الكتاب: سبل السلام
المؤلف: محمد بن اسماعيل الكحلاني
الجزء: ١
الوفاة: ١١٨٢
المجموعة: مصادر فقهية مستقلة
تحقيق: مراجعة وتعليق : الشيخ محمد عبد العزيز الخولي
الطبعة: الرابعة
سنة الطبع: ١٣٧٩ - ١٩٦٠ م
المطبعة:
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - محمود نصار الحلبي وشركاه - خلفاء
ردمك:
ملاحظات: سبل السلام تأليف السيد محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير/ شرح بلوغ المرام،من جمع أدلة الأحكام لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني العسقلاني القاهري/ويليه متن نخبة الفكر،في مصطلح أهل الأثر/مع تعليقات مختارة للإمام ابن حجر

سبل السلام
تأليف
السيد الإمام محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير
شرح بلوغ المرام، من جمع أدلة الاحكام
للحافظ شهاب الدين أبي الفضل
أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني العسقلاني القاهري
(773 - 852)
ويليه
متن نخبة الفكر، في مصطلح أهل الأثر
مع تعليقات مختارة للإمام ابن حجر
الجزء الأول
ملتزم الطبع والنشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصره
محمود نصار الحلبي وشركاء خلفاء
1

جمعه وعلق عليه المرحوم الشيخ
محمد عبد العزيز الخولي
الأستاذ بدار العلوم بالقاهرة
الطبعة الرابعة
1379 ه - 1960 م
2

التعريف ببلوغ المرام
وشرحه
سبل السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام كتاب جمع فيه الحافظ ابن حجر (انظر ترجمته عقب التعريف) كل الأحاديث
التي استنبط الفقهاء منها الاحكام الفقهية مبينا عقب كل منها من أخرجه من أئمة الحديث
كالبخاري ومسلم ومالك وأبى داود وغيرهم موضحا درجة الحديث من صحة أو حسن أو
ضعف، مرتبا له على أبواب الفقه، وضم إلى ذلك في آخر الكتاب قسما مهما في الآداب
والأخلاق والذكر والدعاء.
فجاء محمد بن إسماعيل الأمير اليمنى الصنعاني (انظر ترجمته بعد ترجمة ابن حجر) وشرح ذلك
الكتاب فبين لغته وسبب الضعف فيما ضعفه الحافظ ابن حجر أو أنكره أن وهمه أو أغله الخ.
وذكر ما يدل عليه الحدين من الاحكام الفقهية ومن قال بها من كبار المجتهدين صحابة وتابعين
وأئمة المذاهب رضوان الله عليهم أجمعين، ومن خالفها مبينا نوع المخالفة ودليلها، ثم يقضى
بينهم بالحق الذي يؤيده الكتاب والسنة غير متحيز إلى مذهب من المذاهب عملا بقوله تعالى
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت
ويسلموا تسليما) وقوله (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم
الحيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) فمقتضى الايمان أن نحكم رسول
الله (ص) في كل خلاف بين المسلمين وخاصة الفقهاء المشرعين الذين يرسمون
لنا احكام العبادات والمعاملات، ولا يكفي مجرد التحكيم بل لابد معه من الاذعان النفسي
تنفيذ الحكم كما أمر العليم الحكيم الذي صرح في الآية الثانية بأن من قدم حكم غيره على حكمه
وحكم رسوله فقد عصى الله ورسول وضل ضلالا مبينا وكان واجبا على علماء المسلمين وأولى
المكانة فيهم في العالم الاسلامي كله وخصوصا مصر التي هي مركز دائرة البلاد الاسلامية والتي
فيها الأزهر كعبة الرواد للعلوم الاسلامية. كان الواجب عليهم أن يعرضوا آراء الفقهاء على كتاب
الله وسنة رسوله، فما كان قريبا مهما أو يوافق صريحهما أخذ وما كان بخلاف ذلك ترك
وليس في ذلك غمط للمذاهب جزى الله أهلها خير الجزاء، ولكن في ذلك إحقاق الحق
وترك التقدم بين يدي الله ورسوله امتثالا لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بنى يدي الله
ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) إنهم إن فعلوا ذلك وحدوا بنى المسلمين في العبادات،
فكان مظهرهم فيما واحدا ووحدوا بينهم في المعاملات، فاستطاع المشرعون أن يضعوا القوانين
المدنية والجنائية من هذه الشريعة الحكيمة الصادرة عن علم الله المحيط بأمراض النفوس
3

والجماعات وما تداوى به. وعن حكمته التي كل حكمة أمامها عدم، ولا عجب فعقول
الناس قاصرة تتنازعها لأهواء والشهوات في ميدان الحق، فكان ما يصدر عنها مظنة النقص.
إن العلماء والمفكرين من المسلمين إن سلكوا هذه الخطة، ولعلهم سالكون، ربطوا بين
المسلمين برباط وثيق وقربوا ما بينهم من الخلاف في الآراء والنزعات بل قضوا على ذلك
ورجعوا إلى كتاب الله الذي كأني بالرسول (ص) يقول فيه الآن لربه (يا رب
إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) والرجوع إلى كتاب الله هو أساس كل فلاح وسعادة
(إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم) ولا يمكن أن يعود للمسلمين عزهم القديم وملكهم
المسلوب ألا إذا اعتصموا بالكتاب والسنة (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) الدين الآن
ليس له وجود إلا بين المشتغلين به، فلا هو في النفوس ولا هو في النفوس ولا هو في المحاكم، اللهم إلا بقايا
يلتهمها الزمان شيئا فشيئا، فجدير بالعلماء أن يفكروا طويل التفكير في السبيل الذي يصلون
منه إلى إحلال الدين في القلوب والعمل به في محاكم المسلمين. وإن هذا الكتاب (سبل السلام)
الذي محض صحيح الآراء من سقيمها ووزنها بميزان الكتاب والسنة خطوة في هذا السبيل نتقدم
به إلى كل مسلم غيور على دينه محب أن تكون له الكلمة. والكتاب لم يخل من عثرات لكلها
قليلة. ولكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، والعصمة لله وحده، وكل انسان يؤخذ من
قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، ذلك قول مالك يعنى به نبينا (ص)، ومع
ذلك لم تفتنا هذه العثرات، بل نبهنا عليها وبينا صريح الحق فيها، فجاء الكتاب بحمد الله فيما
نعتقد من خيرة كتب الاحكام التي ينبغي العكوف على تعلمها وتعرف ما فيها.
الكتب المؤلفة في أحاديث الاحكام وشرحها كثيرة وكتابنا هذا وسط فيها خيار منها، فإنه
يقصد المحز ويطبق المفصل فيأتي بالمسمين دون الغث ويعرض عن ذكر الخلافات التي لا ترتكز
على دليل ويقتصد في بيان الطعون التي في الأسانيد فيجاء من أجل هذا كتابا وسطا في أربع مجلدات
ولقد عانينا في تصحيحه مشقات كبيرة، فان النسخة التي طبعنا منها فيها خطأ كثير
اضطرنا إلى الرجوع إلى الأصول التي منها اسمتد الكتاب وأصله، وكنا نراجع الأصل أيضا
على كتاب (فتح العلام) الذي طبع المطبعة الأميرية والذي هو نسخة ثانية من سبل السلام
سميت باسم جديد، ولم تخل من التحريف والخطأ كأصلها سبل السلام، وإن من حسنات
مدرسة القضاء الشرعي أن قررت دراسة هذا الكتاب في أحاديث الاحكام لطلبة التخصص
فيها، فكانت تلك حسنة في الدين إلى حسناتها في خدمة القضاء.
وفى الختام ندعو المكفرين من المسلمين إلى أن يقوموا بواجبهم نحو الدين وكتاب الله المبين
وسنة رسوله الأمين (قد جاء كم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه
: سبل السلام: ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).
القاهرة في صباح الجمعة
26 رمضان سنة 1344 ه - 9 إبريل سنة 1926 م
محمد عبد العزيز الخولي
المدرس بمدرسة دار العلوم
4

ترجمة الحافظ ابن حجر
مؤلف بلوغ المرام
هو أحمد بن علي بن محمد أبو الفضل الكناني الشافعي المعروف بابن حجر العسقلاني حامل
لواء السنة قاضي أوحد الحفاظ والرواة. ولد بمصر في شعبان سنة 773 وبها نشأ،
وحفظ القرآن والحاوي ومختصر ابن الحاجب وغيرها، وسافر صحبة أحد أوصيائه إلى مكة
المكرمة فسمع بها، ثم حبب إليه الحديث فاشتغل بطلبه من كبار شيوخه في البلاد الحجازية
والشامية والمصرية، ولا سيما الحافظ العراقي، وتفقه بالبلقيني وابن الملقن وغيرهما وأذنوا له
بالتدريس والافتاء. وأخذ الأصلين وغيرهما عن العز بن جماعة، واللغة عن المجد الفيروزآبادي،
والعربية عن المعماري، والأدب والعروض عن البدر البشتكي، والكتابة عن جماعة. وقرأ
بعض القرآن بالسبع على التنوخي، وجد في الفنون حي بلغ فيها الغاية، وتصدى لنشر
الحديث وعكف عليه مطالعة وقراءة وإقراء وتصنيفا وإفتاء. وباشر القضاء بالديار المصرية
استقلالا مدة تزيد على إحدى وعشرين سنة بأشهر تخللها ولاية جماعة. ودرس التفسير
والحديث والفقه والوعظ بعدة أماكن. وخطب بالأزهر وجامع عمرو وغيرهما، وأملى من
حفظه الكثير. ولقد توافد إليه الفضلاء ورؤوس العلماء ليغترفوا من فيضه ويرووا من علمه.
وقد بلغت تصانيفه مائة وخمسين، وقل أن تجد فنا من فنون الحديث إلا له مؤلفات حافلة
فيه، ولقد انتشرت هذه التصانيف في حياته وتهاداها الملوك والأمراء. ومن تلك المؤلفات
الإصابة في أسماء الصحابة. وتهذيب. والتقريب، وتعجيل المنفعة برجال الأربعة.
ومشتبه النسبة. وتلخيص الخبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. وتخرج المصابيح.
وابن الحاجب. وتخرج الكشاف، وإتحاف المهرة. والمقدمة. وبذل الماعون. ونخبة الفكر
وشرحها. والخصال المفكرة. والقول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد. وبلوغ المرام.
وديوان خطبه. وديوان شعره. ومخلص ما يقال في الصباح والمساء. والدرر الكامنة في أعيان
المائة الثامنة. وغير ذلك من كتبه القيمة. ولو لم يكن له إلا كتابه: فتح الباري: في شرح
صحيح البخاري: لكفى في الإشادة بذكره والوقوف على جلاة قدره، فان هذا الكتاب بحق هو
قاموس السنة، وقد بدأ تأليفه في مفتتح سنة 817 بعد أن أكمل مقدمته في سنة 813، وانتهى
منه في غرة رجب سنة 842، وقد أولم عند ختمه وليمة حضرها وجوه المسلمين أنفق فيها
500 دينار: أي 250 جنيها مصريا، وقد طلبه الملوك، واشترى بثلاثمائة دينار: أي خمسين
ومائة جنيه، فجزاه الله عن السنة خير الجزاء. هذا إلى تواضعه وحمله واحتماله وصبره
وبهائه وظرفه وقيامه وصومه واحتياطه وورعه وبذله وكرمه وهضمه لنفسه وميله إلى النكت
اللطيفة والنوادر الظريفة، وفريد أدبه مع الأئمة المتقدمين والمتأخرين ومع كل من يجالسه
من صغير وكبير.
وقد اختاره الله لجواره بعد عشاء ليلة السبت ثامن عشر ذي الحجة سنة 852 ه‍، أجزل
الله له الثواب وجزاه خير الجزاء.
5

ترجمة محمد بن إسماعيل الصنعاني
صاحب سبل السلام
هو السيد محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الكحلاني ثم الصنعاني، ولد سنة 1059
بكحلان، ثم انتقل مع والده إلى مدينة صنعاء عاصمة اليمن فأخذ عن علمائها ثم رحل إلى
مكة، وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وبرع في العلوم المختلفة حتى بز
أقرانه، وتفرد بالرئاسة العلمية في صنعاء، وأظهر الاجتهاد والوقوف مع الأدلة ونفر من
التقليد، وزيف ما لا دليل عليه من الآراء الفهية، وجرت له مع أهل عصره محن
وخطوب شأن كل مصلح يدعو إلى الحق ويجاهر به في عصور الظلمات، وقد حفظه الله
من كيدهم وكفاه شرهم، وقد ولاه الامام المنصور من أئمة اليمن الخطابة بجامع صنعاء،
واستمر ناشرا للعلم تدريسا وإفتاء وتصنيفا، وكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يبالي
بما يصيبه في سبيله شأن الذين أخلصوا دينهم لله، وآثروا مرضاة الناس. ولقد
التف حوله كثيرون من الخاصة والعامة، وقرأوا عليه كتب الحديث وعملوا باجتهاداته، وأعلنوا
ذلك في الناس، فكانت فتن أظهرهم الله عليها (وله مصنفات) حافلة. منها: سبل السلام:
هذا الذي اختصره من البدر التمام للمغربي، وأصناف إليه زيادات قيمة أكبرت شأن الكتاب
ومنها: منحة الغفار: جعلها حاشية على ضوء النهار للجلال. ومنها: العدة: حشى بها شرح
العمدة لابن العيد. ومنها: شرح التنقيح في علوم الحديث: وله مصنفات أخرى
وقد أفرد كثيرا من المسائل بالتصنيف مما لو جمع كان مجلدات. وله شعر فصيح منسجم
أكثره في المباحث العلمية، والتوجع من أبناء عصره والرد عليهم. وبالجملة فهو من الأئمة
المجددين لمعالم هذا الدين، الصادعين فيه بصريح الحق. توفى ثالث شعبان سنة 1182 ه‍
عن مائة وثلاث وعشرين سنة رحمة الله واسعة، وجزاه عن نصره السنة خير الجزاء.
6

الحمد لله الذي من علينا ببلوغ المرام من خدمة السنة النبوية، وتفضل علينا بتيسير
الوصول إلى مطالبها العلية، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تنزل قائلها الغرف الأخروية،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي باتباعه يرجى الفوز بالمواهب اللدنية، (ص)
وعلى آله الذين جهم ذخائر العقبى وهم خير البرية.
وبعد: فهذا شرح لطيف على بلوغ المرام، تأليف الشيخ العلامة شيخ الاسلام: أحمد
ابن علي بن حجر: أحله الله دار السلام، اختصرته عن شرح القاضي العلامة شرف الدين
: الحسين بن محمد المغربي: أعلى الله درجاته في عليين، مقتصرا على حل ألفاظه وبيان معانيه
قاصدا بذلك وجه الله. ثم التقريب للطالبين فيه والناظرين، معرضا عن ذكر الخلافات
والأقاويل، إلا أن يدعو إليه ما يرتبط به الدليل، متجنبا للإيجاز المخل والاطناب الممل.
وقد صممت إليه زيادات جمة على ما في الأصل من الفوائد. وأسأل الله أن يجعله في المعاد
من خير العوائد، فهو حسبي ونعم الوكيل، وعليه في البداية والنهاية التعويل.
(الحمد لله) افتتح كلامه بالثناء على الله تعالى امتثالا لما ورد في البداءة به من الآثار،
ورجاء لبركة تأليفه، لان كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله منزوع البركة كما وردت
بذلك الاخبار، واقتداء بكتاب الله المبين، وسلوك مسلك العلماء المؤلفين. قال المناوي
في التعريفات في حقيقة الحمد: إن الحمد اللغوي الوصف بفضيلة على فضيلة على جهة
التعظيم باللسان. والحمد العرفي فعل يشعر بتعظيم المنعم لكونه منعما. والحمد القولي حمد اللسان
وثناؤه على الحق بما أثنى به على نفسه على لسان أنبيائه ورسله. والحمد الفعلي الاتيان بالاعمال
البدنية ابتغاء وجه الله تعالى. وذكر الشارح التعريف المعروف للحمد بأنه لغة: الوصف
بالجميل على الجميل الاختياري، واصطلاحا: الفعل الدال على تعظيم المنعم من حيث إنه منعم
واصلة تلك المنعمة أو غير واصلة. والله هو الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد
(على نعمه) جمع نعمة. قال الرازي: النعمة المنفعة المفعولة على جهة الاحسان إلى الغير.
وقال الراغب: النعمة ما قصدت به الاحسان في النفع. والانعام: إيصال الاحسان الظاهر
إلى الغير (الظاهرة والباطنة) مأخوذ من قوله تعالى - وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة - وقد
7

أخرج البيهقي في شعب الايمان عن عطاء قال: سألت ابن عباس عن قول تعالى - وأسبغ
عليكم نعمه ظاهرة وباطنة - قال: هذا من كنوز علمي سألت رسول الله (ص)
فقال: أما الظاهرة فما سوى من خلقك، وأما الباطنة فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك
أهلك فمن سواهم: وأخرج أيضا عنه والديلمي وابن النجار: سألت رسول الله (ص)
عن هذه الآية فقال: أما الظاهرة فالاسلام وما سوى من خلقك وما أسبغ عليك من
رزقه، وأما الباطنة فما ستر من عملك: وفى رواية عنه موقوفة: النعمة الظاهرة الاسلام، والباطنة
ما ستر عليك من الذنوب والعيوب والحدود: أخرجها ابن مردويه عنه. وفى رواية عنه موقوفة
أيضا: النعمة الظاهرة والباطنة هي لا إله إلا الله: أخرجها عنه ابن جرير وغيره. وتفسيرهما
ما قاله مجاهد: نعمة ظاهرة هي لا إله إلا الله على اللسان، وباطنة قال في القلب. أخرجها
سعيد بن منصور وابن جرير، وفسرهما الشارح بما هو معروف، ورأينا التفسير المرفوع
وتفسير السلف أولى بالاعتماد (قديما وحديثا) منصوبان على أنهما حالان من نعمه ولم يؤنث
لان الجمع لما أضيف صار للجنس فكأنه قال على جنس نعمه، ويحتمل النصب على
الظرفية، وأنهما صفة لزمان محذوف، أي زمانا قديما وزمانا حديثا. والقديم على عبده من
حين نفخ الروح فيه ثم في كل آن من آنات زمانه فهي مسبغة عليه في قديم زمانه وحديثه
وحال تكلمه، ويحتمل أن يراد بقديم: النعم التي أنعم بها على الاباء فإنها نعم على الأبناء، كما
أمر الله بني إسرائيل بذكر نعمته التي أنعم بها على آبائهم فقال - يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي
التي أنعمت عليكم - الآيات في مواضع من القرآن، أشار إليه الشارح رحمه الله إلا أنه قال
- يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله - الآية والتلاوة نعمتي فكأنه سبق قلم، ويراد بالحديث
ما أنعم الله به تعالى على عبده من حين نفخ الروح فيه، فهي حادثة نظرا إلى النعمة على
الاباء (والصلاة) عطف اسمية على أسميته وهل هما خبريتان أو انشائيتان فيه خلاف بين
المحققين، والحق أنهما خبريتان لفظا يراد بهما الانشاء. ولما كانت الكمالات الدينية والدنيوية
وما فيه صلاح المعاش والمعاد فائضة من الجناب الأقدس على العباد بواسطة هذا الرسول
الكريم ناسب أرداف الحمد لله بالصلاة عليه والتسليم لذلك وامتثالا لآية - يا أيها الذين آمنوا
صلوا عليه وسلموا تسليما - ولحديث: كل كلام لا يذكر الله فيه ولا يصلى فيه على فهو أقطع
أكتع ممحوق البركة: ذكره في الشرح ولم يخرجه، وفى الجامع الكبير أنه أخرجه الديلمي
والحافظ عبد القادر بن عبد الله الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة، قال الرهاوي: غريب
تفرد بذكر الصلاة فيه إسماعيل بن أبي زياد الشامي وهو ضعيف جدا لا يعتد بروايته ولا
بزيادته انهى. والصلاة من الله لرسوله تشريفه وزيادة تكرمته، فالقائل. اللهم صل على
محمد طالب له زيادة التشريف والتكرمة، وقيل المراد منها آية الوسيلة وهي لي طلب صلى
الله عليه وسلم من العباد أن يسألوها له كما يأتي في الأذان (والسلام) قال الراغب: السلام
والسلامة التعري من الآفات الباطنة والظاهرة. الحقيقية لا تكون إلا في الجنة لان فيها
8

بقاء بلا فناء، وغناء بلا فقر، وعز بلا ذل، وصحة بلا سقم (على نبيه) يتنازع فيه
المصدران قبله. والنبي من النبوة وهي الرفعة فعيل بمعنى مفعل: أي المنى عن الله بما تسكن
إليه العقول الزاكية. والنبوة سفارة بين الله وبين ذوي العقول من عباده لإزاحة عللهم في معاشهم
ومعادهم (ورسوله) في الشرح النبوي في لسان الشرع عبارة عن انسان أنزل عليه شريعة من
عند الله بطريق الوحي، فإذا أمر بتبليغها إلى الغير سمى رسولا. وفى أنوار التنزيل: الرسول
من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها والنبي أعم منه، والإضافة إلى ضميره تعالى
في رسول وما قبله عهدية، إذا المعهود هو محمد (ص) وزاده بيانا قوله (محمد)
فإنه عطف بيان على نبيه وهو علم مشتق من حمد مجهول مشدد العين أي كثير الخصال التي
يحمد عليها أكثر مما يحمد غيره من البشر، فهو أبلغ من محمود لان هذا مأخوذ من المزيد
وذاك من الثلاثي، وأبلغ من أحمد لأنه أفعل تفضيل مشتق من الحمد. وفيه قولان: هل هو أكثر
حامدية لله تعالى فهو أحمد الحامدين لله؟ أو هو بمعنى أكثر محمودية فيكون كمحمد في معناه؟
وفى المسألة خلاف وجدال والمختار ما ذكرناه أولا وقرره المحققون وأطال فيه ابن القيم في أوائل
زاد المعاد (وآله) والدعاء للآل بعد الدعاء له (ص) امتثالا الحديث التعليم وسيأتي
في الصلاة وللوجه الذي سنذكره قريبا (وصحبه) اسم جمع لصاحب. وفى المراد بهم أقوال
اختار المصنف في نخبة الفكر أن الصحابي من لقي النبي (ص) وكان مؤمنا ومات
على الاسلام. ووجه الثناء عليهم وعلى الال بالدعاء لهم هو الوجه في الثناء عليه (ص)
بعد الثناء على الرب لأنهم الواسطة في إبلاغ الشرائع إلى العباد فاستحقوا الاحسان
إليهم بالدعاء لهم (الذين ساروا في نصرة دينه) هو صفة للفريقين الال والأصحاب. والسير
مراد به هنا الجد والاجتهاد والنصر. والنصرة العون. والدين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول
إلى القبول لما جاء به الرسول، والمراد أنهم أعانوا صاحب الدين المبلغ وهو الرسول. وفى
وصفهم بهذا إشارة إلى أنهم استحقوا الذكر والدعاء بذلك (سيرا) مصدر نوعي لوصفه بقوله
(حثيثا) فان المصدر إذا أضيف أو وصف كان للنوع والحثيث السريع كما في القاموس وفى
نسخة (في صحبته) وهو عوض من قوله في نصرة دينه (وعلى أتباعهم) أتباع: الآل والأصحاب
(الذين ورثوا علمهم) وهو علم الكتاب والسنة (والعلماء ورثة الأنبياء) وهو اقتباس من حديث
العلماء ورثة الأنبياء أخرجه أبو داود وقد ضعف وإليه أشار بعض علماء الآل بقوله:
العلم ميراث النبي كذا أتى * في النص والعلماء هم وراثه
ما خلف المختار غير حديثه * فينا فذاك متاعه وأثاثه
(أكرم) فعل تعجب (بهم) فاعله والباء زائدة أو مفعول به وفيه ضمير فاعله (وارثا)
نصب على التمييز وهو ناظر إلى الاتباع، ثم قال (ومورثا) ناظر إلى من تقدمهم. وفيه
من البديع اللف والنشر مشوشا ويحتمل عود الصفتين إلى الكل من الآل والأصحاب والاتباع،
فان الآل والأصحاب ورثوا علم رسول الله (ص) وورثوه الاتباع فهم وارثون وموروثون
9

وكذلك الاتباع ورثوا علوم من تقدمهم وورثوا أيضا أتباع الاتباع ولعل هذا أولى لعمومه (اما) هي
حرف شرطه وقوله (بعد) قائم مقام شرطها، وبعد ظرف له ثلاث حالات إضافته فيعرب
كقوله تعالى - قد خلت قبلكم أمم - وقطعه عن الإضافة مع نية المضاف إليه فيبنى على الضم
نحو - لله الامر من قبل ومن بعد - وقطعه مع عدم نية المضاف إليه فيعرب منونا كقوله:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا
أكاد أغص بالماء الفرات
(فهذا) الفاء جواب الشرط، واسم الإشارة لما في الذهن من الألفاظ والمعاني (مختصر)
وفى القاموس: اختصر الكلام أو جزه (يشتمل) يحتوى (على أصول) جمع أصل وهو أسفل
الشئ كما في القاموس، وفسره في الشرح بما هو معروف: بما ينبئ عليه غيره (الأدلة) جمع
دليل وهو في اللغة المرشد إلى المطلوب، وعند الأصوليين ما يمكن التوصل بالنظر الصحيح
فيه إلى مطلوب خبري، وعند أهل الميزان: ما يلزم من العلم به العلم بشئ آخر. وإضافة
الأصول إلى الأدلة بيانية: أي أصول هي الأدلة وهي أربعة: الكتاب والسنة والاجماع والقياس
(الحديثية) صفة للأصول مخصصة عن غير الحديثية وهي نسبة إلى حديث رسول الله (ص)
(للأحكام) جمع حكم. وهو عند أهل الأصول خطاب الله المتعلق بأفعال المكلف
من حيث أنه مكلف وهي خمسة: الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة (الشرعية)
وصف للأحكام يخصصها أيضا عن العقلية، والشرع ما شرعه الله لعباده كما في القاموس. وفى
غيره نهج الطريق الواضح، واستعير للطريقة الإلهية من الدين (حررته) بالمهملات والضمير
للمختصر، وفى القاموس تحرير الكلام وغيره تقويمه، وهو يناسب قول الشارح تهذيب
الكلام وتنقيحه (تحريرا) مصدر نوعي لوصفه بقوله (بالغا) بالغين المعجمة. وفى القاموس:
البالغ الجيد (ليصير) علة لحررته (من يحفظه من بين أقرانه) جمع قرن بكسر القاف وسكون
الراء وهو الكفء والمثل (نابغا) بالنون وموحدة ومعجمة من نبغ. قال في القاموس: النابغة
الرجل العظيم الشأن (ويستعين) عطف على ليصير (به الطالب) لأدلة الأحكام الشرعية
الحديثية (المبتدئ) فإنه قد قرب له الأدلة وهذبها (ولا يستغنى عنه الراغب) في العلوم
(المنهى) البالغ نهاية مطلوبه لان رغبته تبعثه على أن لا يستغنى عن شئ فيه سيما ما قد هذب
وقرب (وقد بينت عقب) من عقبه إذا خلفه كما في القاموس أي في آخر (كل حديث من
أخرجه من الأئمة) من ذكر إسناده وسياق طرقه (لإرادة نصح الأمة) علة لذكره من خرج
الحديث. وذلك أن في ذكر من أخرجه عدة نصائح للأمة منها: بيان أن الحديث ثابت
في دواوين الاسلام، ومنها أنه قد تداولته الأئمة الاعلام، ومنها أنه قد تتبع طرقه وبين
ما فيها من مقال من تصحيح وتحسين واعلال، ومنها إرشاد المنهى أن يراجع أصولها التي منها
انتقى هذا المختصر. وكان يحسن أن يقول المصنف بعد قوله من أخرجه من الأئمة وما قبل
في الحديث من تصحيح وتحسين وتضعيف فإنه يذكر ذلك بعد ذكر من خرج الحديث
في غالب الأحاديث كما ستعرفه (فالمراد) أي مرادي (بالسبعة) لأنه ليس مراد الكل مصنف
10

ولا هو جنس المراد بل اللام عوض عن الإضافة والفاء جواب شرط محذوف: أي إذا عرفت
ما ذكرته فالمراد بالسبعة حيث يقول عقيب الحديث: أخرجه السبعة هم الذين بينهم بالابدال
من لفظ العدد (أحمد) هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، وقد وسع الشارح وسع الله
عليه في تراجم السبعة فنقتصر على قدر يعرف به شريف صفاتهم، وأزمنة ولادتهم ووفاتهم،
فنقول: ولد أحمد بن محمد بن حنبل في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة. وطلب
هذا الشأن صغيرا ورحل لطلبه إلى الشام والحجاز واليمن وغيرها حتى أجمع على إمامته وتقواه
وورعه وزهادته. قال أبو زرعة: كانت كتبه اثنى عشر جملا وكان يحفظها عن ظهر قبله،
وكان يحفظ ألف ألف حديث. وقال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أتقى
ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم منه، وألف المسند الكبير أعظم المسانيد وأحسنها وضعا وانتقادا
فإنه لم يدخل فيه إلا ما يحتج به مع كون انتفاه من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف
حديث. وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائتين على الصحيح ببغداد مدينة السلام وقبره
بها معروف مزور. وقد ألفت في ترجمة كتب مستقلة بسيطة (والبخاري) هو الامام القدوة
في هذا الشأن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، مولده في شوال سنة أربع وتسعين ومائة
طلب هذا الشأن صغيرا، ورد على بعض مشايخه غلطا وهو في إحدى عشرة سنة فأصلح
كتابه من حفظه. سمع الحديث ببلدة بخارى ثم رحل إلى عدة أماكن وسمع الكثير وألف
الصحيح منه من زهاء ستمائة ألف حديث، ألفه بمكة وقال: ما أدخلت فيه إلا صحيحا
وأحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حدث غير صحيح، وقد ذكر تأويل هذه العدة
في الشرح، وقد أفردت ترجمة بالتأليف وذكر المصنف منها شطرا صالحا في مقدمة فتح
الباري. وكانت وفاته بقرية سمرقند وقت العشاء ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين
ومائتين عن اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما، ولم يخلف ولدا (ومسلم) هو الامام
الشهير مسلم بن الحجاج القشيري أحد أئمة هذا الشأن. ولد سنة أربع ومائتين، وطلب علم
الحديث صغيرا، وسمع من مشايخ الباري وغيرهم، وروى عنه أئمة من كبار عصره
وحفاظه، وألف المؤلفات النافعة، وأنفعها صحيحه، الذي فاق بحسن ترتيبه وحسن سياقه
وبديع طريقته، وحاز نفائس التحقيق، وللعلماء في المفاضلة بينه وبين صحيح البخاري،
خلاف، وأنصف بعض العلماء في قوله
تشاجر قوم في البخاري ومسلم * لدى وقالوا: أي ذين تقدم
قلت: لقد فاق البخاري صحة * كما فاق في حسن الصناعة مسلم
وكانت وفاته عشية الأحد الأربع بقين من شهر رجب سنة إحدى وستين ومائتين، ودفن
يوم الاثنين بنيسابور وقبره بها مشهور مزور (وأبو داود) هو سليمان بن الأشعث السجستاني
مولده سنة اثنتين ومائتين، سمع الحديث من أحمد والقعنبي وسليمان بن حرب وغيرهم، وعنه
خلائق كالترمذي والنسائي. وقال: كتبت عن النبي (ص) خمسمائة ألف
11

حديث انتخبت منها ما تضمنه كتا السنن وأحاديثه أربعة آلاف حديث وثمانمائة ليس
فيها حديث، أجمع الناس على تركه روى سننه ببغداد وأخذها أهلها عنه، وعرضها على أحمد
فاستجادها واستحسنها. قال الخطابي: هي أحسن وضعا وأكثر فقها من الصحيحين. وقال
ابن الاعرابي: من عنده كتاب الله وسنن أبي داود لم يحتج إلى شئ معهما من العلم، ومن ثم
صرح الغزالي بأنها تكفى المجتهد في أحاديث الاحكام وتبعه أئمة على ذلك. وكانت وفاة
أبى داود سنة خمس وسبعين ومائتين بالبصرة (والترمذي) هو أبو عيسى محمد بن عيسى
ابن سورة الترمذي مثلث الفوقية والميم مصمومة ومكسورة نسبة إلى مدينة قديمة على طرف
جيحون نهر بلخ، لم يذكر الشارح ولادته ولا الذهبي ولا ابن الأثير، وسمع الحديث عن
البخاري وغيره من مشايخ الباري، وكان أماما ثبتا حجة، وألف كتاب السنن وكتاب
العلل وكان ضريرا. قال: عرضت كتابي هذا: أي كتاب السنن المسمى بالجامع على علماء
الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به. ومن كان في بيته فكأنما في بيته نبي يتكلم. قال الحاكم:
سمعت عمر بن علك يقول: مات البخاري ولم يخلف بخراسان مثل أبى عيسى في العلم والحفظ
والورع والزهد، وكانت وفاته بترمذ أواخر رجب سنة سبع وستين ومائتين (والنسائي) هو
أحمد بن شعيب الخراساني، ذكر الذهبي أن مولده سنة خمس عشرة ومائتين، وسمع من
سعيد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة هذا الشأن بخراسان والحجاز والعراق ومصر والشام
والجزيرة، وبرع في هذا الشأن وتفرد بالمعرفة والاتقان وعلو الاسناد واستوطن مصر. قال أئمة
الحديث: إنه كان أحفظ من مسلم صاحب الصحيح. وسننه أقل السنن بعد الصحيحين
حديثا ضعيفا. واختار من سننه كتاب المجتبى لما طلب منه أن يفرد الصحيح من السنن.
وكانت وفاته يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من شهر صفر سنة ثلاث وثلاثمائة بالرملة ودفن
بيت المقدس، ونسبته إلى نساء بفتح النون وفتح السين المهملة بعدها همزة وهي مدينة
بخراسان خرج منها جماعة من الأعيان (وابن ماجة) هو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن عبد الله
ابن ماجة القزويني. مولده سنة سبع ومائتين، وطلب هذا الشأن ورحل في طلبه وطاف
البلاد حتى سمع أصحاب مالك والليث، وروى عنه خلائق، وكان أحد الاعلام
وألف السنن وليست لها رتبة ما ألف من قبله، لان فيها أحاديث ضعيفة بل منكرة، ونقل عن الحافظ المزي أن غالب ما انفرد به الضعف، ولذا جرى كثير من القدماء على إضافة
الموطأ إلى الخمسة. قال المصنف: وأول من أضاف ابن ماجة إلى الخمسة أبو الفضل
ابن طاهر في الأطراف، كذا في شروط أئمة السنة، ثم الحافظ عبد الغنى في كتابه أسماء
الرجال. وكانت وفاته يوم الثلاثاء لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث أو خمس وسبعين
ومائتين (وبالستة) أي والمراد بالستة إذا قال: أخرجه الستة (من عدا أحمد) وهم المعروفون
بأهل الأمهات الست (وبالخمسة من عدا البخاري ومسلما. وقد أقول) عوضا عن قوله
الخمسة (الأربعة) وهم أصحاب السنن إذا قيل أصحاب السنن (وأحمد و) المراد (بالأربعة) عند
12

اطلاقه لهم (من عدا الثلاثة الأول) الشيخين وأحمد (و) المراد (بالثلاثة) عند إطلاقه لهم
(من عداهم) أي من عدا الشيخين وأحمد، والذي عداهم هم الأربعة أصحاب السنن (وعدا
الأخير) وهو ابن ماجة، فيراد بالثلاثة أبو داود والترمذي والنسائي (و) المراد (بالمتفق) إذا
قال متفق عليه (البخاري ومسلم) فإنهما إذا أخرجا الحديث جميعا من طريق صحابي واحد
قيل له متفق عليه: أي بين الشيخين (وقد لا أذكر معهما) أي الشيخين (غيرهما) كأنه
يريد أنه قد يخرج الحديث السبعة أو أقل فيكتفى بنسبته إلى الشيخين (وما عدا ذلك) أي
ما أخرجه غير من ذكر كأب خزيمة والبيهقي والدارقطني (فهو مبين) بذكره صريحا.
(وسميته) أي المختصر (بلوغ المرام) هو من بلغ المكان بلوغا وصل إليه كما في القاموس،
والمرام الطلب، والمعنى الإضافي وصول الطلب بمعنى المطلوب: أي فالمراد وصولي إلى
مطلوبي (من جمع أدلة الاحكام) ثم جعله اسما المختصرة، ويحتمل أنه إضافة إلى مفعول
المصدر: أي بلوغ الطالب مطلوبه من أدلة الاحكام (والله) بالنصب مفعول (أسأله) قدم
عليه الإفادة الحصر: أي لا أسأل غيره (أن لا يجعل ما علمناه علينا وبالا) بفتح الواو: هو
الشدة والثقل كما في القاموس: أي لا يجعله شدة في الحساب وثقلا من جملة الأوزار، إذ
الأعمال الصالحة إذا لم تخلص لوجه الله انقلبت أوزارا وآثاما (وأن يرزقنا للعمل بما يرضيه
سبحانه وتعالى) أنزهه عن كل قبيح، وأثبت له العلو على كل عال في جميع صفاته، وكثيرا
ما قرن التسبيح بصفة العلو كسبحان ربى الأعلى. وسبح اسم ربك الأعلى.
13

كتاب الطهارة
الكتاب والطهارة في الأصل: مصدران أضيفا اسما لمسائل الفقه، تشتمل
على مسائل خاصة. وبدأ بالطهارة اتباعا لسنة المصنفين فذلك، وتقديما للأمور الدينية على
غيرها، واهتماما بأهمها وهي الصلاة. ولما كانت الطهارة شرطا من شروطها بدأ بها، وهي
اسم مصدر: أي: طهر تطهيرا وطهارة، مثل: كلم تكليما وكلاما. وحقيقتها: استعمال
المطهرين: أي الماء والتراب، أو أحدهما، على الصفة المشروعة في إزالة النجس، والحدث
، لان الفقيه إنما يبحث عن أحوال أفعال المكلفين من الوجوب وغيره. ثم لما كان الماء هو المأمور
بالتطهر به أصالة قدمه فقال:
باب المياه
الباب لغة: ما يدخل ويخرج منه. قال تعالى - ادخلوا عليهم الباب - وأتوا البيوت من
أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) *. وهو هنا مجاز، شبه الدخول إلى الخوض في مسائل مخصوصة بالدخول في الأماكن
المحسوسة، ثم أثبت لها الباب. والمياه: جمع ماء، وأصله: موه ولذا ظهرت الهاء في جمعه، وهو
جنس يقع على القليل والكثير، إلا أنه جمع لاختلاف أنواعه باعتبار حكم الشرع، فإن فيه
ما ينهى عنه وفيه ما يكره. وباعتبار الخلاف أيضا في بعض المياه كماء البحر، فإنه نقل
الشارح الخلاف في التطهر به عن ابن عمر، وابن عمرو. وفي النهاية: أن في كون ماء
البحر مطهرا خلافا لبعض أهل الصدر الأول، وكأنه لقدم الخلاف فيه بدأ المصنف بحديث
يفيد طهوريته، وهو حجة الجماهير.
(عن أبي هريرة رضي الله عنه) الجار والمجرور متعلق بمقدر كأنه قال: باب المياه
أروي فيه، أو أذكر، أو نحو ذلك حديثا عن أبي هريرة. وهو الأول من أحاديث الباب.
وأبو هريرة هو الصحابي الجليل الحافظ المكثر، واختلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين
قولا. قال ابن عبد البر: الذي تسكن النفس إليه من الأقوال: أنه عبد الرحمن بن صخر، وبه
قال محمد بن إسحاق. وقال الحاكم أبو أحمد: ذكر لأبي هريرة في مسند بقي بن مخلد خمسة
آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا. وهو أكثر الصحابة حديثا، فليس لأحد
من الصحابة هذا القدر، ولا ما يقاربه. قلت: كذا في الشرح. والذي رأيته في الاستيعاب،
لابن عبد البر بلفظ: إلا أن عبد الله أو عبد الرحمن هو الذي يسكن إليه القلب في اسمه في الاسلام
ثم قال فيه - أي الاستيعاب -: مات في المدينة سنة تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة،
ودفن بالبقيع. وقيل: مات بالعقيق، وصلى عليه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ
أميرا على المدينة، كما قاله ابن عبد البر. (قال: قال رسول الله (ص) في البحر)
أي: في حكمه، والبحر: الماء الكثير، أو المالح فقط كما في القاموس، وهذا اللفظ ليس من
14

مقوله (ص)، بل مقوله: (هو الطهور) بفتح الطاء، هو المصدر واسم ما يتطهر به
أو: الطاهر المطهر كما في القاموس. وفي الشرع: يطلق على المطهر، بالضم مصدر. وقال
سيبويه: إنه بالفتح لهما، ولم يذكره في القاموس بالضم (ماؤه) هو فاعل المصدر، وضمير
ماؤه يقتضي أنه أريد بالضمير في قوله: هو الطهور: البحر يعني مكانه، إذ لو أريد به الماء
لما احتيج إلى قوله: ماؤه، إذ يصير في معنى الماء طهور ماؤه، (الحل) هو مصدر حل الشئ
ضد حرم، ولفظ الدارقطني الحلال (ميتته) هو فاعله أيضا (أخرجه الأربعة، وابن
أبي شيبة) هو أبو بكر. قال الذهبي في حقه: الحافظ العديم النظير الثبت النحرير، عبد الله
بن محمد بن أبي شيبة، صاحب المسند والمصنف وغير ذلك، وهو من شيوخ البخاري
، ومسلم، وأبي داود، وابن ماجة (واللفظ له) أي: لفظ الحديث السابق سرده لابن أبي شيبة، وغيره
ممن ذكر أخرجوه بمعناه. (وصححه ابن خزيمة) بضم الخاء المعجمة فزاي بعدها مثناة
تحتية فتاء تأنيث. قال الذهبي: الحافظ الكبير إمام الأئمة شيخ الاسلام، أبو بكر محمد بن
إسحاق بن خزيمة، انتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان (و) صححه (الترمذي)
أيضا فقال عقب سرده: هذا حديث صحيح. هذا لفظ الترمذي، كما في مختصر السنن للحافظ المنذري.
وحقيقة الصحيح عند المحدثين ما نقله عدل تام الضبط، عن مثله، متصل السند، غير معل
، ولا شاذ. هذا، وقد أخرج المصنف هذا الحديث في التلخيص من تسع طرق عن تسعة من
الصحابة، ولم تخل طريق منها عن مقال، إلا أنه قد جزم بصحته من سمعت، وصححه ابن
عبد البر، وصححه ابن منده، وابن المنذر، وأبو محمد البغوي. قال المصنف: وقد حكم بصحة
جملة من الأحاديث لا تبلغ درجة هذا ولا تقاربه. قال الزرقاني في شرح الموطأ: وهذا
الحديث أصل من أصول الاسلام، تلقته الأمة بالقبول، وتداوله فقهاء الأمصار في سائر الأعصار
في جميع الأقطار، ورواه الأئمة الكبار. ثم عد من رواه، ومن صححه. والحديث وقع
جوابا عن سؤال كما في الموطأ: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل وفي مسند أحمد
: من بني مدلج وعند الطبراني اسمه عبد الله، إلى رسول الله (ص)، فقال:
يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ به؟
وفي لفظ أبي داود: بماء البحر فقال رسول الله (ص): هو الطهور ماؤه
الحل ميتته. فأفاد (ص) أن ماء البحر طاهر مطهر، لا يخرج عن الطهورية
بحال، إلا ما سيأتي من تخصيصه بما إذا تغير أحد أوصافه، ولم يجب (ص) بقوله
: نعم، مع إفادتها الغرض، بل أجاب بهذا اللفظ ليقرن الحكم بعلته، وهي الطهورية المتناهية في بابها
، وكأن السائل لما رأى ماء البحر خالف المياه بملوحة طعمه، ونتن ريحه، توهم أنه غير مراد
من قوله تعالى: * () * أي بالماء المعلوم إرادته من قوله: * () * أو أنه لما عرف من قوله
تعالى: * (ع 49 س 25 ش 48 <وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * ظن اختصاصه، فسأل عنه، فأفاده (ص)
15

الحكم، وزاده حكما لم يسأل عنه، وهو حل ميتته. قال الرافعي: لما عرف (ص)
اشتباه الامر على السائل في ماء البحر، أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته. وقد يبتلى بها راكب
البحر، فعقب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة. قال ابن العربي: وذلك من محاسن
الفتوى، أن يجاء في الجواب بأكثر مما سئل عنه، تتميما للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول
عنه. ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم، كما هنا، لان من توقف في طهورية
ماء البحر، فهو عن العلم بحل ميتته مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفا. ثم المراد بميتته: ما مات فيه
من دوابه: مما لا يعيش إلا فيه. لا ما مات فيه مطلقا، فإنه وإن صدق عليه لغة أنه ميتة بحر
، فمعلوم أنه لا يراد إلا ما ذكرنا وظاهره حل ما مات فيه، ولو كان كالكلب والخنزير
، ويأتي الكلام في ذلك فبابه إن شاء الله تعالى.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إن الماء طهور لا ينجسه شئ أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد. (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه) اسمه سعد بن مالك بن سنان الخزرجي
الأنصاري الخدري. بضم الخاء المعجمة ودال مهملة ساكنة نسبة إلى خدرة حي من
الأنصار كما في القاموس. قال الذهبي: كان من علماء الصحابة، وممن شهد بيعة الشجرة،
وروى حديثا كثيرا، وأفتى مدة. عاش أبو سعيد ستا وثمانين سنة، ومات في أول سنة أربع
وسبعين، وحديثه كثير وحدث عنه جماعة من الصحابة، وله في الصحيحين أربعة وثمانون
حديثا. (قال: قال رسول الله (ص): إن الماء طهور لا ينجسه شئ.
أخرجه الثلاثة) هم أصحاب السنن، ما عدا ابن ماجة، كما عرفت (وصححه أحمد) قال الحافظ
المنذري في مختصر السنن: - إنه تكلم فيه بعضهم، لكن قال: حكي عن الإمام أحمد أنه قال:
حديث بئر بضاعة صحيح. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد جود أبو أسامة هذا الحديث
، ولم يرو حديث أبي سعيد في بئر بضاعة بأحسن مما روى أبو أسامة. وقد روي
هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد. والحديث له سبب وهو: أنه قيل لرسول الله
(ص): أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلأ ب والنتن؟
فقال: الماء طهور الحديث، هكذا في سنن أبي داود، وفي لفظ فيه: إن الماء كما ساقه
المصنف. واعلم أنه قد أطال هنا في الشرح المقال، واستوفى ما قيل في حكم المياه من الأقوال،
ولنقتصر في الخوض في المياه على قدر يجتمع به شمل الأحاديث، ويعرف به مأخذ الأقوال
ووجوه الاستدلال فنقول: قد وردت أحاديث يؤخذ منها أحكام المياه، فمنها: حديث: الماء
طهور لا ينجسه شئ. وحديث: إذ بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. وحديث
: الامر بصب ذنوب من ماء على بول الاعرابي في المسجد. وحديث: إذا استيقظ
أحدكم فلا يدخل يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا. وحديث: لا يبولن أحدكم
في الماء الدائم ثم يغتسل فيه. وحديث: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم الحديث
. وفيه الامر بإراقة الماء الذي ولغ فيه. وهي أحاديث ثابتة ستأتي جميعها في كلام
16

المصنف. إذا عرفت هذا، فإنه اختلفت آراء العلماء رحمهم الله تعالى، في الماء إذا خالطته نجاسة
، ولم تغير أحد أوصافه: فذهب القاسم، ويحيى بن حمزة، وجماعة من الآل، ومالك، والظاهرية
وأحمد في أحد قوليه، وجماعة من أصحابه إلى: أنه طهور، قليلا كان أو كثيرا، عملا بحديث: الماء
طهور وإنما حكموا بعدم طهورية ما غيرت النجاسة أحد أوصافه، للاجماع على ذلك، كما يأتي الكلام عليه قريبا. وذهب الهادوية، والحنفية، والشافعية إلى قسمة الماء إلى قليل تضره النجاسة
مطلقا، وكثير لا تضره، إلا إذا غيرت بعض أوصافه، ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد القليل
والكثير. فذهب الهادوية إلى تحديد القليل بأنه: ما ظن المستعمل للماء الواقعة فيه النجاسة
استعمالها باستعماله، وما عدا ذلك فهو الكثير. وذهب الحنفية إلى تحديد الكثير من الماء:
بما إذا حرك أحد طرفيه آدمي، لم تسر الحركة إلى الطرف الآخر، وهذا رأي الامام، وأما رأي
صاحبيه، فعشرة في عشرة، وما عداه فهو القليل. وذهب الشافعية إلى تحديد الكثير من الماء
بما بلغ قلتين من قلال هجر وذلك نحو خمسمائة رطل، عملا بحديث
القلتين، وما عداه فهو القليل. ووجه هذا الاختلاف تعارض الأحاديث التي أسلفناها: فإن حديث الاستيقاظ،
وحديث الماء الدائم يقضيان: أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء، وكذلك حديث الولوغ
، والامر بإراقة ماء ولغ الكلب فيه. وعارضها حديث بول الاعرابي، والامر بصب ذنوب من ماء
عليه، فإنه يقتضي أن قليل النجاسة لا ينجس قليل الماء. ومن المعلوم أنه قد طهر ذلك الموضع
الذي وقع عليه بول الاعرابي بذلك الذنوب، وكذلك قوله: الماء طهور لا ينجسه
شئ فقال الأولون وهم القائلون: لا ينجسه شئ، إلا ما غير أحد أوصافه: يجمع بين الأحاديث
بالقول بأنه لا ينجسه شئ، كما دل له هذا اللفظ، ودل عليه حديث بول الاعرابي. وأحاديث
الاستيقاظ، والماء الدائم، والولوغ ليست واردة لبيان حكم نجاسة الماء، بل الامر باجتنابها
تعبدي، لا لأجل النجاسة، وإنما هو لمعنى لا نعرفه، كعدم معرفتنا لحكمة أعداد الصلوات ونحوها
. وقيل: بل النهي في هذه الأحاديث للكراهة فقط، وهي طاهرة مطهرة. وجمع الشافعية بين
الأحاديث بأن حديث لا ينجسه شئ محمول على ما بلغ القلتين فما فوقهما وهو
كثير، وحديث الاستيقاظ، وحديث الماء الدائم محمول على القليل. وعند الهادوية: أن
حديث الاستيقاظ محمول على الندب فلا يجب غسلهما له. وقالت الحنفية: المراد بلا ينجسه
شئ: الكثير الذي سبق تحديده. وقد أعلوا حديث القلتين بالاضطراب، وكذلك أعله الإمام المهدي
في البحر. وبعضهم تأوله، وبقية الأحاديث في القليل، ولكنه ورد عليهم حديث بول
الاعرابي، فإنه كما عرفت دل على أنه لا يضر قليل النجاسة قليل الماء، فدفعته الشافعية: بالفرق
بين ورود الماء على النجاسة، وورودها عليه فقالوا: إذا وردت على الماء نجسته، كما في
حديث الاستيقاظ، وإذا ورد عليها الماء لا تضره، كما في خبر بول الاعرابي. وفيه بحث
حققناه في حواشي شرح العمدة، وحواشي ضوء النهار. وحاصله: أنهم حكموا: أنه إذا وردت
النجاسة على الماء القليل نجسته، وإذا ورد عليها الماء القليل لم ينجس، فجعلوا علة عدم تنجس
الماء الورود على النجاسة وليس كذلك بل التحقيق أنه حين يرد الماء على النجاسة يرد عليها
17

شيئا فشيئا حتى يفني عينها وتذهب قبل فنائه، فلا يأتي اخر من الماء الوارد على النجاسة
إلا وقد طهر المحل الذي اتصلت به، أو بقي فيه جزء منها يفنى ويتلاشى، عند ملاقاة آخر جزء
منها يرد عليه الماء، كما تفنى النجاسة وتتلاشى إذا وردت على الماء الكثير بالاجماع، فلا فرق
بين هذا وبين الكثير في إفناء الكل للنجاسة، فإن الجزء الأخير الوارد على النجاسة يحيل
عينها لكثرته بالنسبة إلى ما بقي من النجاسة، فالعلة في عدم تنجسه بوروده عليها: هي كثرته
بالنسبة إليها، لا الورود، فإنه لا يعقل التفرقة بين الورودين: بأن أحدهما ينجسه دون الاخر. وإذا
عرفت ما أسلفناه، وأن تحديد الكثير والقليل لم ينهض على أحدهما دليل. فأقرب الأقاويل بالنظر إلى
الدليل: قول القاسم بن إبراهيم، ومن معه، وهو قول جماعة من الصحابة، كما هو في البحر، وعليه عدة
من أئمة الال المتأخرين، واختاره منهم الامام شرف الدين. وقال ابن دقيق العيد: إنه قول
لأحمد، ونصره بعض المتأخرين من أتباعه، ورجحه أيضا من أتباع الشافعي: القاضي أبو الحسن الروياني
، صاحب بحر المذهب قاله في الامام. وقال ابن حزم في المحلى: إنه روي عن عائشة
أم المؤمنين، وعمر بن الخطاب، و عبد الله بن مسعود، وابن عباس، والحسن بن علي بن أبي طالب،
وميمونة أم المؤمنين، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان، والأسود بن يزيد، و عبد الرحمن أخيه، وابن أبي ليلى،
وسعيد بن جبير، وابن المسيب، ومجاهد، وعكرمة، والقاسم بن محمد، والحسن البصري، وغير هؤلاء.
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله (ص): إن الماء لا ينجسه شئ إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه أخرجه ابن ماجة، وضعفه أبو حاتم. وللبيهقي: الماء طهور إلا إن تغير ريحه، أو طعمه، أو لونه بنجاسة تحدث فيه.
(وعن أبي أمامة) بضم الهمزة، واسمه صدي بمهملتين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة
ومثناة تحتية مشددة (الباهلي) بموحدة نسبة إلى باهلة، في القاموس: باهلة: قوم، واسم أبيه عجلان.
قال ابن عبد البر: لم يختلفوا في ذلك، يعني في اسمه واسم أبيه. سكن أبو أمامة مصر،
ثم انتقل عنها وسكن حمص، ومات بها سنة إحدى. وقيل: سنة ست وثمانين وقيل: هو
اخر من مات من الصحابة بالشام. كان من المكثرين في الرواية عنه (ص) (رضي
الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إن الماء لا ينجسه شئ إلا
ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) المراد: أحدها كما يفسره حديث البيهقي (أخرجه ابن ماجة
وضعفه أبو حاتم) قال الذهبي في حقه: أبو حاتم هو الرازي الامام الحافظ الكبير، محمد
بن إدريس بن المنذر الحنظلي، أحد الاعلام، ولد سنة خمس وتسعين ومائة، وأثنى عليه إلى
أن قال: قال النسائي: ثقة. توفي أبو حاتم في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين، وله اثنتان
وثمانون سنة. وإنما ضعف الحديث، لأنه من رواية رشدين بن سعد بكسر الراء وسكون المعجمة،
قال أبو يوسف: كان رشدين رجلا صالحا في دينه، فأدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث،
وهو متروك. وحقيقة الحديث الضعيف: هو ما اختل فيه أحد شروط الصحيح، والحسن،
وله ستة أسباب معروفة، سردها في الشرح. [والبيهقي] هو: الحافظ العلامة شيخ خراسان،
أبو بكر أحمد بن الحسين، له التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها: كان زاهدا ورعا تقيا، ارتحل
إلى الحجاز والعراق. قال الذهبي: تأليفه تقارب ألف جزء، وبيهق بموحدة مفتوحة ومثناة
تحتية ساكنة وهاء مفتوحة فقاف: بلد قرب نيسابور، أي رواه بلفظ: (الماء طهور إلا
إن تغير ريحه أطعمه أو لونه) عطف عليه (بنجاسة) الباء سببية: أي بسبب نجاسة (تحدث
18

فيه) قال المصنف: قال الدارقطني: ولا يثبت هذا الحديث. وقال الشافعي: ما قلت من
أنه إذا تغير طعم الماء، أو ريحه، أو كونه كان نجسا، يروى عن النبي (ص) من وجه
لا يثبت أهل الحديث مثله. وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه، والمراد تضعيف رواية
الاستثناء، لا أصل الحديث، فإنه قد ثبت في حديث بئر بضاعة، ولكن هذه الزيادة قد أجمع العلماء على
القول بحكمها. قال ابن المنذر: قد أجمع العلماء: على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة
فغيرت له طعما، أو لونا، أو ريحا فهو نجس، فالاجماع هو الدليل على نجاسة ما تغير أحد أوصافه، لا هذه الزيادة.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث وفي لفظ: لم ينجس أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان. (وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) هو ابن عمر بن الخطاب أسلم عبد الله صغيرا
بمكة، وأول مشاهده الخندق وعمر: وروى عنه خلائق، كان من أوعية العلم، وكانت وفاته
بمكة سنة ثلاث وسبعين، ودفن بها بذي طوى، في مقبرة المهاجرين. (قال: قال رسول الله (ص):
إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) بفتح المعجمة الموحدة، (وفي لفظ
لم ينجس) هو بفتح الجيم وضمها، كما في القاموس (أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة) تقدم
ذكره في أول حديث. (والحاكم) هو الامام الكبير إمام المحققين، أبو
عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع، صاحب التصانيف. ولد سنة إحدى وعشرين
وثلاثمائة، وطلب هذا الشأن، ورحل إلى العراق، وهو ابن عشرين، وحج، ثم جال في
خراسان وما وراء النهر، وسمع من ألفي شيخ أو نحو ذلك، حدث عنه الدارقطني، وأبو يعلى
الخليلي، والبيهقي، وخلائق. وله التصانيف الفائقة مع التقوى والديانة. ألف المستدرك، وتاريخ
نيسابور، وغير ذلك. توفي في شهر صفر سنة خمس وأربعمائة. (وابن حبان) بكسر الحاء
المهملة وتشديد الموحدة. قال الذهبي: هو الحافظ العلامة، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد
بن حبان البستي، صاحب التصانيف. سمع أمما لا يحصون من مصر إلى خراسان. حدث عنه
الحاكم، وغيره. وكان ابن حبان من فقهاء الدين وحفاظ الآثار، عالما بالطب والنجوم وفنون العلم.
صنف المسند الصحيح، والتاريخ، وكتاب الضعفاء. وفقه الناس بسمرقند، قال الحاكم:
كان ابن حبان من أوعية العلم والفقه واللغة والوعظ، من عقلاء الرجال. توفي في شوال سنة
أربع وخمسين وثلاثمائة وهو في عشر الثمانين. وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا الحديث هو:
دليل الشافعية في جعلهم الكثير ما بلغ قلتين، وسبق اعتذار الهادوية والحنفية عن العمل به
بالاضطراب في متنه. إذ في رواية: إذا بلغ ثلاث قلال وفي رواية: قلة، وبجهالة قدر القلة،
وباحتمال معناه، فإن قوله: لم يحمل الخبث يحتمل أنه لا يقدر على حمله، بل يضره الخبث،
ويحتمل أنه يتلاشى فيه الخبث، وقد أجاب الشافعية عن هذا كله، وقد بسطه في الشرح،
إلا الأخير فلم يذكره، كأنه تركه لضعفه، لان رواية لم ينجس صريحة في عدم احتماله المعنى الأول.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم) وهو: الراكد الساكن، ويأتي وصفه بأنه الذي
لا يجري (وهو جنب أخرجه) بهذا اللفظ (مسلم. وللبخاري) رواية بلفظ (لا يبولن
أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل) روي برفع اللام على أنه خبر
19

لمبتدأ محذوف: أي ثم هو يغتسل، وقد جوز جزمه على عطفه على موضع يبولن، ونصبه
بتقدير أن على إلحاق ثم بالواو في ذلك، وإن أفاد أن النهي إنما هو عن الجمع بين البول والاغتسال،
دون إفراد أحدهما، مع أنه ينهى عن البول فيه مطلقا، فإنه لا يخل بجواز النصب،
لأنه يستفاد من هذا النهي عن الجمع، ومن غيره النهي عن إفراد البول وإفراد
الاغتسال. هذا بناء على أن ثم قد صارت بمعنى الواو تفيد الجمع، وهذا قاله النووي معترضا
به على ابن مالك، حيث جوز النصب، وأقره ابن دقيق العيد في غير شرح العمدة، إلا أنه أجاب
عن النووي بما أفاده قولنا: فإنه لا يخل بجواز النصب إلى اخره. قلت: والذي تقتضيه قواعد
العربية أن النهي في الحديث إنما هو عن الجمع بين البول ثم الاغتسال منه، سواء رفعت اللام
أو نصبت، وذلك لان ثم تفيد ما تفيده الواو العاطفة في أنها للجمع، وإنما اختصت ثم بالترتيب،
فالجميع واهمون فيما قرروه. ولا يستفاد النهي عن كل واحد على انفراده من رواية البخاري،
لأنها إنما تفيد النهي عن الجمع، ورواية مسلم تفيد النهي عن الاغتسال فقط إذا لم تقيد
برواية البخاري. ثم رواية أبي داود بلفظ: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه
تفيد النهي عن كل واحد على انفراده (فيه. ولمسلم) في روايته (منه) بدلا عن قوله فيه،
والأولى تفيد أنه لا يغتسل فيه بالانغماس مثلا، والثانية تفيد أن لا يتناول منه ويغتسل خارجه.
(ولأبي داود) بلفظ: (ولا يغتسل فيه) عوضا عن ثم يغتسل (من الجنابة) عوضا عن قوله:
وهو جنب، وقوله هنا: ولا يغتسل دال على أن النهي عن كل واحد من الامرين على انفراده،
كما هو أحد الاحتمالين الأولين في رواية ثم يغتسل منه. قال في الشرح: وهذا النهي في الماء
الكثير للكراهة. وفي الماء القليل للتحريم. قيل عليه: إنه يؤدي إلى استعمال لفظ النهي
في حقيقته ومجازه، فالأحسن أن يكون من عموم المجاز، والنهي مستعمل في عدم الفعل الشامل
للتحريم، وكراهة التنزيه. فأما حكم الماء الراكد وتنجسه بالبول، أو منعه من التطهير بالاغتسال
فيه للجنابة، فعند القائلين: - بأنه لا ينجس إلا ما تغير أحد أوصافه - النهي عنه للتعبد وهو طاهر
في نفسه، وهذا عند المالكية فإنه يجوز التطهر به، لان النهي عندهم للكراهة، وعند الظاهرية:
أنه للتحريم. وإن كان النهي تعبدا، لا لأجل التنجيس لكن الأصل في النهي التحريم. وأما
عند من فرق بين القليل والكثير فقالوا: إن كان الماء كثيرا - وكل على أصله في حده - ولم
يتغير أحد أوصافه، فهو الطاهر. والدليل على طهوريته: تخصيص هذا العموم، إلا أنه قد يقال:
إذا قلتم: النهي للكراهة في الكثير، فلا تخصيص لعموم حديث الباب، وإن كان الماء قليلا -
وكل في حده على أصله - فالنهي عنه للتحريم، إذ هو غير طاهر ولا مطهر، وهذا على أصلهم
في كون النهي للنجاسة. وذكر في الشرح الأقوال في البول في الماء وأنه لا يحرم في الكثير
الجاري كما يقتضيه مفهوم هذا الحديث، والأولى اجتنابه. أما القليل الجاري فقيل يكره،
وقيل: يحرم وهو الأولى. قلت: بل الأولى خلافه إذ الحديث في النهي عن البول فيما
لا يجري، فلا يشمل الجاري قليلا كان أم كثيرا. نعم، لو قيل بالكراهة لكان قريبا. وإن كان
كثيرا راكدا فقيل: يكره مطلقا، وقيل: إن كان قاصدا إلا إذا عرض وهو فيه فلا كرهة. قال في
الشرح: ولو قيل بالتحريم لكان أظهر وأوفق، لظاهر النهي، لان فيه إفسادا له على غيره ومضارة
20

للمسلمين. وإن كان راكدا قليلا فالصحيح: التحريم للحديث. ثم هل يلحق غير البول
كالغائط به في تحريم ذلك في هذا الماء القليل؟ فالجمهور على أنه يلحق به بالأولى. وعند
أحمد بن حنبل: لا يلحق به غيره، بل يختص الحكم بالبول. وقوله: في الماء صريح في النهي
عن البول فيه، وأنه يجتنب إذا كان كذلك. فإذا بال في إناء وصبه في الماء الدائم فالحكم
واحد، وعن داود لا ينجسه ولا يكون منهيا عنه إلا في الصورة الأولى لا غير. وحكم الوضوء
في الماء الدائم الذي بال فيه من يريد الوضوء: حكم الغسل إذ الحكم واحد. وقد ورد في رواية
: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه ذكرها في الشرح ولم ينسبها إلى أحد، وقد
أخرجها عبد الرزاق، وأحمد، وابن أبي شيبة، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وابن حبان
من حديث أبي هريرة مرفوعا، وأخرجه الطحاوي، وابن حبان، والبيهقي بزيادة: أو يشرب.
وعن رجل صحب النبي (ص) قال: نهى رسول الله (ص):
أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل
بفضل المرأة، وليغترفا جميعا أخرجه أبو داود والنسائي،
وإسناده صحيح) إشارة إلى رد قول البيهقي حيث قال: إنه في معنى المرسل، أو إلى قول
ابن حزم حيث قال: إن أحد رواته ضعيف. أما الأول وهو كونه في معنى المرسل، فلان
إبهام الصحابي لا يضر، لان الصحابة كلهم عدول عند المحدثين. وأما الثاني فلانه أراد ابن حزم
بالضعيف: داود بن عبد الله الأودي، وهو ثقة، وكأنه في البحر اغتر بقول ابن حزم، فقال
بعد ذكر الحديث: إن راويه ضعيف وأسنده إلى مجهول. وقال المصنف في فتح الباري:
إن رجاله ثقات ولم نقف له على علة، فلهذا قال هنا: وهو صحيح، نعم هو معارض بما يأتي من قوله في الحديث الآتي:
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما) هو حيث أطلق بحر الأمة وحبرها عبد الله بن
العباس. ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وشهرة إمامته في العلم ببركات الدعوة النبوية بالحكمة
والفقه في الدين والتأويل تغني عن التعريف به. كانت وفاته بالطائف سنة ثمان وستين في اخر أيام
ابن الزبير بعد أن كف بصره (أن النبي (ص) كان يغتسل بفضل ميمونة.
أخرجه مسلم) من رواية عمرو بن دينار بلفظ قال: وعلمي، والذي يخطر على بالي أن
أبا الشعثاء أخبرني. الحديث. وأعله قوم بهذا التردد. ولكنه قد ثبت عند الشيخين بلفظ
: أن النبي (ص)، وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد، ولا يخفى أنه لا تعارض، لأنه
يحتمل أنهما كانا يغترفان معا فلا تعارض. نعم المعارض قوله: (ولأصحاب السنن) أي من
حديث ابن عباس، كما أخرجه البيهقي في السنن، ونسبه إلى أبي داود: (اغتسل بعض أزواج النبي
(ص) في جفنة فجاء) أي النبي (ص) (ليغتسل منها فقالت) له: (إني كنت جنبا) أي وقد اغتسلت منها (فقال: إن الماء لا يجنب) في القاموس جنب
أي كفرح وجنب أي ككرم، فيجوز فتح النون وضمها هنا، هذا إن جعلته من الثلاثي،
ويصح من أجنب يجنب، وأما اجتنب فلم يأت بهذا المعنى وهو إصابة الجنابة (وصححه
21

الترمذي. وابن خزيمة). ومعنى الحديث قد ورد من طرق سردها في الشرح، وقد أفادت
معارضة الحديث الماضي، وأنه يجوز غسل الرجل بفضل المرأة، ويقاس عليه العكس
لمساواته له، وفي الامرين خلاف، والأظهر جواز الامرين، وأن النهي محمول على التنزيه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب أخرجه مسلم. وفي لفظ له: فليرقه. وللترمذي: أخراهن، أو أولاهن بالتراب. (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): طهور)
قال في الشرح: الأظهر فيه ضم الطاء ويقال بفتحها لغتان (إناء أحدكم إذا ولغ فيه
الكلب) في القاموس: ولغ الكلب في الاناء وفي الشراب يلغ (كيهب) ويالغ وولغ كورث
ووجل: شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه (أن يغسله) أي الاناء
(سبع مرات أولاهن بالتراب أخرجه مسلم، وفي لفظ له فليرقه) أي الماء الذي ولغ فيه،
(وللترمذي أخراهن) أي السبع (أو أولاهن بالتراب). دل الحديث على أحكام: أولها: نجاسة
فم الكلب من حيث الامر بالغسل لما ولغ فيه، والإراقة للماء، وقوله: طهور إناء أحدكم،
فإنه لا غسل إلا من حدث أو نجس، وليس هنا حدث فتعين النجس، والإراقة إضاعة ماله،
فلو كان طاهرا لما أمر بإضاعته، إذ قد نهى عن إضاعة المال، وهو ظاهر في نجاسة
فمه، وألحق به سائر بدنه قياسا عليه، وذلك لأنه إذا ثبت نجاسة لعابه، ولعابه جزء من فمه،
إذ هو عرق فمه، ففمه نجس، إذ العرق جزء متحلب من البدن فكذلك بقية بدنه، إلا أن من
قال: إن الامر بالغسل ليس لنجاسة الكلب قال: يحتمل أن النجاسة في فمه ولعابه، إذ هو
محل استعماله للنجاسة بحسب الأغلب، وعلق الحكم بالنظر إلى غالب أحواله من أكله
النجاسات بفمه ومباشرته لها، فلا يدل على نجاسة عينه، والقول بنجاسة عينه قول الجماهير، والخلاف لمالك وداود
والزهري، وأدلة الأولين ما سمعت. وأدلة غيرهم وهم القائلون: إن الامر بالغسل للتعبد
لا للنجاسة، أنه لو كان للنجاسة لاكتفى بما دون السبع، إذ نجاسته لا تزيد على العذرة.
وأجيب عنه: بأن أصل الحكم الذي هو الامر بالغسل معقول المعنى ممكن التعليل، أي بأنه
للنجاسة. والأصل في الاحكام التعليل فيحمل على الأغلب، والتعبد إنما هو في العدد فقط.
كذا في الشرح وهو مأخوذ من شرح العمدة وقد حققنا في حواشيه خلاف ما قرره من
أغلبية تعليل الاحكام وطولنا هنالك الكلام. الحكم الثاني: أنه دل الحديث على وجوب سبع
غسلات للاناء وهو واضح. ومن قال: لا تجب السبع بل ولوغ الكلب كغيره من النجاسات
والتسبيع ندب، استدل على ذلك: بأن راوي الحديث وهو أبو هريرة قال: يغسل من ولوغه
ثلاث مرات، كما أخرجه الطحاوي، والدارقطني. وأجيب عن هذا: بأن العمل بما رواه عن النبي
(ص)، لا بما رآه، وأفتى به، وبأنه معارض بما روى عنه أيضا: أنه أفتى بالغسل
سبعا وهي أرجح سندا، وترجح أيضا بأنها توافق الرواية المرفوعة. وبما روى عنه
(ص) أنه قال في الكلب يلغ في الاناء: يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعا قالوا: فالحديث دل
على عدم تعيين السبع وأنه مخير، ولا تخيير في معين، وأجيب عنه، بأنه حديث ضعيف لا تقوم
به حجة. الحكم الثالث: وجوب التتريب للاناء لثبوته في الحديث، ثم الحديث يدل على تعيين
التراب، وأنه في الغسلة الأولى. ومن أوجبه قال: لا فرق بين أن يخلط الماء بالتراب حتى
22

يتكدر، أو يطرح الماء على التراب، أو يطرح التراب على الماء. وبعض من قال: بإيجاب
التسبيع قال: لا تجب غسلة التراب لعدم ثبوتها عنده، ورد: بأنها قد ثبتت في الرواية الصحيحة
بلا ريب، والزيادة من الثقة مقبولة. وأورد على رواية التراب بأنها قد اضطربت فيها الرواية،
فروى أولاهن، أو أخراهن، أو إحداهن، أو السابعة، أو الثامنة، والاضطراب قادح، فيجب
الاطراح لها. وأجيب عنه: بأنه لا يكون الاضطراب قادحا إلا مع استواء الروايات، وليس ذلك
هنا كذلك، فإن رواية أولاهن أرجح لكثرة رواتها، وبإخراج الشيخين لها. وذلك من
وجوه الترجيح عند التعارض. وألفاظ الروايات التي عورضت بها أولاهن لا تقاومها وبيان
ذلك: أن رواية أخراهن منفردة لا توجد في شئ من كتب الحديث مسندة. ورواية السابعة
بالتراب اختلف فيها، فلا تقاوم رواية أولاهن بالتراب، ورواية إحداهن بالحاء والدال المهملتين
ليست في الأمهات، بل رواها البزار، فعلى صحتها، فهي مطلقة يجب حملها على المقيدة، ورواية
أولاهن أو أخراهن بالتخيير، إن كان ذلك من الراوي فهو شك منه فيرجع إلى الترجيح،
ورواية أولاهن أرجح، وإن كان كلامه (ص) فهو تخيير منه (ص)،
ويرجع إلى ترجيح أولاهن لثبوتها فقط عن الشيخين كما عرفت. وقوله: إناء
أحدكم الإضافة ملغاة هنا لان حكم الطهارة والنجاسة لا يتوقف على ملكه الاناء، وكذا
قوله: (فليغسله) لا يتوقف على أن يكون مالك الاناء هو الغاسل. وقوله: وفي لفظ
فليرقه هي من ألفاظ رواية مسلم، وهي أمر بإراقة الماء الذي ولغ فيه الكلب أو الطعام،
وهي من أقوى الأدلة على النجاسة، إذ المراق أعم من أن يكون ماءا أو طعاما، فلو كان طاهرا
لم يأمر بإراقته كما عرفت. إلا أنه نقل المصنف في فتح الباري: عدم صحة هذه اللفظة عن الحفاظ.
وقال ابن عبد البر: لم ينقلها أحد من الحفاظ من أصحاب الأعمش. وقال ابن منده:
لا تعرف عن النبي (ص) بوجه من الوجوه. نعم. أهمل المصنف ذكر الغسلة الثامنة،
وقد ثبت عند مسلم وعفروه الثامنة بالتراب. قال ابن دقيق العيد: إنه قال بها الحسن
البصري، ولم يقل بها غيره، ولعل المراد بذلك من المتقدمين. والحديث قوي فيها، ومن لم يقل
به احتاج إلى تأويله بوجه فيه استكراه اه‍. قلت: والوجه أي المستكره في تأويله ذكره النووي
فقال: المراد: اغسلوه سبعا واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم مقام غسلة فسميت
ثامنة، ومثله قال الدميري في شرح المنهاج، وزاد: أنه أطلق الغسل على التعفير مجازا. قلت: لا يخفى
أن إهمال المصنف لذكرها وتأويل من قال بإخراجها من الحقيقة إلى المجاز كل ذلك محاماة
عن المذهب. والحق مع الحسن البصري. هذا، وإن الامر بقتل الكلاب ثم النهي عنه
وذكر ما يباح اتخاذه منها يأتي الكلام عليه في باب الصيد إن شاء الله تعالى.
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه) بفتح القاف فمثناة فوقية بعد الألف دال مهملة
اسمه في أكثر الأقوال الحارث بن ربعي بكسر الراء فموحدة ساكنة فمهملة مكسورة ومثناة
تحتية مشددة الأنصاري، فارس رسول الله (ص). شهد أحدا وما بعدها، وكانت
وفاته سنة أربع وخمسين بالمدينة، وقيل مات بالكوفة في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه،
23

وشهد معه حروبه كلها (أن رسول الله (ص) قال في الهرة). والحديث له سبب،
وهو: أن أبا قتادة سكب له وضوءا فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الاناء حتى شربت،
فقيل له في ذلك. فقال: قال رسول الله (ص): (إنها ليست بنجس) أي فلا
ينجس ما لامسته إنما هي من الطوافين) جمع طواف (عليكم) قال ابن الأثير: الطائف
الخادم الذي يخدمك برفق وعناية، والطواف فعال منه، شبهها بالخادم الذي يطوف على مولاه
ويدور حوله أخذا من قوله تعالى: * (طوافون عليكم) * وفي رواية مالك وأحمد وابن حبان والحاكم
وغيرهم. زيادة لفظ: والطوافات جمع الأول مذكرا سالما نظرا إلى ذكور الهر. والثاني مؤنثا
سالما نظرا إلى إناثها. فإن قلت: قد فات في جمع المذكر السالم شرط كونه يعقل وهو شرط لجمعه
علما وصفة. قلت: لما نزل منزلة من يعقل بوصفه بصفته وهو الخادم أجراه مجراه في جمعه
صفة. وفي التعليل إشارة إلى أنه تعالى لما جعلها بمنزلة الخادم في كثرة اتصالها بأهل المنزل
وملابستها لهم، ولما في منزلهم، خفف الله تعالى على عباده بجعلها غير نجس رفعا للحرج (أخرجه
الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة) وصححه أيضا البخاري والعقيلي والدارقطني. والحديث
دليل على طهارة الهرة وسؤرها، وإن باشرت نجسا، وأنه لا تقييد لطهارة فمها بزمان، وقيل: لا يطهر
فمها إلا بمضي زمان من ليلة أو يوم أو ساعة، أو شربها الماء، أو غيبتها حتى يحصل ظن بذلك،
أو بزوال عين النجاسة من فمها، وهذا الأخير أوضح الأقوال، لأنه مع بقاء عين النجاسة
في فمها فالحكم بالنجاسة لتلك العين لا لفمها، فإن زالت العين فقد حكم الشارع بأنها ليست بنجس.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي (ص)، فلما قضى بوله أمر النبي (ص) بذنوب من ماء، فأهريق عليه متفق عليه. (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه) هو أبو حمزة بالحاء المهملة والزاي الأنصاري
النجاري الخزرجي. خدم رسول الله (ص) منذ قدم المدينة إلى وفاته (ص)، وقدم (ص)
المدينة وهو ابن عشر سنين، أو ثمان، أو تسع. أقوال. سكن
البصرة من خلافة عمر ليفقه الناس وطال عمره إلى مائة وثلاث وستين، وقيل: أقل من ذلك.
قال ابن عبد البر: أصح ما قيل تسع وتسعون سنة. وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة
سنة إحدى أو اثنتين، أو ثلاث وتسعين. (قال: جاء أعرابي) بفتح الهمزة نسبة إلى الاعراب وهم:
سكان البادية سواء أكانوا عربا أو عجما. وقد ورد تسميته: أنه ذو الخويصرة اليماني وكان رجلا
جافيا (فبال في طائفة المسجد) أي في ناحيته، والطائفة: القطعة من الشئ (فزجره الناس) بالزاي
فجيم فراء أي نهروه، وفي لفظ: فقام إليه الناس ليقعوا به، وفي أخرى: فقال أصحاب
رسول الله (ص): مه، مه، (فنهاهم رسول الله (ص)) بقوله لهم
: دعوه، وفي لفظ: لا تزرموه (فلما قضى بوله أمر النبي (ص)
بذنوب) بفتح الذال المعجمة فنون آخره موحدة وهي الدلو الملآن ماء، وقيل: العظيمة (من
ماء) تأكيد، وإلا فقد أفاده لفظ الذنوب، فهو من باب كتبت بيدي، وفي رواية: سجلا
بفتح السين المهملة وسكون الجيم، وهو بمعنى الذنوب (فأهريق عليه) أصله: فأريق عليه، ثم
أبدلت الهاء من الهمزة فصار فهريق عليه، وهو رواية، ثم زيدت همزة أخرى بعد إبدال الأولى
24

فقيل: فأهريق (متفق عليه) عند الشيخين كما عرفت. والحديث فيه دلالة: على نجاسة بول
الآدمي، وهو إجماع، وعلى أن الأرض إذا تنجست طهرت بالماء كسائر المتنجسات، وهل
يجزئ في طهارتها غير الماء؟ قيل: تطهرها الشمس والريح، فإن تأثيرهما في
إزالة النجاسة أعظم إزالة من الماء، ولحديث: زكاة الأرض يبسها، ذكره ابن أبي شيبة. وأجيب: بأنه ذكره
موقوفا، وليس من كلامه (ص)، كما ذكر عبد الرزاق: حديث أبي قلابة موقوفا
عليه بلفظ: جفوف الأرض طهورها فلا تقوم بهما حجة. والحديث ظاهر في أن
صب الماء يطهر الأرض رخوة كانت أو صلبة، وقيل: لا بد من غسل الصلبة كغيرها من
المتنجسات، وأرض مسجده (ص)، كانت رخوة، فكفى فيها الصب. وكذلك
الحديث ظاهر في أنه لا تتوقف الطهارة على نضوب الماء، لأنه (ص) لم يشترط
في الصب على بول الاعرابي شيئا، وهو الذي اختاره المهدي في البحر، وفي أنه لا يشترط حفرها
وإلقاء التراب، وقيل: إذا كانت صلبة فلا بد من حفرها وإلقاء التراب، لأن الماء لم يعم أعلاها
وأسفلها، ولأنه ورد في بعض طرق الحديث: أنه قال (ص): خذوا ما بال عليه
من التراب وألقوه وأهريقوا على مكانه ماء. قال المصنف في التلخيص: له إسنادان
موصولان. أحدهما عن ابن مسعود، والاخر عن واثلة بن الأسقع، وفيهما مقال: ولو ثبتت هذه
الزيادة لبطل قول من قال: إن أرض مسجده (ص) رخوة، فإنه يقول: لا يحفر
ويلقى التراب إلا من الأرض الصلبة. وفي الحديث فوائد: منها: احترام المساجد، فإنه (ص)
لما فرغ الاعرابي من بوله دعاه ثم قال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشئ
من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل وقراءة القرآن. ولان الصحابة
لما تبادروا إلى الانكار أقرهم (ص)، وإنما أمرهم بالرفق، كما في رواية الجماعة
للحديث إلا مسلما أنه قال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين. ولو كان
الانكار غير جائز لقال إنه لم يأت الاعرابي ما يوجب نهيكم له. ومنها: الرفق بالجاهل
وعدم التعنيف، ومنها حسن خلقه (ص) ولطفه بالمتعلم، ومنها أن الابعاد عند
قضاء الحاجة إنما هو لمن يريد الغائط لا البول، فإنه كان عرف العرب عدم ذلك وأقره الشارع،
وقد بال (ص) وجعل رجلا عند عقبه يستره، ومنها دفع أعظم المضرتين بأخفهما،
لأنه لو قطع عليه بوله لأضر به، وكان يحصل من تقويمه من محله، مع ما قد حصل من تنجيس
المسجد، تنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد غير الذي قد وقع فيه البول أولا.
[رح 11] - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): أحلت
لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان: فالجراد والحوت، وأما الدمان: فالكبد والطحال أخرجه أحمد، وابن ماجة، وفيه ضعف. (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): أحلت لنا ميتتان) أي بعد تحريمهما الذي دلت عليه الآيات (ودمان) كذلك (فأما الميتتان
فالجراد) أي ميتة (والحوت) أي ميتة (وأما الدمان. فالكبد والطحال) بزنة كتاب
(أخرجه أحمد وابن ماجة وفيه ضعف) لأنه رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن
ابن عمر. قال أحمد: حديثه منكر، وصح أنه موقوف كما قال أبو زرعة وأبو حاتم، وإذا ثبت
أنه موقوف فله حكم المرفوع، لان قول الصحابي: أحل لنا كذا وحرم علينا كذا مثل قوله: أمرنا
25

ونهينا، فيتم به الاحتجاج. ويدل على حل ميتة الجراد على أي حال وجدت، فلا يعتبر
في الجراد شئ سواء مات حتف أنفه أو بسبب. والحديث حجة على من اشترط موتها بسبب
عادي، أو بقطع رأسها، وإلا حرمت. وكذلك يدل على حل ميتة الحوت على أي صفة وجد،
طافيا كان أو غيره لهذا الحديث، وحديث الحل ميتته. وقيل: لا يحل منه إلا ما كان
موته بسبب آدمي، أو جزر الماء، أو قذفه، أو نضوبه، ولا يحل الطافي لحديث: ما ألقاه البحر
أو جزر عنه فكلوا. وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه أخرجه أحمد وأبو داود من حديث
جابر، وهو خاص فيخص به عموم الحديثين. وأجيب عنه: بأنه حديث ضعيف باتفاق أئمة
الحديث. قال النووي: حديث جابر لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شئ كيف وهو
معارض اه‍. فلا يخص به العام، ولأنه (ص) أكل من العنبرة التي قذفها البحر
لأصحاب السرية، ولم يسأل بأي سبب كان موتها، كما هو معروف في كتب الحديث والسيرة.
والكبد حلال بالاجماع، وكذلك مثلها الطحال فإنه حلال، إلا أنه في البحر قال: يكره لحديث علي
رضي الله عنه: إنه لقمه الشيطان أي إنه يسر بأكله، إلا أنه حديث لا يعرف من أخرجه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إذا وقع الذباب
في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الاخر شفاء أخرجه البخاري وأبو داود، وزاد: وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء.
(وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إذا وقع الذباب
في شراب أحدكم) وهو كما أسلفناه من أن الإضافة ملغاة كما في قوله: إذا ولغ الكلب
في إناء أحدكم وفي لفظ في طعام أحدكم (فليغمسه) زاد في رواية البخاري كله)،
تأكيدا. وفي لفظ أبي داود فامقلوه، وفي لفظ ابن السكن فليمقله (ثم لينزعه)
فيه: أنه يمهل في نزعه بعد غمسه (فإن في أحد جناحيه داء وفي الاخر شفاء) هذا
تعليل للامر بغمسه. وفي لفظ البخاري ثم ليطرحه فإن في أحد جناية شفاء وفي الاخر
داء، وفي لفظ سما (أخرجه البخاري وأبو داود. وزاد: وإنه يتقي بجناحه الذي
26

فيه الداء). وعند أحمد وابن ماجة: أنه يقدم السم ويؤخر الشفاء. والحديث دليل ظاهر على
27

جواز قتله دفعا لضرره، وأنه يطر ولا يؤكل، وأن الذباب إذا مات في مائع فإنه لا ينجسه،
لأنه (ص) أمر بغمسه، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولا سيما إذا كان الطعام
حارا، فلو كان ينجسه لكان أمرا بإفساد الطعام، وهو (ص) إنما أمر بإصلاحه. ثم
عدى هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك، إذ
الحكم يعم بعموم علته، وينتفي بانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن
في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له سائل، انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته، والامر
بغمسه ليخرج الشفاء منه كما خرج الداء منه. وقد علم أن في الذباب قوة سمية كما يدل عليها
الورم والحكة الحاصلة من لسعه وهي بمنزلة السلاح، فإذا وقع فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه، كما
قال (ص): فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء أمر صلى الله عليه وسلم أن تقابل
تلك السمية بما أودعه الله سبحانه وتعالى فيه من الشفاء في جناحه الآخر بغمسه كله. فتقابل
المادة السمية المادة النافعة فيزول ضررها، وقد ذكر غير واحد من الأطباء: أن لسعة العقرب
والزنبور إذا دلك موضعها بالذباب نفع منه نفعا بينا ويسكنها، وما ذلك إلا للمادة التي
فيه من الشفاء.
وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): ما قطع من البهيمة - وهي حية - فهو ميت. أخرجه أبو داود والترمذي، وحسنه، واللفظ له. (وعن أبي واقد) بقاف مكسورة ودال مهملة اسمه الحارث بن عوف من أقوال.
قيل: إنه شهد بدرا، وقيل: إنه من مسلمة الفتح، والأول أصح. مات سنة ثمان أو خمس وستين
بمكة (الليثي) بمثناة تحتية نسبة إلى ليث لأنه من بني عامر بن ليث (رضي الله عنه قال: قال
رسول الله (ص): ما قطع من البهيمة) في القاموس: البهيمة: كل ذات
أربع قوائم ولو في الماء، وكل حي لا يميز. والبهيمة أولاد الضأن والمعز، ولعل المراد هنا الأخير
أو الأول لما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى (وهي حية فهو) أي المقطوع (ميت أخرجه
أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له)، أي قال: إنه حسن، وقد عرف معنى الحسن في تعريف
الصحيح فيما سلف واللفظ للترمذي. والحديث قد روي من أربع طرق عن أربعة من الصحابة:
عن أبي سعيد، وأبي واقد، وابن عمر، وتميم الداري. وحديث أبي واقد هذا رواه أيضا أحمد
28

والحاكم بلفظ: قدم رسول الله (ص) المدينة، وبها ناس يعمدون إلى أليات الغنم
وأسنمة الإبل فقال: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت. والحديث دليل على أن ما قطع
من البهيمة وهي حية فهو ميت. وسبب الحديث دال على أنه أريد بالبهيمة ذات الأربع
وهو المعنى الأول لذكره الإبل فيه، لا المعنى الأخير الذي ذكره القاموس، لكنه مخصوص بما
أبين من السمك ولو كانت ذات أربع، أو يراد به المعنى الأوسط وهو كل حي لا يميز،
فيخص منه الجراد، والسمك، وما أبين مما لا دم له. وقد أفاد قوله فهو ميت أنه لا بد أن
يحل المقطوع الحياة، لان الميت هو ما من شأنه أن يكون حيا.
باب الآنية
الآنية جمع إناء وهو معروف، وإنما بوب لها، لان الشارع قد نهى عن بعضها،
فقد تعلقت بها أحكام.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): لا تشربوا في انية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة، متفق عليه.
(عن حذيفة) أي: أروي، أو أذكر، كما سلف، وحذيفة بضم الحاء المهملة فذال
معجمة فمثناة تحتية ساكنة ففاء، هو أبو عبد الله حذيفة (بن اليمان) بفتح المثناة التحتية
وتخفيف الميم اخره نون، وحذيفة وأبوه صحابيان جليلان شهدا أحدا، وحذيفة صاحب سر
رسول الله (ص)، وروى عنه جماعة من الصحابة، والتابعين. ومات بالمدائن سنة
خمس، أو ست وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة (قال: قال رسول الله (ص):
لا تشربوا في انية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما) جمع صحفة. قال الكشاف
والكسائي: الصحفة هي ما تشبع الخمسة (فإنها) أي انية الذهب والفضة وصحافهما (لهم)
أي: للمشركين، وإن لم يذكروا فهم معلومون (في الدنيا) إخبار عما هم عليه، لا إخبار بحلها لهم،
(ولكم في الآخرة، متفق عليه) بين الشيخين. والحديث دليل على تحريم الأكل والشرب
في انية الذهب والفضة، وصحافهما، سواء كان الاناء خالصا ذهبا أو مخلوطا بالفضة، إذ هو بما
يشمله أنه إناء ذهب وفضة. قال النووي: إنه انعقد الاجماع على تحريم الأكل والشرب
فيهما. واختلف في العلة: فقيل: للخيلاء. وقيل: بل لكونه ذهبا وفضة. واختلفوا في الاناء
المطلي بهما: هل يلحق بهما في التحريم، أم لا؟ فقيل: إن كان يمكن فصلهما حرم إجماعا، لأنه
مستعمل للذهب والفضة، وإن كان لا يمكن فصلهما لا يحرم. وأما الاناء المضبب بهما، فإنه
يجوز الأكل والشرب فيه إجماعا. وهذا في الأكل والشرب فيما ذكر لا خلاف فيه، فأما غيرهما
من سائر الاستعمالات، ففيه الخلاف: قيل: لا يحرم: لان النص لم يرد إلا في الأكل والشرب.
وقيل: يحرم سائر الاستعمالات إجماعا. ونازع في الأخير بعض المتأخرين وقال: النص ورد
في الأكل والشرب لا غير، وإلحاق سائر الاستعمالات بها قياسا لا تتم فيه شرائط القياس.
والحق ما ذهب إليه القائل: بعدم تحريم غير الأكل والشرب فيهما، إذ هو الثابت بالنص،
ودعوى الاجماع غير صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره، فإن ورد بتحريم
الأكل والشرب فقط، فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال، وهجروا العبارة النبوية، وجاءوا بلفظ
29

