الكتاب: المحلى
المؤلف: ابن حزم
الجزء: ١
الوفاة: ٤٥٦
المجموعة: فقه المذهب الظاهري
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر
ردمك:
ملاحظات: طبعة مصححة ومقابلة على عدة مخطوطات ونسخ معتمدة كما قوبلت على النسخة التي حققها الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر

المحلى
تصنيف الامام الجليل، المحدث، الفقيه، الأصولي، قوي العارضة
شديد المعارضة، بليغ العبارة، بالغ الحجة، صاحب التصانيف
الممتعة في المعقول والمنقول، والسنة، والفقه، والأصول
والخلان، مجدد القرن الخامس، فخر الأندلس
أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم
المتوفى سنة 456 ه‍.
طبعة مصححة ومقابلة
على عدة مخطوطات ونسخ معتمدة
كما قوبلت على النسخة التي حققها الأستاذ
الشيخ احمد محمد شاكر
الجزء الأول
دار الفكر
1

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله
قال علي بن أحمد بن سعيد بن حزم رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين والمرسلين وسلم تسليما
ونسأل الله تعالى أن يصحبنا العصمة من كل خطأ وزلل ويوفقنا للصواب في كل قول
وعمل. آمين آمين
* (أما بعد) * وفقنا الله وإياكم لطاعته فإنكم رغبتم أن نعمل للمسائل المختصرة
التي جمعناها في كتابنا المرسوم بالمجلى شرحا مختصرا أيضا نقتصر فيه على قواعد
البراهين بغير اكثار ليكون مأخذه سهلا على الطالب والمبتدئ ودرجا له إلى التبحر
في الحجاج ومعرفة الاختلاف وتصحيح الدلائل المؤدية إلى معرفة الحق مما تنازع
الناس فيه والاشراف على أحكام القرآن والوقوف على جمهرة السنن الثابتة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتمييزها مما لم يصح والوقوف على الثقات من رواة الاخبار وتمييزهم من غيرهم
والتنبيه على فساد القياس وتناقضه وتناقض القائلين به. فاستخرت الله عز وجل على
عمل ذلك واستعنته تعالى على الهداية إلى نصر الحق وسألته التأييد على بيان ذلك
وتقريبه وأن يجعله لوجهه خالصا وفيه محضا. آمين. آمين. رب العالمين
وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات مسند
ولا خالفنا إلا خبرا ضعيفا فبينا ضعفه أو منسوخا فأوضحنا نسخه. وما توفيقنا إلا
بالله تعالى
* (التوحيد) *
1 - مسألة - قال أبو محمد رضي الله عنه: أول ما يلزم كل أحد ولا يصح الاسلام
إلا به أن يعلم المرء بقلبه علم يقين وإخلاص لا يكون لشئ من الشك فيه أثر وينطق
2

بلسانه ولا بد بأن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله. برهان ذلك: ما حدثناه
عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا احمد
ابن علي نا مسلم بن الحجاج نا أمية بن بسطام نا يزيد بن زريع نا روح عن العلاء بن
عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك
عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وقد روى معنى هذا مسندا
معاذ وابن عباس وغيرهم. قال الله تعالى: (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل
منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وهو قول جميع الصحابة وجميع أهل الاسلام. وأما
وجوب عقد ذلك بالقلب فلقول الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له
الدين). والاخلاص فعل النفس. وأما وجوب النطق باللسان فان الشهادة بذلك
المخرجة للدم والمال من التحليل إلى التحريم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا
باللسان ضرورة.
2 - مسألة - قال أبو محمد: وتفسير هذه الجملة هو أن الله تعالى إله كل شئ
دونه وخالق كل شئ دونه. برهان ذلك: أن العالم بكل ما فيه ذو زمان لم ينفك عنه
قط ولا يتوهم ولا يمكن أن يخلو العالم عن زمان. ومعنى الزمان هو مدة بقاء الجسم متحركا
أو ساكنا ومدة وجود العرض في الجسم وإذ الزمان مدة كما ذكرنا فهو عدد معدود
ويزيد بمروره ودوامه والزيادة لا تكون البتة الا في ذي مبدأ ونهاية من أوله إلى ما زاد
فيه. والعدد أيضا ذو مبدأ ولابد والزمان بلا شك من أجزائه وكل جزء من
أجزاء الزمان فهو بيقين ذو نهاية من أوله ومنتهاه والكل ليس هو شيئا غير أجزائه
وأجزاؤه كلها ذات مبدأ فهو كله ذو مبدأ ضرورة. فلما كان الزمان لابد له من مبدأ ضرورة
وكان العالم كله لا ينفك عن زمان والزمان ذو مبدأ فما لم يتقدم ذا المبدأ فهو ذو مبدأ
ولا بد فالعالم كله جوهره وعرضه ذو مبدأ وإذ هو ذو مبدأ فهو محدث والمحدث يقتضى
محدثا ضرورة إذ لا يتوهم أصلا ولا يمكن محدث إلا وله محدث فالعالم كله مخلوق وله
خالق لم يزل وهو ملك كل ما خلق فهو إله كل ما خلق ومخترعه لا إله الا هو.
3 - مسألة - قال أبو محمد: هو الله لا إله الا هو وانه تعالى واحد لم يزل ولا يزال
3

برهان ذلك: أنه لما صح ضرورة أن العالم كله مخلوق وأن له خالقا وجب أن لو كان
الخالق أكثر من واحد أن يكون قد حصرهما العدد وكل معدود فذو نهاية كما
ذكرنا وكل ذي نهاية فمحدث. وأيضا فكل اثنين فهما غيران وكل غيرين ففيهما
أو في أحدهما معنى ما صار به غير الآخر فعلى هذا كأن يكون أحدهما ولا بد مركبا
من ذاته ومما غاير به الآخر وإذا كان مركبا فهو مخلوق مدبر فبطل كل ذلك وعاد الامر
إلى وجوب أنه واحد ولابد وأنه بخلاف خلقه من جميع الوجوه والخلق كثير محدث
فصح أنه تعالى بخلاف ذلك وأنه واحد لم يزل إذ لو لم يكن كذلك لكان من جملة
العالم تعالى الله عن ذلك. (ليس كمثله شئ). وقال تعالى (ولم يكن له
كفوا أحد). 4 - مسألة - وأنه خلق كل شئ لغير علة أوجبت عليه أن يخلق. برهان ذلك:
أنه لو فعل شيئا مما فعل لعلة لكانت تلك العلة إما لم تزل معه وإما مخلوقة محدثة
ولا سبيل إلى قسم ثالث فلو كانت لم تزل معه لوجب من ذلك شيئان ممتنعان: أحدهما
أن معه تعالى غيره لم يزل فكان يبطل التوحيد الذي قد أبقا برهانه آنفا والثاني أنه
كان يجب إذ كانت علة الخلق لم تزل أن يكون الخلق لم يزل لان العلة لا تفارق المعلول
ولو فارقته لم تكن علة له وقد أوضحنا آنفا برهان وجوب حدوث العالم كله. وأيضا
فلو كانت ههنا علة موجبة عليه تعالى أن يفعل ما فعل لكان مضطرا مطبوعا أو مدبرا
مقهورا لتلك العلة وهذا خروج عن الإلهية ولو كانت العلة محدثة لكانت ولا بد
إما مخلوقة له تعالى وإما غير مخلوقة فإن كانت غير مخلوقة فقد أوضحنا آنفا وجوب
كون كل شئ محدث مخلوقا فبطل هذا القسم وإن كانت غير مخلوقه وجب ولا بد أن
تكون مخلوقه لعلة أخرى أو لغير علة فان وجب أن تكون مخلوقة لعلة أخرى وجب
مثل ذلك في العلة الثانية وهكذا أبدا وهذا يوجب وجوب محدثين لا نهاية لعددهم
وهذا باطل لما ذكرنا آنفا وبأن كل ما خرج إلى الفعل فقد حصره العدد ضرورة
بمساحته أو بزمانه ولا بد وكل ما حصره العدد فهو متناه. فبطل هذا القسم أيضا وصح
ما قلناه ولله تعالى الحمد. وان قالوا: بل خلقت العلة لا لعلة سئلوا: من أين وجب أن يخلق
الأشياء لعلة لا لعلة؟ ولا سبيل إلى دليل
4

5 - مسألة - وأن النفس مخلوقة. برهان هذا: أننا نجد الجسم في بعض أحواله
لا يحسن شيئا وان المرء إذا فكر في شئ ما فإنه كلما تخلى عن الجسد كان أصح لفهمه
وأقوى لادراكه فعلمنا أن الحساس العالم الذاكر (1) هو شئ غير الجسد ونجد الجسد
إذا تخلى منه ذلك الشئ موجودا بكل أعضائه ولا حس له ولا فهم إما بموت وإما
باغماء وإما بنوم فصح أن الحساس الذكر هو غير الجسد وهو المسمى في اللغة نفسا
وروحا وقال الله تعالى ذكره: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) فكانت النفوس
كما نص تعالى كثيرة وكذلك وجدناها نفسا خبيثة وأخرى طيبة ونفسا ذات شجاعة
وأخرى ذات جبن وأخرى عالمة وأخرى جاهلة فصح يقينا أن لكل حي نفسا غير
نفس غيره فإذا تيقن ذلك وكانت النفوس كثيرة مركبة من جوهرها وصفاتها فهي
من جملة العالم وهي ما لم ينفك قط من زمان وعدد فهي محدثة مركبة وكل محدث
مركب مخلوق. ومن جعل شيئا مما دون الله تعالى غير مخلوق فقد خالف الله تعالى
في قوله: (خلق كل شئ) وخالف ما جاءت به النبوة وما أجمع عليه المسلمون وما قام
به البرهان العقلي (2) *
6 - مسألة - وهي الروح نفسه برهان ذلك: أنه قد قام البرهان كما ذكرنا بأن
ههنا شيئا مدبرا للجسد هي الحي الحساس المخاطب ولم يقم برهان قط بأنهما شيئان
فكان من زعم بأن الروح غير النفس قد زعم بأنهما شيئان وقال مالا برهان له فليس له بصحته
وهذا باطل قال تعالى (قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) فمن لا برهان له فليس
صادقا فصح أن النفس والروح اسمان لمسمى واحد. حدثنا عبد الله بن ربيع
نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود السجستاني نا أحمد بن صالح نا
عبد الله بن وهب أخبرني يونس هو ابن يزيد عن ابن شهاب عن ابن
المسيب عن أبي هريرة في حديث ذكره ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال (إكلأ

(1) في النسخة اليمنية (الدال) وما هنا أصح
(2) في النسخة اليمنية (برهان العقل)
5

لنا الليل فغلبت بلالا عيناه فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه
حتى ضربتهم الشمس فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا فقال: يا بلال (فقال) (1)
أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبى أنت وأمي يا رسول الله) وذكر الحديث. وقال
الله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) إلى قوله (أجل مسمى) وحدثنا
عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود نا علي بن نصر هو
الجهضمي نا الأسود بن شيبان نا خالد بن سمير (2) نا عبد الله بن رباح حدثني
أبو قتادة الأنصاري في حديث ذكر فيه نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلعت الشمس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا إنا نحمد الله (أنا) (3) لم نكن في شئ من أمر (4) الدنيا
يشغلنا عن صلاتنا ولكن أرواحنا كانت بيد الله عز وجل فأرسلها أنى شاء) فعبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنفس وبالأرواح عن شئ واحد (5) ولا يثبت عنه عليه السلام
في هذا الباب خلاف لهذا أصلا. وبالله تعالى نتأيد.

(1) لفظ (فقال) سقط من الأصل وزدناه من أبى داود فيكون قوله (أخذ
بنفسي) من كلام بلال لا من المرفوع وهو الصواب قال شارح أبي داود:
(فقال يا بلال) والعتاب محذوف أو مقدر أي لم نمت حتى فاتتنا الصلاة (فقال)
أي بلال معتذرا (أخذ بنفسي) اه‍ وفي صحيح مسلم في هذا الحديث: (ففزع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أي بلال فقال بلال أخذ بنفسي) الخ وهو
صريح في أنه كلام بلال
(2) بضم السين المهملة مصغرا كما ضبطه الذهبي في المشتبه
(3) الزيادة من أبي داود
(4) في أبي داود: (من أمور الدنيا)
(5) ظهر لك أن التعبير الأول هو من بلال وليس مرفوعا فلا؟؟؟ فيه
لما أراده المؤلف. والامر أهون من هذا فان العرب يعبرون كثيرا عن النفس
بالروح، قال الراغب الأصفهاني في المفردات: (وجعل الروح اسما للنفس قال
الشاعر في صفة النار
فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واجعلها لها فيئة قدرا
وذلك لكون النفس بعض الروح كتسمية النوع باسم الجنس نحو تسمية
الانسان بالحيوان. وجعل اسما للجزء الذي تحصل به الحياة والتحرك واستجلاب
المنافع واندفاع المضار وهو المذكور في قوله: (ويسئلونك عن الروح) وقال
ابن الأنباري: (الروح والنفس واحد غير أن الروح مذكر والنفس مؤنثة عند
العرب) وقال في اللسان: (النفس الروح. قال ابن سيده: وبينهما فرق ليس
من غرض هذا الكتاب) ثم ذكر شواهد على استعمال النفس بمعنى الروح
واستعمالها بمعاني أخر لم نر الإطالة بذكرها
6

7 - مسألة - والعرش مخلوق برهان ذلك قول الله تعالى: (رب العرش العظيم)
وكل ما كان مربوبا فهو مخلوق
8 - مسألة - وانه تعالى ليس كمثله شئ ولا يتمثل في صورة شئ مما خلق. قد
مضى الكلام في هذا ولو تمثل تعالي في صورة شئ لكانت تلك الصورة مثلا له
وهو تعالى يقول: (ليس كمثله شئ) 9 - مسألة - وان النبوة حق برهان ذلك: أن ما غاب عنا أو كان قبلنا فلا
يعرف الا بالخبر عنه. وخبر التواتر يوجب العلم الضروري ولا بد ولو دخلت في نقل
التواتر داخلة أو شك لوجب أن يدخل الشك هل كان قبلنا خلق أم لا إذا لم نعرف كون
الخلق موجودا قبلنا إلا بالخبر ومن بلغ ههنا فقد فارق المعقول وبنقل التواتر المذكور
صح أن قوما من الناس أتوا أهل زمانهم يذكرون أن الله تعالى خالق الخلق أوحى
إليهم يأمرهم بانذار قومهم بأوامر ألزمهم الله تعالى إياها فسئلوا برهانا على صحة ما قالوا
فأتوا بأعمال هي خلاف لطبائع ما في العالم لا يمكن البتة في العقل أن يقدر عليها
مخلوق حاشا خالقها الذي ابتدعها كما شاء كقلب عصا حية تسعى وشق البحر لعسكر
جازوا فيه وغرق من اتبعهم وكاحياء ميت قد صح موته وكابراء أكمه ولد أعمى وكناقة
خرجت من صخرة وكانسان رمى في النار فلم يحترق وكاشباع عشرات من الناس من
صاع شعير وكنبعان الماء من بين أصابع إنسان حتى روى العسكر كله. فصح ضرورة
ان الله تعالى شهد لهم بما اظهر على أيديهم بصحة ما أتوا به عنه وانه تعالى صدقهم
فيما قالوه
7

10 - مسألة - وان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله إلى جميع الإنس والجن
كافرهم ومؤمنهم برهان ذلك: انه عليه السلام أتى بهذا القرآن المنقول الينا بأتم
ما يكون من نقل التواتر وأنه دعا من خالفه إلى أن يأتوا بمثله فعجزوا كلهم عن ذلك
وأنه شق له القمر قال الله عز وجل: (اقتربت الساعة وانشق القمر وان يروا آية
يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواء هم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم
من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغنى النذر). وحن الجذع إذ فقده حنينا
سمعه كل من حضره وهم جموع كثيرة ودعا اليهود إلى تمني الموت إن كانوا صادقين
وأخبرهم أنهم لا يتمنونه فعجزوا كلهم عن تمنيه جهارا ودعا النصارى إلى مباهلته فأبوا
كلهم. وهذان البرهانان مذكوران جميعا في نص القرآن كما ذكر فيه تعجيزه جميع
العرب عن أن يأتوا بمثله أولهم عن آخرهم. ونبع لهم الماء من بين أصابعه وأطعم مئين من
الناس من صاع شعير وجدى وأذعن ملوك اليمن والبحرين وعمان لامره للآيات التي
صحت عندهم عنه فنزلوا عن ملكهم كلهم طوعا دون رهبة أصلا ولا خوفا من أن يغزوهم
ولا برغبة رغبهم بها بل كان فقيرا يتنما. وهناك قوم يدعون النبوة كصاحب صنعاء
وكصاحب اليمامة كلاهما أقوى جيشا وأوسع منه بلادا فما التفت لهم أحد غير قومها
وكان هو أضعفهم جندا وأضعفهم بلدا وأبعدهم من بلاد الملوك دارا فدعا الملوك والفرسان
الذين قد ملؤوا جزيرة العرب وهي نحو شهرين في نحو ذلك إلى إقامة الصلاة وأداء
الزكاة واسقاط الفخر والتجبر والتزام التواضع والصبر للقصاص في النفس فما دونها
من كل حقير أو رفيع دون أن يكون معه مال ولا عشيرة تنصره بل اتبعه كل من
اتبعه مذعنا لما بهرهم من آياته ولم يأخذ قط بلدة عنوة وغلبة الا خيبر ومكة فقط. وفي
القرآن العظيم (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) وقال تعالى (يا معشر الجن والإنس
). وقال تعالى (قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا
قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به) إلى قوله (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون
فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) وقال تعالى (ومن
يبتغ غير الا سلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) *
11 - مسألة - نسخ عز وجل بملته كل ملة وألزم أهل الأرض جنهم وانسهم اتباع
8

شريعته التي بعثه بها ولا يقبل من أحد سواها وانه عليه السلام خاتم النبيين لا نبي
بعده برهان ذلك: قول الله تعالى (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول
الله وخاتم النبيين). حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن مسرة (1) ثنا محمد
ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الله بن إدريس عن المختار بن فلفل عن
أنس بن مالك قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان النبوة والرسالة قد انقطعت فجزع الناس
فقال: قد بقيت مبشرات وهن جزء من النبوة
12 - مسألة - إلا أن عيسى بن مريم عليه السلام سينزل وقد كان قبله عليه
السلام أنبياء كثيرة ممن سمى الله تعالى ومنهم من لم يسم والا يمان بجميعهم فرض
برهان ذلك: ما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا الوليد بن شجاع
وهارون بن عبد الله وحجاج بن الشاعر قالوا حدثنا حجاج وهو ابن محمد عن ابن
جريج قال أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. قال: فينزل
عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا إن بعضكم (2) على
بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة). وذكر الله تعالى في القرآن آدم ونوحا
وإدريس وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود

(1) مسرة بفتح الميم والسين وتشديد الراء وفى نسخة (ميسرة) وهو خطأ
ووهب هذا هو أبو الحزم التميمي كان حافظا للفقه والحديث والعلل فاضلا ورعا.
أخذوا عليه هفوة في الكلام في القدر. حدث بمسند أبي بكر بن أبي شيبة مات
في شعبان سنة 346 وأما تلميذه أحمد بن محمد بن الجسور فان في نسخة من الأصل
(الحصور) وفي سائر الأصول (الجسور) وفى تذكرة الحفاظ (أبو عمر أحمد
ابن الجسور) قال في الرواة عن وهب وهو الصواب وسيأتي كذلك صحيحا
(2) في الأصل (بعضهم) وصححناه من صحيح مسلم
9

وسليمان ويونس واليسع وإلياس وزكريا ويحيى وأيوب وعيسى وهودا وصالحا وشعيبا
ولوطا. وقال تعالى: (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) وقال تعالى: (يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض
ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا)
13 - مسألة - وأن جميع النبيين وعيسى ومحمدا عليهم السلام عبيد الله تعالى
مخلوقون ناس كسائر الناس مولودون من ذكر وأنثى إلا آدم وعيسى فان آدم خلقه
الله تعالى من تراب بيده لا من ذكر ولا من أنثى وعيسى خلق في بطن أمه من غير
ذكر. قال الله عز وجل عن الرسل عليهم السلام أنهم قالوا: (إن نحن إلا بشر
مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) وقال تعالى (أنا خلقناكم من ذكر
وأنثى). وقال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب). وقال
تعالى (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) وقال تعالى عن جبريل عليه
السلام أنه قال لمريم عليها السلام: (إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت
أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر و لم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين).
وقال تعالى: (ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا)
14 - مسألة - وأن الجنة حق دار مخلوقة للمؤمنين ولا يدخلها كافر أبدا قال تعالى:
(وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين). وقال تعالى: (ونادى
أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن
الله حرمهما على الكافرين)
15 - مسألة - وان الجنة حق دار مخلوقة لا يخلد فيها مؤمن. قال تعالى: (لا يصلاها
إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى)
16 - مسألة - يدخل النار من شاء الله تعالى من المسلمين الذين رجحت
كبائرهم وسيئاتهم على حسناتهم ثم يخرجون منها بالشفاعة ويدخلون الجنة. قال
عز وجل: (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا
كريما) وقال تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان
مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين). وقال تعالى: (فأما من
10

ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك
ماهية نار حامية). حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن
عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو غسان المسمعي
ومحمد بن المثني صل الله عليه وآله وسلم قال (يخرج من النار من قال لا إله الا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن
شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله الا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة
ثم يخرج من النار من قال لا إله الا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة)
17 - مسألة - لا تفنى الجنة ولا النار ولا أحد ممن فيهما أبدا. برهان ذلك:
قول الله عز وجل مخبرا عن كل واحدة من هاتين الدارين ومن فيهما: (خالدين
فيها أبدا) و (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض الا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ)
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا محمد بن
عيسى بن عمرويه الجلودي ثنا إبراهيم بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي
شيبة وأبو كريب قالا ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يجاء بالموت (1) يوم القيامة كأنه كبش أملح فيقال: يا أهل
الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت ويقال: يا أهل
النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون فيقولون نعم هذا الموت. فيؤمر به فيذبح ثم
يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) وأشار بيده
إلى أهل الدنيا) (2) زاد أبو كريب في روايته بعد كبش أملح: (فيوقف بين الجنة
والنار) وقال عز وجل في أهل الجنة (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) وقال
في أهل النار (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها). وبالله تعالى
التوفيق.

(1) في الأصل (يجئ الموت) وهو خطأ
(2) في مسلم (إلى الدنيا) وفى النسخة اليمنية (إلى أهل النار)
11

18 - مسألة - وأن أهل الجنة يأكلون ويشربون ويطأون ويلبسون ويتلذذون
ولا يرون بؤسا أبدا وكل ذلك. بخلاف ما في الدنيا لكن ما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر وحور العين حق نساء مطهرات خلقهن الله عز وجل
للمؤمنين. قال تعالى (يطوف عليهم والدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين
لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين
كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون). وقال تعالى (ولباسهم فيها حرير).
وقال تعالى (وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا). حدثنا عبد الله بن
يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا محمد بن عيسى ثنا إبراهيم بن محمد ثنا
مسلم بن الحجاج ثنا زهير بن حرب ثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب الله تعالى (فلا
تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)) (وبه إلى مسلم) حدثني
الحسن الحلواني ثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله
يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا
يمتخطون ولا يبولون ولكن طعامهم ذلك جشاء كرشح المسك يلهمون التسبيح
والحمد كما يلهمون النفس) وهذا نص على أنه خلاف ما في الدنيا.
19 - مسألة - وأهل النار يعذبون بالسلاسل والاغلال والقطران وأطباق النيران
أكلهم الزقوم وشرابهم ماء كالمهل والحميم، نعوذ بالله من ذلك. وقال تعالى (سرابيلهم
من قطران) وقال تعالى (وانا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا) وقال
تعالى (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها) وقال تعالى (ان شجرة
الزقوم طعام الأثيم) وقال تعالى (في سموم وحميم) وقال تعالى (وان يستغيثوا يغاثوا
بماء كالمهل يشوى الوجوه).
20 - مسألة - وكل من كفر بما بلغه وصح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أجمع عليه
المؤمنون مما جاء به النبي عليه السلام فهو كافر كما قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول
من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم).
12

21 - مسألة - وان القرآن الذي في المصاحف بأيدي المسلمين شرقا وغربا فما
بين ذلك من أول أم القرآن إلى آخر المعوذتين كلام الله عز وجل ووحيه أنزله على
قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من كفر بحرف منه فهو كافر. قال تعالى (فأجره حتى يسمع كلام
الله) وقال تعالى (نزل به الروح الأمين على قلبك) وقال تعالى (وكذلك أوحينا إليك
قرآنا عربيا). وكل ما روى عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن
في مصحفه فكذب موضوع لا يصح وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن
حبيش عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتان.
22 - مسألة - وكل ما فيه من خبر عن نبي من الأنبياء أو مسخ أو عذاب
أو نعيم أو غير ذلك فهو حق على ظاهره لا رمز في شئ منه. قال تعالى: (قرآنا عربيا)
وقال تعالى (تبيانا لكل شئ) وأنكر تعالى على قوم خالفوا هذا فقال تعالى: (يحرفون
الكلم عن مواضعه).
23 - مسألة - ولا سر في الدين عند أحد. قال الله عز وجل: (ان الذين يكتمون
ما أنزلنا منن البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله
ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) وقال تعالى: (لتبيتنه للناس
ولا تكتمونه).
24 - مسألة - وان الملائكة حق، وهم خلق من خلق الله عز وجل مكرمون
كلهم رسل الله. قال الله تعالى: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب). وقال تعالى:
(بل عباد مكرمون) وقال تعالى: (جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة).
25 - مسألة - خلقوا كلهم من نور وخلق آدم من ماء وتراب وخلق الجن من
نار. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا
محمد بن عيسى ثنا إبراهيم بن محمد ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبد بن حميد ثنا عبد بن حميد ثنا عبد الرزاق
ثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلقت
الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم). وقال
تعالى: (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين).
26 - مسألة - والملائكة أفضل خلق الله تعالى، لا يعصى أحد منهم في صغيرة
13

ولا كبيرة وهم سكان السماوات. قال الله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون
ما يؤمرون) وقال تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة
المقربون). فهذا تفضيل لهم على المسيح عليه السلام وقال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم
وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا
تفضيلا). ولم يقل تعالى على كل من خلقنا. ولا خلاف في أن بني آدم أفضل من
كل خلق سوى الملائكة فلم يبق إلا الملائكة، وإسجاده تعالى الملائكة لآدم على
جميعهم السلام سجود تحية فلو لم يكونوا أفضل منه لم يكن له فضيلة في أن يكرم بأن
يحيوه. وقد تقصينا هذا الباب في كتاب (الفصل) غاية التقصي والحمد الله رب العالمين.
وقال تعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش).
27 - مسألة - وأن الجن حق وهم خلق من خلق الله عز وجل فيهم الكافر
والمؤمن يروننا ولا نراهم يأكلون وينسلون ويموتون. قال الله تعالى: (يا معشر الجن والإنس
). وقال تعالى: (والجان خلقناه من قبل من نار السموم). وقال تعالى حاكيا
عنهم أنهما قالوا: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا
وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا). وقال تعالى: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث
لا ترونهم). وقال تعالى: (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) وقال تعالى:
(كل من عليها فان). وقال تعالى: (كل نفس ذائقة الموت). حدثنا أحمد بن
محمد بن الجسور و عبد الله بن ربيع قال أحمد أخبرنا وهب بن مسرة نا محمد بن وضاح
نا أبو بكر بن أبي شيبة، وقال عبد الله: نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا
هناد بن السرى، ثم اتفق ابن أبي شيبة وهناد قالا: نا حفص بن غياث عن داود
الطائي عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا تستنجوا بالعظام ولا بالروث فإنهما زاد اخوانكم من الجن).
28 - مسألة - وأن البعث حق وهو وقت ينقضي فيه بقاء الخلق في الدنيا
فيموت كل من فيها ثم يجيى الموتى يجيى عظامهم التي في القبور وهي رميم ويعيد
الأجسام كما كانت ويرد إليها الأرواح كما كانت ويجمع الأولين والآخرين في يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة يحاسب فيه الجن والإنس فيوفى كل أحد قدر عمله. قال
14

الله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شئ قدير وأن
الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور). وقال تعالى: (قال من
يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم). وقال
تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون). وقال تعالى:
(قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم). وقال تعالى: (في
يوم كان مقداره خمسين ألف سنة). وقال تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت
لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب).
29 - مسألة - وأن الوحوش تحشر. قال الله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت).
وقال تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا
في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون). حدثنا عبد الله بن يوسف. نا أحمد
ابن فتح. نا عبد الوهاب بن عيسى. نا أحمد بن محمد. نا أحمد بن علي. نا مسلم
ابن الحجاج. نا قتيبة بن سعيد. نا إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن
عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم
القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء).
30 - مسألة - وأن الصراط حق وهو طريق يوضع بين ظهراني جهنم فينجو
من شاء الله تعالى ويهلك من شاء. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا
عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا
زهير بن حرب ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن ابن شهاب عن عطاء بن
يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث: (ويضرب
الصراط بنى ظهري جهنم) وقال عليه السلام في هذا الحديث أيضا: (وفى جهنم
كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان؟ فإنها مثل شوك السعدان غير
أنه لا يعلم قدر (1) عظمها الا الله عز وجل تخطف الناس بأعمالهم فمنهم يعنى الموبق

(1) في صحيح مسلم طبع بولاق ج 1: ص 65 (لا يعلم ما قدر) وما هنا
نسخة بهامش طبعة الآستانة ج 1: ص 113
15

بعمله (1) ومنهما المخردل (2) حتى ينجى). وذكر باقي الخبر *
31 - مسألة - وأن الموازين حق توزن فيها أعمال العباد نؤمن بها ولا ندري
كيف هي. قال الله عز وجل: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس
شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين). وقال تعالى:
(والوزن يومئذ الحق). وقال تعالى: (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة
راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهية نار حامية) *
32 - مسألة - وأن الحوض حق من شرب منه لم يظمأ أبدا. ثنا عبد الله
ابن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد
ابن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد
العمى عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: (قلت يا رسول الله
ما آنية الحوض؟ قال: والذي نفسي بيده (3) لآنيته أكثر من عدد نجوم المساء وكواكبها
(ألا) (4) في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه
يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه مثل طوله ما بين عمان
إلى أيلة ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل) *
33 - مسألة - وان شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته حق فيخرجون
من النار ويدخلون الجنة. قال الله عز وجل: (ومن ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه)

(1) في مسلم طبع بولاق (فمنهم المؤمن يقي بعمله) وفي طبعة الآستانة
نسخ مختلفة منها ما ذكره المؤلف هنا وقد انتقده العلامة الأمير الصنعاني وذكر
في هامش النسخة اليمنية لفظ مسلم كما في طبعة بولاق، وقد ظهر لك أن النسخ
مختلفة وسيأتي بهذا اللفظ في المسألة 83
(2) المحردل المصروع المرمي وقيل المقطع تقطعه كلاليب الصراط حتى يهوي
في النار قاله في اللسان. والذي في مسلم في الطبعتين بدل ذلك (المجازي)
وهو واضح
(3) في صحيح مسلم ج 2: ص 209 بولاق (والذي نفس محمد بيده)
(4) زيادة من صحيح مسلم
16

حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد
ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو غسان المسمعي ثنا معاذ - يعني ابن هشام
الدستوائي - ثنا أبي عن قتادة ثنا أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل
نبي دعوة دعاها لامته واني اختبأت دعوتي شفاعة لامتي يوم القيامة) * وبه إلى مسلم:
ثنا نصر بن علي ثنا بشر - يعنى ابن المفضل - عن أبي مسلمة - هو سعيد بن يزيد - عن أبي
نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما (1) أهل النار الذين
هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم
فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجئ (2) بهم ضبائر ضبائر (3) فبثوا
على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في
حميل السيل) *
34 - مسألة - وان الصحف التي تكتب فيها أعمال العباد الملائكة حق نؤمن بها
ولا ندري كيف هي. قال الله عز وجل (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد
ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد) وقال عز وجل (انا كنا نستنسخ ما كنتم
تعملون) وقال تعالى (وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا
يلقاه منشورا اقرأ كتابك) *
35 - مسألة - وان الناس يعطون كتبهم يوم القيامة، فالمؤمنون الفائزون الذين
لا يعذبون يعطونها. بأيمانهم والكفار بأشملهم (4) والمؤمنون أهل الكبائر وراء ظهورهم
قال الله عز وجل: (فاما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا
وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا

(1) زيادة عن صحيح مسلم ج 1: ص 68 بولاق
(2) في الأصل (فيجئ) وهو خطأ
(3) يعنى جماعات
(4) جمع شمال كشمائل وشمل قال أبو النجم: يأتي لها من أيمن وأشمل
17

ويصلى سعيرا انه كان في أهله مسرورا انه ظن أن لن يحور). وقال تعالى:
(وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، يا ليتها
كانت القاضية، ما أغني عني ماليه، هلك عنى سلطانيه، خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه
ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه، انه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على
طعام المسكين) *
36 - مسألة - وان على كل انسان حافظين من الملائكة يحصيان أقواله وأعماله
قال عز وجل: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول الا
لديه رقيب عتيد) *
37 - مسألة - ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فان عملها كتبت له عشرا.
ومن هم بسيئة فان تركها لله تعالى كتبت له حسنة، فان تركها بغلبة أو نحو ذلك لم
تكتب عليه. فان عملها كتبت له سيئة واحدة * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا احمد
ابن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن
الحجاج ثنا محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه هذا ما حدثنا
أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذكر أحاديث منها (1)) قال (قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (2)) (قال الله عز وجل إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة
ما لم يعمل فإذا عملها فانا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها
له ما لم يعملها فإذا عملها فانا أكتبها له بمثلها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالت الملائكة رب
ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فان عملها فاكتبوها له بمثلها
وان تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراى (3)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا
أحسن أحدكم اسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف
وكل سيئة تكتب (له) (4) بمثلها حتى يلقى الله عز وجل) *

(1) الزيادة من صحيح مسلم ج 1: ص 47 - 48 بولاق
(2) الزيادة من صحيح مسلم ج 1: ص 47 - 48 بولاق
(3) أي من أجلى
(4) الزيادة من صحيح مسلم
18

38 - مسألة - ومن عمل في كفره عملا سيئا ثم أسلم، فان تمادى على تلك الإساءة
حوسب وجوزي في الآخرة بما عمل من ذلك في شركه واسلامه، وان تاب عن ذلك
سقط عنه ما عمل في شركه. ومن عمل في كفره أعمالا صالحة ثم أسلم جوزي في الجنة
بما عمل من ذلك في شركه واسلامه، فإن لم يسلم جوزي بذلك في الدنيا ولم ينتفع بذلك في
الآخرة * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن
محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن حاتم بن ميمون وإبراهيم
ابن دينار واللفظ له قالا ثنا حجاج - هو ابن محمد - عن ابن جريج قال أخبرني يعلي بن
مسلم أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس ((ان ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا
وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم (1) فقالوا إن الذي تقول وتدعو (إليه) (2) لحسن (3)
ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت: (والذين لا يدعون مع الله الها آخر
ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (4)
يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا الا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا).
فلم يسقط الله عز وجل تلك الأعمال السيئة الا بالايمان مع التوبة مع العمل الصالح *
وبه إلى مسلم حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن ابن
مسعود قال (قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال:
أما من أحسن منكم في الاسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية
والاسلام) * وبه إلى مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع عن الأعمش عن أبي
وائل عن ابن مسعود (قال قلنا يا رسول الله) (*) أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟

(1) هذا لفظ مسلم وفي الأصل (وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم)
(2) زيادة من صحيح مسلم
(3) في الأصل (لو) بحذف الواو
(4) في مسلم إلى هنا ولم يذكر باقي الآيات
(5) الزيادة من صحيح مسلم
19

فقال (من أحسن في الاسلام لم يؤاخذ (1) بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الاسلام
أخذ بالأول والآخر) * وبه إلى مسلم حدثنا حسن الحلواني ثنا يعقوب - هو ابن
إبراهيم بن سعد - ثنا أبي عن صالح - هو ابن كيسان - عن ابن شهاب أخبرنا
عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره (2) أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي
رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم
أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير) فان ذكروا قول
الله عز وجل (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وقوله عليه السلام
لعمر وبن العاص (ان الاسلام يهدم ما كان قبله، وان الهجرة تهدم ما كان قبلها،
وإن الحج يهدم ما كان قبله) قلنا: إن كلامه عليه السلام لا يعارض كلامه ولا كلام
ربه. ولو كان ذلك - وقد أعاذ الله من هذا - لما كان بعضه أولى من بعض
ولبطلت حجة كل أحد بما يتعلق به منه، وكذلك القرآن لا يعارض القرآن ولا السنة
قال عز وجل (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) فاما قوله تعالى
(ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) فنعم هذا هو نفس قولنا: ان من انتهى غفر له،
وأما من لم ينته عنه فلم يقل الله تعالى انه يغفره له فبطل تعلقهم بالآية. وأما قوله عليه
السلام (ان الاسلام يهدم ما كان قبله) فحق وهو قولنا لان الاسلام اسم واقع على
جميع الطاعات، والتوبة من عمل السوء من الطاعات، وكذلك قوله عليه السلام في
الهجرة إنما هي التوبة من كل ذنب، كما صح عنه عليه السلام: (المهاجر من هجر ما نهى
عنه) حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد بنا محمد بن يوسف
الفربري ثنا البخاري ثنا آدم (بن أبي اياس) (3) ثنا شعبة عن عبد الله بن أبي
السفر وإسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عبد لله بن عمرو بن العاصي عن النبي

(1) في الأصل (من أحسن منكم في الاسلام ولم يؤاخذ) وهو خطأ
صححناه عن مسلم
(2) في الأصل (أخبر)
(3) زيادة من البخاري
20

صلى الله عليه وسلم قال (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله
عنه) * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى
ثنا أحمد بن ممد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا
حفص بن غياث عن داود (1) عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أم المؤمنين قالت
(قلت يا رسول الله ان (2) ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل
ذلك (3) نافعه؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) * حدثنا
عبد الله يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا محمد بن عيسى ثنا
إبراهيم بن محمد ثنا مسلم ثنا زهير بن حرب ثنا يزيد بن هارون ثنا همام بن يحيى عن
قتادة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان الله لا يظلم مؤما حسنة، يعطى بها في
الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيعطى (4) بحساب ما عمل بها لله في
الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) *
39 - مسألة - وان عذاب القبر حق ومسألة الأرواح بعد الموت حق ولا
يحيا أحد بعد موته إلى يوم القيامة * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا
عبد الوهاب بن عيسى ثنا محمد بن عيسى ثنا إبراهيم بن محمد ثنا مسلم بن الحجاج
ثنا محمد بن بشار بن عثمان العبدي ثنا محمد بن جعفر - هو غندر - ثنا شعبة عن
علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت) قال نزلت في عذاب القبر يقال (5) من ربك
فيقول ربي الله ونبي محمد) * وبه إلى مسلم ثنا عبيد الله بن عمر القواريري ثنا حماد بن
زيد ثنا بديل عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال: (إذا خرجت روح المؤمن

(1) هو ابن أبي هند. من هامش الأصل
(2) في مسلم بحذف (ان)
(3)؟؟؟ مسلم (ذاك)
(4) في مسلم ج 2: ص 345 (فيطعم)
(5) في مسلم ج 2: ص 358 (فيقال)
21

تلقاها (1) ملكان يصعدانها ويقول أهل السماء روح طيبة جاءت من قبل الأرض
صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلقوا به إلى ربه ثم يقول انطلقوا به إلى
آخر الأجل. قال وان الكافر إذا خرجت روحه يقول أهل السماء روح خبيثة جاءت
من قبل الأرض فيقال انطلقوا به إلي آخر الأجل. قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ريطة (2) كانت عليه على أنفه) وقال الله تعالى (كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم
يحييكم) فصح أنهما حياتان وموتان فقط، ولا ترد الروح الا لمن كان ذلك آية، كمن
أحياه عيسى عليه السلام وكل من جاء فيه بذلك نص وهو قول من روى عنه في
ذلك قول من الصحابة رضي الله عنهم * حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا إسماعيل
ابن إسحاق ثنا عيسى بن حبيب ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله
ابن يزيد المقرئ ثنا جدي محمد بن عبد الله ثنا سفيان بن عيينة عن منصور بن
عبد الرحمن عن أمه صفية بنت شيبة قالت (دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير
مطروحا قبل أن يصلب، فقيل له هذه أسماء فمال إليها وعزاها، وقال إن هذه الجثث
ليست بشئ وان الأرواح عند الله عز وجل، فقالت له أسماء وما يمنعني وقد أهدى
رأس زكريا (3) إلي بغى من بقايا بني إسرائيل) ولم يرو أحد أن في عذاب القبر
رد الروح إلى الجسد الا المنهال بن عمرو وليس بالقوى *
40 - مسألة - والحسنات تذهب السيئات بالموازنة، والتوبة تسقط السيئات
والقصاص من الحسنات. قال الله عز وجل (وانى لغفار لمن تاب) وقال تعالى (ان
الحسنات يذهبن السيئات) * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب
ابن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا قتيبة بن سعيد

(1) في الأصل (إذا أخرجت روح المؤمن تلقاه) وصححناه من مسلم ج 2 ص 358
(2) الريطة - بالياء المثناة التحتية - الملاءة أو الثوب الرقيق. قال
الأزهري: لا تكون الريطة الا بيضاء
(3) هنا بهامش الأصل ما نصه (المعروف في كتب التفسير والآثار
أن يحيى هو الذي أهدى رأسه إلى البغي وأما زكريا فإنه نشر بالمنشار في باطن
الشجرة فكأنه سقط لفظ (يحيى) وان الأصل يحيى بن زكريا)
22

ثنا إسماعيل عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال (أتدرون ما المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إن المفلس من
أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف
هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا (وضرب هذا) (1) فيعطى هذا من
حسناته وهذا من حسناته فان فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من
خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) وقال عز وجل (اليوم تجزى كل نفس
بما كسبت) *
41 - مسألة - وأن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ولكن توفاه الله
عز وجل ثم رفعه إليه. وقال عز وجل (وما قتلوه وما صلبوه) وقال تعالى (انى
متوفيك ورافعك إلى) وقال تعالى عنه أنه قال (وكنت عليهم شهيدا ما دمت
فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد) وقال تعالى
(الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) فالوفاة قسمان: نوم وموت
فقط، ولم يرد عيسى عليه السلام بقوله (فلما توفيتني) وفاة النوم فصح أنه إنما عنى
وفاة الموت، ومن قال إنه عليه السلام قتل أو صلب فهو كافر مرتد حلال دمه وماله
لتكذيبه القرآن وخلافه الاجماع.
42 - مسألة - وأنه لا يرجع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من
من أصحابه رضي الله عنهم الا يوم القيامة إذا رجع (الله) المؤمنين والكافرين
للحساب والجزاء. وهذا اجماع جميع أهل الاسلام المتيقن قبل حدوث الروافض
المخالفين لاجماع أهل الاسلام المبدلين للقرآن المكذبين بصحيح سنن رسول الله
صلى الله عليه وسلم المجاهرين بتوليد الكذب المتناقضين في كذبهم أيضا، وقال عز وجل.
(وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) وقال تعالى (ثم إنكم يوم القيامة عند
ربكم تختصمون) فادعوا من رجوع علي رضي الله عنه مالا يعجز أحد عن أن يدعى
مثله لعمر أو لعثمان أو لمعاوية رضي الله عنهما أو لغير هؤلاء: إذا لم يبال بالكذب

(1) الزيادة من مسلم ج 2: ص 283
23

والدعوى بلا برهان لا من قرآن ولا من سنة ولا من اجماع ولا من معقول
وبالله تعالى التوفيق *
43 - مسألة - وان الأنفس حيث رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به أرواح
أهل السعادة عن يمين آدم عليه السلام وأرواح أهل الشقاء عن شماله عند
سماء أهل الدنيا (1) لا تفنى ولا تنتقل إلى أجسام أخر لكنها باقية حية
حساسة عاقلة في نعيم أو نكد إلى يوم القيامة فترد إلى أجسادها للحسنات وللجزاء
بالجنة أو النار حاشى أرواح الأنبياء عليهم السلام وأراح الشهداء فإنها الآن ترزق
وتنعم. ومن قال بانتقال الأنفس إلى أجسام أخر بعد مفارقتها هذه الأجساد فقد
كفر. برهان هذا * ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب
ابن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا حرملة بن يحيى
ثنا ابن وهب انا يونس - هو ابن يزيد - عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال
كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل
(عليه السلام) (2) ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست (3) من ذهب
ممتلئ حكمة وايمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء
الدنيا فلما جئنا السماء الدنيا (4) قال جبريل (صلى الله عليه وسلم) (5) لخازن السماء الدنيا افتح
قال من هذا قال جبريل قال هل معك أحد قال نعم معي محمد (صلى الله عليه وسلم) (6) قال
فأرسل إليه قال نعم ففتح (7) فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن

(1) كذا بالأصل بزيادة لفظ (أهل)
(2) زيادة من مسلم ج 1: ص 59
(3) بالسين المهملة وفي الأصل بالمعجمة وهو تصحيف
(4) هذا لفظ صحيح مسلم وفي الأصل (فعرج بنا إلى السماء فلما جئنا إلى
السماء الدنيا)
(5 و 6) الصلاة في الموضعين ليست مذكورة في صحيح مسلم ولكنها في الأصل
(7) في الأصل (فافتح) وهو خطأ
24

يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى قال فقال مرحبا
بالنبي الصالح والابن الصالح فقلت (1) يا جبريل من هذا قال هذا آدم (صلى الله عليه وسلم) (2)
وهذه الاسودة (التي) (3) عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل (4) اليمين أهل الجنة
والاسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله
بكى (قال) (5) ثم عرج (6) بي جبريل (صلى الله عليه وسلم) (*) حتى أتى السماء الثانية) قال
أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم (صلوات الله عليهم) (*) ولم يثبت كيف منازلهم (7) غير أنه (ذكر أنه) (8) قد وجد
آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة. وذكر الحديث ففي هذا الخبر مكان
الأرواح وأن أرواح الأنبياء في الجنة *
وأما الشهداء فان الله عز وجل يقول (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات
بل أحياء ولكن لا تشعرون) وقال تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله) ولا خلاف بين
مسلمين (9) في أن الأنبياء عليهم السلام أرفع قدرا ودرجة وأتم فضيلة عند الله
عز وجل وأعلى كرامة من كل من دونهم، ومن خالف في هذا فليس مسلما * حدثنا
عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا محمد بن عيسى
ثنا إبراهيم بن محمد ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق

(1) في مسلم (قال قلت)
(2) الصلاة في المواضع الثلاثة ليست في صحيح مسلم ولكنها في الأصل
(3) زيادة من مسلم
(4) في الأصل (وأهل)
(5) زيادة من مسلم
(6) في الأصل (خرج) وهو خطأ
(7) في الأصل (فلم يثبت منازلهم)
(8) زيادة من مسلم
(9) كذا في الأصل
25

ثنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا
مات الرجل عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فالجنة (1)
وإن كان من أهل النار فالنار ثم يقال له هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة)
ففي هذا الحديث ان الأرواح حساسة عالمة مميزة بعد فراقها الأجساد. وأما من
زعم أن الأرواح تنقل إلى أجساد أخر فهو قول أصحاب التناسخ، وهو كفر عند جميع
أهل الاسلام. وبالله تعالى التوفيق *
44 - مسألة - وان الوحي قد انقطع مذ مات النبي صلى الله عليه وسلم. برهان
ذلك أن الوحي لا يكون الا إلى نبي وقد قال عز وجل: (وما كان محمد أبا أحد من رجالكم
لكن رسول الله وخاتم النبيين) *
45 - مسألة - والدين قد تم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يبدل. قال تعالى:
(اليوم أكملت لكم دينكم) وقال تعالى: (لا تبديل لكلمات الله) والنقص
والزيادة تبديل *
46 - مسألة - قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين كله وبين جميعه
كما أمره الله تعالى: قال تعالى: (وانك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط الله) وقال
تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) *
47 - مسألة - وحجة الله تعالى قد قامت واستبانت لكل من بلغته
النذارة من مؤمن وكافر وبر وفاجر. قال الله عز وجل: (لا إكراه في الدين
قد تبين الرشد من الغي) وقال تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي
عن بينة) *
48 - مسألة - والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان على كل أحد - على قدر طاقته -
باليد فمن لم يقدر فبلسانه فمن لم يقدر فبقلبه وذلك أضعف الايمان ليس وراء ذلك
من الايمان شئ. قال عز وجل: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف

(1) في الأصل (فمن أهل الجنة) وهو خطأ صححناه من صحيح مسلم
ج 2: ص 357
26

وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) وقال تعالى: (وان طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ
إلى أمر الله) * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى
ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد
ابن المثنى قال ابن أبي شيبة ثنا وكيع عن سفيان الثوري وقال ابن المثنى ثنا محمد بن
جعفر ثنا شعبة ثم اتفق سفيان وشعبة كلاهما عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب
قال قال أبو سعيد الخدري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم
منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان) *
وبه إلى مسلم حدثنا عبد بن حميد ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن صالح
ابن كيسان عن الحارث - هو ابن الفضيل الخطمي - عن جعفر بن عبد الله بن
عبد الحكم عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبي رافع هو مولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في
أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها
تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم
بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه (فهو مؤمن) (1) ومن جاهد هم بقلبه فهو
مؤمن وليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل).
قال علي: لم يختلف أحد من المسلمين في أن الآيتين المذكورتين محكمتان
غير منسوختين، فصح أن ما عارضهما أو عارض الأحاديث التي في معناهما هو
المنسوخ بلا شك *
49 - مسألة - فمن عجز لجهله أو عتمته (2) عن معرفة كل هذا فلا بد له أن يعتقد
بقلبه ويقول بلسانه - حسب طاقته بعد أن يفسر له -: لا إله إلا الله محمد رسول الله

(1) سقط من الأصل وأكملناه من صحيح مسلم ج 1: ص 29
(2) كذا في النسخة اليمنية وفي المصرية (وعميته) وكلاهما لا معنى له
والصواب فيما يبدو لي (أو عجمته) كما هو ظاهر من سياق الكلام
27

كل ما جاء به حق وكل دين سواه باطل * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح
عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج
ثنا أمية بن بسطام ثنا يزيد بن زريع ثنا روح عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب
عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أمرت أن
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به
فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهما على الله).
وقال عز وجل (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من
الخاسرين) *
50 - مسألة - وبعد هذا فان أفضل الإنس والجن الرسل ثم الأنبياء على
جميعهم من الله تعالى ثم منا أفضل الصلاة والسلام ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم الصالحون. قال تعالى (جاعل الملائكة رسلا). وقال تعالى: (الله يصطفى من
الملائكة رسلا ومن الناس) وهذا لا خلاف فيه من أحد، وقال عز وجل (لا يستوى
من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا
وعد الله الحسنى) حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن
الاعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا مسدد ثنا أبو معاوية - هو محمد بن خازم (1)
الضرير - ثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد
أحدهم ولا نصيفه) * حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن
بكر ثنا أبو داود السجستاني ثنا عمر وبن عون ومسدد قالا ثنا أبو عوانة عن قتادة
عن زرارة بن أوفى عن عمران بن الحصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير أمتي
القرن الذين (2) بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يظهر قوم يشهدون
ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويحربون ولا يؤتمنون ويفشو فيهم السمن). هكذا

(1) بالخاء والزاي المعجمتين
(2) في أبي داود المطبوع في الهند مع شرحه عون المعبود ج 4 ص 346 (الذي)
28

حدثنا عبد الله بن ربيع (يحربون) بحاء غير منقوطة وراء مرفوعة وباء منقوطة
واحدة من أسفل (1) ورويناه من طرق كثيرة (يخونون) بالخاء المنقوطة من فوق
وواو بعدها نون، ومن حان فقد حرب (2) *
51 - مسألة - وان الله تعالى خالق كل شئ سواه لا خالق سواه. قال الله عز
وجل: (خالق كل شئ) وقال تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه)
وقال تعالى: (خلق السماوات والأرض وما بينهما) *
52 - مسألة - ولا يشبهه عز وجل شئ من خلقه في شئ من الأشياء
قال عز وجل: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) وقال تعالى (ولم يكن له
كفوا أحد) *
53 - مسألة - وأنه تعالى لا في مكان ولا في زمان بل هو تعالى خالق الأزمنة
والأمكنة. قال تعالى (خلق كل شئ فقدره تقديرا) وقال تعالى: (خلق السماوات
والأرض وما بينهما) والزمان والمكان فهما مخلوقان، قد كان تعالى دونهما، والمكان
إنما هو للأجسام، والزمان إنما هو مدة كل ساكن أو متحرك أو محمول في ساكن أو
متحرك، وكل هذا مبعد عن الله عز وجل *
54 - مسألة - ولا يحل لاحد أن يسمى الله عز وجل بغير ما سمى به نفسه
ولا أن يصفه بغير ما أخبر به تعالى عن نفسه. قال عز وجل: (ولله الأسماء الحسنى
فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه) فمنع تعالى أن يسمى الا بأسمائه الحسني
وأخبر أن من سماه بغيرها فقد ألحد، والأسماء الحسنى بالألف واللام لا تكون الا معهودة
ولا معروف في ذلك الا ما نص الله تعالى عليه، ومن ادعى زيادة على ذلك كلف
البرهان على ما ادعى ولا سبيل له إليه، ومن لا برهان له فهو كاذب في قوله ودعواه.

(1) هكذا في النسخة المصرية وهو ظاهر وفى اليمنية (وراء غير مرفوعة
وباء غير منقوطة واحدة من أسفل) بزيادة (غير) مرتين وهو خطأ و (يحربون)
من حربه يحربه حربا كطلبه يطلبه طلبا إذا سلب ماله
(2) رواية أبي داود في النسخ التي بأيدينا (يخونون) بالخاء والنون
29

قال عز وجل: (قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) *
55 - مسألة - وان له عز وجل تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد، وهي أسماؤه
الحسنى، من زاد شيئا من عند نفسه فقد ألحد في أسمائه، وهي الأسماء المذكورة في
القرآن والسنة * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن
عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رافع ثنا
عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب وهمام بن منبه قال أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة
وقال همام عن أبي هريرة - ثم اتفقا - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ان لله تسعة
وتسعين اسما مائة الا واحدا من أحصاها دخل الجنة) زاد همام في حديثه ((انه
وتر يحب الوتر). وقد صح انها تسعة وتسعون اسما فقط ولا يحل لاحد أن يجيز أن يكون
له اسم زائد لأنه عليه السلام قال (مائة غير واحد) فلو جاز أن يكون له تعالى
اسم زائد لكانت مائة اسم، ولو كان هذا لكان قوله عليه السلام (مائة غير واحد)
كذبا ومن أجاز هذا فهو كافر. وقال تعالى (هو الله الذي لا إله الا هو الملك القدوس
السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون، هو الله الخالق البارئ
المصور له الأسماء الحسنى) وقد تقصينا كثيرا منها بالأسانيد الصحاح في كتاب
(الايصال) والحمد لله رب العالمين *
56 - مسألة - ولا يحل لاحد أن يشتق لله تعالى اسما لم يسم به نفسه.
برهان ذلك أنه تعالى قال (والسماء وما بناها) وقال (وأكيد كيدا) وقال تعالى:
(خير الماكرين) (ومكروا ومكر الله). ولا يحل لاحد أن يسميه البناء ولا الكياد
ولا الماكر ولا المتجبر ولا المستكبر، لا على أنه المجازي بذلك ولا على وجه أصلا، ومن
ادعي غير هذا فقد ألحد في أسمائه تعالى وتناقض وقال على الله تعالى الكذب وما
لا برهان له به. وبالله تعالى التوفيق *
57 - مسألة - وان الله تعالى يتنزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وهو فعل يفعله عز
وجل ليس حركة ولا نقله. برهان ذلك * ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح
ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج
30

ثنا يحيى بن يحيى قرأت على مالك بن أنس عن ابن شهاب عن أبي عبد الله (1) الأغر
و (عن) (2) أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يتنزل
الله كل ليلة إلى سماء الدنيا (3) حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني (4)
فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له " قال مسلم وحدثناه
قتيبة بن سعيد ثنا يعقوب هو ابن عبد الرحمن القاري عن سهيل بن أبي صالح عن
أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ينزل الله إلى سماء (5) الدنيا كل ليلة
حين (6) يمضي ثلث الليل (الأول) (7) فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي
يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له
فلا يزال كذلك حتى يضئ الفجر " قال مسلم وحدثناه إسحاق بن منصور ثنا أبو
المغيرة ثنا الأوزاعي ثنا يحيى - هو ابن أبي كثير - ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن
ثنا أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه
ينزل الله (تبارك وتعالى) (8) إلى السماء الدنيا فيقول هل من سائل يعطى هل من داع
يستجاب له هل من مستغفر يغفر له حتى ينفجر الصبح).
قال علي: فالرواية عن أبي سلمة عن أبي هريرة من طريق الزهري " إذا بقي ثلث
الليل الآخر " ومن طريق يحيى بن أبي كثير " إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه " ومن طريق
أبى صالح عن أبي هريرة " إذا مضى ثلث الليل الأول إلى أن يضئ الفجر " وهكذا رواه
ابنا أبى شيبة وابن راهويه عن جرير عن منصور عن أبي إسحاق السبيعي عن الأغر عن أبي (*)

(1) في الأصل (عبيد الله) وهو خطأ صححناه من صحيح مسلم 1: 210
(2) الزيادة من صحيح مسلم
(3) في مسلم " يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا "
(4) في الأصل " يدعيني " وهو خطأ
(5) في مسلم " السماء "
(6) في الأصل " حتى " وهو خطأ
(7) الزيادة من مسلم
(8) الزيادة من مسلم
31

هريرة وأبي سعيد الخدري، وأوقات الليل مختلفة باختلاف تقدم غروب الشمس
عن أهل المشرق وأهل المغرب، فصح أنه فعل يفعله الباري عز وجل من قبول
الدعاء في هذه الأوقات، لا حركة، والحركة والنقلة من صفات المخلوقين حاشى
لله تعالى منها *
58 - مسألة - والقرآن كلام الله وعلمه غير مخلوق. قال عز وجل (ولولا
كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم) فأخبر عز وجل أن كلامه هو علمه وعلمه تعالى
لم يزل غير مخلوق.
59 - مسألة - وهو المكتوب في المصاحف والمسموع من القارئ والمحفوظ في
الصدور والذي نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم -: كل ذلك كتاب الله تعالى وكلامه
القرآن حقيقة لا مجازا، من قال في شئ من هذا انه ليس هو القرآن ولا هو كلام الله
تعالى فقد كفر، لخلافه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم واجماع أهل الاسلام.
قال عز وجل (فأجره حتى يسمع كلام الله) وقال تعالى (وقد كان فريق منهما يسمعون
كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون) وقال تعالى (بل هو قرآن مجيد في
لوح محفوظ) وقال تعالى (في كتاب مكنون لا يمسه الا المطهرون تنزيل من رب
العالمين) وقال تعالى (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) وقال
تعالى (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) * حدثنا
عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا القعنبي عن مالك
عن نافع عن عبد الله بن عمر قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى ارض العدو)
ولا يحل لا حد أن يصرف كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المجاز عن الحقيقة
بدعواه الكاذبة. وبالله تعالى التوفيق.
60 - مسألة - وعلم الله تعالى حق لم يزل عز وجل عليما بكل ما كان أو يكون
مما دق أو جل لا يخفى عليه شئ. قال عز وجل (وهو بكل شئ عليم) وهذا عموم
لا يجوز أن يخص منه شئ، وقال تعالى (يعلم السر وأخفى) والأخفى من السر هو
مما لم يكن بعده (1)

(1) كذا بالأصل
32

61 - مسألة - وقدرته عز وجل وقوته حق لا يعجز عن شئ، ولا عن كل
ما يسأل عنه السائل من محال أو غيره مما لا يكون أبدا. عز وجل (أولم يروا أن
الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) * حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا
إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا
معن بن عيسى ثنا عبد الرحمن بن أبي الموال سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد
الله بن الحسن قال حدثني جابر بن عبد الله قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه
الاستخارة - فذكر الحديث وفيه - اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك
وأسألك من فضلك. وقال عز وجل (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ان
كنا فاعلين) وقال تعالى (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء)
وقد أخبر عز وجل أنه قادر على مالا يكون أبدا. قال عز وجل (عسى ربه ان
طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) وقال تعالى (والله على كل شئ قدير) وقال
تعالى (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) ولو لم يكن تعالى كذلك
لكان متناهي القدرة، ولو كان متناهي القدرة لكان محدثنا، تعالى الله عن ذلك، وهو
تعالى مرتب كل ما خلق، وهو الذي أوجب الواجب وأمكن الممكن وأحل المحال، ولو شاء
أن يفعل كل ذلك على خلاف ما فعله، لما أعجزه ذلك، ولكان قادرا عليه، ولو لم يكن
كذلك لكان مضطرا لا مختارا. وهذا كفر ممن قاله (1). قال عز وجل (وربك يخلق
ما يشاء ويختار)
62 - مسألة - وان لله عز وجل عزا وعزة وجلالا واكراما ويدا ويدين وأيديا
ووجها وعينا وأعينا وكبرياء، وكل ذلك حق لا يرجع منه ولا من علمه تعالى وقدره
وقوته الا إلى الله تعالى، لا إلى شئ غير الله عز وجل أصلا، مقر من ذلك مما في القرآن
وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يحل أن يزاد في ذلك ما لم يأت به نص من قرآن أو
سنة صحيحة. قال عز وجل (ذو الجلال والاكرام) وقال تعالى (يد الله فوق أيديهم)

(1) هذه المسألة كلها مغالطات من المؤلف، ظاهر ذلك بأدنى نظر (م ه ج 1 المحلى)
33

و (لما خلقت بيدي) و (مما عملت أيدينا أنعاما) (إنما نطعمكم لوجه الله) (ولتصنع
على عيني) (إنك بأعيننا). ولا يحل أن يقال (عينين) لأنه لم يأت بذلك نص
ولا أن يقال " سمع وبصر ولا حياة " لأنه لم يأت بذلك نص، لكنه تعالى سميع
بصير حي قيوم * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن
عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني أحمد بن يوسف
الأزدي ثنا عمر بن حفص بن غياث ثنا أبي ثنا الأعمش ثنا أبو إسحاق - هو
السبيعي - عن أبي مسلم الأغر أنه حدثه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا
(جميعا) (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العزازاره والكبرياء رداؤه " يعنى الله تعالى - *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن
إبراهيم أنا الفضل بن موسى ثنا محمد بن عمرو ثنا أبو سلمة - هو ابن عبد الرحمن
ابن عوف - عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث خلق الله تعالى
الجنة والنار - " أن جبريل قال لله تعالى: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها
أحد " ولو كان شئ من ذلك غير الله تعالى لكان إما لم يزل واما محدثنا، فلو كان
لم يزل لكان مع الله تعالى أشياء غيره لم تزل، وهذا شرك مجرد، ولو كان محدثا لكان
تعالى بلا علم ولا قوة ولا قدرة ولا عز ولا كبرياء قبل أن يخلق كل ذلك، وهذا كفر
وقال تعالى (إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق
وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) وقال تعالى (والله
أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) وقال تعالى (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)
وقال تعالى (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) فصح أنه لا يحل أن يضاف إليه تعالى
شئ، ولا أن يخبر عنه بشئ، ولا أن يسمى بشئ الا ما جاء به النص. ونقول: إن لله
تعالى مكرا وكيدا. قال تعالي (أفأمنوا مكر الله) وقال تعالى (وأكيد كيدا) وكل ذلك
خلق له تعالى. وبالله تعالى التوفيق *
63 - مسألة - وأن الله تعالى يراه المسلمون يوم القيامة بقوة غير هذه القوة. قال

(1) لفظ (جميعا) ليس في صحيح مسلم 2: 292
34

عز وجل (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) * حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم
ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا ابن أبي شيبة هو أبو بكر ثنا جرير ووكيع وأبو
أسامة كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ونظر إلى القمر " انكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون
في رؤيته " ولو كانت هذه القوة لكانت لا تقع الا على الألوان، تعالى الله عن ذلك
وأما الكفار فان الله عز وجل قال (انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)
64 مسألة وان الله تعالى كلم موسى عليه السلام ومن شاء من رسله. قال تعالى
(وكلم الله موسى تكليما) (انى اصطفيتك على الناس برسالتي (1) وبكلامي) (تلك
الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله)
65 مسألة وان الله تعالى اتخذ إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وسلم خليلين.
قال عز وجل (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن
فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن
الحجاج (حدثنا محمد بن بشار العبدي) (2) ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن إسماعيل بن
رجاء (3) قال: سمعت عبد الله بن أبي الهذيل يحدث عن أبي الأحوص قال (4)
سمعت عبد الله بن مسعود (يحدث) (5) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ
الله صاحبكم خليلا " *

(1) بالافراد والمراد به المصدر أي بارسالي إياك وهي قراءة نافع وابن كثير
وأبي جعفر وابن محيصن وقرأ باقي الأربعة عشر " برسالاتي " بالجمع
(2) هذا نقلناه من مسلم 2: 230 وفى الأصل بدله " ثنا محمد بن المثنى " وهو
خطأ، فان ابن المثنى روى هذا الحديث عن محمد بن جعفر عن شعبة باسناد آخر
ولفظ آخر، وأما هذا الاسناد وهذا اللفظ اللذان هنا فهما رواية محمد بن بشار
وحده، وانظر الأسانيد في صحيح مسلم
(3) في الأصل " إسماعيل بن أبي رجاء " وهو خطأ
(4) ليست في صحيح مسلم
(5) في الأصل " يقول " وصححناه من مسلم
35

66 مسألة وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أسرى به ربه بجسده وروحه، وطاف في السماوات
سماء سماء، ورأي أرواح الأنبياء عليهم السلام هنالك. قال عز وجل (سبحان الذي
أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ولو كان ذلك رؤيا منام
ما كذبه في ذلك أحد كما لا نكذب نحن كافرا في رؤيا يذكرها. وقد ذكرنا رؤيته
عليه السلام للأنبياء عليهم السلام قبل فأغنى عن اعادته
67 مسألة وان المعجزات لا يأتي بها أحد إلا الأنبياء عليهم السلام. قال
عز وجل (ما كان لرسول أن يأتي بآية الا بإذن الله) وقال تعالى (وان يروا آية يعرضوا
ويقولوا سحر مستمر) وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام أنه قال (أولو جئتك
بشئ مبين قال فأت به ان كنت من الصادقين فألقى عصاه) وقال تعالى (فذانك
برهانان من ربك إلى فرعون وملئه) فصح أنه لو أمكن أن يأتي أحد ساحر أو غيره
بما يحيل طبيعة أو يقلب نوعا، لما سمى الله تعالى ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام
برهانا لهم ولا آية لهم، ولا أنكر على من سمى ذلك سحرا، ولا يكون ذلك آية لهم عليهم
السلام. ومن ادعى أن إحالة الطبيعة لا تكون آية الا حتى يتحدى فيها النبي صلى
الله عليه وسلم الناس فقد كذب وادعى ما لا دليل عليه أصلا، لا من عقل ولا من
نص قرآن ولا سنة، وما كان هكذا فهو باطل، ويجب من هذا أن حنين الجذع واطعام
النفر الكثير من الطعام اليسير حتى شبعوا وهم مئون من صاع شعير ونبعان (1) الماء
من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم وارواء الف وأربعمائة من قدح صغير
تضيق سعته عن شبر ليس شئ من ذلك آية له عليه السلام، لأنه عليه السلام لم
يتحد (2) بشئ من ذلك أحدا *
68 مسألة والسحر حيل وتخييل لا يحيل طبيعة أصلا. قال عز وجل
(يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) فصح أنها تخييلات لا حقيقة لها، ولو أحال

(1) هذا مصدر لم يذكره الا صاحب مختار الصحاح ونقله شارح القاموس
عن شيخه، واستعمله المؤلف أيضا في الأحكام في الأصول (ج 2 ص 19)
(2) بالحاء والدال المهملتين من التحدي، وفى الأصل (لم يتخذ) بالمعجمتين وهو خطأ
36

الساحر طبيعة لكان لا فرق بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وهذا
كفر ممن أجازه *
69 مسألة وأن القدر حق، ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن
ليصيبنا. قال الله عز وجل (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في
كتاب من قبل أن نبرأها) *
70 مسألة ولا يموت أحد قبل أجله، مقتولا أو غير مقتول، قال الله عز وجل
(وما كان لنفس أن تموت الا بإذن الله كتابا مؤجلا) وقال تعالى (فإذا جاء أجلهم
لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وقال تعالى (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب
عليهم القتل إلى مضاجعهم)
71 مسألة وحتى يستوفى رزقه ويعمل بما يسر له، السعيد من سعد في علم
الله تعالى، والشقي (1) من شقى في علمه تعالى: حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن
فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي (2) ثنا مسلم بن
الحجاج ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا أبي وأبو معاوية ووكيع قالوا ثنا الأعمش عن
زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود (قال) (3) حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق
المصدوق " ان أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون (في ذلك) (4)
علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل (الله تعالى) (5) الملك فينفخ
فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي
لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق
عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وان أحدكم ليعمل بعمل أهل
النار حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل
أهل الجنة فيدخلها "
72 مسألة وجميع أعمال العباد خيرها وشرها كل ذلك مخلوق

(1) في النسخة اليمنية " والشر " وهو خطأ
(2) في اليمنية " أحمد بن مسلم " وهو خطأ
(3) الزيادة في المواضع الثلاثة من مسلم 2 297
(4) الزيادة في المواضع الثلاثة من مسلم 2 297
(5) الزيادة في المواضع الثلاثة من مسلم 2 297
37

خلقه الله عز وجل، وهو تعالى خالق الاختيار والإرادة والمعرفة في نفوس عباده. قال
عز وجل (خلقكم وما تعملون) وقال تعالى (انا كل شئ خلقناه بقدر) وقال تعالى
(خلق السماوات والأرض وما بينهما) *
73 مسألة لا حجة على الله تعالى، ولله الحجة القائمة على كل أحد. قال
تعالى (لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) وقال تعالى (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء
لهداكم أجمعين) *
74 مسألة ولا عذر لاحد بما قدره الله عز وجل من ذلك، لا في الدنيا
ولا في الآخرة، وكل أفعاله تعالى عدل وحكمة. ولان الله تعالى واضع كل موجود
في موضعه، وهو الحاكم الذي لا حاكم عليه ولا معقب لحكه. قال تعالى (فعال
لما يريد) *
75 مسألة الايمان والاسلام شئ واحد. قال عز وجل (فأخرجنا من
كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) وقال تعالى (يمنون عليك
أن أسلموا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان ان كنتم
صادقين) *
76 مسألة كل ذلك عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة
وينقص بالمعصية. وقال عز وجل (فاما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا) حدثنا عبد الله
ابن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا احمد
ابن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ثنا أبي ثنا
كهمس التميمي (1) عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال قال لي (2) عبد
الله بن عمر: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات
يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر
ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا محمد أخبرني عن الاسلام

(1) في الأصلين " النميري " وهو خطأ
(2) في النسخة اليمنية " عبيد الله " وهو خطأ
38

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الاسلام) (1) أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت إليه سبيلا
قال: صدقت فأخبرني عن الايمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت وذكر باقي الحديث وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: يا عمر أتدري من السائل، قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنه جبريل عليه السلام أتاكم
يعلمكم دينكم " * حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري
ثنا البخاري ثنا عبد الله بن محمد ثنا أبو عامر العقدي ثنا سليمان بن بلال عن عبد الله
ابن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الايمان بضع وستون (2)
شعبة والحياء شعبة من الايمان " * وبه إلى البخاري: ثنا قتيبة ثنا الليث عن
يزيد ين أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو " أن رجلا سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم أي الاسلام خير، قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم
تعرف " * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا
أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رمح ثنا الليث عن
ابن الهاد عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء
" ما رأيت من ناقصات دين وعقل (3) أغلب لذي لب منكن: قالت (امرأة) (4)

(1) زيادة من مسلم (1: 17)
(2) في الأصلين " بضعة وسبعون " وهو خطأ في موضعين، لأن الصحيح
من روايات البخاري " بضع " بدون التاء. قال ابن حجر: ووقع في بعض
الروايات بضعة بتاء التأنيث ويحتاج إلى تأويل اه‍، ثم إن رواية البخاري " وستون "
لا " وسبعون " ولم تختلف الطرق عن أبي عامر العقدي في ذلك، وتابعه يحيى الحماني
ورواه مسلم من طريق سهيل عن ابن دينار " بضع وستون أو بضع وسبعون "
(3) كذا في الأصلين وفي صحيح مسلم (ج 1 ص 35) " عقل ودين "
(4) ليست لفظة " امرأة " في صحيح مسلم وإنما زادها المؤلف لأنه
اختصر الحديث
39

يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل
شهادة رجل فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلى وتفطر في رمضان فهذا
نقصان الدين.
(قال علي) قال الله عز وجل (ان الدين عند الله الاسلام) فصح أن الدين هو
الاسلام، وقد صح أن الاسلام هو الايمان، فالدين هو الايمان، والدين ينقص بنقص
الايمان ويزيد. وبالله تعالى التوفيق *
77 مسألة من اعتقد الايمان بقلبه ولم ينطق به بلسانه دون تقيه فهو كافر
عند الله تعالى وعند المسلمين. ومن نطق به دون أن يعتقده بقلبه فهو كافر عند الله
وعند المسلمين. قال الله تعالى عن اليهود والنصارى انهم يعلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
يعلمون أبناءهم (1)، وقال تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) وقال
تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله
يشهد ان المنافقين لكاذبون) *
78 مسألة ومن اعتقد الايمان بقلبه ونطق به بلسانه فقد وفق، سواء استدل
أو لم يستدل، فهو مؤمن عند الله تعالى وعند المسلمين. قال الله تعالى (فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) ولم يشترط عز وجل في ذلك استدلالا، ولم يزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم مذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبضه يقاتل الناس حتى يقروا بالاسلام ويلتزموه
ولم يكلفهم قط استدلالا، ولا سألهم هل استدلوا أم لا، وعلى هذا جرى جميع الاسلام
إلى اليوم. وبالله تعالى التوفيق *
79 مسألة ومن ضيع الاعمال كلها فهو مؤمن عاص ناقص الايمان لا يكفر *
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن
محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا زهير بن حرب ثنا يعقوب بن إبراهيم

