الكتاب: سبل السلام
المؤلف: محمد بن اسماعيل الكحلاني
الجزء: ٢
الوفاة: ١١٨٢
المجموعة: مصادر فقهية مستقلة
تحقيق: مراجعة وتعليق : الشيخ محمد عبد العزيز الخولي
الطبعة: الرابعة
سنة الطبع: ١٣٧٩ - ١٩٦٠ م
المطبعة:
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - محمود نصار الحلبي وشركاه - خلفاء
ردمك:
ملاحظات: سبل السلام تأليف السيد محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير/ شرح بلوغ المرام،من جمع أدلة الأحكام لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني العسقلاني القاهري/ويليه متن نخبة الفكر،في مصطلح أهل الأثر/مع تعليقات مختارة للإمام ابن حجر

سبل السلام
تأليف
السيد الإمام محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير
(1059 م - 1182 ه‍)
شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الاحكام
للحافظ شهاب الدين أبي الفضل
أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني العسقلاني القاهري
(773 - 852 ه‍)
ويليه
متن نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر
مع تعليقات مختارة للإمام ابن حجر
الجزء الثاني
ملتزم الطبع والنشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
محمود ناصر الحلبي وشركاه خلفاه
1

راجعه وعلق عليه المرحوم الشيخ
محمد بن العزيز الخولي
الأستاذ بدار العلوم بالقاهرة
الطبعة الرابعة
1379 ه‍ - 1960 م
نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها
حديث شريف
2

بسم الله الرحمن الرحيم
باب صلاة التطوع
أي صلاة العبد التطوع فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله وحذف فاعله. في القاموس
صلاة التطوع: النافلة. (عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه) من أهل الصفة كان خادما لرسول الله (ص) صحبه قديما ولازمه حضرا وسفرا، مات سنة ثلاث وستين
من الهجرة، وكنيته أبو فراس بكسر الفاء فراء آخره سين مهملة، (قال: قال لي رسول الله
(ص): سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال أو غير ذلك؟
قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك) أي على نيل مراد نفسك، (بكثرة السجود.
رواه مسلم) حمل المصنف السجود على الصلاة نفلا فجعل الحديث دليلا على التطوع، وكأنه
صرفه عن الحقيقة كون السجود بغير صلاة غير مرغب فيه على انفراده والسجود وإن كان
يصدق على الفرض، لكن الاتيان بالفرائض لا بد منه لكل مسلم، وإنما أرشده (ص)
إلى شئ يختص به ينال به ما طلبه. وفيه دلالة على كمال إيمان المذكور وسمو همته
إلى أشرف المطالب وأغلى المراتب وعزف نفسه عن الدنيا وشهواتها. ودلالة على أن الصلاة
أفضل الأعمال في حق من كان مثله فإنه لم يرشده (ص) إلى نيل ما طلبه
إلا بكثرة الصلاة مع أن مطلوبة أشرف المطالب.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حفظت من النبي (ص)
عشر ركعات) هذا إجمال فصله بقوله: (ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين
بعد المغرب في بيته) تقييدها يدل على أن ما عداها كان يفعله في المسجد، وكذلك قوله:
(ركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل الصبح) لم يقيدهما مع أنه كان يصليهما (ص)
في بيته وكأنه ترك التقييد لشهرة ذلك من فعله (ص) (متفق
عليه. وفي رواية لهما وركعتين بعد الجمعة في بيته) فيكون قوله عشر ركعات نظرا إلى
التكرار كل يوم، (ولمسلم) أي من حديث ابن عمر (كان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين
خفيفتين) هما المعدودتان في العشر، وإنما أفاد لفظ مسلم خفتهما، وإنه لا يصلي بعد طلوعه
3

سواهما وتخفيفهما مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقد جاء في حديث عائشة. حتى أقول
أقرأ بأم الكتاب يأتي قريبا. والحديث دليل على أن هذه النوافل للصلاة وقد قيل في حكمة
شرعيتها إن ذلك ليكون ما بعد الفريضة جبرا لما فرط فيها من آدابها وما قبلها لذلك وليدخل
في الفريضة، وقد انشرح صدره للاتيان بها وأقبل قلبه علي فعلها. قلت: قد أخرج أحمد،
وأبو داود، وابن ماجة، والحاكم من حديث تميم الداري قال: قال رسول الله (ص):
أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن
أتمها، قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته ثم الزكاة
كذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك. انتهى وهو دليل لما قيل من حكمة شرعيتها،
وقوله في حديث مسلم: إنه لا يصلي بعد طلوع الفجر إلا ركعتيه. قد استدل به من يرى
كراهة النفل بعد طلوع الفجر وقد قدمنا ذلك.
(وعن عائشة رضي الله عنه أن النبي (ص) كان لا يدع أربعا قبل
الظهر وركعتين قبل الغداة. رواه البخاري) لا ينافي حديث ابن عمر في قوله ركعتين قبل
الظهر لأن هذه زيادة علمتها عائشة ولم يعلمها ابن عمر، ثم يحتمل أن الركعتين اللتين ذكرهما
من الأربع وأنه (ص) كان يصليهما مثنى، وأن ابن عمر شاهد اثنتين فقط
ويحتمل أنهما من غيرها، وأنه (ص) كان يصليهما أربعا متصلة. ويؤيد هذا
حديث أبي أيوب عند أبي داود، والترمذي في الشمائل، وابن ماجة، وابن خزيمة بلفظ: أربع قبل
الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء. وحديث أنس: أربع قبل الظهر كعدلهن
بعد العشاء وأربع بعد العشاء كعدلهن من ليلة القدر. أخرجه الطبراني في الأوسط، وعلى هذا
فيكون قبل الظهر ست ركعات، ويحتمل أنه كان يصلي الأربع تارة ويقتصر عليها وعنها
أخبرت عائشة، وتارة يصلي ركعتين وعنهما أخبر ابن عمر.
(وعنها) أي عن عائشة (قالت: لم النبي (ص) على شئ
من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر. متفق عليه) تعاهدا، أي محافظة، وقد
ثبت أنه كان لا يتركهما حضرا ولا سفرا، وقد حكى وجوبهما عن الحسن البصري (ولمسلم)
أي عن عائشة مرفوعا، (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)، أي أجرهما خير من
الدنيا، وكأنه أريد بالدنيا الأرض وما فيها أثاثها ومتاعها. وفيه دليل على الترغيب في فعلهما
وأنها ليستا بواجبتين إذ لم يذكر العقاب في تركهما بل الثواب في فعلهما.
(وعن أم حبيبة أم المؤمنين) تقدم ذكر اسمها وترجمتها، (قالت: سمعت رسول
الله (ص) يقول: من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته)
كأن المراد في كل يوم وليلة لا في يوم من الأيام وليلة من الليالي، (بني له بهن بيت
في الجنة)، ويأتي تفصيلها في رواية الترمذي، (رواه مسلم وفي رواية) أي مسلم عن أم حبيبة
(تطوعا) تمييز للاثنتي عشرة زيادة في البيان وإلا فإنه معلوم، (وللترمذي) أي عن
4

أم حبيبة (نحوه) أي نحو حديث مسلم، (وزاد) تفصيل ما أجملته رواية مسلم (أربعا قبل
الظهر) هي التي ذكرتها عائشة حديثها السابق، (وركعتين بعدها) هي التي في حديث
ابن عمر، (وركعتين بعد المغرب) هي التي قيدها حديث ابن عمر بفي بيته، (وركعتين
بعد العشاء) هي التي قيدها أيضا بفي بيته، (وركعتين قبل الصلاة الفجر) هما اللتان
اتفق عليهما ابن عمر وعائشة في حديثيهما السابقين، (وللخمسة عنها) أي عن أم حبيبة، (من
حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها) يحتمل أنها غير الركعتين المذكورتين
سابقا، ويحتمل أن المراد أربع فيها الركعتان اللتان مر ذكرهما، (حرمه الله على النار) أي منعه عن دخولها كما يمنع الشئ المحرم ممن حرم عليه.
(وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): رحم
الله أمرا صلى أربعا قبل العصر) هذه الأربع لم تذكر فيما سلف من النوافل، فإذا
ضمت إلى حديث أم حبيبة الذي عند الترمذي كانت النوافل قبل الفرائض وبعدها ست عشرة
ركعة، (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن خزيمة وصححه). وأما صلاة ركعتين قبل
العصر فقط فيشملها حديث: بين كل أذانين صلاة.
(وعن عبد الله بن مغفل المزني) بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء
مفتوحة هو أبو سعيد في الأشهر عبد الله بن مغفل بن غنم كان من أصحاب الشجرة سكن
المدينة المنورة ثم تحول إلى البصرة وابتنى بها دارا، وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة
يفقهون الناس، ومات عبد الله بها سنة ستين وقيل قبلها بسنة، (قال رسول الله (ص)
صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة لمن شاء كراهية) أي لكراهية (أن
يتخذها الناس) أي طريقة مألوفة لا يتخلفون عنها فقد يؤدي إلى فوات أول الوقت،
(رواه البخاري) وهو دليل على أنها تندب الصلاة قبل صلاة المغرب، إذ هو المراد من قوله:
قبل المغرب لا أن المراد قبل الوقت لما علم من أنه منهي عن الصلاة فيه، (وفي رواية لابن حبان)
أي من حديث عبد الله المذكور (أن النبي (ص) صلى قبل المغرب ركعتين)
فثبت شرعيتهما بالقول والفعل.
(ولمسلم عن أنس قال: كنا نصل ركعتين بعد غروب الشمس، وكان
رسول الله (ص) يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا) فتكون ثابتة بالتقرير أيضا، فثبتت
هاتان الركعتان بأقسام السنة الثلاثة ولعل أنسا لم يبلغه حديث عبد الله الذي فيه الامر بهما،
وبهذه تكون النوافل عشرين ركعة تضاف إلى الفرائض وهي سبع عشرة ركعة فيتم لمن
حافظ على هذه النوافل في اليوم والليلة سبع وثلاثون ركعة وثلاث ركعات الوتر تكون أربعين
ركعة في اليوم والليلة، وقال ابن القيم: ثبت أنه كان (ص) يحافظ في اليوم
والليلة على أربعين ركعة سبع عشرة الفرائض واثنتي عشرة التي روت أم حبيبة وإحدى عشرة
صلاة الليل فكانت أربعين ركعة انتهى، ولا يخفى أنه بلغ عدد ما ذكر هنا من النوافل غير
5

الوتر اثنتين وعشرين إن جعلنا الأربع قبل الظهر وبعده داخلة تحتها الاثنتان اللتان في حديث
ابن عمر ويزاد ما في حديث أم حبيبة التي بعد العشاء فالجميع أربع وعشرون ركعة
من دون الوتر والفرائض.
(وعن عائشة رضي الله عنه قالت: كان النبي (ص) يخفف الركعتين
اللتين قبل الصبح) أي نافلة الفجر (حتى إني أقول أقرأ بأم الكتاب) يعني أم لا لتخفيفه
قيامها (متفق عليه)، وإلى تخفيفهما ذهب الجمهور ويأتي تعيين قدر ما يقرأ فيهما
وذهبت الحنفية إلى تطويلهما ونقل عن النخعي، وأورد فيه البيهقي حديثا مرسلا عن سعيد
بن جبير وفيه لم يسم، وما ثبت في الصحيح لا يعارضه مثل ذلك.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) قرأ في ركعتي الفجر
* (قل يا أيها الكافرون) *) أي في الأولى بعد الفاتحة،
(رواه مسلم)، وفي رواية لمسلم أي عن أبي هريرة: قرأ الآيتين أي في ركعتي الفجر: * (قولوا
آمنا بالله وما أنزل إلينا) * - إلى آخر الآية في البقرة - عوضا عن: * (قل يا أيها الكافرون) *، و * (قل يا أهل
الكتاب تعالوا) * - الآية في آل عمران - عوضا عن * (قل هو الله أحد) *، وفيه دليل على جواز
الاقتصار على آية من وسط السورة.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي (ص) إذا صلى
ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. رواه البخاري) العلماء في هذه الضجعة بين مفرط
ومفرط ومتوسط فأفرط جماعة من أهل الظاهر منهم ابن حزم ومن تابعه فقالوا بوجوبها،
وأبطلوا صلاة الفجر بتركها، وذلك لفعله المذكور في هذا الحديث، ولحديث الامر بها
في حديث أبي هريرة عن النبي (ص) إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح
فليضطجع على جنبه الأيمن. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وقال ابن تيمية:
ليس بصحيح لأنه تفرد به عبد الواحد ابن زياد وفي حفظ مقال. قال المصنف: والحق أنه
تقوم به الحجة إلا أنه صرف الامر عن الوجوب ما ورد من عدم مداومته (ص)
على فعلها. وفرط جماعة فقالوا بكراهتها واحتجوا بأن ابن عمر كان لا يفعل ذلك ويقول:
كفى بالتسليم أخرجه عبد الرزاق وبأنه كان يحصب من يفعلها وقال ابن مسعود: ما بال
الرجل إذا صلى الركعتين تمعك كما يتمعك الحمار وتوسط فيها طائفة منهم مالك وغيره
فلم يروا بها بأسا لم فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استنانا. ومنهم من قال باستحبابها على
الاطلاق سواء فعلها استراحة أم لا. قيل: وقد شرعت لمن يتهجد من الليل لما أخرجه
عبد الرزاق عن عائشة كانت تقول: إن النبي (ص) لم يضطجع لسنة لكنه كان
يدأب ليلة فيضطجع ليستريح منه. وفيه راو لم يسم، وقال النووي: المختار أنها سنة لظاهر
حديث أبي هريرة. قلت: وهو الأقرب وحديث عائشة لو صح فغايته أنه إخبار عن
فهمها، وعدم استمراره (ص) عليها دليل سنيتها ثم إنه يسن على الشق الأيمن،
قال ابن حزم: فإن تعذر على الأيمن فإنه يومئ ولا يضطجع على الأيسر.
6

(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن.
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه) تقدم الكلام، وأنه كان (ص) يفعلها،
وهذه رواية في الامر بها وتقدم أنه صرفه عن الايجاب ما عرفت وعرفت كلام الناس فيه.
(وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): صلاة
الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له
ما قد صلى متفق عليه). الحديث دليل على مشروعية نافلة الليل مثنى مثنى، فيسلم على
كل ركعتين. وإليه ذهب جماهير العلماء، وقال مالك: لا تجوز الزيادة على اثنتين لان
مفهوم الحديث الحصر، لأنه في قوة ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى لان تعريف المبتدأ قد يفيد
ذلك على الأغلب، وأجاب الجمهور بأن الحديث وقع جوابا لمن سأل عن صلاة الليل فلا
دلالة فيه على الحصر، وبأنه لو سلم فقد عارضه فعله (ص) وهو ثبوت إيتاره
بخمس، كما في حديث عائشة عند الشيخين والفعل قرينة على عدم إرادة الحصر. وقوله: فإذا
خشي أحدكم الصبح أوتر بركعة دليل على أنه لا يوتر بركعة واحدة إلا لخشية طلوع الفجر
وإلا أوتر بخمس أو سبع أو نحوها لا بثلاث للنهي عن الثلاث، فإنه أخرج الدارقطني، والحاكم،
وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعا (أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو إحدى عشرة)،
زاد الحاكم: ولا توتروا بثلاث لا تشبهوا بصلاة المغرب. قال المصنف: ورجاله كلهم ثقات
ولا يضره وقف من وقفه، إلا أنه قد عارضه حديث أبي أيوب: من أحب أن يوتر بثلاث
فليفعل، أخرجه أبو داود والنسائي، وابن ماجة وغيرهم. وقد جمع بينهما بأن النهي عن الثلاثة إذا كان
يقعد للتشهد الأوسط لأنه يشبه المغرب، وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا يشبه المغرب، وهو
جمع حسن قد أيده حديث عائشة عند أحمد، والنسائي، والبيهقي، والحاكم: كان (ص)
يوتر بثلاث لا يجلس إلا في آخرتهن. ولفظ أحمد: كان يوتر بثلاث لا يفصل بينهن. ولفظ
الحاكم: لا يقعد. هذا وأما مفهوم أنه لا يوتر بواحدة إلا لخشية طلوع الفجر، فإنه يعارضه
حديث أبي أيوب هذا فإن فيه: ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل. وهو أقوى من مفهوم
حديث الكتاب، وفي حديث أبي أيوب دليل على صحة الاحرام بركعة واحدة، وسيأتي قريبا.
(وللخمسة) أي من حديث أبي هريرة، (وصححه ابن حبان بلفظ: صلاة الليل والنهار
مثنى مثنى، وقال النسائي: هذا خطأ) أخرجه المذكورين من حديث علي بن عبد الله
البارقي عن ابن عمر بهذا، وأصله في الصحيحين بدون ذكر النهار، وقال ابن
عبد البر: لم يقله أحد عن ابن عمر غير علي وأنكروه عليه، وكان ابن معين يضعف حديثه
هذا ولا يحتج به، ويقول: إن نافعا وعبد الله بن دينار وجماعة رووه عن ابن عمر بدون ذكر
النهار، وروي بسنده عن يحيى بن معين أنه قال: صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن فقيل
له: فإن أحمد بن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، قال: بأي حديث قيل بحديث
7

الأزدي، قال: ومن الأزدي حتى أقبل منه. قال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ، وكذا
قال الحاكم في علوم الحديث، وقال الدارقطني في العلل: ذكر النهار فهي وهم، وقال
الخطابي: روي هذا الحديث طاوس ونافع وغيرهما عن ابن عمر فلم يذكر فيه أحد النهار
إلا أن سبيل الزيادة من الثقة أن تقبل، وقال البيهقي: هذا حديث صحيح وقال: والبارقي
احتج به مسلم والزيادة من الثقة مقبولة، انتهى كلام المصنف في التلخيص. فانظر إلى
كلام الأئمة في هذه الزيادة فقد اختلفوا فيها اختلافا شديدا. ولعل الامرين جائزان، وقال
أبو حنيفة: يخير في النهار بين أن يصلي ركعتين ركعتين أو أربعا أربعا ولا يزيد على ذلك.
وقد أخرج البخاري ثمانية أحاديث في صلاة النهار ركعتين.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): أفضل
الصلاة بعد الفريضة) فإنها أفضل الصلاة، (صلاة الليل أخرجه مسلم) يحتمل أنه
يريد بالليل جوفه، لحديث أبي هريرة عند الجماعة إلا البخاري قال: سئل رسول الله (ص)
أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: الصلاة في جوف الليل. وفي حديث عمرو
بن عبسة عند الترمذي وصححه: أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن
استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن. وفي حديثه أيضا عند أبي داود: قلت:
يا رسول الله أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة فيه مكتوبة
مشهودة. والمراد من جوفه الآخر هو الثلث الآخر كما وردت به الأحاديث.
(وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله (ص)
قال: الوتر حق على كل مسلم) هو دليل لمن قال بوجوب الوتر، (من أحب أن
يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل)، قد قدمنا الجمع بينه
وبين ما عارضه، (ومن أحب أن يوتر بواحدة) من دون أن يضيف إليها غيرها كما هو
الظاهر، (فليفعل رواه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان ورجح النسائي وقفه)، وكذا
صحح أبو حاتم، والذهلي، والدارقطني في العلل، والبيهقي وغير واحد وقفه. قال المصنف: وهو
الصواب، قلت: وله حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه أي في المقادير. والحديث دليل
على إيجاب الوتر، ويدل له أيضا حديث أبي هريرة عند أحمد: من لم يوتر فليس منا.
وإلى وجوبه ذهبت الحنفية، وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب مستدلين بحديث علي
رضي الله عنه: الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكنه سنة سنها رسول الله (ص)
ويأتي، ولفظه عند ابن ماجة: إن الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم المكتوبة ولكن
رسول الله (ص) أوتر وقال: يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر.
وذكر المجد ابن تيمية أن ابن المنذر روى حديث أبي أيوب، بلفظ: الوتر حق وليس بواجب،
وبحديث: ثلاث هن على فرائض ولكم تطوع. وعد منها الوتر وإن كان ضعيفا فله
متابعات يتأيد بها، على أن حديث أبي أيوب الذي استدل به على الايجاب قد عرفت أن
8

الأصح وقفه عليه، وإن سبق أن له حكم المرفوع فهو لا يقاوم الأدلة الدالة على عدم الايجاب،
والايجاب قد يطلق على المسنون تأكيدا كما سلف في غسل الجمعة، وقوله: بخمس وبثلاث
أي: ولا يقعد إلا في آخرها، ويأتي حديث عائشة في الخمس. وقوله: بواحدة ظاهره
مقتصرا عليها، وقد روى فعل ذلك عن جماعة من الصحابة، فأخرج محمد بن نصر وغيره
بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد: أن عمر قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها. وروى
البخاري: أن معاوية أوتر بركعة وأن ابن عباس استصوبه.
(وعن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة
ولكن سنة سنها رسول الله (ص) رواه الترمذي والنسائي وحسنه والحاكم
وصححه) تقدم أنه من أدلة الجمهور على عدم الوجوب. وفي حديث علي هذا عاصم
بن ضمرة تكلم في غير واحد وذكره القاضي الخيمي في حواشيه على بلوغ المرام ولم أجده
في التلخيص، بل ذكر هنا أنه صححه الحاكم ولم يتعقبه فما أدري من أين نقل القاضي ثم
رأيت في التقريب ما لفظه: عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي صدوق من السادة،
مات سنة أربع وسبعين.
(وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قام
في شهر رمضان ثم انتظروه من القابلة فلم يخرج، وقال: إني خشيت أن يكتب عليكم
الوتر. ورآه ابن حبان) أبعد المصنف النجعة. والحديث في البخاري إلا أنه بلفظ: أن
تفرض عليكم صلاة الليل، وأخرجه أبو داود من حديث عائشة، ولفظه: أن النبي (ص)
صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم
اجتمعوا في الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم رسول الله (ص)، فلما أصبح قال:
قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم
هذا، والحديث في البخاري بقريب من هذا.
وأعلم أنه قد أشكل التعليل لعدم الخروج بخشية الفرضية عليهم مع ثبوت حديث: هي
خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة؟
وقد نقل المصنف عنه أجوبة كثيرة وزيفها، وأجاب بثلاثة أجوبة، قال: إنه فتح الباري عليه
بها وذكرها واستجود منها أن خوفه (ص) كان من افتراض قيام الليل
يعني جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة التنقل بالليل قال: ويومئ إليه قوله في حديث
زيد بن ثابت: حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها
الناس في بيوتكم فمنعهم من التجمع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه انتهى. قلت:
ولا يخفى أنه لا يطابق قوله: أن تفرض عليكم صلاة الليل كما في البخاري، فإنه ظاهر أنه
خشية فرضها مطلقا، وكان ذلك في رمضان، فدل على أنه صلى بهم ليلتين. وحديث الكتاب
أنه صلى بهم ليلة واحدة وفي رواية أحمد: إنه (ص) صلى بهم ثلاث ليال
9

وغص المسجد بأهله في الليلة الرابعة، وفي قوله: خشيت أن يكتب عليكم الوتر دلالة على
أن الوتر غير واجب.
واعلم أن أثبت صلاة التراويح وجعلها سنة في قيام رمضان استدل بهذا الحديث على
ذلك، وليس فيه دليل على كيفية ما يفعلونه ولا كميته، فإنهم يصلونها جماعة عشرين يتروحون
بين كل ركعتين، فأما الجماعة فإن عمر أول من جمعهم على إمام معين وقال: إنها بدعة
كما أخرجه مسلم في صحيحه، وأخرجه غيره من حديث أبي هريرة: أنه (ص) كان
يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا
غفر له ما تقدم من ذنبه، قال: وتوفي رسول الله (ص) والامر على ذلك،
وفي خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر زاد في رواية عند البهيقي: قال عروة: فأخبرني
عبد الرحمن القارى أن عمر بن الخطاب خرج ليلة فطاف في رمضان في المسجد وأهل المسجد
أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر:
والله لأظن لو جمعناهم على قارئ واحد فأمر أبي بن كعب أن يقوم بهم في رمضان فخرج
عمر والناس يصلون بصلاته فقال عمر: نعم البدعة هذه، وساق البيهقي في السنن عدة روايات
في هذا المعنى.
واعلم أنه يتعين حمل قوله بدعة على جمعه لهم على معين وإلزامهم بذلك لا أنه أراد أن الجماعة
بدعة فإنه (ص) قد جمع بهم كما عرفت. إذا عرفت هذا عرفت أن عمر هو
الذي جعلها جماعة على معين وسماها بدعة. وأما قوله: نعم البدعة، فليس في البدعة ما يمدح
بل كل بدعة ضلالة وأما الكمية وهي جعلها عشرين ركعة، فليس فيه حديث مرفوع إلا
ما رواه عبد بحميد والطبراني من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن
ابن عباس: أن رسول الله (ص) كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر،
قال في سبل الرشاد: أبو شيبة ضعفه أحمد، وابن معين، والبخاري، ومسلم، وداود، والترمذي
والنسائي، وغيرهم وكذبه شعبة، وقال ابن معين: ليس بثقة، وعد هذا الحديث من منكراته،
وقال الأذرعي في المتوسط: وأما ما نقل أنه (ص) صلى في الليلتين اللتين خرج
فيهما عشرين ركعة فهو منكر، وقال الزركشي في الخادم: دعوى أنه (ص)
صلى بهم في تلك الليلة عشرين ركعة لم تصح، بل الثابت في الصحيح الصلاة من غير ذكر
بالعداد ولما في رواية جابر: أنه (ص) صلى بهم ثمان ركعات والوتر، ثم
انتظروه في القابلة فلم يخرج إليهم. رواه ابن حبان في صحيحهما انتهى. وأخرج
البيهقي رواية ابن عباس من طريق أبي شيبة، ثم قال: إنه ضعيف وساق روايات: أن عمر
أمر أبيا وتميما الداري يقومان بالناس بعشرين ركعة وفي رواية: أنهم كانوا يقومون في زمن عمر
بعشرين ركعة، وفي رواية بثلاث وعشرين ركعة. وفي رواية: أن عليا رضي الله عنه كان يؤمهم
بعشرين ركعة ويوتر بثلاث، قال: وفيه قوة. إذا عرفت هذا علمت أنه ليس في العشرين
رواية مرفوعة، بل يأتي حديث عائشة المتفق عليه قريبا: أنه (ص) ما كان
10

يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، فعرفت من هذا كله أن صلاة التراويح
على هذا الأسلوب الذي اتفق عليه الأكثر بدعة نعم قيام رمضان سنة بلا خلاف، والجماعة
في نافلته لا تنكر، وقد ائتم ابن عباس رضي الله عنه وغيره به (ص) في صلاة
الليل، لكن جعل هذه الكيفية والكمية سنة، والمحافظة عليها هو الذي نقول: إنه بدعة، وهذا
عمر رضي الله عنه خرج أولا، والناس أوزاع متفرقون منهم من يصلي منفردا ومنهم من
يصلي جماعة على ما كانوا في عصره (ص) وخير الأمور ما كان على عهده.
وأما تسميتها بالتراويح فكأن وجهه ما أخرجه البيهقي من حديث عائشة قالت: كان رسول الله
(ص) يصلي أربع ركعات في الليل ثم يتروح فأطال حتى رحمته. الحديث،
قال البيهقي: تفرد به المغيرة بن دياب وليس بالقوي، فإن ثبت فهو أصل في تروح الامام
في صلاة التراويح. انتهى. وأما حديث: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي تمسكوا
بها وعضوا عليها بالنواجذ. أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والترمذي، وصححه الحاكم، وقال:
على شرط الشيخين. ومثله حديث: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر أخرجه الترمذي،
وقال: حسن، وأخرجه أحمد، وابن ماجة، وابن حبان، وله طرق فيها مقال إلا أنه يقوي بعضها
بعضا. فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته (ص)
من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها، فإن الحديث عام لكل خليفة راشد
لا يخص الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أن ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير
ما كان عليها النبي (ص) ثم عمر رضي الله عنه نفسه الخليفة الراشد سمي ما رآه
من تجميع صلاته ليالي رمضان بدعة ولم يقل: إنها سنة فتأمل على أن الصحابة رضي الله عنهم
خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل، فدل أنه لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه وفعلوه حجة،
وقد حقق البرماوي الكلام في شرح ألفيته في أصول الفقه مع أنه قال: إنما الحديث الأول
يدل أنه إذا اتفق الخلفاء الأربعة على قول كان حجة لا إذا انفرد واحد منهم والتحقيق أن
الاقتداء ليس هو التقليد بل هو غيره كما حققناه فشرح نظم الكافل في بحث الاجماع.
(وعن خارجة) بالخاء المعجمة فراء بعد الألف فجيم هو (ابن حذافة) بضم
المهملة فذال بعدها معجمة ففاء بعد الألف وهو قرشي عدوي كان يعدل بألف فارس،
روي أن عمرو بن العاص استمد من عمر بثلاثة آلاف فارس فأمده بثلاثة وهم خارجة
بن حذافة والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود. ولي خارجة القضاء بمصر لعمرو بن العاص،
وقيل: كان على شرطته وعداده في أهل مصر، قتله الخارجي ظنا منه أنه عمرو بن العاص
حين تعاقدت الخوارج على قتل ثلاثة علي عليه السلام ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما
فتم أمر الله في أمير المؤمنين علي عليه السلام دون الآخرين وإلى الغلط بخارجة أشار من قال
فليتها إذ فدت عمرا بخارجة فدت عليا بمن شاءت من البشر
وكان قتل خارجة سنة أربعين (قال: قال رسول الله (ص): إن الله
أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم قلنا: وما هي يا رسول الله قال:
11

الوتر ما بين الصلاة العشاء إلى طلوع الفجر. رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الحاكم).
قلت: قال الترمذي عقيب اخراجه له: حديث خارجة بن حذافة، حديث غريب لا نعرفه
إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب، وقد وهم بعض المحدثين في هذا الحديث ثم ساق الوهم فيه
فكان يحسن من المصنف التنبيه على ما قاله الترمذي هذا. وفي الحديث ما يفيد عدم وجوب
الوتر لقوله: أمدكم، فإن الامداد هو الزيادة بما يقوي المزيد عليه، يقال: مد الجيش وأمده
إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره ومد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها، ومددت السراج
والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد.
فائدة في حكمة شرعية النوافل أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والحاكم من حديث تميم
الداري مرفوعا: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت له تامة،
وإن لم يكن أتمها، قال الله تعالى لملائكته: * (انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها
فريضته) * ثم الزكاة كذلك) *، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك، وأخرجه الحاكم في الكنى
من حديث ابن عمر مرفوعا: أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس، وأول ما يرفع
من أعمالهم الصلوات الخمس، وأول ما يسألون عنه الصلوات الخمس، فمن كان ضيع شيئا
منها يقول نقص
من الفريضة؟ وانظروا صيام عبدي شهر رمضان فإن كان ضيع شيئا منه فانظروا هل
تجدون لعبدي نافلة من صيام تتمون بها ما نقص من الصيام؟ وانظروا في زكاة عبدي، فإن
كان ضيع شيئا فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صدقة تتمون بها ما نقص من الزكاة
فيؤخذ ذلك على فرائض الله وذلك برحمة الله وعدله، فإن وجد له فضل وضع في ميزانه، وقيل
له: ادخل الجنة مسرورا وإن لم يوجد له شئ من ذلك أمرت الزبانية، فأخذت بيديه ورجليه
ثم قذف في النار، وهو كالشرح والتفصيل لحديث تميم الداري (وروي أحمد عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده نحوه) أي نحو حديث خارجة فشرحه شرحه.
(وعن عبد الله بن بريدة) بضم الموحدة بعدها راء مهملة مفتوحة ثم مثناة
تحتية ساكنة فدال مهملة مفتوحة هو ابن الحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة
والمثناة التحتية والباء الموحدة الأسلمي وعبد الله من ثقات التابعين سمع أباه وسمرة
بن جندب وآخرين وتولى قضاء مرو ومات بها (عن أبيه) بريدة بن الحصيب تقدم
ذكره (قال: قال رسول الله (ص): الوتر حق) أي لازم فهو من أدلة
الايجاب، (فمن لم يوتر فليس منا أخرجه أبو داود بسند لين) لان فيه عبد الله بن عبد الله
العتكي، ضعفه البخاري والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، (وصححه الحاكم)، وقال
ابن معين: إنه موقوف (وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة عند أحمد)، رواه بلفظ: من لم يوتر
فليس منا، وفيه الخليل بن مرة منكر الحديث، وإسناده منقطع كما قاله أحمد، ومعنى ليس
منا ليس على سنتنا وطريقتنا، والحديث محمول على تأكد السنية للوتر جمعا بينه وبين
الأحاديث الدالة على عدم الوجوب.
12

(وعن عائشة رضي الله عنه قالت: ما كان رسول الله (ص) يزيد
في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)، ثم فصلتها بقولها (يصلي أربعا) يحتمل أنها
متصلا وهو الظاهر، ويحتمل أنها مفصلات وهو بعيد إلا أنه يوافق حديث صلاة
الليل مثنى مثنى، (فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) نهت عن سؤال ذلك إما أنه لا يقدر
المخاطب على مثله فأي حاجة له في السؤال، أو لأنه قد علم حسنهن وطولهن لشهرته فلا يسئل
عنه أو لأنها لا تقدر تصف ذلك، (ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي
ثلاثا قالت: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن يوتر) كأنه كان ينام بعد الأربع ثم يقوم فيصلي الثلاث
وكأنه كان قد تقرر عند عائشة أن النوم ناقض للوضوء فسألته فأجابها بقوله: (قال:
يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) دل على أن الناقض نوم القلب وهو
حاصل مع كل من نام مستغرقا فيكون من الخصائص أن النوم لا ينقض وضوءه (ص)،
وقد صرح المصنف بذلك في التلخيص، واستدل بهذا الحديث وبحديث
ابن عباس: أنه (ص) نام حتى نفخ ثم قام فصلى ولم يتوضأ. وفي البخاري:
إن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم (متفق عليه).
اعلم أنه قد اختلفت الروايات عن عائشة في كيفية صلاته (ص) في الليل
وعددها، فقد روى عنها سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، ومنها هذه الرواية
التي أفادها قوله (وفي رواية لهما) أي الشيخين (عنها) أي عائشة (كان يصلي من الليل
عشر ركعات) وظاهره أنها موصولة لا قعود فيها، (ويوتر بسجدة) أي ركعة، (ويركع ركعتي
الفجر) أي بعد طلوعه، (فتلك) أي الصلاة في الليل مع تغليب ركعتي الفجر أو فتلك
الصلاة جميعا، (ثلاث عشرة ركعة)، وفي رواية: أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة
ثم يصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين فكانت خمس عشرة ركعة. ولما اختلفت ألفاظ
حديث عائشة زعم البعض أنه حديث مضطرب، وليس كذلك، بل الروايات محمولة على
أوقات متعددة وأوقات مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز وأن الكل جائز، وهذا لا يناسبه
قولها ولا في غيره، والأحسن أن يقال: إنها أخبرت عن الأغلب من فعله (ص)
فلا ينافيه ما خالفه لأنه إخبار عن النادر.
(وعنها) أي عائشة، (قالت: كان رسول الله (ص) يصلي من الليل
ثلاث عشرة ركعة) لم تفصلها وتبين على كم كان يسلم كما ثبت ذلك في الحديث السابق
إنما بينت هذا في الوتر بقولها: (ويوتر من ذلك) أي العدد المذكور (بخمس لا يجلس في شئ
إلا في آخرها) كأن هذا أحد أنواع إيتاره (ص) كما إن الايتار بثلاث أحدها
كما أفاده حديثها السابق.
(وعنها) أي عائشة (قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله (ص)
أي من أوله وأوسطه وآخره، (وانتهى وتره إلى السحر. متفق عليهما) أي على الحديثين
وهذا الحديث بيان لوقت الوتر وأنه الليل كله من بعد صلاة العشاء، وقد أفاد ذلك حديث
13

خارجة حيث قال: الوتر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وقد ذكرنا أنواع الوتر
التي وردت في حاشية ضوء النهار.
(وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله (ص):
يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل. متفق
عليه). قوله: مثل فلان قال المصنف في فتح الباري: لم أقف على تسميته في شئ من الطرق
وكأن إبهام هذا القصد للستر عليه، قال ابن العربي: هذا الحديث دليل على أن قيام الليل
ليس بواجب، إذ لو كان واجبا لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ ذم. وفيه
استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط ويستنبط منه كراهة قطع العبادة.
(وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله (ص): أوتروا
يا أهل القرآن فإن الله وتر) في النهاية أي واحد في ذاته لا يقبل الانقسام ولا التجزئة
واحد في صفاته لا شبيه له ولا مثل. واحد في أفعاله لا شريك له ولا معين، (يحب الوتر)
يثيب عليه ويقبله من عامله، (رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة). المراد بأهل القرآن المؤمنون
لأنهم الذي صدقوا القرآن وخاصة من يتولى حفظه ويقوم بتلاوته ومراعاة حدوده وأحكامه.
والتعليل بأنه تعالى وتر فيه - كما قال القاضي عياض: - أن كل ما ناسب الشئ أدنى مناسبة
كان أحب إليه وقد عرفت أن الامر للندب للأدلة التي سلفت الدالة على عدم وجوب الوتر.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: اجعلوا آخر
صلاتكم بالليل وترا متفق عليه) في فتح الباري أنه اختلف السلف في موضعين:
أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر من جلوس. والثاني: من أوتر ثم أراد أن ينتفل من الليل
هل يكتفي بوتره الأول وينتفل ما شاء أو يشفع وتره بركعة ثم ينتفل، ثم إذا فعل هذا هل
يحتاج إلى وتر آخر أو لا. أما الأول فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة: أنه
(ص) كان يصلي من الليل ركعتين بعد الوتر وهو جالس. وقد ذهب إليه
بعض أهل العلم وجعل الامر في قوله: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا مختصا بمن أوتر
آخر الليل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النووي
على أنه (ص) فعل ذلك لبيان جواز النفل بعد الوتر وجواز التنفل جالسا. وأما
الثاني: فذهب الأكثر إلى أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره الأول عملا بالحديث وهو: (وعن طلق بن علي رضي الله عنه سمعت رسول الله (ص) يقول:
لا وتران في ليلة رواه أحمد والثلاثة وصححه ابن حبان)، فدل على أنه لا يوتر بل يصلي
شفعا ما شاء، وهذا نظر إلى ظاهر فعله وإلا فإنه لما شفع وتره الأول لم يبق إلا وترا واحد
هو ما يفعله آخرا. وقد روي، عن ابن عمر أنه قال: لما سئل عن ذلك: إذ كنت لا تخاف
الصبح ولا النوم فاشفع ثم صل ما بدا لك ثم أوتر.
(وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص)
يوتر) أي يقرأ في صلاة الوتر (بسبح اسم ربك الأعلى) أي في الأولى بعد قراءة الفاتحة،
14

(وقل يا أيها الكافرون) أي في الثانية بعدها، (وقل هو الله أحد) أي في الثالثة بعدها. (رواه
أحمد وأبو داود والنسائي وزاد) أي النسائي (ولا يسلم إلا في آخرهن) الحديث دليل على الايتار
بثلاث، وقد عارضه حديث: لا توتروا بثلاث وهو عن أبي هريرة، صححه الحاكم، وقد صحح
الحاكم عن ابن عباس، وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وقد قدمنا وجه الجمع ثم الوتر بثلاث
أحد أنواعه كما عرفت فلا يتعين فيه. فذهبت الحنفية والهادوية إلى تعيين الايتار بالثلاث تصلي
موصولة، قالوا: لان الصحابة أجمعوا على أن الايتار بثلاث موصولة جائز، اختلفوا فيما عداه،
فالأخذ به أخذ بالاجماع ورد عليهم بعدم صحة الاجماع كما عرفت.
(ولأبي داود والترمذي نحوه) أي نحو حديث أبي (عن عائشة وفيه كل سورة)
من سبح والكافرون (في ركعة) من الأولى والثانية كما بيناه، (وفي الأخيرة * (قل هو الله أحد
والمعوذتين) في حديث عائشة لين لان فيه خصيفا الجزري، ورواه ابن حبان والدارقطني من
حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة. قال العقيلي: إسناده صالح. وقال ابن الجوزي:
أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين، وروى ابن السكن له شاهدا من حديث
عبد الله بن سرجس بإسناد غريب.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: أوتروا
قبل أن تصبحوا. رواه مسلم) هو دليل على أن الوتر قبل الصبح (ولابن حبان) أي
من حديث أبي سعيد، (من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له) وهو دليل على أنه
لا يشرع الوتر بعد خروج الوقت. وإما أنه لا يصح قضاؤه فلا، إذ المراد من تركه متعمدا
فإنه فاتته السنة العظمى حتى أنه لا يمكنه تداركه، وقد حكى ابن المنذر عن جماعة من
السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، وأما وقته الاضطراري فيبقى إلى قيام
صلاة الصبح، وأما من نام عن وتره ونسيه فقد بين حكمه الحديث وهو قوله:
(وعنه) أي عن أبي سعيد (قال: قال رسول الله (ص): من
نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) لف ونشر مرتب، حيث كان
نام أو ذكر إذا كان ناسيا (رواه الخمسة إلا النسائي)، فدل على أن من نام عن وتره أو
نسيه فحكمه حكم من نام عن الفريضة أو نسيها أنه يأتي بها عند الاستيقاظ أو الذكر
أو القياس أنه أداء كما عرفت فيمن نام عن الفريضة أو نسيها.
(وعن جابر رضي الله عنه) هو ابن عبد الله، (قال: قال رسول الله (ص)
: من خاف أن لا يقوم من الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم
آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل رواه
مسلم) فيه دلالة على أن تأخير الوتر أفضل، ولكن إن خاف أن لا يقوم قدمه لئلا يفوته
فعلا، وقد ذهب جماعة من السلف إلى هذا وإلى هذا وفعل كل بالحالين، ومعنى كون صلاة
آخر الليل مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.
15

(وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: إذا طلع
الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل) أي النوافل المشروعة فيه، (والوتر)
عطف خاص على عام فإنه من صلاة الليل عطفه عليه لبيان شرفه، (فأوتروا قبل طلوع
الفجر). فتخصيص الامر بالايتار لزيادة العناية بشأنه وبيان أنه أهم صلاة الليل فإنه يذهب
وقته بذهاب الليل وتقدم في حديث أبي سعيد أن النائم والناسي يأتيان بالوتر عند اليقظة
إذا أصبح والناسي عند التذكر فهو مخصص لهذا، فبين أن المراد بذهاب وقت الوتر بذهاب
الليل على من ترك الوتر لغير العذرين. وفي ترك ذلك للنوم ما رواه الترمذي عن عائشة: كان
رسول الله (ص) إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك النوم أو غلبته عيناه صلى
من النهار اثنتي عشرة ركعة. وقال: حسن صحيح، وكأنه تداركه لما فات، (رواه الترمذي)،
قلت: وقال عقيبه: سليمان بن موسى قد تفرد به على هذا اللفظ.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يصلي
الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله. رواه مسلم) هذا يدل على شرعية صلاة الضحى، وأن أقلها
أربع، وقيل: ركعتان، وهذا في الصحيحين من رواية أبي هريرة وركعتي الضحى
وقال ابن دقيق العيد: لعله ذكر الأقل الذي يوجد التأكيد بفعله. قال: وفي هذا دليل على
استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النبي (ص) على فعلها
لا ينافي استحبابها لأنه حاصل بدلالة القول وليس من شرط الحكم أن تتظافر عليه أدلة القول
والفعل، لكن ما واظب النبي (ص) على فعل مرجح على ما لم يواظب عليه انتهى.
وأما حكمها فقد جمع ابن القيم الأقوال فبلغت ستة أقوال. الأول: أنها سنة مستحبة. الثاني: لا تشرع
إلا لسبب. الثالث: لا تستحب أصلا. الرابع: يستحب فعلها تارة وتركها تارة فلا يواظب عليها.
الخامس: يستحب المواظبة عليها في البيوت. السادس: أنها بدعة. وقد ذكر هنالك مستند كل
قول. هذا وأرجح الأقوال أنها سنة مستحبة كما قرره ابن دقيق العيد، نعم وقد عارض
حديث عائشة هذا حديثها الذي أفاده قوله:
(وله) أي لمسلم (عنها) أي عن عائشة (أنها سئلت هل كان النبي (ص)
يصلي الضحى؟ قالت: لا. إلا أن يجئ من مغيبه) فإن الأول دل على أنه كان
يصليها دائما لما تدل عليه كلمة كان فإنها تدل على التكرار، والثانية دلت على أنه كان
لا يصليها إلا في حال مجيئه من مغيبه وقد جمع بينهما. فإن كلمة كان يفعل كذا لا تدل على
الدوام دائما بل غالبا، وإذا قامت قرينة على خلاف صرفتها عنه كما هنا، فإن اللفظ الثاني صرفها
عن الدوام وأنها أرادت بقولها: لا إلا أن يجئ من مغيبه نفي رؤيتها صلاة الضحى، وأنها لم تره
يفعلها إلا في ذلك الوقت، واللفظ الأول إخبار عما بلغها في أنه ما كان يترك صلاة الضحى
إلا أنه يضعف هذا قوله،
(وله) أي لمسلم وهو أيضا في البخاري بلفظه، فلو قال ولهما كان أولى (عنها)
أي عائشة (ما رأيت رسول الله (ص) صلي قط سبحة الضحى) بضم السين
وسكون الباء أي نافلته، (وإني لأسبحها) فنفت رؤيتها لفعله (ص) لها،
16

وأخبرت أنها كانت تفعلها كأنه استناد إلى ما بلغها من الحث عليها ومن فعله (ص)
لها فألفاظها لا تتعارض حينئذ. وقال البيهقي: المراد بقولها ما رأيته سبحها أي داوم
عليها، وقال ابن عبد البر: يرجح ما اتفق عليه الشيخان وهو رواية إثباتها دون ما انفرد
به مسلم وهي رواية نفيها، قال: وعدم رؤية عائشة لذلك لا يستلزم عدم الوقوع الذي أثبته
غيرها هذا معنى كلامه. قلت: ومما اتفقا عليه في إثباتها حديث أبي هريرة في الصحيحين:
أنه أوصاه (ص) بأن لا يترك ركعتي الضحى، وفي الترغيب في فعلها أحاديث
كثيرة وفي عددها كذلك: مبسوطة في كتب الحديث.
(وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: صلاة
الأوابين) الأواب: الرجاع إلى الله تعالى بترك الذنوب وفعل الخيرات (حين ترمض
الفصال) بفتح الميم من رمضت بكسرها أي تحترق من الرمضاء وهو شدة حرارة الأرض
من قوع الشمس على الرمل وغيره، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر والفصال
جمع فصيل وهو ولد الناقة سمي بذلك لفصله عن أمه، (رواه الترمذي) ولم يذكر لها عددا.
وقد أخرج البزار من حديث ثوبان: أن رسول الله (ص) كان يستحب أن
يصلي بعد نصف النهار، فقال عائشة: يا رسول الله إنك تستحب الصلاة هذه الساعة؟
قال: تفتح فيها أبواب السماء وينظر تبارك وتعالى فيها بالرحمة إلى خلقه وهي صلاة كان
يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى.
وفيه راو متروك، ووردت أحاديث كثيرة
أنها أربع ركعات (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) من
صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى له قصرا في الجنة رواه الترمذي
واستغربه) قال المصنف وإسناده ضعيف. وأخرج البزار عن ابن عمر، قال: قلت لأبي ذر:
يا عماه أوصني، قال: سألتني عما سألت عنه رسول الله (ص)، فقال: إن
صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين، وإن صليت أربعا كتبت من العابدين،
وإن صليت ستا لم يلحقك ذنب، وإن صليت ثمانيا كتبت من القانتين، وإن صليت
ثنتي عشرة بني لك بيت في الجنة. وفيه حسين بن عطاء ضعفه أبو حاتم وغيره. وذكره
ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويدلس، وفي الباب أحاديث لا تخلو عن مقال.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله (ص) بيتي
فصلى الضحى ثماني ركعات. رواه ابن حبان في صحيحه)، وقد تقدم رواية مسلم عنها أنا
ما رأته (ص) يصلي سبح الضحى. وهذا الحديث أثبتت فيه صلاته في بيتها وجمع بينهما
بأنها نفت الرؤية وصلاته في بيتها يجوز أنها لم تره، ولكنه ثبت لها برواية،
واختار القاضي عياض هذا الوجه ولا يعد في ذلك، وإن كان في بيتها لجواز غفلتها في ذلك الوقت
فلا منافاة والجمع مهما أمكن هو الوجب.
فائدة من فوائد صلاة الضحى أنها تجزئ عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الانسان
17

في كل يوم وهي ثلاثمائة وستون مفصلا، لما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر قال فيه:
وتجزئ من ذلك ركعتا الضحى.
باب صلاة الجماعة والإمامة
(عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) قال: صلاة
الجماعة أفضل من صلاة الفذ بالفاء والذال المعجمة: الفرد بسبع وعشرين
درجة متفق عليه).
(ولهما) أي الشيخين (عن أبي هريرة رضي الله عنه: بخمس وعشرين جزءا) عوضا
عن قوله: سبع وعشرين درجة (وكذا) أي وبلفظ بخمس وعشرين (للبخاري عن أبي سعيد
وقال: درجة) عوضا عن جزء. ورواه جماعة من الصحابة غير الثلاثة المذكورين منهم
أنس وعائشة وصهيب ومعاذ وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت. قال الترمذي: عامة من
رواه قالوا: خمسا وعشرين إلا ابن عمر فقال: سبعة وعشرين وله رواية فيها خمسا وعشرين
ولا منافاة فإن مفهوم العدد غير مراد فرواية الخمس والعشرين داخلة تحت رواية السبع
والعشرين، أو أنه أخبر (ص) بالأقل عددا أولا ثم أخبر بالأكثر، وأنه زيادة
تفضل الله بها. وقد زعم قوم أن السبع محمولة على من صلى في المسجد، والخمس لمن صلى
في غيره. وقيل: السبع لبعيد المسجد والخمس لقريبه، ومنهم من أبدى مناسبات وتعليلات
استوفاها المصنف في فتح الباري، وهي أقوال تخمينية ليس عليها نص. والجزء والدرجة بمعنى
واحد هنا لأنه عبر بكل واحد منهما عن الآخر وقد ورد تفسيرهما بالصلاة وأن الصلاة
الجماعة بسبع وعشرين صلاة فرادى. والحديث حث على الجماعة. وفيه دليل على عدم
وجوبها، وقد قال بوجوبها جماعة من العلماء مستدلين بقوله:
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: والذي
نفسي بيده) أي في ملكه وتحت تصرفه (لقد هممت) جواب القسم، والأقسام منه
(ص) لبيان عظم شأن ما يذكره زجرا عن ترك الجماعة (أن آمر بحطب
فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف)
في الصحاح خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه (إلى رجال لا يشهدون الصلاة)
أي لا يحضرون الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم
أحدهم أنه يجد عرقا) بفتح المهملة وسكون الراء ثم قاف هو العظم إذا كان عليه
لحم (سمينا أو مرماتين) تثنية مرماة بكسر الميم فراء ساكنة وقد تفتح الميم وهي ما بين
ظلفي الشاة من اللحم (حسنتين) بمهملتين من الحسن (لشهد العشاء) أي صلاته
جماعة (متفق عليه) أي بين الشيخين (واللفظ للبخاري). والحديث دليل على وجوب
الجماعة عينا لا كفاية إذ قد قام بها غيرهم فلا يستحقون العقوبة، ولا عقوبة إلا على ترك
18

واجب أو فعل محرم. وإلى أنها فرض عين: ذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة
وابن المنذر وابن حبان ومن أهل البيت أبو العباس وقالت به الظاهرية. وقال داود: إنها
شرط في صحة الصلاة بناء على ما يختاره من أن كل واجد في الصلاة فهو شرط فيها، ولم يسلم
له هذا، لان الشرطية لا بد لها من دليل، ولذا قال أحمد وغيره: إنها واجبة غير شرط. وذهب
أبو العباس تحصيلا لمذهب الهادي أنها فرض كفاية، وإليه ذهب الجمهور من متقدمي الشافعية،
وكثير من الحنفية والمالكية. وذهب زيد بن علي والمؤيد بالله وأبو حنيفة وصاحباه والناصر إلى
أنها سنة مؤكدة. استدل القائل بالوجوب بحديث الباب، لان العقوبة البالغة لا تكون إلا على
ترك الفرائض، وبغيره من الأحاديث كحديث ابن مكتوم أنه قال: يا رسول الله قد علمت
ما بي وليس لي قائد - زاد أحمد - وإن بيني وبين المسجد شجرا ونخلا ولا أقدر على قائد كل ساعة، قال
(ص): أتسمع الإقامة؟ قال: نعم، قال: فأحضرها أخرجه أحمد وابن خزيمة
والحاكم وابن حبان بلفظ أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فاتها ولو حبوا والأحاديث
في معناه كثيرة ويأتي حديث ابن أم مكتوم، وحديث ابن عباس، وقد أطلق البخاري الوجوب
عليها وبوبه بقوله: باب وجوب صلاة الجماعة. وقالوا: هي فرض عين إذ لو كانت فرض
كفاية لكان قد أسقط وجوبها فعل النبي (ص) ومن معه لها. وأما التحريق
في العقوبات بالنار فإنه وإن كان قد ثبت النهي عنه عاما، فهذا خاص. وأدلة القائل بأنها
فرض كفاية أدلة من قال إنها فرض عين بناء على قيام الصارف للأدلة على فرض العين إلى
فرض الكفاية. وقد أطال القائلون بالسنية الكلام في الجوابات عن هذا الحديث بما لا يشفي
وأقربها أنه خرج مخرج الزجر لا الحقيقة بدليل أنه لم يفعله (ص). واستدل القائل
بالسنية بقوله (ص) في حديث أبي هريرة صلاة الجماعة أفضل من صلاة
الفذ فقد اشتركا في الفضيلة، ولو كانت الفرادى غير مجزئة لما كانت لها فضيلة أصلا
وحديث إذا صليتما في رحالكما فأثبت لهما الصلاة في رحالهما ولم يبين أنها إذا
كانت جماعة وسيأتي.
(وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أثقل
الصلاة على المنافقين) فيه أن الصلاة كلها عليهم ثقيلة فإنهم الذين إذا قاموا إلى الصلاة
قاموا كسالى، ولكن الأثقل عليهم (صلاة العشاء) لأنها في وقت الراحة والسكون (وصلاة
الفجر) لأنها في وقت النوم وليس لهم داع ديني ولا تصديق بأجرهما حتى يبعثهم على
اتيانهما، ويخف عليهم الاتيان بهما، ولأنهما في ظلمة الليل، وداعي الرياء الذي لأجله يصلون
منتف، لعدم مشاهدة من يراؤونه من الناس إلا القليل، فانتفى الباعث الديني منهما كما انتفى
في غيرهما، ثم انتفى الباعث الدنيوي الذي في غيرهما. ولذا قال (ص) ناظرا
إلى انتفاء الباعث الديني عندهم: (ولو يعلمون ما فيهما) في فعلهما من الاجر (لاتوهما)
إلى المسجد (ولو حبوا) أي ولو مشوا حبوا أي كحبو الصبي على يديه وركبتيه، وقيل
هو الزحف على الركب، وقيل على الاست، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني ولو
19

حبوا على يديه ورجليه. وفي رواية جابر عنده أيضا بلفظ: ولو حبوا أو زحفا. فيه حث
بليغ على الاتيان إليهما. وأن المؤمن إذا علم ما فيهما أتى إليهما على أي حال، فإنه ما حال
بين المنافق وبين هذا الاتيان إلا عدم تصديقه بما فيهما (متفق عليه).
(وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (قال: أتى النبي (ص)
رجل أعمى) قد وردت بتفسيره الرواية الأخرى وأنه ابن أم مكتوم (قال: يا رسول الله ليس
لي قائد يقودني إلى المسجد فرخص له) أي في عدم إتيان المسجد (فلما ولى دعاه فقال:
هل تسمع النداء) وفي رواية الإقامة (بالصلاة؟ قال: نعم قال: فأجب رواه
مسلم). كان الترخيص أولا مطلقا عن التقييد بسماعه النداء فرخص له ثم سأله هل تسمع
النداء قال: نعم فأمره بالإجابة. ومفهومه أنه إذا لم يسمع النداء كان ذلك عذرا له، وإذا
سمعه لم يكن له عذر عن الحضور. والحديث من أدلة الايجاب للجماعة عينا، لكن ينبغي أن
يقيد الوجوب عينا على سامع النداء لتقييد حديث الأعمى وحديث ابن عباس له، وما أطلق
من الأحاديث يحمل على المقيد. وإذا عرفت هذا فاعلم أن الدعوى وجوب الجماعة
عينا أو كفاية، والدليل هو الحديث الهم بالتحريق وحديث الأعمى، وهما إنما دلا على وجوب
حضور جماعته (ص) في مسجده لسامع النداء وهو أخص من وجوب الجماعة،
ولو كانت الجماعة واجبة مطلقا لبين (ص) ذلك للأعمى ولقال له انظر من
يصلي معك، ولقال في المتخلفين إنهم لا يحضرون جماعته (ص) ولا يجمعون
في منازلهم. والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. فالأحاديث إنما دلت على وجوب
حضور جماعته (ص) عينا على سامع النداء لا على وجوب مطلق الجماعة كفاية
ولا عينا. وفيه أنه لا يرخص لسامع النداء عن الحضور وإن كان له عذر فإن هذا ذكر
العذر وأنه لا يجد قائدا فلم يعذره إذن. ويحتمل أن الترخيص له ثابت للعذر، ولكنه أمره
بالإجابة ندبا لا وجوبا ليحرز الاجر في ذلك. والمشقة تغتفر بما يجده في قلبه من الروح
في الحضور ويدل لكون الامر للندب أي مع العذر قوله:
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: من سمع
النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر رواه ابن ماجة والدار قطني وابن حبان والحاكم
وإسناده على شرط مسلم لكن رجج بعضهم وقفه) الحديث أخرج من طريق شعبة موقوفا
ومرفوعا، والموقوف في زيادة إلا من عذر فإن الحاكم وقفه عند أكثر أصحاب شعبة. وأخرج
الطبراني في الكبير من حديث أبي موسى عنه (ص): من سمع النداء فلم يجب
من غير ضرر ولا عذر فلا صلاة له، قال الهيثمي: فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة
وسفيان الثوري وضعفه جماعة. وقد أخرج حديث ابن عباس المذكور أبو داود بزيادة
قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض لم يقبل الله منه الصلاة التي صلى بإسناد ضعيف.
والحديث دليل على تأكد الجماعة وهو حجة لمن يقول إنها فرض عين. ومن يقول إنها سنة
20

يؤول قوله: فلا صلاة له أي كاملة، وأنه نزل نفي الكمال منزلة نفي الذات مبالغة. والاعذار
في ترك الجماعة منها ما في حديث أبي داود. ومنها المطر والريح الباردة. ومن أكل كراثا أو نحوه
من ذوات الريح الكريهة فليس له أن يقرب المسجد، قيل: ويحتمل أن يكون النهي عنها لما
يلزم من أكلها من تفويت الفريضة فيكون آكلها آثما لما تسبب له من ترك الفريضة،
ولكن لعل من يقول إنها فرض عين يقول تسقط بهذه الاعذار صلاتها في المسجد لا في البيت
فيصليها جماعة.
(وعن يزيد بن الأسود رضي الله عنه) هو أبو جابر يزيد بن الأسود السوائي بضم
المهملة وتخفيف الواو والمد ويقال الخزاعي ويقال العامري روى عنه ابنه جابر وعداده
في أهل الطائف وحديثه في الكوفيين (أنه صلى مع رسول الله (ص) صلاة الصبح،
فلما صلى رسول الله (ص)) أي فرغ من صلاته (إذا هو برجلين لم يصليا)
أي معه (فدعا بهما فجئ بهما ترعد) بضم المهملة (فرائضهما) جمع فريصة وهي اللحمة
التي بين جنب الدابة وكتفيها أي ترجف من الخوف قاله في النهاية (فقال لهما: ما منعكما
أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا) جمع رحل بفتح الراء وسكون المهملة هو المنزل
ويطلق على غيره ولكن المراد هنا به المنزل (قال: فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم
أدركتما الامام ولم يصل فصليا معه فإنها) أي الصلاة مع الامام بعد صلاتهما الفريضة
(لكما نافلة) والفريضة هي الأولى سواء صليت جماعة أو فرادى لاطلاق الخبر (رواه أحمد
واللفظ له والثلاثة وصححه الترمذي وابن حبان) زاد المصنف في التلخيص: والحاكم والدارقطني
وصححه ابن السكن كلهم من طريق يعلي بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه.
قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول، قال البيهقي: لان يزيد بن الأسود ليس له راو
غير ابنه ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قلت: يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره. انتهى. وهذا
الحديث وقع في مسجد الخيف، في حجة الوداع. فدل على مشروعية الصلاة مع الامام إذا
وجده يصلي أو سيصلي بعد أن كان قد صلى جماعة أو فرادى، والأولى هي الفريضة والأخرى
نافلة كما صرح به الحديث. وظاهره أنه لا يحتاج إلى رفض الأول. وذهب إلى هذا زيد بن علي
والمؤيد وجماعة من الآل وهو قول الشافعي. وذهب الهادي ومالك وهو قول الشافعي إلى أن
الثانية هي الفريضة، لما أخرجه أبو داود من حديث يزيد بن عامر: إنه (ص)
قال: إذا جئت الصلاة فوجدت الناس يصلون فصل معهم إن كنت قد صليت تكن لك
نافلة وهذه مكتوبة. وأجيب بأنه حديث ضعيف ضعفه النووي وغيره، وقال البيهقي هو
مخالف لحديث يزيد بن الأسود وهو أصح ورواه الدارقطني بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته
نافلة قال الدارقطني هذه رواية ضعيفة شاذة وعلى هذا القول لا بد من الرفض للأولى
بعد دخوله في الثانية، وقيل بشرط فراغه من الثانية صحيحة. وللشافعي قول ثالث أن الله تعالى
يحتسب بأيهما شاء، لقول ابن عمر لمن سأله عن ذلك: أو ذلك إليك؟ إنما ذلك إلى الله يحتسب
بأيهما شاء أخرجه مالك في الموطأ. وقد عورض حديث الباب بما أخرجه أبو داود والنسائي
21

وغيرهما عن ابن عمر يرفعه لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. ويجاب عنه بأن المنهي عنه
أن يصلي كذلك على أنهما فريضة لا على أن إحداهما نافلة، أو المراد لا يصليهما مرتين منفردا.
ثم ظاهر حديث الباب عموم ذلك في الصلوات كلها وإليه ذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة:
لا يعاد إلا الظهر والعشاء أما الصبح والعصر فلا. للنهي عن الصلاة بعدهما وأما المغرب
فلأنها وتر النهار فلو أعادها صارت شفعا. وقال مالك: إذا كان صلاها في جماعة لم يعدها
وإن كان صلاها منفردا أعادها. والحديث ظاهر في خلاف ما قاله أبو حنيفة ومالك بل
في حديث يزيد بن الأسود أن ذلك كان في صلاة الصبح فيكون أظهر في رد ما قاله أبو حنيفة
ويخص به عموم النهي عن الصلاة في الوقتين.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إنما
جعل الامام ليؤتم به فإذا كبر) أي للاحرام أو مطلقا فيشمل تكبير النقل (فكبروا
ولا تكبروا حتى يكبر) زاده تأكيدا لما أفاده مفهوم الشرط كما في سائر الجمل الآتية
: (وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع) أي حتى يأخذ من الركوع لا حتى
يفرغ منه كما يتبادر من اللفظ (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد،
وإذا سجد) أخذ في السجود (فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد وإذا صلى قائما
فصلوا قياما، وإذا صلى قاعدا) لعذر (فصلوا قعودا أجمعين) هكذا بالنصب على
الحال وهي رواية في البخاري وأكثر الروايات على أجمعون بالرفع تأكيدا لضمير الجمع
(رواه أبو داود وهذا لفظه وأصله في الصحيحين). إنما يفيد جعل الامام مقصورا على الاتصاف
بكونه مؤتما به لا يتجاوزه المؤتم إلى مخالفته. والائتمام: الاقتداء والاتباع. والحديث دل على
أن شرعية الإمامة ليقتدى بالامام، ومن شأن التابع والمأموم أن لا يتقدم متبوعه، ولا يساويه،
ولا يتقد عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على أثرها بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن
لا يخالفه في شئ من الأحوال، وقد فصل الحديث ذلك بقوله فإذا كبر إلى آخره. ويقاس
ما لم يذكر من أحواله كالتسليم على ما ذكر فمن خالفه في شئ مما ذكر فقد أثم ولا تفسد
صلاته بذلك، إلا أنه إن خالف في تكبيرة الاحرام بتقديمها على تكبيرة الامام فإنها لا تنعقد
معه صلاته لأنه لم يجعله إماما إذ الدخول بها بعده وهي عنوان الاقتداء به واتخاذه إماما.
واستدل على عدم فساد الصلاة بمخالفته لامامه لأنه (ص) توعد من سابق الامام
في ركوعه أو سجوده بأن الله يجعل رأسه رأس حمار ولم يأمره بإعادة صلاته ولا قال فإنه
لا صلاة له. ثم الحديث لم يشترط المساواة في النية فدل أنها إذا اختلفت نية الإمام والمأموم
كأن ينوي أحدهما فرضا والآخر نفلا أو ينوي هذا عصرا والآخر ظهرا أنها تصح الصلاة
جماعة وإليه ذهبت الشافعية. - ويأتي الكلام على ذلك في حديث جابر في صلاة معاذ -. وقوله
: إذا قال سمع الله لمن حمده يدل أنه الذي يقوله الامام ويقول المأموم: اللهم ربنا لك الحمد
، وقد ورد بزيادة الواو وورد بحذف اللهم والكل جائز، والأرجح العمل بزيادة اللهم وزيادة
22

الواو لأنهما يفيدان معنى زائدا. وقد احتج بالحديث من يقول إنه لا يجمع الامام والمؤتم
بين التسميع والتحميد وهم الهادية والحنفية، قالوا: ويشرع للامام والمنفرد التسميع وقد
قدمنا هذا. وقال أبو يوسف ومحمد: يجمع بينهما الامام والمنفرد ويقول المؤتم: سمع الله
لمن حمده لحديث أبي هريرة أنه (ص) كان يفعل ذلك، وظاهره منفردا وإماما
فإن صلاته (ص) مؤتما نادرة. ويقال عليه فأين الدليل على أنه يشمل المؤتم فإن
الذي في حديث أبي هريرة هذا أنه يحمد. وذهب الامام يحيى والثوري والأوزاعي إلى أنه
يجمع بينهما الامام والمنفرد ويحمد المؤتم لمفهوم حديث الباب إذ يفهم من قوله: فقولوا
اللهم.. إلخ أنه لا يقول المؤتم إلا ذلك. وذهب الشافعي إلى أنه يجمع بينهما المصلي مطلقا
مستدلا بما أخرجه مسلم من حديث ابن أبي أوفى أنه (ص) كان إذا رفع
رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد. الحديث قال: والظاهر عموم
أحوال صلاته جماعة ومنفردا وقد قال (ص): صلوا كما رأيتموني أصلي
ولا حجة في سائر الروايات على الاقتصار إذ عدم الذكر في اللفظ لا يدل على عدم الشرعية،
فقوله إذا قال الامام سمع الله لمن حمده لا يدل على نفي قوله ربنا ولك الحمد وقوله
قولوا ربنا لك الحمد لا يدل على نفي قول المؤتم سمع الله لمن حمده، وحديث ابن أبي أوفى
في حكايته لفعله (ص) زيادة وهي مقبولة، لان القول غير معارض لها.
وقد روى ابن المنذر هذا القول عن عطاء وابن سيرين وغيرهما فلم ينفرد به الشافعي ويكون
قول سمع الله لمن حمده عند رفع رأسه وقوله ربنا لك الحمد عند انتصابه. وقوله: فصلوا
قعودا أجمعين دليل أنه يجب متابعة الامام في القعود لعذر وأنه يقعد المأموم مع قدرته
على القيام. وقد ورد تعليله بأنه فعل فارس والروم أي القيام مع قعود الامام فإنه (ص)
قال: إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود
فلا تفعلوا وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وإسحق وغيرهما. وذهبت الهادوية ومالك
وغيرهم إلى أنها لا تصح متابعة القاعد لا قائما ولا قاعدا لقوله (ص)
: لا تختلفوا على إمامكم ولا تتابعوه في القعود كذا في شرح القاضي ولم يسنده إلى كتاب
ولا وجدت قوله: ولا تتابعوه في القعود في حديث فينظر. وذهب الشافعي إلى أنها تصح
صلاة القائم خلف القاعد ولا يتابعوه في القعود قالوا: لصلاة أصحاب رسول الله (ص)
في مرض موته قياما حين خرج وأبو بكر قد افتتح الصلاة فقعد عن يساره فكان
ذلك ناسخا لامره (ص) لهم بالجلوس في حديث أبي هريرة فإن ذلك كان
في صلاته حين جحش وانفكت قدمه فكان هذا آخر الامرين فتعين العمل به كذا قرره
الشافعي. وأجيب: بأن الأحاديث التي أمرهم فيها بالجلوس لم يختلف في صحتها ولا في سياقها.
وأما صلاته (ص) في مرض موته، فقد اختلف فيها هل كان إماما أو مأموما،
والاستدلال بصلاته في مرض موته لا يتم إلا على أنه كان إماما: ومنها أنه يحتمل أن الامر
بالجلوس للندب، وتقرير القيام قرينة على ذلك فيكون هذا جمعا بين الروايتين خارجا عن
23

المذهبين جميعا، لأنه يقتضي التخيير للمؤتم بين القيام والقعود. ومنها أنه قد ثبت فعل ذلك عن
جماعة من الصحابة بعد وفاته (ص) أنهم أموا قعودا أيضا
منهم أسيد بن حضير وجابر وأفتى به أبو هريرة قال ابن المنذر: ولا يحفظ عن أحد من
الصحابة خلاف ذلك. وأما حديث لا يؤمن أحدكم بعدي قاعدا قوما قياما فإنه حديث
ضعيف أخرجه البيهقي والدار قطني من حديث جابر الجعفي عن الشعبي عن النبي (ص).
ضعيف جدا وهو مع ذلك مرسل، قال الشافعي: قد علم من احتج به أنه لا حجة
فيه لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه - يعني جابرا الجعفي -. وذهب
أحمد بن حنبل في الجمع بين الحديثين إلى أنه ابتدأ الامام الراتب الصلاة قاعدا لمرض
يرجى برؤه، فإنهم يصلون خلفه قعودا، وإذا ابتدأ الامام الصلاة قائما لزم المأمومين أن يصلوا
خلفه قياما، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض
موته، فإنه (ص) لم يأمرهم بالقعود لأنه ابتدأ إمامهم صلاته قائما، ثم أمهم
(ص) في بقية الصلاة قاعدا، بخلاف صلاته (ص) بهم في مرضه
الأول فإنه ابتدأ صلاته قاعدا فأمرهم بالقعود وهو جمع حسن.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله (ص) رأى
في أصحابه تأخرا فقال لهم: تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم رواه مسلم)
كأنهم تأخروا عن القرب والدنو منه (ص) وقوله: ائتموا بي أي اقتدوا بأفعالي
وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي. والحديث دليل على أنه يجوز اتباع
من خلف الامام ممن لا يراه ولا يسمعه كأهل الصف الثاني يقتدون بالأول، وأهل الصف الثالث
بالثاني ونحوه أو بمن يبلغ عنه. وفي الحديث حث على الصف الأول وكراهة البعد عنه.
وتمام الحديث لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله.
(وعن زيد بن ثابت قال: احتجر) هو بالراء المنع أي اتخذ شيئا كالحجارة
من الخصف وهو الحصير ويروى بالزاي أي اتخذ حاجزا بينه وبين غيره أي مانعا
(رسول الله (ص) حجرة مخصفة فصلى فيها فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون
بصلاته الحديث وفيه أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة متفق عليه)
وقد تقدم في شرح حديث جابر في باب صلاة التطوع. وفيه دلالة على جواز فعل مثل
ذلك في المسجد إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين لأنه كان يفعله بالليل ويبسط بالنهار،
وفي رواية مسلم ولم يتخذه دائما. وقوله فتتبع من التتبع الطلب والمعنى طلبوا موضعه
واجتمعوا إليه، وفي رواية البخاري فثار إليه وفي رواية له فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته
ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال: قد عرفت الذي رأيت من
صنيعكم فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
هذا لفظه، وفي مسلم قريب منه. والمصنف ساق الحديث في أبواب الإمامة لإفادة شرعية
الجماعة في النافلة وقد تقدم معناه في التطوع.
24

(وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صلى معاذ بأصحابه العشاء فطول
عليهم فقال النبي (ص): أتريد يا معاذ أن تكون فتانا؟ إذا أممت الناس
فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك، والليل إذا
يغشى متفق عليه) واللفظ لمسلم. والحديث في البخاري لفظ أقبل رجلين بناضحين
وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة أو
النساء فانطلق الرجل بعد أن قطع الاقتداء بمعاذ وأتم صلاته منفردا، وعليه بوب البخاري
بقوله: إذا طول الامام وكان للرجل أي المأموم حاجة فخرج وبلغه أن معاذا نال منه
وقد جاء ما قاله معاذ مفسرا بلفظ فبلغ ذلك معاذا فقال إنه منافق فأتى النبي صلى الله
عليه وسلم فشكا إليه معاذا فقال النبي (ص): أفتان أنت يا معاذ أو أفاتن
ثلاث مرات فلو صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه
يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة وله في البخاري ألفاظ غير هذه. والمراد بفتان
أي أتعذب أصحابك بالتطويل، وحمل ذلك على كراهة المأمومين للإطالة وإلا فإنه (ص)
قرأ الأعراف في المغرب وغيرها. وكان مقدار قيامه في الظهر بالستين آية وقرأ
بأقصر من ذلك. والحاصل أنه يختلف ذلك باختلاف الأوقات في الامام والمأمومين.
والحديث دليل على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل فإن معاذا كان يصلي فريضة العشاء
معه (ص) ثم يذهب إلى أصحابه فيصليها بهم نفلا. وقد أخرج عبد الرزاق
والشافعي والطحاوي من حديث جابر بسند صحيح وفيه هي له تطوع وقد طول المصنف
الكلام على الاستدلال بالحديث على ذلك في فتح الباري، وقد كتبنا فيه رسالة مستقلة جواب
سؤال وأبنا فيها عدم نهوض الحديث على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل. والحديث أفاد
أنه يخفف الامام في قراءته وصلاته وقد عين (ص) مقدار القراءة ويأتي
حديث إذا أم أحدكم الناس فليخفف.
(وعن عائشة رضي الله عنها في قصة صلاة رسول الله (ص) بالناس
وهو مريض قالت: فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر) هكذا في رواية البخاري في باب
الرجل يأتم بالامام تعيين مكان جلوسه (ص) وأنه عن يسار أبي بكر، وهذا
هو مقام الامام. ووقع في البخاري في باب حد المريض أن يشهد الجماعة بلفظ جلس
إلى جنبه ولم يعين فيه محل جلوسه، لكن قال المصنف: إنه عين المحل في رواية بإسناد حسين
أنه عن يساره قلت: حيث قد ثبت في الصحيح في بعض رواياته فهي تبين ما أجمل
في أخرى، وبه يتضح أنه (ص) كان إماما (فكان) النبي (ص)
(يصلي بالناس جالسا وأبو بكر) يصلي (قائما، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي (ص)
ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر متفق عليه). فيه دلالة على أنه يجوز وقوف
الواحد عن يمين الامام، وإن حضر معه غيره ويحتمل أنه صنع ذلك ليبلغ عنه أبو بكر،
25

أو لكونه كان وإماما أول الصلاة أو لكون الصف قد ضاق، أو لغير ذلك من المحتملات، ومع
عدم الدليل على أنه فعل لواحد منها فالظاهر الجواز على الاطلاق. وقولها: يقتدي أبو بكر
يحتمل أن يكون ذلك الاقتداء على جهة الائتمام فيكون أبو بكر إماما ومأموما ويحتمل أن
يكون أبو بكر إنما كان مبلغا وليس بإمام. واعلم أنه قد وقع الاختلاف في حديث عائشة
وفي غيره هل كان النبي (ص) إماما أو مأموما ووردت الروايات بما يفيد هذا
وما يفيد هذا، لكنا قدمنا ظهور أنه (ص) كان الامام، فمن العلماء من ذهب
إلى الترجيح بين الروايات فرجح أنه (ص) كان الامام لوجوه من الترجيح
مستوفاة في فتح الباري. وفي الشرح بعض من ذلك. وتقدم في شرح الحديث التاسع بعض
وجوه ترجيح خلافه. ومن العلماء من قال بتعدد القصة وأنه (ص) صلى تارة
إماما وتارة مأموما في مرض موته. هذا: وقد استدل بحديث عائشة هذا وقولها: يقتدي أبو بكر
بصلاة النبي (ص) ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر أن أبا بكر كان مأموما
إماما: وقد بوب البخاري على هذا فقال: باب الرجل يأتم بالامام ويأتم الناس بالمأموم.
قال ابن بطال: هذا يوافق قول مسروق والشعبي أن الصفوف يؤم بعضها بعضا خلافا
للجمهور. قال المصنف: قال الشعبي فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم
من الركعة أنه أدركها ولو كان الامام رفع قبل ذلك لان بعضهم لبعض أئمة. فهذا يدل أنه
يرى أنهم متحملون عن بعضهم بعضا ما يتحمله الامام. ويؤيد ما ذهب إليه قوله (ص)
: تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم وقد تقدم. وفي رواية مسلم أن أبا بكر
كان يسمعهم التكبير دليل على أنه يجوز رفع الصوت بالتكبير لاسماع المأمومين فيتبعونه
، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر، وهذا مذهب الجمهور وفيه خلاف للمالكية. قال
القاضي عياض عن مذهبهم: إن منهم من يبطل صلاة المقتدي ومنهم من لا يبطلها ومنهم من
قال إن أذن له الامام بالاسماع صح الاقتداء به وإلا فلا، ولهم تفاصيل غير هذه
ليس عليها دليل، وكأنهم يقولون في هذا الحديث إن أبا بكر كان هو الامام ولا كلام
أنه يرفع صوته لاعلام من خلفه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: إذا أم
أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة) وهؤلاء
يريدون التخفيف فيلاحظهم الامام (فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء
متفق عليه) مخففا ومطولا. وفيه دليل على جواز تطويل المنفرد للصلاة في جميع أركانها
ولو خشي خروج الوقت، وصححه بعض الشافعية، ولكنه معارض بحديث أبي قتادة إنما
التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى أخرجه مسلم فإذا تعارضت مصلحة
المبالغة في الكمال بالتطويل، ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة
أولى. ويحتمل أنه إنما يريد بالمؤخر حتى يخرج الوقت من لم يدخل في الصلاة أصلا حتى
خرج، وأما من خرج وهو في الصلاة فلا يصدق عليه ذلك.
26

(وعن عمرو بن سلمة) بكسر اللام هو أبو يزيد من الزيادة كما قاله البخاري
وغيره، وقال مسلم وآخرون: بريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون المثناة التحتية
فدال مهملة هو: عمرو بن سلمة الجرمي بالجيم والراء مخفف قال ابن عبد البر: عمرو
بن سلمة أدرك زمن النبي (ص) وكان يؤم قومه على عهد رسول الله (ص)
، لأنه كان أقرأهم للقرآن، وقيل إنه، قدم على النبي (ص) مع أبيه، ولم
يختلف في قدوم أبيه نزل عمرو البصرة وروى عنه أبو قلابة وعامر الأحول وأبو الزبير
المكي (قال: قال أبي) أي سلمة بن نفيع بضم النون أو ابن لأي بفتح اللام وسكون
الهمزة على الخلاف في اسمه (جئتكم من عند النبي (ص) حقا) نصب على صفة
المصدر المحذوف أي نبوة حقا أو أنه مصدر مؤكد للجملة المتضمنة إذ هو في قوة هو
رسول الله حقا فهو مصدر مؤكد لغيره (قال: إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم
وليؤمكم أكثركم قرآنا قال: أي عمرو بن سلمة (فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني
قرآنا) وقد ورد بيان سبب أكثرية قرآنيته أنه كان يتلقى الركبان الذين كانوا يفدون إليه
(ص) ويمرون بعمرو وأهله فكان يتلقى منهم ما يقرأونه وذلك قبل إسلام أبيه
وقومه (فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين. رواه البخاري وأبو داود والنسائي). وفيه دلالة على
أن الأحق بالإمامة الأكثر قرآنا ويأتي الحديث بذلك قريبا. وفيه أن الإمامة أفضل من
الأذان لأنه لم يشترط في المؤذن شرطا. وتقديمه وهو ابن سبع سنين دليل لما قاله الحسن
البصري والشافعي وإسحاق من أنه لا كراهة في إمامة المميز. وكرهها مالك والثوري. وعن أحمد
وأبي حنيفة روايتان والمشهور عنهما الاجزاء في النوافل دون الفرائض. وقال بعدم صحتها
الهادي والناصر وغيرهما قياسا على المجنون قالوا: ولا حجة في قصة عمرو هذه لأنه لم يرو
أن ذلك كان من أمره (ص) ولا تقريره. وأجيب بأن دليل الجواز وقوع ذلك
في زمن الوحي ولا يقرر فيه على فعل ما لا يجوز، سيما في الصلاة التي هي أعظم أركان
الاسلام، وقد نبه (ص) بالوحي على القذى الذي كان في نعله، فلو كان إمامة
الصبي لا تصح لنزل الوحي بذلك، وقد استدل أبو سعيد وجابر بأنهم كانوا يعزلون والقرآن
ينزل. والوفد الذين قدموا عمرا كانوا جماعة من الصحابة قال ابن حزم: ولا نعلم لهم مخالفا
في ذلك، واحتمال أنه أمهم في نافلة يبعده سياق القصة فإنه (ص) علمهم
الأوقات للفرائض ثم قال لهم: إنه يؤمكم أكثركم قرآنا وقد أخرج أبو داود في سننه
قال عمرو: فما شهدت مشهدا في جرم - اسم قبيلة - إلا كنت إمامهم وهذا يعم الفرائض
والنوافل. قلت: يحتاج من ادعى التفرقة بين الفض والنفل وأنه تصح إمامة الصبي في هذا
دون ذلك إلى دليل. ثم الحديث فيه دليل على القول بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل
كذا في الشرح وفيه تأمل.
(وعن أبن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): يؤم القوم
أقرؤهم لكتاب الله تعالى) الظاهر أن المراد أكثرهم له حفظا وقيل أعلمهم بأحكامه
27

والحديث الأول يناسب القول الأول (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة،
فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء
فأقدمهم سلما) أي إسلاما، وفي رواية سنا عوضا عن سلما (ولا يؤمن
الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته) بفتح المثناة الفوقية
وكسر الراء الفراش ونحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويختص به (إلا بإذنه رواه مسلم).
الحديث دليل على تقديم الأقرأ على الأفقه وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد. وذهب الهادوية
إلى أنه يقدم الأفقه على الأقرأ لان الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه
من الفقه غير مضبوط، وقد تعرض له في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاتها إلا كامل الفقه، قالوا
: ولهذا قدم (ص) أبا بكر على غيره مع قوله: أقرؤكم أبي، قالوا: والحديث خرج
على ما كان عليه حال الصحابة من أن الأقرأ هو الأفقه وقد قال ابن مسعود: ما كنا
نتجاوز عشر آيات حتى نعرف حكمها وأمرها ونهيها. ولا يخفى أنه يبعد هذا قوله: فإن كانوا
في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإنه دليل على تقديم الأقرأ مطلقا، والأقرأ على ما فسروه
به هو الأعلم بالسنة فلو أريد به ذلك لكان القسمان قسما واحدا. وقوله: فأقدمهم هجرة
هو شامل لمن تقدم هجرة سواء ما كان في زمنه (ص) أو بعده كمن يهاجر من
دار الكفار إلى دار الاسلام. وأما حديث لا هجرة بعد الفتح فالمراد من مكة إلى المدينة
لأنهما جميعا صارا دار إسلام ولعله يقال: وأولاد المهاجرين لهم حكم آبائهم في التقديم.
وقوله سلما أي من تقدم إسلامه يقدم على من تأخر. وكذا رواية سنا أي الأكبر
في السن وقد ثبت في حديث مالك بن الحويرث ليؤمكم أكبركم. ومن الذين يستحقون
التقديم قريش لحديث قدموا قريشا: قال الحافظ المصنف: إنه قد جمع طرقه في جزء كبير.
ومنهم الأحسن وجها لحديث ورد به وفيه راو ضعيف. وأما قوله: ولا يؤمن الرجل الرجل
في سلطانه فهو نهي عن تقديم غير السلطان عليه والمراد ذو الولاية سواء كان السلطان
الأعظم أو نائبه وظاهره وإن كان غيره أكثر قرآنا وفقها فيكون هذا خاصا، وأول الحديث عام
، ويلحق بالسلطان صاحب البيت لأنه ورد في صاحب البيت بخصوصه بأنه الأحق.
أخرج الطبراني من حديث ابن مسعود: لقد علمت أن من السنة أن يتقدم صاحب البيت.
قال المصنف: رجاله ثقات. وأما إمام المسجد فإن كان عن ولاية من السلطان أو عامله فهو
داخل في حكم السلطان وإن كان باتفاق من أهل المسجد فيحتمل أنه يصير بذلك أحق
وأنها ولاية خاصة، وكذلك النهي عن القعود مما يختص به السلطان في منزله أو الرجل من
فراش وسرير ونحوه ولا يقعد فيه أحد إلا بإذنه، ونحوه قوله:
(ولابن ماجة من حديث جابر رضي الله عنه ولا تؤمن امرأة رجلا،
ولا أعرابي مهاجرا، ولا فاجر مؤمنا وإسناده واه). فيه عبد الله بن محمد العدوي عن
علي بن زيد بن جدعان، والعدوي، اتهمه وكيع بوضع الحديث، وشيخه ضعيف، وله طرق
أخرى فيها عبد الملك ابن حبيب، وهو متهم بسرقة الحديث وتخليط الأسانيد. وهو يدل على
28

أن المرأة لا تؤم الرجل وهو مذهب الهادوية والحنفية والشافعية وغيرهم. وأجاز المزني وأبو ثور
إمامة المرأة. وأجاز الطبري إمامتها في التراويح إذا لم يحضر من يحفظ القرآن، وحجتهم حديث
أم ورقة وسيأتي ويحملون هذا النهي على التنزيه أو يقولون الحديث ضعيف. ويدل أيضا
على أنه لا يؤم الاعرابي مهاجرا ولعله محمول على الكراهة إذ كان في صدر الاسلام. ويدل
أيضا على أنه لا يؤم الفاجر وهو المنبعث في المعاصي مؤمنا، وإلى هذا ذهبت الهادوية
فاشترطوا عدالة من يصلي خلفه، وقالوا: لا تصح إمامة الفاسق. وذهبت الشافعية والحنفية إلى
صحة إمامته مستدلين بما يأتي من حديث ابن عمر وغيره، وهي أحاديث كثيرة دالة على صحة
الصلاة خلف كل بر وفاجر إلا أنها كلها ضعيفة وقد عارضها حديث: لا يؤمنكم ذو جرأة
في دينه. ونحوه، وهي أيضا ضعيفة، قالوا: فلما ضعفت الأحاديث من الجانبين رجعنا إلى
، الأصل وهي أن من صحت صلاته صحت إمامته. وأيد ذلك فعل الصحابة فإنه أخرج
البخاري في التاريخ عن عبد الكريم أنه قال: أدركت عشرة من أصحاب محمد (ص)
يصلون خلف أئمة الجور. ويؤيده أيضا حديث مسلم: وكيف أنت إذا كان عليكم
أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل
الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة. فقد أذن بالصلاة خلفهم وجعلها نافلة
لأنهم أخرجوها عن وقتها، وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأمورا بصلاتها خلفهم فريضة.
(وعن أنس رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: رصوا) أي
في صلاة الجماعة بضم الراء والصاد المهملة من رص البناء (صفوفكم) بانضمام بعضكم إلى
بعض (وقاربوا بينها) أي بين الصفوف (وحاذوا) أي يساوي بعضكم بعضا في الصف
(بالأعناق رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان) تمام الحديث من سنن أبي داود
فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشياطين تدخل في خلل الصف كأنها الحذف بفتح الحاء
المهملة والذال المعجمة هي صغار الغنم. وأخرج الشيخان وأبو داود من حديث النعمان بن بشير
قال: أقبل رسول الله (ص) على الناس بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم ثلاثا
والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم قال فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب
صاحبه وكعبه بكعبه وأخرج أبو داود عنه أيضا قال: كان النبي (ص) يسوينا
في الصفوف كما يقوم القداح حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا: أقبل ذات يوم
بوجهه إذا رجل منتبذ بصدره فقال: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم وأخرج
أيضا من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص)
يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم
. وهذه الأحاديث والوعيد الذي فيها دالة على وجوب ذلك وهو مما تساهل فيه الناس، كما تساهلوا
فيما يفيده حديث أنس عنه (ص) أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من
نقص فليكن في الصف المؤخر أخرجه أبو داود، فإنك ترى الناس في المسجد يقومون للجماعة
وهم لا يملأون الصف الأول لو قاموا فيه فإذا أقيمت الصلاة يتفرقون صفوفا على اثنين وعلى
29

