المعنى أي كون رأس ماله له والباقي لطرفه بعقد لازم كنفس الصلح أو
يكون في ضمن عقد لازم آخر كي يكون لازما وواجب الوفاء لا وعدا ابتدائيا أو
صرف قول ومذاكرة من دون عقد وعهد كي لا يكون واجب الوفاء بل لا يصير
ملكا للطرف لعدم خروج الربح عن ملكية صاحب المال الرابح بصرف هذا القول.
وكذلك الامر في الخسارة تتبع المال وبصرف القول والمذاكرة لا يصير خسارة
مال شخص على شخص آخر خصوصا مع فرض سكوت الطرف الآخر وعدم
اظهار رضاه كما هو ظاهر الرواية.
فلابد وان نفرض المقام ان صاحب أحد المالين اللذين حصل الاشتراك بينهما إما
بعقد الشركة أو بمزجهما أو بخلطهما فيما يحصل للاشتراك بالخلط صالح ماله للطرف الآخر
بمقداره بدون زيادة ولا نقيصة في ذمته ونتيجة مثل هذا الصلح هي صيرورة
تمام المال ملكا للطرف الآخر فقهرا يكون الربح له والخسارة عليه غاية الأمر تكون
ذمته مشغولة للمصالح المذكور فلو خسر تمام المال المشترك ولم يبق له شئ يكون
عليه تفريغ ذمته باعطاء جميع رأس المال الذي تعلق بذمته.
وأما الاشكال بان الشرط والاشتراط لا يطلق على مثل هذا الصلح
ففيه ما ذكرنا تفصيله في قاعدة أصالة اللزوم أن الشرط والاشتراط يطلق على كل
عقد لازم من العقود العهدية.
إذا ظهر لك ما ذكرنا، تعرف أن هذا المعنى أي الصلح بالصورة المذكورة يمكن
24

أن يقع في ابتداء حصول الشركة وفي وسطه وفي انتهائه ولا يجب أن يكون عند
القسمة ويكون عند انتهاء الشركة.
ولكن أنت خبير بأن لازم هذا الوجه في معنى الاشتراط أيضا انتهاء الشركة
غاية الأمر يحصل الانتهاء بنفس الصلح المذكور ويبطل الشركة إذ لا يعقل بقاء
الشركة مع تعلق مال أحد الشريكين بذمة الاخر وصيرورة تمام المال له نعم احداث
هذا الصلح يمكن أن يكون في ابتداء حصول الشكرة ويمكن أن يكون في وسطها
ويمكن أن يكون بعد انتهائها وفسخها، وعلى كل حال به ينتهي الشركة اللهم إلا أن
المراد من الاشتراط نفس الصلح كما ذكرنا بناء على صحة اطلاقه على العقود
العهدية الضمنية والصلح في هذا المورد يكون على استحقاق أحدهما من المال
المشترك مقدار رأس ماله والباقي أي مقدار كان للاخر ربح أو خسر.
وهذا المعنى ليس فيه اشكال لان الصلح عبارة عن التسالم على امر كما تقدم
ولا مانع من تسالمهما على مثل هذا الامر لان الناس مسلطون على أموالهم وليس
هذا التسالم موجبا لتحريم حلال أو تحليل حرام كي يكون موجبا لبطلانه كما هو
مفاد النص وليس من باب معاوضة حقه بما يساوي مقدار رأس ماله في ذمة الاخر
كي يكون تمام مال المشترك للاخر فيكون بهذه المصالحة انتهاء الشركة.
وهذا المعنى بعد أن فرغنا عن صحته وشمول اطلاقات الصلح له لا ينافي بقاء
الشركة بعد هذا الصلح لأن المفروض أن مفاده كون حق المصالح في هذا المال المشترك
مقدار رأس ماله وان بقي الاشتراك بعد ذلك سنين فيجوز هذا الصلح في ابتداء
الشركة وفي أوساطها وعند انتهائها وليس مختصا بحال القسمة ولا يحصل به الفسخ
بل يمكن بقاء المال على الاشتراك لشمول الاطلاقات لمثل هذا الصلح بل لا يبعد أن
يكون ظاهر الروايات الخاصة أيضا هذا المعنى بناء على أن يكون المراد من
قوله عليه السلام إذا اشترطا فلا بأس " هو نفس عقد الصلح لصحة اطلاق الشرط والعهد
على العقود اللازمة العهدية.
25

فظهر مما ذكرنا أن تقييد كلمة " صح " التي في المتون بقيد " هذا إذ انتهت: أي
الشركة " كما في جامع المقاصد (1) و " عند انتهائها " كما في المسالك (2) ليس كما ينبغي.
وكذلك ما أفاده الشهيد قدس سره في الدروس (3) بقوله: ولو جعلا ذلك - أي الصلح المذكور -
في ابتداء الشركة فالأقرب المنع لمنافاته مع موضوعها، أي الشركة وقبل هذه العبارة
يحكم بصحة هذا الصلح إذا كان عند إرادة الفسخ.
وأنت عرفت ما في كلامه هذا وما في كلام غيره مما يشابه هذا الكلام.
وخلاصة الكلام أنه إن كان المراد من قوله عليه السلام: " إذا اشترطا " أي في ضمن عقد
الشركة، فلا بد وان نقول على فرض صحة السند وحجية تلك الروايات الخاصة أن
هذا حكم تعبدي إذ لا يمكن تصحيحه بالقواعد المقررة بل مقتضى القواعد بطلان
هذا الشرط، لأنه مناف لمقتضى ذات العقد لا لاطلاقه وأما إذا كان المراد منه
هو الصلح كما هو ظاهر عبارة المتون فلا اشكال في صحة مثل هذا الصلح سواء كان
في ابتداء الشركة أو في أوساطها أو في انتهائها.
[الامر] السابع: لو ظهر وبان ان أحد العوضين مما وقع الصلح عليهما إما للغير
أي ليس للطرف في عقد المصالحة وإما مما لا يملك كالخمر والخنزير.
والنتيجة في كلا الشقين انه لا يملكه الذي هو طرف المصالحة اما لأنه ملك
الغير أو لعدم ماليته عرفا كالأشياء الخسيسة التي لا يعتبرها العقلاء كالخنفساء مثلا
أو لاسقاط الشارع ماليته العرفية كالخمر والخنزير وآلات الملاهي وأدوات القمار
كأدوات النرد والشطرنج فيبطل الصلح قطعا.
وذلك من جهة أن حقيقة المعاوضة في أي عقد معاوضي كانت عبارة عن تبديل

(1) " جامع المقاصد " ج 5، ص 413.
(2) " مسالك الأفهام " ج 4، ص 265.
(3) " الدروس " ج 3، ص 333.
26

المالين في علم الاعتبار فقوام المعاوضة بهذا الامر فلابد وأن يكون كل واحد منهما
مالا كي يكون قابلا للعوضية في عالم الاعتبار وأن يكون كل واحد من طرفي عقد
المعاوضة موجبا أو قابلا له السلطنة على مال المعاوضة فهذان ركنان في كل معاوضة
وبفقد أي واحد منهما لا يتحقق المعاوضة.
فإن كان مما لا يملك أي أسقط الشارع ماليته العرفية كالخمر والخنزير وأمثالهما
أو لم يكن مالا حتى عرفا لخسته كالخنفساء فينتفي الركن الأول وإن كان مستحقا
للغير سواء كان ملك الغير أو كان متعلقا لحق الغير فلا يكون طرف المعاوضة
مسلطا عليه فينتفي الركن الثاني وعلى كلا التقديرين لا يبقى مجال للمعاوضة فيبطل
الصلح لو بان ان أحد العوضين مستحق للغير أو ليس له مالية.
وهذا الحكم جار في جميع المعاوضات ولا شبهة ولا خلاف فيما إذا كان جميع
أحد العوضين كذلك أما لو كان بعض أحد العوضين المعينين في الخارج أي كان
بعض العين الخارجة التي وقعت عوضا في الصلح للغير أو كان مما لا يملك كالعبد
الذي نصفه حر أو للغير، فهل الصلح باطل في المجموع أو صحيح في المجموع أو
يبعض وصحيح في النصف الذي له وباطل في النصف الآخر الذي ليس له أو يكون
متعلق حق الغير؟ وجوه.
قد تقدم في الأمر الثاني ان الأرجح هو بطلان الصلح في المجموع حتى في النصف
الذي يملكه الطرف وذكرنا برهانه هناك فلا نعيد.
وربما يتوهم الفرق بين العقود المعاوضية وبين الصلح بان العقود المعاوضية
كالبيع - مثلا - حيث إن المنشأ فيها هو المبادلة بين المالين فمع عدم مالية أحد
العوضين أو عدم كونه له لا يتحقق حقيقة المبادلة التي لابد منها في تلك العقود.
وأما الصلح الذي عبارة عن التسالم والموافقة على امر لم يؤخذ فيه كونه بعوض،
بل يمكن ان يقع بلا عوض ومجانا فإذا كان الامر كذلك فكما يمكن ان يقع من أول
27

الامر مجانا وبلا عوض فلا يضر بصحته صيرورته كذلك - أي مجانا - بعد ظهور أن
العوض المذكور ليس بمال أو ليس له وإن كان مالا.
لكنه توهم عجيب: لان الصلح وان لم يؤخذ في حقيقته كونه ذا عوض ويمكن أن
يقع مجانا وبلا عوض ولكن إذا أنشأ التسالم والموافقة على امر بعوض يصل إلى
المصالح، فإذا لم يصل إليه شئ اما لأجل أنه ليس بمال أو ليس له فقد تخلف ما وقع
عما هو مقصود الطرفين، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد والعقود تابعة للقصود.
فكما ان التمليك لم يؤخذ في حقيقته أن يكون بعوض ولذلك قد يكون بلا عوض
كالهبة الغير المعوضة ولكن إذا أنشئ بعوض كالبيع مثلا ولم يكن العوض للطرف، بعد
العقد بان أنه ليس له أو ظهر أنه ليس بمال عرفا أو شرعا وإن كان ملا عند العرف
لكن الشارع أسقط ماليته فذلك العقد باطل.
فكذلك فيما نحن فيه - أي الصلح - وإن لم يؤخذ في حقيقته العوض لكن إذا أنشأ
بعوض، يكون العوض من أركان ذلك العقد ومع فقده يبطل ذلك العقد.
وأما النقض بالنكاح بأن المهر المعين في عقده إذا بان انه ملك للغير أو متعلق
حق الغير كأن يكون مرهونا مثلا فجعله مهرا بدون إذن المرتهن أو كان غير مال
شرعا كالخمر والخنزير فلا يبطل العقد بل يرجع إلى بدله أو إلى مهر المثل أو غير
ذلك مما قيل في تلك المسألة فلا ينبغي أن يتوهم لأن المرأة ليست عوضا عن المهر
ولا المهر عوض منها. وقوله عليه السلام: " إنما يشتريها بأغلى الثمن " (1) من باب التشبيه بالبيع،
وإلا فذات المرأة حرة لا أمة ليتقدر بمال والبضع من منافعها وليست عينا كي يصح
بيعه.
وبعبارة أخرى: النكاح ليس من العقود المعاوضية بل لزوم المهر فيه حكم

(1) " الكافي " ج 5، ص 365، باب النظر لمن أراد التزويج، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 14، ص 59، أبواب
مقدمات النكاح وآدابه، باب 36، ح 1.
28

شرعي، ولذلك لو عقد على امرأة ولم يذكر المهر أصلا لا يبطل العقد ولكن يرجع إلى
مهر المثل، تعبدا لان البضع لا تستباح مجانا.
ففي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إذا تزوج الرجل المرأة فلا يحل له
فرجها حتى يسوق إليها شيئا درهما فما فوقه " (1). وفيما رواه زرارة قال: " لا تحل الهبة
إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأما غيره فلا يصلح له نكاح إلا بمهر ". (2)
والروايات على لزوم المهر في النكاح كثيرة وما ذكرنا كله كان فيما إذا كان
العوض عينا شخصيا، فإذا بان انه مستحق للغير أو ليس قابلا لان يملك شرعا أو
عرفا فالصلح باطل.
وأما لو كان في الذمة فدفع ما كان كذلك فلا وجه للبطلان بل يجب عليه ان
يدفع غيره من مصاديق ما في الذمة مما يكون مالا عرفا ولا يكون متعلقا لحق الغير
ولا يكون للغير ولم يسقط الشارع ماليته أيضا.
وأما إذا ظهر في عوض الصلح عيب ونقص فلا يوجب البطلان ولا الخيار.
أما عدم البطلان لأنه ليس بلا عوض وتلك العين الشخصية التي جعلت عوضا
للعقد موجودة ولذلك لا يوجب البطلان حتى في البيع الذي هو الأصل في باب
المعاوضات وحقيقيته تبديل العين المتمول بعوض.
وأما عدم ايجابه الخيار فلان عمدة دليل الخيار، إذا ظهر عيب ونقص في المبيع
الشخصي أو الثمن الشخصي، هو الشرط الضمني أي بناء البايع على بيع هذه العين
الموجودة بما يساويها في القيمة أي هذا الثمن الموجود في الخارج وكذلك الامر في

(1) " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 357، ح 1452، باب المهور والأجور...، ح 15، " الاستبصار " ج 3، ص 220،
ح 779، باب انه يجوز الدخول بالمرأة...، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 15، ص 12، أبواب المهور، باب 7،
ح 1.
(2) " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 364، ح 1487، باب المهور والأجور....، ح 41، " وسائل الشيعة " ج 15، ص
28، أبواب المهور، باب 19، ح 1.
29

طرف المشتري، أي يشتري هذه العين التي تساوي هذا الثمن بحسب القيمة بهذا الثمن.
وهذا الشرط من الطرفين البايع والمشتري ارتكازي لا يحتاج إلى الذكر أو
البناء خارجا، ولذلك لو أتى شخص غير المتبايعين وقال هذا المبيع لا يساوي هذا
الثمن يتأذى البايع وربما يترك المشتري هذه المعاملة لو سمع هذه المقالة وكذلك الامر
في طرف الثمن.
فمن هذا يعلم أن كليهما أي البايع والمشتري بنائهما على تساوي العوضين،
وانهما بلا عيب ونقص وبفقد الشرط الضمني الأول أي التساوي في القيمة يثبت
خيار الغبن وبفقد الثاني أي السلامة عن العين والنقص يأتي ويثبت خيار العيب.
هذا في البيع أو سائر المعاوضات التي بناء للمتعاقدين فيها على تساوي العوضين.
وأما في الصلح فليس الامر كذلك بل بناء المتعاقدين فيها على التسامح، لأنه
شرع في الأصل لقطع المنازعات وقطع المنازعات لا يمكن غالبا إلا بالتسامح وإلا لو
كان بنائهما على المداقة فلا يحصل الصلح غالبا.
وهذا في خيار الغبن واضح، وأما خيار العيب إذا وقعت المصالحة على عين
خارجي، فالانصاف أن بنائهما على صحتها وسلامتها فلا يبعد اتيان خيار العيب في
الصلح إذا ظهر مال المصالحة معيبا ولكن بالنسبة إلى حق الفسخ لا اخذ الأرش
وإنما هو حكم تعبدي في خصوص البيع للاجماع والروايات.
ولكن الروايات لا تدل على التخيير بين الرد واخذ الأرش ابتداء بل دلالتها
على أخذ الأرش بعد عدم امكان الرد لوجود تغيير في المعيب بعد تسلمه من صاحب
المبيع المعيب مثلا وعلى كل حال التخيير بين الرد والأرش مختص بالبيع للاجماع
والرواية وإلا فصرف تخلف الشرط الضمني لا يوجب إلا الخيار فالخيار يثبت في
الصلح إذا كان العوض معيبا واما الأرش فلا.
[الامر] الثامن: يصح الصلح على عين بعين أو منفعة وعلى منفعة بعين أو منفعة.
30

والدليل على صحة المذكورات هي العمومات واطلاقات أدلة الصلح فقد تقدم
ان الصلح عبارة عن التسالم والموافقة على امر بشئ سواء كان ذلك الامر عينا أو
دينا أو منفعة أو حقا على نقل هذا الأخير أو اسقاطه وحيث إن كل حق قابل
للاسقاط حتى عرف بذلك مقابل الحكم فإنه غير قابل للاسقاط فكل حق قابل لأن يقع الصلح عليه، سواء كان على نقله أو على اسقاطه.
وعمومات الصلح وإطلاقاته كقوله: (والصلح خير)، وقوله صلى الله عليه وآله: " الصلح جايز
بين الناس الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا يشمل جميع ما يقع التسالم والتوافق
عليه ولو كان اسقاط حق أو نقله فيما كان قابلا للنقل إذ بعض الحقوق غير قابل
للنقل كحق البضع والمضاجعة وأمثالهما من الحقوق القائمة بشخص خاص.
هذا إذا علم أنه قابل للنقل وأما إذا شك في أنه قابل للنقل فهل يصح الصلح
على نقله أو يحتاج إلى الاحراز؟
الظاهر عدم الصحة ولزوم الاحراز وذلك من جهة أنه لا بد من احراز
مشروعية متعلقة وذلك للاستثناء الذي في قوله صلى الله عليه وآله: " إلا صلحا أحل حراما " فبعد
هذا الاستثناء يقيد موضوع ما هو جايز ونافذ بالصلح على امر مشروع، فإذا شككنا
ان الحق الفلاني مشروع نقله أم لا فلا يجوز التمسك لجوازه ونفوذه بإطلاقات أدلة
الصلح.
فلو شككنا في أن حق السبق في الوقف في الأوقاف العامة - كما إذا سبق شخص
إلى مكان في أحد المساجد أو في الحرم الشريف أو إلى مكان في خانات الوقف بين
الطرق على المسافرين أو غير ذلك هل قابل للنقل أم قائم بشخص السابق
فالصلح على نقل مثل ذلك الحق مشكل ولا يشمله عمومات واطلاقات أدلة الصلح
لمكان ذلك الاستثناء نعم لا مانع من وقوع الصلح على اسقاط كل حق بناء على أن
كل حق قابل للاسقاط، فالاسقاط خاصة شاملة للحق.
31

الجهة الثالثة
في بيان بعض فروع هذه القاعدة
أي قاعدة " الصلح جائز بين المسلمين إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا ":
فمنها: أنه لو كان هناك درهمان ورجلان فادعى أحدهما الاثنين والاخر
أحدهما، قال في الشرائع: لمدعي الاثنين درهم ونصف والباقي - أي نصف الدرهم
للاخر. (1)
ولابد فرض المسألة فيما إذا كان الدرهمان في يدهما جميعا أو كانا مطروحين في
مكان مباح ليس له مالك ولم يكن لاحد يد عليه وإلا لو كانا في يد مدعي الاثنين
يحكم له بهما مع حلفه أو نكول الطرف المدعي لواحد كما أنه لو كان في يد مدعي
الواحد يعطى واحد لمدعي الاثنين لأنه مدع بلا معارض والدرهم الآخر يعطى لذي
اليد مع يمينه أو نكول مدعي الاثنين.
ولا بد أن يحمل صحيح عبد الله بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي
عبد الله عليه السلام في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما الدرهمان لي وقال الآخر:
بيني وبينك فقال أبو عبد الله عليه السلام: " أما الذي قال هما بيني وبينك فقد أقر بان
أحد الدرهمين ليس له فيه شئ وأنه لصاحبه ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين " (2)
على ما قلنا من أن الدرهمين إما لا يد لاحد عليهما وإما في يد الاثنين جميعا كما أن
ظاهر الرواية هو الأخير لفرض الراوي ان الدرهمين كان معهما أي في يد كليهما.
ففي هذه الصورة ما أجاب به الإمام عليه السلام هو مقتضى القواعد الأولية أيضا،

1. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 99.
2. " الفقيه " ج 3، ص 35، باب الصلح، ح 3274، " تهذيب الأحكام " ج 6، ص 208، ح 481، باب الصلح بين
الناس، ح 12، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 169، أبواب كتاب الصلح، باب 9، ح 1.
32

وحكمه عليه السلام بتقسيم الدرهم الثاني بينهما الظاهر في التقسيم بالسوية هو مقتضى قاعدة
العدل والانصاف التي استعملها الفقهاء في موارد كثيرة فيكون ما ذكره في الشرايع
مطابقا لما هو مضمون الرواية وكون الدرهم ونصفه لمدعي الاثنين أيضا مقتضى
قاعدة الاقرار من مدعي الواحد فإنه نفى عن نفسه قاعدة سماع قول المدعي بلا
معارض بدون تكليفه بالبينة.
وما ذكره جمع من الأساطين كالعلامة في التذكرة، (1) والشهيد في الدروس (2) من
حلف كل واحد منهما فيحلف مدعي الاثنين لمدعي الواحد بان نصف الدرهم مما
صار بيدي ليس لك ولو نكل يؤخذ منه ويعطى لمدعي الواحد ويحلف مدعي
الواحد على الإشاعة لمدعي الاثنين ان هذا النصف الذي صار بيدي ليس لك ولو
نكل يعطى لمدعي الاثنين.
والسر في ذلك: أن كل واحد منهما مدع ومنكر فمدعي الواحد مدع للنصف من
الدرهم الذي صار في يد مدعي الاثنين وهو منكر ومدعي الاثنين مدع للنصف
الذي يعطى لمدعي الواحد على الإشاعة وهو منكر فيجب اجراء القاعدة المعروفة
" البينة على المدعي واليمين على من أنكر " فهاهنا مدعيان ومنكران وحيث إن
المفروض عدم وجود بينة في المقام فيجب ان يحلف كل واحد منهما للاخر فلو لم
يحلف أحدهما لا يعطى ذلك النصف المتنازع فيه كما أنه لو رد كل واحد من المنكرين
الحلف إلى الطرف الذي هو مدع وهو نكل فلا يستحق ذلك النصف ولو حلفا جميعا
أو نكلا جميعا أيضا، يقسم بينهما بالسوية لقاعدة العدل والانصاف المذكورة.
وخلاصة الكلام: أن من بيده النصف مدع للنصف الآخر ومن بيده الدرهم
والنصف منكر، ومن بيده الدرهم والنصف مدع للنصف الآخر الذي بيد طرفه، وهو
منكر فيكون الامر كما ذكرنا.

1. " تذكرة الفقهاء " ج 2، ص 191.
2. " الدروس " ج 2، ص 333.
33

هذا ما ذكره هؤلاء الأساطين مع اختلاف بين ما ذكروه وهو تخصيص الحلف
بالثاني أي مدعي الواحد إذا ادعى مشاعا.
ولكن التحقيق أنه لا فرق في صيرورة كل واحد منهما مدعيا ومنكرا في
المفروض أي فيما إذا كان لكليهما اليد على الدرهمين بين أن يكون دعوى المدعي
للواحد على الإشاعة أو على التعيين.
وتوضيح ذلك موقوف على بيان مقدمة وهي أنه لا شك في أن ذا اليد منكر لو
ادعى المال من ليس له يد على المال وليس له حجة أخرى على أن المال له. وذلك
الاخر الذي ليس له يد على المال يكون مدعيا ان لم يكن له حجة أخرى على أن
المال المتنازع فيه له. فبناء على هذا يكون ذو اليد منكرا ومقابله يكون مدعيا.
ثم إن ذا اليد لو كان شخصا واحدا فالذي يدعيه يكون مدعيا ويكون ذو اليد
منكرا وأما لو كان ذو اليد متعددا كما إذا ادعى أحد غير هؤلاء الذين لهم اليد على
المال أيضا يكون مدعيا وذوو الأيدي يكونون منكرين ان لم يصدقوه.
وأما إن كان مدعي لجميع ما في يدهم أحدهم فيكون مدعيا بالنسبة إلى
البعض ومنكرا بالنسبة إلى بعض آخر.
بيان ذلك: أن ذا اليد على مال واحد إن كان متعددا فلا يمكن أن تكون يد كل
واحد منهم يدا تامة مستقلة وذلك لان اليد التامة المستقلة كما أن لها التصرفات
المشروعة في المال كذلك له المنع عن تصرف الغير وفي الأيدي المتعددة ليس لها المنع
عن تصرفات سائر الأيادي ولذلك لا يحسبها العرف يدا مستقلة بل يعتبرون اليد
الناقصة المستقلة على المجموع يدا مستقلة على البعض بنسبة عدد الأيادي.
مثلا لو كان شريكان لكل واحد منهما يد على مال فحيث أن يد كل واحد منهما
غير تامة فالعرف يعتبرونها تامة بالنسبة إلى البعض بنسبة عدد الأيدي وحيث أن
ذا اليد اثنين فيد كل واحد منهما الناقصة على جميع المال يعتبر يدا تامة على نصف
34

المال وإن كان ذوو الأيدي والشركاء ثلاثة يعتبر يد كل واحد منهم الناقصة يدا تامة
على ثلث المال، وهكذا.
إذا تبين ما ذكرنا، فنقول:
إذا ادعى أحدهما أن أحد هذين الدرهمين بالخصوص لي وعينه ولم يكن دعواه
بنحو الإشاعة فهذا المدعي بالنسبة إلى نصف هذا الواحد المعين مدع وبالنسبة إلى
نصفه الاخر منكر.
بيان ذلك: أن مفروض المسألة ان كليهما لهما اليد على هذا الدرهم الذي يدعيه
أحدهما وحيث أن يد كل واحد منهما على مجموع هذا الدرهم غير تامة وناقصة،
وفي اعتبار العرفي وبنظرهم يد كل واحد منهما على المجموع حيث إنها ناقصة تكون
بمنزلة اليد التامة على نصف ذلك الدرهم فتكون أمارة على ملكية نصف ذلك
الدرهم.
وذلك لان اليد التي هي امارة الملك هي اليد التامة المستقلة غير الناقصة فإذا
كان الامر كذلك فالمدعي لهذا الدرهم المعين يكون بالنسبة إلى النصف الذي تحت يد
مدعي الاثنين مدع ومدع الاثنين بالنسبة إلى هذا النصف الذي تحت يده منكر، كما
أن مدعي الاثنين بالنسبة إلى النصف الذي تحت يد مدعي الواحد المعين مدع، وهو
أي مدعي الواحد منكر.
فكل واحد منهما مدع ومنكر ويجري في حقهما قاعدة " البينة على المدعي واليمين
على من أنكر " وحيث أن المفروض عدم البينة في المقام فيجب حلف كل واحد منهما
لرد دعوى الاخر فان حلفا جميعا أو نكلا جميعا سقط كلا الدعويين ويقسم ذلك
الواحد المعين بينهما بالسوية لقاعدة العدل والانصاف.
وأما إن حلف أحدهما دون الاخر فيكون الدرهم المتنازع فيه للذي حلف.
وكذلك الامر في مدعي الشركة مثل المدعي للواحد المعين في وجوب الحلف على كل
35

واحد منهما.
اللهم إلا أن يقال إن يد المدعي للشركة تامة بالنسبة إلى ما يدعيه أي الشركة
ومالك النصف أي الدرهم الواحد مشاعا فالذي يدعي الجميع يكون مدعيا لان يده
على الجميع ليست تامة كما ذكرنا ومدعي الشركة منكر لما ذكرنا من أن يده تامة
بالنسبة إلى ادعائه الشركة فهو منكر ووظيفة المنكر هو الحلف فيختص الحلف
بالثاني أي المدعي الواحد إذا كان يدعيه إشاعة أي الشركة بالمناصفة.
وهذا الحكم جار في كل من يدعي الشركة في مال مقابل المدعى لمجموع ذلك
المال مع كون ذلك المال بيدهما جميعا، كما ذهب إليه الشهيد في الدروس. (1) وقال في
جامع المقاصد إنه متجه. (2)
والانصاف أن العرف مساعد لكون يد كل واحد من الشخصين اللذين لهما اليد
على مال امارة الشركة فيكون من يدعي جميع الدرهمين بالنسبة إلى أحد الدرهمين
من قبيل المدعي بلا معارض لان الاخر لا يدعيه بل هو مقر بأنه له وأما بالنسبة إلى
الدرهم الاخر فيكون مدعيا بلا حجة في مقابل دعوى الشركة من الاخر لان يده
امارة على الشركة لا على أن جميع المال له.
فقوله: إن جميع المال له مخالف للحجة الفعلية وهو يد من يدعي الشركة وقد
حققنا في كتاب القضاء ان المدعى هو من يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية والمنكر
مقابله وهو من يكون قوله موافقا للحجة الفعلية، وفي المقام حيث يكون قول من
يدعي الشركة موافقا للحجة الفعلية ومن يدعي الجميع مخالفا لها فيكون الأول -
أي من يدعي الشركة منكرا ومن يدعي الجميع مدعيا فيكون المدعي للشركة
وظيفته الحلف، والاخر أي مدعي الجميع وظيفته البينة وهذا الحكم جار في جميع

1. " الدروس " ج 3، ص 333.
2. " جامع المقاصد "، 5، ص 436.
36

موارد مدعي الشركة مع مدعي الجميع ولعل هذا ما اراده الشهيد قده في الدروس.
وعلى كل حال، الحكم في هذه المسألة ما أفتى به المشهور من كون أحد
الدرهمين للذي يدعيهما جميعا وتنصيف الاخر بينهما فيكون درهم ونصف لمن
يدعيهما ونصف درهم للذي ادعى الواحد سواء كان دعوى الأخير على نحو
الاشتراك أو كان يدعي واحدا معينا وذلك للنص المتقدم وهو صحيح عبد الله بن
المغيرة المذكور آنفا. (1) والتمسك بهذه القواعد للاحتياج إلى الحلف والعمل بميزان القضاء يكون من
قبيل الاجتهاد في مقابل النص وهذا مما يطعن به على المتمسك مع أن هذا الحكم
ليس مخالفا للقواعد المقررة في كتاب القضاء.
بيان ذلك: أنه حيث أن مفروض المسألة فيما يكون لكل واحد من المدعيين يد
على المتنازع فيه أو مطروح في مكان ليس لأحدهما يد عليه ولا فرق بين
الصورتين فيما هو المهم في المقام وهو أنه ليس ها هنا مدع ومنكر في البين بل ها هنا
مدعيان ليس لهما حجة على ما يدعيان اما من أول الأمر كما إذا كان مطروحا وليس
لأحدهما يد عليه أو من جهة سقوط كلا المدركين بالتعارض وذلك فيما كان لكل
واحد منهما يد على المال المتنازع فيه فتتعارض اليدان وتتساقطان وعلى كل واحد
من التقديرين دعويان بلا مستند لكل واحد منهما وليس المورد مورد المدعي والمنكر
والمال بينهما فلابد من تنصيف محل النزاع ولو لم يكن تلك الصحيحة لقاعدة العدل
والانصاف التي يجريها الفقهاء في كل مورد يكون المال بينهما وليس لأحدهما مدرك
وليس مدع ومنكر في البين.
فلا يمكن قطع نزاعهما بموازين القضاء ولا بد من قطع الخصومة فيقطع بتطبيق
هذه القاعدة بالتنصيف أو بالتثليث أو بالتربيع وهكذا بنسبة عدد المدعين فلو كان

1. سبق ذكره في ص 32، رقم (2).
37

عشرين كل واحد منهم يدعي تمام المال الذي ليس لأحدهم يد عليه ولا لغيرهم
عليه يد وليس لاحد منهم مدرك آخر أن هذا المال له فلابد وأن يقسم بينهم بقاعدة
العدل والانصاف عشرين لكل واحد منهم واحد من ذلك العشرين.
ومما ذكرنا يظهر لك أن ما أفتى به المشهور من أنه " لو وادعه انسان درهمين
وآخر درهما وامتزج الجميع ثم تلف درهم يعطي لذي الدرهمين درهم من الدرهمين
الباقيين وينصف الدرهم الباقي فتواهم على طبق القاعدة وهي قاعدة العدل
والانصاف لان الاثنين لا يدلهما على الدرهم اما يد الودعي فليست امارة الملكية
وأما المدعيان فلا يد لأحدهما على المتنازع فيه واليد السابقة على الايداع متعلقها
غير معلوم وليس المقام مقام المدعي والمنكر فلا يمكن العمل بموازين القضاء ولا
يمكن قطع الخصومة إلا بتطبيق قاعدة العدل والانصاف بتنصيف المنازع فيه لأنهما
اثنان ولو كان عدد المدعين أكثر كان التقسيم بعددهم كما عرفت.
وهذا ربما يسمى بالصلح القهري ووجه التسمية واضح ولعل هذه التسمية
صارت سببا لذكر هذه الفروع في كتاب الصلح فهذا الحكم على طبق القواعد
ويؤيده ما رواه السكوني عن الصادق عليه السلام في رجل استودعه رجل دينارين
واستودعه آخر دينارا فضاع دينار منها قال عليه السلام: " يعطى صاحب الدينارين دينارا،
ويقسم الاخر بينهما نصفين ". (1)
أقول: هذا أحد الاحتمالات في هذه المسألة وقد أفتى به المشهور.
وهاهنا احتمالات أخر:
منها: أن يصير المال أي الدراهم مشتركة بينهما بواسطة الاختلاط والاجتماع
في مكان واحد أو بواسطة عدم التمييز الحاصل عن الاختلاط والاجتماع في محل

1. " الفقيه ج 3، ص 37، باب الصلح، ح 3278، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 171، أبواب كتاب الصلح،
باب 12، ح 1.
38

واحد خصوصا إذا كانت من الدراهم المسكوكة بسكة واحدة وبوزن واحد وشكل
واحد.
ومنها أن يكون موردا للقرعة لأجل أن القرعة لكل أمر مجهول أو مشتبه،
وهاهنا اشتبه الدرهم الضايع ولا يعلم أنه لصاحب الدرهم الواحد كي يكون
الدرهمان الباقيان لصاحب الدرهمين أو أنه لصاحب الدرهمين كي يكون الباقي
أحدهما لهذا والآخر لذاك.
ومنها الصلح القهري حيث لا يمكن معرفة صاحب المال الموجود، فلابد للحاكم
أن يجبرهما على الصلح لرفع الخصومة وقطع النزاع، فلابد للفقيه أن ينظر
إلى هذه الوجوه، ويرى أن أيها أوجه وبالقواعد أوفق.
أقول: أما احتمال الاشتراك بواسطة الاختلاط وعدم الامتياز وإن كان اثره هو أن
يكون من كل درهم ثلثه لصاحب الدرهم الواحد وثلثاه لصاحب الدرهمين فإذا
ضاح واحد الثلاثة وبقى اثنان يكون لصاحب الدرهم الواحد ثلث من كل واحد من
من الدرهمين الباقيين، وثلثان من كل واحد منهما لصاحب الاثنين فمجموع
حصة صاحب الدرهم الواحد ثلثا درهم ومجموع حصة صاحب الاثنين أربعة أثلاث أي
درهم وثلث درهم.
فبناء على حصول الاشتراك يصير حصة صاحب الدرهمين أقل مما في الرواية
وأيضا مما أفتى به المشهور وهو درهم ونصف، لان حصته بناء على ما في رواية
السكوني وفي فتوى المشهور أربعة أثلاث ونصف ثلث وبناء على الاشتراك أربعة
أثلاث فقط من دون نصف ثلث، ويصير حصة صاحب الدرهم الواحد أزيد مما في
الرواية ومما أفتى به المشهور لأنه بناء على الاشتراك يكون نصيب صاحب الدرهم
الواحد نصفا ونصف ثلث، وبناء على مفاد الرواية وفتوى المشهور يكون نصف
درهم فقط من دون نصف الثلث.
39

فمرجوح جدا أولا: من جهة أن وجود المناط في حصول الشركة القهرية - التي
لا بد أن يكون هو المراد في المقام في مثل الدراهم والدنانير في غاية الاشكال.
وثانيا الحكم بوقوع الشركة في المفروض مع وجود رواية عمل بها الأصحاب
وصارت معتبرة لو من هذه الجهة على خلافها لا يخلو من نظر وتأمل.
وأما الاحتمال الثاني أي كون المسألة موردا للقرعة من جهة قوله عليه السلام: " القرعة
لكل أمر مشكل. وفي بعض الروايات: لكل أمر مشتبه، وفي بعضها الاخر: " لكل
أمر مجهول " (1)، والمورد مشكل ومشتبه ومجهول.
أما كونه مشكلا من جهة العلم بأن المتنازع فيه إما لصاحب الدرهم الواحد
وإما لصاحب الاثنين ولا طريق إلى معرفة صاحبه كي يرد إليه وأما كونه مجهولا
فصاحبه مجهول، وأما كونه مشتبها فلان مالكه مشتبه يحتمل أن يكون هذا ويحتمل
أن يكون الاخر.
ففيه: أنه أوضحنا في قاعدة القرعة أن الاخذ بعموم كل أمر مشكل أو مشتبه "
مما يقطع بخلافه.
وأما الامر المشكل في الأحكام فهو أيضا مما يعلم بعدم اعتبار القرعة وقلنا إن
المستفاد من أدلة القرعة هو أن يكون المورد معلوما بالاجمال ويكون في الشبهة
الموضوعية لا الحكمية ولا يمكن الاحتياط أو يكون الاحتياط حرجيا أو ضرريا.
فالأول كما إذا طلق إحدى زوجاته فاشتبهت عليه المطلقة والثاني كما لو علم
أنه نذر زيارة الرضا عليه السلام أو زيارة الأئمة المدفونون في البقيع عليهم السلام، والثالث كما لو علم
بأن في قطيع غنمه موطوءا فالاحتياط بالاجتناب عن جميع غنمه ضرري قطعا،

1. " الفقيه " ج 3، ص 92، باب الحكم بالقرعة، ح 3389، " تهذيب الأحكام ج 4، ص 240، ح 593، باب
البينتين يتقابلان أو...، ح 24، " النهاية " ص 346، " وسائل الشيعة " ج 18، ص 189، أبواب كيفية الحكم،
باب 13، ح 11 و 18.
40

وفوق ذلك كله يكون قد عمل بها الأصحاب في ذلك المورد، ومعلوم أنه في هذا
المورد لم يعمل بها الأصحاب لان فتوى المشهور على التنصيف فلم يعملوا بها قطعا
مضافا إلى أن مع وجود الرواية المعمول بها عند الأصحاب لا يبقى إشكال ولا جهل
ولا اشتباه في حكم المورد، فليس ما نحن فيه موردا للقرعة.
وأما الصلح القهري مع وجود تلك الرواية المعمول بها فلا وجه له ولا تصل
النوبة إليه فالمتجه هو الاحتمال الأول، والعمل بالرواية، والاخذ بفتوى المشهور.
ومنها أي من فروع هذه القاعدة لو أتلف على رجل ثوبا قيمته درهم مثلا
فصالحه بأقل من قيمته أو بأزيد فهذا الصلح صحيح وإن قلنا بأن الربا المعاملي
يدخل في الصلح، وليس مختصا بالبيع كما هو الصحيح عندنا، وذكرنا وجهه في قاعدة
لا رباء إلا في المكيل والموزون لان الصلح قد وقع عن الثوب على أقل من قيمته
أي درهم واحد أو على أزيد منه، ولم يقع على نفس القيمة على الأقل أو الأكثر منه، كي
يلزم الرباء. وادعى في الدروس أن صحة هذه المعاملة على الوجه الذي ذكرنا هو المشهور.
وقد يقال إن صحته وفساده دائر بين أن يكون التلف في القيميات في اليد الغير
المأذونة، أو إذا أتلف كما هو المذكور في عنوان المسألة هل يوجب اشتغال الذمة بقيمة
التالف أو بمثله ويكون أدائه بالقيمة، أو التالف بنفسه بوجوده الاعتباري في الذمة
ويكون أداؤه بالقيمة.
فان قلنا بالأول أي حين التلف في اليد الغير المأذونة أو حين الاتلاف تشتغل
الذمة في القيميات بالقيمة فيكون واقعا عن القيمة على الأقل منه أو على الأكثر منها
فيكون من الربا الباطل.
وأما إن قلنا إن الذمة تشتغل بمثل التالف أو بنفسه بوجوده الاعتباري وإنما
يكون أدائه بالقيمة أي الدرهم أو الدينار فالصلح صحيح لان الصلح وقع عن
41

نفس التالف الذي ليس من المكيل والموزون كالثوب كما هو المفروض، وإنما أداؤه
بالدرهم أو الدينار، فلا رباء، أو وقع من مثل التالف الذي اشتغلت ذمته به، وإنما أداؤه
بالقيمة ففي هذا الفرض أيضا لا رباء، ففي هذين الوجهين لا إشكال في صحة الصلح.
هذا في مقام الثبوت، وأما في مقام الاثبات، فالظاهر أن ما يأتي في الذمة بواسطة
التلف في اليد الغير المأذونة أو بواسطة الاتلاف مطلقا في القيميات هي القيمة كما
حققناه في قاعدة اليد، (1) فصحة هذا الصلح إذا كان التالف من القيميات في غاية
الاشكال.
اللهم إلا أن يقال على فرض القول في ضمان القيميات أنه تشتغل الذمة من حين
التلف أو الاتلاف بالقيمة لا بنفسه بوجوده الاعتباري ولا بمثله، ولكن القيمة التي
تشتغل الذمة بها ليست خصوص النقدين المعروفين، أي الدرهم والدينار، بل المراد
منها مالية التالف، سواء قدر بالنقدين المعروفين أي الدرهم والدينار أو قدر
بالأجناس الاخر التي لا يكال ولا يوزن، كما إذا كانت من المعدودات أو مما يباع
بالذراع والأمتار أو كانت مما يباع بالمشاهدة كأنواع الحيوانات كالغنم والإبل
وغيرهما.
فلو صالحه أي صالح الذي أتلف عليه عن متاعه الذي من القيميات على مبلغ
أزيد أو أقل من تلك القيمة الكلية القابلة للانطباق على النقدين وعلى غيرهما
مما لا يكال ولا يوزن، فلا يكون من الربا الباطل، لان ذلك الكلي ليس من الأجناس
الربوية، لأنه قابل للانطباق على الأجناس الغير الربوية.
وخلاصة الكلام أنه بناء على هذا الذي ذكرنا كما أنه لو كان التالف مثليا الصلح
عنه على الأقل أو الأزيد منه لا يكون من الربا الباطل، كذلك لو كان من القيميات،
وإن قلنا باشتغال ذمته بالقيمة من حين التلف، وذلك لان المراد من القيمة ليس

1. راجع " القواعد الفقهية " ج 1، ص 131.
42

خصوص النقدين ومنها أنه لو كانت دار مثلا في يد المعروفين بل المراد مطلق المالية.
شخص وادعاها اثنان بسبب مشترك بينهما
كالإرث مثلا، وقالا ورثنا هذه الدار من أبينا، فكل واحد يدعي نصف تلك الدار و
أنه له بسبب مشترك وهو الإرث من أبيهما فصدق المتشبث أي ذو اليد أحدهما
دون الآخر بمعنى أنه أقر لأحدهما المعين بان نصف هذه الدار لك وصالحه عن ذلك
النصف المقر به له على مال، فتارة يجيز الاخر هذا الصلح بعد وقوعه أو باذن قبله،
فهذا الصلح صحيح في تمام نصف الدار ويكون المال مشتركا بينهما لان كل واحد من
المدعيين مقر بأن النصف الذي وقع الصلح عنه على ذلك المال مشاع بينهما، فبعد
الاذن أو إجازة الشريك الاخر وصحة الصلح يكون العوض لهما على الإشاعة.
وأخرى لا يمضي الآخر ولا يقبله، فيكون الصلح في نصف ذلك النصف - اي
الربع صحيحا وفي الربع الذي للاخر فضوليا وباطلا لرده وعدم امضائه.
هذا كله فيما إذا اتفقا على وحدة سبب استحقاقهما وأما إذا لم يتفقا في ذلك بل
ادعى أحدهما أن نصف هذه الدار مشاعا لي من جهة اشترائي من فلان والاخر
أيضا ادعى ان نصفها المشاع لي بسبب آخر كإرثه من أبيه أو اتهابه من فلان أو
اشترائه وأمثال ذلك من أسباب التمليك غير سبب ملكية فلو صالح أحدهما
على نصفه مثلا على مال يكون الصلح في تمام حصته صحيحا ويكون تمام العوض له،
وهذا واضح جدا.
وأما لو كان شرائهما لتلك الدار معا بمعنى أن صاحب الدار قال لهما بعتكما
هذه الدار فقبلا دفعة أو قبل وكيلهما عنهما أو اتهابها معا وكذلك قبضها دفعة ومعا.
فهل هذا مثل كون ملكهما عن سبب واحد، فإذا أقر ذو اليد لأحدهما بنصف
الدار مثلا وصالح المقر له عن ذلك النصف على مال يكون نصف مال المصالحة لذلك
الاخر الذي هو شريك مع هذا الذي صالحه إن أذن في الصلح قبلا أو أجاز بعد
43

وقوعه، وإن لم يأذن ولم يجز، فالصلح باطل في حصته وصحيح في نصف ذلك النصف
الذي وقع الصلح عنه أي في ربع الدار لمفروض ويرجع نصف مال المصالحة إلى
مالكه قبل وقوع الصلح اي المصالح المذكور. أولا؟ بل يكون ملحقا بما إذا كان ملكية
الشريكين من سببين متغايرين فيكون الصلح صحيحا في تمام حصة المقر له
ولا دخل للشريك الاخر في هذا الصلح وليس لامضائه ولا لرده أثر في صحة هذا
الصلح، ولا في بطلانه؟
ربما يقال بأن ذا اليد لو أقر بملكية أحدهما مرجعه إلى قوع الاتهاب أو الابتياع
بالنسبة إليه ولا يمكن التفكيك بين وقوع الاتهاب أو الابتياع بالنسبة إلى المقر له دون
الاخر لان المدعيين متفقان في وحدة سبب ملكيتهما وهو الاتهاب مع القبض منهما
دفعة فيكون الاخر غير المقر له مقرا ومعترفا بأن كل نصف من الانصاف المتصورة
في هذه الدار يكون له وللآخر فإذا كان ذو اليد يعلم فلازم اقراره لأحدهما اقراره
لكليهما نعم يمكن لذي اليد دعوى ان الاتهاب والابتياع لم يقع الا في نصف هذه الدار.
وأما الشريكان فالمفروض اتفاقهما على أن هذه الدار جميعها ابتياعا بصيغة
واحدة أو اتهابا بقبول واحد وقبض واحد مشاع بينهما فإذا رفع الغاصب يده عن
نصف الدار فقهرا يكون ذلك النصف لكليهما لا لأحدهما، فيكون الصلح مع أحدهما
عن نصف الدار فضوليا بالنسبة إلى نصف ذلك النصف اي ربع تلك الدار موقوفا
على إجازة المالك وهو الشريك الاخر غير المقر له.
ولكن التحقيق أن الاقرار لاحد الشريكين إذا كان سببها اي الشركة واحدا
لا ينصرف إلى حصة المقر له وحده، بل الغاصب لما رفع اليد عن نصف مال المغصوب
من الشريكين يكون لهما ولا وجه لاختصاصه بأحد الشريكين وان أقر بأنه
لأحدهما.
هذا في الاقرار وأما بالنسبة إلى البيع والصلح، فان باع أحد الشريكين النصف
44

المشاع من المال المشترك الذي يملكه، فان صرح بان المبيع هو نصف نفسه أو نصف
شريكه يكون هو المبيع لأنه عين المبيع، وأما إن أطلق فالظاهر أنه ينصرف إلى
نصف نفسه، وقد حققنا هذه المسألة في مسألة من باع نصف الدار وله ملك نصفها
ينصرف إلى ما يملكه من نصفها المشاع.
وبعبارة أخرى تارة يعين في مقام البيع حصة شريكه أي يبيع نصف
الدار الذي لشريكه وأخرى النصف المشاع الذي يملكه هو فيقع البيع عمن قصده نفسه
أو شريكه وثالثة يطلق لا يقصد بين نصف نفسه ولا نصف شريكه.
ولعل هذه الصورة صارت محل البحث في مسألة من باع نصف الدار وله ملك
نصفها، فالمدعى أن الظاهر في هذه الصورة انصراف البيع إلى ما يملكه لا أن يبيع مال
غيره بدون ذكره والانتساب إليه.
هذا حال البيع وكذلك الصلح إذا وقع عن حصة مشاعة بين من يصالح معه
وبين غيره، فالظاهر أنه ينصرف إلى حصة من يصالح معه فيكون الصلح بالنسبة إلى
تمام ما يصالح عنه وهي الحصة المشاعة التي لمن يصالحه صحيحا ويكون تمام المال
المصالحة له ولا يستحق شريكه شيئا منه.
قال في جامع المقاصد (1) في قمام ترجيح صحة الصلح المذكور في تمام ما صالح
عنه ووقوعه عن تمام حصة المصالح معه وبعبارة كونه كالصلح عن مال غير مشاع
مشخص معين أو المشاع بسبب غير سبب الحصة التي للشريك.
قال: ولقائل أن يقول لا فرق بين تغاير السبب وكونه مقتضيا للتشريك في عدم
الشركة لان الصلح إنما هو على استحقاق المقر له وهو أمر كلي يمكن نقله عن مالكه
إلى آخر، ولهذا لو باع أحد الورثة حصة من الإرث صح ولم يتوقف على رضا
الباقين.

1. " جامع المقاصد " ج 5، ص 434.
45

ثم اعلم أن الفروع التي ذكرها الفقهاء في كتاب الصلح كثيرة، ولكن البحث عنها
غالبا يرجع إلى قواعد اخر غير قاعدة الصلح جائز بين المسلمين ولذلك تركنا
ذكرها لكي يكون البحث عنها في كتاب الصلح كما هو ديدن الفقهاء رضوان الله
تعالى عليهم.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
46

47 - قاعدة
التقية
47

قاعدة التقية *
ومن جملة القواعد الفقهية عند الإمامية الاثني عشرية " قاعدة التقية " وهي
قاعدة مشهورة معروفة
والبحث فيها من جهات:
الجهة الأولى
في المراد منها
أقول: التقية اسم مصدر من تقى يتقي أو من اتقى يتقي، وعلى كل تقدير سواء كان
من الثلاثي أو من المزيد أصل المادة من اللفيف المفروق، والحرف الأول واو، والثالث
ياء فقلبت الواو تاء كما في تجاه وتراث، فبناء على هذا لا فرق من حيث المعنى بين
التقية والاتقاء إلا ما هو من الفرق بين المصدر واسمه.
هذا بناء على أن تكون التقية اسم المصدر وأما بناء على أن تكون هي المصدر
الثاني لاتقى فلا فرق بينهما أصلا.
وعلى أي واحد من التقديرين هي عبارة عن اظهار الموافقة مع الغير في قول أو
فعل أو ترك فعل يجب عليه حذرا من شره الذي يحتمل صدوره بالنسبة إليه أو

*. " القواعد والفوائد " ج 2، ص 155 - 157، " الأقطاب الفقهية " ص 98، " الأصول الأصلية والقواعد
الشرعية " ص 317، " الرسائل الفقهية " (الشيخ الأنصاري) ص 71، " مناط الأحكام " ص 26، " أصول
الاستنباط بين الكتاب والسنة " ص 121، " القواعد " ص 93، " القواعد الفقهية " (مكارم الشيرازي) ج 1،
ص 383، " ما وراء الفقه " ج 1، ص 108.
49

بالنسبة إلى من يحبه مع ثبوت كون ذلك القول أو ذلك الفعل أو ذلك الترك مخالفا
للحق عنده.
إذا تبين المراد من التقية، فنقول:
تارة نتكلم في التقية من حيث الحكم التكليفي وأنه يجوز أم لا يجوز.
وأخرى: من حيث ترتب آثار ما هو الواقع والحق على هذا الفعل أو الترك
بواسطة إذن الشارع في الاتيان أو الترك المخالفين للواقع.
وثالثة: في أنه هل تترتب على ذلك الفعل أو الترك المخالفين للحق الآثار
الشرعية التي رتبها الشارع عليهما لو صدرا عنه بالاختيار وبميله من دون تقية أو
صدورها تقية يوجب رفع تلك الآثار.
فالتكلم في التقية في مقامات ثلاث:
المقام الأول
في بيان حكمها التكليفي وأنه يجوز أو لا يجوز.
أقول: لا شك في جوازه بل وجوبه في بعض الأحيان وجوازه من القطعيات
واليقينيات اجماعا وكتابا وسنة.
أما الاجماع فوجوده وعدم حجيته معلوم لكون اعتمادهم على تلك المدارك
القطعية، فليس من الاجماع المصطلح.
وأما الكتاب فقوله تعالى: (لا يتخذا المؤمنون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن يتقوا منهم تقاة ويحذركم
الله نفسه وإلى الله المصير) (1) وقوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره

1. آل عمران (3): 28.
50

وقلبه مطمئن بالايمان). (1)
. أما الروايات ففوق حد الاستفاضة بل لا يبعد تواترها معنى، وقد عقد في
الوسائل أبوابا لها في كتاب الامر بالمعروف نذكر بعضها.
منها: ما في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام: " ان قول الله
عز وجل (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) قال: بما صبروا على التقية (و
يدرئون بالحسنة السيئة) (2) قال: الحسنة التقية والإسائة الإذاعة ". (3)
وأيضا في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عمر وعن أبي عبد الله عليه السلام
قال قال لي أبو عبد الله عليه السلام يا أبا عمرو تسعة أعشار الدين التقية، ولا دين لمن
لا تقية له ". (4)
أيضا عن الكافي عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام
للولاة؟ فقال قال أبو جعفر: " التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له ". (5)
أيضا عن الكافي عن محمد بن مردان عن أبي عبد الله عليه السلام قال عليه السلام: " كان
أبي عليه السلام يقول: وأي شئ أقر لعيني من التقية إن التقية جنة المؤمن ". (6)
أيضا عن الكافي عن عبد الله بن أبي يعفور قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

1. النحل (16): 106.
2. القصص (28): 54.
3. الكافي " ج 2، ص 217، باب التقية، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 459، أبواب الأمر والنهى،
باب 24، ح 1.،
4. " الكافي " ج 2، ص 217، باب التقية، ح 2، " المحاسن " ص 259 ح 309، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 460،
أبواب الأمر والنهى، باب 24، ح 3.
5. " الكافي " ج 2، ص 219، باب التقية، ح 12، " وسائل الشيعة ج 11، ص 460، أبواب الأمر والنهى،
باب 24، ح 3.
6. " الكافي " ج 2، ص 220، باب التقية، ح 14، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 460، أبواب الأمر والنهى،
باب 24، ح 4.
51

" التقية ترس المؤمن والتقية حذر المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له ". (1)
أيضا عن الكافي عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال " اتقوا على
دينكم واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له ". (2)
أيضا عن الكافي عن حبيب بن بشير قال قال أبو عبد الله عليه السلام: " سمعت أبي
يقول لا والله ما على وجه الأرض شئ أحب إلي من التقية، يا حبيب إنه من كانت
له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله يا حبيب إن الناس إنما هم
في هدنة، فلو قد كان ذلك كان هذا ". (3)
أيضا عن الكافي عن حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله
عز وجل (ولا تستوي الحسنة والسيئة قال عليه السلام: " الحسنة التقية والإساءة
الإذاعة ". (4)
أيضا عن الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام
في حديث أنه قال: " يا أبا عمرو أبى الله إلا أن يعبد سرا، أبى الله عز وجل لنا ولكم
في دينه إلا التقية " (5).
أيضا عن الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " كلما تقارب هذا

1. " الكافي " ج 2، ص 221، باب التقية، ح 23، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 461، أبواب الأمر والنهى،
باب 24، ح 6.
2. " الكافي " ج 2، ص 218، باب التقية، ح 5، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 461، أبواب الأمر والنهي،
باب 24، ح 7.
3. " الكافي " ج 2، ص 217، باب التقية، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 461، أبواب الأمر والنهي.
باب 24، ح 8.
4. " الكافي " ج 2، ص 218، باب التقية، ح 6، " وسائل الشيعة ج 11، ص 461، أبواب الأمر والنهي،
باب 24 ح 9.
5. الكافي " ج 2، ص 217، باب التقية، ح 3، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 462، أبواب الأمر والنهي،
باب 24، ح 10.
52

الامر كان أشد للتقية " (1).
أيضا عن الكافي عن ابن مسكان عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " التقية
ترس الله بينه وبين خلقه " (2).
ولا يحتاج دلالة هذه الأخبار على جواز التقية إلى البيان والشرح والايضاح
لكونها في غاية الوضوح.
نعم ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في رسالته المعمولة في التقية أنها تنقسم إلى
الأحكام الخمسة (3).
وخلاصة كلامه في تصوير انقسامها إلى الأحكام الخمسة أن الواجب ما يكون
لدفع ضرر متوجه إليه من النفس أو العرض بحيث يكون دفعه واجبا ولا يدفع ذلك
الضرر الواجب الدفع إلا بالتقية، فتكون واجبة.
والمستحب ما كان موجبا للتحرز عن كونه معرضا للضرر، بمعنى أنه من الممكن
أن يكون تركها مفضيا إلى الضرر تدريجا كترك المداراة مع المخالفين وهجرهم في
المعاشرة في بلادهم فإنه ينجر غالبا إلى حصول المباينة الموجبة للمعاداة التي تترتب
عليها الضرر غالبا فالحضور في جماعاتهم والعمل على طبق أعمالهم تقية مستحب
لأجل هذه الغاية إن لم يكن ضرر فعلا في تركها.
والمباح ما كان التحرز عن الضرر بالتقية وتركه بعدم التقية متساويان في نظر
الشارع لكون مصلحة التقية وتركها متساويتين كما قيل في إظهار كلمة الكفر حيث
إن في فعل التقية مصلحة وفي تركها أيضا مصلحة إعلاء كلمة الاسلام وفرضنا أن

1. " الكافي " ج 2، ص 220، باب التقية، ح 17، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 462، أبواب الأمر والنهي،
باب 24، ح 11.
2. " الكافي " ج 2، ص 220، باب التقية، ح 19، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 462، أبواب الأمر والنهي،
باب 24، ح 12.
3. " المكاسب " ص 320.
53

مصلحة حفظ النفس التي في التقية مع مصلحة إعلاء كلمة الاسلام التي في تركها
متساويتان.
والمحرم كما في الدماء فقتل المؤمن في مورد لا يستحق القتل تقية حرام بلا كلام.
والمكروه ما يكون ضده أفضل.
هذا ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في انقسام التقية إلى الأحكام الخمسة.
وفي بعضها خصوصا الأخير تأمل واضح، لان ترك المستحب ليس بمكروه مع
أن نقيضه أفضل، فلو كانت الحركة من بلد أفضل من الوقوف فيه، فهذا لا يلازم كون
الوقوف مكروها، فالأولى التمثيل للمكروه بما ذكره الشهيد قدس سره وهو التقية بإتيان ما هو
مستحب عندهم، مع عدم خوف الضرر لا عاجلا ولا آجلا إذا كان ذلك الشئ
مكروها واقعا، وإلا لو كان حراما فالتقية باتيانه لموافقتهم حرام.
هذا ما ذكروه ولكن الذي يظهر من الأخبار المستفيضة بل المتواترة هو
استحباب التقية بل وجوبها بموافقتهم عملا بل فتوى فيما إذا احتمل ترتب ضرر
على نفسه أو على إخوانه المؤمنين.
وهذا الذي قلنا من استحباب التقية أو وجوبها كان في الأزمنة السابقة في أيام
سلاطين الجور الذي ربما كان تركها ينجر إلى قتل الإمام عليه السلام أو إلى قتل جماعة من
المؤمنين، وأما في هذه الأزمنة بحمد الله حيث لا محذور في العمل بما هو الحق ومقتضى
مذهبه في العبادات والمعاملات فلا يوجد موضوع للتقية.
نعم إذا تحقق موضوع التقية في زمان أو مكان فالواجب منها لا يعارض بأدلة
الواجبات والمحرمات، وذلك لحكومة دليل وجوب التقية على تلك الأدلة كما هو
الشأن في سائر أدلة العناوين الثانوية بالنسبة إلى أدلة العناوين الأولية، وذلك كأدلة
نفي العسر والحرج والضرر بالنسبة إلى الأدلة الأولية حيث إنها حاكمة على الأدلة
الأولية بالحكومة الواقعية إلا في حديث الرفع بالنسبة إلى خصوص ما لا يعلمون،
54

فان حكومته على الأدلة الأولية حكومة ظاهرية.
المقام الثاني
وهو المهم في المقام وهو أنه هل تترتب آثار الواقع والحق على هذا الفعل أو
الترك المخالف للحق بواسطة إذن الشارع في ذلك الفعل الذي يفعله لأجل التقية أو
إذنه في ترك أمر لأجلها؟ أو لا تترتب؟
ثم التكلم في ترتب آثار الواقع وما هو الحق تارة بالنسبة إلى خصوص أثر
القضاء والإعادة وأن ذلك الفعل المخالف للواقع والحق هل هو مجز ولا إعادة عليه لو
ارتفعت التقية في الوقت، ولا قضاء إذا ارتفعت في خارج الوقت، أم ليس بمجز بل تجب
الإعادة بعد ارتفاع التقية في الوقت، بحيث يمكن إتيان ما هو الواقع في الوقت، ويجب
القضاء لو ارتفعت التقية في خارج الوقت.
وأخرى: بالنسبة إلى سائر آثار الصحة مثل أنه لو توضأ بالوضوء تقية من
الأسفل إلى الاعلى في غسل اليدين أو غسل الرجلين بدل مسحهما فهل يترتب عليه
أثر الوضوء الصحيح والواقعي من رفع الحدث بحيث لو ارتفعت التقية لا يحتاج إلى
الوضوء ثانيا على نهج الحق للصلوات الاخر أم لا؟
اما القسم الأول: أي ترتب الأثر عليه من حيث الاجزاء وسقوط الإعادة
والقضاء.
فالتحقيق فيه: أن كل فعل واجب من الواجبات إذا أتي به موافقا لمن يتقيه وكان
مخالفا للحق في بعض أجزائه وشرائطه، بل وفي ايجاد بعض موانعه فإن كان مأذونا
من قبل الشارع في إيجاد ذلك الواجب بعنوان أنه واجب للتقية فهو مجز عن الواقع،
ولا يجب عليه الإعادة إذا ارتفع الاضطرار في الوقت ولا القضاء إذا ارتفع في خارج
55

الوقت، وذلك لما حققنا في كتابنا " منتهى الأصول " (1) في مبحث الاجزاء أن الاتيان
بالمأمور به بالامر الواقعي الثانوي مجز عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الأولي،
سواء كان رفع الاضطرار في الوقت، أو في خارج الوقت.
ولا فرق في كونه مأذونا بين أن يكون الرخصة والاذن بعنوان ذلك الواجب
بخصوصه كما أنه ورد الاذن في خصوص المسح على الخفين في صحيح أبي الورد:
قلت لأبي جعفر عليه السلام ان أبا ظبيان حدثني أنه رأى عليا عليه السلام أنه أراق الماء ثم مسح
على الخفين فقال عليه السلام أبو ظبيان أما بلغك قول علي عليه السلام فيكم: سبق الكتاب
المسح على الخفين؟ فقلت: هل فيها رخصة؟ فقال عليه السلام لا إلا من عدو تتقيه أو
ثلج تخاف على رجليك " (2).
أو كان بعنوان عام يشمل جميع الواجبات كقوله عليه السلام: " التقية من ديني ودين
آبائي " (3) وكذلك قوله عليه السلام: " التقية في كل شئ إلا في ثلاث: شرب النبيذ، والمسح على
الخفين، ومتعة الحج " (4).
ودلالة هذه الروايات الكثيرة التي هي فوق حد الاستفاضة على الاذن
والرخصة في امتثال الواجبات موافقة للمخالفين تقية منوطة بأن يكون المراد من
التقية الواردة فيها هو العمل الذي يأتي به تقية، أي ما يتقى به.
وظهور لفظ " التقية " في هذا المعنى لا يخلو من نظر، لان التقية كما تقدم مصدر أو

1. " منتهى الأصول " ج 1، ص 242.
2. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 362، ح 1092، باب صفة الوضوء والفرض منه، ح 22، " الاستبصار " ج 1،
ص 76، ح 236، باب جواز التقية في المسح على الخفين، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 322، أبواب
الوضوء، باب 38، ح 5.
3. " الكافي " ج 2، ص 219، باب التقية، ح 12، " وسائل ا لشيعة " ج 11، ص 460، أبواب الأمر والنهي،
باب 24، ح 3.
4. " الكافي " ج 3، ص 32، باب مسح الخف، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 469، أبواب الأمر والنهي،
باب 25، ح 5.
56

اسم مصدر وبمعنى الاتقاء فكون الاتقاء من الدين أي يجب الاتقاء.
وهكذا قوله عليه السلام: " لا دين لمن لا تقية له " (1) أي: لا دين لمن ترك التقية ويلقى نفسه
في الهلكة وهذا غير أن يكون ما يتقى به من العمل الموافق لهم المخالف للحق من
الدين.
ويمكن أن يكون نظر المحقق الثاني (2) قدس سره في التفصيل الذي - ذكره بين الاذن في
إتيان واجب بخصوصه تقية أي موافقا مع من يخاف منه وإن كان مخالفا للحق في
نظره فيكون مجزيا فلا إعادة عليه ولا القضاء بعد رفع الخوف وبين ما إذا كان
الواجب الذي يأتي به تقية لم يرد في إتيانه بذلك الوجه المخالف للحق إذن ورخصة
بالخصوص بل ليس في البين إلا تلك الأخبار العامة الآمرة بلزوم التقية بقوله عليه السلام:
التقية من ديني ودين آبائي (3)، ورواية المعلى بحذف من وهي رواية أخرى،
والرادعة عن تركها بقوله عليه السلام لا دين لمن لا تقية له (4) إلى هذا الذي ذكرنا من كون
نظر الأخبار العامة إلى لزوم الاتقاء ووجوبه وحرمة تركه وإلقاء نفسه في الهلكة وإلا
فأي فرق بين أن يكون الاذن والرخصة بصورة القضية الشخصية الخارجية أو بصورة
القضية الكلية الحقيقية.
والانصاف: أنه لا يمكن إسناد مثل هذا إلى مثل ذلك المحقق الذي هو من أعاظم
أساطين الفقه.
وعلى كل حال إذا صدر إذن من قبل الشارع باتيان واجب بخصوصه أو
الواجبات عموما بصورة عامة موافقا معهم، وإن كان مخالفا للحق من جهة الخوف

1. سبق ذكره في ص 51، رقم (4).
2. " وسائل المحقق الكركي " ج 2، ص 51.
3. سبق ذكره في ص 51، رقم (5).
4. " الكافي " ج 2، ص 223، باب الكتمان، ح 8 " وسائل الشيعة " ج 11، ص 485، أبواب الأمر والنهي،
باب 32، ح 6.
57

على نفسه أو عرضه أو ماله أو الخوف على غيره كذلك يكون إتيانه مجزيا عن
الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الأولى ثانيا لما ذكرنا.
هذا كله إذا صدر الاذن بامتثال الواجب الموسع موافقا للمخالفين بمجرد تحقق
التقية، وأما لو لم يصدر إذن من قبله بذلك فهل يشمل الأوامر المطلقة الأولية المتعلقة
بالواجبات لمثل هذا الفرد المخالف للحق والواقع بضميمة أوامر وجوب استعمال التقية
في مقام الامتثال وحرمة تركها أم لا؟
فان قلنا بالأول وشمولها لمثل ذلك الفرد فيكون أيضا مجزيا ولا يحتاج إلى
القضاء والإعادة بعدم ارتفاع الخوف والاضطرار، ويكون حاله حال ما ورد الاذن
بفعله موافقا لهم، بل هو هو.
وأما إن قلنا بعدم شمولها له، فما أتى به تقية ليس بمجز قطعا لأنه لم يأت بما هو
المأمور به، وجواز التقية أو وجوبه لا أثر له في هذا المقام.
نعم لورود دليل خاص على أن هذا الفاقد للشرط أو الجزء أو هذا العمل الذي وجه
فيه المانع مجز عن الواقع فهو، وإلا فصرف جواز الاتيان بواسطة الخوف لا يوجب
سقوط الإعادة والقضاء، إذ مقتضى اطلاق دليل ذلك الجزء أو ذلك الشرط أو ذلك
المانع عدم اختصاصه بحال الاختيار بحيث إذا لم يتمكن من إتيانه في الجزء أو الشرط
أو من تركه في المانع يسقط التكليف لعدم القدرة شرعا على إتيان ما هو المأمور به
واقعا.
نعم لو لم يكن الدليل ذلك الشرط أو الجزء أو ذلك المانع إطلاقا يثبت جزئيته أو
شرطيته أو مانعيته في ذلك الحال، أو كان مفاد أدلتها تقييدها بحال التمكن، وكان
لدليل ذلك العمل المركب إطلاق بالنسبة إلى حالتي وجود ذلك القيد وعدمه وتعذره
وعدمه، فنفس دليل ذلك الواجب المركب يوجب صحة ذلك العمل الذي هو فاقد
الجزء أو الشرط أو هو واجد للمانع.
58

ولا فرق بين أن يكون تعذر القيد فعلا أو تركا من جهة التقية أو من جهة
أخرى من أنواع الاضطرار إلى الفعل أو الترك لان المناط في الجميع واحد، وهو عدم
القدرة على الاتيان بالمأمور به الواقعي، وقد حررنا المناط في كتابنا " منتهى الأصول " (1)
إن شئت فراجع.
نعم سنتكلم في أن أمر التعذر من جهة التقية أوسع من التعذر من الجهات الأخر
، وعمدة ذلك هو أن التقية شرعت لأجل حفظ دماء المتقين ولذلك لا يعتبر
فيها عدم وجود المندوحة كما سنبين إنشاء الله تعالى.
وعلى كل حال الذي يسهل الخطب وثبت إجراء فاقد الشرط أو الجزء أو
واجد المانع هو عمومات بعض أخبار التقية كقوله عليه السلام: " التقية ديني ودين آبائي " في
رواية المعلى أو من دين ودين آبائي كما في سائر الطرق، بناء على أن يكون المراد
من التقية هو العمل الموافق لهم المخالف للحق، أي ما يتقى به لا الاتقاء كما هو ظاهر
اللفظ.
وأما الاستدلال للاجزاء برواية مسعدة بن صدقة بقوله عليه السلام فيه: " فكل شئ
يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد فإنه جائز " (2) لا يخلو من تأمل
لان ظاهر قوله عليه السلام " فإنه جائز " هو الجواز تكليفا وهذا لا ربط له بالاجزاء، وإلا
فهذا المعنى قطعي ولا كلام فيه من أحد، نعم قيد عليه السلام الجواز بما لا يؤدي إلى الفساد
وإلا لو أدى إليه فلا يجوز حتى تكليفا.
فالعمدة في دلالة روايات التقية على الاجزاء هو الذي قلنا من كون التقية دينا
أنه يرجع إلى أنه حكم واقعي ثانوي، وقد أثبتنا كونه مجزيا في مبحث الاجزاء في

1. " منتهى الأصول " ج 1، ص 244.
2. " الكافي " ج 2، ص 168، باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الايمان وينقضه، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 11،
ص 469، أبواب الأمر والنهي، باب 25، ح 6.
59

الأصول (1)، وقلنا إنه متوقف على أن يكون المراد من التقية هو العمل الذي يتقى به لا
الاتقاء بالعمل، ولا يبعد ذلك، فيكون كالوصية بمعنى ما أوصى به فكما أن الوصية
اسم مصدر للايصاء وقد يجئ بمعنى الموصى به، فلتكن التقية أيضا كذلك.
وخلاصة الكلام أن الأخبار العامة والخاصة تدل على أن اتيان الواجبات
موافقة للمخالفين وإن كانت مخالفة للحق قد أذن ورخص فيه الشارع، فلا ينبغي
الشك في أنها مجزية عن الواقع الأولى، ولا يجب إعادتها ولا قضائها بعد ارتفاع
الخوف وحصول الامن.
ولكن هذا الذي قلنا - بأن الاتيان بالواجبات موافقة لمذهبهم مع كونها مخالفة
للحق للتقية مجز عن الاتيان بما هو الحق بعد ارتفاع الخوف وحصول الامن - يكون
فيما إذا كانت المخالفة في المذهب بمعنى أن الاختلاف يكون بين المذهبين في أجزاء
الواجبات أو شرائطها أو موانعها، أو كيفية أدائها، وإن شئت قلت فيما إذا كان
الاختلاف في نفس الحكم الشرعي لا فيما إذا كان الاختلاف فيما هو مصداق لموضوع
الحكم الشرعي.
مثلا، لا خلاف بينهما في وجوب الافطار في يوم أول شوال أي يوم عيد الفطر.
فإذا وقع الاختلاف في مصداق هذا اليوم فحكم حاكمهم بأن يوم الجمعة مثلا
عيد استنادا إلى ثبوت رؤية الهلال ليلتها، فإذا علمنا بعدم مطابقة هذا الحكم للواقع
وخطأ الحاكم أو الشهود فلا تشمل أدلة إجزاء التقية مثل هذا المورد.
فإذا قامت حجة شرعية من علم أو علمي - وإن كان هو الاستصحاب - على
أن هذا اليوم من شهر رمضان فالافطار في ذلك اليوم وإن كان جائزا إذا كان لخوف
الضرر على نفسه أو ماله أو عرضه أو كان في الصوم فيه حرج، ولكن لا يكون
مجزيا فيجب قضاء ذلك اليوم كما هو الظاهر من مرسلة رفاعة عن رجل عن أبي

1. " منتهى الأصول " ج 1، ص 249.
60

عبد الله عليه السلام قال: " دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال يا أبا عبد الله ما تقول في
الصيام اليوم فقلت ذاك إلى الامام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا، فقال يا
غلام علي بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله إنه يوم من شهر رمضان، فكان
إفطاري يوما وقضاؤه أيسر علي من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله " (1). وبهذا المضمون
أيضا أخبار أخر (2).
فعلى هذا يجب عليه القضاء وإن قلنا بالاجزاء في المأتي به تقية، وذلك لما ذكرنا
أن ظاهر أدلة التقية هو أن اتيان الواجب على وفق مذهب من يتقى عنه يكون مجزيا،
وفي المورد ليس الافطار موافقا لمذهبهم لان مذهبهم أيضا أنه لا يجوز الافطار في
نهار رمضان، وإنما هو خطأ في التطبيق ولا ربط له بأدلة التقية.
هذا مضافا إلى أنه في المورد لم يأت بالواجب تقية وإنما تركه تقية وأدلة التقية
بناء على دلالتها على الاجزاء يكون فيما إذا أتى بالواجب موافقا لمذهبهم لا أنه يترك
إتيان الواجب رأسا لأجل التقية.
وكذلك لو حكم حاكمهم بأن يوم الجمعة مثلا هو اليوم التاسع من ذي الحجة
الذي يقال له يوم عرفة وهو يوم الوقوف في عرفات وعلم المكلف بأنه ليس اليوم
التاسع أو قامت حجة شرعية على أنه اليوم الثامن مثلا وهو مضطر في الوقوف في
اليوم الذي يعلم بأنه ليس يوم عرفة لعلمه بتقدمه على ذلك اليوم أو تأخره عنه
ولا يمكنه الوقوف في اليوم الذي قامت عنده الحجة الشرعية على أنه يوم عرفة ففات
عنه الوقوف في يوم عرفة فلا يمكن القول باجزاء ذلك الحج لفوت الوقوف في
عرفات يوم عرفة، وإن قلنا بأن اتيان الواجب موافقا لمذهبهم مجز، لان الوقوف في

1. " الكافي " ج 4، ص 83، باب اليوم الذي يشك فيه...، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 7، ص 95، أبواب ما يمسك
عنه الصائم، باب 57، ح 5.
2. راجع: " وسائل الشيعة " ج 7، ص 94، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57: باب جواز الافطار للتقية و
الخوف من القتل ونحوه.
61

يوم غير عرفة ليس موافقا لمذهبهم وإنما هو خطأ في التطبيق.
نعم يمكن تصحيح مثل هذا الحج بوجه آخر، وهو أن حاكمهم لو حكم بثبوت
الهلال بشهادة من يكون شهادته معتبرة عندهم، وليست معتبرة بحسب الواقع لفسقه
أو لنصبه أو لجهة أخرى راجعة إلى الشبهة الحكمية، بحيث يكون الحكم في مذهب
الحق عدم قبول تلك الشهادة، وكان القبول في مذهب الحاكم، فحينئذ يكون عدم
العمل بحكمهم قدحا في مذهبهم فترك العمل يرجع إلى الاختلاف في المذهب.
فالعمل على وفق مذهبهم بالجري على طبق حكمهم للخوف من الضرر يكون
كسائر موارد التقية، التي أذن الشارع ورخص فيها بعنوان ترخيص التقية، فلا فرق
بين أن يأتي بالصلاة الناقصة تقية أو يأتي بالحج الناقص تقية فكما أنه في الأول
يكون ذلك العمل مجزيا عن الاتيان بالواقع ثانيا بعد ارتفاع الخوف وحصول الامن
فكذلك الامر في الثاني.
نعم يبقى الكلام في أنه هل نفوذ حكم الحاكم عندهم ولزوم الجري على طبقه
وعدم جواز مخالفته مخصوص بصورة الشك والجهل بمطابقته للواقع، أو مطلق ويجب
العمل على طبقه ولو كان مع العلم بمخالفته للواقع
فبناء على الأول يكون إجراؤه مختصا بصورة الشك في ثبوت الهلال، ولا تشمل
صورة العلم بالخلاف، وعلى الثاني يكون ذلك الحج الناقص مجزيا حتى مع العلم
بالخلاف.
وقد نسب إليهم نفوذ الحكم حتى مع العلم بالخلاف والقول بالموضوعية التابعة
للحكم، ولكنه ينبغي أن يعد في جملة المضحكات كما أنه حكى أن أحد القضاة حكم
بموت شخص كان غائبا مسافرا بشهادة الشهود، فلما رجع عن سفره رفع أمره إلى
ذلك القاضي فحكم أن يدفن لأنه ثبت موته وميت المسلم يجب دفنه وأنت خبير
بأن أمثال هذه الحكايات بالمزاح أشبه وكيف يمكن أن يتفوه المسلم بهذا الكلام، مع
62

أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله سيد ولد آدم وخير الخلائق أجمعين أنه صلى الله عليه
وآله قال إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ وفي بعض
طرق الحديث ألحن بدل أبلغ، والمعنى واحد من بعض فأحسب أنه صادق
فأقضى له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها. (1)
وخلاصة الكلام أن القول بالموضوعية التامة ووجوب نفوذ الحكم حتى مع
العلم بالخلاف لا ينبغي أن يسند إلى فقيه، ولا بد وأن يؤول إذا كان هذا ظاهر كلامه
وأما في صورة الشك، فان حكم الحاكم حجة عندنا وعندهم فإذا حكم حاكمهم
بأن هذا اليوم مثلا يوم عرفة فالموافقة معهم بالوقوف في عرفات في ذلك اليوم من
جهة الخوف عنهم يصدق عليه أنه الجري على طبق الحجة عندهم ولزوم الجري
على طبق حكم حاكمهم هو من أحكام مذهبهم كما أنه كذلك عندنا أيضا غاية الأمر أن
هذا الحكم ليس واجدا لشرائط النفوذ عندنا، ولكن واجد لها عندهم فيكون كسائر
موارد التقية في الحكم الشرعي.
وأما الايراد عليه بأن الروايات الواردة في لزوم القضاء في مسألة الافطار تقية
مع أنه في مورد حكم الحاكم بأنه يوم العيد بنفي الاجزاء، وذلك كمرسلة رفاعة عن
الصادق عليه السلام قال: دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في
الصيام فقلت ذاك إلى الامام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا، فقال يا غلام
علي بالمائدة فأكلت معه وانا أعلم والله انه يوم من شهر رمضان فكان إفطاري
يوما وقضاؤه أيسر من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله (2) وروى بطرق اخر أيضا.
ففيه أن قوله عليه السلام وأنا أعلم والله انه يوم شهر رمضان صريح

1. " وسائل الشيعة " ج 18، ص 149، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 2، ح 3، " مستدرك الوسائل "
ج 17: ص 366، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 3، ح 4.
2. " الكافي " ج 4، ص 83، باب اليوم الذي يشك فيه...، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 7، ص 95، أبواب ما يمسك
عنه الصائم، باب 57، ح 5.
63

أنه في مورد العلم بالخلاف وعدم مطابقة الحكم للواقع وهذه الصورة بينا أن الحكم
ليست بحجة عندهم أيضا فلا يشمل مورد كلامنا الذي هو الشك.
فالانصاف أن القول بالاجزاء في مورد الشك في مطابقة حكمهم للواقع
لا يخلو عن قوة وإن كان الاحتياط ما لم يبلغ إلى درجة الحرج الشديد والعسر الأكيد
حسن على كل حال.
ومما استدل به على الاجزاء في مورد الشك هي السيرة المستمرة من زمان
الأئمة عليهم السلام إلى زماننا هذا في موافقة أصحابنا معهم في الوقوف في المشاعر العظام، مع
وجود الشك في أغلب السنين، ولم يراجعوا إليهم عليهم السلام في هذه المسألة ولم يسألوا عن
حكم الجري على طبق حكمهم ولم ينقل عنهم إعادة حجهم، وهذا يدل على أن
الاجزاء كان عندهم مفروغا عنه.
وأما ادعاء أنهم سألوا ولكن لم يصل إلينا فقول بلا دليل، بل لو كان لبان كسائر
القضايا والأحكام،
والقدر المتيقن من هذه السيرة هو مورد الشك في مطابقة حكم الحاكم للواقع،
فلا يشمل مورد العلم بالخلاف.
ولكن في ثبوت هذه السيرة تأمل.
وربما يستدل للاجزاء برواية أبي الجارود قال سألت أبا جعفر عليه السلام انا شككنا
سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلما دخلت على أبي جعفر عليه السلام وكان بعض
أصحابنا يضحي فقال: الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس
والصوم يوم يصوم الناس (1).
وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أن قوله عليه السلام الأضحى يوم يضحي الناس

1. " تهذيب الأحكام " ج 4، ص 317، ح 966، باب الزيادات، ح 34، " وسائل الشيعة " ج 7، ص 95، أبواب ما
يمسك عنه الصائم، باب 57، ح 6.
64

لا يمكن أن يكون إخبارا لان اليوم الذي يضحي الناس قد يكون أضحى وقد
لا يكون مضافا إلى أنه جواب سؤال الراوي عن حكم يوم الشك فهو عليه السلام بصدد
الجواب عن هذا السؤال، فلابد وأن يكون تنزيلا من قبيل الطواف بالبيت صلاة (1)
فيكون مفاده أن يوم يضحي الناس يكون بمنزلة الأضحى الواقعي، يترتب عليه
آثار الأضحى الواقعي، فيكون إمضاء لحكمهم فيجب ترتيب آثار الواقع على ما
حكموا به.
ولكن أنت خبير بأن هذه الرواية وإن كانت ظاهرة في هذا المعنى، إلا أن سنده
ضعيف فان أبا الجارود زياد بن منذر زيدي ينسب إليه الجارودية وسمى سرحوبا
وسماه بذلك أبو جعفر عليه السلام وسرحوب اسم شيطان أعمى يسكن البحر وكان أبو
الجارود مكفوفا أعمى القلب، هكذا ذكره العلامة قدس سره في الخلاصة (2) وقد قيل في حقه
أنه كان كذابا كافرا فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية للخروج عن مقتضى القواعد
الأولية.
وأما القسم الثاني أي ترتيب آثار الصحة غير الاجزاء وعدم لزوم الإعادة
والقضاء سواء كان في العبادات كالوضوء تقية، فهل يترتب عليه رفع الحدث
وحصول الطهارة الواقعية كي لا يحتاج إلى وضوء جديد بعد رفع الخوف وحصول
الامن أو كان في المعاملات فإذا أوقع معاملة لهم ومخالفة للواقع تقية فهل
يترتب عليها آثار الصحة بعد ارتفاع التقية أم لا.
أقول: مقتضى القواعد الأولية هو عدم ترتب آثار الصحة على تلك المعاملة أو
ذلك الوضوء، وذلك لان موضوع الأثر شرعا هي العبادة أو المعاملة الصحيحتان
والمفروض أنهما ليستا صحيحتين، إذ لا شك في أن الموضوع للطهارة الواقعية هو
الوضوء الصحيح بحسب الواقع، والوضوء تقية ليس وضوءا صحيحا بحسب الواقع،

1. " عوالي اللئالي " ج 1، ص 214، ح 70، و ج 2، ص 167، ح 3.
2. " الخلاصة " ص 223.
65

وإنما أذن الشارع في إتيانه لأجل دفع الضرر عن نفسه أو ماله أو عرضه أو عن غيره
ممن يخصه ذلك، فإذا ارتفع الخوف ولم يكن احتمال ضرر في البين فلا وجه لاحتمال
وجود الأثر الذي هو للوضوء الواقعي على هذا الفعل المسمى بالوضوء عندهم، وهو
ليس بالوضوء واقعا.
وكذلك لو أوقع نكاحا أو طلاقا على وفق مذهبهم تقية مع بطلانهما عندنا فمع
ارتفاع التقية وحصول الامن لا وجه لاحتمال وجود آثار النكاح أو الطلاق
الصحيحين وهل الحكم بوجود أثرهما مع عدم صحتهما إلا من قبيل وجود الأثر
بدون المؤثر وإن شئت قلت هل هذا إلا من قبيل وجود الحكم بدون الموضوع.
وأما جوار التقية بل لزومها في بعض الموارد على فرض أن يكون الفعل الذي أتى به
تقية مجزيا عن إتيان الواقع ثانيا بعد رفع التقية لا يثبت وجود موضوع ذلك الأثر
نعم لو كان موضوع الأثر هو الأعم من الوضوء الواقعي الأولى والوضوء تقية مثلا
فلا شبهه في ترتب ذلك الأثر لوجود موضوعه لكن هذا خلاف الفرض، وكذلك
لو كان الموضوع للأثر امتثال ذلك الامر الثانوي.
ثم إن ما ذكرنا في القسم الأول من إجزاء ما أتى به تقية عن إتيان المأمور به
بالامر الواقعي ثانيا، هل يشترط فيه عدم وجود المندوحة أم لا؟
الظاهر هو الثاني
بيان ذلك أن الأقوال في المسألة ثلاثة: قول بعدم الاعتبار مطلقا وذهب إليه
الشهيدان في البيان (1) والروض (2)، وقول بالاعتبار مطلقا وذهب إليه صاحب المدارك (3)

1. " البيان " ص 48.
2. " روض الجنان " ص 37.
3. " مدارك الأحكام " ج 1، ص 231.
66

وقول بالتفصيل بين ما إذا كان الفعل الذي يتقى به مأذونا بالخصوص كالصلاة معهم
أو الوضوء مع المسح على الخفين، وأمثال ذلك فقال بعدم الاعتبار وبين مال يأذن
الشارع فيه بالخصوص فقال بالاعتبار.
والمراد من المندوحة هو تمكن المكلف من الاتيان بالفرد التام الاجزاء والشرائط
الفاقد للموانع وذلك بأن يأتي إما في زمان آخر من مجموع الوقت، وذلك لا يكون إلا
في الواجب الموسع أو يأتي به في مكان آخر لا يخاف من عدو كي يتقيه أو يوهم
الاتيان بشكلهم مع أنه واقعا يأتي بما هو الحق عنده.
فالأول يسمى بالمندوحة الطولية والثاني والثالث بالمندوحة العرضية، والطولية
والعرضية في المقام بحسب الزمان وقد عرفت أن هذا التقسيم لا يأتي إلا في الواجب
الموسع.
إذا عرفت هذا فنقول:
أما التفصيل الذي ذهب إليه المحقق الثاني (1) قدس سره فقد تقدم أنه لا وجه له أصلا لأنه
أي فرق بين أن يكون إتيان الواجب موافقا لهم مأذونا بالخصوص أو كان مأذونا
بعنوان عام، لان المناط في كلتا الصورتين صيرورته واقعيا ثانويا ولذلك قلنا
بالاجزاء وعدم الاحتياج إلى إعادته بعد ارتفاع التقية وحصول الامن، فإن كان
الاذن الخاص غير مشروط بعدم المندوحة فليكن الاذن بعنوان العام أيضا كذلك.
أما تعليله للفرق بأن الاذن في التقية من جهة الاطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار
الموافقة مع الحاجة
ففيه أن الاذن في العمل الذي يتقى به إن كان أمرا بالامتثال بتلك الصورة فيكون
فردا اضطراريا لطبيعة المأمور به فيكون مجزيا عن الإعادة بعد رفع الاضطرار كما هو
الشأن في الأوامر الواقعية الثانوية فلا فرق بين الاذن بالخصوص وبين الاذن بالعموم

1. " رسائل المحقق الكركي " ج 2، ص 51.
67

في ذلك.
وأما لو كان الاذن في العمل لأجل الفرار والخلاص من شرهم فقط، فالاذن
الخاص أيضا لا يثبت به الاجزاء، وعلى كل حال الفرق بين الاذن الخاص والعام
لا أثر له في هذا المقام بل المناط كل المناط في المقام بعد الفراغ على أن الامر باتيان
الواجب تقية مجز عن الإعادة والقضاء وهو أن هذا الامر سواء كان بعنوان خاص أو
عام هل هو مقيد بعدم المندوحة وكونه مضطرا إلى ايجاده تقية أم لا بل مطلق من
هذه الجهة.
فإن كان هناك دليل على التقييد يؤخذ به، وإلا فمقتضى عمومات التقية والاذن
فيها كقوله عليه السلام التقية ديني ودين آبائي (1) وأمثالها مما تقدم ذكرها بناء على ما
ذكرنا من أن المراد من التقية هو الفعل الذي يأتي بها تقية هو عدم اعتبار عدم
المندوحة.
نعم لابد من صدق التقية في الامر بها وهو أن يكون إتيان الواجب الواقعي
الأولى مظنة الضرر، بحيث يخاف على نفسه أو ماله أو عرضه، وذلك لعدم تحقق
موضوع الامر بها بدونه
ولذلك لا بأس بالقول بالتفصيل بين ما يمكن له إيجاد المأمور به الأولى، بأن
يوهمهم الموافقة من دونها وبين ما لا يمكن ذلك، ففي الصورة الأولى يقال بالاعتبار
دون الثانية ولكن في الحقيقة هذا ليس تقييدا في التقية، بل محقق لموضوعها.
وعلى كل حال هذه المطلقات تدل على مشروعية التقية وإن كان يمكن له أن
يأتي بالفرد التام بانتقاله إلى مكان آخر أو بتأجيل الاتيان به إلى زمان آخر فليس
جواز التقية ولا إجزاؤها عن الإعادة والقضاء مشروطا بعدم المندوحة العرضية أي
التمكن من الاتيان بالفرد التام الاجزاء والشرائط الفاقد للموانع المأمور به بالامر

1. تقدمت في ص 51، رقم (5).
68

الواقعي الأولي في عرض التقية بان ينتقل إلى مكان آخر لا خوف عليه كما إذا انتقل
من السوق إلى داره التي ليس فيها أحد يخاف منه ولا مشروطا بعدم المندوحة
الطولية أي التمكن من الاتيان بالمأمور به الواقعي الأولى في الزمان المتأخر الذي يرتفع
التقية فيه.
فظهر مما ذكرنا أن القول الأول وهو عدم اعتبار عدم المندوحة مطلقا الذي
ذهب إليه الشهيدان في البيان (1) والروض (2) هو الصحيح وهو المشهور
ويدل على عدم اعتبار عدم المندوحة في جواز التقية واجزائها عن اتيان الواقع
الأولي بعد ارتفاع الخوف وحصول الامن بعض الروايات:
منها: ما رواه العياشي بسنده عن صفوان عن أبي الحسن عليه السلام في غسل اليدين،
قلت له يرد الشعر؟ قال عليه السلام إن كان عنده آخر فعل (3)، والمراد بالآخر من يتقيه.
تقريب الاستدلال بهذه الرواية على عدم اعتبار عدم المندوحة هو تجويزه للتقية
بصرف وجود شخص من هؤلاء الذين يخاف منهم. وإن كان يمكن أن يتستر عنه أو
ينتقل إلى مكان آخر ليس هناك من يخاف منه أو يوهمه الاتيان بمثل مذهبهم مع
الاتيان بما هو الحق أو يؤجل العمل إلى زمان آخر لا موضوع للتقية فيه، ولا شك في
إطلاق الرواية من هذه الجهات ولا مقيد له في البين فيجب الاخذ باطلاقه.
ولا يخفى أن رد الشعر كناية عن الوضوء المنكوس لان رد الشعر من لوازمه،
فالسؤال عن أن له رد الشعر، معناه أن له الوضوء المنكوس؟ فيجيب عليه السلام بالجواز
بدون أي تقييد، وأما قوله عليه السلام إن كان عنده آخر، هو محقق موضوع التقية الا أنه
تقييد فيها.