عام من تلقاء أنفسهم، ولها نظائر في عباراتهم. ولهذا ذكر المصنف هذا الحديث هنا، لإفادة
تحريم الوضوء في انية الذهب والفضة لأنه استعمال لهما على مذهبه في تحريم ذلك، وإلا فباب
هذا الحديث باب الأطعمة والأشربة. ثم هل يلحق بالذهب والفضة نفائس الأحجار كالياقوت
والجواهر؟ فيه خلاف، والأظهر عدم إلحاقه، وجوازه على أصل الإباحة، لعدم الدليل الناقل عنها.
وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله (ص): الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليه. (وعن أم سلمة رضي الله عنها) هي أم المؤمنين زوج النبي (ص)، اسمها هند بنت
أبي أمية، كانت تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، هاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها، وتوفي عنها
في المدينة بعد عودتهما من الحبشة، وتزوجها النبي (ص) في المدينة سنة أربع
من الهجرة، وتوفيت سنة تسع وخمسين، وقيل: اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع، وعمرها أربع
وثمانون سنة (قالت: قال رسول الله (ص): الذي يشرب في إناء الفضة)
هكذا عند الشيخين. وانفرد مسلم في رواية أخرى بقوله: في إناء الفضة والذهب (إنما
يجرجر) بضم المثناة التحتية وجيم فراء وجيم مكسورة. والجرجرة: صوت وقوع الماء
في الجوف، وصوت البعير عند الجرة، وجعل الشرب والجرع جرجرة (في بطنه نار
جهنم. متفق عليه) بين الشيخين. قال الزمخشري: يروى برفع النار أي: على أنها فاعل مجازا،
وإلا فنار جهنم على الحقيقة لا تجرجر في بطنه، إنما جعل جرع الانسان للماء في هذه الأواني
المنهي عنها، واستحقاق العقاب على استعمالها: كجرجرة نار جهنم في جوفه مجازا، هكذا على
رواية الرفع. وذكر الفعل يعني يجرجر وإن كان فاعله النار وهي مؤنثة للفصل بينها وبين
فعلها، ولان تأنيثها غير حقيقي، والأكثر على نصب جهنم، وفاعل الجرجرة هو الشارب والنار
مفعوله، والمعنى: كأنما يجرع نار جهنم من باب: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) *. قال النووي:
والنصب هو الصحيح المشهور الذي عليه الشارحون وأهل العرف واللغة، وجزم به الأزهري.
وجهنم عجمية لا تنصرف للتأنيث والعلمية، إذ هي علم لطبقة من طبقات النار، أعاذنا الله منها،
سميت بذلك لبعد قعرها، وقيل: لغلظ أمرها في العذاب. والحديث يدل على ما دل عليه حديث حذيفة الأول.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (ص): إذا دبغ الإهاب فقد طهر أخرجه مسلم. وعند الأربعة أيما إهاب دبغ. (وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (ص): (إذا
دبغ الإهاب) بزنة كتاب هو الجلد، أو ما لم يدبغ كما في القاموس، ومثله في النهاية (فقد
طهر) بفتح الطاء والهاء ويجوز ضمها كما يفيده القاموس (أخرجه مسلم) بهذا اللفظ (وعند
الأربعة) وهم أهل السنن: (أيما إهاب دبغ) تمامه فقد طهر. والحديث أخرجه الخمسة،
إنما اختلف لفظه، وقد روى بألفاظ، وذكر له سبب، وهو: أنه (ص) مر بشاة ميتة
لميمونة فقال: ألا استمتعتم بإهابها فإن دباغ الأديم طهور، وروى البخاري: من
حديث سودة قالت: ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننتبذ فيه حتى صار
شنا. والحديث دليل على أن الدباغ، مطهر لجلد ميتة كل حيوان، كما يفيده عموم كلمة
أيما، وأنه يطهر باطنه وظاهره. وفي المسألة سبعة أقوال: الأول: أن الدباغ يطهر جلد الميتة
30

باطنه وظاهره، ولا يخص منه شئ، عملا بظاهر حديث ابن عباس وما في معناه. وهذا
مروي عن علي عليه السلام، وابن مسعود. والثاني من الأقوال: أنه لا يطهر الدباغ شيئا، وهو
مذهب جماهير الهادوية، ويروى عن جماعة من الصحابة مستدلين بحديث الشافعي الذي
أخرجه أحمد، والبخاري في تاريخه، والأربعة، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان: عن عبد الله بن عكيم
قال: أتانا كتاب رسول الله (ص) قبل موته: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا
عصب وفي رواية الشافعي وأحمد وأبي داود: قبل موته بشهر، وفي رواية: بشهر، أو شهرين. قال
الترمذي: حسن. وكان أحمد يذهب إليه ويقول: هذا آخر الامرين، ثم تركه، قالوا - أي: الهادوية: وهذا الحديث ناسخ لحديث ابن عباس لدلالته على تحريم الانتفاع من الميتة بإهابها وعصبها.
وأجيب عنه بأجوبة. الأول: أنه حديث مضطرب في سنده، فإنه روى تارة عن كتاب النبي (ص)
، وتارة عن مشايخ من جهينة عمن قرأ كتاب النبي (ص). ومضطرب
أيضا في متنه، فروى من غير تقييد في رواية الأكثر، وروى بالتقييد بشهر،
أو شهرين، أو أربعين يوما، أو ثلاثة أيام، ثم إنه معل أيضا بالارسال، فإنه لم يسمعه عبد الله
بن عكيم منه (ص)، ومعل بالانقطاع، لأنه لم يسمعه عبد الرحمن بن أبي ليلى
من ابن عكيم، ولذلك ترك أحمد بن حنبل القول به آخرا، وكان يذهب إليه أولا، كما قال
عنه الترمذي. وثانيا: بأنه لا يقوى على النسخ، لان حديث الدباغ أصح، فإنه مما اتفق عليه
الشيخان. وأخرج مسلم، وروى من طرق متعددة في معناه عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة،
فعن ابن عباس حديثان، وعن أم سلمة ثلاثة، وعن أنس حديثان، وعن سلمة بن المحبق،
وعائشة، والمغيرة، وأبي أمامة، وابن مسعود. ولان الناسخ لا بد من تحقيق تأخره، ولا دليل على تأخر
حديث ابن عكيم، ورواية التاريخ فيه بشهر أو شهرين معلة، فلا تقوم بها حجة على النسخ.
على أنها لو كانت رواية التاريخ صحيحة، ما دلت على أنه آخر الامرين جزما. ولا يقال: فإذا لم يتم
النسخ تعارض الحديثان، حديث عبد الله بن عكيم وحديث ابن عباس ومن معه، ومع
التعارض يرجع إلى الترجيح أو الوقف، لأنا نقول: لا تعارض إلا مع الاستواء وهو مفقود، كما عرفت
من صحة حديث ابن عباس، وكثرة من معه من الرواة، وعدم ذلك في حديث ابن عكيم.
وثالثا: بأن الإهاب كما عرفت عن القاموس والنهاية: اسم لما لم يدبغ في أحد القولين. وقال النضر
بن شميل: - الإهاب لما لم يدبغ، وبعد الدبغ يقال له: شن وقربة، وبه جزم الجوهري قيل:
فلما احتمل الامرين، وورد الحديثان في صورة المتعارضين، جمعنا بينهما: بأنه نهى عن الانتفاع
بالإهاب ما لم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهابا، فلا يدخل تحت النهي، وهو حسن. الثالث: يطهر
جلد ميتة المأكول لا غيره، لكن يرده عموم أيما إهاب. الرابع: يطهر الجميع إلا الخنزير، فإنه
لا جلد له وهو مذهب أبي حنيفة. الخامس: يطهر إلا الخنزير لكن، لا لكونه لا جلد له، بل لكونه
رجسا لقوله تعالى: * (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) * والضمير للخنزير، فقد حكم برجسيته كله، والكلب مقيس عليه
بجامع النجاسة، وهو قول الشافعي. السادس: يطهر الجميع، لكن ظاهره دون باطنه، فيستعمل في
اليابسات دون المائعات، ويصلى عليه ولا يصلى فيه، وهو مروي عن مالك جمعا منه بين الأحاديث
31

لما تعارضت. السابع: ينتفع بجلود الميتة، وإن لم تدبغ ظاهرا وباطنا، لما أخرجه البخاري من رواية
ابن عباس أنه (ص) مر بشاة ميتة، فقال: هلا انتفعتم بإهابه؟ قالوا: إنها
ميتة، قال: إنما حرم أكلها وهو رأي الزهري. وأجيب عنه: بأنه مطلق قيدته أحاديث الدباغ التي سلفت.
وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): دباغ جلود الميتة طهورها، صححه ابن حبان. (وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه) هو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد
الموحدة المكسورة والقاف. وسلمة صحابي يعد في البصريين، روى عنه ابنه سنان. ولسنان
أيضا صحبة (قال: قال رسول الله (ص): دباغ جلود الميتة طهورها
صححه ابن حبان) أي أخرجه وصححه، وقد أخرج غير ابن حبان هذا الحديث، لكن بألفاظ:
عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، والبيهقي عن سلمة بلفظ: دباغ الأديم:
ذكاته، وفي لفظ: دباغها، ذكاتها، وفي اخر: دباغها: طهورها وفي لفظ: ذكاتها: دباغها، وفي لفظ اخر: ذكاة
الأديم: دباغه. وفي الباب أحاديث بمعناه، وهو يدل على ما دل عليه حديث ابن عباس.
وفي تشبيه الدباغ بالذكاة: إعلام بأن الدباغ في التطهير بمنزلة تذكية الشاة في الاحلال، لان الذبح يطهرها ويحل أكلها.
وعن ميمونة رضي الله عنها، قالت: مر النبي (ص) بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ أخرجه أبو داود والنسائي. (وعن ميمونة رضي الله عنه) هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، كان
اسمها برة، فسماها رسول الله (ص) ميمونة، تزوجها (ص) في شهر
ذي القعدة سنة سبع في عمرة القضية، وكانت وفاتها سنة إحدى وستين، وقيل: إحدى وخمسين،
وقيل: ست وستين، وقيل: غير ذلك، وهي خالة ابن عباس، ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم
بعدها (قالت: مر رسول الله (ص) بشاة يجرونها فقال: لو أخذتم إهابها؟
فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ أخرجه أبو داود والنسائي)، وفي لفظ عند
الدارقطني عن ابن عباس: أليس في الماء والقرظ ما يطهرها، وأما رواية: أليس في الشث
والقرظ ما يطهرها، فقال النووي: إنه بهذا اللفظ باطل لا أصل له. وقال في شرح مسلم:
يجوز الدباغ بكل شئ ينشف فضلات الجلد ويطيبه، ويمنع من ورود الفساد عليه، كالشث،
والقرظ، وقشور الرمان، وغير ذلك من الأدوية الطاهرة، ولا يحصل بالشمس إلا عند الحنفية،
ولا بالتراب، والرماد، والملح على الأصح.
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها، إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها، وكلوا فيها متفق عليه. (وعن أبي ثعلبة) بفتح المثلثة بعدها عين مهملة ساكنة فلام مفتوحة فموحدة
(الخشني رضي الله عنه) بضم الخاء المعجمة فشين معجمة مفتوحة فنون، نسبة إلى خشين بن
النمر من قضاعة حذفت ياؤه عند النسبة، واسمه جرهم بضم الجيم بعدها راء ساكنة فهاء
مضمومة، ابن ناشب بالنون وبعد الألف شين معجمة اخره موحدة، اشتهر بلقبه، بايع النبي
32

(ص) بيعة الرضوان، وضرب له بسهم يوم خيبر، وأرسله إلى قومه فأسلموا، نزل
بالشام ومات بها سنة خمس وسبعين، وقيل: غير ذلك (قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم
أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا فاغسلوها وكلوا
فيها. متفق عليه) بين الشيخين. استدل به على نجاسة انية أهل الكتاب، وهل هو لنجاسة
رطوبتهم، أو لجواز أكلهم الخنزير، وشربهم الخمر، أو للكراهة؟ ذهب إلى الأول القائلون
بنجاسة رطوبة الكفار، وهم الهادوية، والقاسمية. واستدلوا أيضا بظاهر قوله تعالى: - إنما
المشركون نجس - والكتابي يسمى مشركا، إذ قالوا: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله.
وذهب غيرهم من أهل البيت كالمؤيد بالله وغيره، وكذلك الشافعي: إلى طهارة رطوبتهم، وهو الحق،
لقوله تعالى: * (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) * ولأنه (ص)
توضأ من مزادة مشركة، ولحديث جابر عند أحمد، وأبي داود كنا نغزو مع رسول الله
(ص)، فنصيب من انية المشركين وأسقيتهم، ولا يعيب ذلك علينا. قلنا: في غيره من الأدلة غنية عنه. فمنها ما أخرجه أحمد من
حديث أنس: أنه (ص) دعاه يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأكل منها
بفتح السين وسكون النون المعجمة فخاء مفتوحة أي متغيرة. قال في البحر: لو حرمت
رطوبتهم لاستفاض بين الصحابة نقل توقيهم لها لقلة المسلمين حينئذ، مع كثرة استعمالاتهم التي
لا يخلو منها ملبوس ومطعوم، والعادة في مثل ذلك تقضي بالاستفاضة. قال: وحديث
أبي ثعلبة: إما محمول على كراهة الأكل في آنيتهم للاستقذار، لا لكونها نجسة، إذ لو كانت نجسة
لم يجعله مشروطا بعدم وجدان غيرها، إذ الاناء المتنجس بعد إزالة نجاسته هو وما لم يتنجس
على سواء، أو لسد ذريعة المحرم، أو لأنها نجسة لما يطبخ فيها، لا لرطوبتهم كما تفيده رواية
أبي داود وأحمد بلفظ: إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون
في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله (ص): إن وجدتم غيرها الحديث، وحديثه
الأول مطلق، وهذا مقيد بانية يطبخ فيها ما ذكر ويشرب، فيحمل المطلق على المقيد. وأما
الآية: فالنجس لغة المستقذر، فهو أعم من المعنى الشرعي، وقيل: معناه ذو نجس، لان معهم
الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يتجنبون النجاسات فهي
ملابسة لهم، وبهذا يتم الجمع بين هذا، وبين اية المائدة، والأحاديث الموافقة لحكمها، وآية
المائدة أصرح في المراد.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي (ص) وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة. متفق عليه. في حديث طويل. (وعن عمران بن حصين) بالمهملتين
تصغير حصن، وعمران هو أبو نجيد بالجيم تصغير نجد الخزاعي الكعبي، أسلم عام خيبر، وسكن البصرة إلى أن مات بها سنة اثنتين أو ثلاث
وخمسين، وكان من فضلاء الصحابة، وفقهائهم (رضي الله عنه: أن النبي (ص)
وأصحابه توضئوا من مزادة) بفتح الميم بعدها زاي ثم ألف وبعد الألف مهملة وهي الراوية، ولا
تكون إلا من جلدتين تقام بثالث بينهما لتتسع، كما في القاموس (امرأة مشركة. متفق عليه) بين
الشيخين (في حديث طويل) أخرجه البخاري بألفاظ فيها: أنه (ص) بعث عليا،
33

واخر معه في بعض أسفاره (ص)، وقد فقدوا الماء، فقال: اذهبا فابتغيا الماء. فانطلقا،
فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها. فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي
بالماء أمس هذه الساعة، قالا: انطلقي إلى رسول الله (ص) إلى أن قال: ودعا
النبي (ص) بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، ونودي في الناس
اسقوا، واستسقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء الحديث، وفيه زيادة ومعجزات نبوية. والمراد
أنه (ص) توضأ من مزادة المشركة، وهو دليل لما سلف في شرح حديث أبي ثعلبة
من طهارة انية المشركين، ويدل أيضا على طهور جلد الميت بالدباغ، لان المزادتين من جلود
ذبائح المشركين وذبائحهم ميتة، ويدل على طهارة رطوبة المشرك، فإن المرأة المشركة قد باشرت الماء
وهو دون القلتين، فإنهم صرحوا بأنه لا يحمل الجمل قدر القلتين. ومن يقول: إن رطوبتهم
نجسة، ويقول: لا ينجس الماء إلا ما غيره، فالحديث يدل على ذلك.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن قدح النبي (ص) انكسر، فاتخذ
مكان الشعب سلسلة من فضة. أخرجه البخاري. (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن قدح النبي (ص) انكسر، فاتخذ مكان الشعب) بفتح الشين المعجمة وسكون المهملة لفظ مشترك بين معان. والمراد منها هنا:
الصدع والشق (سلسلة من فضة) في القاموس سلسلة بفتح أوله وسكون اللام وفتح السين الثانية
منها: إيصال الشئ بالشئ، أو سلسلة بكسر أوله: دائر من حديد ونحوه، والظاهر أن المراد
الأول، فيقرأ بفتح أوله (أخرجه البخاري). وهو دليل على جواز تضبيب الاناء بالفضة، ولا
خلاف في جوازه كما سلف. إلا أنه هنا قد اختلف في واضع السلسلة، فحكى البيهقي عن
بعضهم: أن الذي جعل السلسلة هو أنس بن مالك، وجزم به ابن الصلاح، وقال أيضا: فيه
نظر، لان في البخاري من حديث عاصم الأحول: رأيت قدح النبي (ص) عند
أنس بن مالك، فكان قد انصدع، فسلسله بفضة. وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من
حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: لا تغيرن
شيئا صنعه رسول الله (ص)، فتركه هذا لفظ البخاري. وهو يحتمل أن يكون
الضمير في قوله فسلسله بفضة عائد إلى رسول الله (ص)، ويحتمل أن يكون عائدا
إلى أنس كما قال البيهقي، إلا أن اخر الحديث يدل للأول، وأن القدح لم يتغير عما كان عليه
على عهد رسول الله (ص). قلت: والسلسلة غير الحلقة التي أراد أنس تغييرها،
فالظاهر: أن قوله فسلسله هو النبي (ص)، وهو حجة لما ذكره.
باب إزالة النجاسة وبيانها.
أي بيان النجاسة ومطهراتها
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله (ص) عن
الخمر) أي بعد تحريمها (تتخذ خلا. فقال: لا. أخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح)
فسر الاتخاذ: بالعلاج لها، وقد صارت خمرا، ومثله حديث أبي طلحة، فإنها لما حرمت الخمر سأل
أبو طلحة النبي (ص) عن خمر عنده لأيتام: هل يخللها؟ فأمره بإراقتها. أخرجه
34

أبو داود والترمذي. والعمل بالحديث هو رأي الهادوية والشافعي لدلالة الحديث على ذلك،
فلو خللها لم تحل، ولم تطهر، وظاهره بأي علاج كان، ولو بنقلها من الظل إلى الشمس أو عكسه،
وقيل: تطهر وتحل. وأما إذا تخللت بنفسها من دون علاج فإنها طاهرة حلال. إلا أنه قال
في البحر: إن أكثر أصحابنا يقولون: إنها لا تطهر، وإن تخللت بنفسها من غير علاج. واعلم أن
للعلماء في خل الخمر ثلاثة أقوال: الأول: أنها إذا تخللت الخمر بغير قصد حل خلها، وإذا
خللت بالقصد حرم خلها. الثاني: يحرم كل خل تولد عن خمر مطلقا. الثالث: أن الخل حلال
مع تولده من الخمر سواء قصد أم لا، إلا أن فاعلها اثم إن تركها بعد أن صارت خمرا، عاص
لله مجروح العدالة، لعدم إراقته لها حال خمريتها، فإنه واجب كما دل له حديث أبي طلحة. لكن
قال في الشرح: يحل الخل الكائن عن الخمر، فإنه خل لغة وشرعا. وقيل: وجعل التخلل أيضا
من دون تخمر في صور. منها: إذا صب في إناء معتق بالخل عصير عنب فإنه يتخلل ولا يصير
خمرا. ومنها: إذا جردت حبات العنب من عناقيدها، وملئ منها الاناء، وختم رأس الاناء بطين أو نحوه فإنه يتخلل
ولا يصير خمرا. ومنها: إذا عصر أصل العنب، ثم ألقي عليه قبل أن يتخلل مثلاه خلا صادقا،
فإنه يتخلل، ولا يصير خمرا أصلا. وعنه رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر، أمر رسول الله
(ص) أبا طلحة، فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس متفق عليه. (وعنه) أي: عن أنس بن مالك (قال: لما كان يوم خيبر أمر رسول الله (ص) أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم) بتثنية الضمير لله تعالى ولرسوله. وقد ثبت
أنه (ص) قال للخطيب الذي قال في خطبته: من يطع الله ورسوله فقد رشد
ومن يعصهما الحديث: بئس خطيب القوم أنت لجمعه بين ضمير الله تعالى وضمير
رسوله (ص)، وقال: قل: ومن يعص الله ورسوله. فالواقع هنا يعارضه، وقد
وقع أيضا في كلامه (ص) التثنية بلفظ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما
سواهما. وأجيب بأنه (ص) نهى الخطيب، لان مقام الخطابة يقتضي البسط
والايضاح، فأرشده إلى أنه يأتي بالاسم الظاهر، لا بالضمير، وأنه ليس العتب عليه من حيث جمعه
بين ضميره تعالى وضمير رسوله (ص). الثاني أنه (ص) له أن
يجمع بين الضميرين وليس لغيره لعلمه بجلال ربه وعظمة الله. (عن لحوم الحمر الأهلية)
كما يأتي (فإنها رجس. متفق عليه) وحديث أنس في البخاري: أن رسول الله
(ص) جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه
جاء فقال: أفنيت الحمر، فأمر مناديا ينادي: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية،
فإنها رجس، فأكفئت القدور، وإنها لتفور بالحمر. والنهي عن لحوم الحمر الأهلية ثابت
في حديث علي عليه السلام، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وابن أبي أوفى، والبراء، وأبي ثعلبة،
وأبي هريرة، والعرباض بن سارية، وخالد بن الوليد، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والمقدام
بن معديكرب، وابن عباس، وكلها ثابتة في دواوين الاسلام، وقد ذكر من أخرجها في الشرح.
وهي دالة على تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، وتحريمها هو قول الجماهير من الصحابة،
والتابعين، ومن بعدهم، لهذه الأدلة. وذهب ابن عباس إلى عدم تحريم الحمر الأهلية، وفي
35

البخاري عنه: لا أدري أنهي عنها من أجل أنها كانت حمولة الناس، أو حرمت؟ ولا يخفى
ضعف هذا القول، لان الأصل في النهي التحريم وإن جهلنا علته، واستدل ابن عباس بعموم
قوله تعالى: * (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) * الآية، فإنه تلاها جوابا لمن سأله عن تحريمها،
ولحديث أبي داود: أنه جاء إلى رسول الله (ص) غالب بن أبجر فقال: يا رسول
الله (ص) أصابتنا سنة، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية،
فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية يريد التي تأكل الجلة
وهي العذرة. وأجيب: بأن الآية خصت عمومها الأحاديث الصحيحة المتقدمة، وبأن حديث
أبي داود مضطرب مختلف فيه اختلافا كثيرا، وإن صح حمل على الأكل منها عند الضرورة،
كما دل عليه قوله: أصابتنا سنة، أي شدة وحاجة. وذكر المصنف لهذين الحديثين في باب
النجاسات وتعدادها مبني على أن التحريم من لازمه التنجيس، وهو قول الأكثر، وفيه خلاف.
والحق: أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلزم النجاسة، فإن الحشيشة محرمة طاهرة،
وكذا المخدرات والسموم القاتلة لا دليل على نجاستها. وأما النجاسة فيلازمها التحريم، فكل
نجس محرم ولا عكس، وذلك لان الحكم في النجاسة هو المنع عن ملابستها على كل حال،
فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم، فإنه يحرم لبس الحرير والذهب،
وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعا. فإذا عرفت هذا فتحريم الحمر والخمر الذي دلت عليه
النصوص لا يلزم منه نجاستهما، بل لا بد من دليل اخر عليه، وإلا بقيتا على الأصل المتفق عليه
من الطهارة. فمن ادعى خلافه فالدليل عليه، ولذا نقول: لا حاجة إلى إتيان المصنف
بحديث عمرو بن خارجة الآتي قريبا مستدلا به على طهارة لعاب الراحلة. وأما الميتة فلولا
أنه ورد: دباغ الأديم طهوره وأيما إهاب دبغ فقد طهر لقلنا بطهارتها، إذ الوارد في القران
تحريم أكلها، لكن حكمنا بالنجاسة لما قام عليها دليل غير دليل تحريمها.
وعن عمرو بن خارجة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله (ص) بمنى، وهو على راحلته، ولعابها يسيل على كتفي. أخرجه أحمد والترمذي وصححه. (وعن عمرو بن خارجة) هو صحابي أنصاري عداده في أهل الشام، وكان حليفا
لأبي سفيان بن حرب، وهو الذي روى عنه عبد الرحمن بن غنم: أنه سمع رسول الله (ص)
يقول في خطبته: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث
(قال: خطبنا رسول الله (ص) بمنى وهو على راحلته) بالحاء المهملة
وهي من الإبل الصالحة لان ترحل (ولعابها) بضم اللام وعين مهملة وبعد الألف موحدة،
هو: ما سال من الفم (يسيل على كتفي. أخرجه أحمد، والترمذي وصححه). والحديث: دليل على
أن لعاب ما يؤكل لحمه طاهر، قيل: وهو إجماع، وهو أيضا الأصل، فذكر الحديث بيان
للأصل، ثم هذا مبني على أنه (ص) علم سيلان اللعاب عليه ليكون تقريرا.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله (ص) يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة
في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل. متفق عليه. ولمسلم: لقد كنت أفركه من
ثوب رسول الله (ص) فركا، فيصلي فيه. وفي لفظ له: لقد كنت أحكه يابسا بظفري من ثوبه. (وعن عائشة رضي الله عنها) هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق. أمها
أم رومان ابنة عامر. خطبها النبي (ص) بمكة، وتزوجها في شوال سنة عشرة من
النبوة، وهي بنت ست سنين، وعرس بها أي دخل بها في المدينة في شوال سنة ثنتين من الهجرة
وقيل: غير ذلك، وهي بنت تسع سنين من غير اعتبار الكسر ومات عنها ولها ثماني عشرة
36

سنة، ولم يتزوج بكرا غيرها، واستأذنت النبي (ص) في الكنية، فقال لها: تكني
بابن أختك عبد الله بن الزبير. وكانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة، كثيرة الحديث عن رسول
الله (ص)، عارفة بأيام العرب وأشعارها. روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين،
نزلت براءتها من السماء في عشر آيات في سورة النور. توفي رسول الله (ص)
في بيتها، ودفن فيه، وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء
لسبع عشرة خلت من رمضان، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان خليفة مروان
في المدينة. (قالت: كان رسول الله (ص) يغسل المني، ثم يخرج إلى
الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. متفق عليه) وأخرجه البخاري أيضا
من حديث عائشة بألفاظ مختلفة: وأنها كانت تغسل المني من ثوبه (ص)، وفي
بعضها: وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء وفي لفظ: فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء
في ثوبه وفي لفظ: وأثر الغسل فيه بقع الماء وفي لفظ: ثم أراه فيه بقعة أو بقعا. إلا أنه
قد قال البزار: إن حديث عائشة هذا مداره على سليمان بن يسار، ولم يسمع من عائشة، وسبقه
إلى هذا الشافعي في الأم حكاية عن غيره. ورد ما قاله البزار بأن تصحيح البخاري له، وموافقة
مسلم له على تصحيحه مفيد لصحة سماع سليمان من عائشة، وأن رفعه صحيح. وبهذا الحديث
استدل من قال: بنجاسة المني وهم الهادوية، والحنفية، ومالك، ورواية عن أحمد قالوا: لان
الغسل لا يكون إلا عن نجس، وقياسا على غيره من فضلات البدن المستقذرة من البول والغائط،
لانصباب جميعها إلى مقر وانحلالها عن الغذاء، ولان الاحداث الموجبة للطهارة نجسة والمني منها،
ولأنه يجري من مجرى البول، فتعين غسله بالماء كغيره من النجاسات، وتأولوا ما يأتي مما يفيده
قوله: (ولمسلم) أي عن عائشة رواية انفرد بلفظها عن البخاري وهي قولها: (لقد كنت
أفركه من ثوب رسول الله (ص) فركا) مصدر تأكيدي يقرر أنها
كانت تفركه وتحكه، والفرك: الدلك، يقال: فرك الثوب، إذا دلكه (فيصلي فيه، وفي لفظ له)
أي لمسلم عن عائشة: (لقد كنت أحكه) أي المني حال كونه (يابسا بظفري من ثوبه).
اختص مسلم باخراج رواية الفرك، ولم يخرجها البخاري. وقد روى الحت والفرك أيضا البيهقي،
والدارقطني، وابن خزيمة، وابن الجوزي، من حديث عائشة، ولفظ البيهقي: ربما حتته من ثوب
رسول الله (ص) وهو يصلي ولفظ الدارقطني، وابن خزيمة: أنها كانت تحت
المني من ثوب رسول الله (ص) وهو يصلي، ولفظ ابن حبان: لقد رأيتني
أفرك المني من ثوب رسول الله (ص) وهو يصلي رجاله رجال الصحيح،
وقريب من هذا الحديث: حديث ابن عباس عند الدارقطني. والبيهقي، وقال البيهقي بعد اخراجه:
ورواه وكيع، وابن أبي ليلى موقوفا على ابن عباس، وهو الصحيح اه‍. سئل رسول الله
(ص) عن المني يصيب الثوب فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق والبزاق وقال: إنما
يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة. فالقائلون بنجاسة المني: تأولوا أحاديث الفرك هذه: بأن المراد
به الفرك مع غسله بالماء وهو بعيد. وقالت الشافعية: المني طاهر، واستدلوا على طهارته
37

بهذه الأحاديث قالوا: وأحاديث غسله محمولة على الندب، وليس الغسل دليل النجاسة، فقد
يكون لأجل النظافة، وإزالة الدرن، ونحوه. قالوا: وتشبيهه بالبزاق والمخاط دليل على طهارته أيضا،
والامر بمسحه بخرقة، أو إذخرة لأجل إزالة الدرن المستكره بقاؤه في ثوب المصلى، ولو كان
نجسا لما أجزأ مسحه. وأما التشبيه للمني بالفضلات المستقذرة من البول والغائط، كما قاله من
قال بنجاسته، فلا قياس مع النص. قال الأولون: هذه الأحاديث في فركه وحته إنما هي
في منيه (ص)، وفضلاته (ص) طاهرة فلا يلحق به غيره. وأجيب
عنه: بأن عائشة أخبرت عن فرك المني من ثوبه، فيحتمل أنه عن جماع، وقد خالطه مني المرأة،
فلم يتعين أنه منيه (ص) وحده، والاحتلام على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
غير جائز، لأنه من تلاعب الشيطان، ولا سلطان له عليهم ولأنه قيل إنه منيه (ص)،
وأنه من فيض الشهوة بعد تقدم أسباب خروجه من ملاعبة ونحوها، وأنه لم يخالطه غيره،
فهو محتمل، ولا دليل مع الاحتمال. وذهبت الحنفية إلى نجاسة المني كغيرهم، ولكن قالوا: يطهره
الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالإذخر، أو الخرقة عملا بالحديثين. وبين الفريقين
القائلين بالنجاسة، والقائلين بالطهارة مجادلات، ومناظرات، واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي شرح العمدة.
وعن أبي السمح رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه الحاكم. (وعن أبي السمح) بفتح السين المهملة وسكون الميم فحاء مهملة، واسمه إياد
بكسر الهمزة ومثناة تحتية مخففة بعد الألف دال مهملة، وهو خادم رسول الله (ص)
له حديث واحد (قال: قال رسول الله (ص): يغسل من بول
الجارية) في القاموس: أن الجارية فتية النساء (ويرش من بول الغلام أخرجه
أبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم). وأخرج الحديث أيضا البزار، وابن ماجة، وابن خزيمة من حديث
أبي السمح قال: كنت أخدم النبي (ص)، فأتي بحسن أو حسين، فبال على صدره
فجئت أغسله، فقال: يغسل من بول الجارية، الحديث. وقد رواه أيضا أحمد، وأبو داود
وابن خزيمة، وابن ماجة، والحاكم من حديث لبابة بنت الحارث قالت: كان الحسين وذكرت
الحديث وفي لفظه: يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر ورواه المذكورون،
وابن حبان من حديث علي عليه السلام قال: قال رسول الله (ص) في بول الرضيع:
ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية قال قتادة راويه: هذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا.
وفي الباب أحاديث مرفوعة، وهي كما قال الحافظ البيهقي: إذا ضم بعضها إلى بعض
قويت. والحديث دليل على الفرق بين بول الغلام وبول الجارية في الحكم، وذلك قبل أن يأكلا
الطعام، كما قيده به الراوي، وقد روي مرفوعا أي بالتقييد بالطعم لهما. وفي صحيح ابن حبان،
والمصنف لابن أبي شيبة عن ابن شهاب: مضت السنة أن يرش بول من لم يأكل الطعام من
الصبيان، والمراد ما لم يحصل لهم الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال، وقيل: غير ذلك. وللعلماء
في ذلك ثلاثة مذاهب: الأول: للهادوية، والحنفية، والمالكية، أنه يجب غسلها كسائر النجاسات
قياسا لبولهما على سائر النجاسات، وتأولوا الأحاديث، وهو تقديم للقياس على النص. الثاني:
وجه للشافعية، وهو أصح الأوجه عندهم: أنه يكفي النضح في بول الغلام، لا الجارية، فكغيرها من
38

النجاسات، عملا بالأحاديث الواردة بالتفرقة بينهما، وهو قول علي عليه السلام، وعطاء، والحسن،
وأحمد، وإسحاق، وغيرهم. والثالث: يكفي النضح فيهما وهو كلام الأوزاعي. وأما هل بول الصبي
طاهر أو نجس؟ فالأكثر: على أنه نجس، وإنما خفف الشارع تطهيره. واعلم أن النضح كما
قاله النووي في شرح مسلم: هو أن الشئ الذي أصابه البول يغمر، ويكاثر بالماء مكاثرة
لا تبلغ جريان الماء، وتردده، وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره، فإنه يشترط أن تكون بحيث
يجري عليها بعض الماء، ويتقاطر من المحل، وإن لم يشترط عصره، وهذا هو الصحيح المختار،
وهو قول إمام الحرمين، والمحققين.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أن النبي (ص) قال - في دم الحيض يصيب الثوب -: تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه متفق عليه. (وعن أسماء) بفتح الهمزة وسين مهملة فميم فهمزة ممدودة (بنت أبي بكر رضي
الله عنهما) وهي أم عبد الله بن الزبير. أسلمت بمكة قديما، وبايعت النبي (ص)،
وهي أكبر من عائشة بعشر سنين، وماتت بمكة بعد أن قتل ابنها بأقل من شهر، ولها من العمر
مائة سنة، وذلك سنة ثلاث وسبعين، ولم تسقط لها سن، ولا تغير لها عقل، وكانت قد عميت. (أن
النبي (ص) قال في دم الحيض يصيب الثوب: تحته) بالفتح للمثناة الفوقية
وضم الحاء المهملة وتشديد المثناة الفوقية، أي تحكه، والمراد بذلك إزالة عينه (ثم تقرصه
بالماء) أي الثوب، وهو بفتح المثناة الفوقية وإسكان القاف وضم الراء والصاد المهملتين: أي
تدلك ذلك الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما شربه الثوب منه (ثم تنضحه)
بفتح الضاد المعجمة: أي تغسله بالماء (ثم تصلي فيه متفق عليه). ورواه ابن ماجة بلفظ:
اقرصيه بالماء واغسليه ولابن أبي شيبة بلفظ: اقرصيه بالماء، واغسليه، وصلي فيه. وروى
أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن: أنها
سألت رسول الله (ص) عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: حكيه بصلع،
واغسليه بماء وسدر قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة، ولا أعلم له علة، وقوله: بصلع
بصاد مهملة مفتوحة فلام ساكنة وعين مهملة: الحجر. والحديث دليل على نجاسة دم الحيض،
وعلى وجوب غسله، والمبالغة في إزالته بما ذكر من الحت، والقرص، والنضح لاذهاب أثره،
وظاهره: أنه لا يجب غير ذلك، وإن بقي من العين بقية، فلا يجب الحاد لاذهابها، لعدم ذكره
في الحديث أي حديث أسماء، وهو محل البيان، ولأنه قد ورد في غيره: ولا يضرك أثره.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت خولة: يا رسول الله، فإن لم يذهب الدم؟ قال: يكفيك الماء، ولا يضرك أثره أخرجه الترمذي. وسنده ضعيف. (وعن أبي هريرة قال: قالت خولة) بالخاء المعجمة مفتوحة وسكون الواو وهي
بنت يسار، كما أفاده ابن عبد البر في الاستيعاب حيث قال: خولة بنت يسار (يا رسول الله فإن
لم يذهب الدم قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره. أخرجه الترمذي وسنده ضعيف)،
وكذلك أخرجه البيهقي، لان فيه ابن لهيعة. وقال إبراهيم الحربي: لم نسمع بخولة بنت يسار
إلا في هذا الحديث. ورواه الطبراني في الكبير من حديث خولة بنت حكيم بإسناد أضعف
من الأول. وأخرجه الدارمي من حديث عائشة موقوفا عليها: إذا غسلت المرأة الدم، فلم يذهب
فلتغيره بصفرة أو زعفران رواه أبو داود عنها موقوفا أيضا، وتغييره بالصفرة والزعفران ليس
لقلع عينه، بل لتغطية لونه تنزها عنه. والحديث دليل لما أشرنا: من أنه لا يجب استعمال الحاد
39

لقطع أثر النجاسة وإزالة عينها. وبه أخذ جماعة من أهل البيت، ومن الحنفية، والشافعية. واستدل
من أوجب الحاد وهم الهادوية: بأن المقصود من الطهارة أن يكون المصلى على أكمل هيئة وأحسن
زينة. ولحديث: اقرصيه وأميطيه عنك بإذخرة. قال في الشرح: - وقد عرفت أن ما ذكره
يفيد المطلوب، وأن القول الأول أظهر، هذا كلامه. وقد يقال - قد ورد الامر بالغسل لدم
الحيض بالماء والسدر، والسدر من الحواد، والحديث الوارد به في غاية الصحة كما عرفت،
فيقيد به ما أطلق في غيره، ويخص استعمال الحاد بدم الحيض، ولا يقاس عليه غيره من
النجاسات، وذلك لعدم تحقق شروط القياس، ويحمل حديث: ولا يضرك أثره وحديث
عائشة، وقولها: فلم يذهب، أي بعد الحاد. فهذه الأحاديث في هذا الباب اشتملت من
النجاسات على: الخمر، ولحوم الحمر الأهلية، والمني، وبول الجارية، والغلام، ودم الحيض. ولو أدخل
المصنف بول الاعرابي في المسجد، ودباغ الأديم، ونحوه في هذا الباب، لكان أوجه.
باب الوضوء
في القاموس: الوضوء يأتي بالضم: الفعل، وبالفتح: ماؤه، ومصدر أيضا، أو لغتان، ويعني بهما
المصدر، وقد يعنى بهما الماء، يقال: توضأت للصلاة، وتوضيت لغية، أو لثغة اه‍. واعلم أن
الوضوء من أعظم شروط الصلاة، وقد ثبت عند الشيخين من حديث أبي هريرة مرفوعا: إن
الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وثبت حديث: الوضوء شطر الايمان،
وأنزل الله فريضته من السماء في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو
على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته
عليكم لعلكم تشكرون) * الآية، وهي مدنية،
واختلف العلماء: هل كان فرض الوضوء بالمدينة أو بمكة؟ فالمحققون على أنه فرض بالمدينة لعدم
النص الناهض على خلافه. ورد في الوضوء فضائل كثيرة، منها حديث أبي هريرة عند مالك
وغيره مرفوعا: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة
نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع اخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة
بطشتها يداه مع الماء أو مع اخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها
رجلاه مع الماء أو مع اخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب. وأشمل منه ما أخرجه مالك
أيضا من حديث عبد الله الصنابحي بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة اخره
مهملة، نسبة إلى صنابح بطن من مراد، وهو صحابي. قال: إن رسول الله (ص)
قال: إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا
من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا
غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح رأسه
خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه
حتى تخرج من أظفار رجليه، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له، وفي معناهما عدة
أحاديث. ثم هل الوضوء من خصائص هذه الأمة؟ فيه خلاف. المحققون على أنه ليس من
خصائصها إنما الذي من خصائصها الغرة والتحجيل.
40

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (ص) أنه قال: لولا
أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء أخرجه مالك وأحمد، والنسائي، وصححه
ابن خزيمة وذكره البخاري تعليقا. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (ص) أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء أخرجه مالك وأحمد، والنسائي، وصححه ابن خزيمة وذكره البخاري تعليقا. المعلق هو ما يسقط من أول إسناده راو فأكثر. قال
في الشرح: الحديث متفق عليه عند الشيخين من حديث أبي هريرة وهذا لفظه. قال
ابن منده: إسناده مجمع على صحته. قال النووي: غلط بعض الكبار فزعم: أن البخاري
لم يخرجه. قلت: وظاهر صنيع المصنف هنا يقضي بأنه لم يخرجه واحد من الشيخين، وهو من
أحاديث عمدة الاحكام التي لا يذكر فيها إلا ما أخرجه الشيخان، إلا أنه بلفظ عند كل
صلاة. وفي معناه عدة أحاديث عن عدة من الصحابة منها: عن علي عليه السلام عند أحمد،
وعن زيد بن خالد عند الترمذي، وعن أم حبيبة عند أحمد، وعن عبد الله بن عمر، وسهل
بن سعد، وجابر، وأنس عند أبي نعيم، وأبي أيوب عند أحمد والترمذي، ومن حديث ابن عباس،
وعائشة عند مسلم وأبي داود، وورد الامر به من حديث: تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم
أخرجه ابن ماجة، وفيه ضعف، ولكن له شواهد عديدة دالة على أن للامر به أصلا. وورد
في أحاديث: أن السواك من سنن المرسلين، وأنه من خصال الفطرة، وأنه من الطهارات، وأن
فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفا أخرجها أحمد، وابن خزيمة
والحاكم، والدارقطني، وغيرهم. قال في البدر المنير: قد ذكر في السواك زيادة على مائة حديث،
فواعجبا لسنة تأتي فيها الأحاديث الكثيرة، ثم يهملها كثير من الناس، بل كثير من الفقهاء، فهذه
خيبة عظيمة. هذا. ولفظ السواك بكسر السين في اللغة يطلق على الفعل، وعلى الآلة، ويذكر، ويؤنث،
وجمعه سوك ككتاب وكتب، ويراد به في الاصطلاح استعمال عود، أو نحوه في الأسنان، لتذهب
الصفرة وغيرها، قلت: - وعند ذهاب الأسنان أيضا يشرع لحديث عائشة: قلت: يا رسول الله
الرجل يذهب فوه، ويستاك؟ قال: نعم. قلت: وكيف يصنع؟ قال: يدخل أصبعه في فيه،
أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه ضعف. وأما حكمه فهو سنة عند جماهير العلماء، وقيل:
بوجوبه، وحديث الباب دليل على عدم وجوبه لقوله في الحديث: لأمرتهم أي أمر
إيجاب، فإنه ترك الامر به لأجل المشقة، لا أمر الندب، فإنه قد ثبت بلا مرية. والحديث دل على
تعيين وقته، وهو عند كل وضوء، وفي الشرح: أنه يستحب في جميع الأوقات، ويشتد استحبابه
في خمسة أوقات: أحدها: عند الصلاة، سواء كان متطهرا بماء أو تراب، أو غير متطهر كمن
لم يجد ماء، ولا ترابا. الثاني عند الوضوء. الثالث: عند قراءة القرآن. الرابع: عند الاستيقاظ من النوم.
الخامس: عند تغير الفم. قال ابن دقيق العيد: السر فيه - أي في السواك عند الصلاة: أنا مأمورون
في كل حال من أحوال التقرب إلى الله أن نكون في حالة كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة،
وقد قيل: إن ذلك الامر يتعلق بالملك، وهو أنه يضع فاه على فم القارئ ويتأذى بالرائحة
الكريهة، فسن السواك لأجل ذلك، وهو وجه حسن. ثم ظاهر الحديث أنه لا يخص صلاة
في استحباب السواك لها في إفطار ولا صيام. والشافعي يقول: لا يسن بعد الزوال في الصوم
لئلا يذهب به خلوف الفم المحبوب إلى الله تعالى. وأجيب: بأن السواك لا يذهب به الخلوف،
41

فإنه صادر من خلو المعدة، ولا يذهب بالسواك. ثم هل يسن ذلك للمصلي، وإن كان
متوضئا كما يدل له حديث: عند كل صلاة؟ قيل: نعم يسن ذلك، وقيل: لا يسن إلا عند الوضوء،
لحديث مع كل وضوء، وأنه يقيد إطلاق عند كل صلاة بأن المراد عند وضوء كل صلاة.
ولو قيل: إنه يلاحظ المعنى الذي لأجله شرع السواك، فإن كان قد مضى وقت طويل يتغير
فيه الفم بأحد المغيرات التي ذكرت، وهي أكل ما له رائحة كريهة، وطول السكوت، وكثرة الكلام،
وترك الأكل والشرب: شرع السواك، وإن لم يتوضأ، وإلا، فلا، لكان وجها. وقوله في رسم السواك
اصطلاحا: أو نحوه: أي نحو العود، ويريدون به كل ما يزيل التغير كالخرقة الخشنة، والإصبع الخشنة،
والأشنان. والأحسن أن يكون السواك عود أراك متوسطا، لا شديد اليبس فيجرح اللثة،
ولا شديد الرطوبة، فلا يزيل ما يراد إزالته.
وعن حمران أن عثمان دعا بوضوء.
فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق،
ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين،
ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله (ص) توضأ نحو وضوئي هذا. متفق عليه.
(وعن حمران رضي الله عنه) بضم الحاء المهملة وسكون الميم وبالراء، هو ابن أبان
بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة، وهو مولى عثمان بن عفان، أرسله له خالد بن الوليد من بعض
من سباه في مغازيه، فأعتقه عثمان: (أن عثمان) هو ابن عفان تأتي ترجمته قريبا (دعا بوضوء)
أي بماء يتوضأ به (فغسل كفيه ثلاث مرات) هذا من سنن الوضوء باتفاق العلماء
وليس هو غسلهما عند الاستيقاظ الذي سيأتي حديثه، بل هذا سنة الوضوء، فلو استيقظ،
وأراد الوضوء، فظاهر الحديثين: أنه يغسلهما للاستيقاظ ثلاث مرات، ثم للوضوء كذلك، ويحتمل
تداخلهما. (ثم تمضمض) المضمضة: - أن يجعل الماء في الفم، ثم يمجه، وكمالها: أن يجعل
الماء في فيه، ثم يديره، ثم يمجه، كذا في الشرح، وفي القاموس: المضمضة: تحريك الماء في الفم،
فجعل مسماها التحريك ولم يجعل منه المج، ولم يذكر في حديث عثمان هل فعل ذلك
مرة أو ثلاثا؟ لكن في حديث علي عليه السلام أنه مضمض، واستنشق، ونثر بيده اليسرى،
فعل هذا ثلاثا، ثم قال: هذا طهور نبي الله (ص) (واستنشق) الاستنشاق:
إيصال الماء إلى داخل الانف، وجذبه بالنفس إلى أقصاه (واستنثر) الاستنثار عند جمهور
أهل اللغة، والمحدثين والفقهاء، اخراج الماء من الانف بعد الاستنشاق (ثم غسل وجهه
ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى) فيه بيان لما أجمل في الآية من قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى
الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا
وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا
ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم
من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) *
الآية. وأنه يقدم اليمنى (إلى المرفق) بكسر ميمه وفتح فائه وبفتحها وكسر فائه. وكلمة: إلى
في الأصل للانتهاء، وقد تستعمل بمعنى مع، وبينت الأحاديث أنه المراد، كما في حديث جابر:
كان يدير الماء على مرفقيه أي النبي (ص). أخرجه الدارقطني بسند ضعيف،
وأخرج بسند حسن في صفة وضوء عثمان: أنه غسل يديه إلى المرفقين حتى مسح أطراف العضدين
وهو عند البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: وغسل ذراعيه حتى
جاوز المرافق. وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه: ثم غسل ذراعيه
حتى سال الماء على مرفقيه. فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. قال إسحاق بن راهويه:
إلى في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية، وأن تكون. بمعنى مع، فبينت السنة أنها بمعنى مع.
قال الشافعي: لا أعلم خلافا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء. وبهذا عرفت أن الدليل قد
42

قام على دخول المرافق. قال الزمخشري: لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها
في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، ثم ذكر أمثلة لذلك، وقد عرفت أنه قد قام ها هنا
الدليل على دخولها (ثلاث مرات ثم اليسرى مثل ذلك) أي إلى المرافق ثلاث مرات.
(ثم مسح برأسه) هو موافق للآية في الاتيان بالباء، ومسح يتعدى بها وبنفسه. قال
القرطبي: إن الباء هنا للتعدية يجوز حذفها وإثباتها، وقيل: دخلت الباء ها هنا لمعنى تفيده
وهو: أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: امسحوا
رؤوسكم - لأجزأ المسح باليد بغير ماء، وكأنه قال فامسحوا برؤوسكم الماء، وهو من باب القلب،
والأصل فيه: فامسحوا بالماء رؤوسكم. ثم اختلف العلماء: هل يجب مسح الرأس أو بعضه؟
قالوا: والآية لا تقتضي أحد الامرين بعينه إذ قوله: * (وامسحوا برءوسكم) * يحتمل جميع الرأس أو
بعضه، ولا دلالة في الآية عل استيعابه، ولا عدم استيعابه، لكن من قال: يجزئ مسح بعضه، قال:
إن السنة وردت مبينة لاحد احتمالي الآية، وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء: أن رسول
الله (ص) توضأ، فحسر العمامة عن رأسه، ومسح مقدم رأسه وهو وإن كان
مرسلا، فقد اعتضد بمجيئه مرفوعا من حديث أنس، وهو وإن كان في سنده مجهول فقد عضد
بما أخرجه سعيد بن منصور من حديث عثمان في صفة الوضوء: أنه مسح مقدم رأسه، وفيه
راو مختلف فيه. وثبت عن ابن عمر: الاكتفاء بمسح بعض الرأس قاله ابن المنذر وغيره، ولم
ينكر عليه أحد من الصحابة. ومن العلماء من يقول: لا بد من مسح البعض مع التكميل على
العمامة، لحديث المغيرة، وجابر بن مسلم. ولم يذكر في هذه الرواية تكرار مسح الرأس كما ذكره
في غيرها، وإن كان قد طوى ذكر التكرار أيضا في المضمضة كما عرفت، وعدم الذكر
لا دليل فيه، ويأتي الكلام في ذلك. (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات)
الكلام في ذلك كما تقدم في يده اليمنى إلى المرفق. إلا أن المرافق قد اتفق على مسماها، بخلاف
الكعبين، فوقع في المراد بهما خلاف. المشهور: أنه العظم الناشز عند ملتقى الساق، وهو قول الأكثر،
وحكى عن أبي حنيفة والامامية أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك: وفي المسألة
مناظرات ومقاولات طويلة. قال في الشرح: ومن أوضح الأدلة أي على ما قاله الجمهور:
حديث النعمان بن بشير في صفة الصف في الصلاة: فرأيت الرجل منا يلزق كعبه
بكعب صاحبه. قلت: - ولا يخفى أنه لا ينهض فيه، لان المخالف يقول: أنا أسميه كعبا ولا أخالفكم
فيه، لكني أقول: إنه غير المراد في اية الوضوء، إذ الكعب يطلق على الناشز، وعلى ما في ظهر
القدم، وغاية ما في حديث النعمان: أنه سمي الناشز كعبا، ولا خلاف في تسميته، وقد أيدنا
في حواشي ضوء النهار أرجحية مذهب الجمهور بأدلة هنالك (ثم اليسرى مثل ذلك:)
أي الكعبين ثلاث مرات (ثم قال) أي عثمان: (رأيت رسول الله (ص)
توضأ نحو وضوئي هذا) متفق عليه. وتمام الحديث فقال - أي رسول (ص):
من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من
ذنبه: أي لا يحدث نفسه فيهما بأمور الدنيا، وما لا تعلق له بالصلاة، ولو عرض له حديث،
43

فأعرض عنه بمجرد عروضه عفى عنه، ولا يعد محدثا لنفسه. واعلم أن الحديث قد أفاد الترتيب
بين الأعضاء المعطوفة بثم، وأفاد التثليث، ولم يدل على الوجوب، لأنه إنما هو صفة فعل ترتبت
عليه فضيلة، ولم يترتب عليه عدم إجزاء الصلاة إلا إذا كان بصفته، ولا ورد بلفظ يدل على
إيجاب صفاته. فأما الترتيب فخالفت فيه الحنفية وقالوا: لا يجب. وأما التثليث فغير واجب
بالاجماع، وفيه خلاف شاذ. ودليل عدم وجوبه: تصريح الأحاديث بأنه (ص)
توضأ مرتين مرتين، ومرة مرة، وبعض الأعضاء ثلثها، وبعضها بخلاف ذلك، وصرح
في وضوء مرة مرة: أنه لا يقبل الله الصلاة إلا به. وأما المضمضة والاستنشاق فقد اختلف
في وجوبهما. فقيل: يجبان، لثبوت الامر بهما في حديث أبي داود بإسناد صحيح. وفيه: وبالغ
في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ولأنه واظب عليهما في جميع وضوئه. وقيل: إنهما سنة،
بدليل حديث أبي داود والدارقطني وفيه: إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمر
الله تعالى، فيغسل وجهه، ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين، فلم يذكر
المضمضة والاستنشاق، فإنه اقتصر فيه على الواجب الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به،
وحينئذ فيؤول حديث الامر بأنه أمر ندب.
[رح 3] - وعن علي رضي الله عنه - في صفة وضوء النبي (ص) - قال: ومسح برأسه واحدة. أخرجه أبو داود: وأخرجه الترمذي والنسائي بإسناد صحيح. بل قال الترمذي: إنه أصح شئ في الباب. (وعن علي عليه السلام) هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب ابن عم
رسول الله (ص)، أول من أسلم من الذكور في أكثر الأقوال، على خلاف في سنه،
كم كان وقت إسلامه؟ وليس في الأقوال: أنه بلغ ثماني عشرة، بل مترددة بين ست عشرة إلى
سبع سنين، شهد المشاهد كلها إلا تبوك، فأقامه (ص) في المدينة خليفة عنه،
وقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. استخلف يوم قتل عثمان يوم
الجمعة لثمان عشر خلت من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، واستشهد صبح الجمعة
بالكوفة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين، ومات بعد ثلاث من ضربة
الشقي ابن ملجم له، وقيل: غير ذلك. وخلافته أربع سنين وسبعة أشهر وأيام، وقد ألفت
في صفاته وبيان أحواله كتب جمة، واستوفينا شطرا صالحا من ذلك في الروضة الندية شرح
التحفة العلوية. (في صفة وضوء النبي (ص) قال: ومسح برأسه واحدة.
أخرجه أبو داود) هو قطعة من حديث طويل استوفى فيه صفة الوضوء من أوله إلى اخره،
وهو يفيد ما أفاد حديث عثمان، وإنما أتى المصنف بما فيه التصريح بما لم يصرح به في حديث
عثمان، وهو مسح الرأس مرة، فإنه نص أنه واحدة مع تصريحه بتثليث ما عداه من الأعضاء. وقد
اختلف العلماء في ذلك، فقال قوم: بتثليث مسحه كما يثلث غيره من الأعضاء، إذ هو من
جملتها، وقد ثبت في الحديث تثليثه، وإن لم يذكر في كل حديث ذكر فيه تثليث الأعضاء،
فإنه قد أخرج أبو داود من حديث عثمان في تثليث المسح، أخرجه من وجهين صحح أحدهما
ابن خزيمة، وذلك كاف في ثبوت هذه السنة. وقيل: لا يشرع تثليثه، لان أحاديث عثمان
الصحاح كلها - كما قال أبو داود - تدل على مسح الرأس مرة واحدة، وبأن المسح مبني على
التخفيف، فلا يقاس على الغسل، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل.
44

وأجيب: بأن كلام أبي داود ينقضه ما رواه هو وصححه ابن خزيمة كما ذكرناه. والقول: بأن
المسح مبني على التخفيف قياس في مقابلة النص فلا يسمع. فالقول: بأنه يصير في صورة
الغسل لا يبالي به بعد ثبوته عن الشارع، ثم رواية الترك لا تعارض رواية الفعل، وإن كثرت رواية
الترك، إذ الكلام في أنه غير واجب، بل سنة من شأنها أن تفعل أحيانا وتترك أحيانا. (وأخرجه)
أي حديث علي عليه السلام (النسائي والترمذي بإسناد صحيح بل قال الترمذي: إنه أصح شئ
في الباب) وأخرجه أبو داود من ست طرق وفي بعض طرقه لم يذكر المضمضة والاستنشاق
وفي بعض: ومسح على رأسه حتى لم يقطر.
(وعن عبد الله بن زيد بن عاصم) هو الأنصاري المازني من مازن بن النجار.
شهد أحدا، وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب، وشاركه وحشي، وقتل عبد الله يوم الحرة سنة
ثلاث وستين. وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي يأتي حديثه في الأذان، وقد
غلط فيه بعض أئمة الحديث فلذا نبهنا عليه (في صفة الوضوء قال: ومسح رسول الله (ص)
برأسه، فأقبل بيديه وأدبر، متفق عليه) فسر الاقبال بهما بأنه بدأ من
مؤخر رأسه، فإن الاقبال باليد إذا كان مقدما يكون من مؤخر الرأس، إلا أنه قد ورد
في البخاري بلفظ: وأدبر بيديه وأقبل واللفظ الآخر في قوله: (وفي لفظ لهما) أي للشيخين
(بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما) أي اليدين (إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي
بدأ منه). الحديث يفيد صفة المسح للرأس، وهو أن يأخذ الماء ليديه فيقبل بهما ويدبر.
وللعلماء ثلاثة أقوال: الأول: يبدأ بمقدم رأسه الذي يلي الوجه فيذهب إلى القفا، ثم يردهما إلى
المكان الذي بدأ منه، وهو مبتدأ الشعر من حد الوجه، وهذا هو الذي يعطيه ظاهر قوله:
بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. إلا أنه
أورد على هذه الصفة: أنه أدبر بهما وأقبل، لان ذهابه إلى جهة القفا إدبار، ورجوعه إلى
الوجه إقبال. وأجيب: بأن الواو لا تقتضي الترتيب فالتقدير: أدبر وأقبل. والثاني: أن يبدأ بمؤخر
رأسه ويمر إلى جهة الوجه، ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على ظاهر لفظ: أقبل وأدبر، فالاقبال
إلى مقدم الوجه، والادبار إلى ناحية المؤخر، وقد وردت هذه الصفة في الحديث الصحيح:
بدأ بمؤخر رأسه. ويحمل الاختلاف في لفظ الأحاديث على والثالث: أن يبدأ
بالناصية ويذهب إلى ناحية الوجه، ثم يذهب تعدد الحالات إلى جهة مؤخر الرأس، ثم يعود إلى ما بدأ منه
وهو الناصية. ولعل قائل هذا قصد المحافظة على قوله بدأ بمقدم رأسه مع المحافظة على ظاهر
لفظ أقبل وأدبر، لأنه إذا بدأ بالناصية صدق أنه بدأ بمقدم رأسه، وصدق أنه أقبل أيضا، فإنه ذهب
إلى ناحية الوجه وهو القبل، وقد أخرج أبو داود من حديث المقدام: أنه (ص)
لما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه، فأمرهما حتى بلغ القفا ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ
منه وهي عبارة واضحة في المراد. والظاهر أن هذا من العمل المخير فيه، وأن المقصود من
ذلك تعميم الرأس بالمسح.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما - في صفة الوضوء - قال: ثم مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه. أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة. (وعن عبد الله بن عمرو) بفتح العين المهملة، وهو أبو عبد الرحمن، أو أبو محمد،
45

عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي. يلتقي مع النبي (ص)
في كعب بن لؤي. أسلم عبد الله قبل أبيه، وكان أبوه أكبر منه بثلاث عشرة سنة، وكان
عبد الله عالما حافظا عابدا. وكانت وفاته سنة ثلاث وستين، وقيل: وسبعين، وقيل: غير ذلك.
واختلف في موضع وفاته، فقيل: بمكة، أو الطائف، أو مصر، أو غير ذلك. (في صفة الوضوء قال:
ثم مسح) أي رسول الله (ص) (برأسه وأدخل إصبعيه السباحتين)
بالمهملة فموحدة فألف بعدها مهملة تثنية سباحة. وأراد بهما: مسبحتي اليد اليمنى واليسرى،
وسميت سباحة، لأنه يشار بها عند التسبيح (في أذنيه ومسح بإبهاميه) إبهامي يديه
(ظاهر أذنيه. أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة). والحديث كالأحاديث الأول
في صفة الوضوء، إلا أنه أتى به المصنف لما ذكر من إفادة مسح الاذنين الذي لم تفده الأحاديث
التي سلفت، ولذا اقتصر على ذلك من الحديث. ومسح الاذنين قد ورد في عدة
من الأحاديث: من حديث المقدام بن معديكرب عند أبي داود، والطحاوي بإسناد حسن. ومن حديث
الربيع أخرجه أبو داود أيضا، ومن حديث أنس عند الدارقطني، والحاكم. ومن حديث
عبد الله بن زيد وفيه: أنه (ص) مسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به رأسه.
وسيأتي، وقال فيه البيهقي: هذا إسناد صحيح، وإن كان قد تعقبه ابن دقيق العيد، وقال: الذي في ذلك
الحديث: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه، ولم يذكر الاذنين، وأيده المصنف بأنه عند
ابن حبان، والترمذي كذلك. واختلف العلماء: هل يؤخذ للأذنين ماء جديد أو يمسحان ببقية
ما مسح به الرأس؟ والأحاديث قد وردت بهذا وهذا. وسيأتي الكلام عليه قريبا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه متفق عليه. (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) قال: (قال رسول الله (ص): إذا
استيقظ أحدكم من منامه) ظاهره ليلا أو نهارا (فليستنثر ثلاثا) في القاموس:
استنثر: استنشق الماء، ثم استخرج ذلك بنفس الانف اه‍، وقد جمع بينهما في بعض الأحاديث،
فمع الجمع يراد من الاستنثار: دفع الماء من الانف، ومن الاستنشاق: جذبه إلى الانف
(فإن الشيطان يبيت على خيشومه) هو أعلى الانف. وقيل: الانف كله. وقيل: عظام
رقاق لينة في أقصى الانف بينه وبين الدماغ. وقيل: غير ذلك (متفق عليه). الحديث دليل
على وجوب الاستنثار عند القيام من النوم مطلقا. إلا أن في رواية للبخاري: إذا استيقظ
أحدكم من منامه، فتوضأ، فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان. الحديث، فيقيد الامر المطلق
به هنا: بإرادة الوضوء، ويقيد النوم: بمنام الليل، كما يفيده لفظ يبيت، إذ البيتوتة فيه. وقد يقال: إنه
خرج على الغالب، فلا فرق بين نوم الليل ونوم النهار. والحديث من أدلة القائلين بوجوب
الاستنثار دون المضمضة، وهو مذهب أحمد وجماعة. وقال الجمهور: لا يجب، بل الامر للندب،
واستدلوا بقوله (ص) للأعرابي: توضأ كما أمرك الله، وعين له ذلك في قوله: لا تتم
صلاة أحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله، فيغسل وجهه، ويديه إلى المرفقين،
ويمسح رأسه، ورجليه إلى الكعبين، كما أخرجه أبو داود من حديث رفاعة، ولأنه قد
ثبت من روايات صفة وضوئه (ص) من حديث عبد الله بن زيد، وعثمان،
46

وابن عمرو بن العاص: عدم ذكرهما مع استيفاء صفة وضوئه، وثبت ذكرهما أيضا، وذلك من أدلة
الندب. وقوله: يبيت الشيطان، قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون على حقيقته، فإن الانف
أحد منافذ الجسم التي يتوصل إلى القلب منها بالاشتمام، وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه
غلق سواه، وسوى الاذنين. وفي الحديث: إن الشيطان لا يفتح غلقا وجاء في التثاؤب:
الامر بكظمه من أجل دخول الشيطان حينئذ في الفم. ويحتمل الاستعارة، فإن الذي ينعقد
من الغبار من رطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان. قلت: والأول أظهر.
وعنه إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده. متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. (وعنه) أي: أبي هريرة عند الشيخين أيضا: (إذا استيقظ أحدكم من نومه
فلا يغمس يده) خرج ما إذا أدخل يده بالمغرفة ليستخرج الماء، فإنه جائز إذ لا غمس
فيه لليد، وقد ورد بلفظ لا يدخل، لكن يراد به إدخالها للغمس، لا للاخذ (في الاناء)
يخرج البرك والحياض (حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده. متفق عليه
وهذا لفظ مسلم). الحديث يدل على إيجاب غسل اليد لمن قام من نومه ليلا أو نهارا، وقال
بذلك من نوم الليل أحمد لقوله: باتت فإنه قرينة إرادة النوم بالليل كما سلف إلا أنه قد ورد بلفظ: إذا
قام أحدكم من الليل عند أبي داود، والترمذي من وجه اخر صحيح، إلا أنه يرد عليه أن
التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل. وذهب غيره وهو الشافعي ومالك وغيرهما: إلى أن
الامر في رواية فليغسل للندب، والنهي الذي في هذه الرواية للكراهة، والقرينة عليه ذكر العدد،
فإن ذكره في غير النجاسة العينية دليل الندب، ولأنه علل بأمر يقتضي الشك، والشك لا يقتضي
الوجوب في هذا الحكم استصحابا لأصل الطهارة، ولا تزول الكراهة إلا بالثلاث الغسلات،
وهذا في المستيقظ من النوم. وأما من يريد الوضوء من غير نوم، فيستحب له لما مر في صفة
الوضوء، ولا يكره الترك لعدم ورود النهي فيه. والجمهور: على أن النهي والامر لاحتمال
النجاسة في اليد، وأنه لو درى أين باتت يده كمن لف عليها فاستيقظ وهي على حالها، فلا يكره
له أن يغمس يده، وإن كان غسلهما مستحبا، كما في المستيقظ. وغيرهم يقولون: الامر بالغسل
تعبد، فلا فرق بين الشاك، والمتيقن، وقولهم أظهر كما سلف.
وعن لقيط بن صبرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائما أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة. ولأبي داود في رواية: إذا توضأت فمضمض. (وعن لقيط) بفتح اللام وكسر القاف ابن عامر (ابن صبرة) بفتح الصاد
المهملة وكسر الموحدة، كنيته أبو رزين كما قاله ابن عبد البر، صحابي مشهور، عداده في أهل
الطائف (قال: قال رسول الله (ص): أسبغ الوضوء) الاسباغ: الاتمام،
واستكمال الأعضاء (وخلل بين الأصابع) ظاهر في إرادة أصابع اليدين والرجلين، وقد
صرح بهما في حديث ابن عباس: إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك
يأتي من أخرجه قريبا (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما أخرجه الأربعة، وصححه
ابن خزيمة، ولأبي داود في رواية: إذا توضأت فمضمض، وأخرجه أحمد، والشافعي، وابن
الجارود، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه الترمذي، والبغوي، وابن القطان. والحديث: دليل على
وجوب إسباغ الوضوء، وهو إتمامه واستكمال الأعضاء، وفي القاموس: أسبغ الوضوء: أبلغه
47

مواضعه، ووفى كل عضو حقه. وفي غيره مثله. فليس التثليث للأعضاء من مسماه، ولكن التثليث
مندوب، ولا يزيد على الثلاث، فإن شك هل غسل العضو مرتين، أو ثلاثا جعلها مرتين.
وقال الجويني: يجعل ذلك ثلاثا، ولا يزيد عليها مخافة من ارتكاب البدعة. وأما ما روي عن
ابن عمر: أنه كان يغسل رجليه سبعا، ففعل صحابي لا حجة فيه، ومحمول على أنه كان يغسل
الأربع من نجاسة لا تزول إلا بذلك. ودليل: على إيجاب تخليل الأصابع، وقد ثبت من حديث
ابن عباس أيضا كما أشرنا إليه، وهو الذي أخرجه الترمذي، وأحمد، وابن ماجة، والحاكم، وحسنه
البخاري. وكيفيته أن يخلل بيده اليسرى بالخنصر منها، ويبدأ بأسفل الأصابع. وأما كون
التخليل باليد اليسرى، فليس في النص، وإنما قال الغزالي: إنه يكون بها قياسا على الاستنجاء.
وقد روى أبو داود، والترمذي من حديث المستورد بن شداد: رأيت رسول الله (ص)
إذا توضأ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه وفي لفظ لابن ماجة: يخلل بدل: يدلك.
والحديث: دليل على المبالغة في الاستنشاق لغير الصائم، وإنما لم يكن في حقه المبالغة لئلا ينزل
إلى حلقه ما يفطره، ودل على ذلك أن المبالغة ليست بواجبة، إذ لو كانت واجبة لوجب عليه
التحري، ولم يجز له تركها. وقوله في رواية أبو داود: إذا توضأت فمضمض يستدل به على
وجوب المضمضة، ومن قال: لا تجب جعل الامر للندب، لقرينة ما سلف من حديث رفاعة
بن رافع، في أمره (ص) للأعرابي بصفة الوضوء الذي لا تجزئ الصلاة إلا به، ولم يذكر فيه المضمضة والاستنشاق.
وعن عثمان رضي الله تعالى عنه: أن النبي (ص) كان يخلل لحيته في الوضوء. أخرجه الترمذي، وصححه ابن خزيمة. (وعن عثمان رضي الله عنه) هو أبو عبد الله عثمان بن عفان الأموي القرشي، أحد
الخلفاء، وأحد العشرة، أسلم في أول الاسلام، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وتزوج بنتي النبي
(ص): رقية أولا، ثم لما توفيت زوجه النبي (ص) بأم كلثوم.
استخلف في أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين. وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت
من ذي الحجة الحرام سنة خمس وثلاثين، ودفن ليلة السبت بالبقيع، وعمره اثنتان وثمانون سنة
وقيل غير ذلك. (أن النبي (ص) كان يخلل لحيته في الوضوء. أخرجه الترمذي،
وصححه ابن خزيمة). والحديث أخرجه الحاكم، والدارقطني، وابن حبان من رواية عامر بن شقيق،
عن أبي وائل. قال البخاري: حديثه حسن. وقال الحاكم: لا نعلم فيه ضعفا بوجه من الوجوه. هذا
كلامه، وقد ضعفه ابن معين، وقد روى الحاكم للحديث شواهد عن أنس، وعائشة، وعلي،
وعمار. قال المصنف: وفيه أيضا عن أم سلمة، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وابن عمر، وجابر،
وابن عباس، وأبي الدرداء، وقد تكلم على جميعها بالتضعيف إلا حديث عائشة، وقال عبد الله
بن أحمد، عن أبيه: ليس في تخليل اللحية شئ. وحديث عثمان هذا دال على مشروعية تخليل اللحية.
وأما وجوبه: فاختلف فيه، فعند الهادوية يجب كقبل نباتها، لأحاديث وردت بالأمر بالتخليل،
إلا أنها أحاديث ما سلمت عن الاعلال، والتضعيف، فلم تنتهض على الايجاب.
وعن عبد الله بن زيد، قال: أن النبي (ص) أتي بثلثي مد، فجعل يدلك ذراعيه. أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة. (وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه: أن النبي (ص) أتي بثلثي
مد) بضم الميم وتشديد الدال المهملة، في القاموس: مكيال، وهو رطلان، أو: رطل وثلث، أو: ملء
48

كفي الانسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما، ومنه سمي مدا، وقد جربت ذلك فوجدته
صحيحا اه‍. (فجعل يدلك ذراعيه. أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة). وقد أخرج
أبو داود من حديث أم عمارة الأنصارية بإسناد حسن: أنه (ص) توضأ بإناء
فيه قدر ثلثي مد. ورواه البيهقي من حديث عبد الله بن زيد، فثلثا المد هو أقل ما روي أنه
توضأ به (ص). وأما حديث أنه توضأ بثلث مد، فلا أصل له، وقد صحح أبو زرعة
من حديث عائشة وجابر: أنه (ص) كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد وأخرج
مسلم نحوه من حديث سفينة، وأبو داود من حديث أنس: توضأ من إناء يسع رطلين والترمذي
بلفظ: يجزئ في الوضوء رطلان. وهي كلها قاضية بالتخفيف في ماء الوضوء، وقد علم نهيه
(ص) عن الاسراف في الماء، وإخباره أنه سيأتي قوم يعتدون في الوضوء، فمن
جاوز ما قال الشارع أنه يجزئ، فقد أسرف، فيحرم، وقول من قال: إن هذا تقريب، لا تحديد،
ما هو ببعيد، لكن الأحسن بالمتشرع محاكاة أخلاقه (ص)، والاقتداء به في كمية
ذلك. وفيه دليل على مشروعية الدلك لأعضاء الوضوء، وفيه خلاف: فمن قال بوجوبه استدل بهذا،
ومن قال: لا يجب، قال: لان المأمور به في الآية الغسل، وليس الدلك من مسماه، ولعله يأتي ذكر ذلك.
وعنه: أنه رأى النبي (ص) يأخذ لاذنيه ماء غير الماء الذي أخذه لرأسه. أخرجه البيهقي، وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وهو المحفوظ. (وعنه) أي عن عبد الله بن زيد: (أنه رأى النبي (ص) يأخذ
لاذنيه ماء غير الماء الذي أخذه لرأسه. أخرجه البيهقي وهو) أي هذا الحديث (
عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: ومسح برأسه بماء غير فضل يديه. وهو المحفوظ).
وذلك أنه ذكر المصنف في التلخيص عن ابن دقيق العيد: أن الذي رآه في الرواية هو بهذا
اللفظ الذي قال المصنف: إنه المحفوظ. وقال المصنف أيضا: إنه الذي في صحيح ابن حبان،
وفي رواية الترمذي، ولم يذكر في التلخيص: أنه أخرجه مسلم، ولا رأيناه في مسلم. إذا كان
كذلك: فأخذ ماء جديد للرأس هو أمر لا بد منه، وهو الذي دلت عليه الأحاديث، وحديث
البيهقي هذا هو دليل أحمد، والشافعي: أنه يؤخذ للأذنين ماء جديد، وهو دليل ظاهر. وتلك
الأحاديث التي سلفت غاية ما فيها أنه لم يذكر أحد أنه (ص) أخذ ماء جديدا،
وعدم الذكر ليس دليلا على عدم الفعل، إلا أن قول الرواة من الصحابة ومسح رأسه وأذنيه
مرة واحدة ظاهر انه بماء واحد. وحديث: الأذنان من الرأس: وإن كان في أسانيده مقال
الا ان كثرة طرقه يشد بعضه بعضا، ويشهد لها أحاديث مسحهما مع الرأس
مرة واحدة، وهي أحاديث كثيرة عن علي، وابن عباس، والربيع، وعثمان، وكلهم متفقون على
أنه مسح رأسه وأذنيه مرة واحدة، وإن احتمل أن المراد أنه لم يكرر مسحهما، وأنه أخذ لهما ماء
جديدا، فهو احتمال بعيد، وتأويل حديث إنه أخذ لهم ماء خلاف الذي مسح به رأسه: أقرب
ما يقال فيه: إنه لم يبق في يده بلة تكفي لمسح الاذنين، فأخذ لهما ماء جديدا.
49

وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين، من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل متفق عليه، واللفظ لمسلم. (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول
: إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا) بضم الغين المعجمة وتشديد الراء جمع أغر أي ذي
غرة، وأصلها: لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس. وفي النهاية: يريد: بياض وجوههم بنور الوضوء يوم
القيامة، ونصبه على أنه حال من فاعل يأتون، وعلى رواية يدعون يحتمل المفعولية (محجلين)
بالمهملة والجيم من التحجيل. في النهاية: أي: بيض مواضع الوضوء من الأيدي والاقدام. استعار
أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للانسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه
ورجليه (من أثر الوضوء) بفتح الواو، لأنه الماء، ويجوز الضم عند البعض كما تقدم (فمن
استطاع منكم أن يطيل غرته) أي: وتحجيله، وإنما اقتصر على أحدهما لدلالته على
الاخر، وأثر الغرة - وهي مؤنثة - على التحجيل - وهو مذكر - لشرف موضعها، وفي رواية لمسلم فليطل غرته وتحجيله
(فليفعل، متفق عليه، واللفظ لمسلم). وظاهر السياق: أن
قوله: فمن استطاع إلى اخره من الحديث، وهو يدل على عدم الوجوب، إذ هو في قوة من شاء
منكم، فلو كان واجبا ما قيده بها، إذ الاستطاعة لذلك متحققة قطعا، وقال نعيم أحد رواته:
لا أدري قوله: فمن استطاع إلخ من قول النبي (ص)، أو من قول أبي هريرة؟
وفي الفتح: لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة، وهم عشرة،
ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه. والحديث دليل على مشروعية إطالة الغرة،
والتحجيل. واختلف العلماء في القدر المستحب من ذلك. فقيل: في اليدين إلى المنكب، وفي
الرجلين إلى الركبة. وقد ثبت هذا عن أبي هريرة رواية ورأيا، وثبت من فعل ابن عمر، أخرجه
ابن أبي شيبة، وأبو عبيد بإسناد حسن. وقيل: إلى نصف العضد والساق. والغرة في الوجه: أن
يغسل إلى صفحتي العنق. والقول بعدم مشروعيتهما، وتأويل حديث أبي هريرة بأن المراد به
المداومة على الوضوء خلاف الظاهر، ورد بأن الراوي أعرف بما روى. كيف؟ وقد رفع معناه،
ولا وجه لنفيه. وقد استدل على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة بهذا الحديث، وبحديث
مسلم مرفوعا: سيما ليست لاحد غيركم والسيماء: بكسر السين المهملة العلامة. ورد هذا: بأنه
قد ثبت الوضوء لمن قبل هذه الأمة. قيل: فالذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي (ص) يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وظهوره، وفي شأنه كله. متفق عليه. (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي (ص) يعجبه
التيمن) أي تقديم الأيمن (في تنعله) لبس نعله (وترجله) بالجيم، أي مشط شعره
(وطهوره، وفي شأنه كله) تعميم بعد التخصيص (متفق عليه). قال ابن دقيق العيد:
هو عام مخصوص يعني قوله: كله: بدخول الخلاء، والخروج من المسجد، ونحوهما، فإنه يبدأ فيهما
باليسار. قيل: والتأكيد بكله يدل على بقاء التعميم، ودفع التجوز عن البعض، فيحتمل أن يقال:
حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصودا، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة، بل
هي إما تروك، وإما غير مقصودة. والحديث دليل على استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن
50

في الترجل، والغسل والحلق، وبالميامن في الوضوء، والغسل، والأكل، والشرب، وغير ذلك. قال
النووي: قاعدة الشرع المستمرة البداءة باليمين مع كل ما كان من باب التكريم، والتزيين. وما
كان بضدها استحب فيه التياسر، ويأتي الحديث في الوضوء قريبا، وهذه الدلالة للحديث
مبنية على أن لفظ يعجبه يدل على استحباب ذلك شرعا، وقد ذكرنا تحقيقه في حواشي شرح
العمدة عند الكلام على هذا الحديث.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إذا
توضأتم فابدأوا بميامنكم أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة. وأخرجه أحمد، وابن حبان،
والبيهقي، وزاد فيه وإذا لبستم قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصحح. والحديث
دليل على البداءة بالميامن عند الوضوء في غسل اليدين والرجلين، وأما غيرهما كالوجه والرأس،
فظاهر أيضا شمولهما، إلا أنه لم يقل أحد به فيهما، ولا ورد في أحاديث التعليم بخلاف اليدين
والرجلين، فأحاديث التعليم وردت بتقديم اليمنى فيهما على اليسرى في حديث عثمان الذي مضى،
وغيره. والآية مجملة بينتها السنة. واختلف في وجوب ذلك، ولا كلام في أنه الأولى. فعند
الهادوية: يجب، لحديث الكتاب، وهو بلفظ الامر، وهو للوجوب في أصله، وباستمرار فعله
(ص) له، فإنه ما روي أنه توضأ مرة واحدة بخلافه، إلا ما يأتي من حديث ابن عباس،
ولأنه فعله بيانا للواجب فيجب. ولحديث ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة: أنه
(ص) توضأ على الولاء، ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، وله طرق يشد
بعضها بعضا. وقالت الحنفية وجماعة: لا يجب الترتيب بين أعضاء الوضوء، ولا بين اليمنى
واليسرى من اليدين والرجلين. قالوا: الواو في الآية لا تقتضي الترتيب، وبأنه قد روى عن علي
عليه السلام: أنه بدأ بمياسره، وبأنه قال: ما أبالي بشمالي بدأت أم بيميني إذا أتممت الوضوء.
وأجيب عنه: بأنهما أثران غير ثابتين: فلا تقوم بهما حجة، ولا يقاومان ما سلف، وإن كان الدارقطني
قد أخرج حديث علي، ولم يضعفه، وأخرجه من طرق بألفاظ، لكنها موقوفة كلها.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أن النبي (ص) توضأ. فمسح بناصيته، وعلى العمامة والخفين أخرجه مسلم. (وعن المغيرة) بضم الميم فغين معجمة مكسورة فياء وراء. يكنى أبا عبد الله،
أو أبا عيسى، أسلم عام الخندق، وقدم مهاجرا، وأول مشاهده الحديبية. وفاته سنة خمسين من
الهجرة بالكوفة، وكان عاملا عليها من قبل معاوية. وهو (ابن شعبة) بضم الشين المعجمة
وسكون العين المهملة فموحدة مفتوحة: (أن النبي (ص) توضأ فمسح بناصيته)
في القاموس: الناصية والناصاة: قصاص الشعر (وعلى العمامة والخفين) تثنية خف بالخاء
المعجمة مضمومة، أي ومسح عليهما (أخرجه مسلم) ولم يخرجه البخاري ووهم من نسبه إليهما.
والحديث: دليل على عدم جواز الاقتصار على مسح الناصية. وقال زيد بن علي عليه السلام،
وأبو حنيفة: يجوز الاقتصار. وقال ابن القيم: ولم يصح عنه (ص) في حديث
واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، لكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة
كما في حديث المغيرة هذا. وقد ذكر الدارقطني: أنه رواه عن ستين رجلا. وأما الاقتصار
على العمامة بالمسح فلم يقل به الجمهور. وقال ابن القيم: إنه (ص) كان
51

يمسح على رأسه تارة، وعلى العمامة تارة، وعلى الناصية والعمامة تارة. والمسح على الخفين يأتي
له باب مستقل، ويأتي حديث المسح على العصائب.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما - في صفة حج النبي (ص) - قال (ص): ابدأوا بما بدأ الله به أخرجه النسائي هكذا بلفظ الامر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر. (وعن جابر) هو: أبو عبد الله جابر (بن عبد الله) بن عمرو بن حرام بالحاء والراء
المهملتين، الأنصاري السلمي، من مشاهير الصحابة، ذكر البخاري: أنه شهد بدرا، وكان ينقل
الماء يومئذ. ثم شهد بعدها مع النبي (ص) ثماني عشرة غزوة، ذكر ذلك الحاكم
أبو أحمد، وشهد صفين مع علي عليه السلام، وكان من المكثرين الحفاظ، وكف بصره في اخر
عمره، وتوفي سنة أربع أو سبع وسبعين بالمدينة، وعمره أربع وتسعون سنة، وهو اخر من مات
بالمدينة من الصحابة. (في صفة حج النبي (ص)) يشير إلى حديث جليل
شريف سيأتي إن شاء الله تعالى في الحج (قال) أي النبي ((ص): ابدأوا
بما بدأ الله به: أخرجه النسائي هكذا بلفظ الامر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر) أي بلفظ
نبدأ، ولفظ الحديث: قال: ثم خرج أي النبي (ص) من الباب: أي باب الحرم
إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) *. نبدأ بما بدأ
الله به بلفظ الخبر فعلا مضارعا، فبدأ بالصفا لبداءة الله به في الآية. وذكر المصنف هذه
القطعة من حديث جابر هنا، لأنه أفاد أن ما بدأ الله به ذكرا نبتدئ به فعلا فإن كلامه
كلام حكيم، لا يبدأ ذكرا إلا بما يستحق البداءة به فعلا، فإنه مقتضى البلاغة، ولذا قال سيبويه:
إنهم أي: العرب يقدمون ما هم بشأنه أهم، وهم به أعني، فإن اللفظ عام، والعام لا يقتصر على
سببه، أعني بما بدأ الله به، لان كلمة ما موصولة، والموصولات من ألفاظ العموم، وآية الوضوء
وهي قوله تعالى - فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إي الكعبين
داخلة تحت الامر بقوله صلى لله عليه سلم ابدأوا بما بدا الله به فيجب البدائة بغسل الوجه
ثم ما بعده على الترتيب وإن كانت الآية لم تفد تقديم اليمنى على اليسرى من اليدين والرجلين وتقدم القول فيه قريبا وذهبت الحنفية وآخرون إلى أن الترتيب بين أعضاء الوضوء غير واجب
وتقدم القول فيه قريبا. وذهبت الحنفية وآخرون إلى أن التريب بين أعضاء الوضوء غير واجب
واستدل لهم بحديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ويديه
ثم رجليه ثم مسح رأسه بفضل وضوئه وأجيب بأنه لا تعرف له طريق صحيحة حتى
يتم به الاستدلال. ثم لا يخفى أنه كان الأولى تقديم حديث جابر هذا على حديث المغيرة
وجعله متصلا بحديث أبي هريرة لتقاربهما في الدلالة.
(وعنه) أي جابر بن عبد الله رضي الله عنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. أخرجه الدارقطني) هو الحافظ الكبير
الامام العديم النظير في حفظه. قال الذهبي في حقه: هو حافظ الزمان أبو الحسين علي بن عمر
ابن أحمد البغدادي الحافظ الشهير صاحب السنن. مولده سنة ست وثلاثمائة سمع من عوالم وبرع في هذا الشأن. قال الحاكم: صار الدارقطني أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع
وإماما في القراءة والنحو وله مصنفات يطول ذكرها وأشهد أنه لم يخلق على أديم الأرض مثله
وقال الخطيب: كان فريد عصره وإمام وقته وانتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء
52

للرجال مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد وقد أطال أئمة الحديث الثناء على هذا الرجال
وكانت وفاته في ثامن ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة (باسناد ضعيف) وأخرجه البيهقي
أيضا باسناد الدارقطني وفى الاسنادين معا القاسم بن محمد بن عقيل وهو متروك وضعه
أحمد وابن معين وغيرهما، وعده ابن حبان في الثقات لكن الجارح أولى وإن كثر المعدل وهنا
الجارح أكثر وصرح بضعف الحديث جماعة من الحفاظ كالمندري وابن الصلاح والنووي
وغيرهم. قال المصنف: ويغني عنه حديث أبي هريرة عند مسلم أنه توضأ حتى أشرع
في العضد وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ قلت ولو أتي به هنا لكان أولى
(وعن أبي هريرة رضى ا لله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة باسناد ضعيف
هذا قطعة من الحديث الذي أخرجه المذكورون فإنهم أخرجوه بلفظ لا صلاة لمن لا وضوء
له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه والحديث مروى من طريق يعقوب بن سلمة عن أبيه
عن أبي هريرة وهو يعقوب بن سلمة الليثي. قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه ولا
لأبيه من أبي هريرة وله طرق أخرى عند الدارقطني والبيهقي ولكنها ضعيفة أيضا وعند
الطبراني من حديث أبي هريرة بلفظ الامر إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله فان
حفظتك لا تزال تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء ولكن سنده واه
(والترمذي) لم يقل والترمذي (عن سعيد بن زيد) وزيد هو ابن عمرو بن نفيل أحد
العشرة المشهود لهم بالجنة صحابي جليل القدر لأنه لم يروه في السنن بل رواه في العلل فغاير
المصنف في العبارة لهذه الإشارة ولأنه لم يروه عن أبي هريرة (وأبي سعيد نحوه وقال أحمد
لا يثبت فيه شئ) وأخرجه البزار وأحمد وابن ماجة والدار قطني وغيرهم. قال الترمذي: قال
محمد يعنى البخاري إنه أحسن شئ في هذا الكتاب لكنه ضعيف لان في رواته مجهولين.
ورواية أبي سعيد الخدري التي أخرجها الترمذي وغيره من رواية كثير بن زيد عن ربيح
عن عبد الرحمن عن أبي سعيد ولكنه قدح في كثير بن زيد وفى ربيح أيضا. وقد روى
الحديث في التسمية من حديث عائشة وسهل بن سعد وابن سبرة وأم سبرة وعلى وأنس.
وفي الجميع مقال إلا أن هذه الروايات يقوى بعضها بعضا فلا تخلو عن قوة ولذا قال ابن
أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. وإذا عرفت هذا فالحديث قد دل على
مشروعية التسمية في الوضوء وظاهر قوله (لا وضوء) أنه يصح ولا يوجد من دونها إذ الأصل
في النفي الحقيقة. وقد اختلف العلماء في ذلك فذهبت الهادوية إلى أنها فرض على الذاكر.
وقال أحمد بن حنبل: والظاهرية بل وعلى الناس وفى أحد قولي الهادي إنها سنة وإليه ذهبت الحنفية والشافعية لحديث أبي هريرة من ذكر الله أول وضوء أخرجه
جسده كله وإذا لم يذكر اسم الله لم يذكر اسم الله لم يطهر منه إلا موضع الوضوء أخرجه
الدارقطني وغيره وهو ضعيف وبه استدل من فرق بين الذاكر والناسي قائلا: إن الأول
53

في حق العامد وهذا في حق الناس. وحديث أبي هريرة هذا الأخير وإن كان ضعيفا فقد
عضده في الدلالة على / عدم الفرضية حديث توضأ كما امرك الله وقد تقدم وهو الدليل على
تأويل النفي من حديث الباب بأن المراد لا وضوء كامل، على أنه قد روى هذا الحديث بلفظ
لا وضوء كامل إلا أنه قال المصنف لم يروه بهذا اللفظ قاله البيهقي في السنن بعد اخراجه هذا
أيضا ضعيف، أبو بكر الداهري - يريد أحد رواته - أنه غير ثقة عند أهل العلم بالحديث.
وأما القول بأن هذا مثبت ودال على الايجاب فيرجح ففيه أنه لم يثبت ثبوتا يقضى بالايجاب
بل طرقه كما عرفت. وقد دل على السنية حديث كل أمر ذي بال فيتعاضد هو وحديث
الباب على مطلق الشرعية وأقلها الندبية.
(وعن طلحة) هو أبو محمد أو أبو عبد الله طلحة (بن مصرف) بضم الميم وفتح
الصاد وكسر الراء المشددة وفاء. وطلحة أحد الاعلام الاثبات من التابعين. مات سنة
ثنتي عشرة ومائة (عن أبيه) مصرف (عن جده) كعب بن عمرو الهمداني. ومنهم من يقول
ابن عمر بضم العين المهملة. قال ابن عبد البر: والأشهر ابن عمرو له صحبة، ومنهم من ينكرها
ولا وجه لانكار من أنكر ذلك، ثم ذكر هذا الحديث (قال رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق. أخرجه أبو داود باسناد ضعيف) لأنه من
رواية ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. قال النووي: أتفق العلماء على ضعفه ولان مصرفا
والد طلحة مجهول الحال. قال أبو داود: وسمعت أحمد يقول: زعموا أن ابن عيينة كان ينكره
يقول إيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده. والحديث دليل على الفصل بين
المضمضة والاستنشاق بأن يؤخذ لكل واحد ماء جديد. وقد دل له أيضا حديث علي عليه
السلام وعثمان أنهما أفراد المضمضة والاستنشاق ثم قالا هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم توضأ. أخرجه أبو علي بن السكن في صحاحه وذهب إلى هذا جماعة، وذهبت الهادوية
إلى أن السنة الجمع بينهما بغرفة لما أخرجه ابن ماجة من حديث علي عليه السلام أنه
تمضمض فاستنشق ثلاثا من كف واحدة وأخرجه أبو داود والجمع بينهما ورد من حديث
على من ست طرق وتأتي أحداهما قريبا، وكذلك من حديث عثمان عند أبي داود وغيره.
وفي لفظ لابن حبان ثلاث مرات من ثلاث حفنات وفي لفظ للبخاري ثلاث مرات
غرفة واحدة ومع ورود الروايتين الجمع وعدمه فالأقرب التخيير وأن الكل سنة وإن كانت
رواية الجمع أكثر وأصح. وقد اختار في الشرح التخيير وقال إنه قول الإمام يحيى. واعلم أن
الجمع قد يكون بغرفة واحدة وبثلاث منها كما أرشد إليه ظاهر قوله في الحديث من كف
واحد من غرفة واحدة وقد يكون الجمع بثلاث غرفات لكل واحدة من الثلاث المرات غرفة
كما هو صريح ثلاث مرات من ثلاث حفنات. قال البيهقي في السنن بعد ذكره الحديث: يعني
والله أعلم أنه تمضمض واستنثر كل مرة غرفة واحدة ثم فعل ذلك ثلاثا من ثلاث غرفات
قال ويدل له حديث عبد الله بن زيد، ثم ساقه بسنده وفيه ثم أدخل يده في الاناء
54

فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث مرات من ثلاث غرفات من ماء ثم قال رواه البخاري
في الصحيح، وبه يتضح أنه يتعين هذا الاحتمال.
(وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء: ثم تمضمض) صلى الله عليه وسلم
(واستنثر ثلاثا يمضمض وينثر من الكف الذي يأخذ منه الماء. أخرجه
أبو داود والنسائي) هذا من أدلة الجمع، ويحتمل أنه من غرفة واحدة أو من ثلاث غرفات.
(وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه في صفة الوضوء) أي وضوئه صلى الله عليه
وسلم (ثم أدخل صلى الله عليه وسلم يده) أي في الماء (فمضمض واستنشق)
لم يذكر الاستنثار لان المراد إنما هو ذكر اكتفائه بكف واحدة من الماء لما يدخل في الفم
والأنف، وأما دفع الماء فليس من مقصود الحديث (من كف واحدة) الكف يذكر
ويؤنث (يفعل ذلك ثلاثا. متفق عليه) هو ظاهر في أنه كفاه كف واحد للثلاث.
والحديث كالأول من أدلة الجمع. وهذا الحديث والأول مقتطعان من الحديثين الطولين في صفة
الوضوء وقد تقدم مثل هذا إلا أن المصنف أنما يقتصر على موضع الحجة الذي يريده كالجمع هنا
(وعن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وفي قدمه
مثل الظفر) بضم الظاء المعجمة والفاء، فيه لغات أخر أجودها ما ذكر وجمعه أظفار وجمع
الجمع أظافير (لم يصبه الماء) أي ماء وضوئه (فقال له ارجع فأحسن وضوءك
أخرجه أبو داود والنسائي) وقد أخرج مثله مسلم من حديث جابر عن عمر إلا أنه قيل إنه موقوف
على عمر. وقد أخرج أبو داود من طريق خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها
الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة. قال أحمد بن حنبل لما سئل عن
إسناده جيد. نعم. وهو دليل على وجوب استيعاب أعضاء الوضوء بالماء نصا في الرجل
وقياسا في غيرهما. وقد ثبت حديث ويل للأعقاب من النار قاله صلى الله عليه وسلم
في جماعة. لم يمس أعقابهم الماء. وإلى هذا ذهب الجمهور. وروى عن أبي حنيفة قال: إنه
يعفى عن نصف العضو أو ربعه أو أقل من الدرهم روايات حكيت عنه. وقد استدل بالحديث
أيضا على وجوب الموالاة حيث أمره أن يعيد الوضوء ولم يقتصر على أمره بغسل ما تركه. قيل
ولا دليل فيه لأنه أراد التشديد عليه في الانكار والإشارة إلى أن من ترك شيئا فكأنه ترك الكل
ولا يخفى ضعف هذا القول، فالأحسن أن يقال إن قول الراوي أمره أن يعيد الوضوء: أي
غسل ما تركه وسماه إعادة باعتبار ظن المتوضئ فإنه صلى ظانا بأنه قد توضأ وضوءا مجزئا وسماه
وضوءا في قوله يعيد الوضوء لأنه وضوء لغة. وفي الحديث دليل على أن الجاهل والناسي
حكمهما في الترك حكم العامد.
(وعنه) أي أنس بن مالك (قال: كان رسول الله (ص) يتوضأ
بالمد) تقدم تحقيق قدره (ويغتسل بالصاع) وهو أربعة أمداد، ولذا قال (إلى خمسة
55

