الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ١٠
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغني
تأليف الشيخ الإمام العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمود بن قدامة المتوفى سنة 630 ه‍
على مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي المتوفى سنة 334 ه‍
الجزء العاشر
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
باب القسامة
القسامة مصدر أقسم قسما وقسامة ومعناه حلف حلفا، والمراد بالقسامة ههنا الايمان المكررة
في دعوى القتل. قال القاضي هي الايمان إذا كثرت على وجه المبالغة. قال وأهل اللغة يذهبون
إلى أنها القوم الذين يحلفون سموا باسم المصدر كما يقال رجل زور وعدل ورضى. وأي الامرين كان
فهو من القسم الذي هو الحلف، والأصل في القسامة ما روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن
يسار عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج ان محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا إلى خيبر
فتفرقا في النخيل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء اخوه عبد الرحمن وابنا عمه حويصة
2

ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كبر الكبر
أو قال ليبدأ الا كبر) فتكلما في أمر صاحبهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون منكم على
رجل منهم فيدفع إليكم برمته) فقالوا أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال (فتبرئكم يهود بايمان
خمسين منهم) قالوا يا رسول الله قوم كفار ضلال قال فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله. قال سهل
فدخلت مربدا لهم فركضتني ناقة من تلك الإبل متفق عليه
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (إذا وجد قتيل فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة
بينهم ولم يكن لهم بينه لم يحكم لهم بيمين ولا غيرها)
الكلام في هذه المسألة في فصلين (الأول) في أنه إذا وجد قتيل في موضع فادعى أولياؤه
قتله على رجل أو جماعة ولم تكن بينهم عداوة ولا لوث فهي كسائر الدعاوى ان كانت لهم بينة
حكم لهم بها والا فالقول قول المنكر وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر، وقال أبو حنيفة وأصحابه
إذا ادعى أولياؤه قتله على أهل المحلة أو على معين فللولي ان يختار من الموضع خمسين رجلا يحلفون
خمسين يمينا: والله ما قتلناه ولا علمنا قاتله فإن نقصوا عن الخمسين كررت الايمان عليهم حتى تتم فإذا
حلفوا وجبت الدية على باقي الخطة فإن لم يكن وجبت على سكان الموضع. فإن لم يحلفوا حبسوا حتى
3

يحلفوا أو يقروا لما روي أن رجلا وجد قتيلا بين حيين فحلفهم عمر رضي الله عنه خمسين يمينا
وقضى بالدية على أقربهما يعني أقرب الحيين فقالوا والله ما وقت ايماننا أموالنا ولا أموالنا ايماننا.
فقال عمر حقنتم بأموالكم دماءكم
ولنا حديث عبد الله بن سهل وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أعطي الناس بدعواهم لا دعى قوم دماء قوم
وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم وقول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين
على من أنكر) ولان الأصل في المدعى عليه براءة ذمته ولم يظهر كذبه فكان القول قوله كسائر
الدعاوى. ولأنه مدعى عليه فلم تلزمه اليمين والغرم كسائر الدعاوى. وقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قول
عمر وأحق بالاتباع. ثم قصه عمر يحتمل انهم اعترفوا بالقتل خطأ وأنكروا العمد فاحلفوا على العمد
ثم إنهم لا يعملون بخبر النبي صلى الله عليه وسلم المخالف للأصول وقد صاروا ههنا إلى ظاهر قول عمر المخالف
للأصول وهو ايجاب الايمان على غير المدعى عليه وإلزامهم الغرم مع عدم الدعوى عليهم والجمع بين
تحليفهم وتغريمهم وحبسهم على الايمان، قال ابن المنذر: سن النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على المدعى
عليه وسن القسامة في القتيل الذي وجد بخيبر وقول أصحاب الرأي خارج عن هذه السنن
(فصل) ولا تسمع الدعوى على غير معين فلو كانت الدعوى على أهل مدينه أو محلة أو واحد
4

غير معين أو جماعة منهم بغير أعيانهم لم تسمع الدعوى، وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي
تسمع ويستحلف خمسون منهم لأن الأنصار ادعو القتل على يهود خيبر ولم يعينوا القاتل فسمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم دعواهم
ولنا أنها دعوى في حق فلم تسمع على غير معين كسائر الدعاوى، فاما الخبر فإن دعوى الأنصار
التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن الدعوى التي بين الخصمين المختلف فيها فإن تلك من شرطها
حضور المدعى عليه عندهم أو تعذر حضوره عندنا وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعوى لا تصح الاعلى واحد
بقوله (تقسمون على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) وفي هذا بيان أن الدعوى لا تصح على غير معين
(فصل) فاما ان ادعى القتل من غير وجود قتل ولا عداوة فحكمها حكم سائر الدعاوى في اشتراط
تعيين المدعى عليه وأن القول قوله لا نعلم فيه خلافا
(الفصل الثاني) أنه إذا ادعى القتل ولم تكن عداوة ولا لوث ففيه عن أحمد روايتان:
(إحداها) لا يحلف المدعى عليه ولا يحكم عليه بشئ ويخلى سبيله هذا الذي ذكره الخرقي ههنا
وسواء كانت الدعوى خطأ أو عمدا لأنها دعوى فيما لا يجوز بذله فلم يستحلف فيها كالحدود ولأنه
لا يقضى في هذه الدعوى بالنكول فلم يستحلف فيها كالحدود
5

(والثانية) يستحلف وهو الصحيح وهو قول الشافعي لعموم قوله عليه السلام (اليمين على المدعى
عليه) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن على اليمين
على المدعى عليه) ظاهر في إيجاب اليمين ههنا لوجهين (أحدهما) عموم اللفظ فيه (والثاني) أن النبي
صلى الله عليه وسلم ذكره في صدر الخبر بقوله (لا دعى قوم دماء رجال وأموالهم ثم عقبه بقوله ولكن اليمين على
المدعى عليه)) فيعود إلى المدعى عليه المذكور في الحديث ولا يجوز اخراجه منه إلا بدليل أقوى منه ولأنها
دعوى في حق آدمي فيستحلف فيها كدعوى المال ولأنها دعوى لو أقربها لم يقبل رجوعه عنها
فتجب اليمين فيها كالأصل المذكور، إذا ثبت هذا فالمشروع يمين واحدة وعن أحمد أنه يشرع
خمسون يمينا لأنها دعوى في القتل فكان المشروع فيها خمسون يمينا كما لو كان بينهم لوث وللشافعي
قولان في هذا كالروايتين
ولنا أن قوله عليه السلام (ولكن اليمين على المدعى عليه) ظاهر في أنها يمين واحدة من وجهين
(أحدهما) أنه وحد اليمين فينصرف إلى واحدة (والثاني) أنه لم يفرق في اليمين المشروعة فيدل على
التسوية بين المشروعة في الدم والمال، ولأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل فلم تغلط كسائر الايمان
ولأنها يمين مشروعة في جنبة المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالتكرير كسائر الايمان، وبهذا فارق ما
ذكروه، فإن نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب القصاص بغير خلاف في المذهب، وقال أصحاب
6

الشافعي ان نكل المدعى عليه ردت اليمين على المدعي فحلف خمسين يمينا واستحق القصاص ان كانت
الدعوى عمدا والدية ان كانت موجبة للقتل لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة أو الاقرار
والقصاص يجب بكل واحد منهما
ولنا أن القتل لم يثبت ببينة ولا اقرار ولم يعضده لوث فلم يجب القصاص كما لو لم ينكل ولا يصح
إلحاق الايمان مع النكول ببينة ولا اقرار لأنها أضعف منها بدليل أنه لا يشرع إلا عند عدمهما فيكون
بدلا عنهما والبدل أضعف من المبدل ولا يلزم من ثبوت الحكم بالأقوى ثبوته بالأضعف ولا يلزم من
وجوب الدية وجوب القصاص لأنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولا بالشاهد واليمين ويحتاط له
ويدرأ بالشبهات والديه بخلافه، فاما الدية فتثبت بالنكول عند من يثبت المال به أو ترد اليمين على المدعي
فيحلف يمينا واحدة ويستحقها كما لو كانت الدعوى في مال والله أعلم
(مسألة) قال (فإن كان بينهم عداوة ولوث فادعى أولياؤه على واحد حلف الأولياء
على قاتله خمسين يمينا واستحقوا دمه إذا كانت الدعوى عمدا)
الكلام في هذه المسألة في فصول أربعة:
(الأول) في اللوث المشترط في القسامة واختلفت الرواية عن أحمد فيه فروي عنه أن اللوث
7

هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر وما بين القبائل
والاحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما بين أهل العدل وما بين الشرطة واللصوص
وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله، نقل مهنا عن أحمد فيمن وجد قتيلا في
المسجد الحرام ينظر من بينه وبينه في حياته شئ يعني ضغنا يؤخذون به، ولم يذكر القاضي في اللوث
غير العداوة إلا أنه قال في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل فاللوث على الطائفة واللوث على طائفة
القتيل. إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط مع العداوة أن لا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو نص
عليه أحمد في رواية مهنا التي ذكرناها وكلام الخرقي يدل عليه أيضا، واشترط القاضي أن لا يوجد
القتيل في موضع عدو لا يختلط بهم غيرهم. وهذا مذهب الشافعي لأن الأنصاري قتل في خيبر ولم
يكن فيها الا اليهود وجميعهم أعداء ولأنه متى اختلط بهم غيرهم احتمل أن يكون القاتل ذلك الغير
ثم ناقض القاضي قوله فقال في قوم ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل إن كان في القوم
من بينه وبينهم عداوة وأمكن أن يكون هو قتله لكونه بقربه فهو لوث فجعل العداوة لوثا
مع وجود غير العدو.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل كان بخيبر غير اليهود أم لامع أن الظاهر وجود غيرهم
فيها لأنها كانت أملاكا للمسلمين يقصدونها لاخذ غلات أملاكهم منها وعمارتها والاطلاع عليها والامتيار
8

منها ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها وقول الأنصار ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود
يدل على أنه قد كان بها غيرهم ممن ليس بعدو ولان اشتراكهم في العداوة لا يمنع من وجود اللوث في حق
واحد وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله فلان يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل
أولى وما ذكروه من الاحتمال لا ينفي اللوث فإن اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه ولا
ينافيه الاحتمال ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيج إلى الايمان ولو اشترط نفي الاحتمال لما
صحت الدعوى على واحد من جماعة لأنه يحتمل أن القاتل غيره ولا على الجماعة كلهم لأنه يحتمل
أن لا يشترك الجميع في قتله (والرواية الثانية) عن أحمد أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي وذلك
من وجوه (أحدها) العداوة المذكورة (والثاني) أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثا في حق
كل واحد منم فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ذكره القاضي
وهو مذهب الشافعي، لأن الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت ببينة (الثالث) أن يزدحم الناس في
مضيق فيوجد فيهم قتيل فظاهر كلام أحمد أن هذا ليس بلوث فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة
فديته في بيت المال، وهذا قول إسحاق وروي ذلك عن عمر وعلي فإن سعيدا روى في سننه عن إبراهيم قال
قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء أهله إلى عمر فقال بينتكم على من قتله فقال علي يا أمير المؤمنين لا يطل
دم امرئ مسلم إن علمت قاتله وإلا فأعطه ديته من بيت المال قال أحمد فيمن وجد مقتولا في المسجد الحرام
9

بنظر من كان بينه وبينه شئ في حياته يعني عداوة يؤخذون فلم يجعل الحضور لوثا وإنما جعل اللوث
العدواة، وقال الحسن والزهري فيمن مات في الزحام: ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم.
وقال مالك دمه هدر لأنه لا يعلم له قاتل ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز انه كتب إليه في رجل وجد قتيلا لم يعرف قاتله فكتب
إليهم ان من القضايا قضايا لا يحكم فيها الا في الدار الآخرة وهذا منها
(الرابع) أن يوجد قتيل لا يوجد بقرية الأرجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد
غيره ممن يغلب على الظن انه قتله مثل أن يرى رجلا هاربا يحتمل أنه القاتل أو سبعا يحتمل ذلك فيه
(الخامس) أن يقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما فاللوث على الأخرى ذكره القاضي
فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا فاللوث على طائفة القتيل هذا قول الشافعي
وروي عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان الا أن يدعوا على
واحد بعينه وهذا قول مالك، وقال ابن أبي ليلى على الفريقين جميعا لأنه يحتمل انه مات من فعل
أصحابه فاستوى الجميع فيه، وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعضهم. فدية المقتولين
على المجروحين تسقط منها دية الجراح وإن كان فيهم من لا جرح فيه فهل عليه من الديات شئ؟ على
وجهين ذكرهما ابن حامد
10

(السادس) أن يشهد بالقتل عبيد ونساء فهذا فيه عن أحمد روايتان (إحداهما) أنه لوث لأنه
يغلب على الظن صدق المدعي في دعواه فأشبه العداوة
(الثانية) ليس بلوث لأنها شهادة مردودة فلم تكن لوثا كما لو شهد به كفار، وإن شهد به
فاسق أو صبيان فهل يكون لوثا؟ على وجهين
(أحدهما) ليس بلوث لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم فلا يثبت اللوث بها كشهادة الأطفال
والمجانين (والثاني) يثبت بها اللوث لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي فأشبه شهادة النساء
والعبيد وقول الصبيان معتبر في الاذن في دخول الدار وقبول الهدية ونحوها وهذا مذهب الشافعي
ويعتبر أن يجئ الصبيان متفرقين لئلا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب فهذه الوجود قد ذكر عن أحمد
انها لوث لأنها يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت العداوة: وروي أن هذا ليس بلوث
وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل
بخيبر ولا يجوز القياس لأن الحكم ثبت بالمظنة ولا يجوز القياس في المظان لأن الحكم إنما يتعدى
بتعدي سببه والقياس في المظان جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم والظنون تختلف ولا تأتلف
وتنخبط ولا تنضبط وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص فلا يمكن ربط الحكم بها
11

ولا تعديته بتعديها ولأنه يعتبر في التعدية والقياس التساوي بين الأصل والفرع في المقتضي ولا
سبيل إلى يقين التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات وترددها فعلى هذه الرواية حكم هذه
الصور حكم غيرها مما لا لوث فيه
(فصل) وإن شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين لم تثبت هذه الشهادة ولم يكن
لوثا عند أحد علمائنا قوله وان شهد أن هذا القتيل قتله أحد هذين الرجلين أو شهد أحدهما أن هذا
قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله أو شهد أحدهما أن هذا قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لم
تثبت الشهادة ولم يكن لوثا هذا قول القاضي واختياره والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله
والآخر بالاقرار بقتله أنه يثبت القتل واختار أبو بكر ثبوت القتل ههنا وفيما إذا شهد أحدهما أنه
قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته، وقال الشافعي هو
لوث في هذه الصورة في أحد القولين وفي الصورتين اللتين قبلها هو لوث لأنها شهادة يغلب على
الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء والعبيد. ولنا أنها شهادة مردودة للاختلاف فيها فلم يكن
لوثا كالصورة الأولى
(فصل) وليس من شرط اللوث أن يكون بالقتيل أثر وبهذا قال مالك والشافعي وعن أحمد
أنه شرط وهذا قول حماد وأبي حنيفة والثوري لأنه إذا لم يكن به أثر احتمل أنه مات حتف أنفه
12

ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل كان بقتيلهم أثر أولا؟ ولان القتل يحصل بما لا آثر
له كغم الوجه والخنق وعصر الخصيتين وضربة الفؤاد فأشبه من به أثر ومن به أثر قد يموت حتف
أنفه لسقطته أو صرعته أو يقتل نفسه فعلى قول من اعتبر الأثر ان خرج الدم من أذنه فهو لوث لأنه
لا يكون الا بالخنق أو أمر أصيب به، وان خرج من أنفه فهل يكون لوثا؟ على وجهين
(الفصل الثاني) ان القسامة لا تثبت ما لم يتفق الأولياء على الدعوى فإن كذب بعضهم بعضا
فقال أحدهم قتله هذا وقال الآخر لم يقتله هذا أو قال بل قتله هذا الآخر لم تثبت القسامة نص
عليه احمد وسواء كان المكذب عدلا أو فاسقا. وذكر عن الشافعي أن القسامة لا تبطل بتكذيب
الفاسق لأن قوله غير مقبول
ولنا أنه مقر على نفسه بتبرئة من ادعى عليه أخوه فقبل كما لو ادعى دينا لهما وإنما لا يقبل قوله
على غيره فأما على نفسه فهو كالعدل لأنه لا يتهم في حقها فأما ان لم يكذبه ولم يوافقه في الدعوى مثل
أن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر لا نعلم قاتله فظاهر كلام الخرقي ان القسامة لا تثبت لاشتراطه
ادعاء الأولياء على واحد وهذا قول مالك وكذلك إن كان أحد الوليين غائبا فادعى الحاضر دون
الغائب أو ادعيا جميعا على واحد ونكل أحدهما عن الايمان لم يثبت القتل في قياس قول الخرقي ومقتضى
13

قول أبي بكر والقاضي ثبوت القسامة وكذلك مذهب الشافعي لأن أحدهما لم يكذب الآخر فلم تبطل القسامة كما
لو كان أحد الوارثين امرأة أو صغيرا فعلى قولهم يحلف المدعي خمسين يمينا ويستحق نصف الدية لأن الايمان
ههنا بمنزلة البينة ولا يثبت شئ من الحق الا بعد كمال البينة فأشبه ما لو دعى أحدهما دينا لأبيهما فإنه لا يستحق
نصيبه من الدين إلا أن يقيم بينة كاملة وذكر أبو الخطاب فيما إذا كان أحدهما غائبا أن الأول فيه وجهان
(أحدهما) أنه يحلف خمسا وعشرين يمينا وهذا قول ابن حامد لأن الايمان مقسومة عليه وعلى
أخيه بدليل ما لو كانا حاضرين متفقين في الدعوى ولا يحلف الانسان عن غيره فلا يلزمه أكثر من
حصته فإذا حضر الغائب أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحدا لأنه يبني على أيمان أخيه، وذكرا
أبو بكر والقاضي في نظير هذه المسألة أن الأول يحلف خمسين يمينا وهل يحلف الثاني خمسين أو
خمسا وعشرين؟ على وجهين (أحدهما) يقول يحلف خمسين لأن أخاه لم يستحق إلا بخمسين فكذلك هو
ولنا أنهما لم يتفقا في الدعوى فلم تثبت القسامة كما لو كذبه ولان الحق في محل الوفاق إنما
يثبت بأيمانهما التي أقيمت مقام البينة ولا يجوز أن يقوم أحدهما مقام الآخر في الايمان كما في سائر
الدعاوى فعلى هذا إن قدم الغائب فوافق أخاه أو عاد من لم يعلم فقال قد عرفته هو الذي عينه أخي
أقسما حينئذ، وإن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر قتله هذا وفلان فعلى قول الخرقي لا تثبت
القسامة لأنها لا تكون إلا على واحد وعلى قول غيره يحلفان على من اتفقا عليه ويستحقان نصف الدية
14

ولا يجب القود لأنه إنما يجب في الدعوى على واحد ويحلفان جميعا على هذا الذي اتفقا عليه على
حسب دعواهما ويستحقان نصف الدية ولا يجب أكثر من نصف الدية لأن أحدهما يكذب
الآخر في النصف الآخر فبقي اللوث في حقه في نصب الدم الذي اتفقا عليه ولم يثبت في النصف
الذي كذبه أخوه فيه ولا يحلف الآخر على الآخر لأن أخاه كذبه في دعواه عليه، وان قال أحدهما قتل
أبي زيد وآخر لا أعرفه وقال الآخر قتله عمرو وآخر لا أعرفه لم تثبت القسامة في ظاهر قول الخرقي
لأنها لا تكون الا على واحد ولا نهما ما اتفقا في الدعوى على واحد ولا يمكن أن يحلفا على من لم يتفقا
في الدعوى عليه والحق إنما ثبت في محل الوفاق بايمان الجميع فكيف يثبت في الفرع بايمان البعض؟
وقال أبو بكر والقاضي تثبت القسامة وهذا مذهب الشافعي لأنه ليس ههنا تكذيب فإنه يجوز أن
يكون الذي جهله كل واحد منهما هو الذي عرفه أخوه فيحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين
يمينا ويستحق ربع المدية فإن عاد كل واحد منهما فقال قد عرفت الذي جهله وهو الذي عينه أخي
حلف أيضا على الذي حلف عليه أخوه وأخذ منه ربع الدية ويحلف خمسا وعشرين يمينا لأنه يبني
على ايمان أخيه فلم يلزمه أكثر من خمس وعشرين كما لو عرفه ابتداء وفيه وجه آخر انه يحلف خمسين
يمينا لأن أخاه حلف خمسين يمينا وللشافعي في هذا قولان كالوجهين ويجئ في المسألة وجه آخر
وهو أن الأول لا يحلف أكثر من خمسة وعشرين يمينا لأنه إنما يحلف على ما يستحقه والذي
15

يستحقه النصف فيكون عليه نصف الايمان كما لو حلف أخوه معه، وان قال كل واحد منهما الذي
كنت جهلته غير الذي عينه أخي بطلت القسامة التي أقسماها لأن التكذيب يقدح في اللوث فيرد
كل واحد منهما ما أخذ من الدية، وان كذب أحدهما أخاه ولم يكذبه الآخر بطلت قسامة
المكذب دون الذي لم يكذب
(فصل) وان قال الولي بعد القسامة غلطت ما هذا الذي قتله أو ظلمته بدعواي القتل عليه أو قال
كان هذا المدعى عليه في بلد آخر يوم قتل وليي وكان بينهما بعد لا يمكن أن يقتله إذا كان فيه بطلت
القسامة ولزمه رد ما أخذه لأنه مقر على نفسه فقبل إقراره، وان قال ما أخذته حرام سئل عن ذلك
فإن قال أردت أنني كذبت في دعواي عليه بطلت قسامته أيضا وإن قال أردت ان الايمان تكون
في جنبة المدعى عليه كمذهب أبي حنيفة لم تبطل القسامة لأنها ثبتت باجتهاد الحاكم فيقدم على
اعتقاده وان قال هذا مغصوب وأقر بمن غصب منه لزمه رده عليه ولا يقبل قوله على من أخذه منه لأن
الانسان لا يقبل إقراره على غيره وإن لم يقربه لاحد لم ترفع يده عنه لأنه لم يتعين مستحقه، وإن اختلفا
في مراده بقوله فالقول قوله لأنه اعرف بقصده
(فصل) وإن أقام المدعى عليه بينة انه كان يوم القتل في بلد بعيد من بلد المقتول لا يمكن مجيئه
16

منه إليه في يوم واحد بطلت الدعوى، وإن قالت البينة نشهد ان فلانا لم يقتله لم تسمع هذه الشهادة
لأنه نفى مجرد فإن قالا ما قتله فلان بل قتله فلان سمعت لأنها شهدت باثبات تضمن النفي فسمعت كما لو قالت
ما قتله فلان لأنه كل يوم القتل في بلد بعيد
(فصل) فإن جاء رجل فقال ما قتله هذا المدعى عليه بل أنا قتلته فكذبه الولي لم تبطل دعواه
وله القسامة ولا يلزمه رد الدية إن كان أخذها لأنه قول واحد ولا يلزم المقر شئ لأنه أقر لمن يكذبه
وان صدقه الولي أو طالبه بموجب القتل لزمه رد ما أخذه وبطلت دعواه على الأول لأن ذلك جرى
مجرى الاقرار ببطلان الدعوى وهل له مطالبة المقر؟ فيه وجهان
(أحدهما) له مطالبته لأنه أقر له بحق فملك مطالبته به كسائر الحقوق (والثاني) ليس له مطالبته
لأن دعواه على الأول انفراده بالقتل ابراء لغيره فلا يملك مطالبة من أبرأه، والمنصوص عن أحمد رحمه
الله أنه يسقط القود عنهما وله مطالبة الثاني بالدية فإنه قال في رجل شهد عليه شاهدان بالقتل فأخذ
ليقتاد منه فجاء رجل فقال ما قتله هذا انا قتلته فالقود يسقط عنهما والدية على الثاني، ووجه ذلك ما روي
أن رجلا ذبح رجلا في خربة وتركه وهرب وكان قصاب قد ذبح شاه وأراد ذبح أخرى فهربت منه إلى
الخربة فتبعها حتى وقف على القتيل والسكين بيده ملطخة بالدم فأخذ على تلك الحال وجئ به إلى عمر رضي الله
عنه فأمر بقتله فقال القاتل في نفسه يا ويله قتلت نفسا ويقتل بسبي آخر فقام فقال أنا قتلته ولم يقتله هذا
17

فقال عمر إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا، ودرأ عنه القصاص، ولان الدعوى على الأول
شبهة في درء القصاص عن الثاني وتجب الدية عليه لا قراره بالقتل الموجب لها وهذا القول أصح
وأعدل مع شهادة الأثر بصحته
(الفصل الثالث) أن الأولياء إذا ادعوا القتل على من بينه وبين القتيل لوث شرعت اليمين في
حق المدعين أو لا فيحلفون خمسين يمينا على المدعى عليه إن قتله وثبت حقهم قبله، فإن لم يحلفوا
استحلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ وبهذا قال يحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد ومالك
والشافعي وقال الحسن يستحلف المدعى عليهم أولا خمسين يمينا ويبرؤون، وإن أبوا أن يحلفوا
استحل خمسون من المدعين أن حقنا قبلكم ثم يعطون الدية لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على
المدعى عليه) رواه مسلم وفي لفظ (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) رواه الشافعي في
مسنده. وروى أبو داود باسناده عن سليمان بن يسار عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لليهود وبدأ بهم (يحلف منكم خمسون رجلا) فأبوا فقال للأنصار (استحقوا) قالوا نحلف على
الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم ولأنها يمين في دعوى
فوجبت في جانب المدعى عليه ابتداء كسائر الدعاوى
وقال الشعبي والنخعي والثوري وأصحاب الرأي يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي
وجد فيها القتيل بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتلا ويغرمون الدية لقضاء عمر بذلك ولم نعرف له في الصحابة
18

مخالفا فكان اجماعا وتكلموا في حديث سهل بما روى أبو داود عن محمد بن إبراهيم بن الحارث
التيمي عن عبد الرحمن ونجيد بن قبطي أحد بني حارثة. قال محمد بن إبراهيم وأيم الله ما كان سهل بأعلم منه ولكنه
كان أسن منه قال والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلفوا على مالا علم لكم به ولكنه كتب إلى يهود
حين كلمته الأنصار (انه وجد بين أبياتكم قتيل فدوه) فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا
فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده
ولنا حديث سهل وهو صحيح متفق عليه ورواه مالك في موطئه وعمل به وما عارضه من
الحديث لا يصح لوجوه (أحدها) إنه نفي فلا يرد به قول المثبت (والثاني) أن سهلا من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد القصة وعرفها حتى أنه قال ركضتني ناقة من تلك الإبل والآخر يقول برأيه
وظنه من غير أن يرويه عن أحد ولا حضر القصة (والثالث) ان حديثنا مخرج في الصحيحين متفق
عليه وحديثهم بخلافه
(الرابع) انهم لا يعملون بحديثهم ولا حديثنا فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه
فيه؟ وحديث سليمان بن يسار عن رجال من الأنصار ولم يذكر لهم صحبة فهو أدنى لهم من حديث محمد بن
إبراهيم وقد خالف الحديثين جميعا فكيف يجوز ان يعتمد عليه؟ وحديث (اليمين على المدعى عليه) لم ترد
به هذه القصة لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم وهنا قد أعطوا بدعواهم، على أن حديثنا أخص
19

منه فيجب تقديمه ثم هو حجه عليهم، لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم،
وقد رواه ابن عبد البر باسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على
المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة) وهذه الزيادة يتعين العمل بها لأن الزيادة من الثقة مقبولة
ولأنها ايمان مكررة فيبدأ فيها بايمان المدعين كاللعان. إذا ثبت هذا فإن أيمان القسامة خمسون مرددة على
ما جاءت به الأحاديث الصحيحة وأجمع عليه أهل العلم لا نعلم أحدا خالف فيه
(الفصل الرابع) أن الأولياء إذا حلفوا استحقوا القود إذا كانت الدعوى عمدا إلا أن يمنع منه
مانع روي ذلك عن ابن الزبير وعن عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك وأبو ثور وابن المنذر. وعن
معاوية وابن عباس والحسن وإسحاق لا تجب بها الدية لقول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود (إما أن تدعوا صاحبكم
وإما أن تؤذنوا بحرب من الله) ولان أيمان المدعين إنما هي بغلبة الظن وحكم الظاهر فلا يجز إشاطة
الدم بها لقيام الشبهة المتمكنة منها ولأنها حجة لا يثبت بها النكاح ولا يجب بها القصاص كالشاهد
واليمين وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) وفي رواية مسلم
(فيسلم إليكم) وفي لفظ (وتستحقون دم صاحبكم) فأراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم
20

قبل اليمين والرمة الحبل الذي يربط به من عليه القود، ولأنها حجة يثبت بها العمد فيجب بها القود
كالبينة. وقد روى الأثرم باسناده عن عامر الأحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة الطائفة وهذا نص
ولان الشارع جعل القول قول المدعي مع يمينه احتياطا للدم فإن لم يجب القود سقط هذا المعنى
(مسألة) قال (فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ)
هذا ظاهر المذهب وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد ومالك والليث والشافعي
وأبو ثور وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنهم يحلفون ويغرمون الدية لقضية عمر وخبر
سليمان بن يسار وهو قول أصحاب الرأي
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (فتبرئكم يهود بايمان خمسين منهم) أي يتبرؤون منكم وفى لفظ قال
فيحلفون خمسين يمينا ويبرؤون من دمه، وقد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود وانه أداها من عنده
ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ بها كسائر الايمان، ولان ذلك اعطاء بمجرد الدعوى
فلم يجبر للخبر ومخالفة مقتضى الدليل فإن قول الانسان لا يقبل على غيره بمجرده كدعوى المال وسائر
الحقوق، ولان في ذلك جمعا بين اليمين والغرم فلم يشرع كسائر الحقوق
21

(مسألة) قال (فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال)
يعني أدى ديته لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فأبى الأنصار أن يحلفوا وقالوا كيف
نقبل أيمان قوم كفار؟ فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده كراهية ان يطل دمه، فإن تعذر فداؤه من بيت
المال لم يجب على المدعى عليهم شئ لأن الذي يوجبه عليهم اليمين وقد امتنع مستحقوها من استيفائها
فلم يجب لهم غيرها كدعوى المال
(فصل) وان امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا وعن أحمد رواية أخرى أنهم
يحبسون حتى يحلفوا وهو قول أبي حنيفة
ولنا أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الايمان، إذا ثبت هذا فإنه
لا يجب القصاص بالنكول لأنه حجة ضعيفة فلا يشاط بها الدم كالشاهد واليمين. قال القاضي ويديه
الإمام من بيت المال نص عليه أحمد وروى عنه حرب بن إسماعيل أن الدية تجب عليهم وهذا هو
الصحيح وهو اختيار أبي بكر لأنه حكم ثبت بالنكول فيثبت في حقهم ههنا كسائر الدعاوى ولان
وجوبها في بيت المال يفضي إلى اهدار الدم واسقاط حق المدعين مع امكان جبره فلم يجز كسائر
الدعاوى ولأنها يمين توجهت في دعوى أمكن إيجاب المال بها فلم تخل من وجوب شئ على المدعى
22

عليه كما في سائر الدعاوى وههنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله ولم يجبر على اليمين لخلا من
وجوب شئ عليه بالكلية، وقال أصحاب الشافعي إذا نكل المدعى عليهم ردت الايمان على المدعين
إن قلنا موجبها المال فإن حلفوا استحقوا وإن نكلوا فلا شئ لهم، وان قلنا موجبها القصاص فهل ترد
على المدعين؟ فيه قولان وهذا القول لا يصلح لأن اليمين إنما شرعت في حق المدعى عليه إذا نكل عنها
المدعي فلا ترد عليه كما لا ترد على المدعى عليه إذا نكل المدعي عنها بعد ردها عليه في سائر الدعاوى
ولأنها يمين مردودة على أحد المتداعيين فلا ترد على من ردها كدعوى المال
(مسألة) قال (وإذا شهدت البينة العادلة ان المجروح قال دمي عند فلان فليس ذلك
بموجب للقسامة ما لم يكن لوث)
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وقال مالك والليث هو لوث
لأن قتيل بني إسرائيل قال قتلني فلان فكان حجة، وروي هذا القول عن عبد الملك بن مروان
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى قوم دماء رجال وأموالهم) ولأنه يدعي حقا
لنفسه فلم يقبل قوله كما لو لم يمت ولأنه خصم فلم تكن دعواه لوثا كالولي، فأما قتيل بني إسرائيل فلا
حجة فيه فإنه لا قسامة فيه ولان ذلك كان من آيات الله ومعجزات نبيه موسى عليه السلام حيث
23

حياه الله تعالى بعد موته وأنطقه بقدرته بما اختلفوا فيه ولم يكن الله لينطقه بالكذب بخلاف الحي
ولا سبيل إلى مثل هذا اليوم ثم ذاك في تنزيه المتهمين فلا يجوز تعديتها إلى تهمة البريئين
(مسألة) قال (والنساء والصبيان لا يقسمون)
يعني إذا كان المستحق نساء وصبيانا لم يقسموا: أما الصبيان فلا خلاف بين أهل العلم أنهم لا
يقسمون سواء كانوا من الأولياء أو مدعى عليهم لأن الايمان حجة للحالف والصبي لا يثبت بقوله
حجة، ولو أقر على نفسه لم يقبل فلان لا يقبل قوله في حق غيره أولى، وأما النساء فإذا كن من أهل
القتيل لم يستحلفن، وبهذا قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وقال مالك لهن مدخل في قسامة
الخطأ دون العمد، قال ابن القاسم ولا يقسم في العمد إلا اثنان فصاعدا كما أنه لا يقتل الا بشاهدين وقال
الشافعي يقسم كل وارث بالغ لأنها يمين في دعوى فتشرع في حق النساء كسائر الايمان
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم يقسم خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم ولأنها حجة يثبت بها
قتل العمد فلا تسمع من النساء كالشهادة ولان الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل ولا
مدخل للنساء في إثباته وإنما يثبت المال ضمنا فجرى ذلك مجرى رجلا ادعى زوجية امرأة بعد موتها
ليرثها فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين ولا بشهادة رجل وامرأتين وإن كان مقصودها المال، فأما ان
24

كانت المرأة مدعى عليها القتل فإن قلنا إنه يقسم من العصبة رجال لم تقسم المرأة أيضا لأن ذلك مختص بالرجال
وإن قلنا يقسم المدعى عليه فينبغي أن تستحلف لأنها لا تثبت بقولها حقا ولا قتلا وإنما هي لتبرئتها منه فتشرع
في حقها اليمين كما لو لم يكن لوث فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء ورجال أقسم الرجال وسقط حكم السناء وإن كان
فيهم صبيان ورجال بالغون أو كان فيهم حاضرون وغائبون فقد ذكرنا من قبل أن القسامة لا تثبت حتى يحضر
الغائب فكذا لا تثبت حتى يبلغ الصبي لأن الحق لا يثبت إلا ببينته الكاملة والبينة أيمان الأولياء كلهم والايمان
لا تدخلها النيابة ولان الحق إن كان قصاصا فلا يمكن تبعيضه فلا فائدة في قسامة الحاضر البالغ وإن كان غيره
فلا تثبت إلا بواسطة ثبوت القتل وهو لا يتبعض أيضا وقالا القاضي إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى
يبلغ الصغير ولا الحاضر حتى يقدم الغائب لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئا في الحال وإن كان
موجبا للمال كالخطأ وعمد الخطأ فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق قسطه من الدية، وهذا
قول أبي بكر وابن حامد ومذهب الشافعي واختلفوا في كم يقسم الحاضر؟ فقال ابن حامد يقسم بقسطه
من الايمان فإن كان الأولياء اثنين أقسم الحاضر خمسا وعشرين يمينا وان كانوا ثلاثة أقسم سبع
عشره يمينا وان كانوا أربعة أقسم ثلاثة عشر يمينا وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه واستوفى حقه
لأنه لو كان الجميع حاضرين لم يلزمه أكثر من قسطه وكذلك إذا غاب بعضهم كما في سائر الحقوق
ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية فلا يلزمه أكثر من قسطه من الايمان، وقال أبو بكر
25

يحلف الأول خمسين يمينا وهذا قول الشافعي ولان الحكم لا يثبت الا بالبينة الكاملة والبينة هي
الايمان كلها ولذلك لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما لم يستحق نصيبه منه الا بالبينة المثبتة لجميعه ولان
الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق، ولو ادعى مالا له فيه شركة له به شاهد لحلف يمينا
كاملة كذلك هذا فإذا قدم الثاني أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحدا عند أبي بكر لأنه
يبني على أيمان أخيه المتقدمة وقال الشافعي فيه قول آخر انه يقسم خمسين يمينا أيضا لأن أخاه إنما
استحق بخمسين فكذلك هو فإذا قدم ثالث وبلغ فعلى قول أبي بكر يقسم سبع عشره يمينا لأنه يبني
على ايمان أخويه وعلى قول الشافعي فيه قولان (أحدهما) انه يقسم سبع عشرة يمينا (والثاني) خمسين
يمينا وان قدم رابع كان على هذا المثل والله أعلم
(فصل) والخنثى المشكل يحتمل ان يقسم لأن سبب القسام وجد في حقه وهو كونه مستحقا للدم ولم
يتحقق المانع من يمينه ويحتمل ان لا قسامة عليه لأنه لا يعقل من العقل ولا يثبت القتل بشهادته أشبه المرأة
(مسألة) قال (وإذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبرا لكسر عليهم فحلف كل واحد
منهم سبع عشرة يمينا)
اختلفت الرواية عن أحمد فيمن تجب عليه أيمان القسامة فروي أنه يحلف من العصبة الوارث
26

منهم وغير الوارث خمسون رجلا كل واحد منهم يمينا واحدة وهذا قول لمالك فعلى هذا يحلف
الوارث منهم الذين يستحقون دمه فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة يؤخذ الأقرب منهم
فالأقرب من قبيلته التي ينتسب إليها ويعرف كيفية نسبه من المقتول فاما من عرف انه من القبيلة ولم
يعرف وجه النسب لم يقسم مثل أن يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشي ولا يعرف كيفية نسبه منه
فلا يقسم لأننا نعلم أن الناس كأنهم من آدم ونوح وكلهم يرجعون إلى أب واحد ولو قتل من لا يعرف
نسبه لم يقسم عنه سائر الناس فإن لم يوجد من نسبه خمسون رددت الايمان عليهم وقسمت بينهم
فإن انكسرت عليهم جبر كسرها عليهم حتى تبلغ خمسين لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار (يحلف خمسون رجلا
منكم وتستحقون دم صاحبكم) وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم انه لم يكن لعبد الله بن سهل خمسون رجلا وارثا فإنه
لا يرثه إلا أخوه أو من هو في درجته أو أقرب منه نسبا ولأنه خاطب بهذا بني عمه وهم غير وارثين
(والرواية الثانية) لا يقسم إلا الوارث وتعرض الايمان على ورثة المقتول دون غيرهم على حسب
مواريثهم هذا ظاهر قول الخرقي واختيار ابن حامد وقول الشافعي لأنها يمين في دعوى حق فلا
تشرع في حق غير المتداعين كسائر الايمان فعلى هذه الرواية تقسم بين الورثة من الرجال من ذوي
الفروض والعصبات على قدر ارثهم فإن انقسمت من غير كسر مثل أن يخلف المقتول اثنين أو أخا
وزوجا حلف كل واحد منهم خمسا وعشرين يمينا، وإن كانوا ثلاثة بنين وجدا أو أخوين جبر
الكسر عليهم فحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا لأن تكميل الخمسين واجب ولا يمكن تبعيض
اليمين ولا حمل بعضهم لها عن بعض فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق كل واحد منهم، وإن
27

خلف أخا من أب وأخا من أم فعلى الأخ من الام سدس الايمان ثم يجبر الكسر فيكون عليه تسع
ايمان وعلى الأخ من الأب اثنتان وأربعون وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر يحلف كل
واحد من المدعين خمسين يمينا سواء تساووا في الميراث واختلفوا فيه لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد
حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى وعن مالك أنه قال ينظر إلى من عليه
أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط عن الآخر
ولنا على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم
صاحبكم وأكثر ما روي عنه في الايمان خمسون ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة
ومائتين وهذا خلاف النص ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة ويفارق
اليمين على المدعى عليه فإنها ليست حجة للمدعي ولأنها لم يمكن قسمتها فكلمت في حق واحد كاليمين
المنكسرة في القسامة فإنها تجبر وتكمل في حق كل واحد لكونها لا تتبعض ومالا يتبعض يكمل كالطلاق
والعتاق وما ذكره مالك لا يصح لأنه اسقاط لليمين عمن عليه بعضها فلم يجز كما لو تساوى الكسران
بأن يكون على كل واحد من الاثنين نصفها أو على كل واحد من الثلاثة ثلثها وبالقياس على من
عليه أكثرها ولان اليمين في سائر الدعاوى تكمل في حق كل واحد ويستوي من له في المدعى كثير
وقليل كذا ههنا ولأنه يفضي إلى أن يتحمل اليمين غير من وجبت عليه عمن وجبت عليه فلم يجز
ذلك كاليمين الكاملة وكالجزء الأكثر
(فصل) فإن كان فيهم من لا قسامة عليه بحال وهو النساء حكمه فإذا كان ابن وبنت
28

حلف الابن الخمسين كلها وإن كان أخ وأخت لام وأخ وأخت لأب قسمت الايمان بين الأخوين على
أحد عشر على الأخ من الام ثلاثة وعلى الآخر ثمانية ثم يجبر الكسر عليهما فيحلف الأخ من الأب سبعا
وثلاثين يمينا والأخ من الام أربع عشره يمينا
(فصل) فإن مات المستحق انتقل إلى وارثه ما عليه من الايمان وكانت الايمان بينهم على حسب
مواريثهم ويجبر الكسر فيها عليهم كما ينجبر في حق ورثة القتيل، وإن مات بعضهم قسم نصيبه من
الايمان بين ورثته فلو كان للقتيل ثلاثة بنين كان على كل واحد سبع عشرة يمينا فإن مات بعضهم قبل
أن يقسم وخلف ثلاثة بنين قسمت أيمانه بينهم فكان على كل واحد منهم ستة ايمان وان خلف ابنين
حلف كل واحد تسعة أيمان وإنما قلنا هذا لأن الوارث يقوم مقام الموروث في إثبات حججه كما
يقوم مقامه في استحقاق ماله وهذا من حججه ولذلك يملك إقامة البينة والحلف في الانكار ومع
الشاهد الواحد في دعوى المال، وإن كان موته بعد شروعه في الايمان فحلف بعضها فإن ورثته
يستأنفون الايمان ولا يبنون على أيمانه لأن الخمسين جرت مجرى اليمين الواحدة ولأنه لا يجوز أن
يستحق أحد يمينين غيره ولا يبطل هذا بما إذا حلف جميع الايمان ثم مات لأنه يستحق المال إرثا
عنه لا بيمينه ولأنه إذا حلف الوارثان كل واحد خمسا وعشرين يمينا فإن الدية تستحق بيمينهما لأنهما
يشتركان في الايمان ويستحق كل واحد بقدر أيمانه، ولا يستحق بيمين غيره وإن كان اجتماع
العدد شرطا في استحقاقها
29

(فصل) ولو حلف بعض الايمان ثم جن ثم أفاق فإنه يتمم ولا يلزمه الاستئناف لأن أيمانه
وقعت موقعها ويفارق الموت لأن الموت يتعذر معه اتمام الايمان منه وغيره لا يبنى على يمينه وههنا
يمكنه أن يتمها إذا أفاق ولا تبطل بالتفريق بدليل أن الحاكم إذا حلفه بعض الايمان ثم تشاغل عنه
لم تبطل ويتمها ومالا يبطله التفريق لا يبطله تخلل الجنون له كالسعي بين الصفا والمروة، وإن حلف
بعض الايمان ثم عزل الحاكم وولي غيره أتمها عند الثاني ولم يلزمه استئنافها لأن الايمان وقعت موقعها
وكذلك لو حلف بعضها ثم سأل الحاكم انظاره فأنظره بني على ما مضى ولم يلزمه الاستئناف لما ذكرنا
(فصل) إذا ردت الايمان على المدعى عليهم وكان عمدا لم تجز على أكثر من واحد فيحلف
خمسين يمينا وإن كانت عن غير عمد كالخطأ وشبه العمد فظاهر كلام الخرقي أنه لا قسامة في هذا
لأن القسامة من شرطها اللوث والعداوة إنما أثرها في تعمد القتل لا في خطئه فإن احتمال الخطأ في
العمد وغيره سواء وقال غيره من أصحابنا فيه قسامة وهو قول الشافعي لأن اللوث لا يختص العداوة
عندهم فعلى هذا تجوز الدعوى على جماعة فإذا ادعى على جماعة لزم كل واحد منهم خمسون يمينا
وقال بعض أصحابنا تقسم الايمان بينهم بالحصص كقسمها بين المدعين إلا أنها ههنا تقسم بالسوية
لأن المدعى عليهم متساوون فيها فهم كبني الميت وللشافعي قولان كالوجهين والحجة لهذا القول قول
النبي صلى الله عليه وسلم (تبرئكم يهود بخمسين يمينا) وفي لفظ قال (فيحلفون لكم خمسين يمينا ويبرؤون
من دمه) ولأنهم أحد المتداعيين في القسامة فتقسط الايمان على عددهم كالمدعين وقال مالك يحلف
من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا فإن لم يبلغوا خمسين رجلا رددت على من حلف منهم
حتى تكمل خمسين يمينا فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه حلف وحده خمسين يمينا.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فتبرئكم يهود بخمسين يمينا)
ولنا أن هذه أيمان يبرئ بها كل واحد نفسه من القتل فكان على كل واحد خمسون كما لو
30

ادعي على كل واحد وحده قتيل ولأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد
ولان كل واحد منهم يحلف على غير ما حلف عليه صاحبه بخلاف المدعين فإن ايمانهم على شئ واحد
فلا يلزم من تلفيقها تلفيق ما يختلف مدلوله أو مقصوده
(مسألة) قال (وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا حرا أو عبدا إذا كان المقتول يقتل
به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل لأن القسامة موجب القود إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية)
أما إذا كان المقتول مسلما حرا فليس فيه اختلاف سواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا فإن
الأصل في القسامة قصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فاتهم اليهود بقتله فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة
وأما إن كان المقتول كافرا أو عبدا وكان قتله ممن يجب عليه القصاص بقتله وهو المماثل له في حاله ففيه القسامة وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري والثوري ومالك والأوزاعي لا قسامة
في العبد فإنه مال فلم تجب القسامة فيه كقتل البهيمة
ولنا أنه قتل موجب للقصاص فأوجب القسامة كقتل الحر وفارق البهمية فإنها لا قصاص فيها
ويقسم على العبد سيده لأنه المستحق لدمه وأم الولد والمدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة كالقن
لأن الرق ثابت فيهم وإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه كالمسلم يقتل كافرا والحر يقتل عبدا فلا
قسامة فيه في ظاهر قول الخرقي وهو قول مالك لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود، وقال
القاضي فيهما القسامة وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة فشرعت
القسامة فيه كقتل الحر المسلم، ولان ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل
العبد الكافر كالبينة
ولنا أنه قتل لا يوجب القصاص فأشبه قتل البهيمة ولا يلزم من شرعها فيما يوجب القصاص
شرعها مع عدمه بدليل أن العبد إذا اتهم بقتل سيده شرعت القسامة إذا كان القتل موجبا للقصاص
ذكره القاضي لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك ولو لم يكن موجبا للقصاص لم تشرع القسامة
31

(فصل) وإن قتل عبد المكاتب فللمكاتب أن يقسم على الجاني لأنه مالك للعبد يملك التصرف
فيه وفي بدله وليس لسيده انتزاعه منه وله شراؤه منه ولو اشترى المأذون له في التجارة عبدا فقتل
فالقسامة لسيده دونه لأن ما يبتاعه المأذون يملكه سيده دونه ولهذا يملك انتزاعه منه، وإن عجز المكاتب
قبل أن يقسم فلسيده أن يقسم لأنه صار المستحق لبدل المقتول بمنزلة ورثة الحر إذا مات قبل أن
يقسم ولو ملك السيد عبده أو أم ولده عبدا فقتل فالقسامة للسيد سواء قلنا يملك العبد بالتمليك أو لا يملك
لأنه ان لم يملك فالملك لسيده وإن ملك فهو ملك غير ثابت ولهذا يملك سيده انتزاعه منه ولا يجوز
له التصرف بغير اذن سيده بخلاف المكاتب، وإن أوصى لام ولده ببدل العبد صحت الوصية وإن
كان لم يجب بعد كما تصح الوصية بثمرة لم تخلق والقسامة للورثة لأنهم القائمون مقام الموصي في
اثبات حقوقه فإذا حلفوا ثبت لها البدل بالوصية وإن لم يحلفوا لم يكن لها أن تحلف كما إذا امتنع الورثة
من اليمين مع الشاهد لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه
(فصل) والمحجور عليه لسفه أو فلس كغير المحجور عليه في دعوى القتل والدعوى عليه إلا
أنه إذا أقر بمال أو لزمته الدية بالنكول عن اليمين لم يلزمه في حال حجره لأن اقراره بالمال في الحال
غير مقبول بالنسبة إلى أخذ شئ من ماله في الحال على ما عرف في موضعه
(فصل) ولو جرح مسلم فارتد ومات على الردة فلا قسامة فيه لأن نفسه غير مضمونة وإنما
يضمن الجرح ولا قسامة فيما دون النفس ولان ماله يصير فيئا والفيئ ليس له مستحق معين فتثبت
القسامة له وإن مات مسلما فارتد وارثه قبل القسامة فقال أبو بكر ليس له أن يقسم وان أقسم لم يصح
لأن ملكه يزول عن ماله وحقوقه فلا يبقى مستحقا للقسامة وهذا قول المزني ولان المرتد قد أقدم
على الشرك الذي لا ذنب أعظم منه فلا يستحق بيمينه دم مسلم ولا يثبت بها قتل، وقال القاضي
الأولى أن تعرض عليه القسامة فإن أقسم وجبت الدية وهذا قول الشافعي لأن استحقاق المال
بالقسامة حق عليه فلا يبطل بردته كاكتساب المال بوجوه الاكتساب وكفره لا يمنع يمينه فإن
الكافر تصح يمينه وتعرض عليه في الدعاوى فإن حلف ثبت القصاص أو الدية فإن عاد إلى الاسلام
كان له وإن مات كان فيئا والصحيح إن شاء الله ما قال أبو بكر لأن مال المرتد إما أن يكون ملكه
32

قد زال عنه وإما موقوف، وحقوق المال حكمها حكمه فإن قلنا بزوال ملكه فلا حق له وان قلنا هو
موقوف فهو قبل انكشاف حاله مشكوك فيه فلا يثبت الحكم بشئ مشكوك فيه فكيف وقتل المسلم
أمر كبير لا يثبت مع الشبهات ولا يستوفى مع الشك؟ وأما إن ارتد قبل موت موروثه لم يكن وارثا
ولا حق له وتكون القسامة لغيره من الوارث وإن لم يكن للميت وارث سواه فلا قسامة فيه لما
ذكرنا، وإن عاد إلى الاسلام قبل قسامة غيره فقياس المذهب أنه يدخل في القسامة لأنه متى رجع
قبل قسم الميراث قسم له، وقال القاضي لا تعود القسامة إليه لأنها استحقت على غيره، وإن ارتد
رجل فقتل عبده أو قتل ثم ارتد فهل له أن يقسم؟ على وجهين بناء على اختلاف المتقدم فإن عاد إلى
الاسلام عادت القسامة لأنه يستحق بدل العبد
(فصل) ولا قسامة فيما دون النفس من الأطراف والجوارح ولا أعلم بين أهل العلم في هذا
خلافا، وممن قال لا قسامة في ذلك مالك وأبو حنيفة والشافعي، وذلك لأن القسامة تثبت في النفس
لحرمتها فاختصت بها دون الأطراف كالكفارة ولأنها تثبت حيث كان المجني عليه لا يمكنه التعبير
عن نفسه وتعيين قاتله ومن قطع طرفه يمكنه ذلك وحكم الدعوى فيه حكم الدعوى في سائر الحقوق
والبينة على المدعي واليمين على من أنكر يمينا واحدة ولأنها دعوى لا قسامة فيها فلا تغلظ بالعدد
كالدعوى في المال
(مسألة) قال (وليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد)
لا يختلف المذهب أنه لا يستحق بالقسامة أكثر من قتل واحد وبهذا قال الزهري ومالك وبعض
أصحاب الشافعي، وقال بعضهم يستحق بها قتل الجماعة لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد
والجماعة كالبينة وهذا نحو قول أبي ثور
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) فخص بها الواحد
ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه ويبقى على الأصل فيما عداه، وبيان
33

مخالفة الأصل بها أنها تثبت باللوث واللوث شبهة مغلبة على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات
فكيف يثبت بها؟ ولان الايمان في سائر الدعاوى تثبت ابتداء في جانب المدعى عليه وهذا بخلافه، وبين
ضعفها أنها تثبت بقول المدعي ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من
صحة الشهادة عليه في اثبات حق لغيره فلان يمنع من قبول قوله وحده في اثبات حقه لنفسه أولى
وأحرى، وفارق البينة فإنها قويت بالعدد وعدالة الشهود وانتفاء اتهمه في حقهم من الجهتين في كونهم
لا يثبتون لأنفسهم حقا ولا نفعا ولا يدفعون عنها ضرا ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه ولهذا
يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنتفي بالشبهات.
إذا تبت هذا فلا قسامة فيما لاقود فيه في قول الخرقي فيطرد قوله في أن القسامة لا تشرع إلا
في حق واحد، وعند غيره أن القسامة تجري فيما لا قود فيه فيجوز أن يقسموا في هذا على جماعة وهذا
قول مالك والشافعي، فعلى هذا إن ادعى على اثنين على أحدهما لوث حلف على من عليه اللوت
خمسين يمينا واستحق نصف الدية عليه وحلف الآخر يمينا واحدة وبرئ، وإن نكل عن اليمين
فعليه نصف الدية، وإن ادعى على ثلاثة عليهم لوث ولم يحضر إلا واحد منهم، حلف على الحاضر
منهم خمسين يمينا واستحق ثلث الدية، فإذا حضر الثاني ففيه وجهان
(أحدهما) يحلف عليه خمسين يمينا أيضا ويستحق ثلث الدية لأن الحق لا يثبت على أحد
الرجلين إلا بما يثبت على الآخر كالبينة فإنه يحتاج إلى إقامة البينة الكاملة على الثاني كإقامتها على الأول
(والثاني) يحلف عليه خمسا وعشرين يمينا لأنهما لو حضرا معا لحلفا عليه خمسين يمينا
حصة هذا منها خمس وعشرون وهذا الوجه ضعيف فإن اليمين لا تقسم عليهم إذا حضروا، ولو حلف
كل واحد منفردا حصته من الايمان لم يصح ولم يثبت له حق وإنما الايمان عليهم جميعا وتتناولهم
تناولا واحدا، ولأنها لو قسمت عليهم بالحصص لوجب أن لا يقسم على الأول أكثر من سبع عشرة
يمينا وكذلك على الثاني لأن هذا القدر هو حصة من الايمان فعلى كلا التقديرين لاوجه لحلفه خمسا
وعشرين يمينا، وإن قيل إنما حلف بقدر حصته وحصة الثالث فينبغي أن يحلف أربعا وثلاثين،
وإذا قدم الثالث ففيه الوجهان
34

(أصحهما) يحلف عليه خمسين يمينا ويستحق ثلث الدية (والآخر) يحلف سبع عشرة يمينا،
وإن حضروا جميعا حلف عليهم خمسين يمينا واستحق الدية عليهم أثلاثا وهذا التفريع يدل على
اشتراط حضور المدعى عليه وقت الايمان وذلك لأنها أقيمت مقام البينة فاشترط حضور من أقيمت
عليه كالبينة وكذلك إن ردت الايمان على المدعى عليهم اشترط حضور المدعين وقت حلف المدعى
عليهم لأن الايمان له عليهم فيعتبر رضاه بها وحضوره إلا أن يوكل وكيلا فيقوم حضوره مقام موكله
(فصل) وإن قال المدعي قتله هذا ورجل آخر لا أعرفه وكان على المعين لوث أقسم عليه خمسين
يمينا واستحق نصف الدية فإن تعين له الآخر حلف عليه واستحق نصف الدية، وإن قال قتله هذا
ونفر لا أعلم عددهم لم تجب القسامة لأنه لا يعلم كم حصته من الدية
(فصل) ولا تسمع الدعوى إلا محررة بأن يقول ادعي ان هذا قتل وليي فلان ابن فلان عمدا
أو خطأ أو شبه العمد ويصف القتل فإن كان عمدا قال قصد إليه بسيف أو بما يقتل مثله غالبا،
فإن كانت الدعوى على واحد فأقر ثبت القتل وإن أنكر وثم بينة حكم بها وإلا صار الامر إلى
الايمان، وإن كانت الدعوى على أكثر من واحد لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يقول قتله
هذا وهذا تعمد قتله ويصف العمد بصفته فيقال له عين واحدا فإن القسامة الموجبة للقود لا تكون
على أكثر من واحد (الحال الثاني) أن يقول تعمد هذا وهذا كان خاطئا فهو يدعي قتلا غير موجب
للقود فيقسم عليهما ويأخذ نصف الدية من مال العامد ونصفها من عاقلة المخطئ (الحال الثالث) أن
يقول عمد هذا ولا أدرى أكان قتل الثاني عمدا أو خطأ؟ فقيل لا تسوغ القسامة ههنا لأنه يحتمل
أن يكون الآخر مخطئا فيكون موجبها الدية عليهما ويحتمل أن يكون عامدا فلا تسوغ القسامة عليهما
ويجب تعيين واحد والقسامة عليه فيكون موجبها القود فلم تجز القسامة مع هذا، فإن عاد فقال علمت أن
الآخر كان عامدا فله ان يعين واحدا ويقسم عليه، وإن قال كان مخطئا ثبتت القسامة حينئذ
ويسئل فإن أنكر ثبتت القسامة وإن أقر ثبت عليه القتل ويكون عليه نصف الدية في ماله لأنه ثبت
باقر أره لا بالقسامة، وقال القاضي يكون على عاقلته والأول أصح لأن العاقلة لا تحمل اعترافا
35

(الحال الرابع) أن يقول قتلاه خطأ أو شبه عمد أو أحدهما خاطئ والآخر شبه العمد فهل أن يقسم
عليهما، فإن ادعى انه قتل وليه عمدا فسئل عن تفسير العمد ففسره بعمد الخطأ قبل تفسيره وأقسم
على ما فسره به لأنه أخطأ في وصف القتل بالعمدية، ونقل المزني عن الشافعي لا يحلف عليه لأنه
بدعوى العمد برأ العاقلة فلا تسمع دواه بعد ذلك ما يوجب عليهم المال
ولنا ان دعواه قد تحررت وإنما غلط في تسمية شبه العمد عمدا وهذا مما يشتبه فلا يؤاخذ به،
ولو أحلفه الحاكم قبل تحرير الدعوى وتبين نوع القتل لم يعتد باليمين لأن الدعوى لا تسمع غير محررة
فكأنه حلفه قبل الدعوى، ولأنه إنما يحلفه ليوجب له ما يستحقه فإذا لم يعلم ما يستحقه بدعواه لم
يحصل المقصود باليمين فلم يصح
(فصل) قال القاضي يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم انه قتله وإن كانوا
غائبين عن مكان القتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار (تحلفون وتستحقون دم صاحبكم) وكانوا
بالمدينة والقتل بخيبر، ولان الانسان يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من انسان شيئا فجاء آخر
يدعيه جاز أن يحلف انه لا يستحقه لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه وكذلك إذا وجد شيئا بخطه أو
خط أبيه ودفتره جاز له أن يحلف وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا فادعى عليه المشتري انه معيب
وأراد رده كان له ان يحلف انه باعه بريئا من العيب، ولا ينبغي ان يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات
وغلبة ظن يقارب اليقين، وينبغي للحاكم ان يقول لهم اتقوا الله واستثبتوا ويعظهم ويحذرهم ويقرأ
عليهم (إن الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا) ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة وظلم البرئ
وقتل النفس بغير الحق ويعرفهم ان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وهذا كله مذهب الشافعي
(فصل) ويستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في القسامة تأكيدا فيقول: والله الذي لا إله إلا
هو عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإن اقتصر على لفظه والله كفى ويقول والله أو بالله أو تالله
بالجر كما تقتضيه العربية فإن قامه مضموما أو منصوبا فقد لحن، قال القاضي ويجزئه تعمده أو لم يتعمده
لأنه لحن لا يحيل المعنى وهو قول الشافعي وما زاد على هذا تأكيد، ويقول لقد قتل فلان ابن فلان
36

الفلاني ويشير إليه فلانا ابني أو أخي منفردا بقتله ما شركه غيره. وان كانا اثنين قال منفردين
ما شركهما غيرهما. ثم يقول عمدا أو خطأ. وبأي اسم من أسماء الله أو صفة من صفات ذاته حلف
أجزا إذا كان إطلاقه ينصرف إلى الله تعالى. ويقول المدعى عليه في اليمين. والله ما قتلته ولا شاركت
في قتله ولا أحدثت شيئا مات منه ولا كان سببا في موته ولا معينا على موته
(مسألة) قال (ومن قتل نفسا محرمة أو شارك فيها أو ضرب بطن لمرأة قألقت جنينا
ميتا وكان الفعل خطأ فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة
من الله، وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى ان على قاتل العمد تحرير رقبة مؤمنة)
الأصل في كفارة القتل قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) الآية وأجمع
أهل العلم على أن على القاتل خطأ كفارة سواء كان المقتول ذكرا أو أنثى وتجب في قتل الصغير والكبير
سواء باشره بالقتل أو تسبب إلى قتله بسبب يضمن به النفس كحفر البئر ونصب السكين وشهادة
الزور وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة لا تجب بالتسبب لأنه ليس بقتل ولأنه ضمن بدله
بغير مباشرة للقتل فلم تلزمه الكفارة كالعاقلة
ولنا انه كالمباشرة في الضمان فكان كالمباشرة في الكفارة ولأنه سبب لاتلاف الآدمي يتعلق به
ضمانه فتعلقت به الكفارة كما لو كان راكبا فأوطأ دابته انسانا وقياسهم ينتقض بالأب إذا أكره
انسانا على قتل ابنه فإن الكفارة تجب عليه من غير مباشره، وفارق العاقلة فإنها تتحمل عن غيرها ولم
يصدر منها قتل ولا تسبب إليه.
وقولهم ليس بقتل ممنوع قال القاضي: ويلزم الشهود الكفارة سواء قالوا أخطأنا أو تعمدنا
وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد لأنه ان قصد به
القتل فهو جاز مجرى الخطأ في أنه لا يجب به القصاص
37

(فصل) وتجب الكفارة بقتل العبد وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك لا تجب به لأنه
مضمون بالقيمة أشبه البهيمة. ولنا عموم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) لأنه
يجب القصاص بقتله فتجب الكفارة به كالحر ولأنه مؤمن فأشبه الحر ويفارق البهائم بذلك
(فصل) وتجب بقتل الكافر المضمون سواء كان ذميا أو مستأمنا، وبهذا قال أكثر أهل العلم.
وقال الحسن ومالك لا كفارة فيه لقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) فمفهومه
ان لا كفارة في غير المؤمن. ولنا قوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى
أهله وتحرير رقبة مؤمنة) والذمي له ميثاق وهذا منطوق يقدم على دليل الخطاب. ولأنه آدمي
مقتول ظلما فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم
(فصل) وإذا قتل الصبي والمجنون وجبت الكفارة في أموالهما وكذلك الكافر وبهذا قال
الشافعي. وقال أبو حنيفة لا كفارة على واحد منهم لأنها عبادة محضة تجب بالشرع فلا تجب على
الصبي والمجنون والكافر كالصلاة والصيام
ولنا انه حق مالي يتعلق بالقتل فتعلقت بهم كالدية، وتفارق الصوم والصلاة لأنهما عبادتان بدنيتان
وهذه مالية أشبهت نفقات الأقارب. وأما كفارة اليمين فلا تجب على الصبي والمجنون لأنها تتعلق
بالقول ولاقول لهما وهذه تتعلق بالفعل وفعلهما متحقق قد أوجب الضمان عليهما ويتعلق بالفعل ما
لا يتعلق بالقول بدليل ان العتق يتعلق باحبالهما دون اعتاقهما بقولهما، وأما الكافر فتجب
عليه وتكون عقوبة عليه كالحدود
(فصل) ومن قتل في دار الحرب مسلما يعتقد كفرا أو رمى إلى صف الكفار فأصاب فيهم
مسلما فقتله فعليه كفارة لقوله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة)
(فصل) ومفهوم كلام الخرقي ان كل قتل مباح لا كفارة فيه كقتل الحربي والباغي والزاني
المحصن والقتل قصاصا أو حدا لأنه قتل مأمور به والكفارة لا تجب لمحو المأمور به. وأما الخطأ فلا
يوصف بتحريم ولا إباحة لأنه كفعل المجنون والبهيمة لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة محترمة
38

فلذلك وجبت الكفارة فيها. وقال قوم الخطأ محرم ولا إثم فيه وقيل ليس بمحرم لأن المحرم ما اثم
فاعله وهذا لا إثم فيه وقول تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) هذا استثناء منقطع وإلا
في موضع لكن: التقدير لكن قد يقتله خطأ، وقيل الا بمعنى ولا أي ولا خطأ وهذا يبعد لأن الخطأ لا يتوجه إليه النهي لعدم إمكان التحريم منه وكونه لا يدخل تحت الوسع، ولأنها لو كانت بمعنى
ولا كانت عاطفة للخطأ على ما قبله وليس قبله ما يصلح عطفه عليه
وأما قتل نساء أهل الحرب وصبيانهم فلا كفارة فيه لأنه ليس لهم ايمان ولا أمان وإنما منع من
قتلهم لانتفاع المسلمين بهم لكونهم يصرون بالسبي رقيقا ينتفع بهم، وكذلك قتل من لم تبلغه
الدعوة لا كفارة فيه لذلك ولذلك لم يضمنوا بشئ فأشبهوا من قتله مباح
(فصل) ومن قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة
لا تجب لأن ضمان نفسه لا يجب فلم تجب الكفارة كقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم
ولنا عموم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه آدمي مؤمن مقتول
خطأ فوجبت الكفارة على قاتله كما لو قتله غيره والأول أقرب إلى الصواب إن شاء الله فإن عامر بن
الأكوع قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بكفارة، وقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ)
إنما أربد بها إذا قتل غيره بدليل قوله (ودية مسلمة إلى أهله) وقاتل نفسه لا تجب فيه دية
بدليل قتل عامر بن الأكوع
(فصل) ومن شارك في قتل يوجب الكفارة لزمته كفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة
وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي والثوري ومالك والشافعي
وأصحاب الرأي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى ان على الجميع كفارة واحدة وهو قول أبي ثور
وحكي عن الأوزاعي وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي وأنكره سائر أصحابه، واحتج لمن أوجب
كفارة واحدة بقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ومن يتناول الواحد والجماعة
39

ولم يوجب إلا كفارة واحدة ودية، والدية لا تتعدد فكذلك الكفارة ولأنها كفارة قتل فلم تتعدد
بتعدد القاتلين مع اتحاد المقتول ككفارة الصيد الحرمي
ولنا انها لا تتبعض وهي من موجب قتل الآدمي فكملت في حق كل واحد من المشتركين
كالقصاص وتخالف كفارة الصيد فإنها تجب بدلا ولهذا تجب في أبعاضه وكذلك الدية
(فصل) إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا فعليه الكفارة وبه قال الحسن وعطاء والزهري
والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وقال أبو حنيفة لا تجب وقد مضت هذه المسألة في دية الجنين
(فصل) والمشهور في المذهب أنه لا كفارة في قتل العمد وبه قال الثوري ومالك وأبو ثور وابن
المنذر وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية أخرى تجب فيه الكفارة وحكي ذلك عن الزهري وهو قول
الشافعي لما روى واثلة بن الأسقع قال أتينا النبي صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال أعتقوا
عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار) ولأنها إذا وجبت في قتل الخطأ ففي
العمد أولى لأنه أعظم إثما وأكبر جرما وحاجته إلى تكفير ذنبه أعظم
ولنا مفهوم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ثم ذكر قتل العمد ولم يوجب
فيه كفارة وجعل جزاءه جهنم فمفهومه أنه لا كفارة فيه وروي أن سويد بن الصامت قتل رجلا
فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القود ولم يوجب كفارة، وعمرو بن أمية الضمري قتل رجلين في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوجب كفارة، ولأنه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كزنا
المحصن، وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ وسماه موجبا أي فوت النفس بالقتل، ويحتمل أنه كان
شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم بالاعتاق تبرعا ولذلك أمر غير القاتل بالاعتاق، وما ذكروه من المعنى لا
يصح لأنها وجبت في الخطأ فتمحو إثمه لكونه لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك إيجابها في موضع
عظم الاثم فيه بحيث لا يرتفع بها، إذا ثبت هذا فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص ومالا قصاص فيه كقتل
الوالد ولده والسيد عبده والحر العبد والمسلم الكافر لأن هذا من أنواع العمد.
40

(فصل) وتجب الكفارة في شبه العمد ولم أعلم لأصحابنا فيه قولا لكن مقتضى الدليل ما ذكرناه
ولأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى مجراه في وجب
الكفارة ولان القاتل إنما لم يحمل شيئا من الدية لتحمله الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة تحمل من
الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب شئ أصلا ولم يرد الشرع بهذا
(فصل) وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة بنص الكتاب سواء كان القاتل أو المتقول مسلما أو
كافرا فإن لم يجدها في ملكه فاضلة عن حاجته أو يجد ثمنها فاضلا عن كفايته فصيام شهرين متتابعين
توبة من الله وهذا ثابت بالنص أيضا فإن لم يستطع ففيه روايتان:
(إحداهما) يثبت الصيام في ذمته ولا يجب شئ آخر لأن الله تعالى لم يذكره ولو وجب لذكره
(والثاني) يجب اطعام ستين مسكينا لأنها كفارة فيها عتق وصيام شهرين متتابعين فكان فيها إطعام
ستين مسكينا عند عدمها ككفارة الظهار والفطر في رمضان وان لم يكن مذكورا في نص القرآن فقد ذكر
ذلك في نظيره فيقاس عليه فعلى هذه الرواية ان عجز عن الاطعام ثبت في ذمته حتى يقدر عليه وللشافعي
قولان في هذا كالروايتين والله أعلم
(مسألة) قال (وما أوجب القصاص فلا يقبل فيه الا عدلان)
وجملته أن ما أوجب القصاص في نفس كالقتل العمد العدوان من المكافئ أو في طرف كقطعه
من مفصل عمدا ممن يكافئه فلا يقل فيه إلا شهادة رجلين عدلين ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين
ولا شاهد ويمين الطالب لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا وذلك لأن القصاص إراقة دم عقوبة
على جناية فيحتاط له باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود وسواء كان القصاص يجب على مسلم
أو كافر أو حر أو عبد لأن العقوبة يحتاط لدرئها، وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى
أنه لا يقبل في الشهادة على القتل الا شهادة أربعة وهذا مذهب الحسن لأنها شهادة يثبت بها القتل فلم
يقبل أقل من أربعة كالشهادة على الزنا من المحصن
41

ولنا أنه أحد نوعي القصاص فيقبل فيه اثنان كقطع الطرف وفارق الزنا فإنه مختص بهذا وليست
العلة كونه قتلا بدليل وجوب الأربعة في زنا الكبر ولا قتل فيه ولأنه انفرد بوجوب الحد على الرامي به
والشهود إذا لم تكمل شهادتهم فلم يجز أن يلحق به ما ليس مثله
(مسألة) قال (وما أوجب من الجنايات المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان أو
رجل عدل مع يمين الطالب)
وجملته أن ما كان موجبه المال كقتل الخطأ وشبه العمد والعمد في حق من لا يكافئه والجائفة
والمأمومة وما دون الموضحة وشريك الخاطئ وأشباه هذا فإنه يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين
وشهادة عدل ويمين الطالب، وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو بكر لا يثبت أيضا الا بشهادة
عدلين ولا تسمع فيه شهادة النساء ولا شاهد ويمين لأنها شهادة على قتل أو جناية على آدمي فلم
تسمع من النساء كالقسم الأول يبين صحة هذا أنه لما لم يكن للنساء مدخل في القسامة
في العمد ولم يكن لهن مدخل في القسامة على الخطأ وشبه العمد الموجب للمال فيدل هذا على أنهن لا
مدخل لهن في الشهادة على دم بحال
ولنا أنها شهادة على ما يقصد به المال على الخصوص فوجب أن تقبل كالشهادة على البيع والإجارة
وفارق قتل العمد فإنه موجب للعقوبة التي يحتاط باسقاطها فاحتيط في الشهادة على أسبابها وفي مسئلتنا
المقصود تقبل شهادتهن فيه فقبلت شهادتهن على سببه
(فصل) ولو ادعى جناية عمد وقال عفوت عن القصاص فيها لم يقبل فيه شاهد وامرأتان لأنه
إنما يعفو عن شئ ثبت له ولا يثبت ذلك القتل بتلك الشهادة، وإن ثبت القتل إما بشاهدين
أو باقرار المدعى عليه صح العفو لأن الحق ثبت له بوجود القتل وإنما خفي ثبوته عمن لم يعلم ذلك
42

فإذا علم ذلك علم أنه كان ثابتا من حين وجد القتل فيكون العفو مصادفا لحقه الثابت فينفذ كما لو أعتق
عبدا ينازعه فيه منازع ثم ثبت انه كان ملكه حين العتق
(فصل) ولا يثبت القتل بالشهادة إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشاهدين نحو أن يقولا نشهد
أنه ضربه فقتله أو فمات منه فإن قالا ضربه بالسيف فمات أو فوجدناه ميتا أو فمات عقيبه أو قالا ضربه
بالسيف فأسال دمه أو فأنهر دمه فمات مكانه لم يثبت القتل لجواز أن يكون مات عقيب الضرب
بسبب آخر وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل بالقتل فقال أشهد انه اتكأ عليه بمرفقه فمات
فقال له شريح فمات منه فأعاد الرجل قوله الأول فقال له شريح قم فلا شهادة لك، وإن كانت الشهادة
بالجرح فقالا ضربه فأوضحه أو فاتضح منه أو فوجدناه موضحا من الضربة قبلت شهادتهما وإن
قالا ضربه فاتضح رأسه أو وجدناه موضحا أو فأسال دمه ووجدنا في رأسه موضحة لم يثبت الايضاح
لجواز أن يتضح عقيب ضربة بسبب آخر ولا بد من تعيين الموضحة في إيجاب القصاص لأنه إن كان
في رأسه موضحتان فيحتاجان إلى بيان ما شهدا به منهما، وإن كانت واحدة فيحتمل أن يكون قد
أوسعها غير المشهود عليه فيجب أن يعينها الشاهدان فيقولان هذه وان قالا أوضحه في موضع كذا
من رأسه موضحة قدر مساحتها كذا وكذا قبلت شهادتهما، وإن قالا لا نعلم قدرها أو موضعها لم
يحكم بالقصاص لأنه يتعذر مع الجهالة وتجب الدية لأنها لا تختلف باختلافها، وإن قالا ضرب رأسه
فأسال دمه كانت بإزالة، وان قالا فسال دمه لم يثبت شئ لجواز أن يسيل دمه بسبب آخر، وإن
قالا نشهد أنه ضربه فقطع يده ولم يكن أقطع اليدين قبلت شهادتهما وثبت القصاص لعدم الاشتباه
وإن كان أقطع اليدين ولم يعينا المقطوعة لم يثبت القصاص لأنهما لم يعينا اليد التي يجب القصاص منها وتجب
دية اليدين لأنها لا تختلف باختلاف اليدين
(فصل) إذا شهد أحدهما انه أقر بقتله عمدا وشهد الآخر انه أقر بقتله ولم يقل عمدا ولا خطأ
43

ثبت القتل لأن البينة قد تمت عليه ولم تثبت صفته لعدم تمامها عليه ويسأل المشهود عليه عن صفته
فإن أنكر أصل القتل لم يقبل إنكاره لقيام البينة به وإن أقر بقتل العمد ثبت باقراره وإن أقر بقتل
الخطأ وأنكر الولي فالقول قول القاتل وهل يستحلف على ذلك؟ يخرج فيه وجهان وان صدقه الولي
على الخطأ ثبت عليه، وإن أقر بقتل العمد وكذبه الولي وقال بل كان خطأ لم يجب القود لأن الولي
لا يدعيه وتجب دية الخطأ ولا تمل العاقلة شيئا من ديته في هذه المواضع كلها وتكون في ماله لأنها
لم تثبت ببينة وفي بعضها القاتل مقر بأنها في ماله دون مال عاقلته، وإن قال أحد الشاهدين أشهد انه
أقر بقتله عمدا وقال الآخر أشهد أنه أقر بقتله خطأ ثبت القتل أيضا لأنه لا تنافى بين شهادتيهما لأنه
يجوز أن يقر عند أحدهما بقتل العمد ويقر عند الآخر بقتل الخطأ فثبت إقراره بالقتل دون صفته
ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا في التي قبلها، وإن شهد أحدهما أنه قتله عمدا وشهد الآخر انه قتله
خطأ ثبت القتل أيضا دون صفته ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا لأن الفعل قد يعتقده
أحدهما خطأ والآخر عمدا ويكون الحكم كما لو شهد على إقراره بذلك وإنه شهد أحدهما انه قتله
غدوة وقال الآخر عشية وقال أحدهما قتله بسيف وقال الآخر بعضا لم تتم الشهادة ذكر القاضي
لأن كل واحد منهما يخالف صاحبه ويكذبه وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو بكر يثبت القتل
بذلك لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته فأشبه التي قبلها والأول أصح لأن كل واحد من
الشاهدين يكذب صاحبه فإن القتل غدوة غير القتل عشية ولا يتصور ان يقتل غدوة ثم يقتل عشية
ولا أن يقتل بسيف ثم يقتل بعصا بخلاف العمد والخطأ لأن الفعل واحد والخلاف في نيته وقصده
وقد يخفى ذلك على أحدهما دون الآخر وإن شهد أحدهما أنه قتله وشهد الآخر أنه أقر بقلته ثبت
القتل نص عليه أحمد واختاره أبو بكر واختار القاضي أنه لا يثبت وهو مذهب الشافعي لأن أحدهما
شهد بغير ما شهد به الآخر فلم تتفق شهادتهما على فعل واحد
44

ولنا أن الذي أقر به هو المقتل الذي شهد به الشاهد فلا تنافي بينهما فيثبت بشهادتهما كما لو شهد
أحدهما بالقتل عمدا والآخر بالقتل خطأ أو كما لو شهد أحدهما ان له عليه ألفا وشهد الآخر
انه أقر بألف له.
(فصل) إذا قتل رجل عمدا قتلا يوجب القصاص سواء كان الشاهد عدلا أو فاسقا لأن شهادته
تضمنت سقوط حقه من القصاص وقوله مقبول في ذلك فإن أحد الوليين إذا عفا عن حقه سقط
القصاص كله ويشبه هذا ما لو كان عبد بين شريكين فشهدا حدهما ان شريكه أعتق نصيبه وهو موسر
عتق نصيبه وان أنكره الآخر فإن كان الشاهد بالعفو شهد بالعفو عن القصاص والمال لم يسقط
المال لأن الشاهد اعترف ان نصيبه سقط بغير اختياره فأما نصيب المشهود عليه فإن كان الشاهد
ممن لا تقبل شهادته فالقول قول المشهود عليه مع يمينه فإذا حلف ثبتت حصته من الدية وإن كان
الشاهد مقبول القول حلف الجاني معه وسقط عنه الحق المشهود عليه ويحلف الجاني انه عفا عن الدية ولا
يحتاج إلى ذكر العفو عن القصاص لأنه قد أسقط بشهادة الشاهد فلا يحتاج إلى ذكره في اليمين ولأنه إنما
يحلف على ما يدعى عليه ولا يدعي عليه غير الدية
(فصل) وإذا جرح رجل فشهد له رجلان من ورثته غير الوالدين والمولودين نظرت فإن
كانت الجراح مندملة فشهادتهما مقبولة لأنهما لا يجران إلى أنفسهما نفعا وان كانت غير مندملة
لم يحكم بشهادتهما لجواز ان تصير نفسا فتجب الدية لهما بشهادتهما فإن شهدا في تلك الحال وردت
شهادتهم ثم اندملت فأعادا شهادتهما فهل تقبل؟ على وجهين (أحدهما) لا تقبل لأن الشهادة
ردت للتهمة فلا تقبل وان زالت التهمة كالفاسق إذا أعاد شهادته المردودة بعد عدالته (والثاني)
تقبل لأن سبب التهمة قد تحقق زواله وللشافعي وجهان كهذين وان شهد وارثا المريض بمال ففي
قبول شهادتهما له وجهان
45

(أحدهما) تقبل لأنهما يثبتان المال للمريض وان مات انتقل إليهما عنه فأشبهت الشهادة للصحيح
بخلاف الجناية فإنها إذا صارت نفسا وجبت الدية لهما بها (والوجه الثاني) لا تقبل لأنه متي ثبت المال
للمريض تعلق حق ورثته به ولهذا لا ينفذ تبرعه فيه فيما زاد على الثلث وان شهد للمجروح بالجرح من
لا يرثه لكونه محجوبا كالأخوين يشهدان لأخيهما وله ابن سمعت شهادتهما فإن مات ابنه نظرت فإن كان
الحاكم حكم بشهادتهما لم ينقض حكمه لأن ما يطرأ بعد الحكم بالشهادة لا يؤثر فيها كالفسق وإن كان
ذلك قبل الحكم بالشهادة لم يحكم بها لأنهما صارا مستحقين فلا يحكم بشهادتهما كما لو فسق الشاهدان
قبل الحكم بشهادتهما وان شهد على رجل بالجراح الموجبة للدية على العاقلة فشهد بعض عاقلة المشهود
عليه بجرح الشهود لم تقبل شهادته وإن كان فقيرا لأنه قد يكون ذا مال وقت العقل فيكون دافعا عن
نفسه وإن كان الجرح مما لا تحمله العاقلة كجراحة العمد أو العبد سمعت شهادة العاقلة بجرح الشهود لأنهما
لا يدفعان عن أنفسهما ضررا فإن موجب هذه الجراحة القصاص أو المال في ذمة الجاني وكذلك
إن كان الشاهدان يشهدان على اقراره بالجراح لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وان كانت شهادتهما
بجراح عقله دون ثلث الدية خطأ نظرنا فإن كانت شهادة العاقلة بجرح الشهود قبل الاندمال لم تقبل
لأنها ربما ضارت نفسا فتحملها العاقلة وان كانت بعده قبلت لأنها لا تحمل ما دون الثلث وإن كان
الشاهدان بالجرح ليسا من العاقلة في الحال وإنما يصيران من العاقلة التي تتحمل ان لو مات من
هو أقرب مهما قبلت شهادتهما ذكره القاضي لأنهما ليسا من العاقلة وإنما يصيران منها بموت القريب
والظاهر حياته وفارق الفقير إذا شهد لأن الغنى ليست عليه أمارة فإن المال غاد ورائح ومذهب الشافعي
في هذا الفصل كله على نحو ما ذكرنا ويحتمل أن يسوى بين المسلمين لأن كل واحد منهما ليس من
العاقلة في الحال وإنما يصير منها بحدوث أمر لم يتفق الآن سببه فهما سواء واحتمال غنى الفقير كاحتمال
موت الحي بل الموت أقرب فإنه لابد منه وكل حي ميت وكل نفس ذائقة الموت وليس كل فقير
46

يستغني فما ثبت في إحدى الصورتين يثبت في الأخرى فيثبت فيهما جميعا وجهان بأن ينقل حكم
كل واحدة من الصورتين إلى الأخرى
(فصل) إذا شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا رجلا ثم شهد المشهود عليهما على الأولين أنهما
اللذان قتلاه فصدق الولي الأولين وكذب الآخرين وجب القتل عليهما لأن الولي يكذبهما وهما
يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما ضررا، وإن صدق الآخرين وحدهما بطلت شهادة الجميع لأن الأولين
بطلت شهادتهما لتكذيبه لهما ورجوعه عما شهدا له به والآخران لا تقبل شهادتهما لأنهما عدوان
للأولين ولأنهما يدفعان عن أنفسهما ضررا، وإن صدق الجميع بطلت شهادتهم أيضا لأنه بتصديق
الأولين مكذب للآخرين وتصديقه للآخرين تكذيب للأولين وهما متهمان لما ذكرناه، فإن
قيل كيف تتصور هذه المسألة والشهادة إنما تكون بعد الدعوى؟ فكيف يتصور فرض تصديقهم
وتكذيبهم؟ قلنا قد يتصور ان يشهدوا قبل الدعوى إذا لم يعلم الولي من قتله؟ ولهذا روي عن البني
صلى الله عليه وسلم أنه قال (خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) وهذا معنى ذلك
47

كتاب فتال أهل البغي
والأصل في هذا الباب قول الله سبحانه (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله إلى قوله إنما المؤمنون
إخوة فأصلحوا بين أخويكم) ففيها خمس فوائد
(أحدها) أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الايمان فإنه سماهم مؤمنين (الثانية) انه أوجب قتالهم
(الثالثة) انه أسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله (الرابعة) انه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم
(الخامسة) ان الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقا عليه، وروى عبد الله بن عمر وقال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من أعطى إماما صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر
ينازعه فاضربوا عنق الآخر) رواه مسلم، وروى عرفجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ستكون
هنات وهنات - ورفع صوته - ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان)
فكل من ثبتت إمامته وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقتاله لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وروى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الامر أهله، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
48

قال (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية) رواه ابن عبد البر من حديث
أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة
فإن أبا بكر رضي الله عنه قاتل ما نعي الزكاة وعلي قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان
والخارجون عن قبضة الإمام أصناف أربعة (أحدها) قوم امتنعوا من طاعته وخرجوا عن
قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الأرض بالفساد يأتي حكمهم في باب مفرد
(الثاني) قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم فهؤلاء
قطاع طريق في قول أكثر أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأن ابن ملجم لما جرح عليا قال للحسن إن
برئت رأيت رأيي وإن مت فلا تمثلوا به فلم يثبت لفعله حكم البغاة ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير حكم
البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه أفضى إلى إتلاف أموال الناس، وقال أبو بكر لافرق بين الكثير
والقليل وحكمهم حكم البغاة إذا خرجوا عن قبضة الإمام
(الثالث) الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير وكثيرا من
الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا
المتأخرين انهم بغاة حكمهم حكمهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل
الحديث ومالك يرى استتابتهم فإن تابوا وإلا قتلوا على افسادهم لاعلى كفرهم، وذهبت طائفة من
49

أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم فإن تحيزوا في
مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وان كانوا في قبضة الإمام استتابهم
كاستتابة المرتدين فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئا لا يرثهم ورثتهم المسلمون لما
روى أبو سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم
مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم
من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا وينظر في الريش فلا يرى شيئا
ويتمارى في الفوق) رواه مالك في موطئه والبخاري في صحيحه وهو حديث صحيح ثابت الاسناد وفي
لفظ قال (يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية
يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتهم فاقتلهم
فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة) رواه البخاري وروى معناه من وجوه، يقول فكما خرج
هذا السهم نقيا خاليا من الدم والفرث لم يتعلق منها بشئ كذلك خروج هؤلاء من الدين يعني
الخوارج. وعن أبي أمامة انه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال كلاب النار شر قتلى
تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) إلى آخر الآية فقيل
له أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لو لم أسمعه الامرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا
50

ما حدثتكموه، وقال الترمذي هذا حديث حسن ورواه ابن ماجة عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب
انه سمع أبا أمامة يقول شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء وخير قتلى من قتلوا، كلاب أهل النار كلاب
أهل النار كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا، قتلت يا أبا أمامة هذا شئ تقوله؟
قال بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن علي رضي الله عنه في قول تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) قال هم أهل النهروان
وعن أبي سعيد في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (هم شر الخلق والخليقة لئن أدركتهم لأقتلنهم
قتل عاد) وقال (لا يجاوز إيمانهم حناجرهم) وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم قال ابن
المنذر لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين، وقال ابن عبد البر في الحديث
الذي رويناه: قوله (يتمارى في الفوق) يدل على أنه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الاسلام بشي بحيث يشك في
خروجهم منه، وروي عن علي أنه لما قاتل أهل النهر قال لأصحابه لا تبدؤوهم؟ بالقتال وبعث إليهم
أقيدونا بعبد الله بن خباب قالوا كلنا قتله فحينئذ استحل قتالهم لاقرارهم على أنفسم بما يوجب قتلهم
وذكر ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن أهل النهر أكفار هم؟ قال من الكفر فروا
قيل فمنافقون؟ قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قيل فما هم؟ قال هم قوم أصابتهم فتنة فعموا
فيها وصموا وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلنا هم، ولما جرحه ابن ملجم قال للحسن أحسنوا إساره فإن عشت
51

فأنا ولي دمي، وإن مت فضربة كضربتي، وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من العلماء
والصحيح إن شاء الله ان الخوارج يجوز قتلهم ابتداء والإجازة على جريحهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم
ووعده بالثواب من قتلهم فإن عليا رضي الله عنه قال: لولا أن ينظروا لحدثتكم بما وعد الله الذين
يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ولان بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم بدليل ما أخبر به البني
صلى الله عليه وسلم من عظم ذنبهم وانهم شر الخلق والخليقة وانهم يمرقون من الدين وانهم كلاب النار، وحثه
على قتلهم واخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد فلا يجوز إلحاقهم بمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف
عنهم وتورع كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم ولا بدعة فيهم
(الصنف الرابع) قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأويل سائغ
وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش فهؤلاء البغاة الذين نذكر في هذا الباب حكمهم، وواجب
على الناس معونة إمامهم في قتال البغاة لما ذكرنا في أول الباب ولأنهم لو تركوا معونته لقهره أهل
البغي وظهر الفساد في الأرض
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (وإذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من
المسلمين يطلب موضعه حوربوا ودفعوا بأسهل ما يندفعون به)
وجملة الامر أن من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته لما ذكرنا من
الحديث والاجماع، وفى معناه من ثبتت إمامته بعهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعهد إمام قبله إليه فإن أبا بكر
ثبتت إمامته باجماع الصحابة على بيعته وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه وأجمع الصحابة على قبوله
52

ولو خرج رجل على الإمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه صار
إماما يحرم قتاله والخروج عليه فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على
البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها فصار إماما يحرم الخروج عليه وذلك لما في الخروج عليه من
شق عصى المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم، ويدخل الخارج عليه في عموم قوله عليه السلام
(من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان) فمن خرج على من ثبتت
إمامته بأحد هذه الوجوه باغيا وجب قتاله، ولا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم من يسألهم ويكشف
لهم الصواب الا أن يخالف كلبهم فلا يمكن ذلك في حقهم، فاما ان أمكن تعريفهم عرفهم ذلك وأزال
ما يذكرونه من المظالم وأزال حججهم، فإن لجوا قتلهم حينئذ لأن الله تعالى بدأ بالامر بالاصلاح قبل
القتال فقال سبحانه (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى
فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) وروي أن عليا رضي الله عنه راسل أهل البصرة قبل وقعة
الجمل ثم أمر أصحابه أن لا يبد، وهم بالقتال ثم قال إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم سمعهم
يقولون الله أكبر يا ثارات عثمان فقال اللهم أكب قتلة عثمان لوجوههم، وروى عبد الله بن شداد
ابن الهادي ان عليا لما اعتزلته الحرورية بعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة
أيام فرجع منهم أربعة آلاف، فإن أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال، وإنما كان كذلك لأن المقصود
53

كفهم ودفع شرهم لا قتلهم فإذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر بالفريقين
فإن سألوا الانظار نظر في حالهم وبحث عن أمرهم، فإن بان له ان قصدهم الرجوع إلى الطاعة ومعرفة
الحق أمهلهم، قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، فإن كان قصدهم الاجتماع
على قتاله وانتظار مدد يقوون به أو خديعة الإمام أو ليأخذوه على غرة ويفترق عسكره لم ينظرهم
وعاجلهم لأنه لا يأمن أن يصير هذا طريقا إلى قهر أهل العدل ولا يجوز هذا وان أعطوه عليه مالا
لأنه لا يجوز أن يأخذ المال على اقرارهم على مالا يجوز اقرارهم عليه وان بذل له رهائن على أنظارهم
لم يجز أخذها لذلك ولان الرهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم فلا يفيد شيئا، وإن كان في أيديهم أسرى
من أهل العدل وأعطوا بذلك رهائن منهم قبلهم الإمام واستظهر للمسلمين فإن أطلقوا أسرى
المسلمين الذين عندهم أطلقت رهائنهم وان قتلوا من عندهم لم يجز قتل رهائنهم لأنهم لا يقتلون بقتل
غيرهم فإذا انقضت الحرب خلى الرهائن كما تخلى الأسارى منهم، وان خاف الإمام على الفئة العادلة
الضعف عنهم أخر قتالهم إلى أن تمكنه القوة عليهم لأنه لا يأمن الاصطلام والاستئصال فيؤخرهم
حتى تقوى شوكة أهل العدل ثم يقاتلهم، وان سألوه أن ينظرهم أبدا ويدعهم وما هم عليه ويكفوا
54

عن المسلمين نظرت فإن لم يعلم قوته عليهم وخاف قهرهم له ان قاتلهم تركهم، وان قوي عليهم لم يجز
اقرارهم على ذلك لأنه لا يجوز أن يترك بعض المسلمين طاعة الإمام ولا تؤمن قوة شوكتهم بحيث
يفضي إلى قهر الإمام العادل ومن معه، ثم إن أمكن دفعهم بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم
لأهلهم ولان المقصود إذا حصل بدون القتل لم يجز القتل من غير حاجة، وان حضر معهم من لا يقاتل لم
يجز قتله، وقال أصحاب الشافعي فيه وجه آخر يجوز لأن عليا رضي الله عنه نهى أصحابه عن قتل محمد بن طلحة
السجاد وقال إياكم وصاحب البرنس فقتله رجل وأنشأ يقول
وأشعث قوام بآيات ربه * قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه * فخر صريعا للدين وللفم
على غير شئ غير أن ليس تابعا * عليا ومن لم يتبع الحق يظلم
يناشدني حم والرمح شاجر * فهلا تلا حم قبل التقدم
وكان السجاد حامل راية أبيه ولم يكن يقاتل فلم ينكر علي قتله ولأنه صار ردا لهم
ولنا قول الله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) والأخبار الواردة في قتل المسلم والاجماع
على تحريمه وإنما خص من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصائل ففيما عداه يبقى على العموم
والاجماع فيه ولهذا حرم قتل مدبرهم وأسيرهم والاجهاز على جريحهم مع أنهم إنما تركوا القتال
عجزا عنه ومتى ما قدروا عليه عادوا إليه فمن لا يقاتل تورعا عنه مع قدرته عليه ولا يخاف منه القتل بعد ذلك
55

أولى ولأنه مسلم لم يحتج إلى دفعه ولا صدر منه أحد الثلاثة فلم يحل دمه لقوله عليه السلام (لا يحل
دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث) فما حديث علي في نهيه عن قتل السجاد فهو حجة عليه فإن
نهي علي أولى من فعل من خالفه ولا يمتثل قول الله تعالى ولا قول رسوله ولا قول إمامه، وقولهم لم
ينكر قتله قلنا لم ينقل إلينا أن عليا علم حقيقة الحال في قتله ولا حضر قتله فينكره وقد جاء أن عليا
رضي الله عنه حين طاف في القتلى رآه فقال السجاد ورب الكعبة هذا الذي قتله بره بأبيه وهذا
يدل على أنه لم يشعر بقتله ورأي كعب بن سور فقال يزعمون إنما خرج إلينا الرعاع وهذا الحبر بين
أظهرهم، ويجوز أن يكون تركه الانكار عليهم اجتزاء بالنهي المتقدم ولان القصد من قتالهم كفهم
وهذا كاف لنفسه فلم يجز قتله كالمنهزم
(فصل) وإذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان فهم كالرجل البالغ الحر يقاتلون مقبلين ويتركون
مدبرين لأن قتالهم للدفع، ولو أراد أحد هؤلاء قتل انسان جاز دفعه وقتاله وان أتى على نفسه ولذلك
قلنا في أهل الحرب إذا كان معهم النساء والصبيان يقاتلون قوتلوا وقتلوا.
56

(فصل) ولا يقاتل البغاة بما يعم اتلافه كالنار والمنجنيق والتغريق من غير ضرورة لأنه لا يجوز
قتل من لا يقاتل وما يعم اتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل فإن دعت إلى ذلك ضرورة مثل
أن يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم اتلافه جاز ذلك وهذا قول الشافعي وقال
أبو حنيفة إذا تحصن الخوارج فاحتاج الإمام إلى رميهم بالمنجنيق فعل ذلك بهم ما كان لهم عسكر
وما لم ينهزموا وان رماهم البغاة بالمنجنيق والنار جاز رميهم بمثله.
(فصل) قال أبو بكر وإذا اقتتلت طائفتان من أهل البغي فقدر الإمام على قهرهما لم يعن واحدة
منهما لأنهما جميعا على الخطأ وان عجز عن ذلك وخاف اجتماعهما على حربه ضم إليه أقربهما إلى الحق
فإن استويا اجتهد برأيه في ضم إحداهما ولا يقصد بذلك معونة إحداهما بل الاستعانة على الأخرى
فإذا هزمها يقاتل من معه حتى يدعوهم إلى الطاعة لأنهم قد حصلوا في أمانه، وهذا مذهب الشافعي
ولا يستعين على قتالهم بالكفار بحال ولا بمن يري قتلهم مدبرين وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب
57

الرأي لا بأس أن يستعين عليهم بأهل الذمة والمستأمنين وصنف آخر منهم إذا كان أهل العدل هم
الظاهرين على من يستعينون به
ولنا ان القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم وان دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فإن كان يقدر
على كفهم استعان بهم وان لم يقدر لم يجز
(فصل) وإذا أظهر قوم رأي الخوارج مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال
دماء المسلمين وأموالهم الا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام فحكي القاضي عن
أبي بكر أنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه، وروي
ذلك عن عمر بن عبد العزيز فعلى هذا حكمهم في ضمان النفس والمال حكم المسلمين وان سبوا الإمام
أو غيره من أهل العدل عزروا لأنهم ارتكبوا محرما لاحد فيه وان عرضوا بالسب فهل يعزرون؟
على وجهين وقال مالك في الأباضية وسائر أهل البدع يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم قال
إسماعيل بن إسحاق رأي مالك قتل الخوارج وأهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين كقطاع
58

الطريق فإن تابوا والا قتلوا على افسادهم لا على كفرهم واما من رأى تكفيرهم فمقتضى قوله أنهم
يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا لكفرهم كما يقتل المرتد وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم (فأيما لقيتموهم
فاقتلوهم) وقوله عليه السلام (لأن أدركتهم لا قتلتهم قتل عاد) وقوله صلى الله عليه وسلم في الذي أنكر عليه
وقال إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله لأبي بكر (اذهب فاقتله) ثم قال لعمر مثل ذلك فأمر بقتله قبل
قتاله وهو الذي قال يخرج من ضئضئ هذا قوم يعني الخوارج وقول عمر لصبيغ لو وجدتك محلوقا
لضربت الذي فيه عيناك بالسيف يعني لقتلتك وإنما يقتله لكونه من الخوارج فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(سيماهم التسبيد) يعني حلق رؤوسهم واحتج الأولون بفعل علي رضي الله عنه فإنه روي عنه أنه كان
يخطب يوما فقال رجل بباب المسجد لاحكم الا لله فقال علي كلمة حق أريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث
لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسم الله تعالى ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم معنا ولا نبدأكم
بقتال وروى أبو يحيى قال صلى علي رضي الله عنه صلاة فتأداه رجل من الخوارج (لئن أشركت
ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فاجابه علي رضي الله عنه (فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك
59

الذين لا يوقنون) وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز ان الخوارج يسبونك فكتب إليه
ان سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم وان شهروا السلاح فاشهروا عليهم وان ضربوا فاضربوا ولان النبي
صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة فلان لا يتعرض لغيرهم اولي وقد روي في خبر الخارجي
الذي أنكر عليه ان خالدا قال يا رسول الله الا أضرب عنقه؟ قال (لعله يصلي؟) قل رب مصل لا خير فيه
قال (إني لم أومر ان أنقب عن قلوب الناس).
(مسألة) قال (فإن آل ما دفعوا به إلى نفوسهم فلا شئ على الدافع وان قتل
الدافع فهو شهيد)
وجملته انه إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم جاز قتلهم ولا شئ على من قتلهم من اثم ولا
ضمان ولا كفارة لأنه فعل ما أمر به وقتل من أحل الله قتله وامر بمقاتلته وكذلك ما أتلفه أهل
العدل على أهل البغي حال الحرب من المال لا ضمان فيه لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال أولى
60

فإن قتل العادل كان شهيدا لأنه قتل في قتال أمر الله تعالى به بقوله (فقاتلوا التي تبغي) وهل يغسل
ويصلي عليه؟ فيه روايتان إحداهما) لا يغسل ولا يصلي عليه لأنه شهيد معركة أمر بالقتال فيها فأشبه شهيد
معركة الكفار (والثانية) يغسل ويصلى عليه وهو قول الأوزاعي وابن المنذر ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بالصلاة على من قال لا إله إلا الله واستثنى قتيل الكفار في المعركة ففي ما عداه يبقى على الأصل ولان
شهيد معركة الكفار أجره أعظم وفضله أكثر وقد جاء أنه يشفع في سبعين من أهل بيته وهذا لا
يلحق به في فضله فلا يثبت فيه مثل حكمه فإن الشئ إنما يقاس على مثله.
(فصل) وليس على أهل البغي أيضا ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس ولا مال، وبه قال
أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وفي الآخر يضمنون ذلك لقول أبي بكر لأهل الردة: تدون
قتلانا ولا ندي قتلاكم ولأنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح فوجب
ضمانه كالذي تلفت في غير حال الحرب
ولنا ما روى الزهري أنه قال كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فاجمعوا على أن لا
61

يقام حد على رجل ارتكب فرجا حراما بتأويل القرآن ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن ولأنها
طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى كأهل العدل ولان تضمينهم يفضي
إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع كتضمين أهل الحرب فاما قول أبي بكر رضي الله عنه
فقد رجع عنه ولم يمضه فإن عمر قال له أما ان يدوا قتلانا فلا فإن قتلانا قتلوا في سبيل الله تعالى على
ما أمر الله فوافقه أبو بكر ورجع إلى قوله فصار أيضا إجماعا حجة لنا ولم ينقل أنه غرم أحدا شيئا
من ذلك وقف قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ثم أسلم فلم يغرم شيئا ثم لو وجب التغريم
في حق المرتدين لم يلزم مثله ههنا فإن أولئك كفار لا تأويل لهم وهؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأويل
سائغ فكيف يصح الحاقهم بهم؟ فاما ما أتلفه بعضهم على بعض في غير حال الحرب قبله أو بعده فعلى
متلفه ضمانه، وبهذا قال الشافعي ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن خباب أرسل إليهم علي أقيدونا
من عبد الله بن خباب ولما قتل بن ملجم عليا في غير المعركة أقيد به وهل يتحتم قتل الباغي إذا قتل
أحدا من أهل العدل في غير المعركة؟ فيه وجهان:
62

(أحدهما) يتحتم لأنه قتل باشهار السلاح والسعي في الأرض بالفساد فيحتم قتله كقاطع الطريق
(والثاني) لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي رضي الله عنه ان شئت أن اعفو وان شئت استقدت فاما الخوارج
فالصحيح على ما ذكرنا إباحة قتلهم فلا قصاص على قاتل أحد منهم ولا ضمان عليه في ماله
(مسألة) قال (وإذا دفعوا لم يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريحهم ولم يقتل لهم أسير
ولم يغنم لهم مال ولم تسب له ذرية)
وجملته أن أهل البغي إذا تركوا القتال إما بالرجوع إلى الطاعة وإما بالقاء السلاح وإما بالهزيمة
إلى فئة أو إلى غير فئة واما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر فإنه يحرم قتلهم واتباع مدبرهم وبهذا قال
الشافعي وقال أبو حنيفة إذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا وان كانت لهم فئة يلجئون إليها جاز قتل مدبرهم
وأسيرهم والإجازة على جريحهم وان لم يكن لهم فئة لم يقتلوا لكن يضربون ضربا وجيعا ويحبسون حتى
يقلعوا عماهم عليه ويحدثوا توبة ذكروا هذا في الخوارج ويروى عن ابن عباس نحو هذا واختاره
بعض أصحاب الشافعي لأنه متى لم يقتلهم اجتمعوا ثم عادوا إلى المحاربة
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل لا يذفف على جريح ولا يهتك ستر ولا
يفتح باب ومن أغلق بابا أو بابه فهو آمن ولا يتبع مدبر وقد روي نحو ذلك عن عمار وعن علي رضي
63

الله عنه انه ودي قوما من بيت مال المسلمين قتلوا مدبرين، وعن أبي أمامة أنه قال شهدت صفين
وكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وقد ذكر القاضي في شرحه عن
عبد الله بن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا ابن أم عبد ما حكم من بغي على أمتي؟) فقلت الله ورسوله
أعلم فقال لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم ولان المقصود دفعهم
وكفهم وقد حصل فلم يجز قتلهم كالصائل ولا يقتلون لما يخاف في الثاني كما لو لم تكن لهم فئة. إذا
ثبت هذا فإن قتل إنسان من منع من قتله ضمنه لأنه قتل معصوما لم يؤمر بقتله وفي القصاص وجهان
(أحدهما) يجب لأنه مكافئ معصوم (والثاني) لا يجب لأن في قتلهم اختلافا بين الأئمة
فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص لأنه مما يندرئ بالشبهات، وأما أسيرهم فإن دخل في الطاعة
خلي سبيله وان أبى ذلك وكان رجلا جلدا من أهل القتل حبس ما دامت الحرب قائمة فإذا انقضت
الحرب خلي سبيله وشرط عليه أن لا يعود إلى القتال وإن لم يكن الأسير من أهل القتال كالنساء
والصبيان والشيوخ الفانين خلي سبيلهم ولم يحبسوا في أحد الوجهين، وفي الآخر يحبسون لأن فيه
كسرا لقلوب البغاة، وان أسر كل واحد من الفريقين أسارى من الفريق الآخر جاز فداء أسارى
أهل العدل باسرى أهل البغي وإن قتل أهل البغي أسارى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أساراهم
لأنهم لا يقتلون بجناية غيرهم ولا يزرون وزر غيرهم وان أبى البغاة مفاداة الاسرى الذين معهم وحبسوهم
احتمل أن يجوز لأهل العدل حبس من معهم ليتوصلوا إلى تخليص أساراهم بحبس من معهم ويحتمل
أن لا يجوز حبسهم ويطلقون لأن الذنب في حبس أسارى أهل العدل لغيرهم
64

(فصل) فأما غنيمة أموالهم وسبي ذريتهم فلا نعلم في تحريمه بين أهل العلم خلافا وقد ذكرنا
حديث أبي أمامة وابن مسعود، ولأنهم معصومون وإنما أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة
دفعهم وقتالهم وما عداه يبقى على أصل التحريم، وقد روي أن عليا رضي الله عنه يوم الجمل قال من
عرف شيئا من ماله مع أحد فليأخذه وكان بعض أصحاب علي قد أخذ قدرا وهو يطبخ فيها فجاء
صاحبها ليأخذها فسأله الذي يطبخ فيها إمهاله حتى ينضج الطبيخ فأبى وكبه وأخذها، وهذا من جملة
ما نقم الخوارج من علي فإنهم قالوا إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فإن حلت له دماؤهم فقد حلت له أموالهم
وإن حرمت عليه أموالهم فقد حرمت عليه دماؤهم فقال لهم ابن عباس أفتسبون أمكم؟ يعني عائشة أم
تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فإن قلتم ليست أمكم فقد كفرتم، وإن قلتم انها أمكم واستحللتم
سبيها فقد كفرتم، يعني بقوله انكم إن جحدتم انها أمكم فقد قال الله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
وأزواجه أمهاتهم) فإن لم تكن أما لهم لم يكونوا من المؤمنين، ولان قتال البغاة إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق
لا لكفرهم فلا يستباح منهم إلا ما حصل ضرورة الدفع كالصائل وقاطع الطريق وبقي حكم المال والذرية على
أصل العصمة وما أخذ من كراعهم وسلاحهم لم يرد إليهم حال الحرب لئلا يقاتلونا به. وذكر
القاضي ان احمد أومأ إلى جواز الانتفاع به حال التحام الحرب ولا يجوز في غير قتالهم وهذا قول أبي حنيفة لأن
هذه الحال يجوز فيها اتلاف نفوسهم وحبس سلاحهم وكراعهم فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب.
وقال الشافعي لا يجوز ذلك إلا من ضرورة إليه لأنه مال مسلم فلم يجز الانتفاع به بغير إذنه كغيره من أموالهم
65

وقال أبو الخطاب في هذه المسألة وجهان كالمذهبين، ومتى انقضت الحرب وجب رده إليهم
كما ترد إليهم سائر أموالهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) وروى
أبو قيس ان عليا رضي الله عنه نادى من وجد ماله فليأخذه
(مسألة) قال (ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه)
يعني من أهل البغي وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أصحاب الرأي إن لم يكن لم فئة صلي
عليهم وان كانت لهم فئة لم يصل عليهم لأنه يجوز قتلهم في هذه الحال فلم يصل عليهم كالكفار
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا على من قال لا إله إلا الله) رواه الخلال في جامعه، ولأنهم مسلمون
لم يثبت لهم حكم الشهادة فيغسلون ويصلى عليهم كما لو لم يكن لهم فئة. وما ذكروه ينتقض بالزاني المحصن
والمقتص منه والقاتل في المحاربة
(فصل) لم يفرق أصحابنا بين الخوارج وغيرهم في هذا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي.
وظاهر كلام أحمد رحمه الله انه لا يصلى على الخوارج فإنه قال أهل البدع ان مرضوا فلا تعودوهم وان
ماتوا فلا تصلوا عليهم. وقال أحمد: الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم قد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة
بأقل من هذا. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقاتل خيبر من ناحية من نواحيها فقاتل رجل من
تلك الناحية فقتل فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل إنه كان في قرية أهلها نصارى ليس فيها من يصلي
عليه قال (أنا لا أشهده يشهده من شاء)
66

وقال مالك: لا يصلى على الأباضية ولا القدرية وسائر أصحاب الأهواء ولا تتبع جنائزهم ولا
تعاد مرضاهم. والأباضية صنف من الخوارج نسبوا إلى عبد الله بن أباض صاحب مقالتهم، والأزارقة
أصحاب نافع بن الأزرق، والنجدات أصحاب نجدة الحروري، والبيهسية أصحاب بيهس، والصفرية قيل إنهم
نسبوا إلى صفرة ألوانهم وأصنافهم كثيرة، والحرورية نسبوا إلى أرض يقال لها حروراء
خرجوا بها. وقال أبو بكر بن عياش: لا أصلي على الرافضي لأنه زعم أن عمر كافر ولا على الحروري
لأنه يزعم أن عليا كافر. وقال الفرياني من شتم أبا نكر فهو كافر لا يصلى عليه
ووجه ترك الصلاة عليهم انهم يكفرون أهل الاسلام ولا يرون الصلاة عليهم فلا يصلى عليهم
كالكفارة من أهل الذمة وغيرهم ولأنهم مرقوا من الدين فأشبهوا المرتدين
(فصل) والبغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين وإنما هم يخطئون في تأويلهم والإمام
وأهل العدل مصيبون في قتالهم فهم جميعا كالمجتهدين من الفقهاء في الأحكام من شهد منهم قبلت
شهادته إذا كان عدلا وهذا قول الشافعي ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافا، فأما الخوارج وأهل البدع
إذا خرجوا على الإمام فلا تقبل شهادتهم لأنهم فساق وقال أبو حنيفة يفسقون بالبغي وخروجهم على
الإمام ولكن تقبل شهادتهم لأن فسقهم من جهة الدين فلا ترد به الشهادة وقد قبل شهادة الكفار بعضهم
على بعض ويذكر ذلك في كتاب الشهادة إن شاء الله تعالى
(فصل) ذكر القاضي انه لا يكره قتل ذي رحمه الباغي لأنه قتل بحق فأشبه إقامة الحد
عليه وكرهت طائفة من أهل العلم القصد إلى ذلك وهو أصح إن شاء الله لقول الله تعالى (وإن
67

جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) وقال الشافعي
كف النبي صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة وعتبة عن قتل أبيه وقال بعضهم لا يحل ذلك لأن الله تعالى أمر بمصاحبته
بالمعروف وليس هذا من المعروف فإن قتله فهل يرثه؟ على روايتين
(إحداهما) يرثه هذا قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لأنه قتل بحق فلم يمنع الميراث كالقصاص والقتل في
الحج (والثانية) لا يرثه وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي لعموم قوله عليه السلام (ليس لقاتل شئ) وأما
الباغي إذا قتل العادل فلا يرثه وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة يرثه لأنه قتله بتأويل أشبه قتل العادل والباغي
ولنا انه قتله بغير حق فلم يرثه كالقاتل خطأ، وفارق ما إذا قتله العادل لأنه قتله بحق، وقال قوم
إذا تعمد العادل قتل قريبه فقتله ابتداء لم يرثه وان قصد ضربه ليصير غير ممتنع فجرحه ومات هذا
الضرب ورثه لأنه قتله بحق، وهذا قول ابن المنذر وقال هو أقرب الأقاويل
(مسألة) قال (وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم)
وجملته ان أهل البغي إذا غلبوا على بلد فجبوا الخراج والزكاة والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك
موضعه فإذا ظهر أهل العدل بعد على البلد وظفورا بأهل البغي لم يطالبوا بشئ مما جبوه ولم يرجع به
68

على من أخذ منه، روي نحو هذا عن ابن عمر وسلمه بن الأكوع وهو قول الشافعي وأبي ثور
وأصحاب الرأي وسواء كان من الخوارج أو من غيرهم. وقال أبو عبيد على من أخذوا منه الزكاة الإعادة
لأنه أخذها ممن لا ولاية له صحيحة فأشبه ما لو أخذها آحاد الرعية
ولنا ان عليا لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشئ مما جبوه وكان ابن عمر إذا أتاه ساعي
نجدة الحروري دفع إليه زكاته وكذلك سلمة بن الأكوع، ولان في ترك الاحتساب بها ضررا
عظيما ومشقة كثيرة فإنهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة فلو لم يحتسب بما أخذوه أدعى إلى
ثنا الصدقات في تلك المدة كلها
فإذا ثبت هذا فإذا ذكر أرباب الصدقات انهم قد أخذوا صدقاتهم قبل قولهم بغير يمين
قال أحمد لا يستحلف الناس على صدقاتهم، وان ادعى أهل الذمة دفع جزيتهم لم تقبل بغر بينة
لأنهم غر مأمونين، ولان ما يجب عليهم عوض وليس بمواساة فلم يقبل قولهم كأجرة الدار ويحتمل أن يقبل قولهم إذا مضى الحول لأن الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم فكان القول
قولهم لأن الظاهر معهم، ولأنه إذا مضى لذلك سنون كثيرة شق عليهم إقامة البينة على كل عام فيؤدي
ذلك إلى تغريمهم الجزية مرتين، وان ادعى من عليه الخراج دفعه إليهم ففيه وجهان (أحدهما) يقبل
لأنه حق على مسلم فقبل قوله فيه كالزكاة (والثاني) لا يقبل لأنه عوض فأشبه الجزية وإن كان من
عليه الخراج ذميا فهو كالجزية لأنه عوض على غير مسلم فهو كالجزية ولأنه أحد الخراجين فأشبه الجزية
69

(مسألة) قال (ولا ينقض من حكم حاكمهم الا ما ينقض من حكم غيره)
يعني إذا نصب أهل البغي قاضيا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل ينفذ من أحكامه ما ينفذ
من أحكام أهل العدل ويرد منه ما يرد فإن كان ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم لم يجز قضاؤه لأنه
ليس بعدل وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجوز قضاؤه بحال لأن أهل البغي يفسقون
ببغيهم والفسق ينافي القضاء
ولنا انه اختلاف في الفروع بتأويل سائغ فلم يمنع صحة القضاء ولم يفسق كاختلاف الفقهاء، فإذا
ثبت هذا فإنه إذا حكم بما لا يخالف إجماعا نفذ حكمه، وإن خالف ذلك نقض حكمه فقاضي أهل البغي
أولى، وان حكم بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوه حال الحرب جاز حكم لأنه موضع اجتهاد
وإن كان حكمه فيما أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ لأنه مخالف للاجماع وان حكم على أهل العدل
بوجوب الضمان فيما أتلفوه حال الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته للاجماع، وان حكم بوجوب ضمان ما أتلفوه
في غير حال الحرب نفد حكمه، وإن كتب قاضيهم إلى قاضي أهل العدل جاز قبول كتابه لأنه قاض
ثابت القضايا نافذ الأحكام، والأولى ان لا يقبله كسرا لقلوبهم، وقال أصحاب الرأي لا يقبله لأن قضاءه
لا يجوز وقد سبق الكلام في هذا، فاما الخوارج إذا ولوا قاضيا لم يجز قضاؤه لأن أقل أحوالهم
الفسق والفسق ينافي القضاء ويحتمل ان يصح قضاؤه وتنفذ أحكامه لأن هذا مما يتطاول وفي
القضاء بفساد قضاياه وعقوده الأنكحة وغيرها ضرر كثير فجاز دفعا للضرر كما لو أقام الحدود
وأخذ الجزية والخراج والزكاة
70

(فصل) وان ارتكب أهل البغي في حال امتناعهم ما يوجب الحد ثم قدر عليهم أقيمت فيهم
حدود الله تعالى ولا تسقط باختلاف الدار وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر وقال أبو حنيفة
إذا امتنعوا بدار لم يجب الحد على أحد منهم ولا على من عندهم من تاجر أو أسير لأنهم خارجون عن دار
الإمام فأشبهوا من في دار الحرب
ولنا عموم الآيات والاخبار ولان كل موضع تجب فيه العبادات في أوقاتها تجب الحدود فيه
عند وجود أسبابها كدار أهل العدل. ولأنه زان أو سارق لا شبهة في زناه وسرقته فوجب عليه
الحد كالذي في دار العدل، وهكذا نقول فيمن أتى حدا في دار الحرب فإنه يجب عليه لكن لا يقام
إلا في دار الاسلام على ما ذكرناه في موضعه
(فصل) وإذا استعان أهل البغي بالكفار فلا يخول من ثلاثة أصناف (أحدهم) أهل الحرب
فإذا استعانوا بهم أو آمنوهم أو اعقدوا لهم ذمة لم يصح واحد منها لأن الأمان من شرط صحته الزام
كفهم عن المسلمين وهؤلاء يشترطون عليهم قتال المسلمين فلا يصح، ولأهل العدل قتالهم كمن لم
يؤمنوه سواء وحكم أسيرهم حكم أسير سائر الحرب قبل الاستعانة بهم فأما أهل البغي فلا يجوز لهم
قتلهم لأنهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم
(الصنف الثاني) المستأمنون فمتى استعانوا بهم فأعانوهم نقضوا عهدهم وصاروا كأهل الحرب
لأنهم تركوا الشرط وهو كفهم عن المسلمين فإن فعلوا ذلك مكرهين لم ينتقض عهدهم لأن لهم عذرا
وإن ادعوا الاكراه لم يقبل قولهم إلا ببينة لأن الأصل عدمه
71

(الصنف الثالث) أهل الذمة فإذا أعانوهم وقاتلوا معهم ففيهم وجهان ذكرهما أبو بكر (أحدهما)
ينتقض عهدهم لأنهم قاتلوا أهل الحق فينتفض عهدهم كما لو انفردوا بقتالهم (والثاني) لا ينتفض لأن أهل
الذمة لا يعرفون الحق من المبطل فيكون ذلك شبهة لهم وللشافعي قولان كالوجهين، فإن قلنا ينتفض
عهدهم صاروا كأهل الحرب فيما ذكرنا. وان قلنا لا ينتقض عهدهم فحكمهم حكم أهل البغي في قتل
مقبلهم والكف عن أسيرهم ومدبرهم وجريحهم إلا أنهم يضمنون ما أتلفوا على أهل العدل حال القتال
وغيره بخلاف أهل البغي فإنهم لا يضمنون ما أتلفوا حال الحرب لأنهم أتلفوه بتأويل سائغ وهؤلاء
لا تأويل لهم ولأنه سقط الضمان عن المسلمين كيلا يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة وأهل الذمة
لا حاجة بنا إلى ذلك فيهم، وان أكرههم البغاة على معونتهم لم ينتقض عهدهم وان ادعوا ذلك قبل
قولهم لأنهم تحت أيديهم وقدرتهم. وان قالوا ظننا أن من استعان بنا من المسلمين لزمتنا معونته لم
ينتقض عهدهم، وان فعل ذلك المستأمنون انتقض عهدهم، والفرق بينهما ان أهل الذمة أقوى حكما لأن
عهدهم مؤبد ولا يجوز نقضه لخوف الخيانة منهم ويلزم الإمام الدفع عنهم والمستأمنون بخلاف ذلك
(فصل) وإذا ارتد قوم فأتلفوا مالا للمسلمين لزمهم ضمان ما أتلفوه سواء تحيزوا
أو صاروا في منعة أو لم يصيروا ذكره أبو بكر. قال القاضي: وهو ظاهر كلام احمد، وقال الشافعي: حكمهم حكم أهل البغي فيما أتلفوه من الأنفس والأموال لأن تضمينهم يؤدي إلى
تنفيرهم عن الرجوع إلى الاسلام فأشبهوا أهل البغي. ولنا ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه
أنه قال لأهل الردة حين رجعوا تردون علينا ما أخذتم منا ولا نرد عليكم ما أخذنا منكم وان تدوا
72

