الكتاب: القواعد الفقهية
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصطلحات ومفردات فقهية
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤١١
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (ع)
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (ع)
ردمك:
ملاحظات:

سلسلة القواعد الفقهية
يبحث فيها عن ثلاثين قاعدة فقهية
القواعد الفقهية
المجلد الأول
آية الله ناصر مكارم الشيرازي
1

الكتاب: القواعد الفقهية
المجلد: الأول
المؤلف: سماحة آية الله ناصر مكارم الشيرازي (دام ظله)
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (ع)
الطبعة: الثالثة (رمضان المبارك 1411 ه‍ - ق)
الكمية: 2000
رقم الصفحات: 556 - وزيري
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (ع)
2

بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم يا من أسبغ علينا نعمه ظاهرة و
باطنة، بعث فينا رسولا من أنفسنا، يتلو علينا آياته،
ويعلمنا الكتاب والحكمة بفضله، ليهدينا سبل السلام
ويخرجنا من الظلمات إلى النور
والصلاة عليه وعلى آله خزان علمه، الذين نور
بهم الظلم وأوضح بهم البهم، شهدائه على عباده، و
امنائه على حلاله وحرامه، فبهم تمت الكلمة وعظمت النعمة
وائتلفت الفرقة
3

مقدمة
بعض مشاكلنا العلمية
لم تزل ولا تزال تفتخر الشيعة الإمامية بان مصادر علومه أهل بيت الوحي
وورثة علم النبي صلى الله عليه وآله فعندهم من الأثر الصحيح ما لم يصل إلى غيرهم، حيث اخذوها
ممن صاحبه طول الليالي والأيام، وصاحب سره ومن ربى في حجره، أو ممن نشأ من
بعده في بيته.
لكن لا تفتخر بهذا فحسب، بل تفتخر أيضا بان أئمتهم (عليهم السلام) قد
فتحوا عليهم باب الاجتهاد حينما أغلقه الآخرون على أنفسهم، فأمروهم بالنظر و
التفكير في الأصول التي وصلت إليهم واستنباط فروعها منها، وفى الفروع التي تحدث
لهم وارجاعها إلى أصولها، ليتبين لهم بذلك كل ما يحتاجون إليه من الأحكام الشرعية
في جميع الحوادث الواقعة لهم.
وقد ندبهم أئمة أهل البيت عليهم السلام إلى ذلك تارة بقولهم (أنتم اعرف الناس
إذا عرفتم معاني كلامنا) (1) وأخرى بان لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة
باطنة فاما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة واما الباطنة فالعقول (2) وثالثة بتعليمهم
طرق الجمع بين الاخبار المتعارضة، بالأخذ بالمجمع عليه وبعرضها على كتاب الله وغير ذلك من المرجحات.

1 - رواه في المجلد الثالث من الوسائل في الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
2 - رواه في الكافي باب العقل والجهل من المجلد الأول عن هشام بن الحكم عن -
الكاظم عليه السلام.
12

ورابعة بمثل قولهم (هذا باب ينفتح منه الف باب) بعد الإشارة إلى قاعدة
(الغلبة) وهي ان ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر (1) وقولهم مشيرين إلى بعض
مسائل الوضوء: (هذا وأشباهه يعرف من كتاب الله وما جعل عليكم في الدين من
حرج) (2) فحثوهم على الاستضائة بالكتاب العزيز والأصول التي وردت في السنة،
أكثر مما يعرفه الناس.
وسادسة بابطالهم التصويب واعلامهم بان (لله في كل واقعة حكما يشترك فيه
العالم والجاهل) (3) فمن أدركه فقد أصاب والا فقد أخطأ، و (ان للمصيب أجرين
وللمخطئ اجرا واحدا) (4) حتى يبذل الناظر غاية مجهوده في البحث والفحص عن الأدلة
ليصيب الأحكام الواقعية، ولا يكتفى بما وقف عليه بادي نظره، بزعمه ان المجتهد
مصيب في رأيه، وما انتهى إليه اجتهاده هو حكم الله الواقعي في حقه، إلى غير ذلك من
القرائن الكثيرة يطول المقام بذكرها.
وبهذه وبغيرها فتحوا علينا باب الاجتهاد، الذي هو رمز بقاء الدين وحافظ لنشاطه
العلمي، وبه يوجه الخطى نحو الكمال ويتقدم العلم إلى الإمام ويعلو الاسلام ولا يعلى عليه،
اجل لا ينمو العلم ولا يربو - أي علم كان - الا تحت ضوء الاجتهاد.
ولذلك نرى فقهاء أهل البيت من أصحابنا قد اتوا بما لم يأت به الآخرون، من كتب

1 - رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب القضاء من المجلد الثاني.
2 - رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب الوضوء من المجلد الأول.
3 - هذه الرواية متواترة بالمعنى كما اعترف به المحققون من الأصحاب في باب
التخطئة والتصويب فإنه تواترت الاخبار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بان (لله في كل
واقعة حكما بينه لنبيه وبينه النبي صلى الله عليه وآله للأوصياء من بعده، فجميع الأحكام مخزونة
عندهم حتى مثل أرش الخدش، ومضامينها وان كانت مختلفة الا انها مشتركة في إفادة هذا المعنى.
4 - هذه الرواية من الروايات النبوية المشهورة، قال شيخنا الاجل في (الفصول)
في باب التخطئة والتصويب: (ان الأمة قد تلقت هذه الرواية بالقبول).
13

قيمة كثيرة في مختلف أبواب الفقه وأصوله، وتلاحقت آرائهم العلمية ونظراتهم جيلا
بعد جيل حتى انتهت إلى يومنا هذا، فاخذ علوم الدين ولا سيما الفقه عندهم يتسع
نطاقها كل يوم، فها نحن قد ورثنا اليوم من أصحابنا الأقدمين وعلمائنا الأكابر المتأخرين
مئات، لا بل آلاف من الكتب القيمة في الفقه وأصوله والحديث ورجاله، بها تنكشف
النقاب عن غوامض مسائلها، وتهدى رواد العلم إلى مكنون حقايقها، فشكر الله سعيهم
واجزل اجرهم، وجزاهم عنا وعن الاسلام خير الجزاء.
لكن مع الأسف!
لكن مع الأسف لم يخل هذا النجاح العلمي العظيم عن نواقص لا يستهان بها،
نشأت عن افراط في بعض الجوانب وتفريط في اخر، حيث انا نرى اليوم مسائل كثيرة،
لا تترتب عليها اية فائدة يعبأ بها، قد اختلطت بالمسائل النافعة، لا سيما في أصول
الفقه، بل الفقه نفسه لم يخل منها.
ومن العجب ان هذه المسائل تتزايد كل يوم، تحت عنوان بسط العلم وتحقيق
الحقيقة، بما ينذر عن مستقبل مظلم!.
فنرى في (أصول الفقه) الذي هو من هم أركان الاجتهاد واستنباط الأحكام الفرعية
عن مداركها، مباحث لا طائل تحتها أصلا أو قليل الفائدة جدا، لا تليق بتلك الأبحاث
الطويلة، كالبحث الطويل عن المعاني الحرفية، وبعض أبحاث المشتق، وبعض أبحاث
مقدمة الواجب، وكثير من مباحث الانسداد، والبحث عما يرد على التعاريف من النقوض،
من اعترافهم بأنها تعاريف شرح اسمية لا حدود حقيقية.
ونرى في الفقه البحث عن فروع نادرة جدا، لو لم يكن الابتلاء بها محالا عادة،
ككثير من فروع العلم الاجمالي التي تذكر في الفقه تارة وفى الأصول أخرى، وكالبحث
المشهور عن وجوب القسمة على النبي صلى الله عليه وآله بين أزواجه وعن وظائف الإمام عند ظهوره،
وحكم دمه وغيره، وكالبحث عن خلق الساعة، أي من خلق بالغا دفعتا، هل يحتاج
إلى الوضوء لصلوته أم لا، إلى غير ذلك مما يطلع عليه الخبير في كثير من أبواب الفقه.
14

ومن جانب آخر نريهم يعتنون بشأن الأقوال الشاذة، مهما كانت، ويتعبون أنفسهم
بايراد الاشكالات الكثيرة على كل واحد منها ولو كان ظاهر البطلان من غير حاجة
إلى ابطاله، وبتوضيح موارد النظر في ذيل كلام المخالف وصدره، ومعناه ولفظه،
واصله وفرعه ولو كان أجنبيا عن تحقيق حكم المسألة.
ونراهم أيضا باحثين عن بعض مسائل أصول الفقه (أي ما يسمى أصولا ولعلها
ليست بأصول!) شهرا أو شهورا عديدة ثم يلتمسون ثمرة لها، من هنا وهناك، فقد لا
يرى منها عين ولا اثر، فلما أعياهم الفحص يسكنون إلى النذر وأشباهه ويرضون
أنفسهم بظهور ثمرتها في النذور، ويقولون لعل ناذرا يبدو له ويقترح نذرا يرتبط بتلك
المسألة، غفلة عن أن هذا الناذر المسكين يمكن ارتباط نذره باية مسألة من مسائل
العلوم، فهل يرضى اللبيب بطرح جميعها في الأصول معتذرا بمثل هذا العذر؟.
وأسوء من ذلك كله ما نراه من تغيير مجارى البحث في هذه العلوم وخلطها بغيرها
فيستدل للمسائل الفقهية أو الأصولية باستدلالات لا يليق ايرادها الا في المباحث
الفلسفية، مع أن من الواضح ان كل علم يليق بطور من البحث لا يليق به الاخر فالفلسفة
تدور على التدقيق والتعمق في الحقايق الكونية الخارجية وتدور استدلالاتها عليها،
واما الفقه وأصوله يدوران على أمور اعتبارية تشريعية وأمور عرفية وضوابط جرت عليها
سيرة العقلاء فيما بينهم، وكل من هذين يليق بطور من البحث لا يليق به الاخر، ولا
شك ان تحريف كل منها عن موضعه لا يوجب الا بعدا وضلالا من الحقيقة.
فصارت هذه الأمور وأمثالها تفنى برهة طويلة من أحسن أيام شباب طلاب العلم وشيئا
كثيرا من نشاطهم العلمي وقواهم الفكرية، وتمنعهم عما هو أهم وانفع. فأصبحت
هذه المشكلة بلاءا للعلم وأهله ولهذا - ولغيره - صارت أبحاثنا الفقهية اليوم تدور غالبا
حول أبواب العبادات وشئ طفيف من المعاملات وبقيت ساير المباحث القيمة
متروكة مهجورة الا عند الأوحدي من العلماء الأعلام
نسأل الله تعالى ونبتهل إليه سبحانه ان يبعث أقواما ذوي عزائم راسخة يقومون
بأعباء هذا الامر ويهذبون علوم الدين وينفون عنها هذه الزوائد ويهدون طلاب العلم
15

إلى سواء السبيل، ولست انسى ان بعض أساتذة الكرام يرى أن التعرض لمثل هذه
المسائل لا يخلو عن شبهات شرعية. ولعلها بملاحظة ما نرى من أن الاسلام اليوم
في أشد الحاجة إلى العلماء الذابين عن حوزته بعلومهم النافعة، فصرف الوقت في
غيرها يمنع عن هذه المهمة.
ومن العجب ان كثيرا من الباحثين مع علمهم بجميع هذه الأمور وقولهم في
المجالس (كيت وكيت) إذ اشتغلوا بالبحث لا يملكون أنفسهم عن متابعة الباقين
فلعلهم يحسبون عدم التعدي عن طورهم في سرد جميع هذه المباحث، اقتداءا
محمودا للسلف الصالح رضوان الله عليهم فكأنهم نسوا طريقتهم في عدم الخضوع قبال اية
مسألة من المسائل العلمية المنقولة عنهم الا بالدليل القطعي، لا ينظرون إلى القائل و
لا يرون في هذا اية منافاة للأسوة الحسنة بهم واقتفاء آثارهم قدس الله اسرارهم فإذا
كانوا يطالبوهم الدليل القاطع على آرائهم في تلك المسائل فكيف لا يطالبونهم الدليل
على جعلها في عداد مسائل العلوم وفى كيفية البحث عنها.
أو لعلهم يعتقدون بوجود (فوائد علميه) في هذه المباحث، وان خلت عن (نتائج
علمية) لكنهم نسوا ان فائدة هذه العلوم لا تظهر الا في العمل، فما لا فائدة عملية فيه
لا يستحق البحث، فإن هذه العلوم ليس من العلوم التي تطلب لذاتها كالعلوم الباحثة
عن توحيد الله تعالى وصفاته وأسمائه.
أو لعلهم يزعمون أن مخالفة علمائنا الأكابر رضوان الله عليهم في هذه الأمور
تمس كرامتهم وتضر بشأنهم، ولكن الحق ان الجمود على ما أفادوه وترك السعي في
تهذيبها وتنقيحها وتكميلها أمس بكرامتهم واضر بشأنهم، لأنه إضاعة لما راموه من
أهداف العلم وتقدمه نحو الكمال. جزاهم الله عن الدين وأهله خير الجزاء
ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في صدورنا غلا
للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم
16

موقف القواعد الفقهية
بين الفقه والأصول
من أهم ما يجب على الفقيه تحقيقه والبحث عنه هي (القواعد الفقهية) التي
تكون ذريعة للوصول إلى أحكام كثيرة من أول الفقه إلى آخره، وتبتني عليها فروع
هامة في شتى المباحث والأبواب.
لكن - رغما لهذا الموقف - لم يبحث عنها بما يليق بها، ولم يود حقها من
البحث. لا في الفقه ولا في أصوله، الا شئ طفيف منها. كقاعدة لا ضرر وبعض القواعد الأخر
كقاعدة التجاوز والفراغ التي وقع البحث عنها في بعض كتب المتأخرين من
الأصوليين، بحثا تبعيا استطراديا، لا ذاتيا استقلاليا، فأصبحت هذه القواعد النفيسة
كالمشردين لا تأوى دارا ولا تجد قرارا، لا نعد من الأصول ولا من الفقه، مع أن من
حقها ان يفرد لها علم مستقل، كيف ونحن في حاجة شديدة منها في طيات كتب الفقه.
وغير خفى انه لا يمكن تنقيحها في ضمن الأبحاث الفقهية، لأن كل مسألة منها يختص
ببحث خاص كما أن كثيرا منها لا تمس المسائل الأصولية كي يبحث عنها في علم الأصول ولو
استطرادا.
نعم قد قام شر ذمة قليلون من متأخري الأصحاب بتأليف رسالات تحتوى على
بعض تلك القواعد: منهم العالم الفاضل المولى محمد باقر اليزدي الحائري المتوفى
قرب سنة الثلاثمائة بعد الألف، والمولى العلامة محمد جعفر الأسترآبادي المتوفى سنة
1263 وسماه (مقاليد الجعفرية) ومنهم السيد الاجل السيد محمد مهدى القزويني
المتوفى سنة 1300 (1) ولكن مع الأسف لم يصل شئ، من هذه الكتب إلينا
واما كتاب (القواعد) الذي صنفه شيخنا الأعظم الشهيد الأول قدس الله نفسه
فليس متمحضا في سرد القواعد الفقهية بل يحتوى على مسائل مختلفة فقهية من شتى الأبواب،

(1) ذكرها العلامة الجليل محيى آثار الشيعة ومآثرها الشيخ آغا بزرگ الطهراني
في كتابه القيم (الذريعة إلى تصانيف الشيعة).
17

وأخرى أصولية، بينما يرى فيه بعض المسائل الكلامية بل اللغوية أيضا، فهو بكتاب
فقهى أشبه منه بغيره.
وكذا (تمهيد القواعد) للعلامة النحرير الشهيد الثاني فهو كما ذكر في مقدمته
يحتوى على مأة قاعدة أصولية وما يتفرع عليها من الأحكام ومأة قاعدة أدبية
مع ما يناسبها من الفروع الشرعية، واما كتاب (عوائد الأيام) في بيان قواعد الأحكام
ومهمات مسائل الحلال والحرام، الذي الفه شيخنا المحقق النراقي قدس
سره، فهو - كما يظهر من اسمه - وان اشتمل على بعض القواعد الفقهية الا انها لا
يستوعبها كما أنه لا يختص بها، بل يعمها وغيرها.
فتحصل من ذلك كله انه لا يوجد في مؤلفاتنا تأليف يحتوى على تلك
القواعد الهامة بأجمعها ويبحث عنها بحثا يليق بها، ولذلك لم يبق لي شك في أن
القيام بهذه المهمة بجمع تلك القواعد في موسوعة مستقلة والبحث عنها بما يليق بها
خدمة للعلم وأهله فقمت لها مع قلة البضاعة مستمدا من الله التوفيق والهداية، وابتهل إليه
سبحانه ان يبلغني مناي في اتمامه وان يجعله ذخرا لي وتذكرة لغيري انه خير ناصر ومعين
ثم اعلم أن تلك القواعد الفقهية التي يستند إليها في مختلف أبواب الفقه وان
كانت كثيرة جدا الا انا نبحث في هذا الكتاب عن مهماتها وهي ثلاثون قاعدة
كما يلي:
1 - قاعدة لا ضرر
2 - قاعدة لا حرج
3 - قاعدة الصحة
4 - قاعدة القرعة
5 - قاعدة التجاوز والفراغ
6 - قاعدة اليد (دلالتها على الملك وصحة التصرفات وما يلحق بها
من الأحكام)
7 - قاعدة الميسور (الميسور لا يسقط بالمعسور)
18

8 - قاعدة لا تعاد (لا تعاد الصلاة الا من خمس الخ)
9 - قاعدة الجب (الاسلام يجب عما قبله)
10 - قاعدة الالزام (الزام المخالفين بما الزموا به أنفسهم)
11 - قاعد التقية
12 - قاعدة حجية قول ذي اليد
13 - قاعدة حجية قول العدل الواحد في الموضوعات
14 - قاعدة حجية البينة
15 - قاعدة الخراج بالضمان
16 - قاعدة الطهارة
17 - تبعية العقود للقصود
18 - قاعدة الحيازة (من حاز ملك)
19 - قاعدة السبق (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به)
20 - قاعدة التسلط (الناس مسلطون على أموالهم)
21 - قاعدة الغرور (المغرور يرجع إلى من غره
22 - قاعدة الاتلاف (من أتلف مال الغير فهو له ضامن)
23 - قاعدة ضمان اليد (على اليد ما اخذت حتى تؤدى)
24 - قاعدة الاقرار (من ملك شيئا ملك الاقرار به)
25 - قاعدة عدم ضمان الأمين
26 - قاعدة ثبوت البينة على المدعى واليمين على من أنكر
27 - قاعدة ما يضمن وما لا يضمن (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وبالعكس)
28 - قاعدة التلف في زمن الخيار (التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له)
29 - قاعدة التلف قبل القبض (كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه)
30 - قاعدة اللزوم في المعاملات (كل معاملة لازمة الا ما خرج بالدليل)
نبدأ بالأهم فالأهم ونجعلها في مجلدين انشاء الله تعالى ونراعي جانب
19

الاختصار في سرد المطالب ونقل الأقوال ولا نتعرض لها الا إذا مست الحاجة إليها عند
البحث، ونصرح بأساميهم وأسامي كتبهم التي ننقل عنها ونجتنب عن التكني عنهم
وعن كتبهم بما تداول في هذه الأيام، الا إذا ادعت إليه الضرورة، حفظا لحقوقهم العظيمة
وحرصا على درك الحقيقة، فلعل الناظر يراجع كلماتهم ويفهم منها غير ما فهمناه
ويرى فيها رأيا أقرب إلى الحق والصواب. وقبل الشروع في البحث عن هذه القواعد لابد
لنا من تحقيق مرادنا من (القاعدة الفقهية) وطريق تمييزها عن (المسائل الأصولية) و
(المسائل الفقهية)
ما هي القواعد الفقهية
قد اصطلح جمع من متأخري الأصوليين - كما يظهر من كلماتهم في مقامات
مختلفة - على اطلاق هذا العنوان أعني (القاعدة الفقهية) على أحكام عامة ترتبط بكثير
من المسائل الفقهية، وبما ان المقصود هنا بيان مرادهم منها وجهة افتراقها عن المسائل
الأصولية والفقهية وقبل ذلك لابد من الإشارة إلى تعريف المسائل الأصولية والفقهية
اجمالا فنقول:
اما المسائل الأصولية فقد ذكروا لها تعاريف مختلفة لا يهمنا التعرض لها ولما قيل
أو يمكن ان يقال فيها كيلا نخرج عن طور البحث الذي أشرنا إليه في المقدمة، فلنذكر
ما هو الحق عندنا في المقام وما يكون مقياسا لتشخيص المسائل الأصولية عن غيرها
عند الشك في بعض مصاديقها، ولنقدم لذلك مقدمة وهي:
ان علم (أصول الفقه) في عصرنا الحاضر يشتمل على أنواع مختلفة من المسائل أحدهما ما
يبحث فيها عن كليات ترتبط بدلالة الألفاظ الواقعة في الكتاب والسنة ومعاقد الاجماعات،
ويسمى (مباحث الألفاظ) ثانيها ما يبحث فيها عن حجية أدلة كثيرة وجواز الاستناد إليها
في كشف الأحكام الشرعية ويسمى (باب الامارات والأدلة الاجتهادية) ثالثها ما يبحث
فيها عن وظيفة المكلف عند الشك في حكمه الواقعي مع عدم طريق إليه وهو بحث
(الأصول العملية) رابعها ما يبحث فيها عن حكم تعارض الأدلة الشرعية وطريق
20

علاجها وهو باب (التعادل والترجيح) وخامسها أبحاث تدور حول (الاجتهاد والتقليد)
وحجية قول المجتهد للعامي وحدودها وشرائطها فهي قسم من بحث الحجج الشرعية الا
انها مخصوصة بالمقلدين، كما أن ما قبلها أعني أبحاث التعادل والترجيح ترجع
إليها أيضا لأنها ترجع إلى تعيين ما هي الحجة من الأدلة المتعارضة.
ثم لا ريب ان علم الأصول لم يكن بادي الامر مشتملا على عامة تلك الأبحاث
كما يظهر بمراجعة كتب الأقدمين من الأصوليين، بل زيدت عليه تدريجا حتى
بلغ ما نشاهده اليوم ولا شك في انا نرى نحوا من الارتباط بين هذه المسائل اجمالا
بحيث لا يستنفر الطبع من جعلها علما واحدا منفردا بالتدوين، وهذا شئ يظهر للناظر
في أول نظره، كما انا نرى بينهما اشتراكا في الأثر وهو انها تعطى الفقيه قدرة قريبة على
كشف الأحكام الشرعية عن مداركها، واشتراك جميع مسائلها في هذا الأثر أيضا مما
لا ينكر، أضف إلى ذلك انا نرى فرقا واضحا بين هذه المسائل وسائر العلوم التي يحتاج
إليها في الفقه كعلمي الرجال والحديث واللغة وغيرها بحيث إذا عرض علينا بعض
تلك المسائل لم نشك انها من الأصول أو ليست منها، كل ذلك معلوم بالوجدان.
وهذه الأمور، أعني الارتباط الذي يوجد بين تلك المسائل، واتحادها في الأثر
الخاص، وتمايزها عن مسائل سائر العلوم، المعلوم بالوجدان اجمالا، كلها حاكية
عن وجود نوع من الوحدة بين تلك المسائل يتجلى بانحاء مختلفة ومن الواضح ان جمع
هذه المسائل المختلفة بهذا النحو وجعلها علما واحدا كما تصدى له جمع من المحققين
وقرره الآخرون لم يكن صدفة واتفاقا بل لم يحملهم على ذلك الا الربط الواقعي بينها.
فاذن لا يمكننا القول بخروج بعض هذه الأبحاث من المسائل الأصلية وعدها
بحثا استطراديا كما ارتكبه كثير منهم، حتى جعل المحقق القمي قدس سره جل تلك
المباحث الا ما شذ منها خارجا عن مسائل الأصول داخلا في مباديها، نظرا إلى انها ليست
أبحاثا عن عوارض الأدلة الأربعة بل عن الأدلة بما هي أدلة. وليت شعري إذا كانت عامة
مباحث الألفاظ وجميع أبحاث الأدلة الاجتهادية وكذا الأصول العملية خارجة عن علم
الأصول فأين هذا العلم الذي فرع الاسماع وملاء الكتب؟ وهل هو البحث عن أحوال تعارض
21

الدليلين فقط؟ وما الداعي إلى اخراج هذه المسائل المهمة عن علم الأصول؟ ويتلوه في الضعف
قول من يرى دخول مباحث الألفاظ طرا في مبادى هذا العلم، مع أنها تقرب من نصف
مسائل الأصول ولا يرى أي فرق بينها وبين غيرها من مسائلها فيما يرام من أهدافه
فالحق ان تصحيح التعاريف التي ذكروها للأصول أهون من ارتكاب التفكيك بين
تلك المسائل.
والتعريف الجامع بين عامة تلك المسائل وما أشبهها، الحاكي عن الوحدة
التي تتضمنها، هو ان يقال: (ان مسائل الأصول هي القواعد العامة الممهدة لحاجة الفقيه
إليها في تشخيص الوظائف الكلية للمكلفين) فالمسائل الأصولية تمتاز عن غيرها من
المسائل الفقهية والقواعد الفقهية وسائر العلوم بأمور:
أولها - انها ممهدة لحاجة الفقيه إليها في تشخيص وظائف المكلفين، ولهذا
تمتاز عن العلوم الأدبية وأمثالها التي لا يستغنى عنها الفقيه، حيث لم تمهد لذلك كما أنه
يعلم منه ان البحث عن صيغة الامر ومادتها وكذا المشتق وأمثاله أبحاث أصولية
وان كانت تشبه الأبحاث اللغوية والأدبية، لأنها مهدت لحاجة الفقيه إليها
ثانيها - ان نتائجها أحكام ووظائف كلية، فالبحث عن حجية الاستصحاب
في الشبهات الموضوعية وكذا البراءة والاحتياط الجاريتان فيها وما شاكلها ليست
أبحاثا أصولية لأن نتائجها أحكام ووظائف شخصية
ثالثها - انها لا تختص بباب دون باب وبموضوع معين دون آخر، بل تشمل جميع
الموضوعات في جميع أبواب الفقه، مهما وجد لها مصداق، فإن البحث عن هيئة الامر
ومادته وابحاث العموم والخصوص وكذلك أبحاث الأدلة الاجتهادية والأصول العملية
وأحكام التعارض وغيرها لا يختص بموضوع دون اخر وبباب من أبواب الفقه دون باب
وبهذا تمتاز عن القواعد الفقهية كما سيأتي شرحه انشاء الله
ومما ذكرنا تعرف انه ليس من شرط المسألة الأصولية الوقوع في طريق
استنباط الحكم، كما يظهر من غير واحد من الاعلام، وذلك لأن البحث في كثير
من مسائله بحث عن نفس الحكم الشرعي لا عما يقع في طريق استنباطه، كالبحث عن
22

البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية المستفادة من قوله عليه السلام (كي شئ لك حلال)
بناء أعلى شموله للشبهات الحكمية، فإن هذا البحث بحث عن حكم شرعي عام، وهو
الإباحة، غاية الأمر انه لا يختص بباب دون باب وبموضوع دون آخر، بخلاف الأحكام
المبحوث عنها في الفقه. وكذا الكلام في غير البراءة من الأصول العملية عقلية كانت
أو شرعية، فإن ما اشتمل منها على حكم ظاهري شرعي كان البحث منه بحثا عن
نفس الحكم الشرعي واما في غيره فالبحث يدور مدار بيان وظيفة الشاك عند الحيرة
والشك على نحو كلى عام من دون اختصاص بباب دون باب وبموضوع دون آخر، كما
هو شأن المسائل الفرعية.
واما المسائل الفقهية فهي (المسائل الباحثة عن الأحكام والوظائف العملية
الشرعية وما يؤل إليها وعن موضوعاتها الشرعية) فالمسائل الباحثة عن الأحكام الخمسة
المشهورة، وكذا ما يبحث عن الأحكام الوضعية، وما يبحث عن ماهية
العبادات، وكذا البحث عن مثل الطهارة والنجاسة الثابتتين لموضوعات خاصة، مما
يؤل إلى الأحكام تكليفية أو وضعية تتعلق بأفعال المكلفين، كلها أبحاث فقهية
داخلة فيما ذكرنا، كما أن البحث عن عبادات الصبي وسائر الأحكام التي تشمله أيضا
كذلك، فموضوع المسألة الفقهية ليس خصوص الافعال، ولا أفعال المكلفين، لاستلزامه
القول بالاستطراد في كثير من مسائله، كالأبحاث المتعلقة بعبادات الصبي وساير
أفعاله، وكالمسائل الباحثة عن أحكام وضعية متعلقة بأعيان خارجية كأحكام
المياه والمطهرات والنجاسات، ولا داعى إلى اخراجها من الفقه مع كثرتها، كما أنه
لا وجه لصرفها عن ظاهرها أو ارجاعها إلى البحث عن أفعال المكلفين بالتعسف والتكلف
ومن هنا تعرف ان القواعد الفقهية (هي أحكام عامة فقهية تجرى في
أبواب مختلفة) وموضوعاتها وان كانت أخص من المسائل الأصولية الا انها أعم
من المسائل الفقهية. فهي كالبرازخ بين الأصول والفقه، حيث إنها اما تختص بعدة
23

من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة والنجاسة فقط،
وقاعدة لا تعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، وقاعدة ما يضمن وما لا يضمن الجارية
في أبواب المعاملات بالمعنى الأخص دون غيرها. واما مختصة بموضوعات معينة
خارجية وان عمت أبواب الفقه كلها، كقاعدتي لا ضرر ولا حرج فإنهما وان كانتا
تجريان في جل أبواب الفقه أو كلها، الا انهما تدوران حول موضوعات خاصة، وهي
الموضوعات الضررية والحرجية.
وهذا بخلاف المسائل الأصولية فإنها اما لا تشتمل على حكم شرعي أصلا بل
يكون واقعا في طريق استنباطه ككثير من مسائله، واما تتضمن حكما عاما كالبرائة
الشرعية الجارية فيما لا نص فيه على ما عرفت من غير اختصاص بموضوع دون آخر
بل تجرى في جميع الموضوعات إذا فقد فيها النص
لا يقال: انها تختص أيضا بموضوع خاص وهو ما لا نص فيه، فانا نقول:
ان هذه الخصوصية ليس خصوصية خارجية من قبل ذات الموضوع، وإنما هي خصوصية
ناشئة من ملاحظة حكم الشرع كما لا يخفى على الخبير.
والغرض من جميع ما ذكرنا في تعريف المسألة الأصولية والفقهية والقاعدة
الفقهية تشخيص حال بعض المسائل المتشابهة التي قد يقع البحث عنها، وانها من الأصول أو
من القواعد الفقهية أو من الفقه نفسه. ومن المعلوم ان تشخيص؟؟ حال المسألة و
اندراجها في كل واحد من العلوم له دخل تام في طور البحث عنها وكيفية استفادتها عن
مباديها الخاصة، فإن كل واحد من هذه العلوم يمتاز بنوع من البحث لا يجرى في غيره، كما
أشرنا إليه في المقدمة فكن على بصيرة منها.
فائدة - قد اشتهر في السنة جماعة من الأصوليين ان المسائل الأصولية تنفع
المجتهد دون المقلد، بخلاف المسائل الفقهية فإنها تنفع المجتهد والمقلد كليهما،
وقد يجعل هذا طريقا لتمييز المسألة الأصولية عن الفقهية.
ومن نتائج هذا البحث - كما صرحوا به - هو ان تطبيق كبريات المسائل
24

الفقهية على مصاديقها الجزئية ليس من شأن الفقيه، بل عليه بيان الأحكام الفرعية
الكلية الدائرة على موضوعاتها العامة واما تشخيص مصاديقها وتطبيقها عليها عند الحاجة
إليها فهو موكول إلى المقلد، ليس للفقيه فيه نصيب أصلا - اللهم الا في عمل نفسه.
وعلى هذا لو كان تشخيص المقلد في بعض الموضوعات مخالفا لمجتهده فليس قوله
حجة في حقه، بل كل يعمل على شاكلته.
وفيه اشكال واضح، فإنه مخالف لما استقر عليه ديدنهم في طيات كتب الفقه، فنراهم
يكثرون البحث عن تشخيص المصاديق الخارجية وصدق العناوين العرفية الواردة في
أدلة الأحكام الشرعية على مصاديق مشكوكة وعدم صدقها ثم الافتاء بما يستقر
عليه انظارهم.
فنراهم مثلا يبحثون عن (التغيير) الموجب لنجاسة الماء وانه صادق على التقديري
حتى يحكم بنجاسته إذا تغير تقديرا أم لا، وعن الماء الذي نقص عن الكر بمقدار يسير
ان اطلاق (الكر) عليه هل هو من باب المجاز والمسامحة أم حقيقة بنظر العرف حتى
يجرى عليه أحكام الكر؟ وكذا ما أشبهه من التحديدات الواردة في الشريعة، وعن
الأحجار المأخوذة من المعادن، هل يصدق عليها عنوان (الأرض) الوارد في أبواب ما
يصح السجود عليه حتى يصح السجود عليها أم لا؟ وانه هل يجوز السجود على قشور
الفواكه مطلقا أو بعد انفصالها، نظرا إلى صدق عنوان (ما اكل) الوارد في اخبار الباب
عليها أم لا؟ إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، فإن جميع ذلك في الحقيقة راجعة إلى
تشخيص الموضوعات العرفية الخارجية، فلولا ان هذه التطبيقات موكولة إلى نظر
الفقيه لكان من الواجب الافتاء بالكليات فقط بان يقال: الماء إذا تغير بالنجاسة نجس،
والكر طاهر مطهر، ويجب السجود على الأرض وما خرج منها الا ما اكل ولبس، و
يخلى بين المقلدين وبين مصاديق هذه الكبريات الكلية.
والسر في جريان سيرتهم في الفقه على ذلك أن ملاك التقليد - وهو لزوم
رجوع الجاهل إلى العالم - لا يختص بالأحكام الكلية، بل قد يحتاج تطبيق كثير
من الموضوعات العرفية على مصاديقها إلى دقة في النظر وتعمق في الفكر، خارجة
25

عن قدرة العوام كالأمثلة المذكورة، فعليهم الرجوع فيها إلى نظر المجتهد ورأيه،
والمجتهد يرجع في تشخيصها إلى ارتكازاتهم المغفولة الموجودة في أعماق أذهانهم
وأذهان جميع أهل العرف - ومنهم مقلديه - فيستخرجها وبها يكشف صدق هذه
العناوين على المصاديق المشكوكة وعدمه، فيفتى بمقتضاه. نعم في المفاهيم الواضحة
التي لا فرق فيها بين المجتهد والعامي - كمفهوم الماء والدم وأمثالهما - كل يرجع إلى
تشخيصه وليس تشخيص واحد منهما حجة في حق غيره.
ومنه يظهر وجه عدم جواز تفويض أمر الاستصحاب وغيره من الأصول العملية
في الشبهات الموضوعية إلى المقلدين مع أنها ليست من المسائل الأصولية قطعا، و
الوجه فيه ان تشخيص مجاريها ومعارضاتها والحاكم والمحكوم منها مما لا يقدر عليه
العامي فهو جاهل بها ويجب عليه الرجوع إلى العالم بها وقد عرفت ان رجوع الجاهل
إلى العالم لا يختص بالأحكام الكلية، بل يعمها والموضوعات المشكلة وما شاكلها
لاتحاد ملاك الرجوع في الجميع.
اقسام القواعد الفقهية
تنقسم القواعد الفقهية إلى اقسام:
الأول - ما لا يختص بباب من الفقه دون باب بل يجرى بحسب مدلوله في جل
الأبواب أو كلها الا ان يمنع منه مانع، مثل قاعدة لا ضرر وقاعدة لا حرج وقاعدتي القرعة
والصحة على قول، ولنسمها (القواعد العامة).
الثاني - ما يختص بأبواب المعاملات بالمعنى الأخص ولا يجرى في غيرها،
كقاعدة التلف في زمن الخيار، وقاعدة ما يضمن وما لا يضمن، وقاعدة عدم ضمان الأمين
وما شابهها.
الثالث - ما يختص بأبواب العبادات، كقاعدة لا تعاد، وقاعدة التجاوز والفراغ
على المعروف، وما يضاهيهما.
الرابع - ما يجرى في أبواب المعاملات بالمعنى الأعم كقاعدة الطهارة وغيرها.
26

الخامس ما يعمل لكشف الموضوعات الخارجية الواقعة تحت أدلة الأحكام مثل حجية
البينة وحجية قول ذي اليد، وكفاية العدل الواحد في الموضوعات وعدمها فهي كالامارات
التي يستند إليها في باب الأحكام والفرق بينها وبين هذا القسم من القواعد الفقهية
انها تعمل لكشف الأحكام الكلية وهذه تعمل لكشف الموضوعات، إلى غير ذلك من
الأقسام. والأولى ان نخص كل قسم من هذه الأقسام ببحث مستقل لما بين القواعد
المندرجة تحت كل قسم من القرابة والمشاكلة الموجبة لتسهيل الامر في اثباتها و
درك حقائقها وحل مشكلاتها.
(والحمد لله أولا وآخرا)
27

القاعدة الأولى
قاعدة لا ضرر
هذه القاعدة من أشهر القواعد الفقهية، يستدل بها في جل أبواب الفقه من
العبادات والمعاملات، بل هي المدرك الوحيد لكثير من المسائل، ولهذا أفردوها
بالبحث وصنف فيها غير واحد من أعاظم المتأخرين رسالات مستقلة بينوا فيها حال
القاعدة من حيث مدركها ومعناها، وفروعها ونتائجها. منهم العلامة الأكبر شيخنا
الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري قده، صنف فيها رسالة طبعت في ملحقات مكاسبه
بعد أن تعرض لها استطرادا في فرائده ذيل قاعدة الاشتغال، والعلامة المحقق شيخ
الشريعة الأصفهاني قده، والعلامة النحرير النائيني قده، وجعلها العلامة النراقي
قده، العائدة الرابعة من (عوائده).
فبعضهم تقبلها بقبول حسن وجعلها مدركا لكثير من الفروع الفقهية، وبعضهم خرب بنيانها من القواعد واعتقد بعدم امكان الاعتماد عليها لاثبات شئ من
الفروع التي لا يوجد لها مدرك سواها، وبعضهم رآها حكما قضائيا يعتمد عليها في
أبواب القضاء لا غير، بما سنتلو عليك منها ذكرا فهذه القاعدة تليق بالبحث والتفتيح
التام لكي يتضح حال تلك الفروع الكثيرة المتفرعة عليها في الأبواب المختلفة
من الفقه. فنقول - ومن الله جل ثنائه التوفيق والهداية - ان الكلام فيها يقع في مقامات:
المقام الأول في مدركها
لا ريب في أن نفى الضرر والضرار في الجملة من الأمور التي يستقل بها العقل، و
يشهد له في مقامات خاصة آيات من الكتاب العزيز:
28

قال الله تعالى: لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده (1) نهى سبحانه
عن اضرار الام بولدها بترك ارضاعه غيظا على أبيه لبعض الجهات، كما أنه نهى عن
اضرار الأب بولده بمنع رزقهن وكسوتهن بالمعروف مدة الرضاع، فيمتنعن عن ارضاع
الولد، فيتضرر منه الولد، وهذا أظهر الاحتمالات في معنى الآية الشريفة، ويشهد
له صدرها أيضا حيث قال سبحانه: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن
أراد ان يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فإنه يشتمل على
حكمين: حكم ارضاع الام حولين كاملين وحكم الانفاق عليهن مدة الرضاع، وذيل
الآية متمم لهذين الحكمين فكأنه سبحانه قال: فإن أبى أحدهما عن القيام بما هو
وظيفة له - الأب من الانفاق والام من الارضاع - فعلى الاخر ان لا تعامله بترك وظيفته
فيضر بالولد من هذه الناحية، ويؤيده أيضا قوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك)
كما لا يخفى، وعلى هذا يكون قوله (لا يضار) مبنيا للفاعل والباء زائدة فإن المضارة
تتعدى بنفسها
وقد يذكر في معنى الآية احتمالات أخر مبتنية على كون (لا تضار) منبيا للمفعول
والباء للسببية مثل ما ذكره الفاضل المقداد في (كنز العرفان في فقه القرآن) حيث
قال: (قيل إن المرادان لا يضار بالوالدة بان يترك جماعها خوفا من الحمل ولا هي تمتنع
من الجماع خوفا من الحمل فتضر بالأب روى عن الباقر والصادق عليهما السلام) وعلى هذا
المعنى، الآية تدل على نهى الأب عن الاضرار بالام وبالعكس بسبب خوف الولد، وعلى
الأول تدل على نهيهما عن الاضرار بالولد، فهي على كل حال دالة على نفى الضرر والنهى
عن الاضرار في الجملة وهو المطلوب واما تمام الكلام في فقه الآية فهو في محله
وقال أيضا في حق النساء المطلقات: (ولا تضار وهن لتضيقوا عليهن) (2) نهى
سبحانه عن الاضرار والتضييق على المطلقات في السكنى والنفقة في أيام عدتهن، كما
أوصى بهن في موضع آخر بقوله: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا (3) نهى عن الرجوع
إلى المطلقات الرجعية لا لرغبة فيهن بل لطلب الاضرار بهن كالتقصير في النفقة أو

(1) البقرة - 233
(2) الطلاق - 6
(3) البقرة - 231
29

لتطويل المدة حتى تلجأ إلى بذل مهرها - كما أشار إليه في كنز العرفان.
وقال سبحانه ناهيا عن الاضرار بالوارث وتضييع حقوقهم: (من بعد وصية يوصى
بها أو دين غير مضار) (1) نهى عن الاضرار بالوراث في الوصية بان يوصى ببعض الوصايا
اجحافا عليهم ودفعا لهم عن حقهم أو يقر بدين ليس عليه دفعا للميراث عنهم ويشير
إليه أيضا قوله تعالى: (فمن خاف من موص جنفا أو اثما فاصلح بينهم فلا اثم عليه)
والجنف هو الميل إلى افراط أو تفريط والاضرار بالورثة.
وقال أيضا ولا يضار كاتب ولا شهيد (2) نهى عن اضرار كاتب الدين والشاهد
عليه أو على البيع، بان يكتب ما لم يمل أو يشهد بما لم يستشهد عليه، هذا إذا قدر الفعل أعني
لا يضار مبنيا للفاعل، وأما إذا قدر مبنيا للمفعول فالنهي إنما هو عن الاضرار بالكتاب
والشهداء إذ أدوا حق الكتابة والشهادة، على اختلاف الأقوال في تفسير الآية الشريفة.
هذا ولكن العمدة في اثبات هذه القاعدة على وجه عام هي الروايات الكثيرة
المدعى تواترها، المروية من طرق الفريقين، وان اختلفت من حيث العبارة بل المضمون
حيث إن بعضها عام وبعضها خاص الا ان مجموعها كاف في اثبات هذه الكلية.
وبما ان في استقصاء هذه الروايات فوائد جمة لا تنال الا به فاللازم ذكر ما وقفنا
على في كتب اعلام الفريقين مما ذكرها المحققون في رسالاتهم المعمولة في المسألة
وما لم يذكروها ليتم الفائدة بذلك انشاء الله، وانى وان بذلت جهدي في جمعها واستقصائها
وأوردت ما أوردها الأصحاب في هذا الباب وأضفت عليها ما ظفرت به مما لم يشيروا
إليه، لكن لعل باحثا يقف على ما لم أقف عليه فإن العلم غير محصور على قوم وكم ترك
الأول للاخر. وكيف كان نبدء بذكر اخبار أصحابنا الاعلام، ثم نتبعها بذكر ما أورده
الجمهور في أصولهم.
فما يدل على هذه القاعدة بعمومها من طرق الأصحاب روايات:
1 - ما رواه الكليني رضوان الله عليه في الكافي عن ابن مسكان عن زرارة عن

1 - النساء - 16 و 17
2 - البقرة - 284
30

أبى جعفر الباقر عليه السلام، قال: ان سمرة بن جندب (1) كان له عذق، وكان طريقه إليه في جوف
منزل رجل من الأنصار، فكان يجئ ويدخل إلى عذقه بغير اذن من الأنصاري فقال الأنصاري:
يا سمرة: لا تزال تفجأنا على حال لا نحب ان تفجأنا عليه، فإذا دخلت فاستأذن. فقال:
لا استأذن في طريق، وهو طريقي إلى عذقي. قال: فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله فاتاه فقال: ان فلانا قد شكاك وزعم انك تمر عليه وعلى أهله
بغير إذنه: فاستأذن عليه إذا أردت ان تدخل، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله استأذن في طريقي إلى

1 - (سمرة) بفتح الأول وضم الثاني وفتح الثالث، و (جندب) بضم الأول وسكون
الثاني وفتح الثالث على وزن (لعبة) صحابي من بنى شمخ بن فزارة. والذي يظهر من تتبع
كتب الرجال والسير، لا سيما ما نقله العلامة الممقاني وابن أبي الحديد، في ترجمة الرجل
انه كان من أشد الناس قسوة وعداوة لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وكان لا يبالي
بقتل الأبرياء وجعل الأكاذيب وتحريف الكلم عن مواضعه، واليك نبذ مما التقطناها من مخازيه:
1 - ان معاوية بذل لسمرة بن جندب مأة ألف درهم على أن يروى عن النبي صلى الله عليه وآله ان هذه
الآية نزلت في علي عليه السلام: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على
ما في قلبه وهو الد الخصام - إلى قوله تعالى - والله لا يحب الفساد) وان هذه نزلت في ابن ملجم
(ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) فلم يقبل فزاده حتى
بلغ أربعمائة الف فقبل! (نقله ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة)
2 - استخلف زياد سمرة بن جندب على البصرة فاتى الكوفة وقد قتل ثمانية آلاف
من الناس (وفى رواية من الشيعة!) فقال له زياد هل تخاف أن تكون قتلت أحدا بريئا؟ قال
لو قتلت مثلهم ما خشيت! (رواه أبو جعفر الطبري في احداث سنة خمسين من تاريخه).
3 - قال سمرة: والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية لما عذبني ابدا: (نقله الطبري
وابن الأثير).
4 - ان سمرة بن جندب عاش حتى حضر مقتل الحسين (ع) وكان من شرطة ابن زياد و
كان في أيام مسير الحسين عليه السلام إلى العراق يحرض الناس على الخروج إلى قتاله (نقله ابن أبي
الحديد في شرحه) ولكن الذي يوهن هذه الرواية ما نقله من جماعة منهم البخاري انه
مات سنة 58 وفى نقل آخر 59 وفى نقل ثالث 60 مع أن وقعة الطف كانت سنة 61 فتدبر
31

عذقي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله خل عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا، فقال: لا، قال:
فلك اثنان قال: لا أريد، فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق فأقل: لا، قال فلك عشرة
في مكان كذا وكذا. فأبى، فقال: خل عنه ولك مكانه عذق في الجنة قال: لا أريد،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن قال ثم أمر
بها رسول الله صلى الله عليه وآله فقلعت ورمى بها إليه وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله انطلق فاغرسها حيث
شئت (نقله في الوسائل في الباب 12 من كتاب احياء الموات).
2 - ما رواه في الكافي أيضا عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (ع)
قال: ان سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري
بباب البستان، فكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري ان يستأذن إذا
جاء، فأبى سمرة، فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فشكا إليه وخبره الخبر
فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وخبره بقول الأنصاري وما شكاه، قال: إذا أردت الدخول
فاستأذن فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى ان يبيع، فقال لك
بها عذق يمد لك في الجنة فأبى ان يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري: اذهب فاقلعها
وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار، (رواه في الوسائل في الباب 12 من كتاب
احياء الموات ثم قال: ورواه الصدوق باسناده عن ابن بكير نحوه، ورواه الشيخ باسناده
عن أحمد بن محمد بن خالد مثله).
ولا يخفى ان هذه الرواية وما قبلها رواية واحدة تحكى عن قضية واحدة نقلها

* * ولو لم يكن دليل على فسق الرجل ومعاداته للحق وأوليائه الا هذه الرواية المنقولة
في المتن عن الجوامع المعتبرة الحاكية عن اعتدائه على الأنصاري، لكان كافيا، فإنه
صريح في طغيانه واجترائه على رسول الله صلى الله عليه وآله والتبارز بعصيانه قبال امره المؤكد
بأنواع التأكيد وقد قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء - 69) بل قد يلوح منها امارات
كفره، فإن من البعيد أن يكون الانسان مؤمنا بالمعاد ووعده تعالى بالثواب والجزاء ثم لا يقبل
ضمان رسوله صلى الله عليه وآله نعم الجنة له ضمانا صريحا بثمن بخس.
32

زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام وعمدة الفرق بين الطريقين هو ذكر قيد (على مؤمن)
في قوله (لا ضرر ولا ضرار على مؤمن) في الأول منهما دون الأخير، وسيأتي ان له دخلا
في فهم مغزى الحديث،
3 - ما رواه الصدوق في (من لا يحضره الفقيه) باسناده عن الحسن الصيقل عن
(أبى عبيدة الحذاء) قال أبو جعفر (ع) كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بنى فلان
فكان إذا جاء الرجل إلى نخلته نظر إلى شيئى من أهل الرجل فكرهه الرجل فذهب
الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فشكاه فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله ان سمرة يدخل على بغير اذني
فلو أرسلت إليه فأمرته ان يستأذن حتى تأخذ أهلي خدرها منه، فأرسل إليه رسول الله
صلى الله عليه وآله فدعاه فقال: يا سمرة! ما شأن فلان يشكوك ويقول تدخل بغير اذني فترى من أهله
ما يكره ذلك؟ يا سمرة! استأذن إذا أنت دخلت، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وآله يسرك أن يكون لك
عذق في الجنة بنخلتك؟ قال: لا، قال: لك ثلاثة قال: لا، قال: ما أراك يا سمرة الا مضارا
اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهه (رواه فيمن لا يحضره الفقيه في باب حكم الحريم)
وهذه الرواية كما ترى خالية عن ذكر فقرة (لا ضرر ولا ضرار) ولكنها
مشتملة على صغراها وهي قوله: ما أراك يا سمرة الا مضارا)، وكيف كان فلا ريب
في أن هذه الروايات الثلاث حكاية عن قضية واحدة وان اختلفت عباراتها وبعض
خصوصياتها، نقلها (زرارة) تارة و (أبو عبيدة الحذاء) أخرى، ويظهر منها انه كان لسمرة
بن جندب حق العبور إلى نخلته من باب البستان الذي كان عنده دار الأنصاري، ولكن
أراد استيفاء حقه مع الاضرار بالأنصاري ولم يرض بالجمع بين حقه وحق الأنصاري بان
يكون دخوله مع استيذان منه بل ولم يرض بالاستبدال عنها فدفع عنه رسول الله صلى الله عليه وآله شره وامر
بقلع نخلته، لانحصار طريق استخلاص الأنصاري الظالم المجحف فيه، وفى فقه الرواية أبحاث
تأتى في محله عن قريب انشاء الله.
4 - ما رواه في الكافي عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع): قضى رسول الله
صلى الله عليه وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار وقال إذا
أرفت الأرف وحدت الحدود فلا شفعة (رواه في الوسائل عن الكافي في الباب 5 من أبواب
33

الشفعة، ثم أشار إلى رواية الشيخ والصدوق له بطرقهما الا ان في رواية الصدوق زيادة وهي:
(ولا شفعة الا لشريك غير مقاسم)).
ويظهر من هذا الحديث ان العلة أو الحكمة في جعل (حق الشفعة) للشريك
هي لزوم الضرر والاضرار عند فقده فإن الانسان لا يرضى باي شريك، ويدل أيضا
على أن هذا الحق ثابت في المشاع وقبل القسمة، واما بعدها فلا شفعة وهو المراد من
قوله: إذا أرفت الارف (أي أعلمت علامات القسمة) وحدت الحدود فلا شفعة، ويدل
عليه أيضا الزيادة الواردة في طريق الصدوق وهو قوله (ع) ولا شفعة الا لشريك غير
مقاسم (1).
وفى هذا الحديث أيضا أبحاث تدور حول قوله (ع) لا ضرر ولا ضرار وانها رواية
مستقلة ذكره الراوي مع حكم الشفعة من باب الجمع في الرواية والنقل، أو انها من
تتمة رواية الشفعة، والكلام فيها يأتي عن قريب انشاء الله.
ورواها في (مجمع البحرين) في مادة (ضرر) إلي قوله لا ضرر ولا ضرار الا ان فيه التقييد
بقوله (في الاسلام) بعد قوله ولا ضرار. وليكن هذا على ذكر منك.
5 - ما رواه في الكافي عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال: قضى رسول الله
صلى الله عليه وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع نفع الشئ (2) وقضى بين أهل
البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، فقال: لا ضرر ولا ضرار (رواه في الوسائل
في الباب السابع من أبواب احياء الموات)
قال العلامة المدقق شيخ الشريعة الأصفهاني قدس سره ان في النسخة المصححة
من الكافي عنده: (وقال لا ضرر ولا ضرار) - لا - فقال الخ بان يكون هذه الفقرة
معطوفة على ما قبلها بالواو بالفاء فليكن هذا أيضا على ذكر منك. أقول: وهنا شئ

1 - قال شيخ الطائفة قدس سره في الخلاف في كتاب الشفعة في المسألة الثالثة: و
معنى أرف عليه اعلم عليه قال أبو عبيدة: يقال أرفتها تأريفا أي أعلمت لها علامات و
هي لغة أهل الحجاز. انتهى كلامه.
2 - الأصح على ما في بعض النسخ (النقع) وهو فاضل الماء، يقال: (نقع البئر) أي فاضل مائها
34

يجب التنبيه عليه وهو انه قد وقع الخلاف بينهم في أن مالك البئر إذا قضى حاجته
وحاجة مواشيه وزرعه من مائها وفضل بعد ذلك شئ فهل يجب عليه بذله بلا عوض لمن
احتاج إليه لشربه أو شرب ماشيته أو سقى زرعه، أو مع العوض، أم لا؟ والمعروف
بينهم انه لا يجب، ولكن المحكى عن شيخ الطائفة في المبسوط وفى الخلاف وعن ابن
الجنيد والسيد أبى المكارم بن زهرة انه يجب بذله لمن احتاج إليه لشربه وشرب
ماشيته خاصة والمسألة معنونة في كتاب (احياء الموات) ولنا في تأييد مختار الشيخ
قدس سره وتضعيف ما ذهب إليه المشهور كلام يأتي
وفى معنى قوله: (لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء) احتمالات أحدها ان صاحب
البئر إذا منع فضل مائها عن أهل البادية، حتى منعوا عن سقى مواشيهم عند العطش
الحاصل عادة بعد الرعى، لم يقدروا على رعى مواشيهم حول الآبار ومنعوا من الاستفادة عن
كلائها، فمنع فضل الماء يمنع عن فضل الكلاء ثانيها ان صاحب البئر إذا منع فضل مائها
عن أهل البادية قابله صاحب الكلاء بمنع فضل كلائه منه ثالثها ان صاحب البئر إذا منع
فضل مائها فلعل أهل البادية يحتاجون إليه لزرعهم وكلائهم وذلك يضربهم ويمنعهم
عن الزرع والكلاء فلهذا أمر صاحب البئر بان لا يمنع فضل مائها حتى لا يمنع فضل
الكلاء. ولعل أوجه الاحتمالات هو الأول فتدبر.
6 - ما أرسله الصدوق قدس سره: قال قال النبي صلى الله عليه وآله: الاسلام يزيد ولا
ينقص، قال وقال لا ضرر ولا ضرار في الاسلام، فالاسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا
قال وقال: الاسلام يعلو ولا يعلى عليه (أخرجه في الوسائل في الباب الأول من أبواب
الإرث في المجلد الثالث)
والظاهر أن الصدوق قده جمع هنا بين روايات ثلث واردة بطرق مختلفة ليستدل
بها على أن المسلم يرث عن غير المسلم:
أحدها - قوله: الاسلام يزيد ولا ينقص، ثانيها - لا ضرر ولا ضرار في الاسلام.
ثالثها - الاسلام يعلو ولا يعلى عليه. اما قوله (فالاسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا)
فالظاهر أنه تفريع على الرواية الأولى، والذي يؤيد ذلك ما رواه في الوسائل في هذا الباب
35

بعينه عن (معاذ) انه ورث المسلم عن أخيه اليهودي - وكان عندئذ باليمن - وقال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: الاسلام يزيد ولا ينقص فاستدل معاذ بهذه الرواية على أن
المسلم يرث عن أخيه اليهودي فعلى هذا ليس مجموعها رواية واحدة واردة في باب الإرث
مشتملة على نفى الضرر والضرار كي تعد رواية مغايرة لغيرها من الروايات ويؤيده أيضا
ما رواه (الحاكم) في المستدرك (1) عن النبي صلى الله عليه وآله الاسلام يزيد ولا ينقص، مجردا عن
هذا الذيل أعني قوله لا ضرر ولا ضرار.
7 - ما رواه المحدث النوري في المستدرك (2) عن دعائم الاسلام عن أبي عبد الله
(ع) انه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره، سقط عنه، فامتنع من بنائه
قال: ليس بجبر على ذلك الا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق أو بشرط في
أصل الملك، ولكن يقال لصاحب المنزل اشتر على نفسك في حقك ان شئت، قيل له: فإن كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد هدمه اضرارا بجاره لغير حاجة منه
إلى هدمه: قال: لا يترك (3) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا ضرر ولا ضرار، وان
هدمه كلف ان يبنيه.
ولكن لا يظهر من هذه الرواية ان هذه الفقرة كانت مذكورة في كلام النبي صلى الله عليه وآله
مجردة عن غيرها فلعله (ع) اخذه من قول النبي صلى الله عليه وآله الوارد في قضية سمرة بن جندب بعنوان
كبرى كلية يستدل بها على مورد السؤال، وهذا أمر جائز للإمام (ع) كما يجوز لغيره
فلا يجوز الاستشهاد بهذه الرواية على كون هذه الفقرة قضية مستقلة من قضايا النبي
صلى الله عليه وآله كما قد يتوهم. فكن على بصيرة منه، حتى أحدث لك منه ذكرا.
8 - ما رواه في المستدرك أيضا عن دعائم الاسلام عن أبي عبد الله عن أبيه عن
آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا ضرر ولا ضرار.
وهذه أيضا - كالتي قبلها - لا تدل على كون الفقرة المذكورة كلاما مستقلا من
كلمات النبي صلى الله عليه وآله وقضاءا غير ما ورد في ذيل رواية سمرة

(1) في المجلد الرابع ص 345
(2) في المجلد الثالث ص 150
(3) أي لا يترك حتى يفعل ذلك
36

9 - ما رواه الشيخ في التهذيب باسناده عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله
(ع): في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع، فاشتراه رجل بعشرة دراهم واشرك فيه
رجلا بدرهمين بالرأس والجلد، فقضى ان البعير برئ فبلغ ثمنه دنانير قال وفقال:
لصاحب الدرهم خمس ما بلغ، فإن قال: أريد الرأس والجلد فليس له ذلك، هذا الضرار
وقد اعطى حقه إذا اعطى الخمس (رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب بيع الحيوان
من كتاب التجارة)
ويمكن عد هذه الرواية من الروايات العامة نظرا إلى ظهور قوله (هذا الضرار) في
كونه صغرى لكبري كلية مفهومة من العبارة، كما هو المعمول في حذف الكبريات
في مقام التعليل والاكتفاء بذكر صغراها، فكأنه قيل: هذا الضرار ولا ضرار، أولا
يجوز الضرار. واحتمال كون الكبرى المحذوفة مقيدة بقيود لم يكن المقام مقام
ذكرها، لكونه من مصاديقها على كل حال، بعيد عن ظاهر العبارة كما لا يخفى على
من لاحظ نظائرها، مضافا إلى أن ظاهره كون التعليل بأمر ارتكازي عقلي ولا قيد
في هذا الحكم بنظر العقل فتدبر، وكيف كان فهي دالة على نفى الضرار فقط فلو قلنا
بالفرق بينه وبين عنوان الضرر كما هو الأقوى فلا تكون دالة على نفى الضرر.
هذه هي الروايات الدالة على هذا الحكم عموما. واليك بعض ما ورد في الموارد
الخاصة المؤيدة لما سبق من العمومات:
10 - ما رواه في الكافي عن محمد بن حفص عن رجل عن أبي عبد الله (ع) قال:
سألته عن قوم كانت لهم عيون في ارض، قريبة بعضها من بعض، فأراد رجل ان يجعل
عينه أسفل من موضعها الذي كانت عليه، وبعض العيون إذا فعل بها ذلك أضر بالبقية
من العيون، وبعضها لا يضر من شدة الأرض قال فقال: ما كان في مكان شديد فلا يضر
وما كان في ارض رخوة بطحاء فإنه يضر، وان عرض رجل على جاره ان يضع عينه كما
وضعها وهو على مقدار واحد؟ قال: ان تراضيا فلا يضر، وقال يكون بين العينين الف ذراع
(رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب كتاب احياء الموات).
37

ويظهر من هذه الرواية ان الاضرار بالغير غير جائز حتى إذا كان منشأه التصرف
في أمواله التي يتسلط على التصرف فيها كيف يشاء بمقتضى قاعدة تسلط الناس على
أموالهم، فإن صاحب العين إنما أراد التصرف في عينه المملوكة بان يجعلها أسفل
مما كانت فمنعه الإمام (ع) من ذلك لما فيه من الاضرار بالعيون القريبة منها هذا ولكن
لا عموم فيها يمكن التمسك به في غير موردها. نعم لا يبعد التعدي عنه إلى غير البئر من
التصرفات والى سائر الجيران والاملاك المتقاربة.
وقد عنون الفقهاء هذه المسألة في باب (حريم العين) من كتاب احياء الموات
والمشهور بينهم ان حريم العين والقناة الف ذراع في الأرض الرخوة وخمسمأة ذراع في
الأرض الصلبة، ولكن المحكى عن الإسكافي والمختلف والمسالك ان حده ان لا يضر
الثاني بالأول.
وكيف كان هذا الخلاف لا دخل له فيما نحن بصدده فإنه لا شك في أن الحكمة أو
العلة في التحديد بالألف وخمسمأة على القول به هو رفع الاضرار، ولا يبعد القول
بكفاية أحد الامرين أعني البعد بالمقدار المذكور والعلم بعدم تضرر الجار، وتمام
الكلام في محله.
ثم لا يخفى ان منصرف الرواية هو ما إذا كان ترك ذاك التصرف موجبا لفوات
بعض المنافع الزائدة المترقبة لمالك العين لا ما إذا كان يتضرر بتركه حتى يؤل الامر إلى
تعارض الضررين، وليكن هذا على ذكر منك حتى نبحث عنه في بحث تعارض الضررين
من التنبيهات الآتية انشاء الله تعالى.
11 - ما رواه الكليني باسناده عن محمد بن الحسين قال: كتبت إلى أبى محمد
(ع) رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل ان يحفر قناة أخرى إلى قرية له كم يكون
بينهما في البعد حتى لا يضر إحديهما بالأخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة؟ فوقع
(ع)، على حسب أن لا تضر إحديهما بالأخرى إن شاء الله (رواه في الوسائل في الباب
14 من أبواب احياء الموات).
وهذه الرواية دالة على أن هذا الحكم، أعني عدم جواز الاضرار بالغير - حتى بان يتصرف
38

الانسان في ملكه أو ملك مباح فيلزم منه ضرر على غيره - كان مرتكزا في ذهن الراوي
فلذا لم يسئل عن أصل الحكم وإنما سئل عن صغراه بقوله: كم يكون بينهما في البعد
حتى لا يضر إحديهما بالأخرى، ومنشأ هذا الارتكاز اما التعارف الخارجي وما هو
الدائر بين العقلاء في أمثال هذه الموارد، واما عمومات لا ضرر، واما ما روى عن الأئمة
السابقين عليهم السلام من لزوم التباعد بين العينين بألف أو خمسمأة ذراع على اختلاف
الأراضي، مثل ما روى عن الصادق (ع) في الرواية السابقة. وكيف كان فطريق
الاستدلال بهذه الرواية هو عين ما مر بيانه في الرواية السابقة، الا ان مورد السؤال هناك هو
خصوص التصرف في العيون المستحدثة من قبل، والسؤال هنا عن احداث عين جديدة في ارض
قريبة من عين أخرى.
12 - ما رواه بذلك الاسناد قال: كتبت إلى أبى محمد (ع) رجل كانت له
رحى على نهر قرية، والقرية لرجل، فأراد صاحب القرية ان يسوق إلى قريته الماء في
غير هذا النهر ويعطل هذا الرحى، اله ذلك أم لا؟ فوقع عليه السلام: يتقى الله ويعمل في
ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن (رواه في الوسائل في الباب 25 من أبواب
احياء الموات).
والظاهر أن صاحب الرحى كان له حق الانتفاع من ذاك النهر من قبل والا كان تصرفه
فيه عدوانيا وجاز لصاحب القرية نهيه عن التصرف فيه بمثل هذا وتعطيل رحاه حتى إذا لم
يرد سوق الماء في غير ذلك النهر، فإن الناس مسلطون على أموالهم وعلى هذا سوق الماء
في غير هذا النهر مزاحم لحقه ويكون تعديا عليه فالمنع منه استنادا إلى هذه الجهة
لا دخل له بما نحن بصدده، ولكن الذي يستقرب دلالة الرواية على المطلوب ان الإمام (ع)
لم يسند الحكم إليه، بل أسنده إلى عنوان آخر وهو عنوان الاضرار فقال: لا يضر
أخاه المؤمن، ويستفاد منه حكم عام بعدم جواز اضرار المؤمن بأخاه في كل الموارد
وهو وإن كان حكما تكليفيا في بادي النظر الا انه يستفاد منه الحكم الوضعي أيضا عند
التأمل فتأمل.
13 - ما رواه الكليني رضوان الله عليه عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) في
39

رجل اتى جبلا فشق فيه قناة فذهبت الاخر بماء قناة الأول قال فقال: يتقايسان (1)
بحقايب البئر ليلة ليلة، فينظر أيتهما أضرت بصاحبتها، فإن رأيت الأخيرة أضرت
بالأولى فلتعور ورواه الصدوق باسناده عن عقبة بن خالد، وزاد: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله
بذلك وقال: ان كانت الأولى اخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأولى
سبيل (رواه في الوسائل في الباب 16 من أبواب احياء الموات، وبمضمونه رواية أخرى
عن الشيخ باسناده عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام)
وفى مجمع البحرين (حقايب البئر) اعجازها، وهذه الرواية أيضا تدل على عدم
جواز الاضرار بالغير وإن كان بالاستفادة من ارض مباحة، حتى أنه أمر بالاختبار والمقايسة
والنظر إلى ماء القناتين ليلة ليلة، فإن ثبت ان القناة الأخيرة تضر بالأولى فلتعور والا
فلا، واما عدم حكمه بعور الأولى لو أضرت بالثانية فوجهه واضح لعدم صدق الاضرار
عليه بعد اقدامه بنفسه على حفر قناته قرب الأولى الذي يكون معرضا لذلك عادة ولا
يخفى ان المستفاد من هذه الرواية الحكم الوضعي أيضا
14 - ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (ع) قال إن الجار
كالنفس غير مضار ولا اثم (رواه في الوسائل في الباب 12 من كتاب احياء الموات).
وهي تدل على عدم جواز الاضرار بالجار بما لا يضر الانسان بنفسه، وقوله:
ولا اثم لعل معناه انه لا يجوز ارتكاب الاثم في حق الجار وان كل اضرار به اثم، أو انه
كفى في أداء حق المجاورة ان لا يضر به فإذا لم يضر به فلا اثم، ورواه المحدث الكاشاني
قدس سره في الوافي في باب (حسن المجاورة) ثم قال: لعل المراد بالحديث ان الرجل
كما لا يضار نفسه ولا يوقعها في الاثم أو لا يعد عليها الامر اثما، كذلك ينبغي ان لا يضار
أخاه ولا يوقعه في الاثم أو لا يعد الامر عليه اثما، يقال إثمه: أوقعه في الاثم، إثمه الله في
كذا عده عليه اثما انتهى كلامه.
15 ما رواه الطبرسي في المجمع مرسلا في تفسير قوله تعالى: (من بعد
وصية يوصى بها أو دين غير مضار) (2) من أنه جاء في الحديث: ان الضرار في الوصية من

(1) وفى نسخة: (يتقاسمان) والأصح هو الأول وهو من المقايسة.
(2) النساء - 12
40

الكبائر (ورواه في الوسائل عنه في الباب 8 من أبواب الوصية)
والظاهر منها - بقرينة سائر الروايات في ذاك الباب - ان الضرار في الوصية
هو الوصية بتمام المال أو بأكثر من الثلث، ولا يخفى ان المستفاد منها عدم صحة هذه
الوصية وعدم نفوذها، سيما بملاحظة الآية الشريفة فهي لا تدل على حكم تكليفي
فحسب بل عليه وعلى الحكم الوضعي.
16 - ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال باسناده عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث و
من أضر بامرأة حتى تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار - إلى أن قال - و
من ضار مسلما فليس منا ولسنا منه في الدنيا والآخرة.
وغير خفى ان الفقرة الأخيرة مطلقة تدل على عدم جواز الاضرار بالمسلم مطلقا
17 - ما رواه الكليني باسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (ع) في حديث: انه
نهى ان يضار بالصبي أو تضار أمه في رضاعه (رواه في الوسائل في باب أقل مدة الرضاع و
أكثرها من أبواب أحكام الأولاد)، وفى ذيل هذا الباب رواية أخرى قريبة منها.
18 - ما رواه الكليني أيضا باسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته
عن الشئ يوضع على الطريق فتمر الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال: كل شئ
يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه (رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب
موجبات الضمان من كتاب الديات).
فحكم عليه السلام بان التصرف في الشارع المباح بما يوجب الاضرار بالغير موجب
للضمان، وان كون الطريق عاما لا يمنع من هذا الحكم.
19 - ما رواه الشيخ باسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل
من أضر بشئ من طريق المسلمين فهو له ضامن (رواه في ذاك الباب بعينه)
20 - ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن بن زياد عن أبي عبد الله (ع) قال: لا ينبغي
للرجل ان يطلق امرأته ثم يراجعها وليس به فيها حاجة ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي
نهى الله عز وجل عنه، الا ان يطلق ثم يراجع وهو ينوى الامساك (رواه في الوسائل في
الباب 34 من أبواب أقسام الطلاق من كتاب الطلاق).
41

وقوله فهذا الضرار الذي نهى الله عز وجل عنه إشارة إلى قوله تعالى: ولا تمسكوهن
ضرارا لتعتدوا (1) وفى ذاك الباب بعينه روايات أخر في هذا المعنى فراجع. هذه
ما وصل إلينا من طرق الأصحاب عموما وخصوصا، وهنا روايات أخر خاصة واردة في أبواب
مختلفة يعثر عليها المتتبع قد طوينا الكشح عنها، والعمدة هي العمومات المتقدمة
واما ما ورد من طرق العامة فهي روايات:
1 - ما رواه أحمد في مسنده (2) قال حدثنا عبد الله، قال حدثنا أبو كامل الجحدري،
قال حدثنا الفضيل بن سليمان، قال حدثنا موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى عن
الوليد بن عبادة بن صامت عن عبادة قال: ان من قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله ان المعدن جبار، و
البئر جبار، والعجماء جرحها جبار، والعجماء البهيمة من الانعام والجبار هو الهدر
الذي لا يغرم، وقضى في الركاز الخمس، وقضى ان النخل لمن أبرها الا ان يشترط
المبتاع، وقضى ان مال المملوك لمن باعه... إلى أن قال: وقضى للجدتين من الميراث
بالسدس بينهما، وقضى ان من أعتق شركاء في مملوك فعليه جواز عتقه إن كان له مال،
وقضى ان لا ضرر ولا ضرار وقضى انه ليس لعرق ظالم حق، وقضى بين أهل المدينة في النخل
لا يمنع نفع بئر، وقضى بين أهل البادية (المدينة خ ل) انه لا يمنع فضل ماء ليمنع
فضل الكلاء.
قال في المجمع: الجبار بالضم والتخفيف (كغراب) الهدر يعنى لا غرم، والعجماء
البهيمة سميت بذلك لأنها لا تتكلم، والمعنى: ان البهيمة العجماء تنفلت فيتلف شيئا
فذلك الشئ هدر وكذلك إذا انهار على أحد فهو هدر (يعنى لا غرامة في التلف في
شئ من هذه الموارد).
أقول: لا شك في أن هذه الأقضية صدرت في وقايع مختلفة ولكن (عبادة) ذكر
متون الأقضية وحذف مواردها وجمعها في حديث واحد، ومضمونها من أقوى الشواهد

1 - البقرة - 231
2 - المجلد الخامس ص 326 و 327
42

على ذلك، وعلى هذا فمن القريب جدا أن يكون قوله: (لا ضرر ولا ضرار) غير صادر
عنه صلى الله عليه وآله مستقلا وبلا سابقة دعوى ولا منازعة، بل لعله كان ذلك قضاء في واقعة أو
وقايع متعددة، نقله عبادة مجردا عنها، فيحتمل قريبا أن يكون بعينه ما ورد في قضية
سمرة مع الأنصاري، أو ما ورد فيها وفى حكمي الشفعة ومنع فضل الماء (بناء على القول
بوروده في ذيلها أيضا على ما سيأتي شرحه) وحينئذ لا يجوز لنا الاخذ بما يظهر منه بادي
النظر من وروده مستقلا والاستدلال به على أنه كان قضاء مستقلا فليكن هذا أيضا على
ذكر منك.
2 - ما أرسله ابن الأثير في النهاية انه صلى الله عليه وآله قال: لا ضرر ولا ضرار في الاسلام
واحتمال التقطيع في كلام ابن الأثير عند النقل أيضا قريب فلا يصح عده قضاءا مستقلا
3 - وهنا عبارات مختلفة من محققي أصحابنا تدل على أن الحديث كان متفقا
على بين العامة والخاصة:
منها ما ذكره العلامة قدس الله سره في التذكرة في المسألة الأولى من خيار الغبن،
قال الغبن سبب الخيار للمغبون عند علمائنا وبه قال مالك واحمد لقوله صلى الله عليه وآله لا ضرر و
لا ضرار في الاسلام انتهى.
ويظهر من عبارته ان مستند مالك واحمد أيضا في هذا الحكم هو حديث نفى الضرر،
ولكن يحتمل أن يكون دليلا لمختاره ومختار الأصحاب فقط، وكيف كان فتمسك
العلامة بهذا الحديث في هذا المقام شاهد على كونه معتمدا عليه عند العامة والخاصة
ومنها ما افاده السيد أبو المكارم بن زهرة في الغنية في أواخر أبواب الخيار من كتاب البيع
لاثبات حكم الأرش من قوله: ويحتج على المخالف بقوله صلى الله عليه وآله: لا ضرر ولا ضرار.
ومنها ما افاده شيخ الطائفة في المسألة 60 من كتاب البيع من الخلاف في باب
حكم خيار الغبن: دليلنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا ضرر ولا ضرار انتهى
وليعلم انه قدس سره لم يذكر هنا قيد (في الاسلام) مع ذكره في كتاب الشفعة
من الخلاف بعينه حيث قال: في المسألة 14 منه ان قول النبي صلى الله عليه وآله لا ضرر ولا ضرار في
الاسلام يدل على ذلك فاذن يشكل الاعتماد على ذكره هذا القيد هناك والاستدلال به
43

على وجوده في متن الرواية.
والحاصل ان أمثال هذه التعبيرات والاستدلالات في كتب العامة والخاصة تدل
على كون هذه الرواية كالمجمع عليهم بينهم، حيث أرسلوها ارسال المسلمات.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا ان صاحب الوسائل قدس سره روى هذه الفقرة أعني
قوله (لا ضرر ولا ضرار) مجردة عن غيرها في أبواب مختلفة من الوسائل مثل الباب 17
من أبواب الخيار، وقد يوهم ذلك انها رواية أو روايات أخر حتى يستند إليها في اثبات
صدور هذه الفقرة مستقلة، ولكن هذه الشبهة تزول بسرعة بعد ملاحظة اسناد هذه الأخبار،
فإن اسنادها بعينه اسناد رواية زرارة الواردة في قضية سمرة بن جندب، ورواية عقبة
الواردة في قضاء رسول الله في منع فضل الماء فراجع، وديدن صاحب الوسائل في تقطيع
الروايات معلوم لكل من له انس بكتابه.
هذا ما وقفنا عليه من الروايات الدالة على هذه القاعدة عموما وخصوصا في
كتب الفريقين، وقد تحصل منه ان هذه الفقرة (لا ضرر ولا ضرار) نقلها زرارة وأبو
عبيدة الحذاء عن الإمام الباقر عليه السلام، وعقبة بن خالد عن الإمام الصادق عليه السلام، ورواها
الصدوق والقاضي نعمان المصري مرسلا، وأرسله الشيخ والعلامة وابن زهرة رضوان الله
عليهم في كتبهم ارسال المسلمات ومن طرق العامة رواه أحمد مسندا وابن الأثير
مرسلا. وقد وردت روايات خاصة في مواضع شتى تؤيد مضمونها، فاذن لو لم ندع التواتر
فيها - كما ادعاه فخر الدين في محكى الايضاح من باب الرهن، فلا أقل انها من المستفيضات
التي لا ينبغي التأمل في جواز الاعتماد عليها حتى من القائلين بعدم حجية خبر الواحد
هذا تمام الكلام في مدرك القاعدة
44

المقام الثاني
في مفاد هذه القاعدة
وقبل الشروع في بيان مفاد القاعدة ومغزاها لابد من تقديم أمرين لهما دخل تام
في فهم هذه الروايات.
الأول - قد عرفت ان قوله (لا ضرر ولا ضرار) مذيل في غير واحد من
طرق الرواية بقوله (في الاسلام) فهل هذا لقيد ثابت بطرق صحيحة يركن إليها،
بحيث لو توقف استظهار بعض ما ذكر فمعناها عليه يحكم به أم لا؟.
الذي يظهر بعد التأمل التام في أسانيد الروايات ومضامينها ان تذييل الحديث
بهذا الذيل غير ثابت. لما عرفت عند بيان الاخبار من عدم وروده الا في مرسلة الصدوق (1)
ومرسلة ابن الأثير (2) ومرسلة الطريحي في مجمع البحرين في مادة (ضرر) ذيل حديث
الشفعة (3) لكن الظاهر أنه سهو من قلمه الشريف لأن حديث الشفعة مذكورة في
جوامع اخبارنا بدون هذا القيد ولا شك انه اخذ الحديث منها، وفى كلام الشيخ في
كتاب الشفعة في المسألة الرابعة عشرة (4) وقد عرفت انه نفسه نقله مجردا عن هذا
القيد في (المسألة الستين) من كتاب البيع، وفى كلام العلامة في التذكرة في المسألة
الأولى من خيار الغبن (5).
والانصاف ان شيئا من هذه المرسلات بل ولا مجموعها مع ما عرفت من السهو و
الاشتباه في غير واحد منها لم تبلغ حدا يمكن الركون عليها، فما يظهر من بعض كلمات

1 - ذكرناها تحت الرقم 6
2 - ذكرناها تحت الرقم 2 من أحاديث العامة
3 - ذكرناها تحت الرقم 4.
4 - ذكرناه تحت الرقم 3 من أحاديث العامة.
5 - ذكرناه تحت الرقم 3 من أحاديث العامة.
45

شيخ الشريعة الأصفهاني قدس سره من عدم وجود هذا القيد الا في كلام ابن الأثير في
النهاية وإن كان مخالفا للواقع، لما عرفت من نقله في كلام الصدوق وكلام غير واحد
من أئمة الفقه. الا ان هذا المقدار غير كاف في اثباته، كما أن ما نقله من بعض معاصريه
من دعوى التواتر في هذا القيد واسناده إلى المحققين أيضا في غير محله، والحاصل
ان اثبات هذه الزيادة بنقل من عرفت دونه خرط القتاد
وعلى هذا لا تصل النوبة إلى ملاحظة التعارض بين طرق الرواية، وما ورد فيه
هذه الزيادة وما لم يرد، حتى يقال بتقديم ما اشتمل على الزيادة، لما قرر في محله
من تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة، نظرا إلى أن الزيادة سهوا من
الراوي نادر الوقوع جدا بخلاف النقيصة. فيؤخذ بما اشتمل على الزيادة، حتى
يجاب عنه بما افاده المحقق النائيني بان مبنى ذلك ليس الأسيرة العقلاء ولا يعلم
بنائهم على تقديم أصالة عدم الزيادة في أمثال هذه المقامات التي يحتمل قريبا كون
الزيادة من الراوي عند النقل بالمعنى لمغروسيتها في ذهنه، بمناسبة الحكم
والموضوع، وملاحظة اشباهه من قوله: لا رهبانية في الاسلام، لا اخصاء في الاسلام،
وغير ذلك من أمثالهما انتهى ما افاده ملخصا.
هذا مع انا لم نجد أصلا لهذا الأصل وما أشبهه مما ينسب إلى بناء العقلاء فإنه ليس
عندهم اثر من هذه الأصول التي تنسب إليهم بل الذي وجدنا منهم ان مدارهم في هذه
المقامات، إذا أدت حاجتهم إليها في عمل أنفسهم، على الاطمينان من أي طريق حصل
وعند الاحتجاج مع خصومهم على قرائن لفظية أو حالية أو مقامية توجب الاطمينان
عادة لمن اطلع عليها، ولم نجد لهم تعبد خاص بتقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة
عدم النقيصة، وان شئت اختبر نفسك عند مطالعة الكتب التي ترد عليك كل يوم
فهل تأخذ بأصالة عدم الزيادة بعنوان أصل عقلائي ولو لم تفد الاطمينان، والانصاف ان
العقلاء لا يعرفون كثيرا من هذه الأصول التي تنسب إليهم وان بنائهم في هذه الموارد
على الاخذ بما تطمئن به أنفسهم لا غير
46

واما التذييل بقوله (على مؤمن) فقد عرفت انه وارد في رواية ابن مسكان عن
زرارة المروية في الكافي، ولكن عرفت ان ابن بكير روى هذه الرواية بعينها عن
زرارة مجردة عن هذا القيد، وروى أيضا هذه القضية بعينها أبو عبيدة الحذاء عن الباقر
عليه السلام مجردة عنه، فاحد الروايتين عن زرارة وأبو عبيدة الحذاء نقلاه مجردا والراوي
الاخر عنه نقله مقيدا فكيف يمكن الاعتماد على الأخير في اثباته، سيما مع ملاحظة
انه ليس قيدا يهتم بشأنه في بادي النظر.
ثم اعلم أن هذا البحث أعني زيادة (في الاسلام، أو على مؤمن) لو ثبت يترتب عليه
بعض الفوائد الهامة، وليس كما افاده المحقق النائيني قده خاليا عن الفائدة،
لظهور الفائدة في تنقيح مفاد الحديث وتأييد كون كلمة (لا) نافية، الذي استند إليه
العلامة الأنصاري في اثبات حكومة القاعدة على العمومات (لا ناهية حتى يكون مفادها
حكما فرعيا بعدم اضرار الناس بعضهم ببعض. بيان ذلك:
ان الجار والمجرور (أعني في الاسلام) هنا متعلق بفعل عام مقدور على اصطلاح
النحاة الظرف هنا ظرف لغو، والتقدير لا ضرر موجود في الاسلام، ومعناه انه لا يوجد
حكم ضرر في أحكام الاسلام وهذا المعنى يوافق حكومة القاعدة على عمومات
الأحكام، ولا يناسب كون لا ناهية بان يكون معناه لا تضروا في الاسلام، لأن الاسلام ليس
ظرفا لا ضرار الناس بعضهم ببعض الاعلى تكلف بعيد، والعجب من المحقق النائيني
قدس الله نفسه حيث أنكر ذلك واعتقد بجواز إرادة النهى مع هذا القيد أيضا وكان
الشبهة نشأت عن الخلط بين اصطلاح النحاة في الظرف، وبين الظرف والمظروف
بمعناهما العرفي فراجع وتأمل. وسيأتي تتمة لهذا الكلام عند تحقيق مفاد الحديث.
الثاني - لا يخفى على الناظر في روايات الباب ورود قوله (لا ضرر ولا ضرار) ذيل
قضية سمرة، وظاهر غير واحد منها وروده مستقلا أيضا، ولكن الانصاف انه ظهور بدوي
يزول بالتأمل، فإن احتمال التقطيع فيها قوى جدا وقد أشرنا إلى بعض ما علم التقطيع
فيه، عند نقل الاخبار، هذا مضافا إلى عدم اعتبار الطرق المشتملة على ذكر هذه القضية
47

مجردة عن غيرها، فلا يمكن الركون إليها.
ولكن ظاهر حديث الشفعة ومنع فضل الماء (1) المرويين عن عقبة بن خالد
ورودها ذيل قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله في الشفعة ومنع فضل الماء، لكن قد وقع التشكيك
من غير واحد من محققي الأصحاب في هذا الظهور واحتمل كونه من باب الجمع في
الرواية، وأول من فتح باب هذا التشكيك العلامة الجليل شيخ الشريعة الأصفهاني قده
فإنه أصر على عدم ورودها في هاتين القضيتين وأتعب نفسه الزكية في جمع القرائن
على ذلك، وتبعه المحقق النائيني وأيده بقرائن اخر.
وتظهر ثمرة هذا النزاع في تحقيق مفاد الحديث وانه نفى الأحكام الضررية
الحاكم على عمومات أدلة الأحكام، أو ان مفاده النهى عن اضرار الناس بعضهم ببعض،
فإنه لو ثبت ورودها ذيل حديثي الشفعة ومنع فضل الماء كانت كالعلة لتشريع هذين الحكمين
في الشريعة وهذا لا يناسب النهى بل يناسب النفي كما هو ظاهر.
وكيف كان فعمدة ما استند إليه المحقق المذكور في اثبات هذا المدعى
المخالف لظاهر الرواية مقايسة قضا يا رسول الله صلى الله عليه وآله المحكية عن طرق العامة
المنتهية إلى (عبادة بن صامت)، وما ورد من طرق الخاصة المنتهية في كثير من
مواردها إلى (عقبة بن خالد) فإن توافقهما واتحادهما في كثير من عباراتهما مع خلو
رواية (عبادة) من هذا الذيل مع أنه نقل قضائه في الشفعة وفضل الماء بعينه، كما نقله
(عقبة بن خالد) مما يضعف الاعتماد على هذا الظهور البدوي ويوجب قوة الظن بان
الجمع بين هذه الفقرة وسائر فقرات الرواية كان من باب الجمع في الرواية من
ناحية الراوي، لا انها صدرت في قضية واحدة عن النبي صلى الله عليه وآله، سيما مع كون عبادة
ضابطا متقنا في نقل الأحاديث ومن خيار الشيعة على ما قيل. كما أنه لا يمكن الاستشهاد
بظهور لفظة (فاء) في قوله (فلا ضرر ولا ضرار) في ذيل حديث منع فضل الماء في كون
ما بعده متفرعا على ما قبله ومتصلا به، لما عرفت سابقا من أن النسخ المصححة من الكافي
خالية عنها بل المذكور فيها هو الواو بدل الفاء (فراجع الروايات السابقة وتأملها)

1 - ذكرناهما تحت الرقم 4 و 5.
48

هذا ملخص ما افاده العلامة الأصفهاني في كلام طويل له في رسالته المعمولة
في المسألة، ولكن الانصاف ان رواية عقبة بن خالد أقوى ظهورا في اتصال هذه الفقرة
بقضائه صلى الله عليه وآله في الشفعة ومنع فضل الماء من رواية عبادة في الانفصال، بيان ذلك:
انه لا شك لمن تأمل رواية عبادة بن صامت انه لخص قضايا رسول الله صلى الله عليه وآله وارتكب
التقطيع فيها ولم ينقلها مع مواردها بل نقلها مجردة عن ذكر المورد، لأنا نعلم قطعا
بعدم صدور هذه القضايا أو أكثرها عنه صلى الله عليه وآله بلا مقدمة، بل كل واحد منها كان
واردا في مورد خاص، مثل قضية سمرة بن جندب وشبهها، ولكن عبادة لخصها وجمعها
في عبارة واحدة، ومن هنا يحتمل قريبا أن يكون قد حذف قوله لا ضرر ولا ضرار عن ذيل
قضائه في منع فضل الماء، حيث لا يتفاوت معه المعنى حتى يعد خارجا عن حدود النقل
بالمعنى المتداول بين الرواة، واكتفى بذكر هذه الفقرة أعني لا ضرر بعنوان قضاء
مستقل لوروده في موارد مختلفة.
ومما يقرب هذا الاحتمال انه لا شك في ورود (لا ضرر) في ذيل قضية سمرة ولكن عبادة
لم ينقل موردها بل اكتفى بنقل قضائه بان لا ضرر ولا ضرار مجردا عن كل شئ، فيستكشف
من ذلك عدم اعتنائه بنقل هذه الخصوصيات، فاكتفائه بذكر هذه الفقرة مستقلة،
عن تذييل قضائه صلى الله عليه وآله في الشفعة ومنع فضل الماء بها، قريب جدا.
هذا مع أن الكلام بعد في سند رواية عبادة بن صامت، فإن مجرد توثيق عبادة
لو ثبت لا يكفي في الاعتماد على الرواية، لاشتمال سندها على رجال آخرين لم يثبت
لنا وثاقتهم لما عرفت من أن احمد نقلها في مسنده بست وسائط عن عبادة، هذا كله
مضافا إلى أن الجمع بين الروايات في نقل واحد بهذا الوجه (بالحاق حكم يكون
كالكبرى برواية خاصة تكون كالصغرى له) غير معهود من الرواة، بل هو أشبه
بالفتاوى والاجتهادات التي تداولت بعد عصر الرواة كما لا يخفى، فالحاصل ان صرف
النظر عن ظهور رواية عقبة في ورود جميع فقراتها في واقعة واحدة وارتباط بعضها
ببعض بأمثال هذه الاحتمالات مشكل جدا، ووجود (فاء التفريع) وإن كان مؤيدا
للاتصال ولكن عدمها لا يدل على عدمه، بل العطف بالواو أيضا ظاهر فيه وإن كان
49

أضعف ظهورا من الفاء.
وقد تبع هذا المحقق على هذا القول، المحقق النائيني قدس سرهما في
رسالته المعروفة واستدل له مضافا إلى ما ذكره بوجوه أخرى:
أحدها - ان أقضية النبي صلى الله عليه وآله مضبوطة عند الإمامية وأهل السنة، وبعد
اتفاق ما رواه العامة عنه صلى الله عليه وآله مع ما رواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام وبعد ورود
(لا ضرر) مستقلا في طريقهم، يحدس الفقيه ان ما ورد في طريقنا أيضا كان قضاء مستقلا
من دون أن يكون تتمة لحديثي الشفعة ومنع فضل الماء وإنما الحقه بها عقبة بن خالد من
باب الجمع في الرواية والثقل
ثانيها - ان جملة (ولا ضرار) على ما سيجيئ من معناها لا تناسب حديث الشفعة
ولا حديث منع فضل الماء فلا يحتمل تذييلهما بها في كلام النبي صلى الله عليه وآله
ثالثها - ان بيع الشريك بغير رضا شريكه ليس مقتضيا للضرر فضلا عن أن يكون
علة له فلا يصح تعليل فساده بحديث لا ضرر، وكذلك كراهة منع فضل الماء - على
ما هو الأقوى من أنه ليس وجه التحريم - لا يمكن تعليلها بلا ضرر، فيستكشف من هذا
عدم كونه من تتمة الحديثين.
ثم أورد على نفسه بامكان كونه من قبيل العلة في التشريع (يعنى به حكمة
الحكم فأجاب عنه بان حكمة الأحكام لو لم تكن دائمية فلا أقل من لزوم كونها غالبية
والحال انه ليس الضرر في موارد الشفعة ومنع فضل الماء غالبيا هذه خلاصة ما افاده.
هذا ولكن يدفع الأول ما عرفت آنفا من أن القرائن شاهدة على عدم كون
هذه الفقرة قضاءا مستقلا حتى يلزم خلو رواية عقبة عنها، بل الظاهر أن عبادة هو الذي
حذف موردها أو مواردها وجعلها قضاءا مستقلا، وليس عليه حرج لعدم كونه بصدد نقل
جميع الخصوصيات كما تنادى به روايته. ويشهد له أيضا ترك ذكر قضائه في حق سمرة
بن جندب الذي وردت هذه الفقرة في ذيلها وكذلك عقبة بن خالد لم يذكر قضية سمرة
وما حكمه النبي صلى الله عليه وآله هناك، فلعله أو كل أمرها إلى شهرتها، أو لم يكن بصدد
استقصاء جميع قضاياه صلى الله عليه وآله فإنه لم يثبت لنا كونه بصدد ذلك، فلا (عقبة بن خالد) كان بصدد
50

استقصاء قضايا النبي صلى الله عليه وآله ولا (عبادة) كان بصدد بيان خصوصيات قضاياه.
ويجاب عن الثاني بأنه يمكن أن يكون ذكر (ولا ضرار) بعد قوله (لا ضرر)
من قبيل الاستشهاد بثلث فقرات من حديث الرفع (رفع ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوه
وما أخطأوا) في رواية البزنطي وصفوان عن أبي الحسن عليه السلام الواردة في رجل أكره
على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، فإن مورد استشهاده عليه السلام
لم يكن جميع الثلاثة، بل خصوص رفع الاكراه، وهذا أمر شايع عند الاستشهاد بالقضايا
التي تشتهر بعبارة مخصوصة وجيزة، فإنها كثيرا ما تنقل بجميعها في مقام الاستشهاد
وإن كان مورد الاستشهاد خصوص بعض فقراتها، فذكر لا ضرار في كلام النبي صلى الله عليه وآله
عقيب قوله لا ضرر عند قضائه في الشفعة أو منع فضل الماء، تتميما لهذه القضية التي
اعتمد عليها في غير مقام لا ينافي عدم انطباقه على مورد الحديثين، وان هذا الأمثل
سؤال بعضنا عن بعض عن حكم النائم والجواب عنه بما ورد من رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم
وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ، مع أن مورد الاستشهاد إحدى فقراتها
فقط، هذا مضافا إلى أن منافاة قوله (ولا ضرار) لمورد الحديثين غير واضح كما سيأتي
البحث عنه انشاء الله عند البحث عن معنى كلمتي الضرر والضرار فانتظر.
ويدفع الثالث ان حمل النهى في مسألة منع فضل الماء على الكراهة غير
معلوم، بيان ذلك: ان القدر المتيقن من مورد الرواية هو ما إذا كان الممنوع في
حاجة شديدة، ويشق عليه تحصيل ماء آخر لسقيه أو سقى مواشيه بحيث لو منع من فضل
ماء البئر وقع في مضرة شديدة وحرج وضيق في المعيشة، ولا اطلاق لها يشمل غير هذه
الصورة، فإنها واردة في حق أهل بوادي المدينة ومن ضاهاهم والظاهر أن الامر بالنسبة
إليهم، وتلك الابار في ذاك العصر كان من هذا القبيل ولا أقل من الشك فلا يمكن
التعدي عنها إلى غير هذه الموارد. ثم إنه لا يبعد من مذاق الشارع المقدس ان يأمر
مالك البئر ان لا يمنع فضل مائه في أمثال المقام اما مجانا وبلا عوض أو في مقابل
القيمة، على خلاف في ذلك بين القائلين بوجوب البذل كما عرفت شرحه عند نقل الأحاديث
رعاية لمصالح جمع من ذوي الحاجة من المسلمين. وقاعدة تسلط الناس على أموالهم
51

وان كانت قاعدة مسلمة ثابتة عند الشرع والعقلاء، الا انه لا مانع من تحديدها من
بعض النواحي من قبل الشارع المقدس، لمصالح هامة كما وقع التحديد من ناحية
العقلاء في بعض الموارد، كيف وقد حددها الشارع في مواضع اخر، في مورد الاحتكار
والاكل في المخمصة وأمثالهما.
ولا مانع من القول بوجوب بذل فضل الماء هنا كما صار إليه جمع من الفقهاء، هذا
شيخ الطائفة قد أوجب على مالك البئر بذل فضل مائه مجانا حيث قال فيما حكى عن
مبسوطه: (ان كل موضع قلنا فيه يملك البئر فإنه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه و
شرب ماشيته وسقي زرعه، فإذا فضل بعد ذلك شئ وجب بذله بلا عوض لمن احتاج
إليه لشربه وشرب ماشيته - إلى أن قال - اما لسقي زرعه فلا يجب عليه، لكنه يستحب،
وذكر في الخلاف نحوه، وفى المختلف حكايته عن ابن الجنيد وعن الغنية أيضا،
فراجع.
نعم ظاهر المشهور عدم وجوب البذل ولعل الوجه فيه ترددهم في صحة أسانيد
الروايات الدالة على هذا الحكم - كما حكى عن المسالك - أو استنادهم فيه إلى
عموم السلطنة وغيرها واستبعاد تخصيصها بأمثال هذه الروايات، واستيفاء البحث عن هذا
الحكم موكول إلى محله من كتاب (احياء الموات).
والغرض من جميع ما ذكرنا ان القول بحرمة منع فضل الماء مما لا استبعاد فيه،
كما أن انطباق عنوان الضرر على القدر المتيقن من مورد الرواية بالنظر الوسيع
العرفي قريب جدا كانطباقه على مورد الاحتكار وشبهه، فاذن لا وجه للقول بان
الذيل كان حديثا مستقلا وقع الجمع بينه وبين سائر فقرات الرواية من الراوي،
فانطباق لا ضرر على مورد الرواية قريب بعد ملاحظة ما ذكرنا في توضيحه، والعجب أن
المحقق النائيني قده لم يكتف بما ذكر حتى منع انطباق لا ضرر على مورد الرواية
ولو بعنوان حكمة الحكم. مع ما عرفت من أن انطباقه على القدر المتقن من مورد
الرواية بعنوان علة الحكم أيضا قريب فضلا عن حكمة الحكم. هذا كله مضافا إلى أن
التعليل بما يشتمل على حكم الزامي لتأكيد الأوامر الاستحبابية أو النواهي
52

التنزيهية المؤكدة غير بعيد، فمجرد كون الحكم المعلل غير الزامي لا يكفي شاهدا
للحكم بعدم تذييله بهذه العلة المشتملة على حكم الزامي فتدبر.
واما حديث الشفعة فلا مانع من ورود لا ضرر فيه بعنوان حكمة الحكم والقول
بان الحكمة لابد أن تكون أمرا غالبيا، وليس الضرر الحاصل بترك الاخذ بالشفعة
ولزوم بيع الشريك على شريكه كذلك ممنوع بعدم الدليل على لزوم أمرا
غالبيا بل يكفي كونها كثير الوقوع، وان لم يكن غالبيا بل لا يبعد كفاية عدم كونها
نادرا، الا ترى انه قد ورد في غير مورد من المناهى انه يورث الجنون أو البرص أو أمثال
ذلك، مع أن هذه اللوازم ليست دائمية بل ولا غالبية.
واضعف منه القول بان الضرر الناشئ من ترك الشفعة اتفاقي نادر الوقوع - كما
يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني في رسالته الميل إليه - فإنه ممنوع جدا لما
نشاهد من حال الناس وعدم رضائهم باي شريك بل الذين يرضونهم للشركة أقل بمراتب
بالنسبة إلى من لا يرضونه. ولا شك لمن لاحظ حال الشركاء في المساكن والأرضين
وغيرها انه لو لاحكم الشفعة وجاز للشريك بيع حصته ممن شاء من دون رعاية نظر شريكه،
لوقع بين الناس من التشاجر والتنازع والبغضاء وفساد الأموال والأنفس ما لا يخفى.
نعم هذا الضرر ليس دائميا حتى يصلح لأن يكون علة لهذا الحكم ولكنه يصلح أن يكون
حكمة له بلا اشكال.
ولقائل ان يقول: كيف يجعل حكم واحد (مثل لا ضرر) علة في مقام مثل
قضية سمرة، وحكمة في مقام آخر كما فيما نحن فيه؟ وقد أشار إلى هذا الاشكال
المحقق النائيني في رسالته وارتضاه. لكن الانصاف انه أيضا في غير محله لعدم المانع
من ذلك أصلا، وهل ترى مانعا من جعل حفظ النفوس حكمة في باب القصاص والديات،
وعلة في باب وجوب بذل الطعام عند المخمصة لمن لا يجد إليه سبيلا بل قد يكون حكم
واحد في قضية واحدة علة من جهة وحكمة من أخرى، كما نريهم يصرحون بان الاسكار
علة لتحريم الخمر ولذا يجوز التعدي عن الخمر إلى سائر المسكرات، مع ما يرى
منهم انه من قبيل الحكمة من جهة المقدار والكم، وان (ما سكر كثيره فقليله حرام)
53

كما ورد في عدة روايات، وحينئذ أي مانع من جعل قول الشارع (لأنه مسكر) مثلا
علة في بعض المقامات وحكمة في أخرى مع جوازه في مقام واحد من جهتين.
ولا يتوهم ان ذلك يوجب اختلافا في معنى هذه الفقرة حتى يستبعد استعمالها
في معنين مختلفين (ولو في مقامين مختلفين كما في محل البحث) فإن المعنى في
الجميع واحد لا اختلاف فيه أصلا، وإنما الاختلاف في كيفية التعليل بها ونحو ارتباط
هذه الكبرى مع صغراها، فإنها قد تكون علة لتشريع حكم عام فتكون حكمة، و
لا يجب دوران ذلك الحكم مدارها بل قد تتخلف عنها كما في حكم الشفعة، وفى بعض
المقامات تكون ضابطة كلية تلقى إلى المكلفين يدور الحكم معها حيثما دارت، واما
تشخيص كون العلة من قبيل الأول أو الثاني فإنما هو من القرائن اللفظية والمقامية
وكيف كان فلا يتوجه على الحديث ايراد من هذه الناحية أيضا.
وقد تحصل مما ذكرنا ان الاستشكال في مناسبة لا ضرر لمورد الحديثين
ضعيف جدا، ولو بنى على أمثال هذه التشكيكات جرى الاشكال في كثير من الظواهر
المرتبطة بعضها ببعض، والانصاف انا لو خلينا وأنفسنا لا نجد أي فرق بين هذين الحديثين
وسائر الروايات الواردة في وقايع مختلفة المشتملة على ذكر التعليلات والكبريات،
بل لعله لو لم يفتح باب هذا التشكيك ما كان يبدو في أذهانهم قدس الله اسرارهم شئ من
هذه الايرادات وإنما حصلت ما حصلت بعد ابداء هذا الاحتمال.
وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان مفاد هذه الفقرة التي هي العمدة في مدرك
هذه القاعدة، والبحث عنها تارة يكون حول مفردات الحديث أعني كلمتي
(الضرر) و (الضرار) وأخرى في معنى الجملة، فيقع البحث في مقامين:
الأول في معنى الضرر والضرار
قد اختلف عبارات اللغويين في معناهما فاما الضرر:
فعن (الصحاح) انه خلاف النفع.
وعن (القاموس): انه ضد النفع وانه سوء الحال.
وعن (النهاية) و (مجمع البحرين): انه نقص في الحق.
54

وعن (المصباح) انه فعل المكروه بأحد والنقص في الأعيان.
وذكر الراغب في (مفرداته) انه سوء الحال، اما في النفس لقلة العلم والفضل
واما في البدن لعدم جارحة ونقص، واما في الحال من قلة مال وجاه (1)
والظاهر أن الاختلاف بين هذه التعبيرات من جهة وضوح معنى الكلمة لا لاختلاف
في معناها، بل الرجوع إلى أقوال أهل اللغة - لو قلنا بحجية قول اللغوي - في أمثال
هذه المقامات التي يكون المعنى ظاهرا عند أهل العرف يعرفه كل من انس بهم ولو من
غير أهل لسانهم، مشكل، لأن الرجوع إليهم من باب رجوع الجاهل إلى العالم وأهل
الخبرة، وهنا ليس كذلك لأن كل من يزاول هذه اللغة كمزاولتنا يكون من أهل
الخبرة بالنسبة إلى أمثال هذه اللغات الدارجة، بحيث يحصل له من تتبع موارد استعمالاتها
الكثيرة نوع ارتكاز بالنسبة إلى معناها اللغوي يمكنه الرجوع إليه عند الشك في
بعض مصاديقه، مضافا إلى أنه ليس من دأب اللغويين التعرض لخصوصيات معنى هذه
اللغات اتكالا على وضوحها، فاللازم علينا الرجوع إلى ما ارتكز في أذهاننا وأذهان
أهل العرف من معناها.
والذي نجده من ارتكازنا الحاصل من تتبع موارد استعمالات هذه الكلمة ان
معناها هو (فقد كل ما نجده وننتفع به من مواهب الحيات من نفس أو مال أو عرض أو غير
ذلك) وما قد يقال بعدم صدقه في موارد فقد العرض كما ترى نعم استعماله في بعض موارد
فقد العرض قليل، بل الظاهر صدقه في موارد اجتماع الأسباب وحصول المقتضى لبعض و
تلك المنافع إذا منع منه مانع، كما أن الظاهر أنه مقابل للنفع كما يشهد به كثير من
آيات الذكر الحكيم مثل قوله تعالى: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وقوله:
يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، وقوله: يدعو لمن ضره أقرب من
نفعه، وقوله: عز من قائل: ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا: إلى غير ذلك.
هذا والامر فيه سهل بعد امكان الرجوع إلى ما ارتكز في الذهن من تتبع موارد

1 - ذكره في معنى الضر بالضم والتشديد وهو والضر بالفتح والضرر بمعنى واحد
كما وقع التصريح به في بعض كلمات اللغويين.
55

استعمالاته عند الشك في بعض مصاديقه فإن الرجوع إلى هذا الارتكاز يغنى عن اتعاب
النفس في تحصيل ضابطة كلية له.
واما الضرار فهو مصدر باب المفاعلة من ضاره يضاره، وذكر في معناه أمور:
الأول - انه فعل الاثنين والضرر فعل الواحد.
الثاني - انه المجازاة على الضرر.
الثالث - انه الاضرار بالغير بما لا ينتفع به بخلاف الضرر فإنه الاضرار بما ينتفع
الرابع - انهما بمعنى واحد. ذكر هذه المعاني الأربعة في (النهاية) وظاهرها
انه مشترك لفظي بين هذه المعاني.
الخامس - انه بمعنى الضيق ذكره في القاموس.
السادس - انه الاضرار العمدي والضرر أعم منه، مال إليه المحقق النائيني في
آخر كلامه بعدان جعلهما بمعنى واحد في أول كلامه ولذا احتمل كونه للتأكيد في محل
الكلام والتحقيق ان المعنى الأخير أقرب من الجميع فإنه الذي يظهر بالتتبع في موارد استعماله
في الكتاب العزيز والروايات قال الله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن
بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا (1) فإن قوله لتعتدوا من أقوى
الشواهد على أن الضرار هنا بمعنى التعمد في الضرر بقصد الاعتداء وقد مر في رواية
العشرين من الروايات السابقة ما يؤيده ويؤكده وقوله تعالى: لا تضار والدة
بولدها ولا مولود له بولده (2) وقد مر ان المعروف في تفسيرها انه تعالى نهى عن اضرار
الام بولدها بترك ارضاعه غيظا على أبيه وعن اضرار الأب بولده بانتزاعه عن أمه طلبا
للاضرار بها.
وقوله تعالى: وما هم بضارين به من أحد الا بإذن الله (3) وكونه بمعنى الاضرار
العمدي بالسحر واضح، وقوله عز من قائل: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار
(4) وقد مر ان المعروف في تفسيرها النهى عن الاضرار بالورثة باقراره بدين ليس عليه

1 - البقرة - 231 -
2 - البقرة 233
3 - البقرة - 102
4 - النساء - 12
56

دفعا لهم عن ميراثهم.
وقوله تعالى: ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن (1) نهى عن الاضرار بالمطلقات
والتضييق عليهم في النفقة والسكنى طلبا للاضرار بهن. وقد مضى في الحديث التاسع
من الأحاديث السابقة المروية عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه السلام من أن البعير
المريض إذا برء وطلب الشريك الرأس والجلد فهو الضرار، ولا يخفى انه إذا ازدادت
القيمة بالبرء ومع ذلك طلب الرأس والجلد فليس الا لقصد الاضرار بصاحبه بل الظاهر أن
قوله في رواية سمرة: انك رجل مضار ناظر إلى هذا المعنى فإن القرائن تشهد على أنه
لم يقصد بعمله الا الاضرار بالأنصاري فهذا المعنى أقرب معانيه.
واما احتمال كونه فعل الاثنين فالظاهر أنه بملاحظة كونه من باب المفاعلة، و
لكنه قياس في غير محله لعدم استعماله في شئ من الموارد التي أشرنا إليها آنفا في
هذا المعنى.
واما كونه بمعنى المجازاة على الضرر، فلعله مأخوذ من سابقه وهو أيضا ضعيف
لما عرفت.
واما كونه بمعنى الاضرار بالغير بما لا ينتفع، فالظاهر أنه من لوازم المعنى
المختار في كثير من الموارد فهو من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
واما كونهما بمعنى واحد فهو في الجملة صحيح على ما ذكرنا لأن الضرر أعم من
العمدي وغيره فيتصادقان في العمدي ويفترقان في غيره.
واما كونه بمعنى (الضيق) كما ذكره في القاموس بناء أعلى ان المراد منه الايقاع
في الحرج والكلفة في مقابل الضرر الذي هو ايراد نقص في الأموال والأنفس (كما قد
يفسر بذلك) فهو أيضا مما لا يمكن المساعدة عليه، فإنه لا يلائم موارد استعماله،
فإن قوله تعالى: أو دين غير مضار ناظر إلى الاضرار بالورثة ضررا ماليا بان يوصى بوصية
أو يقر بدين ليس عليه، منعا لهم عن حقهم كما عرفت في أوائل الكتاب، ولو قيل إن هذا
عين الالقاء في الضيق والكلفة قلنا بان جميع موارد ايراد النقص في الأموال والأنفس

1 - الطلاق - 6.
57

من هذا القبيل.
وقد مر في الرواية الخامسة عشرة أيضا: ان الضرار في الوصية من الكبائر، و
هو أيضا مستعمل في هذا المعنى أعني ايراد النقص المالي على الغير، وقد مر في رواية
هارون بن حمزة الغنوي (الرواية العاشرة) استعماله في مورد الضرر المالي، وأيضا
قوله تعالى: (وما هم بضارين به من أحد) يشمل الضرر في الأموال والأنفس بلا اشكال
فإنه من أوضح مصاديق السحر وقد استعمل الضرر أيضا في هذا المورد بعينه في قوله تعالى:
(ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم).
وبالجملة القرائن الكثيرة المستفادة من موارد استعمال هذه الكلمة تؤكد كونها
بمعنى التعمد في الضرر
واما سائر المعاني المذكورة فهي اما ناشية من توهم كونه بين الاثنين لكونه
مصدرا لباب المفاعلة واما تكون من لوازم المعنى المختار أو غير ذلك من الأمور التي
لا يسعنا الاعتماد عليه. هذا تمام الكلام في معنى كلمتي (الضرر) و (الضرار)
الثاني - في معنى الحديث ومفاده
اعلم أن في معنى الحديث الشريف احتمالات قال بكل منها قائل:
الأول - ان معنى نفى الضرر نفى الأحكام الضررية، اما بان يكون مجازا من باب
ذكر المسبب وإرادة السبب كما يظهر من شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري فإن لزوم
البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون وكذا الحكم بجواز دخول سمرة
دار الأنصاري بغير اذنه موجب للضرر (وإن كان له حق العبور في الجملة) فنفى الضرر هنا
بمعنى نفى ذلك الحكم الوضعي أو التكليفي المستلزم له، وهكذا في سائر المقامات
واما يكون اطلاق الضرر على الحكم الموجب له من باب الحقيقة الادعائية، كما هو
الشأن في جميع المجازات على قول جمع من المحققين، واما من باب الاطلاق الحقيقي
بلا احتياج إلى الادعاء كما اختاره المحقق النائيني قدس سره.
الثاني - انه من قبيل نفى الحكم بلسان نفى الموضوع، بان يكون نفى الضرر
كناية عن نفى أحكام الضرر في الشريعة، اختاره المحقق الخراساني قدس سره في
58

الكفاية وفى حاشيته على الفرائد، ولكن الظاهر أن مختاره في الكتابين وإن كان
متقارب المضمون الا ان بينهما فرقا من حيث إن ظاهر كلامه في الأول ان نفى الضرر
كناية عن نفى جميع أحكامه، وظاهر الثاني انه كناية عن نفى الاضرار بالغير أو تحمل
الضرر عنه خاصة، فراجعهما وتأمل.
الثالث - أن يكون المراد من نفى الضرر نفى صفة من صفاته أعني (عدم التدارك)
فقوله: لا ضرر أي: لا ضرر غير متدارك موجود في الشريعة، حكاه العلامة الأنصاري
في رسالته المطبوعة في ملحقات المكاسب من بعض الفحول ولم يسمه. وهذه الاحتمالات
الثلاثة تبتنى على إرادة النفي من لفظة (لا).
الرابع - أن يكون المراد منه النهى عن اضرار الناس بعضهم ببعض بان يراد
من لفظة (لا) النهى، اختاره جمع من اعلام المتأخرين وفى مقدمهم علامة عصره شيخ
الشريعة الأصفهاني في رسالته التي صنفها في هذه القاعدة وهي رسالة نافعة مشتملة
على فوائد جمة من أشباه التركيب أيضا بما سيأتي الإشارة إليه، ومن كلمات أئمة
اللغة أيضا.
فهذه أقوال أربعة في معنى الحديث، لو لم نجعل ما ذكره المحقق الخراساني في
الحاشية والكفاية قولين مختلفين، ويختلف مفادها ونتائجها: فعلى الأخير يسقط
الحديث عن الاستدلال به في الأبواب المختلفة من الفقه بالكلية، لا يستفاد منه الا
حكم فرعى تكليفي بعدم جواز اضرار الناس بعضهم ببعض، وعلى الثالث لا يستفاد منه
الا لزوم الغرامة والتدارك في موارد الاضرار، واما على الأولين يكون مشتملا على
قاعدة عامة حاكمة على عمومات الأحكام الأولية بما سنتلو ذكره انشاء الله، ولكن
الحق انه لا تظهر ثمرة مهمة بين هذين كما ستعرف.
المختار في معنى الحديث
ولنذكر أولا ما قيل أو يمكن ان يقال في توجيه كل واحد من المعاني المذكورة
حتى تكون على بصيرة من أمرها، ثم لنبحث عما هو المختار سواء أكان بين هذه المعاني
أو معنى آخر سواها فنقول ومن الله الهداية:
59

اما المعنى الرابع فغاية ما يمكن ان يقال في توجيهه ما ذكره شيخ الشريعة
الأصفهاني في رسالته، فإنه (قده) انتصر له بأوفى البيان واتى بما لا مزيد عليه واليك
نص عبارته:
(ان حديث الضرر محتمل عند القوم لمعان: أحدها ان يراد به النهى عن الضرر،
فيكون نظير قوله تعالى: لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وقوله تعالى: فإن لك
ان تقول في الحياة لا مساس، أي لا يمس بعض بعضا فصار السامري يهيم في البرية مع
الوحش والسباع لا يمس أحدا ولا يمسه أحد، عاقبه الله تعالى بذلك وكان إذا لقى أحدا
يقول: لا مساس أي لا تقربني ولا تمسني، ومثل قوله صلى الله عليه وآله لا جلب ولا جنب ولا شغار في
الاسلام، وقوله لا جلب ولا جنب ولا اعتراض، وقوله لا اخصاء في الاسلام ولا بنيان كنيسة
وقوله لا حمى في الاسلام، وقوله ولا مناجشة، وقوله لا حمى في الأراك، وقوله
لا حمى الا ما حمى الله ورسوله، وقوله لا سبق الا في خف أو حافر أو نصل، وقوله
لا صمات يوم إلى الليل، وقوله لا صرورة في الاسلام، وقوله لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق، وقوله لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام وقوله لا غش بين المسلمين.
هذا كله مما في الكتاب والسنة النبوية، ولو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها
في الروايات واستعمالات الفصحاء نظما ونثرا لطال المقال وادى الملال، وفيما
ذكرنا كفاية في اثبات شيوع هذا المعنى في هذا التركيب، أعني تركيب (لا) التي
لنفى الجنس وفى رد من قال في ابطال احتمال النفي ان النفي بمعنى النهى وإن كان ليس
بعزيز الا انه لم يعهد من مثل هذا التركيب).
ثم ذكر في تأييد هذا المعنى في كلام له في غير المقام ما نصه: ولنذكر بعض
كلمات أئمة اللغة ومهرة أهل اللسان تراهم متفقين على إرادة النهى لا يرتابون
فيه ولا يحتملون غيره، ففي (النهاية الأثيرية): قوله لا ضرر أي لا يضر الرجل أخاه
فينقصه شيئا من حقه، والضرار فعال من الضرر أي لا يجازيه على اضراره بادخال
الضرر عليه، وفى (لسان العرب) وهو كتاب جليل في اللغة في عشرين مجلدا معنى
60

قوله لا ضرر أي لا يضر الرجل أخاه وهو ضد النفع وقوله لا ضرار أي لا يضار كل منهما
صاحبه، وفى (الدر المنثور) للسيوطي: لا ضرر أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا
من حقه، ولا ضرار أي لا يجازيه على اضراره بادخال الضرر عليه، وفى (تاج العروس) مثل
هذا بعينه، وكذا (الطريحي في المجمع) انتهى موضع الحاجة من كلامه
هذا ولكن الانصاف ان ما افاده هذا الشيخ الجليل العلامة المدقق غير كاف في
اثبات مرامه، لأن إرادة النهى من لفظة (لا) فيما نقله من التراكيب المشابهة لحديث
الضرر غير معلوم، بل الظاهر - كما يظهر بالتأمل - ان (لا) في جميعها حتى في قوله
تعالى: لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وقوله تعالى: (لا مساس) مستعملة في معنى
النفي، فليس معنى قوله لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا
في الحج، بل مفادها نفى وجود هذه الأمور عن ناحية الحج وإن كان لازمه النهى
عنها ولكن بينه وبين ما افاده من استعمال (لا) في النهى فرق ظاهر ستطلع على آثاره
عند بيان المعنى المختار، والشاهد عليه ان المتبادر من أمثال هذه التراكيب عند العرف
الساذج ليس الا النفي فهل يحتمل أحد أن قوله تعالى: لا رفث ولا فسوق ولا جدال في
الحج، معناه المطابقي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحج؟ ولعل منشأ الشبهة هو
ما ذكرنا من أن النفي في كثير من هذه التراكيب كناية عن النهى فاشتبه المعنى الكنائي
بالمعنى المطابقي، وسيظهر لك ان بينهما فرقا كثيرا من حيث النتيجة.
ثم لا يخفى عليك ما في هذا التعبير الكنائي من لطف البيان وإفادة المراد بوجه
آكد، وان هذا الا نظير قول الرجل لخادمه: ليس في بيتي الكذب والخيانة ليعرفه
بأبلغ البيان ان هذه الأمور مما لا ينبغي له ارتكابه في بيته ابدا ومن ارتكبها كان
خارجا عن أهل البيت ويظهر ذلك بالرجوع إلى الارتكاز الذي نعهده من مثل هذه التراكيب
في العربية بل وفى غيرها من الألسنة، فانا لا نشك بعد التأمل في موارد استعمالها ان
كلمة (لا) ومعادلها من سائر اللغات في هذه الموارد استعملت في النفي الذي هو
معناها الأصلي إذا دخلت على الاسم.
ومن أقوى الشواهد على ذلك أنه يصح تبديلها بغيرها من حروف النفي، فيقال
61

بدل قوله: لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، ليس في الحج رفث ولا فسوق ولا جدال
فهل يمكن القول بان (ليس) أيضا استعملت في معنى النهى؟ - هذا مضافا إلى عدم
امكان إرادة النهى من بعض هذه التراكيب بوجه من الوجوه وهو يمكن ان يقال إن
معنى قوله (لا اخصاء في الاسلام) هو (لا تخصوا في الاسلام) وهل لنا انس بهذا التعبير وهل
الاسلام يمكن أن يكون ظرفا للاخصاء؟.
واما ما نقله (قدس سره) عن أئمة اللغة فلعل نظرهم إلى النتيجة والمغزى لا إلى المعنى
المطابقي كما هو دأبهم في سائر المقامات لما قد عرفت من انا لا نضائق عن القول بإرادة
معنى النهى بالمآل عن هذا النفي بعنوان الكناية وإنما الكلام هنا في مفاد كلمة (لا)
هذا مضافا إلى أن حجية قولهم في أمثال هذه التراكيب التي نعلم وضع مفرداتها بل و
هيئاتها في الجملة من دون الحاجة إلى الرجوع إليهم مشكل ولو قلنا بحجية قول
اللغوي.
هذا كله مع ما عرفت في مقدمات البحث من قوة احتمال ورود هذه الفقرة ذيل
رواية الشفعة التي لا تناسب النهى أصلا بل ظاهرها النفي لجعلها كبرى كلية للحكم
الوضعي المذكور في صدر الرواية ولو قلنا بورود قيد (في الاسلام) بعد قوله لا ضرر ولا
ضرار كان إرادة النفي هنا أوضح كما مر في المقدمات.
واما المعنى الثالث فغاية ما يمكن ان يقال في توجيهه ان الضرر إذا كان
متداركا لم يصدق عليه عنوان (الضرر) بنظر العرف وان صح اطلاقه عليه بالدقة العقلية
فنفى الشارع للضرر على الاطلاق مع ما نرى من وجوده في الخارج دليل على أن جميع
أنواع الضرر الحاصلة من ناحية المكلفين متداركة بحكم الشرع، وان فاعلها مأمور
بتداركها وجبرانها، والا لم يصح نفيها، فهذا القيد أعني (عدم التدارك) إنما يستفاد
من الخارج من باب دلالة الاقتضاء.
وأورد عليه العلامة الأنصاري قدس سره بعد عده أردء الوجوه بان الضرر الخارجي
لا ينزل منزلة العدم بمجرد حكم الشارع بلزوم تداركه وإنما يصح ذلك إذا كان الضرر
متداركا فعلا وخارجا، واستحسنه المحقق النائيني (قده) وقال: انه حرى بالتحقيق
62

خصوصا لو أريد من لزوم التدارك وجوبه التكليفي من دون اشتغال ذمة الضار بشئ، فإن
مجرد حكم الشارع بوجود تداركه لا يبرر عده كالعدم.
هذا والانصاف ان شيئا مما ذكراه - أعلى الله مقامهما - غير وارد على هذا الوجه
بل لقائله ان يقول: ان النفي هنا بلحاظ عالم التشريع والخارج كما التزم به المحقق
النائيني في بيان مختاره على ما عرفت في الوجه الأول، فالشارع لا يرى الضرر الذي
حكم بتداركه من قبل الضار ضررا في عالم التشريع، لأنه متدارك فعلا بلحاظ حكمه،
فلا يرى منه بهذا النظر عين ولا اثر فالتدارك فعلى بهذه الملاحظة لا شأني.
ومنه تعرف انه لا فرق في ذلك بين الالزام تكليفا بتدارك الضرر أو اشتغال ذمة
الضر بشئ لأن وجهة نظر الشارع في مقام التشريع في الحقيقة إلى من يأتمر بأوامره
وينتهي بنواهيه، ولولا ذلك لم يكن لاشتغال الذمة أيضا اثر في عده كالمعدوم إذا فرضنا
المكلف عاصيا غير معتن بتشريعات الشارع المقدس وأحكامه الوضعية والتكليفية.
نعم يرد على هذا الوجه أمران آخران يخربان بنيانه من القواعد: أحدهما - انه
لو كان مراده النفي بلحاظ عالم التشريع (وقد عرفت انه لا مناص منه) فلا داعى لتقييد الضرر
المنفى بغير المتدارك بل يجوز نفى وجود الضرر بهذا اللحاظ مطلقا فيرجع إلى عدم
جعل الأحكام الضررية كما هو مفاد الوجه الأول فلا تصل النوبة إلى هذا الوجه، والحاصل
انه لا دليل على تقييد نفى الضرر بغير المتدارك على كل حال ثانيهما ان التدارك في عالم
التشريع بل وفى الخارج أيضا لا يكفي في سلب عنوان الضرر حقيقتا عما هو مصداقه
مع قطع النظر عن التدارك بل هو نوع من التسامح العرفي أو نحو من المجاز بلحاظ
الاشتراك في الآثار، فإن الضرر المتدارك في حكم العدم من جهة كثير من الآثار نعم
لو كان التدارك من جميع الجهات والحيثيات بحيث لا يرى أهل العرف فرقا بين التالف
والبدل في شئ من الخصوصيات حتى من جهة الزمان بان يكون التدارك بعد التلف بلا
فصل أمكن الحكم بسلب عنوان الضرر منه بالنظر العرفي وإن كان ضررا بالدقة
العقلية، ولكنه أيضا غير صاف عن شوب الاشكال
واما الوجه الأول فغاية ما يمكن ان يقال في تقريبه هو ما ذكره المحقق النائيني
63

في كلام طويل له في المقام حاصله:
(ان النفي في المقام وأشباهه من حديث الرفع ولا صلاة الا بطهور وغير هما محمول
على معناه الحقيقي بالنظر إلى عالم التشريع، فإن الأحكام التكليفية وكذا الوضعية
أمرها بيد الشارع ان شاء رفعها وان شاء وضعها، فالنفي إذا تعلق بحكم شرعي يكون
نفيا حقيقيا لارتفاعه واقعا في عالم التشريع، هذا بالنسبة إلى النفي، واما اطلاق
(الضرر) على الأحكام المستلزمة له فهو أيضا حقيقي، لأن اطلاق المسببات التوليدية
كالاحراق على ايجاد أسبابها شايع ذايع، فمن القى شيئا في النار يقال إنه أحرقه،
قولا حقيقيا.
وحينئذ نقول: كما أن الشارع إذا حكم بحكم شرعي وضعي أو تكليفي يوجب
الضرر على المكلفين يصدق انه أضر بهم وليس هذا اطلاقا مجازيا، فكذا إذا نفاه يصدق
عليه انه نفى الضرر عنه، نعم لو كانت الأحكام الشرعية من قبيل المعدات للضرر لا من
قبيل الأسباب، أو كان من قبيل الأسباب غير التوليدية كان اسناد الضرر إلى من
أوجدها اسنادا مجازيا، ولكن الأحكام الشرعية ليست، كذلك بل حكم الشارع بالنسبة
إلى محيط التشريع كالسبب التوليدي لا غير، اما في الأحكام الوضعية فواضح، فإن
حكم الشارع بلزوم البيع الغبني مثلا يوجب القاء المغبون في الضرر وكذا في أشباهه واما
في الأحكام التكليفية فاسناد الاضرار فيها إلى الشارع إنما هو بملاحظة داعى المكلف
وارادته المنبعثة عن حكم الشرع، ففي الحقيقة الحكم التكليفي سبب لانبعاث اراده
المكلف وهي سبب للفعل، فهو أيضا من سنخ الأسباب التوليدية) هذه خلاصة ما افاده وقد
لخصناه لطوله
ويرد عليه أمور:
أولها - ان النفي بلحاظ عالم التشريع دون الخارج بنفسه نوع من المجاز، لأن
ألفاظ النفي والاثبات موضوعة للوجود والعدم الخارجيين، اما الوجود والعدم في وعاء
الاعتبار والتشريع فليسا وجودا وعدما حقيقيا، بل هما نوع من الوجود والعدم الادعائيين،
فالحكم بالعدم على ما انعدم في ذاك العالم وبالوجود على ما وجد فيه، وكذا حمل
64