(1) لم يرد المؤلف لفظ التلاوة بل أراد معنى الآية
40

ابن سعد ثنا أبي عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي ان أبا هريرة أخبره أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل " حتى إذا فرغ الله من قضائه (1) بين العباد
وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من
كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله عز وجل أن يرحمه ممن يقول لا إله الا الله " *
80 مسألة واليقين لا يتفاضل، لكن إن دخل فيه شئ من شك أو
جحد بطل كله. برهان ذلك أن اليقين هو اثبات الشئ، ولا يمكن أن يكون اثبات
أكثر من اثبات، فإن لم يحقق الاثبات صار شكا *
81 مسألة والمعاصي كبائر فواحش (2) وسيئات صغائر ولمم، واللمم مغفور جملة،
فالكبائر الفواحش هو ما توعد الله تعالى عليه بالنار في القرآن أو على لسان رسوله
صلى الله عليه وسلم، فمن اجتنبها غفرت له جميع سيئاته الصغائر. برهان ذلك قول الله عز وجل (الذين
يجتنبون كبائر الاثم والفواحش الا اللمم ان ربك واسع المغفرة) واللمم هو الهم بالشئ
وقد تقدم ذكرنا الأثر في أن من هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شئ * حدثنا
عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد
ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو عوانة عن قتادة
عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله تجاوز لامتي (3)
عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به " وقال الله عز وجل (ان تجتنبوا
كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم). وبالضرورة نعرف أنه لا يكون كبيرا الا
بالإضافة إلى ما هو أصغر منه، لا يمكن غير هذا أصلا، فإذا كان العقاب بالغا أشد ما يتخوف
فالموجب له هو كبير بلا شك، وما لا توعد فيه بالنار فلا يلحق في العظم ما توعد فيه بالنار
فهو الصغير بلا شك إذ لا سبيل إلى قسم ثالث *

(1) في مسلم " من القضاء بين العباد "
(2) كذا بالنسخة المصرية وفي اليمنية (مسألة والمعاصي كبائر فواحش هي)
الخ. والذي هنا أحسن
(3) في صحيح مسلم 1: 47 " ما حدثت "
بحذف " عن "
41

82 مسألة ومن لم يجتنب الكبائر حوسب على كل ما عمل، ووازن الله عز وجل بين
أعماله من الحسنات وبين جميع معاصيه التي لم يتب منها ولا أقيم عليه حدها: فمن
رجحت حسناته فهو في الجنة، وكذلك من ساوت حسناته سيئاته. قال الله عز وجل
(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل
أتينا بها وكفى بنا حاسبين) وقال تعالى (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية)
ومن تساوت فهم أهل الأعراف. قال الله عز وجل (ان الحسنات يذهبن السيئات)
ولا خلاف في أن التوبة تسقط الذنوب * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح
ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج
حدثني إسماعيل بن سالم أخبرني هشيم ثنا خالد عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني
عن عبادة بن الصامت قال " أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء: أن لا نشرك
بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه (1) بعضنا بعضا فمن وفى منكم
فأجره على الله ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة له (2) ومن ستره الله عليه فأمره
إلى الله ان شاء عذبه وان شاء غفر له " *
83 مسألة ومن رجحت سيئاته بحسناته فهم الخارجون من النار بالشفاعة
على قدر أعمالهم. قال الله عز وجل (وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهية
نار حامية) وقال عز وجل (من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا
يره) وقال تعالى (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا
أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا
مسلم بن الحجاج ثنا زهير بن حرب ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن ابن
شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في

(1) أي لا يرميه بالعضيهة وهي البهتان والكذب. وقد عضهه يعضهه بفتح
الضاء فيهما عضها باسكانها قاله ابن الأثير، فبابه اذن (منع) وفي القاموس
واللسان أنه يأتي أيضا من باب (فرح). والعضه والعضيهة القالة القبيحة والنميمة
(2) في مسلم 2: 39 " فهو كفارته "
42

حديث طويل (1) " ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز
ولا يتكلم يومئذ الا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب
مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها الا الله عز وجل، تخطف الناس
بأعمالهم فمنهم (يعنى) الموبق بعمله ومنهم المخردل حتى ينجى (2) " وبه إلى مسلم ثنا
أبو غسان المسمعي ومحمد بن المثنى قالا ثنا معاذ - وهو ابن هشام الدستوائي أخبرنا أبى
عن قتادة ثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من
قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ثم يخرج من النار من قال لا إله الا الله وكان
في قلبه من الخير ما يزن ذرة)
(قال علي) وليس قول الله عز وجل (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة الذي ذكرناه آنفا " ان شاء غفر له
وان شاء عذبه " بمعارض لما ذكرنا، لأنه ليس في هذين النصين الا أنه تعالى يغفر ما
دون الشرك لمن يشاء، وهذا صحيح لا شك فيه كما أن قوله تعالى (ان الله يغفر الذنوب
جميعا) وقوله تعالى في النصارى حاكيا عن عيسى عليه السلام أنه قال (ان تعذبهم
فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال الله هذا يوم ينفع الصادقين
صدقهم) ليس بمعارض لهذين النصين، وليس في شئ من هذا انه قد يغفر ولا
يعذب من رجحت سيئاته على حسناته، والمبين لأحكام هؤلاء مما ذكرنا هو الحاكم
على سائر النصوص المجملة، وكذلك تقضى هذه النصوص على كل نص فيه: من
فعل كذا حرم الله عليه الجنة، ومن قال لا إله إلا الله مخلصا حرم الله عليه النار،
وعلى قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) ومعنى كل هذا
أن الله يحرم الجنة عليه حتى يقتص منه، ويحرم النار عليه أن يخلد فيها أبدا، وخالدا
فيها مدة حتى تخرجه الشفاعة، إذ لا بد من جمع النصوص كلها. وبالله التوفيق *

(1) مضي بعضه في المسئلتين 30 و 79 ورواه مسلم بطوله ج 1 ص 6564
طبع بولاق
(2) انظر هامش المسألة 30
43

84 مسألة والناس في الجنة على قدر فضلهم عند الله تعالى، فأفضل الناس
أعلاهم في الجنة درجة. برهان ذلك قوله تعالى (والسابقون السابقون أولئك المقربون في
جنات النعيم) ولو جاز أن يكون الأفضل انقص درجة لبطل الفضل ولم يكن له معنى
ولا رغب فيه راغب، وليس للفضل معنى الا أمر الله تعالى بتعظيم الا رفع (1) في
الدنيا وترفيع منزلة في الجنة *
85 مسألة وهم الأنبياء ثم أزواجهم ثم سائر أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وجميعهم في الجنة. وقد ذكرنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم انه
لو كان لاحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقد ذكرنا أن
أفضل الناس أعلاهم درجة في الجنة، ولا منزلة أعلى من درجة الأنبياء عليهم السلام
فمن كان معهم في درجتهم فهو أفضل ممن دونهم وليس ذلك الا لنسائهم فقط. وقال
تعالى (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين
أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) وقال عز وجل (ان الذين سبقت لهم منا
الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون،
لا يحزنهم الفزع الأكبر) فجاء النص ان من صحب (2) النبي صلى الله عليه وسلم
فقد وعده الله تعالى الحسنى. وقد نص الله تعالى (ان الله لا يخلف الميعاد) وصح
بالنص كل من سبقت له من الله تعالى الحسنى فإنه مبعد عن النار لا يسمع حسيسها
وهو فيما أشتهي خالد لا يحزنه الفزع الأكبر. وهذا نص ما قلنا، وليس المنافقون
ولا سائر الكفار: من أصحابه عليه السلام ولا من المضافين إليه عليه السلام *
86 مسألة ولا تجوز الخلافة الا في قريش، وهم ولد فهر بن مالك بن
النضر بن كنانة الذين يرجعون بأنساب آبائهم إليه * حدثنا عبد الله بن
يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي
ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أحمد بن (عبد الله بن) (3) يونس ثنا عاصم بن محمد

(1) في اليمنية " الأفضل "
(2) في اليمنية " بأن كل من صحب "
(3) الزيادة من صحيح مسلم 2: 79
44

ابن زيد (1) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال هذا الامر في قريش ما بقي من الناس اثنان "
(قال علي) هذه اللفظة لفظة الخبر، فإن كان معناه الامر فحرام أن يكون الامر في
غيرهم أبدا، وإن كان معناه معنى الخبر كلفظه فلا شك في أن من لم يكن من قريش
فلا أمر له وان ادعاه فعلى كل حال فهذا خبر يوجب منع الامر عمن سواهم *
87 مسألة ولا يجوز الامر لغير بالغ ولا مجنون ولا امرأة، ولا يجوز أن
يكون في الدنيا الا امام فقط، ومن بات ليلة وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا يجوز التردد بعد موت الامام في اختيار الإمام
أكثر من ثلاث. برهان ذلك * ما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا
ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا جرير عن عطاء بن السائب
عن أبي ظبيان عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يبلغ وعن المبتلى حتى يعقل " (2)
(قال علي) الامام إنما جعل ليقيم للناس الصلاة ويأخذ صدقاتهم ويقيم حدودهم

(1) وقع في صحيح مسلم طبع بولاق بمصر " يزيد " وهو خطأ
(2) هذا الحديث رواه أبو داود في باب " المجنون يسرق أو يصيب حدا "
ولفظه من هذا الطريق: " عن أبي ظبيان قال اتي عمر بامرأة قد فجرت فأمر
برجمها، فمر علي رضي الله عنه فاخذها فخلى سبيلها، فأخبر عمر قال ادعوا لي عليا
فجاء علي رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المعتوه
حتى يبرأ. وإن هذه معتوهة بنى فلان لعل الذي أتاها أتاها وهي في بلائها.
قال: فقال عمر لا أدرى. فقال علي عليه السلام وأنا لا أدرى " ورواه أيضا عن أبي
ظبيان عن ابن عباس بألفاظ أخر ليس فيها " وعن المبتلى حتى يعقل " كما هنا
ورواه من حديث الأسود عن عائشة مختصرا ولفظه: " رفع القلم عن ثلاثة عن
النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ وعن الصبي حتى يكبر " فلعل المؤلف
رواه من حفظه بالمعنى
45

ويمضى أحكامهم ويجاهد عدوهم، وهذه كلها عقود ولا يخاطب بها من لم يبلغ أو من
لا يعقل * حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى
ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا قتيبة ثنا الليث هو ابن
سعد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " على المرء
المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فان أمر بمعصية فلا سمع ولا
طاعة " * وبه إلى مسلم ثنا وهب بن بقية الواسطي ثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن
الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " * وبه إلى مسلم ثنا عبيد الله بن معاذ
العنبري ثنا أبي ثنا عاصم هو ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر (عن زيد
ابن محمد) (1) عن نافع عن عبد الله بن عمر قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة
مات ميتة جاهلية " * حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ثنا وهب بن مسرة ثنا محمد بن
وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي داود الطيالسي عن عيينة (2) بن عبد الرحمن
عن أبيه عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لن يفلح قوم
أسندوا أمرهم إلى امرأة " * حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد
عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج
ثنا قتيبة ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي (3) عن ثوبان

(1) حذف من الأصل وزدناه من صحيح مسلم. وزيد وهذا هو أخو عاصم بن
محمد الراوي عنه
(2) في أحد الأصلين " عتبة " وفي الآخر " عتيبة " وكلاهما
خطأ، وعيينة هذا هو ابن عبد الرحمن بن جوشن الغطفاني الجوشني أبو مالك وثقه
ابن معين وابن سعد والنسائي وابن حبان. وأبوه ثقة وثقه ابن سعد وأبو زرعة
والعجلي وكان صهر أبى بكرة على ابنته. وهذا الحديث موجود في مسند الطيالسي
بصحيفة 118 رقم 878. ورواه أيضا البخاري في الصحيح في كتاب " الفتن " عن
عثمان بن الهيثم عن عوف عن الحسن عن أبي بكرة بمعناه
(3) بفتح الحاء المهملة واسمه عمرو بن مرثد
46

ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم
من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (1) " فصح أن أهل كل عصر لا يجوز أن يخلوا
من أن يكون فيهم قائل بالحق، فإذا صح اجماعهم على شئ فهو حق مقطوع بذلك، إذا
تيقن أنه لا مخالف في ذلك وقطع به، وقد صح يقينا أن جميع أهل الاسلام رضوا
بقاء الستة إذ مات عمر رضى الله عن جميعهم ثلاثة أيام يرتؤون في امام، فصح
هذا وبطل ما زاد عليه، إذ لم تبحه سنة ولا إجماع. وبالله تعالى التوفيق. ثم تدبرنا هذه
القصة فوجدنا عمر رضي الله عنه قد ولى الامر أحد الستة المعينين أيهم اختاروا لأنفسهم
فصح يقينا أن عثمان كان الامام ساعة موت عمر في علم الله تعالى، باسناد عمر الامر إليه بالصفة
التي ظهرت فيه من اختيارهم إياه، فارتفع الاشكال وصح أنهم لم يبقوا ساعة فكيف
ليلة دون امام، بل كان لهم امام معين محدود موصوف معهود إليه بعينه وان لم تعرفه الناس
بعينه مدة ثلاثة أيام (2)

(1) رواه مسلم في كتاب الامارة (2: 106105) عن سعيد بن
منصور وأبى الربيع العتكي وقتيبة بهذا اللفظ وقال في آخره " وليس في حديث
قتيبة: وهم كذلك " فكان اذن على ابن حزم اما أن يحذفها وقد رواه من
طريق قتيبة واما أن يرويه من أحد الطريقين الآخرين
(2) هذه مغالطة ظاهرة من أبى محمد فان حصر عمر استخلافه في ستة ترك
لهم اختيار واحد منهم لا يكون تعيينا له مطلقا ولو وصفه بأوصاف تنطبق عليه.
ثم إن الواقع أن عمر لم يصف خليفته بأوصاف ترشدهم إليه، بل جعل الشورى
للستة الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم من أهل الجنة. ونصحهم
وحذرهم الفتنة ثم قال " وما أظن أن يلي الا أحد رجلين على أو عثمان فان ولى
عثمان فرجل فيه لين وان ولى على ففيه دعابة، وأحر به أن يحملهم على طريق الحق "
ثم وصف الباقين بما فيهم من فضل. وأجلهم ثلاثا للشورى ولم يخالفه الصحابة
رضوان الله عليهم، لأنه أميرهم أمر بمصلحة للمسلمين وطاعته في أعناقهم، فليس
هذا اجماعا ولا تشريعا. بل هو من المصالح المرسلة التي يجوز لأولي الأمر الفصل
فيها وتحديدها بما يرونه خيرا للمسلمين. ولو أن عمر جعل أمد الشورى أكثر من
ثلاث لم اعترضه واحد منهم. ولو رأى ذلك أولو الرأي من المسلمين ما كان
عليهم من بأس. وأخيرا نعجب لابن حزم كيف رضى لنفسه أن يداور ويحاول
اثبات انهم كانوا في ثلاثة الأيام لهم امام معين محدود موصوف بعينه وكيف
يكون اماما قبل أن يختاروه وأن يكلوا إليه أمورهم، ولا بيعة له في أعناقهم!
47

88 مسألة والتوبة من الكفر والزنى وفعل قوم لوط والخمر وأكل الأشياء المحرمة كالخنزير
والدم والميتة وغير ذلك: تكون بالندم والاقلاع والعزيمة على أن لا عودة أبدا واستغفار
الله تعالى. هذا إجماع لا خلاف فيه. والتوبة من ظلم الناس في أعراضهم وأبشارهم
وأموالهم لا تكون الا برد أموالهم إليهم ورد كل ما تولد منها معها أو مثل ذلك ان فات
فان جهلوا ففي المساكين ووجوه البر مع الندم والاقلاع والاستغفار وتحللهم من أعراضهم
وأبشارهم، فإن لم يمكن ذلك فالامر إلى الله تعالى. ولا بد للمظلوم من الانتصاف يوم القيامة
يوم يقتص للشاة الجماء من القرناء. والتوبة من القتل أعظم من هذا كله، ولا تكون الا
بالقصاص، فإن لم يمكن فليكثر من فعل الخير ليرجح ميزان الحسنات * حدثنا عبد الله
ابن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد
ابن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي ثنا مروان
يعني ابن محمد الدمشقي ثنا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس
الخولاني عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تعالى أنه قال
" يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد
الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه " * وبه إلى مسلم ثنا قتيبة بن سعيد ثنا
إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له
ولا متاع. فقال عليه السلام: ان المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة
وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا،
فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه
أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة
48

حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء (1) *
(قال علي): هذا كله خبر مفسر مخصص لا يجوز نسخه ولا تخصيصه بعموم
خبر آخر *
89 - مسألة - وأن الدجال سيأتي وهو كافر أعور ممخرق (2) ذو حيل * حدثنا
عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا محمد بن عيسى
ثنا إبراهيم بن محمد (3) ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر
ثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أنس بن مالك يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من
نبي الا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وان ربكم ليس بأعور مكتوب
بين عينيه ك‍ ف ر) وبه إلي مسلم ثنا سريج بن يونس ثنا هشيم عن إسماعيل
ابن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن المغيرة بن شعبة قال: (ما سأل أحد النبي
صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر ما سألته عنه (4) قال وما سؤالك عنه قال (قلت) انهم
يقولون معه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء قال: هو أهون على الله من ذلك) * ثنا

(1) من قوله (لتؤدن) حديث آخر في صحيح مسلم رواه بهذا الاسناد وكان
على المؤلف أن يبين هذا أو يشير إليه. وأصل الجلح انحسار الشعر عن جانبي
الرأس ثم استعمل بمعنى ما لا قرن له. قال الأزهري. (وهذا يبين أن الجلحاء
من الشاء والبقر بمنزلة الجماء التي لا قرن لها) وقال ابن سيده: (وعنز جلحاء
جماء على التشبيه بجلح الشعر)
(2) كتب في الأصل المصري (محرق) بدون ضبط والصواب كما في النسخة
اليمنية (ممخرق) بضم الأولى وفتح الثانية واسكان الخاء وكسر الراء. قال في
اللسان: (الممخرق المموه وهي المخرقة مأخوذة من مخاريق الصبيان) وقد ورد
وصف الدجال بالمخرفة بمعنى التمويه
(3) في اليمنية: (عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا
مسلم بن الحجاج) وللمؤلف إسنادان إلى مسلم من طريق عبد الوهاب بن عيسى
هما هذان (4) لفظ (عنه) ليس في صحيح مسلم ج 2 ص 378
49

عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا
موسى بن إسماعيل نا جرير نا حميد بن هلال عن أبي الدهماء قال: سمعت
عمران بن حصين يحدث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع بالدجال
فلينأ عنه فوالله ان الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من
الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات قال هكذا قال نعم) *
90 - مسألة - والنبوة هي الوحي من الله تعالى بأن يعلم الموحى إليه بأمر ما يعلمه لم
يكن يعلمه قبل. والرسالة هي النبوة وزيادة وهي بعثته إلى خلق ما بأمر ما - هذا
ما لا خلاف فيه - والخضر عليه السلام نبي قد مات ومحمد صلى الله عليه وسلم
لا نبي بعده قال الله عز وجل حاكيا عن الخضر (وما فعلته عن أمري) فصحت نبوته
وقال تعالى (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) *
91 - مسألة - وان إبليس باق حي قد خاطب الله عز وجل معترفا بذنبه مصرا
عليه موقنا بأن الله عز وجل خلقه من نار وأنه تعالى خلق آدم من تراب وأنه تعالى أمره
بالسجود لآدم فامتنع واستخف بآدم فكفر. قال تعالى حاكيا عنه أنه قال (أنا
خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) وأنه قال (أنظرني إلى يوم يبعثون)
وأنه قال: (فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم). وقال تعالى: (وكان
من الكافرين) *
مسائل من الأصول.
92 - مسألة - دين الاسلام اللازم لكل أحد لا يؤخذ الا من القرآن أو مما
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اما برواية جميع علماء الأمة عنه عليه
الصلاة والسلام وهو الاجماع واما بنقل جماعة عنه عليه الصلاة والسلام وهو
نقل الكافة. واما برواية الثقات واحدا عن واحد حتى يبلغ إليه عليه الصلاة
والسلام ولا مزيد *
قال تعالى (وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى) وقال تعالى: (اتبعوا
50

ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) وقال تعالى: (اليوم أكملت لكم
دينكم) فان تعارض فيما يرى المرء آيتان أو حديثان صحيحان أو حديث صحيح
وآية فالواجب استعمالهما جميعا لان طاعتهما سواء في الوجوب فلا يحل ترك أحدهما
للآخر ما دمنا نقدر على ذلك. وليس هذا الا بأن يستثنى الأقل معاني من الأكثر
فإن لم نقدر على ذلك وجب الاخذ بالزائد حكما لأنه متيقن وجوبه ولا يحل ترك
اليقين بالظنون، ولا اشكال في الدين قد بين الله تعالى دينه، قال تعالى (اليوم
أكملت لكم دينكم) وقال تعالى (تبيانا لكل شئ) *
93 - مسألة - الموقوف والمرسل لا تقوم بهما حجة، وكذلك ما لم يروه إلا من
لا يوثق بدينه وبحفظه، ولا يحل ترك ما جاء في القرآن أو صح عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لقول صاحب أو غيره سواء كان هو راوي الحديث أو لم يكن،
والمرسل هو ما كان بين أخذ رواته أو بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم
وسلم من لا يعرف، والموقوف هو ما لم يبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم *
برهان بطلان الموقوف - قول الله عز وجل (لئلا يكون للناس على الله حجة
بعد الرسل) فلا حجة في أجد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يحل لا حد
أن يضيف ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه ظن وقد قال تعالى (وان
الظن لا يغني من الحق شيئا) وقال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) *
وأما المرسل ومن في رواته من لا يوثق بدينه وحفظه فلقول الله تعالى (فلولا نفر
من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) فأوجب
عز وجل قبول نذارة النافر للتفقه في الدين وقال (يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق
ينبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وليس في العالم
إلا عدل أو فاسق فحرم تعالى علينا قبول خبر الفاسق فلم يبق الا العدل وصخ أنه
هو المأمور وبقبول نذارته *
وأما المجهول فلسنا على ثقة من أنه على الصفة التي أمر الله تعالى معها بقبول
نذارته وهي التفقه في الدين فلا يحل لنا قبول نذارته حتى يصح عندنا فقهه في الدين
وحفظه لما ضبط عن ذلك وبراءته من الفسق. وبالله تعالى التوفيق *
51

ولم يختلف أحد من الأمم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى
الملوك رسولا - رسولا واحدا - إلى كل مملكة يدعوهم إلى الاسلام واحدا واحدا،
إلى كل مدينة والى كل قبيلة كصنعاء والجند (1) وحضرموت وتيماء ونجران والبحرين
وعمان وغيرها، يعلمهم أحكام الدين كلها، وافترض على كل جهة قبول رواية
أميرهم ومعلمهم، فصح قبول خبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم *
ومن ترك القرآن أو ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول صاحب
أو غيره سواء كان راوي ذلك الخبر أو غيره فقد ترك ما أمره الله تعالى باتباعه لقول
من لم يأمره الله تعالى قط بطاعته ولا باتباعه، وهذا خلاف لأمر الله تعالى *
وليس فضل الصاحب عند الله بموجب تقليد قوله وتأويله لان الله تعالى لم يأمر
بذلك، لكن موجب تعظيمه ومحبته وقبول روايته فقط لان هذا هو الذي أوجب
الله تعالى *
94 - مسألة - والقرآن ينسخ القرآن والسنة تنسخ السنة والقرآن (2) *
قال عز وجل (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وقال تعالى
(لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال تعالى (وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى

(1) بفتحتين بلد باليمن
(2) ما ذهب إليه من نسخ القرآن بالسنة حكى قولا للشافعي وحكى كثيرون
عنه انه لا ينسخ الكتاب بالسنة جزما كما في المحلي على جمع الجوامع وقال ابن
تيمية -: يتوجه الاحتجاج بآية (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها
أو مثلها) على أنه لا ينسخ القرآن إلا قرآن كما هو مذهب الشافعي وهو أشهر
الروايتين عن الإمام أحمد وعليها عامة أصحابه اه‍ ودليله جلي وهو ان الظني
الدلالة لا يساوي قطعيها فلا يقوى على نسخه وقد نقل الرازي وغيره عن أبي
مسلم الأصفهاني ان النسخ غير واقع في التنزيل ورد كل آية قيل بنسخها إلى أنها
محكمة كما تراه مبسوطا في مواضع من تفسيره والمسألة مبسوطة في مواضع أخر
52

يوحى) وأمره تعالى أن يقول (ان اتبع الا ما يوحى إلى) وقال تعالى (ولو تقول
علينا بعض الأقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه
حاجزين) وصح ان كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله تعالى
قالة، والنسخ بعض من أبعاض البيان وكل ذلك من عند الله تعالى *
95 - مسألة - ولا يحل لاحد أن يقول في آية أو في خبر عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثابت: هذا منسوخ وهذا مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر
لفظه، ولا أن لهذا النص تأويلا غير مقتضى ظاهر لفظه، ولا أن هذا الحكم غير واجب
علينا من حين وروده الا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر أو باجماع متيقن
بأنه كما ذكر أو بضرورة حس موجبة انه كما ذكر والا فهو كاذب *
برهان ذلك قول الله عز وجل (وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله)
وقال تعالى (وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم) وقال تعالى (بلسان
عربي مبين) وقال تعالى (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد
ما عقلوه) وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم
عذاب أليم) فقوله تعالى (وما أرسلنا من رسول الا ليطاع) موجب طاعة رسول الله
صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، وقوله تعالى (أطيعوا الله) موجب طاعة
القرآن، ومن ادعى في آية أو خبر نسخا فقد أسقط وجوب طاعتهما فهو مخالف
لأمر الله في ذلك. وقوله تعالى (وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم)
موجب أخذ كل نص في القرآن والاخبار على ظاهره ومقتضاه، ومن حمله على غير
مقتضاه في اللغة العربية فقد خالف قول الله تعالى وحكمه، وقال عليه عز وجل الباطل
وخلاف قوله عز وجل، ومن ادعى ان المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية
لا كل ما يقتضيه فقد أسقط بيان النص وأسقط وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة
وهذا قول على الله تعالى بالباطل، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه
من سائر ما يقتضيه، وقوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) موجب للوعيد
على من قال: لا تجب على موافقة أمره، وموجب أن جميع النصوص على الوجوب،
ومن ادعى تأخير الوجوب مدة ما فقد أسقط وجوب طاعة الله ووجوب ما أوجب
53

عز وجل من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في تلك المدة، وهذا خلاف لأمر
الله عز وجل، فإذا شهد لدعوى من ادعى بعض ما ذكرنا قرآن أو سنة ثابتة اما
باجماع أو نقل صحيح فقد صح قوله ووجب طاعة الله تعالى في ذلك، وكذلك من
شهدت له ضرورة الحس، لأنها فعل الله تعالى في النفوس، والا فهي أقوال مؤدية إلى
ابطال السلام وابطال جميع العلوم وابطال جميع اللغات كلها وكفى بهذا فسادا وبالله
تعالى التوفيق *
96 - مسألة - والاجماع هو ما تيقن ان جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عرفوه وقالوا به ولم يختلف منهم أحد كتيقننا انهم كلهم رضي الله عنهم
صلوا معه عليه السلام الصلوات الخمس كما هي في عدد ركوعها وسجودها أو علموا انه
صلاها مع الناس كذلك وانهم كلهم صاموا معه أو علموا انه صام مع الناس رمضان في
الحضر وكذلك سائر الشرائع التي تيقنت مثل هذا اليقين والتي من لم يقر بها لم يكن من
المؤمنين. وهذا ما لا يختلف أحد في أنه اجماع وهم كانوا حينئذ جميع المؤمنين لا مؤمن في
الأرض غيرهم ومن ادعى ان غير هذا هو اجماع كلف البرهان على ما يدعى ولا سبيل إليه *
97 - مسألة - وما صح فيه خلاف من واحد منهما أو لم يتيقن ان كل واحد
منهم رضي الله عنهم عرفه ودان به فليس اجماعا، لان من ادعى الاجماع ههنا فقد
كذب وقفا ما لا علم له به، والله تعالى يقول (ولا تقف ما ليس لك به علم) *
98 - مسألة - ولو جاز أن يتيقن اجماع أهل عصر بعدهم أولهم عن آخرهم
على حكم نص لا يقطع فيه باجماع الصحابة رضي الله عنهم لوجب القطع بأنه حق
وحجة وليس كأن يكون اجماعا *
أما القطع بأنه حق وحجة فلما ذكرناه قبل باسناده من قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لن تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى
يأتي أمر الله). فصح من هذا انه لا يجوز البتة أن يجمع أهل عصر ولو طرفة عين
على خطأ، ولا بد من قائل بالحق فيهم. وأما انه ليس اجماعا فلان أهل كل عصر بعد
عصر الصحابة رضي الله عنهم ليس جميع المؤمنين وإنما هم بعض المؤمنين، والاجماع
إنما هو اجماع جميع المؤمنين لا اجماع بعضهم، ولو جاز أن يسمى اجماعا ما خرج عن
54

الجملة واحد لا يعرف أيوافق سائرهم أم يخالفهم لجاز أن يسمى اجماعا ما خرج عنهم
فيه اثنان وثلاثة وأربعة وهكذا أبدا إلى أن يرجع الامر إلى أن يسمى اجماعا ما قاله
واحد وهذا باطل ولكن لا سبيل إلى تيقن اجماع جميع أهل عصر بعد الصحابة رضي الله عنهم
كذلك بل كانوا عددا ممكنا حصره وضبطه وضبط أقوالهم في المسألة وبالله
تعالى التوفيق. وقال بعض الناس يعلم ذلك من. حيث يعلم رضا أصحاب مالك
وأصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي بأقوال هؤلاء (قال علي) وهذا خطأ لأنه
لا سبيل أن يكون مسألة قال بها أحد من هؤلاء الفقهاء الا وفي أصحابه من يمكن أن
يخالفه فيها وان وافقه في سائر أقواله *
99 - مسألة - والواجب إذا اختلف الناس أو نازع واحد في مسألة ما أن
يرجع إلى القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلى شئ غيرهما ولا
يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ولا غيرهم *
برهان ذلك قول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر) فصح انه لا يحل الرد عند التنازع إلى شئ غير كلام الله تعالى وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وفى هذا تحريم الرجوع إلى قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه
وسلم لان من رجع إلى قول انسان دونه عليه السلام فقد خالف أمر
الله تعالى بالرد إليه والى رسوله لا سيما مع تعليقه تعالى ذلك بقوله (ان كنتم تؤمنون
بالله واليوم الآخر) ولم يأمر الله تعالى بالرجوع إلي قول بعض المؤمنين دون جميعهم،
وقد كان الخلفاء رضي الله عنهم كأبي بكر وعمر وعثمان بالمدينة وعمالهم باليمن ومكة
وسائر البلاد وعمال عمر بالبصرة والكوفة ومصر والشام. ومن الباطل المتيقن الممتنع
الذي لا يمكن أن يكونوا رضي الله عنهم طووا علم الواجب والحلال والحرام عن سائر
الأمصار واختصوا به أهل المدينة فهذه صفة سوء قد أعاذهم الله تعالى منها وقد عمل
ملوك بنى أمية باسقاط بعض التكبير من الصلاة وبتقديم الخطبة على الصلاة في
العيدين حتى فشا ذلك في الأرض فصح انه لا حجة في عمل أحد دون رسول الله
صلى الله عليه وسلم *
55

100 - مسألة - ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بارأى (1) لان أمر
الله تعالى عند التنازع بالرد إلى كتابه والى رسوله صلى الله عليه وسلم قد صح
فمن رد إلى قياس والى تعليل يدعيه أو إلى رأى فقد خالف أمر الله تعالى المعلق
بالايمان ورد إلى غير من أمر الله تعالى بالرد إليه وفي هذا ما فيه (قال علي) وقول الله
تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وقوله تعالى (تبيانا لكل شئ) وقوله تعالى (لتبين
للناس ما نزل إليهم) وقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) ابطال للقياس وللرأي
لأنه لا يختلف أهل القياس والرأي أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نص وقد شهد
الله تعالى بان النص لم يفرط فيه شيئا وان رسوله عليه الصلاة والسلام قد بين للناس
كل ما نزل إليهم وان الدين قد كمل فصح ان النص قد استوفى جميع الدين فإذا كان
ذلك كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس ولا إلى رأيه ولا إلى رأى غيره *
ونسأل من قال بالقياس هل كل قياس قاسه قائس حق أم منه حق ومنه باطل
فان قال كل قياس حق أحال لان المقاييس تتعارض ويبطل بعضها بعضا ومن المحال
أن يكون الشئ وضده من التحريم والتحليل حقا معا وليس هذا مكان نسخ ولا
تخصيص كالاخبار المتعارضة التي ينسخ بعضها بعضا ويخصص بعضها بعضا، وان
قال منها حق ومنها باطل قيل له فعرفنا بماذا تعرف القياس والصحيح من الفاسد ولا
سبيل لهم إلى وجود ذلك أبدا وإذا لم يوجد دليل على تصحيح الصحيح من القياس
من الباطل منه فقد بطل كله وصار دعوى بلا برهان فان ادعوا أن القياس قد أمر الله
تعالى به سئلوا أين وجدوا ذلك فان قالوا: قال الله عز وجل (فاعتبروا يا أولى الابصار)
قيل لهم ان الاعتبار ليس هو في كلام العرب الذي به نزل القرآن الا التعجب قال
الله تعالى عز وجل (وان لكم في الانعام لعبرة) أي لعجبا وقال تعالى (لقد كان

(1) فسر المصنف الرأي في بعض رسائله بأنه الحكم في الدين بغير نص بل
بما يراه المفتي أحوط وأعدل في التحليل والتحريم والايجاب (قال) ومن وقف على
هذا الحد وعرف ما معنى الرأي اكتفى في ايجاب المنع منه بغير برهان إذ هو
قول بلا برهان اه‍ وكان حدوث الرأي في القرن الأول قرن الصحابة والقياس في
القرن الثاني اه‍ من حاشية الأصل منسوبا للسيد محمد بن إسماعيل الأمير علامة اليمن
56

في قصصهم عبرة) أي عجب ومن العجيب أن يكون معنى الاعتبار القياس ويقول
الله تعالى لنا قيسوا ثم لا يبين لنا ماذا نقيس ولا كيف نقيس ولا على ماذا نقيس.
هذا ما لا سبيل إليه لأنه ليس في وسع أحد أن يعلم شيئا من الدين الا بتعليم الله
تعالى له إياه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى (لا يكلف
الله نفسا الا وسعها) فان ذكروا أحاديث وآيات فيها تشبيه شئ بشئ وأن الله قضى
وحكم بأمر كذا من أجل أمر كذا قلنا لهم كل ما قاله الله عز وجل ورسوله صلى الله
عليه وسلم من ذلك فهو حق لا يحل لاحد خلافه وهو نص به نقول، وكل
ما تريدون أن تشبهوه في الدين وأن تعللوه مما لم ينص عليه الله تعالى ولا رسوله عليه
الصلاة والسلام فهو باطل ولابد وشرع لم يأذن الله تعالى به وهذا يبطل عليهم تهويلهم
بذكر آية جزاء الصيد و (أرأيت لو مضمضت) و (من أجل ذلك كتبنا علي بني إسرائيل
). وكل آية وحديث موهوا بايراده هو مع ذلك حجة عليهم على ما قد
بيناه في كتاب (الأحكام لأصول الأحكام) وفى كتاب (النكت) وفى كتاب (الدرة)
وفي كتاب (النبذة)) (1) *
(قال علي) وقد عارضناهم في كل قياس قاسوه بقياس مثله وأوضح منه على
أصولهم لنريهم فساد القياس جملة فموه منهم مموهون بأن قالوا أنتم دأبا تبطلون القياس
بالقياس وهذا منكم رجوع إلى القياس واحتجاج به وأنتم في ذلك بمنزلة المحتج على
غيره بحجة العقل ليبطل حجة العقل وبدليل من النظر ليبطل به النظر *
(قال علي) فقلنا هذا شعب سهل افساده ولله الحمد ونحن لم نحتج بالقياس
في إبطال القياس ومعاذ الله من هذا لكن أريناكم أن أصلكم الذي أثبتموه من
تصحيح القياس يشهد بفساد جميع قياساتكم ولا قول أظهر باطلا من قول أكذب
نفسه وقد نص تعالى على هذا فقال تعالى (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه
قل فلم يعذبكم بذنوبكم) فليس هذا تصحيحا لقولهم انهم أبناء الله وأحباؤه ولكن
الزام لهم ما يفسد به قولهم ولسنا في ذلك كمن ذكرتم ممن يحتج في ابطال حجة العقل

(1) في اليمنية (النبذ)
57

بحجة العقل لكن فاعل ذلك مصحح لقضيته العقلية التي يحتج بها فظهر تناقضه من
قريب ولا حجة له غيرها فقد ظهر بطلان قوله، وأما نحن فلم نحتج قط في ابطال
القياس بقياس نصححه، لكن نبطل القياس بالنصوص وببراهين العقل ثم نزيد
بيانا في فساده منه نفسه بأن نرى تناقضه جملة فقط، والقياس الذي نعارض به قياسكم
نحن نقر بفساده وفساد قياسكم الذي هو مثله أو أضعف منه، وكما نحتج على أهل كل مقالة
من معتزلة ورافضة ومرجئة وخوارج ويهود ونصارى ودهرية من أقوالهم التي يشهدون
بصحتها فنريهم تفاسدها وتناقضها، وأنتم تحتجون عليهم معنا بذلك ولسنا نحن ولا
أنتم ممن يقر بتلك الأقوال التي نحتج عليهم بها، بل هي عندنا في غاية البطلان
والفساد، وكاحتجاجنا علي اليهود والنصارى من كتبهم التي بأيديهم. ونحن لا نصححها
بل نقول إنها لمحرفة مبدلة، لكن لنريهم تناقض أصولهم وفروعهم لا سيما وجميع أصحاب
القياس مختلفون في قياساتهم، لا تكاد توجد مسألة الا وكل طائفة منهم تأتي بقياس
تدعى صحته تعارض به قياس الأخرى وهم كلهم مقرون مجمعون، على أنه ليس كل
قياس صحيحا ولا كل رأى حقا، فقلنا لهم، فهاتوا حد القياس الصحيح والرأي الصحيح
الذي يتميزان به من القياس الفساد والرأي الفاسد وهاتوا حد العلة الصحيحة التي لا تقيسون
إلا عليها من العلة الفاسدة فلجلجوا (1) *
(قال علي) وهذا مكان إن زم (2) عليهم فيه ظهر فساد قولهم جملة، ولم يكن لهم إلى
جواب يفهم سبيل أبدا وبالله تعالى التوفيق، فان اتوا في ذلك بنص قلنا النص حق والذي
تريدون أنتم اضافته إلى النص بآرائكم باطل وفي هذا خولفتم، وهكذا أبدا فان ادعوا أن
الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على القول بالقياس قيل لهم، وكذبتم بل الحق أنهم كلهم

(1) العلة الصحيحة هي ما دل عليها التعليل للحكم بها في نص الكتاب أو السنة
باي حروف التعليل المعروفة في اللغة أو بتعليق الحكم على الوصف المناسب
للتعليل. والعلة الفاسدة ما لم يأت تعليل الحكم بها في كتاب ولا سنة كالشبه
والدوران ونحوهما من مسالكها الباطلة اه‍ عن الأمير الصنعاني
(2) معنى زم شد قال في اللسان " زم الشئ يزمه زما فانزم شده "
58

أجمعوا على ابطاله، برهان كذبهم أنه لا سبيل لهم وجود حديث عن أحد من
الصحابة رضي الله عنهم انه أطلق الامر بالقول بالقياس أبدا الا في الرسالة المكذوبة
الموضوعة على عمر رضي الله عنه فان فيها: واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور.
وهذه رسالة لم يروها الا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه وهو ساقط بلا
خلاف (1) وأبوه أسقط منه أو من هو مثله في السقوط فكيف وفى هذه الرسالة

(1) في الميزان عبد الملك بن الوليد بن معدان عن عاصم بن أبي النجود قال
يحيي بن معين صالح وقال أبو حاتم ضعيف وقال ابن حبان يقلب الأسانيد لا يحل
الاحتجاج به وقال البخاري فيه نظر اه‍ من حاشية الأصل وكتب فيها أيضا:
تأمل القول بان كتاب عمر إلى أبي موسى كتاب مكذوب وقد شرحه ابن القيم
في كتابه اعلام الموقعين اه‍ ولا يلزم من شرحه صحته فان المدار في الصحة على
الرجال لا على الشروح *
قال أبو الأشبال عفا الله عنه: أما عبد الملك فقد اختلف في شأنه كما ترى وانفرد
ابن حزم بتضعيفه إلى النهاية وإنما هو متوسط، وأما أبوه فقال ابن حبان في
الثقات: (الوليد بن معدان الصيفي يروى عن ابن عمر روى عنه ابنه عبد الملك
يعتبر بحديثه من غير رواية ابنه) نقله ابن حجر في اللسان وقال: (انفرد
بحديث عمر في كتابه إلي أبي موسى) واسناد رسالة عمر ذكره ابن القيم في اعلام
الموقعين ج 1 ص 98 هكذا: (قال أبو عبيد ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان
وقال أبو نعيم عن جعفر بن برقان عن معمر البصري عن أبي العوام. وقال
سفيان بن عيينة ثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس قال أتيت سعيد بن أبي
بردة فسألته عن رسل عمر بن الخطاب التي كان يكتب إلى أبي موسى الأشعري
وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة فأخرج إليه كتبا فرأيت في كتاب منها)
وذكر الرسالة بنصها ثم قال: (قال أبو عبيد قلت لكثير هل أسنده جعفر قال
لا. وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة
والحاكم والمفتى أحوج شئ إليه والى تأمله والتفقه فيه) وذكرها المبرد في أول
كتابه الكامل بدون إسناد وشرحها. ورواها الدارقطني في سننه ص 512
واسناده: (حدثنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن محمد النعماني ثنا عبد الله بن
عبد الصمد بن أبي خداش نا عيسى بن يونس نا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي
المليح الهذلي قال كتب عمر بن الخطاب) الخ قال شارحه (في اسناده عبيد الله
ابن أبي حميد وهو ضعيف وأخرجه البيهقي في المعرفة أخبرنا أبو عبد الله الحافظ
ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ثنا محمد بن عبد الله
ابن كناسة ثنا جعفر بن برقان عن معمر البصري عن أبي العوام البصري قال
كتب عمر فذكره). وخير هذه الأسانيد فيما نرى اسناد سفيان بن عيينة
عن إدريس وهو إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي وهو ثقة أن
سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى أراه الكتاب وقرأه لديه وهذه وجادة جيدة
في قوة الاسناد الصحيح ان لم تكن أقوى منه فالقراءة من الكتاب أوثق من
التلقي عن الحفظ. وقد نقلها أيضا ابن الجوزي في سيرة عمر بن الخطاب ص 135
(عن أبي عبد الله بن إدريس - وهو إدريس بن يزيد - قال اتيت سعيد بن
أبي بردة فسألته عن رسائل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى
وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة قال فأخرج إلى كتبا فرأيت في كتاب
منها) الخ
59

نفسها أشياء خالفوا فيها عمر رضي الله عنه منها قوله فيها: والمسلمون عدول بعضهم
على بعض الا مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب، وهم لا يقولون بهذا يعني
جميع الحاضرين من أصحاب القياس حنفيهم وشافعيهم ومالكيهم وإن كان قول
عمر لو صح في تلك الرسالة في القياس حجة فقوله في أن المسلمين عدول كلهم الا
مجلودا في حد حجة وان لم يكن قوله في ذلك حجة فليس قوله في القياس حجة لو
صح فكيف ولم يصح *
واما برهان صحة قولنا في اجماع الصحابة رضي الله عنهم على ابطال القياس
فإنه لا يختلف اثنان في أن جميع الصحابة مصدقون بالقرآن وفيه (اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) وفيه (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول
ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) فمن الباطل المحال أن يكون الصحابة رضى الله
60

عنهم يعلمون هدا ويؤمنون به ثم يردون عند التنازع إلى قياس أو رأي (1)
هذا ما لا يظنه بهم ذو عقل فكيف وقد ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه قال:
أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني ان قلت في آية من كتاب الله برأي أو بما لا أعلم (2)
وصح عن الفاروق رضي الله عنه أنه قال: اتهموا الرأي على الدين وان الرأي منا هو
الظن والتكلف. وعن عثمان رضي الله عنه في فتيا أفتى بها إنما كان رأيا رأيته فمن شاء أخذ
ومن شاء تركه، وعن علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف
أولى بالمسح من أعلاه (3) *
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم. وعن ابن
عباس رضي الله عنهما من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، وعن ابن مسعود
رضي الله عنه: سأقول فيها بجهد رأيي فإن كان صوابا فمن الله وحده وإن كان خطأ فمني ومن
الشيطان والله ورسوله برئ، وعن معاذ بن جبل في حديث يبتدع كلا ما ليس من كتاب الله

(1) يقال عليه هم إذا ردوه إلى قياس له علة منصوصة في كتاب أو سنة
فقد ردوا إلى الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم وقد ذكر العلامة
ابن القيم رحمه الله أن عمل الصحابة بالقياس والرأي متواتر تواترا معنويا في عدة
قضايا ذكر منها شطرا واسعا اه‍. عن الأمير الصنعاني (بحاشية الأصل)
(2) هذا أثر خاص بتفسير القرآن والنزاع في الأحكام أخرج أبو عبيد في
فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر عن الأب ما هو
فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم فكلامه
في تفسير لفظه لغوية جهل معناها فليس من محل النزاع في ورد ولا اصدار إذ
النزاع الحاق فرع بأصل في حكمه لمشاركته في علة منصوصة لا في تفسير لفظة لغوية
وقد اتفق لعمر كما اتفق لأبي بكر في الآية فأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري
في المصاحف عن أنس قال قرأ عمر (وفاكهة وأبا) قال هذه الفاكهة قد عرفناها
فما الأب قال قد نهينا عن التكلف اه‍. عن الأمير الصنعاني
(3) تمامه " لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على أعلاه "
فكأنه قال: لولا النص لمسحنا برأينا أسفل الخف ففيه اثبات للرأي لولا
النص اه‍ أمير
61

عز وجل ولا من سنة رسول الله صلى عليه وسلم فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة. وعلى
هذا النحو كل رأى روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم لا على أنه إلزام ولا أنه
حق لكنه إشارة بعفو أو صلح أو تورع فقط لا على سبيل الايجاب (1) وحديث
معاذ الذي فيه أجتهد رأيي ولا آلو لا يصح لأنه لم يروه أحد الا الحارث بن عمرو وهو
مجهول لا ندري من هو عن رجال من أهل حمص لم يسمهم عن معاذ وقد (2) تقصينا
أسانيد هذه الأحاديث كلها في كتابنا المذكور ولله تعالى الحمد *
حدثنا أحمد بن قاسم حدثنا أبي قاسم بن محمد حدثنا جدي قاسم بن اصبغ
أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك
أخبرنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن
ابن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور
بآرائهم (3) فيحلون الحرام ويحرمون الحلال (4) (قال علي) والشريعة كلها إما

(1) يقال: وقع للصحابة الخلاف في ميراث الجد والحكم بالرأي لأنهم لم
يجدوا فيه نصا وغير ذلك من الآراء التي حكموا بها اه‍. أمير
(2) حديث معاذ رواه أبو داود والترمذي وقال (لا نعرفه الا من هذا
الوجه وليس اسناده عندي بمتصل). انظر شرح أبي داود ج 3 ص 330
وجامع بيان العلم لابن عبد البر النمري ج 2 ص 55
(3) هذا في قوم يخالفون صرائح النصوص بقياساتهم فان قوله فيحلون
الحرام ويحرمون الحلال دال على أنهم يفعلون ذلك فيما ثبت النص فيهما على
خلاف ما قالوه لأنه كان حلالا وحراما ولا يتصف بذلك الا عن نص وكون
الأصل الحل هو عن نص وهو ما ذكره المصنف من قوله تعالى (خلق لكم في
الأرض جميعا) اه‍ أمير وأقول المصنف حكم في الفصل بوضع هذا الحديث
(4) هذا الحديث رواه أيضا ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ج 2
ص 76: (حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا
عبيد بن عبد الواحد بن شريك قال حدثنا نعيم بن حماد قال حدثني عيسى بن
يونس عن حريز بن عثمان) الخ وليس فيه ذكر لعبد الله بن المبارك بين نعيم
وعيسى وهو الصواب لان الحديث معروف أنه من رواية نعيم عن عيسى.
ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد إلى الطبراني في الكبير والبزار. ورجال اسناد
الحديث ثقات كلهم الا أنه حديث ضعيف جدا أخطأ فيه نعيم واليك ما قاله أئمة
الحديث. قال ابن حجر في التهذيب (قال أبو زرعة الدمشقي قلت لدحيم حدثنا
نعيم بن حماد عن عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير
عن أبيه عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تفترق أمتي على
بضع وسبعين فرقة. الحديث. فقال. هذا الحديث صفوان بن عمرو وحديث
معاوية يعنى ان اسناده مقلوب. قال أبو زرعة وقلت لابن معين في هذا الحديث
فأنكره. قلت فمن أين يؤتى قال شبه لهم. وقال محمد بن علي المروزي سألت يحيى
ابن معين عنه فقال ليس له أصل قلت فنعيم قال ثقة قلت كيف يحدث ثقة
بباطل قال شبه له وقال ابن عدي بعد ان أورد هذا الحديث من رواية سويد
ابن سعيد عن عيسى هذا إنما يعرف بنعيم بن حماد رواه عن عيسى بن يونس
فتكلم الناس فيه ثم رواه رجل من أهل خراسان يقال له الحكم بن المبارك ثم
سرقه ضعفاء ممن يعرفون بسرقة الحديث. وقال عبد الغني بن سعيد
المصري كل من حدث به عن عيسى بن يونس غير نعيم بن حماد فإنما اخذه من
نعيم وبهذا الحديث سقط نعيم عند كثير من أهل العلم بالحديث الا ان يحيى بن
معين لم يكن ينسبه إلى الكذب بل كان ينسبه إلى الوهم)
62

فرض يعصى من تركه، واما حرام يعصى من فعله، وإما مباح لا يعصى من فعله ولا من
تركه، وهذا المباح ينقسم ثلاثة أقسام اما مندوب إليه يؤجر من فعله ولا يعصى من تركه،
واما مكروه يؤجر من تركه ولا يعصى من فعله، واما مطلق لا يؤجر من فعله ولا من تركه
ولا يعصى من فعله ولا من تكره. وقال عز وجل (خلق لكم ما في الأرض جميعا) وقال
تعالى (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) فصح ان كل شئ حلال الا ما فصل تحريمه
في القرآن أو السنة *
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى
63

حدثنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج أخبرني زهير بن
حرب حدثنا يزيد بن هارون حدثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي
هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال (أيها الناس ان الله قد فرض عليكم (1)
الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى أعادها ثلاثا (2) فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ذروني ما تركتكم
فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ
فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه) *
(قال علي) فجمع هذا الحديث جميع أحكام الدين أولها عن آخرها ففيه ان
ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح وليس حراما
ولا فرضا وان ما أمر به فهو فرض وما نهى عنه فهو حرام وان ما أمرنا به فإنما يلزمنا
منه ما نستطيع فقط وأن نفعل مرة واحدة تؤدى ما ألزمنا ولا يلزمنا تكراره فأي حاجة
بأحد إلى قياس أو رأى مع هذا البيان الواضح (3) ونحمد الله على عظم نعمه *
(فان قال قائل) لا يجوز ابطال القول بالقياس إلا حتى توجدونا تحريم القول به

(1) في صحيح مسلم قد فرض الله عليكم الخ
(2) في صحيح مسلم حتى قالها ثلاثا
(3) قلت أما مع النص على الحكم فلا قائل بالقياس ولكنه من المعلوم
يقينا أنه لم يأت في كل حادثة نص بحكمها فإنه من المعلوم يقينا أنها اتفقت قضايا
اختلف فيها الصحابة لعدم النص وهم أعرف الناس بالنصوص فإنهم اختلفوا في
مسائل من المواريث كميراث الجد ومسائل العول ومسألة بيع أمهات الأولاد
وهذه مسائل لا تنحصر في التنوع من الطلاق والعدد وحكموا فيها تحليلا وتحريما
بالآراء وقد صرح المصنف رحمه الله أنه وقع الرأي في القرن الأول وهو قرن
الصحابة فكيف يقول فأي حاجة للقياس على أننا حققنا لك أن القياس على
العلة المنصوصة هو من النص فالرجوع إليه عند التنازع رجوع إلى الله ورسوله
صلى الله عليه وسلم وليس هذا القياس من ضرب الأمثال في الدين بل
هو من الدين اه‍ السيد محمد الأمير
64

نصا في القرآن. قلنا لهم: قد أوجدنا لكم البرهان نصا بذلك وبأن لا يرد التنازع الا إلى
القرآن والسنة فقط، وقال تعالى (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه
أولياء) وقال تعالى (فلا تضربوا لله الأمثال ان الله يعلم وأنتم لا تعلمون) والقياس
ضرب أمثال في الدين لله تعالى. ثم يقال لهم: ان عارضكم الروافض بمثل هذا فقالوا
لكم لا يجوز القول بابطال الالهام ولا بابطال اتباع الامام الا حتى توجدوا لنا تحريم ذلك
نصا، أو قال لكم ذلك أهل كل مقالة في تقليد كل انسان بعينه. بماذا تنفصلون؟ بل
الحق انه لا يحل أن يقال على الله تعالى انه حرم أو حلل أو أوجب الا بنص فقط.
وبالله تعالى التوفيق *
101 - مسألة - وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليست فرضا الا ما كان
منها بيانا لأمر فهو حينئذ أمر، لكن الائتساء به عليه الصلاة والسلام فيها حسن *
برهان ذلك هذا الخبر الذي ذكرنا آنفا من أنه لا يلزمنا شئ الا ما أمرنا به
أو نهانا عنه وان ما سكت عنه فعفو ساقط عنا، وقال عز وجل (لقد كان لكم في
رسول الله أسوة حسنة) *
102 - مسألة - ولا يحل لنا اتباع شريعة نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم
قال عز وجل (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور حدثنا وهب بن مسرة حدثنا محمد بن وضاح
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هشيم أخبرنا سيار عن يزيد الفقير أخبرنا جابر
ابن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد
قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من
أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي، وأعطيت
الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (1)) فإذا صح
أن الأنبياء عليهم السلام لم يبعث أحد منهم الا إلى قومه خاصة فقد صح أن شرائعهم

(1) الحديث رواه البخاري ومسلم والنسائي
65

لم تلزم الا من بعثوا إليه فقط، وإذا لم يبعثوا الينا فلم يخاطبونا قط بشئ ولا أمرونا
ولا نهونا، ولو أمرونا ونهونا وخاطبونا لما كان لنبينا صلى الله عليه وسلم فضيلة
عليهم في هذا الباب. ومن قال بهذا فقد كذب هذا الحديث وأبطل هذه الفضيلة
التي خصه الله تعالى بها، فإذا قد صح أنهم عليهم السلام لم يخاطبونا بشئ فقد صح
يقينا أن شرائعهم لا تلزمنا أصلا. وبالله تعالى التوفيق *
103 - مسألة - ولا يحل لا حد أن يقلد أحدا لا حيا ولا ميتا وعلى كل أحد
من الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله عز وجل
في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل عن أعلم أهل موضعه
بالدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دل عليه سأله، فإذا أفتاه قال
له: هكذا قال الله عز وجل ورسوله؟ فان قال له نعم أخذ بذلك وعمل به أبدا، وان قال
له هذا رأيي أو هذا قياس أو هذا قول فلان وذكر له صاحبا أو تابعا أو فقيها قديما
أو حديثا أو سكت أو انتهره أو قال له لا أدرى، فلا يحل له أن يأخذ بقوله ولكنه
يسأل غيره.
برهان ذلك قول الله عز وجل (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)
فلم يأمرنا عز وجل قط بطاعة بعض أولي الامر، فمن قلد عالما أو جماعة علماء فلم يطع
الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أولي الأمر، وإذا لم يرد إلى من ذكرنا
فقد خالف أمر الله عز وجل ولم يأمر الله عز وجل قط بطاعة بعض اولي الامر
دون بعض (1) *

(1) كلام المصنف رحمه الله مبنى على أن المراد بأولي الأمر العلماء وهو أحد
أقوال السلف في تفسير الآية، ولكنه اخراج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن
جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أطاعني فقد
أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد
عصاني) وفي الآية أحاديث مرفوعة بنحوه وآثار عن السلف مختلفة منهم من فسرهم
بالعلماء على كلام المصنف المراد استرووا العلماء عن أحكام الكتاب والسنة وان الفتيا
معناها رواية الكتاب والسنة، وقبول رواية العالم ليس تقليدا له بل من العمل
بخبر الآحاد الذي تعبد الله بالعمل به العباد وهو العمل بالظن المستفاد من اخبار
الآحاد، وفي قوله لم يأمر الله بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض ايهام انه لا يقبل
فتوى العالم الواحد حتى تكون اجماعا وهو خلاف ما قرره كما لا يخفى اه‍ السيد محمد
الأمير رضي الله عنه وانظر ما كتبناه تعليقا على الأحكام للمؤلف (ج 4 ص 135)
66

فان قيل: فان الله عز وجل قال (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) وقال
تعالى: (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم). قلنا: نعم ولم يأمر الله عز وجل أن يقبل
من النافر للتفقه في الدين رأيه، ولا أن يطاع أهل الذكر في رأيهم ولا في دين يشرعونه
لم يأذن به الله عز وجل وإنما أمر تعالى بأن يسأل أهل الذكر عما يعلمونه في الذكر الوارد
من عند الله تعالى فقط لا عمن قاله من لا سمع له ولا طاعة، وإنما أمر الله تعالى بقبول نذارة
النافر للتفقه في الدين فيما تفقه فيه من دين الله تعالى الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا في دين لم يشرعه الله عز وجل، ومن ادعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد
ادعى الباطل وقال قولا لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا اجماع ولا قياس، وما كان هكذا
فهو باطل لأنه قول بلا دليل، بل البرهان قد جاء بابطاله، قال تعالى ذاما لقوم قالوا (انا أطعنا
سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله عز وجل
الذي أوجبه على عباده، وبالضرورة يدرى كل ذي حس سليم أن المسلم لا يكون مسلما
إلا حتى يقر بأن الله تعالى إلهه لا إله غيره وأن محمدا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسلم بهذا الدين إليه والى غيره، فإذ لا شك في هذا فكل سائل في الأرض عن نازلة
في دينه فإنما يسأل عما حكم الله تعالى به في هذه النازلة، فإذ لا شك في هذا ففرض عليه
أن يسأل إذا سمع فتيا: أهذا حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا
لا يعجز عنه من يدرى ما الاسلام ولو أنه كما جلب من قوقوا (1) وبالله تعالى التوفيق *
104 - مسألة - وإذا قيل له إذا سأل عن أعلم أهل بلده بالدين: هذا صاحب
حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا صاحب رأى وقياس فليسأل صاحب

(1) هكذا في الأصل ولعله من قاف وهو على ما يزعمون الجبل المحيط
بالدنيا والمراد المبالغة في بعدما بينهما
67

الحديث ولا يحل له أن يسأل صاحب الرأي أصلا *
برهان ذلك قول الله عز وجل (اليوم أكملت لكم دينكم) وقوله تعالى (لتبين
للناس ما نزل إليهم) فهذا هو الدين، لا دين سوى ذلك، والرأي والقياس ظن
والظن باطل *
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا ابن وضاح
حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث)
(حدثنا) يونس بن عبد الله حدثنا يحيى بن مالك بن عائذ أخبرنا أبو عبد الله بن أبي
حنيفة أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي حدثنا يوسف بن
يزيد القراطيسي أخبرنا سعيد بن منصور أخبرنا جرير بن عبد المجيد عن المغيرة
ابن مقسم عن الشعبي قال: السنة لم توضع بالمقاييس. (حدثنا) محمد بن سعيد
ابن نبات أخبرنا إسماعيل بن إسحاق البصري أخبرنا أحمد بن سعيد بن حزم
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن حيون الحجازي أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال
سمعت أبي يقول: الحديث الضعيف أحب الينا من الرأي (حدثنا حمام بن أحمد
أخبرنا عباس بن اصغ حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا عبد الله
ابن أحمد بن حنبل قال: سألت أبى عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه الا صاحب
حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب رأى، فتنزل به النازلة من يسأل؟
فقال أبى: يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي، ضعيف الحديث
أقوى من رأى أبي حنيفة *
105 - مسألة - ولا حكم للخطأ ولا النسيان الا حيث جاء في القرآن أو
السنة لهما حكم *
قال تعالى (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال
تعالى (ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا) *
106 - مسألة - وكل فرض كلفه الله تعالى الانسان فان قدر عليه لزمه، وان
عجز عن جميعه سقط عنه، وان قوي على بعضه وعجز عن بعضه سقط عنه ما عجز عنه
68

ولزمه ما قدر عليه منه سواء أقله أو أكثره
برهان ذلك قول الله عز وجل: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وقد ذكرناه قبل
باسناده. وبالله تعالى التوفيق *
107 - مسألة - ولا يجوز ان يعمل أحد شيئا من الدين مؤقتا بوقت قبل
وقته، فإن كان الأول من وقته والآخر من وقته لم يجز أن يعمل قبل وقته ولا بعد وقته *
لقول الله تعالى (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) وقال تعالى (تلك حدود
الله فلا تعتدوها) والأوقات حدود فمن تعدى بالعمل وقته الذي حده الله تعالى له
فقد تعدى حدود الله *
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى
حدثنا أحمد بن محمد أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا مسلم بن الحجاج أخبرنا إسحاق بن
إبراهيم هو ابن راهويه عن أبي عامر العقدي حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري
عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: سألت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق
فقال أخبرتني عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من عمل عملا ليس
عليه أمرنا فهو رد) *
قال علي: ومن امره الله تعالى ان يعمل عملا في وقت سماه له فعمله في غير ذلك
الوقت - اما قبل الوقت واما بعد الوقت - فقد عمل عملا ليس عليه امر الله تعالى ولا
امر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو مردود باطل غير مقبول، وهو غير العمل الذي
امر به، فان جاء نص بأنه يجزئ في وقت آخر فهو وقته أيضا حينئذ، وإنما الذي
لا يكون وقتا للعمل فهو ما لا نص فيه. وبالله تعالى التوفيق *
108 - مسألة - والمجتهد المخطئ أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب.
هذا في أهل الاسلام خاصة، واما غير أهل الاسلام فلا عذر للمجتهد المستدل ولا
للمقلد، وكلاهما هالك *
برهان هذا ما ذكرناه آنفا باسناده من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله اجر) وذم الله التقليد جملة، فالمقلد عاص والمجتهد مأجور
69

وليس من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقلدا لأنه فعل ما امره الله تعالى
به، وإنما المقلد من اتبع من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه فعل ما لم
يأمره الله تعالى به، وأما غير أهل الاسلام فان الله تعالى يقول (ومن يبتغ غير الاسلام
دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) *
109 - مسألة - والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ. وبالله
تعالى التوفيق *
قال الله تعالى (فماذا بعد الحق الا الضلال)، وقال تعالى (ولو كان من عند
غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) وذم الله الاختلاف فقال (ولا تكونوا كالذين
تفرقوا واختلفوا) وقال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا) وقال تعالى (تبيانا لكل شئ)
فصح أن الحق في الأقوال ما حكم الله تعالى به فيه، وهو واحد لا يختلف، وأن الخطأ
ما لم يكن من عند الله عز وجل. ومن ادعى أن الأقوال كلها حق وأن كل مجتهد
مصيب فقد قال قولا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا اجماع ولا معقول، وما كان هكذا
فهو باطل، ويبطله أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم
فأخطأ فله أجر) فنص عليه الصلاة والسلام أن المجتهد قد يخطئ، ومن قال: إن
الناس لم يكلفوا الا اجتهادهم فقد أخطأ، بل ما كلفوا الا إصابة ما أمر الله به قال الله
عز وجل (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) فافترض عز وجل اتباع
ما أنزل الينا وأن لا نتبع غيره وأن لا نتعدى حدوده، وإنما أجر المجتهد المخطئ أجرا
واحدا على نيته في طلب الحق فقط، ولم يأثم إذا حرم الإصابة، فلو أصاب الحق اجر أجرا
آخر كما قال عليه السلام (إنه إذا أصاب أجر أجرا ثانيا) *
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد أخبرنا إبراهيم بن أحمد الفربري
حدثنا البخاري حدثنا عبد الله بن المقرئ حدثنا حياة بن شريح حدثنا يزيد
ابن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحرث عن بسر بن سعيد عن أبي قيس
مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) *
70

ولا يحل الحكم بالظن أصلا (1) لقول الله تعالى (ان يتبعون الا الظن وان
الظن لا يغني من الحق شيئا) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إياكم والظن
فان الظن أكذب الحديث) وبالله تعالى التوفيق *

(1) أقول هذا النفي في أنه لا يحل الحكم بالظن مشكل غاية الاشكال وقد
آن أن نحقق البحث للناظرين دفعا للاغترار بكلام هذا المحقق رحمه الله فنقول:
الظن لفظ مشترك بين معان يطلق على الشك كما صرح أئمة اللغة ففي القاموس:
الظن التردد والراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم انتهى فهذان اطلاقان. ويطلق
على اليقين كما في قوله تعالى (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وانهم إليه راجعون) مع
قوله في صفة المؤمنين (وهم بالآخرة هم يوقنون) لأنه لا بد من اليقين في الايمان بالآخرة
ويطلق على التهمة كما في قوله تعالى (وما هو علي الغيب بظنين) فيمن قرأه
بالظاء المشالة اي بمتهم كما قال أئمة التفسير. وإذا عرفت هذا عرفت ان المذموم من
الظن هو ما كان بمعنى الشك وهو التردد بين طرفي الامر، فطرفاه مستويان
لا راجح فيهما، فهذا يحرم العمل به اتفاقا وهو الذي هو أكذب الحديث، وهو
الذي لا يغني من الحق شيئا، وهو بعض الاثم الذي أراد تعالى (ان بعض
الظن اثم) وذلك لما تقرر في الفطرة وقررته الشريعة ان لا عمل الا براجح يستفاد
من علم أو ظن. واما الظن الذي بمعنى الطرف الراجح فهو متعبد به قطعا بل أكثر
الأحكام الشرعية دائرة عليه: وهو البعض الذي ليس فيه اثم، المفهوم من قوله
تعالى (ان بعض الظن اثم) فان خبر الآحاد معمول به في الأحكام وهو لا يفيد بنفسه
الا الظن. والمصنف (ابن حزم) تقدم له ان الجاهل يسال العالم عن الحكم فيما يعرض
له فإذا أفتاه وقال هذا حكم الله ورسوله عمل به أبدا، ومعلوم ان هذه رواية
آحادية من العالم بالمعنى ولا تفيد الا الظن وقد أوجب قبولها، وكذلك امر الله
باشهاد ذوي عدل فان شهدا وجب على الحاكم الحكم بما شهدا به، وشهادتهما
لا تفيد الا الظن، بل كونهما ذوي عدل لا يكون الا بالظن، بل قال صلى الله عليه
وسلم (انكم تختصمون إلي) إلى قوله (فإنما اقطع له قطعة من نار) وهذا صريح
انه صلى الله عليه وسلم حكم بالظن الحاصل عن البينة، إذ لو كان بالعلم
لما كان المحكوم به قطعة من نار، لأنه يجوز ان البينة التي حكم بها باطلة في
هذا اجماع لا خلاف فيه من أحد، وأصله قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا
نفس الامر، وفى حديث ابن مسعود في سجود السهو (إذا كنت في صلاة فشككت
في ثلاث أو أربع وأكثر ظنك على أربع) الحديث، فاعتبر الظن في أشرف العبادات
وحديث الطبراني والحاكم (قال الله: انا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)
وحديث (لا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن بالله) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود
وابن ماجة. فهذا كله عمل بالظن الراجح الصادر عن امارة صحيحة، وأما
ما صدر لا عن امارة صحيحة نحو ظن الكفار أنه (لن ينقلب الرسول والمؤمنون)
الآية (وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) فهذا ظن باطل مستند إلى أن الله
تعالى لا ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومصل ظننتم أن الله
لا يعلم كثيرا مما تعملون الذي حكاه الله تعالى عنهم بقوله (ولكن ظننتم أن
الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم
من الخاسرين) فظنهم هذا مستند إلى الجهل بعلم الله وإحاطته، ومنه في
قصة الأحزاب في ظن المنافقين (وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر
وتظنون بالله الظنونا) فإنهم ظنوا غلبة الأحزاب للرسول صلى الله عليه وسلم
ولذا قالوا (ما وعدنا الله ورسوله الا غرورا) وعكسهم أهل الايمان فإنهم قالوا
(هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا ايمانا وتسليما)
فهذا البحث بحمد الله تعالى لا تجده في كتاب. وإنما هو من فتح الكريم الوهاب
وبه يزول الاشكال والاضطراب، وتعلم أن المصنف أوجز في محل الاطناب،
فأخل بما يذكره هو في هذا الكتاب، فإنه لا يزال يستدل فيه باخبار الآحاد
وبعموم ألفاظها وألفاظ القرآن، والكل لا يخرج عن الأدلة الظنية، فاعرف
قدر هذه الفائدة السنية اه‍ من إفادة خاتمة المحققين السيد محمد بن إسماعيل الأمير
جزاه الله عن الاسلام خيرا
71

كتاب الطهارة
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم
110 - مسألة - الوضوء للصلاة فرض لا تجزئ الصلاة الا به لمن وجد الماء.
72

قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم
إلى الكعبين) *
111 - مسألة - ولا يجزئ الوضوء الا بنية الطهارة للصلاة فرضا وتطوعا
لا يجزئ أحدهما دون الآخر ولا صلاة دون صلاة *
برهان ذلك الآية المذكورة. لان الله تعالى لم يأمر فيها بالوضوء الا للصلاة على
عمومها، لم يخص تعالى صلاة من صلاة فلا يجوز تخصيصها، ولا يجزئ لغير ما أمر
الله تعالى به.
وقال أبو حنيفة: يجزئ الوضوء والغسل بلا نية وبنية التبرد والتنظف. كان
حجتهم أن قالوا: إنما أمر بغسل جسمه أو هذه الأعضاء فقد فعل ما أمر به وقالوا:
قسنا ذلك على إزالة النجاسة فإنها تجزئ بلا نية، ومن قولهم: ان التيمم لا يجزئ
الا بنية. وقال الحسن بن حي: الوضوء والغسل والتيمم يجزئ كل ذلك بلا نية
وقال أبو يوسف: ان انغمس جنب في بئر ليخرج دلوا منها لم يجزه ذلك من غسل
الجنابة وقال محمد بن الحسن: يجزيه من غسل الجنابة
قال علي: أما احتجاجهم بأنه إنما أمر بغسل جسمه أو هذه الأعضاء وقد فعل
ما أمر، فكذب بل ما أمر الا بغسلها بنية القصد إلى العمل الذي أمره الله تعالى به
في ذلك الوجه، قال الله تعالى: (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)
فنفى عز وجل أن يكون أمرنا بشئ الا بعبادته مفردين له نياتنا بدينه الذي أمرنا به
فعم بهذا جميع أعمال الشريعة كلها *
حدثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا أبو زيد المروي ثنا الفربري
ثنا البخاري ثنا الحميدي ثنا سفيان بن عيينة ثنا يحيى بن سعيد الأنصاري
أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي انه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن
الخطاب يقول على المنبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنما الأعمال بالنيات وإنما
لكل امرئ ما نوى) فهذا أيضا عموم لكل عمل، ولا يجوز أن يخص به بعض
الاعمال دون بعض بالدعوى
73

وأما قياسهم ذلك على إزالة النجاسة فباطل لأنه قياس والقياس كله باطل،
ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل، لوجوه: منها أن يقال لهم: ليس
قياسكم الوضوء والغسل على إزالة النجاسة بأولى من قياسكم ذلك على التيمم الذي
هو وضوء في بعض الأحوال أيضا، وكما قستم التيمم على الوضوء في بعض الأحوال وهو
بلوغ المسح إلى المرفقين، فهلا قستم الوضوء على التيمم في أنه لا يجزئ كل واحد منهما
الا بنية لان كليهما طهر للصلاة *
فان قالوا: إن الله تعالى قال (فتيمموا صعيدا طيبا) ولم يقل ذلك في الوضوء،
قلنا نعم فكان ماذا؟ وكذلك قال تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) فصح انه
لا يجزئ ذلك الغسل الا للصلاة بنص الآية *
والوجه الثاني أن دعواهم أن غسل النجاسة يجزئ بلا نية باطل ليس كما قالوا،
بل كل تطهير لنجاسة امر الله تعالى به على صفة ما فإنه لا يجزئ الا بنية وعلى تلك الصفة
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وقد ذكرناه باسناده
قبل، وكل نجاسة ليس فيها أمر بصفة ما فإنما على الناس أن يصلوا بغير نجاسة في
أجسامهم ولا في ثيابهم ولا في موضع صلاتهم، فإذا صلوا كذلك فقد فعلوا ما أمروا
به، فظهر فساد احتجاجهم وعظم تناقضهم في الفرق بين الوضوء والغسل وبين التيمم
والصلاة وغير ذلك من الاعمال بلا برهان، واختلافهم في الجنب ينغمس في البئر
كما ذكرنا بلا دليل
وقال بعضهم: لو احتاج الوضوء إلى نية لاحتاجت النية إلى نية وهكذا أبدا،
قلنا لهم: هذا لازم لكم فيما أوجبتم من النية للتيمم وللصلاة وهذا محال، لأن النية
المأمور بها هي مأمور بها لنفسها لأنها القصد إلى ما أمر به فقط. وأما الحسن بن حي
فإنه ينقض قوله بالآية التي ذكرنا والحديث الذي أوردنا *
وقولنا في هذا قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود وغيرهم
وبالله تعالى التوفيق *
112 - مسألة - ويجزئ الوضوء قبل الوقت وبعده، وقال بعض الناس
لا يجزئ الوضوء ولا التيمم الا بعد دخول وقت الصلاة وقال آخرون: يجزئ الوضوء
74