قتلانا ولا ندي قتلاكم قالوا نعم يا خليفة رسول الله فقال عمر كل ما قلت الا أن يدوا ما قتل
منا فلا لأنهم قوم قتلوا في سبيل الله واستشهدوا ولأنهم أتلفوه بغير تأويل فأشبهوا أهل الذمة فاما القتلى
فحكمهم فيهم حكم أهلي البغي لما ذكرنا من خبر أبي بكر وعمر ولان طليحة الأسدي قتل عكاشة بن
محصن الأسدي وثابت بن أثرم فلم يغرمهما وبنو حنيفة قتلوا من قتلوا من المسلمين يوم اليمامة فلم يغرموا شيئا، ويحتمل أن يحمل قول احمد وكلامه في المال على وجوب رد ما في أيديهم دون ما
أتلفوه وعلى من أتلف من غير أن يكون له منعة أو تلف في غير الحرب وما أتلفوه حال الحرب فلا
ضمان عليهم فيه لأنه إذا سقط ذلك عن أهل البغي كيلا يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة
فلان يسقط ذلك كيلا يؤدي إلى التنفير عن الاسلام أولى ولأنهم إذا امتنعوا صاروا كفارا ممتنعين
بدارهم فأشبهوا أهل الحرب ويحمل قول أبي بكر على ما بقي في أيديهم من المال فيكون مذهب احمد
ومذهب الشافعي في هذا سواء وهذا أعدل وأصح إن شاء الله تعالى فاما من لا منعة له فيضمن ما
أتلف من نفس ومال كالواحد من المسلمين أو أهل الذمة لأنه لا منعة له ولا يكثر ذلك منه فمتى
المال والنفس بالنسبة إليه على عصمته ووجوب ضمانه والله أعلم
73

كتاب المرتد
المرتد هو الراجع عن دين الاسلام إلى الكفر قال الله تعالى (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت
وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقال
النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد وروي ذلك عن أبي بكر
وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم ولم ينكر ذلك فكان إجماعا
(مسألة) قال (من ارتد عن الاسلام من الرجال والنساء وكان بالغا عاقلا دعي إليه
ثلاثة أيام وضيق عليه فإن رجع وإلا قتل)
في هذه المسألة فصول خمسة (أحدها) انه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل روي ذلك
عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد ومالك والليث
والأوزاعي والشافعي وإسحاق وروي عن علي والحسن وقتادة انها تسترق لا تقتل ولان أبا بكر
استرق نساء بني حنيفة وذراريهم وأعطى عليا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية، وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا. وقال أبو حنيفة تجبر على الاسلام بالحبس والضرب ولا تقتل
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقتلوا امرأة) ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي
74

ولنا قوله عليه السلام (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري وأبو داود وقال النبي صلى الله عليه وسلم
(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)
متفق عليه وروى الدارقطني ان امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الاسلام فبلغ أمرها إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فامر ان تستتاب فإن تابت والا قتلت ولأنها شخص شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل
فيقتل كالرجل واما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المرأة فالمراد به الأصلية فإنه قال ذلك حين رأى امرأة
مقتولة وكانت كافرة أصلية ولذلك نهى الذين بعثهم إلى ابن أبي الحقيق عن قتل النساء ولم يكن فيهم مرتد ويخالف الكفر الأصلي الطارئ بدليل ان الرجل يقر عليه ولا يقتل أهل الصوامع والشيوخ
والمكافيف ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس، والكفر الطارئ بخلافه والصبي غير مكلف
بخلاف المرأة، واما بنو حنيفة فلم يثبت ان من استرق منهم تقدم له اسلام ولم يكن بنو حنيفة أسلموا
كلهم وإنما أسلم بعضهم، والظاهر أن الذين أسلموا كانوا رجالا فمنهم من ثبت على اسلامه منهم ثمامة بن
أثال ومنهم من ارتد منهم الدجال الحنفي
(الفصال الثاني) ان الردة لا تصح إلا من عاقل فاما من لا عقل له كالطفل الذي لا عقل له والمجنون
ومن زال عقله باغماء أو نوم أو مرض أو شرب دواء يباح شبه فلا تصح ردته ولا حكم لكلامه بغير
75

خلاف قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المجنون إذا ارتد في حال جنونه
أنه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك ولو قتله عمدا كان عليه القود إذا طلب أولياؤه وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق)
أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ولأنه غير مكلف فلم يؤاخذ بكلامه كما لو لم يؤاخذ
به في اقراره ولاطلاقه ولا اعتاقه وأما السكران والصبي العاقل فنذكر حكمهما فيما بعد إن شاء الله
(الفصل الثالث) انه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا هذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي
وعطاء والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي،
وروي عن أحمد رواية أخرى انه لا تجب استتابته لكن تستحب وهذا القول الثاني للشافعي وهو
قول عبيد بن عمير وطاوس ويروى ذلك عن الحسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه)
ولم يذكر استتابته
وروي أن معاذا قدم على أبي موسى فوجد عنده رجلا موثقا فقال ما هذا؟ قال رجل كان يهوديا
فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قال اجلس قال
لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل متفق عليه ولم يذكر استتابته
ولأنه يقتل لكفره فلم تجب استتابته كالأصلي ولأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن ولو حرم قتله قبله ضمن
وقال عطاء إن كان مسلما أصليا لم يستتب وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب
76

ولنا حديث أم مروان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمران يستتاب وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن
ابن محمد بن عبد الله بن عبد القارئ عن أبيه انه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له
عمر هل كان من معربة خبر؟ قال نعم رجل كفر بعد اسلامه فقال ما فعلتم به؟ قال قربناه فضربنا عنقه
فقال عمر فهلا حبستموه ثلاثا فأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه، لعله يتوب أو يراجع أمر الله؟
اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم ارض إذ بلغني، ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم ولأنه أمكن
استصلاحه فلم يجز اتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس واما الامر بقتله فالمراد به بعد الاستتابة بدليل
ما ذكرنا وأما حديث معاذ فإنه قد جاء فيه وكان قد استتيب
ويروى أن أبا موسى استتابه شهرين قبل قدوم معاذ عليه، وفي رواية فدعاه عشرين ليلة أو
قريبا من ذلك فجاء معاذ فدعاه وأبى فضرب عنقه. رواهن أبو داود ولا يلزم من تحريم القتل
وجوب الضمان بدليل نساء أهل الحرب وصبيانهم وشيوخهم إذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها
ثلاثة أيام روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال مالك وإسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي
الشافعي. وقال في الآخران تاب في الحال والا قتل مكانه وهذا أصح قوليه وهو قول ابن المنذر
لحديث أم مروان ومعاذ ولأنه مصر على كفره أشبه بعد الثلاث، وقال الزهري يدعى ثلاث مرات
فإن أبى ضربت عنقه وهذا يشبه قول الشافعي، وقال النخعي يستتاب أبدا وهذا يفضي إلى أن لا يقتل
أبدا وهو مخالف للسنة والاجماع، وعن علي انه استتاب رجلا شهرا
77

ولنا حديث عمر ولان الردة إنما تكون لشبهة ولا تزول في الحال فوجب أن ينتظر مدة يرتئي
فيها وأولى ذلك ثلاثة أيام للأثر فيها وانها مده قريبة وينبغي ان يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس
لقول عمر هلا حبستموه وأطعمتموه كل يوم رغيفا؟ ويكرر دعايته لعله يتعطف قلبه فيراجع دينه
(الفصل الرابع) انه ان لم يتب قتل لما قدمنا ذكره وهو قول عامة الفقهاء ويقتل بالسيف لأنه
آلة القتل ولا يحرق بالنار، وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه أمر بتحريق المرتدين
وفعل ذلك بهم خالد والأول أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله)
يعني النار أخرجه البخاري وأبو داود وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله كتب الاحسان على كل شئ
فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)
و (الفصل الخامس) ان مفهوم كلام الخرفي أنه إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل اي كفر كان وسواء
كان زنديقا يستسر بالكفر أو لم يكن وهذا مذهب الشافعي والعنبري ويروى ذلك عن علي وابن
مسعود وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال وقال إنه أولى على مذهب أبي عبد الله
(والرواية الأخرى) لا تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته وهو قول مالك والليث وإسحاق
وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين واخبار أبو بكر انه لا تقبل توبة الزنديق لقول الله تعالى (إلا الذين
78

تابوا وأصلحوا وبينوا) والزنديق لا تظهر منه علامة تبين رجوعه وتوبته لأنه كان مظهرا للاسلام مسرا
للكفر فإذا وقف على ذلك فاظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار الاسلام واما من
تكررت ردته فقد قال الله تعالى (ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا
لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) وروى الأثرم باسناده عن ظبيان بن عمارة أن رجلا من بني سعد
مر على مسجد بني حنيفة فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة فرجع إلى ابن مسعود فذكر ذلك له فبعث
إليهم فأتي بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم الا رجلا منهم يقال له ابن النواحة قال قد أتيت بك مرة
فزعمت أنك قد تبت وأراك قد عدت فقتله ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى (قل للذين كفروا
ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
وروي أن رجلا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ساره به حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يستأذنه
في قتل رجل من المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أليس يشهد ان لا إله الا الله؟) قال بلى ولا شهادة
له، قال (أليس يصلي؟) قال بلى ولا صلاة له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أولئك الذين نهاني الله عن
قتلهم وقد قال الله تعالى (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا الا الذين تابوا)
وروي أن محش بن حمير كان في النفر الذين أنزل الله فيهم (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا
نخوض ونلعب) فاتى النبي صلى الله عليه وسلم وتاب إلى الله تعالى فقبل الله توبته وهو الطائفة التي عني الله تعالى
79

بقوله (ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) فهو الذي عفا الله عنه وسأل الله تعالى ان يقتل في
سبيله ولا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ولم يعلم موضعه ولان النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين بما أظهروا
من الشهادة مع اخبار الله تعالى له بباطنهم بقوله تعالى (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم
قوم يفرقون) وغيرها من الآيات وحديث ابن مسعود حجة في قبول توبتهم مع استسرارهم بكفرهم
واما قتله ابن النواحة فيحتمل انه قتله لظهور كذبه في توبته لأنه أظهرها وتبين انه ما زال عما
كان عليه من كفره ويحتمل أنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم له حين جاء رسولا لمسيلمة (لولا أن الرسل لا
تقتل لقتلتك) فقتله تحقيقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه قتله لذلك.
وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت
أحكام الاسلام في حقهم وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه لمن تاب واقلع ظاهرا أم باطنا
فلا خلاف فيه فإن الله تعالى قال في المنافقين (الا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم
لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما)
(فصل) وقتل المرتد إلى الإمام حرا كان أو عبدا وهذا قول عامة أهل العلم الا الشافعي في أحد
الوجهين في العبد فإن لسيده قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم) ولان
حفصة قتلت جارية سحرتها ولأنه حق الله تعالى فملك السيد اقامته على عبده كجلد الزاني
80

ولنا انه قتل لحق الله تعالى فكان إلى الإمام كرجم الزاني وكقتل الحر. واما قوله (وأقيموا
لحدود) فلا يتناول القتل للردة فإنه قتل لكفره لاحدا في حقه، واما خبر حفصة فإن عثمان تغيظ عليها
وشق ذلك عليه. وما الجلد في الزنا فإنه تأديب وللسيد تأديب عبده بخلاف القتل فإن قتله غير
الإمام أساء ولا ضمان عليه لأنه محل غير معصوم وسواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها لذلك وعلى من
فعل ذلك التعزير لإساءته وافتياته
(مسألة) قال (وكان ماله فيئا بعد قضاء دينه)
وجملته ان المرتد إذا قتل أو مات على ردته فإنه يبدأ بقضاء دينه وأرش جنايته ونفقة زوجته
وقريبه لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها وأولى ما يوجد من ماله وما بقي من ماله فهو فئ يجعل في
بيت المال. وعن أحمد رواية أخرى تدل على أنه لورثته من المسلمين وعنه انه لقرابته من أهل الدين
الذي انتقل إليه وقد مضت هذه المسألة مستوفاة في الفرائض بما اغنى عن ذكرها ههنا
(فصل) ولا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر أجمع
على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، فعلى هذا ان قتل أو مات زال ملكه بموته وان راجع الاسلام
فملكه باق له وقال أبو بكر يزول ملكه بردته وان ارجاع الاسلام عاد إليه تمليكا مستأنفا لأن عصمة
81

نفسه وماله إنما تثبت باسلامه فزوال إسلامه يزيل عصمتهما كما لو لحق بدار الحرب ولان المسلمين
ملكوا إراقة دمه بردته فوجب ان يملكوا ماله بها وقال أصحاب أبي حنيفة ماله موقوف إن أسلم
تبينا بقاء ملكه وإن مات أو قتل على ردته تبينا زواله من حين ردته قال الشريف أبو جعفر هذا ظاهر
كلام احمد وعن الشافعي ثلاثة أقوال كهذه الثلاثة
ولنا انه سبب يبيح دمه فلم يزل ملكه كزنا المحصن والقتل لمن يكافئه عمدا وزوال العصمة
لا يلزم منه زوال الملك بدليل الزاني المحصن والقاتل في المحاربة وأهل الحرب فإن ملكهم ثابت مع
عصمتهم ولو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه لكن يباح قتله لكل أحد من غير استتابة واخذ
ماله لمن قدر عليه لأنه صار حربيا حكمه حكم أهل الحرب وكذلك لو ارتد جماعة وامتنعوا في دارهم عن طاعة
إمام المسلمين زالت عصمتهم في أنفسهم وأموالهم لأن الكفار الأصليين لا عصمه لهم في دارهم فالمرتد أولى
(فصل) ويؤخذ مال المرتد فيجعل عند ثقة من المسلمين وإن كان له إماء جعلن عند امرأة
ثقة لأنهن محرمات عليه فلا يمكن منهن. وذكر القاضي انه يؤجر عقاره وعبيد وإماءه والأولى
ان لا يفعل لأن مدة انتظاره قريبة ليس في انتظاره فيها ضرر فلا يفوت عليه منافع ملكه فيما لا يرضاه
من اجلها فإنه ربما راجع الاسلام فيمتنع عليه التصرف في ماله بإجارة الحاكم له، وإن لحق بدار الحرب
أو تعذر قتله مدة طويلة فعل الحاكم ما يرى الحظ فيه من بيع الحيوان الذي يحتاج إلى النفقة وغيره
وإجارة ما يرى ابقاءه والمكاتب يؤدي إلى الحاكم فإذا أدى عتق لأن نائب عنه
82

(فصل) وتصرفات المرتد في ردته بالبيع والهبة والعتق والتدبير والوصية ونحو ذلك موقوف
ان أسلم تبينا ان تصرفه كان صحيحا، وان قتل أو مات على ردته كان باطلا وهذا قول أبي حنيفة
وعلى قول أبي بكر تصرفه باطل لأنه ملكه قد زال بردته وهذا أحد أقوال الشافعي، وقال في
الآخر ان تصرف قبل الحجر عليه انبنى على الأقوال الثلاثة، وان تصرف بعد الحجر عليه
لم يصح تصرفه كالسفيه
ولنا ان ملكه تعلق به حق غيره مع بقاء ملكه فيه فكان تصرفه موقوفا كتبرع المريض
(فصل) وان تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقر على النكاح وما منع الاقرار على النكاح منع
انعقاده كنكاح الكافر المسلمة، وان زوج لم يصح تزويجه لأن ولايته على موليته قد زالت بردته
وان زوج أمته لم يصح لأن النكاح لا يكون موقوفا ولان النكاح وإن كان في الأمة فلا بد في عقده
من ولاية صحيحة بدليل ان المرأة لا يجوز أن تزوج أمتها وكذلك الفاسق والمرتد لا ولاية له
فإنه أدنى حالا من الفاسق الكافر
(فصل) وان وجد من المرتد سبب يقتضي الملك كالصيد والاحتشاش والاتهاب والشراء
وإيجار نفسه إجارة خاصة أو مشتركة ثبت الملك له لأنه أهل للملك وكذلك تثبت أملاكه. ومن قال إن
ملكه يزول لم يثبت له ملكا لأنه ليس بأهل للملك ولهذا زالت أملاكه الثابتة له فإن راجع الاسلام
83

احتمل أن لا يثبت له شئ أيضا لأن السبب لم يثبت حكمه. واحتمل ان يثبت الملك له حينئذ لأن
السبب موجود وإنما امتنع ثبوت حكمه لعدم أهليته فإذا وجدت تحقق الشرط فيثبت الملك
حينئذ كما تعود إليه أملاكه التي زالت عنه عند عدم أهليته. فعلى هذا إن مات أو قتل ثبت الملك لمن
ينتقل إليه ملكه لأن هذا في معناه
(فصل) وان لحق المرتد بدار الحرب فالحكم فيه كالحكم فيمن هو في دار الاسلام إلا أن
ما كان معه من ماله يصير مباحا لمن قدر عليه كما أبيح دمه، وأما أملاكه وماله الذي في دار الاسلام
فملكه ثابت فيه ويتصرف فيه الحاكم بما يرى المصلحة فيه. وقال أبو حنيفة يورث مالكه كما لو مات لأنه
قد صار في حكم الموتى بدليل حل دمه وماله الذي معه لكل من قدر عليه
ولنا انه حي فلم يورث كالحربي الأصلي وحل دمه لا يوجب توريث ماله بدليل الحربي الأصلي
وإنما حل ماله الذي معه لأنه زال العاصم له فأشبه مال الحربي الذي في دار الحرب وأما الذي في دار
الاسلام فهو باق على العصمة كمال الحربي الذي مع مضاربه في دار الاسلام أو عند مودعه
84

(مسألة) قال (ومن ترك الصلاة دعي إليها ثلاثة أيام فإن صلى والا قتل جاحدا
تركها أو غير جاحد)
قد سبق شرح هذه المسألة في باب مفرد لها ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحدا
لوجوبها، إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الاسلام والناشئ
بغير دار الاسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره وعرف ذلك وتثبت له أدلة
وجوبها فإن جحدها بعد ذلك كفر، وأما إذا كان الجاحد لها ناشئا في الأمصار بين أهل العلم فإنه
يكفر بمجرد جحدها، وكذلك الحكم في مباني الاسلام كلها وهي الزكاة والصيام والحج لأنها مباني
الاسلام وأدلة وجوبها لا تكاد تخفى إذا كان الكتاب والسنة مشحونين وبادلتها والاجماع منعقد عليها
فلا يجحدها إلا معاند للاسلام يمتنع من التزام الأحكام غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة ورسوله ولا اجماع أمته
(فصل) ومن اعتقد حل شئ أجمع على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة فيه
للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر لما ذكرنا في تارك
الصلاة، وان استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك وإن كان بتأويل
85

كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم
وفعلهم لذلك متقربين به إلى الله تعالى وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق في زمنه
متقربا بذلك، ولا يكفر المادح له على هذا المتمني مثل فعله فإن عمران بن حطان قال فيه يمدحه لقتل علي
يا ضربة من تقي ما أراد بها * الا ليبلغ عند الله رضوانا
إني لا ذكره يوما فأحسبه * أو في البرية عند الله ميزانا
وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم
واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم وكذلك يخرج في كل
محرم استحل بتأويل مثل هذا، وقد روي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلا لها فأقام عمر
عليه الحد ولم يكفره وكذلك أبو جندل بن سهيل وجماعة معه شربوا الخمر بالشام مستحلين لها
مستدلين بقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فلم يكفروا
وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم عليهم الحد، فيخرج فيمن كان مثلهم مثل حكمهم وكذلك كل جاهل
بشئ يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك
وقد قال أحمد من قال الخمر حلال فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وهذا محمول
على من لا يخفى على مثله تحريمه لما ذكرنا، فأما ان اكل لحكم خنزير أو ميتة أو شرب خمرا لم يحكم بردته
86

بمجرد ذلك سواء فعله في دار الحرب أو دار الاسلام لأنه يجوز أن يكون فعله معتقدا تحريمه
كما يفعل غير ذلك من المحرمات
(مسألة) قال (وذبيح المرتد حرام وان كانت ردته إلى دين أهل الكتاب)
هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال إسحاق: ان تدين بدين أهل الكتاب حلت
ذبيحته ويحكى ذلك عن الأوزاعي لأن عليا رضي الله عنه قال من تولى قوما فهو منهم
ولنا انه كافر لا يقر على دينه فلم تحل ذبيحته كالوثني ولأنه لا تثبت له أحكام أهل الكتاب إذا
تدين بدينهم فإنه لا يقر بالجزية ولا يسترق ولا يحل نكاح المرتدة، وأما قول علي: فهو منهم فلم يرد به
انه منهم في جميع الأحكام بدليل ما ذكرنا ولأنه لم يكن يرى حل ذبائح نصارى بني تغلب ولا نكاح
نسائهم مع توليتهم للنصارى ودخولهم في دينهم ومع إقرارهم بما صولحوا عليه فلان لا يعتقد ذلك في المرتدين
أولى. إذا ثبت هذا فإنه إذا ذبح حيوانا لغيره بغير اذنه ضمنه بقيمته حيا لأنه أتلفه عليه وحرمه
وان ذبحه باذنه لم يضمنه لأنه اذن في إتلافه
87

(مسألة) قال (والصبي إذا كان له عشر سنين وعقل الاسلام فأسلم فهو مسلم)
وجملته ان الصبي يصح اسلامه في الجملة وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق وابن أبي شيبة
وأبو أيوب. وقال الشافعي وزفر لا يصح اسلامه حتى يبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة:
عن الصبي حتى يبلغ) حديث حسن. ولأنه قول تثبت به الأحكام فلم يصح من الصبي كالهبة ولأنه أحد
من رفع القلم عنه فلم يصح اسلامه كالمجنون والنائم ولأنه ليس بمكلف أشبه الطفل
ولنا عموم قوله عليه السلام (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وقوله (أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على
الله) وقال عليه السلام (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه حتى يعرب عنه لسانه
إما شاكرا وإما كفورا) وهذا الاخبار يدخل في عمومها الصبي، ولان الاسلام عبادة محضة فصحت
من الصبي العاقل كالصلاة والحج، ولان الله تعالى دعا عباده إلى دار السلام وجعل طريقها الاسلام
وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم والعذاب الأليم فلا يجوز منع الصبي من إجابة دعوة الله مع إجابته
إليها وسلوكه طريقها ولا إلزامه بعذاب الله والحكم عليه بالنار وسد طريق النجاة عليه مع هربه
منها، ولان ما ذكرناه اجماع فإن عليا رضي الله عنه أسلم صبيا وقال
سبقتكم إلى الاسلام طرا * صبيا ما بلغت أوان حلم
88

ولهذا قيل أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن العبيد بلال،
وقال عروة أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان سنين وبايع النبي صلى الله عليه وسلم ابن الزبير لسبع أو ثمان سنين ولم
يرد النبي صلى الله عليه وسلم على أحد اسلامه من صغير ولا كبير فاما قول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاث) فلا
حجة لهم فيه فإن هذا يقتضي أن لا يكتب عليه ذلك والاسلام يكتب له لا عليه ويسعد به في الدنيا
والآخرة فهو كالصلاة تصح منه وتكتب له وان لم تجب عليه وكذلك غيرها من العبادات المحضة
فإن قيل فإن الاسلام يوجب الزكاة عليه في ماله ونفقة قريبه المسلم ويحرمه ميراث قريبه الكافر
ويفسخ نكاحه قلنا اما الزكاة فإنها نفع لأنها سبب الزيادة والنماء وتحصين المال والثواب. وأما الميراث
والنفقة فامر متوهم وهو مجبور بميراثه من أقاربه المسلمين وسقوط نفقة أقاربه الكفار ثم إن هذا
الضرر مغمور في جنب ما يحصل له من سعادة الدنيا والآخرة وخلاصه من شقاء الدارين والخلود
في الجحيم فينزل منزلة الضرر في أكل القوت المتضمن فوت ما يأكله وكلفة تحريك فيه لما كان
بقاؤه به لم يعد ضررا والضرر في مسئلتنا في جنب ما يحصل من النفع أدنى من ذلك بكثير
إذا ثبت هذا فإن الخرقي اشترط لصحة اسلامه شرطين (أحدهما) أن يكون له عشر سنين
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضربه على الصلاة لعشر
(والثاني) أن يعقل الاسلام ومعناه أن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له وأن محمدا عبده
89

ورسوله وهذا لا خلاف في اشتراطه فإن الطفل الذي لا يعقل لا يتحقق منه اعتقاد الاسلام وإنما
كلامه لقلقة بلسانه لا يدل على شئ وأما اشتراط العشر فإن أكثر المصححين لا سلامه لم يشترطوا
ذلك ولم يحدوا له حدا من السنين وحكاه ابن المنذر عن أحمد لأن المقصود متى ما حصل لا حاجة
إلى زيادة عليه وروي عن أحمد إذا كان ابن سبع سنين فاسلامه اسلام وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(مروهم بالصلاة لسبع) فدل على أن ذلك حد لأمرهم وصحة عباداتهم فيكون حدا لصحة اسلامهم
وقال ابن أبي شيبه إذا أسلم وهو ابن خمس سنين جعل اسلامه اسلاما ولعله يقول إن عليا عليه السلام
أسلم وهو ابن خمس سنين لأنه قد قيل إنه مات وهو ابن ثمان وخمسين. فعلى هذا يكون اسلامه وهو ابن
خمس لأن مدة النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن مات ثلاث وعشرون سنة وعاش علي بعد ذلك ثلاثين سنه
فدلك ثلاث وخمسون فإذا ضممت إليها خمسا كانت ثمانيا وخمسون
وقال أبو أيوب أجيز إسلام ابن ثلاث سنين، ومن أصاب الحق من صغير أو كبير أجزناه
وهذا لا يكاد يعقل الاسلام ولا يدري ما يقول؟ ولا يثبت لقوله حكم فإن وجد ذلك منه ودلت أحواله
وأقواله على معرفة الاسلام وعقله إياه صح منه كغيره والله أعلم
90

(مسألة) قال (فإن رجع وقال لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى قوله وأجبر على الاسلام)
وجملته ان الصبي إذا أسلم وحكمنا بصحة اسلامه لمعرفتنا بعقله بادلته فرجع وقال لم ادر ما قلت
لم يقبل قوله ولم يبطل اسلامه الأول. وروي عن أحمد انه يقبل منه ولا يجبر على الاسلام قال أبو
بكر هذا قول محتمل لأن الصبي في مظنة النقص فيجوز أن يكون صادقا قال والعمل على الأول لأنه
قد ثبت عقله للاسلام ومعرفته به بافعاله أفعال العقلاء وتصرفاته تصرفاتهم وتكلمه بكلامهم وهذا
يحصل به معرفة عقله ولهذا اعتبرنا رشده بعد بلوغه بافعاله وتصرفاته وعرفنا جنون المجنون وعقل
العاقل بما يصدر عنه من أفعاله وأقواله وأحواله فلا يزول ما عرفناه بمجرد دعواه وهكذا كل من
تلفظ بالاسلام أو أخبر عن نفسه به ثم أنكر معرفته بما قال لم يقبل انكاره وكان مرتدا نص عليه
احمد في مواضع. إذا ثبت هذا فإنه إذا ارتد صحت ردته وبهذا قال أبو حنيفة وهو الظاهر من مذهب
91

مالك وعند الشافعي لا يصح اسلامه ولا ردته. وقد روي عن أحمد انه يصح اسلامه ولا تصح ردته
لقوله عليه السلام (رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ) وهذا يقتضي ان لا يكتب عليه
ذنب ولا شئ ولو صحت ردته لكتبت عليه
وأما الاسلام فلا يكتب عليه إنما يكتب له ولان الردة أمر يوجب القتل فلم يثبت حكمه في
حق الصبي كالزنا ولان الاسلام إنما صح منه لأنه تمحض مصلحة فأشبه الوصية والتدبير والردة
تمحضت مضرة ومفسدة فلم تلزم صحتها منه فعلى هذا حكمه حكم من لم يرتد فإذا بلغ فإن أصر على
الكفر كان مرتدا حينئذ
(مسألة) قال (ولا يقتل حتى يبلغ ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام فإن ثبت على كفره قتل)
وجملته أن الصبي لا يقتل سواء قلنا بصحة ردته أو لم نقل لأن الغلام لا يجب عليه عقوبة بدليل
أنه لا يتعلق به حكم الزنا والسرقة في سائر الحدود ولا يقتل قصاصا فإذا بلغ فثبت على ردته ثبت
حكم الردة حينئذ فيستتاب ثلاثا فإن تاب والا قتل سواء قلنا إنه كان مرتدا قبل بلوغه أو لم نقل
وسواء كان مسلما أصليا فارتد أو كان كافرا فأسلم صبيا ثم ارتد
92

(مسألة) قال (وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب لم يجر عليهما ولا على أحد من
أولادهما ممن كانوا قبل الردة رق)
وجملته ان الرق لا يجري على المرتد سواء كان رجلا أو امرأة وسواء لحق بدار الحرب أو أقام
بدار الاسلام وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لحقت المرتد بدار الحرب جاز استرقاقها لأن
أبا بكر سبى بني حنيفة واسترق نساءهم وأم محمد بن الحنفية من سبيهم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه (ولأنه لا يجوز اقراره على كفره فلم يجز استرقاقه
كالرجل ولم يثبت ان الذين سباهم أبو بكر كانوا أسلموا ولا ثبت لهم حكم الردة. فإن قيل فقد روي عن علي ان المرتدة تسبى قلنا هذا الحديث ضعيف ضعفه احمد فاما أولاد المرتد بن فإن كانوا
ولدوا قبل الردة فإنهم محكوم باسلامهم تبعا لآبائهم ولا يتبعونهم في الردة لأن الاسلام يعلو وقد
تبعوهم فيه فلا يتبعونهم في الكفر فلا يجوز استرقاقهم صغارا لأنهم مسلمون ولا كبارا لأنهم ان ثبتوا
على اسلامهم بعد كفرهم فهم مسلمون وان كفروا فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة
وتحريم الاسترقاق. واما من حدث بعد الردة فهو محكوم بكفره لأنه ولد بين أبوين كافرين ويجوز
استرقاقه لأنه ليس بمرتد نص عليه احمد وهو ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر ويحتمل ان لا يجوز
استرقاقهم لأن آباءهم لا يجوز استرقاقهم ولأنهم لا يقرون بالجزية فلا يقرون بالاسترقاق وهذا
93

مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: ان ولدوا في دار الاسلام لم يجز استرقاقهم، وان ولدوا
في دار الحرب جاز استرقاقهم
ولنا انهم لم يثبت لهم حكم الاسلام فجاز استرقاقهم كولد الحربيين بخلاف آبائهم. فعلى هذا إذا
وقع في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب فحكمه حكم سائر أهل دار الحرب وإن كان في دار الاسلام لم يقر
بالجزية وكذلك لو بذل الجزية بعد لحوقه بدار الحرب لم يقربها لأنه انتقل إلى الكفر بعد نزول
القرآن. فاما من كان حملا حين ردته فظاهر كلام الخرقي انه كالحادث بعد كفره وعند الشافعي هو
كالمولود لأنه موجود ولهذا يرث
ولنا ان أكثر الأحكام إنما تتعلق به بعد الوضع فكذلك هذا الحكم
(مسألة) قال (ومن امتنع منهما أو من أولادهما الذين وصفت ومن الاسلام بعد البلوغ
استتيب ثلاثا فإن لم يثب قتل)
قوله: الذين وصفت يعني الذين ولدوا قبل الردة فإنهم محكوم باسلامهم فلا يسترقون ومتى قدر
على الزوجين أو على أولادهما استتيب منهم من كان بالغا عاقلا فإن لم يتب قتل ومن كان غير بالغ
انتظرنا بلوغه ثم استتبناه فإن لم يثب قتل وينبغي أن يحبس حتى لا يهرب
94

فصل) ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيه أحكامهم صاروا دار حرب في اغتنام أموالهم وسبي
ذراريهم الحادثين بعد الردة وعلى الإمام قتالهم فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل أهل الردة بجماعة
الصحابة ولان الله تعالى قد أمر بقتال الكفار في مواضع من كتابه وهؤلاء أحقهم بالقتال لأن تركهم
ربما أغرى أمثالهم بالتشبه بهم والارتداد معهم فيكثر الضرر بهم وإذا قاتلهم قتل من قدر عليه ويتبع
مدبرهم ويجاز على جريحهم وتغنم أموالهم وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة لا تصير دار حرب حتى
تجمع فيها ثلاثة أشياء: أن تكون متاخمة لدار الحرب لا شئ بينهما من دار الاسلام (الثاني) ان لا يبقى
فيها مسلم ولا ذمي آمن (الثالث) ان تجري فيها أحكامهم
ولنا أنها دار كفار فيها أحكامهم فكانت دار حرب كما لو اجتمع فيها هذه الخصال أو دار الكفرة الأصليين
(فصل) وان قتل المرتد من يكافئه عمدا فعليه القصاص نص عليه احمد والولي مخير بين قتله
والعفو عنه فإن اختار القصاص قدم على قتل الردة سواء تقدمت الردة أو تأخرت لأنه حق آدمي
وإن عفا على مال وجبت الدية في ماله وإن كان القتل خطأ وجبت الدية في ماله لأنه لا عاقلة له قال
القاضي وتؤخذ منه الدية في ثلاث سنين لأنها دية الخطأ فإن قتل أو مات أخذت من ماله في الحال
لأن الدين المؤجل يحل بالموت في حق من لا وارث له، ويحتمل ان تجب الدية عليه حالة لأنها إنما
أجلت في حق العاقلة تخفيفا عليهم لأنهم يحملون عن غيرهم على سبيل المواساة فاما الجاني فتجب عليه
حالة لأنها بدل عن متلف فكانت حالة كسائر ابدال المتلفات
95

(مسألة) قال (ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له)
وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي إذا أسلم أبواه أو أحدهما وأدرك فأبى الاسلام أجبر
عليه ولم يقتل، وقال مالك ان أسلم الأب تبعه أولاده وإن أسلمت الام لم يتبعوها لأن ولد الحربيين
يتبع أباه دون أمه بدليل الموليين إذا كان لهما ولد كان ولاؤه لمولى أبيه دون مولى أمه ولو كان الأب
عبدا أو الام مولاة فاعتق العبد لجر ولاء ولده إلى مواليه ولان الولد يشرف بشرف أبيه وينتسب إلى
قبيلته دون قبيلة أمه فوجب ان يتبع أباه في دينه اي دين كان، وقال الثوري إذا بلع خير بين دين
أبيه ودين أمه فأيهما اختاره كان على دينه ولعله يحتج بحديث الغلام الذي أسلم أبوه وأبت أمه أن تسلم
فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أبيه وأمه
ولنا ان الولد يتبع أبويه في الدين فإن اختلفا وجب ان يتبع المسلم منهما كولد المسلم من الكتابية
ولان الاسلام يعلو ولا يعلى ويترجح الاسلام بأشياء منها انه دين الله الذي رضيه لعباده وبعث به رسله
دعاة لخلقه إليه ومنها انه تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة ويتخلص به في الدنيا من القتل والاسترقاق
وأداء الجزية وفي الآخرة من سخط الله وعذابه ومنها ان الدار دار الاسلام يحكم باسلام لقيطها ومن
لا يعرف حاله فيها وإذا كان محكوما باسلامه أجبر عليه إذا امتنع منه بالقتل كولد المسلمين ولأنه مسلم
فإذا رجع عن إسلامه وجب قتله لقوله عليه السلام (من بدل دينه فاقتلوه) وبالقياس على غيره
96

ولنا على مالك ان الام أحد الأبوين فيتبعها ولدها في الاسلام كالأب بل الام أولى به لأنها
أخص به لأنه مخلوق منه حقيقة وتختص بحمله ورضاعه ويتبعها في الرق والحرية والتدبير والكتابة
ولان سائر الحيوانات يتبع الولد أمه دون أبيه وهذا يعارض ما ذكره. وأما تخيير الغلام فهو
في الحضانة لا في الدين
(مسألة) قال (وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له الميراث وكان مسلما
بموت من مات منهما)
يعني إذا مات أحد أبوي الولد الكافرين صار الولد مسلما بموته وقسم له الميراث وأكثر
الفقهاء على أنه لا يحكم باسلامه بموتهما ولا موت أحدهما لأنه يثبت كفره تبعا ولم يوجد منه اسلام ولا ممن
هو تابع له فوجب إبقاؤه على ما كان عليه ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولاعن أحد من خلفائه انه
أجبر أحدا من أهل الذمة على الاسلام بموت أبيه مع أنه لم يخل زمنهم عن موت بعض أهل الذمة عن يتيم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)
متفق عليه فجعل كفره بفعل أبويه فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب ابقاؤه على الفطرة التي
ولد عليها ولان المسألة مفروضة فيمن مات أبوه في دار الاسلام وقضية الدار الحكم باسلام أهلها
97

ولذلك حكمنا باسلام لقيطها وإنما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان فإذا عدما أو أحدهما وجب
ابقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته لمن يكفر بها، وإنما قسم له الميراث لأن اسلامه إنما ثبت بموت
أبيه الذي استحق به الميراث فهو سبب لهما فلم يتقدم الاسلام المانع من الميراث على استحقاقه، ولان
الحرية المعلقة بالموت لا توجب الميراث فيما إذا قال سيد العبد له إذا مات أبوك فأنت حر فمات أبوه
فإنه يعتق ولا يرث فيجب أن يكن الاسلام المعلق بالموت لا يمنع الميراث وهذا فيما إذا كان في دار
الاسلام لأنه متى انقطعت تبعيته لا بويه أو أحدهما ثبت له حكم الدار، فاما دار الحرب فلا نحكم باسلام
ولد الكفارين فيها بموتهما ولا موت أحدهما لأن الدار لا يحكم باسلام أهلها وكذلك لم نحكم باسلام لقيطها
(مسألة) قال (ومن شهد عليه بالردة فقال ما كفرت فإن شهد ان لا إله الا الله وأن
محمد رسول الله لم يكتف عن شئ)
الكلام في هذه المسألة في فصلين:
(أحدهما) أنه إذا شهد عليه بالردة من تثبت الردة بشهادته فأنكر لم يقبل انكاره واستتيب
فإن تاب والا قتل وحكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة أن إنكاره يكفي في الرجوع إلى الاسلام
ولا يلزمه النطق بالشهادة لأنه لو أقر بالكفر ثم أنكره قبل منه ولم يكلف الشهادتين كذا ههنا
98

ولنا ما روى الأثرم باسناده عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل عربي قد تنصر فاستتابه فأبى
ابن يتوب فقتله وأتي برهط يصلون وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا
وقالوا ليس لنا دين إلا اسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال أتدرون لم استتبت النصراني؟ استتبته لأنه
أظهر دينه، فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا وقد قامت عليهم البينة
ولأنه قد ثبت كفره فلم يحكم باسلامه بدون الشهادتين كالكافر الأصلي، ولان انكاره تكذيب
للبينة فلم تسمع كسائر الدعاوى، فأما إذا أقر بالكفر ثم أنكر فيحتمل أن نقول فيه كمسئلتنا وإن
سلمنا فالفرق بينهما أن الحد وجب بقوله فقبل رجوعه عنه وما ثبت بالبينة لم يثبت بقوله فلا يقبل رجوعه
عنه كالزنا لو ثبت بقوله فرجع كف عنه وان ثبت ببينه لم يقبل رجوعه
(فصل) وتقبل الشهادة على الردة من عدلين في قول أكثر أهل العلم، وبه يقول مالك والأوزاعي
والشافعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا خالفهم الا الحسن قال لا يقبل في القتل الا
أربعة لأنها شهادة بما يوجب القتل فلم يقبل فيها الا أربعة قياسا على الزنا
ولنا انها شهادة في غير الزنا فقبلت من عدلين كالشهادة على السرقة، ولا يصح قياسه على الزنا
فإنه لم يعتبر فيه الأربعة لعلة القتل بدليل اعتبار ذلك في زنا البكر ولا قتل فيه وإنما العلة
99

كونه زنا ولم يوجد ذلك في الردة ثم الفرق بينهما أن القذف بالزنا يوجب ثمانين جلدة
بخلاف القذف بالردة.
(الفصل الثاني) انه إذا ثبتت ردته بالبينة أو غيرها فشهد ان لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله
لم يكشف عن صحة ما شهد عليه به خلي سبيله ولا يكلف الاقرار بما نسب إليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها
وحسابهم على الله عز وجل) متفق عليه ولان هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي فكذلك اسلام المرتد
ولا حاجة مع ثبوت اسلامه إلى الكشف عن صحة ردته، وكلام الخرقي محمول على من كفر بجحد
الوحدانية أو جحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو جحدهما معا، فأما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا
باقرار بما جحده ومن أقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنكر كونه مبعوثا إلى العالمين لا يثبت إسلامه
حتى يشهد أن محمدا رسول الله إلى الخلق أجمعين أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الاسلام
وان زعم أن محمدا رسول مبعوث بعد غير هذا لزمه الاقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله لأنه إذا
اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده، وان ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد
الشهادتين لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده، وكذلك أن جحد نبيا أو آية من كتاب الله تعالى
أو كتابا من كتبه أو ملكا من ملائكته الذين ثبت انهم ملائكة الله، أو استباح محرما فلا بد في
100

إسلامه من الاقرار بما جحده. واما الكفار بجحد الدين من أصله إذا شهد ان محمدا رسول الله
واقتصر على ذلك ففيه روايتان
(إحداهما) يحكم باسلامه لأنه روي أن يهوديا قال اشهد ان محمدا رسول الله ثم مات فقال النبي
صلى الله عليه وسلم (صلوا على صاحبكم) ولأنه لا يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الا وهو مقر بمن أرسله وبتوحيده لأنه
صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وقد جاء بتوحيده
(الثانية) أنه إن كان مقرا بالتوحيد كاليهود حكم باسلامه لأن توحيد الله ثابت في حقه وقد
ضم إليه الاقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكمل إسلامه، وإن كان غير موحد كالنصارى والمحبوس والوثنيين
لم يحكم باسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وبهذا جاءت أكثر الاخبار وهو الصحيح لأن من جحد
شيئين لا يزول جحدهما إلا باقراره بهما جميعا، وإن قال أشهد أن النبي رسول الله لم نحكم باسلامه
لأنه يحتمل أن يريد غير نبنا، وإن قال أنا مؤمن أو أنا مسلم فقال القاضي يحكم باسلامه بهذا،
وإن لم يلفظ بالشهادتين لأنهما اسمان لشئ معلوم معروف وهو الشهادتان فإذا أخبر عن نفسه بما
تضمن الشهادتين كان مخبرا بهما، وروى المقداد أنه قال يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من
101

الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجره فقال أسلمت أفأقتله يا رسول
الله بعد أن قالها؟ قال (لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وانك بمنزلته قبل أن يقول
كلمته التي قالها) وعن عمران بن حصين قال أصاب المسلمون رجلا من بني عقيل فأتوا به النبي
صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد اني مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو كنت قلت وأنت تملك امرك أفلحت كل
الفلاح) رواهما مسلم ويحتمل ان هذا في الكافر الأصلي أو من جحد الوحدانية اما من كفر
بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحوها فلا يصير مسلما بذلك لأنه ربما اعتقد ان الاسلام ما هو عليه
فإن أهل البدع كلهم يعتقدون انهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر
(فصل) وإذا أتى الكافر بالشهادتين ثم قال لم أرد الاسلام فقد صار مرتدا ويجبر على الاسلام
نص عليه احمد في رواية جماعة، ونقل عن أحمد انه يقبل منه ولا يجبر على الاسلام لأنه يحتمل
الصدق فلا يراق دمه بالشبهة والأول أولى لأنه قد حكم باسلامه فيقتل إذا رجع كما لو طالت مدته
(فصل) وإذا صلى الكافر حكم باسلامه سواء كان في دار الحرب أو دار الاسلام أو صلى جماعة
102

أو فرادى، وقال الشافعي إن صلى في دار الحرب حكم باسلامه وإن صلى في دار الاسلام لم يحكم
باسلامه لأنه يحتمل انه صلى رياء وتقية
ولنا أن ما كان اسلاما في دار الحرب كان اسلاما في دار الاسلام كالشهادتين ولان الصلاة
وكن يختص به الاسلام فحكم باسلامه به كالشهادتين واحتمال التقية والرياء يبطل بالشهادتين وسواء
كان أصليا أو مرتدا، وأما سائر الأركان من الزكاة والصيام والحج فلا يحكم باسلامه به
فإن المشركين كانوا يحجون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى منعهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال (لا يحج بعد
العام مشرك) والزكاة صدقة وهم يتصدقون وقد فرض على نصارى بني تغلب من الزكاة مثلي
ما يؤخذ من المسلمين ولم يصيروا بذلك مسلمين، وأما الصيام فلكل أهل دين صيام ولان الصيام
ليس بفعل إنما هو امساك عن أفعال مخصوصة في وقت مخصوص وقد يتفق هذا مع الكافر كاتفاقه
من المسلم ولا عبرة بنية الصيام لأنها أمر باطن لاعلم لنا به بخلاف الصلاة فإنها أفعال تتميز عن
أفعال الكافر ويختص بها أهل الاسلام ولا يثبت الاسلام حتى يأتي بصلاة يتميز بها عن صلاة
الكفار من استقبال قبلتنا والركوع والسجود ولا يحصل بمجرد القيام لأنهم يقومون في صلاتهم
ولا فرق بين الأصلي والمرتد في هذا لأن ما حصل به الاسلام في الأصلي حصل به في حق المرتد
103

كالشهادتين، فعلى هذا لو مات المرتد فأقام ورثته بينه انه صلى بعد ردته حكم لهم بالميراث إلا أن
يثبت انه ارتد بعد صلاته أو تكون ردته بجحد فريضة أو كتاب أو نبي أو ملك أو نحو ذلك من
البدع التي ينتسب أهلها إلى الاسلام فإنه لا يحكم باسلامه بصلاته لأنه يعتقد وجوب الصلاة ويفعلها
مع كفره فأشبه فعله غيرها ولله اعلم
(فصل) وإذا أكره على الاسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم لم يثبت له حكم
الاسلام حتى يوجد منه ما يدل على اسلامه طوعا مثل ان يثبت على الاسلام بعد زوال الاكراه عنه
فإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وان رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا اكراهه على
الاسلام وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال محمد بن الحسن يصير مسلما في الظاهر وإن رجع عنه قتل
إذا امتنع عن الاسلام لعموم قوله عليه السلام (أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها
عصموا مني دماء هم وأموالهم إلا بحقها) ولأنه أتى بقول الحق فلزمه حكمه كالحربي إذا أكره عليه
ولنا انه أكره على مالا يجوز اكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالمسلم إذا أكره على الكفر
والدليل على تحريم الاكراه قوله تعالى (لا إكراه في الدين) وأجمع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام
104

على ما عوهد عليه والمستأمن لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه ولأنه أكره على مالا
يجوز اكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالاقرار والعتق وفارق الحربي والمرتد فإنه يجوز قتلهما
واكراههما على الاسلام بأن يقول إن أسلمت وإلا قتلناك فمتى أسلم حكم باسلامه ظاهرا وإن مات
قبل زوال الاكراه عنه فحكمه حكم المسلمين لأنه أكره بحق فحكم بصحة ما يأتي به كما لو أكره
المسلم على الصلاة فصلى، وأما في الباطن فيما بينهم وبين ربهم فإن من اعتقد الاسلام بقلبه وأسلم فيما
بينه وبين الله تعالى فهو مسلم عند الله موعود بما وعد به من أسلم طائعا، ومن لم يعتقد الاسلام
بقلبه فهو باق على كفره لاحظ له في الاسلام سواء في هذا من يجوز اكراهه ومن لا يجوز اكراهه
فإن الاسلام لا يحصل بدون اعتقاده من العاقل بدليل ان المنافقين كانوا يظهرون الاسلام ويقومون
بفرائضه ولم يكونوا مسلمين
(فصل) ومن أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا وبهذا قال مالك وأبو حنيفة
والشافعي وقال محمد بن الحسن هو كافر في الظاهر تبين منه امرأته ولا يرثه المسلمون إن مات
ولا يغسل ولا يصلي عليه وهو مسلم فيما بينه وبين الله لأنه نطق بكلمة الكفر فأشبه المختار.
105

ولنا قول الله تعالى (إلا من أكره وقبله مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا
فعليهم غضب من الله) وروي أن عمار أخذه المشركون فضربوه حتى تكلم بما طلبوا منه ثم أتي
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فأخبره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إن عادوا فعد) وروي أن الكفار كانوا
يعذبون المستضعفين من المؤمنين فما منهم أحد إلا أجابهم إلا بلال فإنه كان يقول أحد أحد
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (عفي لا متي عن الخطا والنسيان وما استكرهوا عليه) ولأنه قول أكره عليه
بغير حق فلم يثبت حكمه كما لو أكره على الاقرار وفارق ما إذا أكره بحق فإنه خير بين أمرين يلزمه
أحدهما فأيهما اختاره ثبت حكمه في حقه، فإذا ثبت انه لم يكفر فمتى زال عنه الاكراه أمر باظهار
اسلامه فإن أظهره فهو باق على اسلامه وإن أظهر الكفر حكم انه كفر من حين نطق به لأننا تبينا
بذلك أنه كان منشرح الصدر بالكفر من حين نطق به مختارا له، وإن قامت عليه بينة انه نطق
بكلمة الكفر وكان محبوسا عند الكفار ومقيدا عندهم في حالة خوف لم يحكم بردته لأن ذلك ظاهر
في الاكراه، وإن شهدت انه كان آمنا حال نطقه به حكم بردته، فإن ادعى ورثته رجوعه إلى
الاسلام لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل بقاؤه على ما هو عليه، وإن شهدت البينة عليه بأكل لحم الخنزير
106

لم يحكم بردته لأنه قد يأكله معتقدا تحريمه كما يشرب الخمر من يعتقد تحريمها، وإن قال بعض
ورثته آكله مستحلا له أو أقر بردته حرم ميراثه لأنه مقر بأنه لا يستحقه ويدفع إلى مدعي اسلامه
قدر ميراثه لأنه لا يدعي أكثر منه يدفع الباقي إلى بيت المال لعدم من يستحقه، فإن كان في الورثة
صغير أو مجنون دفع إليه نصيبه ونصيب المقر بردة الموروث لأنه لم تثبت ردته بالنسبة إليه
(فصل) ومن أكره على كلمة الكفر فالأفضل له ان يصبر ولا يقولها وان اتى ذلك على نفسه
لما روي خباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن كان الرجل ممن قبلكم ليحفر له في الأرض فيجعل فيها
فيجاء بمنشار فيوضع على شق رأسه ويشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديث ما دون
عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه) وجاء في تفسير قوله تعالى (قتل أصحاب الأخدود النار ذات
الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) أن بعض ملوك الكفار اخذ قوما من
المؤمنين فخد لهم أخدودا في الأرض وأوقد فيه نارا ثم قال من لم يرجع عن دينه فالقوه في النار
فجعلوا يلقونهم فيها حتى جاءت امرأة على كتفها صبي لها فتقاعست من اجل الصبي فقال الصبي يا أمه
اصبري فإنك علي الحق فذكرهم الله تعالى في كتابه، وروي الأثرم عن أبي عبد الله انه سئل عن
107

الرجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه اله أن يرتد؟ فكرهه كراهة شديدة وقال ما يشبه هذا
عندي الذي أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون
يعملون ما شاءوا وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم وذلك لأن الذي يكره على
كلمة يقولها ثم يخلى لا ضرر فيها وهذا القيم بينهم يلتزم بإجابتهم إلى الكفر المقام عليه واستحلال
المحرمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المحظورات والمنكرات، وإن كان امرأة
تزوجوها واستولدوها أولادا كفارا وكذلك الرجل وظاهر حالهم المصير إلى الكفر الحقيقي
والانسلاخ من الدين الحنيفي
(مسألة) قال (ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يفيق ويتم له ثلاثة أيام من وقت
ردته فإن مات في سكره مات كافرا)
اختلفت الرواية عن أحمد في ردة السكران فروي عنه انها تصح قال أبو الخطاب وهو أظهر
الروايتين عنه وهو مذهب الشافعي وعنه لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأن ذلك يتعلق بالاعتقاد
108

والقصد والسكران لا يصح عقده ولا قصده فأشبه المعتوه ولأنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم
ولأنه غير مكلف فلم تصح ردته كالمجنون والدليل على أنه غير مكلف ان العقل شرط في التكليف
وهو معدوم في حقه ولهذا لم تصح استتابته
ولنا ان الصحابة رضي الله عنهم قالوا في السكران: إذا سكر هذى وإذا هذا افترى فحدوه حد
المفتري فأوجبوا عليه حدا الفرية التي يأتي بها في سكره وأقاموا مظنتها مقامها ولأنه يصح طلاقه فصحت
ردته كالصاحي وقوهم ليس بمكلف ممنوع فإن الصلاة واجبة عليه وكذلك سائر أركان الاسلام
ويأثم يفعل المحرمات وهذا معنى التكليف ولان السكران لا يزول عقله بالكلية ولهذا يتقي المحذورات
ويفرح بما يسره ويساء بما يضره ويزول سكره عن قرب من الزمان فأشبه الناعس بخلاف النائم
والمجنون واما استتابته فتؤخر إلى حين صحوه ليكمل عقله ويفهم ما يقال له وتزال شبهته إن كان قد
قال الكفر معتقدا له كما تؤخر استتابته إلى حين زوال شدة عطشه وجوعه ويؤخر الصبي إلى حين
بلوغه وكمال عقله ولان القتل جعل للزجر ولا يحصل الزجر في حال سكره وان قتله قاتل في حال سكره
لم يضمنه لأن عصمته زالت بردته وان مات أو قتل لم يرثه ورثته ولا يقتله حتى يتم له ثلاثة أيام ابتداؤها
109

من حين ارتد، فإن استمر سكره أكثر من ثلاث لم يقبل حتى يصحو ثم يستتاب عقيب صحوه
فإن تاب والا قتل في الحال وان أسلم في سكره صح اسلامه ثم يسأل بعد صحوه فإن ثبت على اسلامه
فهو مسلم من حين أسلم لأن اسلامه صحيح وان كفر فهو كافر من الآن لأن اسلامه صح وإنما يسأل
استظهارا وان مات بعد إسلامه في سكره مات مسلما
(فصل) ويصح إسلام السكران في سكره سواء كان كافرا أصليا أو مرتدا لأنه إذا صحت ردته
مع أنها محض مضرة وقول باطل فلان يصح اسلامه الذي هو قول حق ومحض مصلحة أولى فإن رجع
عن اسلامه وقال لم ادر ما قلت لم يلتفت إلى مقالته وأجبر على الاسلام فإن أسلم وإلا قتل ويتخرج
أن لا يصح اسلامه بناء على القول بان ردته لا تصح فإن من لا تصح ردته لا يصح اسلامه كالطفل والمعتوه
(فصل) ولا تصح ردة المجنون ولا إسلامه لأنه لا قول له وان ارتد في حصته ثم جن لم يقتل في
حال جنونه لأنه يقتل بالاصرار على الردة والمجنون لا يوصف بالاصرار ولا يمكن استتابته ولو وجب
عليه القصاص فجن قتل لأن القصاص لا يسقط عنه بسبب من جهته وههنا يسقط برجوعه ولان القصاص
110

إنما يسقط بسبب من جهة المستحق له فنظير مسئلتنا أن يجن المستحق للقصاص فإنه لا يستوفي حال جنونه
(فصل) ومن أصاب حدا ثم ارتد ثم أسلم أقيم عليه حده وبهذا قال الشافعي سواء لحق بدار
الحرب في ردته أو لم يلحق بها. وقال قتادة في مسلم أحدث حدثا ثم لحق بالروم ثم قدر عليه إن كان
ارتد درئ عنه الحد وان لم يكن ارتد أقيم عليه ونحو هذا قال أبو حنيفة والثوري إلا حقوق الناس
لأن ردته أحبطت عمله فأسقطت ما عليه من حقوق الله تعالى كمن فعل ذلك في حال شركه.
ولان الاسلام يجب ما قبله
ولنا انه حق عليه فلم يسقط بردته كحقوق الآدميين. وفارق ما فعله في شركه فإنه لم يثبت حكمه
في حقه. وأما قوله الاسلام (يجب ما قبله) فالمراد به ما فعله في كفره لأنه لو أراد ما قبل ردته أفضى إلى
كون الردة التي هي أعظم الذنوب مكفرة للذنوب وان من كثرت ذنوبه ولزمته حدود يكفر ثم يسلم
فتكفر ذنوبه وتسقط حدوده
(فصل) فاما ما فعله في ردته فقد نقل مهنا عن أحمد قال سألته عن رجل ارتد عن الاسلام فقطع
الطريق وقتل النقس ثم لحق بدار الحرب فاخذه المسلمون فقال تقام فيه الحدود ويقتص منه وسألته
عن رجل ارتد فلحق بدار الحرب فقتل بها مسلما ثم رجع تائبا وقد أسلم فأخذه وليه يكون عليه
111

القصاص؟ فقال قد زال عنه الحكم لأنه إنما قتل وهو مشرك وكذلك أن سرق وهو مشرك ثم توقف
بعد ذلك وقال لا أقول في هذا شيئا
وقال القاضي ما أصاب في ردته من نفس أو مال أو جرح فعليه ضمانه سواء كان في منعة وجماعة
أو لم يكن لأنه التزم حكم الاسلام باقراره فلم يسقط بجحده كمالا يسقط ما التزمه عند الحاكم بجحده
والصحيح ان ما أصابه المرتد بعد لحوقه بدار الحرب أو كونه في جماعة ممتنعة لا يضمنه لما ذكرناه في
آخر الباب الذي قبل هذا وما فعله قبل هذا أخذ به إذا كان مما يتعلق به حق آدمي كالجناية على
نفس أو مال لأنه في دار الاسلام فلزمه حكم جنايته كالذمي والمستأمن. وأما ان ارتكب حدا خالصا
لله تعالى كالزنا وشرب الخمر والسرقة فإنه ان قتل بالردة سقط ما سوى القتل من الحدود لأنه متى
اجتمع مع القتل حد اكتفي بالقتل وان رجع إلى الاسلام اخذ بحد الزنا والسرقة لأنه من أهل دار
الاسلام فأخذ بهما كالذمي والمستأمن وأما حد لخمر فيحتمل ان لا يجب عليه لأنه كافر فلا يقام عليه
حد الخمر كسائر الكفار. ويحتمل أن يجب لأنه أقر بحكم الاسلام قبل ردته وهذا من أحكامه فلم
يسقط بجحده بعده والله أعلم
(فصل) ومن داعى النبوة أو صدق من ادعاها فقد ارتد لأن مسيلمة لما ادعى النبوة فصدقه
قومه صاروا بذلك مرتدين وكذلك طليحة الأسدي ومصدقوه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة
حتى يخرج ثلاثون كذابون كلهم بزعم أنه رسول الله)
112

(فصل) ومن سب الله تعالى كفر سواء كان مازحا أو جادا وكذلك من استهزأ بالله تعالى
أو بآياته أو برسله أو كتبه. قال الله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله
وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم) وينبغي أن لا يكتفى من الهازئ
بذلك بمجرد الاسلام حتى يؤدب أدبا يزجره عن ذلك فإنه إذا لم يكتف ممن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالتوبة فمن سب الله تعالى أولى
(فصل في الحسر)
وهو عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن السحور أو قلبه أو عقله
من غير مباشرة له، وله حقيقة فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها،
ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه وما يبغض أحدهما إلى الآخر أو يجب بين اثنين وهذا قول
الشافعي، وذهب بعض أصحابه إلى أنه لا حقيقة له إنما هو تخييل لأن الله تعالى قال (يخيل إليه من
سحرهم انها تسعى) وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان شيئا يصل إلى بدن المسحور كدخان ونحوه
جاز أن يحصل منه ذلك. فاما أن يحصل المرض والموت من غير أن يصل إلى بدنه شئ فلا يجوز
ذلك لأنه لو جاز لبطلت معجزات الأنبياء عليهم السلام لأن ذلك يخرق العادات، فإذا جاز من
غير الأنبياء بطلت معجزاتهم وأدلتهم
113

ولنا قول الله تعالى (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر
النفاثات في العقد) يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن عليه ولولا أن السحر له حقيقة لما
أمر الله تعالى بالاستعاذة منه. وقال الله تعالى (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت
وماروت إلى قوله فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) وروت عائشة رضي الله عنها
ان النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى أنه ليخيل إليه انه يفعل الشئ وما يفعله وانه قال لها ذات يوم (أشعرت
ان الله تعالى أفتاني فيما استفتيته؟ انه اتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال
ما وجع الرجل؟ قال مطبوب قال من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطه في جف طلعة ذكر في
بئر ذي اروان) ذكره البخاري وغيره. جف الطلعة وعاؤها والمشاطة الشعر الذي يخرج من شعر
الرأس أو غيره إذا مشط. فقط أثبت لهم سحرا
وقد اشتهر بين الناس وجود عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل
عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متواترا لا يمكن جحده. وروي من أخبار السحرة ما
لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه. واما إبطال المعجزات فلا يلزم من هذا لأنه لا يبلغ ما يأتي به
الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم ان ينتهي إلى أن تسعى العصي والحبال
إذا ثبت هذا فإن تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم: قال أصحابنا:
114

ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته. وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر
فإن حنبلا روى عنه قال قال عمي في العراف والكاهن والساحر: أرى ان يستتاب من هذه الأفاعيل
كلها فإنه عندي في معنى المرتد فإن تاب وراجع يعني يخلى سبيله. قلت له يقتل؟ قال لا، يحبس لعله
يرجع قلت له لم لا تقتله؟ قال إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع وهذا يدل على أنه لم يكفره لأنه لو كفره
لقتله. وقوله في معنى المرتد يعني في الاستتابة
وقال أصحاب أبي حنيفة: ان اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء كفر وان اعتقد انه تخييل لم
يكفر. وقال الشافعي: ان اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب السبعة وانها تفعل ما
يلتمس أو اعتقد حل السحر كفر لأن القرآن نطق بتحريمه وثبت بالنقل المتواتر والاجماع عليه، وإلا
فسق ولم يكفر لأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة ولو كفرت لصارت
مرتدة يجب قتلها ولم يجز استرقاقها، ولأنه شئ يضر بالناس فلم يكفر بمجرده كأذاهم
ولنا قول الله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين
كفروا إلى قوله وما يعلمان من احدى حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) أي وما كفر سليمان
اي وما كان ساحرا كفر بسحره، وقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تتعلمه فتكفر بذلك وقد روى
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ان امرأة جاءتها فجعلت تبكي بكاء شديدا وقالت يا أم المؤمنين
ان عجوزا ذهبت بي إلى هاروت وماروت فقلت علماني السحر فقالا اتقي الله ولا تكفري فإنك
115

على رأس امرك فقلت علماني السحر فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ففعلت فرأيت كأن فارسا
مقنعا في الحديد خرج مني حتى طار فغاب في السماء فرجعت إليهما فأخبرتهما فقالا ذلك إيمانك
فذكرت باقي القصة إلى أن قالت والله يا أم المؤمنين ما صنعت شيئا غير هذا ولا أصنعه ابدا فهل لي
من توبة قالت عائشة ورأيتها تبكي بكاء شديدا فطافت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون تسألهم
هل لها من توبة؟ فما أفتاها أحد إلا أن ابن عباس قال لها إن كان أحد من أبويك حيا فبريه وأكثري من عمل
البر ما استطعت، وقول عائشة قد خالفها فيه كثير من الصحابة وقال علي رضي الله عنه الساحر كافر ويحتمل
ان المدبرة تابت فسقط عنها القتل والكفر بتوبتها ويحتمل انها سحرتها بمعنى انها ذهبت إلى ساحر سحر لها
(فصل) وحد الساحر القتل روي ذلك عن عمر وعثمان بن عفان وابن عمر وحفصة وجندب
ابن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز وهو قول أبي حنيفة ومالك ولم ير
الشافعي عليه القتل بمجرد السحر وهو قول ابن المنذر ورواية عن أحمد قد ذكرناها فيما تقدم، ووجه
ذلك أن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة سحرتها ولو وجب قتلها لما حل بيعها، ولان النبي صلى الله عليه وسلم
قال (لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير
حق) ولم يصدر منه أحد الثلاثة فوجب أن لا يحل دمه
ولنا ما روى جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حد الساحر ضربه بالسيف) قال
ابن المنذر رواه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف، وروى سعيد وأبو داود في كتابهما عن بحالة قال
كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كل
ساحر فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، وهذا أشهر فلم ينكر فكان اجماعا وقتلت حفصة جارية لها سحرتها
وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدي الوليد بن عقبة ولأنه كافر فيقتل للخبر الذي رووه
(فصل) وهل يستتاب السحر فيه روايتان (إحداهما) لا يستتاب وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة
فإنه لم ينقل عن أحد منهم انه استتاب ساحرا، وفي الحديث الذي رواه هشام بن عروة عن أبيه
عن عائشة ان الساحرة سألت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون هل لها من توبة فما أفتاها أحد،
ولان السحر معنى في قبله لا يزول بالتوبة فيشبه من لم يثب (والرواية الثانية) يستتاب فإن تاب قبلت توبته
لأنه ليس بأعظم من الشرك والمشرك يستتاب ومعرفته السحر لا تمنع قبول توبته فإن الله تعالى
116

قبل توبة سحرة فرعون وجعلهم من أوليائه في ساعة، ولان الساحر كان كافرا فأسلم صح إسلامه
وتوبته فإذا ضحت التوبة منهما صحت من أحدهما كالكفر، ولان الكفر والقتل إنما هو بعمله
بالسحر لا بعلمه بدليل الساحر إذا أسلم والعمل به يمكن التوبة منه، وكذلك اعتقاد ما يكفر باعتقاده
يمكن التوبة منه كالشرك، وهاتان الروايتان في ثبوت حكم التوبة في الدنيا من سقوط القتل ونحوه
فاما فيما بينه وبين الله تعالى وسقوط عقوبة الدار الآخرة عنه فيصح فإن الله تعالى لم يسد باب التوبة
عن أحد من خلقه ومن تاب إلى الله قبل توبته لا نعلم في هذا خلافا
(فصل) والسحر الذي ذكرنا حكمه هو الذي يعد في العرف سحرا مثل فعلى لبيد بن الأعصم
حين سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، وروينا في مغازي الأموي ان النجاشي دعا السواحر فنفخن
في إحليل عماره بن الوليد فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى امارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فأمسكه انسان فقال خلني وإلا مت فلم يخله فمات من ساعته، وبلغنا أن بعض الامراء اخذ ساحرة
فجاء زوجها كأنه محترق فقال قولوا لها تحل عني فقالت ائتوني بخيوط وباب فجلست على الباب حين
أتوها به وجعلت تعقد وطار بها الباب فلم يقدروا عليها، فهذا وأمثاله مثل أن يعقد الرجال المتزوج
فلا يطيق وطئ زوجته هو السحر المختلف في حكم صاحبه، فاما الذي يعز على المصروع ويزعم أنه
يجمع الجن ويأمرها فتطيعه فهذا لا يدخل في هذا الحكم ظاهرا، وذكره القاضي وأبو الخطاب في
جملة السحرة، وأما من يحل السحر فإن كان بشئ من القرآن أو شئ من الذكر والأقسام والكلام
الذي لا باس به فلا بأس به وإن كان بشئ من السحر فقد توقف احمد عنه قال الأثرم سمعت أبا عبد الله
سئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر فقال قد رخص فيه بعض الناس، قيل لأبي عبد الله انه يجعل في
الطنجير ماء ويغيب فيه ويعمل كذا فنفض يده كالمنكر وقال ما أدري ما هذا، قيل له فترى أن يؤتى
مثل هذا يحل السحر؟ فقال ما أدري ما هذا
وروي عن محمد بن سيرين انه سئل عن امرأة يعذبها السحرة فقال رجل أخط خطا عليها
واغرز السكين عن مجمع الخط واقرأ القرآن فقال محمد ما اعلم بقراءة القرآن بأسا على حال ولا أدري
117

ما الخط والسكين، روي عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه فقال إن
ما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع وقال أيضا ان استطعت ان تنفع أخاك فافعل. فهذا من قولهم
يدل على أن المعزم ونحوه لم يدخلوا في حكم السحرة ولأنهم لا يسمون به وهو مما ينفع ولا يضر
(فصل) فأما الكاهن الذي له رئي من الجن تأتيه بالاخبار، والعراف الذي يحدس ويتخرص فقد
قال احمد في رواية حنبل في العراف والكاهن والساحر أرى ان يستتاب من هذه الأفاعيل، قيل له
يقتل؟ قال لا، يحبس لعله يرجع قال والعرافة طرف من السحر والساحر أخبث لأن السحر شعبة
من الكفر. وقال الساحر والكاهن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا لأنهما يلبسان أمرهما وحديث عمرا قتلوا
كل ساحر وكاهن وليس هو من أمر الاسلام، وهذا يدل على أن كل واحد منهما فيه روايتان (إحداهما) انه
يقتل إذا لم يتب (والثانية) لا يقتل لأن حكمه أخف من حكم الساحر وقد اختلف فيه فهذا بدرء القتل عنه أولى
(فصل) فأما ساحر أهل الكتاب فلا يقتل لسحره الا ان يقتل به وهو مما يقتل به غالبا فيقتل قصاصا،
وقال أبو حنيفة يقتل لعموم ما تقدم من الاخبار ولأنه جناية أوجبت قتل المسلم فأوجبت قتل الذمي كالقتل
ولنا أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتله ولان الشرك أعظم من سحره ولا يقتل
به الاخبار وردت في ساحر المسلمين لأنه يكفر بسحره وهذا كافر أصلي، وقياسهم ينتقض باعتقاد
الكفر و المتكلم به وينتقض بالزنا من المحصن فإنه لا يقتل به الذمي عندهم ويقتل به المسلم والله أعلم
118

كتاب الحدود
الزنا حرام وهو من الكبائر العظام بدليل قول الله تعالى (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة
وساء سبيلا) وقال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا
بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، ويضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا)
وروى عبد الله بن مسعود قال: سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال (أن تجعل لله ندا
وهو خلقك قال قلت ثم اي؟ قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال قلت ثم أي؟ قال
أن تزني بحليلة جارك) أخرجه البخاري ومسلم، وكان حد الزاني في صدر الاسلام الحبس للثيب
والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر لقوله سبحانه (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم
فاستشهدوا عليهن أربعة منك فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن
سبيلا. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ان الله كان توابا رحيما)
قال بعض أصحاب أهل العلم المراد بقوله (من نسائكم) الثيب لأن قوله من نسائكم إضافة
زوجية كقوله (للذين يؤلون من نسائهم) ولا فائدة في اضافته ههنا نعلمها إلا اعتبار الثيوبة، ولأنه
قد ذكر عقوبتين إحداهما أغلظ من الأخرى فكانت الأغلظ للثيب والأخرى للأبكار كالرجم
119

والجلد ثم نسخ هذا بما روى عباده بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم (خذوا عني خذوا عني قد جعل
الله لهن سبيلا. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) رواه مسلم
وأبو داود: فإن قيل فكيف ينسخ القرآن بالسنة؟ قلنا قد ذهب بعض أصحابنا إلى جوازه لأن الكل
من عند الله وان اختلفت طرقه، ومن منع ذلك قال ليس هذا نسخا إنما هو تفسير للقرآن وتبيين له
لأن النسخ رفع حكم ظاهره الاطلاق، فأما ما كان مشروطا بشرط وزال الشرط لا يكون نسخا
وههنا شرط الله تعالى جنسهن إلى أن يجعل لهن سبيلا فبينت السنة السبيل فكان بيانا لا نسخا ويمكن
أن يقال إن نسخه حصل بالقرآن فإن الجلد في كتاب الله والرجم كان فيه فنسخ رسمه وبقي حمه
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (وإذ زنى الحر المحصن أو الحرة المحصنة جلدا
ورجما حتى يموتا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى
يرجمان ولا يجلدان)
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة
(أحدها) في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلا كان أو امرأة وهذا قول عامة أهل العلم من
الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم فيه مخالفا الا الخوارج
فإنهم قالوا الجلد للبكر والثيب لقول الله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدة منهما مائه جلدة)
120

وقالوا لا يجوز ترك كتاب الله الثابت بطريق القطع واليقين لا خبار آحاد يجوز الكذب فيها ولان هذا
يفضي إلى نسخ الكتاب بالسنة وهو غير جائز
ولنا انه قد ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله في أخبار تشبه المتواتر وأجمع عليه
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سنذكره في أثناء الباب في مواضعه إن شاء الله تعال وقد أنزله الله
تعالى في كتابه وإنما نسخ رسمه دون حكمه فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال إن الله
تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها
ووعيتها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى ان طال بالناس زمان ان يقول قائل ما نجد
الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنا إذا أحصن من الرجال
والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف وقد قرأ بها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) متفق عليه وأما آية الجلد فنقول بها فإن الزاني يجب جلده فإن
كان ثيبا رجم مع الجلد والآية لم تتعرض لنفيه والى هذا أشار علي رضي الله عنه حين جلد شراحه ثم
رجمها وقال جلدتها بكتاب الله تعالى ثم رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لو قلنا إن الثيب لا يجلد لكان
هذا تخصيصا للآية العامة وهذا سائغ بغير خلاف فإن عمومات القرآن في الاثبات كلها مخصصة وقولهم
إن هذا نسخ ليس بصحيح وإنما هو تخصيص ثم لو كان نسخا لكان نسخا بالآية التي ذكرها عمر
121

رضي الله عنه وقد روينا أن رسل الخوارج جاءوا عمر بن عبد العزيز رحمه الله فكان من جملة ما
عابوا عليه الرجم وقالوا ليس في كتاب الله الا الجلد وقالوا الحائض أوجبتم عليها قضاء الصوم دون
الصلاة والصلاة أو كد فقال لهم عمر وأنتم لا تأخذون الا بما في كتاب الله؟ قالوا نعم قال فأخبروني
عن عدد الصلوات المفروضات وعدد أركانها وركعاتها ومواقيتها أبن تجدونه في كتاب الله تعالى؟
واخبروني عما تجب الزكاة فيه ومقاديرها ونصبها؟ فقالوا انظرنا فرجعوا يومهم ذلك فلم يجدوا شيئا مما
سألهم عنه في القرآن فقالوا لم نجده في القرآن قال فكيف ذهبتم إليه؟ قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وفعله
المسلمون بعده فقال لهم فكذلك الرجم وقضاء الصوم فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ورجم خلفاؤه بعده
والمسلمون وامر النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الصوم دون الصلاة وفعل ذلك نساؤه ونساء
أصحابه. إذا ثبت هذا فمعنى الرجم أن يرمى بالحجارة وغيرها حتى يقتل بذلك قال ابن المنذر أجمع
أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت ولأن اطلاق الرجم يقتضي القتل به كقوله
تعالى (لتكونن من المرجومين) وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين اللذين زنيا وماعزا
والغامدية حتى ماتوا.
(فصل) وإذا كان الزاني رجلا أقيم قائما ولم يوثق بشئ ولم يحفر له سواء ثبت الزنا ببينة أو
اقرار لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز قال أبو سعيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم
122

ماعز خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكنه قام لنا رواه أبو داود ولان الحفر له
ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه فوجب أن لا تثبت وإن كان امرأة فظاهر كلام احمد
أنها لا يحفر لها أيضا وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف وذكر في المجرد أنه ان ثبت الحد بالاقرار
لم يحفر لها وان ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر، قال أبو الخطاب وهذا أصح عندي وهو قول
أصحاب الشافعي لما روى أبو بكر وبريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة رواه أبو
داود ولأنه استر لها ولا حاجة إلى تمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة فلا يسقط بفعل من
جهتها بخلاف الثابت بالاقرار فإنها تترك على حال لو أرادت الهرب تمكنت منه لأن رجوعها
عن اقرارها مقبول.
ولنا ان أكثر الأحاديث على ترك الحفر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولا لماعز ولا لليهوديين
والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ولا يقولون به فإن التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها
باقرارها ولا خلاف بيننا فيها فلا يسوغ لم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فإن ثياب
المرأة تشد عليها كيلا تنكشف وقد روى أبو داود باسناده عن عمران بن حصين قال فامر بها النبي
صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ولان ذلك استر لها
(فصل) والسنة ان يدور الناس حول المرجوم فإن كان الزنا ثبت ببينة فالسنة ان يبدأ الشهود
123

بالرجم وإن كان ثبت باقرار بدأ به الإمام أو الحاكم إن كان ثبت عنده ثم يرجم الناس بعده وروى
سعيد باسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال: الرجم رجمان فما كان منه باقرار فأول من يرجم الإمام
ثم الناس وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس ولا فعل ذلك أبعد لهم التهمة في الكذب
عليه فإن هرب منهم وكان الحد ثبت ببينة اتبعوه حتى يقتلوه: وإن كان ثبت باقرار تركوه لما
روي أن ماعز بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه
فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال (هلا تركتموه يتوب
فيتوب الله عليه؟) رواه أبو داود ولأنه يحتمل الرجوع فيسقط عنه الحد فإن قتله قاتل في هربه فلا
شئ عليه لحديث ابن أنيس حين قتل ماعزا ولأنه قد ثبت زناه باقراره فلا يزول ذلك باحتمال الرجوع
وان لم يقتل واتي به الإمام فكان مقيما على اعترافه رجمه وان رجع عنه تركه
(الفصل الثاني) أنه يجلد ثم يرجم في إحدى الروايتين فعل ذلك علي رضي الله عنه وبه قال ابن
عباس وأبي بن كعب وأبو ذر ذكر ذلك عبد العزيز عنهما واختاره وبه قال الحسن وإسحاق وداود
وابن المنذر (والرواية الثانية) يرجم ولا يجلد روي عن عمر وعثمان انهما رجما ولم يجلد، وروي عن ابن
مسعود أنه قال إذا اجتمع حدان لله تعالى فيهما القتل أحاط القتل بذلك، بهذا قال النخعي والزهري
والأوزاعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي واختار هذا أبو إسحاق الجوزجاني أبو بكر
124

الأثرم ونصراه في سننهما لأن جابرا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ما عزا ولم يجلده ورجم الغامدية
ولم يجلدها وقال (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) متفق عليه ولم يأمره بجلدها
وكان هذا آخر الامرين رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب تقديمه قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يقول:
في حديث عبادة انه أول حد نزل وان حديث ما عز بعده رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجلده وعمر رجم
ولم يجلد ونقل عنه إسماعيل بن سعيد نحو هذا ولأنه حد فيه قتل فلم يجتمع معه جلد كالردة ولان الحدود
إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه فالحد أولى
ووجه الرواية قوله تعالى (والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهذا عام ثم
جاءت السنة بالرجم في حق الثيب والتغريب في حق البكر فوجب الجمع بينهما وإلى هذا أشار علي
رضي الله عنه بقوله جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله في حديث عبادة (والثيب بالثيب الجلد والرجم) وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك إلا بمثله،
والأحاديث الباقية ليست صريحة فإنه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح بدليل ان
التغريب يجب بذكره في هذا الحديث وليس بمذكور في الآية ولأنه زان فيجلد كالبكر ولأنه قد شرع
في حق البكر عقوبتان الجلد والتغريب فيشرع في حق المحص أيضا عقوبتان الجلد والرجم فيكون
الرجم مكان التغريب فعلى هذه الرواية يبدأ بالجلد أولا ثم يرجم فإن والى بينهما جاز لأن اتلافه
125

مقصود فلا تضر الموالاة بينهما وإن جلده يوما ورجمه في آخر جاز فإن عليا رضي الله عنه جلد
شراحة يوم الخميس ثم رجمها يوم الجمعة ثم قال جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(الفصل الثالث) ان الرجم لا يجب إلا على المحصن باجماع أهل العلم وفي حديث عمر: إن الرجم حق
على من زنا وقد أحصن وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) ذكر منها
(أو زنا بعد إحصان) وللاحصان شروط سبعة
(أحدها) الوطئ في القبل ولا خلاف في اشتراطه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الثيب بالثيب الجلد
والرجم) والثيابة تحصل بالوطئ في القبل فوجب اعتباره ولا خلاف في أن عقد النكاح الخالي عن الوطئ
لا يحصل به احصان سواء حصلت فيه خلوة أو وطئ فيما دون الفرج أو في الدبر أولم يحصل شئ
من ذلك لأن هذا لا تصير به المرأة ثيبا ولا تخرج به عن حد الابكار الذين حدهم جلد مائة وتغريب
عام بمقتضى الخبر ولا بد من أن يكون وطئا حصل به تغييب الحشفة في الفرج لأن ذلك حد الوطئ
الذي يتعلق به أحكام الوطئ
(الثاني) أن يكون في نكاح لأن النكاح يسمى إحصانا بدليل قول الله تعالى (والمحصنات من النساء)
يعني المتزوجات ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا ووطئ الشبهة لا يصير به الواطئ محصنا ولا نعلم
خلافا في أن التسري لا يحصل به الاحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه أحكامه
(الثالث) أن يكون النكاح صحيحا وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء وقتادة ومالك
126

والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور يحصل الاحصان بالوطئ في نكاح فاسد وحكي ذلك عن
الليث والأوزاعي لأن الصحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام مثل وجوب المهر والعدة وتحريم الربيبة
وأم المرأة ولحاق الولد فكذلك في الاحصان
ولنا انه وطئ في غير ملك فلم يحصل به الاحصان كوطئ الشبهة ولا نسلم ثبوت ما ذكروه من
الأحكام وإنما ثبتت بالوطئ فيه وهذه ثبتت في كل وطئ وليست مختصه بالنكاح إلا أن النكاح
ههنا صار شبهة فصار الوطئ فيه كوطئ الشبهة سواء (الرابع) الحرية وهي شرط في قول أهل العلم
كلهم إلا أبا ثور قال: العبد والأمة هما محصنتان يرجمان إذا زنيا إلا أن يكون إجماع يخالف ذلك
وحكي عن الأوزاعي في العبد تحته حرة هو محصن يرجم إذا زنا وإن كان تحته أمة لم يرجم وهذه
أقوال تخالف النص والاجماع فإن الله تعالى قال (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات
من العذاب) والرجم لا ينتصف وإيجابه كله يخالف النص مع مخالفة الاجماع المنعقد قبله إلا أن
يكون إذا عتقا بعد الإصابة فهذا فيه اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى وقد وافق الأوزاعي على
أن العبد إذا وطئ الأمة ثم عتقا لم يصيرا محصنين وهو قول الجمهور وزاد فقال في المملوكين إذا
أعتقا وهما متزوجان ثم وطئها الزوج: لا يصيران محصنين بذلك الوطئ وهو أيضا قول شاذ خالف
أهل العلم به فإن الوطئ وجد منهما حال كما لهما فحصنهما كالصبيين إذا بلغا (الشرط الخامس والسادس)
127

البلوغ والعقل فلو وطئ وهو صبي أو مجنون ثم يلغ أو عقل لم يكن محصنا هذا قول أكثر أهل
العلم ومذهب الشافعي، ومن أصحابه من قال يصير محصنا وكذلك العبد إذا وطئ في رقه ثم عتق
يصير محصنا لأن هذا وطئ يحصل به الاحلال للمطلق ثلاثا فحصل به الاحصان كالموجود حال الكمال
ولنا قول عليه السلام (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) فاعتبر الثيوبة خاصة ولو كانت تحصل
قبل ذلك لكان يجب عليه الرجم قبل بلوغه وعقله وهو خلاف الاجماع ويفارق الاحصان الاحلال
لأن اعتبار الوطئ في حق المطلق يحتمل أن يكون عقوبة له بتحريمها عليه حتى يطأها غيره ولان هذا
مما تأباه الطباع ويشق على النفوس فاعتبره الشارع زجرا عن الطلاق ثلاثا وهذا يستوى فيه العاقل
المجنون بخلاف الاحصان فإنه اعتبر لكمال النعمة في حقه فإن من كملت النعمة في حقه كانت جنايته
أفحش وأحق بزيادة العقوبة والنعمة في العاقل البالغ أكمل والله أعلم
(الشرط السابع) أن يوجد الكمال فيهما جميعا حال الوطئ فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة
حرة وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ونحوه قول عطاء والحسن وابن سيرين والنخعي وقتادة والثوري
وإسحاق قالوه في الرقيق، وقال مالك: إذا كان أحدهما كاملا صار محصنا إلا الصبي إذا وطئ الكبيرة
لم يحصنها ونحوه عن الأوزاعي واختلف عن الشافعي فقيل له قولان (أحدهما) كقولنا (والثاني) ان الكامل
يصير محصنا و هذا قول ابن المنذر لأنه حر بالغ عاقل وطئ في نكاح صحيح فصار محصنا كما لو كان
128

الآخر مثله. وقال بعضهم: إنما القولان في الصبي دون العبد فإنه يصير محصنا قولا واحدا إذا كان كاملا
ولنا انه وطئ لم يحصن به أحد المتواطئين فلم يحصن الآخر كالتسري ولأنه متى كان أحدهما
ناقصا لم يكمل الوطئ فلا يحصل به الاحصان كما لو كانا غير كاملين وبهذا فارق ما قاسوا عليه
(فصل) ولا يشترط الاسلام في الاحصان وبهذا قال الزهري والشافعي، فعلى هذا يكون الذميان
محصنين فإن تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين. وعن أحمد رواية أخرى ان الذمية لا تحصن
المسلم. وقال عطاء والنخعي والشعبي ومجاهد والثوري هو شرط في الاحصان فلا يكون الكافر
محصنا ولا تحصن الذمية مسلما لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أشرك بالله فليس
بمحصن) ولأنه إحصان من شرطه الحرية فكان الاسلام شرطا فيه كاحصان القذف وقال مالك
كقولهم الا أن الذمية تحصن المسلم بناء على أصله في أنه لا يعتبر الكمال في الزوجين، وينبغي أن
يكون ذلك قولا للشافعي
ولنا ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ان
رجلا منهم وامرأة زنيا وذكر الحديث فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما متفق عليه ولان
الجناية بالزنا استوت من المسلم والذمي فجيب أن يستويا في الحد، وحديثهم لم يصح ولا نعرفه في مسند
129

وقيل هو موقوف على ابن عمر ثم يتعين حمله على إحصان القذف جميعا بين الحديثين فإن راويهما واحد
وحديثنا صريح في الرجم فيتعين حمل خبرهم على الاحصان الآخر
فإن قالوا: إنما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين بحكم التوراة بدليل انه رجعها فلما تبين له ان ذلك
حكم الله عليهم أقامه فيهم وفيها أنزل الله تعالى (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون
الذين أسلموا للذين هادوا) قلنا إنما حكم عليهم بما انزل الله إليه بدليل قوله تعالى (فاحكم بينهم بما أنزل
الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) ولأنه لا يسوغ للنبي صلى الله عليه وسلم
الحكم بغير شريعته ولو ساغ ذلك لساغ لغيره، وإنما راجع التوراة لتعريفهم ان حكم التوراة موافق
لما يحكم به عليهم وانهم تاركون لشريعتهم مخالفون لحكمهم. ثم هذا حجة لنا فإن حكم الله في وجوب
الرجم إن كان ثابتا في حقهم يجب أن يحكم به عليهم، فقد ثبت وجود الاحصان فيهم فإنه لا معنى له
سوى وجوب الرجم على من زنى منهم بعد وجود شروط الاحصان منه، وان منعوا ثبوت الحكم في حقهم
فلم حكم به النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولا يصح القياس على احصان القذف لأن من شرطه العفة وليست شرطا ههنا
(فصل) ولو ارتد المحصن لم يبطل احصانه فلو أسلم بعد ذلك كان محصنا. وقال أبو حنيفة
رضي الله عنه يبطل لأن الاسلام عنده شرط في الاحصان وقد بينا انه ليس بشرط ثم هذا داخل في
عموم قوله عليه السلام (أو زنى بعد إحصان) ولأنه زنا بعد الاحصان فكان حده الرجم كالذي لم
130

يرتد. فأما ان نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب بعد إحصانه فسبي واسترق ثم أعتق احتمل ان
لا يبطل إحصانه لأنه زنى بعد إحصانه فأشبه من ارتد. واحتمل ان يبطل لأنه بطل بكونه رقيقا فلا
يعود إلا بسبب جديد بخلاف من ارتد
(فصل) وإذا زنى وله زوجة له منها ولد فقال ما وطئتها لم يرجم وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة
يرجم لأن الولد لا يكون إلا من وطئ فقد حكم بالوطئ ضرورة الحكم بالولد
ولنا ان الولد يلحق بامكان الوطئ واحتماله، والاحصان لا يثبت الا بحقيقة الوطئ فلا يلزم من
ثبوت ما يكتفى فيه بالامكان وجود ما تعتبر فيه الحقيقة وهو أحق الناس بهذا فإنه قال لو تزوج امرأة في
مجلس الحاكم ثم طلقها فيه فأتت بولد لحقه مع العلم بأنه لم يطأها في الزوجية فكيف يحكم بحقيقة الوطئ مع
تحقق انتفائه، وهكذا لو كان لامرأة ولد من زوج فأنكرت أن يكون وطئها لم يثبت احصانها لذلك
(فصل) ولو شهدت بينة الاحصان انه دخل بزوجته فقال أصحابنا يثبت الاحصان به لأن
المفهوم من لفظ الدخول كالمفهوم من لفظ المجامعة. وقال محمد بن الحسن لا يكتفى به حتى تقول جامعها
أو باضعها أو نحوه لأن الدخول يطلق على الخلوة بها ولهذا تثبت بها أحكامه وهذا أصح القولين إن شاء الله
تعالى فأما إذا قالت جامعها أو باضعها فلا نعلم خلافا في ثبوت الاحصان وهكذا ينبغي إذا
قالت وطئها فإن قالت باشرها أو مسها أو أصابها أو أتاها فينبغي أن لا يثبت به الاحصان لأن هذا
يستعمل فيما دون الجماع في الفرج كثيرا فلا يثبت به الاحصان الذي يندرئ بالاحتمال
131

(فصل) وإذا جلد الزاني على أنه بكر ثم بان محصنا رجم لما روى جابر أن رجلا زنى بامرأة فأمر به
رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد الحد ثم أخبر انه محصن فرجم رواه أبو داود. ولأنه ان وجب الجمع بينهما فقد أتى
ببعض الواجب فيجب إتمامه، وان لم يجب الجمع بينهما تبين انه لم يأت بالحد الواجب فيجب ان يأتي به
(مسألة) قال (ويغسلان ويكفنان ويصلى عليهما ويدفنان)
لا خلاف في تغسيلها ودفنهما وأكثر أهل العلم يرون الصلاة عليهما. قال الإمام أحمد سئل علي
رضي الله عنه عن شراحة وكان رجمها فقال اصنعوا بها كما تصنعون بموتاكم وصلى علي على شراحة:
وقال مالك من قتله الإمام في حد لا يصلي عليه لأن جابرا قال في حديث ماعز فرجم حتى مات فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم خيرا ولم يصل عليه. متفق عليه
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن عمران بن حصين في حديث الجهنية فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم
فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها فقال عمر يا رسول الله أتصلي عليها وقد زنت؟ فقال (والذي نفسي بيده
لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت
بنفسها؟) ورواه الترمذي وفيه فرجمت وصلى عليها وقال حديث حسن صحيح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
(صلوا على من قال لا إله الا الله) ولأنه مسلم لو مات قبل أحد صلي عليه فيصلى عليه بعده
كالسارق وأما خبر ماعز فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضره أو اشتغل عنه بأمر أو غير ذلك
فلا يعارض ما رويناه
132

(مسألة) قال (وإذا زنى الحر البكر جلد مائة وغرب عاما)
يعني لم يحصن وإن كان ثيبا وقد ذكرنا الاحصان وشروطه، ولا خلاف في وجوب الجلد على
الزاني إذا لم يكن محصنا وقد جاء بيان ذلك في كتاب الله تعالى بقوله سبحانه (الزانية والزاني فاجلدوا
كل واحد منهما مائة جلدة) وجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لما جاء به الكتاب، ويجب
مع الجلد تغريبه عاما في قول جمهور العلماء. وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين وبه قال أبي وأبو داود
وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم واليه ذهب عطاء وطاوس والثوري وابن أبي ليلى والشافعي
وإسحاق وأبو ثور، قال مالك والأوزاعي يغرب الرجل دون المرأة لأن المرأة تحتاج إلى حفظ
وصيانة لأنها لا تخلو من التغريب بمحرم أو بغير محرم: لا يجوز التغريب بغير محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة الا مع ذي محرم) ولا تغريبها
بغير محرم اغراء لها بالفجور وتضييع لها، وإن غربت بمحرم أفضى إلى تغريب من ليس بزان ونفي
من لا ذنب له وان كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به كما لو زاد ذلك على
الرجل، والخبر الخاص في التغريب إنما هو في حق الرجل وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، والعام
يجوز تخصيصه لأنه يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه فإنه دل بمفهومه على أنه ليس على الزاني
133

أكثر من العقوبة المذكورة فيه وإيجاب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك وفوات حكمته
لأن الحد وجب زجرا عن الزنا وفي تغريبها اغراء به وتمكين منه مع أنه قد يخصص في حق الثيب
باسقاط الجلد في قول الأكثرين فتخصيصه ههنا أولى، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا يجب التغريب
لأن عليا رضي الله عنه قال حسبهما من الفتنة أن ينفيا، وعن ابن المسيب ان عمر غرب ربيعة بن أمية
ابن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهر قل فتنصر فقال عمر لا أغرب مسلما بعد هذا أبدا، ولان الله
تعالى أمر بالجلد دون التغريب فايجاب التغريب زيادة على النص
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) وروى أبو هريرة وزيد بن خالد
أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما ان ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وانني
افتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت رجالا من أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام
والرجم على امرأة هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل
على ابنك جلد مائة وتغريب عام) وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأمر أنيسا الأسلمي ان يأتي امرأة الآخر
فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها متفق عليه، وفي الحديث أنه قال: سألت رجلا من أهل العلم
فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، وهذا يدل على أن هذا كان مشهورا عندهم من حكم الله
134

تعالى وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قيل إن الذي قال له هذا هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولان
التغريب فعله الخلفاء الراشدون ولا نعرف لهم في الصحابة مخالفا فكان اجماعا ولان الخبر يدل على
عقوبتين في حق الثيب وكذلك في حق البكر، وما رووه عن علي لا يثبت لضعف رواته وارساله،
وقول عمر لا أغرب بعده مسلما فيحتمل انه أراد تغريبه في الخمر الذي أصابت الفتنة ربيعة فيه، وقال
مالك يخالف عموم الخبر والقياس لأن ما كان حدا في الرجل يكون حدا في المرأة كسائر الحدود،
وقول مالك فيما يقع لي أصح الأقوال وأعدلها، وعموم الخبر مخصوص بخبر النهي عن سفر المرأة بغير
محرم، والقياس على سائر الحدود لا يصح لأنه يستوي الرجل والمرأة في الضرر الحاصل بها بخلاف هذا
الحد ويمكن قلب هذا القياس بأنه حد فلا تزاد فيه المرأة على ما على الرجل كسائر الحدود
(فصل) ويغرب البكر الزاني حولا كاملا فإن عاد قبل مضي الحول أعيد تغريبه حتى يكمل
الحول مسافرا ويبني على ما مضى، ويغرب الرجل إلى مسافة القصر لأن ما دونها في حكم الحصر بدليل
انه لا يثبت في حقه أحكام المسافرين لا يستبيح شيئا من رخصهم فأما المرأة فإن خرج معها محرمها
نفيت إلى مسافة القصر وان لم يخرج معها محرمها فقد نقل عن أحمد أنها تغرب إلى مسافة القصر
كالرجل وهذا مذهب الشافعي
135

وروي عن أحمد انها تغرب إلى دون مسافة القصر لتقرب من أهلها فيحفظونها ويحتمل كلام
احمد أن لا يشترط في التغريب مسافة القصر فإنه قال في رواية الأثرم ينفى من عمله إلى عمل غيره
وقال أبو ثور وابن المنذر لو نفي إلى قرية أخرى بينهما ميل أو أقل جاز. وقال إسحاق يجوز أن
ينفي من مصر إلى مصر ونحوه قال ابن أبي ليلى لأن النفي ورد مطلقا غير مقيد فيتناول أقل ما يقع
عليه الاسم، والقصر يسمى سفرا ويجوز فيه التيمم والنافلة على الراحلة ولا يحبس في البلد الذي
نفي إليه وبهذا قال الشافعي وقال مالك يحبس
ولنا انه زيادة لم يرد بها الشرع فلا تشرع كالزيادة على العام
(فصل) وإذا زنى الغريب غرب إلى بلد غير وطنه وان زنى في البلد الذي غرب إليه غرب منه
إلى غير البلد الذي غرب منه لأن الامر بالتغريب يتناوله حيث كان ولأنه قد أنس بالبلد الذي
سكنه فيبعد عنه.
(فصل) ويخرج مع المرأة محرمها حتى يسكنها في موضع ثم إن شاء رجع إذا أمن عليها وان
شاء أقام معها حتى يكمل حولها وان أبى الخروج معها بذلت له الأجرة قال أصحابنا وتبذل من
مالها لأن هذا من مؤنة سفرها ويحتمل ان لا يجب ذلك عليها لأن الواجب عليها التغرب بنفسها
فلم يلزمها زيادة عليه كالرجل ولان هذا من مؤنة إقامة الحد فلم يلزمها كأجرة الجلاد، فعلى هذا تبذل
136

الأجرة من بيت المال وعلى قول أصحابنا ان لم يكن لها مال بذلت من بيت المال فإن أبى محرمها
الخروج معها لم يجبر وان لم يكن لها محرم غربت مع نساء ثقات والقول في اجرة من يسافر معها
منهن كالقول في اجرة المحرم فإن أعوز فقد قال احمد تبقى بغير محرم وهو قال الشافعي لأنه
لا سبيل إلى تأخيره فأشبه سفر الهجرة والحج إذا مات محرمها في الطريق ويحتمل ان يسقط النفي
إذا لم يجد محرما كما يسقط سفر الحج إذا لم يكن لها محرم فإن تغريبها اغراء لها بالفجور وتعريض
لها للفتنة وعموم الحديث مخصوص بعموم النهي عن سفرها بغير محرم
(فصل) ويجب ان يحضر الحد طائفة من المؤمنين لقول الله تعالى (وليشهد عذابهما طائفة من
المؤمنين) قال أصحابنا والطائفة واحد فما فوقه وهذا قول ابن عباس ومجاهد والظاهر أنهم أرادوا
واحدا مع الذي يقيم الحد لأن الذي يقيم الحد حاصل ضرورة فيتعين صرف الامر إلى غيره وقال
عطاء وإسحاق اثنان فإن أراد به واحدا مع الذي يقيم الحد فهو مثل القول الأول وان أراد اثنين
غيره فوجه ان الطائفة اسم لما زاد على الواحد وأقله اثنان. وقال الزهري ثلاثة لأن الطائفة جماعة
وأقل الجمع ثلاثة وقال مالك أربعة لأنه العدد الذي يثبت به الزنا وللشافعي قولان كقول الزهري
ومالك وقال ربيعة خمسة وقال الحسن عشرة وقال قتادة نفر واحتج أصحابنا بقول ابن عباس
ولان اسم الطائفة يقع على الواحد بدليل قول الله تعالى (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) ثم قال
137

(فأصلحوا بين أخويكم) وقيل في قوله تعالى (ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) انه محسن
بن حمير وحده ولا يجب ان يحضر الإمام ولا الشهود وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وقال أبو حنيفة
ان ثبت الحد ببينة فعليها الحضور والبداءة بالرجم وان ثبت باعتراف وجب على الإمام الحضور والبداءة
بالرجم لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال الرجم رجمان فما كان منه باقرار فأول من يرجم الإمام
ثم الناس وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس رواه سعيد باسناده ولأنه إذا لم يحضر البينة ولا
الإمام كان ذلك شبهة والحد يسقط بالشبهات.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضرهما والحد ثبت باعترافهما وقال (يا أنيس اذهب
لي امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يحضرها ولأنه حد فلم يلزم أن يحضره الإمام ولا البينة كسائر الحدود
ولا نسلم أن تخلفهم عن الحضور ولا امتناعهم من البداءة بالرجم شبهة وأما قول علي رضي الله عنه فهو علي سبيل
الاستحباب والفضيلة قال احمد سنة الاعتراف أن يرجم الإمام ثم الناس ولا نعلم خلافا في استحباب
ذلك والأصل فيه قول علي رضي الله عنه وقد روي في حديث رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجم
امرأة فحفر لها إلى التندوة نم رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال (ارموا واتقوا الوجه) أخرجه أبو داود
(فصل) ولا يقام الحد على حامل حتى تضع سواء كان الحمل من زنا أو غيره لا نعلم في هذا
خلافا قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الحامل لا ترجم حتى تضع وقد روى بريدة أن امرأة من بني
138

غامد قالت يا رسول الله طهرني قال (وما ذاك؟) قالت انها حبلى من زنا قال ((أنت؟) قالت نعم
فقال لها (ارجعي حتى تضعي ما في بطنك) قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال يأتي
النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد وضعت الغامدية فقال إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من ترضعه فقام
رجل من الأنصار فقال إلي ارضاعه يا نبي الله قال فرجمها رواه مسلم وأبو داود وروي أن امرأة
زنت في أيام عمر رضي الله عنه فهم عمر برجمها وهي حامل فقا له معاذ إن كان لك سبيل عليها فليس
لك سبيل على حملها فقال عجز النساء أن يلدن مثلك ولم يرجمها وعن علي مثله ولان في إقامة الحد
عليها في حال حملها إتلافا لمعصوم ولا سبيل إليه وسواء كان الحد رجما أو غيره لأنه لا يؤمن تلف
الولد من سراية الضرب والقطع وربما سرى إلى نفس المضروب والمقطوع فيفوت الولد بفواته فإذا
وضعت الولد فإن كان الحد رجما لم ترجم حتى تسقيه اللبأ لأن الولد لا يعيش إلا به ثم إن كان له من
يرضعه أو تكفل أحد برضاء رجمت وإلا تركت حتى تفطمه لما ذكرنا من حديث الغامدية ولما روى
أبو داود باسناده على بريدة أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني فجرت فوالله اني لحبلى فقال لها
(ارجعي حتى تلدي) فرجعت فلما ولدت أتته بالصبي فقال (ارجعي فارضعيه حتى تفطميه) فجاءت
به وقد فطمته وفي يده شئ يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين فأمر بها فحفر لها وأمر
بها فرجمت وأمر بها فصلي عليها ودفنت وان لم يظهر حملها لم تؤخر لاحتمال أن تكون حملت من
139

الزنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهودية والجهنية ولم يسأل عن استبرائهما وقال لأنيس (اذهب إلى امرأة
هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يأمره بسؤالها عن استبرائها ورجم علي شراحة ولم يستبرئها، وان ادعت
الحمل قبل قولها كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم قول الغامدية، وإن كان الحد جلدا فإذا وضعت الولد وانقطع
النفاس وكانت قوية يؤمن تلفها أقيم عليها الحد، وإن كانت في نفاسها أو ضعيفة يخاف تلفها لم يقم
عليها الحد حتى تطهر وتقوى وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وذكرا لقاضي انه ظاهر كلام الخرقي
وقال أبو بكر يقام عليها الحد في الحال بسوط يؤمن معه التلف فإن خيف عليها من السوط أقيم بالعثكول
يعني شمراخ النخل وأطراف الشاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضرب المريض الذي زنا فقال (خذوا له
مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة)
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها
فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت ان أنا جلدتها ان أقتلها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
(أحسنت؟) رواه مسلم والنسائي وأبو داود ولفظه قال فأتيته فقال (يا علي أفرغت؟) فقلت أتيتها
ودمها يسيل فقال (دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد) وفي حديث أبي بكرة ان المرأة
انطلقت فولدت غلاما فجاءت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها (انطلقي فتطهري من الدم) رواه أبو داود ولأنه
140

لو توالى عليه حدان فاستوفى أحدهما لم يستوف الثاني حتى يبرأ من الأول ولان في تأخيره إقامة الحد على
الكمال من غير إتلاف فكان أولى
(فصل) والمريض على ضربين (أحدهما) يرجى برؤه فقال أصحابنا يقام عليه الحد ولا يؤخر كما قال
أبو بكر في النفساء وهذا قول إسحاق وأبي ثور لأن عمر رضي الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون
في مرضه ولم يؤخره وانتشر ذلك في الصحابة فلم ينكروه فكان اجماعا ولان الحد واجب فلا يؤخر
ما أوجبه الله بغير حجة قال القاضي وظاهر قول الخرقي تأخيره لقوله فيمن يجب عليه الحد: وهو صحيح
عاقل، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لحديث علي رضي الله عنه في التي هي حديثة عهد بنفاس
وما ذكرناه من المعنى، وأما حديث عمر في جلد قدامة فإنه يحتمل انه كان مرضا خفيفا لا يمنع من
إقامة الحد على الكمال ولهذا لم ينقل عنه انه خفف عنه في السوط وإنما اختار له سوطا وسطا كالذي
يضرب به الصحيح ثم إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على فعل عمر مع أنه اختيار علي وفعله وكذلك
الحكم في تأخيره لأجل الحر والبرد المفرط
(الضرب الثاني) المريض الذي لا يرجى برؤه فهذا يقام عليه في الحال ولا يؤخر بسوط يؤمن
معه التلف كالقضيب الصغير وشمراخ النخل فإن خيف عليه من ذلك جمع ضغث فيه مائة شمراخ
141

فضرب به ضربة واحدة وبهذا قال الشافعي وأنكر مالك هذا وقال قد قال الله تعالى (فاجلدوا كل
واحد منهما مائة جلدة) وهذا جلدة واحدة
ولنا ما روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا منهم اشتكى
حتى ضني فدخلت عليه امرأة فهش لها فوقع بها فسئل له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه ضربة واحدة. رواه أبو داود والنسائي ويقال ابن المنذر في اسناد
مقال ولأنه لا يخلو من أن يقام الحد على ما ذكرنا أو لا يقام أصلا أو يضرب ضربا كاملا لا يجوز تركه
بالكلية لأنه يخالف الكتاب والسنة ولا يجوز جلده جلدا تاما لأنه يفضي إلى اتلافه فتعين ما ذكرناه
وقولهم هذا جلدة واحدة قلنا يجوز أن يقام ذلك في حال العذر مقام مائة كما قال الله تعالى في حق
أيوب (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) وهذا أولى من ترك حده بالكلية أو قتله
بما لا يوجب القتل
(مسألة) قال (وإذا زنا العبد والأمة جلد كل واحد منهما خمسين جلده ولم يغربا)
وجملته أن حد العبد والأمة خمسون جلدة بكرين كانا أو ثيبين في قول أكثر الفقهاء منهم عمر وعلي
وابن مسعود والحسن والنخعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي والبتي والعنبري وقال ابن
142

عباس وطاوس وأبو عبيد إن كانا مزوجين فعليهما ما نصف الحد ولاحد على غيرهما لقول الله تعالى (فإذا أحصن
فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات والعذاب) فدليل خط به أنه لا حد على غير المحصنات وقال
داود على الأمة نصف الحد إذا زنت بعد ما زوجت وعلى العبد جلد مائة بكل حال وفي الأمة إذا لم تزوج روايتان
(إحداهما) لاحد عليها (والأخرى) تجلد مائة لأن قول الله تعالى (فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة) عام خرجت منه الأمة المحصنة بقوله فإذا أحصن (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات
من العذاب) فيبقى العبد والأمة التي لم تحصن على مقتضى العموم ويحتمل دليل الخطاب في الأمة
أن لاحد عليه لقول ابن عباس، وقال أبو ثور إذا لم يحصنا بالتزويج فعليهما ما نصف الحد وإن أحصنا
فعليهما الرجم لعموم الاخبار فيه ولأنه حد لا يتبعض فوجب تكميله كالقطع في السرقة
ولنا ما روى ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وسئل قالوا سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال (إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها
ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير) متفق عليه قال ابن شهاب وهذا نص في جلد
الأمة إذا لم تحصن وهو حجة على ابن عباس وموافقيه وداود وجعل داود عليها مائة إذا لم تحصن
وخمسين إذا كانت محصنة خلاف ما شرع الله تعالى فإن الله تعالى ضاعف عقوبة المحصنة على غيرها
فجعل الرجم على المحصنة والجلد على البكر وداود ضاعف عقوبة الكبر على المحصنة واتباع شرع الله أولى
143

وأما دليل الخطاب فقد روي عن ابن مسعود رحمه الله أنه قال احصانها اسلامها وأقراؤها بفتح الألف
ثم دليل الخطاب إنما يكون دليلا إذا لم يكن للتخصيص بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم ومتى
كانت له فائدة أخرى لم يكن دليلا مثل ان يخرج مخرج الغالب أو للتنبيه أو لمعنى من المعاني وقد قال
الله تعالى (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم) ولم يختص التحريم باللاتي في حجوركم وقال
(وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) وحرم حلائل الأبناء من الرضاع وأبناء الأبناء وقال (ليس
عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة من خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وأبيح القصر بدون الخوف
وأما العبد فلا فرق بينه وبين الأئمة فالتنصيص على أحدهما يثبت حكمه في حق الآخر كما أن قول النبي
صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد) ثبت حكمه في حق الأمة ثم إن المنطوق أولى منه على كل حال وأما
أبو ثور فخالف نص قوله تعالى (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من
العذاب) وعمل به فيما لم يتناوله النص وخرق الاجماع في إيجاب الرجم على المحصنات كما خرق داود
الاجماع في تكميل الجلد على العبيد وتضعيف حد الابكار على المحصنات
(فصل) ولا تغريب على عبد ولا أمة، وبهذا قال الحسن وحماد ومالك وإسحاق وقال الثوري
وأبو ثور يغرب نصف عام لقوله تعالى (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وحد ابن عمر
مملوكة له ونفاها إلى فدك وعن الشافعي قولان كالمذهبين واحتج من أوجبه بعموم قوله عليه السلام
والكبر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)
144

ولنا الحديث المذكور في حجتنا ولم يذكر فيه تغريبا ولو كان واجبا لذكره لأنه لا يجوز تأخير
البيان عن وقته وحديث علي رضي الله عنه أنه قال (يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن
منهم ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن اجلدها) وذكر الحديث رواه أبو
داود ولم يذكر أنه غربها واما الآية فإنها حجة لنا لأن العذاب المذكور في القرآن مائة جلدة لا غير
فينصرف التنصيف إليه دون غيره بدليل أنه لم ينصرف إلى تنصيف الرجم ولان التغريب في حق
العبد عقربة لسيده دونه فلم يجب في الزنا كالتغريم، بيان ذلك أن العبد لا ضرر عليه في تغريبه لأنه
غريب في موضعه ويترفه بتغريبه من الخدمة ويتضرر سيده بتفويت خدمته والخطر بخروجه من تحت يده
والكلفة في حفظه والانفاق عليه مع بعده عنه فيصيرا الحد مشروعا في حق غير الزاني والضرر على غير الجاني
وما فعل ابن عمر ففي حق نفسه وإسقاط حقه وله فعل ذلك من غير زنا ولا جناية فلا يكون حجة في حق غيره
(فصل) وإذ زنى العبد ثم عتق حد حد الرقيق لأنه يقام عليه الحد الذي وجب عليه، ولو زنى
حر ذمي ثم لحق بدار الحرب ثم سبي واسترق حد حد الأحرار لأنه وجب عليه وهو حر، ولو كان
أحد الزانيين رقيقا والآخر حرا فعلى كل واحد منهما حده، ولو زنى بكر بثيب حد كل واحد منهما
حده لأن كل واحد منهما إنما تلزمه عقوبة جناية، ولو زنى بعد العتق وقبل العلم به فعليه حد الأحرار
لأنه زنى وهو حر، وان أقيم عليه حد الرقيق قبل العلم بحريته ثم علمت بعد تمم عليه حد الأحرار، وإن
145

عفا السيد عن عبده لم يسقط عنه الحد في قول عامه أهل العلم الا الحسن قال يصح عفوه وليس بصحيح
لأنه حق لله تعالى فلا يسقط باسقاط سيده كالعبادات وكالحر إذا عفا عنه الإمام
(فصل) وللسيد إقامة الحد بالجلد على رقيقة القن في قول أكثر العلماء روي نحو ذلك عن علي وابن
مسعود وابن عمر وأبي حميد وأبي أسيد الساعديين وفاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلقمة والأسود والزهري
وهبيرة بن مريم وأبي ميسرة ومالك والثوري والشافعي وأبي ثور وابن المنذر
وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم الحدود إذا زنوا. وعن
الحسن بن محمد أن فاطمة حدث جارية لها زنت، وعن إبراهيم ان علقمة والأسود كانا يقيمان الحدود
على من زنى من خدم عشائرهم روى ذلك سعيد في سننه
وقال أصحاب الرأي: ليس له ذلك لأن الحدود إلى السلطان ولان من لا يملك إقامة الحد على الحر
لا يملكه على العبد كالصبي، ولان الحد لا يجب إلا ببينة أو إقرار ويعتبر لذلك شروط من عدالة الشهود
ومجيئهم مجتمعين أو في مجلس واحد وذكر حقيقة الزنا وغير ذلك من الشروط التي تحتاج إلى فقيه
يعرفها ويعرف الخلاف فيها والصواب منها وكذلك الاقرار، فينبغي أن يفوض ذلك إلى الإمام أو
نائبه كحد الأحرار ولأنه حد هو حق الله تعالى فيفوض إلى الإمام كالقتل والقطع
ولنا ما روى سعيد حدثنا سفيان عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن
146

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا زنت أمة أحدكم فتيقن زناها فليجلدها ولا يثرب بها فإن عادت فليجلدها
ولا يثرب بها فإن عادت فليجلدها ولا يثرب بها فإن عادت الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير)
وقال حدثنا أبو الأحوص حدثنا عبد الاعلى عن أبي جميلة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (وأقيموا
الحدود على ما ملكت أيمانكم) رواه الدارقطني ولان السيد يملك تأديب أمته وتزويجها فملك إقامة
الحد عليها كالسلطان وفارق الصبي
إذا ثبت هذا فإنما يملك إقامة الحد بشروط أربعة (أحدها) أن يكون جلدا كحد الزنا والشرب
وحد القذف، فأما القتل في الردة والقطع في السرقة فلا يملكهما إلا الإمام وهذا قول أكثر أهل العلم
وفيهما وجه آخران السيد يملكهما وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (أقيموا
الحدود على ما ملكت أيمانكم) وروي أن ابن عمر قطع عبدا سرق وكذلك عائشة، وعن
حفصة انها قتلت أمة لها سحرتها ولان ذلك حد أشبه الجلد، وقال القاضي: كلام أحمد يقتضي
ان في قطع السارق روايتين
ولنا ان الأصل تفويض الحد إلى الإمام لأنه حق لله تعالى فيفوض إلى نائبه كما في حق الأحرار وما
ذكره أصحاب أبي حنيفة وإنما فوض إلى السيد الجلد خاصة لأنه تأديب والسيد يملك تأديب عبده وضربه على
الذنب وهذا من جنسه، وإنما افترقا في أن هذا مقدر والتأديب غير مقدر وهذا لا أثر له في منع السيد
147

منه بخلاف القطع والقتل فإنهما إتلاف لجملته أو بعضه الصحيح ولا يملك السيد هذا من عبده ولا شيئا من جنسه
والخبر الوارد في حد السيد عبده إنما جاء في الزنا خاصة وإنما قسنا عليه ما يشبهه من الجلد، وقوله
(أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) إنما جاء في سياق الجلد في الزنا فإن أول الحديث عن علي قال
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمة لهم فجرت فأرسلني إليها فقال (اجلدها الحد) قال فانطلقت فوجدتها لم تجف
من دمها فرجعت إليه فقال (أفرغت؟) فقلت وجدتها لم تجف من دمها قال (إذا جفت من دمها
فاجلدها الحد، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) قال فالظاهر أنه إنما أراد ذلك الحد وشبهه،
وأما فعل حفصة فقد أنكره عثمان عليها وشق عليه وقوله أولى من قولها وما روي عن ابن عمر فلا نعلم
ثبوته عنه (الشرط الثاني) أن يختص السيد بالمملوك فإن كان مشتركا بين اثنين أو كانت الأمة
مزوجة أو كان المملوك مكاتبا أو بعضه حرا لم يملك السيد إقامة الحد عليه، وقال مالك والشافعي
يملك السيد إقامة الحد على الأمة المزوجة لعموم الخبر، ولأنه مختص بملكها وإنما يملك الزوج
بعض نفعها فأشبهت المستأجرة
ولنا ما روي عن ابن عمر أنه قال إذا كانت الأمة ذات زوج رفعت إلى السلطان وان لم
يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصن ولم نعرف له مخالفا في عصره فكان اجماعا
ولان نفعها مملوك لغيره مطلقا اشبهت المشتركة ولان المشترك إنما منع من إقامة الحد عليه
148

لأنه يقيمه في غير ملكه فإن الجزء الحر أو المملوك لغيره ليس بمملوك له وهو يقيم الحد عليه وهذا
يشبهه لأن محل الحد هو محل استمتاع الزوج وهو بدنها فلا يملكه والخبر مخصوص بالمشترك
فنقيس عليه والمستأجرة إجارتها مؤقتة تنقضي ويحتمل أن نقول لا يملك اقامته عليها في حال إجارتها
لأنه ربما أفضى إلى تفويت حق المستأجر وكذلك الأمة المرهونة يخرج فيها وجهان
(الشرط الثالث) أن يثبت الحد ببينة أو اعتراف فإن ثبت باعتراف فللسيد إقامته إن كان
يعرف الاعتراف الذي يثبت به الحد وشروطه، وإن ثبت ببينة اعتبر ان يثبت عند الحاكم لأن
البينة تحتاج إلى البحث عن العدالة ومعرفة شروط سماعها ولفظها ولا يقوم بذلك إلا الحاكم، وقال
القاضي يعقوب إن كان السيد يحسن سماع البينة ويعرف شروط العدالة جاز أن يسمعها ويقيم الحد
بها كما يقيمه بالاقرار وهذا طاهر نص الشافعي لأنها أحد ما يثبت به الحد فأشبهت الاقرار ولا يقيم
السيد الحد بعلمه وهذا قول مالك لأنه لا يقيمه الإمام بعلمه فالسيد أولى فإن ولاية الإمام للحد أقوى
من ولاية السيد لكونها متفقا عليها وثابتة بالاجماع فإذا لم يثبت الحد في حقه بالعلم فههنا أولى وعن
أحمد رواية أخرى انه يقيمه بعلمه لأنه يقد ثبت عنده فملك إقامته كما لو أقربه، ويفارق الحاكم لأن الحاكم
متهم ولا يملك محل إقامته وهذا بخلافه
(الشرط الرابع) أن يكون السيد بالغا عاقلا عالما بالحدود وكيفية إقامتها لأن الصبي والمجنون
149

ليسا من أهل الولايات والجاهل بالحد لا يمكنه إقامته على الوجه الشرعي فلا يفوض إليه، وفي الفاسق
وجهان (أحدهما) لا يملكه لأن هذه ولاية فنافاها الفسق كولاية التزويج (والثاني) يملكه لأن
هذه ولاية استفادها بالملك فلم ينافها الفسق كبيع العبد، وإن كان مكاتبا ففيه احتمالان (أحدهما)
لا يملكه لأنه ليس من أهل الولاية (والثاني) يملكه لأنه يستفاد بالملك فأشبه سائر تصرفاته،
وفي المرأة أيضا احتمالان (أحدهما) لا يملكه لأنها ليست من أهل الولايات (والثاني) تملكه
لأن فاطمة جلدت أمة لها وعائشة قطعت أمة لها سرقت وحفصة قتلت أمة لها سحرتها ولأنها مالكة تامة
الملك من أهل التصرفات أشبهت الرجل، وفيه وجه ثالث ان الحد يفوض إلى وليها لأنه يزوج أمتها
ومولاتها فملك إقامة الحد على مملوكتها
(فصل) وان فجر بأمة ثم قتلها فعليه الحد وقيمتها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور
وقال أبو يوسف إذا وجبت عليه قيمتها أسقطت الجد عنه لأنه يملكها بغرامته لها فيكون
ذلك شبهة في سقوط الحد
ولنا ان الحد وجب عليه فلم يسقط بقتل المزني بها كما لو كانت حرة فغرم ديتها، وقولهم انه
يملكها غير صحيح لأنه إنما غرمها بعد قتلها ولم يبق محلا للملك ثم لو ثبت انه ملكها فإنما ملكها
بعد وجوب الحد فلم يسقط عنه الحد كما لو اشتراها، ولو زنى بأمه ثم اشتراها لم يسقط عنه الحد مع
150

ثبوت حقيقة الملك له فههنا أولى، ولو زنى بأمة ثم غصبها فأبقت من يده ثم غرمها لم يسقط عنه الحد
لأنه إذا لم يسقط بالملك المتفق عليه فبالمختلف فيه أولى
(فصل) وإذا زنى من نصفه حر ونصفه رقيق فلا رجم عليه لأنه لم تكمل الحرية فيه وعليه
نصف حد الحر خمسون جلدة ونصف حد العبد خمس وعشرون فيكون عليه خمس وسبعون جلدة
ويغرب نصف عام نص عليه احمد، ويحتمل أن لا يغرب لأن حق السيد في جميعه في جميع الزمان
ونصيبه من العبد لا تغريب عليه فلا يلزمه ترك حقه في بعض الزمان بما لا يلزمه ولا تأخير حقه
بالمهايأة من غير رضاه، وإن قلنا بوجوب تغريبه فينبغي أن يكون زمن التغريب محسوبا على العبد
من نصيبه الحر وللسيد نصف عام بدلا عنه، وما زاد من الحرية أو نقص منها فبحساب ذلك فإن كان
فيها كسر مثل أن يكون ثلثه حرا فمقتضى ما ذكرناه أن يلزمه ثلثا جلد الحر وهو ست وستون جلدة
وثلثان فينبغي أن يسقط الكسر لأن الحد متى دار بين الوجوب والاسقاط سقط، والمدبر
والمكاتب وأم الولد بمنزلة القن في الحد لأنه رقيق كله، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(المكاتب عبد ما بقي عليه درهم)
(مسألة) قال (والزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر)
لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطئ امرأة في قبلها حراما لا شبهة له في وطئها أنه زان يجب
عليه حد الزنا إذا كملت شروطه، والوطئ في الدبر مثله في كونه زنا لأنه وطئ في فرج امرأة لا ملك
له فيها ولا شبهة ملك فكان زنا كالوطئ في القبل ولان الله تعالى قال (واللاتي يأتين الفاحشة من
نسائكم) الآية ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام
151