ثلاثة ونحوه. وأخرج أبو داود من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله (ص)
: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟
قال: يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف. وورد في سد الفرج في الصفوف أحاديث
. كحديث ابن عمر ما من خطوة أعظم أجرا من خطوة مشاها الرجل في فرجة في الصف فسدها
أخرجه الطبراني في الأوسط، وأخرج أيضا فيه من حديث عائشة قال (ص)
: من سد فرجة في صف رفعه الله بها درجة وبنى له بيتا في الجنة قال الهيثمي: فيه مسلم
بن خالد الزنجي وهو ضعيف وثقه ابن حبان وأخر البزار من حديث أبي جحيفة عنه
(ص) من سد فرجة في الصف غفر له قال الهيثمي: إسناده حسن ويغني
عنه رصوا صفوفكم الحديث، إذ الفرج إنما تكون من عدم رصهم الصفوف.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): خير
صفوف الرجال أولها) أي أكثرها أجرا وهو الصف الذي يصلي الملائكة على من صلى فيه
كما يأتي (وشرها آخرها) أقلها أجرا (وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها
رواه مسلم) ورواه أيضا البزار والطبراني في الكبير والأوسط. والأحاديث في فضائل الصف
الأول واسعة. أخرج أحمد - قال الهيثمي: رجاله موثقون - والطبراني في الكبير من حديث
أبي أمامة قال: قال رسول الله (ص): إن الله وملائكته يصلون على الصف
الأول قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال: وعلى الثاني. وأخرج أحمد والبزار - قال الهيثمي
: برجال ثقات - من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله (ص)
استغفر للصف الأول ثلاثا، وللثاني مرتين، وللثالث مرة. قال الهيثمي: فيه أيوب بن عتبة
ضعف من قبل حفظه. ثم قد ورد في ميمنة الصف الأول ومسامتة الامام وأفضليته على الأيسر
أحاديث، فأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي بردة قال: قال رسول الله
(ص): إن استطعت أن تكون خلف الامام وإلا فعن يمينه قال الهيثمي
: فيه من لم أجد له ذكرا. وأخرج أيضا في الأوسط والكبير من حديث ابن عباس: عليكم
بالصف الأول وعليكم بالميمنة وإياكم والصف بين السواري قال الهيثمي: فيه إسماعيل
بن مسلم المكي ضعيف.
واعلم أن الأحق بالصف الأول أولو الأحلام والنهى، فقد أخرج البزار من حديث عامر
بن ربيعة قال: قال رسول الله (ص): ليليني منكم أهل الأحلام والنهى ثم الذين
يلونهم قال الهيثمي: فيه عاصم ابن عبيد الله العمري والأكثر على تضعيفه واختلف في الاحتجاج
به: وأخرجه مسلم والأربعة من حديث ابن مسعود بزيادة ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم وإياكم
وهيشات الأسواق. وفي الباب أحاديث غيره. وفي حديث الباب دلالة على جواز اصطفاف
النساء صفوفا، وظاهره سواء كانت صلاتهن مع الرجال أو مع النساء، وقد علل خيرية آخر
صفوفهن بأنهن عند ذلك يبعدن عن الرجال وعن رؤيتهم وسماع كلامهم إلا أنها علة لا تتم
30

إلا إذا كانت صلاتهن مع الرجال، وإما إذا صلين وإمامتهن امرأة فصفوفهن كصفوف
الرجال أفضلها أولها.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله (ص) ذات ليلة)
هي ليلة مبيته عنده المعروفة (فقمت عن يساره فأخذ رسول الله (ص) برأسي
من ورائي فجعلني عن يمينه. متفق عليه). دل على صحة صلاة المتنفل بالمتنفل، وعلى أن
موقف الواحد مع الامام عن يمينه، بدليل الإدارة، إذ لو كان اليسار موقفا له لما أداره في الصلاة
. وإلى هذا ذهب الجماهير، وخالف النخعي فقال: إذا كان الامام وواحد، قام الواحد
خلف الامام، فإن ركع الامام قبل أن يجئ أحد قام عن يمينه، أخرجه سعيد بن منصور
، ووجه بأن الإمامة مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر خلاف ذلك. قيل
: ويدل على صحة صلاة من قام عن يسار الامام لأنه (ص) لم يأمر ابن عباس
بالإعادة، وفيه أنه يجوز أنه لم يأمره لأنه معذور بجهله، أو بأنه ما كان قد أحرم بالصلاة
. ثم قوله: فجعلني عن يمينه ظاهر في أنه قام مساويا له، وفي بعض ألفاظه فقمت إلى جنبه
. وعن بعض أصحاب الشافعي أنه يستحب أن يقف المأموم دونه قليلا. إلا أنه قد أخرج
ابن جريج قال: قلنا لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقه.
قلت: أيحاذيه حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم: قلت: بحيث أن لا يبعد
حتى يكون بينهما فرجه، قال: نعم. ومثله في الموطأ عن عمر من حديث ابن مسعود أنه صف
معه فقربه حتى جعله حذاءه عن يمينه.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: صلى رسول (ص) فقمت
ويتيم خلفه) فيه العطف على المرفوع المتصل من دون تأكيد ولا فصل وهو صحيح على
مذهب الكوفيين، واسم اليتيم ضميره وهو جد حسين ابن عبد الله بن ضميرة (وأم سليم)
هي أم أنس واسمها مليكة مصغرا (خلفنا) متفق عليه واللفظ للبخاري). دل الحديث على
صحة الجماعة في النفل. وعلى صحة الصلاة للتعليم والتبرك كما تدل عليه القصة. وعلى أن مقام
الاثنين خلف الامام. وعلى أن الصغير يعتد بوقوفه ويسد الجناح وهو الظاهر من لفظ
اليتيم إذ لا يتم بعد الاحتلام. وعلى أن المرأة لا تصف مع الرجال وأنها تنفرد في الصف
، وإن عدم امرأة تنضم إليها عذر في ذلك، فإن انضمت المرأة مع الرجل أجزأت صلاتها لأنه
ليس في الحديث إلا تقريرها على التأخر وأنه موقفها، وليس فيه دلالة على فساد صلاتها
لو صلت في غيره. وعند الهادوية أنها تفسد عليها وعلى من خلفها وعلى من في صفها إن
علموا. وذهب أبو حنيفة إلى فساد صلاة الرجل دون المرأة ولا دليل على الفساد في الصورتين.
(وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي (ص) وهو راكع فركع قبل
أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي (ص) فقال: زادك الله حرصا) أي على
طلب الخير (ولا تعد) بفتح المثناة الفوقية من العود (رواه البخاري وزاد أبو داود فيه
31

فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف). الحديث يدل على أن من وجد الامام راكعا
فلا يدخل في الصلاة حتى يصل الصف لقوله (ص) ولا تعد. وقيل: بل يدل
على أنه يصح منه ذلك لأنه (ص) لم يأمره بالإعادة لصلاته، فدل على صحتها، قلت
: لعله (ص) لم يأمره لأنه كان جاهلا للحكم والجهل عذر. وروى الطبراني
في الأوسط من رواية عطاء عن ابن الزبير - قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح - أنه قال
: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم يدب راكعا حتى يدخل
في الصف فإن ذلك السنة. قال عطاء: قد رأيته يصنع ذلك. قال ابن جريج: وقد
رأيت عطاء يصنع ذلك. قلت: وكأنه مبني على أن لفظ ولا تعد بضم المثناة الفوقية من
الإعادة أي زادك الله حرصا على طلب الخير ولا تعد صلاتك فإنها صحيحة. وروى
بسكون العين المهملة من العدو وتؤيده رواية ابن السكن من حديث أبي بكرة بلفظ
: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف فلما قضى الصلاة قال: من الساعي
آنفا؟ قال أبو بكرة: فقلت: أنا، قال (ص): زادك الله حرصا ولا تعد
. والأقرب رواية أن لا تعد من العود أي لا تعد ساعيا إلى الدخول قبل وصولك الصف فإنه
ليس في الكلام ما يشعر بفساد صلاته حتى يفتيه (ص) بأنه لا يعيدها بل قوله
زادك الله حرصا يشعر بإجزائها. أو لا تعد من العدو.
(وعن وابصة) بفتح الواو وكسر الموحدة فصاد مهملة وهو أبو قرصافة بكسر
القاف وسكون الراء فصاد مهملة وبعد الألف فاء (ابن معبد رضي الله عنه) بكسر الميم وسكون العين
المهملة فدال مهملة وهو ابن مالك من بني أسد بن خزيمة الأنصاري الأسدي نزل وابصة الكوفة
ثم تحول إلى الحيرة ومات بالرقة (أن رسول الله (ص) رأى رجلا يصلي خلف
الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان)
. فيه دلالة على بطلان صلاة من صلى خلف الصف وحده، وقد قال ببطلانها النخعي وأحمد.
وكان الشافعي يضعف هذا الحديث ويقول: لو ثبت هذا الحديث لقلت به، قال البيهقي:
الاختيار أن يتوقى ذلك لثبوت الخبر المذكور. ومن قال بعدم بطلانها استدل بحديث
أبي بكرة وأنه لم يأمره (ص) بالإعادة، مع أنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف
منفردا، قالوا: فيحمل الامر بالإعادة ههنا على الندب. قيل: والأولى أن يحمل حديث أبي بكرة
على العذر وهو خشية الفوات مع انضمامه بقدر الامكان، وهذا لغير عذر في جميع الصلاة.
قلت: وأحسن منه أن يقال هذا لا يعارض حديث أبي بكرة بل يوافقه وإنما لم يأمر (ص)
أبا بكرة بالإعادة لأنه كان معذورا بجهله ويحمل أمره بالإعادة لمن صلى خلف
الصف بأنه كان عالما بالحكم ويدل على البطلان أيضا ما تضمنه قوله:
(وله) أي لابن حبان (عن طلق بن علي رضي الله عنه) الذي سلف ذكره (لا صلاة لمنفرد
خلف الصف) فإن النفي ظاهر في نفي الصحة (وزاد الطبراني في حديث وابصة ألا
دخلت) أيها المصلي منفردا عن الصف (معهم) أي في الصف (أو اجتررت
32

رجلا) أي من الصف فينضم إليك وتمام حديث الطبراني إن ضاق بك المكان أعد
صلاتك فإنه لا صلاة لك وهو في مجمع الزوائد من رواية ابن عباس إذا انتهى أحدكم
إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلا يقيمه إلى جنبه وقال: رواه الطبراني في الأوسط
وقال: لا يروى عن النبي (ص) إلا بهذا الاسناد، وفيه السري بن إبراهيم وهو
ضعيف جدا، ويظهر من كلام مجمع الزوائد أن في حديث وابصة، السري بن إسماعيل وهو
ضعيف، والشارح ذكر أن السري في رواية الطبراني التي فيها الزيادة إلا أنه قد أخرج
أبو داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعا إذا جاء أحدكم فلم يجد موضعا فليختلج
إليه رجلا من الصف فليقم معه فما أعظم أجر المختلج وأخرج الطبراني في الأوسط من
حديث ابن عباس أن النبي (ص) أمر الآتي وقد تمت الصفوف بأن يجتذب
إليه رجلا يقيمه إلى جنبه، وإسناده واه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي (ص): إذا سمعتم
الإقامة) أي للصلاة (فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة) قال النووي: السكينة
التأني في الحركات واجتناب العبث (والوقار) في الهيئة كغض الطرف وخفض الصوت
وعدم الالتفات، وقيل معناهما واحد وذكر الثاني تأكيدا وقد نبه في رواية مسلم
على الحكمة في شرعية هذا الأدب بقوله في آخر حديث أبي هريرة هذا فإن أحدكم
إذا كان يعمد إلى الصلاة فإنه في صلاة أي فإنه في حكم المصلي، فينبغي اعتماد
ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي له اجتنابه (ولا تسرعوا فما أدركتم) من
الصلاة مع الامام (فصلوا وما فاتكم فأتموا متفق عليه واللفظ للبخاري). فيه الامر
بالوقار وعدم الاسراع في الاتيان إلى الصلاة، وذلك لتكثير الخطأ فينال فضيلة ذلك فقد
ثبت عند مسلم من حديث جابر إن بكل خطوة يخطوها إلى الصلاة درجة وعند أبي داود
مرفوعا إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله
له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة
غفر له، فإن جاء وقد صلوا بعضا وبقي بعض فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك وإن
أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة، كان كذلك. وقوله فما أدركتم فصلوا جواب شرط محذوف أي
: إذا فعلتم ما أمرتم به من ترك الاسراع ونحوه فما أدركتم فصلوا. وفيه دلالة على أن فضيلة
الجماعة يدركها ولو دخل مع الامام في أي جزء من أجزاء الصلاة ولو دون ركعة وهو
قول الجمهور. وذهب آخرون إلى أنه لا يصير مدركا لها إلا بإدراك ركعة لقوله (ص)
: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها وسيأتي في الجمعة اشتراط إدراك ركعة
ويقاس عليها غيرها. وأجيب بأن ذلك في الأوقات لا في الجماعة وبأن الجمعة مخصوصة
فلا يقاس عليها. واستدل بحديث الباب على صحة الدخول مع الامام في أي حالة أدركه عليها
، وقد أخرج ابن أبي شيبة مرفوعا من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على
حالتي التي أنا عليها. قلت: وليس فيه دلالة على اعتداده بما أدركه مع الامام، ولا على
33

إحرامه في أي حالة أدركه عليها، بل فيه الامر بالكون معه، وقد أخرج الطبراني في الكبير
برجال موثقين - كما قال الهيثمي - عن علي وابن مسعود قالا: من لم يدرك الركعة
فلا يعتد بالسجدة وأخرج أيضا في الكبير - قال الهيثمي أيضا برجال موثقين - من حديث زيد
بن وهب قال: دخلت أنا وابن مسعود المسجد والامام راكع فركعنا، ثم مشينا حتى
استوينا بالصف فلما فرغ الامام قمت أقضي فقال: قد أدركته. وهذه آثار موقوفة
، وفي الآخر دليل - أي مأنوس - بما ذهب، وهو أحد احتمالات حديث أبي بكرة وإلا فإنها
آثار موقوفة ليست بأدلة على ما ذهب إليه ابن الزبير وقد تقدم. وورد في بعض الروايات
حديث الباب بلفظ فاقضوا عوض أتموا والقضاء يطلق على أداء الشئ فهو في معنى
أتموا فلا مغايرة. ثم قد اختلف العلماء فيما يدركه اللاحق مع إمامه هل هي أول صلاته أو
آخرها؟ والحق أنها أولها وقد حققناه في حواشي ضوء النهار. واختلف فيما إذا أدرك الامام
راكعا فركع معه هل تسقط قراءة تلك الركعة عند من أوجب الفاتحة فيعتد بها أو لا تسقط
فلا يعتد بها؟ قيل: يعتد بها لأنه قد أدرك الامام قبل أن يقيم صلبه وقيل: لا يعتد بها لأنه
فاتته الفاتحة وقد بسطنا القول في ذلك في مسألة مستقلة وترجح عندنا الاجزاء. ومن أدلته
حديث أبي بكرة حيث ركع وهم ركوع، ثم أقره (ص) على ذلك وإنما
نهاه عن العودة إلى الدخول قبل الانتهاء إلى الصف كما عرفت.
(وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص)
: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده) أي أكثر أجرا من صلاته
منفردا (وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر
فهو أحب إلى الله عز وجل رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان) وأخرجه ابن ماجة
، وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم، وذكر الاختلاف فيه، وأخرجه البزار والطبراني بلفظ
صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة مائة تترى. وفيه دلالة
على أن أقل صلاة الجماعة إمام ومأموم، ويوافقه ما أخرجه ابن ماجة من حديث أبي موسى
اثنان فما فوقهما جماعة ورواه البيهقي أيضا من حديث أنس وفيهما ضعف. وبوب البخاري
باب اثنان فما فوقهما جماعة واستدل بحديث مالك ابن الحويرث إذا حضرت الصلاة
فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما. وقد روى أحمد من حديث أبي سعيد: أنه دخل المسجد
رجل وقد صلى النبي (ص) بأصحابه الظهر فقال له النبي (ص)
: ما حبسك يا فلان عن الصلاة فذكر شيئا اعتل به، قال: فقام يصلي، فقال رسول الله (ص): ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ فقام رجل معه. قال الهيثمي
رجاله رجال الصحيح.
(وعن أم ورقة رضي الله عنها) بفتح الواو والراء والقاف هي أم ورقة بنت نوفل الأنصارية،
34

وقيل بنت عبد الله بن الحرث بن عويمر كان رسول الله (ص) يزورها
ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن، وكانت تؤم أهل دارها، ولما غزا رسول الله
(ص) بدرا قالت: يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك - الحديث - وأمرها أن
تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذنا يؤذن، وكان لها غلام وجارية فدبرتهما، وفي الحديث
أن الغلام والجارية قاما إليها في الليل فغماها بقطيفة لها حتى ماتت، وذهبا فأصبح عمر فقام
في الناس فقال: من عنده من علم هذين أو من رآهما فليجئ بهما فوجدا فأمر بهما فصلبهما
وكانا أول مصلوب بالمدينة (أن النبي (ص) أمرها أن تؤم أهل دارها. رواه
أبو داود وصححه ابن خزيمة). والحديث دليل على صحة إمامة المرأة أهل دارها، وإن كان فيهم
الرجل، فإنه كان لها مؤذن وكان شيخا كما في الرواية، والظاهر أنها كانت تؤمه وغلامها
وجاريتها، وذهب إلى صحة ذلك أبو ثور والمزني والطبري. وخالف في ذلك الجماهير. وأما
إمامة الرجل النساء فقط فقد روى عبد الله بن أحمد من حديث أبي بن كعب: أنه جاء
إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله عملت الليلة عملا قال: ما هو؟ قال: نسوة
معي في الدار، قلن إنك تقرأ ولا نقرأ فصل بنا، فصليت ثمانيا والوتر، فسكت النبي (ص)
قال: فرأينا أن سكوته رضا. قال الهيثمي: في إسناده من لم يسم قال: ورواه أبو يعلى
والطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
(وعن أنس رضي الله عنه أن النبي (ص) استخلف ابن أم مكتوم
وتقدم اسمه في الأذان (يؤم الناس وهو أعمى. رواه أحمد وأبو داود) في رواية لأبي داود أنه
استخلفه مرتين وهو في الأوسط للطبراني من حديث عائشة: استخلف النبي (ص)
ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يؤم الناس. والمراد استخلافه في الصلاة وغيرها، وقد
أخرجه الطبراني بلفظ في الصلاة وغيرها وإسناده حسن وقد عدت مرات الاستخلاف
له فبلغت ثلاث عشرة مرة، ذكره في الخلاصة. والحديث دليل على صحة إمامة الأعمى من
غير كراهة في ذلك.
(ونحوه) أي حديث أنس (لابن حبان عن عائشة رضي الله عنها) تقدم
أنه أخرجه الطبراني في الأوسط.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): صلوا
على من قال لا إله إلا الله) أي صلاة الجنازة (وصلوا خلف من قال لا إله إلا
الله رواه الدارقطني بإسناد ضعيف) قال في البدر المنير: هذا الحديث من جميع طرقه
لا يثبت. وهو دليل على أنه يصلي عن من قال كلمة الشهادة وإن لم يأت بالواجبات وذهب
إلى هذا زيد بن علي وأحمد بن عيسى وذهب إليه أبو حنيفة إلا أنه استثنى قاطع الطريق
والباغي. وللشافعي أقوال في قاطع الطريق إذا صلب. والأصل أن من قال كلمة الشهادة
فله ما للمسلمين ومنه صلاة الجنازة عليه. ويدل له حديث: الذي قتل نفسه بمشاقص فقال
(ص): أما أنا فلا أصلي عليه ولم ينههم عن الصلاة عليه، ولان عموم شرعية
35

صلاة الجنازة لا يخص منه أحد من أهل كلمة الشهادة إلا بدليل. فأما الصلاة خلف من
قال لا إله إلا الله فقد قدمنا الكلام في ذلك وأنه لا دليل على اشتراط العدالة وأن
من صحت صلاته صحت إمامته.
(وعن علي رضي الله عنه قال: قال النبي (ص): إذا أتى
أحدكم الصلاة والامام على حال فليصنع كما يصنع الامام رواه الترمذي بإسناد ضعيف) أخرجه الترمذي من حديث علي ومعاذ وفيه ضعف وانقطاع وقال: لا نعلم أحدا
أسنده إلا من هذا الوجه وقد أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:
حدثنا أصحابنا. الحديث. وفيه أن معاذا قال: لا أراه على حال إلا كنت عليها. وبهذا يندفع
الانقطاع، إذا الظاهر أن الراوي لعبد الرحمن غير معاذ بل جماعة من الصحابة والانقطاع
إنما ادعي بين عبد الرحمن ومعاذ، قالوا: لان عبد الرحمن لم يسمع من معاذ وقد سمع من غيره
من الصحابة وقال هنا أصحابنا والمراد به الصحابة رضي الله عنهم. وفي الحديث دلالة
على أنه يجب على من لحق بالامام أن ينضم إليه في أي جزء كان من أجزاء الصلاة: فإذا كان
الامام قائما أو راكعا، فإنه يعتد بما أدركه معكما سلف، فإذا كان قاعدا أو ساجدا قعد
بقعود وسجد بسجوده ولا يعتد بذلك، وتقدم ما يؤيده من حديث ابن أبي شيبة. ومن وجدني
قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها. وأخرج ابن خزيمة مرفوعا
عن أبي هريرة إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركعة فقد أدرك
الصلاة وأخرج أيضا فيه مرفوعا عن أبي هريرة: ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم الامام
صلبه فقد أدركها وترجم له باب ذكر الوقت الذي يكون فيه المأموم مدركا للركعة
إذا ركع إمامه. وقوله فليصنع كما يصنع الامام ليس صريحا أنه يدخل معه بتكبيرة
الاحرام بل ينضم إليه إما بها إذا كان قائما أو راكعا فيكبر اللاحق من القيام ثم يركع أو
بالكون معه فقط ومتى قام كبر للاحرام، وغايته أنه يحتمل ذلك إلا أن شرعية تكبيرة
الاحرام حال القيام للمنفرد والامام، يقضي أن لا تجزئ إلا كذلك، وذلك أصرح من دخولها
بالاحتمال والله أعلم.
(فائدة) في الاعذار في ترك الجماعة: أخرج الشيخان عن ابن عمر عن النبي (ص)
: أنه كان يأمر المنادي فينادي صلوا في رحالكم في الليلة الباردة وفي الليلة
المطيرة في السفر. وعن جابر: خرجنا مع رسول الله (ص) في سفر فمطرنا فقال
ليصل من شاء منكم في رحله. رواه مسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وأخرجه الشيخان عن
ابن عباس: أنه قال لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل: حي
على الصلاة. قل: صلوا في بيوتكم. قال: فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: أتعجبون من ذا؟
فقد فعل ذا من هو خير مني يعني - النبي (ص) - وعند مسلم: أن ابن عباس
أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير بنحوه. وأخرج البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول
الله (ص): إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه
36

وإن أقيمت الصلاة. وأخرج أحمد ومسلم من حديث عائشة قالت: سمعت النبي (ص)
يقول: لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافع الأخبثين. وأخرج البخاري عن
أبي الدرداء قال: من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ.
باب صلاة المسافر والمريض
(عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما فرضت الصلاة) ما عدا المغرب
(ركعتين) أي حضرا وسفرا (فأقرت) أي أقر الله (صلاة السفر) بإبقائها ركعتين (وأتمت
صلاة الحضر) ما عدا المغرب، يزيد في الثلاث الصلوات ركعتين، والمراد بأتمت: زيد فيها
حتى كانت تامة بالنظر إلى صلاة السفر (متفق عليه، وللبخاري) وحده عن عائشة (ثم
هاجر) أي النبي (ص) (ففرضت أربعا) أي صارت أربعا بزيادة اثنتين
. (وأقرت صلاة السفر على الأول) أي على الفرض الأول (زاد أحمد: إلا المغرب) أي زاده
من رواية عن عائشة بعد قولها: أول ما فرضت الصلاة أي إلا المغرب فإنها فرضت ثلاثا
(فإنها) أي المغرب (وتر النهار) ففرضت وترا ثلاثا من أول الأمر (وإلا الصبح فإنها
تطول فيها القراءة). في هذا الحديث دليل على وجوب القصر في السفر لان فرضت بمعنى
وجبت، ووجوبه مذهب الهادوية والحنفية وغيرهم. وقال الشافعي وجماعة: إنه رخصة
والتمام أفضل وقالوا: فرضت بمعنى قدرت أو فرضت لمن أراد القصر. واستدلوا بقوله تعالى
: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) *. وبأنه سافر أصحاب رسول الله (ص)
معه فمنهم من يقصر ومنهم من يتم ولا يعيب بعضهم على بعض، وبأن عثمان
كان يتم، وكذلك عائشة أخرج ذلك مسلم. ورد بأن هذه أفعال صحابة لا حجة فيها، وبأنه أخرج
الطبراني في الصغير من حديث ابن عمر موقوفا صلاة السفر ركعتان نزلتا من السماء فإن
شئتم فردوهما قال الهيثمي: رجاله موثوقون، وهو توقيف إذ لا مسرح فيه للاجتهاد، وأخرج
أيضا عنه في الكبير برجال الصحيح صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر. وفي قوله
السنة دليل على رفعه كما هو معروف، قال ابن القيم في الهدى النبوي: كان يقصر (ص)
الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة
ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في السفر البتة. وفي قولها إلا المغرب دلالة على أن شرعيتها
في الأصل ثلاثا لم تتغير. وقولها إنها وتر النهار أي صلاة النهار كانت شفعا والمغرب
آخرها لوقوعها في آخر جزء من النهار فهي وتر صلاة النهار، كما أنه شرع الوتر لصلاة
الليل، والوتر محبوب إلى الله تعالى كما تقدم في الحديث إن الله وتر يحب الوتر. وقولها
: إلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة. تريد أن لا يقصر في صلاتها، فإنها ركعتان حضرا وسفرا
، لأنه شرع فيها تطويل القراءة ولذلك عبر عنها في الآية بقرآن الفجر لما كانت معظم
أركانها لطولها فيها فعبر عنها بها من إطلاق الجزء الأعظم على الكل.
(وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي (ص) كان يقصر في السفر ويتم
37

، ويصوم ويفطر) الأربعة الأفعال بالمثناة التحتية أي أنه (ص) كان يفعل
هذا وهذا (رواه الدارقطني ورواته) من طريق عطاء عن عائشة (ثقات إلا أنه معلول
والمحفوظ عن عائشة من فعلها، وقالت: إنه لا يشق علي. أخرجه البيهقي). واستنكره أحمد فإن
عروة روى عنها أنها كانت تتم وأنها تأولت كما تأول عثمان كما في الصحيح، فلو كان عندها
عن النبي (ص) رواية، لم يقل عروة إنها تأولت، وقد ثبت في الصحيحين
خلاف ذلك. وأخرج أيضا الدارقطني عن عطاء، و البيهقي عن عائشة: أنها اعتمرت معه (ص)
من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي
أتممت وقصرت. وأفطرت وصمت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علي. قال ابن القيم:
وقد روى كان يقصر وتتم الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالمثناة من فوق وكذلك
يفطر وتصوم أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل
ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله (ص) وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم
، وفي الصحيح عنها إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله (ص)
إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها مع ذلك
أنها تصلي خلاف صلاته وصلاة المسلمين معه؟ قلت: وقد أتمت عائشة بعد موته (ص)
قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول عثمان اه‍. هذا وحديث الباب
قد اختلف في اتصاله فإنه من رواية عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة قال الدارقطني: إنه
أدرك عائشة وهو مراهق قال المصنف رحمه الله: هو كما قال ففي تاريخ البخاري وغيره
ما يشهد لذلك، وقال أبو حاتم: أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها وادعى ابن أبي شيبة
والطحاوي ثبوت سماعه منها واختلف قول الدارقطني في الحديث فقال في السنن: إسناده
حسن، وقال في العلل: المرسل أشبه. هذا كلام المصنف: ونقله الشارح. وراجعت سنن
الدارقطني فرأيته ساقه وقال: إنه صحيح ثم فيه العلاء ابن زهير وقال الذهبي في الميزان:
وثقه ابن معين وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات مما لا يشبه حديث الاثبات
اه‍. فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الاثبات وبطل بهذا ادعاء ابن حزم جهالته فقد
عرف عينا وحال وقال ابن القيم بعد روايته لحديث عائشة هذا ما لفظه: وسمعت شيخ
الاسلام يقول: هذا كذب على رسول الله (ص) اه‍. يريد رواية يقصر
ويتم بالمثناة التحتية وجعل ذلك من فعله (ص)
فإنه ثبت عنه (ص) بأنه لم يتم رباعية في سفر ولا صام فيه فرضا.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): إن الله يحب
أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته رواه أحمد وصححه ابن خزيمة
وابن حبان، وفي رواية كما يحب أن تؤتى عزائمه). فسرت محبة الله برضاه وكراهته
بخلافها. وعند أهل الأصول أن الرخصة ما شرع من الاحكام لعذر والعزيمة مقابلها،
والمراد بها هنا ما سهله لعباده ووسعه عند الشدة من ترك بعض الواجبات وإباحة بعض المحرمات
38

والحديث دليل على أن فعل الرخصة أفضل من فعل العزيمة، كذا قيل وليس فيه على ذلك
دليل، بل يدل على مساواتها للعزيمة، والحديث يوافق قوله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر
ولا يريد بكم العسر) *.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا خرج
مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ - صلى ركعتين رواه مسلم). المراد من قوله إذا خرج إذا كان
قصده مسافة هذا القدر لا أن المراد أنه كان إذا أراد سفرا طويلا فلا يقصر إلا بعد هذه
المسافة. وقوله أميال أو فراسخ شك في الراوي وليس التخيير في أصل الحديث قال
الخطابي شك فيه شعبة. قيل في حد الميل هو أن ينظر إلى الشخص في أرض مستوية
فلا يدرك أهو رجل أم امرأة أو غير ذلك. وقال النووي: هو ستة آلاف ذراع، والذراع
أربعة وعشرون أصبعا معترضة متعادلة، والإصبع ست شعيرات معترضة متعادلة. وقيل
: هو اثنا عشر ألف قدم بقدم الانسان. وقيل: هو أربعة آلاف ذراع، وقيل ألف خطوة
للجمل، وقيل ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي وهو اثنان وثلاثون أصبعا، وهو ذراع الهادي عليه
الصلاة والسلام وهو الذراع العمري المعمول عليه في صنعاء وبلادها. وأما الفرسخ فهو
ثلاثة أميال وهو فارسي معرب.
واعلم أنه قد اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة على نحو عشرين قولا - حكاها
ابن المنذر -. فذهب الظاهرية إلى العمل بهذا الحديث وقالوا: مسافة القصر ثلاثة أميال،
وأجيب عليهم بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به على التحديد بالثلاثة الأميال نعم يحتج به على
التحديد بالثلاثة الفراسخ إذ الأميال داخلة فيها فيؤخذ بالأكثر وهو الاحتياط لكن قيل إنه
لم يذهب إلى التحديد بالثلاثة الفراسخ أحد. نعم يصح الاحتجاج للظاهرية بما أخرجه
سعيد بن منصور من حديث أبي سعيد. أنه كان رسول الله (ص) إذا سافر
فرسخا يقصر الصلاة وقد عرفت أن الفرسخ ثلاثة أميال: وأقل ما قيل في مسافة القصر
ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر موقوفا: أنه كان يقول إذا خرجت ميلا
قصرت الصلاة. وإسناده صحيح وقد روى هذا في البحر عن داود ويلحق بهذين القولين
قول الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والهادي وغيرهم أنه يقصر في مسافة بريد فصاعدا، مستدلين
بقوله (ص) في حديث أبي هريرة مرفوعا لا يحل لامرأة تسافر بريدا إلا ومعها
محرم أخرجه أبو داود. قالوا: فسمى مسافة البريد سفرا ولا يخفى أنه لا دليل فيه، على أنه
لا يسمى الأقل من هذه المسافة سفرا، وإنما هذا تحديد للسفر الذي يجب فيه المحرم ولا
تلازم بين مسافة القصر ومسافة وجوب المحرم لجواز التوسعة في إيجاب المحرم تخفيفا على
العباد. وقال زيد بن علي والمؤيد وغيرهما والحنفية: بل مسافته أربعة وعشرون فرسخا لما أخرجه
البخاري من حديث ابن عمر مرفوعا لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق
ثلاثة أيام إلا مع محرم قالوا: وسير الإبل في كل يوم ثمانية فراسخ. وقال الشافعي، بل
أربعة برد لحديث ابن عباس مرفوعا لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد وسيأتي
39

وأخرجه البيهقي بسند صحيح من فعل ابن عباس وابن عمر وبأنه روى البخاري من حديث
ابن عباس تعليقا بصيغة الجزم: أنه سئل أتقصر الصلاة من مكة إلى عرفة؟ قال: لا ولكن
إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف وهذه الأمكنة بين كل واحد منها وبين مكة أربعة برد
فما فوقها. والأقوال متعارضة كما سمعت والأدلة متقاومة قال في زاد المعاد: ولم يحد (ص)
لامته مسافة محددة للقصر والفطر بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب
في الأرض كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم واليومين
والثلاثة فلم يصح منها شئ البتة والله أعلم، وجواز القصر والجمع في طويل السفر
وقصيره مذهب كثير من السلف.
(وعنه) أي عن أنس (رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله (ص) من
المدينة إلى مكة فكان يصلي) أي الرباعية (ركعتين ركعتين) أي كل رباعية ركعتين (حتى
رجعنا إلى المدينة: متفق عليه واللفظ للبخاري). يحتمل أن هذا كان في سفره عام الفتح
ويحتمل أنه في حجة الوداع إلا أن فيه عند أبي داود زيادة أنهم قالوا لأنس: هل أقمتم
بها شيئا؟ قال: أقمنا عشرا ويأتي أنهم أقاموا في الفتح زيادة على خمسة عشر يوما أو
خمسة عشر وقد صرح في حديث أبي داود أن هذا أي خمسة عشر ونحوها كان عام الفتح
وفيه دلالة على أنه لم يتم مع إقامته في مكة، وهو كذلك كما يدل عليه الحديث الآتي: وفيه
دليل على أن نفس الخروج من البلد بنية السفر يقتضي القصر ولو لم يجاوز من البلد ميلا
ولا أقل، وأنه لا يزال يقصر حتى يدخل البلد ولو صلى وبيوتهما بمرأى منه.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام النبي (ص) تسعة عشر
يوما يقصر وفي لفظ) تعيين محل الإقامة وأنه (بمكة تسعة عشر يوما. رواه البخاري
وفي رواية لأبي داود) أي عن ابن عباس (سبع عشرة) بالتذكير في الرواية الأولى لأنه ذكر
مميزه يوما وهو مذكر، وبالتأنيث في رواية أبي داود لأنه حذف مميزه، وتقديره ليلة، وفي
رواية لأبي داود عنه تسعة عشر كالرواية الأولى (وفي أخرى) أي لأبي داود عن ابن عباس
(خمس عشرة).
(وله) أي لأبي داود: (عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ثماني عشرة) ولفظه عند أبي داود
شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد
صلوا أربعا فإنا قوم سفر.
(وله) أي لأبي داود. (عن جابر رضي الله عنه أقام) أي النبي (ص)
(بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة)، ورواته ثقات إلا أنه اختلف في وصله فوصله معمر عن
يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان عن جابر قال أبو داود: غير معمر
لا يسنده فأعله الدارقطني في العلل بالارسال والانقطاع. قال المصنف رحمه الله: وقد أخرجه
البيهقي بلفظ بضع عشرة.
واعلم أن أبا داود ترجم لباب هذه الأحاديث باب متى يتم المسافر ثم ساقها وفيها
40

كلام ابن عباس من أقام سبعة عشر قصر ومن أقام أكثر أتم. وقد اختلف العلماء
في قدر مد الإقامة التي إذا عزم المسافر على إقامتها أتم فيها الصلاة على أقوال. فقال
ابن عباس وإليه ذهب الهادوية: إن أقل مدة الإقامة عشرة أيام لقول علي عليه السلام: إذا
أقمت عشرا فأتم الصلاة أخرجه المؤيد في شرح التجريد من طرق فيها ضرار بن صرد
قال المصنف في التقريب: إنه غير ثقة. قالوا: وهو توقيف. وقالت الحنفية: خمسة عشر
يوما مستدلين بإحدى روايات ابن عباس وبقوله وقول ابن عمر: إذا قدمت بلدة وأنت
مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة. وذهبت المالكية والشافعية إلى
أن أقلها أربعة أيام وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم الدخول والخروج، واستدلوا
بمنعه (ص) المهاجرين بعد مضي النسك أن يزيدوا عن ثلاثة أيام في مكة فدل
على أنه بالأربعة الأيام يصير مقيما، وثم أقوال أخر لا دليل عليها. وهذا كله فيمن دخل البلد
عازما على الإقامة فيها. وأما من تردد في الإقامة ولم يعزم ففيه خلاف أيضا. فقالت الهادوية
: يقصر إلى شهر لقول علي عليه السلام: إنه من يقول: اليوم أخرج، غدا أخرج. يقصر الصلاة
شهرا. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو قول للشافعي وقال به الامام يحيى إلى أنه يقصر أبدا
إذ الأصل السفر، ولفعل ابن عمر فإنه أقام بآذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وروي عن
أنس بن مالك أنه أقام بنيسابور سنة أو سنتين يقصر الصلاة، وعن جماعة من الصحابة أنهم
أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة. ومنهم من قدر ذلك بخمسة عشر وسبعة عشر
وثمانية عشر على حسب ما وردت الروايات في مدة إقامته (ص) في مكة وتبوك
وأنه بعد ما يجاوز مدة ما روي عنه (ص) يتم صلاته. ولا يخفى أنه لا دليل
في المدة التي قصر فيها على نفي القصر فيما زاد عليها، وإذا لم يقم دليل على تقدير المدة فالأقرب
أنه لا يزال يقصر كما فعله الصحابة، لأنه لا يسمى بالبقاء مع التردد كل يوم في الإقامة والرحيل
مقيما وإن طالت المدة، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في السنن عن ابن عباس: أنه (ص)
أقام بتبوك أربعين يوما يقصر الصلاة. ثم قال: تفرد به الحسين بن عمارة وهو
غير محتج به.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا ارتحل
في سفره قبل أن تزيغ الشمس) أي قبل الزوال (أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل
فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر) أي وحده ولا يضم إليه
العصر (ثم ركب. متفق عليه). الحديث فيه دليل على جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر
تأخيرا، ودلالة على أنه لا يجمع بينهما تقديما، لقوله صلى الظهر إذ لو جاز مع التقديم
لضم إليه العصر، وهذا الفعل منه (ص) يخصص أحاديث التوقيت التي مضت
. وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الهادوية وهو قول ابن عباس وابن عمر وجماعة من
الصحابة، وروي عن مالك وأحمد والشافعي إلى جواز الجمع للمسافر تقديما وتأخيرا عملا بهذا
الحديث في التأخير وبما يأتي في التقديم. وعن الأوزاعي أنه يجوز للمسافر جمع التأخير فقط
41

عملا بهذا الحديث، وهو مروي عن مالك وأحمد بن حنبل واختاره أبو محمد بن حزم
. وذهب النخعي والحسن وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الجمع لا تقديما ولا تأخيرا للمسافر
وتأولوا ما ورد من جمعه (ص) بأنه جمع صوري وهو أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها
وقدم العصر في أول وقتها ومثله العشاء. ورد عليهم بأنه وإن تمشى لهم هذا في جمع التأخير
لم يتم لهم في جمع التقديم الذي أفاد قوله (وفي رواية الحاكم في الأربعين بإسناد الصحيح صلى
الظهر والعصر) أي إذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الفريضتين معا (ثم ركب) فإنها أفادت ثبوت
جمع التقديم من فعله (ص) ولا يتصور فيه الجمع الصوري (و) مثله الرواية
التي (لأبي نعيم في مستخرج مسلم) أي في مستخرجه على صحيح مسلم (كان) أي النبي (ص)
(إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل) فقد
أفادت رواية الحاكم وأبي نعيم ثبوت جمع التقديم أيضا وهما روايتان صحيحتان كما قال المصنف
إلا أنه قال ابن القيم إنه اختلف في رواية الحاكم، فمنهم من صححها ومنهم من حسنها ومنهم
من قدح فيها وجعلها موضوعة وهو الحاكم فإنه حكم بوضعها، ثم ذكر كلام الحاكم في بيان وضع
الحديث ثم رده ابن القيم واختار أنه ليس بموضوع، وسكوت المصنف هنا عليه وجزمه بأنه
بإسناد صحيح يدل على رده لكلام الحاكم ويؤيد صحته قوله:
(وعن معاذ رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله (ص)
في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا رواه مسلم). إلا أن
اللفظ محتمل لجمع التأخير لا غير أوله ولجمع التقديم، ولكن قد رواه الترمذي بلفظ كان
إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس آخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا
وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعا فهو
كالتفصيل لمجمل رواية مسلم إلا أنه قال الترمذي بعد اخراجه: إنه حديث حسن غريب
تفرد به قتيبة لا نعرف أحدا رواه عن الليث غيره قال: والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ
من حديث ابن الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ: أن النبي (ص) جمع في غزوة
تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. اه‍. إذا عرفت هذا فجمع التقديم في ثبوت
روايته مقال إلا رواية المستخرج على صحيح مسلم فإنه لا مقال فيها. وقد ذهب ابن حزم
إلى أنه يجوز جمع التأخير لثبوت الرواية به لا جمع التقديم، وهو قول النخعي ورواية عن مالك
وأحمد. ثم إنه قد اختلف في الأفضل للمسافر هل الجمع أو التوقيت فقالت الشافعية:
ترك الجمع أفضل. وقال مالك: إنه مكروه، وقيل: يختص بمن له عذر.
واعلم أنه كما قال ابن القيم في الهدي النبوي: لم يكن صلى الله عليه وسلم يجمع راتبا في سفره
كما يفعله كثير من الناس، ولا يجمع حال نزوله أيضا، وإنما كان يجمع إذا جد به السير
، وإذا سار عقيب الصلاة كما في أحاديث تبوك، وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل ذلك
عنه إلا بعرفة ومزدلفة لأجل اتصال الوقوف، كما قال الشافعي وشيخنا وجعله أبو حنيفة من
تمام النسك وأنه سببه، وقال أحمد ومالك والشافعي: إن سبب الجمع بعرفة ومزدلفة السفر.
42

وهذا كله في الجمع في السفر. وأما الجمع في الحضر فقال الشارح بعد ذكر أدلة القائلين
بجوازه فيه: إنه ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز الجمع في الحضر لما تقدم من الأحاديث
المبينة لأوقات الصلوات، ولما تواتر من محافظة النبي ص) على أوقاتها حتى
قال ابن مسعود: ما رأيت النبي (ص) صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين
المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها. وأما حديث ابن عباس عند مسلم
: أنه جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس
: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته فلا يصح الاحتجاج به لأنه غير معين لجمع
التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم وتعيين واحد منها تحكم فوجب العدول عنه إلى ما هو
واجب من البقاء على العموم في حديث الأوقات للمعذور وغيره وتخصيص المسافر لثبوت
المخصص وهذا هو الجواب الحاسم. وأما ما يروى من الآثار عن الصحابة والتابعين فغير
حجة إذ للاجتهاد في ذلك مسرح، وقد أول بعضهم حديث ابن عباس بالجمع الصوري
واستحسنه القرطبي ورجحه وجزم به ابن الماجشون والطحاوي وقواه ابن سيد الناس
لما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار - راوي الحديث - عن أبي الشعثاء قال: قلت: يا أبا
الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال: وأنا أظنه. قال
ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدرى بالمراد منه من غيره، وإن لم يجزم أبو الشعثاء بذلك.
وأقول إنما هو ظن من الراوي والذي يقال فيه: أدرى بما روى إنما يجري في تفسيره للفظ
مثلا. على أن في الدعوى نظرا، فإن قوله (ص): فرب حامل فقه إلى من
هو أفقه منه يرد عمومها، نعم يتعين هذا التأويل فإنه صرح به النسائي في أصل حديث
ابن عباس ولفظه: صليت مع رسول الله (ص) بالمدينة ثمانيا جمعا وسبعا جمعا
أخر الظهر وعجل العصر وآخر المغرب وعجل العشاء. والعجب من النووي كيف
ضعف هذا التأويل وغفل عن متن الحديث المروي، والمطلق في رواية يحمل على المقيد إذا
كانا في قصة واحدة. كما في هذا: والقول بأن قوله: أراد أن لا يحرج أمته يضعف هذا الجمع
الصوري لوجود الحرج فيه مدفوع بأن ذلك أيسر من التوقيت إذ يكفي للصلاتين تأهب
واحد وقصد واحد إلى المسجد ووضوء واحد بحسب الأغلب بخلاف الوقتين فالحرج في هذا
الجمع لا شك أخف. وأما قياس الحاضر على المسافر كما قيل فوهم، لان العلة في الأصل هي
السفر، وهو غير موجود في الفرع وإلا لزم مثله في القصر والفطر اه‍. قلت: وهو كلام
رصين وقد كنا ذكرنا ما يلاقيه في رسالتنا اليواقيت في المواقيت قبل الوقوف على كلام
الشارح - رحمه الله وجزاه خيرا - ثم قال: واعلم أن جمع التقديم فيه خطر عظيم وهو كمن صلى
صلاة قبل دخول وقتها فيكون حال الفاعل كما قال تعالى: * (هم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا) * الآية من ابتدائها وهذه الصلاة المقدمة لا دلالة عليها بمنطوق ولا مفهوم ولا عموم
ولا خصوص.
43

(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان رواه الدارقطني
بإسناد ضعيف)، والصحيح أنه موقوف، كذا أخرجه ابن خزيمة. فإنه من رواية عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك، نسبه الثوري إلى
الكاذب، وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، وهو منقطع أيضا لأنه لم يسمع من أبيه
(والصحيح أنه موقوف كذا أخرجه ابن خزيمة) أي موقوفا على ابن عباس وإسناده صحيح
ولكن للاجتهاد فيه مسرح فيحتمل أنه من رأيه وتقدم أنه لم يثبت في التحديد حديث مرفوع.
(وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): خير أمتي الذين
إذا أساءوا استغفروا وإذا أحسنوا استبشروا وإذا سافروا قصروا وأفطروا. أخرجه الطبراني في الأوسط
بإسناد ضعيف وهو في مرسل سعيد بن المسيب عند البيهقي مختصرا. الحديث دليل على
أن القصر والفطر أفضل للمسافر من خلافهما. وقالت الشافعية: ترك الجمع أفضل فقياس
هذا أن يقولوا التمام أفضل وقد صرحوا به أيضا، وكأنهم لم يقولوا بهذا الحديث لضعفه.
واعلم أن المصنف رحمه الله أعاد هنا حديث عمران بن حصين وحديث جابر وهما قوله:
(وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت بي بواسير فسألت النبي
(ص) عن الصلاة) هذا لم يذكره المصنف فيما سلف في هذه الرواية (فقال:
صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب رواه البخاري) هو
كما قال ولم ينسبه فيما تقدم إلى أحد وقد بينا من غير البخاري وما فيه من الزيادة.
(وعن جابر رضي الله عنه قال: عاد النبي (ص) مريضا فرآه
يصلي على وسادة فرمى بها وقال: صل على الأرض إن استطعت، وإلا فأوم إيماء
واجعل سجودك أخفض من ركوعك رواه البيهقي وصحح أبو حاتم وقفه). زاد
فيما مضى أنه رواه البيهقي بإسناد قوي وقد تقدم في آخر باب صفة الصلاة قبيل باب
سجود السهو بلفظهما وشرحناهما هناك فتركنا شرحهما هنا لذلك، ثم ذكر هنا حديث عائشة
وقد مر أيضا في الحديث الرابع والثلاثين في باب صفة الصلاة بلفظه وشرحه الشارح. وقال
هناك: صححه ابن خزيمة، وهنا قال: صححه الحاكم وهو:
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي (ص) يصلي متربعا
رواه النسائي وصححه الحاكم). وهو من أحاديث صلاة المريض لا من أحاديث صلاة المسافر
وقد أتى به فيما سلف. والحديث دليل على صفة قعود المصلي إذا كان له عذر عن القيام،
وفيه الخلاف الذي تقدم.
باب الجمعة
الجمعة بضم الميم وفيها الاسكان والفتح مثل همزة ولمزة، وكانت تسمى في الجاهلية
العروبة أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة وقال: حسن صحيح أن النبي (ص)
44

قال: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم وفيه دخل الجنة وفيه أخرج
منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة.
(عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله (ص) يقول
على أعواد منبره) أي منبره الذي من عود، لا على الذي كان من الطين، ولا على الجذع الذي كان
يستند إليه، وهذا المنبر عمل له (ص) سنة سبع وقيل سنة ثمان، عمله له غلام
امرأة من الأنصار كان نجارا واسمه على أصح الأقوال ميمون، كان على ثلاث درج ولم يزل
عليه حتى زاده مروان في زمن معاوية ست درج من أسفله، وله قصة في زيادته، وهي أن
معاوية كتب إليه أن يحمله إلى دمشق فأمر به فقلع فأظلمت المدينة فخرج مروان
فخطب فقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، وقال: إنما زدت عليه لما كثر الناس
ولم يزل كذلك حتى احترق المسجد النبوي سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق (لينتهين
أقوام عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال المهملة وكسر العين المهملة أي تركهم
(الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم) الختم الاستيثاق من الشئ بضرب الخاتم
عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه، ولا يطلع عليه، شبهت القلوب بسبب إعراضهم عن
الحق واستكبارهم عن قبوله وعد نفوذ الحق إليها بالأشياء التي استوثق عليها بالختم فلا ينفذ
إلى باطنها شئ، وهذه عقوبة على عدم الامتثال لأمر الله، وعدم إتيان الجمعة من باب تيسير
العسري (ثم ليكونن من الغافلين رواه مسلم) بعد ختمه تعالى عن قلوبهم فيغفلون
عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال وعن ترك ما يضرهم منها. وهذا الحديث من أعظم
الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها. وفيه إخبار بأن تركها من أعظم أسباب الخذلان
بالكلية. والاجماع قائم على وجوبها على الاطلاق والأكثر أنها فرض عين وقال في معالم
السنن: إنها فرض كفاية عند الفقهاء.
(وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله (ص) يوم
الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به. متفق عليه واللفظ للبخاري في لفظ
لمسلم) أي من رواية سلمة (كنا نجمع معه) أي النبي (ص) (إذا زالت الشمس
ثم نرجع نتتبع الفئ). الحديث دليل على المبادرة بصلاة الجمعة عند أول زوال الشمس، والنفي
في قوله وليس للحيطان ظل متوجه إلى القيد وهو قوله يستظل به لا نفي لأصل الظل
حتى يكون دليلا على أنه صلاها قبل زوال الشمس، وهذا التأويل معتبر عند الجمهور
القائلين بأن وقت الجمعة هو وقت الظهر. وذهب أحمد وإسحاق إلى صحة صلاة الجمعة قبل
الزوال. واختلف أصحاب أحمد فقال بعضهم: وقتها وقت صلاة العيد، وقيل الساعة السادسة
. وأجاز مالك الخطبة قبل الزوال دون الصلاة وحجتهم ظاهر الحديث وما بعده وأصرح منه
ما أخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر: أن النبي (ص) كان يصلي الجمعة
ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس يعني النواضح، وأخرج الدارقطني عن
عبد الله بن سيدان قال: شهدت مع أبي بكر الجمعة فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار
45

ثم شهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته
وخطبته إلى أن أقول زال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره. ورواه أحمد بن حنبل
في رواية ابنه عبد الله قال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية: أنهم
صلوا قبل الزوال. ودلالة هذا على مذهب أحمد واضحة، والتأويل الذي سبق من الجمهور
يدفعه أن صلاة النبي (ص) مع قراءته سورة الجمعة والمنافقون وخطبته لو كانت
بعد الزوال لما ذهبوا من صلاة الجمعة إلا وللحيطان ظل يستظل به كذا في الشرح
. وحققنا في حواشي ضوء النهار أن وقتها الزوال، ويدل له أيضا قوله:
(وعن سهل بن سعد رضي الله عنه) هو أبو العباس سهل بن سعد بن مالك الخزرجي الساعدي
الأنصاري قيل كان اسمه حزنا فسماه (ص) سهلا مات النبي (ص)
وله خمس عشرة سنة ومات بالمدينة سنة إحدى وسبعين وهو آخر من مات بالمدينة
من الصحابة قال: ما كنا نقيل) من القيلولة (ولا نتغدى إلا بعد الجمعة متفق عليه واللفظ
لمسلم. وفي رواية في عهد رسول الله (ص)). في النهاية المقيل والقيلولة
الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم. فالحديث دليل على ما دل عليه الحديث الأول
وهو من أدلة أحمد وإنما أتى المصنف رحمه الله بلفظ رواية على عهد رسول الله (ص)
لئلا يقول قائل إنه لم يصرح الراوي في الرواية الأولى أن ذلك كان من فعله
(ص) وتقريره فدفعه بالرواية التي أثبتت أن ذلك كان على عهده، ومعلوم
أنه لا يصلي الجمعة في عهده في المدينة سواه، فهو إخبار عن صلاته وليس فيه دليل على
الصلاة قبل الزوال، لأنهم في المدينة ومكة لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد صلاة الظهر كما قال
تعالى: * (وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) * نعم كان (ص) يسارع بصلاة الجمعة
في أول وقت الزوال بخلاف الظهر فقد كان يؤخره بعده حتى يجتمع الناس.
(وعن جابر رضي الله عنه أن النبي (ص) كان يخطب قائما فجاءت
عير) بكسر العين المهملة وسكون المثناة التحتية فراء قال في النهاية: العير الإبل بأحمالها
(من الشام فانفتل) بالنون الساكنة وفتح الفاء فمثناة فوقية أي انصرف (الناس إليها حتى
لم يبق) أي في المسجد - (إلا اثنا عشر رجلا. رواه مسلم). الحديث دليل على أنه يشرع
في الخطبة أن يخطب قائما. وأنه لا يشترط لها عدد معين كما قيل إنه يشترط لها أربعون رجلا
ولا ما قيل إن أقل ما ينعقد به اثنا عشر رجلا كما روي عن مالك لأنه لا دليل أنها لا تنعقد
بأقل. وهذه القصة هي التي نزلت فيها الآية: * (وإذا رأوا تجارة) * الآية: وقال القاضي عياض:
إنه روى أبو داود في مراسيله: أن خطبته (ص) التي انفضوا عنها إنما
كانت بعد صلاة الجمعة وظنوا أنه لا شئ عليهم في الانفضاض عن الخطبة وأنه قبل هذه
القصة كان يصلي قبل الخطبة. قال القاضي: وهذا أشبه بحال أصحابه والمظنون بهم ما كانوا
يدعون الصلاة مع النبي (ص) ولكنهم ظنوا جواز الانصراف بعد انقضاء الصلاة.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): من
46

أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها) أي من سائر الصلوات (فليضف
إليها أخرى) في الجمعة أو غيرها يضيف إليها ما بقي من ركعة وأكثر (وقد تمت صلاته
رواه النسائي وابن ماجة والدار قطني واللفظ له وإسناده صحيح لكن قوى أبو حاتم إرساله)
الحديث أخرجوه من حديث بقية حدثني يونس بن يزيد عن سالم عن أبيه - الحديث - قال
أبو داود والدارقطني: تفرد به بقية عن يونس، وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: هذا
خطأ في المتن والاسناد وإنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا من أدرك
من الصلاة ركعة فقد أدركها وأما قوله: من صلاة الجمعة فوهم وقد أخرج الحديث من
ثلاثة عشر طريقا عن أبي هريرة ومن ثلاثة طرق عن ابن عمر وفي جميعها مقال. وفي
الحديث دلالة على أن الجمعة تصح للاحق وإن لم يدرك من الخطبة شيئا وإلى هذا ذهب
زيد بن علو المؤيد والشافعي وأبو حنيفة. وذهبت الهادوية إلى أن إدراك شئ من الخطبة
شرط تصح الجمعة بدونه. وهذا الحديث حجة عليهم وإن كان فيه مقال لكن كثرة
طرقه يقوي بعضها بعضا مع أنه أخرجه الحاكم من ثلاث طرق أحدها من حديث أبي هريرة
وقال فيها: على شرط الشيخين، ثم الأصل عدم الشرط حتى يقوم عليه دليل.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما: أن النبي (ص) كان يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم
فيخطب قائما، فمن أنبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب أخرجه مسلم). الحديث
دليل أنه يشرع القيام حال الخطبتين والفصل بينهما بالجلوس. وقد اختلف العلماء هل هو
واجب أو سنة فقال أبو حنيفة: إن القيام والقعود سنة. وذهب مالك إلى أن القيام واجب
فإن تركه أساء وصحت الخطبة. وذهب الشافعي وغيره إلى أن الخطبة لا تكون إلا من قيام لمن
أطاقه واحتجوا بمواظبته (ص) على ذلك حتى قال جابر: فمن أنبأك إلى آخره
. وبما روي أن كعب بن عجرة لما دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعدا
فأنكر عليه وتلا عليه (وتركوك قائما) وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قط إماما يؤم
المسلمين يخطب وهو جالس يقول ذلك مرتين. وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس: خطب
رسول الله (ص) قائما وأبو بكر وعمر وعثمان وأول من جلس على المنبر معاوية
وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه ولحمه
. وهذا إبانة للعذر فإنه مع العذر في حكم المتفق على جواز القعود في الخطبة. وأما حديث
أبي سعيد الذي أخرجه البخاري: أن النبي (ص) جلس ذات يوم على المنبر
وجلسنا حوله. فقد أجاب عنه الشافعي أنه كان في غير جمعة. وهذه الأدلة تقضي بشرعية
القيام والقعود المذكورين في الخطبة. وأما الوجوب وكونه شرطا في صحتها فلا دلالة عليه
في اللفظ إلا أنه قد ينضم إليه دليل وجوب التأسي به (ص) وقد قال: صلوا
كما رأيتموني أصلي. وفعله في الجمعة في الخطبتين وتقديمها على الصلاة مبين لآية الجمعة
فما واظب عليه فهو واجب وما لم يواظب عليه كان في الترك دليل على عدم الوجوب فإن
47

صح أن قعوده في حديث أبي سعيد كان في خطبة الجمعة كان الأقوى القول الأول وإن لم
يثبت ذلك فالقول الثاني.
فائدة تسليم الخطيب على المنبر على الناس فيه حديث أخرجه الأثرم بسنده عن الشعبي
: كان رسول الله (ص) إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال
السلام عليكم. الحديث، وهو مرسل. وأخرج ابن عدي: أنه (ص) كان إذا دنا
من منبره سلم على من عند المنبر ثم صعد فإذا استقبل الناس بوجهه سلم ثم قعد. إلا أنه
ضعفه ابن عدي بعيسى بن عبد الله الأنصاري وضعفه به ابن حبان.
(وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله (ص)
إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم
ومساكم ويقول: أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى
محمد) قال النووي: ضبطناه في مسلم بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وسكون
الدال فيهما وفسره الهروي على رواية الفتح بالطريق أي أحسن الطريق طريق محمد.
وعلى رواية الضم معناه الدلالة والارسال وهو الذي يضاف إلى الرسل وإلى القرآن قال
تعالى: * (وإنك لتهدي) * (الشورى: 52) * (إن هذا القران يهدي) * (الاسراء: 9) وقد يضاف إليه تعالى وهو بمعنى اللطف
والتوفيق والعصمة * (إنك لا تهدي من أحببت) * (القصص: 56) الآية (وشر الأمور محدثاتها) المراد بالمحدثات
ما لم يكن ثابتا بشرع من الله ولا من رسوله (وكل بدعة ضلالة) البدعة لغة: ما عمل
على غير مثال سابق، والمراد بها هنا: ما عمل من دون أن يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة
(رواه مسلم). وقد قسم العلماء البدعة على خمسة أقسام: واجبة - كحفظ العلوم بالتدوين
والرد على الملاحدة بإقامة الأدلة، ومندوبة - كبناء المدارس، ومباحة - كالتوسعة في ألوان
الطعام وفاخر الثياب، ومحرمة ومكروهة وهما ظاهران، فقوله: كل بدعة ضلالة عام
مخصوص. وفي الحديث دليل على أنه يستحب للخطيب أن يرفع بالخطبة صوته ويجزل كلامه
ويأتي بجوامع الكلم من الترغيب والترهيب ويأتي بقوله: أما بعد وقد جمع البخاري بابا
في استحبابها وذكر فيه جملة من الأحاديث وقد جمع الروايات التي فيها ذكر أما بعد
لبعض المحدثين وأخرجها على اثنين وثلاثين صحابيا وظاهره أنه كان صلى الله عليه وسلم
يلازمها في جميع خطبه وذلك بعد حمد الله والثناء والتشهد كما تفيده الرواية المشار إليها
بقوله: وفي رواية له أي لمسلم عن جابر بن عبد الله كانت خطبة النبي (ص)
48

يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته حذف المقول اتكالا
على ما تقدم وهو قوله: أما بعد فإن خير الحديث إلى آخر ما تقدم. ولم يذكر الشهادة
اختصارا لثبوتها في غير هذه الرواية فقد ثبت أنه (ص) قال: كل خطبة ليس
فيها تشهد فهي كاليد الجذماء وفي دلائل النبوة للبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا حكاية
عن الله عز وجل وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي
وكان يذكر في تشهد نفسه باسمه العلم (وفي رواية له) أي لمسلم عن جابر (من يهده الله
فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له) أي أنه يأتي بهذه الألفاظ بعد أما بعد
(وللنسائي) أي عن جابر (وكل ضلالة في النار) أي بعد قوله كل بدعة ضلالة
كما هو في النسائي واختصره المصنف والمراد صاحبها. وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد
الاسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، كما أمر الداخل
وهو يخطب أن يصلي ركعتين، ويذكر معالم الشرائع في الخطبة، والجنة والنار والمعاد ويأمر
بتقوى الله ويحذر من غضبه ويرغب في موجبات رضاه. وقد ورد قراءة آية في حديث مسلم
: كان لرسول الله (ص) خطبتان يجلس بينهما يقرأ القران ويذكر الناس ويحذر
وظاهره محافظته (ص) على ما ذكر في الخطبة، ووجوب ذلك لان فعله بيان
لما أجمل في آية الجمعة، وقد قال (ص): صلوا كما رأيتموني أصلي وقد
ذهب إلى هذا الشافعي. وقالت الهادوية: لا يجب في الخطبة إلا الحمد والصلاة على النبي
(ص) في الخطبتين جميعا. وقال أبو حنيفة: يكفي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا
الله والله أكبر. وقال مالك: لا يجزئ إلا ما سمي خطبة.
(وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (ص) يقول:
إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون
مشددة أي علامة (من فقهه) أي مما يعرف به فقه الرجل، وكل شئ دل على شئ فهو مئنة له (رواه مسلم). وإنما كان قصر الخطبة علامة على فقه الرجل لا الفقيه هو
المطلع على حقائق المعاني وجوامع الألفاظ فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة ولذلك
كان من تمام هذا الحديث فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا. فشبه
الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق
الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة ووقوعه في مجازه من الترغيب والترهيب ونحو ذلك، ولا يقدر
عليه إلا من فقه في المعاني وتناسق دلالتها فإنه يتمكن من الاتيان بجوامع الكلم، وكان ذلك
من خصائصه (ص) فإنه أوتي جوامع الكلم. والمراد من طول الصلاة: الطول
الذي لا يدخل فاعله تحت النهي. وقد كان (ص) يصلي الجمعة بالجمعة
والمنافقون وذلك طول بالنسبة إلى خطبته وليس بالتطويل المنهي عنه.
(وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنهما) هي الأنصارية روى
49

عنها حبيب بن عبد الرحمن بن يساف، قال أحمد بن زهير: سمعت أبي يقول: أم هشام بنت
حارثة بايعت بيعة الرضوان ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب ولم يذكر اسمها، وذكرها
المصنف في التقريب ولم يسمعها أيضا وإنما قال: صحابية مشهورة (قالت: ما أخذت ق
والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا
خطب الناس: رواه مسلم). فيه دليل على مشروعية قراءة سورة ق في الخطبة كل جمعة. قال
العلماء: وسبب اختياره (ص) هذه السورة لما اشتملت عليه من ذكر البعث
والموت والمواعظ الشديدة والزواجر الأكيدة. وفيه دلالة لقراءة شئ من القرآن في الخطبة كما
سبق وقد قام الاجماع على عدم وجوب قراءة السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة،
وكانت محافظته على هذه السورة اختيارا منه لما هو الأحسن في الوعظ والتذكير. وفيه دلالة
على ترديد الوعظ في الخطبة.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
من تكلم يوم الجمعة والامام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا
والذي يقول له: أنصت ليست له جمعة رواه أحمد بإسناد لا بأس به) وله شاهد
قوي في جامع حماد مرسل (وهو) أي حديث ابن عباس (يفسر) الحديث.
(عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين مرفوعا إذا قلت لصاحبك أنصت يوم
الجمعة والامام يخطب فقد لغوت) في قوله يوم الجمعة دلالة على أن خطبة غير
الجمعة ليست مثلها ينهى عن الكلام حالها. وقوله والامام يخطب دليل على أنه يختص
النهي بحال الخطبة، وفيه رد على من قال إنه ينهى من حال خروج الامام.
وأما الكلام عند جلوسه بين الخطبتين فهو غير خاطب فلا ينهى عن الكلام حاله. وقيل هو
وقت يسير يشبه بالسكوت للتنفس فهو في حكم الخاطب. وإنما شبه بالحمار يحمل أسفارا
لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع وقد تكلف المشقة وأتعب نفسه في حضور الجمعة، والمشبه به
كذلك فاته الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه. وفي قوله ليست له جمعة
دليل على أنه لا صلاة له فإن المراد بالجمعة الصلاة إلا أنها تجزئة إجماعا فلا بد من تأويل
هذا بأنه نفي للفضيلة التي يحوزها من أنصت وهو كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه
أبو داود وابن خزيمة بلفظ من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا قال ابن وهب أحد
رواته: معناه أجزأته الصلاة وحرم فضيلة الجماعة. وقد احتج بالحديث من قال بحرمة
الكلام حال الخطبة وهم الهادوية وأبو حنيفة ومالك ورواية عن الشافعي فإن تشبيهه بالمشبه
به المستنكر وملاحظة وجه الشبه يدل على قبح ذلك، وكذلك نسبته إلى فوات الفضيلة
الحاصلة بالجمعة، وما ذاك إلا ما لحق المتكلم من الوزر الذي يقال الفضيلة فيصير محبطا لها:
وذهب القاسم وابنا الهادي وأحد قولي أحمد والشافعي إلى التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن
لا يسمعها. ونقل ابن عبد البر الاجماع على وجوب الانصات على من يسمع خطبة الجمعة
50

إلا عن قليل من التابعين. وقوله: إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت تأكيد في النهي
عن الكلام لأنه إذا عد من اللغو وهو أمر بمعروف فأولى غيره، فعلى هذا يجب عليه أن
أيأمره بالإشارة إن أمكن ذلك. والمراد بالانصات قيل: من مكالمة الناس فيجوز على هذا
الذكر وقراءة القرآن، والأظهر أن النهي شامل للجميع، ومن فرق فعليه الدليل، فمثل جواب
التحية والصلاة على النبي (ص) عند ذكره عند من يقول بوجوبها قد تعارض
فيه عموم النهي هنا وعموم الوجوب فيهما، وتخصيص أحدهما لعموم الآخر تحكم من دون
مرجح. واختلفوا في معنى قوله لغوت والأقرب ما قاله ابن المنير: أن اللغو ما لا يحصل، وقيل
بطلت فضيلة جمعتك وصارت ظهرا.
(وعن جابر رضي الله عنه قال: دخل رجل يوم الجمعة والنبي (ص)
يخطب فقال: صليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين متفق عليه) الرجل
هو سليك الغطفاني سماه في رواية مسلم، وقيل غيره وحذفت همزة الاستفهام من قوله
صليت وأصله أصليت وفي مسلم قال له: أصليت وقد ثبت في بعض طرق البخاري.
وسليك بضم السين المهملة بعد اللام مثناة تحتية مصغر. الغطفاني بفتح الغين المعجمة فطاء
مهملة بعدها فاء. وقوله: صل ركعتين وعند البخاري وصفهما بخفيفتين، وعند مسلم
وتجوز فيهما وبوب البخاري لذلك بقوله باب من جاء والامام يخطب يصلي ركعتين
خفيفتين. وفي الحديث دليل أن تحية المسجد تصلى حال الخطبة، وقد ذهب إلى هذا
طائفة من الآل والفقهاء والمحدثين، ويخفف ليفرغ لسماع الخطبة. وذهب جماعة من السلف
والخلف إلى عدم شرعيتهما حال الخطبة، والحديث هذا حجة عليهم، وقد تأولوه بأحد عشر
تأويلا كلها مردودة سردها المصنف في فتح الباري بردودها ونقل ذلك الشارح رحمه الله
في الشرح، واستدلوا بقوله تعالى: * (فاستمعوا له وأنصتوا) * ولا دليل في ذلك
، لان هذا خاص وذلك عام، ولان الخطبة ليست قرآنا وبأنه صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن يقول لصاحبه
والخطيب يخطب أنصت وهو أمر بمعروف وجوابه: أن هذا أمر الشارع وهذا أمر الشارع
، فلا تعارض بين أمريه، بل القاعد ينصت والداخل يركع التحية وباطباق أهل المدينة خلفا عن
سلف، على منع النافلة حال الخطبة. وهذا الدليل للمالكية وجوابه أنه ليس إجماعهم حجة
ولو أجمعوا كما عرف في الأصول على أنه لا يتم دعوى إجماعهم، فقد أخرج الترمذي وابن خزيمة
وصححه أن أبا سعيد أتى ومروان يخطب فصلاهما فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى
صلاهما ثم قال: ما كنت لادعهما بعد أن سمعت رسول الله (ص) يأمر بهما.
وأما حديث ابن عمر عند الطبراني في الكبير مرفوعا بلفظ: إذا دخل أ حدكم المسجد والامام
يخطب فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الامام ففيه أيوب بن نهيك متروك وضعفه جماعة
وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وقد أخذ من الحديث أنه يجوز للخطيب أن يقطع
الخطبة باليسير من الكلام، وأجيب عنه بأنه هذا الذي صدر منه (ص) من
جملة الأوامر التي شرعت لها الخطبة، وأمره (ص) بها دليل على وجوبها. وإليه ذهب
51

البعض. وأما من دخل الحرم في غير حال الخطبة فإنه يشرع له الطواف فإنه تحته أو لأنه
في الأغلب لا يعقد إلا بعد صلاة ركعتي الطواف. وأما صلاتها قبل صلاة العيد فإن كانت
صلاة العيد في جبانة غير مسبلة فلا يشرع لها التحية مطلقا وإن كانت في مسجد فتشرع.
وأما كونه (ص) لما خرج إلى صلاته لم يصل قبلها شيئا فذلك لأنه حال قدومه
اشتغل بالدخول في صلاة العيد ولأنه كان يصليها في الجبانة ولم يصلها إلا مرة واحدة في مسجده
(ص) فلا دليل فيه على أنها لا تشرع لغيره ولو كانت العيد في مسجد.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) كان يقرأ في صلاة
الجمعة سورة الجمعة) في الأولى (والمنافقين) في الثانية أي بعد الفاتحة فيها لما علم من
غيره (رواه مسلم). وإنما خصهما بهما لما في سورة الجمعة من الحث على حضورها والسعي
إليها وبيان فضيلة بعثته (ص) وذكر الأربع الحكم في بعثته من أنه يتلوا عليهم
آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة والحث على ذكر الله، ولما في صورة المنافقين من
توبيخ أهل النفاق وحثهم على التوبة ودعائهم إلى طلب الاستغفار من رسول الله (ص)
لان المنافقين يكثر اجتماعهم في صلاتها، ولما في آخرها من الوعظ والحث
على الصدقة.
(وله) أي لمسلم (عن النعمان بن بشير رضي الله عنه كان رسول الله (ص) يقرأ) أي رسول الله
(ص) (في العيدين) الفطر والأضحى أي في صلاتهما (وفي الجمعة) أي
في صلاتها (بسبح اسم ربك الأعلى) أي في الركعة الأولى بعد الفاتحة (* (وهل أتاك حديث
الغاشية) *) أي في الثانية بعدها وكأنه كان يقرأ ما ذكره ابن عباس تارة وما ذكره النعمان
تارة، وفي سور سبح والغاشية من التذكير بأحوال الآخرة والوعد والوعيد ما يناسب قراءتهما
في تلك الصلاة الجامعة، وقد ورد في العيدين أنه كان يقرأ بقاف واقتربت.
(وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: صلى النبي (ص) العيد)
في يوم الجمعة، (ثم رخص في الجمعة) أي في صلاتها، (ثم قال: من شاء أن يصلي)
أي الجمعة (فليصل) هذا بيان لقوله رخص، وإعلام بأنه كان الترخيص بهذا اللفظ، (رواه
الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة). وأخرج أيضا أبو داود من حديث أبي هريرة أنه
(ص) قال: قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا
مجمعون. وأخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث أبي صالح، وفي إسناده بقية وصحح الدارقطني
وغيره إرساله، وفي الباب عن ابن الزبير من حديث عطاء: أنه ترك ذلك، وأنه سأل ابن عباس
فقال: أصاب السنة. والحديث دليل على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد تصير رخصة
يجوز فعلها وتركها وهو خاص بمن صلى العيد دون من لم يصلها، وإلى هذا ذهب الهادي
وجماعة إلا في حق الامام وثلاثة معه. وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها لا تصير رخصة
مستدلين بأن دليل وجوبها عام لجميع الأيام، وما ذكر من الأحاديث والآثار لا يقوى
على تخصيصها لما في أسانيدها من المقال. قلت: حديث زيد بن أرقم قد صححه ابن خزيمة
52

ولم يطعن غيره فيه فهو يصلح للتخصيص، فإنه يخص العام بالآحاد، وذهب عطاء إلى أنه
يسقط فرضها عن الجميع لظاهر قوله: من شاء أن يصلي فليصل. ولفعل ابن الزبير فإنه صلى
بهم في يوم عيد صلاة العيد يوم الجمعة، قال عطاء: ثم جئنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا
فصلينا وحدانا، قال: وكان ابن عباس في الطائف، فلما قدم ذكرنا له ذلك فقال: أصاب
السنة وعنده أيضا أنه يسقط فرض الظهر ولا يصلي إلى العصير. وأخرج أبو داود عن ابن الزبير
: أنه قال عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى
صلى العصر. وعلى القول بأن الجمعة الأصل في يومها والظهر بدل فهو يقتضي صحة هذا
القول لأنه إذا سقط وجوب الأصل مع إمكان أدائه سقط البدل. وظاهر الحديث أيضا
حيث رخص لهم في الجمعة ولم يأمرهم بصلاة الظهر مع تقدير اسقاط الجمعة للظهر يدل
على ذلك كما قاله الشارح، وأيد الشارح مذهب ابن الزبير. قلت: ولا يخفى أن عطاءا أخبر
أنه لم يخرج ابن الزبير لصلاة الجمعة وليس ذلك بنص قاطع أنه لم يصل الظهر في منزله،
فالجزم بأن مذهب ابن الزبير سقوط صلاة الظهر في يوم الجمعة يكون عيدا على من صلى
صلاة العيد لهذه الرواية غير صحيح لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله، بل في قول عطاء أنهم
صلوا وحدانا أي الظهر ما يشعر بأنه لا قائل بسقوطه، ولا يقال: أن مراده صلوا الجمعة
وحدانا فإنها تصح إلا جماعة إجماعا، ثم القول بأن الأصل في يوم الجمعة صلاة الجمعة
والظاهر بدل عنها قول مرجوح بل الظهر هو الفرض الأصلي المفروض ليلة الاسراء والجمعة
متأخر فرضها، ثم إذا فاتت وجب الظهر إجماعا فهي البدل عنه، وقد حققناه في رسالة مستقلة.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا صلى
أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا رواه مسلم) الحديث دليل على شرعية أربع
ركعات بعد الجمعة والامر بها وإن كان ظهره الوجوب، إلا أنه أخرجه عنه ما وقع في لفظه
من رواية ابن الصباح: من كان مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا أخرجه مسلم فدل على
أن ذلك ليس بواجب والأربع أفضل من الاثنتين لوقوع الامر بذلك وكثرة فعله لها (ص)
، قال في الهدي النبوي: وكان (ص) إذا صلى الجمعة دخل
منزله وصلى ركعتين سنتها، وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعا، قال شيخنا ابن تيمية:
إن صلى في المسجد صلى أربعا وإن صلى في بيته صلى ركعتين. قلت: وعلى هذا تدل
الأحاديث وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر: أنه كان إذا صلى في المسجد صلى أربعا، وإذا
صلى في بيته صلي ركعتين، وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه (ص) كان يصلي
بعد الجمعة ركعتين في بيته.
(وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه) هو أبو يزيد السائب بن يزيد الكندي
في الأشهر ولد في الثانية من الهجرة وحضر الحجة الوداع مع أبيه وهو ابن سبع سنين (أن
معاوية قال: إذا صليت الجمعة فلا تصلها) بفتح حرف المضارعة عن الوصل (بصلاة حتى
تتكلم أو تخرج) أي من المسجد (فإن رسول الله (ص) أمرنا بذلك أن لا نوصل
53

صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) أن وما بعده بدل أو عطف بيان من ذلك (رواه مسلم)
فيه مشروعية فصل النافلة عن الفريضة وأن لا توصل بها، وظاهر النهي التحريم وليس خاصا
بصلاة الجمعة، لأنه استدل الراوي على تخصيصه بذكر صلاة الجمعة بحديث يعمها وغيرها.
قيل: والحكمة في ذلك لئلا يشتبه الفرض بالنافلة، وقد ورد أن ذلك هلكة. وقد ذكر العلماء
أنه يستحب التحول للنافلة من موضع الفريضة والأفضل أن يتحول إلى بيته، فإن فعل النوافل
في البيوت أفضل، وإلا فإلى موضع في المسجد أو غيره، وفيه تكثير لمواضع السجود، وقد
أخرج أبو داود من حديث أبو هريرة مرفوعا: أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه
أو عن شماله في الصلاة يعني السبحة. ولم يضعفه أبو داود، وقال البخاري في صحيحه:
ويذكر عن أبي هريرة يرفعه: لا يتطوع الامام في مكانه. ولم يصح النهي.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) من
اغتسل) أي للجمعة لحديث: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل أو مطلقا، (ثم أتى الجمعة)
أي الموضع الذي تقام فيه كما يدل له قوله: (فصلى) من النوافل (قدر له ثم أنصت
حتى يفرغ الامام من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة
الأخرى وفضل) أي زيادة (ثلاثة أيام. رواه مسلم). فيه دلالة على أنه لا بد في إحرازه
لما ذكر من الاجر من الاغتسال إلا أن في رواية لمسلم: من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى
الجمعة. وفي هذه الرواية بيان أن غسل الجمعة ليس بواجب وأنه لا بد من النافلة حسبما يمكنه
فإن لم يقدرها بحد فيتم له هذا الاجر ولو اقتصر على تحية المسجد. وقوله: أنصت من
الانصات وهو السكوت وهو غير الاستماع، إذ هو الاصغاء لسماع الشئ، ولذا قال تعالى
: * (فاستمعوا له وأنصتوا) * (الأعراف: 204) وتقدم الكلام على الانصات هل يجب أو لا. وفيه دلالة على أن النهي
عن الكلام إنما هو حال الخطبة لا بعد الفراغ منها ولو قبل الصلاة فإنه لا نهي عنه كما دلت
عليه حتى. وقوله غفر له ما بينه وبين الجمعة أي ما بين صلاتها وخطبتها إلى مثل ذلك
الوقت من الجمعة الثانية حتى يكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان أي غفرت له الخطايا
الكائنة فيما بينهما. وفضل ثلاثة أيام وغفرت له ذنوب ثلاثة أيام مع السبع حتى تكون عشرة
. وهل المغفور الكبائر أو الصغائر؟ الجمهور على الآخر وأن الكبائر لا يغفرها إلا التوبة.
(وعنه) أي أبي هريرة (رضي الله عنه أن رسول الله (ص) ذكر يوم الجمعة
فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم) جملة حالية أو صفة لعبد والواو
لتأكيد لصوق الصفة (يصلي) حال ثانية (يسأل الله عز وجل) حال ثالثة (شيئا إلا
أعطاه إياه وأشار) أي النبي (ص) (بيده يقللها) يحقر وقتها (متفق عليه
وفي رواية لمسلم وهي ساعة خفيفة) هو الذي أفاده لفظ يقللها في الأولى وفيه إبهام
الساعة ويأتي تعيينها. ومعنى قائم أي مقيم لها متلبس بأركانها لا بمعنى حال القيام فقط
وهذه الجملة ثابتة في رواية جماعة من الحفاظ وأسقطت في رواية آخرين. وحكي عن بعض
54

العلماء أنه كان يأمر بحذفها من الحديث وكأنه استشكل الصلاة، إذ وقت تلك الساعة إذا
كان من بعد العصر فهو وقت كراهة للصلاة وكذا إذا كان من حال جلوس الخطيب
على المنبر إلى انصرافه، وقد تأولت هذه الجملة بأن المراد منتظرا للصلاة، والمنتظر للصلاة
في صلاة كما ثبت في الحديث، وإنما قلنا إن المشير بيده هو النبي (ص) لما في
رواية مالك فأشار النبي (ص) وقيل المشير بعض الرواة. وأما كيفية الإشارة
فهو أنه وضع أنملته على بطن الوسطى أو الخنصر يبين قلتها. وقد أطلق السؤال هنا وقيده
في غيره كما عند ابن ماجة ما لم يسأل الله إثما وعند أحمد ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم.
(وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء ودال مهملة هو عامر ابن
عبد الله بن قيس، وعبد الله هو أبو موسى الأشعري، وأبو بردة من التابعين المشهورين
سمع أباه وعليا عليه السلام وابن عمر وغيرهم (عن أبيه) أبي موسى الأشعري (قال: سمعت
رسول الله (ص) يقول: هي) أي ساعة الجمعة (ما بين أن يجلس الامام)
أي على المنبر (إلى أن تقض الصلاة رواه مسلم ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة).
وقد اختلف العلماء في هذه الساعة وذكر المصنف في فتح الباري عن العلماء ثلاثة وأربعين
قولا وسيشير إليها وسردها الشارح رحمه الله في الشرح، وهذا المروي عن أبي موسى أحدها
ورجحه مسلم على ما روى عنه البيهقي وقال: هو أجود شئ في هذا الباب وأصحه وقال
به البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى
غيره وقال النووي: هو الصحيح بل الصواب. قال المصنف: وليس المراد أنها تستوعب
جميع الوقت الذي عين بل تكون في أثنائه لقوله يقللها وقوله خفيفة. وفائدة ذكر الوقت
أنها تنتقل فيها فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلا وانتهاؤها انتهاء الصلاة. وأما قوله: إنه
رجح الدارقطني أن الحديث من قوله أبي بردة فقد يجاب عنه بأنه لا يكون إلا مرفوعا فإنه
لا مسرح للاجتهاد في تعيين أوقات العبادات ويأتي ما أعله به الدارقطني قريبا.
(وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه) هو أبو يوسف بن سلام من بني قينقاع
إسرائيلي من ولد يوسف بن يعقوب عليه السلام وهو أحد الأحبار وأحد من شهد له النبي
(ص) بالجنة روى عنه ابناه يوسف ومحمد وأنس بن مالك وغيرهم مات
بالمدينة سنة ثلاث وأربعين وسلام بتخفيف اللام قال المبرد: لم يكن في العرب سلام
بالتخفيف غيره (عند ابن ماجة) لفظه فيه عن عبد الله بن سلام قال: قلت: ورسول الله
(ص) جالس: إنا لنجد في كتاب الله - يعني التوراة - في الجمعة ساعة لا يوافقها
عبد مسلم يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا قضى الله له حاجته، قال عبد الله: فأشار أي
رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة قلت: صدقت يا رسول الله أو بعض ساعة،
قلت: أي ساعة هي؟ قال: هي آخر ساعة من ساعات النهار قلت: إنها ليست ساعة
صلاة قال: إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة انتهى.
(وجابر رضي الله عنه عند أبي داود وللنسائي: أنها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)
55

وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولا أمليتها في شرح البخاري. قوله أنها بفتح الهمزة مبتدأ خبره ما تقدم من قوله في حديث عبد الله ابن سلام إلى آخره،
ورجح أحمد بن حنبل هذا القول رواه عنه الترمذي وقال أحمد: أكثر الأحاديث على ذلك
. وقال ابن عبد البر: هو أثبت شئ في هذا الباب، روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى
أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ناسا من الصحابة اجتمعوا فتذكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا ولم
يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة ورجحه إسحاق وغيره، وحكي أنه نص الشافعي.
وقد استشكل هذا فإنه ترجيح لغير ما في الصحيح على ما فيه، والمعروف من علوم الحديث
وغيرها أن ما في الصحيحين أو في أحدهما مقدم على غيره والجواب أن ذلك حيث
لم يكن حديث الصحيحين أو أحدهما مما انتقده الحفاظ كحديث أبي موسى هذا الذي
في مسلم فإنه قد أعل بالانقطاع والاضطراب: أما الأول فلانه من رواية مخرمة بن بكير
وقد صرح أنه لم يسمع من أبيه فليس على شرط مسلم، وأما الثاني فلان أهل الكوفة أخرجوه
عن أبي بردة غير مرفوع، وأبو بردة كوفي وأهل بلدته أعلم بحديثه من بكير فلو كان مرفوعا
عند أبي بردة لم يقفوه عليه ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب. وجمع ابن القيم
بين حديث أبي موسى وابن سلام بأن الساعة تنحصر في أحد الوقتين وسبقه إلى هذا أحمد
بن حنبل (وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولا أمليتها في شرح البخاري) تقدمت
الإشارة إلى هذا، قال الخطابي: اختلف فيها على قولين فقيل: قد رفعت، وهو محكي عن
بعض الصحابة. وقيل: هي باقية واختلف في تعيينها، ثم سرد الأقوال ولم يبلغ بها
المصنف من العدد وقد اقتصر المصنف هاهنا على قولين كأنهما الأرجح عنده دليلا.
وفي الحديث بيان فضيلة الجمعة لاختصاصها بهذه الساعة.
(وعن جابر رضي الله عنه) هو ابن عبد الله (قال: مضت السنة أن في كل أربعين فصاعدا
جمعة. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف). وذلك أنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن،
وعبد العزيز قال فيه أحمد: اضرب على أحاديثه فإنها كذب أو موضوعة، وقال النسائي:
ليس بثقة، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به وفي
الباب أحاديث لا أصل لها، وقال عبد الحق: لا يثبت في العدد حديث، وقد اختلف العلماء
في النصاب الذين بهم تقوم الجمعة. فذهب إلى وجوبها على الأربعين لا على من دونهم
عمر بن عبد العزيز والشافعي وفي كون الامام أحدهم وجهان عند الشافعية. وذهب أبو حنيفة
والمؤيد وأبو طالب إلى أنها تنعقد بثلاثة مع الامام وهو أقل عدد تنعقد به فلا تجب إذا لم يتم
هذا القدر مستدلين بقوله تعالى: * (فاسعوا) * قالوا: والخطاب للجماعة بعد النداء للجمعة وأقل
الجمع ثلاثة فدل على وجوب السعي على الجمعة للجمعة بعد النداء لها والنداء لا بد له
من مناد فكانوا ثلاثة مع الامام ولا دليل على اشتراط ما زاد على ذلك، واعترض بأنه لا يلزم
من خطاب الجماعة فعلهم لها مجتمعين وقد صرح في البحر بهذا، واعترض به أهل المذهب
لما استدلوا به للمذهب ونقضه بقوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة واتوا الزكاة) * * (وجاهدوا) * فإنه
يلزم إيتاء الزكاة في جماعة. قلت: والحق أن شرطية أي شئ في أي عبادة لا يكون إلا عن
56