قبل الوقت ولا يجزئ التيمم الا بعد الوقت، وقال آخرون: الوضوء والتيمم يجزيان
قبل الوقت *
واحتج من رأى كل ذلك لا يجزئ الا بعد دخول الوقت بقول الله تعالى: (إذا
قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم
إلى الكعبين وان كنتم جنبا فاطهروا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من
الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم
وأيديكم منه) *
قال علي وهذا لا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم كافية، لان الله تعلى لم يقل:
إذا قمتم إلى صلاة فرض، ولا إذا دخل وقت صلاة فرض فقمتم إليها، بل قال عز وجل
(إذا قمتم إلى الصلاة) فعم تعالى ولم يخص، والصلاة تكون فرضا وتكون تطوعا بلا
خلاف، وقد أجمع أهل الأرض قاطبة من المسلمين على أن صلاة التطوع لا تجزئ
الا بطهارة من وضوء أو تيمم أو غسل ولا بد، فوجب بنص الآية ضرورة أن المرء
إذا أراد صلاة فرض أو تطوع وقام إليها أن يتوضأ أو يغتسل إن كان جنبا أو يتيمم
إن كان من أهل التيمم ثم ليصل، فإذ ذلك نص الآية بيقين فإذا أتم المرء غسله
أو وضوءه أو تيممه فقد طهر بلا شك، وإذ قد صحت طهارته فجائز له أن يجعل بين
طهارته وبين الصلاة التي قام إليها مهلة من مشى أو حديث أو عمل، لان الآية لم
توجب اتصال الصلاة بالطهارة لا بنصها ولا بدليل فيها، وإذا جاز أن يكون بين
طهارته وبين صلاته مهلة فجائز أن تمتد المهلة ما لم يمنع من تماديها قرآن أو سنة، وذلك
يمتد إلى آخر أوقات الفرض، وأما في التطوع فما شاء *
فصح بنص الآية جواز التطهر بالغسل وبالوضوء وبالتيمم قبل وقت صلاة
الفرض، وإنما وجب بنص الآية أن لا يكون شئ من ذلك الا بنية التطهر للصلاة
فقط ولا مزيد *
ودليل آخر: وهو أن الصلاة جائزة بلا خلاف في أول وقتها، فإذ ذلك كذلك
فلا يكون ذلك البتة الا وقد صحت الطهارة لها قبل ذلك، وهذا ينتج ولا بد جواز
التطهر بكل ذلك قبل أول الوقت *
75

برهان آخر وهو ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد
ابن شعيب (1) ثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة وراح (2) فكأنما
قدم (3) بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة
فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في
الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الامام حضرت الملائكة يستمعون
الذكر). فهذا نص جلي على جواز الوضوء للصلاة والتيمم لها قبل دخول وقتها،
لان الامام يوم الجمعة لابد ضرورة من أن يخرج قبل الوقت أو بعد دخول الوقت،
وأي الامرين كان فتطهر هذا الرائح من أول النهار كان قبل وقت الجمعة بلا شك،
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في الرائحين إلى الجمعة المتيمم في السفر والمتوضئ *
واما من فرق بين جواز الوضوء قبل الوقت وجواز التيمم قبل الوقت فمنع منه:
فإنهم ادعوا أن حكم الآية يوجب أن يكون كل ذلك بعد الوقت، وادعوا أن الوضوء
خرج بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الصلوات كلها بوضوء واحد، وهذا لا حجة لهم
فيه، لأنه ليس في هذا الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ قبل دخول وقت الصلاة،
ولعله توضأ بعد دخول الوقت ثم بقي يصلى بطهارته ما لم تنتقض، فإذ هذا ممكن
فلا دليل في هذا الخبر على جواز الوضوء قبل دخول الوقت. وبالله تعالى التوفيق *
113 - مسألة - فان خلط بنية الطهارة للصلاة نية لتبرد أو لغير ذلك لم تجزه
الصلاة بذلك الوضوء *
برهان ذلك قول الله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)
فمن مزج بالنية التي أمر بها نية لم يؤمر بها فلم يخلص لله تعالى العبادة بدينه ذلك،
وإذا لم يخلص فلم يأت بالوضوء الذي أمره الله تعالى به، فلو نوى مع وضوئه للصلاة أن

(1) هو النسائي
(2) في النسائي (ج 1: ص 206) (ثم راح)
(3) في النسائي (قرب)
76

يعلم الوضوء من بحضرته أجزأته الصلاة به لان تعليم الناس الدين مأمور به. وبالله
تعالى التوفيق *
114 - مسألة - ولا تجزئ النية في ذلك ولا في غيره من الاعمال إلا قبل
الابتداء بالوضوء أو بأي عمل كان متصلة بالابتداء به لا يحول بينهما وقت قل أم كثر *
برهان ذلك أن النية لما صح أنها فرض في العمل وجب أن تكون لا يخلو منها
شئ من العمل، وإذا لم تكن كما ذكرنا فهي إما أن يحول بينها وبين العمل زمان
فيصير العمل بلا نية، وأيضا فإنه لو جاز أن يحول بين النية وبين العمل دقيقة لجاز
أن يحول بينهما دقيقتان وثلاث وأربع وما زاد إلى أن يلغ الامر إلى عشرات أعوام،
وإما أن يكون مقارنا للنية فيكون أول العمل خاليا من نية دخل فيه بها، لأن النية
هي القصد بالعمل والإرادة به ما افترض الله تعالى في ذلك العمل، وهذا لا يكون إلا
معتقدا قبل العمل ومعه كما ذكرنا. وبالله تعالى التوفيق *
115 - مسألة - ومن غمس أعضاء الوضوء في الماء ونوى به الوضوء للصلاة،
أو وقف تحت ميزاب حتى عمها الماء ونوى بذلك الوضوء للصلاة أو صب الماء على أعضاء
الوضوء للصلاة أو صب الماء على أعضاء الوضوء غيره ونوى هو بذلك الوضوء للصلاة
أجزأه *
برهان ذلك ان اسم (غسل) يقع على ذلك كله في اللغة التي بها نزل القرآن،
ومن ادعى ان اسم الغسل لا يقع إلا على التدلك باليد (1) فقد ادعى مالا برهان له
به. وقولنا هذا قول أبي حنيفة والشافعي وداود. وبالله تعالى التوفيق *
116 - مسألة - وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى
جائز كل ذلك بوضوء وبغير وضوء وللجنب والحائض *
برهان ذلك ان قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى افعال

(1) قال الأمير الصنعاني: يقال غسل لغة تقتضي مباشرة الغاسل فلا
يجزئ وقوفه تحت ميزاب ولا صب غيره على أعضائه، فتأمل فان المصنف أهمل
المباشرة وتكلم على الدلك اه‍.
77

خير مندوب إليها مأجور فاعلها، فمن ادعى المنع فيها في بعض الأحوال كلف أن يأتي بالبرهان
فأما قراءة القرآن فان الحاضرين من المخالفين موافقون لنا في هذا لمن كان على
غير وضوء، واختلفوا في الجنب والحائض، فقالت طائفة: لا تقرأ الحائض ولا الجنب
شيئا من القرآن، وهو قول روى عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما
وعن غيرهما روى أيضا كالحسن البصري وقتادة والنخعي وغيرهم، وقالت طائفة:
اما الحائض فتقرأ ما شاءت من القرآن، وأما الجنب فيقرأ الآيتين ونحوهما، وهو قول
مالك، وقال بعضهم: لا يتم الآية وهو قول أبي حنيفة *
فاما من منع الجنب من قراءة شئ من القرآن فاحتجوا بما رواه عبد الله بن
سلمة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجزه عن
القرآن شئ ليس الجنابة) وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه ليس فيه نهى عن أن
يقرأ الجنب القرآن، وإنما هو فعل منه عليه السلام لا يلزم، ولا بين عليه السلام أنه
إنما يمتنع من قراءة القرآن من أجل الجنابة، وقد يتفق له عليه السلام ترك القراءة
في تلك الحال ليس من أجل الجنابة، وهو عليه السلام لم يصم قط شهرا كاملا غير
رمضان ولم يزد قط في قيامه على ثلاث عشرة ركعة، ولا أكل قط على خوان، ولا أكل
متكئا. أفيحرم أن يصام شهر كامل غير رمضان، أو ان يتهجد المرء بأكثر من ثلاث
عشرة ركعة، أو أن يأكل على خوان أو أن يأكل متكئا؟ هذا لا يقولونه، ومثل هذا
كثير جدا وقد جاءت آثار في نهى الجنب ومن ليس على طهر عن أن يقرأ شيئا من
القرآن، ولا يصح منها شئ، وقد بينا ضعف أسانيدها في غير موضع، ولو صحت
لكانت حجة على من يبيح له قراءة الآية التامة أو بعض الآية، لأنها كلها نهي عن
قراءة القرآن للجنب جملة.
وأما من قال يقرأ الجنب الآية أو نحوها، أو قال لا يتم الآية، أو أباح للحائض
ومنع الجنب فأقوال فاسدة، لأنها دعاوى لا يعضدها دليل لا من قرآن ولا من سنة
صحيحة ولا سقيمة ولا من اجماع ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من رأى
سديد، لان بعض الآية والآية قرآن بلا شك، ولا فرق بين أن يباح له آية أو أن
يباح له أخرى، أو بين أن يمنع من آية أو يمنع من أخرى، وأهل هذه الأقوال
78

يشنعون مخالفة الصاحب الذي لا يعرف له مخالف، وهم قد خالفوا ههنا عمر بن
الخطاب وعلي بن أبي طالب وسلمان الفارسي، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة
رضي الله عنهم *
وأيضا فان من الآيات ما هو كلمة واحدة مثل (والضحى) و (مدهامتان) و (والعصر)
و (والفجر) ومنها كلمات كثيرة كآية الدين، فإذ لا شك في هذا فان في اباحتهم له
قراءة آية الدين والتي بعدها أو آية الكرسي أو بعضها ولا يتمها ومنعهم إياه من قراءة
(والفجر وليال عشر والشفع والوتر) أو منعهم له من اتمام (مدهامتان) لعجبا
وكذلك تفريقهم بين الحائض والجنب بأن أمر الحائض يطول، فهو محال،
لأنه إن كانت قراءتها للقرآن حراما فلا يبيحة لها طول أمرها، وإن كان ذلك لها حلالا فلا
معنى للاحتجاج بطول أمرها، حدثنا محمد بن سعيد بن نبات (1) ثنا عبد الله بن
نصر عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن وضاح عن موسى بن معاوية ثنا ابن وهب
عن يونس بن يزيد عن ربيعة قال: لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن. وبه إلى
موسى ابن معاوية ثنا يوسف بن خالد السمتي (2) ثنا إدريس عن حماد قال:
سألت سعيد بن المسيب عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ فقال: وكيف لا يقرؤه وهو
في جوفه. وبه إلى يوسف السمتي عن نصر الباهلي قال: كان ابن عباس يقرأ
البقرة وهو جنب * أخبرني محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله (3) ثنا

(1) بالنون والباء والتاء كما في الأحكام للمؤلف والمشتبه للذهبي وشرح
القاموس. ومحمد بن سعيد هذا هو أبو عبد الله النباتي بفتح النون نسبة
إلى جده مات بعد سنة 400 قاله السمعاني *
(2) بفتح السين المهملة واسكان الميم وبعدها تاء. قيل له ذلك لهيئته
وسمته. قال ابن سعد: كان له بصر بالرأي والفتوى والشروط. وقال ابن معين:
كذاب زنديق لا يكتب حديثه. وكذلك كذبه الفلاس وأبو داود وضعفه
الشافعي وابن قانع والساجي. وقال ابن حبان: كان يضع الأحاديث على الشيوخ.
مات سنة 189 *
(3) في الأحكام للمؤلف: (أحمد بن عون) فيحرر *
79

قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا غندر ثنا
شعبة عن حماد بن أبي سليمان قال: سألت سعيد بن جبير عن الجنب يقرأ فلم ير به
بأسا، وقال: أليس في جوفه القرآن؟ وهو قول داود وجميع أصحابنا.
وأما سجود القرآن فإنه ليس صلاة أصلا. لما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد
ابن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن بشار ثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد
ابن جعفر قالا ثنا شعبة عن يعلي بن عطاء انه سمع عليا الأزدي (1) وهو علي بن
عبد الله البارقي ثقة انه سمع ابن عمر يقول (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (صلاة
الليل والنهار مثنى مثنى) وقد صح عليه السلام أنه قال (الوتر ركعة من آخر الليل)
فصح ان ما لم يكن ركعة تامة أو ركعتين فصاعدا فليس صلاة، والسجود في قراءة
القرآن ليس ركعة ولا ركعتين فليس صلاة، وإذ ليس هو صلاة فهو جائز بلا وضوء
وللجنب وللحائض والى غير القبلة كسائر الذكر ولا فرق، إذ لا يلزم الوضوء الا
للصلاة فقط، إذ لم يأت بايجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة ولا اجماع ولا قياس *
فان قيل. ان السجود من الصلاة، وبعض الصلاة صلاة. قلنا وبالله تعالى
التوفيق: هذا باطل، لأنه لا يكون بعض الصلاة صلاة الا إذا تمت كما أمر بها المصلى،
ولو أن امرأ كبر وقرأ وركع ثم قطع عمدا لما قال أحد من أهل الاسلام إنه صلى شيئا،
بل يقولون كلهم انه لم يصل، فلو أتمها ركعة في الوتر أو ركعتين في الجمعة والصبح
والسفر والتطوع لكان قد صلى بلا خلاف *
ثم نقول لهم: ان القيام بعض الصلاة والتكبير بعض الصلاة وقراءة أم القرآن
بعض الصلاة والجلوس بعض الصلاة والسلام بعض الصلاة: فيلزمكم على هذا
أن لا تجيزوا لاحد أن يقوم ولا أن يكبر ولا أن يقرأ أم القرآن ولا يجلس ولا يسلم
الا على وضوء، فهذا ما لا يقولونه فبطل احتجاجهم. وبالله تعالى التوفيق *

(1) في أحد الأصلين (الأسدي) وهو خطأ صححناه من النسخة اليمنية
والنسائي والتهذيب *
(2) في النسائي: (يحدث) *
80

فان قالوا: هذا اجماع، قلنا لهم: قد أقررتم (1) بصحة الاجماع على بطلان
حجتكم وافساد علتكم وبالله تعالى التوفيق (2)
وأما مس المصحف فان الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه فإنه لا يصح
منها شئ، لأنها اما مرسلة واما صحيفة لا تسند (3) وإما عن مجهول وإما عن

(1) في النسخة اليمنية (قيل فقد أقررتم) *
(2) قال البخاري في الصحيح: (باب سجود المسلمين مع المشركين.
والمشرك نجس ليس له وضوء. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسجد على غير
وضوء) ثم روى الحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم
وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) قال ابن حجر: (وأما
ما رواه البيهقي باسناد صحيح عن الليث عن نافع عن ابن عمر قال لا يسجد الرجل
إلا وهو طاهر. فيجمع بينهما بأنه أراد بقوله طاهر الطهارة الكبرى أو الثاني
على حالة الاختيار والأول على الضرورة) ثم قال بعد كلام: (ويحتمل أن يجمع
بين الترجمة وأثر ابن عمر بأنه يبعد في العادة أن يكون جميع من حضر من
المسلمين كانوا عند قراءة الآية على وضوء لأنهم لم يتأهبوا لذلك، وإذا كان
كذلك فمن بادر منهم إلى السجود خوف الفوات بلا وضوء وأقره النبي صلى
الله عليه وسلم على ذلك استدل بذلك على جواز السجود بلا وضوء عند وجود
المشقة بالوضوء، ويؤيده أن لفظ المتن: وسجد معه المسلمون والمشركون
والجن والإنس، فسوى ابن عباس في نسخة السجود بين الجميع وفيهم من
لا يصح منه الوضوء، فيلزم أن يصح السجود ممن كان بوضوء وممن لم يكن
بوضوء والله أعلم) ثم قال (لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بلا وضوء
إلا الشعبي أخرجه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح وأخرجه أيضا بسند حسن
عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ السجدة ثم يسلم وهو على غير وضوء
إلى غير القبلة وهو يمشى يومئ ايماء) *
(3) يشير إلى حديث مالك في الموطأ: (عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم:
ان في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: ان
لا يمس القرآن إلا طاهر). وهذا مرسل وهو قطعة من كتاب كتبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى أقيال اليمن وبعث به عمرو بن حزم وبقى بعده عند آله.
وروى الدارقطني في السنن والحاكم في المستدرك عن أبي الرجال محمد بن عبد
الرحمن بن حارثة الأنصاري التابعي الثقة (أن عمر بن عبد العزيز حين استخلف
أرسل إلى المدينة يلتمس عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات فوجد
عند آل عمرو بن حزم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم في
الصدقات ووجد عند آل عمر بن الخطاب كتاب عمر إلى عماله في الصدقات بمثل
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم، فأمر عمر بن عبد العزيز عماله
على الصدقات أن يأخذوا بما في دينك الكتابين). وكتاب عمرو بن حزم هذا
بحث عن لفظه كله حتى وفقني الله للاهتداء إليه، فوحدت الحاكم رواه بطوله في
المستدرك (ج 1 ص 395 طبع الهند) من طريق الحاكم بن موسى عن يحيى بن
حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
أبيه عن جده. وروى بعضه بهذا الاسناد النسائي وابن حبان والدار قطني
والبيهقي، وهو اسناد صحيح بينت صحته بيانا شافيا والحمد لله في شرحي على التحقيق
لابن الجوزي ج 1 ص 97 في المسألة رقم 42
81

ضعيف، وقد تقصيناها في غير هذا المكان. وإنما الصحيح ما حدثناه عبد الله بن
ربيع قال ثنا محمد بن أحمد بن مفرج (4) نا سعيد بن السكن ثنا الفربري ثنا البخاري
ثنا الحكم بن نافع ثنا شعيب عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
أن ابن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره أنه كان عند هرقل فدعا هرقل بكتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا

(4) هكذا في النسخة المصرية وهو الصواب، وفي اليمنية (أحمد بن محمد
ابن مفرج) وهو خطأ وهو محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج، انظر تذكرة
الحفاظ (ج 3 ص 140) في ترجمة ابن السكن ولسان الميزان (ج 5 ص 387). وأما
(مفرج) هل هو بالجيم أو بالحاء فهذا موضع نظر ووقع في جميع ما ذكرنا
بالحاء الا في النسخة المصرية وفى تذكرة الحفاظ في ترجمة ابن الاعرابي (ج 3 ص 66)
فإنه بالجيم. وأنا أميل إلى ترجيح أنه بالجيم فان شارح القاموس لم يذكر في
الاعلام من اسمه (مفرح) بالحاء المهملة، وانظر ما سيأتي بهامش المسألة رقم 118
82

فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله (1) إلى هرقل عظيم الروم: سلام
على من اتبع الهدى (أما بعد) فاني أدعوك بدعاية الاسلام، أسلم تسلم يؤتك الله
أجرك مرتين فان توليت فان عليك اثم الاريسيين و (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة
سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
بعث كتابا وفيه هذه الآية إلى النصارى وقد أيقن أنهم يمسون ذلك الكتاب *
فان ذكروا ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب
ثنا قتيبة بن سعيد ثنا الليث عن نافع عن ابن عمر قال: (كان ينهى النبي صلعم
أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو يخاف أن يناله العدو (2)) فهذا حق يلزم اتباعه
وليس فيه أن لا يمس المصحف جنب ولا كافر، وإنما فيه أن لا ينال أهل أرض
الحرب القرآن فقط *
فان قالوا: إنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل آية واحدة، قيل لهم: ولم يمنع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرها وأنتم أهل قياس فإن لم تقيسوا على الآية ما هو أكثر منها
فلا تقيسوا على هذه الآية غيرها *
فان ذكروا قول الله تعالى: (في كتاب مكنون لا يمسه الا المطهرون) فهذا
لا حجة لهم فيه لأنه ليس أمرا وإنما هو خبر، والله تعالى لا يقول الا حقا، ولا يجوز
أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الامر إلا بنص جلى أو اجماع متيقن، فلما رأينا
المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه عز وجل لم يعن المصحف وإنما عنى
كتابا آخر، كما أخبرنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم
ابن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي
ثنا سفيان الثوري عن جامع بن أبي راشد عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى
(لا يمسه الا المطهرون) قال: الملائكة الذين في السماء * حدثنا حمام بن أحمد ثنا

(1) في المصرية (عبد الله رسول الله) وفي اليمنية (من محمد رسول الله)
وصححناه من البخاري (انظر الفتح 1: 30 42)
(2) رواه أيضا مالك والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة
83

ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري (1) ثنا عبد الرزاق ثنا يحيى بن العلاء (2) عن
الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة قال: أتينا سليمان الفارسي فخرج علينا من
كنيف له فقلنا له: لو توضأت يا أبا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا، فقال سلمان: إنما
قال الله عز وجل (في كتاب مكنون لا يمسه الا المطهرون) وهو الذكر الذي في السماء
لا يمسه الا الملائكة (3) *
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ
ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة
ثنا منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس: انه كان إذا أراد أن
يتخذ مصحفا أمر نصرانيا فنسخه له *
وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يحمل الجنب المصحف بعلاقته ولا يحمله بغير
علاقة، وغير المتوضئ عندهم كذلك، وقال مالك: لا يحمل الجنب ولا غير المتوضئ
المصحف لا بعلاقة ولا على وسادة، فإن كان في خرج أو تابوت فلا بأس أن يحمله
اليهودي والنصراني والجنب وغير الطاهر *
قال علي: هذه تفاريق لا دليل على صحتها لا من قرآن ولا من سنة لا صحيحة
ولا سقيمة ولا من اجماع ولا من قياس ولا من قول صاحب، ولئن كان الخرج
حاجزا بين الحامل وبين القرآن فان اللوح وظهر الورقة حاجز أيضا بين الماس وبين
القرآن ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق *

(1) بفتح الدال والباء ونسبة إلى دبر وهي قرية من قرى صنعاء اليمن وهو
أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عباد راوي كتب عبد الرزاق بن همام عنه
مات سنة 285
(2) يحيى بن العلاء البجلي أبو سلمة. قال أحمد بن حنبل: كذاب يضع
الحديث، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال وكيع: كان يكذب
(3) في الموطأ: (قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية (لا يمسه الا المطهرون)
أنها بمنزلة هذه الآية التي في عبس وتولى قول الله تعالى (كلا انها تذكرة فمن
شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة))
84

177 مسألة وكذلك الأذان والإقامة يجزئان أيضا بلا طهارة وفي
حال الجنابة *
وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وقول أبى سليمان وأصحابنا، وقال الشافعي:
يكره ذلك ويجزئ ان وقع، وقال عطاء: لا يؤذن المؤذن الا متوضئا، وقال مالك:
يؤذن من ليس على وضوء ولا يقيم الا متوضئ *
قال علي: هذا فرق لا دليل على صحته لا من قرآن ولا من سنة ولا اجماع ولا
قول صاحب ولا قياس، فان قالوا: إن الإقامة متصلة بالصلاة، قيل لهم: وقد
لا تتصل ويكون بينهما مهلة من حديث بدأ فيه الامام مع انسان يمكن فيه الغسل
والوضوء، وقد يكون الاذان متصلا بالإقامة والصلاة كصلاة المغرب وغيرها ولا فرق
وإذا لم يأت نص بايجاب أن لا يكون الأذان والإقامة الا بطهارة من الجنابة
وغيرها فقول من أوجب (1) ذلك خطأ، لأنه احداث شرع من غير قرآن ولا سنة
ولا اجماع وهذا باطل، فان قيل: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كرهت أن أذكر
الله إلا على طهر (2))، قيل لهم: هذه كراهة لا منع، وهو عليكم لا لكم لأنكم تجيزون
الاذان وقراءة القرآن وذكر الله تعالى على غير طهر وهذا هو الذي نص على كراهته
في الخبر، وأنتم لا تكرهونه أصلا، فهذا الخبر أعظم حجة عليكم، وأما نحن فهو قولنا
وكل ما ذكرنا فهو عندنا على طهارة أفضل، ولا نكرهه على غير طهارة، لأن هذه
الكراهة منسوخة على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى *
118 مسألة ويستحب الوضوء للجنب إذا أراد الاكل أو النوم ولرد
السلام ولذكر الله تعالى وليس ذلك بواجب.
فان قيل: فهلا أوجبتم ذلك كله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اني كرهت أن أذكر الله

(1) في اليمنية (أحب)
(2) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ولفظ أبي داود: (عن المهاجر
ابن قنفذ قال: إنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد
عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر
أو قال على طهارة) واسناده صحيح
85

إلا على طهر) ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ ذكر له أنه تصيبه
الجنابة من الليل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ((توضأ واغسل ذكرك ثم نم) (1) ولما
روته عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو
جنب توضأ وضوءه للصلاة) (1)
قلنا وبالله تعالى التوفيق: أما الحديث في كراهة ذكر الله تعالى إلا على طهر فإنه
منسوخ بما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا
الفربري ثنا البخاري ثنا صدقة ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثني
عمير بن هانئ حدثني جنادة بن أبي أمية ثنا عبادة بن الصامت عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (من تعار (3) من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير الحمد الله وسبحان الله (ولا إله إلا الله) (4) والله
أكبر ولا حول ولا قوة الا بالله (ثم قال) اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له، فان توضأ
وصلى قبلت صلاته)) *
قال علي: فهذه إباحة لذكر الله تعالى بعد الانتباه من النوم في الليل وقبل
الوضوء نصا، وهي فضيلة، والفضائل لا تنسخ لأنها من نعم الله علينا، قال الله تعالى
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) وهذا أمر باق غير منسوخ بلا
خلاف من أحد. وقال تعالى (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فهذا
عموم ضمان لا يخيس (5)، قال الله تعالى (ان الله لا يخلف الميعاد)، وقد أيقنا بما ذكرنا
قبل من إخباره عليه السلام أنه قال (لا تزال طائفة من أمتي على الحق). ان جميع

(1) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن
(2) رواه مسلم وغيره
(3) بفتح التاء المثناة والعين المهملة والراء المشددة أي هب من نومه واستيقظ
(4) الزيادة في الموضعين من البخاري.
(5) بالخاء المعجمة والسين المهملة، يقال. خاس فلان بوعده يخيس إذا
أخلف، وخاس بعهده إذا غدر ونكث
86

الأمة لا تغير أصلا، وإذا صح ان الأمة كلها لا تغير أبدا، فقد أيقنا ان الله تعالى
لا يغير نعمه عند الأمة أبدا. وبالله تعالى التوفيق.
وأما أمره عليه السلام بالوضوء فهو ندب، لما حدثناه حمام قال ثنا عمر بن مفرج (1)
قال ثنا ابن الاعرابي قال ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي
إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عائشة أم المؤمنين قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام
جنبا ولا يمس ماء) (2). وهذا لفظ يدل على مداومته صلى الله عليه وسلم لذلك وهي رضي الله عنها
أحدث الناس عهدا بمبيته ونومه جنبا وطاهرا *
فان قيل: إن هذا الحديث أخطأ فيه سفيان، لان زهير بن معاوية خالفه فيه. قلنا
بل أخطأ بلا شك (3) من خطأ سفيان بالدعوى بلا دليل، وسفيان أحفظ من زهير بلا
شك. وبالله تعالى التوفيق *
قال علي: وكان اللازم للقائلين بالقياس أن يقولوا: لما كانت الصلاة وهي ذكر
لا تجزئ إلا بوضوء أن يكون سائر الذكر كله كذلك، ولكن هذا مما تناقضوا فيه.
ولا يمكنهم ههنا دعوى الاجماع، لما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله محمد بن

(1) هنا رسم في النسخة اليمنية (مفرح) بالحاء المهملة ووضع الناسخ نقطة
تحت الحاء خارج دائراتها وهذه علامة التأكيد بأنها مهملة، فليراجع هذا فإنه
موضع نظر مع ما قلناه في هامش المسألة رقم 116
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
(3) القول ما قال المؤلف والحديث صحيح، والمحدثون إنما عللوه بتخطئة
أبي إسحاق - لا سفيان - في ذكر (ولا يمس ماء) قال البيهقي (وذلك لان
الحفاظ طعنوا في هذه اللفظة وتوهموها مأخوذة عن غير الأسود، وأن أبا إسحاق
ربما دلس فرأوها من تدليساته، واحتجوا على ذلك برواية إبراهيم النخعي
وعبد الرحمن بن الأسود عن الأسود بخلاف رواية أبي إسحاق). ثم ذكر
الروايات الأخرى التي فيها انه كان يتوضأ قبل الاكل أو النوم، ولا منافاة
بين هذه الروايات، فان الوضوء مستحب للجنب قبل الاكل أو النوم، والترك
لبيان الجواز.
87

عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد
ابن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: انه كان لا يقرأ القرآن ولا يرد السلام ولا
يذكر الله الا وهو طاهر *
إلا معاودة الجنب للجماع فالوضوء عليه فرض بينهما * للخبر الذي رويناه من
طريق حفص بن غياث وابن عيينة كلاهما عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن أبي
سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما
وضوءا)، هذا لفظ حفص بن غياث ولفظ ابن عيينة (إذا أراد أن يعود فلا
يعود حتى يتوضأ (1))، ولم نجد لهذا الخبر ما يخصصه ولا ما يخرجه إلى الندب إلا خبرا
ضعيفا من رواية يحيى بن أيوب، وبايجاب الوضوء في ذلك يقول عمر بن الخطاب
وعطاء وعكرمة وإبراهيم والحسن وابن سيرين *
119 مسألة والشرائع لا تلزم الا بالاحتلام أو بالانبات للرجل والمرأة أو
بانزال الماء الذي يكون منه الولد وان لم يكن احتلام أو بتمام تسعة عشر عاما كل ذلك
للرجل والمرأة أو بالحيض للمرأة *
برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن
شعيب ثنا أحمد بن عمر وبن السرح عن ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان
هو الأعمش عن أبي ظبيان عن عبد الله بن عباس، ان علي بن أبي طالب قال
لعمر بن الخطاب: أو ما تذكر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (رفع القلم عن ثلاث، عن
المجنون المغلوب على عقله وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم)
والصبي لفظ يعم الصنف كله الذكر والأنثى في اللغة التي بها خوطبنا. حدثنا حمام

(1) اللفظ الأول لفظ مسلم في الصحيح (ج 1 ص 98) وفيه (ثم أراد أن يعود)
والحديث رواه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وفي رواية ابن
حبان وابن خزيمة والحاكم والبيهقي زيادة (فإنه أنشط للعود) وهذه الزيادة
قرينة على صرف الامر إلى الندب
88

ابن أحمد ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن (1) ثنا عبد الله
ابن روح ثنا يزيد بن هارون ثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير عن
عطية القرظي قال: (لما كان يوم قريظة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنبت ضرب عنقه
فكنت فيمن لم ينبت فعرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى عنى (2)) *
قال علي لا معنى لمن فرق بين أحكام الانبات، فأباح سفك الدم به في الاسراء (3)
خاصة، جعله هنالك بلوغا ولم يجعله بلوغا في غير ذلك، لان من المحال أن يكون رسول
الله صلى الله عليه وسلم يستحل دم من لم يبلغ مبلغ الرجال ويخرج عن الصبيان الذين قد صح نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم. ومن الممتنع المحال أن يكون انسان واحد رجلا بالغا غير
رجل ولا بالغ معا في وقت واحد *
وأما ظهور الماء في اليقظة الذي يكون منه المحل فيصير به الذكر أبا والأنثى أما
فبلوغ لا خلاف فيه من أحد.
وأما استكمال التسعة عشر عاما فاجماع متيقن، وأصله أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورد المدينة وفيها صبيان وشبان وكهول، فألزم الأحكام
من خرج عن الصبا إلى الرجولة، ولم يلزمها الصبيان، ولم يكشف أحدا من كل من
حواليه من الرجال: هل احتلمت يا فلان؟ وهل أشعرت؟ وهل أنزلت؟ وهل حضت
يا فلانة؟ هذا أمر متيقن لا شك فيه، فصح يقينا أن ههنا سنا إذا بلغها الرجل
أو المرأة فهما ممن ينزل أو ينبت أو يحيض، إلا أن يكون فيهما آفة تمنع من ذلك،

(1) في اليمنية (ثنا محمد بن عبد الملك بن عمير عن أيمن) وهو خطأ فاحش
واضح والصواب ما هنا، ومحمد هذا هو الحافظ الكبير الإمام أبو عبد الله القرطبي
(252 330) وترجمة في تذكرة الحفاظ (ج 3 ص 53)
(2) الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطيالسي
وقال الترمذي (حسن صحيح).
(3) في اللسان (الأسير المسجون والجمع أسراء وأسارى وأسارى وأسرى)
89

كما بالأطلس (1) آفة منعته من اللحية، لولاها لكان من أهل اللحى (2) بلا شك،
هذا أمر يعرف بما ذكرنا من التوقف وبضرورة الطبيعة الجارية في جميع أهل الأرض
ولا شك في أن من أكمل تسع عشرة سنة ودخل في عشرين سنة فقد فارق الصبا
ولحق بالرجال لا يختلف اثنان من أهل كل ملة وبلدة في ذلك وإن كانت به آفة
منعته من إنزال المنى في أو نوم يقظة ومن إنبات الشعر ومن الحيض *
وأما الحيض فحدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا
أبو سعيد بن الاعرابي ثنا محمد بن الجارود القطان ثنا عفان بن مسلم ثنا حماد
ابن زيد ثنا قتادة عن محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة أم
المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة حائض الا بخمار (3)) فأخبر
عليه السلام أن الحائض تلزمها الأحكام، وأن صلاتها تقبل على صفة ما ولا تقبل
على غيرها *
وقال الشافعي: من استكمل خمس عشرة سنة فهو بالغ، واحتج بأن رسول الله

(1) الأطلس من الذئاب الذي تساقط شعره وهو أخبث ما يكون
(2) لحى بكسر اللام وضمها وفتح الحاء مقصور، جمع لحية
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان
والحاكم. قال أبو داود: (رواه سعيد يعنى ابن أبي عروبة عن قتادة عن
الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرط
مسلم ولم يخرجاه وأظن أنه لخلاف فيه عن قتادة) ثم رواه من طريق ابن أبي
عروبة. وكأنهما يشيران إلى تعليل الموصول بالمرسل. وهو تعليل ضعيف فان
الطريقين مختلفان وحماد بن سلمة الذي رواه عن قتادة موصولا ثقة امام حجة
وقد أخطأ أبو محمد بن حزم هنا في ذكر حماد بن زيد عن قتادة، فان الحديث
حديث حماد بن سلمة كما هو مصرح به في سنن الترمذي وابن ماجة وعلل
الدارقطني، وكما يفهم من تصحيح الحاكم له على شرط مسلم لان حماد بن سلمة روى
له مسلم ولم يرو له البخاري، وأما ابن زيد فإنه روى له الشيخان ولو كان هو
لكان الحديث على شرطهما في اصطلاح الحاكم *
90

صلى الله عليه وسلم عرض عليه ابن عمر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه
يوم الخندق هو ورافع بن خديج وهما ابنا خمس عشرة سنة فأجازهما
قال علي: وهذا لا حجة له فيه لوجهين: أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل
إني أجزتهما من أجل أنهما ابنا خمس عشرة سنة، فذ ذلك كذلك فلا يجوز لاحد
أن يضيف إليه عليه السلام ما لم يخبر به عن نفسه (1)، وقد يمكن أن يجيزهما يوم
الخندق لأنه كان يوم حصار في المدينة نفسها، ينتفع فيه بالصبيان في رمى الحجارة
وغير ذلك، ولم يجزه يوم أحد لأنه كان يوم قتال بعدوا فيه عن المدينة فلا يحضره
إلا أهل القوة والجلد.
والوجه الثاني أنه ليس في هذا الخبر أنهما في تلك الساعة أكملا معا خمسة
عشر عاما لا بنص ولا بدليل كما قال الشافعي، ولا خلاف في أنه يقال في اللغة لمن بقي
عليه من ستة عشر عاما الشهر والشهران: هذا ابن خمسة عشر عاما، فبطل التعلق بهذا
الخبر جملة. وبالله تعالى التوفيق *
120 مسألة وإزالة النجاسة وكل ما أمر الله تعالى بإزالته فهو فرض

(1) الذي في كتب السير وتراجم الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم رد ابن
عمر غزوة أحد وأجازه في الخندق كما هنا. وأما رافع فقد رده يوم بدر وأجازه
يوم أحد فشهدها، انظر الإصابة (ج 2 ص 186) وغيرها وقال ابن هشام في السيرة (560): (وأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سمرة بن جندب الفزاري
ورافع بن خديج أخا بنى حارثة وهما ابنا خمس عشرة سنة وكان قد ردهما فقيل
له يا رسول الله ان رافعا رام فأجازه فلما أجاز رافعا قيل له يا رسول الله فان
سمرة يصرع رافعا فأجازه) وفي تاريخ الطبري (ج 3 ص 13) أنه أمرهما بالمصارعة
فتصارعا فصرع سمرة رافعا فأجاز. وفيه أيضا (ج 3 ص 12): (وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد استصغر رافعا فقام على خفين له فيهما رقاع وتطاول
على أطراف أصابعه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازه). وكل هذا
يؤيد أن سبب الإجازة ليس البلوغ أو السن وإنما هو القوة والقدرة على مخاطر
الحروب *
91

هذه المسألة تنقسم أقساما كثيرة يجمعها أن كل شئ أمر الله تعالى على لسان
رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتنابه أو جاء نص بتحريمه أو أمر كذلك بغسله أو مسحه، فكل ذلك
فرض يعصى من خالفه، لما ذكرنا قبل من أن طاعته تعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض.
وبالله تعالى التوفيق (1) *
121 مسألة فما كان في الخف أو النعل من دم أو خمر أو عذرة أو بول
أو غير ذلك فتطهيرهما بأن يمسحا بالتراب حتى يزول الأثر ثم يصلى فيهما، فان غسلهما
أجزأه إذا مسهما بالتراب قبل ذلك *
برهان ذلك أن كل ما ذكرنا من الدم والخمر والعذرة والبول حرام، والحرام
فرض اجتنابه لا خلاف في ذلك، حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن
عبد الملك بن أيمن ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ثنا سليمان بن حرب الواشحي (2)
ثنا حماد بن سلمة عن أبي نعامة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: (كان
النبي صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه فخلع نعليه فوضعهما عن يساره، فخلع القوم نعالهم، فلما
سلم قال: لم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل أتاني

(1) يحتاج هنا إلى البحث في حكم الصلاة مع وجود النجاسة الحقيقية في
الجسد أو الثوب أصحيحة هي أم باطلة. أما الآيات والأحاديث فالحق أنها تدل
على وجوب التطهر من النجاسات خلافا لمذهب مالك في أنه سنة. ولكن هل
هو شرط في صحة الصلاة والفرق واضح بين الفرض والواجب وبين الشرط
يظهر لنا أن المؤلف رحمه الله يميل إلى القول بأنه شرط وهو ظاهر القول في
المذاهب المعروفة ولكن أين الدليل على الشرطية؟ لم نر إلا أوامر فقط،
والامر للوجوب، لا نخالف فيه، وأنما الشرطية لا تثبت إلا بدليل يدل على
أن من صلى وثوبه أو بدنه نجس فصلاته باطل. وهذا ما لم نجده قط بعد التتبع.
بل وجدنا الأدلة متضافرة على صحة هذه الصلاة. وانظر تحقيق ذلك فيما كتبناه
على التحقيق لابن الجوزي في المسألة رقم 118 *
(2) بالشين المعجمة والحاء المهملة، ونسبة إلى واشح وهم بطن من الأزد من
قبائل الغطاريف نزلوا البصرة
92

فأخبرني أن فيهما قذرا. قال عليه السلام إذا جاء أحدكم إلى الصلاة فلينظر إلى
نعليه فإن كان فهيما قذر أو أذى فليمسحه وليصل فيهما (1)) أبو نعامة هو عبد ربه
السعدي، وأبو نضرة هو المنذر بن مالك العبدي (2) كلاهما ثقة *
حدثنا عبد الله بن الربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم. ثنا ابن الاعرابي ثنا
أبو داود ثنا أحمد بن إبراهيم حدثني محمد بن كثير عن الأوزاعي عن محمد بن عجلان
عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فمنن
وطئ الا ذي بخفيه فطهورهما التراب) (3)

(1) الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة ورواه
الدارمي عن حجاج بن منهال وأبي النعمان عن حماد بن سلمة. ورواه الحاكم
في المستدرك من طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة، وكذلك رواه البيهقي
من طريق حماد بن سلمة. ورواه أبو داود السجستاني في سننه عن موسى بن
إسماعيل المنقري التبوذكي عن حماد بن يزيد عن أبي نعامة. وهذا في رأينا خطأ
لاتفاق كل كل هؤلاء على أنه حماد بن سلمة، ولأنه لم يذكر في التراجم رواية لحماد
ابن زيد عن أبي نعامة بل الراوي عنه حماد بن سلمة وكذلك لم تذكر رواية
لموسى بن إسماعيل عن حماد بن زيد بل هو يروى عن حماد بن سلمة. ولعل
الخطأ من أبي داود أو من رواة كتابه، وقد صحح الحاكم الحديث على شرط مسلم
ووافقه الذهبي *
(2) أبو نضرة بفتح النون واسكان الضاد المعجمة. والعبدي بالعين والباء
والدال. وفى هامش النسخة اليمنية هنا ما نصه: (في التقريب العوقى بفتح المهملة
والواو ثم قاف انتهى وكأنه تصحف هنا على النساخ إلا أن الذي في الجامع لابن
الأثير العبدي كما هنا فينظر). وكلاهما صحيح فإنه أبو نضرة العبدي ثم العوقى كما في
تهذيب التهذيب، والعوقى بالعين المهملة والواو المفتوحتين وآخره قاف نسبة إلى
العوقة بطن من عبد القيس ومحله من محال البصرة قال ابن السمعاني في (النسب)
(يشبه أن تكون هذه القبيلة نزلت ذلك الموضع فنسب إليهم) وكذلك قال ياقوت *
(3) في الأصلين بحذف (وطئ) وهو خطأ ولفظ أبي داود (عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب). والحديث
رواه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال (صحيح على شرط
مسلم) وصححه النووي أيضا
93

قال علي: وروينا عن عروة بن الزبير فيمن أصاب نعليه الروث، قال يمسحهما
ولا يصلي فيهما، وعن الحسن البصري انه كان يمسح نعليه مسحا شديدا ويصلي
فيهما، وهو قول الأوزاعي وأبى ثور وأبي سليمان (1) وأصحابنا
قال علي: الغسل بالماء وغيره يقع عليه اسم مسح، تقول مسحت الشئ بالماء
وبالدهن، فكل غسل مسح وليس كل مسح غسلا، ولكن الخبر الذي رويناه من
طريق أبى داود ثنا أحمد بن إبراهيم ثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن ابن
عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(إذا وطئ أحدكم الأذى بخفه أو نعله فليمسهما التراب) (2) وهذا زائدا على
حديث أبي سعيد الخدري في المسح بيانا وحكما، فواجب أن يضاف الزائد إلى
الأنقص حكما، فيكون ذلك استعمالا لجميع الآثار، لان من استعمل حديث أبي هريرة
لم يخالف خبر أبي سعيد، ومن استعمل خبر أبي سعيد خالف خبر أبي هريرة
وقال مالك والشافعي لا تجرئ إزالة النجاسة حيث كانت الا بالماء حاشا العذرة
في المقعدة خاصة والبول في الإحليل خاصة فيزالان بغير الماء، وهذا مكان تركوا في
أكثره النصوص كما ذكرنا في هذا الباب وغيره، ولم يقيسوا سائر النجاسات على
النجاسة في المقعدة والإحليل وهما أصل النجاسات. قال علي: وهذا خلاف لهذه
النصوص المذكورة وللقياس *
وقال أبو حنيفة: إذا أصاب الخف أو النعل روث فرس أو حمار أو أي روث كان
فإن كان أكثر من قدر الدرهم البغلي لم يجز أن يصلي به، وكذلك ان أصابهما عذرة
انسان أو دم أو مني فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل أجزأت الصلاة به، فإن كان كل
ما ذكرنا يابسا أجزأه أن يحكه فقط ثم يصلى به، وإن كان شئ من ذلك رطبا لم تجزه

(1) في اليمنية (وأبي موسى)
(2) لم أجد هذا اللفظ في سنن أبي داود
94

الصلاة به الا أن يغسله بالماء، فان أصاب الخف بول انسان أو حمار أو مالا يؤكل
لحمه فإن كان أكثر من قدر الدرهم البغلي لم تجزه الصلاة به، ولم يجوزه فيه مسح أصلا،
ولا بد من الغسل بالماء كان يابسا أو رطبا، فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل جاز أن
يصلي به وان لم يغسله ولا مسحه، قال: وأما بول الفرس فالصلاة به جائزة ما لم يكن
كثيرا فاحشا، وكذلك بول ما يؤكل لحمه، ولم يحد في الكثير الفاحش من ذلك حدا
فإن كان فيهما خرؤ مالا يؤكل لحمه من الطير أو ما يؤكل لحمه منها وكان أكثر من
قدر الدرهم فالصلاة به جائزة ما لم يكن كثيرا فاحشا، فإن كان كل ذلك في الجسد
لم تجز ازالته الا بالماء، وأما ما كان من ذلك في الثوب فتجزئ ازالته بالماء وغيره
من المائعات كلها! وهذه أقوال ينبغي حمد الله تعالى على السلامة عند سماعها. وبالله
تعالى التوفيق *
وأعجب من ذلك انهم لم يتعلقوا بالنصوص الواردة في ذلك البتة، ولا قاسوا
على شئ من النصوص في ذلك، ولا قاسوا النجاسة في الجسد على النجاسة في الجسد
وهي العذرة في المخرج والبول في الإحليل، ولا قاسوا النجاسة في الثياب على الجسد،
ولا تعلقوا في أقوالهم في ذلك بقول أحد من الأمة قبلهم، ويسألون قبل كل شئ:
أين وجدوا تغليظ بعض النجاسات وتخفيف بعضها؟ أفي قرآن أو سنة أو قياس!
اللهم إلا أن الذي قد جاء في ازالته التغليظ قد خالفوه كالإناء يلغ فيه الكلب
وكالعذرة فيما يستنجى فيه فقط *
122 مسألة وتطهير القبل والدبر من البول والغائط والدم من الرجل والمرأة
لا يكون الا بالماء حتى يزول الأثر، أو بثلاثة أحجار متغايرة فإن لم ينق فعلى الوتر
أبدا يزيد كذلك حتى ينقى، لا أقل من ذلك، ولا يكون في شئ منها غائط
أو بالتراب أو الرمل بلا عدد، ولكن ما أزال الأثر فقط على الوتر ولا بد، ولا يجزئ
أحدا أن يستنجى بيمينه ولا وهو مستقبل القبلة، فان بدأ بمخرج البول أجزأت
تلك الأحجار بأعيانها لمخرج الغائط، وان بدأ بمخرج الغائط لم يجزه من تلك
الأحجار لمخرج البول إلا ما كان لا رجيع عليه فقط *
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا احمد
95

ابن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثن محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي
ثنا سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور بن المعتمر كلاهما عن إبراهيم النخعي
عن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان الفارسي قال: (قال لنا المشركون: انى أرى
صاحبكم يعلمكم كل شئ حتى (يعلمكم) (1) الخراءة فقال سلمان أجل، انه نهانا
أن يستنجى أحدنا بيمينه أو يستقبل (2) القبلة ونهانا عن الروث والعظام، وقال:
لا يستنجي (3) أحدكم بدون ثلاثة أحجار) *
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد
ابن وضاح ثنا موسي بن معاوية ثنا وكيع بن الجراح عن الأعمش عن إبراهيم النخعي
عن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان الفارسي (ان بعض المشركين قال له: انى لأرى
صاحبكم يعلمكم حتى الخراءة قال أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، ولا نستنجي
بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيهن رجيع ولا عظم) *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا إسحاق بن
إبراهيم هو ابن راهويه ثنا أبو معاوية ثنا الأعمش عن إبراهيم عن عبد
الرحمن بن يزيد عن سلمان الفارسي قال: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نستقبل
القبلة لغائط أو بول أو نستنجي بأيماننا أو نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار) *
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا أحمد بن سعيد ثنا عبيد (4) الله بن يحيي
بن يحيي ثنا أبي ثنا مالك عن ابن شهاب عن أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا استجمرت فأوتر) *
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري
ثنا البخاري ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة

(1) لفظ (يعلمكم) زدناه من صحيح مسلم ج 1 ص 88
(2) في الأصل (مستقبل) بالميم وصححناه من مسلم *
(3) هكذا هو في الأصول وفى صحيح مسلم في جميع نسخه، وله وجه
في العربية *
(4) بالتصغير وفى النسخة المصرية بالتكبير وهو خطأ *
96

سمع أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء (1) فأحمل أنا وغلام (2)
إدواة من ماء وعنزة يستنجى بالماء) *
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا احمد
ابن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا قتيبة بن سعيد ثنا إسماعيل هو
ابن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا) ورويناه أيضا من طريق
جابر مسندا *
وقال أبو حنيفة ومالك بأي شئ استنجي دون عدد فأنقى أجزأه، وهذا خلاف
ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نهى أن يكتفى أحد بدون ثلاثة أحجار وأمر بالوتر في
الاستجمار وما نعلم لهم متعلقا الا أنهم ذكروا اثرا فيه: ان عمر رضي الله عنه كان
له عظم أو حجر يستنجي به ثم يتوضأ ويصلى، وهذا لا حجة فيه، لأنه شك: اما
حجر واما عظم، وقد خالفوا عمر في المسح على العمامة وغير ذلك، ولو صح لكان
لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما وقد خالفه سلمان وغيره من الصحابة
رضي الله عنهم، فأخبروا ان حكم الاستنجاء هو ما علمهم إياه رسول الله صلى الله
عليه وسلم من ألا يكتفى بدون ثلاثة أحجار) *
فان قيل: امره عليه السلام بثلاثة أحجار هو للغائط والبول معا، فوقع لكل
واحد منهما أقل من ثلاثة أحجار. قلنا: هذا باطل لان النص قد ورد بأن لا نستنجي
بأقل من ثلاثة أحجار ومسح البول لا يسمى استنجاء، فحصل النص في الاستنجاء
والخراءة أن لا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار، وحصل النص مجملا في أن لا يجزئ

(1) في النسخة المصرية (إذا دخل الخلاء) وما هنا هو الموافق لليمنية
ولصحيح البخاري (ج 1 ص 28) *
(2) في النسخة اليمنية (وأنا غلام) بتقديم الواو، وما هنا هو الموافق
للمصرية وللبخاري
97

أقل من ثلاثة أحجار على البول نفسه وعلى النجو (1) فصح ما قلناه *
ومسح البول باليمين جائز، وكذلك مستقبل القبلة، لأنه لم ينه عن ذلك في البول،
وإنما نهى في الاستنجاء فقط *
وقال الشافعي ثلاث مسحات بحجر واحد، وأجاز الاستنجاء بكل شئ حاشا
العظم والروث والحممة (2) والقصب والجلود التي لم تدبغ، وهذا أيضا خلاف لأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يكتفى بأقل من ثلاثة أحجار *
فان قالوا: قسنا على الأحجار، قلنا لهم: فقيسوا على التراب في التيمم
ولا فرق. *
فان ذكروا حديثا رواه ابن أخي الزهري مسندا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (إذا تغوط أحدكم فليتمسح ثلاث مرات) * قيل: ابن أخي الزهري
ضعيف والذي رواه عنه محمد بن يحيى الكناني وهو مجهول (3) ولو صح لما كانت فيه حجة
لأنه ليس فيها أن تلك المسحات تكون بحجر واحد، فزيادة هذا لا تحل *
وأما من قال: إن حديث (من استجمر فليوتر) معارض لحديث الثلاثة
الأحجار. قلنا هذا خطأ، بل كل حديث منها قائم بنفسه، فلا يجزئ من الأحجار

(1) بفتح النون واسكان الجيم وهو العذرة *
(2) بضم الحاء وبالميمين. قال في اللسان. (الحمم الفحم واحدته حممة. والحمم
الرماد والفحم وكل ما احترق من النار) وهو المراد هنا
(3) هو أبو غسان محمد بن يحيى بن علي بن عبد الحميد. روى عنه كثير
وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له البخاري. قال ابن حجر: (قال
الحافظ أبو بكر بن مفوز الشاطى كان أحد الثقات المشاهير يحمل الحديث
والأدب والتفسير ومن بيت علم ونباهة. قلت: هذا الكلام راد على ابن حزم
في دعواه أن أبا غسان مجهول. ولفظ ابن حزم: محمد بن يحيى الكناني مجهول.
فلعله ظنه آخر) اه‍ كلام ابن حجر وأما ابن أخي الزهري فهو محمد بن عبد الله
ابن مسلم. وهو ثقة روى له البخاري حديثين. ومسلم استشهادا وكان في حفظه
شئ وأنكروا عليه بعض أحاديث انفرد بها ليس هذا منها *
98

الا ثلاثة لا رجيع فيها، ويجزئ من التراب الوتر، ولا يجزئ غير ذلك من كل
ما لا يسمى أرضا الا الماء *
فإن كان على حجر نجاسة غير الرجيع أجزأ ما لم يأت عنه نهى (1). وممن جاء
عنه ألا يجزئ الا ثلاثة أحجار سعيد بن المسيب والحسن وغيرهما *
فان ذكر ذاكر حديثا رويناه من طريق ابن الحصين الحبراني عن أبي سعيد أو
أبى سعد عن أبي هريرة مسندا: (من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا
فلا حرج) فان ابن الحصين مجهول وأبو سعيد أو أبو سعد الخير كذلك (2) *

(1) هذا خلط من المؤلف أن لا يرى جواز الاستجمار بغير جنس الأرض
إذا كان طاهرا وهو يجيزه بحجر عليه نجاسة، فان المقصود للشارع التطهير
والنظافة لا النجاسة والقذر.
رواه أبو داود في سننه عن إبراهيم بن موسى الرازي عن عيسى بن
يونس عن ثور عن الحصين الحبراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة. ورواه ابن
ماجة عن محمد بن بشار وعبد الرحمن بن عمر عن عبد الملك بن الصباح عن ثور
ابن يزيد عن حصين الحميري عن أبي سعيد الخير عن أبي هريرة. وقال أبو داود
بعد روايته: (رواه أبو عاصم عن ثور قال حصين الحميري. ورواه عبد الملك
ابن الصباح عن ثور فقال أبو سعيد الخير، قال أبو داود، أبو سعيد الخير من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). والحبراني بضم الحاء المهملة واسكان الباء
الموحدة. وحبران بطن من حمير. وحصين هذا ذكره ابن حبان في الثقات
وقال الذهبي لا يعرف. وقد أخطأ المؤلف هنا في تسميته (ابن الحصين). وأما
أبو سعيد أو أبو سعد فقد اختلف فيه فظن بعضهم أنهما واحد والصحيح أن
راوي هذا الحديث هو أبو سعيد الحبراني الحميري الحمصي وهو مجهول كما قال
أبو زرعة. قال حجر في التهذيب (الصواب التفريق بينهما فقد نص
على كون أبى سعد الخير صحابيا البخاري وأبو حاتم وابن حبان والبغوي وابن
قانع وجماعة. وأما أبو سعيد الحبراني فتابعي قطعا، وإنما وهم بعض الرواة فقال
في حديثه عن أبي سعد الخير ولعله تصحيف وحذف)
99

فان ذكروا حديث ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ابغني
أحجارا فأتيته بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس) فهذا
لا حجة فيه لأنه ليس في الحديث أنه عليه السلام اكتفى بالحجرين، وقد صح أمره
عليه السلام له بأن يأتيه بأحجار، فالامر باق لازم لابد من إبقائه، وعلى أن هذا
الحديث قد قيل فيه: ان أبا إسحاق دلسه، وقد رويناه من طريق أبي إسحاق
عن علقمة وفيه: (ابغني ثالثا (1)) *
فان قيل: إنما نهى عن العظم والروث لأنهما زاد إخواننا من الجن. قلنا: نعم
فكان ماذا؟ بل هذا موجب أن المستنجي بأحدهما عاص مرتين: إحداهما خلافه
نص الخبر، والثاني تقديره زاد من نهي عن تقذير زاده، والمعصية لا تجزئ بدل
الطاعة، وممن قال لا يجزئ بالعظم ولا باليمين الشافعي وأبو سليمان وغيرهما *
123 مسألة وتطهير بول الذكر أي ذكر كان في اي شئ كان فبأن يرش
الماء عليه رشا يزيل اثره، وبول الأنثى يغسل، فإن كان البول في الأرض أي بول
كان فبأن يصب الماء عليه صبا يزيل اثره فقط *
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا أحمد بن الفضل الدينوري (2) ثنا محمد
ابن جرير ثنا عمرو بن علي ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا يحيى بن الوليد عن محل (3)

(1) رواية علقمة هذه رواها أحمد في المسند من طريق معمر عن أبي إسحاق
عن علقمة عن ابن مسعود في هذا الحديث وفيه: (فألقى الروثة وقال: إنها
ركس ائتني بحجر) ورجاله ثقات أثبات. وانظر كلامنا تفصيلا على هذا الحديث
في شرحنا للتحقيق لابن الجوزي في المسألة رقم 28 *
(2) قال ابن الفرضي: (قدم الأندلس سنة 341 وكان يكتب كتابا ضعيفا
لزم محمد بن جرير يعني الطبري وخدمه وتحقق به وسمع منه. وكان عنده
مناكير). وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى (لقد كان بمصر يلعب به الاحداث
ويسرقون كتبه وما كان ممن يكتب عنه توفي في المحرم سنة 349) نقل ذلك
ابن حجر في اللسان
(3) بضم الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام
100

بن خليفة الطائي ثنا أبو السمح قال: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأتي بحسن أو حسين فبال على صدره فدعا بماء فرشه عليه ثم قال عليه السلام:
هكذا يصنع يرش من الذكر ويغسل من الأنثى) (1) *
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا
البخاري ثنا عبد الله بن يوسف ثنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله
ابن عتبة عن أم قيس بنت محصن: (انها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام فأجلسه
رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجره فبال على ثوب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فدعا عليه السلام بماء فنضحه ولم يغسله) *
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا
البخاري ثنا موسي بن إسماعيل ثنا همام هو ابن يحيى ثنا إسحاق هو ابن
عبد الله بن أبي طلحة عن انس بن مالك: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى اعرابيا يبول في المسجد فدعا بماء فصبه عليه).
قال علي: ليس تحديد ذلك بأكل الصبي الطعام من كلام رسول الله صلى الله عليه
وسلم (2)، وممن فرق بين بول الغلام وبول الجارية أم سلمة أم المؤمنين وعلي بن

(1) رواه أبو داود بلفظ (أتى بحسن أو حسين فبال على صدره فجئت
أغسله فقال يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام) ورواه الحاكم في
المستدرك بلفظ: (فأرادوا أن يغسلوه فقال رشوه رشا فإنه يغسل بول الجارية
ويرش بول الغلام) وصححه ووافقه الذهبي، ورواه أيضا البزار والنسائي وابن
ماجة وابن خزيمة وقال البخاري (حديث حسن) وأبو السمح هو مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وخادمه. قال أبو زرعة (لا أعرف اسمه ولا أعرف له
غير هذا الحديث)
(2) ولكنهم فقهوا ذلك من لفظه واشارته، فقد قال في حديث أبي السمح
(الغلام) والرواية التي ذكرها المؤلف بلفظ (الذكر) فيها ضعف من قبل
أحمد بن الفضل الدينوري، وقد روى أحمد والترمذي من حديث علي بن أبي طالب
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية
يغسل) وحسنه الترمذي. والمطلق يحمل على المقيد، وبخاصة للتشديد من الشارع
في الاحتراز من البول والتوعد من أجله، فيجب أن نقتصر على ما ورد ولا نتوسع فيه
101

أبى طالب، ولا مخالف لهما من الصحابة رضي الله عنهم، وبه يقول قتادة والزهري،
وقال: مضت السنة بذلك، وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وإبراهيم النخعي
وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور
وداود بن علي وابن وهب وغيرهم. الا انه قد روى عن الحسن وسفيان التسوية
بين بول الغلام والجارية في الرش عليهما جميعا. وقال أبو حنيفة ومالك والحسن بن
حي: يغسل بول الصبي كبول الصبية، وما نعلم لهم متعلقا لا من قرآن ولا من سنة
ولا من قول صاحب، نعم ولا عن أحد من التابعين، الا ان بعض المتأخرين
ذكر ذلك عن النخعي، والمشهور عنه خلاف ذلك، وقوله عن سعيد بن المسيب:
الرش من الرش والصب من الصب من الأبوال كلها، وهذا نصا (1) خلاف قولهم.
وبالله تعالى التوفيق *
124 مسألة وتطهير دم الحيض أو أي دم كان سواء دم سمك كان أو غيره
إذا كان في الثوب أو الجسد فلا يكون الا بالماء، حاشا دم البراغيث ودم الجسد، فلا
يلزم تطهيرهما إلا ما لا حرج في غسله على الانسان، فيطهر المرء ذلك حسب
ما لا مشقة عليه فيه *
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا
أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شبية وأبو
كريب قالا جميعا ثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت (جاءت
فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله اني امرأة أستحاض فلا
أطهر أفأدع الصلاة؟ قال لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة
فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي) وهذا عموم منه صلى الله عليه

(1) كذا في المصرية وفي اليمنية (أيضا)
102

وسلم لنوع الدم (1) ولا نبالي بالسؤال إذا كان جوابه عليه السلام قائما بنفسه غير
مردود بضمير إلى السؤال
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا
البخاري ثنا محمد بن المثنى ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان عن هشام بن عروة
حدثتني فاطمة هي بنت المنذر بن الزبير عن أسماء هي ابنة أبى بكر الصديق
قالت (أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع
قال: تحته ثم تقرصه (2) بالماء وتنضحه وتصلى فيه).
ويستحب أن تستعمل في غسل المحيض شيئا من مسك، حدثنا عبد الرحمن
ابن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا. يحيى ثنا
ابن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه عن عائشة: (ان امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم
عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل قال: خذي فرصة من مسك (3) فتطهري

(1) هنا بهامش اليمنية ما نصه (بل الأظهر أنه يريد دم الحيض. واللام
للعهد الذكرى الدال عليه ذكر الحيضة والسياق فهو كعود الضمير سواء فلا
يتم قوله: وهذا عموم الخ) وهو استدراك واضح صحيح
(2) قال ابن حجر في الفتح. (بالفتح واسكان القاف وضم الراء والصاد
المهملتين كذا في روايتنا. وحكى القاضي عياض وغيره فيه الضم وفتح القاف
وتشديد الراء المكسورة أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك
ويخرج ما تشربه الثوب منه)
(3) الفرصة بكسر الفاء ويجوز تثليثها قطعة من صوف أو قطن. والمسك
بكسر الميم معروف، وفي بعض نسخ البخاري بفتحها وتأوله الشراح كثيرا وكله
تكلف والصواب الكسر، ويدل عليه ترجمة البخاري على الحديث بقوله (وتأخذ
فرصة ممسكة) ثم رواه من طريق وهيب عن منصور بلفظ (خذي فرصة
ممسكة) وهي الرواية التي أتى بها المؤلف هنا من صحيح مسلم. والروايات
يفسر بعضها بعضا
103

بها قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله تطهري، فاجتبذتها إلى فقلت تتبعي بها
أثر الدم (1) *
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا
أحمد بن محمد بن أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أحمد بن سعيد الدارمي ثنا
حبان هو ابن هلال ثنا وهيب ثنا منصور هو ابن صفية عن أمه عن عائشة
(ان امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أغتسل عند الطهر؟ فقال: خذي فرصة ممسكة
فتوضئي بها) ثم ذكر نحو حديث سفيان *
قال علي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تتطهر بالفرصة المذكورة وهي القطعة وأن
تتوضأ بها، وإنما بعثه الله تعالى مبينا ومعلما، فلو كان ذلك فرضا لعلمها عليه السلام
كيف تتوضأ بها أو كيف تتطهر، فلما لم يفعل كان ذلك غير واجب مع صحة الاجماع
جيلا بعد جيل على أن ذلك ليس واجبا، فلم تزل النساء في كل بيت ودار على عهده
صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يتطهرن من الحيض، فما قال أحد إن هذا فرض. ويكفى من هذا
كله أنه لم تسند هذه اللفظة الا من طريق إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف، ومن طريق
منصور بن صفية وقد ضعف (2) وليس ممن يحتج بروايته (3) فسقط هذا الحكم جملة
والحمد لله رب العالمين *
وكل ما أمرنا الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فيه بالتطهير أو الغسل فلا يكون الا بالماء
أو بالتراب ان عدم الماء، الا أن يأتي نص بأنه بغير الماء فنقف عنده، لما حدثناه عبد

(1) الرواية في الأصلين. (خذي فرصة من مسك فتطهري بها قلت كيف
أتطهر قال تطهري بها قلت كيف أتطهر قال سبحان الله تطهري) الخ والذي
أخذناه هنا هو رواية البخاري في الصحيح فلعل المؤلف رواه من حفظه
فأخطأ فيه (2) في اليمنية (وهو ضعيف ليس) الخ
(3) أما إبراهيم بن المهاجر فروايته في صحيح مسلم وهو ثقة لا بأس به
وثقة ابن سعد وقال ابن حبان هو كثير الخطأ. واما منصور بن صفية فأبوه
عبد الرحمن بن طلحة الحجبي وأمه صفية بنت شيبة وهو ثقة روى له الشيخان
كما ترى، ولم أجد أحدا ضعفه قبل ابن حزم ولا أرى له حجة في هذا
104

الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا
أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قال
أبو بكر ثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي، وقال أبو كريب ثنا ابن أبي
زائدة هو يحيى بن زكريا عن أبي مالك هو سعد بن طارق عن ربعي بن حراش
عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فضلنا على الناس بثلاث) فذكر فيها
(وجعلت لن الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) ولا شك
في أن كل غسل مأمور به في الدين فهو تطهر وليس كل تطهر غسلا. فصح انه لا طهر
الا بالماء أو بالتراب عند عدم الماء *
وقال أبو حنيفة: دم السمك كثر أو قل لا ينجس الثوب ولا الجسد ولا الماء،
ودم البراغيث والبق كذلك، وأما سائر الدماء كلها فان قليلها وكثيرها يفسد الماء،
وأما في الثوب والجسد: فإن كان في أحدهما منه مقدار الدرهم البغلي فأقل فلا ينجس
ويصلي به وما كان منه أكثر من قدر الدرهم البغلي فإنه ينجس وتبطل به الصلاة، فإن كان
في الجسد فلا يزال الا بالماء، وإذا كان في الثوب فإنه يزال بالماء وبأي شئ أزاله
من غير الماء، فإن كان في خف أو نعل فإن كان يابسا أجزأ فيه الحك فقط، وإن كان
رطبا لم يجزئ الا الغسل بأي شئ غسل *
وقال مالك: إزالة ذلك كله ليس فرضا، ولا يزال الا بالماء. وقال الشافعي:
ازالته فرض ولا يزال الا بالماء *
قال علي: قال الله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقال تعالى:
(لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وقال تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)
وبالضرورة ندري انه لا يمكن الانفكاك من دم البراغيث ولا من دم الجسد، فإذ
ذلك كذلك فلا يلزم من غسله الا مالا حرج فيه ولا عسر مما هو في الوسع *
وفرق بعضهم بين دم ماله نفس سائلة ودم ما ليس له نفس سائلة، وهذا خطأ
لأنه قول لم يأت به قرآن ولا سنة ولا اجماع ولا قول صاحب ولا قياس *
وفرق بعضهم بين الدم المسفوح وغير المسفوح، وتعلقوا بقوله تعالى (أو دما مسفوحا)
105

وقد قال تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) فعم تعالى كل دم وكل ميتة،
فكان هذا شرعا زائدا على الآية الأخرى، ولم يخص تعالى من تحريم الميتة ما لها نفس
سائلة مما لا نفس سائلة لها *
وتعلق بعضهم في الدرهم البغلي بحديث ساقط، ثم لو صح لكان عليهم، لان فيه
الإعادة من قدر الدرهم، بخلاف قولهم. وقال بعضهم: قيس على الدبر، فقيل لهم: فهلا
قستموه على حرف الإحليل ومخرج البول وحكمهما في الاستنجاء سواء، وقد تركوا
قياسهم هذا إذ لم يروا إزالة ذلك من الجسد بما يزال به من الدبر. وأما من لم ير
غسل ذلك فرضا فالسنن التي أوردناها مخالفة لقوله. وبالله تعالى التوفيق.
125 مسألة والمذي تطهيره بالماء يغسل مخرجه من الذكر وينضح بالماء
ما مس منه الثوب. قال مالك يغسل الذكر كله *
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم ثنا ابن وضاح
ثنا يحيى بن يحيى ثنا مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن سليمان بن
يسار عن المقداد بن الأسود (ان علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الرجل إذا دنا من امرأته فخرج منه المذي (1)، قال فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ذلك، فقال إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه (بالماء) (2) وليتوضأ وضوءه للصلاة
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن مفرج ثنا ابن السكن ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا
أبو الوليد هو الطيالسي ثنا زائدة عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي عن
علي بن أبي طالب قال: (كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان
ابنته فسأل فقال: توضأ واغسل ذكرك) *
حدثنا حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا

(1) في الموطأ ص (14): (إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه؟
قال علي: فان عندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أستحيي أن أسأله،
قال المقداد: فسألت) الخ
(2) الزيادة من الموطأ، وفي اليمنية (فليغسل ذكره) وما هنا هو
الموافق للموطأ
106

بكر بن حماد ومحمد بن وضاح قال بكر ثنا مسدد ثنا حماد بن زيد، وقال ابن وضاح ثنا
أبو بكر بن أبي شيبة قال ثنا إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون، ثم اتفق حماد
وإسماعيل ويزيد كلهم عن محمد بن إسحاق ثنا سعيد بن عبيد بن السباق عن أبيه عن
سهل بن حنيف قال حماد في حديثه (كنت ألقى من المذي شدة فكنت أكثر
الغسل منه) ثم اتفقوا كلهم قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال: يكفيك
منه الوضوء، قلت: أرأيت ما يصيب ثوبي منه؟ قال: يأخذ كفا من ماء فتنضح
ثوبك حيث ترى أنه أصابه) (1)
قال علي: غسل مخرج المذي من الذكر يقع عليه اسم غسل الذكر، كما يقول
القائل إذا غسله: غسلت ذكري من البول، فزيادة ايجاب غسل كله شرع لا دليل
عليه، وقال بعضهم: في ذلك تقليص (2) فيقال له: فعانوا ذلك بالقوابض من
العقاقير اذن فهو أبلغ *
وهذا الخبر يرد على أبي حنيفة قوله: ان النجاسات لا تزال من الجسد الا بالماء
وتزال من الثياب بغير الماء. فان تعلقوا بأن عائشة رضي الله عنها كانت تجيز إزالة
دم الحيض من الثوب بالريق، قيل لهم فان ابن عمر كان يجيز مسح الدم من المحاجم
بالحصاة دون غسل، ولا حجة إلا فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم *
126 مسألة وتطهير الاناء إذا كان لكتابي من كل ما يجب تطهيره منه بالماء
وعلى كل حال إذا لم يجد غيرها سواء علمنا فيه نجاسة أو لم نعلم بالماء، فإن كان
اناء مسلم فهو طاهر، فان تيقن فيه ما يلزم اجتنابه فبأي شئ أزاله كائنا ما كان من

(1) رواه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن خزيمة. قال الترمذي
(هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه الا من حديث محمد بن إسحاق في المذي
مثل هذا. وقد اختلف أهل العلم في المذي يصيب الثوب. فقال بعضهم لا يجزئ
الا الغسل، وهو قول الشافعي وإسحاق، وقال بعضهم: يجزئه النضح، وقال احمد
أرجو أن يجزئه النضح بالماء) ج 1 ص 24. وفي اسناد الحديث محمد بن إسحاق
وهو قد يدلس ولكنه صرح بالتحديث فهو اذن حجة
(2) هذا القائل هو الطحاوي
107

الطاهرات الا أن يكون لحم حمار أهلي أو ودكه أو شحمه أو شيئا منه فلا يجوز أن
يطهر الا بالماء ولا بد *
حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد
ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر ثنا سعيد بن أبي عروبة عن
أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: (يا نبي الله انا
بأرض أهلها أهل كتاب تحتاج فيه إلى قدورهم وآنيتهم، فقال عليه السلام: لا تقربوها
ما وجدتم بدا، فإذا لم تجدوا بدا فاغسلوها بالماء واطبخوا واشربوا (1) *
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا
أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عباد وقتيبة قالا ثنا
حاتم هو ابن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الا كوع قال:
(خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر (ثم إن الله تعالى فتحها عليهم) (2)
فلما أمسى الناس (مساء) (3) اليوم الذي فتحت عليهم أو قدوا نيرانا كثيرة، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذه النيران على أي شئ توقدون؟ قالوا: على لحم قال:
(على) (4) أي لحم؟ قالوا (على) (4) لحم الحمر الانسية، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم أهريقوها واكسروها فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها
قال: أو ذاك)) *

(1) رواه أيضا البخاري ومسلم وغيرهما بمعناه
(2) هذه الجملة ليست من لفظ الحديث في صحيح مسلم وإنما هي من
المؤلف اختصارا لقصة الفتح
(3) زيادة من مسلم
(4) لفظ (على) في الموضعين لم يوجد في صحيح مسلم
(5) الذي في مسلم (فقال رجل أو يهريقوها ويغسلوها) وفى شرحه
المطبوع بهامشه في الآستانة: هكذا رواية مسلم بالجزم أي وليهريقوها
ويغسلوها، فالفعل مجزوم بلام الامر المحذوفة عند القائلين بجواز حذفها مطردا
في نحو قولك: قل له يفعل، وقول الشاعر محمد تفد نفسك كل نفس أي لتفد
حتى جعلوا منه قوله تعالى (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا)
أي ليقيموا وينفقوا. أو هو مجزوم لوقوعه في جواب أمر محذوف تقديره
أو قل لهم أهريقوها واغسلوها يهريقوها ويغسلوها اه‍
108