والوطئ في الدبر فاحشة بقوله تعالى في قوم لوط (أتأتون الفاحشة؟) يعني الوطئ في أدبار الرجال ويقال أول
ما بدأ قوم لوط بوطئ النساء في أدبارهن ثم صاروا إلى ذلك في الرجال
(فصل) وان وطئ ميتة ففيه وجهان (أحدهما) عليه الحد وهو قول الأوزاعي لأنه وطئ في
فرج آدمية فأشبه وطئ الحية ولأنه أعظم ذنبا وأكثر إثما لأنه انضم إلى فاحشة هتك حرمة الميتة
(والثاني) لا حد عليه وهو قول الحسن قال أبو بكر وبهذا أقول لأن الوطئ في الميتة كلا وطئ لأنه عضو
مستهلك ولأنها لا يشتهى مثلها وتعافها النفس فلا حاجة إلى شرع الزجر عنها والحد إنما وجب زجرا
واما الصغيرة فإن كانت ممن يمكن وطؤها فوطؤها زنا يوجب الحد لأنها كالكبيرة في ذلك وإن كانت
ممن لا يصلح للوطئ ففيها وجهان كالميتة، قال القاضي لاحد على من وطئ صغيرة لم تبلغ تسعا لأنها لا
يشتهى مثلها فأشبه ما لو أدخل إصبعه في فرجها وكذلك لو استدخلت امرأة ذكر صبي لم يبلغ عشرا
لاحد عليها، والصحيح أنه متى أمكن وطؤها وأمكنت المرأة من أمكنه الوطئ فوطئها ان الحد يجب
على المكلف منهما فلا يجوز تحديد ذلك بتع ولا عشر لأن التحديد إنما يكون بالتوقيف ولا توقيف
في هذا وكون التسع وقتا لامكان الاستمتاع غالبا لا يمنع وجوده قبله كما أن البلوغ يوجد في خمسة
عشر عاما غالبا ولم يمنع من وجوده قبله.
(فصل) وان تزوج ذات محرمه فالنكاح باطل بالاجماع فإن وطئها فعليه الحد في قول أكثر
أهل العلم منهم الحسن وجابر بن زيد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وإسحاق وأبو أيوب وابن
أبي خيثمة، وقال أبو حنيفة والثوري لاحد عليه لأنه وطئ تمكنت الشبهة منه فلم يوجب الحد
كما لو اشترى أخته من الرضاع ثم وطئها، وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد
152

النكاح الذي هو سبب للإباحة فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد
الذي يندرئ بالشبهات.
ولنا انه وطئ في فرج امرأة مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك والواطئ من أهل
الحد عالم بالتحريم فيلزمه الحد كما لو يوجد العقد وصورة المبيح إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة
والعقد ههنا باطل محرم وفعله جناية تقتضي العقوبة انضمت إلى الزنا فلم تكن شبهة كما لو أكرهها
وعاقبها ثم زنى بها ثم يبطل بالاستيلاء عليها فإن الاستيلاء سبب للملك في المباحات وليس بشهبة، وأما
إذا اشترى أخته من الرضاع فلنا فيه منع وان سلمنا فإن الملك المقتضي للإباحة صحيح ثابت وإنما
تخلفت الإباحة لمعارض بخلاف مسئلتنا فإن المبيح غير موجود لأن عقد النكاح باطل والملك به غير
ثابت فالمقتضي معدوم فافترقا فأشبه ما لو اشترى خمرا فشربه أو غلاما فوطئه. إذا ثبت هذا فاختلف
في الحد فروي عن أحمد انه يقبل على كل حال، وبهذا قال جابر بن زيد وإسحاق وأبو أيوب وابن
أبي خيثمة وروى إسماعيل بن سعيد عن أحمد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال يقتل
ويؤخذ ماله إلى بيت المال
(والرواية الثانية) حده حد الزاني وبه قال الحسن ومالك والشافعي لعموم الآية والخبر ووجه
الأولى ما روى البراء قال لقيت عمي ومعه الراية فقلت إلى أين تريد؟ فقال بعثي رسول الله صلى الله عليه وسلم
153

إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله، رواه أبو داود والجوزجاني وابن ماجة
والترمذي وقال حديث حسن وسمى الجوزجاني عمه الحارث بن عمرو
وروى الجوزجاني وابن ماجة باسنادهما عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من وقع على
ذات محرم فاقتلوه) ورفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها فقال احبسوه وسلوا من ههنا
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عبد الله بن أبي مطرف فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول (من
تخطى المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف) وهذه الأحاديث أخص مما ورد في الزنا فتقدم، والقول فيمن
زنى بذات محرمه من غير عقد كالقول فيمن وطئها بعد العقد
(فصل) وكان نكاح أجمع على بطلانه كنكاح خامسة أو متزوجة أو معتدة أو نكاح المطلقة
ثلاثا إذا وطئ فيه عالما بالتحريم فهو زنا موجب للحد المشروع فيه قبل العقد وبه قال الشافعي،
وقال أبو حنيفة وصاحباه لاحد فيه لما ذكروه في الفصل الذي قبل هذا وقال النخعي يجلد مائة ولا ينفى
ولنا ما ذكرناه فيما مضى، وروى أبو نصر المروذي باسناده عن عبيد بن فضيلة قال رفع إلى عمر بن
الخطاب امرأة تزوجت في عدتها فقال هل علمتما؟ فقالا: لا، قال لو علمتما لرجمتكما فجلده أسواطا ثم
فرق بينهما، وروى أبو بكر باسناده عن خلاس قال رفع إلى علي عليه السلام امرأة تزوجت ولها
زوج كتمته فرجمها وجلد زوجها الآخر مائة جلدة فإن لم يعلم تحريم ذلك فلا حد عليه لعذر الجهل
ولذلك درأ عمر عنهما الحد لجهلهما
154

(فصل) ولا يجب الحد بالوطئ في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة والشغار والتحليل والنكاح
بلا ولي ولا شهود ونكاح الأخت في عدة أختها البائن ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن ونكاح
المجوسية وهذا قول أكثر أهل العلم لأن الاختلاف في إباحة الوطئ فيه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبه
(فصل) ولا يجب الحد بوطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره وبه قال مالك والشافعي وأصحاب
الرأي وقال أبو ثور يجب. ولنا انه فرج له فيه ملك فلا يجد بوطئه كالمكاتبة والمرهونة
(فصل) وان اشترى أمه أو أخته من الرضاعة ونحوهما ووطئهما فذكر القاضي عن أصحابنا ان
عليه الحد لأنه فرج لا يستباح بحال فوجب الحد بالوطئ كفرج الغلام. وقال بعض أصحابنا لاحد
فيه وهو قول أصحاب الرأي والشافعي لأنه وطئ في فرج مملوك له يملك المعاوضة عنه وأخذ صداقه
فلم يجب به الحد كوطئ الجارية المشتركة. فأما ان اشترى ذات محرمه من النسب ممن يعتق عليه
ووطئها فعليه الحد لا نعلم فيه خلافا لأن الملك لا يثبت فيها فلم توجد الشبهة
(فصل) فإن زفت إليه غير زوجته وقيل هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه
لا نعلم فيه خلافا وان لم يقل له هذه زوجتك أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته أو جاريته فوطئها
155

أو دعا زوجته أو جاريته فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها أو اشتبه عليه ذلك لعماه فلا حد عليه
وبه قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة ان عليه الحد لأنه وطئ في محل لا ملك له فيه
ولنا انه وطئ اعتقد إباحته بما يعذر مثله فيه فأشبه ما لو قيل له هذا زوجتك ولان الحدود تدرأ
بالشبهات وهذه من أعظمها فأما إن دعا محرمة عليه فأجابه غيرها فوطئها يظنها المدعوة فعليه الحد سواء
كانت المدعوة ممن له فيها شبهة كالجارية المشتركة لو لم يكن لأنه لا يعذر بهذا فأشبه ما لو قتل رجلا
يظنه ابنه أو عبده فبان أجنبيا
(فصل) ولا حد على من لم يعلم تحريم الزنا. قال عمر وعثمان وعلي لاحد إلا على من علمه وبهذا
قال عامة أهل العلم فإن ادعى الزاني الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهله كحديث العهد بالاسلام
والناشئ ببادية قبل منه لأنه يجوز أن يكون صادقا وإن كان ممن لا يخفي عليه ذلك كالمسلم الناشئ بين
المسلمين وأهل العلم لم يقبل لأن تحريم الزنا لا يخفى على من هو كذلك فقد علم كذبه وان ادعى الجهل بفساد نكاح
باطل قبل قوله لأن عمر قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة ولان مثل هذا يجعل كثيرا
ويخفى على غير أهل العلم
(فصل) فإن وطئ جارية غيره فهو زان سواء كان باذنه أو غير اذنه لأن هذا مما لا يستباح
بالبذل والإباحة وعليه الحد إلا في موضعين (أحدهما) الأب إذا وطئ جارية ولده فإنه لا حد عليه
156

في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأهل المدينة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو
ثور وابن المنذر عليه الحد إلا أن يمنع منه اجماع لأنه وطئ في غير ملك أشبه وطئ جارية أبيه
ولنا انه وطئ تمكنت الشبهة منه فلا يجب به الحد كوطئ الجارية المشتركة والدليل على تمكن الشبهة
قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) فأضاف مال ولده إليه وجعله له فإذا لم تثبت حقيقة الملك
فلا أقل من جعله شبهة دارئة للحد الذي يندرئ بالشبهات ولان القائلين بانتفاء الحد في عصر مالك
والأوزاعي ومن وافقهما قد اشتهر قولهم ولم يعرف لهم مخالف فكان ذلك اجماعا ولا حد على الجارية
لأن الحد انتفى عن الواطئ لشبهة الملك فينتفي عن الموطوءة كوطئ الجارية المشتركة ولان الملك من
قبيل المتضايفات إذا ثبت في أحد المتضايفين ثبت في الآخر فكذلك شبهته ولا يصح القياس على
وطئ جارية الأب لأنه لا ملك للولد فيها ولا شبهة ملك بخلاف مسئلتنا. وذكر ابن أبي موسى
قولا في وطئ جارية الأب والام انه لا يحد لأنه لا يقطع بسرقة ماله أشبه الأب والأول أصح وعليه
عامة أهل العلم فيما علمناه
(والموضع الثاني) إذا وطئ جارية امرأته باذنها فإنه يجلد مائة ولا يرجم إن كان ثيبا ولا يغرب
إن كان بكرا وإن لم تكن أحلتها له فهو زان حكمه حكم الزاني بجارية الأجنبي، وحكي عن النخعي انه
يعزر ولا حد عليه لأنه يملك امرأته فكانت له شبهة في مملوكتها. وعن عمر وعلي وعطاء وقتادة
157

والشافعي ومالك انه كوطئ الأجنبية سواء أحلتها له أو لم تحلها لأنه لا شبهة له فيها فأشبه وطئ جارية
أخته ولأنه إباحة لوطئ محرمة عليه فلم يكن شبهة كإباحة سائر الملاك
وعن ابن مسعود والحسن إن كان استكرهها فعليه غرم مثلها وتعتق فإن كانت طاوعته فعليه
غرم مثلها ويملكها لأن هذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه ابن عبد البر وقال هذا حديث صحيح
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن حبيب بن سالم ان رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع
على جاريه امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضين فيك بقضية رسول
الله صلى الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدناك مائة وان لم تكن أحلتا لك رجمناك بالحجارة فوجدوها أحلتها
له فجلده مائة، وإن علقت من هذا الوطئ فهل يلحقه النسب؟ على روايتين
(إحداهما) يلحق به لأنه وطئ لا يجب به الحد فلحق به النسب كوطئ الجارية المشتركة (والأخرى)
لا يلحق به لأنه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك أشبه الزنا المحض
(فصل) ولا حد على مكرهة في قول عامه أهل العلم. روي ذلك عن عمر والزهري وقتادة
والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (عفي لامتي
عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
158

وعن عبد الجبار بن وائل عن أبيه ان امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها
الحد رواه الأثرم قال وأتي عمر باماء من إماء الامارة استكرههن غلمان من غلمان الامارة فضرب
الغلمان ولم يضرب الإماء
وروى سعيد باسناده عن طارق بن شهاب قال: أتي عمر بامرأة قد زنت فقالت انى كنت نائمة
فلم أستيقظ إلا برجل قد برجل قد جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها ولان هذا شبهة والحدود ندرأ بالشبهات
ولا فرق بين الاكراه بالالجاء وهو ان يغلبها على نفسها وبين الاكراه بالتهديد بالقتل ونحوه نص
عليه احمد في راع جاءته امرأة قد عطشت فسألته ان يسقيها فقال لها أمكنيني من نفسك قال هذه مضطرة. وقد
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان امرأة استسقت راعيا فأبى ان يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت
فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلى ما ترى فيها؟ قال إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئا وتركها
(فصل) وإن أكره الرجل فزنى فقال أصحابنا عليه الحد: وبه قال محمد بن الحسن وأبو ثور
لأن الوطئ لا يكون إلا بالانتشار والاكراه ينافيه فإذا وجد الانتشار انتفى الاكراه فيلزمه الحد
كما لو أكره على غير الزنا فزنى، وقال أبو حنيفة إن أكرهه السلطان فلا حد عليه وإن أكرهه
غيره حد استحسانا، وقال الشافعي وابن المنذر لاحد عليه لعموم الخمير، ولان الحدود تدرأ
159

بالشبهات والاكراه شبهة فيمنع الحد كما لو كانت امرأة يحققه ان الاكراه إذا كان بالتخويف أو يمنع
ما تفوت حياته بمنعه كان الرجل فيه كالمرأة فإذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه وقولهم ان التخويف
ينافي الانتشار لا يصح لأن التخويف بترك الفعل والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك وهذا أصح
الا قوال إن شاء الله تعالى
(مسألة) قال (ومن تلوط قتل بكرا كان أو ثيبا في إحدى الروايتين والأخرى
حكمه حكم الزاني)
أجمع أهل العلم على تحريم اللواط وقد ذمه الله تعالى في كتابه وعاب من فعله وذمه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين. أئنكم
لتأتون الرجال شهوة من دون النساء؟ بل أنتم قوم مسرفون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله من عمل
عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط) واختلفت الرواية
عن أحمد رحمه الله في حده فروي عنه ان حده الرجم بكرا كان أو ثيبا وهذا قول علي وابن عباس
وجابر بن زيد وعبد الله بن معمر والزهري وأبي حبيب وربيعة ومالك وإسحاق وأحد قولي الشافعي
160

وقتادة والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو ثور وهو المشهور من قولي الشافعي لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (إذا اتى الرجل الرجل فهما زانيان) ولأنه إيلاج فرج آدمي في فرج آدمي لا ملك له فيه
ولا شبهة ملك فكان زنا كالايلاج في فرج المرأة إذا ثبت كونه زنا دخل في عموم الآية والاخبار فيه
ولأنه فاحشة فكان زنا كالفاحشة بين الرجل والمرأة، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه
أمر بتحريق اللوطي وهو قول ابن الزبير لما روى صفوان بن سليم عن خالد بن الوليد انه وجد في
بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فكتب إلى أبي بكر فاستشار أبو بكر رضي الله عنه
الصحابة فيه فكان علي أشدهم قولا فيه فقال ما فعل هذا الا أمة من الأمم واحدة وقد علمتم ما فعل
الله بها أرى أن يحرق بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فحرقه وقال الحكم وأبو حنيفة لا حد عليه
لأنه ليس بمحل الوطئ أشبه غير الفرج.
ووجه الرواية الأولى قول النبي صلى الله عليه وسلم من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل
والمفعول به) رواه أبو داود وفي لفظ (فارجموا الاعلى والأسفل) ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم
فإنهم أجمعوا على قتله وإنما اختلفوا في صفته، واحتج احمد رضي الله عنه بقول علي عليه السلام وأنه
كان يرى رجمه ولان الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي ان يعاقب من فعل فعلهم بمثل عقوبتهم
161

وقول من أسقط الحد عنه يخالف النص والاجماع، وقياس الفرج على غيره لا يصح لما بينهما من الفرق
إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكون في مملوك له أو أجنبي لأن الذكر ليس بمحل لوطئ الذكر فلا
يؤثر ملكه له ولو وطئ زوجته أو مملوكته في دبرها كان محرما ولا حد فيه لأن المرأة محل للوطئ
في الجملة وقد ذهب بعض العلماء إلى حله فكان ذلك شبهة مانعة من الحد بخلاف التلوط
(فصل) وان تدالكت امرأتان فهما زانيتان ملعونتان لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا
أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) ولاحد عليها لأنه لا يتضمن إيلاجا فأشبه المباشرة دون الفرج وعليهما
التعزير لأنه زنا لاحد فيه فأشبه مباشرة الرجل المرأة من غير جماع ولو باشر الرجل المرأة فاستمتع
بها فيما دون الفرج فلا حد عليه لما روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أني لقيت امرأة
فأصبت منها كل شئ الا الجماع فأنزل الله تعالى (أقم الصلاة) الآية فقال الرجل ألي هذه الآية؟ فقال
(لمن عمل بها من أمتي) رواه النسائي ولو وجد رجل مع امرأة يقبل كل واحد منهما صاحبه ولم يعلم هل
وطئها أولا فلا حد عليهما فإن قالا نحن زوجان واتفقا على ذلك فالقول قولهما، وبه قال الحكم وحماد
والشافعي وأصحاب الرأي وان شهد عليهما بالزنا فقالا نحن زوجان فعليهما الحدان لم تكن بينة بالنكاح
وبه قال أبو ثور وابن المنذر لأن الشهادة بالزنا تنفي كونهما زوجين فلا تبطل بمجرد قولهما ويحتمل
أن يسقط الحد إذا لم يعلم كونا أجنبية منه لأن ما ادعياه محتمل فيكون ذلك شبهة كما لو شهد عليه
بالسرقة فادعى أن المسروق ملكه
162

(مسألة) قال (ومن أتى بهيمة أدب وأحسن أدبه وقتلت البهيمة)
اختلفت الرواية عن أحمد في الذي يأتي البهيمة فروي عنه أنه يعزر ولا حد عليه روي ذلك
عن ابن عباس وعطاء والشعبي والنخعي والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي وإسحاق وهو قول
للشافعي، والرواية الثانية حكمه حكم اللائط سواء وقال الحسن حده حد الزاني، وعن أبي سلمة بن
عبد الرحمن يقتل هو والبهيمة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) رواه
أبو داود ووجه الرواية الأولى أنه لم يصح فيه نص ولا يمكن قياسه على الوطئ في فرج الآدمي لأنه
لا حرمة لها وليس بمقصود يحتاج في الزجر عنه إلى الحد فإن النفوس تعافه وعامتها تنفر منه فبقي
على الأصل في انتفاء الحد، والحديث يرويه عمرو بن أبي عمرو ولم يثبته أحمد، وقال الطحاوي هو
ضعيف ومذهب ابن عباس خلافه وهو الذي روي عنه قال أبو داود هذا يضعف الحديث عنه قال
إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن الرجل يأتي البهيمة فوقف عندها ولم يثبت حديث عمرو بن أبي
عمرو في ذلك ولان الحد يدرأ بالشبهات فلا يجوز ان يثبت بحديث فيه هذه الشبهة والضعف. وقول
الخرقي أدب وأحسن أدبه يعني يعزر ويبالغ في تعزيره ولأنه وطئ في فرج محرم لا شبهة له فيه لم
يوجب الحد فأوجب التعزير كوطئ الميتة
163

(فصل) ويجب قتل البهمية وهذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وأحد قولي الشافعي وسواء
كانت مملوكة له أو لغيره مأكولة أو غير مأكولة قال أبو بكر الاختيار قتلها وان تركت فلا بأس
وقال الطحاوي ان كانت مأكولة ذبحت والألم تقتل وهذا قول ثان للشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن ذبح الحيوان لغير مأكلة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) ولم يفرق بين كونها مأكولة
أو غير مأكولة ولا بين ملكه وملك غيره، فإن قيل الحديث ضعيف ولم يعملوا به في قتل الفاعل
الجاني ففي حق حيوان لا جناية منه أولى، قلنا إنما يعمل به في قتل الفاعل على إحدى الروايتين لوجهين
(أحدهما) أنه حد والحدود تدرأ بالشبهات وهذا اتلاف مال فلا تؤثر الشبهة فيه (والثاني) أنه اتلاف
آدمي وهو أعظم المخلوقات حرمة فلم يجز التهجم على إتلافه إلا بدليل في غاية القوة ولا يلزم مثل هذا
في اتلاف مال ولا حيوان سواه. إذا ثبت هذا فإن الحيوان إن كان للفاعل ذهب هدرا وإن كان
لغيره فعلى الفاعل غرامته لأنه سبب اتلافه فيضمنه كما لو نصب له شبكة فتلف بها ثم إن كانت مأكولة
فهل يباح أكلها على وجهين وللشافعي أيضا في ذلك وجهان
(أحدهما) يحل اكلها لقول الله تعالى (أحلت لكم بهيمة الأنعام) ولأنه حيوان من جنس يجوز
أكله ذبحه من هو من أهل الذكاة فحل اكله كما لو لم يفعل به هذا الفعل ولكن يكره اكله لشبهة التحريم
164

(والوجه الثاني) لا يحل أكلها لما روي عن ابن عباس انه قيل له ما شأن البهيمة؟ قال ما أراه قال
ذلك إلا أنه كره أكلها وقد فعل بها ذلك الفعل، ولأنه حيوان يجب قتله لحق الله تعالى فلم يجز أكله
كسائر المقتولات، واختلفت في علة قتلها فقيل إنما قتلت لئلا يعير فاعلها ويذكر برؤيتها
وقد روى ابن بطة باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا
البهيمة) قالوا يا رسول الله ما بال البهيمة؟ قال (لا يقال هذه وهذه) وقيل لئلا تلد خلقا مشوها،
وقيل لئلا تؤكل واليه أشار ابن عباس في تعليله ولا يجب قتلها حتى يثبت هذا العمل بها ببينة، فأما
إن أقر الفاعل فإن كانت البهيمة له ثبت باقراره وإن كانت لغيره لم يجز قتلها بقوله لأنه اقرار على
ملك غيره فلم يقبل كما لو أقربها لغير مالكها، وهل يثبت هذا بشاهدين عدلين واقرار مرتين أو يعتبر
فيه ما يعتبر في الزنا على وجهين نذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى
(مسألة) قال (والذي يجب عليه الحد ممن ذكرت من أقر بالزنا أربع مرات)
وجملته ان الحد لا يجب الا بأحد شيئين اقرار أو بينة فإن ثبت باقرار اعتبر اقرار أربع مرات
وبهذا قال الحكم وابن أبي ليلى وأصحاب الرأي وقال الحسن وحماد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن
المنذر يحد باقرار مرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) واعتراف
165

مرة اعتراف وقد أوجب عليها الرجم به ورجم الجهنية وإنما اعترفت مرة، وقال عمران الرجم حق
واجب على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولأنه حق فيثبت
باعتراف مرة كسائر الحقوق
ولنا ما روى أبو هريرة قال: أتى رجل من الأسلميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال
يا رسول الله اني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه فقال يا رسول الله اني زنيت فأعرض عنه حتى
ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أبك جنون؟)
قال لا، قال (فهل أحصنت؟) قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ارجموه) متفق عليه، ولو وجب
الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى، وروى نعيم بن
هزال حديثه وفيه حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انك قد قلتها أربع مرات فبمن؟)
قال بفلانة رواه أبو داود وهذا تعليل منه يدل على أن اقرار الأربع هي الموجبة
وروى أبو برزة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم إن أقررت أربعا رجمك
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل من وجهين (أحدهما) النبي صلى الله عليه وسلم أقره على هذا
ولم ينكره فكان بمنزلة قوله لأنه لا يقر على الخطأ
166

(الثاني) انه قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه وسلم لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه، فاما أحاديثهم
فإن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير وحديثنا يفسره ويبين ان الاعتراف الذي
يثبت به كان أربعا
(فصل) وسواء كان في مجلس واحد أو مجالس متفرقة، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل
عن الزاني يردد أربع مرات قال نعم على حديث ماعز هو أحوط قلت له في مجلس واحد أو في مجالس
شتى؟ قال أما الأحاديث فليست تدل الاعلى مجلس واحد الا ذاك الشيخ بشير بن مهاجر عن عبد الله
ابن بريدة عن أبيه وذاك عندي منكر الحديث، وقال أبو حنيفة لا يثبت إلا بأربع اقرارات في أربعة
مجالس لأن ما عزا أقر في أربعة مجالس
ولنا أن الحديث الصحيح إنما يدل على أنه أقر أربعا في مجلس واحد وقد ذكرنا الحديث.
ولأنه إحدى حجتي الزنا فاكتفى به في مجلس واحد كالبينة
(فصل) يعتبر في صحة الاقرار أن يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة لأن الزنا يعبر عما ليس
بموجب للحد. وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت)
قال لا. قال أفنكتها) لا يكفي؟ قال نعم قال فعند ذلك أمر برجمه رواه البخاري. وفي رواية عن أبي
167

هريرة قال (أفنكتها؟ قال نعم قال حتى غاب ذاك منك في ذاك منها؟) قال نعم قال (كما يغيب المرود
في المكحلة والرشاء في البئر) قال نعم. قال (فهل تدري ما الزنا؟) قال نعم أتيت منها حراما ما يأتي
الرجل من امرأته حلالا) وذكر الحديث رواه أبو داود
(فصل) فإن اقرانه زنى بامرأة فكذبته فعليه الحد دونها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأبو
يوسف لاحد عليه لأنا صدقناها في انكارها فصار محكوما بكذبه
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم ان رجلا أتاه فأقر
عنده انه زنى بامرأة فسماها له فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون
زنت فجلده الحدو تركها، ولان انتفاء ثبوته في حقها لا يبطل اقراره كما لو سكتت أو كما لو لم يسأل ولان
عموم الخبر يقتضي وجوب الحد عليه باعترافه وهو قول عمر إذا كان الحبل أو الاعتراف، وقولهم
اننا صدقناها في انكارها لا يصح فإننا لم نحكم بصدقها وانتفاء الحد إنما كان لعدم المقتضى وهو
الاقرار أو البينة لا لوجود التصديق بدليل ما لو سكتت أو لم تكمل البينة. إذا ثبت هذا فإن الحر
والعبد والكبر والثيب في الاقرار سواء لأنه أحد حجتي الزنا فاستوى فيه الكل كالبينة
168

(مسألة) قال (وهو بالغ صحيح عاقل)
أما البلوغ والعقل فلا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد وصحة الاقرار لأن الصبي والمجنون
قد رفع القلم عنهما ولا حكم لكلامهما. وقد روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (رفع
القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم. وعن المجنون حتى يعقل) رواه
أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وفي حديث ابن عباس في قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل
قومه (أمجنون هو) قالوا ليس به بأس. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أقر عنده (أبك جنون؟)
وقد روى أبو داود باسناده قال: أتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسا فامر بها عمر ان
ترجم فمر بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقال ما شأن هذه؟ قالوا مجنونة آل فلان زنت فأمر
بها عمر ان ترجم فقل ارجعوا بها ثم أتاه فقال يا أمير المؤمنين اما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة؟
عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ. وعن الصبي حتى يعقل، قال بلى: قال فما بال هذه؟ قال
لا شئ قال فأرسلها قال فأرسلها قال فجعل عمر يكبر
(فصل) فإن كان يجن مرة ويفيق أخرى فأقر في إفاقته أنه زنى وهو مفيق أو قامت عليه
169

بينة انه زنى في إفاقته فعليه الحد لا نعلم في هذا خلافا، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
لأن الزنا الموجب للحد وجد منه في حال تكليفه والقلم غير مرفوع عنه واقراره وجد في حال اعتبار
كلامه، قال أقر في إفاقته ولم يضفه إلى حال أو شهدت عليه البينة بالزنا ولم تضفه إلى حال إفاقته
لم يجب الحد لأنه يحتمل انه وجد في حال جنونه فلم يجب الحد مع الاحتمال، وقد روى أبو داود
في حديث المجنونة التي أتي بها عمر ان عليا قال إن هذه معتوهة بني فلان لعل الذي أتاها اتاها
في بلائها فقال عمر لا أدري فقال علي وأنا لا أدري
(فصل) والنائم مرفوع عنه القلم، فلو زنى بنائمة أو استدخلت امرأة ذكر نائم أو وجد منه
الزنا حال نومه فلا حد عليه، لأن القلم مرفوع عنه ولو أقر في حال نومه لم يلتفت إلى اقراره لأن
كلامه ليس بمعتبر ولا يدل على صحة مدلوله. فاما السكران ونحوه فعليه حد الزنا والسرقة والشرب
والقذف ان فعل ذلك في سكره لأن الصحابة رضي لله عنهم أوجبوا عليه حد الفرية لكون السكر
مظنة لها ولأنه تسبب إلى هذه المحرمات بسبب لا يعذر فيه فأشبه من لا عذر له ويحتمل أن لا يجب
الحد لأنه غير عاقل فيكون ذلك شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات ولان طلاقه لا يقع في رواية فأشبه
النائم والأول أولى لأن اسقاط الحد عنه يفضي إلى أن من أراد فعل هذه المحرمات شرب الخمر
وفعل ما أحب فلا يلزمه شئ ولان السكر مظنة لفعل المحارم وسبب إليه فقد تسبب إلى فعلها حال
170

صحوه فأما ان أقر بالزنا وهو سكران لم يعتبر إقراره لأنه لا يدري ما يقول؟ ولا يدل قوله على صحة
خبره فأشبه قول النائم والمجون وقد روى بريدة ان النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزا رواه أبو داود
وإنما فعل ذلك ليعلم هل هو سكران أو لا؟ ولو كان السكران مقبول الاقرار لما احتيج إلى تعرف براءته منه
(فصل) فأما قوله وهو صحيح ففسره القاضي بالصحيح من المرض يعني ان الحد لا يجب عليه
في مرضه وان وجب فإنه إنما يقام عليه الحد بما يؤمن به تلفه، فإن خيف ضرر عليه ضرب ضربة واحدة
بضغث فيه مائة شمراخ أو عود صغير، ويحتمل انه أراد الصحيح الذي يتصور منه الوطئ فلو أقر
بالزنا من لا يتصور منه كالمجنون فلا حد عليه لأننا نتيقن انه لا يتصور منه الزنا الموجب للحد ولو
قامت به بينة فهي كاذبة وعليها الحد نص عليه احمد، وان أقر الخصي أو العنين فعليه الحد وبهذا
قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنه تصور منه ذلك فقبل اقراره به كالشيخ الكبير
(فصل) وأما الأخرس فإن لم تفهم إشارته فلا يتصور منه اقرار، وان فهمت إشارته فقال
القاضي عليه الحد وهو قول الشافعي وابن القاسم صاحب مالك وأبي ثور وابن المنذر، لأن من صح اقرار،
بغير الزنا صح اقراره به كالناطق وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحد باقرار ولا بينة لأن الإشارة تحتمل
ما فهم منها وغيره فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات ولا يجب بالبينة لاحتمال
أن يكون له شبهة لا يمكنه التعبير عنها ولا يعرف كونها شبهة ويحتمل كلام الخرقي ان لا يجب الحد
171

باقراره لأنه غير صحيح ولان الحد لا يجب مع الشبهة والإشارة لا تنتفي معها الشبهات فأما البينة فيجب
عليه بها الحد لأن قوله معها غير معتبر.
(فصل) ولا يصح الاقرار من المكره فلو ضرب الرجل ليقر بالزنا لم يجب عليه الحد ولم
يثبت عليه الزنا ولا نعلم من أهل العلم خلافا في أن اقرار المكره لا يجب به حد وروي عن عمر
رضي الله عنه أنه قال ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته، رواه سعيد
وقال ابن شهاب في رجل اعترف بعد جلده ليس عليه حد ولان الاقرار إنما ثبت به المقر به
لوجود الداعي إلى الصدق وانتفاء التهمة عنه فإن العاقل لا يتهم بقصد الاضرار بنفسه ومع الاكراه
يغلب على الظن انه قصد باقراره دفع ضرر الاكراه فانتفى ظن الصدق عنه فلم يقبل
(فصل) فإن أقر انه وطئ امرأة وادعى أنها امرأته وأنكر المرأة أن يكون زوجها نظرنا
فإن لم تقر المرأة بوطئه إياها فلا حد عليه لأنه لم يقر بالزنا ولا مهر لها لأنها لا تدعيه، وان اعترفت
بوطئه إياها وأقرت بأنه زنى بها مطاوعة فلا مهر عليه أيضا ولا حد عليه واحد منهما إلا أن يقر أربع
مرات لأن الحد لا يجب بدون أربع مرات، وان ادعت أنه أكرهها عليه أو اشتبه عليها فعليه المهر
لأنه أقر بسببه فقد روى مهنا عن أحمد أنه سأله عن رجل وطئ امرأة وزعم أنها زوجته وأنكرت
هي أن يكون زوجها وأقرت بالوطئ قال فهذه قد أقرت على نفسها بالزنا ولكن يدرأ عنه الحد
172

بقوله إنها امرأته ولا مهر عليه ويدرأ عنها الحد حتى تعترف مرارا قال احمد وأهل المدينة يرون
عليها الحد يذهبون لقول النبي صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت
فارجمها) وقد تقدم الجواب عن قولهم
(مسألة) قال (ولا ينزع عن اقراره حتى يتم عليه الحد)
وجملته ان من شرط إقامة الحد بالاقرار البقاء عليه إلى تمام الحد فإن رجع عن اقراره أو هرب
كف عنه، وبهذا قال عطاء ويحيى بن يعمر والزهري وحماد ومالك والثوري والشافعي وإسحاق
وأبو حنيفة وأبو يوسف وقال الحسن وسعيد بن جبير وابن أبي ليلى يقام عليه الحد ولا يترك لأن
ماعزا هرب فقتلوه ولم يتركوه وروي أنه قال ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي هم غروني من
نفسي واخبروني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه أخرجه أبو داود ولو قبل
رجوعه للزمتهم ديته ولأنه حق وجب باقراره فلم يقبل رجوعه كسائر الحقوق وحكي عن الأوزاعي
أنه ان رجع حد للفرية على نفسه وان رجع عن السرقة والشرب ضرب دون الحد
ولنا ان ماعزا هرب فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟) قال ابن
عبد البر ثبت من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم بن هزال ونصر بن داهر وغيرهم ان ماعزا لما
173

هرب فقال لهم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟) ففي هذا أوضح
الدلائل على على له يقبل رجوعه وعن بريدة قال كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية
وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما وإنما رجمهما عند
الرابعة رواه أبو داود ولان رجوعه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولان الاقرار إحدى بينتي الحد
فيسقط بالرجوع عنه كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد وفارق سائر الحقوق فإنها لا تدرأ بالشبهات
وإنما لم يجب ضمان ماعز على الذين قتلوه بعد هربه لأنه ليس بصريح في الرجوع. إذا ثبت هذا فإنه
إذا هرب لم يتبع لقول النبي صلى الله عليه وسلم (هلا تركتموه؟) وان لم يترك وقتل لم يضمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يضمن ماعزا من قتله ولان هربه ليس بصريح في رجوعه وان قال ردوني إلى الحاكم وجب رده
ولم يجز إتمام الحد فإن أتم فلا ضمان على من أتمه لما ذكرنا في هربه وان رجع عن اقراره وقال كذبت
في اقراري أو رجعت عنه أو لم أفعل ما أقررت به وجب تركه فإن قتله قاتل بعد ذلك وجب ضمانه
لأنه قد زال اقراره بالرجوع عنه فصار كمن لم يقر ولا قصاص على قاتله لأن أهل العلم اختلفوا في صحة
رجوعه فكان اختلافهم شبهة دارئة للقصاص ولان صحة الاقرار مما يخفي فيكون ذلك عذرا مانعا
من وجوب القصاص.
174

(مسألة) قال (أو يشهد عليه أربعة رجال من المسلمين أحرار عدول يصفون الزنا)
ذكر الخرقي في شهود الزنا سبعة شروط:
(أحدها) أن يكونوا أربعة وهذا إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم لقول الله تعالى (واللاتي يأتين
الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) وقال تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وقال تعالى (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا
بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) وقال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو وجدت
مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نعم) رواه مالك في الموطأ
وأبو داود في سننه.
(الشرط الثاني) ان يكونوا رجالا كلهم ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال ولا نعلم فيه خلافا إلا شيئا يروى
عن عطاء وحماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان وهو شذوذ لا يعول عليه لأن لفظ الأربعة اسم
لعدد المذكورين ويقتضي أن يكتفي فيه بأربعة. ولا خلاف في أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا
يكتفى بهم وان أقل ما يجزئ خمسة وهذا خلاف النص ولان في شهادتهن شبهة لتطرق الضلال إليهن
قال الله تعالى (ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والحدود تدرأ بالشبهات
175

(الشرط الثالث) الحرية فلا تقبل فيه شهادة العبيد ولا نعلم في هذا خلافا إلا رواية حكيت
عن أحمد أن شهادتهم تقبل وهو قول أبي ثور لعموم النصوص فيه ولأنه عدل ذكر مسلم
فتقبل شهادته كالحر
ولنا انه مختلف في شهادته في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع من قبول شهادته في الحد
لأنه يندرئ بالشبهات
(الشرط الرابع) العدالة ولا خلاف في اشتراطها فإن العدالة تشترط في سائر الشهادات
فههنا مع مزيد الاحتياط أولى فلا تقبل شهاده الفاسق ولا مستور الحال الذي لا تعلم عدالته لجواز
أن يكون فاسقا
(الخامس) أن يكونوا مسلمين فلا تقبل شهادة أهل الذمة فيه سواء كانت الشهادة على مسلم
أو ذمي لأن أهل الذمة كفار لا تتحقق العدالة فيهم ولا تقبل روايتهم ولا أخبارهم الدينية فلا تقبل
شهادتهم كعبدة الأوثان
(الشرط السادس) أن يصفوا الزنا فيقولوا رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشاء
في البئر وهذا قول معاوية بن أبي سفيان والزهري والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي
لما روي في قصة ماعز انه لما أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا فقال (أنكتها؟) فقال نعم فقال (حتى غاب
176

ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟) قال نعم وإذا اعتبر التصريح
في الاقرار كان اعتباره في الشهادة أولى
وروى أبو داود باسناده عن جابر قال: جاءت اليهود برجل منهم وامرأة زنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم
(ائتوني بأعلم رجلين منكم) فأتوه بابني صوريا فنشدهما (كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟) قالا
نجد في التوارة إذا شهد أربعة انهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال (فما يمنعكم
ان ترجموهما؟) قالا ذهب سلطاننا وكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاء أربعة فشهدوا
انهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما. ولا نهم إذا لم يصفوا
الزنا احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه. قال بعض أهل العلم يجوز للشهود
أن ينظروا إلى ذلك منهما لإقامة الشهادة عليهما ليحصل الردع بالحد، فإن شهدوا انهم رأوا ذكره قد
غيبة في فرجها كفى والتشبيه تأكيد. وأما تعيينهم المزني بها أو الزاني إن كانت الشهادة على امرأة
ومكان الزنا فذكر القاضي انه يشترط لئلا تكون المرأة ممن اختلف في اباحتها، ويعتبر ذكر المكان
لئلا تكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا فقال (انك
أقررت أربعا فبمن؟)
وقال ابن حامد لا يحتاج إلى ذكر هذين لأنه لا يعتبر ذكرهما في الاقرار ولم يأت ذكرهما في
177

الحديث الصحيح وليس في حديث الشهادة في رجم اليهوديين ذكر المكان ولان مالا يشترط فيه
ذكر الزمان لا يشترط فيه ذكر المكان كالنكاح ويبطل ما ذكره بالزمان
(الشرط السابع) مجئ الشهود كلهم في مجلس واحد ذكره الخرقي فقال: وإن جاء أربعة
متفرقين والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبل شهادتهم، وإن جاء بعضهم بعدان قام الحاكم كانوا
قذفة وعليهم الحد وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي والبتي وابن المنذر لا يشترط ذلك لقول
الله تعالى (لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء) ولم يذكر المجلس وقال تعالى (فاستشهدوا عليهن أربعة
منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت) ولان كل شهادة مقبولة إن اتفقت تقبل إذا افترقت في
مجالس كسائر الشهادات
ولنا ان أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنا ولم يشهد زياد
فحد الثلاثة ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ولأنه
لو شهد ثلاثة فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم وبهذا
فارق سائر الشهادات
وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنا ولان قوله (ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء فاجلدوهم) لا يخلو من أن يكون مطلقا في الزمان كله أو مقيدا لا يجوز أن يكون مطلقا
178

لأنه يمنع من جواز جلدهم لأنه مامن زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء أو بكمالهم إن كان قد
شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به فيكون تناقضا، وإذا ثبت انه مقيد فأولى ما قيد بالمجلس لأن
المجلس كله بمنزلة الحال الواحدة ولهذا ثبت فيه خيار المجلس واكتفي فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه،
إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءوا متفرقين واحدا بعد واحد في مجلس واحد
قبل شهادتهم، وقال مالك وأبو حنيفة إن جاءوا متفرقين فهم قذفة لأنهم لم يجتمعوا في مجيئهم فلم
تقبل شهادتهم كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد
ولنا قصة المغيرة فإن الشهود جاءوا واحدا بعد واحد وسمعت شهادتهم وإنما حدوا لعدم كمالها
وفي حديثه أن أبا بكره قال: أرأيت إن جاء آخر يشهد أكنت ترجمه؟ قال عمر اي والذي نفسي
بيده ولأنهم اجمعوا في مجلس واحد أشبه ما لو جاءوا مجتمعين ولان المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرناه
وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد لأن من شهد بالزنا ولم يكمل الشهادة يلزمه الحد لقوله تعالى (والذين
يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
(فصل) وإذا لم تكمل شهود الزنا فعليهم الحد في قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي
وأصحاب الرأي، وذكر أبو الخطاب فيهم روايتين، وحكي عن الشافعي فيهم قولان (أحدهما)
لاحد عليهم لأنهم شهود فلم يجب عليهم الحد كما لو كانوا أربعة أحدهم فاسق
179

ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
وهذا يوجب الجلد على كل رام لم يشهد بما قال أربعة، ولأنه اجماع الصحابة فإن عمر جلد أبا بكرة
وأصحابه حين لم يكمل الرابع شهادته بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد
وروى صالح في مسائله باسناده عن أبي عثمان النهدي قال: جاء رجل إلى عمر فشهد على المغيرة
ابن شعبة فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فاستكبر ذلك عمر ثم
جاء شاب يخطر بيديه فقال عمر ما عندك يا سلح العقاب؟ وصاح به عمر صحيحة فقال أبو عثمان والله لقد
كدت يغشى علي فقال: يا أمير المؤمنين رأيت أمر قبيحا فقال الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان
بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال فأمر بأولئك النفر فجلدوا
وفي رواية أن عمر لما شهد عنده على المغيرة شهد ثلاثة وبقي زياد فقال عمر أرى شابا حسنا وأرجو
أن لا يفضح الله على لسانه رجلا من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أمير رأيت أستا تنبو ونفسا
يعلو ورأيت رجليها فوق عنقه كأنهما أذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك؟ فقال عمر الله أكبر وأمر
بالثلاثة فضربوا. وقول عمر يا سلح العقاب معناه انه يشبه سلح العقاب الذي يحرق كل شئ أصابه
كذلك هذا توقع العقوبة بأحد الفريقين لا محالة إن كملت شهادته حد المشهود عليه وإن لم تكمل حد أصحابه
فإن قيل فقد خالفهم أبو بكرة وأصحابه الذين شهدوا، قلنا لم يخالفوا في وجوب الحد عليهم إنما خالفوهم
في صحة ما شهدوا به ولأنه رام بالزنا لم يأت بأربعة شهداء فيجب عليه الحد كما لو لم يأت بأحد
180

(فصل) وإن كملوا أربعة غير مرضيين أو واحد منهم كالعبيد والفساق والعميان
ففيهم ثلاث روايات (إحداهن) عليهم الحد وهو قول مالك قال القاضي هذا الصحيح لأنها شهادة لم
تكمل فوجب الحد على الشهود كما لو كانوا ثلاثة
(والثانية) لاحد عليم وهو قول الحسن والشعبي وأبي حنيفة ومحمد لأن هؤلاء قد جاؤوا بأربعة
شهداء فدخلوا في عموم الآية لأن عددهم قد كمل ورد الشهادة لمعني غير تفريطهم فأشبه ما لو شهد
أربعة مستورون ولم تثبت عدالتهم ولا فسقهم
(الثالثة) ان كانوا عميانا أو بعضهم جلدوا وان كانوا عبيدا أو فساقا فلا حد عليهم وهو قول الثوري
وإسحاق لأن العميان معلوم كذبهم لأنهم شهدوا بما لم يروه يقينا والآخرون يجوز صدقهم وقد
كمل عددهم فأشبهوا مستوري الحال، وقال أصحاب الشافعي إن كان رد الشهادة لمعنى ظاهر كالعمى
والرق والفسق الظاهر ففيهم قولان وإن كان لمعنى خفي فلا حد عليهم لأن ما يخفى يخفى على الشهود
فلا يكون ذلك تفريطا منهم بخلاف ما يظهر، وان شهد ثلاثة رجال وامرأتان حد الجميع لأن شهاده
النساء في هذا الباب كعدمها، وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وهذا يقوي رواية ايجاب الحد
على الأولين وينبه على إيجاب الحد فيما إذا كانوا عميانا أو أحدهم لأن المرأتين يحتمل صدقهما وهما
181

من أهل الشهادة في الجملة والأعمى كاذب يقينا وليس من أهل الشهادة على الافعال فوجب الحد عليهم
وعلى من معهم أولى.
(فصل) وان رجعوا عن الشهادة أو واحد منهم فعلى جميعهم الحد في أصح الروايتين وهو قول
أبي حنيفة (والثانية) يحد الثلاثة دون الراجع وهذا اختيار أبي بكر وابن حامد لأن إذا رجع قبل الحد
فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله فيسقط عنه الحد، ولان في درء الحد عنه تمكينا له من الرجوع
الذي يحصل به مصلحة الشهود عليه وفي إيجاب الحد عليه زجر له عن الرجوع خوفا من الحد فتفوت
تلك المصلحة وتتحقق المفسدة فيناسب ذلك نفي أحد عنه، وقال الشافعي يحد الراجع دون الثلاثة
لأنه مقر على نفسه بالكذب في قذفه، واما الثلاثة فقد وجب الحد بشهادتهم وإنما سقط بعد وجوبه
برجوع الراجع ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا فلم يحد كما لو لم يرجع
ولنا انه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحد فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من
الشهادة، وقولهم وجب الحد بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلهم وبالراجع وحده فإن الحد وجب ثم
سقط ووجب الحد عليهم بسقوطه ولان الحد إذا وجب على الراجع مع المصلحة في رجوعه واسقاط الحد
عن الشهود عليه بعد وجوبه واحيائه المشهود عليه بعد إشرافه على التلف فعلى غيره أولى
182

(فصل) وإذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت واثنان أنه زنى بها في بيت آخر أو شهد كل
اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد به صاحباهما أو احتلفوا في اليوم فالجميع قذفة وعليهم الحد
وبهذا قال مالك والشافعي واختار أبو بكر انه لاحد عليهم وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب
الرأي لأنهم كملوا أربعة
ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنا واحد فوجب عليهم الحد كما لو أنفرد بالشهادة اثنان وحدهما فأما
المشهود عليه فلا حد عليه في قولهم جميعا وقال أبو بكر عليه الحد وحكا قولا لأحمد وهذا بعيد فإنه
لم يثبت رنا واحد بشهادة أربعة فلم يجب الحد ولان جميع ما يعتبر له البينة يعتبر كمالها في حق واحد
فالموجب للحد أولى لأنه مما يحتاط له ويندرئ بالشبهات، وقد قال أبو بكر انه لو شهد اثنان
انه زنى بامرأة بيضاء وشهد اثنان انه زنى بسوداء فهم قذفة ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله
(فصل) وان شهد اثنان انه زنى بها في زاوية بيت وشهد اثنان انه زنى بها في رواية منه
أخرى وكانت الزاويتان متباعدتين فالقول فيهما كالقول في البيتين، وان كنتا متقاربتين كملت
شهادتهم وحد المشهود عليه، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لاحد عليه لأن شهادتهم لم
تكمل ولأنهم اختلفوا في المكان فأشبه ما لو اختلفا في البيتين وعلى قول أبي بكر تكمل الشهادة سواء
تقاربت الزاويتان أو تباعدتا.
183

ولنا انهما إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود بان يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى
أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا بخلاف ما إذا
كانتا متباعدتين فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا، فإن قيل فقد يمكن أن يكون المشهود به
فعلين فلم أوجدتم الحد مع الاحتمال والحد يدرأ بالشبهات؟ قلنا ليس هذا بشبهة بدليل ما لو اتفقوا على
موضع واحد فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب والقول في الزمان كالقول في هذا وإنه متى كان
بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ومتى تقاربا
كملت شهادتهم والله أعلم.
(فصل) وإن شهد اثنان انه زنى بها في قميص أبيض وشهد اثنان انه زنى بها في قميص احمر
أو شهد اثنان انه زنى بها في ثوب كتان وشهد اثنان انه زنى بها في ثوب خز كملت شهادتهم وقال
الشافعي لا تكمل لتنافي الشهادتين
ولنا أنه لا تنافي بينهما فإنه يمكن أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين واحدا وتركا ذكر الآخر
ويمكن أن يكون عليه قميص أبيض وعليها قميص احمر وإذا أمكن التصديق لم يجز التكذيب
(فصل) وإن شهد اثنان انه زنى بها مكرهة وشهد اثنان انه زنى بها مطاوعة فلا حد عليها اجماعا
فإن الشهادة لم تكمل على فعل موجب للحد، وفي الرجل وجهان
184

(أحدهما) لا حد عليه وهو قول أبي بكر والقاضي وأكثر الأصحاب وقول أبي حنيفة وأحد
الوجهين لأصحاب الشافعي لأن البينة لم تكمل على فعل واحد فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة
ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين ولان كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين وذلك يمنع قبول
الشهادة أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبا للآخر الا
بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما مكرهة في الآخر وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل
واحد ولان شاهدي المطاوعة قاذفان لها ولم تكمل البينة عليها فلا تقبل شهادتهما على غيرها
(والوجه الثاني) يجب الجد عليه اختاره أبو الخطاب وهو قول أبي يوسف ومحمد، ووجه ثان
للشافعي لأن الشهادة كملت على وجود الزنا منه واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله فلا يمنع كمال
الشهادة عليه وفي الشهود ثلاثة أوجه (أحدهما) لاحد عليهم وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم
(والثاني) عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنا ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد كما لو لم يكمل عددهم (والثالث)
يجب الحد على شاهدي المطاوعة لأنهما قذفا المرأة بالزنا ولم تكمل شهادتهم عليها ولا يجب على شاهدي
الاكراه لأنهما لم يقذفا المرأة وقد كملت شهادتهم على الرجل وإنما انتفى عنه الحد للشبهة
185

(فصل) وإذ تمت الشهادة بالزنا فصدقهم الشهود عليه بالزنا لم يسقط الحد وقال أبو حنيفة يسقط
لأن شرط صحة البينة الانكار وما كمل الاقرار
ولنا قول الله تعالى (فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن
سبيلا) وبين النبي صلى الله عليه وسلم السبيل بالحد فتجب إقامته ولان البينة تمت عليه فوجب الحد كما لو لم يعترف
ولان البينة إحدى حجتي الزنا فلم يبطل بوجود الحجة الأخرى أو بعضها كالاقرار، يحققه أن وجود
الاقرار يؤكد البينة ويوافقها ولا ينافيها فلا يقدح فيها كتزكية الشهود والثناء عليهم، ولا نسلم اشتراط
الانكار وإنما يكتفي بالاقرار في غير الحد إذا وجد بكماله وههنا لم يكمل فلم يجز الاكتفاء به
ووجب سماع البينة والعمل بها، وعلى هذا لو أقر مرة أو دون الأربع لم يمنع ذلك سماع البينة عليه
ولو تمت البينة عليه وأقر على نفسه اقرار تاما ثم رجع عن اقراره لم يسقط عنه الحد برجوعه وقوله
يقتضي خلاف ذلك.
(فصل) وإن شهد شاهدان واعترف هو مرتين لم تكمل البينة ولم يجب الحد، لا نعلم في هذا خلافا
ن بين من اعتبر اقرا أربع مرات وهو قول أصحاب الرأي لأن إحدى الحجتين لم تكمل ولا تلفق إحداهما
بالأخرى كاقرار بعض مرة
186

(فصل) وإن كملت البينة ثم مات الشهود أو غابوا جاز الحكم بها وإقامة الحد وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لا يجوز الحكم لجواز أن يكونوا رجعوا وهذه شبهة تدرأ الحد
ولنا ان كل شهادة جاز الحكم بها مع حضور الشهود جاز مع غيبتهم كسائر الشهادات واحتمال
رجوعهم ليس بشبهة كما لو حكم بشهادتهم
(فصل) وإن شهدوا بزنا قديم أو أقر به وجب الحد وبهذا قال مالك والأوزاعي والثوري
وإسحاق وأبو ثور، وقال أبو حنيفة لا أقبل بينة على زنا قديم وأحده بالاقرار به وهذا قول ابن حامد
وذكره ابن أبي موسى مذهبا لأحمد لما روي يعن عمر أنه قال: أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته
فإنما هم شهود ضغن ولان تأخيره للشهادة إلى هذا الوقت يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد
ولنا عموم الآية وانه حق يثبت على الفور فيثبت بالبينة بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق
والحديث رواه الحسن مرسلا ومراسيل الحسن ليست بالقوية والتأخير يجوز أن يكون لعذر أو غيبة
والحد لا يسقط بمطلق الاحتمال فإنه لو سقط بكل احتمال لم يجب حد أصلا
187

(فصل) وتجوز الشهادة بالحد من غير مدع لا نعلم فيه اختلافا ونص عليه احمد واحتج بقضية
أبي بكرة حين شهد هو وأصحابه على المغيرة من غير تقدم دعوى وشهد الجارود وصاحبه على قدامة
ابن مظعون بشرب الخمر ولم يتقدمه دعوى، ولان الحد حق لله تعالى فلم تفتقر الشهادة به إلى تقدم
دعوى كالعبادات، يبينه أن الدعوى في سائر الحقوق إنما تكون من المستحق وهذا لاحق فيه لاحد
من الآدميين فيدعيه، فلو وقعت الشهادة على الدعوى لامتنعت إقامتها. إذا ثبت هذا فإن من عنده
شهادة على حد فالمستحب أن لا يقيمها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من ستر عورة مسلم في الدنيا ستره الله في الدنيا
والآخرة) وتجوز اقامتها لقول الله تعالى (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) ولان الذين شهدوا بالحد
في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تنكر عليهم شهادتهم به، ويستحب للإمام وغيره التعريض بالوقوف
عن الشهادة بدليل قول عمر لزياد: اني لا أرى رجلا أرجو أن لا يفضح الله على يديه رجلا من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان تركها أفضل لم يكن باس بدلالته على الفضل. وقد روي أن رجلا سال عقبة
ابن عامر فقال إن لي جيرانا يشربون الخمر فارفعهم إلى السلطان؟ فقال عقبة بن عامر إني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول (من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة)
188

(فصل) وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا فشهد ثقات من النساء أنها عذراء فلا حد عليها ولا
على الشهود، وبهذا قال الشعبي والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك عليها الحد
لأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود فلا تسقط بشهادتهن
ولنا ان البكارة تثبت بشهادة النساء ووجودها يمنع من الزنا ظاهرا لأن الزنا لا يحصل بدون
الايلاج في الفرج ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها وإذا انتفى الزنا لم
يجب الحد كما لو قامت البينة بان المشهود عليه بالزنا مجبوب، وإنما لم يجب الحد على الشهود لكمال
عدتهم مع احتمال صدقهم فإنه يحتمل أن يكون وطئها ثم عادت عذرتها فيكون ذلك شبهة في درء
الحد عنهم غير موجب له عليها فإن الحد لا يجب بالشبهات، ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة
لأن شهادتها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال. فاما إن شهدت بأنها رتقاء أو ثبت ان الرجل المشهود
عليه مجبوب فينبغي أن يجب الحد على الشهود لأنه يتيقن كذبهم في شهادتهم بأمر لا يعلمه كثير
من الناس فوجب عليهم الحد
189

(فصل) إذا شهد أربعة على رجل انه زنى بامرأة وشهد أربعة آخرون على الشهود أنهم هم الزيادة
بها لم يجب الحد على أحد منهم، وهذا قول أبي حنيفة لأن الأولين قد جرحهم الآخرون بشهادتهم
عليهم والآخرون تتطرق إليهم التهمة، واختار أبو الخطاب وجوب الحد على الشهود الأولين لأن
شهادة الآخرين صحيحة فيجب الحكم بها وهذا قول أبي يوسف، وذكر أبو الخطاب في صدر المسألة
كلاما معناه لا يحد أحد منهم حد الزنا وهل يحد الأولون حد القدف؟ على وجهين ناء على القاذف إذا
جاء مجئ الشاهد هل يحد؟ على روايتين
(فصل) وكل زنا أوجب الحد لا يقبل فيه إلا أربعة شهود باتفاق العلماء لتناول النص له بقوله
تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلد وهم ثمانين جلدة) ويدخل فيه اللواط
ووطئ المرأة وفي دبرها لأنه زنا، وعند أبي حنيفة يثبت بشاهدين بناء على أصله في أنه لا يوجب أحد
ود بينا وجوب الحد به ويخص هذا بان الوطئ في الدبر فاحشة بدليل قوله تعالى (أتأتون الفاحشة
ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟) وقال الله تعالى (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا
عليهن أربعة منكم) فإذا وطئت في الدبر دخلت في عموم الآية ووطئ البهيمة إن قلنا بوجوب الحد
به لم يثبت إلا بشهود أربعة وإن قلنا لا يوجب إلا التعزير ففيه وجهان
190

(أحدهما) يثبت بشاهدين لأنه لا يوجب الحد فيثبت بشاهدين كسائر الحقوق
(والثاني) لا يثبت بأربعة وهو قول القاضي لأنه فاحشة ولأنه إيلاج في فرج محرم فأشبه
الزنا، وعلى قياس هذا كل وطئ لا يوجب الحد ويوجب التعزير كوطئ الأمة المشتركة وأمته المزوجة
فإن لم يكن وطئها كالمباشرة دون الفرج ونحوها ثبت بشاهدين وجها واحدا لأنه ليس بوطئ
فأشبه سائر الحقوق
(فصل) ولا يقيم الإمام الحد بعلمه، روي ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبه قال مالك
وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر له إقامته بعلمه وهو قول أبي ثور لأنه إذا
جازت له إقامته بالبينة والاعتراف الذي لا يفيد إلا الظن فيما يفيد العلم أولى
ولنا قول الله تعالى (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) وقال تعالى (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك
عند الله هم الكاذبون) وقال عمر: أو كان الحبل أو الاعتراف ولأنه لا يجوز له أن يتكلم به ولو رماه
بما علمه منه لكان قاذفا يلزمه حد القذف فلم تجز إقامة الحد به كقول غيره ولأنه إذا حرم النطق
191

به فالعمل به أولى. فاما السيد إذا علم من عبده أو جاريته ما يوجب الحد عليه فهل له إقامته
عليه؟ فيه وجهان:
(أحدهما) لا يملك إقامته عليه لما ذكرنا في الإمام ولان الإمام إذا لم يملك إقامته بعلمه مع
قوة ولايته والاتفاق على تفويض الحد إليه فغيره أولى
(والثاني) يملك ذلك لأن السيد بملك تأديب عبده بعلمه وهذا يجري مجرى التأديب ولان
السيد أخص بعبده وأتم ولاية عليه وأشفق من الإمام على سائر الناس
(فصل) وإذا أحبلت امرأة لازوج لها ولا سيد لم يلزمها الحد بذلك، وتسأل فإن ادعت انها
أكرهت أو وطئت بشبهة أو لم تعترف بالزنا لم تحد وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك
عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة إلا أن تظهر أمارات الاكراه بان تأتي مستغيثة أو صارخة
لقول عمر رضي الله عنه: والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قامت
بينة أو كان الحبل أو الاعتراف
192

وروي أن عثمان أتي بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر بها عثمان ان ترجم فقال علي ليس لك عليها
سبيل قال الله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وهذا يدل على أنه كان يرجمها بحملها، وعن
عمر نحو من هذا
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال يا أيها الناس: إن الزنا زنا آن زنا سر وزنا علانية فزنا
السران يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمي، ووزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف
فيكون الإمام أول من يرمي وهذا قول سادة الصحابة ولم يظهر لهم في عصرهم مخالف فيكون اجماعا
ولنا انه يحتمل انه من وطئ اكراه أو شبهة والحد يسقط بالشبهات، وقد قيل إن المرأة
تحمل من غير وطئ بأن يدخل ماء الرجل في فرجها إمام بفعلها أو فعل غيرها ولهذا تصور حمل البكر
فقد وجد ذلك. وأما قول الصحابة فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد حدثنا خلف بن خليفة ثنا
هاشم ان امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب ليس لها زوج وقد حملت فسألها عمر فقالت اني امرأة ثقيلة
الرأس وقع علي رجل وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرأ عنها الحد
193

وروى البراء بن صبرة عن عمر انه أتي بامرأة حامل فادعت انها أكرهت فقال خل سبيلها
وكتب إلى أمراء الأجناد ان لا يقتل أحد إلا باذنه. وروي عن علي وابن عباس انهما قالا: إذا كان
في الحد لعل وعسى فهو معطل
وروى الدارقطني باسناده عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر انهم قالوا إذا
اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت. ولا خلاف في أن الحد يدرأ بالشبهات وهي متحققة ههنا
(فصل) وإذا استأجر امرأة لعمل شئ فزنى بها أو استأجرها ليزني بها وفعل ذلك أو زنى
بامرأة ثم تزوجها أو اشتراها فعليهما الحد وبه قال أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة لا حد عليهما في هذه
المواضع لأن ملكه لمنفعتها شبهة دارئة للحد ولا يحد بوطئ امرأة هو مالك لها
ولنا عموم الآية والاخبار ووجود المعنى المقتضي لوجوب الحد، وقولهم ان ملكه منفعتها شبهة
ليس بصحيح فإنه إذا لم يسقط عنه الحد ببذلها نفسها له ومطاوعتها إياه فلان لا يسقط بملكه نفع محل آخر
أولى، وما وجب الحد عليه بوطئ مملوكته وإنما وجب بوطئ أجنبية فتغير حالها لا يسقطه كما لو ماتت
194

(فصل) وإذا وطئ امرأة له عليها القصاص وجب عليه الحد لأنه حق له عليها فلا
يسقط الحد عنه كالدين
(مسألة) قال (ولو رجم باقرار فرجع قبل أن يقتل كف عنه وكذلك أن رجع بعد أن جلد
وقبل كمال الحد خلي)
قد تقدم شرح هذه المسألة وذكرنا أن المقر بالحد متى رجع عن إقراره ترك وكذلك أن أتى
بما يدل على الرجوع مثل الهرب لم يطلب لأن ماعزا لما هرب قال النبي صلى الله عليه وسلم (هلا تركتموه؟)
ولان من قبل رجوعه قبل الشروع في الحد قبل بعد الشروع فيه كالبينة
(فصل) ويستحب للإمام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالاقرار التعريض له بالرجوع إذا
تم والوقوف عن إتمامه إذا لم يتم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه أعرض عن ماعز حين أقر عنده ثم
195

جاءه من الناحية الأخرى فأعرض عنه حتى تمم إقراره أربعا ثم قال (لعلك قبلت لعلك لمست)
وروي أنه قال للذي أقر بالسرقة (ما إخالك فعلت) رواه سعيد عن سفيان عن يريد بن خصيفة
عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال حدثنا هشيم عن الحكم بن عتيبة عن يزيد
ابن أبي كبشة عن أبي الدرداء انه أتي بجارية سوداء سرقت فقال لها أسرقت؟ قولي لا فقالت لا فخلى
سبيلها. ولا بأس أن يعرض بعض الحاضرين له بالرجوع أو بأن لا يقر
وروينا عن الأحنف انه كان جالسا عند معاوية فأتي بسارق فقال له معاوية أسرقت؟ فقال له بعض
الشرطة أصدق الأمير فقال الأحنف الصدق في كل المواطن معجزة فعرض له بترك الاقرار. وروي
عن بعض السلف أنه قال لا يقطع ظريف يعني به انه إذا قامت عليه بينة ادعى شبهة تدفع عنه القطع فلا
يقطع. ويكره لمن علم حاله أن يحثه على الاقرار لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهزال وقد كان قال
لماعز بادر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل فيك قرآن (ألا سترته بثوبك كان خيرا لك؟) رواه
سعيد، وروى باسناده أيضا عن سعيد بن المسيب قال جاء ماعز بن مالك إلى عمر بن الخطاب فقال له
انه أصاب فاحشة فقال له أخبرت بهذا أحدا قبلي قال لا قال فاستتر بستر الله وتب إلى الله فإن
196

الناس يعيرون ولا يغيرون والله يغير ولا يعير فتب إلى الله ولا تخبر به أحدا فانطلق إلى أبي بكر
فقال له مثل ما قال عمر فلم تقره نفسه حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك
(مسألة) قال (ومن زنى مرارا ولم يحد فحد واحد)
وجملته أن ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف وشرب الخمر إذا تكرر قبل إقامة الحد
أجزأ حد واحد بغير خلاف علمناه. قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم
منهم عطاء والزهري ومالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف وهو مذهب الشافعي
وان أقيم عليه الحد ثم حدثت منه جناية أخرى ففيها حدها لا نعلم فيه خلافا وحكاه ابن المنذر عمن
يحفظ عنه وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة تزني قبل ان تحصن قال (ان زنت فاجلدوها ثم إن
زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها) ولان تداخل الحدود إنما يكون مع اجتماعها وهذا الحد الثاني
وجب بعد سقوط الأول باستيفائه، وان كانت الحدود من أجناس مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر
197

أقيمت كلها الا أن يكون فيها قتل فإن كان فيها قتل اكتفي به لأنه لا حاجة معه إلى الزجر بغيره
وقد قال ابن مسعود: ما كانت حدود فيها قتل الا أحاط القتل بذلك كله، وان لم يكن فيها قتل
استوفيت كلها وبدئ بالأخف فالأخف فيبدأ بالجلد ثم بالقطع ويقدم الأخف في الجلد على الاثقل
فيبدأ في الجلد بحد الشرب ثم بحد القذف ان قلنا إنه حق لله تعالى ثم بحب الزنا وان قلنا إن حد القذف
حق لآدمي قدمناه ثم بحد الشرب ثم بحد الزنا
مسألة) قال (وإذا تحاكم إلينا أهل الذمة حكمنا عليهم بحكم الله تعالى عليا)
وجملة ذلك أنه إذا تحاكم إلينا أهل الذمة أو استعدى بعضهم على بعض فالحاكم مخير بين إحضارهم
والحكم بينهم وبين تركهم سواء كانوا من أهل دين واحد أو من أهل أديان. هذا المنصوص عن
أحمد وهو قول النخعي وأحد قولي الشافعي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى انه يجب
الحكم بينهم وهذا القول الثاني للشافعي واختيار المزني لقول الله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله)
ولأنه يلزمه دفع من قصد واحدا منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين
198

ولنا قول الله تعالى (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم) فخيره بين الامرين ولا خلاف
في أن هذه الآية زلت فيمن وادعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة ولأنهما كافران فلا يجب
الحكم بينهما كالمعاهدين، والآية التي احتجوا بها محمولة على من اختار الحكم بينهم لقوله تعالى
(وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط) جمعا بين الآيتين فإنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع فإذا
ثبت هذا فإنه إذا حكم بينهم لم يجزله الحكم إلا بحكم الاسلام للآيتين ولأنه لا يجوز له الكم إلا
بالقسط كما في حق المسلمين ومتى حكم بينهما ألزمهما حكمه، ومن امتنع منهما أجبره على قبول حكمه
وأخذه به لأنه إنما دخل في العهد بشرط التزام أحكام الاسلام. قال احمد لا يبحث عن أمرهم ولا
يسئل عن أمرهم إلا أن يأتوا هم فإن ارتفعوا إلينا أقمنا عليهم الحد على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقال أيضا
حكمنا يلزمهم وحكمنا جائز على جميع الملل ولا يدعوهما الحكم فإن جاءوا حكمنا بحكمنا. إذا ثبت
هذا فإنه إذا رفع إلى الحاكم من أهل الذمة من فعل محرما يوجب عقوبة مما هو محرم عليهم في دينهم
199

كالزنا والسرقة والقذف والقتل فعليه إقامة حده عليه فإن كان زنا جلد إن كان بكرا وغرب عاما
وإن كان محصنا رجم لما روى ابن عمران النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهود بين فجرا بعد إحصانهما فأمر بهما
فرجما، وعن ابن عمرا ان اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له ان رجلا منهم وامرأة زنيا فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟) فقالوا نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام
كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها
فقال عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر
بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما متفق عليه، وروى أنس أن يهوديا قتل حرية على أوضاح لها بحجر
فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين متفق عليه وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يحد لأنه لا يعقد
تحريمه فلم يلزمه عقوبته كالكفر، وان تظاهر به عزر لأنه أظهر منكرا في دار الاسلام فعزر عليه كالمسلم
(فصل) وان تحاكم مسلم وذمي وجب الحكم بينهم بغير خلاف لأنه يجب دفع ظلم كل
واحد منهما عن صاحبه
200

(مسألة) قال (وإذا قذف بالغ حرا مسلما أو حرة مسلمة جلد الحد ثمانين)
القذف هو الرمي بالزنا وهو محرم باجماع الأمة والأصل في تحريمه الكتاب والسنة. أما الكتاب
فقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا
لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) وقال سبحانه (ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات
لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات
قالوا وما هن يا رسول الله قال (الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله وأكل الربا وأكل
مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقدف المحصنات المؤمنات الغافلات) متفق عليه والمحصنات هنها
العفائف، والمحصنات في القرآن جاءت بأربعة معان (أحدهما) هذا (والثاني) بمعنى المزوجات كقوله
تعالى (والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم) وقوله تعالى (محصنات غير مسافحات (والثالث)
201

بمعنى الحرائر كقوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) وقوله سبحانه
(والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) وقوله (فعليهن نصف
ما على المحصنات من العذاب) (والرابع) بمعنى الاسلام كقوله (فإذا أحصن) قال ابن مسعود
احصانها اسلامها، وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن إذا كان مكلفا، وشرائط
الاحصان الذي يجب الحد بقذف صاحبه خمسة العقل والحرية والاسلام والعفة عن الزنا وأن يكون
كبيرا يجامع مثله، وبه يقول جماعة العلماء قديما وحديثا سوى ما روي عن داود أنه أوجب الحد
على قاذف العبد، وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى قالوا إذا قذف ذمية ولها ولد مسلم يحد والأول
أولى لأن من لا يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد وله ولد كالمجنونة، واختلفت الرواية عن أحمد في
اشتراط البلوغ فروي عنه انه شرط وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنه أحد شرطي
التكليف فأشبه العقل، ولان زنا الصبي لا يوجب حدا فلا يجب الحد بالقذف به كزنا المجنون
202

(الثانية) لا يشترط لأنه حر عاقل عفيف يتعير بهذا القول الممكن صدقه فأشبه الكبير وهذا قول
مالك وإسحاق فعلى هذه الرواية لا بد أن يكون كبيرا يجامع مثله وأدناه أن يكون للغلام عشر وللجارية تسع
(فصل) ويجب الحد على قاذف الخصي والمجبوب والمريض المدنف والرتقاء والقرناء، وقال
الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لاحد على قاذف مجبوب قال ابن المنذر وكذلك الرتقاء، وقال
الحسن لاحد على قاذف الخصي لأن العار منتف عن المقذوف بدون الحد للعلم بكذب القاذف
والحد إنما يجب لنفي العار
ولنا عموم قوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
والرتقاء داخلة في عموم هذا ولأنه قاذف لمحصن فيلزمه الحد كقذف القادر على الوطئ ولان امكان
الوط أمر خفي لا يعمله كثير من الناس فلا ينتفى العار عند من لم يعلمه بدون الحد فيجب كقذف المريض
(فصل) وجب الحد على القاذف في غير دار الاسلام وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي
لاحد عليه لأنه في دار لاحد على أهلها
203

ولنا عموم قوله تعالى (والذين يرمون) الآية ولأنه مسلم مكلف قدف محصنا فأشبه عن في دار الاسلام
(فصل) وقدر الحد ثمانون إذا كان القاذف حرا للآية والاجماع رجلا كان أو امرأة ويشترط
أن يكون بالغا عاقلا غير مكره لأن هذه مشترطة لكل حد
(مسألة) قال (إذا طالب المقذوف ولم يكن للقاذف بينة)
وجملته ان يعتبر لإقامة الحد بعد تمام القذف بشروطه شرطان:
(أحدهما) مطالبة المقذوف لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه كسائر حقوقه (الثاني) أن لا يأتي
ببينة لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) فيشترط في جلدهم
عدم البينة وكذلك يشترط عدم الاقرار من المقذوف لأنه في معنى البينة، فإن كان القاذف زوجا
اعتبر شرط ثالث وهو امتناعه من اللعان ولا نعلم خلافا في هذا كله وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة
204

الحد فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال الحسن وأصحاب الرأي لا
يسقط بعفوه لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود
ولنا انه حق لا يستوفى الا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص وفارق سائر
الحدود فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها وحد السرقة إنما تعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا
باستيفاء الحد ولأنهم قالوا تصح دعواه ويستحلف فيه ويحكم الحاكم فيه بعلمه ولا يقبل رجوعه عنه
بعد الاعتراف فدل على أنه حق لآدمي
(فصل) وإذا قلنا بوجوب الحد يقذف من لم يبلغ لم تجز إقامته حتى يبلغ ويطالب به بعد بلوغه لأن مطالبته
قبل البلوغ لا توجب الحد لعدم اعتبار كلامه وليس لوليه المطالبة عنه لأنه حق شرع للتشفي فلم يقم غيره مقامة
في استيفائه كالقصاص، فإذا بلغ وطالب أقيم عليه حينئذ ولو قذف غائبا لم يقم عليها الحد حتى يقدم
ويطالب الا أن يثبت أنه طالب في غيبته ويحتمل أن لا تجوز اقامته في غيبته بحال لأنه يحتمل أن يعفو بعد
205

المطالبة فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه يندرئ بالشبهات ولو قذف عاقلا فجن بعد قذفه وقبل
طلبه لم تجز اقامته حتى يفيق ويطلب وكذلك أن أعمي عليه فإن كان قد طالب به قبل جنونه واعمائه
جازت اقامته كما لو وكل في استيفاء القصاص ثم جن أو أغمي عليه قبل استيفائه
(مسألة) قال (وإن كان القاذف عبدا أو أمة جلد أربعين بأدون من السوط الذي يجلد به الحر)
أجمع أهل العلم على وجوب الحد على العبد إذا قذف الحر المحصن لأنه داخل في عموم الآية
وحده أربعون في قول أكثر أهل العلم روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال أدركت أبا بكر
وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف الا أربعين وروي خلاس (1)
أن عليا قال في عبد قذف حرا نصف الجلد وجلد أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عبدا قذف

(1) خلاس بن عمرو الهجري روى عن علي وعمار وعائشة وأبي هريرة،
روى عنه قتادة ومالك بن دينار وعوف قال جرير كان لا يعبأ بحديث خلاس، وقال
أبو أيوب لا تروعن خلاس فإنه صحفي وقال صالح بن أحمد قال أبي كان يحيى بن سعيد
يتوفى أن يحدث عن خلاس عن علي خاصة وأظن أنه قد حدث عنه بحديث، وقال
الجوزجاني: سألت أحمد يعنى ابن حنبل عن خلاس فقال يقال روايته
عن علي كتاب. قال يحيى بن معين خلاس بن عمرو ثقة
206

حرا ثمانين وبه قال قبيصة وعمر بن عبد العزيز ولعلهم ذهبوا إلى عموم الآية والصحيح الأول للاجماع
المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم ولأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد
الزنا وهو يخص عموم الآية وقد عيب على أبي بكر بن عمرو بن حزم جلده العبد ثمانين وقال
عبد الله بن عامر بن ربيعة ما رأينا أحدا قبله جد العبد ثمانين، وقال سعيد حدثنا بن عبد الرحمن بن
أبي الزناد عن أبيه قال حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبدا في قرية ثمانين فأنكر ذلك من حضره
من الناس وغيرهم من الفقهاء فقال لي عبد الله بن عامر بن ربيعة اني رأيت والله عمر بن الخطاب
ما رأيت أحدا جلد عبدا في قرية فوق أربعين إذا ثبت انه أربعون فإنه يكون بدون السوط الذي
يجلد به الحر لأنه لما خفف في قدره خفف في سوطه كما أن الحدود في أنفسها كلما قل منها كان
سقوطه أخف فالجلد في الشرب أخف منه في القذف وفي القذف أخف منه في الزنا ويحتمل ان يساوي
العبد الحر في السوط لأنه على النصف ولا يتحقق التنصيف الا مع المساواة في السوط
207

(فصل) وإذا قذف ولده وان نزل لم يجب الحد عليه سواء كان القاذف رجلا أو امرأة، وبهذا
قال عطاء والحسن والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال عمر بن عبد العزيز ومالك وأبو ثور
وابن المنذر عليه الحد لعموم الآية ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنا
ولنا انه عقوبة تجب حقا لآدمي فلا يجب للولد على الوالد كالقصاص أو لقول انه حق لا يستوفى
إلا بالمطالبة باستيفائه فأشبه القصاص ولان الحد يدرأ بالشبهات فلا يجب للابن على أبيه كالقصاص
ولان الأبوة معنى يسقط القصاص فمنعت الحد كالرق والكفر وهذا يخص عموم الآية وما ذكروه
ينتقض بالسرقة فإن الأب لا يقطع بسرقة مال ابنه والفرق بين القذف والزنا ان حد الزنا خالص
لحق الله تعالى لاحق الآدمي فيه وحد القذف حق لآدمي فلا يثبت للابن على أبيه كالقصاص وعلى أن
ه لو زنا بجارية ابنه لم يجب عليه حد. إذا ثبب هذا فإنه لو قذف أم ابنه وهي أجنبية منه فماتت
قبل استيفائه لم يكن لأنه المطالبة بالحد لأن ما منع ثبوته ابتداء أسقطه طارئا كالقصاص وإن كان لها
208

ابن آخر من غيره كان له استيفاؤه إذا ماتت بعد المطالبة به لأن الحد يملك بعض الورثة استيفاءه
كله بخلاف القصاص وأما قذف سائر الأقارب فيوجب الحد على القاذف في قولهم جميعا
(مسألة) قال (وإذا قال له بالوطي سئل عما أراد فإن قال أردت أنك من قوم لوط
فلا شئ عليه وإن قال أردت أنك تعمل عمل قوم لوط فهو كمن قذف بالزنا)
في هذه المسألة فصلان:
(أحدهما) ان من قذف رجلا بعمل قوم لوط اما فاعلا وإما مفعولا فعليه حد القذف وبه قال
الحسن والنخعي والزهري ومالك وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو ثور، وقال عطاء وقتادة وأبو
حنيفة لاحد عليه لأنه قذف بما لا يوجب الحد عنده وعندنا هو موجب للحد وقد بيناه فيما مضى،
209

وكذلك لو قذف امرأة انها وطئت في دبرها أو قدف رجلا بوطئ امرأة في دبرها فعليه الحد عندنا
وعند أبي حنيفة لاحد عليه، ومبنى الخلاف ههنا على الخلاف في وجوب حد الزنا على فاعل ذلك وقد
تقدم الكلام فيه، فاما إن قذفه باتيان بهيمة انبنى ذلك على وجوب الحد على فاعله، فمن أوجب الحد
على فاعله أوجب حد القذف على القاذف به ومن لا فلا، وكل مالا يجب الحد بفعله لا يجب الحد على
القاذف به كما لو قذف انسانا بالمباشرة دون الفرج أو بالوطئ بالشبهة أو قذف امرأة بالمساحقة أو
بالوطئ مستكرهة لم يجب الحد على القاذف، ولأنه رماه بما لا يوجب الحد فأشبه ما لو قذفه باللمس والنظر
وكذلك لو قال يا كافر يا فاسق يا سارق يا منافق يا فاجر يا خبيث يا أعور يا أقطع يا أعمى ابن الزمن الأعمى
الأعرج فلا حد في ذلك كله لأنه قذف بما لا يوجب الحد فلم يوجب الحد كما لو قال يا كاذب يا نمام
ولا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم ولكنه يعزر لسب الناس واذاهم فأشبه ما لو قدف من
لا يوجب قذفه الحد
210

(الفصل الثاني) انه إذا قال أردت انك من قوم لوط فاختلفت الرواية عن أحمد فروى عنه
جماعة انه يجب عليه أحد بقوله يا لوطي ولا يسمع تفسيره بما يحيل القذف وهذا اختيار أبي بكر ونحوه
قال الزهري ومالك (والرواية الثانية) أنه لاحد عليه نقلها المروذي ونحو هذا قال الحسن والنخعي
قال الحسن إذا قال نويت أن دينه دين لوط فلا حد عليه، وإن قال أردت انك تعمل عمل قوم
لوط فعليه الحد، ووجه ذلك أنه فسر كلامه بما لا يوجب الحد فلم يجب عليه حد كما لو فسره به متصلا
بكلامه وروي عن أحمد رواية ثالثة انه إذا كان في غضب قال إنه لأهل ان يقام عليه الحد لأن قرينة الغضب
تدل على إرادة القذف بخلاف حال الرضا، والصحيح في المذهب الرواية الأولى لأن هذه الكلمة لا يفهم
منها إلا القذف بعمل قوم لوط فكانت صريحة فيه كقوله يا زاني ولان قوم لوط لم يبق منهم أحد
فلا يحتمل أن ينسب إليهم
(فصل) وإن قال أردت انك على دين لوط أو انك تجب الصبيان أو تقبلهم أن تنظر إليهم
أو انك تتخلق باخلاق قوم لوط في أنديتهم غير اتيان الفاحشة أو انك تنهى عن الفاحشة كنهي
لوط عنها أو نحو ذلك خرج في هذا كله وجهان بناء على الروايتين المنصوصتين في المسألة لأن
هذا في معناه
211

(مسألة) قال (وكذلك من قال يا معفوج)
المنصوص عن أحمد فيمن قال يا معفوج ان عليه الحد وكلام الخرقي يقتضي انه يرجع إلى تفسيره
فإن فسره بغير الفاحشة مثل ان قال أردت يا مفلوج أو يا مصابا دون الفرج ونحو هذا فلا حد
عليه لأنه فسره بما لاحد فيه وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد كما لو صرح به ووجه القولين
ما تقدم في التي قبلها
(فصل) وكلام الخرقي يقتضي ان لا يجب الحد على القاذف إلا بلفظ صريح لا يحتمل غير القذف
وهو أن يقول يا زاني أو ينطق باللفظ الحقيقي في الجماع، فاما ما عداه من الألفاظ فيرجع فيه إلى تفسيره
لما ذكرنا في هاتين المسئلتين، فلو قال لرجل يا مخنث أو لامرأة يا قحبة وفسره بما ليس بقذف مثل
أن يريد بالمخنث أن فيه طباع التأنيث والتشبه بالنساء وبالقحبة انها تستعد لذلك فلا حد عليه وكذلك
إذا قال يا فاجرة يا خبيثة
وحكى أبو الخطاب في هذا رواية أخرى انه قذف صريح ويجب به الحد والصحيح الأول قال
احمد في رواية حنبل لا أرى الحد إلا على من صرح بالقذف والشتيمة قال ابن المنذر الحد على من
212

نصب الحد نصبا ولأنه قول غير الزنا فلم يكن صريحا في القذف كقوله يا فاسق وإن فسر شيئا من
ذلك بالزنا فلا شك في كونه قذفا
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في التعريض بالقذف مثل أن يقول لمن يخاصمه ما أنت
بزان ما يعرفك الناس بالزنا يا حلال ابن الحلال، أو يقول ما أنا بزان ولا أمي بزانية فروى عنه حنبل
لاحد عليه وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر وبه قال عطاء وعمرو بن دينار وقتادة والثوري
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر لما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ان امرأتي ولدت
غلاما أسود يعرض بنفيه فلم يلزمه بذلك حد ولا غيره، وقد فرق لله تعالى بين التعريض بالخطبة
والتصريح بها فأباح التعريض في العدة وحرم التصريح فكذلك في القذف ولان كل كلام يحتمل
معنين لم يكن قذفا كقوله يا فاسق
وروى الأثرم وغيره عن أحمد أن عليه الحد وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال إسحاق
لأن عمر حين شاورهم في الذي قال لصاحبه ما أنا بزان ولا أمي بزانية فقالوا قد مدح أباه وأمه فقال
عمر قد عرض بصاحبه فجلده الحد، وقال معمر إن عمر كان يجلد الحد في التعريض
وروى الأثرم ان عثمان جلد رجلا قال لآخر يا ابن شامة الوذر يعرض له بزنا أمه والوذر قدر
اللحم يعرض له بكمر الرجال ولان الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذي
213

لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة ولا جدت
قرينة تصرف إلى القذف فلا شك في أنه لا يجوز قذفا
وذكر أبو الخطاب من صور التعريض أن يقول لزوجة آخر قد فضحته وغطيت رأسه وجعلت له
قرونا وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه ونكست رأسه وذكر في جميع ذلك روايتين
وذكر أبو بكر عبد العزيز ان أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض
(فصل) وإن قال لرجل يا ديوث يا كشحان فقال احمد يعزر قال إبراهيم الحربي الديوث الذي
يدخل الرجال على امرأته، وقال ثعلب القرطبان الذي يرضى ان يدخل الرجال على امرأته وقال القرنان
والكشحان لم أرهما في كلام العرب ومعناه عند العامة مثل معنى الديوث أو قريبا منه فعلى القاذف
به التعزير على قياس قوله في الديوث لأنه قذفه بما لا حد فيه
وقال خالد بن يزيد عن أبيه في الرجل يقول للرجل يا قرنان إذا كان له أخوات أو بنات في
الاسلام ضرب الحد يعني انه قاذف لهن
وقال خالد عن أبيه القرنان عند العامة من له بنات والكشحان من له أخوات يعني والله أعلم
إذا كان يدخل الرجال عليهن والقواد عند العامة السمسار في الزنا، والقذف بذلك كله يوجب التعزير
لأنه قذف بما لا يوجب الحد
214

(فصل) وإذا نفى رجلا عن أبيه فعليه الحد نص عله احمد وكذلك إذا نفاه عن قبيلته وبهذا
قال إبراهيم النخعي وإسحاق وبه قال أبو حنيفة والثوري وحماد إذا نفاه عن أبيه وكانت أمه مسلمة
وان كانت ذمية أو رقيقة فلا حد عليه لأن القذف لها، ووجه الأول ما روى الأشعث بن قيس عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول (لا أوتى برجل يقول إن كنانة ليست من قريش الا جلدته) وعن ابن
مسعود أنه قال لا جلد الا في اثنين. رجل قذف محصنة لو نفى رجلا عن أبيه وهذا لا يقوله الا
توقيفا، فاما ان نفاه عن أمه فلا حد عليه لأنه لم يقذف أحدا بالزنا، وكذلك أن قال إن لم تفعل كذا
فلست بابن فلان فلا حد فيه لأن القذف لا يتعلق بالشرط، والقياس يقتضي أن لا يجب الحد بنفي
الرجل عن قبيلته ولان ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا فأشبه ما لو قال للأعجمي انك عربي، ولو قال
للعربي أنت نبطي أو فارسي فلاحد فيه وعليه التعزير نص عليه لأنه يحتمل انك نبطي اللسان أو
الطبع، وحكي عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه، والأول أصح وبه قال
مالك والشافعي لأنه يحتمل غير القذف احتمالا كثيرا فلا يتعين صرفه إليه، ومتى فسر شيئا
من ذلك بالقذف فهو قاذف
(فصل) وإذا قذف رجل رجلا فقال آخر صدقت فالمصدق قاذف أيضا في أحد الوجهين لأن
تصديقه ينصرف إلى ما قاله، بدليل ما لو قال لي عليك الف فقال صدقت كان اقرار بها، ولو قال اعطني
215

ثوبي هذا فقال صدقت كان اقرارا وفيه وجه آخر لا يكون قاذفا وهو قول زفر لأنه يحتمل أن يريد
بتصديقه في غير القذف، ولو قال أخبرني فلا أنت زنيت لم يكن قاذفا سواء كذبه المخبر عنه أو
صدقه وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر أنه يكون قاذفا إذا
كذبه الآخر وبه قال عطاء ومالك ونحوه عن الزهري لأنه أخبره بزناه
ولنا أنه إنما أخبر انه قد قذف فلم يكن قذفا كما لو شهد على رجل انه قد قذف رجلا
(فصل) وان قال أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس فهو قاذف له وهل يكون قاذفا للثاني؟
فيه وجهان (أحدهما) يكون قاذفا له اختاره القاضي لأنه أضاف الزنا إليهما وجعل (أحدهما) فيه
أبلغ من الآخر فإن لفظة افعل للتفضيل فيقتضي اشتراك المذكورين في أصل الفعل وتفضيل أحدهما
على الآخر فيه كقوله أجود من حاتم (والثاني) يكون قاذفا للمخاطب خاصة لأن لفظة افعل قد
تستعمل للمنفرد بالفعل كقول الله تعالى (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن
يهدى) وقال تعالى (فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وقال لوط بناتي هن أطهر لكم) أي من أدبار
الرجال ولا طهارة فيهم، وقال الشافعي وأصحاب الرأي ليس بقذف للأول ولا لثاني الا أن يريد به القذف
ولنا ان موضوع اللفظ يقتضي ما ذكرناه فحمل عليه كما لو قال أنت زان
(فصل) وان قال زنات مهموزا فقال أبو بكر وأبو الخطاب هو قدف لأن عامة الناس لا يفهمون
216

من ذلك الا القذف فكان قذفا كما قال زنيت، وقال ابن حامد إن كان عاميا فهو قذف لأنه لا يريد
به الا القذف، وإن كان من أهل العربية لم يكن قذفا لأن معناه في العربية طلعت فالطاهر انه يريد موضوعه
ولأصحاب الشافعي في كونه قذفا وجهان، وان قال زنأت في الجبل فالحكم فيه كما لو قال زنأت ولم يقل
في الجبل، وقال الشافعي ومحمد بن الحسن ليس بقذف قال الشافعي ويستحلف على ذلك
ولنا انه إذا كان عاميا لا يعرف موضوعه في اللغة تعين مراده في القذف ولم يفهم منه سواه فوجب
أن يكون قذفا كما لو فسره بالقذف أو لحن لحنا غير هذا
(فصل) فإن قال لرجل يا زانية أو لامرأة يا زاني فهو صريح في قذفهما اختاره أبو بكر، وهو
مذهب الشافعي واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا أن يفسره به وهو قول أبي حنيفة لأنه يحتمل
أن يريد بقوله يا زانية أي يا علامة في الزنا كما يقال للعالم علامة وللكثير الرواية رواية ولكثير الحفظ حفظة
ولنا أن ما كان قذفا لاحد الجنسين كان قذفا للآخر كقوله زنيت بفتح التاء وكسرها لهما
جميعا ولان هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها
وكذلك لو قال للمرأة يا شخصا زانيا أو للرجل يا نسمة زانية كان قاذفا، وقولهم إنه يريد بذلك أنه
217

علامة في الزنا لا يصح فإن ما كان اسما للفعل إذا دخلته الهاء كانت للمبالغة كقولهم حفظة للمبالغة
في الحفظ ورواية للمبالغة في الرواية وكذلك همزة ولمزة وصرعة ولان كثيرا من الناس يذكر
المؤنث ويؤنث المذكر ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادا بما يراد باللفظ الصحيح
(فصل) وإذا قال لرجل زنيت بفلانة كان قاذفا لها وقد نقل عن أبي عبد الله انه سئل عن رجل
قال لرجل يا ناكح أمه ما عليه؟ قال إن كانت أمه حية فعليه الحد للرجل ولامه حد، وقال مهنا سألت
أبا عبد الله إذا قال الرجل يا زاني ابن الزاني قال عليه حدان قلت أبلغك في هذا شئ قال
مكحول قال فيه حدان وان أقر إنسان أنه زنى بامرأة فهو قاذف لها سواء ألزمه حد الزنا باقراره
أو لم يلزمه، وبهذا قال ابن المنذر وأبو ثور ويشبه مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزمه حد
القذف لأنه يتصور منه الزنا بها من غير زناها لاحتمال أن تكون مكرهة أو موطوءة بشبهة
ولنا ما روى ابن عباس أن رجلا من بكر بن ليث أتي النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع
مرات فجلده مائة وكان بكرا ثم سأله البينة على المرأة فقالت كذب والله يا رسول الله فجلده حد الفرية
218

ثمانين والاحتمال الذي ذكره لا ينفي الحد بدليل ما لو قال يا نائك أمه فإنه يلزمه الحد مع احتمال أن
يكون فعل ذلك بشبهة، وقد روي عن أبي هريرة أنه جلد رجل قال لرجل ذلك ويتخرج لنا مثل
قول أبي حنيفة بناء على ما إذا قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت فإن أصحابنا قالوا لاحد عليها
في قولها بك زنيت لاحتمال وجود الزنا به مع كونه واطئا بشبهة ولا يجب الحد عليه لتصديقها إياه
وقال الشافعي عليه الحد دونها وليس هذا باقرار صحيح.
ولنا أنها صدقته فلم يلزمه حد كما لو قالت صدقت، ولو قال يا زانية قالت أنت ازنى مني فقال أبو
بكر هي كالتي قبلها في سقوط الحد عنه ويلزمها له ههنا حد القذف بخلاف التي قبلها لأنها أضافت إليه
الزنا وفي التي قبلها أضافته إلى نفسها
(مسألة) قال (ومن قذف رجلا فلم يقم الحد حتى زنى المقذوف لم يزل الحد عن القاذف)
وبهذا قال الثوري وأبو ثور والمزني وداود وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لاحد عليه، لأن
219

الشروط تعتبر استدامتها إلى حالة إقامة الحد بدليل أنه لو ارتد أوجن لم يقم الحد ولان وجود الزنا
منه يقوي قول القاذف ويدل على تقدم هذا الفعل منه فأشبه الشهادة إذا ظرأ الفسق بعد أدائها قبل الحكم بها
ولنا أن الحد قد وجب وثم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب كما لو زنى بأمة ثم اشتراها
أو سرق عيا فنقصت قيمتها أو ملكها وكما لو جن المقذوف بعد المطالبة، وقولهم إن الشروط تعتبر
استدامتها لا يصح فإن الشروط للوجوب فيعتبر وجودها إلى حين الوجوب وقد وجب الحد بدليل
انه ملك المطالبة ويبطل بالأصول التي قسنا عليها، وأما إذا جن من وجب له الحد فلا يسقط الحد
وإنما يتأخر استيفاؤه لتعذر المطالبة به فأشبه ما لو غاب من له الحد، وان ارتد من له الحد لم يملك
المطالبة لأن حقوقه وأملاكه تزول أو تكون موقوفة وفارق الشهادة العدالة شرط للحكم بها
فيعتبر وجودها إلى حين الحكم بها بخلاف مسئلتنا فإن العفة شرط للوجوب فلا تعتبر إلا إلى حين الوجوب
220

(فصل) ولو وجب الحد على ذمي أو مرتد فلحق بدار الحرب ثم عاد لم يسقط عنه
وقال أبو حنيفة يسقط. ولنا أنه حد وجب فلم يسقط بدخول دار الحرب كما لو كان مسلما دخل بأمان
(مسألة) قال (ومن قذف مشركا أو عبدا أو مسلما له دون العشر سنين أو مسلمة
لها دون التسع سنين أدب ولم يحد)
قد ذكرنا ان الاسلام الحرية وادراك سن يجامع مثله في مثله شروط لوجوب الحد على قاذفه فإذا انتفى
أحدها لم يجب الحد على قاذفه ولكن يجب تأديبه ردعا له عن أعراض المعصومين وكفاله عن أذاهم وحد الصبي
الذي لم يجب الحد بقذفه أن يبلغ الغلام عشرا والجارية تسعا في إحدى الروايتين. وقد سبق ذكر ذلك
221

(فصل) فإن اختلف القاذف والمقذوف فقال القاذف كنت صغيرا حين قذفتك وقال المقذوف
كنت كبيرا فذكر القاضي ان القول قول القاذف لأن الأصل الصغر وبراءة الذمة من الحد فإن أقام
القاذف بينة انه قذفه صغيرا وأقام المقذوف بينة أنه قذفه كبيرا وكانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخين
مختلفين فهما قذفان موجب أحدهما التعزير (والثاني) الحد، وان بينتا تاريخا واحدا وقالت إحداهما وهو صغير
وقالت الأخرى وهو كبير تعارضتا وسقطتا وكذلك لو كان تاريخ بينة المقذوف قبل تاريخ بينة القاذف
(مسألة) قال ومن قذف من كان مشركا وقال أردت انه زنى وهو مشرك لم يلتفت
إلى قوله وحد القاذف إذا طالب المقذوف وكذلك من كان عبدا)
إنما كان كذلك لأنه قذفه في حال كونه مسلما محصنا وذلك بمقتضى وجوب الحد عليه لعموم الآية
222

ووجود المعنى فإذا ادعى ما يسقط الحد عنه لم يقبل منه كما لو قذف كبيرا ثم قال أردت انه زنى وهو صغير
فاما ان قال له زنيت في شركك فلا حد عليه وبه قال الزهري وأبو ثور وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب
عن أحمد رواية أخرى. وعن مالك أنه يحد وبه قال الثوري لأن القذف وجد في حال كونه محصنا
ولنا أنه أضاف القذف إلى حال ناقصة أشبه ما لو قذفه في حال الشرك ولأنه قذفه بما لا يوجب
الحد على المقذوف فأشبه ما لو قذفه بالوطئ دون الفرج وهكذا الحكم لو قذف من كان رقيقا فقال
زنيت في حال رقك أو قال زنيت وأنت طفل، وان قال زنيت وأنت صبي أو صغير سئل عن الصغر
فإن فسره بصغر لا يجامع في مثله فهي كالتي قبلها، وإن فسره بصغر يجامع في مثله فعليه الحد في
إحدى الروايتين، وان قال زنيت إذا كنت مشركا أو إذ كنت رقيقا فقال المقذوف ما كنت
مشركا ولا رقيقا نظرنا فإن ثبت انه كان مشركا أو رقيقا فهي كالتي قبلها، وإن ثبت انه لم يكن
رقيقا كذلك وجب الحد على القاذف وان لم يثبت واحد منهما ففيه روايتان
223

(إحداهما) يجب الحد لأن الأصل عدم الشرك والرق، ولان الأصل الحرية واسلام أهل
دار الاسلام (والثانية) القول قول القاذف لأن الأصل براءة ذمة القاذف. وان قال زنيت وأنت
مشرك فقال المقذوف أردت قذفي بالزنا والشرك معا وقال القاذف بل أردت قذفك بالزنا إذ كنت
مشركا فالقول قول القاذف اختاره أبو الخطاب وهو قول بعض الشافعية لأن الخلاف في بينته وهو
أعلم بها، وقوله وأنت مشرك مبتدأ وخبر وهو حال لقوله زنيت كقول الله تعالى (إلا استمعوه وهم
يلعبون). وقال القاضي يجب الحد وهو قول بعض الشافعية لأن قوله زنيت خطاب في الحال
فالظاهر أنه أراد زناه في الحال وهكذا ان قال زنيت وأنت عبد وان قذف مجهولا وادعى انه
رقيق أو مشرك فقال المقذوف بل أنا حر مسلم فالقول قوله، وقال أبو بكر القول قول القاذف في الرق لأن
الأصل براءة ذمته من الحد وهو يدرأ بالشبهات وما ادعاه محتمل فيكون شبهة وعن الشافعي كالوجهين
224

ولنا ان الأصل الحرية وهو الظاهر فلم يلتفت إلى ما خالفه كما لو فسر صريح القذف بما يحيله
وكما لو ادعى أنه مشرك، فإن قيل الاسلام يثبت بقوله أنا مسلم بخلاف الحرية قلنا إنما يثبت الاسلام بقوله
في المستقبل وأما الماضي فلا يثبت بما جاء بعده فلا يثبت كونه مسلما حال القذف بقوله في حال النزاع فاستويا
(مسألة) قال (ويحد من قذف الملاعنة)
نص احمد على هذا وهو قول ابن عمر وابن عباس والحسن والشعبي وطاوس ومجاهد ومالك
والشافعي وجمهور الفقهاء ولا نعلم فيه خلافا وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الملاعنة
أن لا ترمى ولا يرمى ولدها فعليه الحد رواه أبو داود ولان حصانتها لم تسقط باللعان ولا يبت الزنا به
ولذلك لم يلزمها به حد، ومن قذف ابن الملاعنة فقال هو ولد زنا فعليه الحد للخبر والمعنى وكذلك
ان قال هو من الذي رميت به فاما ان قال ليس هو ابن فلان يعني الملاعن وأراد أنه منفي عنه شرعا
فلا حد عليه لأنه صادق.
225

(فصل) فاما ان ثبت زناه ببينة أو اقرار أو حد بالزنا فلا حد على قاذفه لأنه صادق ولان احصان
المقذوف قد زال بالزنا، ولو قال لمن زنى في شركه أو لمن كان مجوسيا تزوج بذات محرمه بعد أن أسلم
يا زاني فلا حد عليه إذا فسره بذلك، وقال مالك عليه الحد لأنه قذف مسلما لم يثبت زناه في اسلامه
ولنا انه قذف من ثبت زناه أشبه ما لو ثبت زناه في الاسلام ولأنه صادق والذي يقتضيه كلام
الخرقي وجوب الحد عليه لقوله ومن قذف من كان مشركا وقال أردت انه زنى وهو مشرك لم
يلتفت إلى قوله وحد
(مسألة) قال (وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الام في الحياة)
وإن قذت أمه وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة حد القاذف إذا طالب الا بن وكان
حرا مسلما، أما إذا قذفت وهي في الحياة فليس لولدها المطالبة لأن الحق لها فلا يطالب به غيرها ولا
226

يقم غيرها مقامها سواء كانت محجورا عليها أو غير محجور عليها لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه
غير المستحق مقامه كالقصاص وتعتبر حصانتها لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد،
واما إن قذفت وهي ميتة فإن لولدها المطالبة لأنه قدح في نسبه ولأنه بقذف أمه ينسبه إلى أنه من زنا
ولا يستحق ذلك بطريق الإرث ولذلك تعتبر الحصانة فيه ولا تعتبر الحصانة في أمه لأن القذف له وقال
أبو بكر لا يجب الحد بقذف ميتة بحال وهو قول أصحاب الرأي لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة فأشبه
قذف المجنون وقال الشافعي إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة وينقسم بانقسام الميراث وان لم يكن محصنا فلا
حد على قاذفه لأنه ليس بمحصن فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حيا، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من
يقذف محصنا حيا ولا ميتا لأنه إذا لم يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيا فلان لا يحد بقذفه بعد موته أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الملاعنة (ومن رمى ولدها فعليه الحد) يعني من رماه بأنه ولد زنا وإذا
وجب بقذف ابن الملاعنة بذلك فبقذف غيره أولى ولان أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى
227

رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين أو كانا ميتين، والحد إنما وجب للولد لأن الحد لا يورث
عندهم، فاما ان قذفت أمه بعد موتها وهو مشرك أو عبد فلاحد عليه في ظاهر كلام الخرقي سواء
كانت الام حرة مسلمة أو لم تكن وقال أبو ثور وأصحاب الرأي إذا قال لكافر أو عبد لست لا بيك
وأبواه حران مسلمان فعليه الحد وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد لست لأبيك فعليه الحد وإن
كان العبد للقاذف عند أبي ثور، وقال أصحاب الرأي يصح (1) أن يحد المولى لعبده واحتجوا بأن هذا
قذف لامه فيعتبر احصانها دون احصانه لأنها لو كانت حية كان القذف فها إذا كانت
ميتة ولان معنى هذا ان أمك زنت فاتت بك من الزنا فإذا كان من الزنا منسوبا إليها كانت هي
المقذوفة دون ولدها.
ولنا ما ذكرناه ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد لأن الكافر لا يرث المسلم والعبد لا
يرث الحر ولأنهم لا يوجبون الحد بقذف ميتة بحال فيثبت أن القذف له فيعتبر احصانه
دون احصانها والله أعلم.