1. " البيان " ص 48.
2. " روض الجنان " ص 37.
3. " تفسير العياشي " ج 1، ص 300، 54.
69

ومنها ما رواه مسعدة بن صدقة بن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: وفيه: وتفسير
ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله،
فكل شئ يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه
جائز (1).
فقوله عليه السلام فإنه جائز، حكم بجواز كل شئ يعمل لأجل التقية، وهو مطلق
غير مقيد بعدم المندوحة، بل ظاهره جواز كل شئ يعمل لمكان التقية وإن كان الفرار
والتخلص منها ممكنا بأحد الوجوه المتقدمة.
ومنها ما ورد في الحث والترغيب في حضور جماعتهم في الروايات الكثيرة
كرواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال من صلى معهم في الصف الأول
كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله في الصف الأول (2). وغيرها مما هو بهذا
المضمون.
ولا شك في أن الروايات المطلقة الدالة على جواز التقية وإجراء ما يأتي به تقية
عن الواجب الواقعي الأولى من دون تقييدها بعدم وجود المندوحة كثيرة فلا يحتاج
إلى تطويل المقام بذكر تلك الأخبار والتكلم فيها، بل لا يمكن التقييد فيها بصورة عدم
التمكن من ايجاد صلاته في جميع وقتها إلا في مكان يجب فيه التقية.
فالانصاف أنه ليست التقية من قبيل سائر الموارد التي ينقلب التكليف فيها
بواسطة الاضطرار، بل الامر فيها أوسع للمصالح التي فيها من حفظ النفوس
والأموال والاعراض لشخصه ولجميع الشيعة، بل وللامام عليه السلام ولعله ذلك أفردوها
بالذكر عن سائر أقسام الاضطرار.

1. " الكافي " ج 2، ص 168، باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الايمان وينقصه، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 11،
ص 469، أبواب الأمر والنهي، باب 25، ح 6.
2. " الفقيه " ج 1، ص 382، باب الجماعة وفضلها، ح 1125، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 381، أبواب صلاة
الجماعة، باب 5، ح 1.
70

ولكن للأخبار المذكورة معارضات ظاهرها أن جواز التقية وإجزائها عن الواقع
الأولى منوط بعدم وجود المندوحة.
منها رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر المعروف بالبزنطي عن إبراهيم بن شيبة
قال كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن الصلاة خلف من تولى أمير المؤمنين
وهو يمسح على الخفين فكتب عليه السلام لا تصل خلف من يمسح على الخفين، فان
جامعك وإياهم موضع لا تجد بدا من الصلاة معهم، فاذن لنفسك وأقم فان سبقك إلى
القراءة فسبح. (1)
ومنها رواية معمر بن يحيى: كلما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه
التقية. (2)
ومنها المرسل المحكي عن الفقه الرضوي عن العالم لا تصل خلف أحد
إلا خلف رجلين أحدهما من تثق به وبدينه وورعه، والآخر من تتقي سيفه وسوطه
وشره وبوائقه وشنعته، فصل خلفه على سبيل التقية والمداراة. (3)
ومنها ما عن دعائم الاسلام بسنده عن أبي جعفر عليه السلام لا تصلوا خلف ناصب
ولا كرامة إلا أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا ويشار إليكم فصلوا في بيوتكم ثم
صلوا معهم، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا. (4)
ودلالة هذه الروايات على أن جواز التقية واجزائها عن الإعادة والقضاء بعد

1. " تهذيب الأحكام " ج 3، ص 276، ح 807، باب فضل المساجد والصلاة فيها، ح 127، " وسائل الشيعة "
ج 5، ص 427، أبواب صلاة الجماعة، باب 33، ح 2.
2. " مستدرك الوسائل " ج 12، ص 258، أبواب الأمر والنهي، باب 24، ح 2.
3. " فقه الرضا " ص 14، " مستدرك الوسائل " ج 6، ص 457، أبواب صلاة الجماعة، باب 5، ح 2.
4. " دعائم الاسلام " ج 1، ص 151، " مستدرك الوسائل " ج 6، ص 458، أبواب صلاة الجماعة، باب 6، ح 1.
71

رفع التقية وحصول الامن مشروط بعدم المندوحة في كمال الوضوح.
ولكن مقتضى الجمع عرفا بين هذه الأخبار والأخبار المتقدمة هو حمل هذه الأخبار
على إمكان التخلص في نفس وقت التقية بدون التأجيل وتأخير امتثال
الواجب إلى زمان ارتفاع التقية أو بدون انتقاله إلى مكان آخر للفرار عن التقية بل
يمكن في نفس المكان والزمان أن يأتي بالواقع الأولى ففي مثل هذا المورد لا يجوز أن
يتقي باتيان الواجب موافقا لهم.
فاشتراط عدم المندوحة بهذا المعنى مما لا بد منه بل هو المشهور خصوصا إذا
كان من الممكن ايهامهم انه يوافقهم ويأتي بالواجب على طبق مذهبهم مع أنه لا يأتي
الا على طبق ما هو الحق عنده.
ويشير إلى هذا المعنى بعض الروايات كرواية عبيد بن زرارة عن أبي
عبد الله عليه السلام قال قلت اني أدخل المسجد وقد صليت فاصلي معهم فلا احتسب بتلك
الصلاة؟ قال لا بأس وأما أنا فأصلي معهم وأريهم أني أسجد وما أسجد (1).
وخلاصة الكلام هو أن الشارع اهتم بأمر التقية كثيرا للمصالح المهمة في نظره
ولذلك أمر المؤمنين بمعاشرتهم والحضور في مجامعهم وعيادة مرضاهم كي
لا يعرفوهم بالرفض فيؤذوهم، وبين لهم ما يترتب على فعلهم الذي هو موافق معهم
من الاجر العظيم والثواب الجزيل كي يرغبوا في العمل موافقا لهم في الكم والكيف
لأجل حفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم.
فوسع عليهم في أمر التقية بما لم يوسع في غيرها من أنواع الاضطرار بل أمرهم
أن يحضروا مساجدهم ويصلون معهم في الصف الأول قال عليه السلام من حضر
صلاتهم وصلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى مع رسول الله في الصف الأول،

1. " تهذيب الأحكام " ج 3، ص 249، ح 774، باب فضل المساجد والصلاة فيها، ح 94، " وسائل الشيعة "
ج 5، 385، أبواب صلاة الجماعة، باب 6، ح 8.
72

فلا يمكن حمل الاخبار الظاهرة في اعتبار عدم المندوحة على ظاهرها. بل لابد
من رفع اليد عن ظاهرها والتصرف فيها بأحد التصرفات مثل حمل أذن لنفسك
وأقم في رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي وصلوا في بيوتكم فيما رواه
دعائم الاسلام وأمثال ذلك على الاستحباب، وإلا فالقول باعتبار عدم المندوحة
مطلقا في جواز التقية ينافي ذلك الاهتمام الذي ظهر من طرف الشارع في أمر التقية.
ففي رواية زيد الشحام: صلوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا
جنائزهم وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا الحديث. (1)
وفي رواية هشام الكندي عن أبي عبد الله عليه السلام قال فيها: صلوا في عشائرهم
وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم الحديث. (2)
نعم الذي يصح أن يقال هو أنه لو كان متمكنا حال الاشتغال بايجاد الواجب
موافقا لهم من تلبيس الامر عليهم وأيها مهم أنه يفعل بمثل فعلهم وإن كان لم يفعل
كفعلهم بنحو لا يكون منافيا للتقية ولا يترتب عليه ضرر لا عاجلا ولا آجلا لا على
نفسه ولا على غيره من طائفته، يجب عليه ذلك، ولا يجوز له أن يأتي بما هو خلاف
الواقع الأولى.
فعدم المندوحة بهذا المعنى معتبر في التقية لكن تقدم أن هذا محقق موضوع
التقية لا أنه تقية أو تخصيص فيها، فالحق أن عدم المندوحة ليس معتبرا وقيدا في
موضوع التقية.

1. " الفقيه " ج 1، ص 383، باب الجماعة وفضلها، ح 1128، " وسائل الشيعة " ج 5، ص 477، أبواب صلاة
الجماعة، باب 57، ح 1.
2. " الكافي " ج 2، ص 219، باب التقية، ح 11، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 471، أبواب الأمر والنهي،
باب 26، ح 2.
73

المقام الثالث في أنه هل تترتب على ذلك الفعل أو الترك المخالفين للحق الآثار الشرعية التي
رتبها الشارع عليهما لو صدرا عنه بميله واختياره أم لا، بل صدورهما من باب التقية يوجب
رفع تلك الآثار.
مثلا بناء على أن الفقاع خمر استصغره الناس وأن الخمر نجس يكون الفقاع
نجسا فإذا استعمله تقية أو توضأ به تقية بناء على جواز الوضوء بالمايع المضاف
عندهم، فهل استعماله يوجب رفع أثر تنجيسه فبعد ارتفاع الخوف وحصول الامن
لا يجب غسل موضع ملاقاته للمشروط بالطهارة، أم لا لان التقية لا يرفع الأثر
الوضعي المترتب على هذا الفعل،
الظاهر هو ترتب أثره عليه وعدم ارتفاع أثر ذلك الفعل بواسطة التقية فينجس
ملاقي الفقاع والنبيذ، وإن كان شربهما يجوز للتقية.
نعم لو جوزنا الوضوء به تقية فلا يجب إعادة الصلاة التي صلاها بذلك الوضوء
نعم لو شرب الفقاع أو النبيذ تقية لا يحد، وذلك من جهة أن هذا الأثر اخذ في
موضوعه التعمد والاختيار.
فالضابط الكلي هو أنه لو كان موضوع الأثر في الفعل الذي يتقى به هو ذلك الفعل
مطلقا، سواء كان مختارا أو مضطرا فيترتب عليه ذلك الأثر، وإلا لو كان مخصوصا
بحال الاختيار فيترتب عليه إذا أتى به تقية، فتعمد الأكل والشرب في نهار رمضان
موجب لبطلان صوم من وجب عليه الصوم وإن صدر منه تقية، وذلك من جهة أن
بطلان الصوم أثر تعمد الأكل والشرب سواء كان مختارا أو مضطرا.
ثم إن هاهنا أمورا يجب التنبه عليها.
74

الأول لا فرق في مشروعية التقية بين أن يكون من يتقيه من المخالفين أو من
غيرهم وذلك من جهة وحدة المناط والأدلة فيهما، لان الدليل على مشروعية التقية
إما قاعدة الضرر أو الحرج ومعلوم أن كون امتثال الواجب موجبا للضرر أو الحرج،
لا فرق بين أن يكون الضرر والحرج من ناحية المخالفين أو من ناحية غيرهم من
الطوائف المسلمة أو من ناحية الكفار، لان مفاد دليل نفي الضرر والحرج هو أن
الحكم الذي يأتي من ناحيته الضرر أو الحرج منفي وغير مجعول في الاسلام.
وذلك لما حققنا في محله أن دليل نفي الضرر والحرج حاكم على أدلة الأحكام
الأولية بالحكومة الواقعية في جانب المحمول والمسألة نقحناها في قاعدتي اللاضرر و
واللاحرج مفصلا
وأما الآيات كقوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة (1) وقوله تعالى إلا من
أكره وقلبه مطمئن بالايمان (2) وأمثال ذلك فلا فرق بين كون من يتقى منه من الفرق
المسلمة أو كان من الكفار.
وأما مفاد الروايات فهو مطلق من يخاف من ضرره لأنه قد تقدم أن التقية هي
الوقاية وأصلها وقية كالوصية فهو الاتقاء، سواء كان من يتقى منه كافرا أو
مسلما.
وأما حكم العقل بلزوم حفظ النفس عن الهلكة فمعلوم أنه لا فرق بين أن يكون
من يخاف منه على نفسه أو عرضه أو ماله في نظر العقل من الفرق المسلمة أو الكافرة،
نعم الآيات الواردة في حكم التقية غالبا تكون في مورد الكفار كما أن الأخبار الواردة
في هذا الموضوع غالبا تكون في مورد الخوف من السلاطين الجائرة أو
ولاتهم ولكن العبرة بعموم الدليل وخصوصية المورد لا توجب تخصيص الدليل كما

1. آل عمران (3): 28.
2. النحل (16): 106.
75

هو المحقق في الأصول، وإن كان الأحوط تخصيصها بالمخالفين لاحتمال الانصراف.
الثاني أن ما ذكرنا من أن إتيان الواجب تقية موافقا لهم مجز عن الاتيان به ثانيا
موافقا لما هو الحق كما إذا صلى متكتفا أو مع المسح على الخفين أو مع غسل الرجل
بدل مسحها أو بدون بسم الله في القراءة وأمثال ذلك إنما يكون فيما إذا أتى بالعمل
الناقص موافقا لهم.
كما إذا صلى بأحد الوجوه المذكورة أو صام وأفطر قبل ذهاب الحمرة المشرقية
أو قبل انتشارها فوق الرأس، أو حج ووقف في الموقفين موافقا لهم من دون استناده
إلى امارة شرعية أو عقلية على رؤية هلال ذي الحجة في يوم كذا إذا كان شاكا لا أن يكون
قاطعا بعدم كون الوقوف في يوم عرفة كما ذكرنا مفصلا.
وذلك لما ذكرنا أنه أتى بما هو المأمور به بالامر الواقعي الثانوي وهو مجز كما
حققنا المسألة في الأصول في مبحث الاجزاء.
وأما لو ترك الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الأولى ولم يكن إتيان المأمور به
بالامر الواقعي الثانوي في البين بل صرف ترك للأول لأجل التقية فلا وجه
للاجزاء لأنه لم يأت بشئ كي يكون مجزيا وإفطار الإمام الصادق عليه السلام في الحيرة
لأجل الخوف 66 عن أبي العباس العباسي الذي تقدم ذكره (1) الظاهر أنه من هذا
القبيل، فلا معنى لان يكون مجزيا ولعله لأجل ذلك قال عليه السلام لان أفطر يوما من
رمضان فأقضيه، فالقضاء في مثل هذا المورد لابد منه، ولا يدل هذا على عدم كون التقية
مجزيا.
الثالث أنه لا شك في ثبوت موضوع التقية مع الخوف الشخصي بمعنى أنه يخاف
على نفسه أو عرضه أو ماله لو ترك الموافقة معهم، إذ هذا هو القدر المتيقن من أدلة

1. تقدم ذكره في ص 61، رقم (1).
76

التقية، وأما لو يعلم أن من تركه التقية والموافقة معهم لا يترتب عليه ضرر على نفسه
أو ماله أو عرضه ولكن يوجب فعله المخالف للتقية معرفة المخالفين مذهب الشيعة
وأنهم يطعنون بعد ذلك عليهم بأن مذهبهم كذا وكذا.
والظاهر أن هذا أيضا يجب فيه التقية لان هذا ربما يكون موجبا لورود الضرر
على نفس الامام أو على الطائفة جميعا ولعل هذا هو المراد من الإذاعة في أخبار
التقية فجعل عليه السلام الإذاعة مقابل التقية وقد تقدم في ذيل رواية عبد الله بن أبي يعفور
اتقوا على دينكم واحجبوه بالتقية (1) وكما في ذيل رواية حريز عن أبي عبد الله عليه السلام
في تفسير قول الله عز وجل ولا تستوي الحسنة ولا السيئة (2) قال عليه السلام: الحسنة
التقية والإسائة الإذاعة. (3)
ويظهر من هذه الروايات أن حجبهم عن معرفة الأحكام المختصة بالمذهب
وسترها عنهم مطلوب ولعله إلى هذا يشير قوله عليه السلام ليس منا من لم يجعلها شعاره
ودثاره (4)
والحاصل أنه يفهم من الأخبار الكثيرة أنه ليس أمر التقية دائرا مدار الخوف
الفعلي.
الرابع إذا خالف التقية وأتى بالفعل المخالف معهم كما أنه لو صلى مرسلا من
دون التكفير أو صلى على التربة الحسينية أو غير ذلك مما ينكرونها فهل يكون ذلك
العمل باطلا لأنه خلاف التقية ومنهي عنه، والنهي في العبادة يوجب الفساد أم لا

1. " الكافي " ج 2، ص 218، باب التقية، ح 5، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 461، أبواب الأمر والنهي،
باب 24، ح 7.
2. فصلت (41): 34.
3. " الكافي " ج 2، ص 218، باب التقية، ح 6، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 461، أبواب الأمر والنهي،
باب 24، ح 9.
4. " الأمالي " للطوسي ج 1، ص 299، " وسائل الشيعة " ج 11، ص 466، أبواب الأمر والنهي، باب 24، ح 28.
77

لأنه أتى بما هو المأمور به واقعا بقصد القربة فحصل الامتثال والاجزاء عقلي وإن أثم
بتركه للتقية، ولكنه خارج عن الصلاة فيكون من قبيل النظر إلى الأجنبية حال
الصلاة حيث إنه لا هو جزء للصلاة المأمور بها ولا مركب معها تركيبا اتحاديا،
ولا انضماميا فليس لا من باب النهي في العبادة ولا من باب الاجتماع.
والذي ينبغي أن يقال في المقام هو أن ما يتحقق به المخالفة للتقية ويكون
مصداقا حقيقيا للمخالفة معهم، ليس على نسق واحد، بل قد يكون جزء للعبادة
فيأتي بذلك الجزء المخالف معهم باعتبار أنه جزء للمأمور به بالامر الواقعي الأولى
فيكون النهي متعلقا بذلك الجزء فتكون العبادة المشتملة على ذلك الجزء المنهي عنه
فاسدة، والمسألة محررة في الأصول، وقد أوضحنا وجهه في الجزء الأول من كتابنا
منتهى الأصول (1) في مسألة النهي المتعلق بالعبادة.
وقد لا يكون كذلك بل يكون من قبيل إدخال ما ليس من العبادة فيها ويكون
من قبيل التشريع المحرم بالأدلة الأربعة، فيكون النهي متعلقا بأمر خارج عن العبادة
فلا وجه لان يكون ترك ذلك الشئ موجبا للبطلان لما قلنا من أنه أتى بالمأمور به
على وجهه، والاجزاء عقلي نعم أثم بذلك الترك وتلك المخالفة، لأنه بمنهي.
فبناء على ما ذكرنا ترك التكتف وقول آمين في مورد وجوبهما تقية لا يوجب
بطلان الصلاة، وإن كان آثما بذلك الترك.
تنبيه
هذا الذي ذكرنا وتقدم كان في الاتيان بالواجبات، بل المستحبات تقية بأن
يدخل فيها ما ليس بجزء أو شرط أو يترك ما هو جزء أو شرط، أو يأتي بما هو

1. " منتهى الأصول " ج 1، ص 411.
78

مانع أو يأتي بكيفية خلافها واجب أو مستحب.
وأما التقية في مقام الافتاء كأن يفتي المجتهد بحرمة ما ليس بحرام أو بوجوب ما
ليس بواجب أو بالعكس فيهما، أو بالنسبة إلى سائر الأحكام التكليفية أو الوضعية
فالامر فيها أعظم، ولعل أغلب عمومات التقية وإطلاقاتها لا تشملها، ومنصرفة عنها،
فلا يجوز له الافتاء بمجرد خوف الضرر كما كان له ذلك في مقام العمل خصوصا إذا
كان المفتى ممن يتبعه العموم وخصوصا إذا كان طول حياته لا يمكن له الرجوع عن
فتواه فيبقى هذا الحكم والفتوى الباطلة محل الاعتبار ومورد عمل العموم على مر
الدهور.
ففي مثل هذا يجب الفرار والتخلص عن الافتاء بأي وجه ممكن، وكذا إذا كان
الفتوى موجبا لتلف النفوس أو هتك الاعراض، ففي الأول لا يجوز له أن يفتي وإن
كان ترك الفتوى موجبا لهلاكه وقتله.
وأما الأئمة المعصومون وإن صدر منهم الفتوى بعض الأحيان على خلاف الحكم
الواقعي الأولى كانوا ينبهون الطرف بعد ذلك بأنها كانت على خلاف الواقع إما
لأجل حفظ نفسه عليه السلام أو لأجل حفظ نفس المستفتي وقضية فتوى الإمام الكاظم
عليه السلام لعلي بن يقطين في مسألة تثليث غسلات الوضوء صريحة فيما ذكرناه. (1)
والحاصل أن الفتوى على خلاف ما انزل الله للتقية امره مشكل ويختلف كثيرا
من حيث المفتي ومقبولية رأيه عند العموم وعدمها، ومن حيث إمكان اخبار الناس
التابعين له أن هذه الفتوى لم تكن حكما واقعيا وإنما صدرت تقية، وعدم امكانه ومن
حيث أهمية المفتى به، ومن حيث كونه موجبا لهلاك الأنفس وعدمه.
ففي بعض صور المسألة لا يجوز له الافتاء، وإن كان يعلم أنه يقتل لو ترك ولم

1. " الارشاد للمفيد ص 294، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 312، أبواب الوضوء، باب 32، ح 3.
79

يفت ولذلك ترى في الاخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة اصرارهم عليهم السلام
بان ما خالف كتاب الله أو قولهم ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف أو ب‍
أطل أو اطرحه على الجدار (1)، وأمثال ذلك أو قولهم في الخبرين المتعارضين: " خذ
بما خالف العامة (2) كل ذلك لأجل أن لا يتوهم أحد أن كل ما تضمنه الاخبار الصادرة
عنهم عليهم السلام بصدد بيان الأحكام الواقعية، بل جملة كثيرة منها أعطيت من جراب
النورة حسب اصطلاحهم وكان الرواة الفقهاء من أصحابهم عليهم السلام يعرفون أن هذا
الذي قال عليه السلام لهذا الراوي هل هو حكم واقعي أولى، أو صدر تقية، ولذلك كانوا
يقولون للراوي بعد ما يسمعون روايته: أعطيت من جراب النورة. هذا حال التقية في
الفتوى.
وأما التقية في الحكم مثل أن يحكم على خلاف ما انزل الله خوفا فهل يجوز أم
لا؟
أما لو كان الحكم موجبا لقتل المسلم فلا يجوز قطعا ففي الكافي والتهذيب: " إنما
جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية " (3).
وأما فيما عداه فإن كان الضرر الذي يخاف منه هو أنه يقتل لو لم يحكم فيكون
حاله حال الفتوى بغير ما أنزل الله فيه.
وفيه صور كثيرة من حيث أهمية ما يحكم به أو ترتب الفساد عليه، ففي بعضها
أيضا لا يجوز قطعا وعلى كل حال المسألة مشكل جدا وأعاذنا الله منه، وقد قال الله

1. راجع: " وسائل الشيعة " ج 18، ص 75 أبواب صفات القاضي، باب 9 باب وجوه الجمع بين الأحاديث
المختلفة وكيفية العمل بها.
2. " الاحتجاج " ص 195.
3. " الكافي " ج 2، ص 220، باب التقية، ح 16، " تهذيب الأحكام " ج 6، ص 172، ح 335، باب النوادر، ح 13،
" وسائل الشيعة " ج 11، ص 483، أبواب الأمر والنهي، باب 31، ح 1 و 2.
80

عز وجل في كتابه العزيز: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (1)
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (2) (ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الفاسقون) (3).
وأما إن لم يكن الضرر الذي يخاف منه هو القتل، فلا يجوز الحكم لعدم جواز دفع
الضرر عن نفسه باضرار الغير. والله ولي التوفيق
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

1. المائدة (5): 44.
2. المائدة (5): 50.
3. المائدة (5): 52.
81

48 - قاعدة
لا ربا الا فيما يكال أو يوزن
83

قاعدة لا ربا الا فيما يكال أو يوزن *
وفيها جهات من البحث:
[الجهة] الأولى
في مدركها
وهو الاجماع والاخبار.
الأول: الاجماع وهو وإن كان ثبوته لا ينكر، ولكن قد ذكرنا في هذا الكتاب
مرارا أن مثل هذه الاجماعات التي مداركها معلوم وأنه في المقام هي الأخبار الواردة
في هذا الباب، وقد عقد في الوسائل بابا بعنوان أن الربا لا يثبت إلا في المكيل
والموزون (1)، فلابد من مراجعة نفس المدرك وليس الاجماع من الذي يكون كاشفا
عن رأي المعصوم عليه السلام من ناحية اتفاق الأصحاب الذي بنينا على حجيته في الأصول.
الثاني: الاخبار.
فمنها: ما رواه علي بن رئاب عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " لا يكون
الربا إلا فيما يكال أو يوزن " (2).

* " القواعد " ص 239.
1. " وسائل الشيعة " ج 12، ص 434، أبواب الربا، باب 6.
2. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 19، باب فضل التجارة وآدابها، ح 81، " تفسير العياشي " ج 1، ص 152،
ح 504، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 434، أبواب الربا، باب 6، ح 1.
85

ومنها: ما رواه عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: " لا يكون الربا
إلا فيما يكال أو يوزن " (1).
ومنها: ما رواه منصور قال: سألته عن الشاة بالشاتين والبيضة بالبيضتين؟ قال:
" لا بأس ما لم يكن كيلا أو وزنا " (2).
ودلالة هذه الأخبار على هذه القاعدة واضحة وغنية عن البيان، وذلك لان
مضمونها عين مضمون القاعدة.
الجهة الثانية
في شرح مضمون القاعدة
فنقول: أما " الربا " بالكسر فهي اسم مصدر بمعنى الزيادة والفضل على ما ذكره
اللغويون أو مصدر ثان من ربى يربو ربوا ورباء، وعلى كل حال الذي يظهر من نقل
كلام اللغويين وموارد الاستعمال هو أن معناه الزيادة والنمو، وعند الفقهاء
وفي اصطلاح الشرع عبارة عن اخذ الزائد مما يعطى للطرف في أبواب المعاوضات، بل
ربما يطلق على المعاملة المشتملة على هذه الزيادة.
والظاهر: أنه من هذا القبيل قوله تعالى: (أحل الله البيع وحرم الربا) (3) إذ المراد
منه ليس حرمة تلك الزيادة فقط، بل المراد منه حرمة المعاملة المشتملة على تلك
الزيادة بقرينة المقابلة للبيع.

1. " الكافي " ج 5 ص 146، باب الربا، ح 10، " الفقيه " ج 3 ص 275، باب الربا، ح 3996، " وسائل الشيعة "
ج 12، ص 435، أبواب الربا، باب 6، ح 3.
2. " الكافي " ج 5، ص 191، باب المعاوضة في الحيوان والثياب وغير ذلك، ح 8، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 435، أبواب الربا، باب 6، ح 5.
3. البقرة (2): 275.
86

وذلك من جهة أن المشركين قاسوا وقالوا إن المعاملة الربوية مشتركة مع البيع في
طلب الزيادة، لان البايع في البيع الغير الربوي أيضا يطلب الزيادة والربح مثل إن كان
الثمن والمثمن من غير المتجانسين فإذا كان طلب الزيادة موجبا لحرمة المعاملة،
فلم لا يكون البيع أي المعاملة والمعاوضة في غير المتجانسين حراما فأنكر - الله
تعالى قياسهم وأبطله بقوله (أحل الله البيع وحرم الربا) وذلك لعله مخفية عليكم
فليس لكم الاعتراض ولذلك قالوا إن هذه الآية تدل على حرمة القياس.
هذا مضافا إلى أن قياسهم باطل حتى بناء على حجية القياس، وذلك من جهة
انه في البيع بناء البائع والمشتري على مساواة الثمن والمثمن من حيث القيمة، وإنما فائدة
البائع باختلاف الأسواق أو الأزمان، فيشتري البايع من سوق أرخص أو في
زمان أرخص ويبيع في سوق أغلى أو زمان أغلى، وإلا ففي نفس ذلك السوق أو ذلك
الزمان لابد وأن لا يخسر أحدهما بما لا يتسامح فيه، وإلا فيأتي خيار الغبن ولذلك لو
قال أحد للبايع: إن متاعك لا يسوى بهذه القيمة يتأذى، فالقياس في غير محله.
وعلى كل حال الربا تارة يكون في البيع وأخرى في القرض.
فنتكلم في مقامين:
الأول: الربا في البيع بل في جميع المعاوضات.
وهذا القسم هو مورد قاعدتنا هذه، أي عدم إتيان الربا إلا فيما إذا كان العوضان
في البيع أي الثمن والمثمن من المكيل أو الموزون.
وقبل ذلك نتكلم في حكم الربا بكلا قسميه: أي سواء كان في البيع أو كان في
القرض فنقول:
ويدل على حرمته الكتاب العزيز والأحاديث المستفيضة بل المتواترة، فحرمته
من القطعيات، بل من الضروريات بحيث يكون منكرها كافرا مرتدا، ولا ينافي ما قلنا
من أن حرمته من الضروريات اختلافهم في بعض الفروع لان ذلك إما من جهة
87

إنكار كونه من الربا موضوعا، وإما من جهة التخصيص في الحكم كموارد قاعدتنا
هذه.
أما الآيات التي تدل على حرمة الربا
فمنها قوله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الرباء
إلى آخر الآية (1).
ومنها قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم
مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم
لا تظلمون ولا تظلمون (2).
ومنها قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله
لعلكم تفلحون (3).
وأما الروايات فكثيرة جدا نذكر جملة منها.
فمنها ما رواه في الكافي باسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
درهم ربا عند الله أشد من سبعين زنية كلها بذات محرم. (4)
ومنها ما رواه سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه السلام قال: أخبث المكاسب كسب
الربا. (5)
ومنها رواية سماعة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني رأيت الله تعالى قد ذكر

1. البقرة (2): 275.
2. البقرة (2): 278 - 279.
3. آل عمران (3): 130.
4. " الكافي " ج 5، ص 144، باب الربا، ح 1، " الفقيه " ج 3، ص 274، باب الربا، ح 3991، " وسائل الشيعة "
ج 12، ص 422، أبواب الربا، باب 1، ح 1.
5. " الكافي " ج 5، ص 147، باب الربا، ح 12، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 423، أبواب الربا، باب 1، ح 2.
88

الربا في غير آية وكرره، قال: أو تدري لم ذاك؟ قلت: لا، قال: لئلا يمتنع الناس من
اصطناع المعروف. (1)
ومنها ما رواه الشيخ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: درهم من ربا
أشد عند الله من ثلاثين زنية كلها بذات محرم مثل عمة وخالة. (2)
وما رواه سعيد بن يسار عن الصادق عليه السلام قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: درهم واحد
ربا أعظم من عشرين زنية كلها بذات محرم رحم (3) خ ل.
وما رواه زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إني سمعت الله يقول يمحق
الله الربا ويربي الصدقات (4) وقد أرى من يأكل الربا يربو ماله؟ فقال عليه السلام: أي محق
أمحق من درهم ربا يمحق الدين وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر (5).
وما رواه هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن علة تحريم الربا فقال:
إنه لو كان الربا حلالا لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه، فحرم الله الربا لتنفر
الناس من الحرام إلى الحلال، وإلى التجارات: من البيع والشراء، فيبقى ذلك بينهم في
القرض (6).
وما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما حرم الله الربا كيلا يمتنعوا

1. " الكافي " ج 5، ص 146، باب الربا، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 423، أبواب الربا، باب 1، ح 3.
2. " الفقيه " ج 3، ص 274، باب الربا، ح 3991، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 14، باب فضل التجارة وآدابها،
ح 62، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 423، أبواب الربا، باب 1، ح 5.
3. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 15، باب فضل التجارة وآدابها، ح 63، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 434،
أبواب الربا، باب 1، ح 6.
4. البقرة (2) ب: 276.
5. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 15، باب فضل التجارة وآدابها، ح 65،، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 434،
أبواب الربا، باب 1، ح 7.
6. " الفقيه " ج 3، ص 567، باب معرفة الكبائر، ح 4937، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 424، أبواب الربا،
باب 1، ح 8.
89

من صنائع المعروف (1).
وما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنما حرم الله عز وجل الربا لئلا يذهب
المعروف (2).
وما رواه حماد بن عمر وأنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه
عن النبي صلى الله عليه وآله في وصيته لعلي عليه السلام قال: يا علي الربا سبعون جزء أيسرها مثل أن
ينكح الرجل أمه في بيت الله الحرام (3).
وما رواه ابن بكير قال: بلغ أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أنه كان يأكل الربا ويسميه
اللباء، فقال عليه السلام لئن أمكنني الله منه لأضربن عنقه (4).
والروايات في هذا الباب كثيرة وشديدة.
ثم إن الربا بالمعنى الذي ذكرنا له، قد يكون في البيع وقد يكون في القرض، ومورد
هذه القاعدة هو الربا في البيع، وأما الربا في القرض الذي سنتكلم فيه، فيثبت فيه
مطلقا في أي جنس كان، وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا، بل وإن كان معدودا مثلا، فلو
أعطى قرضا بيضة ببيضتين، أو جوزا بجوزين، وكذلك في غيرهما، يكون من الربا
المحرم.
أما القسم الأول أي الربا في البيع فهو أن يبيع أحد المثلين بالآخر مع الزيادة إذا
كان من المكيل أو الموزون،

1. " الفقيه " ج 3، ص 566، باب معرفة الكبائر، ح 4935، " علل الشرائع " ص 482، ح 2، " وسائل الشيعة "
ج 12، ص 424، أبواب الربا، باب 1، ح 9.
2. " الفقيه " ج 4، ص 566، باب معرفة الكبائر، ح 4936، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 425، أبواب الربا،
باب 1، ح 10.
3. " الفقيه " ج 4، ص 367، باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب، في وصايا النبي لعلي عليه السلام، ح 5762، " وسائل
الشيعة " ج 12، ص 426، أبواب الربا، باب 1، ح 12.
4. " الكافي " ج 5، ص 147، باب الربا، ح 11، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 428، أبواب الربا، باب 2، ح 1.
90

فثبوت الربا في البيع يشترط فيه أمران:
الأول اتحاد جنس الثمن والمثمن،
والثاني كونهما من المكيل أو الموزون،
والدليل على الأول مضافا إلى صعوبة تصوير الزيادة إذا كانا من جنسين:
الاجماع والاخبار.
نعم يمكن أن يكون أحد العوضين في نظر العرف وأهل الأسواق أكثر قيمة
ومالية، فيكون لصاحبه خيار الغبن إذا كانت التفاوت فاحشا لا يتسامح فيه، ولم يكن
عالما بهذا التفاوت حال البيع، وإلا فليس له حتى الخيار نعم لو كانت التفاوت بحد
تعد مثل هذه المعاملة سفهيا فيكون أصل المعاملة باطلا.
أما الاجماع فلاتفاقهم على جواز بيع المتخالفين في الجنس أي مقدار من
أحدهما بأي مقدار من الآخر نقدا، ما لم يبلغ إلى حد كون المعاملة سفهيا، نعم قلنا إنه
يثبت خيار الغبن، مع تفاوت قيمتها وجهل صاحب ما هو أزيد قيمة بالزيادة إذا كان
التفاوت لا يتسامح فيه.
وأما الاخبار
فلقوله صلى الله عليه وآله إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم (1) ولما رواه محمد بن مسلم
في حديث قال: إذا اختلف الشيئان فلا بأس به مثلين بمثل يدا بيد. (2)
والمراد من قوله عليه السلام يدا بيد أي نقدا.
ولما رواه جماعة عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما كان من طعام مختلف
أو متاع أو شئ من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد، وأما نظرة

1. " عوالي اللئالي " ج 3، ص 221، ح 86، " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 341، أبواب الربا، ح 4.
2. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 95، ح 404، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر م ذلك، ح 10، " وسائل الشيعة "
ج 12، ص 442، أبواب الراب، باب 13، ح 1.
91

فلا يصلح (1).
ومراده عليه السلام من الجملة الأخيرة هو ما قلنا بجواز بيع المختلفين في الجنس مثلين
بمثل كيلا أو وزنا فيما إذا كانت المعاملة نقدا لا نظرة ونسيئة.
ولما رواه سماعة قال سألته عن الطعام والتمر والزبيب فقال: لا يصلح شئ منه
اثنان بواحد، إلا أن يصرفه نوعا إلى نوع آخر فإذا صرفته فلا بأس اثنين بواحد
وأكثر من ذلك (2).
ولما رواه سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المختلف مثلان بمثل يدا بيد
لا بأس. (3)
ولما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل
اشترى سمنا ففضل له أيحل له أن يأخذ مكان رطلا أو رطلين زيتا قال عليه السلام:
إذا اختلفا وتراضيا فلا بأس. (4)
ولا شك في ظهور هذه الروايات بل نصوصيتها في جواز بيع المتخالفين في النوع
والجنس، مع زيادة مقدار أحد العوضين عن الآخر في المقدار كيلا أو وزنا، ولا فرق
بين أن يكون الزيادة التي في أحدهما قليلة أو كثيرة، لكن بشرط أن تكون المعاملة
نقدا ويدا بيد، لا نسيئة.
وقد ظهر مما ذكرنا أن الربا في البيع لا يثبت إلا بأمرين:

1. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 93، ح 396، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك، ح 2، " وسائل الشيعة "
ج 12، ص 442، أبواب الربا، باب 13، ح 2.
2. " الفقيه " ج 3، ص 281، باب الربا، ح 4014، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 95، ح 406، باب بيع الواحد
بالاثنين وأكثر من ذلك، ح 12، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 443، أبواب الربا، باب 13، ح 5.
3. " الكافي " ج 5، ص 190، باب المعاوضة في الطعام، ج 17، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 444، أبواب الربا،
باب 13، ح 9.
4. " قرب الإسناد " ص 114، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 445 أبواب الربا، باب 13، ح 11.
92

أحدهما اتحاد الثمن والمثمن في الجنس، وأن يكونا من نوع واحد،
الثاني كونهما مما يعتبر في بيعهما الكيل أو الوزن،
فلابد من توضيح هذين الامرين، وأنه ما المراد من اتحاد الجنس والنوع في
الشرط الأول، وأنه ما المناط في كون الشئ مكيلا أو موزونا في الشرط الثاني
فنقول:
أما المراد من اتحاد الجنس والنوع في الشرط الأول بعد الفراغ من أنه ليس
المراد به اتحاد الجنس والنوع المنطقي أي تمام المشترك الذاتي بين الحقائق المختلفة
المقول عليه، ولا الكلي المقول على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هم، لعدم كون
المناط في اتحاد الجنس أو النوع هذا المعنى في باب الربا في البيع بالضرورة.
فقد يقال إن المناط في اتحاد الجنس والنوع هو كونهما بحسب الاسم متحدين
عند العرف، بحيث لا يصح عندهم سلب الاسم الذي يطلق على أحدهما اطلاقا
حقيقيا عن الآخر،
ولا شك في أن هذا المعنى غير جار في أكثر موارد الربا، فان الشعير والحنطة
مختلفان اسما ولا يصح اطلاق اسم أحدهما على الاخر إطلاقا حقيقيا مع أنهما يعدان
في الربا جنسا واحد، وكذلك السمسم مع الشيرج واللبن مع الاقط (1) أو الزبد،
وكذلك مع الجبن، وكذلك الجبن معهما، كما أنه ربما يكون العوضان متحدين في الاسم
ومع ذلك لا يثبت الربا فيهما، وذلك كلحم الغنم والبقر فكلاهما يطلق عليهما اللحم
اطلاقا حقيقيا، ومع ذلك لا يجري الربا فيهما فهذا الضابط غير تام لا كلية له: لا طردا
ولا عكسا.
وربما يقال بأن الضابط في اتحاد جنس العوضين هو رجوعهما إلى أصل واحد،
وإن كانا فعلا بحسب الاسم مختلفين، ولا يطلق اسم أحدهما على الآخر، والأمثلة

1. الاقط: لبن يابس مستحجر يتخذ من مخيض الغنم. " القاموس المحيط " ج 2، ص 362.
93

المذكورة التي قلنا يأتي فيها الربا مع عدم اتحادهما في الاسم، كلها من هذا القبيل، أي
ترجع إلى أصل واحد.
إن قلت إن ظاهر أدلة حرمة الربا في المعاملات والمعاوضات هو بيع المثل بالمثل
مع الاختلاف في المقدار، ولا شك في أن الاقط والزبد ليسا مثلين للبن وكذلك التمر
والعنب، مع الخل المصنوع من أحدهما.
قلنا قد علل الإمام عليه السلام إتيان الربا وجريانه في الشعير والحنطة بكونهما من
أصل واحد:
ففي الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال سئل عن الرجل يبيع
الرجل الطعام الأكراد فلا يكون عنده ما يتم له ما باعه، فيقول له خذ مني مكان كل
قفيز حنطة قفيزين شعير حتى تستوفي ما نقص من الكيل، قال عليه السلام لا يصلح،
لان أصل الشعير من الحنطة ولكن يرد عليه الدراهم بحساب ما ينقص من الكيل. (1)
فقوله عليه السلام لان أصل الشعير من الحنطة تعليل لعدم جواز معاوضتهما
بالزيادة، وثبوت الربا، فيؤخذ بعموم التعليل ويسري الحكم إلى كل مورد يكون
انتهاء العوضين إلى أصل واحد، وإن لم يكونا متحدين في الاسم، وروى في الوسائل
بهذا المعنى روايات كثيرة. (2)
ولكن هذا أيضا لا يخلو عن نظر وتأمل، وذلك من جهة أن انتهاء الثمن والمثمن
مثلا إلى أصل واحد، لو كان هو الضابط في اتحاد الجنس وثبوت الربا، يلزم أن
لا يجوز بيع الملح الذي استحيل اللحم إليه باللحم متفاضلا في الكيل أو الوزن، ولا
يمكن للفقيه الالتزام بذلك.

1. " الكافي " ج 5 ص 187، باب المعاوضة في الطعام، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 438، أبواب الربا،
باب 8، ح 1. 3. راجع " وسائل الشيعة " ج 12، ص 438، أبواب الربا، باب 7: إن الحنطة والشعير جنس واحد في الربا
لا يجوز التفاضل فيهما ويجوز التساوي.
94

اللهم إلا أن يقال إنه ليس المراد هو صرف انتهائها إلى أصل واحد، وإن كانا
متباينين في أغلب الجهات، بل المراد أن يكونا بنظر العرف حقيقة واحدة ومن سنخ
واحد بحيث يحكم العرف باتحادهما وكونهما من جنس واحد، وإن اختلفا في بعض
الخواص والآثار، فالدهن والزبد مثلا حقيقة واحدة، لان الدهن عبارة عن الزبد
المذاب وإن كانا مختلفين في كثير من الخواص والآثار، وكذلك الاقط واللبن.
وبعبارة أخرى المشتقات من حقيقة واحدة تعد في نظر العرف سنخا واحدا،
وإن كانت مختلفة في خواصها وآثارها، فالدبس والتمر مثلا عند العرف حقيقة واحدة.
نعم هذا الاتحاد في بعض ما يرجع إلى أصل واحد أظهر، وفي بعضها أخفى، بل
ربما يتخيل العرف أنهما حقيقتان مختلفتان لولا تنبيه الشارع بذلك وأنهما من أصل
واحد، كما نبه بذلك في اتحاد جنس الشعير والحنطة فيما رواه الصدوق باسناده أن علي
بن أبي طالب عليه السلام سئل مما خلق الله الشعير؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى أمر آدم أن
ازرع مما اخترت لنفسك، وجائه جبرئيل عليه السلام بقبضة من الحنطة، فقبض آدم عليه السلام على
قبضة وقبضت حوى على أخرى، فقال آدم عليه السلام لحوى: لا تزرعي أنت فلم تقبل من
آدم فكلما زرع آدم جاء حنطة، وكلما زرعت حوى جاء شعيرا. (1)
فما هو التحقيق في المقام هو أن يقال إن المناط في كونهما من المتماثلين هو أن
يكونا من نوع واحد بنظر العرف، وإن كانا مختلفين بحسب الجودة والرداءة، وكانا من
صنفين أو كانا فرعين ومشتقين من حقيقة واحدة، كالدبس والخل، حيث إنهما
مشتقان من التمر أو العنب أو كانا فرعا مع أصله كالخبز مع الحنطة، وهذا القسم
الأخير يكون من المتماثلين فيما إذا لم يتبدل الأصل إلى حقيقة أخرى بذهاب صورته
النوعية واستحالته إلى نوع آخر كاللحم إذا تبدل إلى الملح.
ثم إنه لا يخفى أن الفرعين من الحقيقتين ربما يشتركان في الاسم بل ربما يكونان

1. " علل الشرائع " ج 2، ص 574، ح 2، " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 344، أبواب الربا، باب 17، ح 2.
95

بنظر العرف حقيقتهما واحدة كلحم البقر والغنم، ولكن حيث إنهما فرعان من حقيقتين
مختلفتين لا يأتي فيهما الربا وإن كان أحدهما أزيد من الاخر بحسب المقدار كيلا أو
وزنا، بل المدار في التماثل والاختلاف هو الاتحاد أو اختلاف حقيقتي أصليهما،
وبناء على هذا فزبد الغنم أو دهنه أو لبنه من المختلفين مع زبد البقرة أو دهنها أو
لبنها وإن كانا بنظر العرف ربما يكونان من المتماثلين.
وأما خل التمر فيصح بيعه بخل العنب وإن كان أحدهما أزيد من الاخر بحسب
الوزن أو الكيل، لما ذكرنا من اختلاف أصليهما بحسب الحقيقة.
والدليل على ما ذكرنا من الضابط في تحقق الربا هو الأخبار الواردة في هذا
الباب والاجماعات المدعاة في المقام، وقد تقدم تعليل الإمام الصادق عليه السلام فيما رواه
هشام بن سالم عنه عليه السلام عدم جواز بيع الشعير بالحنطة متفاضلا كأن يأخذ مشتري
الحنطة من بايعها، مكان كل قفيز من الحنطة قفيزين من شعير، بأن أصل الشعير من
الحنطة مشيرا بذلك إلى قصة آدم وحوا وزرعهما الحنطة ومجيئ زرع حوا
شعيرا وقد تقدم رواية الصدوق ذلك ولا شك في أن الاخذ بعموم هذا التعليل
يوجب عدم جواز بيع كل فرد مع أصله مع التفاضل.
نعم خالف ابن إدريس قدس سره (1) في هذه المسألة وقال بجواز بيع الحنطة بالشعير
متفاضلا لأنهما جنسان، وحكى الجواز عن ابن أبي عقيل أيضا واستدل على ذلك
بقوله صلى الله عليه وآله: إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم. (2)
ويدل أيضا على ما قال من الجواز رواية سماعة وكذلك رواية علي بن
جعفر عليه السلام المتقدمتان
ولكن أنت خبير بأن عمون التعليل مخصص لهذه العمومات، فلا يبقى وجه

1. " السرائر " ج 2، ص 254.
2. " عوالي اللئالي " ج 3، ص 221، ح 86، " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 341، أبواب الربا، باب 12، ح 4.
96

لخلاف ابن إدريس،
هذا مضافا إلى الاجماع وورود روايات متعددة في خصوص المقام أي بيع
الحنطة بالشعير أو بالعكس متفاضلا، وقد عقد في الوسائل بابا لذلك، إن شئت فراجع.
وأما المراد من المكيل والموزون في الشرط الثاني
أقول: أما مفهوم المكيل والموزون أو ما يكال ويوزن، فواضح لا خفاء فيهما.
وذلك من جهة أن وقوع المعاملة على متاع لا يصح إلا بتعيين ذلك المتاع كي لا يكون
مجهولا وغرريا وارتفاع الغرر والجهل عند العرف والعقلاء يختلف بالنسبة إلى
الأمتعة وما يقع عليه المعاوضة والمعاملة، ففي بعضها بالمشاهدة، وفي بعضها
بالتوصيف وبيان الخصوصيات، وفي بعضها بالذرع، وفي بعضها بالعدد، وفي بعضها
بالكيل أو الوزن، وكلامنا في هذا القسم الأخير أي فيما لا يصح المعاملة فيها إلا
بالكيل أو الوزن، وقد ذكرنا أن هذين المفهومين أي الكيل والوزن من المفاهيم
الواضحة التي لا تحتاج إلى الشرح والايضاح.
نعم حيث إن المكيلية والموزونية عند العرف والعقلاء في باب المعاوضات
والمعاملات تختلف بحسب الأزمنة والبلاد: فرب متاع يكون من المكيل أو الموزون في
زمان ومن المعدود في زمان آخر، وكذلك بالنسبة إلى البلاد فيكون من المعدود في بلد
ومن الموزون في بلد آخر.
فبعد قيام الحجة على اشتراط ثبوت الربا في المعاملات عدا القرض بأن
يكون العوضان من المكيل أو الموزون والمفروض اختلافهما باختلاف الأزمنة
والأمكنة، فيبقى مجال للكلام في أنه هل المدار على كونهما أي العوضين من المكيل
والموزون في زمان الشارع أو في زمان وقوع المعاملة وكذلك الامر في اختلاف
البلاد هل المدار هو عرف البلد الذي صدرت فيه هذه الروايات التي تدل على اعتبار
97

هذا الشرط في خصوص زمان الصدور أو مطلقا أو المدار على عرف البلد الذي تقع
فيه هذه المعاملة؟
أقول لا شك في أن تشخيص المراد وتعيينه من الألفاظ المستعملة في الروايات
يكون بما يفهمه العرف منها بعد الفراغ عن أن الشارع لم يخترع طريقة خاصة
للتفهيم، بل يلقى مراداته إلى المكلفين على طريقة أهل المحاورة والعرف.
فبناء على هذا مقتضى القواعد الأولية هو أن يكون المراد منهما ما هو المكيل
والموزون في زمان الشارع وفي لسانه وعرف بلده، ولعله لذلك ادعى بعضهم الاجماع
على أن ما كان موزونا أو مكيلا في زمان النبي صلى الله عليه وآله يدخل فيه الربا وإن تغير فيما بعد
وصار معدودا كما أن الخبز كان موزونا والآن في زماننا صار معدودا في بعض البلاد.
فبناء على هذا المدار في الكيل والوزن هو المكيلية والموزونية في زمانه صلى الله عليه والله في
الأجناس التي كانت في زمانه وبلاده، وأما الأجناس التي لم تكن في ذلك الزمان
كالطماطة والبطاطة فيعتبر حالها بالنسبة إلى البلد التي يقع البيع في ذلك البلد، فان
كانت مكيلة أو موزونة فيدخل فيه الربا وإلا فلا.
وقد ذكر العلامة قدس سره في التذكرة أنه قد أجمع المسلمون على ثبوت الربا في
الأشياء الستة لقول النبي صلى الله عليه وآله الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل،
والتمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير
مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا
البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد واختلف فيما
سواها. (1)
ثم ذكر اختلاف الفقهاء في بعض الفروع ثم قال بلزوم الاخذ باطلاق قوله

1. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 476.
98

تعالى وحرم الربا (1) في موارد الشك إلا أن يثبت التقييد،
والتحقيق بدخول الربا في هذه الأجناس الستة التي ي صرح صلى الله عليه وآله بدخول الربا
فيها، سواء كانت في الأزمنة المتأخرة عنه صلى الله عليه وآله يباع بالكيل أو الوزن أم لا، وذلك
لجعله صلى الله عليه وآله موضوع الحكم نفس هذه العناوين من دون تعليقه على كونها مكيلة أو
موزونة، واحتمال أن يكون الحكم لأجل كونها من المكيل أو الموزون لا شاهد له.
وأما ما عداها فإن كان في عصره صلى الله عليه وآله من المكيل أو الموزون، فيدخل في الربا
مع اتحاد الجنس أو كان العوضين فرعا للعوض الآخر كالدبس مع التمر مثلا أو كان
العوضان فرعين لجنس واحد كما إذا باع الدبس بالخل، إذا كان كلاهما من فروع التمر
مثلا أو كان كلاهما متخذين من العنب مثلا للاجماع
وأما لو لم يكن في عصره صلى الله عليه وآله من المكيل والموزون فدخول الربا فيه مشروط
بكونه من المكيل أو الموزون حال وقوع المعاملة.
وأما لو كان مختلفا بحسب البلاد بأن يكون في بلد من المكيل أو الموزون وفي
بلد آخر من المعدود كما في الخيار والبرتقال في هذا الزمان فإنهما في بعض البلاد يباع
بالوزن، وفي بعض البلاد يباع بالعدد، فيلحقه في كل بلد حكم ما هو المتعارف في ذلك
البلد.
ففي البلد الذي يباع بالكيل أو الوزن يدخل فيه الربا بشرط أن يكون العوضان
من المتحد في الجنس أو كان رجوعهما إلى جنس واحد وذلك من جهة أن مفاد
قوله عليه السلام لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن (2) وهو أن دخول الربا في معاملة منوط
بأن يكون العوضان المتحدان في الجنس مما يكال أو يوزن.

1. البقرة (2): 275.
2. " الكافي " ج 5، ص 146، باب الربا، ح 10، " الفقيه " ج 3، ص 275، باب الربا، ح 3996، " تهذيب الأحكام "
ج 7، ص 17، ح 74، وص 19، ح 81، وص 118، ح 515، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 434، أبواب الربا، باب 6، ح 1 و 3.
99

فهذا حكم كلي مجعول بنحو القضية الحقيقية على الموضوع المقدر وجوده، فمتى
وجد مصداق في الخارج لهذا الموضوع الكلي المقدر وجوده، يصير حكمه فعليا كما
هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية، وقد أوضحنا في محله (1) أن جعل جميع الأحكام
الشرعية يكون على نهج القضايا الحقيقية.
ومقتضى ما ذكرنا هو أنه لو كان العوضان من المكيل والموزون في زمان الشارع
ولم يكن منهما في هذا الزمان عدم دخول الربا في تلك المعاملة لأنه من تبدل موضوع
الحكم كما أنه بالعكس لو كانا من المكيل أو الموزون في هذا الزمان ولم يكونا منهما في
زمان الشارع يجب الحكم بدخول الربا لتحقق الموضوع ومعلوم أن وجود الحكم
وتحققه تابع لوجود موضوعه وتحققه.
ولكن تقدم أنه صلى الله عليه وآله رتب الحكم في تلك الستة المتقدمة على نفس عناوينها أي
عنوان البر والشعير والتمر والملح والفضة والذهب، فمتى وجدت هذه العناوين أي
صار العوضان من أحدها، يترتب الحكم، سواء كان من المكيل أو الموزون أو لم
يكن.
وأما بالنسبة إلى غيرها فإن كان من المكيل أو الموزون في عصره فيدخل فيه
الربا إلى يوم القيامة وإن تبدل وصار من غيرهما في الأزمنة المتأخرة مع أنه خلاف
ما ذكرنا من جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية وذلك للاجماع الذي ادعوه في
المقام.
فان ثبت الاجماع فهو وإلا فللكلام مجال بأن يقال بان صرف كونه من المكيل
والموزون في زمان النبي صلى الله عليه وآله مع عدم كونه منهما في زمان وقوع المعاملة لا يوجب
دخول الرباء فيه، بل مقتضى القاعدة المتقدمة، وهو جعل الأحكام على نهج القضايا
الحقيقية، هو كونه من المكيل أو الموزون في زمان وقوع المعاملة، وإلا لا يدخل

1. " منتهى الأصول " ج 1، ص 157.
100

فيه الربا.
وخلاصة الكلام أن قوله عليه السلام لا يكون الربا الا فيما يكال أو يوزن مشتمل على
عقدين أحدهما إيجابي والآخر سلبي، وكل واحد منهما متكفل لبيان حكم على نحو
القضية الحقيقية، والعقد السلبي مفاده عدم تحقق الربا في غير المكيل والموزون، والعقد
الايجابي تحققه فيهما.
ففي كل عصر أو مصر كان متاع من المكيل أو الموزون فبيعه بما هو من جنسه
أو بما هو من فروعه أو بما هو معه يرجعان إلى أصل واحد ويكون فرعين من
جنس واحد بزيادة أحدهما على الآخر في المقدار يكون من الربا المحرم.
وأما العقد السلبي فمفاده هو أن كل متاع لم يكن منهما في أي عصر وفي أي مصر
كان فلا يدخل فيه الربا، فتحقق الربا يدور مدار كون المتاع من المكيل أو الموزون في
زمان وقوع المعاملة، ولا أثر لكونه كذلك في زمان قبل وقوع المعاملة أو بعده، كما أن
عدم الربا كذلك يدور مدار عدم كونه منهما حال المعاملة، ولا أثر للعدم قبله أو بعده.
فهذه قاعدة كلية يجب العمل بها إلا أن يأتي دليل بالخصوص في مورد من
إجماع أو غيره يكون مخصصا لها.
ثم إن الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم ذكروا موارد لتخصيص هذه القاعدة
منها انه لا رباء بين الوالد وولده والزوج وزوجته والسيد ومملوكه وبين
المسلم والحربي بمعنى أخذ المسلم الفضل منه وسنتكلم في هذه الفروع تفصيلا إن شاء الله
تعالى.
هذا كله فيما إذا علم أن الشئ الفلاني كان من المكيل أو الموزون في زمن
رسول الله صلى الله عليه وآله فعلى تقدير ثبوت الاجماع المذكور نحكم بدخول الربا فيه إلى يوم
القيامة، وإن لم يكن منهما من الأزمنة المتأخرة عنه صلى الله عليه وآله
أما لو شك في كونه كذلك في زمنه صلى الله عليه وآله فدليل حرمة الربا وإن كان لا يشمله -
101

بناء على تقييده بما إذا كان مكيلا أو موزونا في زمن الرسول فيما إذا لم يكن كذلك في
الأزمنة المتأخرة، فيكون حرمة مثل تلك المعاملة مشكوكة ولا يمكن التمسك للحرمة
باطلاقات أدلة حرمة الربا، لكونه من التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية
لنفس العام، ومقتضى الأصل العملي هي البراءة بالنسبة إلى الحرمة، ولكن بالنسبة إلى
صحة المعاملة وتأثيرها في النقل والانتقال، فمقتضى الأصل عدم النقل والانتقال.
والذي يسهل الخطب أن ثبوت مثل هذا الاجماع غير معلوم، فيكون مقتضى
القواعد وجعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية هو أن موضوع الحرمة والفساد هو
كونه مكيلا أو موزونا في وقت وقوع المعاملة.
ثم إن ما ذكرنا من صحة بيع المختلفين في الجنس وان كانت في أحد العوضين
زيادة وزنا أو كيلا أو عددا كمن من العدس مثلا بمنين من الحنطة، أو قفيز بقفيزين
أو فرس ببقرين وأمثال ذلك فيما إذا كانت المعاملة نقدا أما لو كانت نسيئة فربما يقال
بعدم صحته، وذلك لقول الصادق عليه السلام ما كان من طعام مختلف أو متاع أو شئ
من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد، فأما نظرة فلا يصلح (1)
وصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال البعير بالبعيرين والدابة بالدابتين يدا بيد
ليس به بأس (2) ولغير ما ذكرنا من الاخبار الاخر التي تركنا ذكرها، وذلك لان سياق
كلها سياق ما ذكرنا.
وأنت خبير بأن دلالة هذه الأخبار على ثبوت البأس فيما إذا كانت نسيئة بمفهوم
الوصف بل اللقب، وقد أشكلنا في الأصول (3) في ثبوت المفهوم في أمثال المقام، وعلى

1. " الكافي " ج 5، ص 191، باب المعاوضة في الحيوان والثياب، ح 6، " الفقيه " ج 3، ص 279، باب الربا،
ح 4006، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 93، ح 395، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك، ح 1، " وسائل
الشيعة " ج 12، ص 442، أبواب الربا، باب 13 ح 2.
2. " الفقيه " ج 3، ص 279، باب الربا، ح 4007، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 449، أبواب الربا، باب 17، ح 1.
3. " منتهى الأصول " ج 1، ص 435.
102

تقدير ثبوت المفهوم لها تكون معارضة بما هو أقوى منها دلالة، وجهة لموافقة هذه الأخبار
لما هو المشهور عند العامة.
نعم الخبر الأول وهو قوله عليه السلام فأما نظرة فلا يصلح دلالته على عدم جواز
النسيئة بالمنطوق، ولكن الكلام في أن نفي الصلاح ليس صريحا ولا ظاهرا في الفساد
بل له كمال المناسبة مع الكراهة فهو أعم من الفساد فالأقوى ما ذهب إليه المشهور
من الكراهة دون الفساد.
واستدل المشهور على الجواز بعدة روايات
منها ما عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال لا يكون الربا إلا فيما يكال أو
يوزن. (1)
ومنها ما عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا يكون الربا
إلا فيما يكال أو يوزن. (2)
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم. (3)
وروايات أخر (4) نترك ذكرها لان سياق جميعها سياق ما ذكرنا.
ولكن الانصاف أن الروايات المتقدمة التي قلنا إن مفادها عدم ثبوت الربا في
المختلفين فيما إذا كانت يدا بيد لا مطلقا يمكن ان تقيد هذه المطلقات إلا أن يقال بأن
مطابقتها لفتوى المشهور من العامة أسقطها عن الاعتبار، وكذلك إعراض المشهور

1. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 19، باب فضل التجارة وآدابها وغير ذلك، ح 81، " تفسير العياشي " ج 1،
ص 152، ح 504، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 434، أبواب الربا، باب 6، ح 1.
2. " الكافي " ج 5، ص 146، باب الربا، ح 10، " الفقيه " ج 3، ص 275، باب الربا، ح 3996، " وسائل الشيعة "
ج 12، ص 434، أبواب الربا، باب 6، ح 3.
3. " عوالي اللئالي " ج 3، ص 221، ح 86، " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 341، أبواب الربا، باب 12، ح 4.
4. راجع: " وسائل الشيعة " ج 12، ص 442، أبواب الربا، باب 13.
103

عنها حيث إنهم أفتوا بكراهة بيع المختلفين جنسا نسيئة مع الزيادة في أحدهما
كالثوب بثوبين، والفرس بفرسين، ولا يقول بحرمته إلا الشيخ في النهاية (1) والمفيد (2) وابن
أبي عقيل وابن الجنيد. (3)
وحاصل الكلام أنه إما أن يجمع بين الطائفتين بحمل أخبار المانعة على الكراهة،
أو يرفع اليد عنها لموافقتها للعامة وإعراض المشهور عنها، فتأمل.
والأحسن هو الجمع بينهما بحمل أخبار المانعة على الكراهة فإنه جمع عرفي في
أمثال المقام،
وربما يؤيد هذا الجمع ما في صحيحة محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الثوبين الرديين بالثوب المرتفع، والبعير بالبعيرين، والدابة بالدابتين؟ فقال عليه السلام
كره ذلك علي عليه السلام فنحن نكرهه إلا أن يختلف الصنفان (4) الخ.
وهذا بناء على أن يكون الكراهة بمعناها المصطلح أي ما هو أحد الأحكام الخمسة
، ولكن يمكن أن يقال إن المراد من الكراهة ههنا هو معناها اللغوي، فلا
ينافي الحرمة، خصوصا بضميمة قوله عليه السلام ولم يكن علي عليه السلام يكره الحلال. (5)
هذا كله مضافا إلى أن مورد هذه الرواية ليس من المختلفين في الجنس الذي هو
محل الكلام، نعم ليس المورد من الربويين، وإن كانا متحدين جنسا، لأنهما ليسا مما
يكال أو يوزن.

1. " النهاية " ص 377.
2. " المقنعة " ص 603.
3. نقله عنهما في " مختلف الشيعة " ج 5، ص 117.
4. " تهذيب الأحكام " ج 7 ص 120، ح 521، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك، ح 127، " الاستبصار "
ج 3، ص 101، ح 353، باب بيع ما لا يكال ولا يوزن... ح 7، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 449، أبواب الربا،
باب 16، ح 7.
5. " الكافي " ج 5، ص 188، باب المعاوضة في الطعام، ح 7، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 96، ح 412، باب
بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك، ح 18، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 447، أبواب الربا، باب 15، ح 1.
104

هذا كله فيما إذا لم يكن العوضان ربويين،
وأما إذا كانا واجدين لشرائط الربا أي كانا متحدي الجنس، وكانا مما يكال أو
يوزن، فلا شك في جواز بيعهما مثلا بمثل بغير تفاضل نقدا، ولكن الكلام في جواز
بيعهما نسيئة، وإن كان مثلا بمثل وزنا أو كيلا، والمشهور عدم جوازه بل ادعى الاجماع
على عدم الجواز.
وذلك كما إذا باع قفيزا من الحنطة الرديئة نقدا بقفيز من الحنطة الجيدة نسيئة، أو
مطلق الحنطة بمطلقها وإن لم يكن بينهما اختلاف في الجودة والردائة، وذلك من جهة أن
الأجل زيادة حكمية.
ففي المفروض وإن لم يكن زيادة عينية في البين، ولكن الزيادة الحكمية
موجودة لان للأجل قسطا من الثمن لا يجوز، للاجماع، ولما رواه الصدوق قدس سره في
الفقيه عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الفضة بالفضة مثل بمثل، والذهب بالذهب
مثل بمثل ليس فيه زيادة ولا نظرة، الزائد والمستزيد في النار. (1)
نعم إنه بعد ما عرفت معنى الربا وأنه عبارة عن الزيادة في أحد العوضين، إن كانا
متحدي الجنس وكانا مما يكال أو يوزن، فاعلم
أنه وقع الخلاف في أنه مختص بالبيع والقرض أم يأتي في سائر
المعاوضات،
قال الشهيد (2) والمحقق (3) الثانيان بثبوته في جميع المعاوضات، وكلام المحقق والعلامة
مختلف في كتبهما، فالمحقق في الشرائع (4) والعلامة في القواعد (5) والارشاد (6) قالا

1. " الفقيه " ج 3، ص 288، باب الصرف ووجوهه، ح 4037، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 456، أبواب
الصرف، باب 1، ح 1.
2. " مسالك الأفهام " ج 3، ص 317.
3. " جامع المقاصد " ج 4، ص 266.
4. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 37.
105

باختصاصه بالبيع، وقال المحقق في كتاب الغصب (7) بثبوت الربا في كل معاوضة، ونسب
الأردبيلي (8) قدس سره هذا القول إلى الأكثر.
والعمدة هو ملاحظة أدلة القولين واختيار ما هو الصواب والأحق:
فأما ما يقال بأن الربا هو الزيادة في البيع والقرض فقط، وأن الزيادة في سائر
المعاوضات فلا يطلق عليه الربا،
فصرف ادعاء من دون دليل، وذلك لان الربا في اللغة هي الزيادة وعند العرف
الذي هو المناط في تشخيص معاني الألفاظ وتعيين مرادات المتكلمين من ألفاظ
كلامهم، هو زيادة أحد العوضين من متحدي الجنس في المعاملات، خصوصا إذا كانا
من المكيل والموزون، فمن أين جاء هذا التخصيص والتضييق.
اللهم إلا أن يدعى أن الشارع وضعه لخصوص الزيادة لاحد العوضين في
خصوص باب البيع والقرض،
وأنت خبير بأن هذا دعوى بلا بينة ولا برهان، بل معنى الربا في أبواب المعاملات
عرفا هو زيادة العوضين على الاخر، وزنا أو كيلا إذا كانا متحدي الجنسين فلو صالح
منا من الحنطة الجيدة مثلا بمنين من غير الجيدة يكون من الربا المحرم، ويشمله
عموم قوله تعالى: وحرم الربا.
وأما ورود لفظ البيع أو القرض كثيرا خصوصا الأول منهما في الروايات الواردة
في أبواب الربا فمن جهة أنهما المعاملتان الشايعتان في الأسواق وعند الناس رباء.
هذا مضافا إلى المطلقات الواردة في طائفة من الروايات، بحيث يشمل كل

5. " قواعد الأحكام " ج 1، ص 140.
6. " إرشاد الأذهان " ج 1، ص 377.
7. " شرائع الاسلام " ج 3، ص 189.
8. " مجمع الفائدة والبرهان " ج 8، ص 452.
106

معاوضة تقع على متحدي الجنسين بالزيادة
منها ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن الرجل يدفع
إلى الطحان الطعام فيقاطعه على أن يعطي لكل عشرة أرطال اثني عشر دقيقا قال
لا: قلت فالرجل يدفع السمسم إلى العصار يضمن له لكل صاع أرطالا مسماة،
قال لا (1)
ومعلوم أن هذا ليس بيعا بل الأول صرف التزام ومقاطعة بأن يعطي بدل
عشرة أرطال من الحنطة اثني عشر من الدقيق وفي الثاني ضمان وليس من باب البيع
أو القرض.
ومنها أيضا ما رواه محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: الحنطة
بالدقيق مثلا بمثل، والسويق بالسويق مثلا بمثل، والشعير بالحنطة مثلا بمثل لا بأس. (2)
وبهذا المضمون روايات كثيرة (3) لا اختصاص لها بالبيع، ولا ذكر منه فيها بل
يشمل مطلق المبادلة والمعاوضة،
اللهم الا أن يقال بأنها منصرفة إلى خصوص البيع، لأنه هي المعاملة المتعارفة
بين الناس والمتداولة فيما بينهم في أمثال المقام،
وأنت خبير بان صرف كثرة الوجود لا يكون من أسباب الانصراف بل المبادلة
والمعاوضة أعم من البيع ويشمل سائر المعاوضات أيضا.
وكذلك يدل على عدم اختصاصه بخصوص البيع والقرض الروايات الواردة في

1. " الكافي " ج 5، ص 189، باب المعاوضة في الطعام، ح 11، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 440، أبواب الربا،
باب 9، ح 3.
2. " الكافي " ج 5، ص 189، باب المعاوضة في الطعام، ح 10، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 440، أبواب الربا،
باب 9، ح 2.
3. راجع: " وسائل الشيعة " ج 12، ص 437 - 441، باب 8، 9 و 10.
107

حرمة الربا وهي كثيرة
منها ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: درهم ربا عند الله أشد من
سبعين زنية كلها بذات محرم. (1)
وأيضا يدل على التعميم لكل معاوضة الروايات الكثيرة (2) الواردة في حكمة
تحريم الرباء، وهي كثيرة
منها ما رواه سماعة قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام إني رأيت الله تعالى قد ذكر
الربا في غير آية وكرره؟ قال أو تدري لم ذاك؟ قلت: لا، قال: لئلا يمتنع الناس من
اصطناع المعروف. (3)
ثم إنه لا يخفى أن دلالة هذه الروايات على التعميم منوط بكون الربا عبارة عن
الزيادة في أحد العوضين المجانسين في مطلق المعاوضات لا خصوص الزيادة في
باب البيع أو القرض، ومما ذكرنا ظهر أنه لا مجال للتمسك لعدم عمومه واختصاصه
بالبيع وحده أو مع القرض فقط بأصالة الحل والإباحة، وذلك لحكومة الاطلاقات
عليهما.
وأما ما ذكره الطبرسي في تفسير آية أحل الله البيع وحرم الربوا بقوله أي أحل
الله البيع الذي لا ربا فيه وحرم البيع الذي فيه الربا، (4)
فأولا لا حجية لتفسيره إن لم يكن مستندا إلى الرواية المعتبرة، مع أنه خلاف
ظاهر الآية، لان ظاهرها الاطلاق وعدم اختصاصه بالبيع،

1. " الكافي " ج 5، ص 144، باب الربا، ح 1، " الفقيه " ج 3، ص 274، باب الربا، ح 3992، " وسائل الشيعة "
ج 12، ص 422، أبواب الربا، باب 1، ح 1.
2. راجع: " وسائل الشيعة " ج 12، ص 422، أبواب الربا، باب 1.
3. " الكافي " ج 5، ص 146، باب الربا، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 423، أبواب الربا، باب 1 ح 3.
4. " مجمع البيان " ج 1، ص 389.
108

وثانيا هو في مقام بيان مورد نزول الآية ردا على ما كانوا يقولون بأن الربا مثل
البيع، والعبرة بعموم ألفاظ الآيات لا بخصوصية مواردها،
وثالثا أن المطلقات والعمومات التي تدل على حرمة الربا في جميع المعاوضات
كثيرة لا تنحصر في هذه الآية فقط.
وخلاصة الكلام أن الروايات التي تدل على حرمة الربا مطلقا في أي معاوضة
كانت كثيرة فلا بد من الحكم بدخوله في جميع المعاوضات التي تقع بين متحدي
الجنسين، إذا كانا من المكيل أو الموزون، إلا إذا جاء دليل على التخصيص في مورد.
وأما رواية إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله عليه السلام قال الربا رباءان رباء
يؤكل ورباء لا يؤكل، فأما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل
منها، فذلك الربا الذي يؤكل، وهو قول الله عز وجل وما آتيتم من ربا ليربو في
أموال الناس فلا يربو عند الله (1) وأما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عز وجل عنه
وأوعد عليه النار. (2)
فاطلاق الربا على الثواب الذي يعطيه الله تبارك وتعالى عوضا عن الصدقة أو
الهدية إلى المؤمن ليس من الربا المعاملي الذي هو محل الكلام، فعلى تقدير القول
بالعموم ليس هو مخصصا للعموم.
ثم إن هاهنا فروعا بعضها راجع إلى الشرط الأول، أي اشتراط ثبوت الربا
بكون العوضين متحدي الجنسين، وبعضها راجع إلى الشرط الثاني أي كونهما من
المكيل أو الموزون.

1. الروم (30): 39.
2. " الكافي " ج 5، ص 145 باب الربا، 6، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 429، أبواب الربا، باب 3 ح 1.
109

أما القسم الأول
فنذكره في ضمن مسائل
المسألة الأولى ذهب أكثر الأصحاب إلى أنه لا يجوز بيع الحنطة بالشعير الا
مثلا بمثل، بل هذا القول هو المشهور، بل لم ينقل الخلاف الا من ابن إدريس (1) ولذلك
قال في الجواهر: بل كادت تكون اجماعا وحكى الاجماع على الغنية (2) ومحكى خلاف
الشيخ. (3)
والأقوى هو القول المشهور
وذلك أولا لما تقدم من رواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال سئل عن
الرجل يبيع الرجل الطعام الأكراد فلا يكون عنده ما يتم له ما باعه، فيقول له خذ
مني مكان كل قفيز من حنطة قفيزين من شعير، حتى تستوفي ما نقص من المكيل،
قال عليه السلام لا يصلح لان أصل الشعير من الحنطة ولكن يرد عليه الدراهم بحساب
ما نقص من الكيل. (4)
وثانيا لرواية أبي بصير وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الحنطة والشعير رأسا
برأس لا يزاد واحد على الآخر (5)
وأيضا لرواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال عليه السلام لا يباع مختومان من

1. " السرائر " ج 2، ص 255.
2. " الغنية " ضمن " الجوامع الفقهية " ص 588.
3. " جواهر الكلام " ج 23، ص 344.
4. " الكافي " ج 5 ص 187، باب المعاوضة في الطعام، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 438، أبواب الربا،
باب 8، ح 1.
110

شعير بمختوم من حنطة، ولا يباع إلا مثلا بمثل، والتمر مثل ذلك (1)
وروايات كثيرة بهذا المضمون أو ما هو قريب منه جمعها في الوسائل في الباب
الثامن من أبواب الرباء، (2) إن شئت فراجع.
وثالثا لما ذكره العلامة في التذكرة أن معمر بن عبد الله بعث غلاما له ومعه
صاع من قمح فقال اشتر شعيرا فجاءه بصاع وبعض صاع فقال له رده، فان
النبي صلى الله عليه وآله نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل، وطعامنا يومئذ الشعير. (3)
وأيضا تقدم ما رواه الصدوق باسناده عن علي عليه السلام قصة زرع آدم وحوى وأن
كل واحد منهما قبض قبضة من الحنطة التي جاء بها جبرئيل عليه السلام وقال آدم لحوى
لا تزرعي أنت فلم تقبل من آدم فكلما زرع آدم من تلك الحنطة جاء حنطة وكلما
زرعت حواء جاء شعيرا. (4)
والمقصود من نقل هذه الرواية أن أصل الحنطة والشعير واحد فيكونان فرعين
من أصل واحد وكلما كان هكذا فبيعه مع الفرع الاخر من متحدي الجنس يدخل فيه
الرباء وقد ذكرنا فيما تقدم أنه عليه السلام علل عدم جواز بيع الحنطة بالشعير إلا مثلا بمثل
بأنهما من أصل واحد وفي أغلب هذه الروايات هذا التعليل موجود، وقلنا يلزم
الاخذ بهذا التعليل في جميع الموارد والفروع التي من هذا القبيل.
فالاختلاف في الاسم والعنوان لا أثر له مع هذا التعليل، ولذلك ترى أنه في
أغلب الفروع التي مرجعها إلى أصل واحد، الأسماء والعناوين مختلفة، ومع ذلك حكم
الأصحاب بدخول الربا فيها.

1. " الكافي " ج 5، ص 187، باب المعاوضة في الطعام، ح 3، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 94، ح 399، باب
بيع الواحد بالاثنين...، ح 5، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 438، أبواب الربا، باب 8، ح 4.
2. " وسائل الشيعة " ج 12، ص 437.
3. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 477.
4. " علل الشرائع " ج 2، ص 574، ح 2، " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 344، أبواب الربا، باب 17، ح 2.
111

ألا ترى أن الاقط مع الدهن فيما إذا اخذا من حليب واحد اسمان وعنوانان
مختلفان، بل يمكن أن يقال هما نوعان ومهيتان، ومع ذلك له عدهما الأصحاب من
جنس واحد لرجوعهما إلى أصل واحد، فكل واحد منهما بعض من ذلك الحليب الذي
اخذا منه.
فإذا أحطت بما ذكرنا تعرف ما في كلام إدريس (1) أنه لا خلاف بين المسلمين
العامة والخاصة ولا بين أهل اللغة واللسان في أنهما مختلفان، وأنه لم يذهب إلى الاتحاد
غير شيخنا أبي جعفر والمفيد ومن قلده في مقالته من العجب والغرابة.
وأما استشهاده بفتاوى ابني بابويه أي الصدوقين والمرتضى أعلى الله
مقامهم من عدم البأس ببيع الواحد بالاثنين إذا اختلف الجنس ففي غير محله، من
جهة أن الدعوى هاهنا أنهما من جنس واحد باعتبار أنهما من أصل واحد، فقياسهما
بمختلفي الجنس وإدراجهما فيه لا يجوز،
وأما ذهاب ابن عقيل وابن الجنيد (2) إلى جواز بيعهما بأن يكونا العوضين مع
التفاضل، فلا يضر بما ذكرنا لوضوح الدليل فيما هو خلاف ما أفادا، فلا ينبغي التأمل
في عدم جواز بيع الحنطة بالشعير مع التفاضل في أحدهما، بل لابد وأن يكون مثلا
بمثل وزنا أو كيلا.
المسألة الثانية قال في الشرائع (3) ثمرة النخل جنس واحد وإن اختلفت
أصنافه فلا يجوز بيع من من الخستاوي الذي هو من الصنف الجيد مثلا بمنين من
الدقل الذي هو من الصنف الردي وهكذا الامر في الزاهدي والبرني والدقل، فلا
يجوز بيع مد من البرني بمدين من الدقل.