قال علي: قد قدمنا أن كل غسل أمر به في الدين فهو تطهير، وكل تطهير فلا يكون
إلا بالماء. وبالله تعالى التوفيق *
ولا يجوز أن يقاس تطهير الاناء من غير ما ذكرنا من الحمر الأهلية على تطهيره
من لحوم الحمر لان النصوص اختلفت في تطهير الآنية من الكلب ومن لحم الحمار
فليس القياس على بعضها أولى من القياس على بعض، لو كان القياس حثا، ولا
يجوز أن يضاف إلى ما حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يحكم، لأنه يكون
قولا عليه ما لم يقل، أو شرعا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى. والوقوف عند أوامره
عليه السلام أولى من الوقوف عند الدرهم البغلي، وتلك الفروق الفاسدة
وبالله تعالى التوفيق *
127 مسألة فان ولغ في الاناء كلب أي اناء كان وأي كلب كان كلب
صيده أو غيره صغيرا أو كبيرا فلفرض اهراق ما في ذلك الاناء كائنا ما كان ثم
يغسل بالماء سبع مرات ولا بد أولاهن بالتراب مع الماء ولا بد، وذلك الماء الذي يطهر
به الاناء طاهر حلال، فان اكل الكلب في الاناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه
أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء ولا هرق ما فيه البتة وهو حلال طاهر كله كما كان،
وكذلك لو ولغ الكب في بقعة في الأرض أو في يد انسان أو في مالا يسمى اناء فلا
يلزم غسل شئ من ذلك ولا هرق ما فيه والولوغ هو الشرب فقط (1) فلو مس

(1) كل هذا تغال ومبالغة في التمسك بالظاهر بدون نظر إلى معاني الشريعة
وما يتفق مع المعقول. فما حرم الله شيئا الا وهو قذر مؤذ، ولا حكم بنجاسة
شئ الا وكان مما تتجنبه الطباع النقية. وإزالة النجاسات واجب معقول المعنى
فمن العجيب اذن أن يفرق ابن حزم بين أكل الكلب من الاناء وبين شربه!
بل الأعجب أن يفرق بين الشرب وبين وقوع الكلب كله في الاناء! والكلب
قذر بكل حال، وقد ثبت من الطب الحديث أنه يحمل كثيرا من الأمراض
الخبيثة ينقلها للانسان، والتوقي منه ضروري، وهذا مصدق لما نفهم من معاني
الشريعة في هذا الباب. والنظافة من الايمان
109

لعاب الكلب أو عرقه الجسد أو الثوب أو الاناء أو متاعا ما أو الصيد ففرض إزالة
ذلك بما أزاله ماء كان أو غيره، ولا بد من كل ما ذكرنا الا من الثوب فلا
يزال الا بالماء *
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا احمد
ابن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا علي بن حجر السعدي ثنا علي بن مسهر
أنا الأعمش عن أبي رزين وأبى صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار) *
وبه إلى مسلم ثنا زهير بن حرب ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام بن حسان
عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (طهور
إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ان يغسله مرات أولاهن بالتراب)) *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو
داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا شعبة ثنا أبو التياح عن مطرف
ابن عبد الله بن الشخير عن ابن مغفل قال: (أمر (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقتل الكلاب ثم قال: ما لهم ولها؟ فرخص في كلب الصيد و (في) (2) كلب الغنم وقال
عليه السلام: إذا ولغ الكلب في الاناء فاغسلوه سبع مرات والثامنة عفروه بالتراب) (3)
قال علي: فأمر عليه السلام بهرق ما في الاناء إذا ولغ فيه الكلب، ولم يخص
شيئا من شئ: ولم يأمر عليه السلام باجتناب ما ولغ فيه في غير الاناء، بلا نهى عن
إضاعة المال، وقد جاء هذا الخبر بروايات شتى، في بعضها: (والسابعة بالتراب)
وفى بعضها: (إحداهن بالتراب)) وكل ذلك لا يختلف معناه، لان الأولى هي بلا

(1) الذي في أبي داود (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر) الخ
(2) زيادة من أبي داود
(3) رواه أيضا مسلم والنسائي وابن ماجة
110

شك احدى الغسلات، وفي لفظة (الأولى) بيان أيتهن هي، فمن جعل التراب في
أولاهن فقد جعله في إحداهن بلا شك واستعمل اللفظتين معا، ومن جعله في غير
أولاهن فقد خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون ذلك في أولاهن وهذا لا يحل،
ولا شك ندري أن تعفيره بالتراب في أولاهن تطهير ثامن إلى السبع غسلات، وان
تلك الغسلة سابقة لسائرهن إذا جمعن، وبهذا تصح الطاعة لجميع ألفاظه عليه السلام
المأثورة في هذا الخبر، ولا يجزئ بدل التراب غيره، لأنه تعد لحد رسول الله صلى
الله عليه وسلم (1)
والماء الذي يغسل به الاناء طاهر، لأنه لم يأت نص باجتنابه، ولا شريعة
الا ما أخبرنا بها عليه السلام، وما عدا ذلك فهو مما لم يأذن الله تعالى به، والماء
حلال شربه طاهر فلا يحرم الا بأمر منه عليه السلام (2)
وأما ما أكل فيه الكلب أو وقع فيه أو دخل فيه بعض أعضائه فلا غسل في
ذلك ولا هرق لأنه حلال طاهر قبل ذلك بيقين إن كان مما أباحه الله تعالى من
المطاعم والمشارب وسائر المباحات فلا ينتقل إلى التحريم والتنجيس الا بنص
لا بدعوى *
وأما وجوب إزالة لعاب الكلب وعرقه في أي شئ كان فلان الله تعالى حرم كل
ذي ناب من السباع، والكلب ذو ناب من السباع، فهو حرام، وبعض الحرام
حرام بلا شك، ولعابه وعرقه بعضه فهما حرام، والحرام فرض ازالته واجتنابه (3)

(1) ثبت في الطب ان بعض ما في لعاب الكلب من الأمراض لا علاج له
الا الدلك بالتراب
(2) معاذ الله أن يكون هذا الماء طاهرا وهو مما دل قوله صلى الله عليه
وسلم (طهور اناء أحدكم) على نجاسته بمعناه الظاهر الذي لا يحتاج إلى تأويل
وهو ماء قذر مستنكر
(3) اذن أفليس ما أكل منه الكلب من طعام أو وقع فيه من شراب
أو دخل فيه بعض أعضائه بقي فيه شئ من لعابه أو عرقه أو نتنه ويحرم تناوله
وتجب اراقته لذلك؟ اللهم غفرا
111

ولم يجز أن يزال من الثوب الا بالماء لقول الله تعالى (وثيابك فطهر) وقد قلنا إن
التطهير لا يكون الا بالماء وبالتراب عند عدم الماء *
وممن قال بقولنا في غسل ما ولغ فيه الكلب سبعا أبو هريرة، كما حدثنا يونس
ابن عبد الله ثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد ثنا أبو عبيد
القاسم بن سلام ثنا إسماعيل هو ابن علية عن أيوب السختياني عن محمد بن
سيرين عن أبي هريرة قال: إذا ولغ الكلب في الاناء غسل سبع مرات أولاهن أو
إحداهن بالتراب والهرمرة، وروينا عن الحسن البصري: إذا ولغ الكلب في الاناء
أهرقه واغسله سبع مرات، وبه يقول ابن عباس وعروة بن الزبير وطاوس وعمرو
ابن دينار، وقال الأوزاعي: ان ولغ الكب في إناء فيه عشرة أقساط (1) لبن يهرق
كله ويغسل الإناء سبع مرات إحداهن بالتراب، فان ولغ في ماء في بقعة صغيرة مقدار
ما يتوضأ به انسان فهو طاهر، ويتوضأ بذلك الماء ويغسل لعاب الكلب من الثوب
ومن الصيد *
قال علي ك قول الأوزاعي هو نفس قولنا، وبهذا يقول يعنى غسل الإناء من
ولوغ الكلب سبعا إحداهن بالتراب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو
عبيد وأبو ثور وداود وجملة أصحاب الحديث *
وقال الشافعي كذلك إلا أنه قال: إن كان الماء في الاناء خمسمائة رطل لم يهرق
لولوغ الكلب فيه، ورأي هرق ما عدا الماء وان كثر، ورأي أن يغسل من ولوغ
الخنزير في الاناء سبعا كما يغسل من الكلب، ولم ير ذلك في ولوغ شئ من السباع
ولا غير الخنزير أصلا *
قال علي: وهذا خطأ لان عموم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الامر بهرقه أولى أن يتبع، واما
قياس الخنزير على الكلب فخطأ ظاهر لو كان القياس حقا لان الكلب بعض السباع

(1) في اللسان (كل مقدار فهو قسط في الماء وغيره) وفيه أيضا
(والقسط الكوز عند أهل الأمصار والقسط مكيال وهو نصف صاع، والفرق
ستة أقساط. والمبرد: القسط أربعمائة واحد وثمانون درهما)
112

لم يحرم إلا بعموم تحريم لحوم السباع فقط، فكان قياس السباع وما ولغت فيه على
الكلب الذي هو بعضها والتي يجوز أكل صيدها إذا علمت: أولى من قياس
الخنزير على الكلب، وكما لم يجز أن يقاس الخنزير على الكلب في جواز اتخاذه وأكل صيده،
فكذلك لا يجوز أن يقاس الخنزير على الكلب في عدد غسل الإناء من ولوغه،
فكيف والقياس كله باطل *
وقال مالك في بعض أقواله: يتوضأ بذلك الماء وتردد (1) في غسل الإناء سبع
مرات، فمرة لم يره ومرة رآه، وقال في قول له آخر: يهرق الماء ويغسل الإناء سبع
مرات، فإن كان لبنا لم يهرق ولكن يغسل الإناء سبع مرات ويؤكل ما فيه، ومرة
قال: يهرق كل ذلك ويغسل الإناء سبع مرات *
قال علي: هذه تفاريق ظاهرة الخطأ. لا النص اتبع في بعضها، ولا القياس
اطرد فيها، ولا قول أحد من الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم قلد فيها *
وروى عنه أنه قال: إني لأراه عظيما أن يعمد إلى رزق من رزق الله فيهرق
من أجل كلب ولغ فيه *
قال علي فيقال لمن احتج بهذا القول: أعظم من ذلك أن تخالف أمر الله
على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بهرقه. وأعظم مما استعظمتموه أن يعمد إلى رزق من رزق الله
فيهرق من أجل عصفور مات فيه بغير أمر من الله بهرقه. فان قالوا: العصفور الميت
حرام، قلنا: نعم لم نخالفكم في هذا، ولكن المائع الذي مات فيه حلال، فتحريمكم
الحلال من أجل مماسته الحرام هو الباطل، إلا أن يأمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطاع
أمره، ولا يتعدى حده، ولا يضاف إليه ما لم يقل *
وقال أبو حنيفة: يهرق كل ملولغ فيه الكلب أي شئ كان كثر أم قل، ومن
توضأ بذلك الماء أعاد الوضوء والصلوات أبدا، ولا يغسل الإناء منه إلا مرة *

(1) في اليمنية (وترجح) وفي المصرية (ويرجح) وكلاهما فيما نظن خطأ نرجح
ان صوابه (وتردد) كما يقضى السياق
113

قال علي: وهذا قول لا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من التابعين، إلا أننا
روينا عن إبراهيم أنه قال فيما ولغ فيه الكلب: اغسله، وقال مرة: اغسله حتى
تنقيه، ولم يذكر تحديدا. وهو قول مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوردنا، وكفى
بهذا خطأ *
واحتج له بعض مقلديه بأن قال: إن أبا هريرة وهو أحد من روى هذا الخبر
قد روى عنه أنه خالفه *
قال علي: فيقال له: هذا باطل من وجوه، أحدها: انه إنما روى ذلك الخبر
الساقط عبد السلام بن حرب وهو ضعيف، ولا مجاهرة أقبح من الاعتراض على
ما رواه عن أبي هريرة ابن علية عن أيوب عن ابن سيرين النجوم الثواقب بمثل
رواية عبد السلام بن حرب (1)، وثانيها: أن رواية عبد السلام على

(1) أثر أبي هريرة رواه الطحاوي في معاني الآثار (ج 1 ص 13) من طريق
عبد السلام بن حرب عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن عطاء عن أبي
هريرة، ورواه الدارقطني في سننه (ص 24 و 25) من طريق اسحق الأزرق وابن
فضيل عن عبد الملك، فبرأ عبد السلام بن حرب من التفرد به، وعبد السلام
ثقة روى له الشيخان، وإنما حكم حفاظ الحديث بالخطأ فيه على عبد الملك بن
أبي سليمان، قال الدارقطني: (لم يروه هكذا غير عبد الملك عن عطاء) وقال
البيهقي في سننه الكبرى (1: 242) (وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن
محمد بن سيرين عن أبي هريرة فتواه بالسبع كما رواه، وفي ذلك دلالة على خطأ
رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة في الثلاث، وعبد الملك
لا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات) وقال ابن حجر في الفتح: (ثبت انه يعني أبا هريرة أفتى بالغسل سبعا،
ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرصح من رواية من روى عنه
مخالفتها، من حيث الاسناد ومن حيث النظر، أما النظر فظاهر، وأما الاسناد
فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه، وهذا
من أصح الأسانيد، وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء
عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير)، وعبد الملك ثقة ثبت حجة أخرج
له مسلم، وإنما أنكروا عليه تفرده عن عطاء بخبر الشفعة للجار، وما هذا بقادح
في صحة روايته، ولعله أخطأ أو نسي أبو هريرة حين أفتى بالثلاث.
114

نحسها (1) إنما فيها أنه يغسل الإناء ثلاث مرات، فلم يحصلوا إلا على خلاف السنة وخلاف
ما اعترضوا به عن أبي هريرة، فلا النبي صلى الله عليه وسلم اتبعوا، ولا أبا هريرة الذي احتجوا
به قلدوا. وثالثا: أنه لو صح ذلك عن أبي هريرة لما حل أن يعترض بذلك على
ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لان الحجة إنما هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في قول أحد
سواه (2)، لان الصاحب قد ينسى ما روى وقد يتأول فيه، والواجب إذا وجد مثل
هذا ان يضعف ما روى عن الصاحب من قوله، وأن يغلب عليه ما روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم، لا أن نضعف ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ونغلب عليه ما روى عن الصاحب،
فهذا هو الباطل الذي لا يحل، ورابعها: أنه حتى لو صح عن أبي هريرة خلاف ما روى
ومعاذ الله من ذلك فقد رواه من الصحابة غير أبي هريرة وهو ابن مغفل ولم يخالف
ما روى
وقال بعضهم: إنما كان هذا إذ أمر بقتل الكلاب، فلما نهى عن قتلها نسخ ذلك
قال علي: وهذا كذب بحث لوجهين، أحدهما: لأنه دعوى فاضحة بلا دليل،
وقفو ما لا علم لقائله به، وهذا حرام. والثاني: أن ابن مغفل روى النهي عن قتل
الكلاب والامر بغسل الإناء منها سبعا في خبر واحد معا، وقد ذكرناه قبل.
وأيضا: فان الامر بقتل الكلاب كان في أول الهجرة، وإنما روى غسل الإناء منها
سبعا أبو هريرة وابن مغفل، وإسلامهما متأخر *
وقال بعضهم: كان الامر بغسل الإناء سبعا على وجه التغليظ.
قال علي: يقال لهم: أبحق أمر النبي عليه السلام في ذلك وبما تلزم طاعته فيه أم
أمر بباطل وبما لا مؤونة في معصيته في ذلك؟ فان قالوا: بحق وبما تلزم طاعته فيه،
فقد أسقطوا شغبهم بذكر التغليظ. وأما القول الآخر فالقول به كفر مجرد لا يقوله مسلم *

(1) في اليمنية (تحسينها)
(2) في اليمنية (غيره)
115

وقال بعضهم: قد جاء أثر بأنه إنما أمر بقتلها لأنها كانت تروع المؤمنين. قيل
له: لسنا في قتلها! إنما نحن في غسل الإناء من ولوغها، مع أن ذلك الأثر ليس فيه
إلا ذكر قتلها فقط، وهو أيضا موضوع لأنه من رواية الحسين بن عبيد الله العجلي (1)
وهو ساقط *
وشغب بعضهم فذكر الحديث الذي فيه المغفرة للبغي التي سقت الكلب بخفها
قال علي: وهذا عجب جدا، لان ذلك الخبر كان في غيرنا، ولا تلزمنا شريعة
من قبلنا. وأيضا: فمن لهم ان ذلك الخف شرب فيه ما بعد ذلك، وانه لم يغسل،
وأن تلك البغي عرفت سنة غسل الإناء من ولوغ الكلب؟ ولم تكن تلك البغي نبية
فيحتج بفعلها، وهذا كله دفع باراح، وخبط يجب أن يستحى منه *
ويجزئ غسل من غسله وإن كان غير صاحبه، لقوله عليه السلام: (فاغسلوه)
فهو أمر عام *
قال علي: فان أنكروا علينا التفريق بين ما ولغ الكلب فيه وبين ما أكل
فيه أو وقع فيه أو أدخل فيه عضوا من أعضائه غير لسانه قلنا لهم: لا نكرة على
من قال ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل ما لم يقل عليه السلام ولم يخالف ما أمره به
نبيه عليه السلام، ولا شرع ما لم يشرعه عليه السلام في الدين، وإنما النكرة على
من أبطل الصلاة بما زاد على الدرهم البغلي في الثوب من دم الدجاج فأبطل به الصلاة، ولم
يبطل الصلاة بثوب غمس في دم السمك، ومن أبطل الصلاة بقدر الدرهم البغلي في
الثوب من خرء الدجاج وروث الخيل، ولم يبطلها بأقل من ربع الثوب من بول
الخيل وخرء الغراب، وعلى من أراق الماء يلغ فيه الكلب، ولم يرق اللبن إذا ولغ فيه
الكلب، وعلى من أمر بهرق خمسمائة رطل غير أوقية من ماء وقع فيه درهم من لعاب
كلب، فان وقع فيه رطل من لعاب الكلب كان طاهرا لا يراق منه شئ (2) فهذه

(1) الحسين هذا قال الدارقطني: كان يضع الحديث.
(2) الكلام هنا ناقص سقط منه شئ ويظهر ان صوابه: فإن كان خمسمائة
رطل ووقع فيه رطل من لعاب الكلب. الخ لأنه يريد بهذا الرد على الشافعية
الذين يذهبون إلى أن الماء لا ينجس إذا كان قلتين، وفسروهما بخمسمائة رطل.
116

هي النكرات حقا لا ما قلنا. وبالله تعالى نتأيد *
128 مسألة فان ولغ في الاناء الهر لم يهرق ما فيه، لكن يؤكل أو يشرب
أو يستعمل ثم يغسل الإناء بالماء مرة واحدة فقط، ولا يلزم إزالة لعابه مما عدا الاناء
والثوب بالماء لكن بما أزاله ومن الثوب بالماء فقط *
حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب
الصموت ثنا أحمد بن عمرو البزار ثنا عمرو بن علي الصيرفي ثنا أبو عاصم الضحاك
ابن مخلد ثنا قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا ولغ الكلب في الاناء فاغسله سبع مرات والهرمرة (1))
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر
ابن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب ثنا مالك بن أنس أخبرني إسحاق بن عبد الله
بن أبي طلحة الأنصاري عن حميدة بنت عبيد بن رافع (2) عن كبشة بنت كعب بن
مالك وكانت تحت ولد أبى قتادة: (أنها صبت لأبي قتادة ماء يتوضأ به، فجاءت هرة
تشرب فأصغى لها الاناء فجعلت أنظر، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: انها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (3))
قال علي: فوجب غسل الإناء ولم يجب اهراق ما فيه، لأنه لم ينجس، ووجب

(1) هذا الحديث رواه أيضا الترمذي والدار قطني والحاكم وغيرهم، وقد رجح
حفاظ الحديث أن قوله (والهرمرة) موقوف من كلام أبي هريرة، وأوضحنا
ذلك فيما علقناه على التحقيق في المسألة رقم 16
(2) حميدة بضم الحاء بنت عبيد بضم العين بن رفاعة بن رافع بن
مالك الأنصاري. وأخطأ يحيى الليثي في روايته الموطأ عن مالك فقال
(حميدة بفتح الحاء بنت أبي عبيدة بن فروة)
(3) رواه أيضا الشافعي واحمد والدارمي وأبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدار قطني وصححه البخاري والعقيلي
والدار قطني والبيهقي والحاكم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي (حديث حسن
صحيح).
117

غسل لعابه من الثوب، لان الهر ذو ناب من السباع فهو حرام، وبعض الحرام
حرام، وليس كل حرام نجسا، ولا نجس الا ما سماه الله تعالى أو رسوله نجسا، والحرير
والذهب حرام على الرجال وليسا بنجسين، وقال الله تعالى: (وثيابكم فطهر).
وقال أبو حنيفة: يهرق ما ولغ فيه الهر ولا يجزئ الوضوء به، ويغسل الإناء مرة (1)،
وهذا خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبى قتادة. وقال مالك والشافعي:
يتوضأ بما ولغ فيه الهر ولا يغسل منه الاناء. وهذا خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من
رواية أبي هريرة. وممن أمر بغسل الإناء من ولوغ الهر أبو هريرة وسعيد بن المسيب
والحسن البصري وطاوس وعطاء، الا أن طاوسا وعطاء جعلاه بمنزلة ما ولغ فيه
الكلب. وممن أباح أن يستعمل ما ولغ فيه الهر أبو قتادة وابن عباس وأبو هريرة
وأم سلمة وعلى وابن عمر باختلاف عنه، فصح قول أبي هريرة كقولنا نصا.
والحمد لله رب العالمين
129 مسألة وتطهير جلد الميتة أي ميتة كانت ولو أنها جلد خنزير
أو كلب أو سبع أو غير ذلك: فإنه بالدباغ بأي شئ دبغ طاهر، فإذا دبغ حل
بيعه والصلاة عليه، وكان كجلد ما ذكى مما يحل أكله، إلا أن جلد الميتة المذكور
لا يحل أكله بحال، حاشا جلد الانسان، فإنه لا يحل أن يدبغ ولا أن يسلخ، ولا بد من
دفنه وإن كان كافرا. وصوف الميتة وشعرها وريشها ووبرها حرام قبل الدباغ حلال
بعده، وعظمها وقرنها مباح كله لا يحل أكله، (2) ولا يحل بيع الميتة ولا الانتفاع
بعصبها ولا شحمها *
حدثني أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ
ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ثنا الحميدي ثنا سفيان هو ابن عيينة ثنا زيد بن
أسلم أنه سمع عبد الرحمن بن وعلة المصري يقول: سمعت ابن عباس يثول: سمعت

(1) هذا النقل خطأ. قال في الهداية: (وسؤر الهرة طاهر مكروه، وعن
أبي يوسف انه غير مكروه)
(2) في المصرية (حرام كله ولا يحل بيعه)
118

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما أهاب دبغ فقد طهر (1))
حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس
قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاة لمولاة لميمونة ميتة فقال: أفلا انتفعتم باهابها!
قالوا: وكيف وهي ميتة يا رسول الله؟ قال: إنما حرم لحمها (2).)
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا قتيبة ين سعيد ثنا
سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن
ميمونة (3): (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على شاة ملقاة، فقال: لمن هذه؟ قالوا: لميمونة،
قال: ما عليها لو انتفعت باهابها! قالوا إنها ميتة، قال: إنما حرم الله أكلها).
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد
ابن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي
شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر كلهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد
الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: (تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلا أخذتم اهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟
فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها)
حدثنا حمام ثنا بن مفرج ثنا بن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق أرنا ابن
جريج عن عطاء عن ابن عباس: (أخبرتني ميمونة أن شاة ماتت فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ألا دبغتم إهابها!)
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبيد الله

(1) رواه أيضا مسلم واحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وابن حبان في
صحيحه والدار قطني وغيرهم.
(2) رواه أيضا البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
(3) سقط من اليمنية ذكر ميمونة وصار فيها من حديث ابن عباس وهو
خطأ، وما هنا هو الصواب الموافق للمصرية ولسنن النسائي (ج 2 ص 190 191
119

ابن سعيد ثنا معاذ بن هشام الدستوائي حدثني أبي عن قتادة (1) عن الحسن عن
الجون بن قتادة عن سلمة بن المحبق: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك دعا بماء من
عند امرأة فقالت: ما عندي الا في قربة لي ميتة، قال: أليس قد دبغتها؟ قالت
بلى. قال: فان دباغها ذكاتها.)
حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ثنا أحمد بن الفضل الدينوري ثنا محمد بن جرير
الطبري ثنا محمد بن حاتم ثنا هشيم عن منصور بن زاذان عن الحسن ثنا جون بن
قتادة التميمي (2) قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في حديث ذكره: فان دباغ
الميتة طهورها) قال علي: جون وسلمة لهما صحبة (3)

(1) في المصرية (معاذ بن هشام الدستوائي ثنا قتادة) والصواب ما في
اليمنية وهو الموافق لسنن النسائي (2: 191)
(2) في اليمنية (التيمي) وهو خطأ. انظر التهذيب والإصابة
(3) حديث سلمة بن المحبق رواه أيضا أبو داود والبيهقي وابن حبان
والحاكم، وقال ابن حجر اسناد صحيح، ورواه البغوي وابن منده وابن قانع
من حديث الحسن عن جون قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. الخ قال
البغوي: (هكذا حدث به هشيم لم يجاوز به جون بن قتادة وليست لجون
صحبة) واتفق حفاظ الحديث على أن هشيما أخطأ في هذا الحديث. قال الحافظ
ابن حجر: (واغتر أبو محمد بن حزم بظاهر اسناد هشيم فروى من طريق
الطبري عن محمد بن حاتم عن هشيم فذكره. وقال: هذا حديث صحيح وجون
قد صحت صحبته. وتعقبه أبو بكر بن مفوز فقال: هذا خطأ فجون رجل
تابعي مجهول، لا يعرف من روى عنه الا الحسن، وروايته لهذا الحديث إنما هي عن
سلمة بن المحبق، أخطأ فيه محمد بن حاتم. قلت ولم يصب في نسبته للخطأ فيه إلى
محمد بن حاتم. وأما قوله إن جونا مجهول فقد قاله أبو طالب والأثرم عن أحمد
ابن حنبل. وقال أبو الحسن بن البراء عن علي بن المديني: جون معروف وإن كان
لم يرو عنه الا الحسن، وعده في موضع آخر في شيوخ الحسن
المجهولين. وقد روى جون بن قتادة أيضا عن الزبير بن العوام وشهد معه
الجمل) اه‍ من الإصابة (ج 1 ص 284) باختصار
120

حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا قتيبة بن
سعيد ثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر
ابن عبد الله انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: (ان الله ورسوله
حرم بيع الخمر والميتة (1) والخنزير والأصنام، فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم
الميتة فإنه يطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ قال لا: هو حرام
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك) (2): قاتل الله اليهود، ان الله لما حرم عليهم
شحومها أجملوه (3) ثم باعوه فأكلوا تمنه).
قال علي: ذهب أحمد بن حنبل إلى أنه لا يحل استعمال جلد الميتة وان دبغ،
وذكر ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد
ابن قدامة ثنا جرير عن منصور عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
عن عبد الله بن حكيم قال: (كتب الينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تستنفعوا (4) من الميتة
باهاب ولا عصب).
قال علي: هذا خبر صحيح (5) ولا يخالف ما قبله، بل هو حق، لا يحل أن
ينتفع من الميتة باهاب الا حتى يدبغ، كما جاء في الأحاديث الاخر، إذ ضم أقواله
عليه السلام بعضها لبعض فرض، ولا يحل ضرب بعضها ببعض، لأنها كلها حق

(1) هنا في اليمنية زيادة (والدم) ولا توجد في سنن النسائي (2: 192)
(2) الزيادة التي بين القوسين من النسائي
(3) في النسائي (الشحوم جملوه) وأجمل الشحم وجمله أذابه واستخرج
دهنه، وجمل أغصح من أجمل. قاله في اللسان
(4) كذا في المصرية وفي اليمنية (تنتفعوا) وفي النسائي (2: 192)
(تستمتعوا)
(5) كلا، بل هو حديث مضطرب أو مرسل، لان عبد الله بن عكيم
بضم العين وفتح الكاف ليس صحابيا. ولم يسمعه ابن أبي ليلى منه، وقد
أو فينا الكلام عليه في حواشيها على التحقيق في المسألة 17
121

من عند الله عز وجل، قال الله تعالى: (وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى)
وقال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). وروى عن
عائشة أم المؤمنين باسناد في غاية الصحة: (دباغ الأديم ذكاته) (1) وهذا عموم لكل
أديم، وعن ابن عباس عن أم المؤمنين ميمونة: انها دبغت جلد شاة ميتة فلم تزل تنبذ
فيه حتى بلى، وعن عمر بن الخطاب: دباغ الأديم ذكاته
وقال إبراهيم النخعي في جلود البقر والغنم تموت فتدبغ: إنها تباع وتلبس،
وعن الأوزاعي إباحة بيعها، وعن سفيان الثوري إباحة الصلاة فيها، وعن الليث بن
سعد إباحة بيعها، وعن سعيد بن جبير في الميتة: دباغها ذكاتها، وأباح الزهري جلود
النمور، واحتج بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في جلد الميتة، وعن عمر بن عبد العزيز وعروة
ابن الزبير وابن سيرين مثل ذلك *
وقال أبو حنيفة: جلد الميتة إذا دبغ وعظامها وعصبها وعقبها وصوفها وشعرها
ووبرها وقرنها لا بأس بالانتفاع بكل ذلك، وبيعه جائز، والصلاة في جلدها إذا دبغ
جائز، أي جلد كان حاشا جلد الخنزير
وقال مالك: لا خير في عظام الميتة، وهي ميتة، ولا يصلى في شئ من جلود
الميتة وإن دبغت، ولا يحل بيعها أي جلد كان، ولا يستقى فيها، لكن جلود
ما يؤكل لحمه إذا دبغت جائز القعود عليها وأن يغربل عليها، وكره الاستقاء فيها
بآخرة لنفسه، ولم يمنع عن ذلك غيره، ورأي جلود السباع إذا دبغت مباحة للجلوس
والغربلة، ولم ير جلد الحمار وان دبغ يجوز استعماله، ولم ير (2) استعمال قرن (3) الميتة
ولا سنها ولا ظلفها ولا ريشها، وأباح صوف الميتة وشعرها ووبرها، وكذلك ان
أخذت من حي *
وقال الشافعي: يتوضأ جلود الميتة إذا دبغت أي جلد كان، إلا جلد كلب

(1) رواه الدارقطني مرفوعا بلفظ: (طهور كل أديم دباغه) وقال (اسناد
حسن كلهم ثقات) ورواه النسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي.
(2) في اليمنية (ولم يجز)
(3) في اليمنية (جلد) وما هنا أظهر.
122

أو خنزير، ولا يطهر بالدباغ لا صوف ولا شعر ولا وبر ولا عظم ولا قرن ولا سن ولا
ريش، إلا الجلد وحده فقط *
قال علي: أما إباحة أبي حنيفة العظم والعقب من الميتة فخطأ، لأنه خلاف الأثر
الصحيح الذي أوردنا: (ألا ننتفع من الميتة باهاب ولا عصب) وجاء الخبر بإباحة
الإهاب إذا دبغ، فبقي العصب على التحريم، والعقب عصب بلا شك، وكذلك
تفريقه بين جلود السباع والميتات وجلد الخنزير خطأ، لان كل ذلك ميتة محرم،
ولا نعلم هذا التفاريق ولا هذا القول عن أحد قبله.
وأما تفريق مالك بين جلد ما يؤكل لحمه وبين جلد ما لا يؤكل لحمه فخطأ، لان
الله تعالى حرم الميتة كما حرم الخنزير ولا فرق، قال الله تعالى: (حرمت عليكم الميتة
والدم ولحم الخنزير) ولا فرق بين كبش ميت وبين خنزير ميت عنده ولا عندنا
ولا عند مسلم في التحريم وكذلك فرقه بين جلد الحمار وجلد السباع خطأ لان
التحريم جاء في السباع كما جاء في الحمير ولا فرق والعجب أن أصحابه لا يجيزون
الانتفاع بجلد الفرس إذا دبغ ولحمه إذا ذكى حلال بالنص، ويجيزون الانتفاع بجلد
السبع إذا دبغ، وهو حرام لا تعمل فيه الذكاة بالنص، وكذلك منعه من الصلاة عليها
إذا دبغت خطأ، لأنه تفريق بين وجوه الانتفاع بلا نص قرآن ولا سنة ولا قول
صاحب ولا تابع ولا قياس، ولا نعلم هذا التفريق عن أحد قبله
وأما تفريق الشافعي بين جلود السباع وجلد الكلب والخنزير فحطأ لان كل
ذلك ميتة حرام سواء، ودعواه أن معنى قوله عليه السلام: (إذا دبغ الإهاب فقد
طهر): ان معناه عاد إلى طهارته خطأ وقول بلا برهان، بل هو على ظاهره أنه
حينئذ طهر، ولا نعلم هذا التفريق عن أحد قبله *
قال علي: أما كل ما كان على الجلد من صوف أو شعر أو وبر فهو بعد الدباغ
طاهر كله لا قبل الدباغ، لان النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن على جلود الميتة الشعر والريش
والوبر والصوف فلم يأمر بإزالة ذلك ولا أباح استعمال شئ من ذلك قبل الدباغ، وكل ذلك
قبل الدباغ بعض الميتة حرام، وكل ذلك بعد الدباغ طاهر ليس ميتة، فهو حلال حاشا
أكله، وإذ هو حلال فلباسه في الصلاة وغيرها وبيع كل ذلك داخل في الانتفاع
123

الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فان أزيل ذلك عن الجلد قبل الدباغ لم يجز الانتفاع
بشئ منه، وهو حرام، إذ لا يدخل الدباغ فيه، وان أزيل بعد الدباغ فقد طهر،
فهو حلال بعد كسائر المباحات حاشا أكله فقط *
وأما العظم والريش والقرن فكل ذلك من الحي بعض الحي، والحي مباح
ملكه (1) وبيعه إلا ما منع من ذلك نص، وكل ذلك من الميتة ميتة، وقد صح تحريم
النبي صلى الله عليه وسلم بيع الميتة، وبعض الميتة ميتة، فلا يحل بيع شئ من ذلك، والانتفاع
بكل ذلك جائز، لقوله عليه السلام: (إنما حرم أكلها) فأباح ما عدا ذلك إلا
ما حرم باسمه من بيعها والادهان بشحومها، ومن عصبها ولحمها *
وأما شعر الخنزيز وعظمه فحرام كله، لا يحل أن يتملك ولا أن ينتفع بشئ منه،
لان الله تعالى قال: (أو لحم خنزير فإنه رجس) والضمير راجع إلى أقرب مذكور،
فالخنزير كله رجس، والرجس واجب اجتنابه، بقوله تعالى: (رجس من عمل الشيطان
فاجتنبوه) حاشا الجلد فإنه بالدباغ طاهر، بعموم قوله عليه السلام: (وأيما أهاب
دبغ فقد طهر) *
قال علي: وأما جلد الانسان فقد صح نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة، والسلخ
أعظم المثلة، فلا يحل التمثيل بكافر ولا مؤمن، وصح أمره عليه السلام بالقاء قتلى
كفار بدر في القليب، فوجب دفن كل ميت كافر ومؤمن. وبالله تعالى التوفيق *
130 مسألة وإناء الخمر إن تخللت الخمر فيه فقد صار طاهرا يتوضأ
فيه ويشرب وإن لم يغسل، فان أهرقت أزيل أثر الخمر ولا بد بأي شئ من
الطاهرات أزيل، ويطهر الاناء حينئذ سواء كان فخارا أو عودا أو خشبا أو نحاسا
أو حجرا أو غير ذلك
أما الخمر فمحرمة بالنص والاجماع المتقين، فواجب اجتنابها، قال تعالى: (إنما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) فإذا تخللت الخمر
أو خللت فالخل حلال بالنص طاهر *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا

(1) في اليمنية (لا مباح أكله وبيعه)
124

عثمان بن أبي شيبة ثنا معاوية بن هشام ثنا سفيان هو الثوري عن محارب بن دثار
عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم الادام الخل (1)) فعم عليه
السلام ولم يخص والخل ليس خمرا لان الحلال الطاهر غير الحرام الرجس بلا
شك فاذن لا خمر هنالك أصلا، ولا أثر لها في الاناء، فليس هنالك شئ يجب
اجتنابه وإزالته، وأما إذا ظهر أثر الخمر في الاناء فهي هنالك بلا شك، وإزالتها
واجتنابها فرض، ولا نص ولا إجماع في شئ ما بعينه تزال به، فصح أن كل شئ
أزيلت به فقد أدينا ما علينا من واجب إزالتها. والحمد لله رب العالمين. وإذا
أزيلت فالاناء طاهر، لأنه ليس هنالك شئ يجب اجتنابه من أجله *
131 مسألة والمني طاهر في الماء كان أو في الجسد أو في الثوب ولا تجب
ازالته والبصاق مثله ولا فرق.
حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن
سفيان الثوري وسفيان بن عيينة كلاهما عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن
همام بن الحارث قال: (أرسلت عائشة أم المؤمنين إلى ضيف لها تدعوه فقالوا: هو
يغسل جنابة في ثوبه، قالت ولم يغسله؟ لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فأنكرت رضي الله عنها غسل المنى.
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا
أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أحمد بن جواس (2) الحنفي أبو
عاصم ثنا أبو الأحوص عن شبيب بن غرقدة (3) عن عبد الله بن شهاب الخولاني
قال: (كنت نازلا على عائشة فاحتلمت في ثوبي فغمستهما في الماء فرأتني جارية
لعائشة فأخبرتها، فبعثت إلى عائشة: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ قلت:
رأيت ما يرى النائم في منامه، قالت: هل رأيت فيهما شيئا؟ قلت: لا، قالت: فلو
رأيت شيئا غسلته! لقد رأيتني وانى لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري)

(1) رواه أيضا الترمذي وابن ماجة، ورواه الترمذي من حديث عائشة
(2) بالجيم المفتوحة وتشديد الواو وآخره سين مهملة.
(3) بفتح الغين المعجمة واسكان الراء.
125

فهذه الرواية تبين كذب من تخرص بلا علم، وقال: كانت تفركه بالماء
حدثنا حمام ثنا عباس بن اصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن
زهير بن حرب ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة ثنا حماد بن أبي سليمان عن
إبراهيم عن الأسود بن يزيد ان عائشة قالت: (كنت أفرك المنى من ثوب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيصلى فيه) وقد رواه أيضا علقمة بن قيس والحارث بن
نوفل عن عائشة مسندا، وهذا تواتر، وصح عن سعد بن أبي وقاص انه كان يفرك
المنى من ثوبه، وصح عن ابن عباس في المني يصيب الثوب: هو بمنزلة النخام
والبزاق امسحه بإذخرة أو بخرقة، ولا تغسله ان شئت الا أن تقذره أو تكره أن
يرى في ثوبك، وهو قول سقيان الثوري والشافعي وأبى ثور وأحمد بن حنبل وأبي سليمان
وجميع أصحابهم
وقال مالك: هو نجس ولا يجزئ الا غسله بالماء، وروينا غسله عن عمر بن
الخطاب وأبي هريرة وأنس وسعيد بن المسيب
وقال أبو حنيفة: هو نجس، فإن كان في الجسد منه أكثر من قدر الدرهم البغلي
لم يجزئ في ازالته غير الماء، فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل أجزأت ازالته بغير الماء،
فإن كان في الثوب أو النعل أو الخف منه أكثر من قدر الدرهم البغلي، فإن كان رطبا لم يجز
الا غسله بأي مائع كان، فإن كان يابسا أو كان قدر الدرهم البغلي فأقل (1) وإن كان
رطبا أجزأ مسحه فقط، وروينا عن ابن عمر أنه قال: إن كان رطبا فاغسله وإن كان
يابسا فحته.
قال علي: واحتج من رأى نجاسة المنى بحديث رويناه من طريق سليمان بن
يسار عن عائشة: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المنى وكنت أغسله
من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقالوا: هو خارج من مخرج البول فينجس
لذلك، وذكروا حديثا رويناه من طريق أبى حذيفة عن سفيان الثوري، مرة قال
عن الأعمش، ومرة قال: عن منصور، ثم استمر، عن إبراهيم عن همام بن الحارث

(1) أين جواب الشرط؟ لعله سقط من النساخ
126

عن عائشة في المني: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بحته)
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه. أما الصحابة رضي الله عنهم فقد روينا عن
عائشة وسعد وابن عباس مثل قولنا، وإذا تنازع الصحابة رضي الله عنهم فليس
بعضهم أولى من بعض، بل الرد حينئذ واجب إلى القرآن والسنة. وأما حديث
سليمان بن يسار فليس فيه أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسله ولا بإزالته ولا
بأنه نجس، وإنما فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يغسله، وأن عائشة كانت تغسله، وأفعاله صلى الله عليه وسلم ليست
على الوجوب، وقد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا
الفربري ثنا البخاري ثنا مالك بن إسماعيل ثنا زهير هو ابن معاوية ثنا حميد ثنا
عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها (1)
بيده ورئى كراهيته لذلك (2)) فلم يكن هذا دليلا عند خصومنا على نجاسة النخامة،
وقد يغسل المرء ثوبه مما ليس نجا. وأما حديث سفيان فإنما انفرد به أبو حذيفة
موسى بن مسعود النهدي، بصرى ضعيف مصحف كثير الخطأ، روى عن سفيان
البواطل، قال أحمد بن حنبل فيه: هو شبه لا شئ، كأن سفيان الذي يحدث عنه
أبو حذيفة ليس سفيان الذي يحدث عنه الناس (3)

(1) في الأصلين (فحكه) وصححناه من البخاري (ج 1 ص 64)
(2) في البخاري (فرئي منه كراهية أو رئي كراهيته لذلك وشدته عليه)
(3) حديث عائشة الذي رواه أبو حذيفة أخرجه ابن الجارود في المنتقى (ج 71
ص 72) ونصه: (حدثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا ثنا أبو حذيفة قال ثنا
سفيان عن منصور عن إبراهيم هم همام بن الحارث قال: كان ضعيف عند عائشة
رضي الله عنها فأجنب فجعل يغسل ما أصابه، فقالت عائشة رضي الله عنها: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بحته) وهو اسناد صحيح كما قال ابن حجر
في التلخيص (ج 1 ص 191) وقال: (وهذا الحديث قد رواه مسلم من هذا
الوجه بلفظ: لقد رأيتني أحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا
بظفري. ولم يذكر الامر) فالحديث له أصل صحيح، وأبو حذيفة ثقة أخرج
له البخاري، وقال أبو حاتم (صدوق معروف بالثوري ولكن كان يصحف)
وقال ابن سعد في الطبقات (ج 7 ق 2 ص 55) (كان كثير الحديث ثقة إن شاء الله
تعالى، وكان حسن الرواية عن عكرمة بن عمار وزهير بن محمد وسفيان
الثوري، ويذكرون أن سفيان كان تزوج أمه حين قدم البصرة) مات في جمادى
الآخرة سنة 220. وكلمة أحمد فيه لعلها لما جاء به من أحاديث عن سفيان
لا يعرفها غيره، وليس هذا قدحا فيه، وقد قال احمد حين سئل عنه أما من أهل
الصدق فنعم.)
127

وأما قولهم: إنه يخرج من مخرج البول، فلا حجة في هذا، لأنه لا حكم للبول
ما لم يظهر، وقد قال الله تعالى: (من بين فرث ودم لبنا خالصا) فلم يكن خروج اللبن
من بين الفرث والدم منجسا له، فسقط كل ما تعلقوا به. وبالله تعالى التوفيق *
وقال بعضهم: يغسله رطبا على حديث سليمان بن يسار، ويحكه يابسا على سائر
الأحاديث قال علي: وهذا باطل، لأنه ليس في حديث سليمان أنه كان رطبا،
ولا في سائر الأحاديث أنه كان يابسا، الا في حديث الخولاني وحده، فحصل هذا
القائل على الكذب والتحكم، إذ زاد في الاخبار ما ليس فيها
قال علي: وقد قال بعضهم: معنى (كنت أفركه) أي بالماء قال علي
وهذا كذب آخر وزيادة في الخبر، فكيف وفي بعض الأخبار كما أوردنا
(يابسا بظفري). قال علي: ولو كان نجسا لما ترك الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي به،
ولا خبره كما أخبره إذ صلى بنعليه وفيهما قذر فخلعهما، وقذ ذكرناه قبل هذا باسناده.
وبالله تعالى التوفيق *
123 مسألة وإذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو
ترابا، فكل ذلك طاهر. ويتيمم بذلك التراب. برهان ذلك ان الأحكام إنما هي
على ما حكم الله تعالى بها فيه مما يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطبنا الله عز وجل
فإذا سقط ذلك الحكم وانه غير الذي حكم الله تعالى فيه
والعذرة غير التراب وغير الرماد. وكذلك الخمر غير الخل. والانسان غير الدم الذي
منه خلق. والميتة غير التراب
128

133 مسألة ولعاب المؤمنين من الرجال والنساء. الجنب منهم والحائض
وغيرهما ولعاب الخيل وكل ما يؤكل لحمه، وعرق كل ذلك ودمعه، وسؤر كل ما يؤكل
لحمه: طاهر مباح الصلاة به *
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا
البخاري ثنا علي بن عبد الله ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان ثنا حميد ثنا بكر عن أبي
رافع عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وأبو هريرة
جنب (1) قال فانخنست منه (2) فذهبت فاغتسلت ثم جئت (3) فقال: أين كنت
يا أبا هريرة.؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة قال:
سبحان الله! ان المؤمن لا ينجس) *
قال علي: وكل ما يؤكل لحمه فلا خلاف في أنه طاهر، قال الله تعالى (ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فكل حلال هو طيب، والطيب لا يكون نجسا بل
هو طاهر، وبعض الطاهر طاهر بلا شك، لان الكل ليس هو شيئا غير أبعاضه
الا أن يأتي نص بتحريم بعض الطاهر فيوقف عنده، كالدم والبول والرجيع، ويكون
مستثنى من جملة الطاهر، ويبقى سائرها على الطهارة. وبالله تعالى التوفيق *
134 مسألة ولعاب الكفار من الرجال والنساء الكتابيين وغيرهم
نجس كله، وكذلك العرق منهم والدمع، وكل ما كان منهم، ولعاب كل ما لا يحل
أكل لحمه من طائر أو غيره، من خنزير أو كلب أو هر أو سبع أو فأر، حاشا الضبع
فقط، وعرق كل ما ذكرنا ودمعه: حرام واجب اجتنابه *
برهان ذلك قول الله تعالى (إنما المشركون نجس) وبيقين يجب أن بعض
النجس نجس، لان الكل ليس هو شيئا غير ابعاضه، فان قيل: إن معناه نجس

(1) في البخاري (ج 1 ص 45): (وهو جنب)
(2) في الأصلين (عنه) وصححناه من البخاري
(3) في البخاري: (فذهب فاغتسل ثم جاء). وانخنس أي مضى مستخفيا
من الخنوس وهو الانقباض والاستخفاء
129

الدين قيل: هبكم أن ذلك كذلك، أيجب من ذلك ان المشركين طاهرون؟
حاش لله من هذا، وما فهم قط من قول الله تعالى (إنما المشركون نجس) مع قول
نبيه صلى الله عليه وسلم (ان المؤمن لا ينجس) ان المشركين طاهرون، ولا عجب
في الدنيا أعجب ممن يقول فيمن نص الله تعالى: أنهم نجس: إنهم طاهرون، ثم
يقول في المنى الذي لم يأت قط بنجاسته نص: انه نجس، ويكفى من هذا القول
سماعه. ونحمد الله على السلامة *
فان قيل: قد أبيح لنا نكاح الكتابيات ووطؤهن، قلنا: نعم فأي دليل في
هذا على أن لعلبها وعرقها ودمعها طاهر؟ فان قيل: إنه لا يقدر على التحفظ من
ذلك، قلنا: هذا خطأ، بل يفعل فيما مسه من لعلبها وعرقها مثل الذي يفعل إذا مسه
بولها أو دمها أو مائية فرجها ولا فرق، ولا حرج في ذلك، ثم هبك أنه لو صح لهم
ذلك في نساء أهل الكتاب، من أين لهم طهارة رجالهم أو طهارة النساء والرجال من
غير أهل الكتاب؟ فان قالوا: قلنا ذلك قياسا على أهل الكتاب، قلنا: القياس كله
باطل، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل، لان أول بطلانه أن علتهم في
طهارة الكتابيات جواز نكاحهن، وهذه العلة معدومة باقرارهم في غير الكتابيات،
والقياس عندهم لا يجوز إلا بعلة جامعة بين الحكمين، وهذه علة مفرقة لا جامعة
وبالله تعالى التوفيق (1) *

(1) القول بنجاسة بدن الكافر وعرقه وريقه الخ قول شاذ لم أعرفه روى
عن أحد من العلماء إلا ما نقله ابن كثير في تفسيره (ج 4 ص 372) عن بعض أهل
الظاهر ولعله يريد المؤلف، وإلا ما نقله الطبري في تفسيره (ج 10 ص 74) عن الحسن
(لا تصافحوهم فمن صافحهم فليتوضأ) ومن العجب العجاب أن ينسب أبو حيان
في النهر بهامش البحر (ج 5 ص 27) للطبري القول بنجاسة أعيانهم! والطبري إنما
ذكره قولا عن أناس، وحكى أنه منسوب لابن عباس من غير وجه حميد فكره
ذكره، والمؤلف إنما اتى بمغالطات زعمها أدلة، وقد أباح الله للمؤمنين طعام
أهل الكتاب ومؤاكلتهم، ولن يخلو هذا من آثارهم، وزواج الكتابيات يدعو
إلى مخالطتهن أتم مخالطة، مما لا يمكن معه الاحتراز عن ريقهن وعرقهن في بدن
لمؤمن وثوبه وفراشه، والآية ظاهرة في أن المراد نجاستهم المعنوية من جهة
لاعتقاد الباطل، وعدم الحرص على الطهارات وانهم، لا يتحرزون من
النجاسات. قال السيد الأمير الصنعاني فما علقه على هامش المحلى: (وقوله تعالى:
(إنما المشركون نجس) ليس المراد به المعنى الشرعي بل الاستقذار وعدم أهليتهم
قربان المسجد الحرام، ولفظ (نجس) في اللغة مشترك بين معان، والقرائن
هنا تدل أنه أريد به أن المشركين مستقذرون مبعدون عن بيوت الله
لها معهم من نجاسة الاعتقاد والهية الأوثان، فيقصون عن أشرف مكان، ويبعدون
عن أفضل متعبدات أهل الايمان)
130

واما كل ما لا يحل أكله فهو حرام بالنص، والحرام واجب اجتنابه، وبعض
الحرام حرام، وبعض الواجب اجتنابه واجب اجتنابه، وروينا من طريق شعبة عن
قتادة عن أبي الطفيل قال سمعت حذيفة بن أسيد (1) يقول عن الدجال: (ولا
يسخر له من المطايا الا الحمار فهو رجس على رجس) (2) وقد قال أحمد بن حنبل
عرق الحمار نجس *
وأما استثناء الضبع فلما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن
الاعرابي ثنا أبو داود ثنا مسدد ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن ميمون بن مهران عن
ابن عباس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع

(1) بفتح الهمزة وكسر السين المهملة
(2) لم أجد هذا اللفظ، ولكني وجدت حديث حذيفة بن أسيد مرفوعا
في خروج الدجال، رواه مسلم (ج 2 ص 367) من طريق شعبة عن فرات القزاز
عن أبي الطفيل، ورواه أبو داود (ج 4 ص 192) من طريق أبي الأحوص وهناد
عن فرات عن أبي الطفيل، ورواه الطيالسي (ص 143) عن المسعودي عن فرات
عن أبي الطفيل، فاتفاق هذه الطرق يرجح عندي أن ذكر قتادة هنا خطأ من
الناسخين في الأصلين وأن صوابه (فرات القزاز) وإن كان قتادة يروي
أيضا عن أبي الطفيل ويروي عنه شعبة.
131

وعن كل ذي مخلب من الطير) (1) * وبه إلى أبي داود ثنا محمد بن عبد الله الخزاعي
ثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي عمار عن
جابر بن عبد الله قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع، فقال: هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم) (2) *
135 مسألة وسؤر كل كافر أو كافرة وسؤر كل ما يؤكل لحمه أو يؤكل لحمه
من خنزير أو سبع أو حمار أهلي أو دجاج مخلى أو غير مخلي إذا لم يظهر هنالك
للعاب مالا يؤكل لحمه أثر فهو طاهر حلال حاشا ما ولغ فيه الكلب فقط، ولا
يجب غسل الإناء من شئ منه حاشا ما ولغ فيه الكلب والهر فقط *
برهان ذلك: ان الله تعالى حكم بطهارة الطاهر وتنجس النجس وتحريم الحرام
وتحليل الحلال، وذم (3) أن تتعدى حدوده. فكل ما حكم الله تعالى انه طاهر فهو
طاهر، ولا يجوز أن يتنجس بملاقاة النجس له، لان الله تعالى لم يوجب ذلك ولا
رسوله صلى الله عليه وسلم. وكل ما حكم الله تعالى أنه نجس فإنه لا يطهر بملاقاة الطاهر
له، لان الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. وكل ما أحله الله تعالى
فإنه لا يحرم بملاقاة الحرام له، لان الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم
وكل ما حرمه الله تعالى فإنه لا يحل بملاقاة الحلال له، لان الله تعالى لم يوجب ذلك ولا
رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا فرق بين من ادعى أن الطاهر يتنجس بملاقاة النجس.
وان الحلال يحرم بملاقاة الحرام، وبين من عكس الامر فقال: بل النجس يطهر بملاقاة
الطاهر، والحرام يحل بملاقاة الحلال، وكلا القولين باطل. بل كل ذلك باق على حكم الله عز
وجل فيه، الا أن يأتي نص بخلاف هذا في شئ ما فيوقف عنده، ولا يتعدى إلى
غيره. فإذا شرب كل ما ذكرنا في إناء أو أكل أو أدخل فيه عضوا منه أو وقع
فيه فسؤره حلال طاهر ولا يتنجس بشئ مما ماسه من الحرام أو النجس، إلا أن

(1) رواه مسلم (ج 2 ص 110) وابن ماجة (ج 2 ص 153) ونسبه المنتقى أيضا
للنسائي ولم أجده فيه
(2) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح
(3) في اليمنية (وحرم)
132

يظهر بعض الحرام في ذلك الشئ وبعض الحرام حرام كما قدمنا. حاشى الكلب
والهر، فقد ذكرنا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين *
وقال أبو حنيفة: إن شرب في الاناء شئ من الحيوان الذي يؤكل لحمه فهو
طاهر، والوضوء بذلك الماء جائز، الفرس والبقر والضأن وغير ذلك سواء، وكذلك
أسئار جميع الطير، وما أكل لحمه وما لم يؤكل لحمه منها، والدجاج المخلى وغيره، فان
الوضوء بذلك الماء جائز وأكرهه، وأكل أسئارها حلال. قال: فان شرب في الاناء
ما لا يؤكل لحمه من بغل أو حمار أو كلب أو هر أو سبع أو خنزير فهو نجس، ولا يجزئ
الوضوء به، ومن توضأ به أعاد أبدا، وكذلك ان وقع شئ من لعابها في ماء أو غيره،
قال: وهذا ومالا يؤكل لحمه من الطير سوأ في القياس، ولكني أدع القياس وأستحسن *
قال علي: هذا فرق فاسد، ولا نعلم أحدا قبله فرق هذا الفرق، ولئن كان
القياس حقا، فلقد أخطأ في تركه الحق، وفي استحسان خلاف الحق، ولئن كان
القياس باطلا، فلقد أخطأ في استعمال الباطل حيث استعمله ودان به *
وقال بعض القائلين: حكم المائع حكم اللحم المماس له
قال علي: هذه دعوى بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل، وأيضا فإن كان
أراد أن الحكم لهما واحد في التحريم، فقد كذب، لان لحم ابن آدم حرام، وهم
لا يحرمون ما شرب فيه أو أدخل فيه لسانه، وإن كان أراد في النجاسة والطهارة،
فمن له بنجاسة الحيوان الذي لا يؤكل لحمه ما دام حيا؟ ولا دليل له على ذلك، ولا يكون
نجسا الا ما جاء النص بأنه نجس، والا فلو كان كل حرام نجسا لكان ابن آدم نجسا *
وقال مالك: سؤر الحمار والبغل وكل مالا يؤكل لحمه طاهر كسؤر غيره ولا فرق،
قال: وأما ما أكل الجيف من الطير والسباع فان شرب من ماء لم يتوضأ به
وكذلك الدجاج التي تأكل النتن، فان توضأ به لم يعد إلا في الوقت، فان شرب شئ
من ذلك في لبن فان تبين في منقاره قذر لم يؤكل، وأما ما لم ير في منقاره فلا بأس.
قال ابن القاسم صاحبه: يتوضأ به ان لم يجد غيره ويتيمم، إذا علم أنها تأكل النتن،
وقال مالك: لا بأس بلعاب الكلب *
قال علي ايجابه الإعادة في الوقت خطأ على أصله، لأنه لا يخلو من أن يكون
133

أدى الطهارة والصلاة كما أمر، أو لم يؤدهما كما أمر، فإن كان أدى الصلاة والطهارة
كما أمر فلا يحل له أن يصلى ظهرين ليوم واحد في وقت واحد، وكذلك سائر الصلوات،
وإن كان لم يؤدهما كما أمر فالصلاة عليه أبدا، وهي تؤدي عنده بعد الوقت *
وقد قال بعض المتعصبين له إذ سئل بهذا السؤال فقال: صلى ولم يصل،
فلما أنكر عليه هذا ذكر قول الله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)
قال أبو محمد على: وهذا الاحتجاج بالآية في غير موضعها أقبح من القول
المموه له بذلك، لان الله تعالى أخبر أن رسوله صلى الله عليه وسلم لم يرم إذ رمى، ولكنه تعالى
هو رماها، فهذا البائس الذي صلى ولم يصل، من صلاها عنه؟! فلا بد للصلاة
إن كانت موجودة منه من أن يكون لها فاعل، كما كان للرمية رام، وهو الخلاق
عز وجل، إذ وجود فعل لا فاعل له محال وضلال، وليس من أقوال أهل التوحيد،
وإن كانت الصلاة التي أمر بها غير موجودة منه فليصلها على أصلهم أبدا *
وأما قول ابن القاسم: انه ان لم يجد غيره يتوضأ به ويتيمم إذا علم أنها تأكل
النتن: فمتناقض لأنه إما ماء وإما ليس ماء، فإن كان ماء فإنه لئن كان يجزئ
الوضوء به إذا لم يجد غيره، فإنه يجزئ وان وجد غيره، لأنه ماء، وإن كان لا يجزئ
إذا وجد غيره، فإنه لا يجزئ إذا لم يجد غيره ان كن ليس ماء، لأنه لا يعوض من
الماء الا التراب، وادخال التيمم في ذلك خطأ ظاهر، لان التيمم لا يحل ما دام يوجد
ماء يجزئ به الوضوء *
وقال الشافعي: سؤر كل شئ من الحيوان الحلال أكله والحرام أكله
طاهر، وكذلك لعابه حاشى الكلب والخنزير، واحتج لقوله هذا بعض أصحابه بأنه
قاس ذلك على أسئار بني آدم ولعابهم، فان لحومهم حرام ولعابهم وأسارهم كل
ذلك طاهر *
قال علي: القياس كله باطل، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل،
لان قياس سائر السباع على الكلب الذي لم يحرم إلا أنه من جملتها، وبعموم
تحريم الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم كل ذي ناب من السباع فقط
فدخل الكلب في جملتها بهذا النص: ولولاه لكان حلالا أولى من قياسها على ابن
134

آدم الذي لا علة تجمع بينه وبينها. لان بني آدم متعبدون، والسباع وسائر الحيوان
غير متعبدة، وإناث بني آدم حلال لذكورهم بالتزويج المباح وبملك اليمين المبيح
للوطئ، وليس كذلك إناث سائر الحيوان والبان نساء بني آدم حلال وليس كذلك
ألبان إناث السباع والاتن. فظهر خطأ هذا القياس بيقين *
فان قالوا: قسناها على الهر، قيل لهم: وما الذي أوجب أن تقيسوها على الهر
دون أن تقيسوها على الكلب؟ لا سيما وقد قستم الخنزير على الكلب ولم تقيسوه على
الهر، كما قستم السباع على الهر، هذا لو سلم لكم أمر الهر. فكيف والنص الثابت الذي
هو أثبت من حديث حميدة عن كبشة قد ورد مبينا لوجوب غسل الإناء من
ولوغ الهر. فهذه مقاييس أصحاب القياس كما ترى. والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه *
136 مسألة وكل شئ مائع من ماء أو زيت أو سمن أو بان (1) أو
ماء ورد أو عسل أو مرق أو طيب أو غير ذلك، أي شئ كان: إذا وقعت فيه
نجاسة أو شئ حرام يجب اجتنابه أو ميتة، فان غير ذلك لون ما وقع فيه أو طعمه
أو ريحه، فقد فسد كله، وحرم أكله، ولم يجز استعماله ولا بيعه. فإن لم يغير شيئا
من لون ما وقع فيه ولا من طعمه ولا من ريحه، فذلك المائع حلال أكله وشربه
واستعماله إن كان قبل ذلك كذلك والوضوء حلال بذلك الماء، والتطهر به في
الغسل أيضا كذلك، وبيع ما كان جائزا بيعه قبل ذلك حلال. ولا معنى لتبين
أمره، وهو بمنزلة ما وقع فيه مخاط أو بصاق، الا أن البائل في الماء الراكد الذي
لا يجرى: حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره، وحكمه
التيمم ان لم يجد غيره. وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره، وان لم يغير البول
شيئا من أوصافه وحلال الوضوء به والغسل به لغيره (2) فلو أحدث في الماء أو بال

(1) كذا في الأصلين، والبان شجر له دهن، والأظهر والأنسب أن
يكون صوابه (أو لبن)
(2) هنا بهامش اليمنية ما نصه (هذه المسألة استوفى المحقق ابن دقيق العيد
رحمه الله في شرح الالمام البحث فيها مع المصنف وتتبع كلامه فيها) والالمام
هو كتاب ألفه ابن دقيق العيد في أحاديث الأحكام وشرحه شرحا وافيا سماه
(الامام) قال الأدفوي في الطالع السعيد (لو كملت نسخته في الوجود لأغنت
عن كل مصنف في ذلك). ويظهر من كثرة النقول عنه أنه أتمه وهو عزيز
الوجود لم نسمع بوجوده في عصرنا، الا أن هذه التعليقة تدل على وجوده
بالأقطار اليمنية السعيدة، ونرجو ممن يطلع على كلمتنا هذه من أهل اليمن بعد
طبع الجزء الأول إذا وحد لديهم هذا الكتاب أو شئ منه أن ينقل ما كتبه
ابن دقيق على هذه المسألة وأن يرسله الينا حبا في خدمة العلم، لنطبعه في
رسالة خاصة نلحقها بالجزء الثاني من المحلى. والتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
135

خارجا منه ثم جرى البول فيه فهو طاهر، يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره، الا أن
يغير ذلك البول أو الحدث شيئا من أوصاف الماء فلا يجزئ حينئذ استعماله أصلا
لا له ولا لغيره، وحاشى ما ولغ فيه الكلب، فإنه يهرق ولا بد، كما قدمنا في بابه،
وحاشى السمن يقع فيه الفأر ميتا أو يموت فيه أو يخرج منه حيا ذكرا كان الفأر أو
أنثى، صغيرا أو كبيرا فإنه إن كان ذائبا حين موت الفأر فيه، أو حين وقوعه فيه ميتا
أو خرج منه حيا أهرق كله ولو أنه الف الف قنطار، أو أقل أو أكثر ولم يحل
الانتفاع به، جمد بعد ذلك أو لم يجمد، وإن كان حين موت الفأر فيه أو وقوعه فيه
ميتا جامدا واتصل جموده فان الفأر يؤخذ منه وما حوله ويرمى، والباقي حلال أكله
وبيعه والادهان به، قل أو كثر. وحاشى الماء فلا يحل بيعه لنهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك عن علي ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى *
برهان ذلك: ما ذكرنا قبل من أن كل ما أحل الله تعالى وحكم تفيه بأنه طاهر
فهو كذلك أبدا ما لم يأت نص آخر بتحريمه أو نجاسته (1) وكل ما حرم الله تعالى أو
نجسه فهو كذلك ابدا ما لم يأت نص آخر بإباحته أو تطهيره، وما عدا هذا
فهو تعد لحدود الله تعالى. وقال تعالى: (تلك حدود الله فلا تعتدوها). وقال تعالى:
(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام). وقال تعالى
(قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم
أم على الله تفترون) وصح بهذا يقينا أن الطاهر لا ينجس بملاقاة النجس، وأن

(1) في اليمنية (أو نجاسة)
136

النجس لا يطهر بملاقاة الطاهر، وأن الحلال لا يحرم بملاقاة الحرام، والحرام لا يحل
بملاقاة الحلال، بل الحلال حلال كما كان، والحرام حرام كما كان، والطاهر طاهر كما كان
والنجس نجس كما كان، إلا أن يرد نص باحاله حكم من ذلك، فسمعا وطاعة،
وإلا فلا *
ولو تنجس الماء بما يلاقيه من النجاسات ما طهر شئ أبدا، لأنه كان إذا صب
على النجاسة لغسلها ينجس على قولهم ولا بد، وإذا تنجس وجب تطهيره، وهكذا
أبدا، ولو كان كذلك لتنجس البحر والأنهار الجارية كلها، لأنه إذا تنجس الماء
الذي خالطته النجاسة وجب أن يتنجس الماء الذي يماسه أيضا، ثم يجب ان يتنجس
ما مسه أيضا كذلك أبدا، وهذا لا مخلص منه *
فان قالوا في شئ من ذلك: لا يتنجس. تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق، وتناقضوا،
وفي اجماعهم معنا على بطلان ذلك وعلى تطهير المخرج والدم في الفم والثوب
والجسم: اقرار بأنه لا نجاسة إلا ما ظهرت فيه عين النجاسة، ولا يحرم إلا ما ظهر
فيه عين المنصوص على تحريمه فقط، وسائر قولهم فاسد *
فان فرقوا بين الماء الوارد وبين الذي ترده النجاسة. زادوا في التخليط بلا
دليل *
وأما إذا تغير لون الحلال الطاهر بما مازجه من نجس أو حرام أو تغير طعمه
بذلك، أو تغير ريحه بذلك، فإننا حينئذ لا نقدر على استعمال الحلال إلا باستعمال
الحرام، واستعمال الحرام في الأكل والشرب وفي الصلاة حرام كما قلنا، ولذلك وجب
الامتناع منه، لا لان الحلال الطاهر حرم ولا تنجست عينه، ولو قدرنا على تخليص
الحلال الطاهر من الحرام والنجس، لكان حلالا بحسبه *
وكذلك إذا كانت النجاسة أو الحرام على جرم طاهر فأزلناها، فان النجس لم
يطهر والحرام لم يحل، لكنه زايل الحلال الطاهر، فقدرنا على أن نستعمله حينئذ
حلالا طاهرا كما كان (1) *

(1) في المصرية: (كأن كذا كان)
137

وكذلك إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم
الذي به ورد ذلك الحكم فيه، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر:
فليس هو ذلك النجس ولا الحرام، بل قد صار شيئا آخر، ذا حكم آخر *
وكذلك إذا استحالت صفات عين الحلال الطاهر، فبطل عنه الاسم افذى
به ورد ذلك الحكم فيه، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حرام أو نجس: فليس
هو ذلك الحلال الطاهر، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر، وكالعصير يصير خمرا،
أو الخمر يصير خلا، أو لحم الخنزير تأكله دجاجة يستحيل فيها لحم دجاج حلالا، وكالماء
يصير بولا، والطعام يصير عذرة، والعذرة والبول تدهن بهما الأرض فيعودان ثمرة
حلالا، ومثل هذا كثير، وكنقطة ماء تقع في خمر أو نقطة خمر تقع في ماء، فلا يظهر
لشئ من ذلك أثر، وهكذا كل شئ. والأحكام للأسماء، والأسماء تابعة للصفات
التي هي حد ما هي فيه (1) المفرق بين أنواعه *
وأما إباحة بيعه والاستصباح به، فإنما بيع الجرم الحلال، لا ما مازجه من الحرام،
وبيع الحلال حلال كما كان قبل، ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل *
وممن أجاز بيع المائعات تقع فيها النجاسة والانتفاع بها: على وابن مسعود
وابن عباس وابن عمر وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري والقاسم وسالم وعطاء
والليث وأبو حنيفة وسفيان واسحق وغيرهم *
فان قيل: فان في الناس من يحرم ذلك، ولا يستجيز أن يأخذه ولو أعطيه بلا
ثمن، فكتمانه ذلك غش، والغش حرام، والدين النصيحة. قلنا: نعم، كما أن
أكثر الناس لا يستسهل أن يأخذ مائعا وقعت فيه مخطة مجذوم، أو ادخل فيه يده،
ولو أعطية باطلا (2)، وهذا عند الجامدين (3) من خصومنا لا معنى له، وليس شئ

(1) في المصرية (التي هي حدود ماهيته)
(2) كذا في الأصلين، ولعله يقصد به انه بلا ثمن
(3) في اليمنية (عند الحاضر)
138

من هذا غشا، إنما الغش ما كان في الدين، والنصيحة كذلك، لا في الظنون الكاذبة
المخالفة لا مر الله تعالى *
على أن في القائلين من يقول بأن البصاق نجس ممن هو أفضل من الأرض مملوءة (1)
من مثل من قلده هؤلاء المتأخرون، كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن
عبد البصير نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا أبو
عامر العقدي ثنا سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن ربعي بن حراش عن
سلمان هو الفارسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا بصقت (2) على جلدك
وأنت متوضئ فان البصاق (2) ليس بطاهر فلا تصلى حتى تغسله، قال ابن المثنى:
وحدثنا مخلد بن يزيد الحراني عن التيمي عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال: البصاق بمنزلة العذرة. ولكن لا حجة في أحد من الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم *
فأما حكم البائل فلما حدثنا أحمد بن القاسم حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم
ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا حامد بن يحيى البلخي ثنا سفيان بن
عيينة عن أيوب هو السختياني عن محمد هو ابن سيرين عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجرى ثم يغتسل منه) *
حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد
الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن أيوب
عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء
الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه) * حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا
أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل
ثنا أبي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه (3)) *

(1) كذا في الأصلين، ولعل الصواب: ممن هو أفضل من ملء الأرض من
مثل من قلده الخ
(2) في اليمنية (بزقت) و (البزاق)
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة
139

فلو أراد عليه السلام أن ينهى عن ذلك غير البائل لما سكت عن ذلك عجزا
ولا نسيانا ولا تعنيتا لنا بأن يكلفنا علم ما لم يبده لنا من الغيب (1) فأما أمر الكلب
فقد مضى الكلام فيه *
وأما السمن فان حمام بن أحمد ثنا قال ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا
الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمور عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة

(1) تغالى أبو محمد رحمه الله في التمسك بالظاهر حتى أغرب جدا، وذهب في
هذه المسألة مذهبا لا يؤيده عقل ولا يوافقه النقل، وقد رد عليه النووي في
المجموع أبلغ رد فقال (ج 1 ص 118 119): (نقل أصحابنا عن داود بن علي
الظاهري الأصبهاني رحمه الله مذهبا عجيبا، فقالوا: إنفرد داود بأن قال:
لو بال رجل في ماء راكد لم يجز أن يتوضأ هو منه لقوله صلى الله عليه وسلم
(لا يبولن أحدكم في الماء الدائم صم يتوضأ منه) وهو حديث صحيح، قال
ويجوز لغيره لأنه ليس بنجس عنده، ولو بال في إناء ثم صبه في ماء أو بال
في شط نهر ثم جرى البول إلى النهر، قال يجوز أن يتوضأ هو منه، لأنه ما بال
فيه بل في غيره، قال ولو تغوط في ماء جاز جاز أن يتوضأ منه، لأنه تغوط ولم
يبل، وهذا مذهب عجيب وفى غاية الفساد، فهو أشنع ما نقل عنه ان صح عنه
رحمه الله. وفساده مغن عن الاحتجاج عليه، ولهذا أعرض جماعة من أصحابنا
المعتنين بذكر الخلاف عن الرد عليه بعد حكايتهم مذهبه، وقالوا: فساده مغن
عن افساده. وقد خرق الاجماع في قوله في الغائط، إذ لم يفرق أحد بينه وبين
البول، ثم فرقه بين البول في نفس الماء والبول في إناء يصب في الماء من أعجب
الأشياء! ومن أخصر ما يرد به عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم؟؟ بالبول
على ما في معناه من التغوط وبول غيره، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال في
الفأرة تموت في السمن: (إن كان جامدا فألقوها وما حولها) وأجمعوا أن السنور
كالفأرة في ذلك، وغير السمن من الدهن كالسمن، وفي الصحيح: (إذا ولغ
الكلب في إناء أحدكم فليغسله) فلو أمر غيره فغسله، ان قال داود لا يطهر
لكونه ما غسله هو، خرق الاجماع، وان قال يطهر * فقد نظر إلى المعنى وناقض
قوله. والله أعلم)
140

قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن قال: إذا كان جامدا فألقوها
وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه (1)) قال عبد الرزاق: وقد كان معمر يذكره
أيضا عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن ميمونة.
قال: وكذلك حدثناه ابن عيينة *
قال علي: الفأرة والحية والدجاجة والحمامة والعرس أسماء كل واحد منها يقع على
الذكر في لغة العرب وقوعه على الأنثى، وفى قوله صلى الله عليه وسلم: (ألقوها وما حولها) برهان بأنها
لا تكون الا مينة، إذ لا يمكن ذلك من الحية *
فان قيل: فان عبد الواحد بن زياد روى عن معمر عن الزهري عن ابن
المسيب عن أبي هريرة هذا الخبر فقال: (وإن كان ذائبا أو مائعا فاستصبحوا به أو
قال: انتفعوا (2) به). قلنا وبالله تعالى التوفيق: عبد الواحد قد شك في لفظة
الحديث، فصح انه لم يضبطه. ولا شك في أن عبد الرزاق أحفظ لحديث معمر.
وأيضا فلم يختلف عن معمر عن الزهري عن عبيد الله أن ابن عباس عن ميمونة. ومن
لم يختلف عليه أحق بالضبط ممن اختلف عليه. وأما الذي نعتمد عليه في هذا فهو
أن كلا الروايتين حق، فأما رواية عبد الواحد فموافقة لما كنا نكون عليه لو لم يرد
شئ من هذه الرواية، لان الأصل إباحة الانتفاع بالسمن وغيره، لقول الله تعالى:
(خلق لكم ما في الأرض جميعا). وأما رواية عبد الرزاق فشرع وارد وحكم زائد
ناسخ للإباحة المتقدمة بيقين لا شك فيه. ونحن على يقين من أن الله تعالى لو أعاد
حكم المنسوخ وأبطل حكم الناسخ لبين ذلك بيانا يرفع به الاشكال، قال الله تعالى:

(1) رواه أبو داود (ج 3 ص 429) من طريق عبد الرزاق، وذكره الترمذي
معلقا (ج 1 ص 332) ونقل عن البخاري أنه قال: (هذا خطأ أخطأ فيه معمر
قال والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة) وحديث
ابن عباس عن ميمونة الذي ذكره المؤلف عقب هذا وأشار إليه البخاري رواه
البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه.
(2) في اليمنية (فاستنفعوا به)
141

(لتبين للناس ما نزل إليهم). فبطل حكم رواية عبد الواحد بيقين لا شك فيه.
وبالله تعالى التوفيق *
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا
محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن فضيل ثنا عطاء بن السائب
عن ميسرة النهدي (1) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الفأرة إذا وقعت
في السمن فماتت فيه قال: إن كان جامدا فاطرحها وما حولها وكل بقيته، وإن كان
دائبا فاهرقه. قال علي: والمأخوذ مما حولها هو أقل ما يمكن أن يؤخذ وأرقه غلظا،
لان هذا هو الذي يقع عليه اسم ما حولها، وأما ما زاد على ذلك فمن المأمور بأكله
والمنهي عن تضييعه *
فان قيل: فقد روى: خذوا مما حولها قدر الكف. قيل: هذا إنما جاء
مرسلا من رواية أبى جابر البياضي (2) وهو كذاب عن ابن المسيب فقط،
ومن رواية شريك بن أبي نمر وهو ضعيف عن عطاء بن يسار، وشريك
ضعيف (3)، ولا حجة في مرسل ولو رواه الثقات، فكيف من رواية الضعفاء *
ولا يجوز أن يحكم لغير الفأر في غير السمن، ولا للفأر في غير السمن ولا لغير الفأرة
في السمن: بحكم الفأر في السمن، لأنه لا نص في غير الفأر في السمن. ومن المحال
أن يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما في غير الفأر في غير السمن ثم يسكت عنه ولا يخبرنا به
ويكلنا إلى علم الغيب والقول بما لا نعلم على الله تعالى، وما يعجز (4) عليه السلام قط عن أن
يقول لو أراد: إذا وقع النجس أو الحرام في المائع فافعلوا كذا، حاش لله من أبن يدع عليه
السلام بيان ما أمره ربه تعالى بتبليغه، هذا هو الباطل المقطوع على بطلانه بلا شك *

(1) هذا منقطع لان ميسرة بن حبيب النهدي متأخر لم يدرك عليا. (2) نقل بهامش اليمنية عن التقريب. (صدوق يخطئ) وهو خطأ فليس
لأبي جابر ذكر في التقريب بل هو في لسان الميزان واسمه محمد بن عبد الرحمن
ج 5 ص 244) وهو كذاب كما قال ابن معين وغيره.
(3) كلا بل شريك ثقة روى له الشيخان وموثقه ابن سعد وأبو داود وغيرهما.
(4) في اليمنية (وما عجز)
142

فان قيل: فإنه قد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في ودك فقال عليه
السلام: (اطرحوها وما حولها إن كان جامدا، قيل: وإن كان مائعا؟ قال:
فانتفعوا به ولا تأكلوه (1)) قلنا: هذا لم يروه أحد إلا عبد الجبار بن عمر (2)، وهو
لا شئ، ضعفه ابن معين والبخاري وأبو داود والساجي (3) وغيرهم، وأيضا فليس
فيه الا الفأر في الودك فقط، وقد قيل: إن الودك في اللغة للسمن والمرق خاصة
والدسم للشحم *
وقال أبو حنيفة: ان وقعت خمر أو ميتة أو بول أو عذرة أو نجاسة في ماء راكد
نجس كله قلت النجاسة أو كثرت، ووجب هرقه كله ولم تجز صلاة من توضأ منه أو
اغتسل منه ولم يحل شربه كثر ذلك الماء أو قل، الا أن يكون إذا حرك أحد طرفيه
لم يتحرك الآخر، فإنه طاهر حينئذ، وجائز التطهر به وشربه. فإنه وقعت كذلك في
مائع غير الماء حرم أكله وشربه، وجاز الاستصباح به والانتفاع به وبيعه. فان
وقعت النجاسة أو الحرام في بئر، فإن كان ذلك عصفورا فمات أو فأرة فماتت فأخرجا
فان البئر قد تنجست وطهورها ان يستقى منها عشرون دلوا والباقي طاهر. فإن كانت
دجاجة أو سنورا فأخرجا حين ماتا فطهروها أربعون دلوا والباقي طاهر. فإن كانت شاة
فأخرجت حين ماتت أو بعد ما انتفخت أو تفسخت أو لم تخرج الفأرة ولا العصفور ولا
الدجاجة أو السنور إلا بعد الانتفاخ أو الانفساخ، فطهور البئر أن تنزح. وحد النزح
عند أبي حنيفة وأبى يوسف أن يغلبه الماء، وعند محمد بن الحسن مائتا دلو. فلو وقع في
البئر سنور أو فأر أو حنش فأخرج ذلك وهي أحياء، فالماء طاهر يتوضأ به، ويستحب
أن ينزح منها عشرون دلوا. فلو وقع فيها كلب أو حمار فأخرجا حيين فلا بد من نزح
البئر حتى يغلبهم الماء. فلو بالت شاة في البئر وجب نزحها حتى يغلبهم قل البول أو كثر.