عنوان الضرر على الأحكام المجعولة فيها كلها تحتاج إلى نوع من العناية والمسامحة،
بل اطلاق العالم على ذاك العالم الفرض الاعتباري أيضا من باب المجاز، غاية الأمر انها
من باب الحقيقة الادعائية (والمجازات كلها أو جلها من هذا القبيل على المختار)
فالشارع المقدس إذا اعتبر شيئا نفيا أو اثباتا في عالم التشريع فقد جعله فردا ادعائيا
للوجود والعدم الخارجيين وأطلق الألفاظ عليه بهذه الملاحظة، والحاصل ان النفي في
المقام وأشباهه ليس محمولا على معناه الحقيقي.
ثانيها - انه لو سلمنا ان النفي هنا حقيقي بلحاظ عالم التشريع - كما افاده -
لم تبق حاجة في توجيه انطباق عنوان (الضرر) على الأحكام الضررية إلى بحث الأسباب
التوليدية، فإن جعل الأحكام الضررية، وضعية كانت أو تكليفية، بنفسه مصداق لعنوان
الاضرار في وعاء التشريع لا سبب له، فإن الجعل والاعتبار في عالم التشريع كالايجاد
في عالم التكوين، فمن شرع قانونا ضرريا فقد أضر بمن يشمله بنفس هذا الجعل وبعبارة
أخرى: الحكم بجواز اخذ مال الغير بغير حق، بالنسبة إلى عالم التشريع كالاخذ منه
في عالم الخارج، فكما ان اخذ منه بنفسه مصداق للضرر فكذلك الحكم بالجواز في
عالم التشريع مصداق له بهذا النظر فبنفس هذا الحكم ينتزع منه المال في عالم الاعتبار و
يعطى غيره ولا فرق فيه بين الأحكام التكليفية والوضعية، نعم لو كان النفي بلحاظ عالم
التكوين مست الحاجة إلى بحث الأسباب التوليدية في توجيه انطباق عنوان الضرر
على الأحكام الضررية كما لا يخفى
ثالثها - ان ما ذكره من كون الأحكام التكليفية من سنخ الأسباب التوليدية
بتوسيط إرادة المكلفين المنبعثة من تلك الأحكام فهو أيضا في غير محله، فإن أفعال
المكلفين وان استندت إلى ارادتهم الا ان ارادتهم مستندة إلى اختيارهم - على ما هو
التحقيق من بطلان الجبر - فليست الأحكام الشرعية عللا توليدية للإرادة بل العلة لها
هو الاختيار والأحكام من قبيل المعدات والدواعي المؤكدة لاختيار أحد الطرفين لا
غير هذا مضافا إلى أنه لو تم هذا البيان كان اللازم الحكم بصدق عنوان الضرر في عالم
الخارج لا عالم التشريع لأن انبعاث الإرادة عن الأحكام التكليفية يوجب تحقق الفعل
65

في الخارج، فنفى التكليف الضرري يستلزم نفى وجود الضرر في هذا الوعاء ولو من
طريق اعدام إرادة المكلفين المنبعثة عنه، فكأنه وقع الخلط في كلامه قدس سره بين ظرفي
الخارج والتشريع.
وهذه الايرادات واردة على التقريب الذي اختاره المحقق النائيني في بيان
الوجه الأول، واما ما يرد على هذا الوجه على جميع تقريباته ويهدم بنيانه من القواعد
فهو: انه مبنى علي ان الفاعل للضرر في قوله لا ضرر ولا ضرار هو الشارع المقدس بان يكون
المنفى في الحقيقة اضرار الشارع بالمكلفين، ومآله إلى نفى الأحكام المستلزمة للضرر
فحاصل معنى الرواية على هذا انه لا ضرر ولا ضرار من ناحية الشارع على المكلفين فإنه
لم يكتب عليهم أحكاما وضعية أو تكليفية توجب الاضرار بهم كلزوم البيع الغبني
على المغبون ووجوب الوضوء والصوم الضرريين وغيرها من أشباهها، فنفى العبادات
الضررية بهذه القاعدة تنادي بأعلى صوته بان الفعال للضرر في هذه الفقرة عندهم هو
الشارع لا غير.
مع أن هناك قرائن كثيرة تشهد على أن الفاعل هو الناس بعضهم ببعض، فالمنفى
في الحقيقة نفى جواز اضرار بعضهم ببعض (وضعا أو تكليفا) لا أقول إن النفي بمعنى
النهى كما اختاره المحقق الأصفهاني، بل هو بمعناه الأصلي ولكن المنفى هو الضرر
الناشئ من ناحية المكلفين، وسيأتي تحقيق هذا المعنى وبيان نتائجه عند بيان المذهب
المختار انشاء الله، والذي يدل على أن الفاعل في هذه الفقرة هو الناس لا الشارع المقدس
أمور:
منها - ان قوله صلى الله عليه وآله (انك رجل مضار) بمنزلة الصغرى لقوله (لا ضرر ولا ضرار)
ولا شك ان الفاعل في هذه الجملة هو (سمرة بن جندب) فهو من أقوى الشواهد على أن
الفاعل في الفقرة الثانية أيضا هم المكلفون لا غير.
ومنها - ان كلمة (ضرار) بماله من المعنى وهو الضرر العمدي الناشئ عن
الأغراض الفاسدة كما قويناه لا تناسب كون الفاعل هو الشارع المقدس قطعا، لأن احتمال
اضرار الشارع بالمكلفين بهذا الوجه منفى مطلقا عند كل أحد من غير الحاجة إلى البيان
66

بل الذي يحتاج إليه هو نفى اضرار بعض المكلفين ببعض كذلك، مثل ما في قضية سمرة
ومنها - قوله في ذيل رواية (منع فضل الماء) التي رواها عقبة بن خالد: (انه لا يمنع
فضل ماء ليمنع فضل كلاء وقال لا ضرر ولا ضرار) بناء على أن ورود هذه الفقرة ذيلها كما قويناه
ظاهر في أن نفى الضرر والضرار بمنزلة التعليل للنهي عن منع فضل الماء، فكأنه قال لا
يمنع صاحب البئر فضل مائه لما فيه من الاضرار بالممنوع، واضرار الناس بعضهم ببعض
منفى في الشريعة، فظاهر هذه الرواية أيضا كون الفاعل، المكلفين واحتمال كونه هو
الشارع يحتاج إلى تكليف بعيد.
هذا مضافا إلى ظهور كلمات أئمة اللغة في ذلك حيث إنهم فسروه بما يرجع إلى
النهى عن الاضرار، ومن الواضح انه لا يتم الا على كون الفاعل هو الناس وقد عرفت
عند التعرض لما اختاره المحقق الأصفهاني ونقده انه لا يستفاد من تفسيرهم ان لفظة (لا)
استعملت في النهى وإن كان كناية عنه فراجع، والحاصل ان هذه التفسيرات أيضا مؤيدة
لما ذكرنا، وكذا ما يظهر من أئمة الفقه ومهرته من التمسك بهذه القاعدة في أبواب
المعاملات وما يحذو حذوها مما يرجع إلى مناسبات بين الناس وليس التمسك بها في
أبواب العبادات بهذه المثابة كما لا يخفى على من له انس بكلماتهم.
ومما ذكرنا يظهر حال الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في معنى الحديث،
حيث إنه يشترك مع الوجه الأول من جهات شتى وإن كان قابلا للتطبيق على المذهب
المختار كما سنشير إليه فيما يلي.
فذلكة الكلام في معنى الحديث
قد عرفت مما ذكرنا في توضيح الوجوه التي ذكرها الاعلام في تفسير الحديث
وما يتوجه إليها من الايرادات أمورا:
الأول - ان كلمة (لا) هنا بمعنى النفي لا النهى
الثاني - ان الفاعل للضرر في قوله (لا ضرر ولا ضرار) هو الناس لا الشارع المقدس
الثالث - ان المنفى هو نفس الضرر والضرار لا الأحكام التي ينشأ منها الضرر و
لكنه كناية عن عدم امضائهما في الشرع، ومن هذه الأمور يستنتج المذهب المختار في
67

تفسير الحديث.
بيان ذلك: ان ظاهر هذه الفقرة نفى وجود الضرر والضرار بين المكلفين، ولكن
عدم صدق هذا المعنى في الخارج، مضافا إلى قرينة المقام، وهو كونه صلى الله عليه وآله بصدد بيان
الحكم الشرعي والقضاء بين الأنصاري وسمرة بن جندب، يكون شاهدا على أنه كناية
عن عدم امضاء هذا الفعل الضرري في الشريعة لا وضعا ولا تكليفا، فكأنه إذا لم يمضه لا
يرى منه عين ولا اثر في محيط التشريع، وان هو الا نظير قول الرجل لخادمه لا يكون: في بيتي
الخيانة والكذب وقول الزور، يعنى ان هذه الأمور غير مجازة عندي فكأني لا أرى منها
عينا ولا اثرا، فنفى هذه الأمور كناية عن نفى امضائها وعدم ترخيصها بوجه من الوجوه
وكذا الكلام في أشباهه مثل قوله: لا رهبانية في الاسلام ولا اخصاء في الاسلام حيث إن
المنفى فيها أيضا نفس هذه الأفعال ولكنه تفيد نفى الترخيص والامضاء بأبلغ الوجوه
كما هو الشأن في جميع الكنايات.
ومن ذلك تعرف ان مفاد الحديث لا ينحصر في النهى التكليفي عن الاضرار بالغير
بل يعمه والأحكام الوضعية، فكما ان دخول سمرة بن جندب على الأنصاري بغير استيذان
منه ضرر منهى عنه تكليفا فكذلك البيع الغبني إذ وقع على وجه اللزوم بنفسه مصداق
للضرر والاضرار فهو أيضا غير ممضى من ناحية الشرع وعدم امضائه يساوق عدم
نفوذه وتأثيره.
وهذا المعنى المختار وان وافق ما ذهب إليه الأكثر من حيث النتيجة في أكثر
نواحيها الا انه يفارق عنه في أبواب العبادات الضررية من الوضوء والصوم الضرريين و
ما ضاهاهما، فعلى مختاريهم يمكن نفى وجوبهما بهذه القاعدة ولكن على المختار لا
يمكن لعدم أوله إلى الضرر والاضرار بين الناس وقد عرفت ان الفاعل للضرر المنفى هو
الناس لا الشارع المقدس وهذا فرق ظاهر بين المذهبين من حيث النتيجة، فلا تغفل.
لا يقال -: ان قوله لا ضرر ولا ضرار وان لم يكن ناظرا إلى غير الضرر الناشئ من
أفعال المكلفين، من المضار الناشئة من أحكامه تعالى، الا انه يمكن استفادة حكمه
منه بالأولوية القطعية فإن الشارع إذا نهى عن اضرار الناس بعضهم ببعض ومن عليهم بهذا
68

الحكم كيف يرضى بالقائهم في الضرر من ناحية أو امره ونواهيه، فاذن لا يبقى شك في أن
تكاليفه لا تشتمل على ضرر، وان وجد ما ظاهره ذلك من عموم أو اطلاق يشمل موارد
الضرر فاللازم تخصيصه وتقييده. واما الأحكام المشتملة على الضرر دائما أو غالبا فضررها
متدارك لا محالة بما فيها من المصالح الغالبة ويكشف عن ذلك حكمه بها مع هذا الحال
فهي وان كانت ضررية بظاهرها، ولكن لا ريب في أن الشارع حكم بها لمصالح تفوق على
ما فيها من المضار فالجهاد وإن كان فيه تلف النفوس، ونقص من الأموال والأنفس و
الثمرات، الا ان فيه عز المسلمين وحفظ بيضة الاسلام وثغوره، وأحكامه وحدوده وفيه
من المنافع العاجلة والآجلة ما لا يحصى، ومن الواضح ان كون الشئ نافعا أو ضارا تابع
لأقوى الجهات الموجودة فيه من المنافع والمضار، ولا يزال العقلاء يقدمون على أمور
فيها ضرر من بعض الجهات لمنافع أقوى تترتب عليها، ولا يسمونها ضررا وشرا بل
يعدونها نفعا وخيرا، والحاصل انه لابد من تقييد اطلاقات الأحكام الواردة في غير هذه
الموارد وحصرها على غير موارد الضرر.
لأنا نقول: إذا كان حكم الشارع في الموارد التي تستلزم الضرر دائما أو غالبا
كاشفا عن مصالح تربو على المضار الظاهرة فيها ومعه لا يكون الحكم ضرريا فليكن
اطلاق حكمه أو عمومه في مثل الصوم والوضوء الشامل للصوم والوضوء الضرريين
أيضا كاشفا عن وجود مصالح في هذه الموارد ينتفى معها عنوان الضرر، فالتمسك بالأولوية
القطعية في هذه الموارد والتعدي من دليل نفى الضرر إليها بهذه الأولوية ممنوع جدا
بعد عدم احراز موضوع الضرر فيها بل واحراز عدمه.
ومن أقوى المؤيدات على ما ذكرنا من عدم شمول دليل نفى الضرر
للعبادات الضررية وأمثالها من التكاليف التي ينشأ منها الضرر في بعض مصاديقها ان
قدماء الأصحاب بل وكثير من متأخريهم (فيما حضرني من كلماتهم) مع استقامة انظارهم
في فهم المفاهيم العرفية من الكتاب والسنة لم يفهموا من قاعدة نفى الضرر شمولها
لمثل هذه الأحكام ولم يستندوا إليها في أبواب العبادات الضررية، وإنما استدلوا بها
في أبواب المعاملات مثل خيار الغبن وغيره مما يرجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض
69

فقط فهذا من المؤيدات القوية لما استظهرناه من أن دليل نفى الضرر لا يدل على نفى
هذه الأحكام لا بمعناه المطابقي ولا بالأولوية القطعية، واليك بعض ما حضرني من كلماتهم
عاجلا ولابد من التتبع والتأمل لكي يظهر حقيقة الحال.
قال شيخ الطائفة في المسألة 110 من كتاب الطهارة في باب أحكام الجبائر:
(انه إذا خاف التلف من استعمال الماء أو الزيادة في العلة يمسح عليها، ثم قال: دليلنا
قوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وايجاب نزع الجبائر فيه حرج، ثم
استدل بالاجماع وببعض الاخبار ولم يستدل بقاعدة لا ضرر، ومثله استدلاله في غير واحد
من مسائل التيمم فراجع.
وقال المحقق في (المعتبر) في مسألة خوف زيادة المرض أو بطؤ برئه أو ظهور
الشين في الأعضاء انه يجوز التيمم في هذه الحالات ثم استدل له بقوله تعالى: ما جعل
عليكم في الدين من حرج وغيره من الأدلة ولم يستدل بهذه القاعدة.
وكذا العلامة قد استدل في (التذكرة) بجواز التيمم عند خوف الشين في البدن
باستعمال الماء بقوله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج، ولم يستند إلى قاعدة
نفى الضرر.
وأفتى صاحب المدارك في مسألة من وجد الماء بثمن يضر بالحال بجواز التيمم،
وذكر في تأييد هذه الفتوى بعد الاستدلال بالروايات بقوله: ما جعل عليكم في الدين
من حرج وقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وهكذا في غير واحد من
موارد الضرر في أبواب التيمم استدل بقاعدة نفى الحرج ولم يتعرض لقاعدة نفى
الضرر أصلا.
فهؤلاء الاعلام وغيرهم رضوان الله عليهم مع استنادهم غالبا في أبواب المعاملات
مثل مسألة خيار الغبن وغيرها بقاعدة نفى الضرر لا يستندون إليها - فيما حضرنا من
كلماتهم - في أبواب العبادات الضررية وغيرها من التكاليف التي تكون من حقوق الله
ولا ترجع إلى معاملة الناس بعضهم ببعض، وأظن أن الاستناد بهذه القاعدة في هذه
الأبواب نشأ بين المتأخرين أو متأخري المتأخرين من الأصحاب، وقد عرفت ان القرائن
70

الكثيرة الموجودة في نفس روايات الباب تشرف الفقيه على القطع بعدم شمولها لها، و
فتاوى الأصحاب أيضا شاهدة له، ولو تنزلنا منه وحكمنا باجمالها فاللازم أيضا الاخذ
بالمتيقن منها فتبقى اطلاقات أدلة هذه التكاليف سليمة عن المعارض أو الحاكم.
هذا ولكن الذي يسهل الخطب امكان الاستناد إلى قاعدة (نفى الحرج) في
جل هذه الموارد فيستغنى بها عن غيرها ولكن مع ذلك تظهر الثمرة في موارد نادرة
يصدق عليها عنوان الضرر دون الحرج فراجع وتأمل.
وهنا احتمال آخر في معنى الحديث يحكم عن بعض (أعاظم العصر) وهو ان
مفاد هذه القاعدة حكم سلطاني بمنع اضرار الناس بعضهم ببعض، فإن للنبي صلى الله عليه وآله
مقامات ثلاثة: مقام النبوة وتبليغ الرسالة وهو من هذه الجهة مبلغ عن الله وحاك
لأحكامه الظاهرية والواقعية، كالمجتهد بالنسبة إلى الأحكام الشرعية المستفادة من
الكتاب والسنة، و (مقام القضاء) وذاك عند تنازع الناس في حقوقهم وأموالهم فللنبي
القضاء وفصل الخصومة بينهم، و (مقام السلطنة) والرياسة من قبل الله، نافذ امره
ونهيه فيما يراه مصلحة للأمة كنصب امراء الجيوش والقضاة وأشباهها.
وظاهر ان حكمه صلى الله عليه وآله في قضية سمرة بنفي الضرر والضرار ليس من الأول ولا الثاني،
لأنه لم يكن للأنصاري - ولا لسمرة - شك في حكم تكليفي أو وضعي في قضيتهما، أو
تنازع في حق اختلفا فيه من جهة اشتباههما في المصاديق أو الحكم، وإنما وقع ما وقع
من الأنصاري في مقام الشكوى والتظلم والاستنصار منه صلى الله عليه وآله بما انه سلطان على
المسلمين وسائسهم مع وضوح الحكم والموضوع كليهما، فأمره صلى الله عليه وآله بقلع النخلة
حسما لمادة الفساد ثم عقبه بقوله لا ضرر ولا ضرار، فهذا حكم سلطاني عام بعد حكمه
الخاص، ومعناه انه لا يضر أحد أحدا في حمى سلطاني وحوزة رعيتي وعلى جميع الأمة
اطاعته في ذلك والانتهاء بنهيه، لا بما انه حكم من أحكام الله بل بما انه حكم من قبل سلطان
مفترض الطاعة ويشهد لهذا المعنى تصدير هذه الفقرة في رواية (عبادة بن صامت) المروية
من طرق العامة بقوله: وقضى. الظاهر في هذا النوع من الحكم هذا ملخص ما يحكى
71

عنه دام علاه في كلام طويل له في المقام.
ولكن لا يخفى على المتأمل انه لا يمكن عد هذا معنى آخر للحديث بل يؤل إلى
المعنى الثالث من المعاني السابقة الذي اختاره شيخ الشريعة الأصفهاني قدس الله سره
الشريف (من إرادة النهى من هذه الفقرة) غاية الأمر ان ظاهر القائلين بهذا المعنى هو
النهى التشريعي على وزان ساير الأحكام الشرعية ومفاد هذا البيان كونه سنخا آخر
من النهى سماه نهيا سلطانيا، ومن المعلوم انه لا يظهر ثمرة بينهما بعد وجوب امتثال
كل منهما على جميع الأمة بلا تفاوت في ذلك، والظاهر أنه دام علاه أيضا ليس بصدد
ذلك بل بصدد بيان تقريب آخر في اثبات كون (لا) بمعنى النهى لا النفي خلافا للعلامة
الأنصاري قدس الله سره واتباعه، فلا يكون هذه القضية ناظرة إلى نفى الأحكام الضررية
وحاكمة عليها ولا يجوز الاستدلال بها لنفى الأحكام الضررية مطلقا ومع ذلك يرد
عليه أولا - ان كون (لا) هنا ناهية خلاف التحقيق كما مر بيانه مشروحا وثانيا - انه
إن كان مراده من مقام سلطنة النبي صلى الله عليه وآله ان له تشريعا كتشريع الله في الأحكام الكلية
على الموضوعات الكلية كالسلاطين في سابق الأيام - وان كانت سلطنته حقة - أعطاه الله
ذلك رعاية لمقامه السامي، فهذا كما ترى ولا يظن أن يكون هذا مراده.
وان أراد ان له مقام ولاية الامر والحكومة الشرعية بمعنى ان (الأمور الخاصة
الجزئية) التي ترتبط بمصالح الأمة، مما لا تندرج تحت ضابطة كلية، كنصب الولاة و
امراء الجيوش وعمال الصدقات وغيرها من أمثالها، كلها بيده وان تطبيق هذه الأمور
على ما يراها مصلحة للعباد وتشخيص مصاديقها موكول إلى نظره الشريف فهو وإن كان
من مقاماته قطعا، الا انه لا يشمل مثل (الضرر والضرار) وما أشبههما (من الموضوعات
الكلية) التي لها في الشرع حكم كلى لا محالة وليست من سنخ تلك الأمور الخاصة
التي لا تنضبط تحت قاعدة كلية يرد فيها حكم كلى كما هو ظاهر.
وبعبارة أخرى: ان مقام السلطنة والحكومة وان كانت من مقامات النبي
صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، بل وحكام الشرع في الجملة بلا اشكال، الا انها تختص بأمور
شخصية جزئية ترتبط بمصالح الأمة مما لا تندرج تحت ضابط كلى ولا يمكن تشريعها
72

في ضمن أحكام كليه، كنصب امراء الجيوش والقضاة وجباة الصدقات وأمثالها مما
لا يحيط الأحكام الكلية بجزئياتها وتختلف بحسب الأزمنة والظروف فهذه الأمور
وان كانت أحكامها الكلية واردة في الشرع بنحو بسيط، مثل ما ورد في صفات القاضي و
جابى الصدقة وغير ذلك، الا ان تشخيص مواردها وتطبيقها على مصاديقها موكولة
إلى نظر السلطان وولى الامر. واما غير هذه الأمور من الأحكام الكلية الواردة على
موضوعاتها الكلية فليست بيد السلطان بل بيد الشارع المقدس، وليس للنبي تشريع في
قبال تشريع الله حتى يكون هناك تشريعان في الأحكام الكلية.
وان شئت قلت: ما من (موضوع كلى) إلا وله حكم كلى في الشرع من قبل الله سبحانه
و ح لا يبقى مورد لتشريع النبي صلى الله عليه وآله أحكاما كلية على موضوعاتها الكلية، وإنما
سلطانه صلى الله عليه وآله على تعيين مصاديقها، وتطبيق مصالح المسلمين على مواردها فيما
يختلف باختلاف الظروف المختلفة، ومن المعلوم ان الضرر والضرار من الموضوعات
الكلية التي تحتاج إلى حكم كلى فليستا في حيطة سلطنة ولى أمر المسلمين بل في حيطة
التشريع الإلهي لا غير. نعم لو كان حكمه مقصورا على قلع شجرة سمرة أمكن القول
بأنه من قبيل الأحكام السلطانية ولكن ليس كذلك.
وثالثا - الظاهر أن حكمه صلى الله عليه وآله في قضية سمرة كان من باب القضاء وكان المقام
من مقامات التنازع في الحقوق والأموال، غاية الأمر انه قد يكون النزاع ناشيا من الجهل
بالحكم وأخرى من الجهل بمصاديقه. والشاهد على ذلك أن سمرة - كما يظهر من
الرواية - كان يدعى ان وجوب الاستيذان من الأنصاري تضييق في دائرة سلطنته فيما
كان له من حق العبور إلى نخلته، فلذا قال: أستاذن في طريقي إلى عذقي؟ والأنصاري
يرى أن له الزامه بذلك فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وآله فقضى له عليه، ثم ذكر حكما عاما
شرعيا يستفاد منه أحكام أشباهه ويشهد بذلك ما ورد في الرواية من التعبير بالقضاء
وذكره في ضمن أقضية النبي صلى الله عليه وآله في روايات الفريقين وقد كان هذا العنوان (عنوان
القضاء) مستعملا في هذا المعنى من لدن زمن النبي صلى الله عليه وآله إذا كان محفوظا بقرينة الدعوى
والشكوى والمنازعة.
73

تنبيهات
قد ذكر غير واحد من الاعلام هنا تنبيهات بينوا فيها حدود هذه القاعدة ومجراها،
وفروعا تستنبط منها، ومغزاها ورفع ما يورد عليها من الايرادات، فنذكرها ونذكر
ما عندنا فيها ثم نعقبها بما أهملوا ذكرها من الأمور المهمة التي لها دخل في تحقيق
حدود القاعدة وفروعها فنقول ومن الله سبحانه نستمد التوفيق:
التنبيه الأول
هل هذه القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات
ذهب غير واحد من المحققين تبعا لشيخنا العلامة الأنصاري (قده) فيما افاده في
الفرائد إلى أن هذه القاعدة وان كانت متينة سندا ودلالة الا انها موهونة بكثرة
التخصيصات الواردة عليها، بحيث يكون الخارج منها اضعاف ما بقي تحتها، بل لو أريد
العمل بها على عمومها حصل منها فقه جديد، ومن هنا يعلم بان لها معنى آخر غير ما
يظهر لنا في بادي النظر لا يرد عليه تخصيص كثير، وعليه تكون القاعدة مجملة لنا،
وعلينا الاقتصار في العمل بها على موارد عمل بها الأصحاب مما يعلم انحصار مدرك المسألة
عندهم بهذه القاعدة، لا غير.
وزعموا أن عملهم جابر لها، كأنه وصلت إليهم قرائن بينت لهم مغزاها ومفادها
مما لم تصل إلينا، مع أن الناظر في كلماتهم يعلم علما قطعيا بعدم وصول شئ آخر إليهم هنا عدا
هذه الروايات المعروفة المشهورة، عملوا بظواهرها وبنوا عليها أحكاما كثيرة في
مختلف أبواب الفقه، فراجع كلام شيخ الطائفة والعلامة وغيرهما من نظرائهما من القدماء
والمتأخرين في أبواب بيع الغبن وشبهها مما استندوا فيها بهذه القاعدة تجدها شاهدة
صدق على ما ادعينا، فكيف يكون عملهم - والحال هذه - جابرا لهذا الضعف ودافعا
لهذا الاشكال وقد شاع اليوم هذا النحو من الاستدلال في موارد كثيرة لم يتسير لهم حل
74

بعض الاشكالات الواردة على بعض القواعد فاستراحوا إلى عمل الأصحاب، مع أن التدبر
في كلماتهم يرشدنا إلى أن أصحابنا الأقدمين لم يزيدوا علينا في كثير من هذه المباحث
شيئا الا صرافة الذهن وجودة النظر العرفي الموجبة لكشف مغزى كلماتهم عليهم
السلام لهم.
وكأن هذا المعنى قد ألجأ شيخنا العلامة الأنصاري في بعض كلماته إلى حل
هذا الاشكال، تارة بمنع أكثرية الخارج منها وان سلم كثرته، وأخرى بخروج ما خرج
بعنوان واحد بناء على ما اختاره في أبواب العموم والخصوص من عدم استهجان كثرة
التخصيص إذا كان بعنوان واحد.
وأورد عليه (المحقق الخراساني) في بعض حواشيه على الفرائد بان خروج افراد
كثيرة بعنوان واحد إنما يمنع من استهجان التخصيص إذا كانت افراد العام هي العناوين
لا الاشخاص.
أقول - الظاهر أن تسالمهم قدس الله أرواحهم على كثرة ما خرج من عموم قاعدة
لا ضرر إنما نشأ مما يترائى في بادي النظر من وجود أحكام ضررية كثيرة في الشريعة
كوجوب الأخماس والزكوات وأداء الديات وتحمل الخسارات عند الاتلاف والضمانات
وغير ذلك مما تتضمن ضررا ماليا، وكوجوب الجهاد والحج وغيرهما مما يحتاج إلى
بذل الأموال والأنفس، وكوجوب تحمل الحدود الشرعية والقصاص وأشباهها مما
تتضمن ضررا نفسيا أو عرضيا فإن هذه الأحكام ثابتة في الشريعة ظاهرة عند أهلها، خواصهم
وعوامهم.
وفيه أولا - ان هذا الاشكال على فرض صحته (لكنه غير صحيح كما يأتي) إنما
يلزم القائلين بكون مفاد القاعدة نفى الأحكام الضررية في الشريعة، واما على المختار
من أن مفادها نفى اضرار الناس بعضهم ببعض وان الشارع لم يمض الاضرار في عالمي
الوضع والتكليف فلا مجال له قطعا. نعم قد عرفت ان هذه القاعدة تدل بالملازمة والأولوية
على أنه لا ضرر من ناحية أحكام الشرع على أحد، ومن المعلوم ان هذه الملازمة لا تنفى
شيئا من الأحكام التي يترائى منها الضرر، بل أقصى ما يستفاد منها هو ان هذه الأحكام،
75

بعد ثبوتها وتحققها ولو بطرق ظاهرية، مشتملة على مصالح جمة تكون بلحاظها نافعا
محبوبا لا ضارا مبغوضا، وما نراه من الضرر أحيانا بادي الامر إنما هو لعدم علمنا بمنافعها
ومصالحها، والا فالعالم بفوائد الخمس والزكاة والديات يراها لازمة ببداهة عقله و
حكومة فطرته لما فيها من المصالح.
وثانيا - نمنع كون هذه الأحكام كلها أو جلها ضررية بنظر العرف والعقلاء،
فإن أشباهها أو ما يقرب منها متداولة معروفة بينهم، يحكمون بها ويرونها حقا نافعا لا
ضارا باطلا، فإنهم لا يزالون يحكمون بلزوم بذل الخراج أو العشور وان فيها صلاح
المجتمع الذي يقوم صلاح الافراد بصلاحه ولا يحفظ منافعهم الا به، وقد استدل الإمام
أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الارتكاز العقلائي في عهده المعروف إلى (مالك) حيث قال:
(فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز المسلمين وسبل الامن وليس تقوم
الرعية الا بهم، ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقومون به على
جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم).
وكذلك عندهم حدود وديات، يرون اجرائها صلاح المجتمع الذي يرتبط به
صلاح كل فرد فرد منهم وان كانت في الانظار البادية الساذجة ضررية والحاصل ان جل
هذه الأمور أو أشباهها موجودة عند العقلاء ولا يرون فيها ضررا بل يرونها نافعة، والقول
بان العرف بالنظر البادى يحكم بكونها ضررية فيشملها قاعدة لا ضرر، ساقط جدا،
لأن العرف لو حكم بكونها مصاديق للضرر من باب المسامحة لا يلزمنا متابعته بعد ما
يحكم بعدم كونها كذلك بعد تكرارا النظر، وبالجملة الصغرى في جل الأمثلة المذكورة
ممنوعة فإن بقي هناك موارد يصدق عليها عنوان الضرر بالنظر الغير المسامحي العرفي
فلا شك انها طفيفة لا يلزم منها تخصيص الأكثر.
واما ما افاده العلامة الأنصاري من كفاية الخروج بعنوان واحد في دفع محذور
تخصيص الأكثر، وما ذكره (المحقق الخراساني) من أن ذلك إنما يصح إذا كان ما
تحت العام هي العناوين لا الافراد، فكلاهما ممنوعان، لما حققناه في محله من استهجان
التخصيص ببعض مراتبه وإن كان بعنوان واحد أو كان ما تحت العام هي العناوين لا الافراد،
76

كما يظهر بمراجعة أمثلتها العرفية.
التنبيه الثاني
هل في هذا الحديث شئ يخالف القواعد؟
قال شيخنا العلامة الأنصاري (رضوان الله عليه) بعد نقل قضية سمرة: (وفى هذه
القصة اشكال من حيث حكم النبي صلى الله عليه وآله بقلع العذق مع أن القواعد لا تقتضيه ونفى الضرر
لا يوجب ذلك - ثم قال - لكن لا يخل بالاستدلال) انتهى كلامه.
وحاصل الاشكال عدم انطباق بعض ما ذكر في الرواية على هذه القاعدة ولا على
سائر القواعد المعمولة، لأن أقصى ما يستفاد من قاعدة نفى الضرر هو لزوم استيذان
سمرة من الأنصاري لما في تركه من الضرر عليه، واما قلع نخلته ورميها إليه عند ابائه
عن الاستيذان فلا، مع أن ظاهر الرواية ان هذا الحكم معلل بالقاعدة المذكورة.
أقول - ويمكن الذب عنه بان الظاهر أن حكمه صلى الله عليه وآله بذلك كان من باب
حسم مادة الظلم والفساد وإحقاق الحق، لأن النخلة لو بقيت - والحال هذه - كان الأنصاري
دائما في عذاب وشدة، بل لعلها صارت منشأ لمفاسد اخر، فلم يكن هناك طريق لدفع
شر (سمرة) وقطع ظلمه عن الأنصاري، الواجب على ولى أمر المسلمين، الا بقلع نخلته
ورميها إليه وعليه يستقيم تعليل هذا الحكم بنفي الضرر لأن ضرر دخول سمرة على
الأنصاري بلا اذن منه إذا كان منفيا في الشريعة وانحصر طريق دفعه في قلع النخلة صح
تعليل الحكم بقلعه بأنه لا ضرر ولا ضرار، فهو من قبيل التعليل بالعلة السابقة، فالتعليل
في محله والاشكال مدفوع.
وغير خفى ان هذا الحكم لا يختص بالنبي صلى الله عليه وآله بل لحكام الشرع أيضا ذلك
إذا لم يجدوا بدا منه في قطع يد الظالم وحفظ حق المظلوم. فما افاده المحقق النائيني
في المقام من أن القلع لعله كان من باب قطع الفساد لكونه صلى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، في غير محله.
77

وذكر هذا المحقق طريقا آخر في دفع هذا الاشكال حاصله: ان الضرر وإن كان
ينشأ من دخول سمرة على الأنصاري بلا استيذان منه ولكن كان منشأ جواز دخوله هو
استحقاقه لكون النخلة باقية في البستان، فالضرر وان نشأ عن الدخول الا انه كان
معلولا لاستحقاق ابقاء النخلة، فرفع هذا الحكم إنما كان برفع منشأه وهو استحقاق
الابقاء كارتفاع وجوب المقدمة برفع وجوب ذيها، فالقاعدة رافعة لاستحقاق
بقاء النخلة ولازمه جواز قلعه فيصح ح تعليل الحكم المزبور بالقاعدة (انتهى ملخصا)
وأنت خبير بما فيه، فإنه مخالف للوجدان ولظاهر الرواية معا، لظهورها في أن
سمرة لو كان يرضى بالاستيذان من الأنصاري لم يكن عليه باس ولم يجز قلع
نخلته ولكنه لما أبى وأصر على الاضرار بالأنصاري حكم بذلك في حقه، مع أن ما ذكره قدس -
سره لو تم لاقتضى جواز قلع النخلة في هذا الحال أيضا، لما ذكره من أن استحقاقه لابقائها
كان موجبا لجواز الدخول على الأنصاري بغير اذن منه وهذا الجواز بنفسه حكم ضرري
وان لم يعمل بمقتضاه ولم يدخل على الأنصاري بغير اذن منه، هذا أولا واما ثانيا - ان
بقاء العذق في البستان كان له آثار شرعية مختلفة، منها جواز الدخول بلا استيذان
فإذا كان خصوص هذا الأثر ضرريا فاللازم نفى ترتبه لا نفى ذات المؤثر بجميع آثاره،
والسر في هذا ان الحكم باستحقاق ابقاء النخلة كما أنه من الأحكام الشرعية امره
بيد الشارع رفعا ووضعا، فكذلك ماله من الآثار المختلفة المترتبة عليه شرعا، والجزء
الأخير من العلة التامة للضرر هو ترتب بعض آثاره عليه فاللازم رفع ذلك الأثر خاصة
لا ذات الموضوع بجميع آثاره، فاللازم ان يحكم بجواز ابقاء النخلة وترتب جميع
آثاره عليه ما عدا الدخول عليه بغير اذنه.
واما قياسه على باب المقدمة فهو كما ترى، للفرق الواضح بين المقامين فإن
الترتب هناك تكويني ليس أمرها بيد الشارع، بما انه شارع، فليس له رفع وجوب
المقدمة الا برفع وجوب ذيها، بخلاف المقام فكأنه قدس سره خلط بين الترتب الشرعي
والتكويني فتدبر جيدا.
78

التنبيه الثالث
في وجه تقديم هذه القاعدة على أدلة الأحكام الأولية
المعروف في وجه تقديم عموم هذه القاعدة على أدلة الأحكام الشرعية انه من باب حكومتها
عليها فليستا من قبيل المتعارضين حتى تلاحظ النسبة بينهما أو يطلب الترجيح، وقد
ذكر في وجه تقديمها عليها وجوه أخر. ولكن هذا البحث مبنى على مختاراتهم في
معنى الحديث.
فمن قال بان معناه نفى الحكم الضرري فهو قائل بالحكومة لا محالة، لأنه بمدلوله
اللفظي ناظر إلى أدلة الأحكام الأولية فيكون حاكما عليها، وكذلك الكلام على
مذهب من يقول بان معناه نفى الحكم الضرري بلسان نفى موضوعه، واما بناء على ثالث
الأقوال في معنى الحديث، وهو أن يكون النفي بمعنى النهى، فلا يبقى مورد للحكومة
ولا ربط له بأدلة الأحكام، بل هو كساير النواهي الشرعية الواردة في مواردها بلا
تفاوت بينها وكذا الكلام على المعنى الرابع وهو إرادة نفى الصفة - أعني صفة عدم
التدارك - عن نفى الضرر ليكون إشارة إلى لزوم تدارك الضرر، فإنه ح حكم مستقل
في قبال ساير الأحكام يختص بموارد الغرامات ويدل على اشتغال ذمة الضار بغرامة
ضرره، فيقدم على العمومات الدالة على براءة الذمة منها، اما لكونه أخص منها، أو
لعدم بقاء المورد له على فرض عدم التقدم، أو لقوته وابائه عن التخصيص، هذا كله على
مختارات القوم.
واما بناء على مختارنا في معنى الحديث من أن مفاده نفى امضاء اضرار الناس بعضهم
ببعض في عالمي الوضع والتكليف فالظاهر أيضا عدم حكومته على أدلة الأحكام الأخر
لعدم كونه ناظرا إليها فإن الحكومة عبارة عن كون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي
ناظرا إلى الاخر بحيث لولاه لكان لغوا باطلا.
اما بان يتصرف في موضوعه كقول المولى لعبده: (ان الفاسق ليس بعالم) في قبال
قوله أكرم العلماء.
79

أو بالتصرف في متعلقه كقوله (مجرد الاطعام ليس من الاكرام)
أو بالتصرف في حكمه كقوله: (إنما عنيت بذاك الامر غير الفاسق)
أو بالتصرف في نسبة الحكم إلى موضوعه كقوله (اكرام الفاسق ليس اكراما
للعالم).
فاذن لا تنحصر الحكومة في الثلاثة الأولى كما افاده المحقق النائيني في بعض
كلماته في المقام، ومن المعلوم ان شيئا من هذه الأمور غير موجود في المقام.
نعم هو مقدم على أدلة سائر الأحكام لوجهين آخرين: أحدهما: قوة الدلالة
لاشتماله على نفى وجود الضرر رأسا الظاهر في كمال التحاشي والتباعد عنه، لا سيما إذا
أضيف إليه قيد (في الاسلام) لو ثبت هذا القيد بحسب الاخبار وقد عرفت الكلام فيه في
مقدمة البحث، ثانيهما: ابائه عن التخصيص لكونه في مقام الامتنان وللمناسبات
المغروسة في الأذهان بين هذا الحكم وموضوعه كما لا يخفى على المتأمل الخبير، و
لذا يستنفر الطبع من تخصيص هذا الحكم ولو بالتخصيص المتصل بان يقال لا يجوز لاحد
ان يضر بأحد الا في كذا وكذا، ولو خرج منه بعض الموارد كما إذا كان الاضرار بحق
فهو في الحقيقة خروج موضوعي، لأنه احقاق حق لا اضرار فتأمل.
التنبيه الرابع
هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة؟
قد عرفت عند بيان المختار في مفاد القاعدة انها لا تدل على نفى التكاليف
الضررية كالوضوء والصوم الضرريين، وان اللازم الرجوع في هذه الموارد إلى (قاعدة
نفى الحرج) واما على مختار القوم من دلالتها على نفيها فهل هو من باب الرخصة أو
العزيمة:
لا اشكال في عدم وجوب الوضوء الضرري وشبهه إذا كان المكلف عالما بموضوع
الضرر على مختارهم وإنما الكلام في صحتها (ح) وان لم يكن واجبا. نقل المحقق
النائيني القول بالصحة عن بعض الأعاظم ولم يسمه واستدل له بان (لا ضرر) إنما
80

يرفع الوجوب فإنه ضرري واما أصل الجواز والمشروعية فلا، لأن الامتنان لا يقتضى
أزيد مما ذكر، وببيان آخر أدلة وجوب هذه الأمور دالة بالالتزام على وجود ملاكاتها
حتى في موارد الضرر، وأدلة نفى الضرر إنما تعارضها في دلالتها المطابقية على الوجوب،
ولا تعارضها في دلالتها الالتزامية على وجود ملاكاتها الموجب لمشروعيتها في هذه
الموارد واستحسن هذا البيان (بعض أعاظم العصر) في مستمسكه.
وأورد المحقق النائيني على البيان الأول بأمرين: أحدهما ان هذه الأحكام
أمور بسيطة لا تركيب فيها حتى يرتفع بعض اجزائها ويبقى الاخر. ثانيهما انه يستلزم
كون ما في طول الشئ في عرضه، فإن التيمم متأخر عن الوضوء وإذا كان المكلف
في موارد الضرر مرخصا شرعا في الطهارة المائية مع جواز الاكتفاء بالطهارة الترابية
يلزم اتحادهما في الرتبة، وهو باطل، لأن المكلف إذا كان قادرا على الطهارة المائية
لم يدخل تحت قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا)
أقول: يمكن الجواب عنهما اما عن الأول فبان طريقه غير منحصر في
تجزية الحكم البسيط بل يمكن أن يكون من باب تقييد اطلاقات نفى الضرر بعدم اقدام
المكلف على التكليف الضرري بان يقال إن وجوب الوضوء الضرري منفى عند عدم
الاقدام لا غير، ولازم ذلك مشروعيته وان لم يكن واجبا، والدليل عليه انصراف الاطلاقات
إليه فتأمل فإن دعوى الانصراف فيها عن هذه الصورة مشكلة جدا
وعن الثاني بعدم قيام دليل على كون الطهارة الترابية في طول الطهارة
المائية دائما حتى في أمثال المقام ولو سلمنا شمول الآية الشريفة لها فهو اطلاق كساير
اطلاقات أدلة الأحكام محكومة لقاعدة (لا ضرر) أو مخصصة بها، فتأمل، والأولى في
دفع هذا الاشكال منع شمول الآية ودلالتها على المقام ولا أقل من اجمالها من
هذه الجهة فتدبر.
والتحقيق ان هذه المسألة مبنية على مسألة حرمة الاضرار بالنفس على الاطلاق
فإن قلنا بالحرمة فهذه الوضوء حرام لا يمكن التقرب به بلا اشكال لأن حركات
الوضوء متحدة مع عنوان الاضرار بالنفس، وعلى فرض كون الوضوء سببا له لا متحدا معه
81

لا يمكن أيضا التقرب به، لما حققناه في محله من سراية الحسن والقبح من المسببات
إلى الأسباب التوليدية هذا ولكن الكلام في حرمة الاضرار بالنفس بهذا العموم،
وتمام الكلام في محله وإن كان الأقوى في النظر عاجلا عدم مشروعية هذا الوضوء على القول
بشمول لا ضرر لأمثال هذه التكاليف
التنبيه الخامس
هل الامر يدور مدار الضرر الواقعي أولا؟
إذا جهل بالضرر مع موجوده واقعا فقد يقال بالصحة لما يظهر اختياره من السيد
السند المحقق اليزدي في باب الوضوء عند ذكر الشرط السابع من شرائطه حيث قال:
(ولو كان جاهلا بالضرر صح وإن كان متحققا في الواقع والأحوط الإعادة أو التيمم)
وكأنه عدل عنه في المسألة 34 من هذا الباب حيث قال: (لو كان أصل الاستعمال مضرا
وتوضأ جهلا أو نسيانا فإنه يمكن الحكم ببطلانه لأنه مأمور واقعا بالتيمم) وكيف
كان فقد أفتى بالصحة غير واحد من أعلام محشيها قدس الله اسرارهم.
وغاية ما يستدل به على الصحة أمران: أحدهما: ان القاعدة واردة مورد
الامتنان ولا منة في نفى صحة مثل هذا الوضوء فإنه لا يزيد المكلف إلا عناء وشدة كما لا يخفى
ثانيهما ان الضرر هنا مسبب عن جهل المكلف لا عن حكم الشارع فإن غفلته عن الواقع هي
التي أوقعته في الضرر، ومن المعلوم ان المنفى بهذه القاعدة هو الضرر الناشئ من قبل
حكم الشارع لا غير.
ولكن يرد على الأول منهما ان المنة إنما هي بلحاظ نوع الحكم لا بلحاظ اشخاصه
وافراده وكل واحد واحد من الوقايع الشخصية، فرفع وجوب الوضوء الضرري إذا
كان بحسب نوعه منة على العباد كان داخلا تحت القاعدة على الاطلاق، وما يتوهم
كثيرا من دورانه مدار الاشخاص ولزوم المنة في كل واحد من الأحكام الشخصية
المرفوعة، وكثيرا ما يرتب عليه فروع مختلفة، باطل جدا لأن المتيقن انصراف أدلة
لا ضرر عن الموارد التي لا تكون بحسب نوعها منة على العباد لا غير.
82

ويشهد على ذلك أن حديث الرفع أيضا وارد مورد الامتنان؟؟ ولا يزالون يستدلون
به على عدم نفوذ المعاملات التي وقعت عن اكراه - بل استدل به الإمام عليه السلام على ذلك
أيضا حتى فيما إذا كان في نفوذها مصلحة المكره (بالفتح) أحيانا وان لم يعلم هو به،
فلا يراعى فيه ملاك الامتنان في كل واحد من الموارد الشخصية، ولو كان مراعاة ذلك
لازما كان الحكم ببطلان عقد المكره على الاطلاق بمقتضى حديث الرفع في غير محله
والقول بان نفوذ تلك المعاملة بغير رضى المالك مشتمل على الضرر دائما وإن كان
فيها منافع جمة له واقعا، لما فيه من سلب اختيار المالك وقصر دائرة سلطنته، شطط من
الكلام، وهكذا الكلام في نفى آثار غير الاكراه من التسعة كالجهل والنسيان فإنه
لا يكون فيه ملاك المنة في جميع الحالات مع اطلاقهم القول برفعها وليس ذلك الا من
جهة كفاية ملاك المنة بحسب نوع الحكم ونوع مصاديقه
فالصواب في وجه الحكم بصحة العبادة في المقام هو الوجه الثاني ويمكن تقريبه
بوجه آخر أتم وأقوى وهو: انه لا اشكال في أن الضرر في هذه الموارد من قبيل العناوين
الثانوية التي تكون مانعة عن تأثير العنوان الأولى بملاكه، الذي يكون على نحو
الاقتضاء لا العلية التامة، فالوضوء الضرر في حد ذاته واجد للملاك ولكن هذا العنوان
الثانوي بملاكه يمنع عن تأثيره، ومن المعلوم ان الضرر إذا كان متوجها نحو المكلف
على كل حال، لجهله بالواقع، كان الحكم بنفيه بلا ملاك، لعدم امكان استيفاء الشارع
غرضه منه، فالحكم بنفيه (ح) حكم بلا ملاك ولغو محض، وان هو الا نظير الحكم ببطلان
وضوء (المكره على استعمال الماء) مع كونه مضرا له، فهل يساعد وجدان أحد على
الحكم ببطلان وضوئه في هذا الحال إذا اتى به عن قصد؟
ومما ذكرناه يظهر ان المكلف غير مأمور بالتيمم في محل البحث، بل هو مأمور
بالوضوء واقعا، فما ذكره في العروة من تعليل بطلان الوضوء بعدم الامر به واقعا في
غير محله، اللهم الا ان يقال إن نظره في ذلك إلى اطلاق الأخبار الخاصة الواردة في
باب التيمم فيما إذا كان استعمال الماء مضرا ولكن الانصاف ان شمولها لصورة وجود الضرر
واقعا مع جهل المكلف به محل تأمل واشكال هذا كله إذا كان الضرر موجودا في الواقع
83

مع جهله، به اما عكس المسألة وهو:
إذا كان استعمال الماء مضرا باعتقاده ومع ذلك توضأ واغتسل ثم بان عدم الضرر
فيه، فظاهر غير واحد منهم الحكم بالبطلان فيه، كما يظهر من كلماتهم في أبواب
مسوغات التيمم. والوجه فيه اما كونه مأمورا بالتيمم وعدم كونه مأمورا بالوضوء
نظرا إلى صدق عدم التمكن من استعمال الماء في حقه لأن المراد من (عدم الوجدان) في قوله
تعالى: (فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا) عدم التمكن من استعماله، سواء كان
لعدم وجوده أو لعدم القدرة على استعماله لمانع شرعي أو عقلي ويظهر اختيار هذا
الوجه من المحقق النائيني.
أو لعدم تمشى قصد القربة منه مع كونه باطلا وحراما باعتقاده، ولو فرض تمشيها
منه فلا يكون الفعل مقربا، لا لأنه حرام واقعا بل لأن الفعل إذا وقع بعنوان التجرى
فهو كالمعصية الحقيقية في كونه مبعدا للعبد من ساحة المولى ومانعا من التقرب إليه
واعتمد على هذا الوجه في (المستمسك).
والانصاف ان شيئا من الوجهين لا يكفي في اثبات البطلان، اما الأول فلان مجرد
تخيل الضرر لا يجعله غير واجد للماء وغير متمكن من استعماله، بل هو متخيل لعدم
التمكن لا انه غير متمكن واقعا وان هو الا نظير من يكون مستطيعا في الواقع وهو لا
يعلم باستطاعته، أو يكون قادرا على الصلاة قائما وهو يزعم أنه غير قادر، فهو مأمور
واقعا بالطهارة المائية وإن كان معذورا ما دام جهله واما قياس ذلك على ما ذكروه في
باب صحة صلاة من يكون الماء في راحلته وهو لا يعلم به قياس مع الفارق، لأن الجهل
هناك مانع عقلي من استعمال الماء كما هو ظاهر بخلاف الجهل فيما نحن فيه فإنه ليس
مانعا عقلا ولا شرعا، كيف والمفروض ان المكلف أقدم على الوضوء فكيف يقاس به
فتدبر.
واما عدم تمشى قصد القربة فهو ليس دائميا كما يظهر من ملاحظة حال عوام
الناس في أمثال المقام وكون التجرى مبعدا ومانعا من التقرب أيضا محل للكلام.
84

فالعمدة في وجه البطلان هو استظهار الموضوعية من عنوان (الخوف) الوارد
في أبواب التيمم، الصادق في المقام، لأن المفروض كون المكلف خائفا من استعمال الماء
بل عالما بالضرر، وان لم يكن كذلك في الواقع، ولكن في هذا الاستظهار أيضا كلام
في محله من الفقه.
التنبيه السادس
هل القاعدة شاملة للعدميات أم لا؟
لا اشكال في شمول القاعدة للأحكام الوجودية وإنما الكلام في شمولها للعدميات
وحاصل القول فيه انه هل يجوز التمسك بالقاعدة لاثبات أحكام وجودية في موارد
يلزم من فقدها الضرر بان يكون عدم الحكم مشتملا على الضرر فيتمسك بالقاعدة لنفيه
ويستنتج منه حكم وجودي، أم لا؟.
ومثلوا له بضمان ما يفوت من عمل الحر بسبب حبسه، وبما لو فتح انسان قفص طائر
فطار، فإن عدم الضمان في المقامين أمر ضرري واثباته رافع لذلك الضرر. هذا ولكن
في التمثيل الثاني اشكال ظاهر، لأنه مشمول لقاعدة الاتلاف، فإن فتح قفص الطائر
سبب لاتلافه وداخل تحت أدلة الاتلاف بلا كلام. اللهم الا ان يقال: ان النظر هنا إلى
شمول قاعدة لا ضرر له وإن كان حكمه معلوما من جهة قاعدة الاتلاف، ولكنه كما
ترى، ولذلك اقتصروا في ذكر المثال الأول بعمل الحر مع أنه لا فرق بين عمل العبد
والحر من هذه الجهة، وإنما الفرق بينهما من جهة صدق الاتلاف في عمل العبد لأنه
مال وعدم صدقه في عمل الحر لعدم صدق المال عليه.
وكيف كان فهذا النزاع كما يتصور بين القائلين بدلالة الحديث على نفى
الأحكام الشرعية الضررية مطلقا كذلك يتصور على المختار من عدم دلالتها الا على
نفى امضاء اضرار الناس بعضهم ببعض في عالمي الوضع والتكليف، فما نذكرها من
الوجوه الآتية لتعميم القاعدة جارية على المذهبين.
وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الحق عدم الفرق بين الأمور الوجودية والعدمية هنا
85

ويدل عليه أمور: الأول - ان ما يطلق عليه الحكم العدمي في أمثال المقام يكون
في الحقيقة حكما وجوديا فعدم الضمان في المثالين عبارة أخرى عن الحكم ببراءة الذمة
وهي حكم شرعي تحتاج إلى جعل الشارع كما يحتاج شغل الذمة إليه وان شئت
قلت: براءة الذمة في باب الأحكام الوضعية نظير الإباحة في باب الأحكام التكليفية،
فكما ان الإباحة والترخيص في مواردها من الأمور الوجودية فكذلك حكم الشارع
ببراءة ذمة الحابس للحر عن الغرامة حكم وضعي وجودي. وتوهم ان الإباحة التكليفية
كالبراءة الوضعية من الأمور العدمية المطابقة للأصل غير محتاجة إلى التشريع و
الجعل، فاسد لأن الأحكام الخمسة بأجمعها أمور وجودية غاية الأمر ان بعضها محتاج
إلى البيان وبعضها يستكشف من عدم البيان، والحاجة إلى البيان وعدمه غير الحاجة
إلى الجعل وعدمه كما هو ظاهر، ولذا يترائى من الشارع المقدس انشاء الإباحة في موارد
كثيرة كقوله كل شئ حلال الخ فإن التحليل والترخيص والإباحة في هذه الموارد أمور
وجودية أنشأها الشارع.
الثاني الظاهر من قوله (لا ضرر ولا ضرار) انه لا ضرر من ناحية الشارع على أحد (على
قولهم) أو من ناحية المكلفين بعضهم إلى بعض (على المختار) فالمنفى الضرر المستند
إلى الشارع أو إلى المكلفين، فلو لزم من عدم الجعل في بعض الموارد استناد الضرر
إليه كما في مثال الحر المحبوس وجب نفيه بالقاعدة، فليس في عنوان الدليل (الحكم
الضرري) حتى يتكلم في صدقه على العدميات بل المدار على صدق نسبة الاضرار إلى
الشارع أو إلى المكلفين، ودعوى ان استناد الضرر لا يصح الا في مورد الافعال
الوجودية ممنوعة جدا، الا ترى انه لو صرح الشارع بان منافع الحر غير مضمونة لا يجب
تداركها وان بلغ ضرره ما بلغ، صح لنا ان تقول ان الحر المحبوس لم يقع في هذه
الخسارة العظيمة الا لقول الشارع كذا وكذا.
والسر في ذلك أن محيط التشريع بجميع شؤونه محيط حكومة الشارع
والامر فيه في جميع حركات المكلفين وسكناتهم إليه، فما ينشأ من اهمال جعل بعض الأحكام
من الضرر مستند إليه مثل ما ينشأ من أحكامه المجعولة الا ترى ان الوالي إذا
86

أهمل في وضع النظامات اللازمة ونصب الحرس والشرط وتجنيد الجنود لحفظ الرعية ونظام
عيشهم فحدث في أمورهم احداث، تنسب كلها إلى سوء تدبير الوالي واهماله في الأمور.
والحاصل ان ترك الفعل في الموارد التي يترقب وجوده، يصحح استناد لوازمه إلى من يترقب
منه، ولا يشترط في صحة الانتساب كون الفعل وجوديا دائما. ومن المعلوم ان
المترقب من الشارع المقدس في محيط التشريع جعل الأحكام الحافظة لمصالح العباد
ومنافعهم فلو أخل بها فقد ألقاهم في الضرر وهو منفى بمقتضى الحديث، هذا على
مختار القائلين بان المنفى الضرر من ناحية الشرع، واما على المختار فالامر أوضح لأن
حبس الحر واتلاف منافعه مثلا اضرار من ناحية بعض المكلفين ببعض، فهو منفى في
الشريعة بجميع آثاره التكليفية والوضعية، ولا ينتفى الا بثبوت الغرامة له عليه فتأمل.
ولعله إليه يرجع ما افاده شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري قدس سره في رسالته
المعمولة في المسألة في مقام توجيه القول بشمولها للعدميات حيث قال: (ان المنفى
ليس خصوص المجعولات بل مطلق ما يتدين به وبعامل عليه في شريعة الاسلام، وجوديا
كان أو عدميا، فكما انه يجب في حكمة الشارع نفى الأحكام الضررية كذلك يجب
جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضرر) ولقد أجاد فيما أفاد، قدس الله سره الشريف.
الثالث - لو سلمنا عدم شمولها للعدميات بالدلالة اللفظية فلا أقل من
دلالتها عليها بتنقيح المناط والغاء الخصوصية ومناسبة الحكم والموضوع، وأي
خصوصية للوجود والعدم في هذا الباب وفيما من الله به على عباده من نفى الضرر عنهم
وغير خفى ان كلما يتصور في الحكم بنفي الضرر والضرار من المصالح والملاكات فهي
موجودة في طرفي الوجود والعدم من دون أي تفاوت ومجرد كون شئ من الأمور
الوجودية أو العدمية لا يكون مبدء للفرق في المقام وليت شعري ماذا تصوره القائلون
بالتفرقة بينهما.
وقد يذكر للتعميم وجوه أخر غير صافية عن الاشكال:
منها: ان الحكم العدمي يستلزم أحكاما وجودية دائما لا لما ذكرناه في
87

الوجه الأول بل لأن عدم ضمان ما أتلفه على الحر من المنافع مثلا يستلزم حرمة مطالبته
بالغرامة ومقاصته والتعرض له وجواز دفعه. وفيه ان حرمة مزاحمة الناس في سلطنتهم
على أموالهم وأنفسهم، بغير حق ثابت عليهم، ليس حكما ضرريا أصلا وإنما الضرر
في المقام ينشأ من عدم ثبوت حق للحر على من أتلف منافعه فلو أمكن اثبات حق له عليه
بأدلة نفى الضرر فهو والا فلا يجوز الاستناد إليها لنفى حرمة المذكورات
ومنها انه يمكن استفادة العموم من نفس قضية (سمرة) حيث إنه سلط
الأنصاري على قلع النخلة وعلله بنفس الضرر فإن الضرر هناك في عدم سلطنته على القلع
فنفاه وأثبت سلطانه عليه. وفيه ما عرفت في التنبيه الثاني منان تسليطه عليه إنما
كان من باب دفع المنكر ومقدمة لحفظ الحق وحسما لمادة الفساد بعد ابائه الشديد
عن القيام بما هو وظيفته قبال الأنصاري، فالمرفوع أولا وبالذات هو تسلط سمرة على
اتيان عذقه بغير اذن من الأنصاري فإن الضرر كان من ناحتيه، ومن الواضح انه أمر
وجودي.
ومنها - ان استشهاده عليه السلام بها في حديث (الشفعة) لاثبات حق الشفعة
للشريك مع أن الضرر إنما هو في عدم هذا الحق، دليل على شمولها للعدميات وكذلك
استشهاده بها لاثبات حق الانتفاع من فضل الماء في حديث (منع فضل الماء) وفيه ان
المرفوع في حديث الشفعة هو لزوم البيع. وفى حديث منع فضل الماء هو جواز المنع و
كلاهما أمران وجوديان فتأمل.
واما ما استدل به على عدم العموم فهو أمور ذكرها المحقق النائيني قدس سره
في رسالته نذكرها ثم نذكر ما عندنا في دفعها أحدها: ان الأمور العدمية لا يصح استنادها
إلى الشارع. وقد عرفت الجواب عنه.
ثانيهما: لو عمت القاعدة للأمور العدمية لزم منه فقه جديد، فيلزم مثلا
كون أمر الطلاق بيد الزوجة لو كان بقائها على الزوجية مضرا بحالها كما إذا
غاب عنها زوجها أو لم ينفق عليها لفقر أو عصيان بل يلزم الانفساخ بغير طلاق
88

ويلزم أيضا انعتاق العبيد إذا كانوا في الشدة ويلزم وجوب تدارك كل ضرر
يتوجه إلى مسلم اما من بيت المال أو من مال غيره.
ويدفعه ان ما يلزم منه ليس فقها جديدا وما يكون فقها جديدا لا يلزم منه، اما كون
الطلاق بيد الزوجة إذا غاب عنها زوجها فهو مخالف للنصوص الخاصة الواردة في كتاب
الطلاق، وللمسألة صور كثيرة مذكورة هناك، لأنها اما تعلم بحيوة زوجها أولا،
وعلى الأول يجب عليها ان تصبر كما ورد في النصوص، وعلى الثاني اما ينفق عليها ولى
الزوج أولا، فإن أنفق فعليها ان تصبر أيضا، وعلى الثاني ترفع أمرها إلى الحاكم يتفحص
عن حالها أربع سنين، إلى غير ما ذكروه هنا مع مداركها ونصوصها، وتحقيق الحق
في محله، وبالجملة عدم حكمهم بجواز طلاق الزوجة هنا إنما هو لاتباع النصوص
ولولاها لم نستبعد التمسك بقاعدة لا ضرر في هذا الباب كساير الأبواب.
هذا ولكن لا يلزم من التمسك بالقاعدة هنا كون أمر الطلاق بيد الزوجة
- كما توهمه المحقق المذكور - بل غاية ما يستفاد منها جواز حل عقدة النكاح، اما
كونه بيدها فلا، فح اما نقول بكون امره بيد الحاكم أو بيد ولى الزوج فلو طلق فهو
والا فيجبره الحاكم، فإن هذا هو الذي تقتضيه قواعد المذهب والجمع بين النصوص كما
سيأتي، وذهب جماعة إلى عدم الحاجة إلى الطلاق في بعض صور المسألة بل يأمره الحاكم
بالاعتداد فتعتد وتبين من زوجها.
أما إذا كان الزوج حاضرا ولكن لا ينفق عليها لفقر أو عصيان، أو كان غائبا ولم
يمكن استفسار حاله، لعدم بسط يد الحاكم أو لموانع أخر، وليس من ينفق عليها
ولا ترضى بالصبر، فقد ذهب المحقق الطباطبائي اليزدي قدس سره فيما افاده في
ملحقات العروة إلى امكان القول بجواز طلاقها للحاكم، لقاعدتي نفى الحرج والضرر
خصوصا إذا أنت شابة واستلزم صبرها طول عمرها وقوعها في مشقة شديدة، ولما
يستفاد من اخبار كثيرة واردة في باب (وجوب نفقة الزوجة) من أنه (إذا لم يكسها
ما يوارى عورتها ولم يطعمها ما يقيم صلبها كان حقا على الإمام ان يفرق بينهما)
أو على الزوج ان يطلقها وفيها روايات صحاح.
89

ويؤيده ما افاده انهم استدلوا بهذه الروايات في باب وجوب نفقة الزوجة ولم
يستشكلوا عليها بمخالفتها للقاعدة من هذه الجهة ولو كان لوجب التنبيه عليه عادة
فراجع الجواهر والرياض في باب وجوب النفقة تجد صدق ما ذكرنا، وقد حكى في
(المسالك) في باب (من غاب عنها زوجها) قولا بان للمرأة الخروج من النكاح
بالاعسار بالنفقة وان لم يسم قائله، واستدل هو على جواز الطلاق في بعض صور المسألة
أعني مسألة من غاب عنها زوجها بقاعدتي نفى الحرج والضرر مضافا إلى النصوص
والحاصل ان مخالفة هذه الفتوى لفتوى الأصحاب غير معلومة مع ذهاب هؤلاء الاعلام
أو ميلهم إليه.
واما ما افاده المحقق النائيني فيما عرفت من كلامه من احتمال الحكم بانفساخه
بلا حاجة إلى الطلاق فهو أمر عجيب لأن الذي يقتضيه الجمع بين أحكام الشرع و
اغراضه وملاكات أحكامه ان يرفع الضرر بطريق يكون أقل محذورا، ومن
المعلوم ان توقف حل عقدة النكاح على الطلاق (الا فيما استثنى) حكم ثابت في الشرع
كما أن كون الطلاق بيد من أخذ بالساق حكم آخر، فإذا أمكن دفع الضرر بالغاء
الثاني الذي في الواقع شرط من شرائط الطلاق واعطائه بيد ولى الامر الحافظ لنفوس
المسلمين وأموالهم وفروجهم، فما الوجه في اهمال حكم الطلاق وتوقف انفساخ الزوجية
عليه من رأس، والحكم بانفساخها بنفس الضرر، والحاصل انه يقتصر في تخصيص عمومات
الأحكام الأولية بعموم لا ضرر على مورد الضرورة لا غير.
كما أن ما ذكره من مسألة تدارك الضرر الذي ليس من ناحية أحكام الشرع
ولا من ناحية المكلفين بعضهم ببعض من بيت المال فهو أعجب من سابقه، وليت شعري
ما الوجه في لزوم تدارك هذا الضرر مع عدم استناده إلى الشارع ولا إلى مكلف، وهل
يمكن اسناد الضرر إلى الشارع وأحكامه لو لم يحكم بوجوب تدارك هذا الضرر من
بيت المال حتى يستدل بحديث نفى الضرر لاثبات وجوب التدارك، ولعمري انه أوضح من أن
يخفى على مثل هذا المحقق النحرير.
90

التنبيه السابع
هل المراد بالضرر هو الضرر الشخصي أو النوعي؟
لا ينبغي الاشكال في ظهور أدلة الباب في الضرر الشخصي اما على المختار فواضح، لأن
النهى عن الضرر كالنهي عن ساير الموضوعات تابع لوجود مصداقه الخارجي الذي هو عين
التشخص، وكون الضرر من العناوين الثانوية لا يصادم هذا الظهور في شئ كما لا يخفى
واما على القول بان مفاده نفى الأحكام الضررية مطلقا فهو أيضا كذلك فإن الألفاظ
بأجمعها في هذه المقامات ظاهرة في مصاديقها الخارجية الشخصية أينما تحققت، فإذا
كان الحكم بالنسبة إلى بعض افراد المكلفين ضرريا دون بعض اختص جريان
القاعدة بمن يصدق في حقه الضرر دون غيره، ولا يتوقف هذا الظهور على القول
بتقدم القاعدة على عمومات الأحكام الأولية من باب الحكومة - كما لعله يظهر من بعض
كلمات المحقق النائيني في المقام - بل يجرى على جميع الوجوه التي ذكروها في
وجه تقديمها عليها.
نعم قد يتوهم ظهور كلمات الأصحاب في الضرر النوعي لأنهم استدلوا بها على
خيار الغبن مع أن المعاملة الغبنية لا تكون ضررية دائما بل قد تكون المصلحة في بيع
المتاع ولو بأقل من ثمن المثل، كما إذا كان في معرض الحرق والسرق أو كان
المالك عاجزا عن حفظه وقدر غيره عليه، فإذا باعه، والحال هذا وهو لا يعلم، بأقل
من ثمن المثل لم يتضرر من هذه المعاملة وإن كان مغبونا فيها، فهذه المعاملة الغبنية
لا تشتمل على الضرر بالنسبة إلى هذا الشخص.
ولكن يدفعه ان المعاملة المذكورة المشتملة على الغبن من جهة بيع المتاع
بأقل من ثمن مثله، ضررية من حيث كونها معاملة بلا اشكال وان كانت نافعة
لملاحظات أخر خارجية، وان شئت قلت: ان هذا المعاملة كما انها غبنية من حيث كونها
معاملة فكذلك تكون ضررية من هذه الجهة، وكون المتاع في معرض الحرق و
السرق أمر خارج من دائرة المعاملة، فلا يقال: انه انتفع بهذا البيع لأن الانتفاع
91

بالبيع إنما يكون فيما إذا باعه بأكثر من ثمن مثله، بل يقال: انه وان تضرر في
هذه المعاملة الا انه انتفع بأمر خارج منها ولذا يقال في أمثال المقام (ان الضرر اليسير
منع من الضرر الكثير) وانه لو لم يبعه بالضرر تضرر بأصله أو بأزيد منه، فإذا لوحظ
جميع الحيثيات الداخلية والخارجية بعد الكسر والانكسار لم يكن هذه المبادلة
ضرريا في حقه، كما أنه ليس مغبونا بهذه الملاحظة، ولكن هذه ملاحظات خارجة عن
حقيقة المعاملة بما انها معاملة ولا يصح جعلها مقياسا لكون المعاملة ضرريا أو غير
ضرري فالمعاملة الغبنية ضررية دائما والحاصل ان عنوان الضرر صادق على هذه المعاملة
بلا اشكال.
نعم الحكم بالفساد في خصوص هذه الواقعة لا يكون منة على المكلف ولكن
قد عرفت آنفا ان الامتنان إنما هو بلحاظ الحكم الكلى في هذه المقامات، لا بحسب
مصاديقه الشخصية، ودوران (الضرر) مدار الاشخاص أمر ودوران (الامتناع) مدار النوع
أمر اخر ولا منافاة بينهما أصلا.
التنبيه الثامن
هل يجوز الاضرار بالغير لدفع الضرر عن النفس؟
قال شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري في رسالته المعمولة في المسألة في ملحقات
مكاسبه، في (التنبيه الرابع) من التنبيهات التي أوردها هناك ما لفظه: (مقتضى
القاعدة ان لا يجوز لاحد اضرار انسان لدفع الضرر المتوجه إليه، وانه لا يجب على
أحد دفع الضرر عن الغير باضرار نفسه لأن الجواز في الأول والوجوب في الثاني
حكمان ضرريان) ثم فرع على الأول ما ذكروه من عدم جواز اسناد الحائط المخوف
وقوعه على جذع الجار، وعلى الثاني جواز اضرار الغير عند الاكراه والتقية بمعنى
انه إذا أمر الظالم باضرار أحد وأوعد على تركه جاز للمأمور اضراره لدفع الضرر المتوعد
عن نفسه، ولا يجب عليه تحمل ذلك الضرر لدفع الضرر عن الغير.
وذكر في (الفرائد) في هذا المقام ما لفظه: (انه قد يتعارض الضرر ان بالنسبة
92

إلى شخص واحد أو شخصين، فمع فقد المرجع يرجع إلى الأصول والقواعد الأخر
كما أنه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر المستلزم للاضرار على الناس، فإنه
يرجع إلى (قاعدة نفى الحرج) لأن الزام الشخص بتحمل الضرر لدفع الضرر عن غيره
حرج، وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولي من قبل الجائر من كتاب المكاسب)
انتهى.
وذكر هناك ما حاصله: (ان الضرر إذا توجه إلى شخص بمعنى حصول مقتضيه
فلا يجوز دفعه عن نفسه باضرار غيره، كما إذا أجبره الظالم على دفع مال من أمواله
فإنه لا يجوز له نهب مال غيره لدفع الضرر عن نفسه، أما إذا كان الضرر أولا وبالذات
متوجها إلى الغير كما إذا أجبره على نهب مال الغير وأوعده على ترك النهب بأخذ
مال نفسه فيجوز له ذلك ولا يجب عليه بذل مال من أمواله وتحمل الضرر عن الغير، لأن
الضرر بحسب قصد المكره (بالكسر) وارادته الحتمية متوجه نحو الغير، والمكره
(بالفتح) وإن كان مباشرا للاضرار الا انه ضعيف لا ينسب إليه الاضرار حتى يقال:
انه أضر بالغير لئلا يتضرر نفسه، نعم لو تحمل الضرر ولم يضر بالغير فقد صرف الضرر
عنه إلى نفسه عرفا، ولكن الشارع لم يوجب عليه هذا المعنى والامتنان بهذا على الأمة
لا قبح فيه، هذا مع أن أدلة نفي الحرج كافية في الفرق بين المقامين، فإنه لا حرج
في عدم الرخصة في دفع الضرر عن النفس باضرار الغير بخلاف الزام تحمل الضرر عن الغير
باضرار النفس فإنه حرجي قطعا) انتهى ملخصا.
أقول - اعلم أن هنا مسائل ثلث احديها عدم جواز الاضرار بالغير لدفع الضرر
عن النفس وهذا مستفاد من حديث لا ضرر بلا كلام ثانيتها - عدم وجوب تحمل الضرر
عن الغير باضرار النفس، وهذا مستفاد من أدلة البراءة ولا يحتاج إلى قاعدة لا ضرر
لأنه ليس لنا دليل يقتضى بعمومه أو اطلاقه وجوب تحمل الضرر عن الغير حتى يحتاج
في نفيه إلى أدلة نفي الضرر، بخلاف المسألة الأولى، لأن اطلاقات البراءة هناك تدل
على الجواز على عكس ما نحن فيه فيحتاج في نفيه إلى قاعدة لا ضرر.
93

ثالثتها - مسألة تعارض الضررين في حق شخصين أو شخص واحد وسيأتي
حكمه في التنبيه الآتي انشاء الله، ولا دخل له بالمسألتين السابقتين، ومن العجب ان
شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره قد جمع في الفرائد بين هذه المسائل الثلاث في عبارة
واحدة كما عرفت، ولكنه (قده) فرق بينها في رسالته المطبوعة في ملحقات المكاسب
فعقد للمسألتين الأوليين التنبيه الرابع ولتعارض الضررين التنبيه السادس من التنبيهات
التي ذكرها.
واعجب منه ما افاده (المحقق النائيني) في المقام حيث أورد على كلام الشيخ
في رسالته المذكورة بأنه لا وجه لعقد مسألة واحدة للجميع وان الصواب جعل
عنوان مسألة تعارض الضررين عنوانا مستقلا ومسألة الاضرار بالغير كالولاية من
قبل الجائر عنوانا آخر.
أقول - كأنه زاغ بصره الشريف عن الأمر الرابع الذي ذكره الشيخ (قده) في
تلك الرسالة فإنه بعينه هو ما رامه. وعلى كل حال فلنرجع إلى البحث عن المسألتين
الأوليين التين عقد لهما هذا التنبيه. ثم لنبحث عن الثالثة في التنبيه الآتي انشاء الله فنقول
ومنه سبحانه نستمد التوفيق والعناية.
اما الاضرار بالغير لدفع الضرر عن النفس فهو أمر غير جائز بلا اشكال فلا
يجوز توجيه السيل إلى دار الغير دفعا له عن داره، ولا القاء الغير عند السبع لصرفه عن
نفسه، ويدل عليه أدلة نفي الضرر لا سيما على المختار في معناها.
لا يقال - ان ترك الاضرار بالغير في مفروض البحث أيضا يشتمل على الضرر
فكما ان فعله مستلزم للضرر على الغير فكذلك تركه أيضا مستلزم للضرر على نفسه
فهو داخل في مسألة تعارض الضررين ولعل هذا هو الوجه في جعل الجميع مسألة واحدة
لأنا نقول - ترك الاضرار بالغير في مفروض البحث ليس في حد ذاته ضرريا و
إنما هو ترك للمانع عن مقتضى الضرر، توضيحه: ان مقتضى الضرر في مفروض الكلام
وهو توجه السيل أو السبع مثلا - موجود بحسب أسبابه الطبيعة لا بسبب فعل المكلف
ولكن يمكن خارجا دفع اثره بتوجيهه نحو الغير وصرفه عن نفسه، فترك هذا إنما هو
94

ترك للمانع لا ايجاد للمقتضى كما لا يخفى.
ومن هنا تعرف ان أدلة لا ضرر لا تشمل هذا الترك رأسا لعدم موضوع له هنا فلا يحتاج إلى
القول بانصرافها بقرينة ورودها مورد الامتنان كما يظهر من بعض كلماتهم، لأن
ذلك فرع وجود الموضوع والمقتضى لها وقد عرفت عدمه في المقام. هذا بالنسبة إلى
المسألة الأولى.
واما المسألة الثانية وهو تحمل الضرر بنفسه لدفعه عن غيره، كما إذا
توجه السيل بحسب أسبابه الطبيعية نحو الغير فدفعه إلى داره حفظا لدار الغير عن الضرر،
فقد عرفت انه لا دليل يقتضى وجوبه ولو بالاطلاق كي يحتاج إلى نفيه بقاعدة نفى الضرر
أو قاعدة نفى الحرج، فالقاعدة أجنبية عنه، والمرجع فيه هو البراءة، نعم لو كان هناك
عموم أو اطلاق يقتضى وجوبه أمكن التمسك بالقاعدة على نفيه.
بقي في المقام (مسألة الاضرار بالغير عند الاكراه)، كالتولي من قبل
الجائر مكرها إذا استلزم اضرارا وظلما على بعض العباد، الذي صرح الشيخ (قده)
بجوازه في مقامات مختلفة، مدعيا ان الضرر بحسب طبعه الأولى وإرادة المكره (بالكسر)
متوجه نحو الغير فلا يجب ترك الاضرار به وتحمله عنه فهو عنده من صغريات المسألة
السابقة، وقد تبعه على هذا المعنى كثير من متأخريه.
ولكن ما ذكره ممنوع جدا لأنا نمنع من اندراجه تحت تلك المسألة، بيان
ذلك: ان الضرر في هذه الموارد إنما يتوجه نحو الغير من ناحية فعل المكره (بالفتح) فمع
قطع النظر عن فعله لا يتوجه إليه شئ، وان شئت قلت: مسألة عدم وجوب تحمل الضرر
عن الغير إنما هو في المواطن التي يكون مقتضى الضرر بحسب أسبابه الطبيعية والخارجية
مع قطع النظر عن فعل هذا المكلف موجودا ومتوجها نحو الغير، ولكن مكلفا آخر
يقدر على ايجاد المانع عن تأثيره بتوجيه الضرر إلى نفسه، وفى باب الاكراه ليس الامر
كذلك، فإن الضرر بحسب أسبابه الطبيعية والخارجية لم يتوجه نحو الغير، وإنما يتوجه
إليه بسبب إرادة المكره (بالفتح).
95

واما ما افاده العلامة المذكور قدس سره في بعض كلماته من أن توجه الضرر نحو
الغير في موارد الاكراه إنما هو بسبب إرادة المكره (بالكسر) فهو ممنوع جدا، لأن
مجرد إرادة المكره (بالكسر) لا يوجب توجيه الضرر نحو الغير ما لم يكن المكره
(بالفتح) كالآلة، نعم لو كان المكره (بالفتح) مقهورا للمكره بحيث يعد مضطرا
على العمل على وفق ارادته أمكن القول بذلك، لأن الضرر بحسب أسبابه الخارجية،
ومنها إرادة المكره (بالكسر) توجه نحو الغير ولم يتوسط هناك إرادة المكره (بالفتح)
واختياره، ولكن الامر في موارد الالجاء والاضطرار سهل لأنه لا يبقى هناك مجال للبحث
عن جواز الاضرار وعدمه لارتفاع التكليف فيها رأسا.
أما إذا لم يكن المكلف ملجئا بل كان مكرها مع بقاء ارادته واختياره المقابل
للاضطرار والالجاء فتوجه الضرر نحو الغير لا يكون الا بتوسيط ارادته، فإرادته واختياره
متوسط في البين وبدونه لا يكون الضرر متوجها نحو الغير. وما يظهر من كلماته
قدس سره من أن الفعل لا يسند إلى المكره (بالفتح) وإن كان مباشرا، لضعفه وقوة السبب
وهو المكره (بالكسر)، أيضا ضعيف فإن اسناد الفعل في المقام إنما هو إلى المباشر
قطعا بحسب انظار أهل العرف لمقام ارادته واختياره، وإنما لا ينسب إليه إذا كان مضطرا
وملجئا وكان كالآلة لفعل المكره (بالكسر) أو ما يجرى مجراه
ومن أشنع ما يلزم هذا القول إن مقتضاه جواز الاضرار بالغير في موارد الاكراه بما
دون النفس مطلقا، ولو كان بالمضار المؤلمة المشجية في الأموال والأنفس، وان
بلغت ما بلغت، لدفع ضرر يسير عن نفس المكره (بالفتح) وماله وعرضه، فإن الحكم في
باب تحمل الضرر عن الغير ذلك، لعدم وجوب تحمل ضرر يسير على نفسه دفعا لضرر
كثير عن غيره (الا في موارد مستثناة كالنفوس وشبهها) وقد عرفت ان باب الاكراه
عند العلامة الأنصاري قدس سره ومن تبعه من مصاديق مسألة تحمل الضرر المتوجه
إلى الغير فتدبر تعرف.
فتلخص من جميع ما ذكرنا ان مسألة الاكراه على الضرر كما في التولي من
قبل الجائر وأشباهه لا تكون من باب تحمل الضرر عن الغير بتضرر النفس، وإنما تكون
96

من باب (تعارض الضررين) فيجرى عليها الأحكام الآتية في التنبيه الآتي انشاء الله
فكن على بصيرة منه.
التنبيه التاسع
حكم تعارض الضررين
إذا تعارض ضرران فإن كان بالنسبة إلى شخص واحد كما إذا تضرر انسان من شرب
دواء من بعض الجهات وانتقع به من جهات أخر، فالحكم فيه واضح فإن الواجب عليه
ترك الضرر الأقوى والاخذ بالأضعف، لو قلنا بان الاضرار بالنفس محرم مطلقا، وان
كانا متساويين فالحكم فيه التخيير.
الا ان الكلام بعد في حرمة الاضرار بالنفس مطلقا حتى في الموارد التي يكون
هناك غرض عقلائي مع صدق عنوان الضرر ولم يكن هناك خوف هلاك النفس،
والحكم بالتحريم مطلقا وإن كان مشهورا الا انه قد وقع التأمل فيه من بعض المعاصرين
من جهة عدم قيام دليل عليه والمسألة تحتاج إلى مزيد تتبع وتأمل، ولكن لا اشكال
في عدم شمول اطلاقات أدلة نفي الضرر لها فإنها ناظرة إلى الاضرار بالغير على ما هو
التحقيق، فمسألة الاضرار بالنفس خارجة عن محل البحث وله موقف آخر.
وأما إذا دار الامر بين ضررين بالنسبة إلى شخصين، وهو المقصود بالبحث هنا
فقد وقع الكلام في حكمه بين الاعلام، وقد مثلوا له بما إذا أدخلت الدابة رأسها في
قدر مالك آخر بغير تفريط من المالكين ولم يمكن اخراج رأسه الا بكسر أحدهما
أو وقع دينار من شخص في محبرة غيره كذلك ومثلوا له أيضا بما إذا كان تصرف المالك
في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه، كما إذا احتاج إلى حفر
بئر في داره بما يتضرر منه جاره
أقول - مسألة تعارض ضرر المالك وغيره بالتصرف في مال نفسه، لها أحكام
خاصة لا تجرى في مطلق تعارض الضررين فلذا عقدنا لها بحثا آخر سيوافيك فاذن
97

لابد لنا من البحث في مقامين مختلفين، وقد عرفت آنفا ان مسألة التولي من قبل
الجائر وسائر موارد الاكراه على اضرار الغير داخلة في باب تعارض الضررين وليست
من باب تحمل الضرر المتوجه إلى الغير، فما نذكره من الأحكام هنا شاملة لها
أيضا فنقول:
المقام الأول فيما إذا تعارض ضرران ودار الامر بين الاضرار بأحد الشخصين
أو أحد المالين لا على التعيين ولم يكن منشأه تصرف المالك في خصوص ملكه و
حاصل القول فيه ان التأمل التام في أدلة نفي الضرر يرشدنا إلى انها لا تشمل صورة تعارض
الضررين، اما لأنها واردة مورد الامتنان فلا تشمل الا الموارد التي تكون قابلة له لا مثل المقام
الذي لا يكون قابلا له على كل حال فتأمل. والا لانصرف اخبار الباب إلى ما لا يلزم منه
الضرر الا في أحد طرفيه دون ما يلزم منه ذلك في كلا طرفيه، والوجه فيه ان ظاهر الأدلة ولو
بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع ان الشارع المقدس أراد بنفي الضرر في عالم التشريع
اعدامه من صفحة الوجود بالنسبة إلى مناسبات المكلفين بعضهم ببعض، وهذه الغاية إنما تنال
إذا كان الضرر في أحد طرفي الفعل والترك لا في كليهما فكما ان اخراج رأس الدابة
عن القدر بكسر القدر مستلزم للضرر على صاحب القدر فكذلك ذبح الدابة وحفظ القدر
يوجب الاضرار على صاحبها فلا يحصل غرض تشريع هذا الحكم من واحد منهما والحاصل
ان مناسبة الحكم والموضوع هنا مع قطع النظر عن ورود القاعدة مورد الامتنان تقتضي
انصرافها عن مورد التعارض.
فاللازم التماس دليل آخر للحكم هنا، والذي يظهر لنا بعد الرجوع إلى (سيرة
العقلاء) في أمثال هذه المقامات وما يقتضيه (قاعدة الجمع بين الحقوق مهما أمكن)
هو لزوم تقديم جانبي الضرر الأقوى بان يكسر القدر أو المحبرة في المثالين السابقين
إذا كانت قيمتهما أقل من قيمة الدابة - كما هو الغالب - ثم بجعل الخسارة على المالكين
جميعا لاعلى واحد منهما فقط، والوجه في تضمين صاحب الدابة شقصا من الخسارة ان
كسر القدر إنما كان لحفظ ماله، وفى تضمين صاحب القدر شقصا آخر ان توجه هذا الضرر
إلى المالين لم يكن بتفريط من صاحب الدابة حتى يكون ضامنا لجميع القيمة بل إنما
98

وقع ما وقع لأسباب خارجية متساوية النسبة إلى كليهما فكلاهما متساويان في لزوم
تحمل هذا الضرر بالنسبة
والحاصل: ان الضرر الحاصل من ادخال الدابة رأسها في القدر قد نشأ من ناحية
أمور خارجية من غير داخل لاحد المالكين فيها (كما هو مفروض البحث) وهذا الضرر كما أنه
متوجه إلى صاحب الدابة من جهة متوجه إلى صاحب القدر من جهة أخرى، فعلى كل منها
قبول شقص من الخسارة الحاصلة من توجه أسباب الضرر، لئلا يلزم ترجيح بلا مرجح في تحمل
الخسارة المتساوية النسبة إليهما، وأهمية أحد المالين بالنسبة إلى الاخر لا تؤثر في
تضمين أحدا لمالكين دون الاخر، بل يمكن ان يقال إن الخسارة عليهما تكون بنسبة
مالهما فصاحب الدابة يضمن من الخسارة الحاصلة بنسبتها وصاحب القدر بنسبته، غاية الأمر
انه يراعى جانب الأهم في حفظ تشخص أحد المالين، بافناء الاخر والانتقال إلى بدله
فيكسر القدر ويخلص الدابة، ولو كانا متساويين من جهة المالية فلا يبعد الحكم
بالقرعة كما لا يخفى.
هذا كله إذا لم يكن توجه الضرر من تفريط من ناحية أحد المالكين والا كانت
الخسارة عليه فقط دون الاخر كما هو ظاهر
ومن هنا يظهر النظر فيما ذكروه في (كتاب الغصب) من أنه: (إذا حصلت دابة
في دار لا تخرج الا بهدمها ولم يكن تفريط من أحد المالكين يهدم وتخرج الدابة ويضمن
صاحب الدار لمصلحته) قلت مجرد كون الهدم لمصلحة صاحب الدابة لا يوجب استقرار
تمام الخسارة عليه بعد ما كانت الخسارة بسبب أمور خارجية متوجهة إليهما ولم يكن
تفريط من صاحب الدابة فاللازم هو الحكم باستقرارها عليهما، جمعا بين الحقين.
المقام الثاني في تعارض ضرر المالك وغيره.
إذا لزم من ترك تصرف المالك في ملكه ببعض انحاء التصرفات ضرر عليه ولزم من
تصرفه ضرر على غيره، فهل هو من قبيل تعارض الضررين حتى يحكم عليه بما قدمناه
في التنبيه السابق، أو يجب ترجيح جانب المالك دائما، فله التصرف في ملكه بما يشاء،
99

كيف يشاء أو فيه تفصيل؟.
التحقيق ان ههنا مسائل أربع: أحدها ما إذا لزم من ترك تصرف المالك في ملكه
ضرر عليه ثانيها ما إذا لزم منه فوت بعض منافعه من دون توجه ضرر عليه ثالثها ما إذا لم
يلزم شئ منهما ولكن بدا له ذاك التصرف عبثا وتشهيا رابعها ما إذا كان قصده من ذلك التصرف
الاضرار بالغير من دون ان ينتفع به أصلا، لا اشكال في عدم جواز الأخير بل الظاهر أن
مورد رواية سمرة هو بعينه هذه الصورة.
واما باقي الصور فظاهر المحكى عن المشهور الحكم بالجواز فيها مطلقا بل ادعى
الاجماع على الجواز في الصورة الأولى، ولكن صريح بعضهم كالمحقق قدس سره، و
ظاهر آخرين كالعلامة في التذكرة، والشهيد في الدروس رحمة الله عليهما، استثناء
الصورة الأخيرة حيث قيد الأول منهما الجواز بصورة (دعاء الحاجة إليه) والأخيران بما
(جرت به العادة) ومن المعلوم ان مفروض الكلام في الصورة الثالثة ما لم تدع الحاجة
إليه ولا جرت به السيرة. بل الظاهر انصراف كلمات غير هؤلاء الاعلام أيضا عن هذه
الصورة وعدم شمولها لغير الصورتين الأولتين.
وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الذي اختاره شيخنا العلامة (قده) في فرائده هو الحكم بتقديم
جانب المالك في هاتين الصورتين، بالرجوع إلى عموم قاعدة تسلط الناس على أموالهم
وقاعدة لا حرج، بعد سقوط أدلة نفي الضرر بالنسبة إليهما للتعارض.
وأورد عليه المحقق النائيني (قده) بفساد الصغرى والكبرى، اما الصغرى يعنى عدم
كون المقام من مصاديق الحرج بل ولا من مصاديق تعارض الضررين فملخص ما افاده في بيانه
هو ان الحرج ليس مطلق المشقة بل هو المشقة الجوارحية، فالمشقة الطارية على الجوانح من
منع المالك عن التصرف في ملكه غير منفى بأدلة نفى الحرج، فليس المقام من مصاديق
(الحرج) بل ولا من تعارض الضررين لأن الضرر الحاصل للمالك من ترك تصرفه ليس
في عرض الضرر الحاصل للجار عند التصرف حتى يتعارضان، بل أحدهما في طول الاخر،
وذلك لأن المجعول في هذه الواقعة ليس الا حكما واحد، اما جواز تصرف المالك أو
حرمته، فالأول ضرري للجار فقط. والثاني للمالك فقط، فليس هناك حكمان ينشأ
100

منهما الضرر عليهما حتى يتعارضان، نعم بعد شمول أدلة نفي الضرر لجواز تصرف المالك
ينشأ منه حكم ضرري على المالك وهو عدم سلطنته على تصرفه في ماله بهذا النحو من
التصرف، ولكن من المعلوم ان هذا الحكم إنما نشأ من ناحية أدلة لا ضرر ولا يعقل
أن يكون منفيا بها وفى عرضا، فليس المقام من باب تعارض الضررين.
واما فساد الكبرى (يعنى عدم جواز الرجوع إلى قاعدة السلطنة وأدلة نفى الحرج
بعد تعارض الضررين) فقد ذكر في وجهه ما حاصله: ان الرجوع إلى العام عند
تعارض المخصصات إنما يصح في موارد تعارض المخصص مع ما في رتبته، وأما إذا تولد من
تخصيص العام بمخصص، فرد آخر من سنخ المخصص، ووقع التعارض بين هذين الفردين
من افراد المخصص، فذلك لا يوجب الرجوع إلى العام، والمقام من هذا القبيل فإن
حكومة أدلة نفي الضرر على عموم تسلط الناس على أموالهم أوجب الحكم بعدم جواز
تصرف المالك بذاك النحو من التصرف وهذا الحكم ضرر بالنسبة إلى المالك وان شئت
قلت: التعارض هنا بين مصداقين لمخصص معلوم لا بين دليلين مختلفين أحدهما مخصص
للعام اجمالا. هذا كله بالنسبة إلى عدم جواز الرجوع إلى قاعدة السلطنة، واما عدم
جواز الرجوع إلى دليل نفى الحرج فلان الرجوع إليه إنما يصح إذا كان حاكما على دليل
نفى الضرر وهو ممنوع. انتهى كلامه ملخصا.
أقول - وما افاده قدس سره قابل للنقد من جهات شتى، ولنذكر أولا ما عندنا
في حكم المسألة بجميع صورها، ثم لنشر إلى مواضع الاشكال فيما افاده تحقيقا للحق
وتوضيحا للمختار اما الأول:
لا ينبغي الاشكال في أن قاعدة السلطنة مع قطع النظر عن دليل لا ضرر قاصرة
عن شمول بعض الأنحاء التصرف في المال، فإنها إنما تدل على جواز تصرف المالك في ماله
بما جرت عليه سيرة العقلاء من انحاء التصرفات، ولا دليل على جوازها فيما عداها، و
منه يظهر حال كثير من الأمثلة التي ذكروها في المقام فإن التصرفات التي لا يكون في
فعلها نفع للمالك ولا في تركها ضرر عليه عادة وإنما يقصد بها مجرد الاضرار بغيره،
101

وكذلك ما يصدر منه عبثا مع العلم بتضرر غيره منه ضررا معتدا به، لا دليل على جوازها
أصلا فإنها خارجة عن حدود السلطنة العرفية العقلائية في باب الأموال كما لا يخفى
على الخبير بأحوال العقلاء واعتباراتهم وأمثلتها.
والوجه فيه ان سلطنة المالك على ماله كسائر الاعتبارات العقلائية لها حدود
معلومة لا يتعدى منها، ومن يتعد حدودها فهو خارج عن حيطة اعتباراتهم، ولعل من
ذلك ما ذكروه من مثال جعل حانوت حداد في صف العطارين مما يوجب تضررا فاحشا
على جيرانه، أو جعل داره مدبغة عظيمة يتأذى منه جيرانه ويشتد عليهم الامر إلى حد بعيد
لا يتحمل عادة، فهل ترى العقلاء من أهل العرف يجوزون ذلك وهل يرون دائرة
سلطنة المالك على ماله تشمل هذه النواحي؟.
وبذلك يظهر ان قاعدة السلطنة في حد ذاتها قاصرة عن شمول الصورة الرابعة من صور
المسألة المتقدمة، بل الصورة الثالثة أيضا، حتى مع قطع النظر عن ورود أدلة لا ضرر.
أما إذا كان تصرف المالك في ماله لغرض عقلائي في حدوده المتعارفة المعمولة فيما
بينهم ولكن لزم منه ضرر على غيره ولزم من تركه ضرر عليه أو فات منه بعض المنافع،
فهو أيضا على قسمين لأنه تارة يكون صدق عنوان الاضرار بالغير ملازما لصدق
عنوان التصرف في ماله أيضا، بان يكون تصرف المالك في ماله مستلزما لتصرف
ضرري في مال غيره، ولو بعنوان التسبيب، كما إذا حفر بئرا في داره خرج منه نقيض؟
كثير أسقط جدار الجار أو أسقط بعض بيوته عن حيز الانتفاع، فإنه لا اشكال في صدق التصرف
في ملك الغير بحفر البئر ولو بعنوان التسبيب في هذا المثال وأشباهه.
وأخرى لا يصدق عليه هذا العنوان وان لزم منه تضرره، كما إذا رفع جداره على جانب
جدار جاره بما يتضرر به ويتنزل قيمة داره، ولعل منه ما ذكروه - وورد في الروايات أيضا من -
نقص ماء قناة لحفر قناة أخرى في ارض قريبة منها، وكذا فساد ماء بئر جاره لحفر البالوعة
في داره في مكان قريب منه في بعض الصور لا في جميعها كما لا يخفى.
وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أنه إن كان من قبيل القسم الأول فهو من باب تعارض الضررين
والسلطنتين، فكما ان قاعدة السلطنة مع قطع النظر عن أدلة لا ضرر جارية في حق هذا
102

المالك فيجوز له التصرف في داره بحفر البئر فكذلك جارية في حق الاخر فيجوز
منعه مما يوجب تصرفا في داره بمقتضى سلطنته بنفس تلك القاعدة، فالتعارض بين
السلطنتين، كما أن أدلة لا ضرر متساوية النسبة إلى كليهما فكما ان تصرفه في داره
بحفر البئر يكون ضرريا فكذلك ترك تصرفه فالحكم هنا هو الحكم في باب تعارض
الضررين الذي فصلناه في المقام الأول وحاصله لزوم الجمع بين الحقين مهما أمكن.
واما إن كان من القسم الثاني فالحكم فيه هو الرجوع إلى قاعدة السلطنة بعد تعارض
الضرر من الجانبين، بل قد عرفت امكان القول بعدم شمول أدلة لا ضرر لمورد التعارض
رأسا، اما لعدم المقتضى للامتنان أو لانصرافها إلى غير هذه الصورة، وعلى كل تقدير لا
اشكال في جواز الرجوع إلى قاعدة السلطنة هنا والحكم بجواز مثل هذه التصرفات،
فللمالك التصرف في ملكه (بانحاء التصرفات المتعارفة) وان تضرر منه جاره ما لم
يلزم منه تصرف في ملكه، سواء تضرر المالك من ترك هذا التصرف أو فاته بعض منافعه،
بل ترك تصرفه في ملكه بما يترقب منه من المنافع ضرر عليه غالبا.
هذا كله إذا لم يرد دليل خاص على المنع من بعض أنواع التصرف كما ورد
في باب حريم البئر، وقد مضى بعض رواياته وأحكامه عند ذكر اخبار الباب ويطلب
تفصيله من كتاب احياء الموات وغيره.
واما ما افاده المحقق السابق الذكر ففيه مواقع للنظر:
اما أولا فلان ما ذكره في نفى الصغرى من أن ضرر المالك ليس في عرض
ضرر الجار لأن المجعول في هذه الواقعة ليس الا حكما واحدا - إلى آخر ما افاده - ممنوع،
لأنه مبنى على كون حكم نفى الضرر من قبيل الرفع لا الأعم منه ومن الدفع، مع أنه
لا اشكال في كونه أعم، و ح كما يمكن الاستدلال به على نفى جواز تصرف المالك في
ملكه بهذا النوع من التصرف لكونه ضرريا، فكذلك يمكن نفى حرمته أيضا لأنه
ضرري، ولا نحتاج إلى ورود دليل دال على الحرمة والجواز كليهما بعمومه أو
اطلاقه، حتى يرفع اليد عنه في مورد الضرر، فما افاده (قده) من (انه
103

لا يتصور هنا الا حكم واحد وان الحكم بحرمة التصرف إنما نشأ من شمول لا ضرر
بجواز التصرف الثابت بعموم دليل السلطنة) خال عن التحصيل. بل الضرر الناشئ
من التصرف ومن تركه في حد سواء بالنسبة إلى أدلة نفي الضرر بعد كون النفي هنا
أعم من الدفع والرفع.
وثانيا - ان ما افاده من عدم شمول لا ضرر للضرر الناشئ من قبل هذا الحكم
أيضا ممنوع، للقطع بعدم خصوصية لبعض أنواع الضرر في هذا الحكم الامتناني
، وان جميع الأحكام الضررية متساوية الاقدام فيما من الله به على عباده من رفعها عنهم
في عالمي التكليف والوضع وجعلهم في فسحة منها، فلو كان لتنقيح الملاك مورد
فهذا مورده، هذا كله لو لم نقل بشمول الدليل له بمقتضى الدلالة اللفظية لأن الحكم
ورد على عنوان عام وطبيعة سارية إلى جميع مصاديقها.
وثالثا - ان ما افاده في منع الكبرى من عدم جواز الرجوع إلى عموم
دليل السلطنة بعد تعارض الضررين لعدم كونهما في رتبة واحدة، ففيه مضافا إلى ما
عرفت من ابتنائه على مبنى فاسد وهو كون نفى الضرر من قبيل الرفع لا الأعم منه و
من الدفع، انه لا مناص هنا من الرجوع إلى العام الفوق بعد هذا التعارض، لأن
البحث في الكبرى إنما هو بعد الفراغ عن الصغرى وقبول وقوع التعارض بين
الضررين، ومعلوم انه لا ترجيح لأحدهما على الاخر حينئذ، فكيف لا يتساقطان ولم لا يرجع
إلى عموم قاعدة السلطنة، وليت شعري إذا فرضنا صغرى التعارض بين مصداقي الضرر في
المقام ولم يجز الرجوع إلى قاعدة نفى الضرر فما الوجه في عدم جواز التمسك
بدليل المحكوم أعني قاعدة السلطنة، وما المرجع في المقام لو لم تكن هي المرجع؟.
ورابعا - ان ما افاده من نفى صغرى (الحرج) نظرا إلى أنه عبارة عن مشاق
الجوارح لا الجوانح فهو أيضا باطلاقه ممنوع، لأن مشاق الجوانح أيضا كثيرا ما يصدق
عليها عنوان الحرج، فالمصائب المؤلمة والحوادث المفجعة أمور حرجية بلا اشكال
مع أنها من مشاق الجوانح، وقد قال الله تعالى: (كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك
حرج منه) (1) وقال أيضا: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا

1 - الأعراف - 2
104

في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (1) نعم مطلق ضرر المالك ومنعه من
التصرف في ملكه لا يكون مصداقا للجرح كما افاده العلامة الأنصاري قدس الله سره،
ولا يكون ذلك الا في بعض الموارد التي يصعب على المالك تحمله جدا ويكون في
صدره حرج منه وضيق.
التنبيه العاشر
في أنه لا فرق بين توجه ضرر (الحكم) إلى خصوص من كلف به أو غيره
إذا لزم من تكليف بعض المكلفين ضرر على غيره، كما في المرضعة القليلة
اللبن إذا أضر صيامها بولدها وكما في الحامل المقرب، فهل يصح نفى وجوبه منها
بدليل نفى الضرر كما ينفى وجوب الوضوء والغسل الضرريين به (على القول به).
الظاهر ذلك، لعموم الدليل فإن المنفى على هذا القول هو الأحكام الضررية ومن
المعلوم ان حكم الصوم هنا ضرري ولو باعتبار الولد، ولا دليل على لزوم توجه الضرر
الناشئ من قبل الحكم الضرري إلى خصوص من كلف به، بل لا يبعد نفى وجوب
مثل هذا الصوم على المختار من عدم جواز نفى وجوب الوضوء والصوم الضرريين بها
فإن صيامها - والحال هذا - اضرار بالولد وقد نفى الشارع (اضرار الناس بعضهم
ببعض في عالمي الوضع والتكليف) فيشمله أدلة نفي الضرر، ويؤيده أيضا نهيه
سبحانه عن اضرار الأب والام بالولد في قوله تعالى. (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له
بولده) وقد مر الكلام في تفسير الآية في صدر الكتاب.

1 - النساء - 65
105

التنبيه الحادي عشر
تأييد للمختار في معنى الحديث
ذكر شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره في بعض كلماته في المقام اشكالا و
جوابا عن بعض معاصريه لا بأس بنقله والبحث عنه لما فيه من تأييد المذهب المختار
في معنى القاعدة
حاصل الاشكال انه: كيف يجوز الاستدلال بقاعدة نفى الضرر لرفع التكاليف
الضررية، مثل وجوب الحج والصوم والوضوء إذا لزم منها الضرر، مع أن الضرر ما لا
يحصل نفع دنيوي أو أخروي في مقابله، ونحن نعلم من عموم أوامر هذه التكاليف
لموارد الضرر ان لها عوضا دينيا أو دنيويا يربو على ضررها فلا تكون اذن ضررية وحاصل
الجواب ان المعلوم كون العوض في قبال ماهية هذه الأمور، المتحققة في حالتي الضرر
وعدمه، لا في قبال الفرد الضرري منها، فالضرر غير منجبر بالعوض، نعم لو كان
المأمور به متضمنا للضرر بنفسه كما في الحكم بأداء الزكاة وسائر الواجبات
المالية كان هذا البيان حقا، انتهى ملخصا.
وأورد هو قدس سره على كل من الايراد والجواب، اما على الأول فبان
الضرر عبارة عن خصوص الضرر الدنيوي، واما المنافع الأخروية الحاصلة في قباله لا
تخرجه عن كونه ضررا، وعلى الثاني بما لفظه: (انه لو سلم وجود النفع في ماهية
الفعل أو في مقدماته كان تضرر بنفس الصوم أو بالحج أو بمقدماته يكون الامر
بذلك الفعل نفسيا أو مقدمة أمرا بالتضرر فلا يبقى فرق بين الامر بالزكاة والامر
بالصوم المضر أو الحج المضر بنفسه أو بمقدماته) هكذا أفاد.
أقول - الانصاف ان ما ذكره هذا المعاصر للشيخ العلامة قدس سرهما بعنوان
الاشكال تحقيق لا محيص عنه وقد عرفته سابقا عند بيان المختار في معنى القاعدة ببيان
أوفى وأتم، وحاصل ما ذكرناه هناك ان اطلاقات الأوامر الشرعية إذا شملت مورد
الضرر كما هو المفروض دلت بالالتزام على وجود المصلحة في مورد الفعل على
106

مذهب أهل العدل (لا على مجرد نفع أخروي كما ذكره هذا المعاصر) ومعها يصدق عليه عنوان الضرر.
واما ما افاده الشيخ العلامة من أن الاجر الأخروي لا يخرجه من تحت عنوان
الضرر فهو غير متوجه إلى هذا البيان لأن مصالح الافعال المأمور بها الموجودة في نفس
الافعال غير الأجور الأخروية التي تكون بإزاء إطاعتها، مع أن ما ذكره (قده) أيضا
قابل للبحث. فهل يصح في لسان أهل العرف من المتشرعين اطلاق عنوان الضرر و
الغرم بمالهما من المعنى الحقيقي على الانفاق في سبيل الله وقد قال الله تعالى: (ما
عندكم ينفد وما عند الله باق) إلى غير ذلك مما دل على عدم نفاد ما يعطى في سبيل الله
وبقائه بحسب النتيجة والأثر وان فنى من جهة العين والظاهر والقول بان هذه
الاطلاقات والتعبيرات لا تمنع من صدق عنوان (الضرر) بحسب انظار أهل العرف مع قطع
النظر عن ايمانهم بالآخرة، مدفوع فإن صدق عنوان الضرر لغة وعرفا تابع لتحقق نقص بلا منفعة
واما تشخيص الانتفاع به وعدمه ليس بنظر العرف فلو رأى أهل العرف بحسب انظارهم البادية
المبنية على الغفلة عن المصالح الموجودة في متعلقات أحكام الشرع تحقق هذا العنوان
في بعض الموارد ولكن لم نرها بعد الدقة والتأمل فلا يلزمنا متابعتهم في اطلاق هذا
اللفظ بعد ذلك والحكم بصدق العنوان المزبور في تلك الموارد.
التنبيه الثاني عشر
هل الاقدام مانع عن شمول لا ضرر أم لا؟
الحق انه لا فرق في جريان هذه القاعدة بين تحقق موضوع الضرر بأسباب خارجة عن
اختيار المكلف وبين تحققه بسوء اختياره، كمن شرب دواءا يضر معه الصوم، أو
أجنب نفسه متعمدا في حال يخاف من استعمال الماء، ففي جميع هذه المقامات يجوز
نفى الوجوب بأدلة لا ضرر (على القول بشمولها لأمثال هذه التكاليف) وذلك لعموم
الأدلة، وحصول الموضوع بسوء اختيار المكلف غير مانع منه، ودعوى انصراف
107

الاطلاقات إلى غيره ممنوعة.
نعم في الأمور المالية، وكلما يكون من سنخها من الحقوق، إذا أقدم
المكلف بنفسه على موضوع ضرري لا يجوز نفى صحته بأدلة لا ضرر، لما أشرنا إليه
سابقا من أن هذه الأمور بمقتضى طبعها الأولى أمرها بيد المكلف يصنع بها ما يشاء
فإذا أقدم البالغ الرشيد على البيع بما دون ثمن المثل عن علم واختيار، كان بيعه
صحيحا ولا يمكن نفى صحته بأدلة نفى الضرر، لا لمجرد ورودها مورد الامتنان ونفى
الصحة هنا مناف له، لما عرفت من أن ورودها في مقام الامتنان من قبيل الحكمة لا العلة
بل لأن باب الأموال والحقوق المشابهة له بحسب طبيعتها الأولية يقتضى ذلك ويكون
المكلف سلطانا عليها ينفذ تصرفه فيها، ضرريا كان أم لا، فكما ان الهبة والصلح
بدون العوض وأشباهها أمور ضررية لا يجوز نفى صحتها بأدلة نفى الضرر فكذلك البيع
بما دون ثمن المثل وشبهه
ومن هنا تعرف النظر فيما افاده الشيخ الأعظم العلامة الأنصاري قدس سره في المقام
حيث قال: (لو أقدم على أصل التضرر كالاقدام على البيع بدون ثمن المثل عالما،
فمثل هذا خارج عن القاعدة، لأن الضرر حصل بفعل الشخص لا من حكم الشارع) انتهى
أقول - بل حصل الضرر بحكم الشارع وان تحقق موضوعه بفعل المكلف
لأنه لو لم يمض هذا البيع لما كان مجرد اقدام المكلف على انشاء البيع أمرا ضرريا
وان هو من هذه الجهة الا كسائر الموضوعات الضررية التي أوجدها المكلف بسوء
اختياره كمن أجنب متعمدا في حال يضر معه استعمال الماء. فالوجه في صحة هذه
المعاملات ما قدمناه من أن نفوذ المعاملة من آثار السلطنة الثابتة للمالك على ماله
يقلبه كيف يشاء ولولاه لما كان سلطانا عليه وهو مناف لطبيعة الملكية وسلطنة المالك
على أمواله كما هو ظاهر.
فرع - قد أفتى غير واحد من الأصحاب في (كتاب الغصب) بوجوب رد الخشبة
المغصوبة المستدخلة في البناء، أو اللوح المغصوب المنصوب في السفينة، وان تضرر
108

منه الغاصب، وكذلك أفتوا بوجوب قلع الشجر وطم الحفر وضمان كل نقص يحدث
بسببه فيمن غرس يغير ارضه وان جرت عليه من الدواهي ما جرت.
واستدل له بان الغاصب هو الذي ادخل الضرر على نفسه بسبب الغصب، وكأن المستدل
بهذا ناظر إلى ما أشرنا إليه من أن الضرر المقدم عليه في باب الأموال غير منفى بأدلة
نفى الضرر، فلا يرد عليه ما ذكره الشيخ قدس سره في بعض كلماته في المقام من أن
حصول موضوع الضرر بسوء الاختيار غير مانع من شمول أدلته.
هذا ولكن يرد عليه ان المالك لا يجوز له تضييع المال بل له نقله إلى غيره بأي وجه
كان فاقد أمه على أمر يوجب التضييع والفساد لا يكون ممضى من قبل الشارع و
كون الموضوع من قبيل الأموال لا يقتضى نفوذ مثل هذه الأمور فتأمل.
هذا ويمكن الاستدلال له بما دل على اخذ الغاصب بأشق الأحوال وفى بعض
موارد المسألة بما دل على أنه (ليس لعرق ظالم حق) كما قيل، فإن هذه قواعد عقلائية
قبل أن تكون شرعية يستند إليها العقلاء في أمورهم فهي المانع من شمول أدلة لا
ضرر لمثل المقام، لا سيما مع ملاحظة ورودها مورد الامتنان الذي يكون الغاصب
أجنبيا عنه، فورودها في هذا المقام وان لم يكن دليلا على المطلوب - كما عرفت -
لكنه مؤيد له لا محالة.
ويمكن الاستدلال له أيضا بأنه داخل في المسألة التي مر ذكرها من عدم
جواز الاضرار بالغير لدفع الضرر عن نفسه، فإن الامر هنا وإن كان دائرا بين اضرار
مالك السفينة ومالك اللوح، الا ان الضرر بحسب أسبابه الشرعية التي تكون هنا
كالأسباب الخارجية متوجه إلى الغاصب لأنه الذي جعل مال الغير في محل يكون
مأمورا بنزعه بحكم الشرع فالضرر أولا وبالذات متوجه إليه لا إلى المالك فلا يجوز
له دفع هذا الضرر عن نفسه باضرار الغير فتأمل.
وقد ذكر المحقق النائيني هنا وجها آخر وهو ان الهيئة الحاصلة من نصب
اللوح في السفينة ليس مملوكة للغاصب وإذا لم تكن مملوكة فرفعها ليس ضرارا
عليه، لأن الضرر عبارة عن نقص ما كان واجدا له.
109

وفيه - مضافا إلى أنه تدقيق عقلي في أمر عرفي كما لا يخفى - ان الكلام ليس
في مجرد رفع الهيئة الحاصلة من نصب اللوح في السفينة أو الخشبة في الدار فقط
بل فيما يحدث من الخلل في محمولات السفينة وساير اجزائه أيضا الحاصلة بسبب
رفع هذه الهيئة الاتصالية، فرفعها وإن كان رفعا لأمر غير مملوك ومن هذه الجهة
لا يكون ضرريا، الا انه منشأ لمضار كثيرة أخرى فيما يملكه الغاصب لصيرورة السفينة
بسببه معرضا للغرق والفساد، وكذا الحال في الحائط المبنى على خشبة الغير فإن
اخراج الخشبة لا يوجب رفع الهيئة الاتصالية فقط، بل يوجب الفساد في ساير نواحي البنيان
هذا اخر ما أردنا تحريره في بيان هذه القاعدة المهمة وفروعها ونتائجها
والحمد لله أولا وآخرا وقد وقع الفراغ من تسويده ضحوة الجمعة 27 رمضان المبارك
سنة 1379 ببلدة قم المشرفة
110

2 - قاعدة الصحة
111

وهذه القاعدة أيضا من أشهر القواعد الفقهية المتداولة بينهم، يتمسك بها في
جل أبواب الفقه أو كلها وقد عنونها كثير منهم بعنوان (أصالة الصحة في فعل الغير)
وظاهره عدم جواز تمسك المكلف بها لاثبات صحة أفعال نفسه عند الشك فيها، بل صرح
بعضهم - كالمحقق النائيني - باختصاصها بفعل الغير وان المتبع في أفعال شخص المكلف
هو (قاعدة الفراغ) لا غير، وستعرف في (المقام الثالث) انشاء الله عدم صحة هذه الدعوى
ولزوم تعميم القاعدة لافعال المكلف نفسه، ولذا نجعل عنوان بحثنا (أصالة الصحة
في الافعال الصادرة من الغير أو من النفس) وإن كان بعض الأدلة يختص بالقسم الأول منه
كما أن تقييد عنوان البحث بقيد (أفعال المسلم) كما يترائى من بعض بلا
وجه ولذا أسقطناه منه.
ثم اعلم أن هنا أبحاثا تقع في مقامات:
المقام الأول في مدرك القاعدة
واستدل لها بالأدلة الأربعة ولكن عمدتها - كما ستعرف - هو الاجماع العملي
والسيرة المستمرة المتداولة بين العقلاء والاستقراء، ولذا لم يتعرض غير واحد من
الاعلام لما استدل له من الكتاب والسنة، لعدم دلالتهما عليها. ولكن لما كان في
ذكرها بعض الفوائد نشير إليها على سبيل الاجمال والاختصار، وقبل البحث عنها لابد
لنا من تقديم أمر ينفعنا في تحقيق حال تلك الأدلة وهو:
ان حمل فعل الغير على الصحة يتصور له معان وثلث:
113

أولها - الاعتقاد الجميل في حقه وترك سوء الظن به بان لا يضمر المسلم لأخيه
ما يزرى به ويشينه، ويعتقد انه لم يفعل سوءا عن علم وعمد وان صدر منه ذلك خطأ أو نسيانا.
وما قد يقال من أن الاعتقاد من الأمور الغير القابلة للخطاب التكليفي تحريما
أو ايجابا لخروجه عن حيطة الاختيار، ممنوع جدا، لأنه في كثير من موارده أمر
مقدور، وكثيرا ما يحصل لنا اعتقاد سوء في حق أحد وبعد ذلك نتفكر في امره ونبدي
لأنفسنا احتمالات فيما شاهدناه أو سمعناه منه مما صار منشئا لهذا الاعتقاد، ونقول لعله
كان كذا وكذا، من الاحتمالات التي كانت مغفولة بادي الامر بما يصرفنا عن ذاك
الاعتقاد القطعي أو الظني بالسوء، وهذا أمر ممكن واقع كثيرا فهو قابل للخطاب الشرعي
تحريما أو ايجابا.
والحاصل ان كثيرا من الاعتقادات الحاصلة لنا حاصلة من الانظار البادية في أفعال
الغير وعدم التوجه بما يحتمله من الاحتمالات، فهي تزول بسرعة عند التوجه إلى الوجوه
التي تحتملها. فح لا مانع من أن يأمر الشارع الحكيم بتحصيل الاعتقاد الحسن في
حق المسلمين ونفى اعتقاد السوء عنهم، لما فيه من المصالح التي لا تحصى، كجلب
اعتماد المسلمين بعضهم ببعض، ودفع الضغائن عنهم، ودفعا لما في سوء الظن والاعتقاد
من التفرقة والتباعد واختلال النظام وإثارة الفتن بينهم، كما هو ظاهر لمن تدبر.
ثانيها - ترتيب آثار الحسن الفاعلي عليها، إلى المعاملة مع فاعله معاملة من اتى
بفعل حسن وعدم المعاملة معه معاملة من ركب أمرا قبيحا، من حسن العشرة معه والركون
إليه فيما يركن على من لم ير منه قبيح والفرق بينه وبين المعنى السابق ان الحمل على الصحة
بهذا المعنى عمل خارجي بخلاف المعنى الأول فإن الحمل عليها هناك بمعنى الاعتقاد الحسن و
ترك اعتقاد السوء وهو وإن كان مستلزما للثاني كثيرا الا ان الفرق بينهما ثابت في المعنى،
وفى النتيجة أحيانا
وثالثها - ترتيب آثار الفعل الصحيح الواقعي على فعله، بمعنى فرض عمله صحيحا
واقعا وفى نفس الامر، لا بحسب اعتقاده فقط كما في الوجه السابق، فيرتب عليه
ما هو من آثاره الواقعية، فيفرض فعله تام الاجزاء والشرائط واقعا ويرتب عليه ما يرتب
عليه، ويكون عمله منشئا للآثار الشرعية، وهذا هو الذي نحن بصدده في اثبات هذه
114

القاعدة لا المعنيين السابقين
وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى ذكر أدلتها الأربعة:
الأول - الكتاب
واستدل له من الكتاب العزيز بآيات منها قوله تعالى مخاطبا لبنى إسرائيل:
لا تعبدون الا الله وبالوالدين احسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا
للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (1) والاستدلال به يتوقف على أمرين:
(أحدهما) كون القول هنا بمعنى الاعتقاد و (الثاني) كون الاعتقاد كناية عن ترتيب
آثاره، نظرا إلى ما قد قيل من أنه ليس أمرا مقدورا قابلا للخطاب الشرعي، فالامر
بالقول الحسن في حق الناس يؤول إلى الامر بترتيب آثار الحسن على أفعالهم.
وكلاهما محل تأمل واشكال: اما الأول فلان حمل القول على هذا المعنى مضافا
إلى أنه لا شاهد له في المقام، مخالف لما يظهر من غير واحد من الأخبار الواردة في
تفسير الآية: منها - ما عن تفسير العسكري عليه السلام ان معناه: (عاملوهم بخلق جميل)
ويظهر من هذه الرواية ان القول الحسن كناية عن المعاشرة بالمعروف ومنها - ما عن
جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل (وقولوا للناس حسنا) قال
قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم فإن الله يبغض اللعان الساب، الحديث
ومنها - ما عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول - إلى أن قال - وقولوا للناس
حسنا قال عودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وصلوا معهم في مساجدهم الحديث، وهذا الحديث
أيضا إشارة إلى المعاشرة الحسنة. إلى غير ذلك من الروايات الدالة على هذا المعنى.
واما الثاني فلان غاية ما يستفاد من الآية - بناء على تفسير القول بالاعتقاد -
هو أحد المعنيين الأولين ولا دلالة لها على المعنى الثالث أصلا.
ويرد على الاستدلال بها اشكال آخر وهو ان هذا الامر وقع في سياق أوامر اخر
بعضها وجوبي وبعضها استحبابي فإن الاحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين

1 البقرة - 83
115

(المقابل للزكاة) غير واجب فهذا السياق يضعف دلالتها على الوجوب فتدبر اما كون
الخطاب إلى بني إسرائيل فلا يوجب وهنا في دلالة الآية كما لا يخفى. هذا كله مضافا إلى أن
الاعتقاد الحسن أمر مقدور كما عرفت.
ومنها قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض
الظن اثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا (1) تقريب الاستدلال بها كما ذكر
في الفرائد وغيره انه سبحانه نهى عن بعض الظن والقدر المتيقن منه ظن السوء و
معناه النهى عن ترتيب آثاره عليه لما مر آنفا، ولازمه الامر بترتيب آثار الحسن عليه
لعدم الواسطة.
ويعلم الجواب منها مما ذكرناه في الجواب عن الاستدلال بالآية الأولى.
ومنها آيات وجوب الوفاء بالعقود والتجارة عن تراض وما أشبهها، استدل
بها شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره في الفرائد. والاستدلال بها عجيب، لأن هذه أحكام
كلية واردة على موضوعاتها الواقعية، والتمسك بعمومها عند الشك في تحقق مصداق
التجارة عن تراض أو العقد العرفي المقيد بقيوده الثابتة شرعا، من قبيل التمسك بالعام
في الشبهات المصداقية كما هو ظاهر.
الثاني - الاخبار
واستدل له من الاخبار بما دل على لزوم حمل أمر الأخ على أحسنه وهو كثير:
منها ما ورد مستفيضا من أن المؤمن لا يتهم أخاه، وانه إذا اتهم أخاه انماث الايمان في
قلبه كانمياث الملح في الماء، وان من اتهم أخاه فهو ملعون ومنها ما عن أمير المؤمنين
عليه السلام: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه ولا تظنن بكلمة خرجت
من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير سبيلا.
ومنها ما ورد في وجوب تكذيب السمع والبصر عن الأخ المؤمن وانه ان شهد
عند خمسون قسامة فكذبهم وصدقه... إلى غير ذلك مما هو كثير.
وعدم دلالتها على المقصود ظاهر، فإنها ناظرة إلى أحد المعنيين الأولين من المعاني

(1) الحجرات 12
116

الثلاثة المذكورة لحمل فعل الغير على الصحة لا المعنى الثالث الذي نحن بصدده و
الغرض من جميع هذه التأكيدات تحكيم مباني الاخوة بين المؤمنين والزامهم بالمعاشرة
بالمعروف وله شواهد كثير في نفس هذه الروايات لا تخفى.
هذا مضافا إلى أن ذكر الأخ في كثيرة منها دليل على أنه ليس حكما عموميا في حق
كل أحد وجميع الناس من المؤمنين وغيرهم (كما أشار إليه العلامة النراقي في عوائده)
فلعله نظير كثير من الحقوق الواردة في باب حق المؤمن على أخيه التي لا تجرى في حق
جميع المسلمين بل ولا جميع المؤمنين بل يختص بالذين استحكمت بينهم
عرى المودة والإخاء كما حقق في باب حقوق المؤمن.
الثالث - الاجماع
اما الاجماع القولي فاثباته بوجه كلى بعنوان (وجوب حمل أفعال المسلمين
أو أفعال الغير مطلقا على الصحة) دونه خرط القتاد، فإن كلمات أكثرهم (كما اعترف
به المحقق المولى محمد باقر الخراساني في كفايته وغيره فيما حكى عنهم، والعلامة
النراقي في عوائده) خالية عنه وإنما تعرض لهذه القاعدة بعنوان مستقل شر ذمة من متأخري
الأصوليين، وإن كان الظاهر من بعض العبائر انها من القواعد المقبولة على نحو كلى
ولكن الاكتفاء بمجرد ذلك في اثبات هذه القاعدة على نحو عام مشكل جدا والحاصل
ان دعوى الاجماع القولي عليها كما يترائى من بعضهم قابلة للذب والانكار، وعلى
تقدير ثبوته - وهو غير ثابت - فالاعتماد على مثل هذه الاجماعات في أمثال هذه المسائل
التي لها مدارك كثيرة اخر كما ترى.
نعم يمكن دعوى الاجماع في موارد خاصة كأبواب الذبائح والمناكح وبعض
أبواب المعاملات وغير ذلك ولكنه غير كاف في اثبات هذه الكلية هذا حال الاجماع القولي
اما الاجماع العملي من العلماء بل من المسلمين جميعا، وهو الذي يعبر عنه
بسيرة المسلمين فهو غير قابل للانكار في جل موارد هذه القاعدة أو كلها، لأنهم لا يزالون
يعاملون مع الافعال الصادرة عن غيرهم معاملة الصحة في أبواب العبادات كصلاة الإمام،
117

واذان المؤذن وإقامة المقيم للجماعة، وصلاة الميت وتغسيله وحج النائب، وأشباهها وكذا
في أبواب المعاملات كالمعاملات الصادرة من الوكلاء، وأبواب الذبائح والجلود والثياب
والأواني التي يغسلها الغير، ونظائرها، فإنه لا شك لاحد في أن المسلمين في جميع الأعصار و
الأمصار يعاملون مع هذه الأفعال إذا صدرت من غيرهم معاملة الصحة، ولا يتوقفون عن
ترتيب آثارها عليها استنادا إلى انهم شاكون في صحتها، وكذلك جرى ديدنهم على
حمل أفعال أولياء الصغار والمجانين، أوصياء الأموات ومتولي الأوقاف وجباة
الصدقات على الصحيح وهذا أمر معلوم لكل من عاشرهم ولو أياما قلائل.
وفى بعض هذه الموارد وان كانت قواعد وامارات اخر تقتضي صحتها، كقاعدة اليد، و
سوق المسلمين ونحوهما، الا ان الناظر فيها بعين الانصاف يعلم علما قطعيا ان عملهم في هذه
الموارد لا يكون مستندا إلى هذه القواعد بل المدرك فيها جميعا هو قاعدة الصحة وان كانت
مؤيدة في بعض مواردها بقواعد وامارات أخرى، كما أنه لا يحتمل استناد المجمعين
في جميع هذه الموارد على اختلافها إلى نصوص خاصة وردت فيها
والعجب من المحقق النراقي (قده) حيث أنكر هذا الاجماع العملي في (عوائده)
ولكن الظاهر - كما يظهر بمراجعة كلامه - ان عمدة اشكاله نشأت من تعميم
البحث وعقد عنوانه للأفعال والأقوال، ولكنك خبير بان للبحث في الأقوال الصادرة
عن الغير مقاما آخر لا يرتبط بالمقام.
بل التحقيق انه لا ينحصر هذا الاجماع العملي بالمسلمين بما هم مسلمون
بل مدار أمور العقلاء على اختلافهم في العقائد والمذاهب والآراء والعادات، في
جميع الأزمنة والعصور عليه، كما يظهر بأدنى تأمل في معاملاتهم وسياساتهم وغيرها
فما لم يثبت فساد عمل الغير لهم يحكمون بصحته ويطالبون مدعى الفساد في الافعال
التي صدرت عن غيرهم من الوكلاء والأوصياء والخدام وأرباب الحرف والصنائع وآحاد الناس
الدليل على ما ادعاه، والا لا يتأملون في ترتيب آثار الصحة عليها.
اللهم الا أن يكون هناك امارات الفساد وبعض قرائنه، أو يكون الفاعل متهما
118