1. " السرائر " ج 2، ص 254.
2. نقله عنهما في " السرائر " ج 2، ص 255.
3. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 38.
112

ويدل على ذلك روايات.
منها ما رواه سيف التمار قال قلت لأبي بصير أحب أن تسأل أبا عبد الله عليه السلام
عن رجل استبدل قوصرتين (1) فيهما بسر مطبوخ بقوصرة فيها نمر مشقق، قال: فسأله
أبو بصير عن ذلك فقال عليه السلام: هذا مكروه، فقال أبو بصير ولم يكره؟ فقال عليه السلام إن
علي بن أبي طالب عليه السلام كان يكره أن يستبدل وسقا من تمر المدينة بوسقين من تمر
خيبر، لان تمر المدينة أجودهما [أدومهما] خ ل ولم يكن علي عليه السلام يكره الحلال. (2)
ومنها ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال عليه السلام لا يباع مختومان من
شعير بمختوم من حنطة، ولا يباع إلا مثلا بمثل، والتمر مثل ذلك. (3)
ومنها ما رواه سماعة قال: سألته عن الطعام والتمر والزبيب فقال عليه السلام
لا يصلح شئ منه اثنان بواحد إلا أن يصرفه نوعا إلى نوع آخر، فإذا صرفته
فلا بأس اثنين بواحد أو أكثر من ذلك. (4)
ويظهر من هذه الروايات أنه لا يجوز بيع التمر بالتمر إلا مثلا بمثل، وإن كان
العوضان مختلفين صنفا كما لو كان أحدهما جيدا والآخر رديا، ثم إن ثمرة الكرم أيضا
مثل ما ذكرنا في ثمرة النخل، جميعها من جنس واحد، فالعنب على كثرة أقسامه حتى
قيل إن في بعض البلاد خمسة وعشرين قسما منها موجود، وقد نظم الشيخ الجليل

1. " القوصرة: وعاء من قصب يعمل للتمر يشدد ويخفف. ولعل المراد بالمشقق ما أخرجت نواته، أو اسم
نوع منه. ويحتمل أن يكون تصحيف المشقة، قال في النهاية: نهى عن بيع التمر حتى يشفه، وجاء تفسيره
في الحديث الاشقاة أن يحمر أو يصفر. مرآة العقول.
2. " الكافي " ج 5، ص 188، باب المعاوضة في الطعام، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 447، أبواب الربا،
باب 15، ح 1.
3. " الكافي " ج 5، ص 187، باب المعاوضة في الطعام، ح 3، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 94، ح 399، باب
بيع الواحد بالاثنين...، ح 5، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 438، أبواب الربا، باب 8، ح 4.
4. " الفقيه " ج 3، ص 281، باب الربا، ح 4014، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 95، 406 باب بيع الواحد
بالاثنين... ح 12، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 443، أبواب الربا، باب 13، ح 5.
113

بهاء الدين العاملي رحمه الله تعالى قصيدة في أقسام عنب بلدة هراة فلا يجوز بيع أي
قسم منها بلغ ما بلغ في الجودة بالتفاضل بأي قسم، بلغ ما بلغ في الرداءة.
والذي يستفاد من الاخبار الصادرة عن الأئمة الأطهار أن الشارع بعد ما حكم
بدخول الربا في متحدي الجنسين اعتبر في الاتحاد كونهما من نوع واحد ومهية
واحدة، ولم يعتن بالمميزات الصنفية نعم ألحق الشارع بمتحدي الجنس كونهما فرعين
لجنس واحد أو كون أحدهما فرعا والآخر أصلا كالسمن والأقط أو الحليب
والزبد وهكذا وهذا الحكم يجري في جميع أنواع الفواكه التي من المكيل أو الموزون
ولا اختصاص له بالنخل والكرم.
مثلا المشمش له أصناف بعضها في غاية الجودة وبعضها الآخر في غاية
الرداءة فلا يجوز استبدال من الجيدة بمنين من الردي، وكذلك التفاح وكذلك
المخضرات التي من المكيل والموزون، فلا يجوز تبديل كيلو واحد من الباذنجان
الطرحي العراقي بكيلوين من باذنجان الهندي ولا وقية واحد من اليقطين الصغير
الطري الجديد بوقيتين من الكبار الغير الطري العتيق الذي يبس وذهب ماؤه.
وأيضا لا يجوز تبديل من من بطيخ گرگاب أصفهان بمنين أو أكثر من البطيخ
العادي، وكذلك الامر في سفرجل أصفهان مع السفرجل العادي، وكذا الحال في سفرجل
نطنز مع العادي منه الموجود في سائر البلاد.
وخلاصة الكلام أن المناط في الجميع واحد وهو الاختلاف في الصنف والاتحاد
في النوع، وإن كان أحدهما جيدا والاخر رديا، وعلى هذه المذكورات فقس ما سواها.
المسألة الثالثة الاختلاف والاتحاد في الجنس في اللحوم تابع للاختلاف
والاتحاد في أصولها، بمعنى أنه ينظر إلى الحيوان الذي هذا اللحم منه، فإن كان في كلا
العوضين حيوانا واحدا شخصا أو صنفا أو نوعا فيكون العوضان من متحدي الجنس.
وأما إن كان أحدهما من نوع والآخر من نوع آخر، مثل أن يكون أحدهما من
114

البقر والآخر من الغنم فلا يكونان من متحدي الجنس ولا يثبت الربا فيهما ويجوز
بيعهما متساويا ومتفاضلا
ولا اعتبار بوحدة الاسم وإطلاق لفظ اللحم عليهما، لان لفظ اللحم مثل لفظ
الحيوان موضوع للمعنى الجنسي لا النوعي، واللحوم المندرجة تحت اسم اللحم
حقائق مختلفة مثل الحيوانات المندرجة تحت مفهوم الحيوان،
وعلى كل حال هذه المسألة أي كون الاختلاف في اللحوم بحسب اختلاف
أصولها اجماعي لا خلاف فيها.
نعم قد يكون الأصلان في العوضين مختلفين بحسب الاسم ولكن متحدان بحسب
الحقيقة كالبقر والجاموس في نوع الأبقار، والعرابي والبخاتي في نوع الإبل والماعز
والضأن في نوع الغنم، وهكذا، وهذه المذكورات ليست من اختلاف الأصول بل هي
أصناف حقيقة واحدة، ومثل هذا الاختلاف الاسمي دون الحقيقي في أغلب أصناف
الأنواع موجود ومع ذلك يثبت الربا فيها إن كانت من المكيل والموزون.
إذا عرفت ما ذكرنا ففي هذه المسألة فروع يعرف حكمها مما ذكرنا.
منها أن لحم الطيور يختلف باختلاف نفس الطيور، وأنها حقيقة واحدة أو
مختلفة، فإن كان اللحم في العوضين من الطيرين المختلفين بحسب الحقيقة فلا رباء، وأما
إن كان من واحد شخصا أو صنفا أو نوعا فيثبت فيه الرباء، والذكورة والأنوثة في كل
نوع ليس من الاختلاف في الحقيقة، فلحم الديك والدجاجة ليسا من المختلفين.
نعم وقع الخلاف في بعض العناوين والأسماء: في أن الأقسام المندرجة تحت ذلك
الاسم أنواع وحقايق مختلفة، أو أصناف وكلها من أفراد حقيقة واحدة؟ وذلك
كالحمام والغراب والعصفور، فالعصفور بناء على أن يكون عبارة عن الطيور الصغار
فلا شك في أنها أنواع مختلفة وكذلك الحمام إذا كان عبارة عما هدر فأيضا أنواع
115

مختلفة، لان الفواخت غير القماري.
وخلاصة الكلام أنه إذا عرف وعلم أنها حقيقة واحدة أو مختلفة فهو وإلا
فلابد من الإحالة إلى العرف، وأنهم هل يرونها حقيقة واحدة أو حقايق مختلفة
فتأمل.
ومنها ان لحوم الأسماك هل هي مختلفة مع لحوم سائر الحيوانات أم لا،
ومما ذكرنا وتقدم لا ينبغي أن يشك في اختلافها مع سائر اللحوم في ذلك،
لاختلاف الأصول إذ لا شك في اختلاف السمك من أي قسم كان مع البقر أو
الغنم مثلا.
نعم يحتمل أن يكون لحوم أنواع الأسماك كالشبوط والقطان والبني من حقيقة
واحدة، وأن يكون هذه الأسماك عناوين الأصناف لا الأنواع، ويحتمل أن يكون
حقايق مختلفة،
والأشبه هو الأول، وذلك لان الاختلاف بين هذه الأقسام الثلاثة المذكورة، ليس
أشد من الاختلاف بين أصناف الغنم كالماعز والضأن، فلا يجوز بيع البني بالقطان مثلا
مع التفاضل، بناء على أنهما من الموزون، وأما لو كان يباع جزافا ولم يكن من الموزون
فهو خارج عن محل الكلام.
ومنها أن الجراد مع سائر اللحوم مختلف وليس من متحد الجنس مع كل واحد
منها، بل هو جنس بانفراده وهذا واضح.
ومنها أن الوحشي من كل نوع ليس من المتحد في الجنس مع الأهلي منه وذلك
من جهة أنهما في الحقيقة ليسا من نوع وحقيقة واحدة، وإطلاق الاسم غالبا من جهة
الشباهة في الشكل وهكذا البري والبحري منه، نعم قد يتفق في بعض أنواعهما وحدة
حقيقتهما كما أنه يقال إن الجاموس الوحشي مع الأهلي كذلك وأيضا يقال في الثور
الوحشي والأهلي انهما كذلك والحاصل ان المدار على وحدة الحقيقة.
116

نعم ما ذكرنا من الاختلاف ظاهر في الغنم الوحشي وهي الظباء مع الغنم الأهلي
وكذلك الحمر الوحشية مع الأهلية ولكن الظاهر من جماعة دعوى الاجماع على
الاختلاف وعدم الاتحاد في الجميع.
قال في الجواهر: ولولا هذا الاتفاق لأمكن المناقشة في ذلك أي في هذه الكلية
اي الاختلاف في الجميع (1) وما ذكره متين جدا.
ومنها أن أعضاء الحيوان ملحق بلحمه أم لا، بمعنى أن كبد حيوان مثلا أو كرشه
أو قبله أو كليته في حكم لحمه فلا يجوز تبديل ما ذكر من لحم حيوان يكون من
جنس ماله هذه المذكورات؟
الظاهر هو الأول، لأنها اجزاء الحيوان، فإذا كان هذا الحيوان من المتحد في
الجنس مع الحيوان الاخر فأجزاؤه أيضا تكون كذلك، فحال أعضائه حال لحمه.
المسألة الرابعة قال في الشرائع، الألبان تتبع اللحمان في التجانس والاختلاف، (2)
وقال في الجواهر بلا خلاف أجده فيه، بل في التذكرة (3) الاجماع عليه، فلبن الغنم
مخالف للبن البقر كما أن لبن البقر مخالف للبن الإبل، والغنم ماعزه وضأنه حيث إنهما
ولحمهما متحدان، فلبنهما أيضا كذلك، وحيث إن البقر والجاموس جنس واحد فلبنهما
أيضا من الجنس الواحد، وبناء على أن يكون الوحشي من كل نوع مخالفا للأهلي
منه فكذلك لبنهما أيضا. (4)
وما تقدم منا من المناقشة في بعض أقسام الوحشي والأهلي، والاحتمال بل ظهور
الاتحاد يأتي في ألبانهما أيضا لما تقدم أن الألبان في حكم ذي اللبن،
والعمدة في هذا الحكم هو الاجماع المدعى في المقام، وإلا فالاستحسانات التي

1. " جواهر الكلام " ج 23، ص 357.
2. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 39.
3. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 479.
4. " جواهر الكلام " ج 23، ص 357.
117

ذكروها لا اعتبار بها، فان دين الله لا يصاب بالعقول.
وما يقال من أننا نرى بالوجدان اختلاف الألبان من حيث الآثار باختلاف
ذوي الألبان، وإن كان حقا حتى أن الحيوان الشخصي يختلف ألبانه من حيث الآثار
باختلاف الأغذية ولذلك كانت الأطباء يعطون الدواء للام التي رضيعها كان مريضا،
فضلا عن ألبان الحيوانات المختلفة نوعا ومهية، ولكن مع ذلك لو لم يكن الحكم
اتفاقيا ومورد الاجماع لا يمكن اثباته بهذه الأمور، مع حكم العرف بأن اللبن عن جميع
الحيوانات حقيقة واحدة اللهم إلا أن يقال بأنه عند العرف أيضا مختلف باختلاف
ذي اللبن أو علمنا بالتجزية والتحليل أنها حقائق مختلفة.
المسألة الخامسة قال المحقق في الشرايع الادهان تتبع ما تستخرج منه. (1)
أقول: الادهان إما تستخرج من حليب الحيوانات وإما من شحومها ولحومها أو
سائر أعضائها، وإما من النباتات أي من أثمارها كدهن اللوز والجوز والزيتون
وأمثالها فهذه اقسام ثلاثة.
أما القسم الأول فحالها حال الحليب الذي استخرج منه وقد تقدم في المسألة
السابقة أن الألبان تتبع اللحمان في التجانس والاختلاف، فبناء على هذا: الدهن
المستخرج من حليب الغنم بأقسامه ماعزه وضأنه لا يجوز بيعه بالتفاضل مع دهن
آخر من حليب الغنم، وأما دهن حليب الغنم مع دهن حليب البقر أو الإبل أو
غيرهما من نوع آخر غير الغنم فلا يأتي فيه الربا.
والحاصل أن حال الدهن في التجانس والاختلاف حال اللبن الذي يستخرج
منه.
وأما القسم الثاني أي الدهن الذي يستخرج من بدن الحيوان، فحاله حال بدن
الحيوان ولحمه وأعضائه، وقد تقدم تفصيل ذلك.

1. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 39.
118

وأما القسم الثالث أي دهن النباتات فلا شك في أن دهن الزيتون مثلا غير
دهن الجوز واللوز وليس من جنسهما بل هي حقيقة أخرى، وكذلك دهن الزيت
غير السمن بحسب الحقيقة.
وقد ورد في الروايات جواز بيع الزيت بالسمن اثنين بواحد كما في رواية الحلبي
عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال وسئل عن الزيت بالسمن اثنين بواحد، قال عليه السلام
يدا بيد لا بأس به (1) فرتب عليه السلام حكم المختلفين عليهما.
فقد ظهر مما ذكرنا أن الادهان كما أفاده المحقق (2) قدس سره تتبع ما يستخرج منه في
التجانس والاختلاف.
وأما الخلول فواضح أنها في التجانس والاختلاف تتبع ما يعمل منه لأنها في
الحقيقة نفس ما يعمل منه، مع تبدل في الصفة، فخل العنب ليس من جنس خل التمر
لان العنب ليس من جنس التمر، فيجوز بيع خل العنب بخل التمر بالتفاضل يدا بيدا
أي نقدا.
وبعد ما ظهر مما تقدم أن حكم الفرع حكم الأصل، وأنه لا يجوز بيع الأصل
بالفرع مع التفاضل، ولا أحد الفرعين من أصل واحد بالآخر مع التفاضل، فلا يجوز
بيع عصير العنب بخل العنب متفاضلا، ولا عصير التمر بخل التمر متفاضلا، ولا نفس
العنب بخله كذلك، ولا نفس التمر بخله كذلك.
المسألة السادسة يجوز بيع المركب من الجنسين أو المجموع من جنسين
بأحدهما وبالمركب منهما وبالمجموع منهما وبغيرهما متساويا ومتفاضلا في الجميع،
ولكن فيما إذا كان بيع المجموع أو المركب منهما بأحدهما، يشترط في الثمن أن يكون فيه
زيادة على مقابلة المجانس له، كي تكون تلك الزيادة عوضا عن ذلك الجزء الآخر

1. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 94، ح 399، باب بيع الواحد بالاثنين... ح 5، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 443، أبواب الربا باب 13، ح 4.
2. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 39.
119

الغير المتجانس له، وإلا يلزم أحد الامرين إما الربا وإما دخول ذلك الجزء الآخر
الغير المجانس للثمن في ملك المشتري بلا عوض ومجانا، وكلاهما باطلان.
واشترط بعضهم في تلك الزيادة أن تكون بمقدار يكون قابلا لان تقع ثمنا لذلك
الجزء منفردا، بل ومع الانضمام، وادعى في الجواهر (1) عدم وجدان الخلاف في ذلك، بل
الاجماع بقسميه ولكن عرفت أن هذا الحكم مع الشرط المذكور مقتضى القواعد
الأولية، ولو لم يكن إجماع في البين.
نعم يجب تحصيل العلم بزيادة الثمن فيما إذا باع المجموع بأحدهما بمقدار يصلح
للمقابلة مع الجزء الآخر الغير المجانس له، وإلا لا يمكن الحكم بصحة مثل هذه
المعاملة لان التمسك بالعمومات والاطلاقات عند الشك هاهنا يكون من التمسك
بالعموم والاطلاق في الشهبة المصداقية للمخصص.
المسألة السابعة يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه، وذلك كأن يبيع لحم الغنم
بشاة، أو لحم الماعز بضأن، أو لحم البقر ببقرة أو ثور وهكذا،
والعمدة في دليله قوله عليه السلام في رواية غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمد عليهما السلام
عن أبيه أن عليا عليه السلام كره بيع اللحم بالحيوان. (2)
والاستدلال بهذه الرواية على الحرمة مبني على ما روي في الروايات المعتبرة
وتقدم ذكرها أن عليا عليه السلام كان لا يكره الحلال (3) مؤيدا بالنبوي صلى الله عليه وآله وإن كان عاميا
نهى النبي صلى الله عليه وآله عن بيع اللحم بالحيوان. (4)

1. " جواهر الكلام " ج 23، ص 354.
2. " الفقيه " ج 3، ص 278، باب الربا، ح 4004، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 441، أبواب الربا باب 11، ح 1.
3. " الكافي " ج 5، ص 188، باب المعاوضة في ا لطعام، ح 7، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 96، ح 412، باب
بيع الواحد بالاثنين...، ح 18، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 447، أبواب الربا باب 15، ح 1.
4. " سنن البيهقي " ج 5، ص 296، " كنز العمال " ج 4، ص 77، ح 9605.
120

مضافا إلى الاجماع المدعى في المقام وحكى في الجواهر (1) عن المختلف أنه لم نقف
فيه على مخالف منا غير ابن إدريس فجوز، وقوله محدث لا يعول عليه ولا ينثلم به
الاجماع، ونسب في الدروس قوله إلى الشذوذ، وعلى كل حال رواية غياث في حد
نفسها موثقة وبضميمة الاجماع على مضمونه بعد ما كان المراد من الكراهة الحرمة
بضميمة الروايات المعتبرة، يكون اعتباره قويا فتكون حجة قوية عند الحرمة.
والظاهر من لفظ الحيوان في الحديث وفي رواية غياث هو الحيوان الحي، وهو
ليس من الموزون، ولذلك يجوز بيع شاة بشاتين لأنه لا ربا في غير المكيل والموزون،
فالحرمة ليست من ناحية كونه رباء بل من ناحية ورود النهي والتعبد.
فما ذكره العلامة قدس سره في التذكرة (2) من القول بالكراهة ونفي الحرمة من جهة عدم
كونه رباء لفقد شرطه وهو كونه مكيلا أو موزونا فيكون الأصل سالما عن
المعارض الحاكم عليه لا يتم لما ذكرنا من أن عدم صحته وحرمته ليس من جهة
كونه رباء، بل من جهة الأدلة المذكورة.
ثم إنه بناء على ما ذكرنا من أن حرمة بيع اللحم بحيوان من جنسه ليس من جهة
كونه رباء، فهل يحرم بغير جنسه أيضا كما إذا باع لحم شاة ببقرة أم لا، مبني على أن
المراد من الحيوان في الرواية وفي الحديث خصوص الحيوان الذي من جنس اللحم أم
مطلق الحيوان، وكذلك معقد الاجماع خاص أو عام.
أقول أما الأخير أي معقد الاجماع فمن الواضح عدم شموله لبيع اللحم بغير
جنسه لان المشهور بين المتأخرين بل ادعى الاجماع بعضهم، هو جواز البيع بغير
جنسه مثل أن يبيع لحم الشاة بالبقر مثلا، ومع ادعاء هذا الاجماع والشهرة المحققة
خصوصا بين المتأخرين كيف يمكن القول بشمول اجماع المنع عن بيع اللحم بجنسه
للبيع بغير جنسه.

1. " جواهر الكلام " ج 23، ص 355.
2. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 478.
121

نعم لفظ الحيوان في رواية غياث وفي الحديث الذي رواه الجمهور عن سعيد
بن المسيب مطلق يشمل ما كان من جنس اللحم وما لم يكن، وغاية ما يمكن ادعاء
الانصراف فيه هو كونه حيا، وأما كونه من جنس اللحم فلا موجب له أصلا، وقد
تقدم أن النهي ليس من جهة كونه ربا كي يقال بأنه لا يأتي إلا في مورد اتحاد جنس
الحيوان مع اللحم، فمقتضى الاطلاق لولا الاجماع المدعى في المقام، هو المنع حتى عن
بيعه بغير جنسه، وهو الموافق للاحتياط فلا يبعد حرمة بيعه حتى بغير جنسه.
وأما ما استدل به العلامة قدس سره في التذكرة (1) بأنه يجوز بيع لحم الحيوان بلحم غير
جنسه فبيعه به حيا أولى، فهذا القياس على تقدير صحته والقول به يأتي فيما إذا كان
منشأ المنع هو حصول الرباء، وأما لو كان منشأ المنع اطلاق الحديث والرواية كما
ذكرنا، فلا مورد له أصلا.
نعم بناء على هذا يجب الاقتصار على ما يصدق عليه اللحم، فمثل الكرش
والكبد والكلى والقلب وكل ما لم يصدق عليه اللحم، خارج عن هذا الاطلاق.
ثم إن ظاهر الحديثين هو وقوع اللحم مثمنا لان هذا هو معنى بيع اللحم
بالحيوان، فالمبيع هو اللحم والثمن هو الحيوان، ولكن ظاهر الفتاوى عدم الفرق في
الحرمة بين كونه ثمنا أو مثمنا، بل ظاهر معقد الاجماع هو شموله لكلا القسمين.
ثم إن في هذه المسألة فروعا لا بأس بذكرها.
الأول هل يجوز بيعه بالحيوان غير مأكول اللحم أم لا؟ ظاهر كلام العلامة في
التذكرة (2) هو الاجماع على الجواز لتعبيره بأنه يجوز عندنا وكلمة عندنا ظاهر في
اتفاق الطائفة، وهو الاجماع،

1. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 478.
2. المصدر.
122

ولكن الدليل الذي يذكره للجواز قياس أولا وثانيا في غير محله، لان إتيانه
مبني على كون الحرمة والمنع لأجل كونه من الربا، وقد بينا فساد هذا التوهم وعمدة
الدليل على الجواز قصور أدلة المنع عن شمولها للحيوان غير مأكول اللحم آدميا كان
أو غيره كالسباع مثلا.
أما الاجماع فالقدر المتيقن منه هو حيوان مأكول اللحم، وأما الحديثان
فلانصراف لفظ الحيوان عن الآدمي قطعا وعن السباع وأمثالها ظاهرا، فالمنع لا دليل
عليه، فمقتضى الاطلاقات صحة المعاملة ولو وصلت النوبة إلى الأصل فهي الصحة
والجواز.
الثاني أنه يجوز بيع اللحم بالسمكة الحية، وبيع لحم السمك بالحيوان الحي،
وذلك لان القدر المتيقن من الاجماع ما عدا ذلك، وانصراف الحديثين عن مثل هذه
الموارد،
وقال العلامة (1) قدس سره في دليله لما تقدم وجوابه ما تقدم.
الثالث قال في الشرائع (2) وفي التذكرة (3) أيضا: إنه يجوز بيع دجاجة فيها بيضة
بدجاجة خالية، وزاد في الجواهر (4) كما في التذكرة أيضا أو دجاجة فيها بيضة أو
بيضة فقط من دون كون دجاجة معها، والوجه في الجميع أن شمول الاطلاقات وأدلة
صحة البيع لا مانع عنها، إلا كون المعاملة ربوية، ولا رباء هاهنا، لان المورد ليس
بمكيل ولا بموزون، ولا رباء إلا فيما يكال أو يوزن، ولذلك لا مانع من بيع البيضة
الواحدة ببيضتين، لأنه أيضا ليس بمكيل ولا بموزون، كما أنه يجوز بيع شاة في بطنها ولد
بشاة ليس كذلك كما أنه يجوز بيع شاة بشاتين وبيع شاتين بشاة كل ذلك لأجل

1. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 478.
2. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 41.
3. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 479.
4. " جواهر الكلام " ج 23، ص 389.
123

انتفاء شرط الرباء وهو عدم كونه من المكيل أو الموزون.
المسألة السابعة قال في التذكرة: كل ماله حالتا رطوبة وجفاف من الربويات
يجوز بيع بعضه ببعض مع تساوي الحالين، إذا اتفق الجنس، وإن اختلف جاز مطلقا. (1)
أقول الأشياء التي لها حالتا رطوبة وجفاف كالعنب والتمر بل أغلب الفواكه
والمخضرات كباذنجان وبانيه مثلا ففي جميعها تارة تقع المعاملة بين متفقي الجنس
والحالة، مثل أن يبيع العنب بالعنب، أو الرطب بالرطب، أو التمر بالتمر، أو الزبيب
بالزبيب، وهكذا في سائر الموارد، فمع الاختلاف كيلا في المكيل ووزنا في الموزون
باطل، لكونه من الربا المحرم، وأما مع التساوي فلا مانع في البين لعدم الربا، وشمول
الاطلاقات له.
وربما يقال بعدم صحة الرطب بالرطب لعدم العلم بتساويهما بعد الجفاف وفي
حال الادخار، مع أن الغرض والمقصود من المعاملة هو الادخار.
وفيه أولا أن التفاوت بينهما غالبا يكون بمقدار يسير بحيث يتسامح العرف في
ذلك المقدار ولا يعتنى به، وذلك كما إذا بيع الحنطة التي فيها شئ يسير من التراب أو
خليط آخر الذي لا يخلو الحنطة منه غالبا، فبعد ما جفا وإن كان من الممكن أن يكون
الجفاف في أحدهما أكثر وأزيد، فيختلف وزنهما بالدقة، ولكن الاختلاف قليل بحيث
لا يعتنى به.
وثانيا أن المعتبر في عدم تحقق الربا تساويهما حال وقوع المعاملة وصدور العقد،
أي النقل والانتقال شرعا، وأما خروجه عن المساواة بعد وقوع المعاملة فلا يوجب
صيرورتها رباء.
وثالثا ليس الغرض من المعاملة دائما هو الادخار والابقاء، بل المقصود أكلها
رطبا وإنما يكون التبديل لأجل أغراض اخر.

1. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 482.
124

ورابعا هناك بعض اقسام العنب والرطب ليس قابلا لان يزبب أو يتمر، وكذلك
البطيخ فلا تبقى أمثال هذه الأمور كي يقع التفاوت بين يابسهما فيستشكل بلزوم
الربا، فالأقوى جواز بيع الرطب منها بالرطب، واليابس باليابس، فيجوز بيع الرطب
بالرطب، والتمر بالتمر، والعنب بالعنب، والزبيب بالزبيب، والحنطة
المبلولة بالحنطة المبلولة، واليابسة منها باليابسة، واللحم الطري بمثله، والقديد بالقديد، كل ذلك مع
التساوي كيلا أو وزنا حال العقد.
هذا فيما إذا كان العوضان متفقي الجنس والحالة، وأما إذا كانا مختلفي الجنس
فلا مانع، ومقتضى العمومات والاطلاقات هي الصحة، وسواء كانا من المكيل أو
الموزون، أو لم يكونا كذلك، وسواء كانا متفقي الحالة أو كانا من مختلفيها، وذلك لانتفاء
شرط الربا وهو الاتفاق في الجنس.
وأما إذا كانا من مختلفي الحالة ومتفقي الجنس أي كان أحد العوضين المتجانسين
رطبا والاخر يابسا مثل أن يبيع العنب بالزبيب، أو الرطب بالتمر، أو باع لحمانيا
بمقدد، أو بسرا برطب، أو حنطة مبلولة بيابسة، فهل يجوز بيع المذكورات وأمثالها
متساويا أم لا؟
قال في الشرائع (1) يجوز لتحقق المماثلة، وقيل بالمنع ونسب في التذكرة (2) هذا
القول أي المنع إلى المشهور عند علمائنا، ولكن ظاهر الشرائع ترجيح القول الأول
أي الجواز لاسناده القول بالمنع إلى القيل، وإن كان قائله كثيرا بل ادعى العلامة في
التذكرة أنه المشهور عند علمائنا.
وقال في الشرائع إن نظر المانعين إلى حصول النقصان عند الجفاف، وقد أجبنا
عن ذلك بكفاية التساوي حال العقد، وبه يثبت عدم كونه رباء، ولا يلزم بقائه على
هذه الصفة دائما،

1. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 46.
2. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 482.
125

فالعمدة في دليل المنع الاخبار والحديث الوارد في المقام.
أما الحديث فقد روى الجمهور أن النبي صلى الله عليه وآله سئل عن بيع الرطب بالتمر،
فقال صلى الله عليه وآله: أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا نعم، فقال: فلا اذن. (1)
وأما الرواية فمن طريق الخاصة: ما رواه الحلبي في الصحيح عن الصادق عليه السلام
قال عليه السلام: لا يصلح التمر اليابس بالرطب من أجل أن اليابس يابس والرطب رطب،
فإذا يبس نقص. (2)
وما رواه داود بن سرحان: لا يصلح التمر بالرطب، إن الرطب رطب، والتمر
يابس، فإذا يبس الرطب نقص. (3)
وما رواه داود الابزاري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: لا يصلح التمر
بالرطب إن التمر يابس والرطب رطب. (4)
وما رواه محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام في حديث أن أمير المؤمنين عليه السلام كره
أن يباع التمر بالرطب عاجلا بمثل كيله إلى أجل من أجل أن التمر ييبس فينقص من
كيله، (5)
ودلالة الخبر الأخير على المنع مبنى على ما تقدم ذكره أن أمير المؤمنين عليه السلام كان

1. " سنن البيهقي " ج 5، ص 294.
2. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 94، ح 398 باب بيع الواحد بالاثنين... ح 4، " الاستبصار " ج 3، ص 93،
ح 314، باب بيع الرطب بالتمر، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 445، أبواب الربا باب 14، ح 1.
3. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 90، ح 384، باب بيع الثمار، ح 27، " الاستبصار " ج 3، ص 93، ح 315، باب
بيع الرطب بالتمر، ح 3 " وسائل الشيعة " ج 12، ص 446، أبواب الربا، باب 14، ح 6.
4. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 90، 385، باب بيع الثمار، ح 28.
5. " الفقيه " ج 3، ص 281، باب الربا، ح 4015، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 95، ح 408، باب بيع الواحد
بالاثنين...، ح 14، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 445، أبواب الربا باب 14، ح 2.
126

لا يكره الحلال، (1) فكراهته كاشفة عن كونه حراما.
ولكن هاهنا أخبار أخر تدل على الجواز
كرواية سماعة عن الصادق عليه السلام قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن العنب بالزبيب،
قال: لا يصلح، إلا مثلا بمثل، قال والتمر والرطب بالرطب مثلا بمثل. (2)
ورواية ابن أبي الربيع قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما ترى في التمر والبسر الأحمر
مثلا بمثل؟ قال لا بأس قلت فالبختج والعنب مثلا بمثل؟ قال لا بأس. (3)
ولا يخفى أن ظاهر هاتين الطائفتين من الاخبار هي المعارضة، لان الطائفة
الأولى ظاهرة في عدم جواز بيع التمر بالرطب أو الرطب بالتمر، بل كل رطب باليابس
من جنسه ومثله لعموم التعليل، وهو قوله صلى الله عليه وآله فلا اذن، لان المراد من هذه الجملة
حسب المتفاهم العرفي انه لا يجوز، لأنه ينقص. فكأنه صلى الله عليه وآله قال: إن كل ما ينقص بعد
بيعه بمثله وجنسه مساويا كيلا أو وزنا فلا يجوز بيعه بمثله مثلا بمثل، فيشمل كل
فاكهة رطبة باليابس من جنسه، بل وغير الفاكهة، سواء كان رطوبته ذاتية كالفواكه
الغضة وغيرها، أو عرضية كالحنطة المبلولة وغيرها مما يرش عليه الماء، وإن كان
الرش لاصلاحه.
والطائفة الثانية ظاهرة في جواز بيع الرطب باليابس، واليابس بالرطب نعم
لا عموم لها بحيث يشمل كل رطب ويابس، ولكن تدل على الجواز في نفس المورد
الذي تدل الطائفة الأولى على عدم الجواز، وهو بيع التمر بالرطب.

1. " الكافي " ج 5 ص 188، باب المعاوضة في الطعام، ح 7، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 96، 412، باب
بيع الواحد بالاثنين...، ح 18، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 447، أبواب الربا باب 15، ح 1.
2. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 97، ح 417، باب بيع الواحد بالاثنين...، ح 23، " الاستبصار " ج 3، ص 92،
ح 313، باب بيع الرطب بالتمر ح 1، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 445، أبواب الربا باب 14، ح 3.
3. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 97، ح 418، باب بيع الواحد بالاثنين...، ح 24، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 446، أبواب الربا باب 14، ح 15.
127

فالمشهور على ما في التذكرة (1) ذهبوا إلى عدم الجواز مطلقا، وفي جميع صور
المسألة، بناء منهم على عدم قابلية الطائفة الثانية للمعارضة مع الأولى لضعفها،
وإعراض المشهور عنها، فلا جابر لها.
وهذا القول قوى لو لم يكن جمع دلالي في البين، وذهب إليه جمع كثير من
أساطين الفقه وهم: القديمان (2) والشيخ في المبسوط (3) وابن حمزة في الوسيلة (4)
والعلامة في التذكرة (5) والتحرير (6) والارشاد (7) والمختلف (8) والقواعد (9) وغيره في اللمعة (10)
والمقتصر (11) والمهذب (12) والتنقيح (13) وإيضاح النافع والميسية والمسالك (14) والروضة (15)
والدروس وقد تقم ان العلامة وهو الفقيه المحقق المتتبع ادعى الشهرة.
ومقابل هذا القول هو القول بالجواز مطلقا، حتى في بيع التمر بالرطب الذي هو
مورد روايات المنع، وهذا القول هو المحكي عن الشيخ في الاستبصار (16) وموضع من

1. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 482.
2. نقله عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل في " مختلف الشيعة " ج 5، ص 124.
3. " المبسوط " ج 2، ص 90.
4. " الوسيلة " ص 253.
5. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 482.
6. " تحرير الأحكام " ج 1، ص 170.
7. " إرشاد الأذهان " ج 1، ص 379.
8. " مختلف الشيعة " ج 5، ص 141.
9. " قواعد الأحكام " ج 1، ص 141.
10. " اللمعة الدمشقية " ج 3، ص 445.
11. " المقتصر " ص 178.
12. " المهذب " ج 1، ص 462.
13. " تنقيح الرائع " ج 2، ص 93.
14. " المسالك الافهام " ج 3، ص 445.
15. " الروضة البهية " ج 3، ص 445.
16. " الاستبصار " ج 3، ص 93.
128

المبسوط، وعن ابن إدريس (1) وصاحب الكفاية (2) وصاحب الحدائق. (3)
ووجه هذا القول هو الجمع بين الطائفتين بحمل الأولى على الكراهة والثانية
على الجواز بالمعنى الأعم الذي لا ينافي الكراهة، بل أنكروا ظهور الطائفة الأولى في
التحريم، لان المنع فيها إما بلفظ لا يصلح، وهو ظاهر في الكراهة من أول الأمر
وإما بلفظ كره علي أن يباع التمر بالرطب ولفظ الكراهة لا ظهور له في الحرمة وإن
ورد أن عليا كان لا يكره الحلال، وفي بعض الروايات أنه عليه السلام لا يكره إلا الحرام، ومع
ذلك كله لم يخرج لفظ الكراهة عن ظهوره في المعنى العرفي وهو مطلق المرجوحية
وبناء على هذا لا تعارض ولا تنافي في البين كي يحتاج إلى الجمع الدلالي.
ثم على تقدير ظهورها في الحرمة يرفع عن ظهورها في الحرمة بنص الطائفة
الثانية في الجواز، وهذا جمع عرفي معمول به في المحاورات وعند الفقهاء، ومعلوم أن
الجمع الدلالي مقدم على الترجيح السندي، ومعه لا تصل النوبة إليه.
وفصل بعض فقال بالمنع في خصوص بيع التمر والرطب أو بالعكس، والجواز في
غيره من الرطب واليابس، وذلك لأجل النص في نفس هذا المورد واستظهار عدم
العموم للعلة، بل تكون مختصة بنفس المورد.
ولعله قال به المحقق، لأنه يقول في الشرائع: (4) وفي بيع الرطب بالتمر تردد، والأظهر
اختصاصه بالمنع اعتمادا على أشهر الروايتين، ثم يقول في الفرع الثاني: بيع العنب
بالزبيب جائز، وقيل لا، اطرادا للعلة، والأول أشبه، وكذا البحث في كل رطب مع
يابسه،
فهذا القول من عقدين: عدم الجواز في الرطب والتمر، والجواز في سائر موارد

1. " السرائر " ج 2، ص 258.
2. " كفاية الأحكام " ص 98.
3. " الحدائق الناضرة " ج 19، ص 246.
4. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 40.
129

الرطب واليابس، أما الأول للنص وأما الثاني فلعدم دليل على المنع، وعدم عمومه
للعلة، وشمول اطلاقات أدلة صحة البيع له.
وهناك تفصيل آخر بعد الفراغ عن القول بالمنع في خصوص الرطب والتمر بين
كون الرطوبة ذاتية كرطوبة الفواكه الغضة وكونها عرضية كرطوبة الحنطة المبلولة
مثلا، فقالوا بالجواز في الأول لان الرطوبة الذاتية التي في الجسم المرطوب تعد جزءا
من ذلك الجسم المرطوب عرفا، بل بالدقة، بخلاف الرطوبة العرضية فإنها أجنبية
عنه، وأمر خارج عن حقيقة ذلك الجسم المرطوب حقيقة وعرفا، ولا مالية لها كي
يكون مجموع المالين بإزاء ذلك الآخر، فيخرج عن كونه ربا، بل يكون المبلول وحده
من دون بلله عوضا عن الآخر والمفروض أنه وحده متساو معه فيكون من البيع
الربوي.
وهذان التفصيلان في حد نفسهما وإن كانا لا يخلوان عن حسن، ولكن لا تصل
النوبة إليهما إلا بعد الفراغ عن عدم عموم للعلة بالنسبة إلى التفصيل الأول، إذ مع
عموم التعليل لا يبقى فرق بين الرطب والتمر وبين سائر الفواكه الرطبة كل واحد منها
مع اليابس من جنسه.
وأما التفصيل الثاني فمضافا إلى ما تقدم لا يأتي إلا فيما إذا قلنا بأن المعتبر في
التساوي وعدم تحقق الربا هو أن يكون التساوي حال وقوع العقد لابقائه إلى الاخر،
وإلا لو قلنا بلزوم بقاء التساوي إلى الاخر، فلا يبقى في كلا الشقين فيبطل في كلتا
الصورتين، سواء كانت الرطوبة حال وقوع المعاملة ذاتية أو عرضية.
هذا مضافا إلى أن الفرق بينهما مبني على كون الرطوبة الذاتية جزءا للمرطوب
حقيقة أو عرفا دون الرطوبة العرضية كي تكون التساوي بين العوضين موجودا حال
العقد في الأول دون الثاني، وجميع هذه المباني والمقدمات غير ثابت بل معلوم العدم.
والانصاف أن هذه الظنون لا يصح أن يبتني ي عليها الأحكام الشرعية، ولا ينبغي
130

ان يعتنى بها فالعمدة في المسألة هو القول المشهور، أي عدم الجواز مطلقا أو الجواز
كذلك لدلالة الروايات المتقدمة على المنع، وما ذكروه من أن مفادها الكراهة لا
الحرمة غير تام، وإنكار اطراد العلة وعمومها لا وجه له وخلاف المتفاهم العرفي
فالأحوط بل الظاهر هو القول المشهور أي المنع مطلقا والله العالم.
وخلاصة الكلام أن التفاصيل التي ذكروها في المقام لا أساس لها، وإن كان
التفصيل الأول يستظهر من المحقق شيخ الفقهاء في الشرائع، (1) وتقدم نقل عبارته،
فيدور بين القول بالمنع مطلقا أو الجواز مطلقا.
ولكن لما مجال للقول بالجواز مطلقا إلا بأحد أمرين، وهما
إما أن تكون الروايات المانعة غير ظاهرة في الحرمة، بل تكون ظاهرة في
الكراهة من جهة اشتمال بعضها على كلمة لا يصلح التي تكون ظاهرة في الكراهة،
أو كلمة كره كما في رواية محمد بن قيس التي تقدمت أيضا كذلك، إذ بناء على هذا لا مانع
من شمول الاطلاقات وعمومات الصحة للمقام،
وإما من جهة الجمع الدلالي بينهما وبين الطائفة الأخرى التي ظاهرها الجواز
بحمل الأولى على الكراهة تحكيما للنص على الظاهر.
وأنت خبير بعدم صحة كلا الامرين.
أما الأول فلان قوله صلى الله عليه وآله فلا اذن، بعد السؤال عن صحة مثل ذلك البيع أو
عدم صحته في غاية الظهور في عدم جوازه وفساده وكذلك قوله عليه السلام لا يصلح في
الروايات الثلاث، حيث إنه عليه السلام ينفي الصلاحية عن مثل هذا البيع معللا بأن ما هو
الرطب ينقص لجفافه فيما بعد، فيخرج عن التساوي مع مقابله وهو شرط في صحة
بيع المتجانسين، فبفقده ينتفي الصحة، فيكون نفي الصلاح في مثل هذا المور مع هذا
التعليل، ظاهرا في فساد المعاملة، وعدم جوازها، وإن كان في حد نفسه يلائم مع الحرمة

1. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 40.
131

والكراهة كليهما. نعم ظاهر هذه الروايات لزوم بقاء التساوي في العوضين المتجانسين.
وأما الثاني فتقديم الجمع الدلالي على الترجيح السندي بعد الفراغ عن حجيته،
بمعنى عدم خروجه عن موضوع الحجية، وأما إذا قلنا بأن موضوع الحجة هو
الموثوق المصدر، وإعراض المشهور كان سببا لسلب الوثوق بصدوره وخروجه عما
هو موضوع الحجية، فلا يبقى حجة كي تصل النوبة إلى الجمع الدلالي.
فمورد هذا الكلام هو أنه لو كان هناك خبران كلاهما مما يوثق بصدورهما، ولم
يعرض الأصحاب عن كل واحد منهما، بل بعضهم عملوا بذاك وبعضهم عملوا بهذا
وكان لأحدهما مرجح سندي ولكن يمكن الجمع العرفي الدلالي بينهما، ففي مثل هذا
المورد يجب الجمع، ولا يجوز الاخذ بذي المزية، وطرح الاخر رأسا.
وهذا الذي ذكرنا جار في كثر من موارد الاخبار المتعارضة: منها الأخبار الواردة
في نجاسة الكفار مع الواردة في طهارتهم.
إذا تأملت فيما ذكرنا فنقول: إعراض المشهور عن الروايات التي لها ظهور في
جواز مثل هذا البيع، صار سببا لسلب الوثوق بصدورها، فلا يبقى مجال للجمع
الدلالي، هذا مضافا إلى التوجيهات التي ذكروها للروايات المجوزة، تركنا ذكرها لعدم
الاحتياج إليها مع ضعف كثير منها.
المسألة الثامنة فيما إذا باع أحد المتجانسين الربويين، وفيه خليط بالآخر
الخالص، مثل أن باع حنطة فيها خليط بالأخرى الخالصة التي ليس فيها خليط من
غير جنسه، فلا يخلو إما أن يكون الخليط قليلا بحيث يتسامح فيه ولا يعتنى به في مقام
المعاملة فلا اشكال فيه، لان العوضين بناء على هذا لا يخرجان عن التساوي عرفا
فلا رباء، وإما يكون مما لا يتسامح فيه فإن لم يكن له مالية فالمعاملة باطلة، لأجل
حصول الربا لأجل عدم التساوي بين العوضين، مع أنهما من جنس واحد إذ الخليط
لا يقع عوضا لعدم ماليته، والمفروض أن ما فيه الخليط أقل من الاخر بدون الخليط،
132

وبعد حذفه عنه.
وأما إن كان له مالية فالمعاملة صحيحة ولا رباء، إذ الخليط يقع بإزاء الزيادة
التي في الاخر قهرا، وإن لم يكن مقصودا، وذلك لقصد معاوضة المجموع بالمجموع
فالخليط أيضا داخل في المجموع الذي قصد.
هذا إذا كان الخليط في أحدهما وأما إذا كان فيهما وليس له مالية فإذا كان
العوضان المتجانسان متساويين مع قطع النظر عن الخليط، فلا اشكال ولا رباء
والوجه واضح، وأما إذا لم يكونا متساويين فرباء وباطل، والوجه أيضا واضح.
وأما إذا كان لخليط كل واحد منهما مالية، ففيما إذا لم يكن الخليط في كل واحد
منهما من جنس المخلوط، فالمعاملة صحيحة، ولا إشكال لوقوع كل واحد من الخليطين
مقابل العوض الآخر ولا رباء، وعلى فرض أن يكون مقصود المتعاملين وقوع مجموع
الخليط والمخلوط مقابل مجموع الاخر، فلا إشكال لان المجموع من كل واحد منهما
ليس من جنس المجموع الاخر فيما إذا كان الخليط في كل واحد منهما من غير جنس
الخليط الاخر.
ثم إنه قد ظهر مما ذكرنا أنه الخليط إن كان فيهما ولم يكن له مالية، وكان العوضان
المتجانسان متساويين مع قطع النظر عن الخليط، فلا إشكال أنه يجب العلم بمقدار
الخليط للزوم العلم بتساوي العوضين المتجانسين.
المسألة التاسعة قال في الشرائع يجوز بيع درهم ودينار بدينارين ودرهمين
ويصرف كل واحد منهما إلى غير جنسه، وكذا لو جعل بدل الدينار والدرهم شئ من
المتاع، وكذا مد من تمر ودرهم بمدين أو أمداد ودرهمين أو دراهم. (1)
وخلاصة ما ذكره قدس سره في هذه المسألة هو أنه في بيع المتجانسين غير المتساويين إن
ضم إلى الناقص شئ آخر له مالية من غير جنسه، كما إذا باع درهما ودينارا بدينارين

1. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 41.
133

أو باعهما بدرهمين فيجوز مثل هذا البيع ولا رباء إذ يرتفع الرباء بواسطة الضميمة.
ففي القرض الأول يقع الدينار مقابل أحد الدينارين، والدرهم مقابل الدينار
الاخر، وما قلنا من وقوع كل واحد من الدينار والدرهم في مقابل الزائد الذي من
غير جنسه جار فيما إذا كانت الضميمة شئ من المتاع، كأن يبيع درهما ومدا من تمر
بمدين أو أمداد، ودرهمين أو دراهم،
وكلامنا في صحة هذه المعاملة من ناحية رفع الرباء بواسطة تلك الضميمة، وأما
كونها فاسدة من جهة أخرى ككونها سفهية أو من ناحية فقد شرط أو وجود مانع
فلسنا في مقام تصحيحها من تلك الجهات.
وأما ما يقال من أن مجموع المجانس من ذلك الاخر مع الضميمة ليس مجانسا
معه، فبواسطة الضميمة يخرج العوضان عن كونهما متجانسين، ولا يحتاج إلى التكلف:
بأن الزيادة في مقابل الضميمة وما عدا الضميمة في مقابل المقدار المساوي معه كيلا أو
وزنا من مجانسه.
وكذا لا يحتاج إلى القول بأنه فيما إذا كان العوضان مركبا من جنسين يكون كل
جنس من كل واحد من العوضين مقابل ما يخالفه من العوض الآخر، مثلا لو باع مدا
من تمر ودرهمين بمدين ودرهمين، فيقع المد مقابل درهمين ويقع الدرهمان مقابل
مدين،
ففيه أن المجموع ليس له وجود غير وجود أجزائه، فلو لم نقل بما ذكرنا لزم الربا
في بعض صور المسألة لا محالة.
مثلا لو باع مدا ودرهما بمدين ودرهمين فلو لم يكن الدرهم مقابل المدين والمد
مقابل درهمين يكون نصف الدرهمين وهو درهم واحد ونصف المدين وهو مد واحد
مقابل نصف المبيع، وهو نصف الدرهم ونصف المد، ومرجع هذا إلى أن درهما واحدا
تاما وقع مقابل نصف درهم، ومدا كاملا وقع مقابل نصف، بل من أول الأمر درهم ومد
134

وقع مقابل درهم ومد، ودرهم وقع مقابل مد فيما إذا كان قيمة المد والدرهم متساويين،
فكل واحد من جزئي المبيع وقع في مقابله ما يساويه من مماثله مع الزيادة من غير
مماثله.
وأما ما يقال من أن ما قلتم من أن كل واحد من جزئي المبيع يقع في مقابل ما
يخالفه في الجنس فلا رباء في البين، هو ليس بمقصود للمتبايعين، بل مقصودهم
معاوضة المجموع بالمجموع، والعقود تابعة للقصود.
فهذا كلام حق ولذلك نقول صحة هذه المعاملة ليس بمقتضى القواعد، بل من
جهة الاجماع والنص.
أما الاجماع فادعاه جمع، وقال العلامة في التذكرة (1) في المفروض أي بيع الجنسين
المختلفين بأحدهما إذا زاد على ما في المجموع من جنسه بحيث تكون الزيادة في مقابلة
المخالف، يجوز عند علمائنا أجمع.
وقال في الجواهر في شرح ما نقلنا عن الشرائع بلا خلاف بيننا، (2)
والحاصل أن جواز مثل هذه المعاملة اتفاقي بين الامامية وحكى في التذكرة (3)
عن أبي حنيفة أيضا جواز هذه المعاملة، وقال حتى أن أبا حنيفة يقول بجواز بيع
دينار في خريطة بمأة دينار.
والظاهر أن مراده أن الخريطة تكون في مقابل تسع وتسعين والدينار الذي فيها
مقابل دينار فلا يكون رباء في البين،
ولكن الاشكال أن الخريطة ربما ليس فيها صلاحية أن تقع في مقابل ذلك المبلغ
الكثير، ولذلك نشترط في الزيادة أن يكون لها مالية بمقدار يصلح للعوضية.

1. " تذكرة الفقهاء " ج 1 ص 483.
2. " جواهر الكلام " ج 23، ص 391.
3. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 483.
135

وأما النصوص الواردة في المقام:
فمنها صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها: فقلت له
اشتري ألف درهم ودينار بألفي درهم؟ فقال عليه السلام لا بأس بذلك، إن أبي عليه السلام كان
أجرأ على أهل المدينة مني، وكان يقول هذا، فيقولون: إنما هذا الفرار: لو جاء رجل
بدينار لم يعط ألف درهم، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار، وكان عليه السلام
يقول لهم: نعم الشئ الفرار من الحرام إلى الحلال. (1)
ومنها أيضا عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه السلام قال كان محمد
ابن المنكدر يقول لأبي عليه السلام: يا أبا جعفر رحمك الله والله إنا لنعلم أنك لو اخذت دينارا
والصرف بثمانية عشر فدرت المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ما وجدته، وما
هذا إلا فرارا، فكان أبي عليه السلام يقول: صدقت والله، ولكن فرار من باطل إلى حق. (2)
ومنها عنه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل يأتي بالدراهم إلى
الصيرفي: فيقول له: آخذ منك المأة بمأة وعشرين وعشرين أو بمأة وخمسة حتى يراوضه على
الذي يريد، فإذا فرغ جعل مكان الدراهم الزيادة دينارا أو ذهبا ثم قال قد زادت
البيع وإنما أبايعك على هذا، لان الأول لا يصلح أو لم يقل ذلك، وجعل ذهبا مكان
الدراهم، فقال إذا كان آخر البيع على الحلال فلا بأس بذلك، قلت فان جعل
مكان الذهب فلوسا: قال ما أدري ما الفلوس. (3)
ومنها ما عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بألف درهم ودرهم

1. " الكافي " ج 5، ص 246، باب الصروف، ح 9، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 466، أبواب الصرف،
باب 6، ح 1.
2. " الكافي " ج 5، ص 247، باب الصرف، ح 10، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 467، أبواب الصرف،
باب 6، ح 2.
3. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 105، ح 449، باب بيع الواحد بالاثنين... ح 55، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 467، أبواب الصرف، باب 6، ح 3.
136

بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها ديناران أو أقل أو أكثر فلا بأس. (1)
فهذه الروايات لها دلالات واضحة على صحة هذه المعاملة وعدم الاشكال فيها
فهذا حكم تعبدي من قبل الشارع.
المسألة العاشرة في أنه لو خرجت الضميمة التي ذكرناها في المسألة
السابقة عن ملك البايع بواسطة تلفها قبل قبض المشتري، أو كانت مما لا يجوز للبايع
التصرف فيها لكونها ملكا للغير، أو كانت متعلقة لحق الغير،
فها هنا فرعان
الأول كونها مستحقة للغير،
الثاني تلفها قبل القبض.
أما الأول فان أجاز صاحب الحق فلا إشكال وأما إن لم يجز فلا شبهة في بطلان
المعاملة بالنسبة إليها، فان حصل الربا في الباقي وذلك كما إذا باع مدا من التمر ودرهما
بمدين منه ودرهمين، فظهر أن درهما معينا منهما ملك لغير البايع أو مرهون عند غيره
ولم يجز المالك أو صاحب الحق، فيبطل المعاملة بالنسبة إلى ذلك الدرهم.
فان قلنا إنه يسقط من الثمن بمقدار ما يقابله واقعا وهو مثله أي أحد الدرهمين
فيبقى درهم ومدان مقابل مد واحد، ولا شك في كون الباقي بناء على هذا معاملة
ربوية.
وأما إذا قلنا إن الثمن يسقط بالنسبة، وفرضنا أن قيمة المد درهم واحد، فيكون
مقابل الدرهم الذي ليس للبايع التصرف فيه مد ودرهم، ويبقى للمد الباقي من المبيع
مد ودرهم، فأيضا يحصل الربا وفي كلتا الصورتين تبطل المعاملة من أول الأمر، لأنه

1. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 106، ح 456، باب بيع الواحد بالاثنين... ح 62، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 468، أبواب الصرف، باب 6، ح 4.
137

في الحقيقة من أول الأمر باع في المفروض مدا من التمر إما بمدين ودرهم، وإما بمد
ودرهم.
وأما إن لم يحصل الربا كما أنه لو باع درهما ومدا بمدين فظهر ان الدرهم المبيع
ملك الغير أو متعلق حق الغير، وفرضنا أن المد يساوي درهما فها هنا بعد بطلان
المعاملة وإسقاط ما يقابل الدرهم المبيع من الثمن أو إسقاط ما هو قيمته الواقعية
لذلك الدرهم الذي ليس ملكا للبايع أو يكون متعلقا لحق الغير يبقى مد أو درهم
مقابل المد الباقي فلا رباء ولا بطلان للمعاملة نعم يأتي خيار تبعض الصفقة
للمشتري.
هذا هو الظاهر، ولكن يمكن تصحيح المعاملة في الفرض الأول بشكل لا يأتي
فيها الربا، بأن يقال باسقاط نصف الدرهم من الثمن مقابل نصف الدرهم من الدرهم
المبيع، ومد ونصف مد من الثمن مقابل النصف الآخر من الدرهم المبيع، فيبقى من الثمن
درهم ونصف مع نصف مد مقابل مد من المبيع فيكون الدرهم ونصف الدرهم الباقي
من الثمن مقابل نصف المد من المبيع ونصف المد الباقي من الثمن مقابل ما يساويه من
المبيع.
ولكن فيه أولا أن هذه المعاملة من أول الأمر وقعت باطلة وربوية، فلا يبقى
مجال لتصحيحها بما ذكر، وثانيا هذا الترتيب الذي ذكرنا لخروجها عن كونها ربوية
أجنبي عما قصده المتبايعان، والعقود تابعة للقصود، ولا ضرورة توجب الالتزام بما ذكر
على خلاف ما قصد.
وأما الثاني أي تلف الضميمة قبل أن يقبضها المشتري، وحيث إن المعاملة
وقعت صحيحة من أول الأمر، فيمكن ان يقال بعدم شمول أدلة حرمة الربا لمثل هذا
الرباء الحادث بعد وقوع المعاملة صحيحة وانصرافها عنه،
ويمكن أن يصحح بما تقدم في الفرع الأول، ولا يأتي الاشكال الذي تقدم هاهنا
138

لان المعاملة هاهنا وقعت صحيحة فما ذكرنا يكون لابقاء الصحة.
ولكن الانصاف أن هذا القسم من التصحيح خلاف ما قصده المتعاملان، وتقدم
في المسألة السابقة أن القول بالصحة من جهة التعبد للنص والاجماع، وإلا فمقتضى
القواعد هو البطلان، فلابد من القول بالبطلان ان قلنا بشمول أدلة حرمة الربا للمقام
وأما إن قلنا بالانصراف وعدم الشموم فالمعاملة صحيحة بلا كلام، والقول بعدم
شمول أدلة حرمة الربا لمثل المورد لا يخلو عن قوة.
هذه الفروع كلها كانت راجعة إلى الشرط الأول أي اتحاد الجنس في الثمن
والمثمن.
وأما القسم الثاني
أي الفروع الراجعة إلى الشرط الثاني اي كونهما مكيلا أو موزونا
فأيضا نذكرها في ضمن مسائل.
المسألة الأولى إذا كان جنس قد يباع بالوزن وقد يباع بالعدو أو في بلد أو في
زمان بأحدهما وفي الاخر بالآخر، فالظاهر أن حرمة التفاضل منوط بوقوع المعاملة
بالوزن أو كيلا وأما لو بيع عددا أو كان في بلد أو زمان يباع عددا فلا حرمة إن كان
بيع عددا.
وذلك من جهة أن حكم الحرمة على عنوان ما يباع كيلا أو وزنا على نحو
القضية الحقيقية، فكل وقت تحقق هذا العنوان يتحقق الحرمة، لعدم تخلف الحكم عن
موضوعه اللهم إلا أن يقال إن عنوان الموضوع في قوله عليه السلام إلا فيما يكال أو يوزن
هو أن يكون نوع معاملاته بالوزن أو الكيل فوقوعه في بعض الأحيان أو في بعض
البلدان أو الأزمان بالعد لا ينافي وجود موضوع الحرمة، لان هذا المقدار القليل
139

وقوعها بالعد لا يضر بكونه مما يكال أو يوزن عند العرف.
نعم لو كان في بلد أو في زمان نوع أهل ذلك البلد أو أهل ذلك الزمان يبيعونه
بالعد فلا يصدق أنه مما يكال أو يوزن عندهم، فالمدار على نوعية بيعه بالوزن أو
الكيل،
ويؤيد هذا المعنى بل يدل عليه مرسل علي بن إبراهيم: لا ينظر فيما يكال أو
يوزن إلا إلى العامة، ولا يؤخذ بالخاصة. (1)
المسألة الثانية إذا شك في صدق المكيل والموزون على جنس ولم يحرز أنه
منهما أو من غيرهما لعدم ضبط حدود مفهوميهما، فمقتضى عمومات صحة البيع
وحليته عدم حرمة التفاضل في مثل ذلك الجنس، إذا بيع بمثله، لان الخارج عن تحت
العمومات هو المكيل والموزون، فإذا شككنا في خروجه عنها نتمسك بأصالة العموم،
لان الشبهة مفهومية لا مصداقية، والمسألة محررة في الأصول،
وكذلك الامر في صورة الشك في اتحاد الجنس فيما لم يكن دليل وأمارة يثبت
الاتحاد حكما أو موضوعا،
وأما أصالة عدم ترتب الأثر على مثل تلك المعاملة المعبر عنها بأصالة الفساد
فهو محكوم بالعمومات، نعم لو كانت الشبهة مصداقية لا يمكن التمسك بالعمومات لما
حققناه في كتابنا منتهى الأصول. (2)
المسألة الثالثة قد ذكرنا في بعض المسائل السابقة أن فروع الأصل الواحد كل
واحد مع الاخر وجميعها مع ذلك الأصل، في حكم متحدي الجنسين، لا يجوز بيع
بعضها ببعض مع التفاضل، ولكن إذا اختلف الفرع مع الأصل بأن يكون أحدهما من

1. " الكافي " ج 5 ص 192، باب فيه جمل من المعاوضات، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 435، أبواب
الربا، باب 6، ح 6.
2. " منتهى الأصول " ج 1، ص 449.
140

المكيل أو الموزون والاخر من غيرهما، فيختلف حكمهما حسب اختلاف عناوينهما.
فيجوز بيع الجوز بمثله مع التفاضل لأنه معدود، ولا يجوز بيع دهنه بالتفاضل،
لأنه موزون فيختلف حكم الفرع والأصل وكذلك لا يجوز بيع القطن والغزل بمثلهما
مع التفاضل، لأنهما من الموزون ولكن الثياب المنسوج منهما يجوز بيعها مع التفاضل،
لأنها ليست من الموزون فاختلف حكم الأصل والفرع.
والسر في ذلك أن الفرع داخل تحت عنوان والأصل تحت عنوان آخر
والعنوانان مختلفان في الحكم من حيث دخول الربا وعدم دخوله.
المسألة الرابعة هل يجوز بيع المكيل موزونا وبالعكس أم لا؟ فيه خلاف،
والبحث في هذه المسألة تارة في جواز البيع من ناحية لزوم الغرر، وأخرى من
ناحية دخول الربا إذا كان العوضان من جنس واحد.
اما البحث من الجهة الأولى أي من ناحية لزوم الغرر الذي يكون منهيا ففيه
أقوال:
قول بعدم الجواز مطلقا،
وقول بالجواز مطلقا،
وقول بالتفصيل أي جواز بيع المكيل موزونا دون العكس.
وذلك من جهة ان اعتبار الكيل في المكيل أو الوزن في الموزون لأجل ارتفاع
الغرر والجهالة والعلم بمقدار العوضين، وفي هذه الجهة ربما يكون الوزن أضبط
وارتفاع الغرر والجهالة به أوضح وأجلى، حتى قيل إن الأصل في تعيين العوضين في
أبواب المعاوضات التي من المكيل أو الموزون هو الوزن، والكيل أمارة عليه.
والتحقيق في هذا المقام هو أن اعتبار الكيل في المكيل والوزن في الموزون إن
كان من جهة ارتفاع الغرر بهما وعدم كون البيع جزافا كما هو الظاهر، فلا يبعد صحة
141

بيع المكيل موزونا إذ ارتفاع الغرر بالوزن أوضح، ومعرفة المقدار به أدق،
وأما ما يقال من أن الوزن يعين وأما ما يقال من أن الوزن يعين المقدار من حيث الثقل والخفة والكيل من حيث
الابعاد، فلا يقاس أحدهما بالآخر، فإنه وإن كان صحيحا لكن عمدة النظر في غالب
أفراد المبيع: المكيل والموزون عند العرف والعقلاء إلى معرفة مقدارها من حيث
الوزن والثقل لا الابعاد.
نعم إذا كان الغرض في مورد يتعلق بالمبيع من حيث حجمه وابعاده دون ثقله
ففي ذلك السنخ من المبيع لا يبعد أن يكون المناط في رفع الغرر والجهالة هو الكيل
دون الوزن إذا كان مما يكال كما أنه إذا كان الكيل أمارة على الوزن فيرتفع الغرر
بالكيل، وإن كان موزونا، فيكفي الكيل في صحة المعاملة.
ويدل على ذلك أيضا رواية عبد الملك بن عمرو: قلت اشتري مأة راوية من
زيت فاعترض رواية أو اثنتين فأتزنها ثم آخذ سائره على قدر ذلك؟ قال عليه السلام
لا بأس (1) ولكن هذا في الحقيقة يرجع إلى معرفة المقدار بالوزن لا الكيل.
والحاصل أن تعيين المقدار ومعرفته بالوزن يكفي في صحة البيع، وإن لم يكن
المبيع مما يوزن، ولذلك ترى أن الحنطة والشعير مع أنهما من المكيل في زمن الشارع
إجماعا يجوز بيعهما بالوزن، وفي الجواهر (2) الاجماع أيضا على صحة بيعهما بالوزن.
وقال العلامة في التذكرة إنه لا يجوز بيع الموزون بجنسه جزافا وكذا لا يجوز بيعه
مكيلا إلا إذا علم عدم التفاوت فيه، وكذا المكيل لا يجوز بيعه جزافا ولا موزونا إلا
مع العلم بعدم التفاوت (3)، وقد عرفت ما هو الحق في المقام.
هذا كله كان من ناحية الغرر

1. " الكافي " ج 5، ص 194، باب بيع العدد والمجازفة والشئ المبهم، ح 7، " الفقيه " ج 3، ص 226، باب
البيوع، ح 3836، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 255، أبواب عقد البيع وشروطه باب 5، ح 1.
2. " جواهر الكلام " ج 23، ص 373.
3. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 483.
142

وأما البحث من ناحية دخول الربا فالعبارات الواردة في بيع المتجانسين وصحته
وعدم كونه ربا على أقسام:
تارة بأن يكون مثلا بمثل كما في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال
قلت له ما تقول في البر بالسويق؟ فقال: مثلا بمثل لا بأس (1) وبهذا المضمون
روايات كثيرة.
وأخرى أن يكون رأسا برأس كما في رواية صفوان عن رجل من أصحابه عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: الحنطة والدقيق لا بأس به رأسا برأس. (2)
وثالثة أن يكون العوضان سواء كما في رواية أبي بصير قال: سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن الحنطة بالدقيق؟ فقال: إذا كان سواء فلا بأس. (3)
ففي صحة بيع المتجانسين وعدم تحقق الربا لابد من صدق أحد هذه العناوين
الثلاث عرفا فنقول:
العوضان اللذان من جنس واحد أو كانا في حكم الجنس الواحد كفروع
الأصل الواحد بعضها بالنسبة إلى البعض كالخبز بالنسبة إلى السويق أو جميعها
بالنسبة إلى ذلك الأصل كالخبز بالنسبة إلى الحنطة مثلا أو الشيرج بالنسبة إلى التمر
أو العنب مثلا فاما أن يكون كلاهما من الموزون أو كلاهما من المكيل، أو يكونان
من المختلفين.
فالأول كالحنطة والشعير مثلا، والثاني كالدقيق بالدقيق، والثالث كالحنطة

1. " الكافي " ج 5، ص 189، باب المعاوضة في الطعام، ح 9، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 440، أبواب الربا،
باب 9، ح 1.
2. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 95، ح 403، باب بيع الواحد بالاثنين..، ح 9، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 440، أبواب الربا، باب 9، ح 5.
3. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 95، 407، باب بيع الواحد بالاثنين... ح 13، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 441،
أبواب الربا، باب 9، ح 6.
143

بالدقيق.
اما الأول فلا شك في أنه إذا باع منا من الحنطة بمن منها يصدق العناوين
الثلاثة أي مثلا بمثل، وكذلك رأسا برأس وكذلك كونهما سواء،
وهناك في بعض روايات باب الصرف (1) علق عليه السلام صحة بيع الورق بالورق
والذهب بالذهب بكونه وزنا بوزن، وبأن لا يكون فيه زيادة ونقصان.
فإذا كان المراد من بيع الورق بالورق والذهب بالذهب بيع المتجانسين، وذكر
الذهب والورق من باب المثال، فأيضا يصدق فيما ذكرنا من المثال أنه بيع مثلا بمثل
وبلا زيادة ولا نقصان أي من حيث الوزن ففيما إذا كان العوضان من الموزون لا شك
في صحة بيعهما موزونا لصدق جميع العناوين الخمسة.
وأما بيعهما بالكيل فلا يخلو من اشكال إذا كان بينهما تفاوت بحسب الوزن كما
أنه لو باع التمر بالدبس منه متساويا كيلا فالتمر والدبس منه كلاهما من الموزون فإذا
بيع أحدهما بالآخر كيلا متساويا يكونان متفاوتين بحسب الوزن لان الكيل من
الدبس أثقل من نفس ذلك الكيل من التمر فلا يصدق على مثل ذلك البيع أن العوضين
المتجانسين متساويان بلا زيادة ولا نقصان.
وذلك من جهة أن العرف يفهم من التساوي فيما يباع عندهم بالوزن التساوي في
الوزن لا التساوي كيلا ومن قوله عليه السلام بلا زيادة ولا نقصان عدمهما بحسب الوزن
وهكذا قوله عليه السلام في الموزون مثلا بمثل يفهم المثلية بحسب الوزن، وكذلك قوله عليه السلام
رأسا برأس وأما قوله عليه السلام وزنا بوزن فصريح في ذلك.
نعم لو لم يكن بينهما تفاوت بحسب الوزن فلا يأتي هذا الاشكال كما أنه إذا كان
الكيل أمارة على الوزن فأيضا لا يأتي هذا الاشكال كما أنه لو وزن كيلا ويعطى الباقي
بذلك الحساب كما تقدم في رواية عبد الملك بن عمرو.

1. " وسائل الشيعة " ج 12، ص 456، أبواب الصرف، باب 1، ح 3 و 4.
144

وأما الثاني أي فيما إذا كانا من المكيل فلا شك في صحة بيعهما كيلا، لان العرف
لا يفهم من التساوي إلا التساوي بحسب الكيل وكذلك الكلام في مثلا بمثل ورأسا
برأس، وأما قوله عليه السلام وزنا بوزن فهو في مورد الموزون فلا ربط له بمورد كون المبيع
مكيلا أصلا،
إنما الكلام في صحة بيعهما بالوزن هل يجوز.
فقال جماعة نعم لان الوزن أضبط في معرفة التساوي وعدم الزيادة والنقصان
الذي هو المناط في عدم تحقق الربا وقد تقدم أنه عليه السلام فسر المثلية بقوله بلا زيادة
ولا نقصان، وهو الصحيح، بل ربما يظهر من الشهيد في المسالك (1) دعوى الاجماع على
صحة بيع المكيل موزونا حيث قال كما في الجواهر حكاية عن المسالك: ونقل بعضهم
الاجماع على جواز بيع الحنطة والشعير وزنا مع الاجماع على كونهما مكيلين في عهده
صلى الله عليه وآله. (2)
ولكن ظاهر هذا الاجماع على جواز بيع المكيل موزونا على تقدير ثبوته هو
في خصوص ارتفاع الغرر بالوزن وخروج المعاملة عن كونها جزافا، فلا ينافي عدم
صحة بيع المكيل موزونا مثلا بمثل من ناحية الربا، لعدم صدق التساوي عرفا فيما إذا
بيع العوضان من المكيل بالتساوي وزنا.
فالأوجه في وجه الصحة ما ذكرنا من أن المراد بقوله عليه السلام مثلا بمثل أو رأسا
برأس أو غيرهما من العناوين التي ذكرناها، هو عدم زيادة أحد العوضين على
الاخر حيث إن هذا هو المناط في باب الربا ثبوتا وعدما فبثبوتها يثبت الربا
وبعدمها يرتفع، ولا شك في أن التساوي بحسب الوزن أدل على عدم تحقق الزيادة
والنقصان من التساوي بحسب الكيل حتى فيما يكال عند العرف.

1. " مسالك الأفهام " ج 3، ص 317.
2. " جواهر الكلام " ج 23، ص 374.
145

وأما الثالث أي فيما إذا كان أحد العوضين من المكيل والاخر من الموزون
كالحنطة مع الدقيق، بناء على أن الحنطة من الموزون والدقيق من المكيل فبناء على ما
ذكرنا من صحة بيع المكيل بالوزن جواز بيعهما متساويا بالوزن لما ذكرنا من أن
الوزن أضبط وأدل في معرفة عدم الزيادة والنقصان الذي هو المناط في جواز بيع
المتجانسين أحدهما بالآخر وزنا بوزن ومثلا بمثل، وأما كيلا فلا يخلو من اشكال.
وأما قياس بيعهما من حيث لزوم الربا على بيعهما من حيث الغرر، بأن يقال إنه
كما يرتفع الغرر بكل واحد من الكيل والوزن فكذلك التساوي يحصل بكل واحد من
الكيل والوزن،
ففي غير محله، وذلك من جهة اختلاف الموضوع في المسألتين. فالموضوع في
جواز البيع في باب الغرر هو ارتفاع الغرر والجهالة، وعدم كونه جزافا، والموضوع في
باب الربا هو كون العوضين في متحدي الجنسين أو ما كان في حكم متحدي الجنسين
متساويين بلا زيادة ولا نقصان فيمكن القول بارتفاع الغرر بكل واحد من الكيل
والوزن وأما التساوي وكونهما مثلا بمثل لا يتحقق في الموزون إلا بالوزن وفي المكيل
إلا بالكيل، وفيما كان أحدهما مكيلا والاخر موزونا لا يحصل بكل واحد منهما.
فلابد من علاج آخر لتصحيح بيعهما، وهو أن يبيع كل واحد منهما بما هو من
سنخه، فالمكيل بالمكيل كيلا والموزون بالموزون وزنا، أو يباع كل واحد منهما بغير
جنسه كي يخرج عن موضوع الربا.
المسألة الخامسة إذا كان البيع في شئ مختلفا بحسب الحالات فيباع في حال
بمشاهدة وفي حال بالوزن، وذلك ما في بيع الأثمار، فما دام الثمر على الشجر يباع
بالمشاهدة ولكن بعد الانفصال يباع وزنا أو كيلا مثل التمر والعنب وغيرهما، فالظاهر
أنه في كل حال يلحقه حكم ذلك الحال، فإذا بيع أو صولح عليه في حال كونه على
الشجر لا يدخل فيه الربا لعدم كونه مكيلا أو موزونا وأما بعد الانفصال يدخل فيه
146

لتحقق موضوعه، وهو كونه مكيلا أو موزونا.
هذا فيما إذا كان الاختلاف بحسب الأحوال، أما فيما إذا كان الاختلاف بحسب نوع
المعاملة، فما إذا بيع لا يباع إلا مكيلا أو موزونا، وأما الصلح فيقع عليه بالمشاهدة كما إذا
قلنا بصحة الصلح على صبرة من الحنطة أو الشعير من دون أن يكال أو يوزن،
فالظاهر دخول الربا حتى في ذلك النوع الذي لا يكال ولا يوزن، بل يكفي المشاهدة
في صحة وقوع الصلح عليه.
فلو أراد أن يصالح على صبرة من الحنطة أو الشعير أو غيرهما بصبرة أخرى من
جنسه فلا بد وأن يكونا متساويين وإلا يكون من الربا المحرم لتحقق موضوعه، وهو
نقل أحد متحدي الجنسين بعوض الاخر إلى الاخر مع أنهما من المكيل أو الموزون
بدون أن يكونا متساويين ومثلا بمثل.
المسألة السادسة إذا كان شئ يباع بكل من الوزن والعد فإذا كان باختلاف
الأزمنة أو الأمكنة: مثلا يباع في بلد أو زمان بالوزن وفي بلد أو زمان آخر بالعد
ففي كل زمان أو مكان يلحقه حكم ذلك الزمان أو ذلك المكان،
والوجه واضح.
وأما لو كان في زمان واحد أو مكان كذلك يختلف بحسب اشخاص المعاملات،
فقد يكون بيعه بالعد وقد يكون بالوزن، فإن كان الغالب هو الوزن بحيث يصدق عند
العرف أنه موزون، فيدخل فيه الربا لشمول الاطلاقات له، للزوم حملها على المعنى
العرفي، وكذلك الامر لو كان الغالب هو العد، وأما لو لم تكن غلبة في البين وصار
موردا للشك فيمكن أن يقال إذا بيع بالوزن فيدخل فيه الربا وإن بيع بالعد فلا.
ولكن التحقيق أن موضوع الحرمة وفساد المعاملة هو كون العوضين المتفاضلين
المتحدي الجنسين من المكيل أو الموزون فلابد من إحراز الموضوع لاثبات هذا
الحكم، وإلا فمع الشك في كونه مكيلا أو موزونا، فلا يثبت، نعم التمسك باطلاقات أدلة
147

صحة البيع وغيره من المعاملات لصحة مثل هذه المعاملة يكون من التمسك بعموم
العام أو إطلاق المطلق في الشبهات المصداقية، فالأحوط مراعاة التساوي كيلا أو وزنا
في مثل هذه المعاملة إذا كان العوضان من متحدي الجنسين.
المسألة السابعة الأوراق المالية المتعارفة الآن في الأسواق التي عليها مدار
المعاملات من أي قسم كانت، وبأي اسم سميت، دينار أو اسكناسا أو نوطا أو ريالا
أو ليرة أو غير ذلك حيث إنها ليست من المكيل ولا الموزون، فلا يدخل فيها الربا،
وليست معرفا وأمارة على مقدار من الذهب المسكوك أو الفضة المسكوكة، وإن كانت
في بعض الأزمنة السابقة كذلك، بل هي بنفسها تكون أموالا بواسطة اعتبارها من
الذين بيدهم الاعتبار. فلا يجري عليها أحكام النقدين من لزوم القبض في المجلس
إذا وقعت المعاملة بينها بعضها ببعض ولا زكاة فيها ولا يدخل فيها الربا.
المسألة الثامنة إذا لم يكن الشئ من المكيل ولا من الموزون، فيجوز أن يبيع
شاة بشاتين أو يبيع شاة ليس في بطنها شئ بالشاة التي حامل وفي بطنها شئ، أو
الشاة التي في ضرعها حليب بالتي ليس في ضرعها حليب، كما أنه يجوز بيعها بنفس
الحليب والبعير بالبعيرين والثوب بالثوبين وإن كانا من جنس واحد.
وكذلك يجوز بيع دجاجة فيها بيضة بدجاجة كذلك أو خالية عنها كما يجوز
بيعها بنفس البيضة ويجوز بيع نخلة فيها ثمرة بالتي ليست فيها ثمرة وأيضا بنفس
الثمرة وكتاب بكتابين وفرش بفرشين وجميع ما ذكرناه وما لم نذكره من هذا القبيل
من بيع واحد باثنين أو أكثر لا مانع فيه من اجل عدم كونه مكيلا أو موزونا، كي
يدخل فيه الربا.
المسألة التاسعة لو كان جنس بعضه جيد وبعضه ردئ مثلا كان وزنه من
الأرز نصفه من العنبر الغالي قيمته وهو لشخص ونصفه الآخر من صنف آخر
رخيص، وكان هذا النصف لشخص آخر فالمالكان باعا المجموع بوزنة من الصنف
148

الجيد، فان تبانيا على أن يكون عوض مالهما لكل واحد منهما بمقدار نفس ماله فلا
إشكال، إذ لا يكون رباء في البين، وأما لو تبانيا على أن يكون عوض مالهما لكل منهما
بنسبة قيمة ماله إلى الثمن، كما لو تباينا على أن يكون ثلثي الثمن لمالك النصف الجيد
والثلث الباقي لمالك النصف الردي فالمعاملة باطلة قطعا لكونها رباء.
وأما لو أطلقا ولم يكن تبان بينهما، فربما يتولد إشكال في الين، وهو أن كل واحد
من المالكين للمبيع يملك من الثمن بنسبة قيمة ماله لا بنسبة مقداره وكمه، فإذا كان
قيمة النصف الجيد ضعف قيمة النصف الردى فيملك مالك النصف الجيد ثلثي الثمن
ومالك النصف الردي ثلثا من تلك الوزنة التي هي ثمن للنصفين فتكون المعاملة
باطلة لكونها رباء، فيكون الاطلاق كالتصريح بأن يكون ثلثي الثمن لمالك النصف
الجيد الذي قلنا فيه ببطلان المعاملة، لكونا رباء.
اللهم إلا أن يقال بأن ظاهر بيع مجموع النصفين بالوزنة الجيدة هو اشتراكهما في
الثمن بالسوية، من حيث المقدار، وبعبارة أخرى حيث إن كل واحد منهما مالك لنصف
المبيع فبواسطة البيع يصير مالكا لنصف الثمن.
ولكن فيه أنه لو فرضنا أن الثمن في نفس المفروض ليس من جنس المثمن، فبناء
المعاملات على أن كل واحد من المالكين لنصف مقدار المبيع يملك من الثمن بنسبة قيمة
ما يملكه من المبيع، لا بنسبة مقداره، ولذلك ترى في باب تبعض الصفقة لو باع شخص
وزنتين من الحنطة إحداهما جيدة وأخرى رديئة وفرضنا أن قيمة الجيدة ضعف
الرديئة بستة دنانير، فظهر أن الجيدة ملك لغير البايع ولم يجز المعاملة صاحب
الجيدة فلا يملك مالك الرديئة إلا دينارين من الثمن، ويسترد الأربعة منه إن كان قبض
الكل.
فالانصاف أن المعاملة المفروضة في هذه المسألة في صورة الاطلاق كالصورة
التي يصرح مالك الجيدة بأن يكون له من الثمن أزيد من النصف باطلة، لكونها رباء
149

وذلك لأجل أن المعاملة في المفروض وفي أمثاله وفي باب تبعض الصفقة تنحل إلى
معاملتين وفي كل واحد منهما المبيع غير المبيع في الاخر، فلكل واحد منهما من الثمن ما
يقابل قيمته لا كميته.
هذا كله فيما إذا لم يحصل الاشتراك في المبيع بين النصفين بواسطة الاختلاط أو
الامتزاج، وإلا فإذا حصل الاشتراك في المبيع قبل البيع بواسطة الاختلاط فبناء على
ما هو الصحيح من كون الاشتراك بنسبة مالية المختلفين لا بنسبة كميهما، فلا يبقى
إشكال في البين، ولا يأتي الربا في البيع المذكور لأنه بناء على هذا مالك النصف الجيد
من المبيع يملك ثلثي المبيع بواسطة اختلاط ماله الجيد، مع المال الردي الذي لشريكه،
فكون ثلثي الثمن له في المفروض يكون على القاعدة.
نعم يأتي كلام في نفس الاشتراك بنسبة مالية ماليهما لا كميهما وأنه بناء على
على أن يكون الاشتراك معاوضة وبناء على إتيان الربا في جميع المعاوضات حتى
المعاوضات القهرية، فيكون للاشتراك بالنحو المذكور ربا مردوعا من قبل الشارع،
فلابد من القول بعدم كون نتيجة الاشتراك بين المالين الجيد والردي إذا كانا من جنس
واحد أو إذا كانا في حكم جنس واحد وهو الاشتراك، بنسبة مالية المالين وقيمتهما
وعلى كل حال محل هذا البحث ليس هاهنا وموكول إلى كتاب الشركة.
المسألة العاشرة الظاهر أن المعاملة الربوية حرام وفاسدة بتمامها، فلا يملك البايع
مثلا شيئا من الثمن ولا المشتري شيئا من المثمن، لا أن الحرمة أو الفساد مخصوص
بالمقدار الزائد على أحد العوضين
وذلك لوجوه:
الأول أن ظاهر قوله تعالى أحل الله البيع وحرم الربا (1) تقسيم المعاملات
على قسمين في متحدي الجنسين أحدهما أن لا تكون لاحد العوضين زيادة على

1. " البقرة (2): 275.
150

الاخر وهو حلال وصحيح، الثاني أن تكون المعاملة مشتملة على زيادة في أحدهما
جزءا أو شرطا وهو حرام وباطل، ومعلوم أن المعاملة إذا كانت فاسدة فلا ينتقل
شئ من العوضين إلى صاحب العوض الآخر، بل يبقى كل واحد منهما بتمامه في ملك
من كان له قبل وقوع هذه المعاملة الفاسدة، وهكذا فسر الآية الشريفة في مجمع البيان
وقال أي أحل الله البيع الذي لا رباء فيه وحرم البيع الذي فيه الربا. (1)
الثاني ما قررنا وأثبتنا في إحدى قواعد هذا الكتاب أن العقود تابعة للقصود، إذ
لا شك في أن المتعاملين قصدا انتقال العوض المشتمل على الزيادة جزءا أو شرطا إلى
الطرف المقابل بعوض ما ينتقل منه إليه، فلو قيل: إن ما انتقل إليه هو العوض بدون
تلك الزيادة فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد، ويخالف هذا تبعية العقود للقصود.
ولا يأتي هاهنا ما يقال في باب تبعض الصفقة من جهة أنه هناك يمكن القول
بل لابد منه بأن العقد الواحد ينحل إلى عقدين كلاهما مقصودان، غاية الأمر أن
شرائط الصحة في أحدهما موجودة دون الاخر وأما في المقام، القول بالانحلال لا
معنى له، إذ ليس في مقابل الزيادة شئ كي يقال إنه عقد آخر
الثالث الاخبار فان ظاهرها بطلان المعاملة الربوية وفسادها لا عدم انتقال
الزائد فقط إلى صاحب العوض الآخر
منها قوله عليه السلام: لا يصلح التمر اليابس بالرطب من أجل أن التمر يابس
والرطب رطب فإذا يبس نقص، (2)
وقوله عليه السلام وقد سئل عن العنب بالزبيب قال لا يصلح إلا مثلا بمثل، (3)

1. " مجمع البيان " ج 1، ص 389.
2. " الكافي " ج 5 ص 189، باب المعاوضة في الطعام، ح 12، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 94، ح 398، باب
بيع الواحد بالاثنين...، ح 4 " الاستبصار " ج 3، ص 93، ح 314، باب بيع الرطب بالتمر، ح 2، " وسائل
الشيعة " ج 12، ص 445، أبواب الربا، باب 14، ح 1.
3. " الكافي " ج 5، ص 190، باب المعاوضة في الطعام، ح 16، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 97، ح 417، باب
151

وبهذا المضمون أخبار كثيرة ولا شك في أن ظاهر هذه الأخبار بطلان المعاملة
المشتملة على تلك الزيادة للنقص الحاصل فيما بعد.
ومنها ما قاله الصادق عليه السلام في رواية سيف التمار أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان
يكره أن يستبدل وسقا من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر، لان تمر المدينة أدونهما ولم
يكن علي يكره الحلال، (1)
ومعلوم أن ظاهر هذه الرواية أن نفس المعاملة ليست بحلال وفاسد لا الزيادة
فقط.
ومنها رواية سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه السلام قال عليه السلام أخبث المكاسب
كسب الربا، (2)
فجعل عليه السلام المعاملة المشتملة على الزيادة من أخبث المكاسب، ومعلوم أن خبث
الكسب ظاهر في فساده وحرمته أي نفس المعاملة لا خصوص الزيادة.
ومنها قوله عليه السلام في رواية حماد عن الحبلي عن أبي عبد الله عليه السلام: الزائد
والمستزيد في النار، (3)
وظاهر هذا الكلام أن كون الزائد والمستزيد أي المتعاملين في النار يكون
لأجل معاملتهم فتكون تكون المعاملة التي تكون سببا لدخول النار حراما وفاسدا.
وهناك روايات أخر كثيرة لا يشك المتأمل فيها في دلالتها على حرمة المعاملة

بيع الواحد بالاثنين...، ح 1، " الاستبصار " ج 3، ص 92، ح 313، باب بيع الرطب بالتمر، ح 1، " وسائل
الشيعة " ج 12، ص 445، أبواب الربا، باب 14، ح 3.
1. " الكافي " ج 5، ص 188، باب المعاوضة في الطعام، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 447، أبواب الربا،
باب 15، ح 1.
2. " الكافي " ج 5، ص 147، باب الربا، ح 12، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 423، أبواب الربا، باب 1، ح 2.
3. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 98، ح 419، باب بيع الواحد بالاثنين...، ح 25، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 456، أبواب الصرف، باب 1، ح 1.
152

الربوية لا الزيادة فقط، وبناء على هذا يكون أصل المعاملة فاسدة، ويكون ما يقبضه
البايع فيها من الثمن وكذلك المشتري من المثمن من قبيل المقبوض بالعقد الفاسد،
فيجب رده إلى مالكه مع بقائه، ومع تلفه يضمن القابض. نعم مع علم المعطى بفساد
المعاملة يمكن أن يقال هو الذي أقدم على إتلاف ماله وهتك احترامه، فلا يضمن
القابض.
ثم إن ما ذكرنا في وجوب رد ما قبض في المعاملة الربوية هو فيما إذا كان القابض
عالما بالحكم والموضوع، وأما إذا كان جاهلا بهما أو بأحدهما فسيأتي الكلام فيها.
ولا فرق فيما ذكرنا من بطلان المعاملة الربوية بين أن تكون الزيادة جزء أو
شرطا،
وما توهم من أنها لو كانت شرطا فيكون البطلان مبتنيا على أن الشرط الفاسد
مفسد للعقد وأما إذا لم نقل بأن الشرط الفاسد مفسد فلا وجه للقول ببطلان المعاملة
لا أساس له: أما لو كان مدرك البطلان هي الآية أو الاخبار، فقد تقدم أن
مفادهما هو بطلان البيع الربوي أو مطلق المعاوضات الربوية، سواء كان منشأ كونها
ربوية هو زيادة الجزء أو الشرط.
وأما لو كان المنشأ هو قاعدة تبعية العقود للقصود، فلا شك أن قصد المتعاملين
متعلق بالمبادلة بين العوضين أي متحدي الجنسين مشروطا بذلك الشرط وبعبارة
أخرى المبادلة بين العوضين مع الشرط من قبيل بشرط شئ فالمبادلة بين نفس
العوضين ليس مقصودا أصلا لان النسبة بين العوضين من دون الشرط وبينهما مع
الشرط نسبة المتباينين، إذ هي من قبيل نسبة بشرط لا إلى بشرط شئ، وهما
متباينان
ولا يقاس ما نحن فيه بمسألة خيار تخلف الشرط، لأنه هناك المبيع شخص
خارجي قصد نقله إلى المشتري غاية الا أنه التزم بكونه متصفا بصفة كذا، وهذا
153

التزام آخر غير قصد كونه مبيعا ومنقولا إلى الغير فتخلف الشرط أو الوصف هناك
لا يوجب عدم قصد نقل ذلك الموجود الخارجي.
نعم لو كان المبيع أمرا كليا موصوفا بوصف فذات ذلك الكلي ليس مقصودا
ووصفه مقصودا آخر وبعبارة أخرى ليس من قبيل الالتزام في الالتزام، فلو تعذر
الوصف يمكن القول بعدم إتيان خيار تخلف الوصف أو الشرط بل تنفسخ المعاملة
ويكون من قبيل تعذر نفس المبيع
فبناء على هذا في صورة كون الزيادة شرطا يمكن أن يقال بأن ما قصد لم يقع
للمنع الشرعي، وما وقع أي انتقال العوضين بدون الشرط لم يكن مقصودا.
والفرق بين المقام وبين مورد خيار تخلف الوصف والشرط، هو أنه حيث إن
المعاملة وقعت هناك على العين الشخصية، فالقصد تعلق بنقلها على كل حال أي
سواء وجد الوصف أو الشرط أو لم يوجد، لأن العين الخارجية لا تتغير عما هي عليه
بوجود الوصف والشرط، وعدم وجودهما، وأما في المقام فالقصد تعلق بمبادلة شئ
بمقداره من جنسه مشروطا بشرط، فإذا لم يوجد الشرط فما هو المقصود لم يقع.
نعم ها هنا أيضا لو وقعت المعاوضة بين العينين الشخصيتين المتحدتين في الجنس
والمقدار وكانت المعاوضة مشروطة بشرط غير جائز شرعا ولو من جهة كونه رباء
فبطلان مثل هذه المعاملة لابد وأن يكون مستندا إلى دليل آخر غير تبعية العقود
للقصود وهو كما تقدم، الآية والاخبار.
المسألة الحادية عشر في أنه بعد الفراغ عن بطلان المعاملة الربوية وفسادها
هل هو فيما إذا ارتكب متعمدا مع العلم بالحكم والموضوع أم لا بل يكون مطلقا
باطلا وإن كان جاهلا بالحكم أو الموضوع بل وبهما
والفرق بين القولين واضح.
ففي الصورة الأولى لو اخذ الربا جهلا بالحكم أو الموضوع أو بكليهما فيكون
154