دليل ولا دليل هنا على تعين عدد لا من الكتاب ولا من السنة وإذا قد علم أنها لا تكون
صلاتها إلا جماعة كما قد ورد بذلك حديث أبي موسى عند ابن ماجة وابن عدي وحديث
أبي أمامة عند أحمد والطبراني، والاثنان أقل ما تتم به الجماعة لحديث الاثنان جماعة فتتم
بهم في الأظهر، وقد سرد الشارح الخلاف والأقوال في كمية العدد المعتبر في صلاة الجمعة
فبلغت أربعة عشر قولا وذكر ما تشبث به كل قائل من الدليل على ما ادعاه بما لا ينهض
حجة على الشرطية. ثم قال: والذي نقل حال النبي (ص) أنه كان يصليها
في جمع كثير غير موقوف على عدد يدل على أن المعتبر وهو الجمع الذي يحصل به الشعار ولا
يكون إلا في كثرة يغيظ بها المنافق ويكيد بها الجاحد ويسر بها المصدق، والآية الكريمة دالة
على الامر بالجماعة فلو وقف على أقل ما دلت عليه لم تنعقد. قلت: قد كتبنا رسالة
في شروط الجمعة التي ذكروها ووسعنا فيها المقال والاستدلال سميناها: اللمعة في تحقيق
شرائط الجمعة.
(وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي (ص) كان يستغفر للمؤمنين
والمؤمنات كل جمعة رواه البزار بإسناد لين) قلت: قال البزار: لا نعلمه عن النبي (ص)
إلا بهذا الاسناد وفي إسناده البزار يوسف بن خالد السمتي وهو ضعيف ورواه
الطبراني في الكبير إلا أنه بزيادة والمسلمين والمسلمات. وفيه دليل على مشروعية ذلك
للخطيب لأنها موضع الدعاء، وقد ذهب إلى وجوب دعاء الخطيب لنفسه وللمؤمنين
والمؤمنات أبو طالب والامام يحيى، وكأنهم يقولون إن مواظبته (ص) دليل
الوجوب كما يفيده كان يستغفر. وقال غيرهم: يندب ولا يجب لعدم الدليل على الوجوب
قال الشارح: والأول أظهر.
(وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما أن النبي (ص) كان في الخطبة، يقرأ آيات
من القرآن ويذكر الناس رواه أبو داود وأصله في مسلم) كأنه يريد ما تقدم من حديث
أم هشام بنت حارثة: أنها قالت ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من لسان رسول الله (ص)
يقرؤها كل جمعة على المنبر وروى الطبراني في الأوسط من حديث علي عليه
السلام: أن رسول الله (ص) كان يقرأ على المنبر (قل يا أيها الكافرون وقل هو
الله أحد) وفيه رجل مجهول وبقية رجاله موثقون وأخرج الطبراني فيه أيضا من حديث
جابر: أنه خطب رسول الله (ص) فقرأ في خطبته آخر الزمر فتحرك المنبر مرتين.
وفي رواته ضعيفان.
(وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه) ابن عبد شمس الأحمسي البجلي الكوفي أدرك الجاهلية
ورأي النبي (ص) وليس له منه سماع وغزا في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثا
وثلاثين أو أربعا وثلاثين غزوة وسرية ومات سنة اثنتين وثمانين (أن رسول الله (ص)
قال: الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة
مملوك وامرأة وصبي ومريض رواه أبو داود وقال: لم يسمع طارق من النبي (ص)
) إلا أنه في سنن أبي داود بلفظ عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض بلفظ
57

أو وكذا ساقه المصنف في التلخيص ثم قال أبو داود: طارق قد رأى النبي (ص) وهو من أصحاب النبي (ص)
ولم يسمع منه شيئا. انتهى (وأخرجه الحاكم من
رواية طارق المذكور عن أبي موسى) يريد المصنف أنه بهذا صار موصولا. وفي الباب
عن تميم الداري وابن عمر ومولى لابن الزبير رواه البيهقي، وحديث تميم فيه أربعة أنفس
ضعفاء على الولاء قاله ابن القطان، وحديث ابن عمر أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ
ليس على مسافر جمعة وفيه أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا خمسة لا جمعة عليهم المرأة
والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص) ليس على مسافر
جمعة. رواه الطبراني بإسناد ضعيف) ولم يذكر المصنف تضعيفه في التلخيص، ولا بين وجه
ضعفه. وإذا عرفت هذا فقد اجتمع من الأحاديث أنها لا تجب الجمعة على ستة أنفس:
الصبي وهو متفق على أنه لا جمعة عليه، والمملوك وهو متفق عليه إلا عند داود فقال
بوجوبها عليه لدخوله تحت عموم * (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة) * فإنه تقرر في الأصول
دخول العبيد في الخطاب وأجيب عنه بأنه خصصته الأحاديث وإن كان فيه مقال فإنه
يقوي بعضها بعضا. والمرأة وهو مجمع على عدم وجوبها عليها، وقال الشافعي: يستحب
للعجائز حضورها بإذن الزوج، ورواية البحر عنه أنه يقول بالوجوب عليهن خلاف ما هو
مصرح به في كتب الشافعية. والمريض فإنه لا يجب عليه حضورها إذا كان يتضرر به.
والمسافر لا يجب عليه حضورها وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر وأما النازل فيجب
عليه ولو نزل بمقدار الصلاة وإلى هذا ذهب جماعة من الآل وغيرهم. وقيل: لا تجب عليه
لأنه داخل في لفظ المسافر وإليه ذهب جماعة من الآل أيضا، وهو الأقرب لان أحكام
السفر باقية له من القصر ونحوه ولذا لم ينقل أنه (ص) صلى الجمعة بعرفات
في حجة الوداع لأنه كان مسافرا. وكذلك العيد تسقط صلاته عن المسافر ولذا لم يرو أنه
(ص) صلى صلاة العيد في حجته تلك وقد وهم ابن حزم فقال: إنه صلاها
في حجته وغلطه العلماء. السادس أهل البادية وفي النهاية: أن البادية تختص بأهل العمد
والخيام دون أهل القرى والمدن. وفي شرح العمدة أن حكم أهل القرى حكم أهل البادية
ذكره في شرح حديث لا يبيع حاضر لباد.
(وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى
على المنبر استقبلناه بوجوهنا. رواه الترمذي بإسناد ضعيف) لان فيه محمد بن الفضل بن
عطية وهو ضعيف تفرد به وضعفه به الدارقطني وابن عدي وغيرهما (وله شاهد من حديث
البراء عند ابن خزيمة) لم يذكره الشارح ولا رأيته في التلخيص. والحديث يدل على أن استقبال
الناس الخطيب مواجهين له أمر مستمر وهو في حكم المجمع عليه، جزم بوجوبه أبو الطيب من
الشافعية، وللهادوية احتمالان فيما إذا تقدم بعض المستمعين على الامام ولم يواجهوه يصح
58

أو لا يصح. ونص صاحب الأثمار أنه يجب على العدد الذين تنعقد لهم الجمعة المواجهة دون
غيرهم.
(وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه) بفتح المهملة وسكون الزاي فنون. والحكم قال ابن
عبد البر: إنه أسلم عام الفتح وقيل يوم اليمامة وأبوه حزن ابن أبي وهب المخزومي (قال
شهدنا الجمعة مع رسول الله (ص) فقام متوكئا على عصا أو قوس. رواه
أبو داود) تمامه في السنن فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال:
أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتم به ولكن سددوا ويسروا وفي رواية
وأبشروا وإسناده حسن وصححه ابن السكن وله شاهد عند أبي داود من حديث البراء
: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يعتمد على عنزة له. والعنزة مثل نصف الرمح أو
أكبر فيها سنان مثل سنان الرمح. وفي الحديث دليل على أنه يندب للخطيب الاعتماد على سيف
أو نحو وقت خطبته والحكمة أن في ذلك ربطا للقلب ولبعد يديه عن العبث فإن لم يجد
ما يعتمد عليه أرسل يديه أو وضع اليمنى على اليسرى أو على جانب المنبر ويكره دق المنبر
بالسيف إذ لم يؤثر فهو بدعة.
باب صلاة الخوف
(عن صالح بن خوات رضي الله عنه) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو فمثناة فوقية الأنصاري
المدني تابعي مشهور سمع جماعة من الصحابة (عمن صلى مع النبي (ص))
في صحيح مسلم عن صالح بن خوات ابن جبير عن سهل بن أبي حثمة، فصرح بمن حدثه
في رواية. وفي رواية أبهمه كما هنا (يوم ذات الرقاع) بكسر الراء فقاف مخففة آخره عين
مهملة هو مكان من نجد بأرض غطفان. سميت الغزوة بذلك لان أقدامهم نقبت فلفوا
عليها الخرق كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى وكانت في جمادى الأولى في السنة
الرابعة من الهجرة (صلاة الخوف أن طائفة) من أصحابه (ص) (صفت معه وطائفة
وجاه) بكسر الواو فجيم مواجهة (العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا
لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا) في مسلم فصفوا بالفاء (وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى
فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. متفق عليه وهذا
لفظ مسلم ووقع في المعرفة) كتاب (لابن منده) بفتح الميم وسكون النون فدال مهملة إمام
كبير من أئمة الحديث (عن صالح بن خوات عن أبيه) أي خوات وهو صحابي فذكر المبهم
أنه أبوه، وفي مسلم أنه من ذكرناه.
59

واعلم أن هذه الغزوة كانت في الرابعة كما ذكرناه وهو الذي قاله ابن إسحاق وغيره من أهل
السير والمغازي وتلقاه الناس منهم. قال ابن القيم: وهو مشكل جدا فإنه قد صح أن
المشركين حبسوا رسول الله (ص) يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب
والعشاء فصلاهن جميعا وذلك قبل نزول صلاة الخوف. والخندق بعد ذات الرقاع سنة خمس،
قال: والظاهر أن أول صلاة صلاها رسول الله (ص) للخوف بعسفان، ولا
خلاف بينهم أن عسفان كانت بعد الخندق، وقد صح عنه (ص) أنه صلى
صلاة الخوف بذات الرقاع فعلم أنها بعد الخندق وبعد عسفان وقد تبين لنا وهم أهل السير
انتهى. ومن يحتج بتقديم شرعيتها على الخندق على رواية أهل السير يقول: إنها لا تصلى
صلاة الخوف في الحضر ولذا لم يصلها النبي (ص) يوم الخندق. وهذه الصفة
التي ذكرت في الحديث في كيفية صلاتها واضحة وقد ذهب إليها جماعة من الصحابة ومن
الآل من بعدهم. واشترط الشافعي أن يكون العدو في غير جهة القبلة. وهذا في الثنائية وإن
كانت ثلاثية انتظر في التشهد الأول وتتم الطائفة الركعة الثالثة، وكذلك في الرباعية إن
قلنا إنها تصلى صلاة الخوف في الحضر وينتظر في التشهد أيضا. وظاهر القرآن مطابق لما دل عليه
هذا الحديث الجليل لقوله (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فيصلوا معك) وهذه الكيفية
أقرب إلى موافقة المعتاد من الصلاة في تقليل الأفعال المنافية للصلاة والمتابعة للامام.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل) بكسر
القاف وفتح الموحدة أي جهة (نجد) نجد: كل ما ارتفع من بلاد العرب (فوازينا) بالزاي بعدها
مثناة تحتية قابلنا (العدو فصاففناهم فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى بنا)
في المغازي من البخاري أنها صلاة العصر ثم لفظ البخاري فصلى لنا باللام قال المصنف
في الفتح: أي لأجلنا ولم يذكر أن فيه رواية بالموحدة وفيه يصلي بالفعل المضارع
(فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع بمن معه ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا)
أي الذين صلوا معه، ولم يكونوا أتوا بالركعة الثانية ولا سلموا من صلاتهم (مكان الطائفة التي
لم تصل فجاؤوا فركع بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه
ركعة وسجد سجدتين. متفق عليه وهذا لفظ البخاري). قال المصنف: لم تختلف الطرق عن
ابن عمر في هذا ويحتمل أنهم أتموا في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو
الراجح من حيث المعنى وإلا استلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الامام وحده
ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود بلفظ ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة
الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم
ركعة ثم سلموا انتهى. والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد حتى لو كانوا
ثلاثة جاز للامام أن يصلي بواحد والثالث يحرس ثم يصلي مع الامام وهذا أقل ما تحصل
به جماعة الخوف. وظاهر الحديث أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتت الطائفة الأولى
بعدها، وقد ذهب إلى هذه الكيفية أبو حنيفة ومحمد.
60

(وعن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله (ص) صلاة الخوف
فصففنا صفين: صف خلف رسول الله (ص) والعدو بيننا وبين القبلة فكبر
النبي (ص) وكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا
جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه) أي انحدر الصف الذي يليه وهو عطف على
الضمير المتصل من دون تأكيد لأنه وقد وقع الفصل (وأقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما
قضى السجود وقام الصف الذي يليه فذكر الحديث) تمامه انحدر الصف المؤخر بالسجود
وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي (ص)
وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي
يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى وقام والصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى
النبي (ص) السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود
فسجدوا ثم سلم النبي (ص) وسلمنا جميعا، قال جابر: كما يصنع حرسكم
هؤلاء بأمرائهم انتهى لفظ مسلم. قوله (وفي رواية) هي مسلم عن جابر وفيها تعيين
القوم الذين حاربوهم ولفظها غزونا مع رسول الله (ص) قوما من جهينة
فقاتلونا قتالا شديدا فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم
فأخبر جبريل رسول الله (ص) ذلك فذكر لنا رسول الله (ص)
قال: وقالوا: إنها ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد فلما حضرت العصر - إلى أن
قال: ثم سجد وسجد معه الصف الأول فلما قاموا سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف
الأول، وتقدم الصف الثاني، فذكر مثله) قال: فقاموا مقام الأول فكبر رسول الله (ص)
وكبرنا وركع فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول وقام الثاني فلما سجد
الصف الثاني ثم جلسوا جميعا (وفي أواخره: ثم سلم النبي (ص) وسلمنا جميعا. رواه
مسلم). الحديث دليل على أنه إذا كان العدو في جهة القبلة فإنه يخالف ما إذا لم يكن كذلك
فإنها تمكن الحراسة مع دخولهم جميعا في الصلاة. وذلك أن الحاجة إلى الحراسة إنما تكون في حال
السجود فقط، فيتابعون الامام في القيام والركوع، ويحرس الصف المؤخر في حال السجدتين بأن يتركوا المتابعة للامام ثم يسجدون عند قيام الصف الأول. ويتقدم المؤخر
إلى محل الصف المقدم، ويتأخر المقدم ليتابع المؤخر الامام في السجدتين الأخيرتين، فيصح
مع كل من الطائفتين المتابعة في سجدتين. والحديث يدل أنها لا تكون الحراسة إلا حال السجود
فقط دون حال الركوع لان حال الركوع لا يمتنع معه إدراك أحوال العدو. وهذه الكيفية
لا توافق ظاهر الآية ولا توافق الرواية الأولى عن صالح ابن خوات ولا رواية ابن عمر إلا أنه
قد يقال: إنها تختلف الصفات باختلاف الأحوال.
(ولأبي داود عن أبي عياش الزرقي مثله) أي مثل رواية جابر هذه (وزاد) تعيين
محل الصلاة (أنها كانت بعسفان) بضم العين المهملة وسكون السين المهملة ففاء آخره نون
وهو موضع على مرحلتين من مكة كما في القاموس.
61

(وللنسائي من وجه آخر) غير الوجه الذي أخرجه منه مسلم (عن جابر رضي الله عنه أن النبي
(ص) صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم)
فصلى بإحداهما فرضا وبالأخرى نفلا له. وعمل بهذا الحسن البصري، وادعى الطحاوي أنه
منسوخ بناء منه على أنه لا يصح أن يصلي المفترض خلف المتنفل، ولا دليل على النسخ.
(ومثله لأبي داود عن أبي بكرة) وقال أبو داود: وكذلك في صلاة المغرب يصلي ست ركعات وللقوم ثلاثا ثلاثا.
(وعن حذيفة رضي الله عنه: أن النبي (ص) صلى صلاة الخوف بهؤلاء
ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان.)
(ومثله عند ابن خزيمة عن ابن عباس) وهذه الصلاة بهذه الكيفية صلاها حذيفة
بطبرستان وكان الأمير سعيد ابن العاص فقال: أيكم صلى مع رسول الله (ص)
صلاة الخوف قال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا. وأخرج أبو داود عن ابن عمر وعن
زيد بن ثابت: قال زيد: فكانت للقوم ركعة ركعة وللنبي (ص) ركعتين.
وأخرج عن ابن عباس: قال: فرض الله تعالى الصلاة على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام
في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. وأخذ بهذا عطاء وطاوس والحسن
وغيرهم فقالوا: يصلي في شدة الخوف ركعة يومئ إيماء. وإسحاق يقول: تجزئك عند
المسايفة ركعة واحدة تومئ لها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة فإن لم فتكبيرة لأنها ذكر الله.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص) صلاة الخوف
ركعة على أي وجه كان رواه البزار بإسناد ضعيف) وأخرج النسائي: أنه (ص)
صلاها بذي قرد بهذه الكيفية. وقال المصنف: قد صححه ابن حبان وغيره.
وأما الشافعي فقال: لا يثبت. والحديث دليل على أن صلاة الخوف ركعة واحدة في حق الإمام والمأموم
وقد قال به الثوري وجماعة، وقال به من الصحابة أبو هريرة وأبو موسى.
واعلم أنه ذكر المصنف في هذا الكتاب خمس كيفيات لصلاة الخوف وفي سنن أبي داود
ثماني كيفيات منها هذه الخمس وزاد ثلاثا. وقال المصنف في فتح الباري: قد روي
في صلاة الخوف كيفيات كثيرة ورجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر لقوة
الاسناد وموافقة الأصول في أن المؤتم لا تتم صلاته قبل الامام. وقال ابن حزم: صح منها
أربعة عشر وجها. وقال ابن العربي: فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة.
وقال النووي: نحوه في شرح مسلم ولم يبينها. قال الحافظ: وقد بينها شيخنا الحافظ أبو الفضل
في شرح الترمذي وزاد وجها فصارت سبع عشرة ولكن يمكن أن تتداخل. وقال في الهدي
النبوي: صلاها النبي (ص) عشر مرات. وقال ابن العربي: صلاها أربعا
وعشرين مرة. وقال الخطابي: صلاها النبي (ص) في أيام مختلفة بأشكال متباينة
يتحرى ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة فهي على اختلاف صورتها متفقة المعنى انتهى.
(وعنه) رضي الله عنه (مرفوعا ليس في صلاة الخوف سهو أخرجه
62

الدارقطني بإسناد ضعيف) وهو مع هذا موقوف قيل ولم يقل به أحد من العلماء.
واعلم أنه قد شرط في صلاة الخوف شروط منها: السفر فاشترطه جماعة لقوله تعالى: * (وإذا
ضربتم في الأرض) * الآية ولأنه (ص) لم يصلها في الحضر وقال زيد بن علي
والناصر والحنفية والشافعية: لا يشترط لقوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم) * بناء على أنه معطوف
على قوله: * (وإذا ضربتم في الأرض) * فهو غير داخل في التقييد بالضرب في الأرض ولعل
الأولين يجعلونه مقيدا بالضرب في الأرض وأن التقدير وإذا كنت فيهم مع هذه الحالة
التي هي الضرب في الأرض والكلام مستوفى في كتب التفسير. ومنها: أن يكون آخر الوقت
لأنها بدل من صلاة الامن لا تجزئ إلا عند اليأس من المبدل منه وهذه قاعدة للقائلين
بذلك وهم الهادوية. وغيرهم يقول: تجزئ أول الوقت لعموم أدلة الأوقات. ومنها: حمل
السلاح حال الصلاة، اشترط داود فلا تصح الصلاة إلا بحمله ولا دليل على اشتراطه.
وأوجبه الشافعي والناصر للامر به في الآية ولهم في السلاح تفاصيل معروفة. ومنها: أن
يكون القتال محرما سواء كان واجبا عينا أو كفاية. ومنها: أن يكون المصلي مطلوبا للعدو
لا طالبا. لأنه إذا كان طالبا أمكنه أن يأتي بالصلاة تامة، أو يكون خاشيا لكر العدو عليه.
وهذه الشرائط مستوفاة في الفروع مأخوذة من أحوال شرعيتها وليست بظاهرة في الشرطية.
واعلم أن شرعية هذه الصلاة من أعظم الأدلة على عظم شأن صلاة الجماعة.
باب صلاة العيدين
(عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (ص) الفطر
يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس رواه الترمذي) وقال الترمذي بعد سياقه:
هذا حديث حسن غريب. وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث أن معنى هذا: الفطر والصوم
مع الجماعة ومعظم الناس بلفظه: فيه دليل على أنه يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس
وأن المنفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ويلزمه حكمهم في الصلاة والافطار
والأضحية. وقد أخرج الترمذي مثل هذا الحديث عن أبي هريرة وقال: حديث حسن. وفي معناه
حديث ابن عباس وقد قال له كريب: إنه صام أهل الشام ومعاوية برؤية الهلال يوم الجمعة
بالشام وقدم المدينة آخر الشهر وأخبر ابن عباس بذلك فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت
فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه قال: قلت: أولا تكتفي برؤية معاوية والناس؟
قال: لا هكذا أمرنا رسول الله (ص). وظاهر الحديث أن كريبا ممن رآه وأنه أمره
ابن عباس أن يتم صومه وإن كان متيقنا أنه يوم عيد عنده. وذهب إلى هذا محمد بن الحسن
وقال: يجب موافقة الناس وإن خالف يقين نفسه وكذا في الحج لأنه ورد وعرفتكم يوم
تعرفون. وخالفه الجمهور وقالوا: إنه يجب عليه العمل في نفسه بما تيقنه وحملوا الحديث على
عدم معرفته بما يخالف الناس فإنه إذا انكشف بعد الخطأ فقد أجزأه ما فعل. قالوا: وتتأخر الأيام
في حق من التبس عليه وعمل بالأصل وتأولوا حديث ابن عباس بأنه يحتمل أنه لم يقل برؤية
63

أهل الشام لاختلاف المطالع في الشام والحجاز، أو أنه لما كان المخبر واحدا لم يعمل بشهادته
، وليس فيه أنه أمر كريبا بالعمل بخلاف يقين نفسه فإنما أخبر عن أهل المدينة وأنهم
لا يعملون بذلك لاحد الامرين.
(وعن أبي عمير) هو أبو عمير (ابن أنس بن مالك رضي الله عنهما) الأنصاري يقال
: إن اسمه عبد الله وهو من صغار التابعين روى عن جماعة من الصحابة وعمر بعد أبيه زمانا
طويلا (عن عمومة له من أصحاب النبي (ص) أن ركبا جاءوا إلى النبي (ص) يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم) النبي
صلى الله عليه وسلم (أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم. رواه أحمد وأبو داود
وهذا لفظه وإسناده صحيح) وأخرجه النسائي وابن ماجة وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن
حزم. وقول ابن عبد البر إن والحديث دليل على أن صلاة أبا عمير مجهول مردود بأنه قد عرفه من صحح له الحديث
تصلى في اليوم الثاني حيث انكشف العيد بعد خروج وقت الصلاة.
وظاهر الحديث الاطلاق بالنظر إلى وقت الصلاة، وأنه وإن كان وقتها باقيا حيث لم يكن
ذلك معلوما من أول اليوم، وقد ذهب إلى العمل به الهادي والقاسم وأبو حنيفة لكن شرط
أن لا يعلم إلا وقد خرج وقتها فإنها تقضى في اليوم الثاني فقط في الوقت الذي تؤدى فيه
في يومها، قال أبو طالب: بشرط أن يترك اللبس كما ورد في الحديث، وغيره يعمم العذر
سواء كان للبس أو لمطر وهو مصرح به في كتب الحنفية قياسا لغير اللبس عليه. ثم ظاهر
الحديث أنها أداء قضاء. وذهب مالك أنها لا تقضى مطلقا كما لا تقضى في يومها. وللشافعية
تفاصيل أخر ذكرها في الشرح وهذا الحديث ورد في عيد الافطار وقاسوا عليه الأضحى
وفي الترك للبس وقاسوا عليه سائر الاعذار وفي القياس نظر إذا لم يتعين معرفة الجامع والله أعلم.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو)
أي يخرج وقت الغداة (يوم الفطر) أي إلى المصلى (حتى يأكل تمرات. أخرجه البخاري،
وفي رواية معلقة) أي للبخاري علقها عن أنس (ووصلها أحمد ويأكلهن أفرادا) وأخرجه
البخاري في تاريخه وابن حبان والحاكم من رواية عتبة بن حميد عنه بلفظ: حتى يأكل تمرات
ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا. والحديث يدل على مداومته (ص)
على ذلك. قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لا يظن ظان لزوم
الصوم حتى يصلي العيد فكأنه أراد سد هذه الذريعة، وقيل لما وقع وجوب الفطر عقيب
وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله. قال ابن قدامة: ولا نعلم
في استحباب تعجيل الأكل في هذا اليوم قبل الصلاة خلافا. قال المصنف في الفتح:
والحكمة في استحباب التمر ما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، أو لان الحلو
مما يوافق الايمان ويعبر به المنام ويرقق القلب ومن ثمة استحب بعض التابعين أن يفطر على
الحلو مطلقا. قال المهلب: وأما جعلهن وترا فالإشارة إلى الوحدانية، وكذلك كان يفعل
(ص) في جميع أموره تبركا بذلك.
(وعن ابن بريدة) رضي الله عنه) بضم الموحدة وفتح الراء وسكون المثناة التحتية ودال مهملة
64

(عن أبيه) هو بريدة بن الحصيب تقدم، واسم ابن بريدة: عبد الله بن بريدة بن الحصيب
الأسلمي أبو سهل المروزي قاضيها ثقة من الثالثة قاله المصنف في التقريب (قال: كان
النبي (ص) لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى
يصلي. رواه أحمد) وزاد فيه: فيأكل من أضحيته (والترمذي وصححه ابن حبان) وأخرجه
أيضا ابن ماجة والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان وفي رواية البيهقي زيادة: وكان
إذا رجع أكل من كبد أضحيته. قال الترمذي: وفي الباب عن علي وأنس، ورواه
الترمذي أيضا عن ابن عمر وفيها ضعف. والحديث دليل على شرعية الأكل يوم الفطر قبل
الصلاة وتأخيره يوم الأضحى إلى ما بعد الصلاة. والحكمة فيه هو أنه لما كان إظهار كرامة
الله تعالى للعباد بشرعية نحر الأضاحي كان الأهم الابتداء بأكلها شكرا لله على ما أنعم به من
شرعية النسيكة الجامعة لخير الدنيا وثواب الآخرة.
(وعن أم عطية رضي الله عنها) هي الأنصارية اسمها نسيبة بنت الحرث وقيل بنت كعب
كانت تغزو مع رسول الله (ص) كثيرا تداوي الجرحى وتمرض المرضى، تعد
في أهل البصرة، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت
لأنها شهدت غسل بنت رسول الله (ص) فحكمت ذلك وأتقنت، فحديثها أصل
في غسل الميت، ويأتي حديثها هذا في كتاب الجنائز (قالت: أمرنا) مبني للمجهول للعلم بالآمر
، وأنه رسول الله (ص)، وفي رواية للبخاري: أمرنا نبينا (أن نخرج) أي إلى المصلى
(العواتق) البنات الابكار البالغات والمقاربات للبلوغ (والحيض) هو أعم من الأول من
وجه (في العيدين يشهدن الخير) هو الدخول في فضيلة الصلاة لغير الحيض (ودعوة المسلمين)
تعم الجميع (ويعتزل الحيض المصلى. متفق عليه) لكن لفظه عند البخاري: أمرنا أن نخرج
العواتق ذوات الخدور - أو قال: العواتق وذوات الخدور فيعتزلن الحيض المصلى. ولفظ مسلم
: أمرنا يعني النبي (ص) أن نخرج العواتق وذوات الخدور وأمر الحيض أن يعتزلن
مصلى المسلمين. فهذا اللفظ الذي أتى به المصنف ليس لفظ أحدهما. والحديث دليل على
وجوب اخراجهن. وفيه أقوال ثلاثة. الأول أنه واجب وبه قال الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر
وعلي. ويؤيد الوجوب ما أخرجه ابن ماجة والبيهقي من حديث ابن عباس: أنه (ص)
كان يخرج نساءه وبناته في العيدين. وهو ظاهر في استمرار ذلك منه (ص)
وهو عام لمن كانت ذات هيئة وغيرها وصريح في الشواب وفي العجائز بالأولى.
والثاني سنة وحمل الامر بخروجهن على الندب قاله جماعة وقواه الشارح مستدلا بأنه علل
خروجهن بشهود الخير ودعوة المسلمين قال: ولو كان واجبا لما علل بذلك ولكان
خروجهن لأداء الواجب عليهن لامتثال الامر قلت: وفيه تأمل فإنه قد يعلل الواجب بما
فيه من العوائد ولا يعلل بأدائه. وفي كلام الشافعي في الأم التفرقة بين ذوات الهيئات والعجائز
فإنه قال: أحب شهود العجائز وغير ذوات الهيئات من النساء الصلاة وأنا لشهودهن الأعياد أشد
استحبابا. والثالث أنه منسوخ قال الطحاوي: إن ذلك كان في صدر الاسلام للاحتياج
65

في خروجهن لتكثير السواد فيكون فيه إرهاب للعدو ثم نسخ. وتعقب أنه نسخ بمجرد الدعوى
ويدفعه أن ابن عباس شهد خروجهن وهو صغير وكان ذلك بعد فتح مكة، ولا حاجة
إليهن لقوة الاسلام حينئذ، ويدفعه أنه علل في حديث أم عطية حضورهن لشهادتهن الخير
ودعوة المسلمين. ويدفعه أنه أفتت به أم عطية بعد وفاته (ص) بمدة ولم
يخالفها أحد من الصحابة. وأما قول عائشة: لو رأى النبي (ص) ما أحدث النساء
لمنعهن عن المساجد): فهو لا يدل على تحريم خروجهن ولا على نسخ الامر به بل فيه دليل
على أنهن لا يمنعن لأنه لم يمنعهن (ص) بل أمر بإخراجهن فليس لنا أن نمنع
ما أمر به.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله (ص) وأبو بكر وعمر يصلون العيدين
قبل الخطبة متفق عليه) فيه دليل على أن ذلك هو الامر الذي داوم عليه (ص)
وخليفتاه واستمروا على ذلك. وظاهره وجوب تقديم الصلاة على الخطبة، وقد نقل
الاجماع على عدم وجوب الخطبة في العيدين، ومستنده ما أخرجه النسائي وابن ماجة
وأبو داود من حديث عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله (ص) العيد
فلما قضى صلاته قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن
يذهب فليذهب فكانت غير واجبة فلو قدمها لم تشرع إعادتها وإن كان فاعلا خلاف
السنة. وقد اختلف من أول من خطب قبل الصلاة؟ ففي مسلم أنه مروان، وقيل: سبقه إلى
ذلك عثمان كما رواه ابن المنذر بسند صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل
الصلاة عثمان. أي صلاة العيد. وأما مروان فإنه إنما قدم الخطبة لأنه قال لما أنكر عليه
أبو سعيد: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، قيل إنهم كانوا يتعمدون ترك استماع
الخطبة لما فيها من سب من لا يستحق السب والافراط في مدح بعض الناس. وقد روى
عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد
معاوية. وعلى كل تقدير فإنه بدعة مخالف لهديه (ص) وقد اعتذر
لعثمان بأنه كثر الناس في المدينة وتناءت البيوت فكان يقدم الخطبة ليدرك من بعد منزله الصلاة
وهو رأي مخالف لهديه (ص).
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) صلى يوم العيد
ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما أخرجه السبعة) هو دليل على أن صلاة العيد ركعتان
وهو إجماع فيمن صلى مع الامام في الجبانة وأما إذا فاتته صلاة الامام فصلى وحده فكذلك
عند الأكثر. وذهب أحمد والثوري إلى أنه يصلي أربعا. وأخرج سعيد بن منصور
عن ابن مسعود من فاتته صلاة العيد مع الامام فليصل أربعا وهو إسناد صحيح. وقال
إسحاق: إن صلاها في الجبانة فركعتين وإلا فأربعا. وقال أبو حنيفة: إذا قضى صلاة العيد
فهو مخير بين اثنتين وأربع. وصلاة العيد مجمع على شرعيتها مختلف فيها على أقوال ثلاثة:
(الأول) وجوبها عينا عند الهادي وأبي حنيفة وهو الظاهر من مداومته (ص)
66

والخلفاء من بعده وأمره باخراج النساء، وكذلك ما سلف من حديث أمرهم بالغدو إلى
مصلاهم، فالامر أصله الوجوب، ومن الأدلة قوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * على من يقول
المراد به صلاة النحر، وكذلك قوله تعالى: * (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) * فسرها
الأكثر بزكاة الفطر وصلاة عيده. الثاني: أنها فرض كفاية لأنها شعار وتسقط بقيام البعض
به كالجهاد ذهب إليه أبو طالب وآخرون. الثالث: أنها سنة مؤكدة ومواظبته (ص)
عليها دليل تأكيد سنيتها وهو قول زيد بن علي وجماعة قالوا: لقوله (ص)
: خمس صلوات كتبهن الله على العباد وأجيب بأنه استدلال بمفهوم العدد، وبأنه يحتمل
كتبهن كل يوم وليلة. وفي قوله: لم يصل قبلها ولا بعدها. دليل على عدم شرعة النافلة
قبلها ولا بعدها لأنه إذا لم يفعل ذلك ولا أمر به (ص) فليس بمشروع في حقه
فلا يكون مشروعا في حقنا ويأتي حديث أبي سعيد فإن فيه الدلالة على ترك ذلك إلا أنه
يأتي في حديث سعيد: أنه (ص) كان يصلي بعد العيد ركعتين في بيته.
وصححه الحاكم فالمراد بقوله هنا ولا بعدها أي في المصلي.
(وعنه) أي ابن عباس (أن النبي (ص) صلى العيد بلا أذان ولا
إقامة. أخرجه أبو داود وأصله في البخاري) وهو دليل على عدم شرعيتهما في صلاة العيد
فإنهما بدعة، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن المسيب: أن أول من أحدث الأذان
لصلاة العيد معاوية، ومثله رواه الشافعي عن الثقة وزاد وأخذ به الحجاج حين أمر على
المدينة، وروى ابن المنذر: أن أول من أحدثه زياد بالبصرة، وقيل: أول من أحدثه مروان
، وقال ابن أبي حبيب: أول من أحدثه عبد الله بن الزبير وأقام أيضا، وقد روى الشافعي
عن الثقة عن الزهري: أن رسول الله (ص) كان يأمر المؤذن في العيد أن
يقول الصلاة جامعة. قال في الشرح: وهذا مرسل يعتضد بالقياس على الكسوف لثبوت
ذلك فيه، قلت: وفيه تأمل:.
(وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) لا يصلي
قبل العيد شيئا فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين. رواه ابن ماجة بإسناد حسن) وأخرجه
الحاكم وأحمد، وروى الترمذي عن ابن عمر نحوه وصححه وهو عند أحمد والحاكم، وله طريق
أخرى عند الطبراني في الأوسط لكن فيه جابر الجعفي وهو متروك، والحديث يدل على أنه
شرع صلاة ركعتين بعد العيد في المنزل، وقد عارضه حديث ابن عمر عند أحمد مرفوعا
: لا صلاة يوم العيد لا قبلها ولا بعدها والجمع بينهما بأن المراد لا صلاة في الجبانة.
(وعنه) أي أبي سعيد (قال: كان رسول الله (ص) يخرج يوم
الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شئ يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس
والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم. متفق عليه) فيه دليل على شرعية الخروج إلى المصلى
والمتبادر منه الخروج إلى موضع غير مسجده (ص)، وهو كذلك فإن مصلاه
(ص) محل معروف بينه وبين باب مسجده ألف ذراع، قاله عمر ابن شبة في أخبار
67

المدينة. وفي الحديث دلالة على تقديم الصلاة على الخطبة وتقدم، وعلى أنه لا نفل قبلها
وفي قوله: يقوم مقابل الناس دليل على أنه لم يكن في مصلاه منبر، وقد أخرج ابن حبان
فرواية: خطب يوم عيد على راحلته. وقد ذكر البخاري في تمام روايته عن أبي سعيد: أن
أول من اتخذ المنبر في مصلى العيد مروان. وأن كان قد روى عمر بن شبة: أن
من خطب الناس في المصلى على المنبر عثمان فعله مرة ثم تركه حتى أعاده مروان،
وكأن أبا سعيد لم يطلع على ذلك. وفيه دليل على مشروعية خطبة العيد وأنها كخطب
الجمع أمر ووعظ وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة، وأنه يقعد بينهما ولعله لم يثبت ذلك
من فعله (ص)، وإنما صنعه الناس قياسا على الجمعة.
(وعن عمر وبن شعيب) هو أبو إبراهيم عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله
بن عمرو بن العاص سمع أباه وابن المسيب وطاوسا، وروي عنه الزهري وجماعة، ولم
يخرج الشيخان حديثه وضمير أبيه وجده إن كان معنا أن أباه شعيبا روى عن جده
محمد أن رسول الله (ص) قال: كذا فيكون مرسلا، لان جده محمدا لم يدرك
النبي (ص) وإن كان الضمير الذي في أبيه عائدا إلى شعيب والضمير في جده
إلى عبد الله فيراد أن شعيبا روى عن جده عبد الله فشعيب لم يدرك جده عبد الله، فلهذه
العلة لم يخرجا حديثه، وقال الذهبي: قد ثبت سماع شعيب من جده عبد الله، وقد احتج
به أرباب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، (عن أبيه عن جده قال: قال نبي
الله (ص): التكبير في الفطر أي في صلاة عيد الفطر (سبع في الأولى)
أي في الركعة الأولى، (وخمس في الأخيرة) أي الركعة الأخرى، و (القراءة) الحمد
وسورة (بعدهما أخرجه أبو داود ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه)
، وأخرجه أخمد وعلي بن المديني، وصححاه، وقد رووه من حديث عائشة وسعد القرظي
وابن عباس وابن عمر وكثير بن عبد الله، والكل فيه ضعفاء، وقد روي عن علي عليه السلام
وابن عباس موقوفا، قال ابن رشد: إنما صاروا إلى الاخذ بأقوال الصحابة في هذه المسألة
لأنه لم يثبت فيها عن النبي (ص) شئ. قلت: وروي العقيلي عن أحمد بن حنبل
أنه قال: ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح. هذا والحديث دليل على أنه
يكبر في الأولى من ركعتي العيد سبعا، ويحتمل أنها بتكبيرة الافتتاح وأنها من غيرها
والأوضح أنها من دونها وفيها خلاف، وقال في الهدي النبوي: إن تكبيرة الافتتاح منها
إلا أنه لم يأت بدليل، وفي الثانية خمسا وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم وخالف
آخرون فقالوا: خمس في الأولى وأربع في الثانية، وقيل: ثلاث في الأولى وثلاث في الثانية،
وقيل: ست في الأولى وخمس في الثانية. قلت: والأقرب العمل بحديث الباب، فإنه وإن
كان كل طرقه واهية، فإنه يشد بعضها بعضا ولان ما عداه من الأقوال ليس فيها سنة يعمل
بها، وفي الحديث دليل على أن القراءة بعد التكبير في الركعتين، وبه قال الشافعي ومالك
68

وذهب الهادي إلى أن القراءة قبلها فيهما واستدل له في البحر بما لا يتم دليلا وذهب الباقر
وأبو حنيفة إلى أنه يقدم التكبير في الأولى ويؤخر في الثانية ليوالي بين القراءتين.
واعلم أن قول المصنف أنه نقل الترمذي عن البخاري تصحيحه. وقال في تلخيص الحبير:
إنه قال البخاري والترمذي: إنه أصح شئ في هذا الباب، فلا أدري من أي نقله عن
الترمذي فإن الترمذي لم يخرج في سننه رواية عمرو بن شعيب أصلا بل أخرج رواية كثير
بن عبد الله عن أبيه عن جده، وقال: حديث جد كثير أحسن شئ روي في هذا الباب عن
النبي (ص)، وقال: وفي الباب عن عائشة وابن عمر و عبد الله بن عمرو
ولم يذكر عن البخاري شيئا، وقد وقع البيهقي في السنن الكبرى هذا الوهم بعينه إلا أنه ذكره
بعد روايته لحديث كثير فقال: قال أبو عيسى: سألت محمدا يعني البخاري
عن هذا الحديث، فقال: ليس في هذا الباب شئ أصح منه قال: وحديث
عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في هذا الباب هو
صحيح أيضا، انتهى كلام البيهقي. ولم نجد في الترمذي شيئا مما ذكره، وقد نبه في تنقيح الانظار
على شئ من هذا، وقال: والعجب أن ابن النحوي ذكر في خلاصته عن البيهقي أن الترمذي
قال: سألت محمدا عنه إلخ، وبهذا يعرف أن المصنف قلد في النقل عن الترمذي عن البخاري
الحافظ البيهقي، ولهذا لم ينسب حديث عمرو بن شعيب إلا إلى أبي داود، والأولى العمل
بحديث عمرو لما عرفت، وأنه أشفى شئ في الباب، وكان (ص) يسكت بين
كل تكبيرتين سكتة لطيفة ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرتين ولكن ذكر الخلال
عن ابن مسعود أنه قال: يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي (ص). وأخرج
الطبراني في الكبير عن ابن مسعود أن بين كل تكبيرتين قدر كلمتين وهو موقوف. وفيه
سليمان بن أرقم ضعيف، وكان ابن عمر مع تحريه للاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة.
(وعن أبي واقد) بقاف ومهملة اسم فاعل من وقد اسمه: الحارث بن عوف الليثي
قديم الاسلام قيل إنه شهد بدرا، وقيل إنه من مسلمة الفتح، والأول أصح. عداده
في أهل المدينة، وجاور بمكة، ومات بها سنة ثمان وستين (الليثي رضي الله عنه قال: كان
النبي (ص) يقرأ في الفطر والأضحى بقاف) أي في الأولى بعد الفاتحة (واقتربت)
أي في الثانية بعدها (أخرجه مسلم). فيه دليل على أن القراءة بهما في صلاة العيد سنة، وقد
سلف أنه يقرأ فيهما بسبح والغاشية. والظاهر أنه كان يقرأ هذا تارة وهذا تارة، وقد ذهب
إلى سنية ذلك الشافعي ومالك.
(وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا كان
يوم العيد خالف الطريق أخرجه البخاري) يعني أنه يرجع من مصلاه من جهة غير الجهة
التي خرج منها إليه. قال الترمذي: أخذ بهذا بعض أهل العلم واستحبه للامام وبه يقول
الشافعي انتهى. وقال به أكثر أهل العلم، ويكون مشروعا للامام والمأموم الذي
أشار إليه بقوله:
69

(ولأبي داود عن ابن عمر نحوه) ولفظه في السنن عن ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد في طريق ثم رجع في طريق أخرى. وفيه دليل أيضا على
ما دل عليه حديث جابر. واختلف في وجه الحكمة في ذلك. فقيل: ليسلم على أهل الطريقين
: وقيل: لينال بركته الفريقان: وقيل: ليقضي حاجة من له حاجة فيهما وقيل: ليظهر شعائر
الاسلام في سائر الفجاج والطرق وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الاسلام وأهله ومقام
شعائره، وقيل: لتكثر شهادة البقاع فإن الذاهب إلى المسجد أو المصلى إحدى خطواته
ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة حتى يرجع إلى منزله وقيل: وهو الأصح أنه لذلك كله
من الحكم التي لا يخلو فعله عنها وكان ابن عمر مع شدة تحريه للسنة يكبر من بيته إلى المصلى.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله (ص) المدينة ولهم يومان يلعبون
فيهما فقال: قد أبد لكم الله بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر
أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح) الحديث يدل على أنه قال (ص) ذلك
عقيب قدومه المدينة كما تقتضيه الفاء. والذي في كتب السير أن أول عيد شرع في الاسلام
عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة. وفيه دليل على أن إظهار السرور في العيدين مندوب
، وأن ذلك من الشريعة التي شرعها الله لعباده، إذ في إبدال عيد الجاهلية بالعيدين المذكورين
دلالة على أنه يفعل في العيدين المشروعين ما تفعله الجاهلية في أعيادها، وإنما خالفهم
في تعيين الوقتين (قلت): هكذا في الشرح ومراده من أفعال الجاهلية ما ليس
بمحظور ولا شاغل عن طاعة. وأما التوسعة على العيال في الأعياد بما حصل لهم من ترويح
البدن وبسط النفس من كلف العبادة فهو مشروع. وقد استنبط بعضهم كراهية الفرح
في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ في ذلك الشيخ الكبير أبو حفص البستي من الحنفية
وقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله.
(وعن علي رضي الله عنه قال: من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيا رواه الترمذي
وحسنه) تمامه من الترمذي وأن تأكل شيئا قبل أن تخرج. قال أبو عيسى: والعمل على
هذا الحديث عند أكثر أهل العلم يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشيا وأن يأكل شيئا
قبل أن يخرج. قال أبو عيسى: ويستحب أن لا يركب إلا من عذر انتهى. ولم أجد فيه
أنه حسنه ولا أظن أنه يحسنه لأنه رواه من طريق الحارث الأعور وللمحدثين فيه مقال.
وقد أخرج الزهري مرسلا: أنه (ص) ما ركب في عيد ولا جنازة. وكان
ابن عمر يخرج إلى العيد ماشيا ويعود ماشيا. وتقييد الأكل بقبل الخروج بعيد الفطر لما مر
من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، وروى ابن ماجة من حديث أبي رافع وغيره: أنه
(ص) كان يخرج إلى العيد ماشيا ويرجع ماشيا. ولكنه بوب البخاري
في الصحيح عن المضي والركوب إلى العيد فقال: باب المضي والركوب إلى العيد فسوى
بينهما كأنه لما رأى من عدم صحة الحديث فرجع إلى الأصل في التوسعة.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنهم أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي
70

(ص) صلاة العيد في المسجد رواه أبو داود بإسناد لين) لان في إسناده رجلا
مجهولا، ورواه ابن ماجة والحاكم بإسناد ضعيف. وقد اختلف العلماء على قولين هل
الأفضل في صلاة العيد الخروج إلى الجبانة أو الصلاة في مسجد البلد إذا كان واسعا؟
الثاني قول الشافعي أنه إذا كان مسجد البلد واسعا صلوا فيه ولا يخرجون فكلامه يقضي
أن العلة في الخروج طلب الاجتماع، ولذا أمر (ص) باخراج العواتق وذات
الخدور، فإذا حصل ذلك في المسجد فهو أفضل ولذلك فإن أهل مكة لا يخرجون لسعة
مسجدها وضيق أطرافها وإلى هذا ذهب الامام يحيى وجماعة قالوا: الصلاة في المسجد أفضل
. والقول الأول للهادوية ومالك أن الخروج إلى الجبانة أفضل ولو اتسع المسجد للناس
. وحجتهم محافظته (ص) على ذلك ولم يصل في المسجد إلا لعذر المطر ولا
يحافظ (ص) إلا على الأفضل ولقول علي عليه السلام فإنه روي أنه خرج
إلى الجبانة لصلاة العيد وقال: لولا أنه السنة لصليت في المسجد، واستخلف من يصلي
بضعفة الناس في المسجد قالوا: فإن كان في الجبانة مسجد مكشوف فالصلاة فيه أفضل
وإن كان مسقوفا ففيه تردد.
(فائدة) التكبير في العيدين مشروع عند الجماهير فأما تكبير عيد الافطار فأوجبه
الناصر لقوله تعالى: * (ولتكبروا الله على ما هداكم) * والأكثر أنه سنة، ووقته مجهول مختلف فيه
على قولين. فعند الأكثر أنه من عند خروج الامام للصلاة إلى مبتدأ الخطبة، وذكر فيه
البيهقي حديثين وضعفهما، لكن قال الحاكم: هذه سنة تداولها أئمة الحديث وقد صحت به
الرواية عن ابن عمر وغيره من الصحابة. والثاني للناصر أنه من مغرب أول ليلة من شوال إلى
عصر يومها خلف كل صلاة. وعند الشافعي إلى خروج الامام أو حتى يصلي أو حتى يفرغ
من الخطبة. أقوال عنه. وأما صفته ففي فضائل الأوقات للبيهقي بإسناده إلى سلمان أنه كان
يعلمهم التكبير ويقول: كبروا الله أكبر الله أكبر كبيرا أو قال كثيرا اللهم أنت أعلى
وأجل من أن تكون لك صاحبة أو يكون لك ولد أو يكون لك شريك في الملك أو يكون لك
ولي من الذل وكبره تكبيرا اللهم اغفر لنا اللهم ارحمنا. وأما تكبير عيد النحر فأوجبه أيضا
الناصر لقوله تعالى: * (واذكروا الله في أيام معدودات) * ولقوله * (كذلك سخرها لكم لتكبروا الله
على ما هداكم) * ووافقه المنصور بالله. وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة للرجال والنساء
ومنهم من خصه بالرجال. وأما وقته فظاهر الآية الكريمة والآثار عن الصحابة أنه لا يختص
بوقت دون وقت، إلا أنه اختلف العلماء فمنهم من خصه بعقيب الصلاة مطلقا، ومنهم
من خصه بعقيب الفرائض دون النوافل، ومنهم من خصه بالجماعة دون الفرادى، وبالمؤداة
دون المقضية وبالمقيم دون المسافر، وبالامصار دون القرى. وأما ابتداؤه وانتهاؤه ففيه خلاف
أيضا فقيل في الأول من صبح يوم عرفة، وقيل من ظهره، وقيل من عصره. وفي الثاني
إلى ظهر ثالثه، وقيل إلى آخر أيام التشريق، وقيل إلى ظهره، وقيل إلى عصره، ولم يثبت
عنه (ص) في ذلك حديث واضح، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي
71

وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى، أخرجهما ابن المنذر. وأما صفته فأصح
ما ورد فيه ما رواه عبد الرازق عن سلما بسند صحيح قال: كبروا الله أكبر الله أكبر، الله
أكبر كبيرا وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي ليلى وقول الشافعي وزاد فيه
ولله الحمد وفي الشرح صفات كثيرة واستحسانات عن عدة من الأئمة، وهو يدل على
التوسعة في الامر وإطلاق الآية يقتضي ذلك.
واعلم أنه لا فرق بين تكبير عيد الافطار وعيد النحر في مشروعية التكبير لاستواء الأدلة
في ذلك وإن كان المعروف عند الناس إنما هو تكبير عيد النحر. وقد ورد الامر في الآية
بالذكر في الأيام المعدودات والأيام المعلومات، وللعلماء قولان. منهم من يقول هما
مختلفان، فالأيام المعدودات أيام التشريق والمعلومات أيام العشر ذكره البخاري عن
ابن عباس تعليقا ووصله غيره، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس إن المعلومات: التي قبل
أيام التروية ويوم عرفة. والمعدودات: أيام التشريق وإسناده صحيح وظاهره
إدخال يوم العيد في أيام التشريق. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أيضا إن المعلومات
يوم النحر وثلاثة أيام بعده ورجحه الطحاوي لقوله * (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات
على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) * فإنها تشعر بأن المراد أيام النحر انتهى. وهذا يمنع
تسمية أيام العشر معلومات ولا أيام التشريق معدودات بل تسمية التشريق معدودات
متفق عليه لقوله تعالى: * (واذكروا الله في أيام معدودات) * وقد ذكر البخاري عن أبي هريرة
وابن عمر تعليقا: أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما
. وذكر البغوي والبيهقي ذلك. قال الطحاوي: كان مشايخنا يقولون بذلك أيام العشر جميعها
. (فائدة ثانية) يندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطياب في يوم العيد ويزيد
في الأضحى الضحية بأسمن ما يجد لما أخرجه الحاكم من حديث الحسن السبط قال:
أمرنا رسول الله (ص) في العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد
وأن نضحي بأسمن ما نجد: البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة وأن نظهر التكبير
والسكينة والوقار. قال الحاكم بعد اخراجه من طريق إسحاق بن بزرج: لولا جهالة إسحاق
هذا لحكمت للحديث بالصحة (قلت): ليس بمجهول فقد ضعفه الأزدي ووثقه ابن حبان
. ذكره في التلخيص.
باب صلاة الكسوف
(عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله (ص)
يوم مات إبراهيم) أي ابنه عليه السلام وموته في العاشرة من الهجرة: وقال أبو داود:
في ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه وقيل: في الرابعة (فقال الناس: انكسفت
الشمس لموت إبراهيم) (فقال (ص)) أي رادا عليهم (إن الشمس
والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما
72

فادعوا الله وصلوا) هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري فصلوا وادعوا الله (حتى تنكشف)
ليس هذا اللفظ في البخاري بل هو في مسلم (متفق عليه) يقال كسفت الشمس: بفتح
الكاف وتضم نادرا وانكسفت وخسفت بفتح الخاء وتضم نادرا وانخسفت. واختلف
العلماء في اللفظين هلا يستعملان في الشمس والقمر، أو يختص كل لفظ بواحد منهما، وقد
ثبت في القرآن نسبة الخسوف إلى القمر، وورد في الحديث خسفت الشمس كما ثبت فيه
نسبة الكسوف إليهما وثبت استعمالهما منسوبين إليهما فيقال فيهما: الشمس والقمر
ينخسفان، وينكسفان إنما الذي لم يرد في الأحاديث نسبة الكسوف إلى القمر على جهة الانفراد
، وعلى هذا يدل استعمال الفقهاء فإنهم يخصون الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر: واختاره
ثعلب، وقال الجوهري: إنه أفصح، وقيل يقال بهما في كل منهما. والكسوف: لغة التغير
إلى السواد، والخسوف النقصان، وفي ذلك أقوال أخر. وإنما قالوا إنها كسفت لموت إبراهيم
لأنها كسفت في غير يوم كسوفها المعتاد، فإن كسوفها في العاشر أو الرابع لا يكاد يتفق
فلذا قالوا: إنما هو لأجل هذا الخطب العظيم، فرد عليهم (ص) ذلك وأخبرهم
أنهما علامتان من العلامات الدالة على وحدانية الله تعالى وقدرته على تخويف عباده من
بأسه وسطوته. والحديث مأخوذ في قوله تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) *. وفي قوله
لحياته مع أنهم لم يدعوا ذلك بيان أنه لا فرق بين الامرين فكما أنكم لا تقولون بكسوفهما
لحياة أحد كذلك لا يكسفان لموته، أو كأن المراد من حياته صحته من مرضه ونحوه، ثم ذكر
القمر مع أن الكلام خاص بكسوف الشمس زيادة في الإفادة والبيان، أن حكم النيرين واحد
في ذلك. ثم أرشد العباد إلى ما يشرع عند رؤية ذلك من الصلاة والدعاء ويأتي صفة
الصلاة. والامر دليل الوجوب إلا أنه حمله الجمهور على أنه سنة مؤكدة لانحصار الواجبات
في الخمس الصلوات. وصرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، ونقل عن أبي حنيفة أنه
أوجبها. وجعل (ص) غاية وقت الدعاء والصلاة انكشاف الكسوف، فدل
على أنها تفوت الصلاة بالانجلاء، فإذا انجلت وهو في الصلاة فلا يتمها، بل يقتصر على ما فعل
إلا أن في رواية لمسلم: فسلم وقد انجلت، فدل أنه يتم الصلاة وإن كان قد حصل الانجلاء
، ويؤيده القياس على سائر الصلوات فإنها تقيد بركعة كما سلف، فإذا أتى بركعة أتمها
. وفيه دليل على أن فعلها يتقيد بحصول السبب في أي وقت كان من الأوقات، وإليه ذهب
الجمهور. وعند أحمد وأبي حنيفة ما عدا أوقات الكراهة (وفي رواية للبخاري) أي عن المغيرة
(حتى تنجلي) عوض قوله تنكشف والمعنى واحد.
(وللبخاري من حديث أبي بكرة: فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم
. هو أول حديث ساقه البخاري في باب الكسوف ولفظه يكشف والمراد يرتفع ما حل بكم
من كسوف الشمس أو القمر.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) جهر في صلاة الكسوف
بقراءته فصلى أربع ركعات) أي ركوعات بدليل قولها (في ركعتين وأربع سجدات. متفق
73

عليه وهذا لفظ مسلم). الحديث دل على شرعية الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف،
والمراد كسوف الشمس لما أخرجه أحمد بلفظ خسفت الشمس وقال: ثم قرأ فجهر
بالقراءة وقد أخرج الجهر أيضا الترمذي والطحاوي والدار قطني، وقد أخرج ابن خزيمة
وغيره من علي عليه السلام مرفوعا الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، وفي ذلك أربعة أقوال:
(الأول) أنه يجهر بالقراءة مطلقا في كسوف الشمس والقمر لهذا الحديث وغيره، وهو
إن كان واردا في كسوف الشمس، فالقمر مثله لجمعة صلى الله عليه وسلم بينهما في الحكم حيث
قال: فإذا رأيتموهما أي كاسفتين فصلوا وادعوا والأصل استواؤهما في كيفية الصلاة، ونحوهما
وهو مذهب أحمد وإسحاق وأبي حنيفة وابن خزيمة وابن المنذر وآخرين. (والثاني) يسر مطلقا
لحديث ابن عباس أنه (ص) قام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة. فلو جهر
لم يقدره بما ذكر وقد علق البخاري عن ابن عباس: أنه قام بجنب النبي (ص)
في الكسوف فلم يسمع منه حرفا. ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها واهية فيضعف
القول بأنه يحتمل أن ابن عباس كان بعيدا منه (ص) فلم يسمع جهره بالقراءة
. (الثالث) أنه يخير فيهما بين الجهر والاسرار لثبوت الامرين عنه (ص) كما عرفت
من أدلة القولين. (الرابع) أنه يسر في الشمس ويجهر في القمر وهو لمن عدا الحنفية من الأربعة
عملا بحديث ابن عباس وقياسا على الصلوات الخمس. وما تقدم من دليل أهل الجهر مطلقا
أنهض مما قالوه. وقد أفاد حديث الباب أن صفة صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة
ركوعان وفي كل ركعة سجدتا ويأتي في شرح الحديث الرابع الخلاف في ذلك (وفي رواية)
أي لمسلم عن عائشة (فبعث) أن النبي (ص) (مناديا ينادي: الصلاة جامعة)
بنصب الصلاة وجامعة فالأول على أنه مفعول فعل محذوف أي أحضروا، والثاني على
الحال ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر وفيه تقادير أخر. وهو دليل على مشروعية
الاعلام بهذا اللفظ للاجتماع لها ولم يرد الامر بهذا اللفظ عنه (ص) إلا في هذه الصلاة عنه.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله
(ص) فصلى رسول الله (ص)، فقام قياما طويلا نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا
، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع
الأول ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو
دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا
وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب
الناس متفق عليه واللفظ للبخاري) وفي رواية لمسلم صلى حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات. قوله فصلى ظاهر الفاء التعقيب.
واعلم أن صلاة الكسوف رويت على وجوه كثيرة ذكرها الشيخان وأبو داود وغيرهم وهي
سنة باتفاق العلماء. وفي دعوى الاتفاق نظر لأنه صرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها،
وحكى عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة وتقدم عن أبي حنيفة إيجابها. ومذهب الشافعي
74

وجماعة أنها تسن في جماعة، وقال آخرون: فرادى وحجة الأولين الأحاديث الصحيحة
من فعله (ص) لها جماعة. ثم اختلفوا في صفتها. فالجمهور أنها ركعتان في كل
ركعة قيامان وقراءتان وركوعان والسجود سجدتان كغيرها وهذه الكيفية ذهب إليها مالك
والشافعي والليث وآخرون. وفي قوله: نحوا من قراءة سورة البقرة دليل على أنه يقرأ فيها
القرآن، قال النووي: اتفق العلماء أنه يقرأ في القيام الأول من أول ركعة الفاتحة واختلفوا
في القيام الثاني ومذهبنا ومالك أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها. وفيه دليل على شرعية
طول الركوع، قال المصنف: لم أر في شئ من الطريق بيان ما قاله (ص) فيه إلا
أن العلماء اتفقوا أنه لا قراءة فيه وإنما المشروع فيه الذكر من تسبيح وتكبير وغيرهما
. وفي قوله وهو دون الأول دلالة على أن القيام الذي يعقبه السجود لا تطويل فيه وأنه دون
الأول وإن كان قد وقع في رواية مسلم في حديث جابر أنه أطال ذلك لكن قال النووي:
إنها شاذة فلا يعمل بها. ونقل القاضي إجماع العلماء أنه لا يطول الاعتدال الذي يلي السجود
وتأول هذه الرواية بأنه أراد بالإطالة زيادة الطمأنينة. ولم يذكر في هذه الرواية طول السجود
ولكنه قد ثبتت إطالته في رواية أبي موسى عند البخاري وحديث ابن عمرو عند مسلم. قال
النووي: قال المحققون من أصحابنا وهو المنصوص للشافعي: أنه يطول للأحاديث الصحيحة
بذلك، فأخرج أبو داود والنسائي من حديث سمرة كان أطول ما يسجد في صلاة قط
وفي رواية مسلم من حديث جابر وسجوده نحوا من ركوعه وبه جزم أهل العلم بالحديث
ويقول عقيب كل ركوع: سمع الله لمن حمده ثم يقول عقيبه: ربنا لك الحمد إلى آخره.
ويطول الجلوس بين السجدتين فقد وقع في رواية مسلم لحديث جابر إطالة الاعتدال بين
السجدتين، قال المصنف: لم أقف عليه في شئ من الطرق إلا في هذا، ونقل الغزالي الاتفاق
على عدم إطالته مردود. وفي قوله: ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول دليل على
إطالة القيام في الركعة الثانية ولكنه دون القيام في الركعة الأولى وقد ورد في رواية أبي داود
عن عروة أنه قرأ آل عمران. قال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها
تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعها. واختلف في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من
القيام الثاني من الأولى وركوعه أن يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله
: وهو دون القيام الأول هل المراد به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع فيكون كل قيام
دون الذي قبله. وفي قوله: فخطب الناس دليل على شرعية الخطبة بعد صلاة الكسوف
، وإلى استحبابها ذهب الشافعي وأكثر أئمة الحديث. وعن الحنفية: لا خطبة في الكسوف لأنها
لم تنقل، وتعقب بالأحاديث المصرحة بالخطبة. والقول بأن الذي فعله (ص)
لم يقصد به الخطبة بل قصد الرد على ما اعتقد أن الكسوف بسبب موت أحد متعقب بأن
رواية البخاري، فحمد الله وأثنى عليه وفي رواية شهد أنه عبده ورسوله وفي رواية
للبخاري أنه ذكر أحوال الجنة والنار وغير ذلك وهذه مقاصد الخطبة، وفي لفظ مسلم
من حديث فاطمة عن أسماء قالت: فخطب رسول الله (ص) الناس فحمد
75

الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد ما من شئ لم أكن أريته إلا وقد أريته في مقامي هذا حتى
الجنة والنار وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا أو مثل فتنة المسيح الدجال
- لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيؤتى أحدكم فيقال ما علمك بهذا الرجل فأما
المؤمن أو الموقن - لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات
والهدى فأجبنا وأطعنا ثلاث مرات ثم يقال: نم قد كنا نعلم أنك تؤمن به فنم صالحا
وفي مسلم رواية أخرى في الخطبة بألفاظ فيها زيادة (وفي رواية لمسلم) أي عن ابن عباس
(صلى) أي النبي (ص) (حين كسفت الشمس ثماني ركعات) أي ركوعات
(في أربع سجدات) في ركعتين لان كل ركعة لها سجدتان والمراد أنه ركع في كل ركعة أربع
ركوعات فيحصل في الركعتين ثمان ركوعات وإلى هذه الصفة ذهبت طائفة.
(وعن علي رضي الله عنه) أي وأخرج مسلم عنه (مثل ذلك) أي مثل رواية
ابن عباس.
(وله) أي لمسلم (عن جابر) بن عبد الله (صلى) أي النبي صلى الله عليه وسلم
(ست ركعات بأربع سجدات) أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان.
(ولأبي داود عن أبي بن كعب رضي الله عنه صلى) أي النبي صلى الله عليه وسلم
(فركع خمس ركعات) أي ركوعات في كل ركعة (وسجد سجدتين وفعل في الثانية مثل ذلك)
ركع خمس ركوعات وسجد سجدتين. إذا عرفت هذه الأحاديث فقد يحصل من مجموعها أن
صلاة الكسوف ركعتان اتفاقا إنما اختلف في كمية الركوعات في كل ركعة فحصل من
مجموع الروايات التي ساقها المصنف أربع صور. (الأولى) ركعتان في كل ركعة ركوعان
وبهذا أخذ الشافعي ومالك والليث وأحمد وغيرهم وعليها دل حديث عائشة وجابر وابن
عباس وابن عمرو، قال ابن عبد البر: هو أصح ما في الباب وباقي الروايات معللة ضعيفة.
(والثانية) ركعتان أيضا في كل ركعة أربع ركوعات وهي التي أفادتها رواية مسلم عن ابن عباس
وعلي عليه السلام. (والثالثة) ركعتان أيضا في كل ركعة ثلاث ركوعات وعليها دل حديث جابر.
والرابعة) ركعتان أيضا يركع في كل واحدة خمس ركوعات. ولما اختلفت الروايات اختلف
العلماء فالجمهور أخذوا بالأولى لما عرفت من كلام ابن عبد البر، وقال النووي في شرح
مسلم: إنه أخذ بكل نوع بعض الصحابة. وقال جماعة من المحققين: إنه مخير بين الأنواع فأيهما
فعل فقد أحسن، وهو مبني على أنه تعدد الكسوف وأنه فعل هذا تارة وهذا أخرى، ولكن
التحقيق أن كل الروايات حكاية عن واقعة واحدة هي صلاته (ص) يوم وفاة
إبراهيم، ولهذا عول الآخرون على إعلال الأحاديث التي حكت الصور الثلاث، قال
ابن القيم: كبار الأئمة لا يصححون التعدد لذلك كالامام أحمد والبخاري والشافعي ويرونه
غلطا، وذهبت الحنفية إلى أنها تصلي ركعتين كسائر النوافل.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما هبت الريح قط إلا جثا) بالجيم والمثلثة
(النبي (ص) على ركبتيه) أي برك عليهما وهي قعدة المخافة لا يفعلها
76

في الغالب إلا الخائف (وقال: اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا رواه
الشافعي والطبراني). الريح: اسم جنس صادق على ما يأتي بالرحمة ويأتي بالعذاب وقد
ورد في حديث أبي هريرة مرفوعا الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها. وقد
ورد في تمام حديث ابن عباس: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا. وهو يدل أن المفرد
يختص بالعذاب والجمع بالرحمة، قال ابن عباس: في كتاب الله * (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا) *
. * (وأرسلنا عليهم الريح العقيم) *.. * (وأرسلنا الرياح لواقح) *. * (وأنه يرسل الرياح مبشرات) *
رواه الشافعي في الدعوات الكبير. وهو بيان أنها جاءت مجموعة في الرحمة، ومفردة في العذاب،
فاستشكل ما في الحديث من طلب أن تكون رحمة، وأجيب: بأن المراد لا تهلكنا بهذه الريح
لأنهم لو هلكوا بهذه الريح لم تهب عليهم ريح أخرى فتكون ريحا لا رياحا.
(وعنه) أي ابن عباس (رضي الله عنهما صلى في زلزلة ست ركعات) أي ركوعات (وأربع
سجدات) أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات (وقال: هكذا صلاة الآيات.
رواه البيهقي. وذكر الشافعي عن علي مثله دون آخره) وهو قوله: هكذا صلاة الآيات
أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن الحارث أنه كان في زلزلة في البصرة، ورواه
ابن أبي شيبة من هذا الوجه مختصرا: أن ابن عباس صلى بهم في زلزلة أربع سجدات ركع فيها
ستا. وظاهر اللفظ أنه صلى بهم جماعة وإلى هذا ذهب القاسم من الآل وقال: يصلي
للافزاع مثل صلاة الكسوف وإن شاء ركعتين ووافقه على ذلك أحمد بن حنبل ولكن قال
: كصلاة الكسوف (قلت): لكن في كتب الحنابلة أنه يصلي صلاة الكسوف ركعتين إذا شاء. وذهب
الشافعي وغيره إلى أنه لا يسن التجميع وأما صلاة المنفرد فحسن، قال: لأنه لم يرو أنه
(ص) أمر بالتجميع إلا في الكسوفين.
باب صلاة الاستسقاء
أي طلب سقاية الله تعالى عند حدوث الجدب: أخرج ابن ماجة من حديث ابن عمر: أن
النبي (ص) قال: لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة
وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبي (ص)) أي من
المدينة (متواضعا متبذلا) بالمثناة الفوقية فذال معجمة أي أنه لابس ثياب البذلة، والمراد
ترك الزينة وحسن الهيئة تواضعا وإظهارا للحاجة (متخشعا) الخشوع في الصوت والبصر
كالخضوع في البدن (مترسلا) من الترسل في المشي وهو التأني وعدم العجلة (متضرعا)
لفظ أبي داود متبذلا متواضعا متضرعا والتضرع التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة كما
في النهاية (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه) لفظ أبي داود ولكن
لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد فأفاد لفظه أن الصلاة
كانت بعد الدعاء واللفظ الذي أتى به المصنف غير صريح في ذلك (رواه الخمسة وصححه
77

الترمذي وأبو عوانة وابن حبان) وأخرجه الحاكم والبيهقي والآل والدارقطني. والحديث دليل
على شرعية الصلاة للاستسقاء وإليه ذهب الآل. وقال أبو حنيفة: لا يصلي للاستسقاء وإنما
شرع الدعاء فقط. ثم اختلف القائلون بشرعية الصلاة فقال جماعة: إنها كصلاة العيد
في تكبيرها وقراءتها وهو المنصوص للشافعي عملا بظاهر لفظ ابن عباس. وقال آخرون:
بل يصلي ركعتين لا صفة لهما زائدة على ذلك وإليه ذهب جماعة من الآل ويروى عن
علي عليه السلام وبه قال مالك مستدلين بما أخرجه البخاري من حديث عباد بن تميم أنه
(ص) صلى بهم ركعتين. وكما يفيده حديث عائشة الآتي قريبا وتأولوا
حديث ابن عباس بأن المراد التشبيه في العدد لا في الصفة، ويبعده أنه قد أخرج الدارقطني
من حديث ابن عباس: أنه يكبر فيها سبعا وخمسا كالعيدين ويقرأ بسبح وهل أتاك. وإن
كان في إسناده مقال فإنه يؤيده حديث الباب. وأما أبو حنيفة فاستدل بما أخرجه أبو داود
والترمذي: أنه (ص) استسقى عند أحجار الزيت بالدعاء. وأخرج عوانة
في صحيحه، أنه شكا إليه (ص) قوم القحط فقال: اجثوا على الركب وقولوا
: يا رب يا رب. وأجيب عنه بأنه ثبت صلاة ركعتين وثبت تركها في بعض الأحيان لبيان
الجواز. وقد عد في الهدي النبوي أنواع استسقائه (ص). (فالأول) خروجه
(ص) إلى المصلى وصلاته وخطبته. (والثاني) يوم الجمعة على المنبر أثناء الخطبة.
(والثالث) استسقاؤه على منبر المدينة استسقى مجردا في غير الجمعة ولم يحفظ عنه فيه صلاة.
(الرابع) أنه استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله عز وجل. (الخامس) أنه
استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء وهي خارج باب المسجد. (السادس) أنه استسقى
في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، وأغيث صلى الله عليه وسلم في كل مرة
استسقى فيها. واختلف في الخطبة في الاستسقاء، فذهب الهادي إلى أنه لا يخطب فيه لقول ابن عباس
لم يخطب إلا أنه لا يخفى أنه ينفي الخطبة المشابهة لخطبتهم وذكر ما قاله صلى الله عليه وسلم
وقد زاد في رواية أبي داود: أنه (ص) رقى المنبر. والظاهر أنه لا يرقاه إلا
للخطبة. وذهب آخرون إلى أنه يخطب فيها كالجمعة لحديث عائشة الآتي وحديث ابن عباس
. ثم اختلفوا هل يخطب قبل الصلاة أو بعدها؟ فذهب الناصر وجماعة إلى الأول. وذهب
الشافعي وآخرون إلى الثاني مستدلين بحديث أبي هريرة عند أحمد وابن ماجة وأبي عوانة
والبيهقي: أنه (ص) خرج للاستسقاء فصلى ركعتين ثم خطب. واستدل الأولون
بحديث ابن عباس وقد قدمنا لفظه. وجمع بين الحديثين بأن الذي بدأ به هو الدعاء، فعبر
بعض عن الدعاء بالخطبة واقتصر على ذلك ولم يرو في الخطبة بعدها، والراوي لتقديم
الصلاة على الخطبة اقتصر على ذلك ولم يروا الدعاء قبلها وهذا جمع بين الروايتين. وأما
ما يدعو به فيتحرى ما ورد عنه (ص) من ذلك وقد أبان الألفاظ التي دعا
بها صلى الله عليه وسلم بقوله:
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله (ص) قحوط المطر)
78

وهو مصدر كالقحط (فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه) عينه
لهم (فخرج رسول الله (ص) حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر) قال ابن القيم: إن صح وإلا ففي
القلب منه شئ (فكبر رسول الله (ص) وحمد الله عز وجل ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم فقد أمركم
الله أن تدعوه قال تعالى: * (ادعوني استجب لكم) * ووعدكم أن يستجيب لكم)
كما الآية الأولى وفي قوله * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا
دعاني) * (ثم قال: * (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) * فيه دليل على عدم افتتاح
الخطبة بالبسملة بل بالحمدلة ولم تأت رواية عنه (ص) أنه افتتح الخطبة بغير
التحميد (مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله
إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا
قوة بلاغا إلى حين ثم رفع يديه فلم يزل) في سنن أبي داود، في الرفع (حتى روى
بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهر) فاستقبل القبلة (وقلب) في سنن أبي داود، وحول
(رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس) توجه إليهم بعد تحويل ظهره عنهم، (ونزل)
أي عن المنبر (فصلى ركعتين فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت) تمامه في سنن
أبي داود بإذن الله فلم يأت باب مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن
ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: أشهد أن الله على كل شئ قدير وأني عبد الله ورسوله
(رواه أبو داود، وقال: غريب وإسناده جيد) هو من تمام قول أبي داود ثم قال أبو داود:
أهل المدينة يقرءون ملك يوم الدين، وإن هذا الحديث حجة لهم، وفي قوله: وعد الناس
ما يدل على أنه يحسن تقديم تبيين اليوم للناس ليتأهبوا ويتخلصوا من المظالم ونحوها ويقدموا
التوبة، وهذه الأمور واجبة مطلقا إلا أنه مع حصول الشدة وطلب تفريجها من الله تعالى
يتضيق ذلك، وقد ورد في الإسرائيليات إن الله حرم قوما من بني إسرائيل السقيا بعد
خروجهم لأنه كان فيهم عاص واحد، ولفظ الناس يعم المسلمين وغيرهم قبل فيشرع
اخراج أهل الذمة ويعتزلون المصلي. وفي الحديث دليل على شرعية رفع اليدين عند الدعاء
، ولكنه يبالغ في رفعهما في الاستسقاء حتى يساوي بهما وجهه ولا يجاوز بهما رأسه. وقد
ثبت رفع اليدين عند الدعاء في عدة أحاديث وصنف المنذري في ذلك جزءا، وقال النووي:
قد جمعت فيها نحوا من ثلاثين حديثا من الصحيحين أو أحدهما وذكرها في أواخر باب صفة
الصلاة من شرح المهذب، وأما حديث أنس في نفي رفع اليدين في غير الاستسقاء، فالمراد به
نفي المبالغة لا نفي أصل الرفع. وأما كيفية قلب الرداء فيأتي عن البخاري جعل اليمين على
الشمال وزاد ابن ماجة وابن خزيمة وجعل الشمال على اليمين، وفي رواية لأبي داود جعل
عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر عاتقه الأيمن، وفي رواية لأبي داود أنه
كان عليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها ويجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على
عاتقه ويشرع للناس أن يحولوا معه لما أخرجه أحمد بلفظ: وحول الناس معه، وقال الليث
79

وأبو يوسف: إنه يختص التحويل بالامام، وقال بعضهم: لا تحول النساء. وأما وقت التحويل
فعند استقبال القبلة ولمسلم: أنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه ومثله
في البخاري. وفي الحديث دليل على أن صلاة الاستسقاء ركعتان وهو قول الجمهور
وقال الهادي: أربع بتسليمتين ووجه قوله بأنه (ص) استسقى في الجمعة
كما في قصة الاعرابي والجمعة بالخطبتين بمنزلة أربع ركعات ولا يخفى ما فيه، وقد ثبت
من فعله (ص) الركعتان كما عرفت من هذا الحديث والذي قبله ولما ذهبت
الحنفية إلى أنه لا يشرع التحويل، وقد أفاده هذا الحديث الماضي زاد المصنف تقوية الاستدلال
على ثبوت التحويل بقوله:
(وقصة التحويل في الصحيح) أي صحيح البخاري (من حديث عبد الله بن
زيد) أي المازني وليس هو راوي الأذان كما وهم فيه بعض الحفاظ ولفظه في البخاري
فاستقبل القبلة وقلب رداءه (وفيه) أي في حديث عبد الله بن زيد (فتوجه) أي النبي
(ص) (إلى القبلة يدعو) في البخاري بعد يدعو، وحول رداءه، وفي لفظ
قلب رداءه (ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة)، قال البخاري: قال سفيان: وأخبر
ني المسعودي عن أبي بكر قال: جعل اليمين على الشمال انتهى. زاد ابن خزيمة والشمال على
اليمين، وقد اختلف في حكمة التحويل، فأشار المصنف إليه بإيراد الحديث، وهو قوله: (وللدار قطني من مرسل أبي جعفر الباقر) هو محمد بن علي بن الحسن بن علي
بن أبي طالب سمع أباه زين العابدين وجابر بن عبد الله، وروى عنه ابنه جعفر الصادق وغيره
. ولد سنة ست وخمسين ومات سنة سبع عشرة ومائة وهو ابن ثلاث وستين سنة ودفن
بالبقيع في البقعة التي دفن فيها أبوه وعم أبيه الحسن بن علي بن أبي الطالب وسمي الباقر لأنه
تبقر في العلم أي توسع فيه انتهى من جامع الأصول، (وحول رداءه ليتحول القحط) وقال
ابن العربي: هو أمارة بينه وبين ربه، قيل: له حول رداءك ليتحول للتفاؤل، قال: لان من
شرط الفأل أن لا يقصد إليه، وقال المصنف: إنه ورد في التفاؤل حديث رجاله ثقات.
قال المصنف في الفتح: إنه أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر
فوصله لان محمد بن علي لقي جابرا، وروي عنه إلا أنه قال: إنه رجح الدارقطني إرساله، ثم
قال: وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن وقوله: في الحديث الأول: جهر فيهما بالقراءة
في بعض روايات البخاري يجهر، ونقل ابن بطال أنه مجمع عليه أي على الجهر
في صلاة الاستسقاء وأخذ منه بعضهم أنها لا تصلي إلا في النهار ولو كانت تصلي في الليل
لأسر فيها نهارا ولجهر فيها ليلا وفي هذا الاخذ بعد لا يحفى.
(وعن أنس رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة والنبي (ص) قائم
يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله عز وجل يغيثنا
فرفع يديه) زاد البخاري في رواية ورفع الناس أيديهم (ثم قال: اللهم أغثنا) وفي
80

البخاري أسقنا (اللهم أغثنا) فذكر الحديث (وفيه الدعاء بإمساكها) أي
السحاب عن الأمطار (متفق عليه تمامه من مسلم: قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء
من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة
مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا. ثم
دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب
فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا
قال: فرفع رسول الله (ص) يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على
الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر قال فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس
قال شريك: فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. انتهى. قال المصنف
: لم أقف على تسميته في حديث أنس. وهلاك الأموال يعم المواشي والأطيان. وانقطاع السبل
عبارة عن عدم السفر لضعف الإبل بسبب عدم المرعى والأقوات أو لأنه لما نفد ما عند
الناس من الطعام لم يجدوا ما يحملونه إلى الأسواق. وقوله يغيثنا يحتمل فتح حرف المضارعة
على أنه من غاث إما من الغيث أو الغوث ويحتمل ضمه على أنه من الإغاثة ويرجح هذا
قوله: اللهم أغثنا. وفيه دلالة على أنه يدعى إذا كثر المطر وقد بوب له البخاري باب
الدعاء إذ كثر المطر وذكر الحديث. وأخرج الشافعي في مسنده وهو مرسل من حديث
المطلب بن حنطب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند المطر اللهم سقيا رحمة
لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق اللهم على الظراب ومنابت الشجر اللهم
حوالينا ولا علينا.
(وعن أنس رضي الله عنه أن عمر كان إذا قحطوا) بضم القاف وكسر المهملة
أي أصابهم القحط (استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال) أي عمر: (اللهم إنا كنا
نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. رواه البخاري)
وأما العباس رضي الله عنه فإنه قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب ولم ينكشف
إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا
إليك بالتوبة فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض أخرجه الزبير
بن بكار في الأنساب، وأخرجه أيضا من حديث ابن عمر أن عمر استسقى بالعباس عام
الرمادة وذكر الحديث، وذكر البارزي أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة، والرمادة
بفتح الراء وتخفيف الميم، سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فاغبرت الأرض جدا من
81

عدم المطر. وفي هذه القصة دليل على الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وبيت النبوة.
وفيه فضيلة العباس وتواضع عمر ومعرفته لحق أهل البيت.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا ونحن مع رسول الله (ص) مطر قال: فحسر ثوبه)
أي كشف بعضه عن بدنه (حتى أصابه من المطر وقال: إنه حديث عهد بربه رواه
مسلم) وبوب له البخاري فقال: باب من يمطر حتى يتحادر عن لحيته وساق حديث
أنس بطوله. وقوله: حديث عهد بربه أي بإيجاد ربه إياه أن المطر رحمة وهي
قريبة العهد بخلق الله لها فيتبرك بها وهو دليل على استحباب ذلك.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (ص) كان إذا رأى المطر
قال: اللهم صيبا نافعا أخرجاه) أي الشيخان وهذا خلاف عادة المصنف فإنه
يقول فيما أخرجاه: متفق عليه. والصيب من صاب المطر إذا وقع، ونافعا صفة مقيدة
احترازا عن الصيب الضار.
(وعن سعد رضي الله عنه أن النبي (ص) دعا في الاستسقاء اللهم
جللنا) بالجيم من التجليل والمراد تعميم الأرض (سحابا كثيفا) بفتح الكاف فمثلثة فمثناة
تحتية ففاء، أي متكاثفا متراكما (قصيفا) بالقاف المفتوحة فصاد مهملة فمثناة تحتية ففاء:
وهو ما كان رعده شديد الصوت وهو من أمارات قوة المطر (دلوقا) بفتح الدال المهملة
وضم اللام وسكون الواو فقاف يقال خيل دلوق أي مندفعة شديدة الدفعة ويقال:
دلق السيل على القوم هجم (ضحوكا) بفتح أوله بزنة فعول أي ذات برق (تمطرنا
منه رذاذا) بضم الراء فذال معجمة فأخرى مثلها هو ما كان مطره دون الطش
(قطقطا) بكسر القافين وسكون الطاء الأولى قال أبو زيد: القطقط أصغر المطر ثم
الرذاذ وهو فوق القطقط ثم الطش وهو فوق الرذاذ (سجلا) مصدر سجلت الماء سجلا إذا
صببته صبا، وصف به السحاب مبالغة في كثرة ما يصب منها من الماء حتى كأنها نفس
المصدر (يا ذا الجلال والاكرام رواه أبو عوانة في صحيحه) وهذا الوصفان نطق بهما
القرآن. وفي التفسير أي الاستغناء المطلق والفضل التام، وقيل الذي عنده الاجلال والاكرام
للمخلصين من عباده وهما من عظائم صفاته تعالى ولذا قال (ص): ألظوا
بياذا الجلال والاكرام وروي أنه (ص) مر برجل وهو يصلي ويقول:
يا ذال الجلال والاكرام، فقال: قد استجيب لك.
82

(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: خرج
سليمان عليه السلام يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تقول:
اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك، فقال: ارجعوا فقد
سقيتم بدعوة غيركم رواه أحمد وصححه الحاكم. فيه دلالة على أن الاستسقاء شرع
قديم والخروج له كذلك. وفيه أنه يحسن اخراج البهائم في الاستسقاء، وأن لها إدراكا يتعلق
بمعرفة الله ومعرفة بذكره وبطلب الحاجات منه. وفي ذلك قصص يطول ذكرها وآيات من
كتاب الله دالة على ذلك وتأويل المتأولين لها لا ملجأ له.
(وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي (ص) استسقى فأشار بظهر كفيه
إلى السماء أخرجه مسلم) فيه دلالة أنه إذا أريد بالدعاء رفع البلاء فإنه يرفع يديه ويجعل
ظهر كفيه إلى السماء وإذا دعا بسؤال شئ وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء وقد ورد
صريحا في حديث خلاد بن السائب عن أبيه: أن النبي (ص) كان إذا سأل
جعل بطن كفيه إلى السماء وإذا استعاذ جعل ظهرهما إليها. وإن كان قد ورد من حديث
ابن عباس سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهرها وإن كان ضعيفا فالجمع بينهما أن
حديث ابن عباس يختص بما إذا كان السؤال بحصول شئ لا لدفع بلاء وقد فسر قوله
تعالى * (ويدعوننا رغبا ورهبا) * أن الرغب بالبطون والرهب بالظهور.
باب اللباس
أي ما يحل منه وما يحرم
(عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه) قال في الأطراف: اختلف في اسمه فقيل عبد الله
بن هانئ، وقيل عبد الله بن وهب، وقيل عبيد الله بن وهب وبقي إلى خلافة عبد الملك
بن مروان سكن الشام. وليس بعم أبي موسى الأشعري فإن ذلك قتل أيام حنين في حياة
النبي (ص) واسمه عبيد بن سليم (قال: قال رسول الله (ص)
: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر) بالحاء والراء المهملتين والمراد به
استحلال الزنا وبالخاء والزاي المعجمتين (والحرير رواه أبو داود وأصله في البخاري)
وأخرجه البخاري تعليقا. والحديث دليل على تحريم لباس الحرير لان قوله يستحلون بمعنى
يجعلون الحرام حلالا ويأتي الحديث الثاني وفيه التصريح بذلك. وفي الحديث دليل أن
استحلال المحرم لا يخرج فاعله من مسمى الأمة كذا قال (قلت): ولا يخفى ضعف هذا
القول فإن من استحل محرما أي اعتقد حله فإنه كذب الرسول (ص)
الذي أخبر أنه حرام، فقوله بحله رد لكلامه وتكذيب، وتكذيبه كفر فلا بد من تأويل الحديث
بأنه أراد أنه من الأمة قبل الاستحلال فإذا استحل خرج عن مسمى الأمة. ولا يصح
أن يراد بالأمة هنا أمة الدعوة لأنهم مستحلون لكل ما حرمه لا لهذا بخصوصه. وقد
اختلف في ضبط هذه اللفظة في الحديث. فظاهر إيراد المصنف له في اللباس أنه يختار أنها
83