فقد يتوقفون في هاتين الصورتين عن الحمل عليها حتى يتفحص عن حاله وسيأتي
انشاء الله امكان القول باستثنائهما عن قاعدة الصحة حتى في الأمور الشرعية عند
ذكر التنبيهات
وحيث إن أفعال العقلاء وسيرهم وما يستندون إليها في أمورهم مبنية على أصول
عقلائية غير تعبدية، لابد لنا من البحث في منشأ هذه السيرة وتحقيق حالها كي نكون
على بصيرة من الفروع المشكوكة التي تترتب على هذا الأصل. فنقول ومن الله
سبحانه نستمد التوفيق والهداية:
ان منشأ هذه السيرة العامة العقلائية في حمل الافعال الصادرة عن الغير على الصحة لا يخلو عن
أحد أمور ثلاثة:
أولها (الغلبة) - بان يقال إن الافعال الصادرة من الغير لما كانت صحيحة غالبا
فصارت هذه الغلبة مورثة للظن بصحة الفرد المشكوك، الحاقا له بالأعم الأغلب فهذا
الظن الناشئ من الغلبة حجة عندهم في المقام، ولا يلازم القول بحجية هذا الظن هنا
حجيته في جميع المقامات، لما فيه من دواع اخر، كشدة الحاجة وعموم الابتلاء
وغير ذلك، انضمت إليه فأوجبت بنائهم على العمل به.
ولكن هذا احتمال ضعيف، لما نشاهده من عدم اعتنائهم بشأن هذه الغلبة
وبنائهم على هذا الأصل ولو في مقامات لا تكون الصحة غالبة فيها كبنائهم في غير هذه
المقامات، مضافا إلى امكان منع دعوى الغلبة وانكار كون غالب الافعال الصادرة من
الناس صحيحة لو لم يكن الغالب على أفعالهم الفساد فتدبر.
ثانيها - توقف حفظ النظام وصلاح المجتمع عليها، نظرا إلى أنه لو لم يبن على
الصحة في موارد الشك في الافعال الصادرة عن الغير لزم العسر الأكيد والحرج الشديد و
اختل أمر المعاش ونظام أمور الناس، لانسداد باب العلم العادي الذي يمكن الوصول إليه
بطرق متعارفة في هذه الموارد لغالب الناس فصار هذا منشئا لبنائهم واتفاقهم على حملها
على الصحة فيما إذا لم يقم دليل خاص عليها، بل ومطالبة مدعى الفساد بالدليل ويقرب
هذا المعنى إلى الذهن ويزيده وضوحا ما يلزم من عدم البناء على هذا الأصل من فساد الأموال
119

والأنفس والتنازع والتشاجر ولو في يوم واحد.
ثالثها - اقتضاء العمل بحسب طبيعته الأولية للصحة، بيان ذلك: لا ريب في أن الآثار
المترقبة من الافعال إنما تترتب عليها إذا صدرت صحيحة والافراد الفاسدة لا يترتب عليها اثر
أو الأثر المترقب منه وحيث إن غرض العقلاء من كل فعل هو آثاره المطلوبة فالدواعي النفسية
والبواعث الفكرية إنما تدعوا إلى الافراد الصحيحة، فكل فاعل - لو خلى وطبعه -
يقصد الافعال الصحيحة ويتحرك نحوها فإنها التي تفيض عليه الآثار التي يطلبها والفوائد
التي يرومها، فلا يطلب الفاعل بحسب طبعها الأولى الا الفرد الصحيح وما يصدر من
الافعال الفاسدة من بعض الفاعلين اما تكون من غفلة واشتباه أو اغراض فاسدة غير
طبيعية، وكل ذلك على خلاف الطبع. ويتضح ذلك عند ملاحظة حال العقلاء في جميع
أمورهم من الحروف والصنايع وبناء الأبنية، ومن معاملاتهم وسياساتهم وغيرها.
فكما ان الصحة في مقابل العيب هو الأصل في كل مبيع لأنها مقتضى طبعها
الأولى وسنة الله التي قد جرت في خلقه، فينصرف البيع إليها من غير حاجة إلى التصريح
بها، فيكون المعيب غير مقصود للمتبايعين لأنه مخالف للطبيعة الأولية في الخلقة،
فكذلك الامر في الافعال الصادرة من العقلاء فإن الدواعي الحاصلة لهم الباعثة على العمل
إنما تدعوا إلى الفرد الصحيح الذي يكون منشئا للآثار، لا الفاسد الذي لا يترب عليه الأثر
المرغوب فيه، فبذلك صار الأصل في الافعال الصادرة من الفاعلين - مسلمين كانوا أو
غير مسلمين - هو الصحة، والفساد إنما ينشأ من اغراض غير طبيعية أو من خطأ الفاعل
وغفلته الذي هو أيضا على خلاف الأصل والطبع. هذا غاية ما يمكن ان يقال في منشأ
هذا الاعتبار العقلائي والأقرب من هذه الوجوه هو الوجه الأخير ثم الثاني.
وكيف كان - استقرار سيرة العقلاء على هذا الأصل مما لا يكاد ينكر، من
من غير فرق بين أرباب الديانات وغيرهم، ومن غير فرق بين كون الفاعل مسلما أو
غيره، وجميع ما ورد في الشرع في هذا الباب في الموارد الخاصة كلها امضاء لهذا البناء
العقلائي لا تأسيس لأصل جديد.
120

الرابع - دليل العقل
ودلالته عليه من وجهين:
الأول - انه لو لم يبن على الصحة في الافعال الصادرة من الغير لاختل أمر المعاد،
والمعاش جميعا وبطلان التالي واضح عقلا وشرعا، فلا يمكن الاقتداء بإمام الا بعد العلم
بصحة صلاته من حيث القراءة والطهارة وغيرهما، ولا الركون إلى فعل النائب
والأجير، والا الاعتماد على الأفعال الواجبة كفاية الصادرة من الغير الا عند العلم بصحتها
ولا يمكن الاعتماد على العقود والايقاعات الصادرة من الغير مما يكون محلا لابتلاء
المكلف وكذا في تطهير الثياب وذبح الذبائح وغيرها مما لا تحصى
وقد يخدش فيه من وجهين من ناحية الصغرى والكبرى اما الأول فلان
اختلال النظام فيما إذا اقتصر على العمل بما تطمئن به النفس من أفعال الغير، وما يوجد
فيه امارات شرعية أخرى تدل على صحتها، من (اليد) و (السوق) وغيرهما مما قامت الأدلة
على اعتبارها، لا يخلو عن اشكال واما ما ذكره المحقق الآشتياني في بعض كلماته
في المقام، من لزوم الاختلال في أمر المعاد لو لم يلزم في المعاش لاستلزامه عدم جواز الصلاة
الا خلف النبي ووصيه عليهم السلام فهو ممنوع لكفاية الاطمينان الحاصل في كثير
من الموارد لكثير من الناس كما لا يخفى.
واما الثاني فلعدم اثباته حجية هذا الأصل الا في الجملة ولا يكفي في اثبات
هذه الكلية، فإن اللازم الاقتصار على العمل بما يندفع منه محذور اختلال النظام واما غيره فلا
هذا ولكن لا يخفى ان ملاحظة ما يلزم منه الاختلال وما لا يلزم منه ذلك والتفكيك بينهما
أيضا قد يكون بنفسه حرجيا ومنشئا للاختلال، والايكال على وجدان المكلفين في تشخيص
مواردها قد يؤدى إلى ذلك كما لا يخفى على الخبير.
وقد يستند في اثبات الكبرى تبعا لشيخنا الأعظم العلامة الأنصاري (قده)
إلى فحوى ما ورد في باب اليد في رواية (حفص بن غياث) من أنه (لولا ذلك لما قام
للمسلمين سوق) بعد حكمه (عليه السلام) بترتيب آثار الملكية على ما في اليد، فيدل على أن
كل ما لولاه لزم الاختلال فهو حق. ويمكن تأييده أيضا بما ورد في جواز شراء
121

الفراء من سوق المسلمين عند الشك في تذكيتها وعدم وجوب السؤال عنه معللا
بقوله (عليه السلام) ان الدين أوسع من ذلك وذم الخوارج الذين ضيقوا على أنفسهم (1) وغيره
من أشباهه مما يدل على التوسعة في أمور الدين.
هذا ولكن الاستناد في اثبات الكبرى إلى الأدلة النقلية يخرجه عن الاستدلال
العقلي مضافا إلى أن امكان منع الأولوية بعد ملاحظة امكان الاعتماد إلى امارات
أخرى في كثير من موارد الشك في الصحة، ولكن الانصاف ان الدليل مما يمكن الركون
إليه ولا أقل من تأييد المدعى به مع قطع النظر عن كونه دليلا عقليا أو نقليا.
الثاني - (الاستقراء) فإن الناقد البصير إذا أمعن النظر في الأحكام الواردة
في الشرع، الثابتة عند أهله باجماع أو غيره، يرى أن الشارع المقدس لا يخرج في
حكمه عما يطابق هذا الأصل في موارد، بحيث يورثه الاطمينان بثبوت هذه الكلية
في الشرع فلاحظ ما ورد من الأحكام المختلفة في أبواب الطهارات والنجاسات مما يرتبط بفعل
الغير وأبواب الذبائح والجلود، وأبواب الشهادات، والدعاوى والتنازع في صحة
بعض العقود والايقاعات وفسادها وغيرها تجده شاهد صدق على ما ذكرنا، وكلما
كررت النظر زادك وضوحا وظهورا.
وأورد عليه المحقق النراقي (قده) في (عوائده) بان هذا الاستقراء غير مفيد
لأن تامه لم يتحقق وناقصه لو سلمنا كونه مفيدا فإنما يفيد لو لم يعارضه خلافه في
موارد خاصة أخرى أزيد مما يوافقه ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال سئل
عن رجل جمال استكرى منه إبل وبعث معه زيت إلى ارض فزعم أن بعض الزقاق
انخرق فاهراق ما فيه فقال عليه السلام: انه ان شاء اخذ الزيت وقال إنه انخرق ولكنه لا
يصدق الا ببينة عادلة، وهذا صريح في عدم حمل قول الجمال على الصحة وموثقة عمار
ابن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام انه سئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ
على الثلث فقال: إن كان مسلما ورعا مأمونا فلا باس ان يشرب، إلى غير ذلك مما
ذكره.
وفيه ان التحقيق كما ذكرنا في محله حجية كل ما يورث الظن الاطميناني

(1) راجع الحديث 3 من أبواب 50 من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة من الوسائل
122

وسكون النفس، لبناء العقلاء عليها كافة في جل أمورهم (عدا موارد خاصة) و
الاستقراء الغالبي وان لم يوجب العلم، فلذا لا يعتمد عليه في الأمور التي تحتاج إلى
أدلة قاطعة، الا انه كاف في اثبات الأحكام الفرعية إذا انضم إليه قرائن اخر وحصل
منه الاطمينان. واما ما ذكره من المعارضات فهي اما واردة في مورد (أقوال الغير)
لا أفعاله، كالحديث الأول، أو في موارد الاتهام كالحديث الثاني فتأمل.
هذا تمام الكلام فيما أردنا ذكره من أدلة هذه القاعدة، وتحصل من جميعها
ان هذه القاعدة من القواعد التي استقرت عليها سيرة أهل الشرع بل العقلاء جميعا
وان العمدة في اثباتها هو ذلك وإن كان غيرها من الأدلة أيضا لا يخلو عن تأييد لها
أو دلالة عليها.
123

المقام الثاني
تنبيهات أصالة الصحة
الأول - هل المراد من (الصحة) هي الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل؟
فيه خلاف مشهور، وقد يعبر عن الصحة الواقعية بالصحة عند (الحامل) نظرا إلى أن الصحيح
الواقعي في نظره هو ما بنى على صحته اجتهادا أو تقليدا، فلا فرق بين هذين التعبيرين فيما يراد
في المقام.
وعلى كل حال المحكى عن المشهور هو البناء على الصحة الواقعية، ويحكى عن
(صاحب المدارك) (قده) الأول، ولكن قد عرفت عند حكاية الاجماع على الحجية ان هذه
القاعدة بكليتها غير معنونة في كلمات المشهور فاسناد القول الثاني إليهم هنا
لعله لظهور كلماتهم فيه في مقامات خاصة، كفروع التنازع في أبواب المعاملات
حيث أطلقوا القول بتقديم قول مدعى الصحة ولم يقيدوه بكونه عالما بالصحة والفساد
الواقعيين، كي يكون الحمل على الصحة عند الفاعل مساوقا للحمل على الصحة الواقعية،
ولو كان مرادهم من الصحة الصحة عند الفاعل لم يكن هناك بد من التقييد به ومن البعيد
جدا ان يفرق بين الأبواب المختلفة فيحمل على الصحة الواقعية في مقام والصحة الفاعلية
في مقام آخر، فاسناد هذا القول إلى المشهور بهذا الاعتبار قريب.
وتظهر الثمرة بين القولين فيما إذا كان معتقد الفاعل مخالفا لمعتقد الحامل كما إذا
كان البايع ممن يرى جواز العقد بالفارسية أو بغير صيغة الماضي أو جواز تقديم القبول على
الايجاب أو غير ذلك، على خلاف ما يعتقده الحامل، فإذا شك في صحة بيعه وفساده
124

لم يفده حمل فعل البايع على الصحة على القول الأول، ويفيده على الثاني، فاذن
تنحصر فائدة هذه القاعدة على القول الأول بالموارد التي تطابق الصحة عند الفاعل
الصحة عند الحامل، واما في غيرها فإنما تفيد بالنسبة إلى الآثار التي يكون موضوعها الصحة
الفاعلية كالايتمام على قول.
ثم اعلم أن المدرك الوحيد في هذه المسألة هو ملاحظة الدليل الذي استندنا إليه
في اثبات أصل القاعدة، وحيث إن عمدتها - كما عرفت - هي السيرة المستمرة بين
العقلاء من جميع الأمم وفى جميع الأعصار على اختلافهم في المذاهب والآراء فالحق
هو الحمل على الصحة الواقعية لأنه لم يعهد منهم ان يتساءلوا بينهم من معتقد الفاعلين
في المسائل المختلفة عند حمل أفعالهم على الصحة، ويزيدك وضوحا ملاحظة حال
المسلمين في الاعصار المختلفة مع تشعبهم في المذهب واختلافهم في المسائل الفرعية
فلم يعهد منهم السؤال عن معتقد الفاعل إذا كان وكيلا في البيع وغيره أو وصيا عن ميت
أو وليا على صغير أو غير ذلك، بل تحمل أفعالهم على الصحيح عند الشك من غير فحص
عن حال فاعلها.
ولعل قائلا يقول: ان منشأ هذه السيرة كما ذكرت أحد أمور ثلاثة: اما الغلبة،
أو اقتضاء طبيعة العمل، أو التعبد العقلائي دفعا للحرج وحفظا لنظام المجتمع
ولا شك ان شيئا منها لا يقتضى أزيد من الصحة الفاعلية ضرورة ان الدواعي الباعثة على
العمل إنما تدعو إلى الصحيح في نظر الفاعل وبحسب معتقده، والغلبة إنما تكون
في موافقة عمله لما هو الصحيح عنده، والحرج والاختلال يندفعان بالحمل على الصحة
الفاعلية، لتطابق الصحة عند الفاعل والحامل في كثير من الموارد وكفى بها في دفع
محذور الحرج والاختلال.
وفيه - انه إنما ذكرنا هذه الأمور بعنوان الحكمة والداعي لبناء العقلاء على
هذا الأصل، لا العلة التي يدور الحكم مدارها وقد عرفت ان ما نشاهده من سيرتهم هذه
لا تنحصر بالموارد التي تطابق الصحة الفاعلية والصحة عند الحامل بل تعمها وغيرها.
وقد عرفت ان استمرار سيرة المسلمين على هذه القاعدة المتخذة من سيرة العقلاء يؤكد
125

هذا المعنى، لأنها جرت على ترتيب آثار الصحة الواقعية على العقود والايقاعات الصادرة
عن الغير وعباداتهم النيابية وأداء الواجبات الكفائية وغيرها من غير تحقيق وتفحص
عن حال فاعليها ومعتقدهم، مع ما يرى من الاختلاف الشديد بينهم في أحكام العبادات
والمعاملات، لا سيما مع ملاحظة ان هذه القاعدة تعم المخالفين أيضا وتدل على حمل
أفعالهم على الصحة وترتيب آثارها عليها فيما لا يشترط فيه الولاية، ومخالفتهم لنا في
كثير من الفروع الفقهية واضح لكل أحد، ولم يعهد السؤال عن مذهب الفاعل أو
الفحص عنه بطريق آخر.
نعم هيهنا صورتان قابلتان للبحث:
الأولى - ما إذا علم تفصيلا اعتقاد الفاعل ومخالفته لمعتقد الحامل بالكلية
بحيث لم يجمعهما جامع، كما إذا اعتقد الفاعل وجوب الجهر بالبسملة في الصلوات
الاخفائية حينما يعتقد الحامل حرمته. فإن حمل فعله على الصحة هنا - من باب
احتمال مصادفته للواقع ولو سهوا منه - مشكل جدا، لعدم جريان شئ من الأدلة
السابقة فيه. وان هو الا الحمل على الفساد بالنظر إلى معتقد فاعله.
الثانية - ما إذا علم جهل الفاعل بالحكم أو الموضوع أو كليهما علما تفصيليا كمن لا يعلم
ترتيب اجزاء الوضوء أو الصلاة أو غيرهما ويأتي بها من غير علم بأحكامها ولكن يحتمل
مطابقتها للواقع أحيانا من باب الصدقة والاتفاق، والحمل على الصحة الواقعية هنا أيضا
مشكل، وإن كان أخف اشكالا من الصورة الأولى، ولذا اختار (المحقق الأصفهاني) قدس
سره في تعليقاته على الكفاية الحمل عليها في هذه الصورة وادعى قيام السيرة عليها
خصوصا بعد ملاحظة جهل غالب العوام بالأحكام.
وفيه - انه لم يثبت استقرار السيرة في الموارد التي يعلم فيها علما تفصيليا بجهل
فاعلها في خصوص مسائل معينة، نعم لا يبعد جريانها في موارد يعلم اجمالا بجهلهم ببعض
المسائل أو بكثير منها، لأن غالب العوام - لا سيما أهل البوادي ومن ضاهاهم - من هذا
القبيل، مع أنه لا اشكال في حمل أفعالهم على الصحة الواقعية وترتيب آثارها عليها.
126

ويمكن استظهار المقصود - أعني لزوم الحمل على الصحة الواقعية لا الصحة بنظر
الفاعل - من غير واحد من الروايات الواردة في موارد خاصة: مثل ما رواه الشيخ (رضوان
الله عليه) في التهذيب والفقيه باسناده عن إسماعيل بن عيسى قال: سألت أبا الحسن عليه السلام
عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان
البايع مسلما غير عارف؟ قال: (إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسئلوا عنه) (1)
بناء على شموله لصورة العلم بكون معتقد الفاعل جواز الصلاة فيما دبغ من
الجلود وان كانت غير مذكى لاشتهار فتاوى أبي حنيفة في العراق في ذاك العصر ومفروض
سؤال الراوي أيضا هو الشراء من المخالفين، فالعمل بهذه الامارة - أعني الصلاة فيها -
ليس الا من جهة حمل أفعال المسلمين على الصحة الواقعية فبالصلاة فيها يستكشف
كونها مذكى لاعتبار التذكية في لباس المصلي واقعا.
اللهم الا ان يقال إن الرواية غير معمول بها لكفاية الاخذ من سوق المسلمين ومن
يد المسلم من غير اعتبار الصلاة فيها، فيحمل هذا الحكم على الاستحباب وضرب من
الاحتياط ولكن يمكن القول بكفاية الحكم المذكور في اثبات المدعى وإن كان
حكما استحبابيا فتأمل.
نعم يظهر من بعض الروايات خلاف ذلك وان الحمل على الصحة إنما يجوز
فيما يوافق معتقد الفاعل لمعتقد الحامل كالروايات الكثيرة الواردة في باب (تحريم
العصير إذا اخذ مطبوخا ممن يستحله) مثل ما رواه الكليني (رضوان الله عليه) باسناده
عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يهدى إليه البختج من غير أصحابنا؟
فقال: (إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه وإن كان ممن لا يستحل فاشربه) ومثله غيره.
فإن حمل فعل المسلم على الصحيح الواقعي يقتضى الحكم بالحلية هنا وليس
هذه الصورة من الصورتين اللتين اخترنا استثنائهما من هذه القاعدة لوجود الجامع
بين العقيدتين لاستحلال الفريقين المطبوخ على الثلث.
ويمكن الجواب عنه بان المورد من موارد التهمة وسيأتي الاشكال في جريان

1 - الحديث 7 من الباب 50 من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة من الوسائل
127

القاعدة فيها، وذلك لأن مستحل المسكر لا داعى له إلى طبخ العصير على الثلث غالبا
فيسقط القاعدة في مورده، فيكون المرجع فيه هو الاستصحاب ولا شك في أنه
يقتضى الحرمة.
التنبيه الثاني
في وجوب احراز صورة العمل
يعتبر في جريان هذه القاعدة احراز صورة العمل، وهو القدر المشترك بين صحيحه
وفاسده، بحيث يصدق عليه عنوان ذاك العمل بالمعنى الأعم من الصحيح والفاسد،
فإذا رأينا رجلا يأتي بحركات نشك في صدق عنوان الصلاة عليها ولو فاسدا، كما إذا
انحنى ولا ندري انه انحناء ركوع أو انحناء لاخذ شئ من الأرض، لم يكن هناك مورد
للحمل على الصحة كما هو ظاهر ومجرد كون الآتي بها قاصدا لعنوان الصلاة غير
كاف في هذا المعنى ما لم يحرز صورة العمل خارجا، لوضوح عدم كفاية مجرد القصد
في صدق عنوان على عمل خارجي حتى يؤتى بصورة الخاصة.
نعم إذا كانت صورة خاصة مشتركة بين عملين فالمميز هناك هو القصد، فهذا
الشرط غير ما سيأتي الإشارة إليه انشاء الله عن قريب من اشتراط احراز كون الفاعل بصدد
العنوان الذي يراد حمل فعله على الصحيح منه.
وعلى كل حال اعتبار هذا الشرط في جريان أصالة الصحة في جميع مواردها
أمر ظاهر لا سترة عليه، وكأن ما ذكره المحقق الثاني في جامع المقاصد من:
(عدم جريان أصالة الصحة في العقود الا بعد استكمال أركانها ليتحقق وجود
العقد واما قبله فلا وجود له) أيضا ناظر إلى هذا المعنى ولذا مثل له في بعض كلماته
بما إذا اختلفا في كون المعقود عليه حرا أو عبدا أو اختلف الضامن والمضمون له
فقال الضامن: ضمنت وانا صبي، وقال المضمون له: بل ضمنت وأنت بالغ وكذا
ما يحكى عن (العلامة) قدس سره من الاشكال في جريانها في هذا الفرض، فإن
الظاهر أن منشأ استشكالهما في جريان قاعدة الصحة هنا هو ما ذكرنا من عدم احراز عنوان
العمل في هذه الأمثلة. وعلى أي حال فإن كان مراد المحقق الثاني قدس سره من
128

استكمال الأركان ما ذكر، - كما يظهر من أمثلته - فهو مما لا ينبغي الريب
فيه، وإن كان مراده أمرا ورائه فهو قابل للتأمل والبحث، ولا نظن أحدا يخالف ما
ذكرنا عند العمل بقاعدة الصحة، وهل ترى أحدا يحكم بالصحة فيما يشك في
صدق عنوان البيع أو النكاح ولو فاسدا على الفعل الخارجي؟ وهل تظن أحدا
فيما إذا رأى أحدا ينحني لا يدرى أهو انحناء ركوع أو انحناء لاخذ شئ من الأرض
يحكم بحمل فعله على الركوع الصحيح؟.
فكلما يكون الشك فيه مساوقا للشك في صدق عنوان العمل وصورته لا يكون
مجرى للقاعدة، فإذا شك في مالية العوضين رأسا لم يصدق هناك عنوان البيع، لأن
البيع إنما يصدق في محل قابل له ولو اجمالا، فإذا شك في أن المبيع حر أو عبد أو انه
خمرا ومايع آخر مباح، بناءا على أن الشارع تصرف في موضوع الخمر وأسقطها
عن المالية رأسا، لم يصدق هناك عنوان البيع، وان هو الا كبيع الماء على الشاطئ
وأشباهه، مما لا مالية له بنظر العرف والعقلاء فإنهم لا يرون بيعها الا سفها وهذلا،
لا بيعا حقيقيا (ولو بيعا فاسدا) وكذلك إذا شك في بلوغ الضامن مثلا، بناء على سقوط
ذمة غير البالغ وعدم الاعتبار بعهدته وكونه في الشرع كمن لا اعتبار بذمته وعهدته
عند العقلاء كغير المميزين والمجانين، فإنه لا يصدق هناك عنوان الضمان ولو فاسدا.
وبعض هذه الأمثلة وإن كان قابلا للنقض والابرام الا انه لا اشكال في الكلية
المذكورة وهو ان ما لا يصدق عليه عنوان العمل - ولو بالمعنى الأعم - خارج عن
مسألة أصالة الصحة. ومن المعلوم ان انهدام الأركان أو الشك فيها يساوق الشك في
تحقق العنوان غالبا أو دائما بل لعل المراد من الركن هنا هو ما يلزم من عدمه انتفاء
العنوان فتأمل، فاذن يكون قول المحقق الثاني ومن وافقه من لزوم احراز أركان
العقد في اجراء أصالة الصحة فيه قويا.
ثم إنه لا يختص هذا البحث بباب البيع بل هو عام لجميع موارد جريان أصالة
الصحة لاتحاد الدليل ولأنا لا نجد أي مخصص له بباب دون باب للزوم احراز عنوان
العمل المشترك بين الصحيح والفاسد في الحكم عليه بالصحة عند الشك بمقتضى هذه
129

القاعدة، ففي باب الوضوء إذا رأينا رجلا من بعيد يغسل يديه ولا ندري ان غسله
غسل وضوء أو غيره فهل ترى أحدا يقول بحمل فعله على الوضوء الصحيح؟.
ولكن العجب من (المحقق النائيني) قدس سره حيث خص البحث هنا بباب
العقود، بل لعل ظاهر بعض كلمات شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري (قده) أيضا
ذلك، وقد عرفت مغزى البحث وما يؤول إليه كما عرفت انه لا وجه لتخصيصه بباب دون باب
ثم اعلم أن في المسألة أقوالا أخر عدى ما ذكرنا وذكره المحقق الثاني:
أحدها - ما اختاره العلامة الأنصاري (قده) من لزوم احراز جميع ما يعتبر
احرازه في صدق عنوان العقد الصحيح عرفا واختصاص القاعدة بما إذا شك فيما عداها من
الشرائط الشرعية، نظرا إلى أنه ما لم يحرز العنوان الصحيح العرفي لا يكون هناك مجال
لاجراء القاعدة.
وفيه: ما عرفت من كفاية احراز القدر المشترك بين الصحيح والفاسد لأن
هذه القاعدة لا تختص بالمتشرعين، بل أهل العرف إذا أحصل لهم الشك في صحة الأعمال
الصادرة من غيرهم من العقود وغيرها يعتمدون على هذه القاعدة ويحكمون بصحتها
ولا يتوقفون عن ذلك إذا أحرزوا صورة العمل، وان الفاعل كان من قصده ايجاد العمل
الصحيح خارجا، ولو كان مجرى القاعدة خصوص موارد الشك في الشرائط الشرعية
لم يبق لها مجال عند أهل العرف والعقلاء فيما بأيديهم من الأحكام.
ثانيها - ما ذهب إليه المحقق النحرير (العلامة الأصفهاني) (قدس سره): من
كفاية احراز مجرد الانشاء في العقود، وانه إذا أحرز مجرد انشاء البيع أو النكاح
أو غيرهما ثم شك فيما يعتبر فيها من الشرائط عند العقلاء أو عند الشرع يحكم بصحتها
حتى أنه (قده) لم يعتبر احراز كون الانشاء بقصد الجد، بل اكتفى بكون المنشى في
مقام الجد وان لم يعلم قصده لذلك جدا، كل ذلك لعموم الأدلة التي عمدتها السيرة العقلائية
وفيه: انه إن كان مراده (قده) من الانشاء هو ما يصدق عليه عنوان المعاملة
المشترك بين صحيحها وفاسدها، فلا ينبغي الشك في عدم كفاية مجرد الانشاء في احراز
عنوانها، بل يعتبر فيه مضافا إليه، ساير أركانها من صلاحية العوضين والمتعاقدين ولو
130

اجمالا فلا وجه للاقتصار على الانشاء فقط، وإن كان مراده كفاية مجرد الانشاء ولو
لم يصدق عليه عنوان المعاملة فقد عرفت في بيان المختار انه بمعزل عن الحق.
ثالثها - ما اختاره المحقق النائيني قدس سره، وهو من اغرب الأقوال في
المسألة، وحاصله لزوم احراز جميع شرائط العوضين والمتعاقدين واختصاص القاعدة
بموارد الشك في شرائط العقد فقط، ودليله على هذا التبعيض ان العمدة في
اثبات هذه القاعدة هنا هو الاجماع ومعقده هو (الشك في صحة العقد) وظاهر هذا
العنوان خصوص الشرائط المعتبرة في العقد نفسه دون غيره مما يعتبر في صحته من
صفات المتعاقدين والعوضين.
وفيه أولا - ما قد عرفت آنفا من أن حمل العقد الصادر من الغير على
الصحة جزئي من جزئيات مسألة حمل فعل الغير على الصحة مطلقا، وانه لم يقم دليل
خاص عليه في أبواب المعاملات، وقد عرفت أيضا ان دعوى الاجماع القولي في أصل
المسألة مشكلة فضلا عن حصر الدليل فيه فتدبر. ثم إن لازم ما افاده وجوب التماس دليل آخر
لحمل فعل الغير على الصحة في أبواب العبادات وشبهها فيكون هناك قاعدتان مستقلتان
إحداهما في أبواب المعاملات والأخرى في غيرها، وربما يلوح من بعض كلماته
قدس سره في المقام التزامه بهذا اللازم، وهو عجيب، حيث إنه لا شك في أنها قاعدة
واحدة مستندة إلى دليل أو أدلة معلومة جارية في جميع أبواب الفقه من غير فرق بين
أبواب العقود وغيرها، ولم أقف على احتمال التفكيك بينهما في كلام غيره
ثانيا - سلمنا انحصار مورد القاعدة ومعقد الاجماع في أبواب المعاملات بالشك
في (صحة العقد) ولكن الانصاف ان المراد من صحة العقد - بظاهرها - هو صحته بمعنى ترتيب
جميع آثاره الشرعية عليه من النقل والانتقال وغيرهما لا صحة العقد الانشائي فقط،
ومن الواضح ان صحة العقد بهذا المعنى تتوقف على ضم سائر الشرائط المعتبرة
في العوضين والمتعاقدين إلى شرائط الانشاء ولا يكفي فيها مجرد احراز شرائط الصيغة
فاذن لا يبقى مجال لهذا التفصيل.
ثالثها - انه لا يظن بأحد الالتزام بهذا التفصيل عملا في الفقه في مختلف
131

أبواب المعاملات، حتى أنه نفسه لا يمكنه الجرى على وفق ما افاده عند العمل،
فإن لازمه حصر مورد القاعدة بموارد الشك في صحة الانشاء من ناحية الماضوية
والصراحة، والتنجيز وأمثالها، بناءا على اعتبار هذه الأمور فيها، وأما إذا شك في
معلومية العوضين أو زيادة أحد العوضين على الاخر وعدمها مع كونهما جنسا واحدا
وما أشبه ذلك فلا يمكن التمسك بها لاثبات صحة المعاملة المشكوكة من ناحيتها
وهو كما ترى.
وما قد يلوح من بعض كلماته في المقام من: (ان اعتبار معلومية العوضين
أو عدم كون أحدهما زائدا على الاخر إنما هو مأخوذ في صحة العقد) لم نتحقق
معناه، فإنه ان أراد اعتبارها في صحة العقد بمعنى انشاء الصيغة فهو كما ترى،
وان أراد اعتبارها في العقد المسببي وما يترتب عليه النقل والانتقال، فجميع
الشرائط كذلك ولا يرى بينها من تفاوت.
ولا بأس بالإشارة إلى بعض الموارد التي صرحوا بجريان قاعدة
الصحة فيها مع كون الشك فيها من ناحية شرائط المتعاقدين أو العوضين وهو ما
ذكروه في رواية (ابن اشيم) المشهورة الواردة في العبد المأذون الذي دفع إليه مال
ليشترى به نسمة ويعتقها ويحج عن أبيه، فاشترى أباه وأعتقه: ثم تنازع مولى المأذون
ومولى الأب وورثة الدافع وادعى كل منهم انه اشتراه بماله، فقال أبو جعفر (ع):
(يرد المملوك رقا لمولاه وأي الفريقين أقاموا البينة بعد ذلك على أنه اشتراه
بماله كان رقا له). حيث استشكلوا على ظاهر الحديث بمخالفته للقواعد حيث إن
الحكم بفساد العقد المذكور ومطالبة البينة من مدعى الصحة مخالف للقاعدة لأن
مدعى الصحة تكفيه أصالة الصحة مع يمينه. ومن الواضح ان منشأ الشك هنا ليس من ناحية
صحة الانشاء وشرائطه بل من ناحية العوضين وان العبد المأذون اشترى أباه بمال
مولى الأب حتى يكون البيع باطلا أو بمال مولاه أو ورثة الدافع حتى يكون صحيحا.
132

التنبيه الثالث
في أن الصحة المستفادة منها في كل مورد بحسبه
لا اشكال في أنه لا تثبت بهذه القاعدة الا الآثار المترتبة على صحة موردها ومجراها
ومن المعلوم ان صحة كل شئ بحسبه، فإن كان موردها عبادة أو عقدا بجميع اجزائه
وشرائطه فصحته صحة فعلية ويترتب عليه ما يترقب منه من الآثار فعلا.
وأما إذا كان موردها جزاء من اجزائهما فصحته صحة تأهلية بمعنى قابلية ذاك الجزء
لانضمام سائر الأجزاء أو الشرائط إليه وصيرورتها عبادة أو معاملة تامة، وتترتب عليها
آثار تلك العبادة أو المعاملة إذا لحقه سائر اجزائها وشرائطها. وهذا المعنى مما لا
ينبغي التأمل فيه، الا ان الكلام في بعض ما فرعوا عليه. فقد فرع عليه شيخنا الأعظم
قدس سره الشريف فروعا:
منها - إذا شك في لحوق الإجازة لبيع الفضولي فأصالة الصحة في البيع الصادر
منه لا تثبت لحوق إجازة المالك به، لأن صحته صحة تأهلية لا تدل على أزيد من صحة
الانشاء الصادر من الفضولي واشتماله على شرائط الصحة
ومنها ما إذا شك في تحقيق القبض في الصرف والسلم، فإن جريان أصالة الصحة
في العقد لا يدل على تحقق القبض.
ومنها ما لو ادعى بائع الوقف وجود المسوغ له في بيعه فإن أصالة الصحة لا
تثبت وجوده لا سيما مع بناء بيع الوقف على الفساد.
ومنها ما لو ادعى الراهن اذن المرتهن في بيع العين المرهونة فإن أصالة صحة
البيع لا تثبت اذنه (هذا ملخص ما افاده).
أقول - قد عرفت من التنبيه السابق ان القاعدة الكلية في مجرى هذه القاعدة انه مهما حصلت أركان العمل، بأقل ما يصدق عليه عنوانه الأعم من الصحيح والفاسد،
جرت فيه أصالة الصحة عند الشك فيما زاد عليها، مما يعتبر في صحته، وأنت بعد الإحاطة
بهذا تعرف حال هذه الفروع: فإن من المعلوم ان مجرد الايجاب والقبول لا يجدى
في تحقق عنوان البيع أو النكاح أو غيرهما ما لم ينضم إليه قابلية محله، وغيره مما به
قوامه وعليه أساسه، فلا يكفي احراز مجرد الانشاء في اجراء القاعدة في البيع والنكاح
133

وشبههما، لا لأن صحة كل شئ بحسبه، بل لأن عنوان البيع وأشباهه لا يصدق بمجرد
نفس الانشاء كما لا يخفى.
ومن هنا يعلم حال البيع الصادر من الفضولي فإنه بدون إجازة المالك ليس بيعا
حقيقيا ولا يصدق عنوانه (لو بمعناه الأعم) ضرورة عدم أهلية الفضولي للعقد على
مال غيره بل هو أشبه شئ بكتابه السند وتنظيمه للتوقيع عليه ممن بيده امره،
فليس موقف الفضولي موقف البايع حقيقة ولا يصدق على انشائه عنوان البيع
نعم إذا تحقق ايجاب البيع وقبوله في محل قابل له ولو في الجملة،
ثم شك في حصول بعض ما يتوقف صحته عليه من الشرائط، كالقبض في الصرف
والسلم فلا ينبغي الاشكال في جواز الاعتماد على هذا الأصل لاثباتها. فهل نجد من أنفسنا
الزاما على البحث والفحص عن حال بيع صرف أو سلم صدر من وكيلنا وانه هل اقبض
المثمن أو قبض الثمن في مجلسه أم لا؟ فما افاده قدس سره من عدم جواز الركون إلى
هذا الأصل لاثبات صحة البيع وحصول النقل الانتقال، عند الشك في تحقق القبض في
الصرف والسلم بمعزل عن الحق وليت شعري ما الفرق بين هذا الشرط وغيره من
الشروط المقارنة المعتبرة في العقود؟.
نعم إذا علمنا من الخارج ان المتبايعين أوقعا العقد مترددين في القبض والاقباض
ثم شككنا في أنه بدالهما فيهما فالامر كما ذكره (قده) أما إذا أحرزنا انهما أوقعاه
قاصدين للنقل والانتقال، عازمين على القبض والاقباض ثم شككنا في لحوقه فلا اشكال
في جريان قاعدة الصحة فيه وبالجملة لا نجد أي فرق بين الشروط المقارنة للعقد و
المتأخرة عنه بعد احراز عنوانه خارجا فلا وجه للفرق بينهما أصلا.
واما مسألة الشك في مسوغات بيع الوقف فالظاهر أنه لا ينبغي الاشكال فيها أيضا من
الجهة المبحوث عنها لما عرفت في سابقه بل الظاهر أنه ليس من فروع هذا البحث فإن وجود
المسوغات من الشرائط المقارنة المعتبرة في صحة العقد حين صدوره كالمالية والملكية
وأشباههما، ولو قلنا بان أركان البيع غير حاصلة مع الشك في وجود المسوغ سقطت
أصالة الصحة فيه من هذه الجهة لا لأن الصحة المستفادة منها صحة تأهلية كما هو محل
134

البحث نعم هنا اشكال آخر أشار إليه شيخنا الأعظم في ضمن كلامه في المقام وهو
ان طبع هذه المعاملة وبنائها على الفساد وسيأتي الاشكال في جريان أصالة الصحة في
أمثال هذه المسألة.
وقد ظهر مما ذكرنا حال الفرع الأخير وهو ما إذا شك في إجازة المرتهن في
بيع العين المرهونة، والأقوى فيه أيضا جريان أصالة الصحة عنوان البيع معه،
وعدم وجود أي فرق بين هذا الشرط وسائر شروطه، اللهم الا ان يقال إن بيع العين
المرهونة أيضا مبنى على الفساد كبيع العين الموقوفة وسيأتي الاشكال في أمثاله.
التنبيه الرابع
في لزوم احراز كون الفاعل بصدد الفعل الذي يراد ترتيب آثاره
يعتبر في اجراء هذه القاعدة احراز عنوان الفعل وكون الفاعل بصدده إذا
كان مما يصلح لانطباق عناوين مختلفة عليه ولا يمتاز بعضها من بعض الا بقصد فاعله،
فغسل الثوب تارة يكون بعنوان التطهير الشرعي، وأخرى بعنوان إزالة قذارته
العرفية ففي الأول يراعى اطلاق الماء وطهارته شرعا دون الثاني، وكذاك حال قراءة
الحمد بعنوان جزئيته للصلاة وقرائته بعنوان قراءة القرآن، ولا شك في أن الحمل
على الصحة من ناحية عنوان خاص يحتاج إلى احراز كون الفاعل بصدده.
والأصل في ذلك ما مر مرارا من لزوم صدق العنوان الأعم من الصحيح والفاسد
في اجراء هذه القاعدة، فإذا كان العنوان من العناوين القصدية لا يكاد يصدق الا
إذا كان فاعله قاصدا له.
ولكن هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو ان القوم قد أفرطوا في باب العناوين القصدية
وقد حققنا في محله ان (القصد) في كثير من هذه الموارد التي يسمونها عناوين قصدية
لا اثر له الا في كون الفعل بعنوانه الخاص (اختياريا) مستندا إلى فاعله لا في تحقق
عنوان الفعل خارجا الا ترى ان عنوان التوهين - وهو من أظهر العناوين القصدية عندهم -
كثيرا ما لا يتوقف وجوده خارجا على قصد فاعله كمن أقدم على تلويث بيت الله والكتب
المقدسة - العياذ بالله - بأعين الناس ومرآهم وكان ذلك من غفلة أو نسيان
135

حيث إنه لا يشك أهل العرف في أن عمله هذا يوجب وهنا لهذه المقدسات في انظار الناس،
فيستنكرونها ويسرعون إلى تطهيرها وإزالة النجاسة عنها، وإن كان فاعلها عندهم معذورا
غير مستحق للمؤاخذة واللوم من جهة فعلته ونسيانه إذا لم يكن مقصرا في مقدماته
نعم لو كان العمل مشتركا بين عنوانين ولم يكن هناك ما يمتاز به خارجا من جهة من
الجهات (لو وجد اعمال كذلك) ففي مثله يمكن القول بتوقف صدق أحد العنوانين
عليه على قصده.
وبناءا على هذا المبنى يكون الدليل على اعتبار احراز قصد الفاعل لهذه العناوين
عدم جريان القاعدة في غير الأفعال الاختيارية لعدم بناء العقلاء عليه كما هو واضح و
قد عرفت ان الفعل في هذه الموارد لا يكون اختياريا الا بقصد عنوانه.
نعم لا يبعد ان يقال بأنه لا يجب احرازه بطرق علمية بل يكفي الظن الحاصل
من ظاهر الحال بان يكون ظاهر حال الفاعل انه بصدد العنوان الفلاني، فإن هذا الظن
مما استقر بناء العقلاء على العمل به في مورد الصفات الباطنية، كالقصد والعلم و
العدالة مما لا طريق إليها غالبا الا ظواهر الحالات ويستندون إليها في كثير من
احتجاجاتهم كما لا يخفى على من سبر أحوالهم، نعم في غير هذه المقامات من الصفات
الظاهرة التي يمكن اثباتها بطرق علمية غالبا لا اعتبار به عندهم.
بل هذا الظهور معتبر عندهم وان لم يكن هناك شك في صحة العمل على فرض قصده
فحجية ظهور حال الفاعل في هذه المقامات أجنبية عن قاعدة الصحة وإن كان يظهر
بعض ثمراتها في اجراء القاعدة كما عرفت ومن هنا يظهر وجه النظر في بعض ما افاده
المحقق الأصفهاني (قدس سره) في المقام بما لا نطيل الكلام بذكره فراجعه وتأمل.
وإنما عقدنا تنبيها خاصا لهذا البحث مع أن شيخنا العلامة الأنصاري وغيره من
المحققين أدرجوه في التنبيه الآتي، لما فيه من الآثار الخاصة التي تظهر في اجراء
القاعدة في مقامات مختلفة.
136

التنبيه الخامس
قد عرفت ان الصحة التي يحمل عليها فعل الغير هي الصحة عند الحامل وبعبارة أخرى
الصحة الواقعية لا الصحة الفاعلية فيرتب عليه جميع ما يترتب على الفعل الصحيح الواقعي
من آثاره من غير فرق بين تلك الآثار الا انه قد يظهر من بعض كلماتهم في بعض المقامات
التفكيك بينها أحيانا، مثل ما نسب إلى المشهور من عدم جواز الاكتفاء بعمل النائب
عند الشك الا أن يكون عدلا وإن كان مستحقا للأجرة، ومثل ما حكاه شيخنا الأعظم
العلامة الأنصاري قدس سره عن بعض من اشتراط العدالة فيمن يوضأ العاجز عن
الوضوء، وارتضاه المحقق الهمداني قده في بعض تعليقاته على الفرائد.
أقول - اما ذهاب المشهور إلى اعتبار العدالة في النائب فمحل تأمل واشكال
قال في (المدارك) في بحث النيابة من كتاب (الحج) ما لفظه: (ولم يذكر المصنف
من الشرائط عدالة الأجير وقد اعتبرها المتأخرون في الحج الواجب لا لأن عبادة
الفاسق تقع فاسدة بل لأن الاتيان بالحج الصحيح إنما يعلم بخبره والفاسق لا يقبل اخباره
بذلك). ويظهر منه ان الشهرة لو ثبتت فإنما هي حادثة بين المتأخرين، هذا مضافا
إلى امكان حمل كلام من اعتبر العدالة على خصوص صورة الشك في أصل تحقق
العمل لا في صحته مع العلم بصدوره.
وعلى أي حال فقد استوجه الشيخ (قده) ما نسب إلى المشهور من عدم جريان أصالة
الصحة في عمل النائب ووجهه بما حاصله: ان لفعل النائب عنوانين: أحدهما: من حيث إنه
فعل من أفعاله وبه يستحق الأجرة ويترتب عليه غيره من آثاره ثانيهما: من حيث إنه
عمل تسبيبي للمنوب عنه، حيث إن المنوب عنه بمنزلة الفاعل بالتسبيب وكأن فعل النائب
صادر عنه وقائم به، ومن هذه الجهة الفعل فعل المنوب عنه، وأصالة الصحة في فعل النائب
إنما تنفع في ترتيب آثاره عليه من الجهة الأولى دون الثانية، ففي موارد الشك لا محيص
عن التفكيك بين العنوانين وترتيب خصوص آثاره التي تترتب عليه بعنوان انه فعل
137

النائب، لا ما يترتب عليه بعنوان انه فعل المنوب عنه، فمن هنا يحكم باستحقاقه الأجرة
ولا يحكم ببراءة ذمة المنوب عنه. (انتهى محصل كلامه).
واعترض عليه جمع ممن تأخر عنه، قائلين بشمول القاعدة لباب النيابة، و
جواز الحكم ببراءة ذمة المنوب عنه وعدم لزوم الاستنابة عنه ثانيا، وذكروا في دفع
استدلاله (قده) مقالات شتى تعلم من مراجعة كتبهم. ولكن الذي ظهر لي ان عمدة الاشكال في
كلامه (قدس سره) إنما نشأ من حسبانه فعل النائب فعلا تسبيبيا للمنوب عنه، مع أنه لا
ينبغي الريب في عدم جواز اسناده إليه الا مجازا، لأن المفروض ان النائب فاعل مختار
مستقل في فعله وإن كان المنوب عنه محركا وداعيا له إلى العمل، ولا شك ان الفعل في
هذه المقامات يستند إلى المباشر، فالفعل فعل النائب لا غير، ولا فرق في ذلك بين القول
بان حقيقة النيابة عبارة عن تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه، والقول بان حقيقتها
هي قصد تفريغ ذمة الغير بعمله وانه لا يعقل تنزيل نفسه منزلته أو تنزيل فعله منزلة
فعله. فإن الفعل حقيقة فعله وصادر عنه باختياره وارادته وإن كان فائدته لغيره.
نعم قد يسند الفعل إلى السبب وذلك فيما إذا كان أقوى من المباشر وكان
المباشر مقهورا على العمل غير مستقل في ارادته، لا في مثل المقام المفروض استقلاله
فيه. فح إذا جرت أصالة الصحة في حق النائب والأجير يحكم بصحة فعلهما وتترتب عليه
جميع ما للعمل الصحيح من الآثار، فإن كان عمله صلاة فهي صلاة صحيحة بحكم
هذه القاعدة ويترتب عليها جميع ما للصلاة الصحيحة الصادرة منهما بهذا العنوان من
الأثر، ومنها براءة ذمة المنوب عنه وعدم لزوم الاستنابة عنه ثانيا.
ثم إن المحقق النائيني (قده) أورد في بعض كلماته في المقام على مقالة الشيخ
(قده) ايرادا حاصله ان التفكيك المذكور في كلام الشيخ بين استحقاق الأجرة و
بين براءة ذمة المنوب عنه من غرائب الكلام، إذ مع احراز قصد النيابة يحكم بمقتضى
قاعدة الصحة بصحة الفعل النيابي ويترتب عليه استحقاق الأجرة وبرائة ذمة المنوب
عنه، ومع عدم احرازه لا يحكم بشئ منهما، فإن ما يترتب عليه استحقاق الأجرة
ليس الا صدور الفعل الصحيح من النائب، وهو بعينه موضوع للأثر الاخر وهو فراغ
138

ذمة المنوب عنه. فيكف يمكن التفكيك بينهما (انتهى)
ولكن يمكن ان يوجه هذا التفكيك بان الملازمة بين هذين الاثرين وان كانت
ثابتة بحسب الحكم الواقعي، كما أن قاعدة الصحة لو كانت جارية أثبتتهما، الا
انه بعد المنع من جريانها لبعض ما ذكر يمكن القول باستحقاق الأجير الأجرة على
ذاك العمل الذي يدعى صحته، لا لقاعدة الصحة، بل لأنه لما لم يكن هناك طريق
عادة لاثبات صحة عمل الأجير الا قوله فلا محالة تنصرف الإجارة إليه، نعم للمستأجر ان
يراقب الأجير أو يبعث معه من يراقبه في عمله، وأما إذا لم يراقبه وخلاه ونفسه وأوكل
الامر إليه فعليه ان يقبل قوله، وهذا أمر ظاهر لمن سبر حال العقلاء في استيجاراتهم فتأمل.
ثم إنه قد يفصل في المقام بين مسألة النيابة، ومسألة وضوء العاجز وشبهها، بجريان
القاعدة في الأولى دون الثانية، اختاره المحقق الهمداني (قده) في بعض تعليقاته على
الفرائد، واستدل على مختاره بما حاصله: ان تكليف العاجز هو ايجاد الفعل بإعانة
غيره فالواجب عليه هو الوضوء ولو كان بإعانة الغير فاجراء أصالة الصحة في فعل غيره
- وهو التوضية - لا يثبت صحة فعله وهو الوضوء هذا ملخص كلامه.
وفيه - ان فعل المعين إذا كان محكوما بالصحة بمقتضى القاعدة يترتب عليه
جميع آثارها حتى ما كان مترتبا على لوازمه العقلية لأنها من الامارات المعتبرة لا من
الأصول العملية ومن المعلوم ان صحة وضوئه من آثار صحة فعل الغير، بل هما أمر
واحد يتفاوتان من ناحية الاسناد إلى العاجز ومن يعينه، فما افاده قدس سره من عدم
اثباته صحة الوضوء ممنوع، الا ان يرى القاعدة من الأصول العملية التي لا تثبت لوازمها
العقلية، ويرى هذين العنوانين المنطبق على فعل واحد باعتبارين من قبيل اللوازم العقلية
وكلاهما محل اشكال.
نعم يمكن الايراد على جريان القاعدة في أمثال المقام من ناحية أخرى، وهو:
ان السيرة العقلائية التي يستند إليها في اثبات كلية القاعدة غير جارية في أفعال الغير
إذا كانت بمرئى ومسمع من المكلف ويكون منشأ شكه فيه عروض الغفلة له عن فعله
أحيانا، وانسداد باب العلم الذي هو الحكمة في حجية أمثال هذه الطرق إنما هو في غير
139

هذه الأفعال التي تكون بمرئى من المكلف، نعم إذا كان الفاعل مع حضوره كالبعيد،
كالحجام بالنسبة إلى غسل موضوع الحجامة في الظهر، فلا يبعد حينذاك اجراء أصالة
الصحة في فعله، ولعله إليه يشير ما ورد من (ان الحجام مؤتمن) فتأمل.
التنبيه السادس
هل القاعدة من الامارات أو من الأصول العملية؟
وقع الكلام بين الاعلام في أن قاعدة الصحة هل هي من الامارات المعتبرة - كما
يظهر من كل من استند في حجيتها إلى ظهور حال المسلم - أو من الأصول العملية -
كما اختاره المحقق النائيني وبعض من تأخر عنه وقد يستظهر من عبارة الشيخ الأعظم
أيضا، وإن كان هذا الاستظهار محل تأمل واشكال.
أو يفصل بين مواردها: فإن كان منشأ الشك في الصحة احتمال تعمد الاخلال بما يعتبر
في العمل من الاجزاء والشرائط أو احتمال عروض الغفلة والسهو مع علم الفاعل بالحكم فهي
من الامارات نظرا إلى أن احتمال التعمد خلاف ظاهر حال الفاعل، كما أن احتمال عروض
الغفلة والسهو مناف لما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بالأذكرية حين الفعل حيث إن
وروده في ذاك الباب لا يوجب اختصاصه به بعد كونه أمرا عاما يعم العامل والحامل
(الأول في قاعدة الفراغ والثاني فيما نحن بصدده). واما إن كان منشأ الشك احتمال
جهل الفاعل بالحكم، بناءا على شمول القاعدة له، فلا محالة يكون أصلا تعبديا،
لعدم وجود ملاك الا مارية فيه أصلا، وقد اختار هذا المذهب المحقق الأصفهاني (قده)
في تعليقاته على الكفاية وانتصر له بما ذكر.
وأورد عليه المحقق النائيني في بعض كلماته في المقام بما حاصله: ان غاية ما
يستفاد من التعليل بالأذكرية (كذلك ظهور حال المسلم) هو حمل فعله على الصحة
عند فاعله، لا الصحة الواقعية التي نحن بصددها، فاذن لا مجال لعد هذا الأصل من
الامارات المعتبرة، بل لا يكون الا من سنخ الأصول العملية.
أقول: لا طريق لنا إلى تحقيق حال هذه القاعدة من حيث كونها امارة أو
140

أصلا من الأصول العملية الا بمراجعة أدلة حجيتها وتنقيح مفادها، وحيث كان العمدة من
بينها السيرة المستمرة بين العقلاء فلابد من تحقيق حال هذه السيرة ومبدئها، فنقول و
منه عز شأنه التوفيق - إن كان منشئها الغلبة الخارجية فتكون القاعدة من الظنون المعتبرة
والامارات العقلائية لا محالة، وإن كان الوجه فيها اقتضاء طبع العمل لذلك وان الفاسد على
خلاف طبعه، حيث إن الفاعل بحسب دواعيه الخارجية لا يتوجه الا نحو العمل الصحيح
عادة فإنه منبع الآثار واليه يرغب الراغبون كما عرفت بيانه وافيا عند ذكر الأدلة،
فهذا أيضا يقتضى كونها من الامارات، اللهم الا ان يقال إن مقتضاها هي الصحة الفاعلية
لا الصحة الواقعية فإن الذي يقتضيه طبع العمل بحسب دواعي العاملين هو الصحة
عندهم لا الصحة الواقعية التي بنينا عليها الامر في هذه القاعدة، ومن هنا يسرى
الاشكال إلى أساس هذا الوجه ويسقط بناء هذه السيرة على هذا الأساس.
ولكن يمكن دفع الاشكال بان مخالفة اعتقاد الفاعل للحامل وان لم يكن
نادرا الا ان الأغلب اتفاقهما في موارد الابتلاء كما هو ظاهر لمن تتبعها، فالوجه في
استناد سيرة العقلاء إلى اقتضاء طبع العمل هو ملاحظة الغلبة بهذا النحو.
ونظيره من بعض الجهات ما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بقوله (هو
حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) فإن الفاعل إذا كان بحسب الغالب حال اشتغاله
بالعمل أذكر فالظاهر حاله انه يجرى على وفق دواعيه إلى الفعل الصحيح لأنه
الذي يوصله إلى اغراضه، ومن البعيد اقدامه على فعل فاسد، فهو بحسب طبعه
الأولى يتوجه نحو العمل الصحيح فالتعليل المذكور هناك يشبه ما أشرنا إليه هنا
من اقتضاء طبع العمل للصحة، وإن كان الوجه في استقرار السيرة عليه لزوم الحرج و
اختلال النظام على تقدير عدم حمل فعل الغير على الصحة، فالظاهر كونها من
الأصول العملية التعبدية لأن المفروض عدم ملاك الا مارية فيها على هذا التقدير،
بل لا يبنى عليها الا لبعض مصالح المجتمع.
وحيث قد عرفت ان الأقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثاني فالأقوى كونها
من الامارات، كما أنه ظهر بما ذكرنا اندفاع ما افاده (المحقق النائيني) في
141

توجيه عدم كونها من الامارات من أن ظاهر حال الفاعل جريه على العمل الصحيح
باعتقاده لا الصحيح الواقعي الذي هو المقصود في المقام، وذلك لما أشرنا إليه
من تطابق المعنيين في أغلب موارد الابتلاء وإن كان اختلافهما أيضا غير نادر في نفسه
فملاك الا مارية وهو الكشف الظني عن الواقع موجود فيه.
كما يظهر وجه اندفاع ما اختاره (المحقق الأصفهاني) من القول بالتفصيل
بين ما كان منشأ الشك فيه احتمال التعمد أو عروض الغفلة والسهو مع العلم بالحكم
فهو من الامارات، وبين ما إذا كان منشأه احتمال الجهل بالحكم، فهو من الأصول
العملية. وذلك لكفاية ايراثه الظن النوعي وكونه كاشفا ظنيا بحسب أغلب موارده
في كونه من الامارات وان لم يورث الظن الشخصي في بعض موارده لأمور غرضية.
وما ذكره قدس سره من دعوى غلبة جهل الفاعلين بصحيح الافعال وفاسدها ممنوعة.
ثمرة هذا النزاع
قد يقال بظهور ثمرة النزاع بين كون هذا الأصل من الامارات أو الأصول
العملية في اثبات اللوازم العقلية والعادية - كما هو الشأن في غيره من موارد
اختلاف الامارات والأصول - وقد مثل له بما لو شك في أن الشراء الصادر من الغير
كان بما لا يملك، كالخمر والخنزير، أو بعين من أعيان ماله، فعلى القول بكونه
من الأصول التعبدية يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شئ من تركة المشترى
إلى البايع وعدم خروج تلك العين من تركته، لأصالة عدمه، واما على القول
بكونه من الامارات فيحكم بمقتضى قاعدة الصحة بانتقال شئ من تركته إلى
البايع (هكذا افاده الشيخ الأعظم قدس سره).
وحكى (عن العلامة) قدس سره في (القواعد): فيما لو اختلف المؤجر
والمستأجر، فقال المؤجر: (آجرتك كل شهر بدرهم) وقال المستأجر: بل سنة
بدينار، ففي تقديم قول المستأجر نظر، فإن قدمنا قول المالك فالأقوى صحة
العقد في الشهر الأول، وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادعى اجرة مدة
142

معلومة أو عوضا معينا وأنكر المالك التعيين فيهما، والأقوى التقديم فيما لم يتضمن
دعوى) انتهى.
ولا يخفى ان ما قواه أخيرا من تقديم قول المستأجر المدعى لصحة الإجارة
في المقامين إذا لم يتضمن دعوى وعدم قبوله فيما يتضمن ذلك، ظاهر في عدم
اثبات القاعدة لما يترتب على الصحة من اللوازم العقلية، فإن الحكم بصحة الإجارة
في الفرض الأول لا يقتضى شرعا كونها سنة بدينار بل هو من اللوازم العقلية
لمفروض البحث. كما أن الصحة في الفرض الثاني لا تقتضي وقوعها على مدة
معينة أو عوض معين وإنما يلزمها لما علمناه من الخارج من كيفية مورد تنازعهما.
والتحقيق - كما ذكرناه في محله ان ما هو المعروف من أن مجرد كون
شئ من الامارات المعتبرة يوجب ترتب جميع الآثار الشرعية الثابتة لمورده عليه
ولو كانت بوسائط عقلية أو عادية - أياما كان - مما لا أصل له، وان اشتهر بين الأصوليين في
العصور الأخيرة. بل الحق انه تابع لدليل حجيتها بحسب اختلاف الغايات المقامات
- والمقامات في ذلك مختلفة جدا - حتى أن (البينة) التي لا اشكال عندهم في
كونها من الأمارات الشرعية لا يمكن الحكم بترتب جميع لوازمها العقلية عليها
وان صرح به غير واحد.
أترى انه لو علمنا من الخارج بان هذا المايع المعلوم لو كان نجسا لكان
خمرا ثم قامت البينة على نجاسته، فهل يحكم بكونه خمرا ويجرى عليه جميع
ما للخمر من الآثار لا نظن أحدا يلتزم به في عمله وان لهج به لسانه أحيانا عند
البحث، وليس ذلك الا لأن اعتبار هذه اللوازم مقصورة على ما يفهم من اطلاق
أدلة حجيتها
فمفاد قاعدة (اليد) مثلا لو قلنا بحجيتها من باب الامارات ليس الا اثبات
الملكية وأحكامها ولوازمها واما الأحكام التي تثبت لموردها لا من جهة الملكية
فلا يمكن الحكم بثبوتها، فلو علمنا اجمالا ان المايع الفلاني اما خمر أو ماء
مطلق ثم دلت اليد على أنه (ملك) فلا يمكن الحكم بكونه ماءا مطلقا بحيث
143

يجرى عليه أحكامه من الطهارة الحدثية والخبثية. والحاصل ان مفاد قاعدة
اليد ثبوت الملكية لصاحبها ويترتب على موردها ما للملك من الأثر، ولا يبعد
اثبات بعض لوازمها من (الشهادة) التي نطق به بعض الأخبار، الدالة على جواز
الشهادة على الملك بمجرد اليد، ولكن لا يترتب عليه جميع ماله من اللوازم
والآثار العقلية والعادية وان كانت غير مرتبطة بعنوان الملكية.
وكذلك قاعدة (الفراغ) ان قلنا بأنها من الامارات، فإن غاية ما يستفاد
منها صحة العمل المفروغ عنه وترتب آثاره عليه من فراغ الذمة وما يترتب عليه
من الأحكام لا كل ما يلازمه عقلا وعادة ولو من جهات أخر، مثل كون المصلى على
وضوء فعلا لو كان منشأ الشك في صحة الصلاة الصادرة منه كونه على وضوء
حالها، فلذا حكموا بوجوب تحصيل الطهارة عليه للأعمال المستقبلة.
ومن هذا القبيل أصالة الصحة في فعل الغير فإن مفادها، ولو على القول
بأماريتها، كون الفعل صحيحا ويترتب عليه جميع أحكام الصحة ولو كانت بوسائط
عقلية أو عادية واما ما يترتب على لوازمها وملزوماتها من الأحكام التي لم تؤخذ في
موضوعها الصحة والفساد فلا يمكن اثباتها بهذه القاعدة.
ففي الفرع الأول من الفرعين اللذين سبق ذكرهما صحة الشراء وإن كان
واقعا مستلزما لانتقال شئ من تركة المشترى إلى البايع الا ان ذلك ليس من
أحكام صحة الشراء بما هي هي فإن اثرها هو انتقال الثمن إلى البايع أياما كان،
واما ان هذا الثمن الشخصي كان عينا من الأعيان المملوكة وانها كانت في أمواله
التي تركها للورثة فهو شئ آخر علمناه من الخارج، لا انه من آثار الصحة
ولو بالواسطة.
هذا بالنسبة إلى جريان أصالة الصحة في هذا الفرع واما ما قد يقال من انا
نعلم هنا اجمالا بان المشترى اما لم يملك المثمن واما انتقل شئ من تركته إلى
البايع، فالحكم بملكيته للمثمن وانتقال جميع تركته إلى الوراث أمر مقطوع
البطلان، فهو حق ولكن لا دخل له بقاعدة الصحة وأحكامها وإن كان دخيلا في
144

استنباط حكم هذه المسألة.
ومن هنا يظهر الحال في (الفرع الثاني) المحكى عن (القواعد) وهو
ما إذا اختلف المالك والمستأجر في المدة أو العوض: فادعى المستأجر مدة معلومة
أو عوضا معينا وانكره المالك، فإن أصالة الصحة تقتضي تقديم قول المستأجر
وعدم قبول قول المالك المدعى للفساد الا ببينة ويترتب على صحة الإجارة مالها
من الأحكام ولو بوسائط عقلية أو عادية، واما ان مدة الإجارة وعوضها ماذا؟ فهذا أمر
لا يمكن اثباته بمجرد الحكم بالصحة، حتى إذا علمنا من الخارج بأنها لو كانت
صحيحة لكانت على هذا العوض المعلوم أو بهذه المدة المعلومة، فإن صحة الإجارة
من حيث هي لا تتوقف على مدة خاصة أو عوض كذلك بل هي أعم منه. ولقد أجاد
العلامة قدس سره فيما افاده أخيرا (من تقديم قول المستأجر فيما لم يتضمن دعوى).
واما حكم هذه المسألة من حيث صحة الإجارة في الشهر الأول - إذا اختلفا وقال
المؤجر آجرتك كل شهر بدرهم وقال المستأجر بل سنة بدينار - أو عدم صحتها
فله مقام آخر لا دخل له بما نحن بصدده من فروع أصالة الصحة وموعدنا فيه
كتاب الإجارة.
التنبيه السابع
في تقدم قاعدة الصحة على أصالة الفساد والأصول الموضوعية
لا اشكال في تقدم القاعدة على (أصالة الفساد) في المعاملات، و (أصالة الاشتغال)
في العبادات، اما على المختار من حجيتها على نحو سائر الامارات المعتبرة فواضح،
واما على القول بكونها أصلا عمليا فللزوم لغويتها رأسا على تقدير عدم تقدمها
عليهما، فإنه ما من مورد يجرى فيه قاعدة الصحة الا وهناك أصالة الفساد (إن كان
معاملة) أو أصالة بقاء شغل الذمة (إن كان عبادة) كما هو ظاهر لا يخفى.
145

مضافا إلى ما قد يقال من: ان أصالة الصحة بالنسبة إليهما من قبيل الأصول
السببية فإن الشك في بقاء شغل الذمة في العبادات، أو حصول آثار المعاملات
من النقل والانتقال وغيرها، مسبب عن صحة العمل العبادي أو العقد الصادر من
عاقده، هذا حالها بالنسبة إلى (أصالة الفساد).
واما بالنسبة إلى (الأصول الموضوعية) الجارية في موارد قاعدة الصحة
فلا اشكال في تقدم القاعدة عليها أيضا، اما بناء على كونها من الامارات المعتبرة
فظاهر، واما بناء على عدها من الأصول العملية فلما عرفت في أصالة الفساد من
لزوم اللغوية، فإنه قلما يوجد مورد يجرى فيه أصالة الصحة الا ويوجد هناك أصول
موضوعية على خلافها، مثلا إذا شك في صحة العبادة من جهة الشك في الطهارة أو الاستقبال
أو غيرهما فأصالة عدم هذه الأمور تدل على فسادها كما أنه إذا شك في صحة عقد من العقود،
من جهة الشك في معلومية العوضين أو الانشاء الصحيح أو القدرة على التسليم أو غير ذلك،
فأصالة عدم هذه الأمور تقتضي فساده، لأن علم المتعاقدين وقدرتهما وصدور الانشاء الصحيح
منهما كلها أمور حادثة، مسبوقة بالعدم، فاذن لا يبقى لأصالة الصحة الا موارد طفيفة.
لا يقال: ان شرائط المتعاقدين أو العوضين ليست دائما من الأمور الوجودية
المسبوقة بالعدم، فإن منشأ الشك قد يكون من ناحية زوال قدرة المتعاقدين
أو علمهما بعد القطع بوجوده، ومثل هذا كثير جدا، فاذن لا يبقى مجال للقول بلزوم
اللغوية على فرض تقديم الأصول الموضوعية عليها.
لأنا نقول: ان ما لا يكون مسبوقا بالعدم فالغالب معلومية سبق وجودها،
كما إذا شك في بقاء المتعاقدين أو العوضين على ما كانا عليه من شرائط الصحة ومن
الواضح ان اعتبار أصالة الصحة في هذه المقامات أيضا لغو للاستغناء عنها بالأصول
الوجودية الجارية في مجراها فتدبر. واما الموارد التي لا يعلم حالها من الوجود
والعدم فقليلة جدا، لا يمكن تنزيل القاعدة عليها.
146

التنبيه الثامن
في مستثنيات هذه القاعدة
يستثنى من عموم قاعدة الصحة صورتان:
الأولى: ما إذا كان العمل بحسب طبيعته مبنيا على الفساد، بحيث يكون
الصحة فيه أمرا استثنائيا على خلاف طبعه، كبيع الوقف فإنه بمقتضى طبعه فاسد،
لأنه لا يباع ولا يورث وإنما يجوز بيعه لأمور خاصة عارضة أحيانا تقتضي الجرى
على خلاف مقتضى طبيعته، كالخلف بين أربابه، وأدائه إلى الخراب، على ما فصلوه
في كتاب الوقف. وكذلك بيع العين المرهونة فإن طبعه الأولى يقتضى الفساد
وصحته إنما يكون باذن من المرتهن، وأمثلته في أبواب العبادات أيضا كثيرة كالصلاة
في النجس المعلوم، فإنها فاسدة الا في موارد الضرورة لبرد أو نحوه.
ففي هذه المقامات وأمثالها لو شك في صحة العقد أو العبادة الصادرة من الغير
لا يجوز الحكم بصحتها بمقتضى هذه القاعدة بل لابد من إقامة دليل آخر عليها،
وذلك لما عرفت غير مرة من أن عمدة أدلتها هي السيرة المستمرة بين العقلاء،
وهي غير جارية في هذه المقامات كما لا يخفى على من تتبع مواردها.
وللمحقق اليزدي (قده) في المجلد الأول من ملحقات العروة كلام لا يخلو
ايراده عن الفائدة في المقام، واليك نص عبارته قال في المسألة (63) من
كتاب الوقف: (إذا باع الموقوف عليه أو الناظر، العين الموقوفة ولم يعلم أن بيعه
كان مع وجود المسوغ أو لا، فالظاهر عدم جريان (قاعدة الحمل على الصحة)
فلو لم يثبت المسوغ يجوز للبطون اللاحقة الانتزاع من يدي المشترى، فهو كما
147

لو باع شخص مال غيره مع عدم كونه في يده ولم يعلم كونه وكيلا عن ذلك الغير،
فإنه لا يصح ترتيب اثر البيع عليه، ودعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ
لا تكفى في الحكم بصحة الشراء ولا يجوز مع عدم العلم به الشراء منهما.
ودعوى الكفاية من حيث كونهما من (ذي اليد) الذي قوله مسموع بالنسبة إلى
ما في يده، ولذا إذا رأينا شيئا في يد الدلال المدعى للوكالة عن صاحبه في بيعه جاز لنا الشراء
منه مدفوعة، بان يد مدعى الوكالة يد مستقلة وامارة على السلطنة على التصرف
فيه، بخلاف يد الموقوف عليه مع اعترافه بان ما في يده وقف، فإنها ليست يدا
مستقلة لأنها في الحقيقة يد الوقف، المفروض عدم جواز بيعه، فيد الموقوف عليه
والناظر إنما تنفع في كيفية التصرفات التي هي مقتضى الوقف لافى مثل البيع الذي
هو مناف ومبطل له، فهي نظير يد الودعي التي لا تنفع الا في الحفظ لا في البيع،
فإذا ادعى الوكالة بعد هذا في البيع احتاج إلى الاثبات، وان يد الأمانة صارت يد
وكالة والا فالأصل بقائها على ما كانت عليه) انتهى.
أقول: اما ما افاده قدس الله سره من عدم جريان قاعدة الصحة هنا فهو صحيح
متين ووجهه ما ذكرناه.
واما عدم جواز الاعتماد على دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ،
من باب قبول دعوى صاحب اليد، ففيه ان المتصدي لبيع الوقف - على ما صرح به
في كتاب البيع - هو البطن الموجود من الموقوف عليهم بضميمة الحاكم ولاية عن
سائر البطون، أو خصوص الناظر عليه. قال شيخنا الأعظم في (المكاسب):
(ان المتولي للبيع هو البطن الموجود بضميمة الحاكم القيم من قبل سائر البطون،
ويحتمل أن يكون هذا إلى الناظر إن كان، لأنه المنصوب لمعظم الأمور الراجعة
إلى الوقف، الا ان يقال بعدم انصراف وظيفته المجعولة من قبل الواقف إلى التصرف
في نفس العين) انتهى.
وكيف كان، المتولي لبيع الوقف اما هو الموقوف عليه مع الحاكم أو
148

الناظر، فيدهما قبل عروض المسوغات يد التصرف في منافع الوقف بصرفها في
مصارفها، وفى عينه بالاصلاح والتدبير، واما بعد عروض المسوغ فيدهما يد البيع
وابدال العين الموقوفة أو صرف قيمتها في مصارف خاصة، على تفصيل ذكروه في
أبواب بيع الوقف.
والحاصل ان الموقوف عليه والناظر تختلف يدهما باختلاف الظروف، ففي
ظرف عدم وجود المسوغ يدهما ليست يدا مستقلة، واما في ظرف وجود المسوغ
يد مستقلة يجوز لها البيع، وان شئت قلت: ان يدهما يد مستقلة في كل حال ولكن
تصرفاتهما في العين الموقوفة ببيعها مشروطة بشرائط معينة، ونظيره في ذلك يد
الولي فإنها يد مستقلة في أموال المولى عليه ولكن تصرفاته فيها منوطة بوجود
المصلحة فيها أو عدم المفسدة، على خلاف فيها.
وحينئذ لا يبعد جواز الركون إلى دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ
في بيعها كما يجوز الاعتماد على دعوى الولي وجوده في بيع مال المولى عليه بلا اشكال.
اللهم الا ان يقال إن وجود المسوغ في بيع الوقف أمر نادر اتفاقي، بخلاف
وجود المصلحة في بيع مال المولى عليه فإنه شايع ذايع، وهذا هو الفارق بين المقامين،
فالمتولي لبيع الوقف المدعى لوجود المسوغ متهم في دعواه وإن كان ذا اليد بالنسبة
إلى العين الموقوفة فلا يسمع دعواه بخلاف الولي، وهو قريب جدا. فهذا هو
السر في عدم سماع دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ في بيع العين
الموقوفة لا ما ذكره (قده).
اما ما افاده من عدم سماع قول الودعي إذا ادعى الوكالة في بيع الوديعة
وانه محتاج إلى اثبات انقلاب يد الأمانة إلى يد الوكالة، فهو عجيب، فإنه لا ينبغي
الشك في سماع دعواه ضرورة انه إذا رأينا مالا في يد زيد ثم رأيناها بعد ذلك في
يد عمرو يدعى الوكالة عن زيد في بيعها فلا شك في قبول دعواه فيه، فهل يد الودعي
هنا أسوء حالا من عدم اليد على المال بالمرة. وبالجملة انقلاب اليد أمر شايع
يقبل قول مدعيه إذا لم يكن متهما. مثلا إذا ادعى أحد الوكالة عن غيره في بيع
149

ماله ثم ادعى بعد يوم انه اشتراه بنفسه عن مالكه أو وهبه إياه فلا شك في قبول
قوله، وانقلاب يد الوكالة يد الملك، وكذا إذا رأينا أحدا يسكن دارا يدعى انه
استأجره، ثم رأيناه يدعى انه اشتراه من مالكه ولم يكن متهما، فلا ريب في
قبول قوله وانقلاب يد الاستيجار يد الملك وأمثلته كثيرة جدا.
الثانية: إذا كان الفاعل متهما في فعله، فإنه يشكل حمل فعله على الصحيح،
والمراد من الاتهام وجود قرائن ظنية خارجية توجب الظن بالفساد عادة لمن اطلع
عليها لا كل ظن شخصي، من أي واد حصل.
وذلك كما إذا ادعى من كان وكيلا في شراء أموال كثيرة تحتاج إلى الكيل
أو الوزن انه اشتراها مراعيا لجميع شروط الصحة فيها من الكيل والوزن اللازمين
وغيرهما، في وقت لا يسعه عادة، فإنه وان كانت مراعاة تلك الشروط ممكنة في حد ذاتها على
خلاف العادة الا ان العادة تقضى بخلافها، وهذه قرينة ظنية توجب سوء الظن بدعواه واتهامه
فيما يقول لغالب الناس. وكذا إذا ادعى الأجير في الصلاة وغيرها انه اتى بصلوات
كثيرة مراعيا لجميع اجزائها وشرائطها من الطهارة والموالاة وغيرهما في وقت لا
يسعها عادة، إلى غير ذلك من الأمثلة. والركون إلى القاعدة في تصحيح هذه الأفعال عند
الشك في صحتها مشكل جدا.
والوجه فيه ما عرفت نظيره في الصورة السابقة من قصور أدلة حجيتها - و
عمدتها السيرة المستمرة بين العقلاء - عن شمول هذه الموارد كما هو ظاهر لمن
تتبعها. ولا أقل من الشك وهو كاف في الحكم بعدمها في أمثال المقام.
هذا ويمكن القول برجوع الصورة الأولى إليها أيضا، فإن بيع الوقف بدعوى
وجود المسوغ وأمثاله من مظان التهمة غالبا ويكون مدعيه متهما فيما يدعيه فتدبر.
150

التنبيه التاسع
هل القاعدة تجرى في أفعال المكلف نفسه؟
ظاهر كثير من عناوين كلمات القوم اختصاص قاعدة الصحة بأفعال الغير، بل
ظاهر بعضها اختصاصها بأفعال المسلمين فحسب. لكن قد عرفت في صدر البحث انه لا فرق
في هذا بين المسلم وغيره أصلا، بعد ما كان مدركه بناء العقلاء عليه وسيرتهم المستمرة في
أمورهم، لا يفرقون في ذلك بين اتباع المذاهب المختلفة والمليين وغيرهم وقد
أمضاها - على هذا الوجه الشارع المقدس ولم يردع عنها، ولا يزال المسلمون يعملون
مع المعاملات الصادرة عن أهل الذمة معاملة الصحيح، مع ما فيها من احتمال الفساد
ولو على مذهبهم، وليس هذا الا لعمومية القاعدة وعدم اختصاصها بالمسلمين.
نعم في الموارد التي لا يتمشى الفعل الصحيح من غير المسلم أو يعلم علما تفصيليا
باختلاف عقيدتهم مع ما عليه المسلمون من الأحكام ولا يكون بينهما جامع، لا يمكن
حمل فعلهم على الصحيح، ولكنك عرفت في التنبيه الأول جريان هذا المعنى في حق
المسلمين أيضا إذا اختلفوا في الآراء الفقهية ولم يجمعهم جامع، على ما فصلناه هناك
فراجع، فليس هذا أيضا مقصورا على غير المسلمين.
واما تخصيص القاعدة بأفعال الغير فهو وإن كان ظاهر عناوينهم وكلماتهم في
مقامات مختلفة، بل وظاهر غير واحد من أدلتهم (كالآيات والاخبار التي استدلوا بها
هنا) بل وقع التصريح به في كلمات بعضهم كالمحقق النائيني (قده) حيث إنه صرح
في صدر كلامه في المسألة بأنه: (لا ريب في اختصاصها بفعل الغير واما بالنسبة إلى
فعل نفس الشخص فالمتبع فيه هو (قاعدة الفراغ) فليس هناك أصل آخر يسمى بأصالة
الصحة غير تلك القاعدة) انتهى.
والحق انه لو قلنا بعموم (قاعدة الفراغ) وشمولها لجميع الافعال من العبادات
151

وغيرها من غير فرق بين الصلاة والصيام والبيع والشراء والنكاح والعتق وتطهير
الثبات ودفن الموتى إلى غيرها من الافعال التي يتصور فيها الصحة والفساد، فلا
يبقى مجال للنزاع في شمول هذه القاعدة لافعال نفس المكلف للاستغناء عنها بقاعدة
الفراغ، وأما إذا قلنا باختصاصها بالعبادات وما يرتبط بها، فالظاهر جواز الاستناد
إلى قاعدة الصحة في موارد الشك في صحة أفعال النفس من ناحية الاخلال ببعض
اجزائها وشرائطها أو وجود بعض موانعها.
والدليل على جريانها في المقام هو الدليل على جريانها في غير المقام -
من أفعال الغير - وقد عرفت ان عمدة الدليل عليها هناك هي السيرة المستمرة بين
العقلاء، فانا إذا تتبعنا حالهم نجدهم عاملين بها في أفعال أنفسهم، فهل ترى أحدا من
العقلاء يتوقف عن الحكم بآثار ما صدرت منه من العقود والايقاعات في الأزمنة
السالفة إذا شك في صحتها من بعض الجهات ولم يجد عليها دليلا؟ كلا... بل
لا يزالون يعاملون مع ما صدر منهم في الأزمنة البعيدة والقريبة معاملة الصحة ويرتبون
آثارها عليها ولا يمسكون عن ذلك بمجرد الشك ولا يمنعهم عن ذلك شئ الا إذا وجدوا
على الفساد دليلا.
والسر فيه ان العلة التي دعتهم إلى هذه السيرة هناك موجودة بعينها هنا، و
كل ما كان ملاكا لها في أفعال الغير موجود في أفعال النفس، وذلك لما عرفت من أن
العلة الباعثة إلى هذا البناء لا يخلو عن أمور ثلاث: الغلبة الخارجية المورثة للظن
واقتضاء طبع العمل للصحة من جهة جرى الفاعل بحسب دواعيه الخارجية نحو
الفعل الصحيح، والعسر والحرج أو اختلال النظام الحاصلان من ترك مراعاة هذه
القاعدة. ومن الواضح انها جارية بالنسبة إلى أفعال النفس كجريها في ناحية أفعال
الغير، بل لعل جريانها هنا أسهل منه في أفعال الغير فإن الاشكال الحاصل من جهة
اختلاف (الصحة عند الفاعل) مع (الصحة عند العامل) هناك، غير موجود هنا، لأن
الحامل هنا هو الفاعل بعينه.
152

التنبيه العاشر
أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات
هل القاعدة مختصة بالافعال الصادرة من الغير أو تشمل أقواله واعتقاداته أيضا؟
والحق انه إن كان المراد من الصحة في باب الأقوال مطابقة مداليلها للواقع
فحملها على الصحة بهذا المعنى عبارة أخرى عن حجيتها، والمتكفل له مبحث حجية
خبر الواحد، ومن المعلوم عدم حجية خبر كل مخبر بل هو مشروط بشرائط مذكورة
في محلها، على اختلاف المذاهب في ذلك.
وإن كان المراد صحتها بما انها أفعال صادرة عن المتكلمين بها وكان لها آثار
شرعية بهذا الاعتبار كما إذا شك في صحة القراءة والأذكار الصلاتية الصادرة من الإمام
أو الأجير، فإنها وان كانت من سنخ الأقوال ولها معان معلومة، الا انها باعتبار ألفاظها
الصادرة عن المكلف جزء للصلاة، فهي من هذه الجهة فعل من أفعاله يترتب على
صحيحها آثار خاصة، ولا شك في أنها بهذا الاعتبار تشملها أدلة حجية القاعدة فتجرى فيها
ويترتب عليها آثارها. هذا ملخص الكلام في (الأقوال).
واما (الاعتقادات) فتارة يكون البحث فيها عن الاعتقادات المتعلقة بالموضوعات
الخارجية، وأخرى فيما يتعلق بالأحكام الفرعية، وثالثة فيما يتعلق بأصول الدين.
اما الأول فكما إذا اعتقد انسان ان هذا الماء الخاص بلغ قدر كر، وشككنا
في صحة اعتقاده ذلك، لاحتمال خطائه عند تقديره بالأشبار أو الوزن، فإن كان
لاعتقاده ذلك آثار عملية خارجية كما إذا غسل ثوبا بذاك الماء المشكوك كريته
عندنا، فلا ينبغي الاشكال في لزوم حمل اعتقاده على الصحة وترتيب آثار الطهارة
على الثوب المغسول به، بل هو في الحقيقة من مصاديق حمل فعل الغير على
الصحة وإن كان منشأ الشك في صحته هو احتمال خطائه في اعتقاده، ففي المثال
153

المذكور فعل الغير وهو الغسل محمول على الغسل الصحيح وإن كان منشأ الشك
فيه الشك في صحة اعتقاده كون الماء المغسول به كرا.
ومن المعلوم ان أدلة حمل أفعال الغير على الصحيح مطلقة من جهة منشأ
الشك، ولا فرق بين كونه من جهة احتمال غفلة الفاعل وسهوه أو تعمده في الجرى
على خلاف معتقده، أو اعتقاد فاسد بنى عليه في عمله وهذا أمر ظاهر لا سترة عليه.
واما الثاني وهو الاعتقاد المتعلق بالأحكام الفرعية، فإن كان المراد من
حمله على الصحة الحكم بمطابقته للواقع، فيجوز اتباعه والجري على وفقه، فهو
راجع إلى حجية رأى الغير وجواز تقليده في الأحكام الفرعية، والمتبع فيه أدلة
حجية قول المجتهد للعامي بماله من الشرائط والقيود، وإن كان المراد منه ترتيب
آثاره العملية عليه إذا عمل بما اعتقد من الأحكام كما إذا كان إماما وشك في صحة
صلاته وكان منشأ الشك فيها احتمال خطائه في بعض أحكامها ومخالفتها لما حصله
اجتهادا أو تقليدا، فلا شك ان اللازم هنا أيضا هو حمل اعتقاده على الصحيح
وتترتب عليه هذه الآثار، فيجوز الايتمام به كما يجوز استيجاره، ويكتفى باعماله
في أداء الواجبات الكفائية. بل هو في الواقع من باب حمل فعل الغير على الصحة
وإن كان منشأ الشك فيها خطائه في اعتقاده.
والوجه فيه ما عرفت من عدم الفرق في حجية هذه القاعدة بين كون منشأ
الشك في صحة فعل الغير خطائه في تشخيص المصاديق الخارجية، أو خطائه في
استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية، أو غير ذلك مما لا يرجع إلى خطائه
في الاعتقاد.
واما الثالث أعني الاعتقاد المتعلق بأصول الدين فإن كان هناك اثر عملي
يترتب على الاعتقاد الصحيح كما إذا كان هناك ذبيحة نشب في تذكيتها من جهة الشك
في صحة عقائد ذابحها، فإن كان مدعيا للاسلام اجمالا فاللازم حمل اعتقاده على الصحة،
154

وترتيب جميع آثار الاسلام عليه وان شك في صحة عقائده، ولا يجب الفحص عن تفاصيل
معتقده في ناحية المبدء والمعاد وغيرهما، والدليل عليه هو ما مر في القسم السابق بعينه
من اطلاق أدلة حجية هذه القاعدة وشمولها لجميع موارد الشك في صحة فعل الغير من أي
واد حصل ومن أي منشأ نشأ، فإذا شك في صحة فعله من جهة الشك في صحة اعتقاد فاعله
في الموارد التي يكون الاعتقاد الصحيح دخيلا في صحة العمل فاللازم حمله على الصحة
بعد أن كان صاحبها متظاهرا بالايمان ومدعيا للاسلام اجمالا ولم يعلم خطائه.
بل لا يبعد جواز الحكم باسلام كل من شك في اسلامه وان لم يدع الاسلام إذا كان
في دار الايمان، والوجه فيه استقرار سيرة المسلمين على اجراء أحكام الاسلام، في المناكح
والذبائح والطهارة وغيرها، على كل من كان في بلاد الاسلام من دون فحص عن مذهبه،
حتى يقوم دليل على فساده.
هذا آخر ما أردنا تحريره من تنبيهات هذه القاعدة الشريفة، النافعة في جل
أبواب الفقه أو كلها حينما أجملها كثير منهم، وبه نختم البحث عنها حامدا لله ومسلما
ومصليا على نبيه وآله الخيرة الكرام. اللهم ما بنا من نعمة فمنك، فلا تسلبنا صالح
ما أنعمت به عليها وزدنا من فضلك ومواهبك.
وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الأربعاء لست خلون من رجب المرجب من
سنة 1382.
155

3 - قاعدة لا حرج
157

قد اشتهر بين الأصحاب - لا سيما المتأخرين منهم - الاستدلال بهذه القاعدة في
كثير من الموارد، لنفى كثير من التكاليف التي تستلزم العسر والحرج، يترائى
هذا منهم في غير واحد من أبواب العبادات، مثل أبواب الوضوء والغسل والتيمم و
الصلاة والصيام وغيرها، ولم أر من تعرض لها مستقلا وأفرد لها بحثا يختص بها، غير
(العلامة النراقي) في عوائده حيث أفرد لها (عائدة) وبحث عنها بحثا بين الاجمال والتفصيل.
ولكن موقف القاعدة من الفقه وشدة ابتلاء الفقيه بها في كثير من أبوابه توجب
البحث عنها وعن مداركها وفروعها في جميع جوانبها ونواحيها، بما يعطى الفقيه
بصيرة ومعرفة بحال الفروع الكثيرة، المبنية عليها، وقد بلغ عدم الاعتناء بشأن هذه
القاعدة المهمة وما يليق بها من البحث حدا أوجب الترديد في أصلها فضلا عن الفروع
المتفرعة عليها، وقد رأيت من ينكر وجود مدرك صحيح للقاعدة فيما بأيدينا من
الأدلة، مع ما ستعرف من وفور مداركها وكثرة أدلتها
ولهذا ولغيره من المزايا التي تشتمل عليها هذه القاعدة - ولا سيما سعة دائرتها
وشمولها لجل أبواب الفقه كما ستعرف - كان اللازم تقديم البحث عنها على غيرها من
القواعد التي نبحث عنها فيما يلي انشاء الله، فنقول - ومنه سبحانه نستمد التوفيق و
الهداية ان البحث عنها يقع في مقامات ثلاثة:
الأول - في مداركها التي ظفرنا بها.
الثاني - في مفادها ومغزاها ونسبتها مع غيرها من الأدلة.
159

الثالث - فيما يتعلق بها من التنبيهات.
وقبل الشروع في هذه لابد لنا من ايضاح محل البحث وما نروم اثباته.
الحرج على أنواع
ان العسر والحرج في الافعال يكون على اقسام، فتارة يبلغ حد لا يطيق
المكلف تحمله.
وأخرى، يكون ما دون ذلك ولكن تحمله يوجب اختلال النظام.
وثالثة، لا يبلغ ذا ولا ذاك، ولكن يستلزم الضرر في الأموال والأنفس أو الاعراض
ورابعة، لا يوجب شيئا من ذلك بل يكون فيه مجرد المشقة والضيق.
اما الأول أعني التكاليف الحرجية البالغة حد ما لا يطاق فلا اشكال في خروجه
عن محل البحث وقد عقدوا له بحثا آخر في الكتب الكلامية وبعض الكتب الأصولية،
واختلفوا في جوازه واستحالته، بعد اتفاقهم على عدم وقوعه في الشريعة الغراء، ولكن
الظاهر أن القول بجوازه وامكانه من الفروع الفاسدة المنشعبة عن شجرة خبيثة، و
هي انكار الحسن والقبح العقليين المعروف بين قدماء الأشاعرة، وعلى كل حال فهو
خارج عن نطاق البحث هنا.
ومن هنا تعرف النظر في كثير من كلمات العلامة النراقي (قده) في عوائده حيث ذكر
كثيرا من الأدلة النقلية والعقلية الدالة على بطلان التكليف بما لا يطاق في عداد أدلة القاعدة،
وان اعترف بأنها تختص بقسم خاص من الحرجيات وانها خص من المدعى ولا تقوم
باثبات جميعها. ولكن الانصاف انها خارجة رأسا عن حيطة القاعدة المعروفة المتداولة
بين القوم. بل لا يعبرون بالحرج الا عن التكاليف الممكنة المشتملة على الضيق والشدة
واما التكاليف غير المقدورة فيعبرون عنها بما لا يطاق ولا كلام لاحد من أصحابنا
في بطلانها.
واما الثاني فهو أيضا كسابقه خارج عن محل الكلام في هذه القاعدة المشهورة،
لانصراف كلماتهم وعبائرهم عنه، لأن قبح التكاليف الموجبة لاختلال النظام مما
160

لا يحتاج إلى مؤنة الاستدلال، بل هو أمر واضح ظاهر، بداهة ان الشارع المقدس لم
يرد بتشريع أحكام الدين ونظاماته ابطال نظام المجتمع وتعطيل معيشتهم، بل المقصد
الأقصى من اثبات كثير من تكاليفه ليس الأحفظ هذا النظام على الوجه الأحسن، و
تحكيم قواعده على نهج صحيح يشتمل على منافع دينية ودنيوية للناس، كأحكام الديات
والقصاص التي فيها حياة لأولي الألباب وكثير من أحكام المعاملات وغيرها، فكيف
يكلف الناس بأمور توجب اختلالا في هذا النظام.
واما الثالث فهو داخل في (قاعدة لا ضرر) خارجة عما يختص بهذه القاعدة، و
ان أمكن الاستدلال بكليهما في كثير من موارد الضرر لبعض ما يترتب على كل منهما
من الخصوصية. فتحصل من جميع ذلك أن مركز البحث في (قاعدة لا حرج) هو القسم
الرابع من الأقسام المتقدمة، وهو الافعال الحرجية غير البالغة حد ما لا يطاق وغير
الموجبة لاختلال النظام ولا ما يتضمن ضررا في الأموال والأنفس، ومنه يظهر حال الأدلة
التي يستند إليها في اثبات القاعدة وما يكون مرتبطا بمحل البحث وما هو خارج عن
محل الكلام.
وها نحن نشرع الان بذكر ما ظفرنا بها من الأدلة:
161

مدارك قاعدة لا حرج
واستدل لها بالأدلة الأربعة، ولكن الانصاف انه لا مجال فيها للأدلة العقلية ولا
الاجماع، بعد ما عرفت من اختصاص محل البحث بالتكاليف الحرجية التي لا تبلغ
حد ما لا يطاق، ولاحد اختلال النظام، ولا توجب ضررا على الأموال والأنفس
اما العقل فلانه لا مانع عقلا من تشريع الأحكام الحرجية والالزام بالأمور
العسرة الشديدة، والشاهد له وجود تكاليف حرجية في الشرعيات والعرفيات ثابتة
بادلتها كما سيأتي الإشارة إليه في التنبيهات الآتية انشاء الله، والزام الموالي العرفية
عبيدهم بل التزام كثير من الناس من قبل أنفسهم بأمور عسرة حرجية لما يرقبون فيها
من المنافع الدنيوية أمر شايع ذايع، وسيأتي ان مثل هذه التكاليف كانت كثيرة في الأمم
الماضية وان صارت قليلة في هذه الأمة المرحومة.
واما الاجماع فلان دعواه على القاعدة بجميع نواحيها مشكل جدا بعد عدم تعرض
الأكثر لها بعنوان كلى عام، وإنما تعرض لها من تعرض في موارد خاصة، واما دعواه
في خصوص بعض الموارد كالوضوء والغسل الحرجيين وإن كان بمكان من الامكان
الا انه لا ينفع في اثبات القاعدة، بل لا يتم على مباني القوم حتى في موارده الخاصة
لاختصاص حجية الاجماع عندهم بمسائل لا دلالة عليها من الكتاب والسنة مما يصح استناد
المجمعين إليها في اثبات المسألة، والمقام من هذا القبيل لما ستعرف من الأدلة النقلية
الكثيرة الدالة عليها، التي يعلم أو يظن استناد المجمعين إليها في اثبات القاعدة.
فاذن العمدة من بين الأدلة هنا هي الكتاب والسنة.
162

ما يدل عليها من الكتاب العزيز
واستدل لها بآيات منه:
منها - قوله تعالى: وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم
في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم (1)
وهي من أقوى الأدلة الدالة عليها واليها استند في اخبار كثيرة لنفى تكاليف حرجية
في الشريعة المقدسة، تارة بعنوان الحكمة لتشريع بعض الأحكام، وأخرى بعنوان
العلة لها بما سيأتي نقله، ومعها لا يبقى ريب في دلالتها على المطلوب، بل لا ينبغي الريب
فيها مع عزل النظر عن هذه الأخبار الكثيرة أيضا لتمامية دلالتها في حد ذاتها.
والمراد من (المجاهدة) فيها هي المجاهدة في امتثال الواجبات وترك المحرمات
- كما اختاره أكثر المفسرين - وحق الجهاد اما هو الاخلاص في هذه المجاهدة العظيمة
كما يحكى عن أكثر المفسرين، أو الإطاعة الخالية عن المعصية كما يحكى عن بعضهم
ولعل الجميع يرجع إلى معنى واحد وهو المجاهدة البالغة حد الكمال الخالية عن
شوائب النقصان.
ومعنى الآية - والله أعلم - انه لا عذر لاحد في ترك المجاهدة في امتثال أو أمر الله
تعالى واجتناب نواهيه بعد ما كانت الشريعة سمحة سهلة وليس في أحكام الدين أمر
حرجي يشكل امتثاله، فكأنه يقول: كيف لا تجاهدون في الله حق جهاده وقد اجتباكم
من بين الأمم ولم يجعل عليكم في الشريعة وأحكامها أمرا حرجيا؟.
ومنها - قوله تعالى: وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط
أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم
منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم
لعلكم تشكرون (2)

(1) سورة الحج - الآية 78
(2) سورة المائدة - الآية 6
163

وفى دلالتها على المقصود تأمل، فإن المستفاد من صدرها وذيلها ان الامر بالغسل
والوضوء عند وجدان الماء، والتيمم عند فقدانه، إنما هو لمصلحة تطهير النفوس،
أو هي والأبدان، من الأقذار الباطنة والظاهرة، فلا يريد الله تعالى بتشريع هذه
التكاليف القاء الناس في مشقة وضيق بلا فائدة فيها، بل إنما يريد تطهيرهم بها، فالمراد
من (الحرج) هنا ليس مطلق المشقة بل المشاق الخالية عن الفائدة والمصالح العالية
التي يرغب فيها لتحصيلها.
والشاهد على ذلك كلمة (لكن) الاستدراكية في قوله: (ولكن ليطهركم)
بعد قوله: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) وان هو الا نظير قول القائل: (اشتر لي
طعاما من ذاك المكان البعيد ما أريد لأجعلك بذلك في كلفة ومشقة وإنما أريد تحصيل
الطعام الطيب) فالمراد من الحرج هنا المشاق التي لا طائل تحتها، ولا فائدة مهمة
فيها تجبر كلفتها، فلا يمكن التمسك بها لاثبات هذه القاعدة الكلية كما هو ظاهر.
وان شئت قلت: المقصود اثبات قاعدة كلية دافعة للتكاليف الحرجية يمكن
التمسك بها في قبال العمومات المثبتة للتكاليف حتى في موارد العسر والحرج، نظير
اطلاقات وجوب الوضوء والغسل الشاملة لموارد الحرج.
ومن الواضح ان اطلاقات الأدلة الأولية كما تدل على ثبوت الحكم حتى في
موارد العسر والحرج كذلك تدل على وجود مصالح في مواردها أو في نفس تلك الأحكام
بالملازمة القطعية و ح لا يمكن نفى هذه التكاليف في موارد الحرج بالآية
الشريفة بناء على ما عرفت من ظهورها في نفى المشقة الخالية عن فائدة جابرة لها.
ومنها - قوله تعالى: (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله
بكم اليسر ولا يريد بكم العسر...) (1)
وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب دلالتها على المدعى هو ان الظاهر من قوله
تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) بعد نفى وجوب الصيام عن طائفتين،
المسافرين والمرضى، انه بمنزلة التعليل لهذا الحكم، فيكون كساير الكبريات

(1) سورة البقرة - الآية - 185
164

الكلية التي يستدل بها لاثبات أحكام خاصة ولكن مفادها عام شامل لمورد الاستدلال و
غيره، فتدل هذه الفقرة على نفى جميع الأحكام العسرة والحرجية فتأمل.
ومنها - قوله تعالى: (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من
قبلنا...) (1)
وجه الاستدلال بها ان نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله سئل ربه ليلة المعراج أمورا حكاها
الله تعالى في هذه الآية الشريفة ومنها رفع (الإصر) عن أمته. وكرامته صلى الله عليه وآله على ربه
ومقامه عنده تعالى يقتضى إجابة هذه الدعوة واعطائه ذلك، ويشهد لهذه الإجابة نقلها
في القرآن العظيم والاهتمام بأمرها، فلولا اجابته له لم يناسب نقلها في كتابه في مقام
الامتنان على هذه الأمة المرحومة وهو ظاهر.
وحيث إن (الإصر) في اللغة كما سيأتي عند تحقيق معنى العسر والحرج والأصر
بمعنى الثقل، أو الحبس، أو الشدائد، كانت الآية دليلا على نفى التكاليف الحرجية
عن هذه الأمة.
هذا كله مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها، واما بالنظر إليها
فالامر أوضح جدا، فقد وقع التصريح في غير واحد منها بأنه تعالى أجاب رسوله وأعطاه
ذلك ورفع عن أمته صلى الله عليه وآله الآصار، وقد ذكر في بعض هذه الأخبار موارد كثيرة من هذه
الآصار التي كانت في الأمم الماضية ورفعها الله عن هذه الأمة رحمة لها واكراما لنبيه
الأعظم، وسيأتي نقل نماذج من هذه الأخبار عند ذكر الروايات الدالة على القاعدة.
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا في بيان الآيات التي يمكن التمسك بها في اثبات هذه
القاعدة ان أظهرها دلالة على المطلوب هي الآية الأولى، المستدل بها في كثير من
الأخبار الواردة في المسألة، التي يظهر من مجموعها ان للآية خصوصية في هذا الباب،
وإن كان غيرها أيضا لا تخلو عن دلالة أو تأييد للمدعى، ففي مجموعها غنى وكفاية و
ان لم تبلغ في الظهور وقوة الدلالة مرتبة الروايات التالية.

(1) سورة البقرة - الآية - 286
165

ما يدل عليها من السنة
واما ما يمكن الاستدلال به على هذه القاعدة من السنة فهي اخبار كثيرة بين صريح
في المدعى، وظاهر فيه، وقابل للنقض والابرام واليك ما ظفرنا بها وما يمكن ان يقال
في وجه دلالتها:
1 - ما رواه الشيخ باسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: انا نسافر
فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فيكون فيه العذرة ويبول
في الصبي وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال: ان عرض في قلبك شئ فقل هكذا، يعنى:
افرج الماء بيدك ثم توضأ، فإن الدين ليس بمضيق، فإن الله يقول: (ما جعل عليكم
في الدين من حرج) (1).
وظاهرها ان الحكمة في عدم انفعال الماء الكر (بناء على أن مثل هذا الغدير
الذي وقع السؤال عنه في الرواية كر غالبا كما هو الظاهر) هي التوسعة على الأمة و
رفع الضيق والحرج عنها، ومنه يستفاد ان كلما يكون حرجيا وضيقا على الناس فهو
مرفوع عنهم ويؤكد هذا التعميم استدلاله عليه السلام بقوله تعالى: ما جعل عليكم في الدين
من حرج.
والاستناد إلى هذه القاعدة في اثبات حكم عدم انفعال الكر وإن كان من قبيل حكمة
الحكم لا العلة، كما هو كذلك في غير واحد من الروايات الآتية أيضا، الا ان مجرد
ذلك غير ضائر، لأنه لا مانع من كون قضية واحدة بعينها حكمة لحكم وعلة لحكم
آخر، وقد حققنا ذلك في مبحث قاعدة لا ضرر وأثبتنا ضعف ما قد يلوح من بعض كلمات
المحقق النائيني (قدس الله سره) من عدم امكان كون قضية واحدة حكمة لحكم في
مقام وعلة لحكم آخر في مقام آخر فراجع.
2 - ما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل
الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الاناء؟ فقال: لا باس، ما جعل عليكم في الدين

(1) الحديث 14 من الباب 9 من أبواب الماء المطلق من الوسائل
166

من حرج (1).
وسؤال الراوي فيها يحتمل وجهين: أحدهما - أن يكون من جهة الاغتسال
بغسالة الحدث الأكبر، فإنه إذا اغتسل من الاناء وانتضح من غسالته فيه امتزج ماء
الاناء به، وقد لا يكون ذلك بمقدار يستهلك فيه، فيكون باقي الغسل بغسالة الحدث
الأكبر، فتكون الرواية دليلا على جواز الاغتسال به في مقام الضرورة، أو مطلقا، بناء
على الغاء خصوصية المورد. ثانيهما - أن يكون من جهة انفعال الماء القليل، لأن
الجنب لا يخلو عن نجاسة بدنية غالبا، فتكون الرواية من الروايات الدالة على عدم
انفعال الماء القليل، وتنسلك في سلكها، كما استدل به بعض القائلين بعدم الانفعال،
على مذهبه.
هذا ولكن اجمالها من هذه الناحية لا يضر بدلالتها على ما نحن بصدده، لأن
استناده عليه السلام في اثبات هذا الحكم بقاعدة رفع الحرج يدل على اعتبارها على نحو عام
في جميع المقامات كما هو ظاهر. وفى كون استناده إليها في هذا المقام من قبيل
الاستناد إلى الحكمة أو العلة احتمالان لأن يظهر وجههما لمن تدبر.
ومما يستفاد من الرواية ان الحرج المرفوع عن الأمة أمر وسيع يشمل مثل
الاجتناب عن هذا الاناء، فإن الاجتناب عن مثله في تلك الأوساط، مما كان المياه فيها
قليلة، وإن كان عسرا الا انه لم يكن في الاجتناب عنه مشقة عظيمة، وليكن هذا
على ذكر منك.
3 - ما رواه شيخ الطائفة (قده) باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته
عن الجنب يحمل (يجعل) الركوة والتور (2) فيدخل إصبعه فيه؟ قال: إن كان
يده قذرة فاهرقه (فليهرقه) وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه، هذا مما قال الله تعالى
(ما جعل عليكم في الدين من حرج (3).

(1) الحديث 5 من الباب 9 من أبواب الماء المضاف.
(2) (الركوة): ما يجعل تحت المعصرة فيجتمع فيه عصير العنب، و (التور): اناء صغير
(3) الحديث 11 من الباب 9 من أبواب الماء المطلق.
167

ذكره العلامة المجلسي (قده) في باب ما يمكن ان يستنبط منه متفرقات أصول
مسائل الفقه (1).
أقول - لعل وجه استناده عليه السلام إلى قاعدة نفى الحرج لجواز الاغتسال عن الماء
القليل الذي ادخل إصبعه فيه ولو لم يصبها قذر، هو نفى النجاسة المتوهمة في بدن الجنب
أجمع بما انه جنب، ولو لم تصبها نجاسة عينية فإنه لا شك في لزوم العسر والحرج منه
لو كان الامر كذلك.
ويمكن أن يكون ناظرا إلى نفى الحكم الاستحبابي بالاجتناب عن القذارات
العرفية لا الشرعية، الموجودة في اليد غالبا، أو النجاسات الشرعية المشكوكة
التي لا يجب الاجتناب عنها، ولذا ورد في كثير من الروايات الواردة في كيفية اغتسال
الجنب الامر بغسل الكفين أولا قبل الشروع في الغسل (2).
فالاستناد إلى آية نفى الحرج إنما هو لنفى هذا الحكم الاستحبابي بالنسبة إلى
مثل هذا الشخص فتدبر.
هذا ولكن ابهام الرواية من هذه الناحية أيضا لا يقدح في الاستدلال بها على المقصود
بعد استناده عليه السلام بالآية الشريفة لجواز الاغتسال من مثل هذا الاناء، ثم لا يخفى ان
الرواية كسابقتها في احتمال كون الاستناد فيها إلى القاعدة من قبيل الاستناد إلى علة
الحكم أو حكمته.
4 - ما رواه محمد بن يعقوب باسناده عن محمد بن ميسر قال: سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن الرجل الجنب ينتهى إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل
منه، وليس معه اناء يغرف به ويداه قذرتان؟
قال: يضع يده ثم يتوضأ ثم يغتسل، هذا مما قال الله عز وجل: (ما جعل عليكم
في الدين من حرج) (3)

(1) بحار الأنوار المجلد الأول ص 152
(2) راجع الباب 26 من أبواب الجنابة.
(3) الحديث 5 من الباب 8 من أبواب الماء المطلق.
168

القذارة هنا ان كانت بمعنى النجاسة كانت الرواية من أدلة عدم انفعال الماء
القليل - كما استدل بها القائلون بهذا القول - وان كانت قذارة عرفيه كما هو المحتمل
على القول بانفعال الماء القليل، كانت الرواية ناظرة إلى نفى حكم استحبابي وهو
غسل اليدين خارج الاناء قبل الاغتراف منه في مورد الرواية وأشباهه وهذا الحكم
الاستحبابي اما يكون رعاية للتنزه عن القذارات العرفية أو اجتنابا عن القذارات
الشرعية المحتملة التي لا يجب الاجتناب عنها في فرض الشك، كما عرفت آنفا، وعلى
كل تقدير تكون الرواية من أدلة القاعدة فإن ابهامها من حيث موردها لا يضر بالقاعدة
المستدل بها فيها.
5 - ما رواه شيخ الطائفة المحقة باسناده إلى عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف اصنع
بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: ما جعل
عليكم في الدين من حرج، امسح عليه (1)
وهو من أظهر الروايات دلالة على المطلوب لصراحتها في ارجاع حكم المسألة
إلى كتاب الله عز وجل وأمره عليه السلام باستفادة أشباهها من قوله تعالى: (ما جعل عليكم
في الدين من حرج) فلو كان في الأحاديث السابقة شائبة الاشكال من جهة احتمال
كون نفى الحرج فيها من قبيل الحكمة للحكم لا العلة - وقد عرفت ان الاشكال فيها
من هذه الناحية أيضا لا وجه له - يرتفع بصراحة هذا الحديث في كون نفى الحرج علة
للحكم بحيث يدور مدارها ويجوز التعدي من موردها إلى غيره.
نعم يبقى فيها اشكالات من جهات أخر لابد من التعرض لها وبيان ما يمكن ان
يقال في حلها:
الأول - في كيفية استفادة وجوب المسح على المرارة من قوله تعالى: (ما
جعل عليكم من حرج) فإن نفى الحرج إنما ينفى وجوب الوضوء عليه على نحو وضوء
المختار، واما وجوب المسح على الجبيرة فلا.
(1) الحديث 5 من الباب 39 من أبواب الوضوء من الوسائل
169

ويمكن الجواب عنه بوجهين: أحدهما ما افاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس
سره الشريف وحاصله ان المسح الواجب في الوضوء يشتمل على أمرين: امرار اليد
على المحل، ومباشرتها للبشرة، والمتعسر في مفروض سؤال الراوي هو الثاني
أعني مباشرة اليد للبشرة لا امرار اليد على المحل فسقوط الثاني بالحرج لا يوجب سقوط
الوظيفة الأولى. (1)
ويرد عليه ان ارجاع حكم المسح إلى هذين الحكمين وتحليله إليهما مما لا يساعد
عليه فهم العرف في أمثال المقام، فإن الظاهر بنظر العرف ان امرار اليد على المحل
إنما هو مقدمة لحصول المسح على البشرة لا انه أمر مطلوب في نفسه، فوجوبه من
هذه الجهة من قبيل وجوب المقدمة ومن المعلوم سقوطه عند سقوط وجوب ذيها، و
يشهد له ما ورد في باب حرمة المسح على الخفين وذم القائلين به من قوله عليه السلام: إذا كان
يوم القيامة ورد الله كل شئ إلى شيئه ورد الجلد إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين
يذهب وضوئهم؟! (2) فإن ظاهره ان المسح على الخفين كالعدم لا انه مشتمل لجزء من
وظيفة المسح وفاقد لجزئها فتأمل.
ثانيهما - أن يكون مراده عليه السلام من التمسك بالآية الشريفة نفى وجوب المسح
الواجب على المختار، واما بدلية المسح على المرارة فهو أمر آخر مستفاد من قاعدة
الميسور المركوزة في الأذهان، لا سيما في أبواب الوضوء والصلاة كما لا يخفى على من
راجع أحكام الشرع فيها، هذا ولو بقي في الرواية ابهام من هذه الناحية لم يقدح في
الاستدلال بها على المطلوب فتدبر.
الثاني - في امره عليه السلام بالمسح على الجبيرة مع أن الظاهر عدم وقوع جميع
أظفاره وكفاية المسح على غيره من الأظفار الباقية - بناءا على كفاية المسح ولو على
إصبع واحد أو أقل منه - ويمكن الذب عنه بان الامر بالمسح عليها للعمل باستحباب

(1) ذكره في (الفرائد) في باب حجية ظواهر الكتاب
(2) الحديث 4 من الباب 38 من أبواب الوضوء.
170

المسح بجميع الكف على ظهر القدم أجمع، أو ان الظفر الساقط لعله كان من أظفار
يده لوقوعه على الأرض بعد عثره وهو وإن كان بعيدا عن مساق السؤال الا انه ليس فيها ما
ينافيه صريحا كما لا يخفى على من راجعها وتأمل فيه حقه، ومن المعلوم ان الواجب
في غسل اليد غسلها بتمامها.
الثالث - في سنده لضعفه بعبد الاعلى مولى آل سام. فإنه وإن كان يظهر من
بعض القرائن المذكورة في الكتب الرجالية كونه إماميا ممدوحا الا انه لم يثبت
وثاقته ومجرد ذلك لا يكفي في الاعتماد على روايته.
ويمكن دفعه بكفاية كون مثل (ابن محبوب) في سلسلة السند فإنه رواه عن علي
ابن الحسن بن رباط، الذي قيل في حقه انه ثقة لا غمز فيه، عن عبد الأعلى عن الصادق عليه السلام
وابن محبوب من أصحاب الاجماع ويجب تصحيح ما يصح عنه.
ولكن لنا في هذا - أعني تصحيح ما يصح عن أصحاب الاجماع والاكتفاء بصحة
السند إليهم وعدم ملاحظة من بعدهم - كلام واشكال وإن كان من المشهورات،
فرب مشهور لا أصل له وليس المقام مقام بسط الكلام فيه، ولعلنا نشير إليه في بعض
المباحث الآتية لمناسبات تأتى انشاء الله.
6 - ما رواه الصدوق باسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث في تفسير
آية الوضوء قال: فلما ان وضع الوضوء عمن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحا لأنه قال:
(بوجوهكم) ثم وصل بها (وأيديكم منه) أي من ذلك التيمم، لأنه علم أن ذلك أجمع
لم يجر على الوجه، لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها، ثم قال
(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) والحرج الضيق (1)
والانصاف انه لا يستفاد من الرواية أمر زائد على ما يستفاد من نفس الآية الشريفة
وقد عرفت عند ذكر آيات الكتاب المستدل بها على القاعدة ان لنا في دلالة هذه الآية
عليها تأملا واشكالا، لأن الظاهر من مقابلة نفى إرادة الحرج باثبات إرادة التطهير
بقوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن ليطهركم) ان المراد بالحرج

(1) الحديث 1 من الباب 13 من أبواب التيمم
171

هنا هو العمل الشاق الخالي عن فائدة مرغوبة، والا فمجرد إرادة التطهير من الوضوء و
الغسل والتيمم الذي بدل عنهما لا يرفع مشقة الفعل لو كان شاقا وحرجيا في نفسها،
فلا معنى لنفى إرادة الحرج واثبات إرادة التطهير، لأن حالها من حيث العسر والضيق
والمشقة لا تتفاوت بإرادة غاية الطهارة منها وعدمها.
7 - ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد عن مسعدة بن صدقة
قال حدثني جعفر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله قال: مما اعطى الله أمتي وفضلهم على سائر
الأمم، أعطاهم ثلث خصال لم يعطها الا نبي (نبيا) وذلك أن الله تبارك وتعالى كان إذا بعث
نبيا قال له: اجتهد في دينك ولا حرج عليك وان الله تبارك وتعالى اعطى ذلك أمتي حيث
يقول (ما جعل عليكم في الدين من حرج) يقول: من ضيق الحديث (1)
وظاهر هذا الحديث ان رفع الحرج الذي من الله به على هذه الأمة المرحومة
كان في الأمم الماضية خاصة بالأنبياء وان الله اعطى هذه الأمة ما لم يعطها الا الأنبياء
الماضين (صلوات الله عليهم) فلا ينافي ما دل على اختصاص رفع الحرج بهذه الأمة فتأمل
8 - ما رواه العلامة المجلسي (قدس سره) من كتاب (عاصم بن حميد) عن
محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا
اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون، وجاهدوا في الله حق
جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) فقال: في الصلاة والزكاة
والصيام والخير ان تفعلوه (2)
ذكره العلامة المجلسي في باب (ما يمكن ان يستنبط من الآيات والاخبار من متفرقات
أصول مسائل الفقه) وقال في ذيله: الظاهر أن الغرض تعميم نفى الحرج (انتهى).
والظاهر أن مراده ان نفى الحرج لا يختص بعبادة من العبادات بل يشمل جميعها
وجميع الطاعات والخيرات التي يفعلها الانسان فلم يجعل الشارع فيها أمرا حرجيا
فلو كان اطلاقها يشمل موارد الحرج لابد من تخصيصها بغيره.

(1) ورواه في تفسير البرهان في ذيل الآية الشريفة عن كتاب عبد الله بن جعفر أيضا
(2) بحار الأنوار - المجلد الأول صفحة 155
172

9 - ما رواه الشيخ باسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال: سألته
عن الرجل يأتي السوق فيشترى جبة فراء لا يدرى أذكية هي أم غير ذكية؟ أيصلي
فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر عليه السلام كان يقول: ان الخوارج
ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك (1)
دل على أن الحكمة في حيلة ما يشترى من سوق المسلمين هي التوسعة على
الأمة ورفع الضيق عنها، وقوله: (ان الدين أوسع من ذلك) دليل على عدم اختصاص
هذا الحكم بهذا المورد وان الدين وسيع في جميع نواحيه وليس فيه حكم حرجي و
التضييق فيها إنما ينشأ من الجهالة، كما نشأ للخوارج المتقشفين الضالين وهذه الرواية
وان خلت عن عموم (نفى الحرج) بهذا العنوان الا انها مشتملة على معناه وهو نفى
الضيق واثبات التوسعة في أحكام الدين، كما سيأتي شرحه في باب معنى الحرج
لغة وعرفا.
10 - ما رواه الصدوق مرسلا قال: سئل علي عليه السلام أيتوضأ من فضل وضوء
جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركوا بيض مخمر؟ فقال: لا، بل من فضل
وضوء جماعة المسلمين، فإن أحب دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة (2)
قال في المجمع: (الركوة المخمر أي المغطى) ويستفاد من جوابه عليه السلام
تفضيله الوضوء من فضل وضوء جماعة المسلمين على الوضوء من الاناء المغطى، و
استناده في هذا الحكم إلى سهولة الشريعة دليل على أن الأحكام الحرجية المعسورة ليست
منها، ولا أقل من كونه مؤيدا لسائر اخبار الباب.
11 - ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه
عن علي عليه السلام في حديث طويل يذكر فيه مناقب رسول الله صلى الله عليه وآله وما سئل ربه ليلة المعراج، و
فيه انه صلى الله عليه وآله قال: اللهم إذا أعطيتني ذلك (يعنى به رفع المؤاخذة على الخطاء والنسيان)
فزدني، فقال الله تعالى: سل، قال: ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا

(1) الحديث 3 من الباب 50 من أبواب النجاسات من الوسائل
(2) الحديث 3 من الباب 8 من أبواب الماء المضاف
173

يعنى بالإصر الشدائد التي كانت على من كان من قبلنا، فاجابه الله إلى ذلك فقال تبارك
اسمه: قد رفعت عن أمتك الآصار التي كانت على الأمم السابقة: كنت لا اقبل صلاتهم
الا في بقاع من الأرض معلومة، اخترتها لهم وان بعدت، وقد جعلت الأرض كلها لامتك
مسجدا وطهورا، فهذه من الآصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك، وكانت
الأمم السالفة إذا أصابهم اذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم (1) وقد جعلت الماء
لامتك طهورا، فهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك - إلى أن قال - و
كانت الأمم السالفة صلاتها مفروضة عليها في ظلم الليل وانصاف النهار وهي من الشدائد
التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك وفرضت عليهم صلاتهم في أطراف الليل والنهار وفى
أوقات نشاطهم... والحديث طويل.
ورواه العلامة المجلسي (قده) في بحار الأنوار في باب احتجاجات
أمير المؤمنين عليه السلام.
ورواه أيضا المحدث النبيل السيد هاشم البحراني في تفسيره المسمى بالبرهان
في ذيل قوله تعالى: آمن الرسول بما انزل إليه من ربه الآية.
والحديث ضعيف بالارسال وفيه بعض الغرائب سيما في الفقرات التي لم نذكرها
يظهر لمن راجعها ولكن يصلح مؤيدا لما سبقه.
12 - ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي
عبد الله عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا الخ: ان هذه الآية
مشافهة الله لنبيه صلى الله عليه وآله ليلة اسرى به إلى السماء قال النبي صلى الله عليه وآله لما انتهيت
إلى محل سدرة المنتهى - إلى أن قال - فقلت: (ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا) و

1 - الظاهر أن الضمير في قوله (قرضوها) راجع إلى النجاسة يعنى قرضوا النجاسة
وآثارها لا انهم كانوا يقرضون لحومهم، وقرض عين النجاسة وآثارها عن أبدانهم لعله كان مثل
حلق الشعر عنها ويشتمل على مشقة كثيرة والا فوجوب قرض اللحوم عليهم أمر بعيد جدا وما ورد
في بعض الروايات من (ان بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم قطرة من بول قرضوا لحومهم بالمقاريض)
لعله سهو من الراوي عند النقل بالمعنى، والمقروض كان عين النجاسة واثرها فتأمل.
174

قال الله: لا أؤاخذك، فقلت: (ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من
قبلنا) فقال الله: لا أحملك، فقلت: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا
وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) فقال الله: قد أعطيتك ذلك لك و
لامتك، فقال الصادق عليه السلام ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله صلى الله عليه وآله حيث سئل
لامته هذه الخصال. (1)
وفى معناها أو ما يقرب منها روايات أخر واردة في تفسير الآية الشريفة من
أرادها فليراجعها.
13 - ما رواه في (أصول الكافي) باسناده عن حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله (ع)
قال قال لي اكتب فأملى على: ان من قولنا ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم
ارسل إليهم رسولا وانزل عليهم الكتاب فامر فيه ونهى، وامر بالصلاة والصيام فنام
رسول الله صلى الله عليه وآله عن الصلاة، فقال: انا أنيمك وانا أوقظك، فإذا قمت فصل ليعلموا إذا
أصابهم ذلك كيف يصنعون، ليس كما يقولون: إذا نام عنها هلك، وكذلك الصيام انا
أمرضك وانا أصحك فإذا شفيتك فاقضه، ثم قال أبو عبد الله: وكذلك إذا نظرت في
جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق - إلى أن قال - وقال: وما أمروا الا بدون سعتهم
وكل شئ أمر الناس به فهم يسعون له وكل شئ لا يسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس
لا خير فيهم، ثم تلا عليه السلام (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون
ما ينفقون حرج) الحديث (2).
وظاهر بعض فقرات ذيل الحديث وإن كان نفى التكليف بما لا يطاق الا ان ملاحظة
مجموعها لا سيما قوله، (لم تجدا حدا في ضيق) واستشهاده بالآية الأخيرة تشهد بأنها
ناظرة إلى نفى التكاليف الحرجية أيضا.
14 - الرواية المشهورة المعروفة المروية عنه صلى الله عليه وآله، بعثت بالحنيفية
السمحة السهلة.