(1) الحديث نقله الذهبي في الميزان (ج 2 ص 92) عن العقيلي باسناده.
(2) هو الأيلي (بفتح الهمزة واسكان الياء المثناة) قال أبو حاتم، (منكر
الحديث ضعيف ليس محله الكذب).
(3) كذا في الأصلين، وبهامش المصرية ما يدل على أن في نسخة اصلاح ذلك
وجعله (والنسائي) وهو الصواب، فان النسائي ضعف عبد الجبار هذا.
143

وكذلك لو بال فيها بعير عندهم. فلو وقع فيها بعرتان من بعر الإبل أو بعر الغنم لم
يضرها ذلك. وكذلك لو وقع في الماء خرء حمام أو خرء عصفور لم يضره. قال أبو
حنيفة: من توضأ من بئر ثم أخرج منها ميتة: فأرة أو دجاجة أو نحو ذلك فإن كانت
لم تتفسخ أعاد صلاة يوم وليلة وإن كانت قد انفسخت أعاد صلاة ثلاثة أيام بلياليها.
فإن كان طائرا رأوه وقع في البئر، فان أخرج ولم يتفسخ لم يعيدوا شيئا وان أخرج
متفسخا أعادوا صلاة ثلاثة أيام بلياليها. فان رمي شئ من خمر أو دم في بئر نزحت
كلها. فلو رمي في بئر عظم ميتة، فإن كان عليه لحم أو دم تنجست البئر كلها،
ووجب نزحها، فإن لم يكن عليه دم أو لحم (1) لم تتنجس البئر، إلا أن يكون عظم
خنزير أو شعرة واحدة من خنزير، فان البئر كلها تتنجس ويجب نزحها، كان عليهما
لحم أو دسم أو لم يكن *
وقال أبو يوسف ومحمد: لو ماتت فأرة في ماء في طست وصب ذلك الماء في بئر،
فإنه ينزح منها عشرون دلوا فقط، فلو توضأ رجل مسلم طاهر في طست طاهره بماء
طاهر وصب ذلك الماء في البئر، قال أبو يوسف: قد تنجست البئر وتنزح كلها،
وقال محمد بن الحسن: ينزح منها عشرون دلوا كما ينزح من الفأرة الميتة، فلو وقعت
فأرة في خابية ماء فماتت فصب ذلك الماء في بئر، فان أبا يوسف قال: ينزح منها
مثل الماء الذي رمى فيها فقط. وقال محمد بن الحسن: ينزح الأكثر من ذلك الماء
أو من عشرين دلوا. وقال أبو يوسف: لو ماتت فأرة في خابية فرميت الفأرة في
بئر ورمي الماء في بئر أخرى فان الفأرة تخرج ويخرج معها عشرون دلوا فقط. ويخرج
من الماء من البئر الأخرى مثل الماء الذي رمى فيها وعشرون دلوا زيادة فقط. فلو أن
فأرة وقعت في بئر فأخرجت وأخرج معها عشرون دلوا ثم رميت الفأرة وتلك العشرون
دلوا معها في بئر أخرى فإنه يخرج الفأرة وعشرون دلوا فقط. قالوا: فلو مات في الماء ضفدع
أو ذباب أو زنبور أو عقرب أو خنفساء أو جراد أو نمل أو صرار أو سمك فطفا أو كل ما لا دم
له: فان الماء طاهر جائز الوضوء به والغسل، والسمك الطافي عندهم لا يحل أكله. وكذلك

(1) في اليمنية (فإن لم يكن عليه لحم ولا دسم).
144

إن مات كل ذلك في مائع غير الماء فهو طاهر حلال أكله، قالوا: فان ماتت في الماء
أو في مائع غيره حية فقد تنجس ذلك الماء وذلك المائع، لان لها دما. فان ذبح
كلب أو حمار أو سبع ثم رمى كل ذلك في راكد لم يتنجس ذلك الماء، وان ذلك
اللحم حرام لا يحل أكله، وهكذا كل شئ الا الخنزير وابن آدم، فإنهما وان ذبحا
ينجسان الماء *
قال علي: فمن يقول هذه الأقوال التي كثير مما يأتي به المبرسم أشبه منها
ألا يستحيي من أن ينكر على من اتبع أو امر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموجبات العقول في فهم
ما أمر الله تعالى به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعد حدود ما أمر الله تعالى به!
ولكن ما رأينا سنة مضاعة، إلا ومعها بدعة مذاعة. وهذه أقوال لو تتبع ما فيها من
التخليط لقام في بيان ذلك سفر ضخم، إذ كل فصل منها مصيبة في التحكم والفساد
والتناقض، وانها أقوال لم يقلها قط أحد قبلهم، ولا لها حظ من قرآن ولا من سنة
صحيحة ولا سقيمة، ولا من قياس يعقل، ولا من رأى سديد، ولا من باطل مطرد،
ولكن من باطل متخاذل في غاية السخافة. والعجب أنهم موهوا برواية عن ابن عباس
وابن الزبير: انهما نزحا زمزم من زنجي مات فيها، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وعن إبراهيم النخعي وعطاء والشعبي والحسن وحماد بن أبي سليمان وسلمة
ابن كهيل *
قال علي بن أحمد: وكل ما روى عن هؤلاء الصحابة وهؤلاء التابعين رضي الله عنه
م فمخالف لأقوال أبي حنيفة وأصحابه *
أما على فإننا روينا عنه أنه قال في فأرة وقعت في بئر فماتت: انه ينزح ماؤها،
وأنه قال في فأرة وقعت في بئر فتقطعت: يخرج (1) منها سبع دلاء، فإن كانت الفأرة
كهيأتها لم تتقطع: ينزح (2) منها دلو أو دلوان، فإن كانت منتنة: ينزح (2) من البئر

(1) في اليمنية (ينزح)
(2) في اليمنية (نزح)
145

ما يذهب الريح، وهاتان الروايتان ليست واحدة منهما قول أبي حنيفة أصلا *
وأما الرواية عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما فلو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يجب بذلك فرض نزح البئر مما يقع فيها من النجاسات، فكيف عمن دونه عليه
السلام، لأنه ليس فيه أنهما أوجبا نزحها ولا أمرا به، وإنما هو فعل منهما قد
يفعلانه عن طيب النفس، لا على أن ذلك واجب. فبطل تعلقهم بفعل ابن عباس
وابن الزبير، وأيضا فان في الخبر نفسه: أنه قيل لابن عباس: قد غلبتنا عين من
جهة الحجر، فأعطاهم كساء خز فحشوه فيها حتى نزحوها، وليس هذا قول أبي حنيفة
وأصحابه، لان حد النزح عند أبي حنيفة أن يغلبهم الماء فقط، وعند محمد مائتا
دلو فقط، وعند أبي يوسف كقول أبي حنيفة، فمن أضل ممن يحتج بخبر يقضى
بأنه حجة على من لا يراه حجة ثم يكون المحتج به أول مخالف لما احتج! فكيف
ولو صح انهما رضي الله عنهما أمرا بنزحها لما كان للحنفيين في ذلك حجة، لأنه
لا يجوز أن يظن بهم إلا أن زمزم تغيرت بموت الزنجي، وهذا قولنا. ويؤيد هذا
صحة الخبر عن ابن عباس الذي رويناه من طريق وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة عن
الشعبي عن ابن عباس: أربع لا تنجس، الماء والثوب والانسان والأرض. وقد روينا
عن عمر بن الخطاب: ان الله جعل الماء طهورا *
وأما التابعون المذكورون، فان إبراهيم النخعي قال: في الفأرة أربعون دلوا، وفى
السنور أربعون دلوا، وقال الشعبي: في الدجاجة سبعون دلوا، وقال حماد بن أبي
سليمان: في السنور ثلاثة دلوا، وفى الدجاجة ثلاثون دلوا، وقال سلمة بن كهيل:
في الدجاجة أربعون دلوا، وقال الحسن: في الفأرة أربعون دلوا، وقال عطاء: في
الفأرة عشرون دلوا، وفى الشاة تموت في البئر أربعون دلوا، فان تفسخت فمائة دلو
أو تنزح، وفي الكلب يقع في البئر ان أخرج منها حيا عشرون دلوا، فان مات
فأخرج حين موته فستون دلوا، فان تفسخ فمائة دلو أو تنزح. فهل من هذه الأقوال
قول يوافق أقوال أبي حنيفة وأصحابه إلا قول عطاء في الفأرة؟ دون أن يقسم
تقسيم أبي حنيفة، وقول إبراهيم في السنور دون أن يقسم أيضا تقسيم أبي حنيفة،
فلم يحصلوا إلا على خلاف الصحابة والتابعين كلهم فلا تعلق بشئ من السنن أو المقاييس
146

ومن عجيب ما أوردنا عنهم قولهم في بعض أقوالهم: ان ماء وضوء المسلم الطاهر
النظيف أنجس من الفأرة الميتة، ولو أوردنا التشنيع عليهم بالحق لألزمناهم ذلك
في وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاما أن يتركوا قولهم، واما أن يخرجوا عن الاسلام،
أو في وضوء أبى بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وقولهم: إن حرم طرفه لم
يتحرك الطرف الآخر، فليت شعري هذه الحركة بماذا تكون: أبإصبع طفل، أم
بتبنة، أو بعود مغزل، أو بعوم عائم، أو بوقوع فيل، أو بحصاة صغيرة، أو بحجر منجنيق،
أو بانهدام جرف؟ نحمد الله على السلامة من هذه التخاليط، لا سيما فرقهم في ذلك
بين الماء وسائر المائعات، فان ادعوا فيه اجماعا، قلنا لهم: كذبتم، هذا ابن
الماجشون يقول: إن كل ماء أصابته نجاسة فقد تنجس، إلا أن يكون غديرا إذا حرك
وسطه تتحرك أطرافه *
وقال مالك في البئر تقع فيها (1) الدجاجة فتموت فيها: انه ينزف الا أن تغلبهم
كثرة الماء، ولا يؤكل طعام عجن به، ويغسل من الثياب ما غسل به، ويعيد كل
من توضأ بذلك الماء أو اغتسل به كل صلاة صلاها ما كان في الوقت. قال: فان
وقعت في البئر الوزغة أو الفأرة فماتتا: انه يستقى منها حتى تطيب، ينزفون منها
ما استطاعوا، فلو وقع خمر في ماء فان من يتوضأ منه يعيد في الوقت فقط، فلو وقع
شئ من ذلك في مائع غير الماء لم يحل أكله تغير أو لم يتغير، فان بل في الماء
خبز لم يجز الوضوء منه، وأعاد من توضأ به أبدا، فلو تغير الماء من النجاسة
المذكورة أو من شئ طاهر أعاد من توضأ به وصلى أبدا، فلو مات شئ من
خشاش الأرض في ماء أو في طعام أو شراب أو غير ذلك لم يضره، ويوكل كل ذلك
ويشرب، وذلك نحو الزنبور والعقرب والصرار والخنفساء والسرطان والضفدع وما
أشبه ذلك *
وقال ابن القاسم صاحبة: قليل الماء يفسده قليل النجاسة ويتيمم من لم يجد
سواه (2)، فان توضأ وصلى به لم يعد إلا في الوقت *

(1) في الأصلين (فيه) وهو خطأ لان البئر مؤنثة.
(2) في اليمنية (غيره)
147

قال علي: إن كان فرق بهذا القول بين ما ماتت فيه الوزغة والفأرة وبين ما
ماتت فيه الدجاجة فهو خطأ، لأنه قول بلا برهان، وان ساوى بين كل ذلك
فقد تناقض قوله، إذ منع من أكل الطعام المعمول بذلك الماء، وإذ أمر بغسل ما مسه
من الثياب، ثم لم يأمر بإعادة الصلاة الا في الوقت، وهذا عنده اختيار لا ايجاب.
فإن كانت الصلاة التي يأمره بأن يأتي بها في الوقت تطوعا عنده، فأي معنى للتطوع
في اصلاح ما فسد من صلاة الفريضة؟ فان قال: إن لذلك معنى، قيل له: فما الذي
يفسد ذلك المعنى إذا خرج الوقت؟ وما الوجه الذي رغبتموه من أجله في أن
يتطوع في الوقت، ولم ترغبوه في التطوع بعد الوقت؟ وإن كانت الصلاة التي يأمره
أن يأتي بها في الوقت فرضا، فكيف يجوز أن يصلى ظهرين ليوم واحد في وقت
واحد؟ وما الذي أسقطها عنه إذا خرج الوقت؟ وهو يرى أن الصلاة الفرض يؤديها
التارك لها فرضا ولا بد وان خرج الوقت *
ثم العجب من تفريق أبي حنيفة ومالك بين مالا دم له يموت في الماء وفى المائعات
وبين ماله دم يموت فيها، وهذا فرق لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا
سقيمة، ولا قول صاحب ولا قياس ولا معقول، والعجب من تحديدهم ذلك بما له دم!
وبالعيان ندري أن البرغوث له دم والذباب له دم *
فان قالوا: أردنا ماله دم سائل، قيل: وهذا زائد في العجب! ومن أين
لكم هذا التقسيم بين الدماء في الميتات؟ وأنتم مجمعون معنا ومع جميع أهل
الاسلام على أن كل ميتة فهي حرام، وبذلك جاء القرآن، والبرغوث الميت
والذباب الميت والعقرب الميت والخنفساء الميت: حرام بلا خلاف من أحد، فمن أين
وقع لكم هذا التفريق بين أصناف الميتات المحرمات؟ فقال بعضهم: قد أجمع
المسلمون على أكل الباقلاء المطبوخ وفيه الدقش (1) الميت، وعلى أكل العسل وفيه

(1) بفتح الدال المهملة واسكان القاف وآخره شين معجمة، ورسم في
الأصل المصري بدون نقط، وفي اليمني هكذا (الرقيس) ولم أصل إلى تحقيق
الصواب الا أن ما ذكرناه أقرب إلى الصحة، قال في اللسان: (الدقشة دويبة
رقشاء وقيل رقطاء أصغر من العظاءة) والله أعلم
148

النحل الميت، وعلى أكل الخل وفيه الدود الميت، وعلى أكل الجبن والتين كذلك،
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقل (1) الذباب في الطعام.
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إن كان الاجماع صح بذلك كما ادعيتم، وكان في
الحديث المذكور دليل على جواز أكل الطعام يموت فيه الذباب كما زعمتم: فان وجه
العمل في ذلك أحد وجهين: إما ان تقتصروا على ما صح به الاجماع من ذلك وجاء
به الخبر خاصة، ويكون ما عدا ذلك بخلافه، إذ أصلكم أن ما لاقى الطاهرات من
الأنجاس فإنه ينجسها، وما خرج عن أصله عندكم فإنكم لا ترون القياس عليه سائغا
أو تقيسوا على الذباب كل طائر، وعلى الدقش كل حيوان ذي أرجل، وعلى الدود
كل منساب. ومن أين وقع لكم أن تقيسوا على ذلك مالا دم له؟ فأخطأتم مرتين
إحداهما أن الذباب له دم، والثانية اقتصاركم بالقياس على مالا دم له، دون أن تقيسوا
على الذباب كل ذي جناحين أو كل ذي روح *
فان قالوا: قسنا ما عدا ذلك على حديث الفأر في السمن. قيل لهم: ومن أين
لكم عموم القياس على ذلك الخبر؟ فهلا قستم على الفأر كل ذي ذنب طويل، أو كل
حشرة من غير السباع! وهذا مالا انفصال لهم منه أصلا. والعجب كله من حكمهم
ان ما كان له دم سائل فهو النجس، فيقال لهم: فأي فرق بين تحريم الله تعالى الميتة
وبين تحريم الله تعالى الدم؟ فمن أين جعلتم النجاسة للدم دون الميتة؟ وأغرب
ذلك ان الميتة لا دم لها بعد الموت؟ فظهر فساد قولهم بكل وجه *
وأما قول ابن القاسم فظاهر الخطأ، لأنه رأى التيمم أولى من الماء النجس،
فوجب أن المستعمل له ليس متوضئا، ثم لم ير الإعادة على من صلى كذلك الا في الوقت،
وهو عنده مصل (2) بغير وضوء *

(1) مقل النسئ في الشئ يمقله مقلا من باب قتل غمسه وغطسه
قاله في اللسان.
(2) في الأصلين (مصلى) وهو غلط
149

وقال الشافعي: إذا كان الماء غير جار فسواء البئر والاناء والبقعة وغير ذلك إذا كان
أقل من خمسمائة رطل بالبغدادي، بما قل أو كثر: فإنه ينجسه كل نجس وقع فيه
وكل ميتة، سواء ماله دم سائل وما ليس له دم سائل، وكل ذلك ميتة نجس يفسد ما وقع
فيه، فإن كان خمسمائة رطل لم ينجسه شئ مما وقع فيه إلا ما غير لونه أو طعمه
أو ريحه. فإن كان ذلك في مائع غير الماء نجس كله وحرم استعماله، كثيرا كان
أو قليلا *
وقال أبو ثور صاحبه: جميع المائعات بمنزلة الماء، إذا كان المائع خمسمائة رطل لم
ينجسه شئ مما وقع فيه الا ان يغير لونه أو طعمه أو ريحه، فإن كان أقل من خمسمائة
رطل ينجس *
ولم يختلف أصحاب الشافعي - وهو الواجب ولا بد على أصله - في أن (1)
اناء فيه خمسمائة رطل من ماء غير أوقية فوقع فيه نقطة بول أو خمر أو نجاسة ما فإنه كله
نجس حرام ولا يجوز (2) الوضوء فيه وان يظهر لذلك فيه أثر، فلو وقع فيه (3) رطل بول
أو خمر أو نجاسة ما فلم يظهر لها فيه أثر فالماء طاهر يجزئ الوضوء به ويجوز شربه.
واحتج أصحاب الشافعي لقولهم هذا بالحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غسل الإناء
من ولوغ الكلب وهرقه، وبأمره صلى الله عليه وسلم من استيقظ من نومه بغسل يده ثلاثا
قبل أن يدخلها في وضوئه فإنه لا يدرى أين باتت يده، وبأمره صلى الله عليه وسلم البائل في الماء ألا
يتوضأ منه ولا يغتسل، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شئ

(1) في الأصلين (فهو أن) وهو خطأ
(2) في اليمنية (لا يجزئ)
(3) بهامش اليمنية (لعله يريد ماء هو خمسمائة رطل وأوقية) وهو غير
صحيح، بل مراد المؤلف أن يرد على الشافعية بالقياس على أصلهم، لأن الماء إذا
كان خمسمائة رطل إلا أوقية ثم وقع فيه رطل مما ذكر صار كثيرا أكثر من القلتين
فلم ينجس إذا لم يظهر للنجاسة أثر، وأياما كان ففي هذا من المغالطة الظاهرة ما فيه.
150

ولم يقبل الخبث) قالوا: فدلت هذه الأحاديث على أن الماء يقبل النجاسة ما لم
يبلغ حدا ما، قالوا: فكانت القلتان حدا منصوصا عليه فيما لا يقبل النجاسة منه،
واحتج بهذا أيضا أصحاب أبي حنيفة في قولهم *
ثم اختلفوا في تحديد القلتين، فقال بعض أصحاب أبي حنيفة: القلة أعلى
الشئ، فمعنى القلتين ههنا القامتان، وقال الشافعي بما روى عن ابن جريج: ان
القلتين من قلال هجر، وان قلال هجر القلة الواحدة قربتان أو قربتان وشئ،
قال الشافعي: القربة مائة رطل، وقال أحمد بن حنبل بذلك، ولم يحد في القلتين
حدا أكثر من أنه قال مرة: القلتان أربع قرب، ومرة قال: خمس قرب، ولم يحدها
بأرطال. وقال إسحاق: القلتان ست قرب، وقال وكيع ويحيى بن آدم: القلة الجرة
وهو قول الحسن البصري، أي جرة كانت فهي قلة، وهو قول مجاهد وأبى عبيد،
قال مجاهد: القلة الجرة، ولم يحد أبو عبيد في القلة حدا *
وأظرف شئ تفريقهم بين الماء الجاري وغير الجاري، فان احتجوا في ذلك
بان الماء الجاري إذا خالطته النجاسة مضى وخلفه طاهر: فقد علموا يقينا ان الذي
خالطته النجاسة إذا انحدر فإنما ينحدر كما هو، وهم يبيحون لمن تناوله في انحداره
فتطهر به أن يتوضأ منه ويغتسل ويشرب، والنجاسة قد خالطته بلا شك، فوقعوا في
نفس ما شنعوا وأنكروا. فان قالوا: لم نحتج في الفرق بين الماء الجاري وغير الجاري
إلا بأن النهى إنما ورد عن الماء الراكد الذي يبال (1) فيه. قلنا: صدقتم، وهذا
هو الحق، وبذلك الامر نفسه في ذلك الخبر نفسه فرقنا نحن بين من ورد عليه
النهى وهو البائل، وبين من لم يرد عليه النهى وهو غير البائل، ولا سبيل إلى دليل
يفرق بين ما أخذوا به من ذلك الخبر وبين ما تركوا منه. وبالله تعالى التوفيق *
واحتجوا بحديث الفأرة في السمن فيما ادعوه من قبول ما عدا الماء للنجاسة *
قال علي: هذا كل ما احتجوا به، ما لهم حجة أصلا غير ما ذكرنا، وكل هذه
الأحاديث صحاح ثابتة لا مغمز فيها، وكلها لا حجة لهم في شئ منها، وكلها حجة

(1) كتب في الأصلين (يبل)
151

عليهم لنا، على ما نبين إن شاء الله عز وجل وبه تعالى نستعين *
فأول ذلك أنهم كلهم أقوالهم مخالفة لما في هذه الأخبار، ونحن نقول بها كلها
والحمد لله على ذلك *
أما حديث ولوغ الكلب في الاناء، فان أبا حنيفة وأصحابه خالفوه جهارا،
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب، فقالوا هم: لا بل مرة واحدة
فقط، فسقط تعلقهم بقول هم أول من عصاه وخالفه، فتركوا ما فيه وادعوا فيه ما ليس
فيه وأخطأوا مرتين *
وأما مالك فقال: لا يهرق إلا أن يكون ماء، فخالف الحديث أيضا علانية، وهو
وأصحابه موافقون لنا على أن هذا الخبر لا يتعدى به إلى سواه، وأنه لا يقاس شئ
من النجاسات بولوغ الكلب. وصدقوا في ذلك، إذ من ادعى خلاف هذا فقد
زاد في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله عليه السلام قط *
وأما الشافعي فإنه قال: إن كان ما في الاناء من الماء خمسمائة رطل فلا يهرق
ولا يغسل الإناء، وإن كان فيه غير الماء أهرق بالغا ما بلغ، وهذا ليس في الحديث
أصلا لا بنص ولا بدليل. فقد خالف هذا الخبر وزاد فيه ما ليس فيه من أنه ان أدخل
فيه يده أو رجله أو ذنبه أهرق وغسل سبع مرات إحداهن بالتراب، وهذه زيادة
ليست في كلامه عليه السلام أصلا، وقال: إن ولغ في الاناء خنزير كان حكمه حكم
ما ولغ فيه الكلب: يغسل سبعا إحداهن بالتراب، قال: فان ولغ فيه سبع لم يغسل
أصلا ولا أهرق. فقاس الخنزير على الكلب، ولم يقس السباع على الكلب - وهو
بعضها - وإنما حرم الكلب بعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع. فقد
ظهر خلاف أقوالهم لهذا الخبر وموافقتنا نحن لما فيه، فهو حجة لنا عليهم. والحمد لله
رب العالمين كثيرا، وظهر فساد قياسهم وبطلانه، وأنه دعاوى لا دليل على شئ منها *
وأما الخبر فيمن استيقظ من نومه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في وضوئه
فان أحدكم لا يدرى أين باتت يده -: فإنهم كلهم مخالفون له، وقائلون: إن هذا
لا يجب على المستيقظ من نومه، وقلنا نحن: بل هو واجب عليه. وقالوا كلهم: إن
النجاسات التي احتجوا بهذه الأخبار في قبول الماء لها، وفرقوا بها بين ورود النجاسة
152

على الماء وبين ورود الماء على النجاسة: فإنها تزال بغسلة واحدة وهذا خلاف
ما في هذين الخبرين جهارا، لان في أحدهما تطهير الاناء بسبع غسلات أولاهن
بالتراب، وفى الآخر تطهير اليد بثلاث غسلات. وهم لا يقولون بهذا في النجاسات،
ولو كان هذان الخبران دليلين على قبول الماء للنجاسة لوجب أن يكون حكمهما مستعملا
في إزالة النجاسات. فبطل احتجاجهم بهذين الخبرين جملة. والحمد لله *
ومن الباطل المتيقن أن يكون ما ظنت به النجاسة من اليد لا يطهر إلا بثلاث
غسلات، وإذا تيقنت النجاسة فيها اكتفى في ازالتها بغسلة واحدة. فهذا قولهم
الذي لا شنعة أشنع منه، وهم يدعون إنفاذ حكم العقول في قياساتهم، ولا حكم أشد
منافرة للعقل من هذا الحكم، ولو قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعنا وأطعنا، وقلنا: هو
الحق، لكن لما لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب اطراحه والرغبة عنه، وأن نوقن بأنه
الباطل. ومن المحال أيضا أن يكون الامر للمتنبه بغسل اليد ثلاثا خوف أن تقع على
نجاسة، إذ لو كان كذلك لكانت رجله في ذلك كيده، ولكان باطن فخذيه وباطن
أليتيه أحق بذلك من يده *
وأما مالك فموافق لنا في الخبر أنه ليس دليلا على قبول الماء للنجاسة، فبطل
تعلقهم أيضا بهذا الخبر جملة، وصح أنه حجة لنا عليهم، والحمد لله رب العالمين،
فصح اتفاق جميعهم على أن هذين الخبرين لا يجعلان أصلا لسائر النجاسات، وألا يقاس
سائر النجاسات على حكمهما، فبطل تعلقهم بهما *
وأما حديث نهي البائل في الماء الراكد عن أن يتوضأ منه أو يغتسل، فإنهم
كلهم مخالفون له أيضا. أما أبو حنيفة فإنه قال: إن كان الماء بركة إذا حرك طرفها
الواحد لم يتحرك طرفها الآخر فإنه لو بال فيها ما شاء أن يبول فله أن يتوضأ منها
ويغتسل، فإن كانت أقل من ذلك لم يكن له ولا لغيره أن يتوضأ منها ولا أن يغتسل،
فزاد في الحديث ما ليس فيه من تحريم ذلك على غير البائل، وخالف الحديث فيما
فيه بإباحته في بعض أحوال كثرة الماء وقلته للبائل فيه أن يتوضأ منه ويغتسل.
وكذلك قول الشافعي في الماء إذا كان خمسمائة رطل أو أقل من خمسمائة رطل، فخالف
153

الحديث كما خالفه أبو حنيفة، وزاد فيه كما زاد أبو حنيفة. وأما مالك فخالفه كله،
قال: إذا لم يتغير الماء ببوله فله أن يتوضأ منه ويغتسل، وقال في بعض أقواله:
إذا كان كثيرا. فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة لمخالفتهم له. وأما نحن فأخذنا به كما
ورد، ولله الحمد كثيرا *
وأما حديث الفأر في السمن فإنهم كلهم خالفوه، لان أبا حنيفة ومالكا والشافعي
أباحوا الاستصباح به، وفى الحديث: (لا تقربوه) وأباح أبو حنيفة بيعه، فبطل
تعلقهم بجميع هذه الآثار وصح خلافهم لها، وأنها حجة لنا عليهم *
فان قيل: فما معنى هذه الآثار إن كانت لا تدل على قبول الماء النجاسة وما فائدتها
قلنا: معناها ما اقتضاه لفظها، لا يحل لاحد أن يقول إنسانا من الناس مالا يقتضيه
كلامه، فكيف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء الوعيد الشديد على من قوله ما لم يقل *
وأما فائدتها فهي أعظم فائدة، وهي دخول الجنة بالطاعة لها، وليعلم من يتبع
الرسول ممن ينقلب على عقبيه *
وأما حديث القلتين فلا حجة لهم فيه أصلا: أول ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يحد مقدار القلتين، ولا شك في أنه عليه السلام لو أراد أن يجعلهما حدا بين ما يقبل
النجاسة وبين ما لا يقبلها لما أهمل أن يحدها لنا بحد ظاهر لا يحيل، وليس هذا مما
يوجب على المرء ويوكل فيه إلى اختياره، ولو كان ذلك لكانت كل قلتين صغرتا
أو كبرتا - حدا في ذلك. فاما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: القلة القامة، ومع ذلك فقد
خالفوا هذا الخبر - على أن نسلم لهم تأويلهم الفاسد لان البئر وإن كان فيها قامتان أو
ثلاث فإنها عندهم تنجس. وأما الشافعي فليس حده في القلتين بأولى من حد غيره
ممن فسر القلتين بغير تفسيره، وكل قول لا برهان له فهو باطل. وأما نحن فنقول بهذا
الخبر حقا، ونقول: ان الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس ولم يقبل الخبث. والقلتان ما وقع
عليه في اللغة اسم قلتين، صغرتا أو كبرتا، ولا خلاف في أن القلة التي تسع عشرة
أرطال ماء تسمى عند العرب قلة، وليس في هذا الخبر ذكر لقلال هجر أصلا، ولا
شك في أن بهجر قلالا صغارا وكبارا *
154

فان قيل: إنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر قلال هجر في حديث الاسراء (1). قلنا: نعم، وليس
ذلك يوجب أنه صلى الله عليه وسلم متى ما ذكر قلة فإنما أراد من قلال هجر، وليس تفسير ابن
جريج للقلتين بأولى من تفسير مجاهد الذي قال: هما جرتان، وتفسير الحسن كذلك:
إنها أي جرة كانت *
وليس في قوله صلى الله عليه وسلم هذا دليل ولا نص على أن ما دون القلتين ينجس ويحمل
الخبث (2) ومن زاد هذا في الخبر فقد قوله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فوجب طلب حكم
ما دون القلتين من غير هذا الخبر، فنظرنا فوجدنا ما حدثنا حمام قال: ثنا عباس
ابن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو علي عبد الصمد
ابن أبي سكينة - وهو ثقة - ثنا عبد العزيز بن أبي حازم أبو تمام عن أبيه عن سهل
ابن سعد الساعدي قال: (قالوا يا رسول الله: انا نتوضأ (3) من بئر بضاعة وفيها
ما ينجي (4) الناس والحائض والجيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء لا ينجسه شئ (5)) *
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور أخبرنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر
ابن أبي شيبة ثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن حذيفة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث وذكر صلى الله عليه وسلم فيها وجعلت لنا الأرض

(1) بهامش اليمنية (يعني في ثمر سدرة المنتهى)
(2) بهامش اليمنية (هذا مبنى على عدم القول بالمفهوم وهو مذهب المصنف)
(3) في المصرية (انك تتوضأ) وهو الموافق لها في التلخيص.
(4) بضم الياء واسكان النون، والنجو ما يخرج من البطن، وأنجى أحدث
أو ألقى نجوه.
(5) حديث بئر بضاعة معروف من حديث أبي سعيد الخدري، وأما من
حديث سهل بن سعد فانا لم نره الا في هذه الرواية وهي رواية محمد بن وضاح،
فقد رواه عنه قاسم بن أصبغ في مصنفه، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في
مستخرجه على سنن أبي داود، ذكر هذا ابن حجر في التلخيص (ج 1 ص 91) وقال:
(قال ابن وضاح لقيت ابن أبي سكينة بحلب فذكره. وقال قاسم بن أصبغ: هذا
من أحسن شئ في بئر بضاعة، وقال ابن حزم: عبد الصمد ثقة مشهور، قال قاسم
ويروى عن سهل بن سعد في بئر بضاعة من طرق هذا خيرها، قلت: ابن أبي
سكينة الذي زعم ابن حزم انه مشهور قال ابن عبد البر وغير واحد: انه مجهول
ولم نجد عنه راويا الا محمد بن وضاح) وهذا الحديث رواه الدارقطني (ص؟ 1) من
طريق فضيل بن سليمان عن أبي حازم عن سهل مختصرا بدون ذكر قصة بئر بضاعة
ونقله عنه ابن الجوزي في التحقيق رقم 2 وله شاهد قوى رواه البيهقي في سننه
(ج 1 ص 259) عن محمد بن أبي يحيى عن أبيه قال: (دخلت على سهل بن سعد الساعدي
في نسوة فقال لو أني أسقيكم من بضاعة لكرهتم ذلك، وقد والله سقيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيدي منها) قال البيهقي: (وهذا اسناد حسن موصول)
ورواه الدارقطني (ص 12) من هذا الطريق مختصرا، فدلت هذه الأسانيد على أن
للحديث عن سهل أصلا صحيحا، ولئن جهل ابن عبد البر حال عبد الصمد فلقد
عرفه غيره: قاسم بن أصبغ وابن حزم ومن عرف حجة على من لم يعرف.
155

كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء (1)) ثم عليه السلام كل ماء
ولم يخص ماء من ماء *
فقالوا: فإنكم تقولون إن الماء إذا طهرت فيه النجاسة فغيرت لونه وطعمه وريحه
فإنه ينجس، فقد خالفتم هذين الخبرين. قلنا: معاذ الله من هذا أن نقوله، بل الماء
لا بنجس أصلا، ولكنه طاهر بحسبه (2)، لو أمكننا تخليصه من جملة المحرم علينا
لاستعملناه، ولكنا لما لم نقدر على الوصول إلى استعماله كما أمرنا سقط عنا حكمه،
وهكذا كل شئ، كثوب طاهر صب عليه خمر أو دم أو بول، فالثوب طاهر كما
كان إن أمكننا إزالة النجس عنه صلينا فيه، وإن لم يمكنا الصلاة فيه الا باستعمال
النجس المحرم سقط عنا حكمه، ولم تبطل الصلاة للباس ذلك الثوب، لكن لاستعمال
النجاسة التي فيه، وكذلك خبز دهن بودك خنزير، وهكذا كل شئ، حاشى ما جاء

(1) رواه مسلم وغيره
(2) بهامش اليمنية (يقال عاد الخلاف لفظيا يتعلق بالتسمية لا بالحكم فإنه
متفق عليه) وهذا صحيح.
156

النص بتحريمه بعينه فتجب الطاعة له كالمائع يلغ فيه الكلب في الاناء وكالماء
الراكد للبائل وكالسمن الذائب يقع فيه الفأر الميت ولا مزيد وقد روينا من
طريق قتادة أن ابن مسعود قال: لو اختلط الماء بالدم لكان الماء طهورا وبالله
تعالى التوفيق *
ولو كان الماء ينجس بملاقاة النجاسة للزم إذا بال انسان في ساقية ما الا يحل
لاحد أن يتوضأ بما هو أسفل من موضع البائل، لان ذلك الماء الذي فيه البول أو
العذرة منه يتوضأ بلا شك ولما تطهر فم أحد من دم أوقي فيه لأن الماء إذا دخل
في الفم النجس تنجس وهكذا أبدا والمفرق بين الماء وسائر المائعات في ذلك مبطل
متحكم قائل بلا برهان وهذا باطل *
قال أبو محمد على: وأما تشنيعهم علينا بالفرق بين البائل المذكور في الحديث
وغير البائل الذي لم يذكر فيه، وبين الفأر يقع في السمن المذكور في الحديث وبين
وقوعه في الزيت أو وقوع حرام ما في السمن إذ (1) لم يذكر شئ من ذلك في
الحديث -: فتشنيع فاسد عائد عليهم، ولو تدبروا كلامهم لعلموا أنهم مخطئون في
التسوية بين البائل الذي ورد فيه النص وغير البائل الذي لا نص فيه، وهل فرقنا
بين البائل وغير البائل إلا كفرقهم معنا بين الماء الراكد المذكور في الحديث وغير
الراكد الذي لم يذكر فيه؟ والا فليقولوا لنا: ما الذي أوجب الفرق بين الماء الراكد
وغير الراكد ولم يوجب الفرق بين البائل وغير البائل؟! إلا أن ما ذكر في الحديث
لا يتعدى بحكمه إلى ما لم يذكر فيه بغير نص، وكفرقهم بين الغاصب للماء فيحرم عليه
شربه واستعماله، وهو حلال لغير الغاصب له، وهل البائل وغير البائل إلا كالزاني
وغير الزاني والسارق وغير السارق، والمصلى وغير المصلى؟ لكل ذي اسم منها حكمه،
وهل الشنعة والخطأ الظاهر الا أن يرد نص في البائل فيحمل ذلك الحكم على غير
البائل! وهل هذا إلا كمن حمل حكم السارق على غير السارق، وحكم الزاني على

(1) في الأصلين (إذا) وما هنا أصح
157

غير الزاني وحكم المصلى على غير المصلى، وهكذا في جميع الشريعة! ونعوذ
بالله من هذا.
ولو أنصفوا أنفسهم لأنكر المالكيون والشافعيون على أنفسهم تفريقهم بين مس
الذكر بباطن الكف فينقض الوضؤ، وبين مسه بظاهر الكف فلا ينقض الوضؤ.
ولأنكر المالكيون على أنفسهم تفريقهم بين حكم الشريفة وحكم الدنية في النكاح،
وما فرق الله تعالى بين فرجيهما في التحليل والتحريم والصداق والحد. ولأنكر
المالكيون والشافعيون تفريقهم بين حكم التمر وحكم البسر في العرايا.
وهؤلاء المالكيون يفرقون معنا بين ما أدخل فيه الكلب لسانه وبين ما أدخل
فيه ذنبه المبلول من الماء ويفرقون بين بول البقرة وبول الفرس، ولا نص في
ذلك. بل أشنع من ذلك تفريقهم بين خرء الدجاجة المخلاة وخرئها إذا كانت مقصورة
وبين بول الشاة إذا شربت ماءا نجسا وبين بولها إذا شربت ماءا طاهرا،
وفرقوا بين الفول وبين نفسه، فجعلوه في الزكاة مع الجلبان صنفا واحدا، وجعلوهما
في البيوع صنفين، وكل ذي عقل يدرى ان الفرق بين البائل والمتغوط بنص جاء
في أحدهما دون الآخر أوضح من الفرق بين الفول أمس والفول اليوم، وبين الفول
ونفسه بغير نص ولا دليل أصلا.
وهؤلاء الشافعيون فرقوا بين البول في مخرجه من الإحليل فجعلوه يطهر بالحجارة
وبين ذلك البول نفسه من ذلك الانسان نفسه إذا بلغ أعلى الحشفة: فجعلوه
لا يطهر الا بالماء، وفرقوا بين بول الرضيع وبين غائطه في الصب والغسل، وهذا هو
الذي أنكروا علينا ههنا بعينه.
وهؤلاء الحنفيون فرقوا بين بول الشاة في البئر فيفسدهما، وبين ذلك المقدار
نفسه من يولها بعينها في الثوب فلا يفسده، وفرقوا بين بول البعير في البئر فيفسده،
ولو أنه، نقطة فان وقعت بعرتان من بعر ذلك الجمل في ماء البئر لم يفسد الماء. وهذا
نفس ما أنكروه علينا. وفرقوا بين روث الفرس يكون في الثوب منه أكثر من
قدر الدرهم البغلي فيفسد الصلاة، وبين بول ذلك الفرس نفسه يكون في الثوب فلا
158

يفسد الصلاة إلا أن يكون ربع الثوب عند أبي حنيفة، وشبرا في شبر عند أبي يوسف،
فيفسدها حينئذ، وزفر منهم يقول: بول ما يؤكل لحمه طاهر كله ورجيعه نجس،
وهذا هو الذي أنكروا علينا. وفرقوا بين ما يملا الفم من القلس وبين ما لا يملا
الفم منه، وفرقوا بين البول في الجسد، فلا يزيله الا الماء، وبين البول في الثوب
فيزيله غير الماء
ولو تتبعنا سقطاتهم لقام منها ديوان
فان قالوا: من قال بقولكم هذا في الفرق بين البائل والمتغوط في الماء الراكد
قبلكم؟ قلنا: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه - إذ بين لنا حكم البائل وسكت عن المتغوط والمتنخم والمتمخط، ولكن
أخبرونا: من قال من ولد آدم بفروقكم هذه قبلكم؟ من الفرق بين بول الشاة
في البئر وبولها في الثوب، وبين بولها في الجسد وبولها في الثوب؟ وبين بول الشاة
تشرب ماءا نجسا وبولها إذا شربت ماءا: طاهرا؟ وبين البول في رأس الحشفة
وبينه فوق ذلك؟ فهذا هو الذي لم يقله أحد قط قبلهم! وليتهم إذ قالوه مبتدئين
قالوه بوجه يفهم أو يعقل، وكذلك سائر فروقهم المذكورة والحمد لله رب العالمين.
ونحن لا ننكر القول بما جاء به القرآن والسنة، وان لم نعرف قائلا مسمى به، وهم
ينكرون ذلك ويفعلونه، فاللوائم لهم لازمة لا لنا، وإنما ننكر غاية الانكار القول
في دين الله تعالى وعلى الله ما لم يقله تعالى قط ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا
والله هو المنكر حقا ولو قاله أهل الأرض.
وكذلك ان قالوا لنا: من فرق قبلكم بين السمن يقع فيه الفأر وبين غير السمن
فجوابنا هو الذي ذكرنا. بعينه، فكيف وقد روينا الفرق بينهما عن ابن عمر، كما
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز
ثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ثنا هشيم عن معمر عن أبان عن راشد مولى قريش (1)

(1) الاسناد فيه خطأ في الأصلين، فهو في النسخة المصرية (هشيم عن معمر
ابن أبان عن راشد مولى قريش) وفى اليمنية (هشيم بن معمر بن أبان عن
راشد مولى قريش) والصواب ما ذكرنا، فهشيم هو ابن بشير، ومعمر هو ابن
راشد الأزدي، وأبان هو بن أبي عياش البصري. وأما راشد مولى قريش فاني
لم أجد له ترجمة ولم أعرف من هو.
159

عن ابن عمر أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: إن كان مائعا فألقه كله وإن كان جامدا
فألق الفأرة وما حولها وكل ما بقي * حدثنا حملم ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري
ثنا عبد الرزاق عن معمر وسفيان الثوري كلاهما عن أيوب السختياني عن نافع
مولى ابن عمر عن ابن عمر انه سئل عن فأرة وقعت في عشرين فرقا من زيت، فقال
ابن عمر: استسرجوا به وادهنوا به الادم. وبه إلى عبد الرازق عن ابن جريج
قال: قلت لعطاء: الفأرة تقع في السمن الذائب فتموت فيه أو في الدهن فتؤخذ قد
تسلخت أو قد ماتت وهي شديدة لم تتسلخ؟ فقال: سواء إذا ماتت فيه، فأما
الدهن فينش فيدهن به ان لم تقذره، قلت: فالسمن أينش فيؤكل؟ قال: لا ليس
ما يؤكل كهيئة شئ في الرأس يدهن به (1). (قال أبو محمد): والزيت دهن بنص
القرآن قال الله تعالى: (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين)
وقد رأى مالك غسل الزيت تقع فيه النجاسة ثم يؤكل، وقد روى ابن القاسم عن
مالك في النقطة من الخمر تقع في الماء والطعام: أنه لا يفسد شئ من ذلك، وأن ذلك
الماء يشرب وذلك الطعام يؤكل.
قال علي: ويقال للحنفيين: أنتم تخالفون بين أحكام النجاسات في الشدة
والخفة بآرائكم بغير نص من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من اجماع ولا قياس،

(1) العبارة محرفة في الأصلين، فكتب في إحداهما (ينبش) وفي الآخر
(يلش) وصححناها من لسان العرب مادة (ن ش ش) ونص عبارته (النش
الخلط.. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج: قلت لعطاء: الفأرة تموت في
السمن الذائب أو الدهن، قال: أما الدهن فينش ويدهن به ان لم تقذره نفسك،
قلت: ليس في نفسك من أن يأتم إذا نش؟ قال: لا، قلت: فالسمن ينش ثم
يؤكل؟ قال: ليس ما يؤكل به كهيئة شئ في الرأس يدهن به. وقوله: ينش
ويدهن به ان لم تقذره نفسك. أي يخلط ويذاف) و (يدهن) بضم الياء
وفتح الدال المشددة.
160

فبعضها عندكم لا ينجس الثوب والبدن والخف والنعل منه الا مقدار أكبر من الدرهم
البغلي وربما قل، وبعضها لا ينجس هذه الأشياء الا ما كان ربع الثوب، ولا ندري
ما قولكم في الجسد والنعل والخف والأرض، وبعضها تفرقون بين حكمها في نفسها
في الثوب والجسد وبين حكمها في نفسها في البئر، فتقولون: ان قطرة خمر أو بول تنجس
البئر ولا تنجس الثوب ولا الجسد حتى يكون ذلك أكثر من الدرهم البغلي،
فأخبرونا عن غدير إذا حرك طرفه الواحد لم يتحرك الآخر وقعت فيه نقطة بول
كلب أو نقطة بول شاة أو حلمة (1) ميتة أو فيل ميت متفسخ، هل كل هذا سواء أم
لا؟ فان ساووا بين ذلك كله نقضوا أصلهم في تغليظ بعض النجاسات دون بعض،
وتركوا قولهم إن بعرتين من بعر الإبل أو بعرتين من بعر الغنم لا تنجس البئر، وإن
فرقوا بين كل ذلك سألناهم تفصيل ذلك، ليكون ذلك زيادة في السخرياء (2) والتخليط *
قال علي: وقالوا لنا: ما قولكم في خمر أو دم أو بول وقع ذلك في الماء فلم
يظهر لشئ من ذلك في الماء طعم ولا لون ولا ريح، هل صار الخمر والبول والدم ماء أم
بقي كل ذلك بحسبه؟ فإن كان صار كل ذلك ماء فكيف هذا. وإن كان بقي كل ذلك
بحسبه فقد أبحتم الخمر والبول والدم وهذا عظيم وخلاف للاسلام؟ (قال أبو محمد)
جوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن العالم كله جوهرة واحدة تختلف ابعاضها بأعراضها
وبصفاتها فقط، وبحسب اختلاف صفات كل جزء من العالم تختلف أسماء تلك الأجزاء
التي عليها تقع أحكام الله عز وجل في الديانة، وعليها يقع التخاطب والتفاهم
من جميع الناس بجميع اللغات، فالعنب عنب وليس زبيبا، والزبيب ليس عنبا،
وعصير العنب ليس عنبا ولا خمرا، والخمر ليس عصيرا، والخل ليس خمرا، وأحكام
كل ذلك في الديانة تختلف، والعين الحاملة واحدة، وكل ذلك له صفات منها يقوم

(1) الحلمة بفتح الحاء واللام القرادة الكبيرة وهي دويبة تعض الإبل معروفة
وقيل هي الصغيرة، وفى النسخة اليمنية (حلمة منتنة)
(2) كذا في الأصلين بالمد ولم أجده في شئ من كتب اللغة، بل المصدر السخرية
بضم السين، والاسم السخري بضم السين وكسرها مع تشديد الياء
161

حده فما دامت تلك الصفات في تلك العين فهي ماء وله حكم الماء فإذا زالت
تلك الصفات عن تلك العين لم تكن ماء ولم يكن لها حكم الماء، وكذلك الدم والخمر
والبول وكل ما في العالم، لكل نوع منه صفات ما دامت فيه فهو خمر له حكم الخمر، أو دم
له حكم الدم، أو بول له حكم البول أو غير ذلك، فإذا زالت عنه لم تكن تلك العين خمرا
ولا ماء ولا دما ولا بولا ولا الشئ الذي كان ذلك الاسم واقعا من أجل تلك الصفات
عليه، فإذا سقط ما ذكرتم من الخمر أو البول أو الدم في الماء أو في الخل أو في اللبن
أو في غير ذلك -: فان بطلت الصفات التي من أجلها سمى الدم دما والخمر خمرا
والبول بولا، وبقيت صفات الشئ الذي وقع فيه ما ذكرنا بحسبها، فليس ذلك الجرم
الواقع بعد خمرا ولا دما ولا بولا، بل هو ماء على الحقيقة أو لبن علي الحقيقة، وهكذا
في كل شئ *
قان غلب الواقع مما ذكرنا وبقيت صفاته بحسبها وبطلت صفات الماء أو اللبن أو
الخل فليس هو ماء بعد ولا خلا ولا لبنا، بل هو بول على الحقيقة أو خمر على الحقيقة
أو دم على الحقيقة. فان بقيت صفات الواقع ولم تبطل صفات ما وقع فيه فهو ماء وخمر
أو ماء وبول أو ماء ودم، أو لبن وبول أو دم وخل وهكذا في كل شئ *
ولم يحرم علينا استعمال الحلال من ذلك لو أمكننا تخليصه من الحرام، لكنا
لا نقدر على استعماله الا باستعمال الحرام فعجزنا عنه فقط، والا فهو طاهر مطهر حلال
بحسبه كما كان، وهكذا كل شئ في العالم، فالدم يستحيل لحما فهو حينئذ لحم وليس
دما، والعين واحدة، واللحم يستحيل شحما فليس لحما بعد بل هو شحم والعين
واحدة، والزبل والبراز والبول والماء والتراب يستحيل كل ذلك في النخلة ورقا ورطبا،
فليس شئ من ذلك حينئذ زبلا ولا ترابا ولا ماء، بل هو رطب حلال طيب، والعين
واحدة، وهكذا في سائر النبات كله، والماء يستحيل هواء متصعدا وملحا جامدا
فليس هو ماء بل ولا يجوز الوضوء به والعين واحدة، ثم يعود ذلك الهواء وذلك الملح
ماء، فليس حينئذ هواء ولا ملحا، بل هو ماء حلال يجوز الوضوء به والغسل *
فان أنكرتم هذا وقلتم: انه وان ذهبت صفاته فهو الذي كان نفسه، لزمكم ولا بد
إباحة الوضوء بالبول لأنه ماء مستحيل بلا شك، وبالعرق لأنه ماء مستحيل، ولزمكم
162

تحريم الثمار المغذاة بالزبل وبالعذرة، وتحريم لحوم الدجاج لأنها مستحيلة
عن المحرمات *
فان قالوا: فنحن نجد الدم يلقى في الماء أو الخمر أو البول فلا يظهر له لون ولا ريح ولا
طعم فيواتر طرحه فتظهر صفاته فيه، فهلا صار الثاني ماء كما صار الأول؟ قلنا لهم: هذا
السؤال لسنا نحن المسؤولين به، لكن جريتم فيه على عادتكم الذميمة في التعقب على الله
تعالى والاستدراك عليه في أحكامه تعالى وأفعاله، وإياه تعالى تسألون عن هذا لا نحن،
لأنه هو الذي أحل الأول ولم يحل الثاني كما شاء لا نحن، وجوابه عز وجل لكم على
هذا السؤال يأتيكم يوم القيامة بما تطول عليه ندامة السائل، لان الله تعالى حرم هذا
السؤال إذ يقول تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) *
ثم نحن نجيبكم قائمين لله تعالى كما افترض عز وجل علينا إذ يقول: (كونوا قوامين
لله) فنقول لكم: هذا خلق الله تعالى ما خلق كله من ذلك كله كما شاء لا معقب
لحكمه ولا يسأل عما يفعل، ونحن نجد الماء يصعده الهواء بالتجفيف فيصير الماء هواء
مصعدا وليس ماء أصلا، حتى إذا كثر الماء المستحيل هواء في الجو عاد ماء كما كان،
وأنزله الله تعالى من السحاب ماء، وهذا نفس ما احتججتم به علينا من أن الدم يخفى
في الماء والفضة تخفى في النحاس، فإذا توبع بهما ظهرا *
ولا فرق بين هذا السؤال الأحمق وبين من سأل: لم خلق الله الماء يتوضأ به ولم
يجعل ماء الورد يتوضأ به؟ ولم جعل الصلاة إلى الكعبة والحج ولم يجعلها إلى كسكر أو إلى
الفرما (1) أو الطور؟ ولم جعل المغرب ثلاثا والصبح ركعتين بكل حال، والظهر في
الحضر أربعا؟ ولم جعل الحمار طويل الاذنين، والجمل صغيرهما، والفأر طويل الذنب،

(1) كسكر بفتح الكافين وبينهما سين مهملة ساكنة وآخره راء، قال
ياقوت: (كورة واسعة... وقصبتها اليوم واسط القصبة التي بين الكوفة
والبصرة) و (الفرما) بفتح الفاء والراء والميم مقصور: مدينة قديمة بين
العريش والفسطاط شرقي تنيس على ساحل البحر. قاله ياقوت، وموقعها يكون
الآن شرقي (بور فؤاد) بين بحيرة (البردويل) وبين بحيرة تنيس المعروفة
ببحيرة (المنزلة)
163

والثعلب كذلك والمعزى قصيرة الذنب والأرنب كذلك؟ ولم صار الانسان يحدث
من أسفل ريحا فيلزمه غسل وجهه وذراعيه ومسح رأسه وغسل رجليه، ولا يغسل مخرج
تلك الريح؟ وهذا كله ليس من سؤال العقلاء المسلمين، ولا يشبه اعتراضات العلماء
المؤمنين، بل هو سؤال نوكى الملحدين وحمقى الدهريين المتحيرين الجهال *
وإذا أحلناكم وسائر خصومنا على العيان ومشاهدة الحواس في انتقال الأسماء
بانتقال الصفات التي فيها تقوم الحدود، ثم أريناكم بطلان الصفات التي لا تجب تلك
الأسماء - عندكم وعندنا وعند كل من على أديم الأرض قديما وحديثا - على تلك
الأعيان الا بوجودها، هم أحلناكم على البراهين الضرورية العقلية على أن الله
تعالى خالق كل ذلك على ما هو عليه كما شاء، فاعتراضكم كله هوس وباطل يؤدى
إلى الالحاد *
فقالوا: فما تقولون في فضة خالطها نحاس فلم يظهر له فيها أثر ولا غيرها، أتزكى بوزنها
وتباع بوزنها فضة محضة أم لا؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق: القول في هذا كالقول في الماء
سواء سواء ولا فرق، إن بقيت صفات الفضة بحسبها ولم يظهر للنحاس فيها أثر، فإنها
تزكى بوزنها وتباع بوزنها من الفضة، لا بأقل ولا بأكثر ولا نسيئة، وان غلبت صفات
النحاس حتى لا يبقى للفضة أثر، فهو كله نحاس محض لا زكاة فيه أصلا، سواء كثرت
تلك الفضة التي استحالت فيه أو لم تكثر، وجائز بيعه بالفضة نقدا ونسيئة بأقل مما
خالطه من الفضة وبمثل ذلك وبأكثر، وان ظهرت صفات النحاس وصفات الفضة
معا فهو نحاس وفضة، تجب الزكاة فيما فيه من الفضة خاصة ان بلغت خمس أواقي
وإلا فلا، كما لو انفردت، ولا يحل بيع تلك الجملة بفضة محضة أصلا لا بمقدار ما فيها
من الفضة ولا بأقل ولا بأكثر لا نقدا ولا نسيئة، لأننا لا نقدر فيها على المماثلة بالوزن،
وتباع تلك الجملة بالذهب نقدا لا نسيئة *
فسألوا عن قدر طبخت بالخمر أو طرح فيها بول أو دم أو عذرة ولم يظهر من ذلك
كله هنالك أثر أصلا، فقلنا: من طرح في القدر شيئا من ذلك عمدا فهو فاسق
عاص لله عز وجل، لأنه استعمل الحرام المفترض اجتنابه، وأما إذا بطل (1) كل

(1) بهامش اليمنية: (يعنى استحالت صفاته كلها)
164

ذلك (1) فما في القدر حلال أكله، لأنه ليس فيه شئ من المحرمات أصلا، وقد
أبطل الله تعالى تلك المحرمات وأحالها إلى الحلال. ثم نقلب عليهم هذا السؤال في
دن خل رمى فيه خمر فلم يظهر للخمر أثر، فقولهم إن ذلك الذي في الدن كله حلال،
فهذا تناقض منهم، وقول منهم بالذي شنعوا به فلزمهم التشنيع، لأنهم عظموه ورأوه
حجة، ولم يلزمنا لأننا لم نعظمه ولا رأيناه حجة. ولله الحمد *
قال علي: وأما متأخروهم فإنهم لما رأوا أنهم لا يقدرون على ضبط هذا المذهب
لفساده وسخافته فروا إلى أن قالوا: إننا لا نفرق بين غدير كبير ولا بحر ولا غير ذلك،
لكن الحكم لغلبة الظن والرأي في الماء الذي يتوضأ منه ويغتسل منه، فان تيقنا
أو غلب في ظنوننا أو النجاسة خالطته حرم استعماله ولو أنه ماء البحر، وان لم نتيقن
ولاغلب في ظنوننا أنه خالطته نجاسة توضأنا به *
قال علي: وهذا المذهب أشد فسادا من الذي رغبوا عنه لوجوه: أولها، أنهم
مقرون بأنه حكم بالظن، وهذا لا يحل، لان الله تعالى يقول: (ان يتبعون الا الظن
وان الظن لا يغنى من الحق شيئا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فان الظن
أكذب الحديث). ولا أسوأ حالا ممن يحكم في دين الله تعالى الذي هو الحق المحض
بالظن الذي هو مقر بأنه لا يحققه. والثاني، أن يقال لهم: كما تظنون أن النجاسة لم
تخالطه فظنوا أنها خالطته فاجتنبوه، لان الحكم بالظن أصل من أصولكم، فما الذي
جعل إحدى جنبتي الظن أولى من الأخرى؟. والثالث، أن قولكم هذا تحكم منكم
بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل. والرابع، أن نقول لهم: عرفونا ما معنى هذه
المخالطة من النجاسة للماء؟ فلسنا نفهمها ولا أنتم ولا أحد في العالم - ولله الحمد - فان
كنتم تريدون أن كل جزء من أجزاء الماء قد جاور جزءا من أجزاء النجاسة فهذه
مجاورة لا مخالطة، وهذا لا يمكن البتة الا بأن يكون مقدار النجاسة كمقدار الماء سواء
سواء، وإلا فقد فضلت أجزاء من الماء لم يجاورها شئ من النجاسة *
فان قالوا: فقد تنجس كل ذلك وإن كان لم يجاوره من النجاسة شئ، قلنا

(1) بهامش اليمنية. (أي لون ما طرح وريحه وطعمه)
165

لهم: هذا لازم لكم في البحر بنقطة بول تقع فيه ولا فرق فان أبوا (1) من هذا قلنا
لهم: فعرفونا بالمقدار من النجاسة الذي إذا جاور مقدارا محدودا أيضا من الماء
ولا بد نجسه، فان أقدموا على تحديد ذلك زادوا في الضلال والهوس، وان لم يقدموا
على ذلك تركوا قولهم، كالميتة فسادا ومجهولا لا يحل القول به في الدين *
وأيضا فإن كان الحكم عندكم لغالب الظن فإنه يلزمكم أن تقولوا في قدح فيه
أوقيتان من ماء فوقعت فيه مقدار الصآبة (2) من بول كلب: إنه لم ينجس من الماء
إلا مقدار ما يمكن أن تخالطه تلك النجاسة، وليس ذلك الا لمقدارها من الماء فقط،
ويبقى سائر ماء القدح طاهرا حلالا شربه والوضوء به. وهكذا في جب فيه كرماء (3)
وقعت فيه أوقية بول فإنه على أصلكم لا ينجس الا مقدار ما مازجته تلك الأوقية وبقى
سائر ذلك طاهرا مطهرا حلالا، ونحن موقنون وأنتم أنها لم تمازج عشر الكر ولا عشر
عشره، فان التزمتم هذا فارقتم جميع مذاهبكم القديمة والحديثة، التي هي أفكار سوء
مفسدة للدماغ، فان رجعتم إلى أن ما قرب من النجاسة ينجس، لزمكم ذلك كما قد
ألزمناكم في النيل والجيحون، وفى كل ماء جار، لأنه يتصل بعضه ببعض فينجس
جميعه لملاقاته الذي قد تنجس ولا بد - نعم - وفى البحر من نقطة بول تقع في كل ذلك،
فاختاروا ما شئتم:.
فان قالوا: لسنا على يقين من أن النهر الكبير أو البحر تنجس، ولا من أن المتوضئ
به توضأ بماء خالطته النجاسة منه. قلنا لهم: هذا نفسه موجود في الجب والبئر وفى
القلة وفي قدح فيه عشرة أرطال ماء إذا لم يظهر أثر النجاسة في شئ من ذلك ولا فرق،

(1) (أبى) فعل يتعدى بنفسه، وقد استعمله المؤلف كثيرا متعديا بمن
كما في الأحكام له (ج 2 ص 27) وقد رد هذا نقلا عن الفارسي. واستعمله مرة
في الأحكام متعديا بعن (ج 4 ص 237) ولم أجد له سندا
(2) بضم الصاد المهملة وفتح الهمزة وبعدها ألف وباء. هي بيض البرغوث
والقمل وجمعها (صئبان) وفي اليمنية (الصوانة) بالنون وهو خطأ
(3) (الكر) بفتح الكاف وبالراء المشددة مكيال لأهل العراق وهو
ستون قفيزا وقيل ستة أوقار حمار، قاله في اللسان
166

ولا يقين في أن كل ماء فيما ذكرنا تنجس، ولا في أن المتوضئ من ذلك والشارب
توضأ بنجس أو شرب نجسا، ثم حتى لو كان كما ذكروا لما وجب أن يتنجس الماء
الطاهر الحلال أو المائع لذلك لمجاورة النجس أو الحرام له، ما لم يحمل صفات الحرام
أو النجس. وبالله تعالى التوفيق *
قال علي: رأيت بعض من تكلم في الفقه ويميل إلى النظر يقول: إن كل ماء
وقعت فيه نجاسة فلم يظهر لها فيه أثر فسواء كان قليلا أو كثيرا، الحكم واحد، وهو
أن من توضأ بذلك الماء كله أو شربه حاشى مقدار ما وقع فيه من النجاسة، فوضوءه
جائز وصلاته تامة وشربه حلال، وكذلك غسله منه، إذ ليس على يقين من أنه
استعمل نجاسة ولا أنه شرب حراما، فان استوعب ذلك الماء كله فلا وضوء له ولا طهر
وهو عاص في شربه، لأننا على يقين من أنه استعمل نجاسة وشرب حراما، قال:
وهكذا القول في البحر فما دونه ولا فرق، قال: فان توضأ بذلك الماء اثنان فصاعدا
فاستوعباه أو استوعبوه كله بالغسل أو الوضوء أو الشرب فكل واحد منهما أو منهم
وضوءه جائز في الظاهر، وكذلك غسله أو شربه، الا أن فيهما أو فيهم من لا وضوء له
ولا غسل، ولا أعرفه بعينه، فلا ألزم أحدا منهم إعادة وضوء ولا إعادة
صلاة بالظن *
قال علي: وقد ناظرت صاحب هذا القول رحمه الله في هذه المسألة، وألزمته على
أصل آخر له كان يذهب إليه: أن يكون يأمر جميعهم بإعادة الوضوء والصلاة، لان
كل واحد منهم ليس على يقين من الطهارة، وشك في الحدث، بل على أصلنا وأصل
كل مسلم من أن كل واحد منهم على يقين من الحدث وعلى شك من الطهارة، فالواجب
عليه أن يأتي بيقين الطهارة، وأريته أيضا بطلان القول الأول بما قدمنا من استحالة
الأحكام باستحالة الأسماء، وان استحالة الأسماء باستحالة الصفات التي منها تقوم
الحدود، وقلت له: فرق بين ما أجزت من هذا وبين اناءين في أحدهما ماء وفى الآخر
عصير بعض الشجر، وبين بضعتي لحكم إحداهما من خنزير والثانية من كبش، وبين
شاتين إحداهما مذكاة والأخرى عقيرة سبع ميتة، ولا يقدر على الفرق بين شئ
من ذلك أصلا *
167

قال علي: وممن روى عنه هذا القول بمثل قولنا ان الماء لا ينجس شئ -:
عائشة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس
والحسين بن علي بن أبي طالب وميمونة أم المؤمنين وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان
رضى الله عن جميعهم، والأسود بن يزيد وعبد الرحمن اخوه وعبد الرحمن بن أبي
ليلى وسعيد بن جبير ومجاهد وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق
والحسن البصري وعكرمة وجابر بن زيد وعثمان البتي وغيرهم. فإن كان التقليد جائزا
فتقليد من ذكرنا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أولى من تقليد أبي حنيفة
ومالك والشافعي *
137 - مسألة - والبول كله من كل حيوان - إنسان أو غير إنسان، مما يؤكل
لحمه أو لا يؤكل لحمه نحو ما ذكرنا كذلك، أو من طائر يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه -:
فكل ذلك حرام اكله وشربه إلا لضرورة تداو أو إكراه أو جوع أو عطش فقط،
وفرض اجتنابه في الطهارة والصلاة الا ما لا يمكن التحفظ منه الا بحرج فهو معفو عنه
كونيم (1) الذباب ونجو البراغيث *
وقال أبو حنيفة: أما البول فكله نجس سواء كان مما يؤكل لحكه أو مما لا يؤكل
لحمه، إلا أن بعضه أغلظ نجاسة من بعض، فبول كل ما يؤكل لحمه من فرس أو شاة
أو بعير أو بقرة أو غير ذلك - لا ينجس الثوب ولا تعاد منه الصلاة، الا أن يكون
كثيرا فاحشا فينجس حينئذ وتعاد منه الصلاة أبدا. ولم يحد أبو حنيفة في المشهور
عنه في الكثير حدا، وحده أبو يوسف بأن يكون شبرا في شبر، قال: فلو بالت شاة
في بئر فقد تنجست وتنزح كلها، قالوا: وأما بول الانسان وما لا يؤكل لحمه فلا تعاد
منه الصلاة ولا ينجس الثوب الا أن يكون أكثر من قدر الدرهم البغلي، فإن كان
كذلك نجس الثوب وأعيدت منه الصلاة أبدا، فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل لم
ينجس الثوب ولم تعد منه الصلاة، وكل ما ذكرنا قبل وبعد فالعمد عندهم
والنسيان سواء في كل ذلك. قال: وأما الروث فإنه سواء كله كان مما يؤكل لحمه أو مما لا

(1) الونيم خرء الذباب
168

يؤكل لحمه من بقر كان أو من فرس أو من حمار أو غير ذلك -، إن كان في الثوب منه أو النعل أو الخف
أو الجسد أكثر من قدر الدرهم البغلي -: بطلت الصلاة وأعادها أبدا، وإن كان قدر
الدرهم البغلي فأقل لم يضر شيئا، فان وقع في البئر بعرتان فأقل من أبعار الإبل أو الغنم
لم يضر شيئا، فإن كان من الروث المذكور في الخف والنعل أكثر من قدر الدرهم: فإن كان
يابسا أجزأ فيه الحك، وإن كان رطبا لم يجز فيه إلا الغسل، فإن كان مكان
الروث بول لم يجز فيه الا الغسل يبس أو لم ييبس. قال: فان صلى وفى ثوبه من خرء
الطير الذي يؤكل لحمه أولا يؤكل لحمه أكثر من قدر الدرهم لم يضر شيئا ولا أعيدت
منه الصلاة، الا أن يكون كثيرا فاحشا فتعاد منه الصلاة، الا أن يكون خرء دجاج
فإنه من صلى وفى ثوبه أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة أبدا، فلو وقع في الماء خرء
حمام أو عصفور لم يضره شيئا. وقال زفر: بول كل ما يؤكل لحمه طاهر كثر أم قل،
وأما بول مالا يؤكل لحمه ونجوه ونجو ما يؤكل لحمه فكل ذلك نجس *
وقال مالك: بول مالا يؤكل لحمه ونجوه نجس، وبول ما يؤكل لحمه ونجوه طاهران
إلا أن يشرب ماء نجسا فبوله حينئذ نجس، وكذلك ما يأكل الدجاج من نجاسات
فخرؤها نجس
وقال داود: بول كل حيوان ونجوه - أكل لحمه أو لم يؤكل - فهو طاهر، حاشى بول
الانسان ونجوه فقط فهما نجسان
وقال الشافعي مثل قولنا الذي صدرنا به
قال علي: أما قول أبي حنيفة ففي غاية التخليط والتناقض والفساد، لا تعلق له
بسنة لا صحيحة ولا سقيمة، ولا بقرآن ولا بقياس ولا بدليل إجماع ولا بقول صاحب
ولا برأي سديد، وما نعلم أحدا قسم النجاسات قبل أبي حنيفة هذا التقسيم، بل نقطع
على أنه لم يقل بهذا الترتيب فيها أحد قبله، فوجب اطراح هذا القول بيقين.
وأما قول أصحابنا (1) فإنهم قالوا: الأشياء على الطهارة حتى يأتي نص
بتحريم شئ أو تنجيسه فيوقف عنده، قالوا: ولا نص ولا اجماع في تنجيس

(1) يعنى الظاهرية
169

بول شئ من الحيوان ونجوه حاشى بول الانسان ونجوه، فوجب أن لا يقال بتنجيس
شئ من ذلك، وذكروا ما رويناه من طريق أنس: (أن قوما من عكل وعرينة
قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالاسلام، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أهل
ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع
وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها) وذكر الحديث. وبحديث رويناه
أيضا من طريق أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في المدينة حيث أدركته
الصلاة وفي مرابض الغنم)). وبحديث رويناه من طريق ابن مسعود: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصلى عند البيت وملا من قريش جلوس وقد نحروا جزورا لهم، فقال بعضهم
أيكم يأخذ هذا الفرث بدمه ثم يمهله حتى يضع وجهه ساجدا فيضعه على ظهره،
قال عبد الله: فانبعث أشقاها (1) فأخذ الفرث، فامهله، فلما خر ساجدا وضعه على
ظهره، فأخبرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي جارية فجاءت تسعى فأخذته من
ظهره، فلما فرغ من صلاته قال: الله عليك بقريش) وذكر الحديث. وبحديث رويناه
من طريق ابن عمر: (كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت شابا
عزبا، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئا من
ذلك). وذكروا في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ما رويناه من طريق
شعبة وسفيان كلاهما عن الأعمش عن مالك بن الحارث (2) عن أبيه قال: (صلى بنا
أبو موسى الأشعري على مكان فيه سرقين)، هذا لفظ سفيان، وقال شعبة:
(روث الدواب) ورويناه من طريق غيرهما (والصحراء أمام، وقال: هنا وهناك
سواء) وعن أنس: (لا بأس ببول كل ذات كرش) وعن إبراهيم النخعي، قال
منصور: سألته عن السرقين يصيب خف الانسان أو نعله أو قدمه؟ قال: لا بأس.
وعن إبراهيم أنه رأى رجلا قد تنحى عن بغل يبول، فقال له إبراهيم: ما عليك
لو أصابك. وقد صح عنه أنه كان لا يجيز أكل البغل. وعن الحسن البصري:
لا بأس بأبوال الغنم. وعن محمد بن علي بن الحسين ونافع مولى ابن عمر فيمن أصاب عمامته
بول بعير، قالا جميعا: لا يغسله. وعن عبد الله بن مغفل أنه كان يصلى وعن رجليه أثر