أمداد)، كأنه قال: بأربعة أمداد إلى خمسة (متفق عليه). وتقدم: أنه (ص) توضأ
بثلثي مد، وقدمنا أنه أقل ما قدر به ماء وضوئه، ولو أخر المصنف ذلك الحديث إلى هنا، أو قدم هذا
لكان أوفق لحسن الترتيب. ظاهر هذا الحديث أن هذا غاية ما كان ينتهي إليه وضوءه
(ص)، وغسله، ولا ينافيه حديث عائشة الذي أخرجه البخاري: أنه (ص)
توضأ من إناء واحد يقال له الفرق بفتح الفاء والراء، وهو إناء يسع تسعة عشر
رطلا، لأنه ليس في حديثها أنه كان ملآنا ماء، بل قولها: من إناء يدل على تبعيض ما توضأ منه.
وحديث أنس هذا، والحديث الذي سلف عن عبد الله بن زيد: يرشدان إلى تقليل ماء الوضوء،
والاكتفاء باليسير منه. وقد قال البخاري: وكره أهل العلم فيه: أي ماء الوضوء أن يتجاوز
فعل النبي (ص).
(وعن عمر) بضم العين المهملة منقول من جمع عمرة، وهو: أبو حفص عمر بن
الخطاب القرشي، يجتمع مع النبي (ص) في كعب بن لؤي، أسلم سنة ست من
النبوة، وقيل: سنة خمس بعد أربعين رجلا. وشهد المشاهد كلها مع النبي (ص):
وله مشاهد في الاسلام، وفتوحات في العراق والشام. وتوفي في غرة المحرم سنة أربع وعشرين،
طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وخلافته عشر سنين ونصف. (قال: قال رسول الله
(ص): ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء) تقدم أنه إتمامه (ثم
يقول) بعد إتمامه: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية) هو من باب: ونفخ في الصور. عبر عن
الآتي بالماضي لتحقق وقوعه، والمراد: تفتح له يوم القيامة يدخل من أيها شاء (أخرجه مسلم)،
وأبو داود، وابن ماجة، (والترمذي، وزاد: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
جمع بينهما إلماما بقوله تعالى: * (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) *. ولما كانت
التوبة طهارة الباطن من أدران الذنوب، والوضوء طهارة الظاهر عن الاحداث المانعة عن
التقرب إليه تعالى، ناسب الجمع بينهما: أي طلب ذلك من الله تعالى غاية المناسبة: في طلب
أن يكون السائل محبوبا لله، وفي زمرة المحبوبين له. وهذه الرواية، وإن قال الترمذي بعد اخراجه
الحديث: في إسناده اضطراب، فصدر الحديث ثابت في مسلم، وهذه الزيادة قد رواها البزار،
والطبراني في الأوسط من طريق ثوبان بلفظ: من دعا بوضوء فتوضأ فساعة فرغ من وضوئه
يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني
من المتطهرين ورواه ابن ماجة من حديث أنس، وابن السني في عمل اليوم والليلة، والحاكم
في المستدرك من حديث أبي سعيد بلفظ: من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن
لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق، ثم طبع بطابع، فلا يكسر إلى يوم القيامة.
وصحح النسائي: أنه موقوف، وهذا الذكر عقيب الوضوء. قال النووي: قال أصحابنا: ويستحب
أيضا عقيب الغسل. وإلى هنا انتهى باب الوضوء، ولم يذكر المصنف من الأذكار فيه
إلا حديث التسمية في أوله، وهذا الذكر في اخره. وأما حديث الذكر مع غسل كل عضو فلم
56

يذكره للاتفاق على ضعفه. قال النووي: الأدعية في أثناء الوضوء لا أصل لها، ولم يذكرها
المتقدمون. وقال ابن الصلاح: لم يصح فيه حديث. هذا، ولا يخفى حسن ختم المصنف باب
الوضوء بهذا الدعاء الذي يقال عند تمام الوضوء فعلا، فقاله عند تمام أدلته تأليفا، وعقب الوضوء
بالمسح على الخفين، لأنه من أحكام الوضوء فقال:
باب المسح على الخفين
أي باب ذكر أدلة شرعية ذلك. والخف: نعل من أدم يغطي الكعبين. والجرموق:
خف كبير يلبس فوق خف صغير. والجورب فوق الجرموق يغطي الكعبين بعض التغطية دون
النعل، وهي تكون دون الكعاب.
(عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي (ص)
أي: في سفر، كما صرح به البخاري. وعند مالك وأبي داود تعيين السفر: أنه في غزوة تبوك،
وتعيين الصلاة: أنها صلاة الفجر (فتوضأ) أي أخذ في الوضوء، كما صرحت به الأحاديث،
ففي لفظ: تمضمض واستنشق ثلاث مرات وفي أخرى: فمسح برأسه، فالمراد بقوله: توضأ أخذ
فيه، لا أنه استكمله، كما هو ظاهر اللفظ (فأهويت) أي مددت يدي، أو قصدت الهوى من
القيام إلى القعود (لأنزع خفيه) كأنه لم يكن قد علم برخصة المسح، أو علمها وظن أنه
(ص) سيفعل الأفضل، بناء على أن الغسل أفضل، ويأتي فيه الخلاف، أو جوز
أنه لم يحصل شرط المسح، وهذا الأخير أقرب لقوله: (فقال: دعهما) أي الخفين (فإني
أدخلتهما طاهرتين) حال من القدمين، كما تبينه رواية أبي داود: فإني أدخلت القدمين
الخفين وهما طاهرتان (فمسح عليهما. متفق عليه) بين الشيخين. ولفظه هنا للبخاري.
وذكر البزار: أنه روى عن المغيرة من ستين طريقا، وذكر منها ابن منده: خمسة وأربعين طريقا.
والحديث دليل على جواز المسح على الخفين في السفر، لان هذا الحديث ظاهر فيه كما عرفت
وأما في الحضر، فيأتي الكلام عليه في الحديث الثالث. وقد اختلف العلماء في جواز ذلك،
فالأكثر على جوازه سفرا، لهذا الحديث وحضرا لغيره من الأحاديث. قال أحمد بن حنبل: فيه
أربعون حديثا عن الصحابة مرفوعة. وقال ابن أبي حاتم: فيه عن أحد وأربعين صحابيا، وقال
ابن عبد البر في الاستذكار: روى عن النبي (ص) المسح على الخفين نحو من
أربعين من الصحابة. ونقل ابن المنذر عن الحسن البصري قال: حدثني سبعون من أصحاب
رسول الله (ص): أنه كان يمسح على الخفين. وذكر أبو القاسم بن منده: أسماء
من رواه من تذكرته فبلغوا ثمانين صحابيا. والقول بالمسح: قول أمير المؤمنين علي عليه السلام،
وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وحذيفة، وبريدة، وخزيمة بن ثابت، وسلمان، وجرير البجلي، وغيرهم.
قال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين بين الصحابة اختلاف، لان كل من روى عنه
إنكاره، فقد روى عنه إثباته. وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه روى عن أحد من السلف إنكاره،
إلا عن مالك، مع أن الرواية الصحيحة عنه مصرحة بإثباته. قال المصنف: قد صرح جمع من
57

الحفاظ بأن المسح متواتر، وقال به أبو حنيفة، والشافعي، وغيرهما مستدلين بما سمعت. وروى عن
الهادوية والامامية والخوارج: القول بعدم جوازه، واستدلوا بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا
فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله
ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) *
، قالوا: فعينت الآية مباشرة الرجلين بالماء، واستدلوا أيضا: بما سلف في باب الوضوء من أحاديث
التعليم، وكلها عينت غسل الرجلين. قالوا: والأحاديث التي ذكرتم في المسح منسوخة باية
المائدة، والدليل على النسخ قول علي عليه السلام: سبق الكتاب الخفين. وقول ابن عباس:
ما مسح رسول الله (ص) بعد المائدة. وأجيب: أولا: بأن اية الوضوء نزلت في غزوة
المريسيع، ومسحه (ص) في غزوة تبوك، كما عرفت، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر.
وثانيا: بأنه لو سلم تأخر اية المائدة، فلا منافاة بين المسح والآية، لان قوله تعالى: وأرجلكم.
مطلق، وقيدته أحاديث المسح على الخف، أو عام وخصصته تلك الأحاديث. وأما ما روي
عن علي عليه السلام، فهو حديث منقطع، وكذا ما روي عن ابن عباس، مع أنه يخالف ما ثبت
عنهما من القول بالمسح. وقد عارض حديثهما ما هو أصح منهما، وهو حديث جرير البجلي،
فإنه لما روى: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه، قيل له: هل كان
ذلك قبل المائدة أو بعدها؟ قال: وهل أسلمت إلا بعد المائدة؟ وهو حديث صحيح. وأما
أحاديث التعليم، فليس فيها ما ينافي جواز المسح على الخفين: فإنها كلها فيمن ليس عليه خفان.
فأي دلالة على نفي ذلك، على أنه قد يقال: قد ثبت في اية المائدة القراءة بالجر لأرجلكم عطفا
على الممسوح وهو الرأس، فيحمل على مسح الخفين، كما بينته السنة، ويتم ثبوت المسح بالسنة
والكتاب، وهو أحسن الوجوه التي توجه به قراءة الجر. إذا عرفت هذا فللمسح عند القائلين به
شرطان: الأول: ما أشار إليه الحديث، وهو لبس الخفين مع كمال طهارة القدمين، وذلك بأن
يلبسهما وهو على طهارة تامة، بأن يتوضأ حتى يكمل وضوءه ثم يلبسهما، فإذا أحدث بعد ذلك
حدثا أصغر، جاز المسح عليهما، بناء على أنه أريد بطاهرتين الطهارة الكاملة، وقد قيل: بل يحتمل
أنهما طاهرتان عن النجاسة، يروى عن داود، ويأتي من الأحاديث ما يقوي القول الأول.
والثاني مستفاد من مسمى الخف، فإن المراد به الكامل، لأنه المتبادر عند الاطلاق، وذلك بأن
يكون ساترا قويا مانعا نفوذ الماء غير مخرق، فلا يمسح على ما لا يستر العقبين، ولا على مخرق
يبدو منه محل الفرض، ولا على منسوج، إذ لا يمنع نفوذ الماء، ولا مغصوب لوجوب نزعه. هذا
وحديث المغيرة لم يبين كيفية المسح، ولا كميته، ولا محله، ولكن الذي أفاده قول المصنف.
وللأربعة عنه إلا النسائي: أن النبي (ص) مسح أعلى الخف
وأسفله. وفي إسناده ضعف. بين أن محل المسح أعلى الخف وأسفله، ويأتي من ذهب إليه،
ولكنه قد أشار إلى ضعفه، وبين وجه ضعفه في التلخيص، وأن أئمة الحديث ضعفوه بكاتب المغيرة
هذا. وكذلك بين محل المسح وعارض حديث المغيرة هذا.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله (ص) يمسح على ظاهر خفيه، أخرجه أبو داود بإسناد حسن. قوله: (وعن علي عليه السلام، أنه قال: - لو كان الدين بالرأي) أي بالقياس
وملاحظة المعاني (لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه) أي ما تحت القدمين
أولى بالمسح من الذي هو على أعلاهما، لأنه الذي يباشر المشي، ويقع على ما ينبغي إزالته،
58

بخلاف أعلاه، وهو ما على ظهر القدم (وقد رأيت رسول الله (ص) يمسح على
ظاهر خفيه، أخرجه أبو داود بإسناد حسن) وقال المصنف في التلخيص: إنه حديث
صحيح. والحديث فيه إبانة لمحل المسح على الخفين، وأنه ظاهرهما لا غير، ولا يمسح أسفلهما.
وللعلماء في ذلك قولان: أحدهما أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع باطن كفه اليسرى تحت
عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه.
وهذا للشافعي. واستدل لهذه الكيفية بما ورد في حديث المغيرة: أنه (ص) مسح
على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما
مسحة واحدة، كأني أنظر أصابعه على الخفين رواه البيهقي، وهو منقطع، على أنه لا يفي بتلك
الصفة. وثانيهما: مسح أعلى الخف دون أسفله، وهي التي أفادها حديث علي عليه السلام
هذا. وأما القدر المجزئ من ذلك: فقيل: لا يجزئ إلا قدر ثلاث أصابع، وقيل: ولو بأصبع،
وقيل: لا يجزئ إلا إذا مسح أكثره، وحديث علي، وحديث المغيرة المذكوران في الأصل ليس
فيهما تعرض لذلك. نعم قد روى عن علي عليه السلام: أنه رأى رسول الله (ص)
يمسح على ظهر الخف خطوطا بالأصابع. قال النووي: إنه حديث ضعيف. وروى عن
جابر: أنه (ص) أرى بعض من علمه المسح، أن يمسح بيده من مقدم الخفين إلى
أصل الساق مرة، وفرج بين أصابعه. قال المصنف: إسناده ضعيف جدا. فعرفت أنه لم يرد
في الكيفية، ولا الكمية حديث يعتمد عليه إلا حديث علي في بيان المسح. والظاهر أنه إذا
فعل المكلف ما يسمى مسحا على الخف لغة أجزأه. وأما مقدار زمان جواز المسح فقد أفاده الحديث.
وعن صفوان بن عسال قال: كان النبي (ص) يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم أخرجه النسائي والترمذي، واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه. (وعن صفوان) بفتح الصاد المهملة وسكون الفاء (بن عسال) بفتح المهملة
وتشديد السين المهملة وباللام المرادي سكن الكوفة (قال: كان النبي (ص)
يأمرنا إذا كنا سفرا) جمع سافر كتجر جمع تاجر (ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام
ولياليهن إلا من جنابة) أي فننزعها ولو قبل مرور الثلاث (ولكن) لا ننزعهن (من
غائط وبول ونوم) أي لأجل هذه الاحداث إلا إذا مرت المدة المقدرة (أخرجه النسائي،
والترمذي، واللفظ له، وابن خزيمة، وصححاه) أي الترمذي، وابن خزيمة، ورواه الشافعي،
وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وقال الترمذي عن البخاري: إنه حديث حسن. بل قال
البخاري: ليس في التوقيت شئ أصح من حديث صفوان بن عسال المرادي، وصححه الترمذي،
والخطابي. والحديث دليل على توقيت إباحة المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن،
وفيه دلالة على اختصاصه بالوضوء دون الغسل وهو مجمع عليه. وظاهر قوله: يأمرنا الوجوب،
ولكن الاجماع صرفه عن ظاهره فبقي للإباحة والندب. وقد اختلف العلماء: هل الأفضل المسح
على الخفين، أو خلعهما وغسل القدمين. قال المصنف عن ابن المنذر: والذي اختاره أن
المسح أفضل. وقال النووي: صرح أصحابنا: بأن الغسل أفضل، بشرط أن لا يترك المسح رغبة
عن السنة، كما قالوا في تفضيل القصر على الاتمام.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جعل رسول الله (ص) ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم - يعني في المسح على الخفين - أخرجه مسلم. (وعن علي عليه السلام قال: جعل رسول الله (ص) ثلاثة أيام
59

ولياليهن للمسافر ويوما للمقيم يعني في المسح على الخفين) هذا مدرج من
كلام علي، أو من غيره من الرواة (أخرجه مسلم)، وكذلك أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن حبان.
والحديث دليل على توقيت المسح على الخفين للمسافر، كما سلف في الحديث قبله، ودليل على
مشروعية المسح للمقيم أيضا، وعلى تقدير زمان إباحته بيوم وليلة للمقيم. وإنما زاد في المدة
للمسافر، لأنه أحق بالرخصة من المقيم، لمشقة السفر.
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: بعث رسول الله (ص) سرية، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب - يعني العمائم - والتساخين يعني الخفاف. رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم. (وعن ثوبان) بفتح المثلثة تثنية ثوب، وهو أبو عبد الله، أو أبو عبد الرحمن. قال
ابن عبد البر: والأول أصح. ابن بجدد بضم الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى.
وقيل: ابن جحدر بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة فدال مهملة فراء، وهو من أهل السراة
موضع بين مكة والمدينة، وقيل: من حمير أصابه سبي، فشراه رسول الله (ص)
فأعتقه، ولم يزل ملازما لرسول الله (ص) سفرا وحضرا، إلى أن توفي (ص)،
فنزل الشام، ثم انتقل إلى حمص، فتوفي بها سنة أربع وخمسين. (قال: بعث رسول
الله (ص) سرية، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب، يعني العمائم) سميت عصابة
لأنه يعصب بها الرأس (والتساخين) بفتح المثناة بعدها سين مهملة وبعد الألف خاء معجمة
فمثناة تحتية فنون جمع تسخان. قال في القاموس: التساخين: المراجل الخفاف، وفسرها الراوي
بقوله: (يعني الخفاف) جمع خف. والظاهر أنه وما قبله في قوله: يعني العمائم مدرج في الحديث
من كلام الراوي (رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم). ظاهر الحديث: أنه يجوز المسح على
العمائم كالمسح على الخفين، وهل يشترط فيها الطهارة للرأس، والتوقيت كالخفين؟ لم نجد فيه
كلاما للعلماء، ثم رأيت بعد ذلك في حواشي القاضي عبد الرحمن على بلوغ المرام: أنه يشترط
في جواز المسح على العمائم أن يعتم الماسح بعد كمال الطهارة، كما يفعل الماسح على الخف.
وقال: وذهب إلى المسح على العمائم بعض العلماء، ولم يذكر لما ادعاه دليلا. وظاهره أيضا
أنه لا يشترط للمسح عليها عذر، وأنه يجزئ مسحها، وإن لم يمس الرأس ماء أصلا. وقال ابن القيم:
إنه (ص) مسح على العمامة فقط، ومسح على الناصية، وكمل على العمامة، وقيل:
لا يكون ذلك إلا للعذر، لان في الحديث عند أبي داود: أنه (ص) بعث سرية
فأصابهم البرد. فلما قدموا على رسول الله (ص)، أمرهم أن يمسحوا على العصائب
والتساخين، فيحمل ذلك على العذر، وفي هذا الحمل بعد، وإن جنح إلى القول به في الشرح،
لأنه قد ثبت المسح على الخفين، والعمامة من غير عذر في غير هذا.
وعن عمر رضي الله عنه - موقوفا - وعن أنس - مرفوعا -: إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من الجنابة أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه. (وعن عمر موقوفا) الموقوف: هو ما كان من كلام الصحابي، ولم ينسبه إلى النبي
(ص) (وعن أنس مرفوعا) إليه (ص) (إذا توضأ أحدكم فلبس
خفيه فليمسح عليهما) تقييد اللبس، والمسح ببعد الوضوء: دليل: على أنه أريد بطاهرتين
في حديث المغيرة، وما في معناه: الطهارة المحققة من الحدث الأصغر (وليصل فيهما ولا
يخلعها إن شاء) قيدهما بالمشيئة: دفعا لما يفيده ظاهر الامر من الوجوب، وظاهر النهي
من التحريم (إلا من جنابة) فقد عرفت أنه يجب خلعهما (أخرجه الدارقطني والحاكم
60

وصححه). والحديث قد أفاد شرطية الطهارة، وأطلقه عن التوقيت، فهو مقيد به، كما يفيده حديث
صفوان، وحديث علي عليه السلام.
(وعن أبي بكرة) بفتح الموحدة وسكون الكاف وراء، اسمه نفيع بضم النون وفتح
الفاء وسكون المثناة التحتية اخره عين مهملة، ابن مسروح، وقيل: ابن الحارث، وكان أبو بكر
يقول: إنه مولى رسول الله (ص)، ويأبى أن ينتسب. وكان نزل من حصن الطائف
عند حصاره (ص) له في جماعة من غلمان أهل الطائف، وأسلم وأعتقه
(ص)، وكان من فضلاء الصحابة، قال ابن عبد البر: كان مثل النضر بن عبادة، مات
بالبصرة سنة إحدى، أو اثنتين وخمسين وكان أولاده أشرافا بالبصرة بالعلم والولايات، وله عقب
كثير: (عن النبي (ص): أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) أي
في المسح على الخفين (وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر) أي كل من المقيم والمسافر إذا
تطهر من الحدث الأصغر (فلبس خفيه) ليس المراد من الفاء التعقيب، بل مجرد العطف،
لأنه معلوم أنه ليس شرطا في المسح (أن يمسح عليهما. أخرجه الدارقطني، وصححه ابن
خزيمة)، وصححه الخطابي أيضا، ونقل البيهقي: أن الشافعي صححه، وأخرجه ابن حبان، وابن
الجارود، وابن أبي شيبة، والبيهقي، والترمذي في العلل. والحديث مثل حديث علي عليه السلام
في إفادة مقدار المدة للمسافر والمقيم. ومثل حديث عمر وأنس في شرطية الطهارة، وفيه إبانة
أن المسح رخصة لتسمية الصحابي له بذلك.
وعن أبي بن عمارة رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال:
نعم قال: يوما؟ قال: نعم قال: ويومين؟ قال: نعم قال: وثلاثة أيام؟
قال: نعم وما شئت، أخرجه أبو داود، وقال: ليس بالقوي. (وعن أبي) بضم
الهمزة وتشديد المثناة التحتية (ابن عمارة) بكسر العين المهملة،
وهو المشهور وقد تضم. قال المصنف في التقريب: مدني سكن مصر، له صحبة، في إسناد
حديثه اضطراب، يريد هذا الحديث، ومثله قال ابن عبد البر في الاستيعاب: (أنه قال:
يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قال: يوما؟ قال: نعم،
قال: ويومين قال: نعم، قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت. أخرجه أبو داود
وقال: ليس بالقوي). قال الحافظ المنذري في مختصر السنن: وبمعناه: أي بمعنى ما قال أبو داود قال البخاري.
وقال الإمام أحمد: رجاله لا يعرفون. وقال الدارقطني: هذا إسناد لا يثبت اه‍. وقال ابن حبان:
لست أعتمد على إسناد خبره. وقال ابن عبد البر: لا يثبت، وليس له إسناد قائم، وبالغ
ابن الجوزي، فعده في الموضوعات. وهو دليل على عدم توقيت المسح في حضر ولا سفر،
وهو مروي عن مالك، وقديم قولي الشافعي، ولكن الحديث لا يقاوم مفاهيم الأحاديث التي
سلفت، ولا يدانيها، ولو ثبت لكان إطلاقه مقيدا بتلك الأحاديث، كما يقيد بشرطية الطهارة
التي أفادتها. هذا وأحاديث باب المسح تسعة وعدها في الشرح ثمانية ولا وجه له.
باب نواقض الوضوء
النواقض: جمع ناقض، والنقض في الأصل: حل المبرم، ثم استعمل في إبطال الوضوء بما
عينه الشارع مبطلا مجازا، ثم صار حقيقة عرفية. وناقض الوضوء ناقض للتيمم، فإنه بدل عنه.
61

عن أنس بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله (ص) على عهده ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضأون. أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم. (عن أنس بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله (ص) على عهده
ينتظرون العشاء حتى تخفق) من باب ضرب يضرب: أي: تميل (رؤوسهم) أي
من النوم (ثم يصلون ولا يتوضأون. أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم)
وأخرجه الترمذي، وفيه يوقظون للصلاة، وفيه حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطا، ثم
يقومون فيصلون ولا يتوضأون. وحمله جماعة من العلماء على نوم الجالس، ودفع هذا التأويل:
بأن في رواية عن أنس: يضعون جنوبهم رواها يحيى القطان. قال ابن دقيق العيد: يحمل
على النوم الخفيف. ورد: بأنه لا يناسبه ذكر الغطيط، والايقاظ، فإنهما لا يكونان إلا في نوم
مستغرق. وإذا عرفت هذا فالأحاديث قد اشتملت على خفقة الرأس، وعلى الغطيط، وعلى
الايقاظ، وعلى وضع الجنوب، وكلها وصفت بأنهم كانوا لا يتوضأون من ذلك، فاختلف
العلماء في ذلك على أقوال ثمانية: الأول: أن النوم ناقض مطلقا على كل حال، بدليل إطلاقه
في حديث صفوان بن عسال الذي سلف في مسح الخفين، وفيه: من بول، أو غائط، أو نوم.
قالوا: فجعل مطلق النوم كالغائط، والبول في النقض، وحديث أنس - بأي عبارة روي - ليس في
بيان أنه قررهم رسول الله (ص) على ذلك، ولا رآهم، فهو فعل صحابي لا يدري كيف
وقع، والحجة إنما هي في أفعاله، وأقواله، وتقريراته (ص). القول الثاني: أنه لا ينقض
مطلقا، لما سلف من حديث أنس، وحكاية نوم الصحابة على تلك الصفات، ولو كان ناقضا
لما أقرهم الله عليه، وأوحى إلى رسوله (ص) في ذلك، كما أوحي إليه في شأن
نجاسة نعله، وبالأولى صحة صلاة من خلفه، ولكنه يرد عليهم بحديث صفوان بن عسال. القول
الثالث: أن النوم ناقض كله، إنما يعفى عن خفقتين ولو توالتا، وعن الخفقات المتفرقات، وهو
مذهب الهادوية، والخفقة: هي ميلان الرأس من النعاس، وحد الخفقة أن لا يستقر رأسه
من الميل حتى يستيقظ، ومن لم يمل رأسه عفي له عن قدر خفقة، وهي ميل الرأس فقط حتى
يصل ذقنه صدره، قياسا على نوم الخفقة، ويحملون أحاديث أنس على النعاس الذي لا يزول
معه التمييز. ولا يخفى بعده. القول الرابع: أن النوم ليس بناقض بنفسه بل هو مظنة للنقض لا غير،
فإذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإلا انتقض، وهو مذهب الشافعي، واستدل
بحديث علي عليه السلام: العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ حسنه الترمذي، إلا أن فيه من لا تقوم به
حجة، وهو بقية بن الوليد، وقد عنعنه، وحمل أحاديث أنس على من نام ممكنا مقعدته، جمعا بين
الأحاديث، وقيد حديث صفوان بحديث علي عليه السلام هذا. الخامس: أنه إذا نام على هيئة
من هيئات المصلي راكعا، أو ساجدا، أو قائما، فإنه لا ينتقض وضوؤه سواء كان في الصلاة، أو
خارجها، فإن نام مضجعا، أو على قفاه نقض، واستدل له بحديث: إذا نام العبد في سجوده
باهى الله به الملائكة. يقول: عبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي رواه البيهقي وغيره،
وقد ضعف. قالوا: فسماه ساجدا وهو نائم، ولا سجود إلا بطهارة. وأجيب: بأنه سماه باعتبار
أول أمره، أو باعتبار هيئته. السادس: أنه ينتقض إلا نوم الراكع والساجد، للحديث الذي سبق، وإن
كان خاصا بالسجود، فقد قاس عليه الركوع، كما قاس الذي قبله سائر هيئات المصلى. السابع:
62

أنه لا ينقض النوم في الصلاة على أي حال، وينقض خارجها، وحجته الحديث المذكور، لأنه
حجة هذه الأقوال الثلاثة. الثامن: أن كثير النوم ينقض على كل حال، ولا ينقض قليله، وهؤلاء
يقولون: إن النوم ليس بناقض بنفسه، بل مظنة النقض، والكثير مظنة، بخلاف القليل، وحملوا أحاديث
أنس على القليل، إلا أنهم لم يذكروا قدر القليل، ولا الكثير حتى يعلم كلامهم بحقيقته، وهل
هو داخل تحت أحد الأقوال، أم لا؟. فهذه أقوال العلماء في النوم اختلفت أنظارهم فيه، لاختلاف
الأحاديث التي ذكرناها. وفي الباب أحاديث لا تخلو عن قدح أعرضنا عنها. والأقرب القول:
بأن النوم ناقض لحديث صفوان، وقد عرفت أنه صححه ابن خزيمة، والترمذي، والخطابي، ولكن
لفظ النوم في حديثه مطلق ودلالة الاقتران ضعيفة، فلا يقال: قد قرن بالبول والغائط، وهما ناقضان
على كل حال. ولما كان مطلق ورود حديث أنس بنوم الصحابة، وأنهم كانوا لا يتوضأون ولو
غطوا غطيطا، وبأنهم كانوا يضعون جنوبهم، وبأنهم كانوا يوقظون، والأصل جلالة قدرهم، وأنهم
لا يجهلون ما ينقض الوضوء، سيما وقد حكاه أنس عن الصحابة مطلقا، ومعلوم أن فيهم العلماء
العارفون بأمور الدين خصوصا الصلاة التي هي أعظم أركان الاسلام، ولا سيما الذين كانوا منهم
ينتظرون الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، فإنهم أعيان الصحابة، وإذا كانوا كذلك فيقيد
مطلق حديث صفوان بالنوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك، ويؤول ما ذكره أنس من
الغطيط ووضع الجنوب والايقاظ بعدم الاستغراق، فقد يغط من هو في مبادئ نومه قبل
استغراقه. ووضع الجنب لا يستلزم الاستغراق، فقد كان صلى الله عليه وسلم يضع
جنبه بعد ركعتي الفجر ولا ينام، فإنه كان يقوم لصلاة الفجر بعد وضع جنبه. وإن كان قيل: إنه
من خصائصه (ص): أنه لا ينقض نومه وضوءه، فعدم ملازمة النوم لوضع الجنب
معلومة، والايقاظ قد يكون لمن هو في مبادئ النوم، فينبه، لئلا يستغرقه النوم. هذا وقد ألحق
بالنوم الاغماء، والجنون، والسكر بأي مسكر، بجامع زوال العقل. وذكر في الشرح أنهم اتفقوا
على أن هذه الأمور ناقضة، فإن صح كان الدليل الاجماع.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي (ص)،
فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا،
إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي متفق عليه.
وللبخاري: ثم توضأي لكل صلاة وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمدا.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش)
حبيش بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية فشين معجمة. وفاطمة
قرشية أسدية، وهي زوج عبد الله بن جحش (إلى النبي (ص) فقالت: يا رسول
الله إني امرأة أستحاض) من الاستحاضة وهي: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه
(فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: لا إنما ذلك) بكسر الكاف خطاب للمؤنث (عرق)
بكسر العين المهملة وسكون الراء فقاف، وفي فتح الباري: أن هذا العرق يسمى العاذل بعين
مهملة وذال معجمة، ويقال: عاذر: بالراء بدلا عن اللام، كما في القاموس (وليس بحيض)
فإن الحيض يخرج من قعر رحم المرأة، فهو إخبار باختلاف المخرجين، وهو رد لقولها: لا أطهر،
لأنها اعتقدت أن طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم، فكنت بعدم الطهر عن اتصاله،
وكانت قد علمت: أن الحائض لا تصلي، فظنت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم، فأبان لها
(ص): أنه ليس بحيض، وأنها طاهرة يلزمها الصلاة (فإذا أقبلت حيضتك)
63

بفتح الحاء ويجوز كسرها، والمراد بالاقبال: ابتداء دم الحيض (فدعي الصلاة) يتضمن:
نهي الحائض عن الصلاة، وتحريم ذلك عليها، وفساد صلاتها، وهو إجماع (وإذا أدبرت)
هو ابتداء انقطاعها (فاغسلي عنك الدم) أي: واغتسلي، وهو مستفاد من أدلة أخرى (ثم
صلي. متفق عليه). الحديث دليل على وقوع الاستحاضة، وعلى أن لها حكما يخالف حكم
الحيض، وقد بينه (ص أكمل بيان، فإنه أفتاها بأنها لا تدع الصلاة مع جريان
الدم، وبأنها تنتظر وقت إقبال حيضها، فتترك الصلاة فيها، وإذا أدبرت غسلت الدم، واغتسلت
كما ورد في بعض طرق البخاري: واغتسلي. وفي بعضها كرواية المصنف هنا: الاقتصار على
غسل الدم. والحاصل: أنه قد ذكر الأمران في الأحاديث الصحيحة غسل الدم، والاغتسال.
وإنما بعض الرواة اقتصر على أحد الامرين، والاخر على الاخر. ثم أمرها بالصلاة بعد ذلك.
نعم، وإنما بقي الكلام في معرفتها لاقبال الحيض مع استمرار الدم بماذا يكون؟ فإنه قد أعلم
الشارع المستحاضة بأحكام إقبال الحيضة، وإدبارها، فدل على أنها تميز ذلك بعلامة. وللعلماء
في ذلك قولان: أحدهما: أنها تميز ذلك بالرجوع إلى عادتها، فاقبالها وجود الدم في أول أيام
العادة، وإدبارها انقضاء أيام العادة، وورد الرد إلى أيام العادة في حديث فاطمة في بعض
الروايات بلفظ: دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، وسيأتي في باب الحيض
تحقيق الكلام على ذلك. الثاني: ترجع إلى صفة الدم، كما يأتي في حديث عائشة في قصة فاطمة
بنت أبي حبيش هذه بلفظ: إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة،
وإذا كان الاخر فتوضئي، وصلي، ويأتي في باب الحيض إن شاء الله تعالى، فيكون
إقبال الحيض إقبال الصفة، وإدباره إدبارها، ويأتي أيضا الامر بالرد إلى عادة النساء، ويأتي تحقيق ذلك جميعا،
ويأتي بيان اختلاف العلماء، وأن كلا ذهب إلى القول بالعمل بعلامة من العلامات. (وللبخاري)
أي: من حديث عائشة هذا زيادة: (ثم توضئي لكل صلاة، وأشار مسلم إلى أنه حذفها
عمدا) فإنه قال في صحيحه بعد سياق الحديث: وفي حديث حماد حرف تركنا ذكره. قال
البيهقي: هو قوله: توضئي، لأنها زيادة غير محفوظة، وأنه تفرد بها بعض الرواة عن غيره ممن روى
الحديث. وقد قرر المصنف في الفتح: أنها ثابتة من طرق ينتفي معها تفرد من قاله مسلم. واعلم
أن المصنف ساق حديث المستحاضة في باب النواقض، وليس المناسب للباب إلا هذه الزيادة،
لا أصل الحديث، فإنه من أحكام باب الاستحاضة والحيض، وسيعيده هنالك، فهذه الزيادة هي
الحجة على أن دم الاستحاضة حدث، من جملة الاحداث، ناقض للوضوء، ولهذا أمر الشارع
بالوضوء منه لكل صلاة، لأنه إنما رفع الوضوء حكمه لأجل الصلاة، فإذا فرغت من الصلاة نقض
وضوؤها، وهذا قول الجمهور: أنها تتوضأ لكل صلاة. وذهبت الهادوية والحنفية: إلى أنها تتوضأ
لوقت كل صلاة، وأن الوضوء متعلق بالوقت، وأنها تصلي به الفريضة الحاضرة، وما شاءت من
النوافل، وتجمع بين الفريضتين على وجه الجواز عند من: يجيز ذلك، أو لعذر، وقالوا: الحديث فيه
مضاف مقدر وهو: لوقت كل صلاة فهو من مجاز الحذف، ولكنه لا بد من قرينة توجب التقدير،
وقد تكلف في الشرح: إلى ذكر ما لعله يقال: إنه قرينة للحذف، وضعفه. وذهبت المالكية:
64

إلى أنه يستحب الوضوء ولا يجب إلا لحدث اخر. وسيأتي تحقيق ما في ذلك في حديث حمنة بنت جحش
في باب الحيض إن شاء الله تعالى، وتأتي أحكام المستحاضة التي تجوز لها، وتفارق بها
الحائض هنالك فهو محل الكلام عليها، وفي الشرح سرده هناك، وأما هنا فما ذكر حديثهما إلا
باعتبار نقض الاستحاضة للوضوء.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء فأمرت المقداد أن يسأل رسول الله (ص)، فسأله، فقال: فيه الوضوء متفق عليه، واللفظ للبخاري. (وعن علي عليه السلام قال: كنت رجلا مذاء) بزنة ضراب صيغة مبالغة
من المذي بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء، وفيه لغات، وهو ماء أبيض لزج
رقيق يخرج عند الملاعبة، أو تذكر الجماع، أو إرادته، يقال: مذى زيد يمذي، مثل: مضى يمضي،
وأمذى يمذي، مثل: أعطى يعطي (فأمرت المقداد) وهو ابن الأسود الكندي (أن يسأل
رسول الله (ص)) أي: عما يجب على من أمذى، فسأله (فقال: فيه الوضوء.
متفق عليه واللفظ للبخاري). وفي بعض ألفاظه عند البخاري بعد هذا: فاستحييت أن أسأل
رسول الله (ص). وفي لفظ: لمكان ابنته مني وفي لفظ لمسلم: لمكان فاطمة.
ووقع عند أبي داود، والنسائي، وابن خزيمة عن علي عليه السلام بلفظ: كنت رجلا مذاء فجعلت
أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري. وزاد في لفظ للبخاري فقال: توضأ واغسل ذكرك،
وفي مسلم: اغسل ذكرك وتوضأ، وقد وقع اختلاف في السائل هل هو المقداد كما في هذه
الرواية، أو عمار كما في رواية أخرى؟ وفي رواية أخرى: أن عليا رضي الله عنه هو السائل.
وجمع ابن حبان بين ذلك: بأن عليا عليه السلام أمر المقداد أن يسأل، ثم سأل بنفسه، إلا أنه تعقب:
بأن قوله: فاستحييت أن أسأل لمكان ابنته مني: دال على أنه رضي الله عنه لم يباشر السؤال،
فنسبة السؤال إليه في رواية من قال: إن عليا سأل: مجاز، لكونه الامر بالسؤال. والحديث دليل
على أن المذي ينقض الوضوء، ولأجله ذكره المصنف في هذا الباب، ودليل على أنه لا يوجب
غسلا، وهو إجماع، ورواية توضأ واغسل ذكرك لا تقتضي تقديم الوضوء، لان الواو لا تقتضي
الترتيب، ولان لفظ رواية مسلم تبين المراد، وأما إطلاق لفظ (ذكرك) فهو ظاهر في غسل الذكر
كله، وليس كذلك، إذ الواجب غسل محل الخارج، وإنما هو من إطلاق اسم الكل على البعض،
والقرينة ما علم من قواعد الشرع. وذهب البعض إلى أنه يغسله كله عملا بلفظ الحديث، وأيده
رواية أبي داود: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ، وعنده أيضا: فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك
وتوضأ للصلاة إلا أن رواية غسل الأنثيين قد طعن فيها، وأوضحناه في حواشي ضوء النهار،
وذلك أنها من رواية عروة، عن علي، وعروة لم يسمع من علي، إلا أنه رواه أبو عوانة في صحيحه من
طريق عبيدة، عن علي بالزيادة. قال المصنف في التلخيص: وإسناده لا مطعن فيه، فمع صحتها
فلا عذر عن القول بها. وقيل: الحكمة فيه: أنه إذا غسله كله تقلص فبطل خروج المذي،
واستدل بالحديث عن نجاسة المذي.
وعن عائشة: أن النبي (ص) قبل بعض نسائه،
ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ أخرجه أحمد، وضعفه البخاري. وعن عائشة: أن النبي (ص) قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. أخرجه أحمد، وضعفه البخاري. وأخرجه أبو داود، والترمذي،
والنسائي، وابن ماجة. قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وأبو داود
65

أخرجه من طريق إبراهيم التيمي عن عائشة، ولم يسمع منها شيئا، فهو مرسل. وقال النسائي:
ليس في هذا الباب حديث أحسن منه، ولكنه مرسل. قال المصنف: روى من عشرة أوجه
عن عائشة، أوردها البيهقي في الخلافيات وضعفها. وقال ابن حزم: لا يصح في هذا الباب
شئ، وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الامر قبل نزول الوضوء من اللمس. إذا عرفت هذا،
فالحديث دليل على أن لمس المرأة، وتقبيلها لا ينقض الوضوء، وهذا هو الأصل، والحديث مقرر
للأصل، وعليه الهادوية جميعا، ومن الصحابة علي عليه السلام. وذهبت الشافعية: إلى أن لمس
من لا يحرم نكاحها ناقض للوضوء مستدلين بقوله تعالى - أو لامستم النساء - فلزم الوضوء من
اللمس. قالوا: واللمس حقيقة في اليد، ويؤيد بقاءه على معناه قراءة: أو لمستم النساء. فإنها
ظاهرة في مجرد لمس الرجل من دون أن يكون من المرأة فعل، وهذا يحقق بقاء اللفظ على معناه
الحقيقي، فقراءة: أو لامستم النساء كذلك، إذ الأصل اتفاق معنى القراءتين. وأجيب عن ذلك:
بصرف النظر عن معناه الحقيقي للقرينة فيحمل على المجاز، وهو هنا: حمل الملامسة على الجماع،
واللمس كذلك، والقرينة حديث عائشة المذكور، وهو وإن قدح فيه بما سمعت، فطرقه يقوي
بعضها بعضا. وحديث عائشة في البخاري: في أنها كانت تعترض في قبلته (ص)، فإذا
قام يصلي غمزها فقبضت رجليها - أي عند سجوده - وإذا قام بسطتهما، فإنه يؤيد حديث الكتاب
المذكور، ويؤيد بقاء الأصل، ويدل على أنه ليس اللمس بناقض. وأما اعتذار المصنف
في فتح الباري عن حديثها هذا: بأنه يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به، فإنه بعيد مخالف
للظاهر. وقد فسر علي عليه السلام الملامسة بالجماع. وفسرها حبر الأمة ابن عباس بذلك،
وهو المدعو له بأن يعلمه الله التأويل، فأخرج عنه عبد بن حميد أنه فسر الملامسة بعد أن وضع
أصبعيه في أذنيه: ألا وهو النيك، وأخرج عنه الطستي أنه سأله نافع بن الأزرق عن الملامسة،
ففسرها بالجماع، مع أن تركيب الآية الشريفة وأسلوبها يقتضي أن المراد بالملامسة الجماع،
فإنه تعالى عد من مقتضيات التيمم المجئ من الغائط تنبيها على الحدث الأصغر، وعد الملامسة
تنبيها على الحدث الأكبر، وهو مقابل لقوله تعالى في الامر بالغسل بالماء - وإن كنتم جنبا فاطهروا -
ولو حملت الملامسة على اللمس الناقض للوضوء لفات التنبيه على أن التراب يقوم مقام الماء
في رفعه للحدث الأكبر، وخالف صدر الآية. وللحنفية تفاصيل لا ينهض عليها دليل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إذا
وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه: أخرج منه شئ، أم لا؟ فلا يخرجن
من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا أخرجه مسلم. (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه أخرج منه شئ أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد) إذا كان فيه لإعادة الوضوء (حتى يسمع صوتا) للخارج (أو يجد
ريحا) له (أخرجه مسلم) وليس السمع، أو وجدان الريح شرطا في ذلك، بل المراد حصول اليقين.
وهذا الحديث الجليل أصل من أصول الاسلام، وقاعدة جليلة من قواعد الفقه، وهو أنه دل
على أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها، حتى يتيقن خلاف ذلك. وأنه لا أثر للشك الطارئ
عقبها، فمن حصل له ظن، أو شك بأنه أحدث وهو على يقين من طهارته، لم يضره ذلك حتى
يحصل له اليقين، كما أفاده قوله: حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا، فإنه علقه بحصول ما يحسه،
66

وذكرهما تمثيل، وإلا فكذلك سائر النواقض كالمذي والودي. ويأتي حديث ابن عباس: إن
الشيطان يأتي أحدكم، فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث، ولم يحدث، فلا ينصرفن حتى
يسمع صوتا، أو يجد ريحا والحديث عام لمن كان في الصلاة، أو خارجها، وهو قول الجماهير.
وللمالكية تفاصيل وفروق بين من كان داخل الصلاة، أو خارجها، لا ينتهض عليها دليل.
وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: قال رجل مسست ذكري، أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة،
أعليه الوضوء؟ فقال النبي (ص): لا، إنما هو بضعة منك أخرجه الخمسة، وصححه ابن حبان،
وقال ابن المديني: هو أحسن من حديث بسرة.
(وعن طلق) بفتح الطاء وسكون اللام (بن علي) اليمامي الحنفي. قال ابن
عبد البر: إنه من أهل اليمامة (قال: قال رجل: مسست ذكري، أو قال: الرجل يمس ذكره
في الصلاة أعليه وضوء؟ فقال النبي (ص): لا)، أي: لا وضوء عليه (إنما هو)
أي: الذكر (بضعة) بفتح الموحدة وسكون الضاد المعجمة (منك) أي: كاليد والرجل
ونحوهما، وقد علم أنه لا وضوء من مس البضعة منه (أخرجه الخمسة وصححه ابن حبان). (وقال
ابن المديني) بفتح الميم فدال مهملة فمثناة تحتية فنون نسبة إلى جده، وإلا فهو علي بن عبد الله المديني. قال الذهبي: هو حافظ العصر وقدوة أهل هذا الشأن، أبو الحسن علي بن عبد الله
صاحب التصانيف، ولد سنة إحدى وستين ومائة. من تلاميذه البخاري، وأبو داود، وقال
ابن مهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله (ص). قال النسائي:
كأن علي بن المديني خلق لهذا الشأن قال العلامة محيي الدين النووي: لابن المديني نحو
مائة مصنف: (هو أحسن من حديث بسرة) بضم الموحدة وسكون السين المهملة فراء، ويأتي
حديثها قريبا، وهذا الحديث رواه، أحمد والدارقطني. وقال الطحاوي: إسناده مستقيم غير
مضطرب، وصححه الطبراني، وابن حزم، وضعفه الشافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني،
والبيهقي، وابن الجوزي. والحديث دليل على ما هو الأصل من عدم نقض مس الذكر للوضوء،
وهو مروي عن علي عليه السلام، وعن الهادوية، والحنفية. وذهب: إلى أن مسه ينقض الوضوء
جماعة من الصحابة، والتابعين، ومن أئمة المذاهب أحمد، والشافعي مستدلين بقوله.
وعن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها: أن رسول الله (ص) قال: من مس ذكره فليتوضأ أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال البخاري: هو أصح شئ في هذا الباب. (وعن بسرة) تقدم ضبط لفظها، وهي (بنت صفوان) بن نوفل القرشية الأسدية،
كانت من المبايعات له (ص)، روى عنها عبد الله بن عمر، وغيره: (أن رسول الله
(ص) قال: من مس ذكره فليتوضأ. أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي،
وابن حبان، وقال البخاري: هو أصح شئ في هذا الباب)، وأخرجه أيضا الشافعي، وأحمد،
وابن خزيمة، والحاكم، وابن الجارود. وقال الدارقطني: صحيح ثابت. وصححه يحيى بن معين،
والبيهقي، والحازمي. والقدح فيه: بأنه رواه عروة عن مروان، أو عن رجل مجهول: غير صحيح، فقد
ثبت: أن عروة سمعه من بسرة من غير واسطة، كما جزم به ابن خزيمة، وغيره من أئمة الحديث.
وكذلك القدح فيه: بأن هشام بن عروة الراوي له عن أبيه لم يسمعه من أبيه: غير صحيح، فقد ثبت:
أنه سمعه من أبيه، فاندفع القدح وصح الحديث. وبه استدل من سمعت من الصحابة، والتابعين،
وأحمد، والشافعي: على نقض مس الذكر للوضوء، والمراد مسه من غير حائل، لأنه أخرج ابن حبان
في صحيحه من حديث أبي هريرة: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، ليس دونها حجاب ولا
ستر، فقد وجب عليه الوضوء وصححه الحاكم، وابن عبد البر. قال ابن السكن: هو أجود
67

ما روي في هذا الباب. وزعمت الشافعية أن الافضاء لا يكون إلا بباطن الكف، وأنه لا نقض
إذا مس الذكر بظاهر كفه. ورد عليهم المحققون بأن الافضاء لغة: الوصول: أعم من أن يكون
بباطن الكف، أو ظهرها. قال ابن حزم: لا دليل على ما قالوه لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع،
ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي صحيح. وأيدت أحاديث بسرة أحاديث أخر، عن سبعة
عشر صحابيا مخرجة في كتب الحديث، ومنهم طلق بن علي راوي حديث عدم النقض، وتأول
من ذكر حديثه في عدم النقض. بأنه كان في أول الأمر، فإنه قدم في أول الهجرة قبل عمارته
(ص) مسجده، فحديثه منسوخ بحديث بسرة، فإنها متأخرة في الاسلام. وأحسن من
القول بالنسخ القول بالترجيح، فإن حديث بسرة أرجح، لكثرة من صححه من الأئمة، ولكثرة
شواهده، ولان بسرة حدثت به في دار المهاجرين والأنصار، وهم متوافرون، ولم يدفعه أحد،
بل علمنا أن بعضهم صار إليه، وصار إليه عروة عن روايتها، فإنه رجع إلى قولها، وكان قبل
ذلك يدفعه، وكان ابن عمر يحدث به عنها، ولم يزل يتوضأ من مس الذكر إلى أن مات. قال
البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق بن علي: أنه لم يخرجه صاحبا الصحيح،
ولم يحتج بأحد من رواته، وقد احتج بجميع رواة حديث بسرة، ثم إن حديث طلق من رواية
قيس بن طلق. قال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه، فما يكون لنا
قبول خبره. وقال أبو حاتم، وأبو زرعة: قيس بن طلق ليس فيمن تقوم به حجة، ووهياه. وأما
مالك، فلما تعارض الحديثان قال بالوضوء من مس الذكر ندبا لا وجوبا.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (ص) قال: من أصابه
قئ أو رعاف، أو قلس، أو مذي فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم. أخرجه ابن ماجة، وضعفه أحمد وغيره. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (ص) قال: من أصابه قئ أو رعاف أو قلس) بفتح القاف وسكون اللام وفتحها وسين مهملة، (أو مذي)
أي من أصابه ذلك في صلاته (فلينصرف) منها (فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته
وهو في ذلك) أي: في حال انصرافه، ووضوئه (لا يتكلم. أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد،
وغيره) وحاصل ما ضعفوه به: رفعه إلى النبي (ص) غلط، والصحيح أنه مرسل.
قال أحمد والبيهقي: المرسل الصواب. فمن يقول: إن المرسل حجة قال: ينقض ما ذكر فيه. والنقض
بالقئ مذهب الهادوية، والحنفية، وشرطت الهادوية أن يكون من المعدة، إذ لا يسمى قيئا إلا
ما كان منها، وأن يكون ملء الفم دفعة، لورود ما يقيد المطلق هنا، وهو قئ ذارع ودسعة -
دفعة - تملأ الفم كما في حديث عمار، وإن كان قد ضعف. وعند زيد بن علي أنه ينقض مطلقا
عملا بمطلق هذا الحديث، وكأنه لم يثبت عنده حديث عمار. وذهب جماعة من أهل البيت،
والشافعي، ومالك إلى أن القئ غير ناقض، لعدم ثبوت حديث عائشة هذا مرفوعا، والأصل عدم
النقض، فلا يخرج عنه إلا بدليل قوي. وأما الرعاف ففي نقضه الخلاف أيضا، فمن قال بنقضه
فهو عمل بهذا الحديث، ومن قال بعدم نقضه فإنه عمل بالأصل، ولم يرفع هذا الحديث. وأما
الدم الخارج من أي موضع من البدن من غير السبيلين، فيأتي الكلام عليه في حديث أنس: أنه
(ص) احتجم، وصلى، ولم يتوضأ. وأما القلس وهو ما خرج من الحلق ملء الفم، أو دونه
وليس بقئ، فإن عاد فهو القئ، فالأكثر على أنه غير ناقض، لعدم نهوض الدليل، فلا يخرج من
68

الأصل. وأما المذي فتقدم الكلام عليه، وأنه ناقض إجماعا. وأما ما أفاده الحديث من البناء
على الصلاة بعد الخروج منها، وإعادة الوضوء حيث لم يتكلم ففيه خلاف، فروى عن زيد
بن علي، والحنفية، ومالك، وقديم قولي الشافعي أنه يبنى، ولا تفسد صلاته بشرط ألا يفعل مفسدا،
كما أشار إليه الحديث بقوله: لا يتكلم. وقالت الهادوية، والناصر، والشافعي في اخر قوليه: إن
الحدث يفسد الصلاة، لما سيأتي من حديث طلق بن علي: إذا فسا أحدكم في الصلاة
فلينصرف، وليتوضأ، وليعد الصلاة رواه أبو داود ويأتي الكلام عليه.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي (ص): أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم أخرجه مسلم. (وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه) بفتح السين المهملة وضم الميم فراء، أبو عبد الله،
وأبو خالد، جابر بن سمرة العامري، نزل الكوفة، ومات بها سنة أربع وسبعين، وقيل: ست وستين:
(أن رجلا سأل النبي (ص): أتوضأ من لحوم الغنم؟) أي: من أكلها (قال
إن شئ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم أخرجه مسلم)، وروى نحوه أبو داود،
والترمذي، وابن ماجة، وغيرهم من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله (ص):
توضأوا من لحوم الإبل ولا توضأوا من لحوم الغنم. قال ابن خزيمة: لم أر خلافا بين
علماء الحديث: أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه. والحديثان دليلان على نقض
لحوم الإبل للوضوء، وأن من أكلها انتقض وضوؤه. وقال بهذا أحمد،، وإسحاق،، وابن المنذر،، وابن
خزيمة، واختاره البيهقي، وحكاه عن أصحاب الحديث مطلقا. وحكي عن الشافعي أنه قال:
إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به. قال البيهقي: قد صح فيه حديثان حديث جابر،
وحديث البراء. وذهب إلى خلافة جماعة من الصحابة، والتابعين، والهادوية، ويروى عن الشافعي،
وأبي حنيفة. قالوا: والحديثان إما منسوخان بحديث: إنه كان اخر الامرين منه (ص)
عدم الوضوء مما مست النار أخرجه الأربعة، وابن حبان من حديث جابر. قال النووي:
دعوى النسخ باطلة، لان هذا الأخير عام وذلك خاص، والخاص مقدم على العام. وكلامه
هذا مبني على تقديم الخاص على العام مطلقا، تقدم الخاص أو تأخر، وهي مسألة خلافية في الأصول
بين الأصوليين، أو أن المراد بالوضوء التنظيف، وهو غسل اليد، لأجل الزهومة، كما جاء في الوضوء من
اللبن، وأن له دسما، والوارد في اللبن التمضمض من شربه. وذهب البعض إلى أن الامر في الوضوء من
لحوم الإبل للاستحباب، لا للإيجاب، وهو خلاف ظاهر الامر. أما لحوم الغنم فلا نقض بأكلها
بالاتفاق. كذا قيل، ولكن حكى في شرح السنة: وجوب الوضوء مما مست النار. وعن
عمر بن عبد العزيز أنه كان يتوضأ من أكل السكر. قلت: وفي الحديث مأخذ لتجديد الوضوء على الوضوء،
فإنه حكم بعدم نقض الأكل من لحوم الغنم، وأجاز له الوضوء، وهو تجديد الوضوء على الوضوء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): من
غسل ميتا فليغتسل. ومن حمله فليتوضأ أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه،
وقال أحمد: لا يصح في هذا الباب شئ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): من غسل ميتا فليغتسل. ومن حمله فليتوضأ أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه،
وقال أحمد: لا يصح في هذا الباب شئ. وذلك لأنه أخرجه أحمد من طريق فيها ضعيف،
ولكنه قد حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، لوروده من طرق ليس فيها ضعف، وذكر الماوردي:
69

أن بعض أصحاب الحديث خرج له مائة وعشرين طريقا وقال أحمد: إنه منسوخ، بما رواه
البيهقي عن ابن عباس: أنه (ص) قال: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا
غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهرا، وليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم، ولكنه ضعفه
البيهقي، وتعقبه المصنف، لأنه قال البيهقي: هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة. قال
المصنف: أبو شيبة هو إبراهيم بن أبي بكر بن شيبة، احتج به النسائي، ووثقه الناس، ومن فوقه
احتج بهم البخاري إلى أن قال: فالحديث حسن. ثم قال في الجمع بينه، وبين الامر في
حديث أبي هريرة: إن الامر للندب. قلت: وقرينته حديث ابن عباس هذا، وحديث ابن عمر
عند عبد الله بن أحمد: كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل. قال المصنف:
إسناده صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين هذه الأحاديث. وأما قوله: ومن حمله فليتوضأ
فلا أعلم قائلا يقول: بأنه يجب الوضوء من حمل الميت، ولا يندب. قلت: ولكنه مع نهوض الحديث
لا عذر عن العمل به. ويفسر الوضوء بغسل اليدين، كما يفيده التعليل بقوله: إن ميتكم يموت
طاهرا، فإن لمس الطاهر لا يوجب غسل اليدين منه، فيكون في حمل الميت غسل اليدين ندبا
تعبدا، إذ المراد إذا حمله مباشرا لبدنه، بقرينة السياق، ولقوله: يموت طاهرا فإنه لا يناسب
ذلك إلا من يباشر بدنه بالحمل.
وعن عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنه -: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله (ص) لعمرو بن حزم: أن لا يمس القران إلا طاهر. رواه مالك مرسلا، ووصله النسائي وابن حبان، وهو معلول. (وعن عبد الله بن أبي بكر) هو ابن أبي بكر الصدق، أمه وأم أسماء واحدة، أسلم
قديما، وشهد مع رسول الله (ص) الطائف، وأصابه سهم انقض عليه بعد سنين
فمات منه في شوال سنة إحدى عشرة، وصلى عليه أبوه: (إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله
(ص) لعمرو بن حزم) هو عمرو بن حزم بن زيد الخزرجي النجاري، يكنى
أبا الضحاك، أول مشاهده الخندق، واستعمله (ص) على نجران، وهو ابن سبع
عشرة سنة ليفقههم في الدين، ويعلمهم القران، ويأخذ صدقاتهم، وكتب له كتابا فيه
الفرائض، والسنن، والصدقات، والديات. وتوفي عمرو بن حزم في خلافة عمر بالمدينة، ذكر هذا
ابن عبد البر في الاستيعاب: (أن لا يمس القران إلا طاهر رواه مالك مرسلا، ووصله
النسائي، وابن حبان، وهو معلول). حقيقة المعلول: الحديث الذي يطلع على الوهم فيه بالقرائن، وجمع
الطرق فيقال له: معلل ومعلول، والأجود أن يقال فيه المعل: من أعله. والعلة عبارة عن أسباب
خفية غامضة طرأت على الحديث، فأثرت فيه، وقدحت. وهو من أغمض أنواع علوم الحديث،
وأدقها، ولا يقوم بذلك إلا من رزقه الله فهما ثاقبا، وحفظا واسعا، ومعرفة تامة بمراتب
الرواة، وملكة قوية بالأسانيد، والمتون. وإنما قال المصنف: إن هذا الحديث معلول، لان من رواية
سليمان بن داود، وهو متفق على تركه، كما قال ابن حزم، ووهم في ذلك، فإنه ظن أنه سليمان
بن داود اليماني، وليس كذلك بل هو سليمان بن داود الخولاني، وهو ثقة، أثنى عليه أبو زرعة،
وأبو حاتم، وعثمان بن سعيد، وجماعة من الحفاظ، واليماني هو المتفق على ضعفه. وكتاب عمرو
بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر: إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول.
وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله (ص)،
70

والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم. قال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز،
وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب. وفي الباب من حديث حكيم بن حزام: لا يمس
القران إلا طاهر، وإن كان في إسناده مقال، إلا أنه ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث
عبد الله بن عمر: أنه قال رسول الله (ص): لا يمس القرآن إلا طاهر قال الهيثمي:
رجاله موثقون، وذكر له شاهدين، ولكنه يبقي النظر في المراد من الطاهر، فإنه لفظ مشترك يطلق
عليه الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس
على بدنه نجاسة، ولا بد لحمله على معين من قرينة، وأما قوله تعالى: * (لا يمسه إلا المطهرون) * س. والمصنف ذكر الحديث لئلا يتوهم أن نواقض الوضوء مانعة من ذكر الله تعالى.
فالأوضح أن الضمير للكتاب المكنون الذي سبق ذكره في صدر الآية وأن المطهرون هم الملائكة.
[رح 7] - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يذكر
الله على كل أحيانه رواه مسلم وعلقه البخاري)، والحديث مقرر للأصل وهو ذكر الله
على كل حال من الأحوال وهو ظاهر في عموم الذكر، فتدخل تلاوة القرآن ولو كان جنبا إلا أنه
قد خصصه حديث علي عليه السلام الذي في باب الغسل كان رسول الله (ص)
يقرئنا القرآن ما لم يكن جنبا، وأحاديث آخر في معناه تأتي، وكذلك هو مخصص بحالة الغائط
والبول والجماع. والمراد بكل أحيانه معظمها كما قال الله تعالى: * (يذكرون الله قياما وقعودا
وعلى جنوبهم) والمصنف ذكر الحديث لئلا يتوهم أن نواقض الوضوء مانعه من ذكر الله تعالى
(وعن معاوية) هو ابن أبي سفيان صخر بن حرب، هو وأبوه من مسلمة الفتح، ومن
المؤلفة قلوبهم، ولاه عمر الشام بعد موت يزيد بن أبي سفيان، ولم يزل بها متوليا أربعين
سنة، إلى أن مات سنة ستين في شهر رجب بدمشق، وله ثمان وسبعون سنة (قال: قال رسول الله
(ص): العين) أراد الجنس، والمراد: العينان من كل انسان (وكاء) بكسر
الواو والمد (السه) بفتح السين المهملة وكسرها هي: الدبر، والوكاء ما تربط به الخريطة، أو
نحوها (فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) أي: انحل (رواه أحمد، والطبراني، وزاد
الطبراني: ومن نام فليتوضأ، وهذه الزيادة في الحديث) وهي قوله: ومن نام فليتوضأ
(عند أبي داود من حديث علي عليه السلام) ولفظه: العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ (دون
قوله: استطلق الوكاء، وفي كلا الاسنادين ضعف) إسناد حديث معاوية، وإسناد حديث علي،
فإن في إسناد حديث معاوية: بقية، عن أبي بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف، وفي حديث علي
أيضا بقية، عن الوضين بن عطاء. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذين الحديثين فقال
: ليسا بقويين. وقال أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية. وحسن المنذري، والنووي،
وابن الصلاح: حديث علي. والحديثان يدلان على أن النوم ليس بناقض بنفسه، وإنما هو
مظنة النقض، فهما من أدلة القائلين بذلك، ودليل على أنه لا ينقض إلا النوم المستغرق،
71

وتقدم الكلام في ذلك. وكان الأولى بحسن الترتيب أن يذكر المصنف هذا الحديث عقب
حديث أنس في أول باب النواقض كما لا يخفى.
ولأبي داود أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: إنما الوضوء على من نام مضطجعا
وفي إسناده ضعف أيضا. لأنه قال أبو داود: إنه حديث منكر، وبين وجه نكارته، وفيه
القصر على أنه لا ينقض إلا نوم المضطجع، لا غير، ولو استغرقه النوم، فالجمع بينه وبين ما مضى
من الأحاديث: أنه خرج على الأغلب، فإن الأغلب على من أراد النوم الاضطجاع، فلا معارضة.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي (ص) احتجم وصلى، ولم
يتوضأ، أخرجه الدارقطني، ولينه. أي: قال: هو لين، وذلك لان في إسناده صالح بن مقاتل،
وليس بالقوي، وذكره النووي في فصل الضعيف. والحديث مقرر للأصل، دليل على أن
خروج الدم من البدن غير الفرجين لا ينقض الوضوء. وفي الباب أحاديث تفيد عدم نقضه
عن ابن عمر، وابن عباس، وابن أبي أوفى. وقد اختلف العلماء في ذلك. الهادوية: على أن ناقض
بشرط أنه يكون سائلا يقطر، أو يكون قدر الشعيرة يسيل في وقت واحد من موضع واحد إلى
ما يمكن تطهيره. وقال زيد بن علي، والشافعي، ومالك، والناصر، وجماعة من الصحابة، والتابعين:
إن خروج الدم من البدن من غير السبيلين ليس بناقض، لحديث أنس هذا، وما أيده من الآثار
عمن ذكرناه، ولقوله (ص): لا وضوء إلا من صوت، أو ريح أخرجه أحمد،
والترمذي، وصححه. وأحمد، والطبراني بلفظ: لا وضوء إلا من ريح، أو سماع، لان الأصل عدم
النقض حتى يقوم ما يرفع الأصل، ولم يقم دليل على ذلك.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله (ص) قال: يأتي
أحدكم الشيطان في صلاته) حال كونه فيها (فينفخ في مقعدته فيخيل
إليه) يحتمل أنه مبني للفاعل، وفيه ضمير للشيطان، وأنه الذي يخيل: أي يوقع في خيال
المصلي أنه أحدث، ويحتمل أنه مبني للمفعول ونائبه (أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد
ذلك، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا. أخرجه البزار) بفتح الموحدة
وتشديد الزاي بعد الألف راء، وهو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق
البصري صاحب المسند الكبير المعلل أخذ عن الطبراني وغيره، وذكره الدارقطني، وأثنى عليه، ولم
يذكر الذهبي ولادته، ولا وفاته. والحديث تقدم ما يفيد معناه، وهو إعلان من الشارع
بتسليط الشيطان على العباد حتى في أشرف العبادات ليفسدها عليهم، وأنه لا يضرهم ذلك، ولا
يخرجون عن الطهارة إلا بيقين (وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد).
(ولمسلم عن أبي هريرة نحوه) تقدم حديث أبي هريرة في هذا الباب.
(وللحاكم عن أبي سعيد) هو الخدري، تقدم (مرفوعا: إذا جاء أحدكم
الشيطان فقال) أي: وسوس له قائلا (إنك أحدثت فليقل: كذبت) يحتمل أنه
يقوله لفظا، أو في نفسه: ولكن قوله: (وأخرجه ابن حبان بلفظ: فليقل في نفسه) بين
أن المراد الاخر منه. وقد روى حديث الحاكم بزيادة بعد قوله: كذبت: إلا من وجد ريحا،
72

أو سمع صوتا بأذنه، وتقدم ما تفيده هذه الأحاديث. ولو ضم المصنف هذه الروايات إلى
حديث أبي هريرة الذي قدمه، وأشار إليه هنا لكان أولى بحسن الترتيب، كما عرفت. وهذه
الأحاديث دالة على حرص الشيطان على إفساد عبادة بني ادم، خصوصا الصلاة، وما يتعلق بها،
وأنه لا يأتيهم غالبا إلا من باب التشكيك في الطهارة، تارة بالقول، وتارة بالفعل، ومن هنا
تعرف أن أهل الوسواس في الطهارات امتثلوا ما فعله، وقاله.
باب آداب قضاء الحاجة
الحاجة كناية عن خروج البول والغائط، وهو مأخوذ من قوله (ص): إذا
قعد أحدكم لحاجته، ويعبر عنه الفقهاء بباب الاستطابة لحديث: ولا يستطيب بيمينه،
والمحدثون بباب التخلي مأخوذ من قوله (ص): إذا دخل أحدكم الخلاء، والتبرز
من قوله: البراز في الموارد، وكما سيأتي، فالكل من العبارات صحيح.
(عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا
دخل الخلا) بالخاء المعجمة ممدودة المكان الخالي، كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة (وضع
خاتمه. أخرجه الأربعة وهو معلول)، وذلك لأنه من رواية همام، عن ابن جريج، عن الزهري،
عن أنس، ورواته ثقات، لكن ابن جريج لم يسمعه من الزهري، بل سمعه من زياد بن سعد، عن
الزهري، ولكن بلفظ اخر: وهو أنه (ص) اتخذ خاتما من ورق، ثم ألقاه، والوهم
فيه من همام، كما قاله أبو داود، وهمام ثقة، كما قاله ابن معين. وقال أحمد: ثبت في كل المشايخ،
وقد روى الحديث مرفوعا، وموقوفا عن أنس من غير طريق همام، وأورد له البيهقي شاهدا،
ورواه الحاكم أيضا بلفظ: أن رسول الله (ص) لبس خاتما نقشه: محمد رسول
الله، وكان إذا دخل الخلاء وضعه. والحديث دليل على الابعاد عند قضاء الحاجة، كما يرشد
إليه لفظ الخلاء، فإنه يطلق على المكان الخالي، وعلى المكان المعد لقضاء الحاجة، ويأتي
في حديث المغيرة ما هو أصرح من هذا بلفظ: فانطلق حتى توارى، وعند أبي داود: وكان
إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. ودليل على تبعيد ما فيه ذكر الله عند قضاء الحاجة.
وقال بعضهم: يحرم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة، وقيل: فلو غفل عن تنحية ما فيه
ذكر الله حتى اشتغل بقضاء حاجته غيبه في فيه، أو في عمامته، أو نحوه، وهذا فعل منه
(ص)، وقد عرف وجهه، وهو صيانة ما فيه ذكر الله عز وجل عن المحلات المستخبثة، فدل
على ندبه، وليس خاصا بالخاتم، بل في كل ملبوس فيه ذكر الله.
(وعنه) أي: عن أنس رضي الله عنه (قال: كان رسول الله (ص)
إذا دخل الخلاء: أي: أراد الخلاء) دخوله (قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث) بضم الخاء
المعجمة وضم الموحدة ويجوز إسكانها جمع خبيث (والخبائث) جمع خبيثة يريد بالأول ذكور
الشياطين، وبالثاني إناثهم (أخرجه السبعة) ولسعيد بن منصور كان يقول: بسم الله اللهم
الحديث. قال المصنف في الفتح: ورواه العمري وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية،
73

ولم أرها في غيره. وإنما قلنا: إذا أراد دخوله، لقوله: دخل، لأنه بعد دخول اخلاء لا يقول ذلك، وقد
صرح بما قرر البخاري في الأدب المفرد من حديث أنس قال: كان رسول الله (ص)
إذا أراد أيدخل الخلاء الحديث. وهذا في الأمكنة المعدة لذلك، بقرينة الدخول، ولذا
قال ابن بطال: رواية إذا أتى أعم لشمولها. ويشرع هذا الذكر في غير الأماكن المعدة لقضاء
الحاجة، وإن كان الحديث ورد في الحشوش، وأنها تحضرها الشياطين. ويشرع القول بهذا في غير
الأماكن المعدة عند إرادة رفع ثيابه، وفيها قبل دخولها، وظاهر حديث أنس أنه (ص)
كان يجهر بهذا الذكر، فيحسن الجهر به.
(وعن أنس) كأنه ترك الاضمار فلم يقل: وعنه لبعد الاسم الظاهر، بخلافه في الحديث
الثاني، وفي بعض النسخ من بلوغ المرام وعنه بالاضمار أيضا (قال: كان رسول الله
(ص) يدخل الخلا فأحمل أنا وغلام) الغلام هو المترعرع قيل: إلى حد السبع سنين.
وقيل: إلى الالتحاء، ويطلق على غيره مجازا (نحوي إداوة) بكسر الهمزة إناء صغير من جلد
يتخذ للماء (من ماء وعنزة) بفتح العين المهملة وفتح النون فزاي هي عصا طويلة
في أسفلها زج، ويقال: رمح قصير (فيستنجي بالماء. متفق عليه) المراد بالخلاء هنا: الفضاء
بقرينة العنزة، لأنه كان إذا توضأ صلى إليها في الفضاء، أو يستتر بها: بأن يضع عليها ثوبا، أو لغير
ذلك من قضاء الحاجات التي تعرض له، ولان خدمته في البيوت تختص بأهله، والغلام الاخر
اختلف فيه، فقيل: ابن مسعود، وأطلق عليه ذلك مجازا، ويبعده قوله: نحوي، فإن ابن مسعود كان
كبيرا، فليس نحو أنس في سنه، ويحتمل أنه أراد نحوي: في كونه كان يخدم النبي
(ص) فيصح، فإن ابن مسعود كان صاحب سواد رسول الله (ص)، يحمل نعله،
وسواكه، أو لأنه مجاز، كما في الشرح. وقيل: هو أبو هريرة، وقيل: جابر بن عبد الله. الحديث
دليل على جواز الاستخدام للصغير، وعلى الاستنجاء بالماء. ونقل عن مالك أنه أنكر استنجا
النبي (ص) بالماء، والأحاديث قد أثبتت ذلك فلا سماع لانكار مالك. قيل:
وعلى أنه أرجح من الاستنجاء بالحجارة، وكأنه أخذه من زيادة التكلف بحمل الماء بيد الغلام،
ولو كان يساوي الحجارة، أو هي أرجح منه، لما احتاج إلى ذلك. والجمهور من العلماء على
أن الأفضل الجمع بين الحجارة والماء: فإن اقتصر على أحدهما، فالأفضل الماء حيث لم يرد
الصلاة، فإن أرادها فخلاف، فمن يقول: تجزئ الحجارة، لا يوجبه، ومن يقول: لا تجزئ، يوجبه.
ومن آداب الاستنجاء بالماء مسح اليد بالتراب بعده كما أخرجه أبو داود من حديث
أبي هريرة: كان رسول الله (ص) إذا أتى الخلاء أتيت بماء في تور، أو ركوة
فاستنجى منه، ثم مسح يده على الأرض. وأخرج النسائي من حديث جرير، قال: كنت مع
النبي (ص)، فأتى الخلاء، فقضى حاجته ثم قال: يا جرير هات طهورا، فأتيته بماء
فاستنجى، وقال بيده، فدلك بها الأرض ويأتي مثله في الغسل.
(وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله (ص): خذ الإداوة:
فانطلق) أي: النبي (ص) (حتى توارى عني فقضى حاجته، متفق عليه). الحديث
74

دليل على التواري عند قضاء الحاجة، ولا يجب، إذ الدليل فعل، ولا يقتضي الوجوب، لكنه
يجب بأدلة ستر العورات عن الأعين. وورد الامر بالاستتار من حديث أبي هريرة عند
أحمد، وأبي داود، وابن ماجة: أنه (ص) قال: من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن
يجمع كثيبا من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني ادم، من فعل فقد أحسن، ومن
لا فلا حرج فدل على استحباب الاستتار، كما دل على رفع الحرج، ولكن هذا غير التواري
عن الناس، بل هو خاص، بقرينة: فإن الشيطان، فلو كان في فضاء ليس فيه انسان، استحب
له أن يستتر بشئ، ولو بجمع كثيب من رمل.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): اتقوا
اللاعنين) بصيغة التثنية، وفي رواية مسلم قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: (الذي
يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم: رواه مسلم). قال الخطابي: يريد باللاعنين:
الامرين الجالبين للعن الحاملين للناس عليه، والداعيين إليه، وذلك أن من فعلهما لعن وشتم،
يعني: أن عادة الناس لعنة، فهو سبب، فانتساب اللعن إليهما من المجاز العقلي، قالوا: وقد يكون
اللاعن بمعنى الملعون، فاعل بمعنى مفعول، فهو كذلك من المجاز العقلي. والمراد بالذي
يتخلى في طريق الناس: أي: يتغوط فيما يمر به الناس، فإنه يؤذيهم بنتنه واستقذاره، ويؤدي إلى
لعنه، فإن كان لعنه جائزا، فقد تسبب إلى الدعاء عليه بإبعاده عن الرحمة، وإن كان غير جائز،
فقد تسبب إلى تأثيم غيره بلعنه. فإن قلت: فأي الامرين أريد هنا؟ قلت: أخرج الطبراني
في الكبير بإسناد حسنه الحافظ المنذري عن حذيفة بن أسيد: أن النبي (ص)
قال: من اذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم. وأخرج في الأوسط، والبيهقي، وغيرهما
برجال ثقات إلا محمد بن عمرو الأنصاري، وقد وثقه ابن معين من حديث أبي هريرة: سمعت
رسول الله (ص) يقول: من سل سخيمته على طريق من طرق الناس المسلمين
فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين. والسخيمة بالسين المفتوحة المهملة والخاء المعجمة فمثناة
تحتية: العذرة. فهذه الأحاديث دالة على استحقاقه اللعنة. والمراد بالظل هنا مستظل الناس
الذي اتخذوه مقيلا ومناخا ينزلونه ويقعدون فيه، إذ ليس كل ظل يحرم القعود لقضاء الحاجة
تحته، فقد قعد النبي (ص) تحت حائش النخل لحاجته، وله ظل بلا شك.
قلت: يدل له حديث أحمد: أو ظل يستظل به.
(وزاد أبو داود عن معاذ: والموارد، ولفظه: اتقوا الملاعن الثلاثة البراز)
بفتح الموحدة فراء مفتوحة اخره زاي، وهو: المتسع من الأرض يكنى به عن الغائط، وبالكسر
المبارزة في الحرب (في الموارد) جمع مورد وهو الموضع الذي يأتيه الناس من رأس عين، أو نهر
لشرب الماء، أو للتوضؤ (وقارعة الطريق) المراد الطريق الواسع الذي يقرعه الناس بأرجلهم،
أي يدقونه ويمرون عليه (والظل) تقدم المراد به.
(ولأحمد عن ابن عباس: أو نقع ماء) بفتح النون وسكون القاف فعين مهملة.
75

ولفظه بعد قوله: اتقوا الملاعن الثلاث: أن يقعد أحدكم في ظل يستظل به، أو في طريق،
أو نقع ماء. ونقع الماء المراد به الماء المجتمع، كما في النهاية (وفيهما ضعف) أي: في حديث
أحمد وأبي داود. أما حديث أبي داود فلانه قال أبو داود عقبه: وهو مرسل، وذلك لأنه من رواية
أبي سعيد الحميري، ولم يدرك معاذا فيكون منقطعا، وقد أخرجه ابن ماجة من هذه الطريق.
وأما حديث أحمد، فلان فيه ابن لهيعة، والراوي عن ابن عباس مبهم.
(وأخرج الطبراني) قال الذهبي: هو الإمام الحجة أبو القاسم سليمان بن أحمد
الطبراني مسند الدنيا، ولد سنة ستين ومائتين، وسمع سنة ثلاث وسبعين، وهاجر بمدائن
الشام، والحرمين واليمن، ومصر، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وأصبهان، والجزيرة، وغير ذلك. وحدث عن
ألف شيخ، أو يزيدون، وكان من فرسان هذا الشأن مع الصدق والأمانة، وأثنى عليه الأئمة
(النهي عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة) وإن لم تكن ظلا لاحد (وضفة)
بفتح الضاد المعجمة وكسرها جانب (النهر الجاري من حديث ابن عمر بسند ضعيف)،
لان في رواته متروكا، وهو فرات بن السائب، ذكره المصنف في التلخيص. فإذا عرفت هذا،
فالذي تحصل من الأحاديث ستة مواضع، منهي عن التبرز فيها: قارعة الطريق، ويقيد مطلق
الطريق بالقارعة، والظل، والموارد، ونقع الماء. والأشجار المثمرة، وجانب النهر. وزاد
أبو داود في مراسيله من حديث مكحول: نهى رسول الله (ص) عن أن يبال
بأبواب المساجد.
(وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا تغوط
الرجلان فليتوار) أي يستتر وهو من المهموز جزم بحذف الهمزة: أي المنقلبة ألفا (كل
واحد منهما عن صاحبه) والامر للإيجاب (ولا يتحدثا) حال تغوطهما (فإن الله
يمقت على ذلك) والمقت أشد البغض (رواه أحمد وصححه ابن السكن) بفتح السين المهملة
وفتح الكاف، وهو الحافظ الحجة أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغدادي، نزل
مصر، وولد سنة أربع وتسعين ومائتين، وعني بهذا الشأن، وجمع وصنف وبعد صيته. روى عنه
أئمة من أهل الحديث، توفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. (وابن القطان) بفتح القاف وتشديد
الطاء، هو الحافظ العلامة، أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الفارسي الشهير بابن القطان.
كان من أبصر الناس بصناعة الحديث، وأحفظهم لأسماء رجاله، وأشدهم عناية بالرواية، وله تأليف.
حدث ودرس، وله كتاب الوهم والايهام الذي وضعه على الاحكام الكبرى لعبد الحق، وهو
يدل على حفظه وقوة فهمه، لكنه تعنت في أحوال الرجال، توفي في ربيع الأول سنة ثمان
وعشرين وستمائة (وهو معلول) ولم يذكر في الشرح العلة، وهي ما قاله أبو داود: لم يسنده
إلا عكرمة بن عمار العجلي اليماني، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وضعف بعض الحفاظ حديث
عكرمة هذا عن يحيى بن أبي كثير. وقد أخرج مسلم حديثه عن يحيى بن أبي كثير، واستشهد
البخاري بحديثه عنه. وقد روى حديث النهي عن الكلام حال قضاء الحاجة أبو داود، وابن
ماجة من حديث أبي سعيد، وابن خزيمة في صحيحه، إلا أنهم رووه كلهم من رواية عياض
76

بن هلال، أو هلال بن عياض. قال الحافظ المنذري: لا أعرفه بجرح ولا عدالة، وهو في عداد
المجهولين. والحديث دليل على وجوب ستر العورة، والنهي عن التحدث حال قضاء الحاجة،
والأصل فيه التحريم، وتعليله بمقت الله عليه، أي: شدة بغضه لفاعل ذلك زيادة في بيان التحريم،
ولكنه ادعى في البحر: أنه لا يحرم إجماعا، وأن النهي للكراهة، فإن صح الاجماع، وإلا فإن الأصل
هو التحريم، وقد ترك (ص) رد السلام الذي هو واجب عند ذلك، فأخرج
الجماعة، إلا البخاري عن ابن عمر: أن رجلا مر على النبي (ص)، وهو يبول
فسلم عليه، فلم يرد عليه.
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه)
كناية عن الغائط، كما عرفت أنه أحد ما يطلق عليه (ولا يتنفس) يخرج نفسه (في الاناء)
عند شربه منه (متفق عليه واللفظ لمسلم). فيه دليل على تحريم مس الذكر باليمين حال البول:
لأنه الأصل في النهي، وتحريم التمسح بها من الغائط، وكذلك من البول لما يأتي من حديث
سلمان، وتحريم التنفس في الاناء حال الشرب. وإلى التحريم ذهب أهل الظاهر في الكل
عملا به، كما عرفت، وكذلك جماعة من الشافعية في الاستنجاء. وذهب الجمهور: إلى أنه
للتنزيه، وأجمل البخاري في الترجمة فقال: باب النهي عن الاستنجاء باليمين وذكر حديث
الكتاب، قال المصنف في الفتح: عبر بالنهي إشارة إلى أنه لم يظهر له هل هو
للتحريم، أو للتنزيه؟ أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر، وهذا حيث استنجى بالة كالماء
والأحجار، أما لو باشر بيده، فإنه حرام إجماعا. وهذا تنبيه على شرف اليمين وصيانتها عن
الأقذار. والنهي عن التنفس في الاناء لئلا يقذره على غيره، أو يسقط من فمه، أو أنفه ما يفسده
على الغير، وظاهره أنه للتحريم، وحمله الجماهير على الأدب.
(وعن سلمان) هو أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويقال له: سلمان الخير، مولى
رسول الله (ص)، أصله من فارس، سافر لطلب الدين، وتنصر، وقرأ الكتب، وله
أخبار طويلة نفيسة، ثم تنقل حتى انتهى إلى رسول الله (ص)، فآمن به وحسن
إسلامه، وكان رأسا في أهل الاسلام، وقال فيه رسول الله (ص): سلمان منا أهل البيت، وولاه
عمر المدائن، وكان من المعمرين، قيل: عاش مائتين وخمسين سنة. وقيل: ثلاثمائة وخمسين، وكان
يأكل من عمل يده، ويتصدق بعطائه. مات بالمدينة سنة خمسين، وقيل: اثنتين وثلاثين. (قال:
لقد نهانا رسول الله (ص) أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) المراد أن
نستقبل بفروجنا عند خروج الغائط أو البول (أو أن نستنجي باليمين) وهذا غير النهي
عن مس الذكر باليمين عند البول الذي مر (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار)
الاستنجاء: إزالة النجو بالماء، أو الحجارة (أو أن نستنجي برجيع) وهو الروث (أو
عظم. رواه مسلم). الحديث فيه النهي عن استقبال القبلة، وهي الكعبة، كما فسرها حديث
أبي أيوب في قوله: فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف ونستغفر الله، وسيأتي،
77

ثم قد ورد النهي عن استدبارها أيضا، كما في حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعا: إذا جلس
أحدكم لحاجته، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها وغيره من الأحاديث. واختلف العلماء
هل هذا النهي للتحريم، أو لا؟ على خمسة أقوال: الأول: أنه للتنزيه بلا فرق بين الفضاء والعمران،
فيكون مكروها، وأحاديث النهي محمولة على ذلك بقرينة حديث جابر: رأيته قبل موته بعام
مستقبل القبلة أخرجه أحمد، وابن حبان، وغيرهما، وحديث ابن عمر: أنه رأى النبي
(ص) يقضي حاجته مستقبلا لبيت المقدس مستدبرا للكعبة متفق عليه. وحديث عائشة:
فحولوا مقعدتي إلى القبلة المراد بمقعدته ما كان يقعد عليه حال قضاء حاجته إلى القبلة: رواه
أحمد، وابن ماجة، وإسناده حسن. وأول الحديث: أنه ذكر عند رسول الله (ص)
قوم يكرهون أن يستقبلوا بفرجهم القبلة قال: أراهم قد فعلوا استقبلوا بمقعدتي القبلة هذا
لفظ ابن ماجة: وقال الذهبي في الميزان: في ترجمة خالد بن أبي الصلت: هذا الحديث
منكر. الثاني: أنه محرم فيهما، لظاهر أحاديث النهي، والأحاديث التي جعلت قرينة على أن
للتنزيه محمولة على أنها كانت لعذر، ولأنها حكاية فعل، عموم لها. الثالث: أنه مباح فيهما قالوا:
وأحاديث النهي منسوخة بأحاديث الإباحة، لان فيها التقييد بقبل عام ونحوه، واستقواه في الشرح.
الرابع: يحرم في الصحارى دون العمران، لان أحاديث الإباحة وردت في العمران فحملت عليه،
وأحاديث النهي عامة، وبعد تخصيص العمران بأحاديث فعله التي سلفت بقيت الصحارى
على التحريم. وقد قال ابن عمر: إنما نهى عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة
شئ يسترك، فلا بأس به رواه أبو داود وغيره، وهذا القول ليس بالبعيد، لبقاء أحاديث النهي
على بابها، وأحاديث الإباحة كذلك. الخامس: الفرق بين الاستقبال فيحرم فيهما، ويجوز
الاستدبار فيهما، وهو مردود بورود النهي فيهما على سواء. فهذه خمسة أقوال. أقربها الرابع.
وقد ذكر عن الشعبي: أن سبب النهي في الصحراء: أنها لا تخلو عن مصل من ملك أو آدمي أو جني
فربما وقع بصره على عورته، رواه البيهقي. وقد سئل: أي الشعبي، عن اختلاف الحديثين
حديث ابن عمر أنه رآه يستدبر القبلة، وحديث أبي هريرة في النهي، فقال: صدقا جميعا.
أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء، فإن لله عبادا ملائكة وجنا يصلون، فلا يستقبلهم أحد ببول
ولا غائط، ولا يستدبرهم. وأما كنفكم فإنما هي بيوت بنيت لا قبلة فيها، وهذا خاص بالكعبة.
وقد ألحق بها بيت المقدس لحديث أبي داود نهى رسول الله (ص) عن استقبال
القبلتين بغائط أو بول، وهو حديث ضعيف، لا يقوى على رفع الأصل، وأضعف منه القول
بكراهة استقبال القمرين، لما يأتي في الحديث الثاني عشر. والاستنجاء باليمنى تقدم الكلام
عليه. وقوله أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار يدل على أنه لا يجزئ أقل من ثلاثة
أحجار، وقد ورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عباس: حجران للصفحتين
وحجر للمسربة وهي بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة مجرى الحدث من الدبر.
وللعلماء خلاف في الاستنجاء بالحجارة: فالهادوية على أنه لا يجب الاستنجاء إلا على المتيمم،
أو من خشي تعدي الرطوبة ولم تزل النجاسة بالماء، وفي غير هذه الحالة مندوب لا واجب،
78

وإنما يجب الاستنجاء بالماء للصلاة. وذهب الشافعي إلى أنه مخير بين الماء، والحجارة، أيهما
فعل أجزأه. وإذا اكتفى بالحجارة، فلا بد عنده من الثلاث المسحات، ولو زالت العين بدونها،
وقيل: إذا حصل الانقاء بدون الثلاث أجزأ، وإذا لم يحصل بثلاث، فلا بد من الزيادة، ويندب
الايتار. ويستحب التثليث في القبل والدبر فتكون ستة أحجار، وورد ذلك في حديث. قلت:
إلا أن الأحاديث لم تأت في طلبه (ص) لابن مسعود، وأبي هريرة، وغيرها إلا
بثلاثة أحجار، وجاء بيان كيفية استعمالها في الدبر، ولم يأت في القبل، ولو كانت الست
مرادة لطلبها (ص) عند إرادته التبرز، ولو في بعض الحالات، فلو كان حجر له
ستة أحرف أجزأ المسح به. ويقوم غير الحجارة مما ينقي مقامها: خلافا للظاهرية فقالوا: بوجوب
الأحجار تمسكا بظاهر الحديث. وأجيب: بأنه خرج على الغالب، لان المتيسر، ويدل على
ذلك نهيه أن يستنجى برجيع أو عظم. ولو تعينت الحجارة لنهى عما سواها، وكذلك نهى
عن الحمم، فعند أبي داود: مر أمتك أن لا يستنجوا بروثة أو حممة، فإن الله تعالى جعل
لنا فيها رزقا فنهى (ص) عن ذلك. وكذلك ورد في العظم: أنها من طعام الجن،
كما أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود، وفيه: أنه قال (ص) للجن لما سألوه
الزاد: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم. ولا
ينافيه تعليل الروثة بأنها ركس في حديث ابن مسعود، لما طلب منه رسول الله (ص)
أن يأتيه بثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وقال: إنها ركس فقد يعلل
الامر الواحد بعلل كثيرة ولا مانع أيضا أن تكون رجسا، وتجعل لدواب الجن طعاما. ومما
يدل على عدم النهي عن استقبال القمرين الحديث الآتي:
وهو قوله (وللسبعة من حديث أبي أيوب) واسمه خالد بن زيد بن كليب
الأنصاري من أكابر الصحابة شهد بدرا، ونزل النبي (ص) حال قدومه المدينة
عليه. مات غازيا سنة خمسين بالروم، وقيل: بعدها. والحديث مرفوع أوله: أنه قال (ص):
إذا أتيتم الغائط الحديث، وفي آخره من كلام أبي أيوب قال: فقدمنا الشام
فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة الحديث تقدم، فقوله: (فلا تستقبلوا القبلة ولا
تستدبروها ببول أو غائط ولكن شرقوا أو غربوا) صريح في جواز استقبال القمرين،
واستدبار هما، إذ لا بد أن يكونا في الشرق أو الغرب غالبا.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي (ص) قال: من أتى الغائط
فليستتر رواه أبو داود. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي (ص) قال: من أتى الغائط فليستتر رواه أبو داود. هذا الحديث في السنن نسبه إلى أبي هريرة، وكذلك في التلخيص،
وقال: مداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي وفيه اختلاف. قيل: إنه صحابي، ولا يصح، والراوي
عنه مختلف فيه. والحديث كالذي سلف: دال على وجوب الاستتار، وقد قدمنا شطره، ولفظه
في السنن عن أبي هريرة عن النبي (ص): من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن،
79

ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن أكل فما تخلل
فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن أتى الغائط
فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستتر به، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني ادم،
من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج فهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة،
وليس له هنا عن عائشة رواية، ثم هو مضعف بمن سمعت، فكان على المصنف أن يعزوه إلى
أبي هريرة، وأن يشير إلى ما فيه على عادته في الإشارة إلى ما قيل في الحديث، وكأنه ترك، ذلك لأنه
قال في فتح الباري: إن إسناده حسن، وفي البدر المنير: أنه حديث صحيح صححه جماعة،
منهم ابن حبان، والحاكم، والنووي.
(وعنها) أي عائشة رضي الله عنها: (أن النبي (ص) كان إذا خرج
من الغائط قال: غفرانك) بالنصب على أنه مفعول فعل محذوف: أي: أطلب غفرانك
(أخرجه الخمسة وصححه الحاكم وأبو حاتم). ولفظة خرج تشعر بالخروج من المكان كما سلف
في لفظ دخل، ولكن المراد أعم منه، ولو كان في الصحراء. قيل: واستغفاره (ص)
من تركه لذكر الله وقت قضاء الحاجة، لأنه كان يذكر الله على كل أحيانه، فجعل تركه لذكر
الله في تلك الحال تقصيرا، وعده على نفسه ذنبا، فتداركه بالاستغفار. وقيل: معناه التوبة من
تقصيره في شكر نعمته التي أنعم بها عليه، فأطعمه، ثم هضمه، ثم سهل خروج الأذى منه، فرأى
شكره قاصرا عن بلوغ حق هذه النعمة، ففزع إلى الاستغفار منه، وهذا أنسب ليوافق حديث
أنس قال: كان رسول الله (ص) إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي
أذهب عني الأذى وعافاني. رواه ابن ماجة. وورد في وصف نوح عليه السلام: أنه كان
يقول من جملة شكره بعد الغائط: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى ولو شاء حبسه في.
وقد وصفه (ص) بأنه كان عبدا شكورا. قلت: ويحتمل أن استغفاره للامرين
معا، ولما لا نعلمه، على أنه يقال: إنه (ص)، وإن ترك الذكر بلسانه حال التبرز
لم يتركه بقلبه. وفي الباب من حديث أنس: كان (ص) يقول: الحمد لله الذي
أحسن إلي في أوله وآخره. وحديث ابن عمر: أنه كان يقول إذا خرج: الحمد لله الذي أذاقني
لذته وأبقى في قوته وأذهب عني أذاه. وكل أسانيدها ضعيفة. وقال أبو حاتم: أصح ما فيه
حديث عائشة. قلت: لكنه لا بأس في الاتيان بها جميعا شكرا على النعمة، ولا يشترط الصحة
للحديث في مثل هذا.
(وعن ابن مسعود) هو عبد الله بن مسعود. قال الذهبي: هو الامام الرباني
أبو عبد الرحمن، عبد الله بن أم عبد الهذلي، صاحب رسول الله (ص)، وخادمه، وأحد
السابقين الأولين، من كبار البدريين، ومن نبلاء الفقهاء والمقربين. أسلم قديما، وحفظ من في
رسول الله (ص) سبعين سورة، وقال (ص): من أحب أن يقرأ
القران غضا، كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد، وفضائله جمة عديدة. توفي بالمدينة سنة
اثنتين وثلاثين، وله نحو من ستين سنة (قال: أتى النبي (ص) الغائط فأمرني
80

أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين ولم أجد ثالثا، فأتيته بروثة، فأخذهما
وألقى الروثة) زاد ابن خزيمة: أنها كانت روثة حمار (وقال: إنها ركس) بكسر الراء
وسكون الكاف، في القاموس: إنه الرجس (أخرجه البخاري، وزاد أحمد والدارقطني: ائتني
بغير ها). أخذ بهذا الحديث الشافعي، وأحمد، وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا تنقص الأحجار
عن الثلاث مع مراعاة الانقاء. وإذا لم يحصل بها زاد حتى ينقى. ويستحب الايتار، وتقدمت
الإشارة إلى ذلك. ولا يجب الايتار لحديث أبي داود: ومن لا فلا حرج تقدم. قال
الخطابي: لو كان القصد الانقاء فقط لخلا ذكر اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط
العدد لفظا، وعلم الانقاء معنى دل على إيجاب الامرين، وأما قول الطحاوي: لو كان الثلاث
شرطا لطلب (ص) ثالثا. فجوابه أنه قد طلب (ص) الثالث، كما
في رواية أحمد، والدارقطني المذكورة في كلام المصنف، وقد قال في الفتح: إن رجاله ثقات،
على أنه لو لم تثبت الزيادة هذه، فالجواب على الطحاوي: أنه (ص) اكتفى بالأمر
الأول في طلب الثلاث، وحين ألقى الروثة علم ابن مسعود أنه لم يتم امتثاله الامر حتى يأتي
بثالثة. ثم يحتمل أنه (ص) اكتفى بأحد أطراف الحجرين، فمسح به المسحة الثالثة،
إذ المطلوب تثليث المسح ولو بأطراف حجر واحد. وهذه الثلاث لاحد السبيلين. ويشترط
للآخر ثلاثة أيضا فتكون ستة، لحديث ورد بذلك في مسند أحمد، على أن في النفس من إثبات
ستة أحجار شيئا، فإنه (ص) ما علم أنه طلب ستة أحجار مع تكرر ذلك منه مع
أبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهما. والأحاديث بلفظ: من أتى الغائط، كحديث عائشة: إذا ذهب
أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه عند أحمد، والنسائي، وأبي داود،
والدارقطني، وقال: إسناده حسن صحيح، مع أن الغائط - إذا أطلق - ظاهر في خارج الدبر، وخارج
القبل يلازمه. وفي حديث خزيمة بن ثابت: أنه (ص) سئل عن الاستطابة فقال:
بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع أخرجه أبو داود، والسؤال عام للمخرجين معا، أو أحدهما،
والمحل محل البيان. وحديث سلمان بلفظ: أمرنا أن لا نكتفي بدون ثلاثة أحجار وهو مطلق
في المخرجين. ومن اشترط الستة، فلحديث أخرجه أحمد، ولا أدري ما صحته، فيبحث عنه،
ثم تتبعت الأحاديث الواردة في الامر بثلاثة أحجار، والنهي عن أقل منها فإذا هي كلها في خارج
الدبر، فإنها بلفظ النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار، وبلفظ الاستجمار: إذا استجمر
أحدكم فليستجمر ثلاثا، وبلفظ التمسح: نهى (ص) أن يتمسح بعظم.
إذا عرفت هذا: فالاستنجاء لغة: إزالة النجو، وهو الغائط، والغائط كناية عن العذرة، والعذرة
خارج الدبر، كما يفيد ذلك كلام أهل اللغة، ففي القاموس: النجو: ما يخرج من البطن من
ريح أو غائط، واستنجى: اغتسل بالماء، أو تمسح بالحجر، وفيه استطاب استنجى،
واستجمر: استنجى، وفيه التمسح: إمرار اليد لإزالة الشئ السائل، المتلطخ اه‍. فعرفت
من هذا كله أن الثلاثة الأحجار لم يرد الامر بها والنهي عن أقل منها إلا في إزالة خارج الدبر،
لا غير، ولم يأت بها دليل في خارج القبل، والأصل عدم التقدير بعدد، بل المطلوب الإزالة لاثر
81

البول من الذكر، فيكفي فيه واحدة، مع أنه قد ورد بيان استعمال الثلاث في الدبر: بأن واحدة
للمسربة واثنتين للصفحتين، ما ذاك إلا لاختصاصه بها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله (ص) نهى
أن يستنجى بعظم، أو روث وقال: إنهما لا يطهران رواه الدارقطني وصححه.
وأخرجه ابن خزيمة بلفظ هذا، والبخاري بقريب منه، وزاد فيه أنه قال له أبو هريرة لما
فرغ: ما بال العظم والروث؟ قال: هي من طعام الجن وأخرجه البيهقي مطولا كذا في الشرح،
ولفظه في سنن البيهقي: أنه (ص) قال لأبي هريرة رضي الله عنه: ابغني أحجارا
أستنفض بها، ولا تأتيني بعظم ولا روث، فأتيته بأحجار في ثوبي، فوضعتها إلى جنبه، حتى إذا
فرغ وقام تبعته، فقلت: يا رسول الله ما بال العظم والروث؟ فقال: أتاني وفد نصيبين،
فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم ألا يمروا بروثة، ولا عظم إلا وجدوا عليه طعاما، والنهي في الباب
عن الزبير، وجابر، وسهل بن حنيف، وغيرهم بأسانيد فيها ما فيه مقال، والمجموع يشهد
بعضها لبعض. وعلل هنا بأنهما لا يطهران. وعلل بأنهما طعام الجن، وعللت الروثة بأنها
ركس، والتعليل بعدم التطهير فيها عائد إلى كونها ركسا. وأما عدم تطهير العظم، فلانه لزج
لا يكاد يتماسك فلا ينشف النجاسة ولا يقطع البلة. ولما علل (ص) بأن العظم
والروثة طعام الجن، قال له ابن مسعود: وما يغني عنهم ذلك يا رسول الله؟ قال: إنهم
لا يجدون عظما، إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أخذ، ولا وجدوا روثا، إلا وجدوا
فيه حبه الذي كان يوم أكل رواه أبو عبد الله الحاكم في الدلائل، ولا ينافيه ما ورد: أن
الروث علف وفيه دليل على أن الاستنجاء بالأحجار طهارة لا يلزم معها
الماء، وإن استحب، لأنه علل بأنهما لا يطهران، فأفاد أن غيرهما يطهر.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
استنزهوا) من التنزه وهو البعد بمعنى: تنزهوا، أو بمعنى اطلبوا النزاهة (من البول فإن
عامة عذاب القبر) أي أكثر من يعذب فيه (منه) أي بسبب ملابسته وعدم التنزه
عنه (رواه الدارقطني). والحديث أمر بالبعد عن البول، وأن عقوبة عدم التنزه منه تعجل في القبر،
وقد ثبت حديث الصحيحين: أنه (ص) مر بقبرين يعذبان، ثم أخبر: أن
عذاب أحدهما، لأنه كان لا يستنزه من البول، أو لأنه يستتر من بوله من الاستتار: أي
لا يجعل بينه وبين بوله ساترا يمنعه عن الملامسة له، أو: لأنه لا يستبرئ من الاستبراء، أو: لأنه
لا يتوقاه، وكلها ألفاظ واردة في الروايات، والكل مفيد لتحريم ملامسة البول وعدم التحرز منه.
وقد اختلف الفقهاء هل إزالة النجاسة فرض أو لا؟ فقال مالك: إزالتها ليست بفرض. وقال
الشافعي: إزالتها فرض ما عدا ما يعفى عنه منها. واستدل على الفرضية بحديث التعذيب على
عدم التنزه من البول، وهو وعيد لا يكون إلا على ترك فرض. واعتذر لمالك عن الحديث: بأنه
يحتمل أنه عذب، لأنه كان يترك البول يسيل عليه، فيصلي بغير طهور، لان الوضوء لا يصح مع
وجوده، ولا يخفى أن أحاديث الامر بالذهاب إلى المخرج بالأحجار، والامر بالاستطابة دالة على
82

وجوب إزالة النجاسة، وفيه دلالة على نجاسة البول. والحديث نص في بول الانسان، لان الألف
واللام في البول في حديث الباب عوض عن المضاف إليه، أي: عن بوله، بدليل لفظ البخاري
في صاحب القبرين، فإنها بلفظ: كان لا يستنزه عن بوله، ومن حمله في جميع الأبوال، وأدخل فيه
أبوال الإبل، كالمصنف في فتح الباري، فقد تعسف، وقد بينا وجه التعسف في هوامش فتح الباري.
(وللحاكم) أي: من حديث أبي هريرة (أكثر عذاب القبر من البول،
وهو صحيح الاسناد). هذا كلامه هنا، وفي التلخيص ما لفظه: وللحاكم، وأحمد، وابن ماجة
أكثر عذاب القبر من البول، وأعله أبو حاتم، وقال: إن رفعه باطل اه‍. ولم يتعقبه بحرف،
وهنا جزم بصحته، فاختلف كلامه كما ترى، ولم يتنبه الشارح رحمه الله لذلك، فأقر كلامه هنا.
والحديث يفيد ما أفاده الأول. واختلف في عدم الاستنزاه: هل هو من الكبائر، أو من الصغائر؟
وسبب الاختلاف حديث صاحبي القبرين، فإن فيه وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير
بعد أن ذكر: أن أحدهما عذب بسبب عدم الاستبراء من البول. فقيل: إن نفيه (ص)
كبر ما يعذبان فيه يدل على أنه من الصغائر. ورد هذا بأن قوله: بلى إنه لكبير يرد
هذا. وقيل: بل أراد أنه ليس بكبير في اعتقادهما، أو في اعتقاد المخاطبين، وهو عند الله كبير.
وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز، وجزم بهذا البغوي، ورجحه ابن دقيق العيد. وقيل: غير ذلك،
وعلى هذا فهو من الكبائر.
(وعن سراقة) رضي الله عنه بضم السين المهملة وبعد الراء قاف، وهو أبو سفيان
سراقة (بن مالك) بن جعشم بضم الجيم وسكون المهملة وضم الشين المعجمة، وهو الذي
ساخت قوائم فرسه، لما لحق برسول الله (ص) حين خرج فارا من مكة، والقصة
مشهورة، قال سراقة في ذلك يخاطب أبا جهل:
أبا حكم والله لو كنت شاهد الامر جوادي حين ساخت قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
من أبيات. توفي سراقة سنة أربع وعشرين في صدر خلافة عثمان. (قال: علمنا رسول
الله (ص) في الخلاء أن نقعد على اليسرى) من الرجلين (وننصب
اليمنى. رواه البيهقي بسند ضعيف) وأخرجه الطبراني. قال الحازمي: في سنده من لا نعرفه،
ولا نعلم في الباب غيره. قيل: والحكمة في ذلك: أنه يكون أعون على خروج الخارج، لان المعدة
في الجانب الأيسر. وقيل: ليكون معتمدا على اليسرى، ويقل مع ذلك استعمال اليمنى لشرفها
(وعن عيسى بن يزداد رضي الله عنه) قيل بباء موحدة وراء مهملة ودالين مهملتين
بينهما ألف، وضبط بمثناة تحتية وزاي معجمة وبقيته كالأول (عن أبيه قال: قال رسول الله
(ص): إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات رواه ابن ماجة
بسند ضعيف) ورواه أحمد في مسنده، والبيهقي، وابن قانع، وأبو نعيم في المعرفة، وأبو داود في المراسيل،
والعقيلي في الضعفاء، كلهم من رواية عيسى المذكور. قال ابن معين: لا يعرف عيسى، ولا
أبوه. وقال العقيلي: لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به. وقال النووي في شرح المهذب: اتفقوا
83

على أنه ضعيف، إلا أن معناه في الصحيحين في رواية صاحبي القبرين على رواية ابن عساكر
كان لا يستبرئ من بوله بموحدة ساكنة أي: لا يستفرغ البول جهده بعد فراغه منه، فيخرج
بعد وضوئه. والحكمة في ذلك حصول الظن بأنه لم يبق في المخرج ما يخاف من خروجه، وقد
أوجب بعضهم الاستبراء، لحديث أحد صاحبي القبرين هذا، وهو شاهد لحديث الباب.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي (ص) سأل أهل قباء)
بضم القاف ممدود مذكر مصروف، وفيه لغة بالقصر وعدم الصرف (فقال: إن الله
يثني عليكم فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. رواه البزار بسند ضعيف).
قال البزار: لا نعلم أحدا رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلا ابنه. ومحمد
ضعيف، وراويه عنه عبد الله بن شبيب ضعيف، (وأصله في أبي داود) والترمذي في السنن
عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء * (فيه رجال
يحبون أن يتطهروا) * قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. قال المنذري: زاد
الترمذي: غريب، وأخرجه ابن ماجة (وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة بدون ذكر
الحجارة). قال النووي في شرح المهذب: المعروف في طرق الحديث أنهم كانوا يستنجون
بالماء، وليس فيه أنهم كانوا يجمعون بين الماء والأحجار. وتبعه ابن الرفعة فقال: لا يوجد
هذا في كتب الحديث. وكذا قال المحب الطبري نحوه. قال المصنف: ورواية البزار واردة
عليهم، وإن كانت ضعيفة. قلت: يحتمل أنهم يريدون لا يوجد في كتب الحديث بسند صحيح،
ولكن الأولى الرد بما في الالمام، فإنه صحح ذلك. قال في البدر: والنووي معذور، فإن رواية
ذلك غريبة في زوايا وخبايا، لو قطعت إليها أكباد الإبل لكان قليلا. قلت: يتحصل من هذا
كله: أن الاستنجاء بالماء أفضل من الحجارة، والجمع بينهما أفضل من الكل بعد صحة ما في
الالمام، ولم نجد عنه (ص) أنه جمع بينهما. وعدة أحاديث باب قضاء الحاجة
أحد وعشرون. وقال في الشرح: خمسة عشر: وكأنه عد أحاديث الملاعن حديثا واحدا،
ولا وجه له، فإنها أربعة أحاديث عن أبي هريرة عند مسلم، وعن معاذ عند أبي داود، وعن
ابن عباس عند أحمد. وعن ابن عمر عند الطبراني، فقد اختلفت صحابة ومخرجين، وعد
حديثي النهي عن استقبال القبلة واحدا وهما حديثان: عن سلمان عند مسلم، وعن أبي أيوب
عند السبعة.
باب الغسل وحكم الجنب
الغسل بضم الغين المعجمة: اسم للاغتسال. وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما
المصدر فيجوز فيه الضم والفتح. وقيل: المصدر بالفتح، والاغتسال بالضم. وقيل: إنه بالفتح
فعل المغتسل، وبالضم الذي يغتسل به. وبالكسر ما يجعل مع الماء كالأشنان (وحكم الجنب)
أي: الأحكام المتعلقة بمن أصابته جنابة.
(عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (ص):
84

الماء من الماء رواه مسلم، وأصله في البخاري) أي: الاغتسال من الانزال، فالماء الأول
المعروف، والثاني المني، وفيه من البديع الجناس التام. وحقيقة الاغتسال إفاضة الماء على
الأعضاء. واختلف في وجوب الدلك: فقيل: يجب. وقيل: لا يجب. والتحقيق أن المسألة لغوية
فإن الوارد في القران الغسل في أعضاء الوضوء، فيتوقف إثبات الدلك فيه على أنه من مسماه. وأما
الغسل فورد بلفظ: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * وهذا اللفظ فيه زيادة على مسمى الغسل، وأقلها
الدلك. وما عدل عز وجل في العبارة إلا لإفادة التفرقة بين الامرين. فأما الغسل فالظاهر
أنه ليس من مسماه الدلك، إذ يقال: غسله العرق، وغسله المطر، فلا بد من دليل خارجي على
شريطة الدلك في غسل أعضاء الوضوء، بخلاف غسل الجنابة والحيض، فقد ورد فيه بلفظ التطهير
كما سمعت، وفي الحيض: * (فإذا تطهرن) * إلا أنه سيأتي في حديث عائشة وميمونة ما يدل على
أنه (ص) اكتفى في إزالة الجنابة بمجرد الغسل، وإفاضة الماء من دون ذلك، فالله
أعلم بالنكتة التي لأجلها عبر في التنزيل عن غسل أعضاء الوضوء بالغسل، وعن إزالة الجنابة
بالتطهير، مع الاتحاد في الكيفية. وأما المسح، فإنه الامرار على الشئ باليد، يصيب ما أصاب،
ويخطئ ما أخطأ، فلا يقال: لا يبقى فرق بين الغسل والمسح إذا لم يشترط الدلك. وحديث الكتاب
ذكره مسلم، كما نسبه المصنف إليه في قصة عتبان بن مالك، ورواه أبو داود، وابن خزيمة،
وابن حبان بلفظ الكتاب، وروى البخاري القصة ولم يذكر الحديث. ولذا قال المصنف
وأصله في البخاري وهو: أنه (ص) قال لعتبان بن مالك: إذا أعجلت أو أقحطت
فعليك الوضوء. والحديث له طرق عن جماعة من الصحابة عن أبي أيوب، وعن رافع بن خديج،
وعن عتبان بن مالك، وعن أبي هريرة، وعن أنس. والحديث دال بمفهوم الحصر المستفاد من
تعريف المسند إليه. وقد ورد عند مسلم بلفظ: إنما الماء من الماء على أنه لا غسل إلا من
الانزال، ولا غسل من التقاء الختانين، وإليه ذهب داود، وقليل من الصحابة، والتابعين. وفي
البخاري: أنه سئل عثمان عمن يجامع امرأته، ولم يمن، فقال: يتوضأ، كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره.
وقال عثمان: سمعته من رسول الله (ص). وبمثله قال علي، والزبير، وطلحة، وأبي
ابن كعب، وأبو أيوب، ورفعه إلى رسول الله (ص)، ثم قال البخاري: الغسل
أحوط. وقال الجمهور: هذا المفهوم منسوخ بحديث أبي هريرة الآتي.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
جلس) أي: الرجل المعلوم من السياق (بين شعبها) أي: المرأة (الأربع) بضم الشين
المعجمة وفتح العين المهملة فموحدة جمع شعبة (ثم جهدها) بفتح الجيم والهاء، معناه: كدها.
بحركته، أي: بلغ جهده في العمل بها (فقد وجب الغسل) وفي رواية مسلم: ثم اجتهد وعند
أبي داود وألزق الختان بالختان ثم جهدها. قال المصنف في الفتح: وهذا يدل على أن
الجهد هنا: كناية عن معالجة الايلاج (متفق عليه. زاد مسلم: وإن لم ينزل) والشعب
الأربع، وقيل: يداها ورجلاها، وقيل رجلاها وفخذاها، وقيل: ساقاها وفخذاها، وقيل: غير ذلك،
والكل كناية عن الجماع. فهذا الحديث استدل به الجمهور على نسخ مفهوم حديث الماء من
85

الماء، واستدلوا على أن هذا اخر الامرين: بما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري، عن أبي
بن كعب أنه قال: إن الفتيا التي كانوا يقولون: إن الماء من الماء رخصة، كان رسول الله (ص)
رخص بها في أول الاسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد صححه ابن خزيمة، وابن حبان،
وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على شرط البخاري، وهو صريح في النسخ. على أن حديث الغسل
وإن لم ينزل أرجح لو ثلم يثبت النسخ، منطوق في إيجاب الغسل، وذلك مفهوم، والمنطوق مقدم على
العمل بالمفهوم، وإن كان المفهوم موافقا للبراءة الأصلية، والآية تعضد المنطوق في إيجاب الغسل، إنه قال تعالى: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) *. قال الشافعي: إن كلام العرب يقتضي: أن الجنابة
تطلق بالحقيقة على الجماع، وإن لم يكن فيه إنزال، قال: فإن كل من خوطب بأن فلانا أجنب
عن فلانة، عقل: أنه أصابها، وإن لم ينزل. قال: ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الجلد هو الجماع،
ولو لم يكن منه إنزال اه‍. فتعاضد الكتاب والسنة على إيجاب الغسل من الايلاج.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) في المرأة ترى
في منامها ما يرى الرجل قال: تغتسل. متفق عليه، زاد مسلم فقالت أم سلمة: وهل
يكون هذا؟ قال: نعم، فمن أين يكون الشبه) بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة
وبفتحهما لغتان، اتفق الشيخان على اخراجه من طرق عن أم سلمة، وعائشة، وأنس، ووقعت
هذه المسألة لنساء من الصحابيات: لخولة بنت حكيم عند أحمد، والنسائي، وابن ماجة، ولسهلة بنت
سهيل عند الطبراني، ولبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة. والحديث دليل على أ المرأة ترى
ما يراه الرجل في منامه، والمراد إذا أنزلت الماء، كما في البخاري: قال: نعم إذا رأت الماء.
أي المني بعد الاستيقاظ، وفي رواية: هن شقائق الرجال. وفيه: ما يدل على أن ذلك غالب
من حال النساء كالرجال. ورد على من زعم أن مني المرأة لا يبرز. وقوله: فمن أين يكون الشبه
استفهام إنكار، وتقرير أن الولد تارة يشبه أباه، وتارة يشبه أمه وأخواله، فأي الماءين غلب كان الشبه
للغالب.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يغتسل من
أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت. رواه أبو داود،
وصححه ابن خزيمة) ورواه أحمد والبيهقي، وفي إسناده مصعب بن شيبة، وفيه مقال. والحديث
دليل على مشروعية الغسل في هذه الأربعة الأحوال. فأما الجنابة فالوجوب ظاهر. وأما
الجمعة: ففي حكمه ووقته خلاف. أما حكمه فالجمهور على أنه مسنون لحديث سمرة: من توضأ
يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل. يأتي قريبا. وقال داود، وجماعة: إنه
واجب، لحديث: غسل الجمعة واجب على كل محتلم يأتي قريبا، أخرجه السبعة من حديث
أبي سعيد وأجيب: بأنه يحمل الوجوب على تأكد السنية. وأما وقته: ففيه خلاف أيضا.
فعند الهادوية: أنه من فجر الجمعة إلى عصرها، وعند غيرهم: أنه للصلاة، فلا يشرع بعدها ما لم
يدخل وقت العصر. وحديث من أتى الجمعة فليغتسل دليل الثاني، وحديث عائشة هذا
يناسب الأول. أما الغسل من الحجامة: فقيل: هو سنة، وتقدم حديث أنس: أنه (ص)
86

احتجم، وصلى، ولم يتوضأ فدل على أنه سنة: يفعل تارة، كما أفاده حديث عائشة
هذا، ويترك أخرى، كما في حديث أنس، ويروى عن علي عليه السلام: الغسل من الحجامة
سنة، وإن تطهرت أجزأك. وأما الغسل من غسل الميت فتقدم الكلام فيه. وللعلماء فيه ثلاثة
أقوال. أنه سنة وهو أقربها، وأنه واجب، وأنه لا يستحب.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه) أنه قال: (في قصة ثمامة) بضم المثلثة وتخفيف
الميم (ابن أثال) بضم الهمزة فمثلثة مفتوحة وهو الحنفي سيد أهل اليمامة (عندما أسلم) أي
عند إسلامه: (وأمره النبي (ص) أن يغتسل. رواه عبد الرزاق). وهو الحافظ
الكبير: عبد الرزاق بن همام الصنعاني صاحب التصانيف، روى عن عبيد الله بن عمر، وعن
خلائق. وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، والذهلي. قال الذهبي: وثقه غير واحد، وحديثه مخرج
في الصحاح، كان من أوعية العلم. مات في شوال سنة إحدى عشرة ومائتين. (وأصله متفق
عليه) بين الشيخين. الحديث: دليل على شرعية الغسل بعد الاسلام، وقوله: أمره يدل على
الايجاب. وقد اختلف العلماء في ذلك: فعند الهادوية: أنه إذا كان قد أجنب حال كفره،
وجب عليه الغسل للجنابة، وإن كان قد اغتسل حال كفره، فلا حكم له، وحديث: الاسلام
يجب ما قبله لا يوافق هذا القول. وعند الحنفية: أنه إن كان قد اغتسل حال كفره فلا غسل
عليه. وعند الشافعية، وغيرهم: لا يجب عليه الغسل بعد إسلامه للجنابة، للحديث المذكور، وهو
إن الاسلام يجب ما قبله، وأما إذا لم يكن أجنب حال كفره، فإنه يستحب له الاغتسال،
لا غيره. أما عند أحمد فقال: يجب عليه مطلقا، لظاهر حديث الكتاب، ولما أخرجه أبو داود
من حديث قيس بن عاصم قال: أتيت رسول الله (ص) أريد الاسلام، فأمرني
أن أغتسل بماء وسدر وأخرجه الترمذي، والنسائي بنحوه.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) قال: غسل
الجمعة واجب على كل محتلم أخرجه السبعة) هذا دليل داود في إيجابه غسل الجمعة،
والجمهور يتأولونه بما عرفت قريبا، وقد قيل: إنه كان للإيجاب أول الأمر بالغسل، لما كانوا فيه
من ضيق الحال، وغالب لباسهم الصوف، وهم في أرض حارة الهواء، فكانوا يعرقون عند الاجتماع
لصلاة الجمعة، فأمرهم صلى الله عليه وسلم - بالغسل، فلما وسع الله عليهم، ولبسوا
القطن، رخص لهم في ذلك.
(وعن سمرة) تقدم ضبطه (ابن جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال
المهملة بعدها موحدة، هو أبو سعيد في أكثر الأقوال. سمرة بن جندب الفزاري حليف الأنصار،
نزل الكوفة، وولي البصرة، وعداده في البصريين، كان من الحفاظ المكثرين بالبصرة. مات اخر
سنة تسع وخمسين (قال: قال رسول الله (ص): من توضأ يوم الجمعة
فبها) أي بالسنة أخذ (ونعمت) السنة، أو بالرخصة أخذ ونعمت، لان السنة الغسل. أو
بالفريضة أخذ، ونعمت الفريضة، فإن الوضوء هو الفريضة (ومن اغتسل فالغسل
أفضل رواه الخمسة، وحسنه الترمذي)، ومن صحح سماع الحسن من سمرة قال: الحديث
87

صحيح، وفي سماعه منه خلاف. والحديث: دليل على عدم وجوب الغسل، وهو كما عرفت
دليل الجمهور على ذلك، وعلى تأويل حديث الايجاب، إلا أن فيه سؤالا، وهو: أنه كيف يفضل
الغسل - وهو سنة - على الوضوء - وهو فريضة - والفريضة أفضل إجماعا. والجواب: أنه ليس التفضيل
على الوضوء نفسه، بل على الوضوء الذي لا غسل معه، كأنه قال: من توضأ، واغتسل، فهو أفضل
ممن توضأ فقط. ودل لعدم الفرضية أيضا حديث مسلم: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى
الجمعة، فاستمع، وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ولداود أن
يقول: هو مقيد بحديث الايجاب. فالدليل الناهض حديث سمرة فلم يخرجه الشيخان، فالأحوط
للمؤمن أن لا يترك غسل الجمعة. وفي الهدي النبوي: الامر بالغسل يوم الجمعة مؤكد جدا،
ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مس النساء،
ووجوبه من مس الذكر، ووجوبه من القهقهة في الصلاة، ومن الرعاف، ومن الحجامة، والقئ.
(وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) يقرئنا القران
ما لم يكن جنبا. رواه أحمد والخمسة). هكذا في نسخ بلوغ المرام. والأولى: والأربعة وقد
وجد في بعضها. كذلك (وهذا لفظ الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان)، وذكر المصنف
في التلخيص: أنه حكم بصحته الترمذي، وابن السكن، وعبد الحق، والبغوي، وروى ابن خزيمة
بإسناده عن شعبة أنه قال: هذا الحديث ثلث رأس مالي، وما أحدث بحديث أحسن منه.
وأما قول النووي: خالف الترمذي الأكثرون فضعفوا هذا الحديث، فقد قال المصنف: إن
تخصيصه للترمذي بأنه صححه: دليل على أنه لم ير تصحيحه لغيره، وقد قدمنا من صححه غير
الترمذي، وروى الدارقطني عن علي موقوفا: اقرأوا القران ما لم تصب أحدكم جنابة، فإن
أصابته فلا، ولا حرفا، وهذا يعضد حديث الباب. إلا أنه قال ابن خزيمة: لا حجة في الحديث
لمن منع الجنب من القراءة، لأنه ليس فيه نهي، وإنما هي حكاية فعل، ولم يبين (ص)
أنه إنما امتنع عن ذلك لأجل الجنابة. وروى البخاري عن ابن عباس: أنه لم ير بالقراءة للجنب
بأسا، والقول به رواية: لم يكن يحجب النبي (ص) أو يحجزه عن القران شئ سوى
الجنابة أخرجه أحمد، وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبزار والدارقطني والبيهقي:
أصرح في الدليل على تحريم القراءة على الجنب من حديث الباب: غير ظاهر، فإن الألفاظ
كلها إخبار عن تركه (ص) القران حال الجنابة، ولا دليل في الترك على حكم معين.
وتقدم حديث عائشة: أنه (ص) كان يذكر الله على كل أحيانه، وقدمنا أنه
مخصص بحديث علي عليه السلام هذا، ولكن الحق أنه لا ينهض على التحريم، بل يحتمل أنه
ترك ذلك حال الجنابة للكراهة، أو نحوها، إلا أنه أخرج أبو يعلى من حديث علي عليه السلام
قال: رأيت رسول الله (ص) توضأ، ثم قرأ شيئا من القران، ثم قال هكذا لمن ليس
بجنب، فأما الجنب فلا، ولا اية. قال الهيثمي: رجاله موثقون، وهو يدل على التحريم، لأنه
نهي، وأصله ذلك، ويعاضد ما سلف. وأما حديث ابن عباس مرفوعا: لو أن أحدكم إذا أتى
أهله فقال: بسم الله الحديث، فلا دلالة فيه على جواز القراءة للجنب، لأنه يأتي بهذا اللفظ غير
88

قاصد للتلاوة، ولأنه قبل غشيانه أهله وصيرورته جنبا. وحديث ابن أبي شيبة: أنه (ص)
كان إذا غشى أهله فأنزل قال: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبا ليس فيه
تسمية، فلا يرد به إشكال.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود) إلى إتيانها (فليتوضأ بينهما وضوءا) كأنه
أكده، لأنه قد يطلق على غسل بعض الأعضاء، فأبان التأكيد أنه أراد به الشرعي، وقد ورد
في رواية ابن خزيمة، والبيهقي: وضوءه للصلاة. رواه مسلم، زاد الحاكم (عن أبي سعيد) فإنه
أنشط للعود. فيه دلالة على شرعية الوضوء لمن أراد معاودة أهله، وقد ثبت أنه (ص)
غشي نساءه، ولم يحدث وضوءا بين الفعلين. وثبت أنه اغتسل بعد غشيانه عند كل
واحدة، فالكل جائز.
(وللأربعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص)
ينام وهو جنب، من غير أن يمس ماء. وهو معلول) بين المصنف العلة: أنه من رواية
أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة. قال أحمد: على أنه ليس بصحيح. وقال أبو داود: وهم.
ووجهه: أن أبا إسحاق لم يسمعه من الأسود، وقد صححه البيهقي، وقال: إن أبا إسحاق سمعه من الأسود
فبطل القول بأنه أجمع المحدثون: أنه خطأ من أبي إسحاق. قال الترمذي: وعلى تقدير صحته
فيحتمل أن المراد لا يمس ماء الغسل. قلت: فيوافق أحاديث الصحيحين، فإنها مصرحة بأنه يتوضأ،
ويغسل فرجه لأجل النوم، والأكل، والشرب، والجماع. وقد اختلف العلماء: هل هو واجب أو
غير واجب؟ فالجمهور قالوا: بالثاني، لحديث الباب هذا، فإنه صريح أنه لا يمس ماء، وحديث
طوافه على نسائه بغسل واحد. كذا قيل. ولا يخفى أنه ليس فيه على المدعي هنا دليل. وذهب
داود، وجماعة: إلى وجوبه لورود الامر بالغسل عند مسلم: ليتوضأ ثم لينم. وفي البخاري: اغسل
فرجك ثم توضأ وأصله الايجاب وتأوله الجمهور: أنه للاستحباب جمعا بين الأدلة، ولما رواه
ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما من حديث ابن عمر: أنه سأل النبي (ص)
أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، ويتوضأ إن شاء. وأصله في الصحيحين، دون قوله إن شاء
إلا أن تصحيح من ذكرها، وإخراجها في الصحيح من كتابه كاف في العمل، ويؤيد حديث
ولا يمس ماء، ولا يحتاج إلى تأويل الترمذي، ويعضد الأصل، وهو عدم وجوب الوضوء
على من أراد النوم جنبا، كما قاله الجمهور.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص)
إذا اغتسل من الجنابة) أي: أراد ذلك (يبدأ فيغسل يديه) في حديث ميمونة
مرتين أو ثلاثا (ثم يفرغ) أي: الماء (بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم
يتوضأ) في حديث ميمونة: وضوءه للصلاة (ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه
في أصول الشعر) أي: شعر رأسه، وفي رواية البيهقي: يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتتبع بها
أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك، (ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات)
89

الحفنة: بالمهملة فنون: ملء الكف، كما في النهاية، وبكسر الحاء، وفتحها كما في القاموس، وفي
حديث ميمونة: ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه، إلا أن أكثر روايات مسلم: ملء
كفه بالافراد ثم أفاض) أي: الماء (على سائر جسده) أي بقيته. ولفظ حديث
ميمونة ثم غسل بدل أفاض (ثم غسل رجليه. متفق عليه واللفظ لمسلم).
(ولهما) أي: الشيخين (من حديث ميمونة) في صفة الغسل من ابتدائه إلى انتهائه،
إلا أن المصنف اقتصر على ما لم يذكر في حديث عائشة فقط: (ثم أفرغ على فرجه
وغسله بشماله ثم ضرب بها الأرض وفي رواية: فمسحها بالتراب وفي اخره ثم
أتيته بالمنديل) بكسر الميم وهو معروف (فرده - وفيه: وجعل ينفض الماء بيده)
وقيل هذا اللفظ في حديثهما: ثم تنحى عن مقامه ذلك، فغسل رجليه، ثم أتيته إلى اخره
وهذان الحديثان مشتملان على بيان كيفية الغسل من ابتدائه إلى انتهائه، فابتداؤه غسل
اليدين قبل إدخالهما في الاناء إذا كان مستيقظا من النوم، كما ورد صريحا، وكان الغسل من
الاناء، وقد قيده في حديث ميمونة مرتين، أو ثلاثا، ثم غسل الفرج. وفي الشرح: أن ظاهره
مطلق الغسل، فيكفي مرة واحدة. ودلك الأرض لأجل إزالة الرائحة من اليد، ولم يذكر أنه
أعاد غسل الفرج بعد ذلك، مع أنها إذا كانت الرائحة في اليد، فهي باقية في الفرج، هذا
ما يفهم من الحديث. ويدل على أن الماء الذي يطهر به محل النجاسة طاهر مطهر، وعلى
تشريك النية للغسل الذي يزيل النجاسة برفعها الحدث. واستدل به على أن بقاء الرائحة بعد
غسل المحل لا يضر. ويدل على أن غسل الجنابة مرة واحدة، هذا كلامه، ويحتمل أنها لم تبق
رائحة، بل ضرب الأرض، لإزالة لزوجة اليد، إن سلم أنها تفارق الرائحة. وأما وضوءه قبل الغسل
فإنه يحتمل أنه وضوءه للصلاة، وأنه يصح قبل رفع الحدث الأكبر، وأن يكون غسل هذه
الأعضاء كافيا عن غسل الجنابة، وأنه تتداخل الطهارتان، وهو رأي زيد بن علي والشافعي
وجماعة، ونقل ابن بطال الاجماع على ذلك، ويحتمل أنه غسل أعضاء الوضوء للجنابة، وقدمها
تشريفا لها، ثم وضأها للصلاة، لكن هذا لم ينقل أصلا، ويحتمل أنه وضأها للصلاة، ثم أفاض
عليها الماء مع بقية الجسد للجنابة، ولكن عبارة: أفاض الماء على سائر جسده لا تناسب هذا
إذ هي ظاهرة: أنه أفاضه على ما بقي من جسده مما لم يمسه الماء، فإن السائر: الباقي، لا الجميع
قال في القاموس: والسائر: الباقي، لا الجميع، كما توهم جماعات. فالحديثان ظاهران في كفاية غسل
أعضاء الوضوء مرة واحدة عن الجنابة: وأنه لا يشترط في صحة الوضوء رفع الحدث الأكبر.
ومن قال: لا يتداخلان، وأنه يتوضأ بعد كمال الغسل، لم ينهض له على ذلك دليل. وقد ثبت في سنن
أبي داود: أنه (ص) كان يغتسل ويصلي الركعتين، وصلاة الغداة، ولا يمس ماء،
فبطل القول بأنه ليس في حديث ميمونة، وعائشة: أنه صلى بعد ذلك الغسل، ولا يتم الاستدلال
بالتداخل، إلا إذا ثبت: أنه صلى بعده. قلنا: قد ثبت في حديث السنن صلاته به. نعم لم يذكر
المصنف في وضوء الغسل: أنه مسح رأسه، إلا أن يقال: قد شمله قول ميمونة: وضوءه للصلاة.
وقولها: ثم أفاض الماء الإفاضة الإسالة. وقد استدل به على عدم وجوب الدلك، وعلى أن
90

مسمى الغسل لا يدخل فيه الدلك لأنها عبرت ميمونة بالغسل، وعبرت عائشة بالإفاضة، والمعنى
واحد، والإفاضة لا دلك فيها، فكذلك الغسل. وقال الماوردي: لا يتم الاستدلال بذلك، لان
أفاض: بمعنى غسل، والخلاف في الغسل قائم. هذا. وأما هل يكرر غسل الأعضاء ثلاثا عند
وضوء الغسل؟ فلم يذكر ذلك في حديث عائشة، وميمونة. قال القاضي عياض: إنه لم يأت
في شئ من الروايات ذلك. قال المصنف: بل قد ورد ذلك في رواية صحيحة عن عائشة،
وفي قول ميمونة: أنه (ص) أخر غسل الرجلين، ولم يرد في رواية عائشة. قيل:
يحتمل أنه أعاد غسل رجليه بعد أن غسلهما أولا للوضوء لظاهر قولها: توضأ وضوءه للصلاة،
فإنه ظاهر في دخول الرجلين في ذلك: وقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من اختار غسلهما
أولا، ومنهم من اختار تأخير ذلك. وقد أخذ منه جواز تفريق أعضاء الوضوء، وقول ميمونة
ثم أتيته بالمنديل فرده. فيه دليل على عدم شرعية التنشيف للأعضاء. وفيه أقوال: الأشهر
أنه يستحب تركه. وقيل: مباح. وقيل: غير ذلك. وفيه دلالة على أن نفض اليد من ماء الوضوء
لا بأس به، وقد عارضه حديث: لا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان إلا أنه حديث
ضعيف لا يقاوم حديث الباب.
(وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد شعر رأسي
أفأنقضه لغسل الجنابة؟ وفي رواية: والحيضة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك
ثلاث حثيات رواه مسلم) لكن لفظه: أشد ضفر رأسي بدل: شعره رأسي وكأنه رواه المصنف
بالمعنى، وضفر بفتح الضاد وإسكان الفاء هو المشهور. والحديث: دليل على أنه لا يجب
نقض الشعر على المرأة في غسلها من جنابة، أو حيض، وأنه لا يشترط وصول الماء إلى أصوله،
وهي مسألة خلاف: فعند الهادوية: لا يجب النقض في غسل الجنابة، ويجب في الحيض والنفاس
لقوله (ص) لعائشة: انقضي شعرك واغتسلي. وأجيب: بأنه معارض بهذا الحديث.
ويجمع بينهما: بأن الامر بالنقض للندب، ويجاب: بأن شعر أم سلمة كان خفيفا، فعلم (ص)
أنه يصل الماء إلى أصوله. وقيل: يجب النقض إن لم يصل الماء إلى أصول الشعر،
وإن وصل لخفة الشعر لم يجب نقضه، أو بأنه إن كان مشدودا نقض، وإلا لم يجب نقضه، لأنه
يبلغ الماء أصوله. وأما حديث: بلوا الشعر وأنقوا البشر فلا يقوى على معارضة حديث
أم سلمة. وأما فعله (ص)، وإدخال أصابعه، كما سلف في غسل الجنابة، ففعله
لا يدل على الوجوب، ثم هو في حق الرجال، وحديث أم سلمة في غسل النساء، هكذا حاصل
ما في الشرح. إلا أنه لا يخفى: أن حديث عائشة كان في الحج، فإنها أحرمت بعمرة، ثم حاضت
قبل دخول مكة، فأمرها (ص) أن تنقض رأسها، وتمشط، وتغتسل، وتهل بالحج،
وهي حينئذ لم تطهر من حيضها، فليس إلا غسل تنظيف، لا حيض، فلا يعارض حديث
أم سلمة أصلا، فلا حاجة إلى هذه التأويل التي في غاية الركة، فإن خفة شعر هذه دون هذه
يفتقر إلى دليل. والقول: بأن هذا مشدود، وهذا خلافه - والعبارة عنهما من الراوي بلفظ النقض -
دعوى بغير دليل. نعم في المسألة حديث واضح: فإنه أخرج الدارقطني في الافراد والطبراني
91

والخطيب في التلخيص، والضياء المقدسي من حديث أنس مرفوعا: إذا اغتسلت المرأة من
حيضها نقضت شعر ها نقضا، وغسلته بخطمي وأشنان، وإن اغتسلت من جنابة صبت الماء
على رأسها صبا وعصرته فهذا الحديث مع اخراج الضياء له، وهو يشترط الصحة فيما يخرجه
يثمر الظن في العمل به. ويحمل هذا على الندب لذكر الخطمي والأشنان، إذ لا قائل بوجوبهما،
فهو قرينة على الندب، وحديث أم سلمة محمول على الايجاب، كما قال: إنما يكفيك، فإذا زادت
نقض الشعر كان ندبا. ويدل لعدم وجوب النقض ما أخرجه مسلم، وأحمد: أنه بلغ عائشة: أن
ابن عمر كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن. فقالت: يا عجبا لابن عمر: هو يأمر
النساء أن ينقضن شعرهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله
(ص) من إناء واحد، فما أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات وإن كان
حديثها في غسلها من الجنابة. وظاهر ما نقل عن ابن عمر: أنه كان يأمر النساء بالنقض في حيض
وجنابة.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (ص): إني
لا أحل المسجد) أي دخوله، والبقاء فيه (لحائض ولا جنب. رواه أبو داود، وصححه
ابن خزيمة). ولا سماع لقول ابن الرفعة: إن في رواته متروكا، لأنه قد رد قوله بعض الأئمة.
والحديث دليل على أنه لا يجوز للحائض والجنب دخول المسجد، وهو قول الجمهور، وقال داود
وغيره: يجوز، وكأنه بني على البراءة الأصلية، وأن هذا الحديث لا يرفعها. وأما عبورهما المسجد
فقيل يجوز لقوله تعالى: * (إلا عابري سبيلا) * في الجنب، وتقاس الحائض عليه، والمراد به: مواضع
الصلاة. وأجيب: بأن الآية فيمن أجنب في المسجد فإنه يخرج منه للغسل، وهو خلاف الظاهر
وفيها تأويل اخر.
(وعنها) أي: عائشة (قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله (ص)
من إناء واحد تختلف أيدينا فيه) أي: في الاغتراف منه (من الجنابة) بيان
لنغتسل (متفق عليه، وزاد ابن حبان: وتلتقي) أي: تلتقي (أيدينا) فيه. وهو دليل على
جواز اغتسال الرجل والمرأة، من ماء واحد، في إناء واحد، والجواز هو الأصل، وقد سلف
الكلام في هذا في باب المياه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إن
تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر)، لأنه إذا كان تحته جنابة، فبالأولى أنها فيه
ففرع غسل الشعر على الحكم بأن تحت كل شعرة جنابة (وانقوا البشر. رواه أبو داود
والترمذي، وضعفاه). لأنه عندهما من رواية الحارث بن وجيه: بفتح الواو فجيم فمثناة تحتية. قال
أبو داود: وحديثه منكر، وهو ضعيف، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث الحارث
وهو شيخ ليس بذاك. وقال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت. وقال البيهقي: أنكره أهل
العلم بالحديث: البخاري وأبو داود وغيرهما. ولكن في الباب من حديث علي عليه السلام مرفوعا
من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا، فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم
92

عاديت رأسي ثلاثا، وكان يجزه. وإسناده صحيح، كما قال المصنف، ولكن قال ابن كثير
في الارشاد: إن حديث علي هذا من رواية عطاء بن السائب، وهو سيئ الحفظ، وقال النووي
إنه حديث ضعيف. قلت: وسبب اختلاف الأئمة في تصحيحه وتضعيفه: أن عطاء بن السائب
اختلط في اخر عمره، فمن روى عنه قبل اختلاطه، فروايته عنه صحيحة. ومن روى عنه بعد
اختلاطه، فروايته عنه ضعيفة، وحديث علي هذا، اختلفوا: هل رواه قبل الاختلاط، أو بعده؟ فلذا
اختلفوا في تصحيحه، وتضعيفه، حتى يتبين الحال فيه. وقيل: الصواب وقفه على علي عليه السلام.
والحديث دليل على أنه يجب غسل جميع البدن في الجنابة، ولا يعفى عن شئ منه. قيل: وهو
إجماع، إلا المضمضة والاستنشاق ففيهما خلاف. قيل: يجبان، لهذا الحديث
وقيل: لا يجبان، لحديث عائشة الذي تقدم وميمونة. وحديث إيجابهما هذا غير صحيح، ولا يقاوم ذلك. وأما أنه (ص)
توضأ وضوءه للصلاة، ففعل لا ينهض على الايجاب. إلا أن يقال: إنه بيان لمجمل
فإن الغسل مجمل في القران، يبينه الفعل.
(ولأحمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه، وفيه راو مجهول) لم يذكر المصنف الحديث في التلخيص
ولا عين من فيه، وإذا كان فيه مجهول، فلا تقوم به حجة. وأحاديث الباب عدتها سبعة عشر.
باب التيمم
التيمم هو اللغة: القصد. وفي الشرع: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين، بنية
استباحة الصلاة ونحوها. واختلف العلماء: هل التيمم رخصة أو عزيمة؟ وقيل: هو لعدم الماء
عزيمة، وللعذر رخصة.
(عن جابر) هو إذا أطلق جابر بن عبد الله (أن النبي (ص) قال)
متحدثا بنعمة الله، ومبينا لاحكام شريعته: (أعطيت) حذف الفاعل للعلم به (خمسا) أي
خصالا، أو فضائل، أو خصائص، والاخر يناسبه قوله: (لم يعطهن أحد قبلي) ومعلوم أنه لا يعطاهن
أحد بعده، فتكون خصائص له، إذ الخاصة ما توجد في الشئ ولا توجد في غيره. ومفهوم
العدد غير مراد، لأنه قد ثبت أنه أعطى أكثر من الخمس، وقد عدها السيوطي في الخصائص
فبلغت الخصائص زيادة على المائتين، وهذا إجمال فصله (نصرت بالرعب) وهو: الخوف
(مسيرة شهر) أي: بيني وبين العدو مسافة شهر، وأخرج الطبراني: نصرت بالرعب
على عدوي مسيرة شهرين. وأخرج أيضا تفسير ذلك عن السائب بن يزيد: بأنه شهر خلفي
وشهر أمامي. قيل: وإنما جعل مسافة شهر، لأنه لم يكن بينه (ص) وبين أحد من
أعدائه أكثر من هذه المسافة، وهي حاصلة له، وإن كان وحده. وفي كونها حاصلة لامته
خلاف (وجعلت لي الأرض مسجدا) موضع سجود، ولا يختص به موضع دون غيره
وهذه لم تكن لغيره (ص)، كما صرح به في رواية: وكان من قبلي إنما كانوا يصلون
في كنائسهم، وفي أخرى: ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه وهو نص على
أنها لم تكن هذه الخاصية لاحد من الأنبياء قبله (وطهورا) بفتح الطاء: أي: مطهرة تستباح
93

بها الصلاة. وفيه دليل، أن التراب يرفع الحدث كالماء، لاشتراكهما في الطهورية، وقد يمنع ذلك
ويقال: الذي له من الطهورية استباحة الصلاة به، كالماء. ويدل على جواز التيمم بجميع
أجزاء الأرض. وفي رواية: وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا وهو من حديث
أبي أمامة عند أحمد، وغيره. وأما قول من منع من ذلك مستدلا بقوله في بعض روايات الصحيح
وجعلت تربتها طهورا أخرجه مسلم، فلا دليل فيه على اشتراط التراب، لما عرفت في الأصول
من أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص به، ثم هو مفهوم لقب لا يعمل به عند المحققين. نعم
في قوله تعالى في اية المائدة في التيمم: * (فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) *.
دليل على أن المراد التراب، وذلك أن كلمة من للتبعيض كما قال في الكشاف حيث قال:
إنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن التراب إلا معنى
التبعيض، انتهى. والتبعيض لا يتحقق إلا في المسح من التراب، لا من الحجارة ونحوها (فأيما
رجل) هو للعموم في قوة: فكل رجل (أدركته الصلاة فليصل) أي: على كل حال،
وإن لم يجد مسجدا، ولا ماء: أي: بالتيمم كما بينته رواية أبي أمامة: فأيما رجل من أمتي
أدركته الصلاة، فلم يجد ماء: وجد الأرض طهورا، ومسجدا. وفي لفظ: فعنده طهوره ومسجده
وفيه أنه لا يجب على فاقد الماء تطلبه وذكر الحديث) أي: ذكر جابر بقية الحديث،
فالمذكور في الأصل اثنتان. ولنذكر بقية الخمس، فالثالثة قوله: وأحلت لي الغنائم، وفي
رواية: المغانم. قال الخطابي: كان من تقدم، أي: من الأنبياء على ضربين: منهم من لم يؤذن
له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن لهم فيه، ولكن إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن
يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته. وقيل: أجيز لي التصرف فيها بالتنفيل، والاصطفاء، والصرف
في الغانمين، كما قال الله تعالى: * (قل الأنفال لله والرسول) *. والرابعة قوله: وأعطيت الشفاعة قد
عد في الشرح الشفاعات اثنتي عشرة شفاعة، واختار أن الكل من حيث هو: مختص به، وإن
كان بعض أنواعها يكون لغيره. ويحتمل أنه (ص) أراد بها الشفاعة العظمى،
في إراحة الناس من الموقف، لأنها الفرد الكامل، ولذلك يظهر شرفها لكل من في الموقف. والخامسة
قوله: وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة فعموم الرسالة خاص به صلى
الله عليه وسلم، فأما نوح فإنه بعث إلى قومه خاصة. نعم صار بعد إغراق من كذب به
مبعوثا إلى الأرض، لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا به، ولكن ليس العموم في أصل البعثة.
وقيل: غير ذلك. وبهذا عرفت أنه صلى الله عليه وسلم مختص بكل واحدة من هذه
الخمس، لا أنه مختص بالمجموع. وأما الافراد فقد شاركه غيره فيها، كما قيل، فإنه قول مردود،
وفي الحديث فوائد جليلة مبينة في الكتب المطولة. وكان ينبغي للمصنف أن يقول بعد قوله:
وذكر الحديث. متفق عليه: ثم يعطف عليه قوله: وفي حديث حذيفة إلى اخره، لأنه بقي حديث
جابر غير منسوب إلى مخرج، وإن كان قد فهم أنه متفق عليه بعطف قوله. وفي:
(وفي حديث حذيفة رضي الله عنه، عند مسلم وجعلت تربتها لنا طهورا، إذا لم نجد الماء)
. هذا القيد قراني معتبر في الحديث الأول، كما بيناه.
94

(وعن علي رضي الله عنه عند أحمد: وجعل التراب لي طهورا. هو وما قبله
دليل من قال: إنه لا يجزئ إلا التراب، وقد أجيب بما سلف: من أن التنصيص على بعض
أفراد العام لا يكون مخصصا، مع أنه من العمل بمفهوم اللقب، ولا يقوله جمهور أئمة الأصول.
(عن عمار) بفتح العين المهملة وتشديد الميم اخره راء، هو أبو اليقظان عمار (بن
ياسر) بمثناة تحتية وبعد الألف سين مهملة فراء. أسلم عمار قديما وعذب في مكة على الاسلام
وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وسماه (ص) الطيب والمطيب، وهو من المهاجرين
الأولين، شهد بدرا، والمشاهد كلها، وقتل بصفين مع علي عليه السلام، وهو ابن ثلاث وسبعين
سنة، وهو الذي قال له (ص): تقتلك الفئة الباغية. (قال: بعثني رسول الله
(ص) في حاجة فأجنبت) أي: صرت جنبا، وقدمنا أنه يقال: أجنب الرجل
صار جنبا. ولا يقال: اجتنب، وإن كثر في لسان الفقهاء (فلم أجد الماء فتمرغت) بفتح
المثناة الفوقية والميم وتشديد الراء فغين معجمة، وفي لفظ فتمعكت ومعناه: تقلبت (في
الصعيد، كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي (ص) فذكرت له ذلك فقال: إنما
كان يكفيك أن تقول) أي: تفعل، والقول يطلق على الفعل، كقولهم: قال بيده: هكذا (بيديك
هكذا) بينه بقوله: (ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على
اليمين، وظاهر كفيه ووجهه. متفق عليه) بين الشيخين (واللفظ لمسلم). استعمل عمار
القياس، فرأى أنه لما كان التراب نائبا عن الغسل، فلا بد من عمومه للبدن. فأبان له (ص)
الكيفية التي تجزئه، وأراه الصفة المشروعة، وأعلمه أنها التي فرضت عليه. ودل على أنه يكفي
ضربة واحدة، ويكفي في اليدين مسح الكفين، وأن الآية مجملة، بينها (ص) بالاقتصار
على الكفين. وأفاد أن الترتيب بين الوجه والكفين غير واجب، وإن كانت الواو لا تفيد الترتيب،
إلا أنه قد ورد العطف في رواية للبخاري للوجه على الكفين بثم، وفي لفظ لأبي داود: ثم
ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه، وفي لفظ: للإسماعيلي،
ما هو أوضح من هذا: إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تنفضهما، ثم تمسح
بيمينك على شمالك وبشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك، ودل على أن التيمم فرض من أجنب
ولم يجد الماء. وقد اختلف في كمية الضربات، وقدر التيمم في اليدين: فذهب جماعة من
السلف، ومن بعدهم إلى أنها تكفي الضربة الواحدة، وذهب إلى أنها لا تكفي الضربة الواحدة
جماعة من الصحابة، ومن بعدهم، وقالوا: لا بد من ضربتين، للحديث الآتي قريبا، والذاهبون إلى
كفاية الضربة: جمهور العلماء، وأهل الحديث، عملا بحديث عمار، فإنه أصح حديث في الباب،
وحديث الضربتين يأتي: أنه لا يقوى على معارضته. قالوا: وكل ما عدا حديث عمار فهو
ضعيف، أو موقوف، كما يأتي. وأما قدر ذلك في اليدين: فقال جماعة من العلماء، وأهل الحديث:
إنه يكفي في اليدين الراحتان، وظاهر الكفين، لحديث عمار هذا. وقد رويت عن عمار روايات
بخلاف هذا، لكن الأصح ما في الصحيحين. وقد كان يفتي به عمار بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وقال آخرون: إنها تجب ضربتان، ومسح اليدين مع المرفقين، لحديث ابن عمر
95

الآتي، ويأتي أن الأصح فيه أنه موقوف، فلا يقاوم حديث عمار المرفوع الوارد للتعليم. ومن
ذلك اختلافهم في الترتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمار كما عرفت قاض بأنه لا يجب،
وإليه ذهب من قال: تكفي ضربة واحدة قالوا: والعطف في الآية بالواو لا ينافي ذلك وذهب
من قال: بالضربتين: إلى أنه لا بد من الترتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليمنى على اليسرى.
وفي حديث عمار: دلالة على أن المشروع هو ضرب التراب. وقال بعدم إجزاء غيره: الهادوية،
وغير هم: لحديث عمار هذا، وحديث ابن عمر الآتي. وقال الشافعي: يجزئ وضع يده في التراب،
لان في إحدى روايتي تيممه (ص) من الجدار: أنه وضع يده، (وفي رواية) أي
من حديث عمار. (للبخاري، وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما
وجهه وكفيه) أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللفظ الأول، إلا أنه خالفه بالترتيب، وزيادة
النفخ. فأما نفخ التراب: فهو مندوب. وقيل: لا يندب، وسلف الكلام في الترتيب. وهذا
التيمم وارد فكفاية التراب للجنب الفاقد للماء، وقد قاسوا عليه الحائض، والنفساء، وخالف
فيه ابن عمر، وابن مسعود. وأما كون التراب يرفع الجنابة، أو لا، فسيأتي في شرح حديث أبي هريرة،
وهو الحديث السادس. (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): التيمم
ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين: رواه الدارقطني). وقال
في سننه عقب روايته: وقفه يحيى القطان، وهشيم، وغيرهما، وهو الصواب اه‍، ولذا قال المصنف:
(وصحح الأئمة وقفه) على ابن عمر. قالوا: وإنه من كلامه، وللاجتهاد مسرح في ذلك، وفي
معناه عدة روايات كلها غير صحيحة، بل إما موقوفة، أو ضعيفة، فالعمدة حديث عمار، وبه جزم
البخاري في صحيحه فقال: باب التيمم للوجه والكفين. قال المصنف في الفتح: أي: هو الواجب
المجزئ، وأتى بصيغة الجزم في ذلك، مع شهرة الخلاف فيه، لقوة دليله، فإن الأحاديث الواردة
في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم، وعمار. وما عداهما فضعيف، أو مختلف
في رفعه، ووقفه، والراجح عنده رفعه. فأما حديث أبي جهيم، فورد بذكر اليدين مجملا. وأما
حديث عمار، فورد بلفظ الكفين في الصحيحين، وبلفظ المرفقين في السنن. وفي رواية: إلى
نصف الذراع، وفي رواية، إلى الآباط. فأما رواية المرفقين، وكذا نصف الذراع ففيهما مقال.
وأما رواية الآباط، فقال الشافعي، وغيره: إن كان وقع بأمر النبي (ص)، فبكل
تيمم صح عن النبي (ص) بعده، فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره، فالحجة فيما
أمر به. ويؤيد رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين: أن عمارا كان يفتي بعد
النبي (ص) بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): الصعيد)
هو عند الأكثرين التراب. وعن بعض أئمة اللغة: أنه وجه الأرض، ترابا كان، أو غيره، وإن كان
صخرا لا تراب عليه. وتقدم الكلام في ذلك. (وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)
96

فيه: دليل على تسمية التيمم وضوءا (فإذا وجد) أي المسلم (الماء فليتق الله
وليمسه بشرته. رواه البزار، وصححه ابن القطان). تقدم الكلام على ضبط ألفاظهما
والتعريف بحالهما (لكن صوب الدارقطني إرساله) قال الدارقطني في كتاب العلل: إرساله
أصح. وفي قوله: إذا وجد الماء دليل على أنه إن وجد الماء وجب إمساسه بشرته، وتمسك
به من قال: إن التراب لا يرفع الحدث، وإن المراد: أن يمسه بشرته لما سلف من جنابة، فإنها باقية
عليه، وإنما أباح له التراب الصلاة، لا غير، وإذا فرغ منها عاد عليه حكم الجنابة، ولذا قالوا:
لا بد لكل صلاة من تيمم. واستدلوا بحديث عمرو بن العاص، وقوله (ص)
له: أصليت بأصحابك وأنت جنب؟، وقول الصحابة له (ص): إن عمرا صلى بهم وهو
جنب، فأقرهم على تسميته جنبا. ومنهم من قال: إن التراب حكمه حكم الماء يرفع الجنابة، ويصلي
به ما شاء، وإذا وجد الماء لم يجب عليه أن يمسه إلا للمستقبل من الصلاة، واستدلوا: بأنه
تعالى جعله بدلا من الماء، فحكمه حكمه، وبأنه (ص) سماه طهورا، وسماه وضوءا،
كما سلف قريبا. والحق أن التيمم يقوم مقام الماء، ويرفع الجنابة رفعا مؤقتا إلى حال وجدان
الماء، أما أنه قائم مقام الماء، فلانه تعالى جعله عوضا عنه عند عدمه، والأصل أنه قائم مقامه
في جميع أحكامه، فلا يخرج عن ذلك إلا بدليل. وأما أنه إذا وجد الماء اغتسل، فلتسميته
(ص) عمرا جنبا، ولقوله (ص): فإذا وجد الماء فليتق الله، فإن
الأظهر أنه أمر بامساسه الماء لسبب قد تقدم على وجدان الماء، إذ إمساسه لما يأتي من
أسباب وجوب الغسل، أو الوضوء، معلوم من الكتاب والسنة، والتأسيس خير من التأكيد.
(وللترمذي عن أبي ذر) بذال معجمة مفتوحة فراء، اسمه جندب بضم الجيم وسكون
النون وضم الدال المهملة وفتحها أيضا، ابن جنادة بضم الجيم وتخفيف النون بعد الألف دال
مهملة. وأبو ذر من أعيان الصحابة، وزهادهم، والمهاجرين، وهو أول من حيا النبي (ص)
بتحية الاسلام، وأسلم قديما بمكة يقال: كان خامسا في الاسلام، ثم انصرف إلى قومه: إلى
أن قدم المدينة على النبي (ص) بعد الخندق، ثم سكن بعد وفاته (ص)
الربذة، إلى أن مات بها سنة اثنتين وثلاثين، في خلافة عثمان، وصلى عليه ابن مسعود،
ويقال: إنه مات بعده بعشرة أيام (نحوه) أي: نحو حديث أبي هريرة، ولفظه: قال أبو ذر:
اجتويت المدينة، فأمر لي رسول الله (ص) بإبل، فكنت فيها، فأتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقلت: هلك أبو ذر، قال ما حالك؟ قلت: كنت أتعرض
للجنابة، وليس قربي ماء. قال: الصعيد طهور لمن لم يجد الماء ولو عشر سنين (وصححه) أي:
حديث أبي ذر الترمذي، قال المصنف في الفتح: إنه صححه أيضا ابن حبان، والدارقطني.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر وليس معهما
ماء فحضرت الصلاة فتيمما صعيدا طيبا) هو الطاهر الحلال، وقد قيد الله الصعيد به في الآيتين
في القران، فإطلاقه في حديث أبي هريرة مقيد بالآيات، والأحاديث (فصليا ثم وجدا الماء
في الوقت) أي: وقت الصلاة التي صليا (فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء) سماه إعادة تغليبا،
97

وإلا فلم يكن قد توضأ، أو سمي التيمم وضوءا مجازا (ولم يعد الاخر، ثم أتيا رسول الله (ص)،
فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة) أي الطريقة الشرعية
(وأجزأتك صلاتك) لأنها وقعت في وقتها، والماء مفقود، فالواجب التراب (وقال للاخر)
الذي أعاد: (لك الاجر مرتين) أجر الصلاة بالتراب، وأجر الصلاة بالماء (رواه أبو داود،
والنسائي). وفي مختصر السنن للمنذري: أنه أخرجه النسائي مسندا، ومرسلا. وقال أبو داود:
إنه مرسل عن عطاء بن يسار. لكن قال المصنف: هذه الرواية رواها ابن السكن في صحيحه،
وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه إسحاق في مسنده: أنه (ص) بال، ثم تيمم،
فقيل له: إن الماء قريب منك، قال: فلعلي لا أبلغه. والحديث دليل على جواز الاجتهاد
في عصره (ص)، وعلى أنه لا يجب الطلب والتلوم له: أي الانتظار، ودل على
أنه لا تجب الإعادة على من صلى بالتراب، ثم وجد الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة. وقيل:
بل يعيد الواجد في الوقت، لقوله (ص): فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته.
وهذا قد وجد الماء. وأجيب: بأنه مطلق فيمن وجد الماء بعد الوقت، وقبل خروجه، وحال
الصلاة، وبعدها. وحديث أبي سعيد هذا فيمن لم يجد الماء في الوقت حال الصلاة، فهو مقيد
فيحمل عليه المطلق، فيكون معناه: فإذا وجدت الماء قبل الصلاة في الوقت فأمسه بشرتك،
أي: إذا وجدته، وعليك جنابة متقدمة، فيقيد به، كما قدمنا. واستدل القائل بالإعادة في الوقت:
بقوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) * والخطاب متوجه مع بقاء الوقت. وأجيب: بأنه بعد
فعل الصلاة لم يبق للخطاب توجه إلى فاعلها، كيف؟ وقد قال (ص):
وأجزأتك صلاتك للذي لم يعد، إذ الاجزاء: عبارة عن كون الفعل مسقطا لوجوب إعادة
العبادة، والحق أنه قد أجزأه. (وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: * (وإن كنتم مرضى أو على
سفر) * قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله) أي: الجهاد (والقروح) جمع قرح،
وهي: البثور التي تخرج من الأبدان، كالجدري، ونحوه (فيجنب) تصيبه الجنابة (فيخاف)
يظن (أن يموت إن اغتسل تيمم، رواه الدارقطني موقوفا) على ابن عباس (ورفعه) إلى النبي
(ص) (البزار، وصححه ابن خزيمة، والحاكم). وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: أخطأ فيه علي
بن عاصم. وقال البزار: لا نعلم من رفعه عن عطاء من الثقات إلا جريرا. وقد قال ابن معين:
إنه سمع من عطاء بعد الاختلاط، وحينئذ فلا يتم رفعه. وفيه دليل على شرعية التيمم في حق
الجنب إن خاف الموت. فأما لو لم يخف إلا الضرر، فالآية وهي قوله تعالى: * (وإن كنتم
مرضى) * دالة على إباحة المرض للتيمم، سواء خاف تلفه، أو دونه، والتنصيص في كلام ابن عباس
على الجراحة، والقروح، إنما هو مجرد مثال. وإلا فكل مرض كذلك. ويحتمل أن ابن عباس
يخص هذين من بين الأمراض، وكذلك كونها في سبيل الله مثال. فلو كانت الجراحة من
سقطة، فالحكم واحد، وإذا كان مثالا، فلا ينفي جواز التيمم لخشية الضرر، إلا أن قوله: أن يموت
يدل على أنه لا يجزئ التيمم إلا مخافة الموت، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي. وأما الهادوية،
98

ومالك، وأحد قولي الشافعي، والحنفية، فأجازوا التيمم، لخشية الضرر، قالوا: لاطلاق الآية. وذهب
داود، والمنصور: إلى إباحته للمرض، وإن لم يخف ضررا، وهو ظاهر الآية.
(وعن علي عليه السلام قال: انكسرت إحدى زندي) بتشديد المثناة التحتية
تثنية زند، وهو مفصل طرف الذراع في الكف (فسألت رسول الله (ص))، أي:
عن الواجب من الوضوء في ذلك (فأمرني أن أمسح على الجبائر) هي ما يجبر به العظم
المكسور ويلف عليه (رواه ابن ماجة بسند واه جدا) بكسر الجيم وتشديد الدال المهملة،
وهو منصوب على المصدر، أي أجد ضعفه جدا. الجد: التحقيق، كما في القاموس، فالمراد
أحقق ضعفه تحقيقا. والحديث أنكره يحيى بن معين، وأحمد، وغيرهما، قالوا: وذلك أنه من رواية
عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذاب. ورواه الدارقطني، والبيهقي من طريقين أوهى منه. قال
النووي: اتفق الحفاظ على ضعف هذا الحديث. وقال الشافعي: لو عرفت إسناده بالصحة
لقلت به، وهذا مما أستخير الله فيه. وفي معناه أحاديث أخر. قال البيهقي: إنه لا يصح منها
شئ، إلا أنه يقويه قوله:
(وعن جابر رضي الله عنه في الرجل الذي شج) بضم الشين المعجمة وجيم، من
شجه يشجه بكسر الشين وضمها: كسره، كما في القاموس (فاغتسل فمات: إنما كان
يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر
جسده، رواه أبو داود بسند ضعيف). لأنه تفرد به الزبير بن خريق: بضم الخاء المعجمة فراء
مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وقاف. قال الدارقطني: ليس بالقوي. قلت: وقال الذهبي:
إنه صدوق (وفيه اختلاف على راويه) وهو: عطاء، فإنه رواه عنه الزبير بن خريق، عن جابر.
ورواه عنه الأوزاعي بلاغا عن عطاء، عن ابن عباس. فالاختلاف وقع في رواية عطاء، هل عن
جابر، أو عن ابن عباس؟ وفي إحدى الروايتين ما ليس في الأخرى. وهذا الحديث،
وحديث علي الأول: قد تعاضدا على وجوب المسح على الجبائر بالماء، وفيه خلاف بين
العلماء. منهم من قال: يمسح لهذين الحديثين، وإن كان فيهما ضعف، فقد تعاضدا، ولأنه عضو
تعذر غسله بالماء، فمسح ما فوقه كشعر الرأس، وقياسا على مسح أعلى الخفين، وعلى العمامة،
وهذا القياس يقوي النص. قلت: من قال بالمسح عليهما قوي عنده المسح على الجبائر، وهو
الظاهر. ثم في حديث جابر دليل على أنه يجمع بين التيمم، والمسح، والغسل، وهو مشكل،
حيث جمع بين التيمم والغسل. قيل: فيحمل على أن أعضاء الوضوء كانت جريحة، فتعذر
امساسها بالماء، فعدل إلى التيمم، ثم أفاض الماء على بقية جسده. وأما الشجة: فقد كانت
في الرأس، والواجب فيه الغسل، لكن تعذر لأجل الشجة، فكان الواجب عليه عصبها، والمسح عليها،
إلا أنه قال المصنف في التلخيص: إنه لم يقع في رواية عطاء عن ابن عباس ذكر التيمم،
فثبت: أن الزبير بن خريق تفرد به، نبه على ذلك ابن القطان، ثم قال: ولم يقع في رواية عطاء
ذكر المسح على الجبيرة، فهو من إفراد الزبير. قال: ثم سياق المصنف لحديث جابر يدل على
أن قوله: إنما كان يكفيه، غير مرفوع، وهو مرفوع، وإنما لما اختصره المصنف فاتته العبارة
99

الدالة على رفعه، وهو حديث فيه قصة. ولفظها عند أبي داود عن جابر قال: خرجنا في سفر،
فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة
في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات فلما قدمنا على رسول
الله (ص)، أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما
شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب، أو يعصب - شك موسى - على
جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده إلى اخره.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من السنة) أي: سنة النبي (ص)،
والمراد: طريقته وشرعه (أن لا يصلي الرجل) والمرأة أيضا (بالتيمم إلا
صلاة واحدة ثم يتيمم للصلاة الأخرى. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف) لأنه من
رواية الحسن بن عمارة وهو ضعيف (جدا) نصب على المصدر، كما عرفت. وفي الباب عن
علي رضي الله عنه، وابن عمر حديثان ضعيفان. وإن قيل: إن أثر ابن عمر أصح، فهو موقوف،
فلا تقوم بالجميع حجة. والأصل: أنه تعالى قد جعل التراب قائما مقام الماء. وقد علم أنه
لا يجب الوضوء بالماء إلا من الحدث، فالتيمم مثله، وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة الحديث،
وغيرهم، وهو الأقوم دليلا.
باب الحيض
الحيض: مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا فهي حائض، ولما كانت له أحكام
شرعية، من أفعال، وتروك: عقد له المصنف بابا ساق فيه ما ورد فيه من أحكامه.
(عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش) تقدم ضبطه في أول
باب النواقض (كانت تستحاض) تقدم أن الاستحاضة: جريان الدم من فرج المرأة في غير
أوانه، وتقدم فيه: أن فاطمة جاءت النبي (ص)، فقالت: إني امرأة أستحاض، فلا
أطهر، أفأدع الصلاة؟ (فقال لها رسول الله (ص): إن دم الحيض دم
أسود يعرف) بضم حرف المضارعة وكسر الراء: أي له عرف ورائحة، وقيل: بفتح الراء:
أي تعرفه النساء (فإذا كان ذلك) بكسر الكاف (فأمسكي عن الصلاة. فإذا كان
الاخر) أي: الذي ليس بتلك الصفة (فتوضئي وصلي رواه أبو داود، والنسائي، وصححه
ابن حبان، والحاكم، واستنكره أبو حاتم)، لأنه من حديث عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده،
وجده: لا يعرف، وقد ضعف الحديث أبو داود. وهذا الحديث فيه رد المستحاضة إلى صفة
الدم: بأنه إذا كان بتلك الصفة فهو حيض، وإلا فهو استحاضة، وقد قال به الشافعي في حق
المبتدأة. وقد تقدم في النواقض أنه (ص) قال لها: إنما ذلك عرق، فإذا أقبلت
حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي، ولا ينافيه هذا الحديث،
100

فإنه يكون قوله: إن دم الحيض أسود يعرف، بيانا لوقت إقبال الحيضة وإدبارها. فالمستحاضة
إذا ميزت أيام حيضها: إما بصفة الدم، أو بإتيانه في وقت عادتها إن كانت معتادة، وعلمت
بعادتها، ففاطمة هذه يحتمل أنها كانت معتادة، فيكون قوله: فإذا أقبلت حيضتك أي: بالعادة،
أو غير معتادة، فيراد بإقبال حيضتها بالصفة، ولا مانع من اجتماع المعرفين في حقها، وحق غيرها.
هذا، وللمستحاضة أحكام خمسة، قد سلفت إشارة إلى الوعد بها. منها: جواز وطئها في حال جريان
دم الاستحاضة عند جماهير العلماء، لأنها كالطاهر في الصلاة والصوم وغيرهما، وكذا في الجماع،
ولأنه لا يحرم إلا عن دليل، ولم يأت دليل بتحريم جماعها. قال ابن عباس: المستحاضة يأتيها زوجها إذا
صلت، الصلاة أعظم. يريد: إذا جازت لها الصلاة ودمها جار، وهي أعظم ما يشترط له
الطهارة، جاز جماعها. ومنها: أنها تؤمر بالاحتياط في طهارة الحدث والنجس، فتغسل فرجها
قبل الوضوء، وقبل التيمم، وتحشو فرجها بقطنة أو خرقة، دفعا للنجاسة وتقليلا لها، فإن لم يندفع
الدم بذلك شدت مع ذلك على فرجها، وتلجمت، واستثفرت، كما هو معروف في الكتب المطولة،
وليس بواجب عليها، وإنما هو الأولى، تقليلا للنجاسة بحسب القدرة، ثم تتوضأ بعد ذلك. ومنها:
أنه ليس لها الوضوء قبل دخول وقت الصلاة عند الجمهور، إذ طهارتها ضرورية، فليس لها
تقديمها قبل وقت الحاجة.
(وفي حديث أسماء بنت عميس) بضم المهملة وفتح الميم وسكون المثناة التحتية
فسين مهملة. هي امرأة جعفر، هاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك أولادا. منهم
عبد الله، ثم لما قتل جعفر تزوجها أبو بكر الصديق، فولدت له محمدا، ولما مات أبو بكر
تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فولدت له يحيى (عند أبي داود: ولتجلس) هو
عطف على ما قبله في الحديث، لان المصنف إنما ساق شطر حديث أسماء، لكن في لفظ أبي
داود عنها هكذا: سبحان الله هذا من الشيطان لتجلس إلى اخره بدون واو. وفي نسخة
في بلوغ المرام: (في مركن) بكسر الميم: الإجانة التي تغسل فيها الثياب (فإذا رأت صفرة
فوق الماء) الذي تقعد فيه، فتصب عليها الماء، فإنها تظهر الصفرة فوق الماء (فلتغتسل للظهر
والعصر غسلا واحدا وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتغتسل للفجر غسلا
واحدا، وتتوضأ فيما بين ذلك). هذا الحديث، وحديث حمنة الآتي فيه الامر بالاغتسال في اليوم
والليلة ثلاث مرات. وقد بين في حديث حمنة، أن المراد: إذا أخرت الظهر والمغرب، ومفهومه: أنها
إذا وقتت اغتسلت لكل فريضة، وقد اختلف العلماء: فروي عن جماعة من الصحابة والتابعين:
أنه يجب عليها الاغتسال لكل صلاة. وذهب الجمهور إلى أنها لا يجب عليها ذلك. وقالوا:
رواية: أنه (ص) أمرها بالغسل لكل صلاة ضعيفة، وبين البيهقي ضعفها. وقيل:
بل هو حديث منسوخ: بحديث فاطمة بنت أبي حبيش: أنها توضأت لكل صلاة. قلت: إلا أن
النسخ يحتاج إلى معرفة المتأخر، ثم إنه قال المنذري: إن حديث أسماء بنت عميس حسن،
فالجمع بين حديثها وحديث فاطمة بنت أبي حبيش أن يقال: إن الغسل مندوب بقرينة عدم
أمر فاطمة به، واقتصاره على أمرها بالوضوء، فالوضوء هو الواجب، وقد جنح الشافعي إلى هذا.
101

(وعن حمنة) بفتح الحاء المهملة وسكون الميم فنون (بنت جحش) بفتح الجيم
وسكون الحاء المهملة فشين معجمة، هي أخت زينب أم المؤمنين، وامرأة طلحة بن عبد الله
(قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة). في سنن أبي داود: بيان لكثرتها قالت: إنما
أثج ثجا، (فأتيت النبي (ص) أستفتيه فقال: إنما هي ركضة من الشيطان)،
معناه: أن الشيطان قد وجد سبيلا إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها، حتى أنساها
عادتها، وصارت في التقدير كأنها ركضه منه، ولا ينافي ما تقدم: من أنه: عرق يقال له: العاذل،
لأنه يحمل على أن الشيطان ركضة حتى انفجر، والأظهر: أنها ركضة منه حقيقة، إذ لا مانع من
حملها عليه (فتحيضي ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي، فإذا استنقأت فصلي
أربعة وعشرين) إن كانت أيام الحيض ستة (أو ثلاثة وعشرين) إن كانت أيام
الحيض سبعة (وصومي وصلي) أي ما شئت من فريضة، وتطوع (فإن ذلك يجزئك
وكذلك فافعلي) فيما يستقبل من الشهور، ولفظ أبي داود: فافعلي كل شهر (كما
تحيض النساء) في سنن أبي داود زيادة: وكما يطهرن: ميقات حيضتهن وطهرهن. فيه
الرد لها إلى غالب أحوال النساء (فإن قويت) أي قدرت (على أن تؤخري الظهر وتعجلي
العصر) هذا لفظ أبي داود وقوله وتعجلي العصر يريد أن تؤخري الظهر: أي فتأتي بها
في اخر وقتها قبل خروجه، وتعجلي العصر فتأتي به في أول وقته، فتكون قد أتت بكل صلاة
في وقتها وجمعت بينهما جمعا صوريا (ثم تغتسلي حين تطهرين). هذا اللفظ ليس في سنن
أبي داود، بل لفظه هكذا: فتغتسلين فتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر أي جمعا صوريا،
كما عرفت (وتصلي الظهر والعصر جميعا) هذا غير لفظ أبي داود، كما عرفت (ثم
تؤخرين المغرب والعشاء) لفظ أبي داود: وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء وما
كان يحسن من المصنف حذف ذلك كما عرفت (ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين
فافعلي وتغتسلين مع الصبح وتصلين، قال) أي النبي (ص) (وهو
أعجب الامرين إلي) ظاهره: أنه من كلامه (ص). إلا أنه قال أبو داود:
رواه عمر بن ثابت عن ابن عقيل قال: فقالت حمنة: هذا أعجب الامرين إلي لم يجعله
من قول النبي (ص) (رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، وحسنه البخاري). قال
المنذري في مختصر سنن أبي داود، قال الخطابي: قد ترك بعض العلماء القول بهذا الحديث،
لان ابن عقيل راويه ليس بذاك، وقال أبو بكر البيهقي: تفرد به عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو
مختلف في الاحتجاج به، هذا اخر كلامه. وقد أخرجه الترمذي، وابن ماجة. وقال الترمذي،
هذا حديث حسن صحيح: وقال أيضا: وسألت محمدا يعني: البخاري عن هذا الحديث، فقال:
هو حديث حسن. وقال أحمد: هو حديث حسن صحيح اه‍. فعرفت أن القول: بأنه حديث غير
صحيح: غير صحيح، بل قد صححه الأئمة. وقد عرفت مما سقناه من لفظ رواية أبي داود: أن
المصنف نقل غير لفظ أبي داود من ألفاظ أحد الخمسة، ولكن لا بد من تقييد ما أطلقته
102

الروايات بقوله: وتعجلين العشاء، كما قال: وتعجلين العصر، لأنه أرشدها (ص)
إلى ذلك، لملاحظة الاتيان بكل صلاة في وقتها، هذه في اخر وقتها، وهذه في أول وقتها.
وقوله في الحديث: ستة أو سبعة أيام ليست فيه كلمة أو شكا من الراوي، ولا للتخيير، بل للاعلام:
بأن للنساء أحد العددين، فمنهن من تحيض ستا، ومنهن من تحيض سبعا، فترجع إلى من هي في سنها،
وأقرب إلى مزاجها، ثم قوله: فإن قويت يشعر بأنه ليس بواجب عليها، وإنما هو مندوب لها،
وإلا، فإن الواجب إنما هو الوضوء لكل صلاة بعد الاغتسال عن الحيض: بمرور الستة أو السبعة
الأيام، وهو الأمر الأول الذي أرشدها (ص) إليه، فإن في صدر الحديث
امرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الاخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم. ثم ذكر
لها الأمر الأول: أنها تحيض ستا أو سبعا، ثم تغتسل وتصلي، كما ذكره المصنف، وقد علم أنها
تتوضأ لكل صلاة، لان استمرار الدم ناقض، فلم يذكره في هذه الرواية، وقد ذكره في غيرها،
ثم ذكر الأمر الثاني في جمع الصلاتين، والاغتسال كما عرفت. وفي الحديث دليل على أنه
لا يباح جمع الصلاتين في وقت أحدهما للعذر، إذ لو أبيح لعذر لكانت المستحاضة أول من يباح
لها ذلك، ولم يبح لها ذلك، بل أمرها بالتوقيت، كما عرفت.
(وعن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة) بالحاء المهملة المفتوحة (بنت جحش)
قيل: الأصح أن اسمها حبيبة وكنيتها أم حبيب بغير هاء وهي أخت حمنة التي تقدم حديثها
(شكت إلى رسول الله (ص) الدم فقال: امكثي قدر ما كانت تحبسك
حيضتك) أي قبل استمرار جريان الدم (ثم اغتسلي) أي غسل الخروج عن الحيض
(فكانت تغتسل لكل صلاة) من غير أمر منه (ص) لها بذلك (رواه مسلم.
وفي رواية للبخاري: وتوضئي لكل صلاة وهي) أي هذه الرواية (لأبي داود وغيره
من وجه اخر). أم حبيبة: كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وبنات جحش ثلاث: زينب
أم المؤمنين، وحمنة، وأم حبيبة، قيل: إنهن كن مستحاضات كلهن. وقد ذكر البخاري ما يدل
على أن بعض أمهات المؤمنين كانت مستحاضة، فإن صح أن الثلاث مستحاضات فهي
زينب، وقد عد العلماء المستحاضات في عصره (ص)، فبلغن عشر نسوة. والحديث
دليل على إرجاع المستحاضة إلى أحد المعرفات، وهي أيام عادتها، وعرفت أن المعرفات: إما
العادة التي كانت لها قبل الاستحاضة، أو صفة الدم بكونه أسود يعرف، أو العادة التي للنساء من
الستة الأيام، أو السبعة، أو إقبال الحيضة وإدبارها. كل هذه قد تقدمت في أحاديث المستحاضة.
فبأيها وقع معرفة الحيض - والمراد حصول الظن لا اليقين - عملت به سواء كانت ذات عادة، أو لا،
كما يفيده إطلاق الأحاديث، بل ليس المراد إلا ما يحصل لها ظن أنه حيض، وإن تعددت
الامارات كان أقوى في حقها، ثم متى حصل ظن زوال الحيض وجب عليها الغسل، ثم تتوضأ
لكل صلاة أو تجمع جمعا صوريا بالغسل. وهل لها أن تجمع الجمع الصوري بالوضوء؟
هذا لم يرد به نص في حقها، إلا أنه معلوم جوازه لكل أحد من غيره، وأما هل لها أن تصلي
النوافل بوضوء الفريضة؟ فهذا مسكوت عنه أيضا، والعلماء مختلفون في ذلك كله.
103

(وعن أم عطية) اسمها نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة وسكون المثناة التحتية
وفتح الموحدة بنت كعب، وقيل بنت الحارث الأنصارية، بايعت النبي (ص)، كانت
من كبار الصحابيات، وكانت تغزو مع رسول الله (ص)، تمرض المرضى،
وتداوي الجرحى (قالت: كنا لا نعد الكدرة) أي ما هو بلون الماء الوسخ الكدر
(والصفرة) هو الماء الذي تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار (بعد الطهر) أي بعد رؤية
القصة البيضاء، والجفوف (شيئا) أي لا نعده حيضا (رواه البخاري وأبو داود واللفظ له). وقولها: كنا
قد اختلف فيه العلماء، فقيل: له حكم الرفع إلى النبي (ص)، لان المراد: كنا
في زمانه (ص) مع علمه، فيكون تقريرا منه، وهذا رأي البخاري، وغيره من علماء
الحديث، فيكون حجة، وهو دليل على أنه لا حكم لما ليس بدم غليظ أسود يعرف، فلا يعد
حيضا بعد أن ترى القصة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة، قيل: إنه شئ كالخيط
الأبيض يخرج من الرحم بعد انقطاع الدم، أو بعد الجفوف، وهو أن يخرج ما يحشى به الرحم
جافا، ومفهوم قولها: بعد الطهر، أي بأحد الامرين: أن قبله تعد الكدرة والصفرة شيئا: أي
حيضا، وفيه خلاف بين العلماء معروف في الفروع.
(وعن أنس رضي الله عنه، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، فقال
النبي (ص): اصنعوا كل شئ إلا النكاح. رواه مسلم. الحديث قد بين
المراد من قوله تعالى: * (قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) * أن
المأمور به من الاعتزال والمنهي عنه من القربان هو النكاح: أي اعتزلوا نكاحهن ولا تقربوهن
له، وما عدا ذلك من المؤاكلة، والمجالسة، والمضاجعة، وغير ذلك جائز، وقد كان اليهود
لا يساكنون الحائض في بيت واحد، ولا يجامعونها، ولا يؤاكلونها، كما صرحت به رواية مسلم.
وأما الاستمتاع منهن، فقد أباحه هذا الحديث، وكما يفيده أيضا.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يأمرني
فأتزر، فيباشرني وأنا حائض. متفق عليه. أي يلصق بشرته ببشرتي فيما دون الإزار، وليس
بصريح بأنه يستمتع منها، إنما هو إلصاق البشرة بالبشرة، والاستمتاع فيما بين الركبة والسرة في غير
الفرج أجازه البعض، وحجته: اصنعوا كل شئ إلا النكاح، ومفهوم هذا الحديث، وقال
بعض بكراهته، واخر: بتحريمه، فالأول أولى، للدليل. فأما لو جامع وهي حائض فإنه يأثم
إجماعا، ولا يجب عليه شئ. وقيل: تجب عليه الصدقة لما يفيده.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله (ص) - في الذي يأتي امرأته
وهي حائض - قال: يتصدق بدينار، أو بنصف دينار رواه الخمسة، وصححه الحاكم
وابن القطان، ورجح غيرهما وقفه. على ابن عباس. الحديث فيه روايات هذه إحداها،
وهي التي خرج لرجالها في الصحيح، وروايته مع ذلك مضطربة. وقد قال الشافعي: لو كان
هذا الحديث ثابتا لاخذنا به. قال المصنف: الاضطراب في إسناد هذا الحديث، ومتنه كثير
جدا، وقد ذهب إلى إيجاب الصدقة الحسن، وسعيد، لكن قالا: يعتق رقبة قياسا على من جامع
104

في رمضان. وقال غيرهما: بل يتصدق بدينار أو بنصف دينار. وقال الخطابي: - قال أكثر أهل
العلم لا شئ عليه، وزعموا: أن هذا مرسل، أو موقوف. وقال ابن عبد البر: حجة من لم يوجب
اضطراب هذا الحديث، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شئ لمسكين، ولا غيره
إلا بدليل، لا مدفع فيه، ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة. قلت: أما من صح عنده،
كابن القطان، فإنه أمعن النظر في تصحيحه، وأجاب عن طرق الطعن فيه، وأقره ابن دقيق العيد،
وقواه في كتابه الالمام، فلا عذر له عن العمل به. وأما من لم يصح عنده كالشافعي، وابن عبد البر،
فالأصل براءة الذمة، فلا تقوم به الحجة.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص):
أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟ متفق عليه، في حديث طويل. تمامه:
فذلك من نقصان دينها. رواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: تمكث الليالي ما تصلي، وتفطر
في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها وهو إخبار يفيد تقريرها على ترك الصوم والصلاة، وكونهما
لا يجبان عليها، وهو إجماع في أنهما لا يجبان حال الحيض، ويجب قضاء الصيام، لأدلة
أخر. وأما كونها لا تدخل المسجد، فلحديث: لا أحل المسجد لحائض ولا جنب
وتقدم. وأما أنها لا تقرأ القرآن، فلحديث ابن عمر: ولا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من
القران، وإن كان فيه مقال، وكذلك لا تمس المصحف لحديث عمرو بن حزم، تقدم
وتقدمت شواهده، والأحاديث لا تقصر عن الكراهة لكل ما ذكر، وإن لم تبلغ درجة التحريم،
إذ لا تخلو عن مقال في طرقها، ودلالة ألفاظها غير صريحة في التحريم.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما جئنا) أي عام حجة الوداع، وكانت قد
أحرمت معه (ص) (سرف) بالسين المهملة مفتوحة وكسر الراء ففاء: اسم محل
منعه من الصرف للعلمية والتأنيث، وهو محل بين مكة والمدينة (حضت، فقال النبي (ص):
افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. متفق عليه
في حديث طويل). فيه صفة حجه (ص)، وفيه دليل على أن الحائض يصح
منها جميع أفعال الحج غير الطواف بالبيت، وهو مجمع عليه. واختلف في علته، فقيل: لان من
شرط الطواف الطهارة، وقيل: لكونها ممنوعة من دخول المسجد. وأما ركعتا الطواف، فقد علم
أنهما لا يصحان منها، إذ هما مرتبتان على الطواف والطهارة.
(وعن معاذ) بضم الميم فعين مهملة خفيفة اخره ذال معجمة، وهو أبو عبد الرحمن
معاذ بن جبل، الأنصاري الخزرجي، أحد من شهد العقبة من الأنصار، وشهد بدرا، وغيرها من
المشاهد، وبعثه (ص) إلى اليمن قاضيا، ومعلما، وجعل إليه قبض الصدقات من
العمال باليمن، وكان من أجلاء الصحابة، وعلمائهم. استعمله عمر على الشام بعد أبي عبيدة،
فمات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وقيل: سبع عشرة، وله ثمان وثلاثون سنة (أنه سأل
النبي (ص): ما يحل للرجل من امرأته، وهي حائض؟ قال: ما فوق الإزار،
رواه أبو داود وضعفه) وقال: ليس بالقوي. والحديث دليل على تحريم مباشرة محل الإزار، وهو
105