1 - ورواها المحدث البحراني (قده) أيضا في تفسيره في ذيل الآية الشريفة.
2 - أصول الكافي ج 1 ص 164 من الطبعة الأخيرة.
175

هذا ما ظفرنا عليه من الروايات الدالة على هذه القاعدة الكلية وفى دلالة بعضها
كسند بعضها الاخر وإن كان تأمل أو اشكال الا ان في مجموعها غنى وكفاية انشاء الله.
ونحن وان بذلنا الجهد في الظفر بهذه الروايات وتتبع مظانها ومواردها الا ان
المتتبع لعله يظفر بروايات أخر غيرها تؤكدها أو تؤيدها، وفى الروايات الواردة في
الباب الأول من المجلد الأول من الوسائل (في مقدمة العبادات) أيضا روايات لا
تخلو عن اشعار بها يظهر لمن راجعها، ولكن هناك بعض الروايات تبدو في أول النظر
دلالتها على المطلوب ولكن عند التأمل يظهر انها ناظرة إلى نفى التكليف بما لا يطاق
الذي هو خارج عن نطاق البحث فكن على بصيرة منها.
176

المقام الثاني في مفاد القاعدة
المراد من العسر والحرج والأصر
اما (الحرج) فالذي يظهر من تتبع كلمات أئمة اللغة وموارد استعمالاته وغير واحد
من الروايات السابقة المفسرة لها انها في الأصل بمعنى (الضيق).
قال في (القاموس): الحرج المكان الضيق، الكثير الشجر، الاثم.
وقال في (الصحاح): مكان حرج أي ضيق، وفسره بالاثم أيضا.
وقال في (النهاية. الحرج في الأصل الضيق، ويقع على الاثم والحرام وقيل
الحرج أضيق الضيق.
وقال في (المجمع: ما جعل عليكم في الدين من حرج) أي من ضيق - إلى أن
قال - وفى كلام الشيخ علي بن إبراهيم: الحرج الذي لا مدخل له والضيق ما يكون له
مدخل، والحرج الاثم.
وفى رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (وهي الرواية السادسة مما ذكرنا) ورواية
قرب الإسناد عن الصادق عليه السلام (وهي الرواية السابعة مما ذكرنا) تفسير الحرج صريحا
بالضيق، وقوله (ع) في رواية أبي بصير (وهي الرواية الأولى مما ذكرنا): (ان
الدين ليس بمضيق فإن الله يقول: ما جعل عليكم في الدين من حرج ظاهرة في هذا
المعنى أيضا فالمستفاد من هذه الروايات الثلث تفسير الحرج بالضيق.
وقد استعمل (الحرج) في الكتاب العزيز في معان ثلاثة:
الأول - (الضيق) قال الله تعالى: فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام
ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقا حرجا (1). وقال تعالى: كتاب انزل إليك فلا يكن
في صدرك حرج منه (2)

1 - الانعام - 125
2 - الأعراف - 2
177

وقوله تعالى: ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (1) فإن ظاهر
سياق هذه الآيات يشهد بان المراد من الحرج فيها هو الضيق.
الثاني - (لاثم) كقوله تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على
الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله (2) وقال تعالى: ليس على
الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج (3) وقال تعالى: ما كان
على النبي من حرج فيما فرض الله له (4) فإن الحرج في هذه الموارد استعمل بمعنى الاثم
الثالث (الكلفة) كقوله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج (5)
وقوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم (6)
ولكن الانصاف ان جميع هذه المعاني راجعة إلى معناه الأصلي وهو (الضيق)
واما الاثم والكلفة، وكذا كثرة الشجر كما في قول القاموس: مكان حرج أي
الكثير الشجر فهي من مصاديق الضيق فإن الاثم يوجب ضيقا على صاحبه في الآخرة بل
وفى الدنيا، فقوله تعالى: ليس على الأعمى حرج الخ كأنه بمعنى قولنا ليس على هذه
الطوائف ضيق ومحدودية في الدنيا من جهة بعض أفعالهم فهم مرخصون فيها، بل ولا
ضيق في الآخرة من جهة العذاب وغيره. وهكذا كثرة الشجر توجب ضيقا في المكان
وما ذكرنا هو الذي يساعد عليه النظر الدقيق بعد ملاحظة موارد استعمالات
هذه الكلمة
ولكن الذي يظهر مما حكاه ابن الأثير في كلامه بقوله: (وقيل إنه أضيق الضيق)
وكذا ما حكاه في المجمع عن علي بن إبراهيم من أن (الحرج ما لا مدخل له والضيق
ماله مدخل) ان الحرج ليس مطلق الضيق، بل هو ضيق خاص عبر عنه في النهاية بأضيق
الضيق يعنى به الضيق الشديد وفى كلام علي بن إبراهيم بما لا مدخل له، كأن مراده

1 - النساء - 65
2 - التوبة - 91
3 - النور - 61
4 - الأحزاب - 38
5 - الحج - 78
6 - المائدة - 6
178

أيضا هو الضيق الشديد الذي بلغ حدا لا مخلص منه ولا مندوحة له
والتحقيق عدم اعتبار شئ من الخصوصيتين فيه لخلو كلمات أئمة اللغة منها، حتى أن
ابن الأثير نفسه أسنده إلى قيل مشعرا بضعفه، والأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت
(عليهم السلام) المفسرة له أيضا خاليه عن القيدين، مضافا إلى عدم انطباقه بهذا المعنى
على موارد كثير من الروايات السابقة، حيث استدل فيها بقوله تعالى: وما جعل عليكم
في الدين من حرج لأمور لا يكون من أضيق الضيق، ولا مما لا مدخل له فراجع وتأمل واما
ما حكاه في المجمع عن علي بن إبراهيم فلا حجة فيه.
واما العسر: ففي (النهاية) انه ضد اليسر وهو الضيق والشدة والصعوبة.
وفى القاموس: العسر بالضم وبضمتين وبالتحريك ضد اليسر وتعسر على الامر
وتعاسر واستعسر: اشتد والتوى، ويوم عسر وعسير واعسر: شديد أو شوم. وقريب منه
ما ذكره غيرهما.
واما الإصر: ففي (القاموس) الإصر بالكسر العهد والذنب والثقل.
وعن (النهاية): الإصر الاثم والعقوبة واصله من الضيق والحبس، يقال أصره
يأصره إذا حبسه وضيقه.
وعن (الصحاح) أصره حبسه وأصرت الشئ اصرا كسرته.،. والأصر العهد و
الإصر الذنب والثقل. ويقرب منه غيره
وفى (مفردات الراغب): الإصر عقد الشئ وحبسه بقهره، والمأصر محبس
السفينة، قال تعالى: ويضع عنهم إصرهم أي الأمور التي تثبطهم وتقيدهم عن
الخيرات والوصول إلى الثوابات، وعلى ذلك ولا تحمل علينا اصرا وقيل ثقلا و
تحقيقه ما ذكرت، والأصر العهد المؤكد الذي يثبط ناقضه عن الثواب والخيرات،
قال تعالى: أأقررتم واخذتم على ذلكم اصرى، الآصار: الأوتاد والطنب التي
بها يعمد البيت (انتهى ملخصا).
وفى (مجمع البحرين): أصل الإصر الضيق والحبس يقال أصره يأصره إذا ضيق
عليه وحبسه ويقال للثقل اصرا لأنه يأصر صاحبه من الحركة لثقله وقوله تعالى
179

يضع عنهم إصرهم هو مثل لثقل تكليفهم.
والمتحصل من جميع ذلك أن (الإصر) في الأصل هو الحبس والضيق وإنما يستعمل
بمعنى العهد والاثم والثقل والعقوبة لمناسبات فيها مع هذا المعنى، وتفسيره في بعض -
الأخبار السابقة بالشدائد (الحديث 11 مما ذكرنا) أيضا مأخوذ من هذا المعنى. فهو
والحرج بمعنى واحد أو متقارب المعنى.
تنبيه - قد ظهر مما ذكرنا في معنى (العسر) و (الحرج) انهما لا يفترقان فرقا
جوهريا وهل هما بمعنى واحد، أو الأول أعم من الثاني؟ ذهب المحقق النراقي (قده)
في عوائده إلى الأخير حيث قال:
(العسر كما أشرنا إليه أعم مطلقا من الضيق، فإن كل ضيق عسر ولا عكس، فإن
من حمل عبده على شرب دواء كريه في يوم مثلا يقال إنه يعسر عليه ولا يقال إنه في ضيق
أو ضيق عليه مولاه، وكذا من يكون منتهى طاقته حمل مأة رطل، إذا أمر بحمل تسعين
مثلا ونقله إلى فرسخ يقال إنه يعسر عليه ولكن لا يقال إنه في الضيق، نعم لو أمر بحمله
ونقله كل يوم يقال إنه ضيق عليه، وكذا يصح ان يقال إن التوضى بالماء البارد في يوم
شديد البرد مما يعسر، ولكن لا يقال إن المكلف في ضيق من ذلك) انتهى موضع الحاجة
من كلامه.
ويظهر من كلامه هذا ان الحرج لا يدور مدار صعوبة العمل فحسب، - وان بلغ
من الصعوبة ما بلغ - بل يعتبر فيه مضافا إلى ذلك نوع تضيق آخر على المكلف، فمثل
الوضوء أو الغسل مرة واحدة بالماء البارد شديد البرودة في أشد أيام الشتاء وإن كان صعبا
جدا، لكن ليس حرجيا لأنه ليس فيه ضيق على المكلف عنده، نعم لو كرر هذا العمل
أياما كان ضيقا وحرجا.
وأنت خبير بان هذا المعنى مضافا إلى كونه مخالفا لفهم الأصحاب المستدلين
بنفي الحرج في مقامات كثيرة لنفى ما فيه مجرد الصعوبة من التكاليف، من دون اعتبار
أمر زائد عليه، مثل الضيق الحاصل من تكرار العمل، مخالف لاستدلالات الأئمة عليهم
180

السلام بالآية الشريفة في مقامات ليس فيها أمر زائد على ما فيها من الصعوبة والمشقة
والعسر، فراجع الأحاديث السابقة تجد فيها شواهد مختلفة لهذا المعنى.
والحق ان (الحرج) في الأصل وإن كان بمعنى الضيق الا ان الضيق المعتبر
في الأمور الحرجية ليس أمرا وراء صعوبة العمل وشدته والمشقة الحاصلة منه، فإن
العمل إذا كان صعبا وعسرا كان المكلف منه في ضيق، بخلاف ما إذا كان سهلا ويسرا
وما ذكره قدس سره من الأمثلة شاهدا على ما ادعاه قابل للمنع والانكار، فإن
من حمل عبده على شرب دواء كريه غاية الكراهة ولو مرة واحدة يقال إن هذا العمل
حرج عليه، وليس ذلك الا لأنه يقع منه في ضيق وإن كان هذا الضيق في آنات خاصة و
كذلك الحال في ساير الأمثلة، والحاصل ان المعتبر في معنى الحرج وجود نوع ضيق
ومحدودية فيه، ولو كان هذا الضيق حاصلا من صعوبة العمل وتعسره، ولا يعتبر فيه
مداومته في يوم أو أيام عديدة وتكراره، ويزيدك هذا وضوحا بملاحظة ما ذكرناه
في معنى هذه الكلمة، وموارد استعمالها من الكتاب والسنة وغيرهما، فراجع وتأمل.
نعم هنا اشكال وهو انه لو كان المراد من (الحرج) المنفى في هذه القاعدة مجرد
الضيق والصعوبة في قبال السعة والسهولة، على ما هو الظاهر من معناه لغة وعرفا، يلزم
نفى كل تكليف يشتمل على أدنى مراتب الصعوبة والمشقة وهذا يوجب رفع اليد عن
كثير من التكاليف الشرعية كالصيام في أيام الصيف لكثير من الناس والوضوء في ليالي
الشتاء بالمياه الباردة وغير ذلك من اشباهه، بل جل التكاليف يشتمل على نوع مشقة في
كثير من الأوقات والحالات، وهذا مما لا يتفوه به فقيه، ولو بنى عليه حصل منه فقه جديد.
وهذا يكشف عن أن معناه اللغوي والعرفي وإن كان وسيعا في نفسه، الا ان المراد
منه هنا مرتبة خاصة منه لا مطلق الصعوبة والمشقة والضيق، لكن أي مرتبة منه؟ و
ما حدها؟ وما الدليل على تعيين حد خاص بعينه؟ هذه اسؤلة أشكلت أجوبتها على غير
واحد من الأكابر على ما يظهر من كلماتهم في مقامات مختلفة
181

ولذا قال الشيخ الحر العاملي (قدس سره الشريف) في كتابه المسمى ب‍ (الفصول
المهمة) بعد ذكر طائفة من الاخبار النافية للحرج (نفى الحرج مجمل لا يمكن
الجزم به فيما عدا التكليف بما لا يطاق، والا لزم رفع جميع التكاليف) انتهى.
وذهابه (قده) إلى اجمال أدلة نفي الحرج إنما نشأ من قيام قرينه مقامية كما
عرفت على إرادة مرتبة خاصة منه لعدم امكان إرادة جميع مراتبه ولكن أشكل عليه
الامر في تعيين هذه المرتبة لعدم قيام دليل عليه عنده.
لكن الحق كما يظهر بعد امعان النظر امكان تعيين هذه المرتبة وهي (ما يلزم
منه مشقة شديدة لا يتحملها الناس عادة في مقاصدهم) فإنها القدر المسلم من أدلة نفي
الحرج، أو ان القدر المسلم خروجه منها هو ما دون هذه المرتبة كما يشهد به رواية
عبد الأعلى مولى آل سام الواردة في حكم الجبيرة وكذا غيره من روايات الباب.
والظاهر أن فقهاء لأصحاب (قدس سرهم) أيضا لم يفهموا من عمومات نفى الحرج
الا ذاك، ولذا صرح غير واحد منهم في مسألة (جواز التيمم بخوف الشين في أعضاء الوضوء)
بوجوب تقييدها بما لا يتحمل عادة أو بالشديد منه، أو بالفاحش، على اختلاف تعابيرهم
قال الشيخ الأجل صاحب الجواهر (قده) عند التعرض لهذه المسألة ما حاصلة:
(لا اعرف في جواز التيمم عند خوف الشين خلافا بين الأصحاب وظاهر اطلاق كثير
منهم عدم الفرق بين شديده وضعيفه، وهو مشكل جدا إذ لم نعثر له على دليل سوى
عمومات العسر والحرج، واحتمال دخوله في المرض أو في اطلاق ما دل على التيمم عند
خوف البرد، ومن المعلوم عدم العسر في ضعيفه، بل لا يكاد ينفك عنه غالب الناس في
أوقات البرد، وعدم صدق اسم المرض عليه، وظهور أدلة خوف البرد في غيره، ثم قال ولعله لذا
قيده في موضع من المنتهى بالفاحش، واختاره جماعة ممن تأخر عنه منهم المحقق
الثاني في جامعه والشهيد الثاني في روضه والفاضل الهندي في كشفه، واليه يرجع ما
عن جماعة أخرى من التقييد بما لا يتحمل عادة، فالأقوى الاقتصار على الشديد منه الذي
يعسر تحمله عادة) انتهى كلامه.
وكأنه قدس سره تفطن لما ذكرناه من وجود القرينة المقامية على صرف اطلاقات
182

أدلة نفي الحرج في هذا المقام، ولكن قد عرفت عدم اختصاصها به.
والظاهر أن مراد غير هؤلاء المحققين الذين قيدوا الاطلاق بما عرفت من (الشديد)
أو (الفاحش) أيضا ذلك فلا خلاف بينهم فيه كما أن الظاهر انحصار مدرك المسألة
المذكورة في قاعدة لا حرج.
وقد تعرض للمسألة كثير من أعاظم المتأخرين منهم المحقق اليزدي في (عروته)
قال: (بل لو خاف من الشين الذي يكون تحمله شاقا تيمم) انتهى. وقرره عليه كثير
من محققي المحشين وزاد بعضهم: (إذا كانت بحيث لا يتحمل عادة).
ثم لا يخفى عليك ان عدم تحمل مشقة الفعل عادة يختلف باختلاف الافعال وما
يرام منها من حيث الاهتمام بشأنها وباختلاف الحالات وغيرها فتدبر جيدا.
فتحصل من جميع ذلك أن المعيار في قاعدة نفى الحرج ليس مطلق المشقة
والعسر الموجودين في كثير من التكاليف الشرعية أو أكثرها بل المشقة الشديدة
التي لا يتحمل عادة في مثل ذاك الفعل، وان الدليل عليه قيام قرينة مقامية على هذا
التقييد كما عرفت، فليس قاعدة نفى الحرج مجملة مبهمة، كما أنه لا يلزم منه تخصيص
الأكثر أو المستوعب، وسيأتي تتمة لهذا الكلام في (التنبيه الأول) من التنبيهات
الآتية انشاء الله.
183

مفاد القاعدة
ووجه تقدمها على سائر العمومات
لا يخفى ان العسر والحرج والإصر وأمثال هذه العناوين أوصاف للأفعال التي
تتعلق بها الأحكام لا لنفس الأحكام، مثلا وضوء المختار لمن على يده جبيرة أمر حرجي
متعسر، فالمتصف بهذه الصفة نفس هذا العمل لا الوجوب المتعلق به، فلا يقال وجوب
الوضوء على مثل هذا الشخص أمر حرجي وفيه ضيق على المكلف الا من باب الوصف
بحال المتعلق، فإنه لو كان في الوجوب ضيق فإنما هو من ناحية العمل المتعلق به.
ويشهد له نفى الجعل عنه. في قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)
فإن الجعل على المكلفين كناية عن التكليف، والمجعول هو نفس العمل المكلف به
وهو المتصف بالحرج هنا، فكأن (المكلف به) أمر يضعه الشارع على عاتق المكلفين
ويكون ثقله عليهم، كما أنه قد يرفعه عنهم (ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت
عليهم) فقوله: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) بمعنى: لم يكلفكم عملا حرجيا متعسرا
وأوضح من ذلك قوله صلى الله عليه وآله في رواية الاحتجاج السابقة (1): (يعنى بالأصر
الشدائد التي كانت على الأمم السابقة - إلى أن قال - كنت لا اقبل صلاتهم الا في بقاع
من الأرض معلومة اخترتها لهم وان بعدت وقد جعلت الأرض كلها لامتك مسجدا و
طهورا فهذه من الآصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك)... إلى غير
ذلك من فقراتها، فإنها ظاهرة أو صريحة في أن نفس هذه الأعمال كانت من الآصار الثابتة
في حق الأمم الماضية المرفوعة عن هذه الأمة المرحومة.
فالمرفوع أولا وبالذات هي نفس الافعال الحرجية الا ان رفعها عن المكلفين
أو عدم جعلها عليهم كناية عن عدم ايجابها كما أن وضعها عليهم كناية عن ايجابها فالوضع
والرفع في عالم التشريع هو الايجاب ونفيه وهذا التعبير - كما عرفت - مأخوذ من

1 - نقلناها تحت الرقم (11).
184

مشابهة الالزام بشئ وايجابه لوضعه على عاتق المكلف فكأن الشارع المقدس إذا أوجبه
على المكلفين وضعه عليهم في الخارج وإذا لم يوجبه عليهم رفعه عنهم.
والحاصل ان العسر والحرج كمقابليهما من أوصاف أفعال المكلفين وهي التي
قد تكون شاقا ضيقا كما قد تكون سهلا يسيرا.
وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أنه لا اشكال في تقدم عمومات نفى الحرج على
العمومات المثبتة للأحكام بعناوينها الأولية ووجوب تخصيصها بها، ويشهد له استشهاد
الإمام عليه السلام بها في قبال كثير من الأدلة المثبتة للأحكام مضافا إلى فهم الفقهاء رضوان
الله عليهم واستنادهم إليها في فروع فقهية كثيرة، ولكن ما وجه هذا التقدم؟ فهل هو من
جهة حكومتها عليها أو أمر آخر ورائها؟
التحقيق انه على ما ذكرنا من أن العسر والحرج وأشباههما من أوصاف أفعال
المكلفين لا الأحكام المتعلقة بها لا يصح لنا ان نقول بان وجه تقدم عمومات هذه القاعدة
على أدلة الأحكام هو حكومتها عليها، فإنها عبارة عن كون أحد الدليلين بمدلوله
اللفظي ناظرا إلى الاخر بحيث لولاه لكان لغوا.
اما بان يتصرف في موضوعه، أو في حكمه، أو في متعلقه، أو في انتساب المتعلق
إلى موضوعه، وقد مر بيانه في القاعدة الأولى من هذه السلسلة وهي. (قاعدة لا ضرر)
عند ذكر نسبتها مع سائر الأدلة
ومن المعلوم ان دليل نفى الحرج إنما ينفى وجوده وجعله على المكلفين في عالم
التشريع، من دون أن يكون ناظرا إلى غيره من أدلة أحكام الشرع نظر التصرف فيها
بأحد الأنحاء الأربعة المتقدمة، فمن هذه الجهة يكونان في عرض واحد فهما من قبيل
المتعارضين، ففي الحقيقة أدلة نفي الحرج تكون من سنخ ما دل على أنه (لم يجعل
على النساء جمعة ولا جماعة ولا اذان ولا إقامة) فلو كان هناك ما يدل بعمومها على أن
عليهن بعض هذه الأمور كانتا من المتعارضين، لا ان الأول حاكم على الثاني، فلا يقدم
عليه الا من باب التخصيص، ومجرد كون لسانه (نفى الجعل) لا يكفي في تقدمه على غيره
كما أن من الواضح ان النسبة بينها وبين أدلة الأحكام هي العموم من وجه،
185

فكما انه يمكن تخصيصها بأدلة نفى الحرج يمكن تخصيص أدلة نفي الحرج بها.
الا ان كونها في مقام الامتنان على الأمة يأبى من التخصيص جدا. فتخصيص الأدلة
المثبتة للأحكام بها لقوة دلالتها بالنسبة إليها، وهذا أمر ظاهر لمن راجع العمومات
السابقة. ومنه يظهر وجه استشهاد الإمام عليه السلام بها في مقابل كثير من العمومات المثبتة
للأحكام، وفهم الفقهاء واستشهادهم بها في أبواب شتى.
نعم لو قلنا بان العسر والحرج من أوصاف نفس الأحكام الشرعية وانها هي التي
قد تكون عسرة حرجية وأخرى سهلة يسيرة وان قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين
من حرج) في قوة قولنا ان الأحكام المجعولة الثابتة بادلتها ليس فيها ما يكون حرجا
وضيقا على المكلفين، فح يصح القول بحكومتها عليها لأنها ناظرة إليها ومفسرة لها بما
هو ملاك الحكومة، ولكن قد عرفت آنفا ضعف هذا المبنى وانها من صفات أفعال المكلفين
بل القول بالحكومة على هذا المبنى أيضا عندي غير صافية عن شوب الاشكال كما
لا يخفى على من تدبر.
هذا وقد بقي هنا أمور هامة نذكرها في طي تنبيهات:
186

التنبيه الأول
هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات الواردة عليها؟
من الاشكالات القوية التي أوردت على هذه القاعدة، انه كيف يمكن الحكم
بعمومها وارتفاع كل أمر حرجي في الشريعة بها، مع ما يترائى من كثرة التكاليف
الشاقة الحرجية في أبواب العبادات وغيرها، كالوضوء بالمياه الباردة في ليالي الشتاء
والصوم في الأيام الحارة من الصيف مع ما فيهما من المشقة الظاهرة، وكالجهاد بالأموال
والأنفس: ومقارعة السيف والسنان، ومقابلة الشجعان، وعدم الفرار من الزحف و
تحمل لومة اللائمين في اجراء أحكام الله، وتسليم النفس لاجراء الحدود والقصاص، و
الهجرة عن الأوطان لتحصيل مسائل الدين، وبثها بين المسلمين الواجب كفاية، و
أشد منها الجهاد الأكبر مع النفس وجنود الشياطين.
فهذه التخصيصات الكثيرة توهنها وتمنع عن التمسك بعمومها، لأن قبح تخصيص
الأكثر دليل على أن المراد منها غير ما يفهم منها في بدء الامر فيكون معناها مجملة مبهمة غير قابلة للاستدلال، فإن ما يظهر منها بادئ الامر غير مراد والمراد منها غير معلوم، فعمومها
كعمومات (القرعة) وما أشبهها موهونة لا يجوز العمل بها الا في موارد عمل بها الأصحاب
وكأنه إلى هذا المعنى أشار المحدث الجليل الحر العاملي قدس سره في كتابه
المسمى ب‍ (الفصول المهمة) حيث قال بعد نقل طائفة من الاخبار النافية للحرج:
(نفى الحرج مجمل لا يمكن الجزم به فيما عدا تكليف ما لا يطاق والا لزم رفع جميع
التكاليف) انتهى.
فالتزم بعد القول باجمالها وابهامها بسقوطها عن الحجية الا في القدر المتيقن
منها وهو التكليف بما لا يطاق.
أقول - قوله: (والا لزم رفع جميع التكاليف) إن كان مراده منه المبالغة
في كثرة التخصيصات الواردة عليها بما عرفت آنفا، وأشرنا إليه أيضا عند ذكر معنى
187

(العسر والحرج) فله وجه مع قطع النظر عما سيأتي، واما إن كان مراده منه ما يظهر منه
في ابتداء النظر من نفى عامة التكاليف الشرعية، لما في جميعها من مرتبة من العسر و
الحرج، فهو مبنى على أن يكون المراد من (الحرج) مطلق الكلفة الحاصلة ولو من
الأمور البسيطة العادية، وهو ممنوع جدا، كما عرفت عند تحقيق معنى هذه الكلمة.
مضافا إلى أن غير واحد من التكاليف الشرعية لا يشتمل على أدنى مشقة وكلفة،
لموافقتها لكثير من الطباع فالقول باستلزام عموم نفى الحرج لنفى عامة التكاليف
ممنوع من هذه الجهة أيضا.
أضف إلى ذلك أن ما ذكره هذا المحدث الجليل هدم لأساس هذه القاعدة رأسا،
لأن بطلان التكليف بما لا يطاق ظاهر لكل أحد بل لا يبعد كونه من ضروريات الدين،
فحصر مفادها في خصوص التكليف بما لا يطاق مساوق لسقوطها عن الحجية وهو مخالف
لسيرة الفقهاء حيث يستدلون بها في كثير من أبواب الفقه لنفى التكاليف الحرجية غير
البالغة حد ما لا يطاق، بل مخالف لما عرفت من استدلال الإمام عليه السلام بها لكثير من
المسائل وتعليمه عليه السلام لاستنباط الحكم من هذه القاعدة العامة.
واما قصر العمل بها على خصوص الموارد التي عمل بها الأصحاب، مع انا نعلم أو
نظن أنه لم يكن عند أكثرهم أو جميعهم في هذا الباب الا هذه الآيات والاخبار المأثورة
عنهم عليهم السلام، فمما لا وجه له.
واحتمال أن يكون قد وصل إليهم من المدارك ما لم يصل إلينا، أو كان لهذه
العمومات قرائن متصلة ترفع ابهامها وتوضح المراد منها، وصلت إليهم دوننا، ضعيف
جدا، ومن أقوى الشواهد على بطلانه انهم يستندون في اثبات المسائل إلى نفس هذه
الآيات والروايات معتمدين في اثبات مقاصدهم عليها لا غير.
ما ذكر في دفع هذا الاشكال
وقد يذب عن الاشكال بوجوه لا تخلو عن ايرادات، نذكرها ونذكر ما فيها من
188

جهات الضعف، ثم نتبعها بما عندنا في حسم مادته.
الأول - ما حكاه المحقق النراقي عن بعض سادة مشايخه - والظاهر أنه السيد
السند العلامة الطباطبائي قدس سرهما - قال: اما ما ورد في هذه الشريعة من التكاليف
الشديدة كالحج والجهاد والزكاة بالنسبة إلى بعض الناس والدية على العاقلة ونحوها،
فليس شئ منها من الحرج، فإن العادة قاضية بوقوع مثلها، والناس يرتكبون مثل ذلك
من دون تكليف ومن دون عوض، كالمحارب للحمية، أو بعوض يسير.
وبالجملة فما جرت العادة على الاتيان بمثله والمسامحة فيه وإن كان عظيما في نفسه
كبذل النفس والمال، فليس من الحرج في شئ، نعم تعذيب النفس وتحريم المباحات
والمنع عن جميع المشتبهات أو نوع منها على الدوام حرج وضيق ومثله منفى في الشرع
(انتهى).
وهذا القول كما تراه على طرف الافراط، كما أن ما ذكره المحدث الحر العاملي
على طرف التفريط، وكلاهما خارجان عن حد السواء، يوجبان سقوط القاعدة عن قابلية
الاستدلال بها في الفقه رأسا اما الأول فقد عرفت حاله، واما الأخير فلان لازمه وجوب
العمل بالتكاليف الواردة في الشرع من الواجبات والمحرمات وان بلغت من العسر
والحرج ما بلغت من دون أي استثناء فينحصر مفاد القاعدة في خصوص تعذيب النفس و
تحريم المباحات وأمثالها وهو كما ترى.
فإنه يرد عليه جميع ما أوردناه على سابقه من مخالفته لاستدلال الأئمة عليهم السلام
بآية نفى الحرج في موارد عديدة ومخالفته لفهم الفقهاء واستنادهم إليها في أبواب شتى.
أضف إلى ذلك مخالفته للوجدان فإن مجرد ارتكاب الناس لبعض الأمور الشاقة،
لاجور يترقبونها أو لعلل أخرى لا يخرجها عن كونها أمورا شاقة حرجية، اللهم الا ان يرجع
هذا القول إلى بعض ما سنشير إليه في الوجه المختار.
الثاني - ما حكاه قدس سره أيضا عن بعض فضلاء عصره وحاصله: ان الذي
يقتضيه النظر بعد القطع بورود تكاليف شاقة ومضار كثيرة في الشريعة ان المراد بنفي
189

العسر والحرج والضرر، ما هو زائد على ما هو لازم لطبايع التكاليف الثابتة بالنسبة إلى
طاقة أوساط الناس، المبرئين عن المرض والقدر الذي هو معيار التكاليف، بل هي
منفية من الأصل الا ما ثبت وبقدر ما ثبت.
والحاصل انا نقول: ان المراد ان الله سبحانه لا يريد بعباده العسر والحرج والضرر
الا من جهة التكاليف الثابتة بحسب أحوال متعارف الأوساط وهم الأغلبون، فالباقي منفى
سواء لم يثبت أصله أصلا أو ثبت ولكن على نهج لا يستلزم هذه الزيادة. ثم قال:
ان ذلك النفي اما من جهة تنصيص الشارع، كما في كثير من أبواب الفقه
من العبادات وغيرها، كالقصر في السفر والخوف في الصلاة والافطار في الصوم ونحو
ذلك، واما من جهة التعميم كجواز العمل بالاجتهاد لغير المقصر في الجزئيات كالوقت
والقبلة، أو الكليات كالأحكام الشرعية (انتهى).
أقول - عبارته المحكية عنه قدس سره وان كانت لا تخلوا عن اجمال وابهام الا ان
الظاهر أن مراده ان الأصل الأولى في الأحكام عدم كونها حرجية ولا ضررية، وإنما
يخرج من هذا الأصل في موارد ثبت فيها تكليف حرجي أو ضررى اما بالعموم أو بالخصوص
فيقتصر في هذه الموارد التي ثبت فيها تكاليف حرجية أو ضررية على ما ثبت وبقدر ما ثبت،
واما الزائد عليها فهو منفى بهذه القاعدة.
غاية الأمر ان التكاليف الحرجية الثابتة بادلتها تنصرف إلى طاقة أوساط الناس
المبرئين عن الأمراض والاعذار، واما بالنسبة إلى غيرهم فحيث لا دليل على اثباتها فهي أيضا
منفية بهذه القاعدة.
واما ما ذكره في آخر كلامه فالظاهر أنه ناظر إلى أن نفى الحرج والضرر قد
يكونان بعمومات هذه القاعدة، وأخرى بتنصيص الشارع عليه خصوصا، كما في صلاة
القصر في السفر، والافطار في الصوم في السفر وللمريض والشيخ الكبير وأشباههم،
وثالثة بتنصيصه عليه عموما، كتجويزه العمل بالظن في الموضوعات كالوقت والقبلة
لجميع آحاد الناس غير المقصر منهم، وفى الأحكام الشرعية الكلية للمجتهدين خاصة،
هذا حاصل ما يستفاد من كلامه.
190

ولازمه اختصاص نفى الحرج والضرر بموارد لم يدل على خلافه دليل أصلا،
لا عموما ولا خصوصا وفساد هذا القول أيضا ظاهر لمنافاته لما عرفت من تمسك الأئمة
عليهم السلام بعموم نفى الحرج لنفى كثير من الأحكام في موارد يستلزم العسر والحرج
وتخصيص أدلتها به، ولسيرة كثير من الفقهاء رضوان الله عليهم، ولظاهر عمومات نفى
الحرج والضرر الواردة في مقام الامتنان الابية عن مثل هذه التخصيصات الكثيرة.
أضف إليه ان النسبة بينها وبين الأدلة المثبتة للأحكام عموم من وجه. فلا وجه لتقديمها
على عمومات نفى الحرج والضرر.
واما ما احتمله المحقق النراقي (قده) من أن المستفاد من كلامه كون قاعدة نفى
الحرج من باب أصل البراءة فيكون تقديم ما ثبت بأدلة الأحكام من باب تقديم الأدلة
الاجتهادية على الأصول العملية مع أنه بعيد عن مساق كلامه، ظاهر الفساد، لأن الأصول
العملية ناظرة إلى بيان وظيفة الشاك، وليس في أدلة نفي الحرج والضرر من الشك
عين ولا اثر.
الثالث - ان العسر والحرج يختلف باختلاف العوارض الخارجية فقد يكون
شئ عسرا وحرجا ولكن يكون باعتبار أمر خارجي سهلا ويسرا، ومن الأمور الموجبة
لسهولة كل عسر، وسعة كل ضيق، مقابلته بالعوض الكثير والاجر الجزيل، ولا شك
ان كل ما كلف الله سبحانه به من التكاليف يقابله ما لا يحصى من الاجر، قال تعالى: من
جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وعلى هذا لا يكون شئ من التكاليف عسرا وحرجا،
فكل ما كلف الله به من الأمور الشاقة ظاهرا فقد ارتفعت مشقتها بما وعدلها من الاجر
الجميل والثواب الجزيل (انتهى).
وفيه - ان لازمه أيضا سقوط أدلة نفي الحرج عن جواز الاستدلال بها رأسا لأن كل
ما ورد الامر به أو النهى عنه ففي امتثال امره ونهيه اجر الهى بالملازمة الثابتة من حكم
العقل فلا يصح نفيه بأدلة نفى الحرج، بل تكون هذه الأدلة لغوا بالمرة ولا يبقى لقوله
تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج معنى، الا أن يكون المراد نفى التكاليف المشتملة
على المشقة الخالية عن الأجر والثواب ولكنه يرجع إلى توضيح أمر واضح.
191

ويرد عليه أيضا ما أوردناه على ما تقدمه، من مخالفته للاخبار الحاكية لاستدلال
المعصومين عليهم السلام بها لنفى الأمور الحرجية، كما أنه مخالف لهم فقهاء الأصحاب
المستدلين بها في فروع كثيرة.
هذا مضافا إلى عدم تماميته في نفسه لأن مجرد ترتب الاجر الجميل والثواب الجزيل
على شئ لا يمنع عن صدق العسر والحرج عليه، مثلا نقل الصخور العظيمة من قلل
الجبال، أو تحمل منن اللئام، من الأمور العسرة الحرجية وإن كان في مقابلها أجور
جزيلة. نعم ترتب الأجر والثواب عليها يكون داعيا على الاتيان بها ومصححا لارتكابها
عند العقلاء لا انه مانع عن صدق عنوان العسر والحرج عليه.
ويشهد على ذلك ظهور بعض الآيات وصراحة بعض الأخبار الماضية في ثبوت تكاليف
عسرة حرجية في حق الأمم الماضية، مع أنه لا ينبغي الشك في ترتب أجور جميلة على
طاعاتهم وامتثالاتهم، فهذا دليل على أنه لا منافاة بين صدق عنوان الحرج والعسر على
شئ مع ترتب الاجر الجميل عليه.
والحاصل ان العسر والحرج وإن كان يختلف باختلاف بعض العوارض الخارجية
- كغيرهما من العناوين - الا ان اختلافها بمجرد ترتب الأجر والثواب الأخروي أو الأجور
الدنيوية عليهما ممنوع جدا.
الرابع - ما اختاره المحقق النراقي وجعله الطريق الوحيد في حل الاشكال
بحذافيره واليك نص عبارته:
(انه لا حاجة إلى ارتكاب أمثال هذه التأويلات والتوجيهات بل الامر في قاعدة
نفى العسر والحرج كما في سائر العمومات المخصصة الواردة في الكتاب الكريم و
الأخبار الواردة في الشرع القويم، فإن أدلة نفي العسر والحرج تدل على انتفائهما
كلية، لأنهما لفظان مطلقان واقعان موقع النفي فيفيدان العموم، وقد ورد في الشرع
التكليف ببعض الأمور الشاقة والتكاليف الصعبة أيضا ولا يلزم منها ورود اشكال في
المقام كما لا يرد بعد قوله سبحانه: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) اشكال في تحريم كثير
مما ورائه، لا بعد قوله: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما الخ) تحريم أشياء كثيرة،
192

بل يخصص بأدلة تحريم غيره عموم ذلك فكذا ههنا.
فإن تخصيص العمومات بمخصصات كثيرة ليس بعزيز بل هو أمر في أدلة الأحكام
شايع وعليه استمرت طريقة الفقهاء، فغاية الامر كون أدلة نفي العسر والحرج عمومات
يجب العمل بها فيما لم يظهر لها مخصص وبعد ظهوره يعمل بقاعدة التخصيص) انتهى.
ويرد عليه أولا - ان قبح تخصيص الأكثر أو التخصيص الكثير المستهجن
أمر ظاهر لا يجوز ارتكابه، ولا يصح الالتزام به في كلام الشارع الحكيم، كما أن
لزوم مثل هذا التخصيص في المقام مما لا ينبغي الريب فيه بعد كثرة التكاليف الحرجية
التي أشرنا إليها اجمالا عند تقريب أصل الاشكال، من الواجبات المالية الكثيرة، و
الجهاد الأصغر والأكبر، والحج والصيام والقصاص والحدود والديات وغيرها
وما استشهد به من الآيتين على ما ادعاه من جواز التخصيصات الكثيرة قابل للمنع
فإن الظاهر أن الحصر في قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما الخ)
حصر إضافي في مقابل ما حرمه أهل الكتاب على أنفسهم وبدعهم في باب الذبائح أو غيره
فتدبر. كما أن قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم) أيضا ظاهر في الحصر الإضافي
أو محتمل له، وتمام الكلام فيه في محله.
وثانيا - ان عمومات نفى الحرج واردة في مقام الامتنان على الأمة المرحومة
كما أن ظاهر روايات الباب أو صريحها انه من خصائص هذه الأمة فكيف يجوز تخصيصها
بمثل هذه المخصصات الكثيرة والحال هذه؟ وكيف يكون نفى الحرج من مختصات
الأمة مع اثبات أحكام حرجية كثيرة فيها؟ فإن ذلك جار في جميع الأمم.
اللهم الا ان يقال بان امتياز هذه الأمة إنما هو في قلة أحكامها الحرجية بالنسبة
إلى الماضين وان كانت في نفسها كثيرة. هذا ولكن اشكال اباء هذه العمومات الواردة
في مقام الامتنان عن مثل هذه التخصيصات باق بحاله.
وثالثا - ان القول بجواز تخصيص عمومات نفى الحرج بمخصصات كثيرة، يمنع
عن التمسك بها رأسا لأنك قد عرفت ان النسبة بينها وبين عمومات الأدلة المثبتة للأحكام
هي العموم من وجه كما عرفت، فلا وجه لتقديمها عليها عند التعارض الا بما ذكرنا من
193

ابائها عن التخصيص.
المختار في حل الاشكال
الخامس - وهو المختار في حسم مادة الاشكال، ان ما يدعى من التكاليف
الحرجية الواردة في الشريعة على اقسام:
منها - ما ليس حرجيا وان ادعى كونها كذلك، كحج بيت الله الحرام وأداء
الخمس والزكاة (لا سيما مع ما عرفت عند ذكر معنى (الحرج) من أن المراد منه هنا ليس
مطلق المشقة والضيق، بل المشقة التي لا تتحمل عادة على ما بسطنا الكلام فيه) فإن
اخراج خمس أرباح المكاسب بعد وضع مؤنة السنة بجميع انحائها، وكذا اخراج خمس
غيرها من المعادن والكنوز، الزكوات المقدرة في الشرع التي هي قليل من كثير
ليست أمورا شاقة لا تتحمل عادة
لا سيما مع صرفها في مصارف يعود نفعها غالبا إلى المجتمع أجمع حتى المعطين، كصرفها
في اصلاح حال الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وعمارة الشوارع، وبناء القناطر،
وحفظ ثغور الاسلام، وتقوية جيوش المسلمين، وامن السيل. فهذه في الحقيقة مثل
سائر ما يصرفونها في محاويجهم الشخصية واصلاح أمورهم الخاصة، مما لا يعدونه ضررا
وحرجا، بل اصلاحا ونفعا.
وهذا المعنى وإن كان عند بعض الأذهان البادية من الاستحسانات الا انه اليوم ظاهر
لكل خبير بوضع المجتمعات البشرية وما فيه نجاحها وفلاحها، ولذا ترى العقلاء من
جميع الأمم يسلكون هذا المسلك ويكلفون افرادها بأداء واجبات مالية يصلحون
بها حال الضعفاء وذوي الحاجات وساير الأمور العامة التي يعود نفعها إلى مجتمعهم أجمع،
ولا يعدونه ضررا ولا حرجا بل قد عرفت انها في الحقيقة من قبيل مصارفهم الشخصية.
وان أبيت عن ذلك فقد عرفت ان الواجبات المالية في أنفسها، ومع قطع النظر
عن هذا، ليست أمورا شاقة حرجية لا تتحمل عادة الذي هو الملاك في هذا الباب.
أضف إلى ذلك أن اطلاق العسر والحرج على الأمور المالية مطلقا لا يخلو عن
اشكال - كما أشار إليه المحقق النائيني في آخر رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر - لظهور
194

عنوان الحرج في المشقة في الجوارح لا في الجوانح ومن المعلوم ان بذل الأموال ليس فيه
مشقة بهذا المعنى ولو بلغ ما بلغ، اللهم الا فيما يسرى المشاق الروحية إلى البدن
كمن لا ينام طول ليلته إذا بذل مالا كثيرا، على تأمل في ذلك أيضا.
ومنها - ما يكون من ناحية فعل المكلف وسوء اختياره، كالقصاص والحدود
وما شاكلهما، فإن المكلف بسوء اختياره يقع في هذه الأمور الحرجية، فلو لم يقتل
نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، أو لم يجن عليها بجناية أخرى توجب القصاص أو
الحد أو لم يعتد على غيره بمال أو بعرض، لا يعتدى عليه بمثله ولا يعاقب به.
ومن الواضح انصراف أدلة نفي العسر والحرج عما أقدم عليه بسوء اختياره لا
سيما في هذه الموارد التي لا يكون نفيه منة على من ارتكبها الا بترك الامتنان بل
الظلم الفاحش على غيره، فهذه الموارد لم تكن داخلة تحت عمومات نفى الحرج
حتى يكون خروجها عنها بالتخصيص.
ومنها - ما هو قابل للانكار، فمثل التوضى بالماء البارد في ليالي الشتاء أو
الصيام في الأيام الحارة من الصيف إذا بلغ مشقته حدا لا تتحمل عادة فلا يبعد القول بعدم
وجوبه، ولكن بلوغه هذا الحد لغالب الناس في محل المنع.
ومنها - ما يبقى من الموارد النادرة التي يمكن التزام تخصيص القاعدة
بها إذا كان دليله أخص من أدلة نفي الحرج أو بمنزلة الأخص، كالجهاد الذي فيه
من المشقة والحرج ما لا يخفى قال الله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم و
قال تعالى: حاكيا عن وقعة الأحزاب، إذا جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا
زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر، وقد سمى في كتابه العزيز الساعات التي
كانت قبل غزوة تبوك (ساعة العسرة) ففي هذا المورد وشبهه نلتزم بتخصيص عمومات
لا حرج بها.
لا يقال - كيف يجوز تخصيص عمومات نفى الحرج بهذه الموارد ولو كانت
قليلة بالنسبة إلى ما يبقى تحتها مع اعترافك بورودها مورد الامتنان الابي عن التخصيص
قلنا - عدم جواز تخصيص العمومات الواردة في مقام البيان إنما هو في موارد
195

يكون تخصيصها منافيا للمنة. وأما إذا كان موافقا لها فلا مانع منه، وما نحن فيه
من هذا القبيل فإن منافع الجهاد ومصالحه من ظهور المسلمين على الأعداء وحفظ
ثغورهم وبقاء عزهم وجعل كلمة الله هي العليا وتفريق احزاب الكفر وجعل كلمتهم
هي السفلى، لما كانت ظاهرة واضحة لكل أحد صار هذا قرينة عرفية على جواز التخصيص
ولم يناف ورود العام مورد الامتنان، بل كان ترك تشريع هذا الحكم الظاهر مصلحته منافيا
له، وكل ما كان من هذا القبيل جاز تخصيص عمومها به من دون أي محذور.
والحاصل ان حال العمومات الواردة في مقام البيان ليست حال سائر العمومات
التي يجوز تخصيصها بكل مخصص، كما أنه ليس حالها حال بعض العمومات المعللة
بعلل عقلية عامة لا يجوز تخصيصها ابدا بأي مخصص كان، بل حكمها في جواز التخصيص
وعدمه جوازه بما لا ينافي الامتنان وعدم جوازه فيما ينافيه.
التنبيه الثاني
هل العبرة بالحرج الشخصي أو النوعي؟
هذا البحث نظير ما أسلفناه في قاعدة (لا ضرر) والكلام فيه من جهات كثيرة
كالكلام فيه وإن كان بينهما اختلاف من بعض الجهات نشير إليها.
وحاصل القول إن العبرة في ارتفاع الحكم بلزوم العسر والحرج هل هو بالحرج
الشخصي بان يكون لزوم الحرج في مورد رافعا للتكليف في خصوص ذاك المورد، أو
النوعي بحيث كان لزومه على نوع المكلفين رافعا للتكليف عن عامتهم؟.
والحق هو الأول. لظهور جميع العناوين الواردة في لسان الأدلة في مصاديقها
الشخصية فعنوان الضرر إنما يصدق في خصوص موارده واشخاصه وكذلك الحرج و
غيرهما من العناوين الواردة في الأدلة، وإرادة الحرج أو الضرر النوعي تحتاج إلى
قرينة مفقودة في المقام.
نعم يظهر من أحاديث الباب استدلال الإمام عليه السلام في موارد مختلفة بعموم قوله
196

تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) لنفى الحكم عن جميع الافراد مع عدم كونه
حرجيا الا في حق غالبهم، مثل رواية أبي بصير الدالة على عدم انفعال الماء الكر.
مستندا إلى عموم هذه الآية، مع أن من المعلوم عدم لزوم العسر والحرج من عدم هذا
الحكم على جميع المكلفين وكذلك غيره. وهذه الرواية وأمثالها هي غاية ما يمكن
ان يستشهد به للوجه الثاني.
ولكن يمكن ان يجاب عنه بما ذكرناه عند ذكر روايات الباب من أن استنادهم
عليهم السلام بهذه الفقرة من الآية الشريفة على وجهين: تارة يكون بعنوان العلة
للحكم ويكون ضابطة كلية يعطى بيد المكلفين ويدور الحكم معه حيثما دار، كما في رواية
عبد الأعلى مولى آل سام فيمن عثر وانقطع ظفره الخ ولا اشكال في أن الحرج في أمثال
هذه الموارد اخذ شخصيا.
وأخرى بعنوان حكمة الحكم أعني ما كان داعيا وباعثا على تشريعه وإن كان
هناك بواعث اخر غيرها فيكون كالمعدات أو العلل الناقصة ومن الواضح ان الحكم في
هذه الموارد لا يدور مدار العلة، بل قد يتجاوز عنها إلى غيرها، وقد لا يشمل جميع
مواردها، ولذا لا يجوز الاستناد إلى ما ورد في أدلة الأحكام من علل التشريع ولا يعامل
معها معاملة المنصوص العلة، فلا يكون جامعا ولا مانعا.
وما يتوهم ان الحرج قد اخذ فيه نوعيا في الحقيقة من قبيل القسم الأخير أعني ما
يكون حكمة للحكم فالحرج فيه أيضا شخصي ولكن دائرة التعليل لا تنطبق على دائرة
الحكم لا ان الحرج فيه نوعي فتدبر.
والحاصل ان استدلالهم عليهم السلام في بعض الموارد التي يكون الحرج فيها
نوعيا بآية نفى الحرج لا يكون دليلا على الوجه الثاني، ولا يجوز التعدي منه إلى غيره
من الموارد التي يكون الحرج فيها نوعيا، بل يجب الاقتصار على خصوص مورده، لأن
سياقه سياق بيان حكمة التشريع لا علة الحكم.
كما انا نعلم خارجا ان الحكمة في تشريع كثير من الأحكام هي التوسعة ورفع
الحرج عن المكلفين (ولو لم يستند فيها إلى آية نفى الحرج وغيرها من أشباهها) كالقصر
197

في الصلاة والصيام، ورفع الصوم عن المرضى والشيوخ، والعدول من الوضوء والغسل
إلى التيمم في كثير من الموارد، وكثير من أحكام مستثنيات أبواب النجاسات. و
لا يكون هذا دليلا على اخذ الحرج نوعيا في قاعدة نفى الحرج.
هذا كله مضافا إلى عدم انضباط الحرج النوعي، فهل الملاك فيه هو نوع المكلفين
في جميع الأزمنة والأمكنة، أو أهل عصر واحد، أو أهل مكان واحد، أو صنف خاص
منهم أو غير ذلك من الاحتمالات فتأمل، فتحصل من جميع ذلك أن المعيار في هذا الباب
هو الحرج الشخصي لا غير.
التنبيه الثالث
حكم تعارض دليل نفى الحرج ونفى الضرر
إذا تعارض الضرر والحرج في مورد - كما إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا
لاضرار جاره وترك تصرفه فيه حرجا عليه لأن منع المالك عن تصرفه في ملكه كيف
يشاء أمر حرجي - فهل يقدم قاعدة نفى الحرج أو يؤخذ بقاعدة نفى الضرر أو يتساقطان و
يرجع إلى أدلة اخر؟.
قال شيخنا الأعظم قدس سره الشريف في بحث قاعدة (لا ضرر) من (الفرائد):
(إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه، فإنه
يرجع إلى (عموم الناس مسلطون على أموالهم)، ولو عد مطلق هجره عن التصرف في
ملكه ضررا لم يعتبر في ترجيح المالك ضررا زائدا على ترك التصرف، فيرجع إلى
عموم التسلط، ويمكن الرجوع إلى (قاعدة نفى الحرج) لأن منع المالك لدفع ضرر
الغير حرج وضيق عليه، اما لحكومته ابتداءا على نفى الضرر، واما لتعارضهما والرجوع
إلى الأصل) انتهى.
وقال المحقق النائيني (قده) في آخر رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر ما حاصله:
(ان حكومة لا حرج على لا ضرر - كما احتمله الشيخ الأعظم - تتوقف على أمرين:
198

الأول - كون لا حرج مثبتا للحكم أيضا أي كما أنه حاكم على الأحكام الوجودية
يكون حاكما على الأحكام العدمية أيضا، والا لا يعقل تعارضه مع لا ضرر واجتماعه
معه في مورد واحد حتى يكون حاكما عليه. وان شئت قلت: ان هذا الشرط يرجع إلى
منع الصغرى وحاصله عدم امكان تعارض لا ضرر مع لا حرج.
الثاني - أن يكون لا حرج ناظرا إلى لا ضرر، ومعنى النظر أن يكون
الحكم في طرف المحكوم مفروض التحقق حتى يكون الحاكم ناظرا إلى الحكم الثابت
في المحكوم واما لو كان كل منهما في عرض الاخر ولا أولوية لفرض تحقق أحدهما
قبل الاخر فلا معنى للحكومة وبالجملة لا وجه لجعل لا حرج حاكما على لا ضرر فلا
يمكن علاج التعارض بالحكومة.
كما أنه لا يمكن علاجه بتقديم لا ضرر على لا حرج مطلقا من باب ان مورد الضرر
أقل من الحرج - لأن كل ضررى حرجي ولا عكس - فإن فيه أولا ان أقلية المورد
إنما توجب الترجيح إذا كان المتعارضان متضادين دائما لا مثل المقام الذي يتوافقان
غالبا وثانيا - ان الحرج هو المشقة في الجوارح لا في الروح، فقد يكون الشئ
ضرريا كالنقص في المال ولا يكون حرجيا، فقولك كل ضررى حرجي ولا عكس
غير صحيح (انتهى).
أقول - ولقد أجاد فيما أفاد بقوله ثانيا من أن ملاك الحكومة - وهو نظر
أحد الدليلين إلى الاخر والتصرف فيه بأحد انحائه التي مضى شرحها - مفقود في المقام
توضيحه: ان أدلة نفي الضرر ونفى الحرج متساوي الاقدام بالنسبة إلى موضوعاتهما
وقد عرفت مما ذكرنا هنا وهناك (في قاعدة لا ضرر) ان لسانهما واحد فلا وجه لحكومة
إحداهما على الأخرى، بل قد عرفت انه لا حكومة لهما على الأدلة المثبتة للأحكام
رأسا وإنما يقدمان على غيرهما لورودهما مورد الامتنان ولجهات أخر مضى شرحها
فلا معنى لتقدم إحداهما على غيرها وحكومتها عليها بل هما متعارضان متكافئان والنسبة
بينهما عموم من وجه.
واما القول بان النسبة بينهما عموم مطلق - لأن كل أمر ضررى حرجي ولا عكس -
199

كما حكاه المحقق المذكور، ساقط جدا لا لما ذكره فقط، بلى لأن تصادق مورد
الضرر والحرج لو ثبت فإنما هو في مورد الاضرار على النفس لا في مورد الاضرار بالغير
فمثل دخول (سمرة بن جندب) على الأنصاري بلا اذن منه كان ضررا عليه مرفوعا بحكم
قاعدة نفى الضرر، ولكن لم يكن هذا فعلا حرجيا لا لسمرة ولا للأنصاري، اما الأول
فواضح واما الثاني فلانه لم يكن دخول سمرة فعلا للأنصاري، نعم دخوله بلا اذن كان
ضيقا على الأنصاري، ولكن من الواضح ان قاعدة لا حرج لا ينفى كل ضيق حاصل
من أي ناحية بل الضيق والحرج المرفوع بها هو ما حصل من ناحية التكاليف الواردة
في الشرع، فقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) أي ما جعل عليكم
تكليفا يلزم منه الحرج والضيق، بقرينة قوله (عليكم)
وان شئت قلت: عمومات نفى الحرج إنما تنفى الحرج الحاصل من ناحية
التكاليف الشرعية على نفى المكلفين بها، واما الحرج والضيق الحاصل من أفعالهم
على غيرهم فلا دلالة لها عليه، وإنما المتكفل له قاعدة لا ضرر. ولا فرق في ذلك بين
شمول قاعدة نفى الحرج للعدميات أيضا وبين اختصاصها بالوجوديات فقط
وإذ قد ثبت ان النسبة بينهما عموم من وجه فالحكم في موارد تعارضها هو تساقطهما في مورد الاجتماع والرجوع إلى غيرهما، الا أن يكون هناك مرجحات خاصة في بعض
الموارد، كاهتمام الشارع ببعض المواضيع مثل حقوق الناس وأشباهها فيعمل بها.
واما ما ذكره قدس سره بقوله (أولا) وحاصله توقف حكومة أدلة لا حرج
على أدلة نفي الضرر على شموله للعدميات، ففيه ان موارد التعارض لا تنحصر بمورد السؤال
مما يكون الطرفان من قبيل النقيضين أحدهما وجودي والاخر عدمي، بل قد يكون
من قبيل الضدين وذلك كما إذا كان القيام في مكان موجبا للضرر على غيره والقيام
في غير ذاك المكان حرجا عليه نفسه ودار امره بينهما، فالتعارض في هذا المثال وأشباهه
ثابت من دون توقف على شمول لا حرج للعدميات، نعم خصوص المثال الذي ذكره الشيخ
الأعظم قده في كلامه يكون من قبيل المتناقضين، ولكن ما ادعاه المحقق النائيني ظاهر
في انحصار مورد تعارضهما بالمتناقضين كما يظهر لمن تدبر في كلامه.
200

التنبيه الرابع
هل القاعدة تشمل العدميات أم لا؟
الحق انه لا فرق في شمول أدلة نفي الحرج بين الأحكام الوجودية والعدمية، كما
مر نظيره في (قاعدة نفى الضرر).
ولكن بمعنى انه لو لزم من ترك بعض الأفعال ضيق وحرج على المكلف - كترك
شرب مايع نجس أحيانا - فإنه يجوز شربه ويرتفع حرمته بمقتضى قاعدة نفى الحرج،
ومجرد كون موضوعه وهو ترك الشرب أمرا عدميا لا اثر له أصلا، بعد كون الدليل الدال
على نفى الحرج شاملا لجميع الموارد مثل قوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من
حرج) وقوله عليه السلام (ان الدين ليس بمضيق) وقوله (الدين أوسع من ذلك) فإن مفادها
جميعا نفى الأحكام الحرجية سواء تعلقت بموضوعات وجودية أو عدمية.
هذا بناءا على المختار من أن الحرج والعسر من صفات فعل المكلف لا من صفات
الأحكام، وبناءا عليه يلاحظ العدمي والوجودي في ناحية متعلق الحكم وهو فعل المكلف
لا في ناحية الحكم نفسه
واما بناء على كونه من أوصاف الحكم فظاهر أدلة نفي الحرج - أعني نفى الأحكام
الحرجية بناء على هذا القول - وإن كان خصوص الأحكام الوجودية، لأن عدم الحكم
ليس حكما ولا يصدق عليه انه مما جعله الشارع فلا يدخل في قوله تعالى: ما جعل عليكم
في الدين من حرج، الا انك قد عرفت سابقا في بحث قاعدة لا ضرر، ان العرف يحكم
حكما قطعيا بالغاء هذه الخصوصية: فلا يرى أي فرق بين لزوم الحرج من جعل الوضوء
على المكلف أو من ترك جعل تسلط الناس على أموالهم، ولا يرى وجها للامتنان بترك
جعل الأول دون الثاني وقد مر هناك بعض ما ينفعك في المقام فراجع.
التنبيه الخامس
نفى الحرج هل هو رخصة أو عزيمة؟
إذا تحمل الحرج واتى بالعمل الذي فيه ضيق وشدة منفية - كالوضوء والغسل
201

الحرجيين - فهل يجزى عنه لكون المرفوع وجوبه لا أصل مشروعيته، أو لا يجزى
لكونه باطلا لعدم الامر به رأسا فيكون تشريعا محرما؟
وهذه المسألة كأصل القاعدة غير معنونة في كلمات القوم مستقلا حتى أن المحقق
النراقي الذي انفرد بذكر هذه القاعدة في عوائده لم يتعرض لها ولا لغير واحد من التنبيهات
التي ذكرناها، الا ان الذي يظهر من غير واحد من أعاظم المتأخرين في الفروع
الفقهية المتفرعة على هذه القاعدة كونها من باب الرخصة لا العزيمة، فلنذكر بعض
ما وصل إلينا من كلماتهم ثم نتبعها بما هو المختار.
قال الفقيه المتتبع الماهر صاحب الجواهر قدس سره الشريف في ذيل مسألة
سقوط الصيام عن الشيخ والشيخة وذي العطاش ما نص عبارته:
(ثم لا يخفى عليك ان الحكم في المقام ونظائره من العزائم لا الرخص ضرورة
كون المدرك فيه نفى الحرج ونحوه مما يقضى برفع التكليف - إلى أن قال: (مع عدم
ظهور خلاف فيه من أحد من أصحابنا عدا ما عساه يظهر من المحدث البحراني فجعل
المرتفع التعين خاصة تمسكا بظاهر قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه طعام إلى قوله:
وان تصوموا خير لكم) انتهى.
وظاهر كلامه ان دلالة عمومات نفى الحرج على ارتفاع التكليف كلية وكونه من
باب العزيمة أمر مفروغ عنه، حتى أن ذهاب المحدث البحراني إلى الرخصة في هذا المورد
الخاص إنما هو لقيام دليل خاص عليه وهو قوله تعالى: وان تصوموا خير لكم.
وقال المحقق الهمداني في مصباحه في بعض التنبيهات التي ذكرها في مسوغات
التيمم ما حاصله:
ان التيمم في الموارد التي ثبت جوازه بدليل نفى الحرج رخصة لا عزيمة، فلو
تحمل المشقة الشديدة الرافعة للتكليف واتى بالطهارة المائية صحت طهارته، كما تقدمت
الإشارة إليه في حكم الاغتسال لدى البرد الشديد، فإن أدلة نفي الحرج لأجل ورودها
في مقام الامتنان وبيان توسعة الدين لا تصلح دليلا الا لنفى الوجوب لا لرفع الجواز.
ثم أورد على نفسه بقوله: فإن قلت: إذا انتفى وجوب الطهارة في موارد الحرج
202

فلا يبقى جوازها حتى تصح عبادة، فإن الجنس يذهب بذهاب فصله وبعبارة أخرى أدلة نفي
الحرج حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف فتخصصها بغير موارد الحرج
فاتيانها في تلك الموارد بقصد الامتثال تشريع محرم.
ثم أجاب عنه بأنه إذا كان منشأ التخصيص كون التكليف بالوضوء والغسل حرجيا
من دون ان يترتب عليهما عدا المشقة الرافعة للتكليف مفسدة أخرى لا يجوز الاقدام
عليها شرعا كالضرر ونحوه، فهو لا يقتضى الا رفع مطلوبية الفعل على سبيل الالزام
لا رفع ما يقتضى الطلب ومحبوبية الفعل، وكيف كان فلا يفهم من أدلة نفي الحرج عرفا
وعقلا الا ما عرفت (انتهى) (1).
وقال السيد السند المحقق الطباطبائي اليزدي في (العروة) في المسألة 18 من
مسوغات التيمم: إذا تحمل الضرر وتوضأ واغتسل فإن كان الضرر في المقدمات من
تحصيل الماء ونحوه وجب الوضوء والغسل وصح وإن كان في استعمال الماء في أحدهما
بطل، وأما إذا لم يكن استعمال الماء مضرا بل كان موجبا للحرج والمشقة كتحمل
ألم البرد أو الشين مثلا فلا يبعد الصحة، وإن كان يجوز معه التيمم، لأن نفى الحرج
من باب الرخصة لا العزيمة، ولكن الأحوط ترك الاستعمال وعدم الاكتفاء به على فرضه
فيتمم أيضا) انتهى.
واستشكل عليه كثير من المحشين وصرحوا بوجوب التيمم أو بعدم ترك الاحتياط به
أقول - قد ظهر لك مما ذكرنا سابقا ان أدلة نفي الحرج وان لم تكن حاكمة
على عمومات الأحكام الا انها مقدمة عليها لقوة دلالتها بالنسبة إليها فيخصص العمومات
المثبتة للأحكام بها، ومن الواضح انه لا دلالة لتلك العمومات عرفا على اثبات أمرين:
الالزام والمطلوبية، حتى يرتفع أحدهما ويبقى الاخر، بل المستفاد منها حكم واحد
اثباتا ونفيا، فاما ان يخصص فينتفى من أصله، واما ان يبقى بحاله، ولا دخل له بمسألة
عدم جواز بقاء الجنس من دون فصله، فإن ذلك مسألة عقلية والكلام هنا في دلالة
لفظية بحسب متفاهم العرف. فالذي يقتضيه القاعدة الأولية هو نفى المشروعية رأسا

1 - كتاب الطهارة من المصباح ص 463
203

في موارد الحرج أو الضرر أو غيرهما مما يستلزم تخصيصا في أدلة الأحكام.
وورودها في مقام الامتنان وإن كان معلوما لا ريب فيه الا انه لا يقتضى ما ذكره
من نفى خصوص الالزام، لما حققناه في بعض أبحاث قاعدة لا ضرر من أن الامتنان يجوز
أن يكون في أصل الحكم فلا يجب وجود ملاكه في جزئيات موارده.
مثلا رفع اثر الاكراه بحديث الرفع يوجب بطلان البيع الحاصل عن اكراه
وإن كان في هذا البيع منافع كثيرة للمكره في بعض موارد الاكراه، كما إذا كان
الثمن أكثر من ثمن المثل باضعاف وكان لا يعلمه البايع المكره، فإنه لا اشكال في أن
حديث الرفع من أظهر مصاديق ما ورد مورد الامتنان ولكن الامتنان في رفع آثار
الاكراه إنما يكون بنحو كلى عام، لا في كل واحد واحد من مصاديقه وجزئياته.
فلو انكشف بعد بيع المكره انه كان مشتملا على منافع كثيرة له لم يكشف ذلك
عن صحة البيع المذكور من حيث إن رفع اثر هذا الاكراه مخالف للامتنان لما في مورده
من المنافع الهامة، بل يتوقف على الإجازة اللاحقة بلا اشكال.
فالمعيار هو كون الحكم الكلى، وهو رفع اثر الاكراه على نحو عام وبعنوان
ضرب قانون كلى، امتنانا على المكلف وإن كان بملاحظة بعض مصاديقه النادرة مخالفا
له. وهكذا الكلام في باقي التسعة وكذا الحال في حجية كثير من الأمارات الشرعية
كسوق المسلمين وأيديهم وغيرهما مما يستفاد من أدلتها أو من قرائن خارجية ان حجيتها
إنما هو من باب التوسعة على المكلفين وان الله قد من عليهم بذلك، فإن ذلك لا ينافي ثبوت
بعض التكاليف من ناحيتها عليهم أحيانا بحيث لولاها لم يكن طريقا إلى اثباتها، والحاصل
ان الامتنان بهذه الأمور إنما هو باعتبار مجموع الوقايع التي تشملها.
فورود عمومات نفى الحرج مورد الامتنان لا يصلح قرينة على صرفها عن ظاهرها من
نفى الأحكام الحرجية رأسا، وجوبا كان أو تحريما أو غيرهما، فلا وجه للقول بنفي
خصوص الالزام في بعض مواردها مع بقاء أصل المحبوبية.
واما ما افاده في جواب المستشكل فهو بمنزلة قرينة أخرى لصرف عمومات
لا حرج عن نفى الجواز في موارد الأحكام الوجوبية الحرجية وانحصار مفادها في نفى
204

الوجوب وحاصله ببيان منا:
انا نعلم خارجا ان الوضوء والغسل الحرجيين وأشباههما لا يترتب عليها أي مفسدة
موجبة لنقصان ملاك المحبوبية فيها، الا ان ايجابها لما كان موجبا للضيق والحرج
على المكلفين رفعه الشارع منة عليهم مع وجود ملاكه فيها، فعدم وجوبها ليس من
ناحية عدم المقتضى بل من جهة ابتلائه بالمانع وهو ما اراده الشارع المقدس من
الامتنان على هذه الأمة، ومن المعلوم ان هذا مانع عن الامر الإلزامي دون غيره فوجود
ملاك المطلوبية فيها مع عدم المانع عن الامر غير الإلزامي بها يكشف عن تعلق أمر
بها كذلك، بل يكفي في صحتها وصحة قصد القربة بها مجرد وجود ملاك المحبوبية فيها
ولو لم يكشف عن تعلق أمر بها.
ولكن يرد عليه ان دعوى العلم بعدم المفسدة فيها دعوى بلا بينة ولا برهان
لاحتمال وجود بعض المفاسد فيها بعد كونها حرجية، ولا أقل من أن التكليف إذا
كان حرجيا وثقيلا على المكلفين أوجب كثرة المخالفة والعصيان وهي مفسدة عظيمة
ولهذا ذهب بعضهم إلى أن نفى الحرج لازم على الواجب الحكيم من باب وجوب
اللطف فتأمل.
أضف إلى ذلك أن تحمل الحرج وتكلف الفعل الحرجي، بعد ما من الله تعالى
على عباده بنفيه، رفض لما تصدق وما من به عليهم ويمكن أن يكون في هذا مفسدة، كما
ورد في باب عدم صحة التمام في مواطن القصر من التعليل بأنه رد لتصدق الله على الأمة
مثل ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: ان الله عز وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والافطار
أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة ان ترد عليه؟ وفى معناه رواية أخرى رواها الصدوق في
الخصال عن السكوني (1)
والغرض من ذلك كله ابداء احتمال وجود مفسدة في تحمل الحرج والاتيان
بالتكاليف الحرجية، ومعه لا يصح دعوى القطع بعدم وجود مفسدة فيها وبقاء ملاك

1 - رواهما في الوسائل في الباب 22 من أبواب صلاة القصر من المجلد الأول
205

المحبوبية على حالها، ومن المعلوم ان مجرد الاحتمال كاف في المقام.
واما مسألة جواز التيمم في الموارد التي ثبت بدليل نفى الحرج ففيها اشكال
آخر مضافا إلى ما ذكرنا في الجميع، وهو ان المستفاد من أدلة تشريع
التيمم والمركوز في أذهان المتشرعة كون التيمم بدلا طوليا عن الوضوء
والغسل، لا عرضيا، فلا يجتمعان في مورد. ومن المعلوم ان القول بالرخصة يستلزم
كونهما في عرض واحد في الموارد التي ثبت جواز التيمم فيها بأدلة نفى الحرج، فيجوز
في حال واحد التيمم والغسل أو هو والوضوء والالتزام به مشكل جدا
فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الأقوى بحسب ما يستفاد من ظاهر أدلة نفي الحرج
كونه من باب العزيمة لا الرخصة، كما فهمه الشيخ الأجل صاحب الجواهر وجعله أمرا
مفروغا عنه، فح لا يجوز تحمل الحرج والاتيان بالفعل الحرجي، ولو فعله لا
يجتزى به.
التنبيه السادس
لا يخفى ان العسر والحرج يختلف باختلاف الاشخاص، والحالات، والأمكنة،
والأزمنة، والظروف المختلفة ووجود الأسباب وعدمها إلى غير ذلك
فرب شئ يكون حرجيا بالنسبة إلى شخص دون آخر، كالضعيف دون القوى،
ورب شئ يختلف باختلاف حالات شخص واحد من القوة والضعف والصحة والمرض،
ورب شئ يكون عسرا وحرجيا في مكان دون آخر كتحصيل الماء في الصحارى القفار
دون الشاطئ، أو في زمان دون آخر كالحج بالنسبة إلى بعض الناس في الأزمنة السابقة
دون زماننا هذا، إلى غير ذلك.
وحيث قد عرفت في التنبيه الثاني من هذه التنبيهات ان المعيار في هذا الباب هو الحرج
الشخصي لا النوعي فاللازم ملاحظة جميع هذه الأمور في الحكم بنفي التكليف، و
اما لو قلنا بان العبرة بالحرج النوعي فهل العبرة بنوع المكلفين في جميع الأزمنة و
206

الأمكنة على اختلافهم في الصنوف والحالات والظروف، أو ان العبرة بصنف منهم؟ وما
الدليل على تعيين صنف خاص وما المعيار في سعة دائرة هذا الصنف؟ وقد عرفت سابقا
ان عدم وجود الضابطة لتشخيص ذلك أحد الموهنات لهذا القول.
هذا آخر ما أردنا تحريره في هذه القاعدة المهمة المغفول ذكرها في كلمات
الأصحاب، مع استنادهم إليها في مختلف أبواب الفقه وتفريع فروع كثيرة عليها، وقد
بقي خبايا في زوايا يعثر عليها الخبير.
وقد وقع الفراغ منه يوم الأحد التاسع عشر من شهر شوال من سنة 1382
وها نحن في فتنة عظيمة وحرج شديد من تحامل الحكومة على رجال العلم والدين
الذابين عن حوزة الاسلام ولا سيما من تحاملهم على رواد العلم وطلابه بجامعة العلمية
الدينية بقم المشرفة، وما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
اللهم اكشف عنها هذا البلاء، وادفع عنا الأعداء، اللهم اجعلنا من بعد العسر يسرا،
ولا تحمل علينا إصرا، وصل على نبيك وآله الهادين
207

4 - قاعدة الفراغ والتجاوز
209

من القواعد الهامة التي اشتهرت في السنة المتأخرين اشتهارا تاما حتى صارت كالمسلمات،
الدائرة بينهم هي قاعدة (التجاوز والفراغ) وان اختلفوا في أنها هل ترجع إلى قاعدتين:
(التجاوز) و (الفراغ) أو هي قاعدة واحدة يعبر عنها باسم تارة وبآخر أخرى، حسب اختلاف
المقامات؟ كما يأتي البحث عنه بما يستحقه، وهي المدرك الوحيد لكثير من الفروع الفقهية
في أبوابها، ولذا وضع غير واحد من المحققين رسالات خاصة لها ومع ذلك لم يؤد حقها
من البحث، وقد بذلنا غاية المجهود في كشف الستر عن وجه هذه القاعدة ومداركها وما يتفرع
عليها من الفروع، وغيرها مما يتعلق بها وسنبين انها لا تختص بباب معين من أبواب الفقه.
والكلام فيها يقع في مقامات:
1 - البحث عن مدرك القاعدة
2 - في أنها قاعدة واحدة لا قاعدتان
3 - في أنها من الامارات أو من الأصول العملية
4 - في اعتبار الدخول في الغير فيها وعدمه
5 - في أن المراد من (الغير) ماذا؟
6 - في أن المحل الذي يعتبر التجاوز عنه شرعي أو عقلي أو عادى؟
211

7 - في عموم القاعدة لجميع أبواب الفقه وعدم اختصاصها بباب دون باب
8 - في عمومها لاجزاء اجزاء العبادة وغيرها.
9 - في جريانها عند الشك في صحة العمل
10 - في جريانها في (الشرائط)
11 - في أنه لماذا لا تجرى القاعدة في اجزاء الطهارات الثلث.
12 - في عدم جريان القاعدة عند الغفلة عن كيفية العمل.
13 - في عدم جريانها في الشبهات الحكمية.
14 - في اختصاصها بالشك الحاصل بعد العمل، لا الشك الموجود من قبل،
وإذ قد عرفت ذلك نرجع إلى تفصيل هذه الأبحاث وتوضيح هذه القاعدة من شتى الجهات
فنقول ومن الله جل شأنه نستمد التوفيق والهداية.
1 - البحث عن مدرك القاعدة
الذي يجب البحث والتنقيب عنه قبل كل شئ ان قاعدة الفراغ والتجاوز وان كانت ثابتة
في النصوص الواردة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لكنها لم تكن معروفة عند قدماء
الأصحاب، كمعروفيتها عند المتأخرين، وان استند إليها بعضهم أحيانا في بعض أبواب
الطهارة أو الصلاة، بعنوان حكم جزئي لا قاعدة كلية سارية في أبواب كثيرة من الفقه أو كلها.
ولا غرو في ذلك فإن لها نظائر من القواعد الفقهية وأدلة الأحكام، فهل كان الاستصحاب
المتكى على اخبارها اليوم معروفة عند الأوائل؟ مع أن أول من استدل بها هو والد شيخنا
البهائي على ما حكى عنه، إلى غير ذلك من اشباهه.
ولكن من الواضح ان غفلتهم عنها، أو عدم استنادهم إليها في كثير من كتبهم،
لا تؤثر في اعتبار القاعدة بعد تمامية دلالة الاخبار عليها كما هو ظاهر، فإن ذلك لا يسقطها
من الاعتبار من جهة اعراض الأصحاب عنها، لعدم ثبوت الاعراض في أمثالها بعد ما كانت
212

استفادتها من الاخبار تحتاج إلى دقة خاصة في الاخبار لا تحصل الا بتلاحق الأفكار بعد
برهة طويلة من الزمان.
مضافا إلى أن عدم تعرضهم لها بهذه الصورة المعمولة في هذه الاعصار، لا يدل على
عدم اعتبارها عندهم فإنه لم يكن من دأبهم ايداع جميع القواعد والأصول التي يستند
إليها في استنباط الأحكام في كتبهم بصورة خاصة مشروحة.
وكيف كان يمكن الاستدلال على هذه القاعدة بأمور.
1 - الأخبار العامة والخاصة
أولها وهي العمدة، الأخبار المستفيضة الواردة في أبواب مختلفة: بعضها مختصة بالطهارة
أو الصلاة، وبعضها عامة لا تقييد فيها بشئ وقسم ثالث منها وإن كان واردا في مورد خاص و
لكنه مشتمل على كبرى كلية يستفاد منها قاعدة كلية شاملة لسائر الأبواب.
فلابد لنا أولا ايراد جميع ما ظفرنا به من الروايات ثم البحث عن مقدار دلالتها
وما يحصل لنا من ضمن بعضها ببعض والجمع بينها وهي روايات:
1 - ما رواه زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام رجل شك في الأذان والإقامة وقد
كبر؟ قال يمضى قلت: رجل شك في التكبير وقد قرء؟ قال يمضى، قلت: شك في
القراءة وقد ركع؟ قال: يمضى قلت شك في الركوع وقد سجد؟ قال: يمضى
على صلاته ثم قال: يا زرارة إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره فشكك ليس
بشئ (رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث الأول -)
وهذه الرواية بحسب ظاهرها شاملة للطهارة والصلاة وغيرهما من العبادات بل تشمل جميع
المركبات التي لها اثر شرعي في أبواب العبادات والمعاملات وغيرهما - كما سيأتي الكلام فيه
213

مستوفى انشاء الله - لعموم لفظ (شئ) لها.
ولكن ظاهرها بقرينة قوله (خرجت من...) اختصاصه بالشك في صحته بعد الفراغ
عن أصل وجوده فإن الخروج عن الشئ - بحسب الظهور الأولى - هو الخروج عن نفسه
لا عن محله.
كما أن ظاهره، بادي الامر، هو اعتبار الدخول في الغير، الا أن يكون جاريا مجرى
الغالب لأن الانسان لا يخلو عن فعل ما غالبا، فكلما خرج من شئ دخل في غيره عادتا فيكون
قوله (ودخلت في غيره) من باب التأكيد للخروج من الفعل الأول، فليكن هذا على ذكر منك
وسيأتي توضيحه في الأمر الرابع انشاء الله.
2 - ما رواه إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان شك
في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شئ
شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه.
(رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع من كتاب التهذيب وهو الحديث
الرابع من ذاك الباب).
وصدرها وإن كان مختصا بباب اجزاء الصلاة الا ان ذيلها قضية عامة كالرواية الأولى
وظهورها بادي الامر في اعتبار الدخول في الغير مثلها.
3 - ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) أنه قال: كلما شككت فيه مما
قد مضى فامضه كما هو (رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب الخلل) (1) وهي أيضا
ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير الا ان يقال بان اطلاقها منصرفة إلى ما هو الغالب من
تلازم مضى الشئ للدخول في الآخر، على عكس ما قلناه في الرواية الأولى، ولكنها من حيث
اختصاصها بالشك في الصحة دون أصل الوجود كالأولى وإن كان القول بالتعميم هنا أقرب لأن
اطلاق مضى الشئ على مضى وقته أو محله كثير، يقال مضت الصلاة أي فات وقته ومحله وسيأتي

1 - وسائل الشيعة المجلد 5 الصفحة 336
214

البحث عنه مستوفى.
4 - ما رواه ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع) إذا شككت في شئ من
الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشئ إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه
(رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الوضوء من كتاب الطهارة).
والضمير في قوله (غيره) يحتمل رجوعه إلى (شئ من الوضوء) وهو الذي يسبق إلى
الذهن بادي الامر ولكنه مخالف لما يأتي من عدم جريان القاعدة في اجزاء الطهارات
الثلث، ويحتمل رجوعه إلى (الوضوء) فينطبق على ما هو المشهور المعروف، المدعى عليه
الاجماع، ولكن هذا الاحتمال لا يخلو عن مخالفة للظاهر كما عرفت.
وهل هي عامة للشك في الصحة والوجود معا أو مختصة بأحدهما؟ ظاهر صدرها
التعميم فإن الشك في شئ من الوضوء أعم من الشك في أصل وجوده أو صحته ولا تأبى ذيلها
عن الحمل عليه أيضا.
وهل الرواية تعم جميع أبواب الفقه أو تختص بباب الوضوء؟ ظاهر قوله إنما الشك
الخ العموم، ولكن تخصيصها بباب الوضوء ليس ببعيد فإن قوله (إنما الشك إذا كنت في شئ
لم تجزه) يحتمل أن يكون ناظرا إلى قوله (شئ من الوضوء) فالمعنى (ح) ان الشك إنما يعتبر
(إذا كنت في شئ من الوضوء لم تجزه) ولكن هذا الاحتمال لا يخلو عن مخالفة للظاهر لا سيما
بملاحظة كون التعليل كقاعدة ارتكازية عقلائية كما سيأتي انشاء الله.
وهل يستفاد منه اعتبار الدخول في الغير أولا؟ ظاهر صدرها - كما افاده العلامة
الأنصاري - هو الاعتبار، بينما يكون ذيلها ظاهرة في خلافه. هذا ولو لم يحمل اطلاق
الذيل على ما هو الغالب من الدخول في الغير بعد الفراغ عن الشئ، لم يبعد ترجيحه على الصدر
بناء على أن ظهور التعليل يكون أقوى.
5 - (ما رواه بكير بن أعين قال: قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال هو حين
يتوضأ أذكر منه حين يشك. (رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الوضوء).
215

وهي وإن كان واردة في خصوص الشك في الوضوء الا ان قوله (هو حين يتوضأ الخ)
من قبيل ذكر العلة في مقام بيان المعلول، فذكر قوله (هو حين يتوضأ الخ) بدل قوله (لا يعيد
الوضوء).
وحيث إن التعليل بأمر عقلي شامل لغير مورد السؤال، يجوز عد الرواية في سلسلة
الروايات العامة الدالة على القاعدة.
اللهم الا ان يقال إنه ليس من قبيل العلة للحكم، بل من سنخ الحكمة له، ذكر استيناسا
للحكم، لا يجوز التعدي عنه إلى ساير الموارد، ومثله كثير في مختلف أبواب الفقه فتأمل.
6 - ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إذا شك الرجل بعد
ما صلى فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف انه كان قد أتم،
لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك (رواه في الوسائل
في الباب 27 من أبواب الخلل في الصلاة - ج 5 - ص 343).
وبيان دلالتها بعين التقريب الذي تقدم في سابقها الا ان الحكم وعلته كليهما مذكوران هنا.
وقد يتوهم ان التعبير بقوله: (وكان يقينه حين انصرف انه كان أتم) دليل على أنها
ناظرة إلى بيان قاعدة اليقين والشك الساري ولكنه كما ترى، فإن اليقين في تلك القاعدة
لا يجب أن يكون في خصوص حال الانصراف كما ذكر في هذه الرواية، مضافا إلى أن
لسانها في الذيل (وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك) من أقوى الشواهد
على أنها بصدد بيان قاعدة الفراغ وظاهر في أنها من سنخ الامارات، وقاعدة اليقين على
القول بها ليست كذلك فتدبر.
ثم لا يخفى ان عد الرواية من الروايات العامة الدالة على القاعدة مبنى على التعليل
الضمني الارتكازي المستفاد من قوله: وكان حين انصراف الخ والا هي مختصة بباب الشك
في ركعات الصلاة بعد الفراغ، ولو قلنا بأنه لا يزيد على الاشعار بالعلة العامة سقطت عن
الدلالة على المطلوب.
216

7 - ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب حريز بن عبد الله عن
زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:
(إذا جاء يقين بعد حائل قضاه ومضى على اليقين ويقضى الحائل والشك
جميعا، فإن شك في الظهر فيما بينه وبين ان يصلى العصر قضاها، وان دخله
الشك بعد أن يصلى العصر فقد مضت، الا ان يستيقن، الا العصر حائل فيما بينه
وبين الظهر فلا يدع الحائل لما كان من الشك الا بيقين) (رواه في الوسائل
في الباب 60 من أبواب المواقيت - ج 3 ص 205)
وحاصل مفادها ان وجود (الحائل) الذي هو عبارة أخرى عن (الغير) الوارد في
سائر الروايات يوجب عدم الاعتناء بالشك فيما تجاوز عنه فلو شك في فعل الظهر بعد الاتيان
بالعصر لا يعتنى بشكه لتحقق الحائل وهو العصر واما لو شك قبله فعليه اتيانها.
نعم لو علم بترك الظهر ولو بعد تحقق الحائل وهو العصر فعليه أدائها، لوضوح ان
القاعدة تختص بصورة الشك، واما قوله (ويقضى الحائل والشك جميعا) فلا يخلو عن تشويش
واضطراب ولكن لا يمنع من الاستدلال بالذيل بعد وضوحها وظهورها في المقصود.
وقد استدل بالرواية سيدنا الأستاذ في المستمسك على عدم وجوب الظهر على من صلى
العصر ثم شك في فعل الظهر ثم صرح بأنه لم يجد عاجلا من تعرض لذلك، ثم استدل لهذا
الحكم بقاعدة التجاوز أيضا بناء على أنه يثبت وجود المشكوك بلحاظ جميع آثاره (1)
هذا ولكن الرواية بنفسها من أدلة القاعدة كما رأيت وسيأتي له مزيد تحقيق أيضا،
وعلى كل حال هو من الأدلة العامة الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد تحقق الحائل لأن الحكم
المذكور في صدر الرواية كالعلة المذكورة في ذيلها حكم عام لا يختص بباب دون باب،
ولكن ظاهرها اعتبار الدخول في الغير لو لم نقل بظهورها في اعتبار الفراغ عن الغير فتأمل.
هذا ما عثرنا عليه من الروايات العامة التي لا تختص بباب دون باب وهناك روايات

(1) مستمسك العروة - ج 5 ص 267.
217

كثيرة خاصة وردت في أبواب مختلفة مثل أبواب الوضوء وغسل الجنابة والركوع وغيره
من أفعال الصلاة بل وفى أبواب الحج، ولا بأس بالإشارة إلى بعض ما ورد في تلك الأبواب من
الروايات الخاصة المؤيدة لما مر عليك من العمومات:
1 - ما ورد في باب الوضوء مثل ما رواه محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك
(رواه في الوسائل في الباب 42 من أبواب الوضوء) (1)
وهذه الرواية - كما ترى - مختصة بباب الوضوء والصلاة ولا تعم ساير الأبواب بلسانها
2 - (ما ورد في أبواب الجنابة مثل ما رواه زرارة عن أبي جعفر (ع) في حديث
قال قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة - إلى أن قال
فإن دخله الشك وقد دخل في صلاته ولا شئ عليه الحديث (رواه في الوسائل في
الباب 41 من أبواب الجنابة) (2) وظاهرها اعتبار الدخول في الغير فتأمل.
3 - (ما ورد في باب الشك في الركوع مثل ما رواه حماد بن عثمان قال قلت
لأبي عبد الله (ع): أشك وانا ساجد فلا ادرى ركعت أم لا فقال قد ركعت، امضه)
(رواه في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع) (3)
4 - ما رواه في ذاك الباب بعينه عن فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
استتم قائما فلا ادرى ركعت أم لا؟ قال: بلى قد ركعت فامض في صلاتك.
5 - وما رواه أيضا في ذاك الباب عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال قلت لأبي عبد الله
(ع) رجل أهوى إلى السجود فلم يدر اركع أم لم يركع قال: قد ركع.
6 - ما ورد في باب عدد الأشواط في الطواف من عدم الاعتناء بالشك فيه بعد خروجه
1 - المجلد الأول ص 331
2 - المجلد الأول ص 524
3 - المجلد الرابع ص 936
218

عن الطواف وفوت المحل مثل ما رواه محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله (ع) عن
رجل طاف بالبيت فلم يدر أستة طاف أم سبعة، طواف فريضة، قال: فليعد
طوافه، قيل: انه قد خرج وفاته ذلك، قال ليس عليه شئ (رواه في الوسائل
في أبواب الطواف) (1).
7 - وما رواه عن منصور بن حازم في ذاك الباب بعينه قال سألت أبا عبد الله (ع) عن
رجل طاف طواف الفريضة فلم يدر ستة طاف أو سبعة قال فليعد طوافه، قلت
ففاته، قال ما أرى عليه شيئا والإعادة أحب إلى وأفضل (2)
واستدل في الجواهر بها وبما أشبهها للحكم بعدم العبرة بالشك في عدد أشواط
الطواف بعد الفراغ عنه، بعد استظهار عدم الخلاف في حكم المسألة.
ومن هنا تعرف أيضا ان الحكم بمقتضى قاعدة التجاوز والفراغ لا يختص بأبواب الطهارة
والصلاة بل يجرى في الحج وغيرها كما سيأتي البحث عنه مستوفى انشاء الله ولم نعثر في
غير هذا الباب من أبواب الحج ما يدل عليه، لعل المتتبع الخبير يعثر على غيره أيضا.
وهناك روايات أخرى خاصة في مختلف أبواب الصلاة والطهارة تتحد مضامينها مع
ما ذكرنا لم نتعرض لبيانها وإنما اخترنا هذه الروايات السبع من بينها لما فيها من الشواهد
والإشارات وأضواء تشرق على المباحث الآتية، يهتدى بحقائقها تحتها كما ستعرف انشاء الله.
وهذه الروايات وان وردت في أبواب خاصة وليس فيها ما يدل على عموم الحكم
كالروايات السابقة ولكنها تكون مؤيدة لها ويشرف الباحث على القطع بعدم اختصاص
القاعدة بباب دون باب، وجريانها في جميع العبادات بل وغيرها من المركبات الشرعية
إذا شك في بعض اجزائها وشرائطها أو في أصل وجودها بعد مضى محلها.
ويمكن جعل هذه الأخبار وما يضاهيها دليلا مستقلا بنفسه، فإن استقراء أحكام
الشرع في أبواب الوضوء والغسل، والاذان والإقامة والتكبير والقراءة والركوع والسجود

1 - الجلد التاسع من الوسائل ص 433
2 - الجلد التاسع من الوسائل ص 435
219

الطواف - مع قطع النظر عن العمومات - يوجب الاطمينان على عدم اختصاص الحكم
بباب دون باب وجريان القاعدة في جميع الأبواب، ولا سيما بعد ملاحظة التعبيرات الواردة
فيها مما يشعر أو يدل على عدم اتكاء الحكم على خصوصية المورد بل على عنوان الشك
الفراغ والتجاوز وأمثالها فتأمل.
2 - السيرة العقلائية
ويدل على المقصود أيضا استقرار سيرة العقلاء وأهل العرف - في الجملة - على البناء
على صحة العمل بعد مضيه، ولعله في الحقيقة راجع إلى عمومية أصالة الصحة لفعل النفس
كما مر في المجلد الأول من كتابنا هذا عند ذكر (قاعدة الصحة) وانه لا فرق فيها بين فعل
الغير وفعل النفس خلافا لما يستفاد من صريح كلمات بعضهم وظاهر آخرين من تخصيصها
بفعل الغير فقط، ولذا ذكروا في عناوين كلماتهم هناك (أصالة الصحة في فعل الغير).
وقد عرفت ان دقيق النظر يعطى عدم اختصاص بعض أدلتها به وشمولها لأصالة الصحة
في فعل النفس أيضا.
ولذا قال فخر المحققين (قدس سره الشريف) في (ايضاح القواعد) في مسألة الشك
في بعض أفعال الطهارة ان الأصل في فعل العاقل المكلف الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح
وهو يعلم الكمية والكيفية الصحة (انتهى).
وهذا الكلام منه - كما ترى - إشارة إلى قاعدة عامة تجرى في فعل الانسان نفسه
وغيره وهو مبنى على ظهور حال الفاعل الذي هو بصدد تفريغ ذمته بفعل صحيح مع علمه
باجزاء الفعل وشرائطه، وهوى؟؟ قاعدة عقلائية عامة في جميع الأفعال وجميع الأبواب.
ولذا لو فرضنا واحدا منا كتب كتابا أو حاسب حسابا أو أقدم على تركيب معجون
هو عالم باجزائه وشرائطه ثم مضت عليه أيام أو شهور فشك في صحة الكتاب أو المحاسبة
أو تركيب المعجون من جهة احتمال الاخلال ببعض شرائطه واجزائه غفلتا منه فهل تراه
220

يعتنى بهذا الشك ويكر النظر إليه مرة بعد مرة كلما شك في شئ مما يعتبر فيها؟
مع أن احتمال الفساد من ناحية الغفلة موجود في غالب أفعال الانسان كيف وقد
صار الغفلة والنسيان كالطبيعة الثانية له، وللغفلات تعرض للأريب.
وكلما كان الفعل أدق وكان اجزائه وشرائطه أكثر كان هذا الاحتمال فيه أقوى،
فإذا كتب كاتب كتابا ضخما كان احتمال الغلط فيه من ناحية الغفلة والاشتباه فيه قويا جدا ولكن
إذا كان الكاتب ذو بصيرة في فعله ونية صادقة في كتابته عازما على بذل مجهوده في تصحيح
الكتاب لا يعتنى باحتمال الفساد فيه إذا فرغ منه وجاوز عنه الا أن يكون هناك قرائن و
امارات توجب الظن بوجود الخلل في بعض نواحيه.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الكاتب غيره أو نفسه فشك في عمل نفسه. نعم إذا كان
هو مشتغلا بعمله فشك في شئ منه في محله يكر النظر إليه حتى يكون على ثقة من صحته و
أدائه كما هو حقه.
ولعمر الحق ان هذا أمر ظاهر لا سترة عليه لمن راجع أفعال العقلاء وديدنهم في
أمورهم المختلفة في الجملة، وإن كان باب المناقشة في جزئيات المسألة وحدودها سعة
وضيقا واسعا ولكن أصل هذه القاعدة - على اجمالها - محفوظة عندهم.
والظاهر أن الوجه في بنائهم هذا ان احتمال الغفلة حين الاشتغال بالعمل في حد
ذاته أمر مرجوح لا يعتنى به. أضف إليه ان العاقل الشاعر الذاكر حين الفعل لا يأتي بما هو مخالف
لأغراضه وأهدافه.
وهذا هو بعينه ما أشار إليه الإمام (عليه السلام) في عبارة وجيزة لطيفة في رواية (بكير بن
أعين) الماضية (1) حيث قال: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك).
فإنه كالصغرى لكبرى محذوفة تعرف من سياق الكلام وهي ان الذاكر لفعله لا يأتي
بما هو مخالف لمقصود وغرضه وإذا انضمت هذه الكبرى إلى صغرى مذكورة في كلامه (ع)

(1) - نقلناها تحت الرقم 5 في الروايات العامة.
221

وهو انه (حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) لأن احتمال الغفلة أمر مرجوع بالنسبة
إلى المشتغل بالعمل حينه، كان قضيتها صحة العمل وعدم الاعتناء بالشك، فالصغرى تسد
احتمال الغفلة، والكبرى تسد احتمال العمد في فعل ما هو مخل بغرضه.
وكذلك قوله في رواية محمد بن مسلم: (وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه
بعد ذلك) (1)
هذا كله مضافا إلى ما في هذا الأصل من رفع الحرج عن الناس الذي هو الملاك
في كثير من الطرق والأصول العقلائية. وببالي ان صاحب الجواهر (قدس سره) تمسك بقاعدة
الحرج أيضا في مسألة الشك في عدد أشواط الطواف التي مضى ذكرها آنفا، وكأنه (قدس
سره) أيضا ناظر إلى هذا المعنى، لأن مسألة الشك في عدد أشواط الطواف لا خصوصية لها من
هذه الجهة.
وان قال قائل: كيف يكون الذكر هو الأصل في حال الفاعل مع انا كثيرا ما نغفل
عن تفاصيل أعمالنا وهل يوجد بين الناس من يكون حاضر القلب، ذاكرا لجميع أفعال
صلاته وسائر عباداته دائما، اللهم الا الأوحدي منهم. فالغفلة عن تفاصيل الفعل
واجزائه وشرائطه حين العمل لعلها الغالب، من غير فرق بين الصلاة والصيام
والطهارات والحج.
بل يظهر من غير واحد من الروايات الواردة في باب حضور القلب في الصلاة و
أبواب الشكوك ان الامر كان على هذا الحال عند كثير من أصحاب الأئمة وكانوا يشكون
عندهم (ع) عن انصراف قلوبهم عن تفاصيل العمل (أو عن الله) في صلواتهم أو غيرها.
قلنا - هذه الغفلات ليست غفلة محضا بل هي مشوبة بنوع من الذكر الاجمالي و
ذلك لأن الانسان إذا كان بصدد اتيان شئ من المركبات الخارجية، ولم يعهد به من قبل،
كمن يصلى لأول مرة، فلا مناص له من الذكر الكامل والعلم التفصيلي عند الاتيان بكل جزء

(1) - نقلناها تحت الرقم 6 في الروايات العامة
222

جزء منه، بحيث كلما غفل عنه وقف عن العمل لعدم اعتياده به.
ولكن بعد الاتيان به مرات عديدة - تتفاوت بتفاوت الأعمال والاشخاص - يحصل
له ملكة خاصة ونوع من الارتكاز الاجمالي بالنسبة إلى تفاصيل العمل وخصوصياته و
اجزائه، ويقوم ذلك مقام الذكر الكامل والعلم بتفاصيله.
وحينئذ صورة العمل وخصوصياته وان محت عن صفحة ذهنه، عند غلبة الغفلة،
لكنها بعد مرتكزة في اعمال ذهنه وباطن شعوره، ولذا يأتي بها غالبا على وجه الصحة
حينئذ ولا يقف عنه عند انصراف ذهنه وغلبة الغفلة كالمتردد الحائر، كيف لا، والفعل فعل إرادي
اختياري لابد من استناده إلى إرادة ما قطعا.
والحاصل ان الفاعل في هذه المقامات ليس ساهيا غافلا بالمرة، بل هو ذاكر بنوع
من الذكر، سمه (الذكر الاجمالي) أو ما شئت.
بقي هنا أمران.
الأول - ان بناء العقلاء على هذه القاعدة في أمورهم لا يلازم القول باتحاد سعة
دائرتها عند الشرع مع ما هو عندهم، فلو دلت الاطلاقات السابقة على جريانها في موارد
لم يثبت استقرار السيرة العقلائية عليها يبنى عليها، فكم من أصل أو قاعدة أو امارة ثبت
في الشرع بنحو أوسع أو أضيق مما عند العرف والعقلاء، مع كون أصولها متخذة منهم.
الثاني - الظاهر أن بناء العقلاء على هذه القاعدة في أفعالهم إنما هو في موارد
لم يكن قرائن ظنية يعتنى بها على خلافها، فلو كان الفاعل ممن يكثر عليه السهو، أو نحو
ذلك من القرائن والأمارات الظنية الغالبة، أشكل الركون إليها عند الشك في العمل ولو
بعد الفراغ والتجاوز منه.
223

2 - في أنها قاعدة واحدة أو قاعدتان
ذهب غير واحد من أعاظم المتأخرين والمعاصرين - وفى مقدمهم العلامة الأنصاري
(قدس سره الشريف) على ما يستفاد من ظاهر كلماته في الرسالة - إلى انها قاعدة واحدة عامة
لموارد الفراغ عن العمل والتجاوز عن اجزائه، بينما ذهب آخرون كالمحقق الخراساني
والفقيه النابه الهمداني (قدس سرهما) في محكى تعاليقهما على الرسالة إلى انهما قاعدتان
مختلفتان واردتان على موضوعين مختلفين.
واختار المحقق النائيني (قده) في بعض ما ذكره أخيرا في المسألة مذهبا ثالثا
وهو انه ليس هناك الا قاعدة الفراغ الشاملة لجميع الأبواب، وموضوعها الأعمال المستقلة
التامة، لا اجزاء عمل واحد، ولكنه أضاف إلى ذلك أن الأخبار الواردة في خصوص الشك
في اجزاء الصلاة تدل على أن الشارع المقدس نزل اجزاء الصلاة منزلة الأعمال المستقلة
فاجرى فيها تلك القاعدة أيضا.
فبمقتضى حكومة هذه الأخبار على أدلة القاعدة حصل لقاعدة الفراغ فرد ادعائي
تنزيلي قبال افرادها الحقيقية.
فاذن لا يبقى مجال للبحث عن تصوير الجامع بينهما، (فإن المفروض كون دخول أحد
الفردين في الكبرى المجعولة في طول الفرد الآخر لا في عرضه)، لكي يبحث عن كيفية الجامع
بينهما، فإن ذلك إنما هو في الافراد العرضية لا غير.
هذا والبحث عن هذه المسألة تارة يقع في مقام الثبوت، وانه هل يوجد هناك
ما بمفاده يكون جامعا بين حكم (الفراغ عن نفس العمل) و (التجاوز عن اجزائه) أولا يوجد
هناك جامع أصلا؟
وأخرى في مقام الاثبات وان مفاد اخبار الباب وأدلة القاعدة هل هو جعل بقاعدة
224

واحدة تشمل بعمومها للشك في اجزاء العمل في أثنائه وللشك في صحته بعد الفراغ عنه،
(بعد احراز امكانهما من جهة مقام الثبوت).
وبعد ذلك كله نتكلم فيما افاده المحقق النائيني (قدس سره) وما اختاره من المذهب الثالث
اما المقام الأول فحاصل الكلام فيه انه قد يتوهم عدم امكان الجمع بين القاعدتين
في لسان واحد وجعل واحد ثبوتا.
واستدل عليه بأمور ذكرها المحقق النائيني (قده) في كلماته في المقام وان لم يرتض
بها نفسه وأجاب عنها بما سيأتي نقله ونقده.
أولها - ان لازمه الجمع بين اللحاظين في متعلق الشك فإن متعلقه في قاعدة التجاوز
هو أصل وجود العمل بمفاد كان التامة، بينما يكون في قاعدة الفراغ صحته بمفاد كان
الناقصة، والجمع بين هذين اللحاظين في انشاء واحد وخطاب واحد مجال.
ويمكن الجواب عنه أولا بان استحالة الجمع بين اللحاظين في انشاء واحد، وكلام
واحد، وكذا استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وان دارت في السن المتأخرين واشتهرت
بينهم، وبنوا عليه ما بنوا من مسائل مختلفة في طيات كتب الأصول الحديثة، من المشهورات
التي لا أصل لها، وما بنوا عليها من المسائل الأصولية وغيرها - وما أكثره وأوفره - كلها
مخدوشة ممنوعة.
وذلك لما حققناه في محله من وقوع ذلك فضلا عن امكانه.
وحاصله ان اللحاظ في هذه الموارد لا يجب أن يكون تفصيليا وفى آن واحد حقيقي،
مقارنا لآن صدور الكلام والانشاء، بل يجوز تصور هذه الأمور المختلفة تفصيلا من قبل
ولو آنا ما، ثم الإشارة إليها اجمالا عند الاستعمال وفى آن الانشاء، وهذا أمر ممكن جدا
بل واقع كثيرا، وهذه الإشارة الاجمالية كافية في مقام الانشاء واستعمال اللفظ.
والوجدان أقوى شاهد على ذلك فهل ترى من نفسك اشكالا أو حزازة واستحالة
225

في قول القائل عند انشاء هاتين القاعدتين: (إذا جاوزت عن محل شئ فشكك فيه ليس
بشئ سواءا كان في أصل وجوده أم في صحته وسواءا كان في اجزاء عمل واحد أم في أمور مستقلة.
وهل ترى فرقا بين ان يضيف إلى كلامه قوله (سواء الخ) وبين ان يضمر ذلك في
نفسه من غير تصريح به في الكلام؟ أوليس قوله (سواء الخ) توضيحا للاطلاق المراد من
كلامه السابق، وهل هو انشاء جديد مذكور في ذيل الكلام غير ما هو مذكور في صدره؟ كلا
وهذا أمر وجداني لا يرفع اليد عنه ببعض السفسطات الباطلة، كيف وقد عرفت ان
اللحاظ الاجمالي حين الانشاء، أو استعمال اللفظ، كاف قطعا ولا حاجة إلى اللحاظ
التفصيلي كي يقع الكلام في عدم امكان المتعدد منه في استعمال واحد.
هذا مضافا إلى أن آن استعمال اللفظ ليس آنا حقيقيا عقليا، وليس استعمال اللفظ
في المعنى من قبيل فناء العنوان في المعنون والمرآة في المرئي كما توهم (فإن هذه
كلها استحسانات زائفة لا قيمة لها عند أبناء المحاورة إذا رجعنا إليهم، وكثير منها من قبيل
خلط الحقائق بالاعتباريات، والأمور العقلية بالأمور العرفية، وتوضيح ذلك أكثر
مما ذكر موكول إلى محله (1).

(1) - كما أن استعمال اللفظ الواحد في معان متعددة، بلا ملاحظة جامع بينها، أمر شايع
في السنة أبناء المحاورة من أهل الأدب والشعر، وغيرهم، ومن الطف ما ذكر في المقام ما افاده
العلامة الخبير والأديب الماهر الشيخ محمد رضا الأصفهاني (قده) في كتابه المسمى به (الوقاية)
ناقلا له من بعض الأدباء في وصف نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله:
المرتمي في الدجى والمبتلى بعمى * والمشتكى ظمآ والمبتغي دينا
يأتون سدته من كل ناحية * ويستفيدون من نعمائه عينا
يمدح هذا الشاعر، النبي الأعظم صلى الله عليه وآله بان كل ذي حاجة يأتي بابه ويستفيد من نعمائه:
فمنهم من وقع في ظلماء يبتغى شمسا مضيئة ونورا يهتدى به، ومنهم من ابتلى بالعمى يطلب عينا يدله
على الطريق: ومنهم من يشتكي من الظماء يروم عينا صافية يرتوي بها ويبرد كبده الحراء، ومنهم مديون يطلب بدينه يبتغى عين الذهب
كل أولئك يأتون بابه وكل واحد منهم يستفيد منه بما يسد به خلته وبرفع حاجته.
ومن الواضح ان لفظة (العين) في المصراع الأخير استعمل في أربع معان:
العين بمعنى الشمس، والباصرة، والنابعة، وبمعنى الذهب، كل واحد لواحد من الطوائف
الأربع.
ولا يخفى على العارف بأساليب الكلام ولطائفها ومن له نصيب من قريحة الشعر وذوق الأدب، ان
لطف هذا الشعر إنما هو استعمال لفظ العين في معان أربع كل واحد مستقل عن الاخر. وارجاع
جميع هذه المعاني إلى معنى جامع قريب أو بعيد مع أنه يذهب بلطف الشعر وطراوته، مخالف
للوجدان لعدم انسباقه إلى الذهن عند اطلاقه. ولو كان كذلك لا نسبق إليه بلا تأمل.
كما أن تأويله إلى المسمى به (العين) يأباه الطبع السليم والقريحة الوقادة ولا ينسبق إلى
الذهن أيضا من اللفظ بالوجدان. وقد أوضحنا جواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى
بدفع جميع ما ذكروا فيه من الاشكال فيما كتبناه في (الأصول اللفظية)
226

وثانيا - ان وصف الصحة - على ما هو التحقيق - ليست من الأوصاف الحقيقية
العارضة للعمل حقيقة، مثل عروض العلم والبياض للانسان والثلج، بل هو أمر انتزاعي
ينتزع من وجود الشئ جامعا لجميع اجزائه وشرائطه، ففقدانها إنما هو بفقدان جزء
من اجزائه أو شرط من شروطه، ومن المعلوم ان الجعل لا يتعلق بها الا باعتبار منشأ انتزاعها.
فالشك في الصحة يرجع لا محالة إلى الشك في وجود جزء أو شرط بمفاد كان
التامة، فاذن لا يبقى فرق بين متعلق الشك في مورد قاعدة الفراغ، والتجاوز، فإن متعلقه
في كل منهما هو الوجود بمفاد كان التامة فتدبر.
وثالثا - انه لا يلزم الجمع بين اللحاظين لامكان ارجاع قاعدة الفراغ إلى ما هو
مفاد كان التامة، بان يجعل متعلق الشك نفس صحة العمل، لا اتصاف العمل بالصحة،
والفرق بينهما ظاهر، لرجوع الأول إلى مفاد كان التامة والثانية إلى مفاد كان الناقصة.
ذكر هذا الوجه الأخير المحقق النائيني (قده) وارتضى به في آخر كلامه بعد ما أورد
عليه في أوله بوجهين:
227

أحدهما - انه مخالف لظاهر اخبار الباب، لظهورها في الحكم باتصاف العمل
الموجود بالصحة، لا بنفس الصحة بعنوان كان التامة، فارجاع التعبد فيها إلى التعبد
بوجود صحة العمل ربما يشبه بالاكل من القفا.
ثانيهما - انه لو تم فإنما يتم في باب الأحكام التكليفية، التي لا يعتبر فيها الا احراز
وجود الصحيح خارجا، ولكن لا يتم في باب الأحكام الوضعية، لأن الأثر يترتب على اتصاف
العقد الموجود بالصحة ولا يترتب على مجرد وجود الصحيح في الخارج، فإن من الواضح
ان مجرد التعبد بهذا لا يترتب عليه أي اثر خارجي، بل الآثار إنما تترتب على هذا الفرد
الموجود إذا اتصف بالصحة.
هذا ما افاده المحقق المذكور في هذا المقام ولكن في كلا الوجهين نظر:
اما الأول فلانه خروج عن محل البحث لما عرفت من أن الكلام هنا في مقام الثبوت،
وما ذكره من مخالفته لظاهر الرويات راجع إلى مقام الاثبات، والاستظهار من الأدلة،
وسيأتي الكلام فيه (فتأمل).
واما الثاني فلان الأثر في المعاملات يترتب على ما هو مفاد كان التامة أيضا ولكن مع
حفظ المورد والموضوع، مثلا إذا شككنا في تحقق عقد صحيح مستجمع لشرائطه على
امرأة خاصة بمهر معين إلى اجل معلوم، وكان الشك في أصل وجود هذا العقد الخاص
بعنوان كان التامة، ثم ثبت حكم الشارع بوجوده كذلك، رتبنا عليه الأثر، وكان لتلك
المراة جميع ما للزوجة من الآثار الشرعية.
وكأنه (قدس سره) توهم ان وجود العقد بمفاد كان التامة دائما يلازم ابهامه واجماله
وعدم تشخص مورده حتى يترتب عليه الأثر، مع أن ابهام متعلق العقد أو تعينه وتشخصه
لا ربط له بكون الشك في وجوده بمفاد كان التامة أو غيرها، فإن متعلق الشك قد يكون
وجود عقد خاص معين من جميع الجهات مع كونه من قبيل مفاد كان التامة (تأمل فإنه
لا يخلو عن دقة).
228

(ثانيها)
ان المركب حيث إنه مؤلف من اجزاء، فلا محالة يكون لحاظ كل جزء بنفسه
سابقا في الرتبة على لحاظ الكل، إذ في رتبة لحاظ المركب والكل يكون الجزء
مند كافية، مثلا لحاظ كل حرف بنفسه مقدم على لحاظ الكلمة المؤلفة منها، كما أن
لحاظ الكلمة في نفسها مقدم غلى لحاظ الآية، وهكذا بالنسبة إلى السورة والصلاة جميعا.
و (ح) كيف يمكن ان يراد من لفظ (الشئ) في قوله (كل شئ شك فيه وقد جاوزه الخ)
الكل والجزء معا وبلحاظ واحد، مع أنهما مختلفان في مرتبة اللحاظ؟!
والجواب عنه:
أولا - ما مر من امكان الجمع بين اللحاظين في كلام واحد، فإن هذا الوجه أيضا
يرجع في الحقيقة إلى استحالة الجمع بين اللحاظ الاستقلالي للجزء - وهو لحاظه بنفسه -
ولحاظه مندكا في الكل - وهو لحاظه التبعي - في مرتبة واحدة.
وثانيا - ان ما ذكر إنما يلزم إذا لوحظ الكل والجزء تفصيلا وبهذين العنوانين، و
لكن لحاظهما بعنوان اجمالي شامل لهما، كعنوان (العمل) (لا بشرط) فلا مانع منه أصلا
فقوله (كل شئ الخ) في معنى قوله (كل عمل الخ) فكما يندرج (مجموع العمل) تحت هذا
العنوان، يندرج (جزئه) أيضا فيه على نحو اجمالي، والحاصل ان الاشكال إنما هو في
فرض ملاحظة هذين العنوانين بنفسهما، لا إذا لو خطا بعنوان عام شامل لهما.
والعجب أنه (قدس سره) مثل له باجزاء الكلمة وكلمات الآية، وآيات السورة، مع أن
كثيرا من الاعلام صرحوا بشمول قاعدة التجاوز بنفسها للاجزاء واجزاء الاجزاء فإذا شك في
قراءة السورة بعد مضى محلها جرت فيها القاعدة، كما أنه إذا شك في قراءة آية منها بعد مضى
محلها جرت فيها أيضا، فالسورة بنفسها مشمولة لها، كما أن آية من آياتها أيضا مشمولة،
فراجع (العروة) وتعليقات الاعلام عليها في مسألة الشك بعد المحل في اجزاء الصلاة.
229

فلو كان لحاظ الكل واجزائه في خطاب واحد مستحيلا جرى ذلك في الجزء و
اجزاء الجزء.
ومما ذكرنا تعرف عدم الحاجة في حل الاشكال إلى تكلف القول بان الأدلة الواردة
في المسألة متكفلة لحكم قاعدة الفراغ عن العمل فقط، فالمجعول أولا وبالذات هو هذه
القاعدة، الا ان الأدلة الخاصة الواردة في باب اجزاء الصلاة تنزل اجزائها منزلة الكل،
فحصل للقاعدة فردان: فرد حقيقي، وفرد تنزيلي، بعد حكومة أدلة قاعدة التجاوز (أي
الروايات الواردة في باب الشك في اجزاء الصلاة) على أدلتها، فاذن لا يلزم الجمع بين
اللحاظين في اطلاق واحد أصلا.
ذكر ذلك المحقق النائيني في أواخر كلامه في المسألة وجعله طريقا لحل هذه
العقدة، والاشكال الآتي في الوجه الثالث من لزوم التدافع بين القاعدتين، وبنى عليه ما بنى.
ولكن فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى، وسيأتي توضيحه بنحو أو في أن شاء الله تعالى.
(ثالثها)
لزوم التدافع بين القاعدتين في موارد التجاوز عن محل الجزء المشكوك، فإنه
باعتبار لحاظ الجزء بنفسه، كما هو مورد قاعدة التجاوز يصدق انه تجاوز عن محله،
فلا يعتنى بالشك فيه، وباعتبار لحاظ الكل يصدق انه لم يتجاوزه، فيجب الاعتناء به وتداركه، وهذا هو التدافع بينهما.
والجواب عنه ان هذا التدافع ساقط جدا لأنه:
أولا - لا تدافع بين نفس القاعدتين، وإنما يكون التدافع - على فرض وجوده -
بين أصل قاعدة التجاوز وعكس قاعدة الفراغ، وهذا إنما يلزم لو كان عكسها كنفسها مجعولة.
واما لو كان المجعول أصلها فقط وكان لزوم التدارك عند عدم الفراغ من باب قاعدة
الاشتغال - كما هو الظاهر - فلا تدافع بينهما أصلا. فإن مخالفتهما من قبيل مخالفة ما فيه
230

الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه ومن الواضح عدم المنافاة بينهما.
فلزوم تدارك الجزء المشكوك قبل الفراغ من باب عدم وجود ما يعذر به البعد وما
يقتضى برائته، فإذا اقتضى قاعدة التجاوز عدم وجوب التدارك عليه كان عذرا له في تركه
ومبرء للذمة.
والحاصل ان التدافع بينهما ثابت لو كان (عكس) قاعدة الفراغ كأصلها مجعولة و
كان كل واحد منهما من قبيل ما فيه الاقتضاء، فهذا يقتضى التدارك قبل الفراغ عن الكل
بينما تكون قاعدة التجاوز مقتضية لعدم وجوبه عند التجاوز عن الجزء، (فح) يلزم التدافع
بينهما، الا ان يخصص عكس القاعدة بموارد لا تجرى فيها قاعدة التجاوز، كالشرائط التي
تعتبر في مجموع الصلاة، بناء على عدم جريان قاعدة التجاوز فيها بالنسبة إلى الأجزاء السابقة.
هذا ولكن قد عرفت ان المجعول هو نفس القاعدة لا عكسها وان التدارك قبل الفراغ
إنما هو بمقتضى قاعدة الاشتغال والتكليف الأصلي.
ومن هنا تعرف وجه النظر فيما افاده من الاشكال والجواب في المقام بقوله: (ان
قلت) و (قلت) فراجع كلامه.
(رابعها)
ان المعتبر في قاعدة التجاوز هو التجاوز عن (محل المشكوك)، والمعتبر في قاعدة
الفراغ هو التجاوز عن (نفس العمل)، فكيف يمكن إرادة التجاوز عن محل الشئ وعن نفسه
معا من لفظ واحد؟
والجواب عن هذا الاشكال يظهر مما ذكرناه وأوضحناه في الوجوه السابقة ولا سيما
الوجه الأول، ونزيدك هنا ان الاختلاف بينهما ليس اختلافا في مفادهما وما يراد من لفظ
(التجاوز) ومتعقلة وإنما هو في المصاديق لا غير.
ففي موارد احراز نفس العمل مع الشك في صحته من جهة الشك في الاخلال ببعض
231

ما يعتبر فيه، يتحقق المضي عنه بالتجاوز عن نفسه، وفى موارد الشك في نفس الاجزاء يكون
المضي عنه بالتجاوز عن محله، فالملاك هو صدق التجاوز عن الشئ والمضي عنه وهو مفهوم
واحد وإن كان ما يتحقق به مختلفة.
هذا ولكن الانصاف ان صدق التجاوز عن الشئ بالتجاوز عن محله يحتاج إلى نوع من
المسامحة لأن التجاوز عن الشئ ظاهر في التجاوز عن نفسه لا عن محله ولكن هذا المقدار
لا يوجب اشكالا في اندراج القاعدتين تحت عموم واحد، غاية الأمر يكون للتجاوز
فردان: فرد حقيقي وهو التجاوز عن نفس العمل، وفرد ادعائي وهو التجاوز عن
محله ولا يذهب عليك ان هذا ليس من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد
ولو قلنا بامتناعه كما لا يخفى، كما أن هذا غير ما افاده المحقق المذكور من ارجاع إحدى
القاعدتين إلى الأخرى.
هذا كله بحسب مقام الثبوت فتحصل منه انه لا مانع من اتحاد القاعدتين و
انشائهما بلفظ واحد، كما أنه لا مانع من انشائهما بانشائين مختلفين، لو كان هناك داع إليه،
وقد عرفت ان جميع ما ذكروه من الموانع والاشكالات وجوه فاسدة لا يمكن الركون إليها،
وانه لا يلزم أي محذور عقلي من هذه الناحية.
واما بحسب مقام الاثبات وظهور أدلة المسألة، فالمستفاد من بناء العقلاء الذي
قد عرفت ثبوته في المسألة وقد أشير إليه في روايات الباب الواردة من أئمة أهل البيت
(عليهم السلام) أيضا بقولهم: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) وقولهم (كان حين
انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك) هو اتحادهما وعدم الفرق بينهما لاتحاد الملاك
في الموردين وان اختلفت مصاديقهما من بعض الجهات.
فما دام الانسان مشتغلا بعمل يكون خبيرا بحاله، مقبلا إلى شأنه، عالما بكيفياته (ولو
232

بالعلم الاجمالي الارتكازي الذي عرفته آنفا) فيكون اذكروا بصر منه حين يشك (عند
مضيه وانصرام اجله وانمحاء تفاصيله عن ذهنه). بلا تفاوت في ذلك بين الكل والجزء
وبين الفراغ عن نفس الشئ أو التجاوز عن محله.
اما الأدلة النقلية التي هي العمدة في المسألة فالانصاف انه لا يستفاد منها - على
اختلاف ألسنتها وتعابيرها شيئان مختلفان، بل الناظر فيها، إذا كان خالي النظر،
غير مشوب الذهن بما دار بين الاعلام من النقض والابرام في اتحاد القاعدتين واختلافهما،
لا يتبادر إلى ذهنه الا قاعدة واحدة عامة تجرى في اجزاء العمل وكلها بعد مضيها و
انصرامها.
ولا ينافي ذلك كونها مقيدة ببعض القيود في بعض مصاديقها، كاعتبار الدخول
في الغير بالنسبة إلى جريانها في الاجزاء (لو قلنا به) كما سيأتي إن شاء الله.
ويؤيد هذا المعنى تقارب التعبيرات، لو لم نقل باتحادها، في اخبار الباب الواردة
في موارد الفراغ عن نفس العمل، والتجاوز عن الاجزاء، من التعبير بالمضي (كما في
روايتي إسماعيل ومحمد بن مسلم) وان الشك ليس بشئ (كما في روايتي زرارة وابن أبي
يعفور).
حتى أن التعبير ب‍ (التجاوز) أو (الدخول في الغير) لا يختص بموارد قاعدة التجاوز
(على ما اختاره القائلون بالتعدد) بل ورد ذلك بعينه في الأحاديث الواردة في مورد قاعدة
الفراغ أيضا فرواية ابن أبي يعفور المروية عن الصادق (ع) (إذا شككت في شئ من الوضوء
وقد دخلت في غبره فليس شكك بشئ إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) بناء على رجوع
الضمير في قوله (قد دخلت في غيره) إلى الوضوء، واردة في باب قاعدة الفراغ مع ذكر اعتبار
الدخول في الغير فيها وما وقع فيها من التعبير بالتجاوز.
وفى غير هذه الرواية أيضا شواهد على المقصود فراجع وتدبر.
فتحصل من ذلك كله ان الحق هو اتحاد القاعدتين وفاقا لما يظهر من شيخنا العلامة
233

الأنصاري وغيره (رضوان الله عليهم).
بقي هنا شئ
وهو انه ما ثمرة هذا النزاع وأي فرق بحسب النتيجة بين القول باتحاد القاعدتين
وتعددهما؟
وسيظهر لك ذلك في البحوث الآتية لا سيما البحث عن اعتبار الدخول في الغير،
وجريان قاعدة التجاوز في الأعمال المستقلة، ونحوهما.
234

3 - في أنها من الامارات أو من الأصول العملية؟
قد وقع الخلاف في أن قاعدة التجاوز والفراغ - سواء قلنا باتحادهما كما هو التحقيق
أو تعددهما كما عليه شر ذمة من المتأخرين والمعاصرين - هل هي من الأصول العملية أو
مندرجة في سلك الامارات؟.
وأنت إذا أحطت خبرا بما أسلفناه في بيان مدرك القاعدة لا تشك في اندراجها
في سلك الأمارات الظنية، لما عرفت من أن الحق ثبوتها عند العقلاء وأهل العرف قبل ثبوتها
في الشرع، وان ملاكها عندهم هو غلبة الذكر على الفاعل حين العمل (بما عرفت توضيحه).
فهي مبتنية عندهم على (أصالة عدم الغفلة حين العمل) منضمة إلى عدم احتمال ارتكاب
الفاعل العالم بالاجزاء وشرائط العمل ما هو خلاف مراده ومرامه.
وقد عرفت أيضا ان الشارع المقدس أمضاها بهذا الملاك عينا، والشاهد له روايتا
(بكير بن أعين) و (محمد بن مسلم) (1) ففي الأولى علل الحكم بقوله: هو حين يتوضأ أذكر
منه حين يشك، وفى الثانية بقوله، وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك،
(الانصراف في الصلاة آخر أزمنة الاشتغال بالفعل).
فمع ذلك لا يبقى مجال للتشكيك في حجية القاعدة على نحو سائر الامارات المعتبرة
عقلا وشرعا.
هذا ومن أوضح القرائن عليه انه ورد في غير مورد من الروايات الخاصة إشارات
لطيفة إلى هذا المعنى لا يبقى معها شك في المسألة، واليك بيانها:

1 - ذكرناهما تحت الرقم 5 و 6 سابقا عند ذكر روايات القاعدة
235

ففي رواية عبد الرحمن عن أبي عبد الله (ع) الواردة فيمن اهوى إلى السجود فلم يدر أركع
أم لم يركع؟ قال: قد ركع (1)
وفى رواية أخرى عن فضيل بن يسار عن أبي عبد الله (ع) أيضا بعد سؤاله بقوله: استتم
قائما فلا ادرى أركعت أم لا؟ قال (ع): بلى قد ركعت (2).
وفى رواية ثالثة عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (ع) أيضا بعد سؤاله بقوله: أشك
وانا ساجد فلا ادرى أركعت أم لا؟ فقال: قد ركعت امضه (3)
هذا ما ظفرنا به من الروايات الخاصة المشتملة على التصريح بوقوع الفعل المشكوك
ووجوده بقوله: (قد ركع) أو: (بلى قد ركعت) أو: (قد ركعت امضه) وقد نقلناها سابقا
تحت الرقم 3 و 4 و 5 من الروايات الخاصة الدالة على القاعدة.
وهي شاهدة على كشف القاعدة عن الواقع وان اعتبارها إنما هو من جهة كشفها عن
ذلك، لا انها مجرد حكم لرفع الحيرة والشك عند العمل من دون أن تكون ناظرة إلى الواقع
وإحرازه، كما هو شأن الأصول العملية.
نسبتها مع سائر الأصول - ومن هنا لا يبقى مجال للشك في تقديمها على
الاستصحاب وسائر الأصول العملية الواردة في مواردها، لتقدم الامارات عليها جميعا.
واما لو قلنا بأنها مندرجة في سلك الأصول العملية أشكل تقديمها على غيرها
كالاستصحاب وشبهه.
نعم ذكر شيخنا العلامة الأنصاري في صدر كلامه في المسألة ان هذه القاعدة مقدمة
على خصوص الاستصحاب (وشبهه) وان كانت من الأصول العملية، لورودها في مورده ولكونها
أخص منه مطلقا، فإنه ما من مورد يجرى فيه القاعدة الا وهناك استصحاب يقتضى الفساد (انتهى
ملخص كلامه).
وهذا الكلام وان ارتضاه غير واحد ممن تأخر عنه وركنوا إليه في وجه تقديم القاعدة

(1) رواها في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع
(2) رواها في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع
(3) رواها في الوسائل في الباب 13 من أبواب الركوع
236

على الاستصحاب (على القول بأنها منسلكة في سلك الأصول العملية) الا انه لا يخلو عن
نقد واشكال.
وذلك لأن موارد جريان القاعدة لا تنحصر بموارد يجرى فيها استصحاب الفساد بل
هي على انحاء ثلاثة:
قسم يجرى فيه استصحاب الفساد، وقسم يجرى فيه استصحاب الصحة، وقسم لا يجرى
فيها استصحاب أصلا، لاذا ولا ذاك.
اما الأول فأمثلته كثيرة، واما الثاني فهو كالشك في صحة الصلاة بعد الفراغ عنها
من جهة الشك في الطهارة أو الستر أو غيرهما من الشرائط مع القطع بسبق وجودها قبل
الصلاة وعدم العلم بحصول خلافها.
والثالث كالشك في الصحة من ناحية هذه الشرائط مع عدم العلم بالحالة السابقة من
جهة تعاقب حالتين مختلفتين لا يدرى أيتهما كانت مقدمة على الأخرى.
والموارد التي تكون من القسم الثاني والثالث ليست نادرة لا يعتنى بها حتى يكون
حمل العمومات أو الاطلاقات عليها من قبيل الحمل على الفرد النادر، وتخصيصها بها من
التخصيص المستهجن، بل هي كثيرة جدا ولا سيما القسم الثاني.
اللهم الا ان يقال: انه لا شك في ندرة القسم الثالث كما أنه لا شك في لغوية جعل القاعدة
لخصوص الموارد التي تكون من القسم الثاني، لكفاية الاستصحاب الجاري فيها وفى غيرها،
الموافق للقاعدة بحسب النتيجة.
فاذن لا يمكن حصر موارد القاعدة فيها، بل لابد من جريانها في موارد القسم الأول
أيضا وهي موارد استصحاب الفساد.
وأحسن من جميع ذلك أن يقال: ان الروايات الخاصة الواردة في بعض مصاديق
القاعدة (التي مرت عليك عند بيان مدركها) بل وبعض العمومات الواردة في مورد الشك
في الركوع والسجود ومثلهما دليل قاطع على تقديم القاعدة على أصالة الفساد واستصحاب
237

العدم، لوضوح ان هذه الموارد من موارد استصحاب العدم.
فمثل قوله (ع) في رواية إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (ع) ان شك في الركوع
بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض، كل شئ شك فيه وقد جاوزه
ودخل في غيره فليمض عليه، وهكذا مصححة زرارة وموثقة ابن أبي يعفور وغيرهما دليل
واضح على جريانها في موارد أصالة الفساد فتدبر جيدا.
بقي هنا شئ - وهو ان القول بامارية القاعدة - كما هو المختار - لا يوجب الحكم
بثبوت جميع لوازمها وملازماتها، كما دار في السنة كثير من المتأخرين والمعاصرين في
باب الامارات وانه تثبت بها جميع ذلك.
مثلا إذا شك بعد الفراغ عن الظهر في صحتها من جهة الشك في الطهارة، فلا اشكال
في الحكم بصحتها وصحة ما يترتب على فعلها من صلاة العصر، واما الحكم بتحقق الطهارة
حتى لا يجب تحصيلها للصلوات الآتية فلا، بل يجب عليه تحصيلها الصلاة العصر وغيرها،
فإن مورد جريان القاعدة هو نفس صلاة الظهر وهي تدل على صحتها، كأنها أمر معلوم
بالوجدان من هذه الجهة (أي من حيث اشتمالها على الطهارة المعتبرة فيها) واما تحقق
نفس الطهارة مع قطع النظر عن هذه الحيثية فلا (تأمل فإنه لا يخلو عن دقة).
نعم لو اجرى القاعدة في نفس الطهارة بان شك في صحتها بعد احراز أصل وجودها،
كانت كأنها حصلت بالوجدان، فلا يجب تحصيلها للصلوات الآتية.
والسر في جميع ذلك ما ذكرناه في محله من أن كون شئ امارة لا يلازم اثبات
جميع (ملازماته) وما يقال من اثباتها جميع اللوازم والملازمات ولو بألف واسطة
حديث ظاهري خال عن التحقيق، ولو بنى عليه لزم فقه جديد كما لا يخفى على الخبير،
بل إنما يترتب عليها من الآثار الواقعية ولوازمها في موردها بمقدار ما ينصرف إليه اطلاق
أدلتها، ويختلف ذلك باختلاف المقامات.
238

مثلا لاشك في كون البينة من أوضح الامارات وأتمها دليلا وسعة، ولكن هل
يمكن الاخذ بجميع لوازمها وملازماتها والقول بحجية مثبتاتها كيف كانت؟ مثلا إذا
شهد شاهدان أو أكثر بان زيدا كان جالسا في مكان فلأني، ثم جاء رجل ورمى إلى جانبه
سهما لو كان جالسا في مكانه اصابه وقتله، فهل ترى بمجرد شهادة الشهود اجراء حكم القتل
(عمدا أو خطئا) في حقه ولو لم يحصل القطع بوقوع القتل من الامارة المذكورة، استنادا إلى أن
ذلك من آثارها الشرعية ولو بوسائط؟
أو انه إذا قامت البينة بان هذا اليوم أول يوم من شوال ويوم فطر وعلمنا ان زيدا
يجئ من سفره ذاك اليوم بعينه فهل يمكن ترتيب آثار مجئ زيد بمجرد هذه الشهادة؟
(فتدبر فإنه حقيق به).
239

4 - في اعتبار الدخول في الغير وعدمه
اختلفوا في اعتبار الدخول في الغير وعدمه في جريان القاعدة على
أقوال:
الأول - ما يستفاد من كلمات شيخنا العلامة (قدس سره) في هذا المقام من اعتباره في جميع
الموارد ولكن هذا (الغير) لا يجب أن يكون دائما فعلا وجوديا بل يجوز أن يكون
حالة عدمية أحيانا، مثلا بالنسبة إلى مجموع الصلاة هو الحالة الحاصلة بعدها ولو
لم يدخل في فعل وجودي بعد، واليك نص عبارته:
(الأقوى اعتبار الدخول في الغير وعدم كفاية مجرد الفراغ، الا انه قد يكون الفراغ
عن الشئ ملازما للدخول في غيره، كما لو فرغ عن الصلاة والوضوء، فإن حالة عدم
الاشتغال بهما بعد مغايرة لحالهما وان لم يشتغل بفعل وجودي، فهو دخول في الغير بالنسبة
إليهما).
الثاني - اعتبار الدخول في فعل وجودي بعد العمل، يظهر ذلك من كلمات
المحقق الخراساني (قده) في تعليقاته على (الرسائل) حيث إنه بعد ما صرح باعتبار الدخول
في الغير في مورد قاعدة التجاوز عند الشك في اجزاء فعل واحد، قال:
واما قاعدة الفراغ فالظاهر منها أيضا اعتبار الدخول في الغير لظهور قوله (ع)
في صحيحة زرارة في الوضوء: (وقد صرت إلى حال آخر) وصدر موثقة ابن أبي يعفور:
(إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره) انتهى.
وكلامه هذا مبنى على ارجاع ضمير (غيره) في الحديث إلى الوضوء، أي دخلت
في غير الوضوء من الافعال الوجودية (لا في غير ذاك الجزء) واستدلاله بهاتين الروايتين
دليل على عدم اكتفائه في ذلك بمجرد الفراغ عن العمل وعدم كفاية مجرد صدق عنوان
240

(المضي) أو (التجاوز) الواردتين في بعض أحاديث الباب، عنده.
الثالث - التفصيل بين موارد جريان قاعدة التجاوز والفراغ والقول باعتبار الدخول
في الجزء المستقل المترتب عليه شرعا في جريان قاعدة التجاوز، واما الفراغ فلا يعتبر
فيه شئ الا الدخول فيما يكون مباينا للعمل المشكوك فيه، حتى أنه بالنسبة إلى
جريان قاعدة التجاوز في الجزء الأخير من الصلاة اعتبر الدخول في التعقيب المترتب عليه
شرعا والا لا يجرى فيه قاعدة التجاوز وان جرت فيه قاعدة الفراغ لعدم اعتبار شئ فيه
عدا الدخول في حال مباين لها.
ولا يبعد رجوع هذا القول إلى ما ذكره الشيخ العلامة الأنصاري (قده) في المعنى وان
كانا مختلفين في الصورة فتأمل.
الرابع - التفصيل بين موارد جريان قاعدة الفراغ من الوضوء والصلاة بالتزام
كفاية مجرد الفراغ من الوضوء ولو مع الشك في الجزء الأخير منه وعدم كفايته بالنسبة
إلى الصلاة، حكاه شيخنا العلامة الأنصاري (قده) عن بعض، ولم يسم قائله، ثم رد عليه باتحاد
الدليل في البابين وهو كذلك.
الخامس - عكس هذا التفصيل أعني اعتبار الدخول في الغير في باب الوضوء دون
باب الصلاة، قال المحقق الأصفهاني في بعض كلماته في المقام:
ويمكن ان يقال بناء على تعدد القاعدة، بالفرق بين الوضوء والصلاة في جريان
قاعدة الفراغ فيهما بتقييدها في الأول بالدخول في الغير دون الثاني، وذلك لتقييد
الفراغ عن الوضوء بذلك في رواية زرارة حيث قال: (فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه فقد
صرت في حال أخرى من صلاة أو غيرها الخبر) وكذا في رواية ابن أبي يعفور: (إذا شككت
في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره)... إلى أن قال: ولا استبعاد في اختصاص الوضوء
بالدخول في الغير بعد اختصاصه بعدم جريان قاعدة التجاوز عن المحل فيه رأسا (انتهى محل
الحاجة من كلامه قدس سره).
241

هذا ما عثرنا عليه من الأقوال في المسألة ولعل المتتبع يعثر على أقوال أخر في كلماتهم،
ولكن المهم تحقيق الحال بينها.
فنقول: التحقيق ان منشأ الخلاف في المسألة هو اختلاف السنة الروايات
الواردة فيها:
فبعضها مطلقة لم يذكر فيها سوى عنوان المصى والتجاوز عن الشئ، كرواية محمد بن
مسلم (1) ورواية ابن أبي يعفور (2) وظاهر رواية بكير بن أعين (3) ورواية أخرى لمحمد
ابن مسلم (4) المشتملة على تعليل الحكم وكذا ما قبلها، وبعض الروايات الخاصة الواردة
في أبواب الوضوء والصلاة كقوله في رواية محمد بن مسلم كلما مضى من صلاتك وطهورك
فذكرته تذكرا فامضه (5).
وبعضها الاخر مقيد بالدخول في الغير مثل رواية زرارة (6) وإسماعيل بن جابر (7)
وصدر رواية ابن أبي يعفور ورواية أخرى لزرارة نقلناها عن مستطرفات السرائر نقلا عن
كتاب حريز (8)
فحينئذ يقع البحث في أن وجه الجمع بين الطائفتين ماذا.
هل هو بتقييد المطلقات بما قيد بالدخول في الغير، كما هو قضية المطلق والمقيد

1 - نقلناه تحت الرقم الثالث من الروايات العامة
2 - نقلناه تحت الرقم الرابع من الروايات العامة
3 - نقلناه تحت الرقم الخامس من الروايات العامة
4 - نقلناه تحت الرقم السادس من الروايات العامة
5 - نقلناه تحت الرقم الأول من الروايات الخاصة
6 - نقلناها تحت الرقم 1 من الروايات العامة
7 - نقلناها تحت الرقم 2 من الروايات العامة
8 - نقلناها تحت الرقم 7 من الروايات العامة
242

في غير المقام أو يقال إن القيد هنا من قبيل القيود الغالبية فلا يفيد احتراز عن غيره، لأن
الغالب في أفعال الانسان - لا سيما مثل الصلاة التي هي مورد الروايات - انه إذا خرج منها دخل
في فعل آخر.
أو يقال إن التقييد بالدخول في الغير إنما هو في موارد التجاوز عن اجزاء العمل،
فكل جزء شك فيه لا يعتنى به إذا دخل في غيره، وأما إذا كان الشك بعد الفراغ عن الكل
فيكفي فيه مجرد الفراغ عنه. لأن التقييد بذلك إنما ورد في موارد التجاوز عن الاجزاء لا بالنسبة
إلى الفراغ عن الكل.
ولا يخفى ان الخلاف الواقع في اتحاد القاعدتين وتعددهما لا دخل له بهذا التفصيل،
فإنه لا ينافي وحدة القاعدتين أيضا لعدم المانع في تقييد أحد فردي عام واحد بقيد لا يجرى
في سائر افراده.
هذا ولكن المحقق النائيني (قده) بنى هذه المسألة والتفصيل الذي اختار فيه على
ما اختاره في أصل القاعدة من أنه ليس هناك الا قاعدة واحدة وهي قاعدة الفراغ الجارية في
الافعال المستقلة، لكن الشارع المقدس نزل خصوص اجزاء الصلاة منزلة الافعال المستقلة
بمقتضى حكومة الأدلة الواردة فيها عليها. فبعد هذا التنزيل تجرى القاعدة في اجزاء
الصلاة فقط.
ولكن حيث إن أدلة التنزيل مقيدة بخصوص موارد الدخول في الغير، ولا مانع من
تنزيل شئ مقام شئ مع قيود خاصة ليست في المنزل عليه، كان اللازم اعتبار الدخول في
الغير في موارد قاعدة التجاوز دون غيرها.
هذا وقد عرفت سابقا ضعف ما اختاره من المبنى، وانه ليس في اخبار الباب من
لسان التنزيل والحكومة عين ولا اثر وان جميع ما ورد في باب قاعدة التجاوز والفراغ تفرغ
عن لسان واحد من دون أن يكون أحدهما ناظرا إلى الآخر وتنزيل شئ منزلة آخر.
مضافا إلى أن لفظ (الشئ) الوارد في اخبار قاعدة الفراغ عام يشمل الافعال المستقلة
243

واجزاء المركبات الشرعية مثل الركوع والسجود وغيرهما.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما يقتضيه الانصاف هو ان الدوران لو كان بين احتمال التقييد،
وبين الاخذ بالاطلاق وحمل القيد على القيد الغالبي (مع تسليم كون القيد هنا قيدا غالبيا)
لم يكن مجال للترديد في ترجيح جانب الاطلاق فإن المفروض ان أدلة التقييد في نفسها
قاصرة عن الدلالة عليه بعد كونها واردة مورد الغالب.
الا ان الكلام بعد في أن حمل القيد على (الغالب) ليس بأولى من حمل اطلاق المطلق
عليه وانصرافه إلى الغالب.
فاذن يكون المطلقات أيضا قاصرة في نفسها عن الدلالة على شمول الحكم وعمومه،
ونتيجة ذلك وجوب الاخذ بها في القدر المتيقن منها أعني خصوص الموارد التي يكون القيد
موجودا - وهو موارد الدخول في الغير - لا غير. غاية ما في الباب ان هذا ليس من جهة قيام
الدليل على التقييد بل من ناحية قصور المطلقات عن اثبات أزيد منه.
هذا ولكن الذي يسهل الخطب ويرفع الغائلة هو انه وان لم نعتبر الدخول في الغير
في موارد قاعدة التجاوز، الا انه لازم لتحقق عنوان (المضي والتجاوز) فنفس هذا العنوان
لا يتحقق الا بالدخول في الغير، مثلا إذا شككنا في تحقق جزء من اجزاء الصلاة ووجوده
فإنما يتحقق التجاوز عن محله إذا دخلنا في جزء آخر منها أو مقدمة له، وبدونه فالمحل
باق لم يتجاوز عنه.
وهذا بخلاف موارد الفراغ عن الكل فإن عنوان (المضي أو غيره من اشباهه) تتحقق
بوجود آخر جزء منه مثل التسليم في الصلاة، وان لم يدخل في غيرها
(فح) يكون التقييد بالدخول في الغير في خصوص (الاجزاء) من باب عد تحقق عنوان
التجاوز والمضي بدونه، فهذا القيد لا يكون في الواقع قيدا بل يكون من باب تحقق الموضوع
(ولكن ليعلم ان هذا إنما هو في مورد الشك في أصل وجود الجزء لا ما إذا شك في صحته بعد
العلم بتحققه ووجوده).
244

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الأقوى عدم اعتبار الدخول في الغير في موارد
القاعدتين - سواء قلنا باتحادهما أو تعددهما - الا ما يتحقق به موضوع المضي والتجاوز، نعم
يستثنى من ذلك بعض مواردها لورود دليل خاص فيه كما سيأتي إن شاء الله، وبهذا البيان
تنحل عقدة الاشكال وترتفع الغائلة.
ويؤيد ما ذكرنا ظهور التعليل الوارد في روايتي (بكير بن أعين) و (محمد بن مسلم)
بقوله (ع): هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) وقوله (ع): (وكان حين انصرف أقرب إلى
الحق منه بعد ذلك) لرفضه كل قيد سوى عنوان (البعدية) ومن الواضح ان ظهور التعليل
مقدم على غيره عند التعارض مع ما عرفت فيها من ضعف الدلالة.
وكذلك بناء العقلاء على العمل بالقاعدة أيضا ينفى اعتبار هذا القيد، لأنه يدور
مدار مضى العمل والفراغ عنه ولا دخل للدخول في الغير فيه كما هو ظاهر.
نعم يبقى في المقام شئ وهو انه ما المراد من الغير بناء على القول باعتباره وهل
هو كل فعل مغاير للمشكوك فيه أو يعتبر فيه قيود خاصة وسنبحث عنه في الامر الآتي إن شاء الله.
245

5 - المراد من (الغير) ماذا؟
قد وقع الكلام بين الاعلام أيضا في أن الذي يعتبر في تحقق التجاوز عن محل الشئ
هل هو الدخول في مطلق الغير (بناء على اعتبار الدخول في الغير) ولو كان مقدمة للجزء الآتي،
كالهوى للسجود والنهوض للقيام، أولا يكفي الا الدخول في الأجزاء الأصلية.؟
والمشهور عدم الاكتفاء بمطلق الغير وظاهر الروايات أيضا ذلك، لظهور قوله عليه السلام:
(ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض) في مقام
التوطئة لذكر الكبرى الكلية بقوله: (كل شئ شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض
عليه) في أن الغير لابد وأن يكون من الأجزاء الأصلية وان لا غير أقرب إلى (الركوع)
من (السجود) والى (السجود) من (القيام).
اللهم الا ان يقال إن ذكر المثالين ليس من جهة اعتبار الدخول في الأجزاء الأصلية
المستقبلة، بل من باب انهما مما يكثر الابتلاء بهما، وان الشك في حال الهوى أو النهوض
نادر، فإنه يحصل عادة بعد ما استقر في الغير وقبله لا تغيب صورة الفعل غالبا عن الذهن.
ويؤيد ما عليه المشهور رواية عبد الرحمن (قال قلت لأبي عبد الله (ع) رجل رفع
رأسه من السجود فشك قبل ان يستوى جالسا فلم بدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: يسجد،
قلت: الرجل نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد قال
سجد) (1) فإن المدار فيها الأجزاء الأصلية لا مقدماتها.
ولكن تعارضها رواية أخرى له عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له (ع): رجل اهوى
إلى السجود فلم يدر اركع أم لم يركع قال قد ركع) (2)
فإن ظاهر قوله: اهوى إلى السجود عدم بلوغه حده.
ورواية فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله (ع): استتم قائما فلا ادرى ركعت
أم لا؟ قال: بلى قد ركعت فامض في صلاتك فإن ذلك من الشيطان (3).
1 - رواه في الوسائل في أبواب السجود الباب 15.
2 و 3 - رواه في الوسائل في أبواب الركوع الباب 13.
246

هذا ولكن الرواية الأخيرة لا تخلو عن شوب ابهام فإن المراد من الاستتمام قائما
يمكن أن يكون استتمامه بعد السجود الثاني، فلو شك في ركوع الركعة السابقة لا يعتنى
به، كما احتمله شيخ الطائفة (قدس الله سره الشريف).
واما احتمال إرادة الاستتمام قائما في نفس تلك الركعة فبعيد جدا لعدم تصوير وجه
صحيح له، وما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) في نهاية الدراية في توجيهه من:
ان المراد انحنائه للركوع ثم استتمامه القيام مع الشك في أنه ركع أم لا فهو أمر نادر بعيد
الوقوع كما لا يخفى.
هذا مضافا إلى أن القيام بعد الركوع بنفسه من الوجبات فهو من قبيل الدخول في
جزء آخر من الافعال الأصلية لا من باب الدخول في مقدمة الاجزاء.
ويحتمل ورودها في كثر الشك لقوله (ع): فإنما ذلك من الشيطان - كما احتمله صاحب
الوسائل بعد ذكر احتمال الشيخ.
واما الرواية الأولى فظهورها وإن كان في الهوى الذي من المقدمات الا ان حملها
على آخر مراتب الهوى الذي يصل إلى حد السجود بقرينة غيرها من الروايات التي
ذكرناها آنفا - لا سيما مع ذهاب المشهور إلى عدم الاعتناء بمقدمات الافعال، ليس
ببعيد فتأمل.
فتحصل من جميع ذلك أن الذي يقتضيه الجمع بين روايات الباب هو عدم الاعتناء
بالدخول في مقدمات الافعال عند اجراء القاعدة وانه يجب الدخول في فعل آخر اصلى.
وهذا لا ينافي ما ذكرنا آنفا من ظهور روايات القاعدة في كفاية مطلق الفراغ، وكذا
التجاوز الحاصل بالدخول في فعل غيره أياما كان، لأنه لا مانع من أن يكون هذه حكما تعبديا
في خصوص مورده فقد أسقط الشارع هنا حكم مقدمات الافعال ولم يعتن بها، ولا ينافي ذلك
بقاء الاطلاق على حاله بالنسبة إلى سائر موارد القاعدة، ولعل الحكمة في حكم الشارع
بذلك ان صورة الجزء السابق لا تنمحي عن الذهن غالبا قبل الانتقال إلى جزء آخر
247

مباين له، فحالة الذكر الحاصلة حين الفعل باقية قبل الانتقال إلى الجزء الثاني فتأمل
وان أبيت عن قبول هذه الحكمة فالحكم تعبد محض في مورده.
واما التفصيل بين الوضوء والصلاة بعدم اعتبار الدخول في الغير في الأول دون
الثاني أو بالعكس، فهو ضعيف جدا يدفعه اتحاد الدليل في البابين، كما ذكره شيخنا العلامة
الأنصاري (قده).
واما قوله في رواية زرارة: (فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال
أخرى، في الصلاة أو غيرها، فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوئه
لا شئ عليك فيه) (1) فالظاهر أنه ليس قيدا شرعيا ولعل الوجه فيه هو جريان العادة بان صورة
الفعل لا تذهب عن الذهن عادة قبل صيرورته إلى حال آخر، واشتغاله بفعل مباين له.
ولذا جعله مقابلا لما ذكر في صدر الرواية بقوله: إذا كنت قاعدا على وضوئك
فلم تدرأ غسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما، إلى أن قال: ما دمت في حال الوضوء.
فلو كان القيد قيدا شرعيا كان هناك صورة ثالثة لم يذكرها الإمام (ع) مع أن ظاهرها
كون الإمام (ع) بصدد بيان جميع صور المسألة بما ذكره من الشقين.
ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال بالحديث الثاني أعني صدر رواية ابن أبي يعفور
(إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشئ، إنما الشك إذا
كنت في شئ لم تجزه).
فإنه لا مناص من حمل القيد على ما ذكرنا أو شبهه، كما يشهد به ذيل الرواية أيضا
فإنه خال عن هذا القيد مع أنه من قبيل الكبرى له.
هذا مضافا إلى احتمال رجوع الضمير في قوله (دخلت في غيره) إلى غير هذا الجزء
فيكون حال اجزاء الوضوء حال اجزاء الصلاة، وهذا الحكم وإن كان مخالفا للمشهور
بل مخالفا لغيرها من الروايات كما سيأتي، الا ان هذا الاحتمال في نفسه أقرب إلى ظاهر
الرواية، وكونها غير معمول بها على هذا التقدير لا يوجب حملها على غيره، ما لم يقم قرينة
لفظية أو حالية عليه فتدبر.