(1) هو عقبة بن أبي معيط
(2) هو المسلمي مات سنة 94
170

السرقين. وعن عبيد بن عمير قال: إن لي عنيقا (1) تبعر في مسجدي
قال أبو محمد: أما الآثار التي ذكرنا فكلها صحيح، الا أنها لا حجة لهم في شئ منها *
أما حديث ابن عمر فغير مسند لأنه ليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف ببول
الكلاب في المسجد فأقره، وإذ ليس هذا في الخبر فلا حجة فيه، إذ لا حجة
الا في قوله عليه السلام أو في عمله أو فيما صح أنه عرفه فأقره، فسقط هذا الاحتجاج
بهذا الخبر، لكن يلزم من احتج بحديث أبي سعيد: (كنا نخرج على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من طعام) أن يحتج بهذا الخبر، لأنه أقرب إلى أن يعرفه
رسول الله صلى الله عليه وسلم منه إلى أن يعرف عمل بنى خدرة في جهة من جهات المدينة، ويلزم
من شنع لعمل الصحابة رضي الله عنهم أن يأخذ بحديث ابن عمر هذا، فلا ير أبوال
الكلاب ولا غيرها نجسا، ولكن هذا مما تناقضوا فيه *
وأما حديث ابن مسعود فلا حجة لهم فيه، لان فيه ان الفرث كان معه دم، وليس
هذا دليلا عندهم، على طهارة الدم، فمن الباطل أن يكون دليلا على طهارة الفرث دون
طهارة الدم، وكلاهما مذكوران معا. وأيضا فان شعبة وسفيان وزكريا بن أبي زائدة رووا
كلهم هذا الخبر عن الذي رواه عنه علي بن صالح، وهو أبو إسحاق عن عمر وبن ميمون
عن ابن مسعود، فذكروا أن ذلك كان سلى (2) جزور، وهم أوثق واحفظ من علي بن صالح
وروايتهم زائدة على روايته (3) وإذا كان الفرث والدم في السلى فهما غير طاهرين، فلا

(1) تصغير عناق، وهي الأنثى من ولد المعز
(2) السلى هو الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من الدواب والإبل، وهو
من الناس المشيمة، قال ابن السكيت: يكتب بالياء. قاله في اللسان
(3) أما رواية علي بن صالح فقد رواها النسائي (ج‍ 1 ص 58) باللفظ الذي
ذكره المؤلف، وأما الروايات الأخرى فقد روى الحديث البخاري (ج‍ 1 ص 39، 78
و 2: 43، 83، 182) ومسلم (ج‍ 2 ص 67، 68) واحمد (ج‍ 1 ص 417) والطيالسي برقم
(325) وفيها كلها (سلى جزور) الا رواية البخاري (ج‍ 1 ص 78) - في الباب
الأخير من كتاب الصلاة قبل كتاب المواقيت - من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق
ولفظه: (أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها)
الخ، وهي متابعة لرواية علي بن صالح تؤيدها وهو ثقة، ورواية هي التي فيها
زيادة الفرث والدم، والزيادة مقبولة من الثقة *
171

حكم لهما، والقاطع ههنا أن هذا الخبر كان بمكة قبل ورود الحكم بتحريم النجو والدم،
فصار منسوخا بلا شك وبطل الاحتجاج به بكل حال *
وأما حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم فإنهم قالوا: إن مرابض الغنم لا تخلو
من أبوالها ولا من أبعارها. فقلنا لهم: أما قولكم انها لا تخلو من أبوالها ولا من أبعارها
فقد يبول الراعي أيضا بينهم، وليس ذلك دليلا على طهارة بول الانسان *
وأيضا فان عبد الله بن ربيع حدثنا قال ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا
أبو داود السجستاني ثنا محمد بن كريب ثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام
ابن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد
في الدور وأن تطيب وتنظف). قال علي: الدور هي دور السكنى، وهي أيضا المحلات،
تقول دار بنى ساعدة، ودار بنى النجار، ودار بني عبد الأشهل، هكذا قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك في لغة العرب، فقد صح أمره عليه السلام بتنظيف
المساجد وتطييبها، وهذا يوجب الكنس لها من كل بول وبعر وغيره *
وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد
ابن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا شيبان بن فروخ وأبو الربيع
الزهراني كلاهما عن عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم من أحسن (1) الناس خلقا، فربما رأيته تحضر الصلاة (2) فيأمر
بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح (3) ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم
خلفه فيصلى بنا). فهذا أمر منه عليه السلام بكنس ما يصلى عليه ونضحه *
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر

(1) كذا في الأصلين بزيادة (من) وقد رواه مسلم كاملا في كتاب الصلاة
(ج‍ 1 ص 183) وروى القسم الأول منه بهذا الاسناد في كتاب الفضائل (ج‍ 2
ص 212) بحذف (من) في الموضعين
(2) في مسلم في الصلاة (فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا)
(3) في مسلم (ثم ينضح)
172

ابن أبي شيبة ثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون هو عبد الله عن أنس بن سيرين
عن عبد الحميد بن المنذر بن الجارود عن أنس بن مالك قال: (صنع بعض عمومتي
النبي صلى الله عليه وسلم طعاما وقال إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلى فيه، فأتاه وفى
البيت فحل (1) من تلك الفحول - يعني حصيرا - فأمر عليه السلام بجانب منه فكنس
ورش فصلى وصلينا معه). فهذا أمر منه عليه الصلاة والسلام بكنس ما يصلى عليه
ورشه بالماء، فدخل في ذلك مرابض الغنم وغيرها (2) *
وأيضا فان هذا الحديث نفسه إنما رويناه من طريق عبد الوارث عن أبي
التياح عن أنس، وقد رويناه من طريق البخاري عن سليمان بن حرب عن شعبة
عن أبي التياح عن أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى في مرابض الغنم قبل أن يبنى
المسجد) فصح أن هذا كان في أول الهجرة قبل ورود الاخبار باجتناب كل نجو وبول *
وأيضا فان يونس بن عبد الله قال ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن
خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن هشام بن حسان
عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تجدوا إلا مرابض
الغنم وأعطان الإبل فصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل) *
حدثنا حمام (3) ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق
عن سفيان الثوري عن الأعمش عن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن
البراء بن عازب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أنصلي في أعطان الإبل؟ فقال لا.
قال: أنصلي في مرابض الغنم قال نعم) *

(1) الفحل والفحال ذكر النخل، والفحل حصير تنسخ من فحال النخل
والجمع فحول. قاله في اللسان
(2) الظاهر أن أمره عليه السلام بكنس الحصير
ونضحه بالماء في حديثي أنس إنما هو من باب النظافة وتخير مكان الصلاة.
وبعيد أن يكون أمرا بكنس مكانها ورشه كلما أراد المصلى الصلاة. وهذا واضح
(3) في المصرية (ثنا حمام بن مفرج) وفي اليمنية (ثنا ابن مفرج) بحذف
حمام، وكلاهما خطأ، لان ابن حزم إنما يروى عن ابن مفرج بالواسطة كما مضى
مرارا. انظر المسألة رقم 116 و 118 والأحكام ج‍ 4 ص 132
173

قال علي: عبد الله هذه هو عبد الله بن عبد الله ثقة كوفي ولى قضاء الري (1).
حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن
محمد البرتي (2) ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث بن سعيد ثنا يونس عن الحسن عن
عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم على مرابض الغنم فصلوا فيها،
وإذا أتيتم على مبارك الإبل فلا تصلوا فيها، فإنها خلقت من الشياطين)
قال أبو محمد: فلو كان أمره عليه السلام بالصلاة في مرابض الغنم دليلا على
طهارة أبوالها وأبعارها كان نهيه عليه السلام عن الصلاة في أعطان الإبل دليلا على
نجاسة أبوالها وأبعارها، وإن كان نهيه عليه السلام عن الصلاة في أعطان الإبل ليس
دليلا على نجاسة أبوالها، فليس أمره عليه السلام بالصلاة في مرابض الغنم دليلا على
طهارة أبوالها وأبعارها، والمفرق بين ذلك متحكم بالباطل، لا يعجز من لا ورع له عن
أن يأخذ بالطرف الثاني بدعوى كدعواه *
فان قال: إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل لأنها خلقت من الشياطين كما
في الحديث. قيل له: وإنما امر بالصلاة في مرابض الغنم لأنها من دواب الجنة كما
قد صح ذلك أيضا في الحديث، فخرجت الطهارة والنجاسة من كلا الخبرين، فسقط
التعلق بهذا الخبر جملة. وبالله تعالى التوفيق *
واما حديث انس في أبوال الإبل وألبانها فلا حجة لهم فيه، لان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنما أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل والبان الإبل على سبيل التداوي من المرض،
كما روينا من طريق مسلم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا ابن علية عن حجاج بن أبي عثمان
حدثني أبو رجاء مولى أبى قلابة عن أبي قلابة حدثني انس بن مالك: (ان نفرا من
عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الاسلام، فاستوخموا الأرض وسقمت
أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون

(1) هو أبو جعفر الرازي مولى بني هاشم.
(2) كتب في المصرية بدون نقط، وفي اليمنية (البركى) وكلاهما غير معروف عندي، وقد يكون صوابه (البرتي)
ولكني لا أرجح ذلك، وإنما أظنه ظنا، لان (أحمد بن محمد البرتي) الحافظ هو من هذه
الطبقة، انظر ترجمة في تذكرة الحفاظ (ج د ص 157) وفي الجواهر المضية (ج 1 ص 114)
174

من أبوالها وألبانها، فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل) وذكر الحديث (1) فصح
يقينا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بذلك على سبيل الدواء من السقم الذي كان
أصابهم، وانهم صحت أجسامهم بذلك، والتداوي بمنزلة ضرورة. وقد قال تعالى:
(وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم إليه) فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم
عليه من المأكل والمشرب *
فان قيل: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رويتموه من طريق شعبة عن سماك عن
علقمة بن وائل عن أبيه قال: ذكر طارق بن سويد أو سويد بن طارق: (أنه سال
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه ثم سأله فنهاه، فقال يا نبي الله انها دواء، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: لا ولكنها داء) وما روى من طريق جرير عن سليمان الشيباني عن حسان
ابن المخارق عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ان الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم
عليكم). فهذا كله لا حجة لهم فيه لان حديث علقمة بن وائل إنما جاء من طريق
سماك بن حرب وهو يقبل التلقين، شهد عليه بذلك شعبة وغيره، (2) ثم لو صح لو يكن فيه

(1) هو مطول في صحيح مسلم (ج‍ 2 ص 25)
(2) سماك بن حرب ثقة وكان تغير في آخر حياته فربما لقن، ولذلك كان من
سمع منه قديما مثل شعبة وسفيان فحديثهم صحيح مستقيم. وهذا الحديث رواه
مسلم (ج‍ 2 ص 125) وأبو داود (ج‍ 4 ص 7) والترمذي (ج‍ 2 ص 4) والطيالسي (137)
واحمد (4: 311 و 6: 399) كلهم من طريق شعبة عن سماك عن علقمة بن
وائل عن أبيه، وفي لفظ احمد: (أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم) الخ
ورواه أحمد أيضا (4: 317) من طريق إسرائيل عن سماك. وفي جميع هذه
الروايات الحديث من رواية وائل بن حجر. ورواه أحمد (4: 311 و 5: 292)
وابن ماجة (2: 185) من طريق حماد بن سلمة عن سماك عن علقمة بن وائل
عن طارق بن سويد، فجعله حماد من مسند طارق، وهو محتمل الا أبي أرجح
خطأ حماد في هذه فقد خالفه شعبة وإسرائيل - وهما أحفظ منه - فجعلاه من مسند
وائل بن حجر والد علقمة. ويؤيد هذه أن علقمة روى الشك في اسم طارق بن
سويد. فلو كان روي عنه الحديث مباشرة لرفع هذا الشك. والحديث فيما نرى
صحيح من طريق شعبة وإسرائيل. والله أعلم *
175

حجة، لان فيه أن الخمر ليست دواء، وإذا ليست دواء فلا خلاف بيننا في أن ما ليس
دواء فلا يحل تناوله إذا كان حراما، وإنما خالفناهم في الدواء، وجميع الحاضرين لا يقولون
بهذا، بل أصحابنا والمالكيون يبيحون للمختنق شرب الخمر إذا لم يجد ما يسيغ
أكله به غيرها، والحنفيون والشافعيون يبيحونها عند شدة العطش *
وأما حديث الدواء الخبيث فنعم (1) وما اباحه الله تعالى عند الضرورة فليس في تلك
الحال خبيثا، بل هو حلال طيب، لان الحلال ليس خبيثا، فصح ان الدواء الخبيث
هو القتال المخوف، على أن يونس بن أبي إسحاق الذي انفرد به ليس بالقوى *
وأما حديث (لم يجعل الله شفاءكم فيما حرم عليكم) فباطل، لان راويه سليمان
الشيباني وهو مجهول (2)، وقد جاء اليقين بإباحة الميتة والخنزير عند خوف الهلاك من

(1) لم يسبق ذكر هذا الحديث ولعله سقط من الأصول. وهو حديث يونس
ابن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الدواء الخبيث) رواه الترمذي (2: 4) وابن ماجة (2: 180) والحاكم
(4: 410) ونسبه ابن تيمية في المنتقى أيضا إلى أحمد ومسلم انظر نيل الأوطار
(9: 93). ونسبه ابن حجر في التلخيص (360) إلى ابن حبان أيضا.
(2) حديث أم سلمة نسبه ابن حجر في الفتح (10: 69) إلى أبى يعلى
وابن حبان وصححه، وفي التلخيص (359 360) أيضا إلى البيهقي. ولفظه كما
في الفتح: (قالت اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز فدخل النبي صلى الله عليه
وسلم وهو يغلى فقال: ما هذا؟ فأخبرته فقال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم
عليكم) وتصحيح ابن حبان للحديث واقرار ابن حجر عليه أوثق في نفوسنا
من تعليل ابن حزم إياه. وسليمان الشيباني ليس مجهولا بل هو (أبو إسحاق
الشيباني سليمان بن أبي سليمان) وهو إمام ثقة، وجرير هو ابن عبد الحميد الضبي
وأما حسان بن المخارق فاني لم أجد ترجمة الا أن ابن سعد ذكر في الطبقات
(6: 102) أنه يروى عن عمر بن الخطاب. ثم إن هذا اللفظ (ان الله لم
يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) ورد أيضا موقوفا على ابن مسعود من طريق
صحيحة، فذكره البخاري تعليقا، ونسبه ابن حجر في الفتح (ج‍ 10 ص 69) إلى
فوائد علي بن حرب واحمد في الأشربة والطبراني في الكبير وداود بن نصير
الطائي. وقال: وأخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح
على شرط الشيخين اه‍. ورواه الحاكم في المستدرك (ج‍ 4 ص 218)
176

الجوع، فقد جعل تعالى شفاءنا من الجوع المهلك فيما حرم علينا في غير تلك الحال،
ونقول: نعم ان الشئ ما دام حراما علينا فلا شفاء لنا فيه، فإذا اضطررنا إليه فلم
يحرم علينا حينئذ بل هو حلال فهو لنا حينئذ شفاء، وهذا ظاهر الخبر *
وقد قال الله تعالى فيما حرم علينا: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه)
وقد قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم إليه). وصح أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها)
وقال عليه السلام: (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة من الطرق
الثابتة الموجبة للعلم. روى تحريم الحرير عمر وابنه وابن الزبير وأبو موسى وغيرهم،
ثم صح يقينا أنه عليه السلام أباح لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام لباس
الحرير على سبيل التداوي من الحكة والقمل والوجع، فسقط كل ما تعلقوا به *
وأما قولهم: إن الأشياء على الإباحة بقوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم
عليكم إلا ما اضطررتم إليه) وبقوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا)
فصحيح وهكذا نقول: إننا إن لم نجد نصا على تحريم الأبوال جملة والانجاء جملة
والا فلا يحرم من ذلك شئ إلا ما أجمع عليه من بول ابن آدم ونجوه كما قالوا، فان
وجدنا نصا في تحريم كل ذلك ووجوب اجتنابه فالقول بذلك واجب، فنظرنا في
ذلك فوجدنا * ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد
البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا ابن سلام أخبرنا عبيدة بن حميد أبو عبد الرحمن
عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت إنسانين
يعذبان في قبورهما فقال عليه السلام: يعذبان وما يعذبان في كبير وإنه لكبير،
كان أحدهما لا يستتر من البول وكان الآخر يمشى بالنميمة) (1) وذكر الحديث

(1) البخاري في كتاب الأدب (ج 3 ص 135)
177

قال أبو محمد: كل كبير فهو صغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه من الشرك أو القتل *
ومن طريق البخاري * حدثنا محمد بن المثنى ثنا أبو معاوية الضرير هو محمد
ابن خازم (1) - ثنا الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: (مر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما
فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشى بالنميمة) (2). وذكر باقي الخبر
ورويناه أيضا من طريق أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر عن شعبة عن
الأعمش، ومن طريق وكيع عن الأعمش، ومن طريق جرير وشعبة عن منصور
ابن المعتمر عن مجاهد *
حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث (3) ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا
أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عفان بن مسلم ثنا أبو عوانة
عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثر عذاب
القبر في البول): ورويناه أيضا من طريق أبى معاوية عن الأعمش باسناده *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا
أبو داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا يحيى بن سعيد هو القطان عن أبي حزرة (4)
هو يعقوب بن مجاهد القاص - ثنا عبد الله بن محمد بن أبي بكير الصديق أخو القاسم
ابن محمد قال: كنا عند عائشة أم المؤمنين فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا يصلى بحضرة طعام (5) ولا وهو يدافعه الأخبثان) يعني البول والنجو. ورويناه
أيضا من طريق مسدد عن يحيى ين سعيد باسناده. ومن طريق مسلم عن محمد بن
عباد عن حاتم بن إسماعيل عن أبي حزرة (6) *

(1) بالخاء المعجمة
(2) البخاري في كتاب الطهارة (ج 1 ص 37)
(3) في اليمنية (عن مجاهد بن يونس بن عبد الله بن مغيث) وهو خطأ
انظر اسناد حديث أبي ثعلبة في المسألة 126
(4) أبو حزرة: بفتح الحاء المهملة واسكان الزاي وفتح الراء. والقاص:
بتشديد الصاد المهملة وفى الأصلين (القاضي) وهو خطأ
(5) في سنن أبي داود (ج 1 ص 33) (الطعام)
(6) مسلم (ج 1 ص 155)
178

قال أبو محمد: فافترض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس اجتناب البول جملة، وتوعد
على ذلك بالعذاب، وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه بول دون بول، فيكون فاعل
ذلك مدعيا على الله تعالى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا علم له به بالباطل إلا بنص
ثابت جلى ووجدناه عليه السلام قد سمى البول جملة والنجر جملة (الأخبثين)
والخبيث محرم، قال الله تعالى: (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فصح
أن كل أخبث وخبيث فهو حرام *
فان قيل: إنما خاطب عليه السلام الناس فإنما أراد نجوهم وبولهم فقط. قلنا:
نعم إنما خاطب عليه السلام الناس ولكن أتى بالاسم الأعم الذي يدخل تحته جنس
البول والنجو. ولا فرق بين من قال: إنما أراد عليه السلام نجو الناس خاصة وبولهم،
وبين من قال: بل إنما أراد عليه السلام بول كل إنسان عليه خاصة لا بول غيره
من الناس وكذلك في النجو، فصح أن الواجب حمل ذلك على ما تحت الاسم الجامع
للجنس كله *
فان قيل: إن هذا الخبر الذي فيه العذاب في البول إنما هو من رواية الأعمش عن
مجاهد، وقد تكلم فيها، وأيضا فإنه مرة رواه عن مجاهد عن ابن عباس، ومرة عن
مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، وأيضا فان ابن راهويه ومحمد بن العلاء ويحيى
وأبا سعيد الأشج رووه عن وكيع عن الأعمش فقالوا فيه: (كان لا يستتر من بوله)
وهكذا رواه عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن مجاهد *
قال أبو محمد: هذا كله لا شئ. أما رواية الأعمش عن مجاهد فان الامامين
شعبة ووكيعا ذكرا في هذا الحديث سماع الأعمش له من مجاهد فسقط هذا الاعتراض،
وأيضا فقد رويناه آنفا من غير طريق الأعمش لكن من طريق منصور عن مجاهد عن
ابن عباس، فسقط التعلل جملة. وأما رواية هذا الخبر مرة عن مجاهد عن ابن عباس ومرة
عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس فهذا قوة للحديث، ولا يتعلل بهذا إلا جاهل مكابر
للحقائق، لان كليهما إمام، وكلاهما صحب ابن عباس الصحبة الطويلة، فسمعه مجاهد من
ابن عباس، وسمعه أيضا من طاوس عن ابن عباس فرواه كذلك، وإلا فأي شئ في هذا
مما يقدح في الرواية؟ وددنا أن تبينوا لنا ذلك، ولا سبيل إليه إلا بدعوى فاسدة لهج
179

بها قوم من أصحاب الحديث، وهم فيها مخطئون عين الخطأ، ومن قلدهم أسوأ حالا
منهم. وأما رواية من روى (من بوله) فقد عارضهم من هو فرقهم، فروى هنا دبن
السرى وزهير بن حرب ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلهم عن وكيع فقالوا: (من
البول)، ورواه ابن عون وابن جرير عن أبيه عن منصور عن مجاهد فقالا (من البول)
ورواه شعبة وأبو معاوية الضرير وعبد الواحد بن زياد كلهم عن الأعمش فقالوا:
(من البول) فكلا الروايتين حق، ورواية هؤلاء تزيد على رواية الآخرين،
وزيادة العدل واجب قبولها، فسقط كل ما تعللوا به، وصح فرضا وجوب اجتناب
كل بول ونجو *
وممن قال بهذا جملة من السلف كما حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد
ابن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن محمد البركي (1) القاضي ثنا أبو معمر (2)
ثنا عبد الوارث بن سعيد ثنا عمارة بن أبي حفصة حدثني أبو مجلز قال: سألت ابن عمر
عن بول ناقتي قال: اغسل ما أصابك منه. وعن أحمد بن حنبل عن المعتمر بن سليمان
التيمي عن سلم بن أبي الذيال (3) عن صالح الدهان عن جابر بن زيد قال: الأبوال كلها
أنجاس. وعن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: البول كله يغسل. وعن
قتادة عن سعيد بن المسيب قال: الرش بأرش والصب بالصب من الأبوال كلها. وعن معمر
عن الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال: ينضح. وعن سفيان بن عيينة عن أبي
موسى إسرائيل (4). قال: كنت مع محمد بن سيرين فسقط عليه بول خفاش فنضحه،

(1) كذا في اليمنية وفى المصرية (البرى) ولا أدرى أيتهما الصواب.
(2) في اليمنية (معمر) وهو خطأ. وأبو معمر هو عبد الله بن عمرو بن أبي
الحجاج المقعد راوية عبد الوارث بن سعيد مات سنة 224
(3) سلم باسكان اللام، وفى الأصلين (سالم) وهو خطأ، والذيال بفتح الذال
المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف وآخره لام.
(4) هو إسرائيل بن موسى البصري نزيل الهند، كان يسافر إليها.
180

وقال: ما كنت أرى النضح شيئا حتى بلغني عن سبعة (1) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن وكيع عن شعبة قال: سألت حماد بن أبي سليمان عن بول الشاة فقال: اغسله.
وعن حماد أيضا في بول البعير مثل ذلك *
قال أبو محمد: وأما قول زفر فلا متعلق له بشئ من هذه الأخبار، لما نذكره في
إفساد قول مالك إن شاء الله تعالى لكن تعلق من ذهب مذهبه بحديث رواه
عيسى بن موسى بن أبي حرب الصفار عن يحيى بن بكير (2) عن سوار بن مصعب
عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ما أكل لحمه فلا بأس ببوله) قال علي: هذا خبر باطل موضوع، لان سوار بن
مصعب متروك عند جميع أهل النقل، متفق على ترك الرواية عنه، يروى الموضوعات.
فإذا سقط هذا فان زفر قاس بعض الأبوال على بعض، ولم يقس النجو على البول،
وهذا هو الذي أنكره أصحابه علينا في تفريقنا بين حكم البائل في الماء الراكد
وبين المتغوط فيه، إلا أننا نحن قلناه اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله زفر برأيه الفاسد *
وأما قول مالك فظاهر الخطأ، لأنه ليس فيما احتج به الا أبوال الإبل فقط،
واستدلال على بول الغنم وبعرها فقط، فأدخل هو في حكم الطهارة أبوال البقر وأخثاءها
وأبعار الإبل وبعر كل ما يؤكل لحمه وبوله *
فان قالوا: فعلنا ذلك قياسا لما يؤكل لحمه على مالا يؤكل لحمه. قلنا لهم: فهلا
قستم على الإبل والغنم كل ذي أربع، لأنها ذوات أربع وذوات أربع؟ أو كل حيوان
لأنه حيوان وحيوان؟ أو هلا قستم كل ما عدا الإبل والغنم المذكورين في الخبر على

(1) في اليمنية (ستة)
(2) في الأصلين (يحيى بن أبي بكر) وفي التحقيق لابن الجوزي المخطوط
في المسألة رقم (21) (يحيى بن أبي بكير) وكلاهما خطأ، والصواب فيما ترجح
لدي (يحيى بن بكير) وهو يحيى بن عبد الله بن بكير وهو الموافق لما في سنن
الدارقطني (ص 47) وقد روى الحديث عن أبي بكر الآدمي عن عبد الله
ابن أيوب المخرمي عن يحيى بن بكير.
181

بول الانسان ونجوه المحرمين؟ فهذه علة أعم من علتكم ان كنتم تقولون بالأعم في
العلل، فان لجأتم ههنا إلى القول بالأخص في العلل قلنا لكم: فهلا قستم من الانعام
المسكوت عنها على الإبل والغنم وهي ما تكون أضحية من البقر فقط كما الإبل والغنم
تكون أضحية، أو ما يكون فيه الزكاة من البقر فقط كما يكون في الإبل والغنم، أو
ما يجوز ذبحه للمحرم من البقر خاصة كما يجوز ذلك في الإبل والغنم، دون أن تقيسوا
على الإبل والغنم والصيد والطير!؟ فهذا أخص من علتكم، فظهر فساد قياسهم
جملة يقينا *
فان قالوا: قسنا أبوال كل ما يؤكل لحمه وأنجاءها على ألبانها قلنا لهم: فهلا
قستم أبوالها على دمائها فأوجبتم نجاسة كل ذلك؟! وأيضا فليس للذكور منها ولا للطير
ألبان فتقاس أبوالها وأنجاؤها عليها. وأيضا فقد جاء القرآن والسنة والاجماع المتيقن
بافساد علتكم هذه وابطال قياسكم هذا، لصحة كل ذلك بأن لا تقاس أبوال النساء
ونجوهن في (1) ألبانهن في الطهارة والاستحلال. وهذا لا مخلص منه البتة وهلا
قاسوا كل ذي رجلين من الطير في نجوه على نجو الانسان فهو ذو رجلين؟! فكل هذه
قياسات كقياسكم أو أظهر، وهذا يرى من نصح نفسه إبطال القياس جملة، وصح أن
قول أبي حنيفة ومالك وأصحاب أبي حنيفة في هذه المسألة باطل بيقين، لأنهم
لا شيئا من النصوص اتبعوا، ولا شيئا من القياس ضبطوا، ولا بقول أحد من
المتقدمين تعلقوا، لا سيما تفريق مالك بين بول ما شرب ماء نجسا فقال بنجاسة
بوله، وبين بول ما شرب ماء طاهرا فقال بطهارة بوله، وهو يرى لحم الدجاج حلالا
طيبا، هذا وهو يراه متولدا عن الميتات والعذرة، وهذا تناقض لا خفاء به.
وبالله تعالى التوفيق *
138 - مسألة - والصوف والوبر والقرن (2) والسن يؤخذ من حي فهو طاهر
ولا يحل أكله *

(1) كذا في الأصلين ولعل صوابه (على ألبانهن) كما هو ظاهر
(2) في اليمنية (والفرث) وهو خطأ واضح
182

برهان ذلك أن الحي طاهر وبعض الطاهر، والحي لا يحل أكله، وبعض
ما لا يحل أكله لا يحل أكله *
139 - مسألة - وكل ذلك من الكافر نجس ومن المؤمن طاهر، والقيح من
المسلم والقلس والقصة البيضاء (1) وكل ما قطع منه حيا أو ميتا ولبن المؤمنة -: كل
ذلك طاهر، وكل ذلك من الكافر والكافرة نجس *
برهان ذلك ما قد ذكرنا من قول الله عز وجل (إنما المشركون نجس) وقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن لا ينجس) وقد ذكرناه باسناده قبل، وبعض النجس
نجس، وبعض الطاهر طاهر، لان الكل ليس هو شيئا غير أبعاضه. وبالله تعالى التوفيق
140 - مسألة - وألبان الجلالة حرام، وهي الإبل التي تأكل الجلة - وهي
العذرة - والبقر والغنم كذلك -: فان منعت من أكلها حتى سقط عنها اسم جلالة فألبانها
حلال طاهرة *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا
أبو داود ثنا محمد بن المثنى وعثمان بن أبي شيبة قال ابن المثنى ثنا أبو عامر العقدي
ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن لبن الجلالة) وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أكل الجلالة وألبانها) (2)
141 - مسألة - والوضوء بالماء المستعمل جائز، وكذلك الغسل به للجنابة،
وسواء وجد ماء آخر غيره أو لم يوجد، وهو الماء الذي توضأ به بعينه لفريضة أو نافلة

(1) القلس القئ. والقصة البيضاء بفتح القاف القطنة أو الخرقة البيضاء
التي تحتشى بها المرأة عند الحيض، وهذا التفسير لا معنى له هنا،؟؟
القصة كالخيط الأبيض تخرج بعد انقطاع الدم كله. وهذا المعنى أقرب أن يكون
مرادا للمؤلف، وكل ما قال المؤلف هنا غريب
(2) انظر شرح سنن أبي داود (ج 3 ص 412 - 413)، ونيل الأوطار
(ج 8 ص 292 - 293) الطبعة المنيرية
183

أو اغتسل به بعينه لجنابة أو غيرها، وسواء كان المتوضئ به رجلا أو امرأة *
برهان ذلك قول الله تعالى (وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من
الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) فعم تعالى كل ماء ولم يخصه، فلا يحل
لاحد أن يترك الماء في وضوئه وغسله الواجب وهو يجده إلا ما منعه منه نص ثابت
أو اجماع متيقن مقطوع بصحته. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لنا الأرض
كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) فعم أيضا عليه السلام ولم
يخص، فلا يحل تخصيص ماء بالمنع لم يخصه نص آخر أو اجماع متيقن *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا مسدد
ثنا عبد الله بن داود - وهو الخريبى - عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن
عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح برأسه من فضل ماء
كان بيده (1)) *
وأما من الاجماع فلا يختلف اثنان من أهل الاسلام في أن كل متوضئ فإنه
يأخذ الماء فيغسل به ذراعيه من أطراف أصابعه إلى مرفقه، وهكذا كل عضو في
الوضوء وفى غسل الجنابة، وبالضرورة والحس يدرى كل مشاهد لذلك أن ذلك
الماء قد وضئت به الكف وغسلت، ثم غسل به أول الذراع ثم آخره، وهذا ماء
مستعمل بيقين، ثم إنه يرد يده إلى الاناء وهي تقطر من الماء الذي طهر به العضو،
فيأخذ ماء آخر للعضو الآخر، فبالضرورة يدرى كل ذي حس (2) سليم أنه لم
يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر،
وهذا ما لا مخلص منه *
وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح، وهو أيضا قول
سفيان الثوري وأبى ثور وداود وجميع أصحابنا *

(1) في سنن أبي داود (كان في يده) وهذا الحديث رواه أيضا الدارقطني بلفظ
(توضأ ومسح رأسه ببلل يديه) وفي متن الحديث اضطراب انظر شرح سنن أبي
داود (ج 1 ص 49)
(2) في اليمنية (حسن) وهو خطأ
184

وقال مالك: يتوضأ به ان لم يجد غيره ولا يتيمم.
وقال أبو حنيفة.: لا يجوز الغسل ولا الوضوء بماء قد توضأ به أو اغتسل به، ويكره
شربه، وروي عنه أنه طاهر، والأظهر عنه أنه نجس، وهو الذي روى عنه
نصا، وأنه لا ينجس الثوب إذا أصابه الماء المستعمل الا أن يكون كثيرا فاحشا *
وقال أبو يوسف: إن كان الذي أصاب الثوب منه شبر في شبر فقد نجسه،
وإن كان أقل لم ينجسه *
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كان رجل طاهر قد توضأ للصلاة أو لم يتوضأ
لها فتوضأ في بئر فقد تنجس ماؤها كله وتنزح كلها، ولا يجزيه ذلك الوضوء إن كان
غير متوضئ، فان اغتسل فيها أيضا أنجسها كلها، وكذلك لو اغتسل وهو طاهر غير
جنب في سبعة (1) آبار نجسها كلها *
وقال أبو يوسف: ينجسها كلها ولو أنها عشرون بئرا، وقالا جميعا: لا يجزيه
ذلك الغسل. فان طهر فيها يده أو رجله فقد تنجست كلها فإن كان على ذراعيه جبائر
أو على أصابع رجليه جبائر فغمسها في البئر ينوى بذلك المسح عليها لم يجزه وتنجس
ماؤها كله، فلو كان على أصابع يده جبائر فغمسها في البئر ينوى بذلك المسح عليها
أجزأه ولم ينجس ماؤها اليد بخلاف سائر الأعضاء، فلو انغمس فيها ولم ينو غسلا
ولا وضوءا ولا تدلك فيها لم ينجس الماء حتى ينوى الغسل أو الوضوء. وقال أبو يوسف (2)
لا يطهر بذلك الانغماس. وقال محمد بن الحسن: يطهر به. قال أبو يوسف: فان غمس
رأسه ينوى المسح عليه لم ينجس الماء، وإنما ينجسه نية تطهير عضو يلزم فيه الغسل،
قال: فلو غسل بعض يده بنية الوضوء أو الغسل لم ينجس الماء حتى يغسل العضو
بكماله، فلو غمس رأسه أو خفه ينوى بذلك المسح أجزأه ولم يفسد الماء، وإنما يفسده
نية الغسل لا نية المسح. وهذه أقوال هي إلى الهوس أقرب منها إلى ما يعقل *

(1) في اليمنية (ستة)
(2) في المصرية (أبو سفيان) وهو خطأ ظاهر من سياق الكلام وصححناه من اليمنية.
185

وقال الشافعي: لا يجزي الوضوء ولا الغسل بماء قد اغتسل به أو توضأ به وهو
طاهر كله، وأصفق أصحابه (1) على أن من أدخل يده في الاناء ليتوضأ فأخذ الماء
فتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثم ادخل يده في الاناء فقد حرم الوضوء بذلك
الماء لأنه قد صار ماء مستعملا، وإنما يجب أن يصب منه على يده، فإذا وضأها أدخلها
حينئذ في الاناء *
قال أبو محمد: واحتج من منع ذلك بالحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من
نهيه الجنب أن يغتسل في الماء الدائم *
قال أبو محمد: وقالوا: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأن الماء يصير مستعملا،
وقال بعض من خالفهم: بل ما نهى عن ذلك عليه السلام الا خوف أن يخرج من
إحليله شئ ينجس الماء *
قال أبو محمد: وكلا القولين باطل نعوذ بالله من مثله، ومن أن نقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وأن نخبر عنه ما لم يخبر به عن نفسه ولا فعله. فهذا هو الكذب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أكبر الكبائر ممن قطع به، فإن لم يقطع به فإنما هو ظن،
وقد قال عز وجل: (وان الظن لا يغني من الحق شيئا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم
والظن فان الظن أكذب الحديث) ولا بد لمن قال بأحد هذين التأويلين من احدى (2)
هاتين المنزلتين. فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة *
واحتج بعضهم فقال: لم يقل أحد للمتوضئ ولا للمغتسل أن يردد ذلك الماء
على أعضائه، بل أوجبوا عليه أخذ ماء جديد، وبذلك جاء عمل النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء
والغسل فوجب أن لا يجزئ *
قال أبو محمد: وهذا باطل لأنه لم ينه أحد من السلف عن ترديد الماء على
الأعضاء في الوضوء والغسل، ولا نهى عنه عليه السلام قط *
ويقال للحنفيين: قد أجزتم تنكيس (3) الوضوء ولم يأت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

(1) اي أطبق
(2) في الأصلين (أحد) وهو خطأ
(3) في المصرية (قد أخذتم بتنكيس)
186

نكس وضوءه، ولا أن أحدا من المسلمين فعل ذلك، فأخذه عليه السلام ماء جديدا
لكل عضو إنما هو فعل منه عليه السلام وأفعاله عليه السلام لا تلزم. وقد صح عنه
مسح رأسه المقدس بفضل ماء مستعمل *
فان قيل: قد روى يؤخذ للرأس ماء جديد. قلنا: إنما رواه دهثم بن
قران (1) وهو ساقط لا يحتج به عن نمران بن جارية وهو غير معروف (2) فكيف
وقد أباح عليه السلام غسل الجنابة بغير تجديد ماء * كما حدثنا عبد الله بن يوسف
ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا
مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن إبراهيم وأبو بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد وابن أبي عمر
كلهم عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن

(1) (دهثم) بالثاء المثلثة (ابن قران) بضم القاف وتشديد الراء (العكلي) بضم
العين المهملة واسكان الكاف، وفي المصرية (دهشم بن فران) بالشين والفاء
وهو خطأ فيهما
(2) (نمران) بكسر النون واسكان الميم (ابن جارية) بالجيم، ذكره ابن حبان
في الثقات، وقال ابن قطان: حاله مجهول. وكتب هنا بهامش اليمنية ما نصه
(بل رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن زيد: ومسح برأسه بماء
غير فضل يديه. وليس في طريقة من ذكره المؤلف) والحديث في صحيح مسلم
(ج 1 ص 83) من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة عن أبيه عن عبد الله بن زيد
ابن عاصم وفيه (ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه) ومن طريق حبان بن
واسع عن أبيه عن عبد الله بن زيد وفيه (ومسح برأسه بماء غير فضل يديه)
ورواه أيضا أبو داود (ج 1 ص 46) والترمذي (ج 1 ص 9) وقال (حسن
صحيح) والدارمي (ص 68) والبيهقي (ج 1 ص 65) كلهم من طريق حبان. قال
الترمذي (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا أن يأخذ لرأسه ماء جديدا)
وأما طريق نمران التي ذكرها المؤلف فقد أشار إليها الحافظ ابن حجر في
التلخيص (ج 1 ص 429) وليس ضعفها سببا لضعف رواية عبد الله بن زيد
الصحيحة التي أخذ بها أهل العلم.
187

عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في غسل
الجنابة: (إنما يكفيك أن تحثى على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين (1) عليك الماء
فتطهرين *
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا
البخاري ثنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين ثنا معمر بن يحيى بن سام (2) حدثني
أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال لي جابر (3): (سألني ابن عمك فقال: كيف
الغسل من الجنابة؟ فقلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه
ثم يفيض على سائر جسده)
قال أبو محمد: ولو كان ما قاله أصحاب أبي حنيفة من تنجس الماء المستعمل لما
صح طهر ولا وضوء ولا صلاة لاحد أبدا، لأن الماء الذي يفيضه المغتسل على جسده
يطهر منكبيه وصدره، ثم ينحدر إلى ظهره وبطنه، فكأن يكون كل أحد مغتسلا بماء
نجس، ومعاذ الله من هذا، وهكذا في غسله ذراعه ووجهه ورجله في الوضوء، لأنه
لا يغسل ذراعه إلا بالماء الذي غسل به كفه، ولا يغسل أسفل وجهه إلا بالماء الذي
قد غسل به أعلاه وكذلك رجله *
وقال بعضهم: الماء المستعمل لا بد من أن يصحبه من عرق الجسم في الغسل
والوضوء شئ فهو ماء مضاف *
قال أبو محمد: وهذا غث جدا، وحتى لو كان كما قالوا فكان ماذا، ومتى حرم
الوضوء والغسل بماء فيه شئ طاهر لا يظهر له في الماء رسم! فكيف وهم يجيزون
الوضوء بماء قد تبرد فيه من الحر، وهذا أكثر في أن يكون فيه العرق من الماء
المستعمل *

(1) تفيضين بالنون كما في مسلم (ج 1 ص 102) وفي الأصلين بحذف النون
(2) معمر باسكان العين وبه جزم المزي، وفي رواية بوزن محمد وبه جزم
الحاكم، وسام بالسين المهملة وتخفيف الميم. قاله في الفتح (ج 1 ص 316)
(3) في البخاري (ج 1 ص 41): (اتاني ابن عمك يعرض بالحسن بن محمد
ابن الحنفية)
188

وقال بعضهم: قد جاء أثر بأن الخطايا تخرج مع غسل أعضاء الوضوء *
قلنا: نعم - ولله الحمد - فكان ماذا؟ وإن هذا لمما يغبط باستعماله مرارا إن
أمكن لفضله، وما علمنا للخطايا أجراما تحل في الماء *
وقال بعضهم: الماء المستعمل كحصى الجمار الذي رمى به لا يجوز أن يرمى به ثانية *
قال أبو محمد: وهذا باطل، بل حصى الجمار إذا رمى بها فجائز أخذها والرمي بها
ثانية، وما ندري شيئا يمنع من ذلك، وكذلك التراب الذي تيمم به فالتيمم به جائز،
والثوب الذي سترت به العورة في الصلاة جائز أن تستر به أيضا العورة في صلاة
أخرى، فإن كانوا أهل قياس فهذا كله باب واحد *
وقال بعضهم: الماء المستعمل بمنزلة الماء الذي طبخ فيه فول أو حمص *
قال علي: وهذا هوس مردود على مثله (1) وما ندري شيئا يمنع من جواز الوضوء
والغسل بماء طبخ فيه فول أو حمص أو ترمس أو لوبيا، ما دام يقع عليه اسم ماء *
وقال بعضهم: لما لم يطلق على الماء المستعمل اسم الماء مفردا دون أن يتبع باسم
آخر وجب أن لا يكون في حكم الماء المطلق *
قال أبو محمد: وهذه حماقة، بل يطلق عليه اسم ماء فقط، ثم لا فرق بين
قولنا ماء مستعمل فيوصف بذلك، وبين قولنا ماء مطلق فيوصف بذلك، وقولنا
ماء ملح أو ماء عذب أو ماء مر أو ماء سخن أو ماء مطر، وكل ذلك لا يمنع من
جواز الوضوء به والغسل *
ولو صح قول أبي حنيفة في نجاسة الماء المتوضأ به والمغتسل به لبطل أكثر
الدين، لأنه كان الانسان إذا اغتسل أو توضأ ثم لبس ثوبه لا يصلى إلا بثوب
نجس كله، وللزمه أن يطهر أعضاءه منه بماء آخر *
وقال بعضهم: لا ينجس إلا إذا فارق الأعضاء *
قال أبو محمد: وهذه جرأة على القول بالباطل في الدين بالدعوى. ويقال لهم:
هل تنجس عندكم إلا بالاستعمال؟ فلا بد من نعم، فمن المحال أن لا ينجس في الحال

(1) كذا في الأصلين، ولعل الأولى (على قائله).
189

المنجسة له ثم ينجس بعد ذلك، ولا جرأة أعظم من أن يقال: هذا ماء طاهر تؤدى
به الفرائض، فإذا تقرب به إلى الله في أفضل الأعمال من الوضوء والغسل تنجس أو
حرم أن يتقرب إلى الله تعالى به، وما ندري من أين وقع لهم هذا التخليط! *
وقال بعضهم: قد جاء عن ابن عباس أن الجنب إذا اغتسل في الحوض أفسد
ماءه، وهذا لا يصح بل هو موضوع، وإنما ذكره الحنفيون عن حماد بن أبي سليمان
عن إبراهيم عن ابن عباس، ولا نعلم من هو قبل حماد، ولا نعرف لإبراهيم سماعا من
ابن عباس (1) والصحيح عن ابن عباس خلاف هذا (2)
قال أبو محمد: وقد ذكرنا عن ابن عباس قبل خلاف هذا من قوله: أربع لا تنجس
الماء والأرض والانسان، وذكر رابعا *
وذكروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه الصدقة على آل محمد: (إنما هي غسالة
أيدي الناس) وعن عمر مثل ذلك *
قال أبو محمد: وهذا لا حجة فيه أصلا، لان اللازم لهم في احتجاجهم بهذا الخبر
أن لا يحرم ذلك الا على آل محمد خاصة، فان عليه السلام لم يكره ذلك ولا منعه أحدا
غيرهم، بل أباحه لسائر الناس. وأما احتجاجهم بقول عمر فإنهم مخالفون له، لأنهم يجيزون
في أصل أقوالهم شرب ذلك الماء. وأيضا فان غسالة أيدي الناس غير وضوئهم الذي
يتقربون به إلى الله تعالى، ولا عجب أكثر من اباحتهم غسالة أيدي الناس وفيها
جاء ما احتجوا به، وقولهم: إنها طاهرة، وتحريمهم الماء الذي قد توضأ به قربة إلى
الله تعالى! وليس في شئ من هذين الأثرين نهي عنه ونعوذ بالله من الضلال
وتحريف الكلم عن مواضعه *
ونسأل أصحاب الشافعي عمن وضأ عضوا من أعضاء وضوئه فقط ينوي به
الوضوء في ماء دائم أو غسله كذلك وهو جنب، أو بعض عضوا أو بعض أصبع أو

(1) هكذا قال حفاظ الحديث: انه لم يسمع من أحد من الصحابة. وقيل
إنه رأى عائشة ولم يسمع منها، وأدرك أنسا ولم يسمع منه.
(2) انظر السنن الكبرى البيهقي (ج 1 ص 236) فقد روى أثرا عن ابن
عباس في أن المستعمل طهور ولا يطهر.
190

شعرة واحدة أو مسح شعرة من رأسه أو خفه أو بعض خفه: حتى نعرف أقوالهم
في ذلك *
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وسقى إنسانا ذلك الوضوء، وأنه عليه السلام
توضأ وصب وضوءه على جابر بن عبد الله، وأنه عليه السلام كان إذا توضأ تمسح
الناس بوضوئه، فقالوا بآرائهم الملعونة: ان المسلم الطاهر النظيف إذا توضأ بماء طاهر
ثم صب ذلك الماء في بئر فهي بمنزلة لو صب فيها فأر ميت أو نجس. ونسأل الله العافية
من هذا القول *
142 - مسألة - وونيم (1) الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش (2) إن كان
لا يمكن التحفظ منه وكان في غسله حرج أو عسر لم يلزم من غسله إلا مالا حرج
فيه ولا عسر *
قال أبو محمد: قد قدمنا قول الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)
وقوله تعالى: (يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). فالخرج والعسر مرفوعان عنا،
وما كان لا حرج في غسله ولا عسر فهو لازم غسله، لأنه بول ورجيع. وبالله تعالى
التوفيق *
143 - مسألة - والقئ من كل مسلم أو كافر حرام يجب اجتنابه. لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) وإنما قال عليه السلام ذلك على منع العودة
في الهبة *
144 - مسألة - والخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس حرام واجب
اجتنابه، فمن صلى حاملا شيئا منها بطلت صلاته. قال الله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه). فمن لم يجتنب ذلك في صلاته
فلم يصل كما أمر، ومن لم يصل كما أمر فلم يصل (3).

(1) بفتح الواو وكسر النون وآخره ميم، هو خرء الذباب.
(2) في اليمنية (والنحل والخفافيش)
(3) شذ ابن حزم شذوذا غريبا في القول بنجاسة الميسر والأنصاب والأزلام
ولو شئنا أن نقول كما يقول متأخرو الفقهاء في مناظراتهم لقلنا: إنه خالف الاجماع
فقد نقل النووي وغيره الاجماع على طهارتها، ونحن لم نعلم قائلا ذهب إلى
ما اختاره المؤلف رحمه الله. ولا بأس بذلك إن كان القول المختار يرجحه الدليل
الصحيح. والآية التي استدل بها المؤلف لا تدل على ما ذهب إليه، فان الرجس
كما يطلق على النجس يطلق على المستقذر وعلى الخبيث وعلى المآثم وعلى العذاب،
قال الزجاج: (الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من عمل فبالغ الله تعالى
في ذم هذه الأشياء وسماها رجسا) نقله في اللسان، وقال الراغب الأصفهاني:
(الرجس الشئ القذر، يقال رجل رجس ورجال أرجاس، قال تعالى (رجس من
عمل الشيطان)، والرجس يكون على أربعة أوجه، إما من حيث الطبع، واما من
جهة العقل، وإما من جهة الشرع، واما من كل ذلك كالميتة، فان الميتة تعاف طبعا
وعقلا وشرعا. والرجس من جهة الشرع الخمر والميسر، وقيل إن ذلك رجس من جهة
العقل، وعلى ذلك نبه بقوله تعالى (وإثمهما أكبر من نفعهما) لان كل مايو في اثمه
على نفعه فالعقل يقتضى تجنبه). وليس معقولا في معنى الآية إرادة الرجس بمعنى
النجس رغما عما اختاره المؤلف، فالميسر مثلا هو لعب القمار ولا يعقل فيه نجاسة
من طهارة، وان ادعى أنه يريد آلة اللعب فهي دعوى غير موفقة، لأنه ليس
في آلة اللعب تحريم، إنما التحريم على عمل المكلف، قال ابن جرير في التفسير
(7: 21): ((رجس): يقول: اثم ونتن سخطه الله وكرهه لكم (من عمل
الشيطان) يقول: شربكم الخمر وقماركم على الجزر وذبحكم للأنصاب واستقسامكم.
بالأزلام من تزيين الشيطان لكم ودعائه إياكم إليه وتحسينه لكم، لا من الاعمال
التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم (فاجتنبوه)
يقول: فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه) وهذا تفسير دقيق لمعنى الآية يدل على
خطأ ما فهمه ابن حزم من أن الرجس هو نفس الأنصاب الخ وان الواجب
اجتناب ذواتها وأجرامها.
ومن هذا تعلم أن الآية لا تدل على نجاسة الخمر أيضا وهو الصحيح، قال
النووي في المجموع (2: 564): (ولا يظهر من الآية دلالة ظاهرة لان
الرجس عند أهل اللغة القذر ولا يلزم من ذلك النجاسة، وكذا الامر بالاجتناب
لا يلزم منه النجاسة) ثم ذكر دليلا آخر على نجاستها ورده ثم قال: (وأقرب
ما يقال ما ذكره الغزالي أنه يحكم بنجاستها تغليظا وزجرا عنها قياسا على الكلب وما
ولغ فيه والله أعلم) وهذا دليل ضعيف جدا وان رآه النووي أقرب إلى القوة
والحق أنه لا دليل في الشريعة صريحا أصلا يدل على نجاسة الخمر، والأصل
الطهارة، وحرمة شربها لا تدل على نجاستها، فان السم حرام ليس بنجس، وكذلك
المخدرات الأخرى، واليه ذهب ربيعة وداود فيما حكاه النووي نقلا عن القاضي
أبى الطيب، وهو الذي نختاره، والحمد لله. ويظهر من كلام الراغب الأصفهاني
الذي نقلنا آنفا أنه يميل إليه أو يختاره، واليه يرمي كلام القاضي الشوكاني كما
يفهم من الدرر البهية وشرحه الروضة الندية (1: 20 - 21) واختاره أيضا
العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في سبل السلام (ج 1 ص 42) الطبعة المنيرية
191

145 - مسألة - ونبيذ البسر والتمر والزهو (1) والرطب والزبيب إذا جمع نبيذ
واحد من هذه إلى نبيذ غيره فهو حرام واجب اجتنابه *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا
موسى بن إسماعيل ثنا ابان هو ابن يزيد العطار - ثنا يحيى - هو ابن أبي كثير -
عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن خليط
الزبيب والتمر، وعن خليط البسر والتمر، وعن خليط الزهو والرطب، وقال:
انتبذوا (2) كل واحد على حدة (3)) وليس كذلك الخليطان من غير هذه الخمسة
بل هو طاهر حلال ما لم يكسر، لأنه لم ينه الا عما ذكرنا *
146 - مسألة - ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول، لا في
بنيان ولا في صحراء، ولا يجوز استقبال القبلة فقط كذلك في حال الاستنجاء *

(1) (الزهو) بفتح الزاي وبضمها مع اسكان الهاء وآخره واو، هو البسر
إذا ظهرت فيه الحمرة
(2) في الأصلين انبذوا وصححناه من أبي داود (ج 3 ص 383)
(3) كذا في اليمنية وأبي داود وفي المصرية (على حدته). وهو يوافق
لفظ مسلم في صحيحه (ج 2 ص 126) والحديث رواه أيضا النسائي مكررا (ج 2
ص 223 - 224) وابن ماجة (ج 2 ص 173) وفيها أيضا (على حدته)
وفي بعض روايات النسائي (على حدة)
193

حدثنا عبد الله يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا احمد
ابن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى قال قلت لسفيان بن
عيينة: سمعت الزهري يذكر عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب: (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها
ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا)؟ قال سفيان: نعم *
وقد روى أيضا النهى عن ذلك أبو هريرة وغيره، وقد ذكرنا قبل حديث
سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: ألا يستنجى أحد مستقبل القبلة، في باب الاستنجاء *
وممن أنكر ذلك أبو أيوب الأنصاري - كما ذكرنا - في البيوت نصا عنه، وكذلك
أيضا أبو هريرة وابن مسعود، وعن سراقة بن مالك ألا تستقبل القبلة بذلك، وعن
السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جملة، وعن عطاء وإبراهيم النخعي،
وبقولنا في ذلك يقول سفيان الثوري والأوزاعي وأبو ثور (1) ومنع أبو حنيفة من
استقبالها لبول أو غائط، وكل هؤلاء لم يفرق بين الصحارى والبناء في ذلك، وروينا
من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يكره
أن تستقبل القبلتان بالفروج، وهو قول مجاهد *
قال أبو محمد: لا نرى ذلك في بيت المقدس لان النهى عن ذلك لم يصح
وقال عروة بن الزبير وداود بن علي: يجوز استقبال الكعبة واستدبارها بالبول
والغائط، وروينا ذلك عن ابن عمر من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن
محمد عن نافع عن ابن عمر، وروينا عن ابن عمر من طريق أبى داود عن محمد بن
يحيى بن فارس عن صفوان بن عيسى عن الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر عن
ابن عمر أنه قال: إنما نهي عن ذلك في الفضاء، وأما إذا كان (2) بينك وبين القبلة
شئ يسترك فلا بأس، وروينا أيضا هذا عن الشعبي، وهو قول مالك والشافعي
فأما من أباح ذلك جملة فاحتجوا بحديث رويناه عن ابن عمر في بعض ألفاظه:

(1) في المصرية (وأبو داود) وهو خطأ
(2) في أبى داود (ج 1 ص 7)
(فإذا كان) وهو أيضا لفظ الحاكم في المستدرك (ج 1 ص 154)
194

(رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته مستقبل
القبلة (1)) وفى بعضها: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول حيال القبلة) وفى بعضها:
(اطلعت يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر بيت يقضى حاجته محجور عليه بلبن
فرأيته مستقبل القبلة) وبحديث من طريق جابر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها (2)) وبحديث من طريق
عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده أن ناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلوها؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة) (3) *
قال علي: لا حجة لهم غير ما ذكرنا، ولا حجة لهم في شئ منه *
أما حديث ابن عمر: فليس فيه أن ذلك كان بعد النهي، وإذا لم يكن ذلك فيه،
فنحن على يقين من أن ما في حديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل
أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، هذا مالا شك فيه، فإذ لا شك في

(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
وفي ألفاظهم: (مستقبل الشأم مستدبر الكعبة). ووقع في رواية ابن حبان
(مستقبل القبلة مستدبر الشام) قال ابن حجر: (وهي خطأ تعد من قسم
المقلوب) انظر الشوكاني (ج 1 ص 98) المطبعة المنيرية
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن الجارود وابن خزيمة
والحاكم والدار قطني (ص 22) قال الترمذي (ج 1 ص 4) (حديث حسن غريب)
وقال الحاكم (ج 1 ص 154) (صحيح على شرط مسلم) ورواه البيهقي (ج 1
ص 92)
(3) رواه أحمد وابن ماجة (ج 1 ص 69) والبيهقي (ج 1 ص 92 - 93) (والدار قطني
(ص 22) وقال النووي في المجموع (ج 2 ص 78) (اسناده حسن لكن أشار
البخاري إلى أن فيه علة) قال السندي في شرح ابن ماجة: (رجاله ثقات
معروفون وأخطأ من قال خلاف ذلك، وقد علل البخاري الخبر بما ليس بقادح
فيه فقال: وجاء عن عائشة أنها كانت تنكر قولهم لا تستقبلوا القبلة، وهذا
أصح. فان ثبوت ما قال لا يستلزم نفي هذا، فبعد صحة الاسناد يجب القول
بصحته) وسيأتي الكلام على الحديث بعد قليل
195

ذلك فحكم حديث ابن عمر منسوخ قطعا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
هذا يعلم ضرورة، ومن الباطل المحرم ترك اليقين بالظنون، وأخذ المتيقن نسخه
وترك المتيقن أنه ناسخ *
وقد أوضحنا في غير هذا المكان أن كل ما صح أنه ناسخ لحكم منسوخ فمن
المحال الباطل أن يكون الله تعالى يعيد الناسخ منسوخا والمنسوخ ناسخا ولا يبين
ذلك تبيانا لا إشكال فيه، إذ لو كان هذا لكان الدين مشكلا غير بين، ناقصا
غير كامل، وهذا باطل. قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) وقال تعالى:
(لتبين للناس ما نزل إليهم) *
وأيضا فإنما في حديث ابن عمر ذكر استقبال القبلة فقط، فلو صح أنه ناسخ
لما كان فيه نسخ تحريم استدبارها، ولكان من أقحم في ذلك إباحة استدبارها كاذبا
مبطلا لشريعة ثابتة، وهذا حرام. فبطل تعلقهم بحديث ابن عمر *
وأما حديث عائشة فهو ساقط، لأنه رواية (1) خالد الحذاء - وهو ثقة - عن
خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا يدرى من هو (2)، وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه

(1) في الأصلين (لان رواية) وهو خطأ
(2) حديث عائشة رواه خالد الحذاء، واختلف الرواة عنه فيه، فرواه
بعضهم عن خالد الحذاء عن عراك عن عائشة، ورواه بعضهم عن خالد الحذاء
عن رجل عن عراك، ورواه حماد بن سلمة وعلي بن عاصم وعبد العزيز بن المغيرة
عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك، فرواية حماد بن
سلمة في ابن ماجة (ج 1 ص 69) والدار قطني (ص 22) وأشار إليها البيهقي في السنن
الكبرى (ج 1 ص 93)، ورواية علي بن عاصم في سنن البيهقي والدار قطني، ورواية
عبد العزيز بن المغيرة في ابن ماجة، ومن بين وحفظ حجة على من أبهم ولم
يحفظ، وأوضح الروايات رواية علي بن عاصم، فرواها الدارقطني من طريق
هارون بن عبد الله، والبيهقي من طريق يحيى بن أبي طالب، كلاهما عن علي بن
عاصم: (ثنا خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز
في خلافته وعنده عراك بن مالك، فقال عمر: ما استقبلت القبلة ولا استدبرتها
ببول ولا غائط منذ كذا وكذا، فقال عراك: حدثتني عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول الناس في ذلك أمر بمقعدته
فاستقبل بها القبلة) قال الدارقطني: (هذا أضبط اسناد، وزاد فيه خالد بن
أبي الصلت وهو الصواب). وقد ادعى ابن حزم أن خالد بن أبي الصلت مجهول،
وتعقبه ابن مفوز فقال: (هو مشهور بالرواية معروف بحمل العلم لكن حديثه
معلول) وذكره ابن حبان في الثقات، وذكره أسلم بن سهل في تاريخ واسط
وحكى عن سفيان بن حسين قال: (كنا نأتي خالد بن أبي الصلت وكان عينا لعمر
ابن عبد العزيز بواسط وكانت له هيئة) والعلة التي فيه هي ما نقله السندي كما
ذكرنا آنفا، وقد نقل ذلك ابن حجر في التهذيب في ترجمة عن الترمذي في العلل
الكبير عن البخاري أنه قال: (فيه اضطراب والصحيح عن عائشة قولها)
أي إنه رجح أنه موقوف على عائشة، وهذا ترجيح لا دليل عليه، فان رواية
بعض الرواة إياه موقوفا لا يمنع أن يكون مرويا مرفوعا من طريق أخرى صحيحة
وقد صرح علي بن عاصم في روايته بسماع خالد بن أبي الصلت من عراك بن
مالك، وسماع عراك من عائشة، وعلى ثقة له أوهام وأغلاط، وقد تابعه على
ذلك حماد بن سلمة، فارتفعت شبهة الغلط، فقد نقل ابن حجر في التهذيب
(ج 3 ص 97) عن تاريخ البخاري قال: (قال موسى ثنا حماد هو ابن سلمة عن
خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت قال كنا عند عمر بن عبد العزيز فقال عراك
ابن مالك: سمعت عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: حولي
مقعدتي إلى القبلة) وقد نقل الحازمي في الناسخ والمنسوخ (ص 37) انه تابعه
أيضا عبد الله بن المبارك، فهذه الروايات تؤكد صحة الحديث بالسند الصحيح
الثابت بالسماع، وقد أعله أحمد بن حنبل بأن عراكا لم يسمع من عائشة، فقد
نقل ابن أبي حاتم في المراسيل (ص 60) ذلك عن أحمد ونقله ابن حجر عن
الأثرم عنه. وهذه علة غير صحيحة لما رأيت من تصريحه بالسماع منها، ورواية
عراك بعض الأحاديث عن عروة عن عائشة لا تنفى سماعه منها، قال ابن دقيق
العيد في الامام: (ولعراك أحاديث عديدة عن عروة عن عائشة، قال: ولكن
لقائل أن يقول: إذا كان الراوي عنه قوله سمعت ثقة فهو مقدم، لاحتمال أنه
لقى الشيخ بعد ذلك فحدثه إذا كان ممن يمكن لقاؤه، وقد ذكروا سماع عراك
من أبي هريرة ولم ينكروه وأبو هريرة توفى هو وعائشة في سنة واحدة - سنة 58 -
فلا يبعد سماعه من عائشة مع كونهما في بلد واحد، ولعل هذا هو الذي أوجب
لمسلم أن أخرج في صحيحه حديث عراك عن عائشة من رواية يزيد بن أبي
زياد مولى ابن عباس عن عراك عن عائشة: جاءتني سكينة تحمل ابنتين لها.
الحديث) ثم أيد ذلك ابن دقيق العيد برواية علي بن عاصم التي ذكرنا. نقل
ذلك عنه الزيلعي في نصب الراية (ج 1 ص 273). وبهذا التحقيق - الذي قد لا تجده
مفصلا في كتاب - يظهر لك أن حديث عائشة صحيح على شرط مسلم. وبالله
تعالى التوفيق.
196

عن خالد الحذاء عن كثير بن الصلت، وهذا أبطل وأبطل، لان خالدا الحذاء لم
يدرك كثير بن الصلت، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة لان نصه يبين أنه إنما كان
قبل النهى، لان من الباطل المحال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن
197

استقبال القبلة بالبول والغائط، ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك، هذا مالا يظنه مسلم
ولا ذو عقل، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم، فلو صح لكان منسوخا بلا شك،
ثم لو صح لما كان فيه إلا إباحة الاستقبال فقط، لا إباحة الاستدبار أصلا فبطل
تعلقهم بحديث عائشة جملة *
وأما حديث جابر فإنه رواية (1) أبان بن صالح وليس بالمشهور (2)، وأيضا

(1) في الأصلين (فان رواية) وهو خطأ
(2) أبان وثقه ابن معين والعجلي وأبو زرعة وأبو حاتم وذكره ابن حبان
في الثقات. قال ابن حجر في التهذيب: (قال ابن عبد البر في التمهيد: حديث
جابر ليس صحيحا لان أبان بن صالح ضعيف. وقال ابن حزم في المحلى عقب
هذا الحديث: أبان ليس بالمشهور انتهى. وهذه غفلة منهما، وخطأ تراردا
عليه، فلم يضعف أبان هذا أحد قبلهما، ويكفى فيه قول ابن معين ومن تقدم
معه) وهذا الحديث هو من رواية محمد بن إسحاق عن أبان. قال الزيلعي
(ج 1 ص 273). (وأخرجه ابن حبان في صحيحه في القسم الثاني والحاكم في
المستدرك والدار قطني ثم البيهقي في سننهما، وعندهم الأربعة: حدثني أبان بن
صالح، فزالت تهمة التدليس) ثم نقل عن الترمذي في العلل الكبير قال: (سألت
محمد بن إسماعيل - يعنى البخاري - عن هذا الحديث فقال: حديث صحيح).
198

فليس فيه بيان أن استقباله القبلة عليه السلام كان بعد نهيه، ولو كان ذلك لقال جابر:
ثم رأيته (1)، وأيضا فلو صح لما كان فيه الا النسخ للاستقبال فقط، وأما الاستدبار
فلا أصلا، ولا يحل أن يزاد في الاخبار ما ليس فيها، فيكون من فعل ذلك كاذبا،
وليس إذا نهى عن شيئين ثم نسخ أحدهما وجب نسخ الآخر، فبطل كل ما شغبوا به
وبالله تعالى التوفيق، وسقط قولهم لتعريه عن البرهان *
وأما من فرق بين الصحارى والبناء في ذلك فقول لا يقوم عليه دليل أصلا،
إذ ليس في شئ من هذه الآثار فرق بين صحراء وبنيان، فالقول بذلك ظن،
والظن أكذب الحديث، ولا يغنى عن الحق شيئا، ولا فرق بين من حمل النهى
على الصحارى دون البنيان، وبين آخر قال: بل النهى عن ذلك في المدينة أو مكة
خاصة، وبين آخر قال: في أيام الحج خاصة. وكل هذا تخليط لا وجه له *
وقال بعضهم: إنما كان في الصحارى لان هنالك قوما يصلون فيؤذون بذلك *
قال أبو محمد: هذا باطل، لان وقوع الغائط كيفا وقع في الصحراء فموضعه لا بد
أن يكون قبلة لجهة ما، وغير قبلة لجهة أخرى، فخرج قول مالك عن أن يكون له
متعلق بسنة أو بدليل أصلا، وهو قول خالف جميع أقوال الصحابة رضي الله عنهم
الا رواية عن ابن عمر قد روى عنه خلافها. وبالله تعالى التوفيق *
147 - مسألة - وكل ماء خالطه شئ طاهر مباح فظهر فيه لونه وريحه وطعمه
الا أنه لم يزل عنه اسم الماء فالوضوء به جائز والغسل به للجنابة جائز *

(1) هذه من أضعف حجج ابن حزم فإنه حكاية عربي فصيح كجابر نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ثم تعقيبه إياها برؤيته صلى الله عليه وسلم
قبل موته بعام يفعل ذلك: صريح جدا في أنه يريد بيان النسخ، وأن النهي إنما
كان قبل الفعل، ومثل هذا الحديث فيما نعقل لا يقوله الصحابي اعتباطا
بدون مناسبة، وإنما المفهوم أنه يكون في سياق سؤال أو جدال في هذا الامر.
ومع كل هذا فقد جاءت الرواية بلفظ (ثم) ففي رواية الدارقطني والبيهقي.
(ثم قد رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة) وفى رواية الحاكم (ثم رأيناه
قبل موته وهو يبول مستقبل القبلة)
199

برهان ذلك قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) وهذا ماء، سواء كان الواقع فيه مسكا
أو عسلا أو زعفرانا أو غير ذلك *
حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا ابن
جريج أخبرني عطاء بن أبي رباح عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها قالت:
(دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو في قبة له، فوجدته قد اغتسل
بماء كان في صحفة، إني لأرى فيها أثر العجين، فوجدته يصلي الضحى) *
وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن المطلب بن عبد الله بن
حنطب عن أم هانئ قالت: (نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بأعلى مكة، فأتيته
بماء في جفنة انى لأرى أثر العجين فيها (1)، فستره أبو ذر فاغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم ستر عليه السلام أبا ذر فاغتسل، ثم صلى ثماني ركعات وذلك في الضحى) *
حدثنا يونس بن عبد الله ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا
ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب العكلي عن إبراهيم بن نافع عن ابن أبي
نجيح عن مجاهد عن أم هانئ: (أن ميمونة أم المؤمنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم
اغتسلا من قصعة فيها أثر العجين) *
قال علي: وهذا قول ثابت عن ابن مسعود قال: إذا غسل الجنب رأسه بالخطمي
أجزأه، وكذلك نصا عن ابن عباس *
وروي أيضا هذا عن علي بن أبي طالب، وثبت عن سعيد بن المسيب وابن جريج
وعن صواحب النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الأنصار والتابعات منهن: أن المرأة الجنب (2)
والحائض إذا امتشطت بحناء (3) رقيق أن ذلك يجزئها من غسل رأسها للحيضة
والجنابة ولا تعيد غسله، وثبت عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وأبى سلمة
ابن عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن جبير أنهم قالوا في الجنب يغسل رأسه بالسدر

(1) في اليمنية (انى لأرى فيها أثر العجين)
(2) الجنب يطلق على المذكر والمؤنث والمفرد والمثني والجمع، ومن العرب من يثنى ويجمع.
(3) الحناء بالمد والتشديد والجمع حنان بكسر الحاء وضمها وتشديد النون وفي
آخره نون ثانية، وقيل أيضا حنان بالهمز بوزن عثمان، وكلها جموع على غير قياس.
200

والخطمى: انه يجزئه ذلك من غسل رأسه للجنابة *
وقولنا في هذا هو قول أبي حنيفة والشافعي وداود *
وروى عن مالك نحو هذا أيضا. وروى سحنون عن ابن القاسم (1) أنه سأل
مالكا عن الغدير ترده المواشي فتبول فيه وتبعر حتى يتغير لون الماء وريحه: أيتوضأ
منه للصلاة؟ قال مالك: أكرهه ولا أحرمه، كان ابن عمر يقول: إني لأحب أن أجعل
بيني وبين الحرام سترة من الحلال *
والذي عليه أصحابه بخلاف هذا، وهو أنه روي عنه في الماء يبل فيه الخبز أو
يقع فيه الدهن: أنه لا يجوز الوضوء به، وكذلك الماء ينقع فيه الجلد (2)، وهذا خطأ
من القول، لأنه لا دليل عليه من قرآن ولا من سنة ولا اجماع ولا قول صاحب ولا قياس،
بل خالفوا فيه ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف، وخالفوا
فيه فقهاء المدينة كما ذكرنا، وما نعلمهم احتجوا بأكثر من أن قالوا: ليس هو ماء مطلقا
قال أبو محمد: وهذا خطأ، بل هو ماء مطلق وإن كان فيه شئ آخر، ولا فرق
بين ذلك الذي فيه وبين حجر يكون فيه، وهم يجيزون الوضوء بالماء الذي تغير من طين
موضعه، وهذا تناقض *

(1) في المصرية (عن ابن غانم) وفي اليمنية (عن أبي غانم) وكلاهما فيما
نرى خطأ، والصواب (عن ابن القاسم) فان سحنون إنما يروى الفقه عن ابن
القاسم عن مالك، وهكذا المدونة، هي رواية سحنون عن ابن القاسم. وقد
جهدت أن أجد هذه المسألة - التي رواها المؤلف - في المدونة فلم أوفق إلى
وجودها.
(2) هذا هو الذي في المدونة ونصها (ج 1 ص 4): (قال مالك: لا يتوضأ
بالماء الذي يبل فيه الخبز.. قال ابن القاسم: وأخبرني بعض أصحابنا ان انسانا
سأل مالكا عن الجلد يقع في الماء فيخرج مكانه أو الثوب، هل ترى بأسا ان
يتوضأ بذلك الماء؟ قال: قال مالك: لا أرى به بأسا، قال فقال له: فما بال الخبز؟
فقال له مالك: أرأيت إن أخذ رجل جلدا فانقعه أياما في ماء، أيتوضأ بذلك
الماء وقد ابتل الجلد في ذلك الماء؟ فقال: لا فقال مالك: هذا مثل الخبز ولكل شئ وجه)
201

ومن العجب أنهم لم يجعلوا حكم الماء للماء الذي مازجه شئ طاهر لم يزل عنه
اسم الماء، وجعلوا للفضة المخلوطة بالنحاس - خلطا يغيرها - حكم الفضة المحضة،
وكذلك في الذهب الممزوج فجعلوه كالذهب الصرف في الزكاة والصرف، وهذا هو
الخطأ وعكس الحقائق، لأنهم أوجبوا الزكاة في الصفر الممازج للفضة، وهذا باطل،
وأباحوا صرف فضة وصفر بمثل وزن الجميع من فضة محضة، وهذا الربا بعينه، وأما
الوضوء بماء قد مازجه شئ طاهر فإنما يتوضأ ويغتسل بالماء ولا يضره مرور شئ
طاهر على أعضائه مع الماء *
وقال بعضهم: هو كماء الورد. قال أبو محمد: وهذا باطل، لان ماء الورد ليس ماء
أصلا، وهذا ماء وشئ آخر معه فقط *
148 - مسألة - فان سقط عنه اسم الماء جملة كالنبيذ وغيره، ولم يجز الوضوء
به ولا الغسل، والحكم حينئذ التيمم، وسواء في هذه المسألة والتي قبلها وجد ماء
آخر أم لم يوجد *
برهان ذلك قول الله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا)، ولقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء)
ولما كان اسم الماء لا يقع على ما غلب عليه غير الماء حتى تزول عنه جميع صفات الماء التي
منها يؤخذ حده -: صح أنه ليس ماء، ولا يجوز الوضوء بغير الماء وهذا قول مالك
والشافعي وأحمد وداود وغيرهم، وقال به الحسن وعطاء بن أبي رباح وسفيان الثوري
وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور وغيرهم *
وروى عن عكرمة أن النبيذ وضوء إذا لم يوجد الماء ولا يتيمم مع وجوده *
وقال الأوزاعي: لا يتيمم إذا عدم الماء ما دام يوجد نبيذ غير مسكر، فإن كان
مسكرا فلا يتوضأ به *
وقال حميد (1) صاحب الحسن بن حي: نبيذ التمر خاصة يجوز الوضوء به والغسل
المتفرض في الحضر والسفر، وجد الماء أو لم يوجد، ولا يجوز ذلك بغير نبيذ التمر،
وجد الماء أو لم يوجد *