(1) في نسخة يستقبح
228

(فصل) وان قذفت جدته فقياس قول الخرقي أنه كقذف أمه ان كانت حية فالحق لها ويعتبر إحصانها
وليس لغيرها المطالبة عنها وإن كانت ميتة فله المطالبة إذا كان محصنا لأن ذلك قدح في نسبه، فأما إن
قذف أباه أو جده أو أحدا من أقاربه غير أمهاته بعد موته لم يجب الحد بقذفه في ظاهر كلام الخرقي
لأنه إنما أوجب بقذف أمه حقا له لنفي نسبه لاحقا للميت ولهذا لم يعتبر إحصان المقذوفة واعتبر
إحصان الولد، ومتى كان المقذوف من غير أمهاته لم يتضمن نفي نسبه فلم يجب الحد وهذا قول أبي
بكر وأصحاب الرأي، وقال الشافعي إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة به وينقسم انقسام الميراث
لأنه قذف محصنا فيجب الحد على قاذفه كالحي
ولنا انه قذف من لا يتصور منه المطالبة فلم يجب الحد بقذفه كالمجنون أو نقول قذف من لا يجب
الحد له فلم يجب كقذف غير المحصن وفارق قذف الحي فإن الحديث له
229

(مسألة) قال (ومن قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما كان أو كافرا)
يعني ان حده القتل ولا تقبل توبته نص عليه أمد، وحكى أبو الخطاب رواية أخرى ان توبته
تقبل وبه قال أبو حنيفة والشافعي مسلما كان أو كافرا لأن هذا منه ردة والمرتد يستتاب وتصح توبته
ولنا ان هذا حد قذف فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه لو قبلت توبته
وسقط حده لكان أخف حكما من قذف آحاد الناس لأن قذف غيره لا يسقط بالتوبة ولابد من
اقامته. واختلفت الرواية عن أحمد فيما إذا كان القاذف كافرا فأسلم فروي أنه لا يسقط باسلامه لأنه
حد قذف فلم يسقط بالاسلام كقذف غيره، وروي أنه يسقط لأنه لو سب الله تعالى في كفره ثم
أسلم سقط عنه القتل فسب نبيه أولى، ولان الاسلام يجب ما قبله والخلاف في سقوط القتل عنه فأما توبته
فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة فإن الله تعالى يقبل التوبة من الذنوب كلها، والحكم في قذف النبي
صلى الله عليه وسلم كالحكم في قذف أمه لأن قذف أمه إنما أوجب القتل لكونه قذفا للنبي صلى الله عليه وسلم وقدحا في نسبه
230

(فصل) وقذف النبي صلى الله عليه وسلم وقذف أمه ردة عن الاسلام وخروج عن الملة وكذلك سبه بغير
القذف إلا أن سبه بغير القذف بسقط بالاسلام لأن سب الله تعالى يسقط بالاسلام فسب النبي
صلى الله عليه وسلم أولى وقد جاء في الأثر (إن الله تعالى يقول شتمني ابن آدم وما ينبغي له ان يشتمني اما شتمه
إياي فقوله اني اتخذت ولدا وانا الاحد الصمد لم ألد أولم ولد) ولا خلاف في أن اسلام النصر
القائل اني لهذا القول يمحو ذنبه
(مسألة) قال (وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم)
وبهذا قال طاوس والشعبي والزهري والنخعي وقتادة وحماد ومالك والثوري وأبو حنيفة وصاحباه
وابن أبي ليلى وإسحاق وقال الحسن وأبو ثور وابن المنذر لكل واحد حد كامل. وعن أحمد مثل
231

ذلك وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه هذا انه قذف كل واحد منهم فلزمه له حد كامل
كما لو قذفهم بكلمات
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة، ولان الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة فلم يحدهم عمر إلا
حدا واحدا ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا ولان الحد إنما وجب
بادخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف وتزول المعرة فوجب أن
يكتفى به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفا مفردا فإن كذبه في قذف لا يلزم منه كذبه في آخر
ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر، فإذا ثبت هذا فإنهم إن طلبوه جملة حد لهم وإن
طلبه واحد أقيم الحد لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل فأيهم طالب به استوفى وسقط فلم يكن لغيره
الطلب به كحق المرأة على أوليائها تزويجها إذا قام به واحد سقط عن الباقين وإن أسقطه أحدهم فلغيره
232

المطالبة به واستيفاؤه لأن المعرة عنه لم تزل بعفو صاحبه وليس للعافي الطلب به لأنه قد أسقط حقه منه
وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى انهم ان طلبوه دفعة واحدة فحد واحد، كذلك أن
طلبوه واحدا بعد واحد إلا أنه ان لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد، وان طلبه واحد فأقيم له ثم طلبه
آخر أقيم له وكذلك جميعهم وهذا قول عروة لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع استيفاؤه بجميعهم، وإذا
طلبه واحد منفردا كان استيفاؤه له وحده فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ولا إسقاطهم
(فصل) وان قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد، حد وبهذا قال عطاء والشعبي وقتادة وابن
أبي ليلى وأبو حنيفة والشافعي. وقال حماد ومالك لا يجب إلا حد واحد لأنها جناية توجب حدا
فإذا تكررت كفى حد واحد كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء أو شرب أنواعا من المسكر
ولنا انها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص وفارق ما قاسوا عليه فإنه حق لله تعالى
(فصل) وإذا قال لرجل يا ابن الزانيين فهو قاذف لهما بكلمة واحده فإن كانا ميتين ثبت الحق
233

لولدهما ولم يجب إلا حد واحد وجها واحدا. وان قال يا زاني ابن الزاني فهو قذف لهما بكلمتين،
فإن كان أبوه حيا فلكل واحد منهما حد، وإن كان ميتا فالظاهر في المذهب انه لا يجب الحد بقذفه،
وان قال يا زاني ابن الزانية وكانت أمه في الحياة فلكل واحد حد، ان كانت ميتة فالقذفان جميعا له
وإن قال زنيت بفلانة فهو قذف لهما بكلمة واحدة، وكذلك إذا قال يا ناكح أمه ويخرج فيه
الروايات الثلاث والله أعلم
(فصل) وان قذف رجلا مرات فلم يحد فحد واحد رواية واحدة سواء قذفه بزنا واحد أو
بزنيات، وان قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت، فإن قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد
في قول عامة أهل العلم، وحكي عن ابن القاسم انه أوجب حدا ثانيا، وهذا يخالف اجماع الصحابة فإن
أبا بكر لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا على حدا ثانيا فروى الأثرم باسناده عن (1) ظيبان بن
عمارة قال شهدا على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان فبلغ ذلك عمر فكبر عليه وقال شاط ثلاثة أرباع

(1) ظبيان بن عمارة روى عن علي وروى عنه سويد بن نجيح أبو قطبة
234

المغيرة بن شعبة وجاء زياد فقال ما عندك؟ قلم يثبت فأمر بهم فجلدوا وقال شهود رور فقال أبو بكرة
أليس ترضى ان أتاك رجل عدل يشهد برجمه؟ قال نعم والذي نفسي بيده فقال أبو بكرة وأنا اشهد أنه
زان فأراد أن يعيد عليه الجلد فقال علي يا أمير المؤمنين انك ان أعدت عليه الجلد أوجبت عليه الرجم
وفي حديث آخر فلا يعاد في فرية جلد مرتين
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله قول علي ان جلدته فارجم صاحبك قال كأنه جعل شهادته شهادة رجلين
قال أبو عبد الله وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في الحديث فأعجبني ثم قال يقول إذا جلدته
ثانية فكأنك جعلته شاهدا آخر. فأما ان حد له ثم قذفه بزنا ثان نظرت، فإن قذفه بعد طول الفصل
فحد ثان لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف أبدا بحيث يمكن من قذفه بكل حال وان
قذفه عقيب حده ففيه روايتان:
(إحداهما) بحد أيضا لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل
ولان سائر أسباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه كالزنا والسرقة
وغيرهما من الأسباب (والثانية) لا يحد لأنه قد حد له مرة فلم يحد له بالقذف عقبه كما لو قذفها بالزنا الأول
(فصل) وإذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل فلا حد عليه في قول أحد من أهل العلم
وكذلك أن اختلف رجلان في شئ فقال أحدهما لكاذب هو ابن الزانية فلا حد عليه نص عليه
أحمد لأنه لم يعين أحدا بالقذف وكذلك ما أشبه هذا ولو قذف جماعة لا يتصور صدقه في
قذفهم مثل ان يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنا كلهم لم يكن عليه حد لأنه لم يلحق العار بأحد
غير نفسه للعلم بكذبه.
(فصل) وان ادعى على رجل أنه قذفه فأنكر لم يستحلف، وبه قال الشعبي وحماد والثوري
وأصحاب الرأي وعن أحمد رحمه الله انه يستحلف حكاها ابن المنذر وهو قول الزهري ومالك
والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على المدعى عليه ولأنه حق
لآدمي فيستحلف فيه كالدين. ووجه الأولى أنه حد فلا يستحلف فيه كالزنا والسرقة فإن نكل عن
اليمين لم يقم عليه الحد لأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يقضى فيه بالنكول كسائر الحدود
235

(مسألة) قال (ومن قتل أو أتي حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم لم يبايع ولم يشار
حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد)
وجملته ان من جنى جناية توجب قتلا خارج الحرم ثم لجاء إليه لم يستوف منه فيه، وهذا قول
ابن عباس وعطاء وعبيد بن عمير والزهري ومجاهد وإسحاق والشعبي وأبي حنيفة وأصحابه واما غير
القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس فعن أحمد فيه روايتان (إحداهما) لا يستوفى من
الملتجئ إلى الحرم فيه (والثانية) يستوفى وهو مذهب أبي حنيفة لأن المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي
عن القتل بقوله عليه السلام (فلا يسفك فيها دم) وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ولان الحد
بالجلد جرى مجرى التأديب فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي وهي ظاهر
المذهب قال أبو بكر هذا مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه ان الجدود كلها تقام في الحرم الا القتل
والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته حتى يخرج منه، وان هتك حرمة الحرم
بالجناية فيه هتكت حرمته بإقامة الحد عليه فيه، وقال مالك والشافعي وابن المنذر يستوفى منه
فيه لعموم الامر بجلد الزاني وقطع السارق واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان،
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بجزية ولا دم) قد أمر النبي
صلى الله عليه وسلم بقتل ابن حنظل وهو متعلق بأستار الكعبة حديث حسن صحيح ولأنه حيوان أبيح دمه
لعصيانه فأشبه الكلب العقور
ولنا قول الله تعالى (ومن دخله كان آمنا) يعني الحرم بدليل قوله (فيه آيات بينات مقام إبراهيم)
والخبر أريد به الامر لأنه لو أريد به الخبر لافضى إلى وقوع الخبر خلاف المخبر وقال النبي صلى الله عليه وسلم
(ان الله حرم مكة ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما
ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن
لكم وإنما اذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت
إلى حرمتها فلا يسفك فيها دم) متفق عليهما فالحجة فيه من وجهين (أحدهما) أنه حرم سفك الدم بها
على الاطلاق وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم فإنه لو أراد سفك الدم الحرام لم يختص
236

به مكة فلا يكون التخصيص مفيدا (والثاني) قوله (إنما حلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها)
ومعلوم أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم فحرمها الحرم ثم أحلت له ساعة ثم عادت الحرمة
ثم اكد هذا بمنعه قياس غيره عليه والاقتداء به فيه بقوله (فإن أحد ترخص لقتال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم) وهذا يدفع ما احتجوا به من قتل بن حنظل
فإنه من رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي منع الناس أن يقتدوا به فيها وبين أنها له على المخصوص وما
رووه من الحديث فهو من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يرد به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى
له أبو شريح هذا الحديث، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع، وأما جلد الزاني وقطع السارق والامر
بالقصاص فإنما هو مطلق في الأمكنة والأزمنة فإنه يتناول مكانا غير معين ضرورة أنه لا بد من كان
فيمكن إقامته في مكان غير الحرم ثم لو كان عموما فإن ما رويناه خاص يخص به مع أنه قد خص
مما ذكروه الحامل والمريض المرجو برؤه فتأخر الحد عنه وتأخر قتل الحامل فجاز أن يحص أيضا بما
ما ذكرناه والقياس على الكلب العقور غير صحيح فإن ذلك طبعه الأذى فلم يحرمه الحرم ليدفع اذاه عن
أهله فاما الأذى فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات
المباحة من المأكولات فإن الحرم يعصمها، إذا ثبت هذا فإنه لا يبايع ولا يشارى ولا يطعم ولا يؤوى
ويقال له اتق الله واخرج إلى الحل ليستوفى منك الحق الذي قبلك فإذا خرج استوفي حق الله منه
وهو قول جميع من ذكرناه، وإنما كان كذلك لأنه لو أطعم واوي لتمكن من الإقامة دائما فيضيع
الحق الذي عليه وإذا منع من ذلك كان وسيلة إلى خروجه فيقام فيه حق الله تعالى وليس علينا
اطعامه كما أن الصيد لا يصاد في الحرم وليس علينا القيام به قال ابن عباس رحمه الله من أصاب حدا
ثم لجأ إلى الحرم فإنه لا يجالس ولا يبايع ولا يؤوى ويأتيه من يطلبه فيقول أي فلان اتق الله فإذا
خرج من الحرم أقيم عليه الحد رواه الأثرم فإن قتل من له عليه القصاص في الحرم وأقام حدا بجلد
أو قتل أو قطع طرف أساء ولا شئ عليه لأنه استوفى حقه في حال لم يكن له استيفاؤه فيه فأشبه
ما لو اقتص في شدة الحر أو برد مفرط
237

(مسألة) قال (ومن قتل أو أتي حدا في الحرم أقيم عليه في الحرم)
وجملته أن من انتهك حرمة الحرم بجناية فيه توجب حدا أو قصاصا فإنه يقام عليه حدها لا نعلم
فيه خلافا وقد روى الأثرم باسناده عن ابن عباس أنه قال من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما
أحدث فيه من شئ وقد أمر الله تعالى بقتال من قاتل في الحرم فقال تعالى (ولا تقاتلوهم عند المسجد
الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) فأباح قتلهم عند قتالهم في الحرم ولان أهل الحرم
يحتاجون إلى الزجر عن ارتكاب المعاصي كغيرهم حفظا لأنفسهم وأموالهم واعراضهم فلو لم
يشرع الحد في حق من ارتكب الحد في الحرم لتعطلت حدود الله تعالى في حقهم وفاتت هذه
المصالح التي لا بد منها ولا يجوز الاخلال بها ولان الجاني في الحرم هاتك لحرمته فلا ينتهض
الحرم لتحريم ذمته وصيانته بمنزلة الجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك بخلاف الملتجئ إليها
بجناية صدرت منه في غيرها
(فصل) فاما حرم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمنع إقامة حد ولا قصاص لأن النص إنما ورد في حرم
الله تعالى وحرم المدينة دونه في الحرمة فلا يصح قياسه عليه وكذلك سائر البقاع لا تمنع من استيفاء
حق ولا إقامة حد لأن أمر الله تعالى باستيفاء الحقوق وإقامة الحد مطلق في الأمكنة والأزمنة خرج
منها الحرم لمعنى لا يكفي في غيره لأنه محل الانساك وقبلة المسلمين وفيه بيت الله المحجوج وأول
بيت وضع للناس ومقام إبراهيم وآيات بينات فلا يلتحق به سواه ولا يقاس عليه ما ليس
في معناه والله أعلم.
238

باب القطع في السرقة
والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقول الله تعالى (والسارق والسارقة
فاقطعوا أيديهما) وأما السنة فروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (تقطع اليد في ربع دينا فصاعدا)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق
فيهم الضعيف قطعوه) متفق عليهما في اخبار سوى هذين نذكرها إن شاء الله تعالى في مواضعها، وأجمع
المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (وإذا سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من
الورق أو قيمة ثلاثة دراهم طعاما كان أو غيره وأخرجه من الحرز قطع)
وجملة ان القطع لا يجب الا بشروط سبعة:
(أحدها) السرقة ومعنى السرقة أخذا المال على وجه الخفية والاستتار ومنه استراق السمع ومسارقة
النظر إذا كان يستخفي بذلك، فإن اختطف أو اختلس لم يكن سارقا ولا قطع عليه عند
أحد علمناه غير إياس بن معاوية، قال أقطع المختلس لأنه يستخفي بأخذه فيكون سارقا، وأهل الفقه
239

والفتوى من علماء الأمصار على خلافة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على الخائن ولا
المختلس قطع) وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس على المنتهب قطع) رواهما أبو داود
وقال لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير، ولان الواجب قطع السارق وهذا غير سارق. ولان
الاختلاس نوع من الخطف والنهب وإنما يستخفي في ابتداء اختلاسه بخلاف السارق
واختلفت الرواية عن أحمد في جاحد العارية فعنه عليه القطع وهو قول إسحاق لما روي عن
عائشة ان امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلموه
فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الا أراك تكلمني في حد من حدود الله تعالى؟) ثم قال النبي
صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال (إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق
فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم لقطعت يدها) قالت
فقطع يدها، قال أحمد لا أعرف شيئا يدفعه، متفق عليه، وعنه لا قطع عليه وهو قول الخرقي وأبي
إسحاق بن شاقلا وأبي الخطاب وسائر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم (لا قطع على الخائن) ولان الواجب قطع السارق، والجاحد غير سارق وإنما هو خائن فأشبه
جاحد الوديعة، والمراة التي كانت تستعير المتاع إنما قطعت لسرقتها لا بجحدها ألا ترى قوله (إذا
سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه وقوله والذي نفسي بيده لو كانت
240

فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) وفي بعض ألفاظ رواية هذه القصة عن عائشة ان قريشا أهمهم شأن
المخزومية التي سرقت وذكرت القصة رواه البخاري، وفي حديث انها سرقت قطيفة فروى الأثرم
اسناده عن مسعود بن الأسود قال لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا
ذلك وكانت امرأة من قريش فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا نحن نفديها بأربعين أوقية قال
(تطهر خير لها) فلما سمعنا لين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينا أسامة فقلنا كلم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر الحديث نحو سياق عائشة، وهذا ظاهر في أن القصة واحدة وانها سرقت فقطعت بسرقتها
وإنما عرفتها عائشة بجحدها للعارية لكونها مشهورة بذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك سببا كما لو عرفتها
بصفة من صفاتها، وفيما ذكرنا جمع بين الأحاديث وموافقة لظاهر الأحاديث والقياس وفقهاء الأمصار
فيكون أولى، فأما جاحد الوديعة وغيرها من الأمانات فلا نعلم أحدا يقول بوجوب القطع عليه
(الشرط الثاني) أن يكون المسروق نصابا ولا قطع في القليل في قول الفقهاء كلهم إلا الحسن
وداود وابن بنت الشافعي، والخوارج قالوا يقطع في القليل والكثير لعموم الآية ولما روى أبو هريرة
رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله السارق، يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع
يده) متفق عليه، ولأنه سارق من حرز فتقطع يده كسارق الكثير
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا) متفق عليه وإجماعا الصحابة على ما
241

سنذكره وهذا يخص عموم الآية والحبل يحتمل أن يساوي ذلك وكذلك البيضة يحتمل ان يراد
بها بيضة السلاح وهي تساوي ذلك
واختلفت الرواية عن أحمد في قدر النصاب الذي يجب القطع بسرقته فروى عنه أبو إسحاق
الجوزجاني انه ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما قيمته ثلاثة دراهم من
غيرهما وهذا قول مالك وإسحاق
وروى عنه الأثرم أنه ان سرق من غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع
فعلى هذا يقوم غير الأثمان بأدنى الامرين من ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وعنه ان الأصل الورق
ويقوم الذهب به فإن نقص ربع دينار عن ثلاثة دراهم لم يقطع سارقه وهذا يحكى عن الليث وأبي ثور
وقالت عائشة لاقطع الا في ربع دينار فصاعدا. وروي هذا عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم
وبه قال الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والشافعي وابن المنذر لحديث عائشة رضي الله
عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا قطع الا في ربع دينار فصاعدا) وقال عثمان البتي تقطع اليد في
درهم فما فوقه وعن أبي هريرة وأبي سعيد ان اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا وعن عمر أن الخمس
لا تقطع الا في الخمس وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة وروي ذلك عن الحسن
وقال أنس قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم رواه الجوزجاني باسناده وقال عطاء وأبو حنيفة
242

وأصحابه لا تقطع اليد الا في دينار أو عشرة دراهم لما روى الحجاج (1) بن أرطاة عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا قطع الا في عشرة دراهم) وروى ابن عباس قال قطع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم وعن النخعي لا تقطع اليد الا في أربعين درهما
ولنا ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم متفق عليه، قال ابن
عبد البر هذا أصح حديث يروى في هذا الباب لا يختلف أهل العلم في ذلك، وحديث أبي حنيفة الأول
يرويه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف والذي يرويه عن الحجاج ضعيف أيضا والحديث الثاني لا دلالة
فيه على أنه لا يقطع بما دونه فإن من أوجب القطع بثلاثة دراهم أوجبه بعشرة، ويدل هذا الحديث على أن
العرض يقوم بالدراهم لأن المجن قوم بها ولان ما كان الذهب فيه أصلا كان الورق فيه أصلا
كنصب الزكاة والديات وقيم المتلفات. وقد روى أنس أن سارقا سرق مجنا ما يسرني انه لي
بثلاثة دراهم أو ما يساوي ثلاثة دراهم فقطعه أبو بكر واتي عثمان برجل قد سرق أترجة فأمر بها عثمان فأقيمت
فبلغت قيمتها ربع دينار فأمر به عثمان فقطع
(فصل) وإذا سرق ربع دينار من المضروب الخالص ففيه القطع. وإن كان فيه غش أو تبر
يحتاج إلى تصفية لم يجب القطع حتى يبلغ ما فيه من الذهب ربع دينار لأن السبك ينقصه، وان سرق
ربع دينار قراضة أو تبرا خالصا أو حليا ففيه القطع نص عليه احمد في رواية الجوزجاني قال: قلت

(1) قال يحيى ابن معين: الحجاج بن أرطاة كوفي ليس بالقوي دلس عن محمد ابن عبد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب فلا يحتج بحديثه،
قال أحمد الحجاج من الحفاظ فقيل له فلم هو ليس عند الناس بذلك؟ قال بلن في حديثه زيادة على حديث الناس ليس يكاد له حديث الا فيه زيادة وقال يحيى ابن سعيد هو مضطرب الحديث
243

له كيف يسرق ربع دينار؟ فقال قطعة ذهب أو خاتما أو حليا وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي
وذكر القاضي في وجوب القطع احتمالين (أحدهما) لا قطع عليه وهو قول بعض أصحاب الشافعي
لأن الدينار اسم للمضروب
ولنا أن ذلك ربع دينار لأنه يقال دينار قراضة ومكسر أو دينار خالص ولأنه لا يمكنه سرقة
ربع دينار مفرد في الغالب إلا مكسورا وقد أوجب عليه القطع بذلك ولأنه حق لله تعالى تعلق
بالمضروب فتعلق بما ليس بمضروب كالزكاة، والخلاف فيما إذا سرق من المكسور والتبر مالا يساوي
ربع دينار صحيح، فإن بلغ ذلك ففيه القطع. والدينار هو المثقال من مثاقيل الناس اليوم وهو الذي
كل سبعة منها عشرة دراهم وهو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله ولم يتغير، وإنما كانت
الدراهم مختلفة فجمعت وجعلت كل عشرة منها سبعة مثاقيل فهي التي يتعلق القطع بثلاثة منها إذا
كانت خالصة مضروبة كانت أو غير مضروبة على ما ذكرناه في الذهب وعند أبي حنيفة ان النصاب
إنما يتعلق بالمضروب مها وقد ذكر ما دل عليه ويحتمل ما قاله في الدراهم لأن اطلاقها يتناول الصحاح
المضروبة بخلاف ربع الدينار على أننا قد ذكرنا فيها احتمالا متقدما فههنا أولى، وما قوم من غيرهما
بهما فلا قطع فيه حتى يبلغ ثلاثة دراهم صحاحا لأن اطلاقها ينصرف إلى المضروب دون المكسر
244

(الشرط الثالث) أن يكون المسروق مالا فإن سرق ما ليس بمال كالحر فلا قطع فيه صغيرا
كان أو كبيرا وبهذا قال الشافعي والثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال الحسن
والشعبي ومالك وإسحاق يقطع بسرقة الحر الصغير لأنه غير مميز أشبه العبد. وذكره أبو الخطاب
رواية عن أحمد
ولنا انه ليس بمال فلا يقطع بسرقته كالكبير النائم، وإذا ثبت هذا فإنه إن كان عليه حلي أو ثياب
تبلغ نصبا لم يقطع وبه قال أبو حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي، وذكر أبو الخطاب وجها آخر
انه يقطع وبه قال أبو يوسف وابن المنذر لظاهر الكتاب، ولأنه سرق نصابا من الحلي فوجب فيه
القطع كما لو سرقه منفردا
ولنا انه تابع لما لاقطع في سرقته أشبه ثياب الكبير ولان يد الصبي على ما عليه بدليل أن ما يوجد
مع اللقيط يكون له وهكذا لو كان الكبير نائما على متاع فسرقه ومتاعه لم يقطع لأن يده عليه
(فصل) وإن سرق عبدا صغيرا فعليه القطع في قول عامة أهل العلم، وقال ابن المنذر أجمع على هذا
كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم الحسن ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو
حنيفة ومحمد. والصغير الذي يقطع بسرقته هو الذي لا يميز فإن كن كبيرا لم يقطع سارقه إلا أن
يكون نائما أو مجنونا أو أعجميا لا يميز بين سيده وبين غيره في الطاعة فيقطع سارقه، وقال أبو يوسف
245

لا يقطع سارق العبد وإن كان صغيرا لأن من لا يقطع بسرقته كبيرا لا يقطع بسرقته صغيرا كالحر
ولنا انه سرق مالا مملوكا تبلغ قيمته نصابا فوجب القطع عليه كسائر الحيوانات، وفارق الحر فإنه
ليس بمال ولا مملوك، وفارق الكبير لأن الكبير لا يسرق وإنما يخدع بشئ الا أن يكون في حال
زوال عقله بنوم أو جنون فتصح سرقته ويقطع سارقه، فإن كان المسروق في حال نومه أو جنونه
أم ولد ففي قطع سارقها وجهان
(أحدهما) لا يقطع لأنها لا يحل بيعها ولا نقل الملك فيها فأشبهت الحرة
(والثاني) يقطع لأنها مملوكة تضمن بالقيمة فأشبهت القن، وحكم المدبر حكم القن لأنه يجوز بيعه
ويضمن بقيمته، فأما المكاتب فلا يقطع سارقه لأن ملك سيده ليس بتام عليه لكونه لا يملك منافعه
ولا استخدامه ولا أخذ أرش الجناية عليه، ولو جنى السيد عليه لزمه له الأرش ولو استوفى منافعه كرها
لزمه عوضها ولو حبسه لزمه أجرة مثله مدة حبسه أو انظاره مقدار مدة حبسه ولا يجب القطع لأجل
ملك المكاتب في نفسه لأن الانسان لا يملك نفسه فأشبه الحر، وإن سرق من مال المكاتب شيئا
فعليه القطع لأن ملك المكاتب ثابت في مال نفسه إلا أن يكون السارق سيده فلا قطع عليه لأن له
في ماله حقا وشبهة تدرأ الحد ولذلك لو وطئ جاريته لم يحد
246

(فصل) وإن سرق ماء فلا قطع فيه قاله أبو بكر وأبو إسحاق بن شاقلا لأنه مما لا يتمول عادة
ولا أعلم في هذا خلافا، وإن سرق كلا أو ملحا فقال أبو بكر لاقطع فيه لأنه مما ورد الشرع باشتراك
الناس فيه فأشبه الماء
وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيه القطع لأنه يتمول عادة فأشبه التبن والشعير، وأما الثلج فقال القاضي هو
كالماء لأنه ماء جامد فأشبه الجليد والأشبه انه كالملح لأنه يتمول عادة فهو كالملح المنعقد من الماء، وأما
التراب فإن كان مما تقل الرغبات فيه كالذي يعد للتطيين والبناء فلا قطع فيه لأنه لا يتمول، وإن كان
مما له قيمة كثيرة كالطين الأرمني الذي يعد للدواء أو المعد للغسل به أو الصبغ كالمغرة احتمل وجهين
(أحدهما) لاقطع فيه لأنه من جنس مالا يتمول أشبه الماء
(والثاني) فيه القطع لأنه يتمول عادة ويحمل إلى البلدان للتجارة فيه فأشبه العود الهندي، ولا
يقطع بسرقة السرجين لأنه إن كان نجسا فلا قيمة له وإن كان طاهرا فلا يتمول عادة ولا تكثر
الرغبات فيه فأشبه التراب الذي للبناء، وما عمل من التراب كاللبن والفخار ففيه القطع لأنه يتمول عادة
(فصل) وما عدا هذا من الأموال ففيه القطع سواء كان طعاما أو ثيابا أو حيوانا أو أحجارا
أو قصبا أو صيدا أو نورة أو جصا أو زرنيخا أو توابل أو فخارا أو زجاجا أو غيره وبهذا قال مالك والشافعي
وأبو ثور، وقال أبو حنيفة لا قطع على سارق الطعام الرطب الذي يتسارع إليه الفساد كالفواكه
247

والطبائخ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا قطع في ثمر ولا كثر) رواه أبو داود ولان هذا معرض
للهلاك أشبه ما لم يحرز. ولا قطع فيما كان أصله مباحا في دار الاسلام كالصيود والخشب الا في الساج
والأبنوس والصندل والقنا والمعمول من الخشب فإنه يقطع به وما عدا هذا لا يقطع به لأنه يوجد
كثيرا مباحا في دار الاسلام فأشبه التراب. ولا قطع في القرون وان كانت معمولة لأن الصنعة
لا تكون غالبة عليها بل القيمة لها بخلاف معمول الخشب، ولا قطع عنده في التوابل والنورة والجص والزرنيخ
والملح والحجارة واللبن والفخار والزجاج. وقال الثوري ما يفسد في يومه كالثريد واللحم لا قطع فيه
ولنا عموم قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وروى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فذكر الحديث ثم قال (ومن سرق منه شيئا
بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع) رواه أبو داود وغيره. وروي أن عثمان رضي الله عنه
أتي برجل قد سرق أترجة فأمر بها عثمان فأقيمت فبلغت قيمتها ربع دينار فأمر به عثمان فقطع،
رواه سعيد ولان هذا مال يتمول في العادة ويرغب فيه فيقطع سارقه إذا اجتمعت الشروط كالمجفف
لأن ما وجب القطع في معموله وجب فيه قبل العمل كالذهب والفضة، وحديثهم أراد به الثمر المعلق
بدليل حديثنا فإنه مفسر له وتشبيهه بغير المحرز لا يصح لأن غير المحرز مضيع وهذا محفوظ ولهذا
افترق سائر الأموال بالحرز وعدمه، وقولهم يوجد مباحا في دار الاسلام ينتقض بالذهب والفضة
والحديد والنحاس وسائر المعادن، والتراب قد سبق القول فيه
248

(فصل) فإن سرق مصحفا فقال أبو بكر والقاضي لا قطع فيه وهو قول أبي حنيفة لأن المقصود
منه ما فيه من كلام الله وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه، واختار أبو الخطاب وجوب قطعه وقال هو ظاهر
كلام أحمد فإنه سئل عمن سرق كتابا فيه علم لينظر فيه فقال كل ما بلغت قيمته ثلاثة دراهم فيه القطع
وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لعموم الآية في كل سارق ولأنه متقوم تبلغ قيمته
نصبا فوجب القطع بسرقته ككتب الفقه ولا خلاف بين أصحابنا في وجوب القطع بسرقة كتب
الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية، فإن كان المصحف محلى بحلية تبلغ نصابا خرج فيه وجهان
عند من لم ير القطع بسرقة المصحف (أحدهما) لا يقطع وهذا قياس قول أبي إسحاق بن شاقلا
ومذهب أبي حنيفة لأن الحلي تابعة لما لا يقطع بسرقته أشبهت ثياب الحر (والثاني) يقطع وهو
قول القاضي لأنه سرق نصابا من الحلي فوجب قطعه كما لو سرقه منفردا، وأصل هذين الوجهين
من سرق صبيا عليه حلي
(فصل) وان سرق عينا موقوفة وجب القطع عليه لأنها مملوكة للموقوف عليه، ويحتمل أن
لا يقطع بناء على الوجه الذي يقول إن الموقوف لا يملكه الموقوف عليه
(الشرط الرابع) أن يسرق من حرز ويخرجه منه وهذا قول أكثر أهل العلم وهذا مذهب
عطاء والشعبي وأبي الأسود الدؤلي وعمر بن عبد العزيز والزهري وعمرو بن دينار والثوري ومالك
249

والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم عن أحد من أهل العلم خلافهم إلا قولا حكي عن عائشة والحسن
والنخعي فيمن جمع المتاع ولم يخرج به من الحرز عليه القطع، وعن الحسن مثل قول الجماعة، وحكي عن
داود أنه لا يعتبر الحرز لأن الآية لا تفصيل فيها وهذه أقوال شاذة غير ثابتة عمن نقلت عنه
قال ابن المنذر وليس فيه خبر ثابت ولا مقال لأهل العلم إلا ما ذكرناه فهو كالاجماع والاجماع
حجة على من خالفه، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا من مزينة سأل النبي صلى الله عليه وسلم
عن الثمار فقال (ما أخذه في غير اكمامه فاحتمل ففيه قيمته ومثله معه، وما كان في الخزائن ففيه القطع
إذا بلغ ثمن المجن) رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما، وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في
اعتبار النصاب، إذا ثبت اعتبار الحرز والحرز ما عد حرزا في العرف فإنه لما ثبت اعتباره في الشرع
من غير تنصيص على بيانه علم أنه رد ذلك إلى أهل العرف لأنه لا طريق إلى معرفته الا من جهته فيرجع
إليه كما رجعنا إليه في معرفة القبض والفرقة في البيع وأشباه ذلك
إذا ثبت هذا فإن من حرز الذهب والفضة والجواهر الصناديق تحت الاغلاق والاقفال
الوثيقة في العمران، وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر والنحاس والرصاص في الدكاكين
والبيوت المقفلة في العمران أو يكون فيها حافظ فيكون حرزا وا كانت مفتوحة، وان لم تكن مغلقة
ولا فيها حافظ فليست بحرز. وان كانت فيها خزائن مغلقه فالخزائن حرز لما فيها وما خرج عنها
250

فليس بمحرز، وقد روي عن أحمد في البيت الذي ليس عليه غلق يسرق منه أراه: سارقا، وهذا
محمول على أن أهله فيه. فأما البيوت التي في البساتين أو الطرق أو الصحراء فإن لم يكن فيها أحد
فليست حرزا سواء كانت مغلقة أو مفتوحة لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران
وانصرف عنه لا يعد حافظا له، وان أغلق عليه، وإن كان فيها أهلها أو حافظ فهي حرز سواء كانت
مغلقة أو مفتوحة، وإذا كان لابسا للثوب أو متوسدا له نائما أو مستيقظا أو مفترشا له أو متكئا
عليه في أي موضع كان من البلد أو برية فهو محرز بدليل ان رداء صفوان سرق وهو متوسد له فقطع
النبي صلى الله عليه وسلم سارقه، وان تدحرج عن الثوب زال الحرز إن كان نائما، وإن كان الثوب بين يديه
أو غيره من المتاع كبز البزازين وقماش الباعة وخبز الخبازين بحيث يشاهده وينظر إليه فهو محرز
وان نام أو كان غائبا عن موضع مشاهدته فليس بمحرز وان جعل المتاع في الغرائر وعلم عليها ومعها
حافظ يشاهدها فهي محرزة والا فلا
(فصل) والخيمة والخركاه ان نصبت وكان فيها أحد نائما أو منتبها فهي محرزة وما فيها لأنها
هكذا تحرز في العادة وان لم يكن فيها أحد ولا عندها حافظ فلا قطع على سارقها، وممن أوجب القطع
في السرقة من الفسطاط الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي الا أن أصحاب الرأي قالوا يقطع
السارق من الفسطاط دون سارق الفسطاط. ولنا انه محرز بما جرت به العادة أشبه ما فيه
251

(فصل) وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوها بالشرائج من القصب أو الخشب إذا كان في
السوق حارس وحرز الخشب الحطب والقصب في الحظائر وتعبئة بعضه على بعض وتقييده بقيد
بحيث يعسر أخذ شئ منه على ما جرت به العادة الا أن يكون في فندق مغلق عليه فيكون محرزا وان لم يقيد
(فصل) والإبل على ثلاثة أضرب: باركة وراعية وسائرة فاما الباركة فإن كان معها حافظ
نفا وهي معقولة فهي محرزة وان لم تكن معقولة وكان الحافظ ناظرا إليها أو مستيقظا بحيث يراها
فهي محرزة، وإن كان نائما أو مشغولا عنها فليست محرزة لأن العادة أن الرعاة إذا أرادوا النوم
عقلوا إبلهم ولان حل المعقولة ينبه النائم والمشتغل وان لم يكن معها أحد فهي غير محرزه سواء كانت
معقولة أو لم تكن. وأما الراعية فحرزها بنظر الراعي إليها فما غاب عن نظره أو نام عنه فليس بمحرز
لأن الراعية إنما تحرز بالراعي ونظره. وأما السائرة فإن كان معها من يسوقها فحرزها نظره إليها
سواء كانت مقطرة أو غير مقطرة وما كان منها بحيث لا يراه فليس بمحرز وإن كان معها قائد فحرزها
ان يكثر الالتفات إليها والمراعاة لها ويكون بحيث يراها إذا التفت وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
لا يحرز القائد الا التي زمامها بيده لأنه يوليها ظهره ولا يراها الا نادرا فيمكن اخذها من حيث لا يشعر
ولنا أن العادة في حفظ الإبل المقطرة بمراعاتها بالالتفات وامساك زمام الأول فكان ذلك حرزا
لها كالتي زمامها في يده فإن سرق من أحمال الجمال السائرة المحرزة متاعا قيمته نصاب قطع وكذلك
252

ان سرق الحمل وان سرق الجمل بما عليه وصاحبه نائم عليه لم يقطع لأنه في يد صاحبه وان لم يكن
صاحبه نائما عليه قطع وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قطع عليه لأن ما في الحمل محرز به فإذا
أخذ جميعه لم يهتك حرز المتاع فصار كما لو سرق أجزاء الحرز
ولنا ان الجمل محرز بصاحبه ولهذا لو لم يكن معه لم يكن محرزا فقد سرقه من حرز مثله فأشبه
ما لو سرق المتاع ولا نسلم ان سرقة الحرز من حرزه لا توجب القطع فإنه لو سرق الصندوق بما فيه من
بيت هو محرز فيه وجب قطعه وهذا التفصيل في الإبل التي في الصحراء فاما التي في البيوت والمكان
المحصن على الوجه الذي ذكرناه في الثياب فهي محرزة والحكم في سائر المواشي كالحكم في الإبل على
ما ذكرناه من التفصيل فيها
(فصل) وإذا سرق من الحمام ولا حافظ فيه فلا قطع عليه في قول عامتهم وإن كان ثم حافظ
فقال احمد ليس على سارق الحمام قطع. وقال في رواية ابن منصور لا يقطع سارق الحمام إلا أن يكون
على المتاع قاعد مثل ما صنع بصفوان وهذا قول أبي حنيفة لأنه مأذون للناس في دخوله فجرى مجرى
سرقة الضيف من البيت المأذون له في دخوله ولان دخول الناس إليه يكثر فلا يتمكن الحافظ من
حفظ ما فيه. قال القاضي وفيه رواية أخرى أنه يجب القطع إذا كان فيه حافظ وهو قول مالك والشافعي
وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر لأنه متاع له حافظ فيجب قطع سارقه كما لو كان في بيت والأول أصح
253

وهذا يفارق ما في البيت من الوجهين اللذين ذكرناهما، فاما إن كان صاحب الثياب قاعدا عليها أو
متوسدا لها أو جالسا وهي بين يديه يحفظها قطع سارقها بكل حال كما قطع سارق رداء صفوان من
المسجد وهو متوسد له، وكذلك إن كان نائب صاحب. إما الحمامي وإما غيره حافظا لها على هذا
الوجه قطع سارقها لأنها محرزة وإن لم تكن كذلك فقال القاضي إن نزع الداخل ثيابه على ما جرت
به العادة ولم يستحفظها لاحد فلا قطع على سارقها ولا غرم على الحمامي لأنه غير مودع فيضمن ولا
هي محرزة فيقطع سارقها وإن استحفظها الحمامي فهو مودع يلزمه مراعاتها بالنظر والحفظ فإن تشاغل
عنها أو ترك النظر إليها فسرقت فعليه الغرم لتفريطه ولا قطع على السارق لأنه لم يسرق من حرز،
وإن تعاهدها الحمامي بالحفظ والنظر فسرقت فلا غرم عليه لعدم تفريطه وعلى السارق القطع لأنها
محرزة وهذا مذهب الشافعي وظاهر مذهب احمد انه قطع عليه في هذه الصورة لما تقدم
قال ابن المنذر قال احمد أرجو ان لاقطع عليه لأنه مأذون للناس في دخوله، ولو استحفظ رجل
آخر متاعه في المسجد فسرق فإن كان قد فرط في مراعاته ونظره إليه فعليه الغرم إذا كان التزم
حفظه واجابه إلى ما سأله وإن لم يجبه لكن سكت لم يلزمه غرم لأنه ما قبل الاستيداع ولا قبض المتاع
ولا قطع على السارق في الموضعين لأنه غير محرز وإن حفظ المتاع بنظره إليه وقربه منه فسرق فلا
غرم عليه وعلى السارق القطع لأنه سرق من حرز ويفارق المتاع في الحمام فإن الحفظ فيه غير ممكن
254

لأن الناس يضع بعضهم ثيابه عند ثياب بعض ويشتبه على الحمامي صاحب الثياب فلا يمكنه منع أخذها
لعدم علمه بمالكها
(فصل) وحرز حائط الدار كونه مبنيا فيها إذا كانت في العمران أو كانت في الصحراء وفيها
حافظ فإن أخذ من أجزا الحائط أو خشبه نصابا في هذه الحال وجب قطعه لأن الحائط حرز لغيره فيكون
حرزا لنفسه وإن هدم الحائط ولم يأخذه فلا قطع عليه فيه كما لو أتلف المتاع في الحرز ولم يسرقه،
فإن كانت الدار بحيث لا تكون حرزا لما فيها كدار في الصحراء لا حافظ فيها فلا قطع على من أخذ
من حائطها شيئا لأنها إذا لم تكن حرزا لما فيها فلنفسها أولى. وأما باب الدار فإن كان منصوبا في
مكانه فهو محرز سواء كان مغلقا أو مفتوحا لأنه هكذا يحفظ وعلى سارقه القطع إذا كانت الدار حرزة
بما ذكرناه وأما أبواب الخزائن في الدار فإن كان باب الدار مغلقا فهي محرزة سواء كانت مفتوحة
أو مغلقة، وإن كان مفتوحا لم تكن محرزة إلا أن تكون مغلقة أو يكون في الدار حافظ والفرق بين
باب الدار وباب الخزانة أن أبواب الخزائن تحز بباب الدار وباب الدار لا يحرز إلا بنصبه ولا يحرز
بغيره وأما حلقة الباب فإن كانت مسمورة فهي محرزة وإلا فلا لأنها تحرز بتسميرها
(فصل) وإن سرق باب مسجد منصوبا أو باب الكعبة المنصوب أو سرق من سقفه شيئا أو
تأزيره ففيه وجهان
255

(أحدهما) عليه القطع وهو مذهب الشافعي وأبو القاسم صاحب مالك وأبي ثور وابن المنذر
لأنه سرق نصابا محرزا بحرز مثله لا شبهة له فيه فلزمه القطع كباب بيت الآدمي
(والثاني) لا قطع عليه وهو قول أصحاب الرأي لأنه لا مالك له من المخلوقين فلا يقطع فيه
كحصر المسجد وقناديله فإنه لا يقطع بسرقة ذلك وجها واحدا لكونه مما ينتفع به فيكون له فيه
شبهة فلم يقطع به كالسرقة من بيت المال، وقال احمد لا يقطع بسرقة ستارة الكعبة الخارجة منها،
وقال القاضي هذا محمول على ما ليست بمخيطة لأنها إنما تحرز بخياطتها. وقال أبو حنيفة لا قطع فيها بحال
لما ذكرنا في الباب
(فصل) وإذا أجر داره ثم سرق منها مال المستأجر فعليه القطع وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة
وقال صاحباه لا قطع عليه لأن المنفعة تحدث في ملك الآخر ثم تنتقل إلى المستأجر
ولنا انه هتك حرزا وسرق منه نصابا لا شبهة له فوجب القطع كما لو سرق من ملك المستأجر
وما قالاه لا نسلمه، ولو استعار دارا فنقبها المعير وسرق مال المستعير منها قطع أيضا وبهذا قال الشافعي
في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة لاقطع عليه لأن المنفعة ملك له فما هتك حرز غيره ولان له الرجوع
متى شاء وهذا يكون رجوعا
ولنا ما تقدم في التي قبلها ولا يصح ما ذكره لأن هذا قد صار حرزا لما غيره لا يجوز له الدخول
إليه وإنما يجوز له الرجوع في العارية والمطالبة برده إليه
256

(فصل) وإن غصب بيتا فأحرز فيه ماله فسرقه منه أجنبي أو المغصوب منه فلا قطع عليه لأنه
لاحكم بحرزه إذا كان متعديا به ظالما فيه
(فصل) وإذا سرق الضيف من مال مضيفه شيئا نظرت، فإن سرقه من الموضع الذي أنزله فيه
أو موضع لم يحرزه عنه لم يقطع لأنه لم يسرق من حرز، وإن سرق من موضع محرز دونه نظرت
فإن كان منعه قراه فسرق بقدره فلا قطع عليه أيضا، وإن لم يمنعه قراه فعليه انقطع وقد روي عن أحمد
انه لا قطع على الضيف وهو محمول على إحدى الحالتين الأوليين وقال أبو حنيفة لا قطع عليه بحال
لأن المضيف بسطه في بيته وماله فأشبه ابنه
ولنا انه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه فلزمه القطع كالأجنبي، وقوله انه بسطه فيه لا يصح
فإنه أحرز عنه هذا المال ولم يبسطه فيه وتبسطه في غيره لا يوجب تبسطه فيه كما لو تصدق على مسكين
بصدقة أو أهدى إلى صديقه هدية فإنه لا يسقط عنه القطع بالسرقة من غير ما تصدق به عليه أو أهدى إليه
(فصل) وإذا أحرز المضارب مال المضاربة أو الوديعة أو العارية والمال الذي ولك فيه فسرقه
أجنبي فعليه القطع لا نعلم فيه مخالفا لأنه ينوب مناب المالك في حفظ المال وإحرازه ويده كيده وان غصب
عينا وأحرزها أو سرقها وأحرزها فسرقها سارق فلا قطع عليه، وقال مالك عليه القطع لأنه سرق نصابا من
حرز مثله لا شبهة له فيه وللشافعي قولان كالمذهبين، وقال أبو حنيفة كقولنا في السارق وكقولهم في الغاصب
257

ولنا انه لم يسرق المال من مالكه ولا ممن يقوم مقامه فأشبه ما لو وجده ضائعا فأخذه وفارق السارق
من المالك أو نائبه فإنه أزال يده وسرق من حرزه
(فصل) وإن سرق نصابا أو غصبه فأحرزه فجاء المالك فهتك الحرز وأخذ ماله فلا قطع عليه عند
أحد سواء أخذه سرقة أو غيرها لأنه أخذ ماله، وان سرق غيره ففيه وجهان
(أحدهما) لاقطع فيه لأن له شبهة في هتك الحرز وأخذ ماله فصار كالسارق من غير حرز ولان
له شبهة في أخذ قدر ماله لذهاب بعض العلماء إلى جواز أخذ الانسان قدر دينه من مال من هو عليه
(والثاني) عليه القطع لأنه سرق نصابا من حرزه لا شبهة له فيه، وإنما يجوز له أخذ قدر ماله
إذا عجز عن أخذ ماله وهذا أمكنه أخذ ماله فلم يجز له أخذ غيره، وكذلك الحكم إذا أخذ ماله
وأخذ من غيره نصابا متميزا عن ماله فإن كان مختلطا بماله غير متميز منه فلا قطع عليه لأنه أخذ
ماله الذي له أخذه وحصل غيره مأخوذا ضرورة أخذه فيجب أن لا يقطع فيه ولان له في أخذه شبهة
والحد يدرأ بالشبهات فاما ان سرق منه مالا آخر من غير الحرز الذي فيه ماله أو كان له دين على أن
سان فسرق من ماله قدر دينه من حرزه نظرت فإن كان الغاصب أو الغريم باذلا لما عليه غير ممتنع
من أدائه أو قدر المالك على أخذ ماله فتركه وسرق مال الغاصب أو الغريم فعليه القطع لأنه لا شبهة
له فيه، وان عجز عن استيفاء دينه أو أرش جنايته فسرق قدر دينه أو حقه فلا قطع عليه وقال القاضي
عليه القطع بناء على أصلنا في أنه ليس له أخذ قدر دينه
258

ولنا ان هذا مختلف في حله فلم يجب الحد به كما لو وطئ في نكاح مختلف في صحته وتحريم الاخذ
لا يمنع الشبهة الناشئه عن الاختلاف والحدود تدر أبا الشبهات، فإن سرق أكثر من دينه فهو كالمغصوب منه
إذا سرق أكثر من ماله على ما مضى
(فصل) ولا بد من اخراج المتاع من الحرز لما قدمنا من الاجماع على اشتراطه فمتى أخرجه من
الحرز وجب عليه القطع سواء حمله إلى منزله أو تركه خارجا من الحرز وسواء أخرجه بأن حمله أو
رمى به إلى خارج الحرز أو شد فيه حبلا صم خرج فمده به أو شده على بهيمة ثم ساقها به حتى أخرجها
أو تركه في نهر جار فخرج به ففي هذا كله يجب القطع لأنه هو المخرج له اما بنفسه واما بآلته فوجب
عليه القطع كما لو حمله فأخرج وسواء دخل الحرز فأخرجه أو نقبه ثم أدخل إليه يده أو عصا لها شجنة فاجتذبه
بها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قطع عليه الا أن يكون البيت صغيرا لا يمكنه دخوله لأنه لم يهتك
الحرز بما أمكنه فأشبه المختلس
ولنا انه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهه له فيه وهو من أهل القطع فوجب عليه كما لو كان
البيت ضيقا ويخالف المختلس فإنه لم يهتك الحرز، وان رمى المتاع فأطارته الريح فأخرجته فعليه القطع
لأنه متى كان ابتداء الفعل منه لم يؤثر فعل الريح كما لو رمى صيدا فأعانت الريح السهم حتى قتل
الصيد جل، ولو رمى الجمار فأعانتها الريح حتى وقعت في المرمى احتسب به وصار هذا كما لو ترك
259

المتاع في الماء فجرى به فأخرجه، ولو أمر صبيا لا يميز فأخرج المتاع وجب عليه القطع لأنه آلة له
فاما ان ترك المتاع على دابة فخرجت بنفسها من غير سوقها أو ترك المتاع في ماء راكد فانفتح فخرج
المتاع أو على حائط في الدار فأطارته الريح ففي ذلك وجهان
(أحدهما) عليه القطع لأن فعله سبب خروجه فأشبه ما لو ساق البهيمة أو فتح الماء وحلق
الثوب في الهواء (والثاني) لا قطع عليه لأن الماء لم يكن آلة للاخراج وإنما خرج المتاع بسبب حادث
من غير فعليه والبهيمة لها اختيار لنفسها
(فصل) وإذا أخرج المتاع من بيت في الدار أو الخان إلى الصحن فإن كان باب البيت مغلقا ففتحه
أو نقبه فقد أخرج المتاع من الحرز، وان لم يكن مغلقا فما أخرجه من الحرز، وقد قال احمد إذا خرج المتاع
من البيت إلى الدار يقطع وهو محمول على الصورة الأولى
(فصل) قال احمد الطرار سرا يقطع، وان اختلس لم يقطع، ومعنى الطرار الذي يسرق من
جيب الرجل أو كمه أو صفنه وسواء بط ما أخذ منه المسروق أو قطع الصفن فأخذه أو أدخل يده
في الجيب فأخذ ما فيه فإن عليه القطع، وروي عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل وكمه لا قطع
عليه فيكون في ذلك روايتان
260

(فصل) وإذا دخل السارق حرزا فاحتلب لبنا من ماشية وأخرجه فعليه القطع وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لاقطع عليه لأنه من الأشياء الرطبة، وقد مضى الكلام معه في هذا، وان شربه في
الحز أو شرب منه ما ينقص النصاب فلا قطع عليه لأنه لم يخرج من الحرز نصابا، وإن ذبح الشاة في
الحرز أو شق الثوب ثم أخرجهما وقيمتهما بعد الشق والذبح نصاب فعليه القطع وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لاقطع عليه في الشاة لأن اللحم لا يقطع عنده بسرقته والثوب ان شق أكثره فلا قطع
فيه لأن صاحبه مخير بين أن يضمنه قيمة جميعه فيكون قد أخرجه وهو ملك له وقد تقدم الكلام
معه في هذه الأصول، وان دخل الحوز فابتلع جوهرة وخرج فلم تخرج فلا قطع عليه لأنه أتلفها في
الحرز وان خرجت ففيه وجهان
(أحدهما) يجب لأنه أخرجها في وعائها فأشبه اخراجها في كمه (والثاني) لا يجب لأنه ضمنها
بالبلع فكان اتلافا لها ولأنه ملجأ إلى اخراجها لأنه لا يمكنه الخروج بدونها، وان تطيب في الحرز
بطيب وخرج ولم يبق عليه من الطيب ما إذا جمع كان نصابا فلا قطع عليه لأن مالا يجتمع قد أتلفه
باستعماله فأشبه ما لو أكل الطعام وإن كان يبلغ نصابا فعليه القطع لأنه أخرج نصابا وذكر فيه وجه
آخر فيها إذا كان ما تطيب به يبلغ نصابا فعليه القطع وان نقص ما يجتمع عن النصاب لأنه أخرج
نصابا والأول أولى وان جر خشبة فألقاها بعد أن أخرج بعضها من الحرز فلا قطع عليه سواء
261

خرج منها ما يساوي نصابا أولم يكن لأن بعضها لا نفرد عن بعض، وكذلك لو أمسك الغاصب
طرف عمامته والطرف الآخر في يد مالكها لم يضمنها: وكذلك إذا سرق ثوبا أو عمامة فأخرج بعضهما
(فصل) وإذا نقب الحرز ثم دخل فاخرج ما دون النصاب ثم دخل فاخرج ما يتم به النصاب
نظرت فإن كان في وقتين متباعدين أو ليلتين لم يجب القطع لأن كل واحدة منهما سرقة مفردة لا تبلغ
نصابا وكذلك أن كانا في ليلة واحدة وبينهما مدة طويلة. وان تقاربا وجب قطعه لأنها سرقة واحدة
وإذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه فبناء فعل الواحد بعضه على بعض أولى
(الشرط الخامس والسادس والسابع) كون السارق مكلفا وثبتت السرقة ويطالب بها المالك
بالمعروف تنتفي الشبهات ويذكر ذلك في مواضعه
(مسألة) قال (الا أن يكون المسروق ثمرا أو كثرا فلا قطع فيه)
يعني به الثمر في البستان قبل ادخاله الحرز فهذا لا قطع فيه عند أكثر الفقهاء كذلك الكثر
المأخوذ من النخل وهو جمار النخل. روي معنى هذا القول عن ابن عمر وبه قال عطاء ومالك
والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور إن كان من ثمر أو بستان محرز ففيه القطع وبه قال ابن
المنذر ان لم يصح خبر رافع قال ولا أحسبه ثابتا، واحتجا بظاهر الآية وبقياسه على سائر المحرزات
ولنا ما روى رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا قطع في ثمر ولا كثر) أخرجه أبو داود
262

وابن ماجة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل
عن الثمر المعلق فقال (من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شئ عليه ومن خرج
بشئ منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن
فعليه القطع) وهذا يخص عموم الآية. ولان البستان ليس بحرز لغير الثمر فلا يكون حرزا
له كما لو لم يكن محوطا فاما ان كانت نخلة أو شجرة في دار محرزة فسرق منها نصابا ففيه القطع لأنه
سرق من حرز والله أعلم
(فصل) وإن سرق من الثمر المعلق فعليه غرامة مثليه وبه قال إسحاق للخبر المذكور وقال أحمد
لا أعلم سببا يدفعه وقال أكثر الفقهاء لا يجب فيه أكثر من مثله قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا من
الفقهاء قال بوجوب غرامه مثليه واعتذر بعض أصحاب الشافعي عن هذا الخبر بأنه كان حين كانت
العقوبة في الأموال ثم نسخ ذلك
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو حجة لا تجوز مخالفته الا بمعارضة مثله أو أقوى منه وهذا الذي
اعتذر به هذا القائل دعوى للفسخ بالاحتمال من غير دليل عليه وهو فاسد بالاجماع ثم هو فاسد من
وجه آخر لقوله ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع فقد بين
وجوب القطع مع إيجاب غرامة مثليه وهذا يبطل ما قاله، وقد احتج أحمد بان عمر أغرم حاطب بن أبي بلتعة
حين انتحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها، وروى الأثرم الحديثين في سننه قال أصحابنا وفي
263

الماشية تسرق من المرعى من غير أن تكون محرزة مثلا قيمتها للحديث وهو ما جاء في سياق حديث
عمرو بن شعيب ان السائل قال الشاة الحريسة منهن يا نبي الله؟ قال (ثمنها ومثله معه والفكاك
وما كان في المراح ففيه القطع إذا كان ما يأخذ من ذلك ثمن المجن) هذا لفظ رواية ابن ماجة وما عدا
هذين لا يغرم بأكثر من قيمته أو مثله إن كان مثليا هذا قول أصحابنا وغيرهم الا أبا بكر فإنه
ذهب إلى ايجاب غرامة المسروق من غير حرز بمثليه قياسا على الثمر المعلق وحريسة الحبل
واستدلا بحديث حاطب
ولنا أن الأصل وجوب غرامة المثلي بمثله والمتقوم بقيمته بدليل المتلف والمغصوب والمنتهب
والمختلس وسائر ما تجب غرامته خولف في هذين الموضعين للأثر ففيما عداه يبقى على الأصل
(مسألة) قال (وابتداء قطع السارق أن تقطع يده اليمنى من مفصل الكف ويحسم
فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت)
لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف وهو
الكوع وفي قراءة عبد الله بن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) وهذا إن كان قراءة والا فهو تفسير، وقد روي
عن أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع
264

ولا مخالف لهما في الصحابة، ولان البطش بها أقوى فكانت البداية بها أردع ولأنها آلة السرقة فناسب
عقوبته باعدام آلتها وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى وبذلك قال الجماعة الاعطاء حكي عنه
أنه تقطع يده اليسرى لقوله سبحانه (فاقطعوا أيديهما) ولأنها آلة السرقة والبطش فكانت العقوبة
بقطعها أولى، وروي ذلك عن ربيعة وداود وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الأمصار من
أهل الفقه والأثر من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد روى
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السارق (إذا سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله)
ولأنه في المحاربة الموجبة قطع عضوين إنما تقطع يده ورجله ولا تقطع يداه فنقول: جناية أو جبت قطع
عضوين فكانا رجلا ويدا كالمحاربة ولان قطع يديه يفوت منفعة الجنس فلا تبقى له يد يأكل بها
ولا يتوضأ ولا يستطيب ولا يدفع عن نفسه فيصير كالهالك فكان قطع الرجال الذي لا يشتمل على
هذه المفسدة أولى. وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما بدليل أنه لا تقطع اليدان في المرة
الأولى وفي قراءة عبد الله (فاقطعوا أيمانهما) وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن المثنى إذا أضيف إلى المثنى ذكر
بلفظ الجمع كقوله تعالى (فقد ضغت قلوبكما) إذا ثبت هذا فإنه تقطع رجله اليسرى لقول الله تعالى (أو تقطع
أيديهم وأرجلهم من خلاف) ولان قطع اليسرى أرفق به لأنه يمكنه المشي على خشبة ولو قطعت رجله
اليمنى لم يمكنه المشي بحال، وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم وفعل ذلك
265

عمر رضي الله عنه وكان علي رضي الله عنه يقطع من نصف القدم من معقد الشراك ويدع له عقبا
يمشي عليها وهو قول أبي ثور.
ولنا أنه أحد العضوين المقطوعين في السرقة فيقطع من المفصل كاليد وإذا قطع حسم وهوان
يغلى الزيت فإذا قطع غمس عضوه في الزيت لتنسد أفواه العروق لئلا ينزف الدم فيموت. وقد
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال (اقطعوه واحسموه) وهو حديث فيه مقال
قاله ابن المنذر وممن استحب ذلك الشافعي وأبو ثور وغيرهما من أهل العلم ويكون الزيت من بيت
المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به القاطع وذلك يقتضي أن يكون من بيت المال فإن لم بحسم فذكر القاضي
أنه لا شئ عليه لأن عليه القطع لا مداواة المحدود، ويستحب للمقطوع حسم نفسه فإن لم يفعل لم يأثم لأنه
ترك التداوي في المرض وهذا مذهب الشافعي
(فصل) ويقطع السارق بأسهل ما يمكن فيجلس ويضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه تشديده
بحبل وتجر حتى يبين مفصل الكف من مفصل الذراع ثم يوضع بينهما سكين حاد ويدق فوقهما بقوة
ليقطع في مرة واحدة أو توضع السكين على المفصل وتمدى مدة واحدة وان علم قطع أوحى
من هذا قطع به.
(فصل) ويسن تعليق اليد في عنقه لما روى فضالة بن عبيدان النبي صلى الله عليه وسلم اتي بسارق فقطعت
266

يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه رواه أبو داود وابن ماجة وفعل ذلك علي رضي الله عنه ولان فيه ردعا وزجرا
(فصل) ولا تقطع في شدة حر ولا برد لأن الزمان ربما أعان على قتله والغرض الزجر دون
القتل، ولا تقطع حامل حال حملها ولا بعد وضعها حتى ينقضي نفاسها لئلا يفضي إلى تلفها وتلفت ولدها
ولا يقطع مريض في مرضه لئلا يأتي على نفسه، ولو سرق فقطعت يده ثم سرق قبل اندمال يده لم
يقطع ثانيا حتى يندمل القطع الأول وكذلك لو قطعت رجله قصاصا لم تقطع اليد في السرقة حتى تبرأ
الرجل فإن قيل أليس لو وجب عليه قصاص في اليد الأخرى لقطعت قبل الاندمال والمحارب تقطع
يده ورجله دفعة واحدة وقد قلتم في المريض الذي وجب عليه الحد لا ينتظر برؤه فلم خالفتم ذلك
ههنا؟ قلنا القصاص حق آدمي يخالف فوته وهو بمني على الضيق لحاجته إليه ولان القصاص قد يجب
في يد ويجب في يدين وأكثر في حالة واحدة فلهذا جاز أن نوالي بين قصاصين ونخالف لأن كل
معصية لها حد مقدر لا تجوز الزيادة عليه فإذا والى بين حدين صار كالزيادة على الحد فلم يجز. وأما
قطاع الطريق فإن قطع اليد والرجل حد واحد بخلاف ما نحن فيه. وأما تأخير الحد للمريض ففيه
منع وان سلمنا فإن الجلد يمكن تخفيفه فيأتي به في المرض على وجه يؤمن معه التلف والقطع لا يمكن تخفيفه.
267

(فصل) وإذا سرق مرات قبل القطع أجزأ قطع واحد عن جميعها وتداخلت حدودها لأنه
حد من حدود الله تعالى فإذا اجتمعت أسبابه تداخل كحد الزنا، وذكر القاضي فيما إذا سرق من
جماعة وجاءوا متفرقين رواية أخرى أنها لا تتداخل ولعله يقين ذلك على حد القذف، والصحيح أنها
تتداخل لأن القطع خالص حق الله تعالى فتتداخل كحد الزنا والشرب وفارق حد القذف فإنه حق
لآدمي ولهذا يتوقف على المطالبة باستيفائه ويسقط بالعفو عنه، فأما إن سرق فقطع ثم سرق ثانيا قطع ثانيا
سواء سرق من الذي سرق منه أولا أو من غيره وسواء سرق تلك العين التي قطع بها أو غيرها
وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا قطع بسرقة عين مرة لم يقطع بسرقتها مرة ثانية إلا أن يكون
قد قطع بسرقة غزل ثم سرقه منسوجا أو قطع بسرقة رطب ثم سرقه تمرا، واحتج بان هذا يتعلق
استيفاؤه بمطالبة آدمي فإذا تكرر سببه في العين الواحدة لم يتكرر كحد القذف
ولنا انه حد يجب بفعل في عين فتكرره في عين واحده كتكرره في الأعيان كالزنا وما ذكره يبطل
بالغزل إذا نسج والرطب إذا أتمر ولا نسلم حد القذف فإنه متى قذفه بغير ذلك الزنا حد وإن قذفه
بذلك الزنا عقيب حده لم يحد لأن الغرض اظهار كذبه وقد ظهر وههنا الغرض ردعه عن السرقة
ولم يرتدع بالأول فيردع بالثاني كالمودع إذا سرق عينا أخرى
(فصل) ومن سرق ولا يمنى له قطعت رجله اليسرى كما يقطع في السرقة الثانية وإن كانت
يمناه شلاء ففيها روايتان
268

(إحداهما) تقطع رجله اليسرى لأن الشلاء لا نفع فيها ولا جمال فأشبهت كفا لا أصابع عليه
قال إبراهيم الحربي عن أحمد فيمن سرق ويمناه جافة تقطع رجله
(والرواية الثانية) أنه يسئل أهل الخبرة فإن قالوا إنها إذا قطعت رقأ دمها وانحسمت عروقها
قطعت لأنه أمكن قطع يمينه فوجب كما لو كانت صحيحه وإن قالوا لا يرقأ دمها لم تقطع لأنه يخاف
تلفه وقطعت رجله وهذا مذهب الشافعي، وإن كانت أصابع اليمنى كلها ذاهبة ففيها وجهان
(أحدهما) لا تقطع وتقطع الرجل لأن الكف لا تجب فيه دية اليد فأشبه الذراع
(والثاني) تقطع لأن الراحة بعض ما يقطع في السرقة فإذا كان موجودا قطع كما لو ذهب الخنصر
أو البنصر، وإن ذهب بعض الأصابع نظرنا فإن ذهب الخنصر والبنصر أو ذهبت واحدة سواهما
قطعت لأن معظم نفعها باق وإن لم يبق الا واحدة فهي كالتي ذهب جميع أصابعها وإن بقي اثنتان
فهل تلحق بالصحيحة أو بما قطع جميع أصابعها؟ على وجهين والأولى قطعها لأن نفعها لم يذهب بالكلية
(فصل) ومن سرق وله يمنى فقطعت في قصاص أو ذهبت بأكلة أو تعدى عليه متعد فقطعها
سقط القطع ولا شئ على العادي إلا الأدب وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي،
وقال قتادة يقتص من القاطع وتقطع رجل السارق وهذا غير صحيح فإن يد السارق ذهبت والقاطع
قطع عضوا غير معصوم وإن قطعها قاطع بعد السرقة وقبل ثبوت السرقة والحكم بالقطع ثم تبت
ذلك فكذلك، ولو شهد بالسرقة فحبسه الحاكم ليعدل الشهود فقطعه قاطع ثم عدلوا فكذلك، وإن لم
269

يعدلوا وجب القصاص على القاطع وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا قصاص عليه لأن صدقهم
محتمل فيكون ذلك شبهة
ولنا انه قطع طرفا ممن يكافئه عمدا بغير حق فلزمه القطع كما لو قطعه قبل إقامة البينة
(فصل) وإن سرق فقطع الجذاذ يساره بدلا عن يمينه أجزأت ولا شئ على القاطع إلا الأدب
وبهذا قال قتادة والشعبي وأصحاب الرأي وذلك لأن قطع يمنى السارق يفضي إلى تفويت منفعة
الجنس وقطع يديه بسرقة واحدة فلا يشرع وإذا انتفى قطع يمينه حصل قطع يساره مجزئا عن القطع
الواجب فلا يجب على فاعله قصاص قال أصحابنا في وجوب قطع يمين السارق وجهان وللشافعي فيما
إذا لم يعلم القطاع كونها يسارا أو ظن أن قطعها يجزئ قولان
(أحدهما) لا تقطع يمين السارق كيلا تقطع يداه بسرقة واحدة
(والثاني) تقطع كما لو قطعت يسراه قصاصا فأما القاطع تفق أصحابنا والشافعي على أنه إن قطعها عن
غير اختيار من السارق أو كان السارق أخرجها دهشة أو ظنا منه أنها تجزئ وقعطها القاطع عالما بأنها
يسراه وأنها لا تجزئ فعليه القصاص وإن لم يعلم أنها يسراه أو ظن أنها مجزئة فعليه ديتها، وإن كان
السارق أخرجها مختارا عالما بالامرين فلا شئ على القاطع لأنه أذن في قطعها فأشبه غير السارق
والمختار عندنا ما ذكرناه والله أعلم
270

(مسألة) قال (فإن عاد حبس ولا يقطع غير يد ورجل)
يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده ورجله لم يقطع منه شئ آخر وحبس وبهذا قال علي رضي
الله عنه والحسن والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي وعن أحمد انه تقطع في
الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وفي الخامسة يعزر ويحبس
وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما انهما قطعا يد أقطع اليد والرجل وهذا قول قتادة
ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر. وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز انه
تقطع يده اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ويقتل في الخامسة لأن جابرا قال جئ إلى النبي
صلى الله عليه وسلم بسارق فقال (اقتلوه) فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال (اقطعوه) قال فقطع ثم جئ به الثانية
فقال (اقتلوه) قالوا يا رسول الله إنما سرق قال (اقطعوه) قطع ثم جئ به الثالثة فقال (اقتلوه) فقالوا يا رسول
الله إنما سرق قال (اقطعوه) قال ثم أتي به الرابعة فقال (اقتلوه) قالوا يا رسول الله إنما سرق قال (اقطعوه) ثم اتي
به الخامسة قال (اقتلوه) قال فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، رواه أبو داود
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق (وإن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق
271

فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله) ولان اليسار تقطع قودا فجاز
قطعها في السرقة كاليمنى ولأنه فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (اقتدوا
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)
ولنا ما روى سعيد حدثنا أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه قال حضرت علي
ابن أبي طالب رضي الله عنه أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق فقال لأصحابه ما ترون في هذا؟
قالوا اقطعه يا أمير المؤمنين قال قتلته إذا وما عليه القتل بأي شئ يأكل الطعام؟ بأي شئ يتوضأ؟
للصلاة؟ بأي شئ يغتسل من جنابته؟ بأي شئ يقوم على حاجته؟ فرده إلى السجن أياما ثم أخرجه
فاستشار أصحابه فقالوا مثل قولهم الأول وقال لهم مثل ما قال أول مرة فجلده جلدا شديدا ثم أرسله
وروي عنه أنه قال إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ولا رجلا يمشي عليها ولان
في قطع اليدين تفويت منفعة الجنس فلم يشرع في حد كالقتل، ولأنه لو جاز قطع اليدين لقطعت اليسرى
في المرة الثانية لأنها آلة البطش كاليمنى وإنما لم تقطع للمفسدة في قطعها لأن ذلك بمنزلة الاهلاك فإنه
لا يمكنه أن يتوضأ ولا يغتسل ولا يستنجي ولا يحترز من نجاسة ولا يزيلها عنه ولا يدفع عن نفسه
ولا يأكل ولا يبطش، وهذه المفسدة حاصلة بقطعها في المرة الثالثة فوجب أن يمنع قطعها كما منعه
في المرة الثانية وأما حديث جابر ففي حق شخص استحق القتل بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في
أول مرة وفي كل مرة وفعل ذلك في الخامسة. رواه النسائي وقال حديث منكر
وأما الحديث الآخر وفعل أبي بكر وعمر فقد عارضه قول علي وقد روي عن عمر انه رجع إلى
272

قول علي فروى سيعد حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عابد قال أتي
عمر برجل أقطع اليد والرجل قد سرق فأمر به عمر أن تقطع رجله فقال علي إنما قال الله تعالى (إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) الآية وقد قطعت يد هذا ورجله فلا
ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليه إما ان تعزره وإما أن تستودعه السجن فاستودعه السجن
(فصل) وان سرق من يده اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الأصابع أو كانت يداه
صحيحتين فقطعت اليسرى أو شلت قبل قطع يمناه لم تقطع يمناه على الرواية الأولى وتقطع على الثانية
وان قطع يسراه قطاع متعمدا فعليه القصاص لأنه قطع طرفا معصوما، وان قطعه غير متعمد فعليه
ديته ولا تقطع يمين السارق وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي وفي قطع رجل السارق وجهان أصحهما
لا يجب لأنه لم يجب بالسرقة وسقوط القطع عن يمينه لا يقتضي قطع رجله كما لو كان المقطوع يمينه
(والثاني) تقطع رجله لأنه تعذر قطع يمينه فقطعت رجله كما لو كانت اليسرى مقطوعة حال السرقة
وان كانت يمناه صحيحة ويسراه ناقصة نقصا يذهب بمعظم نفعها مثل أن يذهب منها الابهام أو
الوسطى أو السبابة احتمل أن يكون كقطعها وينتقل إلى رجله وهذا قول أصحاب الرأي واحتمل
أن تقطع يمناه لأن له يدا ينتفع بها أشبه ما لو قطعت خنصرها، وان كانت يداه صحيحتين ورجله
اليمنى شلاء أو مقطوعة فلا اعلم فيها قولا لأصحابنا ويحتمل وجهين (أحدهما) تقطع يمينه وهو مذهب
273

الشافعي لأنه سارق له يمنى فقطعت عملا بالكتاب والسنة ولأنه سارق له يدان فتقطع يمناه كما لو
كانت المقطوعة رجله اليسرى
(والثاني) لا يقطع منه شئ وهو قول أصحاب الرأي لأن قطع يمناه يذهب بمنفعة المشي من
الرجلين، فأما ان كانت رجله اليسرى شلاء ويداه صحيحتان قطعت يده اليمنى لأنه لا يخشى
تعدي ضرر القطع إلى غير المقطوع، وعلى قياس هذه المسألة لو سرق ويده اليسرى مقطوعة أو شلاء
لم يقطع منه شئ لذلك، وأنكر هذا ابن المنذر وقال: أصحاب الرأي بقولهم هذا، خالفوا كتاب الله بغير حجة
(مسألة) قال (والحر والحرة والعبد والأمة في ذلك سواء)
أما الحر والحرة فلا خلاف فيهما وقد نص الله تعالى على الذكر والأنثى بقوله تعالى (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولأنهما استويا في سائر الحدود فكذلك في هذا وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارق
رداء صفوان وقطع المخزومية التي سرقت القطيفة
فأما العبد والأمة فإن جمهور الفقهاء وأهل الفتوى على أنها يجب قطعهما بالسرقة إلا ما حكي
عن ابن عباس أنه قال لا قطع عليهما لأنه حد لا يمكن تنصيفه فلم يجب في حقهما كالرجم ولأنه حد فلا
يساوي العبد فيه الحر كسائر الحدود
274

ولنا عموم الآية، وروى الأثرم ان رقيقا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة
فانتحروها فأمر كثير بن الصلت ان تقطع أيديهم ثم قال عمر والله اني لأراك تجيعهم ولكن لأغرمنك
غرما يشق عليك ثم قال للمزني كم ثمن ناقتك؟ قال أربعمائة درهم قال عمر اعطه ثمانمائة درهم
وروى القاسم بن محمد عن أبيه ان عبدا أقر بالسرقة عند علي فقطعه وفي رواية قال كان عبدا
يعني الذي قطعه علي، رواه الإمام أحمد باسناده وهذه قصص تنتشر ولم تنكر فتكون اجماعا وقولهم
لا يمكن تنصيفه قلنا ولا يمكن تعطيله فيجب تكميله وقياسهم نقلبه عليهم فنقول حد فلا يتعطل في
حق العبد والأمة كسائر الحدود، وفارق الرجم فإن حد الزاني لا يتعطل بتعطيله بخلاف القطع
فإن حد السرقة يتعطل بتعطيله
(فصل) ويقطع الآبق بسرقته وغيره روي ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وبه قال
مالك والشافعي. وقال مروان وسعيد بن العاصي وأبو حنيفة لا يقطع لأن قطعه قضاء على سيده
ولا يقضى على الغائب
ولنا عموم الكتاب والسنة وانه مكلف سرق نصابا من حرز مثله فيقطع كغير الآبق، وقولهم
انه قضاء على سيده لا يسلم فإنه لا يعتبر فيه إقرار السيد ولا يضر إنكاره وإنما يعتبر ذلك من العبد
ثم القضاء على الغائب بالبينة جائز على ما عرف في موضعه
275

(فصل) وان أقر العبد بسرقة مال في يده فأنكر ذلك سيده وقال هذا مالي فالمال لسيده
ويقطع العبد وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة لا قصع عليه لأنه لم تثبت سرقته للمال فلم يجب
قطعه كما لو أنكره المسروق منه ولأنه إذا لم يقبل إقراره في المال ففي الحد الذي يندرئ بالشبهات أولى
ولنا انه أقر بالسرقة وصدقه المسروق منه فقطع كالحر. ويحتمل أن لا يجب القطع لأن الحد
يدرأ بالشبهات وكون المال محكوما به لسيده شبهة
(فصل) ويقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي ويقطع الذمي بسرقة مالهما وبه قال الشافعي وأصحاب
الرأي ولا نعلم فيه مخالفا. فأما الحربي إذا دخل إلينا مستأمنا فسرق فإنه يقطع أيضا. وقال ابن حامد
لا يقطع وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأنه حد لله تعالى فلا يقام عليه كحد الزنا، وقد نص احمد على أنه لا يقام
عليه حد الزنا وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا انه حد يطالب به فوجب عليه كحد القذف، يحققه أن القطع يجب صيانة للأموال وحد
القذف يجب صيانة للاعراض فإذا وجب في حقه أحدهما وجب الآخر، فأما حد الزنا فلم يجب لأنه
يجب به قتله لنقضه العهد ولا يجب مع القتل حد سواه
إذا ثبت هذا فإن المسلم يقطع بسرقة ماله وعند أبي حنيفة لا يجب، ولنا انه سرق مالا معصوما
من حرز مثله فوجب قطع كسارق مال الذمي ويقطع المرتد إذا سرق لأن أحكام الاسلام جارية عليه
276

(مسألة) قال (ويقطع السارق وان وهبت له السرقه بعد اخراجها)
وجملته ان السارق إذا ملك العين المسروقة بهبة أو بيع أو غيرهما من أسباب الملك لم يخل من
أن يملكها قبل رفعه إلى الحاكم والمطالبة بها عنده أو بعد ذلك، فإن ملكها قبله لم يجب القطع لأن من
شرطه المطالبة بالمسروق وبعد ملكه له لا تصح المطالبة، وان ملكها بعده لم يسقط القطع وبهذا قال
مالك والشافعي وإسحاق. وقال أصحاب الرأي يسقط لأنها صارت ملكه فلا يقطع في عين هي ملكه
كما لو ملكها قبل المطالبة بها ولان المطالبة شرط والشروط يعتبر دوامها ولم يبق لهذه العين مطالب
ولنا ما روى الزهري عن ابن صفوان عن أبيه انه نام في المسجد وتوسد رداءه فأخذ من تحت
رأسه فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع فقال صفوان يا رسول الله لم أرد هذا
ردائي عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فهلا قبل أن تأتيني به؟) رواه ابن ماجة والجوزاني وفي
لفظ قال فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها قال (فهلا كان قبل أن تأتيني
به؟) رواه الأثرم وأبو داود. فهذا يدل على أنه لو وجد قبل رفعه إليه لدرأ القطع وبعده لا يسقطه.
وقولهم ان المطالبة شرط، قلنا هي شرط الحكم لا شرط القطع بدليل انه لو استرد العين لم يسقط
القطع وقد زالت المطالبة
277

(فصل) وان أق المسروق منه ان المسروق كان ملكا للسارق أو قامت به بينه أو أن له فيه
شبهه أو ان المالك أذن له في أخذها أو انه سبلها لم يقطع لأننا تبينا انه لم يجب بخلاف ما لو وهبه
إياها فإن ذلك لا يمنع كون الحد واجبا وإن أقر له بالعين سقط القطع أيضا لأن إقراره يدل على تقدم
ملكه لها فيحتمل أن تكون له حال أخذها. والمنصوص عن أحمد ان القطع لا يسقط لأنه ملك تجدد
سببه بعد وجوب القطع أشبه الهبة ولان ذلك حيله على إسقاط القطع بعد وجوبه فلم يسقط بها كالهبة
(مسألة) قال (ولو أخرجها وقيمتها ثلاثة دراهم فلم يقطع حتى نقصت قيمتها قطع)
وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يسقط القطع لأن النصاب شرط فتعتبر استدامته
ولنا قول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولأنه نقص حدث في العين فلم يمنع
القطع كما لو حدث باستعماله، والنصاب شرط لوجوب القطع فلا تعتبر استدامته كالحرز وما ذكره
يبطل بالحز فإنه لو زال الحرز أو ملكه لم يسقط عنه القطع وسواء نقصت قيمتها قبل الحكم أو بعده
لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ. فأما ان نقص النصاب قبل الاخراج لم يجب القطع
لعدم الشرط قبل تمام السبب وسواء نقصت بفعله أو بغير فعله. وان وجدت ناقصة ولم يدر هل كانت
ناقصة جين السرقة أو حدث النقص بعدها؟ لم يجب القطع لأن الوجوب لا يثبت مع الشك في
شرطه ولان الأصل عدمه
278

(مسألة) قال (وإذا قطع فإن كانت السرقة باقيه ردت إلى مالكها وإن كانت تالفة فعليه
قيمتها سواء كان موسرا أو معسرا)
لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية، فأما إن كانت تالفة
فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها ان كانت مثلية قطع أولم يقطع موسرا كان أو معسرا، وهذا قول
الحسن والنخعي وحماد والبتي والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور وقال الثوري وأبو حنيفة لا يجتمع
الغرم والقطع، وان غرمها قبل القطع سقط القطع وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم
وقال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول لا غرم على السارق إذا قطع ووافقهم مالك في
المعسر ووافقنا في الموسر، قال أبو حنيفة في رجل سرق مرات ثم قطع: يغرم الكل إلا الأخيرة
وقال أبو يوسف لا يغرم شيئا لأنه قطع بالكل فلا يغرم شيئا منه كالسرقة الأخيرة، واحتج بما روي
عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أقيم الحد على السارق فلا غرم عليه)
ولان التضمين يقتضي التمليك والملك يمنع القطع فلا يجمع بينهما
ولنا انها عين يجب ضمانها بالرد لو كانت باقيه فيجب ضمانها إذا كانت تالفة كما لو لم يقطع ولان
القطع والغرم حقان يجبان لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك، وحديثهم
يرويه سعد بن إبراهيم عن منصور وسعد بن إبراهيم مجهول قاله ابن المنذر وقال ابن عبد البر الحديث
279

ليس بالقوى، ويحتمل أنه أراد ليس عليه أجرة القاطع وما ذكروه فهو بناء على أصولهم ولا نسلمها لهم
(فصل) وإذا فعل في العين فعلا نقصها به كقطع الثوب ونحوه وجب رده ورد نقصه ووجب
القطع، وقال أبو حنيفة إن كان نقصا لا يقطع حق المغصوب منه إذا فعله الغاصب رد العين ولا ضمان
عليه، وإن كان يقطع حق الملك كقطع الثوب وخياطته فلا ضمان عليه ويسقط حق المسروق منه من
العين، وإن كان زيادة في أعين كصبغه أحمر أو أصفر فلا ترد العين ولا يحل له التصرف فيها، وقال
أبو يوسف ومحمد ترد العين وبنى هذا على أصله في أن الغرم يسقط عنه القطع. وأما إذا صبغه فقال
لا يرده لأنه لو رده لكان شريكا فيه بصبغه ولا يجوز أن يقطع فيما هو شريك فيه وهذا ليس بصحيح
لأن صبغه كان قبل القطع فلو كان شريكا بالصبغ لسقط القطع وإن كان يصير شريكا بالرد فالشركة
الطارئة بعد القطع لا تؤثر كما لو اشترى نصفه من مالكه بعد القطع، وقد سلم أبو حنيفة انه لو سرق
فضة فضربها دراهم قطع ولزمه ردها. وقال صاحباه لا يقطع ويسقط حق صاحبها منها بضربها
وهذا شئ بيناه على أصولهما في أن تغيير اسمها يزيل ملك صاحبها وأن ملك السارق لها يسقط القطع
عنه وهو غير مسلم لهما
(مسألة) قال (وإذا أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم قطع)
روي عن ابن الزبير انه قطع نباشا وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة والشعبي والنخعي
وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة والثوري لا قطع عليه لأن
280

القبر ليس بحرز لأن الحرز ما يوضع فيه المتاع للحفظ والكفن لا يوضع في القبر لذلك ولأنه ليس
بحرز لغيره فلا يكون حرزا له، ولان الكفن لا مالك له لأنه لا يخلوا إما أن يكون ملكا للميت أو
لوارثه وليس ملكا لواحد منهما لأن الميت لا يملك شيئا ولم يبق أهلا للملك والوارث إنما ملك ما فضل
عن حاجة الميت، ولأنه لا يجب القطع إلا بمطالبة المالك أو نائبه ولم يوجد ذلك
ولنا قول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وهذا سارق فإن عائشة رضي الله
عنها قالت: سارق أمواتنا كسارق أحيائنا وما ذكروه لا يصح فإن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر
دون غيره ويكتفى به في حرزه ألا ترى انه لا يترك الميت في غير القبر من غير أن يحفظ كفنه ويترك
في القبر ونصرف عنه وقولهم انه لا مالك له ممنوع بل هو مملوك للميت لأنه كان مالكا له في حياته ولا
يزول ملكه إلا عما لا حاجه به إليه ووليه يقوم مقامه في المطالبة كقيام ولي الصبي في الطلب بماله.
إذا ثبت هذا فلا بد من اخراج الكفن من القبر لأنه الحرز فإن أخرجه من اللحد ووضعه في القبر
فلا قطع فيه لأنه لم يخرجه من الحرز فأشبه ما لو نقل المتاع في البيت من جانب إلى جانب فإن البني
صلى الله وسلم سمى القبر بيتا
(فصل) والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعا فإن كفن الرجل في أكثر من ثلاث
281

لفائف أو المرأة في أكثر من خمس فسرق الزائد عن ذلك أو تركه في تابوت فسرق التابوت أو ترك
معه طيبا مجموعا أو ذهبا أو فضه أو جواهر لم يقطع بأخذ شئ من ذلك لأنه ليس بكفن مشروع
فتركه فيه سفه وتضييع فلا يكون محرزا ولا يقطع سارقه
(فصل) وهل يفتقر في قطع النباش إلى المطالبة؟ يحتمل وجهين (أحدهما) يفتقر إلى المطالبة
كسائر المسروقات فعلى هذا المطالب الورثة لأنهم يقومون مقام الميت في حقوقه وهذا من حقوقه
(والثاني) لا يفتقر إلى طلب لأن الطلب في السرقة من الاحياء شرع لئلا يكون المسروق مملوكا
للسارق وقد يئس من ذلك ههنا
(مسألة) قال (ولا يقطع في محرم ولا آلة لهو)
يعني لا يقطع في سرقة محرم كالخمر والخنزير والميتة ونحوها وساء سرقه من مسلم أو ذمي وبهذا
قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن عطاء أن سارق خمر الذمي يقطع وإن كان مسلما
لأنه مال لهم أشبه ما لو سرق دراهمهم
ولنا أنها عين محرمه فلا يقطع بسرقتها كالخنزير ولان مالا يقع بسرقته من مال المسلم لا يقطع
بسرقته من الذمي كالميتة والدم وما ذكروه ينتقض بالخنزير ولا اعتبار به فإن الاعتبار بحكم الاسلام
282

وهو يجري عليهم دون أحكامهم وهكذا الخلاف معه في الصليب إذا بلغت قيمته مع تأليفه نصابا
وأما آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة فلا قطع فيه وإن بلغت قيمته مفصلا نصابا وبهذا قال أبو
حنيفة، وقال أصحاب الشافعي إن كانت قيمته بعد زوال تأليفه نصابا ففيه القطع وإلا فلا لأنه سرق
ما قيمته نصاب لا شبهه له فيه من حرز مثله وهو من أهل القطع فوجب قطعه كما لو كان ذهبا مكسورا
ولنا انه آله للمعصية بالاجماع فلم يقطع بسرقته كالخمر ولان له حقا في أخذها لكسرها فكان
ذلك شبهة مانعة من القطع كاستحقاقه مال ولده، فإن كانت عليه حلية تبلغ نصابا فلا قطع فيه أيضا
في قياس قول أبي بكر لأنه متصل بما لا قطع فيه فأشبه الخشب والأوتار وقال القاضي فيه القطع
وهو مذهب الشافعي لأنه سرق نصابا من حرزه فأشبه المنفرد
(فصل) وان سرق صليبا من ذهب أو فضه يبلغ نصابا متصلا فقال القاضي لا قطع فيه وهو
قول أبي حنيفة وقال أبو الخطاب يقطع سارقه وهو مذهب الشافعي ووجه المذهبين ما تقدم والفرق
بين هذه المسألة وبين التي قبلها ان التي قبلها له كسره بحيث لا تبقى له قيمة تبلغ نصابا وههنا لو كسر
الذهب والفضة بكل وجه لم تنقص قيمته عن النصاب ولان الذهب والفضة جوهرهما غالب على
الصنعة المحرمة فكانت الصناعة فيهما مغمورة بالنسبة إلى قيمه جوهرهما وغيرهما بخلافهما فتكون
الصناعة غالبه عليه فيكون بائعا للصناعة المحرمة فأشبه الاناء ولو سرق إناء من ذهب أو فضه قيمته نصاب
283

إذا كان متكسرا فعليه القطع لأنه غير مجمع على تحريمه وقيمته بدون الصناعة المختلف فيها نصاب، وان
سرق إناء معدا لحمل الخرم ووضعه فيه ففيه القطع لأن الاناء لا تحريم فيه وإنما يحرم عليه بنيته وقصده
فأشبه ما لو سرق سكينا معدة لذبح الخنازير أو سيفا يعده لقطع الطريق، وان سرق اناء فيه خمر يبلغ
نصابا فقال أبو الخطاب يقطع وهو مذهب الشافعي لأنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه
وقال غيره من أصحابنا لا يقطع لأنه تبع لما لا قطع فيه فأشبه ما لو سرق مشتركا بينه وبين غيره قال
أبو إسحاق بن شاقلا ولو سرق إداوة أو اناء فيه ماء فلا قطع فيه كذلك، ولو سرق منديلا في طرفه
دينار مشدود فعلم به فعليه القطع وان لم يعلم به فلا قطع فيه لأنه لم يقصد سرقته فأشبه ما لو تعلق
بثوبه وقال الشافعي يقطع لأنه سرق نصابا فأشبه ما لو سرق ما لم يعلم أن قيمته نصاب والفرق
بينهما أنه علم بالمسروق ههنا وقصد سرقته بخلاف الدينار فإنه لم يرده ولم يقصد أخذه فلا يؤاخذ
به بايجاب الحد عليه
(مسألة) قال (ولا يقطع الوالد فيما أخذ من مال ولده لأنه أخذ ماله أخذه ولا
الوالدة فيما أخذت من مال ولدها ولا العبد فيما سرق من مال سيده)
وجملته ان الوالد لا قطع بالسرقة من مال ولده وان سفل وسواء في ذلك الأب والام والابن
والبنت والجد والجدة من قبل الأب والام وهذا قول عامة أهل العلم منهم مالك والثوري والشافعي وأصحاب
284

الرأي، وقال أبو ثور وابن المنذر: القطع على كل سارق بظاهر الكتاب الا أن يجمعوا على شئ فيستثني
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (ان أطيب ما أكل الرجل
من كسبه وان ولده من كسبه)) وفي لفظ (فكلوا من كسب أولادكم) ولا يجوز قطع الانسان بأخذ
ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذه ولا أخذ ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم مالا له مضافا إليه ولان الحدود تدرأ بالشبهات
وأعظم الشبهات أخذ الرجل من مال جعله الشرع له وأمره بأخذه وأكله، وأما العبد إذا سرق من مال
سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعا ووافقهم أبو ثور فيه وحكي عن داود انه يقطع لعموم الآية
ولنا ما روى السائب بن يزيد قال: شهدت عمر بن الخطاب وقد جاءه عبد الله بن عمرو بن
الحضرمي بغلام له فقال: ان غلامي هذا سرق فاقطع يده فقال عمر ما سرق؟ قال سرق مرآة امرأتي
ثمنها ستون درهما فقال أرسله لا قطع عليه، خادمكم أخذ متاعكم ولكنه لو سرق من غيره قطع وفي
لفظ قال مالكم سرق بعضه بعضا لا قطع عليه رواه سعيد، وعن ابن مسعود ان رجلا جاءه فقال
عبد لي سرق قباء لعبد لي آخر فقال لا قطع مالك سرق مالك وهذه قضايا تشتهر ولم يخالفها أحد
فتكون إجماعا وهذا يخص عموم الآية، ولان هذا اجماع من أهل العلم لأنه قول من سمينا من
الأئمة ولم يخالفهم في عصرهم أحد فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم كما لا يجوز ترك إجماع الصحابة
بقول واحد من التابعين
285

(فصل) والمدبر وأم الولد والمكاتب كالقن في هذا وبه قال الثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب
الرأي ولا يقطع سيد المكاتب بسرقة ماله لأنه عبد ما بقي عليه درهم، وكل من لا يقطع الانسان بسرقة
ماله لا يقطع عبده بسرقة ماله كآبائه وأولاده وغيرهم كل على أصله وقال أبو ثور يقطع بسرقة مال
من عدا سيده ونحوه قول مالك وابن المنذر
ولنا حديث عمر رضي الله عنه ولان مالهم ينزل منزلة ماله في قطعه فكذلك في قطع عبده
(فصل) ولا يقطع الا بن وابن سفل بسرقة، مال والده وان علا وبه قال الحسن والشافعي
وإسحاق والثوري وأصحاب الرأي، وظاهر قول الخرقي انه يقطع لأنه لم يذكره في من لا قطع عليه وهو
قول مالك وأبي ثور وابن المنذر لظاهر الكتاب ولأنه يحد بالزنا بجاريته ويقاد بقتله فيقطع بسرقة
ماله كالأجنبي: ووجه الأول ان بينهما قرابة تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه فلم يقطع بسرقة ماله
كالأب ولان النفقة تجب في مال الأب لابنه حفظا له فلا يجوز إتلافه حفظا للمال، واما الزنا بجاريته فيجب
به الحد لأنه لا شبهة له فيها بخلاف المال
(فصل) فأما سائر الأقارب كالاخوة والأخوات، ومن عداهم فيقطع بسرقة مالهم ويقطعون
بسرقة ماله وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يقطع بالسرقة من ذي رحم لأنها قرابة تمنع النكاح وتبيح
النظر وتوجب النفقة أشبه قرابة الولادة
286

ولنا انها قرابة لا تمنع الشهادة لا تمنع القطع كقرابة غيره وفارق قرابة الولادة بهذا
(فصل) وان سرق أحد الزوجين من مال الآخر فإن كان مما ليس محرزا عنه فلا قطع فيه
وان سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان
(إحداهما) لا قطع عليه وهي اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لقول عمر رضي الله عنه لعبد الله
ابن عمر وبن الحضرمي حين قال له ان غلامي سرق مرآه امرأتي أرسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم
وإذا لم يقطع عبده بسرقة مالها فهو أولى ولان كل واحد منهما يرث صاحبه بغير حجب ولا تقبل شهادته
له ويتبسط في مال الآخر عادة فأشبه الولاد والود
(والثانية) يقطع وهو مذهب مالك وأبي ثور وابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرقي لعموم الآية
ولأنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه أشبه الأجنبي وللشافعي كالروايتين وقول ثالث ان الزوج
يقطع بسرقة مال الزوجة لأنه لاحق له فيه ولا تقطع بسرقة ماله لأن لها النفقة فيه
(فصل) ولا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلما، ويروى ذلك عن عمر وعلى رضي
الله عنهما وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي وأصحاب الرأي وقال حماد ومالك وابن المنذر
يقطع لظاهر الكتاب.
ولنا ما روى ابن ماجة باسناده عن ابن عباس أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس فدفع
ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه وقال مال الله سرق بعضه بعضا ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه
وسال ابن مسعود عمر عمن سرق من بيت المال فقال أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق
287

وقال سعيد حدثنا هشيم أخبرنا مغيره عن الشبعي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول ليس على من
سرق من بيت المال قطع ولان له في المال حقا فيكون شبهه تمنع وجوب القطع كما لو سرق من مال
له فيه شركة ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده أو لمن لا يقطع بسرقة ماله لم
يقطع لذلك، وان لم يكن من الغانمين ولا أحدا من هؤلاء الذين ذكرنا فسرق منها قبل إخراج الخمس
لم يقطع لأن له في الخمس حقا، وان أخرج الخمس فسرق من الأربعة الأخماس قطع، وان سرق من الخمس
لم يقطع، وان قسم الخمس خمسة أقسام فسرق من خمس الله تعالى ورسوله لم يقطع، وان سرق من غيره
قطع إلا أن يكون من أهل ذلك الخمس
(فصل) وان سرق من الوقف أو من غلته وكان من الموقوف عليهم مثل أن يكون مسكينا سرق
من وقف المساكين أو من قوم معينين عليهم وقف فلا قطع عليه لأنه شريك وإن كان من غيرهم
قطع لأنه لا حق له فيه فإن قيل قفد قلتم لا يقطع بالسرقة من بيت المال من غير تفريق بين غني
وفقير فلم فرقتم ههنا؟ قلنا لأن للغني في بيت المال حقا ولهذا قال عمر رضي الله عنه مامن أحد إلا وله
في هذا المال حق بخلاف وقف المساكين فإنه لا حق للغني فيه
(فصل) قال أحمد لاقطع في المجاعة يعني أن المحتاج إذا سرق ما يأكله فلا قطع عليه لأنه كالمضطر
وروى الجوزجاني عن عمر أنه قال لاقطع في عام سنة وقال سألت احمد عنه فقلت تقول به؟ قال أي
288

لعمري لا أقطعه إذا حلمته الحاجة والناس في شدة ومجاعة وعن الأوزاعي مثل ذلك وهذا محمول على
من لا يجد ما يشتريه أو لا يجد ما يشتري به فإن له شبهة في أخذ ما يأكله أو ما يشتري به ما يأكله،
وقد روى عن عمر رضي الله عنه أن غلمان حاطب بن أبي بلتعة انتحروا ناقة للمزني فامر عمر بقطعهم
قم قال لحاطب أني أراك تجيعهم فدرأ عنهم القطع لما ظنه يجيعهم فاما الواجد لما يأكله أو الواجد لما
يشتري به وما يشتر به وما يشتر به فعليه القطع وإن كان بالثمن الغالي ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي ولا قطع
على المرأة إذا منعها الزوج قدر كفايتها أو كفاية ولدها فأخذت من ماله سواء أخذت قدر ذلك
أو أكثر منه لأنها تستحق قدر ذلك فالزائد يكون مشتركا بما يستحق اخذه، ولا على الضيف إذا منع
قراه فأخذ أيضا من مال المضيف لذلك
(مسألة) قال (ولا يقطع إلا بشهادة عدلين أو اعترفا مرتين)
وجملة ذلك أن القطع إنما يجب بأحد أمرين بينة أو اقرار لاغير، فأما البينة فيشترط فيها أن يكونا
289

رجلين مسلمين حرين عدلين سواء كان السارق مسلما أو ذميا وقد ذكرنا ذلك في الشهادة في الزنا
بما أغنى عن اعادته ههنا، ويشترط أن يصفا السرقة والحرز وجنس النصاب وقدره ليزول الاختلاف
فيه فيقولان نشهد ان هذا سرق كذا قيمته كذا من حرز ويصفا الحرز، وإن كان المسروق منه غائبا
فحضر وكيله وطالب بالسرقة احتاج الشاهدان أن يرفعا في نسبه فيقولان من حرز فلان ابن فلان
ابن فلان بحيث يتميز من غيره فإذا اجتمعت هذه الشروط وجب القطع في قول عامتهم. قال ابن
المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان
ووصفا ما يوجب القطع، وإذا وجب القطع بشهادتهما لم يسقط بغيبتهما ولا موتهما على ما مضى في الشهادة بالزنا
وإذا شهدا بسرقة مال غائب. فإن كان له وكيل حاضر فطالب به قطع السارق وإلا فلا.
(فصل) وإذا اختلف الشاهدان في الوقت أو المكان أو المسروق فشهد أحدهما أنه سرق يوم
الخميس والآخر أنه سرق يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه سرق من هذا البيت وشهد الآخر أنه
290

سرق من هذا البيت أو قال أحدهما سرق ثورا وقال الآخر سرق بقرة أو قال سرق ثورا وقال
الآخر سرق حمارا لم يقطع في قولهم جميعا، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وإن قال
أحدهما سرق ثوبا أبيض وقال الآخر أسود أو قال أحدهما سرق هرويا فقال الآخر مرويا لم يقطع
أيضا، وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر لأنهما لم يتفقا على الشهادة بشئ واحد فأشبه ما لو
اختلفا في الذكورية والأنوثية. وقال أبو الخطاب يقطع وهو قول أبي حنيفة وأصحاب الرأي لأن
الاختلاف لم يرجع إلى نفس الشهادة ويحتمل أن أحدهما غلب على ظنه أنه هروي والآخر انه مروي
أو كان الثوب فيه سواد وبياض. قال ابن المنذر اللون أقرب إلى الظهور من الذكورية والأنوثية
فإذا كان اختلافهما فيما يخفى يبطل شهادتهما ففيما يظهر أولى، ويحتمل ان أحدهما ظن المسروق
ذكرا وظنه الآخر أنثى فقد أوجب هذا رد شهادتهما فكذلك ههنا (الثاني) الاعتراف فيشترط فيه
أن يعترف مرتين روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وزفر وابن
شبرمة وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن يقطع باعتراف مرة لأنه حق يثبت
بالاقرار فلم يعتبر فيه التكرار كحق الآدمي
291

ولنا ما روى أبو داود باسناده عن أبي أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم اتي بلص قد اعترف فقال
له (وما إخالك سرقت) قال بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فامر به فقطع ولو وجب القطع بأول مرة
لما أخره، وروى سعيد عن هشيم وسفيان وأبي الأحوص وأبي معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن
ابن القاسم عن أبيه قال شهدت عليا وأتاه رجل فاقر بالسرقة فرده وفي لفظ فانتهره وفي لفظ فسكت
عنه وقال غير هؤلاء فطرده ثم عاد بعد ذلك فاقر فقال له علي: شهدت على نفسك مرتين فامر به
فقطع وفي لفظ: قد أقررت على نفسك مرتين، ومثل هذا يشتهر فلم ينكر ولأنه يتضمن إتلافا في حد
فمكان من شرطه التكرار كحد الزنا ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة وقياسهم ينتقض
بحد الزنا عند من اعتبر التكرار، ويفارق حق الآدمي لأن حقه مبني على الشح والتضييق ولا يقبل
رجوعه عنه بخلاف مسئلتنا
(فصل) ويعتبر أن يذكر في اقراره شروط السرقة من النصاب والحرز وإخراجه منه
(فصل) والحر والعبد في هذا سواء نص عليه احمد وذلك لعموم النص فيهما ولما روى الأعمش
عن القاسم عن أبيه ان عليا قطع عبدا أقر عنده بالسرقة وفي رواية قال كان عبدا يعني الذي قطعه
علي، ويعتبر أن يقر مرتين وروى مهنا عن أحمد إذا أقر العبد أربع مرات انه سرق قطع وظاهر
292

هذا انه اعتبر اقراره أربع مرات ليكون على النصف من الحر والأول أصح لخبر علي ولأنه اقرار بحد
فاستوى في عدده الحر والعبد كسائر الحدود
(مسألة) قال (ولا ينزع عن اقراره حتى يقطع)
هذا قول أكثر الفقهاء وقال ابن أبي ليلى وداود لا يقبل رجوعه لأنه لو أقر لآدمي بقصاص
أو حق لم يقبل رجوعه عنه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للسارق (ما إخالك سرقت) عرض له ليرجع ولأنه حد لله تعالى ثبت بالاعتراف
فقبل رجوعه عنه كحد الزنا ولان الحدود تدرأ بالشبهات ورجوع عنه شبهة لاحتمال أن يكون كذب
على نفسه في اعترافه ولأنه أحد حجتي القطع فيبطل بالرجوع عنه كالشهادة ولان حجة القطع زالت قبل
استيفائه فسقط كما لو رجع الشهود، وفارق حق الآدمي فإنه مبني على الشح والضيق ولو رجع الشهود
عن الشهادة بعد الحكم لم يبطل برجوعهم ولم يمنع استيفاءها
إذا ثبت هذا فإنه إذا رجع قبل القطع سقط القطع ولم يسقط غرم المسروق لأنه حق آدمي، ولو
293

أقر مرة واحدة لزمه غرامة المسروق دون القطع، وإن كان رجوعه وقد قطع بعض المفصل لم يتممه
إن كان يرجى برؤه لكونه قطع قليلا وان قطع الأكثر فالمقطوع بالخيار ان شاء تركه وان شاء قطعه
ليستريح من تعليق كفه، ولا يلزم القاطع قطعه لأن قطعه تداو وليس بحد
(فصل) قال أحمد لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره وهذا قول عامة الفقهاء. روي عن
عمرانه أتي برجل فسأله أسرقت؟ قل لا فقال لا فتركه وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق وأبي هريرة
وابن مسعود وأبي الدرداء وبه قال إسحاق وأبو ثور. وقد روينا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للسارق (ما إخالك
سرقت) وقال لماعز (لعلك قبلت أو لمست) وعن علي رضي الله عنه ان رجلا أقر عنده بالسرقة
فانتهره وروي أنه طرده وروي أنه رده، ولا بأس بالشفاعة في السارق ما لم يبلغ الإمام فإنه روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد وجب)
وقال الزبير بن العوام في الشفاعة في الحد: يفعل ذلك دون السلطان فإذا بلغ الإمام فلا أعفاه
الله إن أعفاه. وممن رأى ذلك الزبير وعمار وابن عباس وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي.
وقال مالك ان لم يعرف بشر فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام وأما من عرف بشر وفساد فلا
294

أحب ان يشفع له أحد ولكن يترك حتى يقام الحد عليه. وأجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة
فيه لأن ذلك إسقاط حق وجب لله تعالى وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين شفع أسامة في المخزومية التي سرقت
وقال (أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟) وقال ابن عمر من حالت شفاعته دون حد من حدود الله
فقد ضاد الله في حكمه
(مسألة) قال (وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا)
وبهذا قال مالك وأبو ثور وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق لا قطع عليم الا أن
تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا لأن كل واحد لم يسرق نصابا فلم يجب عليه قطع كما لو أنفرد بدون
النصاب وهذا القول أحب إلي لأن القطع ههنا لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص والجمع عليه
فلا يجب والاحتياط باسقاطه أولى من الاحتياط بايجابه لأنه مما يدرأ بالشبهات
واحتج أصحابا بأن النصاب أحد شرطي القطع فإذا اشترك الجماعة فيه كانوا كالواحد قياسا
على هتك الحرز ولان سرقة النصاب فعل يوجب القطع فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص
ولم يفرق أصحابنا بين كون المسروق ثقيلا يشترك الجماعة في حمله وبين أن يخرج كل واحد منه جزءا
295

ونص أحمد على هذا، وقال مالك ان انفرد كل واحد بجزء منه لم يقطع واحد منهم كما لو أنفرد كل
واحد من قاطعي اليد بقطع جزء منها لم يجب القصاص
ولنا انهم اشتركوا في هتك الحرز وإخراج النصاب فلزمهم القطع كما لو كان ثقيلا فحملوه،
وفارق القصاص فإنه تعتمد المماثلة ولا توجد المماثلة إلا أن توجد أفعالهم في جميع أجزاء اليد وفي
مسئلتنا القصد الزجر من غير اعتبار مماثلة والحاجة إلى الزجر عن إخراج المال وسواء دخلا الحرز
معا أو دخل أحدهما فأخرج بعض النصاب ثم دخل الآخر فأخرج باقيه لأنهما اشتركا في هتك الحرز
وإخراج النصاب فلزمهما القطع كما لو حملاه معا
(فصل) فإن كان أحد الشريكين ممن لا قطع عليه كأبي المسروق منه قطع شريكه في أحد
296

الوجهين كما لو شاركه في قطع يد ابنه (والثاني) لا يقطع وهو أصح لأن سرقتهما جميعا صارت علة
لقطعهما وسرقة الأب لا تصلح موجبة للقطع لأنه أخذ ما له أخذه بخلاف قطع يد ابنه فإن الفعل تمحض
عدوانا وإنما سقط القصاص لفضيلة الأب لا لمعنى في فعله وههنا فعله قد تمكنت الشبهة منه فوجب
أن لا يجب القطع به كاشتراك العامد والخاطئ وإن أخرج كل واحد منهما نصابا وجب القطع على
شريك الأب لأنه انفرد بما يوجب القطع وإن أخرج الأب نصابا وشريكه دون النصاب ففيه
الوجهان، وإن اعترف اثنان بسرقة نصاب ثم رجع أحدهما فالقطع على الآخر لأنه اختص بالاسقاط
فيختص بالسقوط ويحتمل أن يسقط عن شريكه لأن السبب السرقة منهما وقد اختل أحد جزأيها
وكذلك لو أقر بمشاركة آخر في سرقة نصاب ولم يقر الآخر ففي القطع وجهان
(فصل) قال احمد في رجلين دخلا دارا أحدهما في سفلها جمع المتاع وشده بحبل والآخر في
علوها مد الحبل فرمى به وراء الدار فالقطع عليهما لأنهما اشتركا في اخراجه، وإن دخلا جميعا فأخرج
297

أحدهما المتاع وحده فقال أصحابنا القطع عليهما وبه قال أبو حنيفة وصاحباه إذا أخرج نصابين، وقال
مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر القطع على المخرج وحده لأنه هو السارق، وإن أخرج أحدهما
دون النصاب والآخر أكثر من نصاب فتما نصابين فعند أصحابنا وأبي حنيفة وصاحبيه يجب القطع
عليهما، وعند الشافعي وموافقيه لا قطع على من لم يخرج نصابا فإن أخرج أحدهما نصابا والآخر دون
النصاب فعند أصحابنا عليهم القطع وعند الشافعي والقطع على مخرج النصاب وحده وعند أبي حنيفة لاقطع
على واحد منهما لأن المخرج لم يبلغ نصبا بعدد السارقين وقد ذكرنا وجه ما قلنا فيما تقدم وإن نقبا حرزا
ودخل أحدهما فقرب المتاع من النقب وأدخل الخارج يده فأخرجه فقال أصحابنا قياس قول احمد ان
القطع عليهما، وقال الشافعي القطع على الخارج لأنه مخرج المتاع، وقال أبو حنيفة لا قطع على واحد منهما
ولنا انهما اشتركا في هتك الحرز واخراج المتاع فلزمهما القطع كما لو حملاه معا فأخرجاه وإن
وضعه في النقب فمد الآخر يده فأخذه فالقطع عليهما، ونقل عن الشافعي في هذه المسألة قولان
كالمذهبين في الصورة التي قبلها
(فصل) وإن نقب أحدهما وحده ودخل الآخر وحده فأخرج المتاع فلا قطع على واحد منهما
298

لأن الأول لم يسرق والثاني لم يهتك الحرز وإنما سرق من حرز هتكه غيره فأشبه ما لو نقب رجل
وانصرف وجاء آخر فصادف الحرز مهتوكا فسرق منه وإن نقب رجل وأمر غيره فأخرج المتاع فلا
قطع أيضا على واحد منهما وإن كان المأمور صبيا مميزا لأن المميز له اختيار فلا يكون آلة للآمر كما
لو أمره بقتل انسان فقتله وإن كان غير مميز وجب القطع على الآخر لأنه آلته، وإن اشترك رجلان
في النقب ودخل أحدهما فأخرج المتاع وحده أو أخذه وناوله للآخر خارجا من الحرز أو رمى به إلى
خارج الحرز فأخذه الآخر فالقطع على الداخل وحده لأنه مخرج المتاع وحده مع المشاركة في النقب
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة لا قطع عليهما لأن الداخل لم ينفصل عن
الحرز ويده على السرقه فلم يلزمه القطع كما لو أتلفه داخل الحرز
ولنا أن المسروق خرج من الحرز ويده عليه فوجب عليه القطع كما لو خرج به ويخالف إذا أتلفه
فإنه لم يخرجه من الحرز
(مسألة) قال (ولا يقطع وإن اعترف أو قامت بينة حتى يأتي مالك المسروق يدعيه)
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو بكر يقطع ولا يفتقر إلى دعوى ولا مطالبة وهذا قول
مالك وأبي ثور وابن المنذر لعموم الآية ولان موجب القطع ثبت فوجب من غير مطالبة كحد الزنا
299

ولنا أن المال يباح بالبذل والإباحة فيحتمل أن مالكه اباحه إياه أو وقفه على المسلمين أو على
طائفة السارق منهم أو أذن له في دخول حرزه فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة، وعلى هذا يخرج
الزنا فإنه لا يباح بالإباحة ولان القطع أوسع في الاسقاط ألا ترى انه إذا سرق مال ابنه لم يقطع؟ ولو
زنى بجاريته حد ولان القطع شرع لصيانة مال الآدمي فله به تعلق فلم يستوف من غير حضور مطالب
به، والزنا حق لله تعالى محض فلم يفتقر إلى طلب به. إذا ثبت هذا فإن وكيل المالك يقوم مقامه في
الطلب، وقال القاضي إذا أقر بسرقة مال غائب حبس حتى يحضر الغائب لأنه يحتمل أن يكون قد
أباحه ولو أقر بحق مطلق لغائب لم يحبس لأنه لاحق عليه لغير الغائب ولم يأمر بحبسه فلم يحبس وفي
مسئلتنا تعلق به حق الله تعالى وحق الآدمي فحبس لما عليه من حق الله تعالى فإن كانت العين في يده
أخذها الحاكم وحفظها للغائب وإن لم يكن في يده شئ فإذا جاء الغائب كان الخصم فبها
(فصل) ولو أقر بسرقة من رجل فقال المالك لم تسرق مني ولكن غصبتني أو كان لي قبلك
وديعة فجحدتني لم يقطع لأن إقراره لم يوافق دعوى المدعي وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي وان
أقر أنه سرق نصابا من رجلين فصدقه أحدهما دون الآخر أو قال الآخر بل غصبتنيه أو جحدتنيه لم
يقطع وبه قال أصحاب الرأي، وقال أبو ثور إذا قال الآخر غصبتنيه أو جحدتنيه قطع
ولنا أنه لم يوافق على سرقة نصاب فلم يقطع كالتي قبلها، وإن وافقاه جميعا قطع وان حضر
أحدهما فطالب ولم يحضر الآخر لم يقطع لأن ما حصلت المطالبة به لا يوجب القطع بمفرده وان أقر
أنه سرق من رجل شيئا فقال الرجل قد فقدته من مالي فينبغي أن يقطع لما روي عن عبد الرحمن بن
ثعلبة الأنصاري عن أبيه أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
300

يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقالوا انا افتقدنا جملا لنا فأمر به
النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده قال ثعلبة انا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول الحمد لله الذي طهرني منك
أردت أن تدخلي جسدي النار أخرجه ابن ماجة
(فصل) ومن ثبتت سرقته ببينة عادله فأنكر لم يلتفت إلى إنكاره، وإن قال أحلفوه لي اني سرقت
منه لم يحلف لأن السرقة قد ثبتت بالبينة وفي احلافه عليه قدح في الشهادة، وان قال الذي أخذته
ملك لي كان لي عنده وديعة أو رهنا أو ابتعته منه أو وهبه لي أو أذن لي في أخذه أو غصبه مني أو
من أبي أو بعضه لي فالقول قول المسروق منه مع يمينه لأن اليد ثبتت له فإن حلف سقطت دعوى
السارق ولا قطع عليه لأنه يحتمل ما قال ولهذا أحلفنا المسروق منه، وان نكل قضينا عليه بنكوله
وهذه إحدى الروايتين وهو منصوص الشافعي: وعن أحمد رواية أخرى أنه يقطع لأن سقوط القطع
بدعواه يؤدي إلى أن لا يجب قطع سارق فتفوت مصلحة الزجر، وعنه رواية ثالثة انه إن كان معروفا
بالسرقة قطع لأنه يعلم كذبه وإلا سقط عنه القطع، والأول أولى لأن الحدود تدرأ بالشبهات وإفضاؤه
إلى سقوط القطع لا يمتنع اعتباره كما أن الشرع اعتبر في شهادة الزنا شروطا لا يقطع معها اقامه حد ببينة
أبدا على أنه لا يفضي إليه لازما فإن الغالب من السراق انهم لا يعلمون هذا ولا يهتدون إليه، وإنما
يختص بعلم هذا الفقهاء الذين لا يسرقون غالبا، وان لم يحلف المسروق منه قضي عليه وسقط الحد وجها واحدا
301

كتاب قطاع الطريق
الأصل في حكمهم قول الله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض
فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) وهذا الآية في
قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وبه يقول مالك والشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي وحكي عن ابن عمر أنه قال نزلت هذه الآية في المرتدين، وحكي ذلك عن الحسن
وعطاء وعبد الكريم لأن سبب نزولها قصة العرنيين وكانوا ارتدوا عن الاسلام وقتلوا الرعاة
فاستاقوا إبل الصدقة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم من جاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم
في الحرة حتى ماتوا قال أنس فأنزل الله تعالى في ذلك (إنما جزاء الذين يحاربون الله) الآية أخرجه
أبو داود والنسائي ولان محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار لامن المسلمين
ولنا قول الله تعالى (الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) والكفار تقبل توبتهم بعد
القدرة كما تقبل قبلها ويسقط عنهم القتل والقطع في كل حال والمحاربة قد تكون من المسلمين بدليل
302

قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا
فائذنوا بحرب من الله ورسوله)
(مسألة) قال (المحاربون الذين يعرضون للقوم السلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة)
وجملته ان المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة التي نذكرها بعد تعتبر لهم شروط ثلاثة
(أحدها) أن يكون ذلك في الصحراء، فإن كان ذلك منهم في القرى والأمصار فقد توقف أحمد رحمه
الله فيهم وظاهر كلام الخرقي انهم غير محاربين وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق لأن الواجب
يسمى حد قطاع الطريق وقطع الطريق إنما هو في الصحراء ولان من في المصر يلحق به الغوث غالبا
فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه، وقال كثير من
أصحابنا هو قاطع حيث كان وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية
بعمومها كل محارب ولان ذلك إذا وجد في المصر كان أعظم خوفا وأكثر ضررا فكان بذلك أولى
303

وذكر القاضي ان هذا إن كان في المصر مثل أن كبسوا دارا فكان أهل الدار بحيث لو صاحوا
أدركهم الغوث فليس هؤلاء بقطاع طريق لأنهم في موضع يلحقهم الغوث عادة، وان حصروا قرية
أو بلدا ففتحوه وغلبوا على أهله أو محلة منفردة بحيث لا يدركهم الغوث عادة فهم محاربون لأنهم
لا يلحقهم الغوث فأشبه قطاع الطريق في الصحراء
(الشرط الثاني) أن يكون معهم سلاح فإن لم يكن معهم سلاح فهم غير محاربين لأنهم لا يمنعون
من يقصدهم ولا نعلم في هذا خلافا، فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون وبه قال الشافعي وأبو ثور
وقال أبو حنيفة ليسوا محاربين لأنه لا سلاح معهم
ولنا ان ذلك من جملة السلاح الذي يأتي على النفس والطرف فأشبه الحديد
(الشرط الثالث) أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا، فاما ان أخذوه مختفين فهم سراق وان اختطفوه
وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم وكذلك أن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها
شيئا فليسوا بمحاربين لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهن قطاع طريق
(مسألة) قال (فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وان عفا صاحب المال وصلب حتى
يشتهر ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب وإن أخذ المال ولم يقتل
قطعت يده اليمنى ورحله اليسرى في مقام واحد ثم حسمتا وخلي)
304

روينا نحو هذا عن ابن عباس، وبه قال قتادة ومجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق وعن أحمد إنه إذا
قتل وأخذ المال قتل وقطع لأن كل واحدة من الجنايتين توجب حدا منفردا فإذا اجتمعا وجب حدهما معا
كما لو زنى وسرق، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي لأن أو تقتضي
التخيير كقوله تعالى (فكفارته إطعام عشره مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو
تحرير رقبة) وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك يو النخعي وأبي الزناد
وأبي ثور وداود، وروي عن ابن عباس ما كان في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار، وقال أصحاب الرأي
ان قتل قتل وان اخذ المال قطع وان قتل وأخذ المال فالإمام مخير بين قتله وصلبه وبين قتله وقلعه
وبين أن يجمع له ذلك كله لأنه قد وجد منه ما يوجب القتل والقطع فكا للإمام فعليهما كما لو
قتل وقطع في غير قطع طريق، وقال مالك إذا قطع الطريق فرآه الإمام جدا ذا رأي قتله، وإن كان
جلدا لا رأي له قطعه ولم يعتبر فعله
ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر
بعد إيمان أو زنا بعد احصان أو قتل نفس بغير حق) فاما (أو) فقد قال ابن عباس مثل قولنا فاما أن يكون
305

توقيفا أو لغة وأيهما كان فهو حجه يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ، وعرف القرآن فيما أريد به
التخيير البداءة بالأخف ككفارة اليمين وما أريد به الترتيب بدئ فيه بالأغلظ فالأغلظ ككفارة
الظهار والقتل ويدل عليه أيضا أن العقوبات تختلف باختلاف الاجرام، ولذلك اختلف حكم الزاني
والقاذف والسارق وقد سووا بينهم مع اختلاف جناياتهم، وهذا يرد على مالك فإنه إنما اعتبر الجلد
والرأي دون الجنايات وهو مخالف للأصول التي ذكرناها
وأما قول أبي حنيفة فلا يصح لأن القتل لو وجب لحق الله تعالى لم يخير الإمام فيه كقطع السارق وكما لو أن
فرد بأخذ المال، ولان الحدود لله تعالى إذا كان فيها تقل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن
وقد روي عن ابن عباس قال: وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة (1) الأسلمي فجاء ناس يريدون
الاسلام فقطع عليهم أصحابه فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب
ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وقيل إنه رواه
أبو داود وهذا كالمسند وهو نص. فإذا ثبت هذا فإن قاطع الطريق لا يخلو من أحوال خمس

(1) في الشرح أبا هريرة
306

(الأولى) إذا قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب في ظاهر المذهب وقتله متحتم لا يدخله عفو.
أجمع على هذا كل أهل العلم قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم. روي ذلك
عن عمر وبه قال سليمان بن موسى والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولأنه حد من حدود
الله تعالى فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود، وهل يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول؟ فيه روايتان
(إحداهما) لا يعتبر بل يؤخذ الحر بالعبد والمسلم بالذمي والأب بالابن لأن هذا القتل حد لله
تبعا لي فلا تعتبر فيه المكافأة كالزنا والسرقة
(والثانية) تعتبر المكافأة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يقتل مسلم بكافر) والحد فيه انحتامه بدليل
انه لو تاب قبل القدرة عليه سقط الانحتام ولم يسقط القصاص، فعلى هذه الرواية إذا قتل المسلم ذميا
أو الحر عبدا أو أخذ ماله قطعت يده ورجله من خلاف لاخذه المال وغرم دية الذمي وقيمة العبد
وإن قتله ولم يأخذ مالا غرم ديته ونفي، وذكر القاضي انه إنما يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال، وإن
قتله لغير ذلك مثل أن يقصد قتله لعداوة بينهما فالواجب قصاص غير متحتم وإذا قتل صلب لقول
الله تعالى (أو يصلبوا) والكلام فيه في ثلاثة أمور
307

(أحدها) في وقته ووقته بعد القتل وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي ومالك والليث وأبو
حنيفة وأبو يوسف يصلب حيا ثم يقتل مصلوبا، يطعن بالحربة لأن الصلب عقوبة وإنما يعاقب الحي لا الميت
ولأنه جزاء على المحاربة فيشرع في الحياة كسائر الا جزية ولان الصلب بعد قتله يمنع تكفينه ودفنه فلا يجوز
ولنا ان الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف فيجب تقديم
الأول في اللفظ كقوله تعالى (ان الصفا والمروة من شعائر الله) ولان القتل إذا أطلق في لسان الشرع
كان قتل بالسيف ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا
القتل) وأحسن القتل هو القتل بالسيف وفي صلبه حيا تعذيب له وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب
الحيوان، وقولهم انه جزاء على المحاربة قلنا لو شرع لردعه لسقط بقتله كما يسقط سائر الحدود مع
القتل، وإنما شرع الصلب ردعا لغيره ليشتهر أمره وهذا يحصل بصلبه بعد قتله، وقولهم يمنع تكفينه
ودفنه قلنا هذا لازم لهم لأنهم يتركونه بعد قتله مصلوبا
(الثاني) في قدره ولا توقيت فيه إلا قدر ما يشتهر أمره قال أبو بكر لم يوقت احمد في الصلب
فأقول يصلب قدر ما يقع عليه الاسم والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي من الشهرة لأن المقصود يحصل
به، وقال الشافعي يصلب ثلاثا وهو مذهب أبي حنيفة وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز مع أنه في
308

الظاهر يفضي إلى تغيره ونتنه وأذى المسلمين برائحته ونظره ويمنع تغسيله وتكفينه ودفنه فلا
يجوز بغير دليل
(الثالث) في وجوبه وهذا واجب حتم في حق من قتل وأخذ المال لا يسقط بعفو ولا غيره
وقال أصحاب الرأي: إن شاء الإمام صلب وإن شاء لم يصلب
ولنا حديث ابن عباس أن جبريل نزل بأن من قتل وأخذ المال صلب ولأنه شرع حدا فلم يتخير
بين فعله وتركه كالقتل وسائر الحدود. إذا ثبت هذا فإنه إذا اشتهر أنزل ودفع إلى أهله فيغسل ويكفن
ويصلى عليه ويدفن
(فصل) وإن مات قبل قتله لم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد فات الحد بموته فيسقط
ما هو من تتمته، وإن قتل في المحاربة بمثقل قتل كما لو قتل بمحدد لأنهما سواء في وجوب القصاص
بهما، وان قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها كالسوط ولا عصا والحجر الصغير فظاهر كلام الخرقي
أنهم يقتلون أيضا لأنهم دخلوا في العموم
(الحال الثاني) قتلوا ولم يأخذوا المال فإنهم يقتلون ولا يصلبون. وعن أحمد رواية أخرى
أنهم يصلبون لأنهم محاربون يجب قتلهم فيصلبون كالذين أخذوا المال، والأولى أصح لأن الخبر
309

المروي فيهم قال فيه (ومن قتل ولم يأخذ المال قتل) ولم يذكر صلبا ولان جنايتهم بأخذ المال مع القتل
تزيد على الجناية بالقتل وحده فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ، ولو شرع الصلب ههنا لاستويا والحكم
في تحتم القتل وكونه حدا ههنا كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال
(فصل) وإذا جرح المحارب جرحا في مثله قصاص فهل يتحتم فيه القصاص؟ على روايتين
(إحداهما) لا يتحتم لأن الشرع لم يرد بشرع الحد في حقه بالجراح فإن الله تعالى ذكر في حدود
المحاربين القتل والصلب والقطع والنفي فلم يتعلق بالمحاربة غيرها فلا يتحتم بخلاف القتل فإنه حد فتحتم
كسائر الحدود فحينئذ لا يجب فيه أكثر من القصاص
(والثانية) يتحتم لأن الجراح تابعة للقتل فيثبت فيها مثل حكمه، ولأنه نوع قود أشبه القود في
النفس والأولى أولى، وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه كالجائفة فليس فيه إلا الدية، إن جرح
انسانا وقتل آخر اقتص منه للجراح وقتل للمحاربة، وقال أبو حنيفة تسقط الجراح لأن الحدود إذا
اجتمعت وفيها قتل سقط ما سوى القتل
ولنا أنها جناية يجب بها القصاص في غير المحاربة فيجب بها في المحاربة كالقتل ولا نسلم ان
310

القصاص في الجراح حد وإنما هو قصاص متمحض فأشبه ما لو كان الجرح في غير المحاربة، وإن سلمنا
انه حد فإنه مشروع مع القتل فلم يسقط به كالصلب وكقطع اليد الرجل
(الحال الثالث) أخذ المال ولم يقتل فإنه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى وهذا معنى قوله سبحانه
(من خلاف) وإنما قطعنا يده اليمنى للمعنى الذي قطعنا به يمنى السارق ثم قطعنا رجله اليسرى لتتحقق
المخالفة وليكون أرفق به في امكان مشيه، ولا ينتظر اندمال اليد في قطع الرجل بل يقطعان معا يبدأ
بيمينه فتقطع وتحسم ثم برجله لأن الله تعالى بدا بذكر الأيدي ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقطع
منه غير يد ورجل إذا كانت يداه ورجلاه صحيحتين، فأما إن كان معدوم اليد والرجل إما لكونه
قد قطع في قطع طريق أو سرقة أو قصاص أو لمرض فمقتضى كلام الخرقي سقوط القطع عنه سواء
كانت اليد اليمنى والرجل اليسرى أو بالعكس لأن قطع زيادة على ذلك يذهب بمنفعة الجنس إما منفعة
البطش أو المشي أو كليهما وهذا مذهب أبي حنيفة، وعلى الرواية التي تستوفي أعضاء السارق الأربعة
يقطع ما بقي من أعضائه فإن كانت يده اليمنى مقطوعة قطعت رجله اليسرى وحدها، ولو كانت يداه
صحيحتين ورجله اليسرى مقطوعة قطعت يمنى يديه ولم يقطع غير ذلك وجها واحدا وهو مذهب
311

الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأنه وجد في محل الحد ما يستوفى فاكتفي باستيفائه كما لو كانت اليد ناقصة
بخلاف التي قبلها، وإن كان ما وجب قطعه أشل فذكر أهل الطب أن قطعه يفضي إلى تلفه لم يقطع
وكان حكمه حكم المعدوم، وان قالوا لا يفضي إلى تلفه ففي قطعه روايتان ذكرناهما في قطع السارق
(الحال الرابع) إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا
(الحال الخامس) إذا تابوا قبل القدرة عليهم ويأتي ذكر حكمهما إن شاء الله تعالى
(مسألة) قال (ولا يقطع منهم الا من أخذ ما يقطع السارق في مثله)
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال مالك وأبو ثور للإمام أن يحكم عليه حكم المحارب لأنه
محارب لله ولرسوله ساع في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية، ولأنه لا يعتبر الحز فكذلك النصاب
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا قطع الا في ربع دينار) ولم يفصل ولأن هذه جناية تعلقت بها عقوبة
في حق غير المحارب فلا تتغلظ في المحارب بأكثر من وجه واحد كالقتل يغلظ بالانحتام كذلك ههنا
312

تتغلظ بقطع الرجل معها ولا تتغلظ بما دون النصاب، وأما الحرز فهو معتبر فإنهم لو أخذوا مالا مضيعا
لا حافظ له لم يجب القطع وان أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا على قياس
قولنا في السرقة وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي انه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد
منهم نصابا، ويشترط أيضا ان لا تكون لهم شبهة فيما يأخذونه من المال على ما ذكرنا في المسروق
(مسألة) قال (ونفيهم ان يشردوا فلا يتركوا يأوون في بلد)
وجملته أن المحاربين إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا فإنهم ينفون من الأرض لقول
الله تعالى (أو ينفوا من الأرض) ويروى عن ابن عباس ان النفي يكون في هذا الحالة وهو قول
النخعي وقتادة وعطاء الخراساني، والنفي هو تشريد هم عن الأمصار والبلدان فلا يتركون يأوون بلدا
ويروى نحو هذا عن الحسن والزهري وعن ابن عباس انه ينفى من بلده إلى بلد غيره كنفي الزاني
وبه قال طائفة من أهل العلم، قال أبو الزناد كان منفى الناس إلى باضع من أرض الحبشة وذلك أقصى
313

تهامة اليمين، وقال مالك يحبس في البلد الذي ينفى إليه كقوله في الزاني، وقال أبو حنيفة نفيه حبسه
حتى يحدث توبة ونحو هذا قال الشافعي فإنه قال في هذه الحال يعزرهم الإمام، وإن رأي أن يحبسهم
حبسهم، وقيل عنه النفي طلب الإمام لهم ليقيم فيهم حدود الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس، وقال
ابن شريح يحبسهم في غير بلدهم وهذا مثل قول مالك وهذا أولى لأن تشريدهم اخراج لهم إلى مكان
يقطعون فيه الطرق ويؤذن به الناس فكان حبسهم أولى، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية
أخرى معناها أن نفيهم طلب الإمام لهم فإذا ظفر بهم عزرهم بما يردعهم
ولنا ظاهر الآية فإن النفي الطرد والابعاد والحبس امساك وهما يتنافيان فأما نفيهم إلى غير
مكان معين فلقوله سبحانه (أو ينفوا من الأرض) وهذا يتناول نفيه من جميعها وما ذكروه
يبطل بنفي الزاني فإنه ينفى إلى مكان يحتمل أن يوجد منه الزنا فيه ولم يذكر أصحابنا قدر مدة
نفيهم فيحتمل أن تتقدر مدته بما تظهر فيه توبتهم وتحسن سيرتهم ويحتمل أن ينفوا عاما كنفي الزاني
(مسألة) قال (فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم حدود الله تعالى
وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال الا أن يعفى لهم عنها)
ولا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل
314

في هذا قول الله تعالى (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم) فعلى
هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي ويبقى عليهم والقصاص في النفس والجراح وغرامة
المال والدية لما لا قصاص فيه. فأما ان تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شئ من الحدود لقول الله
تعالى (الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) فأوجب عليهم الحد ثم استثنى التائبين قبل القدرة
فمن عداهم يبقى على قضية العموم ولأنه إذا تاب قبل القدرة فالظاهر أنها توبة اخلاص، وبعدها الظاهر
أنها تقية من إقامة الحد عليه ولان في قبول توبته واسقاط الحد عنه قبل القدرة ترغيبا في توبته
والرجوع عن محاربته وافساده فناسب ذلك الاسقاط عنه وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه لأنه قد
عجز عن الفساد والمحاربة
(فصل) وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر
والسرقة فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة لأنها حدود الله تعالى فتسقط بالتوبة كحد المحاربة الاحد
القذف فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي، ولان في اسقاطها ترغيبا في التوبة، ويحتمل ان لا تسقط لأنها
315

لا تختص المحاربة فكانت في حقه كهي في حق غيره، وان اتى حدا قبل المحاربة ثم حارب وتاب
قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأول لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره
(فصل) وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح ففيه روايتان
(إحداهما) يسقط عنه لقول الله تعالى (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فاعرضوا
عنهما) وذكر حد السارق ثم قال (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) وقال
النبي صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ومن لا ذنب له لاحد عليه وقال في ماعز لما
أخبر بهربه (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟) ولأنه خالص حق الله تعالى فيسقط
بالتوبة كحد المحارب.
(والرواية الثانية) لا يسقط وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقول الله تعالى (الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهذا عام في التائبين وغيرهم وقال تعالى (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة وقد
جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة فقال في حق المرأة (لقد
316

تابت توبه لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال يا رسول الله اني سرقت جملا لبني فلان فطهرني وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد عليهم، ولان
الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل ولأنه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحد
بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه، فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع
اصلاح العمل؟ فيه وجهان
(أحدهما) يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة
المحارب قبل القدرة عليه
(والثاني يعتبر اصلاح العمل لقول الله تعالى (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) وقال (فمن
تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) فعلى هذا القول يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح
نيته وليست مقدرة بمدة معلومة، وقال بعض أصحاب الشافعي: مدة ذلك سنة وهذا توقيت
بغير توقيف فلا يجوز.
317

(فصل) وحكم الردء من القطاع حكم المباشر وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي ليس
على الردء الا التعزير لأن الحد يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلق بالمعين كسائر الحدود
ولنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة فاستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق الغنيمة وذلك لأن المحاربة
مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكن المباشر من فعله الا بقوة الردء بخلاف سائر
الحدود، فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم فيجب قتل جميعهم وإن قتل
بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الامرين كل واحد منهم
(فصل) وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه لم يسقط الحد عن غيره في
قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة يسقط الحد عن جميعهم ويصير القتل للأولياء إن شاء واقتلوا
وإن شاءوا عفوا لأن حكم الجميع واحد فالشبهة في فعل واحد شبهة في حق الجميع
ولنا أنها شبهة اختص بها واحد فلم يسقط الحد عن الباقين كما لو اشتركوا في وطئ امرأة وما
ذكروه لا أصل له، فعلى هذا لاحد على الصبي والمجنون وان باشرا القتل وأخذ المال لأنهما ليسا
318

من أهل الحدود وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما ودية قتيلهما على عاقلتهما ولا شئ على
الردء لهما لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى، وإن كان المباشر غيرهما
لم يلزمهما شئ لأنهما لم يثبت في حقهما حكم المحاربة وثبوت الحكم في حق الردء ثبت بالمحاربة
(فصل) وإن كان فيهم امرأة ثبت في حقها حكم المحاربة فمتى قتلت وأخذت المال فحدها حد
قطاع الطريق وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب عليها الحد ولا على من معها لأنها ليست
من أهل المحاربة كالرجل، فأشبهت الصبي والمجنون ولنا أنها تحد في السرقة فيلزمها حكم المحاربة كالرجل
وتخالف الصبي والمجنون ولأنها مكلفة يلزمها القصاص وسائر الحدود فلزمها هذا الحد كالرجل. إذا ثبت
هذا فإنها ان باشرت القتل أو أخذ المال ثبت حكم المحاربة في حق من معها لأنهم ردء لها وان فعل ذلك
غيرها ثبت حكمه في حقها لأنها ردء له كالرجل سواء، وان قطع أهل الذمة الطريق أو كان مع المحاربين
المسلمين ذمي فهل ينتقض عهدهم بذلك؟ فيه روايتان، فإن قلنا ينتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم
بكل حال، وإن قلنا لا ينتقض عهدهم حكمنا عليهم بما نحكم على المسلمين
(فصل) وإذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله تعالى فإن كانت الأموال موجودة
319