1 - رواه في الوسائل في أبواب الوضوء الباب 42.
248

6 - المحل الذي يعتبر التجاوز عنه شرعي أو عقلي أو عادى؟
قد عرفت ان ظاهر اطلاقات اخبار الباب عدم الاعتناء بالشك في الشئ بعد مضيه،
أو التجاوز عنه، أو الخروج منه، وان هذه العناوين (المضي والتجاوز والخروج) إنما تصدق
حقيقة في موارد يعلم بوجود أصل الشئ مع الشك في تحقق بعض ما يعتبر فيه من الاجزاء
والشرائط، فهيم غير صادقة في الموارد التي يشك في أصل وجود الشئ حقيقة فلا تشمل
مورد قاعدة التجاوز الذي يكون الشك فيه في أصل وجود الركوع أو السجود أو غير هما مثلا.
الا ان تطبيق هذه الكبرى في غير واحد من الاخبار على هذه الموارد، يدل على أن
المراد من التجاوز عن الشئ أعم من التجاوز عنه حقيقة وبالعناية (بالتجاوز عن محله)
وهذا اطلاق شايع ذايع.
(فح) يقع الكلام في أن المراد ب‍ (محل الشئ) ماذا؟ فإنه يتصور على انحاء:
1 - المحل الشرعي - وهو المحل المقرر للشئ شرعا، ولا يخفى ان المراد منه
هو المحل الذي يعتبر اتيانه فيه أولا وبالذات وبحسب حال الذكر والاختيار، فمحل
السجود قبل الدخول في القيام بحسب جعله الأولى الشرعي وإن كان يجوز الرجوع إليه و
اتيانه بعد الدخول في القيام إذا تذكر قبل الركوع.
فما يقال من أن محل السجود باق قبل الدخول في ركوع الركعة الآتية فاسد لأنه
محل له في حال السهو والنسيان ولذا لا يجوز تأخيره كذلك عمدا.
2 - المحل العقلي - وهو المحل المقرر له بحكم العقل وبحسب الطبع وقد مثل
له شيخنا العلامة الاهرى بمحل (الراء) من تكبيرة الاحرام فإنه لابد ان يؤتى بها بلا فصل
والالزام الابتداء بالساكن المحال عقلا، ولا يخفى ان هذا القسم (مع غمض النظر عن المثال
الذي ذكره (قده) فإن الابتداء بالساكن ليس محالا عقلا بل هو كالتقاء الساكن بل ثلاث ساكنات
249

أمر ممكن في لغتنا وان لم يقع فيها، حينما وقع في غيرها من لغات الأجانب) راجع إلى
المحل الشرعي بالمآل، فإن الامر إنما يتعلق بالافراد الممكنة لا غير، (فتأمل).
3 - المحل العرفي - وهو المحل الذي قرر له بحكم الطريقة المألوفة، كمحل
اجزاء الجملة وآيات السورة، فإنه لابد ان يؤتى بها قبل فصل طويل يوجب انمحاء صورتها
(كما مثل له).
ولكن غير خفى ان هذا أيضا راجع إلى المحل الشرعي، فإن المعتبر شرعا في
القراءة اتيانها على الطريقة المألوفة، فلو اتى بها على غيرها كانت فاسدة غير مأمور بها شرعا،
لعدم صدق اسم الكلام أو السورة أو القراءة عليها عرفا.
4 - المحل العادي - وهو المحل المقرر له بحسب العادة.
والعادة اما (عادة نوعية) أو (شخصية) والأولى مثل الاتيان باجزاء الغسل متوالية،
فإن التوالي وان لم يكن معتبرا فيها شرعا ويجوز الفصل بينها بساعة أو يوم أو أيام،
الا انه جرت عادة الناس باتيانها متوالية غالبا، والثاني كمن اعتاد اتيان الصلاة في أول
وقتها، فإن أول الوقت بالنسبة إليه محل عادى.
لا اشكال ولا كلام في الأقسام الثلاثة الأولى، لما عرفت من رجوعها إلى المحل
الشرعي، وإنما الكلام في القسم الأخير بكلا شقيه، فقد نفاه كثير من اعلام المتأخرين
كشيخنا العلامة الأنصاري والمحقق الخراساني والمحقق الأصفهاني وغيرهم (قدس
الله اسرارهم).
الا انه قد يحكى عن غير واحد من الأعاظم ممن تقدم، كفخر المحققين وغيره،
الميل إلى اجراء قاعدة الفراغ والتجاوز هنا، حتى أنهم مثلوا له بمعتاد الموالاة في غسل
الجنابة إذا شك في الجزء الأخير منه بل يحكى عن الفخر الاستدلال له بخبر (زرارة)،
وبان خرق العادة على خلاف الأصل (انتهى).
والذي ينبغي ان يقال: انه كما عرفت ليس في اخبار الباب من لفظ (المحل)
250

عين ولا اثر، حتى يتكلم في المراد منه، وإنما المذكور فيها عنوان (الخروج) و (المضي)
و (التجاوز) بمعناها الأعم من الحقيقي والمجازي كما عرفت، وفى صدق هذه العناوين
على التجاوز عن المحل المعتاد اشكال.
لأن القدر المعلوم منها المستكشف من الأمثلة المذكورة في الروايات هو المحل
الشرعي، أو ما يرجع إليه، ولا اطلاق يعتمد عليه بالنسبة إلى غيره كما لا يخفى.
هذا ولكن المكلف إذا كان من قصده الاتيان باجزاء الغسل (مثلا) متوالية كان
داخلا تحت ملاك التعليل الوارد في الروايات بقوله: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك)
وقوله في رواية محمد بن مسلم (كان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك) لما قد عرفت
من أنه كالصغرى لكبرى محذوفة وهي ان الذاكر لا يأتي بما يخالف مقصده ومرامه.
ومن الواضح ان المحل الشرعي أو العقلي أو العرفي بما هو لا دخل له في هذا المعنى
وإنما هو مقدمة لقصد الفاعل إليه، فإن الفاعل إذا كان بصدد الاتيان بعمل وكان عالما بان
اجزائه مترتبة شرعا على نحو خاص فلا محالة يقصده بهذا الترتيب، وإذا كان قاصدا له بهذا
الترتيب - والعاقل لا يأتي بما هو مخالف لمرامه - كان فعله الخارجي منطبقا على قصده،
الا أن يكون غافلا أثناء العمل وهو خلاف أصالة عدم الغفلة المأخوذة من ظهور حال الفاعل.
والحاصل ان المحل الشرعي أو ما يشبهه لا دخل له في هذا التعليل أصلا، بل هو
مبنى على قصد الفاعل ونيته فقط. فلو حصل هذا القصد بعلل أخرى غير الترتب الشرعي،
كالعادة، كانت العلة جارية فيها.
ومن هنا تعرف ان المحل العادي بما هو لا اثر لها في جريان القاعدة، الا أن تكون
العادة كاشفة عن قصد الفاعل، فإن الفاعل إذا كان معتادا بعادة نوعية أو شخصية باتيان عمل
كالغسل (مثلا) موالية كشفت هذه العادة عن انه حين الفعل قصده بهذه النحو، فيجرى
التعليل في حقه، ولو فرض عدم كشف العادة عنه في مقام، لم يعتد بها أصلا. فتدبر فإنه
حقيق به.
251

هذا ويمكن الاستدلال على اعتبار المحل العادي، بالمعنى الذي ذكرنا،
بالسيرة العقلائية التي استدللنا بها لأصل القاعدة، فهل ترى من نفسك إذا كنت بصدد
كتابة كتاب أو تركيب معاجين أو محاسبة أمور عديدة، وكنت عالما باجزائها وشرائطها،
وبعد ذلك شككت في انك اتيت بها صحيحة تامة؟ فهل ترجع إليها مرة بعد مرة وإن كان
محلها العقلي باقية بعد، أو تعتمد على ما كنت بصدده وتعامل مع ما فعلت معاملة الفعل الصحيح.
وهل ترى من نفسك إذا اتيت بغسل الجنابة بقصد رفع الجنابة ثم مضى أيام أو شهور،
ثم شككت في الاتيان بالجزء الأخير منه، تعود إليه مرة بعد مرة لأن اجزاء غسل الجنابة
في نفسها ليس لها محل شرعي يفوت بالفصل الطويل؟.
فالانصاف ان الاعتماد على المحل العادي في اجراء القاعدة بالمعنى الذي ذكرنا
قريب جدا. ولعل ما حكى عن الفخر وغيره من أعاظم أصحابنا أيضا ناظر إلى هذا المعنى.
هذا ولكن الذي منع غير واحد من كبراء الأصحاب عن اختيار هذا القول وجعلهم
في وحشة منه، ان فتح هذا الباب يوجب فقها جديدا، فإن لازمه انه إذا كان من عادة الانسان
الاتيان بالصلاة أول وقته، أو الوضوء بعد الحدث فورا، الحكم بعدم وجوب اتيان بها عليه
لو شك آخر وقتها وكذا عدم وجوب تحصيل الطهارة لو شك بعد حدثه بفصل طويل.
ولكنه توهم باطل فإن ما ذكرنا من البيان يختص بما إذا أحرز اقدام الفاعل
على العمل قاصدا لاتيان تمام اجزائه وشرائطه ثم بعد ذلك شك في تماميتها، فإن هذا الفعل
محكوم بالصحة والتمامية، ولو كان المحل الشرعي لتدارك بعض اجزائه باقيا، فإن العادة
كافية هنا، وأما إذا شك في أصل وجوده ولم يحرز اقدام المكلف على العمل قاصدا له
كذلك فلا.
ولعل ما حكى عن الفخر وغير واحد من الأعاظم الأصحاب أيضا ناظرة إلى هذا المعنى
فإنهم مثلوا بغسل الجنابة لمعتاد الموالاة إذا شك في الجزء الأخير منه ومن الواضح ان هذا
لا يوجب فقها جديدا ولا ما يستوحش منه من الفتاوى (فافهم).
252

7 - عموم القاعدة لجميع أبواب الفقه
لا يخفى ان مورد جريان قاعدة التجاوز، بالنسبة إلى الاجزاء عند الشك في أصل
وجودها، وقاعدة الفراغ بالنسبة إلى مجموع العمل عند الشك في بعض ما يعتبر فيها، وإن كان
في غير واحد من اخبار الباب هو (الصلاة) و (الطهور) الا ان اطلاقات الاخبار لا تختص
بهما، بل يشملها وغيرهما من ساير العبادات، بل المعاملات من العقود والايقاعات،
وغيرها، وقد عرفت انها تشير إلى كبرى واحدة تحتوى على القاعدتين معا.
فلو شك في صحة عقد أو ايقاع بعد الفراغ عنه ومضيه لم يعتد بالشك ويمضى
عليه كما هو، وكذا لو شك في صحة غسل ميت وكفنه ودفنه فإن العمومات والاطلاقات تقتضي
صحتها بعد مضيها، ولا وجه لتخصيصها بباب الصلاة والطهارة، أو أبواب العبادات، والقول
بأنها القدر المتيقن في مقام التخاطب فلا تشمل العمومات غيرها، كما ترى، لما تحقق في
محله من أن مجرد وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يضر باطلاق الدليل، والا أشكل
الامر في جميع الاطلاقات الواردة في الاخبار، التي وقع السؤال فيها عن موارد خاصة،
ولا يظن بأحد الالتزام به في أبواب الفقه، هذا مضافا إلى أن بعض الأخبار العامة غير وارد
في مورد خاص ودعوى القدر المتيقن فيه أيضا باطل جدا.
ولكن في اجراء قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الكمات واجزاء عقد البيع ونحوه اشكال
يظهر وجهه بما سيأتي في الفصل الآتي إن شاء الله.
وقد عرفت سابقا ان الفقيه المتتبع الماهر صاحب الجواهر تمسك بهذه القاعدة في
مسألة الشك في عدد أشواط الطواف، بعد الفراغ منه، مضافا إلى ما ورد فيها من الروايات
الخاصة، ولعل المتتبع في كلماتهم يقف على غيره مما يتمسك فيها بهذه القاعدة.
وصرح في الجواهر أيضا في باب الشك في أفعال الوضوء: (ان هذه القاعدة محكمة
في الصلاة وغيرها من الحج والعمرة وغيرهما) (1)

1 - المجلد الأول ص 355
253

8 - عمومها للاجزاء غير المستقلة
هذا كله بالنسبة إلى عدم اختصاصها بأبواب الطهارة والصلاة، وشمولها لجميع أبواب
الفقه، واما بالنسبة إلى الاجزاء غير المستقلة (أي اجزاء كل جزء) مثل آيات الحمد و
كلمات جملة واحدة، فقد استشكل بعضهم كالمحقق النائيني (قده) في جريان قاعدة التجاوز
فيها حينما صرح آخرون في تعليقاتهم (على العروة الوثقى) بجريانها فيها وغاية ما يمكن
ان يقال في وجه المنع أمران:
أحدهما ان اطلاقات الأدلة بطبعها الأولى لا دلالة لها الاعلى قاعدة الفراغ بالنسبة
إلى مجموع العمل، ولكن الأخبار الخاصة وبعض الأخبار العامة المصدرة بالشك في
اجزاء الصلاة، من الركوع والسجود، كدليل حاكم عليها توجب سعة دائرتها، ومن المعلوم
ان القدر الثابت من الدليل الحاكم هنا هو الاجزاء المستقلة واما بالنسبة إلى اجزاء
الجزء فلا.
وأنت خبير بان هذا يبتنى على ما اختاره المحقق المذكور (قدس سره) في أصل بناء
القاعدتين، وقد أشرنا إلى فساده غير مرة، وانه بناء على تعددهما كل واحد مستقل بالجعل،
وبناء على اتحادهما كلاهما متساوي الاقدام بالنسبة إلى اطلاقات أدلتهما.
ثانيهما - ان قاعدة التجاوز تقتضي عدم الاعتداد بالشك في الجزء بعد ما جاوز
(محله الشرعي)، ومن المعلوم ان الاجزاء غير المستقلة مثل (الله) و (أكبر) في تكبيرة
الاحرام ليس لها محل شرعي تعبدي، وإنما يكون هذا الترتيب الخاص من (مقومات التكبير)
بحيث لو قال: (أكبر الله) كان آتيا بما هو مباين للمأمور به لا آتيا به في غير محله. وهذا
المعنى بالنسبة إلى حروف كلمة واحدة أظهر، فاجراء القاعدة في مثل هذه الاجزاء محل
تأمل واشكال.
254

وفيه: ان محل اجزاء الجزء ليس دائما من قبيل مقوماتها بحيث إذ حولت اجزائه
عن محلها صار أمرا مغايرا له، أو غلطا رأسا، كما في جزئي تكبيرة الاحرام، ففي مثل ذلك ربما
نقول بعدم جريان قاعدة التجاوز فيه مطلقا، ولكن قد يكون من قبيل آيات السورة الواحدة،
وتغييرها عن محلها يكون من قبيل تغير الأجزاء الأصلية للصلاة عن محالها كما لا يخفى، فكل
من هذه الآيات مأمور بها، ولها محل شرعي بحسب نزول الآيات أوامر النبي صلى الله عليه وآله بقرائتها
كذلك، على تفصيل في محله، فإذا شك في قرائه الآية السابقة يصدق انها (شئ) شك
فيه وقد جاوز عنه ودخل في غيره.
فعموم لفظ (الشئ) كعنوان (التجاوز) و (الدخول في الغير) (لو قلنا
باعتباره) شامل لها، بل يمكن القول بشمولها لجزئي التكبير لما قد عرفت سابقا من أن
عنوان (المحل) فضلا عن (المحل الشرعي) غير موجود في روايات الباب حتى
يتكلم فيه، بل المذكور فيها عنوان الشئ والتجاوز وأمثالهما، وهي صادقة
بالنسبة إلى كلمة (الله) بعد الدخول في (أكبر) نعم في خصوص هذا المورد اشكال ناش من أن
جريان القاعدة إنما يكون بعد احراز عنوان الصلاة، ومع هذا الشك لم يحرز دخوله
في الصلاة بعد فتأمل.
وان سلمنا ورود الاشكال هنا فجريان القاعدة في غيرها سليمة عنه، نعم في اجراء
القاعدة في اجزاء كلمه واحدة بل الكلمات المتقاربة كجزئي تكبيرة الاحرام وما شابهها
اشكال آخر، وهو قوة انصراف الاطلاقات عنها، لا سيما بعد ملاحظة التعليلات الواردة
فيها، فإن صورة العمل لا يكاد يخفى عن الذهن عادة بمجرد ذلك الزمان القليل فلا يصدق
في حقه انه في الحرف الأول أذكر منه في الثاني، بل هو بعد كأنه في محل الفعل غير متجاوز
عنه، فالأخذ بالاطلاق بالنسبة إليها مشكل جدا.
نعم لو كان الشك في آيات السورة، أو فصول الأذان والإقامة، لا سيما في الآيات
والفصول المتباعدة لم يبعد الاخذ بها.
255

بقي هنا شئ: وهو انه هل تجرى قاعدة (التجاوز) في الأعمال المستقلة كما
تجرى في اجزائها، فيحكم بتحققها بعد التجاوز عن محلها، أو الدخول في عمل مستقل
بعدها، أولا؟ مثلا: إذا دخل في صلاة العصر فشك في أنه صلى الظهر أم لا؟ فهل يحكم
بتحقق صلاة الظهر بمقتضى القاعدة لا من ناحية شرطية ترتب العصر عليها (فإن ذلك أمر
راجع إلى باب الاجزاء والشرائط) بل من ناحية نفس صلاة الظهر، بحيث لا يجب الاتيان
بها ولو بعد صلاة العصر، أو يجب الاتيان بها؟.
قد يقال: ان القاعدة كما تجرى في مثل (الأذان والإقامة) بعد الدخول في الصلاة
لورود النص فيها كما مر، كذلك تجرى في مثل صلاة الظهر في المثال المذكور وشبهها،
نعم بناء على تعدد القاعدتين وتوهم اختصاص دليل قاعدة التجاوز بخصوص اجزاء الصلاة
وما هو كالشرط ولو لكمالها كالاذان والإقامة، لم تجر في غير الاجزاء وشبهها.
هذا ولكن التحقيق عدم جريان القاعدة في مفروض المسألة، ولو قلنا باتحاد
القاعدتين ودخولهما تحت عنوان واحد شامل لجميع الأبواب (كما هو المختار) وذلك
لأن صلاة الظهر لها اعتباران:
اعتبار من ناحية نفسها واعتبار من ناحية ترتب العصر عليها، وموضوع (التجاوز)
في مفروض المسألة إنما يصدق بالاعتبار الثاني، فإن محل صلاة الظهر، من ناحية اشتراط
ترتب العصر عليها، يمضى بالدخول في العصر، ولكن محلها بالاعتبار الأول وفى نفسها
باقية إلى آخر وقتها الممتد إلى الغروب، ولذا أو نسيها وتذكر بعد صلاة العصر وجب
الاتيان بها، وان شئت قلت الترتيب شرط لصحة صلاة العصر لا لصحة الظهر، فإذا لم
يصدق عنوان التجاوز عليها بهذا الاعتبار كيف تجرى القاعدة فيها؟.
نعم بعد مضى وقتها ودخول وقت آخر يحكم بتحققها بمقتضى عموم هذه القاعدة،
256

ولم لم يكن هناك دليل آخر يدل على عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت.
ثم لا يخفى عليك انه لا فرق في ذلك بين القول بكون القاعدة امارة وبين كونها
أصلا، لما عرفت سابقا من أن الامارة إنما تثبت آثار الواقع في خصوص موردها لا بالنسبة
إلى غيره (فراجع ما ذكر هناك).
257

9 - جريان القاعدة عند الشك في صحة الاجزاء
لا اشكال في جريان القاعدة عند الشك في صحة المركب، كالصلاة والوضوء، إذا
شك فيه من جهة الاخلال ببعض ما يعتبر فيها من الاجزاء والشرائط.
وهل تجرى في موارد الشك في صحة (الجزء) كما إذا شك في صحة القراءة
أو الركوع من جهة الاخلال ببعض ما يعتبر فيها من الشرائط، فيحكم بصحتها بمقتضى
القاعدة، أو تختص بالشك في أصل وجود الاجزاء، كما هو مورد أحاديث الباب، ولا تجرى
عند الشك في صحتها؟.
الحق انه لو قلنا باتحاد القاعدتين كما هو المختار فلا اشكال في كون الحكم عاما للكل و
اجزائه، وذلك لما عرفت من أنه بناء على هذا يكون قوله (كل ما شككت فيه مما قد
مضى) وشبهه من اخبار الباب عاما شاملا للشك في الشئ بعد الفراغ والتجاوز عنه، من
غير فرق بين الكل والجزء، ولا بين التجاوز عن نفسه (بان يكون أصل وجوده محرزا)
وبين المضي عن محله (بان يشك في أصل وجوده) غاية الأمر ان صدق التجاوز والمضي
في الأول حقيقي وفى الثاني بنوع من العناية والادعاء.
أما إذا قلنا بتغاير القاعدتين، واختصاص قاعدة التجاوز بالاجزاء، كاختصاص قاعدة
الفراغ بالكل، فقد يشكل الامر من جهة ظهور اخبار قاعدة التجاوز في الشك في أصل
وجود الجزء، لا في صحة بعد الفراغ عن وجوده، كما قيل باختصاصها باجزاء الصلاة و
عدم جريانها في غيرها، ولا دليل على التعميم هنا الا أمور:
أحدها - ان الشك في صحة الجزء راجع إلى الشك في (وجود الشئ الصحيح)
على نحو كان التامة، فعموم القاعدة يشملها.
وفيه: انه خلاف ظاهر الاخبار على هذا المبنى، لأنها ظاهرة في الشك في أصل
258

وجود الشئ من رأس، لا وجود الشئ بصفة الصحة.
ثانيها - ان عمومها وإن كان لا يشمله في بدء النظر الا انه شامل له بتنقيح المناط،
لعدم خصوصية في هذا الفرد، أعني الفرد الذي يشك في أصل وجوده.
بل يمكن دعوى الفحوى والأولوية القطعية، لأن الشك في أصل وجود الجزء إذا
كان داخلا تحتها كان الشك في صحته بعد احراز وجوده أولى وأقرب - وهذا الوجه حسن جدا.
ثالثها - ان يستند في هذا التعميم إلى أن أصالة الصحة في فعل المسلم أصل برأسه، ومدركها
ظهور حال المسلم كما قال فخر الدين في الايضاح: (ان الأصل في فعل العاقل المكلف
الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح وهو يعلم الكيفية والكمية، الصحة) ذكر هذا الوجه
شيخنا العلامة الأنصاري ثم استشهد له بعموم التعليل في قوله (هو حين يتوضأ أذكر منه
حين يشك) (انتهى).
أقول - هذا راجع إلى ما أشرنا إليه غير مرة من أن أصالة الصحة كما تجرى في
أفعال الغير كذلك تجرى في فعل النفس، وانها مما جرت عليه سيرة العقلاء في أفعالهم
واحتجاجاتهم، وان التعليل الوارد في هذه الرواية ورواية محمد بن مسلم (هو حين انصرف
أقرب إلى الحق منه حين يشك) إشارة إلى هذه السيرة العقلائية.
259

10 - جريان القاعدة في (الشرائط)
قد عرفت انه لا اشكال في جريان القاعدة في الاجزاء عموما كما هو المختار، أو
خصوص اجزاء الصلاة كما هو مذهب بعض، ولكن في جريانها في الشرائط كلام واشكال و
اختار كل مذهبا:
فمن قائل بعدم جريانها فيها مطلقا، ولزوم إعادة المشروط ولو شك بعد الفراغ
عنه، فيجب إعادة الصلاة بعد الفراغ عنها إذا شك في شئ من الطهارة وشبهها، نقله شيخنا العلامة
الأنصاري عن بعض أصحابنا ولم يسم قائله.
وهو مذهب عجيب، لا وجه له أصلا لعدم قصور في النصوص الخاصة الدالة على عدم
الاعتناء بالشك في الصلاة والطهور بعد مضيهما، ولا في الروايات المطلقة ولا من حيث الفتوى.
ومن قائل بجريانها فيها مطلقا - حتى قال بعضهم بان جريانها فيها يوجب احراز
وجود الشرط حتى بالنسبة إلى الأعمال الآتية، فلا يجب تحصيل الطهارة على من شك في
صلاة بعد الفراغ عنها من ناحية الشك في الطهارة حتى بالنسبة إلى الصلوات الآتية.
وهذا القول أيضا جائر عن فصد السبيل، قد عرفت فساده سابقا.
ومن قائل بجريانها بالنسبة إلى نفس العمل المشروط، اما مطلقا، واما في خصوص
ما إذا فرغ عن المشروط كله، وأما إذا كان في الأثناء فلا تجرى فيه.
والتحقيق ان الشرط دائما يكون من قبيل الكيفيات أو الحالات المقارنة
للمشروط، خلافا لما ذكره غير واحد من المحققين في المقام من امكان كون الشرط
عملا مستقلا يؤتى به قبل المشروط، كما في الوضوء بناء على ما يستفاد من ظاهر قوله
تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة الخ) فإن هذا خلاف مفهوم الشرط فالشرط دائما من قبيل
الحالات والأوصاف والكيفيات المقارنة، التي يكون تقييدها داخلا في المشروط دون
ذواتها، وهذا هو الفارق بينه وبين الجزء.
260

واما الوضوء لو قلنا بكونه شرطا بعينه (لا الطهارة الحاصلة منه) فالشرط في
مورده حقيقة هو تأخر الصلاة عنه، وهو صفة لاحقة للصلاة، والا فالعمل المستقل المأتى
به قبلا أو بعدا إذا لم ينتزع منه عنوان (التعقب) أو (اللحوق) أو مثلهما الذي يكون
من الأوصاف المقارنة للمشروط لا معنى لكونه شرطا.
هذا ولكن الشرط من ناحية استقلال منشأ انتزاعه في الوجود، وعدم استقلاله، على اقسام:
أحدها - ما يستقل في الوجود ولا يمكن تحصيلها لمجموع المشروط الا قبله،
كالطهارة، فإن تحصيلها لمجموع الصلاة لا يكون الا قبلها.
ثانيها - ما يستقل في وجوده، ولكن يمكن تحصيله في الأثناء لكل جزء، كالاستقبال
والستر وغيرهما.
ثالثها - ما لا يستقل في وجوده، كالموالاة فإنها أم ينتزع من نسبة خاصة بين
اجزاء الصلاة، وليست كالطهارة أو الاستقبال حتى يمكن تحصيلها ولو بدون الصلاة.
ففي جميع هذه الأقسام إذا كان الشك بعد الفراغ عن المشروط بتمامه، كما إذا شك
بعد التسليم في شئ منها فلا اشكال في جريان القاعدة فيها والحكم بصحتها، لشمول اطلاقات
الأدلة على جميع المباني، نعم يجب تحصيل الشرط المشكوك للأعمال الآتية لما أشرنا
إليه في الأمر الرابع فراجع.
وأما إذا كان الشك في أثنائها فقد يقال بأنه لا اشكال أيضا في جريان القاعدة
في القسم الأول، لأن المفروض عدم امكان تحصيله الا قبل العمل، فهو أمر قد تجاوز
عنه ودخل في غيره.
وهذا إنما يتم إذا قلنا بشرطية نفس الوضوء مثلا، وقد عرفت ما فيه من الاشكال، و
أما إذا قلنا بشرطية الطهارة الحاصلة منها فاجرائها فيه مشكل، والوجه فيه ان مجرد عدم
امكان تحصيله الا قبل العمل لا دخل له فيما نحن بصدده، لأن المأمور به هو الحالة الحاصلة
منه، المقارنة للعمل، وما يؤتى به قبله فهو من قبيل المقدمة له، ومجرد ذلك لا يوجب
261

صدق المضي والتجاوز عنه الا بالمسامحة، فاجراء القاعدة في هذا القسم مشكل جدا.
واما القسم الثاني فلا يبعد جريان القاعدة فيه بالنسبة إلى الأجزاء السابقة، مع
وجوب تحصيله للاجزاء الآتية، فلو شك في أثناء صلاته في استقبال القبلة في بعض الركعات
السابقة، وهو مستقبل القبلة لما فيه من الركعة، أمكن الحكم بصحة صلاته ودخل في
قوله: (كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو) وقد عرفت عدم الفرق بين المركب و
اجزائه في ذلك.
هذا ولكن قد يستشكل عليه تارة: بان شرطية الاستقبال وشبهه أمر (وحداني)
بالنسبة إلى مجموع الصلاة ومحله هو المجموع، فما دام المصلى مشتغلا بالصلاة محله باق
ولم يتجاوز عنه.
وفيه - ان مثل هذا الشرط وإن كان أمرا واحدا في مجموع الصلاة، الا انه ينحل
بالنسبة إلى كل جزء من اجزاء الصلاة، وكان داخلا تحت عنوان (الشئ) الوارد في الاخبار.
هذا مضافا إلى أن الاشكال إنما يتوجه لو أريد اجراء القاعدة بالنسبة إلى نفس
الشرط، وما إذا لوحظت بالنسبة إلى نفس الاجزاء المشروطة به، فلا وجه للاشكال فيها أصلا.
وأخرى بان الشرائط لا محل لها حتى يصدق التجاوز عنها، فإنها من قبيل الكيفيات
والحالات العارضة للاجزاء، فالتجاوز عنها إنما يكون عرضيا بتبع التجاوز عن الاجزاء
لا حقيقيا، فلا يمكن اجراء القاعدة فيها.
وفيه مضافا إلى أن التجاوز عن الشرط، بتبع التجاوز عن محله من الاجزاء، كاف
في صدق عنوان التجاوز عنه، فإن هذا مصداق التجاوز حقيقتا لا مجازا ومسامحة، فالتستر
أو الاستقبال المقارن للقرائة أمر يتجاوز عنه حقيقتا بعد الدخول في الركوع، ان هذا الاشكال
كالاشكال السابق إنما يتوجه إذا جعل نفس الشرط موردا للقاعدة، وأما إذا كانت الاجزاء
موردا لها من جهة الشك في صحتها وتماميتها بعد الفراغ عنها أو التجاوز عن محلها
فلا يبقى مورد له، وذلك لما مرت الإشارة إليه من أن الشك في صحة الجزء كالشك
262

في أصل وجوده مشمول لعمومات القاعدة.
واما القسم الثالث من الشرائط فاجراء قاعدة التجاوز فيه وإن كان مشكلا،
فإن الموالاة (مثلا) أمر منتزع عن نسبة خاصة بين اجزاء الصلاة وليست شيئا يتجاوز عنه
برأسه، فانصراف الاطلاقات عنها قوى جدا، فلا يقال إن الموالاة بين آيات الحمد أمر
تجاوز عنه ودخل في غيره، الا انه لا مانع من اجراء القاعدة بالنسبة إلى نفس الحمد و
السورة أو غيرهما بعد التجاوز عنها والشك في صحتها من ناحية موالاتها.
بقي هنا شئ - وهو انه قد يستشهد للقول بالتفصيل بين الشك في الوضوء بعد الفراغ
عن الصلاة، والشك فيه في أثنائها، بما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام (قال
سألته عن رجل يكون على وضوء، ويشك على وضوء هو أم لا؟ قال إذا ذكر وهو في صلاته انصرف فتوضأ
وأعادها، وان ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك) (1) بناء على أن مورد السؤال هو
من يكون على وضوء باعتقاده ثم يشك في ذلك.
ولكن فيه ان الأظهر في معنى الرواية هو أن يكون على وضوء في زمان، ثم يشك
فيه في زمان بعده، فيكون مجرى للاستصحاب لا موردا لقاعدة الفراغ (و ح) اما يحمل هذا
الحكم على الاستحباب، كما فعله صاحب الوسائل واما ان يطرح لمعارضته لاخبار
الاستصحاب.

(1) رواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء.
263

11 - لماذا لا تجرى القاعدة في أفعال الطهارات الثلث؟
الظاهر أنه لا خلاف بينهم في عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء، إذا انتقل من
جزء إلى جزء آخر، قبل الفراغ من تمامه. وقد ادعى غير واحد الاجماع عليه.
بل لعل نقل الاجماع فيه مستفيض، هذا بالنسبة إلى الوضوء واما الحاق الغسل بالوضوء
فهو المشهور كما حكى من طهارة شيخنا العلامة الأنصاري، وعن جماعة من أئمة الفقه
كالعلامة والشهيدين والمحقق الثاني والعلامة الطباطبائي (قدس اسرارهم) التصريح
به، وعن بعضهم النص على الحاق التيمم بهما.
هذا حال المسألة من ناحية الفتاوى، والظاهر أن الأصل فيها ما رواه زرارة عن أبي
جعفر الباقر عليه السلام:
قال إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما
وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه، مما سمى الله، ما دمت في
حال الوضوء فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه، وصرت في حال أخرى في -
الصلاة أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوئه،
لا شئ عليك فيه (الحديث) (1)
وهذه الرواية صريحة في وجوب الاعتناء بالشك والاتيان بالمشكوك ما دام مشتغلا
بالوضوء، وان عدم الاعتناء به يختص بصورة الفراغ منه، بل الدخول في حال آخر.
ولكن قد عرفت في الأمر الخامس ان هذا ليس في الحقيقة من قبيل القيد.

1 - رواه المفيد والشيخ والكليني باسنادهم ورواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء
264

ويؤيده رواية بكير بن أعين قال قلت له الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال
هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك (1)
فإنها ظاهرة في أنه حال الوضوء أذكر، فبمقتضى أذكريته يجب عليه الاعتناء
بشكه ما دام مشتغلا به ولكن في دلالتها تأمل.
لأنها غير ناظرة إلى صورة الشك في بعض اجزاء الوضوء بعد انتقاله إلى
جزء آخر.
واستدل له برواية ثالثة نقلناها سابقا وهي ما رواه ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع)
قال: إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشئ، إنما
الشك إذا كنت في شئ لم تجزه (2) بناء على رجوع ضمير (غيره) إلى (الوضوء)
فيكون دالا بمقتضى مفهومه على وجوب الاعتناء بالشك ما دام مشتغلا بالوضوء.
ولكنك قد عرفت فيما سبق ان رجوع ضمير (غيره) إلى الوضوء، مع قطع النظر
عن سائر اخبار الباب والاجماع المدعى عليه في المسألة، غير معلوم، بل الظاهر
رجوعه إلى الشئ المشكوك فيه، بقرينة الاطلاق الوارد في ذيلها، فإنه دال على أن
كل شئ (سواء فيه الكل والجزء) تجاوز عنه ودخل في غيره يمضى عليه، ولا يعتنى
بالشك فيه.
ويؤيد ما ذكرنا ورود هذا التعبير بعينه في باب اجزاء الصلاة في رواية (زرارة) و
(إسماعيل بن جابر) وليس المراد منه هناك الا التجاوز عن الجزء المشكوك فيه والدخول
في ساير الاجزاء، فالاستدلال بهذا الحديث في حد نفسه مشكل بل لعله في بدء النظر
على خلاف المقصود أدل.
ويمكن الاستدلال له أيضا برواية أبى يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن أبي -

1 - رواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء
2 - رواه في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء
265

عبد الله (ع): قال قلت جعلت فداك اغسل وجهي ثم اغسل يدي، ويشككني الشيطان
انى لم اغسل ذراعي ويدى قال: إذا وجدت برد الماء على ذراعك فلا تعد (1)
فإنه لو كان مجرد التجاوز عن جزء من الوضوء كافيا في عدم الاعتناء بالشك فيه
لم يحتج إلى تحصيل امارة قطعية أو ظنية على غسل الذراع (وهو وجدان برد الماء عليه)
بل كان مجرد التجاوز عنه كافيا فيه.
ولكن الظاهر منه كون الشك في حال الاشتغال بغسل اليد، وكأن منشأ شكه
كان هو الوسوسة في أفعال وضوئه وتعبير الراوي بقوله: يشككني الشيطان أيضا شاهد
عليه، فهذه الرواية أجنبية عن المقصود.
فتحصل من جميع ما ذكرنا ان ما يدل على هذا الحكم من السنة، دلالة ظاهرة،
منحصر في رواية زرارة، والعجب من شيخنا الأنصاري (قدس سره) حيث صرح
في الرسالة بورود اخبار كثيرة هنا مخصصة للقاعدة المتقدمة. فأين هذه الأخبار
الكثيرة؟!.
ومع ذلك رواية زرارة المؤيدة بفتاوى الأصحاب كافى في اثبات هذا الحكم.
هذا كله بالنسبة إلى الوضوء ويبعد كون التيمم الذي هو بدل عن الوضوء بحكمه
لاقتضاء البدلية ذلك، ولكنه يختص بما إذا كان التيمم بدلا عن الوضوء.
واما الغسل، والتيمم الذي هو بدل عنه، فلم نظفر على دليل يدل على استثنائهما،
وخروجهما عن الأخبار العامة، الدالة على القاعدة، كاثبات الاجماع عليهما بنحو
يكون حجة مشكل جدا.
نعم قد يقال بدخولهما في ذيل رواية ابن أبي يعفور التي مرت عليك آنفا، أعني
قوله (إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) ولكن قد عرفت انها أجنبية عما نحن بصدده.
فاذن لو أمكن اثبات الحكم فيهما ببعض الاعتبارات التي سنذكره فهو، والا
فشمول الاطلاقات لهما غير بعيد، وطريق الاحتياط فيهما واسع (فتأمل).

1 - رواها في الوسائل في الباب 44 من أبواب الوضوء
266

فتلخص مما ذكرنا ان الطهارات الثلاث كلها أو بعضها خارجة عن تحت القاعدة
ولكن يبقى الكلام في وجه خروجها مع أنه لا يرى أي تفاوت بينها وبين ساير المركبات
الشرعية، كالصلاة والحج وغيرهما في بدء النظر.
فهل هو تعبد محض؟ أو يوجد هناك فارق بينها وبين غيرها؟ اختار كل
منهم مذهبا:
فقال المحقق النائيني (قده) ان خروجها إنما هو بالتخصص لما مر غير مرة من أن
العمومات على مختاره لا تدل الا على قاعدة الفراغ بالنسبة إلى مجموع العمل، وانه
لا دلالة لها بالنسبة إلى الاجزاء، وان الأخبار الواردة في حكم التجاوز عن اجزاء الصلاة
حاكمة عليها وتدل على تنزيل اجزاء الصلاة منزلة الأعمال المستقلة التامة، وحيث إن
الدليل الحاكم مختص بباب اجزاء الصلاة يبقى غيرها خارجا بحكم الأصل. (انتهى).
وقد عرفت فساد هذا المبنى وان أدلة القاعدة عامة، شاملة للاجزاء والكل،
وان سياق اخبار التجاوز الواردة في اجزاء الصلاة سياق غيرها من العمومات، فلا دلالة
فيها على التنزيل والحكومة، بل الجميع يشير إلى معنى واحد، فلا يفهم العرف
من بعضها شيئا وراء ما يفهم من غيره.
وقال شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ان خروج اجزاء أفعال الوضوء وشبهها
من حكم قاعدة التجاوز إنما هو من باب التخصيص فإن الوضوء في نظر الشارع فعل واحد،
باعتبار وحدة مسببه، فإنه يطلب منه أمر واحد غير قابل للتبعيض، وهو الطهارة،
فلا يلاحظ كل فعل منه شيئا برأسه، قال وبذلك يرتفع التعارض بين رواية ابن أبي يعفور
(وهي قوله: إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشئ إنما
الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) الدالة على الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء، وبين الأخبار السابقة
الدالة على عدم الاعتناء بمثل هذا الشك.
وكذلك يرتفع التنافي المترائي بين صدر هذا الحديث وذيله، فإذا كان الوضوء
267

في نظر الشارع فعلا واحدا ارتفع الاشكالان ولم يكن حكم الوضوء مخالفا للقاعدة، وبه
يوجه حكم المشهور بالحاق الغسل والتيمم بالوضوء، والا لا وجه له ظاهرا (انتهى
كلامه).
هذا وأنت خبير بان مجرد وحدة المسبب (وهو الطهارة) لا توجب لحاظ السبب
أمرا واحدا، والا جرى مثله في الصلاة وغيرها لامكان القول بان المطلوب منها أيضا أمر
واحد فتأمل، وبالجملة الالتزام بلوازم هذا التوجيه أمر مشكل حدا لا يظن أنه (قده)
يلتزم بها، مضافا إلى أن الحاق الغسل بالوضوء غير معلوم كما مر.
والأولى ان يقال بعد كون الحكم في الوضوء من باب التخصيص بدليل خاص
وارد في المسألة ان الوجه فيه لعله كون اجزاء الوضوء يؤتى بها في زمان قصير لا يغفل عن
حالها غالبا، ولا يكاد تخفى صورتها عادة بمضي هذا المقدار من الزمان، فملاك
القاعدة المصرح به في روايات الباب، وهو الأذكرية في حال الفعل بالنسبة إلى حال
الشك، مفقود فيها بحسب الغالب. بخلاف ما إذا فرغ من الوضوء وانتقل إلى حال آخر
فإن انمحاء صورتها عن الذهن ونسيان كيفية العمل فيه أمر قريب.
ولعل السيرة العقلائية الجارية على عدم الاعتناء بالشك بعد تمامه والتجاوز عنه
(بما مر من البيان) أيضا غير جارية في أمثال المقام.
هذا غاية ما يمكن ان يقال في وجه خروج الوضوء وشبهه عن عموم القاعدة وان
أبيت بعد ذلك كله الا عن بقاء لاشكال في تفسير هذا الاستثناء وتوجيه لم يكن قادحا
في أصل الحكم بل لابد حمله على التعبد المحض وكم له من نظير في أحكام الشرع.
ومما ذكرنا يوجد طريق آخر لتعميم حكم الوضوء واجرائه في التيمم والغسل،
فتأمل.
268

12 - عدم جريان القاعدة مع الغفلة
ان الشك في العمل بعد الفراغ والتجاوز عنه يتصور على اقسام:
تارة يكون مع العلم بأنه كان ذاكرا له حين العمل، عالما بصحته، ولكن يحتمل
انه كان مخطئا في اعتقاده، آتيا به على خلاف ما كان مأمورا به.
وأخرى مع الشك في كونه ذاكرا له أو غافلا عنه، فكما يحتمل الغفلة يحتمل الذكر.
وثالثة مع العلم غافلا محضا ولكن يحتمل الاتيان بما كان مأمورا به من
باب الصدفة والاتفاق، كمن يعلم بأنه لم يحول خاتمه عن محله حين الوضوء ولكن يحتمل
انغسال ما تحته اتفاقا.
لا اشكال في جريان القاعدة في الصورتين الأوليين، وإنما الكلام في شمول اطلاقات
الأدلة للثالثة، فقد يقال بعدم شمولها لها، نظرا إلى التعليل الوارد في قوله: (هو حين يتوضأ
أذكر منه حين يشك) فإن التعليل بذلك يدل على تخصيص الحكم بمورد احتمال الذكر، وإن كان
عنوان السؤال عاما، ويمكن ان يقال بشمولها لها وان التعليل من قبيل (الحكمة) للحكم
لا (العلة) له، حتى يكون مخصصا.
والتحقيق هو الأول لا لمجرد ظهور التعليل الوارد في الرواية، وفى رواية أخرى
لمحمد بن مسلم:
(وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك) في ذلك بل لأن اطلاقات بأنفسها
قاصرة عن شمولها له، منصرفة عنه، لا سيما مع القول بكون القاعدة من الامارات، ومن
باب غلبة الذكر، فإن هذا الملاك إنما هو في غير صورة العلم بعدم الذكر.
هذا مضافا إلى ما عرفت من أن حكم الشارع بحجية القاعدة ليس تأسيسا، بل هو
269

امضاء لما عند العقلاء من الحكم بالصحة بعد الفراغ والتجاوز عن العمل (بل لعل الامر
في جميع الأمارات الشرعية كذلك، فليس فيها تأسيسا جديدا على خلاف ما استقر عليه نباء
العقلاء) ومن الواضح عدم استقرار بناء العقلاء على الحكم بالصحة في صورة الغفلة المحضة.
فلا محيص عن الحكم ببطلان العمل في هذه الصورة واعادته بمقتضى قاعدة الاشتغال
الا ان يقوم دليل أخرى على الصحة.
ويجب التنبيه هنا على أمور:
الأول - لا يخفى انه إذا كان هناك امارة شرعية كالبينة أو حجة عقلية كالقطع فاعتمد
عليها المكلف حين الفعل ثم تبين خطائها بعده، كما صلى إلى جهة يعلم أنها قبلة، أو قامت
امارة شرعية عليها، ولكن تبين له بطلان منشأ قطعه وفساد الامارة بعد ما صلى ولكنه يحتمل
كون الجهة التي صلى إليها قبلة من باب الاتفاق، فلا اشكال في أنه محكوم بحكم الغفلة،
لأن الاحراز المذكور كان فاسدا، مع كون صورة العمل محفوظة عنده، لعلمه بالجهة التي
صلى إليها، ولكن لا يعلم أنها كنت هي القبلة، أو غيرها؟!
فلو صادفت القبلة لم يكن من ناحية (الذكر حين العمل) لأن المفروض علمه بعدم
كونه أذكر حينه، بل إنما هي من باب الصدفة والاتفاق.
وليس هذا من قبيل الشك في انطباق (المأمور به) على (المأتى به) كما ذكره المحقق
النائيني (قدس سره) في الأمر الخامس الذي ذكره في المسألة بل من قبيل انطباق (المأتى
به) على (المأمور به) صدفة واتفاقا عند الغفلة.
والعجب منه (قدس سره) انه جعله من ذاك الباب، وعقد له ولأشباهه بابا مستقلا،
وكلامه في هذا المقام لا يخلو عن تشويش واضطراب فراجع.
الثاني مما يجب التنبيه عليه هو ان المراد بالغفلة هنا هو الغفلة المحضة أعني الذهول
عن العمل عند أدائه مطلقا اجمالا وتفصيلا، نظير مسألة الخاتم في الوضوء فإن المفروض
270

ذهوله عن غسل ما تحته مطلقا، اجمالا وتفصيلا، فاحتمال الصحة إنما يكون من باب الصدقة
والاتفاق فقط.
وأما إذا ارتكز كيفية العمل في النفس اجمالا بسبب التكرار وحصول العادة له، كما
في أفعال الصلاة والوضوء وغيرهما من العبادات اليومية، بحيث يؤتى بها أحيانا متواليا
على وجهها الشرعي مع الغفلة عنها تفصيلا، فإن ذلك لا يعد من الغفلة بل فيه نوع من الذكر
كما أشرنا إليه سابقا، ولولا ذلك كان الذكر التفصيلي غير حاصل لكثير من الناس في
أقوالهم وافعالهم وعباداتهم وغيرها فلا يصح التعليل بغلبة الذكر حين العمل بالنسبة
إلى العموم.
الثالث - ان شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ذكر في كلام له في المقام انه لا فرق بين
أن يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا أو تركه عمدا، والتعليل المذكور (هو حين يتوضأ
الخ) بضميمة الكبرى المتقدمة (هو ان القاصد لفعل لا يتركه عمدا) يدل على نفى الاحتمالين
انتهى.
وهو منه (قدس سره) عجيب فإن العاقل القاصد لفعل شئ مع العلم بشرائطه واجزائه
لا يحتمل في حقه ترك الجزء عمدا أصلا، وهذا هو المراد من الكبرى المتقدمة، لا انه
يحتمل ذلك في حقه وينفى احتماله بهذه الكبرى تعبدا أو من باب الغلبة، كما في احتمال
الترك نسيانا.
والحاصل انه لو فرض احتمال ترك الجزء تعمدا لم يجر فيه القاعدة بلا اشكال لأنه
لا دافع لهذا الاحتمال، ولا يوجد مصحح للعمل معه، فقوله (قده): لا فرق بين أن يكون
المحتمل ترك الجزء نسيانا أو تركه تعمدا لا وجه له أصلا.
271

13 - في عدم جريان القاعدة في الشبهات الحكمية
لا اشكال في جريان القاعدة في الشبهات الموضوعية، بل هي القدر المعلوم من
موردها، المصرح به في كثير من الروايات، فإن ما اشتمل منها على ذكر صغرى لهذه الكلية
فذلك الصغرى من قبيل الشبهات الموضوعية كما هو واضح، وما كان عاما فالقدر المتيقن
منه ذلك.
إنما الاشكال في جريانها في الشبهات الحكمية، والحق عدم جريانها فيها، فإن
الشك من ناحية الحكم هنا يتصور على وجهين، لا تجرى القاعدة في شئ منهما.
أحدهما أن يكون صورة العمل محفوظة عنده ولم يكن في عمله مستندا إلى حجة
شرعية من اجتهاد أو تقليد - كمن يعلم أنه صلى بلا سورة وكان ذلك عن جهل بالحكم أو غفلة
منه ثم بعد الفراغ منها يشك في صحة صلاته من جهة الشك في حكمها الشرعي، وان السورة
جزء أم لا، وليس له طريق لاحرازها من اجتهاد أو تقليد، فإن قيل بعدم جريان القاعدة فيها
وجب الاحتياط بإعادتها لاشتغال ذمته والا كان محكوما بالصحة ولم يجب عليه الإعادة.
والحق عدم جواز التمسك بها لظهور اخبار الباب في كون الشك في كيفية الوجود
الخارجي، فقوله رجل شك في الركوع أو السجود أو الوضوء ظاهر في شكه في كيفية الاتيان
بها بعد احراز حكمها، لافى حكمها بعد احراز كيفية وقوعها، لعدم ملاك الا ذكرية فيه
وهو واضح، هذا إذا كان صورة العمل محفوظة وكان عمله عن جهل بالحكم.
ومنه تعرف انه لو لم يكن صورة العمل محفوظا عنده كما إذا شك الجاهل بالحكم
بعد مضى برهة من الزمان في مطابقة أعماله لما كان مأمورا به في الواقع، من جهة عدم
انحفاظ صورة عمله، كان خارجا عن محل البحث داخلا في الشبهات الموضوعية، وإن كان
جريان القاعدة فيها أيضا ممنوعة، نظرا إلى استناد عمله إلى الجهل والغفلة، خلافا
272

لما يترائى من المحقق النائيني من عده من اقسام الشبهة الحكمية.
ثانيهما أن يكون صورة العمل محفوظة عنده - كمن يعلم أنه صلى بلا سورة - ولكن
كان عمله مستندا إلى حجة شرعية من اجتهاد أو تقليد، ثم شك بعد الفراغ عنه في صحته وفساده،
من جهة زوال رأيه أو رأى مجتهده وتردده في حكم المسألة من دون العلم بفساده.
وجريان القاعدة في هذه الصورة وإن كان أقرب من سابقها الا ان الحق عدم جريانها
فيها أيضا لما ذكر في الصورة السابقة فراجع وتدبر جيدا.
273

14 - مورد القاعدة خصوص الشك الحاصل بعد العمل
لا ينبغي الريب في أن مورد قاعدة التجاوز والفراغ هو الشك الحاصل بعد العمل.
فلو كان الشك موجودا من قبل، لكنه غفل عنه ودخل في العمل، ثم بعد الفراغ
منه تذكر وتجدد له حالة الشك في صحة عمله وفساده، لم يجز له التمسك بها، ولو قلنا
بجريان القاعدة في موارد الغفلة.
وذلك كمن شك في الطهارة قبل الصلاة وكان حالته السابقة الحدث، ثم غفل و
صلى، مع علمه بعدم تحصيل الطهارة بعد شكه، فإذا سلم توجه إلى ما كان فيه وشك في أنه
كان على طهارة أم لا، فعليه تحصيل الطهارة وإعادة الصلاة.
والوجه فيه ظاهر، اما بناء على المختار من عدم جريان القاعدة في موارد الغفلة
فواضح، لأن المفروض غفلته عن تحصيل شرائطه قبل الصلاة مع وجوب الطهارة عليه
بظاهر الشرع بمقتضى الاستصحاب، فلم يكن داخلا تحت قوله (هو حين يتوضأ أذكر)
أو قوله (وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك) بل لو كان ذاكرا لم يقدم على
هذا العمل.
وان شئت قلت: مورد القاعدة هو ما كان احتمال الذكر منشأ لاحتمال صحة العمل
وحصول شرائطه، وفى المقام لو كان ذاكرا كان عمله محكوما بالفساد في ظاهر
الشرع بحكم الاستصحاب الجاري فيه بلا كلام.
واما على القول بجريانها في موارد الغفلة، فالامر أيضا كذلك، لا لمجرد ظهور
اخبار الباب مثل قوله (الرجل يشك بعد ما يتوضأ) أو قوله (شك في الركوع بعد ما سجد)
وأشباههما في أن الشك نشأ بعد الفراغ عن العمل أو التجاوز منه، بل لأن مجرى القاعدة
هو ما إذا كان العمل مبنيا على الصحة ولو في ظاهر الشرع، فلو كان من أول امره مبنيا
274

على الفساد ومحكوما بالبطلان في ظاهر الشرع لم يمكن تصحيحها بالقاعدة بعد الحكم
بفساده، والمقام من هذا القبيل، فإن الصلاة في مفروض الكلام كان محكوما بالفساد
من أول آنات وجودها بحكم استصحاب الحدث، وإن كان المصلى غافلا عن هذا الحكم
حين الشروع لغفلته ونسيانه، فكيف يصح الحكم بصحتها بعد الفراغ عنها، وهل
يرضى بذلك لبيب؟.
هذا تمام الكلام في قاعدة التجاوز والفراغ.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
275

5 - قاعدة اليد
277

ومن القواعد المشهورة التي يتمسك بها في كثير من أبواب الفقه وتدور عليها أحكام
المعاملات كلها (قاعدة اليد) فبها تدور رحى المعاملات، وبها تنحل عقدها.
ويزيد هذا وضوحا ما ستعرف إن شاء الله من أن مرادنا من (اليد) ليس
خصوص (يد الملكية) بل نبحث عن (اليد والاستيلاء) بمفهومها العام الشامل ليد المالك،
والمستأجر، ومتولي الأوقاف، والمستعير، والودعي، وأشباههم، فإن كيفية السلطة و
الاستيلاء على الأموال المنافع مختلفة، تترتب عليها أحكامها كذلك، فالبحث لا يدور
على دلالة اليد على الملك فقط بل يعمها وغيرها، فليكن هذا على ذكر منك.
وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الكلام في هذه القاعدة أيضا يقع في مقامات:
المقام الأول - في مدرك القاعدة.
المقام الثاني - في أنها من الامارات أو الأصول العملية؟
المقام الثالث - في أنه بما ذا تتحقق اليد؟
المقام الرابع - هل هي حجة حتى إذا كان متعلقها مما لا يجوز بيعه الا بمسوغ خاص،
كالوقف؟.
المقام - الخامس - هل هي حجة ولو حدثت أولا لا بعنوان الملك؟
279

المقام السادس - هل هي تستقر على المنافع والأعيان كليهما؟
المقام السابع - هل يجوز الشهادة بالملك بمجرد اليد؟
المقام الثامن - هل هي حجة لصاحبها أيضا؟
المقام التاسع - في عدم حجية يد السارق وشبهه.
المقام العاشر - في حجية اليد في الدعاوى الا ما يستثنى.
280

1 - في مدرك القاعدة وملاك حجيتها
لا اشكال ولا كلام في حجية اليد ودلالتها على الملك في الجملة، وعليه اجماع علماء
الفريقين بل المسلمين جميعا، بل كافة العقلاء من أرباب المذاهب وغيرهم.
وهذا الحكم على اجماله من ضروريات الدين، ولكن مع ذلك لابد لنا من
استقصاء الأدلة الدالة عليه لكي نرجع إليها في إزالة الشكوك الواقعة في حدودها، ونستريح
إليها فيما وقع الكلام فيه من فروع القاعدة وجزئياتها.
فنقول ومن الله نستمد التوفيق والهداية، يدل على هذا الحكم أعني كون
اليد حجة على الملك أمور:
أولها: اجماع علماء الفريقين عليه بل ضرورة الدين كما عرفت.
هذا ولكن في الاستناد إلى الاجماع في هذه المسألة التي يكون فيها مدارك كثيرة
أخرى، الاشكال المعروف، من عدم كشفها عن قول المعصوم، بناء على ما اختار المتأخرون
من أصحابنا رضوان الله عليهم من حجية الاجماع من طريق الحدس والكشف عن
قوله (ع).
ثانيها - السيرة المستمرة من المسلمين في جميع الأعصار والأمصار على معاملة
المالكية مع من بيده عين من الأعيان، فلا يتصرف فيها الا باذنه، كما أنه يكتفى باذنه في جواز
281

التصرف فيها، والاشتراء والاستيجار، وكذلك يمضى جميع تصرفاته فيها من الوصية والهبة
وغيرها وتورث بمجرد ذلك، وهذا أمر ظاهر لا سترة عليه.
ولكن الظاهر أن هذه السيرة مأخوذة من بناء العقلاء، فتؤول إلى ما سنذكره
في الدليل الثالث.
ومن هنا يعلم أنه لابد في الاعتماد عليها من ضم عدم ردع الشارع منه، فيعتمد
عليها في موارد لا يوجد فيها ردع عموما أو خصوصا، ولو كانت سيرة المسلمين بما هم مسلمون
لم يحتج إليه وهو واضح.
ثالثها - بناء العقلاء جميعا، من أرباب الأديان والملل وغيرهم، على ترتيب
اثار الملك على اليد، وقد صار هذا الحكم مرتكزا في الأذهان، وراسخا في النفوس،
بحيث يكون كالأمور الغريزية، بل لعله يوجد شئ من آثار هذه الغريزة عند غير الانسان
من الحيوانات كما لا يخفى على من سبر أحوالها.
وهذا الحكم إنما ينشأ من المبادى الأولية في حصول الملك، فإنه نشأ حينما نشأ
من ناحية الحيازة والاستيلاء على الأشياء التي توجد في عالم الطبيعة، وتكون فيها منافع
الانسان، ولا يمكن الحصول عليها في أي زمان ومكان بحيث يكون كثرتها رادعة له عن
حيازتها.
فأول ما نشأ الملك في العالم نشاء من ناحية الحيازة والاستيلاء على شئ، وهما
يعتمدان على الجارحة المخصوصة أعني (اليد) فكانت اليد هي الواسطة الأصلية في الملك،
والوسيلة الابتدائية له، ثم إنه إذا ظفر الحائز عليه وجعلها تحت يده قد ينقلها من يده إلى
غيره ويجعلها تحت يده باختيار منه، أو بإرث أو نحو ذلك.
ومن هنا كل من شاهد عينا بيد غيره، ورأه مستوليا عليها، رآه أولى بها.
فلم يكن الملكية في أول أمرها الا هذه الأولوية الطبيعية التكوينية والاختصاص
282

الخارجي الناشئ من الاستيلاء، فالمالك هو المستولي على شئ خارجا.
ثم بعد ذلك جعلت الأولوية الاعتبارية التشريعية التي هي من الأمور الاختيارية
مكانها.
وقد اطلق في آيات الكتاب العزيز عنوان (الكاسب) على (اليد) فقال تبارك و
تعالى: (وبما كسبت أيديكم) (1) وفى موضع آخر (بما كسبت أيدي الناس) (2)
ومن هنا تعرف نكتة التعبير عن هذه القاعدة بقاعدة (اليد) دون سائر الجوارح،
فإن الحيازة والاستيلاء، لا سيما بصورتها الابتدائية البسيطة، تكون باليد، فهي ممتازة
عن سائر الجوارح في هذا الباب، فيحكم على (اليد) بالملك والضمان، والغصب،
فيقال يد الملك، يد الضمان، ويد الغصب والاعتداء.
ثم إنه من الواضح ان ما يكون بيد الانسان حقيقتا لا يكون دائما بهذه الحالة، بل
قد يدعه جانبا من يده، ولكنه يكون في مكان يقدر على اخذه كلما اراده، فيطلق (اليد)
على هذا المعنى الذي في الحقيقة هو السلطة والاستيلاء فقط، فيقال انه تحت يده وهذا
المعنى من (اليد) معنى أوسع من معناه الحقيقي أعني الجارحة المخصوصة.
ولا يهمنا البحث عن أن هذا المعنى صار من كثرة الاستعمال معنى حقيقيا لها،
بحيث يراد من هذه اللفظة بلا قرينة أو معنى كنائي أو مجازى لها بعد، فإنه لو لم يكن
من معانيها الحقيقية فلا أقل من كونه كناية واضحة أو مجازا مشهورا مقترنا بقرينة الشهرة
وغيرها من القرائن الحالية، فلا ثمرة مهمة في هذا البحث، وقد صرح المحقق النحرير
الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس سره) في رسالته المعمولة في المسألة انها حقيقة
في الأول وكناية في الثاني وذكر في وجه ما اختاره ما لا يخلو عن الاشكال فراجع.
فتحصل من جميع ذلك أن كاشفية اليد عن الملكية أمر يقتضيها طبعها الأولى،
ولذا لا يرى في هذا الحكم خلاف بين العقلاء جميعا مع اختلاف آرائهم وتشتت مذاهبهم

1 - شورى - 30، 2 - روم - 41
283

في غيره، واما الغصب والاستيلاء العدواني على شئ فهو في الحقيقة انحراف عن هذه
الطبيعة، وخروج عن مقتضى وضعها الأولى.
وسيأتي إن شاء الله ان الغصب والسلطة العدوانية مهما كثرت وشاعت لا يقدح في
كاشفية اليد عن الملك حتى إذا كانت الأيدي العادية أكثر من الأيدي الأمينة، وان
الكاشفية في الامارات - برغم ما ذكره غير واحد من المحققين - لا تدور مدار الغلبة
دائما فتدبر.
رابعها - ان اليد لو لم تكن دليلا على الملك لزم العسر الأكيد، والحرج الشديد،
واختل النظام في أمور الدنيا والدين، وبلغ الامر إلى ما لا يكاد يتحمله أحد، ولم يستقر
حجر على حجر، ولا يحتاج لزوم هذه الأمور إلى مضى برهة طويلة من الدهر أو زمن
كثير، بل يلزم ذلك من الغاء حجية اليد ولو ساعة واحدة!.
والى هذا أشار الإمام عليه السلام في رواية حفص بن غياث الواردة في جواز الشهادة
بالملكية بمجرد اليد: (ولو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) (1)
ومن المعلوم انه إذا لم يقم لهم سوق لم يقم لهم بلد ولا دار، ولا شئ من أمور دينهم و
دنياهم، من معاشهم ومعادهم.
هذا ولكن في الاستدلال بالعسر والحرج واختلال النظام الاشكال المعروف،
وهو ان لازمه الاكتفاء بما يندفع معه العسر ويرتفع اختلال النظام، لا حجيتها مطلقا،
فلا يكفي مجرد ذلك في اثبات دلالة اليد على الملكية في جميع مواردها.
ولابد (ح) من حمل استشهاد الإمام عليه السلام بهذه القضية على بيان (حكمة) الحكم
لا (العلة) له، فاختلال النظام حكمة للحكم بحجية اليد على الاطلاق لا علة لها، و

1 - رواه في الوسائل في باب وجوب الحكم بملكية صاحب اليد، من أبواب كيفية الحكم،
من كتاب القضاء.
284

الا دارت مداره.
اللهم الا ان يقال إن (التبعيض في ذلك بنفسه موجب للعسر واختلال النظام،
لأنه لا تفاوت بين الأيدي المختلفة حتى تتبعض في الحجية، ولو كان هناك فرق وتفاوت فإنما
هو بأمور لا يمكن جعلها فارقا في المقام، كما أن (التخيير) أيضا لا يرفع الغائلة، فلو
قيل بان هذا اليد حجة دون أخرى كان أول النزاع والخلاف، وأول المخاصمة واللجاج، و
كان فيه من الهرج والمرج ما لا يخفى. فلا مناص من القول بحجيتها مطلقا، فاستدلال
الإمام عليه السلام يكون من قبيل (العلة) للحكم كما هو ظاهره أيضا.
خامسها: السنة - وهي روايات كثيرة وردت في مختلف أبواب الفقه، بعضها
يدل عليها بالعموم وبعضها بالخصوص.
منها - رواية (حفص بن غياث): المعروف بين الفقهاء، عن أبي عبد الله عليه السلام قال
قال له رجل إذا رأيت شيئا في يدي رجل أيجوز لي ان اشهد أنه له قال عليه السلام نعم، قال
الرجل اشهد أنه في يده ولا اشهد أنه له، فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله أفيحل الشراء
منه؟ قال نعم، قال أبو عبد الله فلعله لغيره، فمن أين جاز لك ان تشتريه؟ ويصير ملكا لك
ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لم لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق - والرواية وان كانت
غير خالية عن ضعف في سندها، الا انها منجبرة بعمل الأصحاب واستنادهم إليها، واستفاضا
مضمونها (فتأمل).
وهي مشتملة على حجية اليد بأبلغ بيان، بل جواز الشهادة بالملكية بمقتضاها
وانه كما يجوز ان يحلف الانسان على كونه مالكا لما في يده، مع أنه غالبا مسبوق بيد
غيره المحتملة للغصب ونحوه، فكذلك يجوز له الشهادة على ملك غيره بمجرد استقرار
يده عليه، وهذا هو منتهى المقصود في المسألة.
285

الا ان (الشهادة) و (الحلف) هنا ليستا على الملكية الواقعية، بل على الملكية
الظاهرية كما هو ظاهر، وبهذا يندفع ما قد يقال بأنه يعتبر في الشهادة العلم اليقيني
المستند إلى أسباب حسية وليس في المقام كذلك.
ومنها - ما رواه يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: (من استولى
على شئ منه فهو أولى) (1) الواردة في باب حكم اختلاف الزوج والزوجة أو ورثتهما
فيما بأيديهم من أثاث البيت، دلت على أن كلا من الرجل والمرأة أحق وأولى بمتاع البيت
فيما استولى عليه.
والعجب من المحقق النائيني (قدس سره) حيث أسقط كلمة (منه) من الرواية ورواها
هكذا (من استولى على شئ فهو أولى) فصارت رواية عامة واعتمد عليها لاثبات هذه الكلية
أعني حجية اليد مطلقا، مع أنها مختصة بباب معين كما عرفت وقد نقلها المحقق
الأصفهاني في رسالته مع لفظة (منه) ومع ذلك جعلها أحسن ما في الباب وهو أيضا عجيب.
اللهم الا ان يقال إن الحديث وإن كان واردا في بعض مصاديق القاعدة الا ان الغاء خصوصية
المورد منه قريب جدا، ولا سيما بملاحظة ارتكاز الحكم في الذهن ومناسبة التعبير
بقوله (من استولى) لعمومية الحكم بملاك الاستيلاء، فإنه من قبيل الوصف الذي علق
عليه الحكم وهو دال أو مشعر بالعلية.
ومنها - ما رواه عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعا عن أبي عبد الله عليه السلام في
حديث فدك ان أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: اتحكم فينا بخلاف حكم الله؟! قال:
لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شئ يملكونه ادعيت انا فيه من تسأل البينة؟.
قال: إياك كنت اسئل البينة على ما تدعيه على المسلمين.

1 - رواه في الوسائل في باب اختلاف الزوجين أو ورثتهما في متاع البيت، من أبواب
ميراث الأزواج.
286

قال (ع): فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون تسئلني البينة على ما في
يدي؟!... الحديث. (1)
وهي ظاهرة بل صريحة في أن الوجه في عدم مطالبة البينة من ذي اليد هو كون اليد
دليلا على ملكيته لا غير، وقوله (ع) في الفقرة الأولى: كان في يد المسلمين شئ يملكونه،
ظاهره انهم يملكونه بمقتضى ظاهر اليد فليس قوله (يملكونه) زائدا على قوله (في يد
المسلمين) بل هو نتيجة له، فهو شاهد آخر على دلالة اليد على الملكية.
ومنه يظهر ان حجية اليد ودلالتها على الملكية كان أمرا ظاهرا مرتكزا في أذهان
المسلمين وأهل العرف لا يقدر أحد على انكاره، فاحتج الأمير (ع) به على أبى بكر،
واطلاق حكم الله عليه في صدر الرواية إنما هو من ناحية امضاء الشارع لهذا الارتكاز،
وعدم ردعه عنه، لا انه حكم أسسه الشارع المقدس.
هذا ولكن الرواية دالة على حجية يد المسلم فقط، ساكتة عن غيرها، فلابد من
تكميل دلالتها على المدعى بالغاء خصوصية المورد ونحوه.
ومنها - ما ورد في جواز اشتراء المملوك عن صاحب اليد، وان ادعى انه حر،
مثل رواية حمزة بن حمران ادخل السوق فأريد ان اشترى جارية تقول انى حرة فقال
اشترها الا أن تكون لها بينة، ومثله غيره. (2)
فإن الحكم بجواز اشترائها مع أن الأصل يقتضى حريتها ليس الا بمقتضى اليد لعدم
فرض امارة أخرى على ملكية بايعها. هذا ولكن التعدي عن موردها إلى سائر الموارد
يحتاج إلى الغاء الخصوصية، والا فهي رواية خاصة وردت في مورد خاص.
ومنها - ما رواه مسعدة بن صدقة عن... عليه السلام: كل شئ هو لك حلال حتى تعرف
الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة، أو العبد

1 - رواه في الوسائل في باب وجوب الحكم بملكية صاحب اليد من أبواب كتاب القضاء
2 - رواه في الوسائل في باب جواز شراء الرقيق من الأسواق من أبواب بيع الحيوان
287

يكون عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر فبيع، أو امرأة تحتك وهي أختك
أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غير هذا، أو تقوم به البينة (1)
والوجه في دلالتها ان الحكم بالحلية في ما ذكره (ع) من المثالين الأولين لا يصح
الا بظاهر اليد السابق على يده، والا يكون أصالة عدم الملك في مثال الثوب وأصالة الحرية
في مثال العبد قاضية بالحرمة بلا اشكال، فالحلية مستندة إلى يد البايع في المثالين.
وفى دلالة الرواية على قاعدة الحلية المعروفة وتطبيقها على المثالين كلام مشهور في محله
ذكره العلامة الأنصاري في ذيل أصالة البراءة وتبعه فيه غيره من المحققين في تعليقاتهم
عليه فراجع، وعلى كل حال فذاك الكلام والاشكال أجنبي عما نحن فيه.
وكيف كان دلالتها على المقصود من ناحية المثالين، بالقرينة التي ذكرناها، ظاهر
للمنصف، هذا وقد يقال في توجيه دلالتها على المدعى ان قوله: (لك) في قوله (كل
شئ هو لك حلال) قيد للمبتدأ، لا جزء للخبر، فالمعنى كل شئ يكون لك ويدك ثابتة
عليه فهو حلال الخ، وعليه تكون الرواية دليلا على حجية يده لنفسه عند الشك في
ملكيته لما تحت يده.
وفيه من التكلف والتعسف ما لا يكاد يخفى.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا ان العمدة في دليل حجية قاعدة اليد أولا هو
ارتكاز أهل العرف وجميع العقلاء من أرباب الديانات وغيرهم، في جميع الأعصار
والأمصار عليها، مع امضاء الشارع لها، لا بمجرد عدم الردع عنها، بل بالتصريح بامضاء
هذه السيرة والارتكاز العرفي في غير مورد وترتيب آثارها عليها، وفى التالي لزوم العسر
والحرج بل اختلال نظام المعاش والمعاد أيضا، واما غير هذين الدليلين فهو في الحقيقة
تأييد وامضاء لهما.

1 - رواه في الوسائل في الباب الرابع من أبواب ما يكتسب به
288

2 - في أنها من الامارات أو الأصول العملية؟
قد وقع الكلام بينهم في أن (اليد) حجة كسائر (الأمارات الشرعية والعقلائية)
أو انها معتبرة كأصل عملي؟ ثم وقع الكلام في وجه تقديمها على الاستصحاب وسائر
(الأصول العملية) على القول بكونها من الأصول.
فذهب كثير من المحققين إلى انها امارة عقلائية أمضاها الشارع المقدس، ولكن
يظهر من صدر كلام شيخنا العلامة الأنصاري الميل إلى كونها أصلا تعبديا معتبرا لحفظ
النظام وإقامة الأمت والعوج، بينما يظهر من ذيله الميل إلى كونها من الامارات، نظرا
إلى أنه اعتبارها عند العقلاء إنما هو لكشفها عن الملك غالبا والغلبة إنما توجب الحاق
المشكوك بالغالب، فالشارع اعتبرها بهذا الملاك أيضا.
وقال المحقق النائيني بعد ما اختار كونها امارة: (انه لا ثمرة مهمة في هذا النزاع،
لتقدمها على الاستصحاب مطلقا، امارة كانت أو أصلا عمليا).
هذا والحق ان الذي يظهر مما ذكرنا آنفا عند بيان أدلة حجيتها ان العمدة في
ملاك حجيتها انها كاشفة عن الملك لا لغلبة الأيدي المالكية على العادية كما ذكر غير
واحد منهم، لما سيمر عليك من الاشكال في أمر هذه الغلبة، بل لأن الملك مقتضى طبعها
الأولى، فإن الملكية أول ما نشأت كانت كالأمور العينية الخارجية، لا الأمور الاعتبارية والتشريعية
التي وعائها الذهن وعالم الاعتبار.
فحقيقة الملكية كانت هي الغلبة والسيطرة الخارجية على شئ، والاختصاص
الحاصل منه في عالم الخارج، ومنشأ هذه السيطرة والاستيلاء كانت الحيازة التي تكون
289

باليد غالبا، فكل من اكتسب شيئا من المباحات بيده كان مسلطا عليه، مانعا لغيره من
التصرف فيه بأنواع التصرفات، فاخذ بيده دليل على كسبه، وسبب للوصول إلى جميع
انحاء التصرف فيه، هذه هي المرحلة الأولى من مالكية الانسان للأشياء الخارجية.
ثم انتقل الامر من اخذ الانسان العين الخارجي بيده إلى جعله في محل تصل يده
إليه كلما شاء، ويمنع غيره عنه كلما قصده، وهذه هي المرحلة الثانية لها.
وحيث إن ذلك أعني جعلها تحت يده وفى حيطة تصرفه الخارجي دائما كان أمرا
صعبا، لأن الملكية ما زالت تكثر وتزداد وتتنوع، وكان المالك كثيرا ما يغيب عما يملكه
ولا يمكنه نقل جميعها معه أينما ذهب، التجأوا إلى أمر أسهل وأوسع منه، وهو جعلها في
شكل آخر اعتباري، لا خارجي تكويني، فجعلوا لها صورة قانونية تشريعية لا واقعية
تكوينية، ومن هنا نشأت الملكية والسلطة الاعتبارية، المعبر عنها باليد، وكانت هذه هي
المرحلة الأخيرة للملكية.
فكانت اليد في شكلها الاعتباري القانوني دليلا على الملك كما كانت في شكلها
التكويني الخارجي دليلا عليه بمقتضى طبيعتها الأولية.
ومن هنا تعرف انه لا يتفاوت الحال في أمر هذه الكاشفية بغلبة الأيدي المالكة
على غيرها، مع ما في هذه الغلبة من الاشكال، لا لما ذكره المحقق الأصفهاني فقط من أن
المسلم إنما هو غلبة (اليد غير العادية) (أعم من يد المالكية والوكالة والوصاية وغيرها)
لا اليد المالكة.
بل لأن غلبة الأيدي غير العادية على العادية أيضا أمر غير معلوم، لا سيما في زماننا هذا، وكثير
من الأزمنة السابقة عليه، فمن سبر التاريخ وعلم أحوال كثير من الملوك والخلفاء والامراء
وفوضاكم في أموال الله وأموال الناس وخضمهم إياها خضم الإبل نبتة الربيع، واقتفاء تابعيهم
- وهم الأكثرون ذلك اليوم - لاثارهم، ثم انتقال هذه الأموال، لا سيما الضياع والعقار، منهم
إلى من بعدهم، جيلا بعد جيل، يعلم أن دعوى هذه الغلبة أمر مشكل جدا.
290

وقد كان بعض سادة أساتذتنا يقول في بحثه في غير هذه المسألة ببعض المناسبات:
(ان كل ما يكون تحت أيدينا من الأرض والدار وشبههما قد جرت عليها من أول يوم احيائها
أيدي أناس كثير لا يعلمهم الا الله، وهل يظن كون جميع الأيدي الجارية على كل عين منها
مالكة أمينة غير عادية)؟ ومن الواضح ان واحدة منها في سلسلتها الطولية إذا كانت
عادية لم تكن تلك العين مملوكة لمالكها الفعلي واقعا الآن، وان كانت ملكا له ظاهرا.
وأوضح من هذا كله حال أموال الناس واملاكهم في زماننا هذا، الذي غلب عليه
وعلى أهله الجور والاعتداء، يتقلب كل على غيره ويتملك أمواله له يوما بعنوان القهر
والظلم، ويوما بعنوان بسط العدل والمساواة، ويوما تحت عنوان اجراء أصول الاشتراكية،
ويوما بالربا، ويوما بالغش في المعاملة ويوما بالرشاء وبأشكال كثيرة اخر.
وان أبيت عن جميع ذلك وقلت بغلبة الأيدي الأمينة على العادية في جميع ما
ذكرنا، فافرض نفسك في صقع من الأصقاع وبلد من البلاد تكون الأيدي المالكة
متساوية مع الأيدي الخائنة، فهل ترى من نفسك اسقاط اليد عن دلالتها على الملكية
مطلقا وتعامل مع جميع الأموال التي بأيدي الناس هناك معاملة مجهول المالك، وهل
يساعدك العقلاء وأهل العرف على ذلك، لو قلت به؟!
هذا ولا غرو أن يكون هناك امارة لا تدور مدار الغلبة، وان تعجب فعجب قولهم
بحجية أصالة الحقيقة وتقديمها على احتمال المجاز، ولو كان الاستعمال المجازى
بالنسبة إلى بعض الألفاظ أغلب من استعماله الحقيقي، فهل ترى فرقا بينه وبين ما نحن فيه،
والسر فيه أيضا هو ان دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي إنما هي بمقتضى طبعها الأولى، و
شرحه في محله.
وهكذا الحال في أصالة السلامة، الدائرة بين العقلاء، فإنها ليست من استصحاب
الثابت حجيته بمقتضى اخبار لا تنقض، بل هي حجة من باب الظن الحاصل من مقتضى
طبع الانسان، فإنه يقتضى الصحة والسلامة، ولا ينافي ذلك مساواة المرضى والسالمين أحيانا.
291

بقي هنا أمور: أحدها - ان التعليل الوارد في رواية حفص بن غياث وهو
لزوم اختلال السوق وانحلاله على فرض عدم حجية اليد لا ينافي ما ذكرنا من كونها
امارة وطريقا إلى الملكية، وذلك لما عرفت من أنه لا منافاة بين الملاكين وأن تكون
حجيتها مستندة في المرتبة الأولى إلى اقتضاء طبع اليد، وفى الثانية إلى لزوم حفظ
النظام، والمنع عن الهرج والمرج، وأي مانع من أن يكون في شئ واحد ملاكان
للحجية؟.
ثانيهما - ان تقديم البينة على اليد، في موارد قيامها، أيضا لا ينافي اماريتها،
كما أن تقديم قرينة المجاز على أصالة الحقيقة، ودليل التخصيص على أصالة العموم، و
اشباههما، لا ينافي كون هذه الأمور حجة من باب الا مارية والطريقية إلى الواقع، لأن
الامارات ليست متساوية الاقدام في كشف الواقع، فرب امارة تكون أقوى من أخرى، فتقدم
عليها، ولا شك ان البينة العادلة أقوى دلالة على الملكية من اليد، فاليد بطبعها الأولى و
ان كانت تقتضي الملكية الا انه إذا كان هناك دليل أقوى يدل على انحرافها عن طبعها و
استعمالها في غير محلها، فلابد من الركون إليه، وهذا نظير تقديم الأظهر على الظاهر في
باب ألفاظ.
فاذن لا نحتاج إلى ما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) من أن تقديم البينة
عليها إنما هو من جهة ان اليد تكون امارة على الملك عند الجهل بسببها، والبينة مبينة
لسبب اليد، وبعبارة أخرى: مستند الكشف في اليد هي الغلبة، والغلبة إنما توجب الحاق
المشكوك بالأعم الأغلب، أما إذا كان في مورد الشك امارة معتبرة تزيل الشك تعبدا
فلا يبقى مورد للالحاق (انتهى).
وهذا البيان كما ترى راجع إلى توجيه حكومه البينة على اليد، بتصرفها في موضوعها
بإزالة الشك تعبدا، وفيه من الاشكال ما لا يخفى، لامكان معارضته بمثله، والقول بان
حجية البينة إنما هي عند الجهل بالملك، واليد تزيل هذا الشك (فتأمل).
292

ثالثها - ان اليد تقدم على الاستصحاب ولو قلنا بأنها من الأصول العلمية، وان
الاستصحاب حجة من باب الامارة، والوجه فيه ما ذكره غير واحد من المحققين من أنها
اعتبرت في موارد الاستصحاب، وانها أخص أو كالأخص بالنسبة إليه، لأن ما لا يجرى فيه
استصحاب عدم الملكية قليل جدا. فلو لم تكن معتبرة في موارد استصحاب عدم الملكية
لزم الوقوع فيما فر منه، وهو عدم بقاء السوق وبطلان الحقوق، واختلال أمر الدنيا والدين.
293

3 - بماذا تتحقق اليد
قد عرفت ان حقيقة اليد هي الاستيلاء والسيطرة على الشئ بحيث يمكن لصاحبها
التصرف فيه كيفما شاء، والتغلب فيه كيفما أراد، فهي لا تتكيف بكيفية خاصة، بل تختلف
باختلاف الحالات والمقامات، فربما يكون نحو من الاستيلاء محققا لليد في مقام ولا يكون
كذلك في مقام آخر، أو بالنسبة إلى شئ دون آخر، أو حالة دون أخرى، والمعيار في
جميع ذلك هو العرف.
فقد تتحقق اليد بكون الشئ في يد الانسان حقيقة، كالفلوس إذا كانت في كفه.
وأخرى تكون بالتعلق ببدن الانسان، كالقميص الذي لبسه، والحذاء في رجله و
المنظرة على عينه، والفلوس في كيسه، والشئ على عاتقه.
وثالثة تكون بركوبه، كركوب الدابة أو ركوبه في محل خاص كالسائق للسيارة،
فإن استقراره في محله سبب لاستقرار يده عليها، دون غيره من الركاب.
ورابعة بأخذ زمامه كما يأخذ المكارى زمام الناقة وأمثالها، أو المشي في
جانبه كما يمشى هو أيضا على جانب القافلة على الوضع الخاص لو كان.
وخامسة بالسكون فيه كسكون الانسان في الدار وفى الدكان وشبهه.
وسادسة بكون مفتاحه بيده، وان لم يكن ساكنا فيه كما في الدور والخانات
والدكاكين وغيرها إذا كانت غير مسكونة.
وسابعة بالعمل فيها بالمباشرة أو التسبيب كما في عمل الفلاحين في الأراضي
الزراعية بالزرع والحصاد وغيرهما، إذا لم يكن سبب آخر هناك تحقق سيطرتهم واستيلائهم
عليها، إلى غير ذلك من الأنحاء والاشكال التي يطلع عليها من سير موارد الملك بين
العقلاء والعرف.
294

وغير خفى ان التصرف بنحو خاص في بعض الموارد كما في الدار محقق للسلطة
والاستيلاء لا انه شرط زائد عليها، فما قد يتوهم من أنه يعتبر في تحقق اليد التصرف بنوع
خاص في جميع مواردها أو في بعضها مضافا إلى السلطة والاستيلاء، توهم فاسد
لا دليل عليه أصلا.
بل جميع ما ذكرنا من الأدلة السابقة ولا سيما سيرة العقلاء وأهل العرف دليل على
نفى هذا الشرط، وكفاية حصول الاستيلاء على الشئ بنحو يمكنه التصرف فيه كيفما
شاء، وان لم يتصرف فيه أصلا، واما كون التصرف في بعض مواردها ومصاديقها محققا
لهذا المعنى في الخارج فهو أمر آخر وراء اعتبار (التصرف) كامر زائد على (استيلاء)
ثم إنه قد يتعارض انحاء اليد بالنسبة إلى اشخاص مسيطرين على شئ واحد
بانحاء مختلفة، كما إذا تعارض دعوى راكب الدابة والاخذ بزمامها، وكل يدعى كونه
مالكا، أو تعارض دعوى المشترى وصاحب الدكان في متاع يكون بيد المشترى في
في دكان غيره فالمشترى يدعى انها ملكه اشتراها من غيره، وصاحب الدكان يدعى انها
من أمتعته وهما في الدكان فلا يبعد ان يقال يكون كل منها ذات اليد عليه أحدهما من
جهة كونه بيده حقيقتا والاخر من جهة كونه في حيطة سلطانه واستيلائه، وهذا ناش من
تنوع اليد باختلاف المقامات وقد يكون بعض هذه الا يدي أقوى من بعض وقد تكون
متساويين فتتعارض ولحل هذه الدعاوى مقام آخر.
295

4 - هل اليد حجة فيما لا يملك الا بمسوغ خاص
العين التي تستقر عليها اليد لا تخلو من انحاء ثلاثة.
أحدها - ما يعلم بأنها قابلة للنقل والانتقال، ولكن يشك في تحقق سببه
بالنسبة إلى من في يده.
ثانيها - ما يشك في كونها طلقا أو غير طلق.
ثالثها - ما يعلم بأنها لم تكن طلقا وقابلة للنقل والانتقال الا بمجوز خاص،
كالعين الموقوفة التي لا يجوز بيعها ولا شرائها الا إذا طرء عليها الخراب أو خلف شديد بين
أربابها (على المشهور).
لا اشكال في حجية اليد في القسم الأول، المعلوم قابليتها لذلك، لأنه القدر المتيقن
منها، وكذا القسم الثاني لشمول اطلاقات الأدلة وبناء العقلاء والاجماعات له، بل
الغالب في موارد اليد هو هذا القسم ظاهرا واخراجه عن تحت القاعدة يوجب الهرج
والمرج واختلال النظام، ولا يبقى معه للمسلمين سوق، مع أنه لا خلاف في شئ من ذلك
واما القسم الثالث فهو الذي وقع الخلاف فيه بين المحققين ممن قارب عصرنا،
فاختار بعض عموم الحجية لها، واختار عدمه آخرون.
فممن ذهب إلى الأول المحقق الأصفهاني في رسالته المعمولة في المسألة، وممن
ذهب إلى الثاني المحقق النائيني في رسالته. وهو الأقوى.
وعليه لو شوهد العين الموقوفة في يد واحد بعنوان الملك واحتمل في حقه اشترائه
لطرو الخراب عليها أو خلف شديد بين أربابه، لم يجز الاعتماد على مجرد يده في اثبات
ذلك، بل كانت أصالة الفساد هنا محكمة.
وذلك لقصور أدلة حجيتها عن شمول مثله، فإن عمدتها كما عرفت هي بناء العقلاء والسيرة
المستمرة الدائرة بينهم، والاخبار والاجماعات الدالة على امضاء هذه السيرة من ناحية
296

الشارع المقدس، ولا يشمله شئ منها فإن العقلاء من أهل العرف يقفون عن معاملة الملك
مع عين موقوفة استولى عليها شخص أو اشخاص بعنوان المالكية، بمجرد احتمال وجود
مسوغ في بيعها، بل يلزمون أنفسهم على البحث والتحقيق عن ذاك المسوغ، ويظهر
ذلك بأدنى مراجعتهم.
واما الاطلاقات الواردة في الشرع، مضافا إلى انها ناظرة إلى امضاء هذا البناء،
بنفسها منصرفة عن مثله، لا أقل من الشك وهو كاف في اجراء أصالة الفساد.
والسر في جميع ذلك ما عرفت من أن دلالة اليد على الملكية شئ يقتضيها طبعها
الأولى وظاهر حال اليد، والمفروض ان هذا الطبع قد انقلب في موارد الأعيان الموقوفة
وشبهها، لأن طبيعة الوقف تقتضي أن تكون محبوسة تترك في أيدي أهلها، لا تباع ولا تورث،
فجواز النقل والانتقال إنما هو أمر عارضي لها، مخصوص بصور معينة محدودة، وبعبارة
أخرى جواز بيع الوقف إنما هو في صورة الضرورة والاضطرار لا غير.
ومن المعلوم ان اثبات ذلك الامر العارضي يحتاج إلى دليل خاص ومجرد اليد لا تكفى
لاثباته كما عرفت.
وما قد يقال من أن اليد من الامارات، وهي تثبت أسبابها ولوازمها، فهي تثبت
ان محلها كانت قابلة للملكية، ممنوع جدا فإن ذلك، لو قلنا به، إنما هو في موارد يشملها دليل
حجيتها، وقد عرفت قصورها، واثبات توسعة دليلها بذلك يوجب الدور الواضح.
هذا كله فيما يعلم كونه وقفا، واما في موارد الشك فالحق - كما عرفت - حجية
اليد فيها فإن الأعيان الخارجية بطبعها الأولى قابلة للنقل والانتقال، واما حبسها وايقافها
فهو أمر عارضي لها يحتاج اثباته إلى دليل، ولكن هذا الامر العارضي إذا عرض في محل
فصار من الأعيان الموقوفة كان عدم الانتقال كالطبيعة الثانية له، فلا يتعدى عنه الا بدليل.
وإذ عرفت ذلك فلنرجع إلى دليل المخالف والجواب عنه:
قال المحقق الأصفهاني في رسالة المعمولة في قاعدة اليد بعد اختيار عموم دليل
الحجية للمقام ما حاصله:
297

(ان ملاك الحجية وهي غلبة الأيدي المالكية في مقابل غيرها (على مختاره)
محفوظ في المقام، وغلبة بقاء الأعيان الموقوفة على حالها، لندرة تحقق المسوغ، وان
كانت ثابتة لا تنكر، ولكنها إنما هي في اليد التي ثبتت على الوقف حدوثا إذا شك في بقائها
على حالها أو انقلابها يد الملك، واما في مورد البحث المفروض انقطاع اليد السابقة على
الوقف فيها وحدوث يد أخرى يشك في أنها على الملك أو الوقف، فلا مجال لتوهم بقاء
اليد على حالها، فإن غلبة كون الأيدي مالكية شاملة له ولا وجه للعدول عنها، وإذ قد ثبت
ملاك طريقة اليد هنا فلا وجه لمنع شمول الاطلاقات له، وليست الخدشة فيه الا كالخدشة
في سائر المقامات).
ثم قال: (بل يمكن ان يقال بناءا على كون اليد أصلا ان اليد تتكفل لاثبات أصل
الملكية، وحيث انها عن سبب مشكوك الحال من حيث استجماعه لشرط التأثير وهو المسوغ
لبيع الوقف فأصالة الصحة في السبب الواقع بين مستولي الوقف وذي اليد تقضى بصحته السبب
كما بنينا عليه في أصالة الصحة، فإنها مقدمة على الأصول الموضوعية الجارية في موردها،
ومنها أصالة عدم المسوغ) انتهى ملخصا.
أقول - فيه أولا ما عرفت سابقا من أن ملاك حجية اليد ليس غلبة الأيدي المالكية،
بل الملاك فيها ظهور حال اليد وهو متقضى طبعها الأولى، ونظيره في ذلك حجية أصالة
الحقيقة، فإنها ليست من باب غلبة الحقيقة على المجاز بل هي حجة - ولو كانت المجازات
أكثر - وقد مر توضيحه بما لا مزيد عليه.
وثانيا - ان هذه الغلبة قد انقلبت في الأعيان الموقوفة فإن الغالب في الأيدي
الجارية عليها حدوثا أو بقاءا باي نحو كانت هو عدم المالكية، والفرق بين اليد السابقة والحادثة
لا وجه له، فإن جميعها تجرى على العين الموقوفة، ولحاظ الغلبة إنما هو في المجموع
من حيث المجموع فإنها تشترك في جريانها على العين الموقوفة.
وثالثا - ما ذكره من تتميم الاستدلال بها، بناءا على كونها من الأصول العملية،
بأصالة الصحة في البيع الواقع من متولى الوقف وذي اليد، ممنوع، لما أشرنا إليه في -
المجلد الأول من هذا الكتاب في باب قاعدة الصحة من عدم جريانها في أمثال المقام فراجع.
298

5 - هل اليد حجة ولو حدثت لا بعنوان الملك؟
لا اشكال في حجية اليد ودلالتها على الملك إذا كانت من أول أمرها مشكوكة.
كما أنه لا اشكال في حجيتها إذا كانت مسبوقة بالملك ولكن شك في خروجها
عنه بقاءا.
أما إذا كانت اليد حادثة لا بعنوان الملك، كما إذا كانت يد إجارة أو عارية أو عدوان
ثم شك في انقلابها ملكا، ففيه كلام بين الاعلام، والذي اختاره غير واحد من المحققين
هو عدم الحجية، وغاية ما يقال في وجهه أمران:
الأول - ان ملاك حجيتها وهو الغلبة والكاشفية النوعية منتف هنا، فإنها
تختص بما إذا لم يعلم حدوثها على غير الملك، وأما إذا حدثت على غير الملك فلا تكون لها
هذه الكاشفية، بل الغالب في هذه الموارد بقائها على عنوانها الذي كانت عليه، من الإجارة
وغيرها، فمع هذه الغلبة الطارية يزول الحكم السابق، ومنه يعلم انصراف الاطلاقات
عنه أيضا. والشاهد على هذا جريان سيرة العقلاء على اخذ السجلات من المستأجرين و
غيرهم بقبول الإجارة وغيرها، وليس ذلك الا لأجل اسقاط امارية اليد عن الدلالة على
الملكية حتى يكون المستأجر محتاجا إلى إقامة الدليل ان ادعى ذلك.
الثاني - انها إنما تكون امارة بما انها مشكوكة الحال، ولكن استصحاب الحالة
السابقة في المقام يخرجها عن كونها مشكوكة بحكم الشارع المقدس، ويدل على عدم
كونها يد ملك، فلا تكون امارة.
وبعبارة أخرى: اليد إنما تكون امارة مع انحفاظ موضوعها، وهو كونه مشكوك
الحال، ومع جريان الاستصحاب ينتفى موضوعها، و (ح) لا يبقى مجال للاشكال بأنه كيف
يقدم الاستصحاب وهو من الأصول العملية، على اليد وهي من الامارات؟، فإن تقدم
299

الامارة على الأصل إنما هو فيما إذا كانا جاريين في مورد واحد، أما إذا كان الأصل جاريا
في موضوع الامارة ومنقحا له فلا اشكال في تقديمه عليها.
أقول - هذا غاية ما يمكن ان يقال في وجه عدم حجية اليد هنا ولكن فيه:
أولا - ان ما ذكر من بناء العقلاء مسلم إذا كان العين موردا للتشاح والتنازع،
بان اعدى المالك الأصلي انه مالكها فعلا، وادعى المستأجر أو المستعير انتقاله إليه ببيع
أو نحوه وان يده فعلا يد ملك، فإن الاعتماد على يده في قبال المالك الأولى هنا غير معلوم،
بل يطالبونه بالدليل على كون يده فعلا يد ملك بعد ما كانت غيره، وما ذكر من جريان سيرة
العقلاء، على اخذ السجلات من المستأجرين وغيرهم أيضا ناظرا إلى هذه الصورة.
واما لو لم يكن هناك منازعة وتشاح، بان رأينا المستأجر السابق مستوليا على العين
استيلاء المالك على ملكه، يتصرف فيها كيفما شاء، يبيعه أو يهبه، فعدم الاعتماد
على يده غير معلوم، كيف وليس حاله أسوء مما إذا شاهدنا عينا في يد واحد ثم شاهدناها في يد
آخر يعمل فيها عمل المالك في ملكه، فإنه لا ينبغي الشك في الاعتماد، على يده، كيف
والغالب في الأيدي سبقها بيد الغير قطعا، اما تفصيلا أو اجمالا، فهل يمكن القول بان
سبق يد الاستيجار مثلا أسوء حالا من سبق يد الغير؟!
نعم لو كان المدعى للملكية متهما في دعواه أمكن الاشكال في الاعتماد على مجرد يده،
ولكنه لا يختص بهذا المقام بل يجرى في جميع موارد التهمة كما مر نظيره في باب أصالة
الصحة وسيجيئ في مورد قاعدة اليد أيضا ان حجيتها في الأيدي المتهمة، بما سيذكر لها
من المعنى، غير معلومة.
ولا يتوهم ان ركون العقلاء على اليد فيما ذكر إنما هو من باب أصالة الصحة في
الافعال الصادرة عن الغير، فإن ما ذكرنا ثابت ولو لم يكن هناك فعل يحمل على الصحة
فتدبر.
وثانيا - ان ما ذكر من جواز التمسك باستصحاب الحالة السابقة وانه رافع لموضوع
اليد، ممنوع أشد المنع، لأن الاستصحاب لا يرفع الشك عن حال اليد، والمفروض ان
300

ظاهر اليد أولا وبالذات هو اليد المالكة، وهذا الظهور من قبيل الامارات فكيف يمكن
صرف النظر عنه بمجرد استصحاب بقاء اليد على وضعها السابق، والانصاف ان مثل هذا
عن المحقق النائيني (قدس سره) عجيب.
هذا ولكن لا يبعد تخصيص ما ذكرنا من جواز الاعتماد على اليد هنا بما إذا لم يكن
مسبوقا بيد العدوان، فإنها من الأيدي المتهمة التي لا يمكن الركون إليها، وان ادعى
صاحبها انقلابها إلى يد الملك كما أشرنا إليه آنفا وسيجيئ مزيد توضيح له عن قريب
إن شاء الله.
301

6 - هل اليد تعم المنافع والأعيان؟
لا اشكال في تعلق اليد بالأعيان، ودلالتها على الملكية لها، إنما الكلام في تعلقها
بالمنافع، المحكى عن الفاضل المحقق النراقي قده اختصاصها بالأعيان وعدم تعلقها
بالمنافع، واختار غير واحد من أكابر المتأخرين امكان تعلقها بالمنافع أيضا.
ومحال النزاع الذي يترتب عليه الثمرة ما إذا تعلق اليد بها استقلالا لا تبعا للعين،
بحيث تكون المنافع - مع قطع النظر عن العين - تحت اليد، أو إذا كانت تبعا للعين ولكن
كان هناك دليل على عدم مالكية العين، فتظهر الثمرة في دلالة الاستيلاء التبعي للمنافع
على ملكيتها وعدمها.
ففي هاتين الصورتين يتصور الثمرة العملية لهذا النزاع.
وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن تعلق اليد بالمنافع مستقلا أمر غير معقول وان مال إليه
أو اختاره بعض المحققين كما حكى، لعدم امكان الاستيلاء الخارجي عليها، من غير
طريق الاستيلاء على نفس الأعيان، فإنها في نفسها من الأمور العرضية، ولا استقلال لها في
الوجود، فلا استقلال لها في وقوعها تحت اليد، وكيف يستولى عليها استقلالا مع أنها في
ذاتها مما لا يوجد مستقلا؟.
وما يحكى من التمثيل لها بالمزارع الموقوفة التي تكون بأيد المتولين، فتصرف
منافعها حق الموقوف عليهم وتعطى ثمراتها بأيدهم، فلهم اليد على منافعها دون أعيانها،
واضح الفساد - كما افاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) في رسالته - فإن مثل هذه المنافع من
الأعيان، خارجة على محل الكلام - والكلام في المنافع المقابلة للعين.
وكذلك ما قد يقال بامكان تصويرها في الاستيلاء على حق الاختصاص بمكان من
المسجد ونحوه من المدارس والخانات الموقوفة، ففي هذه الموارد لا تكون المسجد و
غيره تحت اليد، بل الذي يكون تحتها هو نفس حق الاختصاص.
302

وفساد هذا أيضا بين، فإن حق الاختصاص ليس من المنافع ولا يقع تحت اليد، بل
هو أمر اعتباري نظير الملكية ومرتبة نازلة من السلطنة على العين، فهو من آثار اليد على
العين بنحو خاص، لا متعلقا لها واقعا تحتها، والحاصل ان الاستيلاء في هذه المقامات إنما
هو على نفس المسجد والمدرسة والخان وشبهها ولكنه بنحو يكون مؤثرا في وجود
نوع خاص من الحق وكاشفا عنه، لا الملكية، لعدم قابلية المورد.
والانصاف ان عدم امكان تعلق اليد بالمنافع مستقلا أوضح من أن يحتاج إلى
أكثر من هذا البيان.
فيبقى الكلام في امكان وقوعها تحت اليد بتبع الأعيان حقيقة، بان تكون اليد
على العين من قبيل الواسطة في الثبوت، لا من قبيل الواسطة في العروض، حتى يكون
من باب المجاز والمسامحة، ثم بعد امكان ذلك ثبوتا يقع الكلام في قيام الأدلة عليه
ودلالتها على حجية مثل هذا اليد اثباتا.
وتنقيحه يحتاج إلى توضيح حقيقة المنفعة المقابلة للعين، فقد يتوهم انها نفس
صرف الشئ، في الطرق المقصودة التي لها اثر في شأن من شؤون الحياة، و
بناء عليه هي من الأمور التدريجية توجد شيئا فشيئا ولا تقع تحت اليد الا باستيفائها،
واستيفائها مساوقة لاعدامها، فما لم تستوف لم تقع تحت اليد وإذا استوفيت انعدمت،
فلا فائدة ولا اثر في البحث عن وقوعها تحت اليد تبعا.
هذا ولكنه توهم فاسد لأن ذلك هو (الانتفاع) وهو قائم بأمرين: العين، ومن
يستوفى منها، واما المنفعة التي هي مقابلة للعين، قائمة بالعين فقط، استوفيت أم لا،
ويقع عليها المعاوضة في باب الإجارة وأمثالها هي نفس قابلية العين لصرفها في
مصارف خاصة، فإن هذا هو الذي يمكن تمليكها في باب الإجارة ويمكن قبضها و
اقباضها ولو بتبع العين.
ومن الواضح ان هذا المعنى من المنفعة من الأمور القارة الثابتة خارجا استوفيت
303

أم لا، وبناء عليه تقع تحت اليد ولو بتبع العين، فالاستيلاء على الشئ يمكن أن يكون
استيلاءا على منافعه حقيقتا وبالذات، على نحو الواسطة في الثبوت لا مجازا وبالعرض على
نحو الواسطة في العروض.
وإذ قد فرغنا عن تصوير ذلك ثبوتا فالحق انه لا مانع من شمول أدلة حجية اليد لها، لما قد
عرفت من أن عمدتها بناء العقلاء، ومن الواضح ان ملاكه عندهم أعم من العين ومنافعها.
(فح) تظهر الثمرة فيما إذا علم من الخارج ان استيلاء الشخص الفلاني على عين
خاص ليس استيلاء مالكيا فتسقط يده عن الدلالة على الملك، ولكن تبقى يده على
المنافع دليلا على ملكه لها.
هذا ولكن يمكن ان يقال: بان استقرار اليد على عين له انحاء مختلفة:
فقد يكون الاستيلاء عليها استيلاء ملك، وقد يكون استيلاء إجارة، وقد يكون
استيلاء عارية، أو استيلاء تولية في الأوقاف، إلى غير ذلك.
فاليد في جميع ذلك تعلقت بنفس العين لا غير، ولكنها ذات انحاء مختلفة، و
واليد أولا وبالذات لولا قرينة على خلافها دليل على الملك فإذا سقطت عن الدلالة عليه
بقرينة خارجية في مورد خاص لا مانع من دلالتها على أنها بنحو آخر من انحاء الأيادي
الأمينة وانها ليست بيد عدوان.
ففي مورد البحث إذا سقطت اليد عن الحجية على الملك يبقى ظهورها في دلالتها
على أنها استيلاء إجارة أو نحوها فما يقتضى (ملك المنافع) محفوظة.
ثم إنه لو قامت قرينة خاصة على أنها ليست كذلك أيضا يبقى ظهورها في دلالتها
على أنها استيلاء يقتضى (ملك الانتفاع) محفوظة.
والحاصل ان المستند في جميع ذلك هو ظهور اليد المتعلقة بالعين وحجيتها،
لا حجية اليد المتعلقة بالمنافع، فاذن لا حاجة إلى اثبات امكان تعلق اليد بالمنافع
لا استقلالا ولا تبعا للعين ولا يبقى للنزاع هنا ثمرة عملية والله العالم.
304

7 - هل تجوز الشهادة بالملك بمجرد اليد؟
قد وقع الخلاف بينهم في كتاب الشهادات في جواز الشهادة على الملكية
بمشاهدة اليد ولو لم توجب علما، بعد الاتفاق على كفايتها في الدلالة على الملك - و
ذلك من جهة اعتبار العلم اليقيني الحسى في موضوع الشهادة، بمقتضى ما ورد في محله
من عدم جوازها الا ان يراه مثل الشمس كما روى عن النبي (ص)، أو يعرف كما يعرف
الكف كما روى عن الصادق (عليه السلام) إلى غير ذلك ومن المعلوم ان اليد بمجردها
لا توجب علما.
هذا ولكن المشهور، جواز ذلك، بل قد يدعى الاجماع عليه كما حكاه في الجواهر،
وأولى منه ما إذا انضم إلى اليد التصرفات الحاكية عن الملك، كالتصرف بالبناء والهدم
والإجارة وغير ذلك مع عدم وجود منازع، فإن الحكم بكفايتها، بل كفاية نفس هذه
التصرفات في جواز الشهادة بالملك، أشهر.
وأولى منهما ما إذا انضم إليهما الاستفاضة (أي استفاضة استناد الملك إلى المتصرف
الذي بيده المال) فقد وقع في جملة من عبارات القوم الاجماع على جواز الشهادة بالملك
مع اجتماع (الثلاثة) وانه أقصى الممكن في الشهادة عليه.
والبحث هنا يكون من ناحيتين: من ناحية الأدلة العامة الكلية، ومن ناحية
الأدلة الخاصة الواردة في خصوص محل البحث.
اما الأول فحاصله انه هل يمكن الحكم بقيام الامارات - ومنها اليد وشبهها - مقام
العلم المأخوذ في الموضوع بمجرد دليل اعتبارها أم لا؟
والانصاف عدم كفاية نفس أدلة حجيتها في ذلك، لا من جهة لزوم اجتماع اللحاظين
واستحالته إذا كانت أدلة الحجية ناظرة إلى تنزيل مؤدى الامارة منزلة الواقع، وتنزيل
نفسها منزلة العلم.
305

لما ذكرنا في محله من عدم استحالة ذلك أصلا.
بل من جهة ظهور أدلتها في تنزيل المؤدى فقط وانصراف اطلاقاتها إليه وعدم
النظر إلى تنزيل نفسها منزلة العلم.
وما قد يقال من الفرق بين العلم المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية، والمأخوذ
فيه على وجه الطريقية، بجواز ذلك في الثاني دون الأول، كما قد يستظهر من عبارات
شيخنا العلامة الأنصاري في باب القطع من الرسائل (وان حكى عنه في بعض تحقيقاته
فيما كتبه في القضاء عدم جواز ذلك من دون تفصيل) فهو مما لا محصل له ولا دليل على هذه
التفرقة بل يرد عليه:
أولا - ان اخذ العلم في الموضوع على نحو الصفتية مجرد فرض لا يظن وقوعه
في شئ من الأدلة الشرعية، فإن النظر إلى العلم دائما تكون من ناحية إرائته للواقع، و
لا ينظر إليه بما هو صفة من صفات صاحبه.
وبعبارة أخرى إنما يؤخذ العلم في الموضوع بملاك انه نور لغيره (وكونه نورا
لصاحبه مستند إلى ذلك) فكلما اخذ في الموضوع كان بهذا الملاك، وإن كان فرض اخذه
بما انه صفة خاصة لصاحبه غير مستحيل ولكنه كما عرفت مجرد فرض.
وثانيا - ان اخذه في الموضوع على نحو الطريقية دليل على أن هذه المرتبة
من إرائة الواقع يقوم بها الملاك ولذا لا يكتفى بما دونه من المراتب من الظن وغيره
حتى الظن القوى الا ان يبلغ حد الاطمينان الذي يسمى علما عرفا.
نعم لو قام دليل على اعتبار شئ من الظنون وتنزيله منزلة العلم من جهة الآثار
المترتبة على نفس العلم والظن، كان حاكما على تلك الأدلة الدالة على اخذ العلم في موضوع
حكم، ولما كانت أدلة حجية الظنون ظاهرة في تنزيل نفس المؤدى فقط لم يجز الركون
إليه في ذلك.
وقد يقال: ان كثرة اطلاق العلم والمعرفة على الأمارات الظنية سندا ودلالة،
306

دليل على أنها منزل منزلة (العلم) عند الشارع المقدس، مثل ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة:
من روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا الخ وقوله تعالى:
(فاسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) (يعنى حتى تعلموا) مع أن مجرد الرجوع
إلى أهل العلم لا يفيد بما هو الا الظن، إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع.
وفيه أيضا: ان اطلاق العلم والمعرفة في هذه الآيات أو الروايات على الظن غير
معلوم، والحاقه به في بعض الموارد لعله من باب كشف الملاك والغاء الخصوصية عرفا.
هذا مضافا إلى أنه لو سلم ذلك في غير المقام ففي المقام ممنوع، لعدم مقاومته
هذا الظهور الضعيف لمثل قوله عليه السلام حتى تعرفها كما تعرف كفك وقوله صلى الله عليه وآله هل ترى
الشمس؟ على مثلها فاشهد أودع! فتأمل.
وقد يقال في تصحيح قيام الامارات فيما نحن فيه مقام العلم: بان الملكية ليست
من الموضوعات الواقعية بل هو أمر انتزاعي من جواز جميع التصرفات (كما اختاره شيخنا
العلامة الأنصاري قده) أوامر اعتباري عقلائي كما اختاره بعض آخر، وعلى أي حال
يحصل العلم الوجداني بها بمجرد (اليد)، لأن الأحكام التي تنزع منها الملكية حاصلة
بسبب اليد، كما أن الاعتبار الشرعي أو العقلائي حاصل بمجردها، فبذلك تتحقق واقع
الملكية فإنها ليست الا هذه الأمور وقد تحققت.
وهذا القول أيضا ممنوع، وذلك لأن الملكية سواء جعلناها من الأمور الانتزاعية
أو الاعتبارية، لها واقع وظاهر، فإذا كانت أسبابها الواقعية موجودة فالملك ملك واقعي
والا كان ظاهريا فعليا، نظير سائر الأحكام الظاهرية، ومن الواضع ان ظاهر أدلة
الشهادة اعتبار العلم الوجداني بالواقع، لا بمجرد الحكم الظاهري، فالعلم الوجداني
بالملكية الظاهرية بحكم اليد أو البينة وسائر الامارات غير كافية فيها.
فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم امكان تصحيح جواز الركون على اليد في الشهادة
على الملك بمقتضى الأدلة العامة.
307

واما الأدلة الخاصة فعمدتها رواية حفص بن غياث السابقة عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: إذا رأيت شيئا في يدي رجل أيجوز لي ان اشهد أنه له؟ قال نعم، قال الرجل:
انه في يده ولا اشهد أنه له، فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فيحل الشراء منه؟ قال
نعم، قال أبو عبد الله (ع) فلعله لغيره، من أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول
بعد ذلك الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟
ثم قال الصادق عليه السلام: لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق.
وهذه الرواية وان كانت ضعيفة السند الا ان الشهرة والاجماعات المنقولة جابرة
لها كما عرفت، لأن الظاهر أن مستند المشهور في هذه الفتوى هو هذه.
واما المصحح المروى عن علي بن إبراهيم في تفسيره في حديث فدك: (ان أمير المؤمنين
(ع) قال لأبي بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله تعالى في المسلمين؟ قال لا. قال فإن كان
في يد المسلمين شئ يملكونه ادعيت انا فيه، من تسئل البينة؟ قال إياك اسئل البينة على
ما تدعيه على المسلمين. قال: فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون تسئلني البينة
على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده، ولم تسئل المؤمنين البينة على
ما ادعوه على كما سئلتني البينة على ما ادعيته عليهم؟ (الحديث) فهو أجنبي عن المقصود
لأنه دليل على حجية (اليد)، وعدم حاجة صاحبه إلى البينة وكونه منكرا في مقام
الدعوى، ومخالفه مدعيا، واما جواز الشهادة على الملك بمجردها فليس فيه منه
عين ولا اثر.
وكذلك الروايات الواردة في حكم تعارض البينات وتقديم بينة ذي اليد أو
تقديم بينة الخارج على غيرها أجنبية عما نحن بصدده.
فاذن يكون العمدة في هذا الفتوى ما عرفت من رواية حفص.
هذا وقد قام بعض من خالف المشهور، أو توقف في المسألة بنقد الرواية والايراد
308

عليها عقلا، وتضعيفها سندا، وصرف فتاوى المشهور عنها، منهم الشيخ الأجل صاحب
الجواهر (قدس سره) فقد بالغ فيه حتى جعل هذا الحكم غير قابل لمجيئ الخبر به عقلا
لرجوعه إلى جواز التدليس والكذب في اخذ أموال الناس!.
هذا ونحن بعون الله، نبدء بتفسير الرواية وكشف مغزاها أولا، ثم نرجع إلى ما
أورده صاحب الجواهر وغيره وما يمكن ان يقال في دفعها انتصارا لمذهب المشهور ثانيا.
اما الأول فحاصله انه عليه السلام استدل بجواز شراء ما في اليد على جواز الشهادة تملك
ما في اليد لصاحبها، وهذا الاستدلال عند بادي النظر مما لا يمكن المساعدة عليه لوضوح
الفرق بين المسئلتين، فإن جواز الشهادة ليس من آثار الملكية، بل من آثار نفس العلم
بها، ومن المعلوم ان اليد بمجردها لا تعطى علما فكيف يجوز حمل أحدهما على الاخر؟
ولكن التأمل الصادق يشهد بأنه عليه السلام لم يستدل بمجرد جواز الشراء بل استدل
بجوازه مع ترتيب آثار الملك عليه، حتى في مقام الدعوى يدعى انه ملكه ويحلف على
الملكية في مقابل خصمه، وأي فرق بين بينة المدعى وحلف المنكر؟ فكما ان الشهادة
على الملكية من آثار العلم كذلك الحلف عليها يكون من آثاره، فلو لم يجز أحدهما
لم يجز الاخر، ولنعم ما قال عليه السلام في هذا المعنى: (من أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا
لك ثم تقول بعد ذلك: هو لي وتحلف عليه ولا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟).
ولو قيل إنه لا يجوز للمالك إذا كان الحال هذا، الحلف على نفس الملك بل عليه
ان يحلف على السبب وهو شرائه من ذي اليد المحكوم ظاهرا بالملك فلا يجوز الاستدلال
بالحلف، على جواز الشهادة.
قلنا الظاهر أن هذا هو الذي أجاب عنه عليه السلام في ذيل كلامه بقوله: لو لم يجز هذا
ما قام للمسلمين سوق، وحاصله - والله ورسوله وأوليائه اعلم - انه لو لم يجز الاعتماد
على اليد في اثبات الملكية والحلف عليها لم يقم للمسلمين سوق فإن الغالب في الاملاك
كونها مسبوقة بيد الغير فغاية ما يمكن الحلف عليه هو الحلف على وقوع السبب مثل
309

البيع، ومن المعلوم ان مجرد وقوع البيع على ما بيد الغير لا يوجب علما بانتقال المال
إليه قطعا بعد عدم العلم بكون البايع نفسه مالكا وعدم دليل عليه الا اليد التي لا تفيد علما.
فالشهادة والحلف على الملك الواقعي القطعي غير ممكن الا في موارد شاذة، فلو
قلنا بحصرهما على خصوص هذه الموارد ما قام للمسلمين سوق، وأمكن ادعاء كل أحد
على غيره ولم يمكن له اثبات حقه لا من طريق إقامة البينة ولا من طريق الحلف (كل في
مورده) ومقتضى ذلك اختلال النظام وعدم قيام السوق على أساسه
ففي الحقيقة الشهادة والحلف لا تكونان الا على الملك الظاهري القطعي الثابت
بمقتضى اليد ولا يعتبر هنا أزيد من ذلك.
ومن الواضح انه لا يلزم الكذب والتدليس وابطال الحقوق من الشهادة على الملك
بمجرد اليد هنا، بعد قيام هذه القرينة العامة الظاهرة عليها فتدبر جيدا.
فهذا الحديث الشريف اللائح منه آثار الصدق دليل على المطلوب مع برهان
عقلي متين أورده الإمام عليه السلام في خلاله.
ولعله إلى ذلك يشير ما عن كاشف اللئام من (تشبيه الشهادة بمقتضى الطرق الشرعية
بالشهادة على الأسباب الشرعية فإنها أيضا محتملة للفساد كما يحتمل الطرق التخلف) و
ان استغربه في الجواهر وأورد عليه بالفرق بينهما، ولكن يندفع الاشكال عنه بما أشرنا
إليه في تفسير (الحديث)، فكأنه (قدس سره) في هذا الاستدلال اقتبس من نوره، واقتفى اثره،
فأورده منازل الصدق والحق.
وإذ قد عرفت ذلك تعرف ان جميع ما أورد على هذا الحكم من الايرادات كلها قابلة
للذب وهي أمور:
منها: ما افاده المحقق (قدس سره) في الشرايع من أن اليد لو أوجبت الملك (واقعا) لم تسمع
دعوى من يقول: الدار التي في يد هذا لي، كما لا تسمع لو قال ملك هذا لي) انتهى.
310

وفيه ان جواز الشهادة بالملك بمجرد اليد لا يلازم كون الملك في موردها ملكا واقعيا
كما عرفت، فقول المدعى: (الدار التي في يد هذا لي) صحيح مسموع إذا أمكنه اثباته
بموازين شرعية، ترجح على اليد، فلا تناقض في دعواه، بخلاف قوله (ملك هذا لي)
فإنه تناقض ظاهر.
ومنها: ان مراد حاكى الاجماع في المسألة هو الاجماع على دلالة اليد على -
الملكية لا الاجماع على جواز الشهادة بمجردها، ومن المعلوم عدم كفايته في المسألة،
بل إذا أمكن حمل الشهرة الجابرة لها عليه أيضا كان من حسن الظن المأمور به، ضرورة
ان المعنى المزبور (أي الاكتفاء باليد في الشهادة على الملك) غير قابل لمجيئ الرواية به
لرجوعه إلى جواز التدليس والكذب في اخذ أموال الناس، إذ قد ذكر في محله ان بينة
الملك تقدم على بينة التصرف أو اليد، لأن الأولى بمنزلة النص والثانية بمنزلة الظاهر
فلا يعارض النص، فلو فرض فيما نحن فيه ان للخصم بينة الملك وللآخر بينة التصرف أو
اليد جاز لبينة الاخر ان تشهد بالملك والمفروض انه لا علم لها الا بالتصرف أو اليد
فتسقط بينة الأول، وهو تدليس محض وكذب واضح، وتطرق لاخذ أموال الناس بغير
الطرق الشرعية ومثله لا يقبل فيه خبر الواحد (هذا محصل ما يستفاد من كلام الجواهر
بتوضيح منا).
وفيه: انك قد عرفت ان الرواية لا تتضمن الا برهانا متينا عقليا يلوح منه آثار -
الصدق والحق، وما ذكره من لزوم التدليس والكذب في اخذ أموال الناس ممنوع، لأن
بينة الملك أيضا مستندة إلى اليد في مباديها السابقة غالبا ولو فرض حصول العلم بالملك
بحيث لا يحتاج إلى الاعتماد على اليد أصلا في موارد شاذة فعلى الشهود (ح) ذكر السبب وان
الملك كان ملكا واقعيا كي لا يلزم اخذ أموال الناس بغير حق، كما ذكروا اشباهه في
أبواب الشهادة.
وليس لبينة الملك في بدء النظر ظهور في الملك الواقعي اليقيني حتى يلزم التدليس
311

وحمل كلام المشهور على مجرد حجية اليد بعيد جدا ليس من حسن الظن المأمور به
بل لعل حمله عليه خلاف حسن الظن، لأن بيان الحكم المزبور بهذه العبارة أشبه
شئ بالتدليس.
والحاصل ان الاعتماد على الرواية قوى جدا موافق للاعتبار، وكلمات الأصحاب،
ولا يرد عليه شئ مما ذكروه ولعله لذلك كله ذكر صاحب الجواهر في آخر كلامه
في المسألة: (انه إذا تحقق بمقتضى الأسباب والطرق الشرعية ما يتحقق بها النسبة العرفية أي
كونه مالا له وملكا من املاكه عرفا جازت الشهادة واليمين بالملك) (انتهى ملخصا)
وما افاده لا محصل له لو لم يرجع إلى ما ذكرنا اقتباسا من الرواية.
هذا غاية ما يخطر بالبال في هذه المسألة عاجلا وتمام الكلام موكول إلى محله.
ومنه تعرف عدم الحاجة إلى (الاستفاضة) أي استفاضة اسناد الملك إليه، وكذا (التصرف)
في صحة الشهادة على الملك بعد حصول اليد.
312

8 - هل اليد حجة لصاحبها أيضا؟
قد عرفت ان يد الغير حجة ودليل على الملكية مطلقا (الا فيما نستثنيه)
فهل هي حجة لصاحب اليد نفسه أيضا إذا شك في ملكية بعض ما في يده أولا؟
الظاهر هو ذلك، لعدم الفرق فيما هو ملاك حجيتها بين يد الغير ويد الانسان نفسه،
سواءا قلنا بان ملاكها هو اقتضاء طبيعة الاستيلاء واليد ذلك - كما هو المختار بما مر له من
البيان - أم قلنا بان ملاكها الغلبة - كما قيل - أم غير ذلك فإن جميعها مشتركة بين يد الغير
ويد الانسان نفسه.
وقد جرت سيرة العقلاء أيضا عليه، فلو شك الانسان في بعض ما في يده، انه ملكه
أو أمانة للغير أو شبهها فلا شك في اجراء حكم الملك عليه عندهم ما لم تقم قرينة على
كونه ملكا للغير.
ولم يظهر ردع من الشارع المقدس بالنسبة إليه، لو لم نقل بشمول بعض الاطلاقات
الواردة في امضاء حكم اليد له أيضا.
بل يظهر من بعض الروايات الخاصة الواردة في باب اللقطة أيضا ذلك، مثل
مصححة جميل بن صالح: قال قلت لأبي عبد الله (ع) رجل وجد في منزله دينارا؟ قال يدخل
منزله غيره؟ قلت نعم كثير. قال: هذه لقطة، قلت: فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال
يدخل أحد يده في صندوقه غيره، أو يضع فيه شيئا؟ قلت، لا قال فهو له (1)
والظاهر أن المراد من قوله يدخل في منزله غيره ليس صرف وجود دخول الغير

1 - رواه في الوسائل في باب من وجد في منزله شيئا من أبواب كتاب اللقطة
313

بل كون داره معدا لدخول افراد مختلفة، ولولا ذلك لم يكن هناك مورد للسؤال
لعلمه عادة بأنه له.
فحاصل الرواية ان يده على الأموال التي في حيطة سلطانه حجة له عند الشك، الا
أن يكون هناك ما يسقطه عن الحجية، مثل كون داره معدا لورود اشخاص مختلفة فيجرى
عليه حكم اللقطة لسقوط يده عن الحجية بذلك، فإن ملاك حجيتها أياما كان مفقود هنا كما
هو ظاهر.
ولا يقصر ذيلها عن الصدر في الظهور فيما نحن بصدده فإن ادخال غيره يده في صندوقه
أو وضع شئ فيه دليل على استيلاء كل منهم على الصندوق فيكون من قبيل الأيدي المشتركة
على شئ واحد فلا يكون يد واحد منهم دليل على ملكيته بخصوصه، نعم لو كان الصندوق
بيده فقط فيده حجة على ملكية ما في الصندوق وان احتمل أن يكون الدينار أمانة أو عارية
لغيره أو غير ذلك من الاحتمالات، اللهم الا أن يكون الصندوق معدا لوضع أموال الناس و
أماناتهم مع أموال نفسه فإن حجية يده حينئذ على ما فيه مشكل أيضا.
ومما ذكرنا يظهر انه لا تهافت بين صدر الرواية وذيلها كما توهم وانهما يعطيان حقيقة
واحدة، ومعنى واحدا، كما يظهر انه ليس فيهما حكما تعبديا على خلاف الموازين المعمولة
بين العقلاء في الأموال التي تحت أيديهم.
فهذا الحديث أيضا ناظر إلى امضاء ما عند العقلاء في أمثال المقام.
وقد يستدل له أيضا بقوله عليه السلام في ذيل رواية حفص بن غياث: (لولا ذلك ما قام
للمسلمين سوق) نظرا إلى تطرق مثل هذا الاحتمال في الأموال التي بأيدي الناس غالبا.
وفيه انه إن كان المراد غلبة احتمال كون بعضها من أموال غيرهم وقع في أيديهم
بعنوان الأمانة أو العارية أو مثلهما مع نسيان أسبابها، فهو ممنوع لأن احتماله ليس غالبيا
في أموال الناس كما هو ظاهر، وإن كان المراد غلبة نسيان سبب الملك تفصيلا وإن كان
أصله معلوما اجمالا فهو غير قادح في اجراء أحكام الملك عليه.
314

9 - عدم حجية يد السارق وشبهه
ومما ذكرنا في الأمر الثامن يظهر لك عدم حجية أيدي السراق والأيدي المتهمة
التي تكون بمنزلتها، على الأموال التي بأيديهم وان احتمل انتقالها إليهم بسبب صحيح
مشروع، لأن ملاك الحجية مفقود فيها أيضا لانقلاب طبع اليد بالنسبة إليهم، وكذلك
الغلبة لو كانت هي الملاك في حجيتها مفقودة هناك.
ولذا لا يرى من العقلاء الملتزمين بحفظ حقوق الناس وعدم الخيانة في أموالهم
ترتيب آثار الملكية على ما بأيدي هؤلاء ولا يعاملون معهم معاملة غيرهم ويلومون من عامل
معهم كذلك، واما ما يرى من بعض من لا مبالاة له في أمور الدين والدنيا من عدم التفرقة
بين هؤلاء وغيرهم فهو غير قادح فيما نحن بصدده كما هو واضح.
ويؤيده ما ورد في بعض أبواب كتاب اللقطة عن حفص بن غياث قال: (سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا واللص مسلم هل
يرد عليه؟، فقال لا يرده فإن أمكنه ان يرده على أصحابه فعل، والا كان في يده بمنزلة اللقطة
يصيبها، فيعرفها حولا فإن أصاب صاحبها ردها عليه والا تصدق بها) الحديث (1)
والاستدلال بها متوقف على كون السؤال عن الدارهم أو المتاع المشكوكة التي يحتمل
كونها له كما ربما يشير إليه قوله: (واللص مسلم) فإنه لو كان المال من أموال الناس قطعا
لم يكن فرق بين اللص المسلم وغيره فافهم - و (ح) اجراء حكم اللقطة عليه دليل على سقوط
اليد عن الحجية وكون المال بمنزلة الأموال التي توجد في الطريق.
ولكن قد ينافيه قوله: (يرده على أصحابه) وقوله (فإن أصاب صاحبها) الظاهر في
معلومية كون المال لغيره قطعا فيخرج عن محل البحث فتأمل.