ما بين السرة والركبة. والحديث قد عارضه حديث: اصنعوا كل شئ إلا النكاح تقدم،
وهو أصح من هذا، فهو أرجح منه، ولو ضمه المصنف إليه لكان أولى، وتقدم الكلام
فيه. وفي حديث عائشة: كان يأمرني فأتزر.
(وعن أم سلمة رضي عنها كانت النفساء تقعد على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد نفاسها أربعين يوما. رواه الخمسة إلا النسائي واللفظ لأبي داود
، وفي لفظ له: ولم يأمرها النبي (ص) بقضاء صلاة النفاس، وصححه الحاكم. وضعفه
جماعة، لكن قال النووي: قول جماعة من مصنفي الفقهاء: إن هذا الحديث ضعيف: مردود
عليهم، وله شاهد عند ابن ماجة من حديث أنس: أن رسول الله (ص) وقت
للنفساء أربعين يوما، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، وللحاكم من حديث عثمان بن أبي العاص:
وقت رسول الله (ص) للنساء في نفاسهن أربعين يوما. فهذه الأحاديث يعضد
بعضها بعضا، وتدل على أن الدم الخارج عقيب الولادة حكمه يستمر أربعين يوما تقعد فيه
المرأة عن الصلاة، وعن الصوم، وإن لم يصرح به الحديث. فقد أفيد من غيره، وأفاد حديث
أنس: أنها إذا رأت الطهر قبل ذلك طهرت، وأنه لا حد لأقله.
كتاب الصلاة
باب المواقيت
الصلاة لغة: الدعاء، سميت هذه العبادة الشرعية باسم الدعاء، لاشتمالها عليه. والمواقيت: جمع
ميقات، والمراد به: الوقت الذي عينه الله لأداء هذه العبادة، وهو القدر المحدود للفعل من الزمان.
(عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - وقت
الظهر إذا زالت الشمس) أي مالت إلى جهة المغرب، وهو: الدلوك الذي أراده تعالى بقوله:
* (أقم الصلاة لدولوك الشمس) *، (وكان ظل الرجل كطوله) أي ويستمر وقتها حتى
يصير ظل كل شئ مثله، فهذا تعريف لأول وقت الظهر وآخره. فقوله وكان عطف على زالت،
كما قررناه: أي ويستمر وقت الظهر إلى صيرورة ظل الرجل مثله (ما لم يحضر وقت
العصر) وحضوره بمصير ظل كل شئ مثله، كما يفيده مفهوم هذا، وصريح غيره (ووقت)
العصر يستمر (ما لم تصفر الشمس) وقد عين اخره في غيره: بمصير ظل الشئ مثليه
(ووقت صلاة المغرب) من عند سقوط قرص الشمس، ويستمر (ما لم يغب الشفق)
الأحمر، وتفسيره بالحمرة سيأتي نصا. (ووقت صلاة العشاء) من غيبوبة الشفق، ويستمر (لي
نصف الليل الأوسط) المراد به الأول، (ووقت صلاة الصبح) أوله (من طلوع
الفجر)، ويستمر ما لم تطلع الشمس. رواه مسلم) تمامه في مسلم: فإذا طلعت الشمس،
فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني الشيطان. الحديث أفاد تعيين أكثر الأوقات الخمسة
أولا، واخرا، فأول الظهر زوال الشمس وآخره مصير ظل الشئ
106

مثله، وذكر الرجل في الحديث تمثيلا، وإذا صار كذلك فهو أول العصر، ولكنه يشاركه
الظهر في قدر يتسع لأربع ركعات فإنه يكون وقتا لهما، كما يفيده حديث جبريل فإنه صلى
بالنبي (ص) الظهر في اليوم الأول بعد الزوال، وصلى به العصر عند مصير ظل
الشئ مثله، وفي اليوم الثاني صلى به الظهر عند مصير ظل الشئ مثله في الوقت الذي صلى فيه
العصر اليوم الأول، فدل ذلك على أن ذلك وقت يشترك فيه الظهر والعصر، وهذا
هو الوقت المشترك، وفيه خلاف، فمن أثبته، فحجته ما سمعته، ومن نفاه تأول
قوله: وصلى به الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل الشئ مثله. بأن معناه فرغ من صلاة
الظهر في ذلك الوقت، وهو بعيد. ثم يستمر وقت العصر إلى اصفرار الشمس، وبعد الاصفرار
ليس بوقت للأداء، بل وقت قضاء، كما قاله أبو حنيفة. وقيل: بل أداء إلى بقية تسع ركعة،
لحديث: من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك العصر. وأول وقت
المغرب إذا وجبت الشمس: أي غربت، كما ورد عند الشيخين، وغيرهما، وفي لفظ: إذا
غربت، وآخره ما لم يغب الشفق، وفيه دليل على اتساع وقت الغروب، وعارضه حديث
جبريل، فإنه صلى به (ص) المغرب في وقت واحد في اليومين، وذلك بعد غروب
الشمس، والجمع بينهما: أنه ليس في حديث جبريل حصر لوقتها في ذلك، ولان أحاديث
تأخير المغرب إلى غروب الشفق متأخرة، فإنها في المدينة، وإمامة جبريل في مكة، فهي
زيادة تفضل الله بها. وقيل: إن حديث جبريل دال على أنه لا وقت لها إلا الذي صلى فيه. وأول
العشاء غيبوبة الشفق، ويستمر إلى نصف الليل، وقد ثبت في الحديث التحديد لآخره بثلث
الليل، لكن أحاديث النصف صحيحة، فيجب العمل بها. وأول وقت صلاة الصبح طلوع
الفجر، ويستمر إلى طلوع الشمس. فهذا الحديث الذي في مسلم قد أفاد أول كل وقت من
الخمسة وآخره، وفيه دليل على أن لوقت كل صلاة أولا واخرا، وهل يكون بعد الاصفرار وبعد
نصف الليل وقت لأداء العصر والعشاء، أو لا؟ هذا الحديث يدل على أنه ليس بوقت لهما،
ولكن حديث من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر فإنه يدل
على أن بعد الاصفرار وقتا للعصر، وإن كان في لفظ أدرك ما يشعر بأنه إذا كان تراخيه
عن الوقت المعروف لعذر أو نحوه، وورد في الفجر مثله وسيأتي، ولم يرد مثله في العشاء،
ولكنه ورد في مسلم: وليس في النوم تفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة
الأخرى فإنه دليل على امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الأخرى، إلا أنه مخصوص
بالفجر، فإن اخر وقتها طلوع الشمس، وليس بوقت للتي بعدها، وبصلاة العشاء فإن اخره
ننصف الليل وليس وقتا للتي بعدها. وقد قسم الوقت إلى اختياري واضطراري، ولم يقم دليل
ناهض على غير ما سمعت، وقد استوفينا الكلام على المواقيت في رسالة بسيطة، سميناها
اليواقيت في المواقيت.
(وله) أي لمسلم (من حديث بريدة) بضم الموحدة فراء فمثناة تحتية فدال مهملة فتاء
تأنيث، هو أبو عبد الله، أو أبو سهل، أو أبو الحصيب، بريدة بن الحصيب بضم الحاء المهملة فصاد
107

مهملة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فموحدة، الأسلمي، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وبايع بيعة
الرضوان سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، ثم خرج إلى خراسان غازيا فمات بمرو زمن
يزيد بن معاوية سنة اثنتين، أو ثلاث وستين (في العصر) أي في بيان وقتها: (والشمس
بيضاء نقية) بالنون والقاف ومثناة تحتية مشددة، أي: لم يدخلها شئ من الصفرة.
(ومن حديث أبي موسى) أي ولمسلم من حديث أبي موسى، وهو عبد الله بن قيس
الأشعري، أسلم قديما بمكة، وهاجر إلى الحبشة، وقيل: رجع إلى أرضه، ثم وصل إلى المدينة مع
وصول مهاجري الحبشة، ولاه عمر بن الخطاب البصرة بعد عزل المغيرة سنة عشرين، فافتتح
أبو موسى الأهواز، ولم يزل على البصرة إلى صدر خلافة عثمان، فعزله، فانتقل إلى الكوفة وأقام
بها، ثم أقره عثمان عاملا على الكوفة، إلى أن قتل عثمان، ثم انتقل بعد أمر التحكيم إلى مكة، ولم
يزل بها حتى مات سنة خمسين، وقيل: بعدها، وله نيف وستون سنة (والشمس مرتفعة)
أي وصلى العصر، وهي مرتفعة لم تمل إلى الغروب. وفي الأحاديث ما يدل على المسارعة بالعصر
وأصرح الأحاديث في تحديد أول وقتها حديث جبريل: أنه صلاها بالنبي (ص)
وظل الرجل مثله وغيره من الأحاديث: كحديث بريدة، وحديث أبي موسى، محمولة عليه.
(وعن أبي برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء فزاي فهاء، اسمه: نضلة بفتح النون
فضاد ساكنة معجمة، ابن عبيد، وقيل: ابن عبد الله، أسلم قديما، وشهد الفتح، ولم يزل يغزو مع
رسول الله (ص) حتى توفي (ص)، فنزل البصرة، ثم غزا خراسان،
وتوفي بمرو، وقيل: بغيرها سنة ستين (الأسلمي قال: كان رسول الله (ص) يصلي
العصر ثم يرجع أحدنا) بعد صلاته (إلى رحله) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة،
وهو مسكنه (في أقصى المدينة حال من رحله، وقيل: صفة له (والشمس حية) أي
يصل إلى رحله حال كون الشمس حية: أي بيضاء قوية الأثر حرارة ولونا وإنارة. (وكان
يستحب أن يؤخر من العشاء) لم يبين إلى متى، وكأنه يريد مطلق التأخير، وقد بينه
غيره من الأحاديث (وكان يكره النوم قبلها) لئلا يستغرق النائم فيه حتى يخرج اختيار
وقتها (والحديث) التحادث مع الناس (بعدها)، فينام عقب تكفير الخطيئة بالصلاة، فتكون
خاتمة عمله، ولئلا يشتغل بالحديث عن قيام اخر الليل، إلا أنه قد ثبت: أنه (ص)
كان يسمر مع أبي بكر في أمر المسلمين. (وكان ينفتل) بالفاء فمثناة بعدها فوقية مكسورة
أي: يلتفت إلى من خلفه، أو ينصرف (من صلاة الغداة) الفجر (حين يعرف الرجل
جليسه) أي بضوء الفجر، لأنه كان مسجده (ص) ليس فيه مصابيح، وهو
يدل على أنه كان يدخل فيها والرجل لا يعرف جليسه، وهو دليل التبكير بها (وكان يقرأ
بالستين إلى المائة) يريد: أنه إذا اختصر قرأ بالستين في صلاته في الفجر، وإذا طول فإلى
المائة من الآيات (متفق عليه). فيه ذكر وقت صلاة العصر والعشاء، والفجر من دون تحديد
للأوقات، وقد سبق في الذي مضى ما هو أصرح وأشمل.
108

(وعندهما) أي: الشيخين المدلول عليهما بقوله: متفق عليه (من حديث جابر: والعشاء
أحيانا يقدمها) أول وقتها وأحيانا يؤخرها) عنه، كما فصله قوله (إذا رآهم) أي
الصحابة (اجتمعوا) في أول وقتها (عجل) رفقا بهم (وإذا رآهم أبطأوا) عن أوله
(أخر) مراعاة لما هو الأرفق بهم، وقد ثبت عنه: أنه لولا خوف المشقة عليهم لاخر بهم
(والصبح كان النبي (ص) يصليها بغلس) الغلس محركة: ظلمة اخر الليل،
كما في القاموس، وهو أول الفجر، ويأتي ما يعارضه: في حديث رافع بن خديج.
(ولمسلم) وحده (من حديث أبي موسى: فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس
لا يكاد يعرف بعضهم بعضا) وهو كما أفاده الحديث الأول.
(وعن رافع بن خديج) بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة، فمثناة تحتية فجيم،
ورافع هو أبو عبد الله، ويقال: أبو خديج الخزرجي الأنصاري الأوسي من أهل المدينة. تأخر
عن بدر لصغر سنه، وشهد أحدا وما بعدها، أصابه سهم يوم أحد، فقال له النبي (ص)
أنا أشهد لك يوم القيامة، وعاش إلى زمان عبد الملك بن مروان، ثم انتقضت جراحته فمات
سنة ثلاث، أو أربع وسبعين، وله ست وثمانون سنة، وقيل: زمن يزيد بن معاوية (قال: كنا
نصلي المغرب مع النبي (ص) فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع
نبله) بفتح النون وسكون الموحدة، وهي: السهام العربية، واحد لها من لفظها، وقيل: واحدها
نبلة كتمر وتمرة (متفق عليه). والحديث فيه دليل على المبادرة بصلاة المغرب، بحيث ينصرف
منها والضوء باق، وقد كثر الحث على المسارعة بها.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم) بفتح الهمزة وسكون العين المهملة
فمثناة فوقية مفتوحة، يقال: أعتم إذا دخل في العتمة، والعتمة محركة: ثلث الليل الأول بعد
غيبوبة الشفق، كما في القاموس (رسول الله (ص) ذات ليلة بالعشاء) أي
أخر صلاتها (حتى ذهب عامة الليل) كثير منه، لا أكثره (ثم خرج فصلى، وقال: إنه
لوقتها) أي: المختار والأفضل (لولا أن أشق على أمتي) أي لاخرتها إليه (رواه مسلم).
وهو دليل على أن وقت العشاء ممتد، وأن آخره أفضله، وأنه (ص) كان يراعي
الأخف على الأمة، وأنه ترك الأفضل وقتا. وهي بخلاف المغرب. فأفضله أوله، وكذلك غيره
إلا الظهر أيام الحر، كما يفيد قوله.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
اشتد الحر فأبردوا) بهمزة مفتوحة مقطوعة وكسر الراء (بالصلاة) أي: صلاة الظهر
(فإن شدة الحر من فيح جهنم) بفتح الفاء وسكون المثناة التحتية فحاء مهملة،
أي: سعة انتشارها وتنفسها (متفق عليه). يقال: أبرد إذا دخل
في الظهر، كما يقال أنجد وأتهم إذا بلغ نجدا وتهامة، ذلك في الزمان، وهذا في المكان. والحديث
دليل على وجوب الابراد بالظهر عند شدة الحر، لأنه الأصل في الامر، وقيل: إنه للاستحباب
109

وإليه ذهب الجمهور، وظاهره عام للمنفرد، والجماعة، والبلد الحار، وغيره، وفيه أقوال غير
هذه. وقيل: الابراد سنة، والتعجيل أفضل، لعموم أدلة فضيلة الوقت. وأجيب: بأنها عامة
مخصوصة، بأحاديث الابراد. وعورض حديث الابراد: بحديث خباب شكونا إلى رسول الله
(ص) حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا أي: لم يزل شكوانا، وهو حديث
صحيح رواه مسلم. وأجيب عنه بأجوبة: أحسنها: أن الذي شكوه شدة الرمضاء في الأكف والجباه،
وهذه لا تذهب عن الأرض إلا اخر الوقت، أو بعد اخره، ولذا قال لهم (ص)
صلوا الصلاة لوقتها كما هو ثابت في رواية خباب هذه بلفظ: فلم يشكنا. وقال: صلوا
الصلاة لوقتها رواها ابن المنذر، فإنه دال على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا عن وقت الابراد، فلا
يعارض حديث الامر بالابراد. وتعليل الابراد بأن شدة الحر من فيح جهنم: يعني: وعند
شدته يذهب الخشوع الذي هو روح الصلاة وأعظم المطلوب منها. قيل: وإذا كان العلة ذلك،
فلا يشرع الابراد في البلاد الباردة، وقال ابن العربي في القبس: ليس في الابراد تحديد
إلا ما ورد في حديث ابن مسعود: يعني الذي أخرجه أبو داود، والحاكم من طريق
الأسود عنه: كان قدر صلاة رسول الله (ص) الظهر في الصيف ثلاثة أقدام
إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام، إلى سبعة أقدام ذكره المصنف في التلخيص، وقد
بينا ما فيه، وأنه لا يتم به الاستدلال في المواقيت، وقد عرفت أن حديث الابراد يخصص فضيلة
صلاة الظهر في أول وقتها بزمان شدة الحر كما قيل: إنه مخصص بالفجر.
(وعن رافع بن خديج قال: قال رسول الله (ص): أصبحوا
بالصبح) وفي رواية: أسفروا (فإنه أعظم لأجوركم. رواه الخمسة، وصححه الترمذي
وابن حبان)، وهذا لفظ أبي داود. وبه احتجت الحنفية على تأخير الفجر إلى الاسفار. وأجيب
عنه: بأن استمرار صلاته (ص) بغلس، وبما أخرج أبو داود من حديث أنس: أنه
(ص) أسفر بالصبح مرة، ثم كانت صلاته بعد بغلس، حتى مات، يشعر بأن
المراد: بأصبحوا غير ظاهره، فقيل: المراد به تحقق طلوع الفجر، وأن أعظم ليس للتفضيل، وقيل
المراد به إطالة القراءة في صلاة الصبح، حتى يخرج منها مسفرا. وقيل: المراد به الليالي المقمرة، فإنه
لا يتضح أول الفجر معها، لغلبة نور القمر لنوره، أو أنه (ص) فعله مرة واحدة
لعذر، ثم استمر على خلافه، كما يفيده حديث أنس. وأما الرد على حديث الاسفار بحديث
عائشة عند ابن أبي شيبة، وغيره بلفظ: ما صلى النبي (ص) الصلاة لوقتها الآخر
حتى قبضه الله فليس بتام، لان الاسفار ليس اخره وقت صلاة الفجر، بل اخر ما يفيده.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: من
أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس) أي: وأضاف إليها أخرى بعد
طلوعها، (فقد أدرك الصبح) ضرورة أنه ليس المراد: من صلى ركعة فقد. والمراد فقط
أدرك صلاته أداء، لوقوع ركعة في الوقت (ومن أدرك ركعة من العصر) ففعلها (قبل
110

أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، وإن فعل الثلاث بعد الغروب (متفق عليه).
وإنما حملنا الحديث على ما ذكرنا من أن المراد: الاتيان بالركعة بعد الطلوع، وبالثلاث بعد
الغروب، للاجماع على أنه ليس المراد: من أتى بركعة فقط من الصلاتين صار مدركا لهما.
وقد ورد في الفجر صريحا في رواية البيهقي بلفظ: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع
الشمس، وركعة بعد أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة، وفي رواية: من أدرك في الصبح ركعة
قبل أن تطلع الشمس، فليصل إليها أخرى، وفي العصر من حديث أبي هريرة 9 بلفظ
من صلى من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروبها لم يفته
العصر، والمراد من الركعة: الاتيان بواجباتها من الفاتحة واستكمال الركوع والسجود. وظاهر
الأحاديث أن الكل أداء، وأن الاتيان بعضها قبل خروج الوقت ينسحب حكمه على ما بعد
خروجه فضلا من الله. ثم مفهوم ما ذكر: أنه من أدرك دون ركعة، لا يكون مدركا للصلاة، إلا
أن قوله:
(ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها نحوه، وقال: سجدة بدل ركعة) فإنه ظاهر
أن من أدرك سجدة صار مدركا للصلاة، إلا أن قوله: (ثم قال) أي الراوي، ويحتمل أنه النبي (ص)
: (والسجدة إنما هي الركعة): يدفع أن يراد بالسجدة نفسها، لان هذا
التفسير: إن كان من كلامه (ص)، فلا إشكال، وإن كان من كلام الراوي، فهو
أعرف بما روى. وقال الخطابي: المراد بالسجدة: الركعة بسجودها وركوعها، والركعة إنما
تكون تامة بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة اه‍، ولو بقيت السجدة على بابها لأفادت
أن من أدرك ركعة بإحدى سجدتيها صار مدركا، وليس بمراد، لورود سائر الأحاديث بلفظ
الركعة، فتحمل رواية السجدة عليها، فيبقى مفهوم من أدرك ركعة سالما عما يعارضه. ويحتمل: أن
من أدرك سجدة فقط، صار مدركا للصلاة، كمن أدرك ركعة، ولا ينافي ذلك ورود من أدرك
ركعة: لان مفهومه غير مراد بدليل: من أدرك سجدة ويكون الله تعالى قد تفضل، فجعل من
أدرك سجدة مدركا، كمن أدرك ركعة، ويكون اخباره (ص) بإدراك الركعة قبل
أن يعلمه الله جعل من أدرك السجدة مدركا للصلاة، فلا يرد: أنه قد علم أن من أدرك الركعة
فقد أدرك الصلاة بطريق الأولى. وأما قوله: والسجدة إنما هي الركعة، فهو محتمل أنه من
كلام الراوي، وليس بحجة، وقولهم تفسير الراوي مقدم: كلام أغلبي، وإلا فحديث: فرب
مبلغ أوعى من سامع، وفي لفظ: أفقه يدل على أنه يأتي بعد السلف من هو أفقه منهم. ثم
ظاهر الحديث: أن من أدرك الركعة من صلاة الفجر، أو العصر: لا تكره الصلاة في حقه عند
طلوع الشمس، وعند غروبها، وإن كانا وقتي كراهة، ولكن في حق المتنفل فقط، وهو الذي
أفاده قوله:
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص)
يقول: لا صلاة) أي نافلة (بعد الصبح) أي صلاته، أو زمانه (حتى تطلع الشمس
ولا صلاة بعد العصر) أي صلاته، أو وقته (حتى تغيب الشمس. متفق عليه. ولفظ
111

مسلم: لا صلاة بعد صلاة الفجر) فعينت المراد من قوله بعد الفجر، فإنه يحتمل ما ذكرناه،
كمورد في رواية: - لا صلاة
بعد العصر نسبها ابن الأثير إلى الشيخين، وفي رواية: صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر ستأتي فالنفي قد توجه إلى ما بعد فعل صلاة الفجر،
وفعل صلاة العصر، ولكنه بعد طلوع الفجر لا صلاة إلا نافلته فقط، وأما بعد دخول العصر
فالظاهر إباحة النافلة مطلقا ما لم يصل العصر، وهذا نفي للصلاة الشرعية، وهو في معنى النهي،
والأصل فيه التحريم. فدل على تحريم النفل في هذين الوقتين مطلقا. والقول: بأن ذات السبب
تجوز، كتحية المسجد مثلا، وما لا سبب لها لا تجوز، قد بينا أنه لا دليل عليه في حواشي شرح
العمدة: وأما صلاته (ص) ركعتين بعد صلاة العصر في منزله، كما أخرجه
البخاري من حديث عائشة: ما ترك السجدتين بعد العصر عندي قط: وفي لفظ: لم يكن
يدعهما سرا ولا علانية. فقد أجيب عنه: بأنه (ص) صلاهما قضاء لنافلة الظهر
لما فاتته، ثم استمر عليهما، لأنه كان إذا عمل عملا أثبته، فدل على جواز قضاء الفائتة في وقت الكراهة،
وبأنه من خصائصه جواز النفل في ذلك الوقت، كما دل له حديث أبي داود عن عائشة: أنه
كان يصلي بعد العصر، وينهي عنها، وكان يواصل، وينهي عن الوصال. وقد ذهب طائفة من
العلماء: إلى أنه لا كراهة للنفل بعد صلاتي الفجر والعصر، لصلاته (ص) هذه بعد
العصر، ولتقريره (ص) لمن رآه يصلي بعد صلاة الفجر نافلة الفجر، ولكنه يقال
هذان دليلان على جواز قضاء النافلة في وقت الكراهة، لا أنهما دليلان على أنه لا يكره النفل مطلقا
إذ الأخص لا يدل على رفع الأعم، بل يخصصه، وهو من تخصيص الأقوال بالأفعال، على أنه
يأتي النص على أن من فاتته نافلة الظهر، فلا يقضيها بعد العصر، ولأنه لو تعارض القول، والفعل،
كان القول مقدما عليه. فالصواب أن هذين الوقتين يحرم فيهما إذن النوافل، كما تحرم في الأوقات
الثلاثة التي أفادها.
(وله) أي لمسلم (عن عقبة) بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة مفتوحة
(ابن عامر) هو أبو حماد، أو أبو عامر، عقبة بن عامر الجهني. كان عاملا لمعاوية على مصر،
وتوفي بها سنة ثمان وخمسين، وذكر خليفة: أنه قتل يوم النهروان مع علي عليه السلام، وغلطه
ابن عبد البر. (ثلاث ساعات كان رسول الله (ص) ينهانا أن نصلي فيهن،
وأن نقبر) بضم الباء وكسرها (فيهن موتانا: حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترفع)
بين قدر ارتفاعها الذي عنده تزول الكراهة: حديث عمرو بن عبسة بلفظ: وترتفع قيس
رمح أو رمحين وقيس بكسر القاف وسكون المثناة التحتية فسين مهملة: أي قدر، أخرجه
أبو داود، والنسائي (وحين يقوم قائم الظهيرة) في حديث ابن عبسة: حتى يعدل الرمح
ظله (حتى تزول الشمس) أي تميل عن كبد السماء (وحين تتضيف) بفتح المثناة الفوقية فمثناة
بعدها وفتح الضاد المعجمة وتشديد الياء وفاء: أي تميل (الشمس للغروب).
فهذه ثلاثة أوقات، إن انضافت إلى الأولين كانت خمسة، إلا أن الثلاثة تختص بكراهة أمرين:
دفن الموتى، والصلاة، والوقتان الأولان يختصان بالنهي عن الثاني منهما، وقد ورد تعليل النهي
112

عن هذه الثلاثة في حديث ابن عبسة عند من ذكر: بأن الشمس عند طلوعها تطلع بين قرني
شيطان، فيصلي لها الكفار، وبأنه عند قيام قائم الظهيرة تسجر جهنم، وتفتح أبوابها، وبأنها
تغرب بين قرني شيطان، ويصلي لها الكفار: ومعنى قوله: قائم الظهيرة قيام الشمس وقت
الزوال، من قولهم: قامت به دابته: وقفت. والشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل
إلى أن تزول، فيتخيل الناظر المتأمل أنها وقفت وهي سائرة. والنهي عن هذه الأوقات الثلاثة:
عام بلفظه لفرض الصلاة ونفلها. والنهي للتحريم، كما عرفت من أنه أصله. وكذا يحرم قبر
الموتى فيها. ولكن فرض الصلاة أخرجه حديث: من نام عن صلاته الحديث، وفيه:
فوقتها حين يذكرها، ففي أي وقت ذكرها، أو استيقظ من نومه أتى بها. وكذا من أدرك
ركعة قبل غروب الشمس، وقبل طلوعها لا يحرم عليه، بل يجب عليه أداؤها في ذلك الوقت،
فيخص النهي بالنوافل دون الفرائض. وقيل: بل يعمها بدليل: أنه (ص) لما نام
في الوادي عن صلاة الفجر، ثم استيقظ لم يأت بالصلاة في ذلك الوقت، بل أخرها إلى أن خرج
الوقت المكروه. وأجيب عنه، أولا: بأنه (ص) لم يستيقظ هو وأصحابه إلا حين
أصابهم حر الشمس، كما ثبت في الحديث، ولم يوقظهم حرها، إلا وقد ارتفعت وزال وقت
الكراهة. وثانيا: بأنه قد بين (ص) تأخير أدائها عند الاستيقاظ: بأنهم
في واد حضر فيه الشيطان، فخرج (ص) عنه وصلى في غيره، وهذا التعليل يشعر
بأنه ليس التأخير لأجل وقت الكراهة: لو سلم أنهم استيقظوا ولم يكن قد خرج الوقت. فتحصل
من الأحاديث: أنها تحرم النوافل في الأوقات الخمسة، وأنه يجوز أن تقضي النوافل بعد صلاة
الفجر، وصلاة العصر. أما صلاة العصر، فلما سلف من صلاته (ص) قاضيا
لنافلة الظهر بعد العصر، إن لم نقل: إنه خاص به. وأما صلاة الفجر، فلتقريره لمن صلى نافلة
الفجر بعد صلاته، وأنها تصلى الفرائض في أي الأوقات الخمسة لنائم، وناس، ومؤخر عمدا،
وإن كان اثما بالتأخير. والصلاة أداء في الكل، ما لم يخرج وقت العامد، فهي قضاء في حقه.
ويدل على تخصيص وقت الزوال يوم الجمعة من هذه الأوقات بجواز النفل فيه: الحديث الآتي.
وهو قوله:
(والحكم الثاني) وهو النهي عن الصلاة وقت الزوال، والحكم الأول النهي عنها
عند طلوع الشمس، إلا أنه تسامح المصنف في تسميته حكما، فإن الحكم في الثلاثة الأوقات
واحد، وهو النهي عن الصلاة فيها، وإنما هذا الثاني أحد محلات الحكم، لا أنه حكم ثان.
وفسر الشارح الحكم الثاني: بالنهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، كما أفاده حديث أبي سعيد،
وحديث عقبة، لكن فيه أنه الحكم الأول، لان الثاني هو النهي عن قبر الأموات، فإنه الثاني
في حديث عقبة، وفيه: أنه يلزم أن زيادة استثناء يوم الجمعة يعم الثلاثة الأوقات في عدم
الكراهة، وليس كذلك اتفاقا، إنما الخلاف في ساعة الزوال يوم الجمعة (عند الشافعي من حديث
أبي هريرة بسند ضعيف وزاد) فيه: (إلا يوم الجمعة). والحديث المشار إليه أخرجه
البيهقي في المعرفة: من حديث عطاء بن عجلان عن أبي نضرة عن أبي سعيد، وأبي هريرة قالا:
113

كان رسول الله (ص) ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال:
إنما كان ضعيفا، لان فيه إبراهيم بن يحيى، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهما ضعيفان،
ولكنه يشهد له قوله:
. (وكذا لأبي داود عن أبي قتادة نحوه). ولفظه: وكره النبي (ص)
الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة. قال أبو داود:
إنه مرسل، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. إلا أنه أيده فعل أصحاب النبي (ص)،
فإنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة. ولأنه (ص) حث على التبكير
إليها ثم رغب في الصلاة إلى خروج الامام من غير تخصيص، ولا استثناء. ثم أحاديث
النهي عامة لكل محل يصلي فيه، إلا أنه خصها بغير مكة قوله:
(وعن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية فراء (ابن مطعم)
بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين المهملة، وهو أبو محمد: جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل:
القرشي النوفلي، كنيته أبو أمية. أسلم قبل الفتح، ونزل المدينة، ومات بها سنة أربع، أو سبع، أو تسع
وخمسين. وكان جبير عالما بأنساب قريش، قيل: إنه أخذ ذلك من أبي بكر. (قال: قال
رسول الله (ص): يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت
وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان)،
وأخرجه الشافعي، وأحمد، والدارقطني، وابن خزيمة، والحاكم من حديث جبير أيضا. وأخرجه
الدارقطني من حديث ابن عبا س. وأخرجه غيرهم. وهو دال على أنه لا يكره الطواف بالبيت،
ولا الصلاة فيه، في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، وقد عارض ما سلف. فالجمهور: عملوا
بأحاديث النهي، ترجيحا لجانب الكراهة، ولان أحاديث النهي ثابتة في الصحيحين، وغيرهما،
وهي أرجح من غيرها. وذهب الشافعي وغيره: إلى العمل بهذا الحديث، قالوا: لان أحاديث
النهي قد دخلها التخصيص بالفائتة والنوم عنها، والنافلة التي تقضى، فضعفوا جانب
عمومها، فتخصص أيضا بهذا الحديث. ولا تكره النافلة بمكة في أي ساعة من الساعات. وليس
هذا خاصا بركعتي الطواف، بل يعم كل نافلة لرواية ابن حبان في صحيحه: يا بني عبد المطلب:
إن كان لكم من الامر شئ، فلا أعرفن أحدا منكم يمنع من يصلي عند البيت، أي ساعة شاء
من ليل أو نهار. قال في النجم الوهاج: وإذا قلنا: بجواز النفل، يعني في المسجد الحرام
في أوقا ت الكراهة، فهل يختص ذلك بالمسجد الحرام، أو يجوز في جميع بيوت حرم مكة؟ فيه
وجهان، والصواب: أنه يعم جميع الحرم.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي (ص) قال: الشفق
الحمرة رواه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة. وغيره وقفه على ابن عمر). وتمام الحديث:
فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر مرفوعا:
ووقت صلاة المغرب: إلى أن تذهب حمرة الشفق، وقال البيهقي: روى هذا الحديث عن علي،
وعمر، وابن عباس، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبي هريرة، ولا يصح منها شئ: قلت:
114

البحث لغوي، والمرجع فيه إلى أهل اللغة وقح الغرب، فكلامه حجة وإن كان موقوفا عليه.
وفي القاموس: الشفق محركة: الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء، وإلى قريبها، أو إلى قريب
العتمة اه‍. والشافعي يرى. أن وقت المغرب عقيب غروب الشمس بما يتسع لخمس ركعات،
ومضى قدر الطهارة، وستر العورة، وأذان، وإقامة، لا غير، وحجته حديث جبريل: أنه صلى به
(ص) المغرب في اليومين معا، في وقت واحد عقيب غروب الشمس. قال: فلو
كان للمغرب وقت ممتد لاخره إليه، كما أخر الظهر إلى مصير ظل الشئ مثله في اليوم الثاني.
وأجيب عنه: بأن حديث جبريل متقدم في أول فرض الصلاة بمكة اتفاقا، وأحاديث: أن اخر
وقت المغرب الشفق: متأخرة واقعة في المدينة أقوالا وأفعالا، فالحكم لها، وبأنها أصح إسنادا من
حديث توقيت جبريل، فهي مقدمة عند التعارض. وأما الجواب بأنها أقوال وخبر جبريل فعل
فغير ناهض، فإن خبر جبريل فعل وقول، فإنه قال له (ص) بعد أن صلى به
الأوقات الخمسة: ما بين هذين الوقتين وقت لك ولامتك نعم، لا بينية بين المغرب والعشاء
على صلاة جبريل، فيتم الجواب: بأنه فعل بالنظر إلى وقت المغرب، والأقوال مقدمة على الأفعال
عند التعارض على الأصح. وأما هنا، فما ثم تعارض، إنما الأقوال أفادت زيادة في الوقت للمغرب،
من الله بها. قلت: لا يخفى أنه كان الأولى تقديم هذا الحديث في أول باب الأوقات عقب أول
حديث فيه، وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. واعلم أن هذا القول هو قول الشافعي
في الجديد، وقوله القديم: إن لها وقتين: أحدهما هذا، والثاني يمتد إلى مغيب الشفق، وصححه
أئمة من أصحابه، كابن خزيمة، والخطابي، والبيهقي، وغيرهم. وقد ساق النووي في شرح المهذب
الأدلة على امتداده إلى الشفق، فإذا عرفت الأحاديث الصحيحة تعين القول به جزما، لان
الشافعي نص عليه في القديم، وعلق القول به في الاملاء على ثبوته، وقد ثبت الحديث، بل أحاديث.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
الفجر) أي لغة (فجران: فجر يحرم الطعام) يريد على الصائم (وتحل فيه الصلاة)
أي يدخل وقت وجوب صلاة الفجر (وفجر تحرم فيه الصلاة - أي صلاة الصبح)،
فسره بها، لئلا يتوهم أنها تحرم فيه مطلق الصلاة، والتفسير يحتمل أنه منه (ص)،
وهو الأصل، ويحتمل أنه من الراوي (ويحل فيه الطعام. رواه ابن خزيمة، والحاكم،
وصححاه). لما كان الفجر لغة مشتركا بين الوقتين، وقد أطلق في بعض أحاديث الأوقات:
أن أول صلاة الصبح الفجر، بين (ص) المراد به، وأنه: الذي له علامة ظاهرة
واضحة، وهي التي أفاده قوله:
(وللحاكم من حديث جابر: نحوه) نحو حديث ابن عباس ولفظه في المستدرك:
الفجر فجران: فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان، فلا يحل الصلاة، ويحل الطعام، وأما
الذي يذهب مستطيلا في الأفق، فإنه يحل الصلاة، ويحرم الطعام، وقد عرفت معنى قول المصنف:
(وزاد في الذي يحرم الطعام أنه يذهب مستطيلا) أي ممتدا (في الأفق) وفي رواية
115

للبخاري: أنه (ص) مد يده عن يمينه ويساره، (وفي الآخر) وهو الذي
لا تحل فيه الصلاة ولا يحرم فيه الطعام: أي وقال في الاخر: (إنه) في صفته (كذنب
السرحان) بكسر السين المهملة وسكون الراء فحاء مهملة وهو الذئب: والمراد أنه لا يذهب
مستطيلا ممتدا، بل يرتفع في السماء كالعمود، وبينهما ساعة، فإنه يظهر الأول، وبعد ظهوره يظهر
الثاني ظهورا بينا. فهذا فيه بيان وقت الفجر: وهو أول وقته، وآخره ما يتسع لركعة، كما عرفت.
ولما كان لكل وقت أول واخر، بين (ص) الأفضل منهما في الحديث الآتي وهو:
(وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله (ص): أفضل الأعمال
الصلاة في أول وقتها رواه الترمذي، والحاكم، وصححاه، وأصله في الصحيحين).
أخرجه البخاري عن ابن مسعود بلفظ: سألت النبي (ص) أي العمل أحب إلى
الله؟ قال: الصلاة لوقتها وليس فيه لفظ أول. فالحديث دل على أفضلية الصلاة في أول وقتها،
على كل عمل من الأعمال، كما هو ظاهر التعريف للأعمال باللام. وقد عورض بحديث: أفضل الأعمال
إيمان بالله، ولا يخفى أنه معلوم: أن المراد من الأعمال في حديث ابن مسعود: ما عدا
الايمان، فإنه إنما سأل عن أفضل أعمال أهل الايمان. فمراده: غير الايمان، قال ابن دقيق
العيد: الأعمال هنا. أي في حديث ابن مسعود محمولة على البدنية، فلا تتناول أعمال القلوب،
فلا تعارض حديث أبي هريرة: أفضل الأعمال: الايمان بالله عز وجل. ولكنها قد وردت
أحاديث أخر في أنواع من أعمال البر، بأنها أفضل الأعمال، فهي التي تعارض حديث الباب
ظاهرا. وقد أجيب: بأنه (ص) أخبر كل مخاطب بما هو أليق به، وهو به أقوم،
وإليه أرغب، ونفعه فيه أكثر. فالشجاع أفضل الأعمال في حقه: الجهاد، فإنه أفضل من تخليه
للعبادة. والغني أفضل الأعمال في حقه: الصدقة، وغير ذلك، أو أن كلمة من مقدرة، والمراد
من أفضل الأعمال، أو كلمة أفضل لم يرد بها الزيادة، بل الفضل المطلق. وعورض تفضيل
الصلاة في أول وقتها، على ما كان منها في غيره بحديث العشاء، فإنه قال (ص): لولا
أن أشق على أمتي لاخرتها يعني: إلى النصف، أو قريب منه. وبحديث الاصباح، أو الاسفار
بالفجر، وبأحاديث الابراد بالظهر. والجواب: أن ذلك تخصيص لعموم أول الوقت، ولا معارضة
بين عام وخاص. وأما القول: بأن ذكر أول وقتها تفرد به علي بن حفص من بين أصحاب شعبة،
وأنهم كلهم رووه بلفظ: على وقتها من دون ذكر أول. فقد أجيب عنه من حيث الرواية: بأن تفرده
لا يضر، فإنه شيخ صدوق من رجال مسلم، ثم قد صحح هذه الرواية الترمذي، والحاكم، وأخرجها
ابن خزيمة في صحيحه، ومن حيث الدراية أن رواية لفظ: على وقتها تفيد: معنى لفظ: أول، لان
كلمة على تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت، ورواية: لوقتها باللام تفيد ذلك، لان المراد استقبال
وقتها، ومعلوم ضرورة شرعية: أنها لا تصح قبل دخوله، فتعين أن المراد لاستقبالكم الأكثر من
وقتها، وذلك بالاتيان بها أول وقتها، ولقوله تعالى: * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) *، ولأنه
(ص) كان دأبه دائما الاتيان بالصلاة في أول وقتها، ولا يفعل إلا الأفضل.
إلا لما ذكرناه كالأسفار، ونحوه كالعشاء. ولحديث علي عند أبي داود: ثلاث لا تؤخر، ثم
116

ذكر منها الصلاة إذا حضر وقتها والمراد: أذلك الأفضل، وإلا فإن تأخيرها بعد حضور
وقتها جائز، ويدل له أيضا قوله.
(وعن أبي محذورة) بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وضم الذال المعجمة بعد
الواو راء. واختلفوا في اسمه على أقوال: أصحها أنه سمرة بن معين بكسر الميم وسكون العين
المهملة وفتح المثناة التحتية، وقال ابن عبد البر: إنه اتفق العالمون بطريق أنساب قريش: أن
اسم أبي محذورة: أوس، وأبو محذورة مؤذن النبي (ص). أسلم عام الفتح، وأقام بمكة
إلى أن مات وهو يؤذن بها للصلاة، مات سنة تسع وخمسين. (أن النبي (ص) قال:
أول الوقت) أي للصلاة المفروضة (رضوان الله) أي: يحصل بأدائها فيه رضوان الله تعالى
عن فاعلها. (وأوسطه رحمة الله) أي يحصل لفاعل الصلاة في رحمته، ومعلوم أن رتبة
الرضوان أبلغ (وآخره عفو الله) ولا عفو إلا عن ذنب (أخرجه الدارقطني بسند ضعيف)،
لأنه من رواية يعقوب بن الوليد المدني. قال أحمد: كان من الكذابين الكبار، وكذبه ابن معين،
وتركه النسائي، ونسبه ابن حبان إلى الوضع، كذا في حواشي القاضي. وفي الشرح: أن في إسناده:
إبراهيم بن زكريا البجلي، وهو متهم، ولذا قال المصنف (جدا) مؤكدا لضعفه، وقدمنا
إعراب جدا، ولا يقال: إنه يشهد له قوله:
(وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه) في ذكر أول الوقت وآخره (دون الأوسط
وهو ضعيف أيضا)، لان فيه يعقوب بن الوليد أيضا، وفيه ما سمعت، وإنما قلنا لا يصح شاهدا،
لان الشاهد والمشهود له فيهما، من قال الأئمة فيه: إنه كذاب، فكيف يكون شاهدا ومشهودا له؟
وفي الباب عن جابر، وابن عباس، وأنس، وكلها ضعيفة. وفيه عن علي عليه السلام: من رواية
موسى بن محمد عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي. قال البيهقي: إسناده فيما أظن
أصح ما روي في هذا الباب، مع أنه معلول، فإن المحفوظ روايته عن جعفر بن محمد عن أبيه
موقوفا. قال الحاكم. لا أعرف فيه حديثا، يصح عن النبي (ص)، ولا عن أحد من
الصحابة، وإنما الرواية فيه عن جعفر بن محمد عن أبيه موقوفا. قلت: إذا صح هذا الموقوف،
فله حكم الرفع، لأنه لا يقال في الفضائل بالرأي، وفيه احتمال. ولكن هذه الأحاديث، وإن
لم تصح، فالمحافظة منه (ص) على الصلاة أول الوقت: دالة على أفضليته، وغير ذلك
من الشواهد التي قدمناها.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما: - أن رسول الله (ص) قال: لا صلاة
بعد الفجر إلا سجدتين) أي ركعتي الفجر، كما يفسره ما بعده (أخرجه الخمسة إلا
النسائي) وأخرجه أحمد، والدارقطني، قال الترمذي: غريب، لا يعرف، إلا من حديث قدامة
بن موسى. والحديث: دليل على تحريم النافلة بعد طلوع الفجر قبل صلاته، إلا سنة الفجر.
117

وذلك أنه، وإن كان لفظه نفيا، فهو في معنى النهي، وأصل النهي التحريم. قال الترمذي:
أجمع أهل العلم على كراهة أن يصلي الرجل بعد الفجر إلا ركعتي الفجر. قال المصنف:
دعوى الترمذي الاجماع عجيب. فإن الخلاف فيه مشهور، حكاه ابن المنذر، وغيره، وقال
الحسن البصري: لا بأس بها، وكان مالك يرى: أن يفعل من فاتته الصلاة في الليل. والمراد
ببعد الفجر: بعد طلوعه كما دل له قوله: (وفي رواية عبد الرزاق) أي عن ابن عمر: (لا صلاة
بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر)، وكما يدل له قوله.
(ومثله للدارقطني عن عمرو بن العاص)، رضي الله عنه. فإنهما فسرا المراد ببعد الفجر، وهذا
وقت سادس من الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، وقد عرفت الخمسة الأوقات مما مضى،
إلا أنه قد عارض النهي عن الصلاة بعد العصر الذي هو أحد الستة الأوقات الحديث
(وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله (ص) العصر
ثم دخل بيتي فصلى ركعتين فسألته) في سؤالها: ما يدل على أنه (ص) لم يصلهما
قبل ذلك عندها، أو أنها قد كانت علمت بالنهي، فاستنكرت مخالفة الفعل له (فقال
شغلت عن ركعتين بعد الظهر) قد بين الشاغل له (ص): أنه أتاه
ناس من عبد القيس، وفي رواية عن ابن عباس عند الترمذي: أنه (ص) وسلم أتاه
ما شغله عن الركعتين بعد الظهر (فصليتهما الآن) أي: قضاء عن ذلك، وقد فهمت
أم سلمة أنهما قضاء، فلذا قالت: (قلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟) أي كما قضيتهما في هذا
الوقت (قال: لا) أي لا تقضوهما في هذا الوقت، بقرينة السياق، وإن كان النفي غير مقيد (أخرجه أحمد)
إلا أنه سكت عليه المصنف هنا. وقال بعد سياقه له في فتح الباري: إنها رواية ضعيفة لا تقوم
بها حجة، ولم يبين هنالك وجه ضعفها، وما كان يحسن منه أن يسكت هنا عما قيل فيه.
والحديث: دليل على ما سلف من أن القضاء في ذلك الوقت كان من خصائصه (ص).
وقد دل على هذا حديث عائشة: أنه (ص)، كان يصلي بعد العصر،
وينهى عنها، ويواصل، وينهى عن الوصال أخرجه أبو داود، ولكن قال البيهقي: الذي
اختص به (ص): المداومة على الركعتين بعد العصر، لا أصل القضاء اه‍. ولا يخفى
أن حديث أم سلمة المذكور: يرد هذا القول، ويدل على أن القضاء خاص به أيضا، وهذا
الذي أخرجه أبو داود، هو الذي أشار إليه المصنف بقوله:
(ولأبي داود عن عائشة رضي الله عنها بمعناه). تقدم الكلام فيه.
باب الأذان
الأذان لغة: الاعلام، قال وأذان من الله ورسوله وشرعا: الاعلام بوقت
الصلاة: بألفاظ مخصوصة، وكان فرضه بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، ووردت أحاديث
تدل على أنه شرع بمكة. والصحيح الأول.
(عن عبد الله بن زيد) هو أبو محمد عبد الله بن زيد (بن عبد ربه) الأنصاري
118

الخزرجي. شهد عبد الله العقبة وبدرا والمشاهد بعدها، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين.
(قال: طاف بي وأنا نائم رجل). وللحديث سبب، هو ما في الروايات: أنه لما كثر الناس،
ذكروا: أن يعلموا وقت الصلاة بشئ يجمعهم لها، فقالوا: لو اتخذنا ناقوسا؟ فقال رسول الله
(ص): ذلك للنصارى، فقالوا: لو اتخذنا بوقا؟ قال: ذلك لليهود، فقالوا: لو رفعنا
نارا؟ قال: ذلك للمجوس، فافترقوا، فرأى عبد الله بن زيد، فجاء إلى النبي (ص)،
فقال: طاف بي الحديث، وفي سنن أبي داود: فطاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا
في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال
أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك قلت: بلى (فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر، فذكر الأذان) أي
إلى اخره (بتربيع التكبير) تكريره أربعا، ويأتي ما عاضده، وما عارضه (بغير ترجيع) أي
في الشهادتين. قال في شرح مسلم: هو العود إلى الشهادتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين
بخفض الصوت، ويأتي قريبا (والإقامة فرادى) لا تكرير في شئ من ألفاظها (إلا قد قامت
الصلاة) فإنها تكرر (قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله (ص) فقال: إنها
لرؤيا حق. الحديث. أخرجه أحمد، وأبو داود، وصححه الترمذي، وابن خزيمة). الحديث دليل على مشروعية الأذان للصلاة، دعاء للغائبين ليحضروا إليها، ولذا اهتم (ص)
في النظر في أمر يجمعهم للصلاة، وهو إعلام بدخول وقتها أيضا، واختلف العلماء في وجوبه،
ولا شك أنه من شعار أهل الاسلام، ومن محاسن ما شرعه الله. وأما وجوبه، فالأدلة فيه
محتملة، وتأتي. وكمية ألفاظه قد اختلف فيها. وهذا الحديث دل على أنه يكبر في أوله أربع
مرات، وقد اختلفت الرواية، فوردت بالتثنية في حديث أبي محذورة في بعض رواياته، وفي
بعضها بالتربيع أيضا. فذهب الأكثر: إن العمل بالتربيع، لشهرة روايته، ولأنها زيادة عدل
فهي مقبولة، ودل الحديث على عدم مشروعية الترجيع، وقد اختلف في ذلك، فمن قال
إنه غير مشروع عمل بهذه الرواية، ومن قال: إنه مشروع: عمل بحديث أبي محذورة وسيأتي.
ودل على أن الإقامة تفرد ألفاظها، إلا لفظ الإقامة فإنه يكررها. وظاهر الحديث أنه يفرد
التكبير في أولها، ولكن الجمهور على أن التكبير في أولها يكرر مرتين، قالوا: ولكنه بالنظر
إلى تكريره في الأذان أربعا، كأنه غير مكرر فيها، وكذلك يكرر في اخرها، ويكرر لفظ الإقامة،
وتفرد بقية الألفاظ. وقد أخرج البخاري حديث: أمر بلال: أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة
إلا الإقامة وسيأتي، وقد استدل به من قال: الأذان في كل كلماته مثنى مثنى، والإقامة
ألفاظها مفردة، إلا قد قامت الصلاة، وقد أجاب أهل التربيع: بأن هذه الرواية صحيحة دالة
على ما ذكر، لكن رواية التربيع قد صحت بلا مرية، وهي زيادة من عدل مقبولة، فالقائل
بتربيع التكبير أول الأذان قد عمل بالحديثين، ويأتي أن رواية: يشفع الأذان لا تدل على عدم
التربيع للتكبير. هذا، ولا يخفى أن لفظ: كلمة التوحيد في اخر الأذان، والإقامة مفردة بالاتفاق،
فهو خارج عن الحكم بالأمر بشفع الأذان. قال العلماء: والحكمة في تكرير الأذان وإفراد
ألفاظ الإقامة هي: أن الأذان لاعلام الغائبين، فاحتيج إلى التكرير، ولذا يشرع فيه رفع الصوت
119

وأن يكون على محل مرتفع، بخلاف الإقامة، فإنها لاعلام الحاضرين، فلا حاجة إلى تكرير ألفاظها،
ولذا شرع فيها خفض الصوت والحدر، وإنما كررت جملة قد قامت الصلاة لأنها مقصود
الإقامة
(وزاد أحمد في اخره) ظاهره في حديث عبد الله بن زيد: (قصة قول بلال في أذان الفجر
الصلاة خير من النوم) روى الترمذي، وابن ماجة، وأحمد من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى
عن بلال قال: قال لي رسول الله (ص): لا تثوبن في شئ من الصلاة، إلا في صلاة الفجر
إلا أن فيه ضعيفا، وفيه انقطاع أيضا. وكان على المصنف أن يذكر ذلك على عادته، ويقال التثويب
مرتين كما في سنن أبي داود، وليس الصلاة خير من النوم في حديث عبد الله بن زيد، كما ربما توهمه
عبارة المصنف حيث قال في اخره، وإنما يريد أن أحمد ساق رواية عبد الله بن زيد، ثم وصل بها رواية بلال
(ولابن خزيمة عن أنس رضي الله عنه قال: من السنة) أي طريقة النبي (ص)
(إذا قال المؤذن في الفجر: حي على الفلاح) الفلاح: هو الفوز والبقاء. أي
هلموا إلى سبب ذلك (قال: الصلاة خير من النوم) وصححه ابن السكن، وفي
رواية النسائي: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم في الأذان الأول من الصبح وفي
هذا تقييد لما أطلقته الروايات. قال ابن رسلان: وصحح هذه الرواية ابن خزيمة. قال: فشرعية
التثويب إنما هي في الأذان الأول للفجر، لأنه لايقاظ النائم، وأما الأذان الثاني فإنه إعلام
بدخول الوقت، ودعاء إلى الصلاة. ولفظ النسائي في سننه الكبرى: من جهة سفيان عن أبي جعفر
عن أبي سليمان عن أبي محذورة. قال: كنت أؤذن لرسول الله (ص)، فكنت أقول
في أذان الفجر الأول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من
النوم قال ابن حزم: وإسناده صحيح اه‍ من تخريج الزركشي لأحاديث الرافعي. ومثل
ذلك في سنن البيهقي الكبرى: من حديث أبي محذورة: أنه كان يثوب في الأذان الأول من
الصبح، بأمره (ص). قلت: وعلى هذا، ليس الصلاة خير من النوم من ألفاظ
الأذان المشروع للدعاء إلى الصلاة، والاخبار بدخول وقتها، بل هو من الألفاظ التي شرعت
لايقاظ النائم، فهو كألفاظ التسبيح الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار المتأخرة عوضا
عن الأذان الأول. وإذا عرفت هذا: هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في التثويب هل
هو من ألفاظ الأذان، أو لا؟ وهل هو بدعة، أو لا؟ ثم المراد من معناه: اليقظة للصلاة خير
من النوم. أي من الراحة التي يعتاضونها في الآجل خير من النوم. ولنا كلام في هذه الكلمة
أودعناه رسالة لطيفة.
(وعن أبي محذورة) تقدم ضبطه وبيان حاله (أن النبي (ص) علمه
الأذان) أي ألقاه (ص) بنفسه، في قصة حاصلها: أنه خرج أبو محذورة بعد
الفتح إلى حنين، هو وتسعة من أهل مكة، فلما سمعوا الأذان، أذنوا استهزاء بالمؤمنين، فقال
(ص): قد سمعت في هؤلاء تأذين انسان حسن الصوت، فأرسل إلينا فأذنا رجلا
رجلا، وكنت اخرهم، فقال حين أذنت: تعال، فأجلسني بين يديه، فمسح على ناصيتي، وبرك
120

علي ثلاث مرات. ثم قال: اذهب فأذن عند المسجد الحرام، فقلت: يا رسول الله، فعلمني.
الحديث (فذكر فيه الترجيع) أي في الشهادتين ولفظه عند أبي داود: ثم تقول أشهد أن
لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها صوتك قيل: المراد أن يسمع من بقربه. قيل:
والحكمة في ذلك: أن يأتي بهما أولا بتدبير وإخلاص، ولا يتأتى كمال ذلك إلا مع خفض الصوت.
قال: ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا
رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. فهذا هو الترجيع، الذي ذهب جمهور العلماء: إلى أنه
مشروع، لهذا الحديث الصحيح، وهو زيادة على حديث عبد الله بن زيد، وزيادة العدل
مقبولة. وإلى عدم القول به ذهب الهادي وأبو حنيفة، وآخرون، عملا منهم بحديث عبد الله بن زيد
الذي تقدم (أخرجه مسلم، ولكن ذكر التكبير في أوله مرتين فقط) لا كما ذكره عبد الله
بن زيد آنفا. وبهذه الرواية عملت الهادوية، ومالك، وغيرهم (ورواه) أي حديث أبي محذورة
هذا (الخمسة) هم أهل السنن الأربعة، وأحمد (فذكروه) أي التكبير في أول الأذان (مربعا)
كروايات حديث عبد الله بن زيد. قال ابن عبد البر في الاستذكار: التكبير أربع مرات
في أول الأذان محفوظ من رواية الثقات: من حديث أبي محذورة، ومن حديث عبد الله بن زيد،
وهي زيادة يجب قبولها. واعلم أن ابن تيمية في المنتقى نسب التربيع في حديث أبي محذورة
إلى رواية مسلم، والمصنف لم ينسبه إليه، بل نسبه إلى رواية الخمسة، فراجعت صحيح مسلم
وشرحه فقال النووي: إن أكثر أصوله فيها التكبير مرتين في أوله. وقال القاضي عياض:
إن في بعض طرق الفارسي لصحيح مسلم: ذكر التكبير أربع مرات في أوله، وبه تعرف أن المصنف
اعتبر أكثر الروايات، وابن تيمية اعتمد بعض طرقه، فلا يتوهم المنافاة بين كلام المصنف، وابن تيمية.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: أمر) بضم الهمزة مبني لما لم يسم: بنى كذلك
للعلم بالفاعل، فإنه لا يأمر في الأصول الشرعية إلا النبي (ص)، ويدل له
الحديث الآتي قريبا (بلال) نائب الفاعل (أن يشفع) بفتح أوله (الأذان) يأتي
بكلماته شفعا (أي مثنى مثنى أو أربعا أربعا)، فالكل يصدق عليه أنه شفع، وهذا إجمال، بينه
حديث عبد الله بن زيد، وأبي محذورة، فشفع التكبير: أن يأتي به أربعا أربعا، وشفع غيره: أن
يأتي به مرتين مرتين، وهذا بالنظر إلى الأكثر، وإلا، فإن كلمة التهليل في اخره مرة واحدة اتفاقا.
(ويوتر الإقامة) يفرد ألفاظها (إلا الإقامة) بين المراد بها بقوله: (يعني: قد قامت
الصلاة) فإنه يشرع أن يأتي بها مرتين، ولا يوترها (متفق عليه ولم يذكر مسلم الاستثناء)
أعني قوله: إلا الإقامة. فاختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال: الأول، للهادوية فقالوا
تشرع تثنية ألفاظ الإقامة كلها، لحديث: إن بلالا كان يثني الأذان والإقامة رواه عبد الرزاق
والدارقطني، والطحاوي، إلا أنه قد ادعى فيه الحاكم الانقطاع، وله طرق فيها ضعف.
وبالجملة لا تعارض رواية التربيع في التكبير رواية الافراد في الإقامة، لصحتها. فلا يقال: إن
التثنية في ألفاظ الإقامة زيادة عدل، فيجب قبولها، لأنك قد عرفت أنها لم تصح. الثاني
121

لمالك، فقال: تفرد ألفاظ الإقامة حتى: قد قامت الصلاة. والثالث: للجمهور: أنها تفرد ألفاظها
إلا قد قامت الصلاة، فتكرر، عملا بالأحاديث الثابتة بذلك.
(وللنسائي) أي عن أنس: (أمر) بالبناء للفاعل، وهو (النبي (ص)
بلالا)، وإنما أتى به المصنف ليفيد: أن الحديث الأول: متفق عليه، مرفوع، وإن ورد بصيغة
البناء للمجهول. قال الخطابي: إسناد تثنية الأذان، وإفراد الإقامة أصحها. أي الروايات،
وعليه أكثر علماء الأمصار، وجرى العمل به في الحرمين، والحجاز، والشام، واليمن، وديار مصر
ونواحي الغرب، إلى أقصى حجر من بلاد الاسلام، ثم عد من قاله من الأئمة. قلت وكأنه
أراد باليمن من كان فيها شافعي المذهب. وإلا، فقد عرفت مذهب الهادوية وهم سكان غالب
اليمن. وما أحسن ما قاله بعض المتأخرين - وقد ذكر الخلاف في ألفاظ الأذان. هل هو مثنى،
أو أربع؟ أي التكبير في أوله - وهل فيه ترجيع الشهادتين، أو لا؟ والخلاف في الإقامة -
ما لفظه: هذه المسألة من غرائب الواقعات، يقل نظيرها في الشريعة، بل وفي العادات، وذلك
أن هذه الألفاظ في الأذان، والإقامة: قليلة محصورة معينة، يصاح بها في كل يوم دليلة خمس مرات،
في أعلى مكان، وقد أمر كل سامع أن يقول كما يقول المؤذن، وهم خير القرون في غرة الاسلام،
شديدو المحافظة على الفضائل، مع هذا كله، لم يذكر خوض الصحابة، ولا التابعين، واختلافهم
فيها، ثم جاء الخلاف الشديد في المتأخرين، ثم كل من المتفرقين أدلى بشئ صالح في الجملة،
وإن تفاوت، وليس بين الروايات تناف، لعدم المانع من أن يكون كل سنة، كما نقوله، وقد
قيل: في أمثاله، كألفاظ التشهد، وصورة صلاة الخوف.
(وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة فمثناة تحتية ساكنة ففاء، هو
وهب بن عبد الله، وقيل: ابن مسلم: السوائي بضم السين المهملة وتخفيف الواو وهمزة بعد الألف
العامري. نزل الكوفة وكان من صغار الصحابة، توفي رسول الله (ص) ولم يبلغ
الحلم، ولكنه سمع منه. جعله علي على بيت المال، وشهد معه المشاهد كلها، توفي بالكوفة
سنة أربع وسبعين. (قال: رأيت بلالا يؤذن، وأتتبع فاه) أي أنظر إلى فيه متتبعا (ههنا)
أي يمنة (وههنا) أي يسرة (وأصبعاه) أي إبهاماه، ولم يرد تعيين الإصبعين، وقال
النووي: هما المسبحتان (في أذنيه. رواه أحمد، والترمذي، وصححه، ولابن ماجة) أي
من حديث أبي جحيفة أيضا: (وجعل أصبعيه في أذنيه. ولأبي داود) من حديثه أيضا: (لوى
عنقه لما بلغ حي على الصلاة يمينا وشمالا) هو بيان لقوله: ههنا وههنا (ولم يستدر)
بجملة بدنه (وأصله في الصحيحين). الحديث دل على آداب للمؤذن وهي: الالتفات إلى
جهة اليمين، وإلى جهة الشمال، وقد بين محل ذلك لفظ أبي داود حيث قال: لوى عنقه لما
بلغ حي على الصلاة: وأصرح منه حديث مسلم بلفظ: (فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يمينا
وشمالا، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح)، ففيه بيان أن الالتفات عند الحيعلتين،
وبوب عليه ابن خزيمة بقوله: انحراف المؤذن عند قوله حي على الصلاة حي على الفلاح بفمه،
122

لا ببدنه كله قال: وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثم ساق من طريق وكيع
فجعل يقول في أذانه: هكذا، وحرف رأسه يمينا وشمالا وأما رواية: إن بلالا استدار في أذانه،
فليست بصحيحة، وكذلك رواية: أنه (ص) أمره أن يجعل أصبعيه في أذنيه رواية
ضعيفة. وعن أحمد بن حنبل: لا يدور إلا إذا كان على منارة قصدا لاسماع أهل الجهتين.
وذكر العلماء: أن فائدة التفاته أمران: أحدهما أنه أرفع لصوته. وثانيهما: أنه علامة للمؤذن،
ليعرف من يراه على بعد، أو من كان به صمم أنه يؤذن، وهذا في الأذان. وأما الإقامة فقال
الترمذي: إنه استحسنه الأوزاعي.
(وعن أبي محذورة رضي الله عنه أن النبي (ص) أعجبه صوته، فعلمه الأذان،
رواه ابن خزيمة. وصححه، وقد قدمنا القصة، واستحسانه (ص) لصوته، وأمره
له بالأذان بمكة. وفيه دلالة على أنه يستحب أن يكون صوت المؤذن حسنا.
(وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله (ص)
العيدين غير مرة ولا مرتين) أي: بل مرات كثيرة (بغير أذان، ولا إقامة) أي حال
كون الصلاة غير مصحوبة بأذان، ولا إقامة (رواه مسلم). فيه دليل: على أنه لا يشرع
لصلاة العيدين أذان، ولا إقامة، وهو كالاجماع. وقد روى خلاف هذا عن ابن الزبير، ومعاوية،
وعمر بن عبد العزيز، قياسا منهم للعيدين على الجمعة، وهو قياس غير صحيح، بل فعل ذلك
بدعة، إذ لم يؤثر عن الشارع، ولا عن خلفائه الراشدين، ويزيده تأكيدا قوله:
(ونحوه) أي نحو حديث جابر بن سمرة (في المتفق عليه) أي الذي اتفق على
اخراجه الشيخان (عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره) من الصحابة. وأما القول بأنه يقال
في العيد عوضا عن الأذان: الصلاة جامعة فلم ترد به سنة في صلاة العيدين. قال في الهدي
النبوي: وكان (ص) إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة: أي صلاة العيد
من غير أذان، ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة: أن لا يفعل شئ من ذلك، وبه يعرف
أن قوله في الشرح: ويستحب في الدعاء إلى الصلاة في العيدين، وغيرهما، مما لا يشرع فيه أذان،
كالجنازة: الصلاة جامعة: غير صحيح، إذ لا دليل على الاستحباب، ولو كان مستحبا لما تركه
(ص)، والخلفاء الراشدون من بعده، نعم، ثبت ذلك في صلاة الكسوف لا غير،
ولا يصح فيه القياس، لان ما وجد سببه في عصره، ولم يفعله، ففعله بعد عصره بدعة، فلا
يصح إثباته بقياس، ولا غيره.
(وعن أبي قتادة: في الحديث الطويل في نومهم عن الصلاة) أي عن صلاة الفجر،
وكان عند قفولهم من غزوة خيبر. قال ابن عبد البر: هو الصحيح: (ثم أذن بلال) أي
بأمره (ص)، كما في سنن أبي داود: ثم أمر بلالا أن ينادي بالصلاة فنادى بها،
(فصلى رسول الله (ص) كما كان يصنع كل يوم. رواه مسلم). فيه
دلالة على شرعية التأذين للصلاة الفائتة بنوم، ويلحق به المنسية، لأنه (ص)
123

جمعهما في الحكم، حيث قال: من نام عن صلاته، أو نسيها الحديث. وقد روى مسلم من
حديث أبي هريرة: أنه (ص) أمر بلالا بالإقامة، ولم يذكر الأذان، وبأنه (ص)
لما فاتته الصلاة يوم الخندق، أمر لها بالإقامة، ولم يذكر الأذان كما في حديث
أبي سعيد عند الشافعي، وهذه لا تعارض رواية أبي قتادة، لأنه مثبت، وخبر أبي هريرة،
وأبي سعيد ليس فيهما ذكر الأذان بنفي، ولا إثبات، فلا معارضة، إذ عدم الذكر لا يعارض الذكر.
(وله) أي لمسلم (عن جابر: أن النبي (ص) أتى المزدلفة) أي
منصرفا من عرفات (فصلى بها المغرب والعشاء) جمع بينهما (بأذان واحد وإقامتين).
وقد روى البخاري من حديث ابن مسعود: أنه صلى أي: بالمزدلفة المغرب بأذان، وإقامة،
والعشاء بأذان، وإقامة، وقال: رأيت رسول الله (ص) يفعله، ويعارضهما معا قوله:
(وله) أي لمسلم (عن ابن عمر رضي الله عنهما، جمع النبي (ص) بين
المغرب والعشاء بإقامة واحدة) وظاهره أنه لا أذان فيهما، وهو صريح في مسلم: أن ذلك
بالمزدلفة، فإن فيه، قال سعيد بن جبير: أفضنا مع ابن عمر، حتى أتينا جمعا. أي المزدلفة،
فإنه اسم لها وهو بفتح الجيم وسكون الميم، فصلى بها المغرب والعشاء بإقامة واحدة، ثم انصرف
وقال: هكذا صلى بنا رسول الله (ص) في هذا المكان. وقد دل: على أنه لا أذان
بهما، وأنه لا إقامة إلا واحدة للصلاتين، وقد دل قوله: (وزاد أبو داود) أي من حديث ابن عمر
(لكل صلاة) أي: أنه أقام لكل صلاة، لأنه زاد بعد قوله بإقامة واحدة: لكل صلاة، فدل
على أن لكل صلاة إقامة، فرواية مسلم تقيد برواية أبي داود هذه. (وفي رواية له) أي
لأبي داود عن ابن عمر: (ولم يناد في واحدة منهما وهو صريح في نفي الأذان، وقد تعارضت
هذه الروايات، فجابر أثبت أذانا واحدا، وإقامتين، وابن عمر نفى الأذان، وأثبت الإقامتين،
وحديث ابن مسعود الذي ذكرناه: أثبت الأذانين، والإقامتين. فإن قلنا المثبت مقدم على النافي
عملنا بخبر ابن مسعود. والشارح رحمه الله قال: يقدم خبر جابر. أي: لأنه مثبت للأذان على
خبر ابن عمر، لأنه ناف له، ولكن نقول: بل نقدم خبر ابن مسعود، لأنه أكثر إثباتا.
(وعن ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله (ص)
: إن بلالا يؤذن بليل). قد بينت رواية البخاري: أن المراد به: قبيل الفجر، فإن فيها: ولم
يكن بينهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا وعند الطحاوي بلفظ: إلا أن يصعد هذا: وينزل هذا
(فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم) واسمه عمرو (وكان) أي: ابن أم مكتوم
(رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت) أي دخلت في الصباح (متفق عليه،
وفي اخره إدراج) أي كلام، ليس من كلامه (ص)، يريد به قوله: وكان رجلا
أعمى إلى اخره، ولفظ البخاري هكذا: قال: وكان رجلا أعمى بزيادة لفظ قال، وبين
الشارح فاعل قال أنه: ابن عمر، وقيل: الزهري، فهو كلام مدرج من كلام أحد الرجلين.
وفي الحديث: شرعية الأذان قبل الفجر، لا لما شرع له الأذان، فإن الأذان شرع، كما سلف
124

للاعلام بدخول الوقت، ولدعاء السامعين لحضور الصلاة. وهذا الأذان الذي قبل الفجر، قد
أخبر (ص) بوجه شرعيته بقوله: ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم رواه الجماعة
إلا الترمذي. والقائم: هو الذي يصلي صلاة الليل، ورجوعه عوده إلى نومه، أو قعوده عن صلاته
إذا سمع الأذان، فليس للاعلام بدخول وقت، ولا لحضور الصلاة. إنما هو كالتسبيحة الأخيرة
التي تفعل في هذه الاعصار، غايته أنه كان بألفاظ الأذان، وهو مثل النداء الذي أحدثه
عثمان في يوم الجمعة لصلاتها، فإنه كان يأمر بالنداء لها في محل، يقال له: الزوراء، ليجتمع الناس
للصلاة، وكان ينادي لها بألفاظ الأذان المشروع، ثم جعله الناس من بعده تسبيحا بالآية،
والصلاة على النبي (ص). فذكر الخلاف في المسألة، والاستدلال للمانع والمجيز،
لا يلتفت إليه من همه العمل بما ثبت. وفي قوله: كلوا واشربوا أي أيها: المريدون للصيام
حتى يؤذن ابن أم مكتوم: ما يدل على إباحة ذلك إلى أذانه. وفي قوله: إنه كان لا يؤذن
أي ابن أم مكتوم حتى يقال له: أصبحت أصبحت: ما يدل على جواز الأكل والشرب
بعد دخول الفجر. وقال به جماعة. ومن منع من ذلك قال: معنى قوله: أصبحت أصبحت
قاربت الصباح، وأنهم يقولون له ذلك، عند اخر جزء من أجزاء الليل، وأذانه يقع في أول
جزء من طلوع الفجر. وفي الحديث دليل على جواز اتخاذ مؤذنين، في مسجد واحد، ويؤذن
واحد بعد واحد. وأما أذان اثنين معا، فمنعه قوم، وقالوا: أول من أحدثه بنو أمية، وقيل: لا يكره،
إلا أن يحصل بذلك تشويش. قلت: في هذا المأخذ نظر، لان بلالا لم يكن يؤذن للفريضة،
كما عرفت، بل المؤذن لها واحد: هو ابن أم مكتوم. واستدل بالحديث على جواز تقليد المؤذن
الأعمى، والبصير، وعلى جواز تقليد الواحد، وعلى جواز الأكل والشرب مع الشك في طلوع
الفجر، إذ الأصل بقاء الليل. وعلى جواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا عرفه، وإن لم يشاهد
الراوي، وعلى جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة، إذا كان القصد التعريف به ونحوه،
وجواز نسبته إلى أمه إذا اشتهر بذلك.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن بلالا أذن قبل الفجر، فأمره النبي (ص)
أن يرجع، فينادي ألا إن العبد نام رواه أبو داود، وضعفه.) فإنه قال
عقب اخراجه: هذا حديث لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة. وقال المنذري: قال الترمذي:
هذا حديث غير محفوظ. وقال علي بن المديني: حديث حماد بن سلمة: هو غير محفوظ، وأخطأ
فيه حماد بن سلمة. وقد استدل به من قال: لا يشرع الأذان قبل الفجر، ولا يخفى أنه
لا يقاوم الحديث الذي اتفق عليه الشيخان، ولو ثبت أنه صحيح لتؤول على: أنه قبل شرعية
الأذان الأول، فإنه كان بلال هو المؤذن الأول، الذي أمر (ص) عبد الله بن زيد
أن يلقي عليه ألفاظ الأذان، ثم اتخذ ابن أم مكتوم بعد ذلك مؤذنا مع بلال، فكان بلال
يؤذن الأذان الأول، لما ذكره (ص) من فائدة أذانه، ثم إذا طلع الفجر أذن ابن أم مكتوم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص)
125

إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن متفق عليه. فيه شرعية القول لمن سمع المؤذن.
أن يقول، كما يقول على أي حال كان من طهارة وغيرها ولو جنبا أو حائضا، إلا حال الجماع،
وحال التخلي، لكراهة الذكر فيهما، وأما إذا كان السامع في حال الصلاة، ففيه أقوال: الأقرب
أنه يؤخر الإجابة إلى بعد خروجه منها. والامر يدل على الوجوب على السامع، لا على من رآه
فوق المنارة ولم يسمعه، أو كان أصم. وقد اختلف في وجوب الإجابة، فقال به الحنفية، وأهل
الظاهر، وآخرون. وقال الجمهور: لا يجب، واستدلوا: بأنه (ص) سمع مؤذنا،
فلما كبر قال: على الفطرة، فلما تشهد قال: (خرجت من النار أخرجه مسلم. قالوا: فلو
كانت الإجابة واجبة، لقال (ص)، كما قال المؤذن. فلما لم يقل: دل على أن الامر
في حديث أبي سعيد للاستحباب. وتعقب: بأنه ليس في كلام الراوي ما يدل على أنه (ص)
لم يقل، كما قال. فيجوز أنه (ص) قال مثل قوله، ولم ينقله الراوي،
اكتفاء بالعادة، ونقل الزائد، وقوله: مثل ما يقول يدل على أنه يتبع كل كلمة يسمعها، فيقول
مثلها. وقد روت أم سلمة: أنه (ص): كان يقول، كما يقول المؤذن حتى يسكت
أخرجه النسائي، فلو لم يجاوبه حتى فرغ من الأذان، استحب له التدارك إن لم يطل الفصل.
وظاهر قوله في النداء أنه يجيب كل مؤذن أذن بعد الأول، وإجابة الأول أفضل. قال
في الشرح: إلا في الفجر، والجمعة، فهما سواء، لأنهما مشروعان. قلت: يريد الأذان قبل الفجر،
والأذان قبل حضور الجمعة، ولا يخفى أن الذي قبل الفجر قد صحت مشروعيته، وسماه النبي
(ص) أذانا في قوله: إن بلالا يؤذن بليل، فيدخل تحت حديث أبي سعيد.
وأما الأذان قبل الجمعة، فهو محدث بعد وفاته (ص)، ولا يسمى أذانا شرعيا. وليس
المراد من المماثلة: أن يرفع صوته كالمؤذن، لان رفعه لصوته لقصد الاعلام، بخلاف المجيب،
ولا يكفي إمراره الإجابة، على خاطره فإنه ليس بقول: وظاهر حديث أبي سعيد والحديث الآتي وهو:
(وللبخاري عن معاوية مثله) أي مثل حديث أبي سعيد: أن السامع يقول كقوله
المؤذن في جميع ألفاظه، إلا في الحيعلتين، فيقول: ما أفاده قوله:
(ولمسلم عن عمر في فضل القول، كما يقول المؤذن كلمة كلمة، سوى الحيعلتين)
حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإنه يخصص ما قبله (فيقول) أي السامع: (لا حول ولا قوة
إلا بالله) عند كل واحدة منهما. وهذا المتن هو الذي رواه معاوية، كما في البخاري، وعمر
كما في مسلم، وإنما اختصر المصنف فقال: وللبخاري عن معاوية. أي القول، كما يقول
المؤذن إلى اخر ما ساقه في رواية مسلم عن عمر. إذا عرفت هذا فيقولها أربع مرات، ولفظه
عند مسلم: إذا قال المؤذن، الله أكبر الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، إلى أن قال:
فإذا قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال:
لا حول ولا قوة إلا بالله، فيحتمل أنه يريد إذا قال: حي على الصلاة حوقل، وإذا قالها ثانيا
حوقل، ومثله حي على الفلاح، فيكن أربعا. ويحتمل أنها تكفي حوقلة واحدة عند الأولى من
الحيعلتين، وقد أخرج النسائي، وابن خزيمة حديث معاوية، وفيه يقول ذلك، وقول المصنف:
126

في فضل القول لان اخر الحديث أنه قال: إذا قال السامع: ذلك من قلبه دخل الجنة
والمصنف لم يأت بلفظ الحديث، بمعناه. هذا، والحول: هو الحركة: أي لا حركة، ولا
استطاعة إلا بمشيئة الله، وقيل: لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل:
لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكى هذا عن ابن مسعود
مرفوعا. واعلم أن هذا الحديث مقيد لاطلاق حديث أبي سعيد الذي فيه: فقولوا مثل ما يقول
أي فيما عدا الحيعلة، وقيل: يجمع السامع بين الحيعلة والحوقلة، عملا بالحديثين والأول أولى،
لأنه تخصيص للحديث العام أو تقييد لمطلقه، ولان المعنى مناسب لإجابة الحيعلة من السامع
بالحوقلة، فإنه لما دعي إلى ما فيه الفوز، والفلاح، والنجاة، وإصابة الخير، ناسب أن يقول: هذا
أمر عظيم، لا أستطيع مع ضعفي القيام به، إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته، ولان ألفاظ الأذان
ذكر الله، فناسب أن يجيب بها، إذ هو ذكر له تعالى. وأما الحيعلة: فإنما هي دعاء إلى الصلاة
والذي يدعو إليها هو المؤذن، وأما السامع، فإنما عليه الامتثال والاقبال على ما دعي إليه،
وإجابته في ذكر الله لا فيما عداه. والعمل بالحديثين، كما ذكرنا هو الطريقة المعروفة في حمل المطلق
على المقيد، أو تقديم الخاص على العام، فهي أولى بالاتباع، وهل يجيب عند الترجيع أو
لا يجيب؟ وعند التثويب؟ فيه خلاف. وقيل: يقول في جواب التثويب صدقت وبررت، وهذا
استحسان من قائله، وإلا فليس فيه سنة تعتمد.
فائدة: أخرج أبو داود عن بعض أصحاب النبي (ص): أن بلالا أخذ
في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال النبي (ص): أقامها الله
و أدامها وقال في سائر الإقامة: بنحو حديث عمر في الأذان. يريد بحديث عمر: ما ذكره
المصنف، وسقناه في الشرح: من متابعة المقيم في ألفاظ الإقامة كلها.
(وعن عثمان بن أبي العاص) هو أبو عبد الله عثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي،
استعمله النبي (ص) على الطائف، فلم يزل عليها مدة حياته (ص)،
وخلافة أبي بكر وسنين من خلافة عمر، ثم عزله، وولاه عمان، والبحرين، وكان من الوافدين
عليه (ص) في وفد ثقيف، وكان أصغرهم سنا، له سبع وعشرون سنة، ولما
توفي رسول الله (ص) عزمت ثقيف على الردة، فقال لهم: يا ثقيف كنتم اخر
الناس إسلاما، فلا تكونوا أولهم ردة، فامتنعوا من الردة، مات بالبصرة سنة إحدى وخمسين (أنه
قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم) أي اجعل
أضعفهم بمرض، أو زمانه، أو نحوهما قدوة لك، تصلي بصلاته تخفيفا (واتخذ مؤذنا لا يأخذ
على أذانه أجرا. أخرجه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم). الحديث يدل على جواز
طلب الإمامة في الخير. وقد ورد في أدعية عباد الرحمن الذين وصفهم الله بتلك الأوصاف
أنهم يقولون: * (واجعلنا للمتقين إماما) *، وليس من طلب الرياسة المكروهة، فإن ذلك فيما يتعلق
برياسة الدنيا، التي لا يعان من طلبها، ولا يستحق أن يعطاها، كما يأتي بيانه. وأنه يجب على إمام
127

الصلاة أن يلاحظ حال المصلي خلفه، فيجعل أضعفهم كأنه المقتدي به، فيخفف لأجله،
ويأتي في أبواب الإمامة في الصلاة تخفيفه. وأنه يتخذ المتبوع مؤذنا ليجمع الناس للصلاة،
وأن من صفة المؤذن المأمور باتخاذه: أن لا يأخذ على أذانه أجرا: أي أجرة، وهو دليل على
أن من أخذ على أذانه أجرا، ليس مأمورا باتخاذه، وهل يجوز له أخذ الأجرة؟ فذهب الشافعية.
إلى جواز أخذه الأجرة مع الكراهة. وذهبت الهادوية، والحنفية: إلى أنها تحرم عليه الأجرة، لهذا
الحديث. قلت: ولا يخفى أنه لا يدل على التحريم، وقيل: يجوز أخذها على التأذين في محل
مخصوص، إذ ليست على الأذان حينئذ، بل على ملازمة المكان، كأجرة الرصد.
(وعن مالك بن الحويرث) بضم الحاء المهملة وفتح الواو وسكون المثناة التحتية
وكسر الراء وثاء مثلثة، وهو: أبو سليمان مالك بن الحويرث الليثي وفد على النبي (ص)،
وأقام عنده عشرين ليلة، وسكن البصرة، ومات سنة أربع وتسعين بها (قال: قال
لنا النبي (ص): إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، الحديث
أخرجه السبعة). هو مختصر من حديث طويل أخرجه البخاري بألفاظ: أحدها: قال مالك:
أتيت النبي (ص) في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيما رفيقا،
فلما رأى شوقنا إلى أهلينا قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا، فإذا حضرت الصلاة،
فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم زاد في رواية: وصلوا كما رأيتموني أصلي، فساق
المصنف قطعة منه، هي موضع ما يريده من الدلالة على الحث على الأذان، ودليل إيجابه الامر
به، وفيه أنه لا يشترط في المؤذن غير الايمان لقوله: أحدكم.
(وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) قال لبلال: إذا
أذنت فترسل) أي رتل ألفاظه، ولا تعجل، ولا تسرع في سردها (وإذا أقمت فاحدر)
بالحاء والدال المهملتين والدال مضمومة فراء. والحدر: الاسراع (واجعل بين أذانك،
وإقامتك مقدار ما يفرغ الأكل من
أكله) أي تمهل وقتا يقدر فيه فراغ الأكل من أكله (الحديث) بالنصب على أنه مفعول فعل محذوف: أي: اقرأ الحديث، أو أتم، أو نحوه،
ويجوز رفعه على خبرية مبتدأ محذوف. وإنما يأتون بهذه العبارة، إذا لم يستوفوا لفظ الحديث،
ومثله قولهم: الآية، والبيت، وهذا الحديث لم يستوفه المصنف، وتمامه والشارب من شربه،
والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة، ولا تقوموا حتى تروني (رواه الترمذي وضعفه). قال: لا نعرفه
إلا من حديث عبد المنعم، وإسناده مجهول. وأخرجه الحاكم أيضا، وله شاهد من حديث
أبي هريرة، ومن حديث سليمان، أخرجه أبو الشيخ. ومن حديث أبي بن كعب، أخرجه عبد الله
بن أحمد، وكلها واهية. إلا أنه يقويها المعنى الذي شرع له الأذان، فإنه نداء لغير الحاضرين،
ليحضروا الصلاة، فلا بد من تقدير وقت يتسع للذاهب للصلاة وحضورها، وإلا لضاعت
فائدة النداء. وقد ترجم البخاري: (باب كم بين الأذان والإقامة) ولكن لم يثبت التقدير. قال
ابن بطال: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت، واجتماع المصلين. وفيه دليل على شرعية
128

الترسل في الأذان، لان المراد من الاعلام للبعيد، وهو مع الترسل أكثر إبلاغا. وعلى شرعية
الحدر، والاسراع في الإقامة، لان المراد منها إعلام الحاضرين، فكان الاسراع بها أنسب، ليفرغ
منها بسرعة، فيأتي بالمقصود، وهو الصلاة.
(وله) أي الترمذي (عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي (ص)
قال: لا يؤذن إلا متوضئ. وضعفه أيضا) أي كما ضعف الأول، فإنه ضعف هذا
بالانقطاع، إذ هو عن الزهري عن أبي هريرة. قال الترمذي: والزهري لم يسمع من أبي هريرة،
والراوي عن الزهري ضعيف، ورواية الترمذي من رواية يونس عن الزهري عنه موقوفا، إلا أنه
بلفظ لا ينادي وهذا أصح، ورواه أبو الشيخ في كتاب الأذان من حديث ابن عباس
بلفظ: إن الأذان متصل بالصلاة فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر، وهو دليل على اشتراط
الطهارة للأذان من الحدث الأصغر، ومن الحدث الأكبر بالأولى. وقالت الهادوية يشترط
فيه الطهارة من الحدث الأكبر، فلا يصح أذان الجنب، ويصح من غير المتوضئ، عملا بهذا
الحديث، كما قاله في الشرح. قلت: ولا يخفى أن الحديث دال على شرطية كون المؤذن متوضئا،
فلا وجه لما قالوه من التفرقة بين الحديثين. وأما استدلالهم لصحته من المحدث حدثا أصغر
بالقياس على جواز قراءة القرآن، فقياس في مقابلة النص، لا يعمل به عندهم في الأصول. وقد
ذهب أحمد، وآخرون إلى: أنه لا يصح أذان المحدث حدثا أصغر، عملا بهذا الحديث، وإن كان فيه
ما عرفت. والترمذي صحح وقفه على أبي هريرة. وأما الإقامة فالأكثر على شرطية الوضوء لها. قالوا:
لأنه لم يرد أنها وقعت على خلا ف ذلك في عهد رسول الله (ص)، ولا يخفى ما فيه، وقال
قوم: تجوز على غير وضوء، وإن كان مكروها، وقال آخرون: تجوز بلا كراهة.
(وله) أي الترمذي (عن زياد بن الحارث) هو زياد بن الحارث الصدائي: بايع
النبي (ص)، وأذن بين يديه، يعد في البصريين، وصداء بضم الصاد المهملة وتخفيف
الدال المهملة وبعد الألف همزة: اسم قبيلة (قال: قال رسول الله (ص): ومن
أذن) عطف على ما قبله. وهو قوله (ص): إن أخا صداء قد أذن (فهو
يقيم، وضعفه أيضا) أي: كما ضعف ما قبله. قال الترمذي: إنما يعرف من حديث زياد
ابن أنعم الإفريقي، وقد ضعفه ابن القطان، وغيره، وقال البخاري: هو مقارب لحديث ضعفه
أبو حاتم، وابن حبان. وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: أن من أذن فهو
يقيم. والحديث دليل على أن الإقامة حق لمن أذن، فلا تصح من غيره، وعليه الهادوية، وعضد
حديث الباب حديث ابن عمر بلفظ: مهلا يا بلال، فإنما يقيم من أذن أخرجه الطبراني،
والعقيلي، وأبو الشيخ، وإن كان قد ضعفه أبو حاتم، وابن حبان. وقال الحنفية وغيرهم:
تجزئ إقامة غير من أذن، لعدم نهوض الدليل على ذلك، ولما يدل له قوله:
(ولأبي داود من حديث عبد الله بن زيد) أي: ابن عبد ربه، الذي تقدم حديثه
أول الباب: (أنه قال): أي النبي (ص) لما أمره أن يلقيه على بلال: (أنا رأيته
يعني الأذان) في المنام (وأنا كنت أريده قال: فأقم أنت. وفيه ضعف أيضا). لم يتعرض
129

الشارح رحمه الله لبيان وجهه، ولا بينه أبو داود، بل سكت عليه، لكن قال الحافظ المنذري:
إنه ذكر البيهقي: أن في إسناده، ومتنه اختلافا. وقال أبو بكر الحازمي: في إسناده مقال،
وحينئذ، فلا يتم به الاستدلال، نعم الأصل جواز كون المقيم غير المؤذن، والحديث يقوي ذلك الأصل.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
المؤذن أملك بالأذان) أي: وقته موكول إليه، لأنه أمين عليه (والامام أملك بالإقامة)
فلا يقيم إلا بعد إشارته (رواه ابن عدي) هو الحافظ الكبير الامام الشهير، أبو أحمد: عبد الله
بن عدي الجرجاني، ويعرف أيضا بابن القصار، صاحب كتاب الكامل في الجرح والتعديل،
كان أحد الاعلام، ولد سنة تسع وسبعين ومائتين، وسمع على خلائق، وعنه أمم. قال ابن
عساكر: كان ثقة على لحن فيه. قال حمزة السهمي: كان ابن عدي حافظا متفننا، لم يكن
في زمانه أحد مثله. قال الخليلي: كان عديم النظر حفظا وجلالة، سألت عبد الله بن محمد
الحافظ فقال: زر قميص ابن عدي أحفظ من عبد الباقي بن قانع. توفي في جمادى الآخرة
سنة خمس وستين وثلاثمائة (وضعفه)، لأنه أخرجه في ترجمة شريك القاضي، وتفرد به شريك.
وقال البيهقي: ليس بمحفوظ، ورواه أبو الشيخ، وفيه ضعف والحديث دليل على أن المؤذن
أملك بالأذان: أي أن: ابتداء وقت الأذان إليه، لأنه الأمين على الوقت، والموكول بارتقابه، وعلى
أن الامام أملك بالإقامة، فلا يقيم إلا بعد إشارة الامام بذلك، وقد أخرج البخاري. إذا
أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني، فدل على أن المقيم يقيم، وإن لم يحضر الامام، فإقامته غير
متوقفة على إذنه، كذا في الشرح، ولكن قد ورد: أنه كان بلال قبل أن يقيم يأتي إلى منزله
(ص) يؤذنه، بالصلاة والايذان لها بعد الأذان: استئذان في الإقامة. وقال
المصنف: إن حديث البخاري معارض بحديث جابر بن سمرة: إن بلالا كان لا يقيم حتى
يخرج رسول الله (ص) قال: ويجمع بينهما: بأن بلالا كان يراقب وقت خروج
رسول الله (ص)، فإذا رآه يشرع في الإقامة، قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا
رأوه قاموا. اه‍. وأما تعيين وقت قيام المؤتمين إلى الصلاة، فقال مالك في الموطأ: لم أسمع
في قيام الناس حين تقام الصلاة حدا محدودا، إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس، فإن منهم
الثقيل، والخفيف، وذهب الأكثرون إلى أن الامام إن كان معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ
الإقامة. وعن أنس: أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة. رواه ابن المنذر، وغيره،
وعن ابن المسيب: إذا قال المؤذن: الله أكبر، وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت
الصفوف، وإذا قال: لا إله إلا الله، كبر الامام، ولكن هذا رأي منه، لم يذكر فيه سنة.
(وللبيهقي نحوه) أي نحو حديث أبي هريرة (عن علي عليه السلام من قوله):
(وعن أنس قال: قال رسول الله (ص): لا يرد الدعاء بين
الأذان والإقامة رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة) والحديث مرفوع في سنن أبي داود أيضا،
ولفظه هكذا: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): لا يرد الدعاء
130

بين الأذان والإقامة اه‍. قال المنذري: وأخرجه الترمذي، والنسائي في عمل اليوم والليلة اه‍.
والحديث دليل على قبول الدعاء في هذه المواطن، إذ عدم الرد يراد به: القبول والإجابة: ثم هو عام
لكل دعاء، ولا بد من تقييده بما في الأحاديث غيره: من أنه ما لم يكن دعاء بإثم، أو قطيعة رحم.
هذا، وقد ورد تعيين أدعية تقال بعد الأذان، وهو ما بين الأول: أن يقول
رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد الأذان والإقامة رسولا. قال (ص): إن من قال
ذلك غفر له ذنبه. الثاني: أن يصلي على النبي (ص) بعد فراغه من إجابة
المؤذن، قال ابن القيم في الهدى: أكمل ما يصلي به، ويصل إليه، كما علم أمته: أن يصلوا عليه،
فلا صلاة عليه أكمل منها. قلت: وستأتي صفتها في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. الثالث:
أن يقول بعد صلاته عليه: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة
والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وهذا في صحيح البخاري، وزاد غيره: إنك
لا تخلف الميعاد. الرابع: أن يدعو لنفسه بعد ذلك، ويسأل الله من فضله، كما في السنن عنه
(ص): قل مثل ما يقول أي المؤذن فإذا انتهيت فسل تعطه، وروى أحمد
بن حنبل عنه (ص): أنه قال: من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب
هذه الدعوة القائمة، والصلاة النافعة، صل على محمد، وارض عنه رضا، لا سخط بعده استجاب
الله دعوته، وأخرج الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: علمني رسول الله (ص)
أن أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك، وأصوات
دعاتك، فاغفر لي، وأخرج الحاكم عن أبي أمامة يرفعه قال: كان إذا سمع المؤذن قال:
اللهم رب هذه الدعوة المستجابة المستجاب لها، دعوة الحق، وكلمة التقوى، توفني عليها، وأحيني
عليها، واجعلني من صالحي أهلها عملا يوم القيامة وقد عين (ص) ما يدعي به
أيضا لما قال: الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد. قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله
العفو والعافية في الدنيا والآخرة. قال ابن القيم: إنه حديث صحيح. وذكر البيهقي: أنه (ص)
كان يقول عند كلمة الإقامة: أقامها الله وأدامها، وفي المقام أدعية أخر.
باب شروط الصلاة
الشرط لغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: * (تظن أن يفعل بها فاقرة) * - أي علامات الساعة - وفي
لسان الفقهاء: ما يلزم من عدمه العدم
. (عن علي بن طلق) تقدم طلق بن علي في نواقض الوضوء. قال ابن عبد البر:
أظنه والد طلق بن علي الحنفي. ومال أحمد والبخاري: إلى أن علي بن طلق، وطلق بن علي اسم
لذات واحدة (قال: قال رسول الله (ص): إذا فسا أحدكم في الصلاة
فلينصرف وليتوضأ، وليعد الصلاة، رواه الخمسة، وصححه ابن حبان) كأنه عبر بهذه
العبارة اختصارا، وإلا فأصلها: وأخرجه ابن حبان، وصححه وقد تقدمت له هذه العبارة مرارا،
131