الزائد ماله ولا يجب رده بالخصوص أو جميع العوض المأخوذ إلى صاحبه لعدم علمه
بأنه رباء أو انه حرام وإن كان يعلم بأنه رباء.
وهذا بخلاف الصورة الثانية فإنه يجب عليه الرد مطلقا وإن كان جاهلا
بأحدهما أو بكليهما.
وفي المسألة أقوال:
قول بعدم وجوب الرد مطلقا أي سواء كان جاهلا بالحكم أو الموضوع أو بهما
فلا يجب رد الزائد أو الجميع مطلقا وفي جميع الصور التي للجهل
وهذا القول منقول عن الصدوق والشيخ (1) والشهيد (2) والأردبيلي (3) والحدائق (4)
والرياض.
وقول بوجوب الرد وبطلان المعاملة مطلقا وانه لا فرق بين صور الجهل حكما
أو موضوعا مع العلم فحال الجاهل حال العالم
وقول بالتفصيل بين كون ما اخذ رباء موجودا ومعلوما وصاحبه الذي اخذ
منه أيضا كذلك موجودا ومعروفا وبين ما لا يكون كذلك بان يكون ما اخذه رباء
تالفا إن كان مخلوطا أو ممتزجا غير معلوم أو كان صاحبه الذي اخذ منه غير
موجود أو غير معروف ومعلوم فيجب الرد في الأول ولا يجب في الثاني.
والقول الأول اي عدم وجوب الرد مطلقا إما لصحة المعاملة الربوية حال الجهل
بالحكم أو الموضوع أو الجهل بكليهما كما هو ظاهر كلام القائلين بهذا القول واما
تعبدا للآية والرواية مع بطلان المعاملة وفسادها وذهب إلى هذا القول صاحب

1. " النهاية " ص 376.
2. " الدروس " ج 3، ص 299.
3. " مجمع الفائدة والبرهان " ج 8، ص 489.
4. " الحدائق الناضرة " ج 20، ص 220.
155

الحدائق (1) وهو عجيب.
وحكى احتمال التفصيل بين الجاهل بالحكم والجاهل بالموضوع وأيضا بين
الجاهل بأصل الحكم وبين الجاهل بالخصوصيات
والأقوى من هذه الأقوال هو التفصيل بين ما كان المأخوذ رباء معزولا موجودا
يعرفه من دون خلطه أو امتزاجه بسائر أمواله خصوصا إذا كان صاحبه موجودا
ويعرفه فيجب رده عليه وبين ما ليس كذلك فلا يجب رده وحلال اكله.
ومدرك هذا التفصيل هو صحيح الحلبي وما رواه أبو الربيع الشامي وإلا فمقتضى
القواعد الأولية وأدلة حرمة الربا وبطلان المعاملة الربوية وجوب رد جميع ما اخذه
عوض ماله في المعاملة الربوية، لأنه مقبوض بالعقد الباطل الفاسد، ولم ينتقل إليه
شئ بذلك العقد.
فيده على ما قبض يد عادية ويجب رده إلى مالكه إن لم يكن تالفا وكان موجودا
وان تلف فهو ضامن لان يده يد ضمان إلا أن يكون هو أقدم على اتلافه وهتك
احترام ماله بواسطة علمه بالفساد وإن لم يعرف المالك يكون من قبيل مجهول المالك
يجب التصدق عنه بإذن الحاكم.
وخلاصة الكلام ان ما قبضه من الطرف في المعاملة الربوية يكون من المقبوض
بالعقد الفاسد وهو يجري الغصب فيكون القابض ضامنا وادعى الشيخ وفقيه
عصره كاشف الغطاء قدهما الاجماع على ضمان القابض (2) وقال ابن إدريس
ان البيع الفاسد يجري عند المحصلين مجرى الغصب في الضمان. (3)
هذا حسب القواعد واما مقتضى الروايات الواردة في الباب هو التفصيل الذي

1. " الحدائق الناضرة " ج 20، ص 220.
2. " المكاسب " ص 101.
3. " السرائر " ج 2، ص 326.
156

ذكرناه.
منها ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن الرجل يأكل
الربا وهو يرى أنه له حلال قال لا يضره حتى يصيبه متعمدا فإذا اصابه فهو
بالمنزل الذي قال الله عز وجل. (1)
ومنها ما رواه الوشاء عن أبي المغرا قال قال أبو عبد الله عليه السلام كل ربا اكله
الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة وقال لو أن رجلا ورث
من أبيه مالا وقد عرف ان في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغير حلال
كان حلالا طيبا فليأكله وان عرف منه شيئا انه ربا فليأخذ رأس ماله وليرد الربا
وأيما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه من الربا فجهل ذلك ثم عرفه بعد فأراد ان
ينزعه فما مضى فله ويدعه فيما يستأنف. (2)
ومنها ما عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن
الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال اتى رجل أبي فقال إني ورثت مالا وقد علمت أن
صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي وقد عرف ان فيه ربا واستيقن ذلك وليس
يطلب لي حلاله لحال علمي فيه، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا:
لا يحل اكله.
فقال أبو جعفر عليه السلام ان كنت تعلم بان فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله فخذ
رأس مالك ورد ما سوى ذلك وإن كان مختلطا فكله هنيئا فان المال مالك، واجتنب
ما كان يصنع صاحبه فان رسول الله صلى الله عليه وآله قد وضع ما مضى من الربا وحرم عليهم ما
بقي فمن جهم وسع له جهله حتى يعرفه فإذا عرف تحريمه حرم عليه ووجب عليه
فيه العقوبة إذا ركبه كما يجب على من يأكل الربا. (3)

1. " الكافي " ج 5 ص 144، باب الربا، ج 3، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 430، أبواب الربا، باب 5، ح 1.
2. " الكافي " ج 5، ص 145، باب الربا، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 431، أبواب الربا، باب 5، ح 2.
3. " الكافي " ج 5 ص 145، باب الربا، ح 5، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 431، أبواب الربا، باب 5، ح 3.
157

ومنها ما رواه أبو الربيع الشامي قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أربى
بجهالة ثم أراد ان يتركه قال عليه السلام أما ما مضى فله فليتركه فيما يستقبل ثم قال إن
رجلا اتى أبا جعفر عليه السلام فقال إني ورثت مالا وذكر الحديث نحوه. (1)
ومنها ما رواه محمد بن مسلم قال دخل رجل على أبي جعفر عليه السلام من أهل
خراسان قد عمل الربا حتى كثر ماله ثم إنه سال الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شئ
إلا أن ترده إلى أصحابه فجاء إلى أبي جعفر عليه السلام فقص عليه قصته فقال له
أبو جعفر عليه السلام مخرجك من كتاب الله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما
سلف وأمره إلى الله (2) والموعظة التوبة. (3)
ومنها ما رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر عليه السلام قال إن الوليد ابن
المغيرة كان يربي في الجاهلية وقد بقي له بقايا على ثقيف وأراد خالد بن الوليد المطالبة
بعد أن أسلم فنزلت واتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين الآيات. (4)
ومنها ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى عليه السلام قال سألته عن رجل
اكل ربا لا يرى إلا أنه حلال قال عليه السلام لا يضره حتى يصيبه متعمدا فهو ربا. (5)
ومنها ما رواه أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن أبيه قال إن رجلا أربى
دهرا من الدهر فخرج قاصدا أبا جعفر الجواد عليه السلام فقال له: مخرجك من كتاب الله
يقول الله فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف والموعظة هي التوبة:
فجهله بتحريمه ثم معرفته به. فما مضى فحلال وما بقي فليستحفظ. (6)

1. " الكافي " ج 5، ص 146، باب الربا، ح 9، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 432، أبواب الربا، باب 5، ح 4.
2. البقرة (2): 275.
3. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 15، باب فضل التجارة وآدابها، ح 68، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 430،
أبواب الربا، باب 5، ح 1.
4. " مجمع البيان " ج 1، ص 392، والآية في سورة البقرة (2): 278.
5. " مسائل علي بن جعفر " ص 147، ح 180، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 433، أبواب الربا، باب 5، ح 9.
6. " نوادر أحمد بن محمد بن عيسى " ص 161، ح 413، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 433، أبواب الربا،
158

وأيضا عن أبيه قال قال أبو عبد الله عليه السلام لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن
ومن اكله جاهلا بتحريمه [بتحريم الله] لم يكن عليه شئ. (1)
وبعد التأمل في هذه الأخبار ورد بعضها إلى بعض تكون ظاهرة فيما اخترنا من
التفصيل
بيان ذلك أن بعض هذه الروايات وان كانت تدل على العفو عما مضى وعدم
وجوب غرامته عليه بعد التوبة مطلقا أو فيما إذا كان المرتكب حين ارتكابه جاهلا
بتحريمه سواء كانت عين المال الربوي موجودة أو ليست بموجودة وكانت تالفة
وسواء كان مشخصا معزولا أو كان مشاعا مخلوطا.
ولكن قوله عليه السلام في صحيحة الحلبي إن كنت تعلم بان فيه مالا معروفا ربا
وتعرف أهله فخذ رأس مالك ورد ما سوى ذلك وإن كان مختلطا فكله هنيئا فان
المال مالك يقيد المطلقات بما إذا كان المال الربوي موجودا معروفا معزولا وتعرف
صاحبه ففي هذه الصورة ليس مشمولا لحكم المطلقات من حلية أكله وعدم ضمان
عليه، بل يجب رده إلى صاحبه.
وهكذا في رواية أبي الربيع الشامي لان سياقها عين سياق صحيحة الحلبي لان
فيها أيضا ان كنت تعرف شيئا معزولا وتعرف أهله وتعرف انه ربا فخذ رأس
مالك ودع ما سواه إلى آخر الحديث.
والحاصل ان صحيحة الحلبي المنقولة بطرق متعددة فرق بين كون المال الربوي
معروفا معزولا وبين كونه مشاعا ومخلوطا ففي الأول حكم بوجوب الرد وإن كان
المرتكب حال ارتكابه جاهلا بالحكم أو الموضوع وفي الثاني حكم بجواز اكله وعدم

باب 5، ح 10.
1. " نوادر أحمد بن محمد بن عيسى " ص 162، ح 414، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 433، أبواب الربا،
باب 5، ح 11.
159

وجوب رده بل هناك قيد آخر وهو ان يعرف أهله اي من اخذ منه الربا اي
صاحب الزيادة ومالكه وكذلك الكلام في رواية أبي الربيع الشامي ولا وجه لما
ذكروه من حمل الامر على الاستحباب.
ولا شك في أن قوله عليه السلام فيما إذا كانت عين الزيادة معلومة مشخصة معزولة مع
أنها ملك الغير يقينا خذ رأس مالك ودع ما سواء لا مجال لحمله على
الاستحباب إذ وجوب رد المال المعين المشخص للغير مع معلومية ذلك الغير امر
عقلي فمع كون الامر من طرف الشارع برده والقول بكون الامر ظاهرا في الوجوب
حمل الامر على الاستحباب لا يخلو من غرابة.
فالأقوى هو التفصيل الذي ذكرناه بل الأحوط معاملة مجهول المالك معه إذا لم
يعرف صاحبه خصوصا إذا كان المال معلوما ومعزولا ولا يكون مختلطا ومشاعا.
هذا مفاد الاخبار في المقام
واما الآية أي قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف
وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (1)
فمع قطع النظر عن استشهاد الإمام عليه السلام بها وتطبيقها على موارد مذكورة في
الروايات المتقدمة، ففيها احتمالات:
الأول لو تاب المرتكب للربا عنه بعد ارتكابه مدة من الزمن سواء كان عالما
بتحريمه أم لا ثم عرف فتاب بناء على أن تكون الموعظة بمعنى التوبة كما انها فسر بها
في بعض الأخبار (2) فله ما سلف اي الأموال التي اخذها رباء قبل ان يتوب يكون له
وحلال له ولا يجب رده إلى صاحبه وإن كان المال معلوما معزولا وصاحبه الذي

1. البقرة (2): 275.
2. " مجمع البيان " ج 1، ص 392 " تفسير العياشي " ج 1، ص 152، ح 156، " مسائل علي بن جعفر " ص 147،
ح 180، " نوادر أحمد بن محمد بن عيسى " ص 161، ح 413 و 414، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 433،
أبواب الربا، باب 5، ح 7، 10 و 12.
160

اخذ منه معروفا غير مجهول.
ولكن هذا المعنى والاحتمال مردود اجماعا ومخالف لقوله تعالى وإن تبتم فلكم
رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. (1)
الثاني أن يكون المراد من الموعظة التحريم والنهي من قبل الشارع فيكون معنى
الآية انه لو ارتكب المعاملات الربوية واخذ الربا قبل ورود النهي وقبل مجئ
التحريم فلما ورد النهي من ربه انتهى فله ما أخذ قبلا ولا يجب رد ما اخذ قبلا قبل
ورود النهي والتحريم.
قال في مجمع البيان في تفسير هذه الجملة من الآية: فله ما اخذ واكل من الربا
قبل النهي لا يلزمه رده، ثم قال قال الباقر عليه السلام من أدرك الاسلام وتاب ممن كان
عمله في الجاهلية وضع الله عنه ما سلف. (2)
وبناء على هذين المعنيين لا ربط للآية بمحل كلامنا، لان محل كلامنا هو أنه لو
ارتكب الرباء جهلا بالحكم أو الموضوع بعد ورود النهي عن قبل الشارع، فبعدما
التفت إلى أن في ماله ربا محرم هل يجب رده إلى مالكه أم لا، وهذا لا ربط له بأحد
المعنيين.
نعم الآية بحسب الظاهر الأولي ظاهر في المعنى الأول ولكن لابد من التصرف
فيه لمناقضته مع قوله تعالى وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا
تظلمون وبحسب شان النزول والمورد في الآية التي بعدها يكون ظاهرا في المعنى
الثاني، وذلك من جهة أنه روى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ان الوليد بن المغيرة كان
يربى في الجاهلية وقد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن
أسلم فنزلت الآية.

1. البقرة (2): 279.
2. " مجمع البيان " ج 1، ص 390.
161

الثالث أن يكون المراد منه ان الذي ارتكب البا جهلا بالحكم أو الموضوع ثم
التفت إلى النهي فله ما سلف ولا يجب رد ما ليس بمعزول ولا معلوم أنه ربا، بل كان
مخلوطا ومشاعا، فيكون له حلال ويجوز أكله.
وهذا المعنى متعين لهذه الآية لاستشهاد الإمام عليه السلام بهذه الآية لحلية أكل الربا
المتقدم الذي ارتكبه جهلا بالحكم أو الموضوع في الروايات المتعددة حيث قال عليه السلام
مخرجك من كتاب الله ثم تلا هذه الآية.
ولا يرد على هذا المعنى ما أشكلنا على المعنى الأول من المناقضة مع قوله تعالى
وان تبتم فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وذلك من جهة ان هذه
الآية في مورد الجهل حكما أو موضوعا، واما قوله تعالى وان تبتم فلكم رؤس
أموالكم في صورة التعمد والعلم بالحكم والموضوع.
وخلاصة القول أن هذه الآية بضميمة استشهاد الإمام عليه السلام بها على حلية أكل
الربا فيما إذا كان ارتكابه في حال الجهل به حكما أو موضوعا فيما إذا لم يكن المأخوذ
رباء معلوما ومعزولا، بل كان مختلطا ومشاعا خصوصا إذا لم يعرف أهله اي
صاحب تلك الزيادة تدل على التفصيل الذي اخترناه، فالآية الشريفة كالاخبار
المتقدمة دليل على هذا القول.
المسألة الثانية عشر إذا تعاملا بين شيئين رطبين متحدي الجنس كالعنب
بالعنب أو الرطب بالرطب، مثلا وكانت المعاملة صادرة من الفضول فأجاز
الأصيل بعد مدة يبس أحد العوضين ونقص عن وزن ما يقابله إن كانا من الموزون
أو عن كيله إن كانا من المكيل، فهل مثل هذه المعاملة صحيحة أو فاسدة؟.
لا يبعد ابتناء المسألة على الكشف الحقيقي والنقل، فان قلنا بالأول فالمعاملة
صحيحة، وإن قلنا بالنقل تكون فاسدة لكونها من الربا المحرم، وأما الكشف الحكمي
فلا أثر له في هذا المقام لأنه في الحقيقة نقل لا كشف.
162

المسألة الثالثة عشر إذا أراد الشريكان أو الشركاء تقسيم المال المشترك بينهما أو
بينهم بحيث يكون نصيب كل واحد منهم من جنس نصيب الاخر وكان المال
المشترك مما يكال أو يوزن، وبعبارة أخرى كان المال المشترك أبعاضه ربويا اي
واجدا لشرائط ثبوت الربا بحيث لو وقعت المعاملة والمعاوضة على تلك الابعاض
يجب أن يكون العوضان مثلا بمثل، أي متساويين في المقدار، فهل القسمة أيضا معاملة
ومعاوضة كي يراعى فيها عدم ثبوت الربا؟ أم لا؟ بل صرف تمييز حق بمعنى أن الحق
بمقتضى الشركة مشاع إما نصف أو ثلث أو ربع أو غيرها من الكسور حسب كثرة
الشركاء أو قلتهم، أو كثرة نصيب الشريك أو قلته،
وعلى كل حال فبناء على الأول لابد وأن تكون القسمة بالكيل أو الوزن كي لا
يقع التفاضل بين حقه وبين ما يأخذه بعنوان أنه نصيبه، ولا يجوز بالخرص والتخمين.
فلو كان الشريكان لكل واحد منهما النصف فإن كان من المكيل يجب أن يكال
المال بكيلين متساويين، وإن كان من الموزون يجب ان يوزن القسمان بوزنين متساويين
لكي لا يزيد أحدهما على الاخر، فيكون رباء محرما.
وأما بناء على الثاني فحيث لا معاوضة ولا معاملة فلا رباء في البين، فلا مانع
من أن تكون السهام متفاوتة في المقدار، وأن يكون أحدهما أزيد من الاخر، فيما إذا
كان لكل واحد من الشريكين النصف.
وهكذا الامر لو كان الشركاء متعددا وكانوا أزيد من اثنين فسهم صاحب كل
كسر لا مانع من أن يكون أزيد من ذلك الكسر أو أقل، إذا كان التقسيم بوجه مشروع
وأيضا لا مانع من أن يكون سهم أحدهما الرطب من ذلك الجنس المشترك مثل أن
يكون رطبا أو عنبا وسهم الآخر اليابس منه مثل أن يكون تمرا أو زبيبا، وإن كانا
ينقصان إذا جفا.
كل ذلك لأنه بناء على هذا لا رباء في البين كي لا يجوز أمثال تلك المذكورات
163

وما ذكرنا كان أثر كل واحد من التقديرين وأما في مقام الاثبات وأن أي واحد
منهما هو الحق فيحتاج إلى شرح وبيان.
وخلاصة الكلام فيه هو أن مبنى هذه المسألة أي كون القسمة إفراز حق
وتمييزه أو معاوضة ومعاملة بين الشريكين، أو الشركاء، هو تحقيق معنى الشركة
وبيان حقيقتها فنقول:
أما مفهوم الشركة فهو من المفاهيم الواضحة عند العرف ولذلك تعريفه يكون
لفظيا ربما يكون هو أوضح من التعاريف التي عرفوها بها،
فالعمدة هو بيان أن متعلق حق الشركاء أي شئ هو؟
وفي هذا المقام ذكروا وجوها.
الأول هو أن كل واحد من الشريكين، أو الشركاء، يملك كسرا مشاعا من المال
المشترك كالنصف أو الثلث أو الربع، وهكذا في باقي الكسور ففي الحقيقة كل واحد من
الشريكين أو الشركاء مالك لعنوان كلي قابل للانطباق على أفراد ومصاديق متعددة،
وكل واحد من تلك الافراد مصداق حقيقي وفرد واقعي لذلك المفهوم الكلي.
فبناء على هذا حقيقة القسمة عبارة عن تطبيق ذلك الكلي المملوك على مصداقه
فتمام ذلك الفرد عين مملوكه وليس شئ فيه لشريكه كي يقال بأنه معاوضة ومعاملة
مع شريكه بمعنى انتقال أجزاء من مال شريكه إليه بعوض ما ينتقل من ماله إلى
شريكه، بل بالقسمة يتعين ماله ويتميز عن مال شريكه، ويخرج عن الإشاعة.
وهذا هو المتفق عليه بين أصحابنا الإمامية رضوان الله تعالى عليهم أجمعين،
بخلاف ما ذهب إليه الجمهور من أن القسمة مستلزمة للمبادلة والمعاوضة بين ماليهما
كما أنه لو حصلت الشركة بين ماليهما بواسطة الخلط كما في خلط الحنطة بالحنطة أو
الشعير بالشعير أو في غيرهما أو بواسطة المزج كمزج لبن أحدهما بلبن الآخر أو
الدهن المذاب لأحدهما بالدهن المذاب للاخر، فبعد التقسيم لا محالة يوجد في كل
164

قسم مال الاخر، فلابد وان نقول بالمعاوضة ولا يمكن أن يكون إفراز حق وتمييزه
عن مال الاخر.
ولكن أنت خبير بأن في المثالين أو ما يشبههما يحصل الاشتراك في الرتبة السابقة
على القسمة بنفس المزج أو الخلط فيكون لكل واحد منهما الكسر المشاع من النصف
أو الثلث أو غيرهما، فإذا كان مبادلة أو معاوضة فذلك في الرتبة السابقة على القسمة
أي في نفس حصول الاشتراك.
الثاني أن يكون مال كل واحد من الشريكين أو الشركاء معلوما وعند الله
متميزا في الواقع وفي مقام الثبوت، ولكن في مقام الاثبات لا يعرف التميز مثل موارد
العلم الاجمالي فان المعلوم بالاجمال معلوم ومتميز عند الله وعند من يعرف الواقع،
ولكن غير معلوم عند الذي يعلم علما اجماليا مثلا بنجاسة أحد الكاسين أو
بزوجية إحدى المرأتين، وهكذا في سائر موارد العلم الاجمالي.
ومرجع هذا الوجه هو أن الاشتراك في الحقيقة عبارة عن الالتباس والاشتباه في
الظاهر، ولازم هذا الوجه هو أن يكون التقسيم غالبا ملازما مع المبادلة والمعاوضة،
لبعد أن ترد القسمة على نفس ماله بمعنى أن يكون سهمه دائما عين ما يملكه واقعا،
خصوصا في مورد المزج والخلط بل استحالته عادة.
فهذا الوجه يناسب ما ذهب إليه الجمهور في القسمة من أنها مبادلة ومعاوضة
ولكن أنت خبير بأن أصل هذا المبنى باطل، وأن الاشتباه والالتباس غير الاشتراك
مفهوما ومصداقا، لأنه بناء على هذا المبنى ليس اشتراك في البين بل كل واحد منهما
مالك لمال نفسه المتعين في الخارج، غاية الأمر اشتبه بمال الاخر.
والانصاف ان القول بان الاشتراك من هذا القبيل لا يخلو من غرابة، وأما ما
يتراءى في بادئ النظر في مورد مزج المالين أو خلطهما، بحيث لا يمكن فصلهما عرفا
وعادة، من كونه كذلك، فقد بيناه بأن المزج أو الخلط بتلك المثابة يكون سببا لحصول
165

الاشتراك بنحو الإشاعة، وملكية كل واحد منهما أحد الكسور.
ولا شك في أن الكسر المشاع لا تعين ولا تميز له في مقام الثبوت، بل هو من
قبيل الكلى قابل للانطباق على الكثير، وما لم ينطبق على الخارج لا تعين له نعم بعد
الانطباق يتعين ويتميز.
وحيث إن الخصوصية ليست ملكا للشريك أصلا كما إذا اشترى صاعا من
صبرة أو بعنوانها الخاص، بل يكون مالكا لإحدى الخصوصيتين أيضا بعنوان كلي كما في
باب الإرث، فلابد وأن يكون التطبيق إما برضاية الطرفين أو بحكم الشرع من قرعة
أو غيرها.
وخلاصة الكلام أن المفهوم من الشركة عرفا لا يلائم مع كونها من قبيل
الالتباس وكونها متميزا في الواقع وفي عالم الثبوت وغير معلوم في مقام الاثبات.
الثالث أن يكون كل واحد من الشريكين إذا كانا اثنين مع التساوي في نصيبهما
مالكا لنصف المال المشترك، ولكن لا بنحو الكلي، بمعنى أن يكون مالكا لطبيعة
النصف من ذلك المال، فكل نصف فرض في ذلك المال يكون تمامه لكل واحد من
الشريكين، غاية الأمر على البدل لا في عرض مالكيته لذلك النصف الآخر، كي يلزم
منه اجتماع مالكين في مال واحد، وكذلك كي لا يلزم منه مالكية كل واحد منهما لتمام
المال المشترك.
ومرجع هذا الوجه إلى أن كل جزء فرضته في ذلك المال يكون لكل واحد من
الشريكين نصفه، وحيث إن التحقيق عدم وجود الجزء الذي لا يتجزى واستحالته
فكل جزء فرضته في ذلك المال قابل للقسمة إلى ما لا يتناهى ففي كل جزء يصح أن
يقال نصفه لهذا الشريك ونصفه الآخر للآخر، فهما شريكان في كل جزء من أجزاء
ذلك المال المشترك وهذا المعنى هو المتفاهم العرفي من لفظ الشركة.
نعم لو قلنا بوجود الجزء الذي لا يتجزى فيلزم من هذا الوجه محذور، وهو
166

اجتماع مالكين على مال واحد، لعدم إمكان أن يقال إن نصف هذا الجزء لهذا الشريك
ونصفه الآخر للآخر، لعدم تصوير النصف فيه.
فالذي يقول بامكان الجزء الذي لا يتجزى وأن كل جسم مركب منه، فلابد له
من الالتزام بأحد أمرين إما أن لكل جزء من تلك الأجزاء مالكين، أو يلتزم بأن
بعض تلك الأجزاء لأحدهما والبعض الاخر للاخر.
وحيث إن الثاني لا يلائم مع الإشاعة والشركة، لأنه بناء على الثاني مال كل
واحد من الشريكين غير مال الآخر، إلا أنه غير متميز خارجا، فلابد للقائل
بالإشاعة والاشتراك من اختيار الوجه الأول، وهو أن يكون لكل جزء مالكين، وهو
محال وباطل بالضرورة، مضافا إلى أنه لا يصدق عليه الشركة ولو التزم بذلك لان
مرجع هذا الوجه إلى أن تمام المال ملك لهذا الشريك وللآخر أيضا وهذا غير
الشركة.
ولكن الذي يسهل الخطب ان بطلان الجزء الذي لا يتجزى في عصرنا هذا
ينبغي أن يعد من البديهيات.
ثم إن الفرق بين هذا الوجه والوجه الأول هو أنه لو تلف مقدار من المال
المشترك يكون التلف من كل واحد من الشريكين أو الشركاء، وذلك لما قلنا من أن
مرجع هذا الوجه إلى أنه أي جزء فرضت في هذا المال يكون نصفه مثلا لهذا
الشريك ونصفه الآخر للاخر، وهكذا في سائر الكسور، وفي سائر الفروض، وإن كان
الشركاء أزيد من اثنين، فالتالف بعضه لهذا الشريك وبعضه الآخر للشريك الآخر أو
الشركاء الآخرين، فالتلف يكون من كيس جميع الشركاء.
ففي الحقيقة إذا قلنا أن نصف هذا المال لاحد الشريكين مثلا مرجعه إلى أن
أنصاف جميع الأجزاء المفروضة فيه له، فلو تلف جزء من تلك الأجزاء المفروضة
فتلف نصف ذلك التالف من كل واحد منهما.
167

وأما في الأول فالنصف الكلي لاحد الشريكين وكذلك النصف الآخر للاخر،
فلو تلف نصف هذا المال لا يبقى لاحد الكليين مصداق فلابد وان يعين التالفة
بالقرعة، وذلك من جهة أنه في المفروض للمال المشترك نصفان أحدهما النصف
التالف وثانيهما النصف الباقي، فيكون كل واحد من النصفين لاحد الشريكين بلا
تعيين، فلا مناص إلا التعيين بالقرعة التي عينها الشارع لكل أمر مشتبه.
وبعد ما عرفت ما ذكرنا تعلم أن الصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الأخير
أي الوجه الثالث، إذ هو الذي يسلم عن النقوض والاشكالات، وهو الذي يفهمه
العرف من الشركة، ومقتضاه كون القسمة إفراز الحق لا المعاوضة والمبادلة بين أموال
الشركاء أو مالي الشريكين.
بيان ذلك أن كل كسر من الكسور إذا أضيف إلى شئ فيكون ما ينطبق عليه
ذلك الكسر مصداقا حقيقيا له، مثلا إذا كان الكسر هو النصف مثلا فإذا أضيف إلى
تمام المال فيكون كل نصف من أنصاف تمام ذلك المال مصداقا حقيقيا لذلك الكسر،
وإذا أضيف إلى نصفه، يكون كل نصف من ذلك النصف مصداقا حقيقيا لذلك الكسر،
وهكذا.
فإذا فرضنا أن هاهنا شريكين في مال فإذا قسمنا تمام ذلك المال نصفين، فكل
واحد من النصفين مصداق حقيقي لمفهوم ذلك الكسر المشاع الذي هو نصف المال،
وكذلك الامر في جميع أجزاء ذلك المال إذا قسمناها بقسمين، يكون كل قسم منها
مصداقا حقيقيا لذلك الكسر المشاع الذي يملكه كل واحد من الشريكين من ذلك
المال.
ولا فرق فيما ذكرنا بين ورود التقسيم على الكل أو على أي جزء من أجزاء ذلك
المال المشترك، نعم كون هذا القسم بخصوصه لهذا الشريك والاخر للاخر يحتاج إلى
معين من قرعة أو تراضيهما، فليس من باب القسمة مبادلة ومعاوضة في البين كي
168

نتكلم في أنه إذا كان المال المشترك متحد الجنس وكان من المكيل أو الموزون هل يأتي
فيه الربا أم لا.
الجهة الثالثة
في موارد الاستثناء عن هذه القاعدة.
منها بين الوالد وولده بمعنى أنه يجوز أن يأخذ الفضل كل واحد منهما من
الاخر، وإن كان العوضان في المعاملة التي تقع بينهما متحدي الجنس أو في حكمه
وكانا من المكيل أو الموزون.
ومنها بين المولى ومملوكه.
ومنها بين الرجل وزوجته.
ومنها بين المسلم والحربي بمعنى أنه يجوز للمسلم أن يأخذ الفضل من الحربي، لا
أن يعطيه، وأما غير الحربي سواء كان ذميا أو معاهدا ففيه كلام نتكلم فيه إنشاء الله
تعالى، ونسب الخلاف في هذه المسألة إلى المرتضى (1) والأردبيلي (2) قدس سرهما،
وقيل برجوع المرتضى عما قال، وأنه وافق المشهور.
وعلى كل حال المدرك في هذا الحكم هو الاخبار وأما الاجماعات المدعاة من
الأعاظم في هذا المقام، فمخدوش صغرى وكبرى، لما ذكرنا مرارا من أن الاتفاق مع
وجود الروايات ليس من الاجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجيته، وأما
الصغرى فلوجود المخالف،

1. " الانتصار " ص 212، " رسائل الشريف المرتضى " جوابات الموصليات الثانية، ج 10، ص 182.
2. " مجمع الفائدة والبرهان " ج 8، ص 489.
169

فالأولى أن نذكر أخبار الباب ونرى مفادها ومقدار دلالتها.
فمنها رواية عمرو بن جميع عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام:
ليس بين الرجل وولده ربا وليس بين السيد وعبده ربا. (1)
وبهذا الاسناد قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا نأخذ
منهم الف ألف درهم بدرهم ونأخذ منهم ولا نعطيهم (2) وروى هذه الرواية والتي
قبلها بعدة طرق في الجوامع العظام.
ومنها ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال ليس بن الرجل وولده وبينه وبين
عبده ولا بين أهله ربا: إنما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك قلت فالمشركون بيني وبينهم
ربا؟ قال: نعم، قلت فإنهم مماليك؟ فقال: إنك لست تملكهم إنما تملكهم مع غيرك.
أنت وغيرك فيهم سواء. فالذي بينك وبينهم ليس من ذلك، لان عبدك ليس مثل
عبدك وعبد غيرك. (3)
ومنها ما رواه الصدوق مرسلا قال قال الصادق عليه السلام ليس بين المسلم وبين
الذمي ربا ولا بين المرأة وبين زوجها ربا. (4)
ومنها رواية علي بن جعفر انه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام عن رجل أعطى
عبده عشرة دراهم على أن يؤدي العبد كل شهر عشرة دراهم أيحل ذلك قال عليه السلام

1. " الكافي " ج 5، ص 147، باب أنه ليس بين الرجل وبين ولده وما يملكه ربا، ح 1، " الفقيه " ج 3، ص 277،
باب الربا، ح 4001، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 18، باب فضل التجارة، ح 76، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 436، أبواب الربا، باب 7، ح 1.
2. " الكافي " ج 5، ص 147، باب إنه ليس بين الرجل وبين ولده وما يملكه ربا، ح 2، " الفقيه " ج 3، ص 277،
باب الربا، ح 4000، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 18، باب فضل التجارة، ح 77، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 436، أبواب الربا، باب 7 ح 2.
3. " الكافي " ج 5، ص 147، باب إنه ليس بين الرجل وبين ولده وما يملكه ربا، ح 3، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 436، أبواب الربا، باب 7 ح 3.
4. " الفقيه " ج 3، ص 278، باب الربا، ح 4002، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 436، أبواب الربا، باب 7، ح 5.
170

لا بأس. (1)
ومنها ما في الفقه الرضوي عليه السلام ليس بين الوالد وولده ربا. ولا بين الزوج
والمرأة ولا بين المولى والعبد ولا بين المسلم والذمي. (2)
وهذه الروايات وان ضعفها الأردبيلي (3) وبعضها كذلك، ولا يخلو من الضعف
ولكن حيث عمل بها الأصحاب قديما وحديثا بل ادعى بعضهم الاجماع على ما هو
مضمونها. حتى أن صاحب الجواهر (4) يقول إجماعا محكيا مستفيضا إن لم يكن متواترا
صريحا ظاهرا. بل يمكن تحصيله إذ لا خلاف فيه الا من المرتضى (5) ثم يقول إنه أيضا
عدل عن خلافه ووافق الباقين من الأصحاب وينقل عبارته من الانتصار أنه قال:
ومما انفردت به الإمامية القول بأنه لا ربا بين الولد ووالده،
ولا بين الزوج وزوجته، ولا بين الذمي والمسلم، ولا بين العبد ومولاه، وخالف باقي الفقهاء، ثم ينقل كلامه أنه
قال:
وقد كتبت قديما في جواب مسائل وردت علي من الموصل وتأولت الاخبار التي
يرويها أصحابنا المتضمنة لنفي الربا بين من ذكرنا أي الولد والوالد والزوج والزوجة
والمولى والعبد والذمي والمسلم على أن المراد بذلك وإن كان بلفظ الخبر معنى الامر
كأنه قال يجب أن لا يقع بين من ذكرناه ربما كما قال تعالى من دخله كان آمنا (6)
وكقوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (7) وكقوله صلى الله عليه وآله العارية
مردودة والزعيم غارم ومعنى ذلك كله الأمر والنهي إلى أن قال.

1. " الفقيه " ج 3، ص 281، باب الربا، ح 4016، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 437، أبواب الربا، باب 7، ح 6.
2. " فقه الرضا عليه السلام " ص 258، " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 339،، أبواب الربا، باب 7 ح 1.
3. " مجمع الفائدة والبرهان " ج 8، ص 489 - 491.
4. " جوهر الكلام " ج 23، ص 378.
5. " الانتصار " ص 212، " رسائل الشريف المرتضى " جوابات الموصليات الثانية ج 1، ص 182.
6. آل عمران (3): 97.
7. البقرة (2): 194.
171

واعتمدنا في نصرة هذا المذهب على عموم ظاهر القرآن ثم لما تأملت ذلك
رجعت عن هذا المذهب، لأني وجدت أصحابنا مجمعين على نفي الربا بين ما ذكرنا،
وغير مختلفين في وقت من الأوقات، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنه حجة، ويخص به
ظاهر القرآن.
فانظر إلى كلام هذا الفقيه العظيم وأنه رجع عن فتواه لما رأى من الاجماع
والاتفاق من الأصحاب على عدم ثبوت الربا في هذه الموارد الأربعة، فمع اتفاق
الأصحاب على الفتوى بمضمون هذه الروايات لا يبقى مجال للشك في حجيتها، وذلك
لحصول كمال الوثوق بصدورها واعتبارها لما ذكرنا في الأصول (1) أن موضوع الحجة
هو خبر الموثوق الصدور لا خصوص خبر الثقة أو الصحيح كما قيل.
فالعمدة في المقام هو بيان دلالتها فنقول:
لا شك في أن ظاهر هذه الروايات نفي الربا بين الطوائف الأربع: أي الوالد والولد،
والمالك ومملوكه، والزوج وزوجته، والمسلم والكافر إما مطلقا وإن كان ذميا أو
خصوص الحربي.
وفي أمثال هذه التراكيب التي يكون مفادها رفع موضوع خارجي بلا النافية
للجنس يدور الامر بين أمور ثلاثة بعد معلومية عدم رفعها تكوينا.
أحدها أن يكون النفي بمعنى النهي كقوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال
في الحج (2) ومن الواضح أن هذا خلاف ظاهر النفي ولا يصار إليه إلا بدليل، ولا
دليل في المقام فلا مانع من الاخذ بظاهرها كما سنذكره انشاء الله تعالى.
ثانيها هو أن يكون المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما قال بهذا جمع من
المحققين في حديث لا ضرر وما دل على نفي الحرج، وهذا أيضا خلاف ظاهر

1. " منتهى الأصول " ج 2، ص 111.
2. البقرة (2): 194.
172

الكلام، وذلك لان ظاهر الكلام هو أن المنفي والمرفوع نفس الموضوع لا حكمه تقديرا
أو تجويزا، لعدم احتياج إلى التقدير، وعدم قرينة على التجوز، بل عدم صحة إرادة
الحكم من الموضوع لعدم علاقة بينهما.
ويمكن أن يكون المرفوع هاهنا نفس الموضوع حقيقة غاية الأمر
لا رفعا تشريعيا لا رفعا تكوينيا، نعم نتيجة الرفع التشريعي هو ارتفاع الحكم، وقد شرحنا هذا
المطلب وأوضحناه في حديث الرفع في كتابنا منتهى الأصول (1)، وفي شرح قاعدة
لا ضرر في كتابنا: القواعد الفقهية. (2)
وخلاصة الكلام أن نفي الربا في عالم التشريع في الموارد المذكورة مرجعه إلى نفي
تحريمه، ولكن بلسان نفي موضوعه حقيقة، لا ادعاء في عالم الاعتبار التشريعي،
وبعبارة أخرى المنفي هو نفس الربا في محل البحث، ولكن النفي نفي تشريعي، ومعنى
النفي التشريعي كونه بمنزلة العدم في نظر الشارع، أي عدم ترتب أثر شرعي عليه.
وبعد ما ظهر لك اعتبار هذه الروايات وحجيتها أما عند القدماء لأجل صحتها
على ما هو المصطلح عندهم من صحة جميع ما هو موجود في الكتب المعتبرة كالكتب
الأربعة وغيرها مما هو معتبر عندهم، وأما عند المتأخرين فلأجل جبر ضعفها
بالاتفاق المذكور، والاجماعات المنقولة عن أعاظم الفقهاء، حتى أن المرتضى (3) قدس
سره عدل عن فتواه لأجل ذلك الاجماع، وقد تقدم ذكر هذا المطلب فلا يبقى مجال
لما ذهب إليه ابن الجنيد (4) من حرمة الربا حتى في هذه الموارد الأربعة المتقدمة مستندا
إلى عمومات الكتاب، إذ بعد الفراغ عن جواز تخصيص عمومات الكتاب وتقييد
مطلقاتها بالخبر الواحد الحجة، وبعد الفراغ عن حجية هذه الأخبار لما ذكرنا،
فالعمومات تخصص، والمطلقات تقيد.

1. " منتهى الأصول " ج 2 ص 174.
2. راجع " القواعد الفقهية " ج 1، ص 211.
3. " الانتصار " ص 212.
4. نقله عنه في " مختلف الشيعة " ج 5، ص 110 و 112.
173

وأيضا لا يبقى مجال لما ذكره الأردبيلي (1) قدس سره وصاحب الكفاية (2) من
المناقشات في حجية هذه الأخبار إذ حجيتها واضحة، ودلالتها على عدم حرمة الربا
في هذه الموارد أوضح، فلا وجه للتشكيك في حجيتها أو دلالتها، أو كونها مخصصة
للعمومات ومقيدة للمطلقات، إذ جميع هذه الأمور ثابتة بالأدلة والبراهين القاطعة،
وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.
ثم إن هاهنا فروعا.
الأول هو انه هل يشمل الولد في قوله عليه السلام لا رباء بين الوالد والولد للبنت
أم لا؟
أقول لا وجه لعدم الشمول إلا دعوى الانصراف، وإلا فبحسب اللغة والعرف
العام لا شك في أن الولد ومادة التوليد مطلقا أعم من الذكر والأنثى.
نعم في بعض الأقطار لا يطلقون الولد على الأنثى ولذلك في مثل الأقارير
والوصايا، يجب الاخذ بعرف المقر والموصي، وذلك لان الاقرار والوصية عبارة عن
إنشاء أمر مع قصده لذلك الامر، وإلا فصرف الانشاء بلا قصد لا أثر له، ولا ريب في
أن اللفظ الذي يصدر عن المتكلم ظاهر في إرادته لما هو المتعارف عنده وعند بلده
قصدهم من ذلك اللفظ حين الاستعمال، وأما الألفاظ المستعملة في لسان الشارع
والأئمة عليهم السلام، فظاهر فيما هو معنى اللفظ عند العرف العام، وذلك لان خطاباتهم ليست
متوجهة إلى شخص خاص أو بلد وقطر خاص أو أهل زمان خاص.
نعم لابد وأن يكون المعنى المراد من اللفظ هو ما يفهمه العرف في زمان صدور
الكلام، وهذا أصل جار في جميع الموارد، وحيث إن العرف العام في مادة الولد كما تقدم

1. " مجمع الفائدة والبرهان " ج 8، ص 489.
2. " كفاية الأحكام " ص 98.
174

هو الأعم من الذكر والأنثى فلا وجه لاختصاصه بالذكر، ودعوى الانصراف لا يخلو
من مجازفة.
ثم الظاهر أنه لا فرق بين الولد أن يكون من صلبه بلا واسطة، وبين ولد الولد،
أي ولد الابن، وذلك لعموم اللفظ وشموله لكليهما، وإن كان العلامة (1) والمحقق (2)
والشهيد (3) الثانيان قالوا باختصاص الحكم بالولد بلا واسطة، نعم يمكن أن يقال
بانصرافه عن ولد البنت، وإن كان اللفظ بحسب الوضع أعم من ولد الابن والبنت
جميعا،
ولكن الانصاف أن دعوى الانصراف هاهنا غير بعيد.
الثاني هل يختص هذا الحكم بالولد الصلبي أو يشمل الولد الرضاعي؟
الظاهر عدم الشمول، وذلك من جهة أن الولد الرضاعي ليس بولد للأب
الرضاعي حقيقة، إذ لم يلده وإنما هو تنزيل من قبل الشارع، فيحتاج إلى اثبات عموم
المنزلة وكون الرضاع لحمة كلحمة النسب (4) لا يثبت التنزيل من حيث جميع
الآثار.
وأما شموله لولد الزنا فبحسب العرف واللغة فلا إشكال فيه، وقوله صلى الله عليه وآله الولد
للفراش (5) في مورد الشك وأما مع القطع بأنه خلق من مائه فلا شك في أن هذه
القاعدة لا تنفي النسب.

1. " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 485.
2. " جامع المقاصد " ج 4، ص 280.
3. " مسالك الأفهام " ج 3، ص 327.
4. " الفقيه " ج 3، ص 133، باب ولاء المعتق، ح 3494، " تهذيب الأحكام " ج 8، ص 926، باب
المعتق وأحكامه، ح 159، " الاستبصار " ج 4، ص 24، ح 78، باب أن ولاء المعتق إذا مات...،
ح 3، " وسائل الشيعة " ج 16، ص 55، أبواب كتاب العتق، باب 42، ح 2 و 6. وفي جميع المصادر: " الولاء
لحمة كلحمة النسب ". نعم ذكر الحديث بنصه في " الميزان في تفسير القرآن " ج 4 ص 283.
5. " عوالي اللئالي "، ج 2، ص 132، ح 359، وص 275، ح 41.
175

وأما ما ورد في باب إرثه وأنه لا يرث، فهذا حكم خاص لا ربط له بنفس النسبة
مطلقا
وأما دعوى انصراف الولد عن ولد الزنا في موضوعيته لهذا الحكم، فدعوى بلا
دليل، نعم الأحوط الاجتناب عن ارتكاب الربا بينهما، فإنه حسن على كل حال.
الثالث بناء على شمول هذا الحكم للذكر والأنثى جميعا، كما هو المختار وبناء على
أن الخنثى ليس طبيعة ثالثة كما هو المختار، بل هو إما ذكر أو أنثى وأما كونه مشكلا إنما
هو في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت، يكون الخنثى أيضا مشمولا لهذا الحكم بلا
اشكال.
وأما الام فلا يكون بمنزلة الأب قطعا لعدم شمول الرواية لها، وليس دليل آخر
من اجماع أو غيره في البين فيجب الاخذ بالنسبة إليها بعمومات التحريم.
وأما ادعاء أن قوله عليه السلام في ما حكيناه عن الفقه الرضوي ليس بين الوالد وولده
ربا، (1) وأيضا ما قاله المرتضى قدس سره ومما انفردت به الإمامية القول بأنه
لا ربا بين الوالد وولده (2) أن المراد من الوالد وإن كان بصيغة المذكر أعم من الأب
والام، مما لا ينبغي الاصغاء إليه، لان الوالد لفظ موضوع للأب، ولا يطلق على الام
أصلا.
وأما رواية عمرو بن جميع ورواية زرارة (3) فصرح فيهما بأنه ليس بين الرجل
وولده ربا وليس فيهما ما يتوهم إمكان انطباقه على الام.
وهذه الفروع التي ذكرناها كلها كانت راجعة إلى المورد الأول من الموارد
الأربعة،

1. " فقه الرضا عليه السلام " ص 258.
2. " الانتصار " ص 212.
3. سبق ذكرهما في ص 170، رقم (1 و 3).
176

وهاهنا فروع راجعة إلى المورد الثاني من تلك الموارد، أي عدم الربا بين السيد
وعبده.
فالأول انه هل فرق بين العبد المكاتب وبين غيره أم لا؟
وجه الفرق هو أن المكاتب يملك ما يحصله بالكسب فيكون في حكم سائر
الناس، ويحرم عليه أخذ الربا والفضل منه، وأما غير المكاتب فلا يملك وماله مال
سيده، فلذلك يجوز أخذ السيد عنه لان أدلة حرمة الربا منصرفة إلى أخذ مال الغير
لا مال نفسه.
وأما المكاتب حيث إنه يملك فيشمله أدلة حرمة الربا، ولا يجوز أخذ الفضل
منه ومن هذه الجهة يكون كسائر الناس ولكن أنت خبير بأنه بناء على أن العبد لا
يملك، لا يبقى محل للبحث في أنه يجوز أخذ الفضل والربا عنه أم لا، ولا يبقى مورد
لقوله عليه السلام لا ربا بين السيد وعبده (1) إلا المكاتب، لا أنه يجوز الاخذ عن غير
المكاتب ولا يجوز عنه.
فالظاهر عدم الفرق بين أقسام العبد من القن والمدبر والمكاتب، وحتى أم الولد،
بناء على عدم اختصاص هذا الحكم بالرجل وشموله للأمة، كما هو الأظهر وإن كان
الأحوط عدم الاخذ عنها كل ذلك لأجل إطلاق النص.
فقوله عليه السلام في رواية زرارة ومحمد بن مسلم ليس بين الرجل وولده
ولا بينه وبين مملوكه (2) وفي بعض النسخ وبين عبده بدل وبين مملوكه
وعلى كل واحد من الوجهين فيه إطلاق يشمل جميع أقسام العبد، وهذا حكم
تعبدي،

1. قطعة من رواية عمر بن جميع التي تقدمت ذكرهما في ص 170، رقم (1).
2. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 17، باب فضل التجارة وآدابها، ج 75، " الاستبصار " ج 3، ص 71، ح 326،
باب أنه لا ربا بين المسلم وبين أهل الحرب، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 436، أبواب الربا،
باب 7، ح 4.
177

والوجوه التي ذكروها تعليلا لهذا الحكم ليست إلا وجوها استحسانية لا اعتبار
بها في إثبات الأحكام الشرعية.
الثاني الظاهر عدم الفرق بين كون المولى رجلا أو امرأة وقوله عليه السلام في رواية
زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمة ليس بين الرجل وولده ولا بينه وبين مملوكه من
باب الجري على الغالب كما هو المتعارف في بيان أكثر الأحكام، لا لخصوصية في
الرجل، وهذا واضح.
الثالث إذا كان العبد مشتركا أو مبعضا: أما المشترك بين مالكين أو أكثر
فيصدق بالنسبة إلى كل واحد من المالكين أو الملاك أنه عبده، خصوصا بالنسبة إلى
حصته منه فلو باع شيئا منه مع الفضل وفرضنا أن له نصف العبد فيملك نصف
الفضل مع تمام الثمن إذا كان البايع هو وحده.
وذلك من جهة صدق أنه باع هذا المقدار من عبده مع الفضل والربا، ولا رباء
بين السيد وعبده، بل يمكن أن يقال بأنه يملك تمام الثمن وتمام الفضل، لأنه عبده ولا
رباء بين السيد وعبده.
ولكن هذا الاحتمال بعيد لأنه ليس تمام العبد ملكه، بل لا يملك إلا نصفه مثلا
ولو كان المثمن لمالكين أحدهما ملك العبد بتمامه أو كان مالكا لنصفه فيمكن القول
بصحة المعاملة بالنسبة إلى النصف لصدق البيع من عبده مع الفضل بالنسبة إلى
النصف، والربا بالنسبة إليه لا يوجب البطلان نعم بالنسبة إلى النصف الآخر باطل
لأنه بيع ربوي وداخل في المستثنى منه ولا استثناء بالنسبة إليه، لأنه ليس بسيده.
نعم لو حصل الشك في شمول قوله عليه السلام لا رباء بين العبد وسيده لمثل هذا العبد
المشترك أو المبعض أو المكاتب أو المدبر أو أم الولد، ولم يكن اطلاق يرفع حكم
الشك، فمقتضى القاعدة هو الرجوع إلى عمومات أدلة حرمة الربا كما هو الشأن في
جميع موارد الشك في الشبهة المفهومية للمخصص للعمومات كما في المقام.
178

ولكن أنت خبير بأن هذا صرف فرض في المقام لوضوح مفهوم السيد والعبد
في المقام، وعدم خفاء فيه، فالمالك بالنسبة إلى حصته سيد في العبد المشترك أو
المبعض كما أن العبد المشترك أو المبعض بالنسبة إلى تلك الحصة مملوك له يقينا وقد
كان في رواية زرارة ومحمد بن مسلم عنوان بين الرجل ومملوكه كما تقدم.
هذا في العبد المشترك، والكلام في المبعض عين الكلام في المشترك حرفا بحرف
نعم ربا يقال إن ذيل صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم نفي حلية الربا في العبد
المشترك وهو قوله عليه السلام نعم وإنك لست تملكهم إنما تملكهم مع غيرك، أنت وغيرك
فيهم سواء والذي بينك وبينهم ليس من ذلك، لان عبدك ليس مثل عبدك وعبد
غيرك. وهذا الكلام منه عليه السلام بعد قول السائل: قلت: فالمشركون بيني وبينهم ربا؟
قال عليه السلام: نعم، قلت فإنهم مماليك؟ فأجاب عليه السلام بقوله: نعم، إلى آخر ما ذكرنا.
ولا ريب في أن ظاهر كلامه عليه السلام نعم في جواب قول السائل فالمشركون كون
بيني وبينهم يدل على ثبوت الربا إذا كان المملوك مشتركا بينك وبين غيرك، ولكن
يمكن أن يقال إن هذا الذيل لم يعمل الأصحاب به لمعارضته مع صدر الرواية لان
مفاد صدر الرواية عدم ثبوت الربا بين المسلمين والحربي والمشركون منهم، بل
الحكم في الكافر غير الذمي اجماعا، ولا شك في أن المشركين ليسوا بذميين.
وجمع بعضهم بين ما مفاده عدم ثبوت الربا بين المسلم والكافر الحربي ي، وهذا
الذيل الذي يدل على الثبوت، بحمل الطائفة الأولى على غير المعاهد من الحربي
والثانية على المعاهد، وذلك لان المعاهد ماله محترم، فيكون كالمسلم في ثبوت عدم
جواز اخذ الزيادة.
وفيه ان الاحترام لا ينافي جواز اخذ الفضل، لان معنى الاحترام أن لا يأخذ
ماله بدون رضاه وغصبا عليه، وأما مع رضاه ورغبته فلا، ولا شك أن الاخذ في
المفروض برضائه، فلا ينافي احترام ماله.
فهذا الذيل بعد إعراض الأصحاب عنه وحكمهم بعدم ثبوت الربا بين المسلم
179

والحربي سواء كان معاهدا أو غير معاهد اي جواز الاخذ عنه لا اعطائه الفضل
ساقط على الاعتبار، فلا يجوز الاخذ به، والحكم بثبوت الربا في العبد المشترك
والمبعض.
نعم الأحوط عدم جواز الاخذ لا لهذه الرواية بل للشك في صدق عنوان عبده
لأنه من المحتمل أن يكون صدق هذا العنوان منوطا بكون تمام العبد مملوكا له، لا أن
يكون مشتركا بينه وبين غيره أو مبعضا يكون بعضه حرا وبعضه ملكا له.
هذه الفروع كانت في مسألة عدم الربا بين السيد وعبده،
وأما الاستثناء الثالث أي عدم ثبوت الربا بين الزوج وزوجته ففيه فروع
أيضا.
الأول هو أنه هل هذا الحكم مختص بالزوجة الدائمة؟ أم لا فرق بينها وبين
كونها متعة وموقتة؟
لا شك في أن الزوجة غير الدائمة أي المنقطعة زوجة حقيقة، بل استظهرنا من
الأدلة أنهما حقيقة واحدة، وكونها موقتة أو دائمة من المصنفات لا من المنوعات،
ولذلك حين العقد والانشاء لو نسي ذكر الأجل ولم يذكر تقع دائمة لان الدوام ينتزع
من عدم التقييد بالأجل وإطلاق العقد.
فقوله عليه السلام ليس بين المرأة وزوجها ربا (1) يصدق على المنقطعة حقيقة، ولكن
الكلام في أنه هل ينصرف إلى الدائمة أم لا؟
وفصل بعض بين كون مدة التمتع قليلة كساعة أو ساعتين وبين ما كانت كثيرة
كسنة أو سنتين بل سنين عديدة، وكان منشأ هذا التفصيل هو دعوى الانصراف في
الأول دون الثاني، فإذا كان زمان التمتع قليلا لا يراها العرف زوجة أو أهلا والشارع

1. سبق ذكره في ص 170، رقم (4).
180

جعبل موضوع الحكم بعد تحريم الربا بينهما أحد هذين العنوانين،
ولا بأس بهذا التفصيل، ولعل المتفاهم العرفي يساعد على هذا التفصيل.
وأما التفصيل الاخر بالفرق بين ما إذا اتخذها أهلا كالزوجة الدائمة وبين ما لم
يكن كذلك، فأيضا يرجع إلى ما ذكرنا.
الثاني هل المطلقة رجعية في حال بقاء عدتها تكون بحكم الزوجة في هذا
الحكم أم لا؟
قال في الجواهر: ان المطلقة رجعية وإن كانت زوجة، إلا أنه قد يمنع صدق الأهل
عليها. (1)
وهذا الكلام منه مبني على ما يقول من أنه بين مفهوم الزوجة ومفهوم الأهل
عموم وخصوص من وجه، فربما تكون زوجة ولا يصدق عليها الأهل، كالمتعة التي
مدتها قليلة جدا كساعة مثلا، فهي شرعا زوجة في تلك المدة القليلة، ولا يصدق
عليها الأهل وربما تكون المرأة وليست أهلا بزوجة كبنته وأخته وغير ذلك من
أقربائه ومورد الاجتماع واضح كالمرأة التي تزوجها بالعقد الدائم، وهي ربة الدار.
وفيما إذا كان موضوع الحكم عامين من وجه كالعالم والعادل، فلابد من اجتماعهما
في ثبوت الحكم، ففي ما نحن فيه لابد من اجتماع الزوجية والأهلية لثبوت عدم حرمة
الربا بينهما.
وفيه أن الظاهر من الأهل في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم ليس بين
الرجل وولده ولا بينه وبين مملوكه ولا بينه وبين أهله ربا (2)، هي الزوجة وليس
الأهل بالمعنى الأعم فهما مفهومان متساويان،
والعمدة في إشكال إلحاق المطلقة رجعة بالزوجة في هذا الحكم أنه منوط بكون

1. " جوهر الكلام " ج 23، ص 382.
2. تقدم تخريجه في ص 177، رقم (2).
181

التنزيل عاما وبلحاظ جميع آثار الزوجية، وإثبات هذا لا يخلو من إشكال.
وأما الاستثناء الرابع أي عدم الربا بين المسلم والحربي ففيه أيضا فروع.
الأول انه يجوز الاخذ منهم ولا يجوز إعطاء الفضل لهم، وذلك لما رواه الصدوق
مرسلا وفي الكافي مسندا عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليس بيننا
وبين أهل حربنا ربا نأخذ منهم ألف ألف درهم بدرهم ونأخذ منهم ولا نعطيهم. (1)
ثم إن هذه الرواية على تقدير تسليم ضعفها تكون منجبرة بعمل الأصحاب فلا
مانع فيها من حيث حجيتها، نعم يستفاد منها عدم حرمة أخذ الفضل على المسلم لا
الحربي، فلا تدل على صحة المعاملة التي وقعت بينهما، لأن جواز اخذ الفضل منهم
لازم أعم بالنسبة إلى صحة المعاملة، إذ يمكن أن يكون من جهة عدم احترام مالهم،
وإن كانت المعاملة باطلة على حسب العمومات والمطلقات الواردة في باب الربا.
الثاني في أنه هل يجوز الاخذ من الكافر غير الذمي المعاهد أيام المعاهدة أو
ممن أعطوا الأمان أيام أمانهم، أم لا.
أقول: الدليل على جواز اخذ الفضل من الحربي إما الاجماع وإما الرواية، أما
الاجماع على تقدير ثبوته وحصوله وحجيته في المقام فالقدر المتيقن منه هو ثبوته في
غير المعاهد ومن أعطى له الأمان، وأما الرواية فالمناط هو إطلاق قوله عليه السلام وبين
أهل حربنا عليهم، وأن لا يكون منصرفا عن المعاهد ومن أعطى له الأمان، فان
أطلق فيجوز الاخذ منهم.
هذا مضافا إلى أن قوله صلى الله عليه وآله نأخذ منهم ولا نعطيهم إشارة إلى أنهم ليسوا

1. " الكافي " ج 5، ص 147، باب أنه ليس بين الرجل وبين ولده...، ح 2، " الفقيه " ج 3، ص 277، باب الربا،
ح 4000، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 18، باب فضل التجارة وآدابها، ح 77، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 436، أبواب الربا، باب 7، ح 2.
182

بمالكين، وإنما أموالهم فيئا للمسلمين فلا احترام لأموالهم ولا لنفوسهم، وأما
المعاهد ومن أعطى له الأمان فلأموالهم ونفوسهم احترام ظاهري حسب المعاهدة
وحسب الأمان، وإلا لا يجعلهم ملكا حقيقيا واقعيا فإذا أخذ منهم برضاهم من دون
أن يكون مخالفا للوفاء بالمعاهدة أو الأمان الذي أعطى لهم، فلا يكون في الاخذ منهم
إشكال.
الثالث هل يجوز اخذ الفضل والربا من الذمي أو لا؟
الأشهر بل المشهور عدم الجواز، وهذا أيضا مقتضى القواعد والأدلة الأولية
الدالة على تحريم مطلق الربا من أي شخص كان، وأيضا مقتضى الأدلة التي مفادها
احترام مال الذمي ونفسه وعرضه ما دام يعمل بشرائط الذمة، وعدم شمول قوله صلى الله عليه وآله
ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا.
فليس في المقام ما يدل على جواز الاخذ منهم إلا مرسل الفقيه ليس بين
المسلم والذمي ربا وهو ضعيف في حد نفسه ولا جابر له مع إعراض المشهور عنه
ولذلك حمله بعض الأصحاب على الذمي الخارج عن الذمة لعدم الوفاء بشرائطها
كما قاله في الوسائل. (1)
نعم هناك شئ وهو أن الذمي ي بالمعنى المصطلح بين الفقهاء المتخذ من الاخبار
والأحاديث قليل الوجود أو عديمه، والكفار الموجودون في بلاد الاسلام في هذه
الأزمان لا ينطبق عليهم أحكام الذمة، لعدم تحقق الموضوع، بل هم داخلون اما في
المعاهدين كما هو الغالب، أو فيمن أعطى له الأمان، وعلى كل واحد من التقديرين
أموالهم ونفوسهم وأعراضهم محترمة لا يجوز الاخذ منها بالقهر وجبرا، ولا
بالسرقة وأما برضاهم المعاملي فلا ينافي الاحترام.
فبناء على ما ذكرنا يجوز أخذ الفضل في المعاملة الربوية من الكتابيين

1. " وسائل الشيعة " ج 12، ص 436، أبواب الربا، باب 7 ذيل الحديث 3.
183

الموجودين في بلاد الاسلام في هذه الأزمان، ولا يجوز اعطائهم.
الجهة الرابعة
في بيان الطرق التي يمكن التخلص من الربا بإعمالها فرارا عن الحرام إلى الحلال،
ومن الباطل إلى الحق، كما أنه ورد في الصحيح عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام فقلت له
أشتري ألف درهم ودينار بألفي درهم؟ فقال عليه السلام لا بأس بذلك إن أبي كان أجرء
على أهل المدينة مني، وكان يقول هذا فيقولون إنما هذا الفرار لو جاء رجل بدينار لم
يعط ألف درهم ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار، وكان يقول لهم: نعم الشئ
الفرار من الحرام إلى الحلال. (1)
وهناك روايات أخر (2) بهذا المضمون من مدحهم عليهم السلام إعمال الحيل للفرار عن
الحرام، وعلى كل حال ذكر الفقهاء أمورا للفرار عن الربا.
منها ما تقدم من ضم ضميمة من غير جنس العوضين إلى أحدهما أو إلى كليهما
كي تقع تلك الضميمة مقابل الفضل الذي يأخذ من ذلك الطرف كما كان في مورد
السؤال في الصحيح المتقدم، وقد شرحنا هذا الفرع مفصلا فيما تقدم فلا نعيد.
ومنها أن يبيع سلعته من الآخر الذي هو طرفه في المعاملة الربوية بغير جنس
سلعته، ثم يشتري بذلك الجنس أي مقدار يريد من جنس سلعته زائدا كان على
سلعته بحسب الكمية أو ناقصا عنها أو مساويا لها، فلا يكون رباء في البين، لعدم
اتحاد جنس العوضين الذي هو الشرط الأساسي في تحقق الربا.
مثلا لو أراد أن يبدل جنسه الجيد بالردئ من ذلك الجنس مع الاختلاف في

1. " الكافي " ج 5، ص 246، باب الصروف، ح 9، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 466، أبواب الصرف،
باب 6، ح 1.
2. راجع: وسائل الشيعة " ج 12، ص 455، أبواب الربا، باب 20.
184

الكمية، وذلك كما إذا أراد أن يبيع وزنة من الأرز العنبر الذي عنده بوزنتين من الأرز
النعيمة لغرض عقلائي عنده.
فهذه المعاملة لو كانت بالصورة التي ذكرناها أي الوزنة من أحدهما الجيد
بوزنتين من ذلك الردئ تكون ربوية، فله أن يحتال بأن يبيع الوزنة الجيدة التي عنده
من العنبر بوزنتين من الحنطة مثلا ثم يبيع الوزنتين من الحنطة بوزنتين من النعيمة،
فلا يتحقق رباء مع أنه وصل إلى مقصوده.
ويمكن أن يبيع تلك الوزنة التي عنده بالنقود مثل أن يبيعها بأربعة دنانير مثلا
ثم يشتري بتلك الأربعة دنانير وزنتين من النعيمة، ولا يكون رباء في البين ويتخلص
منه بهذه الحيلة مع حصول مقصوده،
ولا فرق في صحة ما ذكرنا بين أن يشترط على المشتري الأول البيع الثاني أو لا
يشترط، لصحة الشرط وعدم وجود المانع عن نفوذه.
نعم حكى عن الشيخ قدس سره أن صحة البيع الثاني بالشكل المذكور مشروط بأن لا
يكون الثمن في البيع الثاني عين الثمن في البيع الأول، وذلك لان عوض العوض عوض،
فهذا العوض وإن لم يكن من جنس ما يأخذ مع الفضل، ولكنه حيث يكون عوضا
عما يكون من جنسه فهو في حكمه فيتحقق الربا.
ولكن أنت خبير بأن هذا كلام لا أساس له من جهة أن الربا لا يثبت إلا بأن
يكون العوضان في المعاملة من جنس واحد، وليس عوض المبيع في البيع الأول أي
الثمن في البيع الأول الذي يجعل عوضا في البيع الثاني من جنس عوضه في هذا البيع،
فلا رباء لا في البيع الأول، لأنه باع ماله بغير جنسه، ولا في البيع الثاني لأنه أيضا
ليس فيه العوضان من جنس واحد، وأما القول بأن عوض العوض عوض فهو كلام
لا دليل عليه.
نعم هناك رواية يمكن أن يكون نظر الشيخ قدس سره ومن تبعه إلى تلك الرواية، وهي
185

رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن رجل له على آخر تمر أو شعير أو
حنطة أيأخذ بقيمته دراهم قال عليه السلام إذا قومها دراهم فسد لان الأصل الذي
يشترى به دراهم فلا يصح دراهم بدراهم. (1)
فهذه الرواية تدل على عدم جواز بيع هذه الأمور الثلاثة بالدراهم معللا بأنها
عوض الدراهم لأنه اشتراها بها، فلو باعها بالدراهم فكأنه باع الدراهم بالدراهم
وهذا عين ما حكى عن الشيخ عن جوازه.
وفيه أن هذه الرواية أعرض عنها الأصحاب ولم يعملوا بها فلا يصح الاعتماد
عليه مضافا إلى بعض المناقشات التي في دلالتها ومعارضتها ببعض الاخبار الاخر.
ومنها أن صاحب أحد العوضين المتجانسين المتماثلين في الكمية وزنا أو كيلا
يقرض الاخر، وكذلك صاحب الاخر ثم يتباريان ويسقط كل واحد منهما ذمة
الاخر، ولا يخفى أنه يلزم أن يكون الاقراض من كل واحد من الطرفين بدون أن
يشترط الاقراض على الاخر.
ومنها أن يكون قصد الطرفين المعاوضة والمبادلة بين المثلين في الكمية والطرف
الذي يعطي الفضل والزيادة يقصد كونها هبة.
ومنها أن يهب كل واحد منهما ماله للآخر من دون أن يشترط على صاحبه هبة
ماله له، كي يكون هبة بإزاء هبة، وإلا يدخل في باب المعاوضات فيثبت الربا فيه بناء
على ما هو الحق عندنا وقد تقدم بيانه من عدم اختصاص الربا بالبيع، فقط بل
يدخل في جميع المعاوضات.
ومنها أن يصالح صاحب الزيادة مقدار الفضل لصاحبه ويشترط عليه أن يبيع
ماله منه مثلا بمثل.

1. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 30، ح 129، باب بيع المضمون، ح 17، " الاستبصار " ج 3، ص 74، ح 246،
باب من سلف في طعام أو غيره...، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 13، ص 71، أبواب السلف، باب 11، ح 12.
186

الجهة الخامسة
في الربا في باب القرض
أقول: القرض عبارة عن تمليك مال للاخر بالضمان، وربما يقال بدل قولنا
بالضمان بعوضه الواقعي، وعلى كل حال لسنا في مقام بيان حقيقة القرض وأنه من
العقود اللازمة أو الجائزة ويجري فيه المعاطاة أم لا، وأن المعاطاة فيه يوجب ملكية
المستقرض لما اقترضه أو لا يوجب إلا الإباحة وإنما الملكية تحصل بالتصرف، لأن هذه
المذكورات محل بحثها كتاب القرض،
وإنما المهم في المقام هو أن أخذ المقرض عن المستقرض الزيادة عما أعطاه الذي
يسمى بالربا مطلقا حرام أو حرمته مشروطة بشرط؟ وأيضا ان القرض أي
المعاملة الكذائية تكون فاسدة إذا اشترط الزيادة أو أخذ الزيادة فقط حرام وأما
المال الذي أقرضه المقرض فهو حلال ولا بأس به، وأنه هل حرمة الزيادة فيما إذا
اشترط ذلك أو حرام وإن لم يشترط.
فهذه أمور نريد أن نتعرض لها في هذا المقام فنقول:
تحقيق الحق في هذه الأمور موقوف على ذكر الأخبار الواردة في هذا الباب كي
نستظهر منها ما هو الصحيح:
فمنها ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره باسناده عن جعفر بن غياث عن
أبي عبد الله عليه السلام قال الربا رباءان أحدهما رباء حلال والآخر حرام، فاما الحلال
فهو أن يقرض الرجل قرضا طمعا أن يزيده ويعوضه بأكثر مما اخذه بلا شرط بينهما
فان أعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له، وليس له عند الله ثواب فيما
أقرضه، وهو قوله عز وجل: فلا يربو عند الله (1) وأما الربا الحرام فهو الرجل

1. الروم (30): 39.
187

يقرض قرضا، ويشترط أن يرد أكثر مما أخذه فهذا هو الحرام. (1)
وهذه الرواية صريح في جواز أخذ الفضل والزيادة إذا لم يشترط.
ومنها رواية خالد بن الحجاج قال سألته عن الرجل كانت لي عليه مأة
درهم عددا قضانيها وزنا، قال لا بأس ما لم يشترط قال: وقال: جاء
الربا من قبل الشروط إنما يفسده الشرط. (2)
ومنها رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا أقرضت الدراهم ثم أتاك
بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط. (3)
وبهذا المضمون روايات كثيرة وقد عقد لها بابا في الوسائل (4) وكل هذه
الروايات مرجعها إلى أن القابض يحل له قبض الفضل والزيادة أو ما هو الأجود إذا
كان من غير شرط، وظاهر رواية خالد بن الحجاج المتقدم أن القرض الذي شرط
فيه الزيادة أو رد الأجود مما أخذ تكون القرض والمعاملة فاسدة لقوله عليه السلام فيها إنما
يفسده الشرط.
وأما الحديث النبوي كل قرض يجر منفعة فهو حرام (5) فلا إطلاق له يشمل
صورة عدم الاشتراط بل ظاهر قوله صلى الله عليه وآله يجر منفعة هو الاشتراط في ضمن عقد

1. " تفسير القمي " ج 2، ص 159. وفي " وسائل الشيعة " ج 12،، ص 454، أبواب الربا، باب 18، ح 10 عن
حفص بن غياث، بدل جعفر بن غياث.
2. " الكافي " ج 5، 244، باب الصروف، ح 1، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 112، ص 483، باب بيع الواحد
بالاثنين وأكثر من ذلك، ح 89، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 476، أبواب الصرف، باب 12، ح 1.
3. " الكافي " ج 5، ص 254، باب الرجل يقرض الدراهم ويأخذ أجود منها، ح 3، " تهذيب الأحكام " ج 6.
ص 21، ح 449، باب القرض وأحكامه، ح 3، وسائل الشيعة " ج 12، ص 477، أبواب الصرف،
باب 12، ح 3.
4. " وسائل الشيعة " ج 12، ص 476، أبواب الصرف، باب 12: باب أنه يجوز قضاء الدين من الدراهم و
الدنانير وغيرها بأجود منها وبأزيد وزنا وعددا....
5. " دعائم الاسلام " ج 2، ص 161، ح 167، " مستدرك الوسائل " ج 13، 409، أبواب الدين والقرض،
باب 19، ح 2.
188

القرض وإلا لا يصدق جر القرض إن كان المقترض من عند نفسه يعطي شيئا زائدا
أو أجود مما أخذ أو منفعة أخرى.
وخلاصة الكلام أن المقترض إن أعطى أجود مما أخذ أو أزيد منه بدون
الشرط فجائز ولا يكون موجبا لفساد القرض بل ظاهر بعض الأخبار استحباب
ذلك فيستحب إعطاء الزيادة إذا كان من غير شرط ويحل للمقرض أخذه وقبضه
ولعله إلى هذا يشير قول أبي جعفر عليه السلام في مرسلة مسلم: خير القرض ما
جر منفعة. (1)
ويدل على استحباب إعطاء الزيادة إن كان من غير شرط صحيحة عبد الرحمن
ابن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يستقرض من الرجل الدراهم
فيرد عليه المثقال أو يستقرض المثقال، فيرد عليه الدراهم، فقال عليه السلام إذا لم يكن
شرط فلا بأس وذلك هو الفضل إن أبي عليه السلام كان يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل
عليه الدراهم الجياد الجلال فيقول يا بني ردها على الذي استقرضتها منه. فأقول: يا
أبه إن دراهمه كانت فسولة وهذه أجود خير منها، فيقول يا بني إن هذا هو الفضل
فأعطه إياها. (2)
فقوله عليه السلام إن هذا هو الفضل فأعطه إياها ظاهر في حسن هذا الفعل
واستحبابه وروايات أخر بهذا المضمون وأصرح منها مذكورة في الوسائل وغيره.
ثم إن الزيادة قلنا إنها حرام في القرض مع الشرط بل موجب لفساد القرض
فإذا قبض المقترض المال الذي أقرضه المقرض يكون من المقبوض بالعقد الفاسد لا

1. " الكافي " ج 5، ص 255، باب القرض يجر المنفعة، ح 1، " تهذيب الأحكام " ج 6، ص 201، ح 452، باب
القرض وأحكامه، ح 6، " الفقيه " ج 3، ص 285، باب الربا، ح 4029، " وسائل الشيعة " ج 13 * ص 104،
أبواب الدين والقرض، باب 19، ح 4.
2. " الكافي " ج 5، ص 254، باب الرجل يقرض الدراهم ويأخذ أجود منها، ح 6، " تهذيب الأحكام " ج 7،
ص 115، ح 500، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك، ح 106، " الفقيه " ج 3، ص 284، باب الربا،
ح 4026، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 477، أبواب الصرف، باب 12، ح 7.
189

فرق بين أن تكون تلك الزيادة عينية أو عملا من المقترض للمقرض أو انتفاعا بمال
المقترض أو تكون صفة زائدة في عوضه كما إذا شرط المقرض على المقترض أن
يعطي دراهم جديدة وصحيحة عوض ما يعطيه من الدراهم المكسورة، فجميع هذه
الأمور مع الشرط رباء محرم وتكون موجبة لفساد القرض كما هو مفاد الأخبار الصحيحة
الصريحة.
ثم إنه لا فرق في كون الزيادة في القرض حراما وموجبة لفساد القرض مع
الشرط بين أن يكون الشرط صريحا ومذكورا في متن العقد أو وقع المعاملة مبنيا
عليه وذلك لشمول قوله صلى الله عليه وآله كل قرض يجر المنفعة فهو حرام لكلتا الصورتين
والخارج عن هذا العموم هو ما لم يكن شرط في البين لا صريحا ولا بحيث يقع العقد
مبنيا عليه.
خاتمة
: اعلم أن هذه القاعدة أي قاعدة لا رباء إلا فيما يكال أو يوزن لا تأتي في
القرض بل شرط الزيادة مطلقا أي قسم كان من الزيادة عينية كانت أو صفة أو
منفعة أو انتفاعا موجب لحرمة تلك الزيادة وفساد القرض، وقد تقدم جميع ذلك
سواء كان المال الذي يقترضه من المكيل أو الموزون أو لم يكن منهما كالمعدود وما
يباع مشاهدة أو مذروعا أو غير ذلك.
والدليل عليه أولا الاجماع وثانيا قوله صلى الله عليه وآله كل قرض يجر منفعة فهو
حرام وثالثا الأخبار الكثيرة التي تقدم بعضها أن الشرط يفسد القرض وفيها
إطلاق يشمل المكيل والموزون وغيرهما.
وخلاصة الكلام أن المراجعة إلى الروايات الواردة في باب القرض وأقوال
الفقهاء والمحدثين يوجب الاطمينان بأن شرط الزيادة والنفع بالتفصيل المتقدم موجب
لحرمة تلك الزيادة وفساد القرض، سواء كان المال الذي يقترضها المقترض من
190

الأجناس الربوية أي من المكيل والموزون، أو لم يكن كذلك. والله الهادي إلى
الصواب،
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
191

49 - قاعدة
أصالة اللزوم في العقود
193

قاعدة أصالة اللزوم في العقود *
ومن جملة القواعد الفقهية قاعدة أصالة اللزوم في العقود في أبواب المعاملات
والمعاهدات عن الشك في لزوم معاملة أو معاهدة،
وفيها جهات من البحث.
الأولى
في شرح معناها والمراد منها
فنقول: إن المراد من الأصل في قولهم أصالة اللزوم، يحتمل أن يكون القاعدة
الأولية المستفادة من بناء العقلاء في معاملاتهم ومعاهداتهم، كما سيأتي تفصيله في
الجهة الثانية التي رسمت لبيان الأدلة الدالة على إثبات هذه القاعدة واعتبارها عند
الشك في لزوم معاملة أو معاهدة، وبعبارة أخرى في الشك في لزوم عقد من العقود.
ويحتمل أن يكون المراد منه ما هو مقتضى الأدلة الشرعية التي تدل على لزوم
جميع العقود والمعاهدات إلا ما خرج بالدليل تخصيصا كقوله تعالى أوفوا

*. " القواعد والفوائد " ج 2، ص 242، " الحق المبين " ص 68، " خزائن الأحكام " ش 3، " دلائل السداد و
قواعد فقه واجتهاد " ص 32، " مجموعة قواعد فقه " ص 174، " القواعد " ص 251، " قواعد فقه " ج 2، ص
136، " قواعد الفقه " ص 27، " قواعد فقهي " ص 273، " قواعد فقهية " ص 241، " القواعد الفقهية " (مكارم
الشيرازي) ج 4، ص 319، " أصل صحت واصل لزوم " احمد شهيدي، ماجستير، جامعة الشهيد
بهشتي، 1359.
195

بالعقود (1) وسائر الآيات والروايات الواردة في هذا الباب
ويحتمل أن يكون المراد منها الاستصحاب وسيأتي في شرح جميع هذه الأمور
مفصلا إنشاء الله تعالى.
والمراد من اللزوم هو عدم جواز حل العقد من أحد الطرفين بدون رضاية
الطرف الآخر بل عدم إمكانه في عالم التشريع، فكما أن بعض العقد في عالم التكوين
لا يمكن حله لشدة إبرامه وإحكامه كذلك العقود والعهود في عالم التشريع ليست قابلة
للحل لاعتبار الشارع إبرامها وإتقانها بحيث لا يمكن حلها من طرف واحد، بدون
رضاية الطرف الآخر، بل وفي بعض العقود يكون اعتبار ابرامها واتقانها بنحو لا
يمكن حلها وإن كان برضاية الطرفين كالنكاح وكل عقد لا يتطرق فيه الإقالة
شرعا وسيأتي بيان ذلك إنشاء الله تعالى.
ثم إن اللزوم على قسمين: لزوم حقي ولزوم حكمي، واللزوم الحقي عبارة عن
ملكية أحدهما التزام الآخر أو كل واحد منهما التزام طرفه، وفي الأول يكون اللزوم
من طرف واحد، وفي الثاني يكون اللزوم من الطرفين، وكذلك الجواز حقي وحكمي
والجواز الحقي هو أن يكون مالكا لالتزام نفسه ولا يكون التزامه ملكا لطرفه.
فإذا كان كل واحد من المتعاقدين مالكا لالتزام نفسه فهذا جواز حقي من
الطرفين، وإذا كان أحدهما فقط مالكا لالتزام نفسه دون الآخر، فهذا يكون جوازا
حقيا من طرف واحد.
بيان ذلك أن في باب العقود مدلول مطابقي للعقد وهو مضمونه، أي الذي ينشئه
المتعاقدان من تبديل مال بمال أو غير ذلك من المضامين الكثيرة التي تنشأ بالعقود،
ومدلول التزامي وهو التزام كل واحد منهما للاخر بما أنشآه بمعنى أنه يتعهد ويلتزم
بالعمل على طبق ما أنشئا وأن لا يتخلف وأن لا ينقض تعهده.