بالخاء المعجمة والزاي، وهو الذي نص عليه الحميدي وابن الأثير في هذا الحديث، وهو ضرب من
ثياب الإبريسم معروف، وضبطه أبو موسى بالحاء والراء المهملتين. قال ابن الأثير في النهاية:
والمشهور في هذا الحديث على اختلاف طرقه هو الأول وإذا كان هو المراد من الحديث
فهو الخالص من الحرير وعطف الحرير عليه من عطف العام على الخاص لان الخز
ضرب من الحرير. وقد يطلق الخز على ثياب تنسج من الحرير والصوف ولكنه غير مراد
هنا لما عرف من أن هذا النوع حلال وعليه يحمل. ما أخرجه أبو داود عن عبد الله
بن سعد الدشتكي عن أبيه سعد، قال: رأيت ببخارى رجلا على بغلة بيضاء عليه عمامة خز
سوداء قال: كسانيها رسول الله (ص). أخرجه النسائي. وذكره البخاري
ويأتي من حديث عمر بيان ما يحل من غير الخالص.
(وعن حذيفة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله (ص) أن
نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها) تقدم الحديث عن حذيفة بلفظ
: قال رسول الله (ص): لا تشربوا في آنية الذهب والفضة الحديث فقوله
هنا نهى إخبار عن ذلك اللفظ الذي تقدم وتقدم الكلام فيه (وعن لبس الحرير
والديباج، وأن نجلس عليه رواه البخاري) أي ونهى عن لبس الحرير والنهي
ظاهر في التحريم. وإلى تحريم لبس الحرير ذهب الجماهير من الأمة على الرجال دون
النساء، وحكى القاضي عياض عن قوم إباحته ونسب في البحر إباحته إلى ابن علية،
وقال: إنه انعقد الاجماع بعده على التحريم، ولكنه قال المصنف في الفتح: قد ثبت لبس
الحرير عن جماعة من الصحابة وغيرهم قال أبو داود: لبسه عشرون من الصحابة وأكثر،
وأورده ابن أبي شيبة عن جمع منهم وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق عمار بن أبي عمار
قال: أتت مروان بن الحكم مطارف خز فكساها أصحاب رسول الله (ص).
قال: والأصح في تفسير الخز أنه ثياب سداها من حرير ولحمتها من غيره وقيل: تنسج
مخلوطة من حرير وصوف أو نحوه، وقيل أصله اسم دابة يقال لها الخز فسمى الثوب المتخذ
من وبره خزا لنعومته ثم أطلق على ما تخلط بحرير لنعومة الحرير. إذا عرفت هذا فقد
يحتمل أن الذي لبسه الصحابة في رواية أبي داود كان من الخز وإن كان ظاهر عبارته
يأبى ذلك. وأما القز بالقاف بدل الخاء المعجمة فقال الرافعي: إنه عند الأئمة: من الحرير
فحرموه على الرجال أيضا. والقول بحله وحل الحرير للنساء قول الجماهير إلا ابن الزبير
فإنه أخرج مسلم عنه: أنه خطب فقال: لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر بن
الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلبسوا الحرير فأخذ بالعموم إلا
أنه انعقد الاجماع على حل الحرير للنساء. فأما الصبيان من الذكور فيحرم عليهم أيضا
عند الأكثر لعموم قوله (ص)، حرام على ذكور أمتي وقال محمد بن الحسن:
يجوز إلباسهم، وقال أصحاب الشافعي: يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد لأنه
لا تكليف عليهم ولهم في غير يوم العيد ثلاثة أوجه أصحها جوازه. وأما الديباج فهو ما غلظ
84

من ثياب الحرير وعطفه عليه من عطف الخاص على العام. وأما الجلوس على الحرير
فقد أفاد الحديث النهي عنه إلا أنه قال المصنف في الفتح: إنه قد أخرج البخاري ومسلم
حديث حذيفة من غير وجه وليس فيه هذه الزيادة وهي قوله: وأن نجلس عليه قال:
وهي حجة قوية لمن قال يمنع الجلوس على الحرير وهو قول الجمهور خلافا لابن الماجشون
والكوفيين وبعض الشافعية، وقال بعض الحنفية في الدليل على عدم تحريم الجلوس على
الحرير: إن قوله نهى ليس صريحا في التحريم، وقال بعضهم: إنه يحتمل أن يكون المنع
ورد عن مجموع اللبس والجلوس لا الجلوس وحده. (قلت: ولا يخفى تكلف هذا القائل
والاخراج عن الظاهر بلا حاجة) وقال بعض الحنفية: مدار الجواز والتحريم على اللبس
لصحة الاخبار فيه والجلوس ليس بلبس، واحتج الجمهور على أنه يسمى الجلوس لبسا
بحديث أنس الصحيح: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس ولان لبس كل
شئ بحسبه. وأما افتراش النساء للحرير فالأصل جوازه وقد أحل لهن لبسه ومنه الافتراش
ومن قال بمنعهن عن افتراشه فلا حجة له. واختلف في علة تحريم الحرير على قولين:
الأول الفخر والخيلاء والثاني كونه لباس رفاهية وزينة تليق بالنساء دون شهامة الرجال.
(وعن عمر رضي الله عنه قال: نهى النبي (ص) عن لبس
الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع متفق عليه واللفظ لمسلم) قال المصنف:
أو هنا للتخيير والتنويع. وقد أخرج الحديث ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ إن الحرير
لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا وهكذا يعني إصبعين وثلاثا وأربعا ومن قال المراد أن يكون
في كل كم إصبعان فإنه يرده رواية النسائي لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع
وهذا - أي الترخيص في الأربع الأصابع - مذهب الجمهور. وعن مالك في رواية منعه
وسواء كان منسوجا أو ملصقا ويقاس عليه الجلوس. وقدرت الهادوية الرخصة بثلاث
أصابع لكن هذا الحديث نص في الأربع.
(وعن أنس رضي الله عنه أن النبي (ص) رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير
في قميص الحرير من حكة) بكسر الحاء المهملة وتشديد الكاف نوع من الجرب
وذكر الحكة مثلا لا قيدا أي من أجل حكة، فمن للتعليل (كانت بهما. متفق عليه)
وفي رواية أنهما شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل فرخص لهما في قميص
الحرير في غزاة لهما. قال المصنف في الفتح: يمكن الجمع بأن الحكة حصلت من القمل
فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى سبب السبب. وقد اختلف العلماء في جوازه للحكة
وغيرها. فقال الطبري: دلت الرخصة في لبسه للحكة على أن من قصد بلبسه دفع ما هو
أعظم من أذى الحكة كدفع السلاح ونحو ذلك فإنه يجوز. والقائلون بالجواز لا يخصونه بالسفر.
وقال البعض من الشافعية: يختص به. وقال القرطبي: الحديث حجة على من منع إلا أن
يدعي الخصوصية بالزبير وعبد الرحمن ولا تصح تلك الدعوى. وقال مالك وأبو حنيفة:
لا يجوز مطلقا. وقال الشافعي بالجواز للضرورة، ووقع في كلام الشارح تبعا للنووي أن
85

الحكمة في لبس الحرير للحكة لما فيه من البرودة، وتعقب بأن الحرير حار فالصواب أن
الحكمة فيه لخاصية فيه تدفع ما تنشأ عنه الحكة من القمل.
(وعن علي رضي الله عنه قال: كساني النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء)
بكسر المهملة ثم مثناة تحتية ثم راء مهملة ثم ألف ممدودة قال الخليل: ليس في الكلام فعلاء
بكسر أوله مع المد سوى سيراء - وهو الماء الذي يخرج على رأس المولود - وحولاء وعنباء
لغة في ضبط العنب وحلة بالتنوين، على أن سيراء صفة لها وبغيره على الإضافة وهو
الأجود كما في شرح مسلم (فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي. متفق
عليه وهذا لفظ مسلم. قال أبو عبيدة: الحلة إزار ورداء، وقال ابن الأثير: إذا كانا من
جنس واحد، وقيل هي برود مضلعة بالقز، وقيل حرير خالص وهو الأقرب. وقوله
فرأيت الغضب في وجهه زاد مسلم في رواية فقال: إني لم أبعثها إليك لتلبسها إنما بعثتها
إليك لتشققها خمرا بين نسائك وله في أخرى: شققتها خمرا بين الفواطم. وقوله فشققتها أي قطعتها
ففرقتها خمرا وهي بالخاء المعجمة مضمومة وضم الميم جمع خمار - بكسر أوله والتخفيف:
ما تغطي به المرأة رأسها. والمراد بالفواطم: فاطمة بنت محمد (ص) وفاطمة
بنت أسد أم علي عليه السلام والثالثة قيل هي فاطمة بنت حمزة وذكرت لهن رابعة وهي
فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب. وقد استدل بالحديث على جواز تأخير البيان عن وقت
الخطاب لأنه (ص) أرسلها لعلي عليه السلام فبنى على ظاهر الارسال وانتفع بها
في أشهر ما صنعت له وهو اللبس فبين له النبي (ص) أنه لم يبيح له لبسها.
(وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: أحل الذهب
والحرير) أي لبسهما (لإناث أمتي وحرم) أي لبسهما وفراش الحرير كما سلف (على
ذكورها رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه) إلا أنه أخرجه الترمذي من حديث سعيد بن أبي هند
عن أبي موسى وأعله أبو حاتم بأنه لم يلقه. وكذا قال ابن حبان في صحيحه: سعيد بن أبي هند
عن أبي موسى معلول لا يصح. وأما ابن خزيمة فصححه. وقد روي من ثمان طرق غير هذه
الطريق عن ثمانية من الصحابة وكلها لا تخلوا عن مقال ولكنه يشد بعضها بعضا. وفيه دليل
على تحريم لبس الرجال الذهب والحرير وجواز لبسهما للنساء ولكنه قد قيل إن حل
الذهب للنساء منسوخ.
(وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) قال: إن الله يحب
إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه رواه البيهقي) وأخرج
النسائي من حديث أبي الأحوص، والترمذي والحاكم من حديث ابن عمر إن الله يحب أن يرى
أثر نعمته على عبده وأخرج النسائي عن أبي الأحوص عن أبيه وفيه: إذا آتاك الله مالا
فلير أثر نعمته عليك وكرامته. في هذه الأحاديث دلالة أن الله تعالى يحب من العبد إظهار نعمته
في مأكله وملبسه فإنه شكر للنعمة فعلي، ولأنه إذا رآه المحتاج في هيئة حسنة قصده ليتصدق
86

عليه، وبذاذة الهيئة سؤال وإظهار للفقر بلسان الحال ولذا قيل: ولسان حالي بالشكاية أنطق،
وقيل وكفاك شاهد منظري عن مخبري.
(وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس) بضم
اللام (القسي) بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء النسبة وقيل: إن المحدثين يكسرون
القاف وأهل مصر يفتحونها وهي نسبة إلى بلد يقال لها القس، وقد فسر القسي في الحديث
بأنها ثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام هكذا في مسلم وفي البخاري فيها حرير أمثال
الأترج (والمعصفر. رواه مسلم) هو المصبوغ بالعصفر. فالنهي في الأول للتحريم إن كان
حريره أكثر وإلا فإنه للتنزيه والكراهة وأما في الثاني فالأصل في النهي أيضا التحريم وإليه
ذهب الهادوية. وذهب جماهير الصحابة والتابعين إلى جواز لبس المعصفر وبه قال الفقهاء
غير أحمد، وقيل مكروه تنزيها، قالوا: لأنه لبس (ص) حلة حمراء، وفي
الصحيحين عن ابن عمر رأيت رسول الله (ص) يصبغ بالصفرة. وقد رد
ابن القيم القول بأنها حلة حمراء بحتا وقال: إن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط
حمر مع الأسود وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط وأما الأحمر البحت
فمنهي عنه أشد النهي ففي الصحيحين أنه (ص) نهى عن المياثر الحمر.
ولكن الحديث وهو قوله:
(وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى علي النبي (ص) ثوبين معصفرين
فقال: أمك أمرتك بهذا؟ رواه مسلم) دليل على تحريم المعصفر معضد للنهي الأول
ويزيده قوة في الدلالة تمام هذا الحديث عند مسلم قلت: أغسلهما يا رسول الله؟ قال: بل
أحرقهما. وفي رواية إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها وأخرجه أبو داود والنسائي.
وفي قوله: أمك أمرتك إعلان بأنه لباس النساء وزينتهن وأخلاقهن. وفيه حجة على
العقوبة بإتلاف المال وهو - أي أمر ابن عمرو بتحريقها - يعارض حديث علي عليه السلام
، وأمره بأن يشقها بين نسائه كما في رواية قدمناها فينظر في وجه الجمع إلا أن في سنن
أبي داود عن عبد الله بن عمرو: أنه (ص) رأى عليه ريطة مضرجة بالعصفر
فقال: ما هذه الريطة التي عليك؟ قال: فعرفت ما كره، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورا
لهم، فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال:
ألا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس به للنساء فهذا يدل على أنه أحرقها من غير أمر من النبي
(ص) فلو صحت هذه الرواية لزال التعارض بينه وبين حديث علي عليه السلام
لكنه يبقى التعارض بين روايتي ابن عمرو وقد يقال: إنه (ص) أمر أولا
بإحراقها ندبا ثم لما أحرقها قال له (ص): لو كسوتها بعض أهلك إعلاما له
بأن هذا كان كافيا عن إحراقها لو فعله وأن الامر للندب. وقال القاضي عياض في شرح مسلم
: أمره (ص) بإحراقها من باب التغليظ أو العقوبة.
(وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة رسول الله (ص)
87

طيالسة مكفوفة) المكفوف من الحرير ما اتخذ جيبه من حرير وكان لذيله وأكمامه كفاف منه
(الجيب والكمين والفرجين بالديباج) هو ما غلظ من الحرير كما سلف (رواه أبو داود
وأصله في مسلم وزاد) أي من رواية أسماء (كانت) أي الجبة (عند عائشة حتى قبضت)
مغير الصيغة أي ماتت (فقبضتها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى
يستشفى بها) الحديث في مسلم له سبب وهو: أن أسماء أرسلت إلى ابن عمر أنه بلغها أنه يحرم
العلم في الثواب فأجاب بأنه سمع عمر يقول: سمعت رسول الله (ص)
يقول: إنما يلبس الحرير من لا خلاق له فخفت أن يكون العلم منه فأخرجت
أسماء الجبة (وزاد البخاري في الأدب المفرد) في رواية أسماء (وكان يلبسها للوفد والجمعة)
. قال في شرح مسلم للنووي على قوله مكفوفة: ومعنى المكفوفة أنه جعل له كفة بضم الكاف
وهو ما يكف به جوانبها ويعطف عليها ويكون ذلك في الذيل وفي الفرجين وفي الكمين
اه‍. وهو محمول على أنه أربع أصابع أو دونها أو فوقها إذا لم يكن مصمتا جميعا بين الأدلة
. وفي جواز مثل ذلك من الحرير وجواز لبس الجبة وماله فرجان من غير كراهة. وفيه
استشفاء بآثاره (ص) وبما لامس جسده الشريف. وفي قولها: كان يلبسها
للوفد والجمعة دليل على استحباب التجمل بالزينة للوافد ونحوه كذا قيل، إلا أنه لا يخفى
أنه قول صحابية لا دليل فيه. وأما خياطة الثوب بالخيط الحرير ولبسه وجعل خيط السبحة
من الحرير وليقة الدواة وكيس المصحف وغشاية الكتب فلا ينبغي القول بعدم جوازه لعدم
شموله النهي له. وفي اللباس آداب: منها في العمامة تقصير العذبة فلا تطول طولا فاحشا
وإرسالها بين الكتفين ويجوز تركها بالأصالة، وفي القميص تقصير الكم لحديث أبي داود عن
أسماء كان كم النبي (ص) إلى الرسغ قال ابن عبد السلام: إفراط توسعة الثياب
والأكمام بدعة وسرف، وفي المئزر، ومثله اللباس والقميص أن لا يسبله زيادة على نصف
الساق ويحرم إن جاوز الكعبين.
كتاب الجنائز
الجنائز: جمع جنازة بفتح الجيم وكسرها، وفي القاموس: الجنازة الميت ويفتح أو بالكسر
الميت وبالفتح السرير أو عكسه أو بالكسر السرير مع الميت.
(عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) أكثروا ذكر هاذم
اللذات: الموت) بالكسر بدل من هاذم (رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان) والحاكم
وابن السكن وابن طاهر وأعله الدارقطني بالارسال. وفي الباب عن عمر وعن أنس وما
تخلو عن مقال، قال المصنف في التلخيص نقلا عن السهيلي: إن الرواية في هاذم بالذال المعجمة معناه
القاطع وأما بالمهلة فمعناه المزيل للشئ وليس مرادا هنا، قال المصنف: وفي هذا النفي
نظر لا يخفى (قلت): يريد المعنى على الدال المهملة صحيح فإن الموت يزيل اللذات كما
يقطعها ولكن العمدة الرواية. والحديث دليل على أنه لا ينبغي للانسان أن يغفل عن ذكر
88

أعظم المواعظ وهو الموت، وقد ذكر في آخر الحديث فائدة الذكر بقوله فإنكم لا تذكرونه
في كثير إلا قلله ولا قليل إلا كثره. وفي رواية للديلمي عن أبي هريرة أكثروا ذكر الموت
فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيى الله قلبه وهون عليه الموت وفي لفظ لابن حبان والبيهقي
في شعب الايمان أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكره عبد قط في ضيق إلا وسعه ولا
في سعة إلا ضيقها وفي حديث أنس عن ابن لآل في مكارم الأخلاق أكثروا ذكر الموت
فإن ذلك تمحيص للذنوب وتزهيد في الدنيا وعند البزار أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه
ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا في سعة إلا ضيقها وعند ابن أبي الدنيا أكثروا
من ذكر الموت فإنه يمحق الذنوب ويزهد في الدنيا فإن ذكرتموه عند الغني هدمه وإن ذكرتموه
عند الفقر أرضاكم بعيشكم.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) لا يتمنين
أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد) أي لا فرار ولا محالة كما في القاموس
(متمنيا فليقل) بدلا من لفظ التمني الدعاء وتفويض ذلك إلى الله: (اللهم أحيني
ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، متفق عليه). الحديث
دليل على النهي عن تمني الموت للوقوع في بلاء أو محنة أو خشية ذلك من عدو أو مرض أو فاقة
أو نحوها من مشاق الدنيا لما في ذلك من الجزع وعدم الصبر على القضاء وعدم الرضا
. وفي قوله لضر نزل به ما يرشد إلى أنه إذا كان لغير ذلك من خوف فتنة في الدين فإنه
لا بأس به، وقد دل له حديث الدعاء إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، أو
كان تمنيا للشهادة كما وقع ذلك لعبد الله ابن رواحة وغيره من السلف، وكما في قول مريم
* (يا ليتني مت قبل هذا) * فإنها إنما تمنت ذلك لمثل هذا الامر المخوف من كفر
من كفر وشقاوة من شقي بسببها. وفي قوله: فإن كان لا بد متمنيا يعني إذا ضاق صدره وفقد
صبره عدل إلى هذا الدعاء، وإلا فالأولى له أن لا يفعل ذلك.
(وعن بريدة رضي الله عنه) هو ابن الحصيب (أن النبي (ص) قال: المؤمن
يموت بعرق) بفتح العين المهملة والراء (الجبين. رواه الثلاثة وصححه ابن حبان) وأخرجه
أحمد وابن ماجة وجماعة، وأخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود. وفيه وجهان: أحدهما: أنه
عبارة عما يكابده من شدة السياق النزع الذي يعرق دونه جبينه أي يشدد عليه تمحيصا
لبقية ذنوبه، والثاني: أنه كناية عن كد المؤمن في طلب الحلال وتضييقه على نفسه بالصوم
والصلاة حتى يلقى الله تعالى، فيكون الجار والمجرور في محل النصب على الحال. والمعنى على
الأول أن حال الموت ونزوع الروح شديد عليه فهو صفة لكيفية الموت وشدته على المؤمن
، والمعنى على الثاني أن يدركه الموت في حال كونه على هذه الحالة الشديدة التي يعرق منها
الجبين فهو صفة للحال التي يفاجئه الموت عليها.
(وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله (ص): لقنوا
موتاكم) أي الذين في سياق الموت فهو مجاز (لا إله إلا الله رواه مسلم والأربعة) وهذا
89

لفظ مسلم، ورواه ابن حبان عن أبي هريرة بلفظه وزيادة، فمن كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة يوما
من الدهر وإن أصابه ما أصابه قبل ذلك وقد غلط من نسبه إلى الشيخين أو إلى البخاري
، وروى ابن أبي الدنيا عن حذيفة بلفظ لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنها تهدم ما قبلها من
الخطايا. وفي الباب أحاديث صحيحة. وقوله: لقنوا المراد تذكير الذي في سياق الموت
هذا اللفظ الجليل وذلك ليقولها، فتكون آخر كلامه فيدخل الجنة كما سبق، فالامر
في الحديث بالتلقين عام لكل مسلم يحضر وهو فسياق الموت، وهو أمر ندب، وكره
العلماء الاكثار عليه والموالاة، لئلا يضجر ويضيق حاله ويشتد كربه، فيكره ذلك بقلبه ويتكلم
بما لا يليق، قالوا: وإذا تكلم مرة فيعاد عليه التعريض ليكون آخر كلامه، وكأن المراد بقول
لا إله إلا الله أي وقول محمد رسول الله فإنها لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى كما علم. والمراد
بموتاكم: موتى المسلمين. وأما موتى غيرهم، فيعرض عليهم الاسلام، كما عرضه (ص)
على عمه عند السياق، وعلى الذمي الذي كان يخدمه، فعاده وعرض عليه الاسلام فأسلم، وكأنه
خص في الحديث موتى أهل الاسلام لأنهم الذين يقبلون ذلك ولان حضور أهل الاسلام
عندهم هو الأغلب بخلاف الكفار فالغالب أنه لا يحضر موتاهم إلا الكفار.
(فائدة) يحسن أن يذكر المريض بسعة رحمة الله ولطفه وبره، فيحسن ظنه بربه. لما أخرجه
مسلم من حديث جابر سمعت رسول الله (ص) يقول قبل موته: لا يموتن
أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله. وفي الصحيحين مرفوعا من حديث أبي هريرة قال: قال
الله: أنا عند ظن عبدي بي. وروى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا
العبد محاسن عمله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه وقد قال بعض أئمة العلم: إنه يحسن جمع
أربعين حديثا في الرجاء تقرأ على المريض فيشتد حسن ظنه بالله تعالى، فإنه تعالى عند ظن
عبده به. وإذا امتزج خوف العبد برجائه عند سياق الموت فهو محمود. أخرج الترمذي
بإسناد جيد من حديث أنس: أنه (ص) دخل على شاب وهو في الموت فقال
: كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله (ص): لا يجتمعان في قلب
عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه مما يخاف.
(فائدة أخرى) ينبغي أن يوجه من هو في السياق إلى القبلة، لما أخرجه الحاكم وصححه من
حديث أبي قتادة: أن النبي (ص) حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور
قالوا: توفي وأوصى بثلث ماله لك يا رسول الله وأوصى أن يوجه للقبلة إذا احتضر، فقال
رسول الله (ص): أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده ثم ذهب فصلى
عليه وقال: اللهم اغفر له وأدخله جنتك وقد فعلت وقال الحاكم: لا أعلم في توجيه
المحتضر للقبلة غيره.
(وعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقرأوا
على موتاكم) قال ابن حبان: أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه (يس رواه
90

أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان) وأخرجه أحمد وابن ماجة من حديث سليمان التيمي عن
أبي عثمان، وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار، ولم يقل النسائي وابن ماجة عن أبيه
، وأعله ابن القطان بالاضطراب والوقف، وبجهالة حال أبن عثمان وأبيه، ونقل عن الدارقطني أنه
قال: هذا حديث مضطرب الاسناد مجهول المتن ولا يصح، وقال أحمد في مسنده: حدثنا
أبو المغيرة: حدثنا صفوان قال: كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت يس عند الميت خفف عنه بها. وأسنده
صاحب الفردوس عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله (ص): ما من
ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هون الله عليه اه‍. وهذان يؤيدان ما قاله ابن حبان من أن
المراد به المحتضر وهما أصرح في ذلك مما استدل به. وأخرج أبو الشيخ في فضائل القرآن
وأبو بكر المروزي في كتاب الجنائز عن أبي الشعثاء صاحب ابن عباس أنه يستحب قراءة
سورة الرعد وزاد فإن ذلك يخفف عن الميت وفيه أيضا عن الشعبي قال: كانت الأنصار
يستحبون أن يقرءوا عند الميت سورة البقرة.
(وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد
شق بصره) في شرح مسلم أنه بفتح الشين ورفع بصره فاعل شق هكذا ضبطناه وهو
المشهور، وضبطه بعضهم بصره بالنصب وهو صحيح أيضا فالشين مفتوحة بلا خلاف
. (فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال:
لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي من
الدعاء (ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، وافسح
له قبره، ونور له فيه وأخلفه في عقبه رواه مسلم) يقال: شق الميت بصره إذا
حضره الموت وصار ينظر إلى الشئ لا يرتد عنه طرفه. وفي اغماضه (ص) طرفه
دليل على استحباب ذلك، وقد أجمع عليه المسلمون. وقد علل في الحديث ذلك بأن البصر
يتبع الروح أي ينظر أين يذهب. والحديث من أدلة من يقول إن الأرواح أجسام لطيفة
متحللة في البدن، وتذهب الحياة من الجسد بذهابها، وليس عرضا كما يقوله آخرون. وفيه
دليل على أنه يدعى للميت عند موته، ولأهله، وعقبه، بأمور الآخرة والدنيا. وفيه دلالة على
أن الميت ينعم في قبره أو يعذب.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (ص) حين توفي سجي
ببرد حبرة) بالحاء المهملة فموحدة فراء فتاء تأنيث بزنة عنبة (متفق عليه). التسجية بالمهملة
والجيم التغطية أي: غطي، والبرد يجوز إضافته إلى الحبرة ووصفه بها، والحبرة ما كان لها
أعلام، وهي من أحب اللباس إليه صلى الله عليه وسلم. وهذه التغطية قبل
الغسل. قال النووي في شرح مسلم: إنه مجمع عليها، وحكمته صيانة الميت عن الانكشاف، وستر صورته
المتغيرة عن الأعين، قالوا: وتكون التسجية بعد نزع ثيابه التي توفي فيها لئلا يتغير بدنه بسببها،
(وعنها) أي عائشة رضي الله عنها (أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قبل النبي (ص) بعد موته،
رواه البخاري). استدل به على جواز تقبيل الميت بعد موته، وعلى أنها تندب تسجيته،
91

وهذه أفعال صحابة بعد وفاته لا دليل فيها لانحصار الأدلة في الأربعة نعم هذه الأفعال
جائزة على أصل الإباحة وقد أخرج الترمذي من حديث عائشة أن النبي (ص)
قبل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي أو قال: وعيناه تذرفان.. قال الترمذي:
حديث عائشة حسن صحيح.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: نفس
المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه رواه أحمد والترمذي وحسنه) وقد ورد
التشديد في الدين حتى ترك (ص) الصلاة على من مات وعليه دين حتى تحمله
عنه بعض الصحابة، وأخبر (ص) أنه يغفر للشهيد عند أول دفعة من دمه كل
ذنب إلا الدين. وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولا بدينه بعد موته -
ففيه حث على التخلص عنه قبل الموت، وأنه أهم الحقوق، وإذا كان هذا الدين المأخوذ
برضا صاحبه فكيف بما أخذ غصبا ونهبا وسلبا؟
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) قال في الذي سقط
عن راحلته فمات) وذلك هو واقف بعرفة على راحلته كما في البخاري: (اغسلوه بماء
وسدر وكفنوه في ثوبين متفق عليه) تمامه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه وبعده
في البخاري فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا. الحديث دليل على وجوب غسل الميت، قال
النووي: الاجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، قال المصنف بعد نقله في الفتح: وهو
ذهول شديد فإن الخلاف فيه مشهور عند المالكية، حتى إن القرطبي رجح في شرح مسلم
أنه سنة. ولكن الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك وقال:
وقد توارد القول والعمل وغسل الطاهر المطهر فكيف بمن سواه؟. ويأتي كمية الغسلات في حديث
أم عطية قريبا. وقوله: بماء وسدر ظاهره: أنه يخلط السدر بالماء في كل مرة من مرات
الغسل، قيل: وهو يشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير، لأن الماء المضاف لا يتطهر به،
قيل: وقد يقال يحتمل أن السدر لا يغير وصف الماء فلا يصير مضافا، وذلك بأن يمعك
بالسدر ثم يغسل بالماء في كل مرة، وقال القرطبي يجعل السدر في ماء ثم يخضخض إلى أن
تخرج رغوته ويدلك به جسد الميت ثم يصب عليه الماء القراح هذه غسلة، وقيل: لا يطرح
السدر في الماء أي لئلا يمازج الماء فيغير وصف الماء المطلق. وتمسك بظاهر الحديث
بعض المالكية فقال: غسل الميت إنما هو للتنظيف فيجزي الماء المضاف كما الورد ونحوه
، وقالوا: إنما يكره لأجل السرف. والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبدي يشترط فيه ما يشترط
في الاغتسالات الواجبة والمندوبة. وفي الحديث النهي عن تحنيطه ولم يذكره المصنف كما
عرفت، وتعليله بأنه يبعث ملبيا يدل على أن علة النهي كونه مات محرما، فإذا انتفعت العلة
انتفى النهي، وهو يدل على أن الحنوط للميت كان أمرا متقررا عندهم. وفيه أيضا النهي
عن تخمير وتغطية رأسه لأجل الاحرام، فمن ليس بمحرم يحنط ويخمر رأسه. والقول بأنه
ينقطع حكم الاحرام بالموت كما تقول الحنفية وبعض المالكية خلاف الظاهر، وقد ذكر
92

في الشرح خلافهم وأدلتهم وليست بناهضة في مخالفة ظاهر الحديث فلا حاجة إلى سردها،
وقوله وكفنوه في ثوبين يدل على وجوب التكفين، وأنه لا يشترط فيه أن يكون وترا، وقيل
: يحتمل أن الاقتصار عليهما لأنه مات فيهم وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه
لم يجد له غيرهما، وأنه من رأس المال، لأنه (ص) أمر به ولم يستفصل هل عليه
دين مستغرق أم لا؟ وورد الثوبان في هذه الرواية مطلقين وفي رواية في البخاري في ثوبيه
وللنسائي في ثوبيه اللذين أحرم فيهما قال المصنف: فيه استحباب تكفين الميت في ثياب
إحرامه، وأن إحرامه باق وأنه لا يكفن في المخيط. وفي قوله يبعث ملبيا ما يدل لمن شرع
في عمل طاعة في حيل بينه وبين تمامها بالموت أنه يرجى له أن يكتبه الله في الآخرة من أهل
ذلك العمل.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أرادوا غسل رسول الله (ص)
قالوا: والله ما ندري نجرد رسول الله (ص) من ثيابه كما نجرد موتانا أم لا؟ الحديث.
رواه أحمد وأبو داود) وتمامه عن أبي داود فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم
رجل إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم ملكهم من ناحية البيت، لا يدرون من هو: اغسلوا
رسول صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص
ويدلكونه بالقميص دون أيديهم. وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت
ما غسل رسول الله (ص) إلا نساؤه وفي رواية لابن حبان وكان الذي
أجلسه في حجره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى الحاكم قال غسل النبي (ص)
علي رضي الله عنه وعلى يد علي خرقة فغسله فأدخل يده تحت القميص فغسله
والقميص عليه وروى ذلك الشافعي عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه. وفي هذه
القصة دلالة على أنه (ص) كغيره من الموتى.
(وعن أم عطية رضي الله عنها) تقدم اسمها وفيه خلاف وهي أنصارية (قالت: دخل
علينا النبي (ص) ونحن نغسل ابنته) لم تقع في شئ من روايات البخاري مسماة،
والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص كانت وفاتها في أول سنة ثمان، ووقع في روايات
أنها أم كلثوم. ووقع في البخاري عن ابن سيرين: لا أدري أي بناته (فقال: اغسلنها
ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة
كافورا أو شيئا من كافور) هو شك من الروايات أي اللفظين قال. والأول محمول
على الثاني لأنه نكرة في سياق الاثبات، فيصدق بكل شئ منه (فلما فرغنا آذناه) في البخاري
أنه (ص) قال لهن: فإذا فرغتن آذنني ووقع في رواية البخاري فلما
فرغن عوضا عن فرغنا (فألقى إلينا حقوه) في لفظ البخاري فأعطانا حقوه وهو بفتح
المهملة ويجوز كسرها وبعدها قاف ساكنة والمراد هنا الإزار. وأطلق على الإزار مجازا إذ
معناه الحقيقي معقد الإزار فهو من تسمية الحال باسم المحل (فقال: أشعرنها إياه متفق
عليه) أي اجعلنه شعارها أي الثوب الذي يلي جسدها (وفي رواية) أي للشيخين عن
أم عطية (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) (وفي لفظ للبخاري) أي عن أم عطية
93

(فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها). دل الامر في قوله اغسلنها ثلاثا
على أنه يجب ذلك العدد. والظاهر الاجماع على إجزاء الواحدة فالامر بذلك محمول على الندب
وأما أصل الغسل فقد علم وجوبه من محل آخر، وقيل: تجب الثلاثة. وقوله: أو خمسا
أو للتخيير لا للترتيب هو الظاهر. وقوله: أو أكثر قد فسر في رواية أو سبعا بدل قوله
أو أكثر من ذلك، وبه قال أحمد وكره الزيادة على سبع، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا
قال بمجاوزة السبع، إلا أنه وقع عند أبي داود أو سبعا أو أكثر من ذلك، ظاهرها شرعية
الزيادة على السبع. وتقدم الكلام في كيفية غسلة السدر. قالوا: والحكمة فيه أنه يلين جسد
الميت. وأما غسله الكافور فظاهره أنه يجعل الكافور في الماء ولا يضر الماء تغييره به،
والحكمة فيه أنه يطيب رائحة الموضع لأجل من حضر من الملائكة وغيرهم، مع أنه فيه تجفيفا
وتبريدا وقوة نفوذ، وخاصية في تصليب جسد الميت وصرف الهوام عنه، ومنع ما يتحلل من
الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الروائح الطيبة في ذلك. وهذا هو السر
في جعله في الآخرة إذ لو كان في الأولى مثلا لأذهبه الماء. وفيه دلالة على البداءة في الغسل
بالميامن، والمراد بها ما يلي الجانب الأيمن. وقوله: ومواضع الوضوء منها ليس بين الامرين
تناف لامكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معا، وقيل المراد: ابدأن بميامنها في الغسلات التي
لا وضوء فيها ومواضع الوضوء منها في الغسلة المتصلة بالوضوء. والحكمة في الامر بالوضوء تجديد
سمة المؤمن في ظهور أثر الغرة والتحجيل، وظاهر موضع الوضوء دخول المضمضة والاستنشاق
. وقولها ضفرنا شعرها استدل به على ضفر شعر الميت، وقال الحنفية: يرش شعر المرأة
خلفها وعلى وجهها مفرقا. قال القرطبي: كأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية لم يكن
عن أمره صلى الله عليه وسلم. ولكنه قال المصنف: إنه قد روى سعيد بن منصور ذلك
بلفظ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلنها وترا واجعلن شعرها ضفائر
وفي صحيح ابن حبان اغسلنها ثلاثة أو خمسا أو سبعا واجعلن لها ثلاثة قرون. والقرن هنا المراد
به الضفائر، وفي بعض ألفاظ البخاري ناصيتها وقرنيها ففي لفظ ثلاثة قرون تغليب
، والكل حجة على الحنفية، والضفر يكون بعد نقض شعر الرأس وغسله وهو في البخاري
صريحا. وفيه دلالة على إلقاء الشعر خلفها، وذهل ابن دقيق العيد عن كون هذه الألفاظ
في البخاري فنسب القول به إلى بعض الشافعية وأنه استند في ذلك إلى حديث غريب.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله (ص) في ثلاثة أثواب بيض
سحولية) بضم السين المهملة والحاء المهملة (من كرسف) بضم الكاف وسكون الراء وضم
السين المهملة ففاء أي قطن (ليس فيها) أي الثلاثة (قميص ولا عمامة) بل إزار ورداء
ولفافة كما صرح به في طبقات ابن سعد عن الشعبي (متفق عليه). فيه أن الأفضل التكفين
في ثلاثة أثواب بيض، لان الله تعالى لم يكن يختار لنبيه (ص) إلا الأفضل
، وقد روى أهل السنن من حديث ابن عباس البسوا ثياب البياض فإنها أطيب وأطهر وكفنوا
فيها موتاكم وصححه الترمذي والحاكم، وله شاهد من حديث سمرة أخرجوه وإسناده صحيح
أيضا أنه (ص) سجي ببرد حبرة وهي برد يماني
94

مخطط غالي الثمن، فإنه لا يعارض ما هنا لأنه (ص) لم يكفن في ذلك البرد بل
سجوه به ليتجفف فيه ثم نزعوه عنه كما أخرجه مسلم، على أن الظاهر أن التسجية كانت قبل
الغسل. قال الترمذي: تكفينه في ثلاثة أثواب بيض أصح ما رود في كفنه. وأما ما أخرجه
أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث علي رضي الله عنه أنه (ص) كفن
في سبعة أثواب فهو من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سئ الحفظ يصلح
حديثه في المتابعات إذا انفرد فلا يحسن، فكيف إذا خالف كما هنا. فلا يقبل، قال المصنف:
وقد روى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية ابن عقيل. فإن
ثبت جمع بينه وبين حديث عائشة بأنها روت ما اطلعت عليه وهو الثلاثة، وغيرها روى ما اطلع
عليه سيما إن صحت الرواية عن علي فإنه كان المباشر للغسل.
واعلم أنه يجب من الكفن ما يستر جميع جسد الميت، فإن قصر عن ستر الجميع قدم ستر
العور، فما زاد عليها ستر به من جانب الرأس وجعل على الرجلين حشيش، كما فعل النبي (ص)
في عمه حمزة ومصعب بن عمير. فإذا أريد الزيادة على الواحد، فالمندوب أن
يكون وترا، ويجوز الاقتصار على الاثنين كما مر في حديث المحرم الذي مات، وقد عرفت
من رواية الشعبي كيفية الثلاثة، وأنها إزار ورداء ولفافة، وقيل مئزر ودرجان، وقيل يكون
منها قميص غير مخيط وإزار يبلغ من سرته إلى ركبته، ولفافة يلف بها من قرنه إلى قدمه،
وتأول هذا القائل قول عائشة: ليس فيها قميص ولا عمامة بأنها أرادت نفي وجود الامرين
معا لا القميص وحده، أو أن الثلاث خارجة عن القميص والعمامة، والمراد أن الثلاثة مما
عداها وإن كانا موجودين، وهذا بعيد جدا، قيل والأولى أن يقال أن التكفين بالقميص
وعدمه سواء يستحبان فإنه (ص) كفن عبد الله بن أبي في قميصه أخرجه
. البخاري. ولا يفعل (ص) إلا ما هو الأحسن. وفيه أن قميص الميت مثل
قميص الحي مكفوفا مزرورا، وقد استحب هذا محمد بن سيرين كما ذكره البيهقي في الخلافيات
، قال في الشرح: وفي هذا رد على من قال إنه لا يشرع القميص إلا إذا كانت أطرافه غير
مكفوفة. قلت: وهذا يتوقف على أن كف أطراف القميص كان عرف أهل ذلك العصر.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه) هو عبد الله بن عبد الله
(إلى رسول الله (ص) فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه
(ص) قميصه. متفق عليه). هو دليل على شرعية التكفين في القميص كما سلف قريبا. وظاهر هذه الرواية
أنه طلب القميص منه (ص) قبل التكفين إلا أنه قد عارضها ما عند البخاري
من حديث جابر: أنه (ص) أتى عبد الله بن أبي بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه
من ريقه وألبسه قميصه فإنه صريح أنه كان الاعطاء والالباس بعد الدفن، وحديث ابن عمر
يخالفه، وجمع بينهما بأن المراد من قوله في حديث ابن عمر فأعطاه أي أنعم له بذلك فأطلق
على العدة اسم العطية مجازا لتحقق وقوعها، وكذا قوله في حديث جابر بعد ما دفن أي
دلي في حفرته أو أن المراد من حديث جابر أن الواقع بعد اخراجه من حفرته هو النفث،
وأما القميص فقد كان ألبس، والجمع بينهما لا يدل على وقوعهما معا لان الواو لا تقتضي
95

الترتيب ولا المعية فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه (ص) من
غير إرادة الترتيب. وقيل إنه (ص) أعطاه أحد قميصيه أولا ولما دفن أعطاه
الثاني بسؤال ولده عبد الله. وفي الإكليل للحاكم ما يؤيد ذلك.
واعلم أنه إنما أعطى عبد الله بن عبد الله بن أبي لأنه كان رجلا صالحا ولأنه سأله ذلك
وكان لا يرد سائلا، وإلا فإن أباه الذي ألبسه قميصه (ص) وكفن فيه من أعظم
المنافقين ومات على نفاقه، وأنزل الله فيه: * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) *. وقيل إنما كساه
(ص) قميصه لأنه كان كسا العباس لما أسر ببدر فأراد (ص)
أن يكافئه.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) قال: البسوا
من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم رواه الخمسة
إلا النسائي وصححه الترمذي) تقدم حديث البخاري عن عائشة: أنه (ص) كفن
في ثلاثة أثواب بيض. وظاهر الامر أنه وجب التكفين في الثياب البيض ويجب لبسها إلا أنه
صرف الامر عنه في اللبس أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لبس غير الأبيض، وأما
التكفين فالظاهر أنه لا صارف عنه إلا أنه لا يوجد الأبيض كما وقع في تكفين شهداء أحد
فإنه صلى الله عليه وسلم كفن جماعة في نمرة واحدة كما يأتي فإنه لا بأس به للضرورة. وأما
ما رواه ابن عدي من حديث ابن عباس: أنه (ص) كفن في قطيفة حمراء ففيه
قيس بن الربيع وهو ضعيف وكأنه اشتبه عليه بحديث: أنه جعل في قبره قطيفة حمراء
، وكذلك ما قيل إنه كفن في بردة حبرة وتقدم الكلام أنه إنما سجي بماء ثم نزعت عنه.
(وعن جابر رضي الله عنه قال قال النبي (ص): إذا كفن
أحدكم أخاه فليحسن كفنه رواه مسلم) ورواه الترمذي أيضا في حديث أبي قتادة
وقال: حسن غريب. ثم قال: وقال: ابن المبارك قال سلام بن أبي مطيع في قوله فليحسن كفنه
قال: هو الصفاء بالضاد المعجمة والفاء أي الواسع الفائض. وفي الامر بإحسان الكفن دلالة
على اختيار ما كان أحسن في الذات، وفي صفة الثوب، وفي كيفية وضع الثياب على الميت
. فأما حسن الذات فينبغي أن يكون على وجه لا يعد من المغالاة كما سيأتي النهي عنه. وأما
صفة الثوب فقد بينها حديث ابن عباس الذي قبل هذا. وأما كيفية وضع الثياب على الميت
فقد بينت فيما سلف. وقد وردت أحاديث في إحسان الكفن وذكرت فيها علة ذلك: أخرج
الديلمي عن جابر مرفوعا أحسنوا كفن موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون بها في قبورهم
وأخرج أيضا من حديث أم سلمة: أحسنوا الكفن ولا تؤذوا موتاكم بعويل ولا بتزكية ولا
بتأخير وصية ولا بقطيعة وعجلوا بقضاء دينه واعدلوا عن جيران السوء وأعمقوا إذا حفرتم
ووسعوا. ومن الاحسان إلى الميت ما أخرجه أحمد من حديث عائشة عنه (ص)
: من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم
96

ولدته أمه. وقال (ص): ليله أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون
عنده حظا من ورع وأمانة رواه أحمد. وأخرج الشيخان من حديث ابن عمر قال: قال
رسول الله (ص): من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة. وأخرج عبد الله
بن أحمد من حديث أبي بن كعب: إن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه
وحنطوه وحفروا له وألحدوه وصلوا عليه ودخلوا قبره ووضعوا عليه اللبن ثم خرجوا من القبر
ثم حثوا عليه التراب ثم قالوا: يا بني آدم هذا سنتكم.
(وعنه) أي عن جابر (قال: كان النبي (ص) يجمع بين الرجلين من
قتلى أحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن فيقدمه في اللحد)
سمي لحدا لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسطه والالحاد لغة الميل (ولم يغسلوا
ولم يصل عليهم. رواه البخاري). دل على أحكام (الأول) أنه يجوز جمع الميتين في ثوب
واحد للضرورة وهو أحد الاحتمالين (والثاني) أن المراد يقطعه بينهما ويكفن كل واحد على حياله
وإلى هذا ذهب الأكثرون، بل قيل إن الظاهر أنه لم يقل بالاحتمال الأول أحد فإن فيه
التقاء بشرتي الميتين ولا يخفى أن قول جابر في تمام الحديث فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة
. دليل على الاحتمال الأول، وأما الشارح رحمه الله فقال: الظاهر الاحتمال الثاني كما فعل
في حمزة رضي الله عنه (قلت): حديث جابر أوضح في عدم تقطيع الثوب بينهما فيكون أحد
الجائزين، والتقطيع جائز على الأصل. (الحكم الثاني) أنه دل على أنه يقدم الأكثر أخذا للقرآن
على غيره لفضيلة القرآن ويقاس عليه سائر جهات الفضل إذا جمعوا في اللحد. (الحكم
الثالث) جمع جماعة في قبر وكأنه للضرورة وبوب البخاري باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر
وأورد فيه حديث جابر هذا وإن كان رواية جابر في الرجلين، فقد وقع ذكر الثلاثة في رواية
عبد الرزاق: كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد. وروى أصحاب السنن عن هشام
بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله (ص) وسلم يوم أحد فقالوا
: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر. صححه الترمذي
. ومثله المرأتان والثلاث: وأما دفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فقد روى عبد الرزاق بإسناد
حسن عن واثلة بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل
المرأة وراءه وكأنه كان يجعل بينهما حائلا من تراب. (الحكم الرابع) أنه لا يغسل الشهيد وإليه
ذهب الجمهور ولأهل المذاهب تفاصيل في ذلك. وروي عن سعيد بن المسيب والحسن
وابن سريج أنه يجب غسله. والحديث حجة عليهم، وقد أخرج أحمد من حديث جابر أنه (ص)
قال في قتلى أحد: لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة
فبين الحكمة في ذلك. (الحكم الخامس) عدم الصلاة على الشهيد وفي ذلك خلاف بين العلماء
معروف فقالت طائفة: يصلى عليه عملا بعموم أدلة الصلاة على الميت وبأنه روي أنه (ص)
صلى على قتلى أحد، وكبر على حمزة سبعين تكبيره، وبأنه روى البخاري عن
عقبة بن عامر أنه (ص) صلى على قتلى أحد وقالت طائفة: لا يصلى عليه
97

عملا برواية جابر هذه. قال الشافعي: جاءت الاخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي
(ص) لم يصل على قتلى أحد وما روي أنه (ص) صلى عليهم
وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث
الصحيحة أن يستحيي على نفسه. قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن
ذلك كان بعد ثمان سنين يعني، والمخالف يقول: لا يصلى على القبر إذا طالت المدة فلا يتم له
الاستدلال وكأنه (ص) دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعا بذلك
، ولا يدل على نسخ الحكم الثابت انتهى. ويؤكد كونه دعا لهم عدم الجمعية بأصحابه، إذ لو كانت
صلاة الجنازة لأشعر أصحابه وصلاها جماعة كما فعل في صلاته علي النجاشي، فإن الجماعة
أفضل قطعا وأهل أحد أولى الناس بالأفضل، ولأنه لم يرد عنه أنه صلى على قبر فرادى
، وحديث عقبة أخرجه البخاري بلفظ أنه (ص) على قتلى أحد بعد ثمان
سنين وزاد ابن حبان ولم يخرج من بيته حتى قبضه الله تعالى.
(وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ولا تغالوا
في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا رواه أبو داود) من رواية الشعبي عن علي عليه السلام
وفي إسناده عمرو بن هشام الجنبي بفتح الجيم فنون ساكنة فموحدة مختلف فيه، وفيه انقطاع
بين الشعبي وعلي لان الدارقطني قال: إنه لم يسمع منه سوى حديث واحد اه‍. وفيه دلالة
على المنع من المغالاة في الكفن وهي زيادة الثمن. وقوله: فإنه يسلب سلبا سريعا كأنه إشارة
إلى أنه سريع البلى والذهاب، كما في حديث عائشة: إن أبا بكر نظر إلى ثوب عليه كان يمرض
فيه به ردع من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيها (قلت)
إن هذا خلق قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة. ذكره البخاري مختصرا.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) قال لها: لومت
قبلي لغسلتك الحديث، رواه أحمد وابن ماجة وصححه ابن حبان) فيه دلالة على أن
للرجل أن يغسل زوجته وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يغسلها بخلاف العكس
لارتفاع النكاح ولا عدة عليه والحديث يرد قوله. هذا في الزوجين. وأما في الأجانب فإنه
أخرج أبو داود في المراسيل من حديث أبي بكر ابن عياش عن محمد بن أبي سهل عن مكحول
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس فيهم امرأة غيرها
والرجل مع النساء ليس معهن رجل غيره فإنهما ييممان ويدفنان وهما بمنزلة من لا يجد الماء
انتهى. محمد بن أبي سهل هذا ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: لا يتابع على
حديثه. وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله (ص): لا تبرز فخذك
ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت رواه أبو داود وابن ماجة وفي إسناده اختلاف.
(وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها: أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسلها
98

علي رواه الدارقطني) هذا يدل على ما دل عليه الحديث الأول وأما غسل
المرأة زوجها فيستدل له بما أخرجه أبو داود عن عائشة أنها قالت: لو استقبلت من أمري
ما استدبرت ما غسل رسول الله (ص) غير نسائه وصححه الحاكم، وإن كان قول
صحابية، وكذلك حديث فاطمة، فهو يدل على أنه كان أمرا معروفا في حياته (ص)
ويؤيده ما رواه البيهقي من أن أبا بكر أوصى امرأته أسماء بنت عميس أن تغسله
واستعانت بعبد الرحمن بن عوف لضعفها عن ذلك ولم ينكره أحد. وهو قول الجمهور
والخلاف فيه لأحمد بن حنبل. قال: لارتفاع النكاح كذا في الشرح. والذي في دليل الطلب
من كتب الحنابلة ما لفظه: وللرجل أن يغسل زوجته وأمته وبنتا دون سبع وللمرأة غسل
زوجها وسيدها وابن دون سبع.
(وعن بريدة رضي الله عنه في قصة الغامدية) بالغين المعجمة وبعد الميم دال مهملة نسبة إلى
غامد وتأتي قصتها في الحدود (التي أمر النبي (ص) برجمها في الزنا قال
: ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت. رواه مسلم). فيه دليل على أنه يصلي على من قتل بحد وليس
فيه أنه (ص) الذي صلى عليه، وقد قال مالك: إنه لا يصلي الامام على مقتول
في حد لان الفضلاء لا يصلون على الفساق زجرا لهم. قلت: كذا في الشرح لكن قد قال
(ص) في الغامدية: إنها تابت توبة لو قسمت بين أهل المدينة لوسعتهم أو نحو
هذا اللفظ. وللعلماء خلاف في الصلاة على الفساق، وعلى من قتل في حد، وعلى المحارب
، وعلى ولد الزنا، وقال ابن العربي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود
ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا اه‍. وقد ورد في قاتل نفسه الحديث:
(وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: أتي النبي (ص) برجل قتل نفسه
بمشاقص فلم يصل عليه رواه مسلم) المشاقص جمع مشقص وهو نصل عريض. قال
الخطابي: ترك الصلاة عليه معناه العقوبة له وردع لغيره عن مثل فعله. وقد اختلف الناس
في هذا، وكان عمر بن عبد العزيز لا يرى الصلاة على من قتل نفسه، وكذلك قال الأوزاعي
. وقال أكثر الفقهاء: يصلي عليه اه‍، وقالوا في هذا الحديث: إنه صلى عليه الصحابة.
قالوا: وهذا كما ترك النبي (ص) الصلاة على من مات وعليه دين أول الأمر
، وأمرهم بالصلاة على صاحبهم، قلت: إن ثبت نقل أنه أمر (ص) أصحابه
بالصلاة على قاتل نفسه. تم هذا القول وإلا فرأى عمر بن عبد العزيز أوفق، بالحديث إلا
أن في رواية للنسائي: أما أنا فلا أصلي عليه، فربما أخذ منها أن غيره صلى عليه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد) بفتح
حرف المضارعة أي تخرج القمامة منه وهي الكناسة (فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم
فقالوا: مات فقال: أفلا كنتم آذنتموني فكأنهم صغرا أمرها فقال: دلوني
على قبرها) أي بعد قولهم في جواب سؤاله إنها ماتت (فدلوه فصلى عليها. متفق عليه وزاد
مسلم) أي من رواية أبي هريرة (ثم قال) أي النبي (ص) (إن هذه القبور
99

مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم) وهذه الزيادة
لم يخرجها البخاري لأنها مدرجة في هذا الاسناد، وهي من مراسيل ثابت كما قال أحمد. هذا والمصنف جزم أن
القصة كانت مع امرأة وفي البخاري: أن رجلا أسود أو امرأة سوداء بالشك من ثابت
الراوي لكنه صرح في رواية أخرى في البخاري عن ثابت قال: ولا أراه إلا امرأة وبه
جزم ابن خزيمة من طريق أخرى عن أبي هريرة فقال: امرأة سوداء ورواه البيهقي أيضا
بإسناد حسن وسماها أم محجن وأفاد أن الذي أجابه صلى الله عليه وسلم عن سؤاله هو أبو بكر
، وفي البخاري عوض فسأل عنها فقال: ما فعل ذلك الانسان؟ قالوا: مات يا رسول الله
الحديث. والحديث دليل على صحة الصلاة على الميت بعد دفنه مطلقا سواء أصلي عليه قبل
الدفن أم لا وإلى هذا ذهب الشافعي. ويدل له أيضا صلاته صلى الله عليه وسلم على البراء
بن معرور فإنه مات والنبي (ص) بمكة فلما قدم صلى على قبره، وكان ذلك
بعد شهر من وفاته. ويدل له أيضا صلاته صلى الله عليه وسلم على الغلام الأنصاري الذي
دفن ليلا ولم يشعر (ص) بموته، أخرجه البخاري. ويدل له أيضا أحاديث
وردت في الباب عن تسعة من الصحابة أشار إليها في الشرح. وذهب أبو طالب تحصيلا
لمذهب الهادي إلا أنه لا صلاة على القبر واستدل له في البحر بحديث لا يقوى على معارضة
أحاديث المثبتين لما عرفت من صحتها وكثرتها. واختلف القائلون بالصلاة على القبر في المدة
التي تشرع فيها الصلاة، فقيل إلى شهر بعد دفنه، وقيل إلى أن يبلى الميت لأنه إذا بلي لم يبق
ما يصلي عليه، وقيل أبدا لان المراد من الصلاة عليه الدعاء وهو جائز في كل وقت. قلت:
هذا هو الحق إذ لا دليل على التحديد بمدة. وأما القول بأن الصلاة على القبر من خصائصه
صلى الله عليه وسلم فلا تنهض لان دعوى الخصوصية خلاف الأصل.
(وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي (ص) كان ينهى عن النعي)
في القاموس: نعاه له نعيا ونعيا ونعيانا أخبره بموته (رواه أحمد والترمذي وحسنه) وكأن
صيغة النهي هي ما أخرجه الترمذي من حديث عبد الله عنه (ص) إياكم
والنعي فإن النعي من عمل الجاهلية فإن صيغة التحذير في معنى النهي. وأخرج حديث
حذيفة وفيه قصة، فإنه ساق سنده إلى حذيفة أنه قال لمن حضره: إذا مت فلا يؤذن أحد
إني أخاف أن يكون نعيا فإني سمعت رسول لله (ص) ينهى عن النعي هذا
لفظه ولم يحسنه. ثم فسر الترمذي النعي بأنه عندهم أن ينادي في الناس إن فلانا مات ليشهدوا
جنازته. وقال بعض أهل العمل: لا بأس أن يعلم الرجل أهل قرابته وإخوانه. وروي عن إبراهيم أنه قال:
لا بأس بأن يعلم الرجل قرابته انتهى. وقيل المحرم ما كانت تفعله الجاهلية كانوا يرسلون من
يعلم بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. وفي النهاية: والمشهور في العربية أنهم كانوا
إذا مات منهم شريف أو قتل بعثوا راكبا إلى القبائل ينعاه إليهم يقول: نعاء فلانا أو يا نعاء
العرب: أي هلك فلان أو هلكت العرب بموت فلان انتهى. ويقرب عندي أن هذا هو
100

المنهي عنه. قلت: ومنه النعي من أعلى المنارات كما يعرف في هذه الاعصار في موت
العظماء. قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات (الأولى) إعلام الأهل
والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة. (الثانية) دعوى الجمع الكثير للمفاخرة فهذه تكره. (الثالثة)
إعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم انتهى. وكأنه أخذ سنية الأولى من أنه لا بد
من جماعة يخاطبون بالغسل والصلاة والدفن ويدل له قوله (ص): ألا آذنتموني
ونحوه، ومنه:
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) نعى النجاشي)
بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثم مثناة تحتية مشددة وقيل مخففة، لقب
لكل من ملك الحبشة واسمه أصحمة (في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى) يحتمل
أنه مصلى العيد أو محل اتخذ لصلاة الجنائز (فصف بهم وكبر عليه أربعا، متفق عليه). فيه دلالة
على أن النعي اسم للاعلام بالموت وأنه لمجرد الاعلام جائز. وفيه دلالة على شرعية صلاة
الجنازة على الغائب، وفيه أقوال: الأول: تشرع مطلقا وبه قال الشافعي وأحمد وغيرهما وقال
ابن حزم لم يأت عن أحد من السلف خلافه. والثاني: منعه مطلقا وهو للهادوية والحنفية
ومالك. والثالث: يجوز في اليوم الذي مات فيه الميت أو ما قرب منه إلا إذا طالت المدة.
الرابع: يجوز ذلك إذا كان الميت في جهة القبلة، ووجه التفصيل في القولين معا الجمود على
قصة النجاشي. وقال المانع له مطلقا: إن صلاته (ص) على النجاشي خاصة به
، وقد عرف أن الأصل عدم الخصوصية واعتذروا بما قاله أهل القول الخامس وهو أن يصلى
على الغائب إذا مات بأرض لا يصلى عليها فيها كالنجاشي فإنه مات بأرض لم يسلم أهلها
واختاره ابن تيمية، ونقله المصنف في فتح الباري عن الخطابي وأنه استحسنه الروياني، ثم
قال: وهو محتمل إلا أنني لم أقف في شئ من الاخبار أنه لم يصل عليه في بلده أحد
واستدل بالحديث على كراهة الصلاة على الجنازة في المسجد، لخروجه (ص)
. والقول بالكراهة للحنفية والمالكية، ورد بأنه لم يكن في الحديث نهي عن الصلاة فيه، وبأن
الذي كرهه القائل بالكراهة إنما هو إدخال الميت المسجد وإنما خرج (ص)
تعظيما لشأن النجاشي ولتكثر الجماعة الذين يصلون عليه. وفيه شرعية الصفوف على الجنازة
لأنه أخرج البخاري في هذه القصة حديث جابر وأنه كان في الصف الثاني أو الثالث وبوب
له البخاري باب من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الامام. وفي الحديث من
أعلام النبوة إعلامهم بموته في اليوم الذي توفي فيه مع بعد ما بين المدينة والحبشة.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ما من رجل
مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا لا شفعهم
الله فيه رواه مسلم) في الحديث دليل على فضيلة تكثير الجماعة على الميت. وأن شفاعة
المؤمن نافعة مقبولة عنده تعالى وفي رواية ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون كلهم
مائة: كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه. وفي رواية ثلاثة صفوف رواها أصحاب السنن. قال القاضي
101

: قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله
اه‍. ويحتمل أن يكون (ص) أخبر بقبول شفاعة كل واحد من هذه الاعداد ولا
تنافي بينهما إذ مفهوم العدد يطرح مع وجود النص فجميع الأحاديث معمول بها
وتقبل الشفاعة بأدناها.
(وعن سمرة بن جندب رضي الله عنهما قال: صليت وراء النبي (ص) على امرأة
ماتت في نفاسها فقام وسطها متفق عليه) فيه دليل على مشروعية القيام عند وسط المرأة
إذا صلى عليها وهذا مندوب، وأما الواجب فإنما هو استقبال جزء من الميت رجلا أو
امرأة. واختلف العلماء في حكم الاستقبال في حق الرجل والمرأة فقال أبو حنيفة: إنهما
سواء. وعند الهادوية أنه يستقبل الامام سرة الرجل وثديي المرأة لرواية أهل البيت عليهم
السلام عن علي عليه السلام. وقال القاسم: صدر المرأة، وبينه وبين السرة من الرجل، إذ قد
روي قيامه (ص) عند صدرها ولا بد من مخالفة بينها وبين الرجل. وعن
الشافعي أنه يقف حذاء رأس الرجل وعند عجيزتها لما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث
أنس: أنه صلى على رجل فقام عند رأسه وصلى على المرأة فقام عند عجيزتها فقال له العلاء
بن زياد: هكذا كان رسول الله (ص) يفعل؟ قال: نعم. إلا أنه قال المصنف
في الفتح: إن البخاري أشار بإيراد حديث سمرة إلى تضعيف حديث أنس.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد صلى رسول الله (ص) على ابني
بيضاء) هما سهل وسهيل أبوهما وهب بن ربيعة وأمهما البيضاء اسمها دعد والبيضاء
صفة لها (في المسجد. رواه مسلم) قالته عائشة ردا على من أنكر عليها صلاتها على سعد
بن أبي وقاص في المسجد فقالت: ما أسرع ما نسي الناس والله لقد صلى الحديث. والحديث
دليل على ما ذهب إليه الجمهور من عدم كراهة صلاة الجنازة في المسجد. وذهب
أبو حنيفة ومالك إلى أنها لا تصح وفي القدوري للحنفية ولا يصلى على ميت في مسجد
جماعة. واحتجا بما سلف من خروجه (ص) إلى الفضاء للصلاة على النجاشي
وتقدم جوابه وبما أخرجه أبو داود من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له وأجيب
بأنه نص أحمد على ضعفه لأنه تفرد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف على أنه في النسخ
المشهورة من سنن أبي داود بلفظ فلا شئ عليه. وقد روى أن عمر صلى على أبي بكر
في المسجد وأن صهيبا صلى على عمر في المسجد. وعند الهادوية يكره إدخال الميت المسجد
كراهة تنزيه وتأولوا هم والحنفية والمالكية حديث عائشة بأن المراد أنه (ص) صلى
على ابني البيضاء وجنازتهما خارج المسجد وهو صلى الله عليه وسلم داخل المسجد ولا يخفى
بعده وأنه لا يطابق احتجاج عائشة.
(وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى) هو أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى ولد
لست سنين بقيت من خلافة عمر سمع أباه وعلي بن أبي طالب عليه السلام وجماعة من
الصحابة ووفاته سنة اثنتين وثمانين وفي سبب وفاته أقوال، قيل: فقد، وقيل قتل، وقيل
102

غرق في نهر البصرة (قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وإنه كبر على جنازة
خمسا فسألته فقال: كان رسول الله (ص) يكبرها. رواه مسلم والأربعة)
تقدم في حديث أبي هريرة أنه (ص) كبر في صلاته على النجاشي أربعا
ورويت الأربع عن ابن مسعود وأبي هريرة وعقبة بن عامر والبراء بن عازب وزيد بن ثابت،
وفي الصحيحين عن ابن عباس: صلى على قبر فكبر أربعا. وأخرج ابن ماجة عن أبي هريرة
: أن رسول الله (ص) صلى على جنازة فكبر أربعا. قال ابن أبي داود: ليس
في الباب أصح منه. فذهب إلى أنها أربعا لا غير جمهور من السلف والخلف منهم الفقهاء
الأربعة ورواية زيد بن علي عليه السلام. وذهب أكثر الهادوية إلى أنه يكبر خمس
تكبيرات واحتجوا بما روي أن عليا عليه السلام كبر على فاطمة خمسا وأن الحسن كبر
على أبيه خمسا وعن ابن الحنفية أنه كبر على ابن عباس خمسا وتأولوا رواية الأربع بأن
المراد بها ما عدا تكبيرة الافتتاح وهو بعيد:
(وعن علي رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف) بضم المهملة فنون فمثناة
تحتية ففاء (ستا وقال: إنه بدري) أي ممن شهد وقعة بدر معه (ص)
(رواه سعيد بن منصور وأصله في البخاري) الذي في البخاري أن عليا كبر على سهل
بن حنيف زاد البرقاني في مستخرجه ستا كذا ذكره البخاري في تاريخه. وقد اختلفت
الروايات في عدة تكبيرات الجنازة فأخر البيهقي عن سعيد بن المسيب: أن عمر قال: كل
ذلك قد كان أربعا وخمسا فاجتمعنا على الأربع. ورواه ابن المنذر من وجه آخر عن سعيد،
ورواه البيهقي أيضا عن أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله (ص)
أربعا وخمسا وستا وسبعا فجمع عمر أصحاب رسول الله (ص) فأخبر كل بما رأى
فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. وروى ابن عبد البر في الاستذكار بإسناده: كان النبي
(ص) يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وثمانيا حتى جاء موت
النجاشي فخرج إلى المصلى وصف الناس وراءه وكبر عليه أربعا ثم ثبت النبي (ص)
على أربع حتى توفاه الله، فإن صح هذا فكأن عمر ومن معه لم يعرفوا استقرار الامر
على الأربع حتى جمعهم وتشاوروا في ذلك.
(وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) يكبر على
جنائزنا أربعا، ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى رواه الشافعي بإسناد ضعيف)
سقط هذا الحديث من نسخة الشرح فلم يتكلم عليه الشارح رحمه الله قال المصنف في الفتح
: إنه أفاد شيخه في شرح الترمذي أنه سنده ضعيف وفي التلخيص إنه رواه الشافعي عن
إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عقيل عن جابر انتهى وقد ضعفوا ابن عقيل.
واعلم أنه اختلف العلماء في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، فنقل ابن المنذر عن ابن مسعود
والحسن بن علي وابن الزبير مشروعيتها وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. ونقل عن أبي هريرة
وابن عمر أنه ليس فيها قراءة وهو قول مالك والكوفيين. واستدل الأولون بما سلف وهو
وإن كان ضعيفا فقد شهد له قوله:
103

(وعن طلحة بن عبد الله بن عوف) أي الخزاعي (قال: صليت خلف
ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: لتعلموا أنها سنة رواه البخاري) وأخرجه
ابن خزيمة في صحيحه والنسائي بلفظ فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال: نعم يا ابن أخي
إنه حق وسنة وأخرج النسائي أيضا من طريق أخرى بلفظ فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة
وجهر حتى أسمعنا فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: سنة وحق وقد روى الترمذي عن
ابن عباس: أنه (ص) قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. ثم قال لا يصح
هذا. والصحيح عن ابن عباس قوله: من السنة. قال الحاكم: أجمعوا على أن قول الصحابي من
السنة حديث مسند قال المصنف: كذا نقل الاجماع مع أن الخلاف عند أهل الحديث
وعند الأصوليين شهير. والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة لان المراد
من السنة الطريقة المألوفة عنه (ص) لا أن المراد بها ما يقابل الفريضة فإنه
اصطلاح عرفي. وزاد الوجوب تأكيدا قوله: حق أي ثابت. وقد أخرج ابن ماجة من
حديث أم شريك قالت: أمرنا رسول الله (ص) أن نقرأ على الجنازة بفاتحة
الكتاب. وفي إسناده ضعف يسير يجبره حديث ابن عباس. والامر من أدلة الوجوب،
وإلى وجوبها ذهب الشافعي وأحمد وغيرهما من السلف والخلف. وذهب آخرون إلى عدم
مشروعيتها لقول ابن مسعود: لم يوقت لنا رسول الله (ص) قراءة في صلاة
الجنازة بل قال: كبر إذا كبر الامام واختر من أطايب الكلام ما شئت إلا أنه لم يعزه
إلى كتاب حديثي حتى تعرف صحته من عدمها ثم هو قول صحابي على أنه ناف وابن عباس
مثبت وهو مقدم. وعن الهادي وجماعة من الآل أن القراءة سنة عملا بقول ابن عباس سنة
وقد عرفت المراد بها في لفظه. واستدل للوجوب بأنهم اتفقوا أنها صلاة وقد ثبت حديث
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فهي داخلة تحت العموم وإخراجها منه يحتاج إلى دليل.
وأما موضع قراءة الفاتحة فإنه بعد التكبيرة الأولى ثم يكبر فيصلي على النبي (ص)
ثم يكبر فيدعو للميت وكيفية الدعاء قد أفادها قوله: (وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: صلى رسول الله (ص) على جنازة
فحفظت من دعائه اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله
، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى
الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من
أهله، وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار رواه مسلم) يحتمل أنه (ص)
جهر به فحفظه ويحتمل أنه سأله ما قاله فذكره له فحفظه. وقد قال
الفقهاء: يندب الاسرار، ومنهم من قال يخير، ومنهم من قال: يسر في النهار ويجهر في الليل
. وفي الدعاء ينبغي الاخلاص فيه لقوله (ص): أخلصوا له الدعاء وما
ثبت عنه (ص) أولى. وأصح الأحاديث الواردة في ذلك هذا الحديث
وكذلك قوله:
104

(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
صلى على جنازة يقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا) أي حاضرنا (وغائبنا
وصغيرنا) أي ثبته عند التكليف للأفعال الصالحة وإلا فلا ذنب له (وكبيرنا، وذكرنا
وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الاسلام، ومن توفيته منا فتوفه
على الايمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده رواه مسلم والأربعة) والأحاديث
في الدعاء للميت كثيرة ففي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن النبي (ص)
دعا في الصلاة على الجنازة: اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للاسلام وأنت
قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئناك شفعاء فاغفر له. وابن ماجة من
حديث واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول الله (ص) على جنازة رجل من
المسلمين فسمعته يقول: اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقه فتنة القبر
وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم
. واختلاف الروايات دال على أن الامر متسع في ذلك ليس مقصورا على شئ معين، وقد
اختار الهادوية أدعية أخرى، واختار الشافعي كذلك، والكل مسطور في الشرح. وأما قراءة
سورة مع الحمد فقد ثبت ذلك كما عرفت في رواية النسائي ولم يرد فيها تعيين وإنما الشأن
في إخلاص الدعاء للميت لأنه الذي شرعت له الصلاة، والذي ورد به الحديث وهو قوله:
(وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صليتم على
الميت فأخلصوا له الدعاء رواه أبو داود وصححه ابن حبان) لأنهم شفعاء والشافع
يبالغ في طلبها يريد قبول شفاعته فيه. وروى الطبراني: أن ابن عمر كان إذا رأى جنازة قال:
هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، اللهم زدنا إيمانا وتسليما. ثم أسند عن
النبي (ص) أنه قال: من رأى جنازة فقال: الله أكبر صدق الله ورسوله هذا
ما وعد الله ورسوله اللهم زدنا إيمانا وتسليما تكتب له عشرون حسنة.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: أسرعوا
بالجنازة فإن تك) أي الجنازة والمراد بها الميت (صالحة فخير) خبر مبتدأ محذوف
أي فهو خير ومثله شر الآتي (تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر
تضعونه عن رقابكم) متفق عليه. نقل ابن قدامة أن الامر بالاسراع للندب بلا خلاف
بين العلماء. وسئل ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد به شدة المشي وعلى ذلك حمله بعض
السلف. وعند الشافعي والجمهور المراد بالاسراع فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الاسراع
شديد. والحاصل أنه يستحب الاسراع بها لكن بحيث إنه لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث
مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل والمشيع. وقال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ
بالميت عن الدفن، لان البطء ربما أدى إلى التباهي والاختيال، هذا بناء على أن المراد بقوله
بالجنازة بحملها إلى قبرها، وقيل: المراد الاسراع بتجهيزها فهو أعم من الأول. قال
105

النووي: هذا باطل مردود بقوله في الحديث تضعونه عن رقابكم، وتعقب بأن الحمل على
الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما تقول حمل فلان على رقبته ديونا. قال: ويؤيده أن الكل
لا يحملونه، قال المصنف بعد نقله في الفتح: ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله
(ص) يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره أخرجه الطبراني
بإسناد حسن، ولأبي داود مرفوعا: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله. والحديث
دليل على المبادرة بتجهيز الميت ودفنه، وهذا في غير المفلوج ونحوه فإنه ينبغي التثبت في أمره.
(وعنه) رضي الله عنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله (ص): من
شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله
قيراطان قيل) صرح أبو عوانة بأن القائل وما القيراطان هو أبي هريرة (وما القيراطان؟
قال: مثل الجبلين العظيمين متفق عليه. ولمسلم) أي من حديث أبي هريرة
حتى توضع في اللحد. وللبخاري أيضا من حديث أبي هريرة (من تبع جنازة
مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه
يرجع بقيراطين كل قيراط مثل أحد) فاتفقا على صدر الحديث ثم انفرد كل
واحد منهما بلفظ. وهذا الحديث رواه اثنا عشر صحابيا. وقوله: إيمانا واحتسابا) قيد به لأنه
لا بد منه لان ترتب الثواب على العمل يستدعي سبق النية، فيخرج من فعل ذلك على سبيل
المكافأة المجردة أو على سبيل المحاباة. ذكره المصنف في الفتح. وقوله: مثل أحد ووقع
في رواية النسائي: فله قيراطان من الاجر كل واحد منهما أعظم من أحد وفي رواية لمسلم
: أصغرهما مثل أحد. وعند ابن عدي من رواية واثلة: كتب له قيراطان من الاجر أخفهما
في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد. والشهود: الحضور وظاهره الحضور معها من
ابتداء الخروج بها. وقد ورد في لفظ مسلم: من خرج مع جنازة من بيتها ثم تبعها حتى تدفن
كان له قيراطان من الاجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط
. والروايات إذا رد بعضها إلى بعض تقضي بأنه لا يستحق الاجر المذكور إلا من صلى عليها ثم
تبعها. قال المصنف رحمه الله: الذي يظهر لي أنه يحصل الاجر لمن صلى وإن لم يتبع لان ذلك
وسيلة إلى الصلاة لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من صلى وتبع. وأخرج
سعيد بن منصور من حديث عروة عن زيد بن ثابت: إذا صليت على جنازة فقد قضيت
ما عليك أخرجه ابن أبي شيبة بلفظ إذا صليتم وزاد في آخره فخلوا بينها وبين أهلها
ومعناه قد قضيت حق الميت فإن أروت الاتباع فلك زيادة أجر. وعلق البخاري قول
حميد بن هلال: ما علمنا على الجنازة إذنا ولكن من صلى ورجع فله قيراط. وأما حديث
أبي هريرة: أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها فليس له أن يرجع حتى
يستأذن وليها. أخرجه عبد الرزاق فإنه حديث منقطع موقوف. وقد رويت في معناه
أحاديث مرفوعة كلها ضعيفة. ولما كان وزن الأعمال في الآخر ليس لنا طريق إلى معرفة
106

حقيقته ولا يعلمه إلا الله، ولم يكن تعريفنا لذلك إلا بتشبيهه بما نعرفه من أحوال المقادير
، شبه قدر الاجر الحاصل من ذلك بالقيراط ليبرز لنا المعقول في صورة المحسوس. ولما كان
القيراط حقير القدر بالنسبة إلى ما نعرفه في الدنيا نبه على معرفة قدره: بأنه كأحد الجبل المعروف
بالمدينة. وقوله: حتى تدفن ظاهر في وقوع مطلق الدفن وإن لم يفرغ منه كله. ولفظ
حتى توضع في اللحد كذلك إلا إن في الرواية الأخرى لمسلم حتى يفرغ من دفنها ففيها
بيان وتفسير لما في غيرها. والحديث ترغيب في حضور الميت والصلاة عليه ودفنه، وفيه
دلالة على عظم فضل الله وتكريمه للميت وإكرامه بجزيل الإثابة لمن أحسن إليه بعد موته.
تنبيه - في حمل الجنازة -: أخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده إلى عبد الله بن مسعود أنه
قال: إذا تبع أحدكم الجنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربعة ثم ليتطوع بعد أو يذر فإنه من
السنة. وأخرج بسنده: أن عثمان ابن عفان حمل بين العمودين سرير أمه فلم يفارقه حتى وضعه
وأخرج أيضا أن أبا هريرة رضي الله عنه حمل بين عمودي سرير سعد بن أبي وقاص. وأخرج
: أن ابن الزبير حمل بين عمودي سرير المسور بن مخرمة. وأخرج من حديث يوسف بن ماهك
قال: شهدت جنازة رافع بن خديج وفيها ابن عمر وابن عباس فانطلق ابن عمر حتى أخذ
بمقدم السرير بين القائمين فوضعه على كاهله ثم مشى بها. انتهى (وعن سالم رضي الله عنه) هو أبو عبد الله وأبو عمرو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب
أحد فقهاء المدينة من سادات التابعين وأعيان علمائهم روى عن أبيه وغيره مات سنة ست
ومائة (عن أبيه) هو عبد الله بن عمر (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهم
يمشون أمام الجنازة. رواه الخمسة وصححه ابن حبان وأعله النسائي وطائفة بالارسال)
اختلف في وصله وإرساله فقال أحمد: إنما هو عن الزهري مرسل، وحديث سالم موقوف على
ابن عمر من فعله. قال الترمذي: أهل الحديث يرون المرسل أصح. وأخرجه ابن حبان
في صحيحه عن الزهري عن سالم أن عبد الله بن عمر كان يمشي بين يديها وأبا بكر وعمر
وعثمان. قال الزهري وكذلك السنة. وقد ذكر الدارقطني في العلل اختلافا كثيرا فيه عن
الزهري قال: والصحيح قول من قال عن الزهري عن سالم عن أبيه: أنه كان يمشي. قال
: وقد مشى رسول الله (ص) وأبو بكر وعمر رضي الله عنهم بين يديها. وهذا
مرسل وقال البيهقي: إن الموصول أرجح لأنه من رواية ابن عيينة وهو ثقة حافظ، وعن
علي بن المديني قال: قلت لابن عيينة: يا أبا محمد خالفك الناس في هذا الحديث، فقال:
استيقن، الزهري حدثنيه مرارا لست أحصيه، يعيده ويبديه، سمعته من فيه، عن سالم عن أبيه. قال
المصنف: وهذا لا ينفي عنه الوهم لأنه ضبط أنه سمعه منه عن سالم عن أبيه والامر كذلك إلا أن
فيه إدراجا. وصححه الزهري وحدث به ابن عيينة. وللاختلاف في الحديث اختلف العلماء على
خمسة أقوال (الأول) أن المشي أمام الجنازة أفضل لوروده من فعله (ص) وفعل
الخلفاء وذهب إليه الجمهور والشافعي. (والثاني) للهادوية والحنفية أن المشي خلفها أفضل لما
رواه ابن طاوس عن أبيه ما مشى رسول الله (ص) حتى مات إلا خلف
107

الجنازة ولما رواه سعيد بن منصور من حديث علي عليه السلام قال: المشي خلفها أفضل
من المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ. إسناده حسن وهو موقوف له حكم الرفع
، وحكى الأثرم أن أحمد تكلم في إسناده. (الثالث) أنه يمشي بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها
علقه البخاري عن أنس، وأخرجه ابن أبي شيبة موصولا وكذا عبد الرزاق، وفيه التوسعة على
المشيعين وهو يوافق سنة الاسراع بالجنازة وأنهم لا يلزمون مكانا واحدا يمشون فيه لئلا يشق
عليهم أو على بعضهم. (القول الرابع) للثوري أن الماشي يمشي حيث شاء والراكب خلفها
لما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث المغيرة مرفوعا الراكب
خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها. (القول الخامس) للنخعي إن كان مع الجنازة نساء
مشي أمامها وإلا فخلفها.
(وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: نهينا) مبني للمجهول (عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا متفق
عليه) جمهور أهل الأصول والمحدثين أن قول الصحابي نهينا أو أمرنا بعدم ذكر الفاعل له حكم المرفوع
إذ الظاهر من ذلك أن الآمر والناهي هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأما هذا الحديث فقد ثبت
رفعه وأنه أخرجه البخاري في باب الحيض عن أم عطية بلفظ نهانا رسول الله صلى الله عليه
وسلم - الحديث إلا أنه مرسل لان أم عطية لم تسمعه منه لما أخرجه الطبراني عنها وقالت: لما
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع النساء في بيت ثم بعث إلينا عمر فقال: إني رسول
الله (ص) إليكن بعثني إليكن لأبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا الحديث. وفي آخره ونهانا أن
نخرج في جنازة. وقولها: ولم يعزم علينا ظاهر في أن النهي للكراهية لا للتحريم كأنها فهمته
من قرينة وإلا فأصله التحريم، وإلى أنه للكراهة ذهب جمهور أهل العلم ويدل له ما أخرجه
ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة أن رسول الله (ص) كان في جنازة فرأى
عمر امرأة فصاح بها فقال: دعها يا عمر الحديث وأخرجه النسائي وابن ماجة. ومن طريق أخرى ورجالها ثقات.
(وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: إذا
رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع متفق عليه) الامر ظاهر
في وجوب القيام للجنازة إذا مرت بالمكلف وإن لم يقصد تشييعها وظاهر في عموم كل جنازة
من مؤمن وغيره ويؤيده أنه أخرج البخاري قيامه صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي
مرت به. وعلل ذلك بأن الموت فزع وفي رواية أليست نفسا وأخرج الحاكم إنما قمنا
للملائكة وأخرج أحمد والحاكم وابن حبان: إنما نقوم إعظاما للذي يقبض النفوس. ولفظ
ابن حبان: إعظاما لله. ولا منافاة بين التعليلين. وقد عارض هذا الامر حيث علي عليه
السلام عند مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قام للجنازة ثم قعد. والقول بأنه يحتمل أن مراده قام
ثم قعد لما بعدت عنه، يدفعه أن عليا أشار إلى قوم بأن يقعدوا ثم حدثهم الحديث. ولما
تعارض الحديثان اختلف العلماء في ذلك. فذهب الشافعي إلى أن حديث علي عليه السلام
ناسخ للامر بالقيام، ورد أن حديث علي ليس نصا لاحتمال أن قعوده صلى الله عليه
108

وسلم كان لبيان الجواز، ولذا قال النووي: المختار أنه مستحب. وأما حديث عبادة
بن الصامت أنه كان (ص) يقوم للجنازة فمر به حبر من اليهود فقال: هكذا
نفعل، فقال: اجلسوا خالفوهم. أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وأخرجه البزار
والبيهقي، فإنه حديث ضعيف فيه بشر بن رافع قال البزار: تفرد به بشر وهو لين الحديث
. وقوله: ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع أفاد النهي لمن شيعها، عن الجلوس حتى توضع،
ويحتمل أن المراد حتى توضع في الأرض أو توضع في اللحد، وقد روي الحديث باللفظين
إلا أنه رجح البخاري وغيره رواية توضع في الأرض. فذهب بعض السلف إلى وجوب
القيام حتى توضع الجنازة لما يفيده النهي هنا ولما عند النسائي من حديث أبي هريرة
وأبي سعيد: ما رأينا رسول الله (ص) شهد جنازة قط فجلس حتى توضع
. وقال الجمهور: إنه مستحب. وقد روى البيهقي من حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما: إن القائم
مثل الحامل - يعني في الاجر.
(وعن أبي إسحاق) هو السبيعي بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة والعين
المهملة الهمداني الكوفي رأى عليا عليه السلام وغيره من الصحابة وهو تابعي مشهور، كثير
الرواية، ولد لسنتين من خلافة عثمان، ومات سنة تسع وعشرين ومائة (رضي الله عنه أن عبد الله
بن يزيد) هو عبد الله بن يزيد الخطمي بالخاء المعجمة الأوسي كوفي شهد الحديبية وهو ابن سبع عشرة سنة
وكان أميرا على الكوفة وشهد مع علي عليه السلام صفين والجمل ذكره ابن عبد البر
في الاستيعاب (أدخل الميت من قبل رجلي القبر) أي من جهة المحل الذي يوضع فيه رجلا
الميت فهو من إطلاق الحال على المحل (وقال: هذا من السنة. أخرجه أبو داود) وروى عن علي
عليه السلام قال: صلى رسول الله (ص) على جنازة رجل من ولد عبد المطلب
فأمر بالسرير فوضع من قبل رجلي اللحد ثم أمر به فسل سلا. ذكره الشارح ولم يخرجه.
وفي المسألة ثلاثة أقوال: الأول) ما ذكر وإليه ذهبت الهادوية والشافعي وأحمد. (والثاني) يسل
من قبل رأسه لما روى الشافعي عن الثقة مرفوعا من حديث ابن عباس أنه (ص)
سل ميتا من قبل رأسه وهذا أحد قولي الشافعي. (والثالث) لأبي حنيفة أنه يسل من قبل
القبلة ويأتي أنه حديث حسن فيستفاد من المجموع أنه فعل مخير فيه.
(فائدة) اختلف في تجليل القبر بالثوب عند مواراة الميت فقيل يجلل سواء كان المدفون
رجلا أو امرأة لما أخرجه البيهقي لا أحفظه إلا من حديث ابن عباس قال: جلل رسول الله
(ص) قبر سعد بثوبه قال البيهقي: لا أحفظه إلا من حديث يحيى بن عقبة بن
أبي العيزار وهو ضعيف. وقيل يختص بالنساء لما أخرجه البيهقي أيضا من حديث أبي إسحاق أنه
حضر جنازة الحرث الأعور فأبي عبد الله بن يزيد أن يبسطوا عليه ثوبا وقال: إنه رجل قال
البيهقي: وهذا إسناده صحيح وإن كان موقوفا (قلت) ويؤيده ما أخرجه أيضا البيهقي عن رجل من
109