ويحتمل: أن ابن حبان صحح أحاديث أخرجها غيره، ولم يخرجها هو، وهو بعيد. وقد أعل
الحديث ابن القطان بمسلم بن سلام الحنفي، فإنه لا يعرف، وقال الترمذي: قال البخاري:
لا أعلم لعلي بن طلق غير هذا الحديث الواحد. والحديث دليل على أن الفساء ناقض للوضوء،
وهو مجمع عليه، ويقاس عليه غيره من النواقض، وأنه تبطل به الصلاة، وقد تقدم حديث
عائشة فيمن أصابه قئ في صلاته، أو رعاف، فإنه ينصرف، ويبني على صلاته، حيث لم يتكلم. وهو
معارض لهذا، وكل منهما فيه مقال، والشارح جنح إلى ترجيح هذا، قال: لأنه مثبت
لاستئناف الصلاة، وذلك ناف. وقد يقال: هذا ناف لصحة الصلاة، وذلك مثبت لها، فالأولى
الترجيح: بأن هذا: قال بصحته ابن حبان، وذلك: لم يقل أحد بصحته، فهذا أرجح من حيث الصحة.
(وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي (ص) قال: لا يقبل الله
صلاة حائض) المراد بها المكلفة، وإن تكلفت بالاحتلام مثلا، وإنما عبر بالحيض نظرا
إلى الأغلب (إلا بخمار) بكسر الخاء المعجمة اخره راء، هو هنا: ما يغطي به الرأس والعنق
(رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه ابن خزيمة)، وأخرجه أحمد، والحاكم، وأعله الدارقطني، وقال:
إن وقفه أشبه، وأعله الحاكم بالارسال. ورواه الطبراني في الصغير، والأوسط من حديث
أبي قتادة بلفظ: لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى توارى زينتها، ولا من جارية بلغت المحيض
حتى تختمر. ونفى القبول المراد به هنا: نفي الصحة والاجزاء، وقد يطلق القبول، ويراد به: كون
العبادة بحيث يترتب عليها الثواب، فإذا نفى: كان نفيا لما يترتب عليها من الثواب، لا نفيا للصحة،
كما ورد: إن الله لا يقبل صلاة الآبق، ولا من في جوفه خمر كذا قيل. وقد بينا في رسالة
الاسبال وحواشي شرح العمدة: أن نفي القبول يلازم نفي الصحة، وفي قوله: إلا بخمار
ما يدل على أنه يجب على المرأة ستر رأسها، وعنقها، ونحوه مما يقع عليه الخمار. ويأتي
في حديث أبي داود: من حديث أم سلمة في صلاة المرأة في درع وخمار، ليس عليها إزار، وأنه
قال (ص): إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها فيدل على أنها
لا بد في صلاتها من تغطية رأسها، ورقبتها، كما أفاده حديث الخمار، ومن تغطية بقية بدنها حتى
ظهر قدميها، كما أفاده حديث أم سلمة، ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته،
والمراد: كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة. وأما عورتها بالنظر
إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة، كما يأتي تحقيقه. وذكره هنا، وجعل عورتها في الصلاة هي
عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي، وذكر الخلاف في ذلك ليس محله هنا، إذ لها عورة في الصلاة،
وعورة في نظر الأجانب، والكلام الآن في الأول. والثاني يأتي في محله.
(وعن جابر رضي الله عنه: أن النبي (ص) قال: إذا كان الثوب
واسعا فالتحف به: يعني في الصلاة. ولمسلم: فخالف بين طرفيه) وذلك: بأن يجعل
شيئا منه على عاتقه (وإن كان ضيقا فاتزر به. متفق عليه) الالتحاف في معنى الارتداء،
وهو أن يتزر بأحد طرفي الثوب، ويرتدي بالطرف الاخر، وقوله: يعني في الصلاة، الظاهر:
132

أنه مدرج من كلام أحد الرواة، قيد به أخذا من القصة، فإن فيها: أنه قال جابر: جئت إليه
(ص)، وهو يصلي، وعلي ثوب، فاشتملت به، وصليت إلى جانبه، فلما انصرف.
قال لي (ص): ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟ قلت: كان ثوب، قال: فإن
كان واسعا فالتحف به، وإذا كان ضيقا فاتزر به. فالحديث قد أفاد: أنه إذا كان الثوب
واسعا التحف به بعد اتزاره بطرفيه، وإذا كان ضيقا اتزر به لستر عورته. فعورة الرجل من
تحت السرة إلى الركبة، على أشهر الأقوال.
(ولهما) أي الشيخين (من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لا يصلي أحدكم
في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ). أي إذا كان واسعا، كما دل له الحديث
الأول. والمراد: ألا يتزر في وسطه، ويشد طرفي الثوب في حقويه، بل يتوشح به على عاتقه،
فيحصل الستر لأعالي البدن، وحمل الجمهور هذا النهي: على التنزيه، كما حملوا الامر في قوله:
فالتحف به على الندب. وحمله أحمد على الوجوب، وأنها لا تصح صلاة من قدر على ذلك،
فتركه، وفي رواية عنه: تصح الصلاة، ويأثم، فجعله على الرواية الأولى من الشرائط، وعلى الثانية
من الواجبات واستدل الخطابي للجمهور: بصلاته (ص) في ثوب واحد، كان
أحد طرفيه على بعض نسائه وهي نائمة قال: ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب
غير متسع لان يتزر به، ويفضل منه ما كان لعاتقه. قلت: وقد يجاب عنه بأن مراد أحمد: مع
القدرة على الالتحاف، لا أنه لا تصح صلاته، أو يأثم مطلقا. كما صرح به قوله: لا تصح صلاة
من قدر على ذلك. ويحتمل أنه في تلك الحالة لا يقدر على غير ذلك الثوب، بل صلاته فيه،
والحال أن بعضه على النائم: أكبر دليل على أنه لا يجد غيره.
(وعن أم سلمة: أنها سألت النبي (ص): أتصلي المرأة في درع
وخمار بغير إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغا) بسين مهملة فموحدة بعد الألف فغين
معجمة: أي واسعا (يغطي ظهور قدميها. أخرجه أبو داود، وصحح الأئمة وقفه)
وقد تقدم بيان معناه، وله حكم الرفع، وإن كان موقوفا، إذ الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد
في ذلك، وقد أخرجه مالك، وأبو داود موقوفا، ولفظه عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه
أنها سألت أم سلمة: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ قالت: تصلي في الخمار والدرع السابغ،
إذا غيب ظهور قدميها.
(وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه) هو أبو عبد الله عامر بن ربيعة بن مالك
العنزي بفتح العين المهملة وسكون النون وقيل بفتحها، والزاي نسبة إلى عنز بن وائل ويقال
له العدوي. أسلم قديما وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها. مات سنة اثنين أو ثلاث
أو خمس وثلاثين (قال: كنا مع النبي (ص) في ليلة مظلمة فأشكلت
علينا القبلة فصلينا) ظاهره من غير نظر في الامارات (فلما طلعت الشمس إذا
نحن صلينا إلى غير القبلة فنزلت: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * أخرجه الترمذي وضعفه)
133

لان فيه أشعث بن سعيد السمان وهو ضعيف الحديث: والحديث دليل على أن من صلى إلى
غير القبلة لظلمة أو غيم إنها تجزئه صلاته، سواء كان مع النظر في الامارات والتحري أولا
وسواء انكشف له الخطأ في الوقت أو بعده. ويدل له ما رواه الطبراني من حديث معاذ
ابن جبل قال صلينا مع رسول الله (ص) في يوم غيم في السفر إلى غير القبلة،
فلما قضى صلاته تجلت الشمس، فقلنا يا رسول الله صلينا إلى غير القبلة، قال: قد رفعت
صلاتكم بحقها إلى الله وفيه أبو عيلة وقد وثقه ابن حبان. وقد اختلف العلماء في هذا
الحكم، فالقول بالاجزاء مذهب الشعبي والحنيفية والكوفيين فيما عدا من صلى بغير تحري وتيقن
الخطأ، فإنه حكى في البحر الاجماع على وجوب الإعادة، فأن تم الاجماع خص به
عموم الحديث وذهب آخرون إلى أنه لا تجب عليه الإعادة إذا صلى بتحر وانكشف له
الخطأ وقد خرج الوقت. وأما إذا تيقن الخطأ والوقت باق وجبت عليه الإعادة لتوجه الخطاب
مع بقاء الوقت، فأن لم يتيقن فلا يأمن من الخطأ في الاخر، فأن خرج الوقت فلا إعادة
للحديث. واشترط التحري إذ الواجب عليه تيقن الاستقبال، فأن تعذر اليقين فعل ما أمكنه
من التحري، فأن قصر فهو غير معذور الا إذا تيقن الإصابة. وقال الشافعي: تجب الإعادة عليه
في الوقت وبعده لان الاستقبال واجب قطعا وحديث السرية فيه ضعف. قلت الأظهر العمل
يخبر السرية لتقوية بحديث معاذ بل هو حجة وحده والاجماع قد عرف كثرت دعواهم له ولا يصح.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): ما بين
المشرق والمغرب قبل. رواه الترمذي وقواه البخاري) وفي التخليص حديث ما بين المشرق
والمغرب قبلة رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا، وقال حسن صحيح، فكان عليه هنا أن يذكر
تصحيح الترمذي له على قاعدته، ورأيناه في الترمذي بعد سياقه له بسنده من طريقين حسن
أحدهما وصححها ثم قال: وقد روى عن غير واحد من أصحاب النبي (ص)
ما بين المشرق والمغرب قبلة منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس. وقال
ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة
وقال ابن المبارك: ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المشرق اه‍. والحديث دليل على أن
الواجب استقبال الجهة لا العين في حق من تعذرت عليه العين، وقد ذهب جماعة من
العلماء لهذا الحديث. ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير المعاين
ومن في حكمه، لان المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب بل كل الجهات في حقه سواء
متى قابل العين أو شطرها فالحديث دليل على أن ما بين الجهتين قبلة وأن الجهة كافية في الاستقبال
وليس فيه دليل على أن المعاين يتعين عليه العين بل لا بد من الدليل على ذلك وقوله تعالى: * (فول
وجهك شطر المسجد الحرام) * خطاب له (ص) وهو في المدينة واستقبال العين فيها
متعسر أو متعذر الا ما قيل في محرابه (ص) لكن الامر بتوليته وجهه شطر المسجد
الحرام عام لصلاته في محرابه وغيره، وقوله: * (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) دال على كفاية
الجهة، إذ العين في كل محل تتعذر على كل مصل، وقولهم: يقسم الجهات حتى يحصل له أنه توجه
134

إلى العين تعمق، لم يرد به دليل، ولا فعله الصحابة وهم خير قبيل. فالحق أن الجهة كافية، ولو
لمن كان في مكة وما يليها.
(وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله (ص)
يصلي على راحلته حيث توجهت به. متفق عليه). هو في البخاري عن عامر
بن ربيعة بلفظ: كان يسبح على الراحلة وأخرجه عن ابن عمر بلفظ: كان يسبح على ظهر
راحلته وأخرج الشافعي نحوه من حديث جابر بلفظ: رأيت رسول الله (ص)
يصلي وهو على راحلته النوافل وقوله: (زاد البخاري: يومئ برأسه) أي في سجوده وركوعه.
زاد ابن خزيمة: ولكنه يخفض السجدتين من الركعة (ولم يكن يصنعه)، أي: هذا الفعل، وهو
الصلاة على ظهر الراحلة (في المكتوبة) أي الفريضة. الحديث دليل على صحة صلاة النافلة
على الراحلة، وإن فاته استقبال القبلة، وظاهره سواء كان على محمل أو لا، وسواء كان
السفر طويلا أو قصيرا، إلا أن في رواية رزين في حديث جابر زيادة: في سفر القصر. وذهب
إلى شرطية هذا جماعة من العلماء، وقيل: لا يشترط، بل يجوز في الحضر، وهو مروي عن أنس
من قوله، وفعله. والراحلة: هي الناقة. والحديث ظاهر في جواز ذلك للراكب، وأما الماشي
فمسكوت عنه. وقد ذهب إلى جوازه جماعة من العلماء، قياسا على الراكب بجامع التيسير
للمتطوع، إلا أنه قيل: لا يعفى له عدم الاستقبال في ركوعه وسجوده، وإتمامهما، وأنه لا يمشي
إلا في قيامه وتشهده. ولهم في جواز مشيه عند الاعتدال من الركوع قولان: وأما اعتداله بين
السجدتين فلا يمشي فيه، إذ لا يمشي إلا مع القيام، وهو يجب عليه القعود بينهما وظاهر قوله
حيث توجهت أنه لا يعتدل لأجل الاستقبال، لا في حال صلاته، ولا في أولها، إلا أن في قوله:
(ولأبي داود من حديث أنس رضي لله عنه: وكان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل
بناقته القبلة، فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه، وإسناده حسن) ما يدل على
أنه عند تكبيرة الاحرام يستقبل القبلة، وهي زيادة مقبولة، وحديثه حسن، فيعمل بها. وقوله:
ناقته، وفي الأول: راحلته: هما بمعنى واحد، وليس بشرط أن يكون ركوبه على ناقة، بل قد
صح في رواية مسلم: أنه (ص) صلى على حماره وقوله: إذا سافر تقدم أن
السفر شرط عند بعض العلماء، وكأنه يأخذه من هذا، وليس بظاهر في الشرطية. وفي هذا
الحديث، والذي قبله: أن ذلك في النفل، لا الفرض، بل صرح البخاري: أنه لا يصنعه في المكتوبة،
إلا أنه قد ورد في رواية الترمذي والنسائي: أنه (ص) أتى إلى مضيق هو وأصحابه،
والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن، فأذن، وأقام. ثم تقدم
رسول الله (ص) على راحلته، فصلى بهم يومئ إيماء، فيجعل السجود أخفض من
الركوع. قال الترمذي: حديث غريب، وثبت ذلك عن أنس من فعله، وصححه عبد الحق،
وحسنه الثوري، وضعفه البيهقي، وذهب البعض: إلى أن الفريضة تصح على الراحلة إذا كان
مستقبل القبلة في هودج، ولو كانت سائرة كالسفينة، فإن الصلاة تصح فيها إجماعا. قلت
135

وقد يفرق: بأنه قد يتعذر في البحر وجدان الأرض فعفي عنه، بخلاف راكب الهودج. وأما إذا
كانت الراحلة واقفة، فعند الشافعي تصح الصلاة للفريضة، كما تصح عندهم في الأرجوحة
المشدودة بالحبال، وعلى السرير المحمول على الرجال إذا كانوا واقفين. والمراد من المكتوبة
التي كتبت على جميع المكلفين، فلا يرد عليه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر على
راحلته، والوتر واجب عليه.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي (ص) قال:
الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه الترمذي وله علة) وهي الاختلاف
في وصله، وإرساله، فرواه حماد موصولا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد، ورواه
الثوري مرسلا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية
الثوري أصح، وأثبت. وقال الدارقطني: المحفوظ المرسل، ورجحه البيهقي. والحديث دليل
على أن الأرض كلها تصح فيها الصلاة، ما عدا المقبرة وهي: التي تدفن فيها الموتى، فلا تصح
فيها الصلاة، وظاهره سواء كان على القبر، أو بين القبور، وسواء كان قبر مؤمن، أو كافر،
فالمؤمن تكرمة له، والكافر بعدا من خبثه. وهذا الحديث يخصص جعلت لي الأرض كلها
مسجدا الحديث. وكذلك الحمام، فإنه لا تصح فيه الصلاة فقيل: للنجاسة فيختص بما فيه
النجاسة منه، وقيل: تكره لا غير. وقال أحمد بن حنبل: لا تصح فيه الصلاة، ولو على سطحه
عملا بالحديث، وذهب الجمهور: إلى صحتها، ولكن مع كراهته، وقد ورد النهي معللا بأنه محل
الشياطين، والقول الأظهر مع أحمد. ثم ليس التخصيص لعموم حديث: جعلت لي الأرض
مسجدا بهذين المحلين فقط، بل بما يفيده الحديث الآتي وهو قوله:
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي (ص) نهى أن يصلي
في سبع: المزبلة) هي مجتمع إلقاء الزبل (والمجزرة) محل جزر الانعام (والمقبرة)
وهما بزنة مفعلة بفتح العين ولحوق التاء بهما شاذ (وقارعة الطريق) ما تقرعه الاقدام بالمرور
عليها (الإبل) وهو مبرك الإبل حول الماء (وفوق ظهر بيت الله تعالى، رواه الترمذي، وضعفه)
فإنه قال بعد اخراجه ما لفظه: وحديث ابن عمر ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد
بن جبيرة من قبل حفظه، وجبيرة بفتح الجيم وكسر الموحدة فمثناة تحتية فراء. وقال البخاري
فيه متروك. وقد تكلف استخراج علل للنهي عن هذه المحلات، فقيل: المقبرة والمجزرة
للنجاسة، وقارعة الطريق كذلك، وقيل: لان فيها حقا للغير، فلا تصح فيها الصلاة، واسعة
كانت، أو ضيقة، لعموم النهي. ومعاطن الإبل ورد التعليل فيها منصوصا: بأنها مأوى الشياطين.
136

أخرجه أبو داود، وورد بلفظ: مبارك الإبل، وفي لفظ: مزابل الإبل، وفي أخرى: مناخ
الإبل وهي أعم من معاطن الإبل. وعللوا النهي عن الصلاة على ظهر بيت الله، وقيدوه
بأنه إذا كان على طرف بحيث يخرج عن هوائها لم تصح صلاته، وإلا صحت، إلا أنه لا يخفى أن
هذا التعليل أبطل معنى الحديث، فإنه إذا لم يستقبل بطلت الصلاة لعدم الشرط، لا لكونها على
ظهر الكعبة، فلو صح هذا الحديث لكان بقاء النهي على ظاهره في جميع ما ذكر هو الواجب،
وكان مخصصا لعموم، جعلت لي الأرض مسجدا، لكن قد عرفت ما فيه، إلا أن الحديث
في القبور من بين هذه المذكورات قد صح، كما يفيده.
(وعن أبي مرثد) بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة (الغنوي) بفتح الغين
المعجمة والنون، وهو مرثد بن أبي مرثد. أسلم هو وأبوه، وشهد بدرا، وقتل مرثد يوم غزوة الرجيع
شهيدا في حياته (ص). (قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: لا تصلوا إلى
القبور، ولا تجلسوا عليها. رواه مسلم). وفيه دليل على النهي عن الصلاة إلى القبر، كما نهى عن
الصلاة على القبر، والأصل التحريم، ولم يذكر المقدار الذي يكون به النهي عن الصلاة إلى القبر،
والظاهر: أنه ما يعد مستقبلا له عرفا. ودل على تحريم الجلو س على القبر، وقد وردت به أحاديث،
كحديث جابر في وطئ القبر، وحديث أبي هريرة: لان يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه،
فتخلص إلى جلده: خير له من أن يجلس على قبر أخرجه مسلم، وقد ذهب إلى تحريم ذلك
جماعة من العلماء. وعن مالك: أنه لا يكره القعود عليها ونحوه، وإنما النهي عن القعود لقضاء
الحاجة. وفي الموطأ: عن علي عليه السلام: أنه كان يتوسد القبر ويضطجع عليه، ومثله
في البخاري: عن ابن عمر، وعن غيره. والأصل في النهي التحريم، كما عرفت غير مرة،
وفعل الصحابي لا يعارض الحديث المرفوع، إلا أن يقال: إن فعل الصحابي دليل لحمل النهي
على الكراهة، ولا يخفى بعده.
(وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر) أي نعليه، كما دل له قوله: (فإن رأى في نعليه
أذى أو قذرا) شك من الراوي (فليمسحه وليصل فيهما. أخرجه أبو داود، وصححه
ابن خزيمة) اختلف في وصله، وإرساله، ورجح أبو حاتم وصله، ورواه الحاكم من حديث
أنس، وابن مسعود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وعبد الله بن الشخير، وإسنادهما
ضعيف. وفي الحديث دلالة على شرعية الصلاة في النعال، وعلى أن مسح النعل من النجاسة
مطهر لمن القذر والأذى، والظاهر فيهما عند الاطلاق النجاسة رطبة أو جافة، ويدل له
سبب الحديث، وهو إخبار جبريل له (ص): أن في نعله أذى، فخلعه في صلاته،
واستمر فيها، فإنه سبب هذا. وأن المصلي إذا دخل في الصلاة وهو متلبس بنجاسة، غير عالم
بها، أو ناسيا لها، ثم عرف بها في أثناء صلاته، أنه يجب عليه إزالتها، ثم يستمر في صلاته، ويبني على
ما صلى، وفي الكل خلاف، إلا أنه لا دليل للمخالف، يقاوم الحديث، فلا نطيل بذكره.
ويؤيد طهورية النعال بالمسح بالتراب الحديث الآتي وهو:
137

(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
وطئ أحدكم الأذى بخفيه) أي مثلا، أو نعليه، أو أي ملبوس لقدميه (فطهورهما)
أي الخفين (التراب، أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان)، وأخرجه ابن السكن، والحاكم،
والبيهقي: من حديث أبي هريرة، وسنده ضعيف. وأخرجه أبو داود: من حديث عائشة، وفي
الباب غير هذه بأسانيد، لا تخلو من ضعف، إلا أنه يشد بعضها بعضا. وقد ذهب الأوزاعي:
إلى العمل بهذه الأحاديث، وكذا النخعي وقالا: يجزيه أن يمسح خفيه إذا كان فيهما نجاسة بالتراب،
ويصلي فيهما، ويشهد له: أن أم سلمة سألت النبي (ص) فقالت: إني امرأة أطيل
ذيلي، وأمشي في المكان القذر، فقال: يطهره ما بعده. أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
ونحوه: أن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة،
فكيف نفعل إذا مطرنا؟ فقال: أليس من بعدها طريق هي أطيب منها؟ قلت: بلى، قال: فهذه
بهذه أخرجه أبو داود، وابن ماجة. قال الخطابي: وفي إسناد الحديثين مقال، وتأوله
الشافعي: بأنه إنما هو فيما جرى على ما كان يابسا، لا يعلق بالثوب منه شئ، قلت: ولا يناسبه
قولها: إذا مطرنا. وقال مالك، معنى كون الأرض يطهر بعضها بعضا: أن يطأ الأرض القذرة،
ثم يصل للأرض الطيبة اليابسة، فإن بعضها يطهر بعضا. أما النجاسة تصيب الثوب أو الجسد،
فلا يطهرها إلا الماء، قال: وهو إجماع. قيل: ومما يدل لحديث الباب، وأنه على ظاهره:
ما أخرجه البيهقي عن أبي المعلى عن أبيه عن جده قال: أقبلت مع علي بن أبي طالب عليه
السلام إلى الجمعة، وهو ماش، فحال بينه وبين المسجد حوض من ماء وطين، فخلع نعليه
وسراويله، قال: قلت: هات يا أمير المؤمنين أحمله عنك. قال: لا، فخاض، فلما جاوزه لبس
نعليه وسراويله، ثم صلى بالناس، ولم يغسل رجليه. أي ومن المعلوم: أن الماء المجتمع في القرى
لا يخلو عن النجاسة.
(وعن معاوية بن الحكم) هو معاوية بن الحكم السلمي كان ينزل المدينة، وعداده
في أهل الحجاز (قال: قال رسول الله (ص): إن هذه الصلاة لا يصلح
فيها شئ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. رواه مسلم)
وللحديث سبب حاصله: أنه عطس في الصلاة رجل، فشمته معاوية، وهو في الصلاة، فأنكر
عليه من لديه من الصحابة بما أفهمه ذلك، ثم قال له النبي (ص) بعد ذلك: إن
هذه الصلاة. الحديث وله عدة ألفاظ. والمراد من عدم الصلاحية: عدم صحتها، ومن الكلام
مكالمة الناس ومخاطبتهم، كما هو صريح السبب. فدل على أن المخاطبة في الصلاة تبطلها،
سواء كانت لاصلاح الصلاة، أو غيرها، وإذا احتيج إلى تنبيه الداخل فيأتي حكمه، وبماذا
يثبت. ودل الحديث: على أن الكلام من الجاهل في الصلاة لا يبطلها، وأنه معذور لجهله،
فإنه (ص) لم يأمر معاوية بالإعادة. وقوله: إنما هو: أي الكلام المأذون فيه
في الصلاة، أو الذي يصلح فيها: التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن: أي إنما يشرع فيها ذلك،
وما انضم إليه من الأدعية، ونحوها، لدليله الآتي وهو:
138

(وعن زيد بن أرقم قال: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله (ص)
والمراد: ما لا بد منه من الكلام، كرد السلام ونحوه، لا أنهم كانوا يتحادثون فيها تحادث
المتجالسين، كما يدل قوله: (يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: * (حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) * وهي صلاة العصر على أكثر الأقوال. وقد ادعى فيه الاجماع * (وقوموا
لله قانتين) * قال النووي
في شرح مسلم: فيه دليل على تحريم جميع أنواع كلام الآدميين. وأجمع العلماء: على أن المتكلم
فيها عامدا عالما بتحريمه، لغير مصلحتها، ولغير إنقاذ هالك، وشبهه: مبطل للصلاة، وذكر
الخلاف في الكلام لمصلحتها، ويأتي في شرح حديث ذي اليدين في أبواب السهو. وفهم
الصحابة الامر بالسكوت من قوله: قانتين، لأنه أحد معاني القنوت، وله أحد عشر معنى
معروفة، وكأنهم أخذوا خصوص هذا المعنى من القرائن، أو من تفسيره (ص)
لهم ذلك. والحديث فيه أبحاث قد سقناها في حواشي شرح العمدة، فاضطر المصلي إلى
تنبيه غيره، فقد أباح له الشارع نوعا من الألفاظ كما يفيده الحديث.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
التسبيح للرجال) وفي رواية: إذا نابكم أمر فالتسبيح للرجال (والتصفيق للنساء
متفق عليه. زاد مسلم: في الصلاة) وهو المراد من السياق، وإن لم يأت بلفظه. والحديث دليل
على أنه يشرع لمن نابه في الصلاة أمر من الأمور، كأن يريد: تنبيه الامام على أمر سها عنه،
وتنبيه المار، أو من يريد منه أمرا، وهو لا يدري أنه يصلي، فينبهه على أنه في صلاة، فإن كان
المصلي رجلا قال: سبحان الله، وقد ورد في البخاري بهذا اللفظ، وأطلق فيما عداه، وإن كانت
المصلية امرأة نبهت بالتصفيق. وكيفيته، كما قال عيسى بن أيوب: أن تضرب بأصبعين من
يمينها على كفها اليسرى. وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء، وبعضهم فصل
بلا دليل ناهض، فقال: إن كان ذلك للاعلام: بأنه في صلاة فلا يبطلها، وإن كان لغير ذلك
فإنه يبطلها، ولو كان فتحا على الامام. قالوا: لما أخرجه أبو داود من قوله (ص)
يا علي لا تفتح على الامام في الصلاة. وأجيب: بأن أبا داود ضعفه بعد سياقه له. فحديث
الباب باق على إطلاقه، لا تخرج منه صورة إلا بدليل. ثم الحديث لا يدل على وجوب التسبيح
تنبيها، أو التصفيق، إذ ليس فيه أمر، إلا أنه قد ورد بلفظ الامر في رواية: إذا نابكم أمر فليسبح
الرجال وليصفق النساء. وقد اختلف في ذلك العلماء. قال شارح التقريب: الذي ذكره
أصحابنا: ومنهم: الرافعي، والنووي: أنه سنة، وحكاه عن الأصحاب، ثم قال بعد كلام: والحق
انقسام التنبيه في الصلاة إلى: ما هو واجب، ومندوب، ومباح، بحسب ما يقتضيه الحال.
(وعن مطرف) بضم الميم وفتح الطاء المهملة وتشديد الراء المكسورة وبالفاء
(ابن عبد الله بن الشخير) بكسر الشين المعجمة وكسر الخاء المشددة، ومطرف تابعي جليل
139

(عن أبيه) عبد الله بن الشخير، وهو ممن وفد إلى النبي (ص) في بني عامر،
يعد في البصريين. (قال رأيت رسول الله (ص) يصلي وفي صدره أزيز)
بفتح الهمزة فزاي مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فزاي، وهو: صوت القدر في غليانها
(كأزيز المرجل) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم هو القدر (من البكاء) بيان للأزيز
(أخرجه الخمسة) هم عنده على ما ذكره في الخطبة: من عدا الشيخين، فهم أصحاب السنن،
وأحمد، إلا أنه هنا أراد بهم غير ذلك، وهم أهل السنن الثلاثة وأحمد، كما بينه قوله: إلا ابن ماجة،
وصححه ابن حبان)، وصححه أيضا ابن خزيمة، والحاكم، ووهم من قال: إن مسلما أخرجه، ومثله
ما روى: أن عمر صلى صلاة الصبح، وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله: * (إنما أشكو بشئ وحزني إلى الله). فسمع نشيجه، أخرجه البخاري مقطوعا، ووصله سعيد بن منصور، وأخرجه
ابن المنذر. والحديث دليل على أن مثل ذلك لا يبطل الصلاة، وقيس عليه الأنين.
(وعن علي رضي الله عنه قال: كان لي من رسول الله (ص)
مدخلان) بفتح الميم ودال مهملة وخاء معجمة تثنية مدخل بزنة مقتل: أي وقتان أدخل عليه
فيهما (فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي، رواه النسائي، وابن ماجة) وصححه
ابن السكن، وقد روى بلفظ: سبح مكان تنحنح: من طريق أخرى ضعيفة. والحديث دليل:
على أن التنحنح غير مبطل للصلاة، وقد ذهب إليه الناصر، والشافعي، عملا بهذا الحديث،
وعند الهادوية: أنه مفسد إذا كان بحرفين فصاعدا، إلحاقا له بالكلام المفسد، قالوا: وهذا الحديث
فيه اضطراب، ولكن قد سمعت: أن رواية: تنحنح صححها ابن السكن، ورواية سبح ضعيفة،
فلا تتم دعوى الاضطراب، ولو ثبت الحديثان معا، لكان الجمع بينهما - بأنه (ص)
كان تارة يسبح، وتارة يتنحنح صحيحا.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلت لبلال: كيف رأيت النبي (ص)
يرد عليهم) أي على الأنصار، كما دل له السياق (حين يسلمون عليه وهو يصلي؟
قال: يقول: هكذا وبسط كفه. أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه)، وأخرجه أيضا أحمد،
والنسائي، وابن ماجة، وأصل الحديث: أنه خرج رسول الله (ص) إلى قباء يصلي
فيه، فجاءت الأنصار، وسلموا عليه، فقلت لبلال: كيف رأيت؟ الحديث، ورواه أحمد،
وابن حبان، والحاكم أيضا من حديث ابن عمر: أنه سأل صهيبا عن ذلك بدل بلال، وذكر
الترمذي: أن الحديثين صحيحان جميعا. والحديث دليل على أن إذا سلم أحد على المصلي رد عليه
السلام، بالإشارة دون النطق. وقد أخرج مسلم عن جابر: أن رسول الله (ص)
بعثه لحاجة. قال: ثم أدركته وهو يصلي، فسلمت عليه، فأشار إلي، فلما فرغ دعاني وقال:
إنك سلمت علي، فاعتذر إليه بعد الرد بالإشارة. وأما حديث ابن مسعود: أنه سلم عليه وهو
يصلي، فلم يرد عليه (ص)، ولا ذكر الإشارة، بل قال له بعد فراغه من الصلاة
إن في الصلاة شغلا، إلا أنه قد ذكر البيهقي في حديثه: أنه (ص) أومأ له
140

برأسه. وقد اختلف العلماء في رد السلام في الصلاة على من سلم على المصلي. فذهب جماعة
إلى أنه يرد باللفظ. وقال جماعة: يرد بعد السلام من الصلاة. وقال قوم: يرد في نفسه. وقال
قوم: يرد بالإشارة، كما أفاده هذا الحديث، وهذا هو أقرب الأقوال للدليل، وما عداه لم يأت
به دليل. قيل: وهذا الرد بالإشارة استحباب، بدليل: أنه لم يرد (ص) به على
ابن مسعود، بل قاله: إن في الصلاة شغلا. قد عرفت من رواية البيهقي، أنه (ص)
رد عليه بالإشارة برأسه، ثم اعتذر إليه عن الرد باللفظ، لأنه الذي كان يرد به
عليهم في الصلاة، فلما حرم الكلام، رد عليه (ص) بالإشارة، ثم أخبره: أن الله
أحدث من أمره أن لا يتكلموا في الصلاة فالعجب من قول من قال: يرد باللفظ مع أنه (ص)
قال هذا أي أن الله أحدث من أمره في الاعتذار عن رده على ابن مسعود السلام
باللفظ، وجعل رده السلام في الصلاة كلاما، وأن الله نهى عنه. والقول: بأنه من سلم على المصلي
لا يستحق جوابا. يعني بالإشارة لا باللفظ، يرده: رده (ص) على الأنصار،
وعلى جابر بالإشارة، ولو كانوا لا يستحقون لأخبرهم بذلك، ولم يرد عليهم. وأما كيفية الإشارة،
ففي المسند من حديث صهيب قال: مررت برسول الله (ص)، وهو يصلي، فسلمت،
فرد علي إشارة قال الراوي: لا أعلمه إلا قال إشارة بأصبعه وفي حديث ابن عمر:
في وصفه لرده (ص) على الأنصار: أنه (ص) قال: هكذا،
وبسط جعفر بن عون - الراوي عن ابن عمر - كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق.
فتحصل من هذا: أنه يجيب المصلي بالإشارة إما برأسه، أو بيده، أو بأصبعه. والظاهر: أنه واجب،
لان الرد بالقول واجب، وقد تعذر في الصلاة، فبقي الرد بأي ممكن، وقد أمكن بالإشارة،
وجعله الشارع ردا، وسماه الصحابة ردا ودخل تحت قوله تعالى: * (ولهديناهم صراطا مستقيما) * وأما حديث
أبي هريرة: أنه قال (ص): من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته
ذكره الدارقطني، فهو حديث باطل، لأنه من رواية أبي غطفان عن أبي هريرة، وهو رجل مجهول.
(وعن أبي قتادة قال: كان رسول الله (ص) يصلي وهو حامل
أمامة) بضم الهمزة (بنت زينب) هي أمها، وهي زينب: بنت رسول الله (ص).
وأبوها: أبو العاص بن الربيع (فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها متفق عليه)
ولمسلم زيادة (وهو يؤم الناس في المسجد) في قوله: كان يصلي ما يدل على أن هذه
العبارة لا تدل على التكرار مطلقا، لان هذا الحمل لامامة وقع منه (ص) مرة
واحدة، لا غير. والحديث دليل على أن حمل المصلي في الصلاة حيوانا آدميا، أو غيره لا يضر صلاته،
سواء كان ذلك لضرورة، أو غيرها، وسواء كان في صلاة فريضة أو غيرها، وسواء كان
إماما أو منفردا، وقد صرح في رواية مسلم: أنه (ص) كان إماما، فإذا جاز
في حال الإمامة جاز في حال الانفراد. وإذا جاز في الفريضة جاز في النافلة بالأولى. وفيه
دلالة على طهارة ثياب الصبيان وأبدانهم، وأنه الأصل ما لم تظهر النجاسة. وأن الأفعال
التي مثل هذه لا تبطل الصلاة، فإنه (ص) كان يحملها ويضعها، وقد ذهب إليه
141

الشافعي، ومنع غيره من ذلك، وتأولوا الحديث بتأويلات بعيدة: منها: أنه خاص به (ص).
ومنهم: أن أمامة كان تعلق به من دون فعل منه. ومنها: أنه للضرورة، ومنهم من
قال: إنه منسوخ، وكلها دعاوى بغير برهان واضح، وقد أطال ابن دقيق العيد في شرح
العمدة القول في هذا، وزدناه إيضاحا في حواشيها.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية، والعقرب أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان)
وله شواهد كثيرة، والأسودان اسم يطلق على الحية والعقرب، على أي لون كانا، كما يفيده كلام
أئمة اللغة، فلا يتوهم أنه خاص بذي اللون الأسود فيهما. وهو دليل على وجوب قتل الحية
والعقرب في الصلاة إذ هو الأصل في الامر، وقيل: إنه للندب، وهو دليل على أن الفعل الذي
لا يتم قتلهما إلا به لا يبطل الصلاة، سواء كان بفعل قليل، أو كثير، وإلى هذا ذهب جماعة
من العلماء. وذهبت الهادوية: إلى أن ذلك يفسد الصلاة، وتأولوا الحديث بالخروج من
الصلاة، قياسا على سائر الأفعال الكثيرة التي تدعو إليها الحاجة، وتعرض وهو يصلي، كإنقاذ
الغريق ونحوه، فإنه يخرج لذلك من صلاته، وفيه لغيرهم تفاصيل أخر، لا يقوم عليها دليل.
والحديث حجة للقول الأول. وأحاديث الباب اثنان وعشرون، وفي الشرح ستة وعشرون.
باب سترة المصلي
(عن أبي جهيم) بضم الجيم مصغر جهم، وهو عبد الله بن جهيم. وقيل: هو
عبد الله بن الحارث بن الصمة بكسر المهملة وتشديد الميم، الأنصاري، له حديثان، هذا أحدهما،
والاخر في السلام على من يبول. وقال فيه أبو داود: أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة.
وقد قيل: إن راوي حديث البول: رجل اخر، هو عبد الله بن الحارث، والذي هنا عبد الله بن جهيم
وأنهما اثنان. (قال: قال رسول الله (ص): لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الاثم) لفظ من الاثم ليس من ألفاظ البخاري، ولا مسلم، بل قال
المصنف في فتح الباري: إنها لا توجد في البخاري إلا عند بعض رواته، وقدح فيه: بأنه
ليس من أهل العلم. قال: وقد عيب على الطبري نسبتها إلى البخاري في كتابه الاحكام،
وكذا عيب على صاحب العمدة نسبتها إلى الشيخين معا اه‍. فالعجب من نسبة المصنف لها
هنا إلى الشيخين، فقد وقع له من الوهم ما وقع لصاحب العمدة (لكان أن يقف أربعين
خيرا له من أن يمر بين يديه. متفق عليه واللفظ للبخاري) وليس فيه ذكر مميز
142

الأربعين (ووقع في البزار) أي من حديث أبي جهيم (من وجه) أي من طريق رجالها
غير رجل المتفق عليه (أربعين خريفا) أعاما، أطلق الخريف على العام، من
إطلاق الجزء على الكل. والحديث دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي: أي ما بين
موضع جبهته في سجوده، وقدميه، وقيل: غير هذا، وهو عام في كل مصل فرضا، أو نفلا،
سواء كان إماما، أو منفردا، وقيل: يختص بالامام والمنفرد، إلا المأموم، فإنه لا يضره من مر
بين يديه، لان ستر الامام سترة له، وإمامه سترة له، إلا أنه قد رد هذا القول: بأن السترة إنما
ترفع الحرج عن المصلي، لا عن المار. ثم ظاهر الوعيد يختص بالمار، لا بمن وقف عامدا مثلا بين
يدي المصلي، أو قعد، أو رقد، ولكن إذا كان العلة فيه التشويش على المصلي، فهو في معنى المار.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله (ص) في غزوة
تبوك: عن سترة المصلي فقال: مثل مؤخرة) بضم الميم وهمزة ساكنة وكسر الخاء المعجمة
وفيها لغات أخر (الرحل) هو العود الذي في اخر الرحل (أخرجه مسلم). وفي الحديث
ندب للمصلي إلى اتخاذ سترة، وأنه يكفيه مثل مؤخرة الرحل، وهي قدر ثلثي ذراع، وتحصل بأي
شئ أقامه بين يديه. قال العلماء: والحكمة في السترة كف البصر عما وراءها، ومنع من يجتاز
بقربه. وأخذ من هذا. أنه لا يكفي الخط بين يدي المصلي، وإن كان قد جاء به حديث، أخرجه
أبو داود، إلا أنه ضعيف مضطرب، وقد أخذ به أحمد بن حنبل فقال: يكفي الخط، وينبغي
له أن يدنو من السترة، ولا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة أذرع، فإن لم يجد عصا، أو نحوها جمع
أحجارا، أو ترابا، أو متاعه، قال النووي: استحب أهل العلم الدنو من السترة: بحيث يكون بينه
وبينها قدر مكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الامر بالدنو منها، وبيان الحكمة
في اتخاذها، وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعا: إذا صلى
أحدكم إلى سترة، فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته، ويأتي في الحديث الرابع: ما يفيد
ذلك، والقول بأن أقل السترة مثل مؤخرة الرحل يرده الحديث الآتي:
(وعن سبرة) بفتح السين المهملة وسكون الموحدة، وهو أبو ثرية بضم المثلثة
وفتح الراء وتشديد المثناة التحتية وهو سبرة (ابن معبد الجهني) سكن المدينة، وعداده
في البصريين (قال: قال رسول الله (ص): ليستتر أحدكم في الصلاة،
ولو بسهم. أخرجه الحاكم). فيه الامر بالسترة، وحمله الجماهير على الندب، وعرفت
أن فائدة اتخاذها: أنه مع اتخاذها لا يقطع الصلاة شئ، ومع عدم اتخاذها: يقطعها ما يأتي،
وفي قوله: لو بسهم ما يفيد: أنها تجزئ السترة، غلظت أو دقت، وأنه ليس أقلها مثل مؤخرة
الرحل، كما قيل: قالوا: والمختار أن يجعل السترة عن يمينه، أو شماله، ولا يصمد إليها.
(وعن أبي ذر) بفتح الذال المعجمة وقد تقدمت ترجمته (قال: قال رسول الله
(ص): يقطع صلاة المرء المسلم) أي يفسدها، أو يقلل ثوابها (إذا لم
يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل) أي مثلا، وإلا فقد أجزأ السهم كما عرفت
143

(المرأة) هو فاعل يقطع: أي مرور المرأة (والحمار والكلب الأسود. الحديث) أي
أتم الحديث، وتمامه قلت فما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟ قال: يا ابن
أخي سألت رسول الله (ص) عما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان (وفيه
الكلب الأسود شيطان) الجار يتعلق بمقدر: أي وقال: (أخرجه مسلم)، وأخرجه الترمذي،
والنسائي، وابن ماجة مختصرا، ومطولا. الحديث دليل: على أنه يقطع صلاة من لا سترة له مرور
هذه المذكورات، وظاهر القطع الابطال. وقد اختلف العلماء في العمل بذلك، فقال قوم:
يقطعها المرأة، والكلب الأسود، دون الحمار، لحديث ورد في ذلك عن ابن عباس: أنه مر بين
يدي الصف على حمار، والنبي (ص) يصلي، ولم يعد الصلاة، ولا أمر أصحابه بإعادتها
أخرجه الشيخان فجعلوه مخصصا لما هنا. وقال أحمد: يقطعها الكلب الأسود. قال: وفي نفسي
من المرأة، والحمار. أما الحمار، فلحديث ابن عباس. وأما المرأة، فلحديث عائشة عند البخاري
أنها قالت: كان رسول الله (ص) يصلي من الليل، وهي معترضة بين يديه، فإذا
سجد غمز رجليها فكفتهما، فإذا قام بسطتهما فلو كانت الصلاة يقطعها مرور المرأة لقطعها
اضطجاعها بين يديه. وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطعها شئ، وتأولوا الحديث بأن المراد
بالقطع: نقص الاجر، لا الابطال. قالوا: لشغل القلب بهذه الأشياء. ومنهم من قال: هذا
الحديث منسوخ بحديث أبي سعيد الآتي: لا يقطع الصلاة شئ ويأتي الكلام عليه،
وقد ورد: أنه يقطع الصلاة: اليهودي والنصراني، والمجوسي، والخنزير وهو ضعيف، أخرجه
أبو داود من حديث ابن عباس، وضعفه.
(وله) أي لمسلم (عن أبي هريرة نحوه) أي نحو حديث أبي ذر (دون الكلب)
كذا في نسخ بلوغ المرام، ويريد: أن لفظ الكلب لم يذكر في حديث أبي هريرة، ولكن
راجعت الحديث، فرأيت لفظه في مسلم عنه قال: قال رسول الله (ص): يقطع
الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل.
(ولأبي داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، دون آخره. وقيد المرأة بالحائض).
في أبي داود عن شعبة قال: حدثنا قتادة قال: سمعت جابر بن زيد: يحدث عن ابن عباس،
رفعه شعبة. قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب، وأخرجه النسائي وابن ماجة وقوله
دون اخره يريد: أنه ليس في حديث ابن عباس: اخر حديث أبي هريرة الذي في مسلم،
وهو قوله: ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل فالضمير في اخره في عبارة المصنف: لاخر
حديث أبي هريرة، مع أنه لم يأت بلفظه، كما عرفت، ولا يصح أنه يريد: دون اخر حديث
أبي ذر، كما لا يخفى، من أن حق الضمير عوده إلى الأقرب. ثم راجعت سنن أبي داود، وإذا لفظه
يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب فاحتملت عبارة المصنف: أن مراده: دون اخر حديث
أبي ذر وهو قوله: الكلب الأسود شيطان، أو دون اخر حديث أبي هريرة، وهو: ما ذكرناه
في الشرح، والأول أقرب، لأنه ذكر لفظ أبي ذر، دون لفظ حديث
أبي هريرة، وإن صح أن يعيد إليه الضمير، وإن لم يذكره: إحالة على الناظر. تقييد المرأة
144

بالحائض يقتضي مع صحة الحديث حمل المطلق على المقيد، فلا تقطع إلا الحائض، كما أنه
أطلق الكلب عن وصفه بالأسود في بعض الأحاديث. وقيد في بعضها به، فحملوا المطلق على
المقيد، وقالوا: لا يقطع إلا الأسود، فتعين في المرأة الحائض: حمل المطلق على المقيد.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
إذا صلى أحدكم إلى شئ يستره من الناس) مما سلف تعيينه من السترة، وقدرها،
وقدر كم يكون بينها وبين المصلي (فأراد أحد أن يجتاز) أي يمضي (بين يديه
فليدفعه) ظاهره وجوبا (فإن أبى) أي عن الاندفاع (فليقاتله) ظاهره كذلك
(فإنما هو شيطان) تعليل للامر بقتاله، أو لعدم اندفاعه، أو لهما (متفق عليه. وفي رواية)
أي لمسلم: من حديث أبي هريرة (فإن معه القرين) في القاموس: القرين: الشيطان
المقرون بالإنسان لا يفارقه، وظاهر كلام المصنف أن رواية: (فإن معه القرين) متفق عليها بين
الشيخين من حديث أبي سعيد، ولم أجدها في البخاري، ووجدتها في صحيح مسلم، لكن من
حديث أبي هريرة. والحديث دال بمفهومه: على أنه إذا لم يكن للمصلي سترة، فليس له دفع
المار بين يديه، وإن كان له سترة دفعه. قال القرطبي: بالإشارة، ولطيف المنع، فإن لم
يمتنع عن الاندفاع قاتله: أي دفعه دفعا أشد من الأول، قال: وأجمعوا: أنه لا يلزمه أن يقاتله
بالسلاح، لمخالفة ذلك قاعدة الصلاة: من الاقبال عليها والاشتغال بها، والخشوع. هذا كلامه.
وأطلق جماعة: أن له قتاله حقيقة، وهو ظاهر اللفظ. والقول بأنه يدفعه بلعنه وسبه يرده: لفظ هذا
الحديث، ويؤيده: فعل أبي سعيد راوي الحديث مع الشاب الذي أراد أن يجتاز بين يديه وهو
يصلي. أخرجه البخاري عن أبي صالح السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة
يصلي إلى شئ يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفعه
أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب، فلم يجد مساغا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد
أشد من الأول. الحديث وقيل: يرده بأسهل الوجود، فإذا أبى، فبأشد، ولو أدى إلى قتله فإن قتله
فلا شئ عليه، لان الشارع أباح قتله. والامر في الحديث، وإن كان ظاهره الايجاب، لكن قال
النووي: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع، بل صرح أصحابنا: بأنه مندوب،
ولكن قال المصنف: قد صرح بوجوبه أهل الظاهر. وفي قوله: فإنما هو شيطان: تعليل
بأن فعله فعل الشيطان: في إرادة التشويش على المصلي، وفيه دلالة على جواز إطلاق لفظ الشيطان
على الانسان الذي يريد إفساد صلاة المصلي، وفتنته فدينه، كما قال تعالى: * (شياطين الإنس والجن
) * وقيل: المراد بأن الحامل له على ذلك شيطان، ويدل له رواية مسلم: فإن معه القرين.
وقد اختلف في الحكمة المقتضية للامر بالدفع، فقيل: لدفع الاثم عن المار، وقيل: لدفع
الخلل الواقع بالمرور في الصلاة، وهذا الأرجح، لان عناية المصلي بصيانة صلاته أهم من دفعه
الاثم عن غيره، قلت: ولو قيل: إنه لهما معا، لما بعد، فيكون لدفع الاثم عن المار، الذي أفاده
حديث: لو يعلم المار، ولصيانة الصلاة عن النقصان من أجرها، فقد أخرج أبو نعيم عن
145

عمر: لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه، ما صلى إلا إلى شئ يستره من
الناس، وأخرج ابن أبي شيبة: عن ابن مسعود: إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف
صلاته، ولهما حكم الرفع، وإن كانا موقوفين، إلا أن الأول فيمن لم يتخذ سترة. والثاني مطلق،
فيحمل عليه. وأما من اتخذ السترة فلا نقص في صلاته بمرور المار، لأنه قد صرح الحديث
أنه مع اتخاذ السترة لا يضره مرور من مر، فأمره بدفعه للمار، لعل وجهه: إنكار المنكر على
المار، لتعديه ما نهاه عنه الشارع، ولذا يقدم الأخف على الأغلظ.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) قال: إذا صلى
أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن فليخط
خطا، ثم لا يضره من مر بين يديه. أخرجه أحمد، وابن ماجة، وصححه ابن حبان، ولم
يصب من زعم) وهو ابن الصلاح (أنه مضطرب) فإنه أورده مثالا للمضطرب فيه (بل
هو حسن) ونازعه المصنف في النكت، وقد صححه أحمد، وابن المديني، وفي مختصر السنن،
قال سفيان بن عيينة: لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث، ولم يجئ إلا من هذا الوجه، وكان
إسماعيل بن أمية إذا حدث بهذا الحديث يقول: هل عندكم شئ تشدونه به؟ وقد أشار
الشافعي: إلى ضعفه، وقال البيهقي: لا بأس به في مثل هذا الحكم، إن شاء الله تعالى. والحديث
دليل على أن السترة تجزئ بأي شئ كانت. وفي مختصر السنن: قال سفيان بن عيينة:
رأيت شريكا صلى بنا في جنازة العصر، فوضع قلنسوته بين يديه. وفي الصحيحين من رواية
ابن عمر: أنه (ص): كان يعرض راحلته فيصلي إليها، وقد تقدم: أنه أي: المصلي
إذا لم يجد: جمع ترابا، أو أحجارا، واختار أحمد بن حنبل: أن يكون الخط كالهلال. وفي قوله:
ثم لا يضره شئ ما يدل: أنه يضره إذا لم يفعل: إما بنقصان من صلاته، أو بإبطالها على ما ذكر
أنه يقطع الصلاة، إذ في المراد بالقطع: الخلاف، كما تقدم. وهذا فيما إذا كان المصلي إماما،
أو منفردا، لا إذا كان مؤتما، فإن الامام سترة له، أو سترته سترة له، وقد سبق قريبا، وقد
بوب له البخاري، وأبو داود، وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعا: سترة الامام
لمن خلفه، وإن كان فيه ضعف.
واعلم أن الحديث عام: في الامر باتخاذ السترة في الفضاء وغيره، فقد ثبت: أنه (ص)
كان إذا صلى إلى جدار جعل بينه وبينه قدر ممر الشاة، ولم يكن يتباعد منه، بل
أمر بالقرب من السترة، وكان إذا صلى إلى عود، أو عمود، أو شجرة: جعله على جانبه الأيمن،
أو الأيسر، ولم يصمد له صمدا، وكان يركز الحربة في السفر، أو العنزة، فيصلي إليها، فتكون
سترته، وكان يعرض راحلته فيصلي إليها. وقال الشافعية على ذلك: بسط المصلي لنحو سجادة،
بجامع إشعار المار أنه في الصلاة، وهو صحيح.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
لا يقطع الصلاة شئ، وادرأوا ما استطعتم أخرجه أبو داود، وفي سنده ضعف).
146

في مختصر المنذري: في إسناده مجالد، وهو أبو سعيد بن عمير الهمداني الكوفي. وقد تكلم فيه
غير واحد، وأخرج له مسلم حديثا مقرونا بغيره من أصحاب الشعبي، وأخرج نحوه أيضا
الدارقطني: من حديث أنس، وأبي أمامة، والطبراني: من حديث جابر، وفي إسنادهما ضعف.
وهذا الحديث معارض لحديث أبي ذر، وفيه: أنه يقطع صلاة من ليس له سترة: المرأة، والحمار،
والكلب الأسود. ولما تعارض الحديثان اختلف نظر العلماء فيهما، فقيل: المراد بالقطع في
حديث أبي ذر: نقص الصلاة بشغل القلب: بمرور المذكورات، وبعدم القطع في حديث
أبي سعيد: عدم البطلان، أي أنه لا يبطلها شئ، وإن نقص ثوابها بمرور ما ذكر: في حديث أبي ذر.
وقيل: حديث أبي سعيد هذا: ناسخ لحديث أبي ذر، وهذا ضعيف، لأنه لا نسخ مع إمكان
الجمع، لما عرفت، ولأنه لا يتم النسخ إلا بمعرفة التاريخ، ولا يعلم هنا المتقدم من المتأخر،
على أنه لو تعذر الجمع بينهما لرجع إلى الترجيح، وحديث أبي ذر أرجح، لأنه أخرجه
مسلم في صحيحه، وحديث أبي سعيد في سنده ضعف، كما عرفت.
باب الحث على الخشوع في الصلاة
في القاموس: الخشوع: الخضوع، أو قريب من الخضوع، أو هو في البدن، والخشوع
في الصوت والبصر والسكون والتذلل. وفي الشرع الخضوع تارة يكون
في القلب، وتارة يكون من قبل البدن، كالسكوت، وقيل لا بد من اعتبارهما، حكاه الفخر الرازي في تفسيره. ويدل
على أنه من عمل القلب: حديث علي عليه السلام: الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
قلت: ويدل له حديث: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وحديث الدعاء في الاستعاذة
وأعوذ بك من قلب لا يخشع. وقد اختلف في وجوب الخشوع في الصلاة. فالجمهور
على عدم وجوبه، وقد أطال الغزالي في الاحياء: الكلام في ذلك، وذكر أدلة وجوبه،
وادعى النووي: الاجماع إلى عدم وجوبه.
(عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله (ص) هذا
إخبار من أبي هريرة: عن نهيه (ص)، ولم يأت بلفظه الذي أفاد النهي، لكن هذا: له
حكم الرفع (أن يصلي الرجل) ومثله المرأة (مختصرا) بضم الميم وسكون الخاء المعجمة،
وفتح المثناة الفوقية فصاد مهملة مكسورة فراء، وهو منتصب على الحال، وعامله يصلي، وصاحبه
الرجل. (متفق عليه واللفظ لمسلم)، وفسره المصنف أيضا بقوله: (ومعناه أن يجعل يده) اليمنى
أو اليسرى (على خاصرته) كذلك: أي الخاصرة اليمنى، أو اليسرى، أو هما معا عليهما، إلا أن
تفسيره بما ذكر يعارضه: ما في القاموس من قوله: وفي الحديث: المختصرون يوم القيامة على
وجوههم النور أي: المصلون بالليل، فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم. اه‍، إلا أني
لم أجد الحديث مخرجا، فإن صح، فالجمع بينه وبين حديث الكتاب أن يتوجه النهي إلى من
147

فعل ذلك بغير تعب، كما يفيده قوله في تفسيره فإذا تعبوا، إلا أنه يخالفه تفسير النهاية فإنه يقول:
أراد أنهم يأتون، ومعهم أعمال صالح يتكئون عليها. وفي القاموس: الخاصرة: الشاكلة وما بين
الحرقفة، والقصيري، وفسر الحرقفة بعظم الحجبة: أي: رأس الورك، وهذا التفسير الذي
ذكره المصنف عليه الأكثر، وقيل: الاختصار في الصلاة هو: أن يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها،
وقيل: أن يختصر السورة، ويقرأ من اخرها اية أو آيتين، وقيل: أن يحذف من الصلاة، فلا يمد
قيامها وركوعها وسجودها وحدودها. والحكمة في النهي عنه بينها قوله:
(وفي البخاري عن عائشة أن ذلك) أي الاختصار في الصلاة (فعل اليهود
في صلاتهم). وقد نهينا عن التشبه بهم في جميع أحوالهم، فهذا وجه حكمة النهي، لا ما قيل: إنه
فعل الشيطان، أو أن إبليس أهبط من الجنة كذلك، أو إنه فعل المتكبرين، لأن هذه علل
تخمينية، وما ورد منصوصا: أي عن الصحابي هو العمدة، لأنه أعرف بسبب الحديث،
ويحتمل أنه مرفوع، وما ورد في الصحيح مقدم على غيره، لورود هذه الأشياء أثرا. وفي ذكر
المصنف للحديث في باب الخشوع ما يشعر بأن العلة في النهي عن الاختصار: أنه ينافي الخشوع.
(وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) قال: إذا قدم العشاء) ممدود، كسماء طعام العشى، كما في القاموس (فابدأوا به) أي بأكله (قبل أن
تصلوا المغرب، متفق عليه) وقد ورد بإطلاق لفظ الصلاة، قال ابن دقيق العيد:
فيحمل المطلق على المقيد، وورد بلفظ: إذا وضع العشاء، وأحدكم صائم فلا يقيد به، لما
عرف في الأصول: من أن ذكر حكم الخاص الموافق: لا يقتضي تقييدا، ولا تخصيصا. والحديث
دال على إيجاب تقديم أكل العشاء إذا حضر على صلاة المغرب، والجمهور حملوه على
الندب، وقالت الظاهرية: بل يجب تقديم أكل العشاء، فلو قدم الصلاة لبطلت، عملا بظاهر
الامر. ثم الحديث ظاهر في أنه يقدم العشاء مطلقا، سواء كان محتاجا إلى الطعام، أو لا، وسواء
خشي فساد الطعام، أو لا، وسواء كان خفيفا، أو لا. وفي معنى الحديث تفاصيل أخر بغير دليل،
بل تتبعوا علة الامر بتقديم الطعام، فقالوا: هو تشويش الخاطر بحضور الطعام، وهو يفضي
إلى ترك الخشوع في الصلاة، وهي علة ليس عليها دليل، إلا ما يفهم من كلام بعض الصحابة،
فإنه أخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، وابن عباس: أنهما كانا يأكلان طعاما، وفي التنور
شواء، فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة، فقال له ابن عباس: لا تعجل: لا نقوم وفي أنفسنا
منه شئ، وفي رواية لئلا يعرض لنا في صلاتنا، وله عن الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال
العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة. ففي هذه الآثار: إشارة إلى التعليل بما ذكر.
ثم هذا إذا كان الوقت موسعا. واختلف إذا تضيق: بحيث لو قدم أكل العشاء خرج الوقت،
فقيل: يقدم الأكل، وإن خرج الوقت، محافظة على تحصيل الخشوع في الصلاة. قيل: وهذا
على قول من يقول بوجوب الخشوع في الصلاة، وقيل: بل يبدأ بالصلاة، محافظة على حرمة
الوقت، وهو قول الجمهور من العلماء. وفيه أن حضور الطعام عذر في ترك الجماعة: عند
من أوجبها، وعند غيره. قيل: وفي قوله: فابدأوا ما يشعر: بأنه إذا كان حضور الصلاة وهو
148

يأكل. فلا يتمادى فيه. وقد ثبت عن ابن عمر: أنه كان إذا حضر عشاؤه، وسمع قراءة الإمام
في الصلاة، لم يقم حتى يفرغ من طعامه. وقد قيس على الطعام غيره: مما يحصل بتأخيره تشويش
الخاطر، فالأولى البداءة به.
(وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) إذا قام
أحدكم في الصلاة) أي دخل فيها (فلا يمسح الحصى) أي من جبهته أو من محل
سجوده، (فإن الرحمة تواجهه. رواه الخمسة بإسناد صحيح وزاد أحمد) في روايته (واحدة
أو دع) في هذا النقل قلق، لأنهم يفهم أنه زاد أحمد على هذا اللفظ الذي ساقه المصنف،
ومعناه: على هذا فلا يمسح واحدة، أو دع، وهو غير مراد. ولفظه عند أحمد عن أبي ذر
سألت النبي (ص) عن كل شئ، حتى سألته عن مسح الحصاة، فقال
واحدة، أو دع أي امسح واحدة، أو اترك المسح، فاختصار المصنف أخل بالمعنى، وكأنه اتكل
في بيان معناه على لفظه لمن عرفه، ولو قال: وفي رواية لأحمد: الاذن بمسحة واحدة، لكان
واضحا. والحديث دليل على النهي عن مسح الحصاة بعد الدخول في الصلاة، لا قبله، فالأولى
له أن يفعل ذلك، لئلا يشغل باله وهو في الصلاة، والتقييد بالحصى، أو التراب، كما في رواية
للغالب، ولا يدل على نفيه عما عداه. قيل والعلة في النهي: المحافظة على الخشوع، كما يفيده
سياق المصنف للحديث في هذا الباب، أو لئلا يكثر العمل في الصلاة. وقد نص الشارع
على العلة بقوله: فإن الرحمة تواجهه: أي تكون تلقاء وجهه، فلا يغير ما تعلق بوجهه من
التراب والحصى، ولا ما يسجد عليه، إلا أن يؤلمه، فله ذلك، ثم النهي ظاهر في التحريم.
(وفي الصحيح) أي المتفق عليه (عن معيقيب) بضم الميم وفتح العين المهملة
والمثناة التحتية، وكسر القاف بعدها تحتية ساكنة بعدها موحدة. هو معيقيب بن أبي فاطمة
الدوسي، شهد بدرا، وكان قد أسلم قديما بمكة، وهاجر إلى الحبشة: الهجرة الثانية، وأقام بها حتى
قدم النبي (ص) المدينة، وكان على خاتم النبي (ص)، واستعمله
أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما على بيت المال. مات سنة ست وأربعين، وقيل: في اخر خلافة
عثمان (نحوه) أي: نحو حديث أبي ذر، ولفظه: لا تمسح الحصى وأنت تصلي، فإن كنت
لا بد فاعلا فواحدة لتسوية الحصى (بغير تعليل) أي ليس فيه: أن الرحمة تواجهه.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله (ص)
عن الالتفات في الصلاة، فقال: هو اختلاس) بالخاء المعجمة فمثناة فوقية اخره سين مهملة، هو
الاخذ للشئ على غفلة (يختلسه الشيطان من صلاة العبد. رواه البخاري) قال
الطيبي: سماه اختلاسا، لان المصلي يقبل على ربه تعالى، ويترصد الشيطان فوات ذلك عليه،
فإذا التفت استلبه ذلك، وهو دليل على كراهة الالتفات في الصلاة، وحمله الجمهور على
ذلك، إذا كان التفاتا لا يبلغ إلى استدبار القبلة بصدره، أو عنقه كله، وإلا كان مبطلا للصلاة.
وسبب الكراهة: نقصان الخشوع، كما أفاده إيراد المنصف للحديث في هذا الباب، أو ترك
149

استقبال القبلة ببعض البدن، أو لما فيه من الاعراض عن التوجه إلى الله تعالى، كما أفاده
ما أخرجه أحمد وابن ماجة من حديث أبي ذر: لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم
يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف أخرجه أبو داود، والنسائي. (وللترمذي) أي عن عائشة
(وصححه: إياك) بكسر الكاف، لأنه خطاب المؤنث (والالتفات) بالنصب لأنه محذر منه
(في الصلاة فإنه هلكة)، لاخلاله بأفضل العبادات، وأي هلكة أعظم من هلكة الدين
(فإن كان لا بد) من الالتفات (ففي التطوع) قيل: والنهي عن الالتفات إذا كان
لغير حاجة، وإلا فقد ثبت: أن أبا بكر رضي الله عنه التفت لمجئ النبي (ص)
في صلاة الظهر، والتفت الناس. لخروجه (ص) في مرض موته، حيث أشار إليهم،
ولو لم يلتفتوا ما علموا بخروجه، ولا إشارته، وأقرهم على ذلك. (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا كان
أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه) وفي رواية في البخاري: فإن ربه بينه وبين القبلة
والمراد من المناجاة: إقباله تعالى عليه بالرحمة والرضوان (فلا يبصقن بين يديه ولا عن
يمينه) قد علل في حديثه أبي هريرة: بأن عن يمينه ملكا (ولكن عن شماله تحت قدميه
متفق عليه. وفي رواية: أو تحت قدمه). الحديث نهى عن البصاق إلى جهة القبلة، أو جهة
اليمين إذا كان العبد في الصلاة. وقد ورد النهي مطلقا عن أبي هريرة، وأبي سعيد: أن رسول الله
(ص) رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة، فحتها وقال: إذا تنخم
أحدكم، فلا يتنخمن قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصقن عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى
متفق عليه. وقد جزم النووي: بالمنع في كل حالة: داخل الصلاة وخارجها: سواء كان في المسجد
أو غيره، وقد أفاده حديث أنس في حق المصلي، إلا أن غيره من الأحاديث قد أفادت تحريم
البصاق إلى القبلة مطلقا، في المسجد وفي غيره، وعلى المصلي وغيره. ففي صحيح ابن خزيمة
وابن حبان: من حديث حذيفة مرفوعا: من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلته بين عينيه
ولابن خزيمة: من حديث ابن عمر مرفوعا: يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي
في وجهه، وأخرج أبو داود وابن حبان من حديث السائب بن خلاد: أن رجلا أم قوما فبصق
في القبلة، فلما فرغ، قال رسول الله (ص): لا يصلي لكم. ومثل البصاق إلى
القبلة: البصاق عن اليمين، فإنه منهي عنه مطلقا أيضا. وأخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود: أنه
كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة، وعن معاذ بن جبل: ما بصقت عن يميني منذ
أسلمت، وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى عنه أيضا. وقد أرشد (ص) إلى أي
جهة يبصق فقال: عن شماله تحت قدمه، فبين الجهة: أنها جهة الشمال، والمحل أنه تحت القدم.
وورد في حديث أنس عند أحمد، ومسلم بعد قوله: ولكن عن يساره أو تحت قدمه زيادة ثم
أخذ طرف ردائه فبصق فيه ورد بعضه على بعض فقال: أو يفعل هكذا، وقوله: أو تحت
قدمه خاص بمن ليس في المسجد، وأما إذا كان فيه، ففي ثوبه، لحديث البصاق في المسجد
150

خطيئة، إلا أنه قد يقال: المراد البصاق إلى جهة القبلة، أو جهة اليمين خطيئة، لا تحت القدم،
أو عن شماله، لأنه قد أذن فيه الشارع، ولا يأذن في خطيئة. هذا وقد سمعت: أنه علل (ص)
النهي عن البصاق على اليمين بأن عن يمينه ملكا، فأورد سؤال، وهو أن على الشمال
أيضا ملكا، وهو كاتب السيئات، وأجيب: بأنه اختص بذلك ملك اليمين: تخصيصا له وتشريفا
وإكراما، وأجاب بعض المتأخرين بأن الصلاة أم الحسنات البدنية، فلا دخل لكاتب السيئات
فيها. واستشهد لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة: من حديث حذيفة موقوفا في هذا الحديث
ولا عن يمينه، فإن عن يمينه كاتب الحسنات، وفي الطبراني من حديث أمامة: في هذا
الحديث: فإنه يقوم بين يدي الله، وملك عن يمينه، وقرينه عن يساره، وإذا ثبت هذا فالتفل
يقع على القرين، وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ بحيث لا يصيبه شئ من ذلك، أو
أنه يتحول في الصلاة إلى جهة اليمين.
(وعنه) أي أنس رضي الله عنه (قال: كان قرام) بكسر القاف وتخفيف الراء
الستر الرقيق، وقيل: الصفيق من صوف ذي ألوان (لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها
النبي (ص): أميطي عنا) أي أزيلي (قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره
تعرض) بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء (لي في صلاتي، رواه البخاري). في الحديث
دلالة: على إزالة ما يشوش على المصلي صلاته: مما في منزله أو في محل صلاته، ولا دليل فيه
على بطلان الصلاة، لأنه لم يرو أنه (ص) أعادها، ومثله:
(واتفقا) أي الشيخان (على حديثها) أي عائشة (في قصة أنبجانية) بفتح
الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم، وبعد النون ياء النسبة: كساء غليظ
لا علم فيه (أبي جهم) بفتح الجيم وسكون الهاء هو عامر بن حذيفة (وفيه:
فإنها) أي: الخميصة وكانت ذات أعلام أهداها له (ص) أبو جهم، فالضمير لها،
وإن لم يتقدم في كلام المصنف ذكرها. ولفظ الحديث عن عائشة: أن النبي (ص)
صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا
بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي هذا
لفظ البخاري، وعبارة المصنف تفهم: أن ضمير فإنها: للأنبجانية، وكذا ضمير (ألهتني
عن صلاتي). وذلك أن أبا جهم أهدى للنبي (ص) خميصة لها أعلام، كما روى
مالك في الموطأ: عن عائشة قالت: أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول الله (ص)
خميصة لها علم، فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف قال: ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم
وفي رواية عنها: كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة، فأخاف أن يفتنني قال ابن بطال:
إنما طلب منه ثوبا غيرها، ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به. وفي الحديث: دليل على
كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش، ونحوها: مما يشغل القلب، وفيه مبادرته (ص)
إلى صيانة الصلاة عما يلهي، وإزالة ما يشغل عن الاقبال عليها. قال الطيبي: فيه إيذان بأن
للصور، والأشياء الظاهرة تأثيرا في القلوب الطاهرة، والنفوس الزكية، فضلا عما دونها. وفيه
151

كراهة الصلاة على المفارش، والسجاجيد المنقوشة، وكراهة نقش المساجد، ونحوه.
(وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص)
لينتهين) بفتح اللام وفتح المثناة التحتية وسكون النون وفتح المثناة الفوقية وكسر الهاء (أقوام
يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة) أي إلى ما فوقهم مطلقا (أو لا ترجع إليهم.
رواه مسلم) قال النووي في شرح مسلم: فيه النهي الأكيد، والوعيد الشديد في ذلك، وقد
نقل الاجماع على ذلك، والنهي يفيد تحريمه. وقال ابن حزم: تبطل به الصلاة. قال القاضي
عياض: واختلفوا في غير الصلاة في الدعاء، فكرهه قوم، وجوزه الأكثرون.
(وله) أي لمسلم (عن عائشة قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول:
لا صلاة بحضرة طعام) تقدم الكلام في ذلك، إلا أن هذا يفيد: أنها لا تقام الصلاة
في موضع حضر فيه الطعام، وهو عام للنفل، والفرض، وللجائع، وغيره. والذي تقدم أخص من هذا
(ولا) أي: لا صلاة (وهو) أي المصلي يدافعه (الأخبثان) البول والغائط. ويلحق
بهما مدافعة الريح، فهذا مع المدافعة، وأما إذا كان يجد في نفسه ثقل ذلك، وليس هناك مدافعة،
فلا نهي عن الصلاة معه، ومع المدافعة فهي مكروهة، قيل: تنزيها لنقصان الخشوع، فلو
خشي خروج الوقت إن قدم التبرز وإخراج الأخبثين: قدم الصلاة، وهي صحيحة مكروهة،
كذا قال النووي: ويستحب إعادتها. وعن الظاهرية: أنها باطلة.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي (ص) قال: التثاؤب من
الشيطان)، لأنه يصدر عن الامتلاء والكسل، وهما مما يحبه الشيطان، فكأن التثاؤب منه (فإذا
تثاءب أحدكم فليكظم) أي: يمنعه ويمسكه (ما استطاع. رواه مسلم، والترمذي،
وزاد) أي الترمذي (في الصلاة) فقيد الامر بالكظم بكونه في الصلاة، ولا ينافي النهي
عن تلك الحالة مطلقا، لموافقة المقيد، والمطلق في الحكم، وهذه الزيادة هي في البخاري أيضا،
وفيه بعدها: ولا يقل: ها، فإنما ذلك من الشيطان يضحك منه، وكل هذا مما ينافي
الخشوع، وينبغي أن يضع يده على فيه لحديث: إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه،
فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب وأخرجه أحمد، والشيخان، وغيرهم. باب المساجد
المساجد: جمع مسجد بفتح الجيم وكسرها، فإن أريد به المكان المخصوص، فهو بكسر الجيم،
لا غير، وإن أريد به موضع السجود، وهو موضع وقوع الجبهة في الأرض، فإنه بالفتح، لا غير.
وفي فضائل المساجد أحاديث واسعة، وأنها أحب البقاع إلى الله، وأن من بنى لله مسجدا من
مال حلال بنى الله له بيتا في الجنة، وأحاديثها في مجمع الزوائد وغيره.
(عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله (ص) ببناء
المساجد في الدور) يحتمل أن المراد بها: البيوت، ويحتمل أن المراد: المحال التي تبنى فيها
152

الدور (وأن تنظف) عن الأقذار (وتطيب رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصحح إرساله)
والتطييب بالبخور، ونحوه. والامر بالبناء للندب لقوله: أينما أدركتك الصلاة فصل أخرجه
مسلم، ونحوه عند غيره. قيل: وعلى إرادة المعنى الأول في الدور، ففي الحديث دليل على أن
المساجد شرطها قصد التسبيل، إذ لو كان يتم مسجدا بالتسمية: لخرجت تلك الأماكن التي
اتخذت في المساكن عن ملك أهلها. وفي شرح السنة أن المراد: المحال التي فيها الدور. ومنه
* (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) * لأنهم كانوا يسمون المحال التي اجتمعت فيها القبيلة دارا. قال سفيان:
بناء المساجد في الدور يعني: القبائل.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): قاتل
الله اليهود) أي: لعن، كما جاء في رواية، وقيل: معناه: قتلهم وأهلكهم (اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد. متفق عليه)، وفي مسلم عن عائشة: قالت: إن أم حبيبة، وأم سلمة ذكرتا لرسول
الله (ص) كنيسة رأتاها بالحبشة، فيها تصاوير، فقال: إن أولئك إذا كان فيهم
الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند
الله يوم القيامة واتخاذ القبور مساجد: أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة
عليها. وفي مسلم: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها. قال البيضاوي: لما
كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم، تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون
في الصلاة نحوها، اتخذوها أوثانا: لعنهم، ومنع المسلمين من ذلك قال: وأما من اتخذ مسجدا
في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه، لا لتعظيم له، ولا لتوجه نحوه، فلا يدخل في ذلك
الوعيد. قلت: قوله: لا لتعظيم له. يقال اتخاذ المساجد بقربه وقصد التبرك به: تعظيم له. ثم أحاديث
النهي، مطلقة، ولا دليل على التعليل بما ذكر. والظاهر أن العلة سد الذريعة والبعد عن التشبه
بعبدة الأوثان: الذين يعظمون الجمادات، التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ولما في اتفاق
المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لا يقاد السرج عليها
الملعون فاعله. ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر. وقد أخرج أبو داود،
والترمذي، والنسائي، وابن ماجة: عن ابن عباس قال: لعن رسول الله (ص) زائرات
القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج (وزاد مسلم: والنصارى) زاد في حديث أبي هريرة
هذا بعد قوله: اليهود. وقد استشكل ذلك، لان النصارى ليس لهم نبي إلا عيسى عليه السلام،
إذ لا نبي بينه وبين محمد (ص)، وهو حي في السماء، وأجيب: بأنه كان فيهم أنبياء
غير المرسلين، كالحواريين، ومريم في قول، وأن المراد من قوله: أنبيائهم المجموع من اليهود والنصارى،
أو المراد الأنبياء، وكبار أتباعهم، واكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيد ذلك قوله في رواية مسلم: كانوا
يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ولهذا، لما أفرد النصارى كما في:
(ولهما) أي البخاري ومسلم (من حديث عائشة: كانوا إذا مات فيهم) أي
النصارى. قال: (الرجل الصالح)، ولما أفرد اليهود، كما في حديث أبي هريرة قال: أنبيائهم.
وأحسن من هذا أن يقال: أنبياء اليهود: أنبياء النصارى، لان النصارى مأمورون بالايمان
153

بكل رسول، فرسل بني إسرائيل يسمون أنبياء في حق الفريقين (بنوا على قبره مسجدا،
وفيه أولئك شرار الخلق) اسم الإشارة عائد إلى الفريقين، وكفى به ذما. والمراد من
الاتخاذ: أعم من أن يكون ابتداعا، أو اتباعا، فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي (ص) خيلا،
فجاءت برجل، فربطوه بسارية من سواري المسجد. الحديث متفق عليه). الرجل
هو: ثمامة بن أسال، صرح بذلك في الصحيحين، وغيرهما، وليس فيه: أن الربط عن أمره (ص
)، ولكنه (ص) قرر ذلك، لان في القصة: أنه كان يمر به ثلاثة أيام
ويقول: ما عندك يا ثمامة. الحديث. وفيه دليل: على جواز ربط الأسير بالمسجد، وإن كان
كافرا، وأن هذا تخصيص لقوله (ص): إن المسجد لذكر الله والطاعة، وقد
أنزل (ص) وفد ثقيف في المسجد. قال الخطابي: فيه جواز دخول المشرك
المسجد، إذا كان له فيه حاجة مثل: أن يكون له غريم في المسجد لا يخرج إليه، ومثل أن يحاكم
إلى قاض هو في المسجد، وقد كان الكفار يدخلون مسجده (ص)، ويطيلون فيه
الجلوس، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة: أن اليهود أتوا النبي (ص)
وهو في المسجد. وأما قوله تعالى: * (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون) * فالمراد به: لا يمكنون من حج، ولا
عمرة، كما ورد في القصة التي بعث لأجلها (ص) بآيات براءة إلى مكة، وقوله:
فيحجن بعد هذا العام مشرك، وكذلك قوله تعالى: * (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) *
لا يتم بها دليل على تحريم المساجد على المشركين، لأنها نزلت في حق من استولى عليها، وكانت
له الحكمة والمنعة، كما وقع في سبب نزول الآية الكريمة، فإنها نزلت في شأن النصارى،
واستيلائهم على بيت المقدس، وإلقاء الأذى فيه والأزبال، أو أنها نزلت في شأن قريش،
ومنعهم له (ص) عام الحديبية عن العمرة، وأما دخوله من غير استيلاء ومنع
وتخريب، فلم تفده الآية الكريمة، و كأن المصنف ساقه لبيان جواز دخول المشرك المسجد، وهو
مذهب إمامه، فيما عدا المسجد الحرام.
(وعنه) أي أبي هريرة: (أن عمر رضي الله عنه مر بحسان) بالحاء المهملة مفتوحة
فسين مهملة مشددة. هو ابن ثابت، شاعر رسول الله (ص)، يكنى
أبا عبد الرحمن. أطال ابن عبد البر في ترجمته في الاستيعاب قال: وتوفي حسان قبل الأربعين
في خلافة علي عليه السلام، وقيل: بل مات سنة خمسين، وهو ابن مائة وعشرين سنة (ينشد)
بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر الشين المعجمة (في المسجد فلحظ إليه) أي نظر
إليه، وكأن حسانا فهم منه نظر الانكار (فقال: قد كنت أنشد فيه، وفيه)
أي المسجد (من هو خير منك) يعني: رسول الله (ص) (متفق عليه) وقد
أشار البخاري في باب بدء الخلق في هذه القصة: أن حسانا أنشد في المسجد: ما أجاب به
المشركين عنه (ص). ففي الحديث دلالة على جواز إنشاد الشعر في المسجد.
154

وقد عارضه أحاديث. أخرج ابن خزيمة، وصححه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: نهى رسول الله (ص) عن تناشد الاشعار في المسجد وله
شواهد، وجمع بينها وبين حديث الباب: بأن النهي محمول على تناشد أشعار الجاهلية وأهل
البطالة، وما لم يكفيه غرض صحيح، والمأذون فيه ما سلم من ذلك، وقيل: المأذون فيه
مشروط: بأن لا يكون ذلك مما يشغل من في المسجد.
(وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله (ص): من سمع
رجلا ينشد) بفتح المثناة التحتية وسكون النون وضم الشين المعجمة، من نشد الدابة: إذا
طلبها (ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك) عقوبة له، لارتكابه في المسجد
ما لا يجوز. وظاهره أنه يقول: جهرا، وأنه واجب (فإن المساجد لم تبن لهذا. رواه مسلم)
أي: بل بنيت لذكر الله، والصلاة، والعلم، والمذاكرة في الخير، ونحوه. والحديث دليل: على تحريم
السؤال عن ضالة الحيوان في المسجد، وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع، ولو ذهب
في المسجد؟ قيل: يلحق للعلة، وهي قوله: فإن المساجد لم تبن لهذا، وأن من ذهب له متاع فيه،
أو في غيره قعد في باب المسجد: يسأل الخارجين والداخلين إليه. واختلف أيضا في تعليم
الصبيان القران في المسجد، وكأن المانع يمنعه لما فيه من رفع الأصوات المنهي عنه في حديث
واثلة: جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم أخرجه عبد الرزاق، والطبراني
في الكبير، وابن ماجة.
(وعنه) أي أبي هريرة: (أن رسول الله (ص) قال: إذا رأيتم
من يبيع أو يبتاع) يشتري (في المسجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك. رواه
الترمذي، والنسائي، وحسنه). فيه دلالة على تحريم البيع والشراء في المساجد، وأنه يجب على من رأى
ذلك فيه أن يقول لكل من البائع والمشتري: لا أربح الله تجارتك، جهرا: زجرا للفاعل لذلك يقول
، والعلة: هي قوله فيما سلف: فإن المساجد لم تبن لذلك وهل ينعقد البيع؟ قال الماوردي: إنه ينعقد اتفاقا.
(وعن حكيم بن حزام) بالحاء المهملة المكسورة والزاي. وحكيم صحابي كان من
أشراف قريش في الجاهلية والإسلام: أسلم عام الفتح، عاش مائة وعشرين سنة، ستين
في الجاهلية، وستين في الاسلام. وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وله أربعة أولاد صحابيون
كلهم: عبد الله، وخالد، ويحيى، وهشام (قال: قال رسول الله (ص): لا تقام
الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها) أي يقام القود فيها (رواه أحمد، وأبو داود بسند
ضعيف)، ورواه الحاكم، وابن السكن، وأحمد بن حنبل، والدارقطني، والبيهقي. وقال المصنف
في التلخيص: لا بأس بإسناده. والحديث دليل: على تحريم إقامة الحدود في المساجد، وعلى
تحريم الاستفادة فيها.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أصيب سعد) هو ابن معاذ بضم الميم
155

فعين مهملة بعد الألف ذال معجمة، هو أبو عمرو، سعد بن معاذ الأوسي، أسلم بالمدينة
بين العقبة الأولى والثانية، وأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل، وسماه رسول الله (ص)
سيد الأنصار، وكان مقداما مطاعا، شريفا في قومه، من كبار الصحابة، شهد بدرا وأحدا،
وأصيب يوم الخندق في أكحله، فلم يرقأ دمه حتى مات بعد شهر. توفي في شهر ذي القعدة
سنة خمس من الهجرة (يوم الخندق فضرب عليه رسول الله (ص))
أي نصب عليه (خيمة في المسجد ليعوده من قريب) أي ليكون مكانه قريبا منه
(ص)، فيعوده (متفق عليه). فيه دلالة على جواز النوم في المسجد، وبقاء المريض
فيه، وإن كان جريحا، وضرب الخيمة، وإن منعت من الصلاة.
(وعنها) أي عن عائشة (قالت: رأيت رسول الله (ص) يسترني،
وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد. الحديث. متفق عليه) قد بين في رواية
للبخاري: أن لعبهم كان بالدرق والحراب. وفي رواية لمسلم: يلعبون في المسجد بالحراب
وفي رواية للبخاري: وكان يوم عيد. فهذا يدل على جواز مثل ذلك في المسجد في يوم مسرة،
وقيل: إنه منسوخ بالقران والسنة. أما القران: فقوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر
فيها اسمه، وأما السنة فبحديث: جنبوا مساجدكم صبيانكم الحديث، وتعقب بأنه حديث
ضعيف، وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه ولا عرف التاريخ فيتم النسخ. وقد حكى
أن لعبهم كان خارج المسجد، وعائشة كانت في المسجد. وهذا مرود بما ثبت في بعض طرق
الحديث هذا أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد، فقال له النبي (ص): دعهم.
وفي ألفاظه أنه (ص) قال لعمر: لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة وأني
بعثت بحنيفية سمحة. وكأن عمر بنى على الأصل في تنزيه المساجد فبين له (ص)
أن التعمق والتشدد ينافي قاعدة شريعته (ص) من التسهيل والتيسير. وهذا يدفع
قول الطبري: إنه يغتفر للحبش ما لا يغتفر لغيرهم فيقر حيث ورد، ويدفع قول من قال: إن
اللعب بالحراب ليس لعبا مجردا، بل فيه تدريب الشجعان على مواضع الحروب والاستعداد للعدو،
ففي ذلك من المصلحة التي تجمع عامة المسلمين، ويحتاج إليها في إقامة الدين، فأجيز فعلها
في المسجد. وهذا وأما نظر عائشة إليهم وهم يلعبون وهي أجنبية، ففيه دلالة على الجواز نظر
المرأة إلى جملة الناس من دون تفصيل لافرادهم، كما تنظرهم إذا خرجت للصلاة في المسجد
وعند الملاقاة في الطرقات، ويأتي تحقيق هذه المسألة في محلها.
(وعنها) أي عائشة (أن وليدة) الوليدة الأمة (سوداء فكان لها خباء)
بكسر الخاء المعجمة وموحدة فهمزة ممدودة الخيمة من وبر أو غيره، وقيل: لا تكون إلا من
شعر (في المسجد فكانت تأتيني فتحدث عندي - الحديث متفق عليه). والحديث
برمته في البخاري عن عائشة: أو وليدة سوداء كان لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم
فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور قال: فوضعته أو وقع منها فمرت حدأة وهو
156

ملقي فحسبته لحما فخطفته، قالت فالتمسوه فلم يجدوه، فاتهموني به فجعلوا يفتشوني حتى
فتشوا قبلها، قالت: والله إني لقائمة معهم، إذ مرت الحدأة فألقته قالت:
فوقع بينهم، فجاءت إلى رسول الله (ص)
فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، فكانت تأتيني
فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس إلا قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من دارة الكفر نجاني
قالت عائشة: قلت لها: ما شأنك لا تقعدين إلا قلت هذا، فحدثتني بهذا الحديث، فهذا
الذي أشار إليه المصنف بقوله: الحديث. وفي الحديث دلالة على إباحة المبيت والمقيل
في المسجد لمن ليس له مسكن من المسلمين رجلا كان أو امرأة عند أمن الفتنة، وجواز ضرب
الخيمة له ونحوها.
(وعن أنس رضي الله عنه، قال رسول الله (ص): البصاق)
في القاموس البصاق كغراب والبساق والبزاق ماء الفم إذا خرج منه، وما دام فيه فهو ريق،
وفي لفظ للبخاري: البزاق، ولمسلم: التفل. (في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها متفق
عليه). الحديث دليل على أن البصاق في المسجد خطيئة والدفن يكفرها، وقد عارضه ما تقدم
من حديث: فليبصق عن يساره أو تحت قدمه. فإن ظاهره سواء كان في المسجد أو غيره.
قال النووي: عما عمومان، لكن الثاني مخصوص بما إذا لم يكن في المسجد ويبقى عموم
الخطيئة إذا كان في المسجد من دون تخصيص، وقال القاضي عياض: إنما يكون البصاق
في المسجد خطيئة إذا لم يدفنه، وأما إذا أراد دفنه فلا. وذهب إلى هذا أئمة من أهل الحديث،
ويدل له حديث أحمد، والطبراني بإسناد حسن، من حديث أبي أمامة مرفوعا: من تنخع في المسجد
فلم يدفنه فسيئة فإن دفنه فحسنه. فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر
عند مسلم مرفوعا: وجدت في مساوئ أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن، وهكذا فهم
السلف، ففي سنن سعيد بن منصور، وعن أبي عبيد بن الجراح: أنه تنخم في المسجد ليلة فنسى
أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها، وقال: الحمد لله،
حيث لم تكتب على خطيئة الليلة. فدل على أنه فهم أن الخطيئة مختصة بمن تركها وقدمنا
وجها من الجمع، وهو أن الخطيئة حيث كان التفل عن اليمين أو إلى جهة القبلة لا إذا كان
عن الشمال وتحت القدم، فالحديث هذا مخصص بذلك ومقيد به، قال الجمهور: والمراد:
أي من دفنها في تراب المسجد ورمله وحصاه، وقول من قال: المراد من دفنها
اخراجها من المسجد بعيد.
(وعنه) أي أنس، (قال رسول الله: لا تقوم الساعة
حتى يتباهى) يتفاخر، (الناس في المساجد) بأن يقول واحد في مسجدي أحسن من مسجدك
علوا وزينة وغير ذلك. (أخرجه الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة). الحديث من أعلام
157

النبوة وقوله: لا تقوم الساعة قد يؤخذ منه أنه من أشراطها والتباهي، إما بالقول كما عرفت،
أو بالفعل كأن يبالغ كل واحد في تزيين مسجده ورفع بنائه وغير ذلك. وفيه دلالة مفهمة
بكراهة ذلك، وأنه من أشراط الساعة، وأن الله لا يحب تشييد المساجد ولا عمارتها إلا بالطاعة.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
ما أمرت بتشييد المساجد أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان) وتمام الحديث قال
ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى. وهذا مدرج من كلام ابن عباس، كأنه
فهمه من الاخبار النبوية من أن هذه الأمة تحذو حذو بني إسرائيل. والتشييد رفع البناء
وتزيينه بالشيد، وهو الجص كذا في الشرح. والذي في القاموس: شاد الحائط يشيده طلاه
بالشيد وهو ما يطلى به الحائط من جص ونحوه وانتهى. فلم يجعل رفع البناء من مسماه.
والحديث ظاهر في الكراهة أو التحريم لقوله ابن عباس كما زخرفت اليهود والنصارى فإن
التشبه بهم محرم، وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس من الحر والبرد
وتزيينها يشغل القلوب عن الخشوع الذي هو روح جسم العبادة. والقول بأنه يجوز تزيين
المحراب باطل. قال المهدي في البحر: إن تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حل وعقد ولا
سكوت رضا أي من العلماء، وإنما فعله أهل الدول الجبابرة من غير مؤاذنة لاحد من
أهل الفضل وسكت المسلمون والعلماء من غير رضا، وهو كلام حسن وفي قوله (ص):
ما أمرت، إشعار بأنه لا يحسن ذلك فإنه لو كان حسنا لامره الله به (ص).
وأخرج البخاري، من حديث ابن عمر: أن مسجده (ص) كان
على عهده (ص) مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه
أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول الله (ص) باللبن
والجريد وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جدرانه بالأحجار
المنقوشة والجص وجعل عمدة من حجارة منقوشة وسقفه بالساج. قال ابن بطال: وهذا
يدل على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تحسينها، فقد كان عمر مع كثرة
الفتوحات في أيامه وكثرة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده
لان جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم عند عمارته: أكن الناس من المطر وإياك
أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، ثم كان عثمان والمال في زمنه أكثر فحسنه بما لا يقتضي
الزخرفة، ومع ذلك أنكر بعض الصحابة عليه، وأول من زخرف المساجد الوليد بن
عبد الملك، وذلك في أواخر عصر الصحابة وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): عرضت
على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد رواه أبو داود والترمذي
واستغربه وصححه ابن خزيمة) القذاة بزنة حصاة هي مستعملة في كل شئ يقع في البيت
وغيره إذا كان يسيرا، وهذا إجبار بأن ما يخرجه الرجل من المسجد وإن قل وحقر مأجور
158