(1) هو حميد بن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي الكوفي الثقة.
202

وقال أبو حنيفة في أشهر قوليه: أن نبيذ التمر خاصة إذا لم يسكر فإنه يتوضأ به
ويغتسل - فيما كان خارج الأمصار والقرى خاصة - عند عدم الماء، فان أسكر،
فإن كان مطبوخا جاز الوضوء به والغسل كذلك، فإن كان نيئا لم يجز استعماله أصلا
في ذلك، ولا يجوز الوضوء بشئ من ذلك، لا عند عدم الماء ولا في الأمصار ولا
في القرى أصلا - وان عدم الماء -، ولا بشئ من الأنبذة غير نبيذ التمر لا في
القرى ولا في غير القرى، ولا عند عدم الماء، والرواية الأخرى عنه أن جميع
الأنبذة يتوضأ بها ويغتسل، كما قال في نبيذ التمر سواء سواء *
وقال محمد بن الحسن: يتوضأ بنبيذ التمر عند عدم الماء ويتيمم معا *
قال أبو محمد: أما قول عكرمة والأوزاعي والحسن بن حي فإنهم احتجوا بحديث
رويناه من طريق ابن مسعود من طرق: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن:
معك ماء؟ قال: ليس معي ماء، ولكن معي إداوة فيها نبيذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ ثم صلى الصبح) وفي بعض ألفاظه: (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم توضأ بنبيذ، وقال: تمرة طيبة وماء طهور (1)) *
وقال بعضهم: ان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ركبوا البحر فلم يجدوا إلا
ماء البحر ونبيذا فتوضأوا بالنبيذ، ولم يتوضؤا بماء البحر، وذكروا ما حدثناه محمد بن
سعيد بن نبات قال: ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد
السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا يزيد بن هارون ثنا عبد الله بن ميسرة (2) عن
مزيدة بن جابر عن علي بن أبي طالب رضى عنه قال: إذا لم تجد الماء فلتتوضأ بالنبيذ.
قال محمد بن المثنى: وحدثنا أبو معاوية محمد بن خازم الضرير ثنا الحجاج بن أرطاة
عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
لا بأس بالوضوء بالنبيذ *
قالوا: ولا مخالف لمن ذكرنا يعرف من الصحابة رضي الله عنهم، فهو إجماع
على قول بعض مخالفينا *

(1) من أول قوله (فتوضأ وصلى الصبح) إلى هنا محذوف من النسخة اليمنية
(2) في المصرية (عبد الله بن مسرة) وما هنا هو الصواب والموافق لليمنية
203

وقالوا: النبيذ ماء بلا شك خالطه غيره، فإذ هو كذلك فالوضوء به جائز *
قال أبو محمد: هذا كل ما يمكن أن يشغبوا به، ولا حجة لهم في شئ منه.
ولله الحمد *
أما الخبر المذكور فلم يصح، (1) لان في جميع طرقه من لا يعرف، أو من
لا خير فيه، وقد تكلمنا عليه كلاما مستقصى (2) في غير هذا الكتاب، ثم لو صح
بنقل التواتر لم يكن لهم فيه حجة، لان ليلة الجن كانت بمكة قبل الهجرة ولم تنزل
آية الوضوء الا بالمدينة في سورة النساء وفي سورة المائدة، ولم يأت قط أثر بأن
الوضوء كان فرضا بمكة، فإذ ذلك كذلك فالوضوء بالنبيذ كلا وضوء، فسقط التعلق
به لو صح *
وأما الذي رووه من فعل الصحابة رضي الله عنهم فهو عليهم لا لهم، لان
الأوزاعي والحسن بن حي وأبا حنيفة وأصحابه كلهم مخالفون لما روى عن الصحابة
في ذلك، مجيزون للوضوء بماء البحر، ولا يجيزون الوضوء بالنبيذ، ما دام يوجد ماء
البحر، وكلهم - حاشا حميدا صاحب الحسن بن حي - لا يجيز الوضوء البتة بالنبيذ
ما دام يوجد ماء البحر، وحميد صاحب الحسن يجيز الوضوء بماء البحر مع وجود
النبيذ، فكلهم مخالف (3) لما ادعوه من فعل الصحابة رضي الله عنهم في ذلك،
ومن الباطل أن يرى المرء حجة على خصمه ما لا يراه حجة عليه *
وأما الأثر عن علي رضي الله عنه فلا حجة في أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا
فان حميدا صاحب الحسن بن حي يخالف الرواية عن علي في ذلك، لأنه يرى الوضوء
بنبيذ التمر مع وجود الماء، وهذا خلاف قول على، ويرى سائر الأنبذة لا يحل بها
الوضوء أصلا (4)، وهذا خلاف الرواية عن علي *
وأما قولهم: إن في النبيذ ماء خالطه غيره، فهو لازم لهم في لبن مزج بماء، وفي
الحبر لأنه ماء مع عفص وزاج، وفي الامراق لأنها ماء وزيت وخل، أو ماء

(1) في اليمنية (فلا يصح)
(2) في اليمنية (متقصى)
(3) في المصرية مخالفون
(4) في اليمنية (ويرى أن سائر الأنبذة لا يحل منها الوضوء أصلا)
204

وزيت ومرى (1) ونحو ذلك، وهم لا يقولون بشئ من هذا، فظهر تناقضهم في كل
ما احتجوا به. ولله الحمد *
وأما قولا أبي حنيفة فهو أبعدهم من أن يكون له في شئ مما ذكرنا حجة. أما
الحديث المذكور فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حين الوضوء بالنبيذ خارج مكة، فمن
أين له بتخصيص جواز الوضوء بالنبيذ خارج الأمصار والقرى!؟ وهذا خلاف
لما في ذلك الخبر، لا سيما وهو لا يرى التيمم فيما يقرب من القرية، ولا قصر الصلاة
إلا في ثلاثة أيام، أحد وعشرين فرسخا فصاعدا، ولا سبيل له إلى دليل في شئ
من ذلك إلا ودليله في ذلك جار في جميع هذه المسائل *
وأما قوله الثاني الذي قاس فيه جميع الأنبذة على نبيذ التمر، فهلا قاس أيضا
داخل القرية على خارجها! وما المجيز له أحد القياسين والمانع له من الآخر!؟ لا سيما
مع ما في الخبر من قوله: (تمرة طيبة وماء طهور) فإذ هو ماء طهور فما المانع من
استعماله مع وجود ماء غيره، وكلاهما ماء طهور!؟ وهذا مالا انفكاك منه. وإن كان
لا يجيزه مع وجود الماء فليجزه للمريض في الحضر مع عدم الماء *
وأما فعل الصحابة رضي الله عنهم وقول على فهو مخالف له، لأنه لا يجيز الوضوء
بالنبيذ مع وجود ماء البحر، ولا يجيز الوضوء بالنبيذ وان عدم الماء في القرى، وليس
هذا في قول على، ولم يخص علي نبيذ تمر من غيره، وأبو حنيفة يخصه في أحد
قوليه (2)، ولا أمقت في الدنيا والآخرة ممن ينكر على مخالفه ترك قول هو أول تارك
له! ولا سيما ومخالفه لا يرى ذلك الذي ترك حجة، قال الله تعالى: (لم تقولون مالا تفعلون
كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) *
وأما قولهم: إن النبيذ ماء وتمر، فيلزمهم هذا كما قلنا في الامراق وغيرها من

(1) كتب بهامش اليمنية (هو الفلفل) وفي لسان العرب ضبط بالقلم بضم
الميم وكسر الراء وتشديد الياء وقال: (والمرى معروف، قال أبو منصور:
لا أدرى أعربي أم دخيل). وأنا لا أدرى هل هو المراد هنا أو غيره (وفوق كل
ذي علم عليم)
(2) في اليمنية (يخصصه في أشهر قوليه)
205

الأنبذة، وهو خلاف قوله، فظهر فساد قولي أبي حنيفة معا. والحمد لله رب العالمين *
وأما قول محمد بن الحسن ففاسد، لأنه لا يخلو أن يكون الوضوء بالنبيذ جائزا
فالتيمم معه فضول، أو لا يكون الوضوء به جائزا فاستعماله فضول، لا سيما مع قوله: إنه
إذا كان في ثوب المرء أكثر من قدر الدرهم البغلي من نبيذ مسكر بطلت صلاته،
ولا شك أن المجتمع على جسد المتوضئ بالنبيذ أو المغتسل به وفى ثوبه أكثر من
دراهم بغلية كثيرة *
فان قال من ينتصر له: إنا لا ندري أيلزم الوضوء به فلا يجزئ تركه وإما أنه
لا يحل (1) الوضوء به فلا يجزئ فعله، فجمعنا الامرين *
قيل لهم: الوضوء بالماء فرض متيقن عند وجوده، فلا يجوز تركه، والوضوء بالتيمم
عند عدم ما يجزئ الوضوء به فرض متيقن، والوضوء بالنبيذ عندكم غير متيقن،
وما لم يكن متيقنا فاستعماله لا يلزم، وما لا يلزم فلا معنى لفعله، ولو جئتم إلى استعمال
كل ما تشكون في وجوبه لعظم الامر عليكم، لا سيما وأنتم على يقين من أنه نجس
يفسد الصلاة كونه في الثوب، وأنتم مقرون أن الوضوء بالنجس المتيقن لا يحل *
وأما المالكيون والشافعيون فإنهم كثيرا ما يقولون في أصولهم وفروعهم: إن خلاف
الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم لا يحل. وهذا مكان نقضوا فيه هذا الأصل.
وبالله تعالى التوفيق *
وأبو حنيفة يقول بالقياس وقد نقض ههنا أصله في القول به، فلم يقس الامراق
ولا سائر الأنبذة على نبيذ التمر، وخالف أيضا أقوال طائفة من الصحابة رضي الله عنهم
كما ذكرنا دون مخالف يعرف لهم في ذلك، وهذا أيضا هادم لأصله، فليقف على ذلك
من أراد الوقوف على تناقض أقوالهم، وهدم فروعهم لأصولهم. وبالله تعالى التوفيق *
149 - مسألة - وفرض على كل مستيقظ من نوم - قل النوم أو كثر، نهارا كان أو ليلا،
قاعدا أو مضطجعا أو قائما، في صلاة أو في غير صلاة، كيفما نام - ألا يدخل يده في
وضوئه - في إناء كان وضوءه أو من نهر أو غير ذلك - إلا حتى يغسلها ثلاث مرات

(1) كذا في الأصلين، ولعل الصواب (أو لا يحل) الخ
206

ويستشق ويستنثر ثلاث مرات، فإن لم يفعل لم يجزه الوضوء ولا تلك الصلاة،
ناسيا ترك ذلك أو عامدا، وعليه أن يغسلها ثلاث مرات ويستنشق كذلك ثم يبتدئ
الوضوء والصلاة، والماء طاهر بحسبه، فان صب على يديه وتوضأ دون أن يغمس يديه
فوضوؤه غير تام (1) وصلاته غير تامة *
برهان ذلك ما حدثناه يونس بن عبد الله ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد
ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ
أحدكم من نوم فلا يغمس - يعنى يده - حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدرى أين باتت يده)
قال أبو محمد: زعم قوم أن هذا الغسل خوف نجاسة تكون في اليد، وهذا باطل
لا شك فيه، لأنه عليه السلام لو أراد ذلك لما عجز عن أن يبينه، ولما كتمه عن أمته
وأيضا فلو كان ذلك خوف نجاسة لكانت الرجل كاليد في ذلك، ولكان باطن
الفخذين وما بين الأليتين أولى بذلك (2). ومن العجب على أصولهم أن يكون ظن
كون النجاسة في اليد يوجب غسلها ثلاثا، فإذا تيقن كون النجاسة فيها أجزأه إزالتها
بغسلة واحدة. وإنما السبب الذي من أجله وجب غسل اليد هو ما نص عليه السلام
من مغيب النائم عن درايته أين باتت يده فقط، ويجعل الله تعالى ما شاء سببا لما
شاء، كما جعل تعالى الريح الخارج من أسفل سببا يوجب الوضوء وغسل الوجه ومسح
الرأس وغسل الذراعين والرجلين (2) *
وادعى قوم أن هذا في نوم الليل خاصة، لقوله: ((أين باتت يده) وادعوا أن
المبيت لا يكون الا بالليل *

(1) هنا بهامش اليمنية: (قال شيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي: قلت لم
يبرهن بشئ على أن وضوءه غير تام)
(2) هذا صحيح إذا كان المتوضئ سيغترف الماء برجليه أو بفخذيه أو
بأليتيه! وما هكذا التمسك بظواهر النصوص
(3) هذا غير ذاك، فان تعليل وجوب غسل اليد ثلاثا بأن النائم لا يدري
أين باتت يده، يشير إلى المعنى الذي من أجله وجب الغسل، وهو احتمال مباشرتها
النجاسة، وهذا هو الفرق بينه وبين طهرها بغسلة واحدة عند تيقن النجاسة،
فان النجاسة إذ ذاك يراها المتطهر ويوقن بإزالتها.
207

قال أبو محمد: وهذا خطأ، بل يقال: بات القوم يدبرون أمر كذا، وإن كان
نهارا. وحدثنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا
البخاري عن (1) إبراهيم بن حمزة - هو الزبيري - عن ابن أبي حازم (2) - هو
عبد العزيز - عن يزيد بن عبد الله - هو ابن أسامة بن الهاد - عن محمد بن
إبراهيم حدثه عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذ استيقظ
أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاث مرات (3) فان الشيطان يبيت على خيشومه)
كتب إلى سالم بن أحمد بن فتح قال ثنا عبد الله بن سعيد الشنتجالي (4) قال ثنا
عمر بن محمد بن داود السجستاني ثنا محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ثنا إبراهيم
بن محمد حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني (5) بشر بن الحكم ثنا عبد العزيز بن محمد
الدراوردي عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة

(1) في البخاري في كتاب بدء الخلق (ج 2 ص 98) (حدثنا إبراهيم بن حمزة)
(2) في الأصلين (عن أبي حازم) وهو خطأ.
(3) في البخاري (ثلاثا) وبحذف مرات
(4) نسبة إلى (شنتجالة) - بالشين المعجمة والنون والتاء والجيم بعدها
ألف ولام وهاء - بلد بالأندلس، ووقع في النسخة اليمنية (الشنحانى) وفي
المصرية (الشحال) وفى تذكرة الحفاظ (ج 3 ص 285) في ترجمة أبي ذر الهروي
(الشيخاني) وكل ذلك خطأ صوابه ما ذكرنا، وعبد الله هذا كنيته أبو محمد،
صحب أبا ذر الهروي ولقى أبا سعيد السجزي - وأظنه هو عمر بن محمد بن داود
شيخه هنا، والنسبة إلى سجستان سجزى وسجستاني - وسمع منه صحيح
مسلم، وأقام بالحرم أربعين عاما، رحل سنة 391 وعاد إلي الأندلس سنة 430
وأقام بقرطبة إلى أن مات في رجب سنة 436. وله ترجمة في معجم البلدان
(ج 5 ص 300) والديباج المذهب (ص 140) (5) في اليمنية (أخبرني)
208

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فان
الشيطان يبيت على خيشومه (1)) *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أبو يحيى زكريا بن يحيي
الساجي (2) ثنا محمد بن زنبور المكي ثنا عبد العزيز بن أبي حازم ثنا يزيد
ابن الهاد أن محمد بن إبراهيم حدثه عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنشق ثلاث مرات (3)
فان الشيطان يبيت على خيشومه) *
قال أبو محمد: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفرض. قال الله تعالى: (فليحذر الذين
يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم) ومن توضأ بغير أن يفعل
ما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به، ومن لم
يتوضأ كذلك فلا صلاة له، لا سيما طرد الشيطان عن خيشوم المرء، فما نعلم مسلما
يستسهل الانس بكون الشيطان هناك *
وقد أوجب المالكيون متابعة الوضوء فرضا لا يتم الوضوء والصلاة إلا به،
وأوجب الشافعي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضا لا تتم الصلاة إلا به، وأوجب
أبو حنيفة الاستنشاق والمضمضة في غسل الجنابة فرضا لا يتم الغسل والصلاة إلا به،
وكل هذا لم يأمر الله تعالى به ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الذي يجب أن ينكر، لا فعل
من أوجب ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل فيما قال له نبيه عليه السلام: افعل كذا

(1) في مسلم (ج 1 ص 48) (على خياشيمه)
(2) الساجي بالسين المهملة والجيم
نسبة إلى صنع الساج أو بيعه، وهو نوع من الخشب، ووقع في المصرية (أبو
يحيى بن زكريا بن يحيى الباجي) وهو خطأ في الموضعين، والساجي هذا له كتاب
جليل في علل الحديث، مات سنة 307 وقد قارب التسعين، وترجمته في تذكرة
الحفاظ (ج 2 ص 250) ولسان الميزان (ج 2 ص 288)
(3) في اليمنية (ثلاثا) وبحذف (مرات)
209

فقال هو: لا أفعل (1) إلا أن أشاء، ودعوى الاجماع بغير يقين كذب على الأمة
كلها. نعوذ بالله من ذلك *
حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن
ابن جريج قال: قلت لعطاء: أحق علي أن أستنشق؟ قال: نعم، قلت: كم؟ قال:
ثلاثا، قلت: عمن؟ قال: عن عثمان: قال عبد الرزاق: ثنا معمر عن قتادة عن
معبد الجهني قال - في المضمضة والاستنشاق -: إن كان جنبا فثلاثا، وإن كان جاء
من الغائط فاثنتين، وإن كانت جاء من البول فواحدة. وروى عن الحسن إعادة
الوضوء والصلاة على من لم يغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في الوضوء، وبه يقول
داود وأصحابنا *
150 - مسألة - ولا يجزئ غسل الجنابة في ماء راكد، فان اغتسل فيه فلم
يغتسل، والماء طاهر بحسبه، وله أن يعيد الغسل منه، وكذلك لا يجزئ الجنب أن
يغتسل لفرض غير الجنابة في ماء راكد، فإن كان غير جنب أجزأه الاغتسال في الماء
الراكد، والوضوء جائز في الماء الراكد، فمن اغتسل وهو جنب في جون من أجوان
النهر والنهر راكد لم يجزه، وأما البحر فهو جار أبدا مضطرب متحرك غير راكد، هذا
أمر مشاهد عيانا، وكذلك من بال في ماء راكد ثم سرح لذلك الماء فجرى فلا يحل له
الوضوء منه ولا الاغتسال، لأنه قد حرم عليه الاغتسال والوضوء من عين ذلك الماء
بالنص، ولو بال في ماء جار ثم أغلق صببه (2) فركد جاز له الوضوء منه والاغتسال
منه، لأنه لم يبل في ماء راكد. والاغتسال للجنابة وغيرها في الماء الجاري مباح،
وان بال فيه لم يحرم عليه بذلك الوضوء منه وفيه والغسل منه وفيه *
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا احمد

(1) في المصرية (فقال هؤلاء أفعل) وفي اليمنية (فقاله لا أفعل لا إن
أشاء) وكلاهما خطأ ظاهر.
(2) الصبب بالصاد المهملة والباء المفتوحتين -
من الصب - تصوب نهر أو طريق يكون في حدور، والمراد هنا المكان الذي
ينصب منه الماء فيجرى.
210

ابن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد
الأيلي عن ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن أبا السائب
مولى هشام بن زهرة حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟
قال: يتناوله تناولا) (1) فهذا أبو هريرة لا يرى أن يغتسل الجنب في الماء الدائم
وهو قول أبي حنيفة والشافعي، إلا أن أبا حنيفة قال: إن فعل تنجس الماء، وقد
بينا فساد هذا القول قبل. وكرهه مالك، وأجاز غسله ان اغتسل كذلك. وهذا
خطأ، لخلافه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسواء كان الماء الراكد قليلا أو
كثيرا، ولو أنه فراسخ في فراسخ، لا يجزئ الجنب أن يغتسل فيه، لان رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يخص ماء من ماء، ولم ينه عن الوضوء فيه ولا عن الغسل لغير الجنب
فيه، فهو مباح (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه).
151 - مسألة - وكل ماء توضأت منه امرأة - حائض أو غير حائض - أو
اغتسلت منه فأفضلت منه فضلا، لم يحل لرجل الوضوء من ذلك الفضل ولا الغسل
منه، سواء وجدوا ماء آخر أو لم يجدوا غيره، وفرضهم التيمم حينئذ، وحلال شربه
للرجال والنساء، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال. ولا يكون فضلا إلا
أن يكون أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلا، والوضوء
والغسل به جائز للرجال والنساء *
وأما فضل الرجال فالوضوء به والغسل جائز للرجل والمرأة، الا أن يصح خبر في
نهى المرأة عنه فنقف عنده، ولم نجده صحيحا (2) فان توضأ الرجل والمرأة من إناء
واحد أو اغتسلا من إناء واحد يغترفان معا فذلك جائز، ولا نبالي أيهما بدأ قبل، أو
أيهما أتم قبل *

(1) مسلم (ج 1 ص 93)
(2) بل وجد صحيحا بأصح من الاسناد الذي احتج به المؤلف، وفي نفس الحديث الذي استند إليه، كما سيأتي في الكلام على حديث عبد الله بن سرجس.
211

برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع قال ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الاعرابي
ثنا أبو داود هو - السجستاني - ثنا محمد بن بشار ثنا أبو داود - هو الطيالسي
- ثنا شعبة عن عاصم بن سليمان الأحول عن أبي حاجب - هو سوادة بن عاصم
- عن الحكم بن عمرو الغفاوي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل
طهور المرأة (1))
أخبرني أصبغ قال ثنا إسحاق بن أحمد ثنا محمد بن عمر العقيلي (2) ثنا على
ابن عبد العزيز ثنا معلى بن أسد ثنا عبد العزيز بن المختار عن عاصم الأحول عن
عبد الله بن سرجس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغسل الرجل بفضل وضوء
المرأة (3))

(1) الحديث صححه ابن حبان وحصنه الترمذي. وانظر تفصيل الكلام
عليه قي نيل الأوطار (ج 1 ص 31 - 32) الطبعة المنيرية وشرح أبي داود
(ج 1 ص 30 - 31) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 1 ص 190 - 193)
(2) في المصرية (محمد بن عمرو العقيلي) ورجحنا ماهنا - اتباعا لليمنية -
لأنا وجدنا في لسان الميزان (5: 321) ترجمة (محمد بن عمر أبو بكر العقيلي،
عن هلال بن العلاء الرقى وجماعة، وعنه أبو الفتح الأزدي وابن شاهين وعدة،
قال الدارقطني: ضعيف جدا) وهذا من طبقة الذي هنا، فان علي بن عبد العزيز
البغوي الحافظ شيخ العقيلي في هذا الاسناد توفى سنة 286، وهلال بن العلاء
الرقي مات سنة 280.
(3) في المصرية (بفضل المرأة) وسرجس بفتح السين المهملة واسكان الراء
وكسر الجيم. والحديث رواه أيضا الدارقطني (ص 43) من طريق أبي حاتم
الرازي عن معلى بن أسد بهذا الاسناد ولفظه (ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن
يشرعان جميعا) وهذا الاسناد أصح من الذي رواه به المؤلف. ورواه البيهقي
(1: 192) مختصرا. ثم روى الدارقطني وتبعه البيهقي عقبه أثرا موقوفا على
عبد الله بن سرجس بهذا المعنى، وقال الدارقطني: (هذا موقوف صحيح وهو
أولى بالصواب) يريد بذلك أن رفعه خطأ، ولكن الحق أن الرفع زيادة تقبل
من الثقة، وأن الموقوف فتوى من الصحابي تؤيد روايته المرفوعة ولا تعارضها،
قال ابن التركماني في الرد على البيهقي: (وعبد العزيز بن المختار أخرج له الشيخان
وغيرهما ووثقه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة فلا يضره وقف من وقفه). وله
أيضا شاهد صحيح رواه أحمد وأبو داوود والنسائي والبيهقي عن حميد بن
عبد الرحمن الحميري قال: (لقيت رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما
صحبه أبو هريرة أربع سنين قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط
أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسلة أو تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل
الرجل بفضل المرأة وليغرفا جميعا) هذا لفظ البيهقي. قال ابن حجر في الفتح
(ج 1 ص 260): (رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية، ودعوى البيهقي
انه في معنى المرسل مردودة، لان ابهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي
بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود راويه عن حميد بن عبد الرحمن هو
ابن يزيد الأودي وهو ضعيف مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي وهو ثقة
وقد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره) وصرح في بلوغ المرام بأن اسناده
صحيح، وما نقله عن ابن حزم لم نجده في المحلى، ولعله في كتاب آخر له أو في
موضع آخر.
212

ولم يخبر عليه السلام بنجاسة الماء، ولا أمر غير الرجال باجتنابه، وبهذا يقول
عبد الله بن سرجس والحكم بن عمرو، وهما صاحبان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبه تقول جويرية أم المؤمنين وأم سلمة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب، وقد روى عن
عمر أنه ضرب بالدرة من خالف هذا القول. وقال قتادة: سألت سعيد بن المسيب
والحسن البصري عن الوضوء بفضل المرأة، فكلاهما نهاني عنه *
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه لا بأس بفضل المرأة ما لم تكن حائضا
أو جنبا. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل مع عائشة رضي الله عنها من اناء
واحد معا حتى يقول: (ابقي لي) وتقول له: (ابق لي) وهذا حق وليس شئ من
ذلك فضلا حتى يتركه. هذا حكم اللغة بلا خلاف *
213

واحتج من خالف هذا بخبر رويناه من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن
سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس: (ان امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم
استحمت من جنابة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ من فضلها (1) فقالت له: انى اغتسلت (2)
فقال: إن الماء لا ينجسه شئ (3)) وبحديث آخر رويناه من طريق الطهراني عن
عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن
عباس: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة، مختصر) قال أبو محمد:
هكذا في نفسه الحديث مختصر *
قال أبو محمد: وهذان حديثان لا يصحان، فأما الحديث الأول فرواية سماك
ابن حرب، وهو يقبل التلقين، شهد عليه بذلك شعبة وغيره، وهذه جرحة ظاهرة (4)
والثاني أخطأ فيه الطهراني (5) بيقين، لان هذا أخبرناه عبد الله بن يوسف

(1) في اليمنية (بفضلها)
(2) في المصرية (فقالت له انك اغتسلت بفضلها) وهو خطأ
(3) رواية الثوري رواها الدارمي (ص 71) ولم يذكر لفظها ورواه
أيضا عن يزيد بن عطاء، ورواه أبو داود (1: 26) والترمذي (1: 15) عن
أبي الأحوص والدار قطني (ص 19) عن شريك والحاكم (1: 159) عن
سفيان وشعبة، كلهم عن سماك بن حرب عن عكرمة، وفي لفظ أبي داود والترمذي (ان
الماء لا يجنب) وأما اللفظ الذي هنا فهو في رواية الحاكم عن سفيان. ورواه
أيضا البيهقي (1: 188) من طريق سفيان عن سماك ولفظه: (انتهى النبي
صلى الله عليه وسلم إلى بعض أزواجه وقد فضل من غسلها فأراد أن يتوضأ به،
فقالت: يا رسول الله اني اغتسلت منه من جنابة، فقال إن الماء لا ينجس)
(4) قال ابن حجر في الفتح (1: 260) (وقد أعله قوم بسماك بن حرب
راويه عن عكرمة لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة وهو
لا يحمل عن مشايخه الا صحيح حديثهم).
(5) الطهراني - بكسر الطاء المهملة واسكان الراء - نسبة إلى طهران الري وضبطه في الخلاصة (بكسر الظاء المعجمة) وهو خطأ، والطهراني هو الحافظ الثقة أبو عبد الله محمد بن حماد الرازي نزيل عسقلان، وثقه ابن أبي حاتم وابن خراش والدار قطني وغيرهم، ومات
سنة 271. ورد الذهبي على ابن حزم قوله هذا فقال كما نقل عنه ابن حجر في
التهذيب (ما أخطأ إلا أنه اختصر صورة التحمل). وانظر ترجمته في التهذيب
9: 124 - 126) وأنساب السمعاني (374) ومعجم البلدان (6: 74) وتذكرة
الحفاظ (2: 168).
214

ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي
ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - ومحمد بن حاتم
قال إسحاق أخبرنا محمد بن بكر وقال ابن حاتم حدثنا محمد بن بكر وهو البرساني ثنا
ابن جريج ثنا عمرو بن دينار قال: أكبر علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء
أخبرني عن ابن عباس أنه أخبره (1): (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة)
قال أبو محمد: فصح أن عمرو بن دينار شك فيه ولم يقطع باسناده، وهؤلاء أوثق من
الطهراني وأحفظ بلا شك *
ثم لو صح هذان الخبران ولم يكن فيهما مغمز لما كانت فيهما حجة، لان حكمهما
هو الذي كان قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يتوضأ الرجل أو أن يغتسل (2) بفضل
طهور المرأة، بلا شك في هذا، فنحن على يقين من أن حكم هذين الخبرين منسوخ
قطعا، حين نطق عليه السلام بالنهي عما فيهما، لا مرية في هذا، فإذ ذلك كذلك فلا يحل الاخذ
بالمنسوخ وترك الناسخ، ومن ادعى ان المنسوخ قد عاد حكمه، والناسخ قد بطل رسمه،
فقد أبطل وادعى غير الحق، ومن المحال الممتنع أن يكون ذلك ولا يبينه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو المفترض عليه البيان. وبالله تعالى التوفيق *
على أن أبا حنيفة والشافعي المحتجين بهذين الخبرين مخالفان لما في أحدهما
من قوله عليه السلام: (الماء لا ينجس) ومن القبيح احتجاج قوم بما يقرون انه
حجة ثم يخالفونه وينكرون خلافه على من لا يراه حجة. وبالله تعالى التوفيق *
وروينا إباحة وضوء الرجل من فضل المرأة عن عائشة وعلى، إلا أنه لا يصح (3)،

(1) الذي في مسلم (1: 101) (أن ابن عباس أخبره)
(2) في اليمنية (ويغتسل)
(3) في المصرية (والصحيح أنه لا يصح).
215

فأما الطريق عن عائشة ففيها العرزمي (1) وهو ضعيف، عن أم كلثوم وهي مجهولة لا
يدري من هي. وأما الطريق عن علي فمن طريق ابن ضميرة (2) عن أبيه عن جده،
وهي صحيفة موضوعة مكذوبة، لا يحتج بها إلا جاهل. فبقي ما روى في ذلك عن ابن
سرجس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، لا مخالف له منهم يصح ذلك عنه أصلا.
وبالله تعالى التوفيق *
152 - مسألة - ولا يحل الوضوء بماء أخذ بغير حق، ولا من إناء مغصوب
أو مأخوذ بغير حق، ولا الغسل: إلا لصاحبة أو باذن صاحبه، فمن فعل ذلك فلا
صلاة له، وعليه إعادة الوضوء والغسل (3) *
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا
البخاري ثنا مسدد ثنا بشر هو ابن عمر ثنا عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين

(1) بفتح العين والزاي بينهما راء ساكنة نسبة إلى جبانة عرزم بالكوفة،
وهو محمد بن عبد الله بن أبي سليمان.
(2) بضم الضاد مصغر، وفى المصرية (ابن عميرة) وهو خطأ، وابن ضميرة هذا هو الحسين بن عبد الله بن ضميرة ابن أبي ضميرة الحميري المدني، كذبه مالك وأبو حاتم وابن الجارود، أنظر لسان الميزان (ج 2 ص 289)
(3) ما ذهب إليه المؤلف من بطلان الوضوء بالماء
المغصوب داخل تحت المسألة الخلافية المشهورة في الصلاة في الدار المغصوبة،
والكلام عليها معروف في كثير من كتب الأصول والفقه، والذي نراه حقا أن
اثم الغاصب بغصبه لا أثر له في صحة وضوئه أو صلاته، لأن الغصب فعل خاص، له
آثار: منها وجوب رد المغصوب أو قيمته وعقاب فاعله، والوضوء أو الصلاة فعل
آخر له آثار أخرى، واتصال الفعلين أو تجاورهما لا يجعل لأحدهما أثرا في
الآخر، وقد يصلى المرء وهو يضمر في نفسه قتل آخر ويعزم عليه ويصر، فهل
يؤثر هذا في صلاته فيجعلها باطلة؟ نعم ان ملابسة الماء للوضوء واتصال المكان
بالصلاة أكثر دخولا في فعل الوضوء والصلاة من العزم الذي في القلب، ولكن
المثال ما يزال صحيحا، لان كل فعل من هذه الأفعال له مقومات خاصة تجعله
ماهية وحدها، تترتب عليها آثارها، ولا تتعدى لفعل آخر معها، مهما اشتدت
الرابطة بينهما، الا بنص صريح من الشارع *
216

عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: (قعد النبي صلى الله عليه وسلم على بعيره (1) فقال - وذكر
الحديث وفيه - إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا،
في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فان الشاهد عسى أن (2) يبلغ من هو
أوعى له منه). ورويناه أيضا من طريق جابر بن عبد الله وابن عمر مسندا صحيحا ومن
طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله (3)) *
فكان من توضأ بماء مغصوب أو أخذ بغير حق أو أغتسل به أو من إناء كذلك،
فلا خلاف بين أحد من أهل الاسلام أن استعماله ذلك الماء وذلك الاناء في غسله
ووضوئه حرام (4) وبضرورة يدري كل ذي حس سليم (5) أن الحرام المنهي عنه هو
غير الواجب المفترض عمله، فإذ لا شك في هذا فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى
به، والذي لا تجزئ الصلاة إلا به، بل هو وضوء محرم، هو فيه عاص لله تعالى،
وكذلك الغسل، والصلاة بغير الوضوء الذي أمره الله تعالى به وبغير الغسل الذي أمر
الله تعالى به لا تجزئ، وهذا أمر لا إشكال فيه *
ونسأل المخالفين لنا عمن عليه كفارة إطعام مساكين، فأطعمهم مال غيره،
أو من عليه صيام أيام، فصام أيام الفطر والنحر والتشريق، ومن عليه عتق رقبة
فأعتق أمة غيره: أيجزيه ذلك مما افترض الله تعالى عليه؟ فمن قولهم: لا، فيقال
لهم: فمن أين منعتم هذا وأجزتم الوضوء والغسل بماء مغصوب وإناء مغصوب؟
وكل هؤلاء مفترض عليه عمل موصوف في مال نفسه، محرم عليه ذلك من مال غيره
باقراركم سواء سواء. وهذا لا سبيل لهم إلى الانفكاك منه. وليس هذا قياسا بل هو

(1) في البخاري (ج 1 ص 15) (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على
بعيره).
(2) في المصرية بحذف (أن) وزدناها من اليمنية والبخاري.
(3) في اليمنية (دمه وماله وعرضه) وللحديث روايات كثيرة
(4) هذا نص اليمنية وهو أحسن، وفي المصرية (ان استعماله ذلك الماء في
وضوئه وذلك الاناء في غسله حرام).
(5) في المصرية (يدرى من كل ذي حس سليم) وهو خطأ.
217

حكم واحد داخل (1) تحت تحريم الأموال، وتحت العمل بخلاف أمر الله تعالى،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وكل هؤلاء عمل
عملا ليس عليه أمر الله تعالى وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مردود بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في هذا
ومن قال إنما يحرم من الأموال البر والتمر وأما الشعير والزبيب فلا، وهذا تحكم فاسد (2) *
والعجب أن الحنفيين يبطلون طهارة من تطهر بماء مستعمل، وكذلك
الشافعيون، وأن المالكيين يبطلون طهارة من تطهر بماء بل فيه خبز، دون نص في
تحريم ذلك، ولا حجة بأيديهم إلا تشغيب يدعون أنه نهى عن هذين الماءين، ثم
يجيزون الطهارة بماء وإناء يقرون كلهم بأنه قد صح النهي عنه، وثبت تحريمه
وتحريم استعماله في الوضوء والغسل عليه، وهذا عجب لا يكاد يوجد مثله! وهذا مما
خالفوا فيه النص والاجماع المتيقن الذين هم من جملة المانعين منه في الأصل، وخالفوا
أيضا القياس، وما تعلقوا في جوازه بشئ أصلا. وبالله تعالى التوفيق *
153 - مسألة - ولا يجوز الوضوء ولا الغسل من إناء ذهب ولامن إناء
فضة لا لرجل ولا لامرأة
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا
ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ثنا شعبة عن الحكم بن عتيبة (3) عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حذيفة قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والديباج
وآنية الذهب والفضة، وقال: هو لهم في الدنيا وهو لكم (4) في الآخرة) وقد روينا
أيضا عن البراء بن عازب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن آنية الفضة (5)

(1) في اليمنية (واقع)
(2) كذا في المصرية، وفي اليمنية (وهم يوافقون في
هذا ومن قال أنه يحرم من الأحوال البر والتمر وأما الشعير والزبيب فلا وهذا
حكم فاسد) والعبارتان مضطربتان، ولعل المراد أنهم يوافقون في هذا ويخالفون
من قال الخ والله أعلم.
(3) بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق والباء الموحدة
بينهما ياء ساكنة، وفى الأصلين (عيينة) بياءين ونون وهو خطأ
(4) في المصرية (لنا) وما هنا هو الذي في اليمنية والموافق لما في البخاري (ج 3 ص 83)
ومسلم (ج 2 ص 150)
(5) حديث البراء رواه مسلم (ج 2 ص 149)
218

فان قيل: إنما نهى عن الاكل فيها والشرب. قلنا: هذان الخبران نهى
عام عنهما جملة، فهما زائدان حكما وشرعا على الاخبار التي فيها النهي عن الشرب
فقط أو الأكل والشرب فقط والزيادة في الحكم لا يحل خلافها *
فان قيل: فقد جاء أن الذهب والحرير (حرام على ذكور أمتي حل لإناثها).
قلنا: نعم، وحديث النهي عن آنية الذهب والفضة مستثنى من إباحة الذهب للنساء،
لأنه أقل منه، ولا بد من استعمال جميع الأخبار، ولا يوصل إلى استعمالها الا هكذا،
وهم قد فعلوا هذا في الشرب في إناء الذهب والفضة، فإنهم منعوا النساء من ذلك،
واستثنوه من إباحة الذهب لهن *
فان قيل: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرم شيئا (1))،
قلنا: نعم، هذا حق وبه نقول، والماء الذي في إناء الذهب والفضة شربه حلال،
والتطهر به حلال، وإنما حرم استعمال الاناء، فلما لم يكن بد في الشرب (2) منه وفى
التطهر منه من معصية الله تعالى - التي هي استعمال الاناء المحرم - صار فاعل ذلك
مجرجرا في بطنه نار جهنم بالنص، وكان في حال وضوئه وغسله عاصيا لله تعالى بذلك التطهر
نفسه، ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة، وأن يجزئ تطهير محرم عن
تطهير مفترض *
ثم نقول لهم: ان من العجب احتجاجكم بهذا الخبر علينا، ونحن نقول به وأنتم
تخالفونه، فأبو حنيفة والشافعي يحرمون الوضوء والغسل بماء في إناء كان فيه خمر لم
يظهر منها في الماء أثر، فقد جعلوا هذا الاناء يحرم هذا الماء، خلافا للخبر الثابت،
وأما مالك فإنه يحرم النبيذ الذي في الدباء والمزفت، وهو الذي أبطل هذا الخبر وفيه
ورد، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها إباحة الحلى للنساء وتحريم الاناء من
الفضة أو الاناء المفضض عليهن. وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق.
154 - مسألة - ولا يحل الوضوء من ماء بئار الحجر - وهي أرض ثمود -

(1) رواه الجماعة الا البخاري وأبا داود كما قال ابن تيمية في المنتقى. وانظر
نيل الأوطار (ج 9 ص 69) الطبعة المنيرية
(2) في اليمنية (من الشرب) وهو خطأ
219

ولا الشرب، حاشى بثر الناقة فكل ذلك جائز منها *
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري
ثنا البخاري ثنا محمد بن مسكين ثنا يحيى بن حسان بن حيان ثنا سليمان عن عبد الله
ابن دينار عن ابن عمر قال: (لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر في غزوة تبوك أمرهم
أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها، قالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم
النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا (1) ذلك الماء) *
وبه إلى البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا أنس بن عياض عن
عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه أخبره: (أن الناس نزلوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر واستقوا من بئارها (2)، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يهريقوا (3) ما استقوا من بئارها (4)، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن
يستقوا من بئر الناقة التي كان تردها الناقة (5)) قال أبو محمد: هي معروفة بتبوك *
155 - مسألة - وكل ماء اعتصر من شجر كماء الورد وغيره فلا يحل الوضوء
به للصلاة، ولا الغسل به لشئ من الفرائض (6) لأنه ليس ماء، ولا طهارة الا بالماء
والتراب أو الصعيد عند عدمه *
156 - مسألة - مسألة والوضوء للصلاة والغسل للفروض جائز بماء البحر وبالماء
المسخن والمشمس وبماء أذيب من الثلج أو البرد أو الجليد أو من الملح الذي كان
أصله ماء ولم يكن أصله معدنا *
برهان ذلك أن كل ما ذكرنا يقع عليه اسم ماء، وقال تعالى: (فلم تجدوا ماء
فتيمموا صعيدا طيبا) والملح كان ماء ثم جمد كما يجمد الثلج، فسقط عن كل ذلك

(1) ما هنا هو الذي في اليمنية والبخاري (ج 2 ص 112) وفى المصرية (ويهرقوا)
(2) في البخاري (ج 2 ص 113) (فاستقوا من بئرها واعتجنوا)
(3) في المصرية (يهرقوا)
(4) في البخاري (بئرها)
(5) في البخاري (وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة)
(6) في اليمنية (الفروض)
220

اسم الماء، فحرم الوضوء للصلاة به والغسل للفروض، فإذا صار ماء عاد عليه اسم
الماء، فعاد حكم الوضوء والغسل به كما كان، وليس كذلك الملح المعدني، لأنه لم
يكن قط ماء. وبالله تعالى التوفيق *
وفى بعض هذا خلاف قديم: روينا عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة
ان الوضوء للصلاة والغسل من ماء البحر لا يجوز ولا يجزئ، ولقد كان يلزم من يقول
بتقليد الصاحب ويقول إذا وافقه قوله: مثل هذا لا يقال بالرأي -: أن يقول بقولهم ههنا،
وكذلك من لم يقل بالعموم، لان الخبر: (هو الطهور ماؤه الحل (1) ميته) لا يصح (2)،
ولذلك لم نحتج به، وروي عن مجاهد الكراهة للماء المسخن، وعن الشافعي الكراهة
للماء المشمس (3)، وكل هذا لا معنى له، ولا حجة إلا في قرآن أو سنة ثابتة أو اجماع
متيقن. وبالله تعالى التوفيق *
157 - مسألة - الأشياء الموجبة للوضوء ولا يوجب الوضوء غيرها، قال قوم: ذهاب
العقل بأي شئ ذهب من جنون أو اغماء أو سكر من أي شئ سكر، وقالوا: هذا اجماع
متيقن *
وبرهان ذلك أن من ذهب عقله سقط عنه الخطاب، وإذا كان كذلك فقد بطلت

(1) في اليمنية (والحل) وهي رواية في الحديث
(2) كلا بل هو حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن؟؟ والحاكم في المستدرك وغيرهم، وصححه الترمذي وحكى عن البخاري تصحيحه
وصححه أيضا كثير من العلماء الحفاظ، وأطال ابن حجر في التلخيص (ص 2 - 3)
وتبعه الشوكاني (ج 1 ص 17 - 19) الكلام على أسانيده وليس لمن ضعفه
حجة.
(3) ليس في الماء المشمس خبر صحيح ولا ضعيف، انظر البيهقي (ج 1 ص
6 - 7) وورد أثر عن عمر باسناد لا بأس به، والشافعي إنما كرهه من جهة الطب
- وقد كان عالما به - فقد قال في الام (ج 1 ص 3): ولا أكره الماء المشمس
الا من جهة الطب) فالعجب من الشافعية إذ أخذوا قوله هذا حكما وجعلوه
مكروها شرعا، ولا حجة لهم وقد يخطئ الطبيب. وقد نص الشافعي في الام على أنه
إنما كرهه من جهة الطب، ولم يدع انه اعتمد فيه على حديث.
221

حال طهارته التي كان فيها، ولولا صحة الاجماع أن حكم جنابته لا يرجع عليه لوجب
أن يرجع عليه (1). وبالله تعالى التوفيق *
قال أبو محمد: وليس كما قالوا، أما دعوى الاجماع فباطل، وما وجدنا في هذا عن
أحد من الصحابة كلمة، ولاعن أحد التابعين إلا عن ثلاثة نفر: إبراهيم النخعي - على
أن الطريق إليه واهية - وحماد والحسن فقط، عن اثنين منهم الوضوء، وعن الثالث
ايجاب الغسل، روينا عن سعيد بن منصور عن سويد بن سعيد الحدثاني (2) وهشيم
قال سويد أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في المجنون إذا أفاق: يتوضأ، وقال هشيم عن بعض
أصحابه عن إبراهيم مثله، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن حماد بن أبي
سليمان قال: إذا أفاق المجنون توضأ وضوء للصلاة، ومن طريق عبد الرزق عن
هشام بن حسان عن الحسن البصري قال: إذا أفاق المجنون اغتسل. فأين الاجماع
ليت شعري؟!
فان قالوا: قسناه على النوم، قلنا: القياس باطل، لكن قد وافقتمونا على أنه
لا يوجب إحدى الطهارتين وهي الغسل، فقيسوا على سقوطها سقوط الأخرى وهي
الوضوء، فهذا قياس يعارض قياسكم، والنوم لا يشبه الاغماء ولا الجنون ولا السكر
فيقاس عليه، وقد اتفقوا على أنه لا يبطل احرامه ولا صيامه ولا شئ من عقوده،
فمن أين لهم ابطال وضوئه بغير نص في ذلك؟ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر
المشهور الثابت من طريق عائشة أم المؤمنين: أنه عليه السلام في علته التي مات فيها
أراد الخروج للصلاة فأغمي عليه، فلما أفاق اغتسل. ولم تذكر وضوءا وإنما كان غسله ليقوى
على الخروج فقط *
158 - مسألة - والنوم في ذاته حدث ينقض الوضوء سواء قل أو كثر،
قاعدا أو قائما، في صلاة أو غيرها، أو راكعا كذلك أو ساجدا كذلك أو متكئا
أو مضجعا، أيقن من حواليه أنه لم يحدث أو لم يوقنوا *

(1) في اليمنية (لا يرجع) وهو خطأ
(2) بفتح الحاء والدال المهملتين نسبة إلى الحديثة بلد على الفرات
222

برهان ذلك ما حدثناه يونس بن عبد الله وعبد الله بن ربيع قالا ثنا محمد بن
معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى ويحيى بن آدم وقتيبة بن سعيد
قال محمد ثنا شعبة وقال قتيبة ثنا سفيان بن عيينة وقال يحيى ثنا سفيان
الثوري وزهير - هو ابن معاوية - ومالك بن مغول وسفيان بن عيينة
واللفظ ليحيى، ثم اتفق شعبة وسفيان وسفيان (1) وزهير وابن مغول عن عاصم
ابن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: سألت صفوان بن عسال عن المسح على
الخفين فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح
على خفافنا (2) ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم إلا من جنابة) ولفظ شعبة
في روايته: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا (إذا كنا مسافرين) (3) ألا ننزعه
ثلاثا إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم) (4) فعم عليه السلام كل نوم، ولم
يخص قليله من كثيره، ولا حالا من حال، وسوى بينه وبين الغائط والبول. وهذا
قول أبي هريرة وأبي رافع وعروة بن الزبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب
وعكرمة والزهري والمزني وغيرهم كثير *

(1) في اليمنية لم يذكر سفيان إلا مرة واحدة، وما هنا هو الصواب لان
المراد الثوري وابن عيينة.
(2) في اليمنية (أخفافنا) وخف يجمع على (خفاف) و (أخفاف).
(3) زيادة من اليمنية.
(4) لا أدرى أين هذه الأسانيد في سنن النسائي؟ والذي فيهما هو: (أخبرنا
أحمد بن سليمان الرهاوي قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا سفيان الثوري ومالك
ابن مغول وزهير وأبو بكر بن عياش وسفيان بن عيينة عن عاصم عن زر قال:
سألت صفوان بن عسال عن المسح على الخفين فقال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا ولا ننزعها ثلاثة أيام
من غائط وبول ونوم إلا من جنابة) (ج 1 ص 32) وفي الاسناد الذي جاء
به المؤلف خطأ واضح لا شك فيه، فقد جعل النسائي يروي عن يحيى بن آدم
بغير واسطة، وهذا غير صحيح، فان يحيى مات سنة 203 والنسائي ولد سنة 214
أو 215 أي بعد وفاة يحيى بأكثر من عشر سنين.
223

وذهب الأوزاعي إلى أن النوم لا ينقض الوضوء كيف كان. وهو قول صحيح
عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن عمر وعن مكحول وعبيدة السلماني
نذكر بعض ذلك باسناده لان الحاضرين من خصومنا لا يعرفونه ولقد ادعى
بعضهم الاجماع على خلافه جهلا وجرأة *
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا
محمد بن السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا شعبة عن
قتادة عن أنس بن مالك قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون (1) الصلاة
فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقومون إلى الصلاة) *
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا
أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن حبيب الحارثي ثنا
خالد - هو ابن الحارث - ثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أنسا يقول: (كان أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤن) فقلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال
إي والله (2) *
قال أبو محمد: لو جاز القطع بالاجماع فيما لا يتيقن أنه لم يشذ عنه أحد لكان
هذا يجب أن يقطع فيه بأنه إجماع لا لتلك الأكاذيب التي لا يبالي من لا دين له
باطلاق دعوى الاجماع فيها *
وذهب داود بن علي إلى أن النوم لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع فقط
وهو قول روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن عباس، ولم يصح عنهما،
وعن ابن عمر، صح عنه وصح عن إبراهيم النخعي وعن عطاء والليث وسفيان
الثوري والحسن بن حي *
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينقض النوم الوضوء إلا أن يضطجع أو يتكئ أو

(1) في المصرية (ينظرون) وهو خطأ.
(2) صحيح مسلم (ج 1 ص 112).
224

متوكأ على إحدى أليتيه أو إحدى وركيه (1) فقط ولا ينقضه ساجدا أو قائما أو
قاعدا أو راكعا طال ذلك أو قصر، وقال أبو يوسف: إن نام ساجدا غير متعمد
فوضوؤه باق، وان تعمد ذلك بطل وضوؤه، ومولا يفرق بين العمد والغلبة فيما
ينقض الوضوء والصلاة من غير هذا، وهو قول لا يعلم (2) عن أحد من المتقدمين
الا أن بعضهم ذكر ذلك عن حماد بن أبي سليمان والحكم ولا نعلم كيف قالا *
وقال مالك وأحمد بن حنبل: من نام نوما يسيرا وهو قاعد لم ينتقض وضوؤه،
وكذلك النوم القليل للراكب، وقد روى عنه نحو ذلك في السجود أيضا، ورأي
أيضا فيما عدا هذه الأحوال أن قليل النوم وكثيره ينقض الوضوء، وهو قول الزهري
وربيعة، وذكر عن ابن عباس ولم يصح *
وقال الشافعي: جميع النوم ينقض الوضوء قليله وكثيره الا من نام جالسا غير
زائل عن مستوى الجلوس، فهذا لا ينتقض وضوؤه، طال نومه أو قصر، وما نعلم
هذا التقسيم يصح عن أحد من المتقدمين، الا أن بعض الناس ذكر ذلك عن
طاوس وابن سيرين ولا نحققه *
قال أبو محمد: احتج من لم ير النوم حدثا بالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه
كان ينام ولا يعيد وضوءا يصلى *
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم لان عائشة رضي الله عنهما ذكرت أنها قالت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتنام قبل أن توتر؟ قال: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي (3))
فصح أنه عليه السلام بخلاف الناس في ذلك، وصح أن نوم القلب الموجود من كل
من دونه هو النوم الموجب للوضوء فسقط هذا القول. ولله الحمد *
ووجدنا من حجة من لا يرى الوضوء من النوم إلا من الاضطجاع حديثا روى
فيه: (إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله) وحديثا

(1) في اليمنية (أحد أليتيه أو أحد وركيه) وهو خطأ لان الالية والورك
مؤنثتان
(2) في اليمنية (لا نعلمه)
(3) رواه البخاري (ج 1 ص 160) ومسلم (ج 1 ص 204 - 205) وغيرهما
225

آخر فيه: (أعلي في هذا وضوء يا رسول الله؟ قال: لا إلا أن تضع جنبك) وحديثا
آخر فيه: (من وضع جنبه فليتوضأ) *
قال أبو محمد: وهذا كله لا حجة فيه
أما الحديث الأول فإنه من رواية عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني
عن قنادة عن أبي العالية عن ابن عباس وعبد السلام ضعيف لا يحتج به ضعفه
ابن المبارك وغيره، والدالاني ليس بالقوى، روينا عن شعبة أنه قال: لم يسمع قتادة
من أبى العالية الا أربعة أحاديث، ليس هذا منها، فسقط جملة ولله الحمد (1) *

(1) الحديث رواه أحمد وأبو داود (ج 1 ص 80 - 81) والترمذي
(ج 1 ص 16 - 17) والدار قطني (ص 58) والبيهقي (ج 1 ص 121 - 122)
كلهم من طريق عبد السلام بن حرب عن أبي خالد، قال البيهقي (تفرد بهذا
الحديث على هذا الوجه يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني) وقال
الدارقطني (تفرد به أبو خالد عن قتادة ولا يصح) وقال أبو داود (قوله
الوضوء على من نام مضطجعا) هو حديث منكر لم يروه إلا يزيد أبو خالد
الدالاني عن قتادة، وروى أوله جماعة عن ابن عباس لم يذكروا شيئا من هذا،
وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم محفوظا، وقالت عائشة قال النبي صلى الله عليه
وسلم تنام عيناي ولا ينام قلبي، وقال شعبة: إنما سمع قتادة عن أبي العالية
أربعة أحاديث: حديث يونس بن متى، وحديث ابن عمر في الصلاة، وحديث
القضاة ثلاثة، وحديث ابن عباس حدثني رجال مرضيون منهم عمر وأرضاهم عندي
عمر. قال أبو داود: وذكرت حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل فانتهرني
استعظاما له فقال: ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة! ولم يعبأ بالحديث)
وقال الترمذي: (وقد روي الحديث ابن عباس سعيد بن أبي عروبة عن قتادة
عن ابن عباس قوله: ولم يذكر فيه أبا العالية ولم يرفعه). والحديث في رأينا
حسن الاسناد، لان عبد السلام بن حرب ثقة روى له مسلم، ويزيد ليس ضعيفا
ضعفا تطرح معه رواياته، قال ابن معين والنسائي وأحمد بن حنبل (ليس به
بأس) وقال أبو حاتم (صدوق ثقة) وقال الحاكم (ان الأئمة المتقدمين شهدوا
له بالصدق والاتقان) وضعفه ابن سعد وابن حبان وابن عبد البر، كما في التهذيب
ونقل الزيلعي في نصب الراية (ج 1 ص 25) عن الترمذي في العلل: (سألت
محمد بن إسماعيل - يعنى البخاري - عن هذا الحديث فقال: لا شئ، رواه سعيد
ابن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية، ولا أعرف
لأبي خالد الدالاني سماعا من قتادة، وأبو خالد صدوق ولكنه يهم في الشئ)
قال الزيلعي (وكان هذا على مذهبه في اشتراطه في الاتصال السماع ولو مرة)
يعنى أن البخاري شرطه معروف وهو ثبوت سماع الراوي من شيخه، ولكنه
خولف هي هذا الشرط والراجح عند المحدثين الاكتفاء بالمعاصرة إذا كان الراوي
ثقة، ومن عادة المتقدمين رحمهم الله الاحتياط الشديد فإذا رأوا راويا زاد عن
غيره في الاسناد شيخا أو كلاما لم يروه غيره بادروا إلى اطراحه والانكار على
راويه، وقد يجعلون هذا سببا للطعن في الراوي الثقة ولا مشعن فيه، ويظهر
للناظر في الكلام علي هذا الحديث أنه سبب طعنهم علي أني خالد ورميهم له
بالخطأ أو التدليس، والحق أن الثقة إذا زاد في الاسناد راويا أو في لفظ الحديث
كلاما كان هذا أقوى دلالة على حفظه واتقانه، وانه علم ما لم يعلم الآخر أو
حفظ ما نسيه. وإنما ترد الزيادة التي رواها الثقة إذا كانت تخالف رواية من هو
أوثق منه وأكثر مخالفة لا يمكن بها الجمع بين الروايتين، فاجعل هذه القاعدة
على ذكر منك فقد تنفع كثيرا في الكلام على علل الأحاديث، وصنيع ابن حزم
في كتبه يدل علي أنه يتخذها دستورا له، وقد خالفها هنا ولا نرى وجها لذلك.
والعلم عند الله
226

والثاني لا تحل روايته الا على بيان سقوطه لان رواية بحر بن كنيز السقاء (1)
وهو لا خير فيه متفق على اطراحه فسقط جملة *
والثالث رواه معاوية بن يحيى وهو ضعيف يحدث بالمناكير (2) فسقط هذا

(1) في المصرية (يحيى بن كثير) وفى اليمنية (بحر بن كثير)
وكلاهما خطأ وصوابه بحر بن كنيز وحديثه رواه البيهقي (ج 1 ص 120)
من حديث حذيفة، وقال: (هذا الحديث ينفرد به بحر بن كنيز السقاء عن
ميمون الخياط وهو ضعيف لا يحتج بروايته)
(2) هذا الحديث الثالث لم أجده، ومعاوية بن يحيى إن كان أبا مطيع الأطرابلسي فليس ضعيفا بل هو صدوق لا بأس به، وإن كان أبا روح الصدفي فهو ضعيف حفا.
227

الباب كله وبالله تعالى نتأيد *
وذكروا أيضا حديث فيه: (إذا نام العبد ساجدا باهى الله به الملائكة)
وهذا لا شئ لأنه مرسل لم يخبر الحسن ممن سمعه ثم لو صح لم يكن فيه اسقاط
الوضوء عنه *
وذكروا أيضا حديثين صحيحين أحدهما عن عطاء عن ابن عباس والآخر
من طريق ابن جريج عن نافع عن ابن عمر فيهما (1): ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة
حتى نام الناس ثم استيقظوا ثم ناموا، ثم استيقظوا، فجاء عمر فقال: الصلاة: يا رسول
الله فصلوا ولم يذكر أنهم توضؤا (2)
قال أبو محمد: والثاني من طريق شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس:
(أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجى رجلا فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه، ثم
جاء فصلى بهم (3)) وحديثا ثابتا (4) من طريق عروة عن عائشة قالت:
(أعتم (5) النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى ناداه عمر: نام النساء والصبيان، فخرج عليه
السلام (6)) *
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة فيه البتة لمن فرق بين أحوال النائم ولا بين
أحوال النوم، لأنها ليس في شئ منها ذكر حال من نام كيف نام، من جلوس أو
اضطجاع أو اتكاء أو تورك أو استناد، وإنما يمكن أن يحتج بها من لا يرى الوضوء
من النوم أصلا، ومع ذلك فلا حجة لهم في شئ منه لأنه ليس في شئ منها أن

(1) في المصرية (فيه) وهو خطأ
(2) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم وأبو داود انظر شرح سنن أبي داود (ج 1 ص 79) (3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود، ورواه أيضا أبو داود من طريق ثابت البناني عن أنس أنظر الشرح (ج 1 ص 79 - 80) و (ج 1 ص 214)
(4) في المصرية (ثالثا) وكذلك في اليمنية ولكن صححه ناسخها بحاشية النسخة (ثابتا)
(5) أعتم أي دخل في العتمة، يعنى أخر صلاة العشاء
(6) رواه البخاري ومسلم والنسائي (أنظر نيل الأوطار (ج 1 ص 411 - 412) طبع إدارة الطباعة المنيرية
228

رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بنوم من نام ولم يأمره بالوضوء، ولا حجة لهم الا فيما
علمه النبي صلى الله عليه وسلم فأقره، أو فيما أمر به، أو فيما فعله، فكيف وفى حديث ابن عمر
وعائشة: (انه لم يكن اسلام يومئذ الا بالمدينة، فلو صح أنه عليه السلام علم ذلك
منهم لكان حديث صفوان ناسخا له، لان اسلام صفوان متأخر (1) فسقط التعلق
بهذه الا خبار جملة، وبالله تعالى التوفيق *
وأما (2) قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد فلا متعلق لمن ذهب إلى شئ
منها لا بقرآن ولا بسنة صحيحة ولا سقيمة، ولا بعمل صحابة ولا بقول صح عن
أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا بقياس ولا باحتياط، وهي أقوال مختلقة كما
ترى، ليس لأحد من مقلديهم أن يدعى عملا الا كان لخصومه أن يدعي لنفسه مثل
ذلك، وقد لاح ان كل ما شغبوا به من أفعال الصحابة رضي الله عنهم فإنما هو إيهام
مفتضح، لأنه ليس في شئ من الروايات انهم ناموا على الحال التي يسقطون الوضوء
عمن نام كذلك، فسقطت الأقوال كلها من طريق السنن الا قولنا. والحمد لله
رب العالمين *
قال أبو محمد وأما من طريق النظر فإنه لا يخلو النوم من أحد وجهين لا ثالث لهما:
اما أن يكون النوم حدثا واما ان لا يكون حدثا، فإن كان ليس حدثا فقليله وكثيره
- كيف كان لا ينقض الوضوء، وهذا خلاف قولهم، وإن كان حدثا فقليله وكثيره
- كيف كان - ينقض الوضوء. وهذا قولنا فصح أن الحكم بالتفريق بين أحوال
النوم خطأ وتحكم بلا دليل، ودعوى لا برهان (3) عليها *

(1) لا أدرى من أين جاء ابن حزم بدعوى أن صفوان متأخر الاسلام؟
فليس في ترجمة شئ من هذا، ولكن روى أحمد في مسنده (ج 4 ص 239)
عن عبد الصمد بن عبد الوارث وابن سعد في الطبقات (ج 6 ص 17) عن عمرو
ابن عاصم الكلابي كلاهما عن همام عن عاصم عن زر بن حبيش قال: (لقيت
صفوان بن عسال المرادي، فقلت له: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: نعم وغزوت معه ثنتى عشرة غزوة) وهذا اسناد صحيح جدا، وهو يدل
على أنه قديم الاسلام
(2) في اليمنية (فأما)
(3) في اليمنية (بلا برهان)
229

فان قال قائل أن النوم ليس حدثا وإنما يخاف أن يحدث فيه المرء. قلنا لهم:
هذا لا متعلق لكم بشئ، منه لان الحدث ممكن كونه من المرء في أخف ما يكون من
النوم، كما هو ممكن أن يكون منه في النوم الثقيل (1) وممكن أن يكون من الجالس كما هو
ممكن أن يكون من المضجع، وقد يكون الحديث من اليقظان وليس الحدث عملا يطول
بل هو كلمح البصر، وقد يمكن أن يكون النوم الكثير من المضجع لا حدث فيه،
ويكون الحدث في أقل ما يكون من نوم الجالس، فهذا لا فائدة لهم فيه أصلا وأيضا فان
خوف الحدث ليس حدثا ولا ينتقض به الوضوء وإنما ينقض الوضوء يقين الحدث.
وبالله تعالى التوفيق *
وإذ الامر كما ذكرنا فليس الا أحد أمرين: اما أن يكون خوف كون الحدث
حدثا، فقليل النوم وكثيره يوجب نقض الوضوء، لان خوق الحدث جار فيه. وأما
أن يكون خوف الحدث ليس حدثا فلنوم قليله وكثيره لا ينقض الوضوء وبطلت
أقوال هؤلاء على كل بيقين لا شك فيه *
وقد ذكر قوم أحاديث منها ما يصح ومنها مالا يصح يجب أن ننبه عليها بعون
الله تعالى *
منها حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم
وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم، لان أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى
لعله يستغفر فيسب نفسه) وفى بعض ألفاظه (لعله يدعو على نفسه وهو لا يدرى)
وحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يدرى
ما يقرأ) *
قال أبو محمد: هذان صحيحان، وهما حجة لنا، لان فيهما أن الناعس لا
يدرى ما يقرأ ولا ما يقول، والنهي عن الصلاة على تلك الحال جملة، فإذ الناعس
لا يدرى ما يقول فهو في حال ذهاب العقل بلا شك، ولا يختلفون أن من ذهب

(1) في اليمنية (الطويل)
230

عقله بطلت طهارته، فيلزمهم أن يكون النوم كذلك
والآخر من طريق معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم (العينان وكاء السه فإذا نامت العين
استطلق الوكاء) والثاني من طريق على عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العينان وكاء السه فمن نام
فليتوضأ) (1)
قال علي بن أحمد: لو صحا لكانا أعظم حجة لقولنا، لان فيهما إيجاب الوضوء
من النوم جملة، دون تخصيص حال من حال، ولا كثير نوم من قليله، بل من كل
نوم نصا، ولكنا لسنا ممن يحتج بما لا يحل الاحتجاج به نصرا لقوله ومعاذ الله من
ذلك، وهذان أثران ساقطان لا يحل الاحتجاج بهما *
أما حديث معاوية فمن طريق بقية وهو ضعيف، عن أبي بكر بن أبي مريم وهو
مذكور بالكذب عن عطية بن قيس وهو مجهول (2) *
وأما حديث على فراويه أيضا بقية عن الوضين بن عطاء وكلاهما ضعيف (3).
وبالله تعالى التوفيق

(1) حديث معاوية رواه أحمد والدار قطني والبيهقي. وحديث على رواه أحمد
وأبو داود وابن ماجة والدار قطني وأنظر نيل الأوطار (ج 1 ص 241 - 242)
(2) أما بقية بن الوليد فليس ضعيفا، وإنما أخطأ في بعض حديثه من
حفظه وهو ثقة إذا صرح بالسماع. وأما أبو بكر بن أبي مريم فهو ابن عبد الله بن أبي
مريم كان من العباد المجتهدين ومن خيار أهل الشام، وكان ردئ الحفظ كثير
الوهم فترك حديثه، ولم أر أحدا رماه بالكذب وأما عطية بن قيس فإنه ليس
مجهولا ولعل ابن حزم جهله ولم يعرفه، وما هذا بمطعن فيه، قال ابن سعد: (كان
معروفا وله أحاديث) وقال أبو حاتم (صالح الحديث) وذكره ابن حبان في
الثقات وروى له مسلم في صحيحه. ومات سنة 121 وله 104 سنة
(3) الوضين بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة. وثقه احمد وابن معين ودحيم وقال أبو داود
(صالح الحديث) ومن ضعفه فإنما تكلم فيه لأنه كان يري القدر، وليس هذا
كافيا في الحكم بضعف الراوي، وقال الساجي (عنده حديث واحد منكر
عن محفوظ بن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ عن علي حديث: (العينان وكاء
السه) قال الساجي: (رأيت أبا داود أدخل هذا الحديث في كتاب السنن
ولا أراه ذكره الا وهو عنده صحيح) وانظر شرح أبي داود (ج 1 ص
81 - 82) وظهر من كل هذا أن الحديث بطريقين حديث حسن، والطريقان
يؤيد بعضهما بعضا. والسه بفتح السين المهملة والهاء الدبر. والوكاء ما تشد
به القربة وغيرها والمعنى اليقظة وكاء الدبر أي حافظة ما فيه من الخروج
231

159 - مسألة - والمذي والبول والغائط من أي موضع خرجا من الدبر والإحليل
أو من جرح في المثانة أو البطن أو غير ذلك من الجسد (1) أو من الفم *
فاما المذي فقد ذكرنا في باب تطهير المذي من كتابنا هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيمن وجده: (وليتوضأ (2) وضؤه للصلاة) وأما البول والغائط فاجماع متيقن،
وأما قولنا من أي موضع خرج فلعموم امره عليه السلام بالوضوء منهما، ولم يخص
خروجهما من المخرجين دون غيرهما، وهذان الا سمان واقعان عليهما في اللغة التي بها
خاطبنا عليه السلام من حيث ما خرجا، وممن قال بقولنا ههنا أبو حنيفة وأصحابه،
ولا حجة لمن أسقط الوضوء منهما إذا خرجا من غير المخرجين، لا من قرآن ولا من
سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس، بل القرآن جاء بما
قلناه، قال الله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء)
وقد يكون خروج الغائط والبول من غير المخرجين، فلم يخص تعالى بالامر بالوضوء
والتيمم من ذلك حالا دون حال، ولا المخرجين من غيرهما. وبالله تعالى التوفيق *
160 - مسألة - والريح الخارجة من الدبر - خاصة لا من غيره - بصوت
خرجت أم بغير صوت. وهذا أيضا إجماع متيقن، ولا خلاف في أن الوضوء من
الفسو والضراط، وهذان الاسمان لا يقعان على الريح البتة (3) إلا إن خرجت من
الدبر، والا فإنما يسمى جشاء أو عطاسا فقط. وبالله تعالى التوفيق *

(1) في اليمنية (أو من أين خرج من المثانة أو البطن وغير ذلك من الجسد
(2) في المصرية (فليتوضأ)
(3) في المصرية (اسمان لا يقعان على ريح البتة) الخ
232

161 - مسألة - فمن كان مستنكحا (1) بشئ مما ذكرنا توضأ - ولا بد -
لكل صلاة فرضا أو نافلة، ثم لا شئ عليه فيما خرج منه من ذلك في الصلاة أو
فيما بين وضوئه وصلاته، ولا يجزيه الوضوء الا في أقرب ما يمكن أن يكون وضوؤه من
صلاته، ولا بد للمستنكح أيضا أن يغسل ما خرج منه من البول والغائط والمذي
حسب طاقته، مما لا حرج عليه فيه، ويسقط عنه (2) من ذلك ما فيه عليه الحرج منه *
برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قد ذكرناه في مسألة إبطال القياس من
صدر كتابنا هذا، من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)
وقول الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله تعالى: (يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر) فصح انه مأمور بالصلاة والوضوء من الحدث، وهذا
كله حدث، فالواجب أن يأتي من ذلك ما يستطيع، وما لا حرج عليه فيه ولا عسر،
وهو مستطيع على الصلاة وعلى الوضوء لها، ولا حرج عليه في ذلك، فعليه أن يأتي
بهما، وهو غير مستطيع للامتناع (3) مما يخرج عنه من ذلك في الصلاة، وفيما
بين وضوئه وصلاته، فسقط عنه، وكذلك القول في غسل ما خرج منه من ذلك *
قال أبو محمد: وهذا قول سفيان الثوري وأصحاب الظاهر.
وقال أبو حنيفة: يتوضأ هؤلاء لكل وقت صلاة وينقون على وضوئهم إلى
دخول وقت صلاة أخرى فيتوضئون، وقال مالك: لا وضوء عليه من ذلك، وقال
الشافعي: يتوضأ لكل صلاة فرض فيصلى بذلك الوضوء ما شاء من النوافل خاصة
قال علي: إنما قالوا كل هذا قياسا على المستحاضة، على حسب قول كل واحد

(1) المراد منه واضح وهو من غلب عليه شئ من هذا. قال في اللسان:
(ونكح النعس عينه وناله المطر الأرض وناله النعاس عينه إذا غلب عليها)
ولم أجد استعمال (مستنكح) كما استعمله المؤلف.
(2) في المصرية (عليه) وهو خطأ
(3) استعمل المؤلف استطاع متعديا بعلى ثم متعديا باللام، وهو يتعدى
بنفسه، ولم أجد نصا على تعديته بالحرف
233

منهم فيها، والقياس باطل، ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا لان الثابت في
المستحاضة هو غير ما قالوه، لكن ما سنذكره إن شاء الله تعالى في باب المستحاضة،
وهو وجوب الغسل لكل صلاة فرض، أو للجمع بين الظهر والعصر، ثم بين المغرب
والعتمة، ثم للصبح، ودخول وقت صلاة ما ليس حدثا بلا شك، وإذا لم يكن
حدثا فلا ينقض طهارة قد صحت بلا نص وارد في ذلك، واسقاط مالك الوضوء
مما قد أوجبه الله تعالى منه ورسوله صلى الله عليه وسلم منه بالاجماع وبالنصوص الثابتة خطأ لا يحل *
وقد شغب بعضهم في هذا بما روينا عن عمر رضي الله عنه وعن سعيد بن المسيب
في المذي قال عمر: إني لأجده ينحدر على فخذي على المنبر فما أباليه، وقال سعيد مثل
ذلك عن نفسه في الصلاة، فأوهموا أنهما رضي الله عنهما كانا مستنكحين بذلك
قال أبو محمد: وهذا كذب مجرد، لا ندري كيف استحله من أطلق به لسانه،
لأنه لم يأت في شئ من هذا الأثر ولا من غيره نص ولا دليل بذلك، ونعوذ بالله من
الاقدام على مثل هذا، وإنما الحق من ذلك ان عمر كان لا يرى الوضوء منه وكذلك
ابن المسيب لان السنة في ذلك لم تبلغ عمر ثم بلغته فرجع إلى ايجاب الوضوء منه *
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن أبي دليم ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر
ابن أبي شية ثنا محمد بن بشر العبدي ثنا مسعر بن كدام عن مصعب بن شيبة عن أبي حبيب بن يعلي بن منية (1) عن ابن عباس أنه وعمر بن الخطاب أتيا إلى أبي بن
كعب فخرج إليهما أبى وقال: إني وجدت مذيا فغسلت ذكرى وتوضأت، فقال له
عمر: أو يجزى ذلك؟ قال: نعم، قال عمر أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم (2) *
حدثنا حمام ثنا ابن مفرح ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن
معمر وسفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب
يقول: إنه ليخرج من أحدنا مثل الجمانة (3) فإذا وجد أحدكم ذلك فليغسل ذكره

(1) بضم الميم واسكان النون وفتح الياء
(2) الأثر رواه ابن ماجة (ج 1: ص 94)
عن أبي بكر بن أبي شيبة باسناده. وقال شارحه السندي: (وقد نبه صاحب
الزوائد على أن الحديث في الزوائد وأن أصله في الصحيحين)
(3) الجمان بضم الجيم اللؤلؤ واحدته جمانة
234