ردت إلى مالكها وان كانت تالفة أو معدومة وجب ضمانها على آخذها وهذا مذهب الشافعي ومقتضى
قول أصحاب الرأي أنها ان كانت تالفة لم يلزمهم غرامتها كقولهم في المسروق إذا قطع السارق
ووجه المذهبين ما تقدم في السرقه ويجب الضمان على الآخذ دون الردء لأن وجود الضمان ليس بحد
فلا يتعلق بغير المباشر له كالغصب والنهب، ولو تاب المحاربون قبل القدرة عليهم وتعلقت بهم حقوق
الآدميين من القصاص والضمان لاختص ذلك بالمباشر دون الردء لذلك ولو وجب المضان في
السرقة لتعلق بالمباشر دون الردء لما ذكرنا والله أعلم
320

(فصل) إذا اجتمعت الحدود لم تخل من ثلاثة أقسام (القسم الأول) أن تكون خالصة لله تعالى فهي نوعان
(أحدهما) أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن ويشرب الخمر ويقتل في المحاربة
فهذا يقتل ويسقط سائرها وهذا قول ابن مسعود وعطاء والشعبي والنخعي والأوزاعي وحماد ومالك
وأبي حنيفة، وقال الشافعي يستوفى جميعها لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصا
ولنا قول ابن مسعود قال سعيد حدثنا حسان بن علي حدثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن
عبد الله قال: إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك، وقال إبراهيم يكفيه القتل
وقال حدثنا هشيم أخبرنا حجاج عن إبراهيم والشعبي وعطاء أنهم قالوا مثل ذلك وهذه أقوال
انتشرت في عصر الصحابة والتابعين ولم يظهر لها مخالف فكانت اجماعا، ولأنها حدود لله تعالى فيها
قتل فسقط ما دونه كالمحارب إذا قتل وأخذ المال فإنه يكتفى بقتله ولا يقطع، ولأن هذه الحدود تراد
لمجرد الزجر ومع القتل لا حاجه إلى زجره ولا فائدة فيه فلا يشرع، ويفارق القصاص فإن فيه غرض
التشفي والانتقام ولا يقصد منه مجرد الزجر. إذا ثبت هذا فإنه إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل
للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم لأن في القتل للمحاربة
حق آدمي في القصاص وإنما أثرت المحاربة في تحريمه وحق الآدمي يجب تقديمه
321

(النوع الثاني) أن لا يكون فيها قتل فإن جميعها يستوفى من غير خلاف نعلمه ويبدأ بالأخف
فالأخف فإذا شرب وزنى وسرق حد للشرب أولا ثم حد للزنا ثم قطع للسرقة، وإن أخذ المال في
المحاربة قطع لذلك ويدخل فيه القطع للسرقة ولان محل القطعين واحد فتداخلا كالقتلين وبهذا قال
الشافعي وقال أبو حنيفة يتخير بين البداءة بحد الزنا وقطع السرقة لا كل واحد منهما ثبت بنص
القرآن ثم يحد للشرب
ولنا أن حد الشرب أخف فيقدم كحد القذف ولا نسلم أن حد الشرب غير منصوص عليه في
السنة ومجمع على وجوبه وهذا التقديم على سبيل الاستحباب ولو بدأ بغيره جاز ووقع الموقع ولا يوالي
بين هذه الحدود لأنه ربما افضى إلى تلفه بل متى برأ من حد أقيم الذي يليه
(القسم الثاني) الحدود الخالصة للآدمي وهو القصاص وحد القذف فهذه تستوفى كلها ويبدأ
بأخفها فيحد للقذف ثم يقطع ثم يقتل لأنها حقوق للآدميين أمكن استيفاؤها فوجب كسائر حقوقهم
وهذا قول الأوزاعي والشافعي، وقال أبو حنيفة يدخل ما دون القتل فيه احتجاجا بقول ابن مسعود
وقياسا على الحدود الخالصة لله تعالى
ولنا أن ما دون القتل حق لآدمي فلم يسقط به كذنوبهم وفارق حق الله تعالى فإنه مبني على المسامحة
(القسم الثالث) أن تجتمع حدود الله وحدود الآدميين وهذه ثلاثة أنواع
(أحدها) أن لا يكون فيها قتل فهذه تستوفى كلها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وعن مالك أن
حدي الشرب والقذف يتداخلان لاستوائهما فهما كالقتلين والقطعين
ولنا أنهما حدان من جنسين لا يفوت بهما المحل فلم يتداخلا كحد الزنا والشرب ولا نسلم
استواءهما فإن حد الشرب أربعون وحد القذف ثمانون، وان سلم استواؤهما لم يلزم تداخلهما لأن ذلك
لو اقتضى تداخلهما لوجب دخولهما في حد الزنا لأن الأقل مما يتداخل يدخل في الأكثر، وفارق
القتلين والقطعين لأن المحل يفوت بالأول فيتعذر استيفاء الثاني وهذا بخلافه، فعلى هذا يبدأ بحد
القذف لأنه اجتمع فيه معنيان خفته وكونه حقا لآدمي شحيح الا إذا قلنا حد الشرب أربعون فإنه
322

يبدأ به لخفته ثم بحد القذف و أيهما قدم فالآخر يليه ثم بحد الزنا فإنه لا اتلاف فيه ثم بالقطع هكذا
ذكره القاضي وقال أبو الخطاب يبدأ بالقطع قصاصا لأنه حق آدمي متمحض فإذا برأ حد للقذف إذا
قلنا هو حق آدمي ثم بحد الشرب فإذا برأ حد للزنا لأن حق الآدمي يجب تقديمه لتأكده
(النوع الثاني) أن تجتمع حدود لله تعالى وحدود لآدمي وفيها قتل فإن حدود الله تعالى
تدخل في القتل سواء كان من حدود الله تعالى كالرجم في الزنا والقتل للمحاربة أو الردة أو لحق
آدمي كالقصاص لما قدمناه، وأما حقوق الآدمي فتستوفى كلها ثم إن كان القتل حقا لله تعالى استوفيت
الحقوق كلها متوالية لأنه لا بد من فوات نفسه فلا فائدة في التأخير، وإن كان القتل حقا لآدمي
انتظر باستيفائه الثاني برأه من الأول لوجهين (أحدهما) ان الموالاة بينهما يحتمل ان تفوت نفسه
قبل القصاص فيفوت حق الآدمي (والثاني) أن العفو جائز فتأخيره يحتمل ان يعفو الولي فيحيا
بخلاف القتل حقا لله سبحانه
(النوع الثالث) ان يتفق الحقان في محل واحد ويكون تفويتا كالقتل والقطع قصاصا وحدا
فإن كان فيه ما هو خالص لحق الله تعالى كالرجم في الزنا وما هو حق لآدمي كالقصاص قدم القصاص
لتأكد حق الآدمي وان اجتمع القتل للقتل في المحاربة والقصاص بدئ بأسبقهما لأن القتل في
في المحاربة فيه حق لآدمي أيضا فيقدم أسبقهما فإن سبق القتل في المحاربة استوفي ووجب لولي
المقتول الآخر ديته في مال الجاني، وإن سبق القصاص قتل قصاصا ولم يصلب لأن الصلب من تمام
الحد وقد سقط الحد بالقصاص فسقط الصلب كما لو مات، ويجب لولي المقتول في المحاربة ديته لأن القتل
تعذر استيفاؤه وهو قصاص فصار الوجوب إلى الدية، وهكذا لو مات القاتل في المحاربة وجبت الدية
في تركته لتعذر استيفاء القتل من القاتل، ولو كان القصاص سابقا فعفا ولي المقتول استوفي للمحاربة
سواء عفا مطلقا أو إلى الدية وهذا مذهب الشافعي، وأما القطع فإذا اجتمع وجوب القطع في يد أو
رجل قصاصا وحدا قدم القصاص على الحد المتمحض لله تعالى لما ذكرناه سواء تقدم سببه أو تأخر
وان عفا ولي الجناية استوفي الحد فإذا قطع يدا وأخذ المال في المحاربة قطعت يده قصاصا وينتظر
برؤه فإذا برأ قطعت رجله للمحاربة لأنهما حدان وإنما قدم القصاص في القطع دون القتل لأن القطع في
المحاربة حد محض وليس بقصاص والقتل فيها يتضمن القصاص ولهذا لو فات القتل في المحاربة وجبت
الدية ولو فات القطع لم يجب له بدل، وإذا ثبت أنه يقدم القصاص على القطع في المحاربة فقطع يده
323

قصاصا فإن رجله تقطع وهل تقطع يده الأخرى؟ نظرنا فإن كان المقطوع بالقصاص قد كان يستحق
القطع بالمحاربة قبل الجناية الموجبة للقصاص فيه لم يقطع أكثر من العضو الباقي من العضوين اللذين
استحق قطعهما لأن محل القطع ذهب بعارض حادث فلم يجب قطع بدله كما لو ذهبت بعدوان أو
بمرض، وعلى هذا لو ذهب العضوان جميعا سقط القطع عنه بالكلية، وإن كان سبب القطع قصاصا
سابقا على محاربته أو كان المقطوع غير العضو الذي وجب قطعه في المحاربة مثل ان وجب عليه القصاص
في يساره بعد وجوب قطع يمناه في المحاربة فهل تقطع اليد الأخرى للمحاربة؟ على وجهين بناء
على الروايتين في قطع يسرى السارق بعد قطع يمينه ان قلنا تقطع ثم قطعت ههنا والا فلا، وإن
سرق وأخذ المال في المحاربة قطعت يده اليمنى لا سبقهما فإن كانت المحاربة سابقة قطعت يده اليمنى
ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتاه، وهل تقطع يسرى يديه للسرقة؟ على الروايتين فإن قلنا تقطع انتظر
برؤه من القطع للمحاربة لأنهما حدان، وإن كانت السرقة ساقة قطعت يمناه للسرقة ولا تقطع رجله
للمحاربة حتى تبرأ يده وهل تقطع يسرى يديه للمحاربة؟ على وجهين
(فصل) وإن سرق وقتل في المحاربة ولم يأخذ المال قتل حتما ولم يصلب ولم تقطع ولم تقطع يده لأنهما
حدان فيهما قتل فدخل ما دون القتل فيه ولم يصلب لأن الصلب من تمام حد قاطع الطريق إذا أخذ
المال مع القتل ولم يوجد وهذان حدان كل واحد منهما منفصل عن صاحبه، فإذا اجتمعا تداخلا وان
قتل في المحاربة جماعة قتل بالأول حتما وللباقين ديات أوليائهم لأن قتله استحق يقتل الأول وتحتم
بحيث لا بسقط فتعينت حقوق الباقين في الدية كما لو مات
(فصل) إذا شهد عدلان على رجل أنه قطع عليهما الطريق وعلى فلان وأخذ متاعهم لم تقبل
شهادتهما لأنهما صارا خصمين له بقطعه عليهما، وإن قالا نشهد ان هذا قطع الطريق على فلان
وأخذ متاعه قبلت شهادتهما ولم يسألهما الحاكم هل قطع عليكما معه أم لا لأنه إلا يسألهما ما لم يدع
عليهما، وإن عاد المشهود له فشهد عليه أنه قطع عليهما الطريق وأخذ متاعهما لم تقبل شهادته لأنه صار
عدوا له بقطعة الطريق عليه، وإن شهد شاهدان ان هؤلاء عرضوا لنا في الطريق وقطعوها على فلان
قبلت شهادتهما لأنه لم يثبت كونهما خصمين بما ذكراه
324

كتاب الأشربة
الخمر محرم بالكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه إلى قوله فهل أنتم منتهون؟)
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر وكل خمر حرام) رواه أبو داود والإمام أحمد وروى
عبد الله بن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها
ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) رواه أبو داود، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر باخبار تبلغ
بمجموعها رتبة التواتر وأجمعت الأمة على تحريمه، وإنما حكي عن قدامه بن مظعون وعمرو بن
معديكرب وأبي جندل بن سهيل أنهم قالوا هي حلال لقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات
جناح فيما طعموا) الآية فبين لهم علماء الصحابة معنى هذه لآية وتحريم الخمر وأقاموا عليهم الحد
لشربهم إياها فرجعوا إلى ذلك فانعقد الاجماع فمن استحلها الآن فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد
علم ضرورة من جهة النقل تحريمه فيكفر بذلك ويستتاب فإن تاب والاقتل
وروى الجوزجاني باسناده عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر ما حملك
على ذلك؟ فقال إن الله عز وجل يقول (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا)
وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد فقال عمر للقوم أجيبوا الرجل فسكتوا عنه فقال
لابن عباس أجبه فقال إنما أنزلها الله تعالى عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل (إنما الخمر
325

والميسر والأنصاب) حجة على الناس ثم سال عمر عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب إذا شرب
هذى وإذا هذى افترى فاجلدوه ثمانين فجلده عمر ثمانين جلدة
روى والواقدي أن عمر قال له أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت أجنبت ما حرم الله عليك
وروي الخلال باسناده عن محارب بن دثار أن أناسا شربوا بالشام الخمر فقال لهم يزيد بن أبي سفيان
شربتم الخمر؟ قالوا نعم بقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا)
الآية فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه إن أتاك كتابي هذا نهارا فلا تنتظر بهم إلى
الليل، وان أتاك ليلا فلا تنتظر بهم نهارا حتى تبعث بهم إلي لئلا يفتنوا عباد الله فبعث بهم إلى عمر
فشاور فيهم الناس فقال لعلي ما ترى؟ فقال أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه فإن زعموا
أنها حلال فاقتلهم فقد أحلوا ما حرم الله وإن زعموا أنها حرام فاجلدوهم ثمانين ثمانين فقد افتروا على
الله، وقد أخبرنا الله عز وجل بحد ما يفتري بعضنا على بعض فحدهم عمر ثمانين ثمانين. إذا ثبت
هذا فالجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده وما عداه من الأشربة المسكرة فهو محرم
وفيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى
(مسألة) قال (ومن شرب مسكرا قل أو كثر جلد ثمانين جلدة إذا شربها وهو مختار
لشربها وهو يعلم أن كثيرها بسكر)
الكلام في هذه المسألة في فصول:
(أحدها) أن كل مسكر حرام قليله وكثيره وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب
326

الحد على شاربه، وروي تحريم ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي
وقاصا وأبي بن كعب وأنس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والقاسم وقتادة
وعمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد وإسحاق، وقال أبو حنيفة في عصير العنب
إذا طبخ فذهب ثلثاه ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وان لم يذهب ثلثاه ونبيذ الحنطة والذرة والعشير
ونحو ذلك نقيعا كان أو مطبوخا كل ذلك حلال الا ما بلغ السكر، فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف
زبده وطبخ فذهب أقل من ثلثيه ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ فهذا محرم قليله وكثيره
لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب)
ولنا ما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر وكل خمر حرام) وعن
جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواهما أبو داود والأثرم وغيرهما
وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (كل مسكر حرام قال وما أسكر منه الفرق فملء الكف
منه حرام) رواه أبو داود وغيره، وقال عمر رضي الله عنه نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر
والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه. ولأنه مسكر أشبه عصير العنب فأما
حديثهم فقال احمد ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح، وحديث ابن عباس رواه سعيد عن
مسعر عن أبي عون عن ابن شداد عن ابن عباس قال: والمسكر من كل شراب، وقال ابن
المنذر جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها، وذكر الأثرم أحاديثهم التي يحتجون
327

بها عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فضعفها كلها وبين عللها وقد قيل إن خبر ابن عباس موقوف عليه مع أنه
يحتمل أنه أراد بالسكر المسكر من كل شراب فإنه يروي هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(كل مسكر حرام)
(الفصل الثاني) أنه يجب الحد على من شرب قليلا من المسكر أو كثيرا ولا نعلم بينهم خلافا
في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ، واختلفوا في سائرها فذهب إمامنا إلى التسوية بين عصير
العنب وكل مسكر وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة والأوزاعي ومالك والشافعي وقالت
طائفة لا يحد إلا أن يسكر، منهم أبو وائل والنخعي وكثير من أهل الكوفة وأصحاب الرأي وقال أبو ثور من
شربه معتقدا تحريمه حد ومن شربه متأولا فلا حد عليه لأنه مختلف فيه فأشبه النكاح بلا ولي
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من شرب الخمر فاجلدوه) رواه أبو داود وغيره وقد
ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليله وكثيره ولأنه شراب فيه شده مطربة فوجب الحد
بقليله كالخمر، والاختلاف فيه لا يمنع وجوب الحد فيها بدليل ما لو اعتقد تحريمها وبهذا فارق النكاح
بلا ولي ونحوه من المختلف فيه، وقد حد عمر قدامه بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم حل ما شربوه
والفرق بين هذا وبين سائر المختلف فيه من وجهين
(أحدهما) ان فعل المختلف فيه ههنا داعية إلى فعل ما أجمع على تحريمه وفعل سائر المختلف فيه
يصرف عن جنسه من الجمع على تحريمه (الثاني) أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفاضت بتحريم
هذا المختلف فيه فلم يبق فيه لاحد عذر في اعتقاد إباحته بخلاف غيره من المجتهدات. قال أحمد بن
328

القاسم سمعت أبا عبد الله يقول في تحريم المسكر عشرون وجها عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعضها (كل مسكر
خمر) وبعضها (كل مسكر حرام)
(فصل) وان ثرد في الخمر أو اصطبغ به أو طبخ به لحما فأكل من مرقته فعليه الحد لأن عين
الخمر موجودة وكذلك إن لت به سويقا فأكله، وإن عجن به دقيقا ثم خبزه فأكله لم يحد لأن النار
أكلت أجزاء الخمر فلم يبق إلا أثره، وإن احتقن بالخمر لم يحد لأنه ليس بشرب ولا أكل ولأنه لم
يصل إلى حلقه فأشبه ما لو داوى به جرحه، وان استعط به فعليه الحد لأنه أوصله إلى باطنه من
حلقه ولذلك نشر الحرمة في الرضاع دون الحقنة، وحكي عن أحمد ان علي من احتقن به الحد لأنه
أوصله إلى جوفه، والأول أولى لما ذكرناه والله أعلم
(الفصل الثالث) في قدر الحد وفيه روايتان (إحداهما) انه ثمانون وبهذا قال مالك والثوري
وأبو حنيفة ومن تبعهم لاجماع الصحابة فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن
ابن عوف اجعله كأخف الحدود ثمانين فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيده بالشام
وروي أن عليا قال في المشورة: انه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري. روى
ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما
(والرواية الثانية) ان الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لأن عليا جلد الوليد
بن عقبة أربعين ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب
إلي رواه مسلم، وعن أنس قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحو امن
329

أربعين ثم أتي به أبو بكر فصنع مثل ذلك ثم اتي به عمر فاستشار الناس في الحدود فقال ابن عوف أقل
الحدود ثمانون فضربه عمر متفق عليه، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حجه لا يجوز تركه بفعل غيره، ولا
ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما فتحمل الزيادة من عمر على أنها
تعزير يجوز فعلها إذا رآه الإمام
(الفصل الرابع) ان الحد إنما يلزم من شربها مختارا لشربها فإن شربها مكرها فلا حد عليه
ولا اثم سواء أكثره بالوعيد والضرب أو ألجئ إلى شربها بأن يفتح فوه وتصب فيه فإن النبي
صلى الله عليه السلام قال (عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وكذلك المضطر إليها لدفع غصة
بها إذا لم يجد مائعا سواها فإن الله تعالى قال في آية التحريم (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) وإن شربها
لعطش نظرنا، فإن كانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة كما تباح الميتة
عند المخمصة وكاباحتها لدفع الغصة. وقد روينا في حديث عبد الله بن حذافة انه أسره الروم فحبسه
طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر ولحم خنزير مشوي ليأكله ويشرب الخمر وتركه ثلاثة أيام فلم
يفعل ثم أخرجوه حين خشوا موته فقال والله لقد كان الله أحله لي فاني مضطر ولكن لم أكن لأشمتكم
بدين الاسلام، وإن شربها صرفا أو ممزوجه بشئ يسير لا يروي من العطش أو شربها للتداوي
لم يبح له ذلك وعليه الحد، وقال أبو حنيفة يباح شربها لهما وللشافعية وجهان كالمذهبين، ووجه
ثالث يباح شربها للتداوي دون العطش لأنها حال ضرورة فأبيحت فيها لدفع الغصة
وسائر ما يضطر إليه
330

ولنا ما روى الإمام أحمد باسناده عن طارق بن سويد انه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما
أصنعها للدواء فقال (انه ليس بدواء ولكنه داء) وباسناده عن مخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم
سلمة وقد نبذت نبيذا في جرة فخرج والنبيذ يهدر وفقال (ما هذا؟) فقالت فلانة اشتكت بطنها
فنقعت لها فدفعه برجله فكسره وقال (ان الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء) ولأنه محرم لعينه فلم
يبح للتداوي كلحم الخنزير ولان الضرورة لا تندفع به فلم يبح كالتداوي بها فيما لا تصلح له
(الفصل الخامس) ان الحد إنما يلزم من شربها عالما أن كثيرها يسكر فأما غيره فلا حد عليه
لأنه غير عالم بتحريمها ولا قاصد إلى ارتكاب المعصية بها فأشبه من زفت إليه غير زوجته وهذا
قول عامة أهل العلم، فاما من شربها غير عالم بتحريمها فلا حد عليه أيضا لأن عمر وعثمان قالا لاحد إلا
على من علمه ولأنه غير عالم بالتحريم أشبه من لم يعلم أنها خمر، وإذا ادعى الجهل بتحريمها نظرنا فإن
كان ناشئا ببلد الاسلام بين المسلمين لم تقبل دعواه لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله فلا تقبل دعواه
فيه وإن كان حديث عهد باسلام أو ناشئا بباديه بعيدة عن البدان قبل منه لأنه يحتمل ما قاله
(فصل) ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين الاقرار أو البينة ويكفي في الاقرار مرة
واحدة في قول عامة أهل العلم لأنه حد لا يتضمن اتلافا فأشبه حد القذف، وإذا رجع عن اقراره قبل
رجوعه لأنه حد لله سبحانه فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الاقرار وجود رائحة
وحكي عن أبي حنيفة لاحد عليه إلا أن توجد رائحة ولا يصح لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر
معه وجود الرائحة كالشهادة ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه، ولأنه اقرار بحد فاكتفي
به كسائر الحدود
331

(فصل) ولا يجب الحد بوجود رائحه الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري وأبو
حنيفة والشافعي، وروى أبو طالب عن أحمد انه يحد بذلك وهو قول مالك لأن ابن مسعود جلد
رجلا وجد منه رائحة الخمر
وروي عن عمرانه قال: اني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر انه شرب الطلا فقال عمر
اني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته ولان الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الاقرار والأول أولى
لأن الرائحة يحتمل انه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر أو كان مكرها أو أكل
نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فإن يكون منه كرائحة الخمر وإذا احتمل لم يجب الحد الذي يدرأ
بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فإنه لم يحده بوجود الرائحة ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر والله أعلم
(فصل) وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لاحد عليه لاحتمال أن يكون مكرها أولم
يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد
ههنا بطريق الأولى لأن ذلك لا يكون الا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها
وقد روى سيعد حدثنا هشيم حدثنا المغيرة عن الشعبي قال: لما كان من أمر قدامة ما كان جاء
علقمة الخصي فقال أشهد أني رأيته يتقيؤها فقال مر من قاءها فقد شربها فضربه الحد
وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبه فشهد عليه حمران
ورجل آخر فشهد أحدهما انه رآه شربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان انه لم يتقيأها
حتى شربها فقال لعلي أقم عليه الحد فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه رواه مسلم وفي رواية له فقال:
عثمان لقد تنطعت في الشهادة، وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم ولم ينكر فكان إجماعا ولأنه
يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها أولا يكسر منها حتى يشربها
332

(فصل) وأما لبينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا يحتاجان إلى
بيان نوعه لأنه لا ينقم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح وعلى
دواعيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (العينان تزينان واليدان تزنيان والفرج بصدق ذلك أو يكذبه) فلهذا
احتاج الشاهدان إلى تفسيره وفي مسئلتا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه ولا
يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الاكراه ولا ذكر علمه أنه مسكر لأن الظاهر الاختيار والعلم وما
عداهما نادر بعيد فلم يحتج إلى بيانه ولذلك لم يعتبر ذلك في شئ من الشهادات ولم يعتبره عثمان
في الشهادة على الوليد بن عقبه ولا اعتبره عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على
المغيرة بن شعبة ولو شهدا بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ههنا
(مسألة) قال (فإن مات في جلده فالحق قتله يعني ليس على أحد ضمانه)
وهذا قول مالك وأصحاب الرأي، وبه قال الشافعي ان لم يزد على الأربعين وان زاد على الأربعين
فمات فعليه الضمان لأن ذلك تعزير إنما يفعله الإمام برأيه وفي قدر الضمان قولان (أحدهما) نصف الدية لأنه
تلف من فعلين مضمون وغير مضمون فكان عليه نصف الضمان (والثاني) تقسط الدية على عدد الضربات كلها
فيجب من الدية بقدر زيادته على الأربعين وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال ما كنت لا قيم حدا على
أحد فيموت فأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر ولو مات وديته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا.
ولنا أنه حد وجب لله فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود وما زاد على الأربعين قد ذكرنا
أنه من الحد وإن كان تعزيرا فالتعزير يجب فهو بمنزلة الحد وأما حديث علي فقد صح عنه أنه قال
جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وثبت الحد بالاجماع فلم تبق فيه شبهة.
333

(فصل) ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في سائر الحدود انه إذا أتي بها على الوجه المشروع من
غير زيادة أنه لا يضمن من تلف بها وذلك لأنه فعلها بأمر الله وامر رسوله فلا يؤخذ به ولأنه نائب
عن الله تعالى فكان التلف منسوبا إلى الله تعالى وان زاد على الحد فتلف وجب الضمان بغير خلاف
نعلمه لأنه تلف بعدوانه فأشبه ما لو ضربه في غير الحد قال أبو بكر وفي قدر الضمان قولان (أحدهما)
كمال الدية لأنه قتل حصل من جهة الله وعدوان الضارب فكان الضمان على العادي كما لو ضرب
مريضا سوطا فمات به ولأنه تلف بعدوان وغيره فأشبه ما لو ألقى على سفينة موقرة حجرا فغرقها
(والثاني) عليه نصف الضمان لأن تلف بفعل مضمون وغير مضمون فكان الواجب نصف الدية
كما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمات، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه وقال
في الآخر يجب من الدية بقسط ما تعدى به تقسط الدية على الأسواط كلها وسواء زاد خطأ أو عمدا
لأن الضمان يجب في الخطأ والعمد، ثم ينظر فإن كان الجلاد زاده من عند نفسه بغير أمر فالضمان
على عاقلته، لأن العدوان منه، وكذلك أن قال الإمام له اضرب ما شئت فالضمان على عاقلته وإن كان
له من يعد عليه فزاد في العدد ولم يخبره فالضمان على من بعد سواء تعمد ذلك أو أخطأ في العدد لأن الخطأ
منه وان أمره الإمام بالزيادة على الحد فزاد فقال القاضي الضمان على الإمام وقياس المذهب أنه إن
اعتقد وجوب طاعة الإمام وجهل تحريم الزيادة فالضمان على الإمام وإن كان عالما بذلك فالضمان عليه كما لو
أمره الإمام بقتل رجل ظلما فقتله وكل موع قلنا يضمن الإمام فهل يلزم عاقلته أو بيت المال؟ فيه روايتان.
334

(أحدهما هو في بيت المال لأن خطأه يكثر فلو وجب ضمانه على عاقلته أجحف بهم قال القاضي
هذا أصح (والثانية) هو على عاقلته لأنها وجبت بخطئه فكانت على عاقلته كما لو رمى صيدا فقتل آدميا
ويحتمل أن تكون الروايتان إنما هما فيما إذا وقعت الزيادة منه خطأ. أما إذا تعمدها فهذا ظلم قصده
فلا وجه لتعلق ضمانه بيت المال بحال كما لو تعمد جلد من لاحد عليه، وأما الكفارة التي تلزم الإمام
فلا يحملها عنه غيره لأنها عبادة فلا تتعلق بغير من وجد منه سببها ولأنها كفارة لفعله فلا تحصل إلا
بتحمله إياها ولهذا لا يدخلها التحمل بحال
(فصل) ولا يقام الحد على السكران حتى يصحو روي هذا عن عمر بن عبد العزيز والشعبي وبه قال الثوري
وأبو حنيفة والشافعي لأن المقصود الزجر والتنكيل وحصوله بإقامة الحد عليه في صحوه أتم فينبغي أن يؤخر إليه
(فصل) وحد السكر الذي يحصل به فسق شارب النبيذ ويختلف معه في وقوع طلاقه ويمنع صحة الصلاة
منه هو الذي يجعله يخلط في كلامه ما لم يكن قبل الشرب ويغيره عن حال صحوه ويغلب على عقله، ولا يميز بين
ثوبه وثوب غيره عند اختلاطهما، ولا بين نعله ونعل غيره ونحو هذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو
ثور، وزعم أبو حنيفة أن السكران هو الذي لا يعرف السماء من الأرض ولا الرجل من المرأة
ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)
نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدموا رجلا منهم في الصلاة فصلى بهم وترك في قراءته
ما غير المعنى وقد كانوا قاموا إلى الصلاة عالمين بها وعرفوا إمامهم وقدموه ليؤمهم وقصد إمامتهم والقراءة لهم
335

وقصدوا الائتمام به وعرفوا أركان الصلاة فأتوا بها ودلت الآية على أنه ما لم يعلم ما يقول فهو سكران،
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسكران فقال (ما شربت؟) فقالت ما شربت إلا الخليطين، وأتي بآخر سكران
فقال ألا أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أني ما سرقت ولا زنيت فهؤلاء قد عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذروا
إليه وهم سكارى، وفي حديث حمزة عن النبي صلى الله عليه وسلم حين غنته قينة وهو سكران
الا يا حمز للشرف النواء * وهن معقلات بالفناء
وكان علي أناخ شارفين له بفناء البيت الذي فيه حمزة فقام إليها فبقر بطونها واجتث أسنمتها
فذهب علي فاستعدى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حمزة محمرة عيناه فلامه النبي
صلى الله عليه وسلم فنظر إليه والى زيد بن حارثة فقال وهل أنتم الا عبيد لأبي؟ فانصرف عنه رسول الله فقد فهم
ما قالت القينة في غنائها وعرف الشارفين وهو في غاية سكره، ولان المجنون الذاهب العقل بالكلية يعرف
السماء من الأرض والرجل من المرأة مع ذهاب عقله ورفع القلم عنه
(مسألة) قال (ويضرب الرجل في سائر الحدود قائما بسوط لا خلق ولا جديد ولا
يمد ولا يربط ويتقى وجهه)
قوله سائر الحدود يعني جميع الحدود التي فيها الضرب. وفي هذه المسألة ثلاث مسائل
(أحدها) أن الرجل يضرب قائما وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يضرب جالسا رواه
حنبل عن أحمد لأن الله تعالى لم يأمر القيام ولأنه مجلود في حد فأشبه المرأة
ولنا قول علي رضي الله عنه لكل موضع في الجسد حظ يعني في الجد الا الوجه والفرج،
وقال للجلاد اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه ولان قيامه وسيلة إلى اعطاء كل عضو حظه من
336

الضرب وقوله ان الله لم يأمر القيام قلنا ولم يأمر بالجلوس ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر
ولا يصح قياس الرجل على المرأة في هذا لأن المرأة يقصد سترها ويخشى هتكها. إذا ثبت هذا فإن
الضرب يفرق على جميع جسده ليأخذ كل عضو منه حصته ويكثر منه في مواضع اللحم كالأليتين
والفخذين ويتقي المقاتل وهي الرأس والوجه والفرج ومن الرجل والمرأة جميعا وقال مالك يضرب الظهر
وما يقاربه وقال أبو يوسف يضرب الرأس أيضا لأن عليا لم يستثنه
ولنا على مالك قول علي ولان ما عدا الأعضاء الثلاثة ليس بمقتل فأشبهت الظهر، وعلى أبي يوسف
أن الرأس مقتل فأشبه الوجه ولأنه ربما ضربه في رأسه فذهب بسمعه وبصره وعقله أو قتله والمقصود
أدبه لا قتله وقولهم لم يستثنه علي ممنوع فقد ذكرنا عنه أنه قال اتق الرأس والوجه ولو لم يذكره صريحا
فقد ذكره دلالة لأنه في معنى ما استثناه فيقاس عليه
(المسألة الثانية) أنه لا يمد ولا يربط ولا نعلم عنهم في هذا خلافا قال ابن مسعود ليس في ديننا مد
ولا قيد ولا تجريد، وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا قيد ولا تجريد ولا تنزع عنه
ثيابه بل يكون عليه الثوب والثوبان، وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت عنه لأنه لو ترك عليه
ذلك لم يبال بالضرب قال أحمد لو تركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب وقال مالك يجرد لأن الامر
بجلده يقتضي مباشر جسمه
ولنا قول ابن مسعود ولم يعلم عن أحد من الصحابة خلافه والله تعالى لم يأمر بتجريده إنما أمر بجلده
ومن جلد فوق الثوب فقد جلد
(المسألة الثالثة) ان الضرب بالسوط ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا في غير حد الخر فأما
حد الخمر فقال بعضهم يقام بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وذكر بعض أصحابنا أن للإمام فعل
ذلك إذا رآه لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال (اضربوه) قال فمنا
الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه رواه أبو داود
337

ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا شرب الخمر فاجلدوه) والجلد إنما يفهم من اطلاقه الضرب بالسوط
ولأنه أمر بجلده كما أمر الله تعالى بجلد الزاني فكان بالسوط مثله والخفاء الراشدون ضربوا بالسياط
وكذلك غيرهم فكان إجماعا، فاما حديث أبي هريرة فكان في بدء الامر ثم جلد النبي صلى الله عليه وسلم واستقرت
الأمور فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وجلد علي الوليد
ابن عقبة أربعين، وفي حديث جلد قدامة حين شرب أن عمر قال ائتوني بسوط فجاءه أسلم مولاه
بسوط دقيق صغير فاخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لاسلم أنا أحدثك انك ذكرت قرابته لأهلك
ائتي بسوط غير هذا فأتاه به تاما فامر عمر بقدامة فجلد، إذا ثبت هذا فإن السوط يكون وسطا لا
جديدا فيجرح ولا خلفا فيقل ألمه لما روي أن رجلا اعترف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا فدعا له رسول
الله صلى الله عليه وسلم بسوط فاتي بسوط مكسور فقال (فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تكسر ثمرته فقال بين هذين)
رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا، وروي عن أبي هريرة مسندا وقد روي عن علي رضي الله عنه
أنه قال ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين وهكذا الضرب يكون وسطا لا شديد فيقتل ولا ضعيف
فلا يردع، ولا يرفع باعه كل الرفع ولا يحطه فلا يؤلم قال احمد لا يبدي أبطه في شئ من الحدود يعني لا
يبالغ في رفع يده فإن المقصود أدبه لا قتله
(مسألة) قال (وتضرب المرأة جالسة وتمسك يداها لئلا تنكشف)
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ومالك وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف تحد قائمة كما تلاعن
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال تضرب المرأة جالسة والرجل قائما ولأن المرأة
عورة وجلوسها استر لها، ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي إلى كشف العورة وتشد عليها ثيابها لئلا ينكشف
شئ من عورتها عند الضرب
338

(فصل) أشد الضرب في أحد ضرب الزاني ثم حد القذف ثم حد الشرب ثم التعزير وقال
مالك كلها واحد لأن الله تعالى أمر بجلد الزاني والقاذف أمرا واحدا ومقصود جميعها واحد
وهو الزجر فيجب تساويه في الصفة، وعن أبي حنيفة التعزير أشدها ثم حد الزاني ثم حد
الشرب ثم حد القذف.
ولنا أن الله تعالى خص الزاني بمزيد تأكيد بقوله سبحانه (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)
فاقتضى ذلك مزيد تأكيد فيه ولا يمكن ذلك في العدد فتعين جعله في الصفة، ولان ما دونه أخف
منه عددا فلا يجوز ان يزيد عليه في إيلامه ووجعه لأنه يفضي إلى التسوية بينهما أو زيادة
القليل على ألم الكثير.
(مسألة) قال (ويجلد العبد والأمة أربعين بدون سوط الحر)
هذا على الرواية التي تقول إن حد الحرفي الشرب ثمانون فحد العبد والأمة نصفها أربعون وعلى
الرواية الأخرى حدهما عشرون نصف حد الحر بدون سوط الحر لأنه لما خفف عنه في عدده
خفف عنه في صفته كالتعزير مع الحد، ويحتمل أن يكون سوطه كسوط الحر لأنه إنما يتحقق التنصيف
إذا كان السوط مثل السوط أما إذا كان نصفا في عدده واخف منه في سوطه كان أقل من النصف والله
تعالى قد أوجب النصف بقوله تعالى (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)
(فصل) ولا تقام الحدود في المساجد وبهذا قال عكرمة والشعبي وأبو حنيفة ومالك والشافعي
وإسحاق وكان ابن أبي ليلى يرى إقامته في المسجد
ولنا ما روى حكم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ان يستقاد في المسجد وان تنشد فيه
339

الاشعار وان تقام فيه الحدود، وروي عن عمر انه اتي برجل فال أخرجاه من المسجد فاضرباه وعن
علي انه أتي بسارق فقال يا قنبر أخرجه من المسجد فاقطع يده ولان المساجد لم تين لهذا إنما بنيت
للصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى ولا نأمن أن يحدث من المحدود حدث فينجسه ويؤذيه وقد
أمر الله تعالى بتطهيره فقال (ان طهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود)
(مسألة) قال (والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم الا أن يغلى قبل ذلك فيحرم)
أما إذا غلي العصير كغليان القدر وقذف بزبده فلا خلاف في تحريمه، وان أتت عليه ثلاثة أيام ولم
يغل فقال أصحابنا هو حرام وقال احمد اشربه ثلاثا ما لم يغل فإذا أتى عليه أكثر من ثلاثة أيام
فلا تشربه، وأكثر أهل العلم يقولون هو مباح ما لم يغل ويسكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشربوا
في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا) رواه أبو داود ولان عله تحريمه الشدة المطربة وإنما
ذلك في المسكر خاصة.
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب فيشربه اليوم
والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى الخدم أو يهراق، وروى الشالنجي باسناده عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل) وقال ابن عمر اشربه ما لم يأخذه شيطانه قيل وفي
كم يأخذه شيطانه؟ قال في ثلث ولان الشدة تحصل في الثلاث غالبا وهي خفية تحتاج إلى ضابط
فجاز فجعل الثلاث ضابطا لها، ويحتمل أن يكون شربه فيما زاد على الثلاثة إذا لم يغل مكروها غير محرم
فإن احمد لم يصرح بتحريمه وقال في موضع أكرهه وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يشربه بعد ثلاث
وقال أبو الخطاب عندي ان كلام احمد في ذلك محمول على عصير الغالب انه يتخمر في ثلاثة أيام
340

(مسألة) قال (وكذلك النبيذ)
يعني ان النبيذ مباح ما لم يغل أو تأتي عليه ثلاثة أيام والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما
ليحلو به الماء وتذهب ملوحته فلا بأس به ما لم يغل أو تأتي عليه ثلاثة أيام لما روينا عن ابن عباس،
وقال أبو هريرة علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم اتيته به
فإذا هو ينش فقال اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر) رواه أبو داود
ولأنه إذا بلغ ذلك صار مسكرا وكل مسكر حرام
(فصل) والخمر نجسة في قول عامة أهل العلم لأن الله تعالى حرمها لعينها فكانت نجسة كالخنزير وكل مسكر
فهو حرام نجس لما ذكرنا
(فصل) وما طبخ من العصير والنبيذ قبل غليانه حتى صار غير مسكر كالدبس ورب الخر نوب
وغيرهما من المربيات والسكر فهو مباح لأن التحريم إنما ثبت في السكر ففيما عداه يبقى على أصل الإباحة
وما أسكر كثيره فقليله حرام سواء ذهب منه الثلثان أو أقل أو أكثر قال أبو داود سألت أحمد
عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه قال لا بأس به قيل لا حمد انهم يقولون إنه يسكر قال
لا يسكر ولو كان يسكر ما أحله عمر
(فصل) ولا بأس بالفقاع وبه قال إسحاق وابن المنذر ولا أعلم فيه خلافا لأنه لا يسكر وإذا
ترك يفسد بخلاف الخمر والأشياء على الإباحة ما لم يرد بتحريمها حجة
(فصل) ويجوز الانتباذ في الأوعية كلها وعن أحمد انه كره الانتباذ في الدباء والختم والنقير
والمزفت لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ فيها، والدباء هو اليقطين والختم الجرار والنقير الخشب
341

والمزفت الذي يطلى بالزفت والصحيح الأول لما روى بريدة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نهيتكم عن
ثلاث وأنا آمركم بهن نهيتكم عن الأشربة ان لا تشربوا الا في ظروف الادم فاشربوا في كل وعاء ولا
تشربوا مسكرا) رواه مسلم وهذا دليل على نسخ النهي ولا حكم للمنسوخ
(فصل) ويكره الخليطان وهو ان ينبذ في الماء شيئان لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين وقال
احمد الخليطان حرام وقال في الرجل ينق الزبيب والتمر الهندي والعناب ونحوه ينقعه غدوة ويشربه
عشية للدواء: أكرهه لأنه نبيذ ولكن يطبخه ويشربه على المكان، وقد روى أبو داود باسناده عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن ينبذ البسر والرطب جميعا ونهى ان ينبذ الزبيب والتمر جميعا وفي رواية
(وانتبذ كل واحد على حدة) وعن أبي قتادة قال نهي النبي صلى الله عليه وسلم ان يجمع بين التمر والزهو والتمر
والزبيب و لينبذ كل واحد منهما على حدة متفق عليه قال القاضي يعني احمد بقوله هو حرام إذا اشتد وأسكر
إذا لم يسكر لم يحرم هذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم لعلة اسراعه إلى السكر المحرم
فإذا لم يوجد لم يثبت التحريم كما أنه عليه السلام نهى عن الانتباذ في الأوعية المذكورة لهذه العلة ثم أمرهم
بالشرب فيها ما لم توجد حقيقة الاسكار فقد دل على صحة هذا ما روي عن عائشة قالت كنا ننبذ
لرسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنطرحها فيه ثم نصب عليها الماء فننبذه غدوة
فيشربه عشية وننبذه عشية فيشربه غدوة رواه ابن ماجة وأبو داود، فلما كانت مدة الانتباذ قريبه
وهي يوم وليلة لا يتوهم الاسكار، فيها لم يكره فلو كان مكروها لما فعل هذ في أبيت النبي صلى الله عليه وسلم فعلى
هذا لا يكره ما كان في المدة اليسيرة ويكره ما كان في مدة يحتمل إفضاؤه إلى الاسكار ولا يثبت
التحريم ما لم يغل أو تمضي عليه ثلاثة أيام
342

(مسألة) قال (والخمرة إذا أفسدت فصيرت خلا لم تزل عن تحريمها وان قلب الله عينها
فصارت خلا فهي حلال)
روي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الزهري ونحو قول مالك وقال الشافعي
إن القي فيها شئ يفسدها كالملح فتخلت فهي على تحريمها، وان نقلت من شمس إلى ظل أو من
ظل إلى شمس فتخلت ففي اباحتها قولان، وقال أبو حنيفة تطهر في الحالين لأن علة تحريمها زالت
بتخليلها فطهرت كما لو تخللت، بنفسها يحققه ان التطهير لا فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل
الآدمي كتطهير الثوب والبدن والأرض ونحو هذا قول عطاء وعمر وبن دينار والحارث العكلي
وذكره أبو الخطاب وجها في مذهبنا فقال وان خللت لم تطهر وقيل تطهر
ولنا ما روى أبو سعيد قال كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت
يا رسول الله ليتيم قال (أهريقوه) رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن أنس قال: سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم انتخذ الخمر خلا؟ قال (لا) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه مسلم
وعن أبي طلحة انه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيمام ورثوا خمرا فقال (أمرقها) قال أفلا أخللها؟ قال
(لا) رواه أبو داود وهذا نهي يقتضي التحريم ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز إراقتها بل
أرشدهم إليه سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم، ولأنه اجماع الصحابة فروي أن عمر رضي الله
عنه صعد المنبر فقال لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله تعالى هو تولى افسادها ولا بأس على
مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يتعمد لافسادها فعند ذلك يقع النهي، رواه أبو عبيد في الأموال
بنحو من هذا المعنى وهذا قول يشتهر لأنه خطب به الناس على المنبر فلم ينكر. فأما إذا انقلبت بنفسها
فإنها تطهر وتحل في قول جميعهم فقد روي عن جماعة من الأوائل أنهم اصطبغوا بخل خمر منهم علي
وأبو الدرداء وابن عمر وعائشة ورخص فيه الحسن وسعيد بن جبير وليس في شئ من أخبارهم انهم
اتخذوه خلا ولا انه انقلب بنفسه لكن قد بينه عمر بقوله لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله
343

هو يتولى افسادها ولأنها إذا انقلبت بنفسها فقد زالت علة تحريمها من غير علة خلفتها فطهرت كالماء
إذا زال تغيره بمكثه، وإذا ألقى فيها شئ تنجس بها ثم إذا انقلبت بقي ما ألقي فيها نجسا فنجسها وحرمها،
فاما ان نقلها من موضع إلى آخر فتخللت من غير أن يلقي فيها شيئا فإن لم يكن قصد تخليلها حلت بذلك
لأنها تخللت بفعل الله تعالى فيها، وإن قصد بذلك تخليلها احتمل أن تطر لأنه لا فرق بينهما إلا
القصد فلا يقتضي تحريمها ويحتمل أن لا تطهر لأنها خللت فلم تطهر كما لو ألقي فيها شئ
(مسألة) قال (والشرب في آنية الذهب والفضة حرام)
هذا قول أكثر أهل العلم، وحكي عن معاوية بن قرة أنه قال لا بأس بالشرب من قدح فضة
وحكي عن الشافعي قول انه مكروه غير محرم لأن النهي لما فيه من التشبه بالأعاجم فلا يقتضي التحريم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجر جر في بطنه نار جهنم) وقال
(لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحا فها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)
أخرجهما البخاري ومقتضى نهيه التحريم وقد توعد عليه بنار جنهم فإن معنى قوله (تجرجر في بطنه
نار جهنم) اي هذا سبب لنا جنهم لقول الله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما
يأكلون في بطونهم نارا) فلم يبق في تحريمه اشكال
وقد روي أن حذيفة استسقى فأتاه دهقان باناء من فضة فرماه به فلو أصابه الكسر منه شيئا ثم
قال إنما رميته به لأنني نهيته عنه وذكر هذا الخبر وهذا يدل على أنه فهم التحريم من نهي رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى استحل عقوبته لمخالفته إياه
(فصل) ويحرم اتخاذ الآنية من الذهب والفضة واستصناعها لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه
على هيئة الاستعمال كالطنبور والمزمار، ويستوي في ذلك الرجال والنساء لعموم الحديث، ولأن علة
تحريمها السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهذا معنى يشمل الفريقين وإنما أبيح للنساء التحلي
للحاجة إلى التزين للأزواج فتختص الإباحة به دون غيره؟ فإن قيل لو كانت العلة ما ذكرتم لحرمت
آنية الياقوت ونحوه مما هو أرفع من الأثمان، قلنا تلك لا يعرفها الفقراء فلا تنكسر قلوبهم باتخاذ
الأغنياء لها لعزم معرفتهم بها، ولان قلتها في نفسها تمنع اتخاذها فيستغنى بذلك عن تحريمها بخلاف الأثمان
344

(مسألة) قال (إن كان قدح عليه ضبة فشرب من غير موضع الضبة فلا بأس)
وجملة ذلك أن الضبة من الفضة تباح بثلاثة شروط (أحدها) أن تكون يسيرة (الثاني) أن تكون
من الفضة فأما الذهب فلا يباح وقليله وكثيره حرام. وروي عن أبي بكر انه رخص في يسير الذهب
(الثالث) أن يكون للحاجة أعني أنه جعلها لمصلحة وانتفاع مثل أن تجعل على شق أو صدع
وان قام غيرها مقامها، وقال القاضي ليس هذا بشرط ويجوز اليسير من غير حاجة إذا لم يباشر
بالاستعمال، وإنما كره أحمد الحقلة ونحوها لأنها تباشر بالاستعمال، وممن رخص في ضبة الفضة سعيد بن
جبير وميسره وزاذان وطاوس والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وإسحاق وقال
قد وضع عمر بن عبد العزيز فاه بين ضبتين وكان ابن عمر لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة ولا
ضبة منها، وكره الشرب في الاناء المفضض علي بن الحسين وعطاء وسالم والمطلب بن عبد الله بن
حنطب ونهت عائشة أن يضبب الآنية أو يحلقها بالفضة ونحو ذلك قول الحسن وابن سيرين ولعل
هؤلاء كروا ما قصد به الزينة أو كان كثيرا أو يستعمل فيكون قولهم وقول الأولين واحدا ولا يكون
في المسألة خلاف، فأما اليسير كتشعيب القدح ونحوه فلا بأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له قدح فيه سلسلة
من فضة شعب بها، رواه البخاري بمعناه ولان ذلك يسير من الفضة فأشبه الخاتم وكره أحمد أن
يباشر موضع الضبة بالاستعمال فلا يشرب من موضع الضبة لأنه يصير كالشارب من إناء فضة وكره
الحلقة من فضة لأن القدح يرفع بها فيباشرها بالاستعمال وكذلك ما أشبهه.
(فصل) ولا بأس بقبيعة السيف من فضة لما روى أنس قال كانت قبيعة سيف رسول الله
صلى الله عليه وسلم فضة، رواه الأثرم وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وقال هشام بن عروة كان سيف
الزبير محلى بالفضة أنا رأيته، ولا بأس بالخاتم من الفضة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خاتم من فضة ثم
لبسه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان حتى سقط منه في بئر أريس وصح ذلك عنهم وقال سعيد البس الخاتم
345

وأخبر أني أفتيتك بذلك فقد روى أبو ريحانة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كره عشر خلال وفيها الخاتم إلا
لذي سلطان قال أحمد إنما هذا يرويه أهل الشام وحدث احمد بحديث أبي ريحانة فلما بلغ الخاتم
تبسم كالمتعجب ثم قال أهل الشام وإنما قال احمد ذلك لأن الأحاديث قد صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم
واستفاضت بإباحته واجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من العلماء فإذا جاء حديث شاذ
يخالف ذلك لم يعرج عليه وان صح ذلك حمل على التنزيه.
(فصل) قال الأثرم قيل لأبي عبد الله الحلية لحمائل السيف؟ فسهل فيها وقال قد روي سيف
محلى ولأنه من حلية السيف فأشبه القبيعة، ولذلك يخرج في حلية الدرع والمغفر والخوذة والخف
والران ولأنه في معناه وقيل لا بي عبد الله حلقة المرآة فضة ورأس المكحلة فضة وما أشبه هذا قال
كل شئ يستعمل مثل حلقة المرآة فأنا أكرهه لأنه يستعمله فإن المرآة ترفع بحلقتها ثم قال إنما
هذا تأويل تأولته أنا.
(فصل) ولا يباح شئ من ذلك إذا كان ذهبا إلا أنه قد روي أنه تباح قبيعة السيف قال أحمد
قد روي أنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب وروي الترمذي باسناده عن مزيدة العصري
قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة وقال هذا حديث غريب ولا يباح
الذهب في غير هذا الا لضرورة كأنف الذهب وما ربط به أسنانه إذا تحركت وقال أبو بكر يباح
يسير الذهب قياسا له على الفضة لكونه أحد الثمنين فأشبه الآخر وقد ذكرنا هذا في غير هذا الموضع
346

(مسألة) قال (ولا يبلغ بالتعزير الحد)
التعزير هو العقوبة المشروعة على جناية لاحد فيها كوطئ الشريك والجارية المشتركة أو أمته المزوجة أو
جارية ابنه أو وطئ امرأته في دبرها أو حيضها أو وطئ أجنبية دون الفرج أو سرقة ما دون النصاب أو من غير حرز
أو النهب أو الغصب أو الاختلاس أو الجناية على انسان بما لا يوجب حد أو لا قصاصا ولا دية، أو شتمه بمال ليس
يقذف ونحو ذلك يسمى تعزيرا لأنه منع من الجناية. والأصل في التعزير المنع ومنه التعزير بمعني النصرة
لأنه منع لعدوه من أذاه، واختلف عن أحمد في قدره فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات نص احمد على
هذا في مواضع وبه قال إسحاق لما روى أبو بردة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يجلد أحد
فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى) متفق عليه
(والرواية الثانية) لا يبلغ به الحد وهو الذي ذكره الخرقي فيحتمل أنه أراد لا يبلغ به أدنى حد
مشروع وهذا قول أبي حنيفة والشافعي فعلى هذا لا يبلغ به أربعين سوطا لأنها حد العبد في الخمر
والقذف وهذا قول أبي حنيفة، وان قلنا إن حد الخمر أربعون لم يبلغ به عشرين سوطا في حق العبد
وأربعين في حد الحر وهذا مذهب الشافعي فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا ولا الحر على تسعة
وثلاثين سوطا، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف أدنى الحدود ثمانون فلا يزاد في التعزير على تسعة
وسبعين، ويحتمل كلام احمد والخرقي انه لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها ويجز أن يزيد
على حد غير جنسها، وروي عن أحمد ما يدل على هذا فعلى هذا ما كان سببه الوطئ جاز أن يجلد مائة
إلا سوطا لينقص عن حد الزنا وما كان سببه غير الوطئ لم يبلغ به أدنى الحدود لما روي عن النعمان
ابن بشير في الذي وطئ جارية امرأته باذنها بجلد مائة وهذا تعزير لأنه في حق المحصن وحده إنما
هو الرجم، وعن سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد الا سوطا
واحدا رواه الأثرم واحتج به احمد، قال القاضي فهذا عندي من نص احمد لا يقتضي اختلافا في التعزير
بل المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات اتباعا للأثر الا في وطئ جارية امرأته لحديث النعمان، وفي
الجارية المشتركة لحديث عمر وما عداهما يبقى على العموم لحديث أبي بردة وهذا قول حسن، وإذا
347

ثبت تقدير أكثره فليس أقله مقدرا لأنه لو تقدر لكان حدا ولان النبي صلى الله عليه وسلم قدر أكثره ولم
يقدر أقله فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام فيما يراه وما يقتضيه حال الشخص، وقال مالك يجوز أن يزاد
التعزير على الحد إذا رأي الإمام لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثم
جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالا فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة وحبسه فكلم فيه فضربه
مائه أخرى فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه، وروى احمد باسناده أن عليا أتي بالنجاشي قد شرب
خمرا في رمضان فجلده ثمانين الحد، وعشرين سوطا لفطره في رمضان، وروي أن أبا الأسود استخلفه
ابن عباس على قضاء البصرة فأتي بسارق قد كان جمع المتاع في البيت ولم يخرجه فقال أبو الأسود أعجلتموه
المسكين فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلى سبيله
ولنا حديث أبي بردة، وروى الشالنجي باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من بلغ حدا في
غير حد فهو من المعتد ين) ولان العقوبة على قدر الاجرام والمعصية والمعاصي المنصوص على حدودها
أعظم من غيرها فلا يجوز أن يبلغ في أهون الامرين عقوبة أعظمها، وما قالوه يؤدي إلى أن من قبل
امرأة حراما يضرب أكثر من حد الزنا وهذا غير جائز لأن الزنا مع عظمه وفحشه لا يجوز أن يزاد
على حده فما دونه أولى، فاما حديث معن فيحتمل انه كانت له ذنوب كثيره فأدب علين جميعها أو تكرر
منه الاخذ أو كان ذنبه مشتملا على جنايات أحدها تزويره والثاني أخذه لمال بيت المال بغير حقه
والثالث فتحه باب هذه الحيلة لغيره وغير هذا. وأما حديث النجاشي فإن عليا ضربه الحد لشربه ثم
عزره، عشرين لفطره فلم يبلغ بتعزيره حدا، وقد ذهب احمد إلى هذا وروي أن من شرب الخمر في
رمضان يحد ثم يعزر لجنايته من وجهين والذي يدل على صحة ما ذكرناه ما روي أن عمر رضي الله عنه
كتب إلى أبي موسى أن لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا
(فصل) والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ؟ ولا يجوز قطع شئ منه ولا جرحه
ولا أخذ ماله لأن الشرع لم يرد بشئ من ذلك عن أحد يقتدى به ولان الواجب أدب
والتأديب لا يكون بالاتلاف
(فصل) والتعزير فيما شرع فيه التعزير واجب إذا رآه الإمام، وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال
الشافعي ليس بواجب لأن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها
348

فقال (أصليت معنا؟) قال نعم فتلا عليه (ان الحسنات يذهبن السيئات) وقال في الأنصار (اقبلوا
من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حكم حكم به للزبير أن كان ابن عمتك
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعزره على مقالته، وقال له رجل ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله فلم يعزره
ولنا ان ما كان من التعزير منصوصا عليه كوطء جارية امرأته أو جارية مشتركة فيجب امتثال
الامر فيه وما لم يكن منصوصا عليه إذا رأي الإمام المصلحة فيه أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب لأنه
زاجر مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد
(فصل) وإذا مات من التعزير لم يجب ضمانه وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي يضمنه
لقول علي ليس أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي شيئا ان الحق قتله إلا حد الخمر فإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا وأشار على عمر بضمان التي أجهضت جنينها حين أرسل إليها
ولنا انها عقوبة مشروعة للردع والزجر فلم يضمن من تلف بها كالحد، وأما قول علي في دية من
قتله حد الخمر فقد خالفه غيره من الصحابة فلم يوجبوا شيئا به ولم يعمل به الشافعي ولا غيره من الفقهاء
فكيف يحتج به مع ترك الجميع له؟ وأما قوله في الجنين فلا حج لهم فيه فإن الجنين الذي تلف لا جناية
منه ولا تعزير عليه فكيف يسقط ضمانه؟ ولو أن الإمام حد حاملا فأتلف جنينها ضمنه مع أن الحد متفق
عليه بينا على أنه لا يجب ضمان الحدود إذا تلف به
(فصل) وليس على الزوج ضمان الزوجة إذا تلفت من التأديب المشروع في النشوز ولا على
المعلم إذا أدب صبيه الأدب المشروع وبه قال مالك وقال الشافعي وأبو حنيفة يضمن ووجه المذهبين ما تقدم
في التي قبلها. قال الخلال إذا ضرب العلم ثلاثا كما قال التابعون وفقهاء الأمصار وكان ذلك ثلاثا
فليس بضامن، وإن ضربه ضربا شديدا مثله لا يكون أدبا للصبي ضمن لأنه قد تعدى في الضرب.
قال القاضي وكذلك يجئ على قياس قول أصحابنا إذا ضرب الأب أو الجد الصبي تأديبا فهلك أو
الحاكم أو أمينه أو الوصي عليه تأديبا فلا ضمان عليهم كالمعلم
(فصل) وإن قطع طرفا من انسان فيه أكلة أو سلعة باذنه وهو كبير عاقل فلا ضمان عليه
وإن قطعه مكرها فالقطع وسرايته مضمون بالقصاص سواء كان القاطع إماما أو غيره لأن هذه جراحة
تودي إلى التلف والاكلة إن كان بقاؤها مخفا فقطعها مخوف، وإن كان من قطعت منه صبيا أو مجنونا
349

وقطعها أجنبي فعليه القصاص لأنه لا ولاية له عليه وإن قطعها وليه وهو الأب أو وصيه أو الحاكم
أو أمينه المتولي عليه فلا ضمان عليه لأنه قصد مصلحته وله النظر في مصالحه فكان فعله مأمورا به
فلم يضمن ما تلف به كما لو ختنه فمات، والسلعة غدة بين اللحم والجلد تظهر في البدن كالجوزة وتكون
في الرأس والبدن وهي بكسر السين، والسلعة بفتح السين الشجة
(فصل) وإذا ختن الولي الصبي في قوت معتدل في الحر والبرد لم يلزمه ضمان إن تلف به لأنه
فعل مأمور به في الشرع فلم يضمن ما تلف به كالقطع في السرقة، وإن كان رجلا أو امرأة لم يختتنا
فأمر السلطان بهما فختنا فإن كان ممن زعم الأطباء انه يتلف بالختان أو الغالب تلفه به فعليه الضمان
لأنه ليس له ذلك فيهما وإن كان الأغلب السلامة فلا ضمان عليه إذا كان في زمن معتدل ليس بمفرط
الحر والبرد وبهذا قال الشافعي وزعم أبو حنيفة ومالك انه ليس بواجب لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال (الختان سنه في الرجال ومكرمة في النساء)
ولنا انه قطع عضو صحيح من البدن يتألم بقطعه فلم يقطع الا واجبا كاليد والرجل ولأنه يجوز
كشف العورة من أجله ولو لم يكن واجبا ما جاز ارتكاب المحرم من أجله. فأما الخبر فقد قيل هو
ضعيف وعلى أن الواجب يسمى سنة فإن السنة ما رسم ليحتذى ولا يجب إلا بعد البلوغ فإن لم يفعله
وإلا أجبره الحاكم عليه
(فصل) وإذا أمر السلطان انسانا بالصعود في سور أو نزول في بئر أو نحوه فعطب به فقال القاضي
وأصحاب الشافعي على السلطان ضمانه لأن عليه طاعة إمامه فإذا أفضت طاعته إلى الهلاك فكأنه ألجأه إليه
ولو كان الآمر غير الإمام لم يضمن لأن طاعته غير لازمة فلم يلجئه، واليه وإن أمره السلطان بالمضي في
حاجة فعثر فهلك لم يضمنه لأن المشي ليس بسبب للهلاك في الأعم الأغلب بخلاف ما ذكرناه أولا
فعلى هذا إن كان أمره الموجب للضمان لمصلحة المسلمين فالضمان في بيت المال، وإن كان المصلحة نفسه
فالضمان عليه أو على عاقلته إن كان مما تحمله عاقلته، إن أقام الإمام الحد في شدة حر أو برد أو ألزم
انسانا الختان في ذلك فهل يضمن ما تلف يحتمل وجهين
(مسألة) قال (وإذا حمل عليه جمل صائل فلم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه فضربه
فقتله فلا ضمان عليه)
وجملته ان الانسان إذا صالت عليه بهيمة فلم يمكنه دفعها الا بقتلها جاز له قتلها اجماعا وليس
350

عليه ضمانها إذا كانت لغيره وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق وقال أبو حنيفة وأصحابه عليه ضمانها
لأنه أتلف مال غيره لاحياء نفسه فكان عليه ضمانه كالمضطر إلى طعام غيره إذا أكله وكذلك
قالوا في غير المكلف من الآدميين كالصبي والمجنون يجوز قتله ويضمنه لأنه لا يملك إباحة نفسه
ولذلك لو ارتد لم يقتل
ولنا انه قتل بالدفع الجائز فلم يضمنه كالعبد ولأنه حيوان جاز اتلافه فلم يضمنه كالآدمي
المكلف، ولأنه قتله لدفع شره فأشبه العبد وذلك لأنه إذا قتله لدفع شره كان الصائل هو القاتل
لنفسه فأشبه ما لو نصب حربة في طريقه فقذف نفسه عليها فمات بها، وفارق المضطر فإن الطعام لم يلجئه
إلى اتلافه ولم يصدر منه ما يزيل عصمته ولهذا لو قتل المحرم صيدا لصياله لم يضمنه ولو قتله لاضطراره
إليه ضمنه، ولو قتل المكلف لصياله لم يضمنه ولو قتله ليأكله في المخمصة وجب القصاص وغير المكلف
كالمكلف في هذا، وقولهم لا يملك إباحة نفسه قلنا والمكلف لا يملك إباحة دمه ولو قال أبحت
دمي لم يبح على أنه إذا صال فقد أبيح دمه بفعله فجيب ان يسقط ضمانه كالمكلف
(مسألة) قال (وإذا دخل منزله بالسلاح فأمره بالخروج فلم يفعل فله أن يضربه
بأسهل ما يخرجه به، فإن علم أنه يخرج بضرب عصا لم يخز أن يضربه بحديدة فإن آل الضرب
إلى نفسه فلا شئ عليه وان قتل صاحب الدار كان شهيدا)
وجملته أن الرجل إذا دخل منزل غيره بغير اذنه فلصاحب الدار أمره بالخروج من منزله
سواء كان معه سلاح أو لم يكن لأنه متعد بدخول ملك غيره فكان لصاحب الدار مطالبته بترك
التعدي كما لو غصب منه شيئا، فإن خرج بالامر لم يكن له ضربه لأن المقصود اخراجه، وقد روي
عن ابن عمر أنه رأى لصا فأصلت عليه السيف قال فلو تركناه لقتله، وجاء رجل إلى الحسن فقال
لص دخل بيتي ومعه حديدة أقتله؟ قال نعم بأي قتلة قدرت ان تقتله
ولنا أنه أمكن إزالة العدوان بغير القتل فلم يجز القتل كما لو غصب منه شيئا فأمكن أخذه بغير
القتل، وفعل ابن عمر يحمل على قصد الترهيب لا على قصد ايقاع الفعل، فإن لم يخرج بالامر فله
ضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به لأن المقصود دفعه فإذا اندفع بقليل فلا حاجة إلى أكثر منه فإن
351

علم أنه يخرج بالعصا لم يكن له ضربه بالحديد لأن الحديد آلة للقتل بخلاف العصا، وإن ذهب موليا
لم يكن له قتله ولا اتباعه كأهل البغي، وإن ضربه ضربة عطلته لم يكن له ان يثني عليه لأنه كفي
شره، وإن ضربه فقطع يمينه فولى مدبرا فضربه فقطع رجله فقطع الرجل مضمون عليه بالقصاص
أو الدية لأنه في حال لا يجوز له ضربه وقطع اليد غير مضمون، فإن مات من سراية القطع فعليه
نصف الدية كما لو مات من جراحة اثنين، وإن عاد إليه بعد قطع رجله فقطع يده الأخرى فاليدان
غير مضمونتين، وإن مات فعليه ثلث الدية كما لو مات من جراحة ثلاثة أنفس فقياس المذهب ان يضمن نصف
الدية لأن الجرحين قطع رجل واحد فكان حكمهما واحد كما لو جرح رجل رجلا مائة جرح وجرحه آخر جرحا
واحدا ومات كانت ديته بينهما نصفين، ولا تقسم الدية على عدد الجراحات كذا ههنا، فأما ان لم يمكنه دفعه الا
بالقتل أو خاف ان يبدره بالقتل ان لم يقتله فله ضربه بما يقتله أو يقطع طرفه وما أتلف منه فهو هدر لأنه تلف
لدفع شره فلم يضمنه كالباغي ولأنه اضطر صاحب الدار إلى قتله فصار كالقاتل لنفسه، وان قتل صاحب
الدار فهو شهيد لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أريد ماله بغير حق
فقاتل فقتل فهو شهيد) رواه الخلال باسناده ولأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيدا كالعادل إذا قتله الباغي
(فصل) وكل من عرض لانسان يريد ماله أو نفسه فحكمه ما ذكرنا فيمن دخل منزله في دفعهم
بأسهل ما يمكن دفعهم به فإن كان بينه وبينهم نهر كبير أو خندق أو حصن لا يقدرون على اقتحامه
فليس له رميهم، وإن لم يكن الا بقتالهم فله قتالهم وقتلهم قال احمد في اللصوص يريدون نفسك ومالك
قالتهم تمنع نفسك ومالك، وقال عطاء في المحرم يلقى اللصوص قال يقاتلهم أشد القتل، وقال ابن
سيرين ما أعلم أحدا ترك قتال الحرورية واللصوص تأثما إلا أن يجبن، وقال الصلت بن طريف قلت
للحسن اني أخرج في هذه الوجوه أخوف شئ عندي يلقاني المصلون يعرضون لي في مالي فإن كففت
يدي ذهبوا بمالي وان قاتلت المصلي ففيه ما قد علمت؟ قال أي بني من عرض لك في مالك فإن قتلته
فإلى النار وان قتلك فشهيد، ونحو ذلك عن أنس والشعبي والنخعي وقال احمد في امرأة أرادها رجل
على نفسها فقتلته لتحصن نفسها فقال إذا علمت أنه لا يريد الا نفسها فقتلته لتدفع عن نفسها فلا شئ
عليها وذكر حديثا يرويه الزهري عن القاسم بن محمد عن عبيد بن عمير ان رجلا أضاف ناسا من هذيل
فأراد امرأة على نفسها فرمته بحجر فقتلته فقال عمر والله لا يؤدى أبدا، ولأنه إذا جاز الدفع عن ماله
الذي يجوز بذله واباحته فدفع المرأة عن نفسها وصيانتها عن الفاحشة التي لا تباح بحال أولى: إذا ثبت
352

هذا فإنه يجب عليها أن تدفع عن نفسها ان أمكنها ذلك لأن التمكين منها محرم وفي
ترك الدفع نوع تمكين فأما من أريدت نفسه أو ماله فلا يجب عليه الدفع لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة
(اجلس في بيتك فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك) وفي لفظ (فكن عبد الله المتقول
ولا تكن عبد الله القاتل) ولان عثمان ترك القتال مع امكانه مع ارادتهم نفسه، فإن قيل فقد قلتم في
المضطر إذا وجد ما يدفع به الضرورة لزمه الاكل منه في أحد الوجهين فلم لم تقولوا ذلك ههنا؟ قلنا
لأن الاكل يحيي به نفسه من غير تفويت نفس غيره وههنا في إحياء نفسه فوات نفس غيره فلم يجب عليه فاما
ان أمكنه الهرب فهل يلزمه؟ فيه وجهان:
(أحدهما) يلزمه لأنه أمكنه الدفع عن نفسه من غير ضرر يلحق غيره فلزمه كالأكل في المخمصة
(والثاني) لا يلزمه لأنه دفع عن نفسه فلم يلزمه كالدفع بالقتال
(فصل) وإذا صال على انسان صائل يريد ماله أو نفسه ظلما أو يريد امرأة ليزني بها فلغير المصول
عليه معونته في الدفع، ولو عرض اللصوص لقافلة جاز لغير أهل القافلة الدفع عنهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم
(قال انصر أخاك ظالما أو مظلوما) وفي حديث (إن المؤمنين يتعاونون على الفتان) ولأنه لولا التعاون لذهبت
أموال الناس وأنفسهم لأن قطاع الطريق إذا انفردوا بأخذ مال انسان لم يعنه غيره فإنهم يأخذون أموال
الكل واحدا واحدا وكذلك غيرهم
(فصل) وإذا وجد رجلا يزني بامرأته فقتله فلا قصاص عليه ولادية لما روي أن عمر رضي الله
عنه بينهما هو يتغدى يوما إذا قبل رجل يعدوا ومعه سيف مجرد ملطخ بالدم فجاء حتى قعد مع عمر
فجعل يأكل واقبل جماعة من الناس فقالوا يا أمير المؤمنين ان هذا قتل صاحبنا مع امرأته فقال عمر
ما يقول هؤلاء؟ قال ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف فإن كان بينهما أحد فقد قتله فقال لهم عمر ما
يقول؟ قالوا ضرب بسيفه فقطع فخذي امرأته فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنين فقال عمر ان عادوا
فعد رواه هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أخرجه سعيد وإذا كانت امرأة مطاوعة فلا ضمان عليه فيها
وان كانت مكرهة فعليه القصاص، وإذا قتل رجلا وادعى أنه وجده مع امرأته فأنكر وليه فالقول
قول الولي لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن رجل دخل بيته فإذا مع امرأته رجل فقتلها
وقتله قال علي ان جاء بأربعة شهداء والا فليعط برمته ولان الأصل عدم ما يدعيه فلا يسقط حكم القتل
بمجرد الدعوى، واختلفت الرواية في البينة فروي أنها أربعة شهداء لخبر علي ولما روى أبو هريرة
353

ان سعدا قال يا رسول الله أرأيت ان وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم (نعم) وروي أنه يكفي شاهدان لأن البينة تشهد على وجوده على المرأة وهذا يثبت
بشاهدين وإنما الذي يحتاج إلى الأربعة الزنا وهذا لا يحتاج إلى اثبات الزنا، فإن قيل فحديث عمر في
الذي وجد مع امرأته رجلا ليس فيه بينة وكذلك روي أن رجلا من المسلمين خرج غازيا وأوصى باهله
رجلا فبلغ الرجل أن يهوديا يختلف إلى امرأته فكمن له حتى جاء فجعل ينشد:
وأشعث غره الاسلام مني * خلوت بعرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها ويضحي * على جرداء لاحقة الحزام
كأن مواضع الرتلات منها * فئام ينهضون إلى فئام
فقام إليه فقتله فرفع ذلك إلى عمر فاهدر دمه ولم يطالب فالجواب أن ذلك ثبت عنده باقرار
الولي، وإن لم تكن بينة فادعى علم الولي بذلك فالقول قول الولي مع يمينه
(فصل) ولو قتل رجل رجلا وادعى انه قد هجم منزلي فلم يمكنني دفعه الا بالقتل لم يقبل قوله الا
ببينة وعليه القود سواء كان المتقول يعرف بسرقة أو عيارة أولا يعرف بذلك، فإن شهدت البينة أنهم
رأوا هذا مقبلا إلى هذا بالسلاح المشهور فضربه هذا فقد هدر دمه وان شهدوا انهم رأوه داخلا
داره ولم يذكروا سلاحا أو ذكروا سلاحا غير مشهور لم يسقط القود بذلك لأنه قد يدخل لحاجة
ومجرد الدخول الشهود به لا يوجب اهدار دمه، وان تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما اني جرحته
دفعا عن نفسي حلف كل واحد منها على ابطال دعوى صاحبه وعليه ضمان ما جرحه لأن كل واحد
منهما مدع على الآخر ما ينكره والأصل عدمه
(فصل) ولو عض رجل يد آخر فله جذبها من فيه فإن جذبها فوقعت ثنايا العاض فلا ضمان
فيها، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وروى سعيد عن هشيم عن محمد بن عبد الله ان رجلا عض
رجلا فانتزع يده من فيه فسقط بعض أسنان العاض فاختصما إلى شريح فقال شريح انزع يدك
من في السبع وأبطل أسنانه، وحكي عن مالك وابن أبي ليلى عليه الضمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(في السن خمس من الإبل)
ولنا ما روى يعلى بن أمية قال كان لي أجير فقاتل انسانا فعض أحدهما مد الآخر قال فانتزع
354

المعضوض يده من في العاض فانتزع إحدى ثنيتيه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاهدر ثنيته فحسبت أنه قال قال النبي
صلى الله عليه وسلم (أفيدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل؟) متفق عليه ولأنه عضو تلف ضرورة دفع شر
صاحبه فلم يضمن كما لو صال عليه فلم يمكنه دفعه الا بقطع عضوه، وحديثهم يدل على دية السن إذا
قلت ظلما وهذه لم تقطع ظلما وسواء كان المعضوض ظالما أو مظلوما لأن العض محرم، إلا أن يكون
العض مباحا مثل أن يمسكه في موضع يتضرر بامساكه أو يعض يده ونحو ذلك ممالا يقدر على التخلص
من ضرره إلا بعضه فيعضه فما سقط من أسنانه ضمنه لأنه عاد والعض مباح ولذلك لو عرض أحدهما
يد الآخر ولم يمكن المعضوض تخليص يده إلا بعضه فله عضه ويضمن الظالم منها ما تلف من المظلوم
وما تلف من الظالم هدر، وكذلك الحكم فيما إذا عضه في غير يده أو عمل به عملا غير العض أفضى
إلى تلف شئ من الفاعل لم يضمنه، وقد روى محمد بن عبد الله أن غلاما أخذ قمعا من أقماع الزياتين
فأدخله بين فخذي رجل ونفخ فيه فذعر الرجل من ذلك وخبط برجله فوقع على الغلام فكسر بعض
أسنانه فاختصموا إلى شريح فقال شريح لا أعقل الكلب الهرار، قال القاضي يخلص المعضوض يده
بأسهل ما يمكن فإن أمكنه فلك لحييه بيده الأخرى فعل وان لم يمكنه لكمه في فكه فإن لم يمكنه
جذب يده من فيه فإن لم يخلص فله أن يعصر خصيتيه فإن لم يمكنه فله أن يبعج بطنه وان أتي على
نفسه، والصحيح أن هذا الترتيب غير معتبر وله أن يجذب يده من فيه أولا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يستفصل ولأنه لا يلزمه ترك يده في فم العاض حتى يتحيل بهذه الأشياء المذكورة ولان جذب
يده مجرد تخليص ليده وما حصل من سقوط الأسنان حصل ضرورة التخليص الجائز ولكم فكه
جناية غير التخليص وربما تضمنت التخليص وربما أتلفت الانسان التي لم يحصل العض بها وكانت
البداءة بجذب يده أولى، وينبغي أنه متى أمكنه جذب يده فعدل إلى لكم فكه فأتلف سنا ضمنه
لامكان التخلص بما هو أولى منه.
(فصل) ومن اطلع في بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه فرماه صاحب البيت بحصاة
أو طعنه بعود فقلع عنيه لم يضمنها، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يضمنها لأنه لو دخل منزله ونظر
فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه فمجرد النظر أولى.
ولنا ما روى أبو هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لوان امرأ اطلع عليك بغير اذن فحذفته
بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) وعن سهل بن سعد ان رجلا اطلع في حجر من باب النبي
صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بمدرى في يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو علمت أنك تنظرني
355

لطمت أو لطعنت بهما في عينك متفق عليهما، ويفارق ما قاسوا عليه لأن من دخل المنزل يعلم به
فيستتر منه بخلاف الناظر من ثقب فإنه يرى من غير علم به ثم الخبر أولى من القياس وظاهر كلام
أحمد انه لا يعتبر في هذا أنه لا يمكنه دفعه الا بذلك لظاهر الخبر وقال ابن حامد يدفعه بأسهل ما يمكنه دفعه
به فيقول له أو لا انصرف فإن لم يفعل أشار إليه يوهمه انه يحذفه فإن لم ينصرف فله حذفه حينئذ واتباع السنة أولى
(فصل) فأما ان ترك الاطلاع ومضى لم يجز رميه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطعن الذي اطلع
ثم انصرف ولأنه ترك الجناية فأشبه من عض ثم ترك العض لم يجز قلع أسنانه وسواء كان المطلع منه
صغيرا كثقب أو شق أو واسعا كثقب كبير وذكر بعض أصحابنا ان الباب المفتوح كذلك والأولى
أنه لا يجوز حذف من نظر من باب مفتوح لأنه التفريط من تارك الباب مفتوحا والظاهر أن من
ترك بابه مفتوحا أنه يستتر لعلمه أن الناس ينظرون منه ويعلم بالناظر فيه والواقف عليه فلم يجز رميه
كداخل الدار، وان اطلع فرماه صاحب الدار فقال المطلع ما تعمدت الاطلاع لم يضمنه على ظاهر كلام
أحمد، لأن الاطلاع قد وجد والرامي لا يعلم ما في قلبه وعلى قول ابن حامد يضمنه لأنه لم بدفعه بما هو
أسهل وكذلك لو قال لم أر شيئا حين اطلعت، وإن كان المطلع أعمى لم يجز رميه لأنه لا يرى شيئا
ولو كان انسان عريانا في طريق لم يكن له رمي من نظر إليه لأنه المفرط، وإن كان المطلع في الدار من
محارم النساء اللائي فيها فقال بعض أصحابنا ليس لصاحب الدار رميه الا أن يكن متجردات فيصرن كالا جانب
وطاهر الخبران لصاحب الدار رميه سواء كان فيها نساء أولم يكن لأنه لم يذكر أنه كان في الدار التي اطلع فيها على
النبي صلى الله عليه وسلم نساء وقوله (لو أن امرأ اطلع عليك بغير اذن فحذفته) عام في الدار التي فيها نساء وغيرها
(فصل) وليس لصاحب الدار رمي الناظر بما يقتله ابتداء فإن رماه بحجر يقتله أو حديدة
ثقيلة ضمنه بالقصاص لأنه إنما له ما يقلع به العين المبصرة التي حصل الأذى منها دون ما يتعدى إلى
غيرها فإن لم يندفع المطلع برميه بالشئ اليسير جاز رميه بأكثر منه حتى يأتي ذلك على نفسه وسواء
كان الناظر في الطريق أو ملك نفسه أو غير ذلك
(مسألة) قال (وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها وما أفسدت
من ذلك نهارا لم يضمنوه)
يعني إذا لم تكن يد أحد عليها فإن كان صاحبها معها أو غيره فعلى من يده عليها ضمان ما أتلفته
من نفس أو مال ونذكر ذلك في المسئلة التي تلي هذه، وان لم تكن يد أحد عليها فعلى مالكها ضمان
356

ما أفسدته من الزرع ليلا دون النهار وهذا قول مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز فقال الليث
يضمن مالكها ما أفسدته ليلا ونهارا بأقل الامرين من قيمتها لو قدر ما أتلفته كالعبد إذا جنى وقال أبو حنيفة
لا ضمان عليه بحال لقول النبي صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) يعني هدرا ولأنها أفسدت وليست يده
عليها فلم يلزمه الضمان كما لو كان نهارا أو كما لو أتلفت غير الزرع
ولنا ما روى مالك عن الزهري عن حزام بن سعد بن محيصة ان ناقة للبراء دخلت حائط قوم
فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان على أهل الأموال حفظها بالنهار وما أفسدت بالليل فهو مضمون
عليهم. قال ابن عبد البر إن كان هذا مرسلا فهو مشهور حدث به الأئمة الثقات وتلقاه فقهاء الحجاز
بالقبول، ولان العادة من أهل المواشي ارسالها في النهار للرعي وحفظها ليلا وعادة أهل الحوائط حفظها
نهارا دون الليل فإذا ذهبت ليلا كان التفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ، وان أتلفت
نهارا كان التفريط من أهل الزرع فكان عليهم، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى على كل
انسان بالحفظ في وقت عادته، وأما غير الزرع فلا يضمن لأن البهيمة لا تتلف ذلك عادة فلا يحتاج
إلى حفظها بخلاف الزرع
(فصل) قال بعض أصحابنا إنما يضمن مالكها ما أتلفته ليلا إذا كان التفريط منه بارسالها ليلا
أو أرسلها نهارا ولم يضمها ليلا أو ضمها بحيث يمكنها الخروج، أما إذا ضمنها فأخرجها غيره بغير
إذنه أو فتح عليها بابها فالضمان على مخرجها أو فاتح بابها لأنه المتلف. قال القاضي هذه المسئلة
عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعي. أما القرى العامرة التي لا مرعى فيها إلا بين قراحين
كساقية وطريق وطرف زرع فليس لصاحبها ارسالها بغير حافظ عن الزرع فإن فعله فعليه الضمان
لتفريطه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي
(فصل) وان أتلفت البهيمة غير الزرع لم يضمن مالكها ما أتلفته ليلا كان أو نهارا ما لم تكن
يده عليها، وحكي عن شريح أنه قضى في شاة وقعت في غزل حائك ليلا بالضمان على صاحبها
وقرأ شريح (إذا نفشت فيه غنم القوم) قال والنفش لا يكون الا بالليل وعن الثوري يضمن وإن كان
نهارا لأنه مفرط بارسالها
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) متفق عليه أي هدر، وأما الآية فإن النفش
هو الرعي بالليل، فكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم طبعا بالرعي وتدعوها نفسها إلى أكله
بخلاف غيره فلا يصح قياس غيره عليه
357

(فصل) ومن اقتنى كلبا عقورا فأطلقه فعقر انسانا أو دابة ليلا أو نهارا أو خرق ثوب انسان
فعلى صاحبه ضمان ما أتلفه لأنه مفرط باقتنائه إلا أن يدخل انسان داره بغير إذنه فلا ضمان فيه لأنه
متعد بالدخول متسبب بعد وانه إلى عقر الكلب له وان دخل بإذن المالك فعليه ضمانه لأنه تسبب
إلى اتلافه، وان أتلف الكلب بغير العقر مثل ان ولغ في إناء انسان أو بال لم يضمنه مقتنيه لأن هذا
لا يختص به الكلب العقور قال القاضي وان اقتنى سنورا يأكل أفراخ الناس ضمن ما أتلفه كما يضمن ما أتلفه
الكلب العقور، ولا فرق بين الليل والنهار وان لم يكن له عادة بذلك لم يضمن صاحبه جنايته كالكلب
إذا لم يكن عقورا ولو أن الكلب العقور أو السنور حصل عند انسان من غير اقتنائه ولا اختياره فافسد لم
يضمنه لأنه لم يحصل الاتلاف بسببه
(فصل) وان اقتنى حما ما أو غيره من الطير فأرسله نهارا فلقط حبا لم يضمنه لأنه
كالبهيمة والعادة ارساله
(مسألة) قال (وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح
أو مال وكذلك أن قادها أو ساقها)
وهذا قول شريح وأبي حنيفة والشافعي وقال مالك لا ضمان عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (العجماء
جرحها جبار) ولأنه جناية بهيمة فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (الرجل جبار) رواه سعيد باسناده عن هزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم
وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخصيص الرجل بكونه جبارا دليل على وجوب الضمان في
جناية غيرها ولأنه يمكنه حفظها عن الجناية إذا كان راكبها أو يده عليها بخلاف من لا يد له عليها
وحديثه محمول على من لا يدله عليها
(مسألة) قال (وما جنت برجلها فلا ضمان عليه)
وبهذا قال أبو حنيفة، وعن أحمد رواية أخرى أنه يضمنها وهو قول شريح والشافعي لأنه من
جناية بهيمة يده عليها فيضمنها كجناية يده.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (الرجل جبار) ولأنه لا يمكنه حفظ رجلها عن الجناية فلم يضمنها كما
لو لم تكن يده عليها، فأما ان كانت جنايتها بفعله مثل ان كبحها بلجامها أو ضربها في وجهها ونحو ذلك
ضمن جناية رجلها لأنه السبب في جنايتها فكان ضمانها عليه، ولو كان السبب في جنايتها غيره
358

مثل أن نخسها أو نفرها فالضمان على من فعل ذلك دون راكبها وسائقها وقائد ها لأن
ذلك هو السبب في جنايتها
(فصل) فإن كان على الدابة راكبان فالضمان على الأول منهما لأنه المتصرف فيها القادر على
كفها الا أن يكون الأول منهما صغيرا أو مريضا أو نحوهما ويكون الثاني المتولي لتدبيرها فيكون
الضمان عليه، وإن كان مع الدابة قائد وسائق فالضمان عليهما لأن كل واحد لو أنفرد ضمن فإذا اجتمعا
ضمنا، وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب ففيه وجهان (أحدهما) الضمان عليهم جميعا لذلك
(والثاني) على الراكب لأنه أقوى يدا وتصرفا ويحتمل أن يكون على القائد لأنه لاحكم للراكب مع القائد
(فصل) والجمل المقطور على الجمل الذي عليه راكب يضمن جنايته لأنه في حكم القائد فأما الجمل
المقطور على الجمل الثاني فينبغي ان لا تضمن جنايته الا أن يكون له سائق لأن الراكب الأول لا يمكنه
حفظه عن الجناية ولو كان مع الدابة ولدها لم تضمن جنايته لأنه لا يمكنه حفظه
(فصل) وان وقفت الدابة في طريق ضيق ضمن ما جنت بيد أو رجل أو فم لأنه متعد بوقفها
فيه وإن كان الطريق واسعا ففيه روايتان
(إحداهما) يضمن وهو مذهب الشافعي لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة وكذلك لو ترك
في الطريق طينا فزلق به انسان ضمنه
(والثانية) لا يضمن لأنه متعد بوقفها في الطريق الواسع فلم يضمن كما لو وقفها في موات
وفارق الطين لأنه متعد بتركه في الطريق
(مسألة) قال (وإذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة
دابة الآخر)
وجملته ان على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال
سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره
سواء كانا مقبلين أو مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق وقال مالك والشافعي على
كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر لأن التلف حصل بفعلهما فكان الضمان منقسما
عليهما كما لو جرح انسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما
ولنا ان كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر
359

ضمانها كما لو كانت واقفه بخلاف الجراحة. إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين ان تساوتا تقاصا وسقطتا
وان كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزيادة وان ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها وان نقصت فعليه نقصها
(فصل) فإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه الثاني فصدمه فماتت الدابتان أو
أو إحداهما فالضمان على اللاحق لأنه الصادم والآخر مصدوم فهو بمنزلة الواقف
(مسألة) قال (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر قيمة دابة الواقف)
نص أحمد على هذا لأن السائر هو الصادم المتلف فكان المضان عليه وان مات هو أو دابته فهو
هدر لأنه أتلف نفسه ودابته، وان انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين لأن
التلف حصل من فعلهما وإن كان الواقف متعديا بوقوفه مثل ان يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون
السائر لأن التلف حصل بتعديه فكان الضمان عليه كما لو وضع حجرا في الطريق أو جلس في طريق
ضيق فعثر به انسان.
(مسألة) قال (وان تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر)
روي هذا عن علي رضي الله عنه والخلاف ههنا في الضمان كالخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان
إلا أنه لا تقاص ههنا في الضمان لأنه على غير من له الحق لكون الضمان على عاقلة كل واحد منهما وان
اتفق أن يكون الضمان على من له الحق مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة أو يكون المضان على المتصادمين
تقاصا، ولا يجب القصاص سواء كان اصطدامهما عمدا أو خطأ لأن الصدمة لا تقتل غالبا فالقتل الحاصل
بها مع العمد عمد الخطأ، ولا فرق بين البصيرين والأعميين والبصير والأعمى، فإن كانتا امرأتين حاملتين
فهما كالرجلين فإن أسقطت كل واحدة منهما جنينا فعلى كل واحدة نصف ضمان جنينها ونصف ضمان
جنين صاحبتها لأنهما اشتركتا في قتله وعلى كل واحدة منهما عتق ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها
واثنتان لمشاركتها في الجنين، وإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة
عتق رقبتين، وإن أسقطتا معا ولم تمت المرأتان ففي مال كل واحدة ضمان نصف الجنينين بغرة إذا سقطا
360

ميتين وعتق رقبتين، وإن اصطدم راكب وماش فهو كما لو كانا ماشيين وإن اصطدم راكبان فماتا
فهو كما لو كانا ماشيين
(فصل) وإن اصطدم عبدان فماتا هدرت قيمتهما لأن قيمة كل واحد منهما تعلقت برقبة الآخر
فسقطت بتلفه، وإن مات أحدهما تعلقت قيمته برقبة الحي فإن هلك قبل استيفاء القيمة سقطت لفوات
محلها، وإن تصادم حر وعبد فماتا تعلقت دية الحر برقبة العبد ثم انتقلت إلى قيمة العبد ووجبت قيمة
العبد في تركة الحر فيتقاصان، فإن كانت دية الحر أكثر من قيمة العبد سقطت الزيادة لأنها لا متعلق
لها، وإن كانت قيمة العبد أكثر أخذ الفضل من تركة الجاني وفي مال الحر عتق رقبة ولا شئ على
العبد لأن تكفيره بالصوم فيفوت بفواته، وإن مات العبد وحده فقيمته في ذمة] الحز لأن العاقلة لا تحمل
العبد، وإن مات الحر وحده تعلقت ديته برقبة البعد وعليه صيام شهرين متتابعين وإن مات العبد
قبل استيفاء الدية سقطت، وإن قتله أجني فعليه قيمته ويتحول ما كان متعلقا برقبته إلى قيمته لأنها
بدله وقائمة مقامه وتستوفى ممن وجبت عليه
(مسألة) قال (وإذا وقعت السفينة المنحدرة على المصاعدة فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة
المصاعدة أو أرش ما نقصت إن أخرجت الا أن يكون قيم المنحدرة غلبته الريح فلم يقدر على ضبطها)
وجملته أن السفينتين إذا اصطدمتا لم تخلوا من حالين (أحدهما) ان تكونا متساويتين كاللتين في
بحر أو ماء واقف أو كانت إحداهما منحدرة والأخرى مصاعدة فنبدأ بما إذا كانت إحداهما منحدرة
والأخرى مصاعدة لأنها مسألة الكتاب ولا يخلوا من حالين
(أحدهما) أن يكون القيم بها مفرطا بان يكون قادرا على ضبطها أو ردها عن الأخرى فلم يفعل
أو أمكنه ان يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل أولم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرهما فعلى
المنحدر ضمان المصاعدة لأنها تنحط عليها من علو فيكون ذلك سببا لغرقها فتنزل المنحدرة بمنزلة
السائر والمصاعدة بمنزلة الواقف، وإن غرقتا جميعا فلا شئ على المصعد وعلى المنحدر قيمة المصعد أو أرش
361

ما نقصت إن لم تتلف كلها إلا أن يكون التفريط من المصعد بان يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير
قادر ولا مفرط فيكون الضمان على المصعد لأنه المفرط، إن لم يكن من واحد منهما تفريط لكن هاجت
ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها ولا
يكلف الله نفسا إلا وسعها
(الحال الثاني) أن يكونا متساويتين فإن كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة
الآخر بما فيها من نفس ومال كما قلنا في الفارسين يصطدمان، إن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما
وللشافعي في حال عدم التفريط قولان (أحدهما) عليهما الضمان لأنهما في أيديهما فلزمهما الضمان كما
لو اصطدم الفارسان لغلبة الفرسين لهما ولنا ان الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الاحتراز من
ذلك فأشبه ما لو نزلت صاعقة أحرقت السفينة ويخالف الفرسين فإنه ممكن ضبطهما والاحتراز من طردهما
وإن كان أحدهما مفرطا وحده فعليه الضمان وحده فإن اختلفا في تفريط القيم فالقول قوله مع يمينه
لأن الأصل عدم التفريط وهو أمين فهو كالمودع وعند الشافعي أنهما إذا كانا مفرطين فعلى كل واحد
من القيمين ضمان نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه كقوله في اصطدام الفارسين على ما مضى
(فصل) فإن كان القيمان مالكين للسفينتين بما فيهما تقاصا وأخذ ذو الفضل فضله وإن كانا
أجيرين ضمنا ولا تقاص ههنا لأن من يجب له غير من بجب عليه، وإن كان في السفينتين أحرار فهلكوا
وكانا قد تعمد المصادمة وذلك مما يقتل غالبا فعليهما القصاص، وإن كانوا عبيدا فلا ضمان على القيمين
إذا كانا حرين وإن لم يتعمدا المصادمة أو كان ذلك ممالا يقتل غالبا وجبت دية الأحرار على عاقلة القيمين
وقيمة العبيد في أموالهما وإن كان القيمان عبدين تعلق الضمان برقبتهما فإن تلفا جميعا سقط الضمان واما
مع عدم التفريط فلا ضمان على أحد، وإن كان في السفينتين ودائع ومضاربات لم تضمن لأن الأمين لا يضمن
ما لم يوجد منه تفريط أو عدول. وإن كانت السفينتان بأجرة فهما أمانة أيضا لا ضمان فيهما وإن كان
فيهما مال يحملانه بأجرة إلى بلد آخر فلا ضمان لأن الهلاك بأمر غير مستطاع
[فصل] وان كانت إحدى السفينتين قائمة والأخرى سائرة فلا ضمان على الواقفة، وعلى السائرة
ضمان الواقفة إن كان مفرطا ولا ضمان عليه ان لم يفرط على ما قدمنا
362

(فصل) وان خيف على السفينة الغرق فالقى بعض الركبان متاعه لتخف وتسلم من الغرق لم
يضمنه أحد لأنه أتلف متاع نفسه باختياره لصلاحه وصلاح غيره، وان ألقى متاع غيره بغير أمره
ضمنه وحده. وان قال لغيره ألق متاعك فقبل منه لم يضمنه له لأنه لم يلتزم ضمانه. وان قال ألقه
وأنا ضامن له أو وعلي قيمته لزمه ضمانه له لأنه أتلف ماله بعوض لمصلحة فوجب له العوض على من
التزمه كما لو قال أعتق عبدك وعلي ثمنه، وان قال ألقه وعلي وعلى ركبان السفينة ضمانه
فألقاه ففيه وجهان:
(أحدهما) يلزمه ضمانه وحده وهذا نص الشافعي وهو الذي ذكره أبو بكر لأنه التزم ضمانه
جميعه فلزمه ما التزمه، وقال القاضي إن كان ضمان اشتراك مثل أن يقول نحن نضمن لك أو قال على
كل واحد منا ضمان قسطه أو ربع متاعك يلم يلزمه إلا ما يخصه من الضمان وهذا قول بعض أصحاب
الشافعي لأنه لم يضمن إلا حصته وإنما أخبر عن الباقين بالضمان فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان، وإن
التزم ضمان الجميع وأخبر عن كل واحد منهم بمثل ذلك لزمه ضمان الكل وإن قال القه على أن أضمنه
لك أنا وركبان السفينة فقد أذنوا لي في ذلك فألقاه ثم أنكروا الاذن فهو ضامن لجميعه. وإن قال
ألقي متاعي وتضمنه لي؟ فقال نعم فألقاه ضمنه له وان قال الق متاعك وعلي ضمان نصفه وعلى أخي ضمان
ما بقي فألقاه فعليه ضمان النصف وحده ولا شئ على الآخر لأنه لم يضمن
(فصل) وإذا خرق سفينة فغرقت بما فيها وكان عمدا وهو مما يغرقها غالبا ويهلك من فيها
لكونهم في اللجة أو لعدم معرفتهم بالسباحة فعليه القصاص ان قتل من يجب القصاص بقتله وعليه
ضمان السفينة بما فيها من مال ونفس وإن كان خطأ فعليه ضمان العبيد ودية الأحرار على عاقلته وإن
كان عمد خطأ مثل ان يأخذ السفينة ليصلح موضعا فقلع لوحا أو يصلح مسمارا فنقب موضعا فهذا
عمدا الخطأ وذكره القاضي وهو مذهب الشافعي، والصحيح ان هذا خطأ محض لأنه قصد فعلا مباحا
فأفضى إلى التلف لما لم يرده فأشبه ما لو رمى صيدا فأصاب آدميا ولكن ان قصد قلع اللوح في موضع
الغالب أنه لا يتلفها فأتلفها فهو عمد الخطأ وفيه ما فيه والله أعلم
363

كتاب الجهاد
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه
إلا جهاد في سبيلي وايمان بي وتصديق برسولي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو ارجعه إلى مسكنه
الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) متفق عليه ولمسلم (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل
الصائم القائم) وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لغدوة في سبيل الله أو روحة
خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري
(مسألة) قال (والجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين)
معنى فرض الكفاية الذي إن لم يقم به من يكفي أنم الناس كلهم، وان قام به من يكفي سقط عن
سائر الناس فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الأعيان ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط
بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره. والجهاد من فروض الأعيان
لقول الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) ثم قال (إلا تنفروا يعذبكم
عذابا أليما) وقوله سبحانه (كتب عليكم القتال) وروى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالعزو مات على شبعة من النفاق)
364

ولنا قول الله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل
الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى)
وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال الله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا
كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا) ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويقيم
هو وسائر أصحابه فاما الآية التي احتجوا بها فقد قال ابن عباس نسخها قوله تعالى (وما كان المؤمنون
لينفروا كافة) رواه الأثرم وأبو داود ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك
وكانت إجابتهم إلى ذلك، واجبة عليهم ولذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا حتى
تاب الله عليهم بعد ذلك، وكذلك يجب على من استنفره الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم
فانفروا) متفق عليه. ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما أن يكونوا جندا
لهم دواوين من أجل ذلك أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة
بهم ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم
(فصل) ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع
(أحدها) إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام
لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا وقوله واصبروا إن الله مع
365

الصابرين) وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار ومن يولهم
يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله)
(الثاني) إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهل قتالهم ودفعهم
(الثالث) إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم
إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟) الآية والتي بعدها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم
(إذا استنفرتم فانفروا)
(فصل) ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الاسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة
من الضرر ووجود النفقة، فأما الاسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع ولان
الكافر غير مأمون في الجهاد والمجنون لا يتأتى منه الجهاد والصبي ضعيف البينة، وقد روى ابن عمر
قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانا ابن أربع عشرة فلم يجزني في المقاتلة متفق عليه،
وأما الحرية فتشترط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الاسلام والجهاد ويبايع العبد على
الاسلام دون الجهاد ولان الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج، وأما الذكورية
فتشترط لما روت عائشة قالت قلت يا رسول هل على النساء جهاد؟ فقال (جهاد لا قتال فيه الحج
والعمرة) ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها، ولذلك لا يسهم لها ولا يجب على خنثى
366

مشكل لأنه لا يعلم كونه ذكرا فلا يجب مع الشك في شرطه، وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة
من العمى والعرج والمرض وهو شرط لقول الله تعالى (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج
ولا على المريض حرج) ولأن هذه الاعذار تمنعه من الجهاد، فأما العمى فمعروف، وأما العرج
فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد والركوب كالزمانة ونحوها، وأما اليسير الذي يتمكن
معه من الركوب والمشي وإنما يتعذر عليه شدة العدو فلا يمنع وجوب الجهاد لأنه ممكن منه فشابه
الأعور، وكذلك المرض المانع هو الشديد فأما اليسير منه الذي لا يمنع امكان الجهاد كوجع الضرس
والصداع الخفيف فلا يمنع الوجوب لأنه لا يتعذر معه الجهاد فهو كالعور، وأما وجود النفقة فيشترط
لقول الله تعالى (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا
نصحوا الله ورسوله) ولان الجهاد لا يمكن الا بآلة فيعتبر القدرة عليها فإن كان الجهاد على مسافة لا
تقصر فيها الصلاة اشترط أن يكون واجد للزاد ونفقة عائلته في مدة غيبته وسلاح يقاتل به
ولا تعتبر الراحلة لأنه سفر قريب، وإن كانت المسافة تقصر فيها الصلاة اعتبر مع ذلك الراحلة
لقول الله تعالى (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم
تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون)
(فصل) وأقل ما يفعل مرة في كل عام لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام وهي بدل عن
367

النصرة فكذلك مبدلها وهو الجهاد فيجب في كل عام مرة الامن عذر مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في
عدد أو عدة أو يكون ينتظر المدد يستعين به أو يكون الطريق إليهم فيها مانع أوليس فيها علف أو
ماء أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الاسلام فيطمع في اسلامهم ان اخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى
المصلحة معه في ترك القتال فيجوز تركه بهدنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريشا عشر سنين وأخر
قتالهم حق نقضوا عهده واخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة، وان دعت الحاجة إلى القتال في عام
أكثر من مرة وجب ذلك لأنه فرض كفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه
(مسألة) قال (قال أبو عبد الله لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد)
روى هذه المسألة عن أحمد جماعة من أصحابه قال الأثرم قال أحمد لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل
من السبيل، وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله وذكر له أمر العدو فجعل يبكي ويقول ما من
أعمال البر أفضل منه، وقال عنه غيره ليس يعدل لقاء العدو شئ ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال
والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الاسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل منه؟
الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم، وقد روى ابن مسعود قال: سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال (الصلاة لمواقيتها) قلت ثم أي؟ قال (ثم بر الوالدين) قلت ثم أي؟
368

قال (الجهاد في سبيل الله) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وروى أبو هريرة رضي الله
عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ أو أي الأعمال خير؟ قال (ايمان بالله ورسوله)
قيل ثم أي شئ؟ قال (الجهاد سنام العمل) قيل ثم أي؟ قال (حج مبرور) أخرجه الترمذي وقال
حديث حسن صحيح، وروى أبو سعيد الخدري قال قيل يا رسول الله اي الناس أفضل قال (مؤمن
مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) متفق عليه، وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (الا أخبركم
بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله) قال الترمذي هذا حديث حسن، وروى
الخلال باسناده عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض
من عمل أفضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال) ولان
الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغير هم وكبيرهم قويهم وضعيفهم ذكرهم وأنثاهم
وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا يساويه في فضله وأجره
(مسألة) قال (وغزو البحر أفضل من غزو البر)
وجملته ان الغزو في البحر مشروع وفضله كثير قال أنس بن مالك نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
استيقظ وهو يضحك قالت أم حرام فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟ قال (ناس من أمتي عرضوا
علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة) متفق
369

عليه قال ابن عبد البر أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعته
أخت لهما ثالثة ولم نر هذا عن أحد سواه وأظنه إنما قال هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام في بيتها
وينظر إلى شعرها ولعل هذا كان قبل نزول الحاجب، وروى أبو داود باسناده عن أم حرام عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (المائد في البحر الذي يصيبه القئ له اجر شهيد والغرق له أجر شهيدين)
وروى ابن ماجة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر
كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وان الله وكل ملك الموت
بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها الا الدين
ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين) ولان البحر أعظم خطرا ومشقة فإنه بين العدو وخطر الغرق
ولا يتمكن من الفرار الا مع أصحابه فكان أفضل من غيره
(فصل) وقتل أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم وكان ابن المبارك يأتي من مرو لغزو الروم
فقيل له في ذلك فقال إن هؤلاء يقاتلون على دين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لام خلاد (ان
ابنك له أجر شهيدين) قالت ولم ذاك يا رسول الله؟ قال (لأنه قتله أهل الكتاب) رواه أبو داود
370

(مسألة) قال (يغزى مع كل بر وفاجر)
يعني مع كل إمام قال أبو عبد الله وسئل عن الرجل يقول إنا لا أغزو ويأخذه ولد العباس
إنما يوفر الفئ عليهم فقال سبحان الله هؤلاء قوم سوء هؤلاء القعدة مثبطون جهال فيقال أرأيتم لو أن
الناس كلهم قعدوا كما قعدتم من كان يغزو؟ أليس كان قد ذهب الاسلام؟ ما كانت تصنع الروم
وقد روى أبو داود باسناده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجهاد واجب عليكم مع
كل أمير برا كان أو فاجرا) وباسناده عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلا ث من أصل
الايمان: الكف عمن قال لا إله الا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الاسلام بعمل والجهاد
ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال والايمان بالا قدار) ولان ترك الجهاد مع الفاجر
يفضي إلى قطع الجاد وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وظهور كلمة الكفر وفيه فساد عظيم
قال الله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)
(فصل) قال أحمد لا يعجبني ان يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين
وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى
معه إنما ذلك في نفسه ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)
371

[فصل] ولا يستصحب الأمير معه مخذلا وهو الذي يثبط الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج
إليه والقتال والجهاد مثل أن يقول الحر أو البرد شديد والمشقة شديدة ولا تؤمن هزيمة هذا الجيش وأشباه هذا
ولا مرجفا وهو الذي يقول قد هلكت سرية المسلمين ومالهم مدد ولا طاقة لهم بالكفار والكفار لهم قوة ومدد
وصبر ولا يثبت لهم أحد ونحو هذا ولا من يعين على المسلمين بالتجسس للكفار وإطلاعهم على
عورات المسلمين ومكاتبتهم باخبارهم ودلالتهم على عوراتهم أو ايواء جواسيسهم ولا من يوقع العداوة
بين المسلمين ويسعى بالفساد لقوله الله تعالى (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين
لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ولان هؤلاء مضرة على المسلمين
فيلزمه منعهم، وإن خرج معه أحد هؤلاء لم يسهم له ولم يرضخ وإن أظهر عون المسلمين لأنه يحتمل
أن يكون أظهره نفاقا وقد ظهر دليله فيكون مجرد ضرر فلا يستحق مما غنموا شيئا وإن كان الأمير
أحد هؤلاء لم يستحب الخروج معه لأنه إذا منع خروجه تبعا فمتبوعا أولى ولأنه لا تؤمن المضرة
على من صحبه
(مسألة) قال (ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو)
الأصل في هذا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ولان الأقرب
372

أكثر ضررا وفي قتاله دفع ضرره عن المقابل له وعمن وراء والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في
المسلمين لاشتغالهم عنه، قيل لأحمد يحكون عن ابن المبارك انه قيل له تركت قتال العدو عنك وجئت
إلى ههنا؟ قال هؤلاء أهل الكتاب فقال أبو عبد الله سبحان الله ما أدري ما هذا القول؟ يترك العدو
عنده ويجئ إلى ههنا أفيكون هذا؟ ان يستقيم هذا وقد قال الله تعالى (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار)
لو أن أهل خرسان كلهم عملوا على هذا لم يجاهد الترك أحد وهذا والله أعلم أنما فعله ابن المبارك لكونه
متبرعا بالجهاد والكفاية حاصلة بغيره من أهل الديوان وأجناد المسلمين والمتبرع له ترك الجهاد بالكلية
فكان له ان يجاهد حيث شاء ومع من شاء. إذا ثبت هذا فإن كان له عذر في البداية بالابعد لكونه
أخوف أو لمصلحة في البداية به لقربه وامكان الفرصة منه أو لكون الأقرب مهادنا أو يمنع من قتاله
مانع فلا بأس بالبداية بالا بعد لكونه موضع حاجة
(فصل) وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك وينبغي
أن يبتدئ بترتيب قوم في أطراف البلاد يكفون من بإزائهم من المشركين ويأمر بعلم حصونهم
وحفر خنادقهم وجميع مصالحهم ويؤمر في كل ناحية أميرا يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد ويكون
ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة العدو ويكون فيه أمانة ورفق ونصح للمسلمين،
وإنما يبدأ بذلك لأنه لا يأمن عليها من المشركين، ويغزو كل قوم من يليهم الا أن يكون في بعض الجهات من
373

لا يفي به من يليه فينقل إليهم قوما من آخرين ويتقدم إلى من يؤمره ان لا يحمل المسلمين على مهلكة
ولا يأمرهم بدخول مطمورة يخاف أن يقتلوا تحتها فإن فعل ذلك فقد أساء ويستغفر الله تعالى وليس
عليه عقل ولا كفارة إذا أصيب واحد منهم بطاعته لأنه فعل ذلك باختياره ومعرفته فإن عدم الإمام
لم يؤخر الجهاد لأن مصلحة تفوت بتأخير ه وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع قال
القاضي ويؤخر قسمة الإماء حتى يظهر إمام احتياطا للفروج فإن بعث الإمام جيشا وأمر عليهم أميرا
فقتل أو مات فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة لما قتل أمراؤهم
الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أمروا عليهم خالد بن الوليد فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فرضي أمرهم وصوب رأيهم
وسمى خالدا يومئذ (سيف الله)
(فصل) قال احمد قال عمر وفروا الأظفار في ارض العدو فإنه سلاح، قال احمد يحتاج إليها
في ارض العدو الا ترى انه إذا أراد ان يحل الحبل أو الشئ فإذا لم يكن له أظفار لم يستطع وقال عن الحكم بن عمرو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لا نحفي الأظفار في الجهاد فإن القوة الأظفار
(فصل) قال احمد يشيع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه شيع علي رسول الله صلى الله عليه وسلم
في غزوة تبوك ولم يتلقه
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه شيع يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام
374

ويزيد راكب وأبو بكر رضي الله عنه يمشي فقال له يزيد يا خليفة رسول الله اما ان تركب واما ان انزل
أنا فأمشي معك، قال لا أركب ولا تنزل انني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. وشيع أبو عبد الله
أبا الحارث الصائغ ونعلاه في يديه وذهب إلى فعل أبي بكر أراد ان تغبر قدماه في سبيل الله. وقال
عن عوف بن مالك الخثعمي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)
قال احمد ليس للخثعمي صحبة وهو قديم
(مسألة) قال (وتمام الرباط أربعون يوما)
معنى الرباط الإقامة بالثغر مقويا للمسلمين على الكفار والثغر كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم
وأصل الرباط من رباط الخيل لأن هؤلاء يربطون خيولهم وهؤلاء يربطون خيولهم كل يعد لصحابه
فسمي المقام بالثغر رباطا وإن لم يكن فيه خيل وفضله عظيم وأجره كبير، قال احمد ليس يعدل الجهاد
عندي والرباط شئ والرباط دفع عن المسلمين وعن حريمهم وقوة لأهل الثغر ولأهل الغزو فالرباط
أصل الجهاد وفرعه والجهاد أفضل منه للعناء التعب والمشقة
وقد روي في فضل الرباط أخبار منها ما روى سلمان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (رباط
375

ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي يعمل، واجري عليه
وزقه وأمن الفتان) رواه مسلم
وعن فضالة بن، عبيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه
ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال على المنبر اني كنت كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ثم بدالي ان أحدثكموه ليختار امرؤ منكم لنفسه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول (رباط يوم في سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل) رواه أبو داود والأثرم
وغيرهم إذا ثبت هذا فإن الرباط يقل ويكثر فكل مدة أقامها بنية الرباط فهو رباط قل أو كثر ولهذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم (رباط يوم ورباط ليلة) قال احمد يوم رباط وليلة رباط وساعة رباط وقال عن
أبي هريرة ومن رابط يوما في سبيل الله كتب له أجر الصائم القائم ومن زاد زاده الله، وروى سعيد
ابن منصور باسناده عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن
أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الحرام أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رابط أربعين
يوما فقد استكمل الرباط وتمام الرباط أربعون يوما روي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر وقد ذكرنا
خبر أبي هريرة وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تمام الرباط
أربعون
376

يوما) وروي عن نافع عن ابن عمر انه قدم على عمر بن الخطاب من الرباط فقال له كم رابطت؟ قال
ثلاثين يوما قال عزمت عليك الا رجعت حتى تتمها أربعين يوما، وان رابط أكثر فله أجره كما قال
أبو هريرة ومن زاد زاده الله.
(فصل) وأفضل الرباط المقام باشد الثغور خوفا لأنهم أحوج ومقامه به أنفع قال احمد أفضل
الرباط أشدهم كلبا وقيل لأبي عبد الله فأين أحب إليك ان ينزل أرجل بأهله؟ قل كل مدينة معقل
للمسلمين مثل دمشق وقال أرض الشام أرض الشام أرض المحشر ودمشق (1) موضع يجتمع إليه الناس إذا غلبت
الروم قيل لأبي عبد الله فهذه الأحاديث التي جاءت (ان الله تكفل لي بالشام) ونحو هذا قال ما أكثر
ما جاء فيه وقيل له ان هذا في الثغور فأنكره وقال أرض القدس أين هي؟ ولا يزال أهل الغرب ظاهرين
هم أهل الشام ففسر احمد الغرب في هذا الحديث بالشام وهو حديث صحيح رواه مسلم وإنما فسره
بذلك لأن الشام يسمى مغربا لأنه مغرب للعراق كما يسمى العراق مشرقا ولهذا قيل ولأهل المشرق
ذات عرق وقد جاء في حديث مصرحا به (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من
خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم بالشام)
وفي الحديث عن مالك بن بخامر عن معاذ بن جنبل قال وهم بالشام رواه البخاري في صحيحه
وفي خبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تزال طائفة بدمشق ظاهرين) أخرجه البخاري

(1) قال شيخنا تقي الدين الزريرائي طاب ثراه وجدت نسخة بالشام من المغني وفيها ههنا فصل في فصل دمشق
377

في التاريخ، وقد رويت في الشام أخبار
كثيرة منها حديث عبد الله بن حوالة الأزدي ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال (ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا بالعراق وجندا باليمين) فقلت خر لي يا رسول الله قال
عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده فمن أبى فليلحق باليمين ويشق من
غدره فإن الله تكفل لي بالشام وأهله) رواه أبو داود بمعناه وكان أبو إدريس إذا روى هذا الخبر
قال ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه.
وروي عن الأوزاعي قال: أتيت المدينة فسألت من بها من العلماء؟ فقيل محمد بن المنكدر ومحمد
بن كعب القرظي ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه فقلت والله لا بد أن بهذا قبلهم فدخلت إليه فأخذ بيدي وقال من أي إخواننا أنت؟
قلت من أهل الشام قال من أيهم؟ قلت من أهل دمشق قال حدثني أبي عن جدي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال (يكون للمسلمين ثلاث معاقل فمعقلهم في الملحمة الكبرى التي تكون بعمق أناطاكية
دمشق، ومعقلهم من الدجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج طور سيناء) رواه أبو نعيم
في الحلية وفي خبر آخر عن أبي الدرداء ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان فسطاط المسلمين يوم الملحمة
بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام) أخرجه أبو داود، وروى سعيد بن
منصور في سننه باسناده عن أبي النضر ان عوف بن مالك اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أوصني قال
378

(عليك بجبل الخمر) قال وما جبل الخمر؟ قال (ارض المحشر) وباسناده عن عطاء الخراساني بلغني ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (رحم الله أهل المقبرة 9) ثلاث مرات فسئل عن ذلك فقال (تلك مقبرة تكون بعسقلان)
فكان عطاء يرابط بها كل عام أربعين يوما حتى مات، وروى الدارقطني في كتابه المخرج على الصحيحين
باسناده عن ابن عمران النبي صلى الله عليه وسلم صلى على مقبرة فقيل له يا رسول الله اي مقبرة هي؟ قال (مقبرة
بأرض العدو يقال لها عسقلان يفتتحها ناس من أمتي يبعث الله منها سبعين الف شهيد فيشفع الرجل
في مثل ربيعة ومضر ولكل عروس وعروس الجنة عسقلان) باسناده عن ابن عباس رضي الله عنه
ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أريد ان غزو؟ فقال (عليك بالشام وأهله ثم الزم من الشام عسقلان
فإنها إذا دارت الرحى في أمتي كان أهلها في راحه وعافية)
(فصل) ومذهب أبي عبد الله كرامة نقل النساء والذرية إلى الثغور المخوفة وهو قول الحسن
والأوزاعي لما روى يزيد بن عبد الله قال: قال عمر لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر رواه الأثرم باسناده
ولان الثغور المخوفة لا يؤمن ظفر العدو بها وبمن فيها واستيلاؤهم على الذرية والنساء قيل لأبي عبد الله
فتخاف على المنتقل بعياله إلى الثغر الاثم؟ قال كيف لا أخاف الاثم وهو يعرض ذريته للمشركين؟ وقال
كنت آمر بالتحول بالأهل والعيال إلى الشام قبل اليوم فانا انهى عنه الآن لأن الامر قد اقترب
وقال لا بد لهؤلاء القوم من يوم قيل فذلك في آخر الزمان قال فهذا آخر الزمان قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم
379

كان يقرع بين نسائها فأيتهن خرج سهمها خرج بها قال هذا للواحدة ليس الذرية وهذا من كلام
احمد محمول على أن غير أهل الثغر لا يستحب لهم الانتقال بأهلهم إلى ثغر مخوف فأما أهل الثغر فلا
بدلهم من السكنى بأهلهم لولا ذلك لخربت الثغور وتعطلت وخص الثغور المخوفة بدليل انه اختار
سكنى دمشق ونحوها مع كونها ثغرا لأن الغالب سلامتها وسلامة أهلها.
[فصل] ويستحب لأهل الثغر ان يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم كلها ليكون أجمع لهم
وإذا حضر النفير صادفهم مجتمعين فيبلغ الخبر جميعهم، وان جاء خبر يحتاجون إلى سماعه أو أمر
يراد اعلامهم به يعلمونه ويراهم عين الكفار فيعلم كثرتهم فيخوف بهم قال أحمد إن كانوا
متفرقين يرى الجاسوس قلتهم. قال وبلغني عن الأوزاعي أنه قال في المساجد التي بالثغر لو أن لي عليها
ولاية لسمرت أبوابها ولم يقل لخربتها حتى تكون صلاتهم في موضع واحد حتى إذا جاء النفير وهم
متفرقون لم يكونوا مثلهم إذا كانوا في موضع واحد
(فصل) وفي الحرس في سبيل الله فضل كبير قال ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله) رواه الترمذي
وقال حديث حسن غريب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (رحم الله حارس الحرس) وعن سهل بن الحنظلية
أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية قال (من يحرسنا الليلة؟
) قال
380

أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا رسول الله قال (فاركب) فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال له (استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة) فلما أصبحنا جاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال (هل أحسستم فارسكم الليلة؟) قالوا لا فثوب بالصلاة فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته وسلم قال
(أبشروا قد جاءكم فارسكم) فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني انطلقت
حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما
فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل نزلت الليلة؟) قال لا الا مصليا أو قاضيا حاجة
فقاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أوجبت فلا عيك أن لا تعمل بعدها) رواه أبو داود، وعن عثمان
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من الف ليلة
قيام ليلها وصيام نهارها) رواه ابن سنجر
(مسألة) قال (وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا الا باذنهما)
روي نحو هذا عن عمر وعثمان وبه قال مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وسائر أهل العلم
وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أجاهد؟
381

فقال (ألك أبوان؟ قال نعم قال ففيهما فجاهد) وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله رواه الترمذي
وقال حديث حسن صحيح. وفي رواية فقال جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال
(ارجع إليهما فاضحكهما كما أبكيتهما) وعن أبي سعيدا أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل لك باليمين أحد؟) قال نعم أبواي قال (أذنا لك؟) قال لا قال (فارجع فاستأذنهما
فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما) رواهن أبو داود ولان بر الوالدين فرض عين، والجهاد فرض
كفاية وفرض العين يقدم فاما إن كان أبواه غير مسلمين فلا اذن لهما وبذلك قال الشافعي وقال
الثوري لا يغزو إلا باذنهما لعموم الاخبار
ولنا ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وفيهم من له أبوان كافران من غير استئذانهما
منهم أبو بكر الصديق وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأبوه رئيس
المشركين يومئذ قتل ببدر وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد فأنزل الله تعالى [لا تجد قوما] الآية وعموم
الاخبار مخصص بما رويناه فاما إن كان أبواه رقيقين فعموم كلام الخرقي يقتضي وجوب استئذانهما
لعموم الاخبار ولأنهما أبوان مسلمان فأشبها الحرين ويحتمل أن لا يعتبر اذنهما لأنه لا ولاية لهما وان كانا
مجنونين فلا اذن لهما لأنه لا يمكن استئذانهما
382