أهل الكوفة أن علي بن أبي طالب أتاهم يدفنون ميتا وقد بسط الثوب على قبره
فجذب الثوب من القبر، وقال: إنما يصنع هذا بالنساء.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال: إذا وضعتم
موتاكم في القبور فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله أخرجه أحمد وأبو داود
والنسائي وصححه ابن حبان وأعله الدارقطني بالوقف) ورجح النسائي وقفه على ابن عمر أيضا
، إلا أنه له شواهد مرفوعة ذكرها في الشرح، وأخرج الحاكم والبيهقي بسند ضعيف لما وضعت
أم كلثوم بنت النبي (ص) في القبر قال رسول الله (ص): * (منها
خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله
، وللشافعي دعاء آخر استحسنه فدل كلامه على أنه يختار الدافن للميت ما يراه
وأنه ليس فيه حد محدود.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (ص) قال: كسر
عظم الميت ككسره حيا رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم: وزاد ابن ماجة)
، أي في الحديث هذا وهو قوله: من حديث أم سلمة: في الاثم) بيان للمثلية. فيه دلالة على
وجوب اخترام الميت كما يحترم الحي، ولكن زيادة في الاثم أنبأت أنه يفارقه من حيث إنه
لا يجب الضمان، وهو يحتمل أن الميت يتألم كما يتألم الحي، وقد ورد به حديث
(وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما
صنع برسول الله (ص) رواه مسلم) هذا الكلام قاله سعد لما قيل له
ألا نتخذ لك شيئا كأنه الصندوق من الخشب؟ فقال: اصنعوا. فذكره. واللحد بفتح اللام
وضمها هو الحفر تحت الجانب القبلي من القبر. وفيه دلالة أنه لحد له (ص)
وقد أخرجه أحمد وابن ماجة بإسناد حسن. وأنه كان بالمدينة رجلان رجل يلحد
ورجل يشق فبعث الصحابة في طلبهما فقالوا: أيهما جاء عمل عمله لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فجاء الذي يلحد لرسول الله (ص). ومثله عن ابن عباس
عند أحمد والترمذي. وأن الذي كان يلحد هو أبو طلحة الأنصاري: وفي إسناده ضعف. وفيه
الدلالة على أن اللحد أفضل.
(وللبيهقي) أي وروي البيهقي (عن جابر رضي الله عنه نحوه) أي نحو حديث سعد (وزاد:
ورفع قبره عن الأرض قدر شبر وصححه ابن حبان). هذا الحديث أخرجه البيهقي وابن حبان
من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. وفي الباب من حديث القاسم بن محمد قال
: دخلت على عائشة فقلت: يا أماه اكشفي لي عن قبر رسول الله (ص)
وصاحبيه فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء
. أخرجه أبو داود والحاكم وزاد: رأيت رسول الله (ص) مقدما وأبو بكر
رأسه بين كتفي رسول الله (ص) وعمر رأسه عند رجلي رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وأخرج أبو داود في المراسيل عن صالح بن أبي صالح قال: رأيت قبر رسول الله صلى
110

الله عليه وسلم شبرا أو نحو شبر. ويعارضه ما أخرجه البخاري من حديث سفيان التمار: أنه
رأى قبر النبي (ص) مسنما. أي مرتفعا كهيئة السنام وجمع بينهما البيهقي بأنه كان
أولا مسطحا ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك أصلح فجعل مسنما.
(فائدة) كانت وفاته (ص) يوم الاثنين عندما زاغت الشمس لاثنتي عشرة
ليلة خلت من ربيع الأول ودفن يوم الثلاثاء. كما في الموطأ. وقال جماعة يوم الأربعاء
. وتولى غسله ودفنه علي والعباس وأسامة. أخرجه أبو داود من حديث الشعبي وزاد: وحدثني
مرحب، وكذا في الشرح والذي في التلخيص: مرحب أو أبو مرحب بالشك أنهم أدخلوا
معهم عبد الرحمن بن عوف. وفي رواية البيهقي زيادة مع علي والعباس الفضل بن العباس
وصالح - وهو شقران - ولم يذكر ابن عوف. وفي رواية له ولابن ماجة: على والفضل وقثم
وشقران. وزاد. وسوى لحده رجل من الأنصار. وجمع بين الروايات بأن من نقص فباعتبار
ما رأى أول الأمر ومن زاد أراد به آخر الامر.
(ولمسلم عنه رضي الله عنه) أي عن جابر (نهى رسول الله (ص) أن يجصص
القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه). الحديث دليل على تحريم الثلاثة المذكورة لأنه الأصل
في النهي. وذهب الجمهور إلى أن النهي في البناء والتجصيص للتنزيه. والقعود للتحريم وهو
جمع بين الحقيقة والمجاز ولا يعرف ما الصارف عن حمل الجميع على الحقيقة التي هي أصل
النهي. وقد وردت الأحاديث في النهي عن البناء على القبور والكتب عليها والتسريج وأن
يزاد فيها وأن توطأ. فأخرج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود مرفوعا: لعن الله
زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. وفي لفظ للنسائي: نهى أن يبنى على القبر
أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه. وأخرج البخاري من حديث عائشة قالت: قال
رسول الله (ص) في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد. واتفقا على اخراج حديث أبي هريرة بلفظ لعن الله اليهود والنصارى
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وأخرج الترمذي أن عليا عليه السلام قال لأبي الهياج الأسدي
: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (ص) أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا
تمثالا إلا طمسته قال الترمذي: حديث حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم
، فكرهوا أن يرفع القبر فوق الأرض. قال الشارح رحمه الله: وهذه الأخبار المعبر فيها باللعن
والتشبيه بقوله: لا تجعلوا قبري وثنا يعبد من دون الله تفيد التحريم للعمارة والتزيين والتجصيص
ووضع الصندوق المزخرف ووضع الستائر على القبر وعلى سمائه والتمسح بجدار القبر وأن
ذلك قد يفضي مع بعد العهد وفشو الجهل إلى ما كان عليه الأمم السابقة من عبادة الأوثان،
فكان في المنع عن ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة المفضية إلى الفساد، وهو المناسب للحكمة
المعتبرة في شرع الاحكام من جلب المصالح ودفع المفاسد، سواء كانت بأنفسها أو باعتبار
ما تفضي إليه انتهى. وهذا كلام حسن وقد وفينا المقام حقه ومسألة مستقلة.
(وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن النبي (ص) صلى على عثمان بن مظعون
111

وأتى القبر فحثى عليه ثلاث حثيات وهو قائم رواه الدارقطني) وأخرجه البزار وزاد بعد قوله
وهو قائم عند رأسه وزاد أيضا فأمر فرش عليه الماء وروى أبو الشيخ في مكارم
الأخلاق عن أبي هريرة مرفوعا من حثا على مسلم احتسابا كتب له بكل ثراة حسنة وإسناده
ضعيف. وأخرج ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن رسول الله (ص) حثى من
قبل الرأس ثلاثا إلا أنه قال أبو حاتم: حديث باطل وروى البيهقي من طريق محمد بن زياد
عن أبي أمامة قال: توفي رجل فلم تصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها على قبر فغفرت
لذنوبه. ولكن هذه شهد بعضها لبعض. وفيه دلالة على مشروعية الحثي على القبر
ثلاثا، وهو يكون باليدين معا لثبوته في حديث عامر بن ربيعة ففيه حثا بيديه، واستحب
أصحاب الشافي أن يقول عند ذلك * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) * الآية.
(وعن عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا فرغ
من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن
يسأل رواه أبو داود وصححه الحاكم) فيه دلالة على انتفاع الميت باستغفار الحي له، وعليه
ورد قوله تعالى: * (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالايمان) * وقوله: * (واستغفر لذنبك
وللمؤمنين والمؤمنات) * ونحوهما. وعلى أنه يسأل في القبر، وقد وردت به الأحاديث
الصحيحة، كما أخرج ذلك الشيخان. فمنها من حديث أنس أنه (ص) قال
: إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم. زاد مسلم: وإذا انصرفوا
أتاه ملكان زاد ابن حبان والترمذي من حديث أبي هريرة: أزرقان أسودان يقال لأحدهما
المنكر والآخر النكير. زاد الطبراني في الأوسط: أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل
صياصي البقر وأصواتهما البقر مثل الرعد تزاد عبد الرزاق: ويحفر ان بأنيابهما ويطآن في أشعارهما
معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها وزاد البخاري من حديث البراء: فيعاد
روحه في جسده. ويستفاد في مجموع الأحاديث أنهما يسألانه فيقولان: ما كنت تعبد؟
فإن كان الله هداه فيقول: كنت أ عبد الله، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد؟
(ص) فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. وفي رواية أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
عبده ورسوله فيقال له: صدقت فلا يسأل عن شئ غيرها ثم يقال له: على اليقين
كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى. وفي لفظ: فينادي مناد من السماء أن
صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة وألبسوه من الجنة قال: فيأتيه من
روحها وطيبها ويفسح له مد بصره، ويقال له انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله مقعدا
من الجنة فيراهما جميعا، فيقول: دعوني حتى أذهب أبشر أهلي فيقال له: اسكت،
ويفسح له قبره سبعون ذراعا ويملا خضرا إلى يوم القيامة. وفي لفظ ويقال له نم فينام
نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله. وأما الكافر والمنافق فيقول له الملكان من ربك؟
112

فيقول: هاه هاه، لا أدري ويقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري فيقولان: ما هذا
الرجل الذي بعث فيكم: فيقول: هاه هاه لا أدري فيقال: دريت ولا تليت - أي لا فهمت
ولا تبعت من يفهم - ويضرب بمطارق من حديد ضربة لو ضرب بها جبل لصار ترابا
فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين.
واعلم أنه قد وردت أحاديث على اختصاص هذه الأمة بالسؤال في القبر دون الأمم السالفة
قال العلماء: والسر فيه أن الأمم كانت تأتيهم الرسل فإن أطاعوهم فالمراد، وإن عصوهم اعتزلوهم وعولجوا
بالعذاب. فلما أرسل الله محمدا (ص) رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب وقبل الاسلام ممن
أظهره سواء أخلص أم لا، وقيض الله لهم من يسألهم في القبور ليخرج الله سرهم بالسؤال
وليميز الله الخبيث من الطيب. وذهب ابن القيم إلى عموم المسألة وبسط المسألة في كتاب الروح.
(وعن ضمرة) بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم (ابن حبيب) بالحاء المهملة
مفتوحة فموحدة فمثناة فموحدة (أحد التابعين) حمصي ثقة روى عن شداد بن أوس وغيره (قال: كانوا) ظاهره الصحابة الذين أدركهم (يستحبون إذا سوي) بضم السين المهملة
مغير الصيغة من التسوية (على الميت قبره وانصرف الناس عنه أن يقال عند قبره: يا فلان قل:
لا إله إلا الله ثلاث مرات، يا فلان قل: ربي الله وديني الاسلام ونبيي محمد. رواه سعيد
بن منصور موقوفا) على ضمرة بن حبيب (وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعا مطولا)
ولفظه عن أبي أمامة: إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله (ص) أن نصنع
بموتانا، أمرنا رسول الله (ص) فقال: إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب
على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب
ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: أذكر
ما كنت عليه في الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله
ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما. فإن منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد منهما
بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله
فإنه لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمه حواء، يا فلان ابن حواء قال المصنف: إسناده صالح
وقد قواه الضياء في أحكامه. قلت: قال الهيثمي بعد سياقه ما لفظه: أخرجه الطبراني
في الكبير، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم. وفي هامشه: فيه عاصم بن عبد الله ضعيف: ثم
قال: والراوي عن أبي أمامة سعيد الأزدي بيض له أبو حاتم، وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل
: هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول: يا فلان ابن فلانة قال: ما رأيت
أحدا يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة. ويروى فيه عن أبي بكر ابن أبي مريم عن
أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه. وقد ذهب إليه الشافعية. وقال في المنار: إن حديث التلقين
هذا حديث لا يشك أهل المعرفة بالحديث في وضعه. وأنه أخرجه سعيد بن منصور في سنه
113

عن ضمرة بن حبيب عن أشياخ له من أهل حمص فالمسألة حمصية. وأما جعل اسألوا له
التثبيت فإنه الآن يسأل: شاهدا له، فلا شهادة فيه. وكذلك أمر عمر وبن العاص بالوقوف
عند قبره مقدار ما ينحر جزور ليستأنس بهم عند مراجعة رسل ربه: لا شهادة فيه على التلقين
. وابن القيم جزم في الهدى بمثل كلام المنار، وأما في كتاب الروح فإنه جعل حديث التلقين
من أدلة سماع الميت لكلام الاحياء وجعل اتصال العمل بحديث التلقين من غير نكير كافيا
في العمل به، ولم يحكم له بالصحة بقال في كتاب الروح: إنه حديث ضعيف ويتحصل من
كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله.
(وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها رواه مسلم زاد الترمذي) أي من حديث
بريدة (فإنها تذكر الآخرة).
(زاد ابن ماجة من حديث ابن مسعود) وهو الحديث السابق بلفظ ما مضى
وزاد (وتزهد في الدنيا) وفي الباب أحاديث عن أبي هريرة عن مسلم وعن ابن مسعود
عن ابن ماجة والحاكم وعن أبي سعيد عند أحمد والحاكم وعن علي عليه السلام عند أحمد
وعن عائشة عن ابن ماجة. والكل دال على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها
للاعتبار فإنه في لفظ حديث ابن مسعود فإنها عبرة وذكرى للآخرة والتزهيد في الدنيا فإذا
خلت من هذه لم تكن مرادة شرعا. وحديث بريدة جمع فيه بين ذكر أنه (ص)
كان نهى أولا عن زيارتها ثم أذن فيها أخرى. وفي قوله: فزوروها أمر الرجال بالزيارة
وهو أمر ندب اتفاقا، ويتأكد في حق الوالدين لآثار في ذلك. وأما ما يقوله عند وصوله
المقابر فهو: السلام عليكم دار قوم مؤمنين ورحمة الله وبركاته، ويدعو لهم بالمغفرة ونحوها
. وسيأتي حديث مسلم في ذلك قريبا وأما قراءة القرآن ونحوها عند القبر فسيأتي الكلام فيها قريبا.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) لعن زائرات القبور أخرجه
الترمذي وصححه ابن حبان) وقال الترمذي بعد اخراجه: هذا حديث حسن. وفي الباب عن
ابن عباس وحسان. وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا كان قبل أن يرخص النبي (ص)
في زيارة القبور فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم:
إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن ثم ساق بسنده أن عبد الرحمن
بن أبي بكر توفي ودفن في مكة وأتت عائشة قبره ثم قالت:
وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
ولما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
اه‍ ويدل ما قاله بعد أهل العلم ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: كيف أقول
يا رسول الله إذا زرت القبور؟ فقال: قولي: السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين
يرحم الله المتقدمين منا والمتأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. وما أخرج الحاكم من
114

حديث علي ابن الحسين أن فاطمة عليها السلام كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي
وتبكي عنده. قلت: وهو حديث مرسل فإن علي بن الحسين لم يدرك فاطمة بنت
محمد (ص). وعموم ما أخرجه البيهقي في شعب الايمان مرسلا: من زار قبر
الوالدين أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب بارا.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لعن رسول الله (ص) النائحة
والمستمعة أخرجه أبو داود) النوح هو رفع الصوت بتعديد شمائل الميت ومحاسن أفعاله
والحديث دليل على تحريم ذلك وهو مجمع عليه.
(وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله (ص) عند البيعة أن لا ننوح
متفق عليه) كان أخذه عليهن ذلك وقت المبايعة على الاسلام. والحديثان دالان على تحريم
النياحة وتحريم استماعها إذ لا يكون اللعن إلا على محرم. وفي الباب عن ابن مسعود قال
: قال رسول الله (ص): ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا
بدعوى الجاهلية. متفق عليه. وأخرجا من حديث أبي موسى: أن رسول الله (ص)
قال: أنا برئ ممن حلق وسلق وخرق. وفي الباب غير ذلك. ولا يعارض ذلك
ما أخرج أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم عن ابن عمر: أنه (ص) مر بنساء
ابن عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال: لكن حمزة لا بواكي فجاء نساء
الأنصار يبكين حمزة - الحديث. فإنه منسوخ بما في آخره بلفظ فلا تبكين على هالك بعد
اليوم وهو يدل على أنه عبر عن النياحة بالبكاء. فإن البكاء غير منهي عنه كما يدل له
ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة قال: مات ميت من آل رسول الله (ص)
فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال له (ص)
: دعهن يا عمر فإن العين تدمع والقلب مصاب والعهد قريب والميت هي زينب بنته (ص)
كما صرح به في حديث ابن عباس أخرجه أحمد وفيه أنه قال لهن: إياكن
ونعيق الشيطان فإنه مهما كان من العين ومن القلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد
واللسان فمن الشيطان فإنه يدل على جواز البكاء، وإنه إنما نهي عن الصوت. ومنه قوله (ص)
: العين تدمع ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب قاله في وفاة ولده
إبراهيم، وأخرج البخاري من حديث ابن عمر إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن
القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم وأما ما في حديث عائشة عند
الشيخين في قوله (ص) لمن أمره أن ينهى النساء المجتمعات للبكاء على جعفر
بن أبي طالب أحث في وجههن التراب فيحمل على أنه كان بكاء بتصويت النياحة
فأمر بالنهي عنه ولو بحثو التراب في أفواههن.
115

(وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الميت يعذب في قبره
بما نيح عليه متفق عليه. أولهما) أي الشيخين كما دل له متفق عليه فإنهما المراد به
(نحوه) أي نحو حديث ابن عمر وهو (عن المغيرة بن شعبة). الأحاديث في الباب كثيرة
. وفيها دلالة على تعذيب الميت بسبب النياحة عليه. وقد استشكل ذلك لان تعذيبه بفعل غيره
. واختلفت الجوابات. فأنكرت عائشة ذلك على عمر وابنه عبد الله واحتجت بقوله تعالى
: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * وكذلك أنكره أبو هريرة. واستبعد القرطبي إنكار عائشة
وذكر أنه رواه عدة من الصحابة فلا وجه لإنكارها مع إمكان تأويله، ثم جمع القرطبي بين
حديث التعذيب والآية بأن قال: حال البرزخ يلحق بأحوال الدنيا وقد جرى التعذيب
فيها بسبب ذنب الغير كما يشير إليه قوله تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) *
فلا يعارض حديث التعذيب، آية * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * لان المراد بها الاخبار عن حال
الآخرة واستقواه الشارح. وذهب الأكثرون إلى تأويله بوجوه. الأول: للبخاري أنه يعذب
بذلك إذا كان سنته وطريقته وقد أقر عليه أهله في حياته فيعذب لذلك، وإن لم يكن طريقته
فإنه لا يعذب. فالمراد على هذا أنه يعذب ببعض بكاء أهله وحاصله أنه قد يعذب العبد
بفعل غيره إذا كان له فيه سبب. الثاني: المراد أنه يعذب إذا أوصى أن يبكي عليه وهو تأويل
الجمهور قالوا: وقد كان معروفا عند القدماء كما قال طرفة بن العبد:
إذا مت فابكيني بما أنا أهله * وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
ولا يلزم من وقوع النياحة من أهل الميت امتثالا له أن لا يعذب لو لم يمتثلوا بل يعذب
بمجرد الايصاء، فإن امتثلوه وناحوا عذب على الامرين: الايصاء لأنه فعله، والنياحة لأنها بسببه
. والثالث: أنه خاص بالكافر وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلا وفيه بعد لا يخفى فإن
الكافر لا يحمل عليه ذنب غيره أيضا لقوله تعالى: * (لا تزر وازرة وزر أخرى) *. الرابع: أن
معنى التعذيب توبيخ الملائكة للميت بما يندبه به أهله كما روى أحمد من حديث أبي موسى
مرفوعا: الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: وا عضداه وا ناصراه وا كاسياه جلد الميت
وقال: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟ وأخرج معناه ابن ماجة والترمذي. الخامس: أن
معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها فإنه يرق لهم، وإلى هذا التأويل
ذهب محمد بن جرير وغيره وقال، القاضي عياض، هو أولى الأقوال واحتجوا بحديث
فيه: أنه (ص) زجر امرأة عن البكاء على ابنها وقال: إن أحدكم إذا بكى
استعبر له صويحبه، يا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم. واستدل له أيضا أن أعمال العباد تعرض
على موتاهم وهو صحيح. وثمة تأولات أخر وما ذكرناه أشف ما في الباب.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: شهدت بنتا للنبي (ص) (تدفن)
ورسول الله (ص) جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان رواه البخاري)
قد بين الواقدي وغيره في روايته أن البنت أم كلثوم، وقد أورد البخاري قول من قال إنها رقية
بأنها ماتت ورسول الله (ص) في بدر لم يشهد (ص) دفنها
116

. والحديث دليل على جواز البكاء على الميت بعد موته وتقدم ما يدل له أيضا إلا أنه عورض
بحديث فإذا وجبت فلا تبكين باكية. وجمع بينهما بأنه محمول على رفع الصوت أو أنه
مخصوص بالنساء لأنه قد يفضي بكاؤهن إلى النياحة فيكون من باب سد الذريعة.
(وعن جابر رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: لا تدفنوا موتاكم بالليل
إلا أن تضطروا أخرجه ابن ماجة وأصله في مسلم لكن قال: زجر) بالزي والجيم
والراء عوض نهى (أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه). دل على النهي عن الدفن
للميت ليلا إلا لضرورة، وقد ذهب إلى هذا الحسن وورد تعليل النهي عن ذلك بأن ملائكة
النهار أرأف من ملائكة الليل في حديث قال الشارح: الله أعلم بصحته وقوله وأصله
في مسلم لفظ الحديث الذي فيه: أنه (ص) خطب يوما فذكر رجلا من
أصحابه قبض وكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا وزجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي
عليه إلا أن يضطر الانسان إلى ذلك. وهو ظاهر أن النهي إنما هو حيث كان مظنة حصول
التقصير في حق الميت بترك الصلاة أو عدم إحسان الكفن إذا كان يحصل بتأخر الميت
إلى النهار كثرة المصلين أو حضور من يرجى دعاؤه، حسن تأخره، وعلى هذا فيؤخر عن
المسارعة فيه لذلك ولو في النهار، دل لذلك دفن علي عليه السلام لفاطمة عليها السلام
ليلا ودفن الصحابة لأبي بكر ليلا، وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس: أن النبي
(ص) دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذ من قبل القبلة فقال: رحمك الله
إن كنت لأواها تلاء للقرآن. الحديث، قال: هو حديث حسن قال: وقد رخص أكثر
أهل العلم في الدفن ليلا. وقال ابن حزم: لا يدفن أحد ليلا إلا أن يضطر إلى ذلك. قال: ومن
دفن ليلا من أصحابه (ص) وأزواجه فإنه لضرورة أوجبت ذلك من خوف
زحام أو خوف الحر على من حضر أو خوف تغير أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلا. ولا
يحل لاحد أن يظن بهم رضي الله عنهم خلاف ذلك انتهى.
(تنبيه) تقدم في الأوقات حديث عقبة بن عامر: ثلاث ساعات كان رسول الله (ص)
ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى
ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب
اه‍. وكان يحسن ذكر المصنف له هنا.
(وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل
قال رسول الله (ص): اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم
أخرجه الخمسة إلا النسائي) فيه دليل على شرعية إيناس أهل الميت بصنع الطعام لهم لما هم
فيه من الشغل بالموت، ولكنه أخرج أحمد من حديث جرير بن عبد الله البجلي: كنا نعد
الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. فيحمل حديث جرير على أن
المراد صنعة أهل الميت الطعام لمن يدفن منهم ويحضر لديهم كما هو عرف بعض أهل الجهات
، وأما الاحسان إليهم بحمل الطعام لهم فلا بأس به وهو الذي أفاده حديث جعفر. ومما يحرم
117

بعد الموت العقر عند القبر لورود النهي عنه، فإنه أخرج أحمد وأبو داود من حديث أنس
: أن النبي (ص) قال: لا عقر في الاسلام. قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون
عند القبر بقرة أو شاة، قال الخطابي: كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبل الرجل
يقولون نجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف ونحن نعقرها عند
قبره حتى تأكلها السباع والطير فيكون مطعما بعد وفاته كما كان يطعم في حياته. ومنهم
من كان يذهب إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكبا ومن لم يعقر عنده
حشر راجلا وكان هذا على مذهب من يقول منهم بالبعث فهذا فعل جاهلي محرم.
(وعن سليمان بن بريدة رضي الله عنه) هو الأسلمي روى عن أبيه وعمران بن حصين
وجماعة مات سنة خمس عشرة ومائة (عن أبيه) أي بريدة (قال: كان رسول الله (ص)
يعلمهم) أي الصحابة (إذا خرجوا إلى المقابر) أي (أن يقولوا: السلام على
أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون أسأل الله
لنا ولكم العافية. رواه مسلم) وأخرجه أيضا من حديث عائشة وفيه زيادة ويرحم
الله المستقدمين منا والمستأخرين. والحديث دليل على شرعية زيارة القبور والسلام على من فيها
من الأموات وأنه بلفظ السلام على الاحياء. قال الخطابي: فيه أن اسم الدار يقع على
المقابر وهو صحيح فإن الدار في اللغة تقع على الرابع المسكون وعلى الخراب غير المأهول
. والتقييد بالمشيئة للتبرك وامتثالا لقوله تعالى: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء
الله) * وقيل المشيئة عائدة إلى تلك التربة بعينها. وسؤاله العافية دليل على أنها من أهم ما يطلب
وأشرف ما يسئل، والعافية للميت بسلامته من العذاب ومناقشة الحساب. ومقصود زيارة القبور
: الدعاء لهم والاحسان إليهم وتذكر الآخرة والزهد في الدنيا، وأما ما أحدثه العامة من خلاف
، كدعائهم الميت والاستصراخ به والاستغاثة به وسؤال الله بحقه وطلب الحاجات إليه
تعالى به فهذا من البدع والجهالات وتقدم شئ من هذا.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله (ص) بقبور
المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم
، أنتم سلفنا ونحن بالأثر رواه الترمذي وقال حسن) فيه أنه يسلم عليهم إذا مر بالمقبرة
وإن لم يقصد الزيادة لهم. وفيه أنهم يعلمون بالمار بهم وسلامه عليهم وإلا كان إضاعة
. وظاهره في جمعة وغيرها وفي الحديثين - الأول وهذا - دليل أن الانسان إذا دعا لاحد أو
استغفر له يبدأ بالدعاء لنفسه والاستغفار لها، وعليه وردت الأدعية القرآنية * (ربنا اغفر لنا
ولإخواننا) * * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين) * وغير ذلك. وفيه أن هذه الأدعية ونحوها نافعة
للميت بلا خلاف وأما غيرها من قراءة القرآن له فالشافعي يقول: لا يصل ذلك إليه. وذهب
أحمد وجماعة من العلماء إلى وصول ذلك إليه. وذهب جماعة من أهل السنة والحنفية إلى أن
للانسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة قرآن
118

أو ذكرا أو أي أنواع القرب، وهذا هو القول الأرجح دليلا، وقد أخرج الدارقطني
: أن رجلا سأل النبي (ص) أنه كيف يبر أبويه بعد موتهما فأجابه: بأنه يصلي
لهما مع صلاته ويصوم لهما مع صيامه. وأخرج أبو داود من حديث معقل بن يسار عنه
(ص): اقرأوا على موتاكم سورة يس وهو شامل للميت بل هو الحقيقة فيه،
وأخرج الشيخان أنه (ص) كان يضحي عن نفسه بكبش وعن أمته بكبش
. وفيه إشارة إلى أن الانسان ينفعه عمل غيره وقد بسطنا الكلام في حواشي ضوء النهار بما
يتضح منه قوة هذا المذهب.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (ص): (لا تسبوا الأموات
فإنهم قد أفضوا) أي وصلوا (إلى ما قدموا) من الأعمال (رواه البخاري). الحديث دليل
على تحريم سب الأموات. وظاهره العموم للمسلم والكافر. وفي الشرح: الظاهر أن مخصص
بجواز سب الكافر لما حكاه الله من ذم الكفار في كتابه العزيز كعاد وثمود وأشباههم.
قلت: لكن قوله قد أفضوا إلى ما قدموا علة عاملة للفريقين معناها أنه لا فائدة تحت
شبهم والتفكه بأعراضهم، وأما ذكره تعالى للأمم الخالية بما كانوا فيه من الضلال فليس المقصود
ذمهم بل تحذيرا من تلك الأفعال التي أفضت بفاعلها إلى الوبال وبيان محرمات ارتكبوها
. وذكر الفاجر بخصال فجوره لغرض جائز، وليس من السب المنهي عنه فلا تخصيص بالكفار
، نعم الحديث مخصص ببعض المؤمنين كما في الحديث: أنه مر عليه (ص) بجنازة
فأثنوا عليها شرا الحديث وأقرهم (ص) على ذلك بل قال: وجبت أي النار
ثم قال: أنتم شهداء الله. ولا يقال إن الذي أثنوا عليه شرا ليس بمؤمن لأنه قد أخرج الحاكم
في ذمه: بئس المرء كان لقد كان فظا غليظا. والظاهر أنه مسلم إذ لو كان كافرا لما تعرضوا
لذمه بغير كفره. وقد أجاب القرطبي عن سبهم له وإقراره (ص) لهم بأنه
يحتمل أنه كان مستظهرا بالشر ليكون من باب لا غيبة لفاسق، أو بأنه يحمل النهي عن سب
الأموات على ما بعد الدفن. قلت: وهو الذي يناسب التعليل بافضائهم إلى ما قدموا فإن
الافضاء الحقيقي بعد الدفن.
(وروي الترمذي عن المغيرة نحوه) أي نحو حديث عائشة في النهي عن سب
الأموات (لكن قال) عوض قوله فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا (فتؤذوا الاحياء) قال
ابن رشد: إن سب الكافر يحرم إذا تأذى به الحي المسلم. ويحل إذا لم يحصل به الأذية،
وأما المسلم فيحرم إلا إذا دعت الضرورة كأنه يكون فيه مصلحة للميت إذا أريد
119

تخليصه من مظلمة وقعت منه فإنه يحسن بل يجب إذا اقتضى ذلك سبه وهو نظير
ما استثني من جواز الغيبة لجماعة من الاحياء لأمور.
(تنبيه) من الأذية للميت القعود على قبره لما أخرجه أحمد قال الحافظ ابن حجر: بإسناد صحيح
من حديث عمرو بن حزم الأنصاري قال: رآني رسول الله (ص) وأنا
متكئ على قبر فقال: لا تؤخذ صاحب القبر وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة أنه قال
قال رسول الله (ص): لان يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده
خير له من الجلوس عليه وأخرج مسلم عن أبي مرثد مرفوعا لا تجلسوا على القبور ولا
تصلوا إليها. والنهي ظاهر في التحريم. وقال المصنف في فتح الباري نقلا عن النووي:
إن الجمهور يقولون بكراهة القعود عليه، وقال مالك: المراد بالقعود الحدث وهو تأويل
ضعيف أو باطل انتهى. وبمثل قول مالك قال أبو حنيفة كما في الفتح. قلت: والدليل
يقتضي تحريم القعود عليه والمرور فوقه، لان قوله: لا تؤذ صاحب القبر نهى عن أذية
المقبور من المؤمنين، وأذية المؤمن محرمة بنص القرآن * (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير
ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) *
كتاب الزكاة
الزكاة لغة مشتركة بين النماء والطهارة، وتطلق على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة
والعفو والحق، وهي أحد أركان الاسلام الخمسة بإجماع الأمة، وبما علم من ضرورة الدين،
واختلف في أي سنة فرضت فقال الأكثر: إنها فرضت في السنة الثانية من الهجرة قبل فرض
رمضان، ويأتي بيان متى فرض في بابه.
(عن ابن عباس أن النبي (ص) بعث معاذا إلى اليمين فذكر الحديث
وفيه إن الله قد افترض عليهم الصدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم
فترد في فقرائهم. متفق عليه واللفظ للبخاري) كان بعثه (ص) لمعاذ
إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي (ص) كما ذكره البخاري في أواخر المغازي
وقيل: كان آخر المغازي، وقيل: كان آخر سنة تسع عند منصرفه (ص) من غزوة تبوك، وقيل: سنة ثمان
بعد الفتح وبقي فيه إلى خلافة أبي بكر. والحديث في البخاري، ولفظه، عن ابن عباس أنه
(ص) لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إنك تقدم على قوم أهل كتاب
فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس
صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم الزكاة في أموالهم تؤخذ
من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإذا أطاعوك فخذ منهم وتوق لا كرائم أموال الناس. واستدل
بقوله: من أموالهم أن الامام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه أو بنائه بقوله تؤخذ
فمن امتنع منها أخذت منه قهرا، وقد بين (ص) المراد من ذلك ببعثة السعاة
. واستدل بقوله: ترد على فقرائهم أنه يكفي اخراج الزكاة في صنف واحد، وقيل: يحتمل أنه
120

خص الفقراء لكونهم الغالب في ذلك فلا دليل على ما ذكر ولعله أريد بالفقير من
يحل إليه الصرف فيدخل المسكين عند من يقول إن المسكين أعلى حالا من الفقير، ومن قال
بالعكس فالامر واضح.
(وعن أنس أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له) لما وجهه إلى البحرين
عاملا (هذه فريضة الصدقة) أي نسخة فريضة الصدقة حذف المضاف للعلم به
وفيه جواز إطلاق الصدقة على الزكاة خلافا لمن منع ذلك.
واعلم أن في البخاري تصدير الكتاب هذا ببسم الله الرحمن الرحيم (التي فرضها رسول الله
(ص) على المسلمين) فيه دلالة على أن الحديث مرفوع، والمراد بفرضها قدرها
لان وجوبها ثابت بنص القرآن كما يدل له قوله: (والتي أمر الله بها رسوله) أي أنه تعالى أمره
بتقدير أنواعها وأجناسها والقدر المخرج منها كما بينه التفصيل بقوله: (في كل أربع وعشرين
من الإبل فما دونها الغنم) هو مبتدأ مؤخر وخبره قوله في كل أربع وعشرين إلى فما
دونها (في كل خمس شاة) فيها تعيين اخراج الغنم في مثل ذلك وهو قول مالك وأحمد
، فلو أخرج بعيرا لم يجز. وقال الجمهور: يجزيه قالوا: لان الأصل أن تجب من جنس المال
، وإنما عدل عنه فقال بالمالك، فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه، إن كانت قيمة البعير
الذي يخرجه دون قيمة الأربع الشياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، قال المصنف
في الفتح: والأقيس أن لا يجزئ، (فإذا بلغت) أي الإبل، (خمسا وعشرين إلى خمس
وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى) زاده تأكيدا وإلا فقد علمت والمخاض بفتح الميم
وتخفيف المعجمة آخره معجمة وهي من الإبل ما استكمل السنة الأولى ودخل في الثانية إلى
آخرها سمي بذلك ذكرا كان أو أنثى لان أمه من المخاض أي الحوامل لا واحد له من لفظه
والماخض الحامل التي دخل وقت حملها، وإن لم تحمل وضمير فيها للإبل التي بلغت خمسا
وعشرين فإنها تجب فيها بنت مخاض من حين تبلغ عدتها خمسا وعشرين إلى أن تنتهي إلى
خمس وثلاثين، وبهذا قال الجمهور، وروي عن علي عليه السلام أنه يجب في الخمس والعشرين
خمس شياه لحديث مرفوع ورد بذلك، وحديث موقوف عن علي عليه السلام، ولكن المرفوع
ضعيف والموقوف ليس بحجة فلذا لم يقل به الجمهور، (فإن لم تكن) أي توجد
(فابن لبون ذكر) هو من الإبل ما تستكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة إلى تمامها
سمي بذلك لان أمه ذات لبن، ويقال: بنت اللبون للأنثى وإنما زاد قوله: ذكر مع قوله ابن
لبون للتأكيد كما لبون أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة) بكسر
الحاء المهملة وتشديد القاف، وهي من الإبل ما استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة إلى تمامها
ويقال للذكر حق سميت بذلك لاستحقاقها أن يحمل عليها ويركبها الفحل، ولذلك قال
: (طروق الجمل) بفتح أوله أي مطروقته فعولة بمعنى مفعولة، والمراد من شأنها أن تقبل
121

ذلك وإن لم يطرقها، (فإذا بلغت) أي الإبل (واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها
جذعة) بفتح الجيم والذال المعجمة وهي التي أتت عليها أربع سنين ودخلت في الخامسة
، (فإذا بلغت) أي الإبل (ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون) تقدم بيانه، (فإذا
بلغت) أي الإبل (إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا
الجمل) تقدم بيانه، (فإذا زادت) أي الإبل (على عشرين ومائة) أي واحدة
فصاعدا كما هو قول الجمهور، ويدل له كتاب عمر رضي الله عنه، فإذا كانت إحدى
وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة ومقتضاه أن ما زاد
مائة وثلاثين، فإنه يجب فيها بنتا لبون وحقة، فإذا بلغت مائة وأربعين فيها بنت لبون
وحقة فإذا بلغت مائة وأربعين ففيها بنت لبون وحقتان. وعن أبي حنيفة إذا زادت على عشرين
ومائة رجعت إلى فريضة الغنم فيكون في كل خمس وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون وشاة.
قلت: والحديث إنما ذكر فيه حكم كل أربعين وخمسين فمع بلوغ إحدى وعشرين ومائة
يلزم ثلاث بنات لبون عن كل أربعين بنت لبون ولم يبين فيه الحكم في الخمس والعشرين
ونحوها فيحتمل ما قاله أبو حنيفة ويحتمل أنها وقص حتى تبلغ مائة وثلاثين كما
قدمناه والله أعلم (ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ومن
لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) أي أن
يخرج عنها نفلا منه، وإلا فلا واجب عليه فهو استثناء منقطع ذكر لدفع توهم نشأ من قوله
فليس فيه صدقة أن المنفي مطلق الصدقة لاحتمال اللفظ له وإن كان غير مقصود. فهذه
صدقة الإبل الواجبة فصلت في هذا الحديث الجليل وظاهره وجوب أعيان ما ذكر، إلا
أنه سيأتي قريبا أن لم يجد العين الواجبة أجزأه غيرها. وأما زكاة الغنم فقد بينها قوله (وفي
صدقة الغنم في سائمتها) بدل من صدقة الغنم بإعادة العامل وهو خبر مقدم. والسائمة من
الغنم الراعية غير المعلوفة. وأعلم أنه أفاد مفهوم السوم أنه شرط في وجوب زكاة الغنم
، وقال به الجمهور. وقال مالك وربيعة: لا يشترط وقال أبو داود: يشترط في الغنم لهذا
الحديث. قلنا: وفي الإبل لما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث بهز بن حكيم بلفظ في
كل سائمة إبل وسيأتي، نعم البقر لم يأت فيها ذكر السوم وإنما قاسوها على الإبل والغنم
(إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة) بالجر تمييز مائة والشاة تعم الذكر والأنثى
والضأن والمعز (شاة) مبتدأ خبره ما تقدم من قوله في صدقة الغنم، فإن في الأربعين شاة
إلى عشرين ومائة (فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا
زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل
122

مائة شاة) ظاهر أنها لا تجب الشاة الرابعة حتى تفي أربعمائة وهو قول الجمهور، وفي رواية
عن أحمد وبعض الكوفيين إذا زادت على ثلاثمائة واحدة وجبت الأربع (فإذا كانت سائمة
الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة) واجبة (إلا أن
يشاء ربها) اخراج صدقة نفلا كما سلف (ولا يجمع) بالبناء للمفعول (بين متفرق
ولا يفرق مثله مشدد الراء (بين مجتمع خشية الصدقة) مفعول له. والجمع بين
المفترق صورته أن يكون ثلاث نفر مثلا ولكل واحد أربعون شاة وقد وجب على كل واحد
منهم الصدقة فإذا وصل إليهم المصدق جمعوها ليكون عليهم فيها شاة واحدة فنهوا عن
ذلك. وصورة التفريق بين مجتمع أن الخليطين لكل منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما فيها
ثلاث شياه، فإذا وصل إليهما المصدق فرقا غنمهما فلم يكن على كل واحد منهما سوى شاة
واحدة، فنهوا عن ذلك. قال ابن الأثير: هذا الذي سمعته في ذلك. وقال الخطابي: قال
الشافعي: الخطاب في هذا للمصدق ولرب المال. قال: والخشية خشيتان خشية الساعي
أن تقل الصدقة، وخشية رب المال أن يقل ماله فأمر كل واحد منهما أن لا يحدث في المال
شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان
بينهما) والتراجع بين الخليطين أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة وللآخر ثلاثون بقرة
، ومالهما مشترك، فأخذ الساعي عن الأربعين مسنة، وعن الثلاثين تبيعا، فيرجع باذل المسنة
بثلاثة أسباعها على خليطه، وباذل التبيع بأربعة أسباعه على خليطه، لان كل واحد من
السنين واجب على الشيوع، كأن المال ملك واحد. وفي قوله (بالسوية) دليل على أن الساعي
إذا ظلم أحدهما، فأخذ منه زيادة على فرضه فإنه لا يرجع بها على شريكه، وإنما يغرم له قيمة
ما يخصه من الواجب دون الزيادة، كذا في الشرح، ولو قيل مثلا إنه يدل أنهما يتساويان
في الحق والظلم لما بعد الحديث عن إفادة ذلك. (ولا يخرج) مبني للمجهول (في الصدقة
هرمة) بفتح الهاء وكسر الراء: الكبيرة التي سقطت أسنانها (ولا ذات عوار) بفتح العين
المهملة وضمها وقيل بالفتح معيبة العين وبالضم عوراء العين، ويدخل في ذلك المرض،
والأولى أن تكون مفتوحة ليشمل ذات العيب، فيدخل ما أفاده حديث أبي داود ولا تعطي
الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم فإن الله
لم يسألكم خيره ولا أمركم بشره. انتهى والدرنة: الجرباء من الدرن الوسخ والشرطاء
اللئيمة هي رذال المال، وقيل: صغاره وشراره، قاله في النهاية (ولا تيس إلا أن يشاء
المصدق) اختلف في ضبطه فالأكثر على أنه بالتشديد وأصله المتصدق أدغمت التاء بعد
قلبها صادا، والمراد به: المالك. والاستثناء راجع إلى الآخر وهو التيس، وذلك أنه إذا لم يكن
معدا للانزاء فهو من الخيار وللمالك أن يخرج الأفضل. ويحتمل رده إلى الجميع، ويفيد أن
للمالك اخراج الهرمة وذات العوار إذا كانت ثمينة، قيمتها أكثر من الوسط الواجب، وفي هذا
123

خلاف بين المفرعين. وقيل إن ضبطه بالتخفيف، والمراد به الساعي فيدل على أن له
الاجتهاد في نظر الأصلح للفقراء، وأنه كالوكيل فتقيد مشيئته بالمصلحة، فيعود الاستثناء إلى
الجميع على هذا، وهذا إذا كانت الغنم مختلفة. فلو كانت معيبة كلها أو تيوسا أجزأه اخراج
واحدة. وعن المالكية يشتري شاة مجزئة عملا بظاهر الحديث. وهذه زكاة الغنم وتقدمت
زكاة الإبل وتأتي زكاة البقر. وأما الفضة فقد أفاد الواجب منها قوله (وفي الرقة) بكسر
الراء وتخفيف القاف وهي الفضة الخالصة (في مائتي درهم ربع العشر) أي يجب اخراج
ربع عشرها زكاة ويأتي النص على الذهب (فإن لم تكن) أي الفضة (إلا تسعين)
درهما (ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها)، كما عرفت، وفي قوله تسعين
ومائة ما يوهم أنها إذا زادت على التسعين والمائة قبل بلوغ المائتين أن فيها صدقة، وليس
كذلك، بل إنما ذكره لأنه آخر عقد قبل المائة، والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه
بالعقود كالعشرات والمئين، والألوف، فذكر التسعين لذلك. ثم ذكر حكما من أحكام زكاة
الإبل قد أشرنا إلى أنه يأتي بقوله (ومن بلغت عنده من الإبل صدقة
عنده) أي في ملكه (وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة) عوضا عن الجذعة
(ويجعل معها) أي توفية لها (شاتين إن استيسرنا له أو عشرين درهما) إذا
لم تتيسر له الشاتان. وفي الحديث دليل أن هذا القدر هو جبر التفاوت ما بين الحقة والجذعة
(ومن بلغت عنده صدقة الحقة) التي عرفت قدرها (وليست عنده الحقة
، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة) وإن كانت زائدة على ما يلزمه، فلا
يكلف تحصيل ما ليس عنده (ويعطيه المصدق) مقابل ما زاد عنده (شاتين أو
عشرين درهما) كما سلف فعكسه (رواه البخاري). قد اختلف في قدر التفاوت
في سائر الأسنان، فذهب الشافعي إلى أن التفاوت بين كل سنين كما ذكر في الحديث.
وذهب الهادوية إلى أن الواجب هو زيادة فضل القيمة من رب المال أو رد الفضل من
المصدق، ويرجع فذلك إلى التقويم، قالوا: بدليل أنه ورد في رواية عشرة دراهم أو شاة وما
ذلك إلا أن التقويم يختلف باختلاف الزمان والمكان فيجب الرجوع إلى التقويم، وقد أشار
البخاري إلى ذلك فإنه أورد حديث أبي بكر في باب أخذ العروض من الزكاة وذكر
في ذلك قول معاذ لأهل اليمن ائتوني بعرض ثيابكم خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير
والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب محمد (ص) بالمدينة ويأتي استيفاء ذلك.
(وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي (ص) بعثه إلى اليمن
فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة) فيه أنه مخير بين الامرين
124

والتبيع ذو الحول ذكرا كان أو أنثى (ومن كل أربعين مسنة) وهي ذات الحولين
(ومن كل حالم دينارا) أي محتلم وقد أخرجه بهذا اللفظ أبو داود والمراد به الجزية
ممن لم يسلم (أو عدله) بفتح العين المهملة وسكون الدال المهملة (معافريا) نسبة إلى
معافر زنة مساجد حي في اليمن إليهم تنسب الثياب المعافرية يقال ثوب معافري (رواه
الخمسة واللفظ لأحمد وحسنه الترمذي وأشار إلى اختلاف في وصله) لفظ الترمذي بعد
اخراجه: وروى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق: أن النبي (ص)
بعث معاذا إلى اليمن فأمره أن يأخذ. قال: وهذا أصح، أي من روايته عن
مسروق عن معاذ عن النبي (ص) (وصححه ابن حبان والحاكم) وإنما رجح
الترمذي الرواية المرسلة لان رواية الاتصال اعترضت بأن مسروقا لم يلق معاذا. وأجيب عنه
بأن مسروقا همداني النسب من وداعة يماني الدار، وقد كان في أيام معاذ باليمن فاللقاء ممكن
بينهما فهو محكوم باتصاله على رأي الجمهور. قلت: وكأن رأي الترمذي رأي البخاري أنه
لا بد من تحقق اللقاء. والحديث دليل على وجوب الزكاة في البقر وأن نصابها ما ذكر وهو
مجمع عليه في الامرين. وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر
على ما في حديث معاذ، وأنه النصاب المجمع عليه. وفيه دلالة على أنه لا يجب فيما دون الثلاثين
شئ. وفيه خلاف للزهري فقال: يجب في كل خمس شاة قياسا على الإبل. وأجاب الجمهور
بأن النصاب لا يثبت بالقياس وبأنه قد روي ليس فيما دون ثلاثين من البقر شئ وهو
وإن كان مجهول الاسناد، فمفهوم حديث معاذ يؤيده.
(وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله (ص)
: تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم رواه أحمد، ولأبي داود) من حديث
عمرو بن شعيب (أيضا لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم وعند النسائي وأبي داود في لفظ
من حديث عمرو أيضا لا جلب ولا جنب ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم أي لا تجلب الماشية
إلى المصدق بل هو الذي يأتي لرب المال. معنى لا جنب أنه حيث يكون المصدق بأقصى
مواضع أصحاب الصدقة فتجنب إليه، فنهي عن ذلك وفيه تفسير آخر يخرجه عن هذا الباب.
والأحاديث دلت على أن المصدق هو الذي يأتي إلى رب المال، فيأخذ الصدقة، ولفظ أحمد
خاص بزكاة الماشية، ولفظ أبي داود عام لكل صدقة، وقد أخرج أبو داود عن جابر
بن عتيك مرفوعا سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين
ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها وأرضوهم، وإن تمام زكاتكم رضاهم
فهذا يدل أنهم ينزلون بأهل الأموال وأنهم يرضونهم وإن ظلموهم، وعند أحمد من حديث أنس
قال: أتى رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك، فقد برئت منها
إلى الله ورسوله؟ قال: نعم ولك أجرها وإثمها على من بدلها وأخرج مسلم حديث جابر مرفوعا
أرضوا مصدقكم في جواب ناس من الاعراب أتوه (ص) فقالوا: إن أناسا من
المصدقين يأتوننا فيظلموننا، إلا أن في البخاري أن من سئل أكثر مما وجب عليه فلا يعطيه
125

المصدق وجمع بينه وبين هذه الأحاديث أن ذلك حيث يطلب الزيادة على الواجب من غير
تأويل، وهذه الأحاديث حيث طلبها متأولا، وإن رآه صاحب المال ظالما.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): ليس على المسلم
عبده ولا في فرسه صدقة رواه البخاري ولمسلم) أي أبي هريرة (ليس
في العبد صدقة إلا صدقة الفطر) الحديث نص على أنه لا زكاة في العبيد ولا الخيل
وهو إجماع فيما كان للخدمة والركوب. وأما الخيل المعدة للنتاج ففيها خلاف للحنفية وتفاصيل
واحتجوا بحديث في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم أخرجه الدارقطني والبيهقي
وضعفاه. وأجيب بأنه لا يقاوم حديث النفي الصحيح، واتفقت هذه الواقعة في زمن مروان
فتشاور الصحابة في ذلك فروى أبو هريرة الحديث ليس على الرجل في عبده ولا فرسه
صدقة فقال مروان لزيد بن ثابت: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال أبو هريرة: عجبا من مروان
أحدثه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ما تقول يا أبا سعيد: فقال زيد
: صدق رسول الله (ص) إنما أراد به الفرس الغازي فأمر تاجر يطلب نسلها
ففيها الصدقة، فقال: كم قال: في كل فرس دينار أو عشرة دراهم. وقالت الظاهرية:
لا تجب الزكاة في الخيل، ولو كانت للتجارة، وأجيب بأن زكاة التجارة واجبة بالاجماع، كما نقله
ابن المنذر. قلت: كيف الاجماع، وهذا خلاف الظاهرية؟.
(وعن بهز) بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء والزاي (ابن حكيم) ابن معاوية
بن حيدة بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الدال المهملة القشيري بضم القاف وفتح
المعجمة، وبهز تابعي مختلف في الاحتجاج به فقال يحيى بن معين في هذه الترجمة: إسناد
صحيح إذا كان من دون بهز ثقة، وقال أبو حاتم: هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به،
وقال الشافعي: ليس بحجة، وقال الذهبي: ما تركه عالم قط عن أبيه عن جده) هو
معاوية بن حيدة صحابي (قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: في كل سائمة إبل
في أربعين بنت لبون) تقدم في حديث أنس أن بنت اللبون تجب من ست وثلاثين إلى
خمس وأربعين فهو يصدق على أنه يجب في الأربعين بنت لبون، ومفهوم العدد هنا مطرح
زيادة ونقصانا لأنه عارضه المنطوق الصريح وهو حديث أنس (لا تفرق إبل عن
حسابها) معناه أن المالك لا يفرق ملكه عن ملك غيره حيث كانا خليطين كما تقدم (من
أعطاها مؤتجرا بها) أي قاصدا للأجر بإعطائها (فله أجرها، ومن منعها فإنا
آخذوها وشطر ماله، عزمة) يجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ونصبه على المصدرية
وهو مصدر مؤكد لنفسه، مثل: له علي ألف درهم اعترافا، والناصب له فعل يدل عليه جملة
فإنا آخذوها، والعزمة الجد في الامر يعني أن أخذ ذلك يجد فيه لأنه واجب مفروض
(من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شئ رواه أحمد وأبو داود والنسائي،
126

وصححه الحاكم وعلق الشافعي القول به على ثبوته) فإنه قال: هذا الحديث لا يثبته أهل العلم
بالحديث ولو ثبت لقلنا به، وقال ابن حبان كان - يعني بهزا - يخطئ كثيرا ولولا هذا
الحديث لأدخلته في الثقات وهو ممن أستخير الله فيه. والحديث دليل على أنه يأخذ الامام
الزكاة قهرا ممن منعها، والظاهر أنه مجمع عليه، أن نية الامام كافية وأنها تجزئ من هي عليه
، وإن فاته الاجر فقط سقط عنه الوجوب. وقوله: وشطر ماله هو عطف على الضمير
المنصوب في آخذوها، والمراد من الشطر البعض. وظاهره أذلك عقوبة بأخذ جزء من
المال على منعه اخراج الزكاة، وقد قيل: إن ذلك منسوخ ولم يقم مدعي النسخ دليلا على
النسخ بل دل على عدمه أحاديث أخر ذكره في الشرح. وأما قول المصنف: إنه لا دليل
في حديث بهز على جواز العقوبة بالمال لان الرواية وشطر ماله بضم الشين فعل مبني
للمجهول أي جعل ماله شطرين ويتخير عليه المصدق ويأخذ الصدقة من خير الشطرين
عقوبة لمنعه الزكاة. قلت: وفي النهاية ما لفظه: قال الحربي: غلط الراوي في لفظ الرواية
إنما هي وشطر ماله أي جعل ماله شطرين إلى آخر ما ذكره المصنف، وإلى مثله جنح
صاحب ضوء النهار فيه وفي غيره من رسائله، وذكرنا في حواشيه أنه على هذه الرواية أيضا
دال على جواز العقوبة بالمال إذ الاخذ من خير الشطرين عقوبة بأخذ زيادة على الواجب
إذ الواجب الوسط غير الخيار. ثم رأيت الشارح أشار إلى هذا الذي قلناه في حواشي ضوء
النهار قبل الوقوف على كلامه، ثم رأيت النووي بعد مدة طويلة يذكر ما ذكرناه بعينه ردا على
من قال إنه على تلك الرواية لا دليل فيه على جواز العقوبة بالمال ولفظه: إذا تخير المصدق
وأخذ من خير الشطرين فقد أخذ زيادة على الواجب وهي عقوبة بالمال، إلا أن حديث بهز
هذا لو صح فلا يدل إلا على هذه العقوبة بخصوصها في مانع الزكاة لا غيره. وهذا الشطر
المأخوذ يكون زكاة كله أي حكمه حكمها أخذا ومصرفا لا يلحق بالزكاة غيرها في ذلك
لأنه ألحق بالقياس ولا نص على علته، وغير النص من أدلة العلة لا يفيد ظنا يعمل به، سيما
وقد تقررت حرمة مال المسلم بالأدلة القطعية كحرمة دمه، لا يحل أخذ شئ منه إلا بدليل
قاطع ولا دليل بل هذا الوارد في حديث بهز آحادي لا يفيد إلا الظن فكيف يؤخذ به ويقدم
على القطعي. ولقد استرسل أهل الامر في هذه الاعصار في أخذ الأموال في العقوبة استرسالا
ينكره العقل والشرع، وصارت تناط الولايات بجهال لا يعرفون من الشرع شيئا ولا من الدين
أمرا فليس همهم إلا قبض المال من كل من لهم عليه ولاية، ويسمونه: أدبا وتأديبا ويصرفونه
في حاجاتهم وأقواتهم وكسب الأوطان وعمارة المساكن في الأوطان فإنا لله وإنا إليه راجعون
. ومنهم من يضيع حد السرقة أو شرب المسكر ويقبض عليه مالا. ومنهم من يجمع بينهما فيقيم
الحد ويقبض المال وكل ذلك محرم ضرورة دينية، لكنه شاب عليه الكبير وشب عليه الصغير
127

وترك العلماء النكير فزاد الشر في الامر الخطير. وقوله: لا تحل لآل محمد يأتي الكلام
في هذا الحكم مستوفي إن شاء الله تعالى.
(وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا كانت
لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم) ربع عشرها (وليس
عليك شئ) أي في الذهب (حتى يكون لك عشرون دينارا وحال عليها
الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى
يحول عليه الحول رواه أبو داود وهو حسن وقد اختلف في رفعه) أخرج الحديث
أبو داود مرفوعا من حديث الحارث الأعور إلا قوله: فما زاد فبحساب ذلك قال: فلا أدري
أعلي يقول فبحساب ذلك أو يرفعه إلى النبي (ص)، وإلا قوله: ليس في المال
زكاة إلى آخره انتهى فأفاد كلام أبي داود أن في رفعه بجملته اختلافا، ونبه المصنف في
التلخيص على أنه معلوم وبين علته، ولكنه أخرج الدارقطني الجملة الأخرى من حديث ابن
عمر مرفوعا بلفظ لا زكاة في مال امرئ حتى يحول عليه الحول وأخرى أيضا عن عائشة
مرفوعا ليس في المال زكاة حتى يحول عليه الحول وله طريق أخرى عنها. والحديث دليل على
أن نصاب الفضة مائتا درهم وهو إجماع، وإنما الخلاف في قدر الدرهم فإن فيه خلافا كثيرا
سرده في الشرح ولم يأت بما يشفي وتسكن النفس إليه في قدره، وفي شرح الدميري أن كل
درهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، والمثقال لم يتغير في جاهلية ولا إسلام
، قال: وأجمع المسلمون على هذا. وقرر في المنار بعد بحث طويل أن نصاب الفضة من القروش الموجودة
على رأي الهادوية ثلاثة عشر قرشا، على رأي الشافعية أربعة عشر، وعلى رأي الحنفية عشرون
وتزيد قليلا. وأن نصاب الذهب عند الهادوية خمسة عشر أحمر، وعشرون عند الحنفية ثم قال
: وهذا تقريب. وفيه أن قدر زكاة المائتي الدرهم ربع العشر وهو إجماع. وقوله فما زاد فبحساب
ذلك قد عرفت أن في رفعه خلافا وعلى ثبوته فيدل على أنه يجب في الزائد، وقال بذلك جماعة
من العلماء وروي عن علي وعن ابن عمر أنهما قالا: ما زاد على النصاب من الذهب والفضة
ففيه أي الزائد ربع العشر في قليله وكثيره، وأنه لا وقص فيهما. ولعلهم يحملون حديث جابر
الآتي بلفظ وليس فيما دون خمس أواق صدقة على ما إذا انفردت عن نصاب منهما إلا إذا كانت
مضافة إلى نصاب منهما وهذا الخلاف في الذهب والفضة. وأما الحبوب فقال النووي في شرح مسلم:
إنهم أجمعوا فيما زاد على خمسة أوسق أنها تجب زكاته بحسابه وأنه لا أوقاص فيها اه‍. وحملوا
ما يأتي من حديث أبي سعيد بلفظ وليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة على
ما لم ينضم إلى خمسة أوسق وهذا يقوي مذهب علي وابن عمر رضي الله عنهم الذي قدمناه في
النقدين. وقوله: وليس عليك شئ حتى يكون لك عشرون دينارا فيه حكم نصاب الذهب
وقدر زكاته وأنه عشرون دينارا وفيها نصف دينار، وهو أيضا ربع عشرها، وهو عام لكل
فضة وذهب مضروبين أو غير مضروبين، وفي حديث أبي سعيد مرفوعا أخرجه الدارقطني
128

وفيه ولا يحل في الورق زكاة حتى يبلغ خمس أواق وأخرج أيضا من حديث جابر مرفوعا
ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة. وأما الذهب ففيه هذا الحديث ونقل المصنف
عن الشافعي أنه قال: فرض رسول الله (ص) في الورق صدقة فأخذ المسلمون
بعده في الذهب صدقة إما بخبر لم يبلغنا وإما قياسا. وقال ابن عبد البر: لم يثبت عن النبي
(ص) في الذهب شئ من جهة نقل الآحاد الثقات، وذكر هذا الحديث الذي
أخرجه أبو داود وأخرجه الدارقطني. قلت: لكن قوله تعالى: * (وللذين يكنزون الذهب والفضة
ولا ينفقوا منها في سبيل الله) * الآية منبه على أن في الذهب حقا لله، وأخرج البخاري وأبو داود
وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص)
: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح وأحمي
عليه الحديث، فحقها هو زكاتها وفي الباب عدة أحاديث يشد بعضها سردها
في الدر المنثور. ولا بد في نصاب الذهب والفضة من أن يكونا خالصين من الغش، وفي شرح
الدميري على المنهاج أنه إذا كان الغش يماثل أجرة الضرب والتلخيص فيتسامح به وبه عمل الناس
على الاخراج منها. ودل الحديث على أنه لا زكاة في المال حتى يحول عليه الحول، وهو قول
الجماهير وفيه خلاف لجماعة من الصحابة والتابعين وبعض الآل وداود فقالوا: إنه لا يشترط
الحول لاطلاق حديث وفي الرقة ربع العشر وأجيب بأنه مقيد بهذا الحديث وما عضده من
الشواهد، ومن شواهده أيضا:
(وللترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما: من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول)
رواه مرفوعا (والراجح وفقه) إلا أن له حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه، ويؤيده آثار
صحيحة عن الخلفاء الأربعة وغيرهم فإذا حال عليه الحول فينبغي المبادرة بإخراجها. فقد
أخرج الشافعي والبخاري في التاريخ من حديث عائشة مرفوعا ما خالطت الصدقة مالا قط
إلا أهلكته وأخرج الحميدي وزاد يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها
فيهلك الحرام الحلال قال ابن تيمية في المنتقى: قد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين.
(وعن علي رضي الله عنه قال: ليس في البقر العوامل صدقة، رواه أبو داود
والدارقطني والراجح وقفه) قال المصنف: قال البيهقي: رواه النفيلي عن زهير بالشك في وقفه
ورفعه إلا أن ذكره المصنف بلفظ ليس في البقر العوامل شئ ورواه بلفظ الكتاب من
حديث ابن عباس ونسبه للدارقطني وفيه متروك، وأخرجه الدارقطني من حديث علي عليه
السلام وأخرجه من حديث جابر إلا أنه بلفظ ليس في البقر المثيرة صدقة وضعف
البيهقي إسناده. والحديث دليل على أنه لا يجب في البقر العوامل شئ وظاهره سواء
كانت سائمة أو معلوفة وقد ثبتت شرطية السوم في الغنم في البخاري وفي الإبل في حديث
بهز عند أبي داود والنسائي، قال الدميري: وألحقت البقر بهما.
(وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: من ولي يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله
129

الصدقة. رواه الترمذي والدارقطني وإسناده ضعيف لان فيه المثنى بن الصباح في رواية
الترمذي والمثنى ضعيف ورواية الدارقطني فيها مندل بن علي والعرزمي متروك
ولكن قال المصنف: (وله) أي لحديث عمرو (شاهد مرسل عند الشافعي) هو قوله (ص)
: ابتغوا في أموال الأيتام لا تأكلها الزكاة أخرجه من رواية ابن جريج عن
يوسف بن ماهك مرسلا وأكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا
، وقد روي مثل حديث عمرو أيضا عن أنس وعن ابن عمرو موقوفا، وعن علي عليه السلام
فإنه أخرج الدارقطني من حديث أبي رافع قال: لآل أبي رافع أموال عند علي فلما
دفعها إليهم وجدوها تنقص فحسبوها مع الزكاة فوجدوها تامة فأتوا عليا فقال: كنتم
ترون أيكون عندي مال لا أزكيه. وعن عائشة أخرجه مالك في الموطأ أنها كانت تخرج
زكاة أيتام كانوا في حجرها. ففي الكل دلالة على وجوب الزكاة في مال الصبي كالمكلف،
ويجب على وليه الاخراج وهو رأي الجمهور، وروي عن ابن مسعود أنه يخرجه الصبي بعد
تكليفه، وذهب ابن عباس وجماعة إلى أنه يلزمه اخراج العشر من ماله لعموم أدلته لا غيره
لحديث رفع القلم. قلت: ولا يخفى أنه لا دلالة فيه وأن العموم في العشر أيضا حاصل
في غيره كحديث في الرقة ربع العشر ونحوه:
(وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: كان رسول الله (ص) إذا أتاه
قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم متفق عليه) هذا منه صلى الله عليه وسلم
امتثالا لقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * - إلى قوله - * (وصل علهم) * فإنه أمر الله بالصلاة
عليهم ففعلها بلفظها حيث قال: اللهم صل على آل أبي فلان وقد ورد أنه دعا لهم بالبركة
كما أخرجه النسائي أنه قال في رجل بعث بالزكاة: اللهم بارك فيه وفي أهله. وقال بعض
الظاهرية بوجوب ذلك على الامام كأنه أخذه من الامر في الآية، ورد بأنه لو وجب لعلمه
(ص) السعاة ولم ينقل، فالامر محمول في الآية على أنه خاص به (ص)
فإنه الذي صلاته سكن لهم. واستدل بالحديث على جواز الصلاة على غير الأنبياء، وأنه
يدعو المصدق بهذا الدعاء لمن أتى بصدقة، وكرهه مالك. وقال الخطابي: أصل الصلاة
الدعاء إلا أنه يختلف بحسب المدعو له فصلاة النبي (ص) على أمته دعاء لهم
بالمغفرة، وصلاتهم عليه دعاء له بزيادة القربى والزلفى ولذلك كان لا يليق بغيره.
(وعن علي رضي الله عنه: أن العباس رضي الله عنه سأل النبي (ص)
في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك. رواه الترمذي والحاكم) قال الترمذي:
وفي الباب عن ابن عباس: قال: وقد اختلف أهل العلم في تعجيل الزكاة قبل محلها، ورأي
طائفة من أهل العلم أن لا يعجلها وبه يقول سفيان. وقال أكثر أهل العلم: إن عجلها قبل
محلها أجزأت عنه. انتهى وقد روى الحديث أحمد وأصحاب السنن والبيهقي وقال: قال الشافعي
روى أنه (ص) تسلف صدقة مال العباس قبل أن تحل ولا أدري أثبت
130

أم لا؟ قال البيهقي: عنى بذلك هذا الحديث وهو معتضد بحديث أبي البحتري عن علي عليه
السلام أن النبي (ص) قال: إنا كنا احتجنا فأسلفنا العباس صدقة عامين ورجاله
ثقات إلا أنه منقطع. وقد ورد هذا من طرق بألفاظ مجموعها يدل أنه (ص)
تقدم من العباس زكاة عامين، واختلف الروايات هل هو استلف ذلك أو تقدمه ولعلهما
واقعان معا. وهو دليل على جواز تعجيل الزكاة. وإليه ذهب الأكثر كما قاله الترمذي وغيره
، ولكنه مخصوص جوازه بالمالك، ولا يصح من المتصرف بالوصاية والولاية، واستدل من منع
التعجيل مطلقا بحديث: إنه لا زكاة حتى يحول الحول كما دلت له الأحاديث التي تقدمت
. والجواب أنه لا وجوب حتى يحول عليه الحول، وهذا لا ينفي جواز التعجيل. وبأنه كالصلاة
قبل الوقت، وأجيب بأنه لا قياس مع النص.
(وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله (ص) قال: ليس فيما دون خمس
أواق) ووقع في مسلم أواقي بالياء وفي غيره بحذفها وكلاهما صحيح فإنه جمع أوقية ويجوز
في جمعهما الوجهان كما صرح به أهل اللغة (من الورق) بفتح الواو وكسرها وكسر الراء
وإسكانها الفضة مطلقا (صدقة، وليس فيما دون خمس ذود) فتح الذال
المعجمة وسكون الواو المهملة هي ما بين الثلاث إلى العشر (من الإبل) لا واحد له من
لفظه (صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من الثمر) بالمثلثة مفتوحة والميم
(صدقة رواه مسلم). الحديث صرح بمفاهيم الاعداد التي سلفت في بيان الأنصباء، إذ
قد عرفت أنه تقدم أن نصاب الإبل خمس، ونصاب الفضة مائتا درهم - وهي خمس أواق -، وأما
نصب الطعام فلم يتقدم وإنما عرف هذا بنفي الواجب فيما دون خمسة أوسق أنه يجب في الخمسة
بمفهوم النفي.
(وله) أي لمسلم وهو: (من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ليس فيما دون
خمسة أوساق من تمر) بالمثناة الفوقية (ولا حب صدقة وأصل حديث أبي سعيد
متفق عليه) الحديث تصريح أيضا بما سلف من مفاهيم الأحاديث إلا التمر فلم يتقدم فيه
شئ. والأوساق جمع وسق بفتح الواو وكسرها، والوسق ستون صاعا والصاع أربعة
أمداد فالخمسة الأوساق ثلاثمائة صاع، والمد: رطل وثلث، قال الداودي: معياره الذي
لا يختلف أربع حفنات بكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما، قال صاحب
القاموس بعد حكايته لهذا القول: وجربت ذلك فوجدته صحيحا. انتهى. والحديث دليل على أنه
لا زكاة فيما لم يبلغ هذه المقادير من الورق والإبل والثمر والتمر لطفا من الله بعباده وتخفيفا وهو
اتفاق في الأولين وأما الثالث ففيه خلاف بسبب ما عارضه من الحديث بعده وهو قوله:
(وعن سالم بن عبد الله) بن عمر (عن أبيه رضي الله عنهما) عبد الله ابن عمر (عن النبي (ص)
قال: فيما سقت السماء) بمطر أو ثلج أو برد أو طل (والعيون) الأنهار
الجارية التي يسقى منها بإساحة الماء من غير اغتراف له (أو كان عثريا) بفتح المهملة
131

وفتح المثلثة وكسر الراء وتشديد المثناة التحتية، قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه لأنه
عثر على الماء وذلك حيث كان الماء قريبا من وجه الأرض، فيغرس عليه فيصل الماء إلى
العروق من غير سقي، وفيه أقوال أخر وما ذكرناه أقربها (العشر) مبتدأ خبره ما تقدم
من قوله فيما سقت أو أنه فاعل محذوف أي فيما ذكر يجب (وفيما سقي بالنضح)
بفتح النون وسكون الضاد فحاء مهملة: السانية من الإبل والبقر وغيرها من الرجال
(نصف العشر رواه البخاري ولأبي داود) من حديث سالم (إذا كان بعلا) عوضا
عن قوله عثريا وهو بفتح الموحدة وضم العين المهملة كذا في الشرح وفي القاموس إنه
ساكن العين فسر بأنه كل نخل وشجر وزرع لا يسقى أو ما سقته السماء وهو النخل الذي
يشرب بعروقه العشر وفيما سقي بالسواني أو النضح) دل عطفه عليه على التغاير
، وأن السواني المراد بها الدواب، والنضح ما كان بغيرها كنضح الرجال بالآلة والمراد من
الكل ما كان سقيه بتعب وعناء (نصف العشر). وهذا الحديث دل على التفرقة بين ما سقي
بالسواني وبين ما سقي بماء السماء والأنهار، وحكمته واضحة وهو زيادة التعب والعناء، فنقص
بعض ما يجب رفقا من الله تعالى بعباده. ودل على أنه يجب في قليل ما أخرجت الأرض
وكثيره الزكاة، على ما ذكر، وهذا معارض بحديث جابر وحديث أبي سعيد، واختلف العلماء
في الحكم في ذلك. فالجمهور أن حديث الأوساق مخصص لحديث سالم وأنه لا زكاة فيما لم يبلغ
الخمسة الأوساق. وذهب جماعة منهم زيد بن علي وأبو حنيفة إلى أنه لا يخص بل يعمل
بعمومه فيجب في قليل ما أخرجت الأرض وكثيره. والحق مع أهل القول الأول لان
حديث الأوساق حديث صحيح ورد لبيان القدر الذي تجب فيه الزكاة، كما ورد حديث مائتي
الدرهم لبيان ذلك مع ورود في الرقة ربع العشر، ولم يقل أحد إنه يجب في قليل الفضة
وكثيرها الزكاة وإنما الخلاف هل يجب في القليل منها إذا كانت قد بلغت النصاب كما
عرفت وذلك لأنه لم يرد حديث في الرقة ربع العشر إلا لبيان أن هذا الجنس تجب
فيه الزكاة، وأما قدر ما يجب فيه فموكول إلى الحديث التبيين له بمائتي درهم فكذا هنا
قوله فيما سقت السماء العشر أي في هذا الجنس يجب العشر وأما بيان ما يجب فيه
فموكول إلى حديث الأوساق، وزاده إيضاحا قوله في الحديث ليس فيما دون خمسة أوسق
صدقة كأنه ما ورد إلا لدفع ما يتوهم من عموم فيما سقت السماء العشر كما ورد ذلك
في قوله وليس فيما دون خمسة أوقي من الورق صدقة ثم إذا تعارض العام والخاص كان
العمل بالخاص عند جهل التاريخ كما هنا فإنه أظهر الأقوال في الأصول.
(وعن أبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما أن النبي (ص) قال لهما:)
حين بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم: (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه
الأصناف الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر رواه الطبراني والحاكم) والدارقطني
. قال البيهقي رواته ثقات ومتصل وروى الطبراني من حديث موسى بن طلحة عن عمر
132

إنما سن رسول الله (ص) الزكاة في هذه الأربعة - فذكرها قال أبو زرعة: إنه
مرسل. والحديث دليل على أنه لا تجب الزكاة إلا في الأربعة المذكورة لا غير وإلى ذلك
ذهب الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي وابن سيرين وروي عن أحمد
، ولا يجب عندهم في الذرة ونحوها. وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكر
الأربعة وفيه زيادة الذرة رواه الدارقطني من دون ذكر الذرة، وابن ماجة بذكرها فقد قال
المصنف: إنه حديث واه، وفي الباب مراسيل فيها ذكر الذرة قال البيهقي: إنه يقوى بعضها
بعضا كذا قال، والأظهر أنها لا تقاوم حديث الكتاب وما فيه من الحصر. وقد ألحق الشافعي
الذرة بالقياس على الأربعة المذكورة بجامع الاقتيات في الاختيار، واحترز بالاختيار عما
يقتات في المجاعات فإنها لا تجب فيه، فمن كان رأيه العمل بالقياس لزمه، هذا إن قام الدليل
على أن العلة الاقتيات ومن لا يراه دليلا لم يقل به. وذهب الهادوية إلى إنها تجب في كل
ما أخرجت الأرض لعموم الأدلة نحو فيما سقت السماء العشر إلا الحشيش والحطب لقوله
صلى الله عليه وسلم: الناس شركاء في ثلاث وقاسوا الحطب على الحشيش قال الشارح:
والحديث أي حديث معاذ وأبي موسى وارد على الجميع، والظاهر مع من قال به. قلت: لأنه
حصر لا يقاومه العموم ولا القياس، وبه يعرف أنه لا يقاومه حديث خذ الحب من الحب
الحديث أخرجه أبو داود لأنه عموم، فالأوضح دليلا مع الحاضرين للوجوب في الأربعة
، وقال في المنار: إن ما عدا الأربعة محل احتياط أخذا وتركا، والذي يقوى أنه لا يؤخذ
من غيرها. قلت: الأصل المقطوع به حرمة مال المسلم ولا يخرج عنه إلا بدليل قاطع
وهذا المذكور لا يرفع ذلك الأصل وأيضا فالأصل براءة الذمة وهذان الأصلان لم يرفعهما
ذليل يقاومهما فليس محل الاحتياط إلا ترك الاخذ من الذرة وغيرها مما لم يأت به إلا مجرد
العموم الذي قد ثبت تخصيصه.
(وللدارقطني عن معاذ رضي الله عنه قال: فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب) بالقاف
والصاد المهملة والضاد المعجمة معا (فعفو عفا عنه رسول الله (ص). وإسناده
ضعيف) لان في إسناده محمد بن عبد الله العزرمي بفتح العين المهملة وسكون الزاي وفتح
الراء كذا في حواشي بلوغ المرام بخط السيد محمد بن إبراهيم بن المفضل رحمه الله، والذي
في الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل عبد الله بن عمرو عن
نبات الأرض البقل والقثاء والخيار فقال: ليس في البقول زكاة فهذا الذي من رواية محمد
بن عبيد الله العرزمي، وأما رواية معاذ التي في الكتاب فقال المصنف في التلخيص: فيها
ضعف وانقطاع إلا أن معناه قد أفاده الحصر في الأربعة الأشياء المذكورة في الحديث
الأول وحديث ليس في الخضروات صدقة أخرجه الدارقطني مرفوعا من طريق موسى
بن طلحة عن معاذ. وقول الترمذي لم يصح رفعه: إنما يريد المرسل من حديث موسى بن طلحة
عن النبي (ص). فموسى بن طلحة تابعي عدل يلزم من يقبل المراسيل قبول
ما أرسله. وقد ثبت عن علي وعمر موقوفا وله حكم الرفع. والخضروات ما لا يكال ولا يقتات
133

(وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة (قال: أمرنا
رسول الله (ص) إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث) لأهل المال (فإن لم تدعوا
الثلث فدعوا الربع. رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم) وفي إسناده
مجهول الحال كما قال ابن القطاع لكن قال الحاكم: له شاهد متفق على صحته، أن عمر أمر
به، كأنه أشار إلى ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شبية وأبو عبيد أن عمر كان يقول للخارص
: دع لهم قدر ما يأكلون وقدر ما يقع وأخرج ابن عبد البر عن جابر مرفوعا خففوا
في الخرص فإن في المال العرية والوطية والآكلة الحديث. وقد اختلف في معنى
الحديث على قولين: أحدهما: أن يترك الثلث أو الربع من العشر. وثانيهما: أن يترك ذلك من
نفس الثمر قبل أن يعشر. وقال الشافعي: معناه أن يدع ثلث الزكاة أو ربعها ليفرقها هو
بنفسه على أقاربه وجير انه، وقيل: يدع له ولأهله قدر ما يأكلون ولا يخرص، قال في الشرح:
والأولى الرجوع إلى ما صرحت به رواية جابر وهو التخفيف في الخرص ويترك من العشر قدر
الربع أو الثالث فإن الأمور المذكورة قد لا تدرك الحصاد فلا تجب فيها الزكاة. قال ابن تيمية:
إن الحديث جار على قواعد الشريعة ومحاسنها موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: ليس في
الخضراوات صدقة لأنه قد جرت العادة أنه لا بد لرب المال بعد كمال الصلاح أن يأكل
هو وعياله ويطعموا الناس ما لا يدخر ولا يبقى فكان ما جرى العرف بإطعامه وأكله بمنزلة
الخضروات التي لا تدخر، يوضح ذلك بأن هذا العرف الجاري بمنزلة ما لا يمكن تركه، فإنه
لا بد للنفوس من الأكل من الثمار الرطبة، ولا بد من الطعام بحيث يكون ترك ذلك مضرا
بها وشاقا عليها انتهى.
(وعن عتاب رضي الله عنه) بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية آخره موحدة (ابن أسيد)
بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وسكون المثناة التحتية (قال: أمر رسول الله (ص)
أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا رواه الخمس وفيه انقطاع)
لأنه رواه سعيد بن المسيب عن عتاب، وقد قال أبو داود: إنه لم يسمع منه، قال أبو حاتم:
الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتابا، مرسل، قال النوري:
هذا الحديث وإن كان مرسلا فهو يعتضد بقول الأئمة. والحديث دليل على وجوب خرص الثمر
والعنب، لان قول الراوي أمر يفهم أنه أتى (ص) بصيغة تفيد الامر، والأصل
فيه الوجوب، وبالوجوب قال الشافعي: وقال الهادوية: إنه مندوب. وقال أبو حنيفة:
إنه محرم، لأنه رجم بالغيب. وأجيب عنه بأنه عمل بالظن ورد به أمر الشارع. ويكفي فيه
خارص واحد عدل لان الفاسق لا يقبل خبره، عارف لان الجاهل بالشئ ليس من أهل
الاجتهاد فيه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة وحده يخرص على أهل
خيبر، ولأنه كالحاكم يجتهد ويعمل. فإن أصابت الثمرة جائحة بعد الخرص فقال
134

ابن عبد البر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان
. وفائدة الخرص أمن الخيانة من رب المال ولذلك يجب عليه البينة في دعوى النقص
بعد الخرص، وضبط حق الفقراء على المالك، ومطالبة المصدق بقدر ما خرصه، وانتفاع المالك
بالأكل ونحوه.
واعلم أن النص ورد بخرص النخل والعنب، قيل: ويقاس عليه غيره مما يمكن ضبطه وإحاطة
النظر به. وقيل يقتصر على محل النص. وهو الأقرب لعدم النص على العلة. وعند الهاوية
والشافعية أنه لا خرص في الزرع لتعذر ضبطه لاستتاره بالقشر. وإذا ادعى المخروص عليه
النقص بسبب يمكن إقامة البينة عليه وجب إقامتها، وإلا صدق بيمينه. وصفة الخرص أن
يطوف بالشجرة، ويرى جميع ثمرتها ويقول: خرصها كذا وكذا رطبا، ويجئ منه كذا وكذا يابسا.
(وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن امرأة) هي أسماء بنت يزيد
بن السكن (أتت النبي (ص) ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان) بفتح الميم
وفتح السين المهملة والواحدة مسكة وهي الأسورة والخلاخيل (من ذهب فقال لها:
أتعطين زكاة هذه؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة
سوارين من نار؟ فألقتهما. رواه الثلاثة وإسناده قوي) ورواه أبو داود من حديث حسين
المعلم وهو ثقة فقول الترمذي إنه لا يعرف إلا من طريق ابن لهيعة غير صحيح (وصححه
الحاكم من حديث عائشة) وحديث عائشة أخرجه الحاكم وغيره ولفظه إنها دخلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدها فتخات من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟
فقالت: صغتهن لأتزين لك بهن يا رسول الله، فقال: أتؤدين زكاتهن؟ قالت: لا، قال: هن
حسبك من النار. قال الحاكم: إسناده على شرط الشيخين. والحديث دليل على وجوب
الزكاة في الحلية وظاهره أنه لا نصاب لها لامره صلى الله عليه وسلم بتزكية هذه المذكورة
ولا تكون خمس أواقي في الأغلب، وفي المسألة أربعة أقوال: الأول: وجوب الزكاة وهو
مذهب الهادوية وجماعة من السلف وأحد أقوال الشافعي عملا بهذه الأحاديث. والثاني
: لا تجب الزكاة في الحلية، وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد أقواله، لآثار وردت عن
السلف قاضية بعد وجوبها في الحلية ولكن بعد صحة الحديث لا أثر للآثار. والثالث: أن
زكاة الحلية عاريتهما، كما روى الدارقطني عن أنس وأسماء بنت أبي بكر. الرابع: أنها تجب
فيها الزكاة مرة واحدة رواه عن أنس. وأظهر الأقوال دليلا وجوبها لصحة الحديث
وقوته وأما نصابها فعند الموجبين نصاب النقدين، وظاهر حديثها الاطلاق وكأنهم قيدوه
بأحاديث النقدين ويقوي الوجوب قوله:
(وعن أم سلمة رضي الله عنها كانت تلبس أوضاحا) في النهاية هي نوع
من الحلي يعلم من الفضة سميت بها بياضها واحدها وضح انتهى وقوله (من ذهب) يدل
على أنها تسمى إذا كانت من الذهب أوضاحا (فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ أي فدخل
تحت آية * (الذين يكنزون الذهب والفضة) * (قال: إذا أديت زكاته فليس بكنز،
135

رواه أبو داود والدار قطني وصححه الحاكم). فيه دليل كما في الذي قبله على وجوب زكاة
الحلية، وأن كل مال أخرجت زكاته ليس بكنز فلا يشمله الوعيد في الآية.
(وعن سمرة بن جندب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله (ص)
يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع رواه أبو داود وإسناده لين) لأنه من رواية
سليمان بن سمرة وهو مجهول وأخرجه الدارقطني والبزار من حديثه أيضا. والحديث دليل على
وجوب الزكاة في مال التجارة. واستدل للوجوب أيضا بقوله تعالى: * (وأنفقوا من طيبات ما كسبتم) *
قال مجاهد: نزلت في التجارة. وبما أخرجه الحاكم أنه (ص) قال: في الإبل
صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته والبز بالباء الموحدة والزاي المعجمة ما يبيعه
البزازون، كذا ضبطه الدارقطني والبيهقي. قال ابن المنذر: الاجماع قائم على وجوب الزكاة
في مال التجارة، وممن قال بوجوبها الفقهاء السبعة قال: لكن لا يكفر جاحدها للاختلاف فيها.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: وفي
الركاز) بكسر الراء آخره زاي: المدفون يؤخذ من غير أن يطلب بكثير عمل
(الخمس متفق عليه). للعلماء في الحقيقة الركاز قولان. الأول: أنه المال المدفون
في الأرض من كنوز الجاهلية. الثاني: أنه المعادن. قال مالك بالأول قال: وأما المعادن
فتؤخذ فيها الزكاة لأنها بمنزلة الزرع ومثله قال الشافعي. وإلى الثاني ذهبت الهادوية وهو قول
أبي حنيفة. ويدل للأول قوله (ص): العجماء جبار والمعدن جبار وفي
الركاز الخمس أخرجه البخاري فإنه ظاهر أنه غير المعدن وخص الشافعي الركاز بالذهب
والفضة لما أخرجه البيهقي: أنهم قالوا: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: الذهب والفضة التي
خلقت في الأرض يوم خلقت إلا أنه قيل: إن هذا التفسير رواية ضعيفة واعتبر النصاب
الشافعي ومالك وأحمد عملا بحديث ليس فيما دون خمس أواق صدقة في نصاب الذهب
والفضة وإلى أنه يجب ربع العشر بحديث: وفي الرقة ربع العشر بخلاف الركاز: فيجب
فيه الخمس ولا يعتبر فيه النصاب، ووجه الحكمة في التفرقة أن أخذ الركاز بسهولة من غير
تعب، بخلاف المستخرج من المعدن فإنه لا بد فيه من المشقة. وذهبت الهادوية إلى أنه يجب
الخمس في المعدن والركاز وأنه لا تقدير لهما بالنصاب بل يجب في القليل والكثير وإلى أنه يعم
كل ما استخرج من البحر والبر من ظاهرهما أو باطنهما فيشمل الرصاص والنحاس والحديد
والنفط والملح والحب والحشيش. والمتيقن بالنص: الذهب والفضة، وما عداهما الأصل فيه عدم
الوجوب حتى يقوم الدليل، وقد كانت هذه الأشياء موجودة في عصر النبوة ولا يعلم أنه
أخذ فيها خمسا ولم يرد إلا حديث الركاز وهو في الأظهر في الذهب والفضة وآية * (واعلموا
أنما علمتم من شئ) * وهي في غنائم الحرب.
(وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن رسول الله (ص) قال
136

في كنز وجده رجل في خربة: إن وجدته في قرية مسكونة فعرفه، وإن
وجدته في قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس أخرجه ابن ماجة
بإسناد حسن) في قوله: ففيه وفي الركاز بيان أنه قد صار ملكا لواجده وأنه يجب عليه اخراج
خمسه وهذا الذي يجده في قرية لم يسمه الشارع ركازا لأنه لم يستخرجه من باطن الأرض
بل ظاهره أنه وجد في ظاهر القرية. وذهب الشافعي ومن تبعه إلى أنه يشترط في الركاز
أمران: كونه جاهليا، وكونه في موات، فإن وجد في شارع أو مسجد فلقطة، لان يد المسلمين
عليه وقد جهل مالكه فيكون لقطة، وإن وجد في ملك شخص فللشخص المالك، إن لم ينفه عن
ملكه، فإن نفاه عن ملكه فلمن ملكه عنه، وهكذا حتى تنتهي إلى المحيي للأرض ووجه
ما ذهب إليه الشافعي ما أخرجه هو عن عمرو بن شعيب بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال في كنز وجده رجل في خربة جاهلية: إن وجدته في قرية مسكونة أو في سبيل ميتاء فعرفه
وإن وجدته في خربة جاهلية أو في قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس.
(وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه) هو المزني وفد على رسول الله (ص)
سنة خمس وسكن المدينة وكان أحد من يحمل ألوية مزينة يوم الفتح روى
عنه ابنه الحارث مات سنة ستين وله ثمانون سنة (أن رسول الله (ص) أخذ
من المعادن القبلية) بفتح القاف وفتح الموحدة وكسر اللام وياء مشددة مفتوحة وهو موضع
بناحية الفرع (الصدقة. رواه أبو داود) وفي الموطأ عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم
أنه (ص) أقطع بلال بن الحرث المعادن القبلية وأخذ منها الزكاة دون الخمس
. قال الشافعي بعد أن روى حديث مالك: ليس هذا مما يثبته أهل الحديث ولم يكن فيه
رواية عن النبي (ص) إلا إقطاعه، وأما الزكاة في المعادن دون الخمس
فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: هو كما قال الشافعي في رواية
مالك. والحديث يدل على وجوب الصدقة في المعادن ويحتمل أنه أريد بها الخمس
وذهب غيرهم إلى الثاني وهو وجوب الخمس لقوله: وفي
الركاز الخمس وإن كان فيه احتمال كما سلف.
باب صدقة الفطر
أي الافطار وأضيفت إليه لأنه سببها كما يدل له ما في بعض روايات البخاري: زكاة
الفطر من رمضان.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله (ص) زكاة
الفطر صاعا) نصب على التمييز أو بدل من زكاة بيان لها (من تمر أو صاعا من شعير
على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن
تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. متفق عليه). الحديث دليل على وجوب صدقة
137