1. المائدة (5): 1.
196

وبهذا الاعتبار يطلقون على من تخلف عن تعهده في باب عقد البيعة مثلا بأنه
ناقض للبيع ولعهده،
وهكذا يكون الامر في جميع أبواب المعاملات والعهود والعقود العهدية دون
الاذنية، وسيأتي الفرق بين العقود العهدية والاذنية انشاء الله تعالى.
واما دلالة العقود والعهود عليه هذه الدلالة الالتزامية فمن باب بناء العقلاء إذ
بنائهم على أنه لو أنشأوا هذه المعاملة باللفظ المتعارف عندهم لانشائها يكون لكل
واحد من الطرفين اي الموجب والقابل التزام وتعهد بالبقاء عند هذه المعاوضة أو
اي شئ آخر كان مضمون هذا العقد وعدم الرجوع عنه.
وهذا المعنى غير صرف الاخذ والاعطاء كما هو كذلك في باب المعاطاة، ففي
باب المعاطاة ليس في البين ما يدل على تعهد والتزام من الطرفين بل مجرد معاوضة
بأن يعطي بدل ما يأخذ أو يأخذ عوض ما يعطى أو بدله.
وذلك من جهة أنه ليس في المعاطاة غير الاخذ والعطاء الخارجي شئ آخر
يكون دالا على أنهما ملتزمان بالبقاء والوفاء بهذه المبادلة ولا يرجعان عنها، ولذلك
قلنا إن المعاطاة ليس بعقد، إذ العقد هو العهد المؤكد لغة وعرفا، وليس في المعاطاة في
مقام الاثبات ما يدل على هذا المعنى ويكشف عنه، وصرف الاخذ والاعطاء خارجا
كل واحد عوضا وبدلا عن الآخر، لا يدل على أزيد من نفس المبادلة والمعاوضة.
نعم قد يدل على هذا المعنى فعل من الافعال غير اللفظ كوضع أحدهما يده في يد
الآخر أو ضرب أحدهما يده على يد الآخر، ومن هذه الجهة وبهذا الاعتبار يعبرون
عن البيع بصفقة اليمين، وقد قال صلى الله عليه وآله في قضية عروة البارقي بارك الله لك في صفقة
يمينك. (1)

1. " عوالي اللئالي " ج 3، ص 205، ح 26، " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 245، أبواب عقد البيع وشروطه،
باب 18، ح 1.
197

وقد يكون الخط والامضاء دليلا على هذا كما أنه يقال إن العقود التي تقع بين
الدول في معاملاتهم تتم بامضاء من خول إليه الامر من كل واحد من الطرفين
وكذلك يقال إن في عقد النكاح يكون وقوعه وإتمامه بامضاء الطرفين.
وعلى كل حال ليس صرف العمل بمضمون العقد عقدا ما لم يكن دالا على هذا
الالتزام، من لفظ ينشأ به هذا المضمون، أو فعل يدل على البقاء والالتزام بعدم الرجوع
عنه كوضع اليد في يد الآخر كما كان في باب البيعة أو ضرب اليد على يد الطرف
الآخر كما في بعض أبواب المعاملات، أو خط أو إمضاء كما ذكرناه.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنهم قسموا العقود على قسمين: عقود إذنية وعقود
عهدية، وما ذكرنا من دلالة العقد بالدلالة الالتزامية على الالتزام بالوفاء بمضمون
العقد والبقاء عنده وعدم الرجوع عنه في العقود العهدية ودون الاذنية إذ العقود
العهدية عبارة عن العهد المؤكد، وأما العقود الإذنية فهي عبارة عن مجرد إذن أحدهما
للاخر في امر من الأمور كالوكالة والعارية وأمثالهما، وإنما عبر عنها بالعقد، لوقوع
الاذن بصورة الايجاب ورضا الطرف بهذا الامر بصورة القبول، فيكون عقدا شكليا
لا عقدا واقعيا، ولذلك يكون إطلاق العقد عليها اطلاقا مجازيا لا حقيقيا.
فليس التزام من أحدهما بالوفاء والبقاء عند هذه المعاوضة والمبادلة في البين
وقوامها بالاذن فقط فإذا فسخ وارتفع الاذن فلا يبقى شئ في البين، كي يقال يجب
الوفاء به والبقاء عنده، فخروج هذه العقود من أصالة اللزوم أو من قوله تعالى
أوفوا بالعقود بالتخصص لا بالتخصيص كي يقال بأنه يلزم في الآية أو ذلك
الأصل تخصيص الأكثر، وأما العقود العهدية فيشملها أصالة اللزم وكذلك أوفوا
بالعقود يشمل كلها.
وفرق شيخنا الأعظم قدس سره (1) في العقود العهدية بين التعليقية والتنجيزية، فاستشكل

1. " المكاسب " ص 85.
198

في اللزوم في مثل السبق والرماية والجعالة، بناء على أن يكون مدرك اللزوم هو
استصحاب أثر العقد، ففي العقود التعليقية لو فسخ الطرف قبل حصول المعلق عليه
ليس أثر كي يستصحب بعد فسخ من عليه أداء الجعل في الجعالة، ومن عليه السبق
في السبق والرماية، بناء على ما زعم من أن قبل حصول السبق في السبق والرماية،
وكذلك قبل رد الضالة في الجعالة لا يستحق السبق ولا الجعل ولا يملك شيئا فليس
شئ في البين كي يستصحبه بعد الفسخ.
وسنتكلم إنشاء الله في هذا الامر حين تكلمنا في أن أحد الأدلة على قاعدة
اللزوم وعدم تأثير الفسخ هو الاستصحاب، ونبين ما هو الحق في هذا المقام.
وخلاصة الكلام كما سنذكره إنشاء الله تعالى أنه لا فرق بين العقود العهدية
التنجيزية والتعليقية في أن مقتضى الأصل وإن كان المراد من الأصل هو
الاستصحاب هو اللزوم وعدم تأثير الفسخ.
الجهة الثانية
في بيان الأدلة التي تدل على أن مقتضى الأصل الأولى في كل عقد هو اللزوم،
وعدم نفوذ الفسخ من كل واحد من طرفي المتعاقدين، فنقول:
الأول هو بناء العقلاء في عهودهم وعقودهم على لزوم الوفاء والبقاء عند
التزامه بحيث لو رفع اليد عما التزم من عقده وعهده، يرونه ناقضا لالتزامه وتعهده،
ويذمونه على ذلك، والشارع لم يردعهم عن هذه الطريقة، بل ألزمهم بذلك كما
سنذكره إنشاء الله.
والحاصل أن مخالفة الالتزامات وعدم الاعتناء بعقده وعهده عندهم من أكبر
المعائب وأخس الصفات وأرذلها، إلا أن يجعل أحدهما لنفسه حق رفع اليد عن
التزامه أو كل واحد منهما يجعل لنفسه من أول الأمر ذلك في ضمن العقد، وهذا
199

يسمى بخيار الشرط لاحد الطرفين أو كليهما وهذا يرجع في الحقيقة إلى عدم التزامه
المطلق وعلى كل حال، بل التزام على تقدير دون تقدير.
وبعبارة أخرى بعد ما عرفت أن العقود المنشأة بانشاء لفظي لها دلالتان:
إحداهما مطابقة، والأخرى التزاما، والثاني التزامه للآخر بالبقاء عندما أنشأه
بالمطابقة وعدم العدول عنه، فالعدول والرجوع عما التزم به خلف ونقض وهذا قبيح
وإن شئت قلت إن التزامه لطرفه تمليك له، فهذا الالتزام في اعتبار العقلاء يكون
ملكا لطرفه وذلك بتمليكه إياه، فكما لو وهب مالا لغيره ليس له الرجوع إليه عند
العقلاء خصوصا بعد تصرف الموهوب له فيه وإتلافه، ليس له أن يضمنه، ويكون
خارجا عن قاعدة الاتلاف تخصصا لا تخصيصا، فكذلك بعد ما التزم له بالوفاء،
العقلاء يعتبرون للملتزم له حق الالزام له بالوفاء بما التزم به.
نعم الملتزم له، لو رفع اليد عن حقه باسقاطه فلا يكون بعد ذلك ملزما بالعمل
بالتزامه، ويجوز له حل عقده وعهده، وليس ذلك حينئذ خلف ونقض لعهده، ومرجع
الإقالة إلى هذا الذي ذكرنا.
فمعنى قول الملتزم للملتزم له أقلني أي ارفع اليد عن حقك الذي كان عبارة
عن أنه كان لك إلزامي بالعمل بمقتضى هذا العقد ومضمونه، فإذا كان اللزوم والإقالة
من الطرفين فقهرا يرتفع اللزوم من البين، فكأنه بالنسبة إلى لزوم الوفاء لكل واحد
منهما لم يكن عقد وعهد في البين، ولعل هذا معنى انحلال العقد بالإقالة، ولعل من هذه الجهة
قالوا إن انحلال العقد بالإقالة وارتفاع اللزوم من البين يكون على القاعدة ولا يحتاج
صحة تأثيرها على وجود دليل في البين.
وخلاصة الكلام أنه لا يمكن إنكار أن بناء العقلاء في جميع الأعصار والأمصار
على لزوم العمل بعقودهم وعهودهم وعدم قدرة الملتزم بمعاهدة وتعاقد وإن كان
التزامه بدلالة التزامية لألفاظ العقود والمعاهدات على رفع اليد عن التزامه، وحل
200

عقده وعهده.
وأما ما توهم من أن العقد أمر وحداني وجوده قائم بطرفين، ولا يمكن إيجاده من
طرف شخص واحد لأن العقد عبارة عن العقدة الحاصلة بين حبلي عهد كل واحد
من الطرفين، فكان تعهد كل واحد من الطرفين بمضمون العقد حبل منه في عالم
الاعتبار، فهناك حبلان أحدهما من طرف الموجب والآخر من طرف القابل، والعقد
عبارة عن تعقيد رأس الحبلين كل واحد بالآخر.
فالعقدة التي تحصل بين رأسي الحبلين في عالم الاعتبار هو المسمى بالعقد، وهذه
العقد وحداني ولكن قائم بالطرفين، ولا يمكن أن يحصل بفعل واحد كما هو واضح
لأنها نتيجة فعلين فكذلك كل واحد منهما منفردا لا يقدر على حل تلك العقدة، وذلك
لأن هذه العقدة فعله وفعل غيره.
فكما أن في عالم الايجاد لم يكن له إيجادها وحده، فكذلك في عالم حل تلك العقدة
ليس له وحده حلها، ومعلوم أن جواز رجوع كل واحد منهما عن التزامه مرجعه إلى
حل تلك العقدة، وإلا فما دام تلك العقدة موجودة، فحبل عهده مشدود ويمنعه عن
الرجوع، والقول بأن له وحده حل تلك العقدة مساوق مع كونه مسلطا على فعل
شخص آخر لم يجعل الله له تلك السلطنة.
ولا شك في أن هذا واضح البطلان، وذلك من جهة أن هذه العقدة التي وجدت في
عالم الاعتبار بعد ما فرضنا ان صرف المعاوضة والمبادلة لا يكون سببا لوجودها،
ولذلك قلنا بأن المعاطاة ليس بعقد، إذ ليس هناك عقدة والتزام في البين بل صرف
معاوضة ومبادلة بين المالين، أو صرف إنشاء مضمون تلك المعاملة
بل سبب وجودها التزام كلا الطرفين بعدم الرجوع عن مضمون هذه المعاملة،
فحصلت العقدة من هذين الالتزامين، فهي من فعل الطرفين فرفع هذه العقدة التي
هي فعل الطرفين من طرف أحدهما لا يمكن إلا بأن يكون له سلطان على رفع سببها
201

والمفروض أن السبب مركب من فعلين والتزامين، وهو ليس له سلطان إلا على فعل
نفسه، فله أن يرفع اليد عن التزام نفسه، وأما رفع اليد عن التزام غيره الذي هو فعل
الغير، ليس له ذلك، لعدم سلطنته على الغير.
هذا ولكن أنت خبير بأن تلك العقدة وإن كانت تحصل من التزام الطرفين بالبقاء
بمضمون هذا العقد، ولكن ارتفاعها كما يكون برجوع كلا الطرفين عن التزامهما،
كذلك يمكن برجوع أحدهما وحده. وذلك من جهة أن المعلول كما أنه يرتفع بارتفاع
جميع أجزاء علته كذلك يرتفع بارتفاع بعض أجزائها وهذا واضح،
وإنما الكلام في أنه هل يجوز لكل واحد منهما رفع اليد عن التزامه منفردا أو
يجوز لكليهما رفع اليد عن التزامهما معا، أو لا يجوز مطلقا، لا مجتمعا ولا منفردا، أو
يفصل بأنه لا يجوز منفردا ويجوز معا ومجتمعا، وهذا الأخير هي الإقالة.
وقد ظهر مما تقدم أن الحق هو التفصيل في اللزوم الحقي بأنه يجوز رفع اليد عن
التزامهما جمعا وبرضاية الطرفين دون أحد الطرفين بدون رضاية الطرف الآخر وذلك
لما بينا أن التزام كل واحد منهما حيث يكون برعاية الطرف الآخر فيوجد عند العقلاء
وفي اعتبارهم حق الزامه بالوفاء بما التزم به رعاية له، وأما رفع اليد عن التزامه
برضا الطرف فلا ينافي كون الطرف له حق الزامه، وعلى هذا الأساس بنينا صحة
الإقالة وجريانها على القاعدة في كل معاملة وعدم احتياجها إلى ورود دليل على
صحة جريانها.
وخلاصة الكلام أن الدليل على أصالة اللزوم في العقود العهدية تنجيزية
كانت كالبيع والإجارة والصلح وغيرها، أو تعليقية كالجعالة هو بناء العقلاء على
وجوب العمل بالتزامه وتعهده، وقبح التخلف ورفع اليد عن ذلك الالتزام، وذكرنا أن
نقض العهد يعد عندهم من أرذل الرذائل ومن منافيات الشرف والفضيلة، والشارع
الأقدس لم يردعهم من هذه الطريقة، بل أمضاها بقوله تعالى أوفوا بالعقود كما
202

سنذكر أدلته إنشاء الله.
وبعبارة أخرى يرى العرف والعقلاء أن من التزم لشخص بشئ فقد جعل
ذمته مشغولة له بذلك إذا كان هذا الالتزام في ضمن عقد وعهد، لا أن يكون التزاما
بدوية، وإن كان منشأ بنفس مادة الالتزام، بأن يقول التزمت لك بذلك، لان
الالتزامات البدوية التي ليست في ضمن عقد وعهد تحسب وعدا ابتدائيا، ولا شك في
حسن الوفاء به، وأما وجوبه ولزوم الوفاء به عند العقلاء أو الشرع فيحتاج إلى دليل
مفقود في المقام، ولعله نتكلم فيها انشاء الله تعالى.
ولعل هذا مراد شيخنا الأستاذ قدس سره حيث يقول: كل واحد من الطرفين مالك
لالتزام الآخر فإذا أسقط ملكيته بمعنى حقه فقهرا يكون من عليه الحق مخيرا في
البقاء وعدم الرجوع عما التزم به، وفي عدم البقاء عند التزامه والرجوع عما التزم به،
فلابد من أن يكون مراده من ملكية الطرف لالتزامه ثبوت هذا الحق له لا ثبوت
الملكية الاعتبارية الشرعية الذي هو حكم وضعي كالطهارة والنجاسة، وإلا لم يكن
قابلا للاسقاط، فلا تكون الإقالة على القاعدة، وتحتاج إلى دليل على صحتها
وجريانها إما عاما وفي جميع العقود، أو في مورد خاص، وقد تقدم أنها على القاعدة،
وتجري في جميع العقود.
فظهر مما ذكرنا أن لزوم العقد وعدم جواز حله من كل واحد من الطرفين منفردا
منشأه بناء العقلاء على لزوم الوفاء وعدم نفوذ فسخه والرجوع عما التزم به وتعهد،
والشارع الأقدس لم يردعهم عن ذلك بل أمضى هذه الطريقة بقوله تعالى أوفوا
بالعقود وبسائر الأدلة التي نذكرها انشاء الله تعالى.
وأما أن العقدة التي تحصل من تعهد الطرفين الذي هو العقد حيث إنها أمر
وحداني وحاصلة من فعل الطرفين، فليس لأحدهما إزالة تلك العقدة لأنه لا سلطان
له على فعل الغير وإزالته،
203

ففيه ما ذكرنا أن سلطنته على إزالة فعل نفسه كاف في ارتفاع تلك العقدة،
لقيامها بكلا الفعلين وكلا الالتزامين، فإذا رجع أحدهما عن التزامه يرتفع تلك العقدة
وينتقض بنقض أحدهما، ولذا يطلق على تخلف المبايع عن بيعته نقض البيعة، مع أن
الرجوع عن عهده وميثاقه من طرفه فقط.
وأما القول بأن البيعة ليست بعقد فليس مما يصغى إليه والسر في ذلك أن العقد
إما عبارة عن نفس تعهدين، أو حاصل منهما وقائم بهما، فكما انه يرتفع بارتفاعهما
كذلك يرتفع بارتفاع أحدهما، ثم إن بناء العقلاء على اللزوم أمر قابل للردع شرعا
كما أنه وقع في مورد خيار المجلس، فالعقلاء والعرف وإن كان بنائهم على اللزوم حتى
فيما إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد ولم يتفرقا في عقد البيع، ولكن الشارع الأقدس
نفى اللزوم وما دام لم يتفرقا عن مجلس البيع بقوله صلى الله عليه وآله: البيعان بالخيار ما لم يفترقا (1)
أو لم يتفرقا على بعض النسخ، أو الطرق، فبناء العرف والعقلاء في مورد خيار
المجلس مردوع وليس بحجة.
هذا إذا قلنا بأن بناء العقلاء على اللزوم مطلق من حيث التفرق عن المجلس
وعدمه وأما إن قلنا بعدم إطلاقه وعدم بناء منهم في صورة عدم التفرق وبقاء
المتعاقدين في المجلس وإن كان هذا الاحتمال بعيدا خصوصا فيما إذا طال المجلس
كما إذا كان المتعاقدان في سبارة أو سفينة أو في طيارة في مسافة طويلة بل هما ربما
يكونان في طيارة يطول مجلسهما إلى مآت فراسخ، بل آلاف. فالعرف في أمثال هذه
الموارد بنائه على اللزوم بلا ريب، وإن أخذنا باطلاق دليل خيار المجلس، وهو
قوله صلى الله عليه وآله البيعان بالخيار ما لم يفترقا وقلنا بثبوت الخيار فلا ردع في البين
لتوافق بنائهم مع الدليل الشرعي الذي مفاده ثبوت خيار المجلس ما لم يفترقا.
وأما في سائر الخيارات غير خيار المجلس كخيار الشرط والعيب، فليس بناء

1. " الكافي " ج 5، ص 170، باب الشرط والخيار في البيع، ح 6، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 20، ح 85، باب
عقود البيع، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 346، أبواب الخيار، باب 1، ح 3.
204

للعقلاء في مواردها على اللزوم قطعا، لان كون المعيوب مردودا قضية ارتكازية عند
العرف والعقلاء، وما ورد في الشرع من الخيار إمضاء لذلك الامر الارتكازي
وأما خيار الشرط فلا شك في أن العقلاء أيضا يحكمون بلزوم الوفاء بالشرط،
فليس لهم بناء على اللزوم،
وأما خيار تخلف الشرط أو الوصف فأيضا لا بناء للعقلاء على اللزوم في مواردهما.
وأما خيار الغبن فبناء على ما هو الصحيح في مدركه من أنه يرجع إلى تخلف
الشرط الضمني، فيكون من صغريات خيار تخلف الشرط، وقد عرفت أنه لا بناء لهم
في مورد تخلف الشرط على اللزوم.
نعم في خيار الحيوان الظاهر أنه حكم شرعي وليس عدم اللزوم الا من جهة
ورود دليل شرعي، وهو قوله عليه السلام صاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام (1)
سواء كان المراد هو خصوص المشتري أو كان أعم من البايع والمشتري، وإلا فمن
ناحية بناء العقلاء على اللزوم، لا فرق بين أن يكون المبيع أو الثمن حيوانا أو غير
حيوان.
لا يقال إن خيار الحيوان جعله الشارع من جهة الاختبار وأنه هل فيه عيب
ونقص أم لا، وهذا المعنى مما لا ينكره العرف والعقلاء، فهم أيضا لا يبنون على اللزوم
في زمان الاختبار، لان ذلك من جهة أن خيار العيب عندهم مغن عن هذا الخيار، فخيار
الحيوان لابد وأن يكون حكما تعبديا.
نعم جميع الأحكام الشرعية لابد وأن يكون عن ملاك ملزم لذلك الحكم من
مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك، فدليل خيار الحيوان أيضا مثل دليل خيار المجلس
يكون رادعا عن بناء العقلاء على اللزوم في مورد خيار الحيوان، أي فيما إذا كان المبيع

1. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 67، ح 287، باب ابتياع الحيوان، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 349،
أبواب الخيار، باب 3 ح 2.
205

أو الثمن حيوانا.
وخلاصة الكلام أن في كل مورد حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم، فإن لم
يكن بناء العقلاء أيضا على اللزوم فلا كلام، ولا إشكال، وأما إذا كان بنائهم على
اللزوم، فالدليل الذي يدل على حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم يكون رادعا لبناء
العقلاء.
هذا في العقود العهدية التنجيزية كالبيع والإجارة والصلح وأمثالها واضح، وأما
العقود العهدية التعليقية كالجعالة والسبق والرماية والوصية وأمثالها، فأيضا لا شك في
أن بناء العقلاء على لزومها بعد التلبس بالعمل في الأولين، وبعد الموت في الثالث، بناء
على كونها من العقود، وأما لو قلنا بعدم احتياجها إلى القبول وأنها إيقاعات، فخارجة
عن محل البحث موضوعا.
وأما العقود الإذنية التي لا تعهد فيها وقوامها بالاذن فقط، فقد تقدم أنها خارجة
عن الموضوع تخصصا لا تخصيصا، لأنه لا تعهد ولا التزام فيها، بل قلنا إن إطلاق
العقد عليها ليس إلا من باب المشاكلة، وإلا ليس فيها عهد وعقدة بين الطرفين
ولذلك قالوا إنها جائزة بالذات مقابل العقود اللازمة بالذات.
وخلاصة الكلام أن بناء العرف والعقلاء على لزوم الوفاء بالتعهدات
والالتزامات فالعقود الاذنية التي قوامها الاذن كالوكالة لا التزام ولا تعهد فيها
خارجة عن دائرة هذا البناء، واما العقود العهدية فداخلة بكلا قسميه، سواء كانت
تنجيزية أو تعليقية.
نعم في العقود التعليقية نزاع صغروي وهو أنها هل تحتاج إلى القبول كالوصية
والجعالة والسبق والرماية أم لا؟ فان قلنا بعدم الاحتياج وأنها ايقاعات، فهي
خارجة عن موضوع هذا البناء، والا فحالها حال العقود التنجيزية.
إذا عرفت ما ذكرنا فأقول:
206

التمسك بهذه القاعدة وبناء العقلاء على لزوم المعاملة كالوقف أو الجعالة مثلا عند
الشك في لزومها، بعد الفراغ عن كون تلك المعاملة من العقود، وإلا لو علمنا بأنها
ليست من العقود، فهي خارجة عن موضوع هذه القاعدة يقينا، وكما أنه لو شككنا
أنها عقد أم لا، يكون التمسك بها لاثبات لزومها من التمسك بعموم العام في الشبهة
المصداقية لنفس العام، الذي لا يجوز قطعا، وهو من الواضحات.
فبعد إحراز أنها من العقود، فتارة يكون منشأ الشك هي الشبهة الحكمية،
وأخرى هي الشبهة الموضوعية.
فالأول كما إذا شك في لزوم الوقف، مثلا لو مات الواقف قبل أن يقبض العين
الموقوفة، فبناء على أنه من العقود كما رجحناه وقلنا إنه يحتاج إلى القبول يحكم عليه
باللزوم لأجل هذه القاعدة، وكذا في باب المعاطاة لو قلنا بأنه عقد، وإن كان الصحيح
عندنا خلافه.
وكذا في سائر موارد الشك في الحكم الشرعي بالجواز أو اللزوم بعد الفراغ عن
كونه عقدا يصح التمسك بهذه القاعدة لاثبات اللزوم، ولا يصغى إلى ما يقال بأن البناء
العملي، لا عموم ولا إطلاق فيه مثل باب الألفاظ، كي يتمسك به لرفع الشك والحكم
باللزوم.
وذلك من جهة أن هذا البناء بعد إمضاء الشارع له ولو من جهة عدم الردع
يستكشف منه حكم الشارع بلزوم كل عقد، فيكون كما إذا ورد عام لفظي يكون له
عموم وإطلاق وبهذا البيان أثبتنا الاطلاق للاجماع إذا كان معقده عنوانا من
العناوين.
وأما الثاني أي إذا كان منشأ الشك الشبهة الموضوعية، كما إذا شككنا أن المعاملة
الواقعة هل هي صلح كي يكون لازما أو هبة لغير ذي الرحم كي يكون جائزا أو
شك في أن الموهوب له ذي رحم أو أجنبي كي يكون لازما في الأول وجائزا في
207

الثاني؟ فيصح التمسك بهذه القاعدة لاثبات لزومه.
الثاني الأدلة والعمومات والاطلاقات اللفظية من الآيات والروايات،
فمن الأول قول تعالى 1: أوفوا بالعقود وتقريب دلالتها على لزوم جميع العقود
هو أنه لا شبهة في أن كلمة العقود بما أنه جمع معروف بالألف واللام يكون من ألفاظ
العموم ودالا عليه، فيكون معنى الآية يجب الوفاء بجميع العقود.
وهذا العموم الافرادي الذي هو ظاهر الآية ومدلولها مطابقي لها، يستتبع عموما أو
زمانيا أيضا بدلالة الاقتضاء، لان الآية لو كانت مهملة من هذه الجهة يصدق امتثالها
بالوفاء في آن من الآنات، فيكون هذا الحكم لغوا لا فائدة فيه، فصونا للكلام عن
اللغوية، لابد وأن نقول بأن المراد وجوب الوفاء في كل زمان، ولا شك في أن وجوب
الوفاء في كل زمان يكون من لوازم اللزوم، بل يكون عفا مساوقا معه ويصح التعبير
عن اللزوم به عرفا.
وأما توهم ان وجوب الوفاء بالعقد عبارة عن لزوم العمل بمضمونه ما دام
موجودا وباقيا لا يدل على عدم جواز إزالته بالفسخ، لأنه لا تنافي بين جواز إزالته
ووجوب الوفاء به ما دام موجودا، فلو قال أكرم زيدا في كل زمان ما دام موجودا في
البلد، فجواز إخراجه من البلد لا ينافي وجوب إكرامه في كل زمان ما دام موجودا في
البلد
وبعبارة أخرى يكون من قبيل الأصل الحاكم مع الأصل المحكوم، فوجوب
العمل بالأصل المحكوم والجري بمقتضاه في كل زمان لا ينافي مع مقتضى دليل الأصل
الحاكم، لان العمل بمقتضى أصل المحكوم معلق عقلا على بقاء موضوعه أي كونه
شاكا، فإذا ارتفع موضوعه بالأصل الحاكم، لا يبقى تعارض في البين، ولذلك قلنا في
باب تعارض الأدلة أنه لا تعارض بين دليل الحاكم والمحكوم.
فها هنا حل العقد وإفنائه لا ينافي وجوب العمل بمقتضاه دائما في كل زمان، لان
208

العمل بمقتضاه عقلا موقوف على بقائه، فإذا ارتفع لا يبقى موضوع لهذا الحكم.
وفيه أولا ما ذكرها ان هذه العبارة أي وجوب الوفاء بكل عقد في كل زمان
مساوق في المتفاهم العرفي مع القول بأن كل عقد لازم لا يمكن أو لا يجوز حله
ونقضه.
وثانيا الظاهر من قوله تعالى أوفوا بالعقود ليس المراد به وجوب الوفاء بما
عقد عليه وتعهد به كي يكون معناه وجوب العمل بمقتضاه، بل المراد به وجوب
الوفاء بنفس عقوده وعهوده وأن لا ينقض عقده وعهده، فابتداء الواجب التكليفي هو
البقاء على عهده وعدم الرجوع عن التزامه، لا وجوب
العمل بما التزم به، نعم وجوب العمل بما التزم به من آثار البقاء على عهده وحفظ تعهده والتزامه.
فبناء على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري قده (1) من انتزاع الحكم الوضعي
من الحكم التكليفي فينتزع اللزوم قهرا من هذا الوجوب التكليفي أي وجوب البقاء
على تعهده والتزامه وحرمة نقضه وحله.
وهذا الكلام أي انتزاع الحكم الوضعي عن الحكم التكليفي، وإن كان لا أساس
له عندنا، وأثبتنا فساده في الأصول، وبينا في كتابنا منتهى الأصول (2) أن بعض الأحكام
الوضعية كالطهارة والنجاسة والملكية والزوجية وأمثالها مستقلات في الجعل
وليست منتزعة من الأحكام التكليفية، بل هي موضوعات لها، فيكون الامر
بالعكس أي يكون الحكم التكليفي من آثار الحكم الوضعي، فتكون حرمة الاستعمال
فيما هو مشروط بالطهارة أو الشرب من آثار النجاسة وكذلك الامر في الملكية
والزوجية وغيرهما.
ولكن هاهنا لا نحتاج إلى الالتزام بأن وجوب الوفاء بالعقود حكم تكليفي ينتزع

1. " فرائد الأصول " ج 2، ص 601.
2. " منتهى الأصول " ج 2، ص 395.
209

منه، فان هذا يشبه الاكل من القفا، بل نقول من أول الأمر أن وجوب الوفاء بالعقد
عبارة عن لزوم البقاء عليه وعدم نقضه وحله، وهذا عين اللزوم، وإن شئت قلت إن
معنى القاعدة عرفا هو الالتزام والتعهد بأمر، فهذا المعنى بنفسه يقتضي عند العرف
والعقلاء البقاء على تعهده وعدم جواز حله ونقضه.
وبعبارة أخرى يرونه في عالم اعتبارهم أمرا ثابتا غير ممكن النقض، ولذلك
يرون الخارج عن التزامه ناقضا لعهده، وهذا عين اعتبار اللزوم عندهم في العقود
والعهود، والشارع أمضى هذا اللزوم الذي في اعتبارهم للعقود بقوله: أوفوا
بالعقود.
فمفاد هذه الآية تثبيت ما هو ثابت عندهم، وتقرير أهل العرف في لزوم العقود
في اعتبارهم.
فكأن ها هنا اعتبارين أحدهما من قبل العرف وهو اعتبارهم اللزوم في
عقودهم وعهودهم سواء كانت في أبواب المعاملات أو في غيرها ثانيهما من قبل
الشرع وهو إمضاء ذلك الاعتبار العرفي وتثبيته في عالم الاعتبار الشرعي.
وأما ما ذكره بعض المفسرين (1) من الوجوه الأربعة في المراد من العقود في الآية:
أحدها أن المراد من هذه الكلمة هو عهود أهل الجاهلية، ذكره جمع من
المفسرين، وفيهم ابن عباس، وهذا المعنى لابد منه توجيهه، وإلا فهو بظاهره فاسد.
ثانيها هو العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بأن لا يعبدوا الشيطان.
ثالثها العقود والعهود التي بين الناس في معاملاتهم وغيرها.
رابعها أن المراد به العهود والمواثيق التي أخذ من أهل الكتاب في التوراة من
عدم إنكارهم لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وتصديقهم لنبوته، وأن كل ما جاء به من الأحكام

1. انظر: " مجمع البيان " ج 2، ص 150.
210

فهو حق ومن عند الله.
فهذه المعاني وإن كانت في حد نفسها صحيحة وذكرها المفسرون، ولكنه من
الواضح أن الاعتبار بعموم الألفاظ ولا يكون خصوصية المورد مخصصا، وكذلك
تطبيق المفسرين بل الأئمة عليهم السلام على بعض موارد ذلك العام، ولا شك في أن لفظ
العقود عام يشمل كل عقد صدر من المتعاقدين، وكل واحد من هذه المعاني التي
ذكروها مصداق من مصاديق العام، وشموله له لا ينفي شموله للمصاديق الاخر.
فظاهر الآية بناء على ما ذكرنا في المراد منها هو لزوم كل ما يصدق عليه العقد
ويحمل عليه حملا حقيقيا لا تجوزا.
ثم إنه استشكل على دلالة هذه الآية على اللزوم بلزوم تخصيص الأكثر، وهو
مستهجن، فيسقط العموم عن الحجية، ولا يمكن التمسك به لاستهجانه ولزوم تخصيص
الأكثر من جهة خروج العقود الجائزة عن هذا العموم قطعا، وكذلك المعاطاة بناء على
تحقق الاجماع على جوازه، وهي كثيرة جدا خصوصا المعاطاة وذلك لان أغلب
معاملات الأسواق والمعاوضات من البيوع والإجارات وغيرهما بالمعاطاة، بل لا يبعد
دعوى كون جميعها بالمعاطاة، وكذلك العقود اللازمة في موارد الخيارات.
وفيه أن العقود الجائزة بالذات لا بواسطة جعل الخيار من الله تعالى أو من قبل
المتعاقدين، قد تقدم أنها هي العقود المسماة بالاذنية، مقابل العقود العهدية، وبينا أن تلك
العقود المسماة بالاذنية التي قوامها بالاذن في الحقيقة، ليست بعقد كالوكالة أو العارية
مثلا إذ ليس تعهد في البين، وقلنا إن اطلاق العقد عليها من باب المشاكلة، ومن جهة
أن الاذن فيها يصدر بشكل الايجاب ورضا الطرف بالعمل على طبق ذلك الاذن
يكون بصورة القبول وبشكله، فخروج تلك العقود عن عموم أوفوا بالعقود يكون
بالتخصص لا بالتخصيص، وقد تقدم كل ذلك.
وأما المعاطاة فقد بينا في محله أنه ليس بعقد بل هو صرف مبادلة بين العوضين
211

وليس تعهد في البين، وإن شئت قلت كما أنه يمكن أن ينقل مالا من مكانه إلى مكان
مال آخر، وذلك المال الآخر ينقل من مكانه إلى مكان المال الأول، فيبدل مكان 178 كل
واحد من المالين إلى مكان الاخر كذلك في عالم الاعتبار يمكن انشاء هذه المبادلة بين
المالين بدون أن يكون التزام من المتعاملين أو أحدهما في البين، ومن دون أن يكون
تعهد بالبقاء عند هذه المبادلة منهما أو من أحدهما، وهذا هو المسمى بالمعاطاة، فليس
في المعاطاة عقد وعهد أصلا، فيكون خروجه عن عموم أوفوا بالعقود خروجا
موضوعيا، ويكون من باب التخصص لا التخصيص.
وأما العقود اللازمة في موارد الخيارات فهي في الموارد التي يكون الخيار مجعولا
من قبل المتعاقدين، فلا يشمله هذه الآية، لان الآية معناها كما تقدم لزوم الوفاء
بالتزامه وتعهده، فإذا كان تعهده والتزامه مشروطا بشرط ومقيدا بأمر كما في مورد
خيار الشرط والغبن، بناء على رجوع الأخير إلى تخلف الشرط الضمني، وهو تساوي
العوضين في المالية، ففي مورد فقد الشرط والقيد لا التزام كي يكون الوفاء به واجبا،
فيكون خروج تلك الموارد عن عموم أوفوا بالعقود أيضا خروجا موضوعيا لا من
باب تخصيص هذه القاعدة.
نعم في الخيارات المجعولة من قبل الشارع مع كون الالتزام الذي قلنا إنه مدلول
التزامي للألفاظ التي تنشأ بها العقود مطلقا من الطرفين المتعاملين غير مقيد بشئ
وغير مشروط بشرط كخيار المجلس وخيار الحيوان وما شابههما، يكون تخصيصا
للقاعدة.
وأنت خبير بأن هذا المقدار ليس من التخصيص المستهجن، فاشكال لزوم
تخصيص الأكثر في عموم هذه القاعدة لا أساس له.
هذا مضافا إلى أنه يمكن أن يقال بأن موارد الخيارات المجعولة من قبل الشارع
أيضا ليس من باب التخصيص، بل يكون شبيها بالحكومة بأن يقال مثلا في خيار
212

المجلس أو خيار الحيوان: جعل الشارع التزامهما في تلك المدة كلا التزام، فكأنهما لم
يلتزما بالبقاء عند هذه المعاملة ما دام كونهما في المجلس ولم يفترقا بالنسبة إلى خيار
المجلس، وكذلك كأنهما لم يلتزما في مدة ثلاثة أيام في خيار الحيوان فيكون أيضا
خروجهما وأمثالهما أيضا خروجا موضوعيا، غاية الأمر خروجا موضوعيا 179 تعبديا لا
تكوينيا كما هو الشأن في جميع موارد الحكومة، وأن التوسعة والتضييق فيها من جانب
الموضوع أو المحمول تعبدي لا تكويني ووجداني.
وبعبارة أخرى التصرف في باب الحكومة في جانب الموضوع أو المحمول في
القضية الشرعية المتكلفة لبيان حكم من الأحكام، ولا نظر في ذلك الباب إلى التضيق
في الحكم، وإن كان التضيق في الموضوع أو المحمول ينتج ذلك أيضا.
فنقول فيما نحن فيه: إن الشارع الأقدس في مدة بقاء المتبايعين في المجلس، أو مدة
ثلاثة أيام في خيار الحيوان، جعل التزامهما بهذه المعاملة كلا التزام، لا أنه مع فرض
البناء على وجود الالتزام نفي الوفاء بذلك الالتزام كي يكون من باب التخصيص،
فإذا قال أكرم العلماء وفرضنا أن أكثر أفراد العلماء هم النحويون مثلا فقال: النحوي
ليس بعالم، فليس هذا من باب تخصيص الأكثر بل من جهة أن الشارع أخرج
النحوي عن موضوع حكمه خروجا تعبديا، فليس من باب التخصيص كي يكون
مستهجنا إذا كان الخارج أكثر الافراد.
ويمكن أيضا أن يقال إن ما نحن فيه ليس من قبيل التخصيص كي يقال بأن
الخارج أكثر فهو مستهجن، بل من قبيل تقييد الاطلاق.
وذلك من جهة أن عموم لفظ العقود باعتبار الافراد لا باعتبار الأزمان،
فالحكم ثبوته في جميع الأزمان ليس من ناحية صيغة العموم بل من جهة الاطلاق
الأزماني الثابت بدلالة الاقتضاء، صونا عن لغوية جعل الخيار لو كان ثبوته في زمان
ما فقط، وتقييد ذلك الاطلاق بالنسبة إلى قطعة من الزمان اي زمان بقاء المجلس
213

وعدم حصول الافتراق، وكذلك ثلاثة أيام في خيار الحيوان ليس من باب تخصيص
العموم كي يقال بأنه مستهجن بل صرف تقييد اطلاق فلا يأتي هذا الكلام ولا
مجال للاشكال به على التمسك بهذا العموم.
وذلك من جهة أن الاطلاق وشمول الحكم لجميع الحالات والخصوصيات
الواردة على المطلق، ليس بالوضع كما هو مذكور في محله، وإنما الشمول لدليل الحكمة
وبمقدماتها، ففي كل مورد وبالنسبة إلى أي خصوصية جاء دليل على التقييد يبطل
الاطلاق بالنسبة إلى تلك الخصوصية، ويرتفع من البين، فلو قيد المطلق بحيث لا يبقى
له إلا فرد واحد، لا يكون مستهجنا.
بخلاف العام فإنه موضوع للعموم، فيكون ظاهره العموم خصوصا إذا كان
المخصص منفصلا، فبعد تخصيص الأكثر إذا تبين أن مراده من هذا العموم ليس إلا
أفراد قليلة، فألقى إلى طرفه أن مطلوبه العموم، مع أنه لم يرد إلا بعضه الأقل، فيكون مثل
هذا الكلام ركيكا ومستهجنا.
وخلاصة الكلام أن العام كاشف عن إرادة العموم بالوضع، وليس ظهوره معلقا
نعم إذا جاء المخصص حيث إنه أكشف، يكون مقدما على العموم، وأما ظهور المطلق
في الاطلاق، فمعلق على عدم البيان، فإذا جاء البيان لا يبقى موضوع للاطلاق.
فتقديم ظهور الخاص على ظهور العام، من باب حكومة أصالة الظهور في طرفه
على أصالة الظهور في طرف العام، وأما التقييد في باب الاطلاق فهو رافع لموضوع
ظهور الاطلاق حقيقة وتكوينا، فكأنه من قبيل الورود.
وأيضا من الأول أي الآيات قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم. (1)

1. النساء (4): 29.
214

تقريب الاستدلال بالآية الشريفة على لزوم العقود، هو أن الظاهر من الاكل في
المقام مطلق التصرفات والانتفاعات بالأموال لا خصوص الازدراد، إذ في جملة كثيرة
من الأموال لا يمكن ذلك.
فظاهر الآية هو النهي وتحريم التصرفات الباطلة أي على وجه لم يشرع في
أموال الناس، إذ لا شك في جواز جميع التصرفات في أموال نفسه إلا أن يكون ذلك
السنخ من التصرفات حراما كالاسراف والتبذير وغيرهما من التصرفات المحرمة
الكثيرة.
ولا يمكن أن يكون المراد من الباطل في الآية هذا القسم من التصرفات: أولا
بقرينة بينكم لان أمثال هذه التصرفات محرمة وإن لم يكن غيره في البين، فهذه
الكلمة خصوصا مع قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم تكون
قرينة على أن المراد من الاكل بالباطل هو التصرف في مال الغير على وجه شرعي،
وبغير استحقاق، كالغصب والخيانة والسرقة والربا، وبشهادة الزور، أو باليمين الكاذبة،
أو بالرشوة، أو بالبيوع الفاسدة كالبيع الغرري، أو سائر المعاملات الفاسدة الباطلة في
الشرع، مثل أنواع القمار إلى غير ذلك من العقود والمعاملات الفاسدة: كالمعاملات
التي تقع عن إكراه الطرف.
فمعنى الآية بحسب الظاهر وما هو المتفاهم العرفي منها أن جميع هذه التصرفات
في أموال الناس حرام، إلا أن يكون التصرف في مال الغير بالوجه الشرعي، وعبر
سبحانه وتعالى عن ذلك الوجه بقوله إلا أن تكون تجارة عن تراض أي عند
العرف مع عدم ردع الشارع عن مثل ملك التجارة، بل إمضائها، وذلك من جهة أن
قولهم بكفاية عدم الردع من قبل الشارع من باب أنه كاشف عن الامضاء وإلا فهو
بنفسه لا أثر له، فإذا كان معنى الآية ما عرفت، فدلالتها على اللزوم واضحة.
بيان ذلك أنه بعد الفراغ عن حصول الملكية والنقل والانتقال بمحض وجود
215

العقد التام الواجد لجميع شرائط الصحة من الطرفين، ففسخ أحدهما من دون رضا
الآخر يكون تصرفا في مال الغير بدون أن يكون تجارة عن تراض منهما، فيكون أكلا
لمال الغير بالباطل، أي بوجه غير شرعي.
فالفسخ الذي أثره إرجاع مال الغير إلى صاحبه الأولى من دون رضا من ملك
بالعقد، يكون داخلا في المستثنى منه، فيكون منهيا عنه، فيكون باطلا وغير نافذ
وهذا معنى مساوق للزوم.
وخلاصة الكلام أن ظاهر الآية هو أن سبب جواز أكل أموال الناس منحصر
في الانتقال إليه بالتجارة التي تكون عن تراض منهما، كما هو مفاد الاستثناء عن
العموم.
ثم إنه لا يخفى أن عقد المستثنى منه وحده كاف في إثبات هذا الحكم، أي 182 أصالة
اللزوم في العقود، لو كان المراد من الاكل بالباطل هو الاكل من غير سبب شرعي.
لا يقال: إن الفسخ لو كان مؤثرا يكون سببا شرعيا، ويخرج به كون الاكل اكلا
لمال الغير الباطل، فيكون هذا الاستدلال دوريا، لأن عدم تأثير الفسخ موقوف على
كون أكل المال به أكلا بالباطل، وكونه كذلك موقوف على عدم تأثير الفسخ، وألا
يكون الاكل على وجه شرعي، وليس من اكل المال بالباطل.
لان الآية حصرت سبب جواز أكل مال الغير في التجارة عن تراض، ومعلوم أن
الفسخ من دون رضاية الطرف الآخر ليس من التجارة عن تراض.
إن قلت: أليس يجوز أكل مال الغير بإباحة مالكه، وليست الإباحة تجارة عن
تراض؟
قلنا أولا إن المراد من الاكل ها هنا هو التملك لا المعنى المعروف المقابل للشرب
كما تقدم ذكره، والتملك لا يحصل بالإباحة بل يحتاج إلى تمليك من قبل الله أو من قبل
مالكه.
216

وثانيا أن عقد المستثنى منه عام كسائر العمومات الشرعية قابل للتخصيص،
فمفاده وإن كان عدم جواز التصرف في مال الغير مطلقا، ولم يخرج في ظاهر الآية عن
هذا العموم، إلا كون الاكل من باب التجارة عن تراض، ولكن يمكن تخصيصه بدليل
آخر أيضا كسائر العمومات التي ترد عليها مخصصات كثيرة ومتعددة، ما لم تصل إلى
حد تخصيص الأكثر، فهاهنا أيضا خصص العام بدليل جواز التصرف بإباحة المالك.
وثالثا ليس مورد إباحة المالك من الاكل بالباطل، لا في نظر العرف وهو واضح
ولا في نظر الشرع لان الممنوع والمنهي في نظر الشرع هو أكل مال الغير من غير إذنه
وبدون طيب نفسه، وأما مع أحدهما فلا يرى الاكل باطلا، ففي مورد الإباحة بل في
كل مورد صدر الاذن من قبل الشارع بجواز التصرف فيه، ليس من الاكل بالباطل، لا
في نظره ولا في نظر العرف، فلا يشمله هذا العام.
ورابعا يظهر من الآية المقابلة بين الاكل بالباطل، وكونه عن تجارة مع تراضي
الطرفين بطور المنفصلة المانعة الخلو بمعنى أن الاكل لمال الغير لا يخلو من أحد هذين
الامرين: إما يكون بوجه غير شرعي وباطلا، وإما أن يكون من باب التجارة عن
تراض، ولا ريب في أن موارد صدور الإذن من الشارع بجواز الاكل والتصرف أو
المالك كذلك ليس بوجه غير شرعي ولا يصدق عليها أيضا أنها تجارة عن تراض،
فلابد من حمل الآية على معنى يلتئم مع هذا الحصر، وعدم خلو الاكل عن أحد
هذين، أي كونه إما باطلا أو يكون تجارة عن تراض، وهو أن يقال:
إن المراد منها أن هذه المعاملات والمعاوضات والمبادلات التي تقع بينكم لا يخلو
من أحد أمرين إما باطل ويكون بوجه غير شرعي، فهذا القسم حرام، وليس لكم
ارتكابه ويجب الاجتناب عنه، وإما أن يكون تجارة عن تراض وهذا القسم لا مانع
من ارتكابه بل ندب إليه الشرع، وأما الحرمة في القسم الأول فهل هي وضعي أم
تكليفي؟ فبحث آخر، وإن كان الظاهر منها الوضعي، بقرينة كلمة الباطل
217

وإطلاقها عليها.
إذا عرفت ما ذكرنا في معنى الآية، فلا يبقى إشكال في دلالتها على المطلوب، أي
اللزوم.
بيان ذلك أن القضية المنفصلة المانعة الخلو، رفع كل واحد من طرفها يثبت
وجود الطرف الآخر، فإذا لم يكون المعاملة المشروعة من مصاديق التجارة عن تراض
تكون باطلة، وفيما نحن فيه من المعلوم أن الفسخ بدون رضاية الطرف الآخر ليس
تجارة عن تراض، فيكون باطلا غير نافذ، وهذا من لوازم اللزوم.
وإن شئت قلت إن مفاد الآية قضيتين كليتين إحداهما أن كل معاملة ليست
بباطلة لابد وأن تكون تجارة عن تراض، والأخرى أن كل معاملة ليست تجارة عن
تراض فلا محالة تكون باطلة، وهذا معنى كون مفادها قضية منفصلة مانعة الخلو
وباقي ما ذكرنا واضح لا يحتاج إلى الايضاح.
وخلاصة الكلام أن الآية حسب المتفاهم العرفي الذي هو معنى الظهور وهو 184
الحجة، هو أن ما ليس بتجارة عن تراض فهو باطل، لا أن كل معاملة تكون من
مصاديق عنوان تجارة عن تراض، تكون صحيحة، كي يرد عليه النقوض الكثيرة
كالمعاملات غير المشروعة من جهة مبغوضية نفس عناوينها كالقمار والرباء، أو من
جهة خلل في العقد، أو في المتعاقدين، أو في العوضين، والأمثلة واضحة، فإنها باطلة
مع كونها تجارة عن تراض يقينا.
إن قلت إن الآية مركبة من عقدين: عقد المستثنى وعقد المستثنى منه، والأول
سلبي مفاده عدم جواز أكل المال بالباطل، والثاني ايجابي مفاده جواز الأكل ان كانت
المعاملة تجارة عن تراض، فليس ها هنا ما يكون مفاده أن ما ليس بتجارة عن تراض
يكون من الاكل بالباطل الذي هو مبنى هذا الاستدلال.
وذلك من جهة أن في العقد الأول موضوع الحكم بالحرمة هو أكل المال بالباطل
218

والحكم لا يثبت موضوعه، والمفروض أن الموضوع فيما نحن فيه مشكوك لأنه بناء
على اللزوم الفسخ لا يؤثر، فيكون أكل المال بالفسخ أكلا بالباطل، وبناء على عدمه
يؤثر الفسخ فلا يكون الاكل به أكلا بالباطل.
وحيث إن اللزوم مشكوك فيكون موضوع الحرمة مشكوكا فيكون الاستدلال
بهذا العموم لعدم تأثير الفسخ لكونه أكلا بالباطل من قبيل التمسك بعموم العام في
الشبهة المصداقية لنفس العام الذي لا يقول به أحد، ولا يمكن أن يقول به أحد.
وفي العقد الثاني موضوع الحكم الايجابي أي جواز الأكل هو كون المعاملة تجارة
عن تراض، وهذا الحكم الايجابي لا يدل على أن كل ما ليس بتجارة عن تراض فهو
من الاكل بالباطل، نعم انتفاء الجواز بانتفاء كونه تجارة عن تراض حكم عقلي ومن
باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.
قلنا إن نفس جعل المقابلة بين أكل المال بالباطل وبين كونه عن تجارة عن
تراض، يدل على أن ما ليس من التجارة عن تراض فهو من أكل المال بالباطل وقد
تقدم تفصيل ذلك، فلا نعيد، ففي الحقيقة في مورد الشك في لزوم المعاملة عقدية يثبت
الموضوع بعد أن فسخ المعاملة للعقد الأول أي المستثنى منه بالعقد الثاني أي
المستثنى وقرينيته.
فكل واحد من العقدين وحده، وإن لم يدل على عدم تأثير الفسخ ولا على
اللزوم، إلا أنه بانضمام أحدهما إلى الآخر والتعمق في مجموع الآية تحصل هذه النتيجة،
أي يكون إرجاع المال بالفسخ مع عدم رضاية الطرف الآخر من أكل مال الغير
بالباطل الذي هو موضوع الحرمة في عقد المستثنى منه، فيكون الفسخ غير مؤثر،
وهو من لوازم اللزوم.
219

وأما الثاني أي الاخبار التي تدل على لزوم كل عقد مملك
فمنها قوله عليه السلام لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه. (1)
بيان ذلك أنه بعد الفراع عن أن العقد سبب لانتقال كل واحد من العوضين إلى
صاحب العوض الآخر، وصيرورته ملكا ومالا له، فلو كان إرجاع ذلك المال إلى
صاحبه الأول بصرف الفسخ من دون طيب نفس الطرف، أي من انتقل المال إليه
بالعقد، جائزا الذي هو معنى عدم اللزوم يلزم أن يكون أكل مال المسلم بدون
طيب نفسه جائزا، والحديث ينفيه. فالحديث يدل على عدم تأثير الفسخ وهو ملازم
مع اللزوم.
وأما توهم أنه بعد الفسخ يشك في أنه مال الغير: إذ على تقدير كون العقد أو
المعاملة جائزة، فبعد الفسخ يخرج عن كونه مال الغير قطعا، وعلى تقدير كونه لازما
يبقى بعده على كونه مال الغير، وحيث إن كلا الامرين غير معلوم، فكونه مال الغير
بعد الفسخ مشكوك، فيكون التمسك بالحديث من قبيل التمسك بالعموم في الشبهة
المصداقية لنفس العام، وهو واضح البطلان، للزوم إحراز موضوع الحكم.
ففيه أن عدم كونه مال الغير، متوقف على تأثير الفسخ في إرجاع المال إلى
صاحبه الأول، وإلا فمع عدم تأثيره وعدم انحلال العقد لا وجه لخروجه عن ملك من
انتقل إليه بالعقد، بل باق على ملكه يقينا من دون احتياج إلى استصحاب بقائه على
ذلك، وتأثير الفسخ متوقف على عدم كونه مال الغير، والا يلزم أن يكون التصرف في
مال الغير باخراجه عن ملكه بدون طيب نفسه حلالا وجائزا والحديث ينفيه، فلا
يمكن اثبات جواز التأثير بالشك في كونه مال الغير ويكون دورا واضحا.

1. " الكافي " ج 7، ص 273، باب القتل، ح 12، " الفقيه " ج 4، ص 92، باب تحريم الدماء والأموال بغير
حقها...، ح 5151، " وسائل الشيعة " ج 3، ص 424، أبواب مكان المصلي، باب 3، ح 1، و ج 19، ص 3.
أبواب القصاص في النفس، باب 1، ح 3. والنص في جميع المصادر هكذا: " لا يحل دم امرئ مسلم و
لا ماله إلا بطيبة نفسه ".
220

وان شئت قلت: ان ارجاع المال إلى نفسه واخراجه عن ملك طرفه بالفسخ،
متوقف على عدم كونه ملكا لذلك الطرف حال الاخراج، وعدم كونه ملكا له في ذلك
الحال متوقف على الاخراج بذلك الفسخ، إذ ليس سبب آخر في البين على الفرض،
فالاخراج بذلك الفسخ متوقف على نفسه، نعم شمول هذا الحديث للفسخ في العقد
المشكوك اللزوم منوط بالقول بحصول الملكية بعد تمامية العقد كما هو الصحيح.
ثم إنه لا يخفى أن دلالة هذا الحديث على اللزوم يشمل جميع المعاملات، سواء
كانت عقدية أو بالمعاطاة، بناء على حصول الملكية بالمعاطاة كما هو الصحيح، وأما
بناء على أنها مفيدة للإباحة من دون حصول ملكية في البين، فلا، لأنه بناء على القول
بالإباحة، لا يكون المباح له مالك كي يقال بأنه لا يمكن ارجاعه بدون طيب نفسه،
وكذلك لا يشمل المعاملات التي ليست مملكة كالنكاح مثلا، وإن كان عقدا وهو
واضح.
ومما تقدم ذكره يظهر أن دلالة هذا الحديث على لزوم المعاملات المملكة في غاية
الوضوح، ولا فرق بين وقوع تلك المعاملات بالعقد أو بالمعاطاة، ولذلك قلنا في
مبحث بيع المعاطاة أن مقتضى القاعدة المتخذة من الروايات بل بناء العقلاء لزوم بيع
المعاطاة، ولكن الذي أخرجنا عن الالتزام بهذه القاعدة هو دعوى الاجماع من جمع
من أعاظم الفقهاء.
ومنها قوله عليه السلام: الناس مسلطون على أموالهم. (1)
بيان ذلك أن السلطنة على المال التي أمضاها الشارع - لان العرف والعقلاء
أيضا يعتبرون المالك ذا سلطان على ماله أعم من السلطنة على التصرفات
التكوينية كالأكل والشرب واللبس والركوب والسكنى وهكذا في المأكولات

1. " سنن الكبرى " ج 6، ص 100، " سنن الدارقطني " ج 3، ص 26، ح 91، " تذكرة الفقهاء " ج 1، ص 489،
" عوالي اللئالي " ج 3، ص 208، ح 49.
221

والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن وهكذا الامر في غير المذكورات
ومن السلطنة على التصرفات الشريعية كالبيع والهبة والوقف والصلح وأمثال تلك
العناوين مما توجد بانشاءاتها في عالم الاعتبار التشريعي.
وبعبارة أخرى كما أن المالك في نظر العرف والعقلاء ذو سلطان على التصرفات
التكوينية كذلك في نظرهم له السلطنة بالنسبة إلى التصرفات في عالم اعتبارهم
كأنواع المعاملات والمبادلات الواقعة عليه عندهم، وقد أمضى الشارع هذه السلطنة
التي عند العرف تكوينا وتشريعا، ولا شك في أن العرف والعقلاء كما أنهم يرون جواز
كلا القسمين من التكوينية والتشريعية للمالك عندهم، كذلك يرون له حق منع الغير
عن التصرف بكلا قسميه أي يرون له مثلا حق المنع عن أكله وعن بيعه أو هبته.
فبناء على أن يكون مفاد هذا الحديث الشريف إمضاء ما عليه العرف كما هو
الظاهر منه، يكون مفاده أن للمالك بعد العقد حق المنع عن إرجاع المالك الأول هذا
المال الذي خرج عن ملكه إلى نفسه ثانيا بواسطة الفسخ ومرجع هذا إلى عدم تأثير
الفسخ، وهذا هو اللزوم.
ومما ذكرنا يظهر فساد ما ربما يقال بأن موضوع هذه السلطنة ومتعلقها هو أن
يكون ماله، وبعد الفسخ كونه ماله مشكوك، لاحتمال عدم اللزوم وتأثير الفسخ.
وذلك من جهة انه بناء على ما ذكرنا ليس لغير المالك بدون اذنه ورضاه حق
الفسخ لان الفسخ أيضا من التصرفات الاعتبارية التي قلنا إن للمالك منعه عنها،
وهذا دليل على عدم تأثير الفسخ، فيكون موضوع السلطنة الذي هو عنوان ماله
موجودا فيشمله الحديث.
وخلاصة الكلام في هذا المقام هو أن المالك هل له السلطنة على أنحاء التصرفات
في ماله فقط غاية الأمر أعم من التكوينية والتشريعية أم لا بل له أيضا مضافا إلى
ذلك حق منع الغير عن التصرف في ماله، وإن كان التصرف اعتباريا كايقاع
222

المعاملات عليه بمعنى ان تصرفات غير المالك بدون إذن المالك ورضاه إن كان تصرفا
خارجيا في 188 المال يكون حراما لقوله عليه السلام لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه،
وأما إن كان تصرفا اعتباريا وفي عالم المعاملات والمبادلات الاعتبارية فيكون تلك
التصرفات لغوا لا أثر لها كالتصرفات التي تصدر من الفضولي، وحيث إنها بدون
إجازة المالك وإذنه فلا أثر لها وإن لم يكن حراما.
فالتصرفات التكوينية في مال الغير حرام سواء كان باتلاف نفسه أو شئ من
أوصافه أو من منافعه أو باستيفاء منافعه أو بحبس تلك المنافع عن مالكه كل ذلك
بقاعدة الاتلاف، أو قاعدة على اليد، ففي جميع ذلك يكون الأمران: أي الحرمة
التكليفية والضمان وضعا وذلك من جهة أن التصرف التكويني تنطبق عليه إحدى
هاتين القاعدتين أي الاتلاف وعلى اليد غالبا.
وأما التصرفات الاعتبارية أي نقلها بالانشاءات المعهودة من العقود
والايقاعات: فمن حيث أنها فعل غير المالك وأمر خارجي لا مساس لها بمال الغير،
ومن حيث منشأتها أمورا اعتبارية لا وجود لها في عالم الاعتبار، ويحتاج وجودها في
عالم الاعتبار التشريعي أيضا إلى اذن المالك أو اجازته، والمفروض فيما نحن فيه أي
الفسخ أنه بدون إذن المالك وإجازته، فلا يوجد في عالم الاعتبار التشريعي فيكون
لغوا لا أثر له، فيبقى المال في ملك من ملك بالعقد، وهذا دليل على البقاء من دون
حاجة إلى الاستصحاب.
فموضوع السلطنة باق وموجود والنتيجة حيث إن الفسخ يتعلق بمال الغير بدون
إذنه ورضاه فلا أثر له.
إن قلت إن ما ذكر صحيح إن كان الفسخ عبارة عن إرجاع المال واسترداد ما
انتقل منه إلى طرفه، فحينئذ يمكن أن يقال حيث إن الطرف مسلط على ماله، فله المنع
عن إرجاع ماله إلى صاحبه الأول بدون إذنه ورضاه، وأما لو كان الفسخ عبارة عن
223

حل العقد ونقض العهد كما هو الصحيح وعليه بنى المحققون في مبحث الخيارات،
فليس للفسخ علاقة وتعلق بالمال المنتقل إلى طرف الفاسخ كي يقال بأنه بدون إذن
مالكه يكون منافيا مع السلطنة المطلقة التي للمالك التي هي مفاد هذا 189 الحديث
الشريف.
قلنا إن السلطنة المطلقة التامة للمالك على ماله التي ثابتة له عند العرف والعقلاء،
ومفاد هذا الحديث وهو إمضاء ما عند العرف، تنافي إمكان إرجاع ماله بدون إذنه
وإجازته، ولو كان بتوسط حل العقد، فقاعدة تسلط الناس على أموالهم في نظر
العرف والعقلاء تمنع عن انحلال العقد بفسخه، وتبين عدم قدرته في عالم التشريع على
حل العقد الذي يكون سببا لخروج ماله عن ملكه بدون رضاه وإجازته.
وإن شئت قلت: إن الفسخ بعنوانه الأولي حل العقد، وبعنوانه الثانوي إرجاع
كل واحد من العوضين إلى مالكه الأول، فإذا كان الارجاع والاخراج عن ملكه
بدون إذنه منافيا لسلطنته، فالسبب الذي يترتب عليه هذا الامر أيضا يكون منافيا
لسلطنته فيكون منفيا بهذا الحديث، فهما ضدان أي قدرته على حل العقد مع كون
طرفه ذا السلطنة المطلقة التامة ضدان، فلا يصح جعلهما، وحيث إن السلطنة ثابتة
بهذا الحديث فلا بد وان نقول بعدم قدرته شرعا على حل العقد الذي هو مناف بهذه
السلطنة.
نعم لو قلنا بأن المالك له السلطنة فقط على أنواع التصرفات في ماله وأما منعه
للغير فلا، فحينئذ يمكن أن يقال بجواز حل العقد بالفسخ، وإن كان أثره إرجاع كل
واحد من العوضين إلى صاحبه الأولى على رغم المالك الفعلي بالعقد.
ولكنك خبير بأن هذا الاحتمال بعيد عن الصواب، والنتيجة أنه ليس لكل واحد
من الطرفين فسخ العقد وحله إلا أن يكون بجعل منهما، أو بجعل من قبل الشارع
كخيار المجلس، أو كان العقد من العقود الجائزة بالذات كالعقود الاذنية التي قلنا
224

إطلاق العقد عليها إطلاق عنائي مسامحي، ولو فسخ لا يؤثر، وهذا معنى اللزوم.
ومما ذكرنا ظهر أن تفصيل شيخنا الأستاذ قده في المقام بين أن يكون الخيار أي
ملك فسخ المعاملة وإقرارها متعلقا بالعقد أو بالعين: فقال في الأول إن في مورد
الشك لا يمكن التمسك بهذه القاعدة لاثبات اللزوم لان الفسخ لا يرجع إلى تصرف
غير المالك في العين المملوكة لغيره كي يكون منافيا مع سلطنة ذلك الغير على ماله،
وذلك لان الخيار يبطل التبديل الواقع من المتعاقدين من دون إرجاعه للعين، وإنما
يكون رجوعها يحصل قهرا بواسطة حل العقد. وأما في الثاني أي صورة القول بأن
الخيار متعلق بالعين، فيجوز التمسك بهذه القاعدة في مورد الشك لاثبات اللزوم،
لمنافات الخيار بناء على هذا مع سلطنة الطرف على منع الغير عن التصرف في ماله،
وإن كان باخراجه عن ملكه ليس كما ينبغي.
ومنها قوله صلى الله عليه وآله المؤمنون عند شروطهم، (1)
ودلالة هذا الحديث الشريف على المطلوب مبني على أمرين:
أحدهما شمول الشرط للعقود الابتدائية بمعنى أن يكون المراد منه مطلق الالزام
والالتزام، وإلا لو كان خصوص الالزام أو الالتزام في ضمن العقود فلا يشمل العقود
الابتدائية، وذلك واضح.
ولا يخفى أن إثبات هذا المعنى أي كون المراد منه مطلق الالزام والالتزام موقوف
إما على كون هذا المعنى معنى حقيقيا لهذه الكلمة وإما أن يكون في المقام قرينة على
إرادة هذا المعنى مجازا، والثاني واضح عدمه وأما الأول فلا طريق له إلا انسباق هذا
المعنى إلى أذهان أهل العرف في موارد الاستعمالات والظاهر أيضا عدمه بل الذي

1. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 371، ح 1503، باب المهمور والأجور و...، ح 66، " الاستبصار " ج 3،
ص 232، ح 835، باب من تزويج المرأة على حكمها في المهر، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 15، ص 30،
أبواب المهور، باب 19، 4.
225

ينسبق إلى الذهن من هذه اللفظة في موارد الاستعمالات هو ما يكون له ارتباط
وعلاقة بشئ آخر وجودا أو عدما.
وأما ما ذكره في القاموس (1) من أنه الالزام والالتزام في ضمن البيع فهو تعريف
بالأخص ببيان بعض مصاديقه، وإطلاق الأصوليين مفهوم الشرط في قولهم أن
للقضية الشرطية مفهوم يرجع إلى هذا المعنى، بمعنى أن وجود التالي مربوط ومعلول
لوجود المقدم فيلزم من عدمه العدم، وكذا قول المنطقيين في باب القضايا القضية
الشرطية وتقسيمها إلى المتصلة والمنفصلة، وقول النحويين أن كلمة إن ومتى
وأمثالهما أداة الشرط، كلها يرجع إلى ما قلنا من أنه يطلق على ما فيه نحو ارتباط
بغيره.
فالالتزامات الابتدائية وكذلك إلزاماتها التي لا ربط بينها وبين غيرها، لا يطلق
عليها الشرط إطلاقا حقيقيا، ولذلك قلنا إن الشروط الابتدائية التي ليست في ضمن
عقد لازم لا يجب الوفاء بها، لعدم شمول قوله صلى الله عليه وآله المؤمنون أو المسلمون عند
شروطهم لتلك الشروط، لعدم انطباق مفهوم الشرط بمعناه الحقيقي عليها، لا أن عدم
وجوب الوفاء بها لأجل وجود المخصص، وهو الاجماع على عدم لزوم الوفاء بها.
وخلاصة الكلام أن القول بأن الالتزامات الابتدائية شروط بالمعنى
الحقيقي، مما لا يساعد عليه الوجدان وفهم العرف.
وأما إطلاق الشرط في بعض الأخبار على بعض الأحكام الشرعية كقوله صلى الله عليه وآله
شرط الله قبل شرطكم (2) أي كون الولاء لمن أعتق، أو قوله عليه السلام في الحيوان كله
شرط ثلاثة أيام (3) وأمثالهما، فالظاهر أن ليس المراد منهما الجعل الابتدائي من دون

1. " القاموس المحيط " ج 2، ص 381 (شرط).
2. " تفسير العياشي " ج 1، ص 240، ح 121، " وسائل الشيعة " ج 15، ص 31، أبواب المهور، باب 20، ح 6.
3. " الفقيه " ج 3، ص 201، باب الشرط والخيار في البيع، ح 3761، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 24، ح 101،
باب عقود البيع، ح 18، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 349، أبواب الخيار، باب 3، ح 1.
226

ملاحظة ارتباطه مع غيره كما توهم، إذ يمكن أن يكون المراد منهما هو الجعل الإلهي
بملاحظة كون العمل بما ألزم فعله أو تركه، وامتثاله بالايجاد في الأول والترك في الثاني،
وترتيب الأثر في الوضعيات شرطا لدخول الجنة.
فكأن الله تبارك وتعالى جعل امتثال أحكامه والعمل بها مقدمة وشرطا
لدخول الجنة، ولعل بهذا الاعتبار يقول جل جلاله إن الله اشترى من المؤمنين و
أنفسهم أموالهم بأن لهم الجنة (1) وأيضا قوله تعالى تجارة تخشون كسادها (2)
وأيضا قوله تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان. (3)
وخلاصة الكلام أنه يظهر من الآيات والاخبار أن الأحكام الشرعية وضعية
وتكليفية امتثالها والعمل على طبقها وترتيب الأثر عليها في الوضعيات شروط في
عالم العهد والميثاق الذي يعتبر عنه بعالم الذر في الاخبار من قبل الله تعالى لدخول
الجنة التي وعد بها المتقون،
والحاصل أن القول بأن الشرط بحسب مفهومه العرفي وما هو معناه الحقيقي
يشمل مطلق الجعل الابتدائي كي يكون جميع العقود الابتدائية من مصاديق ذلك
المفهوم، مما ينكره الوجدان، وما هو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة.
ثانيهما أن تكون هذه الجملة دالة على وجوب الوفاء بالشروط تكليفا أو
وضعا فيكون معناها أنه يجب الوفاء على المؤمنين بشروطهم، فيكون مساقها مساق
أوفوا بالعقود بعد هاتين المقدمتين، أي كون الشروط عبارة عن مطلق الالزامات
والالتزامات، وكون معنى الجملة وجوب الوفاء بتلك الالزامات والالتزامات، وقد
تقدم شرح دلالة أوفوا بالعقود على اللزوم.

1. التوبة (9): 111.
2. التوبة (9): 24.
3. يس (36): 60.
227

والانصاف أن هذه المقدمة الثانية لا إشكال فيها
بيان ذلك أن قوله عند شروطهم ظرف لغو متعلق بأفعال العموم، وهذا ظاهر
الكلام لا يحتاج إلى الدليل، كما بينا ذلك في نظائره مثل قوله صلى الله عليه وآله وعلى اليد ما
أخذت حتى تؤديه. (1)
فتقدير الكلام أن المؤمنين أو المسلمين ثابتون أو واقفون أو مستقرون وأمثال
ذلك عند شروطهم فهي إما من قبيل انشاء الحكم بصورة الاخبار الذي هو آكد في
الوجوب من الجملة الطلبية الانشائية كما قررناه في الأصول، فيكون المعنى يجب
الثبوت عند الشروط، وعدم الخروج عما التزم به، وهذا المعنى من لوازم اللزوم.
وإما مفاده يكون ابتداء هو الحكم الوضعي بأن يكون الحكم بالثبوت كناية عن
اللزوم، ويدل عليه استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الجملة في قوله من شرط
لامرأته بشرط فليف لها به، فان المسلمين عند شروطهم، إلا ما أحل حراما أو حرم
حلالا (2) فتمسك بهذا الحديث النبوية لوجوب الوفاء،
وعلى كل تقدير يكون مفاد الجملة هو اللزوم على تقدير صحة المقدمتين.
لكن عرفت أن صحة المقدمة الأولى في غاية الاشكال، بل مناف للوجدان، فلا
دلالة لهذا الحديث الشريف على وجوب الوفاء بكل عقد كي يكون مفاده لزومها.
نعم يدل على وجوب الوفاء بالشروط الضمنية التي تقع في ضمن العقود اللازمة.
ومنها الأخبار الكثيرة الواردة في لزوم البيع بعد التفرق عن مجلس المعاملة،
بقوله صلى الله عليه وآله البيعان بالخيار ما لم يفترقا وإذا تفرقا أو إذا افترقا على اختلاف

1. " سنن أبي داود " ج 3، ص 296، ح 3561، " سنن ابن ماجة " ج 2، ص 802، ح 2400، " مسند أحمد " ج 5،
ص 8 و 13، " سنن البيهقي " ج 6، ص 95.
2. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 467، ح 1872، باب الزيادات وفقه النكاح، ح 80، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 353، أبواب الخيار، باب 6، ح 5.
228

طرق نقل الحديث الشريف وجب البيع ولا خيار بعد الرضا. (1)
والمراد من الرضا في الحديث الشريف هو الرضا المعاملي أي اختيار المعاملة من
غير كره ولا إجبار عليها، لاطيب النفس، وذلك لان كثيرا من المعاملات ليست عن
طيب نفس بل الحاجة والضرورة دعته إلى إيقاع المعاملة، وعلى كل حال الذي
لا يمكن إنكاره دلالة الحديث الشريف على لزوم البيع بعد انقضاء المجلس وحصول
الافتراق بين المتبايعين، وبناء على هذا إذا طرأ شك في لزوم البيع بعد حصول
الافتراق لعروض حالة أوجبت الشك نتمسك بهذه الاخبار للزومة وعدم الاعتناء
بالشك.
وأما ما توهم من أن الشارع جعل الافتراق غاية لهذا الخيار الخاص، أي خيار
المجلس، ولا ينافي ذلك ثبوت الخيار من جهة أخرى إذا جاء الدليل عليه، فليس أدلة
سائر الخيارات مخصصا لهذا العموم، وفي الحقيقة لا عموم في البين يدل على اللزوم
مطلقا بل اللزوم يكون من ناحية خاصة أي تمامية خيار المجلس بحصول الافتراق
فقط، فلو احتملنا وجود خيار من ناحية أخرى ليس عموم يرفع الشك.
فعجيب من جهة أن قوله صلى الله عليه وآله إذا افترقا وجب البيع بعقد قوله البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا ظاهره وجوب البيع ولزومه من جميع النواحي، ولا وجه لتقييده
بناحية هذا الخيار أي خيار المجلس، وإلا لو فتح هذا الباب لا نسد باب التمسك
بالاطلاقات في جميع الموارد خصوصا بملاحظة قوله صلى الله عليه وآله ولا خيار بعد الرضا
الذي نفى فيه جنس الخيار بلا النافية للجنس، فكيف يمكن أن يقال إن المنفي هو انتفاء
هذا الخيار فقط ولا يدل على انتفاء مطلق الخيار بحصول التفرق.

1. " الكافي " ج 5، ص 170، ح 4 - 6، " التهذيب " ج 7، ص 24، ح 100 و ج 7، ص 20، ح 85، " الاستبصار "
ج 3، ص 72، ح 24، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 345، أبواب الخيار، باب 1، ح 1 - 3، " صحيح البخاري " ج
3، ص 84، " سنن النسائي " ج 7، ص 248، " صحيح مسلم " ج 3، ص 1163، " سنن ابن ماجة " ج 2، ص
736، ح 2182، " سنن الترمذي " ج 3، ص 547، ح 1245.
229

فالحق أن هذا الحديث يدل على اللزوم مطلقا ومن جميع النواحي لا من ناحية
خيار المجلس فقط، فأدلة سائر الخيارات تكون من قبيل المخصصات والمقيدات لهذا
العموم والاطلاق، نعم هذه الرواية أو الحديث لا تدل على اللزوم إلا في البيع وأما في
سائر العقود والمعاملات، فلابد من التماس دليل آخر على اللزوم.
ثم بعد ما عرفت ما ذكرنا تعرف أن مقتضى هذه العمومات والاطلاقات، هو
كون الأصل في أبواب العقود والمعاملات هو اللزوم، ولا يؤثر الفسخ إلا بدليل خاص
لأدلة الخيارات فأصالة اللزوم حيث إنها من باب أصالة الاطلاق أو أصالة العموم
فهي قابلة للتقييد والتخصيص، والمخصصات هي أدلة الخيارات.
ثم إن مفاد الاطلاقات والعمومات المذكورة مختلفة من حيث السعة والضيق
فالعموم الأول أي بناء العقلاء أوسع وأشمل من الجميع، إذ يشمل جميع
العقود والمعاهدات معاوضية كانت أو غير معاوضية، مملكة كانت أو غير مملكة، بل
يشمل الايقاعات أيضا
وأما الثاني أي قوله تعالى أوفوا بالعقود يشمل جميع العقود مطلقا ولا يشمل
الايقاعات، وأما خروج العقود الإذنية عن مفادها فقد قلنا إنها ليس من باب
التخصيص بل يكون خروجها خروجا موضوعيا وبالتخصص، لأنها عقد صورة
وليست في الحقيقة بعقد، وأما العقود العهدية، فيشملها سواء كانت معاوضية ومملكة
أو لم تكون كذلك، حتى يشمل مثل عقد البيعة الشرعية الصحيحة بل المعاهدات التي
تقع بين المسلمين وغيرهم إن كانت جائزة، وكانت على طبق المقررات الشرعية.
وأما الثالث أي قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم (1) فبناء على ما تقدم في وجه دلالته على اللزوم وعدم تأثير
الفسخ يكون مختصا بالعقود المملكة وفي أبواب المعاوضات التي يصير كل واحد من

1. النساء (4): 29.
230

العوضين ملكا لصاحب العوض الآخر، فكون الفسخ مؤثرا وموجبا لحل العقد
ورجوع كل واحد إلى ملك مالكه الأولى بدون رضاية من ملكه بالعقد أو بالمعاطاة
يكون من أكل مال الغير بالباطل.
وأما الرابع أي قوله عليه السلام لا يحل ما امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (1) فمساقه
مساق الآية المتقدمة أي يكون دلالته على اللزوم في خصوص المعاملات المملكة
سواء كانت بالمعاطاة أو بالعقد.
وأما الخامس اي حديث السلطنة فأيضا مثل سابقيه، يدل على لزوم كل معاملة
مملكة سواء كانت بالعقد أو كانت بالمعاطاة.
وأما السادس أي حديث المؤمنون أو المسلمون عند شروطهم (2)، فيدل
على لزوم كل ما يسمى شرطا وقد بينا في وجه اللزوم بعد صدق الشرط قول
أمير المؤمنين عليه السلام من شرط لامرأته شرطا فيلف لها به (3) ومفاد هذه الرواية كما
تقدم وجوب الوفاء بشرطه الذي شرط على نفسه والتزم به، فمفاد هذا الحديث
الشريف الذي رواه الفريقان ومن هذه الجهة ربما يطمئن الانسان بصدوره عنه صلى الله عليه وآله
بل يقطع هو الوقوف والثبوت عند التزاماته مطلقا سواء كانت تلك الالتزامات
بدوية أو كانت في ضمن العقود اللازمة، وقد تقدم أن هذا المعنى مساوق للزوم.
وهذا الدليل يشمل جميع الالتزامات التي التزم بها المؤمن سواء كانت في أبواب
المعاملات والمعاوضات، أو كانت في غيرها، فيمكن أن يقال إن هذا الدليل أشمل من
الأدلة السابقة، إذ له إطلاق من أغلب الجهات.
وأما السابع أي الأخبار الواردة في لزوم البيع بعد الافتراق، فلا شك في أنها

1. تقدم تخريجه في ص 220.
2. تقدم تخريجه في ص 225.
3. " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 467، ح 1872، باب الزيادات وفقه النكاح، ح 80، " وسائل الشيعة " ج 12،
ص 353، أبواب الخيار، باب 6، ح 5.
231

تدل على لزوم خصوص البيع بعد انقضاء المجلس، وحصول التفرق.
ثم إنه لو فرضنا عدم دلالة الأدلة السابقة على لزوم العقود ووصلت النوبة إلى
حكم الشك، فنقول:
لا شك في أنه لو كان للحكم الشرعي أو الموضوع الذي له أثر شرعي حالة
سابقة متيقنة، وشك في بقاء تلك الحالة يستصحب إن كان لبقاء تلك الحالة أثر
شرعي في حال الاستصحاب، فنرى هل هاهنا يمكن استصحاب نفس اللزوم أو ما
يكون لازما أو ملزوما أو ملازما له، فيثبت بها اللزوم، أم لا يمكن شئ من ذلك؟
أقول: أما استصحاب نفس اللزوم وان قلنا بأنه حكم وضعي قابل للجعل
ابتداء بلا توسيط جعل آخر كي يكون منشأ لانتزاعه أو اعتباره فلا مجال له
هاهنا أي في مورد الشك في لزوم معاملة أو عقد ابتداء، لأنه متى كان لازما كي
يستصحب؟
نعم لو كان عقدا ومعاملة لازما ابتداء، وشككنا في طرو الجواز عليها لاحتمال
وجود خيار لم يكون دليل على وجوده ولا على عدمه ووصلت النوبة إلى حكم
الشك فلا مانع من استصحاب نفس اللزوم، والا ففي غير هذه الصورة فاستصحاب
نفس اللزوم لا معنى له.
وأما استصحاب الملكية السابقة على الفسخ الذي ينتج اللزوم، ففيه تفصيل
إجماله أن هذا الاستصحاب المدعى في المقام تارة يدعى انه من قبيل استصحاب
الكلي، وأخرى أنه استصحاب شخص الملكية المنشأة بالعقد أو بالمعاطاة والفعل من
طرف واحد أو الفعل الصادر من الطرفين.
أما الثاني أي استصحاب شخص الملكية ففيه أنه من قبيل استصحاب الفرد
المردد فلا يجري أولا على ما هو التحقيق وسنبين وجهه وثانيا على فرض الجريان
يكون مثبتا، أما عدم جريان الفرد المردد لان شخص هذه الملكية التي وجدت
232

بانشاء المتعاملين المرددة بين أن يكون مستقرة لا تزول بالفسخ وغير الثابتة التي
تزول بالفسخ ليست قابلة للبقاء، لأنه بعد الفسخ إن كانت متزلزلة، غير مستقرة فقد
زالت وانعدمت بالفسخ وإن كانت مستقرة غير متزلزلة، فهي وإن كانت باقية بعد
الفسخ، ولكن ليست فردا مرددا فالفرد المردد بوصف أنه مردد غير قابل للبقاء، فلا
يمكن استصحابه، والفرد المعين وإن كان قابلا للبقاء لكنه ليست معلومة ومتيقنة في
وقت من الأوقات، فما هو متيقن أي الفرد المردد ليس قابلا للبقاء، وما هو قابل
للبقاء أي الفرد المعين لم يكن متيقنا.
فعلى كل واحد من التقديرين يختل أحد أركان الاستصحاب أي إما لا يكون
اليقين السابق، أو لا يكون الشك في البقاء لاحقا.
فاختلال الركن الأول إذا فرضنا المستصحب فردا معينا واختلاف الركن الثاني
أي الشك في البقاء، إذا كان المستصحب فردا مرددا، فاستصحاب الفرد والشخص لا
مجرى له.
وأما الأول أي استصحاب الكلي أي الجامع بين الملك المستقر الثابت وبين
المتزلزل كي يكون من قبيل استصحاب القسم الثاني من أقسام الكلي كاستصحاب
كلي الحدث الجامع بين الحدث الأصغر والأكبر، بأن يقال هذا الجامع وجد بمحض
وجود العقد تام الاجزاء والشرائط أو وجود معاملة المعاطاة مثلا، فإن كان وجوده
في ضمن الملك المتزلزل غير المستقر، انعدم بالفسخ، وإن وجد في ضمن الملك المستقر
فبعد الفسخ لا ينعدم مثل انعدامه في القسم الأول، بل باق، وهذا الترديد في الانعدام
والبقاء يرجع إلى الشك في البقاء فيتم أركان الاستصحاب من اليقين بوجوده
المستصحب سابقا، والشك في بقائه لاحقا.
واعترض على هذا الاستصحاب من وجوه:
منها أن هذا الاستصحاب مثبت من جهة أن بقاء قدر المشترك لا يثبت
233

عنوان اللزوم،
ولكن جواب هذا الاشكال وهو أن المراد والمقصود من النزاع في اللزوم
وعدمه هو أن المعاملة أو العقد ينحل بالرجوع والفسخ أم لا، ويبقى أثره، فاثبات بقاء
الأثر وعدم الانحلال بالرجوع أو الفسخ كاف في اثبات هذا المقصود، ولا نحتاج إلى
اثبات عنوان اللزوم كي يقال بأنه مثبت.
هذا مضافا إلى أنه يمكن أن يقال إن عنوان اللزوم عنوان ومفهوم انتزاعي
ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد بعد فسخ أحدهما بدون رضا الآخر، أو يقال بأنه وإن كان
من الأحكام الشرعية الوضعية ولكنه ينتزع من الأحكام التكليفية كما أنه نسب
ذلك إلى الشيخ الأعظم الأنصاري قده (1) فأيضا ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد الثابت
بالاستصحاب.
ومنها ما اعترض به صاحب الكفاية في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم
الأنصاري (2) بأن هذا الاستصحاب من الشك في المقتضى فمن يقول بعدم جريان في
الشك في المقتضى ليس له أن يستند في اثبات اللزوم بهذا الاستصحاب.
وفيه أن المراد من الشك في المقتضى الذي، لا نقول بجريان الاستصحاب فيه
هو أن يكون الشك في استعداد بقائه في عمود الزمان، بحيث يحتمل تمامية قابلية بقائه
وفناء عمره وارتفاعه من عند نفسه، من دون وجود مزيل ورافع له، وما نحن فيه
ليس هكذا، بل قابل للبقاء ما دام موضوعه موجودا شأن كما هو كل حكم شرعي،
فما لم يأت الفسخ لا يشك في بقائه، وإنما الشك في البقاء يحصل بعد وجود محتمل
الرافعية وقد دافعنا عن أمثال هذه الشبهات تفصيلا في الأصول في بيان معنى الشك
في المقتضى وأن أغلب الشبهات من جهة عدم الوصول إلى معنى الشك في المقتضى.

1. " فرائد الأصول " ج 2، ص 601.
2. " حاشية كتاب المكاسب " ص 13.
234

ومنها معارضته مع الاستصحاب الحاكم عليه، وهو استصحاب بقاء علقة
المالك الأول من جهة الشك في أن المالك الأول بعد وقوع المعاملة التي يشك في لزومها
انقطعت علاقته عن هذا المال بالمرة أو بقيت بحيث يقدر بسبب ذلك المقدار الباقي
من تلك العلاقة على إرجاع ذلك المال إلى نفسه.
وبعبارة أخرى هذه المعاملة التي وقع الشك في لزومها هل صارت سببا لخروج
المال عن يد المالك الأول بحيث صار المالك الأول مثل الأجنبي وصار كأنه لم يكن
مالكا؟ أو بقي له حق الارجاع بتوسط الفسخ؟ فبقاء ذلك المقدار الذي قد يعبر عنه
بملك أن يملك، مشكوك فيستصحب، ولا شك في حكومة هذا الاستصحاب على
استصحاب بقاء ملكية المالك الثاني، لأنه رافع في عالم التشريع لموضوع استصحاب
الأخير، إذ بقاء علاقة المالك الأول وقدرته على إرجاع المال إلى نفسه بالفسخ
موجب للعلم بعدم بقاء ملكية المالك الثاني في عالم التعبد والتشريع، فلا يبقى شك في
البين كي يستصحب.
وفيه أنه لا شك في ارتفاع الإضافة التي كانت بين المالك الأول وهذا المال بنفس
العقد التام الاجزاء والشرائط، وهذا هو معنى انتقال المال بالبيع مثلا من البايع إلى
المشتري بالنسبة إلى المثمن، وبالعكس بالنسبة إلى الثمن، فلا يبقى إضافة بين المال
والمالك الأول، لان الإضافة اعتبارية ولا تنقطع كي يقال قطعة ارتفعت بالبيع وبقى
قطعة منها، فلو كان علاقة وإضافة بين المالك الأول والمال، لابد وأن يكون حادثا
بسبب الفسخ فليس شئ يحتمل بقائه كي يستصحب.
وبعبارة أخرى العقد المشكوك اللزوم ليس أمره أعظم من الموارد المعلوم
جوازها بسبب الخيار، وفي العقد الخياري، يحدث علاقة بسبب الخيار، وإلا فالعلاقة
التي كانت بين الملك والمالك زالت بالمرة بالعقد، والخيار المجعول من قبل المتعاقدين
أو من قبل الله تعالى يوجب حدوث علاقة جديدة بين ذي الخيار والمال الذي انتقل
منه إلى طرفه المسمى بحق الارجاع، أو كونه مالكا لان يملك.
235

وأما بناء على قول من يقول إن ملكية المشتري مثلا للثمن متوقفة على انقضاء
زمن الخيار، وإلا فقبل انقضاء زمن الخيار لا تحصل ملكية بنفس العقد، فلا تحصل
علاقة جديدة بالفسخ، بل الملكية من الأول موجودة لذي الخيار، وعلى هذا أيضا
لا وجه للاستصحاب، لبقاء الملكية قطعا،
ولكن مثل هذا الكلام على تقدير صحته في العقود الخيارية لا يمكن القول به في
مطلق العقود الجائزة، لأنه لو لم تحصل الملكية بنفس العقد، فلا تحصل أصلا، لأنه ليس
هناك خيار كي يقال بحصول الملكية بعد انقضاء زمان الخيار.
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أن علاقة المالك تزول بمحض وجود العقد الناقل
ولا يبقى منها شئ قطعا ويقينا، فليس شئ يشك في بقائه كي يستصحب.
وأما احتمال أن يكون الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام استصحاب
الكلي بان يقال إن الملكية مثل السواد والبياض من الطبائع المقولة بالتشكيك، فلها
مراتب مختلفة بالشدة والضعف، فإذا جاء الفسخ، فمن الممكن أن يذهب ببعض مراتبها
ويبقى البعض الآخر، فإذا شك في بقاء البعض يستصحب بقائه بعد الفسخ، فيبقى بعد
الفسخ على ملك المالك الثاني، وهذا عبارة أخرى عن اللزوم، لأنه بالفسخ لم ترتفع
الملكية بتمامها بل بقي مرتبة منها والمعاملة الجائزة أو العقد الجائز هو أن يرجع المال
بالفسخ إلى صاحبه الأول، ولا يبقى للمالك الثاني شئ منه.
هذا، ولكن فيه أن الأمور الاعتبارية وإن كان من الممكن اعتبارها شديدا أو
ضعيفا كما اعتبر ذلك في النجاسة والحدث، فالحدث الأكبر أشد من الحدث الأصغر
فقد عبر عن الرواية في مقام السؤال عن المرأة الجنب إذا حاضت أنه جاءها ما هو
أعظم، أي الحيض أعظم من الجنابة، أو نجاسة البول أشد من نجاسة الدم مثلا، فلا
ينبغي أن يشك في أن الأمور الاعتبارية أيضا مثل الأمور التكوينية يمكن أن يكون
لبعض أنواعها مراتب مختلفة الشدة والضعف، مقولة بالتشكيك، وذلك باعتبار بعض
236

أفراد نوع من أنواعها أشد من الفرد الآخر فيعتبر في نجس من أنواع النجاسات
نجاسة شديدة وفي نجس آخر منها نجاسة ضعيفة، ففي النجاسة الحاصلة من ملاقاة
جسم للبول يمكن أن يعتبر نجاسة شديدة بحيث إذا غسل مرة تزول مرتبة وتبقى
مرتبة منها، فيحتاج إلى غسله ثانية لزوال المرتبة الباقية.
ولكن الملكية في الاعتبار العرفي ليست هكذا، بل هي أمر بسيط يدور أمرها
بين الوجود والعدم، ولا يمكن في نظر العرف والعقلاء أن تنعدم مرتبة منها وتبقى مرتبة
أخرى، فيدور أمرها بين أن تبقى بتمامها أو تزول بتمامها، فبناء على هذا لا يمكن
استصحاب بقاء مرتبة ضعيفة عن الملكية للمالك الثاني، بعد فسخ المالك الأول، كي
ينتج نتيجة اللزوم.
فقد ظهر مما ذكرنا أن استصحاب الملك الكلي الجامع بين الملكية المستقرة الثابتة
التي لا تزول بالفسخ، وبين الملكية المتزلزلة التي تزول بالفسخ لا مانع منه، ونتيجته
لزوم المعاملة التي شك في لزومها.
وأما الاشكال على هذا الاستصحاب بأن الشك في بقاء الكلي مسبب عن
حدوث الفرد الباقي والأصل عدمه فلا يبقى موضوع لهذا الاستصحاب.
ففيه أولا: أن الشك في البقاء الكلي ليس مسببا عن الشك في حدوث ذلك
المشكوك الحدوث الذي لو كان حادثا لكان الكلي باقيا، أعني الفرد الباقي، بل من
لوازم كون الحادث ذلك الفرد الذي ارتفع يقينا، أو الذي بقي يقينا.
وبعبارة أوضح الشك في بقاء الكلي مسبب عن أن الحادث أي واحد من هذين
الفردين بمفاد كان الناقصة. وليس في البين ما يعين أن الحادث أي واحد من الفردين،
وذلك لأن الشك في بقاء الكلي لا يرتفع إلا بارتفاع منشائه،
وثانيا في حكومة الأصل الجاري في السبب على الأصل المسببي، لابد أن يكون
الترتب والسببية بينهما شرعيا، وتفصيل المسألة في الأصول ذكرنا في كتابنا
237

منتهى الأصول. (1)
وخلاصة الكلام أن العدم النعتي أي عدم كون الحادث الذي وجد هو الفرد
الباقي ليس له حالة سابقة والعدم المعمولي أي عدم حدوث الفرد الباقي مثبت لان
لازمه عقلا هو حدوث الفرد الزائل الذي لازمه القطع بارتفاع الكلي فافهم.
وثالثا أصالة عدم حدوث الفرد الباقي بأصالة عدم حدوث الفرد
الزائل.
نعم أنكر شيخنا الأستاذ قده (2) كون الاستصحاب ها هنا من القسم الثاني من
أقسام الاستصحاب الكلي، لان اختلاف الملك بكونه مستقرا ومتزلزلا ليس لعروض
خصوصيتين على الملك يكون بإحداهما مستقرا وبالأخرى يسمى متزلزلا، بل
الاختلاف يكون بنفس الارتفاع والبقاء، من جهة أن تنوعه بنوعين ليس باختلاف
سبب الملك ولا باختلاف حقيقته وماهيته، من غير جهة أن أحدهما يرتفع بالفسخ
والاخر لا يرتفع.
فإذا كان الامر كذلك وكان تنوعه بنفس اللزوم والجواز، فينتفي أحد ركني
الاستصحاب على أي حال، لان أحد النوعين أي الجائز مقطوع الارتفاع، والاخر
أي اللازم مشكوك الحدوث من أول الأمر.
وبعبارة أخرى بناء على ما ذكر ليس في البين إلا ملكية واحدة مرددة بين أن
الشارع حكم بلزومها أو حكم بجوازها بواسطة اختلاف أسبابها، فمع قطع النظر عن
حكم الشارع باللزوم والجواز لا تعدد ولا تنوع كي يقال بأن الجامع كان متيقن
الوجود فصار مشكوك البقاء، بل ملكية واحدة لم يعلم أن الشارع حكم عليه باللزوم
أو الجواز.