(مسألة) قال (وإذا خوطب بالجهاد فلا اذن لهما وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما
في تركها)
يعني إذا وجب عليه الجهاد لم يعتبر اذن والديه لأنه صار فرض عين وتكره معصية ولا طاعة
لاحد في معصية الله وكذلك كل ما وجب مثل الحج والصلاة في الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب
قال الأوزاعي لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض والجمع والحج والقتال لأنها عبادة تعينت عليه فلم
يعتبر اذن الأبوين فيها كالصلاة ولان الله تعالى قال (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا) ولم يشترط اذن الوالدين
(فصل) وإن خرج في جهاد تطوع باذنهما فمنعاه منه بعد سيره وقبل وجوبه فعليه الرجوع لأنه
معنى لو وجد في الابتداء منع فإذا وجد في أثنائه منع كسائر الموانع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع
أو يحدث له عذر من مرض أو ذهاب نفقة أو نحوه فإن أسكنه الإقامة في الطريق وإلا مضى مع الجيش فإذا
حضر الصف تعين عليه بحضوره ولم يبق لهما اذن، وإن كان رجوعهما عن الاذن بعد تعين الجهاد
عليه لم يؤثر رجوعهما شيئا، وإن كانا كافرين فاسلما ومعناه كان ذلك كمنعهما بعد اذنهما سواء وحكم
383

الغريم يأذن في الجهاد ثم يمنع منه حكم الوالد على ما فصلناه، فاما ان حدث للانسان في نفسه عذر
من مرض أو عمى أو عرج فله الانصراف سواء التقى الزحفان أو لم يلتقيا لأنه لا يمكنه القتال
ولا فائدة في مقامه
(فصل) وإن أذن له والداه في الغزو وشرطا عليه ان لا يقاتل فحضر القتال تعين عليه وسقط
شرطهما كذلك قال الأوزاعي وابن المنذر لأنه صار واجبا عليه فلم يبق لهما في تركه طاعة ولو خرج
بغير اذنهما فحضر القتال ثم بداله الرجوع لم يجز له ذلك
(فصل) ومن عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا باذن غريمه الا ان يترك
وفاء أو يقيم به كفيلا أو يوثقه برهن وبهذا قال الشافعي ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على فضاء
دينه لأنه لا تتوجه المطالبة به ولا حبسه من اجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين
ولنا ان الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها وقد جاءا رجلا
جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا تكفر عني خطاياي؟
قال (نعم الا الدين فإن جبريل قال لي ذلك) رواه مسلم. وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا اذن لغريمه
لأنه تعلق بعينه فكان مقدما على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان ولكن يستحب له ان لا يتعرض
المظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغريرا بتفويت الحق، وإن ترك وفا أو
384

أقام كفيلا فله الغزو بغير إذن نص عليه احمد فيمن ترك وفاء لأن عبد الله بن حرام أبا جابر بن
عبد الله خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد وقضاه عنه ابنه بعلم النبي ولم يذمه النبي صلى الله عليه وسلم على
ذلك ولم ينكر فعله بل مدحه وقال (ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) وقال لابنه جابر
(أشعرت ان الله أحيا أباك وكمله كفاحا)
(مسألة) قال (ويقاتل أهل الكتاب والمجوس ولا يدعون لأن الدعوة قد بلغتهم ويدعي
عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا)
أما قوله في أهل الكتاب والمجوس لا يدعون قبل القتال فهو على عمومه لأن الدعوة قد
انتشرت وعمت فلم يبق منهم من لم تبلغه الدعوة إلا نادر بعيد، وأما قوله يدعى عبدة الأوثان
قبل أن يحاربوا فليس بعام فإن من بلغته الدعوة منهم لا يدعون وإن وجد منهم من لم تبلغه الدعوة
دعي قبل القتال، وكذلك إن وجد من أهل الكتاب من لم تبلغه الدعوة دعوا قبل القتال
قال احمد إن الدعوة قد بلغت وانتشرت ولكن إن جاز أن يكون يقوم خلف الروم وخلف الترك
على هذه الصفة لم يجز قتالهم قبل الدعوة وذلك لما روى بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا
على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في خاصته وبمن معه من المسلمين وقال (إذا لقيت عدوك من
المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم أدعهم إلى الاسلام فإن
385

أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن
أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم) رواه أبو داود ومسلم وهذا يحتمل انه كان في بداء الامر قبل انتشار الدعوة
وظهور الاسلام فأما اليوم فقد انتشرت الدعوة فاستغني بذلك عن الدعاء عند القتال قال احمد كان النبي صلى الله عليه وسلم
يدعو إلى الاسلام قبل ان يحارب حتى أظهر الله الدين وعلا الاسلام ولا أعرف اليوم أحدا يدعي قد بلغت
الدعوة كل أحد فالروم قد بلغتهم الدعوة وعملوا ما يراد منهم وإنما كانت الدعوة في أول الاسلام وان
دعا فلا بأس وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون
وإبلهم تسقى على الماء فقتل المقاتلة وسبى الذرية متفق عليه وعن الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يسئل عن الديار من ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال (هم منهم) متفق
عليه وقال سلمة بن الأكوع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فغزونا ناسا منن المشركين فبيتاهم رواه
أبو داود. ويحتمل ان يحمل الامر بالدعوة في حديث بريدة على الاستحباب فإنها مستحبة في كل حال
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا حين أعطاه الرواية يوم خيبر وبعثه إلى قتالهم ان يدعوهم وهم ممن
بلغتهم الدعوة رواه البخاري ودعا خالد بن الوليد طليحة الأسدي حين تنبأ فلم يرجع فأظهره الله
عليه ودعا سلمان أهل فارس. فإذا ثبت هذا فإن كان المدعو من أهل الكتاب أو مجوسا دعاهم إلى
386

الاسلام فإن أبوا دعاهم إلى اعطاء الجزية فإن أبوا قاتلهم وان كانوا من غيرهم دعاهم إلى الاسلام
فإن أبوا قاتلهم ومن قتل منهم قبل الدعاء لم يضمن لأنه لا إيمان له ولا أمان فلم يضمن كنساء من
بلغته الدعوة وصبيانهم.
(مسألة) قال (ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن بدوهم
صاغرون ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا)
وجملته ان الكفار ثلاثة أقسام (قسم) أهل كتاب وهم اليهود والنصارى ومن اتخذ التوراة والإنجيل
كتابا كالسامرة والفرنج ونحوهم فهؤلاء تقبل منهم الجزية ويقرون على دينم إذا بذلوها لقول الله تعالى
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق
من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (وقسم) لهم شبهة كتاب وهم المجوس
فحكمهم حكم أهل الكتاب في قبول الجزية منهم واقرارهم بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب
) ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذين القسمين (وقسم) لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب وهم
من عدا هذين القسمين من عبدة الأوثان ومن عبد ما استحسن وسائر الكفار فلا تقبل منهم الجزية
ولا يقبل منهم سوى الاسلام هذا ظاهر المذهب وهو مذهب الشافعي. وروي عن أحمد ان
387

الجزية تقبل من جميع الكفار الا عبدة الأوثان من العرب. وهو مذهب أبي حنيفة لأنهم
يقرون على دينهم بالاسترقاق فيقرون ببذل الجزية كالمجوس، وحكي عن مالك أنها تقبل
من جميع الكفار الا كفار قريش لحديث بريدة الذي في المسئلة قبل هذه وهو عام ولأنهم
كفار فأشبهوا المجوس.
ولنا عموم قوله تعالى (اقتلوا المشركين) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله الا الله)) خص منهما أهل الكتاب بقوله تعالى (من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن
يد وهم صاغرون) والمجوس بقوله (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) فمن عداها يبقى على مقتضى العموم
ولان الصحابة رضي الله عنهم توقفوا في اخذ الجزية من المجوس ولم يأخذ عمر منهم الجزية حتى روى
له عبد الرحمن بن عوف ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) وثبت عندهم ان النبي
صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وهذا يدل على أنهم لم يقبلوا الجزية ممن سواهم فإنهم إذا توقفوا
فيمن له شبهة كتاب ففيمن لا شبهة له أولى ثم أخذ الجزية منهم للخبر المختص بهم فيدل على أنهم لم يأخذوها
من غيرهم ولان قول النبي صلى الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) يدل على اختصاص أهل الكتاب ببذل الجزية
إذ لو كان عاما في جميع الكفار لم يختص أهل الكتاب بإضافتها إليهم ولأنهم تغلظ كفرهم لكفرهم بالله وجميع
كتبه ورسله ولم تكن لهم شبهة فلم يقروا ببذل الجزية كقريش وعبدة والأوثان من العرب ولان تغليظ
388

الكفر له اثر في تحتم القتل وكونه لا يقر بالجزية بدليل المرتد، وأما المجوس فإن لهم شبهة كتاب
والشبهة تقوم مقام الحقيقة فيما يبنى على الاحتياط فحرمت دماؤهم ولم يثبت حل نسائهم وذبائحهم
لأن الحل لا يثبت بالشبهة ولان الشبهة لما اقتضت تحريم دمائهم اقتضت تحريم ذبائحهم ونسائهم ليثبت
التحريم في المواضع كلها تغليبا له على الإباحة ولا نسلم أنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق
(مسألة) قال (وواجب على الناس إذا جاء العدو ان ينفروا المقل منهم والمكثر ولا يخرجوا
إلى العدو الا باذن الأمير الا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه فلا يمكنهم أن يستأذنوه)
قوله المقل منهم والمكثر يعني به والله أعلم الغني والفقير أي مقل من المال ومكثر منه ومعناه ان النفير
يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجئ العدو إليهم ولا يجوز لاحد
التخلف الا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والاهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج أو من
لا قدرة له على الخروج أو القتال وذلك لقول الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا
استنفرتم فانفروا) وقد ذم الله تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب فقال تعالى (ويستأذن
فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا) ولأنهم إذا جاء العدو
389

صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع فلم يجز لاحد التخلف عنه فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا باذن
الأمير لأن أمر الحرب موكول إليه وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم ومكامن العدو وكيدهم فينبغي أن يرجع
إلى رأيه لأنه أحوط للمسلمين الا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم لهم فلا يجب استئذانه لأن
المصلحة تتعين في قتالهم والخروج إليهم لتعين الفساد في تركهم ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي
صلى الله عليه وسلم فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجا من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم
وقال (خير رجالتنا سلمة بن الأكوع) وأعطاه سهم فارس وراجل
(فصل) وسئل احمد عن الإمام إذا غضب على الرجل فقال احرج عليك أن لا تصحبني فنادى
بالنفير يكون إذنا له؟ قال لا إنما قصد له وحده فلا يصحبه حتى يأذن له، قال وإذا نودي بالصلاة
والنفير فإن كان العدو بالبعد أنما جاءهم طليعه للعدو صلوا ونفروا إليهم وإذا استغاثوا بهم، وقد ورد
العدو أغاثوا ونصروا وصلوا على ظهور دوابهم ويؤمون والغياث عندي أفضل من صلاه الجماعة
والطالب والمطلوب في هذا الموضع يصلي علي ظهر دابته وهو يسير أفضل إن شاء الله تعالى، وإذا سمع
النفير وقد أقيمت الصلاة يصلي ويخفف ويتم الركوع والسجود ويقرأ بسور قصار وقد نفر من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جنب يعني غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب قال ولا يقطع الصلاة إذا كان
فيها وإذا جاء النفير والإمام يخطب يوم الجمعة لا ترى أن ينفروا؟ قال ولا تنفرا والخيل الا على حقيقة
390

ولا تنفر على الغلام إذا أبق إذا أنفروهم فلا يكون هلاك الناس بسبب غلام وإذا نادى الإمام الصلاة جامعة
لأمر يحدث فيشاور فيه لم يتخلف عنه أحد الامن عذر
(مسألة) قال (ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى ارض العدو الا الطاعنة في السن
لسقي الماء ومعالجة الجرحى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم)
وجملته أنه يكره دخول النساء الشواب أرض العدو لأنهن لسن من أهل القتال وقلما ينتفع
بهن فيه لاستيلاء الخور والجبن عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن وقد
روى حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه انها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سادسة ست نسوة
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا منه الغضب فقال (مع من خرجتن؟) فقلنا يا رسول الله خرجنا نغزل
الشعر ونعين به في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق فقال (قمن) حتى إذا فتح الله
خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال فقلت لها يا جدة ما كان ذلك؟ قالت تمرا قيل للأوزاعي هل كانوا يغزون معهم
بالنساء في الصوائف؟ قال لا إلا بالجواري، فأما المرأة المطاعنة في السن وهي الكبيرة إذا كان فيها
نفع مثل سقي الماء ومعالجة الجرحى فلا بأس به لما روينا من الخبر وكانت أم سليم ونسيبة بنت كعب
انغزوان مع النبي صلى الله عليه وسلم فاما نسبية فكانت تقاتل وقطعت يدها يوم اليمامة وقالت الربيع كنا نغزو
مع النبي صلى الله عليه وسلم لسقي الماء ومعالجة الجرحى
391

وقال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوا بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين
الجرحى. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح فإن قيل فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرج معه من تقع
عليها القرعة من نسائه وخرج بعائشة مرات قيل تلك امرأة واحدة يأخذها لحاجته إليها ويجوز مثل
ذلك للأمير عند حاجته ولا يرخص لسائر الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا
(فصل) ينبغي للأمير أن يرفق بجيشه ويسير بهم سير أضعفهم لئلا يشق عليهم وإن دعت الحاجة
إلى الجد في السير جاز له فإن النبي صلى الله عليه وسلم جد في السير جدا شديدا حين بلغه قول عبد الله بن أبي
(ليخرجن الأعز منها الأذل) ليشتغل الناس عن الخوض فيه وإن عمر جد في السير حين استصرخ على
صفية امرأته، ويميل الأمير مع موافقيه في المذهب والنسب على مخالفيه فيهما لئلا يكسر قلوبهم
فيخذلونه عند حاجته إليهم، ويكثر المشاورة لذوي الرأي من أصحابه فإن الله تعالى الله تعالى قال (وشاورهم في
الامر) ويتخير المنازل لأصحابه وإذا وجد رجل رجلا قد أصيبت فرسه ومع الآخر فضل استحب
له حمله ولم يجب نص عليه احمد فإن خاف تلفه فقال القاضي يجب عليه بذل فضل مركوبه ليحيى
به صاحبه كما يلزمه بذل فضل طعامه للمضطر إليه وتخليصه ومن عدوه
(فصل) وسئل احمد عن الرجلين يشتريان الفرس بينهما يغزوان عليه يركب هذا عقبة وهذا
عقبة ما سمعت فيه بشئ وأرجو ان لا يكون به باس قيل له أيما أحب إليك؟ يعتزل الرجل في الطعام
392

أو يرافق؟ قال يرافق هذا أرفق يتعاونون وإذا كنت وحدك لم يمكنك الطبخ ولا غيره فلا بأس
بالنهد قد تناهد الصالحون كان الحسن إذا سافر ألقى معهم ويزيد أيضا بعد ما يلقي ومعنى النهد أن يخرج
كل واحد من الرفقة شيئا من النفقة يدفعونه إلى رجل ينفق عليهم منه ويأكلون جميعا وكان الحسن
البصري يدفع إلى وكيلهم مثل واحد منهم ثم يعود فيأتي سرا بمثل ذلك يدفعه إليه
وقال احمد ما أرى ان يغزو ومعه مصحف يعني لا يدخل به أرض العدو لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لا تسافروا بالقرآن إلى ارض العدو) رواه أبو داود والأثرم
(مسألة) قال (وإذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يتلف ولا يحطب ولا يبارز
علجا ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثنا الا باذنه)
يعني لا يخرج من العسكر لتعلف وهو تحصيل العلف للدواب ولا لاحتطاب ولا غيره إلا باذن
الأمير لقول الله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا
حتى يستأذنوه) ولان الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم ومواضعهم وقربهم وبعدهم
فإذا خرج خارج بغير اذنه يأمن أن يصادف كمينا للعدو فيأخذوه أو طليعة لهم أو يرحل الأمير
بالمسلمين ويتركه فيهلك، وإذا كان باذن الأمير لم يأذن لهم إلا إلى مكان أمن وربما يبعث معهم من
393

الجيش من يحرسهم ويطلع لهم، وأما المبارزة فيجوز باذن الأمير في قول عامة أهل العلم إلا الحسن
فإنه لم يعرفها وكرهها
ولنا ان حمزة وعليا وعبيده بن الحارث بارزوا يوم بدر باذن النبي صلى الله عليه وسلم وبارز علي عمرو بن
عبد ود في غزوة الخندق فقتله، وبارز مرحبا يوم حنين، وقيل بارزه محمد بن مسلمة وبارزة قبل عامر
بن الأكوع فاستشهد، وبارز البراء بن مالك مرزبان الذارة فقتله وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفا، وروي
عنه أنه قال قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة سوى من شاركت فيه، وبارز شبرين علقمة
أسوارا فقتله فبلغ سلبه اثني عشر ألفا فنقله إياه سعد ولم يزل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبارزون في عصر
النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ولم ينكره منكر فكان ذلك اجماعا وكن أبو ذر يقسم ان قوله تعالى (هذان
خصمان اختصموا في ربهم) نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة وعلي وعبيدة بارزوا عتبة
وشيبة والوليد بن عتبة وقال أبو قتادة بارزت رجلا يوم حنين فقتلته. إذا ثبت هذا فإنه ينبغي ان
يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن، وبه قال الثوري وإسحاق ورخص فيها مالك والشافعي
وابن المنذر لخبر أبي قتادة فإنه لم يعلم أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أكثر من حكينا عنهم المبارزة
لم يعلم منهم استئذان.
ولنا ان الإمام اعلم بفرسانه وفرسان العدو ومتى برز الانسان إلى من لا يطيقه كان معرضا
نفسه للهلاك فيكسر قلوب المسلمين فينبغي ان يفوض ذلك إلى الإمام ليختار للمبارزة من يرضاه لها
394

فيكون أقرب إلى الظفر وجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب المشركين فإن قيل فقدا بحكم له ان ينغمس
في الكفار وهو سبب لقتله قلنا إذا كان مبارزا تعلقت قلوب الجيش به وارتقبوا ظفره فإن ظفر جبر
قلوبهم وسرهم وكسر قلوب الكفار، وإن قتل كان بالعكس والمنغمس يطلب الشهادة لا يترقب منه ظفر
ولا مقاومة فافترقا وأما مبارزة أبى قتادة فغير لازمة فإنها كانت بعد التحام الحرب، رأى رجلا
يريد ان يقتل مسلما فضربه أبو قتادة فالتفت إلى أبي قتادة فضمه ضمنة كاد يقتله وليس هذا هو المبارزة
المختلف فيها بل المختلف فيها ان يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب يدعو إلى المبارزة فهذا
هو الذي يعتبر له اذن الإمام لأن عين الطائفتين تمتد إليهما وقلوب الفريقين تتعلق بهما وأيهما غلب
سر أصحابه وكسر قلوب أعدائه بخلاف غيره. إذا ثبت هذا فالمبارزة تنقسم ثلاثة أقسام مستحبة
ومباحة ومكروهة، أما المستحبة فإذا خرج علج يطلب البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة
مبارزته باذن الأمير لأن فيه ردا عن المسلمين واظهارا لقوتهم، والمباح أن يبتدئ الرجل الشجاع
بطلبها فيباح ولا يستحب لأنه لا حاجة إليها ولا يأمن أن يغلب فيكسر قلوب المسلمين الا انه لما كان
شجاعا واثقا من نفسه أبيح له لأنه بحكم الظاهر غالب والمكروه ان يبرز الضعيف المنة الذي لا يثق
من نفسه فتكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا
395

(فصل) إذا خرج كافر يطلب البراز جاز رميه وقتله لأنه مشرك لا عهد له ولا أمان له فأبيح
قتله كغيره إلا أن تكون العادة جارية بينهم ان من خرج يطلب المبارزة لا يعرض له فيجري ذلك
مجرى الشرط، وإذا خرج إليه أحد يبارزه بشرط ان لا يعينه عليه سواه وجب الوفاء بشرطه لأن
المؤمنين عند شروطهم فإن انهزم المسلم تاركا للقبال أو مثخنا بجراحته جاز لكل أحد قتاله لأن
المسلم إذا صار إلى هذه الحال فقد انقضى قتاله، وإن كان المسلم شرط عليه ان لا يقاتل حتى يرجع إلى صفه
وفى له بالشرط إلا أن يترك قتاله أو ثخنه بالجراح فيتبعه ليقتله أو يجيز عليه فيجوز ان يحولوا
بينه وبينه فإن قاتلهم قاتلوه لأنه إذا منعهم انقاذه فقد نقض أمانه، وإن أعان الكفار صاحبهم فعلى
المسلمين ان يعينوا صاحبهم أيضا ويقاتلون من أعان عليه ولا يقاتلونه لأنه ليس بصنع من جهته، فإن
كان قد استنجدهم أو علم منه الرضا بفعلهم صار ناقضا لامانه وجاز لهم قتله وذكر الأوزاعي انه ليس
للمسلمين معاونة صاحبهم وإن أثخن بالجراح قيل له فخاف المسلمون على صاحبهم؟ قال وإن لأن المبارزة
إنما تكون هكذا ولكن لو حجزوا بينهما وخلوا سبيل العلج قال فإن أعان العدو صاحبهم فلا بأس
ان يعين المسلمون صاحبهم
ولنا ان حمزة وعليا أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة حين أثخن عبيدة
(فصل) وتجوز الخدعة في الحرب للمبارز وغيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الحرب خدعة) وهو
حديث حسن صحيح
396

وروي أن عمرو بن عبد ود بارز عليا كرم الله وجهه فلما أقبل عليه قال علي ما برزت لاقاتل اثنين
فالتفت عمرو فوثب عليه فضربه فقال عمرو خدعتني فقال علي الحرب خدعة
(فصل) قال أحمد إذا غزوا في البحر فأراد رجل أن يقيم بالساحل يستأذن الوالي الذي هو على
جميع المراكب ولا يجزئه أن يستأذن الوالي في مركبه
(مسألة) قال (ومن أعطي شيئا يستعين به في غزاته فما فضل فهو له فإن لم يعط لغزاة
بعينها رد ما فضل في الغزو
وجملته ان من أعطي شيئا من المال يستعين به في الغزو لم يخل اما أن يعطى لغزوة بعينها أو في
الغزو مطلقا، فإن أعطي لغزوة بعينها فما فضل بعد الغزو فهو له هذا قول عطاء ومجاهد وسعيد بن
المسيب وكان ابن عمر إذا أعطى شيئا في الغزو يقول لصاحبه إذا لغت وادي القرى فشأنك به،
ولأنه أعطاه على سبيل المعاونة والمنفعة لاعلى سبيل الإجارة فكان الفاضل فله، كما لو وصى أن يحج عنه
فلان حجة بألف، وإن أعصاه شيئا لينفقه في سبيل الله أو في الغزو مطلقا ففضل منه فضل أنفقه في
غزاه أخرى لأنه أعطاه الجميع لينفقه في جهة قربة فلزمه انفاق الجميع فيها كما لو وصى ان يحج عنه بألف
397

(فصل) ومن أعطى شيئا ليستعين به في الغزو فقال احمد لا يترك لأهله منه شيئا لأنه ليس
يملكه إلا أن يصير إلى رأس مغزاة فيكون كهيئة ماله فيبعث إلى عياله منه ولا يتصرف فيه قبل الخروج
لئلا يتخلف عن الغزو فلا يكون مستحقا لما أنفقه إلا أن يشتري منه سلاحا أو آلة الغزو فإن قصد
إعطاءه لمن يغزو به فقال احمد لا يتخذ منه سفرة فيها طعام فيطعم منها أحدا لأنه إنما أعطيها لينفقها
في جهة مخصوصة وهي الجهاد
(مسألة) قال (وإذا حمل الرجل على دابة فإذا رجع من الغزو فهي له إلا أن يقول
هي حبيس فلا يجوز أن تباع إلا أن تصير في حال لا تصلح فيه للغزو فتباع وتجعل في حبيس
آخر وكذلك المسجد إذا ضاق بأهل إذا كان في مكان لا ينتفع به جاز أن يباع ويجعل في مكان
ينتفع به وكذلك الأضحية إذا أبدلها بخير منها)
قوله حمل الرجل على دابة يعني أعطيها ليغزو عليها فإذا غزى عليها ملكها كما يملك النفقة المدفوعة
إليه إلا أن تكون عارية فتكون لصاحبها أو حبيسا فتكون حبيسا بحاله. قال عمر رضي الله عنه حملت
على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه الذي كان عنده فأردت ان أشتريه وظننته بائعه برخص
فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (لا تشتره ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في
398

صدقته كالكلب يعود في قيئه) متفق وهذا يدل على أنه ملكه لولا ذلك ما باعه ويدل على أنه
ملكه بعد الغزو لأنه أقامه للبيع بالمدينة ولم يكن ليأخذه من عمر ثم يقيمه للبيع في الحال فدل على أنه
أقامه للبيع بعد غزوه عليه وذكر احمد نحوا من هذا الكلام وسئل متى يطيب له الفرس؟ قال إذا
غزا عليه، قيل له فإن العدو جاءنا فخرج على هذا الفرس في الطلب إلى خمس فراسخ ثم رجع؟ قال
لا حتى يكون غزا، قيل له فحديث ابن عمر إذا بلغت وادي القرى فشأنك به قال ابن عمر كان يصنع
ذلك في ماله ورأي أنه إنما يستحقه إذا غزا عليه وهذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب
وسالم والقاسم ويحيى الأنصاري ومالك والليث والثوري نحوه عن الأوزاعي قال ابن المنذر ولا
اعلم أحدا يقول إن له يبيعه في مكانه وكان مالك لا يرى أن ينتفع بثمنه في غير سبيل الله إلا أن يقول
له شأنك به ما أردت
ولنا حديث عمرو ليس فيه ما اشترط مالك، فأما إذا قال هي حبيس فلا يجوز بيعها وقد سبق شرح
هذه المسألة في باب الوقف ويأتي شرح حكم الأضحية في بابها إن شاء الله
(فصل) قال احمد لا يركب دواب السبيل في حاجة ويركبها ويستعملها في سبيل الله ولا يركب
في الأمصار والقرى ولا بأس ان يركبها ويعلفها وأكره سباق الرمك على الفرس الحبيس وسهم الفرس
الحبيس لمن غزا عليه ولا يباع الفرس الحبيس إلا من علة إذا عطب يصير للطحن ويصير ثمنه في مثله أو
399

ينفق ثمنه على الدواب الحبيس وإذا أراد ان يشتري فرسا ليحمل عليه فقال احمد يستحب شراؤها
من غير الثغر يكون توسعه على أهل الثغر في الجلب
(مسألة) قال (وإذا سبى الإمام فهو مخير ان رأى قبلهم وان رأى من عليهم وأطلقهم
بلا عوض، وان رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم وان رأى فادي بهم، وان رأى استرقهم
أي ذلك رأى فيه حكاية للمد وحظا للمسلمين فعل)
وجملته ان من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب (أحدها) النساء والصبيان فلا يجوز
قتلهم ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان. متفق
عليه وكان عليه السلام يسترقهم إذا سباهم
(الثاني) الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون. الجزية فيخير الإمام فيهم بين أربعة
أشياء القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم
(الثالث) الرجال من عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقر بالجزية فيتخير الإمام فيهم بين ثلاثة أشياء
القتل أو المن والمفاداة ولا يجوز استرقاقهم، وعن أحمد جواز استرقاقهم وهو مذهب الشافعي وبما
ذكرنا في أهل الكتاب. قال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور وعن مالك كمذهبنا وعنه لا يجوز المن
بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه وإنما يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة، وحكي عن الحسن وعطاء وسعيد
400

ابن جبير كراهة قتل الاسرى وقالوا لو من عليه أو فأداه كما صنع باسرى بدر ولان الله تعالى قال
(فشدوا الوثاق فاما عنا بعد واما فداء) فخير بين هذين بعد الأسر لا غير، وقال أصحاب الرأي ان
شاء ضرب أعناقهم وان شاء استرقهم لا غير ولا يجوز من ولا فداء لأن الله تعالى قال (اقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم بعد قوله فاما منا بعد وإما فداء) وكان عمر بن عبد العزيز وعياض
ابن عقبة يقتلان الأسارى
ولنا على جواز المن والفداء قول الله تعالى (فاما منا بعد وإما فداء) وأن النبي صلى الله عليه وسلم من على ثمام
ابن أثال وأبي عزة الشاعر وأبي العاص بن الربيع وقال في أسارى بدر (لو كان مطعم بن عدي حيا
ثم سألني في هؤلاء النتى لأطلقتهم له) وفادى أسارى بدر وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا كل رجل منهم
بأربعمائة وفادى يوم بدر رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين. وأما القتل فلان النبي صلى الله عليه وسلم قتل
رجال بني قريظة وهم بين الستمائة والسبعمائة وقتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط
صبرا وقتل أبا عزة ويوم أحد وهذه قصص عمت واشتهرت وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم مرات وهو دليل
على جوازها ولان كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الاسرى فإن منهم من له
قوة ونكاية في المسلمين وبقاؤه ضرر عليهم فقتله أصلح ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه
401

أصلح، ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى اسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم
والدفع عنهم فالمن عليه أصلح، ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان
والإمام أعلم بالمصلحة فينبغي ان يفوض ذلك إليه وقوله تعالى (اقتلوا المشركين) عام لا ينسخ به الخاص
بل ينزل على ما عدا المخصوص ولهذا لم يحرموا استرقاقه، فأما عبدا الأوثان ففي استرقاقهم
روايتان (إحداهما) لا يجوز وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة يجوز في العجم دون العرب بناء
على قوله في أخذ الجزية
ولنا أنه كافر لا يقر بالجزية فلم يقر بالاسترقاق كالمرتد. وقد ذكرنا الدليل عليه. إذا ثبت هذا
فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة فمتى رأى المصلحة في خصلة من هذه الخصال تعينت
عليه ولم يجز العدول عنها ومتى تردد فيها فالقتل أولى. قال مجاهد في أميرين (أحدهما) يقتل
الاسرى وهو أفضل وكذلك قال مالك وقال إسحاق الاثخان أحب إلي الا أن يكون معروفا
يطمع به في الكثير.
(فصل) وان أسلم الأسير صار رقيقا في الحال وزال التخيير وصار حكمه حكم النساء، وبه قال
الشافعي في أحد قوليه وفي الآخر يسقط القتل ويتخير بين الخصال الثلاث لما روي أن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم أسروا رجلا من بني عقيل فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد علام أخذت وأخذت
402

سابقة الحاج فقال أخذت بجريرة حلفائك من ثقيف فقد أسرت رجلين من أصحابي فمضى النبي صلى الله عليه وسلم
فناداه يا محمد يا محمد فقال له (ما شأنك؟) فقال إني مسلم فقال (لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت
كل الفلاح) وفادى به النبي صلى الله عليه وسلم الرجلين رواه مسلم ولأنه سقط القتل باسلامه فبقي باقي
الخصال على ما كانت عليه.
ولنا انه أسير يحرم قتله فصار رقيقا كالمرأة والحديث لا ينافي رقه فقد يفادى بالمرأة وهي رقيق
كما روى سلمة بن الأكوع انه غزا مع أبي بكر فنفله امرأة فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم فبعث بها إلى أهل مكة
وفي أيديهم أسارى ففداهم بتلك المرأة الا انه لا يفادى به ولا يمن عليه الا باذن الغانمين لأنه صار
مالا لهم ويحتمل ان يجوز المن عليه لأنه كان يجوز المن عليه مع كفره فمع اسلامه أولى لكون الاسلام
حسنه يقتضي اكرامه والانعام عليه لأمنع ذلك في حقه ولا يجوز رده إلى الكفار الا أن يكون له
ما يمنعه من المشركين من عشيرة أو نحوها وإنما جاز فداؤه لأنه يتخلص به من الرق، فاما إن أسلم
قبل أسره حرم قتله واسترقاقه والمفاداة به سواء أسلم وهو في حصن أو جوف أو مضيق أو غير ذلك
لأنه لم يحصل في أيدي الغانمين بعد
(فصل) فإن سأل الأسارى من أهل الكتاب تخليتهم على إعطاء الجزية لم يجز ذلك في نسائهم
وذراريهم لأنهم صاروا غنيمة بالسبي. واما الرجال فيجوز ذلك فيهم ولا يزول التخير الثابت فيهم
وقال أصحاب الشافعي يحرم قتلهم كما لو أسلموا
403

ولنا انه بدل لا تلزم الإجابة إليه فلم يحرم قتلهم كبدل عبدة الأوثان
(فصل) وإذا أسر العبد صار رقيقا للمسلمين لأنه مال لهم استولى عليه فكان للغانمين كالبهيمة
وان رأي الإمام قتله لضرر في بقائه جاز قتله لأن مثل هذا لا قيمه له فهو كالمرتد. وأما من
يحرم قتلهم غير النساء والصبيان كالشيخ والزمن والأعمى والراهب فلا يحل سبيهم لأن قتلهم حرام
ولا نفع في اقتنائهم
(فصل) ذكر أبو بكر ان الكفار إذا كان مولى مسلم لم يجز استرقاقه لأن في استقراره تفويت
ولاء المسلم المعصوم وعلى قوله لا يسترق ولده أيا إذا كان عليه ولاء لذلك، وإن كان معتقه ذميا
جاز استرقاقه لأن سيده يجوز استرقاقه فاسترقاق مولاه أولى وهذا مذهب الشافعي، وظاهر كلام
الخرقي جواز استرقاقه لأنه يجوز قتله وهو من أهل الكتاب فجاز استرقاقه كغيره ولان سبب
جواز الاسترقاق قد تحقق فيه وهو الاستيلاء عليه مع كون مصلحة المسلمين في استرقاقه ولأنه إن
كان المسبي امرأة أو صبيا لم يجز فيه سوى الاسترقاق فيتعين ذلك فيه وما ذكره يبطل بالقتل فإنه
يفوت الولاء وهو جاز فيه وكذلك من عليه ولاء لذمي يجوز استرقاقه وقولهم ان سيده يجوز استرقاقه
غير صحيح فإن الذمي لا يجوز استرقاقه ولا تفويت حقوقه وقد قال علي رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية
لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا
404

(مسألة) قال (وسبيل من استرق منهم وما أخذ منهم على إطلاقهم سبيل تلك الغنيمة)
يعني من صار منهم رقيقا بضرب الرق عليه أو فودي بمال فهو كسائر الغنيمة يخمس ثم يقسم
أربعة أخماسه بين الغانمين لا نعلم في هذا خلافا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فداء أسارى بدر
بين الغانمين ولأنه مال غنمه المسلمون فأشبه الخيل والسلاح، فإن قيل فالأسر لم يكن للغانمين
فيه حق فكيف تعلق حقهم ببدله قلنا إنما يفعل الإمام في الاسترقاق ما يرى فيه المصلحة لأنه لم
يصر مالا فإذا صار مالا تعلق حق الغانمين به لأنهم أسروه وقهروه وهذا لا يمنع، الا ترى ان من
عليه الدين إذا قتل قتلا يوجب القصاص كان لورثته الخيار فإذا اختاروا الدية تعلق حق الغرماء بها
(مسألة) قال (وإنما يكون له استرقاقهم إذا كانوا من أهل الكتاب أو مجوسا فاما
ما سوى هؤلاء من العدو فلا يقبل من بالغي رجالهم إلا الاسلام أو السيف أو الفداء)
قد ذكرنا فيما تقدم أن غير أهل الكتاب لا يجوز استرقاق رجالهم في إحدى الروايتين
(فصل) فأما النساء والصبيان فيصيرون رقيقا بالسبي ومنع أحمد من فداء النساء بالمال لأن
في بقائهن تعريضا لهن للاسلام لبقائهن عند المسلمين وجوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع ولان في ذلك استنقاذ مسلم متحقق اسلامه
405

فاحتمل تفويت غرضية الاسلام من أجله ولا يلزم من ذلك احتمال فواتها لتحصيل المال فأما لصبيان.
فقال احمد لا يفادى بهم وذلك لأن الصبي يصير مسلما باسلام سابيه فلا يجوز رده إلى المشركين
وكذلك المرأة إذا أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار بفداء ولا غيره لقول الله تعالى (فلا ترجعوهن
إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) ولان في ردها إليهم تعريضا لها للرجوع عن الاسلام
واستحلال مالا يحل منها وإن كان الصبي غير محكوم باسلامه كالذي سبي مع أبويه لم يجز فداؤه بمال
وهل يجوز فداؤه بمسلم؟ يحتمل وجهين
(فصل) ولم يجوز أحمد بيع شئ من رقيق المسلمين لكافر سواء كان الرقيق مسلما أو كافرا
وهذا قول الحسن قال أحمد ليس لأهل الذمة ان يشتروا مما سبى المسلمون شيئا قال وكتب عمر
بن الخطاب ينهى عنه أمراء الأمصار هكذا حكى أهل الشام وليس له إسناد وجوز أبو حنيفة والشافعي
ذلك لأنه لا يمنع من اثبات يده عليه فلا يمنع من ابتدائه كالمسلم.
ولنا قول عمر ولم ينكر فيكون اجماعا ولان فيه تفويتا للاسلام الذي يظهر وجوده فإنه إذا بقي
رقيقا للمسلمين الظاهر اسلامه فيفوت ذلك ببيعه لكافر بخلاف ما إذا كان رقيقا لكافر في ابتدائه
فإنه لم يثبت له هذه الغرضية والدوام يخالف الابتداء لقوته.
406

(فصل) ومن أسر أسيرا لم يكن له قتله حتى يأتي به الإمام فيرى فيه رأيه لأنه إذا صار أسيرا
فالخيرة فيه إلى الإمام، وقد روي عن أحمد كلام يدل على إباحة قتله فإنه قال لا يقتل أسير غيره إلا
أن يشاء الوالي فمفهومه ان له قتل أسيره بغير إذن الوالي لأن له ان يقتله ابتداء فكان له قتله دواما
كما لو هرب منه أو قاتله، فإن امتنع الأسيران ينقاد معه فله اكراهه بالضرب وغيره فإن لم يمكنه
اكراهه فله قتله وان خافه أو خاف هربه فله قتله أيضا وان امتنع من الانقياد معه لجرح أو مرض فله
قتله أيضا وتوقف احمد عن قتله، والصحيح انه يقتله كما يذفف على جريحهم ولان تركه حيا ضرر على
المسلمين وتقوية للكفار فتعين القتل كحالة الابتداء إذا أمكنه قتله وكجريهم إذا لم يأسره. فاما أسير
غيره فلا يجوز له قتله إلا أن يصير إلى حال يجوز قتله لمن اسره وقد روى يحيى بن أبي كثير ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يتعاطين أحدكم أسير صاحبه إذا اخذه فيقتله) رواه سعيد فإن قتل أسيره أو
أسير
غير قبل ذلك أساء ولم يلزمه ضمانه وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي ان قتله قبل ان يأتي به
الإمام لم يضمنه، وان قتله بعد ذلك غرم ثمنه لأنه أتلف من الغنيمة ما له قيمة فضمنه
كما لو قتل امرأة.
ولنا ان عبد الرحمن بن عوف أسر أمية بن خلف وابنه عليا يوم بدر فرآهما بلال فاستصرخ
الأنصار عليهما حتى قتلوهما ولم يغرموا شيئا ولأنه أتلف ما ليس بمال فلم يغرمه كما لو أتلفه قبل ان
407

يأتي به الإمام ولأنه التف مالا قيمة له قبل ان يأتي به الإمام فلم يغرمه كما لو أتلف كلبا فاما ان قتل امرأة
أو صبيا غرمه لأنه صار رقيقا بنفس السي.
(فصل) ومن أسر فادعى انه كان مسلما لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعى أمر الظاهر خلافه يتعلق به
اسقاط حق يتعلق برقبته فإن شهد له واحد حلف معه وخلي سبيله وقال الشافعي لا تقبل إلا شهادة
عدلين لأنه ليس بمال ولا يقصد منه المال
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر (لا يبقى منهم أحد الا ان يفدى
أو يضرب عنقه) فقال عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فاني سمعته يذكر الاسلام فقال النبي
صلى الله عليه وسلم (الا سهيل بن بيضاء) فقبل شهادة عبد الله وحده
(مسألة) قال (وينقل الإمام ومن استخلفه الإمام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بدأته
الربع بعد الخمس وفي رجعته الثلث بعد الخمس)
النفل زيادة تزاد على سهم الغازي ومنه نفل الصلاة وهو ما زيد على الفرض وقول الله تعالى
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) كأنه سأل الله ولدا فأعطاه ما سأل وزاده ولدا لولد والمراد
بالبداية ههنا ابتداء دخول الحرب والرجعة رجوعه عنها والنفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام
408

(أحدها) هذا الذي ذكره الخرقي وهو ان الإمام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازيا بعث بين
يديه سرية تغير على العدو ويجعل لهم الربع بعد الخمس فما قدمت به السرية من شئ أخرج خمسه
ثم أعطى السرية ما جعل لهم وهو ربع الباقي وذلك خمس آخر ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية
معه فإذا فقل بعث سرية تغير وجعل لهم الثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسه ثم أعطي
السرية ثلث ما بقي ثم قسم سائره في الجيش والسرية معه وبهذا قال حبيب بن مسلمة والحسن والأوزاعي
وجماعة ويروى عن عمرو بن شعيب أنه قال لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعله يحتج بقوله تعالى (يسئلونك
عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) فخصه بها وكان سعيد بن المسيب ومالك يقولان لا نفل الا
من الخمس وقال الشافعي يخرج من خمس الخمس لما روى ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية
فيها عبد الله بن عمر فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا متفق
عليه ولو أعطاهم من أربعة الأخماس التي هي لهم لم يكن نفلا وكان من سهامهم
ولنا ما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البداءة
والثلث في الرجعة وفي لفظ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا
قفل رواها أبو داود وعن عبادة بن الصامت ان النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البداءة الربع
وفي القفول الثلث رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب وفي لفظ قال كان رسول الله صلى الله
409

عليه وسلم ينفلهم إذا خرجوا بادين الربع وينفلهم إذا قفلوا الثلث رواه الخلال باسناده، وروى
الأثرم باسناده عن جرير بن عبد الله البجلي أنه لما قدم على عمر في قومه قال له عمر هل لك ان تأتي
الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل ارض وشئ؟ وذكره ابن المنذر أيضا عن عمر وقال إبراهيم
النخعي ينفل السرية الثلث والربع يضريهم بذلك، فأما قول عمرو بن شعيب فإن مكحولا قال له حين
قال لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له حديث حبيب بن مسلمة: شغلك أكل الزبيب
بالطائف. وما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم ثبت للأئمة بعده ما لم يقم على تخصيصه به دليل، فأما حديث
ابن عمر فهو حجة عليهم فإن بعيرا على اثني عشر يكون جزءا من ثلاثة عشر وخمس الخمس جزء من
خمسة وعشرين وجزء من ثلاثة عشر أكثر فلا يتصور أخذ الشئ من أقل منه يحققه ان الاثني عشر
إذا كانت أربعة أخماس والبعير منها ثلث الخمس فكيف يتصور أخذ ثلث الخمس ومن خمس الخمس؟
فهذا محال فتعين أن يكون ذلك من غيره أو ان النفل كان للسرية دون سائر الجيش على أن ما رويناه
صريح في الحكم فلا يعارض بشئ مستنبط يحتمل غير ما حمله عليه من استنبطه. إذا ثبت هذا
فظاهر كلام أحمد أنهم إنما يستحقون هذا النفل بالشرط السابق فإن لم يكن شرطه لهم فلا فإنه قيل له
أليس قد نفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداءة الربع وفي الرجوع الثلث؟ قال نعم ذا ك إذا نفل
وتقدم القول فيه، فعلى هذا إن رأى الإمام ان لا ينفلهم شيئا فله ذلك وإن رأى أن ينفلهم دون الثلث
410

والربع فله ذلك لأنه إذا جاز ان لا يجعل لهم شيئا جاز ان يجعل لهم شيئا يسيرا ولا يجوز ان ينفل
أكثر من الثلث نص عليه أحمد وهو قول مكحول والأوزاعي والجمهور من العلماء وقال الشافعي
لا حد للنفل بل هو موكل إلى اجتهاد الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفل مرة الثلث وأخرى
الربع وفي حديث ابن عمر نفل نصف السدس فهذا يدل على أن ليس للنفل حد لا يتجاوزه الإمام
فينبغي أن يكون موكولا إلى اجتهاده
ولنا أن نفل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الثلث فينبغي ان لا يتجاوزه وما ذكره
الشافعي يدل على أنه ليس لأقل النفل حد وأنه يجوز ان ينفل أقل من الثلث والربع ونحن نقول به
على أن هذا القول مع قوله ان النفل من خمس الخمس تناقض، فإن شرط لهم الإمام زيادة على الثلث
ردوا إليه، وقال الأوزاعي لا ينبغي ان يشرط النصف فإن زادهم على ذلك فليف لهم به ويجعل ذلك
من الخمس وإنما زيد في الرجعة على البداءة في النفل لمشقتها فإن الجيش في البداءة ردء للسرية تابع
لها والعدو خائف وربما كان غارا وفي الرجعة لا ردء للسرية لأن الجيش منصرف عنهم والعدو مستيقظ
كلب قال أحمد في البداءة إذا كان ذاهبا الربع وفي القفلة إذا كان في الرجوع الثلث لأنهم يشتاقون
إلى أهليهم فهذا أكبر
(القسم الثاني) ان ينفل الإمام بعض الجيش لعنائه وبأسه وبلائه أو لمكروه تحمله دون سائر
411

الجيش قال أحمد في الرجل يأمره الأمير يكون طليعة أو عنده يدفع إليه رأسا من السبي أو دابة قال
إذا كان رجل له عناء ويقاتل في سبيل الله فلا بأس بذلك ذلك أنفع لهم يحرض هو وغيره يقاتلون
ويغنمون، وقال إذا نفذ الإمام صبيحة المغار الخيل فيصيب بعضهم وبعضهم لا يأتي بشئ فللوالي
أن يخص بعض هؤلاء الذين جاءوا بشئ دون هؤلاء وظاهر هذا ان له إعطاء من هذه حاله من
غير شرط، وحجة هذا حديث سلمة بن الأكوع أنه قال أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فاتبعتهم فذكر الحديث فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل رواه مسلم وأبو داود
وعنه ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر قال فبيتنا عدونا فقتلت ليلتئذ تسعة أهل أبيات وأخذت منهم امرأة فنفلنيها
أبو بكر فلما قدمت المدينة استوهبها مني رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبتها له رواه مسلم بمعناه
(القسم الثالث) أن يقول الأمير من طلع هذا الحصن أو هدم هذا السور أو نقب هذا النقب
أو فعل كذا فله كذا أو من جاء بأسير فله كذا فهذا جائز في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري
قال أحمد إذا قال من جاء بعشر دواب أو بقر أو غنم فله واحد فمن جاء بخمسة أعطاه نصف ما قال لم
ومن جاء بشئ أعطاه بقدره، قيل له إذا قال من جاء بعلج فله كذا وكذا فجاء بعلج يطيب له ما يعطى؟
قال نعم وكره مالك هذا القسم ولم يره وقال قتالهم على هذا الوجه إنما هو للدنيا وقال هو وأصحابه
لا نفل الا بعد احراز الغنيمة قال مالك ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله
سلبه) الا بعدان برد القتل
412

ولنا ما تقدم من حديث حبيب وعبادة وما شرطه عمر لجويبر بن عبد الله وقول النبي صلى الله عليه
وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) ولان فيه مصلحة وتحريضا على القتال فجاز كاستحقاق الغنيمة
وزيادة السهم للفارس واستحقاق السلب، وما ذكروه يبطل بهذه المسائل وقوله ان البني صلى الله
عليه وسلم إنما جعل السلب للقاتل بعد أن برد القتال قلنا قوله ذلك ثابت الحكم فيما يأتي من الغزوات
بعد قوله فهو بالنسبة إليها كالمشروط في أول الغزاة قال القاضي ولا يجوز هذا إلا إذا كان فيه مصلحة
المسلمين وان لم يكن فيه فائدة لم يجز لأنه إنما يخرج على وجه المصلحة فاعتبر الحاجة فيه كأجرة
الحمال والحافظ. إذا ثبت هذا فإن النفل لا يختص بنوع من المال وذكر الخلال انه لا نفل في الدارهم
والدنانير وهو قول الأوزاعي لأن القاتل لا يستحق شيئا منها فكذلك غيره
ولنا حديث حبيب بن مسلمة وعبادة وجرير فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لهم الثلث والربع وهو عام
في كل ما غنموه ولأنه نوع مال فجاز النفل فيه كسائر الأموال واما القاتل فإنما نقل السلب وليست
الدراهم والدنانير من السلب فلم يستحق غير ما جعل له
(فصل) نقل أبو داود عن أحمد أنه قال له إذا قال من رجع إلى الساقة فله دينار والرجل يعمل
في سياقة الغنم قال لم يزل أهل الشام يفعلون هذا وقد يكون في رجوعهم إلى الساقة وسياقة الغنم منفعة
قيل له فإن أغار على قريه فنزل فيها والسبي والدواب والخرئي معهم في القرية ويمنع الناس من جمعه
413

الكسل لا يخافون عليه العدو فيقول الإمام من جاء بعشرة أثواب فله ثوب ولمن جاء بعشرة رؤوس
رأس؟ قال أرجو ان لا يكون به بأس قيل له فإن قال من جاء بعدل من دقيق الروم فله دينار يريده
لطعام السبي ما ترى في اخذ الدينار؟ فلم يربه بأسا قيل فالإمام يخرج السرية وقد نفلهم جميعا فلما
كان يوم المغار نادى من جاء بشعرة رؤوس فله رأس ومن جاء بكذا فله كذا فيذهب الناس
فيطلبون فما ترى في هذا النفل قال لا بأس به إذا كان يحرضهم على ذلك ما لم يستغرق الثلث قلت
فلا باس بنفلين في شئ واحد قال نعم ما لم يستغرق الثلث غير مرة سمعته يقول ذلك.
(فصل) ويجوز للإمام ونائبه أن يبذلا أن يبذلا جعلا لمن يدله على ما فيه مصلحة للمسلمين مثل طريق
سهل أو ماء في مفازة أو قلعة يفتحها أو مال يأخذه أو عدو يغير عليه أو ثغرة يدخل منها لا نعلم في هذا
خلافا لأنه جعل في مصلحة فجاز كأجرة الدليل وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الهجرة من
دلهم على الطريق، ويستحق الجعل بفعل ما جعل له الجعل فيه سواء كان مسلما أو كافرا من الجيش
أو من غيره فإن جعل له الجعل مما في يده وجب أن يكون معلوما لأنها جعالة بعوض من مال معلوم
فوجب أن يكون معلوما كالجعالة في رد الآبق وإن كان الجعل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولا
جهالة لا تمنع التسليم ولا تفضي إلى التنازع لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للسرية الثلث والربع
مما غنموه وهو مجهول لأن الغنيمة كلها مجهولة ولأنه مما تدعو الحاجة إليه والجعالة إنما تجوز بحسب
الحاجة فإن جعل له جارية معينة ان دله على قامة يفتحها مثل ان جعل له بنت رجل عينه من أهل
414

القلعة لم يستحق شيئا حتى يفتح القلعة لأن جعالة شئ منه اقتضت اشتراط فتحها فإذا فتحت القلعة
عنوة سلمت إليه إلا أن تكون قد أسلمت قبل الفتح فإنها عصمت نفسها باسلامها فتعذر دفعها إليه
فتدفع إليه قيمتها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه
مسلما رده إليهم فجاء نساء مسلمات منعه الله من ردهن، ولو كان الجعل رجلا من أهل القلعة فاسلم
قبل الفتح عصم أيضا نفسه ولم يجز دفعه وكان لصاحب الجعل قيمته وإن كان إسلام الجارية أو
الرجل بعد أسرهم سلما إليه إن كان مسلما وإن كان كافرا فله قيمتهما لأن الكافر لا يبتدئ الملك
على مسلم، وإن ماتا قبل الفتح أو بعده فلا شئ له لأنه علق حقه بشئ معين وقد تلف بغير تفريط
فسقط حقه كالوديعة، وفارق ما إذا أسلما فإن تسليمهما ممكن لكن منع الشرع منه وإن كان الفتح صلحا
فاستثنى الإمام الجارية والرجل وسلمهما صح وإن وقع الصلح مطلقا طلب الجعل من صاحب القلعة وبذلت له قيمتها فإن سلما إلى الإمام سلمهما إلى صاحبهما وإن أبى عرض على مشترطهما قيمتهما فإن أخذها
أعطيها وتم الصلح، وإن أبى فقال القاضي يفسخ الصلح لأنه حق قد تعذر امضاء الصلح لأن صاحب الجعل
سابق ولا يمكن الجمع ينه وبين الصلح ونحو هذا مذهب الشافعي ولصاحب القلعة أن يحصنها مثلما
كانت من غير زيادة ويحتمل ان يمضي الصلح وتدفع إلى صاحب الجعل قيمته لأنه تعذر دفعه إليه
مع بقائه فدفعت إليه قيمته كما لو أسلم الجعل قبل الفتح أو أسلم بعده وصاحب الجعل كافر، وقولهم ان
حق صاحب الجعل سابق قلنا إلا أن المفسدة في فسخ الصلح أعظم لأن ضرره يعود على الجيش كله
415

وربما عاد على غيره من المسلمين في كون هذه القلعة يتعذر فتحها بعد ذلك ويبقى ضررها على المسلمين
ولا يجوز تحمل هذه المضرة لدفع ضرر يسير عن واحد فإن ضرر صاحب الجعل إنما هو في فوات
عين الجعل وتفاوت ما بين عين الشئ وقيمته يسير سيما وهو في حق شخص واحد ومراعاة حق المسلمين
أجمعين بدفع الضرر الكثير عنهم أولى من دفع الضرر اليسير عن واحد منهم أو من غيرهم ولهذا
قلنا فيمن وجد ماله قبل قسمه فهو أحق به فإن وجد بعد قسمته لم يأخذه إلا بثمنه لئلا يؤدي إلى
الضرر بنقص القيمة أو حرمان من وقع ذلك في سهمه
(فصل) قال احمد والنفل من أربعة أخماس الغنيمة هذا قول أنس بن مالك وفقهاء الشام منهم
رجاء بن حياة وعبادة بن نسي وعدي بن عدي ومكحول والقاسم بن عبد الرحمن ويزيد بن أبي
مالك ويحيى بن جابر والأوزاعي وبه قال إسحاق وأبو عبيد، وقال أبو عبيد والناس اليوم على هذا،
قال احمد وكان سعيد بن المسيب ومالك بن أنس يقولان لا نفل إلا من الخمس فكيف خفي عليهما
هذا مع علمهما؟
وقال النخعي وطائفة إن شاء الإمام نفلهم قبل الخمس وإن شاء بعده، وقال أبو ثور وإنما النفل
قبل الخمس، واحتج من ذهب إلى هذا بحديث ابن عمر الذي أوردناه
ولنا ما روى معن بن يزيد السلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا نفل إلا بعد الخمس)
رواه أبو داود وابن عبد البر وهذا صريح. وحديث حبيب بن مسلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل
416

الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس، وحديث جرير حين قال له عمرو لك الثلث بعد الخمس ولان
النبي صلى الله عليه وسلم نفل الثلث ولا يتصور اخراجه من الخمس ولان الله تعالى قال (واعلموا إنما غنمتم من شئ
فأن لله خمسه) يقتضي أن يكون الخمس خارجا من الغنيمة كلها، وأما حديث ابن عمر فقد رواه شعيب
عن نافع عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد وابتعث سرية من الجيش فكان
سهمان الجيش اثني عشر بعيرا ونقل أهل السرية بعيرا بعيرا فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا فهذا
يمكن أن يكون نفلهم من أربعة أخماس الغنيمة دون بقية الجيش كما ينفل السرايا ويتعين حمل الخبر
على هذا لأنه لو أعلى جميع الجيش لم يكن ذلك نفلا وكان قد قسم لهم أكثر من أربعة الأخماس
وهو خلاف الآية والاخبار
(فصل) وكلام احمد في أن النفل من أربعة الأخماس عام لعموم الخبر فيه ويحتمل ان يحمل
على القسمين الأولين من النفل، فاما القسم الثالث وهو ان يقول من جاء بشئ فله كذا أو من جاء
بشرة رؤوس فله رأس منها فيحتمل أن يستحق ذلك من الغنيمة كلها لأنه ينزل بمنزلة الجعل فأشبه
السلب فإنه غير مخموس، ويحتمل في القسم الثاني وهو زيادة بعض الغانمين على سهمه لغنائه أن يكون
من خمس الخمس المعد للمصالح لأن عطية هذا من المصالح والمذهب المنصوص عليه الأول لأن عطية سلمة
ابن الأكوع سهم الفارس زيادة على سهمه إنما كانت من أربعة الأخماس والله أعلم
417

(مسألة) قال (ويرد من نفل على من معه في السرية إذا بقوتهم صار إليه)
هذا في الصورة التي ذكرها الخرقي وهي القسم الأول من أقسام النفل وهو إذا بعث سرية
ونفلها الثلث أو الربع فدفع النفل إلى بعضهم وخصه به أو جاء بعضهم بشئ فنفله ولم يأت بعضهم
بشئ فلم ينفله شارك من نفل من لم ينفل نص عليه أحمد لأن هؤلاء إنما أخذوا بقوة هؤلاء ولأنهم
استحقوا النفل على وجه الإشاعة بينهم بالشرط السابق فلم يختص به واحد منهم كالغنيمة، فأما
في القسمين الآخرين اللذين لم يذكرهما الخرقي مثل أن يخص بعض الجيش بنفل لغنائه أو يجعله له
كقوله: من جاء بعشرة رؤوس فله رأس فجاء واحد بعشرة دون الجيش فإن من نفل يختص بنفله
دون غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خص من قتل بسلب قتيله اختص به ولما خص سلمة بن
الأكوع بسهم الفارس والرجل اختص به وكذلك اختص بالمرأة التي نفلها إياه أبو بكر دون الناس
ولان هذا جعل تحريضا على القتال وحثا على فعل ما يحتاج المسلمون إليه ليحمل فاعله كلفة فعله
رغبة فيما جعل له فلو لم يختص به فاعله ما خاطر أحد بنفسه في فعله ولا حصلت مصلحة النفل فوجب
أن يختص الفاعل لذلك بنفله كثواب الآخرة
(مسألة) قال (ومن قتل منا أحدا منهم مقبلا على القتال فله سلبه غير مخموس قال ذلك الإمام أولم يقل)
في هذه المسألة فصول ستة:
418

(أحدها) ان القاتل يستحق السلب في الجملة ولا نعلم فيه خلافا والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل
كافرا فله سلبه) رواه الجماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم منهم انس وسمرة بن جندب وغيرهما وروى أبو قتادة
قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من
المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ضربة فأدركه الموت ثم إن
الناس رجعوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) قال فقمت فقلت من يشهد
لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مالك يا أبا قتادة؟) فاقتصصت عليه القصة فقال رجل من
القوم صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فارضه منه فقال أبو بكر الصديق لاها الله إذا
تعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (صدق فأسلمه إليه) قال فأعطانيه متفق عليه وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم حنين (من قتل قتيلا فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا فأخذ أسلابهم)
رواه أبو داود.
(الفصل الثاني) ان السلب لكل قاتل يستحق السهم أو الرضخ كالعبد والمرأة والصبي والمشرك
وروي عن ابن عمران العبد إذا بارز بإذن مولاه فقتل لم يستحق السلب ويرضخ له منه وللشافعي
419

فيمن لا سهم له قولان (أحدهما) لا يستحق السلب لأن السهم آكد منه للاجماع عليه فإذا لم
يستحقه فالسلب أولى.
ولنا عموم الخبر وانه قاتل من أهل الغنيمة فاستحق السلب كذا السهم ولان الأمير لو جعل
جعلا لمن صنع شيئا فيه نفع للمسلمين لا استحقه فاعله من هؤلاء فالذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى
وفارق السهم لأنه علق على المظنة ولهذا يستحق بالحضور ويستوي فيه الفاعل وغيره والسلب مستحق
بحقيقة الفعل وقد وجد منه ذلك فاستحقه كالمجعول له جعلا على فعل إذا فعله فإن كان القاتل ممن
لا يستحق سهما ولا رضخا كما لمرجف والمخذل والمعين على المسلمين لم يستحق السلب وان قتل وهذا مذهب
الشافعي لأنه ليس من اله الجهاد، وان بارز العبد بغير إذن مولاه لم يستحق السلب لأنه عاص
وكذلك كل عاص مثل من دخل بغير اذن الأمير
وعن أحمد فيمن دخل بغير اذن انه يؤخذ منه الخمس وباقية له جعله كالغنيمة ويخرج في العبد
المبارز بغير اذن سيده مثله ويحتمل أن يكون سلب قتيل العبد له على كل حال لأن ما كان له فهو
لسيده ففي حرمانه السلب حرمان سيده ولا معصية منه
(الفصل الثالث) ان السلب للقاتل في كل حال الا أن ينهزم العدو، وبه قال الشافعي وأبو ثور
وداود وابن المنذر وقال مسروق إذا التقى الزحفان فلا سلب له إنما النفل قبل وبعد ونحوه قول نافع
420

كذلك قال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأبو بكر بن أبي مريم السلب للقاتل ما لم تمتد الصفوف بعضها
إلى بعض فإذا كان كذلك فلا سلب لاحد
ولنا عموم قوله عليه السلام (من قتل قتيلا فله سلبه) ولان أبا قتادة إنما قتل الذي اخذ سلبه
في حال التقاء الزحفين ألا تراه يقول فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين
وكذلك قول أنس فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم وكان ذلك بعد التقاء
الزحفين لأن هوازن لقوا المسلمين فجأة فالحموا الحرب قبل ان تتقدمها مبارزة
وروى سعيد حدثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير
عن أبيه عن عوف بن مالك قال غزونا إلى طرف الشام فامر علينا خالد بن الوليد فانضم إلينا رجل
من امداد حمير فقضي لنا انا لقينا عدونا فقاتلونا قتالا شديدا وفي القوم رجل من الروم على فرس
له أشقر وسرج مذهب ومنطقة ملطخة وسيف مثل ذلك فجعل يحمل على القوم ويغري بهم فلم يزل
المددي يحتمل لذلك الرومي حتى مر به فاستقفاه فضرب عرقوب فرسه بالسيف ثم وقع فاتبعه ضربا
بالسيف حتى قتله فلما فتح الله الفتح اقبل بسلب القتيل وقد شهد له الناس أنه قاتله فأعطاه خالد بعض
سلبه وأمسك سائره فلما قدم المدينة استعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا خالدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
421

(ما منعك يا خالد أن تدفع إلى هذا سلب قتيله؟) قال استكثرته له قال (فادفعه إليه) وذكر
الحديث ورواه أبو داود
(الفصل الرابع) انه إنما يستحق السلب بشروط أربعة:
(أحدها) أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يحوز قتلهم فاما ان قتل امرأة أو صبيا أو شيخا
فانيا أو ضعيفا مهينا ونحوهم ممن لا يقاتل لم يستحق سلبه لا نعلم فيه خلافا وإن كان أحد هؤلاء يقاتل
استحق قاتله سلبه لأنه يجوز قتله ومن قتل أسيرا له أو لغيره لم يستحق سلبه لذلك
(الثاني) أن يكون المقتول فيه منفعة غير مثخن بالجراح فإن كان مثخنا بالجراح فليس لقاتله شئ
من سلبه، وبهذا قال مكحول وجرير بن عثمان والشافعي لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا
جهل وذفف عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ولم يعط
ابن مسعود شيئا، وان قطع يدي رجل ورجليه وقتله آخر فالسلب للقاطع دون القاتل لأن القطاع
هو الذي كفى المسلمين شره، وان قطع يديه أو رجليه وقتله الآخر فالسلب للقاطع في أحد الوجهين
لأنه عطله فأشبه الذي قتله والثاني سلبه في الغنيمة لأنه ان كانت رجلاه سالمتين فإنه يعدو ويكثر
وان كانت يداه سالمتين فإنه يقاتل بهما فلم يكف القاطع شره كله ولا يستحق القاتل سلبه لأنه مثخن
بالجراح، وان قطع يده ورجله من خلاف فكذلك وان قطع إحدى يديه واحدى رجليه ثم قتله آخر
422

فسلبه غنيمة ويحتمل انه للقاتل لأنه قاتل لمن لم يكف المسلمين شره، وان عانق رجل رجلا فقتله آخر
فالمسلب للقاتل، وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي هو للمعانق
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) ولأنه كفى المسلمين شره فأشبه
ما لو لم يعانقه الآخر وكذلك لو كان الكافر مقبلا على رجل يقاتله فجاء آخر من ورائه فضربه فقتله
فسلبه لقاتله بدليل قصة قتيل أبي قتادة
(الثالث) ان يقتله أو يثخنه بجراح تجعله في حكم المقتول قال احمد لا يكون السلب الا للقاتل
وان أسر رجلا لم يستحق سلبه سواء قتله الإمام أو لم يقتله وقال مكحول لا يكون السلب الا لمن أسر
علجا أو قتله وقال القاضي إذا أسر رجلا فقتله الإمام صبرا فسلبه لمن أسره لأن الأسر أصعب من القتل فإذا
استحق سلبه بالقتل كان تنبيها على استحقاقه بالأسر قال وان استبقاه الإمام كان له فداؤه أو رقبته
وسلبه لأنه كفى المسلمين شره
ولنا ان المسلمين أسروا اسرى يوم بدر فقتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة والنضر بن الحارث
واستبقى سائرهم فلم يعط من أسرهم أسلابهم ولا فداءهم وكان فداؤهم غنيمة ولان النبي
صلى الله عليه وسلم إنما جعل السلب للقاتل وليس الآسر بقاتل ولان الإمام مخير في الاسرى ولو كان لمن أسره كان
أمره إليه دون الإمام (الرابع) أن يغرر بنفسه في قتله، فأما ان رماه بسهم من صف المسلمين فقتله فلا
سلب له قال أحمد السلب للقاتل إنما هو في المبارزة لا يكون في الهزيمة وان حمل جماعة من المسلمين
423

على واحد فقتلوه فالسلب في الغنيمة لأنهم لم يغزوا بأنفسهم في قتله، وإن اشترك في قتله اثنان فظاهر
كلام احمد أن سلبه غنيمة فإنه قال في رواية حرب له السلب إذا انفرد بقتله
وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنهما يشتركان في سلبه لقوله (من قتل قتيلا فله سلبه) وهذا
يتناول الواحد والجماعة ولأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في السلب
ولنا أن السلب إنما يستحق بالتغرير في قتله ولا يحصل ذلك بقتل الاثنين فلم يستحق به السلب
كما لو قتله جماعة ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرك بين اثنين في سلب فإن اشترك اثنان في ضربه وكان
أحدهما أبلغ في قتله من الآخر فالتسلب له لأن أبا جهل ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء
وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال (كلاكما قتله) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وإن انهزم
الكفار كلهم فأدرك انسان منهزما منهم فقتله فلا سلب له لأنه لم يغرر في قتله، وإن كانت الحرب
قائمة فانهزم أحدهم فقتله انسان فسلبه لقاتله لأن الحرب فر وكر، وقد قتل سلمة بن الأكوع طليعة
للكفار وهو منهزم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (من قتله؟) قالوا سلمة بن الأكوع قال (له سلبه أجمع)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور وداود وابن المنذر السلب لكل قاتل لعموم الخبر واحتجاجا
بحديث سلمة هذا
424

ولنا أن ابن مسعود ذفف على أبي جهل فلم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه وأمر بقتل عقبة بن أبي معيط
والنضر بن الحارث صبرا ولم يعط سلبهما قتلهما، وقتل بني قريظة صبرا فلم يعط من قتلهم اسلابهم
وإنما أعطى السلب من قتل مبارزا أو كفى المسلمين شره وغرر في قتله والمنهزم بعد انقضاء الحرب
قد كفى المسلمين شر نفسه ولم يغرر قاتله بنفسه في قتله فلم يستحق سلبه كالأسير. وأما الذي قتله
سلمة فكان متحيزا إلى فئة وكذلك من قتل حال قيام الحرب فإنه إن كا منهزما فهو متحيز إلى فئة
وراجع إلى القتال فأشبه الكار فإن القتل فر وكر. إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط في استحقاق السلب أن تكون
المبارزة باذن الأمير لأن كل من قضي له بالسلب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من نقل إلينا انه
اذن له في المبارزة مع أن عموم الخبر يقتضي استحقاق السلب لكل قاتل إلا من خصه الدليل
(الفصل الخامس) أن السلب لا يخمس روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وبه قال الشافعي
وابن المنذر وابن جرير وقال ابن عباس يخمس وبه قال الأوزاعي ومكحول لعموم قوله تعالى (واعلموا
إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه)
وقال إسحاق إن استكثر الإمام السلب خمسه وذلك إليه لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك
بارز مرزبان الزارة بالبحرين فطعنه فدق صلبه وأخذ سواريه وسلبه فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة
425

في داره فقال إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا وأنا خامسه فكان أول سلب خمس
في الاسلام سلب البراء. رواه سعيد في السنن وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا
ولنا ما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب
للقاتل ولم يخمس السلب، رواه أبو داود وعموم الاخبار التي ذكرناها وخبر عمر حجة لنا فإنه
قال إنا كنا لا نخمس السلب وقول الراوي كان أول سلب خمس في الاسلام يعني أن النبي صلى الله
عليه وسلم وأبا بكر وعمر صدرا من خلافته لم يخمسوا سلبا واتباع ذلك أولى، قال الجوزجاني لا أظنه
يجوز لاحد في شئ سبق فيه من الرسول الله صلى الله عليه وسلم شئ إلا اتباعه ولا حجة في قول أحد
مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذكرناه يصلح أن يخصص به عموم الآية وإذا ثبت هذا
فإن السلب من أصل الغنيمة وقال مالك ويحتسب من خمس الخمس.
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل مطلقا ولم ينقل عنه انه احتسب به من
خمس الخمس ولأنه لو احتسب به من خمس الخمس احتيج إلى معرفة قيمته وقدره ولم ينقل ذلك ولان
سببه لا يفتقر إلى اجتهاد الإمام فلم يكن من خمس الخمس كسهم الفارس والراجل
(الفصل السادس) أن القاتل يستحق السلب قال ذلك الإمام أو لم يقل، وبه قال الأوزاعي
والليث والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وقال أبو حنيفة والثوري لا يستحقه إلا أن يشرطه
426

الإمام له، وقال مالك لا يستحقه إلا أن يقول الإمام ذلك ولم ير أن يقول الإمام ذلك إلا بعد انقضاء
الحرب على ما تقدم من مذهبه في النفل وجعلوا السلب ههنا من جملة الأنفال
وقد روي عن أحمد مثل قولهم وهو اختيار أبي بكر، واحتجوا بما روى عوف بن مالك أن
مدديا اتبعهم فقتل علجا فأخذ خالد بعض سلبه وأعطاه بعضه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
(لا تعطه يا خالد) رواه سعيد وأبو داود وأنا اختصرته. ورويا باسنادهما عن شبر بن علقمة قال
بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه فأتيت به سعدا فخطب سعد أصحابه وقال إن هذا
سلب شبر خير من اثني عشر ألفا وانا قد نفلناه أباه ولو كان حقا له لم يحتج إلى نفله، ولان عمر
أخذ الخمس من سلب البراء ولو كان حقا له لم يجز أن يأخذ منه شيئا ولان النبي صلى الله عليه وسلم دفع سلب
أبي قتادة إليه من غير بينة ولا يمين
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) وهذا من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورة
التي عمل بها الخلفاء بعده، وأخبارهم التي احتجوا بها تدل على ذلك فإن عوف بن مالك احتج على
خالد حين أخذ سلب المددي فقال له عوف أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال
بلى، وقول عمر انا كنا لا نخمس السلب يدل على أن هذه قضية عامة في كل غزوة وحكم مستمر لكل
قاتل وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالدا أن لا يرد على المددي عقوبة حين أغضبه عوف بتقريعه خالدا بين
427

يديه. وقوله قد أنجزت لك ما ذكرت لك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما خبر شبر فإنما أنفذ له
سعد ما قضى له به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه نفلا لأنه في الحقيقة نفل لأنه زيادة على سهمه
وأما أبو قتادة فإن خصمه اعترف له به وصدقه فجرى مجرى البينة ولان السلب مأخوذ من
الغنيمة بغير تقدير الإمام واجتهاده فلم يفتقر إلى شرطه كالسهم. إذا ثبت هذا فإن احمد قال لا يعجبني
أن يأخذ السلب إلا باذن الإمام وهو قول الأوزاعي، وقال ابن المنذر والشافعي له أخذه بغير اذن
لأنه استحقه بجعل النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك ولا يأمن إن أظهر عليه ان لا يعطاه، ووجه
قول احمد انه قعل مجتهد فيه فلم ينفذ أمره فيه إلا باذن الإمام كأخذ سهمه ويحتمل أن يكون هذا
من احمد على سبيل الاستحباب ليخرج من الخلاف لاعلى سبيل الايجاب، فعلى هذا إن أخذه بغير
اذن ترك الفضيلة وله ما أخذه
(مسألة) قال (والدابة وما عليه من آلتها من السلب إذا قتل وهو عليها وكذلك ما عليه
من السلاح والثياب وان كثر، فإن كان معه مال لم يكن من السلب وقد روي عن أبي عبد الله
رحمه الله رواية أخرى أن الدابة ليست من السلب)
وجملته ان السلب ما كان القتيل لابسا له من ثياب وعمامة وقلنسوة ومنطقة ودرع ومغفر
428

وبيضة وتاج وأسورة وران وخف بما في ذلك من حلية ونحو ذلك لأن المفهوم من السلب اللباس
وكذلك السلاح من السيف والرمح والسكين واللت ونحوه لأنه يستعين به في قتاله فهو أولى بالأخذ
من اللباس وكذلك الدابة لأنه يستعين بها فهي كالسلاح وأبلغ منه، ولذلك استحق بها زيادة
السهمان بخلاف السلاح، فأما المال الذي معه في كمرانه وخريطته فليس بسلب لأنه ليس من الملبوس
ولا مما يستعين به في الحرب، وكذلك رحله وأثاثه وما ليست يده عليه من ماله ليس من سلبه وبهذا
قال الأوزاعي ومكحول والشافعي إلا أن الشافعي قل مالا يحتاج إليه في الحرب كالتاج والسوار
والطوق والهميان الذي للنفقة ليس من السلب في أحد القولين لأنه مما لا يستعان به في الحرب فأشبه
المال الذي في خريطته
ولنا أن في حديث البراء انه بارز مرزبان الزارة فقتله فبلغ سواراه ومنطقته ثلاثين ألفا فخمسه
عمرو دفعه إليه
وفي حديث عمرو بن معديكرب انه حمل على أسوار فطعنه فدق صلبه وصرعه فنزل إليه فقطع
ويده وأخذ سوارين كانتا عليه ويلمقا من ديباج وسيفا ومنطقة فسلم ذلك له ولأنه ملبوس له فأشبه
ثيابه ولأنه داخل في اسم السلب فأشبه الثياب والمنطقة ويدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (فله سلبه)
واختلفت الرواية عن أحمد في الدابة فنقل عنه أنها ليست من السلب وهو اختيار أبي بكر لأن
429

السلب ما كان على يديه والدابة أليست كذلك فلا يدخل في الخبر، قال وذكر عبد الله حديث عمرو
ابن معدي يكرب فأخذ سواريه ومنطقته ولم يذكر فرسه
ولنا ما روى عوف بن مالك قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من
أهل اليمن فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل
بغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فعلاه فقتله وحاز فرسه
وسلاحه فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فاخذ من السلب قال عوف فأتيته فقلت له
يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال بلى. رواه الأثرم
وفي حديث شبر بن علقمة أنه أخذ فرسه كذلك قال احمد هو فيه ولان الفرس يستعان بها
في الحرب فأشبهت السلاح وما ذكروه يبطل بالرمح والقوس واللت فإنها من السلب وليست ملبوسة
إذا ثبت هذا فإن الدابة وما عليها من سرجها ولجامها وتجفيفها وحلية إن كانت عليها وجميع آلتها
من السلب لأنه تابع لها ويستعان به في الحرب وإنما يكون من السلب إذا كان راكبا عليها وإن كانت
في منزله أو مع غيره أو منفلتة لم تكن من السلب كالسلاح الذي ليس معه، وإن كان راكبا عليها فصرعه
عنها أو أشعره عليها ثم قتله بعد نزوله عنها فهي من السلب وهكذا قول الأوزاعي وإن كان ممسكا
بعنانها غير راكب عليها فعن أحمد فيها روايتان
430

(إحداهما) من السلب وهو قول الشافعي لأنه متمكن من القتال عليها فأشبهت سيفه أو رمحه في يده
(والثانية) ليست من السلب وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار الخلال لأنه ليس براكب عليها
فأشبه ما لو كانت مع غلامه، وإن كان على فرس وفي يده جنيبة لم تكن الجنيبة من السلب لأنه
لا يمكنه ركوبهما معا
(فصل) ولا تقبل دعوى القتل إلا ببينة، وقال الأوزاعي يعطى السلب إذا قال أنا قتلته ولا
يسئل ببينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول أبي قتادة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) متفق عليه. وأما أبو قتادة فإن
خصمه أقر له فاكتفي باقراره، قال احمد ولا يقبل إلا شاهدان، وقالت طائفة من أهل الحديث
يقبل شاهد ويمين لأنها دعوى في المال ويحتمل أن يقبل شاهد بغير يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول
الذي شهد لأبي قتادة من غير يمين، ووجه الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر البينة واطلاقها ينصرف إلى
شاهدين ولأنها دعوى للقتل فاعتبر شاهدان كقتل العمد
(فصل) ويجوز سلب القتلى وتركهم عراة وهذا قول الأوزاعي وكرهه الثوري وابن المنذر
لما فيه من كشف عوراتهم
431

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في قتيل سلمة بن الأكوع (له سلبه أجمع) وقال (من قتل قتيلا فله
سلبه) وهذا يتناول جميعه
(مسألة) قال (ومن أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه)
وجملته أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم ويصح من كل مسلم
بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو عبدا وبهذا قال الثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق
وابن القاسم وأكثر أهل العلم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف لا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له في القتال لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح
أمانه كالصبي ولأنه مجلوب من دار الكفر فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما
فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) رواه البخاري وروى فضيل بن يزيد
الرقاشي قال جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيه فحصرنا موضعا فرأينا انا سنفتحها اليوم وجعلنا
نقبل ونروح فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها
إليهم فاخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته
432

ذمتهم رواه سعيد ولأنه مسلم مكلف أمانه كالحر وما ذكروه من التهمة يبطل بما إذا اذن له
في القتال فإنه يصح أمانه وبالمرأة فإن أمانها يصح في قولهم جميعا قالت عائشة ان كانت المرأة لتجير
على المسلمين فيجوز وعن أم هانئ أنها قالت يا رسول الله اني اجرت احمائي وأغلقت عليهم وان
ابن أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من اجرت يا أم هاني إنما يجير على المسلمين
أدناهم) رواهما سعيد وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع فأمضاه
رسول الله صلى الله عليه وسلم
(فصل) ويصح أمان الأسير إذا عقده غيره مكره لدخوله في عموم الخبر ولأنه مسلم
مكلف مختار فأشبه غير الأسير وكذلك أمان الأجير والتاجر في دار الحرب، وبهذا قال الشافعي وقال
الثوري لا يصح أمان أحد منهم
ولنا عموم الحديث والقياس على غيرهم فأما الصبي المميز فقال ابن حامد فيه روايتان:
(إحداهما) لا يصح أمانه وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه غير مكلف ولا يلزمه بقوله حكم
فلا يلزم غيره كالمجنون.
(والرواية الثانية) يصح أمانه وهو قول مالك وقال أبو بكر يصح أمانه رواية واحدة وحمل
رواية المنع على غير المميز واحتج بعموم الحديث ولأنه مسلم مميز فصح أمانه كالبالغ وفارق المجنون
فإنه لا قول له أصلا.
433

(فصل) ولا يصح أمان كافر وإن كان ذميا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ذمة المسلمين واحدة
يسعى بها أدناهم) فجعل الذمة للمسلمين فلا تحصل لغيرهم ولأنه متهم على الاسلام وأهله فأشبه الحربي
ولا يصح أمان مجنون ولا طفل لأن كلامه غير معتبر ولا يثبت به حكم ولا يصح أمان زائل العقل
بنوم أو سكر أو اغماء لذلك ولأنه لا يعرف المصلحة من غيرها فأشبه المجنون ولا يصح من مكره لأنه
قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالاقرار
(فصل) ويصح أمان الإمام لجميع الكفار وآحادهم لأن ولايته عامة على المسلمين ويصح أمان
الأمير لمن أقيم بإزائه من المشركين فأما في حق غيرهم فهو كآحاد المسلمين لأن ولايته على قتال أولئك
دون غيرهم ويصح أمان آحاد المسلمين للواحد والعشرة والقافلة الصغيرة والحصن الصغير لأن عمر
رضي الله عنه أجاز أمان العبد لأهل الحصن الذي ذكرنا حديثه ولا يصح أمانه لأهل بلدة ورستاق
وجمع كثير لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الإمام.
(فصل) ويصح أمان الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه لأن عمر رضي الله عنه لما قد عليه بالهرمزان
أسيرا قال لا بأس عليك ثم أراد قتله فقال له انس قد أمنته فلا سبيل لك عليه وشهد الزبير
بذلك فعدوه أمانا رواه سعيد ولان للإمام المن عليه والأمان دون ذلك فأما آحاد الرعية فليس له
ذلك، وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب أنه يصح أمانه لأن زينب ابنة رسول الله صلى الله
434

عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم أمانها وحكي
هذا عن الأوزاعي.
ولنا ان أمر الأسير مفوض إلى الإمام فلم يجز الافتيات عليه فيما يمنعه ذلك كقتله وحديث
زينب في أمانها إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم
(فصل) وإذا شد للأسير اثنان أو أكثر من المسلمين انهم أمنوه قبل إذا كانوا بصفة الشهود وقال
الشافعي لا تقبل شهادتهم لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم
ولنا انهم عدول من المسلمين غير متهمين اشهدوا بأمانة فوجب أن يقبل كما لو شهدوا على غيرهم
انه أمنه وما ذكروه لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة المرضعة على فعلها في حديث عقبة بن الحارث
وان شهد واحد إني أمنته فقال القاضي قياس قول احمد انه يقبل كما لو قال الحاكم بعد عزله كنت
حكمت لفلان على فلان بحق قبل قوله وعلى قول أبي الخطاب يصح أمانه فقبل خبره به كالحاكم في
حال ولايته وهذا قول الأوزاعي ويحتمل أن لا يقبل لأنه ليس له أن يؤمنه في الحال فلم يقبل اقراره به
كما لو أقر بحق على غيره وهذا قول الشافعي وأبي عبيدة
(فصل) إذا جاء المسلم بمشرك ادعى انه أسره وادعى الكافر انه أمنه ففيها ثلاث روايات
[إحداهن] القول قول المسلم لأن الأصل معه فإن الأصل إباحة دم الحربي وعدم الأمان
(والثانية) القول قول الأسير لأنه يحتمل صدقه وحقن دمه فكون هذا شبهة تمنع من قتله وهذا
435

اختيار أبي بكر والثالثة يرجع إلى قول من ظاهر الحال يدل على صدقه فإن كان الكافر ذا قوة معه
سلاحه فالظاهر صدقه، وإن كان ضعيفا مسلوبا سلاحه فالظاهر كذبه فلا يلتفت إلى قوله وقال أصحاب
الشافعي لا يقبل قوله وإن صدقه المسلم لأنه لا يقدر على أمانه فلا يقبل اقراره به
ولنا انه كافر لم يثبت أسره ولا نازعه فيه منازع فقبل قوله في الأمان كالرسول
(فصل) ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله ويعرف شرائع الاسلام وجب أن يعطاه ثم يرد
إلى مأمنه لا نعلم في هذا خلافا وبه قال قتادة ومكحول والأوزاعي والشافعي وكتب عمر بن عبد العزيز
بذلك إلى الناس، وذلك لقول الله تعالى (وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله
ثم أبلغه مأمنه) قال الأوزاعي هي إلى يوم القيامة ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن لأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يؤمن رسل المشركين ولما جاءه رسولا مسيلمة قال (لولا أن الرسل لا تقتل
لقتلتكما) ولان الحاجة تدعو إلى ذلك فانا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة،
ويجوز عقد الأمان لكل واحد منهما مطلقا ومقيدا بمدة سواء كانت طويلة أو قصيرة بخلاف الهدنة
فإنها لا تجوز إلا مقيدة لأن في جوازها مطلقا تركا للجهاد وهذا بخلافه قال القاضي ويجوز أن يقيموا
مدة الهدنة يغر جزية. قال أبو بكر وهذا ظاهر كلام احمد لأنه قيل له قال الأوزاعي لا يترك
المشرك في دار الاسلام الا أن يسلم أو يؤدي فقال احمد إذا أمنته فهو على ما أمنته وظاهر هذا انه
خالف قول الأوزاعي
436

وقال أبو الخطاب عندي إنه لا يجوز أن يقيم سنه بغير جزية وهذا قول الأوزاعي والشافعي لقول
الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ووجه الأول ان هذا كافر أبيح له الإقامة في
دار الاسلام من غير التزام جزية فلم تلزمه جزية كالنساء والصبيان ولان الرسول لو كان ممن لا يجوز
أخذ الجزية منه يستوي في حقه السنة فما دونها في أن الجزية لا تؤخذ منه في المدتين فإذا جازت له
الإقامة في أحدهما جازت في الأخرى قياسا لها عليها وقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية) أي يلتزمونها
ولم يرد حقيقة الاعطاء وهذا مخصوص منها بالاتفاق فإنه يجوز له الإقامة من غير التزام لها ولان الآية
تخصصت بما دون الحول فتقيس على المحل المخصوص
(فصل) وإذا دخل حربي دار الاسلام بأمان فأودع ماله مسلما أو ذميا أو أقرضهما إياه ثم عاد
إلى دار الحرب نظرنا فإن دخل تاجرا أو رسولا أو متنزها أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الاسلام
فهو على أمانه في نفسه وماله لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة بدار الاسلام فأشبه الذمي إذا دخل
لذلك، وإن دخل مستوطنا بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله لأنه بدخوله دار الاسلام بأمان ثبت
الأمان لماله الذي معه فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله لاختصاص المبطل بنفسه
فيخص البطلان به فإن قتل فإنما يثبت الأمان لما له تبعا فإذا بطل في المتبوع بطل في التبع قلنا بل
437

يثبت له الأمان لمعنى وجد فيه وهو ادخاله معه وهذا يقتضي ثبوت الأمان له وإن لم يثبت في نفسه
بدليل ما لو بعثه مع مضارب له أو وكيل فإنه يثبت الأمان ولم يثبت الأمان في نفسه ولم يوجد فيه
ههنا ما يقتضي الأمان فيه فبقي على ما كان عليه ولو اخذه معه إلى دار الحرب لنقض الأمان فيه كما
ينتقض في نفسه لوجود المبطل منهما فإذا ثبت هذا فإن صاحبه ان طلبه بعث إليه وإن تصرف فيه
ببيع أو هبة أو غيرهما صح تصرفه وإن مات في دار الحرب انتقل إلى وارثه ولم يبطل الأمان فيه،
وقال أبو حنيفة يبطل فيه وهو قول الشافعي لأنه قد صار لوارثه ولم يعقد فيه، أمانا فوجب ان
يبطل فيه كسائر أمواله
ولنا ان الأمان حق له لازم متعلق بالمال فإذا انتقل إلى الوارث انتقل لحقه كسائر الحقوق
من الرهن والضمين والشفعة وهذا اختيار المزني ولأنه مال له أمان فينتقل إلى وارثه مع بقاء الأمان
فيه كالمال الذي مع مضاربه وإن لم يكن له وارث صار فيئا لبيت المال فإن كان له وارث في دار
الاسلام فقال القاضي لا يرثه لاختلاف الدارين والأولى أنه يرثه لأنه ملتهما واحدة فيرثه كالمسلمين
وإن مات المستأمن في دار الاسلام فهو كما لو مات في دار الحرب سواء لأن المستأمن حربي تجري
عليه أحكامهم وإن رجع إلى دار الحرب فسبي واسترق فقال القاضي يكون ماله موقوفا حتى يعلم آخر أمره
بموت أو غيره فإن مات كان فيئا لأن الرقيق لا يورث وان عتق كان له وان لم يسترق ولكن من عليه الإمام
438

أو فأداه فماله له وان قتله فماله لورثته وان لم يسب ولكن دخل دار الاسلام بغير أمان ليأخذ ماله جاز قتله
وسبيه لأن ثبوت الأمان لماله لا يثبت الأمان له كما لو كان ماله وديعة بدار الاسلام وهو مقيم بدار الحرب
(فصل) وإذا سرق المستأمن في دار الاسلام أو قتل أو غصب ثم عاد إلى وطنه في دار الحرب
ثم خرج مستأمنا مرة ثانية استوفي منه ما لزمه في أمانه الأول وان اشترى عبدا مسلما فخرج به إلى
دار الحرب ثم قدر عليه لم يغنم لأنه لم يثبت ملكه عليه لكون الشراء باطلا ويرد بائعه الثمن إلى
الحربي لأنه حصل في أمان فإن كان العبد تالفا فعلى الحربي قيمته ويترادان الفضل
(فصل) وإذا دخلت الحربية إلينا بأمان فتزوجت ذميا في دارنا ثم أرادت الرجوع لم تمنع إذا
رضي زوجها أو فارقها وقال أبو حنيفة تمنع
ولنا أنه عقد لا يلزم الرجل المقام به فلا يلزم المرأة كعقد الإجارة
(مسألة) قال (ومن طلب الأمان ليفتح الحصن ففعل فقال كل واحد منهم أنا المعطى
لم يقتل واحد منهم)
وجملته أن المسلمين إذا حصروا حصنا فناداهم رجل آمنوني أفتح لكم الحصن جاز أن يعطوه
أمانا فإن زياد بن لبيد لما حصر النجير قال الأشعث بن قيس أعطوني الأمان لعشرة أفتح لكم
439

الحصن ففعلوا فإن أشكل الذي أعطي الأمان وادعاه كل واحد من أهل الحصن فإن عرف صاحب
الأمان عمل على ذلك، وان لم يعرف لم يجز قتل واحد منهم لأن كل واحد منهم يحتمل صدقه وقد
اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه فحرم الكل كما لو اشتبهت ميتة بمذكاة أو أخته بأجنبيات
أو اشتبه زان محصن برجال معصومين وبهذا قال الشافعي ولا اعلم فيه خلافا وفي استرقاقهم وجهان
(أحدهما) يحرم وذكر القاضي ان أحمد نص عليه وهو مذهب الشافعي لما ذكرنا في القتل فإن
استرقاق من لا يحل استرقاقه محرم
(والثاني) يقرع بينهم فيخرج صاحب الأمان بالقرعة ويسترق الباقون قاله أبو بكر لأن الحق لواحد
منهم غير معلوم فيقرع بينهم كما لو أعتق عبدا من عبيده واشكل ويخالف القتل فإنه إراقة
دم تندرئ بالشبهات بخلاف الرق ولهذا يمنع القتل في النساء والصبيان دون الاسترقاق. وقال
الأوزاعي إذا أسلم واحد من أهل الحص قبل فتحه أشرف علينا ثم أشكل فادعى كل واحد منهم
انه الذي أسلم: يسعي كل واحد منهم في قيمة نفسه ويترك له عشر قيمته وقياس مذهبنا أن فيها
وجهين كالتي قبلها.
(فصل) قال احمد إذا قال الرجل كف عني حتى أدلك على كذا فبعث معه قوم ليدلهم فامتنع
من الدلالة فلهم ضرب عنقه لأن أمانه بشرط ولم يوجد وقال احمد إذا لقي علجا فطلب منه الأمان
440

فلا يؤمنه لأنه يخالف شره وان كانوا سرية فلهم أمانه يعني ان السرية لا يخافون من غدر العلج
قتلهم بخلاف الواحد وان لقيت السرية أعلاجا فادعوا أنهم جاءوا مستأمنين فإن كان معهم سلاح لم
يقبل قولهم لأن حملهم السلاح يدل على محاربتهم وان لم يكن معهم سلاح قبل قولهم لأنه
يدل على صدقهم.
(فصل) إذا دخل حربي دار الاسلام بغير أمان نظرت فإن كان معه متاع يبيعه في دار الاسلام
وقد جرت العادة بدخولهم إلينا تجارا بغير أمان لم يعرض لهم، وقال احمد إذا ركب القوم في البحر
فاستقبلهم فيه تجار مشركون من ارض العدو يريدون بلاد الاسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل
من دخل بلاد المسلمين من أهل الحرب بتجارة بويع ولم يسأل عن شئ وان لم تكن معه تجارة
فقال جئت مستأمنا لم يقبل منه وكان الإمام مخيرا فيه ونحو هذا قال الأوزاعي والشافعي، و
إن كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح في المركب إلينا فهو لمن أخذه في إحدى الروايتين
والأخرى يكون فيئا.
(مسألة) قال (ومن دخل إلى أرضهم من الغزاة فارسا فنفق فرسه قبل احراز
الغنيمة فله سهم راجل ومن دخل راجلا فأحرزت الغنيمة وهو فارس فله سهم الفارس)
وجملة ذلك أن الاعتبار في استحقاق السهم بحالة الاحراز فإن أحرزت الغنيمة وهو راجل فله
سهم راجل وان أحرزت وهو فارس فله سهم الفارس سواء دخل فارسا أو راجلا قال احمد أنا أرى
441

ان كل من شهد الوقعة على اي حالة كان يعطي إن كان فارسا ففارس وإن كان راجلا فراجل لأن
عمر قال الغنيمة لمن شهد الوقعة، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور ونحوه قال ابن
عمر. وقال أبو حنيفة الاعتبار بدخول دار الحرب فإن دخل فارسا فله سهم فارس وان نفق فرسه
قبل القتال، وان دخل راجلا فله سهم الراجل وان استفاد فرسا فقاتل عليه
وعنه رواية أخرى كقولنا قال احمد كان سليمان بن موسى يعرضهم إذا أدربوا الفارس فارس
والراجل راجل لأنه دخل في الحرب بنية القتال فلا يتغير سهمه بذهاب دابته أو حصول دابة له
كما لو كان بعد القتال
ولنا ان الفرس حيوان يسهم له فاعتبر وجوده حال القتال فيسهم له مع الوجود فيه ولا يسهم
له مع العدم كالآدمي والأصل في هذا أن حالة استحقاق السهم حالة تقتضي الحرب بدليل قول عمر
الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك بخلاف ما قبل
ذلك فإن الأموال في أيدي أصحابها ولا ندري هل يظفر بهم أولا؟ ولأنه لو مات بعض المسلمين
قبل الاستيلاء لم يستحق شيئا ولو وجد مدد في تلك الحال أو انفلت أسير فلحق بالمسلمين أو أسلم كافر فقاتلوا
استحقوا السهم فدل على أن اعتبار بحالة الاحراز فوجب اعتباره دون غيره
442

(مسألة) قال (ويعطى ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه)
أكثر أهل العلم على أن الغنيمة تقسم للفارس منها ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وللراجل
سهم. قال ابن المنذر هذا مذهب عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين وحسين بن ثابت وعوام
علماء الاسلام في القديم والحديث منهم مالك ومن تبعه من أهل المدينة والثوري ومن وافقه من أهل العراق
والليث بن سعد ومن تبعه من أهل مصر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف
ومحمد وقال أبو حنيفة للفرس سهم واحد لما روى مجمع بن حارثة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم خبير
على أهل الحديبية فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهما رواه أبو داود و لأنه حيوان ذو سهم
فلم يزد على سهم كالآدمي
ولنا ما روى ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم
سهمان لفرسه وسهم له متفق عليه، وعن أبي رهم وأخيه انهما كانا فارسين يوم خيبر فأعطيا ستة
أسهم أربعة أسهم لفرسيهما وسهمين لهما رواه سعيد بن منصور وعن ابن عباس رضي الله عنه ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أعطى الفارس ثلاثة أسهم وأعطى الراجل سهما.
وقال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم هكذا للفرس سهمين ولصاحبه
443

سهما وللراجل سهما، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن أما بعد فإن سهمان الخيل
مما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين للفرس وسهما للراجل ولعمري لقد كان حديثا
اشعر ان أحدا من المسلمين هم بانتقاض ذلك فمن هم بانتقاض ذلك فعاقبه والسلام عليك رواهما سعيد
والأثرم وهذا يدل على ثبوت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وانه أجمع عليه فلا يعول
على ما خالفه فاما حديث مجمع فيحتمل انه أراد أعطى الفارس سهمين لفرسه وأعطى الراجل سهما يعني
صاحبه فيكون ثلاثة أسهم على أن حديث ابن عمر أصح منه، وقد وافقه حديث أبي رهم وأخيه
وابن عباس وهؤلاء أحفظ وأعلم وابن عمر وأبو رهم وممن شهدوا وأخذوا السهمان وأخبروا
عن أنفسهم انهم أعطوا ذلك فلا يعارض ذلك بخبر شاذ تعين غلطه أو حمله على ما يخالف ظاهره
وقياس الفرس على الآدمي عير صحيح لأن أثرها في الحرب أكثر وكلفتها أعظم فينبغي
أن يكون سهمها أكثر
(مسألة) قال (الا أن يكون فرسه هجينا فيعطى سهما له وسهما لفرسه)
الهجين الذي أبوه عربي وأمه برذونة والمقرف الذي أبوه برذونة وأمه عربية
قالت هند بنت النعمان بن بشير
وما هند إلا مهرة عربية * سليلة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت مهرا كريما فبالحري * وان يك أقراف فما أنجب الفحل
444

وأراد الخرقي بالهجين ههنا ما عدا العربي والله أعلم، وقد حكي عن أحمد أنه قال الهجين البرذون
واختلفت الرواية عنه في سهمانها فقال الخلال تواترت الروايات عن أبي عبد الله في سهام البرذون
انه سهم واحد واختاره أبو بكر والخرقي وهو قول الحسن. قال الخلال: وروى عنه ثلاثة منقطعون
انه يسهم للبرذون مثل سهم العربي، واختاره الخلال وبه قال عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي
والثوري لأن الله تعالى قال (والخيل والبغال) وهذه من الخيل ولان الرواة رووا ان النبي صلى
الله عليه وسلم أسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما وهذا عام في كل فرس ولأنه حيوان ذو سهم
فاستوى فيه العربي وغيره كالآدمي
وحكى أبو بكر عن أحمد رحمه الله رواية ثالثة ان البراذين ان أدركت ادراك العراب أسهم لها
مثل الفرس العربي والا فلا وهذا قول ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وأبي أيوب والجوزجاني لأنها
من الخيل وقد عملت عمل العراب فأعطيت سهما كالعربي
وحكى القاضي رواية رابعة انه لا يسهم لها وهو قول مالك بن عبد الله الخثعمي لأنه حيوان
445

لا يعمل عمل الخيل العراب فأشبه البغال، ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق منها
لما روى الجوزجاني باسناده عن أبي موسى انه كتب إلى عمر بن الخطاب انا وجدنا بالعراق خيلا
عراضا دكنا فما ترى يا أمير المؤمنين في سهمانها فكتب إليه تلك البراذين فما قارب العتاق منها فاجعل
له سهما واحدا وألغ ما سوى ذلك
ولنا ما روى سعيد باسناده عن أبي الأقمر قال: أغارت الخيل على الشام فأدركت العراب من
يومها وأدركت الكوادن ضحى الغد، وعلى الخيل رجل من همذان يقال له المنذر بن أبي حميضة
فقال لا أجعل الذي أدرك من يومه مثل الذي لم يدرك ففضل الخيل فقل عمر هبلت الوادعي أمه
امضوها على ما قال ولم يعرف عن الصحابة خلاف هذا القول
وروى مكحول ان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهما رواه سعيد
أيضا ولان نفع العربي وأثره في الحرب أفضل فيكون سهمه أرجح كتفاضل من يرضخ له واما قولهم
انه من الخيل قلنا والخيل في نفسها تتفاضل فتتفاضل سهمانها واما قولهم ان النبي صلى الله عليه وسلم
قسم للفرس سهمين من غير تفريق قلنا هذه قضية في عين لا عموم لها فيحتمل انه لم يكن فيها برذون
وهو الظاهر فإنها من خيل العرب ولا براذين فيها ودل على صحة هذا انهم لما وجدوا البراذين بالعراق
أشكل عليهم أمرها وان عمر فرض لها سهما واحدا وامضى ما قال المنذر بن أبي حميضة في تفضيل
446

العراب عليها، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهما لم يخف ذلك على عمر ولا خالفه ولو
خالفه لم يسكت الصحابة عن إنكاره عليه سيما وابنه هو راوي الخبر فكيف يخفى ذلك عليه؟ ويحتمل
انه فضل العراب أيضا فلم يذكره الراوي لغلبة العراب وقلة البراذين ويدل على صحة هذا التأويل
خبر مكحول الذي رويناه وقياسها على الآدمي لا يصح لأن العربي منهم لا أثر له في الحرب زيادة على
غيره بخلاف العربي من الخيل على غيره والله أعلم
(مسألة) قال (ولا يسهم لأكثر من فرسين)
يعني إذا كان مع الرجل خيل أسهم لفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهم ولم يزد على ذلك،
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا يسهم لا كثر من فرس واحد لأنه لا يمكن أن يقاتل على أكثر منها
فلم يسهم لما زاد عليها كالزائد عن الفرسين
ولنا ما روى الأوزاعي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين
وإن كان معه عشرة أفراس، وعن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن
الجراح أن يسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة سهم ولصاحبها سهم فذلك خمسة أسهم وما كان فوق
الفرسين فهي جنائب رواهما سعيد في سننه ولان به إلى الثاني حاجة فإن إدامة ركوب واحد تضعفه وتمنع
القتال عليه فيسهم له كالأول بخلاف الثالث فإنه مستغنى عنه
447

(مسألة) قال (ومن غزا على بعير هو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان)
نص احمد على هذا وظاهره انه لا يسهم للبعير مع امكان الغزو على فرس وعن أحمد انه يسهم للبعير
سهم ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره، وحكي نحو هذا عن الحسن لأن الله تعالى قال (فما أوجفتم
عليه من خيل ولا ركاب ولأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس يحققه ان تجويز
المسابقة بعوض إنما أبيحت في ثلاثة أشياء دون غيرها لأنها آلات الجهاد فأبيح اخذ الرهن في
المسابقة بها تحريضا على رياضتها وتعلم الاتقان فيها ولا يزاد على سهم البرذون لأنه دونه ولا يسهم
له الا ان يشهد الوقعة عليه ويكون مما يمكن القتل عليه، فاما هذه الإبل الثقيلة التي لا تصلح الا
للحمل فلا يستحق راكبها شيئا لأنها لا تكر ولا تفر فراكبها أدنى حال من الراجل، واختار
أبو الخطاب انه لا يسهم له بحال وهو قول أكثر الفقهاء قال ابن المنذر أجمع كل من احفظ عنه من
أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل كذلك قال الحسن ومكحول والثوري والشافعي
وأصحاب الرأي وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه انه أسهم لغير الخيل
من البهائم وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيرا ولم تخل غزاة من غزواته من الإبل بل هي كانت
غالب دوابهم فلم ينقل عنه أنه أسهم لها ولو أسهم لها لنقل وكذلك من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من خلفائه
448

وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه انه أسهم لبعير ولو أسهم لبعير لم يخف
ذلك ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر فلم يسهم كالبغل والحمار
(فصل) وما عدا الخيل والإبل من البغال والحمير والفيلة وغيرها لا يسهم لها بغير خلاف وإن
عظم غناؤها وقامت مقام الخيل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لها ولا أحد من خلفائه ولأنها مما لا تجوز
المسابقة عليه بعوض فلم يسهم لها كالبقر
(فصل) وينبغي للإمام أن يتعاهد الخيل عند دخول الحرب فلا يدخل إلا شديدا ولا يدخلها
حطما ولا ضعيفا ولا ضرعا ولا أعجف زارحا فإن شهد أحد الرقية على واحد من هذه لم يسهم له وبه
قال مالك وقال الشافعي يسهم له كما يسهم للمريض
ولنا أنه لا ينتفع به فلم يسهم له كالرجل المخذل والمرجف ولأنه حيوان يتعين منع دخوله فلم
يسهم له كالمرجف، وأما المريض الذي لا يتمكن من القتال فإن خرج بمرضه عن كونه من أهل
الجهاد كالزمن والأشل والمفلوج فلا سهم له لأنه لم يبق من أهل الجهاد، وإن لم يخرج بمرضه عن ذلك
كالمحموم ومن به الصداع فإنه يسهم له لأنه من أهل الجهاد ويعين برأيه وتكثيره ودعائه
(مسألة) قال (ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه)
وجملته أن الغازي إذا مات أو قتل نظرت فإن كان قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له لأنه مات
449

قبل ثبوت ملك المسلمين عليها وسواء مات حال القتال أو قبله وإن مات بعد ذلك فسهمه لورثته،
وقال أبو حنيفة إن مات قبل احراز الغنيمة في دار الاسلام أو قسمها في دار الحرب فلا شئ له
لأن ملك المسلمين لا يتم عليها إلا بذلك، وقال الأوزاعي إن مات بعد ما يدرب قاصدا في سبيل
الله قبل أو بعد أسهم له وقال الشافعي وأبو ثور ان حضر القتال أسهم له سواء مات قبل حيازة الغنيمة
أو بعدها وإن لم يحضر فلا سهم له ونحوه قال مالك والليث
ولنا أنه إذا مات قبل حيازتها فقد مات قبل ملكها وثبوت اليد عليها فلم يستحق شيئا وان
مات بعدها فقد مات بعد الاستيلاء عليها في حال لو قسمت صحت قسمتها وكان له سهمه منها فيجب
ان يستحق سهمه فيها كما لو مات بعد احرازها في دار الاسلام. إذا ثبت انه يستحقه فيكون لورثته
كسائر املاكه وحقوقه
(مسألة) قال (ويعطى الرجل سهما)
لا خلاف في أن للراجل سهما وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اعطى الراجل سهما فيما تقدم من الاخبار ولان
الراجل يحتاج إلى أقل مما يحتاج إليه الفارس وغناؤه دون غنائه فاقتضى ذلك أن يكون سهمه دون سهمه
(فصل) وسواء كانت الغنيمة من فتح حصن أو من مدينة أو من جيش وبهذا قال الشافعي وقال
الوليد بن مسلم سالت الأوزاعي عن اسهام الخيل من غنائم الحصون فقال كانت الولاة من قبل
450

عمر بن عبد العزيز الوليد وسليمان لا يسهمون الخيل من الحصون ويجعلون الناس كلهم رجالة حتى
ولي عمر بن عبد العزيز فأنكر ذلك وامر باسهامها من فتح الحصون والمدائن ووجه ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم وهي حصون ولان الخيل ربما احتيج
إليها بان ينزل أهل الحصن فيقاتلوا خارجا منه ويلزم صاحبه مؤنة له فيقسم له كما لو كان في غير حصن
(مسألة) قال (ويرضخ للمرأة والعبد)
معناه انهم يعطون شيئا من الغنيمة دون السهم ولا يسهم لهم سهم كامل ولا تقدير لما يعطونه
بل ذلك لي اجتهاد الإمام فإن رأى التسوية بينهم سوى بينهم وان رأى التفضيل فضل
وهذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب ومالك والثوري والليث والشافعي
وإسحاق وروي ذلك عن ابن عباس وقال أبو ثور يسهم للعبد وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز
والحسن والنخعي لما روي عن الأسود بن يزيد انه شهد فتح القادسية عبيد فضرب لهم سهامهم ولان
حرمة العبد في الدين كحرمة الحر وفيه من الغناء مثل ما فيه فوجب ان يسهم له كالحر، وحكي عن
الأوزاعي ليس للعبد سهم ولا رضخ إلا أن يجيئوا بغنيمة أو يكون لهم غناء فيرضخ لهم، قال ويسهم
للمرأة لما روي جرير بن زياد عن جدته انها حضرت فتح خيبر قالت فأسهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسهم
451

للرجال وأسهم أبو موسى في غزوة تستر لنسوة معه وقال أبو بكر بن أبي مريم أسهمن النساء يوم
اليرموك، وروي سعيد باسناده عن ابن شبل ان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لسلهة بنت عاصم يوم حنين
بسهم فقال رجل من القوم أعطيت سهله مثل سهمي.
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوا بالنساء فيداوين
الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن رواه مسلم، وروي سعيد عن يزيد بن هارون
ان نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن المرأة والمملوك يحضر ان الفتح ألهما من الغنم شئ؟ قال
يحذيان وليس لهما شئ، وفي رواية قال ليس لهما سهم وقد يرضخ لهما، وعن عمير مولى أبي اللحم
قال شهدت خير مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر فأني مملوك فأمر لي بشئ
من خرثي المتاع رواه أبو داود واحتج به احمد ولأنهما ليسا من أهل القتال فلم يسهم لهما كالصبي،
قالت عائشة يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال (نعم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)
وقال عمر بن أبي ربيعة:
كتبن القتل والقتال علينا * وعلى المحصنات جر الذيول
ولأن المرأة ضعيفة يستولى عليها الخور فلا تصلح للقتال ولهذا لم تقتل إذا كانت حربية، فأما
ما روي في إسهام النساء فيحتمل ان الراوي سمي الرضخ سهما بدليل أن في حديث حشرج انه
452

جعل لهن نصيبا تمرا ولو كان سهما ما اختص التمر ولان خيبر قسمت على أهل الحديبية نفر معدودين
في غير حديثها ولم يذكرن منهم ويحتمل انه أسهم لهن مثل سهام الرجال من التمر خاصة أو من المتاع
دون الأرض، وأما حديث سهلة فإن في الحديث انها ولدت فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لها
ولولدها فبلغ رضخهما سهم رجل ولذلك عجب الرجل الذي قال أعطيت سهلة مثل سهمي، ولو كان
هذا مشهورا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما عجب منه
(فصل) والمدبر والمكاتب كالقن لأنهم عبيد فإن عتق منهم قبل انقضاء الحرب أسهم لهم
وكذلك إن قتل سيد المدبر قبل تقضي الحرب وهو يخرج من الثلث عتق وأسهم له وأما من بعضه
حر فقال أبو بكر يرضخ له بقدر ما فيه من الرق ويسم له بقدر ما فيه من الحرية فإذا كان نصفه حرا
أعطي نصف سهم ورضخ له نصف الرضخ لأن هذا مما يمكن تبعيضه يقسم على قدر ما فيه من الحرية
والرق والميراث، وظاهر كلام أحمد انه يرضخ له لأنه ليس من أهل وجوب القتال فأشبه الرقيق
(فصل) والخنثى المشكل يرضخ له لأنه لم يثبت انه رجل يقسم له ولأنه ليس من أهل وجوب
الجهاد فأشبه المرأة ويحتمل أن يقسم له نصف سهم ونصف الرضخ كالميراث فإن انكشف حاله
فتبين انه رجل أتم له سهم رجل سواء انكشف قبل تقضي الحرب أو بعده أو قبل القسمة أو بعدها
لأنا تبينا انه كان مستحقا للسهم وانه أعطي دون حقه فأشبه ما لو أعطي بعض الرجال دون حقه غلطا
453

(فصل) والصبي يرضخ ولا يسهم له وبه قال الثوري والليث وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور
وعن القاسم وسالم في الصبي يغزو به ليس له شئ، وقال مالك ينسهم له إذا قاتل وأطاق ذلك ومثله
قد بلغ القتال لأنه حر ذكر مقاتل فيسهم له كالرجل، وقال الأوزاعي يسهم له وقال أسهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر وأسهم أئمة المسلمين لكل مولود ولد في أرض الحرب
وروى الجوزجاني باسناده عن الوضين بن عطاء قال حدثني جدتي قالت: كنت مع حبيب بن
مسلمة وكان يسهم لأمهات الأولاد لما في بطونهن
ولنا ما روي عن سعيد بن المسيب قال: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو
في صدر هذه الأمة
وروى الجوزجاني باسناده ان تميم بن قرع المهدي كان في الجيش الذين فتحوا الإسكندرية في
المرة الآخرة قال فلم يقسم لي عمرو من الفئ شيئا، وقال غلام لم يحتلم حتى كاد يكون بين قومي وبين
أناس من قريش في ذلك ثائرة فقال بعض القوم فيكم أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسألوهم فسألوا
أبا نضره الغفاري وعقبة بن عامر فقالا انظروا فإن كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إلي بعض القوم فإذا
انا قد أنبتت فقسم لي قال الجوزجاني هذا من مشاهير حديث مصر وجيده ولأنه ليس من أهل القتال
454

فلم يسهم له كالعبد ولم يثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم قسم لصبي بل كان لا يجيزهم في القتال فإن ابن عمر قال
عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وانا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وانا ابن
خمس عشرة فأجازني وما ذكروه يحتمل أن الرواي سمى الرضخ سهما بدليل ما ذكرناه
(فصل) فإن انفرد بالغنيمة من لا يسهم له مثل عبيد دخلوا دار الحرب فغنموا أو صبيان أو
عبيد وصبيان أخذ خمسه وما بقي لهم ويحتمل أن يقسم بينهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لأنهم
تساووا فأشبهوا الرجال الأحرار ويحتمل أن يقسم بينهم على ما يراه الإمام من المفاضلة لأنهم لا تجب
التسوية بينهم مع غيرهم فلا تجب مع الانفراد قياسا لاحدى الحالتين على الأخرى وإن كان فيهم رجل
حر أعطي سهما وفضل عليهم بقدر ما يفضل الأحرار على العبيد والصبيان في غير هذا الموضع ويقسم
الباقي بين من بقي على ما يراه الإمام من لا تفضيل لأن فيهم من له سهم بخلاف التي قبلها
(مسألة) قال (ويسهم للكافر إذا غزا معنا)
اختلفت الرواية في الكافر يغزو مع الإمام باذنه فروي عن أحمد انه يسهم له كالسلم وبهذا
قال الأوزاعي والزهري والثوري وإسحاق قال الجوزجاني هذا مذهب أهل الثغور وأهل العلم بالصوائف
455

والبعوث، وعن أحمد لا يسهم له وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة لأنه من غير أهل الجهاد
فلم يسهم له كالعبد ولكن يرضخ له كالعبد
ولنا ما روى الزهري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم. رواه
سعيد في سننه، وروي أن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر وهو على
شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة ولان الكفر نقص في الدين فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق
وبهذا فارق العبد فإن نقصه في دنياه وأحكامه، وإن غزا بغير اذن الإمام فلا سهم له لأنه غير مأمون
على الدين فهو كالمرجف وشر منه، وإن غزا جماعة من الكفار وحدهم فغنموا فيحتمل أن تكون
غنيمتهم لهم لا خمس فيها لأن هذا اكتساب مباح لم يؤخذ على وجه الجهاد فكا لهم لا خمس فيه
كالاحتشاش والاحتطاب ويحتمل أن يؤخذ خمسه والباقي لهم لأنه غنيمة قوم من أهل دار الاسلام
فأشبه غنيمة المسلمين
(فصل) ولا يستعان بمشرك وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم، وعن أحمد
ما يدل على جواز الاستعانة به وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة وهو مذهب الشافعي
لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان بن أمية ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي
في المسلمين فإن كان غير مأمون عليهم لم تجزئه الاستعانة به لأننا إذا معنا الاستعانة بمن لا يؤمن من
المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى
456

ووجه الأول ماروت عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان
بحرة الوبر أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جزاءة ونجدة فسر المسلمون به فقال يا رسول الله
جئت لاتبعك وأصيب معك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتؤمن بالله ورسوله) قال لا
قال (فارجع فلن أستعين بمشرك) قالت ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان
بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتؤمن بالله ورسوله؟) قال نعم
قال (فانطلق) متفق عليه. ورواه الجوزجاني وروي الإمام أحمد باسناده عن عبد الرحمن بن حبيب قال
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا إنا لنستحيي
أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم قال (فأسلمتما؟) قلنا لا قال (فانا لا نستعين بالمشركين على
المشركين) قال فأسلمنا وشهدنا معه ولأنه غير مأمون على المسلمين فأشبه المخذل والمرجف،
قال ابن المنذر والذي ذكر انه استعان بهم غير ثابت
(فصل) ولا يبلغ بالرضخ للفارس سهم فارس ولا للراجل سهم راجل كما لا يبلغ بالتعزير الحد
ويفعل الإمام بين أهل الرضخ ما يرى فيفضل العبد المقاتل وذا البأس على من ليس مثله ويفضل المرأة
المقاتلة والتي تسقي الماء وتداوي الجرحى وتنفع على غيرها، فإن قيل هلا سويتم بينهم كما سويتم بين
أهل السهمان؟ قلنا السهم منصوص عليه غير موكول إلى اجتهاد الإمام فلم يختلف كالحد ودية الحر
457

والرضخ غير مقدر بل هو مجتهد فيه مردود إلى اجتهاد الإمام فاختلف كالتعزير وقيمة العبد
(فصل) وفي الرضخ وجهان (أحدهما) من أصل الغنيمة لأنه استحق بالمعاونة في تحصيل الغنيمة
فأشبه أجره النقالين والحافظين لها (والثاني) هو من أربعة الأخماس لأنه استحق بحضور الوقعة
فأشبه سهام الغانمين وللشافعي قولان كهذين
(فصل) أو ما يبدأ في قسمة الغنائم بالأسلاب فيدفعها إلى أهلها لأن صاحبها معين ثم بمؤنة
الغنيمة من أجرة النقال والحمال والحافظ والمخزن ثم بالرضخ على أحد الوجهين وفي الآخر بالخمس ثم
بالانفال من أربعة الأخماس ثم يقسم بقية أربعة الأخماس بين الغانمين وإنما قدمنا قسمة أربعة الأخماس
على قسمة الخمس لستة معان (أحدها) ان أهلها حاضرون وأهل الخمس غائبون (الثاني) ان رجوع
الغانمين إلى أوطانهم يقف على قسمة الغنيمة وأهل الخمس في أوطانهم فكان الاشتغال بقسم نصيبهم
ليعودوا إلى أوطانهم أولى (الثالث) ان الغنيمة حصلت بتحصيل الغانمين وتعبهم فصاروا بمنزلة من
استحقها بعوض وأهل الخمس بخلافه فكان أهل الغيمة أولى (الرابع) انه إذا قسم الغنيمة بين الغانمين
أخذ كل انسان نصيبه فحمله واهتم به وكفى الإمام مؤنته، والخمس إذا قسم ليس له من يكفي الإمام
مؤنته فلا تحصل الفائدة بقسمته بل كان يحمله مجتمعا فصار يحمله متفرقا فكأن تأخير قسمته أولى
(الخامس) ان الخمس لا يمكن قسمه بين أهله كلهم لأنه يحتاج إلى معرفتهم وعددهم ولا يمكن ذلك مع
458

غيبتهم (السادس) ان الغانمين ينتفعون بسهامهم ويتمكنون من التصرف فيها لحضورهم بخلاف أهل الخمس
(مسألة) قال (وإذا غزا العبد على فرس لسيده قسم للفرس فكان لسيده ويرضخ للعبد)
أما الرضخ للعبد فكما تقدم وأما الفرس التي تحته فيستحق مالكها سهمها، فإن كان معه فرسان
أو أكثر أسهم لفرسين ويرضخ للعبد نص على هذا أحمد وقال أبو حنيفة والشافعي لا يسهم للفرس
لأنه تحت من لا يسهم له فلم يسهم له كما لو كان تحت مخذل
ولنا انه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فاستحق السهم كما لو كان السيد راكبه. إذا ثبت هذا
فإن سهم الفرس ورضخ العبد لسيده لأنه مالكه ومالك فرسه وسواء حضر السيد القتال أو غاب
عنه وفارق فرسه المخذل لأن الفرس له فإذا لم يستحق شيئا بحضوره فلان لا يستحق بحضور فرسه أولى
(فصل) وان غزا الصبي على فرس أو المرأة أو الكافر إذا قلنا لا يستحق إلا الرضخ لم يسهم
للفرس في ظاهر قول أصحابنا لأنهم قالوا لا يبلغ بالرضخ للفارس سهم فارس وظاهر هذا انه يرضخ له
ولفرسه مالا يبلغ سهم الفارس ولان سهم الفرس له فإذا لم يستحق السهم بحضوره فبفرسه أولى
بخلاف العبد فإن الفرس لغيره.
459

(فصل) وإذا غزا المرجف أو المخذل على فرس فلا شئ له ولا للفرس لما ذكرنا وان غزا
العبد بغير اذن سيده لم يرضخ له لأنه عاص بغزوه فهو كالمخذل والمرجف وان غزا الرجل بغير
إذن والديه أو بغير اذن غريمه استحق السهم لأن الجهاد يتعين عليه بحضور الصف فلا يبقى
عاصيا فيه بخلاف العبد.
(فصل) ومن استعار فرسا ليغزو عليه ففعل فسهم الفرس للمستعير، وبهذا قال الشافعي لأنه
يتمكن من الغزو عليه باذن صحيح شرعي فأشبه ما لو استأجره. وعن أحمد رواية أخرى أن سهم
الفرس لمالكه لأنه من نمائه فأشبه ولده، وبهذا قال بعض الحنفية وقال بعضهم لا سهم للفرس لأن
مالكه لم يستحق سهما فلم يستحق للفرس شيئا كالمخذل والمرجف والأول أصح لأنه فرس قاتل عليه
من يستحق سهما وهو مالك لنفعه فاستحق سهم الفرس كالمستأجر ولان سهم الفرس مستحق بمنفعته
وهي للمستعير بإذن المالك فيها وفارق النماء والولد فإنه غير مأذون له فيه فاما ان استعاوه لنير الغزو ثم
غزا عليه فهو كالفرس المغصوب على ما سنذكره.
(فصل) فإن غصب فرسا فقاتل عليه فسهم الفرس لمالكه نص عليه أحمد وقال بعض الحنفية
لا يسهم للفرس وهو وجه لا صحاب الشافعي وقال بعضهم سهم الفرس للغاصب وعليه اجرته لمالكه
لأنه آلة فكان الحاصل بها لمستعملها كله كما لو غصب منجلا فاحتش بها أو سيفا فقاتل به
460