وليتوضأ، وبه إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن
الخطاب أنه قال في المذي: يغسل ذكر هو ويتوضأ وضوءه للصلاة، فهذا هو الثابت عن عمر *
وكذلك قول الشافعي أيضا خطأ ظاهر، لان من المحال الظاهر أن يكون
انسان متوضئا طاهرا لنافلة ان أراد أن يصليها غير متوضئ ولا طاهر لفريضة ان
أراد أن يصليها فهذا قول لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول
صاحب ولا قياس، ولا وجدوا له في الأصول نظيرا، وهم يدعون أنهم أصحاب نظر
وقياس، وهذا مقدار نظرهم وقياسهم، وبقى قول أبي حنيفة ومالك والشافعي عاريا
من أن تكون له حجة من قرآن أو سنة صحيحة أو سقيمة أو من اجماع أو من قول
صاحب أو من قياس أصلا *
162 - مسألة فهذه الوجوه تنقض الوضوء عمدا كان أو نسيانا أو بغلبة،
وهذا اجماع الا ما ذكرنا مما فيه الخلاف، وقام البرهان من ذلك على ما ذكرنا.
وبالله تعالى التوفيق *
163 - مسألة - ومس الرجل ذكر نفسه خاصة عمدا بأي شئ مسه من باطن
يده أو من ظاهرها أو بذراعه حاشا مسه بالفخذ أو الساق أو الرجل من نفسه فلا
يوجب وضوءا ومس المرأة فرجها عمدا كذلك أيضا سواء سواء، ولا ينقض الوضوء
شئ من ذلك بالنسيان، ومس الرجل ذكر غيره من صغير أو كبير ميت أو حي بأي
عضو مسه عمدا من جميع جسده من ذي رحم محرمة أو من غيره ومس المرأة فرج
غيرها عمدا أيضا كذلك سواء سواء، لا معنى للذة في شئ من ذلك، فإن كان كل
ذلك على ثوب رقيق أو كيف، للذة أو لغير لذة، باليد أو بغير اليد، عمدا أو غير
عمد، لم ينقض الوضوء، وكذلك ان مسه بغلبة أو نسيان فلا ينقض الوضوء *
برهان ذلك ما حدثناه حمام بن أحمد قال: ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا
الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال: " " تذاكر
هو ومروان الوضوء فقال مروان حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأمر (1) بالوضوء من مس الفرج) *

(1) في اليمنية " أمر "
235

قال أبو محمد: فان قيل: إن هذا خبر رواه الزهري عن عبد الله بن أبي بكر
ابن عمرو بن حزم عن عروة، قلنا: مرحبا بهذا، وعبد الله ثقة، والزهري لا خلاف
في أنه سمع من عروة، وجالسه، فرواه عن عروة ورواه أيضا عن عبد الله بن أبي
بكر عن عروة، فهذا قوة للخبر والحمد لله رب العالمين *
قال علي: مروان ما نعلم له جرحة قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن
الزبير رضي الله عنهما، ولم يلقه عروة قط الا قبل خروجه على أخيه لا بعد خروجه
هذا ما لا شك فيه (1) وبسرة مشهورة من صواحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
المبايعات المهاجرات - هي بسرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بنت
أخي ورقة (2) بن نوفل، وأبوها ابن عم خديجة أم المؤمنين لحا (3) *
ولفظ هذا الحديث عام يقتضى كل ما ذكرناه (4) وأما مس الرجل (5) فرج
نفسه بساقه ورجله وفخذه فلا خلاف في أن المرء مأمور بالصلاة في قميص كثيف وفى
مئزر وقميص، ولا بد له ضرورة في صلاته كذلك من وقوع فرجه على ساقه ورجله

(1) في اليمنية " مما لا شك فيه "
(2) وكان مروان بن الحكم زوج بنت ابنها عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص فولدت له أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان. كذا ذكره ابن سعد في الطبقات (ج 8 ص) ونقل الحاكم
في المستدرك (ج 1 ص 138) عن مالك أنها جدة عبد الملك أم أمه. وعن مصعب ابن عبد الله الزبيري أنها زوجة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص. فيكون مروان زوج بنتها عائشة
(3) بفتح اللام وتشديد الحاء المهملة. وفي اللسان: " وهو
ابن عم لح في النكرة بالكسر لأنه نعت للعم وهو ابن عمي لحا في المعرفة أي
لارق النسب من ذلك، ونصب لحا على الحال لان ما قبله معرفة والواحد والاثنان
والجميع والمؤنث في هذا سواء بمنزلة الواحد، وقال اللحياني: هما ابنا عم لح
ولحا وهما ابنا خالة ولا يقال هما ابنا خال لحا ولا ابنا عمة لحا لأنهما مفترقان إذ هما
رحل وامرأة، وإذا لم يكن ابن العم لحا وكان رجلا من العشيرة قلت هو ابن
عم الكلالة وابن عم كلالة)
(4) في اليمنية (ولفظ هذا الحديث عام لم يقتضي كلما قلنا) وهو خطأ صرف
(5) في اليمنية (المرء)
236

وفخذه، فخرج هذا بهذا الاجماع المنصوص عليه عن جملة هذا الخبر *
وممن قال بالوضوء من مس الفرج سعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهما
وعطاء وعروة وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وأبان بن عثمان وابن جريج والأوزاعي
والليث والشافعي وداود وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم، الا أن الأوزاعي
والشافعي لم يريا الوضوء ينقض ذلك الا بمسه بباطن الكف فقط لا بظاهرها، وقال عطاء بن
أبي رباح: لا ينقض الوضوء مس الفرج بالفخذ والساق وينقض (1) مسه بالذراع،
وقال مالك: مس الفرج من الرجل فرج نفسه الذكر فقط بباطن الكف
لا بظاهرها ولا بالذراع يوجب الوضوء، فان صلى ولم يتوضأ لم يعد الصلاة الا في الوقت
وقال أبو حنيفة: لا ينقض الوضوء مس الذكر كيف كان، وقال الشافعي: ينقض
الوضوء مس الدبر ومس المرأة فرجها، وقال مالك لا ينقض الوضوء مس الدبر ولا مس
المرأة فرجها أن تقبض وتلطف (2) أي تدخل أصبعها بين شفريها، ونحا بعض
أصحابه بنقض الوضوء من مس الذكر نحو اللذة *
فاما قول الأوزاعي والشافعي ومالك في مراعاة باطن الكف دون ظاهرها فقول
لا دليل عليه لا من قرآن ولا من سنة ولا من اجماع ولا من قول صاحب ولا من قياس
ولا من رأى صحيح *
وشغب بعضهم بان قال: في بعض الآثار: (من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ (3))

(1) في اليمنية (وينقضه)
(2) في اليمنية (تطلف) بتقديم الطاء وهو خطأ.
وفي اللسان (ألطف الرجل البعير وألطف له أدخل قضيبه في حياء الناقة)
(3) نسبة في المنتقي إلى احمد من حديث أبي هريرة ولفظه (من أفضى
بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء) ونسبه شارحه الشوكاني
(ج 1 ص 251) إلى ابن حبان في صحيحه وأنه قال (حديث صحيح سنده عدول نقلته
والى الحاكم وابن عبد البر والطبراني في الصغير. ولم أجده في المستدرك بهذا اللفظ
بل بلفظ: (من مس فرجه فليتوضأ) وصححه (ج 1 ص 138) ورواه من حديث
بسرة بلفظ: (إذا أفضي أحدكم إلى ذكره فلا يصل حتى يتوضأ) (ج 1 ص 136)
وروى البيهقي حديث أبي هريرة (ج 1 ص 133) بلفظ قريب من لفظ أحمد بن حنبل
237

قال أبو محمد: وهذا لا يصح أصلا، ولو صح لما كان فيه دليل على ما يقولون،
لان الافضاء باليد يكون بظاهر (1) اليد كما يكون بباطنها، وحتى لو كان الافضاء
بباطن اليد لما كان في ذلك ما يسقط الوضوء عن غير الافضاء، إذا جاء أثر بزيادة على
لفظ الافضاء، فكيف والافضاء يكون بجميع الجسد، قال الله تعالى: (وقد أفضى
بعضكم إلى بعض) *
وأما قول مالك في ايجاب الوضوء منه ثم لم ير الإعادة الا في الوقت فقول متناقض
لأنه لا يخلو أن يكون انتقض وضوؤه أو لم ينتقض، فإن كان انتقض فعلى أصله يلزمه
أن يعيد أبدا، وإن كان لم ينتقض فلا يجوز له أن يصلى صلاه فرض واحدة في يوم
مرتين، وكذلك فرق مالك بين مس الرجل فرجه وبين المرأة فرجها فهو قول
لا دليل عليه فهو ساقط *
وأما ايجاب الشافعي الوضوء من مس الدبر فهو خطأ، لان الدبر لا يسمى فرجا
فان قال: قسته على الذكر قيل له: القياس عند القائلين به لا يكون الا على علة
جامعة بين الحكمين، ولا علة جامعة بين مس الذكر ومس الدبر، فان قال: كلاهما
مخرج للنجاسة، قيل له: ليس كون الذكر مخرجا للنجاسة هو علة انتقاض الوضوء
من مسه، ومن قوله إن مس النجاسة لا ينقض الوضوء، فكيف مس مخرجها.
وبالله تعالى التوفيق *
وأما أصحاب أبي حنيفة فاحتجوا بحديث طلق بن علي: (ان رجلا سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هل هو الا بضعة منك (4))

(1) في اليمنية (بظهر)
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي والدار قطني
وصححه عمرو بن علي الفلاس والطحاوي وابن حبان والطبراني.
(3) ليس في اليمنية قوله (بعد ان يتوضأ)
(4) في المصرية (بين)
238

قال علي: وهذا خبر صحيح، الا أنهم لا حجة لهم فيه لوجوه: أحدها أن
هذا الخبر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود الامر بالوضوء من مس الفرج، هذا
لا شك فيه، فإذ هو كذلك فحكمه منسوخ يقينا حين أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالوضوء من مس الفرج، ولا يحل ترك ما تيقن أنه ناسخ والاخذ بما تيقن أنه
منسوخ، وثانيها أن كلامه عليه السلام (هل هو الا بضعة منك) دليل بين على
أنه كان قبل الامر بالوضوء منه، لأنه لو كان بعده لم يقل عليه السلام هذا الكلام،
بل كان يبين أن الامر بذلك قد نسخ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه
حكم أصلا وأنه كسائر الأعضاء *
قال أبو محمد: وقال بعضهم: يكون الوضوء من ذلك غسل اليد
قال أبو محمد: وهذا باطل، لم يقل أحد إن غسل اليد واجب أو مستحب
من مس الفرج، لا المتأولون لهذا التأويل الفاسد ولا غيرهم، ويقال لهم: إن كان كما
تقولون فأنتم من أول (1) من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تأولتموه في أمره، وهذا
استخفاف ظاهر، وأيضا فإنه لا يطلق الوضوء في الشريعة الا لوضوء الصلاة فقط،
وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ايقاع هذه اللفظة علي غير الوضوء للصلاة، كما رويناه
من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث عن ابن
عباس قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء من الغائط وأتى بطعام فقيل: ألا تتوضأ:
(فقال عليه السلام: لم أصلى (2) فأتوضأ) فكيف وقد روينا من طريق مالك عن
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: إن
مروان قال له: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا
مس أحدكم ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة (3)) ورواه أيضا غير مالك عن الثقات

(1) في اليمنية (فأنتم أول)
(2) كذا في الأصلين باثبات الياء وهو جائز
(3) أما موطأ مالك برواية يحيى بن يحيى فليس فيه لفظ. (وضوءه للصلاة) (ص 14) فلعل هذا في رواية أخرى من روايات الموطأ مما ليس بين أيدينا. وقد رواه بهذه الزيادة البيهقي
(ج 1 ص 128) من طريق يحيى بن بكير عن مالك. فيظهر من هذا أنه في
الموطأ برواية ابن بكير
239

كذلك، كما حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا
محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبو صالح الحكم
ابن موسى ثنا شعيب بن إسحاق أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن مروان بن
الحكم حدثه عن بسرة بنت صفوان وكانت قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مس أحدكم ذكره فلا يصل (1) حتى يتوضأ) فأنكر ذلك
عروة، وسأل بسرة فصدقته بما قال (2) *
قال علي: أبو صالح وشعيب ثقتان مشهوران، فبطل التعلل بمروان، وصح
أن بسرة مشهورة صاحبة، ولقد كان ينبغي لهم أن ينكروا على أنفسهم شرع الدين
وأبطال السنن برواية أبى نصر بن مالك وعمير (3) والعالية زوجة أبي إسحاق وشيخ
من بني كنانة (4)، وكل هؤلاء لا يدرى أحد من الناس من هم؟

(1) في اليمنية (فلا يصلين)
(2) هذا اللفظ لم يذكره
عبد الله بن أحمد في مسند أبيه ولعله في كتاب آخر من كتبه، وقد رواه
الحاكم في المستدرك (ج 1 ص 137) من طريق محمد بن إبراهيم البوشنجي
عن الحكم بن موسى بلفظ (من مس فرجه فليتوضأ) وأنا أعتقد أن هذا
خطأ من الناسخين فقد رواه البيهقي في السنن الكبرى (ج 1 ص 129 130)
عن الحكم بهذا الاسناد بلفظ (إذا مس أحدكم ذكره فلا يصلين حتى) يتوضأ
ورواه البيهقي أيضا عن الحكم من طريق علي بن المديني عن أبي الأسود
حميد بن الأسود عن هشام بن عروة عن أبيه عن مروان عن بسرة بهذا اللفظ.
وهو أيضا في المستدرك الا أنه سقط بعض الاسناد وظهرت صحة ذلك من
المقابلة على سنن البيهقي. وكذلك رواه البيهقي من طريق الدارقطني عن عبد الله
ابن محمد بن عبد العزيز عن الحكم. ورواه الحاكم من طريق عنبسة بن عبد الواحد
عن هشام. وهذه الطرق تؤيد صحة الحديث بهذا اللفظ والله أعلم
(3) في اليمنية (قمير) (4) هؤلاء الأربعة لا أدري من هم، ولا أعرف
لهم روايات احتج بها من يرد عليهم ابن حزم، والعلم عند الله
240

وقال بعضهم: هذا مما تعظم به البلوى، فلو كان لما جهله ابن مسعود ولا غيره
من العلماء *
قال أبو محمد وهذه حماقة، وقد غاب عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم
الغسل من الايلاج الذي لا إنزال معه، وهو مما تكثر به البلوى، ورأي أبو حنيفة
الوضوء من الرعاف وهو مما تكثر به البلوى ولم يعرف ذلك جمهور العلماء ورأي
الوضوء من ملء الفم من القلس ولم يره من أقل من ذلك، وهذا تعظم به البلوى،
ولم يعرف ذلك أحد من ولد آدم قبله، ومثل هذا لهم كثير جدا، ومثل هذا من
التخليط لا يعارض به سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الا مخذول. وبالله
تعالى التوفيق *
قال أبو محمد: والماس على الثوب ليس ماسا، ولا معنى للذة، لأنه لم يأت بها
نص ولا إجماع، وإنما هي دعوى بظن كاذب، وأما النسيان في هذا فقد قال الله
تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم)، وهذا قول
ابن عباس، وروينا من طريق وكيع عن خصيف عن عكرمة عنه أنه قال: مس
الذكر عمدا ينقض الوضوء ولا ينقضه بالنسيان (1) *
164 مسألة وأكل لحوم الإبل نيئة ومطبوخة أو مشوية عمدا وهو يدرى
أنه لحم جمل أو ناقة فإنه (2) ينقض الوضوء، ولا ينقض الوضوء أكل شحومها محضة
ولا أكل شئ منها غير لحمها، فإن كان يقع على بطونها أو رؤسها أو أرجلها اسم لحم
عند العرب نقض أكلها الوضوء وإلا فلا، ولا ينقض الوضوء كل شئ مسته النار
غير ذلك، وبهذا يقول أبو موسى الأشعري وجابر بن سمرة، ومن الفقهاء أبو خيثمة
زهير بن حرب ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه *

(1) هذا الأثر لم أجده في شئ من الروايات الأخرى. ولا أعرف اسناده
إلى وكيع، وأما خصيف بضم الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة فهو ابن عبد
الرحمن الجزري ضعفه أحمد بن حنبل وغيره، وهو ثقة الا أنه كان كثير الخطأ
في حديثه، وإذا حدث عنه ثقة فلا بأس بحديثه
(2) في اليمنية بحذف (فإنه)
241

حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا
أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كامل الفضيل بن حسين
الجحدري والقاسم بن زكريا قال الفضيل ثنا أبو عوانة عن عثمان بن عبد الله بن
موهب وقال القاسم ثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن عثمان بن عبد الله بن
موهب وأشعث بن أبي الشعثاء كلاهما عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال:
(سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتوضأ (1) من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ
وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أتوضأ (2) من لحوم الإبل، قال: نعم فتوضأ من
لحوم الإبل) *
وحدثنا يحيى بن عبد الرحمن ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك
ابن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان
الثوري عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
عن البراء بن عازب قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم
الإبل؟ قال: نعم (3)) *
قال أبو محمد: عبد الله بن عبد الله الرازي أبو جعفر قاضي الري ثقة
قال أبو محمد: وقد مضى الكلام في الفصل الذي قبل هذا في ابطال قول من
تعلل في رد السنن بأن هذا مما تعظم به البلوي، وإبطال قول من قال: لعل هذا
الوضوء غسل اليد، فأغنى عن إعادته، ولو أن المعترض بهذا ينكر على نفسه القول

(1) في اليمنية " أتوضأ " بحذف همزة الاستفهام وفى المصرية " أنتوضأ "
والذي هنا هو ما في مسلم (ج 1 ص 108)
(2) في المصرية " أنتوضأ " وما هنا هو الذي في مسلم وفي اليمنية
(3) الحديث مطول في مسند أحمد (ج 4 ص 303) بهذا الاسناد وقال عبد الله بن أحمد عقب روايته: " عبد الله ابن عبد الله رازي وكان قاضي الري وكانت جدته مولاة لعلى أو جارية، قال
عبد الله قال أبى: ورواه عنه آدم وسعيد بن مسروق وكان ثقة " ورواه أحمد
أيضا (ج 4 ص 288) عن أبي معاوية عن الأعمش.
242

بالوضوء من القهقهة في الصلاة ولا يرى فيها الوضوء في غير الصلاة -: لكان أولى به
وأما الوضوء مما مست النار، فإنه قد صحت في ايجاب الوضوء منه أحاديث
ثابتة من طريق عائشة وأم حبيبة أمي المؤمنين وأبى أيوب وأبى طلحة وأبي هريرة
وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وقال به كل من ذكرنا وابن عمر وأبو موسى الأشعري
وأنس بن مالك وأبو مسعود، وجماعة من التابعين منهم أهل المدينة جملة وسعيد بن
المسيب وأبو ميسرة وأبو مجلز (1) ويحيى بن يعمر والزهري وستة من أبناء النقباء من
الأنصار والحسن البصري وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز ومعمر وأبو قلابة
وغيرهم، ولولا أنه منسوخ لوجب القول به *
كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عمرو بن
منصور ثنا علي بن عياش ثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر قال سمعت
جابر بن عبد الله قال: " كان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك
لوضوء مما مست النار (2) " فصح نسخ تلك الأحاديث ولله الحمد *
قال علي: وقد ادعى قوم أن هذا الحديث مختصر من الحديث الذي حدثناه
عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا إبراهيم بن
الحسن الخثعمي ثنا حجاج قال قال ابن جريج أخبرني محمد بن المنكدر سمعت جابر بن
عبد الله يقول: " قرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبز ولحم (3) فأكل ثم دعا بوضوء
فتوضأ (به) (4) ثم صلى الظهر ثم دعا بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ *
قال أبو محمد: القطع بان ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن، والظن أكذب
الحديث (5) بل هما حديثان كما وردا *

(1) أبو ميسرة هو عمرو بن شر حبيل الهمداني ومجلز بكسر الميم واسكان
الجيم وفتح اللام وآخره زاي واسمه " لاحق بن حميد السدوسي " وفي المصرية
" أبو مخلد " وهو خطأ
(2) في سنن النسائي (ج 1 ص 40)
(3) في أبى داود (ج ص 75) " قربت للنبي صلى الله عليه وسلم خبزا ولحما "
(4) لفظ " به " زيادة من أبى داود
(5) الذي قال بأن الحديث الأول مختصر من هذا هو أبو داود في
سننه، وهذا ادعاء لا دليل عليه، بل هما حديثان كما قال ابن حزم
243

قال علي: وأما كل حديث احتج به من لا يرى الوضوء مما مست النار من أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ولم يتوضأ ونحو ذلك -: فلا حجة لهم
فيه، لان أحاديث إيجاب الوضوء هي الواردة بالحكم الزائد على هذه التي هي
موافقة لما كان الناس عليه قبل ورود الامر بالوضوء مما مست النار، ولولا حديث
شعيب بن أبي حمزة الذي ذكرنا لما حل لاحد ترك الوضوء مما مست النار *
قال أبو محمد فان قيل " لم خصصتم لحوم الإبل خاصة من جملة ما نسخ من الوضوء
مما مست النار؟ قلنا: لان الامر الوارد بالوضوء من لحوم الإبل إنما هو حكم فيها
خاصة، سواء مستها النار أو لم تمسها النار، فليس مس النار إياها - ان طبخت -
يوجب الوضوء منها بل الوضوء واجب منها كما هي فحكمها خارج عن الأخبار الواردة
بالوضوء مما مست النار، وبنسخ الوضوء منه. وبالله تعالى التوفيق *
وأما أكلها بنسيان أو بغير علم أنه من لحوم الإبل -: فقد ذكرنا قول الله تعالى
: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) فمن فعل شيئا عن غير قصد فسواء ذلك
وتركه، الا أن يأتي نص في ايجاب حكم النسيان فيوقف عنده. وبالله تعالى التوفيق *
165 - مسألة - ومس الرجل المرأة والمرأة الرجل (1) بأي عضو مس أحدهما
الآخر، إذا كان عمدا، دون أن يحول بينهما ثوب أو غيره، سواء أمه كانت أو
ابنته (2)، أو مست ابنها أو أباها، الصغير والكبير سواء، لا معني للذة في شئ
من ذلك (3)، وكذلك لو مسها على ثوب للذة لم ينتقض وضوؤه وبهذا يقول الشافعي
وأصحاب الظاهر *
برهان ذلك قول الله تبارك وتعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط أو
لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) *
قال أبو محمد: والملامسة فعل من فاعلين وبيقين ندري أن الرجال والنساء

(1) في اليمنية (ولمس المرأة الرجل)
(2) في اليمنية (سواء كانت أمة أو بنته)
(3) الخبر محذوف يفهم من بساط القول وسياق الكلام، والمراد أن
من فعل شيئا مما ذكره المؤلف انتقض وضوؤه فيما اختاره ابن حزم
244

مخاطبون بهذه الآية، لا خلاف بين أحد من الأمة في هذا، لان أول الآية وأخرها
عموم للجميع من الذين آمنوا، فصح أن هذا الحكم لازم للرجال إذا لامسوا النساء،
والنساء إذا لامسن الرجال، ولم يخص الله تعالى امرأة من امرأة، ولا لذة من غير
لذة، فتخصيص ذلك لا يجوز، وهو قول ابن مسعود وغيره *
وادعى (1) قوم أن اللمس (2) المذكور في هذه الآية هو الجماع *
قال أبو محمد: وهذا تخصيص لا برهان عليه، ومن الباطل الممتنع أن يريد الله
عز وجل لماسا من لماس فلا يبينه. نعوذ بالله من هذا *
قال علي: واحتج من رأى اللماس المذكور في هذه الآية هو الجماع بحديث
فيه: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل ولا يتوضأ) وهذا حديث لا يصح، لان
راويه أبو روق وهو ضعيف، ومن طريق رجل اسمه عروة المزني، وهو مجهول،
رويناه من طريق الأعمش عن أصحاب له لم يسمهم عن عروة المزني، وهو مجهول (3)

(1) في المصرية (فادعى)
(2) في اليمنية (اللماس) مصدر (لامس)
(3) هذا الحديث ورد من ثلاث طرق: أولها طريق أبي روق عن إبراهيم
التيمي عن عائشة رواه أبو داود (ج 1 ص 69) والنسائي (ج 1 ص 39)
وهو مرسل لان إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئا كما قال البخاري وأبو
داود، وأما أبو روق فاسمه عطية بن الحارث الهمداني الكوفي وهو صدوق
لا بأس به، لم أر أحدا ضعفه غير ابن حزم، والطريق الثاني طريق عبد الرحمن
ابن مغراء عن الأعمش عن أصحاب له عن عروة المزني عن عائشة، رواه أبو داود
(ج 1: ص 70) وهو ضعيف لجهل شيوخ الأعمش وجهل حال عروة المزني، وعبد
الرحمن بن مغراء ثقة الا أنه ينكر عليه بعض أحاديث رواها عن الأعمش لا يتابعه
عليها الثقات، وهذا منها قطعا لان الثقات من أصحاب الأعمش خالفوه كوكيع
وعلي بن هاشم وأبي يحيى الحماني، الطريق الثالث طريق وكيع عن الأعمش عن
حبيب هو ابن أبي ثابت عن عروة عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه
وسلم قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ فقلت لها من هي الا أنت؟
فضحكت) رواه أبو داود (ج 1: ص 70) والترمذي (ج 1: ص 19) وابن ماجة
(ج 1: ص 93) والبيهقي (ج 1: ص 125 126) قال أبو داود: (وروي عن الثوري
قال ما حدثنا حبيب الا عن عروة المزني، يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير
بشئ، قال أبو داود وقد روس حمزة الزبات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن
عائشة حديثا صحيحا) فهذا رد من أبى داود على الثوري زعمه أن حبيب بن
أبي ثابت لم يحدث عن عروة بن الزبير، وأصرح من هذا أن رواية ابن ماجة
صرح فيها بأنه عروة بن الزبير، قال شارح أبى داود: (ثم الأعمش أيضا ليس
متفردا بهذا بل تابعه أبو أويس بلفظ عروة بن الزبير ثم حبيب بن أبي ثابت أيضا
ليس متفردا بل تابعه هشام بن عروة عن أبيه، ومعلوم قطعا أنه ابن الزبير
فثبت أن المحفوظ عروة بن الزبير فبعض الحفاظ أطلقه وبعضهم نسبه، وقد تقرر في موضعه أن زيادة الثقة مقبولة، وأما عروة المزني فغلط من عبد الرحمن
ابن مغراء). ويؤيد صحة الحديث ما رواه البزار في مسنده ونقله عنه ابن
التركماني في الجوهر النقي (ج 1. ص 125) من طريق عبد الكريم الحرزي عن
عائشة (أنه عليه السلام كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ) واسناده جيد
ونقل عن عبد الحق أنه قال (لا أعلم له علة توجب تركه) وذكر له طريقين
آخرين يقويانه
245

ولو صح لما كان (1) لهم فيه حجة، لان معنى هذا الخبر منسوخ بيقين، لأنه
موافق لما كان الناس عليه قبل نزول الآية، ووردت الآية بشرع زائد لا يجوز
تركه ولا تخصيصه *
وذكروا أيضا حديثين صحيحين: أحدهما من طريق عائشة أم المؤمنين:
(التمست رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل فلم أجده، فوقعت يدي على باطن قدمه وهو
ساجد (2)) *

(1) في المصرية (لما كانت)
(2) أصرح من هذا ما روى النسائي (ج 1: ص 38) عن عائشة قالت: (إن كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة
حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله) وإسناده صحيح كما قال ابن حجر في التلخيص
ومثله كثير، وتأول كل هذه الأحاديث باحتمال وجود الحائل حين المس تكلف
شديد ولا دليل عليه في الشريعة، واللمس واللماس في الآية على القراءتين
إنما هو الجماع كما فسره ابن عباس وكما هو ظاهر لمن تأمل معنى الآية وسياقها ولم
يملكه الهوى والعصبية
246

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان الوضوء إنما هو على القاصد إلى
اللمس، لا على الملموس دون أن يقصد هو إلى فعل الملامسة لأنه لم يلامس، ودليل
آخر، وهو أنه ليس في هذا الخبر أنه عليه السلام كان في صلاة، وقد يسجد المسلم
في غير صلاة، لان السجود فعل خير، وحتى لو صح لهم أنه عليه السلام كان في صلاة
وهذا مالا يصح فليس في الخبر أنه عليه السلام لم ينتقض وضوؤه، ولا أنه صلى
صلاة مستأنفة دون تجديد وضوء، فإذ ليس في الخبر شئ من هذا فلا متعلق لهم به
أصلا، ثم لو صح أنه عليه السلام كان في صلاة، وصح أنه عليه السلام تمادى عليها
أو صلى غيرها دون تجديد وضوء وهذا كله لا يصح أبدا: فإنه كأن يكون هذا
الخبر موافقا للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية بلا شك، وهي حال لا مرية
في نسخها وارتفاع حكمها بنزول الآية، ومن الباطل الاخذ بما قد تيقن نسخه وترك
الناسخ، فبطل أن يكون لهم متعلق بهذا الخبر. والحمد لله رب العالمين *
والخبر الثاني من طريق أبى قتادة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل امامة بنت أبي
العاصي وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه يضعها، إذ سجد،
ويرفعها إذا قام) *
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه أصلا، لأنه ليس فيه نص أن يديها ورجليها
لمست (1) شيئا من بشرته عليه السلام، إذ قد تكون (2) موشحة برداء أو بقفازين
وجوربين، أو يكون ثوبها سابغا (3) يواري يديها ورجليها، وهذا الأولى أن يظن
بمثلها بحضرة الرجال (4)، وإذا لم يكن ما ذكرنا في الحديث فلا يحل لاحد أن يزيد
فيه ما ليس فيه (5) فيكون كاذبا، وإذا كان ما ظنوا ليس في الخبر وما قلنا ممكنا،

(1) في اليمنية (مست)
(2) في المصرية (وقد تكون)
(3) في المصرية (مانعا) وما هنا أوضح
(4) أليس هذا غاية في التكلف والمحاولة؟
(5) في اليمنية (ما ليس منه)
247

والذي لا يمكن غيره * فقد بطل تعلقهم به، ولم يحل ترك الآية المتيقن وجوب حكمها
لظن كاذب، وقال تعالى *: (ان الظن لا يغنى من الحق شيئا) *
وأيضا فان هذا الخبر والذي قبله ليس فيهما أيهما كانا بعد نزول الآية والآية
متأخرة النزول، فلو صح انه عليه السلام مس يديها ورجليها في الصلاة لكان موافقا
للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية، وعلى كل حال فنحن على يقين من
أن معنى هذا الخبر لو صح لهم كما يريدون فإنه منسوخ بلا شك ولا يحل الرجوع
إلى المتيقن انه منسوخ وترك الناسخ *
فصح أنهم يوهمون بأخبار لا متعلق لهم بشئ منها، يرومون بها ترك اليقين من
القرآن والسنن *
وقال أبو حنيفة: لا ينقض الوضوء قبلة ولا ملامسة للذة كانت أو لغير لذة، ولا
أن يقبض (1) بيده على فرجها كذلك، إلا أن يباشرها بجسدها دون حائل وينعظ فهذا
وحده ينقض الوضوء *
وقال مالك: لا وضوء من ملامسة المرأة الرجل، ولا الرجل المرأة، إذا كانت
لغير شهوة تحت الثياب أو فوقها، فإن كانت الملامسة للذة فعلى الملتذ منهما الوضوء،
سواء كان فوق الثياب أو تحتها، أنعظ أو لم ينعظ، والقبلة كالملامسة في كل ذلك،
وهو قول أحمد بن حنبل *
وقال الشافعي كقولنا، إلا أنه روى عنه أن مس شعر المرأة خاصة لا ينقض
الوضوء *
قال أبو محمد: أما قول أبي حنيفة فظاهر التناقض، ولا يمكنه التعلق بالتأويل
الذي تأوله قوم في الآية: ان الملامسة المذكورة فيها هو الجماع فقط، لأنه أوجب
الوضوء من المباشرة إذا كان معها انعاظ، وأما مناقضته فتفريقه بين القبلة يكون معها
إنعاظ فلا ينقض الوضوء، وبين المباشرة يكون معها إنعاظ فتنقض الوضوء، وهذا
فرق لم يؤيده قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا
قياس، بل هو مخالف لكل ذلك، ومن مناقضاته أيضا أنه جعل القبلة لشهوة

(1) في المصرية (يفتض) وهو خطأ
248

واللمس لشهوة بمنزلة القبلة لغير الشهوة واللمس لغير الشهوة لا ينقض الوضوء شئ من
ذلك، ثم رأى أن القبلة لشهوة واللمس لشهوة رجعة في الطلاق، بخلاف القبلة لغير
شهوة واللمس لغير شهوة، وهذا كما ترى لا اتباع القرآن، ولا التعلق بالسنة ولا طرد
قياس، ولا سداد رأى، ولا تقليل صاحب. ونسأل الله تعالى التوفيق *
وأما قول مالك في مراعاة الشهوة واللذة، فقول لا دليل عليه لا من قرآن ولا من
سنة صحيحة ولا سقيمة، لا قول صاحب ولا ضبط قياس ولا احتياط، وكذلك
تفريق الشافعي بين الشعر وغيره، فقول لا يعضده أيضا قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول
صاحب ولا قياس، بل هو خلاف ذلك كله، وهذه الأقوال الثلاثة كما أوردناها لم
نعرف أنه قال بها أحد قبلهم وبالله تعالى التوفيق *
فان قيل: قد رويتم عن النخعي والشعبي: إذا قبل أو لمس لشهوة فعليه الوضوء،
وعن حماد: أي الزوجين قبل صاحبه والآخر لا يريد ذلك، فلا وضوء على الذي
لا يريد ذلك، إلا أن يجد لذة، وعلى القاصد لذلك الوضوء. قلنا: قد صح عن
الشعبي والنخعي وحماد ايجاب الوضوء من القبلة على القاصد بكل حال، وإذ ذلك كذلك
فاللذة داخلة في هذا القول، وبه نقول، وليس ذلك قول مالك *
والعجب أن مالكا لا يرى الوضوء من الملامسة إلا حتى يكون معها شهوة، ثم
لا يرى الوضوء يجب من الشهوة دون ملامسة! فكل واحد من المعنيين لا يوجب
الوضوء على انفراده! فمن أين له ايجاب الوضوء عند اجتماعهما؟ *
166 مسألة وايلاج الذكر في الفرج يوجب الوضوء، كان معه انزال
أو لم يكن *
برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن
عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب محمد بن
العلاء ثنا أبو معاوية محمد بن خازم ثنا هشام هو ابن عروة عن أبيه عن أبي
أيوب الأنصاري عن أبي بن كعب قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل
249

يصيب من المرأة ثم يكسل (1)، قال يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلى (2)) ورويناه
أيضا عن شعبة (عن الحكم (3)) عن أبي صالح عن ذكوان عن أبي سعيد الخدري عن
النبي صلى الله عليه وسلم. فالوضوء لا بد منه مع الغسل على ما نذكره (4) بعد هذا إن شاء الله تعالى (5)
167 مسألة وحمل الميت في نعش أو في غيره.
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن
خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن
عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من غسل ميتا فليغتسل ومن حملها فليتوضأ (6)) قال أبو محمد: يعنى الجنازة.
ورويناه أيضا من طريق سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن
إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإسحاق مولى زائدة ثقة مدني
وتابعي، وثقه أحمد بن صالح الكوفي وغيره، وروى عن سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة
ورويناه بالسند المذكور إلى حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن محمد بن
سيرين قال: كنت مع عبد الله بن عتبة بن مسعود (7) في جنازة، فلما جئنا دخل

(1) اكسل الرجل إذا جامع ثم ادركه فتور فلم ينزل أي صار ذا كسل
(2) في صحيح مسلم (ج 1 ص 106)
(3) سقط من الأصلين في الاسناد (عن الحكم) وهو ضروري انظر صحيح مسلم (ج 1 ص 106)
(4) في المصرية (على ما سنذكره)
(5) غلا أبو محمد رحمه الله في التمسك بظواهر النصوص حتى كاد يخرج ببعضها
عن معانيها الأصلية التي تفسرها الروايات الأخرى كما سبق مرارا وكما صنع هنا
فان هذين الحديثين حديث أبي بن كعب وحديث أبي سعيد الخدري إنما هما في
أن الغسل لا يجب الا عند إنزال الماء وان الايلاج بدون إنزال لا غسل فيه.
وهذا واضح لكل من له علم بالسنة، فلا يدلان على وجوب الوضوء بلمس المرأة
(6) رواه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي وانظر تفصيل الكلام عليه في
نيل الأوطار (ج 1 ص 297 298) (7) هو ابن أخي عبد الله بن مسعود،
ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له عنه رواية، وروى عن عمه
عبد الله بن مسعود وعمر وعمار وأبي هريرة وغيرهم، مات سنة 74.
250

المسجد، فدخل عبد الله بيته يتوضأ ثم خرج إلى المسجد فقال لي: أما توضأت؟
قلت: لا، فقال: كان عمر بن الخطاب ومن دونه من الخلفاء إذا صلى أحدهم على
الجنازة ثم أراد أن يصلى المكتوبة توضأ، حتى إن أحدهم كأن يكون في المسجد فيدعو
بالطشت (1) فيتوضأ فيها *
قال أبو محمد: لا يجوز أن يكون وضوءهم رضي الله عنهم لان الصلاة على الجنازة
حدث، ولا يجوز أن يظن بهم إلا اتباع السنة التي ذكرنا، والسنة تكفى. وقد ذكرنا
من أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي التي لم يقلها أحد قبلهم كثيرا، كالأبواب
التي قبل هذا الباب ببابين، وكنقض الوضوء بملء الفم من القلس دون مالا يملؤه
منه، وسائر الأقوال التي ذكرنا عنهم، لم يتعلقوا فيها بقرآن ولا سنة ولا بقياس ولا بقول
قائل. وبالله تعالى التوفيق *
168 مسألة وظهور دم الاستحاضة أو العرق السائل من الفرج إذا كان
بعد انقطاع الحيض فإنه يوجب الوضوء ولا بد لكل صلاه تلى ظهور ذلك الدم
سواء تميز دمها أو لم يتميز، عرفت أيامها أو لم تعرف *
برهان ذلك ما حدثنا يونس (2) بن عبد الله ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن
شعيب أخبرنا يحيي بن حبيب بن عربي عن حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن
أبيه عن عائشة قالت: (استحيضت فاطمة بنت أبي حبيش فسألت النبي صلى الله عليه وسلم،
قالت يا رسول الله: اني أستحاض فلا أطهر، فأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما
ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة فإذا (3) أدبرت
فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئ (وصلى) (4) فإنما ذلك عرق وليست (5) بالحيضة) *
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن
المثنى ثنا محمد بن أبي عدي من كتابه (6) عن محمد هو ابن عمرو بن علقمة بن

(1) فيه لغتان: السين المهملة والشين المعجمة.
(2) في المصرية يوسف وهو خطأ
(3) في سنن النسائي (ج 1 66 (وإذا)
(4) لفظ (وصلى) ليس في الأصلين وزدناه من سنن النسائي
(5) في المصرية (فليست) وهو خطأ
(6) يعنى حدثهم هذا الحديث من أصله المكتوب
لا من حفظه، وفي النسائي بعد رواية لفظ الحديث (قال محمد بن المثنى حدثنا
ابن أبي عدى هذا من كتابه) ووقع في الأصلين (من كنانه) وهو خطأ واضح
251

وقاص عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش: (أنها
كانت تستحاض فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان الحيض فإنه دم اسود يعرف،
فامسكي (1) عن الصلاة، وإذا (2) كان الآخر فتوضئ فإنه عرق (3) *
قال علي: فعم عليه السلام كل دم خرج من الفرج بعد دم الحيضة ولم يخص،
وأوجب الوضوء منه لأنه عرق *
وممن قال بايجاب الوضوء لكل صلاة على التي يتمادى بها الدم من فرجها متصلا
بدم المحيض: عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وابن عباس وفقهاء المدينة
عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ومحمد بن علي بن الحسين
وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة والشافعي
وأحمد بن حنبل وأبى عبيد وغيرهم. قالت عائشة رضي الله عنها: تغتسل وتتوضأ
لكل صلاة رويناه من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن
امرأة (4) مسروق عن عائشة ومن طريق عدي بن ثابت عن أبيه عن علي بن أبي
طالب: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، وعن شعبة عن عمار بن أبي عمار عن ابن
عباس: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، وعن قتادة عن الحسن وسعيد بن المسيب:

(1) في الأصلين (فأمسكن) بنون المخاطبات وهو خطأ صححناه من
النسائي (ج 1: ص 66)
(2) في اليمنية (فإذا) وما هنا هو الذي في المصرية والنسائي
(3) لفظ (فإنه عرق) ليس في اليمنية والذي في النسائي (فإنما هو عرق)
(4) في اليمنية (أهيلة مسروق) وامرأة مسروق هذه تابعية ثقة اسمها (قمير بوزن عظيم - بنت عمرو الكوفية). وروايتها عن عائشة رواها أبو داود (ج 1: ص 120) مرفوعة وموقوفة
بان المستحاضة تغتسل كل يوم مرة، وروي أحاديث أخرى ثم قال: (وهذه
الأحاديث كلها ضعيفة الا حديث قمير وحديث عمار مولى بني هاشم وحديث هشام
ابن عروة عن أبيه) وروايته عنها تخالف ما رواه المؤلف هنا
252

المستحاضة تتوضأ لكل صلاة. وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن
عروة التي يتمادى بها الدم أنها تتوضأ لكل صلاة، وعن شعبة عن الحكم بن
عتيبة محمد بن علي بن الحسين: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة *
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة في المتصلة الدم كما ذكرنا: أنها تتوضأ لدخول
كل وقت صلاة فتكون طاهرا بذلك الوضوء، حتى يدخل وقت صلاة أخرى فينتقض
وضوؤها ويلزمها أن تتوضأ لها، وروى عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي
حنيفة في هذه: إذا توضأت إثر طلوع الشمس للصلاة انها تكون طاهرا إلى خروج
وقت الظهر، وأنكر ذلك عليه أبو يوسف، وحكى أنه لم يرو عن أبي حنيفة إلا أنها
تكون طاهرا إلى دخول وقت الظهر، وغلب بعض أصحابه رواية محمد *
قال أبو محمد: وليس كما قال، بل قول أبى يوسف أشبه بأقوال أبي حنيفة
وقال مالك: لا وضوء عليها من هذا الدم إلا استحبابا لا ايجابا، وهي طاهر ما لم
تحدث حدثا آخر *
وقال الشافعي واحمد عليها فرضا أن تتوضأ لكل صلاة فرض وتصلى بين ذلك من
النوافل ما أحبت، قبل الفرض وبعده بذلك الوضوء *
قال أبو محمد أما قول مالك فخطأ لأنه خلاف للحديث الوارد في ذلك، والعجب
أنهم يقولون بالمنقطع من الخبر إذا وافقهم، وههنا منقطع أحسن من كل ما أخذوا به،
وهو ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة وموسى بن معاوية عن وكيع عن الأعمش عن
حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت. انى استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا إنما
ذلك عرق وليس بالحيضة فاجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئ لكل
صلاة وصلى (1) وان قطر الدم على الحصير (2) *

(1) في المصرية (فصلى)
(2) في الأصلين (على الحصر) والحديث رواه الدارقطني (ص 78) من طريق علي بن هاشم وقرة بن عيسى وعبد الله بن داود ومحمد بن ربيعة ووكيع ورواه البيهقي (ج 1 ص 344) من طريق وكيع كلهم عن الأعمش بهذا الاسناد. ورواه أبو داود (1: 120) مختصرا
وقد ذهب ابن حزم إلى أنه منقطع اتباعا لمن زعم أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع
من عروة بن الزبير، وقد بينا خطأ هذا الزعم في كلامنا على حديث عدم الوضوء
من التقبيل في المسألة رقم 165
253

فان قالوا هذا علي الندب، قيل لهم: وكل ما أوجبتموه من الاستطهار وغير ذلك
لعله ندب، ولا فرق، وهذا قول يؤدي إلى ابطال الشرائع كلها مع خلافه لأمر الله
تعالى في قوله عز وجل: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم
عذاب أليم وما نعلم لهم متعلقا في قولهم هذا لا بقرآن ولا بسنة ولا بدليل ولا بقول
صاحب ولا بقياس *
وأما قول أبي حنيفة ففاسد أيضا، لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به، ومخالف
للمعقول وللقياس، وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت وتصح بكون الوقت
قائما، وموه بعضهم في هذا بأن قالوا: قد وجدنا الماسح في السفر والحضر تنتقض
طهارتهما بخروج الوقت المحدود لهما فنقيس عليهما المستحاضة *
قال أبو محمد: القياس كله باطل، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل
لأنه قياس خطأ وعلى خطأ، وما انتقضت قط طهارة الماسح بانقضاء الأمد المذكور
بل هو طاهر كما كان، ويصلى ما لم ينتقض وضوؤه بحدث من الاحداث، وإنما
جاءت السنة بمنعه من الابتداء للمسح فقط، لا بانتقاض طهارته، ثم لو صح لهم
ما ذكروا في الماسح وهو لا يصح لكان قياسهم هذا باطلا، لأنهم قاسوا خروج
وقت كل صلاة في السفر والحضر على انقضاء يوم وليلة في الحضر، وعلى انقضاء ثلاثة
أيام بلياليهن في السفر، وهذا قياس سخيف جدا، وإنما كانوا يكونون قائسين على
ما ذكروا لو جعلوا المستحاضة تبقى بوضوئها يوما وليلة في الحضر، وثلاثة في السفر
ولو فعلوا هذا لوجدوا فيما يشبه بعض ذلك سلفا، وهو سعيد بن المسيب وسالم بن عبد
الله والقاسم بن محمد، فقد صح عنهم (1) انها تغتسل من الظهر إلى الظهر (2) وأما
قولهم هذا فعار من أن يكون لهم فيه سلف، وما نعلم لقولهم حجة، لا من قرآن ولا

(1) في الأصلين (عنهما) وهو خطأ ظاهر
(2) في اليمنية (من الظهر إلى العصر) وهو خطأ
254

من سنة ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من معقول *
وأما المسألة التي اختلف فيها عن أبي حنيفة فأن قول أبي يوسف أشبه بأصولهم
لان أثر طلوع الشمس ليس هو وقت صلاة فرض مارا إلى وقت الظهر (1) وهو
وقت تطوع، فالمتوضئة فيه للصلاة كالمتوضئة لصلاة العصر في وقت الظهر، ولا يجزيها
ذلك عندهم *
وأما قول الشافعي وأحمد فخطأ ومن المحال الممتنع في الدين الذي لم يأت به قط
نص ولا دليل -: أن يكون انسان طاهرا إن أراد أن يصلى تطوعا ومحدثا
غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلى فريضة، هذا مالا خفاء به
وليس إلا طاهر أو محدث، فإن كانت طاهرا فإنها تصلى ما شاءت من الفرائض،
والنوافل، وإن كانت محدثة فما يحل لها أن تصلى لا فرضا ولا نافلة *
وأقبح من هذا يدخل على المالكيين في قولهم: من تيمم لفريضة فلم أن يصلى
بذلك التيمم بعد أن يصلى الفريضة ما شاء من النوافل، وليس له أن يصلى نافلة
قبل تلك الفريضة بذلك التيمم، ولا أن يصلى به صلاتي فرض، فهذا هو نظرهم
وقياسهم وأما تعلق بأثر، فالآثار حاضرة وأقوالهم حاضرة *
قال أبو محمد: وهم كلهم يشغبون بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم
وجميع الحنفيين والمالكيين والشافعيين قد خالفوا في هذه المسألة عائشة وعليا وابن
عباس رضي الله عنهم، ولا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك
وخالف المالكيون في ذلك فقهاء المدينة كما أوردنا فصارت أقوالهم مبتدأة ممن
قالها بلا برهان أصلا. وبالله تعالى التوفيق *
169 - مسألة - قال علي لا ينقض الوضوء شئ غير ما ذكرنا، لا رعاف
ولا دم سائل من شئ من الجسد أو من الحلق أو من الأسنان أو من الإحليل أو
من الدبر. ولا حجامة ولا فصد، ولا قئ كثر أو قل، ولا قلس ولا قيح ولا ماء
ولا دم تراه الحامل من فرجها، ولا أذى المسلم ولا ظلمه، ولا مس الصليب والوثن،
ولا الردة ولا الانعاظ للذة أو لغير لذة، ولا المعاصي من غير ما ذكرنا، ولا شئ يخرج

(1) في اليمنية (ما زال وقت الظهر) وهو تصحيف
255

من الدبر لا عذرة عليه، سواء في ذلك الدود والحجر والحيات، ولا حقنة ولا تقطير دواء
في المخرجين ولا مس حيا بهيمة، ولا قبلها، ولا حلق الشعر بعد الوضوء، ولا قص الظفر
ولا شئ يخرج من فرج المرأة من قصة بيضاء أو صفرة أو كدرة أو كغسالة اللحم أو دم
أحمر لم يتقدمه حيض، ولا الضحك في الصلاة، ولا شئ غير ذلك *
قال أبو محمد: برهان اسقاطنا الوضوء من كل ما ذكرنا، هو أنه لم يأت قرآن ولا سنة
ولا اجماع بايجاب وضوء في شئ من ذلك ولا شرع الله تعالى على أحد من الإنس والجن إلا
من أحد هذه الوجوه، وما عداها فباطل، ولا شرع الا ما أوجبه الله تبارك وتعالى
وأتانا به رسوله صلى الله عليه وسلم، وفى كل ما ذكرنا خلاف نذكر منه ما كان المخالفون فيه
حاضرين، ونضرب عما قد درس القول به، الا ذكرا خفيفا. وبالله تعالى التوفيق *
قال علي: قال أبو حنيفة: كل دم سائل أو قيح سائل أو ماء سائل من أي
موضع سال من الجسد فإنه ينقض الوضوء، فإن لم يسل لم ينقض الوضوء منه، إلا أن
يكون خرج ذلك من الانف أو الاذن، فان خرج من الانف أو الاذن، فإن كان
ذلك دما أو قيحا فبلغ إلى موضع الاستنشاق من الانف أو إلى ما يلحقه الغسل من
داخل الاذن فالوضوء منتقض، وان لم يبلغ إلى ما ذكرنا لم ينتقض الوضوء، فان
خرج من الانف مخاط (1) أو ماء فلا ينتقض (2) الوضوء، وكذلك ان خرج من
الاذن ماء فلا ينتقض الوضوء *
قال: فان خرج من الجوف إلى الفم أو من اللثات دم فإن كان غالبا على البزاق (3)
ففيه الوضوء وان لم يملا الفم، وان لم يغلب على البزاق (3) فلا وضوء فيه، فان تساويا
فيستحسن فيأمر (4) فيه بالوضوء، فان خرج من الجرح دم فظهر ولم يسل فلا
وضوء فيه، فان سال ففيه الوضوء فلو خرج من الجرح دود أو لحم فلا وضوء فيه،
فان خرج الدود من الدبر ففيه الوضوء، فان عصب الجرح نظر (فإن كان لو ترك سال
ففيه الوضوء، وإن كان لو ترك لم يسل فلا وضوء *

(1) في المصرية (مخاطا) وهو لحن
(2) في اليمنية (لم ينتقض)
(3) في اليمنية (البصاق) في الموضعين
(4) في اليمنية (ويأمر)
256

قال وأما القئ والقلس وكل شئ خرج من الجوف إلى الفم فان ملا الفم نقض
الوضوء وإن لم يملا الفم لم ينقض الوضوء، وحد بعضهم ما يملا الفم بمقدار اللقمة -
على أن اللقمة تختلف - وحد بعضهم مالا يقدر على إمساكه في الفم. قال أبو حنيفة
حاشا البلغم فلا وضوء فيه وان ملا الفم وكثر جدا، قال أبو يوسف: بل فيه الوضوء
إذا ملا الفم، وقال محمد بن الحسن كقول أبي حنيفة في كل ذلك الا الدم، فان قوله
فيه: إن خرج من اللثاة أو من الجسد أو من الفم كقول أبي حنيفة فان خرج من
الجوف لم ينقض الوضوء إلا أن يملا الفم فينقض الوضوء حينئذ، وقال زفر كقول أبي حنيفة
في كل شئ الا القلس فإنه قال ينقض الوضوء قليله وكثيره *
قال علي مثل هذا لا يقبل - ولا كرامة - الا من رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن
خالقنا ورازقنا تعالى أمره ونهيه وأما من أحد دونه فهو هذيان وتخليط كتخليط المبرسم
وأقوال مقطوع على أنه لم يقلها أحد قبل أبي حنيفة، ولم يؤيدها (1) معقول ولا نص
ولا قياس، أفيسوغ لمن يأتي بهذه الوساوس أن ينكر على من اتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
في البائل في الماء الراكد وفى الفأرة تموت في السمن؟! ان هذا لعجب ما مثله عجب *
قال أبو محمد وموه بعضهم بخبر رويناه عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبيه
يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الوضوء من القئ وإن كان قلسا يقلسه فليتوضأ إذا
رعف أحد في الصلاة أو ذرعه القئ وإن كان قلسا يقلسه أو وجد مذيا فلينصرف
وليتوضأ ثم يرجع فيتم ما بقي من صلاته ولا يستقبلها جديدا) وخبر آخر رويناه من
طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن أبيه وعن ابن أبي مليكة عن عائشة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قاء أحدكم أو قلس فليتوضأ ثم ليبن علي ما مضى
ما لم يتكلم) *
قال أبو محمد: وهذان الأثران ساقطان لان والد ابن جريج لا صحبة له فهو
منقطع، والآخر من رواية إسماعيل بن عياش وهو ساقط لا سيما فيما روى عن الحجازيين،
ثم لو صحا لكانا (2) حجة على الحنفيين، لأنه ليس شئ من هذين الخبرين

(1) في اليمنية (ولا يؤيدها)
(2) في المصرية (لكان) وهو خطأ
257

يفرق بين ملء الفم من القئ والقلس، وما دون ملء الفم من القئ والقلس، ولا بين
ما يخرج من نفاطة فينقض الوضوء وما يسيل من الانف فلا ينقض الوضوء ولا فيه
ذكر دم خارج من الجوف ولا من الجسد ولا من اللثاة ولا من الجرح وإنما فيهما القئ
والقلس والرعاف فقط فلا على الخبرين اقتصروا كما فعلوا بزعمهم في خبر الوضوء من القهقهة
والوضوء بالنبيذ، ولا قاسوا عليهما (1) فطردوا قياسهم، لكن خلطوا تخليطا خرجوا
به إلى الهوس المحض فقط، فهو حجة عليهم - لو صح - وقد خالفوه *
واحتجوا أيضا بحديث رويناه من طريق الأوزاعي عن يعيش بن الوليد عن أبيه
عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ، فلقيت ثوبان
فذكرت ذلك له فقال: صدقت أنا صببت له وضوءه يعنى النبي صلى الله عليه وسلم) ورويناه من
طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد عن خالد
ابن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء قال: (استقاء (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر
ودعا بماء فتوضأ)
قال أبو محمد: هذا الحديث الأول فيه يعيش بن الوليد أعن أبيه وليسا مشهورين
والثاني مدلس لم يسمعه يحيى من يعيش، ثخم لو صحا لما كان لهم فيه متعلق، لأنه ليس
فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من تقيأ فليتوضأ، ولا أن وضوءه عليه السلام كان من
أجل القئ، وقد صح عنه عليه السلام التيمم لذكر الله تعالى، وهم لا يقولون بذلك
وليس فيه أيضا فرق بين ما يملا الفم من القئ وبين مالا يملؤه، ولا فيهما شئ غير
القئ، فلا على ما فيهما اقتصروا، ولا قاسوا عليهما قياسا مطردا *
وذكروا أيضا الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فاطمة بنت أبي حبيش
- وقد ذكرناه قبل - وهو قوله عليه السلام: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة)
وأوجب عليه السلام فيه الوضوء، قالوا: فوجب ذلك في كل عرق سائل *
قال علي: وهذا قياس، والقياس باطل، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين
الباطل، لأنه إذا لم يجز أن يقيسوا دم العرق الخارج من الفرج على دم الحيض الخارج

(1) في المصرية (عليها) وهذا خطأ
(2) في اليمنية (استسقى) وهو خطأ
258

من الفرج، وكلاهما دم خارج من الفرج وكان الله تعالى قد فرق بين حكميهما فمن
الباطل أن يقاس دم خارج من غير الفرج على دم خارج من الفرج وأبطل من
ذلك أن يقاس القيح على الدم، ولا يقدرون على ادعاء إجماع في ذلك، فقد صح
عن الحسن وأبى مجلز الفرق بين الدم والقيح، وأبطل (1) من ذلك أن يقاس الماء
الخارج من النفاطة، على الدم والقيح، ولا يقاس الماء الخارج من الانف والاذن على
الماء الخارج من النفاطة، وأبطل من ذلك أن يكون دم العرق الخارج من الفرج
يوجب الوضوء قليله وكثيره، ويكون القئ (2) المقيس عليه لا ينقض الوضوء إلا
حتى يملا الفم، ثم لم يقيسوا الدود الخارج من الجرح (3) على الدود الخارج من
الدبر، وهذا من التخليط في الغاية القصوى *
فان قالوا: قسنا كل ذلك على الغائط، لان كل ذلك نجاسة قلنا لهم: وقد وجدنا
الريح تخرج من الدبر فتنقض الوضوء وليست نجاسة، فهلا قستم عليها الجشوة والعطسة
لأنها ريح خارجة من الجوف كذلك ولا فرق؟ وأنتم قد أبطلتم قياسكم هذا فنقضتم
الوضوء بقليل البول والغائط وكثيره، ولم تنقضوا الوضوء من القيح والقئ والدم والماء
الا بمقدار ملء الفم أو بما سال أو بما غلب، وهذا تخليط وترك للقياس *
فان قالوا: قد روى الوضوء من الرعاف ومن كل دم سائل عن عطاء وإبراهيم
ومجاهد (4) وقتادة وابن سيرين وعروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والحسن البصري
وفى الرعاف عن الزهري (نعم) (5). وعن علي وابن عمر رضي الله عنهم، وعن عطاء
الوضوء من القلس والقئ والقيح، وعن قتادة في القيح، وعن الحكم بن عتيبة في
القلس، وعن ابن عمر في القئ، قلنا: نعم إلا أنه ليس منهم أحد حد شيئا من
ذلك بملء الفم، ولو كان فلا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خالف

(1) في اليمنية (وأبطلوا) وهو خطأ
(2) في الأصلين (القيح) وسياق الكلام يأباه والخطأ فيه واضح، وقد كتب بهامش اليمنية أن الظاهر (القئ) وهو الصواب
(3) في المصرية (من المخرج) وهو خطأ
(4) مجاهدكم لم يذكر في اليمنية
(5) لفظ (نعم) زيادة من اليمنية
259

هؤلاء نطراؤهم، فصح عن أبي هريرة: أنه أدخل إصبعه في أنفه فخرج فيها دم ففته
بين إصبعه ثم صلى ولم يتوضأ، وعن ابن عمر: أنه عصر بثرة بوجهه فخرج منها دم ففته
بين إصبعيه وقام فصلى (1)، وعن طاوس أنه كان لا يرى في الرعاف وضوءا، وعن
عطاء انه كان لا يرى في الرعاف وضوءا، وعن الحسن أنه كان لا يرى في القلس وضوءا،
وعن مجاهد أنه كان لا يرى في القلس وضوءا *
والعجب كله أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الغسل من المنى إذا خرج من
الذكر لغير لذة، وهو المنى نفسه الذي أوجب الله تعالى ورسوله عليه السلام فيه الغسل
ثم يوجبون الوضوء من القيح يخرج من الوجه قياسا على الدم يخرج من الفرج!
والعجب كله أنهم سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن التذكية بالسن فإنه عظم،
فرأوا الذكاة غير جائزة بكل عظم، ثم أتوا إلى قوله عليه السلام في وضوء المستحاضة:
(فان عرق) فقاسوا عليه دم الرعاف واللثاة والقيح، فهذا مقدار علمهم بالقياس.
ومقدار اتباعهم للآثار، ومقدار تقليدهم من سلف *
وأما الشافعي فإنه جعل العلة في نقض الوضوء للمخرج وجعله أبو حنيفة للخارج
وعظم تناقضه في ذلك كما ذكرنا، وتعليل كلا الرجلين مضاد لتعليل الآخر ومعارض
له، وكلاهما خطا لأنه قول بلا برهان، ودعوى لا دليل عليها، قال الله تعالى: (قل
هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *
قال أبو محمد: ويقال للشافعيين والحنفيين معا: قد وجدنا الخارج من المخرجين
مختلف الحكم، فمنه ما يوجب الغسل كالحيض والمني ودم النفاس، ومنه ما يوجب
الوضوء فقط كالبول والغائط والريح والمذي، ومنه ما لا يوجب شيئا كالقصة البيضاء،
فمن أين لكم أن تقيسوا ما اشتهيتم فأوجبتم فيه الوضوء قياسا على ما يوجب الوضوء
من ذلك، دون أن توجبوا فيه الغسل قياسا على ما يوجب الغسل من ذلك، أو
دون أن لا يتوجبوا فيه شيئا قياسا على ما لا يجب فيه شئ من ذلك؟ وهل هذا
إلا التحكم بالهوى الذي حرم الله تعالى الحكم به وبالظن الذي أخبر تعالى أنه لا يغنى

(1) في اليمنية (فقام وصلى)
260

من الحق شيئا، مع فساد القياس ومعارضة بعضه بعضا
وأما المالكيون فلم يقيسوا ههنا فوفقوا، وعللوا ههنا بخارج ولا بمخرج ولا بنجاسة
فأصابوا، ولو فعلوا ذلك في تعليلهم الملامسة بالشهوة، وفى تعليلهم النهي عن البول في
الماء الراكد، والفأرة تموت في السمن -: لوفقوا ولكن لم يطردوا أقوالهم. فالحمد لله
على عظم نعمه علينا. وهم يدعون أنهم يقولون بالمرسل، وقد أوردنا في هذا الباب
مرسلات لم يأخذوا بها، وهذا أيضا تناقض *
وأما الوضوء من أذى المسلم فقد روينا (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت:
يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة العوراء يقولها لأخيه! وعن
ابن مسعود رضي الله عنه: لان أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلى من أن أتوضأ من
الطعام الطيب. وعن ابن عباس: الحدث حدثان، حدث الفرج وحدث اللسان،
وأشدهما حدث اللسان. وعن إبراهيم النخعي: إني لأصلي الظهر والعصر والمغرب
بوضوء واحد، إلا أن أحدث أو أقول منكرا، الوضوء من الحدث وأذى المسلم.
وعن عبيدة السلماني: الوضوء يجب من الحدث وأذى المسلم (2). وروينا من طريق داود بن
المحبر عن شعبة عن قتادة عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من الحدث وأذى المسلم) * (3)
قال علي: داود بن المحبر كذاب مشهور بوضع الحديث، ولكن لا فرق بين تقليد
من ذكرنا قبل في الوضوء من الرعاف والقئ والقلس، والاخذ بذلك الأثر الساقط،
وبين تقليد من ذكرنا ههنا في الوضوء من أذى (4) المسلم، والاخذ بهذا الأثر
الساقط، بل هذا على أصولهم أوكد، لان الخلاف هنالك بين الصحابة رضي الله عنه
م موجود، ولا مخالف يعرف ههنا لعائشة وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم،
وهم يشنعون مثل هذا إذا وافقهم *
وأما نحن فلا حجة عندنا إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن أو خبر *
وأما مس الصليب والوثن فإننا روينا عن عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة

(1) في اليمنية (فروينا)
(2) قول عبيدة لم يذكر في اليمنية
(3) هذا الحديث ظاهر الوضع لنسبة اذى المسلم للرسول صلى الله عليه وسلم
(4) في المصرية (اذاء)
261

عن عمار الدهني عن أبي عمرو الشيباني: (أن علي بن أبي طالب رضى لله عنه
استتاب المستورد العجلي، وأن عليا مس بيده صليبا كانت في عنق المستورد فلما
دخل علي في الصلاة قدم رجلا وذهب، ثم أخبر الناس أنه لم يفعل ذلك لحدث
أحدثه، ولكنه مس هذه (1) الأنجاس فأحب أن يحدث منها وضوءا). وروينا
أثرا من طريق يعلي بن عبيد عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه: (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بريدة وقد مس صنما فتوضأ) *
قال علي: صالح بن حيان ضعيف لا يحتج به، ولقد كان يلزم من يعظم خلاف
الصاحب ويرى الاخذ بالآثار الواهية مثل الذي (2) قدمنا أن يأخذ بهذا الأثر،
فهو أحسن من كثير مما يأخذون به مما قد ذكرناه،، ولا يعرف لعلي ههنا مخالف من
الصحابة رضي الله عنهم، وهذا مما تناقضوا فيه *
وأما نحن فلا حجة عندنا الا في خبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو القرآن.
والحمد لله رب العالمين. لا سيما وعلي رضي الله عنه قد قطع صلاة الفرض بالناس من
أجل ذلك، وما كان رضي الله عنه ليقطعها فيها لا يراه واجبا *
فان قالوا: لعل هذا استحباب قلنا: ولعل كل ما أوجبتم فيه الوضوء من الرعاف
وغيره تقليدا لمن سلف إنما هو استحباب وكذلك المذي، وهذا كله لا معنى له وإنما
هي دعا ومخالفة للحقائق. وبالله تعالى التوفيق *
وأما الردة فان المسلم لو توضأ واغتسل للجنابة أو كانت امرأة فاغتسلت من
الحيض ثم ارتدا ثم راجعا الاسلام دون حدث يكون منهما فإنه لم يأت قرآن ولا
سنة صحيحة ولا سقيمة ولا اجماع ولا قياس بأن الردة حدث ينقض الطهارة وهم
يجمعون معنا على أن الردة لا تنقض غسل الجنابة ولا غسل الحيض ولا أحباسه
السالفة ولا عتقه السالف ولا حرمة الرجل فمن أين وقع لهم انها تنقض الوضوء
وهم أصحاب قياس فهلا قاسوا الوضوء على الغسل في ذلك فكأن يكون أصح قياس

(1) في المصرية (مس من هذه)
(2) في المصرية (التي)
262

لو كان شئ من القياس صحيحا فان ذكروا قول الله تعالى (لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين) قلنا هذا على من مات كافرا لا على من راجع الاسلام
يبين ذلك قول الله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك
حبطت أعمالهم) وقوله تعالى (ولتكونن من الخاسرين) شهادة صحيحة قاطعة
لقولنا لأنه لا خلاف بين أحد (1) من الأمة في أن من ارتد ثم راجع الاسلام ومات
مسلما فإنه ليس من الخاسرين، بل من الرابحين المفلحين، وإنما الخاسر من مات
كافرا وهذا بين والحمد لله. واما الدم الظاهر من فرج المرأة الحامل فقد اختلف
الناس فيه فروينا من طريق أم علقمة عن عائشة أم المؤمنين ان الحامل تحيض
وهو أحد قولي الزهري، وهو قول عكرمة وقتادة وبكر بن عبد الله المزني وربيعة
ومالك والليث والشافعي، وروينا عن سعيد بن المسيب والحسن وحماد بن أبي
سليمان أنها مستحاضة لا حائض (2) وروى عن مالك أنه قال في الحامل ترى الدم انها
لا تصلى الا ان يطول ذلك بها فحينئذ تغتسل وتصلى، ولم يحد في الطول حدا وقال
أيضا ليس أول الحمل كآخره، ويجتهد لها ولا حد في ذلك، وروينا من طريق
عطاء عن عائشة أم المؤمنين: أن الحامل وان رأت الدم فإنها تتوضأ وتصلى وهو
قول عطاء والحكم بن عتيبة والنخعي والشعبي وسليمان بن يسار ونافع مولي ابن
عمر وأحد قولي الزهري وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأحمد ابن
حنبل وأبي ثور وأبي عبيد وداود وأصحابهم: قال أبو محمد صح ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهي عن طلاق الحائض وأمر بالطلاق في حال الحمل وإذا كانت حائلا فصح
ان حال الحائض والحائل غير حال الحامل (3). وقد اتفق المخالفون لنا على أن
ظهور الحيض استبراء وبراءة من الحمل، فلو جاز أن تحيض الحامل لما كان الحيض
براءة من الحمل، وهذا بين جدا والحمد لله، وإذا كان ليس حيضا ولا عرق استحاضة
فهو غير موجب للغسل ولا للوضوء إذ لم يوجب ذلك نص ولا اجماع وكذلك دم

(1) في اليمنية (فإنه لا خلاف من أحد)
(2) في اليمنية (أنها لا مستحاضة ولا حائض)
(3) في اليمنية (أن حال لحمل والحائل غير حال الحائض)
263

النفاس فإنما يوجب الغسل لأنه دم حيض على ما بينا بعد هذا (1) والحمد لله رب
العالمين *
وكذلك القول في الذبح والقتل وإن كان معصية فان كل ذلك لا ينقض الطهارة.
لأنه لم يأت بذلك قرآن ولا سنة، وكذلك من مس المرأة على ثوب لأنه إنما لامس
الثوب لا المرأة، وكذلك مس الرجل الرجل بغير الفرج ومس المرأة المرأة بغير الفرج
والانعاظ والتذكر وقرقرة البطن في الصلاة ومس الإبط ونتفه ومس الأنثيين والرفغين
وقص الشعر والأظفار لان كل ما ذكرنا لم يأت نص ولا اجماع بايجاب (2) الوضوء في
شئ منه *
وقد أوجب الوضوء في بعض ما ذكرنا بل في أكثره بل في كله، طوائف من
الناس فأوجب الوضوء من قرقرة البطن في الصلاة إبراهيم النخعي وأوجب الوضوء
في الانعاظ والتذكر والمس على الثوب لشهوة بعض المتأخرين، وروينا ايجاب
الوضوء في مس الإبط عن عمر بن الخطاب ومجاهد وإيجاب الغسل من نتفه عن علي
ابن أبي طالب وعبد الله بن عمرو (3) وعن مجاهد الوضوء من تنقية الانف، وروينا
عن علي بن أبي طالب ومجاهد وذر والد عمر بن ذر، إيجاب الوضوء من قص الأظفار
وقص الشعر، وأما الدود والحجر يخرجان من الدبر فان الشافعي أوجب الوضوء
من ذلك ولم يوجبه مالك ولا أصحابنا وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من
مس أنثييه أو رفغيه فليتوضأ) ولكنه مرسل لا يسند *
واما الصفرة والكدرة والدم الأحمر فسيذكر في الكلام في الحيض إن شاء الله
حكمه وانه ليس حيضا ولا عرقا فإذ ليس حيضا ولا عرقا فلا وضوء فيه. إذ لم
يوجب في ذلك قرآن ولا سنة ولا اجماع *
وأما الضحك في الصلاة فانا روينا في ايجاب الوضوء منه أثرا واهيا لا يصح،

(1) كذا في الأصلين ولعل صوابه (على ما تبين بعد هذا
(2) في المصرية (فايجاب) وهو خطأ
(3) في اليمنية (وعبد الله بن عمر)
264

لأنه مرسل (1) من طريق أبى العالية وإبراهيم النخعي وابن سيرين والزهري وعن
الحسن عن معبد بن صبيح (2) ومعبد الجهني، وإما مسند من طريق أنس وأبي موسى وأبي هريرة وعمر ان بن حصين وجابر وأبى المليح، وروينا إيجاب
الوضوء منه عن أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي وسفيان الثوري
والأوزاعي والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن وأبي حنيفة وأصحابه *
فأما حديث أنس فإنه من طريق أحمد بن عبد الله بن زيادة التتري عن
عبد الرحمن بن عمر وأبى حيله وهو مجهول، وأما حديث أبي موسى ففيه محمد بن نعيم
وهو مجهول، وأما حديث أبي هريرة ففيه عبد الكريم بن أبي المخارق وهو غير ثقة
وأما حديث عمران بن حصين ففيه إسماعيل بن عياش وعبد الوهاب بن نجدة وهما
ضعيفان، وأما حديث جابر ففيه أبو سفيان وهو ضعيف، وأما حديث أبي المليح
ففيه الحسن بن دينار وهو مذكور بالكذب *
ولا حجة الا في القرآن أو أثر صحيح مسند *
وقد كان يلزم المالكيين والشافعيين القائلين بالمتواتر من الاخبار حتى ادعوا
التواتر لحديث معاذ (أجتهد رأيي) والقائلين بمرسل سعيد وطاوس أن يقولوا بهذه
الآثار، فإنها أشد تواترا مما ادعوا له التواتر، وأكثر ظهورا في عدد من أرسله من
النهى عن بيع اللحم والحيوان بالحيوان، وسائر ما قالوا به من المراسيل *
وكذلك كان يلزم أبا حنيفة وأصحابه المخالفين الخبر الصحيح في المصراة
وفي حج المرأة عن الهرم الحي وفى سائر ما تركوا فيه السنن الثابتة للقياس -: أن
يرفضوا هذا الخبر الفاسد قياسا على ما أجمع عليه من أن الضحك لا ينقض الوضوء
في غير الصلاة، فكذلك لا يجب أن ينقضه في الصلاة، ولكنهم لا يطردون
القياس ولا يتبعون السنن ولا يلتزمون ما أحلوا من قبول المرسل والمتواتر، الا ريثما

(1) كذا بالأصلين ولعل صوابه (لأنه إما مرسل)
(2) لم أجد من يسمى (معبد بن صبيح) هذا فيبحث عنه
265

يأتي موافقا لآرائهم أو تقليدهم، ثم هم أول رافضين له إذا خالف تقليدهم وآراءهم،
وحسبنا الله ونعم الوكيل *
ويقال لهم: في أي قرآن أو في أي سنة أو في أي قياس وجدتم تغليظ بعض
الاحداث فينقض الوضوء قليلها وكثيرها، وتخفيف بعضها قد ينقض الوضوء الا
مقدارا حددتموه منها؟ والنص فيها كلها جاء مجيئا واحدا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ) ولا يخفى على ذي عقل أن بعض الحدث
حدث، فإذا هو كذلك فقليله وكثيره ينقض الطهارة، وما لم يكن حدثنا فكثيره
وقليله لا ينقض الطهارة. وبالله تعالى التوفيق *
تم بحمد الله تعالى وحسن توفيقه طبع الجزء الأول من كتاب المحلى شرح
المجلى للامام العلامة أبي محمد علي بن حزم الأندلسي رحمه الله وجعل الجنة مثواه
ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى ومطلعه (الأشياء الموجبة غسل الجسد
كله) ونسأل الله عز وجل الإعانة على إكماله وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى
الآل والأصحاب والتابعين لهم باحسان إلي يوم المآب
266