1. " منتهى الأصول " ج 2، ص 540 - 541.
2. " المكاسب والبيع " ج 1، ص 165.
238

فليس الجامع هاهنا من قبيل الكلي الذي له وجود بوجود هذا الفرد وله وجود
آخر بوجود الفرد الآخر كما هو الشأن في الكلي الطبيعي في الموارد الأخر، بل ها هنا
يشبه الفرد الشخصي المردد بين كونه كذا وبين كونه كذا.
فالشك في البقاء فيه يرجع إلى أن هذا الكلي الذي حكم عليه الشارع بالبقاء أو
بالزوال هل هو باق أم لا، ومعلوم أن هذا الكلي الذي إما باق أو زائل على كل واحد
من التقديرين ليس قابلا للابقاء، لأنه على تقدير الزوال ممتنع البقاء، وعلى تقدير
البقاء يكون إبقائه تعبدا من قبيل تحصيل الحاصل بل أسوء منه، لأنه يكون من
تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبد ولا يقاس بالكلي الذي له فردان: باعتبار
إضافة خصوصية إلى الطبيعة يحصل فرد منها وبإضافة خصوصية أخرى بدل الأولى
يحصل فرد آخر، لأنه هناك للطبيعة وجودان وجود منضم إلى هذه الخصوصية
ووجود آخر منضم إلى خصوصية أخرى.
فالشك في أن الخصوصية المنضمة إلى الطبيعة أية واحدة من الخصوصيتين
موجب للشك في بقاء الطبيعة، لان مرجع الشك الأول إنه هل الجامع بين
الوجودين وجد في ضمن وجود الفرد الزائل كي يكون زائلا أو وجد في ضمن
وجود الفرد الباقي كي يكون باقيا، فيكون شكا في بقاء ذلك الجامع الذي نسميه
بالكلي.
وفيما نحن فيه ليس للملكية وجودان أحدهما في ضمن الذي حكم عليه الشارع
بالبقاء، والآخر في ضمن الذي حكم عليه بالزوال، بل وجود واحد إما حكم عليه
بالبقاء أو بالزوال، فالاستصحاب مرجعه إلى أن هذا الوجود الباقي باق أو هذا
الوجود الزائل باق، وكلاهما محالان، كما بينا وجهه، وعبر عن هذا المعنى شيخنا
الأستاذ قد سره (1) بأنه يلزم منه إدخال عقد الجمل في عقد الوضع فافهم فإنه دقيق

1. " المكاسب والبيع " ج 1، ص 174.
239

وبالتأمل حقيق.
وهذا الكلام أي كون الملكية مستقرة أو متزلزلة ليس باعتبار اختلاف في
حقيقة الملك، بل إنما هو باعتبار حكم الشارع في بعض المقامات عليه بالزوال برجوع
المالك وفي بعض المقامات الاخر بعد الزوال بالرجوع، ومنشأ هذا الاختلاف
اختلاف حقيقة السبب المملك لا اختلاف حقيقة الملك.
فجواز الرجوع وعدمه من الأحكام الشرعية للسبب لا من الخصوصيات
المأخوذة في المسبب، وقد أخذه شيخنا الأستاذ قده من الشيخ الأعظم الأنصاري قده
ولكن الشيخ الأعظم (1) علل بهذا صحة جريان الاستصحاب وشيخنا الأستاذ (2) علل
به عدم صحة جريانه، والتوفيق بين الكلامين أن شيخنا الأستاذ أراد به عدم جريان
استصحاب الكلي، والشيخ الأعظم أراد صحة استصحاب الشخصي وأنه ليس من
الكلي ولا من الفرد المردد، وكلا القولين في غاية القوة والمتانة.
أما الأول أي عدم جريان استصحاب الكلي فقد بينا وجهه فلا نعيد،
وأما القول الثاني أي كون هذا الاستصحاب شخصيا وأنه ليس من الفرد المردد، فلا
مانع من جريانه، فلان الملكية الحاصلة من العقد أو من المعاملة الخارجية شخصي
لا تعدد فيها على الفرض، لأن المفروض أن اللزوم أو الجواز من الأحكام الشرعية
للسبب لا من خصوصيات المسبب.
فالمسبب باق على النحو الذي أنشأ ووجد في عالم الاعتبار، أي على تشخصه
وتفرده فبواسطة الشك في أن الشارع حكم باللزوم وعدم الرجوع أو الجواز ورجوع
المال إلى مالكه الأولى يشك في بقائه فيستصحب، لتمامية أركانه من اليقين بوجود
الملكية الشخصية والشك في ارتفاعها بواسطة الشك في حكم الشارع باللزوم

1. " المكاسب " ص 85.
2. " المكاسب والبيع " ج 1، 174.
240

أو الجواز.
نعم يبقى شئ وهو دليل أن الملكية المنشأة واحدة لا تعدد فيه،
أقول بعد أن فرضنا أن الجواز واللزوم ليسا من خصوصيات الملك المسبب بل
من الأحكام الشرعية للسبب المملك، وأيضا بعد أن المفروض أن المنشئ أنشأ
بانشاء واحد ملكية شئ واحد كليا كان ذلك الشئ أو كان جزئيا خارجيا ممتنع
الصدق على كثيرين. فبانشاء واحد على متعلق واحد لا يمكن جعل ملكيتين، بل
لا يمكن ذلك ولو كان بانشاءات متعددة، إذ باعتبارات متعددة لو اعتبر حرية شخص
أو رقيته أو ملكية مال لا يحصل إلا حرية أو رقية أو ملكية واحدة، وذلك من جهة
أن اعتبارها ثانيا بعد حصولها لغو بل محال، لأنه من قبيل تحصيل الحاصل، فإذا باع
المالك ماله مثلا وأنشأ ملكية لزيد مثلا فلا أثر لانشاء ملكية له ثانيا بل لا يمكن.
وخلاصة الكلام أن البايع مثلا أنشأ شخصا من الملكية يكون تشخصها
بتشخص متعلقها وموضوعها فيكون إنشاء طبيعة في عالم الاعتبار كايجادها في عالم
التكوين، وحيث أن متعلق ذلك الأمر الاعتباري شخص واحد، فقهرا يتشخص
بتشخصه كالعرض بموضوعه، وكونها مرددة بين اللزوم والجواز تقدم أنه ليس من
الخصوصيات اللاحقة لها فثبت أن الملكية المنشأة شخص واحد لا تعدد فيه فلا
مانع من استصحاب ذلك الشخص بعد حصول الشك في بقائه من ناحية الشك في
الحكم الشرعي ببقائه أو لزومه.
فخلاصة الكلام في المقام أنه إن قلنا بأن اللزوم والجواز من الخصوصيات
اللاحقة للملكية المنوعة أو المصنفة لها أو لحوقهما لها كل واحد منهما لخصوصية فيها
غير الخصوصية الأخرى فيجري فيها استصحاب الكلي الجامع بينهما كسائر
الاستصحابات التي من القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلي على ما هو
الصحيح من صحة جريانها، وأما إن قلنا بأنهما ليسا من الخصوصيات المنوعة أو
241

المصنفة للملكية بل هما حكمان شرعيان لها باعتبار اختلاف أسبابها، فيجري فيها
الاستصحاب الشخصي كما تقدم.
ثم إنه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري قده (1) أنه لو شك في اللزوم والجواز من
خصوصيات الملك أو حكمان شرعيان يتعلقان بالملك باعتبار اختلاف أسبابه أيضا
يجري الاستصحاب
وما ذكره قده واضح على ما ذكرنا، لأنه بناء على كونهما من خصوصيات الملك
يكون الاستصحاب من القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلي، ويكون من قبيل
الحدث المردد بين الأصغر والأكبر فتوضأ، فإن كان الأصغر ارتفع وإن كان الأكبر
فباق، فيستصحب الجامع بينهما.
وفيما نحن فيه بناء على أن يكونا أي اللزوم والجواز من خصوصيات الملك،
فبعد الفسخ إن كان جائزا فقد ارتفع، وإن كان لازما فالملك باق، فيستصحب الملك
الكلي الجامع بين الخصوصيتين،
وأما بناء على كونهما حكمان شرعيان يردان على الملك باعتبار اختلاف أسبابه،
فيستصحب شخص الملكية المنشأة من جهة الشك في ارتفاعها بعد ثبوتها يقينا، فلا
إشكال على كل واحد من التقديرين في جريان الاستصحاب وتمامية أركانه، غاية الأمر
في أحد الفرضين يكون الاستصحاب كليا، وفي الاخر يكون شخصيا.
ولا يتوهم أنه بناء على ما ذكرنا وتقدم في أول بحث جريان الاستصحاب أن
استصحاب الشخص لا يجري، لان مرجعه إلى استصحاب الفرد المردد، وهو لا يجوز
فقولكم إنه يجري على كلا الفرضين مناقض لما تقدم،
وذلك من جهة أن قولنا بعدم جريان الاستصحاب الشخصي وأنه من
استصحاب الفرد المردد كان مبنيا على أن يكون اللزوم والجواز من الخصوصيات

1. " المكاسب " ص 85.
242

المنوعة للملك أما إذا كانا من الأحكام الشرعية التي جعلهما باعتبار اختلاف
الأسباب كما هو المفروض في محل الكلام، فلا مانع من جريان الاستصحاب
الشخصي، فلا مناقضة بين الكلامين.
خاتمة البحث في هذه القاعدة،
وهو أنه وعدنا في صدر المسألة بيان جريان الاستصحاب في العقود التمليكية
التعليقية وإثبات لزومها به عند الشك، والمراد من العقود التعليقية التملكية هو أن يكون التمليك
معلقا على أمر غير حاصل،
ويظهر مما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري قده عدم جريان استصحاب الملكية في
تلك العقود قبل حصول ذلك الامر المعلق عليه لو شك في لزومها. مثلا لو شك في لزوم
الجعالة قبل حصول ما جعل على تحصيله الجعل، أو شك في لزوم عقد المسابقة قبل
حصول السبق فلا يصح إثبات لزومهما باستصحاب ملكية الجعل في الجعالة أو
السبق في عقد المسابقة، وذلك من جهة عدم حصول ملكية الجعل والسبق كي
يستصحب، والمستصحب قبل وجود المعلق عليه لا وجود له ولا عين ولا أثر له،
فأي شئ يستصحبه، وكيف يستصحب؟
وفيه أن الشارع في هذه العقود التعليقية يمضي ما أنشأه العاقد كما أنه في العقود
التنجيزية أيضا يمضي ما أنشأه العاقد، وليس فرق بين إمضاء الشارع في النوعين
التعليقية والتنجيزية، وإنما الفرق بينهما في المنشأ فان المنشأ في العقود التنجيزية الملكية
المنجزة وفي العقود التعليقية الملكية المعلقة.
فالعاقد في العقود التعليقية مثل الجعالة والسبق والرماية ينشأ ملك الجعل على
تقدير رد الضالة، وملكية السبق في عقد السبق والرماية، على تقدير حصول السبق
وإصابة الرمي، وهذا الانشاء يشبه جعل الشارع الأحكام الكلية على موضوعاتها
243

على نحو القضية الحقيقية، أي على الموضوعات المقدرة وجودها.
فالحكم الكلي المجعول على موضوع سواء كان ذلك الموضوع مقيدا بوصف أو
كان مشروطا بشرط يكون الموضوع ذلك المركب المفروض الوجود، فإذا قال
الشارع يجب الحج على العاقل البالغ المستطيع الحر أو قال بصورة القضية الشرطية
من كان عاقلا بالغا حرا مستطيعا يجب عليه الحج فالموضوع عبارة عن الانسان
الواجد لهذه الصفات، فكلما وجد في الخارج إنسان جامع لهذه الصفات يتحقق
الموضوع ويوجد وينطبق ما هو الموضوع عليه، فان أتى بذلك المركب يكون ممتثلا،
وإن لم يأت يعد عاصيا متمردا، وفي أي وقت رفع الشارع هذا الحكم عن ذلك
الموضوع بدون أي تغيير في جانب الموضوع، من فقد شرط أو جزء أو وجود مانع،
يعد هذا نسخا، فلو شك في بقاء هذا الحكم على هذا الموضوع المفروض الوجود،
بدون أي تغيير، يستصحب بقائه لتمامية أركانه، ويسمى باستصحاب عدم النسخ،
ولا كلام ولا إشكال ولا خلاف في جريانه، والاستصحاب في العقود التعليقية من هذا
القبيل:
ففي قضية فقد صواع الملك في قضية يوسف الصديق مع إخوته، جعل حمل بعير
لمن جاء بصواع الملك، أي الجام الذي يشرب فيه أو منه، ورد هذه الضالة أي جام
الملك، فيشبه هذا الجعل أي جعل ملكية حمل بعير لمن يأتي بصواع الملك جعل حكم
كلي على الموضوع المقدر وجوده.
فها هنا أيضا الموضوع المقدر وجوده كل إنسان جاء بلجام الملك غاية الأمر
هناك أي في القضايا المتكفلة لجعل الأحكام الشرعية الجعل ابتداء من قبل الشارع
وها هنا أي في باب العقود التعليقية الجعل ابتداء من المالك والامضاء من الشارع
فكما أن استصحاب عدم النسخ في الأحكام الكلية لا إشكال فيه، لتمامية أركانه
فكذلك ها هنا استصحاب بقاء الملكية المنشأة من قبل المالك لا إشكال فيه.
244

والعجب من شيخنا الأعظم الأنصاري قده (1) أنه قال بصحة الاستصحاب التعليقي
مع أنه غير صحيح، وأنكر جريان الاستصحاب هاهنا، وقد عرفت أن صحة
الاستصحاب هاهنا وجريانه لا اشكال فيه.
وأما عدم صحة الاستصحاب التعليقي وأنه لا يجري، فبيانه وإيضاحه موقوف
على بيان مقدمة،
وهي أن استصحاب التعليقي عبارة عن أن يكون موضوع الحكم الشرعي مركبا
من جزئين، سواء كان أحد الجزئين قيدا ووصفا للآخر أو كان شرطا له، فالأول
كالعنب المغلي، والثاني كالعنب إذا غلى، فتغير أحد الجزئين قبل وجود الجزء الآخر.
مثلا جف العنب قبل أن يغلي وصار زبيبا فشك في أنه إذا انضم إلى الجزء الآخر
بعد حدوث هذا التغير هل يبقى الحكم السابق أم لا؟ فإذا غلى الزبيب هل يكون
شربه حراما ويكون نجسا كما أنه لو كان يغلي في حال عدم الجفاف والعنبية كان له
هذا الحكم يقينا.
وبعد وجود هذا الشك هل يصح استصحاب الحكم السابق فيقال: إن هذا
الزبيب حين ما كان عنبا كان شربه حراما على تقدير الغليان، والآن بعد ما صار
زبيبا أيضا كذلك أي يكون شربه حراما على تقدير الغليان، وهذا يسمى
بالاستصحاب التعليقي لأنه عبارة عن إبقاء الحكم المعلق لا المنجز،
وفي صحته وجريانه خلاف.
والأصح عندي عدم صحته وذلك من جهة أن العنب لم يكون له حكم كي بعد
جفافه والشك في بقاء ذلك الحكم يستصحب، وذلك من جهة أن العنب كان جزء
الموضوع والجزء الآخر هو الغليان، وقبل وجود الموضوع بتمام أجزائه محال أن يوجد
الحكم، لان وجود الحكم قبل ذلك خلف أي يلزم منه أن يكون ما فرضته موضوعا

1. " فرائد الأصول " ج 2، ص 653.
245

لا يكون موضوعا ويكون من هذه الجهة حال الموضوع المركب حال العلة المركبة،
أي كما لا يمكن وجود المعلول قبل وجود علته بتمام أجزائها كذلك لا يمكن وجود
الحكم قبل وجود الموضوع بتمامه، والبرهان في الموردين هو لزوم الخلف.
فبناء على هذا لم يكن للعنب قبل أن يجف ما لم يغل حكم كي يبقى
بالاستصحاب إلى حال الجفاف،
وأما القول بأن الحرمة والنجاسة الفعلية وإن لم تكونا للعنب قبل الغليان
لعدم تحقق موضوعهما قبل الغليان، ولكن الحرمة النجاسة التقديريتان كانتا له بمعنى أنه
كان يصح أن يقال قبل الغليان: إن العنب يتصف بالحرمة والنجاسة على تقدير
غليانه، وهذا نحو وجود للحكم، ولا بأس بأن نسميه بالحكم التقديري.
وقد اختار هذا القول في الكفاية (1) وأصر في وجود الحكم التقديري قبل وجود
ما علق عليه أي الجزء الآخر، وقال: فان المعلق قبله إنما لا يكون موجودا فعلا، لا
أنه لا يكون موجودا أصلا ولو بنحو التعليق.
ولكن أنت خبير بفساد هذا القول العجيب، إذ لا شك في أن بداهة العقل يحكم
بوجود كل معلول عند وجود علته، فهل يصح عند عدم وجود علة شئ أن يقال
بالوجود التقديري لذلك المعلول في ظرف عدم علته مثلا لا شك في أن غروب
الشمس عله لوجود الليل أفيصح أن يقول في وقت الظهر وارتفاع الشمس إن الليل
موجود بالوجود التقديري؟ نعم الموجود هي الملازمة بين وجود العلة والمعلول،
والحكم والموضوع، والملازمة حكم عقلي لا دخل ولا ربط لها بالأحكام، وقد يتحقق
بين الممتنعين كتعدد الآلهة وفساد السماوات والأرضين ووجود الملازمة بين شيئين لا
يدل على وجود طرفي الملازمة، بل تثبت وتصدق كما ذكرنا بين الممتنعين.

1. " كفاية الأصول " ص 411.
246

وأعجب من هذا ما نسب إلى شيخنا الأعظم الأنصاري (1) قدس الله روحه
من تصحيح الاستصحاب التعليقي بارجاعه إلى استصحاب الملازمة،
ويرد عليه أولا أن الملازمة بين الشيئين حكم عقلي أزلي ليس قابلا للجعل
الشرعي، وهو قده اعترف بذلك وقال بأن الملازمة وكذلك السببية لا يمكن أن يكونا
مجعولين بالجعل الشرعي، فالقول باستصحاب الملازمة مناقض مع ذكره في الأحكام الوضعية
من عدم إمكان جعل الملازمة والسببية.
وذلك من جهة أن المستصحب لابد وأن يكون إما من المجعولات الشرعية
بنفسه أو يكون له أثر مجعول كي يكون قابلا للتعبد ببقائه، والسر في أن الملازمة
ليست قابلة للجعل الشرعي أما في المقام فمن جهة أن فرض عدم الملازمة بين الحكم
وموضوعه يرجع إلى جواز الانفكاك بينهما، وهذا خلف أي يكون خلاف فرض
كونهما موضوعا وحكم وهذا مناقضة ومحال.
فالعقل ينتزع الملازمة من كون الانفكاك بين شيئين محالا، سواء كان بين العلة
والمعلول أو الحكم والموضوع، أو بين معلولي علة واحد المسمى بالمتلازمين، فإذا
كان الامر كذلك فلا يبقى مجال للجعل الشرعي، بل لا يمكن، لان انتزاعه قهري
ويكون من لوازم الذات التي لا يتطرق الجعل إليها مطلقا لا تكوينا ولا تشريعا
كالامكان بالنسبة إلى الممكنات، والشيئية بالنسبة إلى الأشياء.
وثانيا على فرض أن تكون الملازمة من المجعولات الشرعية تكون بين تمام
الموضوع وحكمه فإنهما لا ينفكان وأما جزء الموضوع مع جزئه الاخر مع الحكم
فليسا بمتلازمين، بل لابد من الانفكاك بينهما، وإلا يلزم الخلف أي يلزم ما فرضته
جزء الموضوع أن يكون تمام الموضوع.
ففي المثال المفروض: الملازمة بين العنب المغلي مع الحرمة والنجاسة، وأما العنب

1. " فرائد الأصول " ج 2، 654.
247

مع عدم الغليان فلا ملازمة بينه وبين الحرمة والنجاسة فلا ملازمة كي يستصحب
بقاؤها في ظرف الشك في البقاء بواسطة جفافه وصيرورته زبيبا.
وهاهنا إشكالات وأنظار من القائلين بصحة الاستصحاب التعليقي ولكن نحن
لسنا بصدد تحرير هذه المسألة من جميع النواحي والجهات، وقد حققناها ودفعنا جميع
ما أوردوا عليها في كتابنا منتهى الأصول ومن أراد فليراجع إليها.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
248

50 - قاعدة
حرمة إبطال
الأعمال العبادية
249

قاعدة حرمة ابطال الأعمال العبادية *
ومن القواعد الفقهية المشهورة قاعدة حرمة إبطال الأعمال العبادية إلا ما خرج
بالدليل
فنقول: البحث من جهات.
الجهة الأولى
في بيان مفاد هذه القاعدة، وأنه ما المراد منها.
أقول: المراد منها هو أن العمل العبادي المركب التدريجي الوجود لا يجوز إبطاله
في الأثناء، بمعنى رفع اليد عن إتيانها تماما في الأثناء أو يأتي بشئ لا يصح معه
الاتمام ويخرج عن قابلية التحاق الاجزاء اللاحقة بسابقتها كي يتم العمل ويوجد
صحيحا:
فلو شرع في الصلاة فليس له أن يرفع اليد عنها في الأثناء أو يأتي بأحد قواطع
الصلاة كي تخرج عن قابلية الاتمام ووقوعها صحيحا أو شرع في الاحرام لعمرة
التمتع كي يتمتع بها إلى الحج فرفع اليد عن إتمام العمرة أو الحج أو أتى بمانع لا يقع
معه الحج صحيحا، مثل أن جامع عمدا وإن كان مع زوجته فيفسد حجه، ولا يمكن
أن يتمه صحيحا، فهذا معنى حرمة الابطال المراد من هذه القاعدة.
ثم إنه لا شك في أن الواجبات المضيقة لا يجوز إبطالها قطعا، ولكن ليس لأجل

*. " عوائد الأيام " ص 151، " عناوين الأصول " عنوان الأصول " عنوان 24، " أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة " ص 125.
251

هذه القاعدة، بل لو لم تثبت هذه القاعدة ولم يوجد عليها دليل أيضا لا يجوز قطع تلك
الواجبات لان مرجع قطعها وإبطالها بالمعنى الذي ذكرنا للابطال تفويت تلك
الواجبات وتركها في وقتها، مع أنها مضيقة فهذا شئ معلوم فعمدة الكلام في
الواجبات الموسعة والمستحبات.
وكذلك جواز قطعها لعذر دل الدليل عليه لا ينافي مع هذه القاعدة، وذلك من
جهة أن مفاد هذه القاعدة عدم جواز القطع بعنوانه الأولى فلا ينافي الجواز لطرو
عناوين اخر كطرو ضرر أو حرج وأمثالهما من الحالات الطارئة.
الجهة الثانية
في أنه ما الدليل على هذه القاعدة؟ أي حرمة إبطال الأعمال العبادية
وهو أمور:
الأول الاجماع، وادعاه جمع في خصوص الصلاة وتعبيراتهم وإن كانت مختلفة
ولكن مفاد كلها واحد، وهو الاتفاق وعدم الخلاف في عدم جواز قطع الصلاة اختيارا
ولغير عذر، بل ادعى في شرح المفاتيح أنه من بديهيات الدين.
وفيه أن الاجماع على فرض وجوده لا يثبت كلية هذه القاعة، نعم على تقدير
ثبوته يكون دليلا على تحريم قطع الصلاة فقط.
الثاني قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا
أعمالكم. (1)
والاستدلال بهذه الآية على حرمة رفع اليد عن المركبات العبادية في أثناء
العمل، أو الاتيان بمانع أو قاطع يمنع عن إتمام العمل صحيحا مبنى على أن يكون

1. محمد (47): 33.
252

المراد من الابطال فيها هو المعنى الذي ذكرنا له من ترك العمل ورفع اليد عنه بعد
الشروع فيه وفي أثنائه أو إيجاد مانع أو قاطع في أثنائه كي يسقط عن صلاحية إتمامه
صحيحا.
ولكن ظهور لفظ الابطال وكلمة لا تبطلوا في هذا المعنى لا يخلو عن مناقشة،
إذ من المحتمل القريب أن يكون المراد منه النهي عن إبطال العمل بالرياء أو الشرك أو
العجب أو ارتكاب الكبائر التي أوعد الله عليها النار، لا بمعنى الحبط الذي لا نقول به
نحن الامامية الاثني عشرية وننكره، بل بمعنى أنه لا توجب تلك الأعمال دخول الجنة
بعد ارتكاب الكبائر العظيمة كقتل النفوس المحترمة والزنا بذات البعل وأمثالهما من
الجرائم الكبيرة.
ويؤيد هذا الاحتمال ما رواه الصدوق قده في ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه السلام قال
قال رسول الله صلى الله عليه وآله من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة ومن
قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال لا إله إلا الله غرس
الله له بها شجرة في الجنة، فقال رجل من قريش يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن شجرنا في
الجنة لكثير، قال صلى الله عليه وآله: نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها وذلك أن
الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا
أعمالكم. (1)
فاستشهاد الإمام عليه السلام بهذه الآية على أن الشرك والكفر والمعاصي الكبيرة يذهب
بأثر تلك الكلمات ويحرق الأشجار التي كانت آثار تلك الكلمات، مؤيد بل دليل على
أن المراد من إبطال الأعمال في الآية الشريفة هو ما يوجب ذهاب أثر تلك الأعمال، لا
أن المراد من إبطال الأعمال رفع اليد عنها وتركها في الأثناء، أو إتيان مانع أو قاطع يمنع
عن إتمامها صحيحا.

1. " ثواب الأعمال " ص 32، ح 3.
253

فمع وجود هذا الاحتمال القريب المؤيد بما ذكرنا من الرواية التي رواها في ثواب الأعمال
، كيف يمكن دعوى ظهور هذه الجملة من مفاد هذه القاعدة، فلا أقل من
الاجمال وعدم ظهورها في كل واحد من هذين المعنيين.
هذا مضافا إلى أن حملها على مفاد القاعدة يوجب تخصيص الأكثر المستهجن،
وذلك لان إرادة بعض أفراد العام من العموم الافرادي أو إرادة بعض الأصناف من
العموم الأصنافي مستهجن خلاف دأب أهل المحاورة وديدنهم في محاوراتهم، ودليل
المخصص وظهوره يقدم على دليل العام وظهوره، فيما إذا لا يبلغ إلى حد الاستهجان.
وفيما نحن فيه لا ريب أن أعمالكم جمع مضاف وهو من صيغ العموم فيشمل
جميع الأعمال المركبة التي ي يمكن رفع اليد عنها في الأثناء على تقدير كون الابطال بهذا
المعنى الذي يدعيه المستدل بهذه الآية على هذه القاعدة، سواء كانت تلك الأعمال
تعبديا أو كانت توصليا، مع أن أغلب الأعمال يجوز إبطالها في الأثناء برفع اليد عنها
أو باتيان ما يوجب بطلانها، وعدم إمكان إتمامها صحيحا.
بل الذي قالوا بعدم جواز قطعه في الأثناء هو فريضة الصلاة والحج مطلقا
واجبا كان أو مندوبا، مع كلام فيهما أيضا، فكيف يجوز التعبير عن هذين العملين بهذا
العموم الواسع، وهل هذا إلا حصر المراد من العموم فيما هو مستهجن جدا لا يليق
مثل هذا بكلام السوقة فضلا عن كلام الله تعالى شأنه.
وأما ما يقال من أن لفظة الأعمال وإن كانت بحسب ظاهر الكلام تشمل جميع
الأعمال عبادية كانت أو غير عبادية، لكن سوق الآية في مقام بيان الأعمال العبادية،
فبقرينة السياق ينقلب الظهور ويكون ظاهرا في خصوص العبادات.
ففيه أن سياق الآية أن أوامرها إرشادية وأن النهي إرشاد إلى أن إبطال العمل
وعدم إتيانه على الوجه الذي امر به ليست بإطاعة، فكما أن الامر المتعلق بإطاعة الله
وإطاعة الرسول ارشادي، ولا يمكن أن يكون مولويا لما تقرر في محله، فكذلك النهي
254

المتعلق بالابطال لوحدة السياق.
وحاصله أن مفاد الآية صدرا وذيلا هو أن وظيفة العبد هي الإطاعة وعدم
التمرد بترك الأعمال الواجبة أو إبطال أثرها بالعجب والكبر وارتكاب الكبائر أو
إبطال نفسه بالريا، وهذا أجنبي عن عدم جواز رفع اليد عن الواجب الموسع ثم
الاتيان بفرد آخر منه أو القول بأن سياق الآية يدل على أن المراد بأعمالكم فيها هو
خصوص الأعمال العبادية لا عموم الأعمال.
فالانصاف أن القول بظهور أعمالكم في الآية في خصوص العبادات لا دليل
عليه مضافا إلى أن اختصاصها بالعبادات وظهورها فيها لا يرتفع به تخصيص الأكثر
المستهجن وذلك لكثرة المستحبات العبادية التي لا إشكال في جواز قطعها إلا في
الحج المندوب.
هذا مضافا إلى أن كثيرا من الواجبات التعبدية يجوز قطعها إذا كانت موسعة
مثل الطهارات الثلاث فيجوز رفع اليد عنها في الأثناء والآتيان بفرد آخر حتى أنه
في الصلاة حكى قول بجواز قطعها اختيارا وإن كان خلاف المختار، لما ذكرنا من ادعاء
الاجماع من صاحب المدارك (1) وكشف اللثام (2) وغيرهما، بل قال في شرح المفاتيح أنه
من بديهيات الدين.
نعم قلنا إن الواجبات المضيقة لا يجوز قطعها لأجل أن قطعها وإبطالها بهذا
المعنى يوجب تفويتها وعصيانها بالمرة، فلا ربط لها بهذه القاعدة، وأما الواجبات
الموسعة كالنذر الموسع مثلا وكالطهارات الثلاث كما ذكرنا يجوز قطعها ورفع اليد عن
الفرد الذي اشتغل بها والآتيان بفرد آخر.
وأما الاستدلال بوجوب الاتمام بقوله تعالى أوفوا بعهدي أوف بعهدكم (3) بأن

1. " مدارك الأحكام " ج 3، ص 477.
2. " كشف اللثام " ج 1، ص 241.
3. البقرة (2)، 40.
255

يقال: نية العبادة عهد مع الله تعالى بأن يأتي بها تماما، والامر في أوفوا بعهدي
ظاهر في الوجوب، فيكون المعنى بناء على هذا أنه يجب عليكم الوفاء بالعهد الذي
عاهدتم معي باتيان العبادة المنوية تماما فيكون قطعه حراما لأنه ترك الواجب.
ففيه أنه بالخطابة أشبه من البرهان، وخلاصة الكلام أنه ليس دليل على
اثبات هذه القاعدة على نحو الكلية، بحيث إذا شككنا في جواز قطع عمل من الأعمال
نرجع إليها ونحكم بعدم جواز قطعه، لأجل هذه الكلية، إلى أن يأتي دليل على الجواز
وتخصص هذه القاعدة.
نعم في خصوص الصلاة الواجبة تمسكوا بأدلة على عدم جواز قطعها:
منها هذه الآية وقد عرفت الحال فيها.
ومنها الاجماع ولا بأس به.
ومنه قوله عليه السلام تحريمها التكبير تحليلها التسليم (1) وتقريب دلالته على حرمة
قطع الصلاة أن ظاهره حرمة إيجاد المنافيات من الموانع والقواطع بوقوع التكبير أي
بمحض الشروع في الصلاة لان المصلي بالتكبير يشرع فيها، ولا شك في أن إيجاد
الموانع والقواطع ملزوم قطع الصلاة، بل في نظر العرف هو عين قطعها، فيكون مفاد
الرواية عرفا هو حرمة قطع الصلاة، ولا يجوز إيجادها إلا بالتسليم، لأنه مخرج فإذا
خرج بالتسليم يحلل به كل ما كان حراما عليه، لأنه خرج عن الصلاة.
واستشكلوا على هذا الدليل بأن التحريم في المقام ظاهر في الحرمة الشرطية من
قبيل تعلق النهي ببعض الموانع، كقوله عليه السلام لا تصل فيما لا يؤكل لحمه (2) فيكون مثل
هذا النهي منشأ اعتبار مانعية وجود النهي أو شرطية وجوده أو كليهما على اختلاف

1. " الكافي " ج 3، ص 69، باب النوادر، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 4، ص 1003، أبواب التسليم، باب 1، ح 1.
2. " الكافي " ج 3، ص 397، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه...، ح 1، " تهذيب الأحكام " ج 2، ص 209،
ح 818، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس...، ح 26، " وسائل الشيعة " ج 3، ص أبواب لباس المصلي
، باب 2، ح 1، مع تفاوت في النص.
256

المباني في المقام، ولا أقل من الاجمال، فلا يصح استظهار الحرمة التكليفية التي هي
المدعاة في المقام.
وقال بعض الأعاظم قده في مقام الرد على هذا الاشكال: إنه لو كان المراد من
التحريم الحرمة الشرطية لا التكليفية، فكان هناك مركبات اخر شرعية من العبادات
كالوضوء والغسل ونحوهما مما لها منافيات، فكان يقتضي ذكر هذه العبارة واطلاقها
عليها مع أنه لم يعهد في لسان الشرع هذا الاطلاق، إلا في باب الصلاة والاحرام،
وهذا يدل على تمحض النظر فيه إلى حيث الحرمة التكليفية، سواء اجتمعت مع
الوضعية كما في قواطع الصلاة، أم لا كما في بعض المحرمات حال الاحرام.
وفيه أولا أن عدم إطلاق مثل هذه الجملة في غير الصلاة والاحرام لا يوجب
ارتفاع ظهورها في الحرمة الشرطية أو إجماله واحتمالها لكلا الامرين،
وثانيا ذكرها في الصلاة وبل في الاحرام لأهميتها وكثرة المنافيات من الموانع
والقواطع فيهما فالانصاف أن إثبات حرمة القطع بمثل هذه الجملة التي من المحتمل
القريب أن يكون المراد منها أنه بعد أن شرع في الصلاة وكبر بتكبيرة الاحرام يحرم
عليه إيجاد المنافيات حرمة شرطية أي صحتها موقوفة على عدم إيجاد تلك
المنافيات بعيد عن الصواب.
ومنها النواهي المتعلقة بايجاد المنافيات من الموانع والقواطع كقوله عليه السلام
استقبل القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك (1) كقوله عليه السلام
الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلم (2) وغيرهما.

1. " الكافي " ج 3، ص 300، باب الخشوع في الصلاة وكراهية العبث، ح 6، " الفقيه " ج 1، ص 278، باب
القبلة، ح 856، " تهذيب الأحكام " ج 2، 199، ح 782، باب أحكام السهو في الصلاة، ح 83، " وسائل
الشيعة " ج 3، ص 227، أبواب القبلة، باب 9، ح 3.
2. " الكافي " ج 3، ص 305، باب بدء الأذان والإقامة وفضلهما وثوابهما، ح 20، " تهذيب الأحكام " ج 2،
ص 54، ح 185، باب الأذان والإقامة، ح 25، " وسائل الشيعة " ج 4، ص 630، أبواب الأذان والإقامة،
باب 10، ح 12.
257

وفيه أن ظاهر هذه النواهي أنها لبيان شرطية ما تعلق النهي بعدمه كقوله عليه السلام
فلا تقلب وجهك عن القبلة فهذا النهي مفاده شرطية الاستقبال بتمام البدن حتى
الوجه، ولبيان مانعية ما تعلق النهي بوجوده كقوله عليه السلام في خبر أبي هارون فإذا
أقمت فلا تتكلم وسياقها سياق قوله عليه السلام في موثقة أبي بكير لا تصل الا فيما لا يؤكل
لحمه فان الصلاة في صوف وشعره ووبره وبوله وروثه وكل شئ منه فاسدة لا يقبل
الله تلك الصلاة (1) وظهور هذا النهي في الحرمة الوضعية مما لا ينكر.
ومنها تعليق جواز القطع وجوبا أو إباحة على الخوف من ضياع مال كشرود
دابته أو إباق عبده، أو الخوف على تلف نفسه من جهة مثلا وأمثال ذلك كفرار
غريم لك عليه مال كما في صحيحة حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا
كنت في صلاة الفريضة فرأيت غلامك قد أتى أو غريما لك عليه مال أو حية
تتخوفها على نفسك فاقطع الصلاة وابتغ غلامك أو غريمك واقتل الحية (2) فلو كان
قطع الصلاة جائزا ابتداء وبمحض الميل والاشتهاء، فلا يبقى وجه لهذا التعليق.
لا يقال إن الامر بالقطع ظاهر في وجوبه، فما هو المعلق هو وجوب القطع ولا
ينافي ذلك جوازه بمعنى الإباحة مطلقا وبدون تعليق،
لأنه لا يمكن أن يكون الامر بالقطع هاهنا لخصوص الوجوب، إذ لا يجب عليه
طلب الغريم أو عبده الآبق ويجوز له أن يصرف النظر عن ماله فلا معنى لوجوب
القطع إلا أن يكون صرف تعبد وأن يكون مقدمة لطلب غريمه أو عبده، وهو مما
لا يمكن الالتزام به.
فقد ظهر أنه لا دليل على حرمة قطع الصلاة إلا الاجماع المدعى في المقام ومفهوم
الرواية الأخيرة ولكن في وجود المفهوم لها تأمل،

1. تقدم تخريجه في ص 256، رقم (2).
2. " الفقيه " ج 1، ص 369، باب المصلي تعرض له السباع والهوام فيقتلها، ح 1073، " وسائل الشيعة " ج 4،
ص 1271، أبواب قواطع الصلاة، باب 21، ح 1.
258

وعلى كل حال يجوز قطعها لأمور:
منها إذا توقف حفظ نفس محترمة على القطع، فيجب لوجوب ذي المقدمة.
ومنها جواز قطعها لحفظ مال محترم وقد يجب إذا كان حفظ ذلك المال عن
التلف واجبا كما إذا كان أمانة مالكية أو شرعية عنده، وصور وجوب حفظ المال
كثيرة وملاك وجوب القطع في جميع موارد وجوب حفظ المال واحد وهو كونه
مقدمة لواجب فتطويل الكلام في هذا المقام لا أثر له.
ومنها إذا تزاحم الصلاة مع واجب أهم ولو كان أهميته من جهة كونه مضيقا
وكون الصلاة موسعا، كما هو كذلك في المثل المعروف أي وجوب إزالة النجاسة عن
المسجد مع الصلاة في الوقت الموسع فحيث إن أحد المرجحات الخمسة المعروفة في
باب التزاحم هو ضيق أحد الواجبين المتزاحمين بالنسبة إلى الآخر، فيجوز قطع
الصلاة إذا كان وقتها موسعا بالنسبة إلى الإزالة.
هذا فيما إذا علم بالنجاسة ووجوب إزالتها قبل الصلاة فعصى ودخل في الصلاة
فحيث إن الامر بالشئ لا يقتضي النهي عن ضده الخاص، وحررنا المسألة في كتابنا
منتهى الأصول (1)، فالصلاة صحيحة إما بالامر الترتبي وإما بالملاك والتفصيل في
محله.
ولكن الامر بالصلاة كما أنه حدوثا كان طوليا بالنسبة إلى الامر بالإزالة، فكذلك
يكون بقاء، لأنه ما لم يحصل العصيان ولم يسقط الامر بالإزالة لا يكون الامر بالصلاة
في عرض الامر بالإزالة ومطلقا، بل يكون مشروطا بعصيان الإزالة وعليه بنينا
صحة الترتب، وإلا يكون من المحالات الواضحة البينة.
ومثل هذا المر الطولي المشروط بعدم الاشتغال بالإزالة في المفروض لا
يمكن أن يكون مانعا عن قطعها والاشتغال بالإزالة، فلا يمكن أن يكون قطع الصلاة في

1. " منتهى الأصول " ج 1، ص 303.
259

هذا الفرض والتقدير حراما إلا أن يأتي دليل خاص على أن قطع الصلاة حتى في
فرض وجود المزاحم الأهم والالتفات إليه قبل الصلاة حرام، ولكن مرجع هذا يكون
إلى سقوط أمر الأهم، وهو خلاف الفرض.
وأما إذا لم يعلم بالنجاسة إلا بعد الدخول في الصلاة، فلا يجوز له قطع الصلاة
وذلك لان ما يمنع عن التكليف بالمهم مطلقا ومن غير الاشتراط بعصيان الأهم هو
فعلية الأهم وتنجزه، وإلا لو لم يكن منجزا فصرف وجود التكليف واقعا لا يؤثر في
سقوط أمر المهم مطلقا، بناء على عدم إمكان الترتب أو إطلاقه بناء على إمكانه
ووقوعه.
وذلك لان الملاك في كلا المتزاحمين موجود، وسقوط أصل خطاب المهم أو
إطلاقه لأجل عدم القدرة على الجمع، وإلا كان يجب أن يأتي بهما جميعا، والذي
يسلب القدرة شرعا عن المهم هو تنجز الأهم، وإلا فصرف وجوده وفعليته من دون
تنجزه لا يكون موجبا لسلب القدرة عن المهم، لان سلب القدرة عن المهم يكون
بصرف القدرة في الأهم فإذا لم يكن منجزا فلا يحكم العقل بصرف القدرة في الأهم
فتبقى قدرته للمهم بدون مزاحم، فيكون وجوبه مطلقا غير مشروط بترك الأهم وعصيانه، فيكون حرمة قطعه إن
كان المهم هي الصلاة أيضا مطلقا فيقع التزاحم بين حرمة القطع الذي حرمته مطلق
وبين وجوب الإزالة الذي هو مطلق أيضا بعد الالتفات إلى نجاسة المسجد ووجوب
إزالتها عنه.
فشاغلية وجوب الإزالة في هذا الظرف عن الامر بالمهم متوقف على تنجزه
وتنجيزه متوقف على ارتفاع النهي عن الابطال، وارتفاعه متوقف على شاغلية
وجوب الإزالة أي الامر بالأهم عن الامر بالمهم، وهذا دور واضح.
هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قده (1) وفيه تأمل واضح، لان تنجزه ليس متوقفا على

1. " فوائد الأصول " ج 2، ص 378.
260

ارتفاع النهي، بل تنجزه موقوف على العلم به والالتفات إليه، وبعد العلم به والالتفات
إليه تطير حرمة الابطال في ظرف الاشتغال بالإزالة كما كان في الأول، لأنه لا فرق من
هذه الجهة بين الحدوث والبقاء، فبقاء الامر بالمهم أيضا مشروط بترك الأهم
وعصيانه.
والحمد لله أولا وآخرا.
261

51 - قاعدة
بطلان كل عقد بتعذر
الوفاء بمضمونه
263

قاعدة بطلان كل عقد بتعذر الوفاء بمضمونه *
ومن جملة القواعد الفقهية بطلان كل عقد بتعذر الوفاء بمضمونه
والبحث فيها من جهات.
الأولى
في بيان المراد منها وما هو مفادها
فنقول: المراد منها أن المتعاقدين والمتعاملين إذا تعاقدا وتعاهدا والتزما مثلا في
باب البيع بأن تكون هذه العين التي لأحدهما ملكا للآخر بعوض ثمن المسمى من
الاخر لصاحب تلك العين ومالكه، فالوفاء بهذه المعاهدة عبارة عن أن صاحب العين
يسلم تلك العين إلى مالك الثمن، وكذلك الامر من طرف مالك الثمن.
فوفاؤه بهذه المعاملة معناه تسليم الثمن إلى مالك تلك العين، وتسلم العين منه فإذا
تعذر الوفاء بالمعنى المذكور تعذرا دائميا، يكون مثل هذه المعاهدة لغوا باطلا عند
العقلاء، ولا فرق بين أن يكون تعذر الوفاء من طرف واحد أو من طرفين، وفي كلتا
الصورتين تكون المعاملة باطلة لان المعاهدة من الطرفين والعقد قائم بكلا
المتعاقدين فعجز أحدهما في بطلان تلك المعاملة مثل عجز الطرفين.
وهذا الامر يجري في جميع العقود والمعاملات، ففي باب الإجارة مثلا لو آجر
دارا أو دكانا أو خانا أو دابة أو سيارة أو طيارة أو غير ذلك مما يصح تمليك منفعته

*. " قواعد الأحكام " ج 2، ص 112.
265

بعوض معلوم، والتزم كل واحد من المؤجر والمستأجر، وتعاقدا وتعاهدا على ذلك،
فلو تعذر وفاء كليهما أو أحدهما بهذه المعاوضة، يكون مثل هذا الإجارة فاسدة
وباطلة سواء كان تعذر الوفاء بالتزامه لأجل تلف أحد العوضين، أو كليهما، أو كان
لجهة أخرى.
وكذلك الحال في سائر العقود والمعاملات حتى في مثل الوكالة التي هي من
العقود الإذنية لو تلف المال الذي وكله في بيعه أو شرائه أو في سائر التصرفات فيه،
تبطل الوكالة وكذلك في العارية والصلح والهبة والرهن وغيرها من المعاوضات،
وكذلك في الوديعة لو عجز الودعي عن حفظ ما أودع عنده، يبطل عقد الوديعة،
ويجب عليه رده إلى صاحبه، والضابط الكلي في هذا المقام هو ما ذكرنا في عنوان
القاعدة، وهو تعذر الوفاء بمضمون المعاملة تعذرا دائميا من المتعاقدين أو من
أحدهما.
الجهة الثانية
في بيان مدرك هذه القاعدة
وهو أمور:
الأول الاجماع وقد عرفت مرارا أن دعوى الاجماع في أمثال هذه المسائل التي
لها مدرك أو مدارك اخر لا تفيد شيئا يركن إليه.
الثاني وهو الدليل الذي يمكن أن يعتمد عليه هو أن صحة العقد وفساده أمران
متقابلان، فإن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة كما هو الصحيح لان المراد
بالصحة والفساد التمامية وعدم تمامية المعاملة من حيث الاجزاء والشرائط وعدم
الموانع وتعريفهما بما يترتب الأثر المقصود من ذلك العقد، وعدم ترتبه تعريف باللازم
والمتقابلان بالعدم والملكة في الموضوع القابل في حكم النقيضين، لا يمكن ارتفاعهما
266

فإذا ارتفع أحدهما لابد وأن يكون الاخر موجودا.
وفيما نحن فيه بعد ما كان التعذر من أحدهما أو كليهما دائميا، فالوفاء بهذه المعاملة
لا يمكن فلا يشملها أوفوا بالعقود، لأنه تكليف بالمحال وقبيح، فترتفع الصحة، لان
الأثر الظاهر للصحة هو وجوب الوفاء بالعقد، وترتيب آثار الصحة، فعدم إمكانه
دليل على عدم الصحة فإذا لم يكن صحيحا لابد وأن يكون فاسدا وباطلا وإلا يلزم
ارتفاع النقيضين.
إن قلت يمكن القول بالصحة ويكون أثرها ضمان التالف ثمنا كان أو مثمنا أو
أي متعلق في أي عقد من هذه العقود المتداولة بين العقلاء، وليس بقاء نفس العوضين
أو أحدهما من أركان المعاملة بل يمكن الالتزام ببقاء اللزوم وأخذ المثل أو القيمة من
صاحب المال التالف
قلنا أولا إن بعض العقود ليس المتعذر مما يدخل فيه الضمان، مثلا لو تعاقدا على
المسابقة على فرس خاص فمات الفرس قبل الشروع في المسابقة، أو تعاقدا على
المرامات بقوس خاص فانكسر قبل الشروع في المرامات، فلا وجه للضمان في مثل
هذه الموارد، بل تبقى المسابقة في الفرض الأول والمراماة في الفرض الثاني بلا
موضوع لان موضوع المسابقة في المثال الأول كان هو السبق مع الفرس المخصوص،
وموضوع المراماة في المثل الثاني هو الرمي بقوس خاص وانكسر، فيبقى المرامات بلا
موضوع ويكون حال تلف القوس حال شلل أحد المتراميين وحال تلف الفرس
حال شلل أحد المتسابقين.
وحاصل الكلام أن إمكان القول بضمان المثل في المثلي والقيمة في القيمي، فيما إذا
كان التالف مالا منتقلا إلى أحد المتعاقدين، فوقع عليه التلف قبل قبض من انتقل إليه،
فيمكن أن يقال بضمان من وقع في يده التلف، مع أنهم لم يقولوا بذلك، بل قالوا بأن
تلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري من مال البايع بانفساخ العقد آنا ما قبل التلف، وقد
267

شرحنا هذه القاعدة أي قاعدة كل مبيع تلف قبضه فهو من مال بائعه في
الجزء الثاني من هذا الكتاب (1) مفصلا، وإن شئت فراجع.
وثانيا إن الضمان إما عقدي وهو أن يضمن ما في ذمة شخص فينتقل ما في ذمة
المضمون عنه إلى ذمة الضامن، ويسمى بالضمان العقدي، لأنه عقد يحتاج إلى ايجاب
وقبول، فالايجاب من الضامن والقبول من المضمون له، فالضامن يقول مثلا أنا
ضامن لما في ذمة زيد لك أو يقول أتعهد بما في ذمة زيد لك، والمخاطب المضمون له،
فيقول المضمون له: قبلت أو ما يفيد الرضا بذلك وأما المضمون عنه فأجنبي عن
هذه المعاملة حتى أن رضاه بهذه المعاملة ليس بشرط.
وإما يكون من قبيل ضمان المعاوضي في باب المعاوضات والمعاملات، وهو المسمى بضمان
المسمى وهو الذي يسميه المتعاقدان ويجعلونه عوضا لما ينتقل إليه من
طرفه، فكل واحد من العوضين في باب المعاوضات يسمى بضمان المسمى، فالمبيع
ضمان المسمى للثمن كما أن الثمن أيضا ضمان المسمى للمبيع وقد عبر عليه السلام في رواية
عقبة بن خالد عن المسمى بالضمان حيث قال عليه السلام فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع
ضامن لحقه. (2)
وإما يكون ضمانا واقعيا والمراد به المثل في المثلي والقيمة في القيمي، والضمان
الواقعي عبارة عن كون الشئ بوجوده الاعتباري في ذمة الشخص، وإن شئت قلت
عبارة عن اعتبار وجود الشئ في ذمة الشخص، وذلك لان الأمر الاعتباري لا
وجود له في الخارج، وإلا لكان داخلا تحت إحدى المقولات العشر، والخارج ليس
وعاء لوجوده، بل وعاء لاعتباره، ولا يخرج عن عهدة هذا الأمر الاعتباري ولا
تفرغ ذمته إلا بأدائه إلى من هوله، وأدائه بعد انعدام نفسه في الخارج في الدرجة

1. راجع " القواعد الفقهية " ج 2، ص 77.
2. " الكافي " ج 5، ص 171، باب ا لشرط والخيار في البيع، ح 12، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 358، أبواب
الخيار، باب 10، ح 1.
268

الأولى بالمثل فان تعذر أو تعسر فبالقيمة، وقد شرحنا هذه المسألة في قاعدة وعلى
اليد ما اخذت حتى تؤديه. (1)
وسبب هذا الضمان قد يكون العقد كما في عقد الدين، فان حقيقة الدين هو تمليك
شئ بضمانه الواقعي، وقد يكون اليد غير المأذونة وقد يكون الاتلاف، وشرحنا كل
واحدة من القاعدتين، وإن شئت فراجع.
إذا عرفت ذلك فنقول: إذا تعذر الوفاء بمضمون العقد من باب تلف أحد
العوضين الشخصيين أو لجهة أخرى، فليس هناك ما يوجب الضمان الا اليد غير
المأذونة، ولا الاتلاف، ولا عقد كان مفاده الضمان، كل ذلك لم يكن.
وإن قلت إن المسمى استقر في ذمته، فإذا تعذر يجب عليه تفريغ ذمته باعطاء
مثله أو قيمته.
قلنا اما في المعاملات الواقعة على اشخاص الأموال الخارجية لا يشتغل ذمته
بشئ، وإنما المالك لتلك العين يخرجها عن ملكه ويدخلها في ملكه طرفه، فلم يستقر
في ذمته شئ، وإنما يجب عليه أداؤه إلى صاحبه الجديد تكليفا، فإذا تعذر يسقط هذا
التكليف، وليس شئ في البين يوجب الضمان،
واما المعاملات الواقعة على الكليات فليس التعذر فيها بمعنى تلف العين، لأن العين
لم تكن موردا للمعاملة قط، بل المراد التعذر من جهات أخر.
مثلا لو باع كمية من الحنطة فتعذر عليه الأداء لأنه صار معدما فقيرا لا يقدر
حتى على أداء قيمته، فمثل هذه المعاملة تنحل قهرا لما ذكرنا من تقابل العدم والملكة
بين الصحة والفساد وهما في الموضوع القابل بحكم النقيضين لا يمكن ارتفاعهما، ولا
يمكن أن تكون صحيحة لعدم إمكان الوفاء بها، فقهرا تكون باطلة.
الثالث بناء العقلاء فإنهم يرون مثل هذا العقد الذي يتعذر الوفاء به من

1. راجع " القواعد الفقهية " ج 4، ص 53.
269

الطرفين، أو من طرف واحد لغوا وباطلا.
وذلك لما بينا وشرحنا في قاعدة كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه (1)
من أن العقلاء في باب العقود المعاوضية وإن كانوا ينشأون المبادلة بين المالين
والعوضين في عالم الاعتبار التشريعي، وهذا المعنى يقع في عالم التشريع إذا كان العقد
الواقع جامعا لشرائط العقد والمتعاقدين والعوضين، وليس متوقفا على النقل
والانتقال الخارجي، ولكنهم يرون هذه المبادلة مقدمة لوصول كل واحد من العوضين
إلى الآخر بدل العوض الذي يعطيه للآخر، بحيث لو لم يتحقق النقل والانتقال
الخارجي تكون تلك المبادلة لغوا، وتكون المعاملة كالمعاملات السفهية باطلة عندهم.
فكما أنه لو علموا من أول الأمر بعدم قدرة كلا المتعاقدين أو أحدهما على
الوفاء بهذا العقد، يكون ذلك العقد لغوا عندهم ولا يرتبون أثر الصحة عليه، فكذلك
لو طرء العجز وتعذر الوفاء به بعد الوقوع قبل القبض والاقباض، يكون بقاء العقد
والمعاهدة لغوا لما قلنا إن هذه المعاقدة والمعاهدة تكون مقدمة للاخذ والاعطاء، إذ
الذي يدور عليه نظام معاش العباد وبه قوام معيشتهم، هو التبادل والاخذ والاعطاء
خارجا، وتكون المعاملات والمبادلات الاعتبارية لأجل تلك الانتقالات الخارجية،
والا فنفس تملك الناس في عالم الاعتبار التشريعي المآكل والمشارب والملابس
والمساكن والمراكب من دون حصول وجوداتها الخارجية لهم، لا أثر له، فان الناس
يحتاجون إلى هذه الأشياء خارجا وقوله عليه السلام في مقام بيان حجية بعض الامارات
وإلا لما قام للمسلمين سوق (2) المراد من السوق هو السوق الخارجي لا المبادلات
الاعتبارية من دون أخذ وعطاء في البين.

1. راجع " قواعد الأحكام " ج 2، ص 77.
2. " الكافي " ج 7، ص 387، باب بدون العنوان، (من كتاب الشهادات) ح 1، " الفقيه " ج 3، ص 51، باب من
يجب رد شهادته ومن يجب قبول شهادته، ح 3281، " تهذيب الأحكام " ج 6، ص 261، ح 695، باب
البينات، ح 100، " وسائل الشيعة " ج 18، ص 215، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 5 ح 2. و
نصه: " لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ".
270

وأيضا من الواضح المعلوم أن ما هو موجب لاختلال النظام هو عدم المبادلات
الخارجية لا الاعتبارية، وكذلك ترى أن الأسواق دائرة بنفس المبادلات الخارجية
والاخذ والاعطاء معاطاة من دون عقد في البين،
ولا يأتي هاهنا الاشكال الذي أشكلنا في مسألة تلف المبيع قبل قبض المشتري،
وهو الانفساخ قبل التلف آنا ما.
وذلك من جهة أن الالتزام بالانفساخ قبل التلف آنا ما كان من جهة الرواية التي
كان مفادها أن تلف المبيع قبل قبض المشتري يكون من مال البايع، أي التلف وقع
على مال البايع، مع أنه بنفس العقد صار مالا للمشتري، فكون التلف في مال البايع لا
يعقل إلا بالانفساخ آنا ما قبل التلف، ولا حاجة إلى هذا التقدير فيما نحن فيه، لعدم
كونه من موارد تلك الرواية دائما، لان تعذر الوفاء ليس منشأه دائما تلف المبيع قبل أن
يقبض بل له أنحاء
الجهة الثالثة
في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة
فنقول:
منها لو استأجر مرضعة لارضاع ولده فمات الولد أو المرضعة أو كلاهما قبل
أن ترضعه أو يبس لبنها، فتبطل الإجازة لتعذر الوفاء بذلك العقد من طرف واحد،
وقد يكون التعذر من الطرفين كما إذا استأجر الحمال لحمل متاع معين، فتلف المتاع
وعجز الحمال عن الحمل لمرض أو جهة أخرى، كل ذلك قبل الشروع في العمل أو
استأجر الصائغ لصنع ذهب خاص مثلا آلة من أدوات الزينة، فعجز الصائغ عن
العمل وتلف الذهب قبل أن يشتغل بالصنع.
وأمثلة هذا الفرع كثيرة في باب الاجراء، سواء كان التعذر من طرف واحد أو
271

من الطرفين.
ومن هذا القبيل عجز النائب الأجير عن أداء ما استؤجر عليه من العبادات
كالحج والصلاة والصوم، وزيارات المعصومين أو قراءة القرآن وأمثال ذلك، إذا
اشترط المستأجر على الأجير مباشرة نفسه، كل ذلك لأجل تعذر الوفاء من طرف
الأجير هذا في باب استيجار الاجراء.
وكذلك الامر في إجارة الأعيان كما إذا آجر دار أو خانا أو دكانا فانهدمت
ووقعت في الجادة العمومية بحيث لا يمكن بنائها عادة أو في مدة الإجارة، أو صارت
غير قابلة للانتفاع بها أصلا ولو قليلا، كما إذا استأجر دابة لركوبه في سفر أو لحمل
متاع عليها فتلف قبل الركوب أو قبل الحمل عليها فيكون ذلك العقد باطلا.
والضابط الكلي في باب إجارة الأعيان هو تلف العين المستأجرة أو سقوطها
عن الانتفاع بالمرة، ففي مثل ذلك تبطل الإجارة، لان عقد الإجارة مفاده تمليك منفعة
العين بذلك العوض المعلوم، فالوفاء بهذا العقد بالنسبة إلى المؤجر أن يسلم إلى
المستأجر عينا ذات منفعة معلومة فإذا تلفت تلك العين التي وقعت عليها الإجارة أو
سقطت عن تلك المنفعة المعلومة، فلا يقدر أن يسلم إلى المستأجر مثل تلك العين التي
آجرها والضابط في التعذر في باب استيجار الاجراء هو عدم الأجير عن الاتيان بما
آجر نفسه له.
هذا في عقد الإجارة.
وكذلك الامر في سائر العقود المعاوضية ففي البيع إن باع عينا شخصيا فوقع
عليها التلف، أو كانت حيوانا غير أهلي فشرد بحيث لا يمكن أخذه وإرجاعه عادة،
سواء كان من الطيور أو من غيرها كالغزال وغيره، فالبايع لا يقدر على الوفاء بهذا
العقد فيبطل.
وكذلك الامر بالنسبة إلى المشتري والثمن الشخصي، فإذا تعذر له الوفاء بهذا
272

العقد فيبطل العقد ولا يبطل بموت أحد المتبايعين لقيام الوارث لكل واحد منهما مقام
مورثه،
وكذلك الامر في العارية فهو مثل الإجارة. والفرق بينهما أن تمليك المنفعة في
الإجارة يكون بعوض، وفي العارية تمليك المنفعة أو الانتفاع يكون مجانا بلا عوض،
فهما كالبيع وهبة الأعيان غير المعوضة 232 حيث أن البيع تمليك عين متمولة بعوض
مالي، وهبة الأعيان أيضا تمليك عين لكن مجانا، وبدون عوض، إذا كانت الهبة غير
معوضة.
وكذلك الامر في الصلح فإذا لم يقدر المصالح على أداء مال المصالحة وتعذر
الوفاء بالعقد، يكون الصلح باطلا، وكذلك الامر في الرهن، فلو لم يقدر الراهن على
تسليم العين المرهونة إلى المرتهن أو إلى من رضيا بأن تكون عنده فيكون عقد
الرهن باطلا، وكذلك لو تلفت العين المرهونة قبل أن يقبضها المرتهن يبطل الرهن.
فلو رهن نخيلا فيبست أو دارا أو دكانا أو خانا فانهدمت يبطل عقد الرهن أو
ثويا فأحرقت أو متاعا ففسدت بحيث لا يشتريه أحد ولا يبذل بإزائه المال.
وكذلك الحال في عقد الكفالة، فلو تعذر للكفيل الوفاء بذلك العقد كما لو مات
المكفول، يبطل عقد الكفالة ويبرء الكفيل عند المشهور.
وكذلك الامر في عقد المضاربة فلو عجز العامل عن العمل لمرض أو لجهة
أخرى ولم يقدر على الوفاء بعقدها، فيبطل عقد المضاربة.
وكذلك الامر لو مات العامل وكذلك الامر في المقارض بكسر الراء أي رب
والمال فإذا لم يقدر على إعطاء المال والوفاء بعقد المضاربة يكون العقد باطلا.
وكذلك الامر في العارية هي عبارة عن تمليك المنفعة أو تمليك الانتفاع فلو
عقدا على كون شئ له منفعة عارية عند المستعير، بأن يقول المعير أعرتك إياه
وصدر القبول من المستعير، فقبل أن يعطي للمستعير تلف ذلك الشئ أو سقط عن
273

الانتفاع أو مات المعير أو جن، فيبطل عقد العارية، وذلك لتعذر الوفاء بذلك العقد في
جميع الموارد المذكورة وكذلك لو باعه أو وهبه يبطل العقد، لان ذلك الشئ بعد بيعه
أو هبته لشخص آخر يخرج أمره من يد المعير، ويصير ملكا لغيره فلا يبقى موضوعا
لإعارة المعير، وليس لتمليك المنفعة أو الانتفاع أو لاذنه في التصرف فيه أثر بقاء أي
بعد خروجه من يده، بل يكون الأثر لتمليك المالك الثاني أو إذنه.
وكذلك الامر في المزارعة والمساقات فإذا وقع عقد المزارعة والمساقات، فيجب
الوفاء على كلا الطرفين، فلو عجز عن العمل ولم يقدر على الوفاء بالعقد أو مات
فيما إذا اشترط المالك عليه المباشرة بنفسه، يبطل العقد،
وكذلك الامر في الوديعة فلو عجز عن الحفظ ولم يقدر على الوفاء بالعقد يبطل
عقد الوديعة، ويجب عليه رده كما أنه يبطل بموت الودعي.
وخلاصة الكلام أن هذه القاعدة تجري في جميع العقود المعاوضية فلا نطول
الكلام.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
274

52 - قاعدة
كل ما يصلح إعارته
يصح إجارته
276

قاعدة كل ما يصح اعارته يصح اجارته *
ومن القواعد الفقهية المشهورة هي قاعدة كل ما صح إعارته صح إجارته
والبحث فيها من جهات:
الأولى
في بيان المراد منها
فنقول إن مفاد هذه القاعدة ان كل شئ يصح اعارته من جهة أنه عين يصح
الانتفاع بها مع بقاء نفسها، يصح إجارته، فمثل الأطعمة والأشربة مما ينتفع بها، ولكن
الانتفاع بها باتلافها وإعدامها لا مع بقاء عينها، لا يصح إعارتها، وذلك لان حقيقة
العارية عبارة عن تمليك منفعة شئ أو الانتفاع به مع بقاء ذلك الشئ في ملك المعير.
وقد يقال بأنها عبارة عن تسليط المستعير على الانتفاع به مع بقاء العين في
ملكه
وهذا أحسن وأجود من التعريف الأول، أما كونه أجود من تمليك المنفعة، فلانه
ليس له أن ينقلها إلى شخص آخر، وأيضا لا ترثها الورثة، ولو كانت العارية تمليك
المنفعة لجاز النقل إلى غيره، وكانت ترثها الورثة، وأما كونها تمليك الانتفاع ففرع
قابلية الانتفاع لكونه ملكا.
وهذا مشكل، لان الملكية اعتبار عقلائي أمضاها الشارع في موارد وأسقطها في

*. " الحق المبين " ص 72.
278

موارد أخر، وموضوع هذا الاعتبار عند العقلاء إما الأعيان التي تحتاج إليها الناس
للأغراض التي عندهم، أو منافع تلك الأعيان، وأما الانتفاع بتلك المنافع فجوازه
وعدم جوازه من آثار ملكيتها وعدم ملكيتها، وإلا فنفس الانتفاع ليس قابلا لاعتبار
الملكية فيه، فلا يصح أن يقال بأنها تمليك الانتفاع بالشئ الذي يعطيه.
اللهم الا أن يراد بالتمليك التسليط، لا ذلك الامر الاعتيادي المذكور، فيكون
المراد به هو التعريف الثاني أي التسليط على الانتفاع.
وقد ورد التمليك بهذا المعنى في الكتاب العزيز في قوله تعالى لا أملك إلا نفسي
وأخي (1) وعلى كل حال تعريفها بأنه عقد ثمرته التبرع بالمنفعة كما عن المحقق في
الشرائع (2) وغيره في غيره لا يخلو من تأمل، لأنه أولا المتعارف والمتداول بين الناس
في باب العارية هو إعطاء شئ يصح الانتفاع به لغيره أن ينتفع به، من دون عقد
وتعهد بينهما، فليس عقد في البين وأما إعطائه بعد العقد بايجاب من قبل المعير وقبول
من طرف المستعير يكاد أن لا يوجد، لان المتعارف بين العقلاء غير هذا المعنى.
فهو التسليط مجانا وبلا عوض على العين التي لها منفعة لكي ينتفع بها مع بقاء
نفسها فلا يصدق العارية على المأكولات والمشروبات التي يكون الانتفاع بها
باتلافها أي أكلها وشربها.
نعم لو كانت لها منفعة غير الأكل والشرب كما قد يتفق بل المتعارف في بعض
البلاد يزينون مجالسهم التي تنعقد لأجل عقد القران بين الزوجين بأنواع الفواكه
والحلويات والشرابت من دون أكلها وشربها فلا بأس حينئذ باعارتها كما أنه لا
بأس بإجارتها كذلك.
ثم إنه لابد وأن يكون الانتفاع بمنافع العين المعارة محللة فإن كان كل منافعه

1. المائدة (5): 25.
2. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 135.
279

محرمة فلا يجوز لا اعارته ولا اجارته كأدوات اللهو والأغاني وأواني الذهب والفضة
بناء على عموم حرمة الانتفاع بها لا خصوص الأكل والشرب.
وأما إن كان بعض منافعه محللة وبعضها محرمة كأواني الذهب والفضة، بناء على
عدم عموم حرمة الانتفاع بها واستعمالها، بل يكون الحرام خصوص الأكل والشرب
فيها وكالجارية التي يحرم بعض المنافع منها كوطيها، لأنه لا يحل الا بالتزويج أو
الملك أو التحليل، ويحل بعض منافعها الاخر كاستخدامها في البيت، فلا يجوز إعارته
إلا باعتبار منافعه المحللة.
فمفاد القاعدة هو أن كل عين يصح اعارتها باعتبار ان لها منفعة محللة يمكن
الانتفاع بها مع بقاء نفسها، تصح اجارتها. واما ما ليس لها منفعة محللة فليس لنفس
المالك ان ينتفع بها باعتبار منافعها المحرمة فكيف له أن يسلط غيره عليه باعتبار تلك
المنافع أو يملكها لغيره أو يملك انتفاع الغير بها.
فيجوز إعارة كل ماله منفعة محللة باعتبار تلك المنافع المحللة مع بقاء عينه
كالأراضي والبساتين والدواب والثياب والمساكن والدكاكين وأنواع الفرش والألبسة
والأمتعة وأثاث البيت والكتب التي لا يوجب الاضلال وأدوات الطبخ وأقسام
الحلى وكلب الصيد المحلل وحراسة الدار والمراكب والسيارات والطيارات وأدوات
الزراعة والفلاحة والمكائن بجميع أقسامها وأنواعها وغيرها مما لم نذكرها، وكان
مصداقا لعنوان ماله منفعة محللة ويمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، فهذه الأمور جميعا
كما يجوز إعارتها كذلك يجوز اجارتها وهذا هو مفاد هذه القاعدة.
نعم ربما يستشكل على هذه الكلية بان إعارة الشاة المنحة يجوز للانتفاع بلبنها
ولا يجوز اجارتها لذلك وكذلك يجوز إعارة جاريته المرضعة للانتفاع بلبنها بان
يشرب الطفل من ذلك اللبن أو للانتفاع بارضاعها للطفل، وكذلك يجوز إعارة البئر
للاستقاء منها ولا يجوز اجارتها لذلك، وكذلك يجوز إعارة البستان للانتفاع بأثمار
أشجارها ولا يجوز اجارته لذلك وفي بعض هذه المذكورات قيل بالعكس.
280

ويظهر من كلام صاحب الجواهر (1) أن إجارة المرضعة للرضاع جائزة ولا يجوز
اعارتها لذلك وهذه عين عبارته ولا يقدح في هذا الضابط جواز عارية المنحة
للحلب دون الإجارة له عكس المرأة للرضاع بعد إن كان ذلك بالدليل
وعلى كل حال هذه النقوض غير واردة على هذه الكلية اما جواز عارية الشاة
المنحة فأولا يمكن ان يقال بأنه ليس من باب العارية بل يكون إباحة للبنها من
طرف المالك لمن يعطيها بيده.
وثانيا يمكن أن يكون هذا الدليل خاص ورد في المقام فيكون مخصصا لهذه
القاعدة وهو الاجماع كما حكاه في الجواهر (2) عن بعض متأخري المتأخرين أو ما
رواه الحلبي عن الصادق عليه السلام في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا
معلوما أو دراهم من كل شاة كذا وكذا، قال عليه السلام لا بأس بالدراهم ولست
أحب بالسمن. (3)
أو صحيح ابن سنان سأله أيضا عن رجل دفع إلى رجل غنمه بسمن ودراهم
معلومة لكل شاة كذا وكذا في كل شهر، قال لا بأس بالدراهم واما السمن فلا
أحب ذلك إلا أن تكون حوالب. (4)
وقرب في الجواهر (5) الاستدلال بهاتين الروايتين على جواز عارية الشاة المنحة (6)

1. " جواهر الكلام " ج 27، ص 173.
2. " جواهر الكلام " ج 27، ص 172.
3. " الكافي " ج 5، ص 223، باب الغنم تعطى بالضريبة، ح 1، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 127، ح 554، باب
الغرر والمجازفة وشراء السرقة، ح 25، " الاستبصار " ج 3، ص 103، ح 359، باب إعطاء الغنم بالضريبة،
ح 1، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 260، أبواب عقد البيع وشروطه، باب 9، ح 1.
4. " الكافي " ج 5، ص 224، باب الغنم تعطى بالضريبة، ح 4، " تهذيب الأحكام " ج 7، ص 127، ح 556، باب
الغرر والمجازفة وشراء السرقة، ح 27، " الاستبصار " ج 3، ص 103، ح 362، باب إعطاء الغنم بالضريبة،
ح 4، " وسائل الشيعة " ج 12، ص 260، أبواب عقد البيع وشروطه، باب 9، ح 4.
5. " جواهر الكلام " ج 27، ص 173.
6. المنحة - بالكسر - في الأصل الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها ثم يردها إذا انقطع اللبن.
281

للانتفاع بلبنها بان مفاد هاتين الروايتين جواز اعطاء الشاة بعوض وبضريبة للانتفاع
بلبنها فتدلان على جواز الاعطاء مجانا بطريق أولى أي بالفحوى، وإعطاء الشاة
بضريبة لابد وأن يكون للانتفاع بلبنها أو بصوفها أو بكليهما فإذا دلتا بالفحوى على
جواز الاعطاء للانتفاع بهاتين المنفعتين مجانا فيكون هذا عن العارية.
وفيه على فرض تسليم أن الرواية تدل على جواز إعطاء الشاة المنحة مجانا
لهاتين المنفعتين لا تدل على أن جواز الاعطاء من باب العارية بل من الممكن أن
يكون من باب الإباحة أو الصلح المجاني.
واستدل في التذكرة على جواز عارية الشاة المنحة بما عن النبي صلى الله عليه وآله العارية
مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم والغريم غارم (1)
ولكن الانصاف ان هذا الحديث الشريف على فرض تسليم صدوره عنه صلى الله عليه وآله
على خلاف المطلوب وأن المنحة ليست بعارية أدل، لما جعله صلى الله عليه وآله مقابلا وعدلا
للعارية.
نعم يدل على أن رد المنحة واجب، كما أن تأدية العارية وقضاء الدين لازم
والغريم غارم أي المديون يجب عليه أن يؤدي دينه.
هذا بناء على نقل التذكرة وأما بناء على ما في سنن أبي داود وصحيح الترمذي
الزعيم غارم (2)، فمعناه ان الكفيل يجب عليه أداء الغرامة إذ الزعيم بمعنى الكفيل كما
في قوله تعالى: ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم. (3)

" المصباح المنير " ص 580.
1. " تذكرة الفقهاء " ج 2، ص 206. وانظر: " عوالي اللئالي " ج 3، ص 252، ح 8.
2. " سنن أبي داود " ج 3، ص 295، كتاب البيوع، ح 3565، " سنن الترمذي " ج 3، ص 565، كتاب البيوع،
باب 39، ح 1265، " عوالي اللئالي " ج 2، ص 257، ح 3، " مستدرك الوسائل " ج 13، ص 435 أبواب كتاب
الضمان، باب 1، ح 2.
3. يوسف (12): 72.
282

فالمستفاد من الحديث الشريف أن الشاة المنحة التي أعطاها المالك لشخص
وأباح له لبنها يجب على ذلك الشخص رده، وهذا لا ربط له بالعارية هذا مع أن
التحقيق انه كما يجوز إعارة الشاة المنحة اجماعا يجوز اجارتها أيضا.
وأما الاشكال عليه بان الإجارة تمليك المنفعة مع بقاء العين واما تمليك الأعيان
فليس بإجارة بل اما بيع إذا كان بعوض مالي أو هبة إن كان مجانا وبلا عوض أو
صلح إذا وقع التسالم عليه أو غير ذلك.
فجوابه ان متعلق الإجارة في المفروض هي الشاه باعتبار تمليك منافعها غاية الأمر
ان المنفعة قد تكون من الاعراض القائمة بعين في الخارج كسكنى الدار وركوب
الدابة والتفرج في بستان وقد تكون من الأمور الاعتبارية كما أنهم يستأجرون
الحلويات الكثيرة وكذا الفواكه لأجل مجلس عقد القران بين الزوجين لا لاكلها بل
لاظهار الجلالة والعظمة وأمثلة هذا القسم كثيرة.
وقد تكون من الأعيان الخارجية ومن الجواهر التي ي لها وجود تبعي قبل
الانفصال عن متبوه ووجود استقلالي بعد الانفصال كاللبن بالنسبة إلى الشاة المنحلة
والمرأة المرضعة وكالأثمار بالنسبة إلى الأشجار وكالمياه بالنسبة إلى الآبار وفي هذا
القسم إذا ورد التمليك على هذه الأشياء باعتبار وجودها الاستقلالي أو كان بعد
انفصالها عن متبوعها فلا شبهة في أن مثل هذا التمليك لا يمكن أن يكون إجارة لان
حقيقة الإجارة تمليك المنفعة وهذه تمليك عين لا تمليك منفعة وهذا واضح جدا.
وأما إذا ورد التمليك عليها باعتبار وجودها قبل الانفصال اي باعتبار كونها من
توابع متبوعاتها وصفات موضوعاتها ولذلك يقولون شاة منحة وامرأة مرضعة
وشجرة مثمرة إلى غير ذلك من الأمثلة، فهذا يعد من تمليك المنافع بهذا الاعتبار عند
العرف.
فإذا قال آجرتك هذه الشاة بكذا لا يفهم منه العرف الا تمليك منافع هذه الشاة
283

التي هي بنظرهم عبارة عن صوفه ولبنه ولم يقم دليل عقلي ولا نقلي على أن منفعة عين لا
يمكن أن تكون عين أخرى فهل يشك أحد في أن منفعة شجر الكرم هو العنب أو في أن
منفعة النخيل هي التمور.
فإذا كان المتفاهم العرفي في باب العارية والإجارة هو إعطاء العين الخارجية
وإن شئت قلت هو تسليط على العين باعتبار كون منافعها ملكا له مدة معلومة، فإن كان
هذا التسليط والتمليك مجانا وبلا عوض يسمى عارية، وإن كان بعوض يسمى
إجارة.
فبناء على هذا التسليط على الشاة المنحة مع تمليك أصوافها وألبانها وسائر
منافعها المتصلة بها لا بعد انفصالها عنها يكون إجارة حسب المتفاهم العرفي من هذا
اللفظ الذي هو معنى ظهور اللفظ في معنى إن كان بعوض وإن لم يكن بعوض يكون
عارية.
ولا فرق في المتفاهم العرفي بين أن تكون تلك المنافع من الاعراض الخارجية أو
كانت من الاعتبارات أو تكون من الأعيان الخارجية بشرط عدم انفصال هذا
الأخير عن موصوفه ومتبوعه.
ولا فرق فيما ذكرنا بين الشاة المنحة والمرأة المرضعة والشجرة المثمرة والبئر التي
لها ماء بالنسبة إلى الاستقاء منها ففي جميع ذلك تصح اجارتها وأيضا اعارتها الا أن
يأتي دليل خاص من إجماع أو رواية معتبرة على عدم صحة كليهما أو أحدهما فلا
يرد نقض على هذه القاعدة بهذه الأمور.
وأما ما يقال أو يتوهم بأنهم متفقون على أن الإجارة تمليك منافع العين التي
يوجرها المؤجر ويذكرون ان المنفعة مقابل العين ونقل الأعيان مقابل نقل المنفعة فلا
يجتمعان.
فقد عرفت ما فيه، وأن هذه الأعيان ما دامت متصلة بالعين المتعلقة للإجارة
284

تعد منفعة ومفهوم المنفعة لابد وان يؤخذ من العرف كسائر المفاهيم فإذا كانت هذه
المنافع المذكورة التي من الأعيان الخارجية منفعة للعين ما دامت متصلة بها فتشمل
الاطلاقات أدلة الإجارة والعارية أيضا مثل هذه الموارد أي التسليط على الشاة
المنحة والجارية المرضعة والشجرة المثمرة، والبئر التي لها ماء وغير هذه الأمور مما
يشبهها مع انشاء تمليك المنافع المذكورة لهذه الأمور.
ولا يخفى أنه ليس مرادنا من انشاء تمليك هذه الأمور أن يكون بانشاء
مستقل والا يخرج عن كونه إجارة بل مرادنا من تمليك منافع هذه الأمور هو انشاء
تمليكها بلفظ الإجارة المتعلقة بنفس هذه الأمور باعتبار تلك المنافع.
واما الاشكال والنقض على ما ذكرنا بأنه لا يجوز إجارة الشاة بلحاظ سخلها
ولا الجارية بلحاظ ولدها ولا البذر بلحاظ الزرع فغير تام وذلك لان السخل
والولد موجودان منفصلان عن الشاة والجارية ورحم الشاة والجارية وعاء نمائهما
وتربيتهما.
مع أن هذه المفاهيم تختلف بنظر العرف فلو قال آجرتك هذه الشاه مثلا
يفهم العرف من هذه العبارة تمليك صوفها ولبنها ولا يفهم منها تمليك سخلها التي في
بطنها وقلنا إن المدار في تشخيص المفاهيم وتعيين مداليل الألفاظ والجمل هو الفهم
العرفي.
مضافا إلى أن السخل والولد إن كانا من منافع الشاة والجارية في المتفاهم العرفي
نقول بصحة إجارتها وإعارتها، إلا أن يأتي دليل من اجماع أو رواية على عدم صحتها
أو عدم صحة أحدهما وأما البذر والزرع والبيض والدجاج والنواة والنخلة وأمثالها
فالزرع والدجاج والنخلة هي عن البذر والبيض والنواة لا أنها من منافعها.
وأما ما افاده سيدنا الأستاذ قده في حاشية العروة بقوله: نعم ربما يشكل في إجارة
الأشجار للثمار بان الانتفاع الحاصل فيها يعد في العرف انتفاعا بالثمر لا بالشجر.
285

فكلام عجيب لأنه بعد قبوله المبني الذي ذكرنا وانه من الممكن أن تكون منفعة
الشئ من الأعيان الخارجية، فأي فرق بين الشاة المنحة والانتفاع بلبنها وبين النخلة
مثلا والانتفاع بثمرها، بل كون ثمار الأشجار منفعة لها أبين من كون الماء الموجود في
البئر منفعة لها وأيضا أبين من كون اللبن من منافع الشاة أو المرضعة.
وشيخنا الأستاذ قده حيث إنه لم يختر هذا المبنى ذهب إلى عدم صحة إجارة هذه
الأمور وقال في إجارة الشجر لا ثماره في مقام انكار صحة إجارة هذه الأمور في
حاشيته على العروة: خصوصا في إجارة الأشجار للانتفاع بأثمارها فكأنه قده يرى
القول بإجارة الأشجار بلحاظ الانتفاع بأثمارها أبعد عن الصحة من إجارة الشاة
المنحة بلحاظ لبنها والمرأة المرضعة بلحاظ ارضاعها أو لبنها، والبئر بلحاظ الانتفاع
بمائها، ونحن لم نفهم فيها خصوصية أوجب من ذلك.
الجهة الثانية
في بيان الدليل على هذه القاعدة
وهو أمران:
الأول الاجماع فهذا صاحب الجواهر قده يقول في مقام شرح هذه العبارة
التي في الشرايع وهي: كلما صح إعارته صح اجارته (1): بلا خلاف أجده نقلا
وتحصيلا، بل إجماعا كذلك، (2)
ومثل هذه العبارة من هذا الفقيه المحقق المتتبع لها قيمتها وإن كان قد تقدم منا
مرارا الاشكال على أمثال هذه الاجماعات التي من المحتمل القريب أن يكون اتفاقهم
مستندا إلى مدرك يعتمدون عليه من دون أن يكون سبب اتفاقهم تلقيهم عن

1. " شرائع الاسلام " ج 2، ص 140.
2. " جواهر الكلام " ج 27، ص 213.
286

الإمام عليه السلام فلابد من الرجوع إلى نفس المدرك المحتمل إن كان معلوما وأنه هل يصح
الاعتماد عليه أم لا كما أنه في المقام من المحتمل القريب أن يكون مدركهم هذا الأمر الثاني
الذي نبينه إنشاء الله تعالى.
الأمر الثاني هو ان الإعارة والإجارة لا تختلفان في الحقيقة وكلاهما عبارتان
عن تسليط المالك المستعير والمستأجر على عين ماله لتمليك منفعته إياهما، ولا فرق
بينهما إلا بأن تمليك المنفعة أو الانتفاع بتلك العين في العارية مجاني وبلا عوض وفي
الإجارة يكون بعوض وليس مجانا.
فمورد الإجارة والإعارة واحد وهو العين التي لها منفعة محللة يمكن الانتفاع بها
فيسلط الطرف عليه ويملكه منفعتها أو الانتفاع بها فينتفع بها واما كون الانتفاع بها
بلا عوض أو مع العوض لا يغير المورد فالمورد في كليهما واحد إلا أن يأتي دليل
خاص من اجماع أو رواية معتبرة على صحة احديها دون الأخرى، والا فمقتضى
الأصل الأولى هو أنه لو صح أحدهما صح الاخر.
ومقتضى هذا الدليل ان الكلية من الطرفين أي كما أن كلما صح اعارته صح
اجارته كذلك وكلما صح اجارته صح اعارته وهو كذلك الا أنهم ذكروا الكلية الأولى
دون الثانية ولعله لان الإجارة عقد لازم لا يمكن حله الا بأحد موجبات الفسخ
بخلاف العارية فان العارية قابلة للاسترداد والرد في أي وقت أراد كل واحد من
الطرفين.
فالإجارة تحتاج إلى دليل الاثبات وصحة عقده كي يحكم عليها باللزوم وأما
العارية في الحقيقة هو إذن في التصرفات ولا اثر لكونها صحيحة أو فاسدة، لان
فاسدها أيضا لا ضمان فيها لقاعدة كلما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده فلا أثر
مهم لمعرفة أنها صحيحة أو فاسدة، ولذلك أهملوا ذكر الكلية الثانية.
أو لان السيرة العملية بالنسبة إلى موارد العارية أوسع فان الناس يستعيرون
287

أغلب الأشياء لقضاء حوائجهم من الظروف والفرش وأدوات الطبخ من القدور
والمكائن التي يطبخون عليها والبسط والابر وأدوات شرب الشاي من السماور
والكتلى والغوري والاستكان والمواعين على أنواعها وأقسامها، والكتب العلمية في
مختلف العلوم وكتب الأدعية والزيارة وغير ذلك مما يطول إحصائها.
وخلاصة الكلام: ما من شئ له منفعة ويقضى الحاجة في مدة قليلة الا وقد يقع
موردا للاستعارة بخلاف الإجارة، فان السيرة العلمية لم تنعقد إلا في المهمات من
الحوائج وفيما لم يكن الاحتياج إليها في المدة القليلة بل يكون الاحتياج إليها في مدة
معتدة بها فيمكن أن تكون في بعض الموارد صحة الإجارة مشكوكة لعدم قيام سيرة
عملية عليها، ولكن صحة العارية تكون معلومة لقيام السيرة عليه، فيستدل بها على
صحة الإجارة لأجل هذه القاعدة.
ولكن ليس هناك مورد تكون صحة الإجارة معلومة وصحة العارية مشكوكة
في ذلك المورد كي يستدل بالكلية الأخرى على صحة تلك العارية، فلذلك ذكروا
الكلية الأولى وأهملوا ذكر الثانية.
الجهة الثالثة
في موارد تطبيق هذه القاعدة
فنقول أولا: إن هذه القاعدة تجري في إجارة الأعيان بلحاظ منافعها واما في
باب الاجراء الأحرار فلا تجري الكلية الثانية لأنه يجوز استيجارهم ولا يجوز
اعارتهم لأنهم وان كانوا أعيانا ولهم منافع محللة، ولكن لا يدخلون تحت يد أحد ولا
يملكهم أحد وهم وان كانوا يملكون أعمالهم ولكن لا ينطبق على أعمالهم عنوان
العارية لان العارية كما قلنا عبارة عن تسليط الغير على عين من أعيان ما يملكه
لأجل أن ينتفع بها وفي الاجراء الأحرار لا يمكن ذلك لا من قبل أنفسهم ولا من
288

قبل غيرهم.
نعم لو كان الأجير من العبيد فكما تصح اجارته كذلك تصح إعارته
وثانيا إن مورد تطبيق هذه القاعدة جميع الموارد التي قامت السيرة على صحة
اعارتها فمفاد هذه القاعدة صحة إجارتها.
فما ذكرنا من الموارد الكثيرة التي بناء العقلاء على صحة إعارتها وقامت السيرة
على ذلك حتى المحقرات كما إذا استعار إبرة لخياطة خرق في ثوبه مثلا فاجارته
لذلك أيضا صحيحة اللهم الا أن يكون منفعته قليلة بحد أن العقلاء لا يبذلون بإزائه
المال، فيمكن أن يقال حينئذ بالتفكيك بينهما بأن إعارته في ذلك المورد جائزة، إذ لا
مانع من اعطاء ذلك الشئ بيد الطرف للانتفاع بتلك المنفعة القليلة مجانا وبلا عوض
ولكن لا يجوز إجارته لان الإجارة لا يمكن بدون العوض، والمفروض أن العقلا
لا يبذلون بإزاء تلك المنفعة القليلة مالا، فيمكن أن يكون هذا نقضا على هذه الكلية
لجواز الإعارة دون الإجارة فتدبر.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
289