ولنا أنه فرس قاتل عليه من يتسحق السهم فاستحق السهم كما لو كان مع صاحبه وإذا ثبت
أن له سهما كان لمالكه لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما وما كان
للفرس كان لمالكه وفارق ما يحتش به فإنه لا شئ له ولان السهم مستحق بنفع الفرس ونفعه لمالكه
فوجب أن يكون ما يستحق به له والحمد لله
(فصل) ومن استأجر فرسا ليغزو عليه فغزى عليه فسهم الفرس له لا نعلم فيه خلافا لأنه يستحق
لنفعه استحقاقا لازما فكان سهمه له كمالكه
(فصل) فإن كان المستأجر والمستعير ممن لا سهم له، اما لكونه لا شئ له كالمرجف والمخذل
أو ممن يرضخ له كالصبي فحكمه حكم فرسه على ما ذكرنا وان غصب فرسا فقاتل عليه احتمل أن يكون حكمه
حكم فرسه لأن الفرس يتبع الفارس في حكم فيتبعه إذا كان مغصوبا قياسا على فرسه، واحتمل أن يكون
سهم الفرس لمالكه لأن الجناية من راكبه والنقص فيه فيختص المنع به وبما هو تابع له وفرسه تابعة له
لأن ما كان لها فهو له والفرس ههنا لغيره وسهمها لمالكها فلا ينقص سهمها بنقص سهمه كما لو قاتل العبد
على فرس لسيده ولو قاتل العبد بغير إذن سيده على فرس لسيده خرج فيه الوجهان اللذان ذكرناهما
فيما إذا غصب فرسا فقاتل عليه لأنه ههنا بمنزلة المغصوب.
461

(فصل) ولا يجوز تفضيل بعض الغانمين على بعض في القسمة الا أن ينفل بعضهم من الغنيمة
نفلا على ما ذكرنا في الأنفال فاما غير ذلك فلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل
سهما وسوى بنيهم ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فتجب التسوية كسائر الشركاء
(فصل) وان قال الإمام من أخذ شيئا فهو له جاز في إحدى الروايتين وهو قول أبي حنيفة وأحد
قولي الشافعي قال احمد في السرية تخرج فيقول الوالي من جاء بشئ فهو له من لم يجئ بشئ فلا شئ
له: الأنفال إلى الإمام ما فعل من شئ جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم بدر (من أخذ شيئا فهو له) ولان
علي هذا غزوا ورضوا به
(والرواية الثانية) لا يجوز وهو القول الثاني للشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم والخلفاء
بعده ولان ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال وظفر العدو بهم فلا يجوز لأن الاغتنام سبب
لاستحقاقهم لها على سبيل التساوي فلا يزول ذلك بقول الإمام كسائر الاكتساب، واما قضية
بدر فإنها منسوخة فإنهم اختلفوا فيها فأنزل الله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله وللرسول)
(مسألة) قال (وإذا أحرزت الغنيمة لم يكن فيها لمن جاءهم مددا أو هرب من أسر حظ)
وجملة ذلك أن الغنيمة لمن حضر الموقعة فمن تجدد بعد ذلك من مدد يحلق بالمسلمين أو أسير
ينفلت من الكفار فيلحق بجيش المسلمين أو كافر يسلم فلا حق لهم فيها وبهذا قال الشافعي وقال
462

أبو حنيفة في المدد إن لحقهم قبل القسمة أو احراز ها بدار الاسلام شاركهم لأن تمام ملكها بتمام الاستيلاء
وهو الاحراز إلى دار الاسلام أو قسمتها فمن جاء قبل ذلك فقد أدركها قبل ملها فاستحل منها كما لو
جاء في أثناء الحرب وان مات أحد من العسكر قبل ذلك فلا شئ له لما ذكرنا وقد روى الشعبي ان
عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد أسهم لمن أتاك قبل ان تتفقأ قتلى فارس
ولنا ما روى أبو هريرة أن أبان بن سعيد بن العاص وأصحابه قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير
بعد أن فتحها فقال أبان أقسم لنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجلس يا ابان) ولم يقسم له
رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود وعن طارق بن شهاب ان أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل
الكوفة فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر ان الغنيمة لمن شهد الوقعة. رواه سعيد في سننه
وروي نحوه عن عثمان في غزوة أرمينية ولأنه مدد لحق بعد تقضي الحرب أشبه ما لو جاء بعد القسمة
أو بعد احرازها بدار الاسلام ولان سبب ملكها الاستيلاء عليها وقد حصل قبل مجئ المدد، وقولهم
ان ملكها باحرازها إلى دار الاسلام ممنوع بل هو بالاستيلاء وقد استولى عليها الجيش قبل المدد
وحديث الشعبي مرسل يرويه المجالد وقد تكلم فيه ثم هم لا يعملون به ولا نحن فقد حصل الاجماع
منا على خلافه فكيف يحتج به؟
463

(فصل) وحكم الا سير يهرب إلى المسلمين حكم المدد سواء قاتل أو لم يقاتل وقال أبو حنيفة
لا يسهم له إلا أن يقاتل لأنه لم يأت للقتال بخلاف المدد
ولنا أن من استحق إذا قاتل استحق وإن لم يقاتل كالمدد وسائر من حضر الوقعة
(فصل) وإن لحقهم المدد بعد تقضي الحرب وقبل حيازة الغنيمة أو جاءهم أسير فظاهر كلام
الخرقي انه يشاركهم لأنه جاء قبل احرازها، وقال القاضي تملك الغنيمة بانقضاء الحرب قبل حيازتها
فعلى هذا لا يسهم لهم، وإن حازوا الغنيمة ثم جاءهم قوم من الكفار يقاتلونهم فادركهم المدد فقاتلوا
معهم فقد نص احمد على أنه لا شئ للمدد فإنه قال إذا غنم المسلمون غنيمة فلحقهم العدو وجاء
المسلمين مدد فقاتلوا العدو معهم حتى سلموا الغنيمة فلا شئ لهم في الغنيمة لأنهم إنما قاتلوا عن
أصحابهم ولم يقاتلوا عن الغنيمة لأن الغنيمة قد صارت في أيديهم وحووها، قيل له فإن أهل المصيصة
غنموا ثم استنقذ منهم العدو فجاء أهل طرسوس فقاتلوا معهم حتى استنقذوه فقال أحب إلي ان
يصطلحوا، أما في الصورة الأولى فإن الأولين قد أحرزوا الغنيمة وملكوها بحيازتهم فكانت لهم
دون من قاتل معهم، وأما في الصورة الثانية فإنما حصلت الغنيمة يقتل الذين استنقذوها في المرة
الثانية فيبغي ان يشتركوا فيها لأن الاحراز الأول قد زال بأخذ الكفار لها ويحتمل ان الأولين قد
ملكوها بالحيازة الأولى ولم يزل ملكهم بأخذ الكفار لها منهم فلهذا أحب احمد ان يصطلحوا عليها
464

(مسألة) قال (ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الغنيمة أسهم له)
هذا مثل الرسول والدليل والطليعة والجاسوس وأشباههم يبعثون لمصلحة الجيش فإنهم يشاركون
الجيش وبهذا قال أبو بكر بن أبي مريم وراشد بن سعد وعطية بن قيس، قالوا وقد تخلف عثمان يوم
بدر فاجرى له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهما من الغنيمة، ويروى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قام يعني يوم بدر فقال (ان عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله واني أبايع له)
فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه ولم يضرب لاحد غاب غيره رواه أبو داود، وعن ابن عمر قال إن
ما تغيب عثمان عن بدر لأنه كانت تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
(ان لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه) رواه البخاري ولأنه في مصلحتهم فاستحق سهما من
غنيمتهم السرية مع الجيش والجيش مع السرية
(فصل) وسئل أحمد عن قوم خلفهم الأمير في بلاد العدو وغزا وغنم ولم يمر بهم فرجعوا هل
يسهم لهم؟ قال نعم يسهم لهم لأن الأمير خلفهم قيل له فإن نادى الأمير من كان ضعيفا فليتخلف
فتخلف قوم فصاروا إلى لؤلؤة وفيها المسلمون فأقاموا حتى فصلوا، فقال إذا كانوا قد التجئوا إلى مأمن
لهم لم يسهم لهم، ولو تخلفوا وأقاموا في موضع خوف أسهم لهم، وقال في قوم خلفهم الأمير وأغار في جلد الخيل
465

فقال إن أقاموا في بلد العدو حتى رجع أسهم لهم، وان رجعوا حتى صاروا إلى مأمنهم فلا شئ لهم، قيل
له فإن اعتل رجل أو اعتلت دابته وقد أدرب، فقال له الأمير أقم أسهم لك أو انصرف إلى أهلك أسهم
لك فكرهه وقال هذا ينصرف إلى أهل فكيف يسهم له؟
(فصل) يجوز قسم الغنائم في دار الحرب وبهذا قال مالك والأوزاعي والشافعي وابن المنذر وأبو ثور
وقال أصحاب الرأي لا تنقسم إلا في دار الاسلام لأن الملك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء التام ولا يحصل الا
باحرازها في دار الاسلام وان قسمت أساء قاسمها وجازت قسمته لأنها مسألة مجتهد فيها فإذا حكم الإمام
فيها بما يوافق قول بعض المجتهدين نفذ حكمه
ولنا ما روى أبو إسحاق الفزاري قال: قلت للأوزاعي هل قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من
الغنائم بالمدينة؟ قال لا أعلمه إنما كان الناس يتبعون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوهم ولم يعقل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غراة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسه وقسمه من قبل أن يقفل من ذلك عروة بني
المطلق وهوازن وخيبر ولان كل دار صحت القسمة فيها جازت كدار الاسلام، ولان الملك ثبت
فيها بالقهر والاستيلاء فصحت قسمتها كما لو أحرزت بدار الاسلام، والدليل على ثبوت
الملك فيها أمور ثلاثة
466

(أحدها) إن سبب الملك الاستيلاء التام وقد وجد فإننا أثبتنا أيدينا عليها حقيقة وقهرناهم ونفيناهم
عنها والاستيلاء يدل على حاجة المستولي فيثبت الملك كما في المباحات
(الثاني) ان ملك الكفار قد زال عنها بدليل أنه لا ينفذ عتقهم في العبيد الذين حصلوا في
الغنيمة ولا يصح تصرفهم فيها، ولم يزل ملكهم إلى غير مالك إذ ليست في هذه الحال مباحة علم أن
ملكهم زال إلى الغانمين
(الثالث) انه لو أسلم عبد الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حرا وهذا يدل على زوال ملك الكفار
وثبوت الملك لمن قهره وبهذا يحصل الجواب عما ذكروه
(مسألة) قال (وإذا سبوا لم يفرق بين الوالد وولده ولا بين الوالدة وولدها)
أجمع أهل العلم على أن التفريق بين الام وولدها الطفل غير جائز هذا قول مالك في أهل المدينة
والأوزاعي في أهل الشام والليث في أهل مصر والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي فيه، والأصل
فيه ما روى أبو أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه
وبين أحبته يوم القيامة) أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا توله
467

والدة عن ولدها) قال احمد لا يفرق بين الام وولدها وان رضيت وذلك والله أعلم لما فيه من
الاضرار بالولد ولأن المرأة قد ترضى بما فيه ضررها ثم يتغير قلبها بعد ذلك فتندم لا يجوز التفريق بين الأب
وولده وهذا قول أصحاب الرأي ومذهب الشافعي وقال بعض أصحابه يجوز وهو قول مالك والليث لأنه
ليس من أهل الحضانة بنفسه ولأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الام أشفق منه
ولنا انه أحد الأبوين فأشبه الام ولا نسلم انه ليس من أهل الحضانة، وظاهر كلام الخرقي انه
لافرق بين كون الولد كبيرا بالغا أو طفلا وهذا إحدى الروايتين عن أحمد لعموم الخبر ولان الوالدة
تتضرر بمفارقة ولدها الكبير ولهذا حرم عليه الجهاد بدون اذنهما
(والرواية الثانية) يختص تحريم التفريق بالصغير وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن عبد العزيز
ومالك والأوزاعي والليث وأبو ثور وهو قول الشافعي لأن سلمه بن الأكوع أتى بامرأة وابنتها
فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبها له ولم ينكر التفريق بينهما ولان النبي صلى الله عليه وسلم
أهديت إليه مارية وأختها سيرين فأمسك مارية ووهب سيرين لحسان بن ثابت ولان الأحرار يتفرقون
بعد الكبر فإن المرأة تزوج ابنتها فالعبيد أولى وبما ذكرناه يتخصص عموم حديث النهي واختلفوا
في حد الكبر الذي يجوز معه التفريق فروي عن أحمد يجوز التفريق بينهما إذا بلغ الولد وهو قول سعيد
ابن عبد العزيز وأصحاب الرأي وقول الشافعي، وقال مالك إذا أثغر وقال الأوزاعي والليث إذا استغنى
468

عن أمه ونفع نفسه وقال الشافعي في أحد قوليه إذا صار ابن سبع سنين أو ثمان سنين وقال أبو ثور إذا كان
يلبس وحده ويتوضأ وحده لأنه إذا كان كذلك يستغني عن أمه وكذلك خير الغلام بين أمه وأبيه إذا
صار كذلك ولأنه جاز التفريق بينهما بتخييره فجاز ببيعه وقسمته
ولنا ما روي عن عبادة بن الصامت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يفرق بين الوالدة وولدها) فقيل إلى متى؟
قال (حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية) ولان ما دون البلوغ مولى عليه فأشبه الطفل
(فصل) وان فرق بينهما بالبيع فالبيع فاسد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح البيع لأن النهي
لمعني في غير المعقود عليه فأشبه البيع في وقت النداء
ولنا ما روى أبو داود في سننه باسناده عن علي رضي الله عنه انه فرق بين الام وولدها فنهاه
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع والأصل ممنوع ولا يصح ما ذكروه فإنه نهى عنه لما يلحق
المبيع من الضرر فهو لمعني فيه
(مسألة) قال (والجد في ذلك كالأب والجدة فيه كالأم)
وجملة ذلك أن الجد والجدة في تحريم التفريق بينما وبين ولد ولدهما كالأبوين لأن الجد أب
والجدة أم ولذلك يقومان مقام الأبوين في استحقاق الحضانة والميراث والنفقة فقاما مقامهما في تحريم التفريق
469

ويستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الأب والام لأن للجميع ولادة ومحرمية فاستووا في ذلك
كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض
(مسألة) قال (ولا يفرق بين أخوين ولا أختين)
وجملته انه يحرم التفريق بين الاخوة في القسمة والبيع وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك والليث
والشافعي وابن المنذر يجوز لأنها قرابة لا تمنع قبول الشهادة فلم يحرم التفريق كقرابة ابن العم
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه قال: وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين فبعث أحدهما
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما فعل غلامك؟) فأخبر به فقال فأخبر به فقال (رده رده) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن
غريب وروي عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تفرقوا
بين الأخوين ولا بين الام وولدها في البيع لأنه ذو رحم محرم فلم يجز التفريق بينهما كالولد والوالد
(فصل) ويجوز التفريق بين سائر الأقارب في ظاهر كلام الخرقي وقال غيره من أصحابنا لا يجوز التفريق
بين ذوي رحم محرم كالعمة مع ابن أخيها والخالة مع ابن أختها لما ذكرنا من القياس
ولنا ان الأصل حل البيع والتفريق، ولا يصح القياس على الاخوة لأنهم أقرب ولذلك يحجبون
470

غيرهم عن الميراث فيبقى فيمن عداهم على مقتضى الأصل فاما من ليس بينهما رحم محرم فلا يمنع من
التفريق بينهم عند أحد علمناه لعدم النص فيهم وامتناع القياس على المنصوص وكذلك يجوز التفريق
بين الام من الرضاع وولدها والأخت وأختها لذلك ولان قرابة الرضاع لا توجب عتق أحدهما على
صاحبه ولا نفقة ولا ميراثا فلم تمنع التفريق كالصداقة
(فصل) وإذا كان في المغنم من لا يجوز التفريق بينهم وكان قدرهم حصة واحد من الغانمين
دفعوا إلى واحد وإن كان فيهم فضل فرضي برد قيمة الفضل جاز وان لم يكن ذلك بيعوا جملة وقسم
ثمنهم أو يجعلوا في الخمس ويجوز التفريق بينهم في العتق والفداء لأن العتق الا تفرقه فيه في المكان
والفداء تخليص فهو كالعتق
(مسألة) قال (ومن اشترى منهم وهم مجتمعون فتبين أن لا نسب بينهم رد إلى
المقسم الفضل الذي فيه بالتفريق)
وجملته ان من اشترى من المغنم اثنين أو أكثر وحسبوا عليه بنصيبه بناء على أنهم أقارب
يحرم التفريق بينهم فبان انه لا نسب بينهم وجب عليه رد الفضل الذي فيهم على الغنم لأن قيمتهم تزيد بدلك
فإن اشترى اثنين بناء على أن إحداهما أم الأخرى لا يحل له الجمع بينهما في الوطئ ولا بيع إحداهما
471

دون الأخرى فكانت قيمتهما قليلة لذلك، فإن بان ان إحداهما أجنبية من الأخرى أبيح له وطؤهما
وبيع إحداهما فتكثر قيمتهما فيجب رد الفضل كما لو اشتراهما فوجد معهما حليا أو ذهبا فتكثر قيمتهما
وكما لو أخذ دراهم فبانت أكثر مما حسب عليه
(مسألة) قال (ومن سبي من أطفالهم منفردا أو مع أحد أبويه فهو مسلم ومن سبي
مع أبويه فهو على دينهما)
وجملته انه إذا سبي من لم يبلغ من أولاد الكفار صار رقيقا ولا يخلوا من ثلاثة أحوال
(أحدها) أن يسبي منفردا عن أبويه فهذا يصيرا مسلما اجماعا لأن الدين إنما يثبت له تبعا وقد
انقطعت تبعيته لأبويه لانقطاعه عنهما واخراجه عن دراهما ومصيره إلى دار الاسلام تبعا لسابيه
المسلم فكان تابعا له في دينه
(الثاني) ان يسبى مع أحد أبويه فإنه يحكم باسلامه أيضا وبهذا قال الأوزاعي ويقال أبو حنيفة
والشافعي يكون تابعا لأبيه في الكفر لأنه لم ينفرد عن أحد أبويه فلم يحكم باسلامه كما لو سبي معهما
وقال مالك إن سبي مع بيه يتبعه لأن الولد يتبع أباه في الدين كما يتبعه في النسب وإن سبي مع أمه
فهو مسلم لأنه لا يتبعها في النسب فكذلك في الدين
472

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فمفهومه
انه لا يتبع أحدهما لأن الحكم متى علق بشيئين لا يثبت بأحدهما ولأنه يتبع سابيه منفردا فيتبعه مع
أحد أبويه قياسا على ما لو أسلم أحد الأبوين، يحققه ان كل شخص غلب حكم اسلامه منفردا غلب مع
أحد الأبوين كالمسلم من الأبوين
(الثالث) ان يسبى مع أبويه فإنه يكون على دينهما وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال
الأوزاعي يكون مسلما لأن السابي أحق به لكونه ملكه بالسبي وزالت ولاية أبويه عنه وانقطع ميراثهما
منه وميراثه منهما فكان أولى به منهما
ولنا قوله عليه السلام (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وهما معه وملك السابي له لا يمنع
اتباعه لا بويه بدليل ما لو ولد في ملكه من عبده وأمته الكافرين
(فصل) وإذا سبي المتزوج من الكفار لم يخل من ثلاثة أحوال
(أحدها) ان يسبى الزوجان معا فلا ينفسخ نكاحهما وبهذا قال أبو حنيفة والأوزاعي، وقال
مالك والثوري والليث والشافعي وأبو ثور ينفسخ نكاحهما لقوله تعالى (والمحصنات من النساء إلا
ما ملكت أيمانكم) والمحصنات المزوجات (الا ما ملكت أيمانكم) بالسبي قال أبو سعيد الخدري نزلت هذه
الآية في سبي أوطاس، وقال ابن عباس الا ذوات الأزواج من المسبيات ولأنه استولى على محل
حق الكافر فزال ملكه كما لو سباها وحدها
473

ولنا ان الرق معنى لا يمنع ابتداء النكاح فلا يقطع استدامته كالعتق والآية نزلت في سبايا أوطاس
وكانوا أخذوا النساء دون أزواجهن وعموم الآية مخصوص بالمملوكة المزوجة في دار الاسلام فيخص
منه محل النزاع بالقياس عليه
(الحال الثاني) أن تسبى المرأة وحدها فينفسخ النكاح بلا خلاف علمناه والآية دالة عليه
وقد روى أبو سعيد الخدري قال أصبنا سبايا يوم أو طاس ولهن أزواج في قومهن فذكر ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فنزلت (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) رواه الترمذي وقال هذا حديث
حسن إلا أن أبا حنيفة قال إذا سبيت المرأة وحدها ثم سبي زوجها بعدها بيوم لم ينفسخ النكاح
ولنا ان السبب المقتضي للفسخ وجد فانفسخ النكاح كما لو سبي بعد شهر
(الحال الثالث) سبي الرجل وحده فلا ينفسخ النكاح لأنه لا نص فيه ولا القياس يقتضيه وقد
سبى النبي صلى الله عليه وسلم سبعين من الكفار يوم بدر فمن عل بعضهم وفادى بعضا فلم يحكم عليهم بفسخ أنكحتهم
ولأننا إذا لم نحكم بفسخ النكاح فيما إذا سبيا معا مع الاستيلاء على محل حقه فلان لا ينفسخ نكاحه مع
عدم الاستيلاء أولى
وقال أبو الخطاب إذا سبي أحد الزوجين انفسخ النكاح ولم يفرق وبه قال أبو حنيفة لأن الزوجين
افترقت بهما الدار وطرأ الملك على أحدهما فانفسخ النكاح كما لو سبيت المرأة وحدها، وقال الشافعي
إن سبي واسترق انفسخ نكاحه وإن من عليه أو فودي لم ينفسخ
474

ولنا ما ذكرناه وان السبي لم يزل ملكه عن ماله في دار الحرب فلم يزله عن زوجته كما لم
يزله عن أمته (فل) ولم يفرق أصحابنا في سبي الزوجين بين أن يسبيهما رجل واحد أو رجلان وينبغي أن
يفرق بينهما فإنهما إذا كانا مع رجلين كان مالك المرأة منفردا بها ولا زوج معه لها فتحل له لقوله
تعالى (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) وذكر الأوزاعي ان الزوجين إذا سبيا فهما على
النكاح في المقاسم فإن اشتراهما رجل فله أن يفرق بينهما إن شاء أو يقرهما على النكاح
ولنا ان تجدد الملك في لزوجين لرجل لا يقتضي جواز الفسخ كما لو اشترى زوجين مسلمين.
إذا ثبت هذا فإنه لا يحرم بالتفريق بين الزوجين في القسمة والبيع لأن الشرع لم يرد بذلك
(فصل) إذا أسلم الحربي في دار الحرب حقن ماله ودمه وأولاده الصغار من السبي، وإن يدخل
دار الاسلام فاسلم وله أولاد صغار في دار الحرب صاروا مسلمين ولم يجز سبيهم، وبه قال مالك
والشافعي والأوزاعي، وقال أبو حنيفة ما كان في يديه من ماله ورقيقه ومتاعه وولده الصغار ترك له
وما كان من أمواله بدار الحرب جاز سبيهم لأنه لم يثبت اسلامهم باسلامه لاختلاف الدارين بينهم
ولهذا إذا سبي الطفل وأبواه في دار الكفر لم يتبعهما ويتبع سابيه في الاسلام وما كان من أرض أو
دار فهو في ء وكذلك زوجته إذا كانت كافر ة وما في بطنها فئ
475

ولنا ان أولاده أولاد مسلم فوجب ان يتبعوه في دار الاسلام كما لو كانوا معه في الدار ولان
ماله مال مسلم فلا يجوز اغتنامه كما لو كان في دار الاسلام وبذلك يفارق مال الحربي وأولاده وما ذكره
أبو حنيفة لا يلزم فإننا نجعله تبعا للسابي لأننا لا نعلم بقاء أبويه فاما أولاده الكبار فلا يعصمهم لأنهم
لا يتبعونه ولا يعصم زوجته لذلك فإن سبيت صارت رقيقا ولم ينفسخ نكاحه برقها ولكن يكون حكمها
في النكاح وفسخه حكم ما لو لم تسب على ما مر في نكاح أهل الشرك، فإن كانت حاملا من زوجها لم يجز
استرقاق الحمل وكان حرا مسلما وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يحكم برقه مع أمه لأن ما سرى
إليه العتق سري إليه الرق كسائر أعضائها
ولنا انه محكوم بحريته واسلامه فلم يجز استرقاقه كالمنفصل ويخالف الأعضاء لأنها لا تنفرد
بحكم عن الأصل
(فصل) وإذا أسلم الحربي في دار الحرب وله ما لو عقار أو دخل إليها مسلم فابتاع عقارا أو مالا
فظهر المسلمون على ماله وعقاره لم يملكوه وكان له وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة يغنم
العقار وأما غيره فما كان في يده أو يد مسلم لم يغنم واحتج بأنها بقعة من دار الحرب فجاز اغتنامها
كما لو كانت لحربي. ولنا أنه مال مسلم فأشبه ما لو كاتب في دار الاسلام
476

(فصل) إذا استأجر المسلم أرضا من حربي ثم استولى عليها المسلمون فهي غنيمة ومنافعها للمستأجر
لأن المنافع ملك المسلم فإن قيل فلم أجزتم استرقاق الكافرة الحربية إذا كان زوجها قد أسلم وفي استرقاقها
ابطال حق زوجها؟ قلنا يجوز استرقاقها لأنها كافرة ولا أمان لها فجاز استرقاقها كما لو لم تكن زوجة مسلم
فلا يبطل نكاحه بل هو باق ولان منفعة النكاح لا تجري مجرى الأموال بدليل انها لا تضمن باليد ولا
يجوز أخذ العوض عنها بخلاف حق الإجارة
(فصل) إذا أسلم عبد الحربي أو أمته وخرج إلينا فهو حر وان أسر سيده وأولاده وأخذ ماله
وخرج إلينا فهو حر والمال له والسبي رقيقه وان أسلم وأقام بدار الحرب فهو على رقه وان أسلمت
أم ولد الحربي وخرجت إلينا عتقت واستبرأت نفسها، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر
وقال به كل من نحفظ عنه من أهل العلم الا أن أبا حنيفة قال في أم الولد تزوج ان شاءت من غير استبراء
وأهل العلم على خلافه لأنها أم ولد عتقت فلم يجز أن تتزوج بغير استبراء كما لو كانت لذمي
وروى سعيد بن منصور حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم وعن أبي سعيد الأعسم قال قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيد،
أنه حر فإن خرج سيده بعد لم يرد عليه وقضى ان السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على
سيده رواه سعيد أيضا وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد علينا
477

أبا بكرة وكان عبدا لنا اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاضر ثقيفا فاسلم فأبى ان يرده علينا وقال هو طليق
الله ثم طليق رسوله فلم يرده علينا
(مسألة) قال (وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم فأدركه صاحبه
قبل قسمه فهو أحق به)
فإن أدركه مقسوما فهو أحق به بالثمن الذي ابتاعه من الغنم في إحدى الروايتين والرواية الأخرى
إذا قسم فلا حق له فيه بحال يعني إذا أخذ الكفار أموال المسلمين ثم قهر هم المسلمون فأخذوها منهم
فإن علم صاحبها قبل قسمها ردت إليه بغير شي ء في قول عامة أهل العلم منهم عمر رضي الله عنه وعطاء
والنخعي وسلمان بن ربيعة والليث ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي
وقال الزهري لا يرد إليه وهو للجش ونحوه عن عمرو بن دينار لأن الكفار ملكوه باستيلائهم
فصار غنيمة كسائر أموالهم
ولنا ما روى ابن عمر ان غلاما له أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى ابن عمر ولم يقسم وعنه قال ذهب فرس له فاخذها العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم رواهما أبو داود وعن جابر بن حياة ان أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب فيما أحرز المشركون
478

من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليهم بعد قال من وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم رواه سعيد والأثرم
فأما ما أدركه بعد أن قسم ففيه روايتان:
(إحداهما) ان صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به عل من اخذه وكذلك أن بيع ثم قسم ثمنه
فهو أحق به بالثمن، وهذا قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك لما روى ابن عباس رضي الله
عنه ان رجلا وجد بعيرا له كان المشركون أصابوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ان أصبته قبل ان نقسمه
فهو لك، وان أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة) ولأنه إنما امتنع اخذه له بغير شي ء كيلا يفضي إلى
حرمان آخذه من الغنيمة أو يضيع الثمن على المشتري وحقهما ينجبر بالثمن فيرجع صاحب المال في
عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع الا ان المحكي عن مالك وأبي حنيفة انه يأخذه بالقيمة
ويروى عن مجاهد مثله
والرواية الثانية عن أحمد أنه إذا قسم فلا حق له فيه بحال نص عليه في رواية أبي داود وغيره
وهو قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث قال أحمد أما قول من قال هو أحق بالقيمة
فهو قول ضعيف عن مجاهد، وقال الشافعي يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها ويعطي مشتريه ثمنه
من خمس المصالح لأنه لم يزل عن ملك صاحبه فوجب أن يستحق أخذه بغير شئ كما قبل القسمة
ويعطى من حسب عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان آخذه حقه من الغنيمة وجعل من سهم المصالح
لأن هذا منها وهذا قول ابن المنذر
479

ولنا ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى السائب أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه
ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما اقتسم فلا سبيل له إليه، وقال
سلمان بن ربيعة إذا قسم فلا حق له فيه رواهما سعيد في سننه ولأنه اجماع، قال أحمد: إنما قال
الناس فيها قولين: إذا قسم فلا شئ له وقال قوم إذا قسم فهو له بالثمن فأما أن يكون له بعد القسمة
بغير ذلك قلم يقله أحد ومتى ما انقسم أهل العصر على قولين في حكم لم يجز أحدث قول ثالث لأنه
يخالف الاجماع فلم يجز المصير إليه، وقد روى أصحابنا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من
أدرك ماله قبل ان يقسم فهو له، وإن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شئ) والمعمول على ما ذكرنا
من الاجماع وقولهم لم يزل ملك صاحبه عنه غير مسلم
(فصل) وإن أخذه أحد الرعية بهبة أو سرقة أو بغير شئ فصاحبه أحق به بغير شئ، وقال
أبو حنيفة لا يأخذه الا بالقيمة لأنه صار ملكا لو أحد بعينه فأشبه ما لو قسم
ولنا ما روي أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت
عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليل قالت فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على
ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة ونذرت ان نجاني الله عليها ان أنحرها فلما قدمت المدينة
استعرفت الناقة فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها فقلت يا رسول الله اني نذرت ان أنحرها
480

فقال (بئس ما جازيتها لا نذر في معصية) وفي رواية (لا نذر فيما لا يملك ابن آدم) رواه أحمد
ومسلم ولأنه لم يحصل في يده بعوض فكان صاحبه أحق به كما لو أدركه في الغنيمة قبل قسمه فأما
ان اشتراه رجل من العدو فليس لصاحبه أخذه الا بثمنه لما روى سعيد حدثنا عثمان بن مطر الشيباني
حدثنا أبو حريز عن الشعبي قال أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا من سبايا العرب
ورقيقا ومتاعا ثم إن السائب بن الأقرع عامل عمر غزاهم ففتح ماه فكتب إلى عمر في سبايا المسلمين
ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب إليه عمر ان المسلم أخوا المسلم لا يخونه ولا يخذله
فأيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما
اقتسم فلا سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد عليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع ولا
يشترى، وقال القاضي ما حصل في يده بهبة أو سرقة أو شراء فهو كما لو وجده صاحبه بعد القسمة
هل يكون صاحبه أحق به بالقيمة؟ على روايتين والأولى ما ذكرناه وان علم الإمام بمال المسلم قبل
قمه فقسمه وجب رده وكان صاحبه أحق به بغير شئ لأنه قسمته كانت باطلة من أصلها
(فصل) وان غنم المسلمون من المشركين شيئا عليه علامة المسلمين فلم يعلم صاحبه فهو غنيمة
قال أحمد في مراكب تجئ من مصر يقطع عليها الروم فيأخذونها ثم يأخذها المسلمون منهم
ان عرف صاحبها فلا يؤكل منها وهذا يدل على أنه إذا لم يعرف صاحبها جاز الاكل منها ونحو هذا
قول الثوري والأوزاعي قالا في المصحف يحصل في الغنائم يباع وقال الشافعي يوقف حتى يجئ
481

صاحبه، وإن وجد شئ موسوم عليه حبس في سبيل الله رد كما كان نص عليه أحمد وبه قال الأوزاعي
والشافعي، وقال الثوري يقسم ما لم يأت صاحبه
ولنا ان هذا قد عرف مصرفه وهو الحبس فهو بمنزلة ما لو عرف صاحبه، قيل لأحمد فالجواميس
تدرك وقد ساقها العدو للمسلمين وقد ردت يؤكل منها؟ قال إذا عرف لمن هي فلا يؤكل منها قيل
لأحمد فما حاز العدو للمسلمين فأصابه المسلمون أعليهم ان يقفوه حتى يتبين صاحبه؟ قال إذا عرف
فقيل هو لفلان وكان صاحبه بالقرب، قيل له أصيب غلام في بلاد الروم قال أنا لفلان رجل قال
إذا عرف الرجل لم يقسم ماله ورد على صاحبه، قيل له أصبنا مركبا في بلاد الروم فيها النواتية
قالوا هذا لفلان وهذا لفلان؟ قال هذا قد عرف صاحبه لا يقسم
(فصل) قال القاضي: يملك الكفار أموال المسلمين بالقهر وهو قول مالك وأبي حنيفة، وقال
أبو الخطاب لا يملكونها وهو قول الشافعي قال وهو ظاهر كلام احمد حيث قال إن أدركه صاحبه
قبل القسمة فهو أحق به وإنما منعه أخذه بعد قسمه لأن قسمة الإمام له تجري مجرى الحكم ومتى
صادف الحكم أمرا مجتهدا فيه نفذ حكمه
وحكي عن أحمد في ذلك روايتان، واحتج من قال لا يملكونها بحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه
مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم يملك بها كالغصب ولان من لا يملك رقبة غيره بالقهر لم يملك
482

ماله به كالمسلم مع المسلم، ووجه الأول ان القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر فملك به الكفار
مال المسلم كالبيع فاما الناقة فإنما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أدركها غير مقسومة ولا مشتراة فعلى هذا
يملكونها قبل حيازتها إلى دار الكفر وهو قول مالك، وذكر القاضي أنهم إنما يملكونها بالحيازة
إلى دارهم وهو قول أبي حنيفة، وحكي في ذلك عن أحمد روايتان. ووجه الأول ان الاستيلاء سبب
للملك فيثبت قبل الحيازة إلى الدار كاستيلاء المسلمين على مال الكفار ولان ما كان سببا للملك
أثبته حيث وجد كالهبة والبيع، وفائدة الخلاف في ثبوت الملك وعدمه ان من أثبت الملك للكفار
في أموال المسلمين أباح للمسلمين إذا ظهروا عليها قسمتها والتصرف فيها ما لم يعلموا صاحبها وان
الكافر إذا أسلم وهي في يده فهو أحق بها، ومن لم يثبت الملك اقتضى مذهبه عكس ذلك والله أعلم
(فصل) ولا أعلم خلافا في أن الكافر الحربي إذا أسلم أو دخل إلينا بأمان بعد أن استولى على
مال مسلم فاتلفه انه لا يلزمه ضمانه وإن أسلم وهو في يده فهو له بغير خلاف في المذهب لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم (من أسلم على شئ فهو له) وإن كان أخذه من المستولي عليه بهبة أو سرقة أو شراء فكذلك
لأنه استولى عليه في حال كفره فأشبه ما استولى عليه بقهره للمسلم وعن أحمد ان صاحبه يكون أحق
به بالقيمة وإن استولى على جارية مسلم فاستولدها ثم أسلم فهي له وهي أم ولد له نص عليه احمد لأنها
مال فأشبهت سائر الأموال وإن غنمها المسلمون وأولادها قتل اسلام سابيها فعلم صاحبها ردت إليه
وكان أولادها غنيمة لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها
483

(فصل) وان استولوا على حر لم يملكوه سواء كان مسلما أو ذميا
لا اعلم في هذا خلافا لأنه لا يضمن بالقيمة ولا يثبت عليه يد بحال وكلما يضمن بالقيمة يملكونه
بالقهر كالعروض والعبد القن والمدبر والمكاتب وأم الولد، وقال أبو حنيفة: لا يملكون المكاتب
وأم الولد لأنهما لا يجوز نقل الملك فيهما فهما كالحر.
ولنا أنهما يضمنان بالقيمة فيملكونهما كالعبد القن ويحتمل ان يملكوا المكاتب دون أم الولد
لأن أم الولد لا يجوز نقل الملك فيها ولا يثبت فيها لغير سيدها وفائدة الخلاف ان من قال بثبوت
الملك فيهما قال متى قسما أو اشتراهما انسان لم يكن لسيدهما اخذهما الا بالثمن، قال الزهري في أم الولد:
يأخذها سيدها بقيمة عدل وقال مالك يفديها الإمام فإن لم يفعل يأخذها سيدها بقيمة عدل ولا
يدعها يستحل فرجها من لا تحل له ومن قال لا يثبت الملك فيهما ردا إلى ما كانا عليه على كل
حال كالحر وإن اشتراهما انسان فالحكم فيهما كالحكم في الحر إذا اشتراه
(فصل) إذا ابق عبد المسلم إلى دار الحرب فأخذوه ملكوه كالمال يو هذا قول مالك وأبي يوسف
ومحمد وقال أبو حنيفة لا يملكوه وعن أحمد مثل ذلك لأنه إذا صار في دار الحرب زالت يد مولاه عنه وصار
في يد نفسه فلم يملك كالحر
ولنا انه مال لو أخذوه من دار الاسلام ملكوه فإذا أخذوه من دار الحرب ملكوه كالبهيمة
(مسألة) قال (من قطع من مواتهم حجرا أو عودا أو صاد حوتا أ وظبيا رده على
سائر الجيش إذا استغنى عن أكله والمنفعة به)
يعني إذا أخذ شيئا له قيمة من دار الحرب فالمسلمون شركاؤه فيه وبه قال أبو حنيفة والثوري وقال
484

الشافعي ينفرد آخذه بملكه لأنه لو أخذه من دار الاسلام ملكه فإذا أخذه من دار الحرب ملكه كالشئ
التافه وهذا قول مكحول والأوزاعي ونقل ذلك عن القاسم وسالم
ولنا انه مال ذو قيمة مأخوذ من أرض الحرب بظهر المسلمين فكان غنيمة كالمطعومات وفارق ما أخذوه
من دار الاسلام لأنه لا يحتاج إلى الجيش في أخذه فاما إن احتاج إلى أكله والانتفاع به فله ذلك ولا
يرده لأنه لو وجد طعاما مملوكا للكفار كان له أكله إذا احتاج فما أخذ من الصيود والمباحات أولى
(فصل) وان أخذ من بيوتهم أو خارجا منها مالا قيمة له في أرضهم كالمسن والأقلام والأحجار
والأدوية فله أخذه وهو أحق به، وان صارت له قيمه بنقله أو معالجته نص احمد علي نحو هذا وبه
قال مكحول والأوزاعي والشافعي وقال الثوري إذا جاء به إلى دار الاسلام دفعه في المقسم وان عالجه فصار
له ثمن أعطي بقدر عمله فيه وبقيته في المقسم
ولنا ان القيمة إنما صارت له بعمله أو بنقله فلم تن غنيمة كما لو لم تصر له قيمة
(فصل) وان ترك صاحب المقسم شيئا من الغنيمة عجزا عن حمله فقال من أخذ شيئا فهو له
فمن حمل شيئا فهو له نص عليه احمد وسئل عن قوم غنموا غنائم كثيرة فيبقى خرثي المتاع مما لا يباع
ولا يشترى فيدعه الوالي بمنزلة العقار والفخار وما أشبه ذلك أيأخذه الانسان لنفسه؟ قال نعم إذا ترك
485

ولم يشتر ونحو هذا قول مالك ونقل عنه أبو طالب في المتاع لا يقدرون على حمله. إذا حمله رجل
يقسم وهذا قول إبراهيم قال الخلال روى أبو طالب هذه في ثلاثة مواضع في موضع منها وافق
أصحابه وفي موضع خالفهم قال ولا شك ان أبا عبد الله قال هذا أولا ثم تبين له بعد ذلك أن للإمام
أن يبيحه وان يحرمه وان لهم أن يأخذوه إذا تركه الإمام إذا لم يجد من يحمله لأنه إذا لم يجد من يحمله
ولم يقدر على حمله بمنزلة مالا قيمة له فصار كالذي ذكرناه في الفصل قبل هذا
(فصل) وان وجد في أرضهم ركازا فإن كان في موضع يقدر عليه بنفسه فهو كما لو وجده في دار الاسلام
فيه الخمس وباقيه له وان قدر عليه بجماعة المسلمين فهو غنيمة، ونحو هذا قول مالك والأوزاعي والليث وقال
الشافعي ان وجده في مواتهم فهو كما لو وجده في دار الاسلام
ولنا ما روى عاصم بن كليب عن أبي الجويرية الحرمي قال أصبت بأرض الروم جرة حمراء فيها
دنانير في امرة معاوية وعلينا معن بن يزيد السلمي فأتيته بها فقسمها بين المسلمين وأعطاني مثل
ما أعطى رجلا منهم ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا نفل إلا بعد
الخمس) لأعطيتك ثم أخذ يعرض على من نصيبه فأبيت أخرجه أبو داود ولأنه مال مشرك ظهر عليه بقوة
جيش المسلمين فكان غنيمة كأموالهم الظاهرة
486

(فصل) وسئل احمد عن الدابة تخرج من بلد الروم أو تنفلت فتدخل القرية وعن القوم يضلون
عن الطريق فيدخلون القرية من قرى المسلمين فيأخذونهم فقال يكونون لأهل القرية كلهم يتقاسمونهم
وسئل عن قوم يكونون في حصن أو رباط فيخرج منهم قوم إلى قتالهم فيصيبون دوابا أو سلاحا
فقال أبو عبد الله تكون بين أهل الرباط وأهل الحضرة من القرية وسئل عن مركب بعث به ملك الروم
فيه رجاله فطرحته الريح إلى طرطوس فخرج إليه أهل طرطوس فقتلوا الرجال وأخذوا الأموال فقال
هذا فئ المسلمين مما أفاء الله عليهم وقال الزهري هو لمن غنمة وفيه الخمس فقال أبو الخطاب من ضل الطريق
منهم أو حملته الريح إلينا فهو لمن أخذه في إحدى الروايتين لأنه متاع أخذه أحد المسلمين بغير قوة مسلم فكان
له كالحطب والرواية الثانية يكون فيئا
(فصل) من وجد في دارهم لقطة فإن كانت من متاع المسلمين فهي لقطعة يعرفها سنة ثم
يملكها، وإن كانت من متاع المشركين فهي غنيمة وان احتمل الامرين عرفها حولا ثم جعلها في الغنيمة
نص عليه احمد ويعرفها في بلد المسلمين لأنها تحتمل الامرين فغلب فيها حكم مال المسلمين في التعريف وحكم
مال أهل الحرب في كونها غنيمة احتياطا
(مسألة) قال (من تعاف فضلا عما يحتاج إليه رده علي المسلمين فإن باعه رد ثمنه في المقسم)
أجمع أهل العلم الا من شذ منهم على أن للغزاة إذا دخلوا أرض الحرب أن يأكلوا مما وجدوا
من الطعام ويعلفوا دوابهم من أعلافهم منهم سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي والقاسم
487

وسالم والثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري لا يؤخذ الا باذن الإمام
وقال سليمان بن موسى لا يترك الا أن ينهي عنه الإمام فيتقى نهيه
ولنا ما روى عبد الله بن أبي أوفى قال أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يأخذ منه مقدار ما
يكفيه ثم ينصرف رواه سعيد وأبو داود، وروي أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر انا أصبنا
أرضا كثيرة الطعام والعلف وكرهت ان أتقدم في شئ من ذلك فكتب إليه دع الناس يعلفون ويأكلون
فمن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين رواه سعيد، وقد روى عبد الله
ابن مغفل قال دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت والله لا أعطي أحدا منه شيئا فالتفت
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فاستحييت منه متفق عليه ولان الحاجة تدعوا إلى هذا وفي المنع منه
مضرة بالجيش وبدوابهم فإنه يعسر عليهم نقل الطعام العلف من دار الاسلام ولا يجدون بدار
الحرب ما يشترونه ولو وجدوه لم يجدا ثمنه ولا يمكن قسمه ما يأخذه الواحد منهم ولو قسم لم يحصل
للواحد منهم شئ ينتفع به ولا يدفع به حاجته فأباح الله تعالى لهم ذلك، فمن أخذ من الطعام شيئا مما
يقتات أو يصلح به القوت من الادم وغيره أو العلف لدابته فه أحق به وسواء كان له ما يستغني
به عنه أولم يكن له ويكون أحق بما يأخذه من غيره فإن فضل منه مالا حاجة به إليه رده على
المسلمين لأنه إنما أبيح له ما يحتاج إليه، وإن أعطاه أحد من أهل الجيش ما يحتاج إليه جاز له أخذه
488

وصار أحق به من غيره، وان باع شيئا من الطعام أو العلف رد ثمنه في الغنيمة لما ذكرنا من حديث
عمر، وروي مثله عن فضالة بن عبيد وبه قال سليمان بن موسى والثوري والشافعي وكره القاسم
وسالم ومالك بعيه، وقال القاضي لا يخلو إما ان يبيعه من غاز أو غيره فإن باعه لغيره بالبيع باطل لأنه
بيع مال الغنيمة بغير ولاية ولا نيابة فيجب رد المبيع ونقض البيع فإن تعذر رده رد قيمته أو
ثمنه إن كان أكثر من قيمته إلى المغنم
وعلى هذا الوجه حمل كلام الخرقي، وان باعه لغاز للم يجل الا ان يبدله بطعام أو علف مما له الانتفاع
به أو بغيره، فإن باعه بمثله فليس هذا بيعا في الحقيقة إنما سلم إليه مباحا واخذ مثله مباحا ولكل واحد
منهما الانتفاع بما أخذه وصار أحق به لثبوت يده عليه، فعلى هذا لو باع صاعا بصاعين وافترقا قبل
القبض جاز لأنه ليس ببيع، وإن باعه به نسيئة أو اقرضه إياه فأخذه فهو أحق به ولا يلزمه إيفاؤه فإن
وفاه أورده إليه عادت اليد إليه، وان باعه بغير الطعام والعلف فالبيع أيضا غير صحيح ويصير المشتري
أحق به لثبوت يده عليه ولا ثمن عليه وان اخذ منه وجب رده إليه
(فصل) وان وجد دهنا فهو كسائر الطعام لما ذكرنا من حديث بن مغفل ولأنه طعام فأشبه
البر والشعير وإن كان غير مأكول فاحتاج أن يدهن به أو يدهن دابته فظاهر كلام احمد جوازه إذا كان
489

من حاجة قال أحمد في زيت الروم إذا كان من ضرورة أو صداع فلا بأس، فأما التزين فلا يعجبني، وقال
الشافعي ليس له دهن دابته من جرب ولا يوقحها الا بالقيمة لأن ذلك لا تعم الحاجة إليه ويحتمل كلام
احمد مثل هذا لأن هذا ليس بطعام ولا علف
ووجه الأول ان هذا مما يحتاج إليه لا صلاح نفسه ودابته أشبه الطعام والعلف وله أكل ما يتداوى
به وشرب الشراب من الجلاب والسكنجبين وغيرهما عند الحاجة إليه لأنه من الطعام، وقال أصحاب
الشافعي ليس له تناوله لأنه ليس من القوت ولا يصلح به القوت ولأنه لا يباح مع عدم الحاجة إليه فلا
يباح مع وجودها كغير الطعام
ولنا انه طعام احتيج إليه أشبه الفواكه وما ذكروه يبطل بالفاكهة وإنما اعتبارنا الحاجة ههنا
لأن هذا لا يتناول في العادة إلا عند الحاجة إليه
(فصل) قال احمد ولا يغسل ثوبه بالصابون لأن ذلك ليس بطعام ولا علف ويراد للتحسين
والزينة فلا يكون في معناهما ولو كان مع الغازي فهدا وكلب الصيد لم يكن له اطعامه من الغنيمة
فإن أطعمها غرم قيمة ما أطعمها لأن هذا يراد للتفرج والزينة وليس مما يحتاج إليه في الغزو بخلاف الدواب
(فصل) ولا يجوز ليس الثياب ولا ركوب دابة من الغنم لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري
490

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيئ المسلمين
حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيئ المسلمين حتى
إذا أخلقه رده فيه) رواه سعيد
(فصل) ولا يجوز الانتفاع بجلودهم واتخاذ النعل والجرب منها ولا الخيوط والحبال وبهذا قال
ابن محيريز ويحيى بن أبي كثير وإسماعيل بن عياش (1) والشافعي، ورخص في اتخاذ الجرب من جلود
الغنم سلمان بن موسى، ورخص مالك في الإبرة والحبل يتخذ من العشر، والنعل والخف يتخذ
من جلود البقر
ولنا ما روى قيس بن أبي حازم أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنة من شعر من المغنم فقال
يا رسول الله انا لنعمل الشعر فهبها لي؟ قال (نصيبي منها لك) رواه سعيد
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أدوا الخيط والمخيط فإن الغلول نار وشنار يوم القيامة) ولان
ذلك من الغنيمة لا تدعو إلى أخذه حاجة عامة فلم يجز أخذه كالثياب
(فصل) فأما كتبهم فإن كانت مما ينتفع به ككتب الطب واللعة والشعر فهي غنيمة، وإن
كانت مما لا ينتفع به ككتاب التوراة والإنجيل فأمكن الانتفاع بجلودها أو ورقها بعد غسله غسل وهو
غنيمة وإلا فلا ولا يجوز بيعها

(1) هو إسماعيل بن عياش الحمصي أبو عتبة العنسي روى عن شرحبيل بن مسلم الخولاني وغيره قال يزيد بن هارون ما رأيت شاميا ولا عراقيا أحفظ من إسماعيل بن عياش
491

(فصل) وإن أخذوا من الكفار جوارح للصيد كالفهود والبزاة فهي غنيمة تقسم، وإن كانت
كلابا لم يجز بيعها وإن لم يردها أحد من الغانمين جاز ارسالها أو اعطاؤها غير الغانمين وإن رغب
فيها بعض الغانمين دون بعض دفعت إليه ولم تحسب عليه لأنها لا قيمة لها، وإن رغب فيها الجميع أو
جماعة كثيرة فأمكن قسمها يكون عددا من غير تقويم وإن تعذر ذلك أو تنازعوا في الجيد منها
فطلبه كل واحد منهم أقرع بينهم فيها، وإن وجدوا خنازير قتلوها لأنها مؤذية ولا نفع فيها، وإن
وجدوا خمرا أراقوه وإن كان في ظروفه نفع للمسلمين أخذوها وإن لم يكن فيها نفع كسروها لئلا
يعودا إلى استعمالها
(فصل) وللغازي أن يعلف دوابه وطعم رقيقه مما يجوز له الاكل منه سواء كانوا للقنية أو للتجارة،
قال أبو داود قلت لأبي عبد الله يشتري الرجل السبي في بلاد الروم يطعمهم من طعام الروم؟
قال نعم يطعمهم
وروى عنه ابنه عبد الله قال سألت أبي عن الرجل يدخل بلاد الروم ومعه الجارية والدابة
للتجارة إن أطعمهما يعني الجارية وعلف الدابة؟ قال لا يعجبني ذلك فإن لم تكن للتجارة فلم يربه
بأسا فظاهر هذا انه لا يجوز اطعام ما كان للتجارة لأنه ليس مما يستعين به على الغزو، وقال الخلال
492

رجع احمد عن هذه الرواية وروى عنه جماعة بعد هذا انه لا بأس به وذلك لأن الحاجة داعية إليه
فأشبه مالا يراد به التجارة
(مسألة) قال (ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشار كونه فيما غنم)
وجملته ان الجيش إذا فصل غازيا فخرجت منه سرية أو أكثر فأيهما غنم شاركه الآخر في قول
عامة أهل العلم منهم مالك والثوري والأوزاعي والليث وحماد والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب
الرأي، وقال النخعي إن شاء الإمام خمس ما تأتي به السرية وإن شاء نفلهم إياه كلهم
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية
فاشرك بينهما وبين الجيش، قال ابن المنذر وروينا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ويرد سراياهم على قعدهم)
وفي تنفيل النبي صلى الله عليه وسلم في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث دليل على اشتراكهم فيما سوى ذلك لأنهم
لو اختصوا بما غنموه لما كان ثلثه نفلا ولأنهم جيش واحد وكل واحد منهم ردء لصاحبه فيشتركون
كما لو غنم أحد جانبي الجيش، وإن أقام الأمير ببلد الاسلام وبعث سرية أو جيشا فما غنمت السرية
فهو لها وحدها لأنه إنما يشترك المجاهدون والمقيم في بلد الاسلام ليس بمجاهد وان نفذ من بلد الاسلام
493

جيشين أو سريتين فكل واحدة تنفرد بما غنمته لأن كل واحدة منهما انفردت بالغزو فانفردت
بالغنيمة بخلاف ما إذا فصل الجيش فدخل بجملته بلاد الكفار فإن جميعهم اشتركوا في الجهاد
فاشتركوا في الغنيمة
(مسألة) قال (ومن فضل معه من الطعام فأدخله البلد طرحه في مقسم تلك الغزاة
في إحدى الروايتين)
والأخرى يباح له أكله إذا كل يسيرا. أما الكثير فيجب رده بغير خلاف نعلمه لأن ما كان
مباحا له في دار الحرب فإذا أخذه على وجه يفضل منه كثير إلى دار الاسلام فقد أخذ مالا يحتاج
إليه فيلزمه رده لأن الأصل تحريمه لكونه مشتركا بين الغانمين كسائر المال وإنما أبيح منه ما دعت الحاجة
إليه فما زاد يبقى على أصل التحريم ولهذا لم يبح له بيعه واما اليسير ففيه روايتان
(إحداهما) يجب رده أيضا وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة وابن المنذر وأحد قولي الشافعي
وأبي ثور لما ذكرنا في الكثير ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (أدوا الخيط والمخيط) ولأنه من الغنيمة ولم يقسم فلم يبح
في دار الاسلام كالكبير أو كما لو أخذه في دار الاسلام
494

(والثانية) يباح وهو قول مكحول وخالد بن معدان وعطاء الخراساني ومالك والأوزاعي قال أحمد
أهل الشام يتساهلون في هذا وقد روى القاسم بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال
كنا نأكل الجزور في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملأة رواه سعيد
وأبو داود وعن عبد الله بن يسار السلمي قال دخلت على رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقدم إلي
تميرا (1) من تمير الروم فقلت لقد سبقت الناس بهذا قال ليس هذا من العام هذا من العام الأول
رواه الأثرم في سننه وقال الأوزاعي أدركت الناس يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم إلى بعض لا
ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة وهذا نقل للاجماع، ولأنه أبيح امساكه عن القسمة فأبيح في دار
الاسلام كمباحات دار الحرب التي لا قيمة لها فيها ويفارق الكبير فإنه لا يجوز امساكه عن القسمة
ولان اليسير تجري المسامحة فيه ونفعه قليل بخلاف الكثير
(مسألة) قال (وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو لزم الأسير ان يؤدي إلى
المشتري ما اشتراه)
لا يخلو هذا من حالين (أحدهما) ان يشتريه باذنه فهذا يلزمه ان يؤدي إلى المشتري ما أداه فيه بغير
خلاف نعلمه إذا وزن باذنه لأنه إذا أذن فيه كان نائبه في شراء نفسه فكان الثمن على الآمر كالوكيل

(1) التميز نوع من القديد وهو أن يقطع اللحم صغارا كالتمر ثم يجفف
495

والثاني) ان يشتريه بغير اذنه فيلزم الأسير الثمن أيضا عند أحمد وبه قال الحسن والنخعي
والزهري ومالك والأوزاعي وقال الثوري والشافعي وابن المنذر لا يلزمه لأنه تبرع بما لا يلزمه ولم
يأذن له فيه فأشبه ما لو عمر داره، وقال الليث: إن كان الأسير موسرا كقولنا وإن كان معسرا
أذى ذلك من بيت المال
ولنا ما روى سعيد ثنا عثمان بن مطر ثنا أبو حريز عن الشعبي قال أغار أهل ماه وأهل جلولاء
على العرب فأصابوا سبايا من سبايا العرب فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم
ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب عمر أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق
به من غيره وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما اقتسم فلا سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد
إليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع ولا يشترى فحكم للتجار برؤوس أموالهم ولان الأسير يجب
عليه فداء نفسه ليتخلص من حكم الكفار ويخرج من تحت أيديهم فإذا ناب عنه غيره في ذلك
وجب عله قضاؤه كما لو قضى الحاكم عنه حقا امتنع من أدائه
(فصل) فإن اختلفا في قدر ما اشتراه به فالقول قول الأسير وهو قول الشافعي إذا أذن له وقال
الأوزاعي القول قول المشتري لأنهما اختلفا في فعله وهو أعلم بفعله
496

ولنا أن الأسير منكر للزيادة والقول قول النكر ولان الأصل براءة ذمته من هذه الزيادة
فيترجح قوله بالأصل
(مسألة) قال (وإذا سبى المشركون من يؤدى إلينا الجزية ثم قدر عليهم ردوا إلى
ما كانوا عليه ولم يسترقوا وما أخذه العدو ومنهم من مال أو رقيق رد إليهم إذا علم به قبل
أن يقسم ويفادي بهم بعد أن يفادى بالمسلمين)
وجملة ذلك أن بأهل الحرب إذا استولوا على أهل ذمتنا فسبوهم وأخذوا أموالهم ثم قدر عليهم
وجب ردهم إلى ذمتهم ولم يجز استرقاقهم في قول عامة أهل العلم منهم الشعبي ومالك والليث والأوزاعي
والشافعي وإسحاق ولا نعلم لهم مخالفا وذلك لأن ذمتهم باقية ولم يوجد منهم ما يوجب نقضها وحكم
أموالهم حكم أموال المسلمين في حرمتها. قال علي رضي الله عنه: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم
كدمائنا وأموالهم كأموالنا فمتى علم صاحبها قبل قسمها وجب ردها إليه، وإن علم بعد القسمة فعلى
الروايتين (أحدهما) لا حق له فيه (والثانية) وهو له بثمنه لأن أموالهم معصومة كأموال المسلمين
وأما فداؤهم فظاهر كلام الخرقي أنه يجب فداؤهم سواء كانوا في معونتنا أولم يكونوا وهذا قول
عمر بن عبد العزيز والليث لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا القتال من ورائهم
497

والقيام دونهم فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك كمن يحرم عليه اتلاف شئ فإذا
أتلفه غرمه وقال القاضي إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام في قتاله فسبوا وجب عليه فداؤهم
لأن أسرهم كان لمعنى من جهته وهو النصوص عن أحمد ومتى وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين
قبلهم لأن حرمة المسلم أعظم والخوف عليه أشد وهو معرض لفتنته عن دين الحق بخلاف أهل الذمة
(فصل) ويجب فداء اسرى المسلمين إذا أمكن وبهذا قال عمر بن عبد العزيز ومالك وإسحاق
ويروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن علي على من فكاك الأسير؟ قال علي: الأرض التي يقاتل
عليها، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني) وروى
سعيد باسناده عن حبان بن حبلة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان على المسلمين في فيئهم أن يفادوا
أسيرهم ويؤدوا عن غارمهم) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا
معاقلهم وأن يفكوا عانيهم بالمعروف وفادى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من
بني عقيل وفادى بالمرأة التي استوهبها من سملة بن الأكوع رجلين
(مسألة) قال (وإذا حاز الأمير المغانم ووكل من يحفظها لم يجز أن يؤكل منا الا أن
تدعوا الضرورة بأن لا يجدوا ما يأكلون)
وجملة ذلك أن المغانم إذا جمعت وفيها طعام أو علف لم يجز لاحد أخذه إلا لضرورة لأننا إنما
أبحنا أخذه قبل جمعه لأنه لم يثبت فيه ملك المسلمين بعد فأشبه المباحات من الحطب والحشيش فإذا
498

حيزت المغانم ثبت ملك المسلمين فيها فخرجت عن حيز المباحات وصارت كسائر أملاكهم فلم يجز
الاكل منها إلا لضرورة وهو أن لا يجدوا ما يأكلونه فحينئذ يجوز لأن حفظ نفوسهم ودوابهم أهم
وسواء حيزت في دار الحرب أو في دار اسلام، وقال القاضي ما كانت في دار الحرب جاز الاكل
منها وان حيزت لأن دار الحرب مظنة الحاجة لعسر نقل الميرة إليها بخلاف دار الاسلام وكلام الخرقي
عام في الموضعين والمعنى يقتضيه فإن ما ثبت عليه أيدي المسلمين وتحقق ملكهم يله لا ينبغي أن يؤخذ إلا
برضاهم كسائر أملاكهم ولان حيازته في دار الحرب تثبت الملك فيه بدليل جواز قسمته وثبوت أحكام
الملك فيه بخلاف ما قبل الحيازة فإن الملك لم يثبت فيه بعد
(مسألة) قال (ومن اشترى من المغنم في بلاد الروم فغلب عليه العدو لم يكن عليه
شئ من الثمن وإن كان قد أخذ منه الثمن رد إليه)
وجملته ان الأمير إذا باع من الغنم شيئا قبل قسمه لمصلحة صح بيعه فإن عاد الكفار فغلبوا
على المبيع فأخذوه من المشتري في دار الحرب نظرنا. فإن كان لتفريط من المشتري مثل ان خرج
499

به من المعسكر ونحو ذلك فضمانه عليه لأن ذهابه حصل بتفريطه فكان من ضمانه كما لو أتلفه، وان حصل
بغير تفريط ففيه روايتان
(إحداهما) ينفسخ البيع ويكون من ضمان أهل الغنيمة فإن كان الثمن لم يؤخذ من المشتري سقط عنه
وإن كان أخذ منه رد إليه لأن القبض لم يكل لكون المال في دار الحرب غير محرز وكونه على خطر من
العدو فأشبه التمر المبيع على رؤوس الشجر إذا تلف قبل الجذاذ
(والثانية) هو من ضمان المشتري وعليه ثمنه وهذا أكثر الروايات عن أحمد واختار الخلال وأبو بكر
صاحبه وهو مذهب الشافعي لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه فكان ضمانه عليه كما لو أحرز إلى دار
الاسلام ولان أخذ العدو له تلف فلم يضمنه البائع كسائر أنواع التلف، ولان نماءه للمشتري فكان
ضمانه عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخراج بالضمان)
(فصل) وإذا قسمت الغنائم في دار الحرب جاز لمن أخذ سهمه التصرف فيه بالبيع وغيره فإن
باع بعضهم بعضا شيئا منها فغلب عليه العدو وفي ضمان البائع له وجهان بناء على الروايتين في التي
قبلها، وإن اشتراه مشتر من المشتري فكذلك فإذا قلنا هو من ضمان البائع رجع البائع الثاني على
البائع الأول بما رجع به عليه
(فصل) قال احمد في الرجل يشتري الجارية من المغنم معها الحلي في عنقها والثياب: يرد ذلك في
500

المغنم الأشياء تلبسه من قميص ومقنعة وازار وهذا قول حكيم بن حزام ومكحول ويزيد بن أبي مالك
والمتوكل وإسحاق وابن المنذر ويشبه قول الشافعي، واحتج إسحاق بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من باع
عبدا وله مال فماله للبائع) وقال الشعبي يجعله في بيت المال، وكان مالك يرخص في اليسير كالقرطين
وأشباههما ولا يرى ذلك في الكثير ويمكن أن يفصل القول في هذا فيقال ما كان عليها ظاهرا مرئيا يشاهده البائع
والمشتري كالقرط والخاتم والقلادة فهو للمشتري لأن الظاهر أن البائع إنما باعها بما عليها والمشتري اشتراها
بذلك فيدخل في البيع كثياب البذلة وحيلة السيف، وما خفي فلم يعلم به البائع رده لأن البيع وقع عليها بدونه
فلم يدخل في البيع كجارية أخرى
(فصل) يقال احمد لا يجوز لأمير الجيش أن يشتري من مغنم المسلمين شيئا لأنه يحابا ولان عمر
ردما اشتراه ابنه في غزوة جلولاء، وقال إنه يحابا احتج به احمد ولأنه هو البائع أو وكيله فكأنه
يشتري من نفسه أو وكيل نفسه، قال أبو داود قيل لأبي عبد الله إذا قوم أصحاب المغانم شيئا
معروفا فقالوا في جلود المعاعز بكذا والخرفان بكذا يحتاج إليه يأخذه بتلك القيمة، ولا يأتي المغانم
فرخص فيه، وذلك لأنه يشق الاستئذان فيه فسومح فيه كما سومح في دخول الحمام وركوب
شفينة الملاح من غير تقدير أجر
501

(مسألة) قال (وإذا حورب العدو لم يحرقوا بالنار)
أما العدو إذا قدر عليه فلا يجوز تحريقه بالنار بغير خلاف نعلمه وقد كان أبو بكر رضي الله عنه
يأمر بتحريق أهل الردة بالنار وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره فاما اليوم فلا أعلم فيه بين الناس خلافا
وقد روى حمزة الأسلمي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية فقال فخرجت فيها فقال (إن أخذتم
فلانا فأحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت فقال (ان أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فإنه لا يعذب
بالنار إلا رب النار) رواه أبو داود وسعيد وروى أحاديث سواه في هذا المعنى
وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث حمزة فأما
رميهم قبل أخذهم بالنار فإن أمكن أخذهم بدونها لم يجز رميهم بها لأنهم في معنى المقدور عليه، وأما
عند العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم وبه قال الثوري والأوزاعي والشافعي
وروى سعيد باسناده عن صفوان بن عمرو وجرير بن عثمان ان جنادة بن أمية الأزدي
وعبد الله بن قيس الفزاري وغيرهما من ولاة البحرين ومن بعدهم كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم
بالنار يحرقونهم هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء. قال عبد الله بن قيس لم يزل أمر المسلمين على ذلك
502

(فصل) وكذلك الحكم في فتح البثوق عليهم ليغرقهم ان قدر عليهم بغيره لم يجز
إذا تضمن ذلك اتلاف النساء والذرية الذين يحرم اتلافهم قصدا، وإن لم يقدر عليهم إلا به جاز كما
يجوز البيات المتضمن لذلك ويجوز نصف المنجنيق عليهم وظاهر كلام احمد جوازه مع الحاجة وعدمها
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وممن رأى ذلك الثوري والأوزاعي والشافعي
وأصحاب الرأي قال ابن المنذر جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نصب المنجنيق على أهل الطائف وعن
عمرو بن العاص انه نصب المنجنيق على أهل الإسكندرية ولان القتال به معتاد فأشبه الرمي بالسهام
(فصل) ويجوز تبييت الكفار وهو كبسهم ليلا وقتلهم وهم غارون قال احمد لا بأس بالبيات وهل
غزو الروم إلا البيات؟ قال ولا نعلم أحدا كره بيات العدو، وقرأ عليه سفيان عن الزهري عن عبد الله
عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن الديار من المشركين
نبيتهم فنصيب من نسائهم وذراريهم فقال (هم منهم) فقال اسناد جيد فإن قيل فقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والذرية قلنا هذا محمول على التعمد لقتلهم، قال احمد اما أن يتعمد قتلهم فلا
قال وحديث الصعب بعد نهيه عن قتل النساء لأن نهيه عن قتل النساء حين بعث إلى ابن أبي الحقيق
وعلى أن الجمع بينهما ممكن يحمل النهي على التعمد والإباحة على ما عداه
503

(فصل) قال الأوزاعي إذا كان في المطمورة العدو فعلمت أنك تقدر عليهم بغير النار فأحب
إلى أن يكف عن النار وإن لم يمكن ذلك وأبوا أن يخرجوا فلا أرى بأسا وإن كان معهم ذرية قذ
كان المسلمون يقاتلون بها ونحو ذلك قال سفيان وهشام ويدخن عليهم قال احمد أهل الشام أعلم بهذا
(فصل) وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم
رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان ولان كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعليل الجهاد لأنهم متى
علموا ذلك تترسوا بهم عند حوقهم فينقطع الجهاد وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب
(قصل) ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز
رميها قصدا لما روى سعيد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: لما حاصر رسول الله
صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقال (هادونكم فارموها) فرماها رجل من
المسلمين فما أخطأ ذلك منها ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها لأن ذلك من ضرورة رميها
وبكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم الماء أو تحرضهم على القتال لأنها في حكم
المقاتل وهكذا الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منع من قتله منهم
504

(فصل) وان تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة أو لامكان القدرة
عليهم بدونه أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم، فإن رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه، وان دعت الحاجة
إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار، وإن لم يخف على
المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي فقال الأوزاعي والليث لا يجوز رميهم لقول الله تعالى (ولولا
رجال مؤمنون) الآية قال الليث ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق
وقال الأوزاعي كيف يرمون من لا يرونه؟ إنما يرمون أطفال المسلمين، وقال القاضي والشافعي يجوز
رميهم إذا كانت الحرب قائمة لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد فعلى هذا ان قتل مسلما فعليه الكفارة
وفي الدية على عاقلته روايتان
(إحداهما) يجب لأنه قتل مؤمنا خطأ فيدخل في عموم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله)
(والثانية) لا دية له لأنه قتل في دار الحرب برمي مباح فيدخل في عموم قوله تعالى (وإن كان من قوم
عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ولم يذكر دية وقال أبو حنيفة لا دية له ولا كفارة فيه لأنه
رمي أبيح مع العلم بحقيقة الحال فلم يوجب شيئا كرمي من أبيح دمه
ولنا الآية المذكورة وانه قتل معصوما بالايمان والقاتل من أهل الضمان فأشبه ما لو لم يتترس به
505

(مسألة) قال (ولا يغرقوا النحل)
وجملته ان تغريق النخل وتحريقه لا يجوز في قول عامة أهل العلم منهم الأوزاعي والليث والشافعي
وقيل لمالك أتحرق بيوت نحلهم؟ قال اما النحل فلا أدري ما هو؟ ومقتضى مذهب أبي حنيفة اباحته لأن
فيه غيظا لهم واضعافا فأشبه قتل بهائمهم حال قتالهم
ولنا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال ليزيد بن أبي سفيان وهو يوصيه حين
بعثه أميرا على القتال بالشام ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه، وروي عن ابن مسعود انه قدم عليه ابن أخيه
من غزاة غزاها فقال لعلك حرقت حرثا؟ قال نعم قال لعلك غرقت نحلا؟ قال نعم قال لعلك قتلت
صبيا؟ قال نعم قال ليكن عزوك كفافا أخرجهما سعيد ونحو ذلك عن ثوبان، وقد ثبت ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النحلة ونهي أن يقتل شئ من الدواب صبرا ولأنه افساد فيدخل في عموم
قوله تعالى (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يجب الفساد)
ولأنه حيوان ذو روح فلم يجز قتله لغيظ المشركين كنسائهم وصبيانهم. وأما أخذ العسل وأكله
فمباح لأنه من الطعام المباح
506

(مسألة) قال (ولا يعقر شاة ولا دابة إلا لاكل لابد لهم منهم)
أما عقر دوابهم في غير حال الحرب لمغايظتهم والافساد عليهم فلا يجوز سواء خفنا أخذهم لها
أولم نخف وبهذا قال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور وقال أبو حنيفة ومالك يجوز لأن فيه
غيظا لهم واضعافا لقوتهم فأشبه قتلها حال قتالهم
ولنا ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في وصيته ليزيد حين بعثه أميرا يا يزيد لا تقتل صبيا
ولا امرأة ولا هرما ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شجرا مثمرا ولا دابة عجماء ولا شاة الا لمأكلة
ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن ولان النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل شئ من الدواب صبرا
ولأنه حيوان ذو حرمة فأشبه النساء والصبيان، واما حال الحرب فليجوز فيها قتل المشركين كيف
أمكن بخلاف حالهم إذا قدر عليهم ولهذا جاز قتل النساء والصبيات في البيان في المطمورة إذا لم يتعمد
قتلهم منفردين بخلاف حالة القدرة عليهم وقتل بهائمهم يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم وقد ذكرنا
حديث المددي الذي عقر بالرومي فرساه، وروي أن حنظلة بن الراهب عقر فرس أبي سفيان به يوم أحد
فرمت به فخلصه ابن شعوب وليس في هذا خلاف
(فصل) فاما عقرها للاكل فإن كانت الحاجة داعية إليه ولابد منه فمباح بغير خلاف لأن
507

الحاجة تبيح مال المعصوم فمال الكافر أولى، وإن لم تكن الحاجة داعية إليه نظرنا، فإن كان الحيوان
لا يراد إلا للاكل كالدجاج والحمام وسائر الطير والصيد فحكمه حكم الطعام في قول الجميع لأنه لا يراد
لغير الاكل وتقل قيمته فأشبه الطعام، وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل لم يبح ذبحه للاكل
في قولهم جميعا، وإن كان غير ذلك كالغنم والبقر لم يبح في قول الخرقي وقال القاضي ظاهر كلام احمد
إباحته لأن هذا الحيوان مثل الطعام في باب الاكل والقوت فكان مثله في اباحته
وإذا ذبح الحيوان أكل لحمه وليس له الانتفاع بجلده لأنه إنما أبيح له ما يأكله دون غيره، وقال
عبد الرحمن بن معاذ بن جبل: كلوا لحم الشاة وردوا أهلها إلى المغنم، ولان هذا حيوان مأكول
فأبيح أكله كالطير
ووجه قول الخرقي ما روى سعيد تنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب ثعلبة بن الحكم قال
أصبنا غنما للعدو فانتهنينا فنصبنا قدورنا فمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور وهي تغلي فأمرها فأكفئت ثم قال
لهم (ان النهبة لا تحل) ولأن هذه الحيوانات تكثير قيمتها وتشح أنفس الغانمين هبا ويمكن حملها إلى
دار الاسلام بخلاف الطير والطعام لكن ان أذن الأمير فيها جاز لما روى عطية بن قيس قال: كنا
إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنما نادى منادي الإمام لا من أراد ان يتناول شيئا من هذه الغنم فليتناول
انا لا نستطيع سياقتها. رواه سعيد وكذلك إن قسمها لما روى معاذ قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم
خيبر فأصبنا غنما فقسم بيننا النبي صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم. رواه أبو داود
508

وقال سعيد حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبيد أن رجلا نحز جزورا بأرض الروم
فلما بردت قال يا أيها الناس خذوا من لحم هذه الجزور فقد أذنا لكم فقال مكحول يا غساني الا تأتينا
من لحم هذه الجزور؟ فقال الغساني يا أبا عبد الله: أما ترى عليها من النهبى؟ قال مكحول لا نهبي
في المأذون فيه
(فصل) ولم يفرق أصحابنا بين جميع البهائم في هذه المسألة ويقوى عندي ان ما عجز المسلمون
عن سياقته وأخذه إن كان مما يستعين به الكافر في القتال كالخيل جاز عقره واتلافه لأنه مما يحرم
إيصاله إلى الكفار بالبيع فتركه لهم بغير عوض أولى بالتحريم، وإن كان مما يصلح للاكل فللمسلمين ذبحه
والاكل منه مع الحاجة وعدمها وما عدا هذين القسمين لا يجوز اتلافه لأنه مجرد افساد واتلاف وقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة
(مسألة) قال (ولا يقطع شجرهم ولا يحرق زرعهم الا أن يكونوا يفعلون ذلك في
بلادنا فيفعل ذلك بهم لينتهوا)
وجملته ان الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام
(أحدها) ما تدعو الحاجة إلى اتلافه كالذي يقرب من حصونهم ويمنع من قتالهم أو يسترون
509

به من المسلمين أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق أو تمكن من قتل أو سد بثق أو اصلاح طريق أو
ستارة منجنيق أو غيره أو يكونون يفعلون ذلك بنا فيفعل بهم ذلك لينتهوا فهذا يجوز بغير خلاف نعلمه
(الثاني) ما يتضرر المسلمون بقطعه لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفتهم أو يستظلون به أو يأكلون
من ثمره أو تكون العادة لم تجر بذلك بينا وبين عدونا فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم لما فيه
من الاضرار بالمسلمين (الثالث) ما عدا هذين القسمين مما لا ضرر فيه بالمسلمين ولا نفع سوى
غيظ الكفار والاضرار بهم ففيه روايتان
(إحداهما) لا يجوز لحديث أبي بكر ووصيته وقد روي نحو ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولان
فيه اتلافا محضا فلم يجز كعقر الحيوان وبهذا قال الأوزاعي والليث وأبو ثور
(والرواية الثانية) يجوز وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال إسحاق التحريق
سنة إذا كان أنكى في العدو لقول الله تعالى (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن
الله وليخزي الفاسقين)
وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهو البويرة فأنزل الله تعالى
(ما قطعتم من لينة) ولها يقول حسان
وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير
510

متفق عليه، وعن الزهري قال فحدثني أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال (أغر علي أبناء
صباحا وحرق) رواه أبو داود، قيل لأبي مسهر أنبا قال نحن أعلم هي ببنا فلسطين والصحيح أنها أبناء
كما جاءت الرواية وهي قرية من أرض الكرك في أطراف الشام في الناحية التي قتل فيها أبوه، فأما بينا
فهي من أرض فلسطين ولم يكن أسامة ليصل إليها ولا يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإغارة عليها لبعدها
والخطر بالمصير إليها لتوسطها في البلاد وبعدها من طرف الشام فما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليأمره بالتغرير
بالمسلمين فكيف يحمل الخبر عليها مع مخالفة لفظ الرواية وفساد الغنى؟
(مسألة) قال (ولا يتزوج في أرض العدو الا أن تغلب عليه الشهوة فيتزوج مسلمة
ويعزل عنها ولا يتزوج منهم ومن اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج وهو في أرضهم)
يعني والله أعلم من دخل أرض العدو بأمان فأما إن كان في جيش المسلمين فمباح له أن يتزوج
وقد روي عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج أبا بكر أسماء ابنة عميس وهم
تحت الرايات أخرجه سعيد ولان الكفار لا يدلهم عليه فأشبه من في دار الاسلام
وأما الأسير فظاهر كلام أحمد أنه لا يحل له التزوج ما دام أسيرا لأنه منعه من وطئ امرأته
إذا أسرت معه مع صحة نكاحهما وهذا قول الزهري فإنه قال لا يحل للأسير أن يتزوج ما كان
511

في أيدي العدو وكره الحسن ان يتزوج ما دام في أرض المشركين لأن الأسير إذا ولد له ولد كان
رقيقا لهم ولا يأمن أن يطأ امرأته غيره منهم، وسئل احمد عن أسير اشتريت معه امرأته أيطؤها؟
فقال كيف يطؤها فلعل غيره منهم يطؤها قال الأثرم قلت له ولعلها تعلق بولد فيكون معهم قال
وهذا أيضا، واما الذي يدخل إليهم بأمان كالتاجر ونحوه فهو الذي أراد الخرقي إن شاء الله تعالى
فلا ينبغي له التزوج لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته بولد فيستولى عليه الكفار وربما نشاء بينهم فيصير
على دينهم فإن غلبت عليه الشهوة أبيح له نكاح مسلمة لأنها حال ضرورة ويعزل عنها كيلا تأتي
بولد ولا يتزوج منهم لأن امرأته إذا كانت منهم غلبته على ولدها فيتبعها على دينها وقال القاضي في
وقل الخرقي: هذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأن الله تعالى قال (وأحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا
بأموالكم) ولان الأصل الحل فلا يحرم بالشك والتوهم وإنما كرهنا له التزوج منهم مخافة ان
يغلبوا على ولده فيسترقوه ويعلموه الكفر ففي تزويجه تعريض لهذا الفساد العظيم وازدادت الكراهة
إذا تزوج منهم لأن الظاهر أن امرأته تغلبه على ولدها فتكفره كما أن حكم الاسلام تغليب الاسلام
فيما إذا أسلم أحد الأبوين أو تزوج المسلم ذمية وإذا اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج في أرضهم
مخافة ان يغلبوه على ولدها فيسترقوه ويكفروه
512

(فصل في الهجرة)
وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الاسلام قال الله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفهسم
قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)
الآيات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (انا برئ من مسلم بين مشركين لا تراءا ناراهما) رواه
أبو داود ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت في آي واخبار سوى هذين
كثيرة وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم وقال قوم قد انقطعت
الهجرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا هجرة بعد الفتح) وقال (قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية)
وروي أن صفوان بن أمية لما أسلم قيل له لادين لمن لم يهاجر فأتي المدينة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
(ما جاء بك أبا وهب؟) قال قيل إنه لادين لمن لم يهاجر قال (ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة أقروا على
مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية) روى ذلك كله سعيد
ولنا ما روى معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا
تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه أبو داود وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تنقطع
الهجرة ما كان الجهاد. رواه سعيد وغيره مع اطلاق الآيات والأخبار الدالة عليها وتحقق المعنى
513

المقتضى لها في كل زمان، واما الأحاديث الأول فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح وقوله
لصفوان إن الهجرة قد انقطعت يعني من مكة لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار فإذا فتح لم
يبق بلد الكفار فلا تبقى منه جرة وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة وإنما الهجرة إليه إذا ثبت
هذا فالناس في الهجرة على ثلاثة اضرب:
(أحدها) من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه اظهار دينه ولا تمكنه إقامة واجبات
دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقول الله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة
ظالمي أنفسم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب
ولان القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب.
(الثاني) من لا هجرة عليه وهو من يعجز عنها اما لمرض أو اكراه على الإقامة أضعف من النساء
والولدان وشبههم فهذا لا هجرة عليه لقول الله تعالى (الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان
لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) ولا
توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها
514

(والثالث) من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكنه يتمكن من اظهار دينه
وإقامته في دار الكفر فتستحب له ليتمكن جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم ويتخلص من
تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم ولا تجب عليه لامكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع اسلامه وروينا ان نعيم النحام حين أراد أن يهاجر
جاءه قومه بنو عدي فقالوا له أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك واكفنا ما كنت
تكفينا وكان يقوم بيتا مي بني عدي وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
(قومك كانوا خيرا لك من قومي لي قومي أخرجوني وأرادوا قتلي وقومك حفظوك ومنعوك) فقال يا رسول الله
بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله أو نحو هذا القول
(مسألة) قال (من دخل إلى أرض العدو وبأمان لم يحنهم في مالهم ولم يعاملهم بالربا)
أما تحريم الربا في دار الحرب فقد ذكرناه في الربا مع أن قول الله تعالى (وحرم الربا) وسائر
الآيات والأخبار الدالة على تحريم الربا عامة تتناول الربا في كل مكان وزمان وأما خيانتهم فمحرمة
لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطا بتركه خيانتهم وامنه إياهم من نفسه وان لم يكن ذلك مذكورا في
اللفظ فهو معلوم في المعنى ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضا لعهده فإذا ثبت هذا لم تحل
515

له خيانتهم لأنه غدر ولا يصلح في ديننا الغدر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون عند شروطهم) فإن
خانهم أو سرق منهم أو اقترض شيئا وجب عليه رد ما أخذ إلى أربابه فإن جاء أربابه إلى دار الاسلام بأمان أو
ايمان رده عليهم والا بعث به إليهم لأنه اخذه على وجه حرم عليه أخذه فلزمه رد ما أخذ كا لو أخذه من مال مسلم
(مسألة) قال (ومن كان له مع المسلمين عهد فنقضوه حوربوا وقتل رحالهم ولم تسب
ذراريهم ولم يسترقوا الا من ولد بعد نقضه)
وجملة ذلك أن أهل الذمة إذا نقضوا العهد أو أخذ رجل الأمان لنفسه وذريته ثم نقض العهد
فإنه يقتل رجالهم ولا تسبى ذراريهم الموجودون قبل النقض لأن العهد شملهم جميعا ودخلت فيهم
الذرية والنقض إنما وجد من رجالهم فتختص إباحة الدماء بهم، ومن الممكن أن ينفرد الرجل بالعهد
والأمان دون ذريته وذريته دونه فجاز أن ينتقض العهد فيه دونهم، والنقض إنما وجد من الرجال
البالغين دون الذرية فيجب أن يختص حكمه بهم. قال احمد قالت امرأة علقمة لما ارتد إن كان علقمة
ارتد فأنا لم أرتد، وقال الحسن فيمن نقض العهد: ليس على الذرية شئ فأما من ولد فيهم بعد نقض
العهد جاز استرقاقه لأنه لم يثبت له أمان بحال وسواء فيما ذكرنا لحقوا بدار الحرب أو أقاموا
516

بدار الاسلام. فأما نساؤه فمن لحقت منهن بدار الحرب طائعة أو وافقت زوجها في نقض العهد جاز
سبيها لأنها بالغة عالقة نقضت العهد فأشبهت الرجل ومن لم تنقض العهد لم ينتقض عهدها بنقض زوجها
(فصل) فاما أهل الهدنة إذا نقضوا العهد حلت دماؤهم وأموالهم وسبي ذراريهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قتل رجال بني قريظة وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم حين نقضوا عهده ولما هادن قريشا فنقضت عهده
حل له منهم ما كان حرم عليه منهم، ولان الهدنة عهد مؤقت ينتهي بانقضاء مدته فيزول بنقضه
وفسخه كعقد الإجارة بخلاف عقد الذمة
(فصل) ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض
وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة وذلك جائز بدليل قول الله تعالى (براءة من الله ورسوله إلى الذين
عاهدتم من المشركين) وقال سبحانه (وان جنحوا للسلم فاجنح لها)
وروى مروان ومسور بن مخرمة ان النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال
عشر سنين ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيها دنهم حتى يقوى المسلمون، ولا يجوز ذلك إلا للنظر
للمسلمين. اما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم واما أن يطمع في اسلامهم بهد نتهم أو في أدائهم الجزية
والتزامهم أحكام الملة أو غير ذلك من المصالح. إذا ثبت هذا فإنه لا تجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير
مدة لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، ولا يجوز أن يشترط نقضها لمن شاء منهما لأنه يفضي إلى
517

ضد المقصود منه، وان شرط الإمام لنفسه ذلك دونهم لم يجز أيضا ذكره أبو بكر لأنه ينافي مقتضى
العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في البيع والنكاح
وقال القاضي والشافعي يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل خيبر على أن يقرهم ما أقرهم الله تعالى
ولا يصح هذا فإنه عقد لازم فلا يجوز اشتراط نقضه كسائر العقود اللازمة ولم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم
وبين أهل خبير هدنة فإنه فتحها عنوة وإنما ساقاهم وقال لهم ذلك وهذا يدل على جواز المساقاة وليس هذا بهدنة
اتفاقا وقد وافقوا الجماعة في أنه لو شرط في عقد الهدنة اني أقركم ما أقركم الله لم يصح فكيف يصح منهم
الاحتجاج به مع اجماعهم مع غيرهم على أنه لا يجوز اشتراطه
(فصل) ولا يجوز عقد الهدنة الا على مدة مقدرة معلومة لما ذكرنا وقال القاضي وظاهر كلام احمد
انها لا تجوز أكثر من عشر سنين وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لأن قوله تعالى (فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم) عام خص منه مدة العشر لمصالحة النبي صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية عشرا ففي ما زاد
يبقى عل مقتضى العموم فعلى هذا ان زاد المدة على عشر بطل في الزيادة. وهل تبطل في العشر على
وجهين بناء على تفريق الصفقة
وقال أبو الخطاب ظاهر كلام احمد انه يجوز على أكثر من عشر على ما يراه الإمام من المصلحة
518

وبهذا قال أبو حنيفة لأنه عقد يجوز في العشر فجازت الزيادة عليها كعقد الإجارة والعام مخصوص
في العشر لمعنى موجود فيما زاد عليها وهو أن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب
(فصل) ويجوز مهادنتهم على غير مال لأن النبي صلى الله عليه وسلم هادنهم يوم الحديبية على غير مال ويجوز
ذلك على مال يأخذه منهم فإنها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى، وأما ان صالحهم على مال
نبذله لهم فقد أطلق احمد الفول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لأن فيه صغارا للمسلمين وهذا محمول
على غير حال الضرورة، فاما ان دعت إليه ضرورة وهو ان يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر
فيجوز لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال فكذا ههنا ولان بذله المال إن كان فيه صغار فإنه يجوز
تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سببهم إلى كفرهم
وقد روى عبد الرزاق في المغازي عن معمر عن الزهري قال: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن
حصن وهو مع أبي سفيان يعني يوم الأحزاب أرأيت ان جعلت لك ثلث نمر الأنصار (أترجع بمن
معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب) فأرسل إليه عيينة ان جعلت لي الشطر فعلت
قال معمر فحدثني بن أبي نجيح ان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قالا يا رسول الله: والله لقد
كان يجر سرمه في الجاهلية في عام السنة حول المدينة ما يطيق أن يدخلها فلان حين جاء الله
بالاسلام نعطيهم ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فنعم إذا) ولولا أن ذلك جائز لما بذله النبي صلى الله عليه وسلم
519

وروي أن الحارث بن عمرو الغطفاني بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن جعلت لي شطر ثمار المدينة
والا ملأتها عليك خيلا ورجلا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشاور السعود يعني سعد بن عبادة وسعد
ابن معاذ وسعد بن زرارة فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إن كان هذا أمر من السماء فتسليم
لأمر الله تعالى وإن كان برأيك وهواك اتبعنا رأيك وهواك، وإن لم يكن أمرا من السماء ولا برأيك
وهواك فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية بسرة ولا تمرة إلا شراء أو قرى فكيف وقد أعزنا الله
بالاسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرسوله أتسمع؟ فعرضه النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم ضعفهم من قوتهم فلولا جوازه
عند الضعف لما عرضه عليهم
(فصل) ولا يجوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد مع جملة الكفار
وليس ذلك لغيره ولأنه يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ولان تجويزه من غير
الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه افتيات على الإمام فإن هادنهم غير الإمام
أو نائبه لم يصح. وإن دخل بعضهم دار الاسلام بهذا الصلح كان آمنا لأنه دخل معتقدا للأمان
ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الاسلام لأن الأمان لم يصح وإن عقد الإمام الهدنة ثم مات
أو عزل لم ينتقض عهده وعلى من بعده الوفاء به لأن الإمام عقده باجتهاده فلم يجز نقضه باجتهاد غيره
كما لو يجز للحاكم نقض أحكام من قبله باجتهاد، وإذا عقد الهدنة لزمه الوفاء بها لقول الله تعالى (يا أيها
520

الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال تعالى (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ولأنه لو لم يف بها لم يسكن
إلى عقد وقد يحتاج إلى عقدها فإن نقضوا العهد جاز قتالهم لقول الله تعالى (وإن نكثوا أيمانهم من
بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) وقال تعالى (فما استقاموا
لكم فاستقيموا لهم) ولما نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليهم فقاتلهم وفتح مكة، وإن نقض بعضهم
دون بعض فسكت باقيهم عن الناقض ولم يوجد منهم انكار ولا مراسلة الإمام ولا تبرؤ فالكل
ناقضون لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما هادن قريشا دخلت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبنو بكر مع قريش فعدت
بنو بكر على خزاعة وأعانهم بعض قريش وسكت الباقون فكان ذلك نقض عهدهم وسار إليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم ولان سكوتهم يدل على رضاهم كما أن عقد الهدنة مع بعضهم يدخل فيه
جميعهم لدلالة سكوتهم على رضاهم كذلك في النقض، وان أنكر من لم ينقض على الناقض بقول أو فعل
ظاهرا أو اعتزال أو راسل الإمام باني منكر لما فعله الناقض مقيم على العهد لم ينقض في حقه ويأمره
الإمام بالتميز ليأخذ الناقض وحده فإن امتنع من التميز أو إسلام الناقض صار ناقضا لأنه منع من اخذ
الناقض فصار بمنزلته وان لم يمكنه التميز لم ينتقض عهده لأنه كالأسير فإن أسر الإمام منهم قوما
فادعى الأسير أنه لم ينقض وأشكل ذلك عليه قبل قول الأسير لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا من قبله
521

(فصل) وان خاف نقض العهد منهم جاز أن ينبذ إليهم عهدهم لقول الله تعالى (واما تخافن من
قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) يعني أعلمهم بنقض عهدهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم ولا
يكفي وقوع ذلك في قبوله حتى يكون عن أمارة تدل على ما خافه ولا يجوز أن يبدأهم بقتال ولا غارة
قبل اعلامهم بنقض العهد للآية ولأنهم آمنون منه بحكم العهد فلا يجوز قتلهم ولا أخذ مالهم فإن قيل
فقد قلتم إن الذمي إذا خيف منه الخيانة لم ينقض عهده، قلنا عقد الذمة آكد لأنه يجب على الإمام اجابتهم
إليه وهو نوع معاوضة وعقد مؤبد بخلاف الهدنة والأمان ولهذا لو نقض بعض أهل الذمة لم ينقض
عهد الباقين بخلاف الهدنة ولان أهل الذمة في قبضة الإمام وتجب ولايته فلا يخشى
الضرر كثيرا من نقضهم بخلاف أهل الهدنة فإنه يخاف منهم الغارة على المسلمين والضرر
الكثير بأخذهم للمسلمين.
(فصل) وإذا عقد الهدنة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة لأنه آمنهم ممن هو في قبضته وتحت
يده كما أمن من قي قبضته منهم ومن أتلف من المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئا فعليه ضمانه ولا تلزمه
حمايتهم من أهل الحرب ولا حماية بعضهم من بعض لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط فإن أغار
عليهم قوم آخرون فسبوهم لم يلزمه استنقاذهم وليس للمسلمين شراؤهم لأنهم في عهدهم فلا يجوز لهم
إذا هم ولا استرقاقهم وذكر الشافعي ما يدل على هذا
522

ويحتمل جواز ذلك وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجب ان يدفع عنهم فلا يحرم استرقاقهم
بخلاف أهل الذمة فعلى هذا ان استولى المسلمون على الذين أسروهم واخذوا أموالهم فاستنقذوا ذلك
منهم لم يلزم رده إليهم على هذا القول ومقتضى القول الأول وجوب رده كما ترد أموال
أهل الذمة إليهم.
(فصل) وإذا عقد الهدنة مطلقا فجاءنا منهم انسان مسلما أو بأمان لم يجب رده إليهم ولم يجز ذلك
سواء كان حرا أو عبدا أو رجلا أو امرأ ولا يجب رد مهر المرأة، وقال أصحاب الشافعي ان خرج
العبد إلينا قبل اسلامه ثم أسلم لم يرد الهيم فإن أسلم قبل خروجه ثم خرج إلينا لم يصر حرا لأنهم في
أمان منا والهدنة تمنع من جواز القهر، وقال الشافعي في قول له: إذا جاءت امرأة له مسلمة
وجب رد مهرها لقول الله تعالى (وآتوهم ما أنفقوا) يعني رد مهرها إلى زوجها إذا جاء يطلبها وان
وجاء غيره لم يرد إليه شئ
ولنا انه من غير أهل دار الاسلام خرج إلينا فلم يجب رده ولا رد شئ بدلا عند كالحر من الرجال
وكالعبد إذا خرج ثم أسلم قولهم انه في أمان منا قلنا إنما أمناهم ممن هو في دار الاسلام الذين هم في قبضة الإمام
فأما من هو في دارهم ومن ليس في قبضته فلا يمنع منه بدليل ما لو خرج العبد قبل اسلامه ولهذا لما
قتل أبو بصير الرجل الذي جاء لرده لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضمنه ولما انفرد هو وأبو جندل
وأصحابهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فقطعوا الطريق عليهم وقتلوا من قتلوا منهم وأخذوا
523

المال لم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم برد ما أخذوه ولا غرامة ما أتلفوه وهذا الذي أسلم كان
في دارهم وقبضتهم وقهرهم على نفسه فصار حرا كما لو أسلم بعد خروجه، وأما المرأة فلا يجب رد
مهرها لأنها لم تأخذ منه شيئا ولو اخذته كانت قد قهرتهم عليه في دار القهر ولو وجب عليها
عوضه لوجب مهر المثل دون المسمى والآية قال قتادة تبيح رد المهر وقال عطاء والزهري والثوري
لا يعمل بها اليوم وعلى أن الآية إنما نزلت في قضية الحديبية حين كان النبي صلى الله عليه وسلم شرط لهم رد
من جاءه مسلما فلما منع الله رد النساء أمر برد مهورهن وكلامنا فما إذا وقع الصلح مطلقا فليس هو
في معنى ما تناوله الامر وإن وقع الكلام فيما إذا شرط رد النساء لم يصح أيضا لأن الشرط الذي كان
النبي صلى الله عليه وسلم شرطه كان صحيحا وقد نسخ فإذا شرط الآن كان باطلا فلا يجوز قياسه على الصحيح والا الحاقة به
(فصل) والشروط في عقد الهدنة تنقسم قسمين (صحيح) مثل ان يشترط عليهم مالا أو معونة
المسلمين عند حاجتهم إليهم أو يشترط لهم ان يرد من جاءه من الرجال مسلما أو بأمان فهذا يصح وقال
أصحاب الشافعي لا يصح شرط رد المسلم الا أن يكون له عشيرة تحميه وتمنعه
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في صلح الحديبية ووفى لهم به فرد أبا جندل وأبا بصير ولم يخص
بالشرط ذا العشيرة ولان ذا العشيرة إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه وتؤذيه فهو كمن لا عشيرة
له لكن لا يجوز هذا الشرط الا عند شدة الحاجة إليه وتعين المصلحة فيه ومتى شرط لهم ذلك لزم
524

الوفاة به بمعنى أنهم إذا جاء وا في طلبه لم يمنعهم أخذه ولا يجبره الإمام على المضي معهم وله ان يأمره سرا
بالهرب منهم ومقاتلتهم فإن أبا بصير لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الكفار في طلبه قال له النبي صلى الله عليه وسلم
(انا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله ان يجعل لك فرجا ومخرجا)
فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قد أوفى الله
ذمتك قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلمه بل قال (ويل أمه
مسعر حرب لو كان معه رجال) فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر وانحاز إليه أبو جندل
ابن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة فجعلوا لا تمر عليهم عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها
وقتلوا من معها فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم ان يضمهم إليه ولا يرد إليهم
أحدا جاءه ففعل فيجوز حينئذ لمن أسلم من الكفار ان يتحيزوا ناحية ويقتلون من قدروا عليه
من الكفار ويأخذون أموالهم ولا يدخلون في الصلح وان ضمهم الإمام إليه باذن الكفار دخلوا في
الصلح وحرم عليهم قتل الكفار وأموالهم
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جاء أبو جندل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هاربا من
الكفار يرسف في قيوده قام إليه أبوه فلطمه وجعل يرده قال عمر فقمت إلى جانب أبي جندل فقلت انهم
525

الكفار وإنما دم أحدهم دم كلب وجعلت أدنى منه قائم السيف لعله ان يأخذه فيضرب به أباه قال
فضن الرجل بأبيه (الثاني) شرط فاسد مثل ان يشترط رد النساء أو مهورهن أو رد سلاحهم أو
أو اعطاءهم شيئا من سلاحنا أو من آلات الحرب أو يشترط لهم مالا في موضع لا يجوز بذله أو
يشترط نقضها متى شاءوا أو ان لكل طائفة منهم نقضها أو يشترط رد الصبيان أو رد الرجال مع
عدم الحاجة إليه فهذه كلها شروط فاسدة لا يجوز الوفاء بها، وهل يفسد العقد بها؟ على وجهين
بناء على الشروط الفاسدة في البيع إلا في ما إذا شرط ان لكل واحد منهم نقضها متى شاء فينبغي
أن لا تصح وجها واحدا لأن طائفة الكفار يبنون على هذا الشرط فلا يحصل الامن منهم ولا أمنهم
منا فيفوت معنى الهدنة، وإنما لم يصح شرط رد النساء لقول الله تعالى (إذا جاءكم المؤمنات
مهاجرات إلى قوله فلا ترجعوهن إلى الكفار) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله منع الصلح في
النساء) وتفارق المرأة الرجل من ثلاثة أوجه)
(أحدها) انها لا تأمن من أن تزوج كافرا يستحلها أو يكرهها من ينالها واليه أشار الله تعالى
بقوله (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن)
(الثاني) انها ربما فتنت عن دينها لأنها أضعف قلبا وأقل معرفة من الرجل (الثالث) ان المرأة
لا يمكنها في العادة الهرب والتخلص بخلاف الرجل، ولا يجوز رد الصبيان العقلاء إذا جاءوا مسلمين
526

لأنهم بمنزلة المرأة الضعف في العقل والمعرفة والعجز عن التخلص والهرب فاما الطفل الذي لا يصح
اسلامه فيجوز رده لأنه ليس بمسلم
(فصل) وإذا طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عنه الكفار جاز لكل مسلم إخراجها
لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مر بها علي قالت يا بن عم
إلى من تدعني؟ فتناولها فدفعها إلى فاطمة حتى قدم بها المدينة
(مسألة) قال (وإذا استأجر الأمير قوما يغزون مع المسلمين لمنافعهم لم يسهم لهم
وأعطوا ما استؤجروا به)
نص احمد على هذا في رواية جماعة فقال في رواية عبد الله وحنبل في الإمام يستأجر قوما يدخل
بهم بلاد العدو لا يسهم لهم ويوفى لهم بما استؤجر وا عليه، وقال القاضي هذا محمول على استئجار من
لا يجب عليه الجهاد كالعبيد والكفار
أما الرجال المسلمون الأحرار فلا يصح استئجارهم على الجهاد لأن الغزو يتعين بحضوره على من
كان من أهله فإذا تعين عليه الفرض لم يجز أن يفعله عن غيره كمن عليه حجة الاسلام لا يجوز أن يحج عن
عن غيره وهذا مذهب الشافعي، ويحتمل أن يحمل كلام احمد والخرقي على ظاهره في صحة الاستئجار
527

على الغزو لمن لم يتعين عليه لما روى أبو داود باسناده عن عبد الله بن عمرو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(للغازي أجره وللجاعل أجره) وروى سعيد بن منصور عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع
ولدها وتأخذ أجرها) ولأنه أمر لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فصح الاستئجار عليه
كبناء المساجد أولم يتعين عليه الجهاد فصح أن يؤجر نفسه عليه كالعبد ويفارق الحج حيث أنه ليس
بفرض عين، وان الحاجة داعية إليه، وفي المنع من أخذ الجعل عليه تعطيل له ومنع له مما فيه للمسلمين
نفع وبهم إليه حاجة فينبغي أن يجوز بخلاف الحج. إذا ثبت هذا فإن قلنا بالأول فالإجارة فاسدة وعليه
الأجرة بردها وله سهمه لأن غزوه بغير أجرة، وان قلنا بصحته فظاهر كلام احمد والخرقي رحمهما الله
انه لا سهم له لأن غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلا يستحق شيئا
وقد روى أبو داود باسناده عن يعلى بن منبه قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير
ليس لي خادم فالتمست أجيرا يكفيني وأجري له سهمه فوجدت رجلا فلما دنا الرحيل قال ما أدري
ما السهمان وما يبلغ سهمي؟ فسم لي شيئا كان السهم أولم يكن فسميت له ثلاثة دنانير فلما حضرت غنيمة
أردت ان أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أمره فقال (ما أجد له
في غزوته هذه في الدنيا والآخرة الا دنانيره) التي سمي، ويحتمل أن يسهم له وهو اختيار
528

الخلال قال: روى جماعة عن أحمد ان للأجير السهم إذا قاتل، وروى عنه جماعة ان كل من شهد
القتال فله السهم. قال وهذا الذي أعتمد عليه من قول أبي عبد الله. ووجه ذلك ما تقدم من حديث
عبد الله بن عمر وحديث جبير بن نفير، وقول عمر الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأنه حاضر للوقعة من
أهل القتال فيسهم له كغير الأجير، فأما الذين يعطون من حقهم من الفيئ فلهم سهامهم لأن ذلك حق
جعله الله لهم ليغزوا لا انه عوض عن جهاده بل نفع جهاده له لا لغيره وكذلك من يعطون من
الصدقات وهم الذين إذا نشطوا للغزو أعطوا فإنهم يعطون معونة لهم لا عوضا، ولذلك إذا دفع إلى
الغزاة ما يتقوون به ويستعينون به كان له فيه الثواب ولم يكن عوضا، قال النبي صلى الله عليه وسلم (من جهز
غازيا كان له مثل أجره)
(فصل) فأما الأجير للخدمة في الغزو أو الذي يكري دابة له وخرج معها ويشهد الوقعة فعن أحمد
فيه روايتان (إحداهما) لا سهم له وهو قول الأوزاعي وإسحاق قالا: المستأجر على خدمة القوم
لا سهم له ووجهه حديث يعلى بن منبه
(والثانية) يسهم لهما إذا شهدا القتال مع الناس وهو قول مالك وابن المنذر وبه قال الليث إذا
قاتل، وإن اشتغل بالخدمة فلا سهم له، واحتج ابن المنذر بحديث سلمة بن الأكوع انه كان أجيرا
529

لطلحة حين أدرك عبد الرحمن بن عيينة حين أغار على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم
سهم الفارس والراجل، وقال القاضي يسهم له إذا كان مع المجاهدين وقصده الجهاد فاما لغير ذلك
فلا، وقال الثوري يسهم له إذا قاتل ويرفع عمن استأجره نفقة ما اشتغل عنه
(فصل) فأما التاجر والصانع كالخياط والخباز والبيطار والحداد والإسكاف فقال احمد يسهم
لهم إذا حضروا قال أصحابنا قاتلوا أو لم يقاتلوا، وبه قال في التاجر الحسن وابن سيرين والثوري
والأوزاعي والشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة لا يسهم لهم الا أن يقاتلوا، وعن الشافعي كقولنا،
وعنه لا يسهم له بحال
قال القاضي في التاجر والأجير إذا كانا مع المجاهدين وقصدهما الجهاد وإنما معه المتاع ان طلب
منه باعه والأجير قصده الجهاد أيضا: فهذان يسهم لهما لأنهما غازيان والصناع بمنزلة التجار متى كانوا
مستعدين للقتال ومعهم السلاح فمتى عرض اشتغلوا به أسهم لهم لأنهم في الجهاد بمنزلة غيرهم وإنما
يشتغلون بغيره عند فراغهم منه
(فصل) إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير اذن الإمام فغنموا فعن أحمد فيه ثلاث روايات
(إحداهن) أن غنيمتهم كغنيمة غيرهم يخمسه الإمام ويقسم باقيه بينهم وهذا قول أكثر أهل
العلم منهم الشافعي لعموم قوله سبحانه (واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) الآية. والقياس
على ما إذا دخلوا باذن الإمام
530

(والثانية) هو لهم من غير أن يخمس وهو قول أبي حنيفة لأنه اكتساب مباح من غير جهاد
فكان لهم أشبه الاحتطاب فإن الجهاد إنما يكون باذن الإمام أو من طائفة لهم منعة وقوة فاما هذا
فتلصص وسرقة ومجرد اكتساب
(والثالثة) انه لاحق لهم فيه، قال احمد في عبد أبق إلى الروم ثم رجع ومعه متاع: فالعبد لمولاه
وما معه من المتاع والمال فهو للمسلمين لأنهم عصاة بفعلهم فلم يكن لهم فيه حق والأولى أولى، قال الأوزاعي
لما أقفل عمر بن عبد العزيز الجيش الذي كان مع مسلمة كسر مركب بعضهم فأخذ المشركون ناسا
من القبط فكانوا خدما لهم فخرجوا يوما إلى عيد لهم وخلفوا القبط في مركبهم وشرب الآخرون ورفع
القبط القطع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت فكتب في ذلك
إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر نفلوهم القلع وكل شئ جاءوا به إلا الخمس. رواه سعيد والأثرم
وإن كانت الطائفة ذات منعة غزوا غير اذن الإمام ففيه روايتان (إحداهما) لا شئ لهم وهو فيئ
للمسلمين (والثانية) يخمس والباقي لهم وهذا أصح. ووجه الروايتين ما تقدم ويخرج فيه وجه كالرواية
الثالثة وهو أن الجميع لهم من غير خمس لكونه اكتساب مباح من غير جهاد
531

(مسألة) قال (ومن غل من الغنيمة حرق رحله كله الا المصحف وما فيه روح)
الغال هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة فلا يطلع الإمام عليه ولا يضعه مع الغنيمة فحكمه أن
يحرق رحله كله وبهذا قال الحسن وفقهاء الشام منهم مكحول والأوزاعي والوليد بن هشام ويزيد بن يزيد
ابن جابر. وأتي سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه وقال
يزيد بن يزيد بن جابر السنة في الذي يغل أن يحرق رحله رواهما سيعد في سننه وقال مالك والليث
والشافعي وأصحاب الرأي لا يحرق لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق فإن عبد الله بن عمر روى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان إذا صاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه
فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة فقال (سمعت
بلالا نادى ثلاثا) قال نعم قال (فما منعك أن تجئ به) فاعتذر فقال (كن أنت تجئ به يوم القيامة
فلن أقبله منك) أخرجه أبو داود لأن احراق المتاع إضاعة له وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن إضاعة المال
ولنا ما روى صالح بن محمد زرارة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل
فسأل سالما عنه فقال سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
532

قال (إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه) قال فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما
عنه فقال بعه وتصدق بثمنه أخرجه سعيد وأبو داود والأثرم
وروى عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر
أحرقوا متاع الغال، فاما حديثهم فلا حجة لهم فيه فإن الرجل لم يعترف انه أخذ ما أخذه علي سبيل
الغلول ولا اخذه لنفسه وإنما توانى في المجئ به وليس الخلاف فيه، ولان الرجل جاء به من عند نفسه
تائبا معتذرا والتوبة تجب ما قبلها وتمحو الحرية
واما النهي عن إضاعة المال فإنما نهي عنه إذا لم تكن فيه مصلحة فأما إذا كان فيه مصلحة فلا
بأس به ولا يعد تضييعا كالقاء المتاع في البحر إذا خيف الغرق وقطع يد العبد السارق مع أن المال
لا تكاد المصلحة تحصل به إلا بذهابه فأكله إتلافه وانفاقه اذهابه، ولا يعد شئ من ذلك تضييعا
ولا إفسادا ولا ينهى عنه
وأما المصحف فلا يحرق لحرمته ولما تقدم من قول سالم فيه والحيوان لا يحرق لنهي النبي صلى الله
عليه وسلم ان يعذب بالنار الا ربها ولحرمة الحيوان في نفسه ولأنه لا يدخل في اسم المتاع المأمور باحراقه
وهذا لا خلاف فيه ولا تحرق آلة الدابة أيضا نص عليه احمد لأنه يحتاج إليها للانتفاع بها ولأنها تابعة لما
لا يحرق فأشبه جلد المصحف وكيسه، وقال الأوزاعي يحرق سرجه واكافه
533

ولنا انه ملبوس حيوان فلا يحرق كثياب الغال، ولا تحرق ثياب الغال التي عليه لأنه لا يجوز
تركه عريانا ولا ماغل لأنه من غنيمة المسلمين قيل لأحمد فالذي أصاب في الغلول اي شئ يصنع به؟
قال يرفع إلى المغنم كذلك قال الأوزاعي ولا سلاحه لأنه يحتاج إليه للقتال ولا نفقته لأن ذلك مما
لا يحرق عادة وجميع ذلك أو ما أبقت النار من حديد أو غيره فهو لصاحبه لأن ملكه كان ثابتا
عليه ولم يوجد ما يزيله وإنما عوقب باحراق متاعه فما لم يحترق يبقى على ما كان، ويحتمل ان يباع
المصحف ويتصدق به لقول سالم فيه، وإن كان معه شئ من كتب الحديث أو العلم فينبغي
ان لا تحرق أيضا لأن نفع ذلك يعود إلى الدين، وليس المقصود الاضرار به في دينه وإنما القصد
الاضرار به في شئ من دنياه
(فصل) وان يحرق رجله حتى استحدث متاعا آخر أو رجع إلى بلده أحرق ما كان معه حال
الغلول نص عليه احمد في الذي يرجع إلى بلده. قال ينبغي أن يحرق ما كان معه في ارض العدو،
وان مات قبل إحراق رحله لم يحرق نص عليه احمد لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولأنه بالموت
انتقل إلى ورثته فاحراقه عقوبة لغير الجاني، وإن باع متاعه أو وهبه احتمل أن لا يحرق لأنه صار لغيره
أشبه ما لو أنتقل عنه بالموت، واحتمل ان ينقض البيع والهبة ويحرق لأنه تعلق به حق سابق على البيع والهبة
فوجب تقديمه كالقصاص في حق الجاني
534

(فصل) وإن كان الغال صبيا لم يحرق متاعه أو به قال الأوزاعي لأن الاحراق عقوبة وليس هو
من أهلها فأشبه الحد، وإن كان عبدا لم يحرق متاعه لأنه لسيده فلا يعاقب سيده بجناية عبده، وإن
استهلك ما غله هو في رقبته لأنه من جنايته، وان غلت امرأة أو ذمي أحرق متاعهما لأنهما من أهل
العقوبة، ولذلك يقطعان في السرقه ويحدان في الزنا وغيره وإن أنكر الغلول وذكر انه ابتاع
ما بيده لم يحرق متاعه حتى يثبت غلوله ببينة أو اقرار لأنه عقوبة به فلا يجب قبل ثبوته بذلك كالحد
ولا يقبل في بينته الا عدلان لذلك
(فصل) ولا يحرم الغال سهمه وقال أبو بكر في ذلك روايتان (إحداهما) يحرم سهمه لأنه قد جاء
في الحديث يحرم سهمه فإن صح فالحكم له وقال الأوزاعي في الصبي يغل يحرم سهمه ولا يحرق متاعه
ولنا ان سبب الاستحقاق موجود فيستحق كما لو لم يعلم ولم يثبت حرمان سهمه في خبر ولا قياس
فيبقى بحاله ولا يحرق سهمه لأنه ليس من رحله
(فصل) إذا تاب الغال قبل القسمة رد ما أخذه في المقسم بغير خلاف لأنه حق تعين رده إلى
أهله فإن تاب بعد القسمة فمقتضى المذهب ان يؤدي خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي وهذا قول
الحسن والزهري ومالك والأوزاعي والثوري والليث
535

روى سعيد بن منصور عن عبد الله بن المبارك عن صفوان بن عمرو عن حوشب بن سيف قال
غزا الناس الروم وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فغل رجل مائة دينار فلما قسمت الغنيمة
وتغرق الناس ندم فاتي عبد الرحمن فقال قد غللت مائة دينار فاقبضها قال قد تفرق الناس فلن
أقبضها منك حتى توافي الله بها يوم القيامة فاتى معاوية فذكر ذلك له فقال له مثل ذلك فخرج وهو
يبكي فمر بعبد الله بن الشاغر السكسكي فقال ما يبكيك؟ فأخبره فقال إنا لله وانا إليه راجعون أمطيعي
أنت يا عبد الله؟ قال نعم قال فانطلق إلى معاوية فقل له خذ مني خمسك فاعطه عشرين دينارا وانظر
إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش فإن الله تعالى يعلم أسماءهم ومكانهم وإن الله يقبل التوبة
عن عباده فقال معاوية أحسن والله لأن أكون أنا أفتيته بهذا أحب إلي من أن يكون لي مثل كل
شئ امتلكت، وعن ابن مسعود أنه رأى أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، وقال الشافعي
لا أعرف للصدقة وجها، وقد جاء في حديث الغال ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا أقبله منك
حتى تجئ به يوم القيامة)
ولنا قول من ذكرنا من الصحابة ومن بعدهم ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون اجماعا ولان
تركه تضييع له وتعطيل لمنفعته التي خلق لها ولا يتخفف به شئ من اثم الغال وفي الصدقة نفع لمن
يصل إليه من المساكين وما يحصل من أجر الصدقة يصل إلى صاحبه فيذهب به الاثم عن الغال فيكون أولى
536

(مسألة) قال (ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدو)
وجملته أن من أتي حدا من الغزاة أو ما يوجب قصاصا في ارض الحرب لم يقم عليه حتى يقفل
فيقام عليه حده وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يقام الحد
في كل موضع لأن أمر الله تعالى بإقامته مطلق في كل مكان وزمان إلا أن الشافعي قال إذا لم يكن
أمير الحيش الإمام أو أمير إقليم فليس له إقامة الحد ويؤخر حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحدود إليه
وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود أو قوة به أو شغل عنه أخر، وقال أبو حنيفة لاحد
ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع
ولنا على وجوب الحد أمر الله تعالى ورسوله به وعلى تأخيره ما روى بشر بن أبا أرطأة أنه اتي
برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تقطع الأيدي في
الغزاة) لقطعتك أخرجه أبو داود وغيره ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم
وروى سعيد في سننه باسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه ان عمر كتب إلى الناس ان لا يجلدن
537

أمير جيش ولا سرية ولا رجلا من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية
الشيطان فيلحق بالكفار وعن أبي الدرداء مثل ذلك وعن علقمة قال كنا في جيش في أرض الروم
معنا حذيفة بن اليمان وعلينا الوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا ان نجده فقال حذيفة أتحدون
أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم وأتي سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فامر
به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن
كفى حزنا ان تطرد الخيل بالقنا * وأترك مشدودا على وثاقيا
وقال لابنة حصفة امرأة سعد أطلقيني ولك الله علي ان سلمني الله ان أرجع حتى أضع رجلي قد القيد
فإن قتلت استرحتم مني قال فحلته حين التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس
قال وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة فوثب أبو محجن
على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ رمحا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم وجعل الناس
يقولون هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو
محجن في القيد فلما هزم العدو ورجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد فأخبرت ابنة حصفة سعدا
بما كان من أمره فقال سعد لا والله لا أضرب اليوم رجلا ابلى الله المسلمين به ما أبلاهم فخلى سبيله فقال
أبو محجن قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد واطهر منها فأما إذا بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا
وهذا اتفاق لم يظهر خلافه فأما إذا رجع فإنه يقام الحد عليه لعموم الآيات والاخبار وإنما أخر لعارض
538

كما يؤجر لمرض أو شغل فإذا زال العارض أقيم الحد لوجود مقتضيه وانتفاء معارضه. ولهذا قال عمر
حتى يقطع الدرب قافلا
(فصل) وتقام الحدود في الثغور بغير خلاف نعلمه لأنها من بلاد الاسلام والحاجة داعية إلى زجر
أهلها كالحاجة إلى زجر غيرهم وقد كتب عمر إلى أبي عبيدة أن يجلد من شرب الخمر ثمانين وهو بالشام
وهو من الثغور.
(مسألة) قال (وإذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم أو بنت أو يبلغ خمس عشرة سنة)
وجمله ذلك أن الإمام إذا ظفر بالكفار لم يجز ان يقتل صبيا لم يبلغ بغير خلاف وقد روى ابن
عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان متفق عليه ولان الصبي يصير رقيقا
بنفس السبي ففي قتله إتلاف المال وإذا سبي منفردا صار مسلما فاتلافه إتلاف من يمكن جعله مسلما
والبلوغ يحصل بأحد أسباب ثلاثة
(أحدها) الاحتلام وهو خروج المني من ذكر الرجل أو قبل الأنثى في يقظة أو منام وهذا لا خلاف
فيه وقد قال الله تعالى (يا أيها الذين أمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم)
539

ثلاث مرات ثم قال (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) وقال
النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتم بعد احتلام) وقال لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا) رواهما أبو داود
(الثاني) إنبات الشعر الخشن حول القبل وهو علامة على البلوغ بدليل ما روى عطية القرظي
قال كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت
فيمن لم ينبت أخرجه الأثرم والترمذي
وقال هذا حديث حسن صحيح وعن كثير بن السائب قال حدثني أبناء قريظة أنهم عرضوا
على النبي صلى الله عليه وسلم فمن كان منهم محتلما أو نبتت عانته قتل ومن لا ترك أخرجه الأثرم وعن أسلم مولى عمر
ان عمر كان يكتب إلى أمراء الأجناد ان لا يقتلوا الا من جرت عليه المواسي ولا يأخذوا الجزية
الا ممن جرت عليه المواسي، وحكي عن الشافعي ان هذا بلوغ في حق الكفار لأنه لا يمكن
الرجوع إلى قولهم في الاحتلام وعدد السنين وليس بعلامة عليه في حق المسلمين لامكان ذلك فيهم
ولنا قول أبي نضرة وعقبة بن عامر حين اختلف في بلوغ تميم بن قرع المهري انظروا فإن كان
قد اشعر فاقسموا له فنظر إليه بعض القوم فإذا هو قد أنبت فقسموا له ولم يظهر خلاف هذا
فكان اجماعا، ولأنه علم على البلوغ في حق الكافر فكان علما عليه في حق المسلم كالعلمين الآخرين
ولأنه أمر يلازم البلوغ غالبا فكان علما عليه كالاحتلام، وقولهم انه يتعذر في حق الكافر معرفة
540

الاحتلام والسن لا تتعذر معرفة السن في الذمي الناشئ بين المسلمين ثم تعذر المعرفة لا يوجب
جعل ما ليس بعلامة علامة كغير الانبات
(الثالث) بلوغ خمس عشرة سنة لما روى ابن عمر قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وانا ابن
أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني في المقاتلة قال نافع
فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال هذا فصل ما بين الرجال وبين الغلمان. متفق عليه وهذه
العلامات الثلاث في حق الذكر والأنثى وتزيد الأنثى بعلامتين الحيض والحمل فمن لم يوجد فيه علامة
منهن فهو صبي يحرم قتله
(فصل) ولا تقتل امرأة ولا شيخ فإن وبذلك قال مالك وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن
أبي بكر الصديق ومجاهد. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى (ولا تعتدوا) يقول لا تقتلوا النساء
والصبيان والشيخ الكبير
وقال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر يجوز قتل الشيوخ لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
ولان الله تعالى قال (فاقتلوا المشركين) وهذا عام يتناول بعمومه الشيوخ، وقال ابن المنذر:
لا أعرف حجة في ترك قتل الشيوخ يستثنى بها من عموم قوله (فاقتلوا المشركين) ولأنه كافر
لا نفع في حياته فيقتل كالشاب
541