1 - رواه في الوسائل في باب ما يؤخذ من اللصوص من أبواب كتاب اللقطة
315

ويلحق بها (من هذه الجهة) أيدي الامناء الذين يرجع إليهم في حفظ الودايع
والأمانات، مثل القاضي وغيره، إذا غلب على أموالهم ذلك وانقلبت طبيعة أيديهم، فإن
ترتيب آثار الملك على ما بأيديهم أيضا مشكل ما لم ينضم إليه قولهم، فإن انضم إليه ذلك
كان حجة لا من باب حجية اليد بل من باب حجية قول ذي اليد وتصديق قول الأمين (كما
سيأتي في القواعد الآتية إن شاء الله).
وهذا بخلاف أيدي السراق فإن ضم قولهم وشهادتهم أيضا غير كاف في اثبات الملك
لهم كما هو ظاهر.
والحاصل ان ملاك حجية اليد وبناء العقلاء مفقود في جميع هذه الموارد.
ويلحق بها أيضا يد الدلال ومن أشبهه، وكذلك أيدي مراجع الحقوق الشرعية
من الزكوات والأخماس والمظالم، وكذا الوكلاء، ومتولي الأوقاف إذا كان الغالب في
أيديهم بحسب العادة من غير أموالهم بل إذا كان مقدارا كثيرا وان لم يكن غالبيا فإن ملاك
حجية اليد كبناء العقلاء مفقودة في جميع ذلك الا ان ينضم إليها قولهم وشهادتهم (فتأمل)
316

10 - حجية اليد في الدعاوى وما يستثنى منها
لا اشكال في حجية اليد ولو علم كونها مسبوقة بغيرها، إذا احتمل انتقال المال بوجه
صحيح شرعي، بل الغالب في الأيدي ذلك، ولا فرق فيه بين ان يعلم ذلك من الخارج أو
يقر صاحب اليد نفسه به، بان يقول إن هذا المتاع كان لزيد فاشتريته منه بكذا وكذا.
هذا كله في غير مقام الدعوى وكذلك في مقام الدعوى، فالقول قول صاحب اليد،
فلو أقر بكون المتاع سابقا لثالث لا يكون طرفا للدعوى، لم يضر بكونه صاحب اليد و
كونه منكرا لا يحتاج إلى بينة، بل المحتاج إلى البينة خصمه لكونه مدعيا.
واما ان أقر صاحب اليد الفعلي لخصمه في مقام الدعوى بذلك، بان قال: ان هذا
المال كان لك سابقا فالمحكى عن المشهور انقلاب الدعوى وصيرورة صاحب اليد الفعلي
مدعيا، لأنه يدعى انتقاله إليه بسبب من الأسباب الشرعية، فعليه اثبات ذلك، فتسقط اليد
هنا عن الحجية بسبب هذا الاقرار.
وينبغي توضيح كلام المشهور وتفسيره بما يندفع عنه ما استشكل عليه أو يمكن
ان يستشكل عليه فنقول: ان دعوى صاحب اليد الفعلي كونه مالكا بعد اعترافه بكون
المال لخصمه سابقا لا معنى له الا اشترائه منه أو انتقاله إليه بناقل آخر شرعي، فقوله (هذا
ملكي فعلا وقد كان ملك خصمي قبل ذلك) في قوة قوله (كان هذا ملكه فاشتريته منه أو
انتقل إلى بناقل آخر).
وليس هذا المعنى من اللوازم الخارجة عن مصب الدعوى حتى يقال بأنه لا عبرة
باللوازم إذا كانت خارجة عنه، بل هو في الواقع مآل كلامه، ومعناه العرفي المقصود منه
من قبيل دلالة الاقتضاء، والحاصل انه لو انفك هذا اللازم عن ملزومه لم يكن للكلام
مفهوم صحيح.
317

فالاعتراف بسبق يد المدعى يوجب انقلاب نفس الدعوى ويجعل صاحب اليد الفعلي
مدعيا ومقابله منكرا، لا انه يوجب طرح دعوى آخر بين المتخاصمين غير ما هما فيه،
كما توهم.
فصاحب اليد هنا يكون مدعيا سواء قلنا بان المقياس في تشخيص المدعى عن المنكر
في أبواب الدعاوى هو العرف - كما اختاره غير واحد من الأكابر - أم قلنا بان المدعى هو
الذي يدعى أمرا على خلاف الأصل كما اختاره آخرون منهم.
اما الأول فلصدق المدعى غرفا على صاحب اليد الفعلي، الذي يدعى انتقاله إليه
بناقل شرعي ولو يلازم كلامه الذي لا مفهوم له بدونه، وصدق المنكر على خصمه، الذي
يدعى بقاء الملك على ما كان عليه وعدم بيعه فتدبر.
واما الثاني فلان مقتضى الاستصحاب بقائه على ملك الخصم وعدم انتقاله إلى
صاحب اليد فعلا، فصاحب اليد مدع، لمخالفة قوله للأصل ومقابله منكر.
لا يقال - كيف يكون ذلك وهو معتمد على اليد، وقد مر انها حاكمة على -
الاستصحابات التي في مواردها؟
فقوله (ح) موافق للأصل، بمعناه الأعم من الأصول العملية والظواهر المعتبرة،
والقواعد الثابتة شرعا، كما هو المراد منه في المقام قطعا.
لأنا نقول - لعل الوجه فيه ان دعوى الانتقال إليه إنما تتعلق بزمان لم يكن له
عليه يد، لا في الوقت الحاضر، فالمدعى انتقاله إليه من يد خصمه في زمان لم يكن
تحت يده، فالمرجع بالنسبة إلى ذاك الوقت ليس الاستصحاب (فتأمل)
هذا غاية ما يمكن ان يقال في توجيه كلام المشهور وقد يتصور ان سقوط اليد عن
الحجية هنا من جهة قصور أدلتها وعدم شمول اطلاقاتها للمقام، وفيه انه لا وجه له
يعتد به.
ومما ذكرنا تعرف وجه النظر فيما افاده المحقق الأصفهاني في رسالته المعمولة في
318

قاعدة اليد حيث قال: ان لازم دعوى الملكية الفعلية بمقتضى يده واقرار بان العين كانت
للمدعى سابقا، هو الاخبار بالانتقال منه إليه بالالتزام، الا انه ليس كل دلالة التزامية
يوجب طرح دعوى آخر على اللازم بل لابد من وقوعه في مصب الدعوى، فإن الدعوى
من الدعاء وطلب الشئ وما لم يطلب لا دعوى منه - إلى أن قال:
ففيما نحن فيه يدعى ذو اليد انه ملكه، ساكتا عن دعوى الانتقال منه إليه وسببه،
فهو مدع للملكية، الموافقة ليده، فيكون منكرا ولا يدعى الانتقال حتى يكون مدعيا
وكون لازم مجموع الكلامين هو (الانتقال) غير كو لازمهما (دعوى الانتقال) (انتهى)
ويرد عليه:
أولا - انه ليس البحث في تشكيل دعوى آخر غير الدعوى الأصلي، بل البحث في انقلابها إلى دعوى آخر بعد هذا الاقرار.
وثانيا - قد عرفت ان هذا اللازم ليس من اللوازم المغفول عنها من قبيل دلالة
الإشارة، بل هو من قبيل دلالة الاقتضاء التي يتوقف صدق الكلام عليه، فالمفهوم عرفا
من هذا الكلام ليس الا دعوى الانتقال منه إليه.
وقال في كلام آخر له في المقام ما حاصله: (المعروف في اليد انها من الامارات،
والامارة على المسبب امارة على سببه، فكما ان اليد حجة على الملكية لذي اليد حجة
على سببه الناقل، فكما أنه يكون منكرا في دعوى الملكية لموافقة دعواه للحجة،
كذلك في دعوى الانتقال إليه بسبب شرعي لموافقته أيضا للحجة، وهي اليد، لأن المفروض
ان الحجة على المسبب حجة على السبب).
وفيه - ما عرفت سابقا من أن حجية مثبتات الامارات على اطلاقها ممنوع جدا
فراجع وتدبر.
وقد ذكر المحقق النائيني (قدس سره) في بعض أبحاثه في المقام على ما في تقريرات
بعض أعاظم تلامذته - ما نصه:
319

(تسقط امارية اليد على الملكية بالاقرار الملازم لدعوى الانتقال، فيكون قول
مدعى بقاء الملكية السابقة بعد سقوط اليد على طبق الأصل) انتهى.
وفيه انه لم يعلم وجه صحيح لسقوط امارية اليد بسبب الاقرار بملكية السابقة
وإنما تسقط اماريتها لو أقر بملكيته للخصم فعلا، والحق في توجيه مخالفة قول ذي اليد هنا
للأصل ما عرفت آنفا.
وبعد ذلك كله ففي النفس من كلام المشهور هنا شئ وتمام الكلام في محله.
بقي شئ وهو ان ما ذكره المشهور من انقلاب الدعوى بالاقرار إنما هو في فرض
الاقرار لخصمه، واما لو أقر لثالث فلا اثر له في انقلاب الدعوى كما عرفت، وإن كان
الخصم ممن ينتفع بهذا الاقرار بان كان وصيا أو وارثا للثالث أو شبههما.
ومنه يعلم أن هذا الفتوى لا ينافي ما في رواية الاحتجاج من اعتراض أمير المؤمنين (ع)
على أبى بكر عند غصب فدك لما طالب الصديقة سلام الله عليها البينة لاثبات دعواها بقوله:
(تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال لا. قال (ع) فإن كان في يد -
المسلمين شئ يملكونه ادعيت انا فيه من تسأل البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة
رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده، ولم تسأل المؤمنين على ما ادعوا على كما سألتني البينة على ما ادعيت
عليهم (الحديث).
فإن الاقرار هنا إنما هو لثالث وهو رسول الله صلى الله عليه وآله نعم لو كان فدك باقيا على ملكه صلى الله عليه وآله
انتفع بها المسلمون وانتقل إليهم بمقتضى الحديث المجعول (نحن معاشر الأنبياء
لا نورث) ولكن مجرد ذلك لا اثر له في انقلاب الدعوى.
إلى هنا نختم الكلام في قاعدة اليد، وما يلحق بها من الأحكام، وقد بقي هنا أمور أخر
من قبيل حجية قول ذي اليد، وحكم يد المسلم على الذبيحة، أو اليد على الطفل، وأشباه
ذلك، تعرض بعضهم لها هنا ولكنا اعرضنا عنها لأنا عقدنا لبعضها قاعدة خاصة (مثل حجية
قول ذي اليد) وبعضها خارج عن القواعد الفقهية أصلا وتشترك الجميع في خروجها عن قاعدة
اليد المعروفة الدالة على الملكية فالحاقها بها لا ملزم له.
320

6 - قاعدة القرعة
321

وهي من القواعد المعمول بها في كثير من أبواب الفقه عند اشتباه حال الموضوعات
وعدم معرفتها على ما هي عليها، وهذه القاعدة - مثل كثير من القواعد الفقهية الاخر -
برغم شدة ابتلاء الفقيه بها لم تنقح في كلماتهم حق التنقيح، ولم يبحث عنها بحثا
وافيا يليق بها، ولذا يرى في العمل بها في مجاريها تشويشا واضطرابا ظاهرا، يعمل بها
في موارد، وتترك في موارد أخرى مشابهة لها ظاهرا من دون ان يبينوا لهذه التفرقة
دليلا يعتمد عليه.
ومن هذه الناحية استشكل كثير منهم على عمومات هذه القاعدة، حتى قالوا بعدم
جواز العمل بها الا في موارد عمل الأصحاب بها!
فهل كانت عند أصحابنا الأقدمين قرائن آخر تكشف لهم النقاب عن وجه هذه القاعدة
وحدودها لم يتعرضوا لذكرها في كتبهم على كثرتها وتنوعها واحتوائها على دقائق الفقه
وعمدة مداركه؟ وهذا أمر بعيد جدا عند التأمل الصادق.
أو انهم فهموا من نفس هذه المدارك غير ما نفهم منها؟! فما هو ذاك المعنى الذي
فهموا عنها؟
ولعل عمدة الاشكال نشأت فيما ذكرنا، من عدم أداء القاعدة حقها من البحث
والتنقيب.
فنحن - بعون الله وهدايته - نأخذ في البحث عن مهمات هذه القاعدة الشريفة بما
يسع المجال، لعلنا نوفيها شيئا من واجب حقها ونوضح معضلاتها إن شاء الله ونجعل البحث
في مقامات:
323

الأول: في بيان مدارك مشروعية القرعة على اجمالها.
الثاني: في مفادها وما يستحصل من ملاحظة مجموعها على التفصيل
الثالث: في شرائط جريانها من حيث المورد والمجرى.
الرابع: في كيفية اجراء القرعة عند الحاجة إليها.
الخامس: في أن اجرائها في مواردها أمر جائز أو واجب وعلى تقدير الجواز فهل
يجب العمل بها بعد اجرائها أو يجوز ذلك؟
324

الأول - في مدارك مشروعية القرعة
ويدل عليها أمور:
أولها - آيات من الكتاب العزيز:
منها - قوله تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما
كنت لديهم إذ يختصمون (1) وهي واردة في قصة ولادة مريم وما رامته أمه، امرأة
عمران، حيث إنها بعد ما وضعتها أنثى لفتها في خرقة واتت بها إلى الكنيسة ليتكفلها عباد
بني إسرائيل وقد مات أبوها من قبل، فقالت دونكم النذيرة فتنافس فيها الأحبار - لأنها
كانت بنت إمامهم عمران، فوقع التشاح بينهم فيمن يكفل مريم حتى قد بلغ حد الخصومة -
- كما قال تعالى: إذ يختصمون - فما وجدوا طريقا لرفع التنازع الا القرعة، فتقارعوا
بينهم، فالقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء، وقيل قداحهم للاقتراع،
جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم.
فارتز قلم زكريا ثم ارتفع فوق الماء، ورسبت أقلامهم، وقيل ثبت قلم زكريا وقام
طرفه فوق الماء كأنه في الطين وجرت أقلامهم مع جريان الماء، فوقعت القرعة على
زكريا - وقد كانوا تسعة وعشرون رجلا - فكفلها زكريا وكان خير كفيل لها وقد كان بينهما
قرابة، لأن خالة أم مريم كانت عنده.

1 - سورة آل عمران - الآية 40
325

هذا ولكن في الآية نفسها ابهام فإن كون جملة (إذ يلقون أقلامهم) بمعنى الاقتراع غير
واضح، الا ان بعض القرائن الداخلية والخارجية رافعة للابهام عنها، منها قوله تعالى (أيهم
يكفل مريم) وقوله (إذ يختصمون) وغير واحد من الروايات الواردة في تفسير الآية التي
تأتى الإشارة إليها، وذهاب المفسرون إليه.
ففي الآية دلالة على أن القرعة كانت مشروعة لرفع النزاع والخصومة في الأمم السالفة
ويمكن اثباتها في هذه الأمة أيضا بضميمة استصحاب الشرايع السابقة، مضافا إلى أن نقله
في القرآن من دون انكار دليل على ثبوتها في هذه الشريعة أيضا والا لوجب التنبيه على
بطلانها في هذه الشريعة.
هذا ولكن في كون المورد من قبيل التشاح في الحقوق ابهاما،
لعدم ثبوت حق لعباد بني إسرائيل على مريم، اللهم الا ان يقال إن نذرها لله ولبيته يوجب
ثبوت حق لهم عليها في حضانتها، ولما لم يكن هناك طريق آخر إلى تعيين من هو أحق بحضانتها
انحصر الطريق في القرعة (فتأمل)
ولا يخفى ان مورد القرعة في الآية ليس له واقع محفوظ، يراد استكشافه بها، فليكن
هذا على ذكر منك.
ومنها - قوله تعالى: وان يونس لمن المرسلين إذ ابق إلى الفلك المشحون
فساهم فكان من المدحضين (1)
والمساهمة هو الاقتراع، قال الراغب في مفرداته: (فساهم فكان من المدحضين)
(استهموا اقترءوا) وقال أيضا: السهم ما يرمى به وما يضرب به من القداح ونحوه.
وقال في القاموس: السهم الحظ... والقدح يقارع به.
والظاهر أن كون المساهمة أو الاستهام بمعنى المقارعة والاقتراع من جهة كون
الغالب في مقارعتهم أن تكون بسهام مخصوصة يكتب عليها ما يعين المقصود عند خروجها

1 - سورة الصافات الآية 139 - 141
326

ثم اطلق على المقارعة ولو بغير السهم (المساهمة).
وأدحضه أي أسقطه وازاله، فقوله كان من المدحضين اما بمعنى من (المقروعين)
بسبب وقوع السهم عليه أو بمعنى (الملقين في البحر)، وقال بكل قائل ولكن الظاهر
هو الأول.
فمن هنا يستفاد من الآية ان يونس لما هرب من قومه وركب الفلك المشحون، أي
المملوئة من الناس والأثقال، قارع فوقعت القرعة عليه، وهذا المعنى على اجماله المستفاد
من الآية يدل على مشروعية القرعة في الأمم السالفة اجمالا، ويمكن استفادة مشروعيتها في
شرعنا أيضا بالبيان الذي ذكرناه آنفا.
وتفصيل الحال في مورد الآية على ما يستفاد من بعض الأخبار والتواريخ وكلمات المفسرين
ان يونس عليه السلام لما غضب على قومه دعا عليهم بالعذاب فاستجيب له، فوعده الله ان يعذبهم
وعين له وقتا ففر يونس منهم مخافة ان يأخذه العذاب بغتة، وظن أن الله لا يقدر عليه - أي
لا يضيق عليه حاله - ولكن الله أراد التضييق عليه لتركه ما كان أولى في حقه وهو عدم الدعاء
عليهم، والصبر أكثر مما صبر.
وفى بعض الروايات عن الصادق عليه السلام انه كان في قومه رجلان: عالم وعابد فكان
العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه ويقول لا تدع عليهم، فإن الله
يستجيب لك ولا يحب هلاك عباده فقبل قول العابد ولم يقبل من العالم) (1) فلعل التضييق
عليه كان من هذه الناحية.
ثم إنه لما اتى ساحل البحر فإذا بسفينة شحمت، وأرادوا ان يدفعوها، فسألهم يونس
ان يحملوه فحملوه، فلما توسط البحر بعث الله حوتا عظيما فحبس عليهم السفينة من قدامها، و
قيل إن السفينة احتبست بنفسها، فقال الملاحون (ان هاهنا عبدا آبقا وان من عادة السفينة
إذا كان فيها آبق لا تجرى) وقيل إنهم أشرفوا على الغرق فرأوا انهم ان طرحوا واحدا منهم

1 - رواه العلامة المجلسي في البحار في المجلد 5 ص 360
327

في البحر لم يغرق الباقون.
وعلى كل حال اقترعوا فوقعت القرعة على يونس ثلاث مرات، فعلموا انه المطلوب
فالقوه في البحر، وفى رواية ان أهل السفينة لما رأوا الحوت قد فتح فاه قدام السفينة
قالوا فينا عاص، فتساهموا فخرج سهم يونس فالقوه في البحر فالتقمه الحوت (1)
ثم لا يخفى ان الفاعل في قوله تعالى (ساهم) هو يونس فهو دليل على تسليمه
للقرعة واشتراكه في فعلها وعدم الانكار عليهم، فلو لم يكن في شرعه جائزا لما أقدم
هو عليها.
وفى تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر (ع) ان يونس لما آذاه قومه دعا الله
عليهم - إلى أن قال - فساهمهم فوقعت السهام عليه فجرت السنة بان السهام إذا كانت ثلث
مرات انها لا تخطى الحديث (2) وهذا دليل واضح على امضاء هذا الحكم في شرعنا أيضا
ولكن هنا أمران:
أحدهما - ان القرعة في هذه الواقعة لو كانت لاستكشاف آبق أو عاص أو مطلوب
بين أهل السفينة، كما في غير واحد من الروايات والتفاسير الواردة من طرق أهل البيت (ع)،
فهو من الأمور المشكلة التي لها واقع ثابت مجهول، اما لو كانت العلة فيها عدم وجود
مرجح في القاء بعضهم لتخفيف السفينة بعد أن ثقلت عليهم واشرفوا على الغرق، فهو
من الأمور المشكلة التي لا واقع لها مجهول، ولكن الأطهر بحسب الروايات والتفاسير
هو الأول.
ثانيهما - ان ظاهر الآية جواز الاقدام على هلاك أحد بالقرعة عند الضرورة
أو شبهها، فهل هذا أمر جائز يمكن الحكم بمقتضاه حتى في هذه الشريعة ولو اجتمع فيه
جميع الشرائط التي اجتمعت في أمر يونس (ع) أولا؟ والمسألة لا تخلوا عن اشكال و
تحتاج بعد إلى تأمل.
(1) رواه العلامة المجلسي في البحار في المجلد 5 ص 360
(2) رواه في البحار عن تفسير العياشي في المجلد 5 ص 364
328

الثاني - السنة
وهي العمدة من بين أدلتها، وهي روايات كثيرة واردة في أبواب مختلفة، بين
عام يشمل جميع موارد القرعة، وخاص ورد في قضايا خاصة، وأحسن ما رأيت في
هذا الباب ما افاده المحقق النراقي في (عوائده) فقد جمع من الروايات العامة والخاصة
ما يربو على أربعين حديثا وان لم يستقص أحاديث القرعة مع ذلك.
وقد عقد صاحب الوسائل (قده) لهذه القاعدة بابا في كتاب القضاء وأورد فيها
روايات كثيرة، بينها وبين ما استقصاه المحقق النراقي عموم من وجه.
وعلى أي حال نذكر هنا (جميع) ما ظفرنا بها من الروايات العامة و (نبدا) من
الروايات الخاصة الواردة في القضايا الجزئية المبثوثة في الأبواب المختلفة، مما له
دخل في توضيح حال القاعدة ورفع ما فيها من الابهام والاجمال، وإنما لم نستقص هذا
القسم من الروايات لعدم فائدة مهمة في ذكر جميعها.
اما الأول فهي روايات:
1 - ما رواه الصدوق باسناده عن عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) قال
بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا (ع) إلى اليمن فقال له حين قدم حدثني بأعجب ما ورد عليك
فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله اتاني قوم قد تبايعوا جارية فوطأها جميعهم في طهر واحد،
فولدت غلاما، فاحتجوا فيه كلهم يدعيه، فأسهمت بينهم فجعلته للذي خرج سهمه و
ضمنته نصيبهم؟؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله
الا خرج سهم المحق (1)
ورواه في التهذيب والاستبصار عن عاصم بن حميد عن بعض أصحابنا عن أبي -
جعفر (ع) الا أنه قال (ليس من قوم تنازعوا ثم فوضوا) (إلى آخر).

(1) رواه في الوسائل في باب القرعة من أبواب كتاب القضاء
329

ولعله الأصح فإن (التفويض إلى الله) إنما يكون بعد التنازع وقبل القرعة كما في
هذه النسخة، لا بعد القرعة كما في نسخة (الفقيه).
وعلى كل حال هذه الرواية عامة في جميع موارد التنازع والحكومة الشرعية و
اما بالنسبة إلى غيرها فلا دلالة لها. فليكن هذا على ذكر منك.
وموردها يكون من الأمور المشكلة التي لها واقع مجهول يراد كشفه، وليكن
هذا أيضا على ذكر منك.
كما أن ظاهر الفقرة الواردة في ذيلها عن رسول الله صلى الله عليه وآله كون القرعة - مع شرائطها و
مع التفويض إلى الله - كاشفة عن ذاك الواقع المجهول، وعلى هذا تكون منسلكة في
سلك الامارات لو كان خروج سهم المحق غالبيا ولو كان دائميا كانت القرعة أعلى من
الامارات المعمولة، ثم إنه هل يمكن المساعدة على هذا الظهور الابتدائي أم لابد من
توجيهه وتفسيره بغير هذا المعنى - وسنتلو إن شاء الله عليك منه ذكرا.
وهذه الرواية المصححة (المروية عن الكتب الأربعة) من أحسن ما ورد في
هذا الباب.
2 - ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن محمد بن حكيم قال سألت
أبا الحسن عليه السلام عن شئ؟ فقال لي (كل مجهول ففيه القرعة) قلت له: ان القرعة
تخطئ وتصيب؟ قال: كلما حكم الله به فليس بمخطي!.
ومضمون هذه أعم من سابقها، لعدم تخصيص الحكم هنا بالمنازعة بل عنوانه
(كل مجهول).
واما ايهام كلمة (شئ) واحتمال كون السؤال عن شئ خاص متنازع فيه فالحق
انه لا يضر باطلاق قوله (كل مجهول ففيه القرعة). لأن ورود السؤال في مورد خاص لا يضر
330

بعموم الحكم إذا كان اللفظ عاما فتأمل. (1)
واما قوله (كلما حكم الله به فليس بمخطئ) فقد ذكر فيه احتمالان:
أحدهما - أن يكون المراد خروج سهم المحق واقعا - كما هو ظاهر الرواية السابقة -
فهو ردع لقول السائل ان القرعة تخطى وتصيب واثبات لعدم خطائها - وهذا المعنى بعيد
عن ظاهر الرواية.
ثانيهما - وهو الأنسب بظاهرها أن يكون المراد عدم الخطا في الحكم بحجية
القرعة، فإنه لو لم يكن هناك مصلحة في العمل بالقرعة والحكم بحجيتها، لما حكم
به الله، فالمعنى (ح) ان خطأ القرعة عن الواقع أحيانا لا يمنع عن كون نفس الحكم
بحجيتها صوابا ومشتملا على المصلحة، فحكم الله ليس بخطاء.
والذي يؤيد هذا المعنى بل يدل عليه ان قوله (كلما حكم الله به) بمعنى نفس الحكم،
فعدم الخطاء فيه لا في متعلقه الذي هو القرعة. هذا مضافا إلى أن العلم بوقوع الخطاء في
كثير من الأمارات الشرعية مع أنها أيضا مما حكم الله بها يمنع عن حمل الحديث على هذا
المعنى لو فرض ظهوره فيه بدء الامر.
3 - ما رواه الشيخ عن جميل قال قال الطيار لزرارة ما تقول في المساهمة، أليس
حقا؟ فقال زرارة بل هي حق. فقال الطيار: أليس قد ورد انه يخرج سهم المحق؟ قال:
بلى. قال: فتعال حتى ادعى انا وأنت شيئا ثم نساهم عليه وننظر هكذا هو؟ فقال له زرارة:
إنما جاء الحديث بأنه ليس من قوم فوضوا أمرهم إلى الله ثم اقترعوا الا خرج سهم المحق،
فاما على التجارب فلم يوضع على التجارب. فقال الطيار أرأيت ان كانا جميعا مدعيين
ادعيا ما ليس لهما من أين يخرج سهم أحدهما؟ فقال زرارة إذا كان كذلك جعل معه سهم
مبيح، فإن كانا ادعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح. (2)

(1) رواه في الوسائل في باب القرعة من كتاب القضاء.
(2) رواه في الوسائل في كتاب القضاء في باب القرعة
331

وهذا الحديث الشريف يدلنا على أمور هامة:
منها - كون حجية القرعة أمرا واضحا لا يمكن انكاره، وقد كان مشهورا بين
بطانة أهل البيت (ع) حتى وقع المباحثة فيه بين زرارة والطيار، وقد كان زرارة من
كبراء أصحاب الصادق عليه السلام ومن أفقه فقهاء زمانه، والطيار - وهو محمد بن عبد الله أو ابنه
حمزة بن محمد - فإن كلا منهما يلقب بهذا اللقب وإن كان الأشهر فيه هو الأب - من أجلاء
صحابته وكان متكلما فاضلا يباهى به الصادق عليه السلام كما في بعض الروايات، وكان نظره
في هذا البحث الاستفادة من غزارة علم صاحبه، ولقد أجاد في ما أجاب عنه زرارة في الفقرتين،
فقد ذكر في الأولى ان اطلاق ما ورد في خروج سهم المحق ناظر إلى صورة إرادة كشف الواقع
فهو منصرف عما إذا كان على التجارب.
وفى الثانية انه لو احتمل كذب المتداعيين جميعا لم يكف القاء سهمين بل لابد من
ثلاثة أسهم: سهم لهذا وسهم لذاك، وسهم مبيح ليس لهما، فلا يكون هناك ما ينافي ما ورد
في الحديث من خروج سهم المحق.
ومنها - كون القرعة كاشفا عن الواقع كشفا دائميا لا يقع التخلف فيه، ولكن هذا
ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله أو الإمام عليه السلام بل هو ما استنبطه زرارة عن الحديث المشهور
النبوي الوارد في هذا الباب ما من قوم فوضوا أمرهم الخ ثم بنى عليه ما بنى.
ولكن قد مر آنفا امكان حمله على الإصابة الغالبية وسيأتي مزيد بحث فيه إن شاء الله.
ومنها - انه لابد من القاء سهم مبيح إذا احتمل كذب المتداعيين.
4 - ما رواه البرقي عن منصور بن حازم قال سأل بعض أصحابنا أبا عبد الله عليه السلام عن
مسألة فقال هذه تخرج في القرعة ثم قال: فأي قضية اعدل من القرعة إذا فوضوا أمرهم
إلى الله عز وجل أليس الله يقول فساهم فكان من المدحضين. (1)

1 - رواه في الوسائل في ج 3 في كتاب القضاء في باب القرعة.
332

ويستشم من قوله عليه السلام (أي قضية اعدل من القرعة) ثم استشهاده بقضية يونس، انها
عامة في أمور المشكلة ولا تختص بالمورد الذي سأله الراوي؟، ولكن في شموله لغير
موارد (التنازع) اشكال ظاهر.
5 - ما أرسله الشيخ (قدس سره) في (النهاية) قال: روى عن أبي الحسن موسى بن
جعفر وعن غيره من آبائه وأبنائه عليهم السلام: من قولهم كل مجهول ففيه القرعة،
فقلت له ان القرعة تخطئ وتصيب، فقال كل ما حكم الله به فليس بمخطئ. (1)
وهذا وإن كان متحدا مع ما مر من رواية محمد بن حكيم عن أبي الحسن عليه السلام،
ولكن قول الشيخ (ره) دليل على أن هذا المضمون بعينه مروى عن غير أبى الحسن من
أئمة أهل البيت من آبائه وأبنائه عليهم السلام. والكلام فيه من حيث المعنى هو الكلام في
حديث محمد بن حكيم.
6 - ما رواه الشيخ في التهذيب عن (سيابه) و (إبراهيم بن عمر) جميعا عن أبي عبد الله
(ع) في رجل قال أول مملوك أملكه فهو حر فورث ثلاثة قال يقرع بينهم فمن اصابه القرعة
أعتق قال والقرعة سنة (2)
وهذا الحديث وإن كان واردا في مورد خاص ولكن قوله (القرعة سنة) يدل اجمالا
على عموم الحكم وعدم اختصاصه بالمقام، ولكن فيه ابهام ظاهر من حيث عنوان الحكم،
لأنه لي يبين فيه ان القرعة سنة في أي موضوع.
وفى هذا الحديث دلالة واضحة على عدم اختصاص القرعة بماله واقع مجهول، فإن
موردها ليس من هذا القبيل قطعا.
7 - ما رواه العياشي في تفسيره عن أبي جعفر (ع) في حديث يونس قال: فساهمهم،
فوقعت السهام عليه، فجرت السنة ان السهام إذا كانت ثلاث مرات انها لا تخطى (3)

1 - رواه في الوسائل في ج 3 في كتاب القضاء في باب القرعة
2 - رواه في الوسائل في ذاك الباب بعينه
3 - رواه في الوسائل في كتاب الميراث في أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم في الباب 4
333

وهو أيضا دليل على عموم الحكم في الأمور المشكلة اجمالا، وإصابة القرعة للواقع
وكونه دليلا عليه، ولكن من غير تصريح بعنوان الموضوع وانها سنة في أي موضوع
وأي عنوان.
8 - ما رواه في التهذيب عن عباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا (ع) قال ذكر (ابن أبي
ليلى) و (ابن شبرمة) دخلا المسجد الحرام فاتيا محمد بن علي (ع) فقال لهما: بما تقضيان؟
قالا بكتاب الله والسنة. قال: فما لم تجداه في الكتاب والسنة؟ قالا نجتهد رأينا. قال:
رأيكما أنتما؟ فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيين في بيت فسقط عليهما
فماتتا وسلم الصبيان قالا: القافة. قال، القافة تلحقهما بهما. قالا: فأخبرنا. قال: لا. قال ابن
داود مولى له جعلت فداك قد بلغني ان أمير المؤمنين (ع) قال: ما من قوم فوضوا أمرهم
إلى الله عز وجل والقوا سهامهم الا خرج السهم الأصوب، فسكت. (1)
وفيه أيضا دلالة على أن عموم القرعة كان أمرا مشهورا بين صحابة أهل البيت (ع)
عليهم السلام ومواليهم، وسكوت الباقر (ع) بعد ما رواه ابن داود مولى له، عن أمير المؤمنين
(ع) دليل آخر على ثبوت هذه القاعدة عندهم. فكلما كان الامر فيه مشكلا مثل مورد الرواية
جاز الرجوع فيه إلى القرعة، اللهم الا ان يقال إن سكوته أعم من رضاه بذلك.
9 - ما رواه في التهذيب عن عبد الله بن مسكان قال: سئل أبو عبد الله (ع) وانا عنده
عن مولود ليس بذكر ولا بأنثى ليس له الا دبر كيف يورث؟ فقال يجلس الإمام ويجلس
عنده أناس من المسلمين، فيدعون الله ويجيل (ويجال) السهام عليه على أي ميراث يورثه،
ثم قال: وأي قضية اعدل من قضية يجال عليها بالسهام يقول الله تعالى فساهم: فكان
من المدحضين (2).
وفيه أيضا دليل على عموم الحكم وان لم يصرح فيه أيضا بعنوانه المأخوذ فيه.
وصدره دليل آخر على اعتبار القرعة من حيث كشفها عن الواقع المجهول فإن جلوس

1 - رواه في الوسائل في كتاب الميراث في أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم؟؟ في الباب 4
2 - رواه في الوسائل في كتاب الميراث في أبواب ميراث الخنثى
334

الإمام وأناس من المسلمين ودعائهم إنما يكون لإرائة الواقع المجهول، والا لم يكن وجه
ظاهر للدعاء، ولكن ذيله كبعض آخر من الروايات دليل على أن اعتبار القرعة من جهة
كونه أقرب إلى (العدالة) في موارد الحقوق المشكوكة وسيأتي مزيد توضيح له إن شاء الله
10 - ما رواه الشيخ (قده) أيضا في التهذيب، والكليني في الكافي، عن ثعلبة بن
ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) ثم ذكر مثل الحديث السابق ثم أضاف قوله:
ما من أمر يختلف فيه اثنان الا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه
عقول الرجال (1)
وهذا دليل على أن أصل القرعة - كحكم عام - مأخوذ من كتاب الله من قضية يونس
فهو جار في جميع الموارد التي يشكل فيها الامر وان لم يصرح فيه أيضا بعنوان (المشكل)
وشبهه.
11 - ما رواه أيضا في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن مسكان عن إسحاق العرزمي
(كما في محكى الكافي) أو إسحاق المرادي (كما في محكى التهذيب) عن أبي عبد الله (ع)
ثم ذكر مثل الروايتين السابقتين، الا انه لم يذكر فيها التذييل الأخير. (2)
12 - ما ورد في (فقه الرضا) في باب الشهادات وكل ما لا يتهيأ فيه الاشهاد عليه قال:
الحق فيه ان يستعمل فيه القرعة وقد روى عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: فأي قضية اعدل
من القرعة.
والظاهر أن المرسلة المروية فيها من قول الصادق (ع) هي بعينها ما نقلناها سابقا
تحت الرقم الرابع، ولكن في نفس عبارة فقه الرضا - سواء كان حديثا أو فتوى لبعض كبراء
أصحابنا الأقدمين، على خلاف فيه - دلالة على أن القرعة جارية في كل ما لا يتهيأ الاشهاد
عليه، وان لم يدل على اختصاصها به.

1 - رواه في الوسائل في كتاب الميراث في ذاك الباب بعينه.
2 - رواه في الوسائل في أبواب ميراث الخنثى في نفس ذاك الباب
335

هذا ما ظفرنا به من الروايات العامة، وهناك روايات مرسلة عن الصدوق أو غيره
متحدة مع تلك الروايات لم نذكرها بعنوان مستقل، لاتحادها معها.
وغير خفى ان فيها غنى وكفاية في اثبات القاعدة بعمومها، ولا سيما مع كونها مروية
في الكتب المعتبرة، وقد رواها جمع من أجلاء الأصحاب، وفيها دليل على كونها مشهورة
منذ اعصار الأئمة (عليهم السلام).
الروايات الخاصة
وهناك روايات خاصة مبثوثة في مختلف أبواب الفقه تؤيد عموم القاعدة وعدم
اختصاصها بمورد معين وان لم يكن فيها تصريح بالعموم ولكن ورودها وانبثاثها في تلك
الأبواب المختلفة من المؤيدات القوية على المقصود واليك نبذا منها مما يشتمل على
نكت خاصة تفيدنا في حل معضلات القاعدة وهي طوائف:
الطائفة الأولى ما ورد في باب تعارض الشهود وانه إذا تساويا في العدد والعدالة
يرجع إلى القرعة مثل ما يلي:
1 - ما رواه في الكافي والتهذيب عن داود بن أبي يزيد العطار عن بعض رجاله عن أبي
عبد الله (ع) في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود ان هذه المرأة امرأة فلان وجائت
آخران فشهدا انها امرأة فلان، فاعتدل الشهود، وعدلوا، فقال يقرع بينهم فمن خرج
سهمه فهو المحق وهو أولى بها.
2 - ما رواه في الفقيه والتهذيب والاستبصار عن سماعة قال إن رجلين اختصما
إلى علي (ع) في دابة فزعم كل واحد منهما انها نتجت على مذوده وأقام كل واحد
336

منهما بينة سواء في العدد فاقرع بينهما سهمين فعلم السهمين كل واحد
منهما بعلامة، ثم قال: اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع ورب العرش
العظيم، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، أيهما كان صاحب الدابة وهو أولى بها
فأسئلك ان يقرع ويخرج سهمه فخرج سهم أحدهما فقضى له بها.
3 - ما رواه في الكافي والتهذيب والاستبصار والفقيه عن داود بن سرحان عن أبي
عبد الله (ع) في الشاهدين شهدا على أمر واحد، وجاء آخر ان فشهدا على غير الذي
شهدا عليه واختلفوا قال يقرع بينهم فأيهم قرع، فعليه اليمين وهو أولى بالقضاء.
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الباب التي جمعها صاحب الوسائل في
كتاب القضاء من المجلد الثالث في باب عقده لحكم (تعارض البينتين وما ترجح به أحدهما)
وبعضها وان كانت مطلقة وبعضها مقيدة الا ان طريق الجمع بينهما بالتقييد واضح.
وقد أفتى بمضمونها مشهور المتأخرين وجمع من أكابر القدماء (رضوان اله عليهم)
فقالوا: (إذا لم يكن العين في يد واحد من المتداعيين قضى بأرجح البينتين عدالة، فإن تساويا
قضى لاكثرهما شهودا، ومع التساوي عددا وعدالة يقرع بينهما فمن خرج اسمه احلف و
قضى له) واستنادهم في ذلك إلى هذه الروايات التي عرفت أنموذجا منها، وإن كان
فيها بعض ما ينافيها وقد ذكروا له توجيهات فراجع وتمام الكلام في نفس هذه المسألة
في محلها.
الطائفة الثانية: ما ورد في باب عتق المملوك أو نذر عتقه وانه إذا اشتبه اخرج
بالقرعة مثل ما يلي:
4 - ما رواه الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب عن يونس قال في رجل كان له
عدة مماليك فقال أيكم فقال أيكم علمني آية من كتاب الله فهو حر، فعلمه واحد منهم ثم مات المولى و
لم يدر أيهم الذي علمه؟ قال: يستخرج بالقرعة، قال لا يستخرجه الا الإمام لأن له على
337

القرعة كلاما ودعاءا لا يعلمه غيره (1)
ومورد الرواية من الأمور المجهولة التي لها واقع ثابت في الخارج وان لم نعلمه،
وقوله لا يستجرجه الا الإمام سيأتي الكلام فيه إن شاء الله، وعدم وجوب الدعاء، معلوم،
غاية ما فيه انه مستحب، والرواية مقطوعة لعدم استناده إلى الإمام (ع) ولكن نقلها في
الكتب الأربعة وغير ذلك من القرائن تؤيد رجوع الضمير في قوله: (قال يستجرج
بالقرعة) إلى الإمام (ع) فتأمل.
5 - ما رواه الشيخ عن الحلبي عن أبي عبد الله (ع) في رجل قال أول مملوك أملكه
فهو حر فورث سبعة جميعا، قال يقرع بينهم ويعتق الذي قرع (2)
6 - ما رواه الشيخ أيضا عن عبد الله بن سليمان قال سألته عن رجل قال أو مملوك
أملكه فهو حر فلم يلبث ان ملك ستة أيهم يعتق؟ قال يقرع بينهم ثم يعتق واحد (3)
وهاتان الروايتان وان لم يصرح فيهما بمسألة النذر الا ان القرائن تشهد على حمله
عليه ولذا أوردهما صاحب الوسائل أيضا في باب عقده تحت عنوان النذر في كتاب
العتق.
ومن الجدير بالذكر انه ليس في مورد الروايتين واقع مجهول يراد استكشافه
بالقرعة وهذا دليل آخر على عدم اختصاصها بماله واقع ثابت في نفس الامر.
هذا وفى نفس المسألة خلاف والمحكى عن الشيخ في النهاية والصدوق وجماعة
بل نسب إلى الأكثر هو القول بالرجوع إلى القرعة، وقيل بعدم وجوب الرجوع إليها وانه
يتخير في عتق واحد منها الا ان يموت الناذر فرجع إلى القرعة لخبر الحسن الصيقل قال:
سألت أبا عبد الله عن رجل قال أول مملوك أملكه فهو حر، فأصاب ستة، قال إنما كانت
نيته على واحد فليختر أيهما شاء فليعتقه (4)

1 - رواه في الوسائل في كتاب العتق في باب (من أعتق مملوكا ثم مات واشتبه)
(2) رواه في الوسائل في كتاب العتق من المجلد الثالث في باب (من نذر عتق
أول مملوك يملكه).
(3) رواه في الوسائل في كتاب العتق من المجلد الثالث في باب (من نذر عتق
أول مملوك يملكه).
(4) رواه في الوسائل في كتاب العتق من المجلد الثالث في باب (من نذر عتق
أول مملوك يملكه).
338

وقد يجمع بينهما تارة بحمل الامر بالقرعة على الاستحباب، وأخرى بان طريق
اختيار واحد منهم هو القرعة، فكان الرواية الأخيرة ناظرة إلى نفى وجوب عتق ما عدا
واحد واما طريق اختيار الواحد فهو مسكوت عنه فيها، فيرجع إلى الروايتين السابقتين
فتأمل.
* * *
الطائفة الثالثة - ما ورد في باب الوصية بعتق بعض المماليك وانه يستجرج
بالقرعة مثل ما يلي:
7 - ما رواه الصدوق في الفقيه عن محمد بن مهران عن " الشيخ " يعنى موسى بن
جعفر (ع) عن أبيه (ع) قال: ان أبا جعفر (ع) مات وترك ستين مملوكا فاعتق ثلثهم فأقرعت
بينهم وأعتقت الثلث (1) ورواه الكليني والشيخ في كتابيهما أيضا.
8 - ما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الرجل يكون له
المملوكون فيوصى بعتق ثلثهم قال كان علي (ع) يسهم بينهم، ومورد الروايتين أيضا من الأمور
التي لا واقع لها في الخارج مجهول عندنا كما هو واضح - والظاهر أن المراد من عتق الثلث
في الرواية الأولى الوصية بعتقهم وان لم يصرح فيها بالوصية وهذا الحكم مما لا خلاف
فيه كما ذكره في الجواهر في كتاب " العتق ".
* * *
الطائفة الرابعة ما ورد في باب اشتباه الحر بالمملوك وانه يستخرج بالقرعة مثل ما يلي
9 - ما رواه الشيخ في التهذيب عن حماد عن المختار قال دخل أبو حنيفة على أبى
عبد الله (ع) فقال له أبو عبد الله (ع) ما تقول في بيت سقط على قوم فبقي منهم صبيان: أحدهما
حر والاخر مملوك لصاحبه، فلم يعرف الحر من العبد؟ فقال أبو حنيفة: يعتق نصف هذا و
نصف هذا، فقال أبو عبد الله (ع) ليس كذلك ولكنه يقرع بينهما فمن اصابته القرعة فهو

(1) رواه في الوسائل في أواخر المجلد الثاني في أبواب الوصية.
339

الحر ويعتق هذا فيحصل مولى له (1)
90 - ما رواه الشيخ أيضا عن حماد عن حريز عمن اخبره عن أبي عبد الله (ع) قال قضى
أمير المؤمنين (ع) باليمن في قوم انهدمت عليهم دارهم وبقى صبيان أحدهما حر، والاخر
مملوك فأسهم أمير المؤمنين (ع) بينهما فخرج السهم على أحدهما فجعل له المال
واعتق الاخر.
والمستفاد من هاتين الروايتين لزوم العمل بالقرعة في تشخيص " الحر " عن " العبد " فيرث
التركة كلها ولكن يجب اعتاق الاخر، اما من جهة بناء العتق على التغليب ولزوم ترجيح جانب
الحرية مهما دار الامر بينها وبين الرقية، واما من جهة الاحتياط فإن محذور استرقاق الحر
المحتمل هنا أشد من محذور المال.
ومع كون القرعة حكما عاما لمثل هذه الموارد المشكوكة لا يبقى مجال لما ذكره
أبو حنيفة من الرجوع إلى قاعدة " العدل والانصاف " والحكم بكون نصف كل منهما حرا،
الذي فيه محذور المخالفة القطعية لما علم بالاجمال، بل قد يلزم منه مخالفة قطعية للعلم
التفصيلي كما قد ذكر في محله فتدبر.
* * *
الطائفة الخامسة
ما ورد في ميراث الخنثى المشكل الذي لا طريق إلى اثبات رجوليتها وأنوثيتها، وان
المرجع فيه هو القرعة، وقد عقد له في الوسائل بابا خاصا في كتاب الميراث تحت عنوان:
" ان المولود إذا لم يكن له ما للرجال ولا ما للنساء حكم في ميراثه بالقرعة ".
وقد مر عند ذكر عمومات القرعة غير واحد منها، مثل رواية " عبد الله بن مسكان "
ومرسلة " ثعلبة بن ميمون " و " إسحاق المرادي " وهي تدل على هذا الحكم خصوصا وعلى

1 - رواه في الوسائل في المجلد الثالث في الباب 65 من كتاب العتق.
340

اعتبار القرعة عموما.
وفى نفس الباب بعض الروايات الخاصة يدل على الحكم في خصوص المورد مثل:
11 - ما رواه في الكافي، والفقيه، والمحاسن، عن فضيل بن يسار قال سألت أبا عبد الله
(ع) عن مولود ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء؟ قال يقرع الإمام (ع) أو المقرع، يكتب
على سهم عبد الله، وعلى سهم أمة الله، ثم يقول الإمام أو المقرع: اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم
الغيب والشهادة تحكم بين عبادك يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، بين لنا أمر هذا المولود
كيف يورث ما فرضت له في الكتاب ثم تطرح السهام (السهمان) في سهام مبهمة ثم تجال
السهام، على ما خرج ورث عليه (1)
هذا ولكن في العمل بهذه الروايات خلاف بين الأصحاب مذكور في كتاب الميراث
فقد ذهب الشيخ في الخلاف، وبعض آخر إلى أنه إذا لم يكن هناك امارة على أحد الامرين
يعمل بالقرعة بل ادعى الشيخ (قدس سره) الاجماع عليه، ولكنه كما ترى.
وذهب كثير من الأصحاب منهم المفيد والصدوقان والشيخ في النهاية وابن حمزة
وابن زهرة والمحقق الطوسي والشهيدان والعلامة وولده وغيرهم على ما تحكى عنهم، بل
هو المشهور، إلى أنه يعطى نصف ميراث الرجل ونصف ميراث المرأة وقد حكى الاجماع
عليه أيضا ويدل عليه غير واحد من الروايات.
وذهب بعض آخر كالمفيد والمرتضى فيما حكى عنهما (قدس سرهما) إلى وجوب عد
أضلاعه فإن استوى جنباه فهي امرأة وان اختلفا فهو ذكر ولكن مستندهم في ذلك ضعيف.
وكيف كان فالمسألة خلافية والمشهور عدم العمل بروايات القرعة هنا.
* * *
الطائفة السادسة
ما ورد في اشتباه حال الولد وانه من أي واحد من واقعوا بالشبهة مثل:

1 - رواه في الوسائل في كتاب الميراث في الباب 4
341

12 - ما رواه في التهذيب والفقيه عن معاوية بن عمار عن ابن عبد الله (ع) قال إذا
وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت فادعوا جميعا أقرع الوالي بينهم فمن قرع
كان الولد ولده ويرد قيمة الولد على صاحب الجارية الحديث (1)
13 - ما رواه الشيخ في التهذيب أيضا عن الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال إذا وقع
الحر والعبد والمشرك (والمشترك) على امرأة في طهر واحد وادعوا الولد أقرع بينهم و
كان الولد للذي يقرع (2)
14 - ما رواه الشيخ أيضا عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال قضى علي (ع)
في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد وذلك في الجاهلية قبل ان يظهر الاسلام فاقرع بينهم
فجعل الولد للذي قرع وجعل عليه ثلثي الدية للآخرين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله حتى
بدت نواجده قال: وما اعلم فيها شيئا الا ما قضى به علي (ع) (3)
15 - ما أرسله المفيد في " الارشاد " قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا إلى اليمن فيرفع
إليه رجلان بينهما جارية يملكان رقها على السواء، قد جهلا خطر (حظر) وطيها معا،
فوطئاها معا في طهر واحد، فحملت ووضعت غلاما، فقرع على الغلام باسميهما فخرجت
القرعة لأحدهما فالحق به الغلام والزمه نصف قيمته ان لو كان عبدا لشريكه، فبلغ رسول الله
صلى الله عليه وآله القضية فأمضاها وأقر الحكم بها في الاسلام (4)
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على هذا الحكم وقد مر في الروايات العامة أيضا
بعض ما يدل عليه.
ولا يخفى ان ما ورد فيه من اطلاق الحكم فيما إذا وقع رجال متعددون على امرأة
في طهر واحد اما محمول على ما إذا كان ذلك لشبهة حصلت لهم، أو لعدم الاطلاع على الحكم
كما كانت في الجاهلية أو لغير ذلك وفى نفس الروايات مضافا إلى القرائن الخارجية، ما يشهد

1 - رواه في الوسائل في كتاب القضاء في باب القرعة وفى الباب الآتي
2 و 3 و 4 - رواها في الوسائل في كتاب النكاح في أبواب نكاح العبيد والإماء في باب
" ان الشركاء في الجارية إذا وقعوا عليها في طهر واحد حكم بالقرعة في الحاق الولد ".
342

لهذا المعنى.
أو محمول على ما ذكروه في كتاب " النكاح " من أن الأمة المشتركة إذا وطأها أحد
الشركاء اثم ووجب تعزيره، لكن لا يعد زانيا فلا ينفى عنه الولد، بل يكون عاصيا ويلحق
به الولد وتكون الجارية أم ولد ويغرم حصة الشريك من الام والولد - ولعل الأقرب هو هذا
المعنى فإن لسان بعض هذه الروايات يأبى عن الحمل على الوطي بالشبهة.
وعلى كل حال فالرجوع إلى القرعة في المقام مشهور بين الأصحاب بل لم نجد فيه
مخالفا، الا ان هنا اشكالا في الزام من يلحق به الولد بالقرعة، بالغرامة للباقين، وهو انه
كيف يلزم بذلك مع أنهم مدعين للولد ولازم هذه الدعوى عدم استحقاقهم للقيمة اخذا
بمقتضى اقرارهم فهم غير مستحقين للقيمة لقاعدة اقرار العقلاء على أنفسهم.
والظاهر أن هذا الاشكال ألجأ بعضهم على حمل الغرامة في الروايات على غرامة
الام لأنها تصير أم ولد لمن لحق به الولد فعليه الغرامة للباقين.
وهذا الحمل عجيب فإنه مضافا إلى كونه منافيا لصريح بعض روايات الباب مثل
رواية معاوية بن عمار (1) المصرح فيها " قيمة الولد " لا يدفع الاشكال لجريان نفس
الاشكال في الام أيضا لأن كل واحد منهم يدعى انه أم ولد له فكيف يحل له اخذ سهمه
من قيمتها؟!
هذا ولكن قد يجاب عن الاشكال بوجهين آخرين:
أحدهما - ان هذه الاقرارات مسموعة إذا لم يكن هناك امارة تدل على بطلانها فإذا
دلت القرينة على الحاق الولد بواحد منهم ونفيه عن آخرين كان كما إذا علم بكون الولد ولدا
له وأمه أم ولد له (فح) يجب العمل بمقتضى الامارة وسقطت الاقرارات.
ثانيهما - ان المراد من ادعاء الولد هنا ليس ادعاء العلم بأنه من نطفته لعدم امكان
حصوله عادة لاحد بعد مواقعة الجميع لها في طهر واحد، بل المراد إرادة كل واحد اخذ

1 - وقد نقلناها تحت الرقم 12 فيما مر.
343

الولد والحاقه بنفسه، لأنه يحتمل انعقاده من نطفته، فإن وقوع مثل هذه الدعوى - لا سيما
بين عوام الناس - أمر شايع في أمثال المقام الذي يدور أمر شئ بين عدة منهم مع تساوى
الاحتمال بالنسبة إلى الجميع، فاذن لا يكون هناك اقرار من أحد منهم بكون الولد ولدا له
واقعا وأمه أم ولد كذلك وهو الوجه أقوى من سابقه وأوفق بمورد الروايات، وعلى كل حال
العدول عما ذكره الأصحاب في المسألة لمثل هذا الاشكال مما لا وجه له.
* * *
الطائفة السابعة
ما ورد في اشتباه الشاة الموطوئة وانها إذا اشتبهت استخرجت بالقرعة مثل ما يلي:
16 - ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن عيسى عن " الرجل " انه سئل عن
رجل نظر إلى راع نزا على شاة؟ قال إن عرفها ذبحها واحرقها وان لم يعرفها قسمها نصفين
ابدا حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها (1)
17 - ما رواه حسن بن علي بن شعبة في " تحف العقول " عن أبي الحسن الثالث (ع)
في جواب مسائل يحيى بن أكثم قال: واما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة فإن
عرفها ذبحها واحرقها وان لم يعرفها قسم الغنم نصفين وساهم بينهما فإذا وقع على أحد النصفين
فقد نجا النصف الآخر ثم يفرق النصف الآخر فلا يزال كذلك حتى يبقى شاتان فتقرع بينهما
فأيهما وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ونجا سائر الغنم. (2)
ولا يبعد أن يكون المراد بالرجل المروى عنه في الرواية الأولى أبا الحسن الثالث
(ع) كما في الرواية الأخيرة ومضمون الحديثين كألفاظهما قريب جدا فمن هنا يظن قويا اتحاد
الروايتين لاتحادهما في الراوي والمروى عنه والمضمون فتدبر.
وعلى كل حال الحكم بالقرعة في هذه المسألة معروف بين الأصحاب رضوان الله عليه

1 و 2 - رواهما في الوسائل في كتاب الأطعمة والأشربة من المجلد الثالث في أبواب الأطعمة
المحرمة في باب " تحريم البهيمة التي ينكحها الآدمي "
344

بل قال في الجواهر: " بلا خلاف فيه، للخبرين المنجبرين بذلك ".
وعلة الحاجة إلى الانجبار في حديث تحف العقول واضح من جهة ارساله. واما
في رواية الشيخ في التهذيب فلكون محمد بن عيسى - الظاهر كونه هو محمد بن عيسى بن
عبيد المعروف بالعبيدي - محلا للكلام بينهم، فقد وثقه بعضهم وأثنى عليه كمال الثناء، و
ضعفه بعض آخر وقال لا أثق بما يتفرد به - مضافا إلى عدم التصريح باسم المروى عنه فيه.
وقد عثرت بعد ما ذكرت على كلام جامع حول سند الحديث للعلامة المجلسي
(قدس سره) أحبينا ايراده لما فيه من التأييد لما نحن بصدده قال: في أواخر المجلد الرابع عشر
من بحار الأنوار في باب الأسباب العارضة المقتضية لتحريم الحيوان بعد ذكر حديث محمد
ابن عيسى ما هذا نصه:
" الظاهر أن الرجل أبو الحسن (ع) وهذا مختصر من الحديث الذي رويناه أولا
(أشار بذلك إلى مرسلة تحف العقول) ثم قال: وقال في المسالك: بمضمون الرواية عمل
الأصحاب مع أنها لا تخلو عن ضعف وارسال، لأن راويها محمد بن عيسى عن الرجل، و
محمد بن عيسى مشترك بين الأشعري الثقة واليقطيني وهو ضعيف، فإن كان المراد بالرجل
الكاظم (ع) كما هو الغالب فهي مع ضعفها بالاشتراك مرسلة لأن كلا الرجلين لم يدرك
الكاظم (ع) وان أريد به غيره كان مبهما كما هو مقتضى لفظه فهي مع ذلك مقطوعة (انتهى
كلام المسالك).
ثم قال المجلسي: وأقول: يرد عليه ان الظاهر أنه اليقطيني كما يظهر من الامارات
والشواهد الرجالية لكن الظاهر ثقته (وثاقته) والقدح في غير ثابت، وجل
الأصحاب يعدون حديثه صحيحا، وكون المراد بالرجل الكاظم (ع) غير معروف
بل الغالب التعبير بالرجل والغريم وأمثالهما عند شدة التقية بعد زمان الرضا (ع) وهنا
بقرينة الراوي يحتمل الجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) لكن الظاهر هو الهادي
345

بقرينة الرواية الأولى فظهر ان الخبر صحيح مع أنه لم يرده أحد من الأصحاب " انتهى (1)
وعلى كل حال قد عرفت ان أصل الحكم هنا مما لا غبار عليه لعدم نقل الخلاف عن
أحد منهم وانجبار الروايتين لو كانا ضعيفتين بعملهم.
ثم إنه لا يبعد أن يكون وجه اجراء القرعة فيها وجعل المورد من الأمور المشكلة
مع أن قاعدة الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة تقتضي الاجتناب عن الجميع، هو
ان ذبح الجميع واحراقها اما ضرر أو حرج، فإذا انتفى الاحتياط لذلك ولم يمكن
الرجوع إلى البراءة كما هو ظاهر فلم يبق هنا طريق إلى المجهول الا القرعة.
ثم لا يخفى عليك ان مورد هذه المسألة المتفق فيها ليس من حقوق الناس ولا من الأمور
المتنازع فيها ولا يحتاج إلى إقامة الدعوى والقضاء الشرعي - فما قد يقال من أن روايات
القرعة مخصوصة بباب القضاء والتنازع مما لا وجه له.
* * *
الطائفة الثامنة
ما ورد في طريق اجراء القرعة وكيفيتها وشرائطها مما يدل على مشروعية القرعة
في الجملة وهي روايات:
18 - ما رواه الشيخ في التهذيب عن حماد عمن ذكره عن أحدهما (ع) قال: القرعة
لا تكون الا للإمام (2)
وسيأتي انشاء الله ان هذا الشرط ليس على نحو الوجوب.
19 - ما رواه ابن طاووس في كتاب " أمان الاخطار " وفى الاستخارات نقلا عن كتاب
عمرو بن أبي المقدام عن أحدهما (ع) في المساهمة يكتب:
" بسم الله الرحمن الرحيم - اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة

1 - بحار الأنوار المجلد 13 ص 794
2 - رواه في الوسائل في كتاب القضاء في باب " القرعة " من المجلد الثالث
346

الرحمن الرحيم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أسئلك بحق محمد وآل محمد
ان تصلى على محمد وآل محمد، وان تخرج لي خير السهمين في ديني ودنياي وآخرتي
وعاقبة امرى في عاجل امرى آجله انك على كل شئ قدير، ما شاء الله لا قوة الا بالله
صلى الله على محمد وآله " - ثم تكتب ما تريد في الرقعتين وتكون الثالثة عقلا، ثم تجيل
السهام، فأيما خرجت عملت عليه، ولا تخالف، فمن خالف لم يصنع له، وان خرج العقل
رميت به (1)
وسيأتي الكلام إن شاء الله في استحباب هذا الدعاء - إلى غير ذلك.
* * *
الطائفة التاسعة
ما يدل على وقوع القرعة أو مشروعيتها في الأمم السالفة مما يستشم منها رائحة
الرضا بها وامضائها مثل ما يلي:
20 - ما رواه الصدوق في " الفقيه " و " الخصال " عن حريز عن أبي جعفر عليه السلام قال
أول من سوهم عليه مريم بنت عمران وهو قول الله عز وجل وما كن لديهم إذ يلقون أقلامهم
أيهم يكفل مريم، والسهام ستة - ثم استهموا في يونس لما ركب مع القوم فوقفت السفينة
في اللجة فاستهموا فوقع على يونس ثلث مرات قال فمضى يونس إلى صدر السفينة فإذا
الحوت فاتح فاه فرمى نفسه - ثم كان عند عبد المطلب تسعة بنين فنذر في العاشر ان
رزقه الله غلاما ان يذبحه فلما ولد عبد الله لم يكن يقدر ان يذبحه ورسول الله صلى الله عليه وآله
في صلبه، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبد الله فخرجت السهام على عبد الله،
فزاد عشرا فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشرا، فلما ان خرجت مأة خرجت
السهام على الإبل فقال عبد المطلب ما أنصفت (ظ) ربى فأعاد السهام ثلثا، فخرجت على
الإبل، فقال الان علمت أن ربى قد رضى فنحرها (2)

1 و 2 - رواه في الوسائل في كتاب القضاء في باب " القرعة " من المجلد الثالث.
347

وفى الرواية جهات من البحث:
الأولى - يظهر من سياق عبارة الإمام عليه السلام اجمالا ارتضائه بما نذر جده عبد المطلب
(ع) من ذبح ولده عبد الله فإنه لو كان ذلك أمرا منكرا كان من البعيد ذكره مع السكوت
عليه، مع انا نعلم بان هذا النذر غير ماض قطعا، لا في هذه الشريعة ولا في الشرايع السابقة،
لانكار العقل له، مضافا إلى ورود التصريح به عنهم عليهم السلام فقد روى الشيخ (قده) عن
عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل حلف ان ينحر ولده؟ قال
ذلك من خطوات الشيطان (1) ومن المعلوم انه لا فرق في ذلك بين الحلف والنذر بل الامر
في الحلف أوسع.
ويمكن ان يقال بان نذر عبد المطلب ذبح ولده كان بمعناه الأعم من ذبحه أو أداء
ديته في سبيل الله، ومن المعلوم ان المنذور إذا كان كليا له مصاديق محللة ومحرمة جاز
النذر فتدبر.
أو يقال بان هذا النذر وان لم يكن منعقدا من أصل ولكن مقتضى تعظيم اسم الله
هو ان يفدى عنه بشئ اما ثمن ديته أو بشئ آخر ويشهد له ما رواه الشيخ أيضا عن السكوني
عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام): انه اتاه رجل فقال إني نذرت ان انحر ولدى عند
مقام إبراهيم عليه السلام ان فعلت كذا وكذا ففعلته فقال عليه السلام: اذبح كبشا سمينا تتصدق بلحمه
على المساكين (2)
الثانية - ان ظاهر الرواية كون مريم أول من سوهم عليه واقترع في حقه، و
كون مساهمة يونس بعده، مع أن يونس بن متى (ع) - كما تشهد به التواريخ - كان قبل
مريم بمئات من السنتين، ففي بعض التواريخ انه كان قبل ميلاد عيسى عليه السلام به 825 سنة
وفى بعضها الاخر انه كان قبله بأكثر من ذلك، كيف وهو من أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا

1 و 2 - رواه في الوسائل في أواخر كتاب النذر والعهد في باب " من نذر ان ينحر ولده
لم ينعقد، من المجلد الثالث.
348

قبل عيسى عليه السلام.
وغاية ما يمكن ان يقال في حل هذا الاشكال ان المراد بالأولية، تقدم ذكرها
في القرآن الكريم فإن قضية مساهمة مريم واردة في سورة " آل عمران " ومساهمة يونس
في سورة " الصافات " فتأمل.
الثالثة - الظاهر من قضية نذر عبد المطلب شيخ الحجاز ان القرعة التي جعلها طريقا
لحل مشكله ومجهوله كانت في الشبهات الحكمية، فإنه لم يكن هناك موضوع خارجي
مشتبه أراد كشفه بها، بل المجهول كان هو رضا الرب جل وعلى، ولا شك انه من سنخ
الشبهات الحكمية، مع أنه لا اشكال في عدم جواز الاتكال على القرعة في الأحكام الشرعية
ولم يقل أحد بها، بل الكلام في حدود جريانها في الموضوعات فقط.
ويمكن الجواب عنه بان ذلك منه إنما كان من جهة عدم امكان كشف مرضات
ربه في تلك القضية الخاصة بغير هذا الطريق وهذا بخلاف ما بأيدينا من الأحكام فإن
أمرها من ناحية الأدلة الخاصة أو العامة أو الأصول العملية الجارية فيها ظاهر واضح.
والانصاف ان قضية نذر عبد المطلب كانت قضية خاصة واردة في واقعة خاصة مبهمة
من جهات شتى ولكن لا يضرنا ابهامها، لا سيما مع عدم ظهور امضائها بتمامها في الاسلام،
بل لعله إشارة إلى نقل تاريخي يدل على أن القرعة كانت قبل الاسلام في الأمم السالفة،
أو في العرب والامر في ذلك سهل.
21 - ما رواه المجلسي في البحار عن الأمالي عن ابن عباس في قصة يوسف بعد
مجئ اخوته إليه وهم له منكرون فقال لهم يوسف:
" انى احبس منكم واحدا يكون عندي وارجعوا إلى أبيكم واقرأوه منى السلام وقولوا
له يرسل إلى بابنه الذي زعمتم انه حسبه عنده ليخبرني عن حزنه ما الذي أحزنه؟ وعن سرعة
الشيب إليه قبل أوان مشيبه، وعن بكائه وذهاب بصره، فلما قال هذا اقترعوا بينهم فخرجت
349

القرعة على شمعون فامر به فحبس الحديث (1)
وهذا الحديث وان لم يكن مرويا الا عن ابن عباس ولا يتصل سنده بالمعصوم
الا ان الظاهر أن ابن عباس وهو حبر الأمة اخذه من النبي صلى الله عليه وآله أو الوصي صلى الله عليه وآله وهو تلميذه
أو من منبع آخر يعبأ به من الكتب، وهو دليل على أن الاقتراع كان معمولا في ذاك العصر،
لترجيح ما لا ترجيح فيه واقعا دفعا للفساد والنزاع، وكان ذلك بمرئى ومسمع من يوسف
بعد ما اتاه الله علما وحكما.
22 - ما رواه هو (قدس سره) في استعلام موسى بن عمران (ع) النمام الذي كان في
أصحابه بالقرعة بتعليم الله إياه، عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (ع) قال:
" ان الله أوحى إلى موسى (ع) ان بعض أصحابك ينم عليك فأحضره، فقال: يا رب لا اعرفه "
فأخبرني به حتى اعرفه، فقال يا موسى عبت عليك النميمة وتكلفني ان أكون نماما؟ قال: يا رب
فكيف اصنع قال الله تعالى فرق أصحابك عشرة عشرة. ثم تقرع بينهم فإن السهم يقع على العشرة
التي هو فيهم، ثم تفرقهم وتقرع بينهم فإن السهم يقع عليه قال فلما رأى الرجل ان السهام
تقرع قام فقال يا رسول الله انا صاحبك، لا والله لا أعود ابدا " (2)
لا شك ان هذه الرواية تشير إلى قضية وردت في واقعة خاصة كانت لها مساس ببعض
نواحي حياة موسى عليه السلام ولم يكن موضوعا لحكم شرعي خاص، ولو كانت لم يكن الرجوع
إلى القرعة من هذه الجهة، وهو دليل على كون القرعة طريقا قطعيا لكشف الواقع المجهول
ومن الواضح انه لا يتعدى منها إلى غيرها.
* * *
الطائفة العاشرة
ما ورد في عمل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله بالقرعة في غير مورد من القضايا التي حدثت في حياته

1 - رواه في المجلد الخامس من بحار الأنوار ص 180
2 - رواه في المجلد الخامس من البحار ص 308
350

مما كانت مظنة للتنازع ومثار للبغضاء والفساد مثل ما يلي:
23 - ما رواه في البحار في قصة افك عايشة عن الزهري عن عروة بن الزبير وسعيد بن
المسيب وغير هما عن عايشة انها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه
فايتهن خرج اسمها خرج بها الحديث (1)
ودلالتها، مع قطع النظر عن سندها، واضحة على استمرار سيرته في غزواته و
أسفاره باختيار بعض نسائه بالقرعة.
24 - ما رواه في البحار أيضا عن ارشاد المفيد (قدس سره) في باب غزوة ذات السلاسل
من أنه صلى الله عليه وآله أقرع بين أصحاب الصفة (بعد ما قام جماعة منهم وقالوا نحن نخرج إلى أعداء الله)
فخرجت القرعة على ثمانين رجلا منهم ومن غير هم الحديث (2)
25 - ما رواه هو أيضا في باب غزوة حنين من أنه صلى الله عليه وآله لما كلمته أخته الرضاعي
" شيماء " بنت حليمة السعدية في الغنائم التي اخذها المسلمون قال: " اما نصيبي ونصيب
بنى عبد المطلب فهو لك واما ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم، فلما صلوا الظهر قامت
فتكلمت وتكلموا فوهب لها الناس أجمعون الا الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين، فإنهما
أبيا ان يهبا وقالوا يا رسول الله ان هؤلاء قد أصابوا من نسائنا فنحن نصيب من نسائهم مثل
ما أصابوا - فاقرع رسول الله بينهم إلى أن قال: فأصاب أحدهما خادما لبنى عقيل و
أصاب الاخر خادما لبنى نمير فلما رأيا ذلك وهبا ما منعا " الخ (3)
وفى هذا الحديث دلالة على جواز الرجوع إلى القرعة عند قسمة الغنائم وشبهها.
* * *
هذا تمام الكلام في " الأحاديث العامة " الدالة على حكم القرعة بعمومها أو اطلاقها،

1 - رواه في مجلد السادس منه ص 551
2 - رواه في المجلد السادس ص 590
3 - رواه في المجلد السادس من البحار ص 615
351

و " الخاصة " الواردة في قضايا معينة معلومة، يستأنس منها لاثباتها اجمالا، وقد ذكرنا
منها عشر طوائف وقد بلغ عدد الأحاديث التي ذكرناها سبعة وثلاثين حديثا بعد حذف
المكررات منها، ولعل المتتبع يعثر على أحاديث آخر في طي أبواب أخرى.
وقد تحصل من جميعها ان أصل الحكم والعمل به في هذه الشريعة بل الشرايع السابقة
مما لا شك فيه على اجماله وسنبحث في تفاصيله إن شاء الله تعالى.
352

الثالث - بناء العقلاء
على القرعة في أمورهم المشكلة
قد جرت عادة العقلاء من جميع الأقوام من أرباب المذاهب وغير هم على الرجوع
إلى القرعة عند التشاح والتنازع أو ما يكون مظنة له في الحقوق الدائرة بين افراد مختلفة،
أو من الأمور التي لابد لهم من فعلها ولها طرق متعددة يرغب كل شخص في نوع منها، ولا مرجح
هناك، ويكون ابقاء الامر بحاله مثارا للتنازع والبغضاء.
ففي ذلك كله يتوسلون إلى القرعة ويرونها طريقا وحيدا لحل هذه المشكلات
لا محيص عنها.
ونشير هنا إلى بعض ما تداول فيه القرعة بينهم توضيحا لهذا الكلام:
منها - قسمة الأموال المشتركة بين شخصين أو اشخاص، سواء حصلت من ناحية
التجارة أو الإرث أو غير ذلك إذا لم يتراضوا بنحو خاص من القسمة وكان هناك أموال
متشاكلة في القيمة مختلفة من حيث الرغبات، فإنه لا شك في رجوعهم إلى القرعة
في مثلها.
وهكذا في تقسيم البيوت أو الدور أو قطعات من الأرض المتشابهة بين اشخاص متعددة
التي يكون ايكال الامر إلى اختيارهم فيها مظنة للتشاح ووقوع الخلف والنزاع.
وكذلك تقسيم مياه الأنهار المشتركة بين الفلاحين إذا لم يكن هناك مقياسا يرجح
به بعضهم على بعض، ففي كل ذلك يرجع إلى القرعة.
353

ومنها - ما إذا كان وظيفة خاصة يكفي في القيام بها عدد محصورون وكان هناك
جمع كثيرون صالحون له وكان تخصيص بعضهم بها دون بعض، تحميلا بغير دليل ومثارا
للفتنة، (فح) يرجع إلى القرعة، وكذلك حال الموظفين من العسكريين وغيرهم بالنسبة
إلى بعثهم إلى أمكنة مختلفة وغيرها إذا لم يكن هناك معين أو مرجح.
ومنها - إذا كان هناك أمر يجب قيام كل واحد به، ولكن تدريجا وكان تقديم بعض
وتأخير آخر بلا دليل ظلما واجحافا وجلبا للضغائن، ولم يكن هناك طريق آخر
يرجع إليه فلا شك (ح) في رجوعهم إلى القرعة... إلى غير ذلك من اشباهه.
وبالجملة لا شك في اعتبار القرعة بين العقلاء اجمالا ورجوعهم إليها وفصل النزاع
أو ما يمكن ان يقع النزاع فيه بها.
والظاهر أن هذا ليس أمرا مستحدثا في عرفنا، بل كان متداولا بينهم من قديم الأيام، والظاهر أن
رجوع أهل السفينة إليها في تعيين من يلقى في البحر - في قضية يونس - وكذلك رجوع
عباد بني إسرائيل إليها، في أمر مريم لم يكن استنادا إلى حكم شرعي، وضع في شرائعهم
بل استنادا إلى حكم عقلائي كان متداولا بينهم من قديم الأزمنة، وهكذا الكلام في
رجوع شيخ البطحاء عبد المطلب إليها في تعيين فداء ولده عبد الله والظاهر أنه أيضا من
هذا الباب.
كما أنه لا شك في أن رجوعهم إليها ليس لكشفها عن الواقع، وإرائتها شيئا مجهولا
لهم، فإنه لا كاشفية فيها عندهم أصلا، وإنما يعتبرونها للفرار عن الترجيح بالميول والأهواء
وما يكون مثارا للفتنة والبغضاء، لكونه ترجيحا بلا مرجح.
* * *
354

الرابع - " الاجماع "
ويمكن التمسك لاثبات حجية القرعة بالاجماع واتفاق العلماء عليها في أبواب كثيرة
من الفقه يظهر لمن راجعها، وقد أشرنا إلى بعضها عند نقل أحاديث الباب وعملهم بها.
وناهيك في ذلك ما ذكره المحقق النراقي في المقام حيث قال: " اما الاجماع فثبوته
في مشروعية القرعة وكونها مرجعا للتميز والمعرفة في الجملة مما لا شك فيه، ولا شبهة
تعتريه، كما يظهر لكل من تتبع كلمات المتقدمين والمتأخرين في كثير من أبواب الفقه
فإنه يراهم مجتمعين على العمل بها وبناء الامر عليها طرا ". (1)
وقال المحقق الآشتياني في كلام له في المقام: " اما أصل مشروعية القرعة فهو
مما لا خلاف فيه بين المسلمين، بل اجماعهم عليه، بحيث لا يرتاب فيه ذو مسكة. ويكفى
في القطع بتحقق الاجماع ملاحظة الاجماعات المتواترة المنقولة في ذلك من زمان الشيخين
إلى زماننا هذا، كما هو واضح لمن راجع كلماتهم بل يمكن دعوى الضرورة الفقهائية
عليه) (2)
هذا ولكن يمكن الايراد على جعل الاجماع دليلا مستقلا في المسألة، بناء على
ما هو المعروف بين المتأخرين من اعتبار الاجماع من جهة الكشف عن قوم المعصوم عليه السلام
فإن الظاهر أن مستند المجمعين كلهم أو جلهم هو الأدلة الثلاثة السابقة ولا سيما الاخبار التي
هي عمدة أدلة المسألة، ولا أقل من احتمال ذلك، ومعه لا يستفاد من الاجماع أزيد مما
استفيد منها.

1 - العوائد ص 226
2 - بحر الفوائد ص 218 من الاستصحاب
355

* * *
هذا تمام الكلام في الأدلة التي أقاموها أو يمكن اقامتها لاثبات هذه القاعدة وقد عرفت
ان مجموعها كافية في اثباتها وتحكيم أساسها، فلنرجع إلى بيان مفادها وما يستفاد منها عموما
أو خصوصا، وحدودها وشرائطها.
356

الثاني - في مفاد القاعدة وحدودها
لقد تحصل من جميع ما ذكرنا من الأدلة ان مشروعية القرعة على اجمالها مما
لا شك فيها، وإنما الكلام في أمور:
1 - هل هي عامة لكل أمر مشكل - وما المراد من المشكل؟ أو يختص ببعض
الأبواب؟ وانها هل تختص بأبواب المنازعات وتزاحم الحقوق أو تجرى في غيرها أيضا.
2 - انه هل يشترط في العمل بها في كل مورد عمل الأصحاب بها فيه كما قيل أولا؟
3 - انها من الامارات، أو من الأصول العملية، أو فيها تفصيل؟
4 - نسبتها مع غيرها من الامارات والأصول.
فنقول - ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والهداية - اما الأول فالحق انه ليس
في عناوين الأدلة من عنوان " المشكل " عين ولا اثر، وإنما المذكور فيها عنوان " كل
مجهول " كما في رواية محمد بن حكيم عن أبي الحسن موسى عليه السلام وكما في مرسلة الشيخ
في " النهاية " عنه عليه السلام وعن غيره من آبائه وأبنائه (عليهم السلام) - قال المحقق النراقي
(قده) ان الرواية الأولى حكى الاجماع على ثبوتها وعلى روايتها.
وقد ورد في مرسلة فقه الرضا - بناءا على كونها رواية عن المعصوم - " وكل
ما لا يتهيأ فيه الاشهاد عليه ".
والظاهر أن المراد بالمجهول هو المجهول المطلق، أعني ما لا طريق إلى معرفة
حاله لا من الأدلة القطعية ولا الظنية، ولا من الأصول العملية بان لا يكون مجراها أو كان
ولكن كان في العمل بها فيه محذور، كما في مورد الغنم الموطوئة المشتبهة في قطيع
غنم، فإن الأصل العملي فيها وإن كان هو الاحتياط بالاجتناب عن الجميع الا انه مستلزم
357

للعسر والحرج والضرر الكثير فألغاه الشارع، فصار مجهولا مطلقا، فامر الرجوع فيها
إلى القرعة.
وعلى هذا كل ما كان حاله معلوما بأحد الطريق والموازين الشرعية، قطعية كانت
أو ظنية، امارة كانت أو أصلا، لم يكن داخلا تحت عنوان " المجهول " الوارد في
اخبار الباب.
ويؤيد ذلك جدا ان مجرى القرعة عند العقلاء أيضا ما لا يمكن حله بشئ من -
الطرق والأصول الدائرة بينهم، بحيث كان ترجيح بعض الاحتمالات على بعض من قبيل -
الترجيح بلا مرجح، وقد عرفت ان الشارع المقدس امضى طريقتهم وان أضاف إليها
بعض ما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله.
ثم إنه لا اشكال ولا كلام في اختصاص القاعدة بالشبهات الموضوعية وعدم جريانها
عند الشك في الأحكام الكلية الشرعية، لاختصاصها عند العقلاء والعرف بها، كما أنه
ليس في شئ من الموارد الخاصة التي ورد في الشرع اجراء القرعة فيها غير الشبهات -
الموضوعية كما عرفت، نعم الظاهر من قضية عبد المطلب واستكشاف مقدار فداء ولده
بالقرعة جريانها في الشبهات الحكمية أحيانا ولكن لابد من توجيهها، بما ذكرناه عند
نقل روايات الباب عند ذكر هذا الحديث، أو بغيره.
* * *
ثم إن الظاهر أنها لا تختص بأبواب المنازعات وتنازع الحقوق وإن كان أكثر
مواردها من هذا القبيل، حتى ظن بعضهم انها من مدارك " القضاء الشرعي " لا غير، وانه
لا يعتمد على القرعة في غيره، وذلك لما رآه من ورود جل رواياتها في هذا الباب.
ولكن الانصاف ان هذا القول ضعيف جدا (ومثله في الضعف ما حكاه في القواعد
عن بعض العامة ان مورد القرعة هو خصوص ما يجوز التراضي عليه) لأنه يرد عليه:
أولا - ان فيها ما لا ربط له بباب التنازع والقضاء، وذلك مثل ما نقلناها
358

في الطائفة السابعة من الأخبار الخاصة الواردة في اشتباه " الشاة الموطوئة " وانها إذا اشتبهت
استخرجت بالقرعة. (1)
وقد عرفت ان الأصحاب عملوا بها حتى قال في الجواهر: " انه لا خلاف في هذا
الحكم، للخبرين المنجبرين ".
ومن الواضح ان مسألة اشتباه الشاة الموطوئة بغيرها ليست من أبواب المنازعات
المحتاجة إلى القضاء الشرعي بل هي من الأمور المجهولة المطلقة، وقد عرفت ان اجراء
القرعة فيها وجعلها من الأمور المشكلة، (بتعبير القوم) مع أن الحكم في أمثالها من الشبهات
المحصورة هو الاحتياط ولا فرق ظاهرا بين المقام وبين غيرها من الشبهات المحصورة
التي نحكم فيها بالاحتياط بمقتضى العقل والنقل، لعله من جهة ان الاحتياط بذبح
جميع الشياة الواقعة في أطراف الشبهة ضرر أو حرج عظيم على صاحبها، وارتكاب الجميع
وعدم الاحتياط في شئ منها مخالف للعلم الاجمالي.
فإذا انتفى طريق " الاحتياط " و " البراءة " وكذا " الاستصحاب " (كما هو ظاهر)
انحصر الطريق في التخيير، ولكن الشارع المقدس الغى التخيير هنا، لأن القرعة وان
لم تكن امارة على نحو سائر الأمارات الشرعية والعقلائية، الا ان فيها نوعا من الكاشفية
(كما يظهر من اخبارها وسيأتي شرحه إن شاء الله) وهي توجب ترجيح أحد الطرفين
على الاخر فتكون مانعا عن التخيير، مضافا إلى ما فيها من رفع الحيرة وسكون النفس
مما ليس في الحكم بالتخيير كما لا يخفى.
اما القول بجريانها في المقام تعبدا، واختصاصها بمسألة الشاة الموطوئة وعدم
جريانها في غيرها من أشباهها من الأمور المشكلة كما ترى، لعدم خصوصية فيه.

1 - راجع الصفحة 344.
359

ثانيا - ان الروايات الخاصة الواردة في غير واحد من الأبواب، وان كانت واردة
في موارد تزاحم الحقوق، الا انه ليس فيها من التنازع عين ولا اثر، مثل ما ورد فيمن
قال أول مملوك أملكه فهو حر، فورث سبعة، قال: يقرع بينهم ويعتق الذي
قرع. (1)
فإن اطلاقها يشمل ما إذا لم يطلع العبيد على نذره ولم يقع التشاح بينهم ابدا
بل لعلها ظاهرة في خصوص هذا الفرض، فأراد السائل استكشاف حكمه فيما بينه وبين الله.
ومثلها غيرها.
وكذا ما ورد في باب الوصية بعتق بعض المماليك وانه يستخرج بالقرعة (2)
فإن اطلاقها أيضا يشمل ما إذا لم يقع التنازع بينهم أصلا لو لم نقل بظهورها في ذلك
فيكون السؤال لاستكشاف الحكم الشرعي للمسألة لا حكمه في مقام القضاء.
فهذه الروايات وشبهها وان كانت واردة في أبواب تزاحم الحقوق المحتملة الا
ان مجرد وقوع التزاحم في شئ لا يلازم التنازع والتشاح فيه، حتى يحتاج إلى القضاء،
وليس دائما مظنة له، فهي أيضا دليل على عدم اختصاص القرعة بأبواب القضاء.
لا سيما ومورد هذه الطايفة من الروايات يكون مما لا واقع له مجهول، بل هناك
حق متساوي النسبة إلى الجميع، ولا يمكن اعطائه الا واحدا منهم ولكن لما كان ايكال
الامر إلى التخيير مظنة للاجحاف وترجيح بلا مرجح أو ترجيح بالميول والأهواء أوكل
الامر فيها إلى القرعة التي لا يكون فيها شئ من ذلك.
ثالثا - اطلاق بعض الأخبار العامة غير الواردة في أبواب التنازع أيضا دليل على

1 - راجع الصفحة 338
2 - راجع الصفحة 339
360

عدم اختصاص القرعة بباب القضاء مثل قوله: " كل مجهول ففيه القرعة " فإن ظاهره يشمل
المجهولات كلها وقع فيها التشاح أم لا، بل الروايات العامة التي وقعت عقيب السؤال
عن بعض مسائل التنازع أيضا ظاهره في ذلك، فإن المورد لا يكون مخصصا فتدبر.
رابعا - الظاهر أن بناء العقلاء عليها أيضا لا يختص بأبواب المنازعات بل يعتمدون
عليها في مطلق تزاحم الحقوق وان لم يكن مظنة للتنازع فتأمل. بالجملة القول
باختصاص هذه القاعدة بها مع أنه مخالف لظواهر كلمات الأصحاب واطلاقات روايات
الباب، بل صريح بعضها. لا دليل عليه يعتد به كما عرفت.
361

الثالث - في شرائط جريانها
قد يقال إن عمومات القرعة لا يجوز العمل بها الا فيما عمل به الأصحاب، قال
المحدث الخبير الشيخ الحر (قدس سره) في " الفصول المهمة " على ما حكى عنه، بعد نقل
بعض روايات القرعة وعموماتها: " ومعلوم ان هذا العموم له مخصصات كثيرة " وزاد
بعضهم انه لو لم يكن كذلك لجاز لنا ترجيح الحكم في المسائل الشرعية بالقرعة، وقال
العلامة الأنصاري (قدس سره): " ان أدلة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل -
الأصحاب أو جماعة منهم ".
وكان الوجه فيه انه لا يمكن العمل بظاهر عموماتها في كل مجهول، حتى مع
وجود امارات أو أصول عملية، من البراءة والاستصحاب وغير هما، فإنه لم يقل به أحد.
فلابد من تخصيصها باخراج جميع هذه الموارد منها.
وان شئت قلت إنها مخصصة بتخصيصات كثيرة بلغت حد تخصيص الأكثر، مع أن
التخصيص كذلك أمر مستهجن غير جائز، فهذا يكشف عن وجود قرينة أو مخصص متصل
معها وصلت إلى أصحابنا الأقدمين ولم تصل إلينا، ولما كان عنوان المخصص مبهما عندنا و
القرينة مجهولة لنا لم يجز العمل بعموماتها لأن ابهامها يسرى إليها (كما ذكر في محله)
(فح) لا يجوز العمل بها الا فيما عمل الأصحاب به. هذا ويرد عليه:
أولا - ان احتمال وجود قرائن عندهم غير ما بأيدينا وغير ما أودعوه في كتبهم، مما
يرشدهم إلى مغزى هذه العمومات، ضعيف جدا، ولو كان كذلك فلماذا أهملوا ذكرها في
كتبهم المعدة للرواية؟ ولماذا لم يستندوا إليها في كتبهم الفقهية الاستدلالية بل استندوا
إلى نفس هذه الروايات التي بأيدينا؟ وهل هذا الا اغراء بالجهل في مورد يجب الاهتمام به
362

فحاشاهم ثم حاشاهم.
ثانيا - قد عرفت سابقا ان المراد من " المجهول " الوارد في عمومات الباب، بقرينة
شأن ورود رواياتها، وما ثبت عند العقلاء في أمر القرعة، ليس كل مشكوك بل ما ليس طريق
إلى اثباته، لا من الأمارات الشرعية والعقلائية ولا من الأصول العملية العقلية والنقلية (فح)
لا يرد عليها تخصيصات كثيرة كما هو ظاهر.
وكان منشأ توهم كثرة التخصيص هو ما يظهر من عنوان " المجهول " بادي الامر،
ولكن بعد ما عرفت هنا وفيما سبق في تحقيق المراد منه، لا يبقى وجه لهذا التوهم فراجع
وتدبر.
والحاصل ان موارد وجود الامارات، والأصول العملية خارجة عن تحت عمومات
القرعة بالتخصص لا بالتخصيص فإنها ليس من المجهول بما عرفت له من المعنى.
* * *
هل القرعة من الامارات أو الأصول العملية؟
ظاهر كثير من رواياتها انها من الامارات بل يظهر من بعضها انها امارة قطعية في
مواردها لا تخطى عن الواقع المجهول ابدا، مثل ما روى عنه صلى الله عليه وآله: ليس من قوم تقارعوا
ثم فوضوا أمرهم إلى الله الا خرج سهم المحق (1)
وما روى في مناظرة الطيار وزرارة الدال على أن القرعة على طبق رأى زرارة فقيه
أهل البيت (ع) كانت كاشفة عن الواقع كشفا دائما لا يقع التخلف فيه، ولذا لو احتمل كذب
المتداعيين جميعا لابد من القاء سهم لهذا وسهم لذاك وسهم مبيح (2)
والظاهر أن تفويض الامر إلى الله والدعاء عندها أيضا لا يكون الا لكشف الواقع
المجهول.

(1) راجع الصفحة 329.
(2) راجع الصفحة 331.
363

ويؤيده ما ورد في قضية شيخ البطحاء عبد المطلب وقرعته لكشف مرضات ربه بالفداء
عن عبد الله (1).
وما ورد في تفسير العياشي في حديث يونس من قوله: " فجرت السنة ان السهام إذا
كانت ثلث مرات لا تخطى " (2).
وما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام ما من قوم فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل والقوا
سهامهم الا خرج السهم الأصوب " (3).
هذا ولكن يظهر من بعض اخبارها ان حجيتها ليست بملاك كشفها عن الواقع
المجهول بل بملاك انها " أقرب إلى العدالة " وابعد من العمل بالميول والأهواء في موارد
جريانها، مثل ما ورد في رواية ابن مسكان عن الصادق (ع): " وأي قضية اعدل من قضية يجال
عليها بالسهام يقول الله فساهم فكان من المدحضين " (4).
ويؤيد هذا استشهاده بقضية يونس، بناءا على كفاية القاء واحد غير معين منهم عند
الحوت لدفع شره فتأمل.
ويؤيده أيضا ما ورد في غير واحد من اخبارها من قوله " كل ما حكم الله فليس بمخطئ "
في مقام الجواب عن قول السائل: " ان القرعة تخطى وتصيب " بناءا على أن المراد منه عدم
الخطاء في الحكم بحجية القرعة، وانه إذا حكم الله سبحانه بشئ ففيه مصلحة لا محالة، فخطاء
القرعة عن الواقع أحيانا لا يمنع عن صحة هذا الحكم واشتماله على المصلحة، واما لو قلنا إن
المراد منه عدم خطأ القرعة عن الواقع المجهول كان دليلا آخر على كونها امارة قطعية.
هذا ويمكن ان يقال إنه لا منافاة بين الملاكين ولا مانع من كون حجيتها بكليهما:

(1) راجع الصفحة 347.
(2) راجع الصفحة 333.
(3) راجع الصفحة 334.
(4) راجع الصفحة 334
364

ملاك الإصابة وملاك العدالة، واما احمل الأول على ما له واقع ثابت مجهول، والثاني على ما
ليس كذلك فيدفعه الاستشهاد بملاك العدالة في ذيل مسألة خنثى المشكل وكيفية ميراثه (1)
بناءا على عدم خروج الخنثى عن الجنسين في الواقع كما هو المشهور.
والانصاف انه لا يمكن رفع اليد عن تلك الروايات الكثيرة الظاهرة في كونها
امارة على الواقع اما دائما أو غالبا ولا مانع منه عقلا إذا انحصر الطريق فيها وفوض الامر
إلى الله تبارك وتعالى، العالم بخفيات الأمور اللطيف بعباده ولقد جربنا هذا الامر في باب
الاستخارة، التي هي من القرعة على ما اختاره بعضهم وسيأتي الإشارة إليه إن شاء الله في آخر
المسألة، ورأينا منها عجائب جمة في إصابة الواقع وكشف المجهول إذا استعملت في محلها و
فوض الامر إلى الله وقرنت بالاخلاص والابتهال.
ثم اعلم أن كون القرعة امارة على الواقع وكاشفا عنه دائما أو غالبا لا يوجب تقدمها
على أصول العملية ولا معارضتها لسائر الامارات، وذلك لما عرفت من أن اماريتها إنما هي
فرض خاص ومنحصر بالأمور المجهولة المشكلة التي لا طريق إلى حلها لا من الامارات ولا
من الأصول العملية.
وبعبارة أخرى موضوعها مختص بموارد فقد الأدلة والأصول الاخر، وعليه لا تعارض
شيئا منها ولا يقدم عليها بل إنما تجرى في موارد فقدها.
ثم إن من المعلوم ان الكلام في اماريتها وعدمها إنما هو في خصوص ماله واقع
ثابت مجهول، واما ما لبس كذلك من موارد تزاحم الحقوق أو المنازعات التي يرجع فيها
إلى القرعة كما في قضية زكريا وتشاح أحبار بني إسرائيل في كفالة مريم، وكما في قضية
يونس على احتمال مضى ذكره، وكذلك فيمن نذر أو أوصى بعتق أول مملوك له فملك سبعة
في زمان واحد، وأشباهها، فلا موقع لهذا النزاع فيها كما هو ظاهر.
فالرجوع إليها (ح) إنما يكون بملاك أقر بيتها إلى العدالة وأبعديتها عن الترجيح بلا مرجح

(1) راجع الصفحة 334.
365

الذي يكون منشأ للتشاح والبغضاء غالبا.
* * *
هل تختص القرعة بالإمام أو نائبه؟
بقي هنا شئ وهو ان اجراء القرعة هل يجوز لكل أحد، أو يختص بحكام الشرع
أو خصوص الإمام (ع)؟
اما الأخير فالظاهر أنه لا يقول به أحد، فإن لازمه تعطيل القرعة بتا عند عدم حضوره
(ع) وكلمات الأصحاب متفقة على خلافه، فهم يعتمدون عليها في كثير من المسائل الفقهية، و
كتبهم مشحونة بذلك.
واما الثاني فقد ذهب إليه بعضهم كالمحقق النراقي (قده) في عوائده، فقال باختصاصها
به (ع) أو بنائبه الخاص والعام، لعموم أدلة النيابة عنه (ع) الا أنه قال. ويستثنى منه ما
خرج بالدليل كمسألة الشاة الموطوئة.
وفصل المحدث الكاشاني (قدس سره) فيما حكى عنه من كتابه " الوافي " بين ما كان
له واقع ثابت مجهول فيختص بالإمام (ع) وما ليس كذلك فهو عام.
وما افاده مع أنه لا دليل عليه مخالف أيضا لكلمات الأصحاب وفتاواهم، لأنا نراهم
معتمدين عليها عند عدم حضوره (ع) فيما له واقع مجهول وما ليس له على حد سواء. هذا
بحسب الأقوال.
واما الروايات الواردة في القرعة فألسنتها مختلفة: يظهر من بعضها اختصاصها
بالإمام (ع) مثل رواية ثعلبة عن أبي عبد الله (ع) قال سئل عن مولود ليس بذكر ولا أنثى
ليس له الا دبر كيف يورث قال يجلس الإمام ويجلس عنده ناس من المسلمين فيدعون الله و
يجال السهام عليه أي ميراث يورثه أميراث الذكر أو ميراث الأنثى؟ فأي ذلك خرج عليه
ورثه (الحديث).
وما في مرسلة حماد عن أحدهما (ع): القرعة لا تكون الا للإمام (1).

(1) راجع الصفحة 346
366

وما في رواية يونس قال: في رجل له عدة مماليك فقال أيكم علمني آية من
كتاب الله فهو حر، فعلمه واحد منهم، ثم مات المولى ولم يدر أيهم الذي علمه؟ قال يستخرج
بالقرعة؟ قال لا يستخرجه الا الإمام لأن له على القرعة كلاما ودعاء الا يعلمه غيره (1)
وظاهر هذه الروايات لا سيما الأخيرتين اختصاصها بالإمام (ع).
ويظهر من بعضها الاخر كونها من وظائف الوالي، مثل ما في مصححة معاوية بن عمار
عن أبي عبد الله (ع) قال إن أوطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادعوه جميعا،
أقرع الوالي بينهم فمن قرع كان الولد ولده الحديث (2).
ويظهر من طائفة ثالثة منها ان أمرها بيد الإمام أو المقرع (أي شخص كان) مثل ما
رواه الفضيل قال سئلت أبا عبد الله (ع) عن مولود ليس له ما للرحال ولا له ما للنساء؟ قال
يقرع الإمام أو المقرع، يكتب على سهم عبد الله وعلى سهم أمة الله ثم يقول الإمام أو المقرع:
اللهم... الحديث (3).
وكثير منها مطلقة لا يختص بالإمام أو غيره أو وقع التصريح فيها بعنوان " القوم "، كما
يظهر لمن راجع الأحاديث السابقة.
وظاهر روايات الشاة الموطوئة ان المقرع هو صاحب الشياة قال: " ان عرفها ذبحها و
احرقها وان لم يعرفها قسمها نصفين " (الحديث) (4).
والانصاف ان اختلاف هذه التعابير لا يدل على اختلاف في الحكم فإن غالب موارد
جريانها هو موارد التنازع المحتاجة إلى القضاء الشرعي ومن المعلوم ان أمرها (ح) إلى الإمام (ع)
أو من هو منصوب من قبله عموما أو خصوصا من الوالي والقاضي، من العلماء العدول و

(1) راجع الصفحة 338.
(2) راجع الصفحة 342.
(3) راجع الصفحة 341.
(4) راجع الصفحة 344.
367

رواة أحاديثهم، فالقرعة في هذه المقامات تكون كإقامة البينة والاحلاف لا يعتبر الا عند من
بيده أمر القضاء.
واما في غير هذه المقامات فظاهر اطلاقات الأدلة ان أمرها بيد مالك البهيمة في
مثل الشاة الموطوئة أو من هو منصوب من قبله، أو بيد الوصي فيما إذا كان الشك في أموال
الموصى، أو كل مكلف لو لم يختص الامر بشخص خاص، ولكن لا يبعد أن يكون هذا القسم
الأخير داخلا في الحسبة ويكون أمرها أيضا بيد الحاكم لو كان والا فبيد عدول المؤمنين.
هذا ما يقتضيه قواعد القوم.
والظاهر أنه لا يستفاد من روايات الباب ما ينافي ذلك فإن قوله: القرعة لا تكون
الا للإمام في مرسلة حماد، مع ضعفها بالارسال، قابلة للحمل على موارد الدعاوى و
التنازع التي يكون أمرها بيد الإمام أو من نصبه خصوصا أو عموما (فتأمل).
واما رواية يونس الحاصرة لمستخرج القرعة بالإمام، لأن له كلاما ودعاء
لا يعلمه غيره، فشاذ جدا، لعدم دليل يعتد به على لزوم الدعاء عندها واطلاق جل -
الروايات خالية عنها، مع أنه لم ينقل من الفقهاء قول بوجوب الدعاء، وقد صرح -
المحقق النراقي في العوائد باستحباب الدعاء من دون نقل خلاف، فلابد من حمل الرواية
على ضرب من الندب والفضيلة.
هذا مع أنه لم يعهد من رواياتها دعاء لا يعلمه غيره بل المذكور فيها دعاء مأثور
في رواية " فضيل بن يسار " يقرئها الإمام أو المقرع كما صرح به فيها.
والحاصل ان رواية يونس مع مخالفتها لصريح أو اطلاق جميع روايات الباب
لا يمكن الاعتماد على ظاهرها من وجوه شتى.
واما ما دل على كونها من وظائف الوالي فموردها من الدعاوى التي أمرها بيده،
فلا يمكن رفع اليد عن مقتضى القواعد الأولية بها في غير هذا الموارد.
368

الأمر الرابع - كيفية اجراء القرعة
قد عرفت ان القرعة كانت متداولة بين العقلاء من قديم الزمان، ولم تكن مقيدة
بكيفية خاصة عندهم.
بل كان كيفيتها جعل علامات لكل واحد من أطراف الدعوى أو ذوي الحقوق
المتزاحمة أو غيرها، مما كان طرفا للاحتمال، ثم الرجوع إلى ما يخرج صدفة من بينها،
بحيث لا يحتمل فيه اعمال نظر خاص، بل كان استخراج واحد معين من بين أطراف -
الاحتمال مستندا إلى مجرد الصدفة والاتفاق، كي يكون حاسما للنزاع والتشاح.
ومن الواضح ان هذا المقصود يؤدى بكيفيات عديدة لا تحصى، فلا فرق فيها
عندهم بين " الرقاع " و " السهام " و " الحصى " وغيرها، ولا خصوصية في شئ منها بعد
اشتراكها جميعا في أداء ذاك المقصود.
ومن هنا اختلفت عادة الأقوام في اقتراعاتهم، فكل يختار نوعا أو أنواعا منها من غير أن
يكون نافيا للطرق الاخر، ولكن الكتابة والرقاع أكثر تداولا اليوم، لسهولتها
وامكان الوصول إليها في جل موارد الحاجة، مع بعدها عن احتمال اعمال الميول
والأهواء الخاصة.
وقد تستخرج الرقاع بيد صبي أو بسبب ماكينة مخصوصة ليكون أبعد من سوء الظن
وأقرب إلى العدالة في استخراجها. هذا ما عند العقلاء.
369

واما الروايات الواردة في هذه القاعدة فهي مختلفة: أكثرها مطلقة خالية عن تعيين كيفية
خاصة للاقتراع وهي دليل على ايكال الامر إلى ما كان متداولا بين العقلاء وال العرف،
وامضاء طريقتهم في ذلك.
ولكن ورد في غير واحد منها طرق خاصة للقرعة من دون نص على حصرها فيه
(على الظاهر).
منها الاقتراع بالسهام كما في الرواية الحادية عشرة من الروايات الخاصة التي
ذكرناها عند بيان مدركها من السنة، الواردة في باب ميراث الخنثى قال: يكتب على
سهم عبد الله وعلى سهم أمة الله، إلى أن قال ثم تطرح السهام (السهمان) في سهام مبهمة ثم
تجال السهام، على ما خرج ورث عليه (1).
وقد ورد في غيرها التعبير بالسهم أيضا، وكان هذا النحو كان أكثر تداولا في
تلك الأيام.
ومنها - الاقتراع بالخواتيم كما ورد في أبواب قضايا أمير المؤمنين (ع) في قضية
شاب خرج أبوه مع جماعة في سفر فرجعوا ولم يرجع أبوه، وشهدوا جميعا بموته، ولم يقبل
الشاب ذلك فشكى إلى أمير المؤمنين (ع) فقضى بينهم بطريق بديع عجيب أثبت فيه كذبهم،
فاعترفوا بقتلهم إياه، وفى ذيله ان الفتى والقوم اختلفوا في مال المقتول كم كان فاخذ أمير -
المؤمنين (ع)
خاتمه وجميع خواتيم من عنده ثم قال: أجيلوا بهذه السهام فأيكم اخرج خاتمي
فهو صادق في دعواه لأنه سهم الله وسهم الله لا يخيب.
ويظهر منه اطلاق السهم على الخواتيم وكل ما يعين به حق أحد طرفي الدعوى.
هذا ولكن هل يمكن الاعتمال على الحكم المذكور فيها من حيث إن المدعى لزيادة
المال مدع، والمدعى للنقصان منكر، فلابد من اجراء القواعد المعهودة في باب القضاء
للمدعى والمنكر، أو لابد من العمل بهذا الحكم في خصوص مورده، أو ان مثل هذا النحو

(1) راجع الصفحة 341.
370

من القضاء يختص بالإمام (ع)؟ وتمام الكلام فيه في محله.
ومنها - الاقتراع بالكتابة على الرقاع كما روى أنه صلى الله عليه وآله أقرع بالكتابة على
الرقاع (1).
ومنها - الاقتراع بالبعرة والنوى كما روى أنه صلى الله عليه وآله أقرع في بعض الغنائم بالبعرة
وانه أقرع مرة أخرى بالنوى (2).
ومنها - الاقتراع بالأقلام كما ورد في قضية زكريا وقد مر معناه.
وليس في شئ من ذلك تصريح بانحصار الطريق فيه، فمن هنا يعلم أن الشارع امضى
ما لدى العرف والعقلاء لعدم خصوصية في شئ من طرقها.
واما الدعاء بالمأثور الوارد في بعض أحاديث الباب، أو مطلق الدعاء كما يظهر
من بعضها الاخر، فقد عرفت انه لا دليل على وجوبه بعد خلو جل الروايات وكلمات -
الأصحاب عنه. ولكن لا ينبغي الريب في رجحانه.
هذا ولكن في رجحانه عند عدم ثبوت واقع مجهول في موارد القرعة، يراد
استخراجه بها، تأملا واشكالا، نظرا إلى قوله: " اللهم رب السماوات السبع أيهم
كان الحق له فأده إليه " الوارد في رواية " البصري " في باب تعارض البينتين المتساويتين أو قوله:
" اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون
فبين لنا أمر هذا المولود " الوارد في رواية " الفضيل " في باب ميراث الخنثى، ظاهر في اختصاص
الدعاء بما إذا كان له واقع مجهول فيسئل الله تعالى اخراج الحق بالقرعة اللهم الا ان يقال إنه
ليس دائما بقصد الانشاء بل بعنوان التأسي، ولكنه بعيد.