53 - حرمة إهانة
المحترمات في الدين
291

قاعدة حرمة إهانة المحترمات في الدين
ومن جملة القواعد الفقهية حرمة إهانة حرمات الله والاستخفاف بها،
وفيها جهات من البحث:
الأولى
في بيان المراد من هذه القاعدة
فنقول: أما الحرمة فمعلومة عند كل أحد وأنها أحد الأحكام الخمسة
التكليفية وهو طلب ترك الشئ وعدم رضاه بفعله، بحيث يلزم عليه الترك ولو فعل
كان عاصيا يستحق العقاب عليه،
وأما الإهانة فهي مصدر باب الافعال، والفعل أهان يهين، والمراد به
الاستخفاف والاستحقار فأهانه أي استخف به وحقره وعده ذليلا.
وأما الحرمات فقال في القاموس إن الحرمة بضمتين وكهمزة ما لا يحل
انتهاكه (1) وذكر الزمخشري أيضا كذلك في الكشاف (2) في قوله تعالى حرمات الله. (3)
والمراد ها هنا في هذه القاعدة مطلق ما هو محترم في الدين، وله شأن عند الله على
اختلاف مراتبها كالكعبة المعظمة ومسجد الحرام وسائر المساجد والقرآن

1. " القاموس المحيط " ج 4، ص 96 (حرم).
2. " الكشاف " ج 3، ص 154.
3. الحج (22): 30.
293

والنبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين والضرائح المقدسة وقبور الشهداء والصالحين والعلماء
والفقهاء والعاملين أحياء وأمواتا وكتب الأحاديث النبوية المروية من طرق أهل
البيت أو من طرق غيرهم من الصحابة الأخيار إلى غير ذلك من ذوي الشؤون في
الدين وشريعة سيد المرسلين ومن هذا القبيل التربة الحسينية وكتب الأدعية والمنابر
في المساجد الموضوعة للوعظ أو للخطبة لصلاة الجمعة.
والحاصل أن مفاد هذه القاعدة والمراد منها أن كل ما هو من حرمات الله وله
شأن في الدين لا يجوز هتكه ويحرم استحقاره وإهانته.
الثانية
في الدليل على هذه القاعدة
فنقول: الدليل عليه من وجوه:
الأول الاجماع على حرمة هتك ما هو من حرمات الله وشعائر الدين، فإنهم
ادعوا الاجماع على حرمة تنجيس المساجد وإدخال النجاسة المسرية فيها معللا
بأنها مستلزم لهتكها فكأنهم جعلوا حرمة الهتك أمرا مفروغا منه وأيضا قالوا
بجواز إدخال النجاسة غير المسرية فيها ما لم يستلزم هتكها، فكأن حرمة ما يستلزم
الهتك أمر مسلم عندهم، ومن المعلوم أن اتفاقهم على حرمة الهتك ليس لخصوصية في
المساجد بل تكون لأجل أنها من حرمات الدين وشعائره، وذلك لان ما هو من
حرمات الله وشعائره تعالى هتكه يؤول إلى هتك حرمة الله عز وجل، وهذا شئ
ينكره العقل ويقبحه كما سنذكره في الدليل العقلي إنشاء الله.
وأما كون شعائر الله عبارة عن مناسك الحج أو خصوص الهدى أو خصوص
البدن وهكذا بالنسبة إلى حرمات الله كونها عبارة عن خصوص مناسك الحج
فواضح البطلان، لان إطلاقها في القرآن الكريم على تلك الأمور من باب إطلاق
294

الكلي على بعض المصاديق وليس من المجاز، لما تحقق في محله أنه من باب تعدد الدال
والمدلول، لان الخصوصية تستفاد من دال آخر، وما ذكره اللغويون وبعض المفسرين
لهذين اللفظين حرمات الله شعائر الله فهو من باب اشتباه المفهوم بالمصداق.
فكل ما هو محترم عند الله ومن علائم الدين فهو من حرمات الله ومن شعائره
عز وجل،
ويؤيد ما ذكرنا ما قاله الزمخشري في تفسير حرمات الله أنها ما لا يحل
هتكه، فلوضوح ثبوت هذا الأثر لها عرفوها به، وكذلك اتفقوا على أن هتك المؤمن
حرام حيا وميتا، وكذلك اتفقوا على حرمة هتك المشاهد المشرفة والضرائح المقدسة.
وخلاصة الكلام أنه لا يمكن إنكار وجود الاجماع والاتفاق على عدم جواز
هتك ما هو من المحترمات في الدين، بل ربما عد بعضهم هذا من ضروريات الدين،
والفقيه المتتبع يجد هذا الاتفاق في موارد كثيرة من صغريات هذه القاعدة من غير
نكير من أحد نعم اختلفوا في وجوب تعظيم هذه الأمور وسنذكره إنشاء الله
تعالى.
الثاني ارتكاز ذهن المتشرعة قاطبة حتى النساء والصبيان على عدم جواز
هتك حرمة هذه الأمور، وإهانتها واستحقارها، ويعترضون على من يهينها
ويستحقرها وينكرونها أشد الانكار، وإن كان بعضهم يفرطون في هذا الامر، ولا
شك في أنه لو شرب أحد سيكارة أو شطبا في حرم أحد أولاد الأئمة عليهم السلام ينكرون
عليه أشد الانكار أو يدخل في حرمهم لابسا حذائه يصيحون عليه وأمثال ذلك.
فالانصاف أنه لا يمكن أن ينكر ثبوت مثل هذا الارتكاز في أذهان المتشرعة
ولا يمكن أيضا إنكار أن هذا الارتكاز كاشف عن ثبوت هذا الحكم في الشريعة،
نعم تختلف مراتب إنكارهم بالنسبة إلى هذه الأمور. فلو أهان شخص العياذ
بالله بالكعبة المعظمة أو ضريح الرسول صلى الله عليه وآله أو القرآن الكريم، فانكارهم ربما
295

ينجر إلى قتله كما هو كذلك الحكم الوارد في الشرع بالنسبة إلى تلويث الكعبة
المعظمة بل القرآن الكريم وضريح الرسول صلى الله عليه وآله لأنه كاشف قطعي عن كفره أو
ارتداده إن كان مسلما، أما لو أهان نعمة من نعم الله كما لو سحق الخبز برجله متعمدا
من غير عذر ولا ضرورة ينكرون بالصيحة في وجهه لا أزيد من ذلك.
والحاصل أن أصل الانكار بالنسبة إلى إهانة المحترمات في الدين من
مرتكزاتهم وان كانت مراتبه مختلفة بالنسبة إلى مراتب المحترمات، نعم العوام كثيرا
ما يشتبهون في تشخيص مراتب المحترمات كما هو شأنهم في كثير من الأمور.
الثالثة حكم العقل بقبح إهانة ما هو محترم عند المولى واستحقار ما هو معظم
عنده ويرجع استحقار ما هو محترم عنده ومعظم لديه إلى الاستخفاف بالمولى
فيستحق الذم والعقاب واستحقاق الذم والعقاب من اللوازم التي لا ينفك عن فعل
الحرام أو ترك الواجب الذي هو أيضا حرام فكل فعل كان موجبا لاستحقاق
العقاب فلا محالة يستكشف منه أنه حرام وذلك ببرهان الان اي استكشاف العلة
من وجود المعلول والملزوم عن اللازم، وإن شئت قلت إذا حكم العقل بقبح شئ
فيستكشف عنه حرمة ذلك الشئ بقاعدة الملازمة.
ثم إن الإهانة واستحقار المحترمات والحرمات والشعائر والمشاعر تارة لا يتحقق
إلا بالقصد فهي في هذا القسم من العناوين القصدية كالتعظيم الذي هو ضده فكما أن
القيام لا يكون تعظيما ومن مصاديقه إلا بذلك القصد، وإلا لو كان لجهة أخرى أو
للاستهزاء بمن يقوم له لا يصدق عليه أنه تعظيم فكذلك الامر في الإهانة والاستحقار
لا يصدق على الفعل القابل لذلك كمد الرجل إلى أحد هذه الأمور المحترمة أو وضعها
عليه أو حرقها أو سحقها إلا أن يكون بقصد الإهانة والاستحقار، وأخرى تكون
بنفسه إهانة ولو لم يقصد كما أن في التعظيم أيضا يمكن أن يقال إن السجود لشخص
أيضا تعظيم له قصده أو لم يقصد.
296

نعم هذا فيما لا يكون قصد آخر منافيا للتعظيم مثل أن يكون قاصدا لاستهزائه
بذلك السجود، فكذلك الامر في الإهانة، فربما يكون نفس الفعل إهانة قصدها أو لم
يقصد.
نعم لابد وأن لا يقصد عنوانا آخر منافيا للإهانة كما أنه حكى أن بعضهم أدخل
عورته في بعض الضرائح المقدسة استشفاء وطلبا للولادة، فان هذا الفعل القبيح إهانة
لو لم يقصد شئ أصلا لا الإهانة ولا غيرها، وأما لو كان طلبا للأولاد وكان صادرا
عن العوام، فهذا القصد مناف لكونه إهانة نعم لو لم يقصد شئ أصلا كان إهانة
بنفسه من دون الاحتياج إلى قصدها،
وربما يكون بعض الأفعال إهانة وإن يقصد ما ينافيها بنظره بمعنى أن كونه إهانة
لا تنفك عنه مثل الايلام الذي لا ينفك عن الضرب الشديد باي قصد كان ذلك
الضرب.
الرابع الآيات والاخبار:
أما الآيات
منها ما نزلت في تعظيم حرمات الله كقوله تعالى: ذلك ومن يعظم حرمات
الله فهو خير له عند ربه. (1)
ومنها ما نزلت في تعظيم شعائر الله كقوله تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله
فإنها من تقوى القلوب. (2)
وتقريب الاستدلال بهذه الآيات بعد البناء على أن المراد من حرمات الله
وشعائر الله مطلق ما هو محترم في الدين وتطبيقها على مناسك الحج ومشاعره من
باب تطبيق الكلي على بعض مصاديقه كما أشرنا إلى ذلك، هو أنه إذا كان مفاد هذه

1. الحج (22) 30.
2. الحج (22) 32.
297

الآيات وجوب تعظيم المحترمات في الدين فتدل على حرمة إهانتها بالأولوية.
وذلك من جهة أن الامر بالشئ بناء على أنه يدل على النهي عن ضده العام كما
هو المشهور وإن كان لنا فيه كلام ذكرناه في كتابنا منتهى الأصول (1) في مبحث
الضد فيكون ترك التعظيم حراما.
فان قلنا إن التقابل بين الإهانة والتعظيم تقابل العدم والملكة، والإهانة عبارة
من عدم التعظيم فتكون حراما وذلك واضح، وأما إن قلنا أنهما ضدان لان الإهانة
أيضا أمر وجودي كالتعظيم، فان قلنا إنه لا ثالث لهما فتكون أيضا لا تنفك عما هو
حرام، وهو ترك التعظيم لما فرضنا أنهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما وأما إن قلنا
بوجود الواسطة بينهما فربما يقال بأنه بناء على هذا لا ملازمة بين ترك التعظيم وتحقق
الإهانة، إذ بناء على هذا لا يمكن أن لا يكون تعظيم ولا إهانة في البين.
ولكن فيه أنه على تقدير القول بوجود الواسطة كما هو الصحيح يكون ترك
التعظيم أعم، إذ يمكن تحقق ترك التعظيم بدون تحقق الإهانة، ولا يمكن تحقق الإهانة
بدون ترك التعظيم وإلا يلزم اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين وكلاهما محال، فدائما
تكون الإهانة مقرونة مع ترك التعظيم الذي هو حرام.
والجواب الصحيح عن هذا الدليل أن هذه الآيات لا ظهور لها في وجوب
التعظيم وأما قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام
ولا الهدى (2) إلى آخر الآية وإن كان النهي ظاهرا في التحريم كما قرر في الأصول،
ولكن ليس المراد من إحلال شعائر الله هو إهانة ما هو محترم في الدين كي يكون
دليلا على حرمة مطلق إهانة المحترمات، بل الظهار منها بقرينة فقرات البعد هي
حرمة ترك فرائض الحج ومناسكه وأيضا حرمة عدم الاعتناء بالشهر الحرام أو

1. " منتهى الأصول " ج 1، ص 301.
2. المائدة (5): 2.
298

القتال فيه إلى آخر الفقرات.
قال الأردبيلي قدس سره في آيات أحكامه في مقام شرح هذه الآية: أي لا تجعلوا
محرمات الله حلالا ومباحا ولا بالعكس يعني لا تتعدوا حدود الله. (1)
ومورد نزول الآية أيضا يدل على أن المراد باحلال الشعائر القتال والنهب
والغارة في الشهر الحرام، وهو أن الحطم بن هند البكري أحد بني ربيعة أتى النبي صلى الله عليه وآله
وحده وخلف خيله خارج المدينة، فقال: إلى ما تدعو؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه:
يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلم بلسان شيطان فلما أجابه النبي صلى الله عليه وآله
قال: أنظرني لعلي أسلم ولي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لقد
دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر، فمر بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به
ويرتجز إلى آخر رجزه.
ثم أقبل من عام قابل حاجا قلد هديا فأراد رسول الله أن يبعث إليه فنزلت
هذه الآية ومنع الله تعالى رسوله عن القتال، وأخذ الهدي، وهذا قول عكرمة وابن
جريح في بيان شأن نزول الآية.
وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة،
فقال المسلمون: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء، دعنا نغير عليهم فأنزل
الله تعالى هذه الآية أي منعهم عن الإغارة عليهم. (2)
وعلى كل حال يكون المورد أيضا قرينة أخرى، على أن المراد بالشعائر في هذه
الآية مناسك الحج لا مطلق المحترمات في الدين، فلا دلالة في هذه الآية على حرمة
إهانة مطلق ما هو محترم في الدين.
وأما الاخبار فما وجدنا رواية معتبرة تدل على حرمة إهانة ما هو محترم في

1. " زبدة البيان في أحكام القرآن " ص 295.
2. " مجمع البيان " ج 2، ص 153.
299

الدين بهذا العنوان العام، نعم وردت روايات كثيرة تدل على حرمة إهانة بعض
صغريات هذه القاعدة كما أنه في خصوص إهانة المؤمن وردت روايات تدل على
حرمة إهانته حرمة مؤكدة، ففي التهذيب من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة (1)
وأيضا من أهان لي وليا فقد أرصدني لمحاربتي. (2)
نعم في الكافي عن ابن عمار قال قال أبو عبد الله عليه السلام إذا رميت الجمرة فاشتر
هديك إن كان من البدن أو من البقرة وإلا فاجعل كبشا سمينا فحلا وإن لم تجد فما
وجد من الضأن، فإن لم تجد فما تيسر عليك، وعظم شعائر الله (3)، فان الامر بالتعظيم
ظاهر في وجوبه، فإذا كان واجبا يكون تركه حراما لما ذكرنا أن الامر بالشئ
يقتضي النهي عن ضده العام وقد بينا أن الإهانة لا تنفك عن ترك التعظيم، فتكون
ملازما مع ما هو حرام.
وفيه أولا على فرض كونها لا تنفك عن الحرام لا يلزم أن يكون حراما لأنه
لا يلزم أن يكون المتلازمان في الوجود متحدين في الحكم، نعم لا يمكن أن يكون
أحدهما واجبا والآخر حراما على تفصيل مذكور في محله.
وثانيا أن الامر بالتعظيم هاهنا ظاهر في الاستحباب لا في الوجوب وذلك من
جهة أنه لو كان المراد من الشعائر هي المحترمات في الدين، فمن المعلوم عدم وجوب
التعظيم في كثير منها اللهم إلا أن يقال إن المراد بالتعظيم هي المعاملة اللائقة بها معها
وعدم إزالتها عن مقامها، وبهذا المعنى يمكن الالتزام بوجوبها في جميع الموارد وبعدم

1. وجدناه في " الكافي " ج 1، ص 144، باب النوادر من كتاب التوحيد، ح 6، و ج 2، ص 352، باب من اذى
المسلمين واحتقرهم، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 8، ص 588، أبواب أحكام العشرة، باب 146، ح 1.
2. وجدناه في " الكافي " ج 2، ص 351، باب من اذى المسلمين واحتقرهم، ح 3، 5 و 7، " وسائل الشيعة "
ج 8، ص 588، أبواب أحكام العشرة، باب 146، ح 2. ونص الحديث هكذا: " من أهان لي وليا فقد أرصد
لمحاربتي ".
3. " الكافي " ج 4، ص 491، باب ما يستحب من الهدى وما يجوزونه وما لا يجوز، ح 14، " وسائل الشيعة "
ج 10، ص 98، أبواب الذبح، باب 8، ح 4.
300

ورود التخصيص عليها.
الجهة الثالثة
في موارد تطبيق هذه القاعدة،
وهي كثيرة منتشرة في أبواب الفقه.
فمنها إهانة الكعبة المعظمة زادها الله شرفا بتلويثها العياذ بالله بإحدى
النجاسات العينية عمدا عن اختيار بلا كره ولا اجبار ولا مرض ولا اضطرار، ولا
يبعد أن يكون هذا العمل كفرا وانكارا لله الواحد القهار.
وقد ورد عنهم عليهم السلام أنه يقتل كما في رواية أبي الصباح الكناني قال قلت لأبي
عبد الله عليه السلام أيهما أفضل الايمان أو الاسلام؟ إلى أن قال: فقال الايمان قال قلت
فأوجدني ذلك، قال: ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمدا؟ قال قلت
يضرب ضربا شديدا قال أصبت قال عليه السلام فما تقول فيمن أحدث في الكعبة
متعمدا؟ قلت: يقتل. قال أصبت ألا ترى أن الكعبة أفضل من المسجد، الحديث. (1)
ومنها إهانة رسول الله صلى الله عليه وآله أو القرآن كما ورد أن من شتم النبي صلى الله عليه وآله يقتل فيما
رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن شتم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عليه السلام
يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الامام. (2)
ومنها قوله بما لا يليق وسوء الأدب مع الله تعالى جل جلاله وأن يسأل بوجه
الله: ففي رواية عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال جاء رجل إلى

1. " الكافي " ج 2، ص 26، باب ان الايمان يشرك الاسلام... ح 4، " وسائل الشيعة " ج 18، ص 579، أبواب
بقية الحدود والتعزيرات، باب 6، ح 1.
2. " الكافي " ج 7، ص 259، باب حد المرتد، ح 21، " تهذيب الأحكام " ج 10، ص 141، ح 560، باب حد
المرتد والمرتدة، ح 21، " وسائل الشيعة " ج 18، ص 554، أبواب حد المرتد، باب 7، ح 1.
301

النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اني سألت رجلا بوجه الله فضربني خمسة أسواط
فضربه النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمسة أسواط أخرى وقال صلى الله عليه وآله: سل بوجهك اللئيم. (1)
ومنها إهانة المسجد بأن يجعله القاص محلا لبيان قصته، ففي رواية هشام بن
سالم عن أبي عبد الله عليه السلام ان أمير المؤمنين عليه السلام رأى قاصا في المسجد فضربه بالدرة
وطرده. (2)
ومنها الإهانة بأموات المؤمنين ففي رواية صفوان قال قال أبو عبد الله عليه السلام
أبى الله أن يظن بالمؤمن الا خيرا وكسرك عظامه حيا وميتا سواء، (3)
وأيضا عنه عن أبي عبد الله عليه السلام عن رجل كسر عظام ميت، فقال حرمته ميتا
أعظم من حرمته وهو حي (4)
وروايات أخر ذكرها في الوسائل التي بهذا المضمون في نفس هذا الباب الذي
عقده لاحترام ميت المؤمن، وأن حرمة حيه وميته سواء.
ومنها إهانة مكة المكرمة قولا أو فعلا وروى الكليني قده 4 رواية مفصلة قال:
وروي أن معد بن عدنان خاف أن يدرس الحرم فوضع أنصابه وكان أول من
وضعها ثم غلبت جرهم على ولاية البيت فكان يلي منهم كابر عن كابر حتى بغت

1. " الكافي " ج 7، ص 263، باب النوادر من كتاب الحدود، ح 18، " تهذيب الأحكام " ج 10، ص 149،
ح 594، باب من الزيادات، ح 25، " وسائل الشيعة " ج 18، ص 577، أبواب بقية الحدود والتعزيرات،
باب 2، ح 1.
2. " الكافي " ج 7، ص 263، باب النوادر من كتاب الحدود، ح 20، " وسائل الشيعة " ج 18، ص 578، أبواب
بقية الحدود والتعزيرات، باب 4، ح 1.
3. " تهذيب الأحكام " ج 10، ص 272، ح 1067، باب دية الأعور ولسان الأخرس...، ح 12، " الاستبصار "
ج 4، ص 297، باب دية من قطع رأس الميت، ح 3، " وسائل الشيعة " ج 19، ص 251، أبواب
ديات الأعضاء، باب 25، ح 4.
4. " تهذيب الأحكام " ج 10، ص 272، ح 1068، باب دية الأعور ولسان الأخرس...، ح 13، " الاستبصار "
ج 4، ص 297، ح 1116، باب دية من قطع رأس الميت، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 19، ص 251، أبواب
ديات الأعضاء، باب 25، ح 5.
302

جرهم بمكة واستحلوا حرمتها، وأكلوا مال الكعبة، وظلموا من دخل مكة وعتوا
وبغوا، وكانت مكة في الجاهلية لا يظلم ولا يبقى فيها ولا يستحل حرمتها ملك إلا
هلك مكانه. الحديث. (1)
وخلاصة الكلام أن من راجع الأخبار الواردة في حرمة إهانة المؤمن و
الاستخفاف به وكذلك الأخبار الواردة في عدم جواز الاستخفاف بالقرآن والكعبة
والمسجد الحرام ومسجد النبي وضريحه المقدس وذاته الأقدس والمشاعر العظام
المذكورة في كتاب الحج والأخبار الواردة في التربة الحسينية، وغيرها من المحترمات،
يقطع بأن إهانة ما هو محترم وله مرتبة وشرف في الدين حرام، بل تعظيمها بمعنى
حفظ مرتبتها واجب.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

1. " الكافي " ج 4، ص 211، باب حج إبراهيم وإسماعيل وبنائهما البيت، ح 18.
303

54 - قاعدة
كل مسكر مائع
بالأصالة فهو نجس
305

قاعدة كل مسكر مايع بالأصالة فهو نجس *
ومن القواعد الفقهية المشهورة كل مسكر مايع بالأصالة نجس وحرام
شربه
وفيها جهات من البحث:
الجهة الأولى
في بيان المراد منها
فنقول: أما المسكر فقد اختلف كلمات الفقهاء واللغويين في شرح مفهومه،
فقال في القاموس: سكر كفرح ثم يذكر مصادر هذا الفعل ثم يفسره بأنه نقيض
صحي (1)، ثم يأتي في مادة الصحو ويقول الصحو ذهاب الغيم والسكر (2)، وهو عجيب
لأنه يحيل معرفة كل واحد منهما إلى معرفة الآخر، وهذا دور إن كان مراده من هذا
التفسير لهما تعريفهما، ومثل هذا الامر في كلام اللغويين كثير.
وقال في لسان العرب السكران خلاف الصاحي والسكر نقيض الصحو،
والسكر ثلاثة: سكر الشباب، وسكر المال، وسكر السلطان. (3)
وفي قوله تعالى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله

*. " مستقصى مدارك القواعد " ص 100.
1. " القاموس المحيط " ج 2، ص 45 (سكر).
2. " القاموس المحيط " 4، ص 507 (صحر)
3. " لسان العرب " ج 4، ص 372 (سكر)
307

شديد: سكارى بالضم جمع سكران فان فعلان يجمع على فعالى بالضم، وسكرهم
عبارة عن دهشهم من هول العذاب، فعقولهم ذاهبة من خوف العذاب، فعرض عليهم
حالة كحالة السكران واضطرابه.
وقال بعض الفقهاء: هو ما يحصل معه اختلال الكلام المنظوم وظهور السر
المكتوم، وقيل هو ما يغير العقل ويحصل معه نشو النفس
وقيل في الفرق بينه وبين الاغماء أن السكر حالة توجب اختلالا في العقل
بالاستقلال والاغماء يوجبه بالتبع لضعف القلب واليد، وقيل إن السكر حالة توجب
ضعف العقل وقوة القلب والاغماء حالة توجب ضعفهما.
هذا ما ذكروه والذي يظهر من مجموع المعاني الذي ذكروه أن السكر هو وجود
حالة في النفس توجب اضطرابا في الفكر وزوال مرتبة من العقل بحيث لو كانت هذه
الحالة فيه دائمة من غير شرب المسكر لكانت فيه مرتبة من الجنون، وذلك لان تلك
الحالة ربما توجب ارتكاب بعض القبائح والجرائم التي لا يصدر من العاقل.
نعم لا شك في أن هذه الحالة المذكورة تختلف بالنسبة إلى أشخاص شاربي
المسكرات وأنواع نفس المسكرات وبالنسبة إلى القلة والكثرة ما يشرب وبعض
الجهات الأخر شدة وضعفا.
والظاهر أن مفهوم السكر مثل مفهوم الجنون والعقل من المفاهيم الواضحة عند
كل أحد، فلا يحتاج إلى التعريف، بل هو أجلى من التعاريف التي ذكروها
وإذا تبين معنى السكر، فالمسكر هو الذي يكون شربه أو أكله سببا لوجود
السكر فالمسكر من المشتقات التي يكون مبدء الاشتقاق قائما بموضوعه قياما
صدوريا لا حلوليا كالكاتب مثلا.

*. الحج (22): 2.
308

وأما المراد من المايع بالأصالة فهو أن الشئ الذي يوجب وجود هذه الحالة
على اختلاف مراتبها على قسمين مايع وجامد، فالمايع كاقسام الخمور والفقاع وما
يسمونه العرق وغير ذلك مما ينطبق عليه هذا التعريف وكان في أصله مايعا، لا أنه
صار مايعا بواسطة مزجه بالماء، والجامد كالحشيش أو شئ آخر إذا كان هناك شئ
آخر جامد بالأصل يوجب وجود هذه الحالة.
وإنما خصصنا الموضوع في هذه القاعدة وقيدناه بكونه مايعا بالأصالة لان
ما ليس من المسكرات كذلك وإن صار مايعا بواسطة مزجه بالماء كالحشيش ليس
بنجس إجماعا وأدلة نجاسة المسكرات أيضا منصرفة عن المسكر الجامد بالأصالة
كما سننبه على هذا فيما سيأتي إنشاء الله تعالى.
الجهة الثانية
في بيان الدليل على هذه القاعدة،
وقبل ذلك نذكر الأقوال فيها فنقول:
المشهور عند الفقهاء قديما وحديثا هو نجاسة كل مسكر مايع بالأصالة، وخالف
المشهور جماعة من القدماء والمتأخرين، من أصحابنا الإمامية وغيرهم.
أما من الامامية حكى عن العماني حسن وهو المشهور بابن أبي عقيل (1) وعن
الصدوقين علي بن بابويه وابنه محمد بن علي ابن بابويه (2) قدهما ومن
متأخريهم المقدس الأردبيلي (3) وصاحب المدارك (4) وصاحب الذخيرة السبزواري (5)

1. نقله عنه في " المعتبر " ج 1، ص 422.
2. " الفقيه " ج 1، ص 74، باب ما ينجس الثوب والجسد، ذيل ح 167، " علل الشرائع " ص 357.
3. " مجمع الفائدة والبرهان " ج 1، ص 309.
4. " مدارك الأحكام " ج 2، ص 292.
5. " ذخيرة المعاد " ص 153.
309

ومشارق الشموس في شرح الدروس الخونساري قده. (1)
وأما من غير الامامية فظاهر عبارة الفقه على المذاهب الأربعة (2) نجاسة المسكر
المايع بالأصالة من غير نقل خلاف، ويستدل على ذلك بأن كل مسكر خمر وكل خمر
نجس.
أما أن كل مسكر خمر لقوله صلى الله عليه وآله على ما رواه في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وآله وكل
مسكر خمر وكل خمر حرام (3)
وأما أن كل خمر نجس لقوله تعالى إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام
رجس (4) فحمل الرجس على الخمر والمراد من الرجس هو النجس لأنه معناه عند
العرف،
وحكى القول بطهارة الخمر من ربيعة الرأي، (5) وعلى كل حال لا شك في أن
فتوى أكثر فقهاء الاسلام على النجاسة بل المخالف أي القائل بالطهارة منا ومن غيرنا
في غاية القلة على كلام في النسبة إلى بعضهم.
ثم بعد ما ظهر لك من الأقوال في المسألة دليل القائلين بالنجاسة أمور
الأول الاجماع نقلا وتحصيلا فهذا صاحب الجواهر الفقيه المتتبع يقول: المشهور
نقلا وتحصيلا قديما وحديثا بيننا وبين غيرنا شهرة كادت تكون اجماعا بل هي

1. " مشارق الشموس " ص 326.
2. " الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1، ص 15.
3. " صحيح مسلم " ج 4، ص 245، باب بيان أن كل مسكر خمر...، ح 2003.
4. " المائدة (5): 90.
5. " انظر: " المجموع " ج 2، ص 563، " فتح العزيز " ج 1، ص 156، " تفسير القرطبي " ج 6، ص 288، " مغنى
المحتاج " ج 1، ص 77، " الميزان " ج 1، ص 105.
310

كذلك النجاسة (1)
وعن البهائي في حبل المتين أطبق علماء الخاصة والعامة على نجاسة الخمر إلا
شرذمة منا ومنهم لم يعتد الفريقان بمخالفتهم، (2)
وفي السرائر بعد أن نفى الخلاف عن نجاسة الخمر حكى عن ابن بابويه في كتاب
له أن الصلاة تجوز في ثوب أصابته الخمر، قال: وهو مخالف لاجماع المسلمين، (3)
وقال الشهيد في الذكرى: إن الصدوق وابن أبي عقيل والجعفي أي القائلين
بالطهارة تمسكوا بأحاديث لا تعارض القطعي. (4)
وقال الشيخ في المبسوط: والخمر نجسة بلا خلاف وكل مسكر عندنا حكمه
حكم الخمر، وألحق أصحابنا الفقاع بذلك. (5)
وقال ابن زهرة في الغنية والخمر نجسة بلا خلاف ممن يعتد به، وقوله تعالى
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس يدل على نجاستها وكل شراب
مسكر نجس، والفقاع نجس بالاجماع (6) انتهى.
ثم إن دعوانا الاجماع تحصيلا مبني على عدم الاعتداد بهؤلاء المخالفين للقول
بنجاسة كل مسكر مايع بالأصالة القائلين بالطهارة مع أن في أصل النسبة إليهم
إشكالا كما ذكره في الجواهر. (7)
والسر في عدم الاعتناء بمخالفة هؤلاء إن صحت المخالفة أننا نقول بحجية

1. " جواهر الكلام " ج 6، ص 2.
2. " الحبل المتين " ص 102.
3. " السرائر " ج 1، ص 178.
4. " ذكرى الشيعة " ص 14.
5. " المبسوط " ج 1، ص 36.
6. " الغنية " ضمن " الجوامع الفقهية " ص 550.
7. " جواهر الكلام " ج 6، ص 3.
311

الاجماع من باب أن اتفاق هذا العدد الكثير من الفقهاء على حكم مع اختلاف
أعصارهم وبلدانهم وسلائقهم وتعبد جمع كثير منهم بالعمل بالاخبار المروية عن
المعصومين وعدم اعتنائهم بالاستحسانات والظنون وعمل جمع آخر على طبق تلك
الأمور، وعدم مدرك من آية أو رواية يدل على ثبوت هذا الحكم الذي اتفقوا عليه.
فيستكشف من مثل هذا الاتفاق تلقيهم هذا الحكم من المعصوم عليه السلام أو وجود
دليل معتبر عند الكل كخبر قطعي الصدور وقطعي الدلالة، ولكن نحن لم نجده لضياعه
بطول الزمان
وأنت خبير بأن مثل هذا المعنى لا يضر به مخالفة عدة قليلة خصوصا إذا علمنا
بأن اعتمادهم على أخبار ضعيفة معرضة عنها.
نعم ها هنا إشكال آخر على هذا الاجماع ذكرناه مرارا في هذا الكتاب في أمثال
المقام، وهو أن الاتفاق الذي من المحتمل القريب أن يكون اعتمادهم على الآية
الموجودة في المقام أو الروايات الموجودة كذلك بل صرح بعضهم بذلك كما أن ما
نقلناه عن ابن زهرة في الغنية من استدلاله بالآية على نجاسة الخمر بعد ادعائه عدم
الخلاف ممن يعتد به، فمثل هذه الاجماعات لا اعتبار لها ولابد من مراجعة مداركها.
الثاني قوله تعالى: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. (1)
ولا يخفى أن الاستدلال بهذه الآية على نجاسة كل مسكر مايع بالأصالة على
تقدير دلالتها على نجاسة الخمر منوط بأحد هذه الأمور:
اما أن يكون كل مسكر خمرا حقيقة وموضوعا كما حكينا عن صحيح مسلم
عن النبي صلى الله عليه وآله أن كل مسكر خمر (2)

1. المائدة (5): 90.
2. " صحيح مسلم " ج 4، ص 245، باب بيان أن كل مسكر خ مر...، ح 2003.
312

واما يكون خمرا تنزيلا بلحاظ جميع الآثار من الحرمة والنجاسة وغيرهما أو
بلحاظ خصوص هذا الأثر.
ولا يبعد احتمال الأول، لان الخمر بمعنى الستر ومنه خمار المرأة لأنه يسترها
ولا شك في أن كل مسكر يستر العقل على اختلاف مراتب الستر شدة وضعفا حتى
أن في بعض أقسامها ربما يتخيل من يراه من ارتكاب القبايح بأنه مجنون ولا فرق
في هذا المعنى بين ما يسمونه خمرا حقيقة وبين سائر أقسام المسكرات على تقدير أن
لا تكون خمرا في لغتهم ومحاوراتهم.
وأيضا على فرض أن لا تكون خمرا حقيقة لا شك في أن ظاهر قوله صلى الله عليه وآله كل
مسكر خمر عموم المنزلة أي في جميع الآثار، وعلى فرض أن لا يكون ظاهرا في
عموم المنزلة وكان التنزيل بلحاظ الأثر الظاهر، لا شك في أن الأثر الظاهر للخمر
عند المسلمين ليس خصوص الحرمة، بل يكون هي الحرمة والنجاسة كلتاهما.
وإما أن يكون دليل على إلحاقه بالخمر حكما من إجماع أو غيره كعموم التعليل
مثلا، لو كان في رواية أن الخمر نجسة لأنه مسكر، فهذا يكون بمنزلة كبرى كلية تدل
على نجاسة كل مسكر فحينئذ لابد وأن نقول بأن خروج المسكرات الجامدة بالأصل
عن تحت هذا العموم بالاجماع أو بالانصراف.
وخلاصة الكلام أن الآية أو الروايات على تقدير دلالتها على نجاسة الخمر تدل
على نجاسة كل مسكر مايع بالأصالة بأحد الوجوه المذكورة والمسكر الجامد
بالأصالة خارج بما ذكرنا.
وأما الأخبار الواردة من طريق أهل البيت عليهم السلام بأن كل مسكر خمر، فكثيرة،
فمنها رواية عطاء بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام 1 قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله كل
مسكر حرام وكل مسكر خمر. (1)

1. " الكافي " ج 6، ص 408، باب أن رسول الله صلى الله وآله - حرم كل مسكر... ح 3، " تهذيب
313

ومنها ما عن مجمع البيان في تفسير قوله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس الخ قال: يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر. (1)
ومنها ما عن تفسير علي بن إبراهيم القمي في تفسير الآية المذكورة عن أبي
الجارود عن أبي جعفر عليه السلام أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر،
وما أسكر كثيره فقليله حرام. (2)
ومنها خبر علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: ان الله سبحانه لم
يحرم الخمر لاسمها، ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر. (3)
ولكن ظاهر هذه الرواية هو التنزيل في الحرمة لا أنه خمر حقيقة،
وبعد ما ظهر لك ما قلنا فتقريب دلالة الآية على نجاسة كل مسكر مايع
بالأصالة هو أن الرجس بمعنى النجس فتدل الآية على أن الخمر نجس وقد ظهر مما
تقدم أن كل مسكر إما خمر حقيقة كما أنه لم نستبعده أو حكما فيكون بمنزلة الخمر
لقوله صلى الله عليه وآله كل مسكر خمر، أو لأن علة نجاسة الخمر إسكارها، وهذه العلة موجودة
في كل مسكر.
فالعمدة إثبات أن الرجس بمعنى النجاسة العينية في متفاهم العرف، وإثبات هذا
الامر خصوصا في هذه الآية مشكل، أما أولا فلان الرجس كما يطلق على النجس
كذلك يطلق على معان اخر:

الأحكام " ج 9، ص 111، ح 482، باب الذبائح والأطعمة، ح 217، " وسائل الشيعة " ج 17، ص 260، أبواب
الأشربة المحرمة، باب 15، ح 5.
1. " مجمع البيان " ج 2، ص 239.
2. " تفسير العياشي " ج 1، ص 180، " وسائل الشيعة " ج 17، ص 222، أبواب الأشربة المحرمة، باب 1، ح 5.
3. " الكافي " ج 6، ص 412، باب أن الخمر إنما حرمت لفعلها... ح 2، " تهذيب الأحكام " ج 9، ص 112،
ح 486، باب الذبائح والأطعمة، ح 221، " وسائل الشيعة " ج 17، ص 273، أبواب الأشربة المحرمة،
باب 19، ح 1.
314

قال في النهاية: الرجس القذر، وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح والعذاب
واللعنة والكفر،
وقال في القاموس: والرجس بالكسر القذر، والمأثم، وكل ما استقذر من
العمل المؤدي إلى العذاب، والشك والعقاب والغضب. (1)
فاستظهار هذا المعنى أي كونه بمعنى النجاسة العينية يحتاج إلى قرينة معينة لها
من بين المعاني المذكورة، وليس شئ في البين، بل القرينة على خلافه وهي وحدة
السياق.
وذلك لان ظاهر الآية هو أن الرجس خبر إنما في جميع الفقرات لا أنه خبر
لخصوص الخمر، ولا شك في أن الميسر والأنصاب والأزلام لا يمكن أن يكون رجسا
بهذا المعنى فلابد وأن يكون بمعنى قابلا للحمل على الجميع، وهذا هو المراد بوحدة
السياق، والظاهر أن ذلك المعنى الذي هو قابل للحمل على الجمع هو المأثم الذي
ذكره في القاموس أو الحرام الذي ذكره في النهاية، والظاهر أنهما واحد وعلى كل
حال فلا تكون الآية مربوطة بمحل الكلام.
وأيضا قوله تعالى رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لا يناسب هذا المعنى،
لان نجاسة الخمر كنجاسة سائر النجاسات العينية من الأحكام الشرعية وليست
عملا للشيطان، نعم شربه رجس أي حرام ومن عمل الشيطان.
فالانصاف أن الاستدلال بهذه الآية على نجاسة الخمر لا مجال له، وإن استدل
بها بعض القدماء كابن زهرة في الغنية (2) وقد تقدم عبارته.
الثالث الاخبار المروية عن أهل البيت عليهم السلام وهي العمدة في المقام، وهي على
طائفتين

1. " القاموس المحيط " ج 2، ص 227 (رجس).
2. " الغنية " ضمن " الجوامع الفقهية " ص 550.
315

إحداهما تدل على النجاسة
والأخرى على الطهارة،
أما الطائفة الأولى:
فمنها صحيحة عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الذي يعير
ثوبه لمن يعلم أنه يأكل لحم الجري أو يشرب الخمر فيرده أيصلي فيه قبل أن يغسله؟
قال عليه السلام لا يصلي فيه حتى يغسله. (1)
ومنها ما رواه خيران الخادم قال كتبت إلى الرجل عليه السلام أسأله عن الثوب يصيبه
الخمر ولحم الخنزير أيصلي فيه أم لا؟ فان أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم
صل فيه فان الله إنما حرم شربها، وقال بعضهم لا تصل فيه فكتب عليه السلام لا تصل فيه
فإنه رجس. (2)
ومنها ما عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن بعض من
رواه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن
عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت فيه فأعد صلاتك. (3)
ومنها رواية هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الفقاع فقال

1. " الكافي " ج 3، ص 405 باب الرجل يصلي في الثوب...، ح 2، " تهذيب الأحكام " ج 20، ص 361،
ح 1494، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان، ح 26 " الاستبصار " ج 1، ص 393، ح 1498، باب
الصلاة في الثوب يعار لمن يشرب الخمر، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1054 أبواب
النجاسات، باب 38، ح 1.
2. " الكافي " ج 3، ص 405، باب الرجل يصلي في الثوب...، ح 5، " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 279، ح 819،
باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 106، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1055، أبواب النجاسات،
باب 38، ح 4.
3. " الكافي " ج 3، بص 405، باب الرجل يصلي في الثوب...، ح 4، " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 278، ح 818،
باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 105، " والاستبصار " ج 1، ص 189، ح 661، باب الخمر
يصيب الثوب والنبيذ المسكر، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1055، أبواب النجاسات، باب 38، ح 3.
316

لا تشربه فإنه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله. (1)
ومنها رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث النبيذ قال: ما يبل الميل
ينجس حبا من ماء يقول لها ثلاثا. (2)
ومنها رواية عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال لا تصل في بيت فيه خمر ولا
مسكر، لان الملائكة لا تدخله، ولا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى
تغسله. (3)
وهذه الرواية صريحة في أن النجاسة ليست مختصة بالخمر على فرض أن يكون
الخمر اسما لمسكر خاص، ولا يشمل سائر المسكرات، وذلك لعطفه عليه السلام كلمة مسكر
على الخمر بأو،
ولا شك في أن الامر بالغسل في جميع هذه الروايات ظاهر في الوجوب أيضا و
لا شك في أن وجوب الغسل من اللوازم الشرعية للنجاسة، فيكون دليلا عن نجاسة
الخمر.
فهذه الروايات كلها تدل على نجاسة الخمر بل على نجاسة كل مسكر خصوصا
رواية عمار كما عرفت.
ومنها رواية زكريا بن آدم قال سألت أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ
مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير قال عليه السلام: يهراق المرق أو يطعمه

1. " الكافي " ج 6، ص 423، باب الفقاع، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1056، أبواب النجاسات،
باب 38، ح 5.
2. " الكافي " ج 6، ص 413، باب اضطر إلى الخمر للدواء... ح 1، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1056، أبواب
النجاسات، باب 38، ح 6.
3. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 278، ح 817، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 104، " وسائل
الشيعة " ج 2، ص 1056، أبواب النجاسات، باب 38، ح 7.
317

أهل الذمة أو الكلب واللحم اغسله وكله إلى آخر الحديث. (1)
والروايات التي تدل على نجاسة الخمر وكل مسكر كثير، وعدها بعضهم
وأنهاها إلى عشرين، ولو كانت هذه الروايات هي وحدها لم يكن شك في نجاسة الخمر
بل كل مسكر بالأصالة.
ولكن هناك روايات أخر أيضا كثيرة تدل على طهارتها.
منها رواية أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام أصاب ثوبي نبيذ
أصلي فيه؟ قال: نعم، قلت: قطرة من نبيذ قطر في حب أشرب منه؟ قال: نعم إن
أصل النبيذ حلال وإن أصل الخمر حرام. (2)
قال في الوسائل: حمله الشيخ رحمه الله على النبيذ الذي لا يسكر أقول: الانصاف أنه
حسن لا بأس به. (3)
ومنها صحيحة ابن أبي سارة قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام إن أصاب ثوبي شئ
من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال عليه السلام: لا بأس إن الثوب لا يسكر. (4)
ومنها موثقة ابن بكير قال: سأل رجل أبا عبد الله وأنا عنده عن المسكر

1. " تهذيب الأحكام " ج 1، 279، ح 820، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 107، " وسائل
الشيعة " ج 2 ص 1056، أبواب النجاسات، باب 38، ح 8.
2. " تهذيب الأحكام " ج 1، 279، ح 821، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 108،
" الاستبصار " ج 1، ص 189، ح 663، باب الخمر يصيب الثوب والنبيذ المسكر، ح 4، " وسائل الشيعة " ج
2، ص 1056، أبواب النجاسات، باب 38، ح 9.
3. " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1057، أبواب النجاسات، باب 38، ذيل ح 9.
4. " تهذيب الأحكام " ج 1، 280، ح 822، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 109،
" الاستبصار " ج 1، ص 189، ح 664، باب الخمر يصيب الثوب والنبيذ المسكر، ح 5، " وسائل الشيعة " ج
2، ص 1057، أبواب النجاسات، باب 38، ح 10.
318

والنبيذ يصيب الثوب قال لا بأس. (1)
ومنها صحيحة علي بن رئاب المروية عن قرب الإسناد قال سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي أغسله أو أصلي فيه؟ قال عليه السلام
صل فيه، إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر إن الله تبارك وتعالى إنما حرم
شربها. (2)
ومنها رواية الحسين بن موسى الحناط قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي، قال عليه السلام: لا بأس. (3)
ومنها رواية حسن بن أبي سارة قال قلت لأبي عبد الله إنا نخالط اليهود
والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون فيمر ساقيهم ويصب على
ثيابي الخمر، فقال لا بأس به، إلا أن تشتهى أن تغسله لاثره. (4)
ومنها رواية حفص الأعور قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام الدن يكون فيه الخمر
ثم يجفف ويجعل فيه الخل؟ قال نعم. (5)
ومنها مرسلة الصدوق قال سئل أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام فقيل لهما إنا
نشتري ثيابا يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها، أفنصلي فيها قبل أن نغسلها؟

1. " تهذيب الأحكام " ج 1، 280، ح 823، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 110،
" الاستبصار " ج 1، ص 190، ح 665، باب الخمر يصيب الثوب والنبيذ المسكر، ح 6، " وسائل الشيعة " ج
2، ص 1057، أبواب النجاسات، باب 38، ح 11.
2. " قرب الإسناد " ص 74، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1058، أبواب النجاسات، باب 38، ح 14.
3. " تهذيب الأحكام " ج 1، 280، ح 825، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 112،
" الاستبصار " ج 1، ص 190، ح 667، باب الخمر يصيب الثوب والنبيذ المسكر، ح 8، " وسائل الشيعة " ج
2، ص 1059، أبواب النجاسات، باب 39، ح 2.
4. " تهذيب الأحكام " ج 1، 280، ح 824، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 111، " وسائل
الشيعة " ج
2، ص 1057، أبواب النجاسات، باب 38، ح 12.
5. " الكافي " ج 6، ص 428، باب الخمر تجعل خلا، ح 2، " تهذيب الأحكام " ج 9، ص 117، ح 503، باب
الذبائح والأطعمة، ح 238، " وسائل الشيعة " ج
2، ص 1074، أبواب النجاسات، باب 51، ح 2.
319

فقالا نعم لا بأس، إن الله حرم أكله وشربه ولم يحرم لبسه ولمسه والصلاة فيه. (1)
ومنها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام أنه سئل عن الرجل يمر في
ماء المطر وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسل ثوبه قال
لا يغسل ثوبه ولا رجله، ويصلي فيه ولا بأس. (2)
ومنها رواية علي الواسطي قال: دخلت الجويرية وكانت تحت موسى بن
عيسى على أبي عبد الله عليه السلام وكانت صالحة فقالت إني أتطيب لزوجي فنجعل في
المشطة التي أتمشط بها الخمر وأجعله في رأسي، قال لا بأس. (3)
ولا شك في أن بين هاتين الطائفتين من الروايات تعارض مستقر مستحكم، ولا
يمكن الجمع بينهما عرفا، وإن كان من الممكن الخدشة في دلالة بعض روايات هذه
الطائفة الأخيرة الدالة على الطهارة تركنا ذكرها لعدم خفائها على المتضلع الخبير
ولأنه ذكر أغلبها الآخرون.
ولكن مع ذلك كله لا يمكن إنكار دلالة مجموعها على الطهارة، ولا إنكار
حجيتها فلابد من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض:
ورجح البعض أخبار النجاسة لمخالفتها مع فتوى ربيعة الرأي (4) الذي كان في
زمان الصادق عليه السلام وذلك لحمل أخبار الطهارة على التقية لموافقتها مع فتوى ربيعة
الذي كان يؤيده سلطان الوقت، وذلك لان الفتوى المخالف لفتوى ربيعة من الامام

1. " الفقيه " ج 1، ص 248، باب ما يصلى فيه ومالا يصلى فيه من الثياب، ح 751، " علل الشرائع " ص 357،
" وسائل الشيعة " ج 2، ص 1057، أبواب النجاسات، باب 38، ح 13.
2. " الفقيه " ج 1، ص 8، باب المياه وطهرها ونجاستها، ح 7، " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 418، ح 1321،
باب المياه وأحكامها، ح 40، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 108، أبواب الماء المطلق، باب 6، ح 2.
3. " تهذيب الأحكام " ج 9، ص 123، ح 530، باب الذبائح والأطعمة، ح 265، " وسائل الشيعة " ج 17،
ص 304، أبواب الأشربة المحرمة، باب 37، ح 2.
4. انظر: " المجموع " ج 2، ص 563، " فتح العزيز " ج 1، ص 156، " تفسير القرطبي " ج 6، ص 288، " مغنى
المحتاج " ج 1، ص 77.
320

الصادق عليه السلام كان بعنوان أنه إمام، ومذهب مقابل سائر مذاهب المسلمين.
وهذا هو الذي كان يضر بسلاطين الوقت، وكان الإمام الصادق عليه السلام كثيرا ما
يأمر باخفاء أمرهم، وكان عليه السلام يخاف من ظهوره، ولذلك ترى الأئمة عليهم السلام كانوا يفتون
طبق فتوى مفتي عصرهم وزمانهم لأجل هذه الجهة، وإن كان رأي أغلب المخالفين
لنا مخالفا للفقيه المعاصر معهم فحمل اخبار الطهارة على التقية مع أن أغلب المخالفين
يفتون بالنجاسة ليس بعيدا عن الصواب كثيرا.
ولكن مع ذلك رفع اليد عن هذه الأخبار الكثيرة التي يطمئن الانسان بصدورها
إجماعا عن الإمام عليه السلام مع أن الطائفة الأخرى المعارضة لها موافقة مع أغلب المخالفين
لنا لأجل الاحتمال المذكور مما لم تركن النفس إليه، ولا تطمئن به.
ورجح البعض أخبار النجاسة لأجل موافقتها مع المشهور الشهرة التي كادت
أن تكون إجماعا،
وفيه أن الشهرة التي من المرجحات هي على الظاهر الشهرة الروائية وهي أن
يكون نقل الرواية مشهورا بين أصحابنا الإمامية رض.
وأما الشهرة العملية الفتوائية تكون موجبة لجبر ضعف السند كما أن إعراض
الأصحاب عنها يكون سببا لوهنه، بل كلما ازداد صحة ازداد وهنا، وفيما نحن فيه كلتا
الطائفتين مشهورتان من حيث الرواية، ورواهما أصحاب الكتب المعتبرة، وأرباب
الجوامع العظام.
وأما مسألة الاعراض والفتوى على خلافها، فلعله ليس من جهة عدم الاعتماد
على سندها، بل للتصرفات في دلالتها، أو لحملها على التقية كما تقدم بيانه، فمثل هذا
الاعراض لا يوجب وهنها.
نعم هاهنا روايتان وردتا في مقام علاج التعارض بين هاتين الطائفتين، وبأية
واحدة يأخذ ويجب العمل بها،
321

إحداهما رواية خيران الخادم التي تقدم ذكرها (1) وهي أنه قال: كتبت إلى
الرجل عليه السلام أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ قال
أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم صل فيه فان الله حرم شربها، وقال بعضهم
لا تصل فيه فكتب: لا تصل فيه فإنه رجس.
ففي مقام الجواب عن السؤال عن العلاج بين الطائفتين المتعارضتين رجح عليه السلام
الطائفة الدالة على النجاسة، ولا يمكن أن يقال إن هذه الرواية أيضا داخلة في الطائفة
المتعارضة الدالة على النجاسة، لان ورود هذه الرواية في العلاج بين الطائفتين بعد
فرض وجودهما فتكون في الرتبة المتأخرة عن وجودهما فلا يمكن أن تكون داخلة
في إحداهما.
وكذلك صحيح علي بن مهزيار قال قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي
الحسن عليه السلام جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام في الخمر
يصيب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه إنما حرم شربها وروى غير
زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله
إن عرفت موضعه، وان لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت فيه فأعد صلاتك،
فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع عليه السلام بخطه وقرأته: خذ بقول أبي عبد الله عليه السلام. (2)
وهذه الرواية أيضا كالأولى صريحة في تقديم إحدى الطائفتين، وهي الطائفة
الدالة على النجاسة على الأخرى، فبملاحظة هاتين الروايتين يتعين الاخذ باخبار
النجاسة وترك الطائفة الأخرى ورد علمها إلى أهلها أو حملها على التقية بما ذكرنا
والانصاف أن مع هذا الاتفاق من فقهاء الاسلام قاطبة، إلا الشاذ ممن لا يعتد بخلافهم
وهذه الروايات التي ذكرناها وأنها صحاح واضح الدلالة على النجاسة، وهاتين

1. تقدم في ص 316، رقم (2).
2. " الكافي " ج 3، ص 407، باب الرجل يصلي في الثوب...، ح 14، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1055، أبواب
النجاسات، باب 38، ح 2.
322

الروايتين في مقام علاج التعارض بين الطائفتين، لا يبقى شك للفقيه في نجاسة كل
مسكر مايع بالأصالة.
تتميم
وهو أنه هذا المطهر الطبي ي أي المايع المعروف باسبرتو هل هو نجس بعد الفراع
عن نجاسة كل مسكر مايع بالأصالة أم لا؟ فالبحث يكون فيه صغرويا، وأنه هل هو
نوع من أنواع المسكر المايع بالأصالة أم لا.
فبناء على هذا ليست هذه المسألة من المسائل الفقهية، وليس معرفتها من وظيفة
الفقيه بما هو فقيه، بل لابد وأن يرجع فيها إلى أهل الخبرة في هذا الفن.
نعم حكم الشك في أنه هل هو من المايع المسكر بالأصالة أو ليس منه راجع إلى
الفقيه، ولا شك في أن في الشبهة الموضوعية لما هو النجس المرجح هو أصل الطهارة
إن لم يكن دليل حاكم في البين وكذلك في الشبهة الحكمية إذا كان منشأ الشك هو
اجمال المفهوم الذي جعل موضوعا للنجاسة من جهة الشك في سعته وضيقه.
فإذا شككنا في هذا المايع المعروف والمطهر الطبي المسمى باسبرتو هل يطلق
عليه المسكر المايع بالأصالة اطلاقا حقيقيا بحيث لا يصح سلب هذا العنوان عنه،
وكان منشأ الشك عدم الإحاطة بحدود مفهوم المسكر المائع بالأصالة أي لم نتحقق
المفهوم العرفي من هذا العنوان أنه هل هو خصوص ما يكون صالحا للشرب فعلا من
دون احتياجه إلى علاج، وإن كان ذلك العلاج مزجه بالماء، فلا يطلق على هذا المايع
المعروف إطلاقا حقيقيا أو أعم منه ومما يصير صالحا للشرب والاسكار، وإن كان
صلاحيته للامرين أي الشرب والاسكار يحتاج إلى العلاج، وإن كان بمزجه بالماء.
فإذا حصل مثل هذا الشك ولم يقم دليل على أحد الطرفين فالمرجع هي أصالة
الطهارة، وحيث إن ظاهر أدلة نجاسة المسكر المايع بالأصالة هو كون المايع بالفعل
323

صالحا للشرب وموجبا للاسكار من دون الاحتياج إلى علاج ولو بمزجه بالماء
فيكون مقتضى ظاهر الأدلة عدم نجاسته من هذه الجهة، وقد عرفت أنه لو شككنا
أيضا مقتضى الأصل هي الطاهرة.
وأما انكار اجمال المفهوم وأنه عبارة عما يكون صالحا للشرب والاسكار، وإن كان
بعلاج، فالانصاف أنه مكابرة، وقد حكى لي بعض الثقات من أهل الفن أن هذا
المايع الذي يسمى الان بأسبرتو ويستعمله الأطباء لتطهير الإبر وأدوات وآلات
تطعيم الأدوية وتزريقها في بدن المرضى، ليس مما يشرب، وإنما هو يعد من جملة
السموم الخفيفة.
نعم فيه قوة الاسكار بالمرتبة الشديدة وبمزجه بالماء تخف عاديته، وربما يكون
صالحا لشرب بعض مدمني الخمور، ولكن بعد مزجه بالماء وقبل المزج ليس صالحا
للشرب، لأي شخص كان
وأنت خبير بأن مدمني الخمور والمكثرين لشرب الكل لمدة طويلة بالآخرة
يتسمم بدنهم، فعدم تأثيره فيهم من هذه الجهة، لا أنه يصير من المشروبات العادية
كسائر المسكرات التي يشربها شاربو الخمور والمسكرات.
وقد حكي لي أيضا أن بعض المفرطين في شرب الأفيون وبلعها بالآخرة انجر
أمره إلى أن حبس حية سامة في جعبة وكان يعرض نفسه للدغها كي ينوب عن سم
الأفيون الذي تعود بشربه، وكان لم يجده لعوز المال فمثل هذه الموارد الشاذة لا
توجب صدق المسكر على هذا المايع المعروف باسبرتو.
مضافا إلى أنه لو كان من مصاديق المسكر حقيقة تكون الأدلة منصرفة عنه،
لأن الظاهر والمتفاهم العرفي من قوله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه (1) هو المسكر المعروف الذي كان المتعارف شربه

1. المائدة (5): 90.
324

بين شراب الخمور، وأما مثل هذا المايع الذي لا يشربه أحد إذ ليس صالحا للشرب
عندهم، فلفظ الخمر منصرف عنه، وان قلنا بأن الخمر اسم لكل مسكر.
وأما عموم التعليل بأن حرمة الخمر ليست لاسمها بل لعاقبتها فما كان عاقبته
عاقبة الخمر فهو خمر، فالظاهر أنه تعليل للحرمة، وتنزيل لما كان عاقبته
الخمر منزلة الخمر في خصوص الحرمة، لا في جميع الآثار حتى النجاسة.
هذا مع أنه يمكن أن يقال إن هذا التعليل راجع إلى المايعات التي يتعارف شربها
بين شراب المسكرات، وأما المايع الذي لا يشربه أحد فخارج عن موضوع الكلام
فهو عليه السلام بصدد بيان أن اسم الخمر لا خصوصية له في هذا الحكم بل كل مايع من هذه
الأشربة التي يشربونها إذا كان مسكرا يكون مثل الخمر حراما، وان لم يسم بالخمر
فمثل الفقاع والنبيذ المسكرين يكونان بحكم الخمر وان لم يطلق عليهما لفظ الخمر.
وخلاصة الكلام أن الفقيه المدقق المتأمل ربما يقطع بخروج مثل هذا المايع عن موضوع
أدلة نجاسة كل مسكر مايع بالأصالة ولا أقل من الشك فلا تشمله الاطلاقات
والعمومات التي تدل على نجاسة كل مسكر مايع بالأصالة فيكون مجرى لأصالة
الطهارة، والله العالم بحقائق الأحكام وجميع الأمور. عصمنا الله عن الخطاء
والزلل.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
325

55 - قاعدة
كل كافر نجس كتابيا
كان أو غيره
327

قاعدة كل كافر نجس كتابيا كان أو غيره
ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة قاعدة كل كافر نجس
وفيها جهات من البحث.
الجهة الأولى
في بيان المراد منها
أقول: الكافر على اقسام ويجمعها عدم التصديق بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله أو إنكار
شئ ضروري الثبوت في دينه من العقائد الحقة أو الأحكام الشرعية فمن أنكر
وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الحج بعد اجتماع شرايط وجوب هذه
الأمور فهو كافر.
فالقسم الأول من الكافر الذي هو الذي ينكر وجود صانع وخالق للعالم ويعتقد بأن
مادة هذا العالم المادي قديم بالذات، وليس وجودها مسبوقا بالعدم الواقعي المقابل
للوجود، فليست حادثة كي يحتاج إلى العلة التي توجدها.
وهؤلاء هم الطبيعيون الذين يزعمون أن الأنواع والأشخاص الموجودة من هذا
العالم المادي من اختلاط المواد الأصلية والذرات القديمة بعضها ببعض وأفاعيلها
وانفعالاتها وهؤلاء هم أكفر الكفار.
القسم الثاني المنكرون للتوحيد وهم المشركون وهم أقسام كثيرة
فمنهم من ينكر توحيد الذات الأحد القديم ويقول بأصلين قديمين بالذات أو
329

أكثر، وربما ينسب هذه العقيدة إلى المجوس القائلين بمبدئين قديمين النور والظلمة أو
بقولهم يزدان واهرمن، ولكن الظاهر أنهم لا يقولون بمبدئين قديمين بالذات، وإنما
ينكرون التوحيد في مقام الفاعلية لا في مقام الذات، ولتفصيل المسألة مقام آخر.
ومنهم من ينكر التوحيد في مقام الفاعلية ويرون المؤثر في الحوادث
والموجوات غير الله أيضا وهذا القسم من المشركين كثيرون، وهؤلاء عبدة
الأصنام التي ينحتونها هم أنفسهم، أو يصنعونها من أحد الفلزات أو عبدة الاجرام
السماوية كالشمس والقمر وغيرهما، أو غير ذلك من النباتات والجمادات.
وكان مشركو العرب وأهل مكة من هذا القسم الذين ابتلى رسول الله صلى الله عليه وآله بهم،
بل غالب الأنبياء العظام سلام الله عليهم كموسى وإبراهيم وغيرهما ابتلوا بهذا القسم
من المشركين، وليس مقامنا مقام شرح الأديان وتفصيل المذاهب.
القسم الثالث الذين ينكرون الرسالة إما جميع الأنبياء حيث يقولون بكفاية
العقل الذي خلقه الله لعباده وجعله رسولا باطنيا، وهو يكفي في لزوم الاجتناب عن
ارتكاب القبايح، وما فيها من المفاسد، ولزوم الارتكاب لما فيها المحاسن والمصالح، وإما
ينكرون نبوة بعض الأنبياء الذين هم أولوا العزم بل كل نبي في عصره دون بعض
وذلك كالكتابيين بعد ظهور نبينا صلى الله عليه وآله وبعثته.
القسم الرابع هم الذين ينكرون ضروريا من ضروريات الدين، سواء كان
ضروريا في جميع الأديان الحقة كالمعاد الجسماني أو كان ضروريا في خصوص دين
الاسلام كوجوب الصلاة والزكاة وحرمة شرب الخمر والزنا واللواط والسرقة
وغيرها من الضروريات.
فظهر مما ذكرنا أنه من أوضح مصاديق منكر الضروري من يقول بوجود نبي
بعد نبينا خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله فلا شك في كفر من يدعي النبوة أو يعتقد نبؤة
شخص بعد بعثة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله فهذه الفرقة الضالة الذين يدعون مثل هذه المقالة
في عصرنا لا شك في كفرهم.
330

وأما المجسمة والغلاة والخوارج والنواصب سنتكلم عنهم إنشاء الله في خاتمة
هذه القاعدة.
وأما الكتابي فهو الذي يعتقد ويؤمن بكتاب منزل من السماء على نبي من الأنبياء
مما عدا القرآن الكريم، لان المعتقد والمؤمن بالقرآن، وأنه منزل من السماء على رسول
الله محمد صلى الله عليه وآله ليس بكافر إلا أن ينكر ضروريا من ضروريات الدين
وإذا تبين ما ذكرنا، فالمراد من هذه القاعدة نجاسة كل قسم من الأقسام الأربعة
المذكورة.
الجهة الثانية
في بيان أقوال الفقهاء في هذه المسألة والقاعدة
فنقول: المشهور عند الإمامية هو القول بنجاسة الكفار مطلقا ذميا كانوا أو
حربيا كتابيا أو غير كتابي بل ادعى الاجماع عليها جمع من الفقهاء المتقدمين كما في
الغنية (1) والناصريات (2) والانتصار (3) والسرائر (4) وغيرهم بل ادعى الشيخ في التهذيب (5)
إجماع الفقهاء قاطبة من الامامية ومن مخالفيهم.
ولكن الظاهر أن المشهور بين المخالفين هو القول بطهارتهم حتى أنه في الفقه على
المذاهب الأربعة (6) يدعي طهارتهم حيا وميتا ويستدل على ذلك بقوله تعالى ولقد
كرمنا بني آدم (7) ومن تكريمهم طهارة أبدانهم حيا وميتا ولم ينقل قولا بالنجاسة من

1. " العنية " ضمن " الجوامع الفقهية " ص 551.
2. " الناصريات " ضمن " الجوامع الفقهية " ص 180.
3. " الانتصار " ص 10.
4. " السرائر " ج 1، ص 73.
5. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 223.
6. " الفقه على المذاهب الأربعة " ح 1، ص 6.
7. الاسراء (17): 70.
331

أحد المذاهب الأربعة
ومقابل المشهور أو المجمع عليه قول شاذ من بعض الامامية بطهارة خصوص
الكتابي منهم، ونسب هذا القول من القدماء إلى ابن الجنيد (1) في مختصره، وأنكر
صاحب الجواهر (2) صراحة كلامه في ذلك ومع ذلك طعن عليه بأنه قائل بالعمل
بالقياس وأن أقواله مرفوضة عند الفقهاء لذلك.
وعلى كل حال المتتبع في الفقه يحصل عنده الشهرة المحققة من أصحابنا الإمامية
على نجاسة الكفار مطلقا وإن كان كتابيا كما أن المشهور بين المخالفين خلاف ذلك.
الجهة الثالثة
في بيان الأدلة الدالة على هذه القاعدة، وشرحها وكيفية دلالتها.
الأول الاجماع، وقد ادعاه جمع كثير وقد تقدم ذكر بعضهم والعبارة المنقولة
عن الوحيد البهبهاني قده (3) أن الحكم بنجاسة الكفار وإن كان كتابيا من ضروريات
المذهب وشعار الشيعة يعرفه المخالفون لهم عنهم، رجالهم ونسائهم بل صبيانهم،
قال في الجواهر بعد أن حكى كلام القديمين ابن الجنيد وابن عقيل، وأنكر ظهور
كلامهما في طهارة أهل الكتاب: فلا خلاف حينئذ يعتد به بيننا في الحكم المزبور، بل
لعله من ضروريات مذهبنا، ولقد أجاد الأستاذ الأكبر بقوله إن ذلك شعار الشيعة
يعرفه منهم علماء العامة وعوامهم ونسائهم وصبيانهم بل وأهل الكتاب. (4)
والانصاف أن اتفاق فقهاء الشيعة الإمامية الاثني عشرية على هذا الحكم مما لا
يمكن ان ينكر ومخالفة شاذ من المتأخرين منهم لا يضر بهذا الاجماع والاتفاق اللهم

1. نقله عنه في " كشف اللثام " ج 1، ص 46.
2. " جوهر الكلام " ج 6، ص 42.
3. نقله عنه في " جواهر الكلام " ج 6، ص 42.
4. " جواهر الكلام " ج 6، ص 42.
332

إلا أن يقال: إن اعتماد المتفقين في هذا الحكم على المدارك الآتية فليس من الاجماع
المصطلح الأصولي الذي نقول بحجيته.
الثاني قوله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام. (1)
وتقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة على نجاسة الكفار وتقريره: أما بالنسبة
إلى المشركين أي عبدة الأصنام والثنوية فواضح لا يحتاج إلى البيان.
وأما بالنسبة إلى المنكرين لأصل الألوهية الذين لا يقولون بوجود خالق للعالم
فبالأولوية القطعية، لان منشأ هذه النجاسة هو خبث النفس ودنائتها، ولا شك أن
مثال هذا المعنى في الماديين المنكرين لوجود الصانع الحكيم ثبوته بنحو أشد، لان
الخباثة والدنائة في نفوسهم أزيد واكد.
وأما بالنسبة إلى أهل الكتاب: أما المجوس على القول بأنهم منه فواضح، لأنهم
الثنوية القائلون بمبدئين ويعبرون تارة بالنور والظلمة، وأخرى بيزدان الذي هو مبدء
الخيرات عندهم وأهرمن الذي هو مبدء الشرور باعتقادهم.
وأما بالنسبة إلى اليهود والنصارى فلاطلاق المشرك عليهم في الكتاب العزيز في
قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله إلى قوله
تعالى شأنه سبحانه عما يشركون (2) فنسب اليهود والنصارى إلى الشرك بقوله
سبحانه عما يشركون.
وأشكل على الاستدلال بهذه الآية بوجوه:
الأول أن النجس بفتح الجيم مصدر ولا يحمل المصدر على الذات إلا بتقدير
ذو فيكون معنى الآية بناء على هذا أن المشركين ذو نجاسة، ومن هذا لا يستفاد أنها

1. التوبة (9)، 28.
2. التوبة (9): 30 - 31.
333

نجاسات ذاتية، بل يصدق عليهم هذا العنوان، وإن كانت نجاستهم عرضية.
وفيه أن حمل المصدر على الذات باعتبار المبالغة وادعاء أنه من مصاديقه أظهر
من التقدير حسب المتفاهم العرفي من أمثاله هذه التراكيب.
وقد يقال في الجواب عن هذا الاشكال بأن النجس بفتح الجيم كما يصح أن
يكون مصدرا كذلك يصح أن يكون صفة لان الصفة المشبهة كما أنها من الثلاثي
اللازم على وزن فعل بكسر العين كذلك تأتي على وزن فعل بفتح العين
كحسن، وصرح في القاموس بذلك في هذه المادة، وقال: النجس بالفتح وبالكسر
وبالتحريك وككتف وعضد ضد الطاهر. (1)
وفيه أن النجس بفتح الجيم وإن كان يأتي صفة كما أنه يصح مصدرا فيكون
مشتركا بين المصدر والصفة، ولكن لا يمكن أن يكون هاهنا صفة لعدم مطابقة الخبر
مع المبتدأ في الافراد والجمع، مع أن الخبر صفة.
وهذا الاشكال لا يرد إن كان مصدرا لان المطابقة في الافراد والجمع ليس شرطا
إذا كان الخبر مصدرا فيقال شهود عدل، ولا يصح أن يقال شهود عادل.
ولا يخفى أنه لو كان النجس مصدرا وكان حمله على المشركين من باب المبالغة
فلا يناسب النجاسة العرضية ويكون ظاهرا في الذاتية، فالحق ما أفاده الشيخ الأعظم
الأنصاري (2) في هذا المقام وهو أن النجس إما مصدر وإما صفة، وأيا ما كان يكون
ظاهرا في نجاستهم الذاتية.
الثاني أن الدليل على فرض تماميته أخص من المدعى، لان المدعي نجاسة كل
كافر والدليل لا يثبت إلا نجاسة خصوص المشرك منهم.
وفيه أنه قد تقدم شمول الآية للمنكرين لأصل الألوهية بالأولوية ولأهل

1. " القاموس المحيط " ج 20، ص 262 (نجس)
2. " كتاب الطهارة " ص 308.
334

الكتاب أي اليهود والنصارى، والمجوس أيضا بناء على أنهم أيضا من أهل الكتاب
بالعموم والشمول لاطلاق المشرك على اليهود والنصارى في الكتاب العزيز.
وأما المجوس فهم المشركون حقيقتا من دون عناية وتجوز في البين وأما في
غيرهم كالمنكرين للضروريات مثلا فبعدم القول بالفصل لعدم الخلاف في نجاسة
الكفار إلا في الكتابي وسنتكلم عنهم إنشاء الله في خاتمة هذا المبحث.
الثالث أن المراد بالنجس ليس هو المعنى المصطلح بين الفقهاء الذي هو أحد
الأحكام الشرعية الوضعية وهو مقابل الطهارة الشرعية التي هي أيضا أحد
الأحكام الوضعية بل المراد هو المعنى الذي يفهمه العرف من هذه اللفظة إذ
الخطابات الشرعية على طريقة المحاورات العرفية إذ لم يخترع طريقا خاصا لتفهيم
المكلفين، فإن كان في مورد إرادته من لفظ غير ما يفهمه العرف فعليه البيان، ولا شك
أن معنى العرفي للفظ النجس هي القذارة فلابد وأن يحمل على قذارة النفس وخباثتها
لا قذارة البدن لأنه ليس في أبدانهم قذارة أزيد مما في أبدان المسلمين بل حالهم من
هذه الجهة مع المسلمين سواء، فيكون أجنبيا عن مورد البحث.
وفيه أن هذا البيان يجري في ما ورد في سائر النجاسات كالكلب والخمر والميتة
وغيرها، ومع ذلك لم يتردد أحد من الفقهاء في حمل هذه الكلمة على المعنى الشرعي
فقوله عليه السلام الكلب رجس نجس (1) لم يحمله أحد إلا على النجاسة الشرعية
الاعتبارية.
والسر في ذلك أن الشارع في مقام بيان أحكامه، ولا شغل له بالقذارات العرفية
إلا أن يكون موضوعا لحكم شرعي، فإذا كانت النجاسة عنده أمر اعتبره في عالم
التشريع، فلابد وأن يحمل اللفظ عليه إلا مع بيان على عدمه.

1. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 225، ح 646، باب المياه وأحكامها، ح 29، " الاستبصار " ج 1، ص 19، ح 40،
باب حكم الماء إذا ولغ فيه الكلب، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1015، أبواب النجاسات، باب 12،
ح 2.
335

اللهم الا أن يقال: إن وقت نزول هذه الآية لم يشرع الطهارة والنجاسة بعد
ولكن هذا الاحتمال لا مجال له لأن هذه الآية في سورة البراءة بعد هجرة
النبي صلى الله عليه وآله وكان ذلك الوقت الطهارة والنجاسة الشرعيين معروفتان عند المسلمين.
الرابع أن المراد بالمشركين هم المشركون في ذلك الوقت أي مكة وسائر
القبائل العربية الذين يأتون إلى الحج ويدخلون المسجد الحرام للطواف حول الكعبة،
وأولئك كلهم كانوا عبدة الأصنام والكتابيون لا يحجون في ذلك الوقت وإلى الان هم
كذلك، فعلى تقدير كون النجاسة في الآية بالمعنى الشرعي لا يشمل غيرهم من سائر
فرق الكفار.
وفيه أن العبرة بعموم الكلام لا بخصوصية المورد، فإذا كان المشركون له
العموم من جهة ظهور الجمع المعروف باللام في العموم لجميع الافراد التي يصلح
للانطباق عليها، فورودها في مورد قسم خاص من المشركين لا يضر بالاستدلال
بعمومها.
فالانصاف أن هذه الاشكالات لا يرد شئ منها على الاستدلال بالآية
الشريفة فالآية تدل على نجاسة المشركين مطلقا كتابيا كانوا أم غيرهم، وعلى
غيرهم بعدم القول بالفصل، غاية الأمر نجاسة ما عدا المشركين ليس مدلولا للآية،
وإنما يثبت بأمر خارج عن الآية وهو القول بعدم الفصل.
والعجب من المحقق الفقيه الهمداني أنه قال في مصباح الفقيه: إن المتبادر من الآية
بشهادة سياقها مشركو أهل مكة التي أنزلت البراءة من الله ورسوله منهم ومنعوا من
قرب المسجد الحرام (1)
مع أن الآية في مشركي خارج مكة لقوله تعالى بعد هذه الجملة: فان خفتم

1. " مصباح الفقيه " ج 1، ص 558.
336

عليه فسوف يغنيكم الله من فضله (1) أي خفتم للفقر والنقص في معاشكم من
ناحية عدم اتيانهم إلى الحج والى مكة وعدم انتفاعكم بما يأتون به من الأجناس
والأموال التي كانت معهم للبيع والشراء معكم وكان أهل مكة خافوا انقطاع المتاجر
عنهم بمنع المشركين من دخول الحرم، فوعدهم الله تعالى بأنه جل شأنه سوف
يغنيهم من فضله، وهو تبارك وتعالى وفى بوعده، وكان يحمل الميرة إليهم من أنحاء
العالم.
وخلاصة الكلام في هذا المقام أن الآية الشريفة تدل على أن الله تبارك وتعالى
منع المشركين عن دخول المسجد الحرام، لأنهم أنجاس وحيث إن كلمة المشركون
جمع معرف باللام فهو عام يشمل كل من ينطبق عليه هذا العنوان فالآية ظاهرة في
أن كل مشرك نجس الموجودون في ذلك الزمان أو من يوجد فيما بعده إلى قيام القيامة
وبقاء هذا الدين.
اللهم الا أن يقال إن قوله تعالى إنما المشركون نجس (2) من قبيل القضايا
الخارجية والحكم فيها يكون على الافراد الموجودة في ذلك العصر، وفي ذلك القطر،
فلا يشمل غيرهم،
ولكن ما أظن أحدا يرتضي بهذه المقالة.
ولا شك أن ظاهر هذه الجملة أي قوله تعالى إنما المشركون نجس
كبرى كلية يعلل بها عدم جواز دخول مشركي القبايل في الحرم، ووجوب منعهم،
فالتعليل عام يشمل المشركين الذين كانوا موجودين في ذلك الزمان ومن لم يكن
ذلك الوقت موجودا، والذين كانوا يحجون كمشركي العرب في ذلك الزمان أو
لا يحجون كسائر المشركين وكاليهود والنصارى.
فالعمدة هو شمول لفظ المشرك لليهود والنصارى، وعدم شموله، وقد تقدم أنه

1. التوبة (9): 28.
2. التوبة (9): 28.
337

أطلق المشرك في الكتاب العزيز على اليهود والنصارى في بعض الآيات، وظاهر قوله
تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين (1) اثنين أن النصارى مشركون حقيقة،
لأنهم كانوا يعتقدون بألوهية عيسى وأمه، وكانوا يعبدون عيسى.
والشاهد على ذلك أنه لما نزل قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله
حصب جهنم أنتم لها واردون (2) قال عبد الله ابن الزبعرى: أما والله لو وجدت
محمدا لخصمته سلوا محمدا أكل من عبد من دون الله في جهنم مع من عبده، ونحن
نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى بن مريم. فلما وصل هذا
الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما أجهله بلسان قومه، فان ما لغير ذوي العقول
فلا يشمل هؤلاء، (3)
وأجيب عن إشكالهم بوجه آخر لسنا في مقام الجواب عن هذا الايراد وجوابه،
بل مقصودنا أن هؤلاء مشركون حقيقة في العبادة بل في الخلق والفاعلية فاليهود
والنصارى الذين نسميهم باهل الكتاب شركهم من سنخ شرك مشركي أهل مكة كما
كان يظهر من كلام ابن الزبعرى وأما المجوس فكونهم من المشركين أوضح حتى
يعرفون بالثنوية القائلين بإله الخير ويسمونه يزدان، وإله الشر ويسمونه بأهرمن.
وأما النصارى فإلى اليوم يقولون بألوهية المسيح ابن مريم عليهما السلام فهذا كتاب
المنجد في اللغة تأليف معلوف أحد الآباء اليسوعيين يقول في كلمة المسيح الاله
المتجسد (4) فلا ينبغي أن يشك في شرك الطوائف الثلاث اليهود والنصارى
والمجوس، ولا في دلالة قوله تعالى إنما المشركون نجس على نجاستهم.

1. المائدة (5): 116.
2. الأنبياء (21): 98.
3. انظر: " الكاشف " ج 3، ص 136، " أسباب النزول " للواحدي، ص 175، " الدر المنثور " ج 5، ص 679.
4. " المنجد في الاعلام " ص 750 (يسوع).
338

الثالث من الأدلة الدالة على نجاستهم الاخبار المروية عن الأئمة الأطهار عليهم السلام.
منها موثقة سعيد الأعرج أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن سؤر اليهودي
والنصراني: أيؤكل أو يشرب؟ قال عليه السلام: لا. (1)
منها: ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام في مصافحة المسلم لليهودي
والنصراني قال عليه السلام: من وراء الثياب، فان صافحك فاغسل يدك. (2)
منها صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن آنية أهل الذمة
والمجوس، فقال: لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم
التي يشربون فيها الخمر. (3)
منها رواية الكاهلي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوم مسلمين يأكلون
وحضرهم رجل مجوسي يدعونه إلى طعامهم، فقال: أما أنا فلا أواكل المجوسي
وأكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم. (4)
منها ما عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن مؤاكلة المجوسي في
قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد وأصافحه؟ فقال: لا. (5)

1. " الفقيه " ج 3، ص 347، باب الذبائح والمآكل، ح 4220، " وسائل الشيعة " ج 16، ص 384، أبواب الأطعمة
المحرمة، باب 4، ح 1.
2. " الكافي " ج 2، ص 650، باب التسليم على أهل الملل، ح 10، " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 262،
ح 764،
باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 51، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 262، أبواب النجاسات،
باب 14، ح 5.
3. " الكافي " ج 6، ص 264، باب طعام أهل الذمة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 5، " تهذيب الأحكام " ج 9، ص 88،
ح 372، باب الذبائح والأطعمة، ح 107، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1018،
أبواب النجاسات، باب 14، ح
1، و ج 16، ص 475، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح 3.
4. " الكافي " ج 6، ص 263، باب طعام أهل الذمة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 4، " " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1018،
أبواب النجاسات، باب 14، ح 2.
5. " الكافي " ج 2، ص 264، باب طعام أهل الذمة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 7، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1019،
أبواب النجاسات، باب 14، ح 6.
339

منها صحيحة علي بن جعفر عليه السلام السلام عن أخيه موسى عليه السلام قال: سألته عن فراش
اليهودي والنصراني أينام عليه؟ قال عليه السلام لا بأس، ولا يصلى في ثيابهما
وقال عليه السلام لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة، ولا يقعده على فراشه
ولا مسجده، ولا يصافحه. (1)
قال: وسألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق ليس يدري لمن كان؟ هل تصلح
الصلاة فيه؟ قال عليه السلام: إن اشتراه من مسلم فليغسل ثم يصلي فيه وإن اشتراه من
نصراني فلا يصلي فيه حتى يغسله.
أقول: هذه الروايات ظاهرة في نجاسة أهل الكتاب
أما الأولى أي موثقة سعيد الأعرج فلان ظاهر السؤال والجواب عن سؤر
اليهودي والنصراني جواز أكله وشربه وعدم جوازه من حيث نجاسة ذلك السؤر
وعدم نجاسته إذ ليس هناك جهة أخرى توجب الشك في الجواز كي يسئل عنه.
إن قلت: إنهم حيث يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فمن الممكن أن تكون
جهة السؤال هو احتمال أن يكون ذلك السؤر عن بقية لحم الخنزير في المأكول ومن
بقية الخمر في المشروب.
نقول أولا: إن هذه شبهة موضوعية تجري فيها أصالة الحل، ولم يدع أحد
معارضة هذه الرواية لقاعدة الحل،
وثانيا جوابه عليه السلام بلا مطلق وينفي جواز أكل سؤرهم وكذلك شربه مطلقا
سواء كان في مورد ذلك الاحتمال أو لا يكون،
وثالثا كون السؤال والجواب في مورد هذا الاحتمال خلاف الظاهر، إذ منشأ هذه
الشبهة أمور خارجية بعد معلومية حكم لحم الخنزير وحكم الخمر ومعلومية حكم

1. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 263،
ح 766، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ح 53، " وسائل
الشيعة " ج 2، ص 1020،
أبواب النجاسات، باب 14، ح 10.
340

الشبهة الموضوعية التحريمية.
وأما كون جهة السؤال احتمال تنجسهم بالنجاسات الخارجية لعدم اجتنابهم
عنها وكثرة استعمالهم لحم الخنزير والخمر وسائر المسكرات المايعة بالأصالة.
ففيه أن هذا الاحتمال لا يكون مختصا بهم بل يأتي في حق كل من لا يجتنب عن
النجاسات جميعها أو بعضها، سواء كان عدم اجتنابه عنها عن قلة المبالاة في الدين أو
من جهة عدم القول بنجاسته في مذهبه، وذلك لاختلاف الفتاوى في المذاهب في بعض
النجاسات.
هذا مضافا إلى أن ظاهر الرواية هو السؤال عن سؤرهما من حيث كونهما
يهوديا ونصرانيا والجواب أيضا كذلك فلا طريق ولا مجال لانكار ظهور الرواية في
نجاسة الكتابي.
وأما الرواية الثانية فقوله عليه السلام فان صافحك بيده فاغسل يدك، فلا ينبغي أن
يشك في ظهورها في نجاستهم.
وأما احتمال أن يكون الامر بالغسل من جهة النجاسة العرضية فقد رفعناه من
أن الظاهر أن وجوب الغسل بعد الفراغ من أنه في صورة رطوبة إحدى اليدين أو
كلتيهما من جهة ارتكاز اعتبار الرطوبة في أذهان العرف في مقام تأثير النجس أو
تأثر المتنجس كاشف عن تنجسه بواسطة المصافحة بيده المرطوبة أو يدك المرطوبة،
فيدل على نجاسة الكافر ولم تكن نجاسة عرضية في البين.
وأما الرواية الثالثة أي صحيحة محمد بن مسلم فظاهرها أن كل واحدة من
الجمل الثلاث التي ذكرها جملة مستقلة في قبال الاخر فقوله عليه السلام لا تأكلوا في
آنيتهم مطلق بل المراد هو الذي لا يشرب فيه الخمر وأيضا ليس من طعامهم الذي
يطبخونه فليس نجاسته بواسطة شرب الخمر أو وجود لحم الخنزير فيه، بل المنع من
جهة نجاستهم التي سرت إلى الكاس والآنية التي لهم ويستعملونها.
341

وأما الرواية الرابعة أي رواية الكاهلي فقوله عليه السلام أما أنا فلا أو اكل
المجوسي وإن كان من الممكن أن يكون تنزيها منه عليه السلام لا من جهة حرمته فلا يدل
على حرمة المؤاكلة معهم كي يستكشف منها نجاستهم، لكن قوله عليه السلام فيما بعد ذلك
وأكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم فيه إشعار بأن الحكم الواقعي وإن
كان هي الحرمة ولكن أنا أكره إظهاره لأجل أنكم تصنعون خلافه في بلادكم، فيشير
بهذه العبارة إلى عدم التحريم وكراهته لأجل الخوف والتقية وعلى كل حال إن لم
تكن ظاهرة في ما قلنا ليست ظاهرة في طهارتهم كما توهم.
واما الخامسة أي صحيحة علي بن جعفر فقوله عليه السلام لا يأكل المسلم مع
المجوسي في قصعة واحدة فلها كمال الظهور في نجاسة المجوسي، ولكن الاستدلال بها
موقوف على عدم القول بالفصل بين المجوسي وبين اليهودي والنصراني وعلى هذا
النمط سياق روايته الأخرى.
ثم إن بعضهم استدل على نجاسة أهل الكتاب بقوله تعالى كذلك يجعل الله
الرجس على الذين لا يؤمنون (1) باعتبار أن المراد من الرجس هي النجاسة، ولا
شك أن المراد من الذين لا يؤمنون في الكتاب العزيز هم مطلق الكفار الذين لم يؤمنوا
بالنبي وأنكروا رسالته ونبوته سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم، فظاهر
الآية أن الله تبارك وتعالى جعل النجاسة على الكفار، فهم نجسون.
ولكن يظهر من تفسير الآية كما ذكره المفسرون أن المراد من الرجس هنا
العذاب والعقاب، وعلى كل حال إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال لانهدام الظهور
هذا مضافا إلى عدم ظهور لفظة الرجس في حد نفسها في النجاسة الخبثية.
ثم إنه قد استدل لنجاستهم بروايات أخرى كثيرة متفرقة في أبواب الفقه كصحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: سألته عن النصراني يغتسل مع المسلم في

1. " الانعام " (6): 125.
342

الحمام فقال إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام إلا أن يغتسل وحده على
الحوض فيغسله ثم يغتسل. وسألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء
أيتوضأ منه للصلاة قال عليه السلام لا. إلا أن يضطر إليه. (1)
وحمل الشيخ (2) الاضطرار هاهنا على التقية، لان لا يقال: إن الاضطرار لا يوجب
جواز الوضوء بالماء النجس بل ينتقل إلى التيمم، ولا شك في أن ظاهر هذه الرواية
نجاسة أهل الكتاب.
وكمفهوم رواية سماعة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن طعام أهل الكتاب ما يحل
منه؟ قال عليه السلام الحبوب (3) وأمثال ذلك مما يدل على لزوم التجنب عنهم، وعدم الاكل
من طعامهم والركون إليهم من الأخبار الكثيرة المتفرقة في أبواب الفقه فلا يحتاج إلى
التطويل وفيما ذكرنا غنى وكفاية.
وخلاصة الكلام أن الأخبار المذكورة وإن كان من الممكن المناقشة في ظهور
بعضها في نجاستهم ولكن لا يمكن انكار ظهور بعضها الآخر.
ثم هناك أخبار أخر ظاهرة في عدم نجاستهم وجواز الاكل من طعامهم وفي
آنيتهم ربما تكون أظهر دلالة من الأخبار المتقدمة وأكثر عددا منها وبعبارة أخرى
هي على الطهارة أدل من دلالة ما تقدم على النجاسة.
منها صحيحة إسماعيل بن جابر قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما تقول في طعام
أهل الكتاب فقال لا تأكله ثم سكت هنيئة ثم قال: " لا تأكله، ثم سكت هنيئة

1. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 223،
ح 640، باب المياه وأحكامها، ح 23، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1020،
أبواب النجاسات، باب 14، ح 9.
2. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 223، ذيل ح 640.
3. " الكافي " ج 6، ص 263، باب طعام أهل الذمة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 2، " تهذيب الأحكام " ج 9، ص 88،
ح 375، باب الذبائح والأطعمة، ح 110، " وسائل الشيعة " ج 16، ص 381،
أبواب الأطعمة والأشربة المحرمة،
باب 51، ح 2.
343

ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تقول إنه حرام ولكن تتركه تنزها عنه، إن في آنيتهم
الخمر ولحم الخنزير (1) ودلالة هذه الرواية على عدم النجاسة وجواز مؤاكلتهم
واضحة بل صريحة وأن نهيه عليه السلام تنزيهي لا تحريمي.
وقال الفقيه النبيه الهمداني قده في مصباح الفقيه (2) إن هذه الرواية تصلح قرينة
بمدلولها اللفظي على صرف الاخبار الظاهرة في الحرمة أو النجاسة عن ظاهرها،
ومراده أن النواهي الموجودة في تلك الأخبار تكون أيضا تنزيهية وأشار شيخنا
الأعظم قده (3) في طهارته إلى ظهورها في التقية.
أقول: ما ذكره قده في غاية المتانة لان آثار التقية بادية عليها فإنه ع بعد ما بين
الحكم الواقعي للسائل سكت هنيئة وتأمل في طريق التخلص عن شر مخالفتهم في
هذه الفتوى فعلل ع نهيه بذلك التعليل تقية فينبغي ان نعد هذه الرواية من أدلة
النجاسة لا الطهارة.
منها صحيح العيص سألت أبا عبد الله عليه السلام عن مؤاكلة اليهود والنصارى
والمجوس
فقال عليه السلام إن كان من طعامك وتوضأ فلا بأس. (4)
ويمكن أن يقال في توجيه هذه الرواية أن المؤاكلة أعم من المساورة بل غيرها
لان معنى المؤاكلة أن يكون معه مائدة واحدة وإن كان يأكل في ظرف مستقل و
مختص به فلا تدل على طهارتهم أما التقييد بالتوضأ فيمكن أن يكون لأجل النظافة

1. " الكافي " ج 6، ص 264، باب طعام أهل الذمة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 9، " تهذيب الأحكام " ج 9، ص 87،
ح 368، باب الذبائح والأطعمة، ح 103، " المحاسن " ص 454، ح 377، " وسائل الشيعة " ج 16، ص 385،
أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح 4.
2. " مصباح الفقيه " ج 1، ص 560.
3. " كتاب الطهارة " ص 309.
4. " الكافي " ج 6، ص 263، باب طعام أهل الذمة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 3، " وسائل الشيعة " ج 16، ص 383،
أبواب الأطعمة المحرمة، باب 53، ح 1.
344

لكي يرغب الجلوس معه على مائدة واحدة.
ولكن الانصاف ان هذا التوجيه خلاف ظاهر الرواية وأما التقييد والاشتراط
بكونه من طعامه فلا ينافي طهارتهم لان المراد منه ان لا يكون الطعام مما حرم الله
اكله كلحم الخنزير مثلا.
منها صحيح إبراهيم بن أبي محمود قال قلت للرضا عليه السلام الجارية النصرانية
تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة قال عليه السلام لا بأس
تغسل يدها. (1)
منها صحيحة الآخر قال قلت للرضا عليه السلام الخياط أو القصار يكون يهوديا أو
نصرانيا وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال عليه السلام: لا بأس. (2)
ويمكن المناقشة في دلالة هاتين الصحيحتين على طهارتهم
أما في الأولى فلأنها قضية خارجية وجهها غير معلوم فلعل تلك الجارية
مأمورة بالخدمة من طرف سلطان الجور من دون إذنه، بل وبدون رضاه عليه السلام ومن
الممكن أن يكون الإمام عليه السلام يجتنب عما يلاقي بدنها مع الرطوبة ومن الممكن انها
كانت تخدمه عليه السلام في غير المطاعم والمشارب والملابس، كل ذلك مع احتمال ان
الإمام عليه السلام كان مضطرا في معاشرتها فليس كونها كذلك دليلا على إمضائه عليه السلام
طهارتها وتقريره عليه السلام لها.
وأما قوله عليه السلام لا بأس تغسل يديها، فلأجل أن المحذور في نظر الراوي كان
عدم اغتسالها عن الجنابة وعدم التوضأ عن النجاسات أي الاستنجاء فاجابه عليه السلام
بذلك الجواب بان ذلك المحذور يرتفع بان تغسل يديها.

1. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 399، ح 1245، باب الحيض والاستحاضة والنفاس، ح 68، " وسائل الشيعة "
ج 2، ص 1020، أبواب النجاسات، باب 14، ح 11.
2. " تهذيب الأحكام " ج 6، ص 385، ح 1142، باب المكاسب، ح 263، " الوافي " ج 6، ص 209، ح 4128،
باب تطهير من مس الحيوانات، ح 25.
345

وأما في الثانية فلان السؤال في الحقيقة عن حكم الشك خصوصا في الخياط
لأنه في الخياط من الممكن بل هو الغالب عدم ملاقاة الثوب مع بدن الخياط مع
رطوبة أحدهما.
وأما القصار وإن كان يلاقي بدنه الثوب لا محالة لكن السؤال عن تنجسه
بواسطة عدم التوضأ عن بوله فكأنه عدم نجاسته الذاتية كان مفروغا عند السائل
ويسأل عن تنجس الثوب الذي يغسله بواسطة وصول النجاسة العرضية من طرف
بوله وعدم التوضأ إلى ذلك الثوب ومعلوم ان وصول تلك النجاسة العرضية إلى
الثوب الذي يغسله مشكوك ولذلك لو كان القصار مسلما لا يتوضأ عن بوله لا نحكم
بنجاسة الثوب الذي يغسله وإن كان غسله بالماء القليل.
نعم يأتي اشكال آخر وهو أنه عليه السلام لماذا لم يردعه عن اعتقاده بطهارة الكتابي
بل قرره على ذلك بقوله عليه السلام لا بأس.
ويمكن ان يجاب عنه بأن تقريره عليه السلام له لعله من جهة التقية وذلك من جهة
ان تلك الاعصار كانت أعصار تقية لغلبة سلاطين الجور فكان الحكم الواقعي يخفى
على أغلب الرواة ومع ذلك لا يردعهم الإمام عليه السلام إما خوفا على نفسه وإما خوفا
عليهم، ولذلك ترى أن إبراهيم بن أبي محمود يسئل عن النجاسة العرضية لجهله
بالنجاسة الذاتية والإمام عليه السلام لا يردعه عن ذلك خوفا عليه أو لجهة أخرى.
منها حسنة الكاهلي قال سئل الصادق عليه السلام وأنا عنده عن قوم مسلمين
وحضرهم رجل مجوسي أيدعونه إلى طعامهم قال أما أنا فلا ادعوه ولا أواكله
وإني لأكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم (1)
وقد تقدم الكلام في هذه الرواية وأنها أظهر في نجاستهم من ظهورها في الطهارة،
وأن عدم بيان الحكم الواقعي لهم من جهة الخوف عليهم لكثرة البانين على طهارتهم

1. " الكافي " ج 6، ص 263، باب طعام أهل الذمة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1018،
أبواب النجاسات، باب 14، ح 2.
346

في بلادهم.
منها صحيح معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الثياب السابرية
يعملها المجوس وهم اخباث، وهم يشربون الخمر، ونسائهم على تلك الحال ألبسها
ولا اغسلها وأصلي فيها؟ قال نعم. قال معاوية فقطعت له قميصا وخططته وفتلت
أزرارا ورداء من السابري ثم بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار فكأنه
عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة. (1)
والخدشة في هذه الصحيحة بنفس ما حدثنا به صحيحة إبراهيم بن أبي محمود
الثانية، فلا نعيد فالسؤال عن النجاسة العرضية وهي مشكوكة بل هاهنا تنجسه من
قبل النجاسة أيضا مشكوكة فلا تقرير في البين.
منها صحيح ابن سنان قال سأل أبي أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر أني أعير
الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير. فيرده علي فاغسله قبل
أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام صل فيه ولا تغسله من اجل ذلك فإنك أعرته
إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن انه
نجسه. (2)
وهذه الصحيحة أيضا كما ترى سؤال عن النجاسة العرضية في مورد الشك فلا
دلالة لها في ما هو محل البحث نعم هذا التعليل يكون دليلا على حجية الاستصحاب
وأجنبي عن محل بحثنا.
منها رواية زكريا بن إبراهيم قال دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت اني رجل

1. " تهذيب الأحكام " ج 2، ص 362، ح 1497، باب ما يجوز الصلاة فيه...، ح 29، " وسائل الشيعة " ج 2،
ص 1093، أبواب النجاسات، باب 73، ح 1.
2. " تهذيب الأحكام " ج 2، ص 361، ح 1497، باب ما يجوز الصلاة فيه...، ح 27، " الاستبصار " ج 1،
ص 392، ح 1497، باب الصلاة في الثوب الذي يعار...، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 2، ص 1095، أبواب
النجاسات، باب 74، ح 1.
347

من أهل الكتاب واني أسلمت وبقى أهلي كلهم على النصرانية وأنا معهم في بيت واحد
لم أفارقهم فآكل من طعامهم؟ فقال عليه السلام لي: يأكلون لحم الخنزير فقلت لا
ولكنهم يشربون الخمر فقال لي كل معهم واشرب. (1)
وأنت خبير بأن قوله عليه السلام كل معهم واشرب مع اعتراف السائل بأنهم
يشربون الخمر ظاهر في التقية لان الخمر طاهر عندهم بخلاف لحم الخنزير، ولذلك
سئل عليه السلام عن أكلهم لحم الخنزير فلو كان جوابه أنهم يأكلون، لم يكن مورد
التقية.
ولكن السائل حيث نفى ذلك واعترف بأنهم يشربون الخمر والخمر عندهم
طاهر حكم بجواز الأكل والشرب معهم تقية إذ المنع عن الأكل والشرب معهم لابد
وأن يكون لاحد أمرين إما لنجاستهم ذاتا أو لكون الخمر نجسا، فإذا شربوا
يتنجسون وكلاهما مخالفان للتقية لأنهم لا يقولون بنجاسة أهل الكتاب ولا بنجاسة
الخمر، فلو كان عليه السلام بصدد بيان الحكم الواقعي فلابد له من الحكم بعدم جواز الأكل
والشرب معهم لا الجواز، فمعلوم أن حكمه بجواز الأكل والشرب معهم ليس حكما
واقعيا فلا يستكشف من حكمه هذا طهارتهم.
منها موثق عمار عن أبي عبد الله عليه السلام عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو اناء
غيره إذا شرب منه على أنه يهودي فقال نعم فقلت من ذلك الماء الذي يشرب
منه قال عليه السلام نعم. (2)
ولكن يمكن ان يقال لعل حكمه عليه السلام بجواز التوضي عن ذلك الماء الذي شرب
منه اليهودي مبنى على عدم انفعال ماء القليل بملاقات النجاسة فيكون سياق هذه

1. " تهذيب الأحكام " ج 9، ص 87، ح 369، باب الذبائح والأطعمة، ح 104، " المحاسن " ص 453، ح 373،
" وسائل الشيعة " ج 16، ص 385، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح 5.
2. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 223، ح 641، باب المياه وأحكامها، ح 24، " الاستبصار " ج 1، ص 18، ح 38،
باب استعمال أسائر الكفار، ح 3، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 165، أبواب الأسئار، باب 3، ح 3.
348

الموثقة سياق الروايات التي تدل على عدم انفعال ماء القليل بملاقات النجس أو
النجاسة.
واما الرواية الواردة (1) في تغسيل النصراني للرجل المسلم إذا لم يكن مماثلا للميت
المسلم أو ذات محرم مسلمة وكذلك تغسيل النصرانية للمرأة المسلمة إن لم يكن
مماثلة مسلمة أو محرم عن الرجال.
ففيها أولا يمكن أن تكون هذه الرواية أيضا من الروايات التي تدل على عدم
انفعال ماء القليل بملاقات النجاسة
وثانيا أنه يمكن تغسيله بصب الماء من إبريق مثلا من دون ملاقاة بدنه لبدن
الميت،
وثالثا يمكن أن يكون تغسيله بالماء الكثير.
وخلاصة الكلام أن هذه الروايات جميعها لا يخلو من المناقشات في دلالتها على
طهارة أهل الكتاب ولو سلمنا ظهور بعضها أو جميعها في ذلك وخلوها عن
المناقشات فأيضا لا يصح الاستدلال بها، بل لابد من طرحها وعدم الاعتناء بها.
بيان ذلك أن عمدة الدليل على حجية خبر الواحد هو بناء العقلاء والاخبار
التي تدل على ذلك يكون مفادها هو امضاء ذلك البناء وذكرنا المسألة مشروحا
مفصلا في كتابنا منتهى الأصول، (2) ولا شك في أن بناء العقلاء على حجية خبر
موثوق الصدور، وأما إذا لم يثقوا بصدوره فلا يرون حجيته، وإن كان الراوي إماميا
ثقة عدلا.
نعم أحد أسباب الوثوق بالصدور كون الراوي ثقة إن لم يعارضه جهة أخرى

1. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 340،
ح 997، باب تلقين المحتضرين وتوجيههم عند الوفاة، ح 165،
" وسائل الشيعة " ج 2، ص 704،
أبواب غسل الميت، باب 19، ح 1.
2. " منتهى الأصول " ج 2، ص 113.
349

ولا شك في أن اعراض قدماء الأصحاب عن رواية وعدم العمل بها مع كونها بمرأى
منهم ومضبوطة في كتبهم، ووصلت إلينا بواسطتهم ومع تعبدهم بالعمل بالاخبار،
وعدم الاعتناء بالاستحسانات والظنون التي ليس على حجيتها دليل عقلي أو نقلي.
حتى أن جماعة منهم رضوان الله تعالى عليهم كانت فتاويهم بعين ألفاظ الرواية حذرا من أن
يكون ظاهر لفظ فتواه غير ما هو ظاهر ألفاظ الرواية، ولذا اشتهر عنهم ان عند
إعواز النصوص يرجع إلى فتاوى علي بن بابويه قده وذلك لان فتاواه كانت بعين
ألفاظ الرواية.
فمع هذا التعبد الشديد بالعمل بالروايات الموثوق صدورها إن أعرضوا عن
العمل برواية مع عدم إجمالها وظهورها وصحة سندها، فيستكشف من إعراضهم
وعدم عملهم بها انهم رأوا خللا في صدورها أو جهة صدورها فيوجب إعراضهم
عنها عدم حصول الوثوق بصدورها أو جهة صدورها.
وهذا بعد تمامية ظهورها وعدم إجمالها فتسقط عن الحجية التي موضوعها
الوثوق بصدورها وجهة صدورها بعد تمامية ظهور الرواية لان الحجية متوقفة
على هذه الأمور الثلاثة: الوثوق بصدورها، والوثوق بجهة صدورها، وعدم خلل في
ظهورها.
وإلى هذا يرجع ما اشتهر في ألسنتهم في مورد إعراض الأصحاب عن خبر أنه
كلما ازداد صحة ازداد وهنا وهذا معنى أن الاعراض كاسر للسند القوي، وأن عمل
الأصحاب جابر للسند الضعيف.
إذا عرفت ذلك فنقول:
إن إجماع علماء الإمامية وفقهائهم رضوان الله تعالى عليهم الا الشاذ ممن لا يعتنى
بخلافهم كابن الجنيد (1) من الصدر الأول إلى زماننا هذا على نجاسة أهل الكتاب حتى

1. نقله عنه في " كشف اللثام " ج 1، ص 46.
350

أنها صارت شعارا للإمامية رضوان الله تعالى عليهم ويعرفها نسائهم وصبيانهم بل هم
أي أهل الكتاب يعرفون هذه الفتوى منهم.
فمع هذا الاعراض لا يبقى وثوق بصدور هذه الروايات، أو وإن كانت صادرة
فليست لبيان حكم الله الواقعي بل صدرت تقية وخوفا من اشتهارهم بمذهب
خاص وطريقة مخصوصة على خلاف سائر الفقهاء، ولخوف الأئمة عليهم السلام من أن يكون
لهم ولأصحابهم مسلك خاص في الفقه وفتاوى مخصوصة بهم عليهم السلام ولذلك كانوا
يلقون الخلاف بين أصحابهم كي لا يتميزون ولا يعدون طائفة خاصة منسوبين
إليهم عليهم السلام.
والسر في ذلك عدم خوف الفقهاء من التفرد في الفتوى، لان سلاطين الوقت قد
علموا بأنهم لا يدعون الإمامة والخلافة ولم يكونوا في معرض هذا الامر ومراجعة
الناس إليهم كان صرف تقليد لهم في المسائل الشرعية والأحكام الدينية بخلاف
الأئمة عليهم السلام فإنهم كانوا في معرض هذا الامر، ورجوع الناس إليهم لم يكن بعنوان تعلم
الحكم الشرعي والمسألة الفقهية فقط. بل كان بعنوان أنهم أئمة معصومون
مفترضو الطاعة، ولذلك كانوا يخافون من التفرد في الفتوى والتميز عن فتاوى سائر
الفقهاء.
إذا عرفت ذلك فنقول: في كل مورد كان أصحابنا القدماء متفقين على فتوى
مخالفا لفتاوى سائر الفقهاء وصدرت عنهم عليهم السلام أخبار موافقة لفتاوى سائر الفقهاء
فليست تلك الأخبار حجة وإن كانت معلوم الصدور فضلا عما لا يكون كذلك، لان
أصالة جهة الصدور أصل عقلائي والدليل على حجيتها بناء العقلاء، إذ بناء العقلاء
على أن كل متكلم إذا تكلم بكلام يكون بصدد بيان مراده ومقصوده، وتشخيص
مراده من كلامه يكون بأصل عقلائي آخر، وهو أصالة الظهور.
ولكن في مثل المقام لا تجري ذلك الأصل العقلائي، أي أصالة جهة الصدور
وذلك من جهة أنه بعد ما علم أن المتكلم يخاف من التفرد والتميز، فلو تكلم بكلام
351

موافق لهم مع أن أصحابه كلهم يفتون بخلافهم، فلا تجري أصالة جهة الصدور لعدم
بناء العقلاء في مثل هذا المورد.
بل يحصل القطع غالبا بعدم كونه لبيان حكم الله الواقعي وإن لم يحصل القطع
لشخص فأصالة جهة الصدور لا تجري قطعا، وبدون جريانها لا حجية لتلك
الروايات قطعا لما ذكرنا أن حجية الاخبار غير القطعية متوقفة على جريان هذه
الأصول العقلائية الثلاثة: أصالة الصدور، وأصالة الظهور، وأصالة جهة الصدور.
وليس المقام من ترجيح أحد المتعارضين بمخالفة العامة كي يقال بأن هذا
الترجيح بعد ثبوت التعارض واستقراره، وثبوت التعارض واستقراره بعد فقد الجمع
الدلالي أي العرفي وعدم إمكانه.
وفيما نحن فيه الجمع الدلالي العرفي ممكن بحمل الاخبار التي مفادها نجاستهم
والنهي عن مواكلتهم وأكل طعامهم وشرب سؤرهم وغير ذلك على الكراهة وأخبار
الطهارة على الجواز، فيرتفع التعارض من البين.
وذلك لما قلنا من سقوط أخبار الطهارة عن الحجية، وإن لم تكن أخبار النجاسة
في البين أصلا، بل كان الصادر منهم عليهم السلام أخبار الطهارة فقط. لعدم جريان أصالة
جهة الصدور في نفسه، وإن لم يكن معارض في البين.
وبعبارة أخرى إن الخبر تارة يكون بنفسه ظاهرا في التقية، وإن لم يكن له
معارض وذلك من جهة ظهور أمارات التقية عليه، وأخرى لا يكون كذلك بل ليس
في البين شئ إلا صرف مطابقة مضمونه لفتاويهم، وهذا الأخير هو الذي يكون من
المرجحات عند التعارض، واعمال المرجحات والترجيح بها وجوبا أو استحبابا كما
ادعاه بعضهم بعد فقد الجمع الدلالي العرفي ومع إمكانه ووجوده لا يبقى تعارض في
البين كي يحتاج إلى إعمال المرجحات بل ينعدم موضوع الترجيح.
وأما الأول فموجب لسقوط الحجية وإن لم يكن معارض له أصلا، وذلك لما قلنا
أن الحجية متوقفة على الأصول العقلائية الثلاثة التي منها أصالة جهة الصدور ومع
352

تلك القرائن على كون صدوره تقية لا يجري ذلك الأصل العقلائي.
ولا نقول إن تلك الامارات والظنون حجج شرعية على أن هذا الخبر صدر تقية
كي تقول بأن تلك الامارات والظنون المدعاة في المقام ليست إلا ظنون غير معتبرة
فلا يثبت بها صدوره تقية، بل نقول مع وجود تلك الامارات التي عمدتها اتفاق
الأصحاب على الافتاء بخلافها والاعراض عنها وعدم العمل بها مع صحة سند
بعضها وظهورها في الطهارة، لا يبقى مجال لجريان أصالة جهة الصدور، وأنها لبيان
حكم الله الواقعي لأنها أصل عقلائي ولا بناء للعقلاء في مثل المورد، وإن كان
إعراضهم عن الخبر في حد نفسه ليس حجة شرعية على صدوره تقية.
فما ذكره الفقيه النبيه الهمداني قده (1) في هذا المقام وقال: فاعراض الأصحاب عنه
بالنسبة إليه أمارة ظنية لا دليل على اعتبارها، واضح البطلان، ثم هو يعترف بأنه إن
أثرت وهنا في الرواية من حيث السند إلى آخر ما أفاد، سقطت عن الحجية ولكن
لا يؤثر فيما هو موضوع أصالة الصدور، لأنه ليس موضوعه الظن الشخصي
بالصدور بل يكفي وثاقة الراوي.
وهذا الكلام عنه وإن كان في حد نفسه لا يخلو عن مناقشة ولكن الاشكال عليه
من جهة أخرى، وهو أن كلامنا الان في عدم جريان أصالة جهة الصدور مع وجود
أمارة التقية والظن بذلك، وإن كانت تلك الامارة وذلك الظن غير معتبر في حد نفسها.
ولا نقول أيضا بأنا نقطع بعدم صدور هذه الأخبار لبيان حكم الله الواقعي كي
تقول بأن القطع حجة في حق نفس القاطع لا غيره، بل نقول بعدم جريان ذلك الأصل
العقلائي والحجية متوقفة عليه.
وأما ما افاده أخيرا بعد كلام طويل وقال: فالحق أن المسألة في غاية الاشكال،
ولو قيل بنجاستهم بالذات والعفو عنها عند عموم الابتلاء أو شدة الحاجة إلى

1. " مصباح الفقيه " ج 1، ص 561.
353

معاشرتهم ومساورتهم أو معاشرة من يعاشرهم لمكان الحرج والضرورة كما يؤيده
أدلة نفي الحرج لم يكن بعيدا إلى آخر ما قال وأفاد قده.
ففيه أولا ما عرفت أن المسألة لا إشكال فيها، وأما قوله بالعفو لأدلة الحرج فقد
بينا في قاعدة الحرج من هذا الكتاب أن لقاعدة الحرج والضرر حكومة واقعية على
أدلة الأحكام الواقعية بمعنى رفع الحكم الحرجي والضرري واقعا، فالدليل يدل على
ثبوت حكم واقعي لموضوع من الموضوعات فهو بعمومه أو إطلاقه يشمل أي حكم
كان حرجيا أو غير حرجي، ولكن القاعدة مفادها ارتفاع ذلك الحكم عن صفحة
التشريع إن كان حرجيا بالنسبة إلى أي شخص من الأشخاص.
مثلا مفاد قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم (1) هو
وجوب الوضوء على كل واحد من افراد المؤمنين، سواء كان حرجيا في حق شخص
أو لم يكن، ولكن قاعدة الحرج توجب رفع الوجوب الحرجي عن كل شخص كان
الوجوب حرجيا في حقه، ولكن النفي بلسان نفي المحمول والمحمول على الوضوء هو
الوجوب فالنتيجة أن الوجوب الحرجي لم يجعل في الدين ولكن الحرج حرج
شخصي.
وبعبارة أخرى مفاد القاعدة أن الحكم الحرجي في حق أي شخص كان ليس
بمجعول في الدين فلابد وأن يكون شخص ذلك الحكم المرفوع حرجيا فيمكن أن
يكون حرجيا في حق شخص دون شخص آخر وفي وقت دون وقت آخر، فليس
كونه حرجيا نوعا موجبا لارتفاعه عن كل شخص، وإن لم يكن حرجيا في حقه.
نعم قد يكون الحرج منشأ لجعل حكم، ولكن ذلك لا يثبت بدليل الحرج بل
يحتاج إلى دليل آخر.
إذا عرفت ذلك فنقول: إذا كان ترك المؤاكلة أو المساورة معهم حرجيا بالنسبة

1. المائدة (5): 6.
354

إلى شخص فيرتفع حرمتهما عن ذلك الشخص دون الآخرين الذين ليسا تركهما لهم
حرجيا، وهذا ليس تفصيلا في المسألة، بل هذه القاعدة تجري في جميع الأحكام
الشرعية إلا في الأحكام التي يكون موضوعها حرجيا دائما مثل الجهاد مثلا.
وأما إن أراد بارتفاع الحرمة وعدم لزوم الاجتناب عنهم ارتفاعها مطلقا، ولو لم
يكن بالنسبة إليه حرجيا للحرج النوعي، فيحتاج إلى دليل يدل على ذلك، وليس
شئ هاهنا من هذا القبيل، بل يجب الاجتناب عما لاقى بدنهم بالرطوبة إلا أن
يكون الاجتناب بالنسبة إلى خصوص شخص حرجيا، وهذا لا اختصاص له
بالكافر، بل إذا كان الاجتناب عن أي نجس بالنسبة إلى أي شخص حرجيا
بالخصوص فلا يجب الاجتناب بناء على جريان القاعدة في المحرمات أيضا مثل
الواجبات على إشكال في ذلك خصوصا في الكبائر.
فالتمسك بقاعدة الحرج لاثبات طهارتهم أو العفو عن لزوم ترتيب آثار
النجاسة مع ملاقاتهم بالرطوبة أو استعمال ما لاقاهم بالرطوبة فيما يشترط فيه
الطهارة كالأكل والشرب إذا كان الملاقى لهم في المأكولات والمشروبات، أو الصلاة
فيه إذا كان من الثياب مثلا لا وجه له أصلا، وقاعدة الحرج أجنبية عن هذا المقام.
وأما الاستدلال لطهارة أهل الكتاب بآية اليوم أحل لكم الطيبات وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم (1): بأن يقال قوله تعالى طعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم مطلق يشمل ما باشروه بالرطوبة وما لم يباشروه فإذا
كان ما باشروه مع الرطوبة حلالا فلابد من القول بطهارتهم، والا لو كانوا نجسين فما
باشروه مع الرطوبة يصير نجسا فيكون أكله حراما لحرمة أكل النجس فحليته
مطلقا تكون ملازمة مع طهارتهم.

1. المائدة (5): 5.
355

وفي هذا الاستدلال جهات من الاشكال:
الأول ان الطعام حسب نقل أهل اللغة إما خصوص البر أو مع الشعير أو
الحبوب جميعا، أو بإضافة البقول، فهذه الكلمة، وإن كانت في أصل اللغة تستعمل في
كل ما يطعم به ولكن عند العرف تستعمل في المذكورات، فتكون من قبيل المنقول
العرفي كلفظ الدابة والغائط، والمناط في باب تشخيص الظهورات هو الفهم العرفي
والمعاني المذكورة أجنبية عن الاستدلال، إذ مبناه على كون الطعام يشمل مطلق ما
يطعم به من المطبوخ وغير المطبوخ، كي يكون شاملا لما يباشره الكتابي مع الرطوبة
في مقام الاكل أو الطبخ.
الثاني تفسيره بالحبوب المروي عن الأئمة المعصومين عليهم السلام في أخبار كثيرة. (1)
الثالث أن المراد بالحلية هي أن طعامهم من حيث انتسابه إليهم وكونه ملكا لهم
ليس محرما عليكم، فالآية في مقام دفع توهم الحظر كما أن قوله تعالى والمحصنات
من الذين أوتوا الكتاب (2) أيضا في مقام دفع توهم الحظر، فكأنهم كانوا يحتملون
حرمة المبايعة والمعاملة معهم، وأن أجناسهم من حيث الانتساب إليهم حرام عليهم
مع أنها من الطيبات فلا ينافي هذا المعنى كونها محرمة من جهة حرمتها في نفسه كلحم
الخنزير مثلا، أو من جهة نجاستها لملاقاتها لبدنهم مع الرطوبة أو لملاقاتها لنجاسة
أخرى، ومن هنا نعرف فائدة ذكر حلية طعام أهل الكتاب مع أنه من الطيبات.
وأما الاستدلال لطهارتهم بأصالة الطهارة في الشبهات الحكمية فهو مع هذا
الاجماع القوي والاتفاق الذي قلما يتفق في موارد الشبهات الحكمية مثله، وتلك الأخبار
التي مرت عليك والآية الشريفة إنما المشركون نجس فلا يقربوا
المسجد الحرام (3) لا يخلو عن غرابة.

1. انظر " وسائل الشيعة " ج 16، ص 283،
أبواب الذبائح، باب 26، ح 1 و 6، وص 291، باب 27، ح 46.
2. المائدة (5): 5.
3. التوبة (9): 28.
356

ثم إنه بعد الفراغ عن دلالة الأدلة المتقدمة على نجاستهم فالظاهر شمول هذا
الحكم لجميع اجزاء بدنهم سواء كانت مما تحلة الحياة أو لم تكن كالكلب والخنزير.
وذلك من جهة أن الدليل إذا دل على نجاسة الكتابي أو بعناوين اليهود
والنصارى والمجوس أو المشرك، فظاهره أن بدن هؤلاء نجس لأن النجاسة الخبثية
من عوارض الجسم، ولو كان معروضها خصوص عضو أو كان بعض الاجزاء أو
الأعضاء خارجا عنه. ولم يكن معروضا للنجاسة، لكان عليه البيان، وإذ ليس فاللفظ
يشمل البدن بجميع أعضائه وأجزائه سواء كانت مما تحله الحياة أو لم تكن.
هذا مضافا إلى اطلاق معقد الاجماع على نجاستهم وعدم تفريقهم بين القسمين
وأما ما يقال من مخالفة السيد لهذا الاجماع المدعى في المقام لأنه يقول هناك
بعدم نجاسة شعر الخنزير،
ففيه أولا لا ملازمة بين المقامين لأنه من الممكن أن يكون شعر الخنزير طاهرا
ويكون شعر الكافر نجسا كما أن شعر الكلب نجس.
وثانيا قوله بطهارة شعر الخنزير لوجود رواية على جواز جعله حبلا والاستقاء
به، وهو مخصوص بمورده، مع أن هذا الاستنباط لا يخلو عن اشكال إذ لا ملازمة لا
عقلا ولا شرعا ولا عرفا بين جواز جعله حبلا مع طهارته.
وثالثا مخالفته لا يضر بتحقق الاجماع.
واما استشكال صاحب المعالم (1) في نجاسة ما لا تحله الحياة من أجزاء بدن الكافر
وأعضائه: بأن قياس الكافر على الكلب والخنزير ليس في محله، لان الحكم في الكلب
والخنزير على المسمى وعلى هذين العنوانين، فيشمل جميع أجزائهما، واما في الكافر
فليس الامر كذلك لان دلالة الآية ضعيفة، والاخبار لا تدل على نجاسة هذا العنوان،
فلا دليل على نجاسة أجزائه التي لا تحلها الحياة، والاجماع دليل لبي لا إطلاق له.

1. " المعالم " ص 299.
357

ولكن قد عرفت دلالة الآية والاخبار على العناوين المذكورة مضافا إلى إطلاق
معقد الاجماع.
وأما أولاد الكفار غير البالغين فبناء الأصحاب على نجاستهم، ويظهر عن كلام
جماعة أنهم ادعوا الاجماع عليه،
واستدلوا على ذلك بأمور:
الأول الاجماع.
الثاني السيرة المستمرة من المتدينين الملتزمين بالعمل، باحكام الدين على
معاملة آبائهم،
والانصاف أن هذه السيرة مما لا يمكن أن ينكر وجودها وتحققها، بل البحث عن
نجاستهم وعدم نجاستهم مخصوص بالكتب العلمية، وإلا فالمرتكز في أذهان المسلمين
أن حالهم حال آبائهم في النجاسة وعدمها، ولا يخطر ببالهم خلاف هذا.
الثالث التبعية في النجاسة والطهارة،
وفيه أن التبعية في الحكم يحتاج إلى دليل، والا لا وجه لاسراء الحكم من
موضوع إلى موضوع آخر، بناء على عدم صدق عنوان الكافر على أولادهم، وإلا
لو صدق لا تصل النوبة إلى الاستدلال بالتبعية، بل يشملهم أدلة نجاسة الكفار مثل
شمولها لآبائهم، من دون احتياج إلى التبعية.
واما التمسك على تبعيتهم لآبائهم بالسيرة، فهذا عدول عن هذا الدليل إلى دليل
آخر.
الرابع أنهم كفار فيشملهم أدلة نجاسة الكفار من الآيات والروايات والاجماع
والسيرة،
وتوضيح هذا المطلب يحتاج إلى بيان معنى الكافر والمشرك واليهود
358

والنصارى والمجوس، أي العناوين الواردة في الآيات والروايات ومعاقد الاجماعات
فنقول:
إن كان الكفر بمعنى صرف عدم الاعتقاد بنبوة نبينا صلى الله عليه وآله وما جاء به وبعبارة
أخرى عدم الاعتقاد بأصول دين الاسلام كي يكون التقابل بينه وبين الاسلام
تقابل السلب والايجاب، فأولاد الكفار كافرون لأنهم لا يعتقدون بالعقائد الاسلامية
مميزهم وغير مميزهم.
وأما إن كان بمعنى عدم الاعتقاد في الموضوع القابل، كي يكون التقابل بينهما
تقابل العدم والملكة، وهو الصحيح، فلا يمكن أن يقال بكفر الطفل غير المميز، لعدم
قابليته لهذا الاعتقاد.
اللهم إلا أن يقال بصحة إطلاقه على الطفل المميز القابل لهذا الاعتقاد وثبوت
الحكم في سائر الأطفال بعدم القول بالفصل.
الخامس استصحاب نجاسته حينما كان في بطن أمه خصوصا قبل ولوج الروح
فيه لأنه قبل ولوج الروح هو بعد جزء من أجزاء أمه كسائر ما في أحشائها من أعضائها
الباطنية.
وفيه أولا كونه جزءا منها بحيث يكون نجسا كسائر أعضائها الباطنية مشكل،
وعلى تقدير كونه كذلك فاستصحاب بقائها أيضا لا يخلو من إشكال للشك في بقاء
الموضوع بعد الولادة والانفصال.
السادس الروايات
منها صحيحة ابن سنان سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أولاد المشركين يموتون قبل
أن يبلغوا الحنث، قال عليه السلام: كفار، والله أعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل
آبائهم (1) فصرح عليه السلام بأنهم كفار.

1. " الفقيه " ج 3، ص 491، باب حال من يموت من أطفال المشركين والكفار، ح 4740.
359

وأما الاشكال على دلالة هذه الرواية بأنها واردة في مقام بيان حالهم بعد
الموت وأنهم يعاقبون أم لا؟ فلا دخل لها بنجاستهم في حال الحياة،
فعجيب لان جهة الاستدلال بهذه الرواية ليست باعتبار أنهم يعاقبون بعد
الموت أم لا كي يرد هذا الاشكال، بل جهة الاستدلال بها هي حكمه عليه السلام بأنهم
كفار، ولا شك في أن كفرهم ليس باعتبار كونهم بعد الموت كذلك، وذلك لوضوح ان
من ليس بكافر حال الحياة لا يصير كافرا بعد الموت.
فالانصاف أن الرواية تدل على أنهم كفار في حال الحياة فقهرا يترتب على هذا
العنوان حكمه أي النجاسة فظاهر الرواية أن كونهم كافرين حكم ظاهري لعدم
العلم بحالهم والله يعلم بما كانوا يعملون بعد بلوغهم، وظاهر حالهم أنهم يدخلون
مداخل آبائهم في اعتقاداتهم كما هو المعهود من أغلب الطوائف والأمم.
منها خبر حفص بن غياث: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل من أهل الحرب
إذا أسلم في دار الحرب فظهر عليه المسلمون بعد ذلك، فقال عليه السلام إسلامه اسلام
لنفسه ولولده الصغار، وهم أحرار وولده ومتاعه ورقيقه له، فأما الولد الكبار فهم
فيئ للمسلمين، إلا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك. (1)
وهذه الرواية وإن دلت على تبعية ولد الصغار لآبائهم في الاسلام، ولكن إسراء
تبعيتهم في الاسلام إلى تبعيتهم في الكفر يكون قياسا رديئا، لان من الممكن أن يكون
الاسلام لشرافته يؤثر في إسلام أولاده الصغار، وأما الكفر حيث ليس له شرافة
يقف على نفسه ولا يستتبع أولاده كما أن ولادة الطفل لو صار في حال إسلام أحد
أبويه يستتبعه في الطهارة فهذه الرواية أجنبية عن محل بحثنا.
وأما استدلال الايضاح (2) في محكى مفتاح الكرامة لكفرهم بقوله تعالى ولا

1. " تهذيب الأحكام " ج 6، ص 151، ح 262، باب المشرك يسلم في دار الحرب...، ح 1، " وسائل الشيعة "
ج 11، ص 89،
أبواب جهاد العدو وما يناسبه، باب 43، ح 1.
2. " إيضاح الفوائد " ج 1، ص 364.
360

يلدوا إلا فاجرا كفارا (1) فلا وجه له أصلا، لان ظاهر الآية الشريفة أن نوحا عليه السلام بعد
تلك الدعوة الطويلة وعدم اجابتهم يأس من قبولهم الايمان، أو يلدوا من يقبل الايمان
بعد بلوغه، أو أخبره الله تعالى بأنهم لا يلدون من يقبل الايمان بعد بلوغهم كما
احتمله في تفسير مجمع البيان، (2) ولذلك دعا عليهم وقال هذا الكلام.
وقال في مجمع البيان والمعنى لا يلدوا إلا من يكون عند بلوغه كافرا وربما
يؤيد هذا المعنى ذكر فاجرا قبل ذكر كفرهم، بناء على أن يكون الفجور هاهنا بمعنى
الزنا كما هو أحد معانيه المشهورة.
وقد ظهر مما ذكرنا أنه لا دليل على نجاسة أولاد الكفار غير البالغين إلا السيرة
التي تقدم ذكرها والحكم بأنهم كفار في صحيحة ابن سنان.
وأما خبر وهب بن وهب عن الإمام الصادق عليه السلام قال: أولاد المشركين مع
آبائهم في النار وأولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة (3)
وكذلك الخبر الآخر فأما أطفال المؤمنين فإنهم يلحقون بآبائهم وأولاد
المشركين يلحقون بآبائهم وهو قول الله عز وجل والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم
بايمان ألحقنا بهم ذريتهم (4) فدلالتهما على نجاسة أولاد الكفار لا يخلو من نظر و
تأمل.
هذا حال أولاد الكفار الذين هم غير بالغين المعلوم أنهم أولاد الكفار.
وأما اللقيط الذي لا يعلم أنه من أولاد المسلمين أو الكفار، فان وجدت حجة و
امارة شريعة على أنه من أولاد إحدى الطائفتين يلحقه حكمها والا فمقتضى الأصل

1. نوح (71): 27.
2. " مجمع البيان " ج 5، ص 365.
3. " الفقيه " ج 3، ص 491، باب حال من يموت من أطفال المشركين والكفار، ح 4739.
4. " الكافي " ج 3، ص 248، باب الأطفال، ح 2، والآية في سورة الطور (52): 21.
361

هي الطهارة.
وأما بالنسبة إلى غيرها من سائر الأحكام، فكل حكم كان الاسلام تمام
موضوعه أو جزئه أو شرطه فلا يترتب عليه للزوم إحراز الموضوع وليس ما يحرزه
في المقام إلا ما توهم من كونه في بلد أو مكان يغلب عليه المسلمون، أو التمسك
بقوله صلى الله عليه وآله كل مولود يولد على الفطرة. (1)
اما الأول اي كون الغالب فيه المسلمون وان ورد ما يدل على أنه امارة
التذكية ولكن اثبات اماريته مطلقا بحيث يثبت به اسلامه، أشبه بالقياس، إذ لا دليل
عليه بالخصوص واسراء اماريته على التذكية بكونه أمارة على الاسلام، مرجعه إلى
القياس الذي لا نقول بحجيته.
وأما الثاني فمعناه ان المولود بحسب خلقته الأصلية وما فطره الله عليه يولد
غير مائل عن الحق وغير مائل عن الطريق المستقيم وغير معاند للحق خاليا عن
التعصب وعن الأخلاق الرذيلة، وإنما أبواه يحدثان فيه هذه الأمور فحب أخذ
طريقة الآباء أمر عارضي فيهم حدث من تربية أبويه فلا يدل أن الولد مسلم حتى يثبت خلافه وبعبارة أخرى لا يدل على أن في مورد الشك في اسلامه يحكم باسلامه
حتى يثبت خلافه.
هذا مضافا إلى أن الولد في ابتداء تولده ليس قابلا لان يكون مسلما بالمعنى
الحقيقي لأنه عبارة بذلك المعنى من اعتقادات مخصوصة والولد غير قابل ذلك فهو
ليس بمسلم حقيقة، وإنما الكلام في أنه بحكم الاسلام أم لا، وهذه الرواية أجنبية عن
هذا المعنى.
وأما ما تمسك به الشيخ قده لاسلام الطفل المشكوك بقوله صلى الله عليه وآله الاسلام يعلو و
لا يعلى عليه ". (2)

1. " الكافي " ج 2، ص 13، باب قطرة الخلق على التوحيد، ح 3، " عوالي اللئالي " ج 1، ص 35، ح 18.
2. " الفقيه " ج 4، ص 334، باب ميراث أهل الملل، ح 5719، " وسائل الشيعة " ج 17، ص 376، أبواب موانع
362

ففيه أن ظاهر هذه الجملة ان كانت انشاء وفي مقام التشريع كما هو الظاهر هو
أنه بعد الفراغ عن اسلام شخص وأنه مسلم يعلو على غير المسلم في عالم التشريع و
لا يعلو غير المسلم عليه، مثلا لا مانع من أن يكون هو مالكا أو زوجا لغير المسلم و
لكن لا يمكن أن يكون غير المسلم زوجا أو مالكا له، الا أن يأتي دليل مخصص لهذا
العموم في القضيتين: اي جملة الاسلام يعلو وجملة الاسلام لا يعلى عليه وأنت
خبير ان مثل هذا المعنى حكم بعد الفراغ عن ثبوت الموضوع، فلا يمكن اثبات
الموضوع اي الاسلام حكما أو موضوعا به.
وأما إن كانت إخبارا كما هو خلاف الظاهر فلابد وان تحمل إما على الآخرة
أي في الآخرة يعلو الاسلام على الكفر، لان الكفار في الآخرة يصيرون أذلاء
صاغرين أو تحمل على الدليل والبرهان أي الاسلام في مقام الدليل والبرهان يغلب
على سائر الأديان الباطلة الحقة أو المنسوخة إن تحمل على آخر الزمان بعد ظهور المهدي
عجل الله تعالى فرجه، كل ذلك لأجل أن لا يلزم الكذب في كلامه صلى الله عليه وآله حاشاه.
وعلى كل واحد من التقديرين لا ربط له بمسألة كون اللقيط المشكوك محكوما
بالاسلام موضوعا أو حكما.
وأما أولادهم الصغار المسبيون الذين سباهم المسلمون، فلا يخلو الحال إما هم
مع أبويهم أو أحدهما، وإما هم وحدهم، فان كانوا مع أبويهم أو مع أحدهما، فالظاهر
هو إلحاقهم بهما على إشكال فيما إذا كانوا مع أمهم وحدها، وذلك لشمول السيرة
المدعاة على إلحاقه بالسابي لمثل هذا المورد أيضا وأما إذا كانوا وحدهم فالظاهر هو
اتفاق الأصحاب وتسالمهم على إلحاقه بالسابي وطهارته لعدم شمول إطلاقات أدلة
نجاسة الكفار لمثل المقام ولا أدلة تبعية الصغار لآبائهم الكفار له، فيكون المرجع هي

. الإرث باب 1، ح 11، " عوالي اللئالي " ج 1، ص 226، ح 118، و ج 3، ص 496، ح 15.
363

أصالة الطهارة بعد ما لم يكن دليل على نجاستهم.
اللهم الا أن يقال باستصحاب نجاستهم قبل السبي، بناء على عدم تغير الموضوع
وأن لا يكون موضوع الالحاق بآبائهم مقيدا بما إذا كانوا معهم، ولكن على فرض
جريان هذا الاستصحاب وصحته تكون السيرة المدعاة على تبعيته للسابي، حاكمة
على هذا الاستصحاب فالعمدة في هذا المقام هو تحقق هذه السيرة وعدمه.
وأما أولاد الكفار الذين بلغوا وهم مجانين
فربما يتوهم طهارتهم لأجل ارتفاع التبعية بالبلوغ، وعدم صدق الكافر عليهم،
وإن كان الكفر على ما هو الحق عندي عبارة عن عدم الاعتقاد بالمبدء والمعاد، ونبوة
نبينا صلى الله عليه وآله وحقية ما جاء به فهو معنى عدمي ولكن ذلك العدم لابد وأن يكون في
موضوع قابل، ولذلك لا يقال للجمادات والنباتات والحيوانات كفرة مع عدم
اعتقادها بما ذكرنا قطعا.
وفيه أن ما ذكر وإن كان حقا ولكن هنا وجه آخر لعدم جريان أصالة الطهارة
في حقهم، وهو أحد الأمور الثلاثة:
إما شمول اطلاقات أدلة نجاسة الكفار لهم عرفا لأنهم عندهم كفار، لا من باب
خطائهم في التطبيق كي يقال ليس التطبيق بيد العرف، فإذا كان تطبيقهم على غير ما
هو مصداق حقيقي للمفهوم، فلا اثر بل من جهة أن المفهوم عندهم معنى أوسع،
فينطبق على من بلغ مجنونا حقيقة،
ولكن في هذا الوجه تأمل واضح.
وإما قيام السيرة المستمرة من المتدينين على الاجتناب عنهم ومعاملة النجاسة
معهم ولكن وجود مثل هذه السيرة المتصلة بزمانهم عليهم السلام غير معلوم.
وإما محكومة بالاستصحاب ولا شك في عدم تغيير موضوع النجاسة عند
364

العرف بدقايق قليلة بعد البلوغ مع ما قبله فلا مجال لجريان أصالة الطهارة أصلا.
هذا فيما إذا كان الجنون متصلا بالصغر وعدم البلوغ وأما لو جن بعد ما بلغ
عاقلا ولو بمدة قليلة فلا ينبغي أن يشك في نجاسته وعدم جريان أصالة الطهارة في
حقه لصدق الكافر عليه في ذلك الزمان الذي كان عاقلا وإن كان ذلك الزمان قليلا
وأنت خبير بأنه لا فرق بين أن يكون الكافر عشرين سنة عاقلا فيصير مجنونا أو
كان ساعة عاقلا وصار بعدها مجنونا، لان المناط فيهما واحد.
نعم لو كان جنونه بعد مدة الفسحة للنظر بعد أن صار بالغا بدون فاصل فبناء
على طهارته أيام الفسحة للنظر والاجتهاد كما هو الصحيح، فالظاهر طهارته لأنه
بناء على هذا صار طاهرا بعد أن كان نجسا، فطرأ جنونه على الانسان الطاهر.
وذلك لان تبعيته ارتفعت بالبلوغ فارتفعت بالنجاسة التبعية التي كانت فيه
بارتفاع عليها، أو موضوعها بناء على ما هو الصحيح والمفروض أنه في مدة الفسحة
أي النظر والاجتهاد لتشخيص ما هو الحق من العقائد والأديان يكون طاهرا و
بحكم المسلم ثم جن بلا فصل فيكون كمسلم جن لا من باب القياس بل من باب
عدم شمول اطلاقات أدلة نجاسة الكافر له فيكون المرجع أصالة الطهارة بل لا مانع
من جريان استصحاب طهارة زمان الفسحة.
وأما أولاد الكفار من الزنا فأيضا يتبعون آبائهم في النجاسة، وذلك لان نفي
الولدية عنهم باعتبار الإرث لا مطلقا وقد بينا (1) في قاعدة الولد للفراش أن رسول
الله صلى الله عليه وآله أمر سؤدة بنت زمعة بالاحتجاب عن ولد ولد على فراش أبيها زمعة لكثرة
شبهها بالزاني. (2)

1. " القواعد الفقهية " ج 4، ص.
2. " صحيح بخاري " ج 2، ص 3 و 4، كتاب البيوع، باب تفسير المشتبهات، " صحيح مسلم " ج 3، ص 256،
كتاب الرضاع، باب 10، ح 36 و 37.
365

والحاصل كون الولد المخلوق من ماء رجل ومن بطن امرأة ولدا لها أمر
تكويني بمعنى أن الانتساب بينه وبينها ليس أمرا اعتباريا بل عرض خارجي وله
حظ من الوجود في الخارج، ولا يرتفع بالرفع التشريعي.
نعم يمكن أن يرفعه الشارع باعتبار آثاره الشري أي يجعل في عالم الاعتبار
التشريعي وجوده كالعدم، ولكن ليس في ولد الزنا دليل ينفي الولدية باعتبار جميع
آثارها فيجب ترتيب آثار الولدية ما عدا الذي يكون النفي باعتباره.
ولذلك لا يجوز للزاني تزوج بنته من الزنى ولا أمه ولا أخته إذا كانت هذه النسبة
حاصلة من الزنا، فإذا جاء دليل على الحاق أولاد الكفار بآبائهم في النجاسة و
تبعيتهم لهم فيشمل الولد الذي حصل له من الزنا كما يشمل من لم يكن من الزنا ولا
فرق بين أن يكون الزنا من طرف واحد أو من الطرفين واتضح وجه ذلك.
هذا إذا كان الأبوان كلاهما كافرين واما لو كان أحدهما مسلما لا يلحقه هذا
الحكم لان الولد ملحق بأشرف الأبوين وهو المسلم منهما، هذا معلوم إذا كان الولد
شرعيا كما إذا كان الأب مسلما في النكاح الصحيح أو كان الوطي من طرف
الام المسلمة وطئ شبهة، وأما إذا كان المسلم الأب فالمسلمة التي تكون إما زان أو
زانية فهل يلحق الولد بالطرف المسلم أيضا أم لا؟ الظاهر هو الالحاق أيضا لما تقدم
أن النفي ليس إلا بلحاظ بعض الآثار لا جميعها.
اللهم الا أن يقال النسبة الحاصلة من الزنا ليست لها شرافة كي تكون موجبة
للالحاق بالزاني المسلم أو الزانية المسلمة.
ولكن يمكن أن يقال إن الحكم بالطهارة في المفروض ليس من جهة الالحاق
بالمسلم، بل من جهة أن القدر المتيقن من الاجماع على إلحاق ولد الصغير الكافر به في
النجاسة فيما إذا كان الأبوان كافرين، وأما إذا كان أحدهما مسلما فليس اجماع في البين،
وليس دليل لفظي على التبعية كي يؤخذ باطلاقه فيكون المرجع هي أصالة الطهارة
لا الالحاق بالمسلم.
366

هذا مضافا إلى اطلاق معاقد الاجماعات فيما إذا كان أحد أبويه مسلما في الحكم
بالحاقه بالطرف المسلم وان كانت النسبة من الزنا فعلى كل حال لا ينبغي الشك في أن
الولد إذا كان أحد أبويه مسلما وإن كان من الزناء لا يلحق بالكافر نعم حكى عن
كاشف الغطا خلاف ذلك فقال بالحاق الولد بالكافر إذا كان الحل من طرفه وكان
الزنا من طرف المسلم وهو محجوج بما ذكرناه فلا نعيد.
ثم إنه بعد ما عرفت ان الكافر بجميع أقسامه محكوم بالنجاسة يقع الكلام في
عناوين اخر وأنها هل داخلة في عنوان الكافر موضوعا أو حكما أولا هذا ولا ذاك،
فنختم هذه المسألة ببيان أمور لتوضيح هذا المطلب
فنقول.
الأمر الأول في منكر الضروري وهو من جحد ما ثبت أنه من الدين ضرورة
والمراد بثبوته من الدين بالضرورة أنه لا يحتاج إثبات أنه من الدين إلى نظر واستدلال بل
يعرف كونه من الدين كل أحد إلا أن يكون جديد الاسلام بحيث لا علم ولا اطلاع
له على أحكام الاسلام ولا على عقائده، أو عاش في بلد بعيد عن بلاد الاسلام ولا
تردد له إلى بلاد المسلمين، ولا معاشرة له معهم.
ثم إنه وقع خلاف عظيم بين الفقهاء في أن كفر منكر الضروري هل هو لأنه
سبب مستقل له تعبدا ولو لم يكن موجبا لانكار النبوة والرسالة، أو من جهة رجوعه
إلى ذلك،
والمشهور بل ادعى في مفتاح الكرامة (1) أنه ظاهر الأصحاب وهذه العبارة
مشعر بالاجماع هو أنه سبب مستقل،

1. " مفتاح الكرامة " ج 1، ص 143.
367

وقال جماعة أخرى منهم المحقق الخونساري وابنه وآغا جمال (1) والأردبيلي
وكاشف اللثام وصاحب الذخيرة (2) والمحقق القمي قدهم أن جحود الضروري ليس
بكفر في نفسه، إلا إذا كشف عن إنكار النبوة.
واستدل للقول الأول بالاجماع والاخبار التي منها صحيحة الكناني وهي
عمدتها عن أبي جعفر عليه السلام قال قيل لأمير المؤمنين عليه السلام من شهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله سلم كان مؤمنا قال عليه السلام فأين فرائض الله؟ قال: وسمعته
يقول كان علي عليه السلام يقول لو كان الايمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا
حلال ولا حرام. قال: وقلت لأبي جعفر عليه السلام إن عندنا قوما يقولون إذا شهد ان لا
اله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله فهو مؤمن قال عليه السلام: فلم يضربون الحدود؟ ولم
تقطع أيديهم؟ وما خلق الله عز وجل خلقا أكرم على الله عز وجل من مؤمن، لان
الملائكة خدام المؤمنين، وإن جوار الله للمؤمنين، وإن الجنة للمؤمنين، وإن الحور
للمؤمنين ثم قال عليه السلام فما بال من جحد الفرائض كان كافرا. (3)
وموضع الاستدلال لقولهم بأن إنكار الضروري موجب للكفر وإن لم يكن
موجبا لتكذيب النبوة هي الجملة الأخيرة من هذه الرواية فكأنه عليه السلام جعل كفر من
يجحد الفرائض من المسلمات ومفروغا عنه فيقول عليه السلام لو كان صرف قول
الشهادتين كافيا في تحقيق الاسلام فلماذا يكون جاحد الفرائض كافرا؟ فالنتيجة أن
جاحد الفرائض كافر مع إقراره بالشهادتين فمنكر الضروري الجاحد للفرائض ليس
كفره من جهة تكذيبه للنبوة، بل كافر مع إقراره بالتوحيد والنبوة.
وفيه أن الجحد هو الانكار مع العلم قال في القاموس جحد حقه أنكره مع

1. " التعليقات على شرح اللمعة الدمشقية " ص 24.
2. " ذخيرة المعاد " ص 152.
3. " الكافي " ج 2، ص 33، باب بدون العنوان من كتاب الايمان والكفر، ح 2، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 23،
أبواب مقدمة العبادات: باب 2، ح 13.
368

علمه (1)، فلا محالة يكون جاحد الفرائض التي من الضروريات مكذبا للنبوة فلا يتم
الاستدلال فجحده للفرائض ينقض إقراره فيكون كافرا من جهة أن إنكار وجوب
الفرائض يرجع إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وتكذيب أن كل ما جاء به هو من عند الله.
ومنها صحيح عبد الله بن سنان من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها
حلال أخرجه ذلك من الاسلام وعذب أشد العذاب، وإن كان معترفا أنه ذنب ومات
عليها أخرجه من الايمان ولم يخرجه من الاسلام، وكان عذابه أهون من عذاب
الأول. (2)
والاستدلال بهذه الصحيحة على أن إنكار الضروري كفر بنفسه من دون كونه
موجبا لتكذيب النبوة، قوله عليه السلام فزعم أنها حلال فان زعم حلية شرب الخمر
مثلا التي هي إحدى الكبائر إنكار للضروري، لان حرمته من الضروريات وهذا الانكار
والزعم سبب لخروجه عن الاسلام، مع عدم إنكاره للنبوة.
وفيه أن حرمة الكبائر معلومة لنوع المسلمين ولا يجهله إلا من هو جديد العهد
بالاسلام أو كان في بلاد بعيدة عن بلاد الاسلام، مع عدم معاشرته مع المسلمين، وإلا
فزعم حلية الكبيرة غالبا ملازم مع تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وهذا هو ظاهر الرواية فلا
تدل على أن انكار الضروري بنفسه سبب مستقل للكفر الذي هو مدعاهم.
وهنا روايات أخر ذكروها لمدعاهم تركنا ذكرها لوضوح عدم دلالتها فقد
عرفت عدم دلالة هذه الأخبار على أن إنكار الضروري سبب مستقل للكفر.
وأما الاجماع الذي ادعوه في المقام فلا صغرى له ولا كبرى أما الصغرى
فلكثرة القائلين بالخلاف من الذين هم العظماء من الفقهاء، وأما الكبرى فلان إجماعهم
ليس من الاجماع المصطلح الذي نقول بحجيته الذي كاشف قطعي عن رأي

1. " القاموس المحيط " ج 1، ص 290 (حجد).
2. " الكافي " ج 2، ص 285، باب الكبائر، ص 23، " وسائل الشيعة " ج 1، 22، أبواب مقدمة العبادات،
باب 2، ح 10.
369

المعصوم عليه السلام لاحتمال أنهم بل المظنون اعتمادهم واتكائهم على أمثال هذه الروايات.
فبناء على هذا لو أنكر ضروريا من الضروريات لشبهة علمية حصلت من دون
تكذيبه للنبي صلى الله عليه وآله بل مع كمال إخلاصه والتصديق بنبوته صلى الله عليه وآله لا يحكم بكفره كما أنه
ربما حصل مثل هذه الشبهة لبعض المحققين في الحكمة الإلهية في المعاد الجسماني فإنه
بعد ما يبنى على تركب الجسم من المادة والصورة يقول بأن المعاد هي الصورة
الجسمية من دون مادة وجسمية الجسم بصورته لا بمادته، وذلك بناء منهم على أن
شيئية الشئ بصورته لا بمادته، فالمعاد في يوم النشور هو عين البدن الموجود في دار
الغرور ولكن العينية بالصورة لا بالمادة.
وأنت خبير بأن هذا القول مخالف للضروري لما هو الثابت في الدين الاسلامي
بالضرورة ان المعاد في يوم القيامة عين البدن الدنيوي صورة ومادة لا صورة فقط،
وأمثال ذلك مما أنكروه بشبهة علمية حصلت لهم، فلا يوجب أمثال ذلك الكفر بناء
على قول من يقول بان صرف انكار الضروري لا يوجب الكفر ما لم يكن تكذيبا
للنبي صلى الله عليه وآله.
إن قلت: إن الخوارج والنواصب الذين يبغضون أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده
المعصومين وسيدة نساء العالمين ويسبونهم ويقتلونهم لا يكذبون النبي صلى الله عليه وآله ومع ذلك
يعتقدون بأمثال هذه الآراء الباطلة فلماذا يفتون بنجاستهم.
قلنا إن الحكم بنجاستهم ليس من جهة إنكارهم الضروري بل لأجل أدلة
خاصة وردت فيهم وسنتكلم عنها إنشاء الله تعالى، ويمكن أن يكون من جهة ان
جهلهم بلزوم مودة هؤلاء المكرمون عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وآله وأن بغضهم بغض
رسول الله صلى الله عليه وآله يكون عن تقصير، وإلا لو كانوا يفحصون ويلقون حب طريقة الاباء
والعصبية يهديهم الله إلى طريق الحق والصواب قال الله تبارك وتعالى والذين
370

جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (1) والجاهل المقصر ليس معذورا.
فكما أن الجاهل المقصر في الأحكام الفرعية الالزامية لو خالف جهلا لا يعذر
ويكون معاقبا مثل العالم، كذلك في الأمور الاعتقادية لو لم يعتقد بما يلزم الاعتقاد به
كالمعاد الجسماني أو اعتقد الخلاف لا يكون معذورا.
وخلاصة الكلام أنه لا يظهر من الأدلة إلا أن انكار الضروري موجب للكفر
لكونه موجبا لتكذيب النبي صلى الله عليه وآله لا انه سبب مستقل للكفر.
الأمر الثاني الخوارج والنواصب فالأول هم الذين يستحلون قتل
أمير المؤمنين عليه السلام والثاني هم الذين يبغضونه أو يبغضون أهل البيت الذين امر الله
بمودتهم فالظاهر هو الاتفاق على نجاستهم مضافا إلى ورود روايات كثيرة عن أهل
بيت العصمة تدل على نجاستهم.
وفي بعض تلك الأخبار المروي عن العلل في الموثق أن الله لم يخلق خلقا
أنجس من الكلب وان الناصب لنا أهل البيت أنجس منه (2) وكل ما يدل على نجاسة
النواصب يدل على نجاسة الخوارج بطريق أولى لأنهم أشد نصبا منهم.
الأمر الثالث الغلاة وهم الذين يألهون عليا أمير المؤمنين أو أحد الأئمة
المعصومين عليهم السلام، فيقولون بربوبيتهم أو حلوله تعالى العياذ بالله فيهم كافرون
أنجاس ولا فرق بينهم وبين سائر المشركين، وقد ورد اللعن عليهم من الأئمة
المعصومين.
الأمر الرابع المجبرة والمفوضة، والمراد بالأول هو أن العباد مجبورون في أفعالهم
مسخرون في إراداتهم بحيث لا يقدر العاصي على ترك العصيان ولا المطيع على ترك
الإطاعة، وذلك لانتهاء إراداتهم إلى إرادة الله تعالى شأنه الأزلية القديمة بنحو ترتب

1. العنكبوت (29): 69.
2. " علل الشرائع " ص 292، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 159، أبواب الماء المضاف والمستعمل،
باب 11، ح 5.
371

المعاليل على عللها كما هو الظاهر من آراء الأشاعرة.
ومقابلهم المعتزلة القائلين بالتفويض، وقد نسب إليهم أنه لو جاز العدم العياذ
بالله على إله العالم لما ضر عدمه بالعالم، وأن العباد مستقلون في أفعالهم
ولازم القول الأول صدور القبيح العياذ بالله من الله تعالى، لان العقاب على
الفعل غير الاختياري قبيح خصوصا إذا كان سلب القدرة منه تعالى بإرادته تعالى،
واسناد القبيح العياذ بالله إلى الله إنكار للضروري، وهو أنه تعالى لا يفعل القبيح.
وأما الثاني أي المفوضة فيرجع كلامهم إلى استغناء العالم العياذ بالله وان
إرادة الله العياذ بالله ليست محيطة بالافعال والأشياء وهذا أسوء من الأول، ولذا
قال الأئمة المعصومون لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الامرين. (1)
ولكن هذه أبحاث كلامية لا ربط لهما بعقائد المسلمين يصيب فيها بعض ويخطئ
بعض، ولذلك لو سئلت عن أي واحد من المسلمين هل أنت مجبور على فعل كذا
يقول لا، حسب ارتكازه، وأيضا لو يسأل عنه أنه هل الله تبارك وتعالى يفعل
القبيح يقول لا، وكذلك لو سئل أن هذا الفعل الذي تريد أن تفعل تقدر ان تفعل ولو
لم يرد الله ذلك يقول لا بل بإرادة الله، ولذلك في أمر يقول افعل انشاء الله،
ويعلقه على مشية الله جل جلاله، فلوازم هذه الآراء الباطلة لا يلتزم بها أحد من
المسلمين، وإنما هي صرف أبحاث علمية التي يقع فيها الخطأ كثيرا من كثير
من الباحثين.
الأمر الخامس المجسمة والمشبهة والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق، وذلك
من جهة أن تجسيمه تعالى نوع وقسم من التشبيه ودائرة التشبيه أعم إذ يمكن
تشبيهه بغير الأجسام من الممكنات والمخلوقات مثل أن يقال مثل الله تبارك وتعالى
إلى المخلوقات والعالم نسبة النفس الناطقة المجردة إلى أبدان الآدميين، وعلى كل حال

1. " التوحيد " ص 360، ح 3.
372

من الضروري أنه تعالى ليس بجسم ولا شبيه بخلقه في كونه محلا للعوارض
والطواري.
فالقول بأنه جسم أو شبيه بالمخلوقات إنكار للضروري فان قلنا بأن إنكار
الضروري سبب مستقل للكفر وإن لم يكن موجبا لتكذيب النبي صلى الله عليه وآله فحالهم معلوم
وأما إن قلنا بأنه ليس سببا مستقلا فإن كان ملتفتا إلى لوازم ما يقول من أن
التجسم واحتياجه إلى المكان والحيز ينافي القدم ووجوب الوجود فهو كفر، لأنه في
الحقيقة بناء على هذا لم يذعن بوجود صانع قديم فليس مقرا بالله خالق السماوات
والأرضين.
وأما القول بأن التجسيم والتشبيه بالنسبة إليه تعالى ليس إنكارا للضروري،
لان ظاهر بعض الآيات وبعض الأخبار يوهم ذلك، فلا يخلو من غرابة، وعلى كل
حال لا شك في أن التجسيم كفر بالله العظيم، إلا أن يكون ضعيف العقل قاصرا عن
فهم لوازم كلامه.
الأمر السادس القائلون بوحدة الوجود من الصوفية بمعنى أنه ليس في عالم
الوجود إلا وجود هو الله تعالى فيدعون أن وجود جميع الموجودات ليس أمرا
مباينا مع وجود الله جل جلاله بل هي عينه تعالى.
وخلاصة الكلام والأقوال في هذه المسألة هو أنه بناء على أصالة الوجود
واعتبارية الماهية فالوجودات المنسوبات إلى الأشياء المحمولات على موضوعاتها إما
حقائق متباينة بتمام ذواتها البسيطة كما يقول به المشاؤن، وهذا القول والرأي لا
اشكال فيه شرعا ولا يخل بالاعتقادات، وإن أشكل عليه أيضا بعض بأنه لا يمكن
اثبات وحدانيته تعالى مع اتخاذ هذا الرأي، ولا يمكن دفع شبهة الثنوية المنسوبة إلى
ابن كمونة (1) ولكن على فرض صحة هذا الكلام هذا من اللوازم البعيدة المغفول عنها

1. انظر: " الاسفار " ج 6، ص 58، " لمعات الهية " ص 151، " شرح المنظومة " ج 3، ص 514.
373

لغالب أهل البرهان والتحقيق، فضلا عن العوام، فلا يوجب كفرا قطعا.
واما حقيقة واحدة، ولكن لها مراتب متفاوتة بالكمال والنقص والشدة
والضعف فوجود كل شئ من الأشياء غير وجودات الاخر، ولكن الجميع سنخ
واحد والاختلاف بينها باختلاف المراتب غاية الأمر أن وجود الواجب تعالى
المرتبة غير المتناهية غير المحدودة بحد مطلقا حتى الحد الذهني والعقلي لان كل
ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق لكم مردود إليكم (1) وليس هو
الجواب.
فالقول بالوحدة السنخية مع تعدد الوجودات واقعا وخارجا لا إشكال فيه من
ناحية العقائد الدينية، فإن كان فيه إشكال فهو من حيث البراهين والأدلة العقلية
وأن التشكيك في الذاتيات هل يمكن أو لا يمكن.
وبناء على هذا القول في عين الكثرة العددية والفردية وحدة وهي المعبر عنها
بالوحدة السنخية وفي عين الوحدة كثرة فردية وهي المعبر عنها بالكثرة العددية أو
الفردية.
وإما حقيقة واحدة ووجود واحد وموجود واحد لا تعدد في الوجود أصلا،
ويظهر ذلك الوجود الواحد في المظاهر والمجالي المتعددة وكل واحد من هذه المظاهر
والمجالي وجوده نفس ذلك الوجود الواحد وليس شئ غيره، فيصح أن يقول ذلك
المظهر والمجلى باعتبار وجوده أنا هو.
وحيث إن ذلك الوجود الواحد هو الله والمظاهر والمجالي هي الممكنات
والمخلوقات قاطبة، فكل واحد من الممكنات بالنظر إلى وجوده هو الله جل جلاله،
العياذ بالله من هذه الأباطيل التي ينكرها العقل والنقل، وجميع الشرايع والأديان
الحقة.

1. " بحار الأنوار " ج 66، ص 293، باب صفات خيار العباد وأولياء الله، ذيل ح 23، وفيه " كلما ميزتموه
بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ".
374

وأما إن كانوا يقولون بأن ذلك الوجود الواحد هو الله والممكنات لا وجود لها
وليست إلا صرف خيال وأوهام وبعبارة أخرى ينفون الوجود عما سوى الله، ولا
يدعون أن للمكنات وجودا ووجودها عين وجود الله جل جلاله.
فهذا القول وإن لم يكن كفرا لكن انكار للبديهي وخلاف ما يدركه العقل السليم
عن شوائب الأوهام وكيف يمكن أن يدعى أن هذه السماوات مع أنجمها والأرض مع
جبالها وأنهارها وأشجارها وأبحرها ومعادنها ونباتاتها وحيواناتها على اختلاف
مراتبها وآثارها لا وجود لها، وجميعها أوهام وخيالات، فبطلان هذا القول أوضح من
أن يحتاج إلى بيان أو برهان.
ولكن الذي يسهل الخطب أن كثيرا من الشعراء الذين يذكرون أمثال هذه
الخرافات والأباطيل في أشعارهم وأقوالهم ليس الا صرف لقلقة لسان من دون تدبر
وتفكر في معاني هذه الجمل والكلمات، ولعله إلى ما ذكرنا يشير فقيه عصره في كتابه
عروة الوثقى بقوله وأما المجسمة والمجبرة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا
التزموا بأحكام الاسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلا مع العلم بالتزامهم بلوازم
مذاهبهم من المفاسد. (1)
الأمر السابع ولد الزنا طاهر إن كان من المسلمين، بل وإن كان أحد أبويه
مسلما خصوصا إذا لم يكن الطرف الآخر أي الكافر أو الكافرة غير زان.
وبعبارة أخرى تارة يكون الزنا من الطرفين، ففي هذه الصورة لو كان أحد أبويه
مسلما يكون الولد تابعا له، وأخرى يكون من طرف واحد وفي هذه الصورة إن
كان الزنا من طرف من ليس بمسلم، فلا شك في إلحاقه بالطرف الذي هو مسلم،
وأما إن كان الزنا من طرف المسلم، فربما يستشكل إلحاقه بالمسلم، لان
الطرف الآخر الذي هو غير المسلم ينسب إليه الولد ولا يعارضه انتسابه التكويني

1. " العروة الوثقى " ج 1، ص 54.
375

إلى المسلم لأن المفروض أنه زان والشارع لم يعتبر الانتساب الذي يكون سببه الزنا
وألقاه وجعله كالعدم.
وفيه أن الشارع لم يلقه بالمرة وإلا كان تزويج بنته من الزنا جائزا، وأيضا لو
كان الأبوان كلاهما مسلمين زانيين أيضا لا يلحق بهما، والحديث الشريف الولد
للفراش وللعاهر الحجر (1) في مورد الشك، والمورد المفروض في مورد اليقين
بالانتساب إليهما، فلا يشمله الحديث فهذا الاشكال أو التوهم في غير محله، وإن صدر
عن بعض أعاظم أساتيذنا.
ثم إن الحكم بطهارته يكون بمقتضى الأصل مع عدم دليل يوجب الخروج عن
مقتضاه، والمسألة ذات قولين، والمشهور على الطهارة وحكى عن الصدوق (2) وعن
السيد (3) والحلي (4) نجاسته، ونسب صاحب الجواهر إلى الكليني أيضا احتمالا وهذه
عبارته بل ربما قيل إنه ظاهر الكليني أيضا (5)، وحكى صاحب الجواهر عن الحلي في
سرائره (6) أن ولد الزنا قد ثبت كفره بالأدلة بلا خلاف بيننا.
ثم إن الكلام في ولد الزنا تارة من حيث كفره وأخرى من حيث طهارته
ونجاسته.
فالأول أي كفره فالظاهر أن هذه الدعوى كما يقول صاحب الجواهر ضروري
البطلان لأنه كيف يمكن أن يقال للمؤمن الموحد المعترف بنبوة محمد والمعتقد بالمعاد
والمصدق لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وأن كل ما جاء به حق ومن عند الله والمقر والمعترف

1. صحيح البخاري " ج 2، ص 3 و 4، كتاب البيوع، باب تفسير المشتبهات، " صحيح مسلم " ج 3، ص 256،
كتاب الرضاع، باب 10، ح 36 و 37، " عوالي اللئالي " ج 2، ص 132، ح 359، وص 275، ح 41.
2. " الفقيه " ج 1، ص 9، باب المياه وطهرها ونجاستها، ذيل ح 11، " الهداية " ص 14.
3. " الانتصار " ص 273.
4. " السرائر " ج 1، ص 357.
5. " جوهر الكلام " ج 6، ص 68.
6. " السرائر " ج 2، ص 122، و ج 1، ص 357.
376

بولاية الأئمة الطاهرين أنه كافر، وهل هذا إلا مثل أن يقال للحار بارد وللأبيض
أسود.
واما الثاني أي نجاسته فعمدة مستند القائلين بها هي الأخبار الواردة فيهم وإلا
فاستدلال الحلي على نجاستهم بعدم الخلاف مع ذهاب المشهور إلى طهارتهم غريب.
وأما الاخبار
فمنها مرسلة الوشاء عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كره سؤر ولد الزنا
واليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف الاسلام، وكان أشد ذلك عنده سؤر
الناصب. (1)
والاستدلال بهذه المرسلة باعتبار كراهته عليه السلام من سؤر ولد الزنا، وجعله في
رديف اليهودي والنصراني والمشرك الذين أثبتنا أنهم أنجاس.
وفيه أن كراهته السؤر أعم من نجاسة ما بقي من شربة السؤر، لأنه من الممكن
أن تكون لجهات اخر وكون الجهة في الأنجاس نجاستهم لا يوجب أن تكون الجهة في
ولد الزنا أيضا تلك الجهة.
وذلك لأنه لا مانع من أن يكون الحكم الواحد على الافراد أو الأنواع المتعددة
بملاكات متعددة، بأن يكون في كل واحد منها ملاك يخصه مع أنه من الممكن أن
يكون الملاك في الجميع واحدا في المرسلة أيضا وهي الخباثة المعنوية الموجودة في
الجميع.
ومنها رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال لا تغتسل من البئر التي
تجتمع فيها غسالة الحمام فان فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء، وفيها

1. " الكافي " ج 3، ص 11، باب الوضوء من سؤار الحائض والجنب...، ح 6، " تهذيب الأحكام " ج 1، ص
223، ح 639، باب المياه وأحكامها، ح، 22، " الاستبصار " ج 1، ص 18، ح 37، باب استعمال أسئار الكفار،
ح 2، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 165، أبواب الأسئار، باب 3، ح 2.
377

غسالة الناصب الحديث. (1)
وجه الاستدلال بها واضح خصوصا مع تعليل النهي عن الاغتسال فيها بعدم
طهارة ولد الزنا إلى سبعة آباء.
وفيه أن نفس هذا التعليل دليل على أنه ليس المراد بقوله عليه السلام وهو لا يطهر
إلى سبعة آباء هي الطهارة عن الخبث، لان هذا شئ مستنكر لم يقل به أحد ان الولد
الشرعي لولد الزنا نجس خصوصا إذا كان ولدا سابقا له، والمراد هي الخباثة المعنوية
التي ربما ترثه الأولاد من الآباء، ومن الممكن بقاء هذه القذارة إلى سبعة آباء.
ومنها رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأول عليه السلام في حديث قال فيه ولا
يغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد
الزناء والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم. (2)
وفيه أن سياقها استدلالا وجوابا سياق رواية ابن أبي يعفور.
ومنها مرفوعة سليمان الديلمي إلى الصادق عليه السلام قال يقول ولد الزنا يا رب فما
ذنبي فما كان لي في أمري صنع فيناديه مناد ويقول له أنت شر الثلاثة أذنب والداك
فنشأت عليهما، وأنت رجس ولن يدخل الجنة إلا طاهر. (3)
وفيها أن المراد بالرجس في هذه المرفوعة هي القذارة والخباثة المعنوية بقرينة
قوله فنشأت عليهما أي نشأتك نشأة الطغيان والتمرد اللذين كانا في أبويك، وإلا لم
يكن أبواه نجسين، لان المسلم والمسلمة لا ينجسان بصدور الزنا منهما كي يكون
نشأته في النجاسة نشأتهما.

1. " الكافي " ج 3، ص 14، باب ماء الحمام والماء الذي تسخنه الشمس، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 1،
ص 159، أبواب الماء المضاف وغيره، باب 11، ح 4.
2. " تهذيب الأحكام " ج 1، ص 373، ح 1143، باب دخول الحمام وآدابه وسننه، ح 1، " وسائل الشيعة " ج 1،
ص 158، أبواب الماء المضاف والمستعمل، باب 11، ح 1.
3. " علل الشرائع " ص 188.
378

وأما الصفات النفسانية والحالات والملكات، سواء كانت فضائل ورذائل ترثه
الأبناء في الأغلب عن الآباء، فتفسير الرواية أن شقائك من قبل أبويك فليس في
المرفوعة ما يكون دليلا على نجاسة بدن ولد الزنا.
ومنها ما ورد من أن نوحا لم يحمل معه ولد الزناء في السفينة، مع أنه حمل الكلب
الخنزير فيستكشف من هذا أنه أنجس من الكلب والخنزير. (1)
وفيه أنه لا دلالة فيه أصلا، بل ولا تأييد من قبله لهذا المطلب أي نجاسة ولد
الزنا، وذلك من جهة بناء السفينة وصنعها لأجل خلاص المؤمنين عن الغرق وهلاك
الكافرين ولم يكن في المؤمنين ولد الزنا، لأجل ذلك لم يحمل، لا أنه كان في المؤمنين
وتركه لأجل نجاسته.
هذا أولا وثانيا على فرض أن يقال بوجوده ومع ذلك لم يحمله، وإن كان في
كمال الاستبعاد ويمكن أن يكون ترك حمله لأجل شقاوته وشؤمه، فربما يوجب حمله
ضررا على السفينة.
ومنها موثق زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام لا خير في ولد الزنا وبشره ولا
في شعره ولا في لحمه. (2)
وفيه أنه أجنبي عن محل البحث.
ومنها حسنة ابن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام لبن اليهودية والنصرانية
والمجوسية أحب إلي من لبن ولد الزنا. (3)
وفيه أيضا أنه أجنبي عن محل البحث من جهة أن اللبن غذاء ينمو به الجسم

1. " عقاب الأعمال " ص 252.
2. " المحاسن " ص 108.
3. " الكافي " ج 6، ص 43، باب من يكره لبنه ومن لا يكره، ح 5، " تهذيب الأحكام " ج 8، ص 109، ح 371،
باب الحكم في أولاد المطلقات، ح 20، " الاستبصار " ج 3، ص 322، ح 1147، باب كراهية لبن ولد الزنا،
ح 5، " وسائل الشيعة " ج 15، ص 184، أبواب أحكام الأولاد، باب 75، ح 2، وباب 75، ح 2، وباب 76، ح 2.
379

ولا شك في أن الغذاء يؤثر في الجسم أولا وبالذات، وفي الروح أيضا بتوسط تأثيره
في الجسم، وربما يكون أثر السوء كحصول الأخلاق الذميمة والملكات الرذيلة في
نفس الولد من لبن ولد الزنا أزيد من لبن الكفار، ولذلك قال عليه السلام إن لبن الكفار
الثلاثة أحب إلي من لبن ولد الزنا، فلا ربط لهذه الرواية بمسألة نجاسة بدن ولد الزنا.
وخلاصة الكلام أن هذه الأخبار وغيرها مما وردت في ذم ولد الزنا، يستفاد
منها أن المولود الذي يتولد من الزنا فيه اقتضاء الشقاوة والفساد والضلالة والميل إلى
الجور والباطل والخروج عن جادة الحق والطريق المستقيم، ولكن لا بحيث يسلب
عنه الاختيار كي يكون عقابه ومؤاخذته قبيحا وظلما عليه، بل يرتكب القبائح
بسوء اختياره فيعاقب على قبائح أعماله وأفعاله.
فمعنى قوله عليه السلام أنه رجس أو شر أو لا خير فيه أو لا يطهر إلى سبعة
آباء أو انه لا يحب أمير المؤمنين عليه السلام وأمثال ذلك من العبارات التي وردت في
الازدراء به، هو ما صرح به عليه السلام في مرفوعة سليمان الديلمي بقوله عليه السلام أنت شر
الثلاثة أذنب والداك فنشأت عليهما وأنت رجس (1) أي أنت نتيجة فسادهما وعملهما
القبيح فورثت الخباثة والتمرد والطغيان من ذلك الطاغي والمتمرد وتلك الطاغية
والمتمردة ومعلوم أن من كان جوهر ذاته ناشئة من عمل القبيح يكون فيه اقتضاء
جميع الشرور ولكن لا بحد يسلب الاختيار كي يكون عقابه قبيحا كما ذكرنا.
وبما ذكرنا يرتفع الاشكالات المتوهمة بالنسبة إلى ما ورد في حق ولد الزنا من
أنه لا يدخل الجنة، وان أطاع ولم يعص أبدا، فيقال بأن هذا ظلم في حق ولد الزنا
وأي ذنب أذنب كي يكون مستحقا لمثل هذا الطرد، وعدم شمول حرمة الله له، مع أنه
تعالى يقول في كتابه العزيز جزاءا وفاقا (2) وأيضا قوله تعالى جزاء بما كانوا

1. " علل الشرائع " ص 188.
2. النباء (78): 26.
380

يكسبون (1) وأيضا قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة
فمن نفسك (2) إلى غير ذلك من الآيات والروايات.
والحاصل أن كل رواية كان في هذا المقام مخالفا للعدل الإلهي فلابد وأن يؤول
وإن لم يمكن تأويله فلابد وأن يطرح.
الأمر الثامن في سائر الفرق من الشيعة غير الاثني عشرية، فإنهم أيضا
طاهرون كسائر المسلمين ما لم يكونوا ناصبين وسابين لبعض الأئمة الاثني عشر، وأما
إن كانوا ناصبين أي مبغضين لغير من يعتقدون بإمامته أو سأبين له، فيدخلون في جملة
الناصبين وقد تقدم حكم الناصب، ولا فرق في الناصب بين أن يكون معتقدا بامامة
بعض الأئمة أو لم يكن معتقدا بالإمامة أصلا لان المناط في كونه ناصبا هو بغضه
وسبه لأمير المؤمنين عليه السلام أو لاحد أولاده الطاهرين الذين هم مطهرون بنص القرآن
الكريم.
وخلاصة الكلام أنه فرق بين عدم الاعتقاد بامامة بعض الأئمة أو جميعهم
وصرف هذا لا ينافي طهارتهم وجريان أحكام الاسلام في حقهم، فان أغلب المسلمين
لا يقولون بامامة الأئمة بالمعنى الأخص الذي يعتقدون به الإمامية الاثني عشرية،
وأحكام الاسلام جارية في حقهم من طهارة أبدانهم وجواز المناكحة معهم، وحلية
ذبائحهم، ووجوب دفن موتاهم وسائر أحكام الأموات، واحترام أموالهم ونفوسهم
إلى غير ذلك من أحكام الاسلام وبين بغضهم وعداوتهم وسبهم، والثاني هو الناصب
ويكون مشمولا لحكمة وقد تقدم حكمه.
والدليل على أنهم ما لم يبغضوا ولم يسبوا يكونون بحكم الاسلام ويجري عليهم
أحكامه من طهارة أبدانهم إلى آخر ما ذكرنا، هو شمول اطلاقات أدلة أحكام

1. التوبة (9): 82 و 95.
2. النساء (4): 79.
381

الاسلام لهم، لان موضوع تلك الأحكام هو الاسلام وفسر الاسلام في الروايات (1)
بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله فالاعتراف بوجوب الصلاة
والزكاة وصوم شهر رمضان لمن لا يكون معذورا وحج بيت الله الحرام كما في رواية
سفيان بن السمط عن أبي عبد الله عليه السلام قال الاسلام هو الظاهر الذي عليه الناس
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج
البيت وصيام شهر رمضان فهذا الاسلام (2) الخ وغيرها من الروايات الكثيرة الواردة في
بيان معنى الاسلام وما هو الموضوع لتلك الأحكام، ولا شك في أن سائر فرق الشيعة
غير الامامية الاثني عشرية معترفون بهذه الأمور.
والدليل على أنهم إذا أبغضوا بعض الأئمة أو سبوا يكونون من النصاب ويلحقهم
حكمهم مضافا إلى إطلاقات أدلة نجاسة الناصبي، فإنه لا فرق في شمول تلك الأدلة
بين أن يكون الناصب معترفا بامامة بعض الأئمة أو كان منكرا لامامة جميعهم هو
الروايات الواردة في هذا المقام، وهي كثيرة.
منها ما رواه ابن المغيرة قال قلت لأبي الحسن عليه السلام إني ابتليت برجلين أحدهما
ناصب والآخر زيدي ولابد من معاشرتهما فمن أعاشر؟ فقال عليه السلام: هما سيان من
كذب بآية من آيات الله فقد نبذ الاسلام وراء ظهره، وهو المكذب لجميع القرآن
والأنبياء والمرسلين ثم قال: هذا نصب لك وهذا الزيدي نصب لنا (3) فتأمل.
الحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

1. انظر: " وسائل الشيعة " ج 1، ص 7، أبواب مقدمة العبادات، باب 1 و 2.
2. " الكافي " ج 2، ص 20، باب أن الاسلام يحقن به الدم...، ح 4، " وسائل الشيعة " ج 1، ص 11، أبواب مقدمة
العبادات، باب 1، ح 13.
3. " الكافي " ج 8، ص 235، ح 314.
382