الفطر لقوله: فرض فإنه بمعنى ألزم وأوجب. قال إسحاق: هي واجبة بالاجماع وكأنه
ما علم فيها الخلاف لداود وبعض الشافعية فإنهم قائلون: إنها سنة وتأولوا فرض بأن المراد قدر، ورد
هذا التأويل بأنه خلاف الظاهر. وأما القول بأنها كانت فرضا ثم نسخت بالزكاة لحديث قيس
بن سعد بن عبادة أمرنا رسول الله (ص) بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت
الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله فهو قول غير صحيح لان الحديث فيه رواه مجهول ولو سلم بصحته فليس
فيه دليل على النسخ، لأن عدم أمره لهم بصدقة الفطر ثانيا، لا يشعر بأنها نسخت، فإنه يكفي
الأمر الأول ولا يرفعه عدم الامر. والحديث دليل على عموم وجوبها على العبيد والأحرار
، الذكور والإناث، صغيرا وكبيرا، وغنيا وفقيرا. وقد أخرج البيهقي من حديث عبد الله بن أبي ثعلبة
أو ثعلبة بن عبد الله مرفوعا أدوا صاعا من قمح عن كل انسان، ذكرا أو أنثى، صغيرا أو كبيرا
، غنيا أو فقيرا، أو مملوكا أما الغني فيزكيه الله وأما الفقير فيرد الله عليه أكثر مما أعطى قال
المنذري في مختصر السنن: في إسناده النعمان بن راشد لا يحتج بحديثه. نعم: العبد تلزم مولاه
عند من يقول إنه لا يملك، ومن يقول إنه يملك تلزمه، وكذلك الزوجة يلزم زوجها، والخادم
مخدومة، والقريب من تلزمه نفقته لحديث أدوا صدقة الفطر عمن تمونون أخرجه الدارقطني
والبيهقي وإسناده ضعيف ولذلك وقع الخلاف في المسألة كما هو مبسوط في الشرح وغيره
. وأما الصغير فتلزم في ماله إن كان له مال كما تلزمه الزكاة في ماله. وإن لم يكن له مال لزمت
منفقه كما يقول الجمهور، وقيل تلزم الأب مطلقا، وقيل لا تجب على الصغير أصلا لأنها
شرعت طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين كما يأتي: وأجيب بأنه خرج
على الأغلب فلا يقاومه تصريح حديث ابن عمر بإيجابها على الصغير. وهو أيضا دال على أنه
يجب صاع على كل انسان من التمر والشعير ولا خلاف في ذلك وكذلك ورد صاع من زبيب
. وقوله في الحديث من المسلمين لائمة الحديث كلام طويل في هذه الزيادة لأنه لم يتفق
عليها الرواة لهذا الحديث إلا أنها على تقدير زيادة من عدل فتقبل، ويدل على اشتراط
الاسلام في وجوب صدقة الفطر وأنها لا تجب على الكافر عن نفسه وهذا متفق عليه، وهل
يخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ فقال الجمهور: لا. وقالت الحنفية وغيرهم: تجب مستدلين
بحديث ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر وأجيب بأن حديث الباب خاص
والخاص يقضي به على العام فعموم قوله عبده مخصص بقوله من المسلمين. وأما قول
الطحاوي إن المسلمين صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم فإنه يأباه ظاهر الحديث
فإنه فيه العبد وكذا الصغير وهم ممن يخرج عنهم، فدل على أن صفة الاسلام لا تختص بالمخرجين
ويؤيده حديث مسلم بلفظ على كل نفس من المسلمين حر أو عبد. وقوله: وأمر بها أن
تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة يدل على أن المبادرة بها هي المأمور بها، فلو أخرها
عن الصلاة أثم وخرجت عن كونها صدقة فطر، وصارت صدقة من الصدقات ويؤكد ذلك قوله.
(ولابن عبدي من وجه آخر والدارقطني عنه رضي الله عنه) أي من حديث ابن عمر (بإسناد ضعيف) لان فيه
محمد بن عمر الواقدي (أغنوهم) أي الفقراء (عن الطواف) في الأزقة والأسواق لطلب المعاش
(في هذا اليوم) أي يوم العيد وإغناؤهم يكون بإعطائهم صدقة أول اليوم.
138

(وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كنا نعطيها) أي صدقة الفطر (في زمان النبي
(ص) صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب.
متفق عليه وفي رواية أو صاعا من أقط) بفتح الهمزة وهو لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ
به، كما في النهاية. ولا خلاف فيما ذكر أنه يجب فيه صاع، وإنما الخلاف في الحنطة فإنه أخرج
ابن خزيمة عن سفيان عن ابن عمر أنه لما كان معاوية عدل الناس نصف صاع بر بصاع شعير
وذلك أنه لم يأت نص في الحنطة أنه يخرج فيها صاع. والقول بأن أبا سعيد أراد بالطعام الحنطة
في حديثه هذا غير صحيح كما حققه المصنف في فتح الباري، قال ابن المنذر: لا نعلم في القمح
خبرا ثابتا نعتمد عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن البر في المدينة ذلك الوقت، إلا
الشئ اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة، رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من
شعير، وهم الأئمة فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ولا يخفى أنه قد خالف
أبو سعيد كما يفيده قوله قال الراوي: (قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه) أي الصاع (كما
كنت أخرجه في زمان رسول الله (ص). ولأبي داود) عن أبي سعيد (لا أخرج
أبدا إلا صاعا) أي من أي قوت. أخرج ابن خزيمة والحاكم: قال أبو سعيد: وقد ذكر عنده
صدقة رمضان فقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج على عهد رسول الله (ص) صاعا
من تمر أو صاعا من حنطة أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط، فقال له رجل من القوم:
أو مدين من قمح قال: لا تلك فعل معاوية لا أقبلها ولا أعلم بها لكنه قال ابن خزيمة: ذكر
الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم. وقال النووي: تمسك بقول معاوية
من قال بالمدين من الحنطة، وفيه نظر لأنه فعل صحابي وقد خالفه فيه أبو سعيد وغيره من
الصحابة ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي (ص)، وقد صرح معاوية بأنه
رأي رآه لا أنه سمعه من النبي (ص)، كما أخرجه البيهقي في السنن من حديث أبي سعيد
أنه قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أنه قال: إني
أرى مدينة من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر فأخذ بذلك الناس فقال أبو سعيد: أما
أنا فلا أزال أخرجه الحديث المذكور في الكتاب فهذا صريح أنه رأي معاوية. قال البيهقي بعد
إيراد أحاديث في الباب ما لفظه: وقد وردت أخبار عن النبي (ص) في صاع من
بر ووردت أخبار في نصف صاع ولا يصح شئ من ذلك وقد بينت علة كل واحد منها في
الخلافيات انتهى.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله (ص)
زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث) والواقع منه في صومه (وطعمة
للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة) أي صلاة العيد (فهي زكاة مقبولة، ومن
أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم)
. فيه دليل على وجوبها لقوله فرض كما سلف. ودليل على أن الصدقات تكفر السيئات. ودليل
139

على أن وقت اخراجها قبل صلاة العيد وأن وجوبها مؤقت، فقيل: تجب من فجر أول شوال
، لقوله: أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم وقيل: من غروب آخر يوم من رمضان لقوله
: طهرة للصائم وقيل: تجب بمضي الوقتين عملا بالدليلين. وفي جواز تقديمها أقوال: منهم من
ألحقها بالزكاة فقال: يجوز تقديمها ولو إلى عامين، ومنهم من قال يجوز في رمضان لا قبله لان
لها سببين الصوم والافطار فلا تتقدمهما كالنصاب والحول، وقيل لا تقدم على وقت وجوبها إلا ما
يغتفر كاليوم واليومين وأدلة الأقوال كما ترى. وفي قوله: طعمة للمساكين دليل على
اختصاصهم بها وإليه ذهب جماعة من الآل. وذهب آخرون إلى أنها كالزكاة تصرف في الثمانية
الأصناف واستقواه المهدي لعموم (إنما الصدقات) والتنصيص على بعض الأصناف لا يلزم
منه التخصيص، فإنه قد وقع الزكاة ولم يقل أحد بتخصيص مصرفها ففي حديث معاذ
: أمرت أن آخذها من أغنيائكم وأردها في فقرائكم.
باب صدقة التطوع
أي النفل
(عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله
في ظله يوم لا ظل إلا ظله فذكر الحديث) في تعداد السبعة، وهم: الإمام العادل
وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا على
ذلك وافترقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ورجل ذكر
الله خاليا ففاضت عيناه (وفيه رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم
شماله ما تنفق يمينه متفق عليه) قيل: المراد بالظل الحماية والكنف كما يقال أنا
في فلان، قيل والمراد: ظل عرشه ويدل ما أخرجه سعيد بن منصور من حديث سلمان
سبعة يظلهم الله في ظل عرشه وبه جزم القرطبي. وقوله: أخفى بلفظ الفعل الماضي حال
بتقدير قد. وقوله: حتى لا تعلم شماله مبالغة في الاخفاء وتبعيد الصدقة عن مظان الرياء
، ويحتمل أنه على حذف مضاف أي عن شماله. وفيه دليل على فضل إخفاء الصدقة على إبدائها
، إلا أن يعلم أن في إظهارها ترغيبا للناس في الاقتداء، وأنه يحرس سره عن داعية الرياء. وقد
قال تعالى: * (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) *. والصدقة في الحديث عامة للواجبة والنافلة
، فلا يظن أنها خاصة بالنافلة حيث جعله المصنف في بابها. واعلم أنه لا مفهوم يعمل به في
قوله: ورجل تصدق فإن المرأة كذلك إلا في الإمامة، ولا مفهوم أيضا للعدد، فقد وردت
خصال تقتضي الظل وأبلغها المصنف في الفتح إلى ثمان عشرين خصلة وزاد
عليها الحافظ السيوطي حتى أبلغها إلى سبعين وأفردها بالتأليف ثم لخصها في كراسة سماها بزوغ
الهلال في الخصال المقتضية للظلال.
(وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: كل
140

امرئ في ظل صدقته) أي يوم القيامة أعم من صدقته الواجبة والنافلة (حتى يفصل
بين الناس رواه ابن حبان والحاكم). فيه حث على الصدقة، وأما كونه في ظلها فيحتمل
الحقيقة وأنها تأتي أعيان الصدقة فتدفع عنه حر الشمس أو المراد في كنفها وحمايتها. ومن
فوائد صدقة النفل أنها تكون توفية لصدقة الفرض إن وجدت في الآخرة ناقصة كما أخرجه
الحاكم في الكنى من حديث ابن عمر وفيه: وانظروا في زكاة عبدي فإن كان ضيع منها
شيئا فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صدقة لتتموا بها ما نقص من الزكاة فيؤخذ ذلك
على فرائض الله وذلك برحمة الله وعدله.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: أيما
مسلم كسا مسلم ثوبا على عرى كساه الله من خضر الجنة) أي في ثيابها
الخضر (وأيما مسلم أطعم مسلما) متصفا بكونه (على جوع أطعمه الله من
ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلما) متصفا بكونه (على ظمأ سقاه الله من
الرحيق) هو الخالص من الشراب الذي لا غش فيه (المختوم) الذي تختم أوانيه وهو عبارة
عن نفاستها (رواه أبو داود وفي إسناده لين) لم يبين الشارح وجهه، وفي مختصر السنن للمنذري
في إسناده أبو خالد يزيد بن عبد الرحمن المعروف بالدالاني وقد أثنى عليه غير واحد
وتكلم فيه غير واحد. وفي الحديث الحث على أنواع البر وإعطائها من هو مفتقر إليها
وكون الجزاء عليها من جنس الفعل.
(وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: اليد
العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن
ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله متفق عليه
واللفظ للبخاري. أكثر التفاسير وعليه الأكثرون أن اليد العليا يد المعطي والسفلى يد السائل،
وقيل يد المتعفف ولو بعد أن يمد إليه المعطي، وعلوها معنوي، وقيل يد الاخذ لغير سؤال
وقيل العليا المعطية والسفلى المانعة. وقال قوم من المتصوفة: اليد الآخذة أفضل من المعطية
مطلقا قال ابن قتيبة: ما رأى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة، ونعم
ما قال. وقد ورد التفسير النبوي بأن اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ، أخرجه إسحاق في مسنده
عن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله ما اليد العليا فذكره. وفي الحديث دليل على البداءة
بنفسه وعياله لأنهم الأهم. وفيه أن أفضل الصدقة ما بقي بعد اخراجها صاحبها
مستغنيا إذ معنى أفضل الصدقة ما أبقى المتصدق من ماله ما يستظهر به على حوائجه
ومصالحه لان المتصدق بجميع ماله يندم غالبا ويحب إذا احتاج أنه لم يتصدق، ولفظ
الظهر كما قال الخطابي: يورد في مثل هذا اتساعا في الكلام وقيل غير ذلك. واختلف
العلماء في صدقة الرجل بجميع ماله فقال القاضي عياض: إنه جوزه العلماء وأئمة الأمصار
، قال الطبراني ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث. والأولى أن يقال:
141

من تصدق بماله كله وكان صبورا على الفاقة ولا عيال له أو له عيال يصبرون فلا كلام
في حسن ذلك ويدل له قوله تعالى: * (ويؤثرون على أنفسهم) * * (ويطعمون الطعام على
حبه) * ومن لم يكن بهذه المثابة كره له ذلك. وقوله: ومن يستعفف أي عن المسألة يعفه
الله أي يعينه الله على العفة ومن يستغن بما عنده وإن قل يغنه الله بإلقاء القناعة
في قلبه والقنوع بما عنده.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟
قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة والحاكم
وابن حبان) الجهد بضم الجيم وسكون الهاء الوسع والطاقة وبالفتح المشقة، وقيل: المبالغة
والغاية. وقيل: هما لغتان بمعنى قال في النهاية: أي قدر ما يحتمله القليل من المال وهذا بمعنى
حديث سبق درهم مائة ألف درهم رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به ورجل له
مال كثير فأخذ من عرضه مائه ألف درهم فتصدق بها أخرجه النسائي من حديث أبي ذر
، وأخرجه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة، ووجه الجمع بين هذا الحديث والذي
قبله ما قاله البيهقي ولفظه: والجمع بين قوله (ص): خير الصدقة ما كان عن
ظهر غنى وقوله: أفضل الصدقة جهد المقل أنه يختلف باختلاف أحوال الناس في الصبر
على الفاقة والشدة والاكتفاء بأقل الكفاية وساق أحاديث تدل على ذلك.
(وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
تصدقوا فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار؟ قال: تصدق به على نفسك قال
: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك قال: عندي آخر، قال: تصدق به
على خادمك قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر رواه أبو داود والنسائي وصححه
ابن حبان والحاكم. ولم يذكر في هذا الحديث الزوجة وقد وردت في صحيح مسلم مقدمة
على الولد. وفيه أن النفقة على النفس صدقة وأنه يبدأ بها ثم على الزوجة ثم على الولد ثم على
العبد إن كان أو مطلق من يخدمه ثم حيث شاء ويأتي في النفقات تحقيق النفقة على من تجب
له أولا فأولا.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي (ص): إذا
أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة) كأن المراد غير مسرفة في الانفاق
(كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما اكتسب وللخازن مثل ذلك
لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا متفق عليه). فيه دليل جواز تصدق المرأة
من بيت زوجها، والمراد إنفاقها من الطعام الذي لها فيه تصرف بصفته للزوج ومن يتعلق به
شرط أن يكون ذلك بغير إضرار وأن لا يخل بنفقتهم. قال ابن العربي: قد اختلف السلف
في ذلك فمنهم من أجازه في الشئ اليسير الذي لا يؤبه له ولا يظهر به النقصان، ومنهم من
حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الاجمال، وهو اختيار البخاري ويدل له ما أخرجه
142

الترمذي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (ص): لا تنفق المرأة من بيت
زوجها إلا بإذنه قال: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: هذه أفضل أموالنا إلا أنه قد
عارضه ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها
من غير أمره فلها نصف أجره ولعله يقال في الجمع بينهما: إن إنفاقها مع إذنه تستحق به
الاجر كاملا ومع عدم الإذن نصف الاجر، وأن النهي عن إنفاقها من غير إذنه إذا عرفت
منه الفقر أو البخل فلا يحل لها الانفاق إلا بإذنه، بخلاف ما إذا عرفت منه خلاف ذلك
، جاز لها الانفاق من غير إذنه، ولها نصف أجره. ومنهم من قال المراد بنفقة المرأة
والعبد والخادم: النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وهو بعيد من لفظ
الحديث. ومنهم من فرق بين المرأة والخادم فقال: المرأة لها حق في مال الزوج والتصرف
في بيته، فجاز لها أن تتصدق، بخلاف الخادم فليس له تصرف في مال مولاه فيشترط الاذن فيه
. ويرد عليه أن المرأة ليس لها التصرف إلا في القدر الذي تستحقه، وإذا تصدقت منه اختصت
بأجره ثم ظاهره أنهم سواء في الاجر، ويحتمل أن المراد بالمثل حصول الاجر في الجملة وإن
كان أجر المكتسب أوفر إلا في حديث أبي هريرة ولها نصف أجره فهو يشعر بالمساواة.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت زينب امرأة ابن مسعود فقالت:
يا رسول الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم
ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم؟ قال النبي (ص):
صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم رواه
البخاري. فيه دلالة على أن الصدقة على من كان أقرب من المتصدق أفضل وأولى.
والحديث ظاهر في صدقة الواجب، ويحتمل أن المراد بها التطوع، والأول أوضح ويؤيده
ما أخرجه البخاري عن زينب امرأة ابن مسعود أنها قالت: يا رسول الله أيجزي عنا أن
نجعل الصدقة في زوج فقير وأبناء أخ أيتام في حجورنا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه
وسلم: لك أجر لقولها أيجزي ولقوله: صدقة وصلة إذا الصدقة عند الاطلاق تتبادر في الواجبة وبهذا جزم
المازني. وهو دليل على جواز صرف زكاة المرأة في زوجها وهو قول الجمهور وفيه خلاف
لأبي حنيفة، ولا دليل له يقاوم النص المذكور ومن استدل له بأنها تعود إليها بالنفقة
فكأنها ما خرجت عنها فقد أورد عليه أنه يلزمه منع صرفها فيه اتفاقا. وأما الزوج فاتفقوا
على أنه لا تجوز له صرف صدقة واجبة في زوجته قالوا: لان نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن
الزكاة قاله المصنف في الفتح، وعندي في هذا الأخير توقف لان غنى المرأة بوجوب النفقة
عل زوجها لا يصيرها غنية الغنى الذي منع من حل الزكاة لها. وفي قوله وولده ما يدل
على إجزائها في الولد إلا أنه ادعى ابن المنذر الاجماع على عدم جواز صرفها إلى الولد وحملوا
الحديث على أنفي غير الواجبة أو أن الصرف إلى الزوج - وهو المنفق على الأولاد أو أن الأولاد
للزوج ولم يكونوا منها كما يشعر به ما وقع في رواية أخرى على زوجها وأيتام في حجرها
ولعلهم أولاد زوجها سموا أيتاما باعتبار اليتم من الأم.
143

(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): ما يزال
الرجل) والمرأة (يسأل الناس) أموالهم (حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه
مزعة) بضم الميم وسكون الزاي فعين مهملة (لحم متفق عليه). الحديث دليل على قبح
كثرة السؤال، وأن كل مسألة تذهب من وجهه قطعة لحم حتى لا يبقى فيه شئ لقوله
ما يزال. ولفظ الناس عام مخصوص بالسلطان كما يأتي. والحديث مطلق في قبح السؤال
مطلقا وقيده البخاري بمن يسأل تكثرا كما يأتي يعني من سأل وهو غني فإنه ترجم له:
بباب من سأل الناس تكثرا، لا من سأل لحاجة فإنه يباح له ذلك ويأتي قريبا بيان الغني الذي يمنع
من السؤال. قال الخطابي: معنى قوله وليس في وجهه لحم: يحتمل أن يكون المراد
به يأتي ساقطا لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه عقوبة له في موضع
الجناية لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عظم ليكون ذلك شعاره الذي يعرف
به. ويؤيد الأول ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمرو مرفوعا لا يزال العبد يسأل
وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه وفيه أقوال أخر.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): من
سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو يستكثر رواه
مسلم) قال ابن العربي: إن قوله: فإنما يسأل جمرا معناه أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن
يكون حقيقة أي أنه يصير ما يأخذه جمرا يكوى به كما في مانع الزكاة. وقوله فليستقل
أمر للتهكم ومثله ما عطف عليه، أو للتهديد من باب (اعملوا ما شئتم) وهو مشعر
بتحريم السؤال للاستكثار.
(وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي (ص) قال:
لان يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف
بها) أن بقيمتها (وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه رواه
البخاري). الحديث دل على ما دل عليه قبله من قبح السؤال مع الحاجة وزاد بالحث على
الاكتساب ولو أدخل على نفسه المشقة، وذلك لما يدخل السائل على نفسه من ذل السؤال
وذلة الرد إن لم يعطه المسؤول، ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله أن أعطى كل من
يسأل. وللشافعية وجهان في سؤال من له قدرة على التكسب أصحهما أنه حرام لظاهر الأحاديث
، والثاني أنه مكروه بثلاثة شروط أنه لا يذل نفسه ولا يلح في السؤال ولا يؤذي
المسؤول فإن فقد أحدها فهو حرام بالاتفاق.
(وعن سمرة بن جندب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر
144

لا بد منه رواه الترمذي وصححه. أي سؤال الرجل أموال الناس كد أي خدش وهو
الأثر وفي رواية كدوح بضم الكاف. وأما سؤاله من السلطان فإنه لا مذمة فيه، لأنه إنما
يسأل مما هو حق له في بيت المال ومنة للسلطان في السائل لأنه وكيل فهو كسؤال
الانسان وكيله أن يعطيه من حقه الذي لديه وظاهره أنه وإن سأل السلطان تكثرا فإنه لا بأس
فيه ولا إثم لأنه جعل قسيما للامر الذي لا بد منه، وقد فسر الامر الذي لا بد منه حديث
قبيصة وفيه لا يحل السؤال إلا لثلاثة: ذي فقر مدقع أو دم موجع أو غرم مفظع
الحديث. وقوله: أو في أمر لا بد منه أي لا يتم له حصوله مع ضرورته إلا بسؤال ويأتي
حديث قبيصة قريبا وهو مبين ومفسر الامر الذي لا بد منه.
باب قسمة الصدقات
أي قسمة الله الصدقات بين مصارفها
(عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله،
أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم وأعل بالارسال. ظاهره إعلال ما أخرجه
المذكورون جميعا وفي الشرح أن التي أعلت بالارسال رواية الحاكم التي حكم بصحتها
. وقوله: لغني قد اختلفت الأقوال في حدى الغنى الذي يحرم به قبض الصدقة على أقوال،
وليس عليها ما تسكن له النفس من الاستدلال لان المبحث ليس لغويا حتى يرجع فيه إلى
تفسير لغة ولأنه في اللغة أمر نسبي لا يتعين في قدر. ووردت أحاديث معينة لقدر الغنى
الذي يحرم به السؤال كحديث أبي سعيد عند النسائي من سأل وله أوقية فقد ألحف
وعند أبي داود من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا وأخرج أيضا من سؤل
وله ما يغنيه فإنما يستكثر من النار، قالوا: وما يغنيه؟ قال: قدر ما يعشيه ويغديه صححه
ابن حبان، فهذا قدر الغنى الذي يحرم مع السؤال. وأما الغنى الذي يحرم معه قبض الزكاة
فالظاهر أنه من تجب عليه الزكاة وهو من يملك مائتي درهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: أمرت
أن آخذها من أغنيائكم وأردها في فقرائكم فقابل بين الغنى وأفاد أنه من تجب عليه الصدقة
وبين الفقير وأخبر أنه من ترد فيه الصدقة، هذا أقرب ما يقال فيه وقد بيناه في رسالة جواب
سؤال. وأفاد حديث الباب حلها للعامل عليها وإن كان غنيا، لأنه يأخذ أجره على علمه لا لفقره
. وكذلك من اشتراها بماله فإنها قد وافقت مصرفها وصارت ملكا له، فإذا باعها فقد باع
ما ليس بزكاة حين البيع بل ما هو ملك له. وكذلك الغرم تحل له وإن كان غنيا. وكذلك
الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيا لأنه ساع في سبيل الله. قال الشارح:
ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة من مصالح المسلمين كالقضاء والافتاء والتدريس وإن
145

كان غنيا. وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين وأشار إليه البخاري حيث
قال: باب رزق الحاكم والعاملين عليها وأراد بالرزق ما يرزقه الامام من بيت المال لمن يقوم
بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الاخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام
بالمصلحة وإن كان غنيا. قال الطبري: إنه ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة
على الحكم لأنه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه، غير أن طائفة من السلف كرهوا ذلك ولم
يحرموه. وقالت طائفة: أخذ الرزق على القضاء إن كانت جهة الاخذ من الحلال كان
جائزا إجماعا ومن تركه فإنما تركه تورعا، وأما إذا كانت هناك شبهة فالأولى الترك، ويحرم
إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه واختلف إذا كان الغالب حراما. وأما
الاخذ من المتحاكمين ففي جوازه خلاف، ومن جوزه فقد شرط له شرائط ويأتي ذكر
ذلك في باب القضاء وإنما لما تعرض له الشارح هنا تعرضنا له.
(وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه) بكسر الخاء المعجمة فمثناة تحتية آخره راء
وعبيد الله يقال إنه ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد في التابعين روى عن
عمر وعثمان وغيرهما (أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله (ص) يسألانه من
الصدقة فقلب فيهما النظر) فسر ذلك الرواية الأخرى بلفظ فرفع فينا النظر وخفضه
(فرأهما جلدين فقال: إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي
مكتسب رواه أحمد وقواه أبو داود والنسائي) قال أحمد بن حنبل: ما أجوده من حديث.
وقوله إن شئتما أي إن أخذ الصدقة ذلة فإن رضيتما بها أعطيتكما، أو أنها حرام على الجلد
فإن شئتما تناول الحرام أعطيتكما، قاله توبيخا وتغليظا. والحديث من أدلة تحريم الصدقة على
الغني وهو تصريح بمفهوم الآية وإن اختلف في تحقيق الغنى كما سلف وعلى القوي المكتسب
لان حرفته صيرته في حكم الغني ومن أجاز له تأول الحديث بما لا يقبل.
(وعن قبيصة رضي الله عنه) بفتح القاف فموحدة مكسورة فمثناة تحتية فصاد مهملة (ابن مخارق)
بضم الميم فخاء معجمة فراء مكسورة بعد الألف فقاف (الهلالي) وفد على النبي صلى الله
عليه وسلم، عداده في أهل البصرة روى عنه ابنه قطن وغيره (قال: قال رسول الله (ص)
إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة: رجل) بالكسر بدلا من
ثلاثة ويصح رفعه بتقدير أحدهم (تحمل حمالة) بفتح الحاء المهملة وهو المال
يتحمله الانسان عن غيره (فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل
أصابته جائحة) أي آفة (اجتاحت) أي أهلكت (ماله، فحلت له المسألة
حتى يصيب قواما) بكسر القاف ما يقوم بحاجته وسد خلته (من عيش، ورجل
أصابته فاقة) أي حاجة (حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى) بكسر المهملة والجيم
مقصور: العقل (من قومه) لأنهم أخبر بحاله يقولون أو قائلين: (لقد أصابت فلانا
فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما) بكسر القاف (من عيش، فما سواهن
146

من المسألة يا قبيصة سحت) بضم السين المهملة (يأكلها) أي الصدقة، أنت لأنه
جعل السحت عبارة عنها وإلا فالضمير له (سحتا) السحت الحرام الذي لا يحل كسبه لأنه
يسحت البركة أي يذهبها (رواه مسلم وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان). الحديث دليل على
أنها تحرم المسألة إلا لثلاثة: الأول: لمن تحمل حمالة وذلك أن يتحمل الانسان عن غيره
دينا أو دية أو يصالح بمال بين طائفتين، فإنها تحل له المسألة، وظاهره إن كان غنيا فإنه
لا يلزمه تسليمه من ماله وهذا هو أحد الخمسة الذين يحل لهم أخذ الصدقة وإن كانوا
أغنياء كما سلف في حديث أبي سعيد. والثاني: من أصاب ماله آفة سماوية أو أرضية كالبرد
والغرق ونحوه بحيث لم يبق له ما يقوم بعيشه حلت له المسألة حتى يحصل له ما يقوم بحاله
ويسد خلته. والثالث: من أصابته فاقه، ولكن لا تحل له المسألة إلا أن يشهد له من أهل
بلده لأنهم أخبر بحاله ثلاثة من ذوي العقول لا من غلب عليه الغباوة والتغفيل وإلى كونهم
ثلاثة ذهبت الشافعية للنص فقالوا: لا يقبل في الاعسار أقل من ثلاثة، وذهب غيرهم إلى
كفاية الاثنين قياسا على سائر الشهادات وحملوا الحديث على الندب، ثم هذا محمول على
من كان معروفا بالغنى ثم افتقر، أما إذا لم يكن كذلك فإنه يحل له السؤال وإن لم يشهدوا له
بالفاقة يقبل قوله. وقد ذهب إلى تحريم السؤال ابن أبي ليلى وأنها تسقط به العدالة. والظاهر
من الأحاديث تحريم السؤال إلا للثلاثة المذكورين، أو أن يكون المسؤول السلطان كما سلف.
(وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه) ابن عبد المطلب ابن هاشم سكن المدينة
ثم تحول منها إلى دمشق ومات بها سنة اثنتين وستين وكان قد أتى إلى رسول الله (ص)
يطلب منه أن يجعله عاملا على بعض الزكاة فقال له رسول الله (ص)
: الحديث وفيه قصة (قال: قال رسول الله (ص): إن الصدقة لا تنبغي
لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس) هو بيان لعلة التحريم (وفي رواية) أي لمسلم عن
عبد المطلب (وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد رواه مسلم) فأفاد أن لفظ لا ينبغي
أراد به لا تحل فيفيد التحريم أيضا وليس لعبد المطلب المذكور في الكتب الستة غير هذا
الحديث. وهو دليل على تحريم الزكاة على محمد (ص). فأما عليه
(ص) فإنه إجماع، وكذا ادعى الاجماع على حرمتها على آله: أبو طالب وابن قدامة
، ونقل الجواز عن أبي حنيفة، وقيل: إن منعوا خمس الخمس. والتحريم هو الذي دلت عليه
الأحاديث، ومن قال بخلافها قال متأولا لها، وإنما يجب التأويل إذا قام على الحاجة إليه
ذليل، والتعليل بأنها أوساخ الناس قاض بتحريم الصدقة الواجبة عليها لا النافلة لأنها هي التي
يطهر بها من يخرجها كما قال تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * إلا أن
الآية نزلت في صدقة النفل كما هو معروف في كتب التفسير. وقد ذهبت طائفة إلى تحريم
صدقة النفل أيضا على الآل واخترناه في حواشي ضوء النهار لعموم الأدلة. وفيه أنه صلى الله
عليه وسلم كرم آله عن أن يكونوا محلا للغسالة، وشرفهم عنها، وهذه العلة المنصوصة
147

، وقد ورد التعليل عند أبي نعيم مرفوعا بأن لهم في خمس الخمس ما يكفيهم ويغنيهم، فهما علتان
منصوصتان ولا يلزم من منعهم عن الخمس أن تحل لهم فإن من منع الانسان عن ماله
وحقه لا يكون منعه له محللا ما حرم عليه، وقد بسطنا القول في رسالة مستقلة. وفي المراد بالآل
خلاف والأقرب ما فسرهم به الراوي، زيد بن أرقم بأنهم: آل علي وآل العباس وآل
جعفر وآل عقيل انتهى. قلت: ويزيد آل الحارث بن عبد المطلب لهذا الحديث. فهذا
تفسير الراوي وهو مقدم على تفسير غيره فالرجوع إليه تفسير آل محمد هنا هو الظاهر
لان لفظ الآل مشترك وتفسير راويه دليل على المراد من معانيه فهؤلاء الذين فسرهم به
زيد بن أرقم وهو في صحيح مسلم وإنما تفسيرهم هنا ببني هاشم اللازم منه دخول من أسلم من
أولاد أبي لهب ونحوهم فهو تفسير بخلاف تفسير الراوي وكذلك يدخل في تحريم
الزكاة عليهم بنو المطلب بن عبد مناف كما يدخلون معهم في قسمة الخمس كما يفيد
الحديث بعده، وهو قوله:
(وعن جبير) بضم الجيم وفتح الباء الموحدة وسكون الياء التحتية (ابن مطعم)
بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين المهملة، بن نوفل بن عبد مناف القرشي أسلم قبل
الفتح ونزل المدينة ومات بها سنة أربع وخمسين وقيل غير ذلك (قال: مشيت أنا وعثمان
بن عفان إلى النبي (ص) فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس
خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو المطلب
وبنو هاشم) المراد ببني هاشم آل علي آل جعفر وآل عقيل وآل العباس وآل الحارث
ولم يدخل آل أبي لهب في ذلك لأنه لم يسلم منهم في عصره (ص) أحد، وقيل
بل أسلم منهم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب وثبتا معه (ص) في خيبر (شئ واحد
رواه البخار). الحديث دليل على أن بني المطلب يشاركون بني هاشم في سهم ذوي القربى
وتحريم الزكاة أيضا دون من عداهم وإن كانوا في النسب سواء وعلله صلى الله عليه وسلم
باستمرارهم على الموالاة كما في لفظ آخر تعليله بأنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام
فصاروا كالشئ الواحد في الاحكام وهو دليل واضح في ذلك وذهب إليه الشافعي. وخالفه
الجمهور وقالوا: إنه (ص) أعطاهم على جهة التفضل لا الاستحقاق وهو
خلاف الظاهر بل قوله شئ واحد دليل على أنهم يشاركونهم في استحقاق الخمس وتحريم
الزكاة واعلم أن بني المطلب هم أولاد المطلب بن عبد مناف. وجبير بن مطعم من أولاد
نوفل بن عبد مناف، وعثمان من أولاد عبد شمس بن عبد مناف، فبنو المطلب وبنو عبد شمس
وبنو نوفل أولاد عم في درجة واحدة، فلذا قال عثمان وجبير بن مطعم للنبي صلى الله عليه
وسلم: إنهم وبني المطلب بمنزلة واحدة لان الكل أبناء عم.
(وعن أبي رافع رضي الله عنه) هو أبو رافع مولى رسول الله (ص)، قيل: اسمه
إبراهيم، وقيل: هرمز وقيل: كان للعباس فوهبه لرسول الله (ص) بإسلامه، فلما أسلم
العباس بشر أبو رافع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، مات في خلافة على
148

كما قاله ابن عبد البر (أن النبي (ص) بعث رجلا على الصدقة) أي على قبضها
(من بنى مخزوم) اسمه الأرقم (فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها فقال: لا حتى آتي
النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله فأتاه فسأله فقال: مولى القوم من أنفسهم
وإنها لا تحل لنا الصدقة رواه أحمد والثلاثة وابن خزيمة وابن حبان) الحديث دليل على
أن حكم مولى آل محمد (ص) حكمهم في تحريم الصدقة. قال ابن عبد البر
في التمهيد: لأنه لا خلاف بين المسلمين في عدم حل الصدقة للنبي (ص) ولبني
هاشم ولمواليهم اه‍. وذهبت جماعة إلى عدم تحريمها عليهم لعدم المشاركة في النسب، ولأنه
ليس لهم في الخمس سهم. وأجيب بأن النص لا تقدم عليه هذه العلل فهي مردودة فإنها
ترفع النص، قال ابن عبد البر: هذا خلاف الثابت من النص ثم هذا نص على تحريم
العمالة على الموالي وبالأولى على آل محمد (ص) لأنه أراد الرجل الذي عرض
على أبي رافع أن يوليه على بعض عمله الذي ولاه النبي (ص) فينال عمالة لا أنه
أراد أن يعطيه من أجرته فإنه جائز لأبي رافع أخذه إذ هو داخل تحت الخمسة الذين تحل
لهم لأنه قد ملك ذلك الرجل أجرته فيعطيه من ملكه فهو حلال لأبي رافع فهو نظير قوله
فيما سلف ورجل تصدق عليه منها فأهدى منها.
(وعن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم عن أبيه أن رسول الله (ص) كان
يعطي عمر العطاء فيقول أعطه أفقر مني فيقول: خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك
من هذا المال وأنت غير مشرف) بالشين المعجمة والراء والفاء من الاشراف وهو
التعرض للشئ والحرص عليه (ولا سائل، فخده وما لا فلا تتبعه نفسك) أي
لا تعلقها بطلبه (رواه مسلم) الحديث أفاد أن العامل ينبغي له أن يأخذ العمالة ولا يردها
فإن الحديث في العمالة كما صرح به في رواية مسلم. والأكثر على أن الامر في قوله فخذه
للندب وقيل: للوجوب. قيل: وهو مندوب في كل عطية يعطاها الانسان فإنه يندب له
قبولها بالشرطين المذكورين في الحديث. هذا إذا كان المال الذي يعطيه منه حلالا. وأما عطية
السلطان الجائر وغيره ممن ماله حلال وحرام فقال ابن المنذر: إن أخذها جائز مرخص فيه،
قال: وحجة ذلك أنه تعالى قال في اليهود: * (سماعون للكذب أكالون للسحت) * وقد رهن (ص)
درعه من يهودي مع علمه بذلك وكذا أخذ الجزية منهم مع علمه بذلك. وإن كثيرا
من أموالهم من ثمن الخنزير والمعاملات الباطلة انتهى. وفي الجامع الكافي: إن عطية السلطان
الجائر لا ترد لأنه إن علم أن ذلك عين مال المسلم وجب قبولها وتسليمه إلى مالكه وإن كان
ملتبسا فهو مظلمة يصرفها على مستحقها وإن كان ذلك عين مال الجائر ففيه تقليل لباطله
وأخذ ما يستعين بإنفاقه على معصيته، وهو كلام حسن جار على قواعد الشريعة إلا أنه يشترط
في ذلك أن يأمن القابض على نفسه من محبة المحسن الذي جبلت النفوس على حب من أحسن
إليها، وأن لا يوهم الغير أن السلطان على الحق حيث قبض ما أعطاه. وقد بسطنا في حواشي
ضوء النهار في كتاب البيع ما هو أوسع من هذا.
149

كتاب الصيام
الصيام لغة: الامساك وفي الشرع: إمساك مخصوص وهذا الامساك عن الأكل والشرب
والجماع وغيرها مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع ويتبع ذاك الامساك عن
اللغو والرفث وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه، لورود الأحاديث بالنهي عنها في الصوم زيادة
على غيره، في وقت مخصوص بشروط مخصوصة تفصلها الأحاديث الآتية. وكان مبدأ فرضه
في السنة الثانية من الهجرة.
(عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): لا تقدموا
رمضان) فيه دليل على اطلاق هذا اللفظ على شهر رمضان، وحديث أبي هريرة عند أحمد
وغيره مرفوعا لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله ولكن قولوا جاء شهر
رمضان حديث ضعيف لا يقاوم ما ثبت في الصحيح (بصوم يوم ولا يومين إلا
رجل) كذا في نسخ بلوغ المرام ولفظه في البخاري إلا أن يكون رجل قال المصنف
: يكون تامة أي يوجد رجل وفظ مسلم إلا رجلا قلت: وهو قياس العربية لأنه
استثناء متصل من مذكور (كان يصوم صوما فليصمه متفق عليه). الحديث
دليل على تحريم صوم يوم أو يومين قبل رمضان، قال الترمذي بعد رواية الحديث: والعمل على
هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل الصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان انتهى.
وقوله: لمعنى رمضان تقييد للنهي بأنه مشروط بكون الصوم احتياطا، لا لو كان الصوم صوما مطلقا
كالنفل المطلق والنذر ونحوه. قلت: ولا يخفى أنه يعد هذا التقييد يلزم منه جواز تقدم رمضان
بأي صوم كان وهو خلاف طاهر النهي فإنه عام لم يستثن منه إلا صوم من اعتاد
صوم أيام معلومة ووافق ذلك آخر يوم من شعبان، ولو أراد صلى الله عليه وسلم الصوم المقيد
بما ذكر لقال: إلا متنفلا أو نحو هذا اللفظ. وإنما نهى عن تقديم رمضان لان الشارع قد
علق الدخول في صوم رمضان برؤية هلاله، فالمتقدم عليه مخالف للنص أمرا ونهيا. وفيه إبطال
لما يفعله الباطنية من تقدم الصوم بيوم أو يومين قبل رؤية هلال رمضان، وزعمهم أن اللام في قوله
صوموا لرؤيته: في معنى مستقبلين لها، وذلك لان الحدث يفيد أن اللام لا يصح حملها
عن هذا المعنى، وإن وردت له في موضع. وذهب بعض العلماء إلى أن النهي عن الصوم من
بعد النصف الأول من يوم سادس عشر من شعبان لحديث أي هريرة مرفوعا إذا انتصف شعبان
فلا تصوموا أخرجه أصحاب السنن وغيرهم. وقيل: إنه يكره بعد الانتصاف ويحرم قبل رمضان
بيوم أو يومين. وقال آخرون: يجوز من بعد انتصافه ويحرم قبله بيوم أو يومين. أما جواز
الأول فلانه الأصل وحديث أبي هريرة ضعيف، قال أحمد وابن معين: إنه منكر. وأما تحريم
الثاني فلحديث الكتاب وهو قول حسن.
وعن عمار بن ياسر رضي (وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: من صام اليوم الذي يشك) مغير الصيغة
مسند إلى (فيه فقد عصى أبا القاسم (ص). ذكره البخاري تعليقا ووصله) إلى عمار، وزاد المصنف
150

في الفتح: الحاكم وأنهم وصلوه من طريق عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عنه ولفظه عندهم كنا
عند عمار بن ياسر فأتي بشاة مصلية فقال: كلوا فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم
فقال عمار: من صام.. الخ (الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان) قال وابن عبد البر:
هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك انتهى. وهو موقوف لفظا مرفوع حكما، ومعناه مستفاد
من أحاديث النهي عن استقبال رمضان بصوم، وأحاديث الامر بالصوم لرؤيته.
والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه وإليه
ذهب الشافعي، واختلف الصحابة في ذلك، منهم من قال بجواز صومه، ومنعم من منع منه وعده عصيانا
لأبي القاسم، والأدلة مع المحرمين. وأما ما أخرجه الشافعي عن فاطمة بنت الحسين أن عليا عليه
السلام قال: لان أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان. فهو أثر
منقطع. على أنه ليس في يوم شك مجرد، بل بعد أن شهد عنده رجل على رؤية الهلال فصام
وأمر الناس بالصيام وقال: لان أصوم إلخ. ومما هو نص في الباب حديث ابن عباس فإن
حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا أخرجه أحمد وأصحاب
النبي وابن خزيمة وأبو يعلى، وأخرجه الطيالسي بلفظ ولا تستقبلوا رمضان بيوم من شعبان
وأخرجه الدارقطني وصححه ابن خزيمة في صحيحه، ولأبي داود من حديث عائشة كان رسول
الله (ص) يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره يصوم لرؤية الهلال أي
هلال رمضان فإن غم عليه عدد ثلاثين يوما ثم صام وأخرج أبو داود من حديث حذيفة
مرفوعا لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا
العدة وفي الباب أحاديث واسعة دالة على تحريم صوم يوم الشك من ذلك قوله:
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (ص) يقول:
إذا رأيتموه) أي الهلال (فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم) بضم الغين
المعجمة وتشديد الميم أي حال بينكم وبينه غيم (علكيم فاقدروا له متفق عليه)
. الحديث دليل على وجوب صوم رمضان لرؤية هلاله، وإفطار أول يوم من شوال لرؤية
الهلال. وظاهره اشتراط رؤية الجميع له من المخاطبين لكن قام الاجماع على عدم وجوب
ذلك بل المراد ما يثبت به الحكم الشرعي من إخبار الواحد العدل أن الاثنين على خلاف
في ذلك. فمعنى إذا رأيتموه أي إذا وجدت فيما بينكم الرؤية، فيدل هذا على أن رؤية بلد
رؤية لجميع أهل البلاد فيلزم الحكم. وقيل: لا يعتبر لان قوله إذا رأيتموه خطاب لأناس
مخصوصين به وفي المسألة أقوال ليس على أحدها دليل ناهض، والأقرب لزوم أهل بلد
الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها. وفي قوله: لرؤيته دليل على أن الواحد
إذا انفرد برؤية الهلال لزمه الصوم والافطار وهو قول أئمة الآل وأئمة المذاهب الأربعة
في الصوم، واختلفوا في الافطار فقال الشافعي: يفطر ويخفيه. وقال الأكثر: يستمر
صائما احتياطا، كذا قاله في الشرح. ولكنه تقدم له في أول باب صلاة العيدين أنه لم يقل
151

بأنه يترك يقين نفسه ويتابع حكم الناس إلا محمد بن الحسن الشيباني وأن الجمهور يقولون
إنه يتعين عليه حكم نفسه فيما يتيقنه فناقض هنا ما سلف. وسبب الخلاف: قول ابن عباس
لكريب إنه لا يعتقد برؤية الهلال وهو بالشام بل يوافق أهل المدينة فيصوم الحادي والثلاثين
باعتبار رؤية الشام لأنه يوم الثلاثين عند أهل المدينة. وقال: ابن عباس إن ذلك من السنة.
وتقدم الحديث وليس بنص فيما احتجوا به لاحتماله كما تقدم فالحاصل أن يعمل بيقين نفسه
صوما وإفطارا ويحسن التكتم بهما صونا للعباد عن إثمهم بإساءة الظن به (ولمسلم) أي عن
ابن عمر (فإن أغمي عليك فاقدروا له ثلاثين وللبخاري أي عن ابن عمر
(فأكملوا العدة ثلاثين). قوله فاقدروا له هو أمر همزته همزة وصل، وتكسر الدال وتضم
، وقيل: الضم خطأ، وفسر المراد به قوله فاقدروا له ثلاثين وأكملوا العدة ثلاثين، والمعنى
أفطروا يوم الثلاثين واحسبوا تمام الشهر وهذا أحسن تفاسيره وفيه تفاسير أخر نقلها الشارح
خارجة عن ظاهر المراد من الحديث. قال ابن بطال: في الحديث دفع لمراعاة المنجمين
وإنما المعول عليه رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف، وقد قال الباجي - في الرد على من قال
إنه يجوز للحاسب والمنجم وغيرهما الصوم والافطار اعتمادا على النجوم -: إن إجماع السلف
حجة عليهم، وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل قد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم
لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع. قال الشارح: قلت: والجواب الواضح عليهم ما أخرجه
البخاري عن ابن عمر أنه صلى (ص) قال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر
هكذا وهكذا. يعني تسعا وعشرين مرة وثلاثين مرة.
(وله) أي البخاري (في حديث أبو هريرة فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)
وهو تصريح بمفاد الامر بالصوم لرؤيته في رواية فإن غم فأكملوا العدة أي عدة شعبان
. وهذه الأحاديث نصوص في أنه لا صوم ولا إفطار إلا بالرؤية للهلال أو إكمال العدة.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي (ص)
أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود وصححه الحاكم ابن حبان)
الحديث دليل على العمل بخبر الواحد في الصوم دخولا فيه وهو مذهب طائفة من أئمة العلم
. ويشترط فيه العدالة. وذهب آخرون: إلى أنه لا بد من الاثنين لأنها شهادة، واستدلوا بخبر رواه
النسائي عن عبد الرحمن بن الخطاب أنه قال جالست أصحاب رسول الله (ص)
وسألتهم وحدثوني أن رسول الله (ص) قال: صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما إلا أن يشهد شاهدان
فدل بمفهومه أنه لا يكفي الواحد. وأجيب عنه بأنه مفهوم والمنطوق الذي أفاده حديث
ابن عمر وحديث الاعرابي الآتي أقوى منه، ويدل على قبول خبر الواحد فيقبل بخبر المرأة
والعبد. وأما الخروج منه فالظاهر أن الصوم والافطار في كفاية خبر الواحد. وأما
حديث ابن عباس وابن عمر أنه (ص) أجاز خبر واحد على هلال رمضان،
وكان لا يجيز شهادة الافطار إلا بشهادة رجلين فإنه ضعفه الدارقطني وقال: تفرد به حفص
بن عمر الأيلي وهو ضعيف. ويدل لقبول خبر الواحد في الصوم دخولا أيضا قوله:
152

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابيا جاء إلى النبي (ص)
فقال: إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد
أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا رواه
الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي إرساله. فيه دليل كالذي قبله على
قبول خبر الواحد في الصوم. ودلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة إذا لم يطلب (ص)
من الاعرابي إلا الشهادة. وفيه أن الامر في الهلال جار مجرى الاخبار لا الشهادة
وإنه يكفي في الايمان الاقرار بالشهادتين ولا يلزم التبري من سائر الأديان.
(وعن حفصة أمير أم المؤمنين رضي لله عنها أن النبي (ص) قال: من
لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له رواه الخمسة ومال الترمذي. والنسائي
إلى ترجيح وقفه) على حفصة (وصححه مرفوعا ابن خزيمة وابن حبان وللدارقطني)
أي عن حفصة (لا صيام لمن لم يفرضه من الليل) الحديث. اختلف الأئمة في رفعه
ووقفه، وقال أبو محمد بن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة. لان من رواه مرفوعا قد
رواه موقوفا، وقد أخرجه الطبراني من طريق أخرى وقال: رجالها ثقات. وهو يدل على
أنه لا يصح الصيام إلا بتبييت النية وهو أن ينوي الصيام في أي جزء من الليل، وأول وقتها
الغروب وذلك لأن الصوم عمل والأعمال بالنيات، وأجزاء النهار غير منفصلة من الليل
بفاصل يتحقق فلا يتحقق إلا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل. وتشترط النية لكل
يوم على انفراده وهذا مشهور من مذهب أحمد وله قول أنه إذا نوى من أول الشهر تجزئة،
وقوى هذا القول ابن عقيل بأنه (ص) قال: لكل امرئ ما نوى وهذا قد
نوى جميع الشهر، ولان رمضان بمنزلة العبادة الواحدة لان الفطر في لياليه عبادة أيضا
يستعان بها على صوم نهاره وأطال في الاستدلال على هذا بما يدل على قوته. والحديث عام
للفرض والنفل والقضاء والنذر معينا مطلقا وفيه خلاف وتفاصيل. واستدل من قال بعدم
وجوب التبييت بحديث البخاري أنه (ص) بعث رجلا ينادي في الناس يوم
عاشوراء أن من أكل فليتم أو فليصم ومن لم يأكل فلا يأكل قالوا: وقد كان واجبا
ثم نسخ وجوبه بصوم رمضان، ونسخ وجوبه لا يرفع سائر الأحكام فقيس عليه رمضان
وما في حكمه من النذر المعين والتطوع فخص عموم " فلا صيام له " بالقياس وبحديث
عائشة الآتي فإنه دل على أنه (ص) كان يصوم تطوعا من غير تبييت النية.
وأجيب بأن صوم عاشوراء غير مساو لصوم رمضان حتى يقاس عليه فإنه (ص)
ألزم الامساك لمن قد أكل ولمن لم يأكل فعلم أنه أمر خاص. ولأنه إنما أجزأ عاشوراء
بغير تبييت لتعذره فيقاس عليه ما سواه كمن نام حتى أصبح، على أن لا يلزم من تمام الامساك
ووجوبه، أنه صوم مجزئ وأما حديث عائشة وهو:
(وعن عائشة رضي الله عنه قالت، دخل على النبي (ص) ذات يوم
فقال: هل عندكم شئ؟ قلنا: لا، قال: فإني إذا صائم ثم أتانا يوما آخر
153

، فقلت: أهدي لنا حيس) بفتح الحاء المهملة فمثناة تحتية فسين مهملة هو التمر مع السمن
والأقط (قال: أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل. رواه مسلم). فالجواب عنه أنه
أعم من أن يكون بيت الصوم أولا فيحمل على التبييت لان المحتمل يرد إلى العام ونحوه على
أن في بعض روايات حديثها: إني أصبحت صائما. والحاصل أن الأصل عموم
حديث التبييت وعدم الفرق بين الفرض والنفل والقضاء والنذر ولم يقم ما يرفع هذين
الأصلين فتعين البقاء عليهما.
(وعن سهل بن سعد رضي الله عنه) هو أن العباس سهل بن سعد بن مالك أنصاري
خزرجي يقال كان اسمه حزنا فسماه رسول الله (ص) سهلا مات النبي
صلى الله عليه وسلم وله خمس عشرة سنة ومات سهل بالمدينة سنة إحدى وتسعين وقيل
ثمان وثمانين وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة (أن رسول الله (ص)
قال: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر متفق عليه) زاد أحمد وأخروا السحور
زاد أبو داود لان اليهود والنصارى يؤخرون الافطار إلى اشتباك النجوم قال في شرح
المصابيح: ثم صار في ملتنا شعارا لأهل البدعة وسمة لهم. والحديث دليل على استحباب
تعجيل الافطار إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بأخبار من يجوز العمل بقوله، وقد ذكر
العلة وهي مخالفة اليهود والنصارى، قال المهلب: والحكمة في ذلك أنه لا يزاد في النهار من
الليل ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة. قال الشافعي: تعجيل الافطار مستحب
ولا يكره تأخيره إلا لمن تعمده ورأي الفضل فيه. قلت: في إباحته (ص)
المواصلة إلى السحر كما في حديث أبي سعيد ما يدل على أنه لا كراهة إذا كان ذلك سياسة
للنفس ودفعا لشهوتها إلا أن قوله:
وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص)
قال: قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا. دال على أن تعجيل
الافطار أحب إلى الله تعالى من تأخيره، وأن إباحة المواصلة إلى السحر لا تكون أفضل من
تعجيل الافطار، أو يراد بعبادي الذي يفطرون ولا يواصلون إلى السحر وأما رسول الله
(ص) فإنه خارج عن عموم الحديث لتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه
ليس مثلهم كما يأتي فهو أحب الصائمين إلى الله تعالى وإن لم يكن أعجلهم فطرا لأنه قد
أذن له في الوصال ولو أياما متصلة كما يأتي:
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): تسحروا
فإن في السحور) بفتح المهملة اسم لما يتسحر به وروي بالضم على أنه مصدر (بركة.
متفق عليه) زاد أحمد من حديث أبي سعيد فلا تدعوه ولو أن يتجرع أحدكم جرعة من ماء
فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين. وظاهر الامر وجوب التسحر، ولكنه صرفه عنه
إلى الندب ما ثبت من مواصلته (ص) ومواصلة أصحابه، ويأتي الكلام في حكم
154

الوصال. ونقل ابن المنذر الاجماع على أن التسحر مندوب. والبركة المشار إليها فيه اتباع السنة
، ومخالفة أهل الكتاب لحديث مسلم مرفوعا فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة
السحر والتقوي به على العبادة، وزيادة النشاط والتسبيب للصدقة على من سأل وقت السحر
(وعن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه) قال ابن عبد البر في الاستيعاب
. إنه ليس من الصحابة ضبي غي سلمان بن عامر المذكور (عن رسول الله (ص)
قال: إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه
طهور رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم). والحديث قد روي من حديث
عمران بن حصين وفيه ضعف، ومن حديث أنس رواه الترمذي والحاكم وصححه، ورواه
أيضا الترمذي والنسائي وغيرهم من حديث أنس من فعله صلى الله عليه وسلم قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن
لم يكن حسا حسوات من الماء. وورد في عدد التمر أنها ثلاث، وفي الباب روايات في معنى
ما ذكرناه. ودل على أن الافطار بما ذكر هو السنة. قال ابن القيم: وهذا من كمال شفقته
(ص) على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشئ الحلو مع خلو المعدة أدعى
إلى قبوله، وانتفاع القوى به، لا سيما القوة الباصرة، فإنها تقوى به، وأما الماء فإن الكبد يحصل لها
بالصوم نوع يبس، فإن رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، هذا مع ما في التمر والماء من
الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله (ص) عن
الوصال) هو ترك الفطر بالنهار وفي ليالي رمضان بالقصد (فقال رجل من المسلمين) قال
المصنف: لم أقف على اسمه (فإنك تواصل يا رسول الله فقال: وأيكم مثلي؟ إني أبيت
يطعمني ربي ويسقيني فلما أبو أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوما ثم رأوا
الهلال فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. متفق عليه)
الحديث عند الشيخين من حديث أبي هريرة وابن عمر وعائشة وأنس وتفرد مسلم باخراجه
عن أبي سعيد. وهو دليل على تحريم الوصال لأنه الأصل في النهي وقد أبيح الوصال إلى
السحر لحديث أبي سعيد فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر. وفي حديث أبي سعيد
هذا: دليل على أن إمساك بعض الليل مواصلة. وهو يرد على من قال: إن الليل ليس محلا
للصوم فلا ينعقد بنيته. وفي الحديث دلالة على أن الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم
، وقد اختلف في حق غيره، فقيل: بالتحريم مطلقا، وقيل: محرم في حق من يشق عليه، ويباح
لمن لا يشق عليه، الأول رأى الأكثر للنهي وأصله التحريم. واستدل من قال: إنه لا يحرم
، بأنه (ص) واصل بهم، ولو كان النهي للتحريم لما أقرهم عليه فهو قرينة
أنه للكراهة رحمة لهم وتخفيفا عنها، ولأنه أخرج أبو داود عن رجل من الصحابة: نهى
155

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه. إسناده
صحيح، وإبقاء متعلق بقوله نهى. وروى البزار والطبراني في الأوسط من حديث سمرة نهى
النبي (ص) عن الوصال وليس بالعزيمة ويدل له أيضا مواصلة الصحابة،
فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن ابن الزبير كان يواصل خمسة عشر يوما وذكر ذلك
عن جماعة غيره فلو فهموا التحريم لما فعلوه، ويدل للجواز أيضا ما أخرجه ابن السكن مرفوعا
إن الله لم يكتب الصيام بالليل فمن شاء فليتبعني ولا أجر له. قالوا: والتعليل بأنه من
فعل النصارى لا يقتضي التحريم. واعتذر الجمهور عن مواصلته (ص) بالصحابة
بأن ذلك كان تقريعا لهم وتنكيلا بهم. واحتمل جواز ذلك لأجل مصلحة النهي في تأكيد
زجرهم لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي، وكان ذلك أدعى إلى قبوله، لما يترتب عليه
من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه، وأرجح من وظائف العبادات، والأقرب من الأقوال
هو التفصيل. وقوله (ص): وأيكم مثلي؟ استفهام إنكار وتوبيخ أي أيكم على
صفتي ومنزلتي من ربي. واختلف في قوله: يطعمني ويسقيني فقيل: هو على حقيقته، كان يطعم
ويسقى من عند الله، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا. وأجيب عنه: بأنه ما كان
من طعام الجنة على جهة التكريم، فإنه لا ينافي التكليف، ولا يكون له حكم طعام الدنيا. وقال
ابن القيم: المراد ما يغذيه الله من معارفه وما يفيضه على قلبه من لذة مناجاته، وقرة عينه
بقربه، وتنعمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال، التي هي غذاء القلوب، وتنعيم الأرواح، وقرة
العين، وبهجة النفوس، وللقلب والروح بها أعظم وأجود غذاء وأنفعه، وقد يقوي هذا الغذاء
حتى يغني عن غذاء الأجسام بره ة من الزمان، كما قيل
: لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء له ومن حديثك في أعقابها حادي
ومن له أدنى معرفة أو تشوق، يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح، عن كثير من الغذاء
الحيواني، ولا سيما المسرور الفرحان، الظافر بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه والرضا
عنه. وساق هذا المعنى واختار هذا الوجه في الاطعام والاسقاء. وأما الوصال إلى السحر فقد
أذن (ص) فيه كما في حديث البخاري عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر. وأما حديث عمر
في الصحيحين مرفوعا: إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد
أفطر الصائم فإنه لا ينافي الوصال، لان المراد بأفطر دخل في وقت الافطار، لا أنه صار مفطرا
حقيقة، كما قيل لأنه لو صار مفطرا حقيقة لما ورد الحث على تعجيل الافطار، ولا النهي
عن الوصال، ولا استقام الاذن بالوصال إلى السحر.
(وعنه) أي أبي هريرة (رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): من
لم يدع قول الزور) أي الكذب (والعمل به، والجهل) أي السفه (فليس لله
حاجة) أي إرادة (في أن يدع شرابه وطعامه رواه البخاري وأبو داود واللفظ له)
156

الحديث دليل على تحريم الكذب والعمل به وتحريم السفه على الصائم، وهما محرمان على غير
الصائم أيضا، إلا أن التحريم في حقه آكد، كتأكد تحريم الزنا من الشيخ، والخيلاء من الفقير
. والمراد من قوله: فليس لله حاجة أي إرادة بيان عظم ارتكاب ما ذكر، وأن صيامه كلا صيام
، ولا معنى لاعتبار المفهوم هنا، فإن الله لا يحتاج إلى أحد، وهو الغني سبحانه، ذكره ابن بطال
، وقيل: هو كناية عن عدم القبول، كما يقول المغضب لمن رد شيئا عليه: لا حاجة لي في كذا، وقيل
: إن معناه أن ثواب الصيام لا يقاوم في حكم الموازنة ما يستحق من العقاب لما ذكر. هذا وقد
ورد في الحديث الآخر فإن شاتمه أحد أو سابه فليقل: إني صائم فلا تشتم مبتدئا ولا مجاوبا.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يقبل
وهو صائم ويباشر) المباشرة الملامسة وقد ترد بمعنى الوطئ في الفرج وليس بمراد هنا
(وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه) بكسر الهمزة وسكون الراء فموحدة وهو
حاجة النفس ووطرها وقال المصنف في التلخيص: معناه لعضوه (متفق عليه واللفظ
لمسلم وزاد) أي مسلم (في رواية: في رمضان). قال العلماء: معنى الحديث أنه ينبغي لكم
الاحتراز من القبلة، ولا تتوهموا أنكم مثل رسول الله (ص) في استباحتها، لأنه
يملك نفسه، ويأمن من وقوع القبلة أن يتولد عنها إنزال أو شهوة، أو هيجان نفس، أو نحو ذلك
، وأنتم لا تأمنون ذلك، فطريقكم كف النفس على ذلك. وأخرج النسائي من طريق الأسود
قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه وظاهر هذا: أنها اعتقدت أن ذلك خاص
به صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي: وهو اجتهاد منها. وقيل: الظاهر أنها ترى كراهة القبلة
لغيره (ص) كراهة تنزيه لا تحريم كما يدل له قولها: أملككم لإربه. وفي كتاب
الصيام لأبي يوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة: سئلت عائشة عن المباشرة للصائم
فكرهتها. وظاهر حديث الباب جواز القبلة والمباشرة للصائم لدليل التأسي به صلى الله عليه
وسلم ولأنها ذكرت عائشة الحديث جوابا عمن سأل عن القبلة وهو صائم، وجوابها قاض بالإباحة
مستدلة بما كان يفعله (ص)، وفي المسألة أقوال: الأول: للمالكية أنه مكروه
مطلقا. الثاني: أنه محرم مستدلين بقوله تعالى: * (فالآن باشروهن) * فإنه منع المباشرة في النهار
، وأجيب بأن المراد بها في الآية الجماع، وقد بين ذلك فعله (ص) كما أفاده
حديث الباب، وقال قوم: إنها تحرم القبلة وقالوا: إن من قبل بطل صومه. الثالث: أنه
مباح، وبالغ بعض الظاهرية فقال: إنه مستحب. الرابع: التفصيل. فقال: يكره للشاب ويباح
للشيخ، ويروى عن ابن عباس ودليله ما أخرجه أبو داود: أنه أتاه (ص) رجل
فسأله عن المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فسأله فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ والذي
نهاه شاب. الخامس: إن مالك نفسه جاز له وإلا فلا، وهو مروي عن الشافعي واستدل
له بحديث عمر بن أبي سلمة: لما سأل النبي (ص) فأخبرته أمه أم سلمة أنه (ص)
يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر
157

فقال: إني أخشاكم لله فدل على أنه لا فرق بين الشاب والشيخ وإلا لبينه (ص)
لعمر، لا سيما وعمر كان في ابتداء تكليفه. وقد ظهر مما عرفت أن الإباحة أقوى الأقوال
. ويدل لذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمر بن الخطاب قال: هششت يوما
فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي (ص) فقلت: صنعت اليوم أمرا عظيما، فقبلت
وأنا صائم فقال رسول الله (ص): أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟
قلت: لا بأس بذلك، فقال رسول الله (ص): ففيم. انتهى. قوله: هششت بفتح
الهاء وكسر الشين المعجمة بعدها شين معجمة ساكنة معناه ارتحت وخففت. واختلفوا
أيضا فيما إذا قبل أو نظر أو باشر فأنزل أو أمذى: فعن الشافعي وغيره: أنه يقضي إذا أنزل
في غير النظر ولا قضاء في الامذاء. وقال مالك: يقضي في كل ذلك ويكفر إلا في الامذاء
فيقضي فقط. وثمة خلافات أخر الأظهر أنه لا قضاء ولا كفارة إلا على من جامع، وإلحاق
غير المجامع به بعيد.
تنبيه: قوله وهو صائم: لا يدل أنه قبلها وهي صائمة، وقد أخرج ابن حبان في صحيحه
عن عائشة: كان يقبل بعض نسائه في الفريضة والتطوع. ثم ساق بإسناده أن النبي (ص)
كان لا يمس وجهها وهي صائمة وقال: ليس بين الخبرين تضاد لأنه كان
يملك إربه ونبه بفعله ذلك على جواز هذا الفعل لمن هو بمثابة حاله وترك استعماله إذا كانت
المرأة صائمة علما منه بما ركب في النساء من الضعف عند الأشياء التي ترد عليهن انتهى.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو
محرم واحتجم وهو صائم رواه البخاري. قيل: ظاهره أنه وقع منه الأمران المذكوران
مفترقين وأنه احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم ولكنه لم يقع ذلك في وقت واحد لأنه
لم يكن صائما في إحرامه، إذا أراد إحرامه وهو في حجة الوداع إذ ليس في رمضان ولا كان
محرما في سفره في رمضان عام الفتح ولا في شئ من عمره التي اعتمرها، وإن احتمل أنه صام
نفلا إلا أنه لم يعرف ذلك. وفي الحديث روايات. وقال أحمد: إن أصحاب ابن عباس
لا يذكرون صياما، وقال أبو حاتم: أخطأ فيه شريك إنما هو احتجم وأعطى الحجام أجرته
، وشريك حدث به من حفظه وقد ساء حفظه فعلى هذا الثابت إنما هو الحجامة. والحديث
يحتمل أنه إخبار عن كل جملة على حدة وأن المراد احتجم وهو محرم في وقت، واحتجم
وهو صائم في وقت آخر، والقرينة على هذا معرفة أنه لم يتفق له اجتماع الاحرام والصيام
وأما تغليط شريك وانتقاده على ذلك اللفظ فأمر بعيد والحمل على صحة لفظ روايته مع تأويلها
أولى. وقد اختلف فيمن احتجم وهو صائم فذهب إلى أنها لا تفطر الصائم: الأكثر من
الأئمة. وقالوا: إن هذا ناسخ لحديث شداد بن أوس وهو:
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي (ص) أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم
في رمضان فقال: أفطر الحاجم والمحجوم رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه أحمد
وابن خزيمة وابن حبان. الحديث قد صححه البخاري وغيره وأخرجه الأئمة عن ستة عشر من
158

الصحابة، وقال السيوطي في الجامع الصغير: إنه متواتر. وهو دليل على أن الحجامة تفطر
الصائم من حاجم ومحجوم له، وقد ذهبت طائفة قليلة إلى ذلك منهم أحمد بن حنبل
وأتباعه لحديث شداد. وذهب آخرون إلى أنه يفطر المحجوم له وأما الحاجم فإنه لا يفطر
عملا بالحديث هذا في الطرف الأول فلا أدري ما الذي أوجب العمل ببعضه دون بعض
. وأما الجمهور القائلون أنه لا يفطر حاجم ولا محجوم له: فأجابوا عن حديث شداد هذا أنه منسوخ
لان حديث ابن عباس متأخر لأنه صحب النبي (ص) عام حجه وهو سنة
عشر وشداد صحبه عام الفتح، كذا حكي عن الشافعي قال: وتوقي الحجامة احتياطا أحب
إلي. ويؤيد النسخ ما يأتي في حديث أنس في قصة جعفر بن أبي طالب. وقد أخرج الحازمي
من حديث أبي سعيد مثله. قال أبو محمد بن حزم: إن حديث أفطر الحاجم والمحجوم
ثابت بلا ريب لكن وجدنا في حديث أنه (ص) نهى عن الحجامة للصائم
وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح. وقد أخرج ابن أبي شيبة ما يؤيد
ذلك من حديث - أبي سعيد أنه (ص) رخص في الحجامة للصائم والرخصة إنما تكون
بعد العزيمة فدل على النسخ سواء كان حاجما أو محجوما. وقيل: إنه يدل على الكراهة ويدل
لها حديث أنس الآتي، وقيل إنما قاله صلى الله عليه وسلم في خاص، وهو أنه مر بهما
وهما يغتابان الناس رواه الوحاظي عن يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث الصنعاني أنه قال
: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم له، لأنهما كانا يغتابان الناس
. وقال ابن خزيمة في هذا التأويل: إنه أعجوبة، لان القائل به لا يقول إن الغيبة تفطر الصائم.
وقال أحمد: ومن سلم من الغيبة؟ تلو كان الغيبة تفطر ما كان لنا صوم. وقد وجه الشافعي
هذا القول، وحمل الشافعي الافطار بالغيبة على سقوط أجر الصوم مثل قوله صلى الله
عليه وسلم للمتكلم والخطيب يخطب: لا جمعة له ولم يأمره بالإعادة فدل على أنه أراد
سقوط الاجر وحينئذ فلا وجه لجعله أعجوبة كما قال ابن خزيمة. وقال البغوي: المراد
بإفطارهما تعرضهما للافطار أما الحاجم فلانه لا يأمن وصول شئ من الدم إلى جوفه عند
المص وأما المحجوم فلانه لا يأمن ضعف قوته بخروج الدم فيؤول إلى الافطار. قال
ابن تيمية في رد هذا التأويل: إن قوله صلى الله عليه وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم له نص
في حصول الفطر لهما فلا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما والنبي صلى الله عليه وسلم مخبر عنهما
بالفطر لا سيما وقد أطلق هذا القول إطلاقا من غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره غير
مراد فلو جاز أن يريد مقاربة الفطر دون حقيقته لكان ذلك تلبيسا لا تبيينا للحكم انتهى.
قلت: ولا ريب في أن هذا هو الذي دل عليه قوله:
(وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن
جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي (ص) فقال: أفطر هذان
ثم رخص النبي (ص) بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم،
159

رواه الدارقطني وقواه. قال: إن رجاله ثقات ولا تعلم له علة، وتقدم أنه من أدلة
النسخ لحديث شداد.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) اكتحل في رمضان
وهو صائم رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف وقال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شئ
. ثم قال: واختلف أهل العلم في الكحل للصائم فكرهه بعضهم وهو قول سفيان وابن المبارك
وأحمد وإسحاق. ورخص بعض أهل العلم في الكحل للصائم وهو قول الشافعي انتهى. وخالف
ابن شبرمة وابن أبي ليلى فقالا: إنه يفطر لقوله (ص) الفطر مما دخل وليس
مما خرج وإذا وجد طعمه فقد دخل وأجيب عنه: بأنا لا نسلم كونه داخلا لأن العين ليست
بمنفذ وإنما يصل من المسام فإن الانسان قد يدلك قدميه بالحنظل فيجد طعمه في فيه
ولا يفطر وحديث الفطر مما دخل علقه البخاري عن ابن عباس ووصله عنه ابن
أبي شيبة. وأما ما أخرجه أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم قال في الإثمد: ليتقه الصائم فقال
أبو داود: قال لي يحيى بن معين: هو منكر.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): من
نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) وفي
رواية الترمذي فإنما هو رزق ساقه الله إليه (متفق عليه وللحاكم) أي من حديث
أبي هريرة (من أفطر في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة وهو صحيح)
وورد في لفظ من أفطر يعم الجماع وإنما خص الأكل والشرب لكونهما الغالب في النسيان
كما قاله ابن دقيق العيد. والحديث دليل على أن من أكل أو شرب أو جامع ناسيا لصومه فإنه
لا يفطره ذلك لدلالة قوله: فليتم صومه على أنه صائم حقيقة وهذا قول الجمهور وزيد بن علي
والباقر وأحمد بن عيسى والامام يحيى. والفريقين. وذهب غيرهم إلى أنه يفطر قالوا: لان الامساك
عن المفطرات ركن الصوم فحكمه حكم من نسي ركنا من الصلاة فإنه تجب عليه الإعادة
وإن كان ناسيا وتأولوا قوله: فليتم صومه بأن المراد فليتم إمساكه عن المفطرات. وأجيب بأن
قوله: فلا قضاء عليه ولا كفارة صريح في صحة صومه وعدم قضائه له. أخرج الدارقطني
اسقاط القضاء في رواية أبي رافع وسعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار كلهم
عن أبي هريرة وأفتى به جماعة من الصحابة منهم علي عليه السلام وزيد بن ثابت وأبو هريرة
وابن عمر كما قاله: ابن المنذر وابن حزم. وفي سقوط القضاء أحاديث يشد بعضها بعضا ويتم
الاحتجاج بها. وأما القياس على الصلاة فهو قياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص، على
أنه منازع في الأصل. وقد أخرج أحمد عن مولاة لبعض الصحابيات: أنها كانت عند النبي
(ص) فأتي بقصعة من ثريد فأكلت منها ثم تذكرت أنها صائمة فقال لها
ذو اليدين: الآن بعد ما شبعت. فقال النبي (ص): أتمي صومك فإنما
هو رزق ساقه الله إليك وروى عبد الرزاق: أن إنسانا جاء إلى أبي هريرة فقال له: أصبحت
160

صائما وطعمت فقال: لا بأس، قال: ثم دخلت على انسان فنسيت فطعمت قال أبو هريرة
أنت انسان لم تتعود الصيام.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
من ذرعه القئ) بالذال المعجمة والراء والعين المهملتين أي سبقه وغلبه في الخروج
(فلا قضاء عليه، ومن استقاء) أي طلب القئ باختياره (فعليه القضاء رواه
الخمسة وأعله أحمد) بأنه غلط (وقواه الدارقطني) وقال البخاري: لا أراه محفوظا وقد روى
من غير وجه ولا يصح إسناده، وأنكره أحمد وقال: ليس من ذا بشئ، قال الخطابي: يريد
أنه غير محفوظ، وقد قال الحاكم: صحيح على شرطهما. والحديث دليل على أنه لا يفطر بالقئ الغالب
لقوله: فلا قضاء عليه إذ عدم القضاء فرع الصحة. وعلى أنه يفطر من طلب القئ واستجلبه،
وظاهره وإن لم يخرج له قئ لامره بالقضاء. ونقل ابن المنذر الاجماع على أن تعمد القئ يفطر
. قلت: ولكنه روي عن ابن عباس ومالك وربيعة والهادي أن القئ لا يفطر مطلقا إلا
إذا رجع منه شئ فإنه يفطر، وحجتهم ما أخرجه الترمذي والبيهقي بإسناد ضعيف ثلاث
لا يفطرن: القئ والحجامة والاحتلام ويجاب عنه بحمله على من ذرعه القئ جمعا بين الأدلة
وحملا للعام في الخاص وعلى أن العام غير صحيح والخاص أرجح منه سندا فالعمل به أولى
وإن عارضته البراءة الأصلية.
(وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) خرج
عام الفتح إلى مكة في رمضان) سنة ثمان من الهجرة قال ابن إسحاق وغيره: إنه
خرج يوم العاشر منه (فصام حتى بلغ كراع الغميم) بضم الكاف فراء آخره مهملة،
والغميم بمعجمة مفتوحة وهو واد أمام عسفان (فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء
فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب) ليعلم الناس بإفطار بإفطاره (فقيل له بعد ذلك:
إن بعض الناس قد صام فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة وفي لفظ: فقيل له إن الناس قد شق
عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب. رواه مسلم)
. الحديث دليل على أن المسافر له أن يصوم وله أن يفطر وأن له الافطار وإن صام أكثر النهار
: وخالف في الطرف الأول داود والامامية فقالوا: لا يجزئ الصوم لقوله تعالى: * (فعدة من أيام أخر) *
وبقوله: أولئك العصاة قوله: ليس من البر الصيام في السفر. وخالفهم الجماهير فقالوا:
يجزئه صومه لفعله (ص) والآية لا دليل فها على عدم الاجزاء وقوله: أولئك
العصاة إنما هو لمخالفتهم لامره بالافطار وقد تعين عليهم. وفيه أنه ليس في الحديث أنه
أمرهم، وإنما يتم على أن فعله يقتضي الوجوب. وأما حديث ليس من البر فإنما قاله (ص)
: فيمن شق عليه الصيام نعم يتم الاستدلال بتحريم الصوم في السفر على من شق
عليه فإنه إنما أفطر (ص) لقولهم إنهم قد شق عليهم الصيام والذين صاموا
بعد ذلك وصفهم بأنهم عصاة. وأما جواز الافطار إن صام أكثر النهار فذهب أيضا إلى
161

جوازه الجماهير وعلق الشافعي القول به على صحة الحديث، وهذا إذا نوى الصيام في السفر
فأما إذا دخل فيه وهو مقيم ثم سافر في أثناء يومه. فذهب الجمهور إلى أنه ليس له الافطار،
وأجازه أحمد وإسحاق وغيرهم والظاهر معهم لأنه مسافر. وأما الأفضل فذهبت الهادوية
وأبو حنفية والشافعي إلى أن الصوم أفضل للمسافر حيث لا مشقة عليه ولا ضرر فإن تضرر
فالفطر أفضل. وقال أحمد وإسحاق وآخرون: الفطر أفضل مطلقا بالأحاديث التي
احتج بها من قال لا يجزئ الصوم. قالوا: وتلك الأحاديث وإن دلت على المنع لكن حديث
حمزة بن عمرو الآتي وقوله: ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وأفاد بنفيه الجناح، أنه
لا بأس به لا أنه محرم ولا أفضل. واحتج من قال بأن الصوم الأفضل أنه كان غالب فعله
(ص) في أسفاره، ولا يخفى أنه لا بد من الدليل على الأكثرية وتأولوا أحاديث
المنع بأنه لمن يشق عليه الصوم. وقال آخرون: الصوم والافطار سواء لتعادل الأحاديث
في ذلك وهو ظاهر حديث أنس سافرنا مع رسول الله (ص) فلم يعب الصائم على
المفطر ولا المفطر على الصائم وظاهره التسوية.
(وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه) هو أبو صالح أو محمد، حمزة بالحاء المهملة وزاي
يعد في أهل الحجاز. روى عنه ابنه محمد وعائشة مات سنة إحدى وستين وله ثمانون سنة
(أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل على جناح؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم
فلا جناح عليه رواه مسلم وأصله في المتفق عليه من حديث عائشة أن حمزة بن عمرو
سأل) وفي لفظ مسلم إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟ قال: صم إن شئت وأفطر
إن شئت ففي هذا اللفظ دلالة على أنهما سواء وتقدم الكلام في ذلك. وقد استدل بالحديث
من يرى أنه لا يكره صوم الدهر وذلك أنه أخبر أنه يسرد الصوم فأقره ولم ينكر عليه وهو
في السفر ففي الحضر بالأولى وذلك إذا كان يضعف به عن واجب ولا يفوت بسبه عليه
حق وبشرط فطره العيدين والتشريق. وأما إنكاره (ص) على ابن عمرو صوم
الدهر فلا يعارض هذا إلا أنه علم (ص) أنه سيضعف عنه وهكذا كان فإنه ضعف
آخر عمره وكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله (ص) وكان (ص)
يحب العمل الدائم وإن قل ويحثهم عليه.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم
عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه رواه الدارقطني والحاكم وصححاه. اعلم أنه اختلف
الناس في قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * والمشهور أنها منسوخة، وأنه
كان أول فرض الصيام أن من شاء أطعم مسكينا وأفطر ومن شاء صام. ثم نسخت بقوله
تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * وقيل بقوله: * (وقال قوم: هي
غير منسوخة منهم ابن عباس كما هنا وروي عنه أنه كان يقرؤها (وعلى الذين يطوقونه)
أي يكلفونه ويقول: ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الهرمة وهذا هو الذي أخرجه
162

عنه من ذكره المصنف. وفي سنن الدارقطني عن ابن عباس، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
مسكين واحد فمن تطوع خيرا - قال: زاد مسكينا آخر - فهو خير له قال: وليست منسوخة
إلا أنه رخص للشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام إسناده صحيح ثابت، وفيه أيضا
لا يرخص في هذا إلا للكبير الذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يشفى - قال: وهذا صحيح -
. وعين في رواية قدر الاطعام وإنه نصف صاع من حنطة. وأخرج أيضا عن ابن عباس
وابن عمر في الحامل والمرضع: أنهما يفطران ولا قضاء. وأخرج مثله عن جماعة من الصحابة
وإنهما يطعمان كل يوم مسكينا. وأخرج عن أنس بن مالك أنه ضعف عاما عن الصوم
فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأشبعهم وفي المسألة خلاف بين السلف.
فالجمهور أن الاطعام لازم في حق من لم يطق الصيام لكبر، منسوخ في غيره. وقال جماعة من
السلف: الاطعام منسوخ وليس على الكبير إذا لم يطق الصيام إطعام. وقال مالك:
يستحب له الاطعام. وقيل غير ذلك والأظهر ما قاله ابن عباس. والمراد بالشيخ: العاجز
عن الصوم. ثم الظاهر أن حديثه موقوف ويحتمل أن المراد رخص النبي (ص)
فغير الصيغة للعلم بذلك فإن الترخيص إنما يكون توقيفا ويحتمل أنه فهمه ابن عباس من
الآية وهو الأقرب.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل) هو سلمة أو سلمان
بن صخر البياضي (إلى النبي (ص) فقال: هلكت يا رسول الله قال: ما
أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال: هل تجد ما تعتق رقبة)
بالنصب بدل من ما (قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟
قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟) الجمهور أن لكل مسكين مد
من طعام ربع صاع (قال: لا. قال: ثم جلس فأتي) بضم الهمزة مغير الصيغة (النبي (ص)
بعرق) بفتح العين المهملة والراء ثم قاف (فيه تمر) ورد في رواية في غير الصحيحين
فيه خمسة عشر صاعا وفي أخرى عشرون (فقال: تصدق بهذا قال: أعلى أفقر
منا؟ فما بين لابتيها) تثنية لابة وهي الحرة ويقال فيها لوبة ونوبة بالنون وهي غير
مهموزة (أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت
أنيابه ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك رواه السبعة واللفظ لمسلم). الحديث دليل
على وجوب الكفار على من جامع في نهار رمضان عامدا، وذكر النووي أنه إجماع، معسرا
كان أو موسرا فالمعسر تثبت في ذمته على أحد قولين للشافعية ثانيهما لا تستقر في ذمته
لأنه (ص) لم يبين له أنها باقية عليه. واختلف في الرقبة فإنها هنا مطلقة
فالجمهور: قيدوها بالمؤمنة حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل، قالوا: لان كلام الله
163

في حكم الخطاب الواحد فيترتب فيه المطلق على المقيد. وقالت الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد
مطلقا فتجزئ الرقبة الكافرة. وقيل: يفصل في ذلك وهو أنه يقيد المطلق إذا اقتضى القياس التقييد فيكون
تقييدا بالقياس كالتخصيص بالقياس وهو مذهب الجمهور، والعلة الجامعة هنا هو أن جميع ذلك كفارة
عن ذنب مكفر للخطيئة والمسألة مبسوطة في الأصول. ثم الحديث ظاهر في أن الكفارة
مرتبة كما ذكر في الحديث فلا يجزئ العدول إلى الثاني مع إمكان الأول، ولا إلى الثالث مع
إمكان الثاني لوقوعه مرتبا في رواية الصحيحين، وروى الزهري الترتيب عن ثلاثين نفسا أو أكثر
. ورواية التخيير مرجوحة مع ثبوت الترتيب في الصحيحين، ويؤيد رواية الترتيب أنه الواقع
في كفارة الظهار وهذه الكفارة شبيهة بها. قوله: ستين مسكينا ظاهر مفهومه أنه لا يجزئ
إلا إطعام هذا العدد فلا يجزئ أقل من ذلك. وقال الحنفية: يجزئ الصرف في واحد ففي
القدوري من كتبهم فإن أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه عندنا وإن أعطاه في يوم
واحد لم يجزه إلا عن يومه. وقوله: اذهب فأطعمه أهلك فيه قولان للعلماء: أحدهما
: أن هذه كفارة ومن قاعدة الكفارات أن لا تصرف في النفس لكنه (ص) خصه
بذلك، ورد بأن الأصل عدم الخصوصية، الثاني: أن الكفارة ساقطة عنه لإعساره ويدل له
حديث علي رضي الله عنه: كله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك إلا أنه حديث ضعيف، أو أنها
باقية في ذمته والذي أعطاه (ص) صدقة عليه وعلى أهله لما عرفه (ص)
من حاجتهم. وقالت الهادوية وجماعة: إن الكفارة غير واجبة أصلا لا على موسر
ولا معسر قالوا: لأنه أباح له أن يأكل منها ولو كانت واجبة لما جاز ذلك وهو استدلال
غير ناهض لان المراد ظاهر في الوجوب وإباحة الأكل لا تدل على أنها كفارة بل فيها
الاحتمالات التي سلفت. واستدل المهدي في البحر على عدم وجوب الكفار بأنه (ص)
قال للمجامع: استغفر الله وصم يوما مكانه ولم يذكرها وأجيب عنه بأنه قد
ثبت رواية الامر بها عند السبعة بهذا الحديث المذكور هنا. واعلم أنه (ص)
لم يأمره في هذه الرواية بقضاء اليوم الذي جامع فيه إلا أنه ورد في رواية أخرجها أبو داود من
حديث أبي هريرة بلفظ كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله. وإلى وجوب القضاء
ذهبت الهادوية والشافعي لعموم قوله تعالى: * (فعدة من أيام أخر) * وفي قول الشافعي أنه
لا قضاء لأنه (ص) لم يأمره إلا بالكفارة لا غير. وأجيب: بأنه اتكل (ص)
على ما علم من الآية. هذا حكم ما يجب على الرجل. وأما المرأة التي جامعها فقد
استدل بهذا الحديث أنه لا يلزم إلا كفارة واحدة وأنها لا تجب على الزوجة وهو الأصح من
قولي الشافعي وبه قال الأوزاعي. وذهب الجمهور إلى وجوبها على المرأة أيضا قالوا:
وإنما لم يذكرها النبي (ص) مع الزوج لأنها لم تعترف واعتراف الزوج لا يوجب
عليها الحكم، أو لاحتمال أن المرأة لم تكن صائمة بأن تكون طاهرة من الحيض بعد طلوع الفجر
164