فيه لان فيه تنظيف بيت الله وإزالة ما يؤذي المؤمنين ويفيد بمفهومه أن من الأوزار
إدخال القذاة إلى المسجد.
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين متفق عليه). الحديث نهى
عن جلوس الداخل إلى المسجد إلا بعد صلاته ركعتين وهما تحية المسجد. وظاهره وجوب
ذلك، وذهب الجمهور إلى أنه ندب واستدلوا بقوله (ص) للذي رآه يتخطى:
اجلس فقد آذيت، ولم يأمره بصلاتهما وبأنه قال (ص) لمن علمه الأركان
الخمسة فقال: لا أزيد عليها: أفلح إن صدق. الأول: مردود بأنه لا دليل على أنه لم يصلهما
فإنه يجوز أنه صلاهما في طرف المسجد، ثم جاء يتخطى الرقاب. والثاني: بأنه قد وجب غير
ما ذكر كصلاة الجنائز ونحوها ولا مانع من أنه وجب بعد قوله: لا أزيد واجبات وأعلمه
(ص) بها. ثم ظاهر الحديث أنه يصليهما في أي وقت شاء ووقت الكراهة،
وفيه خلاف وقررناه في حواشي شرح العمدة أنه لا يصليهما من دخل المسجد في أوقات
الكراهة، وقررنا أيضا أن وجوبهما هو الظاهر لكثرة الأوامر الواردة به وظاهره أنه إذا
جلس ولم يصلهما لا يشرع له أن يقوم فيصليهما، وقال جماعة: يشرع له التدارك، لما رواه
ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد، فقال له النبي (ص):
ركعت ركعتين قال: لا قال: قم فاركعهما. وترجم عليه ابن حبان تحية المسجد
لا تفوت بالجلوس، وكذلك ما يأتي من قصة سليك الغطفاني وقوله: ركعتين لا مفهوم له
في جانب الزيادة، بل في جانب القلة فلا تتأدى سنة التحية بركعة واحدة. قال في الشرح:
وقد أخرج من عموم المسجد المسجد الحرام فتحيته الطواف، وذلك لان النبي (ص)
بدأ فيه بالطواف. قلت: هكذا ذكره ابن القيم في الهدى. وقد يقال: إنه لم يجلس فلا تحية
للمسجد الحرام إذ التحية إنما تشرع لمن جلس، والداخل المسجد الحرام يبدأ بالطواف ثم
يصلي صلاة المقام فلا يجلس إلا وقد صلى نعم لو دخل المسجد الحرام وأراد القعود قبل
الطواف، فإنه يشرع له صلاة التحية كغيره من المساجد، وكذلك قد استثنوا صلاة العيد لأنه
(ص) لم يصل قبلها ولا بعدها، ويجاب عنه بأنه (ص) ما جلس
حتى يتحقق في حقه أنه ترك التحية، بل وصل إلى الجبانة أو إلى المسجد فإنه صلى العيد
في مسجده مرة واحدة، ولم يقعد بل وصل إلى المسجد ودخل في صلاة العيد، وأما الجنابة
فلا تحية لها إذ ليست بمسجد إذا، وأما إذا اشتغل الداخل بالصلاة كأن يدخل وقد أقيمت
الفريضة فيدخل فيها فإنها تجزئه عن ركعتي التحية، بل هو منهي عنها بحديث: إذا أقيمت
الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.
باب صفة الصلاة
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) قال): مخاطبا للمسئ
في صلاته وهو خلاد بن رافع، (إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء) تقدم أن إسباغ
159

الوضوء إتمامه، (ثم استقبل القبلة فكبر) تكبيرة الاحرام، (ثم اقرأ ما تيسر معك
من القرآن) فيه أنه لا يجب دعاء الاستفتاح، إذ لو وجب لامره به، وظاهره أنه يجزئه من
القرآن غير الفاتحة ويأتي تحقيقه، (ثم اركع حتى تطمئن راكعا) فيه إيجاب الرجوع
والاطمئنان فيه، (ثم ارفع) من الركوع، (حتى تعتدل قائما) من الركوع، (ثم اسجد
حتى تطمئن ساجدا) فيه أيضا وجوب السجود ووجوب الاطمئنان فيه، (ثم ارفع)
من السجود، (حتى تطمئن جالسا) بعد السجدة الأولى، (ثم اسجد) الثانية، (حتى تطمئن
ساجدا) كالأولى فهذه صفة ركعة من ركعات الصلاة قياما وتلاوة وركوعا واعتدالا
منه وسجودا وطمأنينة وجلوسا بين السجدتين ثم سجدة باطمئنان كالأولى، فهذه صفة ركعة
كاملة، (ثم افعل ذلك) أي جميع ما ذكر من الأقوال والأفعال إلا تكبيرة الاحرام، فإنها
مخصوصة بالركعة الأولى لما علم شرعا من عدم تكرارها (في صلاتك) في ركعات صلاتك،
(كلها. أخرجه السبعة) بألفاظ متقاربة، (و) هذا (اللفظ) الذي ساقه هنا (للبخاري)
وحده، (ولابن ماجة) أي من حديث أبي هريرة، (بإسناد مسلم) أي بإسناد رجاله رجال مسلم،
(حتى تطمئن قائما) عوضا من قوله في لفظ البخاري حتى تعتدل، فدل على إيجاب الاطمئنان
عند الاعتدال من الركوع، (ومثله) أي مثل ما أخرجه ابن ماجة ما في قوله. (في حديث رفاعة) بكسر الراء هو ابن رافع صحابي أنصاري شهد بدرا وأحدا
وسائر المشاهد مع رسول الله (ص)، وشهد مع علي عليه السلام الجمل وصفين
وتوفي أول إمارة معاوية، (عند أحمد وابن حبان) فإنه عندهما بلفظ (حتى تطمئن قائما،
وفي لفظ لأحمد: فأقم صلبك حتى ترجع العظام) أي التي انخفضت حال الركوع ترجع
إلى ما كانت عليه حال القيام للقراءة، وذلك بكمال الاعتدال، (وللنسائي) وأبي داود من حديث
(رفاعة بن رافع) أي مرفوعا، (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره
الله) في آية المائدة، (ثم يكبر الله) تكبيرة الاحرام (ويحمده) بقراءة الفاتحة إلا
أن قوله: (فإن كان معك قرآن) يشعر بأن المراد بقوله يحمده غير القراءة وهو دعاء
الافتتاح فيؤخذ منه وجوب مطلق الحمد والثناء بعد تكبيرة الاحرام، ويأتي الكلام في ذلك،
(ويثني عليه) بها (وفيه) أي في رواية النسائي وأبي داود عن رفاعة، (فإن كان معك
قرآن فاقرأ وإلا) أي وإن لم يكن معك قرآن، (فاحمد الله) أي ألفاظ الحمد الله والأظهر أن
يقول الحمد لله، (وكبره) بلفظ الله أكبر (وهلله) بقول لا إله إلا الله، فدل على أن هذه
عوض القراءة لمن ليس له قرآن يحفظه، (ولأبي داود) أي من رواية رفاعة، (ثم اقرأ بأم
الكتاب وبما شاء ولابن حبان ثم بما شئت). هذ حديث جليل يعرف بحديث
المسئ صلاته، وقد اشتمل على تعليم ما يجب في الصلاة، وما لا تتم به فدل على
وجوب الوضوء لكل قائم إلى الصلاة، وهو كما عليه الآية * (إذا قمتم إلى الصلاة)
160

والمراد لمن كان محدثا كما عرف من غيره، وقد فصل ما أجملته رواية البخاري: رواية النسائي
بلفظ: حتى يسبغ الوضوء، كما أمره الله، فيغسل وجهه، ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه، ورجليه
إلى الكعبين وهذا التفصيل دل: على عدم وجوب المضمضة والاستنشاق، ويكون هذا قرينة
على حمل الامر بهما - حيث ورد - على الندب، ودل على إيجاب استقبال القبلة قبل تكبيرة الاحرام،
وقد تقدم وجوبه، وبيان عفو الاستقبال للمتنفل الراكب. ودل على وجوب تكبيرة الاحرام،
وعلى تعيين ألفاظها رواية الطبراني لحديث رفاعة بلفظ: ثم يقول الله أكبر ورواية ابن ماجة
التي صححها ابن خزيمة، وابن حبان: من حديث أبي حميد: من فعله (ص): إذا قام
إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه ثم قال الله أكبر، ومثله: أخرجه البزار من حديث علي
عليه السلام، بإسناد صحيح على شرط مسلم: أنه (ص) كان إذا قام إلى الصلاة قال:
الله أكبر، فهذا يبين أن المراد من تكبيرة الاحرام: هذا اللفظ. ودل على وجوب قراءة القرآن
في الصلاة، سواء كان الفاتحة أو غيرها لقوله: ما تيسر معك من القران وقوله: فإن كان
معك قران، ولكن رواية أبي داود بلفظ: فاقرأ بأم الكتاب، وعند أحمد، وابن حبان: ثم اقرأ بأم القران ثم اقرأ
بما شئت، وترجم له ابن حبان: باب فرض المصلي فاتحة الكتاب في كل
ركعة، فمع تصريح الرواية بأم القران، يحمل قوله: ما تيسر معك على الفاتحة، لأنها كانت المتيسرة
لحفظ المسلمين لها، أو يحمل أنه (ص) عرف من حال المخاطب: أنه لا يحفظ
الفاتحة، ومن كان كذلك، وهو يحفظ غيرها، فله أن يقرأه، أو أنه منسوخ بحديث تعيين
الفاتحة، أو أن المراد: ما تيسر فيما زاد على الفاتحة، ويؤيده رواية أحمد، وابن حبان، فإنها عينت
الفاتحة، وجعلت ما تيسر لما عداها، فيحتمل أن الراوي حيث قال: ما تيسر، ولم يذكر الفاتحة،
ذهل عنها. ودل على إيجاب غير الفاتحة معها: لقوله: بأم الكتاب، وبما شاء الله، أو شئت. ودل على أن
من لم يحفظ القران يجزئه الحمد والتكبير والتهليل، وأنه لا يتعين عليه منه قدر مخصوص،
ولا لفظ مخصوص. وقد ورد تعيين الألفاظ بأن يقول: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم. ودل على وجوب الركوع، ووجوب الاطمئنان فيه. وفي لفظ لأحمد
بيان كيفيته فقال: فإذا ركعت، فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، ومكن ركوعك، وفي
رواية: ثم تكبر، وتركع حتى تطمئن مفاصلك وتسترخي. ودل على وجوب الرفع من
الركوع، وعلى وجوب الانتصاب قائما، وعلى وجوب الاطمئنان لقوله: حتى تطمئن
قائما. وقد قال المصنف: إنها بإسناد مسلم، وقد أخرجها السراج أيضا بإسناد على شرط
البخاري، فهي على شرط الشيخين. ودل على وجوب السجود والطمأنينة فيه. وقد فصلتها
رواية النسائي عن إسحاق بن أبي طلحة بلفظ: ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه وجبهته
حتى تطمئن مفاصله وتسترخي. ودل على وجوب القعود بين السجدتين. وفي رواية النسائي: ثم
يكبر، فيرفع رأسه حتى يستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه، وفي رواية: فإذا رفعت رأسك،
فاجلس على فخذك اليسرى، فدل على أن هيئة القعود بين السجدتين بافتراش اليسرى.
ودل على أنه يجب أن يفعل كل ما ذكر في بقية ركعات صلاته، إلا تكبيرة الاحرام، فإنه
161

معلوم: أن وجوبها خاص بالدخول في الصلاة أول ركعة. ودل على إيجاب القراءة في كل
ركعة، وعلى ما عرفت من تفسير ما تيسر بالفاتحة، فتجب الفاتحة في كل ركعة، وتجب قراءة ما شاء
معها في كل ركعة، ويأتي الكلام على إيجاب ما عدا الفاتحة في الاخرتين، والثالثة من المغرب.
واعلم أن هذا حديث جليل، تكرر من العلماء الاستدلال به على وجوب كل ما ذكر فيه،
وعدم وجوب كل ما لم يذكر فيه. أما الاستدلال على أن كل ما ذكر فيه واجب، فلانه
ساقه (ص) بلفظ الامر بعد قوله: لن تتم الصلاة إلا بما ذكر فيه. وأما الاستدلال
بأن كل ما لم يذكر فيه لا يجب، فلان المقام مقام تعليم الواجبات في الصلاة. فلو ترك ذكر
بعض ما يجب: لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز بالاجماع. فإذا حصرت
ألفاظ هذا الحديث الصحيح أخذ منها بالزائد، ثم إن عارض الوجوب الدال عليه ألفاظ
هذا الحديث، أو عدم الوجوب: دليل أقوى منه عمل به، وإن جاءت صيغة أمر بشئ لم يذكر
في هذا الحديث، احتمل أن يكون هذا الحديث قرينة على حمل الصيغة على الندب، واحتمل
البقاء على الظاهر، فيحتاج إلى مرجح للعمل به. ومن الواجبات المتفق عليها، ولم تذكر
في هذا الحديث: النية. قلت: كذا في الشرح. ولقائل أن يقول: قوله: إذا قمت إلى الصلاة دال
على إيجابها إذ ليس النية إلا القصد إلى فعل الشئ. وقوله: فتوضأ: أي قاصدا له. ثم قال:
والقعود الأخير: أي من الواجب المتفق عليه ولم يذكره في الحديث، ثم قال: ومن المختلف
فيه التشهد الأخير، والصلاة على النبي (ص) فيه، والسلام في اخر الصلاة.
(وعن أبي حميد) بصيغة التصغير (الساعدي) هو أبو حميد بن عبد الرحمن بن سعد
الأنصاري الخزرجي، الساعدي منسوب إلى ساعدة، وهو أبو الخزرج المدني، غلب عليه
كنيته، مات اخر ولاية معاوية. (قال: رأيت رسول الله (ص) إذا كبر)
أي للاحرام (جعل يديه) أي كفيه (حذو:) بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة
(منكبيه) وهذا هو رفع اليدين عند تكبيرة الاحرام (وإذا ركع أمكن يديه من
ركبتيه) تقدم بيانه: في رواية أحمد لحديث المسئ صلاته: فإذا ركعت فاجعل راحتيك
على ركبتيك، وامدد ظهرك، ومكن ركوعك (ثم هصر) بفتح الهاء فصاد مهملة مفتوحة
فراء (ظهره) قال الخطابي: أي ثناه في استواء من غير تقويس، وفي رواية للبخاري:
ثم حنى بالحاء المهملة والنون وهو بمعناه، وفي رواية: غير مقنع رأسه ولا مصوبه،
وفي رواية: وفرج بين أصابعه (فإذا رفع رأسه) أي من الركوع (استوى) زاد
أبو داود: - فقال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ورفع يديه، وفي رواية لعبد الحميد
زيادة: حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلا (حتى يعود كل فقار) بفتح الفاء والقاف اخره
راء جمع فقارة، وهي عظام الظهر، وفيها رواية بتقديم القاف على الفاء (مكانه) وهي التي
عبر عنها في حديث رفاعة بقوله: حتى ترجع العظام (فإذا سجد وضع يديه غير مفترش
162

أي لهما. وعند ابن حبان: غير مفترش ذراعيه، (ولا قابضهما) بأن يضمهما إليه (واستقبل
بأطراف أصابع رجليه القبلة) ويأتي بيانه في شرح حديث: أمرت أن أسجد على سبعة
أعظم (وإذا جلس في الركعتين) جلوس التشهد الأوسط (جلس على رجله اليسرى
ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة) للتشهد الأخير (قدم رجله اليسرى
ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته. أخرجه البخاري). حديث أبي حميد هذا روى
عنه قولا، وروى عنه فعلا، واصفا فيهما صلاته (ص). وفيه بيان صلاته (ص).
وأنه كان عند تكبيرة الاحرام يرفع يديه حذو منكبيه، ففيه دليل على أن ذلك
من أفعال الصلاة، وأن رفع اليدين مقارن للتكبير، وهو الذي دل عليه حديث وائل بن حجر
عند أبي داود، وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه، فورد بلفظ: رفع يديه ثم كبر،
وبلفظ كبر ثم رفع يديه. وللعلماء قولان: الأول: مقارنة الرفع للتكبير. والثاني: تقديم الرفع على
التكبير، ولم يقل أحد بتقديم التكبير على الرفع، فهذه صفته. وفي المنهاج وشرحه النجم
الوهاج: الأول: رفعه وهو الأصح مع ابتدائه، لما رواه الشيخان عن ابن عمر: أن النبي (ص
) كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر فيكون ابتداؤه مع ابتدائه، ولا
استصحاب في انتهائه، فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع، أو بالعكس أتم الاخر، فإن فرغ
منهما حط يديه، ولم يستدم الرفع. والثاني: يرفع غير مكبر ثم يكبر، ويداه قارتان، فإذا فرغ
أرسلهما، لان أبا داود رواه كذلك بإسناد حسن، وصحح هذا البغوي، واختاره الشيخ، ودليله
في مسلم في رواية ابن عمر. والثالث: يرفع مع ابتداء التكبير ويكون انتهاؤه مع انتهائه،
ويحطهما بعد فراغ التكبير، لا قبل فراغه، لان الرفع للتكبير، فكان معه، وصححه المصنف،
ونسبه إلى الجمهور. انتهى بلفظه، وفيه تحقيق الأقوال، وأدلتها، ودلت الأدلة أنه من العمل المخير فيه،
فلا يتعين شئ بحكمه. وأما حكمه فقال داود، والأوزاعي، والحميدي شيخ البخاري، وجماعة:
إنه واجب، لثبوته من فعله (ص)، فإنه قال المصنف: إنه روى رفع اليدين في أول
الصلاة خمسون صحابيا، منهم العشرة المشهود لهم الجنة. وروى البيهقي عن الحاكم قال: لا تعلم
سنة اتفق على روايتها عن رسول الله (ص) الخلفاء الأربعة، ثم العشرة المشهود لهم
بالجنة، فمن بعدهم من الصحابة، مع تفرقهم في البلاد الشاسعة: غير هذه السنة. قال البيهقي: هو
كما قال أستاذنا أبو عبد الله. قال الموجبون: قد ثبت الرفع عند تكبيرة الاحرام هذا الثبوت،
وقد قال (ص): صلوا كما رأيتموني أصلي فلذا قلنا بالوجوب. وقال غيرهم:
إنه سنة من سنن الصلاة وعليه الجمهور، وزيد بن علي، والقاسم، والناصر، والامام يحيى. وبه
قالت الأئمة الأربعة من أهل المذاهب، ولم يخالف فيه، ويقول: إنه ليس سنة، إلا الهادي، وبهذا
تعرف: أن من روى عن الزيدية: أنهم لا يقولون به، فقد عمم النقل بلا علم. هذا. وأما إلى
أي محل يكون الرفع، فرواية أبي حميد هذه تفيد: أنه إلى مقابل المنكبين، والمنكب مجمع رأس
عظم الكتف والعضد، وبه أخذت الشافعية، وقيل: إنه يرفع حتى يحاذي بهما فروع أذنيه،
163

لحديث وائل بن حجر بلفظ: حتى حاذى أذنيه وجمع بين الحديثين: بأن المراد أنه يحاذي
بظهر كفيه المنكبين، وبأطراف أنامله الاذنين، كما تدل له رواية لوائل عند أبي داود بلفظ: حتى
كانت حيال منكبيه ويحاذي بإبهاميه أذنيه. وقوله: أمكن يديه من ركبتيه قد فسر هذا
الامكان رواية أبي داود: كأنه قابض عليهما، وقوله: هصر ظهره تقدم قول الخطابي فيه،
وتقدم في رواية: ثم حنى بالحاء المهملة والنون، وهو بمعناه، وفي رواية غير مقنع رأسه
ولا مصوبه في رواية وفرج بين أصابعه وقد سبق. وقوله: حتى يعود كل فقار
المراد منه: كمال الاعتدال، وتفسره رواية: ثم يمكث قائما حتى يقع كل عضو موضعه. وفي
ذكره كيفية الجلوسين الجلوس الأوسط، والأخير: دليل على تغايرهما، وأنه في الجلسة الأخيرة
يتورك: أي يفضي بوركه إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى، وفيه خلاف بين العلماء
سيأتي، وبهذا الحديث عمل الشافعي، ومن تابعه.
(وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عن رسول الله (ص): أنه كان
إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات) أي قصدت
بعبادتي (إلى قوله: من المسلمين) وفيه روايتان: أن يقول: * (اهدنا الصراط المستقيم) * بلفظ الآية،
ورواية: وأنا من المسلمين، وإليها أشار المصنف (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت
ربي وأنا عبدك إلى اخره. رواه مسلم) تمامه: ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي
جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف
عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،
أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك. وقوله: فطر السماوات والأرض أي ابتدأ
خلقهما من غير مثال سبق. وقوله: حنيفا أي مائلا إلى الدين الحق، وهو الاسلام، وزيادة:
وما أنا من المشركين بيان للحنيف، وأيضا لمعناه، النسك: العبادة، وكل ما يتقرب به إلى الله،
وعطفه على الصلاة من عطف العام على الخاص. وقوله: ومحياي ومماتي أي حياتي وموتي
لله: أي هو المالك لهما والمختص بهما. وقوله: رب العالمين الرب: الملك، والعالمين جمع
عالم مشتق من العلم، وهو اسم لجميع المخلوقات، كذا قيل. وفي القاموس العالم: الخلق كله،
أو ما حواه بطن الفلك، ولا يجمع فاعل بالواو والنون غيره، وغير ياسم وقوله: لا شريك
له تأكيد لقوله: رب العالمين المفهوم منه الاختصاص. وقوله: اللهم أنت الملك أي المالك
لجميع المخلوقات. وقوله: ظلمت نفسي اعتراف بظلم نفسه، قدمه على سؤال المغفرة. ومعنى
(لبيك) أقيم على طاعتك، وامتثال أمرك إقامة متكررة وسعديك أي أسعد أمرك، وأتبعه
إسعادا متكررا. ومعنى الخير كله في يديك الاقرار بأن كل خير واصل إلى العباد، ومرجو
وصوله، فهو في يديه تعالى. ومعنى والشر ليس إليك أي ليس مما يتقرب إليك به: أي
يضاف إليك فلا يقال يا رب الشر، أو لا يصعد إليك، فإنه إنما يصعد إليه الكلم الطيب،
ومعنى أنا بك وإليك أي: التجائي وانتهائي إليك، وتوفيقي بك، ومعنى تباركت
164

استحققت الثناء، أو ثبت الخير عندك، فهذا ما يقال في الاستفتاح مطلقا. (وفي رواية له)
أي لمسلم: (أن ذلك) كان يقوله (ص) (في صلاة الليل)، ونقل المصنف
في التلخيص عن الشافعي، وابن خزيمة: أنه يقال في المكتوبة، وأن حديث علي عليه السلام
ورد فيها، فعلي كلامه هنا يحتمل أنه مختص بها هذا الذكر، ويحتمل أنه عام، وأنه يخير
العبد بين قوله عقيب التكبير، أو قول ما أفاده.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا
كبر في الصلاة) أي تكبيرة الاحرام (سكت هنيهة) بضم الهاء فنون فمثناة تحتية فهاء
مفتوحة فتاء: أي ساعة لطيفة (قبل أن يقرأ فسألته) أي عن سكوته ما يقول فيه: (فقال:
أقول: اللهم باعد ببين وبين خطاياي) المباعدة المراد بها: محو ما حصل منها، أو العصمة
عما يأتي منها (كما باعدت بين المشرق والمغرب) فكما لا يجتمع المشرق والمغرب، لا يجتمع
هو وخطاياه (اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)
بفتح الدال المهملة والنون فسين مهملة. في القاموس: أنه: الوسخ، والمراد: أزل عني الخطايا
بهذه الإزالة (اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) بالتحريك جمع بردة
قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد، أو لأنهما ماءان لم تستعملها الأيدي. وقال ابن
دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي تكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون
في غاية النقاء، وفيه أقوال أخر (متفق عليه). وفي الحديث دليل: على أنه يقول هذا الذكر بين
التكبيرة، والقراءة سرا، وأنه يخير العبد بين هذا الدعاء، والدعاء الذي في حديث علي عليه
السلام، أو يجمع بينهما.
(وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول:) أي بعد تكبيرة الاحرام (سبحانك
اللهم وبحمدك) أي أسبحك حال كوني متلبسا بحمدك (تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا
إله غيرك. رواه مسلم بسند منقطع). قال الحاكم: قد صح عن عمر. وقال في الهدي
النبوي: إنه قد صح عن عمر: أنه كان يستفتح به في مقام النبي (ص)، ويجهر
به، ويعلمه الناس، وهو بهذا الوجه في حكم المرفوع، ولذا قال الإمام أحمد: أما أنا فأذهب
إلى ما روي عن عمر، ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي لكان حسنا، وقد ورد
في التوجه بألفاظ كثيرة، والقول: بأنه يخير العبد بينها: قول حسن. وأما الجمع بين هذا وبين
وجهت وجهي الذي تقدم، فقد ورد في حديث ابن عمر رواه الطبراني في الكبير وفي رواته
ضعف (والدارقطني) عطف على مسلم: أي ورواه الدارقطني (موصولا وموقوفا) على عمر،
وأخرجه أبو داود، والحاكم من حديث عائشة مرفوعا: كان رسول الله (ص) إذا
استفتح الصلاة قال: سبحانك الحديث. ورجال إسناده ثقات، وفيه انقطاع، وأعله أبو داود.
وقال الدارقطني: ليس بالقوي.
(ونحوه) أي نحو حديث عمر (عن أبي سعيد مرفوعا عند الخمسة، وفيه: وكان
165

يقول بعد التكبير: أعوذ بالله السميع) لأقوالهم (العليم) بأقوالهم، وأفعالهم، وضمائرهم (من
الشيطان الرجيم) المرجوم (من همزه) المراد به الجنون (ونفخه) بالنون فالفاء فالخاء
المعجمة، والمراد به الكبر (ونفثه) بالنون والفاء والمثلثة المراد به: الشعر وكأنه أراد به الهجاء.
والحديث دليل: على الاستعاذة، وأنها بعد التكبيرة، والظاهر أنها أيضا بعد التوجه بالأدعية،
لأنها تعوذ القراءة، وهو قبلها.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يستفتح)
أي يفتتح (الصلاة بالتكبير) أي يقول: الله أكبر، كما ورد بهذا اللفظ في الحلية لأبي نعيم،
والمراد: تكبيرة الاحرام، ويقال لها تكبيرة الافتتاح (والقراءة) منصوب عطف على الصلاة:
أي ويستفتح القراءة (بالحمد) بضم الدال على الحكاية (لله رب العالمين، وكان إذا
ركع لم يشخص) بضم المثناة التحتية فشين فخاء معجمتان فصاد مهملة (رأسه) أي
لم يرفعه (ولم يصوبه) بضمها أيضا وفتح الصاد المهملة وكسر الواو المشددة (أي لم يخفضه
خفضا بليغا، بل بين الخفض والرفع، وهو التسوية، كما دل له قوله: (ولكن بين ذلك)
أي بين المذكور من الخفض والرفع (وكان إذا رفع) أي رأسه (من الركوع لم يسجد
حتى يستوي قائما) تقدم في حديث أبي هريرة في أول الباب ثم ارفع حتى تعتدل قائما
(وكان إذا رفع رأسه من السجود): أي الأول (لم يسجد) الثانية (حتى يستوي)
بينهما (جالسا) وتقدم: ثم ارفع حتى تطمئن جالسا (وكان يقول: في كل ركعتين)
أي بعدهما (التحية) أي يتشهد بالتحيات لله، كما يأتي. ففي الثلاثية والرباعية، المراد به: الأوسط،
وفي الثنائية: الأخير (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى) ظاهره: أن هذا
جلوسه في جميع الجلسات بين السجودين، وحال التشهدين. وتقدم في حديث أبي حميد: وإذا
جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى (وكان ينهى عن عقبة
الشيطان) بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة، ويأتي تفسيرها (وينهى أن يفترش
الرجل ذراعيه افتراش السبع) بأن يبسطهما في سجوده، وفسر السبع: بالكلب، وورد
في رواية: بلفظه، (وكان يختم الصلاة بالتسليم. أخرجه مسلم، وله علة) وهي: أنه أخرجه
مسلم من رواية أبي الجوزاء بالجيم والزاي عن عائشة. قال ابن عبد البر: هو مرسل، أبو الجوزاء
لم يسمع من عائشة. وأعل أيضا: بأنه أخرجه مسلم من طريق الأوزاعي مكاتبة. والحديث فيه
دلالة: على تعيين التكبير عند الدخول في الصلاة، وتقدم الكلام فيه: في حديث أبي هريرة
أول الباب: واستدل بقولها: والقراءة بالحمد: على أن البسملة ليست من الفاتحة، وهو قول
أنس، وأبي من الصحابة، وقال به مالك، وأبو حنيفة، وآخرون، وحجتهم هذا الحديث. وقد
أجيب عنه: بأن مرادها بالحمد لله رب العالمين: السورة نفسها، لا هذا اللفظ،
فإن الفاتحة تسمى بالحمد لله رب العالمين، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، فلا حجة فيه
على أن البسملة ليست من الفاتحة، ويأتي الكلام عليه مستوفى في حديث أنس قريبا. وتقدم
166

الكلام على أنه في ركوعه لا يرفع رأسه، ولا يخفضه، كما تقدم على قوله وكان إذا رفع رأسه
إلى قوله: وكان يقول: التحية والمراد بها: الثناء المعروف بالتحيات لله: الآتي لفظه في حديث
ابن مسعود إن شاء الله تعالى، ففيه شرعية التشهد الأوسط، والأخير. ولا يدل على الوجوب،
لأنه فعل، إلا أن يقال: إنه بيان لاجمال الصلاة في القران: المأمور بها وجوبا، والأفعال لبيان
الواجب واجبة، أو يقال: بإيجاب أفعال الصلاة لقوله (ص): صلوا كما
رأيتموني أصلي وقد اختلف في التشهدين، فقيل: واجبان، وقيل: سنتان، وقيل: الأول سنة،
والأخير واجب، ويأتي الكلام في حديث ابن مسعود إن شاء الله تعالى: على التشهد الأخير.
وأما الأوسط، فإنه استدل من قال بالوجوب بهذا الحديث كما قررناه، وبقوله (ص):
إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله الحديث. ومن قال: بأنها سنة، استدل بأنه (ص)
لما سها عنه، لم يعد لأدائه، وجبره بسجود السهو، ولو وجب لم يجبره سجود السهو،
كالركوع وغيره من الأركان، وقد رد هذا الاستدلال: بأنه يجوز أن يكون الوجوب مع
الذكر، فإن نسي حتى دخل في فرض اخر: جبره سجود السهو. وفي قولها: وكان يفرش
رجله اليسرى وينصب اليمنى ما يدل على أنه كان جلوسه (ص) بين السجدتين،
وحال التشهد، وقد ذهب إليها الهادوية، والحنفية، ولكن حديث أبي حميد الذي تقدم فرق بين
الجلوسين، فجعل هذا صفة الجلوس بعد الركعتين، وجعل صفة الجلوس الأخير: تقديم رجله اليسرى،
ونصب الأخرى، والقعود على مقعدته. وللعلماء خلاف في ذلك، والظاهر: أنه من الأفعال المخير
فيها. وفي قولها: ينهى عن عقبة الشيطان أي في القعود، وفسرت بتفسيرين: أحدهما
أنه يفترش قدميه ويجلس بأليتيه على عقبيه، ولكن هذه القعدة اختارها العبادلة في القعود
غير الأخير، وهذه تسمى إقعاء، وجعلوا المنهي عنه هو الهيئة الثانية، وتسمى أيضا إقعاء
وهي أن يلصق الرجل أليتيه في الأرض، وينصب ساقيه وفخذيه، ويضع يديه على الأرض، كما
يقعى الكلب. وافتراش الذراعين تقدم أنه: بسطهما على الأرض حال السجود، وقد نهى
(ص) عن التشبه بالحيوانات، نهى عن بروك: كبروك البعير، والتفات: كالتفات
الثعلب، وافتراش: كافتراش السبع، واقعاء: كإقعاء الكلب، ونقر: كنقر الغراب، ورفع
الأيدي وقت السلام كأذناب خيل شمس. وفي قولها: وكان يختم الصلاة بالتسليم دلالة
على شرعية التسليم، وأما إيجابه فيستدل له بما قدمناه سابقا.
(وعن ابن عمر: أن النبي (ص) كان يرفع يديه حذو) بفتح
الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة: أي مقابل (منكبيه إذا افتتح الصلاة) تقدم
في حديث أبي حميد الساعدي (وإذا كبر للركوع) رفعهما (وإذا رفع رأسه) أي أراد
أن يرفعه (من الركوع. متفق عليه). فيه شرعية رفع اليدين في هذه الثلاثة المواضع. أما
عند تكبيرة الاحرام، فتقدم فيه الكلام. وأما عند الركوع والرفع منه، فهذا الحديث دل على
مشروعية ذلك. قال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الأمصار على ذلك، إلا أهل الكوفة.
167

قلت: والخلاف فيه للهادوية مطلقا في المواضع الثلاثة. واستدل للهادي في البحر بقوله (ص)
مالي أراكم. الحديث. قلت: وهو إشارة إلى حديث جابر بن سمرة، أخرجه
مسلم، وأبو داود، والنسائي، ولفظه عنه قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله (ص)،
قلنا بأيدينا: السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيديه إلى الجانبين، فقال رسول الله (ص
): علام تومئون بأيديكم. مالي أرى أيديكم، كأذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة،
وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه: عن يمينه وشماله انتهى بلفظه،
وهو حديث صريح في أنه كان ذلك في إيمائهم بأيديهم عند السلام، والخروج من الصلاة،
وسببه صريح في ذلك. وأما قوله: اسكنوا في الصلاة فهو عائد إلى ما أنكره عليهم: من الايماء
إلى كل حركة في الصلاة: فإنه معلوم أن الصلاة مركبة من حركات، وسكون، وذكر الله.
قال المقبلي في المنار على كلام الإمام المهدي: إن كان هذا غفلة من الامام إلى هذا الحد،
فقد أبعد، وإن كان مع معرفته حقيقة الامر فهو أورع وأرفع من ذلك. والاكثار في هذا
لجاج مجرد، وأمر الرفع أوضح من أن تورد له الأحاديث المفردات، وقد كثرت كثرة لا توازى،
وصحت صحة لا تمنع، ولذا لم يقع الخلاف المحقق فيه إلا للهادي فقط، فهي من النوادر التي
تقع لافراد العلماء، مثل مالك، والشافعي، وغيرهما، ما أحد منهم إلا له نادرة، ينبغي أن تغمر
في جنب فضله، وتجتنب، انتهى. وخالفت الحنفية فيما عدا الرفع عند تكبيرة الاحرام، واحتجوا
برواية مجاهد: أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك، وبما أخرجه أبو داود من حديث
ابن مسعود: بأنه رأى النبي (ص) يرفع يديه عند الافتتاح، ثم لا يعود، وأجيب
بأن الأول فيه أبو بكر بن عياش، وقد ساء حفظه، ولأنه معارض برواية نافع، وسالم ابن
عمر لذلك، وهما مثبتان، ومجاهد ناف، والمثبت مقدم، وبأن تركه لذلك إذا ثبت، كما رواه
مجاهد، يكون مبينا لجوازه، وأنه لا يراه واجبا، وبأن الثاني وهو حديث ابن مسعود لم يثبت كما قال
الشافعي، ولو ثبت لكانت رواية ابن عمر مقدمة عليه، لأنها إثبات، وذلك نفي، والاثبات
مقدم. وقد نقل البخاري عن الحسن، وحميد بن هلال: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال
البخاري: ولم يستثن الحسن أحدا، ونقل عن شيخه علي بن المديني أنه قال: حق على
المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع، والرفع منه، لحديث ابن عمر، هذا. وزاد البخاري
في موضع اخر بعد كلام ابن المديني: وكان علي أهم أهل زمانه، قال: ومن زعم أنه
بدعة فقد طعن في الصحابة، ويدل له قوله:
(وفي حديث أبي حميد، عند أبي داود: يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه.
ثم يكبر). تقدم حديث أبي حميد من رواية البخاري، لكن ليس فيه ذكر الرفع إلا عند
تكبيرة الاحرام، بخلاف حديثه عند أبي داود، ففيه إثبات الرفع في الثلاثة المواضع، كما أفاده
حديث ابن عمر، ولفظه عند أبي داود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قام إلى
الصلاة اعتدل قائما، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى
يحاذي بهما منكبيه الحديث، تمامه: ثم قال الله أكبر، وركع، ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه
168

ولم يقنع، ووضع يديه على ركبتيه، ثم قال: سمع الله لمن حمد، ورفع يديه، واعتدل حتى رجع
كل عظم إلى موضعه معتدلا. الحديث. فأفاد رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه في الثلاثة
المواضع. وكان على المصنف أن يقول بعد قوله ثم يكبر: الحديث، ليفيد: أن الاستدلال به
جميعه، فإنه قد يتوهم أن حديث أبي حميد ليس فيه إلا الرفع عند تكبيرة الاحرام، كما أن قوله:
(ولمسلم عن مالك بن الحويرث: نحو حديث ابن عمر) أي الرفع في الثلاثة
المواضع (لكن قال: حتى يحاذي بهما) أي اليدين (فروع أذنيه) أطرافهما. فخالف
رواية ابن عمر، وأبي حميد في هذا اللفظ. فذهب البعض إلى ترجيح رواية ابن عمر، لكونها
متفقا عليها، وجمع آخرون بينهما فقالوا: يحاذي بظهر كفيه المنكبين، وبأطراف أنامله
الاذنين، وأيدوا ذلك برواية أبي داود عن وائل بلفظ: حتى كانت حيال منكبيه، وحاذى
بإبهاميه أذنيه، وهذا جمع حسن.
(وعن وائل) بفتح الواو وألف فهمزة، هو أبو هنيد بضم الهاء وفتح النون (ابن
حجر) بن ربيعة الحضرمي، كان أبوه من ملوك حضرموت، وفد وائل على النبي صلى الله
عليه وسلم، فأسلم، ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه قبل قدومه فقال
يقدم عليكم وائل بن حجر من أرض بعيدة، طائعا، راغبا في الله عز وجل وفي رسوله، وهو
بقية أبناء الملوك، فلما دخل عليه صلى الله عليه وسلم رحب به وأدناه من نفسه، وبسط له
رداءه فأجلسه عليه وقال: اللهم بارك على وائل وولده، واستعمله على الأقيال من حضرموت، روى
له الجماعة، إلا البخاري، وعاش إلى زمن معاوية، وبايع له. (قال: صليت مع رسول الله:
صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره: أخرجه
ابن خزيمة)، وأخرج أبو داود والنسائي بلفظ: ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ
والساعد، الرسغ: بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة: هو المفصل بين الساعد والكف.
والحديث: دليل على مشروعية الوضع المذكور في الصلاة، ومحله على الصدر، كما أفاد هذا
الحديث، وقال النووي في المنهاج ويجعل يديه تحت صدره. قال في شرح النجم الوهاج
عبارة الأصحاب تحت صدره يريد، والحديث بلفظ: على صدره قال: وكأنهم جعلوا التفاوت
بينهما يسيرا، وقد ذهب إلى مشروعيته زيد بن علي، وأحمد بن عيسى. وروى أحمد بن عيسى
حديث وائل هذا في كتابه الأمالي، وإليه ذهبت الشافعية، والحنفية. وذهبت الهادوية إلى عدم
مشروعيته، وأنه يبطل الصلاة لكونه فعلا كثيرا. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي (ص)
فيه خلاف، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين. قال: وهو الذي ذكره مالك
في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر، وغيره عن مالك غيره، وروى عن مالك الارسال، وصار
إليه أكثر أصحابه.
(وعن عبادة) بضم العين المهملة وتخفيف الموحدة وبعد الألف دال مهملة،
وهو أبو الوليد عبادة (بن الصامت) بن قيس الخزرجي الأنصاري السالمي، كان من نقباء
الأنصار، وشهد العقبة الأولى، والثانية، والثالثة، وشهد بدرا، والمشاهد كلها، وجهه عمر إلى
169

الشام قاضيا، ومعلما، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين، ومات بها في الرملة، وقيل: في بيت
المقدس سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. (قال قال رسول الله (ص
): لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القران. متفق عليه) هو دليل على نفي الصلاة
الشرعية إذا لم يقرأ فيها المصلي بالفاتحة، لان الصلاة مركبة من أقوال وأفعال، والمركب
ينتفي بانتفاء جميع أجزائه، وبانتفاء البعض، ولا حاجة إلى تقدير نفي الكمال، لان التقدير إنما
يكون عند تعذر صدق نفي الذات، إلا أن الحديث الذي أفاده قوله: (وفي رواية لابن حبان،
والدارقطني: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) فيه دلالة: على أن النفي متوجه
إلى الاجزاء، وهو كالنفي للذات في المال، لان ما لا يجزئ، فليس بصلاة شرعية. والحديث
دليل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، ولا يدل على إيجابها في كل ركعة، بل في الصلاة
جملة، وفيه احتمال أنه في كل ركعة، لان الركعة تسمى صلاة، وحديث المسئ صلاته
قد دل على أن كل ركعة تسمى صلاة، لقوله (ص) بعد أن علمه ما يفعله في ركعة:
وافعل ذلك في صلاتك كلها فدل على إيجابها في كل ركعة، لأنه أمر أن يقرأ فيها
بفاتحة الكتاب، وإلى وجوبها في كل ركعة ذهبت الشافعية، وغيرهم. وعند الهادوية،
وآخرين: أنها لا تجب قراءتها في كل ركعة، بل في جملة الصلاة. والدليل ظاهر مع أهل
القول الأول. وبيانه من وجهين: الأول: أن في بعض ألفاظه بعد تعليمه صلى الله عليه
وسلم له ما ذكره: من القراءة، والركوع، والسجود، والاطمئنان إلى اخره، أنه قال الراوي:
فوصف أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة هكذا أربع ركعات، حتى فرغ،
ثم قال: لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك ومعلوم أن المراد من قوله يفعل ذلك، أي
كل ما ذكره من القراءة بأم الكتاب، وغيرها في كل ركعة لقوله: فوصف الصلاة هكذا أربع
ركعات. والثاني: أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم مع القراءة: من صفات الركوع،
والسجود، والاعتدال، ونحوه: مأمور به في كل ركعة، كما يفيده هذا الحديث. والمخالف في قراءة الفاتحة
في كل ركعة، لا يقول - إنه يكفي الركوع والسجود والاطمئنان في ركعة واحدة من صلاته، أو
يفرقها في ركعاتها، فكيف يقول: إن القراءة بالفاتحة تنفرد من بين هذه المأمورات بأنها لا تجب
إلا في ركعة واحدة، أو يفرق بين الركعات؟ وهذا تفريق بين أجزاء الدليل بلا دليل فتعين
حينئذ أن المراد من قوله: ثم افعل ذلك في صلاتك كلها: في ركعاتها، ثم رأيت بعد كتبه
أنه أخرج أحمد، والبيهقي، وابن حبان بسند صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال لخلاد بن رافع وهو
المسئ صلاته: ثم اصنع ذلك في كل ركعة، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها
في كل ركعة، كما رواه مسلم، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي. ثم ظاهر الحديث وجوب
قراءتها في سرية وجهرية: للمنفرد، والمؤتم. أما المنفرد فظاهر، وأما المؤتم فدخوله في ذلك واضح،
وزاده إيضاحا في قوله: (وفي أخرى) من رواية عبادة (لأحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن حبان:
لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه
170

لا صلاة لمن لم يقرأ بها)، فإنه دليل على إيجاب قراءة الفاتحة خلف الامام تخصيصا، كما دل
اللفظ الذي عند الشيخين بعمومه، وهو أيضا ظاهر في عموم الصلاة: الجهرية، والسرية، وفي
كل ركعة أيضا، وإلى هذا مذهب الشافعية. وذهبت الهادوية: إلى أنه لا يقرؤها المؤتم خلف
إمامه في الجهرية إذا كان يسمع قراءته، ويقرؤها في السرية، وحيث لا يسمع في الجهرية.
وقالت الحنفية: لا يقرؤها المأموم في سرية ولا جهرية، وحديث عبادة: حجة على الجميع.
واستدلالهم بحديث: من صلى خلف الامام فقراءة الامام قراءة له مع كونه ضعيفا. قال المصنف
في التلخيص: بأنه مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة، كلها معلولة
انتهى، وفي المنتهى: رواه الدارقطني من طرق كلها ضعاف، والصحيح أنه مرسل، لا يتم به
الاستدلال، لأنه عام. لان لفظ قراءة الإمام اسم جنس مضاف يعم كل ما يقرؤه الامام،
وكذلك قوله تعالى: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) *، وحديث: إذا قرأ فأنصتوا، فإن
هذه عمومات في الفاتحة وغيرها، وحديث عبادة خاص بالفاتحة فيخص به العام. ثم
اختلف القائلون بوجوب قراءتها خلف الامام، فقيل، في محل سكتاته بين الآيات، وقيل:
في سكوته بعد تمام قراءة الفاتحة، ولا دليل على هذين القولين في الحديث، بل حديث عبادة
دال أنها تقرأ عند قراءة الإمام الفاتحة، ويزيده إيضاحا ما أخرجه أبو داود من حديث عبادة
أنه صلى خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القران، فلما انصرفوا
من الصلاة، قال لعبادة بعض من سمعه يقرأ سمعتك تقرأ بأم القران وأبو نعيم يجهر، قال: أجل،
صلى بنا رسول الله (ص) بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة. قال: فالتبست
عليه القراءة، فلما فرغ أقبل علينا بوجهه فقال: هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة؟ فقال
بعضنا: نعم، إنا نصنع ذلك، قال: فلا، وأنا أقول: مالي ينازعني القران، فلا تقرأوا بشئ إذا
جهرت إلا بأم القران. فهذا عبادة راوي الحديث قرأ بها جهرا خلف الامام، لأنه فهم من
كلامه (ص): أنه يقرأ بها خلف الامام جهرا، وإن نازعه. وأما أبو هريرة، فإنه
أخرج عنه أبو داود: أنه لما حدث بقوله (ص): من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم
القران، فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج، غير تمام. قال له الراوي عنه، وهو أبو السائب مولى هشام
بن زهرة يا أبا هريرة إني أكون أحيانا وراء الامام، فغمز ذراعه، وقال: اقرأ بها يا فارسي
في نفسك. الحديث. وأخرج عن مكحول: أنه كان يقول: اقرأ في المغرب، والعشاء، والصبح
بفاتحة الكتاب، وفي كل ركعة سرا، ثم قال مكحول: اقرأ بها فيما جهر به الامام إذا قرأ
بفاتحة الكتاب وسكت سرا، فإن لم يسكت قرأتها قبله، ومعه، وبعده، لا تتركها على حال. وقد
أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أنه أمره (ص): أن ينادي في المدينة: أنه
لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب، فما زاد، وفي لفظ: إلا بقران، ولو بفاتحة الكتاب، فما زاد، إلا
أنه يحمل على المنفرد، جمعا بينه وبين حديث عبادة: الدال على أنه لا يقرأ خلف الامام إلا بفاتحة
الكتاب.
(وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي (ص)، وأبا بكر، وعمر
171

كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العض المين) أي: القراءة في الصلاة بهذا اللفظ (متفق
عليه). ولا يتم هنا أن يقال: ما قلناه في حديث عائشة: أن المراد بالحمد لله رب العالمين السورة،
فلا يدل على حذف البسملة، بل يكون دليلا عليها، إذ هي من مسمى السورة لقوله: (زاد مسلم:
لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، في أول قراءة، ولا في اخرها) زيادة في المبالغة
في النفي، وإلا فإنه ليس في اخرها بسملة، ويحتمل أن يريد بآخرها: السورة الثانية التي تقرأ بعد الفاتحة.
والحديث دليل: على أن الثلاثة كانوا لا يسمعون من خلفهم لفظ البسملة عند قراءة الفاتحة جهرا، مع
احتمال أنهم يقرءون البسملة سرا، ولا يقرأونها أصلا، إلا أن قوله: (وفي رواية) أي عن أنس
(لأحمد، والنسائي، وابن خزيمة لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) يدل بمفهومه أنهم
يقرأونها سرا، ودل قوله: (وفي أخرى) أي رواية أخرى عن أنس (لابن خزيمة: كانوا
يسرون) فمنطوقه أنهم كانوا يقرءون بها سرا، ولذا قال المصنف: (وعلى هذا) أي على
قراءة النبي (ص)، وأبي بكر، وعمر البسملة سرا (يحمل النفي في رواية مسلم) حيث
قال: لا يذكرون: أي: لا يذكرونها جهرا (خلافا لمن أعلها) أي أبدى علة لما زاده مسلم،
والعلة هي: أن الأوزاعي روى هذه الزيادة عن قتادة مكاتبة، وقد ردت هذه العلة: بأن الأوزاعي
لم ينفرد بها، بل قد رواها غيره رواية صحيحة. والحديث قد استدل به من يقول: إن البسملة
لا يجهر بها في الفاتحة، ولا في غيرها، بناء على أن قوله: وفي اخرها مراد به أول السورة الثانية،
ومن أثبتها قال: المراد: أنه لم يجهر بها الثلاثة حال جهرهم بالفاتحة، بل يقرأونها سرا، كما قرره
المصنف. وقد أطال العلماء في هذه المسألة الكلام، وألف فيها بعض الاعلام، وبين أن حديث
أنس مضطرب. قال ابن عبد البر في الاستذكار: بعد سرده روايات حديث أنس هذه
ما لفظه: هذا الاضطراب لا تقوم معه حجة لاحد من الفقهاء الذين يقرؤون بسم الله الرحمن
الرحيم، والذين لا يقرؤونها. وقد سئل عن ذلك أنس فقال: كبرت سني ونسيت انتهى،
فلا حجة فيه. والأصل: أن البسملة من القران. وطال الجدال بين العلماء من الطوائف،
لاختلاف المذاهب، والأقرب أنه (ص) كان يقرأ بها تارة جهرا وتارة خفيا
وقد استوفينا البحث في حواشي شرح العمدة بما لا زيادة عليه. واختار جماعة من المحققين: أنها
مثل سائر آيات القران، يجهر بها فيما يجهر فيه، ويسر بها فيما يسر فيه. وأما الاستدلال بكونه
(ص) لم يقرأ بها في الفاتحة، ولا في غيرها في صلاته، على أنها ليست باية، والقراءة
بها تدل على أنها اية، فلا ينهض، لان ترك القراءة بها في الصلاة لو ثبت لا يدل على نفي قرآنيتها،
فإنه ليس الدليل على القرآنية الجهر بالقراءة بالآية في الصلاة، بل الدليل أعم من ذلك،
وإذا انتفى الدليل الخاص، لم ينتف الدليل العام.
(وعن نعيم) بضم النون وفتح العين المهملة مصغر (المجمر) بضم الميم وسكون
الجيم وكسر الميم وبالراء، ويقال: وتشديد الميم الثانية، ذكره الحلبي في شرح العمدة، هو
أبو عبد الله مولى عمر بن الخطاب، سمع من أبي هريرة، وغيره، وسمى مجمرا، لأنه أمر أن يجمر
مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار (قال: صليت وراء أبي هريرة، فقرأ بسم الله
172

الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القران، حتى إذا بلغ ولا الضالين قال: امين ويقول كلما
سجد، وإذا قام من الجلوس) أي: التشهد الأوسط، وكذلك إذا قام من السجدة الأولى،
والثانية (الله أكبر) وهو تكبير النقل (ثم يقول) أي أبو هريرة: (إذا سلم والذي نفسي
بيده) أي: روحي في تصرفه (إني لأشبهكم صلاة برسول الله (ص). رواه
النسائي وابن خزيمة). وذكره البخاري تعليقا وأخرجه السراج، وابن حبان، وغيرهم، وبوب عليه
النسائي: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو أصح حديث ورد في ذلك، فهو مؤيد للأصل،
وهو كون البسملة حكمها: حكم الفاتحة في القراءة: جهرا، وإسرارا، إذ هو ظاهر في أنه كان (ص)
يقرأ بالبسملة، لقول أبي هريرة: إني لأشبهكم صلاة برسول الله (ص)،
وإن كان محتملا: أنه يريد: في أكثر أفعال الصلاة، وأقوالها، إلا أنه خلاف الظاهر، ويبعد من
الصحابي: أن يبتدع في صلاته شيئا: لم يفعله رسول الله (ص) فيها، ثم يقول: والذي
نفسي بيده إني لأشبهكم. وفيه دليل: على شرعية التأمين للامام، وقد أخرج الدارقطني في
السنن من حديث وائل بن حجر: سمعت رسول الله (ص) إذا قال: غير المغضوب
عليهم ولا الضالين. قال: امين يمد بها صوته وقال: إنه حديث وعن صحيح، ودليل على تكبير
النقل، ويأتي ما فيه مستوفى، في حديث أبي هريرة
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
قرأتم الفاتحة فاقرءوا: بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها إحدى آياتها رواه الدارقطني،
وصوب وقفه). لا يدل الحديث هذا على الجهر بها، ولا الاسرار، بل يدل على الامر بمطلق
قراءتها، وقد ساق الدارقطني في السنن له أحاديث: في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة
واسعة مرفوعة عن علي عليه السلام، وعن عمار، وعن ابن عباس، وعن ابن عمرو وعن أبي هريرة،
وعن أم سلمة، وعن جابر، وعن أنس بن مالك، ثم قال بعد سرد أحاديث هؤلاء، وغيرهم
ما لفظه: وروى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم: عن النبي (ص): من أصحابه،
ومن أزواجه غير من سمينا، كتبنا أحاديثهم بذلك في كتاب الجهر بها مفردا، واقتصرنا على
ما ذكرنا هنا، طلبا للاختصار، والتخفيف، انتهى لفظه. والحديث دليل: على قراءة البسملة، وأنها
إحدى آيات الفاتحة، وتقدم الكلام في ذلك.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا فرغ
من قراءة أم القران رفع صوته وقال: امين. رواه الدارقطني وحسنه، والحاكم، وصححه)
قال الحاكم: إسناده صحيح على شرطهما، وقال البيهقي: حسن صحيح. والحديث دليل
على أنه يشرع للامام التأمين بعد قراءة الفاتحة جهرا، وظاهره في الجهرية وفي السرية،
وبشرعيته قالت الشافعية. وذهبت الهادوية: إلى عدم شرعيته، لما يأتي. وقالت الحنفية: يسر
بها في الجهرية. ولمالك قولان: الأول: كالحنفية، والثاني: أن لا يقولها. والحديث حجة بينة
للشافعية. وليس في الحديث تعرض لتأمين المأموم، والمنفرد. وقد أخرج البخاري في شرعية
التأمين للمأموم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إذا أمن
173

الامام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر الله ما تقدم من ذنبه وأخرج أيضا من
حديثه قال: قال رسول الله (ص): إذا قال الامام ولا الضالين فقولوا: امين
الحديث، وأخرج أيضا من حديثه مرفوعا: إذا قال أحدكم: امين، وقالت الملائكة
في السماء: امين، فوافق أحدهما الاخر غفر الله له ما تقدم من ذنبه، فدلت الأحاديث على
شرعيته للمأموم، والأخير يعم المنفرد، وقد حمله الجمهور من القائلين به على الندب، وعن
بعض أهل الظاهر: أنه للوجوب، عملا بظاهر الامر، فأوجبوه على كل مصل. واستدلت الهادوية:
على أنه بدعة مفسدة للصلاة بحديث: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس،
الحديث، ولا يتم به الاستدلال، لان هذا قام الدليل على أنه من أذكار الصلاة، كالتسبيح،
ونحوه، وكلام الناس المراد به: مكالمتهم، ومخاطبتهم، كما عرفت.
(ولأبي داود والترمذي من حديث وائل بن حجر نحوه). أي نحو حديث أبي هريرة
ولفظه في السنن: إذا قرأ الامام ولا الضالين قال: امين، ورفع بها صوته، وفي لفظ له عنه:
أنه صلى خلف رسول الله (ص)، فجهر بآمين وآمين بالمد والتخفيف في جميع
الروايات، وعن جميع القراء، وحكى فيها لغات، ومعناها: اللهم استجب، وقيل: غير ذلك
(وعن عبد الله بن أبي أوفى
) هو أبو إبراهيم، أو محمد، أو معاوية، واسم أبي أوفى، علقمة بن قيس بن الحرث الأسلمي، شهد الحديبية، وخيبر وما بعدهما، ولم يزل في المدينة
حتى قبض (ص)، فتحول إلى الكوفة، ومات بها، وهو اخر من مات بالكوفة من الصحابة.
(قال: جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: إني لا أستطيع أن اخذ من القران
شيئا، فعلمني ما يجزئني عنه، فقال: قل: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله
أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الحديث) بالنصب: أي أتم الحديث.
وتمامه في سنن أبي داود: قال: أي الرجل: يا رسول الله هذا لله فما لي؟ قال: قل: اللهم
ارحمني وارزقني وعافني واهدني، فلما قام، قال هكذا بيديه، فقال رسول الله (ص):
أما هذا فقد ملا يديه من الخير انتهى. إلا أنه ليس في سنن أبي داود العلي العظيم.
(رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والدارقطني، والحاكم). الحديث دليل على أن
هذه الأذكار قائمة مقام القراءة للفاتحة، وغيرها، لمن لا يحسن ذلك، وظاهره: أنه لا يجب عليه
تعلم القران ليقرأ به في الصلاة، فإن معنى لا أستطيع: لا أحفظ الآن منه شيئا، فلم يأمره بحفظه،
وأمره بهذه الألفاظ، مع أنه يمكنه حفظ الفاتحة، كما يحفظ هذه. وقد تقدم في حديث المسئ
صلاته.
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين) بياءين تثنية أولى (بفاتحة
الكتاب) أي في كل ركعة منهما (وسورتين) أي: يقرؤهما في كل ركعة سورة (ويسمعنا
الآية أحيانا) وكأنه من هنا علموا مقدار قراءته (ويطول الركعة الأولى) يجعل السورة
فيها أطول من التي في الثانية (ويقرأ في الأخريين) تثنية أخرى (بفاتحة الكتاب)،
من غير زيادة عليها (متفق عليه). فيه دليل: على شرعية قراءة الفاتحة في الأربع الركعات
174

في كل واحدة، وقراءة سورة معها في كل ركعة من الأوليين، وأن هذا كان عادته عليه
الصلاة والسلام، كما يدل له: كان يصلي، إذ هي عبارة تفيد الاستمرار غالبا. وإسماعهم الآية أحيانا دليل
على أنه لا يجب الاسرار في السرية، وأن ذلك لا يقتضي سجود السهو، وفي قوله أحيانا
ما يدل على أنه تكرر ذلك منه (ص). وقد أخرج النسائي من حديث البراء قال: كنا
نصلي خلف النبي (ص) الظهر، ونسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان،
والذاريات وأخرج ابن خزيمة من حديث أنس نحوه، ولكن قال: سبح لله اسم ربك الأعلى،
وهل أتاك حديث الغاشية. وفي الحديث دليل على تطويل الركعة الأولى، ووجهه: ما أخرجه
عبد الرزاق في اخر حديث أبي قتادة هذا: وظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة
الأولى، وأخرج أبو داود من حديث عبد الرزاق عن عطاء: أني لأحب أن يطول الامام
الركعة الأولى. وقد ادعى ابن حبان أن التطويل إنما هو بترتيل القراءة فيها مع استواء المقروء.
وقد روى مسلم من حديث حفصة: كان يرتل السورة، حتى تكون أطول من أطول منها
وقيل: إنما طالت الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ، وأما القراءة فيها فهما سواء. وفي حديث
أبي سعيد الآتي: ما يرشد إلى ذلك، وقال البيهقي: يطول في الأولى إن كان ينتظر أحدا، وإلا
فيسوى بين الأوليين. وفيه دليل: على أنه لا يزاد في الأخريين على الفاتحة، وكذلك الثالثة
في المغرب، وإن كان مالك قد أخرج في الموطأ من طريق الصنابحي أنه سمع أبا بكر يقرأ
فيها * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) *. الآية وللشافعي: قولان في استحباب قراءة السورة
في الأخريين. وفيه دليل على جواز أن يخبر الانسان بالظن، وإلا فمعرفة القراءة بالسورة لا طريق
فيه إلى اليقين، وإسماع الآية أحيانا لا يدل على قراءة كل السورة، وحديث أبي سعيد الآتي
يدل على الاخبار عن ذلك بالظن. وكذا حديث خباب حين سئل: بم كنتم تعرفون قراءة
النبي (ص) في الظهر والعصر؟ قال: باضطراب لحيته ولو كانوا يعلمون قراءته
فيهما بخبر عنه (ص) لذكروه.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نحزر) بفتح النون وسكون
الحاء المهملة وضم الزاي نخرص ونقدر، وفي قوله: كنا نحزر: ما يدل على أن المقدرين
لذلك جماعة. وقد أخرج ابن ماجة رواية: أن الحازرين ثلاثون رجلا من الصحابة (قيام
رسول الله (ص) في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين
من الظهر قدر ألم تنزيل السجدة) أي في كل ركعة بعد قراءة الفاتحة (وفي الأخريين
قدر النصف من ذلك) فيه دلالة على قراءة غير الفاتحة معها في الأخريين، ويزيده
دلالة على ذلك قوله (وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر)،
ومعلوم أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر سورة غير الفاتحة (والأخريين) أي من العصر
(على النصف من ذلك) أي من الأوليين منه (رواه مسلم). الأحاديث في هذا قد اختلفت،
فقد ورد أنها: كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي
إلى أهله، فيتوضأ، ويدرك النبي (ص) في الركعة الأولى، مما يطيلها أخرجه مسلم،
175

والنسائي عن أبي سعيد. وأخرج أحمد، ومسلم من حديث أبي سعيد أيضا: أن النبي (ص)
كان يقرأ في صلاة الظهر، في الركعتين الأوليين، في كل ركعة، قدر ثلاثين اية، وفي
الأخريين قدر خمس عشرة اية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر: في الركعتين الأوليين: في كل
ركعة قدر خمس عشرة اية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك هذا لفظ مسلم. وفيه
دليل على أنه لا يقرأ في الأخريين من العصر إلا الفاتحة، وأنه يقرأ في الأخريين من الظهر
غيرها معها. وتقدم حديث أبي قتادة: أنه (ص) كان يقرأ في الأخريين من
الظهر بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانا. وظاهره أنه لا يزيد على أم الكتاب فيهما، ولعله
أرجح من حديث أبي سعيد، من حيث الرواية، لأنه اتفق عليه الشيخان من حيث الرواية، ومن
حيث الدراية، لأنه إخبار مجزوم به، وخبر أبي سعيد انفرد به مسلم، ولأنه خبر عن حزر
وتقدير وتظنن، ويحتمل أن يجمع بينهما: بأنه (ص) كان يصنع هذا تارة،
فيقرأ في الأخريين غير الفاتحة معها ويقتصر فيهما أحيانا، فتكون الزيادة عليها فيهما سنة،
تفعل أحيانا، وتترك أحيانا.
(وعن سليمان بن يسار) هو أبو أيوب سليمان بن يسار بفتح المثناة التحتية
وتخفيف السين المهملة، وهو مولى ميمونة: أم المؤمنين، وأخو عطاء بن يسار من أهل المدينة،
وكبار التابعين. كان فقيها فاضلا، ثقة عابدا، ورعا حجة، وهو أحد الفقهاء السبعة (قال:
كان فلان) في شرح السنة للبغوي: أن فلانا يريد به: أميرا كان على المدينة. قيل: اسمه عمرو
بن سلمة، وليس هو عمر بن عبد العزيز، كما قيل، لان ولادة عمر بن عبد العزيز كانت
بعد وفاة أبي هريرة والحديث مصرح: بأن أبا هريرة صلى خلف فلان هذا (يطيل
الأوليين في الظهر ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل). اختلف
في أول المفصل. فقيل: إنها من الصافات، أو الجاثية، أو القتال، أو الفتح، أو الحجرات، أو الصف،
أو تبارك، أو سبح، أو الضحى، واتفق أن منتهاه اخر القران (وفي العشاء بوسطه، وفي الصبح
بطواله، فقال أبو هريرة: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله (ص)
من هذا. أخرجه النسائي بإسناد صحيح). قال العلماء: السنة أن يقرأ في الصبح
والظهر بطوال المفصل، ويكون الصبح أطول، وفي العشاء والعصر بأوسطه، وفي المغرب
بقصاره. قالوا: والحكمة في تطويل الصبح والظهر: أنهما وقتا غفلة بالنوم في اخر الليل، والقائلة،
فطولهما ليدركهما المتأخرون لغفلة، أو نوم، ونحوهما، وفي العصر ليست كذلك، بل هي في وقت
الأعمال فخفت لذلك، وفي المغرب: لضيق الوقت، فاحتيج إلى زيادة تخفيفها، ولحاجة الناس
إلى عشاء صائمهم وضيفهم، وفي العشاء لغلبة النوم، ولكن وقتها واسع، فأشبهت العصر، هكذا
قالوه، وستعرف اختلاف أحوال صلاته (ص) مما يأتي، بما لا يتم به هذا التفصيل.
(وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه) تقدم ضبطهما، وبيان حال جبير (قال:
سمعت رسول الله (ص): يقرأ في المغرب بالطور. متفق عليه). قد بين في فتح
الباري: أن سماعه لذلك كان قبل إسلامه، وهو دليل على أن المغرب لا يختص بقصار المفصل،
176

وقد ورد: أنه (ص) قرأ في المغرب بالمص، وأنه قرأ فيها بالصافات، وأنه قرأ فيها
بحم الدخان، وأنه قرأ فيها سبح اسم ربك الأعلى، وأنه قرأ فيها والتين والزيتون، وأنه قرأ
فيها بالمعوذتين، وأنه قرأ فيها بالمرسلات، وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل، وكلها أحاديث
صحيحة. وأما المداومة في المغرب على قصار المفصل، فإنما هو فعل مروان بن الحكم، وقد أنكر
عليه زيد بن ثابت، وقال له: مالك تقرأ بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله (ص)
يقرأ في المغرب بطولى الطوليين تثنية طولى، والمراد بهما: الأعراف، والانعام،
والأعراف أطول من الانعام، إلى هنا أخرجه البخاري: وهي الأعراف. وقد أخرج النسائي:
أنه (ص) فرق الأعراف في ركعتي المغرب. وقد قرأ في العشاء بالتين
والزيتون، ووقت لمعاذ فيها بالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى
ونحوه والجمع بين هذه الروايات: أنه وقع ذلك منه (ص) باختلاف الحالات،
والأوقات، والاشغال، عدما ووجودا.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) يقرأ
في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة) أي في الركعة الأولى (وهل
أتى على الانسان) أي في الثانية (متفق عليه). فيه دليل على أن ذلك كان دأبه (ص)
في تلك الصلاة، وزاد استمراره على ذلك بيانا قوله:
(وللطبراني من حديث ابن مسعود يديم ذلك). أي يجعله عادة دائمة له.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية: السر في قراءتهما في صلاة فجر يوم الجمعة: أنهما تضمنتا
ما كان، وما يكون في يومهما، فإنهما اشتملتا على خلق ادم، وعلى ذكر المعاد، وحشر العباد،
وذلك يكون في يوم الجمعة، ففي قراءتهما تذكير للعباد بما كان فيه، ويكون. قلت: ليعتبروا
بذكر ما كان، ويستعدوا لما يكون.
(وعن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي (ص) فما
مرت به اية رحمة إلا وقف عندها يسأل) أي يطلب من الله رحمته (ولا اية
عذاب إلا تعوذ منها) مما ذكر فيها (أخرجه، وحسنه الترمذي). في الحديث دليل
على أنه ينبغي للقارئ في الصلاة تدبر ما يقرؤه، وسؤال رحمته، والاستعاذة من عذابه، ولعل
هذا كان في صلاة الليل، وإنما قلنا ذلك، لان حديث حذيفة مطلق، وورد تقييده بحديث
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: سمعت رسول الله (ص) يقرأ في صلاة
ليست بفريضة، فمر بذكر الجنة والنار فقال: أعوذ بالله من النار ويل لأهل النار رواه
أحمد، وابن ماجة بمعناه، وأخرج أحمد عن عائشة: قمت مع رسول الله (ص)
ليلة التمام، فكان يقرأ بالبقرة، والنساء، وال عمران، ولا يمر باية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل،
واستعاذ، ولا يمر باية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل، ورغب إليه. وأخرج النسائي،
وأبو داود، من حديث عوف بن مالك: قمت مع رسول الله (ص)، فبدأ، فاستاك،
وتوضأ، ثم قام فصلى، فاستفتح البقرة، لا يمر باية رحمة إلا وقف، فسأل، ولا يمر باية عذاب إلا
177

وقف، وتعوذ الحديث، وليس لأبي داود ذكر السواك، والوضوء. فهذا كله في النافلة، كما هو
صريح الأول، وفي قيام الليل، كما يفيده الحديثان الآخران، فإنه لم يأت عنه (ص)
في رواية قط: أنه أم الناس بالبقرة، وال عمران: في فريضة أصلا. ولفظ: قمت يشعر أنه
في الليل، فتم ما ترجينا بقولنا: ولعل هذا في صلاة الليل باعتبار ما ورد، فلو فعله أحد
في الفريضة، فلعله لا بأس فيه، ولا يخل بصلاته، سيما إذا كان منفردا، لئلا يشق على غيره إذا
كان إماما، وقولها: ليلة التمام في القاموس: ليلة التمام ككتاب، وليل تمام: أطول ليالي الشتاء،
أو هي ثلا ث لا يستبان نقصانها، أو هي إذا بلغت اثنتي عشرة ساعة فصاعدا. انتهى.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص): ألا
وإني نهيت أن أقرأ القران راكعا أو ساجدا) فكأنه قيل: فماذا تقول فيهما؟ فقال: (فأما
الركوع فعظموا فيه الرب) قد بين كيفية هذا التعظيم حديث مسلم عن حذيفة: فجعل
يقول، أي: رسول الله (ص): سبحان ربي العظيم (وأما السجود فاجتهدوا
في الدعاء فقمن) بفتح القاف وكسر الميم، ومعناه: حقيق (أن يستجاب لكم. رواه
مسلم). الحديث دليل على تحريم قراءة القرآن حال الركوع والسجود، لان الأصل في النهي
التحريم، وظاهره وجو ب تسبيح الركوع، ووجوب الدعاء في السجود، للامر بهما. وقد
ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، وطائفة من المحدثين. وقال الجمهور: أنه مستحب، لحديث
المسئ صلاته، فإنه لم يعلمه (ص) ذلك، ولو كان واجبا لامره به، ثم ظاهر
قوله: فعظموا فيه الرب: أنها تجزئ المرة الواحدة، ويكون بها ممتثلا ما أمر به. وقد أخرج
أبو داود من حديث ابن مسعود: إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم،
وذلك أدناه ورواه الترمذي، وابن ماجة، إلا أنه قال أبو داود: فيه إرسال، وكذا قال البخاري،
والترمذي، وفي قوله: ذلك أدناه: ما يدل على أنها لا تجزئ المرة الواحدة. والحديث دليل على
مشروعية الدعاء حال السجود، بأي دعاء كان: من طلب خيري الدنيا والآخرة، والاستعاذة من
شرهما، وأنه محل الإجابة، وقد بين بعض الأدعية ما أفاده قوله:
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) يقول
في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك) الواو للعطف والمعطوف عليه
ما يفيده ما قبله، والمعطوف متعلق بحمدك، والمعنى: أنزهك وأتلبس بحمدك، ويحتمل أن
تكون للحال، والمراد: أسبحك، وأنا متلبس بحمدك: أي حال كوني متلبسا به (اللهم
اغفر لي. متفق عليه). الحديث ورد بألفاظ منها: أنها قالت عائشة: (ما صلى النبي (ص)
بعد أن أنزلت عليه إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول: سبحانك ربنا وبحمدك،
اللهم اغفر لي). والحديث دليل: على أن هذا من أذكار الركوع والسجود، ولا ينافيه حديث:
أما الركوع فعظموا في الرب، لان هذا الذكر زيادة على ذلك التعظيم، الذي كان يقوله
(ص)، فيجمع بينه وبين هذا. وقوله: اللهم اغفر لي امتثال لقوله تعالى: فسبح
بحمد ربك واستغفره، وفيه مسارعته (ص) إلى امتثال ما أمره الله به، قياما بحق
178

العبودية، وتعظيما لشأن الربوية، زاده الله شرفا وفضلا، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا
قام إلى الصلاة) أي إذا قام فيها (يكبر) أي: تكبيرة الاحرام (حين يقوم) فيه
دليل: على أنه لا يتوجه ولا يصنع قبل التكبيرة شيئا (ثم يكبر حين يركع) تكبيرة النقل
(ثم يقول سمع الله لمن حمده) أي أجاب الله من حمده، فإن من حمد الله تعالى متعرضا
لثوابه، استجاب الله له، وأعطاه ما تعرض له، فناسب بعده أن يقول: ربنا ولك الحمد (حين
يرفع صلبه من الركوع) فهذا في حال أخذه في رفع صلبه من هويه للقيام (ثم يقول:
وهو قائم ربنا ولك الحمد) بإثبات الواو للعطف على مقدر: أي ربنا أطعناك وحمدناك،
أو للحال، أو زائدة، وورد في رواية: بحذفها، وهي نسخة في بلوغ المرام (ثم يكبر حين
يهوى ساجدا) تكبير النقل (ثم يكبر حين يرفع رأسه) أي من السجود الأول (ثم
يكبر حين يسجد) أي السجدة الثانية (ثم يكبر حين يرفع) أي من السجدة الثانية
. هذا كله تكبير النقل (ثم يفعل ذلك) أي ما ذكر، ما عدا التكبيرة الأولى التي للاحرام
(في الصلاة) أي: ركعاتها (كلها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس (للتشهد)
الأوسط (متفق عليه). الحديث دليل على شرعية ما ذكر فيه من الأذكار. فأما أول التكبير
فهي تكبيرة الاحرام، وقد تقدم الدليل على وجوبها من غير هذا الحديث. وأما ما عداها
من التكبير الذي وصفه، فقد كان وقع من بعض أمراء بني أمية تركه تساهلا، ولكنه استقر
العمل من الأمة على فعله: في كل خفض، ورفع: في كل ركعة خمس تكبيرات، كما عرفته من
لفظ هذا الحديث، ويزيد في الرباعية، والثلاثية: تكبير النهوض من التشهد الأوسط، فيتحصل
في المكتوبات الخمس بتكبيرة الاحرام أربع وتسعون تكبيرة، ومن دونها تسع وثمانون
تكبيرة. واختلف العلماء في حكم تكبير النقل فقيل: إنه واجب، وروي قولا لأحمد
بن حنبل، وذلك لأنه (ص) داوم عليه، وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي.
وذهب الجمهور: إلى ندبه، لأنه (ص) لم يعلمه المسئ صلاته، وإنما علمه تكبيرة
الاحرام، وهو موضع البيان للواجب، ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. وأجيب عنه بأنه
قد أخرج تكبيرة النقل في حديث المسئ أبو داود من حديث رفاعة بن رافع، فإنه ساقه، وفيه
ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع وذكر فيه قول: سمع الله لمن حمده وبقية تكبيرات النقل،
وأخرجها الترمذي، والنسائي، ولذا ذهب أحمد، وداود إلى وجوب تكبير النقل. وظاهر قوله:
يكبر حين كذا، وحين كذا: أن التكبير يقارن هذه الحركات، فيشرع في التكبير عند ابتدائه
للركن. وأما القول: بأنه يمد التكبير حتى يمد الحركة، كما في الشرح وغيره، فلا وجه له، بل يأتي
باللفظ من غير زيادة على أدائه، ولا نقصان منه. وظاهر قوله: ثم يقول سمع الله لمن حمده
ربنا ولك الحمد: أنه يشرع ذلك لكل مصل: من إمام ومأموم، إذ هو حكاية لمطلق صلاته
(ص)، وإن كان يحتمل أنه حكاية لصلاته (ص) إماما، إذ المتبادر
179

من الصلاة عند إطلاقها: الواجبة، وكانت صلاته (ص) الواجبة جماعة، وهو
الامام فيها، إلا أنه لو فرض هذا، فإن قوله (ص): صلوا كما رأيتموني أصلي:
أمر لكل مصل أن يصلي، كصلاته (ص): من إمام ومنفرد. وذهبت الشافعية
، والهادوية، وغيرهم إلى: أن التسميع مطلقا: لمتنفل، أو مفترض: وللامام، والمنفرد، والحمد للمؤتم، لحديث
إذا قال الامام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد أخرجه أبو داود. وأجيب بأن قوله
إذا قال الامام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد لا ينفي قول المؤتم: سمع الله لمن حمده،
وإنما يدل على أنه يقول المؤتم: ربنا لك الحمد عقب قول الإمام: سمع الله لمن حمده، والواقع هو ذلك،
لان الامام يقول: سمع الله لمن حمده في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله،
واستفيد الجمع بينهما من الحديث الأول. قلت: لكن أخرج أبو داود عن الشعبي: لا يقول
المؤتم خلف الامام: سمع الله لمن حمده، ولكن يقول: ربنا لك الحمد، ولكنه موقوف على الشعبي،
فلا تقوم به حجة. وقد ادعى الطحاوي، وابن عبد البر الاجماع على كون المنفرد يجمع بينهما،
وذهب آخرون إلى أنه يجمع بينهما الامام والمنفرد، ويحمد المؤتم. قالوا: والحجة جمع الامام
بينهما، لاتحاد حكم الامام والمنفرد.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص)
إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم) لم أجد لفظ اللهم في مسلم في رواية
أبي سعيد، ووجدتها في رواية ابن عباس (ربنا لك الحمد ملء) بنصب الهمزة على
المصدرية، ويجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف (السماوات والأرض) وفي سنن أبي داود وغيره
وملء الأرض وهي في رواية ابن عباس عند مسلم، فهذه الرواية كلها ليست لفظ
أبي سعيد، لعدم وجود اللهم في أوله، ولا لفظ ابن عباس لوجود ملء الأرض فيها (وملء
ما شئت من شئ بعد) بضم الدال على البناء للقطع عن الإضافة، ونية المضاف إليه
(أهل) بنصبه على النداء، أو رفعه: أي أنت أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد) بالرفع خبر مبتدأ
محذوف، وما مصدرية، تقديره هذا: أي قوله: اللهم لك الحمد، أحق قول العبد وإنما لم يجعل
: لا مانع لما أعطيت خبرا وأحق مبتدأ، لأنه محذوف في بعض الروايات، فجعلناه جملة
استئنافية، إذا حذف تم الكلام من دون ذكره. وفي الشرح: جعل أحق مبتدأ وخبره لا مانع
لما أعطيت. وفي شرح المهذب نقلا عن ابن الصلاح معناه: أحق ما قال العبد قوله: لا مانع
لما أعطيت إلى اخره، وقوله: وكلنا لك عبد اعتراض بين المبتدأ والخبر. قال: أو يكون
قوله: أحق ما قال العبد خبرا لما قبله: أي قوله: ربنا لك الحمد إلى اخره أحق ما قال العبد.
قال: والأول أولى. قال النووي: لما فيه من كمال التفويض إلى الله تعالى، والاعتراف بكمال
قدرته وعظمته وقهره وسلطانه، وانفراده بالوحدانية، وتدبير مخلوقاته انتهى (ما قال العبد
وكلنا لك عبد) ثم استأنف فقال: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما
منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. رواه مسلم). الحديث دليل على مشروعية
هذا الذكر في هذا الركن لكل مصل، وقد جعل الحمد كالأجسام، وجعله سادا لما ذكره
180

من الظروف، مبالغة في كثرة الحمد، وزاد مبالغة بذكر ما يشاؤه تعالى، مما لا يعلمه العبد، والثناء:
الوصف بالجميل والمدح والمجد والعظمة ونهاية الشرف، والجد بفتح الجيم معناه الحظ: أي
لا ينفع ذا الحظ من عقوبتك حظه، بل ينفعه العمل الصالح، وروى بالكسر للجيم، أي
لا ينفعه جده واجتهاده، وقد ضعفت رواية الكسر.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص):
أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين،
والركبتين، وأطراف القدمين متفق عليه). وفي رواية: أمرنا أي: أيها الأمة، وفي
رواية: أمر النبي (ص) والثلاث الروايات: للبخاري، وقوله: وأشار بيده إلى
أنفه فسرتها رواية النسائي. قال ابن طاوس: وضع يده على جبهته، وأمرها على أنفه، وقال: هذا
واحد قال القرطبي: هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود، والأنف تبع لها. قال
ابن دقيق العيد: معناه: أنه جعلهما كأنهما عضو واحد، وإلا لكانت الأعضاء ثمانية.
والمراد من اليدين: الكفان، وقد وقع بلفظهما في رواية، والمراد من قوله: وأطراف القدمين:
أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما: وعقباه مرتفعتان، فيستقبل بظهور قدميه القبلة.
وقد ورد هذا في حديث أبي حميد في صفة السجود، وقيل: يندب ضم أصابع اليدين، لأنها لو
انفرجت انحرفت رؤوس بعضها عن القبلة، وأما أصابع الرجلين، فقد تقدم في حديث أبي حميد
الساعدي في باب صفة الصلاة بلفظ: واستقبل بأصابع رجليه القبلة. هذا. والحديث دليل
على وجوب السجود على ما ذكر، لأنه ذكر (ص) بلفظ الاخبار عن أمر الله له،
ولأمته، والامر لا يرد إلا بنحو صيغة أفعل، وهي تفيد الوجوب. وقد اختلف في ذلك،
فالهادوية وأحد قولي الشافعي: أنه للوجوب: لهذا الحديث، وذهب أبو حنيفة: إلى أنه يجزئ
السجود على الانف فقط، مستدلا بقوله: وأشار بيده إلى أنفه. قال المصنف في فتح الباري:
وقد احتج لأبي حنيفة بهذا: في السجود على الانف، قال ابن دقيق العيد: والحق أن مثل هذا
لا يعارض: التصريح بالجبهة، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد، فذلك في التسمية والعبارة،
لا في الحكم الذي دل عليه. انتهى.
واعلم أنه وقع هنا في الشرح: أنه ذهب أبو حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وأكثر الفقهاء إلى: أن
الواجب الجبهة فقط، لقوله: (ص) في حديث المسئ صلاته، ومكن جبهتك،
فكان قرينة على حمل الامر هنا على غير الوجوب. وأجيب عنه: بأن هذا لا يتم إلا بعد معرفة
تقدم هذا على حديث المسئ صلاته، ليكون قرينة على حمل الامر على الندب، وأما لو فرض
تأخره لكان في هذا زيادة شرع، ويمكن أن تتأخر شرعيته، ومع جهل التاريخ: يرجح العمل
بالموجب لزيادة الاحتياط، كذا قاله الشارح، وجعل السجود على الجبهة والأنف مذهبا
للعترة، فحولنا عبارته إلى الهادوية، مع أنه ليس مذهبهم إلا السجود على الجبهة فقط، كما
في البحر وغيره. ولفظ الشرح هنا: والحديث فيه دلالة على وجوب السجود على ما ذكر
فيه، وقد ذهب إلى هذا العترة، وأحد قولي الشافعي: انتهى. وعرفت أنه وهم في قوله: إن
181

أبا حنيفة يوجبه على الجبهة، فإنه يجيزه عليها، أو على الانف، وأنه مخير في ذلك: ثم ظاهره
وجوب السجود على العضو جميعه، ولا يكفي بعض ذلك، والجبهة يضع منها على الأرض
ما أمكنه بدليل وتمكن جبهتك. وظاهره أنه لا يجب كشف شئ من هذه الأعضاء، لان
مسمى السجود عليها يصدق بوضعها من دون كشفها، ولا خلاف أن كشف الركبتين غير
واجب، لما يخاف من كشف العورة. واختلف في الجبهة. فقيل: يجب كشفها، لما أخرجه أبو داود
في المراسيل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأى رجلا يسجد على جنبه، وقد اعتم
على جبهته، فحسر عن جبهته، إلا أنه قد علق البخاري عن الحسن: كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على عمامته،
ووصله البيهقي، وقال: هذا أصح ما في السجود موقوفا على الصحابة، وقد وردت أحاديث
: أنه (ص) كان يسجد على كور عمامته من حديث ابن عباس: أخرجه
أبو نعيم في الحلية، وفي إسناده ضعف، ومن حديث ابن أبي أوفى: أخرجه الطبراني في الأوسط،
وفيه ضعف، ومن حديث جابر: عند ابن عدي، وفيه متروكان، ومن حديث أنس: عند
ابن أبي حاتم في العلل، وفيه ضعف. وذكر هذه الأحاديث وغيرها البيهقي ثم قال: أحاديث
كان يسجد على كور عمامته لا يثبت فيها شئ يعني: مرفوعا. والأحاديث من الجانبين
غير ناهضة على الايجاب، وقوله: سجد على جبهته يصدق على الامرين وإن كان مع عدم
الحائل أظهر، فالأصل جواز الامرين. وأما حديث خباب: شكونا إلى رسول الله (ص)
حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا الحديث. فلا دلالة فيه على كشف
هذه الأعضاء، ولا عدمه، وفي حديث أنس عند مسلم: أنه كان أحدهم يبسط ثوبه من
شدة الحر، ثم يسجد عليه، ولعل هذا مما لا خلاف فيه، والخلاف في السجود على محموله، فهو
محل النزاع، وحديث أنس محتمل.
(وعن ابن بحينة) هو عبد الله بن مالك بن بحينة بضم الباء الموحدة وفتح الحاء
المهملة، وسكون المثناة التحتية وبعدها نون، وهو اسم لام عبد الله، واسم أبيه: مالك بن القشب
بكسر القاف وسكون الشين المعجمة فموحدة الأزدي. مات عبد الله في ولاية معاوية بين
سنة أربع وخمسين وثمان وخمسين: (أن النبي (ص) كان إذا صلى وسجد فرج)
بفتح الفاء وتشديد الراء اخره جيم (بين يديه) أي باعد بينهما: أي نحى كل يد عن
الجنب الذي يليها (حتى يبدو بياض إبطيه، متفق عليه). الحديث دليل على فعل هذه
الهيئة في الصلاة. قيل: والحكمة في ذلك: أن يظهر كل عضو بنفسه ويتميز، حتى يكون الانسان
الواحد في سجوده، كأنه عدد. ومقتضى هذا أن يستقل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض
الأعضاء على بعض. وقد ورد هذا المعنى مصرحا به فيما أخرجه الطبراني، وغيره: من حديث
ابن عمر بإسناد ضعيف أنه قال: لا تفترش افتراش السبع، واعتمد على راحتيك، وأبد ضبعيك،
فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك. وعند مسلم من حديث ميمونة: كان النبي (ص)
182

يجافي بيديه، فلو أن بهيمة أرادت أن تمر مرت. وظاهر الحديث الأول، وهذا،
مع قوله (ص): صلوا كما رأيتموني أصلي يقتضي الوجوب، ولكنه قد أخرج
أبو داود من حديث أبي هريرة: ما يدل على أن ذلك غير واجب بلفظ: شكا أصحاب النبي
(ص) له مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: استعينوا بالركب " وترجم له
: (الرخصة في ترك التفريج) قال ابن عجلان أحد رواته وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه
إذا أطال السجود، وقوله: حتى يرى بياض إبطيه ليس فيه، كما قيل دلالة: على أنه لم يكن
(ص) لابسا القميص، لأنه وإن كان لابسا فإنه قد يبدو منه أطراف إبطيه،
لأنها كانت أكمام قمصان أهل ذلك العصر غير طويلة، فيمكن أن يرى الإبط من كمها،
ولا دلالة فيه: على أنه لم يكن على إبطيه شعر، كما قيل، لأنه يمكن أن المراد يرى أطراف
إبطيه، لا باطنهما حيث الشعر، فإنه لا يرى إلا بتكلف، وإن صح ما قيل: إن من خواصه أنه
ليس على إبطيه شعر، فلا إشكال.
(وعن البراء) بفتح الموحدة فراء، وقيل: بالقصر ثم همزة ممدودة، هو أبو عمارة
في الأشهر، وهو (ابن عازب) بعين مهملة فزاي بعد الألف مكسورة فموحدة: ابن الحرث
الأوسي الأنصاري الحارثي، أول مشهد شهده الخندق، نزل الكوفة، وافتتح الري سنة أربع
وعشرين في قول، وشهد مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجمل، وصفين،
والنهروان. مات بالكوفة أيام مصعب بن الزبير (قال: قال رسول الله (ص):
إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك. رواه مسلم). الحديث دليل على وجوب
هذه الهيئة للامر بها، وحمله العلماء على الاستحباب، قالوا: والحكمة فيه: أنه أشبه بالتواضع،
وأتم في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من هيئة الكسالى، فإن المنبسط يشبه الكلب،
ويشعر حاله بالتهاون بالصلاة، وقلة الاعتناء بها، والاقبال عليها. وهذا في حق الرجل، لا المرأة،
فإنها تخالفه في ذلك، لما أخرجه أبو داود في مراسيله عن زيد بن أبي حبيب: أن النبي (ص)
مر على امرأتين تصليان، فقال: إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض،
فإن المرأة في ذلك ليست كالرجل قال البيهقي: وهذا المرسل أحسن من موصولين فيه:
يعني: من حديثين موصولين، ذكرهما البيهقي في سننه، وضعفهما. ومن السنة: تفريج الأصابع
في الركوع، لما رواه أبو داود من حديث أبي حميد الساعدي: أنه كان (ص)
يمسك يديه على ركبتيه كالقابض عليهما ويفرج بين أصابعه ومن السنة في الركوع: أن
يوتر يديه، فيجافي عن جنبيه، كما في حديث أبي حميد عند أبي داود بهذا اللفظ، ورواه
ابن خزيمة: ونحى يديه عن جنبيه وتقدم قريبا، وذكر المصنف: حديث ابن بحينة
هذا الذي ذكره في بلوغ المرام: في التلخيص مرتين. أولا: في وصف ركوعه، وثانيا: في وصف
سجوده، دليلا على التفريج في الركوع، وهو صحيح، فإنه قال: إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو
بيا ض إبطيه، فإنه يصدق على حالة الركوع والسجود.
(وعن وائل بن حجر: أن النبي (ص) كان إذا ركع فرج بين
183

أصابعه) أي أصابع يديه (وإذا سجد ضم أصابعه، رواه الحاكم) قال العلماء:
الحكمة في ضمه أصابعه عند سجوده: لتكون متوجهة إلى سمت القبلة.
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله (ص) يصلي متربعا.
رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة.) وروى البيهقي من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه: رأيت
رسول الله (ص) يدعو هكذا، ووضع يديه على ركبتيه، وهو متربع جالس،
ورواه البيهقي عن حميد: رأيت أنسا يصلي متربعا على فراشه وعلقه البخاري. قال العلماء:
وصفة التربع: أن يجعل باطن قدمه اليمنى تحت الفخذ اليسرى، وباطن اليسرى تحت اليمنى: مطمئنا،
وكفيه على ركبتيه مفرقا أنامله، كالراكع. والحديث دليل على كيفية قعود العليل إذا صلى من
قعود، إذ الحديث وارد في ذلك، وهو في صفة صلاته (ص)، لما سقط عن فرسه،
فانفكت قدمه، فصلى متربعا. وهذه القعدة اختارها الهادوية في قعود المريض لصلاته.
ولغيرهم اختيار اخر، والدليل مع الهادوية، وهو هذا الحديث.
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي (ص) كان يقول بين
السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني وعافني، وارزقني. رواه الأربعة إلا
النسائي، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم). ولفظ الترمذي: واجبرني بدل وارحمني، ولم يقل، وعافني. وجمع ابن ماجة في لفظ روايته بين: ارحمني، واجبرني، ولم يقل:
اهدني، ولا عافني، وجمع
الحاكم بينهما، إلا أنه لم يقل: وعافني. والحديث دليل: على شرعية الدعاء في القعود بين السجدتين،
وظاهره أنه كان (ص) يقوله جهرا.
(وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه: أنه رأى النبي (ص) يصلي،
فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا. رواه البخاري).
وفي لفظ له: فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام وأخرج
أبو داود من حديث أبي حميد في صفة صلاته (ص)، وفيه: ثم أهوى ساجدا،
ثم ثنى رجليه، وقعد حتى رجع كل عضو في موضعه، ثم نهض وقد ذكرت هذه القعدة
في بعض ألفاظ رواية حديث المسئ صلاته. وفي الحديث دليل: على شرعية هذه القعدة بعد السجدة
الثانية من الركعة الأولى، والركعة الثالثة، ثم ينهض لأداء الركعة الثانية، أو الرابعة، وتسمى جلسة
الاستراحة. وقد ذهب إلى القول بشرعيتها: الشافعي في أحد قوليه، وهو غير المشهور عنه.
والمشهور عنه، وهو رأي الهادوية، والحنفية، ومالك، وأحمد، وإسحاق: أنه لا يشرع القعود، مستدلين: بحديث وائل
بن حجر في صفة صلاته (ص): بلفظ: فكان إذا رفع رأسه من السجدتين
استوى قائما أخرجه البزار في مسنده، إلا أنه ضعفه النووي، وبما رواه ابن المنذر من حديث النعمان
ابن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله (ص)، فكان إذا رفع
رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس. ويجاب عن الكل: بأنه
لا منافاة، إذ من فعلها فلأنها سنة، ومن تركها فكذلك، وإن كان ذكرها في حديث المسئ
يشعر بوجوبها، لكن لم يقل به أحد فيما أعلم.
184

(وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) قنت شهرا بعد
الركوع يدعو على أحياء من العرب) وورد تعيينهم: أنهم، رعل، وعصية وبنو لحيان.
(ثم تركه. متفق عليه) لفظه في البخاري مطولا عن عاصم الأحول قال: سألت أنس
بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت، قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قلت:
فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت: بعد الركوع، قال: كذب، إنما قنت رسول الله (ص)
بعد الركوع شهرا، أراه، كان بعث قوما يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلا إلى قوم
من المشركين، فغدروا، وقتلوا القراء، دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله (ص)
عهد، فقنت رسول الله (ص) شهرا يدعو عليهم. (ولأحمد، والدارقطني: نحوه)
أي من حديث أنس: (من وجه اخر، وزاد: فأما في الصبح، فلم يزل يقنت حتى فارق
الدنيا)، فقوله في الحديث الأول: ثم تركه أي فيما عدا الفجر، ويدل على أنه أراده: قوله: فلم
يزل يقنت في كل صلاته. هذا، والأحاديث عن أنس في القنوت قد اضطربت، وتعارضت
في صلاة الغداة. وقد جمع بينها في الهدى النبوي فقال: أحاديث أنس كلها صحاح، يصدق
بعضها بعضا، ولا تناقض فيها، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير الذي ذكره بعده، والذي
وقته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة، الذي قال فيه النبي
(ص): أفضل الصلاة طول القيام، والذي ذكره بعد، هو: إطالة القيام للدعاء،
ففعله شهرا يدعو إلى قوم، ويدعو لقوم، ثم استمر تطويل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن
فارق الدنيا، كما دل له الحديث: أن أنسا كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى
يقول القائل قد نسي، وأخبرهم أن هذه صفة صلاته (ص) أخرجه عنه
في الصحيحين، فهذا هو القنوت الذي قال فيه أنس: إنه ما زال (ص) حتى
فارق الدنيا، والذي تركه هو الدعاء على أقوام من العرب وكان بعد الركوع، فمراد أنس
بالقنوت: قبل الركوع، وبعده، الذي أخبر أنه ما زال عليه: هو إطالة القيام في هذين المحلين
بقراءة القران، وبالدعاء. هذا مضمون كلامه. ولا يخفى أنه لا يوافق قوله: فأما في الصبح فلم يزل
يقنت حتى فارق الدنيا. وأنه دل على أن ذلك خاص بالفجر، وإطالة القيام بعد الركوع عام
للصلوات جميعها. وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه الحاكم، وصححه: بأنه كان رسول الله
(ص) إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح الركعة الثانية، يرفع يديه،
فيدعو بهذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت إلى اخره. ففيه عبد الله بن سعيد المقبري
ولا تقوم به حجة. وقد ذهب: إلى أن الدعاء عقيب اخر ركوع من الفجر سنة جماعة من
السلف، ومن الخلف: الهادي، والقاسم، وزيد بن علي والشافعي. وإن اختلفوا في ألفاظه، فعند
الهادي: بدعاء من القران، وعند الشافعي: بحديث: اللهم اهدني فيمن هديت إلى اخره.
(وعنه) أي أنس: (أن النبي (ص) كان لا يقنت إلا إذا دعا
185

لقوم أو دعا على قوم. صححه ابن خزيمة). أما دعاؤه لقوم فكما ثبت: أنه كان يدعو
للمستضعفين من أهل مكة. وأما دعاؤه على قوم، فكما عرفته قريبا. ومن هنا قال بعض
العلماء: يسن القنوت في النوازل، فيدعو بما يناسب الحادثة. وإذا عرفت هذا فالقول: بأنه
يسن في النوازل: قول حسن، تأسيا بما فعله (ص): في دعائه على أولئك الاحياء من
العرب، إلا أنه قد يقال: قد نزل به (ص) حوادث، كحصار الخندق، وغيره، ولم
يرو أنه قنت فيه، ولعله يقال: الترك لبيان الجواز. وقد ذهب أبو حنيفة: وأبو يوسف: إلى أنه
منهي عن القنوت في الفجر وكأنهم استدلوا بقوله:
(وعن سعيد) كذا في نسخ البلوغ سعيد وهو سعد بغير مثناة تحتية (بن طارق
الأشجعي قال: قلت لأبي:) وهو طارق بن أشيم بفتح الهمزة فشين معجمة فمثناة تحتية
مفتوحة بزنة أحمر، قال ابن عبد البر: يعد في الكوفيين. روى عنه ابنه أبو مالك سعد
بن طارق (يا أبت إنك صليت خلف رسول الله (ص)، وأبي بكر،
وعمر، وعثمان، وعلي، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بني: محدث. رواه الخمسة
إلا أبا داود). وقد روى خلافه عمن ذكر. والجمع بينهما. أنه وقت القنوت لهم تارة، وتركوه
أخرى، وأما أبو حنيفة، ومن ذكر معه، فإنهم جعلوه منهيا عنه، لهذا الحديث، لأنه إذا كان محدثا
فهو بدعة، والبدعة منهي عنها.
(وعن الحسن بن علي عليهما السلام) هو أبو محمد الحسن بن علي، سبط رسول الله
(ص). ولد في النصف من شهر رمضان: سنة ثلاث من الهجرة. قال ابن
عبد البر: إنه أصح ما قيل في ذلك. وقال أيضا: كان الحسن حليما ورعا فاضلا، ودعاه
ورعه وفضله إلى أنه ترك الدنيا والملك: رغبة فيما عند الله، بايعوه بعد أبيه عليه السلام، فبقي
نحوا من سبعة أشهر خليفة بالعراق، وما وراءهما من خراسان، وفضائله لا تحصى، وقد ذكرنا
منها شطرا صالحا في الروضة الندية. وفاته سنة إحدى وخمسين بالمدينة النبوية، ودفن في البقيع،
وقد أطال ابن عبد البر في الاستيعاب: في عده لفضائله. (قال: علمني رسول الله
(ص) كلمات أقولهن في قنوت الوتر) أي في دعائه وليس فيه بيان لمحله
(اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت
وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه
لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت، رواه الخمسة، وزاد الطبراني، والبيهقي)
بعد قوله: ولا يذل من واليت (ولا يعز من عاديت. زاد النسائي في وجه آخر في آخره:
وصلى الله على النبي إلخ). إلا أنه قال المصنف في تخريج أحاديث الأذكار: إن هذه الزيادة
غريبة لا تثبت، لان فيها عبد الله بن علي، لا يعرف، وعلى القول: بأنه عبد الله بن علي بن الحسين
بن علي، فالسند منقطع، فإنه لم يسمع من عمه الحسن، ثم قال: فتبين أن هذا الحديث
ليس من شرط الحسن، لانقطاعه، أو جهالة رواته. انتهى. فكان عليه أن يقول: ولا تثبت
186

هذه الزيادة. والحديث دليل على مشروعية القنوت في صلاة الوتر، وهو مجمع عليه
في النصف الأخير من رمضان، وذهب الهادوية وغيرهم: إلى أنه يشرع أيضا في غيره، إلا
أن الهادوية لا يجيزونه بالدعاء من غير القران. والشافعية يقولون: إنه يقنت بهذا الدعاء
في صلاة الفجر، ومستندهم في ذلك قوله:
(وللبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله (ص)
يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح) قلت: أجمله هنا، وذكره
في تخريج الأذكار من رواية البيهقي وقال: اللهم اهدني. الحديث إلى اخره، رواه البيهقي من
طرق أحدها عن بريد: بالموحدة والراء تصغير برد، وهو ثقبة بن أبي مريم. سمعت ابن الحنفية،
وابن عباس يقولان: كان النبي (ص) يقنت في صلاة الصبح، ووتر الليل بهؤلاء
الكلمات، وفي إسناده مجهول، وروى من طريق أخرى، وهي التي ساق المصنف لفظها
عن ابن جريج بلفظ: يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح وفيه عبد الرحمن
بن هرمز ضعيف، ولذا قال المصنف: (وفي سنده ضعف).
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
سجد أحدكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه. أخرجه
الثلاثة). هذا الحديث أخرجه أهل السنن، وعلله البخاري والترمذي، والدارقطني. قال البخاري:
محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه. وقال: لا أدري: سمع من أبي الزناد أم لا. وقال
الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد. وقد أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة
أيضا عنه: أن النبي (ص) ولم يذكر فيه: وليضع يديه قبل ركبتيه، وقد أخرج
ابن أبي داود من حديث أبي هريرة: أن النبي (ص) كان إذا سجد بدأ بيديه قبل
ركبتيه، ومثله أخرج الدراوردي من حديث ابن عمر، وهو الشاهد الذي سيشير المصنف إليه.
وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: كنا
نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين. والحديث دليل على أنه يقدم
المصلي يديه قبل ركبتيه عند الانحطاط إلى السجود، وظاهر الحديث الوجوب، لقوله: لا يبركن
وهو نهي، وللأمر بقوله: وليضع قيل: ولم يقل أحد بوجوبه، فتعين أنه مندوب. وقد اختلف
العلماء في ذلك، فذهب الهادوية، ورواية عن مالك، والأوزاعي: إلى العمل بهذا الحديث، حتى قال
الأوزاعي: أدركنا الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم. وقال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب
الحديث، وذهبت الشافعية، والحنفية، ورواية عن مالك، إلى العمل بحديث وائل وهو قوله (وهو)
أي حديث أبي هريرة هذا (أقوى) في سنده (من حديث وائل) وهو أنه قال:
رأيت النبي (ص): إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه،
رأيت النبي (ص) إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه أخرجه الأربعة، فإن للأول) أي حديث أبي هريرة (شاهدا من حديث ابن عمر، صححه
ابن خزيمة) تقدم ذكر الشاهد هذا قريبا (وذكره) أي: الشاهد (البخاري معلقا موقوفا)
قال: قال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه، وحديث وائل أخرجه أصحاب السنن
187

الأربعة، وابن خزيمة، وابن السكن في صحيحيهما: من طريق شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه.
قال البخاري، والترمذي، وأبو داود، البيهقي: تفرد به شريك. ولكن له شاهد عن عاصم الأحول
عن أنس قال: رأيت رسول الله (ص) انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه.
أخرجه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وقال الحاكم: هو على شرطهما. وقال البيهقي: تفرد
به العلاء بن العطار، والعلاء مجهول. هذا، وحديث وائل هو دليل الحنفية، والشافعية، وهو مروي
عن عمر، أخرجه عبد الرزاق، وعن ابن مسعود: أخرجه الطحاوي، وقال به أحمد، وإسحاق،
وجماعة من العلماء، وظاهر كلام المصنف ترجيح حديث أبي هريرة، وهو خلاف مذهب
إمامه الشافعي. وقال النووي: لا يظهر ترجيح أحد المذهبين على الاخر، ولكن أهل هذا
المذهب رجحوا حديث وائل، وقالوا في أبي هريرة إنه مضطرب، إذ قد روى عنه الأمران.
وحقق ابن القيم المسألة، وأطال فيها وقال: إن في حديث أبي هريرة قلبا من الراوي حيث قال
وليضع يديه قبل ركبتيه، وإن أصله: وليضع ركبتيه قبل يديه. قال: ويدل عليه أول
الحديث وهو قوله: فلا يبرك، كما يبرك البعير فإن المعروف من بروك البعير هو تقديم اليدين
على الرجلين، وقد ثبت عن النبي (ص): الامر بمخالفة سائر الحيوانات في هيئات
الصلاة، فنهى عن التفات كالتفات الثعلب، وعن افتراش كافتراش السبع، واقعاء
كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الغراب، ورفع الأيدي كأذناب خيل شمس: أي حال السلام،
وقد تقدم ويجمعها قولنا:
إذا نحن قمنا في الصلاة فإننا * نهينا عن الاتيان فيها بستة
بروك بعير والتفات كثعلب * ونقر غراب في سجود الفريضة
واقعاء كلب أو كبسط ذراعه * وأذناب خيل عند فعل التحية
وزدنا على ما ذكره في الشرح قولنا:
وزدنا كتدبيح الحمار بمده * لعنق وتصويب لرأس بركعة
هذا السابع، وهو بالدال بعدها موحدة ومثناة تحتية وحاء مهملة، وروي بالذال المعجمة.
قيل: وهو تصحيف. قال في النهاية: هو أن يطأطئ المصلي رأسه حتى يكون أخفض من
ظهره. انتهى. إلا أنه قال النووي: حديث التدبيح ضعيف. وقيل: كان وضع اليدين قبل
الركبتين، ثم أمروا بوضع الركبتين قبل اليدين، وحديث ابن خزيمة الذي أخرجه عن سعد
بن أبي وقاص - وقد قدمناه قريبا - يشعر بذلك، وقول المصنف: إن لحديث أبي هريرة شاهدا
يقوى به - معارض: بأن لحديث وائل أيضا شاهدا، قد قدمناه. وقال الحاكم: إنه على شرطهما.
وغايته - وإن لم يتم كلام الحاكم - فهو مثل شاهد أبي هريرة، الذي تفرد به شريك، فقد اتفق
حديث وائل، وحديث أبي هريرة في القوة. وعلى تحقيق ابن القيم، فحديث أبي هريرة عائد إلى
حديث وائل، وإنما وقع فيه قلب، ولا ينكر ذلك، فقد وقع القلب في ألفاظ الحديث.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما. أن رسول الله (ص) كان إذا
قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على اليمنى وعقد
188

ثلاثا وخمسين وأشار بأصبعه السبابة) قال العلماء: خصت السبابة بالإشارة لاتصالها
بنياط القلب، فتحريكها سبب لحضوره (رواه مسلم. وفي رواية له: وقبض أصابعه كلها
وأشار بالتي تلي الابهام). ووضع اليدين على الركبتين مجمع على استحبابه. وقوله: وعقد
ثلاثا وخمسين. قال المصنف في التلخيص: صورتها أنه يجعل الابهام مفتوحة تحت المسبحة،
وقوله: وقبض أصابعه كلها أي: أصابع يده اليمنى قبضها على الراحة وأشار بالسبابة. وفي
رواية وائل بن حجر: (حلق بين الابهام والوسطى) أخرجه ابن ماجة، فهذه ثلاث هيئات:
جعل الابهام تحت المسبحة مفتوحة، وسكت في هذه عن بقية الأصابع. هل تضم إلى الراحة
أو تبقى منشورة على الركبة؟ الثانية: ضم الأصابع كلها على الراحة والإشارة بالمسبحة. الثالثة:
التحليق بين الابهام والوسطى ثم الإشارة بالسبابة. وورد بلفظ الإشارة، كما هنا، وكما في حديث
ابن الزبير: أنه (ص) كان يشير بالسبابة ولا يحركها أخرجه أحمد، وأبو داود،
والنسائي، وابن حبان في صحيحه. وعن ابن خزيمة، والبيهقي من حديث وائل: أنه (ص)
رفع إصبعه، فرأيته يحركها، يدعو بها قال البيهقي: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك:
الإشارة، لا تكرير تحريكها، حتى لا يعارض حديث ابن الزبير، وموضع الإشارة عند قوله:
لا إله إلا الله، لما رواه البيهقي من فعل النبي (ص). وينوي بالإشارة: التوحيد
والاخلاص فيه، فيكون جامعا في التوحيد بين الفعل، والقول، والاعتقاد، ولذلك نهى النبي
(ص) عن الإشارة بالإصبعين، وقال: أحد أحد لمن رآه يشير بأصبعيه. ثم
الظاهر أنه مخير بين هذه الهيئات. ووجه الحكمة شغل كل عضو بعبادة، وورد في اليد
اليسرى عند الدارقطني من حديث ابن عمر: أنه (ص) ألقم كفه اليسرى ركبته.
وفسر الالقام. بعطف الأصابع على الركبة، وذهب إلى هذا بعضهم: عملا بهذه الرواية، قال:
وكأن الحكمة فيه: منع اليد عن العبث.
واعلم أن قوله في حديث ابن عمر: وعقد ثلاثا وخمسين إشارة إلى طريقة معروفة، تواطأت
عليها العرب في عقود الحساب، وهي أنواع من الآحاد، والعشرات، والمئين، والألوف. أما
الآحاد، فللواحد: عقد الخنصر إلى أقرب ما يليه من باطن الكف. وللاثنين: عقد البنصر معها
كذلك. وللثلاثة: عقد الوسطى معها كذلك. وللأربعة: حل الخنصر. وللخمسة: حل البنصر
معها دون الوسطى. وللستة: عقد البنصر وحل جميع الأنامل. وللسبعة: بسط البنصر إلى أصل
الابهام مما يلي الكف. وللثمانية: بسط البنصر فوقها كذلك. وللتسعة بسط الوسطى فوقها
كذلك. وأما العشرات: فلها الابهام والسبابة. فللعشرة الأولى عقد رأس الابهام على طرف
السبابة وللعشرين: إدخال الابهام بين السبابة والوسطى. وللثلاثين: عقد رأس السبابة على
رأس الابهام، عكس العشرة. وللأربعين: تركيب الابهام على العقد الأوسط من السبابة، وعطف
الابهام على أصلها. وللخمسين: عطف الابهام إلى أصلها. وللستين: تركيب السبابة على ظهر
الابهام، عكس الأربعين. وللسبعين: إلقاء رأس الابهام على العقد الأوسط من السبابة، ورد
طرف السبابة إلى الابهام. وللثمانين: رد طرف السبابة إلى أصلها، وبسط الابهام على جنب
189

السبابة من ناحية الابهام. وللتسعين: عطف السبابة إلى أصل الابهام، وضمها بالابهام. وأما
المئين فكالآحاد إلى تسعمائة في اليد اليسرى، والألوف كالعشرات في اليسرى.
(وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: التفت إلينا رسول الله (ص)
فقال: إذا صلى أحدكم فليقل التحيات) جمع تحية، ومعناها: البقاء
والدوام، أو العظمة، أو السلامة من الآفات، أو كل أنواع التعظيم (لله والصلوات) قيل الخمس،
أو ما هو أعم من الفرض والنفل، أو العبادات كلها، أو الدعوات، أو الرحمة، وقيل: التحيات:
العبادات القولية، والصلوات: العبادات الفعلية (والطيبات) أي: ما طاب من كلام وحسن
أن يثني به على الله، أو ذكر الله، أو الأقوال الصالحة، أو الأعمال الصالحة، أو ما هو أعم من ذلك،
وطيبها كونها كاملة خالصة عن الشوائب، والتحيات مبتدأ خبرها لله، والصلوات والطيبات
عطف عليه، وخبرهما محذوف، وفيه تقادير أخر. (السلام) أي السلام الذي يعرفه كل أحد
(عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) خصوه (ص) أولا بالسلام
عليه لعظم حقه عليهم، وقدموه على التسليم على أنفسهم، لذلك، ثم أتبعوه بالسلام عليهم في قولهم:
(السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) وقد ورد: أنه يشمل كل عبد صالح في السماء
والأرض، وفسر الصالح: بأنه القائم بحقوق الله، وحقوق عباده، ودرجاتهم متفاوتة. (أشهد
أن لا إله إلا الله) لا مستحق للعبادة بحق غيره، فهو قصر إفراد: لان المشركين كانوا يعبدونه،
ويشركون معه غيره (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) هكذا هو بلفظ عبده ورسوله
في جميع روايات الأمهات الست، ووهم ابن الأثير في جامع الأصول، فساق حديث ابن
مسعود بلفظ: (وأن محمدا رسول الله) ونسبه إلى الشيخين، وغيرهما، وتبعه على وهمه صاحب
تيسير الوصول، وتبعهما على الوهم: الجلال في ضوء النهار، وزاد: أنه لفظ
البخاري، ولفظ البخاري كما قاله المصنف، فتنبه. (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو. متفق
عليه واللفظ للبخاري) قال البزار: أصح حديث عندي في التشهد حديث ابن مسعود، يروى
عنه من نيف وعشرين طريقا، ولا نعلم روى عن النبي (ص) في التشهد أثبت
منه، ولا أصح إسنادا، ولا أثبت رجالا، ولا أشد تظافرا بكثرة الأسانيد والطرق. وقال مسلم:
إنما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود، لان أصحابه لا يخالف بعضهم بعضا، وغيره قد اختلف عنه
أصحابه. وقال محمد بن يحيى الذهلي: هو أصح ما روى في التشهد. وقد روى حديث
التشهد أربعة وعشرون صحابيا، بألفاظ مختلفة، اختار الجماهير منها حديث ابن مسعود.
والحديث فيه دلالة على وجوب التشهد لقوله: فليقل، وقد ذهب إلى وجوبه أئمة الال،
وغيرهم من العلماء، وقالت طائفة: إنه غير واجب لعدم تعليمه المسئ صلاته. ثم اختلفوا
في الألفاظ التي تجب عند من أوجبه، أو عند من قال: إنه سنة. وقد سمعت أرجحية حديث
ابن مسعود، وقد اختاره الأكثر، فهو الأرجح. وقد رجح جماعة غيره من ألفاظ التشهد
الواردة عن الصحابة، وزاد ابن أبي شيبة قول: وحده لا شريك له في حديث ابن مسعود
190

من رواية أبي عبيدة عن أبيه، وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة من حديث أبي موسى
عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ، وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني،
إلا أنه بسند ضعيف، وفي سنن أبي داود: قال ابن عمر: زدت فيه: وحده لا شريك له.
وظاهره: أنه موقوف على ابن عمر. وقوله: ثم ليتخير من الدعاء أعجبه. زاد أبو داود: فيدعو به
ونحوه للنسائي من وجه اخر بلفظ: فليدع. وظاهره الوجوب أيضا للامر به، وأنه
يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة. وقد ذهب إلى وجوب الاستعاذة الآتية: طاوس، فإنه
أمر ابنه بالإعادة للصلاة، لما لم يتعوذ من الأربع الآتي ذكرها، وبه قال بعض الظاهرية.
وقال ابن حزم: ويجب أيضا في التشهد الأول، والظاهر مع القائل بالوجوب، وذهب الحنفية،
والنخعي، وطاوس إلى أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القران. وقال بعضهم: لا يدعو
إلا بما كان مأثورا، ويرد القولين: قوله (ص): ثم ليتخير من الدعاء أعجبه
وفي لفظ: ما أحب، وفي لفظ للبخاري: من الثناء ما شاء فهو إطلاق للداعي أن يدعو
بما أراد. وقال ابن سيرين: لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة. وقد أخرج سعيد
بن منصور من حديث ابن مسعود: فعلمنا التشهد في الصلاة: أي النبي (ص)
ثم يقول: إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل: اللهم إني أسألك من الخير ما علمت منه
وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير
ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون، ربنا آتنا
في الدنيا حسنه الآية. ومن أدلة وجوب التشهد ما أفاده قوله: (وللنسائي) أي من حديث
ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) حذف المصنف تمامه وهو: السلام على
الله، السلام على جبريل، وميكائيل، فقال رسول الله (ص): لا تقولوا هذا، ولكن
قولوا: التحيات. إلى اخره. ففي قوله: يفرض عليه دليل الايجاب، إلا أنه أخرج النسائي هذا
الحديث من طريق ابن عيينة. قال ابن عبد البر في الاستذكار: تفرد ابن عيينة بذلك،
وأخرج مثله: الدارقطني، والبيهقي، وصححاه. (ولأحمد) أي من حديث ابن مسعود وهو من أدلة
الوجوب أيضا: (أن النبي (ص) علمه التشهد، وأمره أن يعلمه الناس)
أخرجه أحمد عن ابن عبيدة عن عبد الله قال: علمه رسول الله (ص) التشهد،
وأمره أن يعلمه الناس التحيات وذكره إلخ.
(ولمسلم عن ابن عباس قال: كان رسول الله (ص)
يعلمنا التشهد: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله - إلى اخره). تمامه: السلام
عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله
إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله هذا لفظ مسلم، وأبي داود، ورواه الترمذي، وصححه كذلك،
لكنه ذكر السلام منكرا، ورواه ابن ماجة كمسلم، لكنه قال: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
ورواه الشافعي، وأحمد: بتنكير السلام أيضا، وقالا فيه: وأن محمدا، ولم يذكرا: أشهد، وفيه
زيادة: المباركات، وحذف الواو من: الصلوات ومن الطيبات. وقد اختار الشافعي: تشهد
191

ابن عباس هذا. قال المصنف: إنه قال الشافعي لما قيل له: كيف صرت إلى حديث ابن عباس
في التشهد؟ قال: لما رأيته واسعا، وسمعته عن ابن عباس صحيحا، كان عندي أجمع وأكثر لفظا
من غيره، فأخذت به، غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح.
(وعن فضالة) بفتح الفاء بزنة سحابة، هو أبو محمد: فضالة (بن عبيد) بصيغة
التصغير لعبد، أنصاري أوسي. أول مشاهده أحد، ثم شهد ما بعدها، وبايع تحت الشجرة، ثم
انتقل إلى الشام، وسكن دمشق، وتولى القضاء بها، ومات بها، وقيل غير ذلك. (قال: سمع
رسول الله (ص) رجلا يدعو في صلاته، ولم يحمد الله، ولم يصل على النبي (ص)
فقال: عجل هذا) أي: بدعائه قبل تقديم الامرين (ثم دعاه، فقال:
إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه) هو عطف تفسيري، ويحتمل
أن يراد بالتحميد: نفسه، وبالثناء: ما هو أعم) أي: عبارة، فيكون من عطف العام على الخاص
(ثم يصلي) هو خبر محذوف: أي ثم يصلي عطف جملة على جملة، فلذا لم تجزم
(على النبي (ص)، ثم يدعو بما شاء) من خير الدنيا والآخرة (رواه أحمد،
والثلاثة، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم). الحديث دليل: على وجوب ما ذكر من التحميد
والثناء، والصلاة عليه (ص)، والدعاء بما شاء، وهو موافق في المعنى: لحديث ابن مسعود
وغيره، فإن أحاديث التشهد تتضمن ما ذكر من الحمد والثناء، وهي مبينة لما أجمله هذا.
ويأتي الكلام في الصلاة عليه (ص)، وهذا إذا ثبت: أن هذا الدعاء الذي سمعه
النبي (ص) من ذلك الرجل، كان في قعدة التشهد، وإلا فليس في هذا الحديث
دليل على أنه كان ذلك حال قعدة التشهد، إلا أن ذكر المصنف له هنا يدل على أنه كان
في قعود التشهد، وكأنه عرف ذلك من سياقه. وفيه دليل على تقديم الوسائل بين يدي المسائل
وهي نظير * (إياك نعبد وإياك نستعين) * حيث قدم الوسيلة وهي العبادة على طلب الاستعانة،
(وعن أبي مسعود) الأنصاري. أبو مسعود اسمه عقبة بن عامر بن ثعلبة الأنصاري
الخزرجي البدري، شهد العقبة الثانية وهو صغير ولم يشهد بدرا، وإنما نزل به فنسب إليه
سكن الكوفة ومات بها في خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام (قال: قال بشير بن سعد)
هو أبو النعمان بشير بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي والد النعمان بن بشير، شهد
العقبة وما بعدها (يا رسول أمرنا الله أن نصلي عليك) يريد في قوله تعالى صلوا
عليه وسلموا تسليما (فكيف نصلي عليك؟ فسكت) أي رسول الله (ص)،
وعند أحمد، ومسلم زيادة: حتى تمنينا أنه لم يسأله (ثم قال: قولوا: اللهم صلى
على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل
محمد، كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد). الحميد: صيغة مبالغة فعيل
بمعنى مفعول، يستوي فيه المذكر والمؤنث. أي إنك محمود بمحامدك اللائقة بعظمة شأنك،
وهو تعليل لطلب الصلاة، أي: لأنك محمود، ومن محامدك: إفاضتك أنواع العنايات، وزيادة
192

البركات على نبيك، الذي تقرب إليك بامتثال ما أهلته له من أداء الرسالة، ويحتمل أن
حميدا بمعنى: حامد: أي أنك حامد من يستحق أن يحمد، ومحمد من أحق عبادك بحمدك،
وقبول دعاء من يدعو له، ولآله، وهذا أنسب بالمقام، مجيد مبالغة ماجد، والمجد: الشرف.
(والسلام كما علمتم) بالبناء للمجهول وتشديد اللام، وفيه رواية بالبناء للمعلوم وتخفيف
اللام (رواه مسلم. وزاد ابن خزيمة: فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك
في صلاتنا). وهذه الزيادة رواها أيضا ابن حبان، والدارقطني، والحاكم، وأخرجها أبو حاتم
، وابن خزيمة في صحيحيهما، وحديث الصلاة أخرجه الشيخان: عن كعب بن عجرة عن
أبي حميد الساعدي، وأخرجه البخاري: عن أبي سعيد، والنسائي: عن طلحة، والطبراني: عن سهل
بن سعد، وأحمد والنسائي: عن زيد بن خارجة. والحديث دليل على وجوب الصلاة عليه (ص)
في الصلاة، لظاهر الامر، أعني: قولوا وإلى هذا ذهب جماعة من السلف، والأئمة،
والشافعي، وإسحق، ودليلهم: الحديث مع زيادته الثابتة، ويقتضي أيضا وجوب الصلاة على
الال، وهو قول الهادي، والقاسم، وأحمد بن حنبل، ولا عذر لمن قال: بوجوب الصلاة عليه
(ص) مستدلا بهذا الحديث من القول: بوجوبها على الال، إذ المأمور به واحد،
ودعوى النووي، وغير الاجماع على أن الصلاة على الال مندوبة: غير مسلمة، بل نقول:
الصلاة عليه (ص) لا تتم، ويكون العبد ممتثلا بها، حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي
فيه ذكر الال، لأنه قال السائل: كيف نصلي عليك فأجابه بالكيفية: أنها الصلاة عليه وعلى
آله، فمن ليأت بالآل، فما صلى عليه بالكيفية التي أمر بها، فلا يكون ممتثلا للامر، فلا يكون
مصليا عليه (ص). وكذلك بقية الحديث: من قوله: كما صليت إلى اخره
يجب، إذ هو من الكيفية المأمور بها، ومن فرق بين ألفاظ هذه الكيفية، بإيجاب بعضها
وندب بعضها، فلا دليل له على ذلك. وأما استدلال المهدي في البحر على: أن الصلاة على الال
سنة: بالقياس على الأذان، فإنهم لم يذكروا معه (ص) فيه، فكلام باطل، فإنه
كما قيل: لا قياس مع النص، لأنه لا يذكر الال في تشهد الأذان لا ندبا ولا وجوبا، ولأنه
ليس في الأذان دعاء له (ص)، بل شهادة بأنه رسول الله، والآل لم يأت تعبد
بالشهادة بأنهم اله. ومن هنا تعلم: أن حذف لفظ الال من الصلاة، كما يقع في كتب الحديث
ليس على ما ينبغي. وكنت سئلت عنه قديما فأجبت: أنه قد صح عند أهل الحديث
بلا ريب كيفية الصلاة على النبي (ص)، وهم رواتها، وكأنهم حذفوها خطأ، تقية
لما كان في الدولة الأموية من يكره ذكرهم. ثم استمر عليه عمل الناس متابعة من الاخر
للأول، فلا وجه له، وبسطت هذا الجواب فحواشي شرح العمدة بسطا شافيا. وأما من
هم الال، ففي ذلك أقوال: الأصح: أنهم من حرمت عليهم الزكاة، فإنه بذلك فسرهم زيد
بن أرقم، والصحابي أعرف بمراده (ص)، فتفسيره قرينة على تعيين المراد من
اللفظ المشترك، وقد فسرهم: بآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس. فإن قيل: يحتمل
أن يراد بقوله: إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا أي إذا نحن دعونا لك في دعائنا، فلا يدل
193

على إيجاب الصلاة عليه في الصلاة. قلت: الجواب من وجهين: الأول: المتبادر في لسان
الصحابة من الصلاة في قوله: صلاتنا: الشرعية، لا اللغوية، والحقيقة العرفية مقدمة إذا ترددت
بين المعنيين. الثاني: أنه قد ثبت وجوب الدعاء في اخر التشهد، كما عرفت من الامر به،
والصلاة عليه (ص) قبل الدعاء واجبة، لما عرفت من حديث فضالة، وبهذا يتم
إيجاب الصلاة عليه (ص) بعد التشهد: قبل الدعاء الدال على وجوبه.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): إذا
تشهد أحدكم) مطلق في التشهد الأوسط، والأخير (فليستعذ بالله من أربع)
بينها بقوله: (يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن
فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: إذا
فرغ أحدكم من التشهد الأخير) هذه الرواية قيدت إطلاق الأولى، وأبانت أن
الاستعاذة المأمور بها بعد التشهد الأخير. ويدل التعقيب بالفاء أنها تكون قبل الدعاء المخير
فيه بما شاء. والحديث: دليل على وجوب الاستعاذة مما ذكر، وهو مذهب الظاهرية. وقال
ابن حزم منهم: ويجب أيضا في التشهد الأول عملا منه بإطلاق اللفظ المتفق عليه، وأمر طاوس
ابنه بإعادة الصلاة لما لم يستعذ فيها، فإنه يقول بالوجوب، وبطلان صلاة من تركها، والجمهور
حملوه على الندب. وفيه: دلالة على ثبوت عذاب القبر. والمراد من فتنة المحيا: ما يعرض للانسان
مدة حياته من الافتتان بالدنيا، والشهوات، والجهالات. وأعظمها - والعياذ بالله - أمر الخاتمة عند
الموت. وقيل: هي: الابتلاء مع عدم الصبر. وفتنة الممات، قيل: المراد بها الفتنة عند الموت،
أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقيل: أراد بها السؤال مع الحيرة،
وقد أخرج البخاري: إنكم تفتنون في قبوركم مثل، أو قريبا من فتنة الدجال ولا يكون هذا
تكريرا لعذاب القبر، لان عذاب القبر متفرع على ذلك. وقوله: فتنة المسيح الدجال قال
العلماء أهل اللغة: الفتنة: الامتحان، والاختبار، وقد يطلق على: القتل والاحراق والتهمة
وغير ذلك، والمسيح بفتح الميم وتخفيف السين المهملة، وآخره حاء مهملة، وفيه ضبط اخر،
وهذا الأصح، ويطلق على الدجال، وعلى عيسى، ولكن إذا أريد به الدجال: قيد باسمه. سمي
المسيح، لمسحه الأرض، وقيل: لأنه ممسوح العين. وأما عيسى فقيل له: المسيح، لأنه خرج من
بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل: لان زكريا مسحه. وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ.
وذكر صاحب القاموس: أنه جمع في وجه تسميته بذلك خمسين قولا.
(وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه قال لرسول الله (ص):
علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا)
يروى بالمثلثة وبالموحدة فيخير الداعي بين اللفظين، ولا يجمع بينهما، لأنه لم يرد إلا أحدهما
(ولا يغفر الذنوب إلا أنت) إقرار بالوحدانية (فاغفر لي) استجلاب للمغفرة
(مغفرة) نكرها للتعظيم: أي مغفرة عظيمة، وزادها تعظيما بوصفها بقوله: (من عندك)،
194

لان ما يكون من عنده تعالى لا تحيط بوصفه عبارة (وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)
توسل إلى نيل مغفرة الله ورحمته بصفتي غفرانه، ورحمته (متفق عليه). الحديث دليل على شرعية
الدعاء في الصلاة على الاطلاق من غير تعيين محل له، ومن محلاته بعد التشهد، والصلاة عليه
(ص)، والاستعاذة لقوله: فليتخير من الدعاء ما شاء والاقرار بظلم نفسه: اعتراف
بأنه لا يخلو أحد من البشر عن ظلم نفسه: بارتكابه ما نهى عنه، أو تقصيره عن أداء ما أمر به.
وفيه: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه عند طلب الحاجات، واستدفاع المكروهات، وأنه يأتي من
صفاته في كل مقام ما يناسبه، كلفظ الغفور الرحيم عند طلب المغفرة، ونحو: * (وارزقنا وأنت
خير الرازقين) * عند طلب الرزق. والقران، والأدعية النبوية: مملوءة بذلك. وفي الحديث دليل
على طلب التعليم من العالم، سيما في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم.
واعلم أنه قد ورد في الدعاء بعد التشهد ألفاظ غير ما ذكر. أخرج النسائي عن جابر: أنه
(ص) كان يقول في صلاته بعد التشهد: أحسن الكلام كلام الله، وأحسن
الهدي هدى محمد، وأخرج أبو داود عن ابن مسعود: أنه (ص) كان يعلمهم
من الدعاء بعد التشهد: اللهم ألف على الخير بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام،
ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش والفتن: ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا
في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرياتنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا
شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمها علينا أخرجه أبو داود. وأخرج أبو داود أيضا، عن
بعض الصحابة: أنه (ص) قال لرجل: كيف تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد،
ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة
معاذ، فقال (ص): حول ذلك ندندن أنا، ومعاذ ففيه أنه يدعو الانسان بأي
لفظ شاء: من مأثور، وغيره.
(وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: صليت مع النبي (ص)، فكان
يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن شماله: السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته رواه أبو داود بإسناد صحيح). هذا الحديث أخرجه أبو داود
من حديث علقمة بن وائل عن أبيه، ونسبه المصنف في التلخيص إلى عبد الجبار بن وائل،
وقال: لم يسمع من أبيه، فأعله بالانقطاع، وهنا قال: صحيح، وراجعنا سنن أبي داود، فرأيناه
رواه عن علقمة بن وائل عن أبيه، وقد صح سماع علقمة عن أبيه، فالحديث سالم عن
الانقطاع، فتصحيحه هنا هو الأولى، وإن خالف ما في التلخيص. وحديث التسليمتين
رواه خمسة عشر من الصحابة بأحاديث مختلفة، ففيها صحيح، وحسن، وضعيف، ومتروك، وكلها
بدون زيادة: وبركاته إلا في رواية وائل هذه، ورواية عن ابن مسعود. وعند ابن ماجة، وعند
ابن حبان، ومع صحة إسناد حديث وائل، كما قال المصنف هنا: يتعين قبول زيادته، إذ هي زيادة
عدل، وعدم ذكرها في رواية غيره ليست رواية لعدمها. قال الشارح: إنه لم ير من قال
وجوب زيادة وبركاته، إلا أنه قال: قال الامام يحيى: إذا زاد وبركاته ورضوانه وكرامته
195

أجزأ، إذ هو زيادة فضيلة، وقد عرفت أن الوارد زيادة وبركاته، وقد صحت ولا عذر عن
القول بها، وقال به السرخسي، والامام، والروياني في الحلية. وقول ابن الصلاح: إنها لم تثبت قد
تعجب منه المصنف وقال: هي ثابتة عند ابن حبان قال المصنف: إلا أنه قال ابن رسلان في شرح السنن: لم نجدها في ابن ماجة. قلت: راجعنا
سنن ابن ماجة من نسخة صحيحة مقروءة فوجدنا فيه ما لفظه: باب التسليم حدثنا
محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا عمر بن عبيد عن ابن إسحاق عن الأحوص عن عبد الله
أن رسول الله (ص) كان يسلم عن يمينه، وعن شماله، حتى يرى بياض خده:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، انتهى بلفظه: وفي تلقيح الأفكار تخريج الأذكار للحافظ
ابن حجر: لما ذكر النووي: أن زيادة وبركاته زيادة فردة ساق الحافظ طرقا عدة لزيادة
وبركاته ثم قال: فهذه عدة طرق ثبتت بها: وبركاته بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ أنها
رواية فردة، انتهى كلامه. وحيث ثبت أن التسليمتين من فعله (ص) في الصلاة،
وقد ثبت قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي، وثبت حديث: تحريمها التكبير وتحليلها السلام
أخرجه أصحاب السنن بإسناد صحيح، فيجب التسليم لذلك. وقد ذهب إلى القول بوجوبه
الهادوية، والشافعية. وقال النووي: إنه قول جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.
وذهب الحنفية، وآخرون إلى: أنه سنة، مستدلين على ذلك بقوله (ص) في حديث
ابن عمر: إذا رفع الامام رأسه من السجدة وقعد ثم أحدث قبل التسليم، فقد تمت صلاته
فدل على أن التسليم ليس بركن واجب، وإلا لوجبت الإعادة، ولحديث المسئ صلاته،
فإنه (ص) لم يأمره بالسلام. وأجيب عنه بأن حديث ابن عمر ضعيف باتفاق
الحفاظ، فإنه أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث إسناده ليس بذاك القوي، وقد اضطربوا
في إسناده. وحديث المسئ صلاته لا ينافي الوجوب، فإن هذه الزيادة، وهي مقبولة، والاستدلال
بقوله تعالى: * (اركعوا واسجدوا) * على عدم وجوب السلام: استدلال غير تام، لان الآية مجملة
بين المطلوب منها فعله (ص)، ولو عمل بها وحدها لما وجبت القراءة، ولا غيرها.
ودل الحديث: على وجوب التسليم على اليمين واليسار، وإليه ذهبت الهادوية، وجماعة، وذهب
الشافعي: إلى أن الواجب تسليمة واحدة، والثانية مسنونة. قال النووي: أجمع العلماء الذين يعتد
بهم: أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة، فإن اقتصر عليها استحب له أن يسلم تلقاء وجهه، فإن
سلم تسليمتين، جعل الأولى عن يمينه، والثانية عن يساره، ولعل حجة الشافعي حديث عائشة
أنه (ص) كان إذا أوتر بتسع ركعات، لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله، ويذكره،
ويدعو، ثم ينهض، ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة، فيجلس ويذكر الله ويدعو، ثم يسلم تسليمة
أخرجه ابن حبان، وإسناده على شرط مسلم. وأجيب عنه: بأنه لا يعارض حديث الزيادة،
كما عرفت من قبول الزيادة إذا كانت من عدل. وعند مالك: أن المسنون تسليمة واحدة.
وقد بين ابن عبد البر: ضعف أدلة هذا القول من الأحاديث. واستدل المالكية: على كفاية
196

التسليمة الواحدة: بعمل أهل المدينة، وهو عمل توارثوه كابرا عن كابر. وأجيب عنه: بأنه قد
تقرر في الأصول: أن عملهم ليس بحجة، وقوله: عن يمينه وعن شماله أي منحرفا إلى الجهتين
بحيث يرى بياض خده، كما ورد في رواية سعد: رأيت رسول الله (ص) سلم عن
يمينه وعن شماله، حتى كأني أنظر إلى صفحة خده وفي لفظ: حتى أرى بياض خده.
أخرجه مسلم والنسائي.
(وعن المغيرة بن شعبة: أن النبي (ص) كان يقول في دبر) قال
في القاموس: الدبر بضم الدال وبضمتين: نقيض القبل من كل شئ، عقبه ومؤخره،
وقال في الدبر محركة الدال والباء بالفتح: الصلاة في اخر وقتها، وتسكن الباء ولا يقال بضمتين،
فإنه من لحن المحدثين (كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له
الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا
معطي لما منعت) ووقع عند عبد بن حميد بعده: ولا راد لما قضيت (ولا ينفع
ذا الجد منك الجد. متفق عليه). زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة بعد قوله:
له الملك وله الحمد - يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير ورواته موثوقون، وثبت مثله عند
البزار: من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح، لكنه في القول: إذا أصبح وإذا أمسى. ومعنى:
لا مانع لما أعطيت أن من قضيت له بقضاء من رزق، أو غيره، لا يمنعه أحد عنه، ومعنى:
لا معطي لما منعت: أنه من قضيت له بحرمان، لا معطى له. والجد بفتح الجيم كما سلف.
قال البخاري: معناه الغنى، والمراد: لا ينفعه ولا ينجيه حظه في الدنيا بالمال والولد والعظمة
والسلطان، وإنما ينجيه فضلك ورحمتك. والحديث دليل على استحباب هذا الدعاء عقب
الصلوات، لما اشتمل على توحيد الله، ونسبة الامر كله إليه، والمنع، والاعطاء، وتمام القدرة.
(وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) كان
يتعوذ بهن دبر كل صلاة اللهم إني أعوذ بك) أي: ألتجئ إليك (من البخل)
بضم الموحدة وسكون الخاء المعجمة. وفيه لغات (وأعوذ بك من الجبن) بزنة البخل
(وأعوذ بك من أن أراد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ
بك من عذاب القبر. رواه البخاري). قوله: دبر الصلاة هنا، وفي الأول، يحتمل، أنه
قبل الخروج، لان دبر الحيوان منه، وعليه بعض أئمة الحديث، ويحتمل: أنه بعدها، وهو أقرب.
والمراد بالصلاة عند الاطلاق المفروضة. والتعوذ من البخل قد كثر في الأحاديث قيل:
والمقصود منه منع ما يجب بذله من المال شرعا، أو عادة. والجبن: هو المهابة للأشياء، والتأخر
عن فعلها يقال منه: جبان، كسحاب: لمن قام به، والمتعوذ منه هو: التأخر عن الاقدام بالنفس
إلى الجهاد الواجب، والتأخر: عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك. والمراد من الرد
إلى أرذل العمر: هو بلوغ الهرم والخرف حتى يعود، كهيئته الأولى في أوان الطفولية، ضعيف
البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. وأما فتنة الدنيا، فهي: الافتتان بشهواتها وزخارفها، حتى تلهيه
197

عن القيام بالواجبات، التي خلق لها العبد، وهي عبادة بارئه وخالقه، وهو المراد من قوله تعالى: * (أنما أموالكم وأولادكم فتنة) * وتقدم الكلام على عذاب القبر.
(وعن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا انصرف من صلاته أي سلم منها (استغفر الله ثلاثا) بلفظ: أستغفر الله. وفي الأذكار
للنووي: قيل للأوزاعي، وهو أحد رواة هذا الحديث: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر
الله أستغفر الله (وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام،
رواه مسلم). والاستغفار: إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحق عبادة مولاه، لما يعرض له من الوساوس
والخواطر، فشرع له الاستغفار تداركا لذلك. وشرع له أن يصف ربه بالسلام، كما وصف به نفسه،
والمراد: ذو السلامة من كل نقص وآفة، مصدر وصف به للمبالغة ومنك السلام أي منك
نطلب السلامة من شرور الدنيا والآخرة، والمراد بقوله: يا ذا الجلال والاكرام: يا ذا الغنى المطلق
والفضل التام، وقيل: الذي عنده الجلال والاكرام لعباده المخلصين، وهو من عظائم صفاته
تعالى، ولذا قال (ص): ألظوا بياذا الجلال والاكرام ومر برجل يصلي
وهو يقول: يا ذا الجلال والاكرام، فقال: قد استجيب لك.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (ص) قال: من
سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين) يقول: سبحان الله (وحمد الله ثلاثا وثلاثين)
يقول: الحمد لله (وكبر الله ثلاثا وثلاثين) يقول: الله أكبر (فتلك تسع وتسعون)
عدد أسماء الله الحسنى (وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له
الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، غفرت خطاياه، ولو كانت مثل
زبد البحر) وهو ما يعلو عليه عند اضطرابه (رواه مسلم، وفي رواية أخرى) لمسلم، عن
أبي هريرة: (أن التكبير أربع وثلاثون) وبه تتم المائة، فينبغي العمل بهذا تارة، وبالتهليل
أخرى، ليكون قد عمل بالروايتين. وأما الجمع بينهما، كما قال الشارح، وسبقه غيره، فليس بوجه،
لأنه لم يرد الجمع بينهما، ولأنه يخرج العدد عن المائة، هذا. وللحديث سبب، وهو: أن
فقراء المهاجرين أتوا رسول الله (ص)، وقالوا: يا رسول الله، قد ذهب أهل الدثور
بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذلك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم،
ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله (ص): أفلا أعلمكم
شيئا، تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع
مثل ما صنعتم؟ قالوا بلى: قال: سبحوا الله. الحديث وكيفية التسبيح وأخويه كما ذكرناه.
وقيل: يقول: سبحان الله والحمد لله، والله أكبر ثلاثا وثلاثين. وقد ورد في البخاري من
حديث أبي هريرة أيضا: يسبحون عشرا، يحمدون عشرا، ويكبرون عشرا. وفي صفة أخرى
يسبحون خمسا وعشرين تسبيحة، ومثلها تحميدا، ومثلها تكبيرا، ومثله لا إله إلا الله وحده
198

لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، فتتم المائة. وأخرج أبو داود من
حديث زيد بن أرقم: كان رسول الله (ص) يقول دبر كل صلاة: اللهم ربنا
ورب كل شئ، أنا شهيد: أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شئ،
أنا شهيد: أن محمدا (ص) عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا
شهيد: أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شئ، اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة
من الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والاكرام، استمع واستجب، الله أكبر الله أكبر، الله نور
السماوات والأرض، الله أكبر الأكبر، حسبي الله ونعم الوكيل، الله أكبر الأكبر. وأخرج أبو داود
من حديث علي عليه السلام: وكان رسول الله (ص) إذا سلم من الصلاة قال:
اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني،
أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت وأخرج أبو داود، والنسائي: من حديث عقبة بن عامر
أمرني رسول الله (ص) أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة، وأخرج مسلم من
حديث البراء: أنه (ص) كان يقول بعد الصلاة: رب قني عذابك يوم تبعث
عبادك. وورد بعد صلاة المغرب، وبعد صلاة الفجر، بخصوصهما: قول لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير عشر مرات أخرجه أحمد، وهو
زيادة على ما ذكر في غيرهما، وأخرج الترمذي عن أبي ذر: أن رسول الله (ص)
قال: من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شئ قدير عشر مرات، كتب الله له عشر
حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل
مكروه، وحرز من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم، إلا الشرك بالله عز وجل،
وقال الترمذي: غريب حسن صحيح. وأخرجه النسائي من حديث معاذ، وزاد فيه: بيده الخير
وزاد فيه أيضا: وكان له بكل واحدة قالها: عتق رقبة. وأخرج الترمذي والنسائي من حديث
عمارة بن شبيب قال: قال رسول الله (ص): من قال: لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شئ قدير عشر مرات، على إثر
المغرب، بعث الله له ملائكة يحفظونه من الشيطان الرجيم حتى يصبح، وكتب له بها عشر
حسنات، ومحا عنه عشر سيئات موبقات، وكانت له بعدل عشر رقبات مؤمنات قال
الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد، ولا نعرف لعمارة سماعا من النبي
(ص). وأما قراءة الفاتحة بنية كذا، وبنية كذا، كما يفعل الآن، فلم يرد بها دليل، بل هي
بدعة. وأما الصلاة على النبي (ص) بعد تمام التسبيح وأخويه من الثناء، فالدعاء
بعد الذكر سنة، والصلاة على النبي (ص) أمام الدعاء كذلك سنة، إنما الاعتياد لذلك،
وجعله في حكم السنن الراتبة، ودعاء الامام مستقبل القبلة مستدبرا للمأمومين، فلم يأت به
سنة، بل الذي ورد: أنه (ص) كان يستقبل المأمومين إذا سلم، قال البخاري
باب يستقبل الامام الناس إذا سلم، وورد في حديث سمرة بن جندب، وحديث زيد بن خالد
كان إذا صلى أقبل علينا بوجهه، وظاهره المداومة على ذلك.
199

(وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) قال له:
أوصيك يا معاذ لا تدعن) هو نهي من ودعه، إلا أنه هجر ماضيه في الأكثر، استغناء
عنه بترك، وقد ورد قليلا وقرئ: ما ودعك ربك (دبر كل صلاة أن تقول:
اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي
بسند قوي) النهي أصله: التحريم، فيدل على إيجاب هذه الكلمات دبر الصلاة، وقيل
إنه نهى إرشاد، ولا بد من قرينة على ذلك. وقيل: يحتمل أنها في حق معاذ نهي تحريم، وفيه
بعد. وهذه الكلمات عامة لخير الدنيا والآخرة.
(وعن أبي أمامة) هو إياس على الأصح، كما قاله ابن عبد البر، ابن ثعلبة،
الحارثي الأنصاري الخزرجي، لم يشهد بدرا، إلا أنه عذره (ص) عن الخروج، لعلته
بمرض والدته. وأبو أمامة الباهلي، تقدم في أول الكتاب، فإذا أطلق فالمراد به: هذا، وإذا أريد
الباهلي، قيد به. (قال: قال رسول الله (ص): من قرأ اية الكرسي دبر
كل صلاة مكتوبة) أي مفروضة (لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت. رواه
النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني: وقل هو الله أحد) وقد ورد نحوه من
حديث علي عليه السلام بزيادة: من قرأها حين يأخذ مضجعه، أمنه الله على داره، ودار جاره،
وأهل دويرات حوله، رواه البيهقي في شعب الايمان، وضعف إسناده. وقوله: لم يمنعه من
دخول الجنة إلا الموت هو على مضاف: أي: لا يمنعه إلا عدم موته، حذف لدلالة
المعنى عليه. واختصت اية الكرسي بذلك، لما اشتملت عليه من أصول الأسماء، والصفات
الإلهية، والوحدانية، والحياة، والقيومية، والعلم، والملك، والقدرة، والإرادة. وقل هو الله أحد: متمحضة
لذكر صفات الله تعالى.
(وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
صلوا كما رأيتموني أصلي رواه البخاري). هذا الحديث: أصل عظيم في دلالته
على أن أفعاله (ص) في الصلاة، وأقواله: بيان لما أجمل من الامر بالصلاة في القران
وفي الأحاديث، وفيه دلالة: على وجوب التأسي به (ص) فيما فعله في الصلاة
فكل ما حافظ عليه من أفعالها، وأقوالها، وجب على الأمة، إلا لدليل يخصص شيئا من ذلك،
وقد أطال العلماء الكلام في الحديث، واستوفاه ابن دقيق العيد في شرح العمدة، وزدناه
تحقيقا في حواشيها.
(وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص)
صل قائما، فإن لم تستطع) أي الصلاة قائما (فقاعدا فإن لم تستطع)
أي وإن لم تستطع الصلاة قاعدا (فعلى جنب، وإلا) أي: وإن لم تستطع الصلاة على جنب
(فأوم) لم نجده في نسخ بلوغ المرام منسوبا، وقد أخرج البخاري دون قوله: وإلا فأوم
والنسائي، وزاد: فإن لم تستطع فمستلق لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد رواه الدارقطني
200

من حديث علي عليه السلام بلفظ: فإن لم تستطع أن تسجد أوم، واجعل سجودك أخفض من
ركوعك، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع
أن يصلي على جنبه الأيمن، صلى مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة وفي إسناده ضعف، وفيه متروك.
وقال المصنف: لم يقع في الحديث ذكر الايماء وإنما أورده الرافعي. قال: ولكنه ورد
في حديث جابر: إن استطعت، وإلا فأوم إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك أخرجه
البزار، والبيهقي في المعرفة. قال البزار: وقد سئل عنه أبو حاتم، فقال: الصواب عن جابر موقوفا،
ورفعه خطأ، وقد روي أيضا من حديث ابن عمر، وابن عباس، وفي إسناديهما ضعف. والحديث
دليل: على أنه لا يصلي الفريضة قاعدا إلا لعذر، وهو عدم الاستطاعة، ويلحق به ما إذا خشي
ضررا لقوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * وكذا قوله: فإن لم تستطع فعلى جنب
وفي قوله في حديث الطبراني: فإن نالته مشقة فجالسا، فإن نالته مشقة فنائما أي مضجعا،
وفيه حجة على من قال: إن العاجز عن القعود تسقط عنه الصلاة، وهو يدل على أن من نالته
مشقة، ولو بالتألم، يباح له الصلاة من قعود، وفيه خلاف. والحديث مع من قال: إن التألم يبيح
ذلك. ومن المشقة: صلاة من يخاف دوران رأسه، إذا صلى قائما في السفينة، أو يخاف الغرق:
أبيح له القعود، هذا. ولم يبين الحديث هيئة القعود على أي صفة، ومقتضى إطلاقه صحته على
أي هيئة شاءها المصلي، وإليه ذهب جماعة من العلماء. وقال الهادي وغيره: إنه يتربع
واضعا يده على ركبتيه، ومثله عند الحنفية، وذهب زيد بن علي، وجماعة إلى: أنه مثل قعود التشهد.
قيل: والخلاف في الأفضل. قال المصنف في فتح الباري: اختلف في الأفضل، فعند الأئمة
الثلاثة: التربع، وقيل: مفترشا، وقيل متوركا، وفي كل منها أحاديث. وقوله في الحديث
على جنب الكلام في الاستطاعة هنا، كما مر، وهو هنا مطلق. وقيده في حديث علي عليه
السلام عند الدارقطني، على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة بوجهه، وهو حجة الجمهور. وأنه يكون
على هذه الصفة، كتوجه الميت في القبر. ويؤخذ من الحديث: أنه لا يجب شئ بعد تعذر
الايماء على الجنب. وعن الشافعي، والمؤيد: يجب الايماء بالعينين والحاجبين. وعن زفر: الايماء
بالقلب. وقيل: يجب إمرار القران، والذكر على اللسان، ثم على القلب، إلا أن هذه الكلمة لم تأت
في الأحاديث، وفي الآية * (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) * وإن كان عدم الذكر
لا ينفي الوجوب بدليل اخر. وقد وجبت الصلاة على الاطلاق، وثبت: إذا أمرتم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم فإذا استطاع شيئا مما يفعل في الصلاة وجب عليه، لأنه مستطيع له.
(وعن جابر رضي الله عنه أن النبي (ص) قال لمريض - صلى على
وسادة، فرمى بها - وقال: صل على الأرض إن استطعت، وإلا فأوم إيماء، واجعل سجودك
أخفض من ركوعك رواه البيهقي بسند قوي، ولكن صحح أبو حاتم وقفه). الحديث
أخرجه البيهقي في المعرفة من طريق سفيان الثوري. وفي الحديث: فرمى بها وأخذ عودا ليصلي
عليه، فأخذه ورمى به وذكر الحديث. وقال البزار لا يعرف أحد رواه عن الثوري غير
أبي بكر الحنفي. وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: الصواب عن جابر موقوفا ورفعه خطأ. وقد
201

روى الطبراني من حديث طارق بن شهاب عن ابن عمر قال: عاد رسول الله (ص)
مريضا فذكره، وفي إسناده ضعف. والحديث دليل على أنه لا يتخذ المريض ما يسجد
عليه، حيث تعذر سجوده على الأرض، وقد أرشده إلى أنه يفصل بين ركوعه وسجوده، ويجعل
سجوده أخفض من ركوعه، فإن تعذر عليه القيام والركوع، فإنه يومئ من قعود لهما، جاعلا الايماء
بالسجود أخفض من الركوع، أو لم يتعذر عليه القيام، فإنه يومئ للركوع من قيام، ثم يقعد
ويومئ للسجود من قعود، وقيل في هذه الصورة: يومئ لهما من قيام ويقعد للتشهد، وقيل: يومئ
لهما كليهما من القعود، ويقوم للقراءة، وقيل: يسقط عنه القيام ويصلي قاعدا، فإن صلى قائما
جاز، وإن تعذر عليه القعود أومأ لهما من قيام.
باب سجود السهو وغيره
من سجود التلاوة والشكر
(وعن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه) تقدم ضبطه وترجمته، وتكرر على الشارح
ترجمته فأعادها هنا (أن النبي (ص) صلى بهم الظهر فقام في الركعتين
الأوليين) بالمثناتين التحتيتين (ولم يجلس) هو تأكيد لقام من باب: أقول له: ارحل
لا تقيمن عندنا (فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه،
كبر وهو جالس وسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم. أخرجه السبعة وهذا
لفظ البخاري). الحديث: دليل على أن ترك التشهد الأول سهوا يجبره سجود السهو، وقوله (ص)
: صلوا كما رأيتموني أصلي يدل على وجوب التشهد الأول، وجبرانه هنا عند
تركه: دل على أنه وإن كان واجبا، فإنه يجبر بسجود السهو، والاستدلال على عدم وجوبه: بأنه
لو كان واجبا لما جبره السجود، إذ حق الواجب أن يفعل بنفسه - لا يتم، إذ يمكن أنه كما قال
أحمد بن حنبل: واجب، ولكنه إن ترك سهوا جبره سجود السهو. وحاصله أنه لا يتم الاستدلال
على عدم وجوبه، حتى يقوم الدليل على أن كل واجب لا يجزئ عنه سجود السهو إن ترك سهوا.
وقوله: كبر دليل على شرعية تكبيرة الاحرام لسجود السهو، وأنها غير مختصة بالدخول
في الصلاة، وأنه يكبرها، وإن كان لم يخرج من صلاته بالسلام منها. وأما تكبيرة النقل فلم تذكر
هنا، ولكنها ذكرت في قوله: (وفي رواية لمسلم) أي عند عبد الله بن بحينة: (يكبر في كل
سجدة وهو جالس ويسجد، ويسجد معه الناس) فيه دليل على شرعية تكبير النقل،
كما سلف في الصلاة، وقوله: (مكان ما نسي من الجلوس) كأنه عرف الصحابي ذلك من
قرينة الحال، فهذا لفظ مدرج من كلام الراوي، ليس حكاية لفعله (ص) الذي
شاهده، ولا لقوله (ص). ثم فيه دليل: على أن محل مثل هذا السجود قبل السلام،
ويأتي ما يخالفه والكلام عليه. وفي رواية مسلم دلالة: على وجوب متابعة الامام. وفي الحديث
دلالة أيضا: على وجوب متابعته، وإن ترك ما هذا حاله، فإنه (ص) أقرهم على
202

متابعته، مع تركهم للتشهد عمدا، وفيه تأمل، لاحتمال أنه ما ذكر أنه ترك وتركوا إلا بعد
تلبسه وتلبسهم بواجب اخر.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى النبي (ص) إحدى صلاتي
العشي) هو بفتح العين المهملة وكسر الشين المعجمة وتشديد المثناة التحتية. قال الأزهري:
هو ما بين زوال الشمس وغروبها، وقد عينها أبو هريرة في رواية لمسلم: أنها الظهر، وفي أخرى
أنها العصر، ويأتي، وقد جمع بينهما بأنها تعددت القصة (ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم
المسجد فوضع يده عليها، وفي القوم) المصلين (أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه) أي بأنه سلم
على ركعتين (وخرج) من المسجد (سرعان الناس) بفتح السين المهملة وفتح الراء هو المشهور،
ويروى بإسكان الراء، هم المسرعون إلى الخروج، قيل وبضمها وسكون الراء على أنه جمع سريع
كقفيز وقفزان (فقالوا قصرت) بضم القاف وكسر الصاد (الصلاة) وروى بفتح القاف
وضم الصاد، وكلاهما صحيح، والأول أشهر (ورجل يدعوه) أي يسميه (النبي (ص)
ذا اليدين) وفي رواية: رجل يقال له: الخرباق بن عمرو بكسر الخاء المعجمة وسكون
الراء فباء موحدة، آخره قاف، لقب ذي اليدين، لطول كان في يديه، وفي الصحابة رجل اخر
يقال له: ذو الشمالين هو غير ذي اليدين، ووهم الزهري فجعل ذا اليدين وذا الشمالين واحدا،
وقد بين العلماء وهمه. (فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟) أي شرع الله
قصر الرباعية إلى اثنتين (فقال: لم أنس ولم تقصر) أي في ظني (فقال: بلى قد نسيت،
فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجود أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع
رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر. متفق عليه، واللفظ للبخاري).
هذا الحديث قد أطال العلماء الكلام عليه، وتعرضوا لمباحث أصولية، وغيرها، وأكثرهم استيفاء
لذلك، القاضي عياض، ثم المحقق: ابن دقيق العيد في شرح العمدة، وقد وفينا المقام حقه
في حواشيها، والمهم هنا: الحكم الفرعي المأخوذ منه، وهو: أن الحديث دليل على أن نية الخروج
من الصلاة، وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام، لا يوجب بطلانها، ولو سلم التسليمتين، وأن
كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وكذا كلام من ظن التمام، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف،
والخلف، وهو قول ابن عباس، وابن الزبير، وأخيه عروة، وعطاء، والحسن وغيرهم، وقال به:
الشافعي، وأحمد، وجميع أئمة الحديث. وقال به: الناصر من أئمة الال. وقالت الهادوية والحنفية
: التكلم في الصلاة ناسيا، أو جاهلا يبطلها مستدلين بحديث ابن مسعود، وحديث زيد بن أرقم:
في النهي عن التكلم في الصلاة، وقالوا: هما ناسخان لهذا الحديث. وأجيب: بأن حديث ابن مسعود
كان بمكة متقدما على حديث الباب بأعوام، والمتقدم لا ينسخ المتأخر، وبأن حديث زيد
بن أرقم، وحديث ابن مسعود أيضا عمومان، وهذا الحديث خاص بمن تكلم ظانا لتمام صلاته،
فيخص به الحديثان المذكوران، فتجتمع الأدلة من غير إبطال لشئ منها. ويدل الحديث أيضا
على أن الكلام عمدا الاصلاح الصلاة لا يبطلها، كما في كلام ذي اليدين، وقوله: فقالوا: - يريد
الصحابة -: نعم كما في رواية تأتي، فإنه كلام عمد لاصلاح الصلاة. وقد روي عن مالك: أن
203

الامام إذا تكلم بما تكلم به النبي (ص): من الاستفسار، والسؤال عند الشك،
وإجابة المأموم، أن الصلاة لا تفسد. وقد أجيب: بأنه (ص) تكلم معتقدا للتمام،
وتكلم الصحابة معتقدين للنسخ، وظنوا حينئذ التمام. قلت: ولا يخفى أن الجزم باعتقادهم
التمام محل نظر، بل فيهم متردد بين القصر والنسيان، وهو ذو اليدين، نعم سرعان الناس اعتقدوا
القصر، ولا يلزم اعتقاد الجميع، ولا يخفى أنه لا عذر عن العمل بالحديث لمن يتفق له مثل
ذلك، وما أحسن كلام صاحب المنار، فإنه ذكر كلام الهدى ودعواه نسخه، كما ذكرناه،
ثم رده بما رددناه، ثم قال: وأنا أقول أرجو الله للعبد إذا لقي الله عاملا لذلك: أن يثبته في الجواب
بقوله: صح لي ذلك عن رسولك، ولم أجد ما يمنعه، وأن ينجو بذلك، ويثاب عن العمل به، وأخاف
على المتكلفين، وعلى المجبرين على الخروج من الصلاة للاستئناف، فإنه ليس بأحوط، كما ترى،
لان الخروج بغير دليل ممنوع، وإبطال للعمل. وفي الحديث دليل، على أن الأفعال الكثيرة التي
ليست من جنس الصلاة إذا وقعت سهوا، أو مع ظن التمام لا تفسد بها الصلاة، فإن في رواية
أنه (ص) خرج إلى منزله وفي أخرى: يجر رداءه مغضبا وكذلك خروج
سرعان الناس فإنها أفعال كثيرة قطعا، وقد ذهب إلى هذا وفيه دليل: على صحة
البناء على الصلاة بعد السلام، وإن طال زمن الفصل الشافعي بينهما، وقد روي هذا عن ربيعة، ونسب
إلى مالك، وليس بمشهور عنه. ومن العلماء من قال: يختص جواز البناء إذا كان الفصل بزمن
قريب، وقيل: بمقدار ركعة، وقيل: بمقدار الصلاة. ويدل أيضا أنه يجبر ذلك سجود السهو وجوبا
لحديث: صلوا كما رأيتموني أصلي ويدل أيضا: على أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد أسباب
السهو، ويدل على أن سجود السهو بعد السلام خلاف الحديث الأول، ويأتي فيه
الكلام. وأما تعيين الصلاة التي اتفقت فيها القصة فيدل له قوله: (وفي رواية لمسلم)
أي من حديث أبي هريرة: (صلاة العصر) عوضا عن قوله في الرواية الأولى: إحدى صلاتي
العشي (ولأبي داود) أي من حديثه أيضا: (فقال) أي النبي (ص):
(أصدق ذو اليدين، فأومئوا، أي نعم، وهي في الصحيحين، لكن بلفظ: فقالوا)
قلت: وهي في رواية لأبي داود بلفظ: فقال الناس: نعم، وقال أبو داود: إنه لم يذكر:
فأومئوا إلا حماد بن زيد (وفي رواية له) أي لأبي داود من حديث أبي هريرة: (ولم يسجد حتى
يقنه الله ذلك) ولفظ أبي داود: ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك أي صير تسليمه
على ثنتين يقينا عنده، إما بوحي، أو تذكر حصل له اليقين به. والله أعلم ما مستند أبي هريرة في هذا.
(وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي (ص) صلى بهم،
فسها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم، رواه أبو داود والترمذي وحسنه، الحاكم
وصححه). في سياق حديث السنن: أن هذا السهو سهوه (ص)، الذي في خبر
ذي اليدين، فإن فيه: بعد أن ساق حديث أبي هريرة: مثل ما سلف من سياق الصحيحين إلى
قوله: ثم رفع وكبر ما لفظه: فقيل لمحمد: أي ابن سيرين الراوي: سلم في السهو؟ فقال: لم أحفظه
من أبي هريرة ولكن نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم، وفي السنن أيضا من حديث
204

عمران بن حصين، قال: سلم رسول الله (ص) في ثلاث ركعات من العصر، ثم
دخل، فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، كان طويل اليدين. إلى قوله: فقال: أصدق؟ فقالوا:
نعم، فصلى تلك الركعة، ثم سجد سجدتيها، ثم سلم انتهى. ويحتمل أنها تعددت القصة. وفي
الحديث: دليل أنه يستحب عقيب الصلاة، كما تدل له الفاء وفيه تصريح بالتشهد، قيل: ولم
يقل أحد: بوجوبه، ولفظ تشهد: يدل أنه أتى بالشهادتين، وبه قال بعض العلماء، وقيل
: - يكفي التشهد الأوسط، واللفظ في الأول أظهر، وفيه دليل على شرعية التسليم، كما تدل له رواية
عمران بن حصين التي ذكرناها، لا الرواية التي أتى بها المصنف، فإنها ليست بصريحة:
أن التسليم كان لسجدتي السهو، فإنها تحتمل أنه لم يكن سلم للصلاة، وأنه سجد لها قبل السلام
، ثم سلم تسليم الصلاة.
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك
وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا)
في رباعية (شفعن) أي السجدتان (له صلاته) صيرنها شفعا، لان السجدتين قامتا مقام ركعة،
وكأن المطلوب من الرباعية: الشفع، وإن زادت على الأربع (وإن كان صلى تماما كانتا
ترغيما للشيطان) أي إلصاقا لأنفه بالرغام، والرغام: بزنة غراب: التراب، وإلصاق الانف
به في قولهم رغم أنفه: كناية عن إذلاله وإهانته، والمراد: إهانة الشيطان حيث لبس عليه صلاته
(رواه مسلم). الحديث فيه دلالة على أن الشاك في صلاته يجب عليه البناء على اليقين عنده،
ويجب عليه أن يسجد سجدتين، وإلى هذا ذهب جماهير العلماء، ومالك، والشافعي، وأحمد.
وذهب الهادوية، وجماعة من التابعين: إلى وجوب الإعادة عليه حتى يستيقن، وقال بعضهم:
يعيد ثلاث مرات، فإذا شك في الرابعة فلا إعادة عليه. والحديث مع الأولين. والحديث
ظاهر في أن هذا حكم الشاك مطلقا: مبتدأ كان أو مبتلي. وفرق الهادوية بينهم، فقالوا: في الأول
يجب عليه الإعادة، وفي الثاني يتحرى بالنظر في الامارات، فإن حصل له ظن التمام، أو النقص
عمل به، وإن كان النظر في الامارات لا يحصل له بحسب العادة شيئا، فإنه يبني على الأقل،
كما في هذا الحديث، وإن كان عادته أن يفيده النظر الظن، ولكنه لم يفده في هذه الحالة، وجب عليه
أيضا الإعادة، وهذا التفصيل يرد عليه هذا الحديث الصحيح، ويرد عليه أيضا حديث عبد الرحمن
بن عوف عند أحمد قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا شك أحدكم
في صلاته فلم يدر واحدة صلى، أو اثنتين، فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر اثنتين صلى، أو ثلاثا،
فليجعلها اثنتين، وإذا لم يدر ثلاثة صلى، أو أربعا، فليجعلها ثلاثا، ثم يسجد - إذا فرغ من
صلاته، وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين.
(وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صلى رسول الله (ص)) أي:
إحدى الرباعيات خمسا، وفي رواية: أنه قال إبراهيم النخعي: زاد أو نقص (فلما سلم قيل له:
205

يا رسول الله أحدث في الصلاة شئ؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه،
واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم، ثم أقبل على الناس بوجهه فقال: إنه لو حدث
في الصلاة شئ أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم) في البشرية، وبين وجه
المثلية بقوله: (أنسى، كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته)
هل زاد أو نقص؟ (فليتحر الصواب) بأن يعمل بظنه من غير تفرقة بين الشك في ركعة،
أو ركن، وقد فسره حديث عبد الرحمن بن عوف الذي قدمناه (فليتم عليه ثم ليسجد
سجدتين. متفق عليه). ظاهر هذا الحديث أنهم تابعوه (ص) على الزيادة، ففيه
دليل: على أن متابعة المؤتم للامام فيما ظنه واجبا لا يفسد صلاته، فإنه (ص)
لم يأمرهم بالإعادة، وهذا في حق أصحابه في مثل هذه الصورة، لتجويزهم التغيير في عصر النبوة،
فأما لو اتفق الآن قيام الامام إلى الخامسة سبح له من خلفه، فإن لم يقعد انتظروه قعودا، حتى
يتشهدوا بتشهده ويسلموا بتسليمه، فإنها لم تفسد عليه حتى يقال يعزلون، بل فعل ما هو واجب
في حقه. وفي هذا دليل، على أن محل سجود السهو بعد السلام، إلا أنه قد يقال: إنه (ص)
ما عرف سهوه في الصلاة إلا بعد أن سلم منها، فلا يكون دليلا.
واعلم أنه قد اختلفت الأحاديث في محل سجود السهو واختلفت بسبب ذلك أقوال الأئمة.
قال بعض أئمة الحديث: أحاديث باب سجود السهو قد تعددت: منها حديث أبي هريرة فيمن
شك، فلم يدر كم صلى؟. وفيه الامر أن يسجد سجدتين، ولم يذكر موضعهما، وهو حديث
أخرجه الجماعة، ولم يذكروا فيه محل السجدتين، هل هو قبل السلام أو بعده؟ نعم عند أبي داود،
وابن ماجة فيه زيادة: قبل أن يسلم. ومنها حديث أبي سعيد من شك. وفيه: أنه يسجد
سجدتين قبل التسليم. ومنها حديث أبي هريرة، وفيه: القيام إلى الخشبة، وأنه سجد بعد السلام
ومنها حديث ابن بحينة، وفيه: السجود قبل السلام. ولما وردت هكذا اختلفت آراء العلماء
في الاخذ بها، فقال داود: تستعمل في مواضعها على ما جاءت به، ولا يقاس عليها،
ومثله قال أحمد في هذه الصلاة خاصة، وخالف فيما سواها، فقال: يسجد قبل السلام لكل سهو.
وقال آخرون: هو مخير في كل سهو: إن شاء سجد بعد السلام، وإن شاء قبل السلام في الزيادة
والنقص. وقال مالك: إن كان السجود لزيادة سجد بعد السلام، وإن كان لنقصان سجد قبله.
وقالت الهادوية، والحنفية: الأصل في سجود السهو بعد السلام، وتأولوا الأحاديث الواردة
في السجود قبله، وستأتي أدلتهم. وقال الشافعي: الأصل السجود قبل السلام، ورد ما خالفه من
الأحاديث بادعائه نسخ السجود بعد السلام. وروى عن الزهري قال: سجد رسول الله (ص)
سجدتي السهو قبل السلام، وبعده، واخر الامرين قبل السلام، وأيده برواية معاوية: أنه (ص)
سجدهما قبل السلام وصحبته متأخرة. وذهب إلى مثل قول الشافعي أبو هريرة،
ومكحول، والزهري، وغيرهم. قال في الشرح: وطريق الانصاف: أن الأحاديث الواردة في ذلك
قولا وفعلا فيها نوع تعارض، وتقدم بعضها، وتأخر البعض غير ثابت برواية صحيحة موصولة،
حتى يستقيم القول بالنسخ، فالأولى الحمل على التوسع في جواز الامرين. ومن أدلة الهادوية
206

والحنفية: رواية البخاري التي أفادها قوله: (وفي رواية للبخاري) أي من حديث ابن مسعود
(فليتم ثم يسلم ثم يسجد) ما يدل على أنه بعد السلام. وكذلك رواية مسلم التي أفادها قوله
(ولمسلم) أي من حديث ابن مسعود: (أن النبي (ص) سجد سجدتي السهو بعد السلام)
من الصلاة (والكلام) أي الذي خوطب به وأجاب عنه بما أفاده اللفظ الأول، ويدل له أيضا:
(ولا حمد وأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن جعفر مرفوعا: من شك
في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم وصححه ابن خزيمة). فهذه أدلة من يقول
إنه يسجد بعد السلام مطلقا، ولكنه قد عارضها ما عرفت، فالقول بالتخيير أقرب الطرق
إلى الجمع بين الأحاديث، كما عرفت. قال الحافظ أبو بكر البيهقي: روينا عن النبي (ص)
أنه سجد للسهو قبل السلام، وأنه أمر بذلك، وروينا: أنه سجد بعد السلام، وأنه أمر
به وكلاهما صحيح، ولهما شواهد يطول بذكرها الكلام، ثم قال: الأشبه بالصواب جواز
الامرين جميعا، قال: وهذا مذهب كثير من أصحابنا.
(وعن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله (ص) قال: إذا شك أحدكم،
فقام في الركعتين فاستتم قائما، فليمض ولا يعود) للتشهد الأول (وليسجد سجدتين)
لم يذكر محلهما (فإن لم يستتم قائما فليجلس) ليأتي بالتشهد الأول (ولا سهو عليه
. رواه أبو داود وابن ماجة، والدارقطني واللفظ له بسند ضعيف) وذلك أن مداره في جميع
طرقه على جابر الجعفي، وهو ضعيف. وقد قال أبو داود: ليس في كتابي عن جابر الجعفي غير
هذا الحديث. وفي الحديث دلالة: على أنه لا يسجد للسهو إلا لفوات التشهد الأول، لا لفعل
القيام لقوله: ولا سهو عليه وقد ذهب إلى هذا جماعة. وذهبت الهادوية، وابن حنبل
إلى أنه يسجد للسهو، لما أخرجه البيهقي من حديث أنس: أنه تحرك للقيام من الركعتين
الأخريين من العصر على جهة السهو، فسبحوا فقعد، ثم سجد للسهو وأخرجه الدارقطني،
والكل من فعل أنس موقوف عليه، إلا أن في بعض طرقه أنه قال: هذه السنة وقد رجح
حديث المغيرة عليه، لكونه مرفوعا، ولأنه يؤيده حديث ابن عمر مرفوعا: لا سهو إلا في قيام عن
جلوس، أو جلوس عن قيام أخرجه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وفيه ضعف، ولكن يؤيد
ذلك: أنها وردت أحاديث كثيرة في الفعل القليل، وأفعال صدرت منه (ص)،
ومن غيره مع علمه بذلك، ولم يأمر فيها بسجود السهو، ولا سجد لما صدر عنه منها. قلت:
وأخرج النسائي من حديث ابن بحينة: أنه (ص) صلى فقام في الركعتين، فسبحوا به،
فمضى، فلما فرغ من صلاته، سجد سجدتين، ثم سلم وأخرج أحمد، والترمذي، وصححه من حديث
زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح له من
خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، ثم سجد سجدتين وسلم، ثم قال هكذا
صنع بنا رسول الله (ص)، إلا أن هذه فيمن مضى بعد أن يسبحوا له،
فيحتمل أنه سجد لترك التشهد، وهو الظاهر.
(وعن عمر رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: ليس على من
خلف الامام سهو، فإن سها الامام فعليه وعلى من خلفه. رواه الترمذي، والبيهقي
207

بسند ضعيف). وأخرجه الدارقطني في السنن بلفظ اخر، وفيه زيادة: وإن سها من خلف
الامام فليس عليه سهو، والامام كافيه والكل من الروايات فيها خارجة بن مصعب: ضعيف.
وفي الباب عن ابن عباس، إلا أن فيه متروكا. والحديث دليل: على أنه لا يجب على المؤتم سجود
السهو إذا سها في صلاته، وإنما يجب عليه إذا سها الامام فقط، وإلى هذا ذهب زيد بن علي،
والناصر، والحنفية، والشافعية. وذهب الهادي: إلى أنه يسجد للسهو، لعموم أدلة سجود السهو للامام،
والمنفرد، والمؤتم. والجواب: أنه لو ثبت هذا الحديث لكان مخصصا لعمومات أدلة سجود السهو،
ومع عدم ثبوته، فالقول قول الهادي.
(وعن ثوبان عن النبي (ص) أنه قال: لكل سهو
سجدتان بعدما يسلم رواه أبو داود وابن ماجة بسند ضعيف). قالوا: لان في إسناده
إسماعيل بن عياش، وفيه مقال وخلاف. قال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده: يعني
الشاميين فصحيح، وهذا الحديث من روايته عن الشاميين، فتضعيف الحديث به: فيه نظر.
والحديث دليل لمسألتين: الأولى: أنه إذا تعدد المقتضى لسجود السهو تعدد لكل سهو سجدتان.
وقد حكي عن ابن أبي ليلى. وذهب الجمهور: إلى أنه لا يتعدد السجود، وإن تعدد موجبه، لان
النبي (ص) في حديث ذي اليدين سلم، وتكلم، ومشى ناسيا، ولم يسجد إلا سجدتين.
ولئن قيل: إن القول أولى بالعمل به من الفعل، فالجواب: أنه لا دلالة فيه على تعدد السجود
لتعدد مقتضيه، بل هو للعموم لكل ساه، فيفيد الحديث: أن كل من سها في صلاته بأي سهو
كان يشرع له سجدتان، ولا يختصان بالمواضع التي سها فيها النبي (ص)، ولا بالأنواع
التي سها بها، والحمل على هذا المعنى أولى من حمله على المعنى الأول، وإن كان هو الظاهر
فيه، جمعا بينه وبين حديث ذي اليدين، على أن لك أن تقول: إن حديث ذي اليدين لم يقع
فيه السهو المذكور حال الصلاة، فإنه محل النزاع، فلا يعارض حديث الكتاب. والمسألة الثانية:
يحتج به من يرى سجود السهو بعد السلام، وتقدم فيه تحقيق الكلام.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله (ص) في * (إذا السماء انشقت) * و * (اقرأ
باسم ربك الذي خلق) * رواه مسلم) هذا من أحاديث سجود
التلاوة وهو داخل في ترجمة المصنف الماضية كما عرفت، حيث قال: باب سجود السهو وغيره.
والحديث دليل على مشروعية سجود التلاوة، وقد أجمع على ذلك العلماء، وإنما اختلفوا
في الوجوب، وفي مواضع السجود، فالجمهور أنه سنة، وقال أبو حنيفة: واجب غير فرض
ثم هو سنة في حق التالي والمستمع إن سجد التالي، وقيل: وإن لم يسجد، فأما مواضع السجود،
فقال الشافعي: يسجد فيما عدا المفصل فيكون أحد عشر موضعا. وقالت الهادوية والحنفية:
في أربعة عشر محلا إلا أن الحنفية لا يعدون في الحج إلا سجدة، واعتبروا بسجدة سور ص
والهادوية عكسوا ذلك كما ذكر ذلك المهدي في البحر، وقال أحمد وجماعة: يسجد في خمسة
عشر موضعا عدوا سجدتي الحج وسجدة ص، واختلفوا أيضا هل يشترط فيها ما يشترط في الصلاة
من الطهارة وغيرها، فاشترط ذلك جماعة، وقال قوم: لا يشترط. وقال البخاري: كان
عمر يسجد على غير وضوء، وفي مسند ابن أبي شيبة: كان ابن عمر ينزل عن راحلته
208

فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ، ووافقه الشعبي على ذلك، وروي
عن ابن عمر أه لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر، وجمع بين قوله وفعله على الطهارة من الحدث
الأكبر. قلت: والأصل إنه لا يشترط الطهارة إلا بدليل وأدلة وجوب الطهارة وردت
للصلاة والسجدة لا تسمى صلاة، فالدليل على من شرط ذلك وكذلك أوقات الكراهة ورد
النهي عن الصلاة فيها فلا تشمل السجدة الفردة. وهذا الحديث دل على السجود للتلاوة
في المفصل، ويأتي الخلاف في ذلك. ثم رأيت لابن حزم كلاما في شرح المحلي لفظه: السجود
في قراءة القرآن ليس ركعة أو ركعتين فليس صلاة وإذا كان ليس صلاة فهو جائز بلا
وضوء وللجنب والحائض وإلى غير القبلة كسائر الذكر ولا فرق، إذ لا يلزم الوضوء إلا
للصلاة ولم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، فإن قيل: السجود
من الصلاة وبعض الصلاة صلاة. قلنا: والتكبير بعض الصلاة والجلوس والقيام والسلام
بعض الصلاة، فهل يلتزمون أن لا يفعل أحد شيئا من هذه الأفعال والأقوال إلا وهو على وضوء
هذا لا يقولونه ولا يقوله أحد. انتهى.
(وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (ص) ليست من عزائم السجود،
وقد رأيت رسول الله (ص) يسجد فيها. رواه البخاري) أي ليست مما ورد
في السجود فيها أمر ولا تحريص ولا تخصيص ولا حث، وإنما ورد بصيغة الاخبار عن داود
عليه السلام بأنه فعلها وسجد نبينا (ص) فيها اقتداء به لقوله تعالى: * (فبهداهم اقتده) *.
وفيه دلالة على: أن المسنونات قد يكون بعضها آكد من بعض، وقد روي: أنه قال (ص):
سجدها داود توبة وسجدناها شكرا وروى ابن المنذر، وغيره بإسناد حسن: عن علي
بن أبي طالب عليه السلام: إن العزائم حم، والنجم، واقرأ، وألم تنزيل، وكذا ثبت عن ابن عباس
في الثلاثة الأخر، وقيل: في الأعراف، وسبحان، وحم، وألم. أخرجه ابن أبي شيبة.
(وعنه) أي ابن عباس: (أن النبي (ص) سجد بالنجم. رواه البخاري).
هو دليل على السجود في المفصل، كما أن الحديث الأول دليل على ذلك، وقد خالف فيه
مالك، وقال: لا سجود لتلاوة في المفصل، وقد قدمنا لك الخلاف في أول الفصل محتجا بما
روي عن ابن عباس: أنه (ص) لم يسجد في شئ من المفصل منذ تحول إلى
المدينة أخرجه أبو داود، وهو ضعيف الاسناد، وفيه أبو قدامة، واسمه الحارث بن عبد الله، إيادي،
بصري، لا يحتج بحديثه، كما قال الحافظ المنذري في مختصر السنن، ومحتجا أيضا بقوله:
(وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قرأت على رسول الله (ص)
النجم، فلم يسجد فيها، متفق عليه). وزيد بن ثابت من أهل المدينة، وقراءته بها كانت
في المدينة، قال مالك: فأيد حديث ابن عباس. وأجيب عنه: بأن ترك السجود، تارة، وفعله
تارة: دليل السنية، أو لمانع عارض ذلك، ومع ثبوت حديث زيد، فهو ناف، وحديث غيره
وهو ابن عباس مثبت، والمثبت مقدم.
(وعن خالد بن معدان رضي الله عنه) بفتح الميم وسكون العين المهملة وتخفيف
الدال، وخالد هو أبو عبد الله بن معدان، الشامي، الكلاعي بفتح الكاف، تابعي، من أهل حمص
209

قال: لقيت سبعين رجلا من أصحاب النبي (ص)، وكان من ثقات الشاميين،
مات سنة أربع ومائة، وقيل: سنة ثلاث (قال: فضلت سورة الحج بسجدتين. رواه
أبو داود في المراسيل) كذا نسبه المصنف إلى مراسيل أبي داود، وهو موجود في سننه مرفوعا: من
حديث عقبة بن عامر بلفظ: قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم، ومن
لم يسجدهما فلا يقرأهما. فالعجب كيف نسبه المصنف إلى المراسيل مع وجوده في سننه
مرفوعا؟ ولكنه قد وصل في.
(ورواه أحمد والترمذي موصولا من حديث عقبة بن عامر، وزاد) أي الترمذي
في روايته: (فمن لم يسجدها فلا يقرأها) بضمير مفرد: أي السورة، أو اية السجدة ويراد الجنس
(وسنده ضعيف)، لان فيه ابن لهيعة. قيل: إنه تفرد به، وأيده الحاكم: بأن الرواية صحت فيه
من قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وعمار، وساقها موقوفة
عليهم، وأكده البيهقي بما رواه في المعرفة: من طريق خالد بن معدان. وفي الحديث رد على
أبي حنيفة وغيره ممن قال: إنه ليس بواجب، كما قال: إنه ليس في سورة الحج إلا سجدة واحدة
في الأخيرة منها، وفي قوله: فمن لم يسجدها فلا يقرأها تأكيد لشرعية السجود فيها، ومن
قال بإيجابه، فهو من أدلته، ومن قال: ليس بواجب، قال: لما ترك السنة، وهو سجود التلاوة
بفعل المندوب، وهو القران، كان الأليق الاعتناء بالمسنون وأن لا يتركه، فإذا تركه، فالأحسن
له أن لا يقرأ السورة.
(وعن عمر رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنا نمر بالسجود) أي بآيته (فمن
سجد، فقد أصاب) أي السنة (ومن لم يسجد، فلا إثم عليه. رواه البخاري. وفيه) أي البخاري
عن عمر: (إن الله لم يفرض السجود) أي لم يجعله فرضا (إلا أن نشاء، وهو في الموطأ). فيه
دلالة على أن عمر كان لا يرى وجوب سجود التلاوة، واستدل بقوله: إلا أن نشاء: أن من
شرع في السجود وجب عليه إتمامه، لأنه مخرج من بعض حالات عدم فرضية السجود.
وأجيب: بأنه استثناء منقطع، والمراد: ولكن ذلك موكول إلى مشيئتنا.
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي (ص) يقرأ علينا القران، فإذا مر بالسجدة
كبر وسجد وسجدنا معه. رواه أبو داود بسند فيه لين). لأنه من رواية عبد الله المكبر العمري
وهو ضعيف، وأخرجه الحاكم من رواية عبيد الله المصغر وهو ثقة. وفي الحديث دلالة
على التكبير، وأنه مشروع، وكان الثوري يعجبه هذا الحديث. قال أبو داود: يعجبه، لأنه
كبر، وهل هو تكبير الافتتاح، أو النقل؟ الأول أقرب، ولكنه يجتزئ بها عن تكبيرة النقل،
لعدم ذكر تكبيرة أخرى، وقيل: يكبر له، وعدم الذكر ليس دليلا، قال بعضهم: ويتشهد
ويسلم، قياسا للتحليل على التحريم، وأجيب: بأنه لا يجزئ هذا القياس، فلا دليل على ذلك. وفي
الحديث دليل: على مشروعية سجود التلاوة للسامع، لقوله: وسجدنا، وظاهره سواء كانا مصليين
معا، أو أحدهما في الصلاة. وقالت الهادوية: إذا كانت الصلاة فرضا أخرها حتى يسلم.
قالوا: لأنها زيادة عن الصلاة فتفسدها، ولما رواه نافع عن ابن عمر أنه قال: كان رسول الله
(ص) يقر علينا السورة في غير الصلاة، فيسجد، ونسجد معه أخرجه أبو داود.
210

قالوا: ويشرع له أن يسجد إذا كانت الصلاة نافلة، لان النافلة مخفف فيها. وأجيب عن
الحديث: بأنه استدلال بالمفهوم، وقد ثبت من فعله (ص): أنه قرأ سورة الانشقاق
في الصلاة، وسجد، وسجد من خلفه، وكذلك: سورة تنزيل السجدة، قرأ بها، وسجد فيها. وقد أخرج
أبو داود، والحاكم، والطحاوي من حديث ابن عمر: أنه (ص) سجد في الظهر، فرأى
أصحابه أنه قرأ اية سجدة، فسجدوها.
واعلم أنه قد ورد الذكر في سجود التلاوة بأن يقول: سجد وجهي للذي خلقه، وصوره
وشق سمعه وبصره بحوله وقوته أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، والحاكم، والبيهقي، وصححه ابن
السكن، وزاد في اخره: ثلاثا وزاد الحاكم في اخره: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) *، وفي
حديث ابن عباس: أنه (ص) كان يقول في سجود التلاوة: اللهم اكتب لي بها
عندك أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، وتقبلها مني، كما تقبلتها من عبدك
داود.
(وعن أبي بكرة رضي الله عنه، أن النبي (ص) كان إذا جاءه أمر
يسره خر ساجدا لله. رواه الخمسة إلا النسائي). هذا مما شملته الترجمة بقوله: وغيره، وهو دليل
على شرعية سجود الشكر، وذهبت إلى شرعيته الهادوية، والشافعي، وأحمد، خلافا لمالك، ورواية
أبي حنيفة: بأنه لا كراهة فيه: ولا ندب، والحديث دليل للأولين، وقد سجد (ص)
في اية ص، وقال: هي لنا شكر.
واعلم أنه قد اختلف: هل يشترط لها الطهارة أم لا؟ فقيل: يشترط قياسا على الصلاة، وقيل:
كلا يشترط، لأنها ليست بصلاة، وهو الأقرب كما قدمناه. وقال المهدي: إنه يكبر لسجود
الشكر. وقال أبو طالب: ويستقبل القبلة. وقال الامام يحيى: ولا يسجد للشكر في الصلاة
قولا واحدا، إذ ليس من توابعها. قيل: ومقتضى شرعيته: حدوث نعمة، أو اندفاع مكروه،
فيفعل ذلك في الصلاة، ويكون كسجود التلاوة.
(وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سجد رسول الله (ص)،
فأطال السجود، ثم رفع رأسه، فقال: إن جبريل أتاني فبشرني) وجاء تفسير
البشرى: بأنه تعالى قال: من صلى عليك (ص) صلاة: صلى الله عليه بها عشرا
رواه أحمد في المسند من طرق (فسجدت لله شكرا. رواه أحمد، وصححه الحاكم) أخرجه البزار،
وابن أبي عاصم في فضل الصلاة عليه (ص). قال البيهقي: وفي الباب عن جابر،
وابن عمر، وأنس، وجرير، وأبي جحيفة.
(وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي (ص) بعث عليا
إلى اليمن - فذكر الحديث - قال: فكتب علي بإسلامهم فلما قرأ رسول الله (ص)
الكتاب خر ساجدا، شكرا لله تعالى على ذلك. رواه البيهقي. وأصله في البخاري). وفي معناه
سجود كعب بن مالك لما أنزل الله توبته، فإنه يدل على أن شرعية ذلك كانت متقررة عندهم.
211