(1) و (2) رواه في العوائد ص 226.
371

الأمر الخامس
هل القرعة واجبة في واردها أو جائزة؟
قد وقع البحث في أن اجرائها في مواردها واجبة أو جائزة؟ وبعبارة أخرى هل هي رخصة
أو عزيمة أو تختلف باختلاف المقامات؟ وعلى تقدير الجواز فهل يجب العمل بها بعد
اجرائها أولا؟ فهنا مقامان:
اما المقام الأول فلم اظفر على كلام صريح للقوم فيه عدا ما افاده العلامة النراقي
(قدس سره) في " العوائد " فقد ذكر في كلام طويل له هناك تفصيلا حاصله:
ان موارد القرعة مختلفة:
فتارة تجب بمقتضى الامر الوارد في أحاديثها كما في الشاة الموطوئة.
وأخرى تجب تعيينا لتوقف الواجب، وهو تعيين الحق، عليها، وذلك فيما إذا كان له
واقع معين وجب الوصول إليه اما الرفع التنازع كما في الولد المتداعى فيه أو شبه ذلك، ولم
يكن هناك طريق آخر للتعيين، أو فيما إذا لم يكن له واقع ثابت ولم يكن هناك دليل
على التخيير، كما إذا أوصى بعتق أربع رقبات من عشرين رقبة مثلا ولم يكن هناك دليل على
تخيير الموصى فإنه أيضا يجب الرجوع فيه إلى القرعة.
وثالثة يجب تخييرا بينها وبين الرجوع إلى التخيير، كالمسألة السابقة (أعني
مسألة الوصية) إذا كان هناك اطلاق في كلام الموصى يدل على تخيير الوصي في ذلك، و
كما في تعيين حق القسم للزوجات إذا لم يكن هناك مرجح.
372

ورابعة ما لا يجب لا تعيينا ولا تخييرا وذلك فيما لا يجب التعيين فيه كتقديم أحد
المتعلمين في علم مستحب أو تقديم إحدى الزوجتين المتمتع بهما في الليلة (انتهى
مخلصا).
أقول: يرد عليه أولا: ان حمل الامر في القسم الأول (أعني مسألة الشاة الموطوئة)
على الأمر المولوي الوجوبي غير معلوم، بل الأظهر انه ارشادي للتخلص عن الشاة المحرمة
وعن الاحتياط اللازم في أطراف الشبهة المحصورة، فلو كان هناك آثار لا تترتب على
حلية لحمها وأراد الانتفاع بها، فقط لم يبعد الحكم بعدم وجوب اجراء القرعة فيها
وكذلك إذا أراد الانتفاع بلحمها بعد برهة طويلة من الزمان فإن وجوب اجراء القرعة
فيها فعلا غير معلوم (فتأمل).
وثانيا: إذا لم ينحصر الطريق في القرعة، بل أمكن الرجوع إلى " التخيير " كما
في مثال الوصية المطلقة فلابد من الرجوع إليه فقط ولا دليل على مشروعية القرعة هناك،
وكذا فيما إذا لم يكن هناك أمر يجب تعيينه كما في مثال المتعة أو المتعلمين لغير الواجب،
وذلك لعدم دلالة أدلتها على مشروعيتها في هذه الموارد.
والحاصل ان المستفاد من أدلتها، مشروعيتها فيما إذا كان هناك أمر لازم التعيين
(سواء كان له واقع ثابت مجهول، أم لا) ولم يكن طريق آخر للتعيين، واما في غيره
مما ليس هناك أمر لازم التعيين فالقرعة كالعدم، بمعنى ان الاخذ بمقتضى القرعة فيها
والعمل بها إنما هو من باب انه أحد الأطراف المخير فيها لا من باب انه استخرج
بالقرعة.
ان قلت: ان ظاهر اطلاق أدلة مشروعيتها في كل مجهول جواز الرجوع إليها
حتى في موارد لا يجب التعيين فيها.
قلنا: قد عرفت ان المجهول في اخبار الباب - كما تشهد به قرائن كثيرة - هو الامر
المشكل الذي لا طريق إلى تعيينه مع لزوم تعيينه.
* * *
373

المقام الثاني - في أنه هل يجب العمل بها بعد اجرائها أو يجوز العدول عنها إلى
غيرها، وحاصل القول فيه انه لا اشكال في وجوب العمل بما يستخرج بالقرعة في موارد
يجب اجرائها فإن وجوب اجرائها مقدمة لوجوب العمل بها من غير فرق بين ماله واقع ثابت
أو غيره وإن كان في الأول أظهر نظرا إلى أن ما يستخرج منها هو الحق كما ورد في روايات الباب
فإذا أجريت في تعيين ميراث الخنثى مثلا فوقعت على سهم المذكر أو الأنثى، أو
أجريت في تعيين من يجب عتقه من بين العبيد الموصى بعتق بعضهم من دون تعيين، فعلى
الحاكم أو الوصي العمل بها ولا يجوز له اهمالها والعدول إلى القرعة أخرى (والمفروض
عدم طريق آخر هناك غير القرعة).
نعم يجوز لصاحب الحق غمض النظر عن حقه بعد ما خرج السهم له، كما أن
للمتقارعين التصالح على حقوقهم بعد خروج السهم لأحدهما أولهما في مثل تقسيم الأموال
المشتركة، والتراضي على أمر خاص.
ولكن هذا يختص بما إذا كان من " الحقوق " مثل ما عرفت من تقسيم الشركاء
أموالهم، أو تقسيم الغنائم وغيرها، وأما إذا كان من سنخ " الأحكام " كما في مسألة الولد
المتنازع فيه وشبهه فلا يجوز ذلك أصلا، لعدم جواز تغييره بالتراضي والتصالح وشبههما
كما هو واضح.
وكذلك مسألة الشاة الموطوئة فإن خروج القرعة على واحدة من الشياة تجعلها
بحكم الموطوئة. لو لم تكن موطوئة واقعا (فح) لا معنى لتغييرها وجعل غيرها في محلها
بقرعة أخرى أو غيرها.
هذا كله في موارد وجوب القرعة أما إذا قلنا بمشروعيتها في موارد لا يجب فيها
اجرائها كما في مسألة المتعلمين لغير الواجب وسببها فكما ان اجرائها غير واجب في
هذا الموارد، كذلك العمل بها بعد اجرائها أيضا غير واجب، فله العدول عما خرج بالقرعة
إلى غير إذا لم يكن هناك محدور آخر (فتأمل).
هذا تمام الكلام في قاعدة القرعة.
374

هل الاستخارة من أنواع القرعة؟
الظاهر أن الاستخارة بالرقاع والحصى والبندقة والسبحة وما شاكلها، مما ورد في
روايات مختلفة، نوع من القرعة، وانه إذا أشكل على الانسان أمر يفوضه إلى الله
تعالى، ثم يدعو ببعض الدعوات المأثورة ثم يستخرج السهم أو الواقعة أو البندقة أو
غيرها مما كتب عليه فعل شئ أو تركه، أو علم عليه بعلامة، فيعمل على طبقه.
الا انها يتفاوت مع القرعة المعروفة في أن القرعة تكون في موارد لا يعلم
حكمها الشرعي الجزئي، لاشتباه موضوعها، وفى الغالب مما تزاحم فيه الحقوق، بينما
تكون الاستخارة فيما يعلم حكمها الشرعي وموضوعه وتدور الامر بين أمور مباحة ولكن
يشك في صلاحها وفسادها للفاعل، في عاجله أو آجله، فإذا لم ينته امره إلى طريق بين،
يتوسل إليها للكشف ما هو صلاحه ورفع تحيره.
وقد عقد العلامة المجلسي (قدس الله سره) في أواخر المجلد الثامن عشر من " بحار الأنوار
" أبوابا أورد فيها كثير من الروايات الدالة على جواز الاستخارة بالدعاء ثم العمل
بما يقع في قلبه، أو بالاستشارة بعد الدعاء ثم العمل بما يجري على لسان من يستشيره،
أو بالرقاع والبنادق والسبحة والحصى والقرآن الكريم.
وقد وقع الكلام في مشروعية الاستخارة بغير الدعاء والاستشارة، والمحكى عن
أكثر الأصحاب جوازه وعن ابن إدريس وبعض آخر انكاره أو التردد فيه.
وذكر العلامة المجلسي (قده) في آخر ما أورده في هذا الباب كلاما أحببنا ايراده
هنا لما فيه من الفائدة ومزيد بصيرة فيما نحن بصدده، قال ما نصه:
" ان الأصل في الاستخارة الذي يدل عليه الأكثر الأخبار المعتبرة هو ان لا يكون
375

الانسان مستبدا برأيه، معتمدا على نظره وعقله، بل يتوسل بربه تعالى ويتوكل عليه
في جميع أموره، ويقر عنده بجهله بمصالحة، ويفوض جميع ذلك إليه، ويطلب منه
ان يأتي بما هو خير له في اخراه وأولاه، كما هو شأن العبد الجاهل العاجز مع مولاه
العالم القادر، فيدعو بأحد الوجوه المتقدمة مع الصلاة أو بدونها، بل بما يحضر بباله
من الدعاء ان لم يحضره شئ من ذلك، للأخبار العامة، ثم يرضى بكل ما يترتب على
فعله من نفع أو ضر.
وبعد ذلك، الاستخارة من الله سبحانه ثم العمل بما يقع في قلبه، ويغلب على ظنه
انه أصلح له.
وبعده الاستخارة بالاستشارة بالمؤمنين.
وبعد الاستخارة بالرقاع أو البنادق أو " القرعة بالسبحة " والحصا أو التفأل بالقرآن
الكريم.
والظاهر جواز جميع ذلك، كما اختاره أكثر أصحابنا وأوردوها في كتبهم الفقهية
والدعوات وغيرها، وقد اطلعت ها هنا على بعضها " ثم قال:
" وأنكر ابن إدريس الشقوق الأخيرة، وقال إنها من أضعف اخبار الآحاد و
شواذ الاخبار، لأن رواتها فطحية ملعونون، مثل زرعة وسماعة، وغيرهما فلا يلتفت إلى
ما اختصا بروايته، ولا يعرج عليه، قال: والمحصلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه
الا ما اخترناه، ولا يذكرون " البنادق " و " الرقاع " و " القرعة " الا في كتب العبادات
دون كتب الفقه، وذكر ان الشيخين وابن البراج لم يذكروها في كتبهم الفقهية.
ووافقه المحقق (قده) فقال: اما الرقاع وما يتضمن افعل ولا تفعل ففي حيز -
الشذوذ فلا عبرة بهما.
واصل هذا الكلام من المفيد (ره) في المقنعة حيث أورد أولا اخبار الاستخارة
بالدعاء، والاستشارة وغير هما مما ذكرنا أولا، ثم أورد استخارة ذات الرقاع وكيفيتها
376

ثم قال: قال الشيخ وهذه الرواية شاذة ليست كالذي تقدم لكنا أوردناها للرخصة دون
تحقيق العمل بها ".
ثم ذكر المجلسي (قده) بعد كلام له مما يدل على اختلاف نسخ المقنعة في ذلك ما نصه:
" قال الشهيد (رفع الله درجته) في الذكرى: " وانكار ابن إدريس الاستخارة
بالرقاع لا مأخذ له مع اشتهارها بين الأصحاب وعدم راد لها سواه ومن اخذ مأخذه كالشيخ
نجم الدين، قال وكيف تكون شاذة وقد دونها المحدثون في كتبهم والمصنفون في
مصنفاتهم... " (1)
هذا ولكن الامر في جوازها سهل بعد كون موردها أمورا مباحة يتردد بينها، ثم
يتوكل على الله ويعمل بما يخرج من الرقاع وشبهها رجاء الوصول إلى المطلوب، ولعل عدم
ذكر كثير منهم لها في الكتب الفقهية مستند إلى هذا المعنى.
وعلى كل حال فمما يدل على أن الاستخارة بهذه الأمور نوع من القرعة أمور:
منها - التعبير عنها في بعض رواياتها بالمساهمة - التي هي القرعة كما عرفت
سابقا عند ذكر الآيات الدالة عليها - مثل رواية عبد الرحمن بن سيابة قال. خرجت إلى
مكة ومعي متاع كثير فكسد علينا فقال بعض أصحابنا ابعث به إلى اليمن فذكرت ذلك
لأبي عبد الله عليه السلام فقال لي: ساهم بين مصر واليمن ثم فوض امرك إلى الله، فأي البلدين
خرج اسمه في السهم فابعث إليه متاعك فقلت: كيف أساهم؟ قال: اكتب في رقعة
بسم الله الرحمن الرحيم انه لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة أنت العالم وانا المتعلم
فانظر في أي الامرين خيرا لي حتى أتوكل عليك فيه، فاعمل به، ثم اكتب مصرا إن شاء الله، ثم اكتب في رقعة أخرى مثل ذلك، ثم اكتب يحبس إن شاء الله ولا يبعث به
إلى بلدة منهما، ثم أجمع الرقاع فادفعها إلى من يسترها عنك، ثم ادخل يدك فخذ رقعة

(1) بحار الأنوار المجلد 18 طبعة امين الضرب ص 941 و 942.
377

من الثلث رقاع، فأيها وقعت في يدك فتوكل على الله فاعمل بما فيها إن شاء الله ".
وفيها من الدلالة على أن الاستخارة نوع من القرعة من وجوه شتى لا يخفى على -
المتأمل. ومثله غيره.
ومنها - اتحاد كيفية العمل والدعاء فيهما، روى ابن طاووس في كتاب " أمان -
الاخطار " وفى " الاستخارات " نقلا عن كتاب عمرو بن أبي المقدام عن أحدهما عليهما السلام في -
المساهمة يكتب:
" بسم الله الرحمن الرحيم اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة
الرحمن الرحيم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون أسئلك بحق محمد وآل
محمد ان تصلى على محمد وآل محمد، وان تخرج لي خير السهمين في ديني ودنياي
وآخرتي، وعاقبة امرى، في عاجل امرى وآجله انك على كل شئ قدير، ما شاء الله
لا قوة الا بالله، صلى الله على محمد وآله - ثم تكتب ما تريد في الرقعتين وتكون الثالثة
غفلا (1) ثم تجيل السهام، فأيما خرجت عملت عليه، ولا تخالف، فمن خالف لم يصنع
له، وان خرج الغفل رميت به " (2)
وهذه الرواية باطلاقها شاملة لموارد القرعة وهو ما يشك في حكمه الشرعي الجزئي
ولا طريق إلى اثباته، وموارد الاستخارة وهو ما يشك في صلاحه وفساده للفاعل مع العلم
بجوازه فعله وتركه، كما فهمه ابن طاووس (قده).
وقد مر في كلام العلامة المجلسي قده قوله: " أو القرعة بالسبحة... " وهذا أيضا دليل
على اطلاقها عليها.
وببالي انه (قدس سره) تمسك على مشروعية الاستخارة بالرقاع وشبهها، باطلاقات -

(1) الغفل بالضم كما عن القاموس من لا يرجى خيره ولا يخشى شره، وما لا علامة فيه
من القداح.
(2) رواه في الوسائل في أبواب القرعة، من كتاب القضاء، من المجلد الثالث.
378

القرعة التي مضى ذكرها، وانها لكل أمر مشكل، وإن كان في الاستدلال بها ما لا يخفى
فإنها بقرينة فهم الأصحاب والموارد الخاصة التي وردت هذه العمومات فيها مختصة بما
يشك في حكمه الشرعي الجزئي من جهة اشتباه موضوعه، ولا أقل من أنها منصرفة إليها،
وعلى كل حال، كونها من أنواع القرعة مما لا ينبغي الشك فيها.
هذا تمام الكلام فيما يلحق بقاعدة القرعة وبه يتم الجزء الثاني من كتابنا هذا، و
سنوافيك الكلام في القواعد الباقية في الاجزاء الآتية بعون الله الملك العلام وكان الفراغ
منه ليلة الخميس الثاني عشر من شوال المكرم سنة 1388 (والحمد لله أولا وآخرا)
379

7 - قاعدة التقية
وموارد حرمتها ووجوبها
381

التقية وموارد حرمتها وجوازها
معناها وموارد حرمتها ووجوبها وجوازها وما يترتب
عليها من الآثار الوضعية والتكليفية وما يلحق بها
من الأحكام والفروع
التقية من أقدم ما يعرف أصحابنا بها، كما انها من أكثر ما يشنع
عليهم، جهلا بمعناها وموارد حرمتها وجوازها، وغفلة عما يحكم به
العقل والنقل.
ويبتنى عليها فروع كثيرة في مختلف أبواب الفقه من العبادات
وغيرها فلها صلتان بالمذهب:
صلة من ناحية الفقه وقواعدها والفروع الكثيرة المبنية عليها.
وصلة من ناحية العقائد والكلام، حيث إن القول بها صار عند
الغافلين عن " مغزاها " و " مواردها " دليلا على ضعف المذهب القائل بها
ومبانيه.
383

ونحن وان كنا نبحث عنها هنا كقاعدة فقهية، ولكن نواصل
الجهد في طيات هذه الأبحاث لتوضيحها من الناحية، لتبين
قيم الايرادات التي تشبث بها المخالفون هنا، وان هذه المزعومة -
كغالب المزعومات الاخر - ناشية من قلة اتصالهم بنا، وعدم اخذ عقائدنا
منا، بل من الكتب المشوهة المملوئة بأنواع التهم المنبعثة عن التعصبات
القومية أو المذهبية، أو عن تدخل الأعداء الدين في شؤون المسلمين
لتفريق كلمتهم وإشاعة البغضاء بينهم ليتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم
- كما قال الله تعالى -.
وعلى كل حال لابد لنا ان نتكلم هنا في مقامات:
الأول - في معناها اللغوي والاصطلاحي
الثاني - في حكمها التكليفي من الحرمة والجواز، ومواردهما،
وما يدل على كل واحد، من الأدلة العقلية والنقلية، مضافا إلى اقسام
التقية من " الخوفي " والتحبيبي "
وان التاركين للتقية في الصدر الأول وفى الاعصار " الأمويين " و
" العباسيين "، الذين استشهدوا في هذا السبيل كرشيد الهجري وميثم
التمار وأشباههما لماذا تركوا التقية وتجرعوا جرع الحمام؟
وهل كان هذا واجبا عليهم أو راجحا لهم، وهل يمكن لنا سلوك
طريقتهم في أمثال هذه الظروف أم لا؟
الثالث - في حكمها الوضعي من حيث إن العمل المأتى به تقية هل
يوجب الاجزاء عن الإعادة والقضاء، في داخل الوقت وخارجه أم لا؟.
الرابع - في أمور هامة مختلفة لها صلة بالبحث مثل انه هل يعتبر
384

في التقية أن تكون من المخالف، أو يشمل الكافر، أو الموافق في المذهب
أحيانا.
وانها هل تختص بالأحكام أو تشمل الموضوعات.
وان المدار فيها على الخوف الشخصي أو النوعي
وانه إذا خالف التقية فهل يفسد عمله؟
وان ترك تسمية القائم باسمه هل هو من باب التقية وغيرها وهل هو
واجب في هذه الاعصار أو لا يجب أصلا؟
وغير ذلك مما يرتبط بهذه المسألة، نذكرها في طي عشر تنبيهات
ونسئل الله التوفيق والهداية نحو الحق في جميع الأمور، انه قريب مجيب
385

1 - معنى التقية لغة واصطلاحا
الظاهر أن التقية لغة مصدر من اتقى يتقى، لا انها اسم مصدر كما ذكره
شيخنا العلامة الأنصاري قدس الله سره الشريف.
قال المحقق الفيروزآبادي في " القاموس ": " اتقيت الشئ وتقيته
اتقيه واتقيه، تقى وتقية وتقاء ككساء، حذرته، والاسم التقوى قلبوه
للفرق بين الاسم والصفة "
وظاهره ان اتقى وتقى بمعنى واحد - كما ذكره غيره أيضا -
والمصدر منه هو التقية والتقى والتقاء، واسم المصدر هو التقوى - والامر
فيه سهل.
ومن الواضح ان معناه المصطلح في الفقه والأصول والكلام
أخص من معناها اللغوي، كما في غيرها من الألفاظ المستعملة في معانيها
المصطلحة غالبا.
وقد ورثنا عن الأصحاب في معناها المصطلح عبائر تتقارب مضامينها
386

ولا يدل اختلافها اليسير عن اختلاف منهم في حقيقتها ومفادها، واليك
نص بعض هذه التعاريف:
1 - قال المحقق البارع الشيخ الجليل " المفيد " في كتابه " تصحيح
الاعتقاد "
" التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك
مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين والدنيا " (1)
2 - وقال شيخنا الشهيد رحمة الله عليه في قواعده:
" التقية مجاملة الناس بما يعرفون وترك ما ينكرون حذرا من غوائلهم ".
3 - وقال شيخنا العلامة الأنصاري في رسالته المعمولة في المسألة:
" المراد (منها) هنا التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل
مخالف للحق ".
4 - وقال العلامة الشهرستاني قدس سره فيما علقه على كتاب أوائل
المقالات للشيخ المفيد أعلى الله مقامه:
" التقية اخفاء أمر ديني لخوف الضرر من اظهاره " (2)
ولا يخفى ان هذه التعريفات بعضها أوسع من بعض، ولكن -
الظاهر أنهم لم يكونوا بصدد تعريف جامع لشتات افرادها مانع عن
أغيارها، اعتمادا على وضوح معناها ولذا لم يعترض واحد منهم على -
الاخر بنقص التعريف من ناحية جمعه أو طرده.
والذي يهمنا ذكره في المقام ان التقية ديدن كل أقلية يسيطر عليهم

1 - تصحيح الاعتقاد ص 66
2 - أوائل المقالات ص 96
387

الأكثرون ولا يسمحون لهم باظهار عقائدهم أو العمل على وفقها فيخافون
على أنفسهم أو النفيس مما يتعلق بهم، من مخالفيهم المتعصبين، فهؤلاء
بنداء الفطرة يلجئون إلى التقية فيما كان حفظ النفس أو ما يتعلق بها أهم
عندهم من اظهار الحق، والى ترك التقية وخوض غمرات الموت وتحمل
المضار إذا كان اظهاره أهم، حسب اختلاف المقامات وما يتحمل من -
الضرر لأجل الأعمال المخالفة للتقية.
كل ذلك مقتبس من حكم العقل بتقديم الأهم على المهم إذا
دار الامر بينهما.
فعندئذ لا تختص التقية بالشيعة الإمامية ولا يختصون بها وان اشتهروا
به، وتعم جميع الطوائف في العالم إذا ابتلوا ببعض ما ابتلى به الشيعة في
بعض الظروف والأحيان.
فليس ذلك الا لأنهم كانوا في كثير من الاعصار والأقطار تحت سيطرة
المخالفين المجحفين عليهم، وكل جماعة كانت كذلك ظهر في تاريخها
التقية أحيانا.
وسيوافيك إن شاء الله الآيات والاخبار الحاكية عن أمر مؤمن آل
فرعون وانه كان في تقية من قومه، وكذلك ما يحكى عن أمر أصحاب
الكهف وتقيتهم.
بل ومن بعض الوجوه يعزى التقية إلى شيخ الأنبياء إبراهيم (ع)
في احتجاجاته مع عبدة الأصنام، والى يوسف (ع) في كلامه لاخوته،
كما سيأتي بيان كل منها إن شاء الله.
388

2 - حكمها التكليفي
المعروف بين الأصحاب ان التقية تنقسم بحسب حكمها التكليفي
إلى اقسام خمسة: منها ما هو واجب، ومنها ما هو حرام، ومنها ما هو راجح
ومنها ما هو مرجوح، ومنها ما يتساوى طرفاه جوازا. وهو موافق للتحقيق.
فلنبدأ بالقسم الجائز منه بالمعنى الأعم ثم نتبعه بما هو حرام، ثم
نبين ما هو راجح ومرجوح.
اما الأول فلا ينبغي الشك في جوازها اجمالا في بعض الموارد
ويدل عليه مضافا إلى الاجماع آيات من الذكر الحكيم، واخبار متواترة
جدا، ودليل العقل وقضاء الوجدان السليم.
اما الآيات:
فمنها قوله تعالى في سورة آل عمران " لا يتخذ المؤمنون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله
في شئ الا ان تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه والى الله
المصير (1)

(1) آل عمران - 28
389

نهى سبحانه وتعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء، والاستعانة بهم
في الأمور وبث المودة والإخاء بينهم، ثم أكده بان من فعل ذلك من -
المؤمنين فليس من الله في شئ، فهو برئ منهم وليسوا في ولاية الله
ورعايته
ونظيره في ذلك قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون
إليهم بالمودة وقد كفروا بما جائكم من الحق (1)
حيث نهى عن اتخاذ الأعداء أولياء، ثم عقبه بالقاء المودة إليهم
الذي هو كالتفسير له.
ومثله قوله تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر
يوادون من حاد الله ورسوله (2)
ثم استثنى منه مقام التقية بقوله " الا ان تتقوا منهم تقاة " ففي
هذا المقام القاء المودة إليهم واتخاذهم أولياء جائز بعد أن كان منهيا عنه
بحسب حكمه الأول، ولا شك ان المراد من " تقاة " هنا التقية وهما بمعنى
واحد بل قرء بعضهم كالحسن والمجاهد " تقية ".
وقال امين الاسلام الطبرسي في المجمع عند ذكر الآية: " والمعنى الا
أن يكون الكفار غالبين والمؤمنين مغلوبين، فيخافهم المؤمن ان لم يظهر
موافقتهم ولم يحسن العشرة معهم، فعندئذ يجوز له اظهار مودتهم بلسانه
ومداراتهم تقية منه ودفعا عن نفسه من غير أن يعتقد، وفى هذه الآية دلالة

1 - سورة الممتحنة - 1
2 - سورة المجادلة - 22
390

على أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال أصحابنا
انها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب
من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز من الافعال في قتل المؤمن ولا فيما
يعلم أو يغلب على الظن انه استفساد في الدين (3)
وقال شيخ الطائفة قدس سره في " التبيان " عند ذكر الآية:
" والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس وقد روى رخصة
في جواز الافصاح بالحق عندها. روى الحسن ان مسيلمة الكذاب اخذ
رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لأحدهما أتشهد ان محمدا رسول الله؟
قال: نعم
قال: أفتشهد انى رسول الله؟!
قال نعم!
ثم دعا بالآخر فقال: أتشهد ان محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قال نعم؟
قال له أتشهد انى رسول الله
قال: انى أصم!
قالها ثلثا كل ذلك يجيبه بمثل الأول فضرب عنقه
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: اما ذلك المقتول فمضى على
صدقه ويقينه، واخذ بفضله، فهنيئا له، واما الاخر فقبل رخصة الله فلا
تبعة عليه "
فعلى هذا تكون التقية رخصة والافصاح بالحق فضيلة، وظاهر

3 - مجمع البيان ج 2 ص 430.
391

اخبارنا يدل على أنها واجبة وخلافها خطأ " (1)
هذا ولكن سيمر عليك إن شاء الله ان موارد وجوبها غير موارد
جوازها، وموارد رجحان تركها والافصاح بالحق، وليس جميع الروايات
واردة على مورد واحد ولا تعارض بينها كما يظهر من عبارة شيخ الطائفة
(قدس سره الشريف).
وبالجملة لا اشكال في دلالة الآية على جواز التقية اجمالا، بل في
الآية تصريح بنفس عنوان التقية فإن " التقية " و " التقاة " بمعنى، بل قد
عرفت قراءة التقية في نفس الآية من غير واحد من القراء.
ومنها قوله تعالى في سورة النحل: من كفر بالله من بعد ايمانه
الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا
فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (1)
وقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية أمورا تتقارب معناها وان
اختلف اشخاصها وأمكنتها.
وفى بعضها انها نزلت في " عمار " و " ياسر أبوه " و " أمه سمية " و " صهيب "
و " بلال " و " ضباب، حيث اخذهم الكفار وعذبوهم وأكرهوهم على كلمة
الكفر والبراءة من الاسلام ورسول الله صلى الله عليه وآله
فلم يعطهم أبو عمار وأمه فقتلا وكانا أول شهيدين في الاسلام وأعطاهم
عمار بلسانه ما أرادوا منه، فأخبر سبحانه بذلك رسول الله فقال قوم كفر عمار،
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه إلى قدمه واختلط -

(1) التبيان - المجلد 2 ص 435
1 - النمل - 106
392

الايمان بلحمه ودمه. ثم جاء عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكى.
فقال: ما ورائك؟
فقال: شر، يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت
آلهتهم بخير!.
فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول إن عادوا لك فعد لهم بما قلت.
فنزلت الآية.
وفى آخر انها نزلت في " عياش ابن أبي ربيعة " اخى أبى جهل من
الرضاعة، و " أبى جندل " وغير هما من أهل مكة حيث أكرههم المشركون
فاعطوهم بعض ما أرادوا ثم إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا فنزلت الآية
وفى ثالث انها نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا ثم خرجوا نحو
المدينة فأدركهم قريش، وأكرهوهم فتكلموا بكلمة الكفر كارهين،
فنزلت الآية.
والأشهر هو الأول.
والآية دالة على جواز التقية باظهار كلمة الكفر من دون قصده،
عند الضرورة، فإن موردها وإن كان عنوان الاكراه، ومورد التقية لا يعتبر
فيها اكراه وتعذيب بل يكفي فيها خوف الضرر على النفس أو ما يتعلق به
وان لم يكن هناك مكره، الا ان الحق عدم الفرق بين العنوانين (الاكراه
والتقية) من حيث الملاك والمغزى، فإن ملاك الكل دفع الضرر الأهم
بارتكاب ترك المهم.
هذا من ناحية العنوان المأخوذ فيها.
393

ومن ناحية أخرى الآية وان اختصت مفادها بمسألة الكفر والايمان
الا ان حكمها جار في غيرها بطريق أولى كما لا يخفى، فإذا جازت التقية
في هذه المسألة المهمة جاز في غيرها قطعا مع تحقق شرايطها.
قال المحقق البيضاوي في تفسيره عند ذكر الآية:
" وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الاكراه وإن كان الأفضل
ان يتجنب عنه اعزازا للدين كما فعله أبواه (عمار) ثم نقل رواية الحسن
السابقة في رجلين اخذهما مسيلمة - إلى أن قال - اما الأول فقد اخذ رخصة -
الله واما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له "
ومنها قوله تعالى في سورة الغافر حاكيا عن مؤمن آل فرعون:
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه أتقتلون رجلا ان
يقول ربى الله وقد جائكم بالبينات من ربكم... (1)
هذه الآية وما بعدها تحكى عن قصة مؤمن آل فرعون واحتجاجه
على قومه نقلها القرآن بلسان القبول والرضا، حتى أن قول يكتم ايمانه
أيضا بهذا اللسان، لسان القبول والرضا، فهي دالة على جواز كتمان
الايمان عند الخوف على النفس ومثله.
ولا شك ان كتمان الايمان لا يمكن عادة بمجرد عدم الاظهار عن
مكنون القلب بل لا يخلو عن اظهار خلافه، لا سيما إذا كان ذلك مدة طويلة
كما هو ظاهر حال مؤمن آل فرعون
فكتمان ايمانه لا يتيسر الا بالاشتراك معهم في بعض أعمالهم وترك
بعض وظائف المؤمن الخاصة به، وبالجملة حمل كتمان ايمانه على مجرد

(1) 1 - الغافر - 28
394

عدم اظهار الحق، من دون اظهار خلافه قولا وفعلا شطط من الكلام،
لا سيما مع ما حكى عن ابن عباس انه لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره
وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي انذر موسى (ع)
فاذن ينطبق على عمله عنوان التقية بلا اشكال وتكون الآية دليلا
على جوازه اجمالا.
وروى الطبرسي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: التقية ديني ودين آبائي
ولا دين لمن لا تقية له والتقية ترس الله في الأرض، لأن مؤمن آل فرعون
لو أظهر الاسلام لقتل. (1)
فتحصل من جميع ما ذكرنا ان ظاهر الآيات الثلاثة المذكورة أو صريحها
جواز التقية عند الخوف اجمالا، ويظهر من غير واحد من الروايات التي
سنوردها عليك إن شاء الله تفصيلا ان موارد التقية المشار إليها في القران
لا تنحصر بذلك، بل تشمل فعل أصحاب الكهف، وما فعله شيخ الأنبياء
إبراهيم (ع) تجاه قومه عند كسر الأصنام، وما قاله يوسف لاخوته عند اخذ
أخيه الصغير عنده وعدم ارساله مع سائر اخوته، انه أيضا كان من باب
التقية.
ولكنه مبنى على ما سنشير إليه من عدم حصر التقية في كتمان الحق
واظهار خلافه خوفا على النفس وشبهه بل يشمل ما إذا كان هذا الكتمان
لمصالح آخر، فليكن هذا على ذكر منك.
هذا حكم كتاب الله وما يستفاد من آيات الذكر الحكيم في المسألة
وهي بحمد الله جلية من هذه الناحية.
* * *

1 - مجمع البيان ج 8 ص 521
395

3 - التقية في السنة
لا شك في تواتر الأخبار الدالة على جواز التقية اجمالا في مظان -
الخطر، وهي على طوائف مختلفة كل تشير إلى بعض خصوصيات البحث
وفيها فوائد جمة، وحقايق لطيفة، تكشف عن علل التقية ونتائجها و
كيفيتها وحدودها، وأقسامها ومستثنياتها، وموارد حرمتها ووجوب
الحذر عنها.
وهي مبثوثة في أبواب كثيرة من أبواب كتاب الامر بالمعروف و
النهى عن المنكر، أوردها في الوسائل في المجلد الحادي عشر وغيره
ونحن نذكرها في خمس طوائف نجمع ما يشترك منها في معنى
واحد في طائفة مستقلة
* * *
الطائفة الأولى - ما يدل على أن التقية ترس المؤمن وحرزه وجنته
وقد ورد روايات عديدة في هذا المعنى:
منها - ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن حمد؟؟ بن مروان
396

عن أبي عبد الله (ع) قال كان أبى يقول: وأي شئ أقر لعيني من التقية،
ان التقية جنة المؤمن (1)
2 - ما رواه أيضا في الكافي عن عبد الله بن أبي عبد الله بن أبي يعفور
قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: التقية ترس المؤمن والتقية حرز -
المؤمن، الحديث (2)
3 - ما رواه أيضا في الكافي عن حريز عن أبي عبد الله (ع) قال:
التقية ترس الله بينه وبين خلقه (3)
4 - ما رواه سعد بن عبد الله في بصائر الدرجات عن جميل بن صالح
عن أبي عبد الله (ع) قال إن أبى كان يقول: أي شئ أقر للعين من التقية
ان التقية جنة المؤمن (4)
هذه الروايات بأجمعها دالة على جواز التقية في موارد الخوف
لحفظ النفس والاتقاء بها كما يتقى في الحرب عن ضربات العدو بالجنة
والترس وأشباههما.
بل قد يستفاد منها الوجوب واللزوم بنحو من العناية فإن الاستتار
بالجنة وما أشبههما في موارده واجب فكذلك الاستتار بالتقية في مظانها
فتأمل.
ولو أشكل على دلالتها من هذه الناحية لم يكن هناك اشكال من

1 - الحديث 4 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل
2 - الحديث 6 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل
3 - الحديث 12 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل
4 - الحديث 24 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل
397

ناحية الدالة على الجواز بمعناه الأعم.
* * *
الطايفة الثانية - ما دل على أنه لا دين لمن لا تقية له، ولا ايمان
لمن لا تقية له وان تسعة أعشار الدين هي التقية إلى غير ذلك مما يدل على أنها
من الدين نفسه وبدونها يكون ناقصا وهي روايات:
5 - ما رواه الكليني في الكافي باسناده عن أبي عمر الأعجمي قال:
قال لي أبو عبد الله (ع): يا أبا عمر! ان تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين
لمن لا تقية له (الحديث) (1)
6 - ما رواه الصدوق عن علل الشرائع عن أبي بصير قال: قال أبو -
عبد الله (ع) التقية دين الله عز وجل قلت من دين الله؟! قال فقال: أي والله من
دين الله (الحديث) (2)
7 - ما رواه الصدوق أيضا في صفات الشيعة عن أبان بن عثمان
عن الصادق (ع) أنه قال: لا دين لمن لا تقية له ولا ايمان لمن لا ورع له (3)
8 - ما رواه الكليني عن ابن أبي يعفور عن الصادق (ع) في حديث:
لا ايمان لمن لا تقية له (4).
إلى غير ذلك من الروايات.
وهذه الطايفة دليل على وجوبها اجمالا في مواردها وانه من أهم

1 - الحديث 2 من الباب 24 من كتاب الامر بالمعروف من الوسائل
2 - الحديث 18 من الباب 24 من كتاب الامر بالمعروف من الوسائل
3 - الحديث 22 من الباب 24 من كتاب الامر بالمعروف من الوسائل
4 - الحديث 6 من الباب 24 من كتاب الامر بالمعروف من الوسائل
398

مسائل الدين وعمدتها في هذه المقامات وسيأتي إن شاء الله علة هذا التأكيد
الشديد وسره، وانه إذا اخذ بحده وشرائطه كان مما يحكم
به صريح الوجدان.
* * *
الطائفة الثالثة - ما دل على أنها من أعظم الفرائض وان أكرمكم
عند الله أعملكم بالتقية، وان الايمان بدونها كجسد لا رأس معه وانه ما شئ
أحب إلى الله وأوليائه من التقية في مواردها، وهي روايات:
9 - ما رواه في الكافي عن حبيب بن بشر قال قال أبو عبد الله عليه السلام (ع)
سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شئ أحب من التقية،
يا حبيب! انه من كان له التقية رفعه الله، يا حبيب! من لم تكن له تقية
وضعه الله، يا حبيب! ان الناس إنما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان
هذا (1).
ولعل قوله " فلو قد كان ذلك كان هذا " إشارة إلى أنه لو كان هناك
تقية كان الهدنة مستمرة باقية، أو انه لو رفعت الهدنة وظهر القائم جاز
ترك التقية وفى غيره وجبت التقية، ولو فرض ابهامه لم يضر بدلالة
الحديث.
10 - ما روى في تفسير الإمام الحسن بن علي العسكري في قوله
تعالى: " وعملوا الصالحات " قال قضوا الفرائض كلها بعد التوحيد و
اعتقاد النبوة والإمامة قال وأعظمها فرضان: قضاء حقوق الاخوان في الله
واستعمال التقية في أعداء الله (2)

1 - الحديث 8 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل
2 - الحديث 1 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف من كتاب الوسائل
399

ومما ينبغي ان يذكر انه روى في هذا الباب (الباب 28 من أبواب الأمر
بالمعروف والنهى عن المنكر من كتاب الوسائل) روايتان عن النبي
ورواية عن كل واحد من الأئمة عليهم السلام إلى الإمام الحسن العسكري (ع)
يكون المجموع ثلاثة عشر رواية كلها عن تفسير الإمام وبوساطته (ع) رتبه
حسب ترتيب الأئمة (ع) وكلها تشير إلى مطلب واحد وإن كان بعبارات
مختلفة وتعبيرات شتى، وهو ما مر في الحديث الأخير: ان من أعظم القربات
وأشرف أخلاق الأئمة، التقية وقضاء حقوق الاخوة وان تركهما من -
الذنوب التي لا تغفر، فراجعها وتأملها، وسنشير إلى كل واحد منهما في
محله المناسب له، والى سر هذا التأكيد البليغ في الامرين.
11 - ما في تفسير الإمام الحسن العسكري (ع) أيضا: قال قال
رسول الله صلى الله عليه وآله مثل مؤمن لا تقية له كمثل جسد لا رأس له (1)
12 - وعنه (ع) أيضا عن أمير المؤمنين (ع) التقية من أفضل اعمال
المؤمنين يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين (2)
وفى هذا الحديث دليل على أنه لا تشرع لحفظ نفسه فقط بل
تشرع لحفظ نفوس الاخوان أيضا، وهل هو فيما إذا كان هناك خوف على
نفوس واشخاص معلومة أو يكفي الخوف على نوع المؤمنين في بعض
الأمكنة أو بعض الأحيان وان لم تعرف اشخاصهم، سيأتي الكلام فيه
عند ذكر تنبيهات المسألة إن شاء الله فليكن على ذكر منك.
13 - وعنه (ع) أيضا عن جده علي بن الحسين (ع) يغفر الله للمؤمن

1 - الحديث 2 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
2 - الحديث 3 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
400

كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية و
تضييع حقوق الاخوان (1)
14 - وعنه (ع) أيضا: قيل: لمحمد بن علي (ع) ان فلانا اخذ
بتهمة فضربوه مأة سوط، فقال: محمد بن علي (ع): انه ضيع حق أخ
مؤمن وترك التقية، فوجه إليه فتاب (2).
وهذه الرواية تدل على أن تركها في موارد وجوبها لا يورث عقاب
الآخرة فحسب بل قد يورث عذابا دنيويا أيضا
15 - ما رواه علي بن محمد الخزار في كتاب " كفاية الأثر " عن -
الحسين بن خالد عن الرضا (ع) قال لا دين لمن لا ورع له، ولا ايمان لمن
لا تقية له، أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية. قيل يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله
إلى متى؟ قال: إلى قيام القائم فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس
منا (الحديث) (3)
* * *
الطائفة الرابعة - روايات عديدة تحكى عن وقوع التقية في أفعال
أنبياء السلف وانهم عملوا بالتقية في غير مورد وهي روايات:
16 - ما رواه الصدوق في العلل عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (ع)
يقول: لا خير فيمن لا تقية له ولقد قال يوسف " أيتها العير انكم لسارقون "

1 - الحديث 6 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف من المسائل
2 - الحديث 11 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف من المسائل
3 - الحديث 25 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من المسائل
401

وما سرقوا (1)
ولا يخفى ان نسبة التقية هنا إلى يوسف (ع) إنما هو من جهة امره
أو رضاه بقول المؤذن الذي اذن بين اخوة يوسف فقال " أيتها العير انكم
لسارقون " وهم ما سرقوا شيئا ولو سرقوا إنما سرقوا يوسف من قبل، فهو
نوع من التورية وقد صدرت تقية واخفاء للحق لبعض المصالح التي
أوجبت اخذ أخيه " بنيامين ".
وغير خفى ان هذه التقية ليست من قسم ما يؤتى به خوفا على النفس،
بل قسم آخر يؤتى به لمصالح اخر، وسيأتي الإدارة إلى انها لا تنحصر
بما يؤتى به خوفا.
ثم لا يخفى ان هذه التقية وأشباهها ليست في باب الأحكام وتبليغ
الرسالة حتى يتوهم عدم جوازها في حق الأنبياء والمرسلين، بل هو في
غير باب التبليغ حفظا لبعض المصالح.
17 - ما رواه في العلل أيضا عن أبي بصير قال قال أبو عبد الله (ع)
التقية دين الله عز وجل، قلت من دين الله؟ قال: فقال أي والله من دين الله
لقد قال يوسف: " أيتها العير انكم لسارقون " والله ما كانوا سرقوا
شيئا (2)
والكلام فيه كما في سابقه
18 - ما رواه الكليني في الكافي عن أبي بصير أيضا قال: قال أبو -
عبد الله (ع): التقية من دين الله. ثم روى نحو الرواية السابقة، ثم زاد قوله:

(1) الحديث 17 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
2 - الحديث 18 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من المسائل
402

ولقد قال إبراهيم (ع) " انى سقيم " والله ما كان سقيما (1)
واطلاق التقية على قول إبراهيم (ع) هنا إنما هو بملاحظة انه
اخفى حاله واظهر غيره لما لا يخفى من المصالح الدينية، كما أشرنا إليه
في الروايات السابقة، كما أنه ليس من باب التقية في الأحكام وإنما هو في
الموضوعات فلا ينافي دعوته ورسالته، بل كان ذلك لأداء رسالته وحطم
الأصنام وكسرها.
19 - ما رواه في " معاني الأخبار " عن سفيان بن سعيد قال سمعت
أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول: عليك بالتقية فإنها سنة
إبراهيم الخليل (ع) - إلى أن قال - وان رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا أراد
سفرا داري بعيره وقال: امرني ربى بمداراة الناس كما امرني بإقامة -
الفرائض ولقد أدبه الله عز وجل بالتقية فقال ادفع بالتي هي أحسن فإذا
الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولى حميم وما يلقاها الا الذين صبروا
(الآية). يا سفيان من استعمل التقية في دين الله فقد تسنم الذروة -
العليا من القرآن وان عز المؤمن في حفظ لسانه ومن لم يملك لسانه ندم
(الحديث) (2)
وفى هذه الرواية دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله أيضا كان يتقى
في بعض الموضوعات - لا الأحكام ولا في ارشاده وتبليغ رسالته - مداراة
للناس، ودفعا للبغضاء والعداوة عن قلوب المؤمنين بالتورية وشبهها
وفيها أيضا إشارة إلى تقية إبراهيم (ع) في أمر الأصنام في قوله

1 - الحديث 4 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.
2 - الحديث 16 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
403

" انى سقيم " أو قوله " هذا ربى " أو قوله " بل فعله كبيرهم هذا الخ " وانها
كانت من سنته، ومن المعلوم انها داخلة في مفهوم التقية بالمعنى الوسيع
والأعم وهو اخفاء أمر لبعض ما هو أهم.
20 - ما رواه الكليني عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع)
قال إن مثل أبى طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الايمان وأظهروا الشرك
فآتاهم الله اجرهم مرتين (1)
وهذه الرواية وان لم تكن من قسم تقية الأنبياء الا انه ذكرناها
الحاقا بها
وقد أشير إلى قصة أصحاب الكهف في الكتاب العزيز ولكن
لم يصرح فيها بلفظ التقية، ولكن يظهر من قرائن مختلفة مذكورة فيها
انهم كانوا يتقون من أصحابهم، وانهم اختاروا الاعتزال عن قومهم و
آووا إلى الكهف خوفا من ظهور أمرهم وتعذيبهم بيد الملك واتباعه،
فلو اظهروا الايمان اخذوا وقتلوا، فاسروا وأظهروا بعض ما أرادوا إلى أن
وفقهم الله إلى الهجرة، فهاجروا من قومهم ليجدوا فراغا يمكن فيه
اظهار الايمان من غير حاجة إلى اظهار الشرك والموافقة لهم في أعمالكم.
وقد ورد في الروايات والتواريخ ما يؤيد تقيتهم من قومهم، فعدم
ذكر لفظ التقية فيها لا يضر بالاستدلال بعد وضوح المطلب.
وفيها أيضا دلالة على تقية أبى طالب (ع) عم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله
وحاميه وناصره بقلبه وبيده وبلسانه، ولا ينافي هذا اظهاره الايمان في غير
مورد، طول حياته، كما ورد في الاخبار والسير، فإن تقيته كانت غالبية لا -

1 - الحديث 1 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.
404

دائمية، وكانت من الأعداء، لا من المسلمين وأصحاب سيرهم، وفيها
أيضا جواب عن مقالة بعض أهل الخلاف وتهمة الشرك - معاذ الله - إلى
أبى طالب (ع)
وهذه الطائفة من الاخبار تدل على رجحان التقية أو وجوبها اجمالا
في موارد يكون اخفاء الحق فيها واجبا أو راجحا لمصالح مختلفة.
وهناك اخبار اخر كثيرة تدل على وجوبها أو رجحانها في هذه -
الموارد سيأتي الإشارة إلى شيى كثير منها في الأبحاث الآتية إن شاء الله،
وهي بالغة حد التواتر، ومعها لا يبقى شك في أصل الحكم في المسألة
اجمالا.
405

بقي هنا أمور هامة يجب ذكرها
الأول - علة هذا التأكيد البليغ في أمر التقية
لا شك ان الناضر في هذه الأخبار يجد في أول نظره إليها تأكيدا
بليغا في التقية قلما يوجد في أشباهها وقد يستوحش منها أو يوجب سوء
الظن بها أو ببعضها، كل ذلك جهلا بأسرارها ومواردها ومغزاها
ولكن التدبر فيا وفى الظروف التي صدرت لها، وفى القرائن
الموجودة في كثير منها يرشدنا إلى سر هذه التأكيدات ويرفع النقاب
عن وجهها ويفسرها تفسيرا تاما.
والظاهر أن هذا الاهتمام كان لامرين مهمين.
أحدهما - ان كثيرا من عوام الشيعة، أو بعض خواصها، كانوا
يقومون في وجه الحكومات والنظامات الفاسدة الأموية والعباسية بلا عدة
وعدة ولا تخطيط صحيح ولا محجة واضحة، فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة
كأنهم يرون اعلان عقيدة الحق ولو لم يكن نافعا واجبا، واخفائها ولو لم
يجلب الا الوهن والضرر على المذهب ومقدساته حراما، وإن كان حافظا
406

للنفوس والاعراض ومفيدا لحفظ المذهب وكيانه.
أو كانوا يرون التقية كذبا ومجرد ذكر كلمة الشرك شركا وكفرا
وإن كان القلب مطمئنا بالايمان ولذا بكى عمار بعد اظهار كلمة الكفر تقية
حتى ظن أنه خرج عن الاسلام وهلك.
فنهاهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن هذه الأعمال الكاسدة
الضئيلة غير المفيدة وعن هذه الآراء الباطلة، ويشهد لذلك ما ورد من أنها
الجنة وترس المؤمن وأمثالها.
أضف إلى ذلك قول الصادق عليه السلام فيما رواه حذيفة عنه في
تفسير قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال هذا في التقية (1)
ولعل الروايات الحاكية عن تقية الأنبياء وجمع من الأولياء ناظرة
إلى انها ليس كذبا ممنوعا ولا موجبا للكفر والخروج عن الدين، إذا كانت
في مواردها كما تشهد به الرواية التالية.
وهي ما رواه الكليني عن درست الواسطي قال قال أبو عبد الله (ع)
ما بلغت تقية واحد تقية أصحاب الكهف، ان كانوا ليشهدون الأعياد
ويشدون الزنانير فأعطاهم الله اجرهم مرتين (2)
ثانيهما - ان كثيرا من عوام الشيعة وبعض خواصهم كانوا يتركون
العشرة مع غيرهم من المسلمين من أهل السنة لأنهم ان اظهروا عقيدتهم
الحق ربما وقعوا في الخطر والضرر وجلب البغضاء والعداوة، وان اخفوه

1 - الحديث 35 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
2 - الحديث 1 من الباب 26 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
407

كانوا مقصرين في أداء ما عليهم من اظهار الحق، مرتكبين للأكاذيب،
فيرون الأرجح ترك العشرة معهم وعدم القاء أنفسهم في أحد المحذورين،
غفلة عن المضار المترتبة على مثل هذا العمل من شق العصا واسنادهم إلى
الخشونة وقلة الأدب والعواطف الانسانية، وتركهم لجماعة المسلمين
وآدابهم.
فندبهم الأئمة (ع) بالعشرة معهم بالمعروف وحسن المصاحبة و
الجوار، كيلا يعيروا بتركها ولا يكونوا شينا على أئمتهم، وان اضطروا
في ذلك إلى التقية أحيانا.
ويشهد لذلك روايات عديدة،
منها - ما رواه في الكافي عن هشام الكندي قال سمعت أبا -
عبد الله (ع) يقول: إياكم ان تعملوا عملا نعير به فإن ولد السوء يعير والده
بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا ولا تكونوا عليه شينا، صلوا في
عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنايزهم، ولا يسبقونكم إلى
شئ من الخير، فأنتم أولى به منهم، والله ما عبد الله بشئ أحب إليه من
الخبأ، قلت: وما الخبأ؟ قال: التقية (1)
وهذه الرواية تنادى بأعلى صوتها بعدم الاعتزال عن القوم ولزوم
العشرة معهم بالمعروف والصلاة معهم، وعيادة مرضاهم، وشهادة جنايزهم
وغير ذلك من اشباهه كيلا يعيروا بتركه الأئمة (ع) ولا يجدوا طريقا للازراء
بهم وباتباعهم، ويجوز حينئذ التقية معهم وهذا نوع من التقية التحبيبي.
ومنها وما رواه في الكافي أيضا عن مدرك بن الهزهاز عن أبي عبد الله (ع)

1 - الحديث 2 من الباب 26 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
408

قال: رحم الله عبدا اجتر مودة الناس إلى نفسه، فحدثهم بما يعرفون و
ترك ما ينكرون (1)
فإن الحديث معهم بما يعرفون وترك ما ينكرون من مصاديق التقية
وإنما يؤتى بذلك تحبيبا.
ومنها ما في تفسير الإمام الحسن العسكري (ع) قال: وقال الحسن
بن علي (ع) (بن أبي طالب) ان التقية يصلح الله بها أمة لصاحبها مثل ثواب
أعمالهم، فإن تركها أهلك أمة، تاركها شريك من أهلكهم.. الحديث (2)
ولعل ارداف التقية بحقوق الاخوان هنا وفى روايات أخر إشارة
إلى اشتراكهما في حفظ الأمة ووحدتها وحقوقها وكيانها، وإن كان التأكيد
في الأول لاخوانهم، الخاصة والثاني للعامة.
وقد ورد في غير واحد من الروايات (مثل الرواية 32 من الباب 24
والرواية 33 من ذاك الباب بعينه) تفسير قوله تعالى في قصة ذي القرنين
حاكيا عن القوم الذين وجدهم عند السدين: " اجعل بيننا وبينهم سدا "
وقوله " فما اسطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقيا " ان هذا
هو التقية فإنها الحصن بينك وبين أعداء الله وإذا عملت بها لم يقدروا
على حيلة ".
وهذا وإن كان ناظرا إلى تأويل الآية وبطنها والعدول عن ظاهرها
ببعض المناسبات لكشف ما فيها من المعاني الاخر غير معناها الظاهر، الا

1 - الحديث 4 من الباب 26 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
2 - الحديث 4 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف...
409

انه على كل حال دليل على أن التقية يسد الأبواب على العدو، لا باب
المضرة فقط بل باب التعيير واللوم وغيرهما، فهو الحصن الحصين الذي
لا يقدرون ظهورها ولا يستطيعون له نقبا.
ويكون فيها أيضا نجاة وصيانة للأئمة (ع) عن سفلة الرعية التي
قد بدت البغضاء عن أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر، فمعها لا يجدون
عذرا إلى نيل الاعراض وهتك الحرمة كما ورد في رواية " المجالس " عن
الإمام علي بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال الصادق (ع)
" ليس منا من لم يلزم التقية ويصوننا عن سفلة الرعية " (1)
2 - اقسام التقية وغاياتها
وقد يتبين مما ذكر ان غاية التقية لا تنحصر في حفظ الأنفس ودفع
الخطر عنها أو عن ما يتعلق بها من الاعراض والأموال، بل قد يكون
ذلك لحفظ وحدة المسلمين وجلب المحبة ودفع الضغاين فيما ليس
هناك دواع مهمة إلى اظهار العقيدة والدفاع عنها.
كما أنه قد يكون لمصالح آخر، من تبليغ الرسالة بنحو أحسن
كما في قصة إبراهيم واحتجاجه على عبدة الأصنام، أو مصلحة أخرى
كما في قصة يوسف مع اخوته.
فهي - بمعناها الوسيع - تكون على اقسام: التقية الخوفي، و
التقية التحبيبي، والتقية لمصالح اخر مختلفة.

1 - الحديث 27 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف.
410

وغير خفى انها بأجمعها تشترك في معنى واحد وملاك عام وهو
اخفاء العقيدة أو اظهار خلافها لمصلحة أهم من الاظهار فالامر في جميعها
دائر بين ترك الأهم والمهم، والعقل والنقل يحكمان بفعل الأول وترك -
الثاني، من غير فرق بين أن تكون المصلحة التي هي أهم حفظ النفوس
أو الاعراض والأموال، أو جلب المحبة ودفع عوامل الشقاق والبغضاء
أو غير ذلك مما لا يحصى.
3 - موارد وجوبها
قد ظهر مما ذكرنا أيضا انها تجب في مواضع كثيرة، بينما هي
جائزة بالمعنى الأخص في موارد أخرى، وضابط الجميع ما عرفت
وهي:
ان المصلحة التي تنحفظ بفعل التقية ان كانت مما يجب حفظها
ويحرم تضييعها، وجبت التقية، وان كانت مساوية لمصلحة ترك التقية
جازت (الجواز بالمعنى الأخص) وإن كان أحد الطرفين راجحا فحكمها
تابع له.
ثم إن كشف موارد الوجوب عن غيرها يعلم بمراجعة مذاق الشرع
وأهمية بعض المصالح ورجحانها على بعض في نظره، كما يمكن كشف
بعضها بمراجعة العقل أيضا كما في موارد حفظ النفوس إذا كانت التقية
بمثل ترك المسح على الرجلين والاكتفاء بالمسح على الخفين مثلا،
وأشباهه.
411

فالروايات الدالة على أن التقية من الدين، وان تاركها يعاقب عليه،
وان تركها مثل ترك الصلاة، وأمثال هذه التعبيرات ناظرة إلى موارد -
الوجوب، والمصالح المهمة التي لا يمكن تركها والاغماض عنها.
وما يدل على أنها داخلة في قوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن
السيئة (مثل الرواية 2 من الباب 24 في أبواب الأمر بالمعروف و 9 من
ذاك الباب بعينه) وانه إذا عمل بالتقية " فإذا الذي بينك وبينه عداوة
كأنه ولى حميم " وأمثال هذه التعبيرات يدل على موارد رجحانها و
استحبابها.
إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل في الأبواب المشتملة على اخبار
التقية فإن ألسنتها مختلفة غاية الاختلاف كل يشير إلى مورد، فلا يجوز -
الحكم على جميعها بشئ واحد كما هو أظهر من أن يخفى
فمثل المداراة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله (الواردة في الرواية
16 من الباب 24) وما ورد فيها من أنه أدبه الله بالتقية بقوله عز وجل " ادفع
بالتي هي أحسن... " داخل في قسم المستحب.
وكذا ما ورد في ذيل هذا الحديث بعينه من قوله:
" من استعمل التقية في دين الله فقد تسنم الذروة العليا من القرآن
وان عز المؤمن في حفظ لسانه " لعله أيضا إشارة إلى هذه الموارد ولا أقل
من أنه أعم من موارد الوجوب والاستحباب.
وسيأتي موارد رجحان ترك التقية وجواز الاظهار أيضا.
تنبيه
ولعلك بالنظر الدقيق فيما عرفت لا تشك في أن وجوب التقية أو -
412

جوازها فيما مر من مواردها ليس أمر تعبديا ورد في الاخبار المروية
من طرق الخاصة وروايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بل يدل عليه
الأدلة الأربعة: كتاب الله عز وجل، وقد أوعزنا إلى موارد الدلالة من الكتاب
العزيز، والاجماع القاطع، والأحاديث المتواترة، التي نقلنا شطرا منها
واستغنينا بها عن غيرها اختصارا للكلام، وحكم العقل القاطع مع صريح
الوجدان.
بل لا يختص ذلك بقوم دون قوم، وملة دون أخرى، وان اختص
هذا الاسم والعنوان ببعضهم، كما انها لا تختص بالمليين وأرباب الديانات
بل تعم غير هم أيضا.
فهل ترى أحدا من العقلاء يوجب اظهار العقيدة في موارد لا فايدة
في اظهارها، أو يجد فيها نفعا قليلا مع المضمرة القاطعة الكثيرة الموجودة
في اظهارها ضررا في النفوس أو الاعراض أو الأهداف المهمة التي يعيش
بها، ولها.
والانصاف ان ما يلهج به لسان قم من مخالفينا في المذهب من
حرمة التقية بنحو مطلق من دون استثناء، لا يتجاوز عن آذانهم حتى أنه
لا يوجد في أعمالهم اثرا منه، وإنما هو لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت
به معايشهم وأغراضهم، واما عند العمل، هم وغير هم سواء في الاخذ بحكم -
العقل وصريح الوجدان باخفاء العقيدة في ما لا نفع في اظهارها بل تكون
فيها مضرة بالغة الخطورة، سموه تقية أو لم يسموه.
ولكن سيأتي ان هناك موارد يحرم التقية فيها بل يجب فيها التضحية
والتفدية وبذل الأموال والأنفس والثمرات.
413

كما أنه قد يرجح ذلك على الاخفاء وتكون التقية مرجوحة، و
تركها راجحا وفضلا.
كل ذلك منوط بالظروف الخاصة وما فيها من الشرايط والجهات،
ومن هنا قد يجب الفقيه البارع المجاهد، العارف بزمانه، الخبير بمواضع
أحكام الله، ظرفا خاصا منطبقا لمورد الحرمة أو الكراهة فيحكم علانية
بحرمة التقية والجهاد بالأموال والأنفس ورفض المدارة فيها، ولا يريد
رفضها مطلقا وإنما يريد في تلك الظروف المعينة بما فيها من المصالح.
فلا شك انه حكم خاص بذاك الظرف والزمان، وما أشبهه من الظروف
والأزمنة وليس حكما دائميا وفى جميع الشرائط والظروف كما هو أوضح
من أن يخفى وان ينكر.
* * *
414

في أي موقف تحرم التقية؟
قد مر في أول البحث عن هذه القاعدة ان التقية - كما أشار إليه
غير واحد من أعاظم المحققين - تنقسم بالأحكام الخمسة، وقد أشرنا
أخيرا إلى موارد وجوبها ورجحانها وجوازها اجمالا.
كما أنه أشرنا إلى الضابطة التي تكون مقياسا لكشف موارد
حرمتها وهي كل مورد تكون المصلحة المرتبة على ترك التقية أعظم من
فعلها، مما لا يرضى الشارع المقدس بتركها أو يستقل العقل في الحكم
بحفظها.
وقد أشير إلى غير واحد من هذه الموارد في روايات الباب وهي
أمور:
1 - لا يجوز التقية في فساد الدين
إذا استلزم التقية فسادا في الدين وتزلزلا في أركان الاسلام، و
محوا للشعائر، وتقوية للكفر، وكل ما يكون حفظه أهم في نظر الشارع
من حفظ النفوس أو الأموال والاعراض، مما يشرع لها الجهاد أيضا،
والدفاع عنها ولو بلغ ما بلغ.
415

ففي كل ذلك لا شك في حرمتها ولزوم رفضها ولكن تشخيص
ذلك مما لا يمكن للمقلد غالبا بل يكون بأيدي الفقهاء والمجتهدين
لاحتياجه إلى مزيد تتبع في أدلة الشرع والاطلاع على مذاق الشارع و
مغزى أحكامه.
ويشهد لهذا - مضافا إلى أنه من الأمور التي دليلها معه - ومبنى
على قاعدة عقلية واضحة وهو ترجيح جانب الأهم إذا دار الامر بينه وبين -
المهم، غير واحد من الاخبار:
منها ما رواه في " الكافي " عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع)
في حديث: ان المؤمن إذا أظهر الايمان ثم ظهر منه ما يدل على نقضه خرج
مما وصف واظهر، وكان له ناقضا، الا ان يدعى انه إنما عمل ذلك
تقية، ومع ذلك ينظر فيه، فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في
مثله لم يقبل منه ذلك، لأن للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم
تستقم له، وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم
على غير الحكم الحق وفعله، فكل شئ يعمل المؤمن بينهم لمكان -
التقية مما لا يؤدى إلى الفساد في الدين فإنه جائز (1)
فإن قوله (ع) في ذيل تفسير موارد التقية، وما يجوز مما لا يجوز،
" مما لا يؤدى إلى الفساد في الدين " يدل بمفهمومه على عدم جواز التقية إذا
أدت إلى ذلك.
ومنها - ما رواه " الكشي " في رجاله عن درست بن أبي منصور
قال كنت عند أبي الحسن موسى (ع)
وعنده " الكميت بن زيد " فقال

1 - الحديث 6 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.
416

للكميت أنت الذي تقول:
فالآن صرت إلى أمية - والأمور لها إلى مصائر؟!
قال: قلت ذلك وما رجعت عن ايماني، وانى لكم لموال ولعدوكم
لقال، ولكني قلته على التقية، قال اما لئن قلت ذلك أن التقية تجوز في
شرب الخمر؟!
وهذا يدل على اعتراض الإمام عليه السلام على " كميت " في شعره
الذي معناه " الان رجعت إلى أمية وأمورها الان إلى ترجع " فإنه مدح
بالغ لهم ودليل على رجوعه إليهم بعد أن كان معروفا بالموالاة لائمة أهل -
البيت عليهم السلام.
ولكن الكميت الناصر لأهل البيت (ع) بقلبه وبلسانه اعتذر بأنه إنما
قالها بلسانه تقية وحفظا لظواهر الأمور، واما الإمام (ع) لم يقنع بعذره
فاجابه بان باب التقية لو كان واسعا بهذه الوسعة لجاز في كل شئ تقية
حتى في شرب الخمر، مع أنه لا يجوز.
فهو دليل على عدم جواز التقية بمثل هذا المدح البالغ لبنى أمية
الجائرة أو اظهار المحبة لهم، وهذا من مثل الكميت الشاعر البارع المشهور
بحبه للأئمة (ع) قد يوجب تقوية لدعائم الكفر والضلال وتأييدا لبقية
احزاب الجاهلية وأشياعهم، فلا يجوز له، ولو جاز إنما جاز في شرايط و
وظروف بالغة الخطورة لا في مثل ما قال الكميت فيه، فلذا واجهه (ع)
بالعتاب.
وإذا لم تجز التقية بمثل هذا البيت من الشعر لم تجز في اشباهه مما
تقوى به كلمة الكفر واعلام الضلال ويخفى به الهدى ويشتبه به الحق بالباطل
417

على كثير من الناس، لا سيما من الذين يكون كلامهم وفعلهم مما يستند إليه
الناس في أعمالهم، فالتقية في هذه الموارد حرام، ولكن تشخيص هذه
الظروف من غيرها - كما أشرنا إليه آنفا - موكول إلى نظر الفقيه غالبا.
ومنها - ما رواه الطبرسي في " الاحتجاج " عن أبي محمد الحسن
بن علي العسكري (ع) في حديث ان الرضا (ع) جفا جماعة من الشيعة
وحجبهم فقالوا يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف
بعد الحجاب الصعب؟ قال:
لدعواكم انكم شيعة أمير المؤمنين (ع) وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون
ومقصرون في كثير من الفرائض، وتتهاونون بعظيم حقوق اخوانكم في الله
وتتقون حيث لا تجب التقية، وتتركون التقية حيث لابد من التقية (1)
وهذه الرواية وان لم يصرح فيها باستثناء ما يلزم منه فساد الدين
الا ان القدر المتيقن منه هو ذلك، إذا لا يوجد هناك أمر أهم منه يجوز لأجله
ترك التقية، اللهم الا ان يقال إن المراد منه التزامهم التقية فيما ليس هناك
خوف وتركهم لها فيما يكون هناك خوف فهي ناظرة إلى تخطئتهم في
المصاديق لا في المستثنيات الحكمية فتأمل.
منها - ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبي حمزة الثمالي قال: قال
أبو عبد الله (ع) - إلى أن قال: وأيم الله لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لا نفعل
إنما نتقى! ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم ولو قد قام
القائم ما احتاج إلى مسائلتكم عن ذلك ولا قام في كثير منكم حد النفاق! (2)

1 - الحديث 9 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف
2 - الحديث 2 من الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف
418

ودلالته على لزوم ترك التقية فيما وقع الدين في الخطر واستنصر الإمام (ع)
عن الناس غير خفية على أحد وان من لزوم التقية في هذه الموارد إذا قام -
القائم (ع) أقام فيه حد المنافق فاذن كانت التقية في هذه الموارد من أشد
المحرمات وآكدها.
وعلى كل حال لا ينبغي الريب في وجوب رفض التقية والتمسك
بها إذا خيف على أساس الدين وأحكامه ومحو آثاره التي جاهدت في تحكيم
دعائمها المهاجرون الأولون والذين اتبعوهم باحسان (رضي الله عنهم و
رضوا عنه) وافتدوا بأموالهم وأنفسهم في طريقها طلبا لمرضاة الله، فكيف
يجوز التقية المستتبعة لهدمها والقضاء عليها، فهل يكون هذا الا تضادا
ظاهرا وتحكما باتا؟!
2 - لا تجوز التقية في الدماء - إذا بلغت التقية الديم فالواجب
رفضها وعدم الخوض فيها كما إذا أمر الكافر أو الفاسق بقتل مؤمن ويعلم
أو يظن أنه لو تركه قتل نفسه فلا يجوز القتل تقية وحفظا للنفس، لأن
المؤمنين تتكافى دمائهم، وإنما جعلت التقية لحقن الدماء وحفظ النفوس
فإذا بلغت الدم فلا معنى لتشريعها، وكانت ناقضة للغرض، لأن حفظ دم واحد
لا يوجب جعل دم الاخر هدرا، ولا يجوز في حكمه الحكيم هذا.
وقد صرح به في غير واحد من أحاديث الباب:
منها - ما رواه محمد بن يعقوب الكليني في " الكافي " عن محمد
بن مسلم عن أبي جعفر الباقر (ع) قال إنما جعل التقية ليحقن بها الدم فإذا
بلغ الدم فليس تقية (1).

1 - الحديث 1 من الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف
419

ومنها - ما رواه الشيخ في " التهذيب " عن أبي حمزة الثمالي قال:
قال أبو عبد الله (ع) لم تبق الأرض الا وفيها عالم يعرف الحق من الباطل
وقال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية (1)
* * *
3 - يحرم التقية في شرب الخمر، وشبهها - قد ورد في روايات
مختلفة تحريم التقية في أمور هامة منها شرب الخمر، والنبيذ، والمسح
على الخفين ومتعة الحج فلنذكر ما ورد فيها ثم نبين وجهها.
منها - ما رواه في " الكافي " عن أبي عمر الأعجمي عن أبي عبد الله -
(ع) في حديث قال: والتقية في كل شئ الا في النبيذ والمسح على
الخفين. (2)
ومنها - ما رواه فيه أيضا عن زرارة قال: قلت له في مسح الخفين
تقية؟ فقال: ثلاثة لا اتقى فيهن أحدا: شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة
الحج، قال زرارة: ولم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا.
ولعل الوجه في حرمة التقية في هذه الأمور ان موضوعات منتف
فيها فإنها شرعت لحفظ النفوس إذا كان هناك مظنة للخطر والضرر، ومن
المعلوم انه لا يكون الا في الأعمال الخاصة التي لم يصرح به في كتاب الله
أو السنة القطعية، فإذا كان هناك تصريح بها فهو عذر واضح لفاعلها وان خالف
سيرة القوم وطريقتهم فيها.

1 - الحديث 2 من الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف
2 - الحديث 3 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف
3 - الحديث 5 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف
420

فحرمة شرب المسكر، الخمر والنبيذ وشبههما مما صرح به
كتاب الله، فلو خالفه أحد واعتقد جواز شربها جهلا، أو تعنتا لا تجوز
التقية منه فيها، لظهور الدليل ووضوح العذر وقيام الحجة فليس هناك مساغ
للتقية ولا مجوز لها.
وكذلك متعة الحج، فقد قال الله تبارك وتعالى " فمن تمتع
بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى... ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام " (1)
وهو دليل على جواز التمتع أو وجوبها، وقد ورد في السنة النبوية
أيضا الامر بها، وقد رواه الفريقان في كتبهم، بل ما نقل عن " عمر " في قوله
متعتان كانتا محللتان على زمن النبي انا احرمهما، أيضا دليل على تشريع متعة
الحج على لسان النبي صلى الله عليه وآله وفى عهده صلى الله عليه وآله.
وهذا كاف في ترك التقى فيها لعدم الخوف بعد امكان الاستناد إلى القرآن
والسنة الثابتة.
وهكذا ترك المسح على الخفين والاقتصار على المسح على البشرة
فإنه أيضا موافق لظاهر كتاب الله أو صريحه فقد قال تعالى: وامسحوا
برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين (2)
ومن الواضح ان المسح بالرأس والرجل لا يكون الا بالمسح
عليها نفسهما لا على القلنسوة أو الخف مثل، ومن عمل به إنما عمل بكتاب الله
ولا خوف له في ذلك في أجواء الاسلام وبين المسلمين، ولو خالف فيه من خالف

1 - البقرة - 196
2 - المائدة - 6
421

وقد تحصل مما ذكرنا ان نفى التقية فيها إنما هو من باب التخصص
والخروج الموضوعي، لا من باب التخصيص والخروج الحكمي.
واما احتمال كونها من باب التخصيص بان يكون المراد نفى
جوازها، لو فرض هناك خوف وقوع النفس في الخطر وكان المقام بالغ
الخطورة، نظرا إلى أهمية هذه الأحكام أعني حكم تحريم الخمر،
ومشروعية متعة الحج، وعدم جواز المسح على الخفين، فهو ممنوع جدا.
لأن مثل المسح على البشرة أو متعة الحج ليس أهم من جميع الأحكام
الاسلامية حتى ينفرد بهذا الاستثناء كما لا يخفى.
بل الانصاف ان الروايات ناظرة إلى ما ذكرنا من عدم الحاجة و
الضرورة غالبا إلى التقية في هذه الأمور بعد وضوح مأخذها من كتاب الله
والسنة القاطعة.
فعلى هذا لو أغمضنا النظر عن هذه الغلبة وكان هناك ظروف
خاصة لا يمكن فيها اظهار هذه الأحكام، لغلبة الجهل والعصبية على أهلها
وكان المقام بالغ الخطورة، الخطر على النفوس أو الأموال والاعراض
ذات الأهمية فلا ينبغي الشك في جواز التقية في هذه الأمور أيضا.
أرأيت لو كان هناك حاكم مخالف جائر يرى المسح على الخفين
لازما أو يحرم متعة الحج ويقتل من لا يعتقد بذلك بلا تأمل، فهل يجوز ترك
التقية فيها واستقبال الموت؟ كلا لا أظن أن يلتزم به أحد، وكذلك المضار
التي دون القتل مما يكون في مذاق الشارع أهم من رعاية هذه الأحكام
في زمن محدود، لا يجب تحملها ورفض التقية فيها.
ومما ذكرنا يظهر ان ما استنبطه " زرارة " في الرواية السابقة
422

من أنه عليه السلام لم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا بل قال لا اتقى
فيهن أحدا، وكأنه حسب ذلك من مختصات الإمام (ع) ممنوع أيضا.
فإن الحكم عام لكل أحد بعد وضوح مأخذ هذه الأحكام في الكتاب
والسنة، وعدم الاضطرار إلى التقية فيها، فاستنباط هذا في غير محله وإن كان
هو من فقهاء أهل البيت وأمنائهم (ع) فإن الجواد قد يكبو، والعصمة تخص
بافراد معلومين عليهم آلاف الثناء والتحية.
ويدل على ما ذكرنا ما رواه الصدوق في " الخصال " باسناده عن علي
(ع) في حديث الأربعمأة قال ليس في شرب المسكر والمسح على
الخفين تقية. (1)
فإن ظاهره عدم جواز التقية فيها على أحد، وكذلك ما مر سابقا
من رواية أبى عمر الأعجمي عن الصادق (ع) والتقية في كل شئ الا في
النبيذ والمسح على الخفين، فإن ظاهره أيضا عموما الحكم لكل أحد.
ومما يؤيد ما ذكرنا من جواز التقية في هذه الأمور أيضا إذا اضطر
إليها ولو نادرا ما رواه الشيخ في " التهذيب " عن أبي الورد قال قلت لأبي -
جعفر (ع) ان أبا ظبيان حدثني ان رأى عليا (ع) اراق الماء ثم مسح على
الخفين فقال كذب أبو ظبيان اما بلغك قول علي (ع) فيكم: سبق الكتاب
الخفين فقلت هل فيهما رخصة؟ فقال لا الا من عدو تتقيه أو ثلج تخاف على
رجليك. (2)

1 - الحديث 18 من الباب 38 من أبواب الوضوء من الجلد الأول من
الوسائل.
2 - الحديث 5 من الباب 38 من أبواب الوضوء من المجلد الأول من
الوسائل.
423

وفيها أيضا إشارة إلى ما ذكرنا من أنه بعد ورود المسح على الرجلين
في آية المائدة في الكتاب العزيز لم يجز لاحد المسح على الخفين.
* * *
4 - لا تجوز التقية في غير الضرورة - قد صرح في غير واحد
من الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام بأنه لا تجوز التقية في
غير الضرورة، ومعلوم ان ذلك أيضا ليس من قبيل الاستثناء من الحكم
والتخصيص. بل من قبيل الخروج الموضوعي والاستثناء المنقطع،
المسمى بالتخصص، فإنه إذا لم يكن هناك ضرورة لم يكن هناك تقية. لاخذ
الخوف في موضوعها كما عرفت في أول البحث عن هذه القاعدة.
واليك بعض ما ورد في هذا الباب أيضا:
منها - ما رواه الكليني عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: التقية
في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين نزل به. (1)
منها - ما رواه الكليني أيضا في الكافي عن إسماعيل الجعفي
ومعمر بن يحيى ومحمد بن مسلم وزرارة جميعا قالوا سمعنا أبا جعفر (ع)
يقول: التقية في كل شئ يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له. (2)
منها - ما رواه في " المحاسن " عن عمر بن يحيى عن أبي جعفر (ع)
قال: التقية في كل ضرورة (3).
والذي تجب الإشارة إليه هنا ان هذه الروايات الثلث المروية

1 - الحديث 1 من الباب 25 من أبواب الأمر بمعروف
2 - الحديث 2 من الباب 25 من أبواب الأمر بمعروف
3 - الحديث 8 من الباب 25 من أبواب الأمر بمعروف
424

بطرق متعددة معتبرة كلها أو جلها، تدل على عموم التقية لجميع الضرورات
ولكل ما يضطر إليه الانسان ويمكن الاعتماد عليها كما سيأتي الاستناد
إليها في بعض الفروع الهامة المترتبة عليها، وان كنا في غنى عنها من بعض
الجهات بالدليل العقلي وصريح الوجدان الدال على وجوب ترجيح الأهم
على المهم عند الدوران، وبالعمومات الدالة على رفع ما اضطروا إليه، أو انه
ما من شئ حرمه الله الا وقد أحله لمن اضطر إليه.
هذا ولكن سيأتي إن شاء الله انا لسنا في غنى منها من جميع الجهات
لحل بعض المعضلات بها مما لا يمكن بغيرها (فتدبر)
425

حكم التقية في اظهار كلمة الكفر والبراءة
اتفق النص والفتوى على جواز التكلم بكلمة الكفر والبراءة باللسان
مع حفظ الايمان بالقلب والجنان، عند الخطر على النفس والخوف،
ولكن اختلفوا في أن الراجح ترك التقية هنا وتحمل الضرر ولو بلغ ما بلغ،
أو ان الراجح فعل ما يندفع به الضرر والخطر.
يظهر في ذلك اضطرابا في اخبار الباب والفتاوى في بدء النظر، ولكن
سيأتي بعد ذكر الجميع والتكلم فيها ان الحق فيه التفصيل بحسب الأزمان و
الاشخاص والظروف، ولعله الطريق الوحيد للجمع بينها.
ولنتكلم أولا في جواز ذلك (بالمعنى الأعم) ثم لنتكلم في الراجح
منهما وفيما تمسك به أصحاب الأئمة (ع) الأولون، المطيعون
الصادرون بأمرهم، الناصرون لهم بالأيدي والألسن والقلوب
الذين افتدوا بأنفسهم في هذا السبيل ولم يظهروا كلمة البراءة
والكفر ابدا.
فنقول ومنه سبحانه نستمد التوفيق:
يدل على الجواز اجمالا أحاديث كثيرة:
426

1 - ما مر عند سرد الآيات الدالة على جواز التقية في مظانها في
تفسير قوله تعالى " الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " من فعل عمار، و
ما روته العامة والخاصة في هذا المجال، من أن أبويه لم يظهرا كلمة
الكفر فقتلا وان عمارا أظهر ونجى، ثم اتى رسول الله صلى الله عليه وآله باكيا فقال
جمع من الصحابة: كفر عمار، ولكن جعل رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح عينيه
ويقول له: ان عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت الآية " من كفر من بعد ايمانه الا من
أكره وقلبه مطمئن بالايمان ".
2 - ما روته العامة والخاصة في كتبهم - وقد مر ذكره أيضا عند
ذكر الآيات أيضا - من حديث رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أحدهما
مسيلمة الكذاب فقال لأحدهما: اشهد انى رسول الله فشهد ونجا واما الاخر فقد
أبى وقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقهما: اما الأول فقد اخذ رخصة الله واما
الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له.
وفى هذه الرواية وان لم يكن ذكر عن البراءة عن الرسول صلى الله عليه وآله ولكن
الشهادة برسالة مسيلمة كانت من كلمة الكفر نفسه فيدل على الجواز في غيره
بطريق أولى فتدبر.
3 - وفى معناهما ما رواه الكليني في " أصول الكافي " عن عبد الله
بن عطا قال: قلت: لأبي جعفر (ع) رجلان من أهل الكوفة اخذا فقيل لهما
أبريا عن أمير المؤمنين (ع) فبرى واحد منهما وأبى الآخر فخلى سبيل
الأول الذي برى وقتل الاخر فقال: اما الذي برى فرجل فقيه في دينه واما الذي
لم يبرء فرجل تعجل إلى الجنة (1).

1 - الحديث 4 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل.
427

وسنتكلم إن شاء الله في دلالتها على رجحان ترك التقية أو فعلها.
4 - ما رواه الكليني عن مسعدة بن صدقة قال: قلت لأبي عبد الله (ع)
ان الناس يروون ان عليا (ع) قال على منبر الكوفة أيها الناس انكم ستدعون
إلى سبى فسبوني ثم تدعون إلى البراءة منى فلا تبروا منى.
فقال ما أكثر ما يكذب الناس على علي (ع) ثم قال: إنما قال: انكم
ستدعون إلى سبى فسبوني ثم تدعون إلى البراءة منى وانى لعلى دين
محمد صلى الله عليه وآله ولم يقل: ولا تبرأوا منى، فقال له السائل أرأيت ان اختار القتل
دون البراءة، فقال: والله ما ذلك إليه، وماله الا ما مضى عليه عمار بن ياسر،
حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان منزل الله عز وجل " الا من
أكره وقلبه مطمئن بالايمان " فقال له النبي صلى الله عليه وآله: يا عمار ان عادوا فعد، فقد
انزل الله عذرك، وأمرك ان تعود ان عادوا (1).
وظاهر هذه الرواية في بدء النظر وجوب التقية هنا أيضا، ولكن
بعد التأمل يظهر انها ناظرة إلى نفى الحرمة فقط - لا سيما بالنسبة إلى
البراءة عن علي (ع) والأئمة من ولده عليهم السلام التي رووا حرمتها وان جاز
السب، وسيأتي الكلام فيها عن قريب إن شاء الله.
هذا مضافا إلى أن قوله (ع) " والله ما ذلك عليه " ونقله حديث عمار
دليل على أنه بصدد نفى الحرمة لا اثبات وجوب التقية هناك، ولذا كان فعل
أبوي عمار أيضا جائزا كما يظهر من قصتهم.
5 - ما رواه محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن أبي بكر الحضرمي
عن أبي عبد الله صلى الله عليه وآله في حديث انه قيل له: مد الرقاب أحب إليكم أم البراءة

1 - الحديث 2 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف..
428

من علي (ع) فقال الرخصة أحب إلى، اما سمعت قول الله عز وجل في عمار
" الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " (1)
وسيأتي ان دلالته على رجحان الرخصة معارض بغيره وطريق
الجمع بينهما.
6 - ما رواه العياشي أيضا عن عبد الله بن عجلان عن أبي عبد الله (ع)
قال سئلته وقلت له: ان الضحاك قد ظهر بالكوفة ويوشك ان ندعى إلى
البراءة فكيف نصنع قال فابرء منه، قلت أحب إليك؟ قال: ان تمضوا
على ما مضى عليه عمار بن ياسر اخذ بمكة فقالوا له: ابرء من رسول الله صلى الله عليه وآله
فبرء منه فأنزل الله عز وجل عذره: " الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " (2)
وظاهره أيضا وإن كان الوجوب بادي الامر، الا ان الامر هنا في
مورد توهم الخطر للروايات الدالة بظاهرها على المنع على البراءة، فلا
يدل على الوجوب، ويؤيده استشهاده بقضية عمار الذي قتل أبواه ولم
يظهرا كلمة الكفر ولم يقدح في أمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله فهو على كل حال دليل
على مجرد الرخصة والجواز لا غير.
7 - ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (ع) في احتجاجه
على بعض اليونان (3) قال:
" وآمرك ان تستعمل التقية في دينك فإن الله عز وجل يقول: " لا يتخذ
المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله

1 - الحديث 12 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف
2 - الحديث 13 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف
3 - سيأتي معناه
429

في شئ الا ان تتقوا منهم تقاة " وقد أذنت لكم في تفضيل أعدائنا ان ألجأك
الخوف إليه. وفى اظهار البراءة ان حملك الوجل عليه وفى ترك الصلوات
المكتوبات ان خشيت على حشاشة نفسك الآفات والعاهات، فإن تفضيلك
أعدائنا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا، وان اظهارك برائتك منا عند تقيتك
لا يقدح فينا ولا ينقصنا، ولئن تبرء منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك
لتبقى على نفسك روحها التي بها قوامها ومالها الذي به قيامها، وجاهها
الذي به تمسكها، وتصون من عرف بذلك أوليائنا وإخواننا فإن ذلك أفضل
من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل في الدين، وصلاح إخوانك
المؤمنين، وإياك ثم إياك ان تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شائط
بدمك ودماء إخوانك، معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال، مذل لهم في أيدي
أعداء دين الله، وقد امرك الله باعزازهم، فإنك ان خالفت وصيتي كان ضررك
على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا (1)
قال الفيروزآبادي في القاموس " ويونان بالضم قرية ببعلبك، وأخرى
بين برذعة وبيلقان ".
ولعل هذا الحديث إنما صدر منه (ع) ولم يخلص الشامات وضواحيها
عن الشرك وسيطرة الروم بعد، فإن التقية بترك الصلاة (المراد به ترك صلاة
المختار، لا المضطر الذي يمكن أداها بمجرد الايماء والإشارة) لا يكون
بين المسلمين بل يكون بين الكفار قطعا.
ثم إن ظاهر قوله " فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك الخ "
وإن كان ظاهرا في أفضلية التقية من تركها في أمثال المقام بادي الامر،

1 - الحديث 11 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
430

الا ان قوله بعد ذلك في ذيل الحديث " إياك ثم إياك الخ " وقوله " كان ضررك
على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا " دليل واضح على
وجوب التقية هنا وان " افعل التفضيل " هنا للتعين مثل وأولى الأرحام بعضهم
أولى ببعض في كتاب الله، ومثل قوله في روايات يوم الشك " أحب من أن
يضرب عنقي ".
فعلى هذا تتم دلالة الرواية على الوجوب، في موارد البراءة واظهار
كلمة الكفر وغير هما، ولكن ارسالها يسقطها عن الحجية فإن الطبرسي
(رحمه الله) نقلها عن أمير المؤمنين عليه السلام بدون ذكر السند، ونقلها
في تفسير العسكري لا يجعلها حجة بعد الكلام المعروف حول التفسير
المزبور (فتأمل).
ولو تمت حجيتها سندا مع وضوحها دلالة أشكل العمل بها، بعد
معارضتها بالروايات الكثيرة المستفيضة أو البالغة حد التواتر على جواز
ترك التقية هنا، فلابد من حملها على التفصيل الآتي أو على بعض الظروف
الخاصة.
* * *
هذا وقد يظهر من غير واحد من أحاديث الباب التفصيل بين
" السب " والبراءة بالجواز في الأول والمنع عن الثاني واليك بعض
ما ورد في الباب.
1 - ما رواه الشيخ في " مجالسه " عن محمد بن ميمون عن جعفر
بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام قال قال: أمير المؤمنين (ع)
ستدعون إلى سبى فسبوني وتدعوني إلى البراءة منى فمدوا الرقاب فانى على
431

الفطرة (1).
وهذا صريح في التفصيل بين السب والبراءة بجواز التقية في الأول
والمنع عن الثاني.
2 - ما رواه الشيخ عن علي بن علي اخى دعبل الخزاعي عن علي
بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليهم السلام
أنه قال: انكم ستعرضون على سبى فإن خفتم على أنفسكم فسبوني، الا
وانكم ستعرضون على البراءة منى فلا تفعلوا فانى على الفطرة (2).
والحديث مثل سابقه في الدلالة على التفصيل وظاهره حرمة البراءة.
3 - ما رواه الرضى قدس سره في " نهج البلاغة " عن أمير المؤمنين -
(ع) أنه قال: اما انه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مند حق
البطن، يأكل ما يجدو يطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، الا وانه
سيأمركم بسبي والبراءة منى فاما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم
نجاة، واما البراءة فلا تبرأوا منى فانى ولدت على الفطرة، وسبقت بالايمان
والهجرة (3).
ويعارض هذه الروايات ما مر في رواية مسعدة بن صدقة (2 / 29)،
ولكن الانصاف انه يمكن حمل هذه الروايات على ذاك الزمان العنود
وفى تلك الآفاق الكاشفة نورها الظاهرة غرورها، التي كان من الواجب
كفاية - على الأقل - اظهار كلمة الحق والافتداء بالأنفس لئلا تنمحي آثار

1 - الحديث 8 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
2 - الحديث 9 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
3 - الحديث 10 من الباب 29 من أبواب الأمر بالمعروف من الوسائل
432

النبوة، لاجتماع أعداء أهل البيت على محو آثار الوصي (ع) بل النبي -
صلى الله عليه وآله إذا قدروا عليه، فأجيز لهم بارتكاب الدرجات الخفيفة من المنكر
تقية - وهي السب - ونهوا عن الشديدة وهي البراءة، ولو ابتلينا - لا سمح
الله - بأزمنة في مستقبل الأيام وظروف تشبه زمن أمير المؤمنين (ع) وما
أرادوا من محو اثاره (ع) بعد شهادته كان القول بوجوب مد الأعناق (بعد
ضرب أعناق الأعداء ونشر كلمة الحق وابطال الباطل) قويا فتدبر.
فهذا طريق الجمع بين روايات الباب التي تدل أكثرها على الجواز
وبعضها على الحرمة في خصوص البراءة، ولا يمكن تخصيصها في
خصوص مورد البراءة، لصراحة بعضها في جوازها بالخصوص، أو جواز
ما لا يتفاوت من البراءة فراجع.
* * *
واما الكلام في المقام الثاني أعني ترجيح أحد الجانبين، ترك
التقية في اظهار كلمة الكفر، وفعلها، فالذي ينبغي ان يقال فيه ان:
الذي يظهر من رواية الحسن التي مرت سابقا الحاكية لفعل رجلين
في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله الذي اخذهما مسيلمة الكذاب ان الراجح ترك
التقية وان التارك لها صدع بالحق فهنيئا له، وان الاخذ بالتقية اخذ برخصة الله فحسب.
وكذلك الروايات الثلث الناهية عن البراءة، الامرة بافتداء النفوس
واستقبال المنية في هذا السبيل، فإنها أيضا تدل على تقديم ترك التقية
إذا جاوز الامر عن السب وانتهى إلى البراءة، وفى حكمها كلمات الكفر
فتدبر.
433

هذا مضافا إلى عمل جمع من بطانة أهل البيت وخواص
أصحاب علي (ع) وغيره من الأئمة الطاهرين (عليهم صلوات الله
وسلامه)، مثل " حجر بن عدي " وستة أو عشرة اشخاص اخر من أصحاب
علي (ع) الذين قتلوا في " مرج عذراء " (1) ولم يتبرأوا ومثل " ميثم التمار "
و " رشيد البحري " و " عبد الله بن عفيف الأزدي، و عبد الله بن يقطر "،
و " سعيد بن جبير "، وجمع ممن قتلوا دون الحسين عليه السلام.
وترجمة كثير من هؤلاء نقلها الموافق والمخالف.
فقد قال " الذهبي " في ترجمة " حجر " انه كان يكذب زياد بن
أبيه على المنبر وحصبه (2) مرة فكتب فيه إلى معاوية... فسيره زياد إلى
معاوية وجاء الشهود شهدوا عند معاوية عليه وكان معه عشرون رجلا فهم
معاوية بقتلهم واخرجوا إلى " عذراء " وقيل إن رسول معاوية جاء إليهم لما
وصلوا إلى عذراء يعرض عليهم التوبة والبراءة من علي (ع) فأبى عن
ذلك عشرة وتبرء عشرة... فقتلوا " (3)
وفى محكى " إعلام الورى " قال: دخل معاوية على عايشة فقالت
ما حملك على قتل أهل عذراء، حجر وأصحابه، فقال يا أم المؤمنين انى رأيت
قتلهم صلاحا للأمة، وبقائهم فسادا للأمة، فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) " عذراء " موضع قريب من الشام و " مرج " هو الأرض الواسعة فيها
نبت كثير ترعى فيها الدواب.
(2) حصبه: رماه بالحصى
(3) رواه العلامة المامقاني في المجلد الأول من رجاله في ترجمة حجر
بن عدي.
434

قال سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء!
وقد ارخ قتلهم بسنة " 51 " أو (53) وقد تضمن " تاريخ ابن الأثير "،
وكتاب " أبى الفرج الكبير " مالا مزيد عليه من ترجمته وكيفية قتله. (1)
وعلى كل حال، هؤلاء أو كثير منهم كانوا من حملة علوم الأئمة
أو رسلا منهم إلى قومهم، فهم على كل حال من بطانة أهل البيت (ع)
فهل كانوا جاهلين بمواقف أحكام الشرع ووظائفهم تجاه الحوادث
الواقعة فلو كان ترك التقية مرجوحا أو مساويا لفعلها كيف آثروها على
غيرها.
ويظهر من غير واحد من الأحاديث الواردة في ترجمة " ميثم التمار "
و " عمرو بن الحمق الخزاعي " وأمثالهما ان أمير المؤمنين عليها (ع) أخبرهم
بقتلهم في سبيله واثنى عليهم وبكى على بعضهم، وفى كل ذلك تحريض
وتشويق لغيرهم على فعلهم، وهي ترك التقية ولو لم يكن راجحا لما
صح ذلك.
بل يظهر من غير واحد من الروايات ثناء سائر الأئمة (ع) عليهم بما
يظهر منه امضاء عملهم امضاء باتا.
وقد ذكر في ترجمة عمرو بن الحمق الخزاعي ما قاله الحسين (ع)
في كتابه إلى معاوية يجيبه عن كتابه إليه جوابا يظهر فيه سيئ أفعاله
وشرور أعماله بأوضح البيان وأشد الحجة، فقال في حق عمرو بن الحمق
وحجر بن عدي وأصحابه:

(1) رواه العلامة المامقاني في المجلد من رجاله في ترجمة حجر -
بن عدي.
435

"... الست القاتل حجر بن عدي أخا كندة والمصلين العابدين
الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في الله لومة لائم
ثم قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق
المؤكدة لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم...
أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله
العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه بعد ما آمنته
وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل
ثم قتلته جرئة على ربك واستخفافا بذلك العهد. (1)
بل يظهر مما روته عايشه في حق حجر وأصحابه ان رسول الله صلى الله عليه وآله
أيضا اسف عليهم وغضب لهم وعظمهم.
كل ذلك دليل على رجحان فعلهم ورضا الرسول صلى الله عليه -
وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام بعملهم، وكيف يصح ذلك مع كونه
مرجوحا؟!
ولكن قد عرفت ان الظاهر من غير واحد من روايات الباب رجحان
الاخذ بالرخصة، والتقية في هذه الموارد مثل الرواية 4 من الباب 29 (2)
الحاكية عن فعل الرجلين اخذا بالكوفة، ان الذي برى رجل فقيه في
دينه، والرواية 2 من الباب 29 ورواية العياشي (12 من 29) ورواية أخرى
عنه (13 من 29) ورواية الطبرسي في الاحتجاج (11 من 29) إلى غير ذلك
مما قد يعثر عليه المتتبع.
* * *

(1) ذاك المصدر بعينه.
2 - نقلناها في صفحة 425
436

طريق الجمع بين أحاديث هذا الباب
والانصاف ان أقرب طريق للجمع بينهما هو ما أشرنا إليه من
التفصيل بحسب الأزمان والاشخاص، فالذي هو علم للأمة، ومقياس
للدين، وبه يقتدى الناس ويعرف قربه من أهل البيت عليهم السلام، يرجح
له استقبال الحتوف وتحمل المضار البالغة حد الشهادة في سبيل الله،
بل قد يجب له إذا كان ترك ذلك ضررا على الدين ومفسدة للحق وتزلزلا في
أركان الاسلام.
ففي مثل عصر بنى أمية، ولا سيما البرهة المظلمة التي كانت في زمن
معاوية بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام وما شاكله، الذي أراد المشركون
وبقية الأحزاب الجاهلية، وأغصان الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن،
ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا ان يتم نوره، وجهدوا في اخفاء فضل
أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله لينقلب الناس على أعقابهم خاسرين.
ففي مثل هذه الاعصار لم يكن بدا من رجال يقومون بالحق ويتركون
التقية ويظهرون آيات الله وبيناته، ويصكون على جباه الباطل والظلم
والطغيان.
ولولا مجاهدة هؤلاء بأموالهم وأنفسهم أو شك ان لا يبقى من الاسلام
الا اسمه ولا من القرآن وصاحبه الذي لا يفارقه الا رسمه وذكره، فكانوا
هم الحلقة الواسطة بين الجيل الماضي والجيل الآتي من المهاجرين والأنصار و
الذين اتبعوهم باحسان.
ولولا جهاد أمثال حجر، وميثم، وعمرو بن الحمق، و عبد الله بن عفيف
437

و عبد الله بن يقطر، وسعيد بن جبير، لاندرست آثار النبوة وآثار الأئمة الطاهرين
من أهل بيته (عليهم آلاف السلام والتحية)، لغلبته الباطل على أجواء
الحكومة الاسلامية وركوب رقاب الناس بالظلم والعدوان، وسيطرته على
مراكز الدعوة - والناس على دين ملوكهم -
قال المحقق شيخنا العلامة الأنصاري ما لفظه: " والمكروه منها
(من التقية) ما كان تركها وتحمل الضرر أولى من فعله كما ذكر ذلك بعضهم
في اظهار كلمة الكفر وان الأولى تركها ممن يقتدى به الناس اعلاء لكلمة
الاسلام " (انتهى).
ولا يختص بتلك الاعصار بل كل زمان كان الامر فيه مثل عصر،
الأمويين وأشباههم كان الحكم فيه هو الحكم فيه من دون أي تفاوت.
واما في الأعصار المتأخرة كعصر الصادقين والرضا عليهم السلام
وما ضاهاه الذي لم يكن الامر بتلك المثابة كان الأولى فيه ارتكاب التقية
كما يظهر من كثير من أحاديث الباب (الا في موارد تستثنى).
فاذن لا يبقى تعارض بين الأحاديث المروية عن أمير المؤمنين (ع)
الامرة بترك التقية في العصر المتصل بزمانه الذي ظهر على الناس رجل
رحب العلوم، إلى اخر ما ذكره من علائمه وآثاره كان الراجح أو الواجب ترك
التقية، واليه يشير ما روى عنه (ع).
اما في مثل اعصار الصادقين والاعصار المتأخرين عنها كانت الرخصة
أحب إليهم لعدم وجود خطر من هذه الناحية على الاسلام والمسلمين.
ولكن لا ينافي عدم جواز ذلك في تلك الاعصار أيضا على
بعض الاشخاص لخصوصيات فيهم.
* * *
438

واما في زماننا هذا يتفاوت الحال بالنسبة إلى الاشخاص و
الظروف والحالات وتجاه ما يحدث من الحوادث والهنات، فقد يجب أو
يرجح ان يستن بسنة أصحاب أمير المؤمنين وخواص بطانته (ع).
وأخرى يجب أو يرجح الاقتداء بأصحاب الصادقين عليهما السلام
ومن المأسوف عليه انى لم أجد أكابر المحققين من أصحابنا تعرضوا
لهذه المسألة تعرضا واسعا، ولم يبينوها تبينا يؤدى حقها، بل مروا عليها
عاجلا، راعيا جانب الاختصار، مع أنها من الأهمية بمكان لا ينكر!.
نسأل المولى سبحانه التوفيق لأداء ما هو الواجب علينا في زماننا
هذا، وان يكشف لنا النقاب عن وجه معضلاتها، ويهدينا سبل الحق،
وينتصف لنا من الأعداء ويظهرنا عليهم ويشفى صدور قوم مؤمنين (آمين
يا رب العالمين).
بعض ما تستحب فيها التقية وضابطتها
بقي هنا شئ وهو انك قد عرفت انه من المظان التي يستحب فيها
التقية، موارد العشرة مع العامة بالمعروف وقد عرفت دليله، وان كثيرا
من الروايات الواردة في الباب 26، من أبواب الأمر بالمعروف والنهى
عن المنكر من الجلد 11، من الوسائل لا سيما الرواية والرواية 2 و 4 من
هذا الباب، والرواية 16 من 24، والروايات الكثيرة الواردة في أبواب
الجماعة والدخول في جماعتهم تدل على ذلك.
ولكن ذكر شيخنا العلامة الأنصاري في كلام له: " واما المستحب
من التقية فالظاهر وجوب الاقتصار فيه على مورد النص وقد ورد النص
439

بالحث على المعاشرة مع العامة وعيادة مرضاهم وتشييع جنايزهم والصلاة
في مساجدهم والاذان لهم فلا يجوز التعدي عن ذلك إلى ما لم يرد النص من
الافعال المخالفة للحق كذم بعض رؤساء الشيعة للتحبب إليهم " انتهى كلامه.
ويرد عليه انه لا خصوصية في هذه الأمور بعد التعليلات الواردة فيها
لو ما يشبه التعليل، وبعد كونها داخلة في قاعدة " الأهم والمهم، والاخذ
بالأهم من المصالح والمفاسد " كما لا يخفى.
إلى هنا ينتهى كلامنا في حكم التقية بحسب التكليف فلنشرع في
بيان حكمها الوضعي وصحة الأعمال المأتى بها تقية أو فسادها،
440

المقام الثاني
حكم العبادات والأعمال
الصادرة تقية
هل يجوز الاكتفاء بالاعمال الصادرة على خلاف الواقع تقية أم لا؟
وقبل كل شئ لابد من بيان الأصل الأولى في المسألة كي
يرجع إليه عند اعواز الدليل على أحد الطرفين فنقول ومن الله التوفيق:
الظاهر أن الأصل هنا هو الفساد إذا كان أدلة الجزئية والشرطية في
الجزء أو الشرط الذي أخل به تقية مطلقة.
توضيح ذلك: إذا عمل بالتقية في الأحكام كالصلاة متكتفا
(أي قابضا لليد) أو الوضوء مع المسح على الخفين، أو في الموضوعات
كالافطار في يوم الشك خوفا من سلطان جائر حكم بأنه يوم عيد مع عدم
ثبوته أو اليقين بأنه من رمضان، فلا شك في أنه أخل ببعض الاجزاء أو الشرائط
أو بعض الموانع المعتبرة عدمها في صلاة المختار أو وضوئه أو صيامه.
فلو كان دليل وجوب المسح على البشرة مثلا عاما شاملا لحالتي
الاختيار والاضطرار، بحيث لم يختص وجوبه بالأول فقط، كان مقتضى
الدليل الحكم بفساد مثل هذا الوضوء وكذا الصلاة التي تؤتى معه.
فهو وإن كان معذورا من جهة التقية من ترك الوضوء الواجب
عليه الا ان معذوريته تكليفا لا تمنع عن فساد عمله، ولزوم الإعادة في الوقت
أو القضاء خارجه، وضعا.
الا ان يدل دليل على اجزاء هذا العمل وصحته، بحيث كان حاكما على
441

أدلة الجزئية والشرطية والمانعية.
فالأصل الأولى في جميع هذه الأعمال هو الفساد ما لم يثبت خلافة.
وهل يجوز التمسك بحديث الرفع لاثبات أصل ثانوي على الصحة
لأن المقام داخل في قوله صلى الله عليه وآله وما اكرهوا عليه وما اضطروا إليه "
قد يقال إنه كذلك وانه بناء على شمول الحديث للأحكام الوضعية ترتفع
الجزئية وما شاكلها لصدق الاضطرار على موارد التقية بلا اشكال، بل صدق
الاكراه عليها أيضا أحيانا.
ولكن الانصاف انه محل للايراد صغرى وكبرى:
اما الصغرى فلان عنوان الاكراه غير صادق هنا مطلقا، لأنه لابد فيه
من توعيد وتخويف غير موجود في موارد التقية عادتا، لأن المأخوذ في
مفهومها هو الاختفاء، وهو لا يساعد الاكراه الذي يخالط العلم بالشئ.
واما الاضطرار فهو مختص بالتقية الصادرة خوفا لا في أمثال التقية
التحبيبي، أو مثل تقية إبراهيم مقدمة لكسر الأصنام وايقاظ عبدتها عن نومتهم،
بما هو مذكور في كتاب الله العزيز، وأمثالها. فهذا الدليل لو تم لكان أخص
من المدعى.
واما الكبرى فهي متوقفة على شمول حديث الرفع للآثار الوضعية
وعدم اختصاصه برفع المؤاخذة، مضافا إلى أن الجزئية والشرطية - كما
ذكر في محله - ليستا من الأحكام الوضعية وكذا المانعية، بل هي انتزاعات
عقلية عن الامر بالجزء والشرط وترك المانع فتدبر.
والعجب من العلامة الأنصاري قدس سره انه ذكر في رسالته هنا
ان " الانصاف ظهور الرواية في رفع المؤاخذة " فاسقط دلالتها على المطلوب.
442

ولكن قال في " الفرائد " بعد ذكر الاحتمالات الثلث فيها، ان رفع
المؤاخذة أظهر، نعم يظهر من بعض الأخبار الصحيحة عدم اختصاص
الموضوع عن الأمة بخصوص المؤاخذة ثم ذكر رواية المحاسن المعروفة،
في الاكراه على الخلف بالاطلاق والعتاق وصدقة ما يملك فجعلها شاهدة
على عدم اختصاص الحديث برفع خصوص المؤاخذة.
اللهم الا ان يقال إنه قد رجع عن عقيدته في الرسالة، والامر سهل.
هذا ولكن ذكرنا في محله من أصل البراءة ان الرفع هنا مقابل
الوضع وهو وضع الفعل على عاتق المكلف فكان الفعل الواجب أو ترك
الحرام وضع على المكلف في عالم الاعتبار، وله ثقل، فالموضوع هو
نفس الافعال أو التروك، لا التكليف من الوجوب أو الحرمة، بل التكليف
هو نفس الوضع لا الموضوع، واما الموضوع عليه فهو المكلف
(تدبر جيدا).
فمتعلق الرفع أيضا الافعال الخارجية التي لها ثقل في عالم الاعتبار،
فهو كناية عن نفى التكاليف كما أن الوضع كناية عن التكليف. والحاصل
ان نائب الفاعل في رفع أو وضع عنه (لا وضع عليه الذي هو بمعنى التكليف)
هو نفس الافعال، فرفعها كناية عن عدم التكليف بها، فعلى هذا يمكن
ان يقال:
ان المسح على البشرة إذا اضطر إلى تركه للتقية، بنفسها مرفوعة
عن عاتق المكلف فليس مأمورا به وكذا اشباهه فنفس الاجزاء والشرائط
وترك الموانع داخله تحت حديث الرفع، ترتفع عن المكلف عند اضطراره
إلى تركها، فلا مانع من شمول الحديث بنفسها لها ويكون حديث المحاسن
443

مؤيدا له. وتتمة الكلام في محله.
ولكن قد عرفت ان حديث الرفع لو تم لم يشمل الا موارد الاضطرار
من التقية لا جميع أقسامها على اختلافها.
فتلخص مما ذكر ان شمول حديث الرفع لجميع موارد المسألة
مشكل.
هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل في المسألة وقد تحصل منه ان
الأصل الأولى هو الفساد الا ان يدل حديث الرفع أو دليل خاص من عمومات
التقية وغيرها على الصحة.
* * *
هل هناك عموم أو اطلاق يدل على الاجزاء؟
لا ينبغي الشك في أنه إذا أمر الشارع المقدس باتيان عبادة على وفق التقية
انه يوجب الاجزاء، كما إذا قال امسح على الخف عند التقية، أو صل
متكتفا، أو شبه ذلك.
وفى الحقيقة هذا داخل في المأمور به بالامر الاضطراري،
نظير الصلاة مع الطهارة المائية، وقد حقق في محله ان الأوامر الاضطرارية
تدل على الاجزاء بلا اشكال ولا يجب اعادتها بعدها.
نعم، الكلام هنا فيما إذا كان التقية في بعض الوقت أو في تمام
الوقت كالكلام هناك إذا كان الاضطرار (كفقدان الماء) في خصوص
الوقت أو تمامه.
فإن كان هناك اطلاق يدل على جواز العمل بالتقية لو اضطر إليها،
444

ولو في بعض الوقت، أجزئه ولا تجب الإعادة في الوقت إذا ارتفع سبب
التقية، واما لو لم يكن هناك عموم أو اطلاق كذلك، لم يجز الاكتفاء به بل
لابد أن يكون العذر شاملا ومستوعبا لجميع الوقت، كما ذكر مثل ذلك كله
في التميم وساير الابدال الاضطرارية.
وعليه يبتنى جواز البدار في أول الوقت وعدمه، إذا كان مصاحبا
للعذر في أوله مع رجاء زواله في آخره
هذا كله إذا ورد الدليل على جواز العمل بالتقية في العبادة بعنوانها
العام، أو في خصوص عبادة معينة كالصلاة مثلا، فإنها - على كل حال -
أخص من أدلة تلك العبادة أو كالأخص.
وأما إذا ورد الامر بها بعنوان غير عنوان العبادة بل بعنوان عام،
كقوله: " التقية في كل ما يضطر إليه الانسان " فإن ذلك لا يدل على
الاجزاء، ولا يدخل تحت أدلة الأوامر الاضطرارية، فإن غاية ما يستفاد من
ذلك، جواز العمل على وفق التقية ولو استوجب ارتكاب ما هو محرم
بالذات.
فهو كالدليل الدال على " ان كل شئ حرمه الله فقد أحله لمن اضطر -
إليه " فإنه لا يدل على أزيد من الحكم التكليفي وجواز العمل عند
الضرورة، ولا دلالة له على الحكم الوضعي من حيث الصحة والفساد.
وللمحقق الاجل شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في المقام
كلام لا يخلو عن نظر:
قال في رسالته المعمولة في المسألة في ملحقات مكاسبه: " اللازم
ملاحظة أدلة الاجزاء أو الشرائط المتعذرة لأجل التقية، فإن اقتضت مدخليتها
445

مطلقا فاللازم الحكم بسقوط الامر عن المكلف حين تعذرها، ولو في تمام
الوقت، كما لو تعذرت الصلاة في تمام الوقت الا مع الوضوء بالنبيذ
- إلى أن قال - فهو كفاقد الطهورين.
وان اقتضت مدخليتها في العبادة بشرط التمكن منها دخلت في
مسألة أولي الأعذار في أنه إذا استوعب العذر الوقت، لم يسقط الامر
رأسا وإن كان في جزء من الوقت، كان داخلا في مسألة جواز البدار لهم
وعدمه ". (هذا محصل كلامه).
والحق ان يقال: انه لابد من ملاحظة أدلة جواز التقية فإن كانت
ناظرة إلى العبادات كان حاكما عليها ولا يلاحظ النسبة بينهما كما عرفت،
وكان كالأوامر الاضطرارية الواردة في اجزاء العبادات وشرائطها.
وان لم تكن كذلك بل كانت دالة على جواز التقية مطلقا بعنوان
الاضطرار فلا دلالة لها على الاجزاء، نعم لو كان في أدلة الاجزاء
والشرائط قصورا بحيث كانت مختصة بحال الاختيار فقط كان العمل
مجزيا لسقوط الجزء والشرط حينئذ واما لو كانت مطلقة - كما هو الغالب
فيها - فلا وجه للاجزاء
وإذ قد تبين ذلك فلنرجع إلى اطلاقات أدلة التقية وملاحظة
حالها وانها من أي القسمين، وكذلك الأدلة الخاصة الواردة فيها وملاحظة
حدودها وخصوصياتها.
فنقول: يدل على الاجزاء روايات:
1 - ما رواه الكليني (قدس سره) في الكافي عن أبي عمر الأعجمي
عن أبي عبد الله (ع) في حديث: والتقية في كل شئ الا في النبيذ والمسح
446

على الخفين (وقد نقلناه سابقا عن الوسائل الحديث 3 من الباب 25 من
أبواب الأمر بالمعروف).
وهو دليل عام ناظر إلى العبادات أيضا بقرينة استثناء المسح على
الخفين فإنه اخراج ما لولاه لدخل، فهو شاهد على كون العام بعمومه
ناظرا إلى الأعمال العبادية التي تصدر عن تقية ولكن في سند الحديث
ضعف ظاهر لجهالة حال أبى عمر الأعجمي بل لم يعرف اسمه وكأنه لا رواية
للرجل الا في هذا الباب فقط.
2 - ما رواه في الكافي أيضا بسند صحيح عن زرارة قال: قلت له في مسح
الخفين تقية؟ فقال: ثلاثة لا اتقى فيهن أحدا شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة
الحج (الحديث 5 من الباب 25).
فإن مفهوما جواز التقية في غيرها من العبادات، وحيث إن اثنين
منها من العبادات تدل على جريان التقية في غيرها مطلقا حتى العبادات
فتكون ناظرة إليها أيضا فيثبت المقصود وهو تحصيل عموم يدل الامر بها
حتى في العبادات يستكشف منه الاجزاء.
وقد مر في باب التقية المحرمة معنى استثناء هذه الثلاثة ومعنى
استنباط زرارة من اختصاصه الثلاثة به (ع) دون غيره، وانه في غير محله،
ومخالف لغيره من الأحاديث فراجع هناك.
3 - ما عن الخصال باسناده عن علي (ع) في حديث الأربعمأة قال: ليس
في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية (1).

(1) رواه في الوسائل في الجلد الأول الحديث 18 من الباب 38 من أبواب
الوضوء.
447

ودلالته كسابقه من حيث المفهوم وغيره:
4 - ما روى في الجلد 8 من الوسائل من أبواب أقسام الحج عن
درست الواسطي عن محمد بن فضل الهاشمي قال دخلت مع إخواني على
أبى عبد الله (ع) فقلنا انا نريد الحج وبعضنا صرورة فقال: عليك بالتمتع
ثم قال انا لا نتقى أحدا بالتمتع بالعمرة إلى الحج واجتناب المسكر والمسح
على الخفين معناه لا نمسح (1).
وهو أيضا دليل أو مشعر بجواز التقية في غير هذه الثلث.
5 - ما رواه في الوسائل في المجلد 5 في الباب 56 من أبواب
صلاة الجماعة عن سماعة قال: سألته عن رجل كان يصلى فخرج الإمام
وقد صلى الرجل ركعة من صلاة فريضة قال: إن كان إماما عدلا فليصل أخرى
وينصرف ويجعلها تطوعا وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو، وان لم
يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ويصلى ركعة أخرى ويجلس قدر
ما يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله ثم ليتم صلاته معه على قدر ما استطاع فإن التقية واسعة وليس شئ
من التقية الا وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله (2).
وهذه من أقوى الروايات دلالة على جواز التقية في العبادات
والاكتفاء بها كما في الأوامر الاضطرارية مثل التيمم ونحوه.
هذه الروايات الثلث يمكن استفادة حكم العبادات عنها بالخصوص
واما ما يدل على عنوان عام يدخل العبادات تحته بعمومها واطلاقها فهو أيضا

1 الحديث 5 من الباب 3 من أبواب أقسام الحج
2 - الحديث 2 من الباب 56 من أبواب صلاة الجماعة
448

كثير منها:
6 - ما رواه أيضا في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام
قال: التقية في كل ضرورة وصاحبها اعلم بها حين تنزل به (الحديث 1
من الباب 25).
7 - ما رواه أيضا في الكافي عن زرارة ومحمد بن مسلم وغير هما قالوا
سمعنا أبا جعفر (ع) يقول: التقية في كل شئ يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له
(الحديث 2 من الباب 25).
8 - ما رواه في المحاسن عن عمر بن يحيى بن سالم (أو معمر
بن يحيى) عن أبي جعفر (ع) قال التقية في كل ضرورة (الحديث 8
من الباب 25).
9 - ما رواه عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) في حديث
قال: وكل شئ يعمله المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدى إلى الفساد في
الدين فإنه جائز (الحديث 6 من 25).
دل هذه الروايات الأربع على أن التقية تجرى في كل ما يضطر إليه
الانسان، وظاهرها وإن كان الجواز من حيث الحكم التكليفي والجواز
في مقابل الحرمة الموجودة في الشئ بعنوانه الأولى، الا ان عمومها يدل
على جريانها في العبادات أيضا، لا سيما ان التقية فيها من أظهر مصاديقها
ومن أشدها وأكثرها ابتلاءا، والجواز التكليفي باتيان العبادة على وجه
التقية لدفع ما يترتب على تركه من الضرر وإن كان لا ينافي وجوب اعادتها
في الوقت أو خارجه إذا ارتفع العذر، ولكن هذا أمر يحتاج إلى البيان لغالب
الناس والتوجيه إليه، وسكوت هذه العمومات وساير أدلة وجوب التقية
449

أو جوازها في مواردها، عن الإشارة إلى وجوب القضاء أو الإعادة
مما يوجب الاطمينان بجواز الاكتفاء بما يؤتى تقية، ولو لم تكن العمومات
السابقة.
والحاصل ان هذه الروايات المطلقة والروايات السابقة - بعد
معاضدة بعضها ببعض - تؤسس لنا أصلا عاما وهو جواز الاكتفاء
بالعبادات التي يؤتى بها تقية في مواردها، كما في الأوامر الواقعية الاضطرارية.
وهناك روايات أخر واردة في أبواب الصلاة أو غيرها تدل أو تشير إلى
صحة العمل على وجه التقية في موردها بالخصوص.
وفى مجموع هذه غنى وكفاية على ما نحن بصدده من صحة العبادات
في حال التقية من غير حاجة إلى الإعادة والقضاء.
وهناك مسألة مهمة تكون كالتتمة لهذه المسألة نفردها بالبحث لمزيد
الاهتمام بها وهي حال الصلاة التي يؤتى بها تحبيبا وتوسلا إلى حفظ الوحدة
مع المخالفين في المذهب وحكم الاكتفاء بها.
450

حكم الصلاة التي يؤتى خلف المخالف والمعاند
في المذهب تحبيبا وحفظا للوحدة
لا اشكال ولا كلام في جواز الصلاة خلف المخالف في المذهب
عند الخوف وجواز الاعتداد بها، وهل يجب فيها ملاحظة عدم المندوحة
وعدم امكان الصلاة في زمان أو مكان آخر، فيه كلام سيأتي إن شاء الله
في تنبيهات التقية.
إنما الكلام في أنه هل يجوز الصلاة خلفهم عند عدم الخوف أيضا
بل من باب حسن العشرة معهم، والتحبب إليهم، كما هو كذلك في
عصرنا هذا غالبا، لا سيما في مواسم الحج فإن عدم الحضور في جماعتهم
ليس مما يخاف منه على نفس أو مال أو عرض، ولكن الدخول معهم في
صلاتهم أوفق بالاخوة الاسلامية وأقرب إلى أحسن العشرة.
ظاهر طايفة كثيرة من الاخبار رجحان ذلك والندب إليه مؤكدا،
بل لعلها متواترة في هذا المضمون.
وهل ينوى الاقتداء بها أو ينوى منفردا ويقرء في نفسه مهما أمكن
451

ويأتي بما يأتي به المنفرد ولكن يأتي بالافعال معهم للغايات المذكورة،
ثم لو قلنا ينوى الاقتداء فهل يعتد بتلك الصلاة أو يصلى صلاة
أخرى قبلها أو بعدها على وفق مذهبه.
ولو قلنا إنه لا ينوى الاقتداء بل يصلى صلاة المنفرد فهل يعتد بها إذا
أخل ببعض الاجزاء أو الشرائط حفظا لظاهر الجماعة أو يختص الاعتداد
بها بما كان حافظا لجميع الاجزاء والشرايط؟
لابد لنا قبل كل شئ من ذكر الأخبار الواردة في المسألة المتفرقة
في أبواب الجماعة، ثم استكشاف الحق في جميع ذلك منها.
وهي روايات:
1 - ما رواه الصدوق في الفقيه عن زيد الشحام عن الصادق (ع)
قال يا زيد خالقوا الناس باخلاقهم صلوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم
واشهدوا جنايزهم وان استطعتم ان تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا،
فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفرا ما كان أحسن
ما يؤدب أصحابه وإذا تركتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية فعل الله بجعفر،
ما كان أسوء ما يؤدب أصحابه (1).
لا شك ان المراد بالصلاة في مساجدهم الصلاة معهم وبجماعتهم
لا الصلاة منفردا في المساجد التي يجتمعون فيها، واما دلالتها على
جواز الاعتداد بتلك الصلاة فليس الا بالاطلاق المقامي، ولكن يمكن عدم
كونها بصدد البيان من هذه الجهة.
2 - ما رواه الصدوق أيضا عن حماد عن أبي عبد الله (ع) أنه قال:

1 - الحديث من الباب 75 من أبواب الجماعة من الوسائل (ج 5).
452

من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله
في الصف الأول (1).
3 - ما عن الكافي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال
من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله -
عليه وآله (2).
4 - ما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار قال: قال لي
أبو عبد الله عليه السلام: يا إسحاق اتصلى معهم في المسجد؟ قلت: نعم
قال: صل معهم فإن المصلى معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في
سبيل الله (3).
وظاهر هذه الأحاديث الثلث المتقارب مضمونها رجحان
الصلاة معهم مع نية الاقتداء بهم، كما أن ظاهرها جواز الاكتفاء بها وعدم
وجوب اعادتها الا ان يدل عليه دليل من الخارج.
والحاصل انا لو خلينا وهذه الروايات حكمنا بجواز الدخول معهم
في صلاتهم ونية الاقتداء بهم والاعتداد بتلك الصلاة مهما كانت مخالفة
لما عليه مذهبنا، وكان وجه التشبيه بالصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله من
حيث اثرها في عز المسلمين وشوكتهم وقص ظهور الأعداء ولذا شبه بمن
يشهر سيفه في سبيل الله.
الا انه قد يدعى مخالفة أمثال هذه الظهورات لما عليه الطائفة كما

1 - الحديث 1 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة من الوسائل
2 - الحديث 4 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة من الوسائل
3 - الحديث 7 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة من الوسائل
453

ستعرف دعواه فيما سيمر عليك إن شاء الله من كلام " الحدائق ".
5 - ما رواه في " المحاسن " عن عبد الله بن سنان قال: سمعت
أبا عبد الله (ع) يقول: أوصيكم بتقوى الله عز وجل ولا تحملوا الناس على
أكتافكم فتذلوا، ان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: وقولوا للناس حسنا،
ثم قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلوا
معهم في مساجدهم (1).
6 - ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (ع)
قال: صلى حسن وحسين خلف مروان ونحن نصلى معهم! (2)
7 - ما رواه أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن سماعة
قال: سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم، فقال: هذا أمر شديد لم تستطيعوا
ذلك قد انكح رسول الله صلى الله عليه وآله وصلى علي (ع) ورائهم.
وهذه الروايات الثلاث أيضا ظاهرة في جواز الصلاة معهم
تحبيبا وحفظا لوحدة الأمة أو شبه ذلك (نعم يمكن أن يكون رواية علي بن
جعفر ناظرا إلى حال الخوف على النفس وشبهه) كما أن ظاهرها
نية الاقتداء والاعتداد بتلك الصلاة وعطف الصلاة على النكاح دليل
آخر على أن المراد الاتيان بالصلاة الواجبة الواقعية معهم والاكتفاء به.
كما أن قوله (ع) هذا أمر شديد لم تستطيعوا ذلك أيضا ناظر إلى
هذا المعنى إذ لو كان المراد اتيان الصلاة منفردا في نفسه واظهار كونها
جماعة مع عدم القصد إليها، أو الاتيان بها واعادتها بعد ذلك أو فعلها

1 - الحديث 8 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة.
2 - الحديث 8 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة.
454

قبلها، لم يكن أمر شديدا لا يستطيعون، بل هما من الأمور السهلة التي يستطيع
عليها كل واحد.
8 - ما رواه الصدوق مرسلا قال: قال الصادق (ع) إذا صليت
معهم غفر لك بعدد من خالفك (1).
ودلالتها على أصل الجواز كغيرها ظاهرة، الا ان اطلاقها من حيث
الاكتفاء بها وكونها بصدد البيان من هذه الجهة قابل للتأمل والكلام.
إلى غير ذلك مما يطلع عليه الخبير المتتبع.
هذا ويظهر من غير واحد من الروايات الواردة في الباب 6 من
أبواب الجماعة انه لا يحتسب بتلك الصلاة بل يصلى قبلها أو بعدها فتكون
الصلاة الفريضة ما يصلى قبلها أو بعدها وتكون الصلاة معهم مستحبا أو
واجبا للتقية تحبيبا أو خوفا واليك بعض هذه الروايات:
(1) ما رواه الصدوق في " الفقيه " عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله
عليه السلام أنه قال: ما منكم أحد يصلى صلاة فريضة في وقتها ثم يصلى
معهم صلاة تقية وهو متوضأ الا كتب الله له بها خمسا وعشرين درجة فارغبوا
في ذلك (2).
ولو كان الاقتداء بهم جائزا لم يكن وجه في الترغيب إلى الصلاة
فرادى قبل ذلك في بيته، فهذا الترغيب دليل على عدم جواز الاعتداد
بتلك الصلاة. اللهم الا ان يقال إن هذا النحو من الجمع مندوب إليه ولا
دلالة في الحديث على وجوبه، فلا ينافي جواز الاقتداء بهم في صلاتهم

1 - الحديث 2 من الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة
2 - الحديث 1 من الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة
455

ولو تحبيبا لهم، ولكن هذا الحمل لا يخلو عن بعد فتأمل.
2 - وما رواه أيضا عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) أنه قال
ما من عبد يصلى في الوقت ويفرغ ثم يأتيهم ويصلى معهم وهو على
وضوء الا كتب الله لهم خمسا وعشرين درجة (1).
3 - وما رواه هو أيضا عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع)
أنه قال أيضا ان على بابى مسجدا يكون فيه قوم مخالفون معاندون وهم
يمسون في الصلاة فانا اصلى العصر ثم اخرج فاصلي معهم، فقال اما تحب ان
تحسب لك بأربع وعشرين صلاة (2).
4 - ما رواه الشيخ عن نشيط بن صالح عن أبي الحسن الأول (ع)
قال: قلت له الرجل منا يصلى صلاته في جوف بيته مغلقا عليه بابه ثم
يخرج فيصلى مع جيرته تكون صلاته تلك وحده في بيته جماعة؟ فقال
الذي يصلى في بيته يضاعف الله له ضعفي اجر الجماعة، تكون له خمسين
درجة، والذي يصلى مع جيرته يكتب له اجر من صلى خلف رسول الله -
صلى الله عليه وآله ويدخل معهم في صلاتهم فيخلف عليهم ذنوبه ويخرج
بحسناتهم (3).
والذي يظهر بالتأمل فيها انه أراد بما اجابه امضاء فعل السائل بفعل
الصلاتين وانه يوجر اجران على كل واحد، فلو كان الاعتداد بصلاة
المخالف أو المعاند جائزا لم يحتج إلى مثل ذلك ولا سيما انه كان في شدة

1 - الحديث 2 من الباب 6 من أبواب الجماعة
2 - الحديث 3 من الباب 6 من أبواب الجماعة
3 - الحديث 6 من الباب 6 من أبواب الجماعة
456

حتى أغلق عليه بابه عند الصلاة وحده فتدبر.
ويمكن أن يكون المراد جواز الاعتداد بكل من الصلاتين وان
الأول له ضعف اجر الجماعة وان ثواب الثاني ثواب من صلى خلف
رسول الله صلى الله عليه وآله.
إلى غير ذلك مما يدل على هذا المعنى.
هذا مضافا إلى الروايات الكثيرة الدالة على عدم جواز الصلاة
خلف المخالف والمعاند وغير هما الواردة في الباب 10 و 11 و 12
فلعل الجمع بين مجموع هذه الروايات والطائفة الأولى الدالة باطلاقها
على جواز الاقتداء معهم والدخول في جماعتهم هو الحمل على ما إذا صلى
صلاته قبله أو بعده إذا قدر عليه ولم يكن هناك خوف.
وبالجملة القول بجواز الاكتفاء بتلك الصلاة إذا صلاها معهم تحبيبا
ولم يكن هناك تقية من غير هذه الناحية مشكل، وإن كان ظاهر اطلاق الطائفة
الأولى من الروايات ذلك.
هذا ولكن لا شك في جواز الدخول معهم في صلاتهم على ما يدل
عليه الطائفة الأولى وغيرها فما يظهر من بعض أحاديث الباب من عدم
الاقتداء معهم وإرائتهم كأنه يصلى معهم ولا يصلى، لابد من حملها على
ما لا ينافي ذلك فراجع وتدبر.
ثم إنه لا يخفى ان جميع ما ذكرنا إنما هو في التقية بعنوان التحبيب
أو حفظ الوحدة، اما التقية خوفا فلا اشكال في الاكتفاء بما يؤتى معهما،
وهل يعتبر فيها عدم المندوحة يعنى عدم امكان الصلاة صحيحة تامة في غير
ذاك الوقت أو غير ذاك المكان فيه كلام يأتي إن شاء الله في تنبيهات المسألة.
457

تنبيهات
بقي هنا مسائل هامة ترتبط
بالتقية أو تلحق بها نذكرها
طي تنبيهات
1 - هل تختص التقية بما يكون عن المخالف
في المذهب
لا شك في أن أكثر روايات الباب ناظرة إلى حكم التقية عن المخالفين
وقد يوجب هذا توهم اختصاص حكمها بهم فقط ولا تجرى في غيرهم.
قال العلامة الأنصاري في رسالته المعمولة في المسألة ما هذا نصه:
" ويشترط في الأول (يعنى الأدلة الدالة على اذن الشارع بالتقية)
أن يكون التقية من مذهب المخالفين لأنه المتيقن من الأدلة الواردة في
الاذن في العبادات على وجه التقية لأن المتبادر من التقية التقية من مذهب
المخالفين فلا يجرى في التقية عن الكفار أو ظلمة الشيعة. لكن في
رواية مسعدة بن صدقة الآتية ما يظهر منه عموم الحكم لغير المخالفين مع
كفاية عمومات التقية في ذلك ".
وأشار بقوله " في رواية مسعدة بن صدقة الآتية " إلى ما رواه عن أبي -
عبد الله (ع) في تفسير ما يتقى فيه " أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم
459

على غير حكم الحق وفعله فكل شئ يعلمه المؤمن بينهم لمكان التقية مما
لا يؤدى إلى الفساد في الدين فهو جائز " (1).
أقول - لا ينبغي الشك في عدم اختصاص التقية لغة ولا اصطلاحا
ولا دليلا بخصوص ما كان في قبال المخالفين في المذهب من العامة، لما
قد عرفت من أنها هي اخفاء العقيدة أو عمل ديني لما في اظهاره من الضرر،
وان ملاكها في الأصل قاعدة الأهم والمهم وترجيح المحذور الأخف لدفع
محذور الأهم، وانها قاعدة عقلية تشهد به جميع العقلاء على اختلاف
مذاهبهم ومشاربهم، ولو أنكره بعض باللسان لبعض الدواعي فهو مؤمن به
بالجنان ويظهر في أعماله وأحواله عند اضطراره إليه.
ومن الواضح انه ليس في شئ من ذلك اختصاص بالمخالفين، بل
لا فرق في ذلك بينهم وبين الكافرين أو ظلمة الشيعة، بل ما يبتلى به كثير من
الناس ولا سيما الضعفاء في قبال ظلمة الشيعة أكثر وأهم مما يبتلى به
تجاه غير هم، وان لم يكن ذلك في العبادات بل كان في غيرها.
هذا مضافا إلى ورود كثير من روايات الباب بل بعض الآيات من
الذكر الحكيم في التقية من الكافرين وأشباههم مثل ما ورد في إبراهيم
عليه السلام وتقيته من قومه، وتقية مؤمن آل فرعون، وما ورد في تقية
عمار ياسر من مشركي مكة وغير واحد من المسلمين الأولين منهم أيضا.
وما ورد في حق رجلين اخذهما مسيلمة الكذاب وأجبرهما على
الشهادة بنبوته فاظهر واحد الكفر ونجى ولم يظهر الاخر فقبل فبلغ الخبر
النبي صلى الله عليه وآله فاستصوب فعل كل واحد لما فيه من مصلحة خاصة.