ولنا النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا امرأة) رواه
أبو داود في سننه.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه وصى يزيد حين وجهه إلى الشام فقال: لا تقتل
صبيا ولا امرأة ولا هرما وعن عمر انه وصى سلمة بن قيس فقال: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا
هما رواهما سعيد، ولأنه ليس من أهل القتال فلا يقتل كالمرأة. وقد أومأ النبي صلى الله عليه وسلم
إلى هذه العلة في المرأة فقال (ما بال هذه قتلت وهي لا تقاتل والآية مخصوصة بما روينا ولأنه قد خرج
من عمومها المرأة والشيخ الهم في معناها فنقيسه عليها، وأما حديثهم فأراد به الشيوخ الذين فيهم قوة
على القتال أو معونة عليه برأي أو تدبير جمعا بين الأحاديث ولان أحاديثنا خاصة في الهرم وحديثهم
عام في الشيوخ كلهم والخاص يقدم على العام وقياسهم ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها
(فصل) ولا يقتل زمن ولا أعمى ولا راهب والخلاف فيهم وكالخلاف في الشيخ وحجتهم
ههنا حجتهم فيه
ولنا في الزمن والأعمى انهما ليسا من أهل القتال فاشبها المرأة وفي الراهب ما روي في حديث
أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال وستمرون على أقوام في الصوامع قد حبسوا أنفسهم فيها فدعوهم
حتى يميتهم الله على ضلالهم ولأنهم لا يقاتلون تدينا فأشبهوا من لا يقدر على القتال
542

(فصل) ولا يقتل العبيد وبه قال الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أدركوا خالدا
فمروه أن لا يقتل ذرية، ولا عسيفا) وهم العبيد لأنهم يصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي
فأشبهوا النساء والصبيان
(فصل) ومن قاتل ممن ذكرنا جميعهم جاز قتله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت
رحا على محمود بن سلمة، ومن كان من هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله
لأن دريد من الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه وكانوا خرجوا به معهم يتيمنون به ويستعينون
برأيه فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ولان الرأي من أعظم المعونة في الحرب وقد جاء عن معاوية أنه قال
لمروان والأسود أمددتما عليا بقيس بن سعد وبرأيه ومكايدته فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلا ف
مقاتل ما كان بأغيظ لي من ذلك
(مسألة) قال (ومن قاتل من هؤلاء النساء والمشايخ والرهبان في المعركة متل)
لا نعلم فيه خلافا، وبهذا قال الأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
وقد جاء عن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال (من قتل هذه) قال رجل
أنا يا رسول الله قال (ولم)) يقال نازعتني قائم سيفي قال فسكت ولان النبي صلى الله عليه وسلم وقف على امرأة مقتولة
543

فقال ما بالها قتلت وهي لا تقاتل) وهذا يدل على أنه إنما نهى عن قتل المرأة إذا لم تقاتل ولان هؤلاء
إنما لم يقتلوا لأنهم في العادة لا يقاتلون
(فصل) فاما المريض فيقتل إذا كان ممن لو كان صحيحا قاتل لأنه بمنزلة الاجهاز على الجريح
الا أن يكون مأيوسا من برئه فيكون بمنزلة الزمن لا يقتل لأنه لا يخاف منه أن يصير إلى
حال يقاتل فيها.
(فصل) فاما القلاح الذي لا يقاتل فينبغي أن لا يقتل لما روي عن عمر بن الخطا ب رضي الله عنه
أنه قال اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. وقال الأوزاعي لا يقتل الحراث
إذا علم أنه ليس من المقاتلة وقال الشافعي يقتل الا ان يؤدي الجزية لدخوله في عموم المشركين
ولنا قول عمرو ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلوهم حين فتحوا بالبلاد ولا نهم لا يقاتلون
فأشبهوا الشيوخ والرهبان.
(فصل) إذا حاضر الإمام حصنا لزمته مصابرته ولا ينصرف عنه الا بخصلة من خصال خمس:
(أحدها) أن يسلموا فيحرزوا بالاسلام دماءهم وأموالهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت ان أقاتل الناس
حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) وان أسلموا بعد الفتح
عصموا دماءهم دون أموالهم ويرقون
544

(الثانية) أن يبذلوا مالا على الموادعة فيجوز قبوله منهم سواء اعطوه جملة أو جعلوه خراجا مستمرا
يؤخذ منهم كل عام، فإن كانوا ممن تقبل منهم الجزية فبذلوها لزمه قبولها منهم وحرم قتالهم لقول الله
تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وان بذلوا مالا على غير وجه الجزية فرأى المصلحة في
قبوله قبله ولا يلزمه قبوله إذا لم ير المصلحة فيه (الثالثة) ان يفتحه
(الرابعة) أن يرى المصلحة في الانصراف عنه اما لضرر في الإقامة واما لليأس منه وإما لمصلحة
ينتهزها تفوت بإقامته فينصرف عنه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا
فقال (انا قافلون إن شاء الله تعالى غدا) فقال المسلمون أنرجع عنه ولم نفتحه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(اغدوا على القتال) فغدوا عليه فأصابهم الجراح فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (انا قافلون غدا فأعجبهم)
فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه
(الخامسة) أن ينزلوا على حكم حاكم فيجوز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما حاصر بني قريظة
رضوا بان ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك والكلام فيه في فصلين (أحدهما) صفة الحاكم
(والثاني) صفة الحكم فيعتبر فيه سبعة شروط أن يكون الحاكم حرا مسلما عاقلا بالغا ذكرا عدلا فقيها كما يشترط
في حاكم المسلمين ويجوز أن يكون أعمى لأن عدم البصر لا يضر في مسئلتنا لأن المقصود رأيه
545

ومعرفة المصلحة في أحد اقسام الحكم ولا يضر عدم البصر فيه بخلاف القضاء فإنه لا يستغني عن
البصر ليعرف المدعي من المدعى عليه والشاهد من المشهود له والمشهود عليه والمقر له من المقر ويعتبر
من الفقه ههنا ما يتعلق بهذا الحكم مما يجوز فيه ويعتبر له ونحو ذلك ولا يعتبر فقهه في جميع الأحكام
التي لا تعلق له بهذا ولهذا حكم سعد بن معاذ ولم يثبت انه كان عالما بجميع الأحكام. إذا حكموا رجلين
جاز ويكون الحكم ما اتفقا عليه، وان جعلوا الحكم إلى رجل يعينه الإمام جاز لأنه لا يختار الا من يصلح وان نزلوا
على حكم رجل منهم أو جعلوا التعيين إليهم لم يجز لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح وإن عينوا رجلا يصلح
فرضيه الإمام جاز لأن بني قريظة رضوا بحكم سعد بن معاذ وعينوه فرضيه النبي صلى الله عليه وسلم
وأجاز حكمه وقال لقد حكمت فيهم بحكم الله) وإن مات من اتفقوا عليه فاتفقوا على غيره ممن يصلح قام
مقامه، وإن لم يتفقوا على من يقوم مقامه أو طلبوا حكما لا يصلح ردوا إلى مأمنهم وكانوا على الحصار
حتى يتفقوا وكذلك إن رضوا باثنين فمات أحدهما فاتفقوا على من يقوم مقامه جاز وإلا ردوا إلى
مأمنهم، وكذلك إن رضوا بتحكيم من لم تجتمع الشرائط فيه ووافقهم الإمام عليه ثم بان انه لا يصلح
لم يحكم ويردون إلى مأمنهم كما كانوا
(وأما صفة الحكم) فإن حكم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم نفذ حكمه لأن سعد بن معاذ حكم
في بني قريظة بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة)
وإن حكم بالمن على المقاتلة وسبي الذرية فقال القاضي يلزم حكمه وهو مذهب الشافعي لأن الحكم إليه
فيما يرى المصلحة فيه فكان له المن كالإمام في الأسير
546

واختار أبو الخطاب أن حكمه لا يلزم لأن عليه أن يحكم بما فيه الحظ ولاحظ للمسلمين في المن، وإن
حكم بالمن على الذرية فينبغي أن لا يجوز لأن الإمام لا يملك المن على الذرية إذا سبوا فكذلك الحاكم ويحتمل
الجواز لأن هؤلاء لم يتعين السبي فيهم بخلاف من سبي فإنه يصير رقيقا بنفس السبي، وإن حكم
عليهم بالفداء جاز لأن الإمام مخير في الاسرى بين القتل والفداء والاسترقاق والمن فكذلك الحاكم
وإن حكم عليهم باعطاء الجزية لم يلزم حكمه لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي ولذلك
لا يملك الإمام اجبار الأسير على اعطاء الجزية، وإن حكم بالقتل والسبي جاز للإمام المن على بعضهم لأن
ثابت بن قيس سأل في الزبير بن باطل من قريظة وماله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه ويخالف مال
الغنيمة إذا حازه المسلمون لأن ملكهم استقر عليه، وإن أسلموا قبل الحكم عليه عصموا دماءهم وأموالهم
لأنهم أسلموا وهم أحرار وأموالهم لهم فلم يجز استرقاقهم بخلاف الأسير فإن الأسير قد ثبتت اليد
عليه كما تثبت على الذرية ولذلك جاز استرقاقه، وإن أسلموا بعد الحكم عليهم نظرت فإن كان قد
حكم عليهم بالقتل سقط لأن من أسلم فقد عصم دمه ولم يجز استرقاقهم لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم
يقال أبو الخطاب ويحتمل جواز استرقاقهم كما لو أسلموا بعد الأسر ويكون المال على ما حكم فيه، وإن
حكم بان المال للمسلمين كان غنيمة لأنهم أخذوه بالقهر والحصر
547

(مسألة) قال (وإذا خلي الأسير منا وحلف أن يبعث إليهم بشئ يعينه أو يعود إليهم
فلم يقدر عليه لم يرجع إليهم)
وجملته أن الأسير إذا خلاه الكفار واستحلفوه على أن يبعث إليهم بفدائه أو يعود إليهم نظرت
فإن أكرهوه بالعذاب لم يلزمه الوفاء لهم برجوع ولا فداء لأنه مكره فلم يلزمه ما أكره عليه لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وإن لم يكره عليه وقدر على الفداء الذي
التزمه لزمه أداؤه وبهذا قال عطاء والحسن والزهري والنخعي والثوري والأوزاعي، وقال الشافعي
أيضا لا يلزمه لأنه حر لا يستحقون بدله
ولنا قول الله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) ولما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل
الحديبية على رد من جاءه مسلما وفى لهم بذلك وقال (انا لا يصلح في ديننا الغدر) ولان في الوفاء
مصلحة للأسارى وفي الغدر مفسدة في حقهم لأنهم لا يأمنون بعده والحاجة داعية إليه فلزمه الوفاء
به كما يلزمه الوفاء بعقد الهدنة ولأنه عاهدهم على أداء مال فلزمه الوفاء به كثمن المبيع والمشروط في
عقد الهدنة في موضع يجوز شرطه وما ذكروه باطل بما إذا شرط رد من جاءه مسلما أو شرط لهم
مالا في عقد الهدنة. فأما إن عجز من الفداء نظرنا فإن كان المفادى امرأة لم ترجع إليهم ولم يحل
548

لها ذلك لقوله الله تعالى (فلا ترجعوهن إلى الكفار) ولان في وجوعها تسليطا لهم على وطئها حراما
وقد منع الله تعالى رسوله رد النساء إلى الكفار بعد صلحه على ردهن في قصه الحديبية وفيها فجاء نسوة
مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن رواه أبو داود وغيره وإن كان رجلا ففيه روايتان
(إحداهما) لا يرجع أيضا وهو قول الحسن والنخعي والثوري والشافعي لأن الرجوع إليهم معصية
فلم يلزم بالشرط كما لو كان امرأة وكما لو شرط قتل مسلم أو شرب الخمر
(والثانية) يلزمه وهو قول عثمان والزهري والأوزاعي ومحمد بن سوقه لما ذكرنا في بعث الفداء
ولان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهد قريشا على رد من جاءه مسلما ورد أبا بصير وقال (انا لا يصلح في
ديننا الغدر) وفارق رد المرأة فإن الله تعالى فرق بينهما في هذا الحكم حين صالح النبي صلى الله عليه
وسلم قريشا على رد من جاءه منم مسلما فأمضى الله ذلك في الرجال ونسخه في النساء، وقد ذكرنا
الفرق بينهما من ثلاثة أوجه تقدمت
(فصل) فإن أطلقوه وآمنوه صاروا في أمان منه لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه فإن أمكنه
المضي إلى دار الاسلام لزمه وان تعذر عليه أقام وكان حكمه حكم من أسلم في دار الحرب فإن أخذ
في الخروج فأدركوه وتبعوه قاتلهم وبطل الأمان لأنهم طلبوا منه المقام وهو معصية فاما ان أطلقوه
ولم يؤمنوه فله. أن يأخذ منهم ما قدر عليه ويسرق وبهرب لأنه لم يؤمنهم ولم يؤمنوه، وان أطلقوه
549

وشرطوا عليه المقام عندهم لزمه ما شرطوا عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند شروطهم) وقال
أصحاب الشافعي لا يلزمه فاما ان أطلقوه على أنه رقيق لهم فقال أبو الخطاب له أن يسرق ويهرب ويقتل
لأن كونه رقيقا حكم شرعي لا يثبت عليه بقوله ولو ثبت لم يقتض أمانا له منهم ولا لهم منه وهذا مذهب
الشافعي وان أحلفوه على هذا فإن كان مكرها على اليمين لم تنعقد يمينه وإن كان مختار فحنث كفر يمينه
ويحتمل أن تلزمه الإقامة على الرواية التي تلزمه الرجوع إليهم في المسألة الأولى وهو قول الليث
(فصل) وإن اشترى الأسير شيئا مختارا أو اقترضه فالعقد صحيح ويلزمه الوفاء لهم لأنه عقد معاوضة
فأشبه ما لو فعله غير الأسير وإن كان مكرها لم يصح فإن اكرهوه على قبضه لم يضمنه ولكن عليه رده إليهم
إن كان باقيا لأنهم دفعوه إليه بحكم العقد وان قبضه باختياره ضمنه لأنه قبضه عن عقد فاسد وإن باعه والعين
قائمة لزمه ردها لأن العقد باطل، وإن عدمت العين رد قيمتها
(مسألة) قال (ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ومباح له أن يهرب من ثلاثة
فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل)
وجملته انه إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات وحرم الفرار بدليل قوله تعالى (يا أيها
الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار) الآية وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة
فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفرار يوم الزحف فعده من الكبائر
550

وحكي عن الحسن والضحاك ان هذا كان يوم يدر خاصة ولا يجب في غيرها والامر مطلق وخبر النبي
صلى الله عليه وسلم عام فلا يجوز التقييد والتخصيص الا بدليل وإنما يجب الثبات بشرطين
(أحدهما) أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين فإن زادوا عليه جاز الفرار لقول
الله تعالى (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) وهذا
إن كان لفظه لفظ الخبر فهو أمر بدليل قوله (الآن خفف الله عنكم) ولو كان خبرا على حقيقته لم
يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة إلي غلبه الاثنين تخفيفا ولان خبر الله تعالى صدق لا يقع بخلاف مخبره
وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون فلم
انه أمر وفرض ولم يأت شئ ينسخ هذه الآية لافي كتاب ولا سنة فوجب الحكم بها. قال ابن
عباس نزلت (ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) فشق ذلك على المسلمين حين فرض
الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة ثم جاء تخفيف فقال (الآن خفف الله عنكم إلى قوله
يغلبوا مائتين) فلما خفف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد رواه أبو داود
وقال ابن عباس من فر من اثنين فر ومن فر من ثلاثة فما فر
(الثاني) أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة ولا التحرف لقتال فإن قصد أحد هذين فهو مباح
له لأن الله تعالى قال (الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) ومعنى التحرف للقتال أن ينحاز إلى
551

موضع يكون القتال فيه أمكن مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما أو من نزلة
إلى علو أو من معطشة إلى موضع ماء أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم أو تنفرد خيلهم من رجالتهم
أو ليجد فيهم فرصه أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب، وقد روي عن
عمر رضي الله عنه أنه كان يوما في خطبته إذا قال يا سارية بن زنيم الجبل. ظلم الذئب من استرعاه الغنم
فأنكرها الناس فقال علي رضي الله عنه دعوه فلما نزل سألوه عما قال فلم يعترف به وكان قد بعث سارية
إلى ناحية العراق لغزوهم فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة فظهر عليهم فسمعوا
صوت عمر فتحيزوا إلى الجبل فنجوا من عدوهم فانتصروا عليهم. وأما التحيز إلى فئة فهو ان يصير
إلى فئة من المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على عدوهم وسواء بعدت المسافة أو قربت قال القاضي
لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز جاز التخيز إليها ونحوه ذكر الشافعي لأن ابن عمر روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اني فئة لكم وكانوا بمكان بعيد منه) وقال عمر انا فئة كل مسلم وكان بالمدينة
552

وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان رواهما سعيد وقال عمر رحم الله أبا عبيد لو كان تحيز إلي
لكنت له فئة وإذا خشي الأسر فالأولى له أن يقاتل حتى يقتل ولا يسلم نفسه للأسر لأنه يفوز بثواب
الدرجة الرفيعة ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة وان استأسر جاز لما روى
أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فنفرت إليهم هذيل بقريب
من مائة رجل رام فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدد فقالوا لهم أنزلوا فأعطونا بأيديكم
ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا فقال عاصم أما أنا أنزل في ذمة كافر فرموهم بالنبل
فقتلوا عاصما في سبعة معه ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة فلما استمكنوا
منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها متفق عليه فعاصم أخذ بالعزيمة وخبيب وزيد أخذا بالرخصة
وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم
(فصل) وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظن المسلمين الطفر فالأولى لهم
الثبات لما في ذلك من المصلحة، وان انصرفوا جاز لأنهم لا يأمنون العطب والحكم علق على مظنته
وهو كونهم أقل من نصف عددهم، ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وان غلب على
ظنهم الهلاك فيه.
553

ويحتمل أن يلزمهم الثبات ان غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة وإن غلب على ظنهم الهلاك
في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف وان ثبتوا جاز لأن لم غرضا في الشهادة
ويجوز ان يغلبوا أيضا، وان غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف فالأولى لهم الثبات لينالوا
درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولين ولأنه يجوز أن يغلبوا أيضا فإن
الله تعالى يقول (كم من فئة قليلة غلبت فئه كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) ولذلك صبر عاصم
وأصحابه فقاتلوا حتى أكرمهم الله بالشهادة
(فصل) فإن جاء العدو بلدا فلأهله التحصن منهم وان كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد
أو قوة ولا يكون ذلك توليا ولا فرار إنما التولي بعد لقاء العدو، وان لقوهم خارج الحصن فلهم التحيز
إلى الحصن لأنه بمنزلة التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة وان غزوا فذهبت دوابهم فليس ذلك عذرا
في الفرار لأن القتال ممكن للرجالة، وان تحيزوا إلى جبل ليقاتلوا فيه رجالة فلا بأس لأنه تحرف
للقتال وان ذهب سلاحهم فتحيزوا إلى مكان بمكنهم القتال فيه بالحجارة والتستر بالشجر ونحوه
أولهم في التحيز إليه فائدة جاز
(فصل) فإن ولى قوم قبل احراز الغنيمة وأحرزها الباقون فلا شئ للفارين لأن احرازها حصل
بغيرهم فكان ملكها لمن أحرزها، وان ذكروا أنهم فروا متحيزين إلى فئة أو متحرفين للقتال فلا شئ
لهم أيضا لذلك، وان فروا بعد إحراز الغنيمة لم يسقط حقهم منها لأنهم ملكوا الغنيمة بحيازتها
فلم يزل ملكهم عنها بفرارهم
(فصل) وإذا ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون فاشتعلت فيها فما غلب على ظنهم السلامة
فيه من بقائهم في مركبهم أو إلقاء نفوسهم في الماء فلاولى لهم فعله، وان استوى عندهم الأمران
فقال أحمد كيف شاء يصنع، قال الأوزاعي هما موتنان فاختر أيسرهما. وقال أبو الخطاب فيه رواية
554

أخرى انهم يلزمهم المقام لأنهم إذا رموا نفوسهم في الماء كان موتهم بفعلهم وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم
(مسألة) قال (ومن آجر نفسه بعدان غنموا على حفظ الغنيمة فمباح له ما اخذ إن كان
راجلا أولى دابة يملكها)
وجملته أن الغنيمة إذا احتاجت إلى من يحفظها أو سوق الدواب التي في منها أو يرعاها أو يحملها
فإن للإمام ان يستأجر من يفعل ذلك ويؤدي أجرتها منها لأن ذلك من مؤنتها فهو كعلف الدواب
وطعام السبي ومن أجر نفسه على فعل شئ من ذلك فله أجرته مباحه لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين
إليه حاجة فحلت له أجرته كما لو أجر نفسه على الدلالة إلى الطريق. فاما قوله إن كان راجلا أو على
دابة يملكها فإنه يعني به لا يركب من دواب المغنم ولا فرسا حبيسا.
قال احمد: لا بأس ان يؤجر الرجل نفسه على دابته وكره أن يستأجر القوم على سياق الرمك
555

على فرس حبيس لأنه يستعمل الفرس الموقوفة للجهاد فيما يختص منفعة نفسه فإن أجر نفسه فركب الدابة الحبيس
أو دابة من المغنم لم تطلب له أجرة لأن المعين له على العمل يختص منفعة نفسه فلا يجوز أن يستعمل
فيه دواب المغنم ولا دأب الجيس وينبغي ان يلزمه بقدر أجر الدابة يرد في الغنيمة ان كانت من الغنيمة
أو يصرف في نفقة دواب الحبيس إن كان الفرس حبيسا
(فصل) فإن شرط في الإجابة ركوب دابة من الغنيمة فينبغي ان يجوز لأن ذلك بمنزلة أجرة
تدفع إليه من المغنم ولو أجر نفسه بدابة من الغنم معينة صح فإذا جعل أجره ركوبها كان أولى
الا أن يكون العمل مجهولا فلا يجوز لأن من شرط صحة اجارتها كون عوضها معلوما،
وان شرط في الإجارة ركوب دابة من الحبيس لم يجز لأنها إنما حبست على الجهاد وليس هذا بجهاد
إنما هو نفع لأهل الغنيمة
(فصل) ولا يجوز الانتفاع من الغنيمة بركوب دابة منها ولا لبن ثوب من ثيابها لما روى رويفع
ابن ثابت قال لا أقول لكم الا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر (من كان يؤمن بالله
556

واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فلا يلبس ثوبا من فيئ المسلمين حتى إذا أحلنه رده فيه) رواه أبو داود والأثرم وعن رجل من
بالقين قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى فقلت ما تقول في الغنيمة؟ فقال (لله خمسها وأربعة
أخماسها للجيش) فقلت فما أحد أولى به من أحد؟ قال (لا ولا السهم تستخرجه من جنبك أنت أحق
به من أخيك المسلم) رواه الأثرم ولا الغنيمة مشتركة بين الغانمين وأهل الخمس فلم يجز لواحد
الاختصاص بمنفعته كغيره من الأموال المشتركة فإن دعت الحاجة إلى القتال بسلاحهم فلا بأس
قال احمد إذا كان أنكى فيهم أو خاف على نفسه فنعم
وذكر حديث سيف أبي جهل وهو ما روى عبد الله بن مسعود قال انتهيت إلى أبي جهل يوم
بدر وقد ضربت رجله فقلت الحمد لله الذي أخزاك يا أبا جهل فأضربه بسيف معي غير طائل فوقع
سيفه من يده فأخذت سيفه فضربته به حتى برد. رواه الأثرم وفي ركوب الفرس للجهاد روايتان
(إحداهما) يجوز كما يجوز في السلاح (والثانية) لا يجوز لأنها تتعرض للعطب غالبا وقيمتها
كثيرة بخلاف السلاح
557

(مسألة) قال (ومن لقي علجا فقال له قف أو الق سلاحك فقد أمنه)
قد تقدم الكلام فيمن يصح أمنه ونذكر ههنا صفة الأمان فالذي ورد به الشرع لفظتان
أجرتك وأمنتك لقول الله تعالى (وان أحد من المشركين استجارك فأجره) وقال النبي صلى الله
عليه وسلم (قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت وقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن
أغلق بابه فهو آمن) وفي معنى ذلك إذا قال لا تخف لا تذهل لا تخش لاخوف عليك لا باس عليك
وقد روي عن عمر أنه قال: إذا قلتم لا بأس أو لا تذهل أو مترس فقد أمنتموهم فإن الله تعالى
يعلم الألسنة. وفي رواية أخرى إذا قال الرجل للرجل لا تخف فقد أمنه فإذا قال لا تذهل فقد أمنه
فإن الله يعلم الألسنة
روي أن عمر قال للهرمزان تكلم ولا باس عليك فلما تكلم أمر عمر بقتله فقال أنس بن
مالك ليس لك إلى ذلك سبيل قد أمنته فقال عمر كلا، فقال الزبير قد قلت له تكلم ولا باس
عليك فدرأ عنه عمر القتل. رواه سعيد وغيره وهذا كله لا نعلم فيه خلافا، فاما إن قال له قم أو قف
أو الق سلاحك فقال أصحابنا هو أمان أيضا لأن الكافر يعتقد هذا أمانا فأشبه قوله أمنتك
وقال الأوزاعي إن ادعى الكافر انه أمن أو قال إنما وقفت لندائك فهو آمن فإن لم يدع ذلك فلا
يقبل ويحتمل ان هذا ليس بأمان لأن لفظه لا يعشر به وهو يستعمل للارهاب والتخويف فلم يكن
558

أمانا لقوله لأقتلنك لكن يرجع إلى القاتل فإن قال نويت به الأمان فهو أمان، وإن قال لم أرد أمانه
نظرنا في الكافر فإن قال اعتقدته أمانا رد إلى مأمنه ولم يجز قتله وإن لم يعتقده أمانا فليس بأمان كما
لو أشار إليهم بما اعتقدوه أمانا
(فصل) فإن أشار المسلم إليهم بما يرونه أمانا وقال أردت به الأمان فهو أمان، وإن قال لم
أرد به الأمان فالقول قوله لأنه اعلم بنيته، فإن خرج الكفار من حصنهم بناء على هذه الإشارة لم يجز
قتلهم ولكن يردون إلى مأمنهم
وقال عمر رضي الله عنه والله لوان أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل بامانه فقتله
لقتلته به. رواه سعيد، وإن مات المسلم أو غاب فإنهم يردون إلى مأمنهم وبهذا قال مالك والشافعي
وابن المنذر فإن قيل وكيف صححتم الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق بخلاف البيع والطلاق
والعتق؟ قلنا تغليبا لحقن الدم كما حقن دم من له شبهة كتاب تغليبا لحقن دمه ولان الكفار في الغالب
لا يفهمون كلام المسلمين والمسلمون لا يفهمون كلامهم فدعت الحاجة إلى التكليم بالإشارة بخلاف غيره
(فصل) إذا سبيت كافرة فجاء ابنها يطلبها وقال إن عندي أسيرا مسلما فأطلقوها حتى أحضره فقال
الإمام أحضره فأحضره لزم اطلاقها لأن المفهوم من هذا اجابته إلى ما سأل وإن قال الإمام لم أرد اجابته
559

لم يجبر على ترك أسيره ورد إلى مأمنه وقال أصحاب الشافعي يطلق الأسير ولا تطلق المشركة لأن المسلم
حر لا يجوز أن يكون ثمنا لمملوكة ويقال له ان اخترت شراءها فائت بثمنها
ولنا أن هذا يفهم منه الشرط فيجب الوفاء به كما لو صرح به ولان الكافر فهم منه ذلك وبنى
عليه فأشبه ما لو فهم الأمان من الإشارة، وقولهم ان الحر لا يكون ثمن مملوكة قلنا لكن يصح أن يفادى
بها فقد فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسيرة التي أخذها من سلمة بن الأكوع برجلين من المسلمين
وفادى برجلين من المسلمين بأسير من الكفار ووفى لهم برد من جاءه مسلما وقال (انه لا يصلح في ديننا
الغدر) وإن كان رد المسلم إليهم ليس بحق لهم، ولأنه التزم اطلاقها فلزمه ذلك لقوله عليه السلام (المسلمون
على شروطهم) وقوله (انه لا يصلح في ديننا الغدر)
(مسألة) قال (ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع)
يعني إذا كان السارق بعض الغانمين أو أباه أو سيده فلا قطع عليه لأن له شبهة وهو حقه المتعلق
بها فيكون ذلك مانعا من قطعه لأن الحدود تدرأ بالشبهات فأشبه ما لو سرق من مال مشترك بينه
وبين غيره، وهكذا إن كان لابنه وإن علا وهو قول أبي حنيفة والشافعي وزاد أبو حنيفة إذا
560

كان لذي رحم محرم منه فيها حق لم يقطع مبني على أنه لا يقطع بسرقة مالهم وقد سبق الكلام في
هذا، ولو كان لاحد الزوجين فيها حق فسرق منها الآخر لم يقطع عند من لا يرى أن أحدهما يقطع
بسرقة مال الآخر وقد سبق ذكر هذا
(فصل) والسارق من الغنيمة غير الغال فلا يجري مجراه في احراق رحله ولا يجري الغال مجرى
السارق في قطع يده، وذكر بعض أصحابنا ان السارق يحرق رحله لأنه في معنى الغال ولأنه لما درئ
عنه الحد وجب أن يشرع في حقه عقوبة أخرى كسارق الثمر يغرم مثلي ما سرق
ولنا ان هذا لا يقع عليه اسم العال حقيقة ولا هو في معناه لأن الغلول يكثر لكونه أخذ مال
لا حافظ له ولا يطلع عليه غالبا فيحتاج إلى زاجر عنه وليس كذلك السرقة فإنها أخد مال محفوظ
فالحاجة إلى الزجر عنه أقل (مسألة) قال (وان وطئ جارية قبل أن يقسم أدب ولم يبلغ به الزاني وأخذ
منه مهر مثلها فطرح في المقسم الا أن تلد منه فتكون عليه قيمتها)
يعني إذا كان الواطئ من الغانمين أو ممن لواه فيها حق فلا حد عليه لأن الملك يثبت للغانمين
في الغنيمة فيكون للواطئ حق في هذه الجارية وإن كان قليلا فيدرأ عنه الحد للشبهة وبهذا قال أبو
حنيفة والشافعي وقال مالك وأبو ثور عليه الحد لقول الله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد
561

منهما مائة جلدة) وهذا زان، ولأنه وطئ في غير ملك عامدا عالما بالتحريم فلزمه الحد كما لو وطئ
جارية غيره. وقال الأوزاعي كل من سلف من علمائنا يقول عليه أدنى الحدين مائة جلدة ومنع بعض
الفقهاء ثبوت الملك في الغنيمة وقال إنما يثبت بالاخبار بدليل ان أحدهم لو قال أسقطت حقي سقط
ولو ثبت ملكه لم يزل بذلك كالوارث
ولنا ان له فيها شبهة الملك فلم بجب عليه الحد كوطئ الجارية المشتركة والآية مخصوصة بوطئ
الجارية المشتركة وجارية ابنه فنقيس عليه هذا ومنع الملك لا يصح لأن ملك الكفار قد زال ولا
يزول الا إلى مالك، ولأنه تصح قسمته وبملك الغانمون طلب قسمتها فأشبهت مال الوارث إنما
كثر الغانمون فقل نصيب الواطئ ولم يستقر في شئ بعينه وكان للإمام تعيين نصيب كل واحد بغير
اختياره فلذلك جاز أن يسقط بالاسقاط بخلاف الميراث وضعف الملك لا يخرجه عن كونه شبهة في
الحد الذي يدرأ بالشبهات ولهذا يسقط الحد بأدنى شئ، وإن لم يكن حقيقة الملك فهو شبهة. إذا
ثبت هذا فإنه يعزر ولا يبلغ بالتعزير الحد على ما أسلفناه ويؤخذ منه مهر مثلها فيطرح في المقسم
وبهذا قال الشافعي
وقال القاضي انه يسقط عنه من المهر قدر حصته منها ويجب عليه بقيته كما لو وطئ جارية مشتركة
بينه وبين غيره وليس بصحيح لأننا إذا أسقطنا عنه حصته وأخذنا الباقي فطرحناه في المغنم ثم قسمناه
562

على الجميع وهو فيهم عاد إليه سهم من حصة غيره ولان قدر حصته قد لا تمكن معرفته لقلة المهر وكثرة
الغانمين ثم إذا أخذناه فإن قسمناه مفردا على من سواه لم يكن، وان خلطناه ببقية الغنيمة ثم قسمناه
على الجميع أخذ سهما مما ليس له فيه حق. إذا ثبت هذا فإن ولدت منه فالولد حر يلحقه نسبه
وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة هو رقيق لا يلحقه نسبه لأن الغانمين إنما يملكون بالقسمة،
وقد صادف وطؤه غير ملكه
ولنا انه وطئ سقط فيه الحد بشبهه الملك فيلحق فيه النسب كوطئ جارية ابنه وما ذكروه غير
مسلم ثم يبطل بوطئ جارية ابنه، ويفارق الزنا قانه يوجب الحد. وإذا ثبت هذا فإن الأمة تصير
أم ولد له في الحال، وقال الشافعي لا تصير أم ولد في الحال لأنها ليست ملكا له فإذا ملكها بعد
ذلك فهل تصير أم ولد؟ فيها قولان
ولنا انه وطئ يلحق به النسب لشبهة الملك فتصير به أم ولد كوطئ جارية ابنه ويبطل ما ذكروه
بجارية الابن ولا نسلم ما ذكروه فانا قد بينا ان الملك يثبت في الغنيمة بمجرد الاغتنام، وعليه قيمتها
تطرح في المغنم لأنه فوتها عليهم وأخرجها من الغنيمة بفعله فلزمته قيمتها كما لو قتلها فإن كان معسرا كان
في ذمته قيمتها وقال القاضي إذا كان معسرا حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد وباقيها رقيق
للغانمين لأن كونها أم ولد إنما يثبت بالسراية في ملك غيره فلم يسر في حق المعسر كالاعتاق
ولنا انه استيلاد جعل بعضها أم ولد فيجعل جميعها أم ولد كاستيلاد جارية الابن، وفارق
563

العتق لأن الاستيلاد أقوى لكونه فعلا وينفذ من المجنون، فأما قيمة الولد فقال أبو بكر فيها روايتان
(إحداهما) تلزمه قيمته حين وضعه تطرح في المغنم لأنه فوت رقه فأشبه ولد المغرور
(والثانية) لا تلزمه لأنه ملكها حين علقت ولم يثبت ملك الغانمين في الولد بحال فأشبه ولد الأب
من جارية ابنه إذا وطئها ولأنه يعتق حين علوقه ولا قيمة له حينئذ وقال القاضي إذا صار نصفها أم ولد
يكون الولد كله خرا وعليه قيمة نصفه
(فصل) إذا كان في الغنيمة من يعتق على بعض الغانمين نظرت فإن كان رجلا لم يعتق لأن العباس عم
النبي صلى الله عليه وسلم وعم علي وعقيلا أخا علي كانا في أسرى بدر فلم يعتقا عليهما ولان الرجل لا يصير رقيقا بنفس
السبي، وإن استرق أو كان الأسير امرأة أو صبيا عتق عليه قدر نصيبه وسرى إلى باقيه إن كان موسرا
وإن كان معسرا لم يعتق عليه إلا ملكه منه
وقال الشافعي لا يعتق منه شئ وهذا مقتضى قول أبي حنيفة لأنه لا يملك بمجرد الاغتنام، ولو
ملك لم يتعين ملكه فيه وان قسمه وجعله في نصيبه واختار تملكه عتق عليه وإلا فلا، وإن جعل
له بعضه فاختار تملكه عتق عليه وقوم عليه الباقي
ولنا ما بيناه من أن الملك يثبت للغانمين لكون الاستيلاء التام وجد منهم وهو سبب للملك ولان
ملك الكفار قد زال ولا يزول إلا إلى المسلمين
564

(فصل) وان أعتق بعض الغانمين عبدا من الغنيمة قبل القسمة فإن كان ممن لم يثبت فيه الرق
كالرجل قبل استرقاقه لم يعتق لما ذكرناه قبل، وإن كان رقيقا كالمرأة والصبي عتق عليه قدر حصته
وسرى إلى باقيه إن كان موسرا وعليه قيمة باقية تطرح في المقسم، وإن كان معسرا عتق عليه قدر
ملكه من الغنيمة لأنه موسر بقدر حصته من الغنيمة فإن كان بقدر حقه من الغنيمة عتق ولم يأخذ شيئا وإن
كان دون حقه أخذ باقي حقه وإن كان أكثر من حقه لم يعتق الا قدر حقه فإن أعتق عبدا ثانيا وفضل من
حقه عن الأول شئ عتق بقدره من الثاني وان لم يفضل شئ لم يعتق من الثاني شئ
(فصل) ويكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم لما روى سمرة
ابن جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة. وعن عبد الله قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (ان أعف الناس قتلة أهل الايمان) رواهما أبو داود
وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم
فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح) رواه النسائي، وعن عبد الله بن عامر انه قدم على أبي بكر
الصديق برأس البطريق فأنكر ذلك فقال يا خليفة رسول الله فإنهم يفعلون ذلك بنا قال فاستنان بفارس
والروم؟ لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر
وقال الزهري لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط وحمل إلى أبي بكر رأس فأنكره، وأول من
565

حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير ويكره رميها في المنجنيق نص عليه احمد، وان فعلوا ذلك لمصلحة
جاز لما روينا ان عمرو بن العاص حين حاصر الإسكندرية ظفر أهلها برجل من المسلمين فأخذوا
رأسه فجاء قومه عمرا مغضبين فقال لهم عمرو خذوا رجلا منهم فاقطعوا رأسه فارموا به إليهم في المنجنيق
ففعلوا ذلك فرمى أهل الإسكندرية رأس المسلم إلى قومه
(فصل) يجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية المقوقس صاحب
مصر فإن كان ذلك في حال الغزو فقال أبو الخطاب ما أهداه المشركون لأمير الجيش أو لبعض قواده
فهو غنيمة لأنه لا يفعل ذلك إلا لخوفه من المسلمين. فظاهر هذا ان ما أهدي لآحاد الرعية فهو له،
وقال القاضي هو غنيمة أيضا وإن كان من دار الحرب إلى دار الاسلام فهو لمن أهدي له سواء كان
الإمام أو غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهدية فكانت له دون غيره وهذا قول الشافعي ومحمد، وقال
أبو حنيفة هو للمهدى له بكل حال لأنه خص بها أشبه إذا كان في دار الاسلام وحكي ذلك رواية عن أحمد
ولنا أنه أخذ ذلك بظهر الجيش أشبه ما لو أخذه قهرا ولأنه إذا هدى للإمام أو الأمير فالظاهر
أنه يداري عن نفسه به فأشبه ما أخذ منه قهرا، وأما إن أهدى لاحاد المسلمين فلم يقصد به ذلك
في الظاهر لعدم الخوف منه فيكون له كما لو اهدى إليه في دار الاسلام، ويحتمل ان ينظر فإن كان
بينهما مهاداة قبل ذلك فله ما أهدى إليه، وإن تجدد ذلك بالدخول إلى دراهم فهو للمسلمين كقولنا
في الهدية إلى القاضي
566

(كتاب الجزية)
وهي الوظيفة المأخوذة من الكافر لا قامته بدار الاسلام في كل عام وهي فعلة من جزى يجزي
إذا قضى. قال الله تعالى (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) تقول العرب جزيت ديني
إذا قضيته والأصل فيها الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقول الله تعالى (قاتلوا الذين
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين
أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)
وأما السنة فما روى المغيرة بن شعبة أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند أمرنا نبينا رسول ربنا
أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تودوا الجزية أخرجه البخاري، وعن بريدة أنه قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه وبمن
معه من المسلمين خيرا وقال له (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث
أدعهم إلى الاسلام فإن أجابوك فاقبل وكف عنهم فإن أبوا فادعهم إلى اعطاء الجزية فإن أجابوك
فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) في اخبار كثيرة واجمع المسلمون على جواز
أخذ الجزية في الجملة)
567

(مسألة) قال (ولا تقبل الجزية الا من يهودي أو نصراني أو مجوسي إذا كانوا مقيمين
على ما عوهدوا عليه)
وجملته أن الذين تقبل منهم الجزية صنفان أهل كتاب ومن له شبهة كتاب فأهل الكتاب اليهود
والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوراة ويعلمون بشريعة موسى عليه السلام وإنما خالفوهم
في فروع دينهم وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والفرنجة وللروم والأرمن وغيرهم
ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى عليه السلام والعمل بشريعته فكلهم من أهل الإنجيل ومن عدا هؤلاء
من الكفار فليس من أهل الكتاب بدليل قول الله تعالى (ان تقولوا إنما انزل الكتاب على
طائفتين من قبلنا) واختلف أهل العلم في الصابئين فروي عن أحمد أنهم جنس من النصارى وقال
في موضع آخر بلغني أنهم يسبتون فهؤلاء إذا أسبتوا فهم من اليهود
روي عن عمر أنه قال هم يسبتون، وقال مجاهد هم بين اليهود والنصارى، وقال السدي
والربيع هم من أهل الكتاب وتوقف الشافعي في أمرهم والصحيح انه ينظر فيهم فإن كانوا يوافقون
568

أحد أهل الكتابين في نبيهم وكتابهم فهم منهم وان خالفوهم في ذلك فليس هم من أهل الكتاب
ويروى عنهم انهم يقولون إن الفلك حي ناطق وان الكواكب السبعة آلهة فإن كانوا كذلك فهم
كعبدة الأوثان وأما أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود فلا تقبل منهم الجزية لأنهم من غير
الطائفتين ولأن هذه الصحف لم تكن فيها شرائع إنما هي مواعظ وأمثال كذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم
صحف إبراهيم وزبور داود في حديث أبي ذر
وأما الذين لهم شبهة كتاب فهم المجوس فإنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع فصار لهم بذلك شبهة
أو جبت حقن دمائهم واخذ الجزية منهم ولو ينتهض في إباحة نكاح نسائهم ولا ذبائحهم دليل هذا قول
أكثر أهل العلم، ونقل عن أبي تور انهم من أهل الكتاب وتحل نساؤهم وذبائحهم لما روي عن
علي رضي الله عنه أنه قال أنا اعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وان ملكهم
سكر فوقع على بنته وأخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع
منهم ودعى أهل مملكته وقال أتعلمون دينا خيرا من دين آدم وقد أنكح بنيه بناته فأنا على دين آدم
قال فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونهم حتى قتلوهم فأصبحوا و قد أسري بكتابهم ورفع العلم الذي في
صدورهم فهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وأراه قال وعمر منهم الجزية رواه
الشافعي وسعيد وغيرهما ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)
569

ولنا قول الله تعالى ان تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) والمجوس من غير
الطائفتين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) يدل على أنهم غيرهم، وروى
البخاري باسناده عن بحالة (1) أنه قال ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى حدثه عبد الرحمن بن
عوف ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ولو كانوا أهل كتاب لما وقف عمر في أخذ
الجزية منهم مع أمر الله تعالى بأخذ الجزية من أهل الكتاب وما ذكروه هو الذي صار لهم به شبهة
الكتاب. وقد قال أبو عبيد لا أحسب ما رووه عن علي في هذا محفوظا ولو كان له أصل لما حرم النبي
صلى الله عليه وسلم نساءهم وهو كان أولى بعلم ذلك، ويجوز أن يصح هذا مع تحريم نسائهم وذبائحهم لأن الكتاب
المبيح لذلك وهو الكتاب المنزل على إحدى الطائفتين وليس هؤلاء منهم، ولان كتابهم رفع فلم
ينتهض للإباحة. ويثبت به حقن دمائهم
فاما قول أبي ثور في حل ذبائحهم ونسائهم فيخالف الاجماع فلا يلتفت إليه، وقوله عليه السلام.
(سنوا بهم سنة أهل الكتاب) في أخذ الجزية منهم. إذا ثبت هنا فإن أخذ الجزية من أهل
الكتاب. والمجوس ثابت بالاجماع لا نعلم في هذا خلافا فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك

(1) هو بجالة ابن عبد كاتب جزي ابن معاوية عم الأحنف روى عنه عمرو ان دينار وقشير ابن عمر ابن عوف الاعرابي، سئل أبو زرعة عن بجالة بن عبد الذي روى عن بن عباس قال مكي ثقة.
570

وعمل به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم إلى زمننا هذا من غير نكير ولا مخالف وبه يقول أهل العلم
من أهل الحجاز والعراق والشام مصر وغيرهم مع دلالة الكتاب على اخذ الجزية من أهل الكتاب
ودلالة السنة على أخذ الجزية من المجوس بما روينا من قول المغيرة لأهل فارس أمرنا نبينا أن نقاتلكم
حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية. وحديث بريدة وعبد الرحمن بن عوف، وقول النبي صلى
الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ولا فرق بين كونهم عجما أو عربا، وبهذا قال
مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وقال أبو يوسف لا تؤخذ الجزية من العرب لأنهم
شرفوا بكونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم
ولنا عموم الآية وان النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل فاخذ
أكيدر دومة فصالحه على الجزية وهو من العرب رواه أبو داود وأخذ الجزية من نصارى نجران وهم
عرب وبعث معاذا إلى اليمن فقال (انك تأتي قوما أهل كتاب) متفق عليه. وأمره أن يأخذ من
كل حالم دينارا وكانوا عربا. قال ابن المنذر ولم يبلغنا ان قوما من العجم كانوا سكانا باليمن
حيث وجه معاذا ولو كان لكان في أمره أن يأخذ من جميعهم من كل حالم دينارا دليل
على أن العرب تؤخذ منهم الجزية، وحديث بريدة فيه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر من بعثه على سرية أن
يدعو عدوه إلى أداء الجزية ولم يخص بها عجميا دون غيره وأكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم
571

يغزو العرب ولان ذلك اجماع فإن عمر رضي الله عنه أراد الجزية من نصارى بني تغلب فأبوا ذلك
وسألوه ان يأخذ منهم مثلما يأخذ من المسلمين فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم ثم صالحهم على
ما يأخذه منهم عوضا عن الجزية فالمأخوذ منهم جزية غير أنه على غير صفة جزية غيرهم وما أنكر أخذ
الجزية منهم أحد فكان ذلك اجماعا وقد ثبت بالقطع واليقين ان كثيرا من نصارى العرب ويهودهم
كانوا في عصر الصحابة في بلاد الاسلام ولا يجوز اقرارهم فيها بغير جزية فثبت يقينا أنهم أخذوا
الجزية منهم، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين من دخل في دينهم قبل تبديل كتابهم أو بعده
ولا بين أن يكون ابن كتابيين أو ابن وثنيين أو ابن كتابي ووثني
وقال أبو الخطاب من دخل في دينهم بعد تبديل كتابهم لم تقبل منه الجزية ومن ولد بين
أبوين أحدهما تقبل منه الجزية والآخر لا تقبل منه فهل تقبل منه؟ على وجهين وهذا مذهب الشافعي
ولنا عموم النص فيهم ولأنهم من أهل دين تقبل من أهله الجزية فيقرون بها كغيرهم وإنما
تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة لأن
الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية أي يلتزموا أداءها فما لم يوجد ذلك يبقوا على إباحة دمائهم وأموالهم
(فصل) ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة الا بشرطين
(أحدهما) ان يلتزموا إعطاء الجزية في كل حول
(والثاني) التزام أحكام الاسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقول
الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
بريدة (فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) ولا تعتبر حقيقة الاعطاء
ولا جريان الأحكام لأن إعطاء الجزية إنما يكون في آخر الحول والكف عنهم في ابتدائه عند البذل
والمراد يقوله (حتى يعطوا) أي يلتزموا الاعطاء يجيبوا إلى بذله كقول الله تعالى (فإن تابوا وأقاموا
572

الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) والمراد به التزام ذلك دون حقيقته فإن الزكاة إنما يجب أداؤها
عند الحول لقوله عليه السلام (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)
(مسألة) قال (ومن سواهم فالاسلام أو القتل)
يعني من سوى اليهود والنصارى والمجوس لا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها ولا يقبل منهم
الا الاسلام فإن لم يسلمون قتلوا، هذا ظاهر مذهب أحمد روى عنه الحسن بن ثواب أنها تقبل
من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب لأن حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من
كل كافر الا انه خرج منه عبدة الأوثان من العرب لتغلظ كفرهم من وجهين (أحدهما) دينهم (والثاني)
كونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم
وقال الشافعي لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس لكن في أهل الكتب غير اليهود
والنصارى مثل أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود ومن تمسك بدين آدم وإدريس وجهان
(أحدهما) يقرون بالجزية لأنهم من أهل الكتاب فأشبهوا اليهود والنصارى، وقال أبو حنيفة
تقبل من جميع الكفار الا العرب لأنهم رهط النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقرون على غير دينه وغيرهم
يقر بالجزية لأنه يقر بالاسترقاق فأقروا بالجزية كالمجوس، وعن مالك انها تقبل من جميعهم إلا مشركي
قريش لا نهم ارتدوا، وعن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز انها تقبل من جميعهم وهو قول عبد الرحمن
ابن يزيد بن جابر لحديث بريدة ولأنه كافر فيقر بالجزية كأهل الكتاب
573

ولنا قول الله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم
(أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا
بحقها) وهذا عام خص منه أهل الكتاب بالآية والمجوس بقوله النبي صلى الله عليه وسلم سنوا
بهم سنة أهل الكتاب فمن عداهم من الكفار يبقى على قضية العموم وقد بينا ان أهل الصحف من
غير أهل الكتاب المراد بالآية فيما تقدم
(فصل) وإذا عقد الذمة لكفار زعموا انهم من أهل لكتاب ثم تبين انهم عبدة الأوثان فالعقد
باطل من أصله، وإن شككنا فيهم لم ينتقض عهدهم بالشك لأن الأصل صحته فإن أقر بعضهم بذلك
دون بعض قبل من المقر في نفسه فانتقض عهده وبقي في حق من لم يقر بحاله
(مسألة) قال (المأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات فيؤخذ من أدونهم اثنا عشر
درهما ومن أوسطهم أربعة وعشرون درهما ومن أيسرهم ثمانية وأربعون درهما)
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) في تقدير الجزية (والثاني) في كمية مقدارها. فأما
الأول ففيه ثلاث روايات:
(أحدها) أنها مقدرة بمقدر لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي
574

لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها مقدرة بقوله لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا أو عد له مغافر) وفرضها
عمر مقدرة بحضر من الصحابة فلم ينكر فكان اجماعا
(والثانية) انها غير مقدرة بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان قال الأثرم
قيل لأبي عبد الله فيزاد اليوم فيه وينقص؟ يعني الجزية قال نعم يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم على قدر
ما يرى الإمام وذكر انه زيد عليهم فيما مضى درهمان فجعله خمسين قال الخلال العمل في قول أبي عبد الله
على ما رواه الجماعة بأنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه عنه في عشرة
مواضع فاستقر قوله على ذلك.
وهذا قول الثوري وأبي عبيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا وصالح
أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر والنصف في رجب رواهما أبو داود وعمر جعل الجزية
على ثلاث طبقات على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير
اثني عشر درهما وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة وهذا يدل على أنها إلى رأي الإمام
لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع ولم يجز ان تختلف قال البخاري قال ابن عيينة
عن أبي نجيح قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال جعل
ذلك من اجل اليسار ولأنها عوض فلم تقدر كالأجرة
575

(والرواية الثالثة) ان أقلها مقدر بدينار وأكثرها غير مقدر وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة
ولا يجوز النقصان لأن عمر زاد على ما فرص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص منه وروي أنه زاد على ثمانية
وأربعين فجعلها خمسين.
(القصل الثاني) أننا إذا قلنا بالرواية الأولى وانها مقدرة فقدرها في حق الموسر ثمانية وأربعون
درهما وفي حق المتوسط أربعة وعشرون وفي حق الفقير اثنا عشر، وهذا قول أبي حنيفة. وقال
مالك هي في حق الغني أربعون درهما أو أربعة دنانير وفي حق الفقير عشرة دراهم أو دينار، وروي
ذلك عن عمر، وقال الشافعي الواجب دينار في حق كل واحد لحديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره ان
يأخذ من كل حالم دينارا رواه أبو داود وغيره الا ان المستحب جعلها على ثلاث طبقات كما ذكرناه
لنخرج من الخلاف قالوا وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من غيره
ولنا حديث عمر رضي الله عنه وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة رضي الله
عنهم وغيرهم ولم ينكره منكر ولا خلاف فيه وعمل به من بعده من الخلفاء رضي الله عنهم فصار اجماعا
لا يجوز الخطأ عليه وقد وافق الشافعي على استحباب العمل به، وأما حديث معاذ فلا يخلو من
وجهين (أحدهما) أنه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم بدليل قول مجاهد لأن ذلك من أجل اليسار
(والوجه الثاني) أن يكونا لتقدير غير واجب بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام ولان الجزية
576

وجبت صغارا أو عقوبة فتختلف باختلاف أحوالهم كالعقوبة في البدن منهم من يقتل ومنهم من يسترق
ولا يصح كونها عوضا عن سكنى الدار لأنها لو كانت كذلك لوجبت على النساء والصبيان والزمني والمكافيف
(فصل) وحد اليسار في حقهم ما عده الناس غنى في العادة وليس بمقدر لأن التقديرات بابها
التوقيف ولا توقيف في هذا فيرجع فيه إلى العادة والعرف
(فصل) إذا بذلوا الجزية لزم قبولها وحرم قتالهم لقول الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله
إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فجعل اعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها
لم يجز قتالهم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)
وإن قلنا إن الجزية غير مقدرة الأكثر لم يحرم قتالهم حتى يجيبوا إلى بذل مالا يجوز طلب أكثر
منه مما يحتمله حالهم
(فصل) وتجب الجزية في آخر كل حول وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة تجب بأوله ويطالب
بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول الثاني لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية)
ولنا انه مال يتكرر بتكرر الحول أو يؤخذ في آخر كل حول فلم يجب بأوله كالزكاة والدية وأما
الآية فالمراد بها التزام عطائها دون نفس الاعطاء ولهذا يحرم قتالهم بمجرد بذلها قبل أخذها
(فصل) وتؤخذ الجزية مما يسر من أموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة نص عليه
577

احمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى المين أمره أن يأخذ
من كل حالم دينارا أو عدله مغافر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من نصارى نجران ألفي حلة، وكان عمر
يؤتى بنعم كثيرة يأخذها من الجزية
وروي عين علي رضي الله عنه انه كان يأخذ الجزية من كل ذي صنعة من متاعه من صاحب
الابر إبرا، ومن صاحب المسال مسالا، ومن صاحب الحبال حبالا ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب
والفضة فيقتسمونه ثم يقول خذوا فاقتسموا فيقولون لا حاجة لنا فيه فيقول أخذتم خياره وتركتم شراره
لتحملنه. وإذا ثبت هذا فإنه يؤخذ بالقيمة لقوله عليه السلام (أو عدله معافر)
(فصل) ولا يصح عقد الذمة والهدنة الا من الإمام أو نائبه وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه
خلافا لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة، ولان عقد الذمة عقد الذمة عقد مؤبد فلم يجز أن
يفتات به على الإمام فإن فعله غير الإمام أو نائبه لم يصح لكن إن عقده على مالا يجوز ان يطلب منهم
أكثر منه لزم الإمام اجابتهم إليه وعقدها عليه
(فصل) ويجوز أن يشرط عليهم في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الإمام أحمد
باسناده عن الأحنف بن قيس أن عمر شرط عليهم ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا القناطر وأن
578

قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته، قال ابن المنذر روي عن عمر انه قضى على أهل الذمة
ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام وعلف دوابهم وما يصلحهم
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة نفس في كل سنة وان
يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام ولان في هذا ضربا من المصلحة لأنهم ربما امتنعوا من
مبايعة المسلمين اضرارا بهم فإذا شرطت عليهم الضيافة أمن ذلك وإن لم تشرط الضيافة عليهم لم تجب
ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي، ومن أصحابنا من قال تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين والأول
أصح لأنه أداء مال فلم يجب بغير رضاهم كالجزية فإن شرطها عليهم فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة
وقال الشافعي لا يجوز قتالهم عليها
ولنا انه شرط سائغ امتنعوا من قبوله فقوتلوا عليه كالجزية
(فصل) ذكرا لقاضي انه إذا شرط الضيافة فإنه يبين أيام الضيافة وعدد من يضاف من الرجالة
والفرسان فيقول تضيفون في كل سنة مائة يوم عشرة من المسلمين من خبز كذا وأدم كذا وللفرس
من التبن كذا ومن الشعير كذا فإن شرط الضيافة مطلقا صح في الظاهر لأن عمر رضي الله عنه
شرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين من غير عدد ولا تقدير قال أبو بكر إذا أطلق مدة الضيافة
579

فالواجب يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلمين ولا يكلفون الذبيحة ولا ضيافتهم بارفع من
طعامهم لأنه يروى عن عمر أنه شكى إليه أهل الذمة ان المسلمين يكلفونهم الذبيحة فقال أطعموهم مما
تأكلون، وقال الأوزاعي ولا يكلفون الذبيحة ولا الشعير
وقال القاضي إذا وقع الشرط مطلقا لم يلزمهم الشعير، ويحتمل أن يلزمهم ذلك للخيل لأن العادة
جارية به فهو كالخبز للرجل وللمسلمين النزل في الكنائس والبيع فإن عمر رضي الله عنه صالح أهل
الشام على أن يوسعوا أبواب بيعهم وكنائسهم لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلوها ركبانا، فإن لم يجدوا
مكانا فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل وليس لهم تحويل صاحب المنزل منه، والسابق إلى منزل أحق
به ممن يأتي بعده فإن امتنع بعضهم من القيام بما شرط عليه أجبر عليه، فإن امتنع الجميع أجبروا، فإن لم يمكن إلا
بالمقاتلة قوتلوا، فإن قاتلوا فقد نقضوا العهد
(فصل) وتقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فإن جعل الضيافة مكان الجزية جاز لما روي أن
عمر رضي الله عنه كتب لراهب من أهل الشام إنني إن وليت هذه الأرض أسقطت عنك خراجك
فلما قدم الجابية وهو أمير المؤمنين جاءه بكتابه فعرفه، وقال إنني جعلت لك ما ليس لي ولكن
اختر إن شئت أداء الخراج وان شئت أن تضيف المسلمين، فاختار الضيافة، ويشترط عليه
580

ضيافة يبلغ قدرها أقل الجزية إذا قلنا الجزية مقدرة الأقل لئلا ينقص خراجه عن أقل الجزية
وذكر ان من الشروط الفاسدة اشتراط الا كنفاء بضيافتهم عن جزيتهم، لأن الله تعالى أمر بقتالهم
ممدودا إلى إعطاء الجزية، فإذا لم يعطها كان قتالهم مباحا ووجه الأول أن هذا اشتراط مال يبلغ قدر
الجزية فجاز كما لو شرط عليهم عدل الجزية مغافر
(فصل) وإذا شرط في عقد الذمة شرطا فاسدا مثل أن يشترط أن لا جزية عليم أو اظهار
المنكر أو اسكانهم الحجاز أو إدخالهم الحرم ونحو هذا فقال القاضي يفسد العقد به لأنه شرط فعل
محرم فافسد العقد كما لو شرط قتال المسلمين، ويحتمل أن يفسد الشرط وحده، ويصح العقد بناء على
الشروط الفاسدة في البيع والمضاربة
(مسألة) قال (ولا جزية على صبي ولا زائل العقل ولا امرأة)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأبو ثور، وقال
ابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافهم، وقد دل على صحة هذا ان عمر رضي الله عنه كتب إلى امرء
581

الاجناد أن اضربوا الجزية ولا تضربونها على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت
عليه المواسي رواه سعيد وأبو عبيد والأثرم وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا) دليل
على أنها لا تجب على غير بالغ، ولان الدية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها
(فصل) وإن بذلت المرأة الجزية أخبرت أنها لا جزية عليها، فإن قالت فأنا أتبرع بها أو أنا
أؤديها قبلت منها ولم تكن جزية بل هبة تلزم بالقبض، فإن شرطته على نفسها ثم رجعت كان لها ذلك
وان بذلت الجزية لتصير إلى دار الاسلام مكنت من ذلك بغير شئ ولكن يشترط عليها التزام أحكام
الاسلام وتعقد لها الذمة ولا يؤخذ منها شئ الا أن تتبرع به بعد معرفتها أنه لا شئ عليها، وان أخذ منها شئ على
غير ذلك رد إليها لأنها بذلته معتقدة انه عليها وان دمها لا يحقن الا به فأشبه من أدى مالا إلى من يعتقد
أنه له فتبين أنه ليس له، ولو حاصر المسلمون حصنا ليس فيه إلا نساء فبذلن الجزية لتعقد لهن الذمة
عقدت لهن بغير شئ وحرم استرقاقهن كالتي قبلها سواء، فإن كان في الحصن معهن رجال فسألوا
الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم تصح لأنهم جعلوها على غير من هي عليه
وبرءوا من تجب عليه وإن بذلوا جزية عن الرجال ويؤدوا عن النساء والصبيان من أموالهم جاز
وكان ذلك زيادة في جزيتهم، وإن كان من أموال النساء والصبيان لم يجز لأنهم يجعلون الجزية على من
لا تلزمه، فإن كن القدر الذي بذلوه من أموالهم مما يجزئ في الجزية أخذ منهم وسقط الباقي
582

(فصل) ومن بلغ من أولاد أهل الذمة أو أفاق من مجانينهم فهو من أهلها بالعقد الأول لا يحتاج
إلى استئناف عقد له. وقال القاضي في موضع هو مخير بين التزام العقد وبين أن يرد إلى مأمنه، فإن
اختار الذمة عقدت له وإلا ألحق بمأمنه وهو قول الشافعي
ولنا انه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه تجديد العقد لهؤلاء، ولان العقد يكون
مع سادتهم فيدخل فيه سائرهم ولأنه عقد عهد مع الكفار فلم يحتج إلى استئنافه لذلك كالهدنة، ولان
الصغار والمجانين دخلوا في العقد فلم يحتج إلى تجديده لهم عند تغير أحوالهم كغيرهم ولأنه عقد دخلوا
فيه فيلزمهم بعد البلوغ والإفاقة كالاسلام. إذا ثبت هذا فإن كان البلوغ والإفاقة في أول حول
قومه أخذ منه في آخره معهم، وإن كان في أثناء الحول أخذ منه عند تمام الحول بقسطه
ولم يترك حتى يتم حوله لئلا يحتاج إلى أفراده بحول وضبط حول كل انسان منهم وربما أفضي إلى أن
يصير لكل واحد حول منفردا
(فصل) ومن كان يجن ويفيق فله ثلاثة أحوال:
(أحدها) أن يكون جنونه غير مضبوط مثل من يفيق ساعة من يوم أو أيام أو يصرع ساعة من
يوم أو أيام فهذا يعتبر حاله بالأغلب لأن مدة الإفاقة غير ممكن مراعاتها لتعذر ضبطها.
583

(الثاني) أن يكون مضبوطا مثل من يجن يوما ويفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر
الا أنه مضبوط ففيه وجهان:
(أحدهما) يعتبر الأغلب من حاله، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه يجن ويفيق
فيعتبر الأغلب من حاله كالأول (والثاني) تلفق أيام إفاقته لأنه لو كان مفيقا في الكل وجبت الجزية
فإذا وجدت الإفاقة في بعض الحول وجب فيما يجب به لو أنفرد، فعلى هذا الوجه في أخذ الجزية وجهان:
(أحدهما) أن أيامه تلفق فإذا كملت حولا أخذت منه، لأن أخذها قبل ذلك أخذ لجزيته قبل
كمال الحول فلم بجز كالصحيح
(والثاني) يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق منه كما لو أفاق في بعض الحول إفاقة مستمرة،
وإن كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا، فإن استوت إفاقته وجنونه
مثل من يجن يوما ويفيق يوما أو يجن نصف الحول ويفيق نصفه عادة لفقت افاقته لأنه تعذر اعتبار
الأغلب لعدمه فتعين الاحتمال الآخر
(الحال الثالث) أن يجن نصف حول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا
مستمرا فلا جزية عليه في الثاني وعليه في الأول من الجزية بقدر ما أفاق من الحول على ما
تقدم شرحه والله أعلم
584

(مسألة) قال (ولا على فقير)
يعني الفقير العاجز عن أدائها. وهذا أحد أقوال الشافعي وقال في الآخر يجب عليه لقوله عليه
السلام (خذ من كل حالم دينارا) ولان دمه غير محقون فلا تسقط عنه الجزية كالقادر عليه
ولنا ان عمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات، جعل أدناها على الفقير المعتمل فيدل
على أن غير المعتمل لا شئ عليه ولان الله تعالى قال (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) ولان هذا مال
يجب بحلول الحول فلا يلزم الفقير العاجز كالزكاة والنقل، ولان الخراج ينقسم إلى خراج أرض وخراج
رؤوس ثم ثبت أن خراج الأرض على قدر طاقتها وما لا طاقة له لا شئ عليه كذلك خراج الرؤوس، واما
الحديث فيتناول الاخذ ممن يمكن الاخذ منه، ومن لا يمكن الاخذ منه فالأخذ منه مستحيل فكيف يؤمر به؟
585

(مسألة) قال (ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى)
هؤلاء الثلاثة ومن في معناهم ممن به داء لا يستطيع معه القتال ولا يرجى برؤه لا جزية عليهم
وهو قول أصحاب الرأي وقال الشافعي في أحد قوليه عليهم الجزية بناء على قتلهم وقد سبق قولنا
في أنهم لا يقتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان
(مسألة) قال (ولا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلما)
لا خلاف في هذا نعلمه لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا جزية على العبد) وعن ابن عمر
مثله ولان ما لزم العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي ايجابه على عبد المسلم إلى ايجاب الجزية على مسلم. فاما
إن كان العبد لكافر فالمنصوص عن أحمد انه لا جزية عليه أيضا وهو قول عامة أهل العلم،
586

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد وذلك لما ذكر
من الحديث ولأنه محقون الدم فأشبه النساء والصبيان أو لامال له فأشبه الفقير العاجز، ويحتمل
كلام الخرقي إيجاب الجزية عليه يؤديها سيده، وروي ذلك أيضا عن أحمد وروي عن عمر بن
الخطاب أنه قال لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا ولا
يقرن أحدكم بالصغار بعد إذا أنقذه الله منه
قال أحمد أراد ان يوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي يؤدي
عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم وروي عن علي مثل حديث عمر ولأنه ذكر مكلف قوي مكتسب
فوجبت عليه الجزية كالحر والأول أولى
(فصل) ومن بعضه حر فقياس المذهب ان عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأنه حكم يتجزأ
يختلف بالرق والحرية فيقسم على قدر ما فيه كالإرث
(فصل) ولا جزية على أهل الصوامع من الرهبان ويحتمل وجوبها عليهم وهذا أحد قولي الشافعي
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فرض على رهبان الديارات الجزية على كل راهب دينارين. ووجه
ذلك عموم النصوص ولأنه كافر صحيح قادر على أداء الجزية فأشبه الشماس، ووجه الأول أنهم محقونون
587

بدون الجزية فلم تجب عليهم كالنساء وقد ذكرنا انه يحرم قتلهم والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء
في معناهن ولأنه لا كسب له فأشبه الفقير غير المعتمل
(مسألة) قال (ومن وجبت عليه الجزية فاسلم قبل ان تؤخذ منه سقطت عنه الجزية)
وجملته أن الذمي إذا أسلم في أثناء الحول لم تجب عليه الجزية وان أسلم بعد الحول سقطت عنه
وهذا قول مالك والثوري وأبي عبيد وأصحاب الرأي، وقل الشافعي وأبو ثور وابن المنذر ان أسلم
بعد الحول لم تسقط لأنها دين يستحقه صاحبه واستحق المطالبة به في حال الكفر فلم يسقط بالاسلام
كالخراج وسائر الديون وللشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان (أحدهما) عليه من الجزية بالقسط
كما لو افاق بعد الحول.
ولنا قول الله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وروى ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على المسلم جزية) رواه الخلال وذكر ان احمد سئل عنه فقال ليس يرويه
غير جرير قال احمد وقد روي عن عمر أنه قال إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا ينبغي للمسلم ان يؤدي الخراج) يعني الجزية وروى أن ذميا أسلم فطولب
588

بالجزية وقيل إنما أسلمت تعوذا قال إن في الاسلام معاذا فرفع إلى عمر فقال عمر ان في الاسلام
معاذا وكتب ألا تؤخذ منه الجزية رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى ولان الجزية صغار فلا
تؤخذ منه كما لو أسلم قبل الحول ولان الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الاسلام كالقتل،
وبهذا فارق سائر الديون.
(فصل) وإن مات الذمي بعد الحول لم تسقط الجزية عنه في ظاهر كلام احمد ذكره احمد وهو
مذهب الشافعي، وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنها تسقط بالموت وهو قول أبي حنيفة. ورواه أبو
عبيد عن عمر بن عبد العزيز لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود، ولأنها تسقط بالاسلام فتسقط
بالموت كما قبل الحول
ولنا انه دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته كديون الآدميين والحد يسقط بفوات محله
وتعذر استيفائه بخلاف الجزية وفارق الاسلام فإنه الأصل والجزية بدل عنه فإذا أتى بالأصل استغنى
عن البذل كمن وجد الماء لا يحتاج معه إلى التيمم بخلاف الموت ولان الاسلام قربة وطاعة يصلح أن
يكون معاذا من الجزية كما ذكر عمر رضي الله عنه والموت بخلافه
(فصل) ولا تتداخل الجزية بل إذا اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت منه كلها وبهذا قال
589

الشافعي وقال أبو حنيفة تتداخل لأنها عقوبة فتتداخل كالحدود. ولنا أنها حق مال يجب في آخر
كل حول فلم تتداخل كالدية
(مسألة) قال (وإذا أعتق لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان المعتق له مسلما أو كافرا)
هذا الصحيح عن أحمد رواه عنه جماعة. وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان
والليث وابن لهيعة والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وعن أحمد يقر بغير جزية، وروي نحو هذا
عن الشعبي لأن الولاء شعبة من الرق وهو ثابت عليه ووهن الخلال هذه الرواية وقال هذا قول قديم
رجع عنه احمد والعمل على ما رواه الجماعة وعن مالك كقول الجماعة، وعنه إن كان المعتق له مسلما فلا
جزية عليه لأن عليه الولاء لمسلم فأشبه ما لو كان عليه الرق.
ولنا انه حر مكلف موسر من أهل القتل فلم يقر في دارنا بغير جزية كالحر الأصلي فإذا ثبت
هذا فإن حكمه فيما يستقبل من جزيته حكم من بلغ من صبيانهم أو أفاق من مجانينهم على ما مضى
(مسألة) قال (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من أموالهم
ومواشيهم وثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين)
بنو تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعا عمر
إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال
590

عمر لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة يا أمير المؤمنين ان القوم
لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة
فبعث عمر في طلبهم فردهم وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين ومن
كل عشرين دينارا دينارا، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم وفيما سقت السماء الخمس وفيما سقي
بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه أحد من الصحابة فصار اجماعا
وقال به الفقهاء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي
ويروى عن عمر بن عبد العزيز انه أبى على نصارى بني تغلب الا الجزية وقال لا والله الا الجزية والا
فقد آذنتكم بالحرب والحجة لهذا عموم الآية فيهم
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي لأقتلن
مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم وذلك أن عمر
رضي الله عنه صالحهم على أن لا ينصروا أولادهم والعمل على الأول لما ذكرنا من الاجماع. وأما الآية
فإن هذا المأخوذ منهم جزية باسم الصدقة فإن الجزية يجوز أخذها من العروض
(فصل) قال أصحابنا تؤخذ الصدقة مضاعفة من مال من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما وهذا
591

قول أبي حنيفة وأبي عبيد وذكر انه قول أهل الحجاز فعلى هذا تؤخذ من مال نسائهم وصبيانهم
ومجانينهم وزمناهم ومكافيفهم وشيوخهم إلا أن أبا حنيفة لا يوجب الزكاة في مال صبي ولا مجنون،
وكذا الواجب على نبي تغلب لا يجب في مال صبي ولا مجنون الا في الأرض خاصة وذهب الشافعي
إلى أن هذا جزية تؤخذ باسم الصدقة فلا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالنساء والصبيان والمجانين قال
وقد روي عن عمر أنه قال هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم.
وقال النعمان بن زرعة خذ منهم الجزية باسم الصدقة ولأنهم أهل ذمة فكان الواجب عليهم
جزية لا صدقة كغيرهم من أهل الذمة ولأنه مال يؤخذ من أهل الكتاب لحقن دمائهم ومساكنهم فكان
جزية كما لو أخذ باسم الجزية: يحققه ان الزكاة طهرة وهؤلاء لا طهرة لهم فعلى هذا يكون مصرف المأخوذ
منهم: مصرف الفئ لا مصرف الصدقات وهذا أقيس، واحتج أصحابنا بأنهم سألوا عمر أن يأخذ
منهم ما يأخذ بعضكم من بعض فأجابهم عمر إليه بعد الامتناع منه والذي يأخذه بعضنا من بعض
هو الزكاة من كل مال زكوي لأي مسلم كان من صغير وكبير وصحيح ومريض كذلك المأخوذ من
بني تغلب ولان نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه فجاز ان يدخلوا في
الواجب به كالرجال العقلاء وعلى هذا من كان منهم فقيرا أو له مال غير زكوي كالدور وثياب البذلة
وعبيد الخدمة لا شئ عليه كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين، ولا تؤخذ مما لم يبلغ نصابا
592

فأما مصرف المأخوذ منهم، فاختار القاضي ان مصرفه مصرف الفئ لأنه مأخوذ من مشرك
ولأنه جزية مسماة بالصدقة.
وقال أبو الخطاب مصرفه إلى أهل الصدقات لأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به - فيمن يؤخذ
منه - مسلك الصدقة فيكون مصرفه مصرفها، والأول أقيس وأصح لأن معنى الشئ أخص به من اسمه
ولهذا لو سمى رجل أسدا أو نمرا أو أسود أو أحمر لم يصر له حكم المسمى بذلك، ولان هذا لو كان
صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أعلمهم ان عليهم صدقة
تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)
(فصل) فإن بذل التغلبي أداء الجزية وتحط عند الصدقة لم يقبل منه لأن الصلح وقع على هذا
فلا يغير، ويحتمل أن يقبل منه لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد) وهذا قد أعطى الجزية وإن كان
باذل الجزية منهم حربيا قبلت منه للآية وخبر بريدة (أدعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف
عنهم) ولأنه لم يدخل في صلح الأولين فلم يلزمه حكمه وهو كتابي باذل للجزية فيحقن بها دمه، وان أراد إمام
نقض صلحهم وتجديد الجزية عليهم كفعل عمر بن العزيز لم يكن له ذلك لأن عقد الذمة على التأبيد وقد
عقده معهم عمر بن الخطاب فلم يكن لغيره نقضه ما داموا على العهد
(فصل) فأما سائر أهل الكتاب من النصارى واليهود العرب وغيرهم فالجزية منهم مقبولة،
593

ولا يؤخذون بما يؤخذ به نصارى بني تغلب نص احمد على هذا ورواه عن الزهري قال ونذهب إلى
أن يأخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة ويضعف عليهم كما فعل عمر رضي الله عنه وذكر القاضي
وأبو الخطاب ان حكم من تنصر من تنوخ وبهرا أو تهود من كنانة وحمير وتمجس من تميم حكم بني
تغلب سواء وذكر ذلك عن الشافعي نص عليه في تنوخ وبهرا لأنهم من العرب فأشبهوا بني تغلب
ولنا عموم قوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وان النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا
إلى اليمين فقال (خذ من كل حالم دينارا) وهم عرب وقبل الجزية من أهل نجران وهم من بني الحارث
ابن كعب - قال الزهري أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى - وأخذ الجزية من أكيدردومة
وهو عربي، وحكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة في كل كتابي عربيا كان أو غير عربي الا ما خص به بنو تغلب
لمصالحة عمر إياهم ففي ما عداهم يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة ولم يكن بين غير بني تغلب وبين أحد
من الأئمة صلح كصلح بني تغلب فيما بلغنا ولا يصح قياس غير بني تغلب عليهم لوجوه
(أحدها) ان قياس سائر العرب عليهم يخالف النصوص التي ذكرناها ولا يصح قياس النصوص
عليه على ما تلزم منه مخالفة النص
(والثاني) ان العلة في بني تغلب الصلح ولم يوجد الصلح مع غيرهم ولا يصح القياس مع تخلف العلة
(الثالث) أن بني تغلب كانوا ذوي قوة وشوكة لحقوا بالروم وخيف منهم الضرران لم يصالحوا
594

ولم يوجد هذا في غيرهم فإن وجد هذا في غيرهم فامتنعوا من أداء الجزية وخيف الضرر بترك مصالحتهم
فرأى الإمام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم
من الجزية أو زيادة، قال علي بن سعيد سمعت أحمد يقول أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم
صدقة ولا في أموالهم إنما تؤخذ منهم الجزية إلا أن يكونوا صولحوا على أن تؤخذ منهم كما صنع عمر في نصارى
بني تغلب حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه إياهم، وذكر هذا أبو إسحاق صاحب المهذب في
كتابه والحجة في هذا قصة بني تغلب وقياسهم عليهم إذا كانوا في معناهم أما قياس من لم يصالح عليهم في
جعل جزيتهم صدقة فلا يصح والله أعلم.
(فصل) وإذا أتجر نصراني تغلبي فمر بالعاشر فقال احمد يؤخذ منه العشر ضعف ما يؤخذ من
أهل الذمة، وروى باسناده عن زياد بن حدير ان عمر بعثه مصدقا فأمر أن يأخذ من نصارى بني
تغلب العشر ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر ورواه أبو عبيد
وقال حديث داود بن كردوس والنعمان بن زرعة هو الذي عليه العمل أن يكون عليهم الضعف
مما على المسلمين الا تسمعه يقول من كل عشرين درهما درهما؟ وإنما يؤخذ من المسلمين إذا مروا
بأموالهم ربع العشر من كل أربعين درهما درهم فذاك ضعف هذا، وهذا ظاهر كلام الخرقي
595

لقوله: مثلا ما يؤخذ من المسلمين وهو أقيس فإن الواجب في سائر أموالهم ضعف ما على المسلمين
لاضعف ما على أهل الذمة
(مسألة) قال (ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله
رحمه الله، والرواية الأخرى تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم)
اختلفت الرواية عن أبي عبد الله في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم فعنه لا يحل ذلك وهو قول
علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومذهب الشافعي ولم يبح الشافعي ذبائح العرب من أهل الكتاب كلهم
وكره ذبائح بني تغلب عطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن علي والنخعي، وقال علي رضي الله عنه انهم لم
يتمسكوا من دينهم الا بشرب الخمر ولأنه يحتمل أنهم دخلوا في دين الكفر بعد التبديل فلم يحل ذلك منهم
(والرواية الثانية) تحل ذبائحهم ونساؤهم وهذا الصحيح عن أحمد رواه عنه الجماعة وكان آخر
الروايتين عنه قال إبراهيم بن الحارث فكان آخر قوله على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا وهذا قول ابن
عباس، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الحسن والنخعي والشعبي والزهري
وعطاء الخراساني والحكم وحماد وإسحاق وأصحاب الرأي قال الأثرم وما علمت أحدا كرهه من
596

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الا عليا وذلك لدخولهم في عموم قوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل
لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قيلكم) ولأنهم أهل كتاب يقرون
على دينهم ببذل المال فتحل ذبائحهم ونساؤهم لبني إسرائيل
(مسألة) قال (ومن يجز من أهل الذمة إلى غير بلده اخذ منه نصف العشر في السنة)
اشتهر هذا عن عمر رضي الله عنه وصحت الرواية عنه به، وقال الشافعي ليس عليه الا الجزية الا أن
يدخل أرض الحجاز فينظر في حاله فإن كان لرسالة أو نقل ميرة اذن له بغير شئ، وإن كان لتجارة لا حاجة
باهل الحجاز إليها لم يأذن له الا أن يشترط عليه عوضا حسب ما يراه والأولى أن يشترط نصف العشر لأن
عمر شرط نصف العشر على من دخل الحجاز من أهل الذمة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى) رواه أبو داود وروى
الإمام أحمد عن سفيان عن هشام عن أنس بن سيرين قال بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت تبعثني إلى
العشور من بين عما لك؟ قال أما ترضى ان أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ أمرني
أن آخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر وهذا كان بالعراق
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال باسناده عن لاحق بن حميد أن عمر بعث عثمان بن حنيف
597

إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهما درهما وقد ذكرنا
حديث زياد بن حدير أن عمر أمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر ومن نصارى أهل الكتاب
نصف العشر وهذا كان بالعراق واشتهرت هذه القصص ولم تنكر فكانت اجماعا وعمل به الخلفاء
بعده ولم يأت تخصيص الحجاز بنصف العشر في شئ من الأحاديث علمناه لاعن عمر ولا عن غيره
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل ظاهر أحاديثهم أن ذلك في غير الحجاز وما وجب من المال في الحجاز
وجب في غيره كالديون والصدقات
(فصل) ولا تؤخذ منهم في السنة الامرة نص عليه احمد في رواية جماعة من أصحابه وقال كذا روي
عن إبراهيم النخعي عن عمر حين كتب ألا يأخذ في السنة الامرة: أن يأخذ من الذمي نصف العشر
وهذا قول الشافعي في الداخلين أرض الحجاز
وروى الإمام أحمد باسناده قال: جاء رجل نصراني إلى عمر فقال إن عاملك عشرني في السنة
مرتين، قال ومن أنت؟ قال أنا الشيخ النصراني قال عمر وأنا الشيخ الحنيف ثم كتب إلى عامله
أن لا تعشروا في السنة الامرة، ولان الجزية والزكاة إنما تؤخذ في السنة مرة واحدة فكذلك هذا
598

إذا ثبت هذا فإنه متى أخذ منهم ذلك مرة كتب لهم حجة بأدائهم لتكون وثيقة لهم وحجة على من يمرون
عليه فلا يعشرهم ثانية فإن مر ثانية بأكثر من المال الذي أخذ منه أخذ من الزيادة لأنها لم تعشر
(فصل) ولا يؤخذ منهم من غير مال التجارة فلو مر بالعاشر منهم منتقل ومعه أمواله أو سائمة
لم يؤخذ منه شئ نص عليه احمد، وإن كانت ماشيته للتجارة أخذ منه نصف عشرها، واختلفت
الرواية في القدر الذي يؤخذ منه نصف العشر فروى عنه صالح من كل عشرين دينارا دينار يعني
فإذا نقصت من العشرين فليس عليه شئ لأن ما دون النصاب لا تجب فيه زكاة على مسلم ولا على
تغلبي فلا بجب فيه على ذمي شئ كالذي دون العشرة
وروى صالح أيضا أنه قال: إذا مروا بالعاشر فإن كانوا أهل الحرب أخذ منهم العشر من العشرة
واحدا، وإن كانوا من أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارا دينارا فإذا نقصت
فليس عليه شئ، وإن نقص مال الحربي عن عشرة دنانير لم يؤخذ منه شئ ولا يؤخذ منهم إلا
مرة واحدة المسلم والذمي في ذلك سواء
وروي عن أحمد أن في العشرة نصف مثقال وليس فيما دون العشرة شئ نص على هذا في
رواية أبي الحارث قال قلت إذا كان مع الذمي عشرة دنانير؟ قال تأخذ منه نصف دينار، قلت فإن
599

كان معه أقل من عشرة دنانير؟ قال إذا نقصت لم يؤخذ منه شئ وذلك لأن العشرة مال يبلغ
واجبه نصف دينار فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم أو نقول مال معشور فوجب في العشرة
منه كمال الحربي
وقال ابن حامد يؤخذ عشر الحربي ونصف عشر الذمي مما قل أو كثر لأن عمر قال: خذ من
كل عشرين درهما درهما ولأنه حق عليه فوجب في قليله وكثيره كنصيب المالك في أرضه التي عامله عليها
ولنا انه عشر أو نصف عشر وجب بالشرع فاعتبر له نصاب كزكاة الزرع والثمر ولأنه حق
يتقدر بالحول فاعتبر له النصاب كالزكاة، وأما قول عمر فالمراد به والله أعلم بيان قدر المأخوذ وانه
نصف العشر ومعناه إذا كان معه عشرة دنانير فخذ من كل عشرين درهما درهما لأن في صدر
الحديث أن عمر بعث مصدقا وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما ومن أهل
الذمة من كل عشرين درهما درهما ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا وإنما يؤخذ ذلك من
المسلم إذا كان معه نصاب فكذلك من غيره
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في العاشر يمر عليه الذمي بخمر أو خنزير فقال في موضع
قال عمر ولو هم بيعها لا يكون إلا على الآخذ منها
وروى باسناده عن سويد بن غفلة في قول عمر ولو هم بيع الخمر والخنزير بعشرها قال أحمد اسناد
جيد وممن رأين ذلك مسروق والنخعي وأبو حنيفة ووافقهم محمد بن الحسن في الخمر خاصة وذكر
600

القاضي ان احمد نص على أنه لا يؤخذ منهم شئ وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو عبيد وأبو ثور
قال عمر بن عبد العزيز الخمر لا يعشرها مسلم
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان عتبة بن فرقد بعث إليه بأربعين ألف درهم صدقة
الخمر فكتب إليه عمر بعثت إلي بصدقه الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين فأخبر بذلك الناس وقال
والله لا استعملتك على شئ بعدها قال فنزعه، قال أبو عبيد ومعنى قول عمر رضي الله عنه ولو هم
بيعها وخذوا أنتم من الثمن أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جز يتهم
وخراج أرضهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فأنكره عمر ثم رخص لهم ان يأخذوا من أثمانها إذا
كان أهل الذمة المتولين بيعها، وروي باسناده عن سويد بن غفله ان بلالا قال لعمر: ان عمالك
يأخذون الخمر والخناز بر في الخراج فقال لا تأخذ ها منهم ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن
(فصل) ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم على جزية رؤوسهم وخراج أرضهم احتجاجا بقول عمر
هذا ولأنها من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها والتصرف فيها فجاز أخذ أثمانها منهم كثيابهم
(فصل) وإذا مر الذمي بالعشر وعليه دين بقدر ما معه أو ينقص عن النصاب فظاهر كلام
أحمد ان ذلك يمنع اخذ نصف العشر منه لأنه حق يعتبر له النصاب والحول فيمنعه الدين كالزكاة
601

وإن ادعى ان عليه دينا لم يقبل ذلك إلا ببينة من المسلمين لأن الأصل براءة ذمته منه، وان مر
بجارية فادعى انها ابنته أو أخته ففيه روايتان (إحداهما) يقبل قوله قال الخلال وهو أشبه القولين لأن
الأصل عدم ملكه فيها (والثانية) لا يقبل الا ببينة لأنها في يده فأشبهت بهيمة
(مسألة) قال (وإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر)
وقال أبو حنيفة لا يؤخذ منه شئ إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئا فنأخذ منهم مثله لما روي
عن أبي مجلز لا حق بن حميد قال قالوا لعمر كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟
قال كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم؟ قالوا العشر قال فكذلك خذوا منهم، وعن زياد بن حدير
قال كنا لا نعشر مسلما ولا معاهدا قال من كنتم تعشرون؟ قال كفار أهل الحرب فنأخذ منهم كما
يأخذون منا، وقال الشافعي ان دخل إلينا بتجارة لا يحتاج إليها الملمون لم يأذن له الإمام الا بعوض
يشرطه عليه ومهما شرط جاز ويستحب ان يشترط العشر ليوافق فعله فعل عمر رضي الله عنه وان
أذن مطلقا من غير شرط فالمذهب انه لا يؤخذ منهم شئ لأنه أمان من غير شرط فلم يستحق به شئ
كالهدنة ويحتمل ان يجب العشر لأن عمر أخذه
ولنا ما رويناه في المسألة التي قبلها وأن عمر اخذ منهم العشر واشتهر ذلك فيما بين الصحابة وعمل
602

به الخلفاء الراشدون بعده والأئمة بعده في كل عصر من غير نكير فأي اجماع يكون أقوى من هذا؟
ولم ينقل أنه شرط ذلك عليهم عند دخولهم ولا يثبت ذلك بالتخمين من غير نقل ولان مطلق الامر
يحمل على المعهود في الشرع وقد استمر أخذ العشر منهم في زمن الخلفاء الراشدين فيجب أخذه
فاما سؤال عمر عما يأخذون منا فإنما كان لأنهم سألوه عن كيفية الاخذ ومقداره ثم استمر الاخذ
من غير سؤال ولو تقيد أخذنا منهم بأخذهم منا لوجب ان يسأل عنه في كل وقت
(فصل) ويؤخذ منهم العشر من كل مال للتجارة في ظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي إذا
دخلوا في نقل ميرة بالناس إليها حاجة اذن لهم في الدخول بغير عشر يؤخذ منهم وهذا قول الشافعي
لأن دخولهم نفع للمسلمين
ولنا عموم ما رويناه وروي صالح عن أبيه عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن الزهري
عن سالم عن أبيه عن عمر أنه كان يأخذ من النبط يمن القطنية العشر ومن الحنطة والزبيب نصف
العشر ليكثر الحمل إلى المدينة وهذا يدل على أنه يخفف عنهم إذا رأى المصلحة فيه وله الترك
أيضا إذا رأى المصلحة
603

(فصل) ويؤخذ العشر من كل حربي تاجر ونصف العشر من كل ذمي تاجر سواء كان ذكرا
أو أنثى أو صغيرا أو كبيرا، وقال القاضي ليس على المرأة عشر ولا نصف عشر سواء كانت حربية
أو ذمية لكن ان دخلت الحجاز عشرت لأنها ممنوعة من الإقامة به ولا يعرف هذا التفصيل عن
أحمد ولا يقتضيه مذهبه لأنه يوجب الصدقة في أموال نساء بني تغلب وصبيانهم وكذلك يوجب العشر
أو نصفه في مال النساء وعموم الأحاديث المروية ليس فيها تخصيص للرجال دون النساء وليس هذا
بجزية وإنما هو حق يختص بمال التجارة لتوسعه في دار الاسلام وانتفاعه بالتجارة فيها فيستوي فيه
الرجل والمرأة كالزكاة في حق المسلمين
(فصل) ولا يعشرون في السنة الا مرة ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير نص عليهما احمد
وحكي عن أبي عبد الله بن حامد أن الحربي يعشر كلما دخل إلينا. وهو قول بعض أصحاب
الشافعي لأننا لو أخذنا منه مرة واحدة لا نأمن أن يدخلوا فإذا جاء وقت السنة الأخرى لم يدخلوا
فتعذر الاخذ منهم
ولنا أنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ أكثر من مرة في السنة كالزكاة ونصف العشر من
الذمي وقولهم يفوت غير صحيح فإنه يؤخذ منه أول ما يدخل مرة ويكتب الآخذ له بما أخذ منه فلا
604

يؤخذ منه شئ حتى تمضي تلك السنة فإذا جاء في العام الثاني أخذ منه في أول ما يدخل وان لم يدخل
فما فات من حق السنة الأولى شئ
(فصل) وليس لأهل الحرب دخول دار الاسلام بغير أمان لأنه لا يؤمن أن يدخل جاسوسا
أو متلصصا فيضر بالمسلمين فإن دخل بغير أمان سئل فإن قال جئت رسولا فالقول قوله لأنه تتعذر
إقامة البينة على ذلك ولم تزل الرسل تأتي من غير تقدم أمان. وان قال جئت تاجرا نظرنا فإن كان
معه متاع ببيعه قبل قوله أيضا وحقن دمه لأن العادة جارية بدخول تجارهم إلينا وتجارنا إليهم،
وان لم تكن معه ما يتجر به لم يقبل قوله لأن التجارة لا تحصل بغير مال وكذلك مدعي الرسالة
إذا لم يكن معه رسالة يؤديها أو كان ممن لا يكون مثله رسول وان قال أمنني مسلم فهل يقبل منه؟ على وجهين
(أحدهما) يقبل تغليبا لحقن دمه كما يقبل من الرسول والتاجر (والثاني) لا يقبل لأن إقامة البينة
عليه ممكنة فإن قال مسلم انا أمنته قبل قوله لأنه يملك أن يؤمنه فقبل قوله فيه كالحاكم إذا قال حكمت
لفلان على فلان بحق وإن كان جاسوسا خير الإمام فيه بين أربعة أشياء كالأسير وإن كان ممن ضل
الطريق أو حملته الريح إلينا في مركب فقد ذكرنا حكمه
605

(مسألة) قال (ومن نقض العهد بمخالفة شئ مما صولحوا عليه حل دمه وماله)
وجملة ذلك أنه ينبغي للإمام عند عقد الهدنة أن يشترط عليهم شروطا نحو ما شرطه عمر رضي
الله عنه، وقد رويت عن عمر رضي الله عنه في ذلك أخبار منها ما رواه الخلال باسناده عن إسماعيل
ابن عياش قال حدثنا عير واحد من أهل العلم قالوا كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم انا
حين قدمنا من بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث
في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا ولا فلابة ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان
منها في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وان نوسع أبواها
للمارة وابن السبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا وألا نكتم أمر من غش المسلمين وألا
نضرب نواقيسنا الا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ولا تظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة
ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق المسلمين وألا
نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين وألا
نجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور ولا نظهر شركا ولا نرغب في ديننا ولا ندعوا إليه أحدا ولا نتخذ شيئا
من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين وألا نمنع أحدا من أقربائنا إذا أراد الدخول في الاسلام
606

وان نلزم زينا حيثما كنا وان لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر
ولا في مواكبهم ولا نتكلم بكلامهم وان لا نتكنى بكناهم وان نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا
ونشد الزنانير على أوساطنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح
ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وان نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشد الطريق ونقوم لهم عن المجالس
إذا أرادوا المجالس ولا تطلع عليهم في منازلهم ولا نعلم أولادنا القرآن ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة
إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط
ما نجد ضمنا ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكننا وان نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا
الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم
إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب لهم عمر ان امض لهم ما سألوه وألحق فيه حرفين اشترط عليهم
مع ما شرطوا على أنفسهم ان لا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده فانفذ
عبد الرحمن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط فهذه جملة شروط عمر
رضي الله عنه، فإذا صولحوا عليها ثم نقض بعضهم شيئا منها فظاهر كلام الخرقي ان عهده ينتقض به
وهو ظاهر ما رويناه لقولهم في الكتاب ان نحن خالفنا فقد حل لك منا ما يحل لك من أهل المعاندة
607

والشقاق، وقال عمر وبن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده ولأنه عقد بشرط فمتى لم يوجد الشرط
زال حكم العقد كما لو امتنع من التزام الأحكام، وذكر القاضي والشريف أبو جعفر ان الشروط قسمان
[أحدهما] ينتقض العهد بمخالفته وهو أحد عشر شيئا، الامتناع من بذل الجزية وجري أحكامنا
عليهم إذا حكم بها حاكم والاجتماع على قتال المسلمين والزنا بمسلمة واصابتها باسم نكاح وفن مسلم
عن دينه وقطع الطريق عليه وقتله وايواء جاسوس المشركين والمعاونة على المسلمين بدلالة المشركين على
عوراتهم أو مكاتبتهم وذكر الله تعالى أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء، فالخصلتان الأوليان
ينتقض العهد بهما بلا خلاف في المذهب وهو مذهب الشافعي وفي معناهما قتالهم للمسلمين منفردين
أو مع أهل الحرب لأن اطلاق الأمان يقتضي ذلك فإذا فعلوه نقضوا الأمان لأنهم إذا قاتلونا لزمنا
قتالهم وذلك ضد الأمان وسائر الخصال فيها روايتان
(أحدهما) ان ينتقض بها سواء شرط عليهم ذلك أو لم يشترط وظاهر مذهب الشافعي
قريب من هذا الا ان ما لم يشترط عليهم لا ينتقض العهد بتركة ما خلا الخصال الثلاث الأولى فإنه
يتعين شرطها وينتقض العهد بتركها بكل حال وقال أبو حنيفة لا ينتقض العهد الا بالامتناع من الإمام
على وجه لا يتعذر معه أخذ الجزية منهم
608

ولنا مع ما ذكرناه ما روي أن عمر رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمه على الزنا
فقال ما على هذا صالحناكم وامر به فصلب في بيت المقدس ولان فيه ضررا على المسلمين فأشبه
الامتناع من بذل الجزية وكل موضع قلنا لا ينتقض عهده فإنه إن فعل ما فيه حد أقيم عليه حده أو
قصاصه وإن لم يوجب حدا عذر ويفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله فإن أراد أحد منهم فعل
ذلك كف عنه فإن مانع بالقتال نقض عهده ومن حكمنا بنقض عهده منهم خير الإمام فيه بين
أربعة أشياء القتل والاسترقاق والفداء والمن كالأسير الحربي لأنه كافر قدرنا عليه في دارنا بغير
عهد ولا عقد ولا شبهة ذلك فأشبه اللص الحربي ويختص ذلك به دون ذريته لأن النقض إنما وجد
منه دونهم فاختص به كما لو اتى ما يوجب حدا أو تعزيرا
(فصل) أمصار المسلمين على ثلاثة أقسام
(أحدها) ما مصره المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط فلا يجوز فيه إحداث كنيسة
ولا بيعة ولا مجتمع لصلاتهم، ولا يجوز صلحهم على ذلك بدليل ما روي عن عكرمة قال: قال ابن
609

عباس أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه
خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا رواه الإمام أحمد واحتج به ولان هذا البلد ملك للمسلمين فلا يجوز
أن يبنوا فيه مجامع للكفر وما وجد في هذه البلاد من البيع والكنائس مثل كنيسة الروم في بغداد
فهذه كانت في قرى أهل الذمة فأقرت على ما كانت عليه
(القسم الثاني) ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز إحداث شئ من ذلك فيه لأنها صارت ملكا
للمسلمين وما كان فيه من ذلك ففيه وجهان
(أحدهما) يجب هدمه وتحرم تبقيته لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم يجز أن تكون فيها بيعة
كالبلاد التي اختطها المسلمون
(والثاني) يجوز لأن في حديث ابن عباس أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه
فإن للعجم ما في عهدهم ولان الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرا من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئا
من الكنائس ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة ومعلوم انها
ما أحدثت فيلزم أن تكون موجودة فأبقيت، وقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله أن
لا يهدموا بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار. ولان الاجماع قد حصل على ذلك فإنها موجودة في
بلد المسلمين من غير نكير
610

(القسم الثالث) ما فتح صلحا وهو نوعان (أحدهما) أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج
عنها فلهم إحداث ما يحتاجون فيها لأن الدارهم
(والثاني) أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا فالحكم في البيع والكنائس
على ما يقع عليه الصلح معهم من إحداث ذلك عمارته لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم
جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم ويكون موضع الكنائس والبيع معنا، والأولى أن
يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر رضي الله عنه ويشترط عليهم الشروط المذكورة في كتاب عبد الرحمن
ابن غنم: أن لا يحدثوا بيعة ولا كنيسة ولا صومعة راهب ولا قلاية، وان وقع الصلح مطلقا من غير
شرط حمل على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه فأما الذين صالحهم عمر وعقد معهم الذمة فهم
على ما في كتاب عبد الرحمن بن غنم مأخوذون بشروطه كلها وما وجد في بلاد المسلمين من الكنائس
والبيع فهي على ما كانت عليه في زمن فاتحيها ومن بعدهم وكل موضع قلنا يجوز إقرارها لم يجز
هدمها ولهم رم ما تشعث منها واصلاحها لأن المنع من ذلك يفضي إلى خرابها وذهابها فجرى
مجرى هدمها، وان وقعت كلها لم يجز بناؤها وهو قول بعض أصحاب الشافعي وعن أحمد أنه
يجوز وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه بناء لما استهدم فأشبه بناء بعضها إذا انهدم ورم شعثها ولان
611

استدامتها جائزة وبناؤها كاستدامتها وحمل الخلال قول احمد: لهم أن يبنوا ما انهدم منها أي إذا انهدم
بعضها ومنعه من بناء ما انهدم على ما إذا انهدمت كلها فجمع بين الروايتين
ولنا ان في كتاب أهل الجزيرة لعياض (1) بن غنم ولا تجدد ما خرب من كنائسنا، وروى كثير
ابن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تبنى الكنيسة في الاسلام ولا
يجدد ما خرب منها) ولان هذا بناء كنيسة في دار الاسلام فلم يجز كما لو ابتدئ بناؤها وفارق رم
شعثها فإنه ابقاء واستدامة وهذا احداث
(فصل) ومن استحدث من أهل الذمة بناء لم يجزله منعه حتى يكون أطول من بناء المسلمين المجاورين له.
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الاسلام يعلو ولا يعلى) ولان في ذلك رتبة على المسلمين أهل الذمة
ممنوعون من ذلك ولهذا يمنعون من صدور المجالس ويلجئون إلى أضيق الطرق ولا يمنع من تعلية
بنائه على من ليس بمجاور له لأن علوها إنما يكون ضررا على المجاور لها دون غيره وفي جواز
مساواة المسلمين وجهان
(أحدهما) الجواز لأنه ليس بمستطيل على المسلمين (والثاني) المنع لقوله عليه السلام (الاسلام

(1) كذا بالأصل والصواب عبد الرحمن بن غنم
612

يعلو ولا يعلى) ولأنهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم وركوبهم كذلك في بنائهم
فإن كان للذمي دار عالية فملك المسلم دارا إلى جانبها أو بنى المسلم إلى جانب دار ذمي دارا دونها أو اشترى
ذمي دارا عالية لمسلم فله سكنى داره ولا يلزمه هدمها لأنه ألم يعل على المسلمين شيئا، فإن انهدمت داره
العالية ثم جدد بناءها لم يجز له تعليته على بناء المسلمين وإن انهدم ما علا منها لم تكن له اعادته وإن تشعث
منه شئ ولم ينهدم فله رمه واصلاحه لأنه ملك استدامته فملك رم شعثه كالكنيسة
(فصل) ولا يجوز لاحد منهم سكنى الحاجز وبهذا قال مالك والشافعي إلا أن مالكا قال
أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)
وروى أبو داود باسناده عن عمر انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا خرجن اليهود والنصارى
من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وعن ابن عباس قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء قال (أخرجوا المشركين من جزيرة
العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) وسكت عن الثالث رواه أبو داود وجزيرة العرب
ما بين الوادي إلى أقصى اليمن قاله سعيد بن عبد العزيز
613

وقال الأصمعي وأبو عبيد هي من ريف العراق إلى عدن طولا، ومن تهامة وما وراءها إلى
أطراف الشام عرضا، وقال أبو عبيدة هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولا ومن رمل تبرين إلى
منقطع السماوة عرضا
قال الخليل إنما قيل لها جزيرة لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ونسبت
إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها
وقال احمد جزيرة العرب المدينة وما والاها يعني أن الممنوع من سكنى الكفار المدينة وما والاها
وهو مكة واليمامة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها وهذا قول الشافعي لأنهم لم يجلوا من
تيماء ولا من اليمين
وقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أخرجوا
اليهود من الحجاز) فأما اخراج أهل نجران منه فلان النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده، فكأن
جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز وإنما سمي حاجزا لأنه حجز بين تهامة ونجد ولا
يمنعون أيضا من أطراف الحاجز كتيماء وفيد ونحوهما لأن عمر لم يمنعهم من ذلك
614

(فصل) ويجوز لهم دخول الحاجز للتجارة لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في زمن عمر
رضي الله عنه وأتاه شيخ بالمدينة فقال أنا الشيخ النصراني وإن عاملك عشرني مرتين فقال عمر وأنا
الشيخ الحنيف وكتب له عمر أن لا يعشروا في السنة إلا مرة ولا يأذن لهم في الإقامة أكثر من
ثلاثة أيام على ما روي عن عمر رضي الله عنه ثم ينتقل عنه
وقال القاضي يقيم أربعة أيام حد ما يتم المسافر الصلاة، والحكم في دخولهم إلى الحجاز في اعتبار
الاذن كالحكم في دخول أهل الحر ب دار الاسلام، وإذا مرض بالحجاز جازت له الإقامة لأنه
يشق الانتقال على المريض وتجوز الإقامة لمن يمرضه لأنه لا يستغني عنه، وإن كان له دين على أحد
وكان حالا أجبر غريمه على وفائه فإن تعذر وفاؤه لمطل أو تغيب عنه فينبغي أن يمكن من الإقامة
ليستوفى دينه لأن التعدي من غيره وفي اخراجه ذهاب ماله وإن كان الدين مؤجلا لم يمكن من
الإقامة ويوكل من يستوفيه له لأن التفريط منه، وإن دعت الحاجة إلى الإقامة ليبيع بضاعته
احتمل أن يجوز لأن في تكليفه تركها أو حملها معه ضياع ماله وذلك مما يمنع من الدخول بالبضائع
إلى الحجاز فتفوت مصلحتهم وتلحقهم المضرة بانقطاع الجلب عنهم، ويحتمل ان يمنع من الإقامة
ن له من الإقامة بدا، فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز ويقيم فيه أيضا ثلاثة أيام
أو أربعة على الخلاف فيه وكذلك إذا انتقل منه إلى مكان آخر جاز ولو حصلت الإقامة في الجميع
شهرا، وإذا مات بالحجاز دفن به لأنه يشق نقله وإذا جازت الإقامة للمريض فدفن الميت أولى
615

(فصل) فأما الحرم فليس لهم دخوله بحال، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لهم
دخوله كالحجاز كله. ولا يستوطنون به ولهم دخول الكعبة والمنع من الاستيطان لا يمنع
الدخول والتصرف كالحجاز.
ولنا قول الله تعالى (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) والمراد به
الحرم بدليل قوله تعالى (وان خفتم علية) يريد ضررا بتأخير الجلب عن الحرم دون المسجد ويجوز
تسمية الحرم المسجد الحرام بدليل قول الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام
إلى المسجد الأقصى وإنما أسرى به من بيت أم هانئ من خارج المسجد ويخالف الحجاز لأن الله تعالى منع
منه مع اذنه في الحجاز فإن هذه الآية نزلت واليهود بخيبر والمدينة وغيرهما من الحجاز ولم يمنعوا من
الإقامة به وأول من أجلاهم عمر رضي الله عنه ولان الحرم أشرف لتعلق النسك به ويحرم صيده
وشجرة والملتجئ إليه فلا يقاس غيره عليه فإن أراد كافر الدخول إليه منع منه فإن كانت معه ميرة
أو تجارة خرج إليه من يشتري منه ولم يترك هو يدخل وإن كان رسولا إلى إمام بالحرم خرج إليه
من يسمع رسالته ويبلغها إياه فإن فال لا بدلي من لقاء الإمام وكانت المصلحة في ذلك خرج إليه
الإمام ولم يأذن له في الدخول فإن دخل الحرم عالما بالمنع عزر وان دخل جاهلا نهي وهدد فإن مرض
بالحرم أو مات اخراج ولم يدفن به لأن حرمة الحرم أعظم ويفارق الحجاز من وجهين:
616

(أحدهما) ان دخوله إلى الحرم حرام وإقامته به حرام بخلاف الحاجز (والثاني) ان خروجه من
الحرم سهل ممكن لقرب الحل منه وخروجه من الحجاز في مرضه صعب ممتنع وان دفن نبش واخرج
الا ان يصعب اخراجه لنتنه وتقطعه وان صالحهم الإمام على دخول الحرم بعوض فالصلح باطل فإن
دخلوا إلى الموضع الذي صالحهم عليه لم يرد عليهم العوض لأنهم قد استوفوا ما صالحهم عليه وان
وصلوا إلى بعضه أخذ من العوض بقدره ويحتمل ان يرد عليهم بكل حال لأن ما استوفوه لا قيمة له
والعقد لم يوجب العوض لكونه باطلا
(فصل) فاما مساجد الحل فليس لهم دخولها بغير إذن المسلمين لأن عليا رضي الله عنه بصر بمجوسي
وهو على المنبر وقد دخل المسجد فنزل وضربه وأخرجه من أبواب كندة فإن اذن لهم في دخولها
جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد أهل الطائف فأنزلهم من المسجد قبل
اسلامهم وقال سعيد بن المسيب قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه وقدم عمير بن
وهب فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم فيه ليفنك به فرزقه الله الاسلام.
وفيه رواية أخرى: ليس لهم دخوله بحال لأن أبا موسى دخل على عمر ومعه كتاب قد
617

كتب فيه حساب عمله فقال له عمر ادع الذي كتبه ليقرأه قال إنه لا يدخل المسجد قال ولم قال إن
ه نصراني وفيه دليل على شهرة ذلك بينهم وتقرر عندهم ولان حدث الجنابة والحيض والنفاس
يمنع المقام في المسجد فحدث الشرك أولى.
(فصل) والمأخوذ في أحكام الذمة ينقسم خمسه أقسام: (أحدها) مالا يتم العقد الا بذكره وهو
شيئان التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم فإن أخل بذكر واحد منهما لم يصح العقد وفي معناهما
ترك قتال المسلمين فإنه وان لم يذكر لفظه فذكر المعاهدة يقتضيه.
(القسم الثاني) ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وهو ثمانية خصال ذكرناهما فيما تقدم
(القسم الثالث) ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو دينهم أو رسولهم بسوء
618

(القسم الرابع) ما فيه إظهار منكر وهو خمسة أشياء: احداث البيع والكنائس ونحوها ورفع
أصواتهم بكتبهم بين المسلمين واظهار الخمر والخنزير والضرب بالنواقيس وتعلية البنيان على أبنية
المسلمين والإقامة بالحجاز ودخول الحرم فيلزمهم الكف عنه سواء شرط عليهم أو لم يشرط في جميع
ما في هذه الأقسام الثلاثة
(القسم الخامس) التميز على المسلمين في أربعة أشياء لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم، وأما
لباسهم فهو أن يلبسوا ثوبا يخالف لونه لون سائر الثياب فعادة اليهود العسلي وعادة النصارى الأدكن
وهو الفاختي ويكون هذا في ثوب واحد لافي جميعها ليقع الفرق ويضيف إلى هذا شد الزنار فوق
ثوبه إن كان نصرانيا أو علامة أخرى إن لم يكن نصرانيا كخرقة يجعلها في عمامته أو قلنسوته يخالف
لونها لونها ويختم في رقبته خاتم رصاص أو حديد أو جلجل ليفرق بينه وبين المسلمين في الحمام ويلبس
نساؤهم ثوبا ملونا وتشد الزنار تحت ثيابها وتختم في رقبتها، ولا يمنعون لبس فاخر الثياب ولا العمائم
ولا الطيلسان لأن التمييز حصل بالغيار والزنار
619

وأما الشعور فإنهم يحذفون مقاديم رؤوسهم ويجزون شعورهم ولا يفرقون شعورهم لأن النبي
صلى الله عليه وسلم فرق شعره
وأما الركوب فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز ولهم ركوب ما سواها ولا يركبون السروج
ويركبون عرضا، رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر لما روى الخلال باسناده ان عمر أمر بجز نواصي
أهل الذمة وأن يشدوا المناطق وأن يركبوا الأكف بالعرض، ويمنعون تقلد السيوف وحمل السلاح
واتخاذه وأما الكنى فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وأبي محمد وأبي بكر وأبي
الحسن شبههما ولا يمنعون الكنى بالكلية فإن احمد قال لطبيب نصراني يا أبا إسحاق وقال أليس
النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن عبادة قال (أما ترى ما يقول أبو الحباب) وقال لأسقف نجران
(أسلم) أبا الحارث وقال عمر لنصراني يا أبا حسان أسلم تسلم
(فصل) وإذا عقد معهم الذمة كتب أسماءهم وأسماء آباءهم وعددهم وحلاهم ودينهم فيقول فلان
620

ابن فلان الفلاني طويل أو قصير أو ربعة أسمر أو أبيض أدعج العين أفتى الانف مقرون الحاجبين
ونحو هذا من صفاتهم التي يتميز بها كل واحد من الآخر ويجعل لكل عشرة عريفا يراعي من يبلغ
منهم أو يفيق من جنون، أو يقدم من غيبة، أو يسلم أو يموت، أو يغيب ويجبي جزيتهم فيكون
ذلك أحوط لحفظ جزيتهم
(فصل) وإذا مات الإمام أو عزل وولي غيره فإن عرف ما عقد عليه عقد الذمة من كان قبله
وكان عقدا صحيحا أقرهم عليه لأن الخلفاء أقروا عقد عمر ولم يجددوا عقد ا سواه ولان عقد الذمة
مؤبد، وإن كان فاسدا رده إلى الصحة وإن لم يعرف فشهد به مسلمان أو كان أمره ظاهرا عمل به
وإن أشكل عليه سألهم فإن ادعوا العهد بما يصلح أن يكون جزية قبل قولهم وعمل به وإن شاء
استحلفهم استظهارا، فإن بان له بعد ذلك أنهم نقضوا من المشروط عليهم شيئا رجع بما نقضوا وإن
قالوا كنا نؤدي كذا وكذا جزية وكذا وكذا هدية استحلفهم يمينا واحدة لأن الظاهر فيما يدفعونه
621

انه جزية، واختار أبو الخطاب انه إذا لم يعرف ما عوهدوا عليه استأنف العقد معهم لأن عقد الأول
لم يثبت عنده فصار كالمعدوم
(مسألة) قال (ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربا)
يعني يصير حكمه حكم أهل الحرب سواء كان رجلا أو امرأة ومتى قدر عليه أبيح منه ما بياح
من الحربي من القتل والاسترقاق وأخذ المال، وإن هرب الذمي بأهله وذريته أبيح من البالغين منهم
ما يباح من أهل الحرب ولم يبح سبي الذرية لأن النقض إنما وجد من البالغين دون الذرية
(فصل) وإن نقضت طائفة من أهل الذمة جاز غزوهم وقتلهم، وإن نقض بعضهم دون بعض
اختص حكم النقض بالناقض دون غيره وإن لم ينقضوا لكن خاف النقض منهم لم يجز ان ينبذ إليهم
622

عهدهم لأن عقد الذمة لحقهم بدليل أن الإمام تلزمه اجابتهم إليه بخلاف عقد الأمان والهدنة فإنه
لمصلحة المسلمين ولان عقد الذمة آكد لأنه مؤبد وهو معاوضة لذلك إذا نقض بعض أهل الذمة
العهد وسكت بعضهم لم يكن سكوتهم نقضا وفي عقد الهدنة يكون نقضا
(فصل) وإذا عقد الذمة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة لأنه التزم بالعهد
حفظهم، ولهذا قال علي رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا
وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده. وأوصيه باهل ذمة المسلمين خيرا ان يوفي لهم بعهدهم
ويحاط من ورائهم.
(فصل) وإذا تحاكم إلينا مسلم مع ذمي وجب الحكم بينهم لأن عليا حفظ الذمي من ظلم المسلم
وحفظ المسلم منه وان تحاكم بعضهم مع بعض أو استعدى بعضهم على بعض خير الحاكم بين الحكم
623

بينهم والاعراض عنهم لقول الله تعالى (ن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فإن حكم بينهم
لم يحكم الا بحكم الاسلام لقول الله تعالى (وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط) وقال تعالى (وان احكم
بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواء هم) وإذا استعدت المرأة على زوجها في طلاق أو ظهار أو ايلاء فإن
شاء أعداها وان شاء تركها لقول الله تعالى (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم) فإن أحضر
زوجها حكم عليه بما يحكم على المسلم في مثل ذلك فإن كان قد ظاهر منها منعه وطأها حتى يكفر وتكفيره
بالاطعام وحده لأنه لا يملك رقبة مسلم ولا يملك شراءها ولا يصح منه الصيام
(فصل) ولا يجوز تمكينه من شراء مصحف ولا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فقه فإن فعل
فالشراء باطل لأن ذلك يتضمن ابتذاله وكره احمد بيعهم الثياب المكتوب عليها ذكر الله تعالى
قال مهنا سألت احمد أبا عبد الله هل تكره للرجل المسلم ان يعلم غلاما مجوسيا شيئا من القرآن؟ قال
624

ان أسلم فنعم والا فأكره ان يضع القرآن في غير موضعه قلت فيعلمه ان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
قال نعم وقال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف عند أهل الذمة؟ قال لأنهى
النبي صلى الله عليه وسلم أن نسافر بالقرآن إلى ارض العدو مخافة ان يناله العدو
(فصل) ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم
625

إلى أضيقها) أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (انا غادون
غدا فلا تبدءوهم بالسلام وان سلموا عليكم فقولوا وعليكم) أخرجه الإمام أحمد باسناده وباسناده عن
أنس أنه قال نهينا أو أمرنا ان لا نزيد أهل الكتاب علي وعليكم قال أبو داود قلت لأبي عبد الله
تكره ان يقول الرجل للذمي كيف أصحبت؟ أو كيف حالك؟ أو كيف أنت؟ أو نحو هذا؟ قال
نعم هذا عندي أكثر من السلام
وقال أبو عبد الله إذا لقيته في الطريق فلا توسع له وذلك لما تقدم من حديث أبي هريرة،
وروي عن ابن عمر انه مر على رجل فسلم عليه فقيل إنه كافر فقال رد علي ما سلمت عليك فرد عليه
626

فقال أكثر الله مالك وولدك ثم التقت إلى أصحابه فقال أكثر للجزية وقال يعقوب بن بختان سألت
أبا عبد الله فقلت نعامل لليهود والنصارى فنأتيهم في منازلهم وعندهم قوم مسلمون أسلم عليهم؟ قال
نعم تنوي السلام على المسلمين وسئل عن مصافحة أهل الذمة فكرهه
(فصل) وما يذكر بعض أهل الذمة من أن الجزية لا تلزمهم وان معهم كتابا من النبي صلى الله عليه وسلم
باسقاطها عنهم لا يصح وسئل عن ذلك أبو العباس بن سريج فقال ما نقل ذلك أحد من المسلمين وذكر
أنهم طولبوا بذلك فاخرجوا كنا ذكروا انه بخط علي رضي الله عنه كتبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
627

فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية وتاريخه بعد موت سعد وقبل اسلام معاوية فاستدل بذلك على بطلانه
ولان قولهم غير مقبول ولم يرو ذلك من يعتمد على روايته
(فصل) قال أبو الخطاب يمتهنون عند اخذ الجزية ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها ذهب
إلى قوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وقيل الصغار التزامهم الجزية وجريان أحكامنا
عليهم ولا يقبل منهم ارسالها بل يحضر الذمي بنفسه بها ويؤديها وهو قائم والاخذ جالس ولا يشتط
628

عليهم في اخذها ولا يعذبون إذا أعسروا عن أدائها فإن عمر رضي الله عنه أتي بمال كثير قال أبو عبيد
وأحسبه من الجزية فقال إني لا ظنكم قد أهلكتم الناس قالوا لا والله ما أخذنا الا عفوا صفوا قال
بلا سوط ولا بوط قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني وقدم عليه سعيد
ابن عامر بن حذيم فعلاه عمر بالدرة فقال سعيد سبق سيلك مطرك ان تعاقب نصبر وان تعف نشكر
وان تستعتب نعتب فقال ما على المسلم الا هذا مالك تبطئ بالخراج قال أمرتنا ان لا نزيد الفلاحين على أربعة
629

دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكن نؤخرهم إلى غلاتهم قال عمر لا عزلتك ما حييت رواهما أبو عبيد
وقال إنما وجه التأخير إلى الغلة الرفق بهم قال ولم نسمع في استيداء الخراج والجزية وقتا غير هذا
واستعمل علي بن أبي طالب رجلا على عكبرى فقال له على رؤوس الناس لا تدعن لهم درهما من الخراج
وشدد عليه القول ثم قال القني عند انتصاف النهار فأتاه فقال إني كنت أمرتك بأمر وإني أتقدم
إليك الآن فإن عصيتني نزعتك لا تبيعن لهم في خراجهم حمارا ولا بقره ولا كسوة شتاء ولا صيف
وارفق بهم وافعل بهم.
630

(فصل) قال احمد في الرجل له المرأة النصرانية: لا يأذن لها ان تخرج إلى عيد أو تذهب إلى
بيعة وله ان يمنعها ذلك وكذلك في الأمة قيل له أله أن يمنعها شرب الخمر؟ قال يأمرها فإن لم تقبل
فليس له منعها قيل له فإن طلبت منه ان يشتري لها زنارا؟ قال لا يشتري لها زنارا تخرج هي تشتري
631

لنفسها وسئل عن الذمي يعامل بالربا ويبيع الخمر والخنزير ثم يسلم وذلك المال في يده فقال لا يلزمه
أن يخرج منه شيئا لأن ذلك مضى في حال كفره فأشبه نكاحهم في الكفر إذا أسلم وسئل عن
المجوسين يجعلان ولدهما مسلما فيموت وهو ابن خمس سنين فقال يدفن في مقابر المسلمين لقول النبي
632

صلى الله وسلم (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) يعني أن هذين لم يمجساه فيبقى على الفطرة وسئل أبو عبد الله
عن أولاد المشركين فقال اذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (الله اعمل بما كانوا عاملين) قال وكان ابن
عباس يقول (فأبواه يهودانه وينصرانه حتى سمع الله اعلم بما كانوا عاملين) فترك قوله وسأله ابن
633

الشافعي فقال يا أبا عبد الله ذراري المشركين أو المسلمين؟ فقال هذه مسائل أهل الزيغ وقال أبو عبد الله
سأل بشر بن السري سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال يا صبي أنت تسأل عن هذا؟
قال أحمد ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت ولا نقول شيئا وسئل عن أطفال المسلمين فقال ليس
فيه اختلاف انهم في الجنة وذكروا له حديث عائشة الذي قالت فيه عصفور من عصافير الجنة قال
وهذا حديث؟ وذكر فيه رجلا ضعفه طلحة وسئل عن الرجل يسلم بشرط ان لا يصلي إلا صلاتين
634

فقال يصح إسلامه ويؤخذ بالخمس، وقال معنى حديث حكيم بن حزام بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن
لا أخر الا قائما أنه لا يركع في الصلاة بل يقرأ يم يسجد من غير ركوع قال وحديث قتادة عن نصر
بن عاصم ان رجلا منهم بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلى طرفي النهار
(تم بحمد الله وعونه الجزء العاشر من كتاب المغني)
ويليه بمشيئة الله وتوفيقه الجزء الحادي عشر منهما وأوله (كتاب الصيد والذبائح)
635