، أو أن بيان الحكم في حق الرجل يثبت الحكم في المرأة أيضا لما علم من تعميم الاحكام،
أو أنه عرف فقرها كما ظهر من حال زوجها.
واعلم أن هذا حديث جليل كثير الفوائد قال المصنف في فتح الباري: إنه قد اعتنى
بعض المتأخرين ممن أدرك شيوخنا بهذا الحديث فتكلم عليه فمجلدين جمع فيهما ألف فائدة
وفائدة انتهى وما ذكرناه فيه كفاية لما فيه من الاحكام وقد طول الشارح فيه ناقلا
من فتح الباري.
(وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن النبي (ص) كان يصبح
جنبا من جماع ثم يغتسل ويصوم متفق عليه، وزاد مسلم في حديث أم سلمة ولا يقضي
. فيه دليل على صحة صوم من أصبح أي دخل في الصباح وهو جنب من جماع وإلى هذا
ذهب الجمهور. وقال النووي: إنه إجماع. وقد عارضه ما أخرجه أحمد وابن حبان من
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص) إذا نودي للصلاة صلاة
الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومه وأجاب الجمهور بأنه منسوخ وأن أبا هريرة رجع عنه
لما روي له حديث عائشة وأم سلمة وأفتى بقولهما. ويدل للنسخ ما أخرجه مسلم وابن حبان
وابن خزيمة عن عائشة أن رجلا جاء إلى النبي (ص) يستفتيه وهي تسمع من وراء
حجاب فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة أي صلاة الصبح وأنا جنب فقال النبي
(ص): وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم. قال: لست مثلنا يا رسول الله
قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله
وأعلمكم بما أتقي وقد ذهب إلى النسخ ابن المنذر والخطابي وغيرهما. وهذا الحديث يدفع
قول من قال إن ذلك كان خاصا به (ص). ورد البخاري حديث أبي هريرة
بأن حديث عائشة أقوى سندا حتى قال ابن عبد البر: إنه صح وتواتر. وأما حديث
أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتي به ورواية الرفع أقل ومع التعارض يرجح لقوة الطريق.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) قال: من مات
وعليه صيام صام عنه وليه متفق عليه. فيه دليل على أنه يجزئ الميت صيام وليه
عنه إذا ما مات وعليه صوم واجب. والاخبار في معنى الامر أي ليصم عنه وليه والأصل فيه
الوجوب إلا أنه قد ادعى الاجماع على أنه للندب. والمراد في الولي: كل قريب، وقيل
: الوارث خاصة، وقيل: عصبته، وفي المسألة خلاف: فقال أصحاب الحديث وأبو ثور وجماعة
: إنه يجزئ صوم الولي عن الميت لهذا الحديث الصحيح. وذهبت جماعة من الآل ومالك
وأبو حنيفة: أنه لا صيام عن الميت وإنما الواجب الكفارة، لما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر
مرفوعا من مات وعليه صيام أطعم عنه مكان كل يوم مسكين إلا أنه قال بعد اخراجه:
غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والصحيح أنه موقوف على ابن عمر. قالوا: ولأنه ورد
عن ابن عباس وعائشة الفتيا بالاطعام، ولأنه الموافق لسائر العبادات فإنه لا يقوم بها مكلف
عن مكلف، والحج مخصوص. وأجيب بأن الآثار المروية عن فتيا عائشة وابن عباس لا تقاوم
165

الحديث الصحيح. وأما قيام مكلف بعبادة عن غيره فقد ثبت في الحج بالنص الثابت فيثبت
في الصوم به فلا عذر عن العمل به. واعتذر المالكية عنه بعدم عمل أهل المدينة به مبني
على أن تركهم العمل بالحديث حجة وليس كذلك كما عرف في الأصول، وكذلك اعتذار
الحنفية بأن الراوي أفتى بخلاف ما روى عذر غير مقبول إذ العبرة بما روى لا بما رأى كما
عرف فيها أيضا. ثم اختلف القائلون بإجزاء الصيام عن الميت هل يختص ذلك بالولي أو لا
، فقيل: لا يختص بالولي بل لو صام عنه الأجنبي بأمره أجزأ كما في الحج وإنما ذكر الولي في
الحديث للغالب، وقيل: يصح أن يستقل به الأجنبي بغير أمر لأنه قد شبهه (ص)
بالدين حيث قال: فدين الله أحق أن يقضى فكما أن الدين لا يختص بقضائه
القريب فالصوم مثله وللقريب أن يستنيب.
باب صوم التطوع
وما نهي عن صومه
عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله (ص) سئل
عن صوم يوم عرفة فقال: يكفر السنة الماضية والباقية وسئل عن صوم
يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية وسئل عن صوم يوم الاثنين فقال: ذلك
يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه، أو أنزل علي فيه رواه مسلم. قد استشكل تكفير
ما لم يقع وهو ذنب السنة الآتية، وأجيب بأن المراد أنه يوفق فيها لعدم الاتيان بذنب، وسماه
تكفيرا لمناسبة الماضية أو أنه إن أوقع فيها ذنبا وفق للاتيان بما يكفره. وأما صوم يوم
عاشوراء وهو العاشر من شهر المحرم عند الجماهير فإنه قد كان واجبا قبل فرض رمضان ثم صار
بعده مستحبا: وأفاد الحديث أن صوم يوم عرفة أفضل من صوم يوم عاشوراء، وعلل (ص)
شرعية صوم يوم الاثنين بأنه ولد فيه وبعث فيه أو أنزل عليه فيه وكأنه شك من
الراوي وقد اتفق أنه (ص) ولد فيه وبعث فيه. وفيه دلالة على أنه ينبغي
تعظيم اليوم الذي أحدث الله فيه على عبده نعمة، بصومه والتقرب فيه. وقد ورد في حديث
أسامة تعليل صومه (ص) يوم الاثنين والخميس: بأنه يوم تعرض فيه الأعمال
وأنه يحب أن يعرض عمله وهو صائم. ولا منافاة بين التعليلين.
(وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال:
من صام رمضان ثم اتبعه ستا) هكذا ورد مؤنثا مع أن مميزه أيام وهي مذكر لان
اسم العدد إذا لم يذكر مميزه جاز فيه الوجهان كم صرح النحاة (من شوال كان
166

كصيام الدهر رواه مسلم). فيه دليل على استحباب صوم ستة أيام من شوال وهو مذهب
جماعة من الآل وأحمد والشافعي. وقال مالك: يكره صومها قال: لأنه ما رأى أحدا من
أهل العلم يصومها ولئلا يظن وجوبها. الجواب أنه بعد ثبوت النص بذلك لا حكم لهذه
التعليلات وما أحسن ما قاله ابن عبد البر: إنه لم يبلغ مالكا هذا الحديث يعني حديث
مسلم. واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية ومن صامها عقيب العيد
أو في أثناء الشهر. وفي سنن الترمذي عن ابن المبارك أنه اختار أن يكون ستة أيام من أول
شوال، وقد روى عن ابن المبارك أنه قال: من صام ستة أيام من شوال متفرقا فهو جائز.
قلت: ولا دليل على اختيار كونها من أول شوال إذ من أتى بها في شوال في أي أيامه صدق
عليه أنه اتبع رمضان ستا من شوال. وإنما شبهها بصيام الدهر لان الحسنة بعشر أمثالها
فرمضان بعشرة أشهر وست من شوال بشهرين. وليس في الحديث دليل على مشروعية صيام
الدهر ويأتي بيانه في آخر الباب.
واعلم أنه قال التقي السبكي: إنه قد طعن في هذا الحديث من لا فهم له مغترا بقول الترمذي
إنه حسن يريد في رواية سعد بن سعيد الأنصاري أخي يحيى بن سعيد. قلت: ووجه
الاغترار أن الترمذي لم يصفه بالصحة بل بالحسن وكأنه في نسخة. الذي رأيناه في سنن
الترمذي بعد سياقه للحديث ما لفظه: قال أبو عيسى: حديث أبي أيوب حديث حسن
صحيح ثم قال: وسعد بن سعيد هو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري وقد تكلم بعض أهل
الحديث في سعد بن سعيد بن من قبل حفظه انتهى. قلت: قال ابن دحية: إنه قال أحمد بن حنبل
: سعد بن سعيد ضعيف الحديث وقال النسائي: ليس بالقوى وقال أبو حاتم: لا يجوز
الاشتغال بحديث سعد بن سعيد انتهى. ثم قال ابن السبكي: وقد اعتنى شيخنا أبو محمد الدمياطي
بجمع طرقه فأسنده عن بضعة وعشرين رجلا رووه عن سعد بن سعيد وأكثرهم حفاظ ثقات
منهم السفيانان، وتابع سعدا على روايته أخوه يحيى وعبد ربه وصفوان بن سليم وغيرهم
ورواه أيضا عن النبي (ص) ثوبان وأبو هريرة وجابر وابن عباس والبراء بن عازب
وعائشة ولفظ ثوبان من صام رمضان فشهره بعشره ومن صام ستة أيام بعد الفطر
فذلك صيام السنة رواه أحمد والنسائي.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص)
: ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله) هو إذا أطلق يراد به الجهاد (إلا باعد الله
بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفا متفق عليه واللفظ لمسلم). فيه دلالة على
فضيلة الصوم في الجهاد ما لم يضعف بسبه عن قتال عدوه وكأن فضيلة ذلك لأنه جمع
بين جهاد نفسه في طعامه وشرابه وشهوته، وكنى بقوله: باعد الله بينه وبين
النار سبعين خريفا عن سلامته من عذابها.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يصوم
حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله (ص)
167

استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان متفق
عليه واللفظ لمسلم. فيه دليل على أن صومه صلى الله عليه وسلم لم يكن مختصا بشهر دون
شهر وأنه كان (ص) يسرد الصيام أحيانا ويسرد الفطر أحيانا ولعل كان
يفعل ما يقتضيه الحال من تجرده عن الاشغال، فيتابع الصوم ومن عكس ذلك فيتابع
الافطار. ودليل على أنه يخص شعبان بالصوم أكثر من غيره وقد نبهت عائشة على علة
ذلك فأخرج الطبراني عنها: أنه (ص) كان يصوم ثلاثة أيام في كل شهر
فربما أخذلك فيجتمع صوم السنة فيصوم شعبان وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف. وقيل:
كان يصوم ذلك تعظيما لرمضان كما أخرجه الترمذي من حديث أنس وغيره: أنه سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل؟ فقال: شعبان تعظيما لرمضان قال الترمذي: فيه
صدقة بن موسى وهو عندهم ليس بالقوي. وقيل: كان يصومه لأنه شهر يغفل عنه الناس
بين رجب ورمضان، كما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد
قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم في شهر في الشهور ما تصوم في شعبان قال: ذلك
شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين
فأحب أن يرفع فيه عملي وأنا صائم، قلت: ويحتمل أنه كان يصومه لهذه الحكم كلها
. وقد عورض حديث: أن صوم شعبان أفضل الصوم بعد رمضان بما أخرجه مسلم من
حديث أبي هريرة مرفوعا أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم وأورد عليه أنه لو كان
أفضل لحافظ على الاكثار من صيامه. وحديث عائشة يقتضي أنه كان أكثر صيامه
في شعبان، فأجيب بأن تفضيل صوم المحرم بالنظر إلى الأشهر الحرم وفضل شعبان مطلقا
وأما عدم إكثاره لصوم المحرم فقال النووي: لأنه إنما علم ذلك آخر عمره.
(وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله (ص) أن نصوم
من الشهر ثلاثة أيام: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة رواه النسائي
والترمذي وصححه ابن حبان. الحديث ورد مطرق عديدة من حديث أبي هريرة بلفظ
فإن كنت صائما فصم الغر: أي البيض أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان. وفي بعض
ألفاظه عند النسائي: فإن كنت صائما فصم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة
وأخرج أصحاب السنن من حديث قتادة بن ملحان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. وقال: هي كهيئة الدهر
وأخرج النسائي من حديث جرير مرفوعا صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر ثلاث
الأيام البيض الحديث وإسناده صحيح. ووردت أحاديث في صيام ثلاثة أيام من كل شهر
مطلقة ومبينة بغير الثلاثة. وأخرج أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود
: أن النبي (ص) كان يصوم عدة ثلاثة أيام من كل شهر. وأخرجه مسلم من
حديث عائشة كان رسول الله (ص) يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي
في أي الشهر صام. وأما المبينة بغير الثلاث فهي ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث
168

حفصة كان رسول الله (ص) يصوم في كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس
والاثنين من الجمعة الأخرى ولا معارضة هذه الأحاديث فإنها كلها دالة على ندبية
صوم كل ما ورد، وكل من الرواة حكى ما اطلع عليه إلا أن ما أمر به وحث عليه ووصى
به أولى وأفضل. وأما فعله صلى الله عليه وسلم فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك
، وقد عين الشارع أيام البيض وللعلماء في تعيين الثلاثة الأيام التي يندب صومها من كل
شهر أقوال عشرة سردها في الشرح.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: لا يحل
للمرأة) أي المزوجة بدليل قوله (أن تصوم وزوجها شاهد) أي حاضر (إلا
بإذنه متفق عليه واللفظ للبخاري زاد أبو داود غير رمضان). فيه دليل على أن الوفاء
بحق الزوج أولى من التطوع بالصوم، وأما رمضان فإنه يجب عليها وإن كره الزوج، ويقاس
عليه القضاء فلو صامت النفل بغير إذنه كانت فاعلة لمحرم.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله (ص)
نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر متفق عليه. فيه دليل على تحريم صوم
هذين اليومين، لان أصل النهي التحريم وإليه ذهب الجمهور فلو نذر صومهما لم ينعقد
نذره في الأظهر لأنه نذر بمعصية، وقيل: يصوم مكانهما عنهما.
(وعن نبيشة) بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية وشين معجمة
يقال له نبيشة الخير ابن عمرو وقيل: ابن عبد الله (الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد النحر، وقيل
يومان بعد النحر أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل رواه مسلم). وأخرجه
مسلم أيضا من حديث كعب بن مالك، وابن حبان من حديث أبي هريرة، والنسائي من حديث
بشر بن سحيم، وأصحاب السنن من حديث عقبة بن عامر، والبزار من حديث ابن عمر: أيام
التشريق أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومها أحد. وأخرج أبو داود من حديث عمر في
قصته: أنه (ص) كان يأمرهم بافطارها وينهاهم عن صيامها أي أيام التشريق
. وأخرج الدارقطني من حديث عبد الله بن حذافة السمي: أيام التشريق أيام أكل وشرب
وبعال البعال مواقعة النساء. والحديث وما سقناه في معناه دال على النهي عن الصوم أيام
التشريق وإنما اختلف هل هو نهي تحريم أو تنزيه فذهب إلى أنه للتحريم مطلقا جماعة
من السلف وغيرهم وإليه ذهب الشافعي في المشهور وهؤلاء قالوا: لا يصومها المتمتع ولا
غيره وجعلوه مخصصا لقوله تعالى: * (ثلاثة أيام في الحج) * لان الآية عامة فيما قبل يوم النحر
وما بعده والحديث خاص بأيام التشريق وأن كان فيه عموم بالنظر إلى الحج وغيره، فيرجع
خصوصها لكونه مقصودا بالدلالة على أنها ليست محلا للصوم، وأن ذاتها باعتبار ما هي
مؤهلة له كأنها منافية للصوم. وذهبت الهادوية: إلى أنه يصومها المتمتع الفاقد للهدي، كما
يفيده سياق الآية، ورواية ذلك عن علي عليه السلام قالوا: ولا يصومها القارن والمحصر إذا
169

فقد الهدي. وذهب آخرون: إلى أنه يصومها المتمتع ومن تعذر عليه الهدي المحصر
والقارن لعموم الآية ولما أفاده:
(وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: لم يرخص في أيام
التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي رواه البخاري. فإنه أفاد أن صوم أيام التشريق
جائز رخصة لمن لم يجد الهدي وكان متمتعا أو قارنا أو محصرا لاطلاق الحديث بناء على أن
فاعل يرخص هو رسول الله (ص) وأنه مرفوع وفي ذلك أقوال ثلاثة:
ثالثها أنه إن أضاف ذلك إلى عهده (ص) كان حجة وإلا فلا وقد ورد التصريح
بالفاعل في رواية للدار قطني والطحاوي إلا أنها بإسناد ضعيف لفظها رخص رسول الله
(ص) للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق إلا أنه خص المتمتع
فلا يكون حجة لأهل هذا القول وقد روي من فعل عائشة وأبي بكر وفتيا لعلي عليه السلام
. وذهب جماعة إلى أن النهي للتنزيه وأنه يجوز صومها لكل واحد وهو قول لا ينهض عليه دليل.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: لا تخصوا
ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام
من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم رواه مسلم
. الحديث دليل على تحريم تخصيص ليلة الجمعة بالعبادة، وتلاوة غير معتادة
إلا ما ورد به النص على ذلك كقراءة سورة الكهف فإنه ورد تخصيص ليلة الجمعة بقراءتها
وسور أخر وردت بها أحاديث فيها مقال. وقد دل هذا بعمومه على عدم مشروعية صلاة
الرغائب في أول ليلة الجمعة من رجب ولو ثبت حديثها لكان مخصصا لها من عموم النهي لكن
حديثها تكلم العلماء عليه وحكموا بأنه موضوع. ودل على تحريم النفل بصوم يومها منفردا
قال ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم الجمعة كما ثبت عن صوم العيد. وقال أبو جعفر
الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن الاجماع منعقد على تحريم صوم العيد ولو صام قبله
أو بعده. وذهب الجمهور إلى أن النهي عن إفراد الجمعة بالصوم للتنزيه مستدلين بحديث
ابن مسعود كان رسول الله (ص) يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وقلما كان
يفطر يوم الجمعة أخرجه الترمذي وحسنه فكان فعله (ص) قرينة على أن
النهي ليس للتحريم. وأجيب عنه بأنه يحتمل أنه كان يصوم يوما قبله أو بعده ومع الاحتمال
لا يتم الاستدلال. واختلف في وجه حكمة تحريم صومه على أقوال أظهرها أنه يوم عيد كما
روي من حديث أبي هريرة مرفوعا يوم الجمعة يوم عيدكم وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد
حسن عن علي رضي الله عنه قال: من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا
يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر وهذا أيضا من أدلة تحريم صومه ولا
يلزم أن يكون كالعيد من كل وجه فإنه تزول حرمة صومه بصيام يوم قبله ويوم بعده
كما يفيده قوله:
(وعنه أيضا رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده متفق
170

عليه. فإنه دال على زوال تحريم صومه لحكمة لا نعلمها فلو أفرده بالصوم وجب فطره كما
يفيده ما أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود من حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل عليه في يوم جمعة وهي صائمة فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تصومين
غدا؟ قالت: لا قال: فأفطري والأصل في الامر الوجوب.
(وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (أنه رسول الله (ص) قال:
إذا انتصف شعبان فلا تصوموا رواه الخمسة واستنكره أحمد) وصححه ابن حبان وغيره
وإنما استنكره أحمد لأنه من رواية العلاء بن عبد الرحمن. قلت: وهو من رجال مسلم قال
المصنف في التقريب: إنه صدوق وربما وهم. والحديث دليل على النهي عن الصوم
في شعبان بعد انتصافه ولكنه مقيد بحديث إلا أن يوافق صوما معتادا كما تقدم واختلف
العلماء في ذلك. فذهب كثير من الشافعية إلى التحريم لهذا النهي: وقيل: إنه يكره إلا قبل
رمضان بيوم أو يومين فإنه محرم، وقيل: لا يكره، وقيل: إنه مندوب وأن الحديث مؤول
بمن يضعفه الصوم وكأنهم استدلوا بحديث أنه (ص) كان يصل شعبان
برمضان ولا يخفى أنه إذا تعارض القول والفعل كان القول مقدما.
(وعن الصماء) بالصاد المهملة (بنت بسر رضي الله عنها) بالموحدة مضمومة وسين مهملة
اسمها بهية بضم الموحدة وفتح الهاء وتشديد المثناة التحتية وقيل اسمها بهيمة بزيادة الميم هي
أخت عبد الله بن بسر روى عنها أخوها عبد الله (أن رسول الله (ص) قال:
لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء)
بفتح اللام فحاء مهملة ممدودة (عنب) بكسر المهملة وفتح النون فموحدة الفاكهة
المعروفة والمراد قشره (أو عود شجرة فليمضغها) أي يطعمها بها للفطر (رواه الخمسة
ورجاله ثقات إلا أنه مضطرب وقد أنكره مالك وقال أبو داود: هو منسوخ). أما
الاضطراب فلانه رواه عبد الله بن بسر عن أخته الصماء، وقيل عن عبد الله، وليس فيه ذكر
أخته، قيل: وليست هذه بعلة قادحة فإنه صحابي، وقيل: عن أبيه بسر، وقيل: عن الصماء
عن عائشة، قال النسائي: هذا حديث مضطرب، قال المصنف: يحتمل أن يكون عند
عبد الله عن أبيه وعن أخته بواسطة، وهذه طريقة صحيحة، وقد رجع عبد الحق
الطريق الأولى وتبع في ذلك الدارقطني لكن هذا التلون في الحديث الواحد بإسناد الواحد
مع اتحاد المخرج يوهي الرواية وينبئ بقلة الضبط إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين
بجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالا على قلة الضبط وليس الامر هنا كذلك بل
اختلف فيه على الراوي أيضا عن عبد الله بن بسر. وأما إنكار مالك له فإنه قال أبو داود
عن مالك إنه قال هذا كذب، أما قول أبي داود: إنه منسوخ، فلعله أراد أن ناسخه قوله:
(وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله (ص) أكثر ما كان
يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد. وكان يقول: إنهما يوما عيد للمشركين وأنا
أريد أن أخالفهم أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وهذا اللفظ له. فالنهي عن صومه
171

كان أول الأمر حيث كان (ص) يحب موافقة أهل الكتاب، ثم كان آخر آمره
(ص) مخالفتهم كما صرح به الحديث نفسه. وقيل بل النهي كان عن إفراده
بالصوم إلا أنه صام ما قبله أو ما بعده. وأخرج الترمذي من حديث عائشة قالت: كان
رسول الله (ص) يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر
الثلاثاء والأربعاء والخميس وحديث الكتاب دال على استحباب صوم السبت والأحد
مخالفة لأهل الكتاب، وظاهره صوم كل على الانفراد والاجتماع.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) نهى عن صوم
يوم عرفة بعرفة رواه الخمسة غير الترمذي وصححه ابن خزيمة والحاكم واستنكره العقيلي
. لان في إسناده مهديا الهجري ضعفه العقيلي وقال: لا يتابع عليه والراوي عنه مختلف فيه
، قلت: في الخلاصة إنه قال ابن معين: لا أعرفه، وأما الحاكم فصحح حديثه وأقره الذهبي
في مختصر المستدرك ولم يعده من الضعفاء في المعنى وأما الراوي عنه فإنه حوشب بن عبدل
قال المصنف في التقريب: إنه ثقة. والحديث ظاهر في تحريم صوم يوم عرفة بعرفة، وإليه
ذهب يحيى بن سعيد الأنصاري وقال: يجب إفطاره على الحاج، وقيل: لا بأس به إذا
لم يضعف عن الدعاء، ونقل عن الشافعي واختاره الخطابي، والجمهور على أنه يستحب إفطاره
. وأما هو (ص) فقد صح أنه كان يوم عرفة مفطرا في حجته ولكن لا يدل
تركه الصوم على تحريمه. نعم يدل أن الافطار هو الأفضل لأنه (ص) لا يفعل
إلا الأفضل إلا أنه قد يفعل المفضول لبيان الجواز فيكون في حقه أفضل لما فيه من التشريع
والتبليغ بالفعل، ولكن الأظهر التحريم لأنه أصل النهي.
(وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص)
: لا صام من صام الأبد متفق عليه. اختلف في معناه قال شارح المصابيح:
فسر هذا من وجهين أحدهما أنه على معنى الدعاء عليه زجرا له عن صنيعة، والآخر على
سبيل الاخبار، والمعنى أنه بمكابدة صورة الجوع وحر الظمأ لاعتياده الصوم حتى خف عليه
لم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلق به الثواب فكأنه لم يصم ولم تحصل له فضيلة
الصوم ويؤيد أنه للاخبار قوله:
(ولمسلم من حديث أبي قتادة بلفظ لا صام ولا أفطر. ويؤيده أيضا
حديث الترمذي عنه بلفظ لم يصم ولم يفطر قال ابن العربي: إن كان معناه الدعاء. فيا ويح من
أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه النبي (ص)
أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعا فكيف يكتب له ثواب. وقد اختلف العلماء في
صيام الأبد فقال بتحريمه طائفة وهو اختيار ابن خزيمة لهذا الحديث وما في معناه
. وذهب طائفة إلى جوازه وهو اختيار ابن المنذر وتأولوا أحاديث النهي عن صيام الدهر بأن
المراد من صامه مع الأيام المنهي عنها من العيدين وأيام التشريق وهو تأويل مردود بنهيه
(ص) لابن عمرو عن صوم الدهر وتعليله بأن لنفسه عليه حقا ولأهله حقا
172

ولضيفه حقا ولقوله: أما أنا فأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني. فالتحريم هو
الأوجه دليلا ومن أدلته ما أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة من حديث أبي موسى
مرفوعا من صام الدهر ضيقت عليه جهنم وعقد بيده. قال الجمهور: ويستحب صوم
الدهر لمن لا يضعفه عن حق وتأولوا أحاديث النهي تأويلا غير راجح، واستدلوا بأنه (ص)
شبه صوم ست من شوال مع رمضان وشبه صوم ثلاثة أيام من كل شهر بصوم
الدهر فلولا أن صاحبه يستحق الثواب لما شبه به. وأجيب: بأن ذلك على تقدير مشروعيته
فإنها تغني عنه كما أغنت الخمس الصلوات عن الخمسين التي قد كانت فرضت مع
أنه لو صلاها أحد لوجوبها لم يستحق ثوابا بل يستحق العقاب نعم أخرج ابن السني
من حديث أبي هريرة مرفوعا من صام الدهر فقد وهب نفسه من الله عز وجل إلا أنا لا ندري
ما صحته.
باب الاعتكاف وقيام رمضان
الاعتكاف لغة: لزوم الشئ وحبس النفس عليه، وشرعا: المقام في المسجد
من شخص مخصوص على صفة مخصوصة وقيام رمضان أي قيام لياليه مصليا أو تاليا. قال
النووي: قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح وهو إشارة إلى أنه لا يشترط استغراق كل
الليل بصلاة النافلة فيه ويأتي ما في كلام النووي.
(عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: من قام
رمضان إيمانا) أي تصديقا بوعد الله للثواب (واحتسابا) منصوب على أنه مفعول لأجله
، كالذي عطف عليه أي طلبا لوجه الله وثوابه، والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العدد
، وإنما قيل فيمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه لأنه له حينئذ أن يعتد عمله، فجعل في حال مباشرة
الفعل كأنه معتد به قاله في النهاية (غفر له ما تقدم من ذنبه متفق عليه) يحتمل
أنه يريد قيام جميع لياليه وأن من قام بعضها لا يحصل له ما ذكره من المغفرة، وهو الظاهر،
وإطلاق الذنب شامل للكبائر والصغائر. وقال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه
جزم إمام الحرمين، ونسبه عياض لأهل السنة، وهو مبني على أنها لا تغفر الكبائر إلا بالتوبة
. وقد زاد النسائي في روايته ما تقدم وما تأخر وقد أخرجها أحمد، وأخرجت من طريق مالك
وتقدم معنى مغفرة الذنب المتأخر. والحديث دليل على فضيلة قيام رمضان، والذي يظهر أنه
يحصل بصلاة الوتر إحدى عشرة ركعة، كما كان (ص) يفعل في رمضان وغيره
كما سلف في حديث عائشة. وأما التراويح على ما اعتيد الآن فلم تقع في عصره (ص)
إنما كان ابتدعها عمر في خلافته وأمر أبيا أن يجمع بالناس واختلف في القدر الذي
173

كان يصلي به أبي فقيل كان يصلي بهم إحدى عشر ركعة وروي إحدى وعشرون
وروي عشرون ركعة وقيل ثلاث وعشرون وقيل غير ذلك وقد قدمنا تحقيق ذلك.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) إذا دخل
العشر أي العشر الأخيرة من رمضان) هذا التفسير مدرج من كلام الراوي (شدة
مئزره) أي اعتزل النساء (وأحيا ليله وأيقظ أهله. متفق عليه) وقيل في تفسير شد
مئزره: أنه كناية عن التشمير للعبادة، قيل: ويحتمل أن يكون المعنى أنه شد مئزره جمعه فلم
يحلله، واعتزل النساء وشمر للعبادة إلا أنه يبعده ما روي عن علي رضي الله عنه بلفظ: فشد مئزره
واعتزل النساء فإن العطف يقتضي المغايرة، وإيقاع الاحياء على الليل مجاز عقلي لكونه زمانا
للاحياء نفسه والمراد به السهر. وقوله: أيقظ أهله أي للصلاة والعبادة وإنما خص بذلك
(ص) آخر رمضان لقرب خروج وقت العبادة فيجتهد فيه لان خاتمة
العمل، والأعمال بخواتيمها.
(وعنها) أي عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف
العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من
بعده. متفق عليه). فيه دليل على أن الاعتكاف سنة واظب عليها رسول الله (ص)
وأزواجه من بعده. قال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أن
الاعتكاف مسنون. وأما المقصود منه فهو جمع القلب على الله تعالى بالخلوة مع خلو المعدة
والاقبال عليه تعالى والتنعم بذكره والاعراض عما عداه.
(وعنها) أي عائشة رضي الله عنها (قالت: كان النبي (ص) إذا
أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه. متفق عليه. في دليل على أن أول
الاعتكاف بعد صلاة الفجر، وهو ظاهر في ذلك، وقد خالف فيه من قال: إنه يدخل
المسجد قبل طلوع الفجر إذا كان معتكفا نهارا وقبل غروب الشمس إذا كان معتكفا ليلا
وأول الحديث بأنه كان يطلع الفجر وهو (ص) في المسجد، ومن بعد صلاته
الفجر يخلو بنفسه في المحل الذي أعده لاعتكافه. قلت: ولا يخفى بعده فإنها كانت عادته
(ص) أنه لا يخرج من منزله إلا عند الإقامة.
(وعنها) أي عائشة رضي الله عنها (قالت: إن كان رسول الله (ص)
ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا.
متفق عليه واللفظ للبخاري). في الحديث دليل على أنه لا يخرج المعتكف من المسجد بكل بدنه
، وأن خروج بعض بدنه لا يضر. وفيه أنه يشرع للمعتكف النظافة والحلق والتزين
. وعلى أن العمل اليسير من الأفعال الخاصة بالإنسان يجوز فعلها وهو في المسجد. وعلى جواز
استخدام الرجل لزوجته. وقوله: إلا لحاجة يدل على أنه لا يخرج المعتكف من المسجد
إلا للامر الضروري والحاجة فسرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفق على استثنائهما
174

واختلف في غيرهما من الحاجات، كالأكل والشرب، وألحق بالبول والغائط: جواز الخروج
للفصد والحجامة ونحوهما.
(وعنها) أي عائشة رضي الله عنها (قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا
ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له منه) مما سلف
ونحوه (ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. رواه أبو داود ولا بأس
برجاله إلا أن الراجح وقف آخره) من قولها ولا اعتكاف إلا بصوم وقال المصنف:
جزم الدارقطني أن القدر الذي من حديث عائشة قولها: لا يخرج إلا لحاجة وما عداه ممن دونها
انتهى من فتح الباري وهنا قال: إن آخره موقوف. وفيه دلالة على أنه لا يخرج المعتكف
لشئ مما عينته هذه الرواية وأنه أيضا لا يخرج لشهود الجمعة وأنه إن فعل أي ذلك
بطل اعتكافه وفي المسألة خلاف كبير ولكن الدليل قائم على ما ذكرناه. وأما اشتراط الصوم
ففيه خلاف أيضا وهذا الحديث الموقوف دال على اشتراطه وفيه أحاديث منها في نفي
شرطيته ومنها في إثباته والكل لا ينهض حجة إلا أن الاعتكاف عرف من فعله (ص)
ولم يعتكف إلا صائما. واعتكافه في العشر الأول من شوال الظاهر أنه صامها ولم
يعتكف إلا من ثاني شوال لان يوم العيد يوم شغله بالصلاة والخطبة والخروج إلى الجبانة
إلا أنه لا يقول بمجرد الفعل حجة على الشرطية. وأما اشتراط المسجد فالأكثر على شرطيته إلا
عن بعض العلماء، والمراد من كونه جامعا أن تقام فيه الصلوات وإلى هذا ذهب أحمد وأبو حنيفة
. وقال الجمهور: يجوز في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي الجامع وفيه
مثل ما في الصوم من أنه (ص) لم يعتكف إلا في مسجده وهو مسجد جامع،
ومن الأحاديث الدالة عل عدم شرطية الصيام قوله:
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) قال: ليس
على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه رواه الدارقطني والحاكم والراجح وقفه
أيضا. على ابن عباس، قال البيهقي: الصحيح أنه موقوف ورفعه وهم. قلت: وللاجتهاد
في هذا مسرح فلا يقوم دليلا على عدم الشرطية. وأما قوله: إلا أن يجعله على نفسه
فالمراد أن ينذر الصوم.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي (ص))
قال المصنف: لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء وقوله: (أروا) بضم الهمزة على البناء
للمجهول (ليلة القدر في المنام) أي قيل لهم في المنام هي في السبع الأواخر، فقال رسول
الله (ص): أرى بضم الهمزة أي ظن (رؤياكم قد تواطأت) أي توافقت
لفظا ومعنى (في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر
: متفق عليه) وأخرج مسلم من حديث ابن عمر مرفوعا التمسوها في العشر الأواخر فإن
ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي وأخرج أحمد: رأى رجل أن ليلة القدر
175

سبع وعشرين أو كذا وكذا قال النبي (ص): التمسوها في العشر البواقي في الوتر
منها وروى أحمد من حديث علي مرفوعا إن غلبتم فلا تغلبوا على السبع البواقي وجمع بين
الروايات بأن العشر للاحتياط منها وكذلك السبع والتسع لان ذلك هو المظنة وهو أقصى ما يظن
فيه الادراك. وفي الحديث دليل على عظم شأن الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الأمور
الوجودية بشرط أن لا تخالف القواعد الشرعية.
(وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال في ليلة
القدر: ليلة سبع وعشرين رواه أبو داود) مرفوعا (والراجح وقفه) على معاوية
وله حكم الرفع (وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولا، أوردتها في فتح الباري) ولا حاجة
إلى سردها لان منها ما ليس تعيينها كالقول بأنها رفعت، والقول بإنكارها من أصلها، فإن هذه
عدها المصنف من الأربعين وفيها أقوال أخر لا دليل عليها. وأظهر الأقوال أنها في السبع
الأواخر، وقال المصنف في فتح الباري بعد سرده الأقوال: وأرجحها كلها أنها في وتر
العشر الأواخر وأنها تنتقل، كما يفهم من حديث هذا الباب وأرجاها أوتار العشر عند الشافعية
إحدى وعشرون أو ثالث وعشرون على ما في حديثي أبي سعيد وعبد الله بن أنس وأرجاها
عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة
ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني
رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم. قيل: علاماتها أن المطلع عليها يرى
كل شئ ساجدا، وقيل: يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى المواضع المظلمة، وقيل
: يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة، وقيل علامتها استجابة دعاء من وقعت له. وقال
الطبري: ذلك غير لازم فإنها قد تحصل ولا يرى شيئا ولا يسمع. واختلف العلماء هل
يقع الثواب المترتب لمن اتفق أنه وافقها ولم يظهر له شئ أو يتوقف ذلك على كشفها؟ ذهب
إلى الأول الطبري وابن العربي وآخرون، وإلى الثاني ذهب الأكثرون ويدل له ما وقع عند
مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ من يقم ليلة القدر فيوافقها قال النووي: أي يعلم أنها
ليلة القدر ويحتمل أن يراد أن يوافقها في نفس الامر وإن لم يعلم هو ذلك ورجح هذا
المصنف قال: ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر وإن لم يوافق لها
وإنما الكلام في حصول الثواب المعين الموعود به وهو مغفرة ما تقدم من ذنبه.
(عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
لا تشد) بضم الدال المهملة على أنه نفي ويروى بسكونها على أنه نهي (الرحال) جمع
رجل وهو للبعير كالسرج للفرس وشده هنا كناية عن السفر أنه لازمه غالبا (إلا
إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام) أي المحرم (ومسجدي وهذا والمسجد الأقصى
176

متفق عليه) اعلم أن إدخال هذا الحديث في باب الاعتكاف لأنه قد قيل لا يصح الاعتكاف
إلا في الثلاثة المساجد ثم المراد بالنفي النهي مجازا كأنه قال: لا يستقيم شرعا أن يقصد بالزيارة
إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به من المزية التي شرفها الله تعالى بها. والمراد من
المسجد الحرام هو الحرم هو الحرم كله لما رواه أبو داود الطيالسي من طريق عطاء: أنه قيل له هذا
الفضل في المسجد الحرام وحده أم في الحرم؟ قال: بل في الحرم كله ولأنه لما أراد صلى الله
عليه وسلم التعيين للمسجد قال: مسجدي هذا. والمسجد الأقصى بيت المقدس سمي بذلك
لأنه لم يكن وراءه مسجد كما قاله الزمخشري. والحديث دليل على فضيلة المساجد هذه
ودل بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد غير الثلاثة كزيارة الصالحين أحياء وأمواتا
لقصد التقرب ولقصد المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها وقد ذهب إلى هذا
الشيخ أبو محمد الجويني وبه قال القاضي عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب
السنن من إنكار أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال: لو أدركتك
قبل أن تخرج ما خرجت، واستدل بهذا الحديث، ووافقه أبو هريرة. وذهب الجمهور إلى
أن ذلك غير محرم واستدلوا بما لا ينهض وتأولوا أحاديث الباب بتأويل بعيد ولا ينبغي
التأويل إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أولوه الدليل. وقد دل الحديث على فضل
المساجد الثلاثة وأن أفضلها المسجد الحرام لان التقديم ذكرا يدل على مزية المقدم ثم
مسجد المدينة ثم المسجد الأقصى. وقد دل لهذا أيضا ما أخرجه البزار وحسن إسناده من
حديث أبي الدرداء مرفوعا الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي
بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة وفي معناه أحاديث أخر. ثم
اختلفوا هل الصلاة في هذه المساجد تعم الفرض والنفل أو تخص الأول: قال الطحاوي
وغيره: إنها تخص بالفروض لقوله (ص): أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته
إلا المكتوبة ولا يخفى أن لفظ الصلاة المعرف بلام الجنس عام فيشمل النافلة إلا أن يقال
: إن لفظ الصلاة إذا أطلق لا يتبادر منه إلا الفريضة. فلا يشملها.
كتاب الحج
الحج بفتح الحاء المهملة وكسرها لغتان وهو ركن من أركان الاسلام الخمسة بالاتفاق
. وأول فرصه سنة ست عند الجمهور واختار ابن القيم في الهدي أنه فرض سنة تسع أو عشر
وفيه خلاف.
بيان فضله وبيان من فرض عليه
(عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: العمرة إلى العمرة
177

كفارة لما بينهما، والحج المبرور) قيل هو الذي لا يخالطه شئ من الاثم
ورجحه النووي، قيل: المقبول، وقيل: هو الذي تظهر ثمرته على صاحبه بأن يكون حاله
بعده خيرا من حاله قبله. وأخرج أحمد والحاكم من حديث جابر: قيل يا رسول الله ما بر
الحج قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام وفي إسناده ضعف ولو ثبت لتعين به التفسير
(ليس له جزاء إلا الجنة متفق عليه). العمرة لغة: الزيارة، وقيل: القصد. وفي الشرع
: إحرام وسعي وطواف وحلق أو تقصير، سميت بذلك لأنه يزار بها البيت ويقصد. وفي قوله
: العمرة إلى العمرة دليل على تكرار العمرة وأنه لا كراهة في ذلك ولا تحديد بوقت. وقالت
المالكية: يكره في السنة أكثر من عمرة واحدة واستدلوا له بأنه (ص) لم يفعلها
إلا من سنة إلى سنة وأفعاله (ص) تحمل عندهم على الوجوب أو الندب
. وأجيب عنه: بأنه علم من أحواله صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك الشئ وهو يستحب فعله
ليرفع المشقة عن الأمة وقد ندب إلى ذلك بالقول. وظاهر الحديث عموم الأوقات
في شرعيتها وإليه ذهب الجمهور. وقيل: إلا للمتلبس بالحج، وقيل: إلا أيام التشريق، وقيل
: ويوم عرفة وقيل: إلا أشهر الحج لغير المتمتع والقارن. والأظهر أنها مشروعة مطلقا، وفعله
(ص) لها في أشهر الحج ويرد قول من قال بكراهتها فيها، فإنه (ص)
لم يعتمر عمره الأربع إلا في أشهر الحج كما هو معلوم وإن كانت العمرة الرابعة في حجة،
فإنه (ص) حج قارنا كما تظاهرت عليه الأدلة وإليه ذهب الأئمة الأجلة.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟) هو
إخبار يراد به الاستفهام (قال: نعم عليهن جهاد ألا قتال فيه) كأنها قالت ما هو
، فقال: (الحج والعمرة) أطلق عليهما لفظ الجهاد مجازا شبههما بالجهاد وأطلقه عليهما
بجامع المشقة وقوله: لا قتال فيه إيضاح للمراد وبذكره خرج عن كونه استعارة والجواب
من الأسلوب الحكيم (رواه أحمد وابن ماجة واللفظ له) أي لابن ماجة (وإسناده صحيح
، وأصله في الصحيح) أي في صحيح البخاري وأفادت عبارته أنه إذا أطلق الصحيح المراد
به البخاري. وأراد بذلك ما أخرجه البخاري من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة
أم المؤمنين أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لا،
لكن أفضل الجهاد حج مبرور. وأفاد تقييد إطلاق رواية أحمد للحج، أفاد أن الحج والعمرة تقوم
مقام الجهاد في حق النساء، وأفاد أيضا بظاهره أن العمرة واجبة إلا أن الحديث الآتي بخلافه وهو:
(وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى النبي (ص) أعرابي) بفتح
الهمزة نسبة إلى الاعراب وهم سكان البادية الذين يطلبون مساقط الغيث والكلأ، سواء كانوا في
العرب أو من مواليهم، والعربي: من كان نسبه إلى العرب ثابتا، وجمعه أعراب ويجمع الاعرابي
على الأعراب والأعارب (فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة) أي عن حكمها كما أفاده
(أواجبة هي؟ قال: لا) أي لا تجب وهو من الاكتفاء (وأن تعتمر خير لك) أي
من تركها، والأخيرة في الاجر تدل على ندبها وأنها غير مستوية الطرفين حتى تكون من
178

المباح، والآتيان بهذه الجملة لدفع ما يتوهم أنها إذا لم تجب ترددت بين الإباحة والندب، بل
كان ظاهرا في الإباحة لأنها الأصل فأبان الذي سأله الاعرابي وأجاب عنه وهو مما للاجتهاد فيه مسرح (وأخرجه
ابن عدي من وجه آخر) وذلك أنه رواه من طريق أبي عصمة عن ابن المنكدر عن جابر
، وأبو عصمة كذبوه (ضعيف) لان في إسناده أبا عصمة، وفي إسناده عند أحمد والترمذي
أيضا الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف. وقد روى ابن عدي والبيهقي من حديث عطاء عن
جابر الحج والعمرة فريضتان وسيأتي بما فيه، القول بأن حديث جابر المذكور صححه
الترمذي مردود بما في الامام أن الترمذي لم يزد على قوله حسن في جميع الروايات عنه وأفرط
ابن حزم فقال إنه مكذوب باطل. وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة. ونقل الترمذي عن
الشافعي أنه قال: ليس في العمرة شئ ثابت أنها تطوع، وفي إيجابها أحاديث لا تقوم بها
الحجة كحديث عائشة الماضي وكالحديث:
(عن جابر رضي الله عنه مرفوعا الحج والعمرة فريضتان. ولو ثبت
لكان ناهضا على إيجاب العمرة إلا أن المصنف لم يذكر هنا من أخرجه ولا ما قيل فيه
. والذي في التلخيص أنه أخرجه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر
، وابن لهيعة ضعيف، قال ابن عدي: هو غير محفوظ عن عطاء، وأخرجه أيضا الدارقطني
من رواية زيد بن ثابت بزيادة لا يضرك بأيهما بدأت. وفي إحدى طريقيه ضعف
، وانقطاع في الأخرى، ورواه البيهقي من طريق ابن سيرين موقوفا وإسناده أصح وصححه الحاكم
. ولما اختلفت الأدلة في إيجاب العمرة وعدمه اختلف العلماء في ذلك سلفا وخلفا. فذهب ابن عمر
إلى وجوبها رواه عنه البخاري تعليقا ووصله عنه ابن خزيمة والدارقطني وعلق أيضا عن
ابن عباس إنها لقرينتها في كتاب الله * (وأتموا الحج والعمرة لله) * ووصله عنه الشافعي وغيره
، وصرح البخاري بالوجوب وبوب عليه بقوله: باب وجوب العمرة وفضلها وساق خبر ابن
عمر وابن عباس. واستدل غيره للوجوب بحديث حج عن أبيك واعتمر وهو حديث صحيح
قال الشافعي لا أعلم في إيجاب العمرة أجود منه. وإلى الايجاب ذهبت الحنفية لما ذكر
من الأدلة، وأما الاستدلال بقوله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * فقد أجيب عنه بأنه لا يفيد
إلا وجوب الاتمام وهو متفق على وجوبه بعد الاحرام بالعمرة ولو تطوعا. وذهبت الشافعية
إلى أن العمرة فرض في الأظهر. والأدلة لا تنهض عند التحقيق على الايجاب الذي الأصل
عدمه.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ أي الذي ذكر الله
تعالى في الآية (قال: الزاد والراحلة رواه الدارقطني وصححه الحاكم) قلت: والبيهقي
أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي (ص)
(والراجح إرساله) لأنه قال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلا، قال المصنف:
يعني الذي أخرجه الدارقطني وسنده صحيح إلى الحسن ولا أرى الموصول إلا وهما (وأخرجه
الترمذي من حديث ابن عمر أيضا) أي كما أخرجه غيره من حديث أنس (وفي إسناده
179

ضعف) وإن قال الترمذي: إنه حسن، وذلك أن فيه راوية متروك الحديث وله طرق عن
علي وعن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن عائشة وعن غيرهم من طرق كلها ضعيفة
قال عبد الحق: طرقه كلها ضعيفة. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث عن ذلك مسندا، والصحيح
من الروايات رواية الحسن المرسلة. وقد ذهب إلى هذا التفسير أكثر الأمة فالزاد شرط مطلقا
والراحلة لمن داره على مسافة. وقال ابن تيمية في شرح العمدة بعد سرده لما ورد في ذلك: فهذه
الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة
مع علم النبي (ص) أن كثيرا من الناس يقدرون على المشي وأيضا إن الله قال
في الحج: * (من استطاع إليه سبيلا) * إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق
المكنة أو قدرا زائدة على ذلك فإن كان المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج
إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدر زائد في ذلك، وليس هو إلا المال، وأيضا
فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة، فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد، ودليل
الأصل قوله: * (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) * إلى قوله: * (ولا على الذين إذا ما أتوك
لتحملهم) * انتهى. وذهب ابن الزبير وجماعة من التابعين إلى أن الاستطاعة هي
الصحة لا غير لقوله تعالى: * (تزودوا فإن خير الزاد التقوى) * فإنه فسر الزاد بالتقوى وأجيب
بأنه غير مراد من الآية كما يدل سبب نزولها. وحديث الباب يدل أنه أريد بالزاد الحقيقة
وهو وإن ضعفت طرقه فكثرتها تشد ضعفه، والمراد به كفاية فاصلة عن كفاية من يعول حتى
يعود لقوله (ص): كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول أخرجه أبو داود. ويجزئ
الحج وإن كان المال حراما ويأثم عند الأكثر. وقال أحمد: لا يجزئ.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) لقي) قال عياض:
يحتمل أنه لقيهم ليلا فلم يعرفوه (ص)، ويحتمل أنه نهارا ولكنهم لم يروه قبل
ذلك (ركبا بالروحاء) براء مهملة وبعد الواو حاء مهملة بزنة حمراء محل قرب المدينة (فقال:
من القوم فقالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله فرفعت إليه امرأة
صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) بسبب حملها وحجها به، أو بسبب سؤالها
عن ذلك الامر، أو بسبب الامرين (أخرجه مسلم). والحديث دليل على أنه يصح حج الصبي
وينعقد سواء كان مميزا أم لا حيث فعل وليه عنه ما يفعل الحاج، وإلى هذا ذهب الجمهور
ولكنه لا يجزئه عن حجة الاسلام لحديث ابن عباس إيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة
أخرى أخرجه الخطيب والضياء المقدسي من حديث ابن عباس وفيه زيادة. قال القاضي:
أجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الاسلام إلا فرقة شذت فقالت: يجزئه. لقوله: نعم
فإن ظاهره حج والحج إذا أطلق يتبادر منه ما يسقط الواجب ولكن العلماء ذهبوا إلى
خلاف ذلك. قال النووي: والولي الذي يحرم عن الصبي إذا كان غير مميز وهو ولي ماله وهو
أبوه أو جده أو الوصي أي المنصوب من جهة الحاكم وأما الأم فلا يصح إحرامها عنه إلا أم تكون
180

وصية عنه أو منصوبة من جهة الحاكم وقيل يصح إحرامها وإحرام العصبة وإن لم يكن
لهم ولاية المال وصفة إحرام الولي عنه أن يقول بقلبه جعلته محرما.
(وعنه) أي ابن عباس (رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف
رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في حجة الوداع وكان ذلك في منى (فجاءت امرأة من
خثعم) بالخاء المعجمة مفتوحة فمثلثة ساكنة فعين مهملة قبيلة معروفة (فجعل الفضل ينظر
إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر
فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي) حال كونه (شيخا)
منتصب على الحال وقوله (كبيرا) يصح صفة ولا ينافي اشتراط كون الحال نكرة إذ
لا يخرجه ذلك عنها (لا يثبت) صفة ثابتة (على الراحلة) يصح صفة أيضا ويحتمل الحال
ووقع في بعض ألفاظه وإن شددته خشيت عليه (أفأحج) نيابة (عنه؟ قال: نعم)
أي حجي عنه (وذلك) أي جميع ما ذكر (في حجة الوداع. متفق عليه واللفظ للبخاري)
في الحديث روايات أخر ففي بعضها أن السائل رجل وأنه سأل هل يحج عن أمه فيجوز
تعدد القضية. وفي الحديث دل على أنه يجزئ الحج عن المكلف إذا كان ميؤوسا منه
القدرة على الحج بنفسه مثل الشيخوخة فإنه مأيوس زوالها، وأما إذا كان عدم القدرة لأجل
مرض أو جنون يرجى برؤهما فلا يصح. وظاهر الحديث مع الزيادة أنه لا بد في صحة
التحجيج عنه من الامرين: عدم ثباته على الراحلة، والخشية من الضرر عليه من شده، فمن
لا يضره الشد كالذي يقدر على المحفة لا يجزئه حج الغير إلا أنه أدعى في البحر الاجماع على
أن الصحة وهي التي يستمسك معها قاعدا شرط بالاجماع فإن صح الاجماع فذاك وإلا
فالدليل مع من ذكرنا. قيل: ويؤخذ من الحديث أنه إذا تبرع أحد بالحج عن غيره لزمه
الحج عن ذلك الغير وإن كان لا يجب عليه الحج، ووجهه أن المرأة لم تبين أن أباها مستطيع
بالزاد والراحلة ولم يستفصل (ص) عن ذلك، ورد هذا بأنه ليس في الحديث
إلا الاجزاء لا الوجوب، فلم يتعرض له، وبأنه يجوز أنها قد عرفت وجوب الحج على أبيها
كما يدل لها قولها: فريضة الله على عباده في الحج. فإنها عبارة دالة على علمها بشرط دليل
الوجوب وهو الاستطاعة. واتفق القائلون بإجزاء الحج عن فريضة الغير بأنه لا يجزئ إلا عن
موت أو عدم قدرة من عجز ونحوه، بخلاف النفل فإنه ذهب أحمد وأبو حنيفة إلى جواز النيابة
عن الغير فيه مطلقا للتوسيع في النفل. وذهب بعضهم إلى أن الحج عن فرض الغير لا يجزئ
أحدا وأن هذا الحكم يختص بصاحبة هذه القصة وإن كان الاختصاص خلاف الأصل،
إلا أنه استدل بزيادة رويت في الحديث بلفظ حجي عنه وليس لاحد بعدك ورد بأن
هذه الزيادة رويت بإسناد ضعيف. وعن بعضهم أنه يختص بالولد، وأجيب عنه بأن القياس
عليه دليل شرعي وقد نبه (ص) على العلة بقوله في الحديث فدين الله أحق
181

بالقضاء كما يأتي فجعله دينا والدين يصح أن يقضيه غير الولد بالاتفاق، وما يأتي
من حديث شبرمة.
(وعنه) أي عن ابن عباس رضي لله عنهما (أن امرأة) قال المصنف لم أقف على اسمها ولا اسم
أمها (من جهينة) بضم الجيم بعدها مثناة تحتية فنون اسم قبيلة (جاءت إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم
حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء رواه
البخاري. الحديث دليل على أن الناذر بالحج إذا مات ولم يحج أجزأه أن يحج عنه ولده
وقريبه ويجزئه عنه، وإن لم يكن قد حج عن نفسه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسألها حجت
عن نفسها أم لا، ولأنه (ص) شبهه بالدين وهو يجوز أن يقضي الرجل دين
غيره قبل دينه، ورد بأنه سيأتي في حديث شبرمة ما يدل على عدم إجزاء حج من لم يحج عن
نفسه. وأما مسألة الدين فإنه لا يجوز له أن يصرف ماله إلى دين غيره وهو مطالب بدين نفسه
. وفي الحديث دليل على مشروعية القياس وضرب المثل ليكون أوقع في نفس السامع
، وتشبيه المجهول حكمه بالمعلوم، فإنه دل أن قضاء الدين عن الميت كان معلوما عندهم متقررا
ولهذا حسن الالحاق به. ودل على وجوب التحجيج عن الميت سواء أوصى أم لم يوص
لان الدين يجب قضاؤه مطلقا وكذا سائر الحقوق المالية من كفارة ونحوها. وإلى هذا ذهب
ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والشافعي. ويجب اخراج الأجرة من رأس المال عندهم
وظاهره أن يقدم على دين الآدمي وهو أحد أقوال الشافعي ولا يعارض ذلك قوله تعالى
: * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) * (النجم: 93) الآية لان ذلك عام خصه هذا الحديث أو لان ذلك
في حق الكافر، وقيل: اللام في الآية بمعنى على أي ليس عليه مثل: ولهم اللعنة أي عليهم، وقد بسطنا القول في هذا حواشي ضوء النهاء.
(وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما، (قال: قال رسول الله (ص)
أيما صبي حج ثم بلغ الحنث) بكسر الحاء المهملة وسكون النون فمثلثة أي
182

الاثم أي بلغ أن يكتب عليه حنثه (فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد
حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى. رواه ابن أبي شيبة والبيهقي ورجاله
ثقات إلا أنه اختلف في رفعه والمحفوظ أنه موقوف) قال ابن خزيمة: الصحيح أنه موقوف
وللمحدثين كلام كثير في رفعه ووقفه. وروي محمد بن كعب القرظي مرفوعا قال: قال
رسول الله (ص): إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين أيما صبي حج به أهله
أجزأت فإن أدرك فعليه الحج، ومثله قال في العبد رواه سعيد بن منصور وأبو داود
في مراسيله واحتج به أحمد، وروى الشافعي حديث ابن عباس قال ابن تيمية: والمرسل
إذا عمل به الصحابة حجة اتفاقا، قال: وهذا مجمع عليه ولأنه من أهل العبادات فيصح منه
الحج ولا يجزئه لأنه فعله قبل أن يخاطب به.
(وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (قال: سمعت رسول الله (ص)
يخطب يقول: لا يخلون رجل بامرأة) أي أجنبية لقوله: (إلا ومعها ذو محرم
ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل) قال المصنف: لم أقف على تسميته
، (فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال:
انطلق فحج مع امرأتك متفق عليه واللفظ لمسلم) دل الحديث على تحريم الخلوة بالأجنبية
وهو إجماع، وقد وري في حديث: فإن ثالثهما الشيطان، وهل يقوم غير المحرم مقامه في هذا
بأن يكون معهما من يزيل معنى الخلوة الظاهر أنه يقوم لان المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية
أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة. وقال القفال: لا بد من المحرم عملا بلفظ الحديث: ودل أيضا
على تحريم سفر المرأة من غير محرم وهو مطلق في قليل السفر وكثيره، وقد وردت أحاديث
مقيدة لهذا الاطلاق إلا أنها اختلفت ألفاظها، ففي لفظ: لا تسافر المرأة مسيرة ليلة إلا مع
ذي محرم، وفي آخر فوق ثلاث، وفي آخر مسير يومين وفي آخر ثلاثة أميال
، وفي لفظ بريد وفي آخر ثلاثة أيام، قال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره بل كل
ما يسمى سفرا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم وإن موقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل
بمفهومه. وللعلماء تفصيل في ذلك قالوا: ويجوز سفر المرأة وحدها في الهجرة من دار الحرب
والمخافة على نفسها ولقضاء الدين ورد الوديعة والرجوع من النشوز، وهذا مجمع عليه واختلفوا
في سفر الحج الواجب فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز للشابة إلا مع محرم ونقل قولا عن
الشافعي أنها تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنا ولم ينهض دليله على ذلك، قال ابن دقيق العيد:
إن قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * عموم شامل للرجال والنساء وقوله: لا تسافر
المرأة إلا مع ذي محرم عموم لكل أنواع السفر فتعارض العمومان ويجاب بأن حديث
: لا تسافر المرأة للحج إلا مع ذي محرم: مخصص لعموم الآية، ثم الحديث عام للشابة
والعجوز. وقال جماعة من الأئمة يجوز للعجوز السفر من غير محرم وكأنهم نظروا إلى
المعنى فخصصوا به العموم، وقيل: لا يخصص بل العجوز كالشابة. وهل تقوم النساء الثقات
183

مقام المحرم للمرأة؟ فأجاز البعض مستدلا بأفعال الصحابة ولا تنهض حجة على ذلك لأنه
ليس بإجماع، وقيل: يجوز لها السفر إذا كانت ذات حشم، والأدلة لا تدل على ذلك. وأما
أمره (ص) له بالخروج مع امرأته فإنه أخذ منه أحمد أنه يجب خروج الزوج مع
زوجته إلى الحج إذا لم يكن معها غيره. وغير أحمد قال: لا يجب عليه، وحمل الامر على
الندب، قال: وإن كان لا يحمل على الندب إلا لقرينة عليه فالقرينة ما علم من
قواعد الدين أنه لا يجب على أحد بذل منافع نفسه لتحصيل غيره ما يجب عليه. وأخذ من
الحديث أن ليس للرجل منع امرأته من حج الفريضة لأنها عبادة قد وجب عليها، ولا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق، سواء قلنا إنه على الفور أو التراخي، أما الأول فظاهر، قيل: وعلى
الثاني أيضا فإن لها أن تسارع إلى براءة ذمتها كما أن لها أن تصلي أول الوقت وليس له
منعها. وأما ما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعا في امرأة لها زوج ولها مال ولا
يأذن لها في الحج ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها فإنه محمول على حج التطوع جمعا
بين الحديثين على أنه ليس في حديث الكتاب ما يدل أنها خرجت من دون إذن زوجها
وقال ابن تميمة: إنه يصح الحج من المرأة بغير محرم ومن غير المستطيع، وحاصله أن من
لم يجب عليه لعدم الاستطاعة مثل المريض والفقير والمعضوب والمقطوع طريقه، والمرأة بغير
محرم، وغير ذلك إذا تكلفوا شهود المشاهد أجزأهم الحج، ثم منهم من هو محسن في ذلك كالذي
يحج ماشيا، ومنهم من هو مسئ في ذلك كالذي يحج بالمسألة، والمرأة تحج بغير محرم وإنما
أجزأهم لان الأهلية تامة والمعصية إن وقعت فهي في الطريق لا في نفس المقصود.
(وعنه) أي ابن عباس (رضي الله عنهما أن النبي (ص) سمع
رجلا يقول: لبيك عن شبرمة) بضم الشين المعجمة فموحدة ساكنة (قال: من شبرمة؟
قال: أخ لي أو قريب لي) شك من الراوي (فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا
: قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة رواه أبو داود وابن ماجة وصححه
ابن حبان والراجح عند أحمد وقفه). وقال البيهقي: إسناده صحيح وليس في هذا الباب أصح
منه. وقال أحمد بن حنبل: رفعه خطأ. وقال ابن المنذر: لا يثبت رفعه، وقال الدارقطني:
المرسل أصح، قال المصنف: هو كما قال، لكنه يقوي المرفوع لأنه من غير رجاله، وقال
ابن تيمية: إن أحمد حكم في رواية ابنه صالح عنه أنه مرفوع فيكون قد اطلع على ثقة من
رفعه، قال: وقد رفعه جماعة. على أنه وإن كان موقوفا فليس لابن عباس فيه مخالف
. والحديث دليل على أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه فإذا أحرم عن غيره
فإنه ينعقد إحرامه عن نفسه لأنه (ص) أمره أن يجعله عن نفسه بعد أن لبى عن
شبرمة فدل على أنها لتنعقد النية عن غيره وإلا لأوجب عليه المضي فيه. وأن الاحرام
ينعقد مع الصحة والفساد وينعقد مطلقا مجهولا معلقا فجاز أن يقع عن غيره ويكون عن نفسه
وهذا لان إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي، والنهي يقتضي الفساد، وبطلان صفة الاحرام
لا يوجب بطلان أصله وهذا قول أكثر الأئمة أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه
184

مطلقا مستطيعا كان أو لا، لان ترك الاستفصال والتفريق في حكاية الأحوال دال على العموم
، ولان الحج واجب في أول سنة من سنى الامكان فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله
عن غيره، لان الأول فرض والثاني نفل، كمن عليه دين وهو مطالب به ومعه دراهم بقدره
لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه وكذلك كل ما احتاج أن يصرفه إلى واجب عنه فلا يصرفه
إلى غيره، إلا أن هذا إنما يتم في المستطيع، ولذا قيل: إنما يؤمر أن يبدأ بالحج عن نفسه إذا
كان واجبا عليه، وغير المستطيع لم يجب عليه فجاز أن يحج عن غيره ولكن العمل
بظاهر عموم الحديث أولى.
(وعنه) أي ابن عباس رضي الله عنهما (قال: خطبنا رسول (ص)
فقال: إن الله كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل
عام يا رسول الله؟ قال: لو قلتها لوجبت، الحج مرة، فما زاد فهو تطوع رواه
الخمسة غير الترمذي وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة) وفي رواية زيادة بعد قوله
لو جبت ولو وجبت لم تقوموا بها ولو لم تقوموا بها لعذبتم. والحديث دليل على أنه لا يجب
الحج إلا مرة واحدة في العمر على كل مكلف مستطيع. وقد أخذ من قوله (ص)
: لو قلت نعم لو جبت. أنه يجوز أن يفوض الله إلى الرسول (ص) شرح الاحكام
ومحل المسألة الأصول وفيها خلاف بين العلماء قد أشار إليه الشارح رحمه الله.
باب المواقيت
المواقيت: جمع ميقات، والميقات: ما حد ووقت للعبادة، من زمان ومكان، والتوقيت: التحديد
، ولهذا يذكر في هذا الباب ما حده الشارع للاحرام من الأماكن.
(عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) وقت لأهل
المدينة ذا الحليفة) بضم الحاء المهملة وبعد اللام مثناة تحتية وفاء: تصغير حلفة، والحلفة
: وواحدة الحلفاء نبت في الماء. وهي مكان معروف بينه وبين مكة عشر مراحل، وهي من
المدينة على فرسخ، وبها المسجد الذي أحرم منه (ص) والبئر تسمى الآن
بئر علي، وهي أبعد المواقيت إلى مكة (ولأهل الشام الجحفة) بضم الجيم وسكون الحاء
المهملة ففاء سميت بذلك لان السيل اجتحف أهلها إلى الجبل الذي هنالك، وهي من مكة
على ثلاث مراحل، وتسمى مهيعة كانت قرية قديمة، وهي الآن خراب، ولذا يحرمون الآن من
رابغ قبلها لوجود الماء بها للاغتسال (ولأهل نجد قرن المنازل) بفتح القاف
وسكون الراء ويقال له: قرن الثعالب بينه وبين مكة مرحلتان (ولأهل اليمن يلملم) بينه
وبين مكة مرحلتان (هن) أي المواقيت (لهن) أي البلدان المذكورة والمراد لأهلها
ووقع في بعض الروايات هن لهم، وفي رواية للبخاري هن لأهلهن (ولمن أتى عليهن
من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك) المذكور من
185

المواقيت (فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة) يحرمون (من مكة) بحج أو عمرة
(متفق عليه). فهذه المواقيت التي عينها صلى الله عليه وسلم لمن ذكره من أهل الآفاق، وهي
أيضا مواقيت لمن أتى عليها، وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة، فإنه يلزمه الاحرام منها
إذا أتى عليها قاصدا لاتيان مكة لاحد النسكين، فيدخل في ذلك ما إذا ورد الشامي مثلا إلى
ذي الحليفة فإنه يجب عليه الاحرام منها، ولا يتركه حتى يصل الجحفة، فإن أخر أساء ولزمه
دم هذا عند الجمهور. وقالت المالكية: إنه يجوز له التأخير إلى ميقاته، وإن كان الأفضل
له خلافه، قالوا: والحديث محتمل فإن قوله هن لهن ظاهره العموم لمن كان من أهل تلك
الأقطار، سواء ورد على ميقاته أو ورد على ميقات آخر فإن له العدول إلى ميقاته، كما لو ورد
الشامي على ذي الحليفة فإنه لا يلزمه الاحرام منها بل يحرم من الجحفة. وعموم قوله: ولمن أتى
عليهن من غيرهن يدل على أنه يتعين على الشامي في مثالنا: أن يحرم من ذي الحليفة لأنه من
غير أهلهن. قال ابن دقيق العيد: قوله: ولأهل الشام الجحفة يشمل من مر من أهل
الشام بذي الحليفة ومن لم يمر وقوله: ولمن أتى عليهن من غير أهلهن يشمل الشامي إذا
مر بذي الحليفة وغيره، فههنا عمومان قد تعارضا انتهى ملخصا. قال المصنف: ويحصل
الانفكاك بأن قوله: هن لهن، مفسر لقوله مثلا: وقت لأهل المدينة ذا الحليفة وأن المراد
بأهل المدينة ساكنوها، ومن سلك طريق ميقاتهم فمر على ميقاتهم انتهى. قلت: وإن صح
ما قد روي من حديث عروة أنه (ص) وقت لأهل المدينة ومن مر بهم
ذا الحليفة تبين أن الجحفة إنما هي ميقات للشامي إذا لم يأت المدينة. ولأن هذه المواقيت
محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم، فكل من مر بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته،
وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض. ودل قوله: ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ
على أن من كان بين الميقات ومكة فميقاته حيث أنشأ الاحرام، إما من أهله ووطنه، أو من غيره.
وقوله: حتى أهل مكة من مكة دل على أن أهل مكة يحرمون من مكة، وأنها ميقاتهم،
سواء كان من أهلها أو من المجاورين أو الواردين إليها، أحرم بحج أو عمرة. وفي قوله: ممن
أراد الحج والعمرة ما يدل أنه لا يلزم الاحرام إلا من أراد دخول مكة لاحد النسكين، فلو لم
يرد ذلك جاز له دخولها من غير إحرام، وقد دخل ابن عمر بغير إحرام، ولأنه قد ثبت بالاتفاق
أن الحج، والعمرة - عند من أوجبها - إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن
يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة، ومن قال: إنه لا يجوز مجاوزة الميقات إلا بالاحرام إلا من
استثنى من أهل الحاجات كالحطابين فإن له في ذلك آثارا عن السلف ولا تقوم بها حجة
. فمن دخل مريدا مكة لا ينوي نسكا من حج ولا عمرة وجاوز ميقاته بغير إحرام، فإن بدا له
إرادة أحد النسكين أحرم من حيث أراد ولا يلزمه أن يعود إلى ميقاته. واعلم أن قوله: حتى
أهل مكة من مكة يدل أن ميقات عمرة أهل مكة كحجهم، وكذلك القارن منهم، ميقاته مكة
ولكن قال المحب الطبري: إنه لا يعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة، وجوابه أنه (ص)
جعلها ميقاتا لها بهذا الحديث، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: يا أهل
186

مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر وقال أيضا: من أراد من أهل مكة
أن يعتمر خرج إلى التنعيم ويجاوز الحرم فآثار موقوفة لا تقاوم المرفوع، وأما ما ثبت من أمره
(ص) لعائشة بالخروج إلى التنعيم بعمرة فليرد إلا تطييب قلبها بدخولها
إلى مكة معتمرة كصواحباتها، لأنها أحرمت بالعمرة معه ثم حاضت فدخلت مكة ولم تطف
بالبيت كما طفن، كما يدل له قولها قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك
واحد قال: انتظري فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه. الحديث، فإنه محتمل أنها إنما أرادت
أن تشابه الداخلين من الحل إلى مكة بالعمرة ويدل أنها لا تصح العمرة إلا من الحل لمن
صار في مكة ومع الاحتمال لا يقاوم حديث الكتاب، وقد قال طاوس: لا أدري الذي
يعتمرون من التنعيم يؤجرون أو يعذبون، قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع البيت والطواف
ويخرج إلى أربعة أميال ويجئ أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف كان
أعظم أجرا من أن يمشي في غير ممشى، إلا أن كلامه في تفضيل الطواف على العمرة. قال
أحمد: العمرة بمكة من الناس من يختارها على الطواف، ومنهم من يختار المقام بمكة والطواف،
وعند أصحاب أحمد أن المكي إذا أحرم للعمرة من مكة كانت عمرة صحيحة قالوا: ويلزمه
دم لما ترك من الاحرام من الميقات. قلت: ويأتيك أن إلزامه الدم لا دليل عليه.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) وقت لأهل العراق
ذات عرق) بكسر العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف، بينه وبين مكة مرحلتان،
وسمي بذلك: لان فيه عرقا وهو الجبل الصغير (رواه أبو داود والنسائي وأصله عند مسلم من
حديث جابر إلا أن رواية شك في رفعه) لان في صحيح مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن
عبد الله سئل عن المهل فقال: سمعت - أحسبه رفع إلى النبي (ص) - فلم يجزم
برفعه (وفي صحيح البخاري أن عمر هو الذي وقت ذات عرق) وذلك أنها لما تفتحت البصرة والكوفة
- أي أرضهما، وإلا فإن الذي مصرهما المسلمون طلبوا من عمر أن يعين لهم ميقاتا فعين له ذات
عرق وأجمع عليه المسلمون. قال أبي تيمية في المنتقى: والنص بتوقيت ذات عرق ليس في القوة
كغيره، فإن ثبت فليس ببدع وقوع اجتهاد عمر على وفقه، فإنه كان موافقا للصواب، كأن عمر
لم يبلغه الحديث فاجتهد بما وافق النص، هذا وقد انعقد الاجماع على ذلك، وقد روى
رفعه بلا شك من حديث أبي الزبير عن جابر عند ابن ماجة، ورواه أحمد مرفوعا عن جابر
بن عبد الله، وعن ابن عمرو وفي إسناده الحجاج بن أرطاة. ورواه أبو داود والنسائي والدار قطني
وغيرهم من حديث عائشة: أنه (ص) وقت لأهل العراق ذات عرق. بإسناد
جيد، ورواه عبد الله بن أحمد أيضا عنها، وقد ثبت مرسلا عن مكحول، وعطاء، قال ابن
تيمية: وهذه الأحاديث المرفوعة الجياد الحسان يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة
ومرسلة من وجوه شتى وأما ما ذكره بقوله:
(وعند أحمد وأبي داود والترمذي عن ابن عباس: أن النبي (ص) وقت
لأهل المشرق العقيق. فإنه وإن قال فيه الترمذي: إنه حسن، فإن مداره على يزيد
187

بن أبي زياد وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال ابن عبد البر: أجمع أهل العمل على أن إحرام
العراق من ذات عرق إحرام من الميقات، هذا والعقيق يعد من ذات عرق وقد قيل: إن كان
لحديث ابن عباس هذا أصل فيكون منسوخا، لان توقيت ذات عرق كان في حجة الوداع
، حين أكمل الله دينه كما يدل له ما أخرجه الحارث بن عمرو السهمي قال: أتيت النبي
(ص) وهو بمنى أو عرفات وقد أطاف به الناس قال: فتجئ الاعراب فإذا
رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك قال: ووقت ذات عرق لأهل العراق. رواه أبو داود
والدارقطني.
باب وجوه الاحرام
وصفته الوجوه جمع وجه والمراد بها الأنواع التي يتعلق بها الاحرام وهو الحج أو العمرة أو
مجموعهما. وصفته: كيفيته التي يكون فاعلها بها محرما.
(عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا) أي من المدينة، وكان خروجه
(ص) يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، بعد صلاته الظهر بالمدينة أربعا،
وبعد أنت خطبهم خطبة علمهم فيها الاحرام، وواجباته، وسننه، (مع رسول الله (ص)
عام حجة الوداع) وكان ذلك سنة عشر من الهجرة، سميت بذلك لأنه (ص)
ودع الناس فيها، ولم يحج بعد هجرته غيرها، (فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة)
فكان قارنا (ومنا من أهل بحج) فكان مفردا (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالحج، فأما من أهل بعمرة فحل عند قدومه) مكة بعد إتيانه ببقية أعمال العمرة (وأما من
أهل بحج، أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر. متفق عليه). الاهلال
: رفع الصوت، قال العلماء: هو هنا رفع الصوت بالتلبية عند الدخول في الاحرام. ودل
حديثها على أنه وقع من مجموع الركب الذين صحبوه في حجه هذه الأنواع، وقد رويت عنها
روايات تخالف هذا، وجمع بينها بما ذكرناه، وقد اختلفت الروايات في إحرام عائشة بماذا
كان، لاختلاف الروايات أيضا. ودل حديثها على أنه وقع من ذلك الركب الاحرام بأنواع
الحج الثلاثة. فالمحرم بالحج هو من حج الافراد، والمحرم بالعمرة هو من حج التمتع، والمحرم
بهما هو القارن. ودل حديثها على أن من أهل بالحج مفردا له عن العمرة لم يحل إلا يوم النحر،
وهذا يخالف ما ثبت من الأحاديث عن أربعة عشر صحابيا في الصحيحين وغيرهما أنه
(ص) أمر من لم يكن معه هدي أن يفسخ حجه إلى العمرة. قيل: فيتأول حديث
عائشة على تقييده بمن كان معه هدي وأحرم بحج مفردا فإنه كمن ساق الهدي وأحرم
بالحج والعمرة معا. وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في الفسخ للحج إلى العمرة، هل هو خاص
بالذين حجوا معه (ص) أو لا؟ وقد بسط ذلك ابن القيم في زاد المعاد، وأفردناه برسالة،
ولا يحتمل هنا نقل الخلاف والإطالة. واختلف العلماء أيضا فيما أحرم به (ص)
والأكثر أنه أحرم بحج وعمرة فكان قارنا وحديث عائشة هذا دل على أنه (ص) أحرم
188

بالحج مفردا لكن الأدلة على أنه حج قارن واسعة جدا. واختلفوا أيضا في الأفضل من
أنواع الحج والأدلة تدل على أن أفضلها القران. وقد استوفي أدلة ذلك ابن القيم
. باب الاحرام وما يتعلق به
الاحرام: الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعماله بالنية.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما أهل رسول الله (ص) إلا
من المسجد) أي مسجد ذي الحليفة (متفق عليه) هذا قاله ابن عمر ردا على من قال
: إنه (ص) أحرم من البيداء، فإنه قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول
الله (ص) أنه أهل منها ما أهل - الحديث. وفي رواية: أنه أهل من عند الشجرة
حين قام به بعيره والشجرة كانت عند المسجد، وعند مسلم: أنه (ص) ركع
ركعتين بذي الحليفة ثم إذا استوت به الناقة عند مسجد ذي الحليفة أهل، وقد جمع بين
حديث الاهلال بالبيداء والاهلال بدي الحليفة بأنه صلى الله عليه وسلم أهل منهما
وكل من روى أنه أهل بكذا فهو راو لما سمعه من إهلاله، وقد أخرج أبو داود والحاكم من
حديث ابن عباس أنه (ص) لما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أهل بالحج
حين فرغ منهما، فسمع قوم فحفظوه فلما استقرت به راحلته أهل وأدرك ذلك منه قوم
لم يشهدوا في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك فقالوا: إنما أهل حين استقلت به راحلته ثم مضى
فلما علا على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه فنقل كما سمع. الحديث: ودل
الحديث على أن الأفضل أن يحرم من الميقات لا قبله فإن أحرم قبله فقال ابن المنذر:
أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره؟ قيل: نعم، لان قول
الصحابة وقت رسول الله (ص) لأهل المدينة ذا الحليفة يقضي بالاهلال من
هذه المواقيت ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن
يكون تركها أفضل، ولولا ما قيل من الاجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه لأدلة التوقيت،
ولان الزيادة على المقدرات من المشروعات كأعداد الصلاة ورمي الجمار لا تشرع، كالنقص
منها، وإنما لم يجزم بتحريم ذلك لما ذكرنا من الاجماع، ولأنه روي عن عدة من الصحابة
تقديم الاحرام على الميقات فأحرم ابن عمر من بيت المقدس، وأحرم أنس من العقيق،
وأحرم ابن عباس من الشام، وأهل عمر ان بن حصين من البصرة، وأهل ابن مسعود من
القادسية. وورد في تفسير الآية أن الحج والعمرة إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك
عن علي وابن مسعود، وإن كان قد تؤول بأن مرادهما أن ينشئ لهما سفرا مفردا من بلده كما
أنشأ (ص) لعمرة الحديبية والقضاء سفرا من بلده، ويدل لهذا التأويل أن
عليا لم يفعل ذلك، ولا أحد من الخلفاء الراشدين، ولم يحرموا بحج ولا عمرة إلا من الميقات، بل
لم يفعله (ص)، فكيف يكون ذلك تمام الحج ولم يفعله (ص) ولا أحد
من الخلفاء ولا جماهير الصحابة. نعم الاحرام من بيت المقدس بخصوصه ورد فيه حديث
189

أم سلمة: سمعت رسول الله (ص) يقول: من أهل من المسجد الأقصى بعمرة
أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه رواه أحمد وفي لفظ: من أحرم من بيت المقدس غفر له
ما تقدم من ذنوبه رواه أبو داود ولفظه من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى
المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة شك الراوي،
ورواه ابن ماجة بلفظ من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب
فيكون هذا مخصوصا ببيت المقدس فيكون الاحرام منه خاصة أفضل من الاحرام من المواقيت
، ويدل له إحرام ابن عمر منه ولم يفعل ذلك من المدينة على أن منهم من ضعف الحديث ومنهم
من تأوله بأن المراد ينشئ لهما السفر من هنالك.
(وعن خلاد) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام آخره دال مهملة (ابن السائب)
بالسين المهملة (عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل فأمرني أن
آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالاهلال رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان)
وأخرج ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال: العج
والثج وفي رواية عن السائب عنه صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فقال: كن عجاجا
ثجاجا والعج رفع الصوت والثج نحر البدن. كل ذلك دال على استحباب رفع الصوت بالتلبية
، وإن كان ظاهر الامر الوجوب. وأخرج ابن أبي شيبة أن أصحاب رسول الله (ص)
كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم وإلى هذا ذهب الجمهور. وعن
مالك: لا يرفع صوته بالتلبية إلا عند المسجد الحرام، مسجد منى.
(وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي (ص) تجرد لاهلاله واغتسل
رواه الترمذي وحسنه. وغربه، وضعفه العقيلي، وأخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني، ورواه
الحاكم والبيهقي من طريق يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: اغتسل رسول الله (ص)
ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما
استوى به على البيداء أحرم بالحج ويعقوب ابن عطاء بن أبي رباح ضعيف. وعن
ابن عمر رضي الله عنهما قال: من السنة أن يغتسل إذا أراد الاحرام وإذا أراد دخول مكة
. ويستحب التطيب قبل الاحرام. لحديث عائشة: كنت أطيب النبي (ص) بأطيب
ما أجد. وفي رواية: كنت أطيب رسول الله (ص) بأطيب ما أقدر عليه قبل
أن يحرم ثم يحرم. متفق عليه ويأتي الكلام في ذلك.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) سئل عما يلبس
المحرم من الثياب قال: لا يلبس القميص ولا السراويلات ولا البرانس
ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين) أي لا يجدهما يباعان أو يجدهما يباعان ولكن ليس
معه ثمن فائض عن حوائجه الأصلية كما في سائر الابدال (فليلبس الخفين وليقطعهما
أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس)
190

بفتح الواو وسكون الراء آخره سين مهملة (متفق عليه واللفظ لمسلم) وأخرج الشيخان من
حديث ابن عباس سمعت رسول الله (ص) يخطب بعرفات: من لم يجد إزارا
فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين ومثله عند أحمد والظاهر أنه ناسخ
لحديث ابن عمر بقطع الخفين لأنه قاله بعرفات في وقت الحاجة، وحديث ابن عمر كان
في المدينة، قاله ابن تيمية في المنتقى. واتفقوا على أن المراد بالتحريم هنا على الرجل ولا
تلحق به المرأة في ذلك.
واعلم أنه تحصل من الأدلة أنه يحرم على المحرم الخف ولبس القميص والعمامة والبرانس
والسراويل وثوب مسه ورس أو زعفران ولبس الخفين إلا لعدم غيرهما فيشقهما ويلبسهما
والطيب والوطئ. والمراد من القميص كل ما أحاط بالبدن مما كان عن تفصيل وتقطيع.
وبالعمامة ما أحاطت بالرأس فيلحق بها غيرها مما يغطي الرأس، قال الخطابي: ذكر البرانس
والعمامة معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر كالبرانس وهو كل ثوب
رأسه منه ملتزقا به من جبة أو دراعة أو غيرهما.
واعلم أن المصنف لم يأت بالحديث فيما يحرم على المرأة المحرمة، والذي يحرم عليها في الأحاديث
الانتقاب أي لبس النقاب، كما يحرم لبس الرجل القميص والخفين فيحرم عليها النقاب، ومثله
البرقع وهو الذي فصل على قدر ستر الوجه، لأنه الذي ورد به النص، كما ورد بالنهي عن
القمص للرجل مع جواز ستر الرجل لبدنه بغيره اتفاقا، فكذلك المرأة المحرمة تستر وجهها
بغير ما ذكر كالخمار والثوب ومن قال: إن وجهها كرأس الرجل المحرم لا يغطى بشئ
فلا دليل معه. ويحرم عليها لبس القفازين ولبس ما مسه ورس أو زعفران من الثياب. ويباح
لها ما أحبت من غير ذلك من حلية وغيرها والطيب، وأما الصيد وحلق الرأس فالظاهر أنهن
كالرجل في ذلك والله أعلم. وأما الانغماس في الماء، ومباشرة المحمل بالرأس، وستر الرأس
باليد، وكذا وضعه على المخدة عند النوم، فإنه لا يضر لأنه لا يسمى لابسا. والخفاف جمع خف
وهو ما يكون إلى نصف الساق، ومثله في الحكم الجوارب، وهو ما يكون إلى فوق الركبة
وقد أبيح لمن لم يجد النعلين بشرط القطع إلا أنك قد سمعت ما قاله في المنتقى من نسخ القطع
وقد رجحه في الشرح بعد إطالة الكلام بذكر الخلاف في المسألة ثم ألحق أنه لا فدية على
لابس الخفين لعدم النعلين. وخالفت الحنفية فقالوا: تجب الفدية. ودل الحديث على
تحريم لبس ما مسه الزعفران والورس. واختلف في العلة التي لأجلها النهي هل هي الزينة
أو الرائحة، فذهب الجمهور إلى أنها الرائحة فلو صار الثوب بحيث إذا أصابه الماء لم يظهر له
رائحة جاز الاحرام فيه. وقد ورد في رواية إلا أن يكون غسيلا وإن كان فيها مقال،
ولبس المعصفر والمورس محرم على الرجال في حال الحل كما في الاحرام.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله (ص)
لاحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت متفق عليه. فيه دليل استحباب
التطيب عند إرادة فعل الاحرام، وجواز استدامته بعد الاحرام وأنه لا يضر بقاء لونه وريحه
وإنما يحرم ابتداؤه في حال الاحرام وإلى هذا ذهب جماهير الأئمة والصحابة والتابعين
191

. وذهب جماعة منهم إلى خلافه وتكلفوا لهذه الرواية ونحوها بما لا يتم به مدعاهم فإنهم قالوا: إنه
(ص) تطيب ثم اغتسل بعده فذهب الطيب. قال النووي في شرح مسلم بعد
ذكره: الصواب ما قاله الجمهور من أنه يستحب الطيب للاحرام لقولها: لاحرامه. ومنهم
من زعم أن ذلك خاص به (ص) ولا يتم ثبوت الخصوصية إلا بدليل عليها
، بل الدليل قائم على خلافها وهو ما ثبت من حديث عائشة: كنا ننضح وجوهنا بالمسك المطيب
قبل أن نحرم فنعرق ويسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله (ص) فلا ينهانا
. رواه أبو داود، وأحمد بلفظ: كنا نخرج مع رسول الله (ص) إلى مكة فننضح
جباهنا بالمسك المطيب عند الاحرام فإذا عرقت إحدانا سال لي وجهها فيراه النبي (ص)
فلا ينهانا. ولا يقال هذا خاص بالنساء في الطيب سواء بالاجماع
فالطيب يحرم بعد الاحرام لا قبله وإن دام حاله فإنه كالنكاح لأنه من دواعيه والنكاح إنما
يمنع المحرم من ابتدائه لا من استدامته فكذلك الطيب، ولان الطيب من النظافة من حيث إنه
يقصد به دفع الرائحة الكريهة كما يقصد بالنظافة إزالة ما يجمعه الشعر والظفر من الوسخ، ولذا
استحب أن يأخذ قبل الاحرام من شعره وأظفاره، لكونه ممنوعا منه بعد الاحرام، وإن بقي أثره بعده.
وأما حديث مسلم في الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصنع في عمرته
وكان الرجل قد أحرم وهو متضمخ بالطيب فقال: يا رسول الله ما ترى في رجل أحرم
بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بالطيب؟ فقال (ص): أما الطيب الذي
بك فاغسله ثلاث مرات الحديث فقد أجيب عنه بأن هذا السؤال والجواب كانا بالجعرانة
في ذي القعدة سنة ثمان، وقد حج (ص) سنة عشر، واستدام الطيب، وإنما يؤخذ
بالآخر من أمر رسول الله (ص)، لأنه يكون ناسخا للأول. وقوله: لحله قبل أن
يطوف بالبيت المراد لحله الاحلال الذي يحل به كل محظور وهو طواف الزيارة وقد
كان حل بعض الاحلال وهو بالرمي الذي يحل به الطيب وغيره ولا يمنع بعده إلا من
النساء. وظاهر هذا أنه قد كان فعل الحق والرمي وبقي الطواف:
(وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينكح) بفتح
حرف المضارعة أي لا ينكح هو لنفسه (المحرم ولا ينكح) بضم حرف المضارعة لا يعقد
لغيره (ولا يخطب) له ولا لغيره (رواه مسلم). والحديث دليل على تحريم العقد على المحرم
لنفسه ولغيره، وتحريم الخطبة كذلك، والقول بأنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت
الحرث وهو محرم لرواية ابن عباس لذلك، مردود بأن رواية أبي رافع أنه تزوجها (ص)
وهو حلال أرجح لان كان السفير بينهما، أي بين النبي (ص)
وبين ميمونة، ولأنها رواية أكثر الصحابة، قال القاضي عياض: لم يرو أنه تزوجها محرما إلا
ابن عباس وحده حتى قال سعيد: ذهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها
رسول الله (ص) إلا بعد ما حل ذكره البخاري. ثم ظاهر النهي في الثلاثة
التحريم، إلا أنه قيل إن النهي في الخطبة للتنزيه وإنه إجماع، فإن صح الاجماع فذاك ولا أظن
192