1 - الحديث 6 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف..
460

وقد مر جميع هذه الروايات والآيات في أوائل البحث في القاعدة
فراجع.
بل لفظ التقية، أو التقاة المذكورة في كتاب الله في مورد واحد
فقط إنما هي في قبال المشركين فاذن لا يبقى شك في عموم الحكم
ولا نحتاج إلى خصوص رواية مسعدة بن صدقه أو اطلاقات الباب
وعموماتها.
فاذن لا يبقى شك في عمومية الحكم للكفار وظلمة الشيعة بل قد
مر انه قد يتقى منهم في عصرنا هذا بما لا يتقى من أهل السنة.
ومنه يظهر أيضا انه لا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك مذهبا منهم
أولا، مثلا ترك حج التمتع ليس مذهبا لجميع فرق العامة وكذا التكليف في
الصلاة وقد يجوز علمائهم تركهما، ولكن قد يكون هناك بعض العوام
لا يرخصون ذلك ويرون فيه " رفضا "! في عقيدتهم، بل قد يكون هناك
عادة خاصة دينية عندهم يراها العوام لازمة أو دليلا على العقيدة بمذهبهم،
مما لا يمكن مراعاتها الا بترك بعض الواجبات أو تغيير فيها أو فعل بعض
المحرمات فلا شك ان كل ذلك جائز عند الاضطرار إليها من باب التقية وطبقا
لادلتها.
461

2 - هل التقية تجرى في الأحكام
والموضوعات معا؟
لا اشكال في جريان أحكام التقية في الأحكام، كالمسح على الخفين
أو التكتف (القبض على إليه) في الصلاة أو غير ذلك مما لا يحصى.
إنما الكلام في جريانها في الموضوعات كالحكم بهلال شوال
أو ذي الحجة بالنسبة إلى الصيام والحج، وكثيرا ما يتفق ذلك من أن
حاكمهم يحكم بهلال شوال أو ذي الحجة فيفطرون الصيام ويحجون البيت،
وهناك أناس من أصحابنا لو لم يتبعوهم في هذا الحكم يتحملون منهم أشد
المشاق، فهل يجوز متابعتهم في تشخيص هذه الموضوعات والعمل معهم
وان لم يثبت هذه الموضوعات عندنا بطرق صحيحة أو ثبت خلافها أحيانا،
وهل تجرى هناك أدلة التقية أم لا؟
لا شك ان موضوعات أحكام الشرع التي نتكلم فيها على قسمين:
قسم يكون من الموضوعات الشرعية التي يكون بيانها بيد الشارع
462

المقدس كوقت المغرب وانه استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية.
وقسم يكون من الموضوعات الخارجية المحضة كالهلال ورؤيته.
لا اشكال في القسم الأول لأنه يعود بالآخرة إلى اختلاف في الحكم.
واما القسم الثاني الذي هو محل الكلام فعلا فهو أيضا على اقسام:
تارة نعلم خطائهم فيها،
وأخرى نشك،
ومنشاء الخطاء قد يكون في كشف الواقع بطرقها الخارجية
المعمولة، وأخرى في اعمال طريق شرعي معتبر عندهم باطل عندنا
كالركون إلى بعض الشهود من غير الفحص عن حالهم، لعدم وجوبه
عندهم مع وجوبه عندنا.
لا ينبغي الاشكال في القسم الأخير أيضا لأنه أيضا راجع إلى التقية
في الأحكام وجوازها لعله مما لا كلام فيه فتدبر.
يبقى الكلام في الموضوعات الخارجية المحضة سواء علمنا
بخطائهم فيها أو شككنا ولم يثبت عندنا.
والكلام هنا أيضا تارة يكون من حيث الحكم التكليفي وأخرى
من حيث الحكم الوضعي:
اما من ناحية الحكم التكليفي فلا اشكال في جواز العمل مثلهم عند
الضرورة واجتماع شرايط التقية وسيأتي ان بعض الأئمة عليهم السلام
بأنفسهم وقعوا في الضرورة من هذه الناحية أحيانا وعملوا بالتقية كافطار
الصادق (ع) صوم آخر يوم من رمضان (أو يوم شك) خوفا من منصور عند
حكمه بشوال لما كان في مخالفة الجبار العنود من الخوف على النفس
463

النفيس المقدسة، كما ورد في بعض الروايات وسيأتي الإشارة إليه إن شاء الله
عن قريب.
ويجرى هنا جميع ما دل على جواز التقية عند الضرورة، ودليل
العقل.
إنما الكلام في الناحية الثانية وهي صحة العمل إذا اتى به في غير
محله تقية منهم، واجزائه عن الواقع الصحيح.
فهل تشمله الاطلاقات السابقة الدالة على الاجتزاء بالعمل مثل
قوله (ع) في رواية أبى عمر الأعجمي والتقية في كل شئ الا في النبيذ
والمسح على الخفين (1).
وظاهره صحة العبادات التي يؤتى بها على وفق التقية، الا في
الموارد المستثناة التي مر الكلام فيها.
وكذا قوله في رواية زرارة ثلاثة لا اتقى فيهن أحدا شرب المسكر
ومسح الخفين ومتعة الحج (2).
وهكذا الرواية 18 من الباب 38 من أبواب الوضوء.
والرواية 5 من الباب 3 من أقسام الحج.
نعم ظاهر قوله (ع) في حديثه مع منصور لأن أفطر يوما وأقضيه
أحب إلي من أن يضرب عنقي دليل على عدم الاجزاء بذاك الصوم ولزوم
قضائه ولكن سيأتي إن شاء الله في ذيل البحث وجهه، بحيث لا يبقى شك
من هذه الناحية.

1 - الحديث 3 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف
2 - الحديث 5 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف
464

وعلى كل حال الانصاف ان الاطلاقات بأنفسها، أو لا أقل بالغاء
الخصوصية عن موارد الأحكام وتنقيح المناط فيها، يشمل ما نحن فيه
فالعمل على طبق موازين التقية هنا مجز ورافع للتكليف، لا سيما بالنسبة
إلى الحج وثبوت الهلال فيه الذي يمكن القول باستقرار السيرة فيها في
جميع الأعصار.
قال الفقيه المحقق النابه صاحب الجواهر في كلام في كتاب
الحج ما نصه:
" بقي هنا شئ مهم تشتد الحاجة إليه وكأنه أولى من ذلك كله بالذكر
وهو انه لو قامت البينة عند قاضى العامة وحكم بالهلال على وجه
يكون التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصح للإمامي الوقوف معهم
ويجزى لأنه من أحكام التقية ويعسر التكليف بغيره، أو لا يجزى لعدم
ثبوتها في الموضوع الذي محل الفرض منه، كما يومى إليه وجوب
القضاء في حكمهم بالعيد في شهر رمضان الذي دلت على النصوص
التي منها " لأن أفطر يوما ثم أقضيه أحب إلي من أن يضرب عنقي ". لم
أجد لهم كلاما في ذلك ولا يبعد القول بالاجزاء هنا الحاقا له بالحكم،
للحرج، واحتمال مثله في القضاء وقد عثرت على الحكم بذلك منسوبا
للعلامة الطباطبائي، ولكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه والله العالم "
انتهى كلامه قدس سره الشريف (1).
وكلامه وإن كان متينا من حيث النتيجة ولكن فيه مواقع للنظر.
منها - انه لا وجه لقياس مسألة القضاء عند حكمهم بالعيد في

(1) الجواهر ج 19 ص 32.
465

شهر رمضان ب‍ مسألة الوقوف أو سائر المناسك في الحج كما سنتلو عليك
منه ذكرا.
ومنها - ان مجرد الحرج لا يدل على الصحة وتمامية العمل بل
غاية ما يدل عليه هنا هو الجواز التكليفي وعدم الحرمة كما لا يخفى.
ومنها - ان قوله " احتمال مثله في القضاء " مدفوع بان مجرد احتمال
تحقق الخلاف في ثبوت الهلال في السنين الآتية لا يوجب سقوط التكليف
بالحج الذي هو في ذمته.
والانصاف انه لا ينبغي الاشكال في أصل المسألة والمستند هو
عمومات أدلة التقية الظاهرة في الاجزاء في العبادات وغيرها بالشرح
الذي عرفته، ولا سيما في مثل الحج الذي استقر سيرة الأصحاب خلفا
عن سلف على العمل بحكمهم بالهلال مهما كان من غير نكير، ولم يسمع
منهم وجوب الإعادة أو تغيير الوقوفات، بل لم يتعرضوا في كتبهم
الفقهية كما عرفت الإشارة إليه في كلام الجواهر.
وما قد يترائى من بعض الاعلام واتباعهم من المعاصرين أو ممن
قارب عصرنا بالاحتياط في بعض السنين الذي وقع الاختلاف فيها في
رؤية الهلال، فالظاهر أنه أمر مستحدث لم يسمع به من قبل، ان هذا الا
اختلاق!
بقي هنا شئ
وهو انهم ذكروا مسألة الاكراه في افطار الصيام وحكم الأكثرون
فيها بالصحة وحكى عن الشيخ قدس سره الفساد، ومما أيد به القول
466

بالفساد ووجوب القضاء انه تجب القضاء في الافطار تقية وهي من مصاديق
الاكراه.
قال شيخنا الاجل في الجواهر عند ذكر الاكراه في افطار الصيام
بعد ما عرفت من الأقوال وبعد التصريح بعدم الخلاف في الصحة في
خصوص ما إذا وجر في حلق الصائم شئ ما نصه:
الأولى الاستدلال (على الفساد ووجوب القضاء في الاكراه) بما
دل على حكم اليوم الذي يفطر للتقية إذ هو في معنى الاكراه كمرسل رفاعة
عن الصادق (ع) أنه قال: دخلت على ابن العباس بالحيرة فقال: يا أبا -
عبد الله (ع) ما تقول في الصيام اليوم فقلت ذلك إلى الإمام ان
صمت صمنا وان أفطرت أفطرنا فقال يا غلام على بالمائدة فأكلت معه
وانا اعلم والله انه من شهر رمضان، فكان افطاري يوما وقضائه أيسر على
من أن يضرب عنقي ولا ا عبد الله " وفى آخر " أفطر يوما من شهر رمضان أحب
إلى من أن يضرب عنقي " حيث اطلق عليه اسم الافطار (1).
وذكر في أواخر كلامه في المسألة امكان الفرق بين مسئلتي الاكراه
والتقية وتضعيف خبر القضاء فيها بالارسال وتخصيص دليل القضاء
بالاكراه، ثم رجع منه وذكر ان الأحوط سلك الجميع في مسلك واحد
للشك في شمول اطلاقات أدلة التقية لمثل ذلك الذي مرجعه في الحقيقة
إلى الموضوع مصداقا أو مفهوما لا إلى الحكم.
والانصاف ان الروايات الواردة في هذا الباب التي رواها في
الوسائل في الباب 57 من أبواب ما يمسك الصائم، منه ما لا يدل على شئ

(1) الجواهر ج 16 ص 258.
467

مثل ما رواه الصدوق قدس سره عن عيسى بن أبي منصور أنه قال: كنت
عند أبي عبد الله عليه السلام في اليوم الذي يشك فيه فقال: يا غلام اذهب
فانظر أصام السلطان أم لا فذهب ثم عاد فقال لا فدعا بالغداء فتغدينا معه (1).
فإن غاية ما يدل عليه هو جواز الافطار واما القضاء فهو ساكت عنه
بالمرة.
وهكذا الرواية الثانية والثالثة والسادسة من هذا الباب.
وما يدل على فساد الصوم وان جاز الافطار، ولازمه القضاء كما
هو ظاهر، مثل رواية أبى العباس التي مر ذكرها في كلام الجواهر وهي
الرواية الرابعة من هذا الباب وكذلك الخامسة منها وفى ذيلها فكان افطاري
يوما وقضائه أيسر على من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله. ولكنهما ضعيفا
السند بالارسال.
ويستشم ذلك من الرواية الثامنة فراجع.
وقد يتوهم من بعضها صحة الصوم وهي الرواية السابعة منها التي رواها
الشيخ عن أبي الجارود قال سألت أبا جعفر (ع) ان شككنا سنة في عام من
تلك الأعوام في الأضحى فلما دخلت على أبى جعفر عليه السلام وكان بعض
أصحابنا يضحى فقال الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحى الناس
والصوم يوم يصوم الناس.
بدعوى ان ظاهرها كون ذلك اليوم الذي يفطر فيه الناس يوم فطر
حقيقة وإذا كان كذلك لم يجب قضائه قطعا، ولكن حملها على هذا المعنى
بعيدا جدا والأظهر انها تدل على حكم ظاهري في المسألة الذي لا اشكال

1 - الحديث 1 من الباب 57.
468

فيه وهو جواز الافطار من باب التقية، واما اجزائه عن القضاء فهو ما ليس
بصدد بيانه، ولو فرض له ظهر وفى ذلك فهو لا يقاوم ما مضى وما يأتي من
سائر الأدلة الدالة على الفساد.
والذي لابد من ذكره في المقام ان اطلاقات الاجزاء في التقية و
العبادات التي يؤتى على طبقها لا قصور لها في شمول الموضوعات، فكما
تكون دليلا على صحتها في الأحكام كذلك تدل على صحتها في الموضوعات
كما في مناسك الحج ووقوفاته.
ولكن تختص مسألة الافطار في الصيام بخصوصية وهي ان
البحث عن اجزاء الأعمال الصادرة عن تقية إنما هو في الموارد التي
يكون هناك عمل عبادي ولكن اتى به على وجه التقية وعلى وفق مذهب
المخالفين، أما إذا ترك العمل، لاقتضاء مذهبهم تركه فلا وجه لسقوط القضاء
عن المكلف.
وان شئت قلت: الأعمال الصادرة عن تقية ابدال اضطرارية عن
التكاليف الواقعية كالصلاة مع التيمم التي تكون بدلا عن الصلاة مع
الوضوء، واقتضائها الاجزاء ليس الا من هذه الناحية، ومن الواضح ان ترك
العمل كالافطار استنادا إلى عدم وجوبه لا يمكن أن يكون بدلا عن الواجب فلا
يسقط الواجب به كما لا يخفى.
ويشبه هذا من بعض الجهات ما ذكره في باب أصالة الصحة وانها
لا تجرى الا فيما إذا صدر عن المكلف عمل شككنا في صحته وفساده
فلو شككنا في أصل العمل لم تجرى القاعدة لعدم احراز عمل هناك حتى
يحمل على الصحيح.
469

ان قلت إن التقية كما تقتضي في المقام ترك الأداء كذلك تقتضي
ترك القضاء.
قلت - إذا كان هناك شرايط التقية موجودة بالنسبة إلى القضاء قلنا
به، كما إذا كان المكلف معاشرا معهم طول السنة وعلم من فعله انه قصد
القضاء، وهو فرض نادر جدا بل لعله لا يوجد له مصداق، فإذا لم يكن تقية في
القضاء وجب فعله.
470

3 - هل يعتبر فيها عدم
المندوحة أم لا؟
قد وقع الكلام بينهم في اعتبار عدم المندوحة وما يكون به الفرار،
في التقية، وآثارها التي منها صحة الأعمال المأتى على طبقها على أقوال:
أولها - انه غير معتبر مطلقا، كما حكى عن الشهيدين والمحقق الثاني
في البيان والروض وجامع المقاصد.
ثانيها - انه معتبر مطلقا، كما حكى عن صاحب المدارك.
ثالثها - التفصيل بين ما كان متعلق التقية مأذونا فيه بالخصوص
وورد فيه دليل خاص مثل القبض في الصلاة (أي التكتف فيها) فهو صحيح
مجز سواء كان هناك مندوحة أم لا، وبين ما كان الدليل عليه هو
عمومات التقية الدالة على أنها في كل ضرورة واضطرار، كالوضوء بالنبيذ
أو الصلاة إلى غير القبلة وأشباههما، فحينئذ لا يصح العمل الا عند عدم
المندوحة، لعدم صدق الضرورة بدونه، وهذا القول أيضا محكى عن المحقق
الثاني قدس سره.
471

وقد يقال برجوع هذا القول إلى قول صاحب المدارك حيث إن نفى
اعتبار عدم المندوحة في الشق الأول إنما هو باعتبار جميع الوقت، لا بالنسبة
إلى خصوص الوقت الذي يؤدى الصلاة فيه مثلا، ومن المعلوم ان صاحب
المدارك القائل باعتباره مطلقا لا يقول به في جميع الوقت لأنه مما لم يقل به أحد
فيما نعلم... والامر سهل.
وهناك قول رابع وهو التفصيل الذي اختاره شيخنا الأعظم
العلامة الأنصاري قدس سره وحاصله:
ان هناك صور ثلث:
الأول: ما إذا كان المتقى قادرا على الامتثال الواقعي من دون
تعويض في الزمان والمكان كما إذا كان عمله في الظاهر على وفق مذهب
المتقى منه، مع اتيانه بالعمل الصحيح الاختياري واقعا، كمن يقرء
(مثلا) خلف إمامهم سرا وهو يريهم انه لا يقرء، من دون أي محذور. فهذا
مما لا يصح التقية فيه لوجود المندوحة بلا حاجة إلى تغيير زمانه أو مكانه
الثاني: ما إذا في ضرورة بالنسبة إلى بعض الوقت دون تمامه،
فلو أراد الصلاة مثلا في أول وقتها لم يمكنه الا بالتقية. فهذا صحيح
مجز، ولا يعتبر عدم المندوحة في تمام وقتها.
الثالث: ما إذا كان في ضرورة بالنسبة إلى مكان خاص دون جميع
الأمكنة، كمن لا يقدر على ترك التقية في مسجد النبي صلى الله عليه وآله أو المسجد
الحرام مع قدرته على العمل الصحيح التام في غيرهما، وهذا أيضا مجز
فلا يعتبر عدم المندوحة في كل مكان.
472

ولكن نحن نقول
أولا: انه لا يخفى ان هذه الأقوال كلها تختص بالتقية الخوفية
ولا تجرى في التقية المداراتية حيث لا يعتبر فيها تغيير الزمان أو المكان، بل
الظاهر من اخبارها انها إنما شرعت لجلب قلوبهم، واتفاق كلمة المسلمين،
ومثل هذا لا يعتبر فيه عدم المندوحة بلا اشكال.
فهل ترى ان قوله عودوا مرضاهم واشهدوا جنايزهم، أو قوله:
من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله
أو قوله: كمن أول داخل وآخر خارج... إلى غير ذلك مما قد مضى عند
سرد الاخبار، محمول على ما إذا كان مضطرا إليه ولم يقدر على الفرار؟
فهذا مما لا ينبغي الكلام فيه.
نعم لو قلنا باجزاء العمل في مثل هذا النوع من التقية أمكن استثناء
الصور الأولى من الصور الثلاث التي ذكرها العلامة الأنصاري قده،
وهو ما إذا قدر على العمل التام في مكانه وزمانه بعينه مع عدم أي محذور
، لانصرافها إلى غيرها.
ثانيا - في التقية الخوفية لا ينبغي الريب في عدم اعتبار نفى المندوحة
في تمام الوقت لا للاجماع، لعدم اعتباره في هذه المسألة، ولا لعمومات
التقية لظهورها في الاضطرار المطلق وهو لا يحصل الا في تمام الوقت
كما في غيره من ذوي الأعذار، بل لخصوص الروايات الكثيرة الامرة
بالصلاة معهم وغيرهم تقية، فإنها مطلقة بلا اشكال، وحملها على خصوص
المضطر في تمام الوقت حمل على فرد نادر جدا.
473

وكذا إذا كان قادرا على العمل الصحيح في غير ذلك المكان فإنه
أيضا لا يجب الاخذ فيها بالمندوحة وترك الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله
مثلا والصلاة في ربعه وقافلته خارجا، يدل على ذلك وعلى ما قبله روايات
كثيرة:
منها: ما عن أحمد بن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن (ع) قال قلت انى
ادخل مع هؤلاء في صلاة المغرب فيعجلوني إلى ما ان أؤذن وأقيم
ولا اقرأ الا الحمد، حتى يركع أيجزيني ذلك؟ قال: نعم يجزيك الحمد
وحدها (1).
وحملهما على صورة الاضطرار بترك السورة في تمام الوقت كما ترى
ومنها ما عن بكير بن أعين قال سألت أبا عبد الله: عن الناصب يؤمنا
ما تقول في الصلاة معه؟ فقال أما إذا جهر فانصت للقرائة واسمع ثم اركع
واسجد أنت لنفسك (2).
ومنها ما عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا بأس بان
تصلى خلف الناصب ولا تقرء خلفه فيها يجهر فيها فإن قرائته يجزيك إذا
سمعتها (3).
ولا ينبغي في لزوم حملهما على التقية كما أن الظاهر وجود المندوحة
في غالب هذه الموارد بان يصلى بعده أو قبله في داره.

(1) 1 - الرواية 6 من الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة.
2 - الرواية 3 من الباب 34 من أبواب صلاة الجماعة.
3 - الرواية 5 من الباب 34 من أبواب صلاة الجماعة.
474

ومنها ما عن أبي بصير ليث المرادي قال قلت لأبي جعفر عليه -
السلام: من لا اقتدى الصلاة؟ قال افرغ قبل ان يفرغ فإنك في حصار فإن
فرغ قبلك فاقطع القراءة واركع معه (1).
وظاهرها الاجزاء والاكتفاء بتلك الصلاة مطلقا ولو قدر على
أدائها في ذاك الموضع كما هو الغالب، وقوله " افرغ.... " يعنى
من القراءة.
ومنها ما ورد في أبواب صلاة " الجمعة " عن حمران عن أبي -
عبد الله عليه السلام في حديث قال في كتاب علي عليه السلام إذا صلوا
الجمعة في وقت فصلوا معهم ولا تقومن من مقعدك حتى تصلى ركعتين
أخريين، قلت: فأكون قد صليت أربعا لنفسي لم اقتد به؟ فقال نعم (2).
ودلالتها على الاجزاء كاطلاقها من حيث وجود المندوحة في مكان
آخر وعدمه مما لا اشكال فيه.
ومنها ما رواه حمران بن أعين أيضا قال: قلت لأبي جعفر عليه
السلام: جعلت فداك انا نصلى مع هؤلاء يوم الجمعة وهم يصلون في
الوقت كيف نصنع؟ فقال: صلوا معهم. فخرج حمران إلى زرارة فقال
له: أمرنا ان نصلى معهم بصلاتهم فقال زرارة: هذا ما يكون الا بتأويل.
فقال له حمران: قم حتى نسمع منه، قال: فدخلنا عليه فقال له زرارة: ان
حمران أخبرنا عنك انك امرتنا ان نصلى معهم فأنكرت ذلك فقال لنا:

(1) الحديث 1 من الباب 34 من أبواب صلاة الجماعة
2 - الرواية 1 من الباب 29 من أبواب الجمعة
475

كان الحسين بن علي (ع) يصلى معهم الركعتين فإذا فرغوا قام فأضاف إليها
ركعتين (1).
واطلاق صدرها بجواز الصلاة معهم الدال على عدم وجوب
إضافة الركعتين مقيد بما في ذيلها أو يحمل الثاني على خصوص ما إذا
قدر على إضافة ركعتين أخريين فإن ذلك من قبيل ما يكون فيه المندوحة
من دون حاجة إلى تغيير المكان والزمان وإن كان التقية موجودا بالنسبة
إلى القراءة في الأوليين.
فتلخص من جميع ذلك، ولو بالغاء الخصوصية عن مورد الروايات
عدم اعتبار نفى المندوحة من ناحية تغيير المكان أو الزمان في التقية سواء
كانت في الاجزاء كمورد الروايات أو الكل. وإن كان اطلاقات التقية
المقيدة بالضرورة كدليل العقل غير دالة عليه.

(1) الرواية 5 من الباب 29 من أبواب الجمعة
476

4 - هل المدار على الخوف
الشخصي أو النوعي؟
إذا كانت التقية من القسم الخوفي فهل المدار فيها على الخوف
الشخصي أو النوعي بعد الفراغ عن كون المناط في الخوف وجود
احتمال الضرر، احتمالا معتدا به حتى وان لم يظن به، بل وان شك أو كان
احتماله مرجوحا مع كونه مما يعتنى به العقلاء فإن عنوان الخوف عرفا
صادق في جميع ذلك، وإن كان قد يتفاوت بتفاوت المحتملات شدة وضعفا.
والحق في المقام ان يقال:
ان المتقى تارة يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله، أو على شئ من
ذلك يتعلق بمن له علقة، أو على فرد معين اخر لا علقة له به.
وأخرى على فرد أو جماعة غير معينة من أهل الحق قد يحصرون
في أيدي أعدائهم فيعاقبون من جراء العمل الذي ترك فيه التقية غيرهم.
اما الأول فلا اشكال في جريان أحكام التقية فيه، بل هو من أظهر
477

مصاديق التقية ويؤيده الروايات المعبرة فيها بأنها جنة أو ترس أو شبه ذلك.
وقد وقع التصريح به أيضا في عدة روايات:
منها: ما رواه أعمش عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث
شرايع الدين قال: ولا يحل قتل أحد من الكفار والنصاب في التقية الا
قاتل أو ساع في فساد وذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك،
واستعمال التقية في دار التقية واجب الحديث (1).
والقدر المتقين منه هو الخوف الشخصي على الأصحاب فتدبر.
ومنها - رواية المنصوري عن عم أبيه عن الإمام علي بن محمد
عن ابائه عليهم السلام قال: قال الصادق عليه السلام: ليس منا من لم يلزم
التقية ويصوننا عن سفلة الرعية (2).
ومنها - قول أمير المؤمنين عليه السلام الذي ورد في تفسير الإمام الحسن
العسكري عليه السلام قال: التقية من أفضل اعمال المؤمن يصون
بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين وقضاء حقوق الاخوان أشرف اعمال
المتقين الحديث (3).
ويدل عليه أيضا الروايات الكثيرة الواردة في الباب 28 من أبواب الأمر
بالمعروف التي قرنت فيهما التقية بقضاء حقوق الاخوان، ومن المحتمل
أن يكون مراعاة التقية شطرا من حقوق الاخوان فتكون المقارنة بينهما من هذه
الناحية لوجوب حفظهم بها، وبعبارة أخرى تجب التقية لحفظ حقوق أخيه

1 - الحديث 21 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف
2 - الحديث 27 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف
3 - الحديث 3 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف
478

كما تجب لحفظ نفسه وحقوقه، وان سبق منا احتمال اخر في بيان هذه
المقارنة وان الأول ناظر إلى مناسبة الانسان مع أعدائه والثاني إلى
مناسبته مع أحبائه.
وكذلك ما دل على أن ترك التقية من مصاديق القاء النفس في
التهلكة، وهو كثير. فكما ان القائه بنفسه في التهلكة حرام كذلك القاء
أخيه المؤمن بالهلاك أو باطلاق " أنفسكم " وشموله للغير أيضا.
واما القسم الثاني وهو الخوف على النوع بان يكون ترك التقية
مستلزما للضرر في زمان آخر على أقوام آخرين احتمالا معتدا به، كما إذا
تركها في بلاده عند بعض أهل الخلاف، وخاف منه الضرر على بعض
إخوانه إذا رجعوا إلى بلادهم، سواء كان ذلك بالنسبة إلى فرد أو افراد.
والظاهر جواز ذلك أيضا اما أولا فلما عرفت مرارا من ملاك التقية
وانه من باب مراعاة الأهم وتقديمه على المهم.
واما ثانيا فلصدق الضرورة عليه فيشمله عمومات التقية الدالة على
جوازها في كل ضرورة.
واما ثالثا فلدلالة غير واحد من اخبار أبواب التقية عليه بل على ما هو
أوسع منه:
" منها ": ما روى في تفسير الإمام الحسن العسكري (ع) عن الحسن
بن علي (ع) قال: ان التقية يصلح الله بها أمة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم
فإن تركها أهلك أمة، تاركها شريك من أهلكهم الحديث. (1)
" ومنها ": ما رواه الشيخ في مجالسه بسنده عن المنصوري عن عم

1 - الحديث 4 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف.
479

أبيه عن الإمام علي بن محمد (ع) عن آبائه (ع) قال: قال سيدنا الصادق (ع)
عليكم بالتقية فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون
سجية مع من يحذره. (1)
بل مفاده أوسع مما نحن بصدده لدلالته على وجوب رعايتها عند
شدة التقية مع من يأمنه إذا كان مقدمة لأن يعتادها مع من يحذره ويكون تركها
سببا لاضاعتها في موارد لزومها ووجوبها فتأمل.
ولا يعارضه ما عن علي بن موسى الرضا (ع) في حديث حيث جفى جماعة
من الشيعة وحجبهم لتقيتهم حيث لا تجب التقية (2) كما هو واضح.

1 - الحديث 28 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف.
2 - الحديث 9 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف.
480

5 - إذا خالف التقية في
موارد وجوبها
إذا خالف التقية في موارد وجوبها فهل يكون العمل المخالف له
صحيحا وإن كان عاصيا، كما إذا صلى منفردا فيما إذا اقتضت التقية
الجماعة مع من لا يراه صالحا لها، أو يفسد مطلقا، أو يفصل بين مواردها.
اختار شيخنا العلامة الأنصاري التفصيل بين ما إذا كان العمل المخالف
له أمرا متحدا مع العبادة كالسجدة على التربة الحسينية مع اقتضائها
تركه (ومثله الوقوف بعرفات وصوم يوم الشك إذا خالف اعتقاده لاعتقاد
مخالفه في تعيين يوم عرفة ويوم العيد). وبين ما إذا كان خارجا عنه كترك
القبض على اليد في الصلاة إذا اقتضت التقية فعلها.
فاختار الفساد في الأول والصحة في الثاني.
والظاهر أن الوجه فيه دخول المسألة في مسألة اجتماع الأمر والنهي
ففي الأول يكون السجدة أو نفس الوقوف والصيام محرما منهيا
عنه لا يصلح للتقرب المعتبر في صحة العبادة، بخلاف الثاني فإن الحرام
481

أمر خارج عن عبادته مثل النظر إلى الأجنبية حال الصلاة.
هذا والمسألة مبنية على أن أوامر التقية هل هي كأوامر الابدال
الاضطرارية تدل على جزئية ما يؤتى تقية وشرطيته وبدليته عن المأمور به
الواقعي، أو انها ليست كذلك بل تدل على أمر واجب في نفسه.
فعلى الأول كان العمل المخالف لها فاسدا مطلقا لعدم الاتيان
بالمأمور به في ذاك الحال والرجوع إلى غير ما هو مأمور به، وعلى الثاني
لم يكن فاسدا، الا إذا دخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي وقلنا ببطلان العبادة
مع الاتحاد بالحرام.
وحيث إن شيخنا العلامة قدس الله سره اختار الثاني ذهب إلى
التفصيل هنا.
ويرد عليه أولا: انه إذا قلنا بان ايجاب الشئ للتقية لا يجعله معتبرا
في العبادة فلو تركه لم يكن عمله فاسدا فعلى هذا لو ترك المسح على الخفين
في حال التقية (ولم يكن في تركه محور آخر) لم يكن وضوئه باطلا.
وقد أجاب هو نفسه عن هذا الاشكال بما حاصله: ان المسح على
البشره ينحل إلى أمرين أحدهما نفس المسح والاخر مباشرته للبشرة،
فإذا تعذر الثاني لم يسقط الأول ففي الحقيقة هذا ميسوره بعد ترك المباشرة،
للتقية، ثم أيد ذلك بما ورد في رواية عبد الأعلى مولى آل سام الواردة
في حكم الجبيرة قال قلت: لأبي عبد الله عليه السلام عثرت فانقطع ظفري
فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا
وأشباهه من كتاب الله عز وجل قال الله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من
482

حرج، امسح عليه. (1)
فإن المستفاد منها ان سقوط المباشرة لليد لا يوجب سقوط المسح
على المرارة، وانه يستفاد من ضم قاعدة نفى الحرج بحكم وجوب الوضوء،
حكم الجبيرة.
وفيه: ان ما افاده قدس سره لا يكفي في حل الاشكال فإن المسح
على الخف ليس ميسورا للمسح على الرجل قطعا بل هو أمر مباين له
عرفا كالمسح على شئ آخر خارجي ويشهد لذلك ما ورد في ذم
الماسحين على الخف عن الصادق عليه السلام إذا كان يوم القيامة ورد الله
كل شئ إلى شيئه ورد الجلد إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين يذهب
وضوئهم؟! (2)
فإنها تنادى بأعلى صوته ان المسح على الخف كالمسح على ظهر الغنم
في الحقيقة ولا يرتبط بالانسان ابدا.
واما رواية عبد الأعلى فلابد من توجيهه بما لا ينافي ما ذكر من عدم فهم
الميسور عرفا في باب المسح وانه ليس المسح على الجبيرة الا كالمسح على
أمر خارجي فتدبر.
وأوضح اشكالا منه مسألة الحج والوقوفين في أيام يراه المخالف
أيامهما وليس بذلك في الواقع أو في ظاهر الشرع، فإنه لا يمكن ان يقال
فيه: ان أصل الوقوف مطلوب ووقوعه في يوم عرفة أو ليلة العاشر مطلوب
آخر فإذا تعذر واحد وجب الاخر اخذا بالميسور، ولازم ذلك صحة عمل

1 - رواه في الوسائل في الباب 39 من أبواب الوضوء الحديث 5.
2 - رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب الوضوء الحديث 4.
483

من ترك الوقوف حينئذ واتى بسائر الواجبات اللهم الا ان يقال بعدم صدق
ميسور الحج عليه حتى عند التقية مضافا إلى ركنيتهما فتأمل.
وثانيا: انه لا وجه للتفصيل الذي ذكره بين موارده، مثل السجدة
على التربة الحسينية وترك القبض على اليد إذا اقتضت التقية خلافهما،
وذلك لأن نفس التقية واجبة واما تركها الخاص والاشتغال بضدها ليس
محرما فإن ضد الواجب ليس بحرام، هذا محصل ما أورده بعضهم عليه.
ولكن يمكن الذب عنه بان ترك التقية بنفسه حرام كما يظهر من
الرواية 26 من الباب 24 والرواية 9 من الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر:
ففي الأول منهما عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام
لا ايمان لمن لا تقية له.... فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا،
وفى الثاني عن الرضا عليه السلام أيضا انه جفى جماعة من الشيعة وحجبهم
فقالوا يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب
الصعب؟ قال - إلى أن قال: وتتركون التقية حيث لابد من التقية - اللهم
الا ان يقال إن المذمة فيهما لترك الواجب لا الفعل الحرام، وهذا مضافا إلى أن
الفعل الذي يؤتى به على وجه مخالف للتقية بنفسه مصداق لالقاء النفس
في التهلكة وهو حرام وقد مر في غير واحد من روايات التقية ان النهى عن تركها
بملاك انه مصداق لقوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
إذا عرفت ذلك فلنعد إلى أصل المسألة ونرى أن الحق فيها ماذا؟
فنقول: ظاهر اطلاقات الباب صحة العمل إذا اتى به على وجه
التقية والأدلة الخاصة أعني الأخبار الواردة في موارد خاصة منها أيضا
484

كالصريح في صحة الأعمال المؤداة على وجهها ولكن القدر المتقين بل
ظاهرها ان ذلك إنما يكون إذا عمل على وفقها لا ما إذا ترك العملين فترك المسح
على البشرة والخف معا.
ومن الواضح انه لا دليل لنا على صحة الأعمال المذكورة غير هذه
فإذا قصرت عن اثبات صحتها بدونه فلابد من الحكم بالفساد، فكان نتيجة
ذلك أمرا يشبه البدلية.
وان شئت قلت: انه وان لم يكن في اخبار الباب ما يدل على بدلية العمل
تقية عن العمل الواقعي كالأبدال الاضطرارية وليس فيها دلالة على أن المسح على
الخف بدل عن المسح على البشرة، بدلية التيمم عن الوضوء، ولكن إذا لم يكن
هناك دليل على اجزاء العمل الا في هذه الصورة كان اثره اثر البدلية ونتيجتها.
ومن المعلوم ان ذلك إنما يتصور إذا كانت التقية بترك شئ من اجزاء
الواجبات أو شرايطها وأما إذا كانت بإضافة شئ عليها كالقبض على اليد،
وتركه، فالأدلة الدالة على المأمور به الواقعي باطلاقها تشمله ويصح العمل
اللهم الا أن يكون نفس العمل على هذا الوجه مصداقا لالقاء النفس في التهلكة
فكان حراما لا يصلح للتقرب به فيبطل من هذه الجهة.
485

6 - في حكم الأعمال التي لها
بقاء من حيث الأثر بعد
ما زالت التقية
إذا توضأ (مثلا) تقية فلاشك في جواز الصلاة معه ما دامت أسبابها باقية،
وأما إذا زالت وانقضى مورد التقية فهل تجوز الأعمال المشروطة بالوضوء؟
وان شئت قلت: ان الوضوء تقية هل هو مبيح ما دامت عواملها، أو رافع
للحدث بحيث لا يحتاج إلى إعادة الوضوء الا إذا تجدد شئ من الاحداث
ولا فرق في ذلك بين العمل الذي توضأ له وغيره بعد فرض الكلام في ارتفاع
أسباب التقية بقاء.
وكذلك الكلام فيما إذا اتى ببعض العقود أو الايقاعات على وجه
التقية فهل يجوز ترتيب الأثر عليها بعد زوالها أم لا؟
والفرق بين ما نحن فيه وبين العبادات التي يؤتى بها تقية التي
486

قد عرفت اجزائها عن المأمور به الواقعي مما لا يخفى، فإن هذه أسباب
شرعية لها دوام بحسب الآثار التي تترتب عليها، بخلاف مثل الصوم والصلاة
وسائر العبادات.
وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن مقتضى القاعدة الأولية هو الفساد وعدم
ترتب الأثر في جميع موارد التقية الا ما خرج بالدليل وقد مرت الإشارة
إليها في المباحث السابقة.
فهل هناك دليل على الصحة أم لا؟
قد يقال: نعم، ويستدل له تارة بالأوامر الخاصة وأخرى بالأوامر
العامة.
توضيح ذلك:
اما الأوامر الخاصة الواردة في موارد التقية كالأمر بالوضوء ربما
يستفاد منها الصحة وعدم وجوب اعادته مطلقا وذلك لأن رفع الحدث
من آثار امتثال الامر بالوضوء من غير مزيد وهو هنا موجود، ولذا كل مورد
ورد فيه الامر به كان رافعا له فهل تجد موردا وحدا أمر فيه بالوضوء
ولا يكون رافعا؟
وما يتراءى من كون الوضوء مبيحا في دائم الحدث لا رافعا، مع
ورود الامر به، فإنما هو من جهة دوام الحدث وتجددها لا من حيث قصور
الوضوء في رفعه.
فتحصل من ذلك أن كل مورد ورد فيه أمر خاص ببعض الأسباب
الشرعية عند التقية، سواء كان من العبادات كالوضوء والغسل، أو من
العقود كالنكاح، أو من الايقاعات كالطلاق فامتثال هذا الامر دليل على
487

وجود المؤثر واقعا فيترتب عليه جميع آثارها ولو بعد زوال أسباب التقية.
واما الأخبار العامة الدالة على أن التقية جائزة في كل ضرورة وان
التقية في كل شئ الا في النبيذ والمسح على الخفين، وقد مرت في محلها
فهي تدل على جوازها مطلقا، وجواز كل شئ بحسبه: فجواز الوضوء
رفعه للحدث وجواز البيع صحته وترتب الملك عليه وجواز الطلاق تأثيره
في البينونة وكذا غيرها.
هذا ولكن يمكن الخدشة في الجميع اما الأخير فلان ظاهر الأدلة
العامة هو الجواز التكليفي ونفى الحرمة، لا الجواز الوضعي فالاستدلال
بها على آثارها الوضعي مشكل جدا.
واما الأوامر الخاصة فالقول بانصرافها عن ما نحن فيه قوى جدا وان
هي الا كالأوامر الاضطرارية إذا زالت الاعذار المتيمم بعد ما وجد الماء.
هذا مضافا إلى ما قد عرفت من أن التقية أمر عقلائي قبل أن تكون شرعية،
ولا شك ان العقلاء لا يعاملون معاملة الصحة مع هذه الأسباب الا عند بقاء عوامل
التقية واما بعد ارتفاعها فيرجعون إلى أسبابها الواقعية الاختيارية.
والحاصل ان الحكم ببقاء الآثار بعد زوال التقية مشكل جدا.
488

7 - هل هي واجب نفسي أو غيري
هل التقية في موارد وجوبها واجب نفسي يترتب على تركه العقاب
وغيره من آثاره أو واجب غيري مقدمي بما له من الآثار المختلفة.
الذي يستفاد بادي الامر من أدلتها هو الثاني فإنها شرعت لحقن
الدماء وحفظا عن الضرر الديني أو الدنيوي من غير علة، والدليل العقلي
الدال عليه أيضا لا يقتضى أزيد من المقدمية، وكذا ما دل على أن تركها داخل
في القاء النفس في التهلكة فتجب مقدمة لحفظ النفس عنها.
هذا ولكن الانصاف انها واجب نفسي بماله من الأثر وذلك لامرين:
أولا ان الظاهر من اطلاقات الأدلة وجوبها النفسي عند خوف
الضرر سواء ترتب على تركها ضرر أم لا، وما ذكر فيها من حقن الدماء
وغير ذلك فإنما هو من قبيل الحكمة لا العلة ولذا ورد فيها الوعيد بالعذاب
لمن تركها، مثل ما ورد في تفسير الإمام الحسن العسكري (ع) في حديث:
(..... فأعظم فرائض الله عليكم بعد فرض موالاتنا ومعاداة أجدائكم
استعمال التقية على أنفسكم وأموالكم ومعارفكم وقضاء حقوق أعوانكم
وان الله يغفر كل ذنب بعد ذلك ولا يستقصى، واما هذان فقل من ينجو منهما الا
489

بعد مس عذاب شديد) (1).
وكذا ما دل على أنه مثل تضييع حقوق الاخوان مثل ما ورد في ذلك
المصدر بعينه من قول علي بن الحسين عليه السلام يغفر الله للمؤمن كل
ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية وتضييع
حقوق الاخوان.
وما رواه ابن إدريس في آخر السرائر عن مولانا علي بن محمد (ع)
قال: لداود الصرمي: لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا (2)
إلى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.
فإن ذلك كله ظاهر في وجوبها النفسي.
وثانيا: ان ترك التقية - وهو ضد فعلها - بنفسه القاء النفس في
التهلكة، لا انه مقدمة لها ومن المعلوم ان ذلك بنفسه حرام فترك التقية
بنفسها حرام يترتب عليها العقاب ويوجب الفسق، وان شئت قلت:
فعلها عين مصداق حفظ النفس وتركها عين مصداق إضاعتها والقائها في الهلاكة
وليس هنا من المقدمية عين ولا اثر فتدبر.

1 - الحديث 12 من الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
من الجلد 11 من الوسائل
2 - الحديث 26 من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف
490

8 - هل هناك قسم ثالث للتقية؟
قد عرفت في المباحث السابقة ان التقية على ضربين: خوفي و
تحبيبي، والأول ما يكون الغرض منها حفظ النفوس والاعراض والدين
بخلاف الثاني فإن الغاية فيه هو جلب المودة وجمع الكلمة وائتلاف
الفرقة وتوحيد صف المسلمين على اختلاف مذاهبهم في مقابل أعداء الاسلام،
أعداء الحق، وقد عرفت ان لكل مقاما يختص به.
وقد يقال إن هنا قسما ثالثا لها وهو ما يقابل الإشاعة وإذاعة السر وانه
حكم سياسي شرع لحفظ المذهب ولو لم يكن هناك خوف على أحد، أو
مجال لجلب المودة وتوحيد الكلمة.
وقد عقد له في الوسائل بابا يخصه وأورد فيه اخبارا تدل على
المقصود:
منها ما رواه محمد الخزار عن أبي عبد الله (ع) قال من أذاع علينا
حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقنا (1).

1 - الحديث 11 من الباب 34 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
491

ومنها ما رواه ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبد الله (ع) من أذاع علينا
حديثنا سلبه الله الايمان. (1)
إلى غير ذلك مما ورد في هذا الموضوع، ومفادها وجوب كتمان
عقيدة الحق أو اظهار غيره في الموارد التي تكون من الاسرار التي يجب
كتمانها عن غير أهلها لما في إذاعتها عند غير أهله من الضرر فهذا نوع من
التقية وينطبق عليه تعريفها ومع ذلك ليس داخلا في القسمين السابقين.
ولكن الانصاف انه مما لا يمكن المساعدة عليه بل هو في الحقيقة
راجع إلى القسم الأول وهو التقية في موارد الخوف، فإن اطلاق السر
ليس الا في الموارد التي يكون في اظهار الحق أو بعض العقائد الدينية ضررا
وخوفا على النفس أو العرض أو الدين نفسه والا ما لا يكون فيه ضررا لا يكون
سرا ولا يدخل تحت عنوان كتمان السر وإذاعته، وعلى هذا يؤول هذا القسم
إلى القسم الخوفي.
ويشهد لما ذكر غير واحد من روايات ذاك الباب بعينه واليك
جملة منها:
1 - ما رواه يونس بن يعقوب عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (ع)
ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ ولكن قتل قتل عمد (2)
وفيه دلالة على أن إذاعة الحديث في موارد كتمانه يترتب عليه
الاضرار العظيمة ربما بلغ القتل، وحيث إن فاعله عالم بهذا الأثر فهو في
الواقع قاتل عمد، وهل هو الا مصداق لترك التقية الخوفي وقد عرفت ان

1 - الحديث 12 من الباب 34 من أبواب الأمر بالمعروف
2 - الحديث 13 من الباب 34 من أبواب الأمر بالمعروف
492

الخوف كما أنه قد يكون على النفس يمكن أن يكون على الغير.
2 - ما رواه محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: يحشر
العبد يوم القيامة وما ندا دما (1) فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك
فيقال له: هذا سهمك من دم فلان فيقول يا رب انك تعلم انك قبضتني وما
سفكت دما، فيقول: بلى ولكنك سمعت من فلان رواية كذا وكذا
فرديتها عليه حتى صارت إلى فلان الجبار فقتله عليها وهذا سهمك من
دمه (2).
فهل هذا الا ترك التقية الموجب لالقاء الغير في التهلكة؟
3 - ما رواه إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (ع) وتلي هذه الآية:
(ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما
عصوا وكانوا يعتدون) قال والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم
ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فاخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا واعتداء
ومعصية (3).
إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى، وجميعها تدل على أن إذاعة
السر إنما هو في العقايد التي لو أظهرت أورثت ضررا على صاحبها، فنقل ما
يشتمل عليها على صاحبها مناف للتقية التي أمر بها عند الخوف على
النفس أو على الغير، فليس هذا قسما ثالثا غير القسمين السابقين والامر واضح.

(1) ما ندا دما الظاهر أنه بمعنى ما أصاب دما.
(2) الحديث 14 من الباب 34.
3 - الحديث 15 من الباب 34
493

9 - هل يحرم تسمية
المهدى (ع) باسمه الشريف؟
المشهور بين جمع من المحدثين حرمة تسميته أرواحنا الفداء باسمه
الخاص، دون ألقابه المعروفة، فهل هذا حكم يختص بزمان غيبته
الصغرى دون الكبرى كما نقله العلامة المجلسي في المجلد 13 من بحار -
الأنوار عن بعض؟
أو انه عام لكل زمان ومكان إلى أن يظهر ويملا الأرض قسطا وعدلا
كما ملئت ظلما وجورا؟
أو ان حرمتها دائرة مدار التقية والخوف، فعند عدم الخوف جائز
وعند وجوده حرام، بل لا يختص ذلك به أرواحنا فداه ويجرى في غيره من
الأئمة (عليهم السلام) اختار ذلك شيخنا الشيخ الحر العاملي في الوسائل في
مفتتح هذا الباب وصرح به أيضا في ختامه.
ولنذكر أولا الأخبار الواردة في هذا الباب ثم نتبعها بذكر المختار
494

وهي على طوائف:
الطائفة الأولى:
ما دل على حرمة التسمية باسمه الشريف مطلقا من دون أي تقية
من ناحية الزمان والمكان ولم يعلل بتعليل خاص واليك جملة منها:
1 - ما رواه الكليني عن علي بن رئاب عن أبي عبد الله (ع) قال: صاحب
هذا الامر لا يسميه باسمه الا كافر (1).
2 - ما رواه أيضا عن الريان بن الصلت قال سئلت أبا الحسن الرضا (ع)
وسئل عن القائم قال: لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه. (2)
3 - ما رواه الصدوق (قدس سره) في كتاب اكمال الدين عن صفوان
بن مهران عن الصادق (ع) انه قيل له من المهدى من ولدك؟ قال: الخامس
من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته (3).
4 - وما رواه أيضا في ذاك المصدر عن محمد بن عثمان العمرى قال
خرج توقيع بخط اعرفه: من سماني في مجمع من الناس فعليه لعنة الله. (4)
بناءا على عدم اختصاصه بذاك الزمان كما هو ظاهر الاطلاق.
5 - ما رواه الصدوق أيضا في اكمال الدين عن عبد العظيم الحسنى
عن محمد بن علي بن موسى عليه السلام في ذكر القائم (ع) قال يخفى

1 - الحديث 4 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
2 - الحديث 5 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
3 - الحديث 11 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
4 - الحديث 13 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
495

على الناس ولادته ويغيب عنهم شخصه وتحرم عليهم تسميته وهو سمى
رسول الله وكنيه الحديث. (1)
إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.
الطائفة الثانية:
ما ورد فيه التصريح بترك تسمية إلى أن يقوم ويملا الأرض عدلا كما
ملئت ظلما وجورا، واليك بعض ما ورد في هذا المعنى:
1 - ما رواه العلامة المجلسي في بحار الأنوار عن محمد بن زياد
الأزدي عن موسى بن جعفر (ع) أنه قال: عند ذكر القائم يخفى على الناس
ولادته ولا يحل لهم تسميته حتى يظهره عز وجل فيملا به الأرض قسطا وعدلا
كما ملئت ظلما وجورا. (2)
2 - ما رواه أيضا عن عبد العظيم الحسنى عن أبي الحسن الثالث (ع)
أنه قال (ع) في القائم لا يحل ذكره باسم حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلا
كما ملئت ظلما وجورا الحديث (3)
3 - ما رواه الكليني بسنده عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري
عن أبي جعفر (ع) في حديث أنه قال: واشهد على رجل من ولد الحسن
لا يسمى ولا يكنى حتى يظهر امره فيملاها عدلا كما ملئت جورا، انه القائم

1 - الحديث 14 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف
2 - المجلد 13 من البحار صفحة 8 من طبع امين الضرب.
3 - المجلد 13 من البحار صفحة 8
496

بأمر الحسن بن علي (ع) (1).
4 - ما رواه الصدوق أيضا في كتاب اكمال الدين بسنده عن
عبد العظيم الحسنى عن سيدنا علي بن محمد (ع) انه عرض عليه اعتقاده
واقراره بالأئمة - إلى أن قال - ثم أنت يا مولاي، فقال له (عليه السلام)
ومن بعدي ابني الحسن، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قلت فكيف ذلك؟
قال: لأنه لا يرى شخصه، ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض
قسطا وعدلا - إلى أن قال - هذا ديني ودين آبائي (2).
إلى غير ذلك مما يدل عليه.
الطائفة الثالثة
ما دل على عدم جواز تسمية (ع) معللا بالخوف، واليه بعض ما ورد
في هذا المعنى
1 - ما رواه الكليني بسنده عن علي بن محمد عن أبي عبد الله
الصالحي قال: سألني أصحابنا بعد مضى أبى محمد (ع) ان اسأل عن
الاسم والمكان فخرج الجواب: ان دللتم على الاسم أذاعوه وان عرفوا

1 - الحديث 3 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف من المجلد 11
من الوسائل.
2 - الحديث 9 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف من المجلد 11
من الوسائل.
497

المكان دلوا عليه (1).
قال المحدث الشيخ الحر العاملي قدس سره بعد نقل هذا الحديث:
هذا دال على اختصاص النهى بالخوف وترتب المفسدة.
2 - ما رواه أيضا عن عبد الله بن جعفر الحميري عن محمد بن عثمان
العمرى (في حديث) أنه قال له: أنت رأيت الخلف؟ قال: أي والله -
إلى أن قال - فالاسم؟ قال محرم عليكم ان تسألوا عن ذلك ولا أقول ذلك
من عندي فليس لي ان أحلل ولا أحرم، ولكن عنه (ع) فإن الامر عند السلطان
ان أبا محمد مضى ولم يخلف ولدا - إلى أن قال - وإذا وقع الاسم وقع
الطلب فاتقوا الله وامسكوا عن ذلك (2):
وهذا كالصريح في أن النهى لمكان الخوف عليه (ع) وانه إذا وقع
الاسم طلبوه: فنهى عن التسمية بل أبهمت التسمية كي لا يطلع عليه من
لا يعلمه وحرم على من يعلمه.
3 - ما رواه الصدوق في اكمال الدين عن علي بن عاصم الكوفي
يقول: خرج في توقيعات صاحب الزمان ملعون ملعون من سماني في
محفل من الناس (3).
والتقييد بقوله (في محفل من الناس) دليل على جوازه في غير
محافلهم بناء على دلالة القيد على المفهوم في هذه المقامات - وان النهى

1 - الحديث 7 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف من المجلد 11
من الوسائل.
2 - الحديث 8 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
3 - الحديث 12 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
498

إنما هو من جهة التقية عنهم.
4 - ما رواه أيضا عن محمد بن همام عن محمد بن عثمان العمرى قال خرج
توقيع بخط اعرفه: من سماني في مجمع من الناس فعليه لعنة الله (1).
ودلالته كسابقه.
5 - ما رواه في البحار عن أبي خالد الكابلي قال: لما مضى علي بن
الحسين (ع) دخلت على محمد بن علي الباقر (ع) فقلت جعلت فداك
قد عرفت انقطاعي إلى أبيك وأنسي به ووحشتي من الناس.
قال: صدقت يا أبا خالد تريد ماذا؟
قلت: جعلت فداك قد وصف لي أبوك صاحب هذا الامر بصفة لو رأيته
في بعض الطرق لاخذت بيده:
قال: فتريد ماذا يا أبا خالد؟
قال: أريد ان تسميه لي حتى اعرفه باسمه.
فقال: سألتني والله يا أبا خالد عن سؤال مجهد ولقد سألتني بأمر
ما كنت محدثا به أحدا لحدثتك ولقد سألتني عن أمر لو أن بنى فاطمة
عرفوه حرصوا على أن يقطعوه بضعة (2)
بناء على أن قوله (لو أن بنى فاطمة إلى اخر) تدل على قصد بعضهم
الاضرار به فضلا عن غيرهم فلذلك لم يسمه (ع) باسمه حتى يكون مكتوما
فلا يعرف ولا تصل أيدي المخالفين إليه خوفا من الاضرار به.
والمستفاد من جميع ذلك أن اخفاء اسمه ليس لأمر تعبدي خاص

1 - الحديث 13 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
2 - بحار الأنوار المجلد 13 صفحه 8
499

بل بملاك التقية بمالها من الشروط لا غير.
الطائفة الرابعة
ما يدل على وقوع التسمية منهم (عليهم السلام) أو من أصحابهم
في موارد عديدة بلا نهى منهم، واليك بعض ما ورد في هذا المعنى:
1 - ما رواه الصدوق في اكمال الدين بسنده عن محمد بن إبراهيم
الكوفي ان أبا محمد الحسن بن علي العسكري (ع) بعث إلى بعض من
سماه شاة مذبوحة وقال: هذه من عقيقة بنى محمد (1).
وهذا تصريح بالاسم منهم صريحا، وإجازة بالتصريح من غيرهم
تلويحا.
2 - ما رواه أيضا عن أبي غانم الخادم قال: ولد لأبي محمد (ع)
مولود فسماه محمدا وعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال هذا صاحبكم
من بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم (2).
وهذا الحديث وان لم يكن دالا على التسمية منهم، الا ان ذلك لو
كان ممنوعا لم يتسرع إليه أبو غانم الخادم، بل هو دليل على أن الإمام العسكري
(ع) صرح باسمه له ولأمثاله.
3 - وما رواه أيضا عن الكليني عن علان الرازي عن بعض أصحابنا
انه لما حملت جارية أبى محمد (ع) قال: ستحملين ولدا واسمه محمد

1 - الحديث 15 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.
2 - الحديث 16 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف
500

وهو القائم من بعدي (1).
ونقل الرواة له واحدا بعد واحد شاهد على جواز التسمية في
الجملة.
4 - وما رواه أيضا عن أبي نصرة عن أبي جعفر (ع) عن جابر
بن عبد الله عن فاطمة (عليها السلام) انه وجد معها صحيفة من درة فيها
أسماء الأئمة من ولدها فقرأه - إلى أن قال - أبو القاسم محمد بن الحسن
حجة الله على خلقه القائم، أمه جارية اسمها نرجس (2).
ونقل جميع رواة السند مضافا إلى نقل جابر دليل على عدم المنع
من التسمية في جميع الحالات والظروف.
5 - وما رواه أيضا عن أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) عن
آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين (ع) على المنبر: يخرج رجل من
ولدى في آخر الزمان - وذكر صفة القائم وأحواله - إلى أن قال - له اسمان: اسم
يخفى فاحمد واما الذي يعلن فمحمد - الحديث (3).
وهو دليل على أن التصريح باسمه بمحمد حتى من فوق المنبر
جايز.
6 - ما رواه بأسانيده الكثيرة عن الحسن بن محبوب عن أبي
الجارود عن أبي جعفر (ع) عن جابر قال دخلت على فاطمة عليها السلام
وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها فعددت اثنى عشر آخرهم

1 - الحديث 17 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.
2 - الحديث 18 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف
3 - الحديث 19 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف
501

القائم، ثلاثة منهم محمد وأربعة منهم على (1).
7 - ما رواه أيضا عن المفضل بن عمر قال: دخلت على الصادق (ع)
فقلت: لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك فقال الإمام بعدي ابني موسى
والخلف المأمول المنتظر محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن
موسى (2).
8 - ما رواه الطبرسي في الأعم الورى عن محمد بن عثمان العمرى
عن أبيه، عن أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام في الخبر الذي
روى عن آبائه (عليهم السلام) ان الأرض لا تخلو من حجة الله على خلقه
وان من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية فقال إن هذا حق كما أن
النهار حق فقيل يا بن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟ فقال ابني
(محمد) هو الإمام والحجة بعدي فمن مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية (3):
إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.
ولقد أجاد صاحب الوسائل في آخر الباب 33 من أبواب الأمر
بالمعروف والنهى عن المنكر حيث قال: (والأحاديث في التصريح باسم
المهدى محمد بن الحسن (ع) وفى الامر بتسميته عموما وخصوصا تصريحا
وتلويحا، فعلا وتقريرا في النصوص والزيارات والدعوات والتعقيبات
والتلقين وغير ذلك كثيرة جدا) ثم أضاف إليه في حاشية منه على آخر

1 - الحديث 20 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.
2 - الحديث 22 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف
3 - الحديث 23 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف
502

أحاديث هذا الباب انه: (قد صرح باسمه (ع) جماعة من علمائنا في كتب
الحديث والأصول والكلام وغيرها منهم العلامة والمحقق والمقداد
والمرتضى وابن طاووس وغير هم، والمنع نادر وقد حققناه في رسالة
مفردة) (انتهى).
هذا هو ما ورد في هذا الباب من طوايف الاخبار وكلمات الأصحاب،
ولا ينبغي الشك في أن القول بمنع التسمية تعبدا كلام خال عن التحقيق
وان صرح به بعض الأكابر بل الظاهر أن المنع منه يدور مدار وجود ملاك
التقية، وفى غيره كأمثال زماننا هذا لا يمنع على التحقيق.
وما افاده العلامة المجلسي قدس سره بعد ذكر بعض ما دل على
النهى عن التسمية إلى أن يظهر القائم (ع): (ان هذا التحديدات مصرحة
في نفى قول من خص ذلك بزمان الغيبة الصغرى تعويلا على بعض العلل
المستنبطة والاستبعادات الوهمية) ممنوع جدا، لما قد عرفت من أن هذا
ليس علة مستنبطة واستبعادا وهميا بل صريح به في روايات عديدة ليست
بأقل من غيرها، هذا مضافا إلى ما دل على جواز التسمية والتصريح به وقد
عرفتها في الطايفة الرابعة وهي أكثر عددا وأقوى دلالة من غيرها.
والحاصل ان المنع يدور مدار الخوف عليه (ع) أو علينا بالموازين
المعتبرة في التقية وذلك لأمور:
أولا ان هذا هو الطريق الوحيد في الجمع بين الاخبار وحمل مطلقها
على مقيدها، فالمطلقات وهي الطايفة الأولى بل الثانية أيضا - فإنها
مطلقة من ناحية الخوف وعدمه وان كانت مغياة بظهوره فإنه لا ينافي تقييدها
بما ذكرنا - تقيد بالطائفة الثالثة الدالة على دوران الحكم مدار التقية، ولولا
503

ذلك تعارضت وتساقطت لو قلنا بان كل طايفة منها قطعية أو كالقطعية
لتظافرها، أو يقال بالتخيير بناء على كون اسنادها ظنية وعندئذ يمكن
الحكم بالجواز.
ومن أقوى القرائن على الجمع الذي ذكرنا هو الطائفة الرابعة
المصرحة بجواز التسمية في الجملة - وليت شعري ماذا يقول القائل بحرمة
التسمية مطلقا في هذه الطائفة المتظافرة جدا؟ فهل يمكن طرح جميعها
مع كثرتها وفتوى كثير من الأصحاب على طبقها؟ أو يمكن ترجيح غيرها
عليها؟
كلا لا طريق إلى حلها الا بما ذكرنا.
ثانيا - قد ورد أحاديث كثيرة من طرق أهل البيت والسنة صرح
فيها بان اسم المهدى اسم النبي وكنيته (ع) كنيته صلى الله عليه وآله.
ومن المعلوم ان هذا في قوة التسمية فإن الظاهر من بعض الأخبار الدالة
على عدم ذكر الاسم هو عدم الدلالة عليه بحيث لا يعلم المخاطب من
الناس ما يكون اسمه الشريف، لا مجرد التلفظ به، اللهم الا ان يقال إن ذلك
وإن كان مفاد بعض اخبار الباب ولكن ينافيه بعضها الاخر الدال على
حرمة التلفظ به لا الدلالة عليه ولو بنحو من الكناية فراجع وتدبر.
ثالثا - ان القول بحرمة التلفظ باسمه الشريف من دون التقية
ومحذور آخر، مع جواز الدلالة عليه بالكناية أو بمثل م ح م د يحتاج إلى
تعبد شديد، فأي حزازة في ذكر اسمه الشريف في اللفظ مع جواز
ذكرها كناية، كالقول بان اسمه اسم جده رسول الله أو بالحروف المقطعة،
مع فرض عدم أي محذور ظاهر بتاتا؟
504

وأي شبيه لمثل هذا الحكم في الأحكام الشرعية؟
ومثل هذا الاستبعاد وان لم يكن بنفسه دليلا في الأحكام الفقهية
الا انه يمكن جعله تأييدا لما ذكرنا.
ويؤيده أيضا بعض ما ورد في عدم جواز التصريح باسم غيره (ع)
من الأئمة عليهم السلام عند التقية، فلا يختص الحكم باسمه الشريف
مثل ما رواه الكليني باسناده إلى عنبسة عن أبي عبد الله (ع) قال: إياكم
وذكر على وفاطمة (عليهما السلام) فإن الناس ليس شئ أبغض إليهم من
ذكر على وفاطمة (1).
ومن العجب ما حكى عن الصدوق قدس سره انه بعد الاعتراف
بالتصريح باسمه في رواية اللوح قال جاء هذا الحديث هكذا بتسمية القائم
والذي اذهب إليه النهى عن التسمية انتهى.
وقد عرفت انه لا ينحصر التصريح باسمه الشريف برواية اللوح ولا ينحصر
الدليل بروايات الطائفة الرابعة المصرحة بالاسم، ومع ذلك لم لم يختر -
القول بالجواز عند عدم التقية كما اختاره صاحب الوسائل ويظهر من
كثير من الأصحاب؟
فلعله رآه موافقا للاحتياط، وهو وإن كان كذلك الا ان الاحتياط في
عمل النفس شئ والفتوى بالاحتياط شئ آخر، وبالجملة هذا الاحتياط
ضعيف جدا لا يجب مراعاته.
فتلخص عن جميع، ما ذكر جواز التسمية باسمه الشريف - وهو (محمد)

1 - الحديث 2 من الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف.
505

بن الحسن العسكري) عجل الله تعالى له الفرج - في أمثال زماننا هذا مما
لا تقية فيه من هذه الناحية.
إلى هنا ينتهى الكلام في أحكام التقية وفروعها.
وقد وقع الفراغ منه في الجمادى الأخرى من سنة 1392
(والحمد لله)
506

8 - قاعدة لا تعاد
* مدركها
* اسناده ودلالته
* جواب ما فيها من الاشكالات
* ما يتفرع عليها من الفروع
* معارضها والجواب عنه
507

من القواعد الفقهية قاعدة لا تعاد وهي قاعدة عامة تجرى في جميع
أبواب اجزاء الصلاة وشرايطها وموانعها (على القول بحجيتها) وبهذا
دخلت في سلك القواعد الفقهية لما قد عرفت من أن ضابطها اشتمالها على
أحكام عامة لا يختص بباب خاص.
وباشتمالها على الحكم تمتاز عن المسائل الأصولية فإنها لا تشتمل
على حكم شرعي بل تكون قواعد تقع في طريق استنباط الأحكام.
وبعدم اختصاصها بباب خاص وموضوع معين تمتاز عن المسائل
الفقهية المختصة بمواضيع معينة.
وعلى هذا لا يمنع اختصاص هذه القاعدة بأبواب الصلاة من
انسلاكها في سلك القواعد الفقهية فإن هذه الأبواب تحتوى مواضيع
مختلفة غاية الاختلاف.
أصل القاعدة
لا شك في أن الحكم الأولى في المركبات الشرعية وغيرها الفساد
ذا أخل بشئ من اجزائها وشرايطها أو اتى بشئ من موانعها، إذ مع
509

الاخلال بشئ من هذه لا توجد المركب على الفرض، سواء كان ذلك
عمدا أو سهوا أو جهلا إذا كانت الجزئية والشرطية والمانعية مطلقة.
فالحكم بالبطلان وعدم الاجتزاء ولزوم الإعادة هو الأصل الأولى
في جميع هذه الموارد.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل على الجزئية أو الشرطية
أو المانعية بلسان نفى الماهية مثل قوله (لا صلاة الا بطهور) وقوله (لا صلاة
الا بفاتحة الكتاب)، أو بلسان الامر مثل قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين وان كنتم جنبا فاطهروا (1).
أو بلسان وجوب الإعادة عند الاخلال بها كما ورد في غير واحد من
أبواب الاجزاء والشرايط والموانع مثل قوله (ع) في حديث زرارة بعد السؤال
عن إصابة شئ من الدم أو المنى بثوب المصلى ونسيانه والصلاة معه والذكر
بعد الفراغ منها (تعيد الصلاة وتغسله).
لعدم الفرق بين جميع هذه الصور، واطلاقها دليل على عدم
اختصاص الجزئية وشبهها بحال خاص.
وما قد يتوهم من أنه إذا كان الدليل عليها بلسان الامر - والامر لا يشمل
الناسي وشبهه - كان مختصا بالعالم العامد الذاكر، وغيره خارج عن
نطاق اطلاق دليل الجزئية والشرطية والمانعية، ومع عدم ثبوت هذه الأمور
في حقهم لا مناص عن الحكم بالصحة عند تركها غفلة ونسيانا وشبههما،
فاسد جدا، فإن مثل هذه الأوامر أو أمر ارشادية، ترشد إلى الجزئية تارة والشرطية

(1) سورة المائدة - 6
510

أو المانعية أخرى، وليست على وزان الأوامر المولوية المختصة بالذاكر
العامد.
هذا مضافا إلى أن الأوامر المولوية الواردة في أبواب الأحكام التكليفية
أيضا عامة شاملة للجاهل والناسي أيضا، وان سقطت عن الفعلية
في حقهم ما دامت هذه الاعذار، فإذا ارتفعت وأمكن التدارك بالإعادة أو
القضاء وجب.
وبالجملة لا ينبغي الريب في أن قضية الأصل الأولى هو الفساد عند
الاخلال بشئ من هذه الأمور.
نعم يستثنى منه ما إذا كان الحكم بالجزئية أو الشرطية منتزعا عن حكم
تكليفي فعلى مثل ما أفتى به المشهور من بطلان الصلاة في الأرض المغصوبة
أو اللباس المغصوب فإنه لا دليل على شرطية الإباحة أو مانعية الغصب الا من
ناحية حكم العقل بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي أو عدم امكان التقرب
إلى الله تعالى بفعل يتحد مع عنوان محرم.
ومن الواضح ان الفساد هنا مشروط بفعلية حكم الغصب بحيث
لا يمكن التقرب معه بالصلاة فلو نسي أو غفل أو جهل به، بحيث لم تكن
الحرمة فعلية لم يكن هناك مانع عن صحة الصلاة. وهذا هو الفارق بينه
وبين غيره من الموانع والشرايط.
فالغافل والجاهل والناسي لحكم الغصب وموضوعه تصح صلاتهم
لعدم المانع في حقهم.
إذا تبين ذلك فاعلم:
ان فقهائنا رضوان الله عليهم استثنوا من أصالة الفساد الجارية في
511

المركبات عند الاخلال بشئ من اجزائها وشرايطها وموانعها، أبواب
الصلاة وافتوا بصحتها عندئذ الا في خمسة أشياء الطهور والوقت والقبلة
والركوع والسجود (ثلاثة من الشرايط واثنان من الاجزاء) وسماه جمع
من المتأخرين والمعاصرين ب‍ (قاعدة لا تعاد) اخذا مما ورد في الحديث
الآتي.
512

1 - مدرك القاعدة
المدرك الوحيد لهذه القاعدة هو صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقر
(ع) قال: لا تعاد الصلاة الا من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع
والسجود - ثم قال - القراءة سنة والتشهد سنة والتكبير سنة ولا تنقض
السنة بالفريضة.
رواها في الوسائل في المجلد الثالث في أبواب القبلة الباب 9،
الحديث 1.
وكذا في المجلد الأول في أبواب الوضوء الباب 3، الحديث 8.
وكذا في المجلد الرابع في أبواب أفعال الصلاة الباب الأول
الحديث 14.
وهذا الحديث صحيح سندا ودلالة.
اما السند
فقد رواه الصدوق (رحمه الله) في الخصال عن أبيه، عن سعد (بن عبد الله
القمي) عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن حريز
513

بن عبد الله (السجستاني) عن زرارة عن أبي جعفر (ع).
ورواه أيضا في (الفقيه) باسناده إلى زرارة عنه (ع).
وذكر في جامع الرواة وغيره ان اسناد الصدوق إلى زرارة صحيح.
وسنده إليه - كما ذكره في آخر كتابه - هو هكذا (عن أبيه عن
عبد الله بن جعفر الحميري عن محمد بن عيسى بن عبيد والحسن بن طريف
وعلي بن إسماعيل بن عيسى كلهم عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله
عن زرارة بن أعين.
ورواه في التهذيب باسناده إلى زرارة.
وعلى كل حال الحديث صحيح من حيث السند قابل للاعتماد عليه،
فلا غبار إليه من هذه الناحية.
واما الدلالة
لا كلام في دلالة الحديث بل صراحته في عدم وجوب إعادة الصلاة
عن الاخلال بما عدا الخمسة في الجملة إنما الكلام في مقدار دلالتها واطلاقها
من جهات مختلفة.
فإن الاخلال بما عدا الخمسة يتصور على وجوه:
أولها: أن يكون الاخلال ناشيا من ناحية النسيان، اما نسيان الحكم
نسيان الموضوع.
ثانيها: أن يكون مستندا إلى الجهل وعدم العلم، اما بالحكم أو
موضوع
514

ثالثها: أن يكون مع العلم والعمد.
لا اشكال في شمول اطلاقها للصورة الأولى وعدم وجوب الإعادة
منه سواء كان النسيان في جانب الموضوع أو الحكم، بل القدر المتيقن منها
هو هذه الصورة.
واما الصورة الأخيرة فلا ينبغي الشك في خروجها عنها وانصرافها
منها وبقائها على حالها من وجوب الإعادة عند الاخلال بشئ من الشرائط
والاجزاء.
وما أجود ما قاله سيدنا الأستاذ العلامة المحقق البروجردي قدس الله
سره في هذا المقام من (ان القاعدة إنما هو بصدد بيان حكم المريد للامتثال
المخل ببعض الجوانب ومن الواضح ان من كان بهذا الصدد لا يتصور
في حقه الاخلال العمدي، واما من ليس بصدد الامتثال من أول امره فهو
خارج عن نطاق بحثها قطعا).
ويمكن ان يقال أيضا انه لا يجوز على المولى الحكيم الحكم بعدم
وجوب الإعادة في هذه الصورة - صورة الاخلال ببعض ما يعتبر في الواجب
عمدا - فإنه دليل على عدم وجوب ما أخل به من أصل - وهو خلاف
الفرض، فإذا كان واجبا فكيف يرخص في تركه وهل هذا الا نقض الغرض؟
فشمولها لصورة العمد والعلم تعود إلى أمر محال.
وما قد يقال:
ان هذا ليس بدعا من الامر ولا مانع من أمر المولى بشئ مركب
ذات اجزاء وشرايط على نحو الوجوب ثم الحكم بصحته عند الاخلال
515

ببعضها، وقد وقع ذلك في باب القصر والاتمام، والجهر والاخفات، فإن القصر
أو الجهر والاخفات مع كونها واجبة في محلها فقد حكموا بصحة العمل
مع الاخلال بها جهلا ولو كان عن تقصير الذي في حكم العمد.
فكما ان الجاهل المقصر في هذين البابين يكون آثما ولكن يحكم
بصحة أعماله مع اخلاله ببعض ما يعتبر في الصلاة من الشرائط، فكذا
الكلام فيمن أخل بشئ عامدا يحكم بصحة صلاته بمقتضى هذه القاعدة
وإن كان آثما في الجملة.
ويجرى هنا ما ذكروه في توجيه الصحة وتفسيرها هناك من أن لأمر المولى
قد يكون مراتب، فإذا أخل ببعض مراتبها بترك بعض الاجزاء أو الشرايط
فقد نال بمرتبة أخرى منه واحرز شيئا من الملاك والمطلوبية وان أضاع
بعضه، والمفروض انه بعد احرازه بهذا المقدار لا يبقى موضوع لاحراز
الباقي فيسقط الامر ويصح العمل ويكون اثما من حيث الاخلال أيضا.
ممنوع، بان هذا الوجه إنما يصح إذا كان الامر ذا مراتب وكان من
قبل تعدد المطلوب، وكان الشرايط والاجزاء الخمسة مطلوبة في حد ذاتها
وغيرها من الاجزاء والشرايط مطلوبات آخر - كما ذكروا ذلك في باب
الجهر والاخفات والقصر والاتمام.
ولكنك خبير بان هذا فرض غير واقع في ما عدا الخمسة وقد قام
الاجماع على أن الصلاة بجميع اجزائها وشرائطها مطلوب واحد لا تعدد
فيه الا في مسئلتي الجهر والاخفات والقصر والاتمام - فقد ذكروا فيه ما ذكروه
وإنما هو في فرض الجهل لا فرض العمد.
والحاصل ان هذا التوجيه إنما يصح في فرض امكان تعدد الطلب
516

واما في غيره - وما نحن فيه منه - فيستحيل ذلك، فما ذكرنا من أن هذا أمر
غير ممكن - في المقام - يكون تاما صحيحا مع حفظ الفرض.
يبقى الكلام في الصورة الثانية - وهي صورة الجهل موضوعا
أو حكما فنقول:
الجاهل اما يكون جهله بسيطا ويكون ملتفتا إلى جهله شاكا في
الحكم أو موضوعه (الملازم للجهل البسيط) فالانصاف انه بحكم العامد
الذي قد عرفت انصراف القاعدة عنه بل استحالة شمولها له، فإنه في الواقع
نوع من العمد وكيف يتصور كون الانسان بصدد امتثال أمر مولاه وهو
شاك في حصول المأمور به باجزاء وشرايط خاصة وهو لا يعتنى بهذا الشك
وبما لا يعلمه من الاجزاء والشرايط بل يشكل تمشى قصد القربة منه في كثير
من الأحيان.
ولو قلنا بشمول القاعدة لمثله كانت باعثة للمكلفين إلى الجهل
وداعية لهم إلى ترك الجد والاجتهاد في تحصيل العلم باجزاء الصلاة
وشرايطها، فإن اعلانها بصحة صلاة الجاهل المقصر داع إلى هذا لا محالة،
وهو كما ترى.
واما الجاهل بالجهل المركب، الغافل عن جهله، العالم بخلافه،
كمن يعتقد عدم جزئية السورة مع أنها في الواقع كذلك فلا يبعد شمول
اطلاق الدليل له لعدم المانع منه ولا وجه للانصراف وشبهه.
517

2 - اشكال على القاعدة ودفعه
وههنا اشكال
ينشأ من أن القاعدة لا شك انها بصدد الصحة الواقعية فإذا قلنا
بشمولها للجاهل المركب لزم الحكم بصحة صلاة مثل هذا الجاهل
التارك لبعض اجزائها أو شرائطها (ما عدا الخمسة) واقعا وهو نوع من
التصويب الباطل، إذا للازم كون الحكم واقعا في حق العالم اشتمال
صلاته على عشرة اجزاء وفى حق الجاهل خمسة اجزاء فقط، وهذا هو
التفرقة بين العالم والجاهل في الأحكام الواقعية وهو التصويب الباطل.
ويمكن ان يجاب عنه
بان هناك فرقا واضحا بين العالم والجاهل وهو ان العالم يستوفى
بعلمه تمام مصلحة العمل، ولكن الجاهل لا يستوفى منه الا مقدارا منه مع
عدم امكان استيفاء الباقي بعد استيفاء هذا المقدار.
وان هو الا نظير العبد التارك لأمر المولى القائل اسقني ماء باردا
518

فاتاه بماء غير بارد وشرب المولى منه، لم يحتج بعد ذلك إلى الماء
البارد، والحاصل انه لما اتى بالناقص لم يبق مجال للاتيان بالكامل.
وان شئت قلت: هذا من قبيل الاتيان بغير المأمور به الرافع
لموضوع المأمور به كما في المثال السابق وهذا أمر واقع في العرف
والشرع.
فالمأمور به الواقعي هو المشتمل على عشرة اجزاء لا غير، واما
المشتمل على خمسة اجزاء فهو حاو لشئ من المصلحة من دون أن يكون
مأمورا به فلا يلزم محذور التصويب.
ومثل هذا البيان وإن كان ممكنا في حق العالم العامد التارك لبعض
الاجزاء الا انه خلاف ما ثبت بالدليل والاجماع فتأمل.
ويمكن الجواب عنه أيضا - كما ذكره بعض أجلة العصر - ان
الحكم الواقعي الانشائي في حق الجميع - الجاهل والعالم - سواء وهو
عشرة اجزاء مثلا، وإنما الفرق بين الجاهل والعالم في الحكم الفعلي
فالعالم حكمه الفعلي يدور على عشرة أيضا والجاهل يدور حكمه الفعلي
على خمسة اجزاء فاذن لا يلزم التصويب فإنه إنما يلزم إذا كان الحكم
بجميع مراتبه مختلفا بين العالم والجاهل لا ما إذا اتحدا في مرحلة الانشاء
وهذا الجواب مثل ما ذكروه في الجمع بين الحكم الظاهري
والواقعي مع الاعتذار عن محذور التصويب باشتراك الحكم الانشائي بين
الجميع مع اختلاف العالم والجاهل في الفعلية، نعم كلامهم هناك إنما
هو في الحكم التكليفي وهنا في الحكم الوضعي والظاهر أن هذا المقدار
من التفاوت لا يوجب محذورا في المقام.
519

3 - هل تكون للقاعدة مدارك
اخر غير ما ذكر؟
قد ذكر العلامة الأنصاري قدس الله سره الشريف في بعض كلماته
مدارك أخرى للقاعدة:
منها رواية منصور بن حازم المروية في أبواب القراءة قال: قلت
لأبي عبد الله (ع): ان صليت المكتوبة فنسيت ان اقرأ في صلواتي كلها؟
فقال أليس قد أتممت الركوع والسجود؟ قلت: بلى، قال تمت صلاتك
إذا كان نسيانا.
(رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب القراءة الحديث 2)،
ومفاد الرواية ان من أتم ركوعه وسجوده تمت صلاته ولا يضره
الاخلال بغيرهما من الاجزاء الاخر.
ومنها - ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن سفيان بن
السمط عن أبي عبد الله (ع) (تسجد سجدتي السهو في كل زيادة تدخل
520

عليك أو نقصان.
(رواه في الوسائل في المجلد 5 في أبواب الخلل في الصلاة في
الباب 32، الحديث 3).
وهذه الرواية لو تمت كانت أوسع من حديث لا تعاد بناء على
ما عرفت من التشكيك في شموله للزيادة، ولكن هذه تدل على أن الزيادة
والنقيصة السهويتين لا تضران بالصلاة بل يمكن علاجهما بسجدة السهو فإنها
جابرة لهما فلا تجب الإعادة لا محالة.
والذي يوهن الاستدلال بالأولى منهما ما ورد في ذاك الباب بعينه من
اجزاء تسبيح الركوع والسجود عن القراءة، فعن أبي بصير عن أبي -
عبد الله (ع) قال إن نسي ان يقرء في الأولى والثانية اجزاه تسبيح الركوع
والسجود (الحديث).
(الحديث 3 من الباب 29 من أبواب القراءة).
وهذا دليل على بدلية التسبيح عن القراءة لا جواز تركه مطلقا
مع اتمام الركوع والسجود، وبالجملة لا يتجاوز دلالة الحديث - لو قلنا
به - عن حد الاشعار على كفاية الركوع والسجود عن غيرهما عند
النسيان فلا يمكن الاستدلال به، لا سيما مع عدم عموم فيه يشمل غير القراءة
من الاجزاء.
ويوهن الثاني - مضافا إلى وهنه بالارسال (ومع الغض عنه لكون
المرسل ابن أبي عمير) ضعيف بوجود سفيان بن السمط الذي من المجاهيل
بان الرواية ليست في مقام بيان قاعدة كلية حاكمة بعدم فساد الصلاة
بالزيادة والنقيصة في اجزائها بل هي ناظرة إلى بيان تدارك ما عرضه من
521

النقيصة والزيادة بعد الفراغ عن صحتها معه.
والحاصل ان الحكم بصحة الصلاة في كل زيادة ونقيصة سهوية
شئ والحكم بلزوم تداركها بعد الفراغ عن صحتها بسجدة السهو شئ، آخر
والظاهر أن الرواية بصدد بيان الثاني لا الأول.
فإذا ثبت صحة الصلاة مع الاخلال ببعض ما يعتبر فيها نقيصة وزيادة
وجب تداركه بسجدة السهو، وهذا لا ربط له بما نحن فيه.
522

4 - هل تجرى القاعدة في
موانع الصلاة؟
لا شك في شمول القاعدة للاجزاء والشرايط إنما الكلام في شمولها
للموانع، مثلا إذا كان المصلى ناسيا لمانعية لبس الذهب للرجال أو
لموضوعه وصلى وفى يده خاتم من ذهب، فهل يمكن الفتوى بصحة
صلاته نظرا إلى أنه اتى بالخمسة كملا من دون الاخلال بشئ منها
فيشمله اطلاق الحديث؟
الظاهر في بدء النظر هو ذلك، لعدم المانع من شمول الاطلاق له،
ولكن عند التأمل الصادق يظهر عدم شموله لها أو الشك فيه وذلك لامرين،
أولهما - ان الظاهر من الاستثناء كون المستثنى منه من جنس
المستثنى فإنه في الحقيقة اخراج ما لولاه لدخل، واما انقطاع الاستثناء فهو
أمر مخالف لظاهر الجملة الاستثنائية لا يصار إليه الا بدليل.
وحيث إن المستثنى في محل البحث هو من الاجزاء والشرائط
فقط يعلم أن المستثنى منه أيضا ليس الا منها، واحتمال اندراج الموانع
523

كلها في المستثنى منه وإن كان غير بعيد، الا ان اختصاص المستثنى بهما
قد يكون قرينة على اختصاص المستثنى منه أيضا، ولا أقل من كونه من
قبيل المحفوف بما يحتمل القرينية وهو مانع عن الاطلاق والعموم كما
ذكر من محله فتأمل.
ثانيهما - ما ورد في ذيل الحديث من قوله (ان القراءة سنة والتشهد
سنة والسنة لا تنقض الفريضة كالتعليل لما ذكر في صدره، وهو أيضا قرينة
على أن محط البحث هو الاجزاء والشرايط فقط وان ما كان منها سنة
(غير ركن) لا يوجب نقض الفريضة (أعني الواجبات الركنية) فتأمل.
وعلى كل حال لا تطمئن النفس باطلاق القاعدة ويقوى فيها انصرافها
إلى خصوص الاجزاء والشرايط فكان الموانع مسكوت عنها، ولا أقل من
الشك في الشمول اللازم معه الرجوع إلى مقتضى القاعدة الأولية وهو الفساد
بالاخلال بشئ مما يعتبر في المركب وجودا أو عدما.
524

5 - هل تشمل القاعدة زيادة
الاجزاء أيضا؟
لا ريب في شمولها النقص شئ من الاجزاء والشرايط، وإنما البحث
في شمولها لزيادة ما يمكن الزيادة فيها.
واعلم أن هناك أقوالا ثلاثة:
أولها - انها مختصة بالنقيصة ولا تشمل الزيادة ابدا.
ثانيها - انها تعم النقيصة والزيادة معا، ولا تختص بزيادة غير
الخمسة، بل تشمل زيادة الخمسة أيضا (فيما يتصور فيه الزيادة) فالخمسة
إنما استثنيت من حيث النقيصة فقط ولم تستثن من ناحية الزيادة، فزيادتها
أيضا لا توجب الفساد.
ثالثها - انها تعم الامرين ولكن زيادة الخمسة كنقيصتها توجب
البطلان فهي مستثناة من الجانبين فالمعنى انه لا تعاد الصلاة من نقيصه أو زيادة
شئ ما عدا نقيصة أو زيادة الخمسة.
525

وإذ قد عرفت ذلك نرجع إلى دليل كل من هذه الأقوال:
اما القول الأول فيدل عليه ان نفس أدلة اعتبار الشرائط والاجزاء
لا تدل على المنع عن الزيادة لولا أدلة المانعية، وان شئت قلت:
أدلة الجزئية والشرطية إنما تدل على اختلال الماهية المركبة عند فقدانها
وأما إذا وجدت - سواء وجدت مرة أو مرارا - فلا تدل على اختلالها به
كما هو ظاهر.
نعم أدلة الموانع قد تدل على المنع من زيادة بعض الاجزاء أو جميعها
وهذا أمر لا دخل له بأدلة اعتبار الاجزاء والشرايط.
وبعد ما عرفت آنفا من عدم شمول اطلاق القاعدة ودليلها لغير
الاجزاء والشرائط وانها لا دلالة لها على حكم الموانع ينتج عدم شمولها
للزيادة مطلقا فإنها أمر تعود إلى المانعية غير الداخلة في القاعدة.
ويدل على القول الثاني ان الحكم ببطلان الصلاة بزيادة بعض
اجزائها أو جميعها في الحقيقة ترجع إلى اشتراط عدمها فيها، فالشرط
تارة يكون وجوديا كالطهارة وغيرها، وأخرى عدميا كعدم الزيادة،
فإذا قلنا بعموم القاعدة للشرايط كلها - ومنها عدم الزيادة - فتشمله أيضا
فالحديث دال على أن الاخلال باي شئ من الشرائط الوجودية والعدمية
غير مضر ما عدا الاخلال بخصوص الخمسة الظاهر في نقيصتها فقط،
فيبقى زيادة الاجزاء مطلقا تحت المستثنى منه،
ويدل على القول الثالث ان ارجاع مانعية الزيادة إلى شرطية
عدمها أمر خارج عن متفاهم العرف وإنما هو دقة عقلية لا يعتنى بها في
هذه الأبواب، بل الذي يفهمه أهل العرف ان أصل الزيادة كالنقيصة مفسدة،
526

لا ان عدم الزيادة شرط.
فالمستفاد من حديث لا تعاد - على اطلاقه - انه لا يضر الاخلال
بالنقيصة والزيادة من ناحية غير الخمسة، وإنما يضر الاخلال بهما من
الخمسة مطلقا.
هذا غاية ما يمكن ان يقال في توجيه كل من المذاهب الثلاث ولكن
الحق هو القول الأول فتختص بالنقيصة دون الزيادة.
والدليل على ما اخترناه يبتنى على مقدمة وهي:
ان ما يقال من أن أدلة اعتبار الاجزاء والشرائط ناظرة إلى اعتبارها
في مقابل انعدامها لا في مقابل الزيادة كيفما كان، كلام شعري لا حقيقة
تحته، لأن المركبات الشرعية كالمركبات الخارجية كلها محدودة من
الجانبين، من جانب الزيادة والنقيصة فانا لا نجد مركبا عرفيا أو شرعيا
يكتفى فيه بمجرد وجود الاجزاء باي كمية ومقدار كان، فكما ان أصل
وجود الجزء لازم لاخذ النتيجة المرغوبة من المركب فكذا مقدارها أيضا
معتبر قطعا.
فالناظر إلى تحديد الاجزاء من الجانبين هو نفس أدلة الجزئية
لا انه دليل آخر يدل على مانعية الزيادة، وهذا أمر ظاهر لمن سبر مواردها
في العرف والشرع.
وحديث لا تعاد كالاستثناء من أدلة الاجزاء والشرائط فلابد أن يكون
عاما شاملا للنقيصة والزيادة كما أن نفس تلك الأدلة كذلك.
ولكن الذي يوهن اطلاقه هو ذيل الحديث الذي يكون كالعلة
لما في صدره، وهو قوله التشهد سنة والقراءة سنة والفريضة لا تنقض
527

بالسنة، ومن المعلوم ان هذا التعليل إنما هو في ناحية الفقدان والنقيصة
لأنه يقول: ان الفرائض وهي الاجزاء الركنية إذا وجدت لا تضرها فقد
الاجزاء غير الركنية وهي السنة في اصطلاح الحديث.
هذا مضافا إلى عدم تصور الزيادة في ثلاثة من الخمسة وهي الوقت
والقبلة والطهور وإنما يتصور في اثنين منها، وهذا وان لم يكن مانعا عن عموم
الحديث للزيادة أيضا الا انه يوهنه في الجملة فتدبر.
فالحكم بعموم القاعدة لزيادة الاجزاء لا يخلو عن اشكال.
528

6 - هل تختص القاعدة بمن فقد الشرط
والجزء في تمام الصلاة؟
لا ينبغي الكلام في عمومها لمن فقد شيئا من اجزائها وشرائطها
في تمام الصلاة ولكن إذا فقد شيئا منها في بعض صلاته كمن صلى ركعة
بلا ستر شرعي ثم التفت واستتر، أو صلى في النجاسة ركعة ثم التفت
والقى الثوب النجس عن عاتقه مع وجود غيره الطاهر.
قد يتوهم ان لفظ (الإعادة) ظاهر فيمن اتى بصلاته تماما ثم رجع
واتى به ثانيا وان من قطع صلاته وبنى عليها بعدا لا يصدق في حقه الإعادة
وقد يكون هذا مانعا عن الاخذ بالعموم.
ولكنه توهم فاسد لاطلاق لفظ الإعادة على القطع في الأثناء
والبناء على العمل، ولا يختص بما بعده، وقد عبر عنه بالإعادة في كثير
من الموارد من دون أي حزازة مثل قوله (ع) في حديث زرارة الواردة
في أبواب الاستصحاب (قلت إن رأيته في ثوبي وانا في الصلاة قال تنقض
الصلاة وتعيد...)
وان أبيت عن عدم شمول الحديث له فلا شك في شمولها بالأولوية
القطعية فإذا صحت الصلاة مع ترك الستر نسيانا في مجموعها فكيف لا تصح
إذا تركه في ركعة منها مثلا؟
529

7 - حكم ساير الأركان ماذا؟
قد ثبت لما من سائر الأدلة ان أركان الصلاة لا تختص بالاثنين من
الخمسة اللذين من الاجزاء وهما الركوع والسجود، بل تكبيرة الاحرام
والقيام المتصل بالركوع والقيام عند تكبيرة الاحرام أيضا منها وأنه لو أخل
بها ولو سهوا بطلت صلاته، مع عدم ذكرها في عداد الخمسة المذكورة
في المستثنى.
ويمكن ان يجاب عنه:
أولا - بان الرواية عام كساير العمومات قابل للتخصيص، فتخصص
بساير الأركان كغيرها من العمومات.
اللهم الا ان يقال إن العمومات المشتملة على العدد في المخصص
يشكل تخصيصها بمخصص آخر فإنه أشبه شئ بالمعارض لا المخصص،
فإذا قال المولى أكرم العلماء الا اثنين منهم، ثم ورد في دليل آخر نفى الا -
كرام من واحد آخر كان كالمعارض له، ولا سيما فيما إذا كان الاستثناء
من النفي فإنه أقوى مفادا، وكيف يمكن جعل الاثنين ثلثا أو الثلث أربعا وما
530

الداعي على ذكر خصوص الاثنين.
اللهم الا أن يكون هناك داع إلى التخصيص بالذكر مستفادا من
قرائن المقام أو الكلام، اما في مثل ما نحن فيه لا نجد وجها في تخصيص
الخمس من بين الأركان بالذكر وأي فرق بينها وبين غيرها.
وثانيا - ان شيئا من هذه الأمور الثلاثة لا يوجب تخصيصا زائدا
فيه وإن كان في بدء النظر كذلك.
اما القيام المتصل بالركوع - والمراد منه أن يكون ركوعه عن
قيام، لا عن جلوس بان يرجع من القعود إلى حد القيام منحنيا - فلانه محقق
لعنوان الركوع وبدونه لا يصدق عنوانه فالاخلال بهذه القيام، والاكتفاء
بأدائه من قعود، اخلال بنفس الركوع واقعا فليس هذا ركنا مستقلا
في قبال ساير الأركان بل هو محقق لو أحد من الخمسة المذكورة في
الرواية.
واما تكبيرة الاحرام فإنها محققة لعنوان الصلاة وافتتاحها، وبدونها
لا تفتتح الصلاة ولا يحرم عليه شئ مما يحرم على المصلى، فلا تتحقق
الصلاة بدونها، ومن الواضح ان قاعدة لا تعاد موضوعها الصلاة فإذا لم
يصدق عنوانها لم يكن لها موضوع، ويستفاد ذلك من روايات متعددة وردت
في بابها.
فعدم ذكرها في الحديث إنما هو من جهة انها مذكورة في الواقع
بعد اخذ عنوان الصلاة في موضوع القاعدة، فليست هي تخصيصا زائدا
في القاعدة.
واما القيام عند التكبير فهو شرط في صحتها شرعا وبدونه لا تتحقق
531

تكبيرة الاحرام التي هي محققة لعنوان الصلاة وافتتاح لها، فليس واجبا
مستقلا ركنيا حتى نحتاج إلى تخصيص زائد في القاعدة.
فتلخص من جميع ما ذكر ان المستثنى من القاعدة في الحقيقة
ليست الا الخمسة المذكورة فيها واما غيرها مما عدوه من أركان الصلاة
فاما يعود إليها بنحو من الاعتبار أو محقق لموضوع القاعدة وهي الصلاة
فتدبر.
532

8 - في تعارض القاعدة مع
غيرها مما ورد في حكم الزيادة
قد يتوهم ان هناك تعارضا بين القاعدة وبين ما ورد في أبواب الخلل
من بطلان الصلاة بمطلق الزيادة فيها، فقد روى أبو بصير عن أبي عبد الله
(ع) أنه قال: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة).
(رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الخلل، الحديث 2)
فإذا قلنا بان القاعدة تختص بباب النقيصة ولا دلالة لها على حكم
الزيادة كما قويناه آنفا فلا كلام، اما لو قلنا بما اختاره بعض من اطلاقها
وشمولها للزيادة والنقيصة معا - كما في القولين الآخرين - فيقع التعارض
بينهما، ولا مناص من علاجه بنحو من انحاء المذكورة في بابه.
ولكن قبل كل شئ لابد من ملاحظة النسبة بين الدليلين:
فقد يقال بوجوب ملاحظة النسبة بين كل واحد من المستثنى والمستثنى
منه مع حديث أبي بصير.
وفيه ما لا يخفى من الضعف فإن العام المخصص بالمتصل دليل
533

واحد ولذا لا ينعقد له ظهور من الأول في العموم بعد ذكر الخاص متصلا
به، فلا معنى للتفكيك بينهما، فهذا الاحتمال ساقط جدا.
فلابد من ملاحظة النسبة بين حديث زرارة المشتمل على القاعدة
كملا، وحديث أبي بصير، ومعلوم ان النسبة بينهما عموم من وجه.
لأن القاعدة تشمل الزيادة والنقيصة معا على الفرض فهي أعم من
حديث أبي بصير المختص بالزيادة، ولكنها أخص منه من جهة، لاستثناء
الخمس منها دون حديث أبي بصير، فهي أعم واخص من وجه.
ومورد التنازع بينهما هو الزيادة في غير الخمس، فإن القاعدة
تدل على صحة الصلاة معها وحديث أبي بصير يدل على وجوب الإعادة عليه.
هذا ويمكن القول بوجوب تقديم القاعدة عليه لوجهين.
الأول: انها أظهر من غيره لاشتمالها على التعليل بقوله: القراءة
سنة والتشهد سنة.... ولا تنقض السنة بالفريضة، بينما لا يكون في حديث أبي
بصير تعليل.
الثاني - ان القاعدة ليست في مرتبة حديث الزيادة بل هي مقدمة
عليه بالحكومة.
لا يقال دليل الحاكم لابد أن يكون ناظرا إلى دليل المحكوم -
كما حققناه في محله - خلافا لمن لم يعتبر ذلك، ومن المعلوم انه لا نظر
لواحد من هذين الدليلين إلى الاخر حتى يكون أحدهما حاكما على الاخر،
بل واحد منهما مثبت لوجوب الإعادة في الزيادة والاخر ناف له، وبينهما
مضادة لا حكومة.
فانا نقول: ان القاعدة بمقتضى دليلها ناظرة إلى تحديد دائرة
534

مدلول حديث أبي بصير إذ لو لم يكن هناك دليل على مانعية الزيادة (بمقتضى
حديث أبي بصير الذي هو مكمل لأدلة اعتبار جزئية اجزاء الصلاة) لم يكن
موقع للقاعدة بالنسبة إلى حكم الزيادة.
وبعبارة أخرى مفروض الكلام في القاعدة فساد الصلاة من ناحية
النقيصة والزيادة بحسب طبعها الأولى ولكن القاعدة يجعل لها حدا وان
الإعادة المفروضة منفية في غير الخمس، فهي ناظرة إلى تحديد حكمها
وهو كاف في باب الحكومة.
والحاصل ان قوله (لا تعاد الخ) إنما هو بعد فرض وجوب الإعادة
بنحو الاطلاق بمقتضى دليل آخر، مثل حديث أبي بصير الدال على أن من زاد
في صلاته فعليه الإعادة وبدونه ليس لها معنى محصل فتدبر.
هذا ولكن قد عرفت ان الزيادة لا تتصور في غير الاثنين من الخمس
وهما الركوع والسجود فيلزم تخصيص حكم من زاد في صلاته فعليه
الإعادة - بالمآل - بهذين، وعندئذ يمكن ان يقال باستهجان هذا التخصيص
وان اخراج ما عدا الركوع والسجود وابقائهما تحته أمر بشيع، وهل يحتمل
أن يكون المراد من قوله من زاد في صلاته فعليه الإعادة، من زاد في ركوعه
وسجوده فعليه الإعادة ولو كان كذلك فلم عدل عن التعبير به إليه.
ولعل هذا من المؤيدات لما اخترناه سابقا من عدم شمول القاعدة
للزيادة أصلا وعليه لا يلزم شئ من هذا المحذور فتدبر.
وقد يقال إن استهجان التخصيص إنما يكون في فرض اختصاص
حديث أبي بصير بالزيادة السهوية، واما لو قلنا بأنه يعم السهوية والعمدية
والزيادة العمدية دائما موجبة للفساد خارجة عن تحت قاعدة لا تعاد، فما
535

يبقى تحت حديث أبي بصير شئ كثير.
ولكنه مدفوع بان الحديث منصرف عن الزيادة العمدية قطعا لأنه
بصدد بيان حكم من يريد الامتثال ومن الواضح ان مثله لا يزيد في صلاته
عمدا، وهو نظير ما ذكرناه في خروج النقيصة العمدية عن تحت قاعدة لا تعاد.
هذا ولكن ما ذكر إنما يصح إذا كان هناك دليل على البطلان
بالزيادة من قبل، وعندئذ يصح ان يقال إن المريد للامتثال لا يخالفه عمدا،
وأما إذا كان دليل البطلان هو هذا الحديث وشبهه فلم يكن هناك مانع عن
شمولها للزيادة العمدية.
والحاصل ان الدليل على شرطية عدم الزيادة هو هذا الحديث
(حديث أبي بصير) وشبهه المكمل لأدلة الاجزاء والشرايط وهو شامل
للزيادة العمدية والسهوية معا فلا موجب لاستهجان التخصيص هنا.
وهنا احتمال آخر في معنى الحديث يبتنى على اختصاصه بالزيادة
في الركعات فقط إذ زيادة بعض الاجزاء لا تعد زيادة في الصلاة وليس مجرد
الجزء صلاة، وإنما الزيادة فيها تكون بركعة فإنها أقل ما يصدق عليه عنوان
الصلاة وعلى هذا لا دخل بالحديث لما نحن بصدده أصلا ولا يبقى محل
للمعارضة بينه وبين القاعدة وتمام الكلام في معنى الحديث من هذه الناحية
موكول إلى محله من كتاب الصلاة باب الخلل.
536

9 - قاعدة الميسور
537

معنى قاعدة الميسور وموردها
إذا تعذر بعض اجزاء المركبات الشرعية كالصلاة والحج والوضوء
وغيرها (كمن لا يقدر على السورة لضيق الوقت) أو بعض شرايطها،
(كمن لا يقدر على الستر أو مراعاة القبلة) أو اضطر إلى ارتكاب بعض الموانع
(كما إذا اضطر المصلى إلى الصلاة في الثوب النجس أو اجزاء غير المأكول)
فإن قام هناك دليل خاص على وجوب الاتيان بالباقي، أو وجوب ترك الكل
لعدم الامر بالباقي فلا كلام.
اما ان لم يكن هناك دليل على شئ من الطرفين فهل هناك قاعدة تقتضي
وجوب الباقي الا ما خرج بالدليل أم لا؟
المعروف في كثير من كلمات القوم نعم، وهو المسمى بقاعدة
الميسور، مأخوذة من الحديث المشهور الآتي (الميسور لا يسقط بالمعسور)
يعنى تعسرا البعض لا يكون موجبا لسقوط الباقي إذا كان التعسر موجبا لسقوط
التكليف بالمعسور.
ثم إنه لا اشكال في أن قضية اطلاقات أدلة الجزئية والشرطية هي
سقوط الباقي بتعذر بعض الاجزاء أو الشرايط، أو الاضطرار إلى ارتكاب
بعض الموانع، وذلك لأن اطلاقها دليل على اعتبارها في المأمور به
539

مطلقا حتى في ظرف التعذر ولازمه عدم الفايدة في فعل الباقي وهو واضح.
مدركها واسنادها
استدل للقاعدة بأمور مختلفة ولكن العمدة من بينها الروايات الثلث،
المرسلات، المشهورات، وسيأتي الإشارة إلى أمور أخر استدل بها لها أيضا
إن شاء الله.
الأولى، ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: إذا أمرتكم بشئ فاتوا
منه ما استطعتم.
الثانية ما روى عن علي (ع) الميسور لا يسقط بالمعسور.
الثالثة ما روى عنه (ع) أيضا: ما لا يدرك كله لا يترك كله
ولكن رواهما في الكفاية عن النبي صلى الله عليه وآله أيضا بينما صرح غير
واحد بنقلهما عن علي (ع) وقد نقل المحقق الآشتياني في تعليقاته عن غوالي
اللئالي روايتهما عن علي (ع).
والظاهر أنهما كذلك مرويان عنه (عليه السلام).
وقد روى الحديث الأول مسندا عن طرق العامة فقد رواه البيهقي
في سننه عن أحمد بن حنبل عن يزيد بن هارون عن الربيع بن مسلم القرشي
عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال أيها الناس
قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل اكل عام يا رسول الله فسكت حتى
قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال
540

ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى
أنبيائهم وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ
فدعوه، ثم قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح عن زهير بن حرب عن
يزيد بن هارون - (1).
وقد يقال إن ضعف اسناد الأحاديث منجبرة بالشهرة المحققة وقد
قيل إنها بلغت حد الاشتهار حتى يعرفها العوام النسوان وقال العلامة
الأنصاري في كلام له في القاعدة في أبواب أصالة الاشتغال: (وضعف
اسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات كما
لا يخفى على المتتبع.
الكلام في دلالتها
لو سلمنا انجبار اسناد بما عرفت من الشهرة بقي الكلام في دلالتها
فإنها قابلة للبحث والتنقيب من شتى الجهات.
اما الحديث الأولى فالاستدلال به يتوقف على كشف معنى (من)
و (ما) فيه.
اما (من) في قوله صلى الله عليه وآله (منه) فتحمل ثلاث معان.
1 - أن تكون تبعيضية، فالمعنى فأتوا البعض الذي تستطيعون
واتركوا مالا تستطيعون.
2 - أن تكون بمعنى (الباء) فتكون للتعدية فإن الاتيان يتعدى بالباء.

1 - السنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 326.
541

3 - أن تكون بيانية وهذا الاحتمال ضعيف لعدم كون الضمير
الواقع بعدها بيانا لشئ، فيبقى الاحتمالان الأولان، وحمل الحديث على
كل منهما جائز وإن كان الأول أظهر لأن الغالب في معنى (من) هو التبعيض
ولا أقل من أنها أشهر واعرف من كونها بمعنى الباء.
ولكن يبقى الكلام في أن المراد التبعيض بحسب الافراد والاجزاء،
يعنى فأتوا من افراده ومصاديقه ما استطعتم، أو من اجزائه ما استطعتم، ومن
الواضح ان دلالته على المطلوب إنما تتم لو كان التبعيض بحسب الاجزاء
لا الافراد.
ولكن الذي يبعد هذا الاحتمال شأن ورود الحديث وما عرفت من
مسألة الحج المروية في كتبهم بعبارات مختلفة كلها ترمى إلى شئ واحد
وهو انه صلى الله عليه وآله قالها عند السؤال عن تكرار الحج أو الاتيان به مرة واحدة
مدة العمر وهو صريح في أن المراد منه التبعيض بحسب الافراد لا الاجزاء.
فالاستدلال بالحديث على دلالة الامر على التكرار في قبال القول
بدلالته على المرة أو عدم الدلالة على شئ أولى من الاستدلال
به على قاعدة الميسور - كما ذكره في الفصول - وإن كان فيه أيضا ما لا يخفى
كما سيأتي.
هذا مضافا إلى أن الاتيان بالحج مكررا بمقدار الاستطاعة ليس
واجبا باجماع الأمة بلا خلاف من أحد، فالامر في الحديث محمول على
الاستحباب، وهذا اشكال آخر عليه.
والحاصل ان التمسك به ممنوع من وجهين، من جهة ظهوره بقرينة
المورد في التبعيض الافرادي - وهو خلاف المطلوب - ومن جهة ظهوره
542

في الاستحباب بقرينة المورد أيضا.
واما كلمة (ما) في قوله استطعتم فتحتمل أيضا وجهين: الموصولة
والمصدرية المادامية.
فعلى الأول يراد بها كل شئ استطعتم من افراده، وعلى الثاني
يكون المراد الاتيان به ما دامت القدرة على تكراره باقية.
والأول أظهر وإن كان متحدا مع الثاني في النتيجة.
بقي هنا كلام
وهو انه قد يتكلف لتصحيح الاستدلال بالحديث بامكان استعمال
لفظ الشئ في قوله إذا أمرتكم بشئ في الأعم من المركب ذات اجزاء
والطبيعة ذات افراد فيكون المراد من قوله (ما استطعتم) الأعم من الاجزاء
الميسورة وافرادها كذلك، عند عدم القدرة على الجميع، فيشمل القاعدة
ومورد الحديث جميعا من دون أي محذور.
وما قد يقال من لزوم محذور الجمع بين اللحاظيين المتنافيين فإن
لحاظ الكل في مقابل الاجزاء ينافي لحاظ الكلى في مقابل الافراد.
مدفوع بان استعماله في كليهما وإن كان كذلك الا ان استعماله في
الجامع بين الامرين بمكان من الامكان وأي جامع أوسع واشمل من كلمة
(شئ) الدال على مطلق الموجود. فاذن لا مانع من الاخذ بالحديث في المقام.
ولكن مع ذلك كله لا يمكن المساعدة عليه فإن استعمال الشئ
في الجامع بل في كل واحد منهما بعينه وإن كان جائزا - كما ذكرنا في
543

محله من جواز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنيين وان تعدد اللحاظين
بل وتنافيهما أمر شعري لا حقيقة له، فإن الاستعمال ليس من قبيل فناء اللفظ
في المعنى الذي هو آنى الوجود - الا ان هذا النحو من الاستعمال مخالف
للظاهر لا يصار إليه الا بدليل، كما أن استعماله في الجامع هنا أيضا مخالف
لظاهر سوق الحديث، بل الظاهر منه هو خصوص الافراد لا غير كما يظهر
بأدنى تأمل في معنى الحديث عند متفاهم العرف.
هذا مضافا إلى لزوم استعمال الامر في الجامع بين الوجوب
والاستحباب لما قد عرفت من عدم وجوب التكرار في الحج قطعا وهذا
أيضا يحتاج إلى قرينة بعد القطع بلزوم صرفه عن الوجوب الظاهر فيه
بمقتضى طبيعته.
وبالجملة الاستدلال بها للقاعدة مشكل جدا.
الحديث الثاني
وهو المروى عن علي (ع): الميسور لا يسقط بالمعسور، وقد يقال إن
دلالته أظهر من الأول لعدم وجود مورد خاص له يخرجه عن ظهوره
في الاجزاء.
ولكن مع ذلك فيه أبحاث من جهات شتى:
أولها - هل المراد منه الميسور من الافراد، أو من الاجزاء أو الأعم
منهما؟ فإن المتعلق فيه محذوف ويحتمل أمورا مختلفة. ومن الواضح
انه لا يصح الاستدلال به الاعلى الأولين، فهذا مانع عن التمسك به.
544

ولكن لا يبعد دعوى الاطلاق فيه، فالميسور من كل شئ - سواء
كان من افراده كما إذا لم يتمكن من صوم كل يوم من شهر رمضان، أو من
اجزائه كما إذا لم يتمكن من السورة في صلاته - لا يترك بمعسوره.
ثانيها هل الامر فيه المستفاد من قوله (لا يسقط) للوجوب أو أعم
منه والاستحباب؟ قد يقال إن مقتضى اطلاقه وشموله للمستحبات - لعدم
الدليل على خروجها منه - كون الامر بالباقي مستعملا في الأعم، فقوله
لا يسقط لا ظهور له في التحريم مطلقا، وحينئذ يسقط الاستدلال بها
حتى في مورد الواجبات. والحاصل انه لو قلنا بخروج المستحبات عنه
كان تخصيصا بلا مخصص، وان قلنا بشموله لها سقط ظهور الامر فيها عن
الوجوب.
هذا ولكن الانصاف ان اطلاقه لا يمنع عن الاخذ به في المقام لظهوره
في اتحاد حكم الميسور من العمل مع الكل، فإن كان واجبا فهو واجب
وإن كان مستحبا فهو مستحب. وهذا مما لا ينبغي الشك فيه.
ثالثها ان اجزاء المركب ليس ميسورا للكل ابدا، وذلك لأن
وجوب الجزء في ضمن وجوب الكل وجوب ضمني غير استقلالي ومن
الواضح ارتفاعه بارتفاع وجوب الكل فلو ثبت هناك وجوب على الأجزاء الباقية
كان وجوبا اخر غير ضمني بل كان استقلاليا فهذا ليس ميسورا
له بل شئ مباين له. وان شئت قلت إذا ارتفع وجوب الكل لتعذر بعض اجزائه
كان وجوب الباقي، بالوجوب السابق، من قبيل الانتفاء بانتفاء الموضوع.
فاذن لابد من تخصيصه بافراد الكلى وانه لا تسقط الافراد الممكنة
بالافراد المعسورة.
545

هذا وفيه اشكال واضح لأن الميسور والمعسور صفتان للاجزاء
والكل لا للوجوب العارض لهما فلو فرض اختلاف الوجوبين لم يختلف
الموضوعين فالمعنى ان الحمد والركوع والسجود التي تكون ميسورة
لا تترك بتعذر الاتيان بالسورة وان شئت قلت هذان عنوانان مشيران إلى
ذوات الأجزاء الخارجية المعتبرة في المركبات لا إليها بصفة الجزئية
للكل حتى تنتفى بانتفاء الكل.
رابعها ان الحكم بعدم السقوط محمول على الميسور، أي (الميسور
من العمل) فلابد من احراز هذا العنوان قبلا حتى يصح الحكم بعدم
سقوطه، ومن المعلوم ان كون الشئ ميسورا من العمل معناه كونه مما
يصدق عليه عنوانه في الجملة ويقوم به الملاك والمصلحة كذلك.
وان شئت قلت: الميسور من الشئ هو ما لا يصح سلب اسمه منه
فإذا كان المتعذر من الاجزاء ما يوجب سلب الاسم عنه كان الباقي خارجا
عن محط القاعدة فإذا أمر المولى عبده بطبيخ يترك من عدة اجزاء
من الأرز وبعض الحبوب والبقل والملح والماء، ولم يقدر العبد الا على
الملح والماء لم تجر القاعدة في حقه ولا تعد هذان ميسورا للطبيخ كما
هو واضح.
وإذا كان الامر كذلك أشكل الامر في المركبات الشرعية لأن صدق
الاسم وعدمه موكول إلى تشخيص الشارع وأمره، فشمول القاعدة لها
موكول إلى امره والمفروض ان الامر بالباقي لا يستكشف الا من القاعدة.
والانصاف ان هذا الاشكال أيضا قابل للدفع لأن صدق العناوين
الشرعية مثل الصلاة وأشباهها لا يتوقف على ورود الامر بها شرعا بل المقياس
546

فيه نظر المتشرعة المتبع في الحقايق الشرعية المقتبس من مذاق الشارع
المقدس.
فلو تعسر جميع أركان الحج ولم يقدر الا على مجرد صلاة الطواف
أو هي والطواف نفسها لم يصدق عليها عنوان الحج قطعا بخلاف ما لو قدر
على الوقوفين وغير هما ما عدا رمى الجمرات مثلا. وكذا الكلام في الصلاة
وغيرها.
فتلخص من جميع ما ذكرنا امكان دفع جميع الاشكالات عن الرواية
فلو ثبت اعتبار اسنادها بالشهرة لم يبق غبار على الاستدلال بها.
هذا ولكن ستعرف إن شاء الله بعد نقل الحديث الثالث ان هنا
اشكالا هاما عليهما لا يمكن دفعه ومعه يشكل الاعتماد عليهما في اثبات
القاعدة.
اما الحديث الثالث
وهو ما روى عن أمير المؤمنين (ع) ما لا يدرك كله لا يترك كله
فالكلام فيه من بعض الجهات كالكلام في سابقه فإن كلمة (كل) كما
يحتمل الكل بحسب الافراد يحتمل الكل بحسب الاجزاء وكذلك يحتمل
الأعم منهما.
لا يبعد دعوى الاطلاق فيه أيضا فإن لفظة كل جامع بينهما فمعنى
الحديث إذا لم يدرك جميع الافراد الواجب فعلها لا يترك جميعها، كما أنه
إذا يتمكن من تمام اجزاء المركب لا يترك جمع اجزائه.
547

وان أبيت عن ذلك لم يبعد القول بان ظهور الكل في الجمع من
ناحية الاجزاء أقوى من ظهوره في جمع الافراد فتدبر.
وعلى كل حال لو تم الحديث من ناحية السند لم يبعد تماميته من
ناحية الدلالة.
ولكن هنا اشكال ذات أهمية يرد على الحديثين وهو:
لا شك في أن قاعدة الميسور عقلائية قبل أن تكون شرعية وقد
اشتهرت بين العقلاء بعبارات شتى واستعارات وتشبيهات مختلفة وقد
ذكره الشعراء في اشعارهم بما يطول بذكرها المقام.
فإذا لم يقدروا على الوفاء بجميع ما وعدوه، أو فعل جميع ما التزموه،
أو أداء جميع ما يجب عليهم بنحو من الأنحاء، أو كسب جميع ماله دخل
في مقاصدهم تنزلوا إلى ما يمكن ادراكه.
وهكذا الامر في جميع أعمالهم وحاجاتهم فلا يوجب عدم القدرة
على جميع الافراد أو جميع الأجزاء ترك جميعها والاعراض عن تحصيل
ما يمكن تحصيله من الافراد والاجزاء.
وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى على أحد.
ولكن ليس ذلك عندهم الا في العمومات الافرادية التي يكون كل
فرد مشتملا على مصلحة مستقلة، أو المركبات التي تكون ذات مراتب
من ناحية المصالح كما هو كذلك غالبا، وبعبارة أخرى تتعلق بكل مرتبة
منه طلب وتتعدد فيها المطلوب وإن كان لا يجوز الاقتصار على المرتبة الدانية
عند التمكن من المرتبة العالية.
فالمعجون المركب من عشرة اجزاء التي تقوم بمصالح مختلفة إذا لم
548

تكن جميعها ميسورة وكان في الخمسة أو الستة أو الأقل منها بعض المصلحة
عمدوا إليها تعويلا على تلك القاعدة العقلائية.
وعندئذ لابد من احراز تعدد المطلوب قبلا حتى يجوز الاخذ بهذه
القاعدة فلو قلنا إن قوله (ع) ما لا يدرك كله لا يترك كله، أو قوله (ع)
الميسور لا يسقط بالمعسور أيضا إشارة إلى هذه القاعدة وامضاء لها لا تأسيس
لقاعدة أخرى، بل ولا فيها تطبيق خاص على المركبات الشرعية حتى تكون
منقحا لمصاديقها الشرعية ودليلا على أن مركباته دائما ذات مراتب من
المصلحة (الا ما خرج بالدليل) فيجوز الاكتفاء بالبعض عند عدم القدرة على
الجميع، وحينئذ لم يجز الاخذ بهما وان تمت اسنادهما ودلالتهما.
والانصاف ان القول بدلالتهما على أزيد مما ذكرنا مما هو ثابت
بين العقلاء مشكل جدا، بل الظاهر أنها ارشاد إلى ما عندهم لا غير فليس فيها
تعبد بتعدد المراتب والمطلوبات في المركبات الشرعية مصداقا ولا تأسيس
قاعدة جديدة مفهوما.
بل لا بد من احراز تعدد المطلوب أو قيام بعض الملاك بالناقص بعد
تعذر الكامل حتى يتمسك بها ومن المعلوم عدم الحاجة إلى تعبد خاص
حينئذ.
وعندئذ نقول:
إذا ثبت من الخارج ان المركب الفلاني ليس قابلا للتبعيض من
ناحية الاجزاء والشرايط والموانع - كالصوم - فلا تجرى فيه القاعدة
أصلا. فلا يجوز الاكتفاء بصيام بعض اليوم عند عدم القدرة على الجميع
أو الاكتفاء باجتناب بعض المفطرات عند عدم القدرة على ترك جميعها،
549

اللهم الا في مثل مرض الاستسقاء على اشكال قوى.
وإذا ثبت من مذاق الشارع وموارد أحكامه ان المركب الفلاني
يقبل التبعيض كذلك نقول بجريان القاعدة فيه وذلك مثل الصلاة حيث
قد ثبت عدم جواز تركها بمجرد تعذر بعض اجزائها أو شرايطها أو عدم القدرة
على ترك جميع موانعها.
ولكن مع ذلك لابد من أن يكون الباقي مما يصدق عليه عنوان الصلاة
ولو على الأعم.
وإذا لم يثبت شئ من الامرين لم يجز التمسك بها لعدم احراز
موضوعها كما هو ظاهر.
ولعل تمسك القوم بها إنما هو فيما كان من قبيل القسم الثاني
فاستشهادهم بالروايات بعنوان قاعدة في كلماتهم لا يكون دليلا على كونها
قاعدة تعبدية ثبتت من الشرع، بل هي كما عرفت قاعدة عقلائية مركوزة في
جميع الأذهان عند احراز موضوعها.
ولا أقل من الشك في ذلك ومعه لا يجوز الاستدلال بها كقاعدة
تعبدية خاصة.
ومما يجب ذكره في المقام ما قد يقال إنه قلما يكون موردا تمسك
الأصحاب بهذه القاعدة فيها الا وقد ورد فيه نص خاص.
فكأنهم ذكروها تأييدا للنصوص الواردة فيها فتأمل.
550

جريان القاعدة في المستحبات
ومما ذكرنا تعرف ان التمسك بالقاعدة في المستحبات أظهر وأوضح
لما قد ثبت في محله من أن القيود الواردة في المستحبات ليست غالبا من
قبيل التقييد بل من قبيل تعدد المطلوب و ح يجرى فيها هذه القاعدة الارتكازية
العقلائية، فإذا تعذر بعض تلك القيود استحب فعل الباقي، وهذا أيضا ليس تعبدا
خاص بعد ثبوت ذاك الموضوع.
551

تنبيه
قد ذكر صاحب الجواهر قدس الله سره الشريف في بعض كلماته
في أبواب الجبائر في الوضوء ما حاصله: (ان الاستدلال بقاعدة الميسور
موقوف على الانجبار بفهم الأصحاب والا لو اخذ بظاهره في ساير التكاليف
لأثبت فقها جديدا لا يقول به أحد من أصحابنا) (1).
ومحصل كلامه ان هذه القاعدة - ولو سلم الاستدلال بها وثبت حجيتها
كانت كقاعدة لا ضرر بناء على ما ذكر غير واحد منهم من أن عمومها موهونة
بكثرة التخصيصات فلا يجوز العمل بظاهرها فكأنهم فهموا منها غير ما نفهم
من ظاهرها ولعلها كانت عندهم مقرونة بقرائن خاصة تدلهم على معنى آخر
غير ما يستفاد من ظاهرها وحيث لا نعلم ذاك المعنى لابد لنا من الاخذ بما عملوا
به وترك ما تركوه.
وبناء عليه يكون مصير قاعدة الميسور مصير قاعدة لا ضرر في سقوط
عمومها عن الحجية وقلة الجدوى فيها الا فيما عمل به الأصحاب.
وكأنه نظر في ذلك إلى عدم جريان الميسور في مثل الصيام فإنه
لا يجوز التبعيض فيه لا من ناحية الزمان، بحيث إذا لم يقدر على الصوم
في تمام الوقت اكتفى ببعض اليوم، ولا من ناحية المفطرات التي تجب
تركها - الا ما قد يقال في ما إذا خاف الصائم التلف على نفسه من جواز الشرب
له بقدر ما يمسك الرمق، ولكنه أيضا غير مسلم والروايات الواردة في هذا
المعنى لا تدل على أزيد من جواز شرب ما يمسك به الرمق وعدم

1 - الجواهر ج 2 ص 303.
552

جواز الشرب حتى يرتوى ولا دلالة لها على صحة صيامه بل لعل معناه
جواز الافطار بشرب شئ من الماء ثم قضاء ذاك اليوم، ولكن مع ذلك
عليه ان يمسك عن الزائد حفظا لحرمة شهر رمضان كغيره ممن يفطر.
وكذلك في أبواب الأغسال لا يجوز لمن لا يجد الماء لتمام الغسل
ولا يقدر الا على غسل بعض بدنه ان يكتفى به بمقتضى هذه القاعدة.
وكذلك في الوضوء لا يجوز لمن لا يجد الماء الا لغسل وجهه، أو
وجهه واحدى يديه، الاكتفاء به بمقتضاها.
وهكذا في أبواب الحج لا يجوز لمن لا يقدر الا على بعض الوقوفات
أو بعض الطواف من بين اعمال الحج اكتفائه به، استنادا إليها.
ومثله من لا يقدر الا على بعض ركعات الصلاة مثلا فلا يجوز له
الاكتفاء به وهكذا غيرها.
فلو اكتفينا بجميع ذلك وما شابهها حصل منها فقه جديد لا نعهده.
هذا ولكن الانصاف ان الظاهر أن أصحابنا الأقدمين رضوان الله عليهم
لم يكن عندهم قرائن خاصة محفوفة بمثل خبر الميسور وشبهه تدلهم على
معنى خاص فيها كما ذكرنا مثل ذلك في باب قاعدة لا ضرر، وان هو الا من
قبيل إحالة ما لا نفهمه على أمر مجهول.
بل الظاهر أن ما كانت بأيديهم هنا هو الذي تكون بأيدينا ولكنهم بصرافة
أذهانهم وعدم شوبها بشوائب الاحتمالات المختلفة الحاصلة عندنا فهموا منها
انها ناظرة إلى امضاء القاعدة الموجودة عند العقلاء فيما ثبت فيه تعدد
المطلوب وتكثر الملاكات.
فإذا ثبت من الخارج ان العمل الفلاني تشتمل على ملاكات مختلفة
553

أو ان كامله مشتمل على ملاك كامل وناقصه على بعض المصلحة، تمسكوا
بهذه القاعدة عند تعذر شئ منها.
وهذا مؤيد آخر ما اخترناه في معنى القاعدة آنفا ومع ما ذكرنا لا يرد
على عمومها تخصيص، ولا يلزم من العمل بها فقه جديد، ولا يتوقف العمل
بها على ثبوت فهم الأصحاب وعملهم بها في الموارد الخاصة.
إلى هنا تم الكلام في قاعدة الميسور والحمد لله وقع الفراغ منه
يوم السبت 28 من شوال سنة 1392 من الهجرة النبوية على هاجرها
الصلاة والسلام.
554