صحته، وإلا فالظاهر هو التحريم. ثم رأيت بعد هذا نقلا عن ابن عقيل الحنبلي أنها تحرم
الخطبة أيضا، قال ابن تيمية: لان النبي (ص) نهى عن الجميع نهيا واحدا ولم
يفصل وموجب النهي التحريم وليس ما يعارض ذلك من أثر أو نظر.
(وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في قصة صيده الحمار الوحشي وهو
غير محرم) وكان ذلك عام الحديبية (قال: فقال رسول الله (ص) لأصحابه وكانوا
محرمين: هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشئ؟ فقالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي
من لحمه متفق عليه) قد استشكل عدم إحرام أبي قتادة وقد جاوز الميقات وأجيب
عنه بأجوبة. منها: أنه كان قد بعثه (ص) هو وأصحابه لكشف عدو لهم بالساحل.
ومنها أنه لم يخرج مع النبي (ص) بل بعثه أهل المدينة. ومنها أنها لم تكن المواقيت
قد وقتت في ذلك الوقت. والحديث دليل على جواز أكل المحرم لصيد البر، والمراد به إن
صاده غير محرم ولم يكن منه إعانة على قتله بشئ وهو رأي الجماهير والحديث نص فيه.
وقيل: لا يحل أكله، وإن لم يكن منه إعانة عليه. ويروى هذا عن علي وابن عباس
وابن عمر رضي الله عنهم وهو مذهب الهادوية عملا بظاهر قوله تعالى: * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *
بناء على أنه أريد بالصيد المصيد. وأجيب عنه: بأن المراد في الآية: الاصطياد، ولفظ الصيد وإن
كان مترددا بين المعنيين، لكن بين حديث أبي قتادة المراد. وزاده بيانا حديث جابر بن عبد الله
عنه (ص) أنه قال: صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم أخرجه
أصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم إلا أن في بعض رواته مقالا بينه المصنف
في التلخيص. وعلى تقدير أن المراد في الآية الحيوان الذي يصاد فقد ثبت تحريم الاصطياد
من آيات أخر ومن أحاديث. ووقع البيان بحديث جابر فإنه نص في المراد. والحديث فيه
زيادة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: هل معكم من لحكمه شئ وفي رواية: هل معكم منه
شئ قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلها إلا أنه لم يخرج
الشيخان هذه الزيادة واستدل المانع لاكل المحرم الصيد مطلقا بقوله:
(وعن الصعب) بفتح الصاد المهملة وسكون العين المهملة فموحدة (ابن جثامة)
بفتح الجيم وتشديد المثلثة (الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله (ص) حمارا وحشيا)
وفي رواية: حمار وحش يقطر دما، وفي أخرى: لحم حمار وحش، وفي أخرى: عجز حمار وحش
، وفي رواية: عضدا من لحم صيد، كلها في مسلم (وهو بالأبواء) ممدود (أو بودان)
بفتح الواو وتشديد الدال المهملة وكان ذلك في حجة الوداع (فرده عليه وقال: إنا لم نرده)
بفتح الدال رواه المحدثون وأنكره المحققون من أهل العربية، وقالوا: صوابه ضمها لأنه القاعدة في
تحريك الساكن إذا كان بعده ضمير المذكر الغائب على الأصح، وقال النووي في شرح مسلم:
في رده ونحوه للمذكر ثلاثة أوجه أوضحها الضم والثاني الكسر وهو ضعيف والثالث
الفتح وهو أضعف منه، بخلاف ما إذا اتصل به ضمير المؤنث، نحو ردها فإنه بالفتح (عليك
إلا أنا حرم) بضم الحاء والراء أي محرمون (متفق عليه). دل على أنه لا يحل لحم الصيد
193

للمحرم مطلقا، لأنه علل (ص) رده لكونه محرما، ولم يستفصل هل صاده لأجله
أولا، يدل على التحريم مطلقا، وأجاب من جوزه بأنه محمول على أنه صيد لأجله (ص)
، فيكون جمعا بينه وبين حديث أبي قتادة، والجمع بين الأحاديث إذا أمكن وأولى
من إطراح بعضها، وقد دل لهذا أن في حديث أبي قتادة الماضي عند أحمد وابن ماجة بإسناد
جيد: إنما صدته له وأنه أمر أصحابه أن يأكلون ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له
. قال أبو بكر النيشابوري قوله: لك وأنه لم يأكل منه: لا أعلم أحدا قاله في هذا
الحديث غير معمر. قلت: معمر ثقة لا يضر تفرده ويشهد للزيادة حديث جابر الذي
قدمناه. وفي الحديث دليل على أنه ينبغي قبول الهدية وإبانة المانع من قبولها إذا ردها
. واعلم أن ألفاظ الروايات اختلفت فقال الشافعي: إن كان الصعب أهدى للنبي صلى
الله تعالى عليه وعلى أهل وسلم الحمار حيا فليس للمحرم ذبح حمار وحشي، وإن كان أهدى لحم حمار
فيحتمل أنه (ص) قد فهم أنه صاده لأجله، وأما رواية أنه (ص)
أكل منه التي أخرجها البيهقي فقد ضعفها ابن القيم، ثم إنه استقوى من الروايات رواية لحم
حمار قال: لأنها لا تنافي رواية من روى حمارا لأنه قد يسمى الجزء باسم الكل وهو شائع
في اللغة، ولان أكثر الروايات اتفقت أنه بعض من أبعاض الحمار، وإنما وقع الاختلاف في
ذلك البعض ولا تناقض بينها فإنه يحتمل أن يكون المهدي من الشق الذي فيه العجز الذي فيه رجله.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (ص): خمس
من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة) بكسر الحاء
المهملة وفتح الدال بعدها همزة (والعقرب) يقال على الذكر والأنثى وقد يقال عقربة
(والفأرة) بهمزة ساكنة ويجوز تخفيفها ألفا (والكلب العقور متفق عليه) وفي رواية
في البخاري زيادة ذكر الحية فكانت ستا، وقد أخرجها بلفظ ست أبو عوانة وسرد الخمس
مع الحية، ووقع عند أبي داود زيادة السبع العادي، فكانت سبعا، ووقع عند أبي خزيمة
وابن المنذر زيادة: الذئب والنمر، فكانت تسعا إلا أنه نقل عن الذهلي أنه ذكرهما في تفسير
الكلب العقور، ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل رجاله ثقات. وأخرج أحمد مرفوعا
الامر للمحرم بقتل الذئب وفيه راو ضعيف. وقد دلت هذه الزيادات أن مفهوم العدد غير
مراد من قوله خمس. والدواب: بتشديد الباء جمع دابة وهو ما دب من الحيوان، وظاهره أنه
يسمى الطائر دابة، وهو يطابق قوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) *، * (وكأين
من دابة لا تحمل رزقها) * وقيل: يخرج الطائر من لفظ الدابة لقوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض
ولا طائر يطير بجناحيه) * ولا حجة فيه، لأنه يحتمل أنه عطف خاص على عام. هذا وقد
اختص في العرف لفظ الدابة بذوات الأربع القوائم. وتسميتها فواسق: لان الفسق لغة: الخروج
، ومنه * (ففسق عن أمر ربه) * أي خرج، ويسمى العاصي فاسقا، لخروجه عن طاعة ربه، ووصفت
المذكورة بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوانات، في تحريم قتل المحرم لها، وقيل
: لخروجها عن غيرها من الحيوانات في حل أكله لقوله تعالى: * (أو فسقا أهل لغير الله
به) * فسمي ما لا يؤكل فسقا قال تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله
194

عليه وأنه لفسق) *، وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بالايذاء والافساد وعدم الانتقاع
، فهذه ثلاث علل استخرجها العلماء في حل قتل هذه الخمس. ثم اختلف أهل الفتوى
فمن قال بالأول، ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحرم. ومن قال بالثاني ألحق
كل ما لا يؤكل إلا ما نهي عن قتله. وهذا قد يجامع الأول، ومن قال بالثالث خص
الالحاق بما يحصل منه الافساد قاله المصنف في فتح الباري قلت: ولا يخفى أن هذه العلل
لا دليل عليها فيبعد الالحاق لغير المنصوص بها، والأحوط عدم الالحاق وبه قالت الحنفية إلا
أنهم ألحقوا الحية لثبوت الخبر والذئب لمشاركته للكلب في الكلبية وألحقوا بذلك من ابتدأ
بالعدوان والأذى من غيرها. قال ابن دقيق: والتعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذ قوي
بالنظر إلى تصرف أهل القياس، فإنه ظاهر من جهة الايمان بالتعليل بالفسق، وهو الخروج عن
الحد انتهى. قلت: ولا يخفى أنه قد اختلف في تفسير فسقها على ثلاثة أقوال كما عرفت
فلا يتم تعيين واحد منها علة بالايماء فلا يتم الالحاق به. وإذا جاز قتلهن للمحرم جاز
للحلال بالأولى، وقد ورد بلفظ يقتلن في الحل والحرم عند مسلم، وفي لفظ ليس على
المحرم في قتلهن جناح فدل أنه يقتلها المحرم في الحرم وفي الحل بالأولى. وقوله: يقتلن
إخبار بحل قتلها وقد ورد بلفظ نفي الجناح ونفي الحرج على قاتلهن فدل على
حمل الامر على الإباحة. وأطلق في هذه الرواية لفظ الغراب، وقيد عند مسلم من حديث عائشة
بالأبقع وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، فذهب بعض أئمة الحديث إلى تقييد المطلق
بهذا وهي القاعدة في حمل المطلق على المقيد. والقدح في هذه الزيادة بالشذوذ وتدليس الراوي
مدفوع بأنه صرح الراوي فلا تدليس وبأنها زيادة من عدل ثقة حافظ فلا شذوذ.
قال المصنف: قد اتفق العلماء على اخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب، ويقال له غراب
الزرع، وقد احتجوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملحقا بالأبقع. والمراد بالكلب
: هو المعروف وتقييده بالعقور يدل أنه لا يقتل غير العقور ونقل عن أبي هريرة تفسير
الكلب العقور: بالأسد، وعن زيد بن أسلم تفسيره: بالحية، وعن سفيان أنه الذئب خاصة
، وقال مالك: كل ما عقر الناس وأخافهم وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب هو
الكلب العقور، ونقل عن سفيان وهو قول الجمهور واستدل لذلك بقوله (ص)
: اللهم سلط عليهم كلبا من كلابك فقتله الأسد، وهو حديث حسن أخرجه الحاكم.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) احتجم وهو
محرم) وذلك في حجة الوداع بمحل يقال له لحي جبل بين مكة والمدينة (متفق عليه). دل على
جواز الحجامة للمحرم، وهو إجماع في الرأس وغيره إذا كان لحاجة فإن قلع من الشعر شيئا
كان عليه فدية الحلق وإن لم يقلع فلا فدية عليه. وإن كانت الحجامة لغير عذر، فإن كانت
في الرأس حرمت إن قطع معها شعر لحرمة قطع الشعر وإن كانت في موضع لا شعر فيه فهي
195

جائزة عند الجمهور ولا فدية. وكرهها قوم وقيل: يحب فيه الفدية. وقد نبه الحديث على
قاعدة شرعية وهي أن محرمات الاحرام من الحلق وقتل الصيد ونحوهما، تباح للحاجة وعليه
الفدية، فمن احتاج إلى حلق رأسه أو لبس قميصه مثلا، لحر أو برد، أبيح له ذلك ولزمته الفدية
، وعليه دل قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) * الآية، وبين قدر الفدية
الحديث وهو قوله:
(وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه) بضم المهملة وسكون الجيم وبالراء كعب صحابي
جليل حليف الأنصار نزل الكوفة ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين (قال حملت) مغير
الصيغة (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى)
بضم الهمزة أي أظن (الوجع بلغ بك ما أرى) بفتح الهمزة من الرؤية (أتجد شاة؟
قلت: لا، قال: تصوم ثلاثة أيام أو تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف
صاع متفق عليه)، وفي رواية للبخاري مر بي رسول الله (ص) بالحديبية
ورأسي يتهافت قملا فقال: أتؤذيك هوامك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك. الحديث
وفيه فقال: نزلت في هذه الآية: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) * الآية. وقد
روي الحديث بألفاظ عديدة وظاهره أنه يجب تقديم النسك على النوعين الآخرين إذا
وجد، وظاهر الآية الكريمة وسائر روايات الحديث أنه مخير في الثلاث جميعا ولذا قال
البخاري في أول باب الكفارات: خير النبي (ص) كعبا في الفدية وأخرج
أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة. أنه صلى الله عليه وسلم قال
: إن شئت فانسك نسيكة وإن شئت فصم ثلاثة أيام وإن شئت فأطعم. والحديث. والظاهر
أن التخيير إجماع. وقوله: نصف صاع أخذ جماهير العلماء بظاهره إلا ما يروى عن
أبي حنيفة والثوري أنه نصف صاع من حنطة وصاع من غيرها.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسول (ص) مكة) أراد به
فتح مكة وأطلقه لأنه المعروف (قام رسول الله (ص) في الناس) أي خطيبا
وكان قيامه ثاني الفتح (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل)
تعريفا لهم بالمنة التي من الله تعالى بها عليهم وهي قصة معروفة مذكورة في القرآن (وسلط
عليها رسوله والمؤمنين) ففتحوها عنوة (وإنها لم تحل لاحد كان قبلي، وإنما أحلت
لي ساعة من نهار) هي ساعة دخوله إياها (وإنها لن تحل لاحد بعدي، فلا ينفر)
بالبناء للمجهول (صيدها) أي لا يزعجه أحد ولا ينحيه عن موضعه (ولا يختلى) بالخاء
المعجمة مبني للمجهول أيضا (شوكها) أي لا يؤخذ ويقطع (ولا تحل ساقطتها) أي
لقطتها وهو بهذا اللفظ في رواية (إلا لمنشد) أي معرف لها يقال له: منشد، وطالبها ناشد
(ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدي وإما أن يقيد) إما أخذ الدية أو قتل القاتل (فقال
العباس: إلا الإذخر يا رسول الله) بكسر الهمزة وسكون الذال المعجمة فخاء معجمة مكسورة
196

: نبت معروف طيب الرائحة (فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا فقال: إلا الإذخر متفق عليه)
. فيه دليل على أن فتح مكة عنوة، لقوله لم تحل وقوله: سلط عليها وقوله: لا تحل وعلى
ذلك الجماهير. وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحا لأنه (ص) لم يقسمها على
الغانمين كما قسم خيبر، وأجيب عنه بأنه (ص) من على أهل مكة وجعلهم
الطلقاء وصانهم عن القتل والسبي للنساء والذرية واغتنام الأموال، إفضالا منه على قرابته
وعشيرته. وفيه دليل على أنه لا يحل القتال لاحد بعده (ص) بمكة. قال
الماوردي: من خصائص الحرم أنه لا يحارب أهله وإن بغوا على أهل العدل، وقالت
طائفة بجوازه وفي المسألة خلاف. وتحريم القتال فيها هو الظاهر. قال القرطبي: ظاهر
الحديث يقتضي تخصيصه (ص) بالقتال لاعتذاره عن ذلك الذي أبيح له مع أن
أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال لصدهم عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه، وكفرهم
، وقال به غير واحد من أهل العلم. قال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث
دل على المأذون فيه للنبي (ص) ولم يؤذن فيه لغيره، ويؤيده قوله (ص)
: فإن ترخص أحد لقتال رسول الله (ص) فقولوا: إن الله أذن لرسوله
ولم يأذن لكم فدل أن حال القتال فيها من خصائصه (ص). ودل على تحريم تنفير
صيدها وبالأولى تحريم قتله، وعلى تحريم قطع شوكها، ويفيد تحريم قطع ما لا يؤذي بالأولى.
ومن العجب أنه ذهب الشافعي إلى جواز قطع الشوك من فروع الشجر كما نقله عنه أبو ثور وأجازه
جماعة غيره، ومنهم الهادوية وعللوا ذلك بأنه يؤذي فأشبه الفواسق. قلت: وهذا من تقديم القياس
على النص وهو باطل على أنك عرفت أنه لم يقم دليل على أن علة قتل الفواسق هو الأذية.
واتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لم ينبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع
خلاها وهو الرطب من الكلأ فإذا يبس فهو الحشيش، واختلفوا فيما ينبته الآدميون فقال
القرطبي: الجمهور على الجواز. وأفاد أنها لا تحل لقطتها إلا لمن يعرف بها أبدا ولا يتملكها،
وهو خاص بلقطة مكة، وأما غيرها فيجوز أن يلتقطها بنية التملك بعد التعريف بها سنة،
ويأتي ذكر الخلاف في المسألة في باب اللقطة إن شاء الله تعالى. وفي قوله: ومن قتل له قتيل
فهو بخير النظرين دليل على أن الخيار للولي ويأتي الخلاف في ذلك في باب الجنايات
. وقوله: نجعله في قبورنا أي نسد به خلل الحجارة التي تجعل على اللحد، وفي البيوت كذلك
يجعل فيما بين الخشب على السقوف. وكلام العباس يحتمل أنه شفاعة إليه (ص)
، ويحتمل أنه اجتهاد منه لما علم من أن العموم غالبه التخصيص كأنه يقول هذا ما تدعو
إليه الحاجة، وقد عهد في الشريعة عدم الحرج فقرر (ص) كلامه، واستثناؤه ما بوحي أو اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم. (وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: إن إبراهيم حرم مكة) وفي رواية إن الله حرم مكة ولا منافاة فالمراد أن
الله حكم بحرمتها وإبراهيم أظهر هذا الحكم على العباد (ودعا لأهلها) حيث قال: * (رب
197

اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات) * وغيرها من الآيات (وإني حرمت المدينة)
هي علم بالغلبة لمدينته (ص) التي هاجر إليها فلا يتبادر عند إطلاق لفظها
إلا هي (كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها) أي فيما يكال بهما
لأنهما مكيالان معروفان (بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة متفق عليه). المراد من تحريم مكة
: تأمين أهلها من أن يقاتلوا، وتحريم من يدخلها لقوله تعالى: * (ومن دخله كان آمنا) *، وتحريم
صيدها وقطع شجرها، وعضد شوكها. والمراد من تحريم المدينة: تحريم صيدها، وقطع شجرها
، ولا يحدث فيها حدث. وفي تحديد حرم المدينة خلاف ورد تحديده بألفاظ كثيرة ورجحت
رواية ما بين لابتيها لتوارد الرواة عليها.
(وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي (ص) المدينة حرم
ما بين عير) بالعين المهملة فمثناة تحتية فراء جبل بالمدينة (إلى ثور رواه مسلم) ثور
بالمثلثة وسكون الواو وآخره راء في القاموس إنه جبل بالمدينة، قال: وفيه الحديث الصحيح
، وذكر هذا الحديث، ثم قال: وأما قول أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من الأكابر الاعلام:
إن هذا تصحيف، والصواب إلى أحد لان ثورا إنما هو بمكة فغير جيد، لما أخبرني الشجاع
الثعلبي الشيخ الزاهد عن الحافظ أبي محمد بن عبد السلام البصري أن حذاء أحد جانحا
إلى ورائه جبلا صغيرا يقال له ثور، وتكرر سؤالي عنه طوائف من العرب العارفين بتلك
الأرض فكل أخبرني أن اسمه ثور ولما كتب إلي الشيخ عفيف الدين المطري عن والده
الحافظ الثقة قال: إن خلف أحد عن شماله جبلا صغيرا مدورا يسمى ثورا يعرفه أهل المدينة
خلف عن سلف انتهى. وهو لا ينافي حديث.. ما بين لابتيها لأنهما حرتان يكتنفانها كما
في القاموس وعير وثور مكتنفان المدينة فحديث عير وثور يفسر اللابتين.
باب صفة الحج ودخول مكة
أراد به: بيان المناسك والآتيان بها مرتبة، وكيفية وقوعها، وذكر حديث جابر وهو واف
بجميع ذلك.
(عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) حج)
عبر بالماضي لأنه روى ذلك بعد تقضي الحج حين سأله عنه محمد بن علي بن الحسين كما
في صحيح مسلم (فخرجنا معه) أي من المدينة (حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت
عميس) بصيغة التصغير امرأة أبي بكر يعني محمد بن أبي بكر (فقال) أي النبي (ص)
: (اغتسلي واستثفري) بسين مهملة فمثناة فوقية فثاء مثلثة ففاء ثم راء هو: شد المرأة على
وسطها شيئا ثم تأخذ خرقة عريضة تجعلها في محل الدم وتشد طرفيها من ورائها ومن قدامها
إلى ذلك الذي شدته في وسطها وقوله (بثوب) بيان لما تستثفر به (وأحرمي) فيه: أنه
لا يمنع النفاس صحة عقد الاحرام (فصلى رسول الله (ص)) أي صلاة الفجر
198

كذا ذكره النووي في شرح مسلم، والذي في الهدي النبوي أنها صلاة الظهر، وهو الأولى
لأنه (ص) خمس صلوات بذي الحليفة الخامسة هي الظهر، وسافر بعدها
(في المسجد ثم ركب القصواء) بفتح القاف فصاد مهملة فواو فألف ممدودة - وقيل: بضم
القاف مقصور وخطئ من قاله - لقب لناقته صلى الله عليه وسلم (حتى إذا استوت به على
البيداء) اسم محمل (أهل) رفع صوته (بالتوحيد) أي إفراد التلبية لله وحده بقوله: (لبيك
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) وكانت الجاهلية تزيد في التلبية: إلا
شريكا هو لك تملكه وما ملك (إن الحمد) بفتح الهمزة وكسرها والمعنى واحد وهو
التعليل (والنعمة لك والملك، لا شريك لك حتى إذا أتينا استلم الركن) أي
مسحه بيده، وأراد به الحجر الأسود، وأطلق الركن عليه لأنه قد غلب على اليماني (فرمل)
أي في طوافه بالبيت أي أسرع في مشيه مهرولا (ثلاثا) أي مرات (ومشى أربعا، أتى
إلى مقام إبراهيم فصلى) ركعتي الطواف (ورجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب) أي
باب الحرم (إلى الصفا، فلما دنا) أي قرب (من الصفا قرأ * (إن الصفا والمروة من
شعائر الله) * ابدأوا في الاخذ في السعي (بما بدأ الله به فرقي) بفتح القاف (الصفا
حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره) وبين ذلك بقوله: (وقال: لا إله إلا الله
وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير لا إله
إلا الله أنجز وعده) بإظهاره تعالى للدين (ونصر عبده) يريد به نفسه، (وهزم
الأحزاب) في يوم الخندق، (وحده) أي من غير قتال الآدميين ولا سبب لانهزامهم
كما أشار إليه قوله تعالى: * (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) * أو المراد كل من تحزب لحربه
صلى الله عليه وسلم فإنه هزمهم (ثم دعا بين ذلك ثلاث مرات) دل أنه كرر الذكر المذكور
ثلاثا (ثم نزل) منتهيا (إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) قال عياض:
فيه اسقاط لفظة لا بد منها وهي حتى انصبت قدماه فرمل في بطن الوادي فسقط لفظ
رمل قال: وقد ثبتت هذه اللفظة في رواية لمسلم وكذا ذكرها الحميدي في الجمع بين
الصحيحين (حتى إذا صعدتا) من بطن الوادي (مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل
على الصفا) من استقباله القبلة إلى آخر ما ذكر (فذكر) أي جابر (الحديث) بتمامه
واقتصر المصنف على محل الحاجة (وفيه) أي في الحديث (فلما كان يوم التروية) بفتح
المثناة الفوقية فراء وهو الثامن من شهر ذي الحجة سمي بذلك لأنهم يتروون فيه إذ لم يكن
بعرفة ماء (توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب (ص) فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء
والفجر ثم مكث) بفتح الكاف ثم مثلثة: لبث (قليلا) أي بعد صلاة الفجر (حتى طلعت
الشمس، فأجاز) أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها (حتى أتى عرفة) أي قرب منها لا أنه دخلها
بدليل (فوجد القبة) خيمة صغيرة (قد ضربت له بنمرة) بفتح النون وكسر الميم فراء فتاء
تأنيث محل معروف (فنزل بها) فإن نمرة ليست من عرفات (حتى إذا زاغت الشمس أمر
199

بالقصواء فرحلت له) مغير الصيغة مخفف الحاء المهملة: أي وضع عليها رحلها (فأتى بطن
الوادي) وادي عرفة (فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر)
جمعا غير أذان (ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته
القصواء إلى الصخرات وجعل حبل) فيه ضبطان بالجيم والحاء المهملة والموحدة إما مفتوحة
أو ساكنة (المشاة) وبها ذكره في النهاية وفسره بطريقهم الذي يسلكونه في الرمل وقيل
أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل (بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل
واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص) قال في شرح مسلم:
هكذا في جميع النسخ وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ قال: قيل: لعل صوابه حين غاب
القرص قال: ويحتمل أن يكون قوله: حتى غاب القرص بيانا لقوله غربت الشمس
وذهبت الصفرة فإن هذه قد تطلق مجازا على مغيب معظم القرص فانزال ذلك الاحتمال
بقوله حتى غاب القرص (ودفع، وقد شنق) بتخفيف النون: ضم وضيق (للقصواء الزمام
، حتى إن رأسها ليصيب مورك) بفتح الميم وكسر الراء (رحله) بالحاء المهملة الموضع الذي
يثني الراكب رجله عليه قدام وسط الرحل إذا مل من الركوب (ويقول بيده اليمنى) أي
يشير بها قائلا: (يا أيها الناس: السكينة. السكينة) بالنصب أي ألزموا (كلما أتى حبلا) بالمهملة
وسكون الموحدة من حبال الرمل وحبل الرمل ما طال منه وضخم (أرخى لها قليلا حتى
تصعد) بفتح المثناة وضمها يقال: صعد وأصعد (حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب
والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح) أي لم يصل (بينهما شيئا) أي نافلة (ثم اضطجع
حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر
الحرام) وهو جبل معروف في المزدلفة يقال له قزح بضم القاف وفتح الزاي وحاء مهملة
(فاستقبل القبلة فدعا وكبر وهلل، فلم يزل واقفا حتى أسفر) أي الفجر (جدا) بكسر
الجيم إسفارا بليغا (فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن محسر) بضم الميم وفتح المهملة
وكسر السين المهملة المشددة سمي بذلك لان فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي كل وأعيا
(فحرك قليلا) أي حرك لدابته لتسرع في المشي وذلك مسافة مقدار رمية حجر (ثم سلك
الطريق الوسطى) وهي غير الطريق التي ذهب فيها إلى عرفات (التي تخرج على الجمرة
الكبرى) وهي جمرة العقبة (حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة) وهي حد لمنى وليست منها،
والجمرة: اسم لمجتمع الحصى سميت بذلك: لاجتماع الناس، يقال: أجمر بنو فلان إذا اجتمعوا
(فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف) وقدره
مثل حبة الباقلاء (رمى من بطن الوادي) بيان لمحل الرمي (ثم انصرف إلى المنحر فنحر، ثم
ركب رسول الله (ص) فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر) فيه حذف أي فأفاض
إلى البيت فطاف به طواف الإفاضة ثم صلى الطهر وهذا يعارضه حديث ابن عمر أنه
صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمنى وجمع بينهما بأنه صلى بمكة ثم أعاده بأصحابه
جماعة بمنى لينالوا فضل الجماعة خلفه (رواه مسلم مطولا وفيه زيادات حذفها المصنف
200

واقتصر على محل الحاجة هنا. واعلم أن هذا حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، قال
القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر
جزءا كبيرا أخرج فيه من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا، وقال: ولو تقصى لزيد على هذا العدد
أو قريب منه. قلت: وليعلم أن الأصل في كل ما ثبت أنه فعله (ص) في حجه
الوجوب، لامرين أحدهما: أن أفعاله في الحج بيان الحج الذي أمر الله به، والأفعال في بيان
الوجوب محمولة على الوجوب. والثاني وقوله (ص): خذوا عني مناسككم فمن
ادعى عدم وجوب شئ من أفعاله في الحجة فعليه الدليل، ولنذكر ما يحتمله المختصر من
فوائده ودلائله. ففيه دلالة على أن غسل الاحرام سنة للنفساء والحائض ولغيرهما بالأولى،
وعلى استثفار الحائض والنفساء. وعلى صحة إحرامهما. وأن يكون الاحرام عقيب صلاة فرض
أو نفل فإنه قد قيل: إن الركعتين اللتين أهل بعدهما فريضة الفجر، وأنه يرفع صوته بالتلبية
، قال العلماء: ويستحب الاقتصار على تلبية النبي (ص) فلو زاد فلا بأس،
فقد زاد عمر رضي الله عنه لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك مرهوبا منك ومرغوبا
إليك. وابن عمر رضي الله عنهما لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل. وأنس
رضي الله عنه لبيك حقا حقا تعبدا ورقا. وأنه ينبغي للحاج القدوم أولا مكة ليطوف طواف
القدوم، وأن يستلم الركن قبل طوافه، ثم يرمل في الثلاثة الأشواط الأول، والرمل: إسراع
المشي مع تقارب الخطأ، وهو الخبب، ثم يمشي سريعا أربعا على عادته، وأنه يأتي بعد تمام طوافه
مقام إبراهيم ويتلو * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * ثم يجعل المقام بينه وبين البيت ويصلي
ركعتين، وقد أجمع العلماء على أنه ينبغي لكل طائف إذا طاف بالبيت أنه يصلي خلف المقام
ركعتي الطواف واختلفوا هل هما واجبتان أم لا فقيل بالوجوب، وقيل إن كان الطواف
واجبا وإلا فسنة، وهل يجبان خلف مقام إبراهيم حتما أو يجزئان في غيره؟ فقيل يجبان
خلفه، وقيل يندبان خلفه ولو صلاهما في الحجر أو في المسجد الحرام أو في أي محل من
مكة جاز وفاتته الفضيلة. وورد في القراءة فيهما في الأولى بعد الفاتحة الكافرون والثانية
بعدها الصمد رواه مسلم. ودل على أنه يشرع له الاستلام عند الخروج من المسجد كما فعله
عند الدخول، واتفقوا أن الاستلام سنة، وأنه يسعى بعد الطواف، ويبدأ بالصفا ويرقى إلى أعلاه
، ويقف مستقبلا القبلة ويذكر الله تعالى بهذا الذكر، ويدعو ثلاث مرات، وفي الموطأ
: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى. وقد قدمنا لك أن في رواية مسلم سقطا
فدلت رواية الموطأ أنه يرمل في بطن الوادي، وهو الذي يقال له بين الميلين وهو مشروع
في كل مرة من السبعة الأشواط لا في الثلاثة الأول كما في طواف القدوم بالبيت. وأنه يرقى
أيضا على المروة كما رقى على الصفا ويذكر ويدعو وبتمام ذلك تتم عمرته فإن حلق أو
قصر صار حلالا، وهكذا فعل الصحابة الذي أمرهم (ص) بفسخ الحج إلى
العمرة. وأما من كان قارنا فإنه لا يحلق ولا يقصر ويبقى على إحرامه. ثم في يوم التروية - وهو
ثامن ذي الحجة - يحرم من أراد الحج ممن حل من عمرته ويطلق هو ومن كان قارنا إلى منى
201

كما قال جابر: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى أي توجه من كان باقيا على إحرامه
لتمام حجه ومن كان قد صار حلالا أحرم وتوجه إلى منى وتوجه صلى الله عليه وسلم
إليها راكبا فنزل به وصلى الصلوات الخمس. فيه أن الركوب أفضل من المشي في تلك
المواطن، وفي الطريق أيضا، وفيه خلاف ودليل الأفضلية فعله (ص). وأن السنة أن
يصلي بمنى الصلوات الخمس وأن يبيت بها هذه الليلة وهي ليلة التاسع من
ذي الحجة. وأن السنة ألا يخرجوا يوم عرفة من منى إلا بعد طلوع الشمس. وأن السنة أن
لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس. وأن يصلوا الظهر والعصر جمعا بعرفات فإنه (ص)
نزل بنمرة وليست من عرفات ولم يدخل إلى الموقف إلا بعد الصلاتين، وأن
لا يصلى بينهما شيئا. وأن السنة أن يخطب الامام الناس قبل صلاة العصرين، وهذه إحدى
الأربع الخطب المسنونة، والثانية يوم السابع من ذي الحجة عند الكعبة بعد صلاة
الظهر، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق
. وفي قوله: ثم ركب حتى أتى الموقف إلى آخره. (سنن وآداب) منها: أن يجعل الذهاب إلى
الموقف عند فراغه من الصلاتين. ومنها أن الوقوف راكبا أفضل، ومنها أن يقف عند الصخرات
وهي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات. ومنها
استقبال القبلة في الوقوف. ومنها أنه يبقى في الموقف حتى تغيب الشمس ويكون
في وقوفه داعيا فإنه (ص) وقف على راحلته راكبا يدعو الله عز وجل
وكان في دعائه رافعا يديه إلى صدره وأخبرهم أن خير الدعاء دعاء يوم عرفه وذكر من
دعائه في الموقف اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول. اللهم لك صلاتي ونسكي
ومحياي مماتي وإليك مآبي ولك تراثي. اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسواس الصدر
وشتات الامر اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجئ به الريح ذكره الترمذي. ومنها أن
يدفع بعد تحقق غروب الشمس بالسكينة ويأمر بها الناس إن كان مطاعا، ويضم زمام مركوبه
لئلا يسرع في المشي إلا إذا أتى جبلا من جبال الرمال أرخاه قليلا ليخف على مركوبه
صعوده. فإذا أتى المزدلفة نزل بها وصلى المغرب والعشاء جمعا بأذان واحد وإقامتين وهذا
الجمع متفق عليه وإنما اختلفوا في سببه فقيل: لأنه نسك وقيل: لأجل أنهم مسافرون وأنه
لا يصلي بينهما شيئا. وقوله: ثم اضطجع حتى طلع الفجر فيه سنن نبوية المبيت بمزدلفة وهو
مجمع على أنه نسك إنما اختلفوا هل هو واجب أو سنة، والأصل فيما فعله (ص)
في حجته الوجوب كما عرفت، وأن السنة أن يصلي الصبح بالمزدلفة ثم يدفع منها بعد
ذلك فيأتي المشعر الحرام فيقف به ويدعو والوقوف عنده من المناسك ثم يدفع منه عند
إسفار الفجر إسفارا بليغا فيأتي بطن محسر فيسرع السير فيه لأنه محل غضب الله فيه على
أصحاب الفيل فلا ينبغي الأناة فيه ولا البقاء به، فإذا أتى الجمرة وهي جمرة العقبة نزل ببطن
الوادي ورماها بسبع حصيات كل حصاة كحبة الباقلا يكبر مع كل حصاة، ثم ينصرف بعد
ذلك إلى المنحر فينحر إن كانت عنده بدنة يريد نحوها، وأما هو (ص) فإنه
202

نحر بيده الشريفة ثلاثا وستين بدنة وكان معه مائة بدنة فأمر عليا عليه السلام بنحر
باقيها ثم ركب إلى مكة فطاف طواف الإفاضة وهو الذي يقال له طواف الزيارة ومن
بعده يحل له كل ما حرم بالاحرام حتى وطئ النساء، وأما إذا رمى جمرة العقبة ولم يطف هذا
الطواف فإنه يحل له ما عدا النساء، فهذه الجمل من السنن والآداب التي أفادها هذا الحديث
الجليل من أفعاله صلى الله عليه وسلم تبين كيفية أعمال الحج وفي كثير مما دل عليه هذا
الحديث الجليل مما سقناه خلاف بين العلماء كثير، في وجوبه وعدم وجوبه، وفي لزوم
الدم بتركه وعدم لزومه، وفي صحة الحج إن ترك منه شيئا وعدم صحته، وقد طول بذكر
ذلك في الشرح، واقتصرنا على ما أفاده الحديث فالآتي بما اشتمل عليه هو الممتثل لقوله صلى الله
عليه وسلم: خذوا عني مناسككم والمقتدي به في أفعاله وأقواله.
(وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: أن النبي (ص) كان إذا فرغ
من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار رواه الشافعي بإسناد
ضعيف. سقط هذا الحديث من نسخة الشارح التي وقفنا عليها فلم يتكلم عليه ووجه ضعفه
أن فيه: صالح بن محمد بن أبي زائدة أبو واقد الليثي ضعفوه. والحديث دليل على استحباب
الدعاء بعد الفراغ من كل تلبية يلبيها المحرم في أي حين بهذا الدعاء ونحوه ويحتمل أن المراد
بالفراغ منها انتهاء وقت مشروعيتها وهو عند رمي جمرة العقبة، والأول أوضح.
(وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): نحرت
هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم) جمع رحل وهو المنزل (ووقفت
هاهنا وعرفة كلها موقف) وحد عرفة ما خرج وادي عرفة إلى الجبال المقابلة مما يلي
بني عامر (ووقفت ههنا وجمع كلها موقف رواه مسلم) أفاد (ص)
أنه لا يتعين على أحد نحره حيث نحر، ولا وقوفه بعرفة، ولا جمع حيث وقف، بل ذلك موسع
عليهم حيث نحروا في أي بقعة من بقاع منى، فإنه يجزئ عنهم، وفي أي بقعة من بقاع عرفه
وجمع وقفوا أجزأ، وهذه زيادات في بيان التخفيف عليهم، وقد كان (ص)
أفاده تقريره لمن حج معه ممن لم يقف في موقفه ولم ينحر من منحره إذ من المعلوم أنه حج
معه أمم لا تحصى، ولا يتسع لها مكان وقوفه ونحره، هذا والدم الذي محله منى هو دم القران
والتمتع. والاحصار والافساد والتطوع بالهدى وأما الذي يلزم المعتمر فمحله مكة وأما سائر
الدماء اللازمة من الجزاءات فمحلها الحرم المحرم وفي ذلك خلاف معروف.
(وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) لما جاء إلى مكة دخلها
من أعلاها وخرج من أسفلها متفق عليه. هذا إخبار عن دخوله صلى الله عليه وسلم عام
الفتح فإنه دخلها من محل يقال له كداء بفتح الكاف والمد غير منصرف، وهي الثنية التي ينزل
منها إلى المعلاة مقبرة أهل مكة وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي ثم
سهلت كلها في زمن سلطان مصر المؤيد في حدود عشرين وثمانمائة، وأسفل مكة هي التثنية
203

فلي يقال لها كدى بضم القاف والقصر عند باب الشبيكة ويقول أهل مكة: افتح
وادخل وضم واخرج. ووجه دخوله صلى الله عليه وسلم من الثنية العليا ما روي أنه قال
أبو سفيان: لا أسلم حتى الخيل تطلع من كداء فقال له العباس: ما هذا؟ قال:
شئ طلع بقلبي وإن الله لا يطلع الخيل من هنالك أبدا قال العباس: فذكرت أبا سفيان
بذلك لما دخل رسول الله (ص) منها وعند البيهقي من حديث ابن عمر قال:
قال رسول الله (ص): كيف قال حسان فأنشده شعرا:
عدمت بنيتي إن لم تروها * تثير النقع مطلعها كداء
فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: ادخلوها من حيث قال حسان. واختلف في استحباب
الدخول من حيث دخل (ص) والخروج من حيث خرج فقيل: يستحب وأنه
يعدل إليه من لم يكن طريقه عليه، وقال البعض: وإنما فعله (ص) لأنه كان
على طريقه فلا يستحب لمن لم يكن كذلك. وقال ابن تيمية: يشبه أن يكون ذلك والله أعلم
أن الثنية العليا التي تشرف على الأبطح والمقابر إذا دخل منها الانسان فإنه يأتي من وجهة
البلد والكعبة ويستقبلها استقبالا من غير انحراف، بخلاف الذي يدخل من الناحية السفلى، لأنه
يستدبر البلد والكعبة فاستحب أن يكون ما يليه منها مؤخرا لئلا يستدبر وجهها.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يقدم مكة إلا بات) ليلة قدومه
(بذي طوى) في القاموس مثلثة الطاء وينون موضع قرب مكة (حتى يصبح
ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي (ص)) أي أنه فعله (متفق عليه). فيه
استحباب ذلك وأنه يدخل مكة نهارا وهو قول الأكثر. وقال جماعة من السلف غيرهم:
الليل والنهار سواء، والنبي (ص) دخل مكة في عمرة الجعرانة ليلا. وفيه دلالة
على استحباب الغسل لدخول مكة.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقبل الحجر الأسود ويسجد عليه
رواه الحاكم مرفوعا والبيهقي موقوفا. وحسنه أحمد، وقد رواه الأزرقي بسنده إلى محمد بن عباد
بن جعفر قال: رأيت ابن عباس جاء يوم التروية وعليه حلة، مرجلا رأسه، فقبل الحجر
الأسود وسجد عليه، ثم قبله وسجد عليه ثلاثا، رواه أبو يعلى بسنده من حديث أبي داود الطيالسي
عن جعفر بن عثمان المخزومي قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه
، وقال: رأيت خالي ابن عباس يقبل الحجر ويسجد عليه. وقال: رأيت عمر يقبل الحجر
ويسجد عليه وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وحديث عمر في صحيح
مسلم: أنه قبل الحجر والتزمه وقال: رأيت رسول الله (ص) بك حفيا يؤيد
هذا ففيه شرعية تقبيل الحجر والسجود عليه.
204

(وعنه) أي ابن عباس رضي الله عنهما. (قال: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم) أي أصحابه
الذين قدموا معه مكة في عمرة القضاء (أن يرملوا) بضم الميم (ثلاثة أشواط) أي يهرولون فيها
في الطواف (ويمشوا أربعا ما بين الركنين. متفق عليه).
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا
وفي رواية رأيت رسول الله (ص) إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم
فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ويمشي أربعة متفق عليه. وأصل ذلك ووجه حكمته
ما رواه ابن عباس قال: قدم رسول الله (ص) وأصحابه مكة، فقال المشركون
: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا
الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الابقاء عليهم
. أخرجه الشيخان، وفي لفظ مسلم: إن المشركين جلسوا مما يلي الحجر وإنهم حين رأوهم
يرملون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم؟ إنها لأجلد من كذا وكذا. وفي لفظ
لغيره إن هم إلا كالغزلان فكان هذا أصل الرمل، وسبب إغاظة المشركين ورد قولهم، وكان
هذا في عمرة القضاء ثم صار سنة، ففعله في حجة الوداع مع زوال سببه وإسلام من في مكة
وإنما لم يرملوا بين الركنين لان المشركين كانوا من ناحية الحجر عند قعيقعان فلم يكونوا يرون
من بين الركنين. وفيه دليل على أنه لا بأس بقصد إغاظة الأعداء بالعبادة وأنه لا ينافي
إخلاص العمل بل هو إضافة طاعة إلى طاعة وقد قال تعالى: * (ولا ينالون من عدو نيلا
إلا كتب لهم به عمل صالح) *.
(وعنه) أي ابن عباس رضي الله عنهما (قال: لم أر رسول الله (ص) يستلم
من البيت غير الركنين اليمانيين. رواه مسلم). اعلم أن للبيت أربعة أركان: الركن الأسود
ثم اليماني، ويقال لهما: اليمانيان بتخفيف الياء وقد تشدد وإنما قيل لهما اليمانيا تغليبا كالأبوين
والقريتين، والركنان الآخران يقال لهما: الشاميان وفي الركن الأسود فضيلتان كونه على
قواعد إبراهيم عليه السلام والثانية كونه فيه الحجر وأما اليماني ففيه فضيلة كونه على قواعد
إبراهيم، وأما الشاميان فليس فيهما شئ من هاتين الفضيلتين فلهذا خص الأسود بسنتي
التقبيل والاستلام للفضيلتين، وأما اليماني فيستلمه من يطوف ولا يقبله لان فيه فضيلة واحدة.
واتفقت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفق الجماهير على أنه لا يمسح الطائف
الركنين الآخرين. قال القاضي: وكان فيه أي في استلام الركنين الآخرين خلاف لبعض
الصحابة والتابعين وانقرض الخلاف وأجمعوا على أنهما لا يستلمان وعليه حديث الباب.
(وعن عمر رضي الله عنه: أنه قبل الحجر وقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر
ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله (ص) يقبلك ما قبلتك متفق عليه. وأخرج
مسلم من حديث سويد بن غفلة أنه قال: رأيت عمر قبل الحجر والتزمه وقال: رأيت رسول الله
(ص) بك حفيا. وأخرج البخاري بسنده إلى الزبير بن عربي قال: سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر
فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله قال: أرأيت إن
غلبت؟ فقال: ويح أرأيت باليمن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله. وروى الأزرقي
205

حديث عمر بزيادة وأنه قال له علي عليه السلام: بلى يا أمير المؤمنين هو يضر وينفع
قال: وأين ذلك؟ قال: في كتاب الله قال: وأين ذلك من كتاب الله عز وجل؟ قال:
قال الله: * (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم
قالوا بلى شهدنا، قال: فلما خلق الله آدم مسح ظهره فأخرج ذريته من صلبه فقررهم أنه
الرب وهم العبيد ثم كتب ميثاقهم في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له: افتح
فاك فألقمه ذلك الرق وجعله في هذا الموضع، وقال: تشهد لمن وافاك بالايمان يوم القيامة
، قال الراوي: فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن. قال
الطبري: إنما قال ذلك عمر لان الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشى عمر أن
يفهموا أن تقبيل الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية
فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه ابتاع لفعل رسول الله (ص) لا لان الحجر
ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان.
(وعن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله (ص) يطوف بالبيت
ويستلم الركن بمحجن) هي عصا محنية الرأس، (معه ويقبل المحجن. رواه مسلم)، وأخرج
الترمذي وغيره وحسنه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): يأتي
هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق، وروي
الأزرقي بإسناد صحيح من حديث ابن عباس، قال: إن هذا الركن يمين الله عز وجل
في الأرض يصافح بها خلقه، والذي نفس ابن عباس بيده ما من امرئ مسلم يسأل الله عنده
شيئا إلا أعطاه إياه. وحديث أبي الطفيل دال أنه يجزئ عن استلامه باليد استلامه بآلة
ويقبل الآلة كالمحجن والعصا، وكذلك إذا استلمه بيده قبل يده، فقد روى الشافعي: أنه
قال ابن حريج لعطاء هل رأيت أحدا من أصحاب رسول الله (ص) إذا استلموا
قبلوا أيديهم قال: نعم رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وأبا هريرة إذا استملوا
قبلوا أيديهم، فإن لم يمكن استلامه لأجل الزحمة قام حياله ورفع يده وكبر لما روي أنه (ص)
قال: يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعفاء إن
وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكير رواه أحمد والأزرقي، وإذا أشار بيده
فلا يقبلها لأنه لا يقبل إلا الحجر أو ما مس الحجر.
206

(وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: طاف النبي (ص) مضطبعا
ببرد أخضر. رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي) الاضطباع افتعال من الضبع وهو
العضو ويمسى التأبط لأنه يجعل وسط الرداء تحت الإبط وبيدي ضبعه الأيمن وقيل بيدي
ضبعيه، وفي النهاية هو أن يأخذ الإزار أو البر ويجعله تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفيه على
كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره. وأخرج أبو داود عن ابن عباس: اضطبع فكبر
واستلم وكبر ثم رمل ثلاثة أطواف كانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا
ثم يطلعون عليهم يرملون تقول قريش كأنهم الغزلان، قال ابن عباس: فكانت سنة وأول
ما اضطبعوا في عمرة القضاء ليستعينوا بذلك على الرمل ليرى المشركون قوتهم ثم صار سنة
ويضطبع في الأشواط السبعة، فإذا قضى طوافه ثوى ثيابه ولم يضطبع في ركعتي الطواف وقيل
: في الثلاثة الأولى غير.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه ويكبر منا
المكبر فلا ينكر عليه. متفق عليه) تقدم أن الاهلال رفع الصوت بالتلبية وأول وقته من
حيه الاحرام إلى الشروع في الاحلال وهو في الحج إلى أن يأخذ في رمي جمرة العقبة وفي العمرة
إلى الطواف. ودل الحديث على أنه من كبر مكان التلبية فلا نكير عليه بل هو سنة لأنه يريد
أنس أنهم كانوا يفعلون ذلك ورسول الله (ص) فيهم فيقر كلا على ما قاله
إلا أن الحديث ورد في صفة غدوهم من منى إلى عرفات وفيه رد على من قال: يقطع
التلبية بعد صبح يوم عرفة.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثني النبي (ص) في الثقل)
بفتح المثلثة وفتح القاف وهو متاع المسافر كما في النهاية (أو قال في الضعفة) شك من الراوي
(من جمع) بفتح الجيم وسكون الميم علم المزدلفة سميت به لان آدم وحواء لما أهبطا اجتمعا
بها كما في النهاية (بدليل). وقد علم أن من السنة أنه لا بد من المبيت بجمع، وأنه لا يفيض من
بات بها إلا بعد صلاة الفجر بها ثم يقف في المشعر الحرام ولا يدفع منه إلا يعد إسفار
الفجر جدا ويدفع قبل طلوع الشمس وقد كانت الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع
الشمس ويقولون: أشرف ثبير كيما نغير فخالفهم (ص) إلا أن حديث
ابن عباس هذا ونحوه دل على الرخصة للضعفة في عدم استكمال المبيت. والنساء كالضعفة
أيضا لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) أذن
للظعن بضم الظاء والعين المهملة وسكونها جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على
المرأة وعلى الهودج بلا امرأة كما في النهاية.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سودة رسول الله (ص)
ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وكانت ثبطة) بفتح المثلثة وسكون الموحدة فسرها قوله: (تعني
ثقيلة فأذن لها. متفق عليه) على حديث ابن عباس وعائشة. وفيه دليل على جواز الدفع
207

من مزدلفة قبل الفجر ولكن للعذر كما أفاده قولها: وكانت ثبطة وجمهور العلماء أنه
يجب المبيت بمزدلفة ويلزم من تركه دم. وذهب آخرون إلى أنه سنة إن تركه فاتته الفضيلة
ولا إثم عليه ولا دم ويبيت أكثر الليل، وقيل: ساعة من النصف الثاني، وقيل غير ذلك
والذي فعله (ص) المبيت بها إلى أن صلى الفجر، وقد قال: خذوا عني مناسككم.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله (ص)
: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس رواه الخمسة إلا النسائي وفيه انقطاع)
وذلك لان فيه الحسن العرني بجلي كوفي ثقة احتج به مسلم واستشهد به البخاري غير أن
حديثه عن ابن عباس منقطع، قال أحمد: الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس. وفيه
دليل على أن وقت رمي جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس وإن كان الرامي ممن أبيح له
التقدم إلى منى وأذن له في عدم المبيت بمزدلفة. وفي المسألة أربعة أقوال: الأول: جواز الرمي
من بعد نصف الليل للقادر والعاجز، قاله أحمد والشافعي. الثاني: لا يجوز إلا بعد الفجر مطلقا
وهو قول أبي حنيفة. الثالث: لا يجوز للقادر إلا بعد طلوع الفجر ولمن له عذر بعد نصف
الليل وهو قول الهادوية. والرابع: للثوري والنخعي أنه من بعد طلوع الشمس للقادر وهذا
أقوى الأقوال دليلا وأرجحها قيلا.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل النبي (ص) بأم سلمة
ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود وإسناده على شرط
مسلم) الحديث دليل على جواز الرمي قبل الفجر لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه (ص)
ذلك، فقرره وقد عارضه حديث ابن عباس وجمع بينهما بأنه لا يجوز الرمي قبل الفجر لمن له
عذر، وكان ابن عباس لا عذر له، وهذا قول الهادوية فإنهم يقولون: لا يجوز الرمي للقادر إلا
بعد الفجر ويجوز لغيره من بعد نصف الليل إلا أنهم أجازوا للقادر قبل طلوع الشمس. وقد
ذهب الشافعي إلى جواز الرمي من بعد نصف الليل للقادر والعاجز، وقال آخرون: إنه لا رمي
إلا من بعد طلوع الشمس للقادر وهو الذي يدل له فعله (ص)، وقوله في حديث
ابن عباس المتقدم قريبا وهو وإن كان فيه انقطاع فقد عضده فعله مع قوله: خذوا عني
الحديث، وقد تقدمت أقوال العلماء في ذلك.
(وعن عروة بن مضرس) بضم الميم وتشديد الراء وبالضاد المعجمة والسين
المهملة كوفي شهد حجة الوداع، وصدر حديثه أنه قال: أتيت رسول الله (ص)
بالموقف يعني جمعا فقلت: جئت يا رسول الله (ص) من جبل طئ فأكلت مطيتي وأتعبت نفسي
والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟، ثم ذكر الحديث، (قال: قال
رسول الله (ص): من شهد صلاتنا هذه) يعني صلاة الفجر (هذه يعني
بالمزدلفة فوقف معنا) أي في مزدلفة، (حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك
ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن
خزيمة) فيه دلالة على أنه لا يتم الحجة إلا بشهود صلاة الفجر بمزدلفة والوقوف بها حتى يدفع
208

الامام وقد وقف بعرفة قبل ذلك في ليل أو نهار. ودل على إجزاء الوقوف بعرفة في نهار يوم
عرفة إذا كان من بعد الزوال أو في ليلة الأضحى، وأنه إذا فعل ذلك فقد قضى تفثه وهو
قضاء المناسك وقيل إذهاب الشعر ومفهوم الشرط أن من لم يفعل ذلك لم يتم حجه
، فأما الوقوف بعرفة فإنه مجمع عليه، وأما بمزدلفة، فذهب الجمهور إلى أنه يتم الحج وإن فاته
ويلزم فيه دم. وذهب ابن عباس وجماعة من السلف إلى أنه ركن كعرفة وهذا المفهوم
دليله ويدل له روايته النسائي: ومن لم يدرك جمعا فلا حج له. وقوله تعالى: * (فاذكروا الله
عند المشعر الحرام) * * (فإن ذكروا الله عند المشعر الحرام) * وفعله (ص)، وقوله: خذوا عني مناسككم. وأجاب الجمهور
بأن المراد من حديث عروة من فعل جميع ما ذكر فقد تم حجة وأتى بالكامل من الحج
ويدل له ما أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والدار قطني والبيهقي: أنه أتاه (ص)
وهو واقف بعرفات ناس من أهل نجد فقالوا: كيف الحج؟ فقال: الحج عرفة
من جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه وفي رواية لأبي داود من أدرك عرفة قبل أن
يطلع الفجر فقد أدرك الحج ومن رواية الدارقطني الحج عرفة، الحج عرفة قالوا: فهذا صحيح
في المراد وأجابوا عن زيادة ومن لم يدرك جمعا فلا حج له باحتمالها التأويل أي فلا حج
كامل الفضيلة وبأنها رواية أنكرها أبو جعفر العقيلي وألف في إنكاره جزءا. وعن الآية أنها
لا تدل إلا على الامر بالذكر عند المشعر لا على أنه ركن وبأنه فعله صلى الله عليه وسلم بيانا
للواجب المستكمل الفضيلة.
(وعن عمر رضي الله عنه قال: إن المشركين كانوا لا يفيضون) أي من مزدلفة
(حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق) بفتح الهمزة فعل أمر من الاشراق أي أدخل في الشروق
(ثبير) بفتح المثلثة وكسر الموحدة فمثناة تحتية فراء جبل معروف على يسار الذاهب إلى منى
وهو أعظم جبال مكة (وأن النبي (ص) خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس.
رواه البخاري) وفي رواية بزيادة كيما نغير أخرجها الإسماعيلي ومثله ابن ماجة وهو من
الإغارة الاسراع في عدو الفرس. وفيه أنه يشرع الدفع وهو الإفاضة قبل شروق الشمس
وتقدم حديث جابر حتى أسفر جدا.
(وعن ابن عباس وأسامة بن زيد رضي الله عنهم قالا: لم يزل للنبي (ص)
يلبي حتى رمى جمرة العقبة رواه البخاري. فيه دليل على مشروعية الاستمرار في التلبية
إلى يوم النحر حتى يرمي الجمرة. وهل يقطعه عند الرمي بأول حصاة أو مع فراغه منها؟
ذهب الجمهور إلى الأول وأحمد إلى الثاني ودل له ما رواه النسائي فلم يزل يلبي حتى رمي
الجمرة فلما رجع قطع التلبية وما رواه أيضا ابن خزيمة وقال: حديث صحيح من حديث
ابن عباس عن الفضل أنه قال: أفضت مع رسول الله (ص) من عرفات فلم
يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ويكبر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر حصاة وهو
يبين المراد من قوله: حتى رمى الجمرة العقبة أي أتم رميها وللعلماء خلاف حتى يقطع
التلبية؟ وهذه الأحاديث قد بينت وقت تركه (ص) لها.
209

(وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه جعل البيت عن يساره) عند رميه
جمرة العقبة (ومنى عن يمينه ورمى الجمرة بسبع حصيات وقال: هذا مقام الذي أنزلت
عليه سورة البقرة. متفق عليه). قام الاجماع على أن هذه الكيفية ليست بواجبة وإنما هي
مستحبة وهذا قاله ابن مسعود ردا على من يرميها من فوقها. واتفقوا أن سائر الجمار ترمى
من فوقها. وخص سورة البقرة بالذكر لان غالب أعمال الحج مذكور فيها أو لأنها
اشتملت على أكثر أمور الديانات والمعاملات، وفيه جواز أن يقال سورة البقرة خلافا لمن
قال: يكره ولا دليل له.
(وعن جابر رضي الله عنه قال: رمى رسول الله (ص) الجمرة
يوم النحر ضحى وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس رواه مسلم. تقدم الكلام على وقت رمي
جمرة العقبة. والحديث دليل على أن وقت رمي الثلاث الجمار من بعد زوال الشمس وهو
قول جماهير العلماء.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا) بضم الدال وبكسرها
أي الدانية إلى مسجد الخيف وهي أول الجمرات التي ترمى ثاني النحر (بسبع حصيات
يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم حتى يسهل) بضم حرف المضارعة وسكون المهملة أي يقصد
السهل من الأرض (فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى
ثم يأخذ ذات الشمال) أي يمشي إلى جهة شماله ليقف داعيا في مقام لا يصيبه الرمي (فيسهل
ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن
الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يفعل. رواه البخاري). فيه ما قد دلت عليه الأدلة الماضية: من الرمي بسبع حصيات لكل
جمرة، والتكبير عند كل حصاة، وفيه زيادة أنه يستقبل القبلة بعد الرمي للجمرتين. ويقوم
طويلا يدعو الله تعالى، وقد فسر مقدار القيام ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن
ابن عمر كان يقوم عند الجمرتين بمقدار ما يقرأ سورة البقرة وأنه يرفع يديه عند الدعاء قال
ابن قدامة: ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن مالك أنه لا يرفع يديه عند الدعاء
وحديث ابن عمر دليل لخلاف ما قال مالك.
(وعنه) أي ابن عمر (رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) قال:
اللهم ارحم المحلقين أي الذين حلقوا رؤوسهم في حج أو عمرة عند الاحلال منها
(قالوا) يعني السامعين من الصحابة، قال المصنف في الفتح: إن لم يقف في شئ من الطرق
على الذي تولى السؤال بعد البحث الشديد عنه (والمقصرين) هو من عطف التلقين كما
في قوله تعالى: * (قال ومن كفر) * في أحد الوجهين في الآية كأنه قيل: وارحم المقصرين
(يا رسول الله؟ قال: في الثالث والمقصرين متفق عليه) وظاهره أنه دعا للمحلقين
مرتين وعطف المقصرين في الثالثة وفي روايات أنه دعا للمحلقين ثلاثا ثم عطف المقصرين
. ثم إنه اختلف في هذا الدعاء متى كان منه صلى الله عليه وسلم، فقيل: في عمرة الحديبية
210

، وجزم به إمام الحرمين. وقيل: في حجة الوداع، الموضعين، قال النووي وقال: هو الصحيح
المشهور وقال القاضي عياض: كان في الموضعين، قال النووي: ولا يبعد ذلك، وبمثله
قال ابن دقيق العيد، قال المصنف: وهذا هو المتعين لتضافر الروايات بذلك. والحديث
دليل على شرعية الحلق والتقصير وأن الحلق أفضل. هذا ويجب في حلق الرأس استكمال
حلقه عند الهادوية ومالك وأحمد وقيل: هو الأفضل ويجزئ الأقل فقيل: الربع وقيل
: النصف، وقيل: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وقيل: شعرة واحدة، والخلاف في التقصير
في التفضيل مثل هذا، وأما مقداره فيكون مقدار أنملة وقيل إذا اقتصر على دونها أجزأ وهذا
كله في حق الرجال. ثم هو أي تفضيل الحلق على التقصير أيضا في حق الحاج والمعتمر
وأما المتمتع فإنه (ص) خيره بين الحلق والتقصير كما في رواية البخاري بلفظ
ثم يحلقوا أو يقصروا. وظاهر الحديث استواء الامرين في حق المتمتع وفصل المصنف
في الفتح فقال: إن كان بحيث يطلع شعره فالأولى له الحق وإلا فالتقصير ليقع الحلق
في الحج وبين وجه التفصيل في الفتح. وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير إجماعا
، وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير
وأخرج الترمذي من حديث علي عليه السلام نهى أن تحلق المرأة رأسها وهل يجزئ لو
حلقت قال بعض الشافعية يجزي ويكره لها ذلك.
(وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقف في حجة الوداع) أي يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة
(فجعلوا يسألونه فقال رجل:) قال المصنف: لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد (لم
أشعر) أي لم أفطن ولم أعلم (فحلقت قبل أن أذبح قال: اذبح) أي الهدي، والذبح
ما يكون في الحلق (ولا حرج) أي لا إثم (فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت) النحر
ما يكون في اللبة (قبل أن أرمي) جمرة العقبة (قال: ارم ولا حرج فما سئل يومئذ عن
شئ قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج متفق عليه). اعلم أن الوظائف على الحاج
يوم النحر أربع: الرمي لجمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق والتقصير، ثم طواف
الإفاضة هذا هو الترتيب المشروع فيها وهكذا فعل (ص) في حجته، ففي
الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى فنحر
وقال الحالق: خذه ولا نزاع في هذا للحاج مطلقا ونازع بعض الفقهاء في القارن فقال:
لا يحلق حتى يطوف. والحديث دليل على أنه يجوز تقديم بعض هذه الأشياء وتأخيرها وأنه
لا ضيق ولا إثم على من قدم أو أخر. فاختلف العلماء في ذلك. فذهب الشافعي وجمهور
السلف وفقهاء أصحاب الحديث والعلماء إلى الجواز وأنه لا يجب الدم على من فعل ذلك لقوله
للسائل ولا حرج فإنه ظاهر في نفي الاثم والفدية معا لان اسم الضيق يشملهما قال
الطبري: لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل إذ لو لم يجزئه لامره
بالإعادة لان الجهل والنسيان لا يضعان عن المكلف الحكم الذي يلزمه في الحج كما لو ترك
211

الرمي ونحوه فإنه لا يأثم بتركه ناسيا أو جاهلا لكن يجب عليه الإعادة، وأما الفدية فالأظهر
سقوطها على الناسي والجاهل وعدم سقوطها عن العالم. قال ابن دقيق العيد: القول بسقوط
الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع أفعال النبي
صلى الله عليه وسلم في الحج بقول: خذوا عني مناسككم وهذه السؤالات المرخصة بالتقديم
لما وقع السؤال عنه إنما قرنت بقول السائل لم أشعر فيختص الحكم بهذه الحالة ويحمل
قوله لا حرج على نفي الاثم والدم معا في الناسي والجاهل ويبقى العامد على أصل وجوب
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج، والقائل بالتفرقة بين العامد وغيره قد مشى أيضا
على القاعدة في أن الحكم إذا رتب على وصف يمكن بأن يكون معتبرا لم يجز اطراحه، ولا شك
أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة، والحكم علق به فلا يمكن اطراحه
بإلحاق العامد به إذ لا يساويه. قال: وأما التمسك بقول الراوي: فما سئل عن شئ إلى آخره
لاشعاره بأن الترتيب مطلقا غير مراعى فجوابه أن هذه الأخبار من الراوي تتعلق بما وقع
السؤال عنه وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه
فلا تبقى حجة في حال العمد.
(وعن المسور) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو فراء (ابن مخرمة رضي الله
عنه) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء زهري قرشي مات النبي صلى الله عليه
وسلم وهو ابن ثمان سنين وسمع منه وحفظ عنه انتقل من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة
ولم يزل بها إلى أن حاصرها عسكر يزيد فقتله حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي في أول
سنة أربع وستين وكان من أهل الفضل والدين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر
قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك. رواه البخاري). فيه دلالة على تقديم النحر قبل الحلق
وتقدم قريبا أن المشروع تقديم الحلق قبل الذبح فقيل حديث المسور هذا إنما هو إخبار
عن فعله (ص) في عمرة الحديبية حيث أحصر فتحلل (ص)
بالذبح. وقد بوب عليه البخاري: باب النحر قبل الحلق في الحصر وأشار البخاري
إلى أن هذا الترتيب يختص بالمحصر على جهة الوجوب فإنه أخرجه بمعناه هذا وقد أخرجه
بطوله في كتاب الشروط وفيه أنه قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا وفيه قول أم سلمة
له صلى الله عليه وسلم اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك فخرج فنحر
بدنه ثم دعا حالقه فحلقه الحديث وكان الأحسن تأخير المصنف له إلى باب الاحصار.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (ص): إذا
رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شئ إلا النساء رواه أحمد وأبو داود
وفي إسناده ضعف. لأنه من رواية الحجاج بن أرطأة وله طرق أخر مدارها عليه. وهو
يدل على أنه بمجموع الامرين رمي جمرة العقبة والحلق يحل كل محرم على المحرم إلا النساء
فلا يحل وطؤهن إلا بعد طواف الإفاضة والظاهر أنه مجمع على حل الطيب وغيره إلا
الوطئ بعد الرمي وإن لم يحلق.
212

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) قال: ليس على
النساء حلو إنما يقصرن رواه أبو داود بإسناد حسن. تقدم ذكر هذا الحكم في الشرح
وأنه ليس في حقهن، فإن حلقن أجزأ.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه استأذن
رسول الله (ص) أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته) وهي ماء زمزم
فإنهم كانوا يغترفونه بالليل ويجعلونه في الحياض سبيلا (فأذن له. متفق عليه). فيه دليل على
أنه يجب المبيت بمنى ليلة ثاني النحر وثالثه إلا لمن له عذر، وهذا يروى عن أحمد. والحنفية
قالت: إنه سنة. قيل: إنه يختص هذا الحكم بالعباس دون غيره، وقيل: بل وبمن يحتاج إليه
في سقايته وهو الأظهر، لأنه لا يتم له وحده إعداد الماء للشاربين، وهل يختص بالماء أو يلحق
به ما في معناه من الأكل وغيره وكذا حفظ ماله وعلاج مريضه وهذا الالحاق رأي
الشافعي ويدل للالحاق الحديث وهو قوله:
(وعن عاصم بن عدي رضي الله عنه) هو أبو عبد الله أو عمر أو عمرو حليف
بني عبيد بن زيد من بني عمرو بن عوف من الأنصار شهد بدرا والمشاهد بعدها، وقيل: لم
يشهد بدرا وإنما أخرج إليها معه (ص) فرده إلى أهل مسجد الضرار لشئ
بلغه عنهم وضرب له سهمه وأجره فكان كمن شهدها. مات سنة خمس وأربعين، وقيل
: استشهد يوم اليمامة وقد بلغ مائة وعشرين سنة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء
الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر) جمرة العقبة ثم ينفرون ولا يبيتون بمنى (ثم يرمون
الغد ومن بعد الغد ليومين) أي يرمون اليوم الثالث لذلك اليوم واليوم الذي فاتهم الرمي فيه وهو اليوم الثاني (ثم
يرمون يوم النفر) أي اليوم الرابع إن لم يتعجلوا (رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان)
. فإن فيه دليلا على أنه يجوز لأهل الاعذار عدم المبيت بمنى وأنه غير خاص بالعباس ولا
بسقايته وأنه لو أحدث سقاية جاز له ما جاز لأهل سقاية زمزم.
(وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله (ص) يوم
النحر الحديث، متفق عليه. فيه شرعية الخطبة يوم النحر وليست خطبة العيد فإنه (ص)
لم يصل العيد في حجته ولا خطب خطبته.
واعلم أن الخطب المشروعات في الحج ثلاث عند المالكية والحنفية: الأولى: سابع
ذي الحجة، والثانية: يوم عرفة، والثالثة: ثاني النحر. وزاد الشافعي رابعة في يوم النحر
وجعل الثالثة في ثالث النحر لا في ثانية، قال: لأنه أول النفر. وقالت المالكية والحنفية: إن
خطبة يوم النحر لا تعد خطبة إنما هي وصايا عامة، لأنها مشروعة في الحج. ورد عليهم بأن
الصحابة سموها خطبة، وبأنها اشتملت على مقاصد الخطبة كما أفاده لفظها وهو قوله
: تدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه
فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى
ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا
213

: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: أليست البلدة الحرام؟
قلنا: بلى: قال: فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم
هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد
الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض
. أخرجه البخاري. فاشتمل الحديث على تعظيم البلد الحرام ويوم النحر وشهر ذي الحجة
والنهي عن الدماء والأموال، والنهي عن رجوعهم كفارا، وعن قتالهم بعضهم بعضا، والامر
بالابلاغ عنه، وهذه من مقاصد الخطب ويدل على شرعية خطبة ثاني يوم النحر.
(وعن سراء) بفتح المهملة وتشديد الراء ممدودة (بنت نبهان رضي الله عنها) بفتح النون وسكون
الموحدة (قالت: خطبنا رسول الله (ص) يوم الرؤوس فقال: أليس هذا
أوسط أيام التشريق؟ الحديث رواه أبو داود بإسناد حسن) وهذه هي الخطبة الرابعة،
ويوم الرؤوس ثاني يوم النحر بالاتفاق. وقوله: أوسط أيام التشريق يحتمل أفضلها
ويحتمل الأوسط بين الطرفين. وفيه دليل على أن يوم النحر منها. ولفظ حديث السراء
قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: أتدرون أي يوم هذا - قالت: وهو
اليوم الذي يدعونه يوم الرؤوس - قالوا: الله ورسوله أعلم قال: هذا أوسط أيام التشريق
قال: أتدرون أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا المشعر الحرام قال:
إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا ألا وإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام
كحرمة بلدكم هذا حتى تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم ألا
هل بلغت فلما قدمنا المدينة لم يلبث إلا قليلا حتى مات.
(وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي (ص) قال لها: طوافك بالبيت
وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك رواه مسلم. فيه دليل على أن القارن يكفيه
طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة وإليه ذهب جماعة من الصحابة والشافعي وغيره
. وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا بد من طوافين وسعيين فالأحاديث متواردة على معنى
حديث عائشة عن ابن عمر وجابر وغيرهما. واستدل من قال بالطوافين بقوله تعالى: * (وأتموا
الحج والعمرة لله) * ولا دليل في ذلك، فإن التمام حاصل وإن لم يطف إلا طوافا واحدا، وقد
اكتفى (ص) بطواف وسعي واحد وكان قارنا كما هو الحق، واستدلوا أيضا
بحديث رواه زياد بن مالك قال في الميزان: زياد بن مالك عن ابن مسعود ليس بحجة، وقال
البخاري: لا يعرف له سماع من عبد الله وعنه روي حديث القارن يطوف طوافين ويسعى
سعيين. واعلم أن عائشة كانت قد أهلت بعمرة ولكنها حاضت فقال له رسول الله (ص)
: ارفضي عمرتك قال النووي: معنى رفضها إياها رفض العمل فيها وإتمام
أعمالها التي هي الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس فأمرها (ص) بالاعراض
عن أفعال العمرة وأن تحرم بالحج، فتصير قارنة وتقف بعرفات، وتفعل المناسك كلها، إلا
الطواف فتؤخره حتى تطهر. وهي أدلة أنها صارت قارنة قوله صلى الله عليه وسلم لها: طوافك
214

بالبيت الحديث فإنه صريح أنها كانت متلبسة بحج وعمرة ويتعين تأويل قوله صلى الله
عليه وسلم: ارفضي عمرتك بما ذكره النووي، فليس معنى ارفضي العمرة الخروج منها
وإبطالها بالكلية فإن الحج والعمرة لا يصح الخروج منهما بعد الاحرام بهما بنية الخروج
، وإنما يصح بالتحلل منهما بعد فراغهما.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (ص) لم يرمل في السبع
الذي أفاض فيه رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه الحاكم. فيه دليل أنه لا يشرع الرمل الذي
سلفت مشروعيته في طواف القدوم في طواف الزيارة وعليه الجمهور.
(وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي (ص) صلى الظهر والعصر
والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب). بالمهملتين فموحدة بزنة مكرم اسم مفعول: الشعب
الذي مخرجه إلى الأبطح وهو خيف بني كنانة (ثم ركب إلى البيت فطاف به) أي طواف
الوداع (رواه البخاري) وكان ذلك يوم النحر الآخر وهو ثالث أيام التشريق فإنه (ص)
رمى الجمار يوم النحر بعد الظهر وأخر صلاة الظهر حتى وصل المحصب ثم
صلى الصلوات فيه كما ذكر. واختلف السلف والخلف هل التحصيب سنة أم لا؟ فقيل
: سنة. وقيل: لا، إنما هو منزل نزله النبي (ص) وقد فعله الخلفاء بعده تأسيا
به (ص). وذهب ابن عباس إلى أنه ليس من المناسك المستحبة، وإلى مثله
ذهبت عائشة كما دل له الحديث وهو قوله.
(وعن عائشة رضي الله عنها أنها لم تكن تفعل ذلك: أي النزول بالأبطح، وتقول
: إنما نزله رسول الله (ص) لأنه كان منزلا أسمح لخروجه رواه مسلم. أي أسهل
لخروجه من مكة راجعا إلى المدينة، قيل: والحكمة في نزوله فيه إظهار نعمة الله باعتزاز دينه
، وإظهار كلمته، وظهوره على الدين كله، فإن هذا المحل هو الذي تقاسمت فيه قريش على
قطيعة بني هاشم وكتبوا صحيفة القطيعة في القصة المعروفة. وإذا كانت الحكمة هي هذه
فهي نعمة عل الأمة أجمعين فينبغي نزوله لمن حج من الأمة إلى يوم الدين.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمر) بضم الهمزة (الناس) نائب
الفاعل (أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض. متفق عليه) الآمر للناس
هو النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك المخفف عن الحائض، وغير الراوي الصيغة، للعلم بالفاعل
، وقد أخرجه مسلم وأحمد عن ابن عباس بلفظ: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت. وهو دليل على
وجوب طواف الوداع، وبه قال جماهير السلف والخلف وخالف الناصر ومالك وقالا:
لو كان واجبا لما خفف عن الحائض، وأجيب بأن التخفيف دليل الايجاب، إذ لو لم يكن
واجبا لما أطلق عليه لفظ التخفيف والتخفيف عنها دليل على أنه لا يجب عليها فلا تنظر
الطهر ولا يلزمها دم بتركه لأنه ساقط عنها من أصله. ووقت طواف الوداع من ثالث النحر فإنه
يجزئ إجماعا وهل يجزئ قبله؟ والأظهر عدم إجزائه لأنه آخر المناسك واختلفوا إذا أقام
215

بعده هل يعيده أم لا؟ قيل: إذا بقي بعده لشراء زاد وصلاة جماعة لم يعده، وقيل يعيده إذا
قام لتمريض ونحوه، وقال أبو حنيفة: لا يعيد ولو أقام شهرين ثم هل يشرع في حق المعتمر
قيل: لا يلزمه لأنه لم يرد إلا في الحج وقال الثوري: يجب على المعتمر أيضا وإلا لزمه دم.
(وعن ابن الزبير رضي الله عنهما) هو عند الاطلاق يراد به عبد الله (قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا) الإشارة تفيد أنه الموجود
عند الخطاب فلا يدخل في الحكم ما يزيد فيه (أفضل من ألف صلاة) وفي رواية
: خير، وفي أخرى تعدل ألف صلاة (فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة
في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة) وفي لفظ
عند ابن ماجة وابن زنجويه وابن عساكر من حديث أنس صلاة في مسجدي بخمسين ألف
صلاة إسناده ضعيف وفي لفظ عند أحمد من حديث ابن عمر وصلاة في المسجد الحرام
أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه وفي لفظ عن جابر أفضل من ألف صلاة فيما سواه أخرجها
أحمد وغيره (رواه أحمد وصححه ابن حبان) وروى الطبراني عن أبي الدرداء قال: قال رسول
الله (ص): الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي
بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة ورواه ابن عبد البر من طريق
البزار ثم قال: هذا إسناد حسن. قلت: فعلى هذا يحمل قوله في حديث ابن الزبير بمائة
صلاة أي من صلاة مسجدي فتكون مائة ألف صلاة فيتوافق الحديثان. قال أبو محمد بن حزم
: ورواه ابن الزبير عن عمر بن الخطاب بسند كالشمس في الصحة ولا مخالف لهما من الصحابة
فصار كالاجماع وقد روي بألفاظ كثيرة عن جماعة من الصحابة وعددهم فيما اطلعت عليه
خمسة عشر صحابيا وسرد أسماءهم. وهذا الحديث وما في معناه دال على أفضلية المسجدين على
غيرهما من مساجد الأرض وعلى تفاضلهما فيما بينهما وقد اختلف أعداد المضاعفة كما
عرفت والأكثر دال على عدم اعتبار مفهوم الأقل والحكم للأكثر لأنه صريح. وسبقت
إشارة إلى أن الأفضلية في مسجده صلى الله عليه وسلم خاصة بالموجود في عصره قال النووي
: لقوله في مسجدي فالإضافة للعهد. قلت: ولقوله هذا، ومثل ما قاله النووي من الاختصاص
نقل المصنف عن ابن عقيل الحنبلي. وقال الآخرون: إنه لا اختصاص للموجود حال
تكلمه صلى الله عليه وسلم بل كل ما زيد فيه داخل في الفضيلة وفائدة الإضافة الدلالة
على اختصاصه دون غيره من مساجد المدينة لا أنها للاحتراز عما يزاد فيه. قلت: بل فائدة
الإضافة الأمران معا، قال من عمم الفضيلة فيما زيد فيه: إنه يشهد لهذا ما رواه ابن أبي شيبة
والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة مرفوعا لو مد هذا المسجد إلى صنعاء
لكان مسجدي وروى الديلمي مرفوعا هذا مسجدي وما زيد فيه فهو منه
وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري وهو واه. وأخرج الديلمي أيضا حديثا آخر
في معناه إلا أنه حديث معضل، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: زاد عمر في المسجد
216

، من شامية ثم قال: لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد رسول الله (ص).
وفيه عبد العزيز بن عمران المدني متروك. ولا يخفى عدم نهوض هذه الآثار إذ المرفوع
معضل وغيره كلام صحابي. ثم هل تعم هذه المضاعفة الفرض والنفل أو تخص بالأول؟ قال
النووي: إنها تعمهما وخالفه الطحاوي والمالكية مستدلين بحديث أفضل الصلاة صلاة المرء
في بيته المكتوبة. وقال المصنف: يمكن بقاء حديث أفضل صلاة المرء على عمومه
فتكون النافلة في بيته في مكة أو المدينة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما وكذا في المسجد
وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا. قلت: ولا يخفى أن الكلام في المضاعفة في المسجد
لا في البيوت في المدينة ومكة إذا لم ترد فيهما المضاعفة بل في مسجديهما. وقال الزركشي وغيره
: إنها تضاعف النافلة في مسجد المدينة ومكة وصلاتها في البيوت أفضل قالت: يدل لأفضلية
النافلة في البيوت مطلقا محافظته (ص) على صلاة النافلة في بيته وما كان يخرج
إلى مسجده إلا لأداء الفرائض مع قرب بيته من مسجده. ثم هذا التضعيف لا يختص بالصلاة
بل قال الغزالي: إلى كل عمل في المدينة بألف. وأخرج البيهقي عن جابر مرفوعا الصلاة
في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام والجمعة في مسجدي هذا
أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام شهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من
ألف شهر رمضان فيما سواه إلا المسجد الحرام وعن ابن عمر نحوه، وقريب منه للطبراني
في الكبير عن بلال بن الحرث.
باب الفوات والاحصار
الحصر: المنع، قاله: أكثر أئمة اللغة، والاحصار: هو الذي يكون بالمرض والعجز والخوف
ونحوها وإذا كان بالعدو قيل له الحصر، وقيل: هما بمعنى واحد.
(عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قد أحصر رسول الله (ص)
فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر عاما قابلا رواه البخاري. اختلف العلماء بماذا
يكون الاحصار؟ فقال الأكثر: يكون من كل حابس يحبس الحاج من عدو ومرض وغير
ذلك حتى أفتى ابن مسعود رجلا لدغ بأنه محصر، وإليه ذهب طوائف من العلماء منهم
الهادوية والحنفية وقالوا: إنه يكون بالمرض والكبر والخوف، وهذه منصوص عليها ويقاس
على سائر الاعذار المانعة، ويدل عليه عموم قوله تعالى: * (فإن أحصرتم) * الآية وإن كان
سبب نزولها إحصار النبي (ص) بالعدو فالعام لا يقصر على سببه. وفيه ثلاثة
أقوال أخر أحدهما: أنه خاص به (ص) وأنه لا حصر بعده. والثاني: أنه خاص
بمثل ما اتفق له صلى الله عليه وسلم فلا يلحق به إلا من أحصره عدو كافر. والثالث: أن الاحصار
لا يكون إلا بالعدو كافرا كان أو باغيا. والقول المصدر هو أقوى الأقوال، وليس في غيره
من الأقوال إلا آثار وفتاوى للصحابة. هذا وقد تقدم حديث البخاري، وأنه صلى الله عليه
وسلم نحر قبل أن يحلق وذلك في قصة الحديبية قالوا: وحديث ابن عباس هذا لا يقتضي
217

الترتيب كما عرفت ولم يقصده ابن عباس إنما قصد وصف ما وقع من غير نظر إلى ترتيب
. وقوله: ونحر هديه هو إخبار بأنه كان معه (ص) هدي نحره هنالك ولا
يدل كلامه على إيجابه. وقد اختلف العلماء في وجوب الهدي على المحصر، فذهب الأكثر
إلى وجوبه. وخالف مالك فقال: لا يجب والحق معه فإنه لم يكن مع كل المحصرين
هدي وهذا الهدي الذي كان معه (ص) ساقه من المدينة متنفلا به، وهو الذي أراده
الله تعالى بقوله: * (والهدى معكوفا أن يبلغ محله) * والآية لا تدل على الايجاب أعني قوله تعالى
: * (فإن حصرتم فما استيسر من الهدي) * وحققناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار. وقوله
: حتى اعتمر عاما قابلا قيل: إنه يدل على إيجاب القضاء على من أحصر والمراد من أحصر
عن النفل وأما من أحصر عن واجب من حج أو عمرة فلا كلام أنه يجب عليه الاتيان بالواجب
إن منع من أدائه. والحق أنه لا دلالة في كلام ابن عباس على إيجاب القضاء فإن ظاهر
ما فيه أنه أخبر أنه (ص) اعتمر عاما قابلا ولا كلام أنه (ص)
اعتمر في عام القضاء، ولكنه عمرة أخرى ليس قضاء عن عمرة الحديبية. أخرج مالك
بلاغا: أن رسول الله (ص) حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا
رؤوسهم وحلوا من كل شئ قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن
رسول الله (ص) أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن
يعودوا لشئ. وقال الشافعي: فحيث أحصر ذبح وحل ولا قضاء عليه من قبل أن الله
تعالى لم يذكر قضاء، ثم قال: لأنا علمنا من تواطئ أحاديثهم أنه كان معه في عام الحديبية رجال
معروفون ثم اعتمر عمرة القضاء فتخلف بعضهم في المدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال
، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلوا عنه. وقال: إنما سميت عمرة القضاء والقضية
المقاضاة التي وقعت بين النبي (ص) وبين قريش لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك
العمرة. وقول ابن عباس ونحر هديه اختلف العلماء هل نحره يوم الحديبية في الحل أو
في الحرم، وظاهر قوله تعالى: * (ذا الهدي معكوفا أن يبلغ محله) * أنهم نحروه في الحل
، وفي محل نحر الهدي للمحصر أقوال: الأول: للجمهور أنه يذبح هديه حيث يحل في حل أو حرم.
الثاني: للهادوية والحنفية أنه لا ينحره إلا في الحرم. الثالث: لابن عباس وجماعة أنه إن كان يستطيع
البعث به إلى الحرم وجب عليه ولا يحل حتى ينحر في محله وإن كان لا يستطيع البعث به إلى
الحرم نحره في محل إحصاره، وقيل إنه نحره في طرف الحديبية وهو من الحرم، والأول أظهر.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبي (ص) ضباعة)
بضم المعجمة ثم موحدة مخففة (بنت الزبير بن عبد المطلب) بن هاشم بن عبد مناف
، بنت عم رسول الله (ص) تزوجها المقداد ابن عمرو فولدت له عبد الله وكريمة
، روى عنها ابن عباس وعائشة وغيرهما قاله ابن الأثير في الجامع الكبير. (فقالت: يا رسول
الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال (ص): حجي واشتراطي أن
محلي حيث حبستني متفق عليه). فيه دليل على أن المحرم إذا اشترط في إحرامه ثم
218

عرض له المرض فإن له أن يتحلل وإليه ذهب طائفة من الصحابة والتابعين ومن أئمة
المذاهب أحمد وإسحاق وهو الصحيح من مذهب الشافعي ومن قال: إن عذر الاحصار يدخل
فيه المرض، قال: يصير المريض محصرا له حكمه. وظاهر هذا الحديث أنه لا يصير محصرا بل
يحل حيث حصره المرض ولا يلزمه ما يلزم المحصر من هدي ولا غيره. وقال طائفة من
الفقهاء: أنه لا يصح الاشتراط ولا حكم له قالوا: وحديث ضباعة قصة عين موقوفة
مرجوحة أو منسوخة أو أن الحديث ضعيف وكل ذلك مردود إذ الأصل عدم الخصوصية
وعدم النسخ. والحديث ثابت في الصحيح وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب
الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة. ودل مفهوم
الحديث أن من لم يشترط في إحرامه فليس له التحلل ويصير محصرا له حكم المحصر على ما هو
الصواب على أن الاحصار يكون بغير العدو.
(وعن عكرمة) هو أبو عبد الله عكرمة مولى عبد الله بن عباس أصله من البربر
يسمع من ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم ونسب إليه أنه يرى رأي الخوارج
وقد أطال المصنف في ترجمته في مقدمة الفتح وأطال الذهبي فيه في الميزان والأكثرون
على إطراحه وعدم قبوله: (عن الحجاج بن عمرو) بن أبي غزية بفتح الغين المعجمة وكسر
الزاي وتشديد المثناة التحتية (الأنصاري رضي الله عنه) المازني نسبة إلى جده مازن بن
النجار قال البخاري: له صحبة روى عن النبي (ص) حديثين هذا أحدهما (قال: قال رسول الله (ص)
: من كسر) مغير الصيغة (أو عرج) بفتح المهملة الراء وهو محرم لقوله
(فقد حل وعليه الحج من قابل) إذا لم يكن قد أتى الفريضة (قال عكرمة:
فسألت ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما عن ذلك فقالا: صدق) في اخباره عن النبي
(ص) (رواه الخمسة وحسنه الترمذي). والحديث دليل على أن من أحرم
فأصابه مانع من مرض مثل ما ذكره أو غيره فإنه بمجرد حصول ذلك المانع يصير حلالا
. فأفادت الثلاثة الأحاديث أن المحرم يخرج عن إحرامه بأحد ثلاث أمور: إما بالاحصار بأي
مانع كان، أو بالاشتراط، أو بحصول ما ذكر من حادث كسر أو عرج وهذا فيمن
أحصر وفاته الحج. وأما من فاته الحج لغير إحصار فإنه اختلف العلماء في حكمه فذهب
الهادوية وآخرون إلى أنه يتحلل بإحرامه الذي أحرمه للحج بعمرة، وعن الأسود قال: سألت
عمر عمن فاته الحج وقد أحرم به فقال: يهل بعمرة وعليه الحج من قابل ثم لقيت زيد
بن ثابت فسألته فقال: مثله أخرجه البيهقي. وقيل يهل بعمرة ويستأنف لها إحراما آخر
، وقالت الهادوية: ويجب عليه دم لفوات الحج، وقالت الشافعية والحنفية: لا يجب عليه
إذ يشرع له التحلل، وقد تحلل بعمرة والأظهر ما قالوه لعدم الدليل على الايجاب والله أعلم.
219